تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن

محمد الأمين الهرري

بين يدي الكتاب

الجزء الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بين يدي الكتاب الحمد لله رافع منازل المتمسكين بالذكر المبين، وهادي المؤمنين المتقين، الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويتدبرون آياته للعمل والموعظة والادّكار، تكفل سبحانه بحفظه؛ فلم يغير صفاءه كدر التحريف، ولم تحم حوله أخطاء التصحيف، فنحن نقرؤه اليوم كما نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والصلاة والسلام الأتمان الأدومان الأكملان على من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وسراجا منيرا للمخبتين، وعلى آله الطهر الميامين، وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد أرسل المولى سبحانه رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ليدّبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب، كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فهو المعجزة الخالدة الذي فاق كل بيان، وأخرس كل لسان، وأبهر أهل الفصاحة من قحطان وعدنان، بل تحدّى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان المعجزة الدائمة، والبرهان الصادق، على ما أتى به رسوله من حقائق. دامت لدينا ففاقت كل معجزة ... عن النبيين إذ جاءت ولم تدم

من اتبع هداه .. فقد فاز برضاه، وكانت الجنة مأواه، وأما من خالفه وأباه .. فقد اتخذ إلهه هواه، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولا يجحده إلا مكابر. هذا؛ ولقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى نهج أساليبهم في الكلام، كما قال سبحانه: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}. وكان الصحابة يفهمونه في جملته، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وكانوا يرجعون إلى المأمور بالبيان صلى الله عليه وسلم، لمعرفة التفاصيل والدقائق. واشتهر عدد كبير من الصحابة بالتفسير، كالخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وغيرهم، فكانت مصادرهم القرآن نفسه؛ لأن كثيرا من آياته يفسر بعضها بعضا، وما أجمل في موضع .. قد يأتي تفصيله في مواضع أخرى، حتى إن بعض المفسرين ألّفوا كتبا خاصة في تفسير القرآن بالقرآن. المصدر الثاني لتفسيرهم هو السنة النبوية، وهذا ما يطلق عليه التفسير بالسنة. هذا؛ بالإضافة إلى لغتهم التي نزل بها القرآن، وقد كانوا من خلّص العرب، وهم أقعد بمعرفة اللغة ومناحيها وأساليبها، وعندهم ديوان العرب، الشعر الذي كانوا يستجلون منه غريب القرآن، وطرق الأساليب، وكانوا معتمدين في ذلك على الرواية في حفظها وتبليغها، وحين بدأ المسلمون بتدوين علومهم ولا سيما علم الحديث .. كان مندرجا ضمن السنة، ثم انفصل تدريجيا عنها. وبدأت المرحلة الأولى للتأليف المستقل في تفسير القرآن العظيم، وقد

تمثلت في التأليف في غريب القرآن، التي اقتصرت فيه هذه المرحلة على تفسير الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان، وذلك ككتب الرؤاسي (ت 170 هـ)، والكسائي (ت 189 هـ)، والفرّاء (ت 207 هـ). ثم تلا ذلك المرحلة الثانية: وهي التفسير الكامل للقرآن الكريم، كتفاسير «ابن ماجه» (ت 273 هـ)، و «ابن جرير الطبري» (ت 310 هـ)، و «ابن المنذر» (ت 318 هـ)، و «ابن أبي حاتم» (ت 327 هـ)، فكانت هذه المؤلفات جامعة لتفسير الغريب، وما ورد من الآثار في معنى الآيات، وأسباب نزولها من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا ما يطلقون عليه: التفسير بالمأثور. ولذا نجد هؤلاء يعتمدون في النقل على الأسانيد، وربما يذكرون عدة آراء في معنى الآية الواحدة، حتى صح أن يطلق على هذه التفاسير: التفاسير الموسوعية، كتفسير ابن جرير الطبري. المسمى «جامع البيان»، وهو مطبوع متداول، وقد حقق نحو نصفه العلّامة المحدث أحمد محمد شاكر، إلا أن المنية اخترمته قبل أن يتمه وأتمه أخوه العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله وطبع في دار المعارف بمصر. ثم تدرج التفسير في سلم التوسع، فدونت في أثناء التفسير العلوم العقلية أيضا، وكان من الطبعي أن يتضخم وتتسع أطرافه، لشحنه بالمعارف العامة والعلوم المتنوعة والآراء، بل والعقائد أيضا، فقد امتزج التفسير بذلك كله، وكثير من البارعين في فنون معينة من علوم اللغة وغيرها فسروا القرآن من زاوية تخصصهم؛ لأن عندهم من الملكات العلمية في تلك المجالات ما يستطيعون أن يبدعوا ويفيدوا، وبهذا تعددت الاتجاهات للمفسرين.

- فمنهم من عني بالتفسير اللغوي وما يتصل به، فكثر في منهجه التخريجات الإعرابية، والوجوه النحوية، وأكثر من الشواهد نظما ونثرا، ومنهم الزجاج، والواحدي في «البسيط»، وأبو حيان في «البحر المحيط». - ومنهم من اتجه في تفسيره إلى مقارعة الفلاسفة، وذكر شبههم والرد عليها، والتوسع في هذا الميدان، كالفخر الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب». - ومنهم من عني باستنباط الأحكام الشرعية، وإيراد الفروع الفقهية، كل وفق مذهبه، مع الرد على من خالفه من أصحاب المذاهب الأخرى، كما فعل الجصاص الحنفي في «أحكام القرآن»، والقرطبي المالكي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» (¬1). - وهناك تفاسير أخرى لها اتجاهات أخرى، إما عقائدية ك «تفسير القاضي عبد الجبار» و «الزمخشري»، أو تاريخية عني مؤلفوها كثيرا بالقصص وأخبار الأمم السالفة، ك «تفسير الثعلبي» و «الخازن». والخلاصة: أن القرآن العظيم لا زال علماء الدين وغيرهم يغترفون من مناهله الروية، ويستنبطون من نصوصه الإلهية، فيواكب كل مصر، ويتلاءم مع كل عصر، ويهتدون منه إلى ما يقيم الحجة على أهل الزيغ والعناد، وما يثبت أنه منزل من رب العباد. وقد قام العلماء الأجلة في العصر الحديث بجهودهم في هذا الميدان، فكتبوا فيه تأسيا بالسلف، فتراهم بين مؤلف جامع لأشتات التفاسير وبين مهذب لمطولاتها، ومنقح لما ورد من الإسرائيليات والحشو فيها، فبعضهم كانت غايته التبسيط والتهذيب والبيان، وبعضهم زاد فأفاد وألف فأجاد، ¬

_ (¬1) انظر بتوسع أكثر في مقدمة «تفسير ابن كثير» (1/ 16 - 18) ط دار المعرفة بيروت.

فترى المكتبة الإسلامية الحديثة قد حوت أصنافا من المؤلفات المعاصرة في التفسير، منها على سبيل التذكير لا الحصر: «تفسير الشيخ طنطاوي جوهري»، «تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي»، «التفسير المنير» للدكتور الزحيلي، «صفوة التفاسير» للدكتور الصابوني، «تفسير آيات الأحكام» للدكتور السايس، «إعراب القرآن الكريم» لمحيي الدين درويش، وغيرها الكثير الكثير. هذا؛ وإن من أجل كتب التفسير المعاصرة، وأوسعها وأنفسها كتاب «حدائق الروح والريحان» فإنه جمع فيه ما تفرق في غيره، وأوعب فأحسن، وانتقى فوفّق وأجمل؛ فقد ضمن هذا التفسير من الفرائد والفوائد، والعلوم واللطائف والنفائس المستجادات، ما تقر به أعين أهل العلم، وتقيده أفكار المستفيدين من تفسير الكتاب المبين، فإن هذا التفسير أكبر دليل للمقولة الشائعة: (كم ترك الأول للآخر) فقد جمع فأوعى، وبسط القول فشفى، وبحث فاستوفى، وأدنى عويص المسائل؛ فإذا هي على طرف الثمام، وقرّب ما كان بعيد المنال؛ فإذا هو داني الجنى، وجمع شتيت المعارف، فنظمها في سلك واحد، واصطفى من الآراء أرجحها، ومن الأقوال أقواها، وأرسل أشعة البيان في كافة مناحي التفسير، فحشدها في صعيد واحد، وضم شمل المتفرق، في أسلوب الراسخ المحقق، وطريقة العلم المدقق. والعلماء على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم سيجدون في هذا التفسير ما ينشدونه من علم، وما يميلون إليه من فن، الكلّ سيجد فيه بغيته، وسيرتوي من منهله الروي، ويقطف من ثمره الشهي، فهو تفسير يغني عن غيره، ولا يغني عنه غيره، إلا أن غيره من روافده. - فمن كان يبحث عن تفسير آية بالمأثور، ويريد الوقوف على أقوال الصحابة والتابعين فيها .. فسيصادف مطلبه، إضافة إلى التفسير العام.

- ومن كان همه معرفة النواحي اللغوية، والوقوف على الوجوه النحوية، أو الإعراب التفصيلي .. فإن هذا التفسير من خير ما يعرض هذه المباحث. - ومن كان مغرما بالبلاغة القرآنية، وإعجازه البياني .. فإن هذا التفسير قد جعل من منهجه التحدث عن هذا الفن بعد كل مجموعة من الآيات. - ومن كان منقّبا عن القراءات ووجوهها، محاولا الإحاطة بها وبمن قرأ بها .. فإن هذا المبحث من جملة الفنون التي اعتنى بها هذا التفسير. - ومن يريد التفقه في الدين، واستنباط الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية، ومعرفة آراء الأئمة الفقهاء في ذلك .. فعليه أن يتصفح هذا الكتاب الجليل. وهكذا .. نجد أن بروز مثل هذا الكتاب في عالمنا المعاصر يختصر لنا الطريق، ويمهد لنا لمعرفة كثير من الفنون، دون الحاجة إلى الرجوع إلى عدة مصادر قديمة يحتاج البحث فيها إلى جهد ووقت، وما أضيق أوقات المعاصرين. وفي الختام: أتقدم بالشكر إلى اللجنة التي قامت بتصحيح ومراجعة الطبعة الأولى لهذا التفسير، والتي تشرفت برئاستها ومتابعة أمورها، فلله الحمد والمنة. وقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأخذ إجازة من المؤلف متع الله بحياته في جميع مروياته وعلومه، وقد أشار علينا المؤلف بأن نكون أول من يتدارس هذا التفسير مع طلبة العلم، فجزاه الله خير الجزاء. ويسرنا أن نبشر القراء بأنه قريبا سيصدر للمؤلف متع الله بحياته شرح واف ل «صحيح الإمام مسلم» في ستة عشر مجلدا، والمسمى «الكوكب الوهاج والروض البهاج على صحيح مسلم بن الحجاج».

نسأل الله أن ينفع بالمؤلف وعلومه، وأن يجعلنا خداما لكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكتب الأجر والثواب لكل من ساهم ويساهم في إخراج وتحقيق ونشر التراث الإسلامي الخالد بحاله ومقاله وماله، فلله الحمد والمنة، والصلاة والسلام على صاحب القرآن والسنة، وعلى آله وصحبه والوارثين للعلم والحكمة. وكتبه أ. د. هاشم محمد علي مهدي مستشار الدراسات والبحوث برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة في العشر الأواخر من رمضان سنة (1425 هـ)

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

مقدمة التفسير المسماة «نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان»

مقدمة التفسير المسماة «نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان»

ترجمة وتقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ترجمة وتقديم الحمد لله واهب النعم ودافع النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على عبده الأكرم سيد العرب والعجم، وعلى آله وصحبه وكل عالم ومتعلّم. أما بعد فقد أذن لي مؤلّف «حدائق الروح والريحان» وهو العالم الجهبذ والعلّامة النحرير فريد عصره وأوانه متّع الله بحياته ونفع بعلومه؛ بأن أرتّب وأراجع وأحقّق سفره العظيم .. وأجازني كذلك في جميع مؤلفاته ومروياته من فنون العلم وصنوف المعرفة في هذا الدين التي نقلها العدول من هذه الأمة خير خلف عن خير سلف فلله الحمد والمنة. وإنه ليشرّفني التعريف بهذا الحجة العلم والمقيم بأرض الحرم فأقول هو محمد أمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن أبو ياسين الأرمي جنسا، العلوي قبيلة، الأثيوبي دولة، الهرري منطقة، الكري ناحية، البويطي قرية، السلفي مذهبا، السعودي إقامة نزيل مكة المكرمة جوار الحرم الشريف في المسفلة حارة الرشد.

مولده

مولده: ولد في الحبشة في منطقة الهرر في قرية بويطه في عصر يوم الجمعة أواخر شهر ذي الحجة، سنة ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات. نشأته: ترّبى بيد والده وهو يتيم عن أمه، ووضعه عند المعلّم وهو ابن أربع سنين، وتعلّم القرآن وختمه وهو ابن ست سنين، ثمّ حوّله إلى مدارس علوم التوحيد والفقه، وحفظ من توحيد الأشاعرة «عقيدة العوام» للشيخ أحمد المرزوقي، و «الصغرى»، و «صغرى الصغرى»، و «الكبرى»، و «كبرى الكبرى» للشيخ محمد بن يوسف السنوسي؛ لأن أهل الحبشة كانوا وقتئذ من الأشاعرة، وحفظ من مختصرات فقه الشافعية كثيرا، ك «مختصر بافضل الحضرمي»، و «مختصر أبي شجاع» مع «كفاية الأخيار»، و «عمدة السالك» لأحمد بن النقيب، «وزبد أحمد بن رسلان» وهي ألفية في فقه الشافعية، وقرأ «المنهاج» للإمام النووي مع شرحه «مغني المحتاج»، و «المنهج» لشيخ الإسلام الأنصاري مع شرحه «فتح الوهاب»، وقرأ كثيرا من مختصرات كتب الشافعية ومبسوطاتها على مشايخ عديدة من مشايخ بلدانه. رحلته: ثم رحل إلى شيخه سيبويه زمانه، وفريد أوانه أبي محمد الشيخ موسى بن محمد الأدّيلي (¬1)، وبدأ عنده دراسة الفقه، بدأ بشرح جلال الدين المحلي على «منهاج» النووي، ثم بعد ما ¬

_ (¬1) الأديلي - بفتح الهمزة وتشديد الدال المفتوحة -: نسبة إلى أديل من أعمال دردوا.

وصل إلى كتاب (السّلم) حوّله شيخه المذكور - رحمه الله تعالى - إلى دراسة النحو لما رأى فيه من النجابة والاجتهاد في العلم، وقرأ عليه مختصرات النحو، ك «متن الأجرومية» وشروحها العديدة، و «متن الأزهرية» و «ملحة الإعراب» مع شرحه «كشف النقاب» لعبد الله الفاكهي، و «قطر الندى» مع شرحه «مجيب النّدا» لعبد الله الفاكهي، وقرأ «الألفية» لابن مالك مع شروحها العديدة، ك «شرح ابن عقيل»، و «شرح المكودي»، و «شرح السيوطي»، ثم اشتغل بكتب الصرف والبلاغة والعروض والمنطق والمقولات والوضع، واجتهد فيها وحفظ «ألفية ابن مالك» و «ملحة الإعراب» و «لامية الأفعال» و «السلّم» في المنطق، و «الجوهر المكنون» في البلاغة، وكان لا ينام كل ليلة حتى يختم القصائد المذكورة حفظا، وكان قليل النوم في صغره إلى كبره، حتى أنه كان لا ينام غالبا بعد ما كبر إلا أربع ساعات من أربع وعشرين ساعة لكثرة اجتهاده في مذاكرة العلم، وكان يدرّس هذه الفنون جنب حلقة شيخه، مع دراسته على الشيخ المذكور، ثم رحل من عنده بعد ما لازمه نحو سبع سنوات إلى شيخه خليل زمانه، وحبيب عصره وأوانه الشيخ محمد مديد الأدّيلي أيضا، وقرأ عنده مطولات كتب النحو ك «مجيب الندا على قطر الندى»، و «مغني اللبيب» كلاهما لابن هشام، و «الفواكه الجنيّة على المتممة الآجرومية»، وغير ذلك من مطولات علم النحو، وكان يدرّس أيضا جنب حلقة شيخه، وقرأ عليه أيضا التفسير إلى سورة يس.

ثم رحل من عنده بعد ما لازمه ثلاث سنوات، إلى شيخه الشيخ الحاوي، المفسّر في زمانه، الشيخ إبراهيم بن يس الماجتي (¬1)، فقرأ عليه التفسير بتمامه والعروض من مختصراته ومطولاته ك «حاشية الدمنهوري الكبير على متن الكافي»، و «شرح شيخ الإسلام الأنصاري على المنظومة الخزرجية»، و «شرح الصبان» على منظومته في العروض، وقرأ عليه أيضا مطولات المنطق والبلاغة ولازمه نحو: ثلاث سنوات. ثم رحل من عنده إلى الشيخ الفقيه الشيخ يوسف بن عثمان الورقي (¬2)، وقرأ عليه مطولات علم الفقه ك «شرح الجلال المحلى على المنهاج»، و «فتح الوهاب على المنهج» لشيخ الإسلام مع «حاشيته» لسليمان البجيرمي، و «حاشيته» لسليمان الجمل، و «حاشية التوشيح على متن أبي شجاع»، و «مغني المحتاج» للشيخ الخطيب إلى كتاب (الفرائض)، وقرأ عليه غير ذلك من كتب الفرائض ك «حواشي الرّحبية» و «الفرات الفائض في فن الفرائض» وهو كتاب جيد من مطولاتها، ولازمه نحو: أربع سنوات. ثم رحل من عنده إلى الشيخ إبراهيم المجّي (¬3) وقرأ عليه فتح الجواد لابن حجر الهيتميّ على متن الإرشاد لابن المقرىء الجزئين الأولين منه. ¬

_ (¬1) الماجتي: نسبة إلى ماجة من بلاد ولّو. (¬2) الورقيّ: نسبة إلى ورقة من أعمال مدينة هرر. (¬3) المجّي: نسبة إلى قبيلة من قبائل نولي.

ثم رحل من عنده إلى شيخ المحدثين الشيخ الحافظ الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الكري، وقرأ عليه «البخاري» بتمامه و «صحيح الإمام مسلم» وبعض كتب الاصطلاح. ثم رحل من عنده إلى مشايخ عديدة، وقرأ عليهم «السنّن الأربعة»، و «الموطأ» وغير ذلك من كتب الحديث مما يطول بذكره الكلام، ثم رحل من عندهم إلى شيخ عبد الله نورو القرسيّ (¬1)، فقرأ عليه مطولات كتب البلاغة ك «شروح التلخيص» لسعد الدين التفتازاني وغيره، ومطولات كتب أصول الفقه ك «شرح جمع الجوامع» لجلال الدين المحلي، وقرأ عليه من النحو «حاشية الخضريّ على ابن عقيل». وقرأ على غير هؤلاء المشايخ كتبا عديدة من فنون متنوعة مما يطول الكلام بذكره من كتب السيرة، وكتب الأمداح النبوية ك «بانت سعاد» و «همزية البوصيري» و «بردته» و «القصيدة الوترية» و «الطرّاف والطرائف وإضاءة الدجنّة» ألفية في كتب الأشاعرة، وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره، وكان يدرّس مع دراسته جنب حلقة مشايخه ما درس عليهم من أربع عشرة سنة من عمره. ثم استجاز من مشايخه هؤلاء كلهم التدريس، استقلالا في ما درس عليهم فأجازوا له، فبدأ التدريس استقلالا في جميع الفنون، في أوائل سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وسبعين، في اليوم ¬

_ (¬1) القرسي: نسبة إلى قرسا ناحية من أعمال دردوا.

الثاني عشر من ربيع الأول 12/ 3/ 1373 من الهجرة النبوية، فاجتمع عنده خلق كثير من طلّاب كلّ الفنون زهاء ستمائة طالب، أو سبعمائة طالب وكان يدرس من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء الآخرة نحو: سبع وعشرين حصة من حصص الفنون المتنوعة، وكان يحيي ليله دائما بكتابة التآليف وبما قدّر الله له من طاعته. والله أعلم * * *

ومؤلفاته كثيرة

ومؤلفاته كثيرة من كل الفنون حتى أوشكت إلى أن لا تحصى، والمطبوع المنتشر منها اثنا عشر كتابا: [من النحو] 1 - «الباكورة الجنية في إعراب متن الآجرومية». 2 - «الفتوحات القيومية في علل وضوابط متن الآجرومية». 3 - «الدرر البهية في إعراب أمثلة الآجرومية». 4 - «جواهر التعليمات شرح على التقريظات ومقدمة علم النحو». 5 - «هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف». * ومن الصرف: 6 - «مناهل الرجال على لامية الأفعال». 7 - «تحنيك الأطفال على لامية الأفعال». * ومن المصطلح: 8 - «الباكورة الجنية على منظومة البيقونية». 9 - «هداية الطالب المعدم على ديباجة صحيح مسلم». 10 - «خلاصة القول المفهم على تراجم رجال صحيح مسلم» مجلدان.

* ومن كتب الأسماء والصفات

* ومن كتب الأسماء والصفات: 11 - «هدية الأذكياء على طيبة الأسماء في توحيد الأسماء والصفات». 12 - «سلّم المعراج على خطبة المنهاج» للإمام النواوي. وغير المطبوع منها من الفنون المتنوعة: * من التفسير: 13 - «حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» اثنان وثلاثون مجلدا جمع فيه سبعة فنون، بل ثمانية، بل تسعة لم يسبق له نظير من كتب التفسير وهو الذي ننشر مقدمته الآن. * ومن النحو: 14 - «حاشية على كشف النقاب على ملحة الإعراب». 15 - «هدية الطلاب في إعراب ملحة الإعراب». 16 - «الصور العقلية على تراجم الألفية» لابن مالك. 17 - «التقريرات على حاشية الخضري على الألفية». 18 - «حاشية على الفواكه الجنية على متمّمة الآجرومية». 19 - «التقريرات على مجيب النّدا على قطر النّدى» كلاهما لعبد الله الفاكهي.

* ومن البلاغة

* ومن البلاغة: 20 - «الدرّ المصون على الجوهر المكنون» لعبد الرحمن الأخضري. 21 - «التقريرات على مختصر سعد الدين، على التلخيص». * ومن المنطق: 22 - «الكنز المكتّم على متن السّلّم» للأخضري أيضا. 23 - «التذهيب على متن التهذيب في المنطق». * ومن العروض: 24 - «الفتوحات الربانية على منظومة الخزرجية في العروض». 25 - «التبيان على منظومة الصبان في العروض». * ومن الحديث: 26 - «النهر الجاري على تراجم البخاري ومشكلاته». 27 - «رفع الصدود على سنن أبي داود» على الربع الأول منه لم يكمّل. * ومن الأصول: 28 - «التقريرات على شرح المحلي على جمع الجوامع في الأصول».

* ومن الفقه

* ومن الفقه: 29 - «التقريرات على شرح المحلي وحاشيتي القليوبي وعميرة عليه على المنهاج» في فقه الشافعية. 30 - «حاشية على فتح الجواد على متن الإرشاد» في فقه الشافعية. 31 - «أضوأ المسالك على عمدة الناسك» لأحمد بن النقيب. 32 - «التقريرات على التوشيح على غاية الاختصار». 33 - «التقريرات على فتح الوهاب مع حاشيته التجريد» لسليمان البجيرمي. 34 - «التقريرات على قصيدة زبد أحمد بن رسلان». * ومن الأمداح النبوية والسيرة المرضية: 35 - «نيل المراد على متن بانت سعاد» لكعب بن زهير الصحابي الجليل - رضي الله عنه -. 36 - «البيان الصريح على بردة المديح» للبوصيري. 37 - «البيان الظريف على العنوان الشريف». 38 - «المقاصد السّنيّة على القصائد البرعية». 39 - «التقريرات على همزية البوصيري».

* ومنها في المصطلح

* ومنها في المصطلح: 40 - «جوهرة الدّرر على ألفية الأثر» لعبد الرحمن السيوطي. 41 - ومنها «نزل كرام الضيفان مقدمة تفسير حدائق الروح والريحان» وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن. 42 - ومنها «مجمع الأسانيد ومظفر المقاصد من أسانيد كل الفنون». 43 - «فتح الملك العلام في عقائد أهل الإسلام على ضوء الكتاب والسنة». - وكانت هجرته من الحبشة إلى هذه المملكة السعيدة في تاريخ سنة ثمان وتسعين بعد ألف وثلاثمائة كما أرّخه بقوله: هاجرت في ثمان وتسعين ... من بعد ألف وثلاث مئين وكان سبب هجرته؛ اتفاق الشيوعيّين على قتله، حين أسس في منطقته الجبهة الإسلامية الأرومية، وجاهد بهم وأوقع في الشيوعيين قتلا ذريعا، وحاصروه لقتله وخرج من بين أيديهم بعصمة الله تعالى، وكان بعد ما دخل هذه المملكة، وحصل على النظام مدرسا في دار الحديث الخيرية من بداية سنة ألف وأربعمائة، وكان أيضا مدرسا في المسجد الحرام ليلا نحو: ثمان سنوات، بإذن رئاسة شئون الحرمين حتى تقرر تكريس وقته لمزيد من التأليف. فتصدى لشرح صحيح مسلم في خمسة عشر جزءا مجلدا وله أسانيد عديدة من مشايخ كثيرين في

جميع الفنون خصوصًا في التفسير والأمهات الستة فسبحان المنفرد بالكمال. والله سبحانه وتعالى أعلم ***

هذا وبعد التفصيل في ذكر سيرة هذا المفسّر الجليل يحسن بنا التمهيد لمقدمة هذا التفسير، بالثناء على الله الحميد المجيد، الفعّال لما يريد، الذي اختار صفوة العبيد، سيدنا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم وبعثه بمكارم الأخلاق، ونشر فضله وذكره في جميع الآفاق، وأنزل عليه نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من وفّق من الجهالة، وحكم بالفوز والفلاح لمن اتّبعه، وبالخسران لمن أعرض عنه، بعد ما سمعه، عجز الخلائق عن معاندته، ومعارضته، حين تحدّاهم على أن يأتو بسورة من مثله، في مقابلته، ثمّ سهّل على عباده المؤمنين مع إعجازه تلاوته، ويسّر على الألسن قراءته، ودراسته، أمر فيه، وزجر، وبشّر فيه، وأنذر، وذكر فيه المواعظ، ليتذكّر، وضرب فيه الأمثال، ليتدبّر، وقصّ فيه من أخبار الماضين؛ ليعتبر، ودلّ فيه على آيات التوحيد؛ ليتفّكر، ثمّ لم يرض منّا بسرد حروفه، دون حفظ حدوده، ولا بإقامة كلماته، دون العمل بمحكماته، ولا بتلاوته، دون تدبّر آياته، في قراءته، ولا بدراسته دون تعلم حقائقه، وتفهم دقائقه ولا حصول لهذه المقاصد منه، إلا بدراية تفسيره وأحكامه، ومعرفة حلاله وحرامه، وأسباب نزوله وأقسامه، والوقوف على ناسخه ومنسوخه، ومعرفة تناسب آياته، خاصّه وعامّه، ومطلقه ومجمله، فإنّه: أرسخ العلوم أصلا وأسبغها فرعا وفضلا، وأكرمها نتاجا، وأنورها سراجا، فلا شرف إلّا وهو السبيل

إليه، ولا خير إلّا وهو الدالّ عليه، وقد قيّض الله تعالى له رجالا موفّقين، وبالحقّ ناطقين، حتّى صنّفوا في سائر علومه المصنّفات، وجمعوا سائر فنونه المتفرّقات، كلّ على قدر فهمه، ومبلغ علمه، نظرا للخلف، واقتداء بالسّلف، فشكر الله سعيهم، ورحم كافّتهم، وأشهد أن لا إله إلا الله، الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يكن له كفوا أحد، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، شهادة تشهد لي يوم الدين، بكامل الإيمان واليقين، فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كلّ مقصود، صلّ وسلّم على حبيبك المحمود، صاحب اللّواء المعقود، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم والجود، صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه، وكلّ من أعانه، وقرّر بنيانه. أمّا بعد: فلمّا فرغ واضع هذا التفسير «حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» منه، حبّذ له مقدمة وجيزة لتكون سفينة لمن أراد الخوض في بحاره، والمفتاح لمن أراد معالجة قفل أسراره، أسماها «نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان» وقد أشتملت هذه المقدمة على ثلاثين فصلا. هاك مقدمة طابت فرعا ... وطابا أصلها أصلا أصلا * * * ألا إنما القرآن تسعة أحرف ... سأنبيكها في بيت شعر بلا خلل حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصة عظة مثل * * *

ما حوى العلم جميعا أحد ... لا ولو مارسه ألف سنه إنما العلم بعيد غوره ... فخذو من كل علم أحسنه هذا وقد آن أوان شروع القارىء في تفحص هذا الكنز وإلقاء النظر على جواهره الثمينة والفريدة وبالله التوفيق والهداية لأقوم طريق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الدكتور/ هاشم بن محمد علي مهدي الأربعاء 5/ 5/ 1420 هـ

الفصل الأول في فضل القرآن الكريم وتلاوته، وتعلمه، وتعليمه

الفصل الأول في فضل القرآن الكريم وتلاوته، وتعلّمه، وتعليمه (¬1) فقد ورد في فضله، وتعلُّمه، وتعليمه أحاديث كثيرة: فمنها: ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في «صحيحة» عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى: خمّا، بين مكّة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثمّ قال: «أمّا بعد: ألا أيّها النّاس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإنّي تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي». زاد في رواية: «كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ». وفي رواية: «كتاب الله هو حبل الله من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة». وفي رواية الترمذي عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي»، أحدهما أعظم من الآخر: وهو كتاب الله؛ «حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل ¬

_ (¬1) الخازن.

بيتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». ومنها: ما أخرجه مسلم أيضا: عن عمر بن الخطاب قال: أما إنّ نبيّكم صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين». ومنها: ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخرب». أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح. ومنها: ما أخرجه البخاريّ، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلّم القرآن، وعلّمه». ومنها: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران». متّفق عليه. (الماهر): الحاذق الكامل الحفظ، الجيّد التلاوة. (يتعتع)؛ أي: يتردّد في تلاوته؛ لضعف حفظه. (له أجران) يعني: أجر بسبب القراءة، وأجر بسبب تعبه فيها والمشقّة فيها، وليس معناه: أنّ له أجرا أكثر من أجر الماهر، بل الماهر أفضل منه، وأكثر أجرا. ومنها: ما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ كمثل الأترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن،

كمثل التمرة طعمها طيّب، ولا ريح له، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مرّ، ولا ريح لها». متّفق عليه. فيه دليل على فضيلة حفّاظ القرآن، ومشروعيّة ضرب الأمثال؛ لإيضاح المقاصد. ومنها: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} * حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ومنها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رجل: يا رسول الله! أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: «الحالّ المرتحل»، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: «الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، كلّما حلّ ارتحل». أخرجه الترمذي. ومنها: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلك عند الله آخر آية تقرؤها» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ومنها: ما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا ربّ! حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! زده، فيلبس حلّة الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! ارض

عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ، وارق، ويزاد بكلّ آية حسنة». أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. ومنها: ما روي عن سهل بن معاذ الجهنيّ، عن أبيه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل به، ألبس والداه يوم القيامة تاجا، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنّكم بالذي عمل بهذا» أخرجه أبو داود. ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فاستظهره، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النار». أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وليس له إسناد صحيح. ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به» متّفق عليه. ما أذن الله، أي: استمع لمن يتغنّى بالقرآن، أي: يحسّن صوته به. ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن». ومنها: ما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة» أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والدارميّ، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

وفي «مسند أبي داود الطيالسيّ: وهو أوّل مسند ألّف في الإسلام، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: «من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين». والآثار في معنى هذا الفصل كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفّق للهداية. والله أعلم * * *

الفصل الثاني في كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها، وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك

الفصل الثاني في كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها، وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك (¬1) روى البخاري، عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: (يمدّ مدّا، إذ قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)} (1)، يمدّ بسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم). وروى الترمذي، عن أمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطّع قراءته، يقول: «الحمد لله ربّ العالمين»، ثمّ يقف الرحمن الرحيم، ثمّ يقف، وكان يقرأ مالك يوم الدين. قال: حديث غريب. وأخرجه أبو داود بنحوه. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «أحسن الناس صوتا؛ من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى». وروي عن زياد النّميري: «أنّه جاء مع القرّاء إلى أنس بن مالك، فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرّب؛ وكان رفيع الصّوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوادء، فقال: (يا هذا ما هكذا يفعلون)، وكان إذا رأى شيئا ينكره، كشف عن وجهه الخرقة. ¬

_ (¬1) القرطبي.

وروي عن قيس بن عبّاد أنّه قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الذكر، وممّن روي عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، والنّخعيّ وغيرهم، وكرهه مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، كلّهم كره رفع الصوت بالقرآن، والتّطريب فيه. وروي عن سعيد بن المسيب: أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤمّ الناس، فطرّب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله! إنّ الأمّة لا تقرأ هكذا، فترك عمر التّطريب بعد. وروي عن القاسم بن محمد: أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم فطرّب، فأنكر ذلك القاسم وقال: يقول الله عزّ وجلّ: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية. وروي عن مالك: أنّه سئل عن النّبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر ذلك، وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به. وروى ابن القاسم عنه: أنّه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا يعجبني، وقال: إنّما هو غناء يتغنّون به؛ ليأخذوا عليه الدّراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به؛ لأنّه إذا حسن الصوت به، كان أوقع في النّفوس وأسمع في القلوب، واحتجّوا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» رواه البراء بن عازب. أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم

يتغنّ بالقرآن»، أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صلّى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنّك تستمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا). وبما رواه عبد الله بن مغفّل، قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عام الفتح في مسير له، (سورة الفتح) على راحلته، فرجّع في قراءته. وممّن ذهب إلى هذا أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ، وابن المبارك، والنضر بن شميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن بن بطّال، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم. قلت: القول (¬1) الأول أصحّ لما ذكرناه ويأتي، وأمّا ما احتجّوا به من الحديث الأوّل؛ فليس على ظاهره؛ وإنّما هو من المقلوب، أي: زيّنوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطّابي، وكذا فسّره غير واحد من أئّمة الحديث. (زيّنوا أصواتكم بالقرآن) وقالوا: هو من المقلوب، كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة؛ وإنّما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة، فقدّم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح. قلت: وهذا الخلاف ما لم يمنع فهم معنى القرآن بترديد الأصوات، وكثرة التّرجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه، فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القرّاء بالديار المصريّة، الذين يقرؤون أمام الملوك والجبابرة، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضلّ سعيهم وخاب عملهم، فيستحلّون بذلك تغيير كتاب الله، ويهوّنون على أنفسهم الاجتراء على الله، بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه، جهلا ¬

_ (¬1) الطبري.

بدينهم، ومروقا عن سنّة نبيّهم، ورفضا لسير الصّالحين فيه من سلفهم، ونزوعا إلى ما يزيّن لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعهم، فهم في غيّهم يتردّدون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. لكن قد أخبر الصادق المصدوق: أنّ ذلك يكون، فكان كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ذكر الإمام الحافظ، أبو الحسن رزين، وأبو عبد الله، الترمذيّ الحكيم في «نوادر الأصول»، من حديث حذيفة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اقرأوا القرآن بلحون العرب، وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء، والنّوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم». اللّحون: جمع لحن: وهو التّطريب، وترجيع الصوت، وتحسينه بالقراءة، والشعر، والغناء، قال علماؤنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قرّاء زماننا بين يدي الوعّاظ، وفي المجالس من اللّحون الأعجميّة، الّتي يقرؤون بها، ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والترجيع في القراءة: ترديد الحروف، كقراءة النصارى. والترتيل في القراءة: هو التّأنيّ فيها، والتمهّل، وتبيين الحروف، والحركات؛ تشبيها بالثغر المرتّل، وهو المشبه بنور الأقحوان، وهو المطلوب في قراءة القرآن، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}. وسئلت أمّ سلمة؛ عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: (ما لكم وصلاته)، ثمّ نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة

مفسّرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال هذا حديث صحيح غريب. والله أعلم * * *

الفصل الثالث في تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء، وغيره

الفصل الثالث في تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء، وغيره قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، وقال تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. روى مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة؛ رجل استشهد فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال: جرىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم، وعلّمه، وقرأ القرآن. فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت فيها من سبيل تحبّ أن ينفق فيها، إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو

جواد، فقد قيل، «ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار». وقال الترمذيّ في هذا الحديث: ثمّ ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: «يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أوّل خلق الله، تسعّر بهم النار يوم القيامة». قال ابن عبد البرّ: وهذا الحديث، فيمن لم يرد بعمله، وعلمه وجه الله تعالى. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «من طلب العلم لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوّأ مقعده من النار». وأخرج ابن المبارك في «رقائقه» عن العباس بن عبد المطلّب. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار، وحتى تخاض البحار، بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى، ثمّ يأتي أقوام يقرءون القرآن، فإذا قرءوه قالوا»: من أقرأ منّا، من أعلم منّا؟ ثم التفت إلى أصحابه، فقال: «هل ترون في أولئكم من خير؟» قالوا: لا، قال: «أولئك منكم، أولئك من هذه الأمّة، وأولئك هم وقود النّار». وروى أبو داود، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من تعلّم علما ممّا يبتغى به وجه الله، لا يتعلّمه؛ إلّا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة». يعني: ريحها. قال الترمذي: حديث حسن. وروى الترمذي أيضا: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعوّذوا بالله من جبّ الحزن»، قالوا: يا رسول الله! وما جبّ الحزن؟ قال: «واد في جهنّم، تتعوّذ منه جهنّم في كلّ يوم

مائة مرّة»، قيل: يا رسول الله! ومن يدخله؟ قال: «القرّاء المراءون بأعمالهم»، وقال هذا حديث غريب. وفي كتاب أسد بن موسى: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ في جهنّم واديا، إنّ جهنّم تتعوّذ من شرّ ذلك الوادي، كلّ يوم سبع مرّات، وإنّ في ذلك الوادي لجبّا، إنّ جهنّم، وذلك الوادي؛ ليتعوّذان بالله من شرّ ذلك الجبّ، وإنّ في الجبّ لحيّة، وإنّ جهنّم والوادي والجبّ؛ ليتعوّذون بالله من شر تلك الحيّة سبع مرات، أعدّها الله تعالى للأشقياء من حملة القرآن، الذين يعصون الله». فيجب على حامل القرآن، وطالب العلم أن يتّقي الله في نفسه، ويخلص العمل لله، فإن كان تقدّم له شيء ممّا يكره؛ فليبادر التّوبة والإنابة، وليبتدىء الإخلاص في التوبة وعمله، فالذي يلزم حامل القرآن من التحفّظ، أكثر ممّا يلزم غيره، كما أنّ له من الأجر ما ليس لغيره. وأخرج الطبريّ في كتاب «آداب النفوس» قال: حدّثنا أبو كريب، محمد بن العلاء، حدثنا المحاربيّ، عن عمرو بن عامر البجليّ، عن ابن صدقة، عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو عمّن حدّثه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تخادع الله؛ فإنّه من يخادع الله يخدعه الله، ونفسه يخدع لو يشعر» قالوا يا رسول الله. وكيف يخادع الله؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به، وتطلب به غيره، واتقوا الرياء، فإنّه الشرك، وإنّ المرائي يدعى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا

خاسر! ضل عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له، يا مخادع. وروى علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: (كيف أنتم، إذا لبستكم فتنة يربوا فيها الصغير، ويهرم الكبير، وتتّخذ سنة مبتدعة، يجري عليها الناس؟ فإذا غيّر منها شيء)، قيل: قد غيرت السّنة، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثر قرّاؤكم، وقلّ فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقلّ أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدّين). وقال سفيان بن عيينة: بلغنا عن ابن عباس أنّه قال: (لو أنّ حملة القرآن أخذوه بحقّه، وما ينبغي؛ لأحبّهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا، فأبغضهم الله، وهانوا على الناس). وروي عن أبي جعفر، محمد بن علي في قول الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ} (94)، قال: قوم وصفوا الحقّ والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره. والله أعلم * * *

الفصل الرابع في ذكر ما ينبغي لصاحب القرآن أن يلزم نفسه به، ولا يغفل عنه

الفصل الرابع في ذكر ما ينبغي لصاحب القرآن أن يلزم نفسه به، ولا يغفل عنه فأوّل ذلك أن يخلص في طلبه لله عزّ وجلّ، كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن، في ليله، ونهاره، في الصلاة، أو في غير الصلاة؛ لئلّا ينساه. روى مسلم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار؛ ذكره، وإن لم يقم به؛ نسيه». وينبغي له: أن يكون لله حامدا، ولنعمه شاكرا، وله ذاكرا، وعليه متوكّلا، وبه مستعينا، وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت ذاكرا، وله مستعدّا. وينبغي له: أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربّه، ويكون الخوف في صحّته أغلب عليه، إذ لا يعلم بم يختم له، ويكون الرّجاء عند حضور أجله، أقوى في نفسه؛ لحسن الظنّ بالله تعالى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو محسّن بالله الظنّ» أي: أنّه يرحمه، ويغفر له.

وينبغي له: أن يكون عالما بأهل زمانه، متحفّظا من سلطانه، ساعيا في خلاص نفسه، ونجاة مهجته، مقدّما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه، مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع. وينبغي له: أن يكون أهمّ أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوى الله، ومراقبته فيما أمره به، ونهاه عنه. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ينبغي لقارىء القرآن: أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقظون، وببكائه إذا النّاس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون). وقال عبد الله بن عمرو: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو، ويصفح لحقّ القرآن؛ لأنّ في جوفه كلام الله تعالى). وينبغي له: أن يأخذ نفسه بالتّصاون من طرق الشّبهات، ويقلّل الضحك، والكلام في مجالس القرآن، وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار. وينبغي له: أن يتواضع للفقراء، ويتجنّب التّكبّر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب. وينبغي له: أن يكون ممّن يؤمن شرّه، ويرجى خيره، ويسلم من ضرّه، وأن لا يسمع ممّن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدلّه على الصدق، ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.

وينبغي له: أن يتعلّم أحكام القرآن، فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلوه، فما أقبح لحامل القرآن، أن يتلو فرائضه، وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم ما يتلوه! فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه، ولا يدريه! فما مثل من هذه حالته، إلّا كمثل الحمار يحمل أسفارا. وينبغي له: أن يعرف المكّيّ من المدني؛ ليفرّق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أوّل الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أوّل الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ: هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكيّ المدني؛ لأنّ المنسوخ هو المتقدّم في النزول قبل الناسخ له. ومن كماله: أن يعرف الإعراب والغريب، فذلك ممّا يسهّل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشكّ فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبريّ: سمعت الجرميّ يقول: أنا منذ ثلاثين سنة، أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال محمد بن يزيد: وذلك أنّ أبا عمر الجرميّ، كان صاحب حديث، فلمّا علم كتاب سيبويه، تفقّه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلّم منه النّظر، والتفسير، ثمّ ينظر في السّنن المأثورة، الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزّ وجلّ في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وقد قال الضحاك في قوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا

رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ} قال: (حقٌّ على من تعلّم القرآن، أن يكون فقيها، وذكر ابن أبي الحواريّ قال: أتينا فضيل بن عياض، سنة خمس وثمانين ومائة، ونحن جماعة، فوقفنا على الباب، فلم يأذن لنا بالدّخول، فقال بعض القوم: إن كان خارجا لشيء، فسيخرج لتلاوة القرآن، فأمرنا قارئا فقرأ، فاطّلع علينا من كوّة فقلنا: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام، فقلنا: كيف أنت يا أبا عليّ؟ كيف حالك؟ فقال: أنا من الله في عافية، ومنكم في أذى، وإنّ ما أنتم فيه حدث في الإسلام، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما هكذا كنّا نطلب العلم، ولكنّا كنّا نأتي المشيخة، فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السّمع، فإذا مرّ الحديث سألناهم إعادته وقيّدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهل، وقد ضيّعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، قال: قلنا قد تعلّمنا القرآن، قال: إنّ في تعلّمكم القرآن، شغلا لأعماركم، وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا عليّ؟ قال: لن تعلموا القرآن، حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل، وابن عيينة، ثمّ قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}. قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقارىء القرآن، كان ماهرا

بالقرآن، وعالما بالفرقان، وهو قريب على من قرّبه الله عليه، ولا ينتفع بشيء ممّا ذكرنا؛ حتى يخلص النيّة فيه لله عزّ وجلّ عند طلبه، أو بعد طلبه، كما تقدّم. فقد يبتدىء الطالب للعلم، يريد به المباهاة، والشرف في الدنيا، فلا يزال به فهم العلم، حتى يتبيّن له أنّه على خطأ في اعتقاده، فيتوب من ذلك، ويخلص النيّة لله تعالى، فينتفع بذلك ويحسّن حاله. قال الحسن: كنّا نطلب العلم للدنيا، فجرّنا إلى الآخرة. قاله سفيان الثوري. وقال حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه النية، ثمّ جاءت النيّة بعد. والله أعلم * * *

الفصل الخامس في ما جاء في إعراب القرآن، وتعليمه، والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا

الفصل الخامس في ما جاء في إعراب القرآن، وتعليمه، والحثّ عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا قال أبو بكر الأنباريّ: جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - من تفصيل إعراب القرآن، والحضّ على تعليمه، وذمّ اللّحن وكراهيته، ما وجب به على قرّاء القرآن، أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلّمه. من ذلك: ما حدّثنا يحيى بن سليمان، الضبّيّ، قال: حدّثنا محمد يعني: ابن سعيد، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه». حدّثني أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن الهيثم، قال: حدّثنا آدم يعني: ابن أبي إياس. قال: حدّثنا أبو الطيب المروزيّ قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فلم يعربه، وكّل به ملك يكتب له، كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه، وكل به ملكان يكتبان له بكلّ حرف عشرين حسنة، فإن أعربه، وكّل به أربعة أملاك يكتبون له بكلّ حرف سبعين حسنة».

وروى جويبر عن الضحاك قال: قال عبد الله بن مسعود: (جوّدوا القرآن، وزيّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه، فإنّه عربيّ، والله يحبّ أن يعرب به). وعن مجاهد، عن ابن عمر قال: (أعربوا القرآن). وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال: قال أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -: (إعراب القرآن، أحبّ إلينا من حفظ حروفه). وعن الشّعبيّ قال: قال عمر - رضي الله عنه: (من قرأ القرآن فأعربه، كان له عند الله أجر شهيد). وقال مكحول: بلغني أنّ من قرأ بإعراب، كان له من الأجر ضعفان ممّن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحبّ العرب لثلاث، لأنّي عربيّ، والقرآن عربيّ، وكلام أهل الجنّة عربيّ». وروى سفيان، عن أبي حمزة قال: قيل للحسن في قوم يتعلّمون العربية، قال: (أحسنوا)، يتعلّمون لغة نبيّهم صلّى الله عليه وسلم. وقيل للحسن: إنّ لنا إماما يلحن، قال: (أخّروه). وعن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابيّ في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني ممّا أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجل (براءة) فقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بالجرّ، فقال الأعرابيّ: أو قد برىء الله من رسوله؟ فإن يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابيّ! أتبرأ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنّي

قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت: من يقرئني؟ فأقرأني هذا (سورة براءة)، فقال: إنّ الله بريء من المشركين ورسوله، فقلت: أو قد برىء الله من رسوله؟ إن يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابيّ! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، فقال الأعرابيّ: وأنا والله أبرأ ممّا برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن لا يقرىء الناس إلا عالم باللّغة، وأمر أبا الأسود فوضع النّحو. وعن عليّ بن الجعد، قال: سمعت شعبة يقول: مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية؛ مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها. وقال حماد بن سلمة: من طلب الحديث، ولم يتعلّم النّحو، أو قال العربية - فهو كمثل الحمار، تعلّق عليه مخلاة ليس فيها شعير. قال ابن عطيّة: إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأنّ بذلك تقوم معانيه التي هي الشّرع. قال ابن الأنباري: وجاء عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم - من الاحتجاج على غريب القرآن، ومشكله باللغة والشعر، ما بيّن صحّة مذهب النحويين في ذلك، وأوضح فساد مذاهب من أنكر ذلك عليهم. من ذلك: ما حدّثنا عبيد بن عبد الواحد بن الشريف البزّاز، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أنبأنا ابن فرّوخ، قال: أخبرني أسامة، قال: أخبرني عكرمة أنّ ابن عباس قال: (إذا سألتموني

عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر؛ فإنّ الشعر ديوان العرب). وحدّثنا إدريس بن عبد الكريم، قال: حدّثنا خلف، قال: حدّثنا حمّاد بن زيد، عن عليّ بن زيد بن جدعان، قال: سمعت سعيد بن جبير، ويوسف بن مهران يقولان: سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء فيقول فيه: (هكذا وهكذ، أما سمعتم الشاعر يقول: كذا، وكذا). وعن عكرمة، عن ابن عباس، وسأله رجل عن قول الله عزّ وجلّ: {وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ} (4) قال: (لا تلبس ثيابك على غَدْرٍ) وتمثّل بقول غيلان الثقفيّ: فإنّي بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من سوءة أتقنّع وسأل رجل عكرمة عن الزّنيم، قال: هو ولد الزنا، وتمثّل ببيت شعر: زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم وعنه أيضا: الزّنيم: الدّعيّ الفاحش اللئيم، ثمّ قال: زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم أكارعه وعنه في قوله تعالى: {ذَواتا أَفْنانٍ} (48) قال: (ذواتا) ظلّ وأغصان، ألم تسمع إلى قول الشاعر: ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أيا فرخين صادف طائرا ... ذا مخلبين من الصّقور قطاما وعن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ

بِالسَّاهِرَةِ} قال: (الأرض). وقال أميّة بن أبي الصلت: عندهم لحم بحر، ولحم ساهرة، قال ابن الأنباري: والرّواة يروون هذا البيت: وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قول الله جلّ وعزّ: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ما السنة؟ قال: (النّعاس) قال زهير بن سلمى: لا سِنَةٌ في طُوال اللّيل تأخذه ... ولا ينام ولا في أمره فند والله أعلم * * *

الفصل السادس فيما جاء في فضل تفسير القرآن، وأهله

الفصل السادس فيما جاء في فضل تفسير القرآن، وأهله قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: وأمّا ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة، والتابعين. فمن ذلك: أنّ عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذكر جابر بن عبد الله، ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداءك، تصف جابرا بالعلم، وأنت أنت، فقال: (إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ}). وقال مجاهد أحبّ الخلق إلى الله تعالى، أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن (والله ما أنزل الله آية، إلّا أحبّ أن يعلم فيما أنزلت، وما يعنى بها). وقال الشعبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إنّ الّذي يفسّرها رحل إلى الشام، فتجهّز ورحل إلى الشام، حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله جلّ وعزّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة، حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب، وسيأتي. وقال ابن عباس: (مكثت سنتين، أريد أن أسأل عمر، عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلّا مهابته، فسألته، فقال: هما حفصة، وعائشة). وقال إياس بن

معاوية: مثل الذين يقرؤون القرآن، وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير، كمثل رجل جاءهم بمصباح، فقرؤوا ما في الكتاب. والله أعلم * * *

الفصل السابع في بيان مبدأ التفسير، ووضعه

الفصل السابع في بيان مبدأ التفسير، ووضعه وأوّل ما بدئت دراسات القرآن وتفسيره، زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ففي عهده نرى أعرابيا يسأله عن معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} قائلا: وأيّنا لم يظلم نفسه، وفسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالشرك، واستشهد عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث، كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، كثير من الأحاديث التي تتعلّق بتفسير القرآن، وبعضها ينحصر في ذكر فضائله، وتفسير بعض كلماته تفسيرا مختصرا، يبيّن وجه التشريع، أو الموعظة في الآية. وروي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «وإنّه ليأتي الرجل العظيم، السمين، يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا}» على أنّه قد لا يوضع الاعتبار، كلّ ما جاء من الحديث في التفسير، فأحمد ابن حنبل في القرن الثالث الهجري يقول: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير، والملاحم، والمغازي، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلّط فيه الناس بين الصحيح، وغير الصحيح من الحديث.

على أنّ الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين: قسم: متحرّج من القول في القرآن، ومن هؤلاء: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكان عبد الله بن عمر يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر. والقسم الثاني: الذين لم يتحرّجوا، وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو حسب فهمهم الخاصّ، بالمقارنة إلى الشعر العربيّ، وكلام العرب، ومن هؤلاء القسم: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب وغيرهم، وتبعهم: الحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة والسدّيّ وغيرهم ممّن لا يحصون. والله أعلم * * *

الفصل الثامن فيما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك، وبيان مراتب المفسرين

الفصل الثامن فيما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرّأي، والجرأة على ذلك، وبيان مراتب المفسّرين فمن ذلك: ما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: (ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفسّر من كتاب الله، إلّا آيا بعدد ما علّمه إيّاهنّ جبريل). قال ابن عطيّة: ومعنى هذا الحديث في مغيّبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا، ممّا لا سبيل إليه إلّا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به؛ كوقت قيام الساعة، ونحوها، ممّا يقرأ من ألفاظه، كعدد النّفخات في الصّور، وكرتبة خلق السموات والأرض. ومنه ما روى الترمذي، عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اتّقوا الحديث عليّ إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النار. ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النار». وروى أيضا: عن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ». وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أبو داود، وتكلّم في أحد رواته. وزاد رزين «ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر». قال أبو بكر، محمد بن القاسم بن بشار بن

محمد الأنباريّ، النحويّ، اللغويّ، في كتاب «الردّ»؛ فسّر حديث ابن عباس بتفسيرين: أحدهما: من قال في مشكل القرآن، بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة، والتابعين؛ فهو متعرّض لسخط الله. والجواب الآخر: وهو أثبت القولين، وأصحّهما معنى: من قال في القرآن قولا، يعلم أنّ الحقّ غيره؛ فليتبوّأ مقعده من النار. ومعنى يتبوّأ: ينزل ويحلل. وقال في حديث جندب: فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث: على أنّ الرّأي معنيّ به الهوى، أي: من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمّة السلف، ولا اقتضته قوانين العلم، كالنحو، والأصول، فأصاب؛ فقد أخطأ؛ لحكمه على القرآن برأيه، وليس يدخل في هذا الحديث، أن يفسّر اللغويون لغته، والنحويون نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين علم، ونظر، فإنّ القائل على هذه الصفة، ليس قائلا لمجرّد رأيه. قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإنّ من قال فيه بما سنح في وهمه، وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطىء، وإنّ من استنبط معناه، بحمله على الأصول المحكمة، المتّفق على معناها فهو ممدوح. وقال بعض العلماء: إنّ التفسير موقوف على السماع؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا قول فاسد؛ لأنّ النّهي عن تفسير القرآن لا يخلو: إمّا أن يكون المراد به

الاقتصار على النقلي، والمسموع، وترك الاستنباط، أو المراد به: أمرا آخر، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلّم أحد في القرآن إلّا بما سمعه، فإنّ الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - قد قرؤوا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، وقال: «اللهمّ فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل»، فإن كان التأويل مسموعا، كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك، وهذا بيّن لا إشكال فيه؛ وإنّما النهي يحمل على وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه، وهواه، ليحتّج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي، والهوى، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى، وهذا النوع يكون تارة مع العلم، كالذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبّس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل، وذلك: إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك. ذكره القرطبي. والثاني: وقال ابن عطيّة: وكان جملة من السّلف - كثير عددهم - يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين ذلك - رضي الله عنهم - فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم، فعليّ بن أبي طالب

- رضي الله عنه - ويتلوه عبد الله بن عباس، وهو بحر فيه، وتبعه العلماء عليه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما. والمحفوظ عنه في ذلك، أكثر من المحفوظ عن عليّ. وقال ابن عباس: (ما أخذت من تفسير القرآن، فمن عليّ بن أبي طالب). وكان عليّ - رضي الله عنه - يثني على تفسير ابن عباس، ويحضّ على الأخذ عنه. قال ابن عطيّة: وكان جملة من السلف، كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظّمون تفسير القرآن؛ ويتوقّفون عنه؛ تورّعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم، وتقدّمهم. قال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمّة من السلف الماضي، يتورّعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعض يقدّر أنّ الذي يفسّره لا يوافق مراد الله جلّ وعزّ، فيحجم عن القول، وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبنى على مذهبه، ويقتفى طريقه، فلعلّ متأخرا أن يفسّر حرفا برأيه، ويخطىء فيه، ويقول: إمامي في تفسير القرآن بالرأي، فلان الإمام من السلف. وعن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن تفسير حرف من القرآن، فقال: (أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني، وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر، والنّقل فيه). وقال ابن عطية: ومعنى هذا: أن يسأل الرجل عن معنى من كتاب الله جلّ وعزّ، فيتسوّر عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء عنه. وكان ابن مسعود يقول:

(نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس). وقال عنه علي - رضي الله عنه -: (ابن عباس: كأنّما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق). ويتلوه عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص. وكلّ ما أخذ من الصحابة فحسن مقدّم؛ لشهودهم التنزيل، ونزوله بلغتهم. وعن عامر بن واثلة قال: (شهدت عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يخطب، فسمعته يقول في خطبته: سلوني، فو الله، لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة، إلّا حدّثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا أنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل نزلت، أم في جبل، فقام إليه ابن الكوّاء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما الذاريات ذروا؟) وذكر الحديث. وعن المنهال بن عمرو قال: قال عبد الله بن مسعود: (لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطيّ، لأتيته، فقال له رجل: أما لقيت عليّ ابن أبي طالب؟ فقال: بلى قد لقيته). وعن مسروق قال: وجدت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد، والإخاذ يروي الاثنين، والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم، وإنّ عبد الله بن مسعود من تلك الإخاذ. ذكر هذه المناقب: أبو بكر الأنباريّ في كتاب «الردّ»، وقال: الإخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير. قال أبو بكر: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلّام، عن زيد العميّ، عن

أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرحم أمّتي بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم عليّ، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم لكتاب الله جلّ وعزّ أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح، وأبو هريرة وعاء من العلم، وسلمان بحر من علم لا يدرك، وما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء - أو قال البطحاء - من ذي لهجة، أصدق من أبي ذرّ - رضي الله عنهم - قال ابن عطية: ومن المبرّزين في التابعين: الحسن البصريّ، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة. قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهّم، ووقوف عند كلّ آية. ويتلوهم: عكرمة، والضحّاك، وإن كان لم يلق ابن عباس، وإنّما أخذ عن ابن جبير، وأمّا السدّيّ: فكان عامر الشعبيّ يطعن عليه، وعلى أبي صالح؛ لأنّه كان يراهما مقصّرين في النّظر. قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطّان، عن سفيان قال: قال الكلبيّ: قال أبو صالح: كلّ ما حدّثتك كذب، وقال حبيب بن أبي ثابت: كنّا نسمّيه: الذّروغزن يعني: أبا صالح مولى أمّ هانىء، والذّروغزن: هو الكذّاب بلغة الفرس. ثمّ حمل تفسير كتاب الله تعالى: عدول كلّ خلف، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه

تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». خرّجه أبو عمر وغيره. قال الخطيب أبو بكر، أحمد بن علي البغداديّ: وهذه شهادة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنّهم أعلام الدين، وأئمّة المسلمين؛ لحفظهم الشّريعة من التحريف والانتحال للباطل، وردّ تأويل الأبله الجاهل، وأنّه يجب الرجوع إليهم، والمعوّل في أمر الدين عليهم - رحمهم الله تعالى -. قال ابن عطية: وألّف الناس فيه، كعبد الرزاق، والمفضّل، وعليّ بن أبي طلحة، والبخاريّ، وغيرهم، ثمّ إنّ محمد بن جرير - رحمه الله تعالى - جمع على الناس أشتات التفسير، وقرّب البعيد منها، وشفى في الإسناد، ومن المبرّزين من المتأخّرين: أبو إسحاق الزجّاج، وأبو علي الفارسيّ، وأمّا أبو بكر النقاش، وأبو جعفر النحّاس: فكثيرا ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما، مكيّ بن أبي طالب - رحمه الله -، وأبو العباس المهدويّ متقن التأليف، وكلّهم مجتهد مأجور - رحمهم الله تعالى - ونضّر وجوههم. تتمّة في بيان الفرق بين التفسير، والتأويل والتفسير لغة: الكشف والإبانة. والتأويل لغة: الرجوع والكشف. والتفسير اصطلاحا: علم يبحث فيه، عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالته، على مراد الله - تعالى بحسب الطاقة البشريّة، ثمّ هذا العلم قسمان:

تفسير: وهو ما لا يدرك إلّا بالنقل، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. وتأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، ويسمّى الأول رواية، وهذا دراية. والسرّ في جواز التأويل بالرّأي بشروطه، كما تقدّم دون التفسير: أنّ التفسير كشهادة على الله، وقطع بأنّه عنى بهذا اللفظ هذا المعنى، ولا يجوز إلّا بتوقيف، ولذا جزم الحاكم أنّ تفسير الصحابيّ مطلقا في حكم المرفوع، والتأويل: ترجيح لأحد المحتملات بلا قطع فاغتفر. والله أعلم * * *

الفصل التاسع في بيان ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه

الفصل التاسع في بيان ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه قال أبو عمر: روي من وجوه فيها لين: عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ومن تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة، الإمام المقسط، وذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه». وقال أبو عمر: وحملة القرآن: هم عالمون بأحكامه، وحلاله، وحرامه، والعاملون بما فيه. وروى أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن أفضل من كلّ شيء، فمن وقّر القرآن، فقد وقّر الله، ومن استخفّ بالقرآن، استخفّ بحقّ الله تعالى، حملة القرآن: هم المحفوفون برحمة الله، المعظّمون كلام الله، الملبسون نور الله، فمن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم، فقد استخفّ بحقّ الله تعالى. والله أعلم * * *

الفصل العاشر في بيان ما يلزم قارىء القرآن، وحامله من تعظيم القرآن وحرمته

الفصل العاشر في بيان ما يلزم قارىء القرآن، وحامله من تعظيم القرآن وحرمته قال الترمذي الحكيم، أبو عبد الله في «نوادر الأصول»: فمن حرمة القرآن: أن لا يمسّه إلّا طاهرا. ومن حرمته: أن يقرأه وهو على طهارة. ومن حرمته: أن يستاك، ويتخلّل، فيطيّب فاه إذ هو طريقه. قال يزيد بن أبي مالك: إنّ أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهّروها، ونظّفوها ما استطعتم. ومن حرمته: أن يتلبّس كما يتلبّس للدخول على الأمير؛ لأنّه مناج. ومن حرمته: أن يستقبل القبلة لقراءته، وكان أبو العالية: إذا قرأ اعتمّ، ولبس، وارتدى، واستقبل القبلة. ومن حرمته: أن يتمضمض كلّما تنخّع. روى شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عباس: أنّه كان يكون بين يديه تور، إذا تنخّع مضمض، ثمّ أخذ في الذكر، وكان كلّما تنخّع مضمض. ومن حرمته: إذا تثاءب، أن يمسك عن القراءة؛ لأنّه إذا قرأ فهو مخاطب ربّه، ومناج، والتّثاؤب من الشيطان. قال مجاهد:

إذا تثاءبت، وأنت تقرأ القرآن، فأمسك عن القرآن تعظيما، حتى يذهب تثاؤبك. قال عكرمة: يريد أنّ في ذلك الفعل إجلالا للقرآن. ومن حرمته: أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)} إن كان ابتداء قراءته من أوّل السورة، أو من حيث بلغ. ومن حرمته: إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميّين من غير ضرورة. ومن حرمته: أن يخلو بقراءته، حتّى لا يقطع عليه أحد بكلام، فيخلطه بجوابه؛ لأنّه إذا فعل ذلك، زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء. ومن حرمته: أن يقرأ على تؤدة، وترسيل، وترتيل. ومن حرمته: أن يستعمل فيه ذهنه، وفهمه، حتى يعقل ما يخاطب به. ومن حرمته: أن يقف على آية الوعد، فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد، فيستجير بالله منه. ومن حرمته: أن يقف على أمثاله، فيتمثّلها. ومن حرمته: أن يلتمس غرائبه. ومن حرمته: أن يؤدّي لكل حرف حقّه من الأداء، حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، فإنّ له بكلّ حرف عشر حسنات.

ومن حرمته: إذا انتهت قراءته، أن يصدّق ربّه، ويشهد بالبلاغ لرسوله صلّى الله عليه وسلم، ويشهد على ذلك أنّه حقّ، فيقول: صدقت ربّنا، وبلّغ رسولك إلينا ونحن على ذلك من الشاهدين، اللهمّ! اجعلنا من شهداء الحقّ القائمين بالقسط، ثمّ يدعو بدعوات. ومن حرمته: إذا قرأه أن لا يلتقط الآي من كلّ سورة فيقرأ؛ فإنّه روي لنا: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه مرّ ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا، فأمره أن يقرأ على السّور، أو كما قال. ومن حرمته: إذا وضع الصحيفة أن لا يتركه منشورا، وأن لا يضع فوقه شيئا من الكتب، حتى يكون أبدا عاليا، لسائر الكتب علما كان، أو غيره. ومن حرمته: أن يضعه في حجره إذا قرأه، وعلى شيء بين يديه، ولا يضعه بالأرض. ومن حرمته: أن لا يمحوه من اللّوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته: إذا غسله بالماء، أن يتوقّى النجاسات من المواضع التي توطأ، فإنّ لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم: من يستشفى بغسالته. ومن حرمته: أن لا يتّخذ الصحيفة إذا بليت ودرست، وقاية للكتب، فإنّ ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء. ومن حرمته: أن لا يخلّي يوما من أيّامه من النظر في

المصحف مرّة، وكان أبو موسى يقول: (إنّي لأستحيي أن لا أنظر كلّ يوم في عهد ربّي مرّة). ومن حرمته: أن يعطي عينيه حظّهما منه، فإنّ العين تؤدّي إلى النّفس، وبين النّفس والصدر حجاب، والقرآن في الصّدر، فإذا قرأه عن ظهر القلب، فإنّما يسمع أذنه فتؤدّي إلى النّفس، فإذا نظر في الخطّ، كانت العين، والأذن قد اشتركتا في الأداء، وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظّها كالأذن. روى زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظّها من العبادة»، قالوا يا رسول الله: وما حظّها من العبادة؟ قال: «النّظر في المصحف، والتّفكّر فيه، والاعتبار عند عجائبه». وروى مكحول، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل عبادة أمّتي قراءة القرآن نظرا». ومن حرمته: أن لا يتأوّله عند ما يعرض له شيء من أمر الدنيا. حدّثنا عمر بن زياد الحنظليّ قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأوّل شيء من القرآن، [عند ما] يعرض له شيء من أمر الدنيا، والتأويل مثل قولك للرجل: إذا جاءك، جئت على قدر يا موسى. ومثل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)} هذا عند حضور الطعام، وأشباه هذا. ومن حرمته: أن لا يقال سورة كذا.

كقولك: سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء، ولكن يقال: السورة الّتي يذكر فيها كذا. قلت: هذا يعارضه قوله صلّى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه» أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود. ومن حرمته: أن لا يتلى منكوسا، كفعل معلّمي الصبيان، يلتمس أحدهم بذلك أن يري الحذق من نفسه، والعبارة، فإنّ تلك مخالفة. ومن حرمته: أن لا يقعّر في قراءته كفعل هؤلاء المهمزين، المبتدعين، المتنطّعين، في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلّفا، فإنّ ذلك محدث ألقاه إليهم الشّيطان، فقبلوه منه. ومن حرمته: أن لا يقرأه بألحان الغناء، كلحون أهل الفسق، ولا بترجيع النّصارى، ولا بنوح الرّهبانيّة، فإنّ ذلك كلّه زيغ كما تقدّم. ومن حرمته: أن يجلل تخطيطه إذا خطّه، وعن أبي حكيمة: أنّه كان يكتب المصاحف بالكوفة، فمرّ عليّ - رضي الله عنه - فنظر إلى كتابه فقال له: (أجلّ قلمك)، فأخذت القلم، فقططته من طرفه قطّا، ثمّ كتبت وعليّ - رضي الله عنه - قائم ينظر إلى كتابتي فقال: (هكذا نوّره كما نوّره الله جلّ وعزّ). ومن حرمته: أن لا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد

عليه، حتى يبغض إليه ما يسمع، ويكون كهيئة المغالبة. ومن حرمته: أن لا يماري، ولا يجادل فيه في القراءات، ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا هو، ولعلّه أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن، فيكون قد جحد كتاب الله. ومن حرمته: أن لا يقرأ في الأسواق، ولا في مواطن اللّغط، واللّغو، ومجمع السّفهاء. ومن حرمته: أن لا يتوسّد المصحف، ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله. ومن حرمته: أن لا يصغّر المصحف. روى الأعمش، عن إبراهيم، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: (لا يصغّر المصحف). قلت: وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنّه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال: (من كتبه) قال: أنا، فضربه بالدّرّة، وقال: (عظّموا القرآن). وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه نهى أن يقال: مسيجد، أو مصيحف. ومن حرمته: أن لا يخلط فيه ما ليس منه. ومن حرمته: أن لا يحلّى بالذهب، ولا يكتب بالذهب أو يعلّم عند رؤوس الآي، أو يصفر. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا زخرفتم مساجدكم، وحلّيتم مصاحفكم فالدّمار عليكم». وقال ابن عباس، ورأى مصحفا قد زيّن بفضة: (تغرون به السّارق، وزينته في جوفه).

ومن حرمته: أن لا يكتب على الأرض، ولا على حائط، كما يفعل بهذه المساجد المحدثة. حدّثنا محمد بن عليّ الشّقيفيّ، عن أبيه، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدّث قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب في أرض، فقال لشابّ من هذيل: ما هذا؟ قال: من كتاب الله كتبه يهوديّ، فقال: «لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله إلّا موضعه». قال محمد بن الزبير: رأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط، فضربه. ومن حرمته: أنّه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم، أن لا يصبّه على كناسة، ولا في موضع نجاسة، وعلى موضع يوطأ، ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس، أو يحفر حفيرة في موضع طاهر، حتى ينصبّ من جسده في تلك الحفيرة، ثمّ يكبسها، أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حرمته: أن يفتتحه كلّما ختمه، حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا ختم، يقرأ من أوّل القرآن قدر خمس آيات، لئلّا يكون في هيئة المهجور. وروى ابن عباس قال: (جاء رجل، فقال يا رسول الله! أيّ العمل أفضل؟ قال: «عليك بالحالّ المرتحل» قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: «صاحب القرآن يضرب من أوّله، حتى يبلغ آخره، ثمّ يضرب من أوّله كلّما حلّ ارتحل». قلت: «ويستحبّ له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله». ذكر أبو بكر الأنباريّ، أنبأنا

إدريس، حدّثنا خلف، حدّثنا وكيع عن مسعر، عن قتادة أنّ أنس بن مالك: كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. وأخبرنا إدريس، حدّثنا خلف، حدّثنا جرير عن منصور، عن الحكم قال: كان مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، وقوم يعرضون المصاحف، فإذا أرادوا أن يختموا، وجّهوا إلينا أحضرونا، فإنّ الرحمة تنزل عند ختم القرآن: وأخبرنا إدريس، حدثنا خلف، حدثنا إبراهيم عن التّيمي، قال: من ختم القرآن أوّل النهار، صلّت عليه الملائكة حتى يمسي، ومن ختم أوّل الليل، صلّت عليه الملائكة حتى يصبح قال: فكانوا يستحبّون أن يختموا أوّل الليل، وأوّل النهار. ومن حرمته: أن لا يكتب التعاويذ منه، ثمّ يدخل به الخلاء، إلّا أن يكون في غلاف من أدم، أو فضّة، أو غيره، فيكون كأنّه في صدرك. ومن حرمته: إذا كتبه، وشربه سمّى الله على كل نفس، وعظّم النية فيه، فإنّ الله يؤتيه على قدر نيّته. روى ليث، عن مجاهد: لا بأس أن تكتب القرآن، ثمّ تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة، فليكتب يس في جام بزعفران، ثمّ يشربه. قلت: ومن حرمته: أن لا يقال سورة صغيرة، وكرهه أبو العالية أن يقال: سورة صغيرة، أو كبيرة، وقال لمن سمعه قالها: أنت أصغر منها، وأمّا القرآن فكلّه عظيم. ذكره مكيّ - رحمه الله -. قلت: وقد روى أبو داود ما يعارض هذا، من حديث عمرو بن

شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنّه قال: (ما من المفصّل سورة صغيرة، ولا كبيرة، إلّا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة). والله أعلم * * *

الفصل الحادي عشر في بيان الكتاب بالسنة

الفصل الحادي عشر في بيان الكتاب بالسّنّة واعلم: أنّ بيانه صلّى الله عليه وسلم، الكتاب بالسّنة على ضربين: الأوّل: بيان ما أجمل في الكتاب، كبيانه للصلوات الخمس مواقيتها، وسجودها، وركوعها، وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة، ووقتها، وما الذي تؤخذ منه من الأموال، وبيانه لمناسك الحج، وقد قال صلّى الله عليه وسلم إذ حجّ بالناس: «خذوا عنّي مناسككم» وقال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» أخرجه البخاري. وروى ابن المبارك، عن عمران بن حصين أنّه قال لرجل: إنّك رجل أحمق، أتجد الظّهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثمّ عدّد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو هذا، ثمّ قال: أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسّرا؟ إنّ كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإنّ السّنّة فسّرته، وبيّنته. وروى الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسّنة التي تفسّر ذلك. وروى سعيد بن منصور، حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السّنة من السّنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال: قال يحيى بن أبي كثير: السّنة

قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السّنة. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يعني: أحمد بن حنبل، وسئل عن هذا الحديث الذي روي أنّ السّنة قاضية على الكتاب فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكنّي أقول: إنّ السّنّة تفسّر الكتاب، وتبيّنه. والثاني: بيان الزيادة على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها، وخالتها، وتحريم الحمر الأهليّة، وكلّ ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد، وغير ذلك. وروى أبو داود، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقّبهم بمثل قراه) أي: له أنّ يعاقبهم ويغلبهم؛ بأن يأخذ من أموالهم بقدر قراه، ويعقّبهم يروى مشدّدا، ومخفّفا. والله أعلم * * *

الفصل الثاني عشر في بيان كيفية التعلم، والفقه لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما جاء أنه يسهل على من تقدم العمل به، دون حفظه

الفصل الثاني عشر في بيان كيفية التعلّم، والفقه لكتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وما جاء أنّه يسهل على من تقدّم العمل به، دون حفظه ذكر أبو عمرو الدانيّ في كتاب «البيان» له بإسناده عن عثمان، وابن مسعود، وأبيّ - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى، حتى يتعلّموا ما فيها من العمل، فيعلّمنا القرآن، والعمل جميعا: وذكر عبد الرزّاق، عن معمر، عن عطاء بن السّائب، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ قال: كنّا إذا تعلّمنا عشر آيات من القرآن، لم نتعلّم العشر الّتي بعدها، حتى نعرف حلالها، وحرامها، وأمرها، ونهيها. وفي «الموطّأ» للإمام مالك: أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر، مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها. وذكر أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمّى: «ذكر أسماء من روى عن مالك»؛ عن مرداس بن محمد بن بلال الأشعري، قال: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها نحر جزورا). وذكر أبو بكر الأنباريّ: حدّثني محمد بن شهرباز، حدّثنا حسين بن الأسود، حدّثنا عبد الله بن موسى، عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو، عن زياد بن مخراق قال: قال عبد الله بن مسعود: (إنّا يصعب علينا

حفظ لفظ القرآن، ويسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ ألفاظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به). حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا يوسف بن موسى، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمّة، لا يحفظ من القرآن إلّا السورة، أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإنّ آخر هذه الأمّة، يقرؤون القرآن منهم الصبيّ، والأعمى، ولا يرزقون العمل به). حدّثني حسن بن عبد الوهاب؛ أبو محمد بن أبي العنبريّ، حدّثنا أبو بكر بن حمّاد المقرىء قال: سمعت خلف بن هشام البزّاريّ يقول: ما أظنّ القرآن إلّا عاريّة في أيدينا، وذلك إنّا روينا: أنّ عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشر سنة، فلمّا حفظها نحر جزورا؛ شكرا لله سبحانه، وإنّ الغلام في دهرنا هذا، يجلس بين يديّ، فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا، فما أحسب القرآن، إلّا عارية في أيدينا. وقال أهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه، دون معرفته، وفهمه، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل، وليكن تحفّظه للحديث على التّدريج قليلا قليلا، مع اللّيالي، والأيّام، وممّن ورد عنه ذلك من حفّاظ الحديث: شعبة، وابن عليّة ومعمر، قال معمر: سمعت الزهريّ يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنّما يدرك العلم

حديثا وحديثين، والله أعلم. وقال معاذ بن جبل: (اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا). قال ابن عبد البرّ: وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد، وفيه زيادة: أنّ العلماء همّتهم الدراية: وأنّ السفهاء همّتهم الرواية، وروي موقوفا، وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعبّاد بن عبد الصمد: ليس ممّن يحتجّ به. ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم، وشرف الكتاب العزيز والسّنّة الغرّاء: إنّ العلوم وإن جلّت محاسنها ... فتاجها ما به الإيمان قد وجبا هو الكتاب العزيز الله يحفظه ... وبعد ذلك علم فرّج الكربا فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه ... نور النّبوّة سنّ الشّرع والأدبا وبعد هذا علوم لا انتهاء لها ... فاختر لنفسك يا من آثر الطّلبا والعلم كنز تجده في معادنه ... يا أيها الطّالب ابحث وانظر الكتبا واتل بفهم كتاب الله فيه أتت ... كلّ العلوم تدبّره تر العجبا واقرأ هديت حديث المصطفى وسل ... مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا من ذاق طعما لعلم الدّين سرّ به ... إذا تزيّد منه قال واطربا والله أعلم * * *

الفصل الثالث عشر في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه»

الفصل الثالث عشر في معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه» روى مسلم، عن أبيّ بن كعب: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان عند إضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرف. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك». ثمّ أتاه الثانية. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرفين. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك. ثمّ جاءه الثالثة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك» ثمّ جاءه الرابعة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. وروى الترمذيّ عنه قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل. فقال: «يا جبريل! إني بعثت إلى أمّة أميّة، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال لي: يا محمد! إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف». وقال: هذا حديث حسن صحيح. وثبت في الأمّهات البخاري، ومسلم،

«والموطّأ»، وأبي داود، والنسائي، وغيرها من المصنّفات، والمسندات، قصّة عمر مع هشام بن حكيم، وسيأتي بكماله مفصلا إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم، محمد بن حيّان البستيّ، نذكر منها هنا خمسة أقوال: الأوّل: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، والطبري، والطحاوي، وغيرهم، أنّ المراد بها: سبعة أوجه من المعاني المتقاربة، بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل، وتعال، وهلمّ. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اقرأ على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف. فقال: اقرأ فكلّ شاف كاف، إلّا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة على نحو: هلمّ، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجّل، وبادر. وروى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب: أنّه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا} (للذين آمنوا أمهلونا) (للذين آمنوا أخّرونا)، وبهذا الإسناد عن أبيّ: كان يقرأ {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (مرّوا فيه) (سعوا فيه). وفي البخاريّ، ومسلم قال الزهريّ: إنّما هذه الأحرف في

الأمر الواحد ليس يختلف في حلال، ولا حرام. قال الطحاويّ: إنّما كانت السبعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنّهم كانوا أمّيّين لا يكتب إلّا القليل منهم، فلمّا كان يشقّ على كلّ ذي لغة أن يتحوّل إلى غيرها من اللّغات - ولو رام ذلك لم يتهيّأ له إلّا بمشقّة عظيمة - وسّع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متّفقا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفّظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البرّ: فبان بهذا أنّ تلك السبعة الأحرف، إنّما كان في وقت خاصّ لضرورة دعت إلى ذلك، ثمّ ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد. روى أبو داود، عن أبيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبيّ! إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين، فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف»، ثمّ قال: ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب. وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وذكر من كلام ابن مسعود نحوه. قال القاضي ابن الطيّب: وإذا ثبتت هذه الرواية - يريد حديث أبيّ - حمل على أنّ

هذا كان مطلقا، ثمّ نسخ، فلا يجوز للنّاس أن يبدّلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره، ممّا يوافق معناه، أو يخالف. القول الثاني: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يمنها ونزارها؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه: أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللّغات السبع متفرّقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن. قال الخطّابيّ: على أنّ في القرآن ما قد قرىء بسبعة أوجه وهو قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وقوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وذكر وجوها، كأنّه يذهب إلى أنّ بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كلّه. وإلى هذا القول: بأنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات، ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلّام، واختاره ابن عطيّة، قال أبو عبيد، وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس: أنّ عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: «ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنّه نزل بلغتهم». ذكره البخاريّ. وذكر حديث ابن عباس قال: (نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش، وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الدّار واحدة). قال أبو عبيدة يعني: أنّ خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم. قال القاضي ابن الطيّب - رحمه الله تعالى -: معنى قول

عثمان، فإنّه نزل بلغة قريش: يريد معظمه، وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أنّ القرآن بأسره منزّل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات، وحروف هي خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيّا، وهذا يدلّ على أنّه منّزل بجميع لغات العرب، وليس لأحد أن يقول إنّه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنّه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأنّ اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا. وقال ابن عبد البرّ: قول من قال: إنّ القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، والله سبحانه أعلم؛ لأنّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات، ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطيّة: معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف». أي: فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبّر عن المعنى في مرّة بعبارة قريش، ومرّة بعبارة هذيل، ومرّة بغير ذلك بحسب الأفصح. الأوجز في اللفظ، ألا ترى أنّ (فطر) معناه عند غير قريش: ابتدأ، فجاءت في القرآن، فلم تتّجه لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، قال ابن عباس: (ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى): {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقال أيضا: (ما كنت أدري معنى قوله تعالى): {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} (حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك): وكذلك قال

عمر بن الخطاب. وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} أي: على تنقّص لهم. وكذلك اتّفق لقطبة بن مالك، إذ سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ}. ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر، إلى غير ذلك من الأمثلة. القول الثالث: إنّ هذه اللغات السبع إنّما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجّوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبّة، ومنها لقيس، قالوا: فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود، يحبّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلّها في مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل: كشكشة قيس، وتمتمة تميم فأمّا كشكشة قيس: فإنّهم يجعلون كاف المؤنث شينا، فيقولون في: {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} جعل ربّش تحتش سريّا، وأمّا تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النّات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء. وقال آخرون: أمّا إبدال الهمزة عينا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ بها الجلّة، واحتجّوا بقراءة ابن مسعود: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ذكرها أبو داود. وبقول ذي الرمّة: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلّا أنّها غير طائل

القول الرابع: ما حكاه صاحب «الدلائل» عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبّرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: منها: ما تتغيّر حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وأطهر {وَيَضِيقُ صَدْرِي} ويضيّق. ومنها: ما لا تتغيّر صورته، ويتغيّر معناه بالإعراب، مثل: {رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} و {باعِدْ}. ومنها: ما تبقى صورته ويتغيّر معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: {نُنْشِزُها} و {ننشرها}. ومنها: ما تتغيّر صورته ويبقى معناه {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} و (كالصّوف المنفوش). ومنها: ما تتغيّر صورته ومعناه، مثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} و {طَلْعٌ نَضِيدٌ}. ومنها: التقديم والتأخير، كقوله: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} و (جاءت سكرة الحق بالموت). ومنها: الزيادة والنقصان، مثل قوله: (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى) وقوله: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ كافرًا، وكان أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ)، وقوله: (فإنّ الله من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم). القول الخامس: إنّ المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة،

وأمثال. قال ابن عطيّة: وهذا ضعيف؛ لأنّ هذا لا يسمّى أحرفا. وأيضا: فالإجماع على أنّ التوسعة لم تقع في تحليل حلال، ولا في تغيير شيء من المعاني. وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ثمّ قال: ولكن ليست هذه هي الّتي أجاز لهم القراءة بها؛ وإنّما الحرف في هذه بمعنى الجهة، والطريقة، ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل، وتحريم، وغير ذلك. وقد قيل: إنّ المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» القراءات السبع التي قرأ بها القرّاء السبعة؛ لأنّها كلّها صحّت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيء؛ لظهور بطلانه على ما يأتي. تنبيهان: الأوّل: قال كثير من علمائنا كالدّاوديّ، وابن أبي صفرة، وغيرهما: هذه القراءات الّتي تنسب لهؤلاء القرّاء السبعة، ليست هي الأحرف السبعة التي اتّسعت الصحابة في القراءة بها؛ وإنّما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف. ذكره ابن النحّاس، وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أنّ كلّ واحد منهم اختار فيما روى، وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده، والأولى فالتزمه طريقة، ورواه، وأقرأ به، واشتهر عنه، وعرف به، ونسب إليه. فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر، ولا أنكره، بل سوّغه،

وجوّزه، وكلّ واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران، أو أكثر، وكلّ صحيح، وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار، على الاعتماد على ما صحّ من هؤلاء الأئمّة ممّا رووه، ورأوه من القراءات، وكتبوا في ذلك مصنّفات، فاستمرّ الإجماع على الصواب. وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب. وعلى هذه، الأئمة المتقدّمون، والفضلاء المحقّقون، كالقاضي أبي بكر بن الطيّب، والطبريّ، وغيرهما. قال ابن عطيّة: ومضت الأعصار، والأمصار على قراءة السبعة، وبها يصلّى؛ لأنّها ثبتت بالإجماع وأمّا شاذ القراءات فلا يصلّى به؛ لأنّه لم يجمع الناس عليه، أمّا إنّ المرويّ منه عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن علماء التابعين فلا نعتقد فيه، إلّا أنّهم رووه، وأمّا ما يؤثر عن أبي السّماك؛ ومن قارنه؛ فلأنّه لا يوثق به. وقال غيره: أمّا شاذّ القراءة عن المصاحف المتواترة، فليست بقرآن، ولا يعمل بها على أنّها منه، وأحسن محامله: أن تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه، كقراءة ابن مسعود (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات)، فأمّا لو صرّح الرّاوي بسماعها، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فاختلف العلماء في العمل بذلك على قولين: النّفي، والإثبات. ووجه النفي: أنّ الراوي لم يرو في معرض الخبر، بل في معرض القرآن، ولم يثبت، فلا يثبت. والوجه الثّاني: أنّه وإن لم يثبت كونه قرآنا، فقد ثبت كونه

سنّة، وذلك يوجب العمل، كسائر أخبار الآحاد. والثاني: في ذكر معنى حديث عمر، وهشام، قال ابن عطيّة: أباح الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز، وجودة الرّصف، ولم تقع الإباحة في قوله صلّى الله عليه وسلم: «فاقرءوا ما تيسّر منه»، بأن يكون كلّ واحد من الصحابة، إذا أراد أن يبدّل اللّفظة من بعض هذه اللّغات .. جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرّضا أن يبدّل هذا وهذا، حتّى يكون غير الّذي نزل من عند الله تعالى؛ وإنّما وقعت الإباحة في الحروف السبعة، للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ ليوسّع بها على أمّته، فأقرأ مرّة لأبّيّ بما عارضه به جبريل، ومرّة لابن مسعود بما عارضه به أيضا. وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان، وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلّا فكيف يستقيم أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في كلّ قراءة منهما، وقد اختلفتا: «هكذا أقرأني جبريل. هل ذلك إلّا أنّه أقرىء مرّة بهذه، ومرّة بهذه، وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وأصوب قيلا) فقيل له: إنّما يقرأ: (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، فقال أنس: (وأصوب قيلا) (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، وأهيأ، واحد؛ فإنّما معنى هذا أنّها مرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلّا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه؛ لبطل معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}. روى البخاريّ، ومسلم، وغيرهما، عن عمر بن الخطاب

قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثمّ أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرسله، إقرأ» فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت» ثمّ قال لي: اقرأ، فقرأت فقال: «هكذا أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه». قلت: وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم، عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلّي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثمّ دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقرآ، فحسّن النبيّ صلّى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهليّة، فلمّا رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنّي أنظر إلى الله تعالى فرقا، فقال: «يا أبيّ! أرسل إليّ أن أقرأ على حرف، فرددت عليه: أن هوّن على أمّتي»، فردّ إليّ الثانية أن أقرأ على حرفين «فرددت إليه أن هوّن على أمّتي» فردّ إليّ الثالثة أن أقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردّة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: «اللهمّ اغفر لأمّتي، وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق

كلّهم حتى إبراهيم عليه السلام». قوله: (فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهليّة). معناه: وسوس إليّ الشيطان تكذيبا للنبوّة أشدّ ما كنت عليه في الجاهليّة؛ لأنّه كان في الجاهلية غافلا، ومشكّكا، فوسوس إليه الشيطان الجزم بالتكذيب. وقيل معناه: إنّه اعترته حيرة، ودهشة، ونزع الشيطان في قلبه تكذيبا لم يعتقده، وهذه الخواطر إذا لم يستمرّ عليها الإنسان لا يؤاخذ بها. (وكأنّما أنظر إلى الله تعالى فرقا) الفرق بالتحريك: الخوف، والخشية. والمعنى: أنّه غشيه من الهيبة، والخوف، والعظمة حين ضربه، (ما أزال عنه ذلك الخاطر) يعني: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم: لمّا رأى ما أصابه من ذلك الخاطر، نبّهه بأن ضربه في صدره، فأعقب ذلك بأن انشرح صدره، وتنوّر باطنه حتى آل به الكشف، والشّرح إلى حالة المعاينة، ولمّا ظهر له قبح ذلك الخاطر، خاف من الله تعالى، وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى، وكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين سألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به. قال: «وقد وجدتموه» قالوا: نعم. قال: «ذلك صريح الإيمان». أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. والله أعلم * * *

الفصل الرابع عشر في ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف، وإحراقه ما سواه، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة -رضي الله عنهم- في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

الفصل الرابع عشر في ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف، وإحراقه ما سواه، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة - رضي الله عنهم - في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم كان القرآن في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم متفرّقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف، وفي جريد، وفي لخاف، وظرر، وفي خزف، وغير ذلك. قال الأصمعيّ: اللّخاف حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة. والظّرر: حجر له حدّ كحدّ السكّين، والجمع ظرار، مثل: رطب، ورطاب، وربع، ورباع، فلمّا استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة في زمن الصديق - رضي الله عنه، - وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل: سبعمائة. أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القرّاء، كأبيّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتّب السّور بعد تعب شديد - رضي الله عنه. روى البخاري، عن زيد بن ثابت قال: (أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتال قد استحرّ يوم اليمامة بالنّاس، وإنّي أخشى أن

يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلّا أن تجمعوه، وإنّي لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلّم، فقال لي أبو بكر: إنّك رجل شابّ عاقل، ولا نتّهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن، فاجمعه، فو الله، لو كلّفني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه، حتى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر، وعمر، فقمت فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع، والأكتاف، والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة بن أوس بن زيد الأنصاريّ، لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...} إلى آخرها. فكانت الصّحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفّاه الله، ثمّ عند عمر حتى توفّاه الله، ثمّ عند حفصة بنت عمر). وقال اللّيث: حدّثني عبد الرحمن بن غالب، عن ابن شهاب، وقال: مع أبي خزيمة الأنصاري. وقال أبو ثابت: حدّثنا إبراهيم، وقال: مع خزيمة، أو أبي خزيمة، وهو الصّواب. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}. وقال الترمذيّ في حديثه عنه: فوجدت آخر (سورة براءة) مع خزيمة بن ثابت. {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ

ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} وقال حديث حسن صحيح. وفي «البخاريّ»، عن زيد بن ثابت قال: (لمّا نسخنا الصّحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد، إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ، الّذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين) {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. وقال الترمذي عنه: فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، فالتمستها، فوجدتها عند خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة، والأوّل هو الصّواب، فألحقتها في سورتها. قلت: فسقطت الآية الأولى من آخر (براءة) في الجمع الأوّل على ما قاله البخاري، والترمذي، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب. وحكى الطبريّ: أنّ آية (براءة) سقطت في الجمع الأخير، والأوّل أصحّ، والله أعلم. فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك، وفرغ منه. قيل له: إنّ عثمان - رضي الله عنه - لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن (أرسلي إلينا بالصّحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك) على ما يأتي، وإنّما فعل عثمان ذلك؛ لأنّ النّاس اختلفوا في القراءات؛ بسبب

تفرّق الصحابة في البلدان، واشتدّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبّههم، ووقع بين أهل الشام، والعراق، ما ذكره حذيفة - رضي الله عنه - وذلك: أنّهم اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كلّ طائفة بما روي لها، فاختلفوا، وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض، والبراءة منه، وتلاعنوا، فأشفق ممّا رأى منهم، فلمّا قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاريّ، والترمذيّ، دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال: (أدرك هذه الأمّة قبل أن تهلك قال: فيما ذا؟ قال: في كتاب الله. إنّي حضرت هذه الغزوة، وجمعت ناسا من العراق، والشّام، والحجاز، فوصف له ما تقدّم، وقال: إنّي أخشى عليهم، أن يختلفوا في كتابهم، كما اختلف اليهود والنصارى). قلت: وهذا أدلّ دليل على بطلان قول من قال: إنّ المراد بالأحرف السبعة قراءات القرّاء السبعة؛ لأنّ الحقّ لا يختلف فيه. وقد روى سويد بن غفلة، عن علي بن أبي طالب: أنّ عثمان قال: (ما ترون في المصاحف، فإنّ الناس قد اختلفوا في القراءة، حتى إنّ الرجل ليقول: إنّ قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر). قلنا: ما الرّأي عندك؟ يا أمير المؤمنين قال: (الرّأي عندي: أن يجتمع الناس على قراءة، فإنّكم إذا اختلفتم اليوم، كان من بعدكم أشدّ اختلافا. قلنا: الرّأي رأيك يا أمير المؤمنين!) فأرسل عثمان إلى حفصة (أنّ أرسلي إلينا بالصّحف، ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك) فأرسلت بها

إليه، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشييّن: (إذا اختلفتم أنتم، وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنّما نزل بلسانهم) ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف، ردّ عثمان الصّحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كلّ صحيفة، أو مصحف أن يحرّق، وكان هذا من عثمان - رضي الله عنه - بعد أن جمع المهاجرين، والأنصار، وجلّة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك فاتّفقوا على جمعه بما صحّ، وثبت من القراءات المشهورة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، واطّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديدا - رحمة الله عليه وعليهم أجمعين -. وقال الطبري فيما روى: أنّ عثمان قرن بزيد، أبان بن سعيد بن العاص وحده، وهذا ضعيف. وما ذكره البخاريّ، والترمذي، وغيرهما أصحّ. وقال الطبريّ أيضا: إنّ الصّحف التي كانت عند حفصة، جعلت إماما في هذا الجمع الأخير، وهذا صحيح. قال ابن شهاب: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ عبد الله بن مسعود، كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: (يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويتولّاه رجل، والله لقد أسلمت، وإنّه لفي صلب رجل كافر - يريد زيد بن ثابت - ولذلك قال عبد الله بن مسعود: (يا أهل العراق: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّوها،

فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فالقوا الله بالمصاحف) أخرجه الترمذي. قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر، وعمر، وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله بن مسعود أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل؛ إلّا لأنّ زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كلّه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حيّ، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نيّف وسبعون سورة، ثمّ تعلّم الباقي بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالذي ختم، وحفظه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حيّ، أولى بجمع المصحف، وأحقّ بالإيثار، والاختيار، ولا ينبغي أن يظنّ جاهل، أنّ في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود؛ لأنّ زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه، فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ لأنّ أبا بكر، وعمر - رضي الله عنهما - كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرا منهما، ولا مساويا لهما في الفضائل، والمناقب. قال أبو بكر الأنباري: وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك؛ فشيء نتجه الغضب، ولا يعمل به، ولا يؤخذ به، ولا يشكّ في أنّه - رضي الله عنه - قد عرف بعد زوال الغضب عنه، حسن اختيار عثمان، ومن معه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبقي على موافقتهم، وترك الخلاف لهم، فالشّائع، الذّائع المتعالم عند أهل الرواية، والنّقل، أنّ عبد الله بن مسعود تعلّم بقيّة القرآن بعد

وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال زيد بن هارون: المعوّذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنّهما ليستا من القرآن، فهو كافر بالله العظيم. فقيل له: فقول عبد الله بن مسعود فيهما، فقال: لا خلاف بين المسلمين، في أنّ عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كلّه. وقد قال بعض أهل العلم: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يتعلّم المعوّذتين فلهذه العلّة لم توجدا في مصحفه. وقيل غير هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب عند ذكر المعوّذتين إن شاء الله تعالى. وروى إسماعيل بن إسحاق، وغيره، قال حمّاد: أظنّه عن أنس بن مالك قال: (كانوا يختلفون في الآية فيقولون: أقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلان بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث مراحل من المدينة، فيرسل إليه، فيجاء به، فيقال: كيف أقرأك رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية، كذا وكذا؟ فيكتبون كما قال. قال ابن شهاب: واختلفوا يومئذ في التابوت، فقال زيد: التابوه، وقال ابن الزبير، وسعيد بن العاص: التابوت، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: (أكتبوه بالتاء، فإنّه نزل بلسان قريش). أخرجه البخاري، والترمذي. قال ابن عطية: قرأه زيد بالهاء، والقرشيّون بالتاء، فأثبتوه بالتاء، وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدّهر، ونسخ منها عثمان نسخا. قال غيره: قيل سبعة، وقيل: أربعة، وهو الأكثر، ووجّه بها إلى الآفاق؛ فوجّه للعراق، والشام، ومصر

بأمّهات، فاتخذها قرّاء الأمصار معتمد اختياراتهم، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النّحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القرّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم، وينقصها بعضهم، فذلك؛ لأنّ كلّا منهم على ما بلغه في مصحفه، ورواه، إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض المواضع، ولم يكتبها في بعض؛ إشعارا بأنّ كلّ ذلك صحيح، وأنّ القراءة بكل منها جائزة. قال ابن عطيّة: ثمّ إنّ عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق، أو تخرق، (تروى بالحاء غير منقوطة، وتروى بالخاء على معنى)، ثمّ تدفن، ورواية الحاء منقوطة أحسن. وذكر أبو بكر الأنباريّ في كتاب «الردّ» عن سويد بن غفلة قال: سمعت عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - يقول: (يا معشر الناس اتقوا الله وإيّاكم والغلوّ في عثمان، وقولكم حرّاق المصاحف، فو الله، ما حرّقها إلّا عن ملأ منّا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم). وعن عمر بن سعيد قال: قال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لو كنت الوالي وقت عثمان؛ لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان) قال أبو الحسن بن بطّال: وفي أمر عثمان بتحريق المصاحف، والصّحف حين جمع القرآن، جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى، وأنّ ذلك إكرام لها، وصيانة عن الوطء بالأقدام، وطرحها في ضياع من الأرض. روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنّه كان يحرق

الصّحف، إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}. وحرّق عروة بن الزبير، كتب نفسه كانت عنده يوم الحرّة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف، إذا كان فيها ذكر الله تعالى. وقول من حرقها أولى بالصّواب، وقد فعله عثمان. وقد قال القاضي أبو بكر: لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصّحف الّتي فيها القرآن، إذا أدّاه الاجتهاد إلى ذلك. والله أعلم * * *

الفصل الخامس عشر في ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته

الفصل الخامس عشر في ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته واعلم أنّ الله تعالى، أنزل القرآن المجيد من اللوح المحفوظ جملة واحدة، إلى سماء الدنيا في مكان يقال له: بيت العزّة، في شهر رمضان، في ليلة القدر، ثمّ كان ينزّله مفرّقا على لسان جبريل عليه السلام، إلى النبي صلّى الله عليه وسلم مدّة رسالته نجوما عند الحاجة، وبحدوث ما يحدث على حسب ما شاء الله سبحانه وتعالى. وترتيب نزول القرآن، غير ترتيبه في التلاوة، والمصحف، وهو قسمان: إمّا مكيّ: وهو خمس وثمانون سورة. وإمّا مدنيّ: وهو: ثمان وعشرون سورة. فترتيب السور المكيّة في النزول هكذا، يعني: أوّل ما نزل بمكة من القرآن: (1) اقرأ (2) ن (3) المزّمل (4) المدّثر (5) تبّت (6) الشمس (7) الأعلى (8) الليل (9) الفجر (10) الضحى (11) ألم نشرح (12) العصر (13) العاديات (14) الكوثر (15) التكاثر (16) الماعون (17) الكافرون (18) الفيل (19) الفلق (20) الناس (21) الإخلاص (22) النجم (23) عبس (24) القدر (25) الضحى (26) البروج (27) التين (28) قريش (29) القارعة (30)

القيامة (31) الهمزة (32) المرسلات (33) ق (34) البلد (35) الطارق (36) الساعة (37) ص (38) الأعراف (39) الجنّ (40) يس (41) الفرقان (42) الملائكة (فاطر) (43) مريم (44) طه (45) الواقعة (46) الشعراء (47) النمل (48) القصص (49) بني إسرائيل (50) يونس (51) هود (52) يوسف (53) الحجر (54) الأنعام (55) الصافات (56) لقمان (57) سبإ (58) الزمر (59) المؤمنون (60) السجدة (61) الشورى (62) الزخرف (63) الدخان (64) الجاثية (65) الأحقاف (66) الذاريات (67) الغاشية (68) الكهف (69) النحل (70) نوح (71) إبراهيم (72) الأنبياء (73) المؤمنون (74) السجدة (75) الطور (76) تبارك (77) الحاقة (78) المعارج (79) النبأ (80) النازعات (81) الانفطار (82) الانشقاق (83) الروم (84) العنكبوت (85) المطفّفين. السور المدنية (86) البقرة (87) الأنفال (88) آل عمران (89) الأحزاب (90) الممتحنة (91) النساء (92) الزلزلة (93) الحديد (94) القتال (محمد صلّى الله عليه وسلم) (95) الرعد (96) الرحمن (97) الإنسان (98) الطلاق (99) البيّنة (100) الحشر (101) النصر (102) النور (103) الحج (104) المنافقون (105) المجادلة (106) الحجرات (107) التحريم (108) الجمعة (109) التغابن (110) الصف (111) الفتح (112) المائدة (113) براءة. وفي «الفتوحات»: بعد ما ذكر السور التي نزلت بمكة ما

نصه: واختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس: العنكبوت، وقال الضحّاك، وعطاء: (المؤمنون)، وقال مجاهد: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} فهذا ترتيب ما نزل بمكة، فذلك ثلاث وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات. وأما ما نزل بالمدينة، فأولها: البقرة ثم الأنفال ... إلخ، إلى أن قال، ثم التوبة ثم المائدة. ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة. وأمّا الفاتحة: فقيل نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واختلفوا في سور قليلة، فقيل: نزلت بمكة، وقيل نزلت بالمدينة، وسنذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. اه. «خازن». أما ترتيب المصحف، فقال السيوطي: الإجماع، والنصوص على أنّ ترتيب الآيات توقيفيّ لا شبهة في ذلك، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يدل على مكان كل آية في سورتها، ويؤيد هذا الرأي، قول عثمان بن العاص: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ شخص ببصره، ثم صوبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ...} إلى آخرها. وقد التزم عثمان في تدوين المصحف، ما علم أنه رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ترتيب الآيات. وأمّا ترتيب السور: فهو متروك لاجتهاد المسلمين، ولكنا نثبت رواية عن ابن عباس. روى ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما

حملكم إلى أن عدتم الأنفال وهي من المثاني إلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}، ووضعتموها في السبع الطوال؟! فقال عثمان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)} ووضعتها في السبع الطوال. اه. وفي «القرطبي»: وقال قوم من أهل العلم: إنّ تأليف سور القرآن على ما هو عليه الآن في مصحفنا، كان عن توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمّا ما روي من اختلاف مصحف أبيّ، وعليّ، وعبد الله؛ فإنّما كان قبل العرض الأخير، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رتّب لهم تأليف السور، بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس، عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: (إنّما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم). وذكر أبو بكر الأنباري: في كتاب «الرد»: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرّق على النبي صلّى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل؛ في أمر يحدث، والآية؛ جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم

على موضع السورة، والآية، فاتساق السور، كاتساق الآيات، والحروف، فكله كان من محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين، عن رب العالمين. فمن أخّر سورة مقدّمة، أو قدّم أخرى مؤخّرة، فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيّر الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام قد نزلت قبل البقرة؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: «ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن»، وكان جبريل عليه السلام يقفه على مكان الآيات. والحقّ: أن ترتيب السور، والآيات، والحروف على ما هو في المصحف الآن، كان من ربّ العالمين، بتعليم جبريل عليه السلام، لمحمد صلّى الله عليه وسلم. حدثنا حسن بن الحباب، حدثنا أبو هشام، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: (آخر ما نزل من القرآن): {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}. وقال أبو بكر بن عياش: وأخطأ أبو إسحاق؛ لأنّ محمد بن السائب، حدثنا عن أبي السائب، عن ابن عباس قال: (آخر ما نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}، فقال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد! ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة. قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذا القول، لا يقول: إن تلاوة القرآن في الصلاة، والدرس، يجب أن

تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في الصلاة، وفي قراءة القرآن، ودرسه، وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج قبل الكهف، ألا ترى قول عائشة - رضي الله عنها - للذي سألها: (لا يضرك آية قرأت قبل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها). وأمّا ما روي عن ابن مسعود، وابن عمر، أنّهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب؛ فإنّما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبدأ من آخرها إلى أوّلها؛ لأنّ ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن، والشعر، ليذلّل لسانه بذلك، ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله، ومنعه في القرآن؛ لأنّه إفساد لسوره، ومخالفة لما قصد بها من الإعجاز، ومما يدل على أنّه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله؛ ما صح، وثبت: أن الآيات كانت تنزل بالمدينة، فتوضع في السورة المكية، ألا ترى قول عائشة - رضي الله عنها - (وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلّى الله عليه وسلم). تعني: بالمدينة، وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلها من القرآن بمكة، ولو ألّفوه على تاريخ النزول، لوجب أن ينتقض آيات السور، وقد قدمنا لك بيان جملة ما نزل بمكة، وجملة ما نزل بالمدينة. قال أبو بكر: فمن عمل على ترك الأثر، والإعراض عن الإجماع، ونظم السور على منازلها بمكة، والمدينة، لم يدر أين

تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة، إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن، فقد كفر به، ورد على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه سبحانه وتعالى. وقد قيل: إنّ علة تقديم المدني على المكي؛ هو أنّ الله تعالى، خاطب العرب بلغتها، وما يعرف من أفانين خطابها، ومحاورتها، فلما كان فنّ من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر، وتأخير المقدّم، خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى، الذي لو فقدوا من القرآن لقالوا: ما باله عرى من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلى من نظامنا. والله أعلم * * *

الفصل السادس عشر في عدد آي القرآن، وكلماته، وحروفه

الفصل السادس عشر في عدد آي القرآن، وكلماته، وحروفه وأمّا عدد آي القرآن في المدني الأوّل: فقال محمد بن عيسى: جميع عدد آي القرآن في المدنيّ الأول: ستة آلاف. قال أبو عمرو: وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة، ولم يسمّوا في ذلك أحدا يسندونه إليه. وأمّا المدنيّ الأخير: فهو في قول إسماعيل بن جعفر: ستة آلاف آية، ومائتا آية، وأربع عشرة آية. وقال الفضل: عدد آي القرآن في قول المكيّين ستة آلاف آية، ومائتان وتسع عشرة آية. وقال محمد بن عيسى: وجميع عدد آي القرآن في قول الكوفيين: ستة آلاف آية ومئتا آية، وستّ وثلاثون آية. وهو العدد الذي رواه مسلم، والكسائي، عن حمزة، وأسنده الكسائي إلى عليّ - رضي الله عنه. قال محمد: وجميع آي القرآن في عدد البصريين: ستّة آلاف ومائتا آية، وأربع آيات، وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن. وأمّا عدد أهل الشام: فقال يحيى بن الحارث الذّمّاريّ: ستة آلاف، ومائتان، وست وعشرون آية، وفي رواية: ستة آلاف، ومائتان، وخمس وعشرون. نقص آية. قال ابن ذكوان: فظننت أن يحيى لم يعد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)} قال أبو عمرو: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا، ويعدون بها في سائر الآفاق قديما،

وحديثا. وأمّا كلماته: فقال الفضل بن شاذان: جميع كلمات القرآن في قول عطاء بن يسار: سبعة وسبعون ألفا، وأربعمائة، وثلاثون كلمة، وأمّا حروفه: فأربعمائة ألف، وثلاثة وعشرون ألفا، وخمسة عشر حرفا، وهذا يخالف ما ذكر عن الحمّاني فيما سيأتي، من أنّ جميع حروف القرآن: ثلاثمائة ألف حرف، وأربعون ألف حرف، وسبعمائة حرف، وأربعون حرفا. وقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: هذا ما أحصينا من القرآن وهو: ثلاثمائة ألف حرف، وأحد وعشرون ألف حرف، ومائة وثمانون حرفا، وهذا أيضا يخالف ما ذكر، عن الحماني في عدّ حروفه. والله أعلم * * *

الفصل السابع عشر في أجزائه، وأحزابه، وأرباعه، وأنصافه، وأثلاثه، وأسباعه

الفصل السابع عشر في أجزائه، وأحزابه، وأرباعه، وأنصافه، وأثلاثه، وأسباعه روي: أنّ القرّاء، لما قسّموا القرآن في زمن الحجّاج إلى ثلاثين جزءا، قسموه أيضا إلى نصفين، فقال لهم الحجّاج: أخبروني إلى أيّ حرف ينتهي نصف القرآن؟ فإذا هو في الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الفاء. قال فأخبروني بأثلاثه؟ فإذا الثلث الأول: رأس مائة من براءة والثلث الثاني: رأس مائة وإحدى وعشرين من {طسم (1)} الشعراء، والثلث الثالث: ما بقي من القرآن. قال فأخبروني بأسباعه على الحروف؟ فإذا أول سبع: في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} في الدال، والسبع الثاني: في الأعراف {فَأُولئِكَ حَبِطَتْ} في التاء، والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُها دائِمٌ} في الألف من آخر أكلها، والسبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا} في الألف، والسبع الخامس: في الأحزاب {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} في الهاء، والسبع السادس: في الفتح {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في الواو، والسبع السابع: ما بقي من القرآن. قال سلام، أبو محمد الحماني: أمرني الحجاجّ بهذه التقسيمات، فعملناها في أربعة أشهر، وكان الحجاج يقرأ كل ليلة

ربعا؛ فأول ربعه: خاتمة الأنعام، والربع الثاني: في الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} والربع الثالث: خاتمة الزمر، والربع الرابع: ما بقي من القرآن، وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب «البيان» لأبي عمرو الداني، من أراد الوقوف عليه وجده هناك. وعن السلف الصالحين. من ختم القرآن على هذا الترتيب الذي نذكره، ثم دعا تقبل حاجته، وهو الترتيب الذي كان يفعله عثمان - رضي الله عنه - يقرأ يوم الجمعة من أوله إلى سورة الأنعام، ويوم السبت من سورة الأنعام إلى سورة يونس، ويوم الأحد من سورة يونس إلى سورة طه، ويوم الاثنين من سورة طه إلى سورة العنكبوت، ويوم الثلاثاء من سورة العنكبوت إلى سورة الزمر، ويوم الأربعاء من سورة الزمر إلى سورة الواقعة، ويوم الخميس من سورة الواقعة إلى آخر القرآن. وقيل: أحزاب القرآن سبعة: الحزب الأوّل: ثلاث سور. والثاني: خمس سور. والثالث: سبع سور. والرابع: تسع سور. والخامس: إحدى عشرة سورة. والسادس: ثلاث عشرة سورة. والسابع: المفصّل من ق. وفي «فتح الرحمن»: وأحزاب

القرآن ستون حزبا. وعلى هذا الحزب نصف الجزء، وعلى هذا العمل الآن في المصاحف. والله أعلم * * *

الفصل الثامن عشر في تعشيره وتخميسه، والكتابة في فواتح السور، أو خواتمها، ووضع النقط في منتهى الآية، وغير ذلك

الفصل الثامن عشر في تعشيره وتخميسه، والكتابة في فواتح السّور، أو خواتمها، ووضع النقط في منتهى الآية، وغير ذلك وأمّا وضع الأعشار: فقال ابن عطية، مرّ بي في بعض التواريخ: أن المأمون العباسي، أمر بذلك. وقيل إن الحجّاج فعل ذلك؛ أي: جزّأ الحجّاج القرآن عشرة أجزاء، وكتب عند أول كل عشر بهامش المصحف (عشر) بضم العين، وكذلك كتب الأسباع. وذكر أبو عمرو الداني في كتاب «البيان» له، عن عبد الله: أنه كره التعشير في المصحف، وأنه كان يحكّه. وعن مجاهد: أنه كره التعشير، والطيب في المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا، وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة، وغيرها من الألوان؟ فكره ذلك، وقال: (تعشير القرآن لا بأس به). وسئل عن المصحف؛ يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية؟ قال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف، أن يكتب فيها شيء، أو يشكّل، فأما ما يتعلم فيها الغلمان من المصاحف؛ فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجدّه كتبه: إذ كتب عثمان المصاحف، فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر، ورأيته معجوم الآي

بالحبر. وقال قتادة: بدؤوا فنقّطوا، ثم خمّسوا، ثم عشّروا. وقال يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرّدا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه: النقطة على الباء، والتاء، والثاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح، والخواتم. وعن أبي جمرة: رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا، فقال لي: أمحه، فإن عبد الله بن مسعود قال: (لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه). وعن أبي بكر السراج قال: قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنونه من القرآن. قال الداني - رحمه الله تعالى -: وهذه الأخبار كلها، تؤذن بأن التعشير والتخميس، والتّثمين، وفواتح السور، ورؤوس الآي من عمل الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - فأدّاهم إلى عمله الاجتهاد، وأرى: أن من كره ذلك منهم، ومن غيرهم؛ إنما كره أن يعمل بالألوان، كالحمرة، والصّفرة، وغيرهما، على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك، واستعماله في الأمهات، وغيرها. والحرج، والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله تعالى. والله أعلم * * *

الفصل التاسع عشر في بيان أول من وضع النقط، والشكل، والشدة، والمدة، والهمزة، وعلامة الغنة في المصاحف، وأول من وضع النحو، وجعل الإعراب فيها

الفصل التاسع عشر في بيان أوّل من وضع النّقط، والشّكل، والشّدّة، والمدّة، والهمزة، وعلامة الغنّة في المصاحف، وأوّل من وضع النّحو، وجعل الإعراب فيها وكانت المصاحف العثمانية مجرّدة من النقط، والشكل، والشدّة، والمدّة، وعلامة الإعراب، فلم يكن فيها إعراب، وسبب ترك الإعراب فيها، والله أعلم؛ استغناؤهم عنه، فإن القوم كانوا عربا لا يعرفون اللحن، ولم يكن في زمنهم نحو. وأوّل من وضع النحو، وجعل الإعراب في المصاحف: أبو الأسود الدّؤليّ، التابعيّ، البصريّ. حكى أنه سمع قارئا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بكسر اللام (في رسوله)، فأعظمه ذلك، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم جعل الإعراب في المصاحف. وكان علامته: نقطا بالحمرة غير لون المداد، فكانت علامة الفتحة: نقطة فوق الحرف وعلامة الضمة: نقطة في نفس الحرف، وعلامة الكسرة: نقطة تحت الحرف، وعلامة الغنة: نقطتين، ثم أحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي بعد هذا، هذه الصور: الشدّة، والمدّة، والهمزة، وعلامة السكون، وعلامة الوصل، ونقل الإعراب من صورة النقطة

إلى ما هو عليه الآن. وأما النقط المميزة بين الحروف، فأوّل من وضعها في المصحف: نصر بن عاصم الليثيّ، بأمر الحجاج بن يوسف، أمير العراق، وخراسان، وسببه: أنّ الناس كانوا يقرأون في مصحف عثمان، نيّفا وأربعين سنة إلى يوم عبد الله بن مروان، ثم كثر التصحيف، وانتشر بالعراق، فأمر الحجاج أن يضعوا لهذه الأحرف المشتبهة علامات، فقام بذلك نصر المذكور، فوضع النّقطة أفرادا، وأزواجا، وخالف بين أماكنها، وكان يقال له نصر الحروف. وأوّل ما أحدثوا النقطة على الباء، والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح، والخواتم. فأبو الأسود هو السابق إلى إعرابه، والمبتدىء به، ثم نصر بن عاصم، وضع النقط بعده، ثم الخليل بن أحمد نقل الإعراب إلى هذه الصّورة، وكان مع استعمال النّقط، والشكل يقع التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين، فانتدب جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمّة، وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف، والقراءات، حتى بيّنوا الصواب، وأزالوا الإشكال - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأوّل من خطّ بالعربية: يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية، والسريانية. وأوّل من استخرج الخط المعروف بالنسخ: ابن مقلة وزير المقتدر بالله، ثم القاهر بالله، فإنّه أوّل من نقل الخطّ الكوفي إلى

طريقة العربية، ثم جاء ابن البوّاب، وزاد في تعريب الخط، وهذّب طريقة بن مقلة، وكساها بهجة، وحسنا، ثم ياقوت المستعصي الخطّاط، وختم فنّ الخطّ، وأكمله، ثم جاء الشيخ: حمد الله الأماسيويّ، فأجاد الخطّ بحيث لا مزيد عليه إلى الآن، ولله در القائل: خطّ حسين جمال مرأى ... إن كان لعالم فأحسن الدّرّ من النّبات أحلى ... والدّرّ مع النّبات أزين والله أعلم * * *

الفصل العشرون في تفصيل حروف القرآن، كم فيه من الحروف الفلانية

الفصل العشرون في تفصيل حروف القرآن، كم فيه من الحروف الفلانية ذكرها الإمام النّسفيّ في كتابه: «مجمع العلوم ومطلع النّجوم». الألف: ثمانية وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون. الباء: أحد عشر ألفا وأربعمائة وعشرون، التاء: ألف وأربعمائة وأربعة، الثاء: عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون، الجيم: ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنان وعشرون. الحاء: أربعة آلاف ومائة وثمانية وثلاثون، الخاء: ألفان وخمسمائة وثلاثة، الدال: خمسة آلاف وتسعمائة وثمانية وتسعون، الذال: أربعة آلاف وتسعمائة، وأربعة وثلاثون. الراء: ألفان ومائتان وستّة، الزاي: ألف وستّمائة وثمانون، السين: خمسة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون، الشين: ألفان ومائة وخمسة عشر، الصاد: ألفان وسبعمائة وثمانون، الضاد: ألف وثمانمائة واثنان وثمانون، الطاء: ألف ومائتان وأربعة، الظاء: ثمانمائة واثنان وأربعون، العين: تسعة آلاف وأربعمائة وسبعون، الغين: ألف ومئتان وتسعة وعشرون، الفاء: تسعة آلاف وثمانمائة وثلاثة عشر، القاف: ثمانية آلاف وتسعة وتسعون الكاف: ثمانية آلاف واثنان وعشرون، اللام: ثلاثة وثلاثون ألفا وتسعمائة واثنان وعشرون. الميم: ثمانية وعشرون ألفا وتسعمائة واثنان وعشرون، النون: سبعة عشر ألفا. الهاء:

ستّة وعشرون ألفا وتسعمائة وخمسة وعشرون، الواو: خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة وستّة لام ألف: أربعة عشر ألفا وسبعمائة وسبعة. الياء: خمسة وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة عشر. اه. وأمّا جملة حروفه فهي: ألف ألف، وسبعة وعشرون ألفا، بإدخال حروف الآيات المنسوخة. ونصفه الأول باعتبار حروفه: ينتهي بالنون من قوله: في سورة (الكهف): {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} والكاف أوّل النصف الثاني. وعدد درجات الجنة بعدد حروف القرآن، وبين كل درجتين قدر ما بين السماء، والأرض. وأما جملة عدد آياته فهي: ستّة آلاف، وخمسمائة. نصفها الأول: ينتهي بقوله في سورة (الشعراء): {فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45)} وعدد جلالات القرآن: ألفان، وستمائة، وأربعة وستون. اه. والله أعلم * * *

الفصل الحادي والعشرون في بيان معنى القرآن، ومعنى السورة، والكلمة، والحرف

الفصل الحادي والعشرون في بيان معنى القرآن، ومعنى السّورة، والكلمة، والحرف والقرآن لغة: الشيء المجموع من قرأه إذا جمعه. واصطلاحا: هو اللفظ المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه، المتعبّد بتلاوته. ووصفه بالكريم: من حيث ما فيه من الخيرات الكثيرة، والمنافع الغزيرة. والسورة لغة: الحائط المرتفع. واصطلاحا: طائفة من القرآن لها أوّل، وآخر، وترجمة باسم خاصّ بها، بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم كما سبق: أنّ الراجح كون ترتيب الآيات، والسّور، وتسميتها توقيفا: مأخوذة من سور البلد، لارتفاع رتبتها، كارتفاعه. وفي القرطبي معنى السورة في كلام العرب: الإبانة لها من أخرى، وانفصالها عنها، وسميت السورة القرآنية بذلك، لأنّه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، قال النابغة: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب أي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزلة الملوك. وقيل: سمّيت بذلك؛ لشرفها، وارتفاعها، كما يقال: لما ارتفع من الأرض سورة.

وقيل: سميت بذلك؛ لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده، كسور البناء. (كله بغير همز). وقيل: سميت بذلك؛ لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول العرب للبقية سؤرة، وجاء في أسار الناس؛ أي: بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمز، ثم خففت فأبدلت واوا؛ لانضمام ما قبلها. وقيل: سميت بذلك، لتمامها، وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وجمع سورة: سور بفتح الواو. وقال الشاعر: سود المحاجر لا يقرنّ بالسّور ويجوز أن يجمع على: سورات وسورات. وأمّا الآية فهي لغة: العلامة. واصطلاحا: قطعة من السورة، لها أوّل وآخر، سميت بذلك؛ لأنها علامة على انقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها، وانفصاله عنه؛ أي: هي بائنة من أختها، ومنفردة، وتقول العرب: بيني وبين فلان آية؛ أي: علامة. ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}، وقال النّابغة: توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستّة أعوام وذا العام سابع وقيل: سمّيت آية؛ لأنّها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، بجماعتهم. قال زجّ بن مسهر الطائيّ:

خرجنا من النّقبين لا حىّ مثلنا ... بآيتنا نزجي اللّقاح المطا فلا وقيل: سميت آية؛ لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها. واختلف النحويون في أصل آية: فقال سيبويه: أيية على وزن فعلة، مثل: أكمة، وشجرة، فلمّا تحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، انقلبت ألفا، فصارت آية بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائيّ: أصلها آيية بوزن فاعلة، مثل: آمنة، فقلبت الياء ألفا، لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتباسها بالجمع. وقيل أصلها: آئية بوزن قائلة، فحذفت الهمزة للتخفيف. وقال الفرّاء: أصلها أيّية بتشديد الياء الأولى، فقلبت ألفا؛ كراهة التشديد، فصارت آية، وجمعها: آي، وآياء، وآيات. وأنشد أبو زيد: لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه وأمّا الكلمة فهي: الصورة القائمة بجمع ما يختلط بها من الشبهات؛ أي: الحروف. وأطول الكلم في كتاب الله عزّ وجل: ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}، و {أَنُلْزِمُكُمُوها} وشبههما؛ فأما قوله: {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ}: فهو عشرة أحرف في الرسم، وأحد عشر في اللفظ.

وأقصرهن: ما كان على حرفين، نحو: ما، ولا، ولك، وله، وما أشبه ذلك. ومن حروف المعاني: ما هو على كلمة واحدة، كهمزة الاستفهام، وواو العطف، إلا أنه لا ينطق به مفردا، وقد تكون الكلمة وحدها آية تامّة، نحو قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1)} {وَالضُّحى (1)} {وَالْعَصْرِ (1)}، وكذلك {الم * (1)} و {المص (1)} و {طه (1)} و {حم * (1)} في قول الكوفيين، وذلك في فواتح السور، فأمّا في حشوهن: فلا. قال أبو عمرو الدّانيّ: ولا أعلم كلمة، هي وحدها اية، إلّا قوله في الرحمن: {مُدْهامَّتانِ (64)} لا غير، وقد أتت كلمتان متصلتان، وهما آيتان، وذلك في قوله: حم عسق على قول الكوفيين لا غير، وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامّة، والكلام القائم بنفسه، وإن كان أكثر، أو أقل. قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} قيل: إنما يعني بالكلمة ههنا: قوله تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ...} إلى آخر الآيتين. وقال عزّ وجل: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى} قال مجاهد: هي لا إله إلا الله. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وقد تسمّي العرب القصيدة بأسرها، والقصة كلها كلمة، فيقولون: قال قس في كلمته كذا؛ أي: في خطبته. وقال زهير: في كلمته كذا أي: في قصيدته وقال فلان في كلمته؛ يعني: في

رسالته، فتسمى جملة الكلام، إذ كانت الكلمة منها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه، وما جاوره، وكان بسبب منه مجازا، واتساعا. وأما الحرف فهو: الشبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة، والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع، والمجاز. قال أبو عمرو الدانيّ: فإن قيل: فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد، نحو: {ص} و {ق} و {ن} حرفًا، أو كلمةً؟. قلت: كلمة لا حرفا؛ وذلك من جهة: أنّ الحرف لا يسكن عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة، ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكون عليها، منفصلة، كانفراد الكلم، وانفصالها، فلذلك سميت كلمات لا حروفا. قال أبو عمر: وقد يكون الحرف في غير هذا، المذهب والوجه. قال الله عزّ وجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} أي: على وجه، ومذهب. ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي: سبعة أوجه من اللغات، والله أعلم. * * *

الفصل الثاني والعشرون في بيان معنى النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي، وأقسامه، وشرائطه، والرد على من أنكره، وبيان معنى الناسخ، والمنسوخ، وغير ذلك

الفصل الثاني والعشرون في بيان معنى النّسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي، وأقسامه، وشرائطه، والرّدّ على من أنكره، وبيان معنى الناسخ، والمنسوخ، وغير ذلك أمّا النّسخ لغة: فله معنيان: الإزالة، والنّقل. يقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته، وحلت محله، ونسخت الكتاب؛ إذا نقلته إلى كتاب آخر. وعبارة ابن حزم هنا: واعلم أن النسخ له اشتقاق عند أرباب اللسان، وحدّ عند أصحاب المعاني، وشرائط عند العالمين بالأحكام. أما أصله: فالنسخ في اللغة: عبارة عن إبطال الشيء، وإقامة آخر مقامه. وقال أبو حاتم: الأصل في النسخ: هو أن يحول العسل في خلية، والنحل في أخرى، ومنه نسخ الكتاب؛ إذا نقلته. وفي الحديث: (ما من نبوّة إلا وتنسخها فترة)، ثم إن النسخ في اللغة، موضوع بأزاء معنيين: أحدهما: الإزالة على جهة الانعدام. والثاني: الإزالة على جهة الانتقال؛ أمّا النسخ بمعنى الإزالة فهو: أيضا ينقسم إلى: نسخٍ إلى بدلٍ، نحو: قولهم: نسخ الشّيب الشباب، ونسخت الشمس الظل؛ أي: أذهبته، وحلّت محله، وإلى:

نسخ إلى غير بدل؛ بمعنى: رفع الحكم، وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا. يقال: نسخت الريح الديار؛ أي: أبطلتها، وأزالتها. وأمّا النسخ بمعنى النقل فهو: من قولك: نسخت الكتاب ما فيه؛ إذا نقلته من غير إبطال للأول، وليس المراد به إعدام ما فيه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يريد نقله إلى الصحف، أو من الصحف إلى غيرها، غير أن المعروف من النسخ في القرآن هو: إبطال الحكم مع إثبات الخطّ، وكذلك هو في السنة، أو في الكتاب: أن تكون الآية الناسخة، والمنسوخة ثابتتين في التلاوة، إلا أن المنسوخة لا يعمل بها، مثل: عدة المتوفى عنها زوجها كانت سنة؛ لقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وأمّا حدّه: فمنهم من قال: إنه بيان انتهاء مدة العبادة. وقيل: انقضاء العبادة التي ظاهرها الدوام. وقال بعضهم: رفع الحكم بعد ثبوته. ونسخ الآية: بيان انتهاء التعبّد بتلاوتها، أو بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعا؛ لمصلحة تقتضي ذلك. والنسخ أقسامه ثلاثة: إمّا نسخ التلاوة والحكم معا، كقوله: (عشر رضعات يحرمن) نسخ لفظه وحكمه، بخمس رضعات، وكما روي عن أنس بن مالك قال: (كنّا نقرأ سورة تعدل (سورة التوبة)، ما أحفظ منها إلا هذه الآية: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليهما ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى إليه رابعا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).

والثاني: نسخ التلاوة دون الحكم كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة. نكالا من الله والله عزيز حكيم) معناه: المحصن والمحصنة، نسخت تلاوته دون حكمه. والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، كآية الحول في العدّة، نسخ حكمه بآية العدة بأربعة أشهر وعشرة أيام. وأمّا شرائطه فأربعة: الأول: أن يكون النسخ بخطاب؛ لأنّه بموت المكلّف ينقطع الحكم، والموت مزيل للحكم لا ناسخ له. والثاني: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مسندها البراءة الأصليّة، لم تنسخ؛ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات. والثالث: أن لا يكون الحكم السابق مقيّدا بزمان مخصوص، نحو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل، التي لا سبب لها مؤقت، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص ناسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ. والرابع: أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، وبيان النسخ منتهى الحكم؛ لتبدّل المصلحة على اختلاف الأزمنة، كالطبيب ينهى عن الشيء في الصيف، ثم يأمر به في الشتاء،

وذلك كالتوجه إلى بيت المقدس بمكة، وهو اختيار اليهود، وكإيجاب التصدق بالفضل عن الحاجة في الابتداء؛ لنشاط القوم في الصفاء، والوفاء، وكتقدير الواجب بربع العشر الفاضل إلى الانتهاء، تيسيرا للأداء، وصيانة لأهل النسخ من الآباء. وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخّرين جواز النسخ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا: طوائف من اليهود، وهم محجوجون أيضا بما جاء في توراتهم، بزعمهم أن الله تعالى، قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: (إني جعلت كل دابة مأكلا لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه)، ثم قد حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج، الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره، وبأنّ إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه، ثم قال له: (لا تذبح)، وبأنّ موسى أمر بني إسرائيل، أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبّد بها قبل بعثه، ثم تعبّد بها بعد ذلك على غير ذلك. وليس هذا من باب البداء الذي هو ظهور المصلحة بعد خفائها؛ بل هو من نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم؛ لضرب من المصلحة، وإظهارا لحكمته، وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء: أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينيّة، والدنيويّة؛ وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن

عالما بمآل الأمور، وأما العالم ذلك؛ فإنما تتبدّل خطاباته بحسب تبدّل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدّل، وعلمه، وإرادته لا تتغيّر، فإن ذلك محال في حقّه تعالى. وجعلت اليهود النسخ، والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوّزوه فضلّوا. قال النحّاس: والفرق بين النسخ، والبداء: أن النسخ تحويل العباد من شيء إلى شيء، قد كان حلالا، فيحرم، أو كان حراما، فيحلل، وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، لظهور المصلحة في الترك، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق بالبشر، لنقصانهم. وكذلك إن قلت: إزرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهذا هو البداء. واعلم أنّه لا يمنع جواز النسخ عقلا لوجهين: أحدهما: أنّ للآمر أن يأمر بما شاء. وثانيهما: أنّ النفس إذا مرنت على أمر ألفته، فإذا نقلت عنه إلى غيره شقّ عليها؛ لمكان الاعتياد المألوف، فظهر منها بإذعان الانقياد لطاعة الأمر. وقد وقع النسخ شرعا؛ لأنه ثبت أنّ من دين آدم عليه السلام في طائفة من أولاده، جواز نكاح الأخوات، وذوات المحارم، والعمل في يوم السبت، ثم نسخ في شريعة الإسلام، كما مرّ آنفا. واعلم: أنّ الناسخ في الحقيقة: هو الله سبحانه وتعالى،

ويسمى الخطاب الشرعيّ: ناسخا تجوّزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز، فيسمى المحكوم فيه: ناسخا. فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ: هو المزال، والمنسوخ عنه: هو المتعبّد بالعبادة المزالة، وهو المكلّف. والمحقّقون على أنّ القرآن ينسخ بالسّنة، وذلك موجود في قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعيّ، وأبو الفرج المالكيّ، والأوّل أصحّ، بدليل: أن الكلّ حكم الله تعالى، ومن عنده، وإن اختلفت في الأسماء. وأيضا: فإن الجلد ساقط في حدّ الزنا عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك. إلا السنة فعل النبي صلّى الله عليه وسلم - وهذا بيّن. والمحققون أيضا: على أنّ السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى، وفي قوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فإنّ رجوعهن إليهم؛ إنما كان بصلح النبي صلّى الله عليه وسلم لقريش، وهذا كله في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمّا بعد مماته، واستقرار الشريعة: فأجمعت الأمة على أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصّا، فيعلم أن الإجماع استند إلى نصّ ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ، وبقي يقرأ، ويروى، كما أنّ عدّة السنة في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، والذي عليه المحققون: أنّ من لم يبلغه الناسخ، فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة، والمحقّقون أيضا: على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة

الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في الإسراء إن شاء الله تعالى. واعلم أن لمعرفة الناسخ طرقا: منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فأشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا» ونحوه. ومنها: أن يذكر الراوي التاريخ مثل: أن يقول سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله، أو يقول: نسخ حكم كذا وكذا. ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ، وأن ناسخه متقدم، وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبّهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفّق للهداية. والله أعلم * * *

الفصل الثالث والعشرون في تقسيم السور باعتبار الناسخ، والمنسوخ

الفصل الثالث والعشرون في تقسيم السور باعتبار الناسخ، والمنسوخ واعلم: أنّ السّور باعتبار الناسخ، والمنسوخ أربعة أقسام: قسم: ليس فيه منسوخ، ولا ناسخ وهو: ثلاث وأربعون سورة: (1) الفاتحة (2) يوسف (3) يس (4) الحجرات (5) الرحمن (6) الحديد (7) الصف (8) الجمعة (9) التحريم (10) الملك (11) الحاقة (12) نوح (13) الجنّ (14) المرسلات (15) النبأ (16) النازعات (17) الانفطار (18) المطفّفين (19) الانشقاق (20) البروج (21) الفجر (22) البلد (23) الشمس (24) والليل (25) والضحى (26) ألم نشرح (27) والقلم (28) القدر (29) القيامة (30) الزلزلة (31) والعاديات (32) القارعة (33) التكاثر (34) الهمزة (35) الفيل (36) قريش (37) أرأيت (38) الكوثر (39) النصر (40) تبت (41) الإخلاص (42) الفلق (43) الناس. وقسمٌ: فيه ناسخ، ومنسوخ وهو: خمس وعشرون سورة: (1) البقرة (2) آل عمران (3) النساء (4) المائدة (5) الأنفال، (6) التوبة (7) إبراهيم (8) مريم (9) الأنبياء (10) الحج (11) النور (12) الفرقان (13) الشعراء (14) الأحزاب (15) سبإ (16)

المؤمن (17) الشورى (18) والذاريات (19) الطّور (20) المجادلة (21) الواقعة (22) المزّمل (23) المدّثر (24) التكوير (25) والعصر. وقسم: فيه منسوخ فقط وهو: أربعون: (1) الأنعام (2) الأعراف (3) يونس (4) هود (5) الرعد (6) الحجر (7) النحل (8) الإسراء (9) الكهف (10) طه (11) المؤمنون (12) النمل (13) القصص (14) العنكبوت (15) الروم (16) لقمان (17) ألم السجدة (18) فاطر (19) والصافات (20) ص (21) الزمر (22) حم سجدة (23) الزخرف (24) الدخان (25) الجاثية (26) الأحقاف (27) محمد (28) ق (29) والنجم (30) القمر (31) الامتحان (32) المعارج (33) القيامة (34) الإنسان (35) عبس (36) الطارق (37) الغاشية (38) والتين (39) الكافرون (40) ن. وقسم: فيه ناسخ فقط وهو ستّة: (1) الفتح (2) الحشر (3) المنافقون (4) التغابن (5) الطلاق (6) الأعلى. اه. من أسباب النزول. والله أعلم * * *

الفصل الرابع والعشرون في ذكر جملة الإعراض عن المشركين المنسوخ بآية السيف

الفصل الرابع والعشرون في ذكر جملة الإعراض عن المشركين المنسوخ بآية السيف واعلم: أنه ذكر الإعراض عن المشركين، في مائة وأربع عشرة آية: (114) هنّ في سبع وأربعين: (47) سورة: (1) البقرة {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} نسخ عمومها {لَنا أَعْمالُنا} {فَإِنِ انْتَهَوْا} نسخ معنى؛ لأنّ تحته الأمر بالصفح قُلْ قِتالٌ {لا إِكْراهَ}. (2) آل عمران {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ}، {مِنْهُمْ تُقاةً}. (3) النساء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في موضعين {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ}. (4) المائدة {وَلَا آمِّينَ} {عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ} {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي: أمرتم ونهيتم. (5) الأنعام {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} {ثُمَّ ذَرْهُمْ} {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} و {أَعْرِضْ} {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} {وَلا تَسُبُّوا} {فَذَرْهُمْ} في موضعين {يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} {قُلِ انْتَظِرُوا} {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. (6) الأعراف {أَعْرِضْ} وَ {أُمْلِي}.

(7) الأنفال {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} يعني: المعاهدين. (8) التوبة {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}. (9) يونس {فَانْتَظِرُوا} {فَقُلْ لِي عَمَلِي} {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ} {فَمَنِ اهْتَدى} لأنّ معناه: الإمهال، والصبر. (10) هود {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ} معناه: أي: أنت تنذر {وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} {وَانْتَظِرُوا}. (11) الرعد {عَلَيْكَ الْبَلاغُ}. (12) الحجر {ذَرْهُمْ} {فَاصْفَحِ} {وَلا تَمُدَّنَّ}. {أَنَا النَّذِيرُ} {وأَعْرِضْ}. (13) النحل {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} {وَجادِلْهُمْ} {وَاصْبِرْ} مختلف فيه. (14) الإسراء {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}. (15) مريم {وَأَنْذِرْهُمْ} معنى: {فَلْيَمْدُدْ} {فَلا تَعْجَلْ}. (16) طه {فَاصْبِرْ} {قُلْ كُلٌّ}. (17) الحج {وَإِنْ جادَلُوكَ}. (18) المؤمنون {فَذَرْهُمْ} {ادْفَعْ}. (19) النّور {فَإِنْ تَوَلَّوْا}. (20) النمل {فَمَنِ اهْتَدى} معنى. (21) القصص {لَنا أَعْمالُنا}.

(22) العنكبوت {وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ} معنى. (23) الروم {فَاصْبِرْ}. (24) لقمان {وَمَنْ كَفَرَ}. (25) السجدة {وَانْتَظِرْ}. (26) الأحزاب {وَدَعْ أَذاهُمْ}. (27) سبإ {قُلْ لا تُسْئَلُونَ}. (28) فاطر {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)}. (29) يس {فَلا يَحْزُنْكَ} مختلف فيه. (30) الصافات {فَتَوَلَّ} و {تَوَلَّ} وما بينهما. (31) ص {فَاصْبِرْ} {إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ} معنى. (32) الزمر {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} معنى، {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ} {يا قَوْمِ اعْمَلُوا} {مَنْ يَأْتِيهِ} {فَمَنِ اهْتَدى} معنى {أَنْتَ تَحْكُمُ} معنى؛ لأنّه تفويض. (33) غافر {فَاصْبِرْ} في موضعين. (34) حم السجدة {ادْفَعْ}. (35) الشّورى {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} {لَنا أَعْمالُنا} {فَإِنْ أَعْرَضُوا}. (36) الزخرف {فَذَرْهُمْ} {فَاصْفَحِ}.

(37) الدّخان {فَارْتَقِبْ}. (38) الجاثية {يَغْفِرُوا}. (39) الأحقاف {فَاصْبِرْ}. (40) محمد صلّى الله عليه وسلم {فَإِمَّا مَنًّا}. (41) ق {فَاصْبِرْ} {فَذَكِّرْ}. (42) المزّمل {وَاهْجُرْهُمْ} {وَذَرْنِي}. (43) الإنسان {فَاصْبِرْ}. (44) الطارق {فَمَهِّلِ}. (45) الغاشية {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}. (46) والتين {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)} معنى. (47) الكافرون {لَكُمْ دِينَكُمْ} نسخ بقوله عزّ وجلّ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في سورة التوبة. والله أعلم * * *

الفصل الخامس والعشرون في بيان قواعد أصولية لأسباب النزول

الفصل الخامس والعشرون في بيان قواعد أصوليّة لأسباب النزول والبحث عن قواعدها ينحصر في خمسة مطالب: الأوّل: تعريف النزول: وهو منحصر في أمرين: أحدهما: أن تحدث حادثة، فينزل القرآن بشأنها، كما في سبب نزول: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} كما سيأتي في محلّه. وثانيها: أن يسأل الرسول صلّى الله عليه وسلم عن شيء، فينزل القرآن ببيان الحكم فيه، كما في سبب نزول آية اللّعان. والثاني: طريق معرفته، أمّا طريق معرفته: فالعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول، على صحة الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن الصحابيّ، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا له حكم الرفع. قال ابن الصلاح في كتابه «علوم الحديث»: وما قيل: إنّ تفسير الصحابي حديث مسند، فإنما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول الآية يخبر به الصحابيّ، كقول جابر - رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عزّ وجلّ: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية، فأمّا سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة الشيء، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمعدود في الموقوفات. اه. ص (46). وأمّا قول التابعيّ نزلت في كذا: فهو مرسل، فإن تعدّدت

طرقه قبل، وإلا فلا على الراجح عند المحدّثين. والثالث: (3): العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والدليل على ذلك: أن الأنصاري الذي قبّل الأجنبية، ونزلت فيه: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} الآية، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألي هذا وحدي يا رسول الله!. ومعنى هذا: هل حكم هذه الآية يختصّ بي، لأني سبب نزولها؟ فأفتاه النبي صلّى الله عليه وسلم: بأنّ العبرة بعموم اللفظ، فقال: (بل لأمتي كلهم). أما صورة السبب: فجمهور أهل الأصول أنها قطعية الدخول في العام، فلا يجوز إخراجها منه بمخصص، وهو التحقيق. وروي عن مالك: أنها ظنية الدخول، كغيرها من أفراد العامّ. والرابع: قد تتعدّد الأسباب، والنازل واحد، كما في آية اللعان، وغيرها من الآيات، كما ستجده إن شاء الله تعالى في مواضعه، وكذا قد تتعدّد الآيات النازلة، والسبب واحد، كما في حديث المسيب - رضي الله عنه -: في شأن وفاة أبي طالب، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» فأنزل الله سبحانه: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)} ونزل في أبي طالب أيضا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ستمرّ بك إن شاء الله تعالى في مواضعها. والخامس: صيغة سبب النزول: إمّا أن تكون صريحة في السببية، وإمّا أن تكون محتملة فتكون نصّا صريحا، إذا قال

الراوي: سبب نزول هذه الآية كذا، أو إذا أتى بفاء التعقيب داخلة على مادّة النزول، بعد ذكر الحادثة، أو السؤال، كما إذا قال: حدث كذا، أو سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كذا فنزلت. فهاتان صيغتان صريحتان في السببيّة، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى، وتكون الآية محتملة للسببيّة، ولما تضمّنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: نزلت هذه الآية في كذا، فذلك يراد به تارة: أنه سبب النزول، وتارة: أنه داخل في معنى الآية. وكذا إذا قال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في كذا، فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب، فهاتان صيغتان تحتملان السببية، وغيرها، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى. اه. مختصر من كتاب «مباحث في علوم القرآن» لمنّاع القطّان. واعلم: أنّ من القرآن ما نزل لسبب، ومنه: ما نزل ابتداء بعقائد الإيمان، وشرائع الإسلام، وليس لكل آية، أو لكل حديث سبب، بل منهما ما له سبب خاصّ، ومنهما ما ليس له سبب، فانتبه لهذه المسألة. والله أعلم * * *

الفصل السادس والعشرون في التنبيه على أحاديث وضعت في فضائل سور القرآن، وغيره، لا التفات لما وضعه الواضعون، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة، والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن، وغير ذلك من فضائل الأعمال، وقد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم، ومقاصدهم في ارتكابها

الفصل السادس والعشرون في التنبيه على أحاديث وضعت في فضائل سور القرآن، وغيره، لا التفات لما وضعه الواضعون، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة، والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن، وغير ذلك من فضائل الأعمال، وقد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم، ومقاصدهم في ارتكابها فمنهم: من الزنادقة، مثل: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشاميّ المصلوب في الزندقة، وغيرهما. وضعوا أحاديث، وحدّثوا بها؛ ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس. فما رواه محمد بن سعيد، عن أنس بن مالك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء، لا نبيّ بعدي إلّا ما شاء الله» فزاد هذا الاستثناء، لما كان يدعو إليه من الإلحاد، والزندقة. قلت: وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب «التمهيد» ولم يتكلم عليه، بل تأوّل الاستثناء على الرؤيا، فالله أعلم. ومنهم: قوم وضعوا الحديث، لهوى يدعون الناس إليه. قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا صيرناه حديثا. ومنهم: جماعة وضعوا الأحاديث حسبة، كما زعموا، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال، كما روي عن أبي عصمة، نوح بن أبي

مريم المروزيّ، ومحمد بن عكّاشة الكرمانيّ، وأحمد بن عبد الله الجويباريّ، وغيرهم. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة، فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق؛ فوضعت هذا الحديث حسبة. قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح، في كتاب «علوم الحديث» له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة، وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى، إلى من اعترف بأنه، وجماعة وضعوه، وأن أثر الوضع عليه لبيّن. وقد أخطأ الواحديّ المفسّر، ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم. قلت: وأنا قد وضعتها في تفسيري، في فضائل بعض السور نقلا عن البيضاويّ، وغيره استئناسا بها، ولكن قد بيّنت وضعها في مواضعها. ومنهم: قوم من السّؤّال والمكدّين، يقفون في الأسواق، والمساجد، فيضعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد. قال جعفر بن محمد الطيالسيّ صلى أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاصّ. قال: حدثنا أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين قالا: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله،

يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب، وريشه مرجان»، وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا! فقال: والله ما سمعت به إلّا هذه الساعة. قال: فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه، فقال له يحيى: من حدّثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال: أنا ابن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا. فقال: له أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين أحمق، وما علمته إلا هذه الساعة، فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد ابن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا، قال: فوضع أحمد كمّه على وجهه، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزىء بهما، فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن يجري مجراهم. ويذكر: أن المهدي كان يعجبه الحمام، واللهو به، فأهدي إليه حمام، وعنده أبو البحتريّ القاصّ، فقال: روى أبو هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا سبق إلا في خفّ، أو حافر، أو جناح فزاده: أو جناح، وهي: لفظة وضعها للمهدي، فأعطاه جائزة. فلمّا خرج قال المهدي: والله، لقد علمت أنه كذاب، وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل له: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك العلماء حديثه ذلك، وغيره من

موضوعاته، فلا يكتب العلماء حديثه بحال. قلت: فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح، والمسانيد، وغيرهما من المصنّفات التي تداولها العلماء، ورواها الأئمة الفقهاء، لكان لهم في ذلك غنية. وخرجوا عن تحذيره صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «اتقوا الحديث عليّ إلّا ما علمتم فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار». الحديث، فتخويفه صلّى الله عليه وسلم أمّته على الكذب، دليل على أنّه كان يعلم أنّه سيكذب عليه، فحذار مما وضعه أعداء الدين، وزنادقة المسلمين في باب الترغيب، والترهيب، وغير ذلك، وأعظمهم ضررا؛ أقوام من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الأحاديث حسبة فيما زعموا، فيقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم، وركونا إليهم فضلّوا، وأضلّوا. والله أعلم * * *

الفصل السابع والعشرون في بيان ما جاء من الحجة، في الرد على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة، والنقصان

الفصل السابع والعشرون في بيان ما جاء من الحجة، في الردّ على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة، والنقصان واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة، ولا بين الأئمّة أهل السنة أنّ القرآن اسم لكلام الله تعالى، الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، معجزة له على ما سيأتي، وأنّه محفوظ في الصّدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحدّ، ولا في حصره بعدّ، فمن ادعى زيادة عليه، أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع وبهت الناس، وردّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن المنزّل عليه، وردّ قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} وأبطل آية رسوله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل، ولمّا قدر عليه لم يكن حجة، ولا آية، وخرج أن يكون معجزا. فالقائل: بأن القرآن فيه زيادة، ونقصان ردّ لكتاب الله، ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع شهر

رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا ردّ هذا بالإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد. قال الإمام أبو بكر، محمد بن القاسم، بن بشار، بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل، والعقل يعرفون من شرف القرآن، وعلوّ منزلته، ما يوجبه الحقّ، والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين، وتمويه الملحدين، وتحريف الزائفين، حتى نبع في زماننا هذا، زائغ زاغ عن الملّة، وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسّها، وينمي فرعها، ويحرسها من معايب أولي الحيف، والجور، ومكايد أهل العداوة، والكفر، فزعم: أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على تصويبه فيما فعل، لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت بعضها، وسأقرأ بقيتها. فمنها: (والعصر ونوائب الدّهر) فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين، (ونوائب الدهر). ومنها: (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها) فادّعى هذا الإنسان، أنّه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها وذكر مما يدّعي حروفا كثيرة. وادعى: أن عثمان، والصحابة - رضي الله عنهم - زادوا في

القرآن ما ليس فيه، فقرأ في صلاة الفرض، والناس يسمعون: الله الواحد الصمد فأسقط من القرآن: {قُلْ هُوَ}، وغير لفظ أحد، وادعى أنّ هذا هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل، والمحال. وقرأ في صلاة الفرض (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وطعن على قراءة المسلمين. وادّعى: أنّ المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيّرة. منها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} فادّعى: أنّ الحكمة، والعزّة لا يشاكلان المغفرة، وأن الصواب (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم) وترامى به الغيّ في هذا، وأشكاله، حتى ادّعى: أنّ المسلمين يصحّفون {وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} والصواب الذي لم يغيّر عنده: (وكان عبد الله وجيها) وحتى قرأ في صلاة مفترضة، على ما أخبرنا جماعة سمعوه، وشهدوه: (لا تحرّك به لسانك إنّ علينا جمعه - وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به). وحكى لنا آخرون عن آخرين: أنهم سمعوه يقرأ: (ولقد نصركم ببدر بسيف عليّ وأنتم أذلّة) وروى هؤلاء أيضا لنا عنه، قال: {هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} وأخبرونا أنّه: أدخل في آية من القرآن، ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يدخل في لسان قومه، الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ} فقرأ: (أليس قلت للناس) في موضع {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} وهذا لا يعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويّين؛ لأنّ

العرب لم تقل: ليس قمت، فأمّا: ألست قمت؟ بالتاء، فشاذّ، قبيح، خبيث، رديء، لأنّ ليس لا تجحد الماضي، ولم يوجد مثل هذا إلّا في قولهم: أليس قد خلق الله مثلهم؟ وهو لغة شاذّة، لا يحمل كتاب الله عليها. وادّعى: أنّ عثمان - رضي الله عنه -: لمّا أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب؛ لأنّ عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، كانا أولى بذلك من زيد؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ أمتي أبيّ بن كعب». ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أمّ عبد». وقال هذا القائل: لي أن أخالف مصحف عثمان، كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ (إنّ هذين) (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُون) (بَشِّرْ عِبادِيَ الذين) بفتح الياء (فَما آتانِيَ اللَّهُ) بفتح الياء، والذي في المصحف: {إِنْ هذانِ} بالألف {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بغير واو {فَبَشِّرْ عِبادِ} {فَما آتان اللَّهُ} بغير ياءين في الموضعين، وكما خالف ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائيّ مصحف عثمان فقرؤوا: (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم، ويسكّنها بعضهم، وفي المصحف نون واحدة، وكما خالف حمزة المصحف، فقرأ: {أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} بنون واحدة، ووقف على الياء، وفي المصحف نونان، ولا ياء بعدهما، وكما خالف حمزة أيضا المصحف، فقرأ: (أَلا إِنَّ ثَمُودًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) بغير تنوين، وإثبات الألف يوجب التنوين، وكلّ هذا الذي شنّع به على القرّاء ما يلزمهم به خلاف المصحف. قال أبو

بكر: وذكر هذا الإنسان: أنّ أبيّ بن كعب هو الذي قرأ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) وذلك باطل؛ لأنّ عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد، ومجاهد قرأ على ابن عباس، وابن عباس قرأ القرآن على أبيّ بن كعب {حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} في رواية، وقرأ أبيّ القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد متّصل بالرسول صلّى الله عليه وسلم، نقله أهل العدالة، والصيانة، وإذا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر، لم يؤخذ بحديث يخالفه. وقال يحيى بن المبارك: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس فيها، (وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) فمن جحد أنّ هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلم، فليس بكافر، ولا آثم. ومثل هذه الزيادة: ما رووا عن ابن عباس أنّه قرأ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج). وما حكوه عن عمر بن الخطاب أنّه قرأ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وغير الضالين) فهذه الزيادات، ونظائرها، لو جحدها جاحد، أنّها من القرآن لم يكن كافرا. والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له، لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان - رضي الله عنه - في جمعه القرآن يعتدّ له؛ بأنه من مناقبه العظام. وقد طعن عليه فيه

بعض أهل الزيغ، فانكشف عواره، ووضحت فضائحه. وقال أبو عبيد: وقد حدثت عن يزيد بن زريع، عن عمران بن جرير، عن أبي مجلز قال: طعن قوم على عثمان - رضي الله عنه - بحمقهم جمع القرآن، ثم قرؤوا ما نسخ. قال أبو عبيد: يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم، كما أثبت الذي أثبت بعلم. قال أبو بكر: وفي قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)} دلالة على: كفر هذا الإنسان؛ لأن الله عزّ وجلّ، قد حفظ القرآن من التغيير، والتبديل، والزيادة، والنقصان، فإذا قرأ قارىء (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وقد تب ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ ومُرَيَّتُه حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ ليفٍ) فقد كذب على الله جلّ وعلا، وقوّله ما لم يقل، وبدّل كتابه، وحرّفه، وحاول ما قد حفظه منه، ومنع عن اختلاطه به، وفي هذا الذي أتاه؛ توطئة الطريق لأهل الإلحاد؛ ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرى الإسلام، وينسبونه إلى قوم، كهؤلاء القوم، الذين أحال هذا الإنسان بالأباطيل عليهم، وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام، وبثباته تقام الصلوات، وتؤدّى الزكوات، وتتحرّى المتعبدات. وفي قول الله تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} دلالة على: بدعة هذا الإنسان، وخروجه إلى الكفر، لأن معنى أحكمت آياته: منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضو بمثلها. وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قويا عزيزا) فقال في القرآن: هجرا. وذكر عليّا في مكان، لو سمعه

يذكره فيه، لأمضى عليه الحدّ، وحكم عليه بالقتل، وأسقط من كلام الله {قُلْ هُوَ} وغيّر أحد، فقرأ: (الله الواحد الصمد) وإسقاط ما أسقطه نفي، وكفر به، ومن كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به، إلى آخر ما أطال به القرطبيّ رحمه الله تعالى. والله أعلم * * *

الفصل الثامن والعشرون في بيان هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب، أم لا؟

الفصل الثامن والعشرون في بيان هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب، أم لا؟ واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة: أنه ليس في القرآن كلام مركّب على أساليب غير العرب، وأنّ فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب، كإسرائيل، وجبرائيل، وعمران، ونوح، ولوط، واختلفوا: هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب؟ فذهب القاضي أبو بكر بن الطيّب، والطبريّ، وغيرهما: إلى أنّ ذلك لا يوجد فيه، وأنّ القرآن عربيّ صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات؛ إنّما اتّفق فيها أن تواردت اللغات عليها، فتكلّمت بها العرب، والفرس، والحبشة، وغيرهم، وذهب بعضهم: إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلّتها، لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن كونه متكلّما بلسان قومه. فالمشكاة: الكوّة، ونشأ: قام من الليل ومنه {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ} و {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي: ضعفين، و {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} أي: الأسد كله بلسان الحبشة، والغسّاق: البارد المنتن بلسان الترك، والقسطاس: الميزان بلغة الروم، والسجّيل: الحجارة، والطين بلسان الفرس، والطّود: الجبل، واليمّ: البحر بالسريانية والتنور: وجه الأرض بالعجميّة.

قال ابن عطيّة: فحقيقة العبارة عند هذه الألفاظ؛ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها، فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة، التي نزل القرآن بلسانها، بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات، وبرحلتي قريش، وبغيرهما، كسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام، وكسفر عمر بن الخطّاب، وكسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلّقت العرب بهذا كلّه ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها، ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحدّ نزل بها القرآن، فإن جهلها عربيّ ما؛ فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس، معنى فاطر، إلى غير ذلك. قال ابن عطيّة: وما ذهب إليه الطبريّ - رحمه الله تعالى - من أنّ اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع، لا أنا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذّا. قال غيره: والأوّل أصح. وقوله هي: أصل في كلام غيرهم، دخيلة في كلامهم، ليس بأولى من العكس، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أوّلا، فإن كان الأوّل، فهي من كلامهم، إذ لا معنى للغتهم، وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة.

فإن قيل: هذه الكلمات ليست على أوزان كلام العرب، فلا تكون منه. قلنا: ومن سلّم لكم أنكم حصرتم أوزانهم، حتى تخرجوا هذه منها؟ فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب، ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحويّة، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها، ولا عرفتها، استحال أن يخاطبهم الله تعالى بما لا يعرفون، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

الفصل التاسع والعشرون في بيان بعض نكات في إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة، وحقيقتها

الفصل التاسع والعشرون في بيان بعض نكات في إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة، وحقيقتها المعجزة: واحدة معجزات الأنبياء الدالّة على صدقهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وسمّيت معجزة؛ لأنّ البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها. وشرائطها: خمسة: فإن اختلّ منها شرط لا تكون معجزة. فالشرط الأوّل: من شروطها: أن تكون مما لا يقدر عليها إلّا الله تعالى، وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة؛ لأنّه لو أتى آت في زمان مجيء الرّسل، وادّعى الرسالة، وجعل معجزته أن يتحرّك، ويسكن، ويقوم، ويقعد، لم يكن هذا الذي ادّعاه معجزة له، ولا دالّا على صدقه؛ لقدرة الخلق على مثله، وإنما يجب أن تكون المعجزات مما لا يقدر عليه البشر، كفلق البحر، وانشقاق القمر. والشرط الثاني: أن تخرق العادة، وإنما وجب اشتراط. ذلك؛ لأنّه لو قال المدعي للرسالة: آيتي مجيء الليل بعد النهار، وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيه ادعاء معجزة؟ لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلّا الله، فلم تفعل من أجله، وقد

كانت قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه، ودعواه في دلالتها على نبوّته كدعوى غيره، فبان أنّه لا وجه له يدلّ على صدقه، والذي يستشهد به الرسول عليه السلام، له وجه يدلّ على صدقه، وذلك أن يقول: الدليل على صدقي: أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي عليه الرسالة، فيقلب هذه العصا ثعبانا، ويشقّ الحجر، ويخرج من وسطه ناقة، أو ينبع الماء من بين أصابعي، كما ينبعه من العين، أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادة، التي ينفرد بها جبار الأرض، والسموات، فتقوم له هذه العلامات، مقام قول الربّ سبحانه، لو أسمعنا كلامه العزيز، وقال: صدق أنا بعثته. ومثال هذه المسألة، ولله، ولرسوله المثل الأعلى: ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض، وقال أحد رجاله وهو بمرأى، ومسمع منه، والملك يسمعه: الملك يأمركم أيها الجماعة! بكذا وكذا، ودليل ذلك: أنّ الملك يصدقني بفعل من أفعاله، وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي، فإذا سمع الملك كلامه لهم، ودعواه فيهم، ثم عمل ما استشهد به على صدقه، قام ذلك مقام قوله، لو قال: صدق فيما ادّعاه عليّ، فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلّا هو، وخرق به العادة على يدي الرسول، قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى، لو أسمعناه، وقال: صدق عبدي في دعوى الرسالة، وأنا أرسلته إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا. والشرط الثالث: هو أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله

عزّ وجلّ، فيقول: آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا، أو يحرّك الأرض عند قولي لها: تزلزلي، فإذا فعل الله سبحانه ذلك، حصل المتحدّى به. والشرط الرابع: هو أن يقع على وفق دعوى المتحدّي بها، المستشهد بكونها معجزة له، وإنّما وجب اشتراط هذا الشرط؛ لأنّه لو قال: المدعي للرسالة: آية نبوّتي، ودليل حجّتي: أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده، أو الدابة بأن قالت: كذب، وليس هو بنبيّ فإنّ هذا الكلام الذي خلق الله تعالى، دالّ على كذب ذلك المدعي للرسالة؛ لأنّ ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه، وكذلك ما يروى: أنّ مسيلمة الكذاب لعنه الله تعالى، تفل في بئر؛ ليكثر ماؤها، فغارت البئر، وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعله الله سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذّبة لمن ظهرت على يديه، لأنّها وقعت على خلاف ما أراده المتنبىء الكذّاب. والشرط الخامس: من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي على وجه المعارضة. فإن تمّ الأمر المتحدّى به، المستشهد به على النبوّة، على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة، فهي: معجزة دالّة على نبوّة من ظهرت على يده، فإن أقام الله تعالى من يعارضه، حتى يأتي بمثل ما أتى به، ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيّا، وخرج عن كونه معجزا، ولم يدلّ على صدقه، ولهذا قال المولى سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)} وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ

مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} كأنّه يقول: إن ادعيتم أنّ هذا القرآن من نظم محمد صلّى الله عليه وسلم وعمله، فاعملوا عشر سور من جنس نظمه، فإن عجزتم بأسركم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس من نظمه، ولا من عمله. لا يقال: إن المعجزات المقيّدة بالشروط الخمسة، لا تظهر إلا على أيدي الصادقين. وهذا المسيح الدجّال فيما رويتم عن نبيكم صلّى الله عليه وسلم يظهر على يديه من الآيات العظام، والأمور الجسام، ما هو معروف مشهور، فإنّا نقول ذاك، يدّعي الرسالة، وهذا الدجّال يدّعي الرّبوبية، وبينهما من الفرقان ما بين البصراء، والعميان. وقد قام الدليل العقليّ: على أنّ بعثة بعض الخلق إلى بعض، غير ممتنعة، ولا مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع، والملّة. ودلت الأدلة العقلية أيضا: على أنّ المسيح الدجال فيه التصوير، والتغيير من حال إلى حال، وثبت أنّ هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات. تعالى رب البريات، عن أن يشبه شيئا، أو يشبهه شيء. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. والله أعلم * * *

الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات

الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات إذا ثبت هذا، فاعلم: أنّ المعجزات على ضربين: الأول: ما اشتهر نقله، وانقرض عصره بموت النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثاني: ما تواترت الأخبار بصحّته، وحصوله، واستفاضت بثبوته، ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة. ومن شرطه: أن يكون الناقلون خلقا كثيرا، وجمّا غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريّا، وأن يستوي في النقل، أوّلهم، وآخرهم، ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأمّة - رضي الله عنها - لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك بالنبي صلّى الله عليه وسلم، المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلّة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام، وجبريل عن ربّه جلّ وعزّ، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة، والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه، ويسمعونه؛ لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم، فيما نقلوه من وجود محمد صلّى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على

يديه وتحدّيه به، ونظير ذلك من علم الدنيا، علم الإنسان ما نقل إليه من وجود البلدان، كالبصرة والشام، والعراق، وخراسان، والمدينة، ومكة، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة، الظاهرة، المتواترة. فالقرآن: معجزة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كلّ نبيّ انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل، والتغيير، كالتوارة، والإنجيل. ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة: منها: النّظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب، وفي غيرها؛ لأنّ نظمه ليس من نظم الشيء في شيء، وكذلك قال ربّ العزّة الذي تولّى نظمه: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}. وفي «صحيح مسلم»: أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذرّ: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله تعالى أرسله، قلت: فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أفراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله، إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون، وكذلك أقرّ عتبة بن ربيعة، أنّه ليس بسحر، ولا شعر، لمّا قرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (حم فُصِّلت) على ما يأتي بيانه هناك، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة، والبلاغة، بأنّه ما سمع مثل هذا القرآن قطّ، كان في هذا القول مقرًّا له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس

القول، وأنواعه. ومنها: الأسلوب المخالف أساليب العرب. ومنها: الجزالة التي لا تصحّ من مخلوق بحال، وتأمّل ذلك في سورة: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} إلى آخرها، وقوله سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} إلى آخر السورة، وكذلك قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار فمن علم أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحقّ، علم أنّ مثل هذه الجزالة لا تصحّ في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، ولا أن يقول: {وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ}. قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميّز مسموع كلّ آية، وكلّ سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدّي، والتعجيز، ومع هذا، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين. أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمه، وسعته، وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أنّ المصدّقين به أكثر من أتباع سائر الرسل. والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول

الآية ذا مال، وولد على ما يقتضيه قوله الحقّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} ثمّ أهلك الله سبحانه ماله، وولده، وانقطع نسله. ومنها: التصرّف في لسان العرب على وجه لا يستقلّ به عربيّ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدّوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميّ من أمّة أميّة ليس لها بذلك علم بما عرفوا، من الكتب السالفة صحّته، فتحقّقوا صدقه. قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أنّ هذا ممّا لا سبيل إليه إلّا عن تعلّم، وإذا كان معروفا أنّه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا متردّدا إلى المعلّم منهم، ولا كان ممّن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنّه لا يصل إلى علم ذلك، إلّا بتأييد من جهة الوحي. ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيّد،

بشرط قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك. ومنها: الإخبار عن المغيّبات في المستقبل التي لا يطّلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: ما وعد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلم، أنّه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية، ففعل ذلك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله تعالى في إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا، وغربا، برّا، وبحرا. قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} وقال: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} فهذه كلّها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلّا ربّ العالمين، أو من أوقفه عليها ربّ العالمين، فدلّ على أنّ الله تعالى قد أوقف عليها رسوله؛ لتكون دلالة على صدقه. ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام. ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في

كثرتها، وشرفها من آدميّ. ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا، وباطنا من غير اختلاف. قال الله تعالى: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}. قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا - رحمهم الله تعالى -، وزاد النظام، وبعض القدرية حادي عشرها، وهو: أنّ وجه الإعجاز: هو المنع من معارضته، والصّرفة عند التحدّي بمثله، وأنّ المنع، والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أنّ الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنّ إجماع الأمة قبل حدوث المخالف، على أنّ القرآن هو المعجز. فلو قلنا: إن المنع، والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك، علم أنّ نفس القرآن هو المعجز؛ لأن فصاحته، وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قطّ كلام على هذا الوجه، فلمّا لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ على أنّ المنع، والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين: أحدهما: أنّهم صرفوا عن القدرة، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. الثاني: أنّهم صرفوا عن التعرّض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال: ابن عطيّة: وجه

التحدّي في القرآن، إنّما هو بنظمه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه. ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كلّه علما، فعلم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبيّن المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أوّل القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول. ومعلوم ضرورة: أنّ بشرا لم يكن محيطا قطّ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: أن العرب كان في قدرتها، أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، فلمّا جاء محمد صلّى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه. والصحيح: أنّ الإتيان بمثل القرآن، لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبة، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده، فيأخذها بقريحة جامّة، فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر، والبدل. وكتاب الله تعالى، لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب، أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ومن فصاحة القرآن: أنّ الله جلّ ذكره، وثناؤه، ذكر في آية واحدة: أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين، وهو قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عامّا، ثم استنثى استثناء بعد استثناء ثمّ أخبر عن حكمته، وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله سبحانه وتعالى. وأنبأ سبحانه: عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة، وثوابها، وعقابها، وفوز

الفائزين، وتردّي المجرمين، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ووصفها بالقلّة، بالإضافة إلى دار البقاء، بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} الآية، وأنبأ أيضا: عن قصص الأوّلين، والآخرين، ومآل المفترين، وعواقب المهلكين في شطر آية، وذلك في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} وأنبأ جلّ وعزّ: عن أمر السفينة، وإجرائها، وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة، واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض، والسماء بقوله عزّ وجلّ: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} إلى قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك، فلمّا عجزت قريش عن الإتيان بمثله، وقالت: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم تقوّله، أنزل الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} فلما عجزوا، حطّهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جلّ ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب، وتقطّعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب، والعناد، وآثروا سبي الحريم، والأولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة، وأشدّ تأثيرا، هذا مع كونهم أرباب البلاغة، واللّحن، وعنهم تؤخذ الفصاحة، واللّسن، فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز، والبيان، بل تجاوزت حدّ الإحسان،

والإجادة إلى حيز الإرباء، والزيادة. هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختصّ به من غرائب الحكم، إذا تأملت قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة الجنان، وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطّا عن رتبة القرآن، وذلك في قوله عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فأين ذلك من قوله عزّ وجل: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأقلّ حروفا، على أنه لا يعتبر إلّا في مقدار سورة، أو أطول آية؛ لأنّ الكلام كلّما طال اتسع فيه مجال المتصرّف، وضاق المقال على القاصر المتكلّف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإنّ الله سبحانه؛ إنّما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير، أبرع ما يكون في زمان النبيّ، الذي أراد إظهاره، فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطبّ في زمان عيسى عليه السّلام، والفصاحة في زمان محمد صلّى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، ومنه نرتجي قبول المتاب، عن كل ما وقع في السّطور، والكتاب، والحمد لله على ما حبانا، والشكر له على ما أولانا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويردّ عنه جدل منكره، وجاحده،

ويطمس عنه عين كائده، وحاسده، والمرجو ممّن اطّلع عليه، وصرف وجهه إليه، بعين القبول، والرغبة لديه، أن يصلح خطأه، وسقطته، ويزيل زلله، وهفوته، بعد التأمّل، والإمعان، لا بمجرّد النظر، والعيان؛ لأنّ الإنسان مركز الجهل، والنسيان، لا سيما حليف البلاهة والتوان؛ ليكون ممن يدفع السيئة بالحسنة، لا ممنّ يجازي الحسنة بالسيّئة، علّمنا الله وإيّاكم علوم السالفين، وجنّبنا وإيّاكم بدع الخالفين، وأدّبنا وإيّاكم بآداب الأخيار، وأذاقنا وإيّاكم كؤوس المعارف والأسرار. اللهمّ ربّنا! يا ربّنا! تقبّل منّا أعمالنا، وأصلح أقوالنا وأفعالنا إنّك أنت السميع العليم! وتب علينا يا مولانا إنّك أنت التوّاب الرحيم! وجد علينا ببحار فيضك إنّك أنت الجواد الكريم! وصلى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين (¬1). ¬

_ (¬1) قال مؤلّفه: لاح بدر تمامه، وفاح مِسْك ختامه، أوائل الساعة العاشرة، وقت السحر، من ليلة السبت المبارك، ليلة عيد الفطر الليلة الأولى، من شهر شوال من شهور سنة: ألف، وأربع مائة، وسبع عشرة من الهجرة النبويّة، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة، آمين آمين، وسلام على المرسلين وجميع الأنبياء، والملائكة المقرّبين، والحمد لله ربّ العالمين. تمّ تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه قبيل العشاء من الليلة الخامسة من شهر ربيع الآخر في تاريخ 5/ 4/ 1420 هـ.

شعرٌ وما من كاتبٍ إلّا سيفنى ... ويبقى الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه آخر أجلّ ما كسبت يد الفتى قلم ... وخير ما جمعت يداه الكتب إلى هنا جفّت الأقلام، وكلّت اللّجام بيد الفقير إلى رحمة ربه القدير، سُمّي محمد الأمين، الهرري، نزيل مكة المكرّمة، جوار الحرم الشريف، أدام الله سبحانه شرفها، وشرّف من شرّفها، من جميع الخدم، والزائرين، آمين يا ربّ العالمين. * * *

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر بورك حدائق الرّوح والريحان ... كما بورك جنا الزّيتون والرمّان كتاب حوى من جنا التّفسير أفنانا ... فالحمد للمولى على ما قد حبانا كتاب لو يباع بوزنه ذهبا ... لقد كان البائع فيه المغبونا آخر بلاد الله واسعة فضاء ... ورزق الله في الدّنيا فسيح فقل للقاعدين على هوان ... إذا ضاقت بكم الأرض فسيحوا آخر سافر تجد عوضا عمن تفارقه ... وانصب فإن اكتساب المجد في النصب فالأسد لولا فراق الخيس ما افترست ... والسّهم لولا فراق القوس لم يصب آخر بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام المجلد الأول، من تفسير حدائق الروح والريحان، على الحزب الأول من القرآن الكريم ولعل مؤلفه قصد أوّلا: أن يخص كل حزب من الأحزاب الستين بمجلد، فيكون الكتاب إحدى وستين جلدة مع المقدمة. فائدة: قال مؤلفه وكان التاريخ الشروعى لتفسيرنا هذا مع التوائق والمعائق بتاريخ 2/ 1/ 1406 هـ وكان التاريخ الانتهائي منه مع المقدمة بتاريخ 1/ 10/ 1417 هـ فلله الحمد ما أسدى وأولى ... ونعم المولي ونعم المولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة نحمدك يا فارق الفرقان، ومنزل القرآن بالحكمة والبيان، على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون للعالمين نذيرا، ولطريق الحق سراجا منيرا، كتابا كافلا ببيان الأحكام، متوشّحا ببيان الحلال من الحرام، قاطعا للخصام، شافيا لصنوف السقام، مرهما مجربا لكل الأوهام، العروة الوثقى لمن تمسك بها، والجادة الواضحة لمن سلكها، فأي كلام يستحق من التعظيم، ما يستحقه كلام الرب الحكيم، كتاب أعجز الفصحاء، وأفحم عن دركه البلغاء، فإن فصاحتهم وإن طالت ذيولها، وبلاغتهم وإن سالت سيولها، فإنها تتقاصر عن درك أوصافه، وبلوغ أدنى أطرافه، فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقّه من التقدير والإعظام، أولى وأحرى لجميع الأنام، وأوفق بما يقتضيه الحال والمقام، وكيف لا، فإنه كلام من لا تدركه الأوهام، ولا تحيط بوصفه الأفهام. ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: فيما أخرجه الترمذي، وحسّنه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه» فإنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. أمر فيه وزجر، وبشر فيه وأنذر، ذكر فيه المواعظ لمن يتذكر، وضرب الأمثال لمن يتدبر، وقص فيه القصص لمن يعتبر، وذكر فيه دلائل التوحيد لمن يتفكر، ثم لم يرض منا بسرد حروفه، بدون حفظ حدوده، ولا بتجويد كلماته،

بدون العمل بمحكماته، ولا بتلاوته بلا تدبر قراءته، ولا بمجرد دراسته، بلا تعلم حقائقه، وتفهم دقائقه، ولا وصول إلى هذه المقاصد منه، إلا بدراية تفسيره وأحكامه، ومعرفة حلاله وحرامه، وتناسق آياته، وأسباب نزوله وأقسامه، والوقوف على ناسخه ومنسوخه، والتطلّع على خاصه وعامّه، فإنه أرسخ العلوم أصلا، وأسبغها فرعا وفصلا، وأكرمها نتاجا، وأنورها سراجا، فلا شرف إلا وهو السبيل إليه، ولا خير إلا وهو الدالّ عليه، وقد قيض الله سبحانه وتعالى له رجالا موفقين، وبالحق ناطقين، وللبدع قامعين، وللسنن ناشرين، وللتفسير متقنين، حتى صنفوا في سائر علمه المصنفات، وجمعوا شوارد فنونه المتفرقات، كلّ على قدر فهمه، ومبلغ علمه فشكر الله تعالى سعيهم، ورحم أسلافهم وأخلافهم، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر بربوبيته، وصمم بوحدانيته، وصدق بكتابه، واقتدى بمحكمه، وآمن بمتشابهه، وقال بما قال الراسخون منا، آمنا به كل من عند ربنا. وأشهد أن سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عبده ورسوله، وصفيه وخليله. أرسله رحمة للعالمين، ومبيدا للعدا والكافرين، أنزل عليه الكتاب المستبين، والفرقان المبين، نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، حكم بالرضوان لمن اتبعه، وبالخسران لمن أعرض عنه بعد ما سمعه، عجز الخلائق عن معارضته، حين تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله. اللهم يا ذا الجود والإنعام، ويا ذا الجلال والإكرام، صلّ وسلم أفضل الصلاة وأزكى السلام، على سيدنا ومولانا محمد من أرسلته رحمة للأنام، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وأهل بيته السادات الكرام، صلاة وسلاما أرقى بهما مراقي الإخلاص، وأنال بهما غاية الخلاص، دائمين بدوامك، باقيين ببقائك، عدد ما أحاط به علمك، وجرى به قلمك. أما بعد: فإن علم التفسير، لما كان أعظم العلوم مقدارا، وأرفعها شرفا ومنارا، ورئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، عالي القصور والبنيان، وسيع الرحب والميدان، طالما رغبت في الدخول من أبوابه،

متطفلا للقعود في محرابه، لأكون متشبها بالفرسان من أحزابه، وممتصّا من بقية شرابه، وإن لم أكن من فرسان ميدانه، متمثلا بما قال الأول: إن لم تكونوا مثلهم فتشبّهوا ... إن التشبّه بالكرام فلاح ومتسرّقا بما قال الآخر: تطالبني بخدمة القرآن نفسي ... وفيها قرّتا بصري وسمعي فقلت لها: التفاسير ليس تحصى ... وما رمتيه يقصر عنه وسعي على أنه لا يليق لتعاطيه، والتصدّي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها، أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية، والفنون الأدبية، بأنواعها وأسرها، فتردّدت في ذلك زمانا طويلا خوفا من الدخول في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» وفي رواية: «من قال في القرآن برأيه» أخرجه الترمذي. وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود والترمذي. فلما اشتد عزمي، وغلب سهري على نومي، ناداني منادي القلم، شاربا من مداد الكرم، أما تسمح أيها المهين، ويا سمي محمد الأمين، بخدمة كتاب ربك المتين، بما عندك من قطرات الفنون، فأجبته بالشروع فيها مشمّرا عن ساق الجد والاجتهاد، راجيا من الله سبحانه وتعالى المعونة والإمداد، من الفتوحات الإلهية، والفيضات الربانية، والمعارف الصمدانية، فتصديت لها بشرح يذكر تناسبه، وينقل أسبابه، ويفك تراكيبه، ويحل معانيه، ويعرّف مبانيه، ويبيّن تصاريفه، ويفصح بلاغته وفصاحته، ويكشف محاسنه وبداعته، وسميته «حدائق الرّوح والرّيحان، في روابي علوم القرآن». والله الكريم أسأل طوله وفضله، والتوفيق لما هو المعنى عنده، وأن يجعل في عمري البركة إلى أن أكمّله، لأنه قد مضى منه معظمه، ونونه وواوه، فلم يبق منه إلا درديّه وعلله، ويصرف عني العوائق والمعائق إلى أن أتممه، إنه وليّ التوفيق، والهادي إلى أصوب الطريق.

والمرجو ممن اطلع عليه، وصرف وجهه إليه، أن يصلح خلله، ويزيل زلله، بعد التأمل والإمعان، بقلم الإنصاف والإحسان؛ لأن الإنسان مركز الجهل والنسيان، لا سيما حليف البله والبلاهة والتوان، وأسأل الله الكريم، أن ينفع به النفع العميم، لكل من تلقاه بقلب سليم، وأن يفتح على آخذه، وقاصده، باب فيضه وإمداده، وأن يطمس عنه عين حاسده، ويخرس عنه لسان كائده، إنه هو المولى الرقيب، والرب القريب المجيب، والمنعم الجواد الكريم، والبر الرحمن الرحيم، ولنبدأ قبل الشروع في المقصود، بذكر مبادىء الفن والحدود، ليكون الطالب بها بصيرا، وفيما بصدده خبيرا، وها أنا أستمد من الله التوفيق، والهداية لأقوم الطريق، في كتابة هذا الشرح والتعليق، فأقول وقولي هذا: هذه مقدّمة، رب أكرمني بالنهاية كما وفقتني بالبداية. والله أعلم * * *

مقدمة في مبادىء فن التفسير ينبغي لكل شارع في فن، أن يعرف المبادىء العشرة ليكون على بصيرة فيه، وإلا صار كمن ركب متن عمياء، وخبط خبط ناقة عشواء، وتلك العشرة هي المجموعة في قول بعضهم: إنّ مبادىء كلّ فن عشره ... الحدّ والموضوع ثمّ الثمره وفضله ونسبة والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا فالآن نشرع في فنّ التفسير فنقول: 1 - حدّه لغة: الكشف والبيان، واصطلاحا: علم يعرف به معاني كلام الله بحسب الطاقة البشرية. 2 - وموضوعه: آيات القرآن من حيث فهم معانيها. 3 - وثمرته: أي فائدته: معرفة معاني كلام الله تعالى على الوجه الأكمل. 4 - وفضله: فوقانه على سائر العلوم؛ لأنه أصل العلوم الشرعيّة. 5 - ونسبته: تباينه لسائر العلوم. 6 - وواضعه: الراسخون في العلم، من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الآن على التحقيق، كما شهد الله بذلك بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} الآية. 7 - واسمه: علم التفسير. 8 - واستمداده: من الكتاب والسنة والآثار وكلام الفصحاء من العرب العرباء. 9 - وحكمه: الوجوب الكفائيّ.

10 - ومسائله: قضاياه من حيث الأمر والنهي والموعظة إلى غير ذلك. 11 - وغايته: الفوز بسعادة الدارين، أمّا في الدنيا: فبامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأما في الآخرة: فبالجنة ونعيمها، ولذلك يقال له: «اقرأ وارق» كما في الحديث. والله أعلم * * *

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فصل في مباحث الاستعاذة في الاستعاذة مباحث: الأول في لفظها: فالمختار في لفظها عند الجمهور (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لموافقة قوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}. وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أحمد: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع). ويؤيّد قول الجمهور: ما روي (¬1) عن ابن مسعود أنه قال: قلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا ابن أمّ عبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، هكذا أقرأني جبريل عن اللوح عن القلم». والثاني في حكمها: وأمّا حكمها: فقد (¬2) اتفق الجمهور على أنّ الاستعاذة سنّة في الصلاة، فلو تركها لم تبطل صلاته، سواء تركها عمدا أو سهوا، ويستحبّ لقارىء القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. وفي «القرطبي»: وحكى النقاش، عن عطاء: أنّ الاستعاذة واجبة في صدر كلّ قراءة في الصلاة وغيرها، واختلفوا في الاستعاذة في الصلاة، وكان ابن سيرين والنخعيّ وقوم يتعوّذون في الصلاة في كلّ ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعيّ يتعوذّان في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) القرطبي.

واحدة، ومالك لا يرى التعوّذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان بعد القراءة. انتهى. وفي «الخازن» دليل الوجوب ظاهر قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، والأمر للوجوب، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم واظب على التعوذ فيكون واجبا. ودليل الجمهور: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعلّم الأعرابيّ الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة، وتأخير البيان عن وقته غير جائز. وأجابوا عن قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ} بأنّ معناه عند جماهير العلماء: إذا أردت القراءة فاستعذ، كقوله: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وأجابوا أيضا، عن مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم: بأنّه صلّى الله عليه وسلّم واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست بواجبة، كتكبيرات الانتقالات والتسبيحات في الصلاة، فكان التعوّذ مثلها، وأجمع العلماء قاطبة على أنّ التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه. والثالث في وقتها: وأمّا وقتها: فهو قبل القراءة عند الجمهور، سواء كان في الصلاة أو خارجها. وحكي عن النخعيّ: أنّه بعد القراءة؛ لظاهر قوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: إذا فرغت من قراءة القرآن فاستعذ بالله، وهو قول داود وإحدى الروايتين عن ابن سيرين. حجة (¬1) الجمهور: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبّر ثمّ يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك»، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله ثلاثا»، ثمّ يقول: «الله أكبر كبيرا ثلاثا، أعوذ بالله السميع العليم؟ من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه». همزه: وسوسته. نفخه: كبره. نفثه: شعره. رواه أبو داود. وهذا الحديث: نصّ في أنّ التعوذ قبل القراءة. والرابع في معناها: وأما معناها: فالاستعاذة لغة: الالتجاء إلى الغير والاعتصام به، وشرعا: الالتجاء إلى الله والالتصاق بجانبه من شرّ كل ذي شرّ، انتهى من «الخازن» و «ابن كثير» بتصرف. وقال ابن كثير: ومعنى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أي: أستجير (¬2) بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرّني في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) ابن كثير.

ديني أو دنياي أو يصدّني عن فعل ما أمرت به أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه، فإنّ الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلّا الله تعالى، انتهى منه. ومعنى: (أعوذ بالله) ألتجىء إليه، وأمتنع به مما أخشاه، أو أستجير، أو أستغيث، من شرّ الشيطان، أي: من ضرر الشخص المبعد من رحمة الله، (الرجيم) أي: المطرود الملعون عند الله والملائكة والناس أجمعين. وإنما (¬1) لم يقيّد المستعاذ منه بشيء من قبائحه ومضارّه، كالهمز، واللمز، واللمس، والوسوسة، والنزعة، وغيرها؛ لتذهب الهمّة كلّ مذهب ليستعاذ من شرّه عموما. والخامس في إعرابها: وأما إعراب هذه الجملة فتقول فيه: (أعوذ): فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المتكلم، تقديره: أنا، يعود على المستجير، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا نحويّا، لا محلّ لها من الإعراب. (بالله): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ، (من الشيطان): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ أيضا، وجوّز ذلك: اختلاف لفظهما ومعناهما، (الرجيم): صفة ذمّ للشيطان، مجرور بالكسرة الظاهرة. والسادس في مفرداتها وتصاريفها: وأمّا مفرداتها وتصاريفها فتقول في بيانهما: الاستعاذة مصدر قياسيّ لاستعوذ، معناه: الالتجاء والاعتصام، كما مرّ آنفا. يقال: استعاذ يستعيذ استعاذة إذا تحصّن بشيء من شيء. وأصل الاستعاذة استعواذ، نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فقلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فالتقى ساكنان، وهما: ألف عين الكلمة وألف الاستفعال فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوضوا عنها التاء فصار استعاذة بوزن استفعالة، وهو أجوف واويّ؛ لأنّه من عاذ، يعوذ، عوذا، كقال: يقول، قولا. والعوذ (¬2) والعياذ: مصدران كاللّوذ واللّياذ والصوم والصيام. وقول القائل: (أعوذ): إخبار عن فعله، وهو في التقدير سؤال الله عزّ وجلّ من فضله، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وفي العدول إلى لفظ الخبر فائدة التفاؤل بالوقوع، كأنّه وقع الإعاذة فيخبر عن مطاوعه. (بالله): مذهب أهل الحقائق في لفظ الجلالة عدم الاشتقاق؛ لأنه لا سبيل إلى كنه معرفته، ولذا قال السعد التفتازاني في حواشي الكشاف: اعلم أنّه كما تحيّرت الأوهام في ذاته وصفاته، فكذا في اللفظ الدالّ عليه من أنّه اسم أو صفة، مشتقّ أو غير مشتقّ، علم أو غير علم، إلى غير ذلك، وسيأتي بسط الكلام فيه في مبحث البسملة إن شاء الله تعالى. (من الشيطان) أي: (¬1) المبعد من رحمة الله تعالى، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لمّا عصى لعن وصار شيطانا، فدلّ على أنّه؛ إنّما سمّي بهذا الاسم، بعد لعن الله له. وأمّا قبله فاسمه: عزازيل أو نائل. والشيطان: من شطن إذا تباعد من الرحمة، وقيل: من شاط يشيط، إذا هلك واحترق غضبا، وهو اسم لكلّ عات متمرد من الجنّ والإنس. وعبارة «القرطبي» هنا (¬2): الشياطين واحد الشيطان: على التكسير، والنون أصليّة؛ لأنّه من شطن إذا بعد عن الخير، وشطنت داره أي: بعدت. قال الشاعر: نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين وبئر شطون أي: بعيدة القعر، والشطن: الحبل، سمّي به لبعد طرفيه وامتداده، وسمّي الشيطان شيطانا: لبعده عن الحقّ وتمردّه، وذلك أنّ كلّ عات متمرد من الجنّ والإنس والدّواب شيطان. قال جرير: أيّام يدعونني الشّيطان في غزل ... وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا وقيل: الشيطان مأخوذ من شاط يشيط إذا بطل، فالنون زائدة، وشاط إذا احترق، وشيّطت اللحم إذا دخنته، ولم تنضجه، واشتاط الرجل إذا احتدّ غضبا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

وناقة مشياط الّتي يطير فيها السمن، واشتاط إذا هلك. قال الأعشى: قد نخضب العير من مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل أي: يهلك. ويردّ على صاحب هذا القول: أنّ سيبويه حكى أنّ العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بيّن أنّه تفيعل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط، ويردّ عليه أيضا بيت أمية بن أبي الصلت: أيّما شاطن عصاه عكاه ... ورماه في السجن والأغلال فهذا شاطن من شطن لا شكّ. والظاهر: أنّ المراد بالشيطان إبليس وأعوانه، وقيل: عام في كلّ متمرد عات مضلّ عن الجادّة المستقيمة من جنّ وإنس، كما قال تعالى: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}. (الرجيم)؛ أي (¬1): المرميّ من السموات بإلقاء الملائكة حين لعن. أي: المرميّ بشهب السماء إذا قصدها، وهذه صفة للشيطان، وله في القرآن أسماء مشؤومة وصفات مذمومة، فأجمع مساويه هو الرجيم؛ لأنه جامع لجميع ما يقع عليه من العقوبات، فلذلك خصّ به الابتداء من بين تلك الأسماء والصفات. وفي القرطبي: (الرجيم) أي: المبعد (¬2) من الخير، المهان، وأصل الرجم: الرمي بالحجارة، وقد رجمته أرجمه فهو رجيم ومرجوم، والرّجم: القتل واللّعن والطرد والشتم، وقد قيل: هذا كلّه في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} وقول أبي إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}. وسيأتي إن شاء الله تعالى، انتهى. وعلى ما قاله القرطبي: يكون الرجيم صفة كاشفة للشيطان، ويحتمل كونه مؤسّسة، وعلى كلّ من هذه المعاني: فالرجيم فعيل إما بمعنى: فاعل؛ لأنّه يرجم بالوسوسة والشرّ، أو بمعنى: مفعول أي: مرجوم بمعنى: مطرود عن الرحمة وعن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى، أو مرجوم بالشّهب عند استراق السمع أو مرجوم بالعذاب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

والسابع في بلاغتها: ومن بلاغتها: العدول (¬1) من صيغة الإنشاء الذي هو المقصود من الكلام إلى صيغة الإخبار؛ لفائدة التفاؤل بالوقوع، كأنّه وقع الإعاذة، فيخبر عن مطاوعه؛ لأنّ مقتضى ظاهر السؤال أن يقال: أعذني يا ربّ من الشيطان الرجيم. ومنها: الالتفات من الخطاب بقوله: أعوذ بك، إلى الغيبة بقوله: أعوذ بالله؛ لأنّ اسم الظاهر من قبيل الغيبة؛ لغرض التبرّك والتّلذّذ بلفظ الجلالة، ومنها: الإتيان بالصفة الكاشفة في قوله: (الرجيم)؛ لتأكيد معنى الموصوف. والثامن في بيان لطيفة هذه الجملة: ومن (¬2) لطائف الاستعاذة أنّ قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إقرار من العبد بالعجز والضعف، واعتراف من العبد بقدرة البارىء عزّ وجلّ، وأنّه هو الغنيّ القادر على دفع جميع المضرّات والآفات، واعتراف من العبد أيضا، بأنّ الشيطان عدوّ مبين، ففي الاستعاذة: التجاء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغويّ الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا الله تعالى. والله أعلم. [فائدتان من الاستعاذه] فائدتان: الأولى: فإن قلت: ما الحكمة في الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن، حيث قال تعالى في سورة النحل {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}؟. قلت: الحكمة في الاستعاذة عندها الاستئذان، وقرع الباب؛ لأنّ من أتى باب ملك من الملوك لا يدخل إلا بإذنه، كذلك من أراد قراءة القرآن؛ إنّما يريد الدخول في المناجاة مع الحبيب، فيحتاج إلى طهارة اللسان؛ لأنّه قد تنجّس بفضول الكلام والبهتان، فيطهّره بالتعوذّ. ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف. (¬2) الخازن.

الثانية: في بيان حقيقة الشيطان، قال في (¬1) روضة الأخيار: الشياطين: ذكور وإناث، يتوالدون ولا يموتون إلى النفخة الأولى، والجنّ: ذكور وإناث يتوالدون ويموتون، والملائكة: ليسوا بذكور ولا إناث، لا يموتون ولا يتوالدون، ولا يأكلون ولا يشربون، فثبت بهذا أنّ للشيطان، والجنّ حقيقة ووجودا، ولم ينكر وجود الجن إلّا شرذمة قليلة من جهّال الفلاسفة والأطبّاء ونحوهم. حكي (¬2): أنّ الإمام الغزاليّ محيي السنة كان مفتي الثقلين، فسألهم يوما عن الحوادث، قالوا: إنّ الزمخشري صنّف كتابا في التفسير وبلغ إلى النصف، فطلب منهم أن يأتوا به، فأتوه، فكتب جميع ما ألفه، ثمّ وضعوا النسخة في مكانها، فلمّا جاء الزمخشري إليه أراه إيّاه، فتعجّب الزمخشري وتحيّر وقال: إن قلت: هو لي وأنا خبّأته وما اطّلع عليه أحد غيري، فمن أين جاء هذا؟ وإن هو لغيري؛ فالتوارد في اللفظ والمعنى والوضع والترتيب في هذا القدر من الكتاب لا يقبله العقل، قال الإمام الغزالي: هو لك، وقد وصل إلينا من أيدي الجنّ، وكان الزمخشري ينكر الجن فاعترف في مجلسه. ولا يلزم من هذا علم الجنّ بالغيب كما لا يخفى، قال تعالى: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ}. ثمّ حقيقتهم عند من لم يقل بالمجردات: أجسام هوائية، وقيل: نارية قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، كصور الحيّات والعقارب والكلاب والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والطير وبني آدم، لها عقول وأفهام تقدم على الأعمال الشاقّة، كما كانوا يعملون لسليمان عليه السلام المحاريب والتماثيل والجفان والقدور. وعند من قال بالمجرّدات: فهم قسم من الملائكة، والمجرّدات: الموجودات الغير المتحيّزة، ولا الحالّة في المتحيز، والمراد بالشيطان هنا: إبليس وأعوانه كما مرّ. ومما يدّل على تشكّلها (¬3): ما روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) القرطبي.

قال، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل، وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله؟ قال: «هذا الشيطان الرجيم»، فقلت: يا عدوّ الله، والله لأقتلنّك ولأريحنّ الأمّة منك، قال: ما هذا جزائي منك، قلت: وما جزاؤك منّي يا عدوّ الله؟ قال: والله ما أبغضك أحد قطّ، إلّا شركت أباه في رحم أمّه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬1) قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من المسجد، فإذا هو بإبليس، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما الذي جاء بك إلى باب مسجدي؟» قال: يا محمد، جاء بي الله، قال: «فلم ذا؟» قال: لتسألني عمّا شئت، فقال ابن عباس: فكان أوّل شيء سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة، فقال له: «يا ملعون، لم تمنع أمتي عن الصلاة بالجماعة؟» قال: يا محمد، إذا خرجت أمّتك إلى الصلاة، تأخذني الحمّى الحارّة، فلا تندفع حتى يتفرّقوا،» وقال عليه السلام: «لم تمنع أمّتي عن العلم والدعاء؟» قال: عند دعائهم يأخذني الصمم والعمى، فلا يندفع حتى يتفرّقوا، وقال عليه السلام: «لم تمنع أمّتي عن القرآن»؟ قال: عند قراءتهم أذوب كالرصاص، قال: «لم تمنع أمتي عن الجهاد»؟ قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتى يرجعوا، وإذا خرجوا إلى الحج أسلسل وأغلل حتى يرجعوا، وإذا همّوا بالصدقة توضع على رأسي المناشير فتنشرني كما ينشر الخشب. وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه: - (الفرق بين صلاتنا وصلاة أهل الكتاب: وسوسة الشيطان؛ لأنّه فرغ من عمل الكفار، لأنّهم وافقوه والمؤمنون يخالفونه ويحاربونه، والمحاربة تكون مع المخالفة). وقال الحسن: من استعاذ بالله على وجه الحقيقة وهو ما يكون بحضور القلب، جعل الله بينه وبين الشيطان ثلاثمائة حجاب، كلّ حجاب كما بين السماء والأرض. وفي «التفسير الكبير» للإمام الرازي: أنّ (أعوذ بالله): رجوع من الخلق إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

الخالق، ومن الحاجة التّامّة لنفسه، إلى الغنى التام بالحق في تحصيل كلّ الخيرات ودفع كلّ الآفات، ففيه سرّ قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، وفيه دلالة: على أن لا وسيلة إلى القرب من حضرة الربّ إلّا بالعجز. والعجز منتهى المقامات، انتهى. فائدة: وفي الأثر: وأوّل ما نزل به جبريل عليه السلام، على النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستعاذة، ثمّ البسملة، ثمّ قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآيات، هكذا ذكره صاحب «روح البيان». والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولمّا فرغنا من مباحث الاستعاذة شرعنا في مباحث البسملة، وقلنا: قال الله سبحانه جلّ وعلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (1) وحكمة تأخيرها عن الاستعاذة (¬1): الإشعار بأنّ باب التحلية (بالمهملة)، مؤخرّ عن باب التخلية (بالمعجمة)، وبأنّ الإقبال على الله سبحانه، والتوجه إليه، مؤخر عن الإعراض عمّا سوى الله تعالى، والأصحّ المقبول عند متأخري الحنفية: أنّ البسملة آية فذّة ليست جزءا من السورة، أنزلت للفصل بين السور والتبرّك بالابتداء بها، كما بدىء بذكرها في كلّ أمر ذي بال، وهي: مفتاح القرآن، وأول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، وأول ما نزل على آدم عليه السلام. وحكمة الابتداء بها (¬2): أنّه كانت الكفّار يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات والعزّى، فوجب أن يقصد الموحّد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل، فلذلك قدّر المحذوف متأخرا؛ أي: باسم الله أقرأ، أو أتلو، أو آكل، أو أشرب، أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فصل وفي البسملة أبحاث: [البحث الأول: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها] الأول منها: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها، سوى (سورة براءة). فذهب أبو هريرة (¬1)، وعليّ، وابن عباس، وابن عمر، وبعض التابعين، كسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وابن المبارك، وبعض فقهاء مكة، وقرّائها، ومنهم: ابن كثير، وبعض قرّاء الكوفة، وفقهائها، ومنهم: عاصم، والكسائي، والشافعيّ، وأحمد، إلى أنّ البسملة آية من كلّ سورة من سور القرآن الكريم، ومن أدلّتهم على ذلك: - إجماع الصحابة ومن بعدهم، على إثباتها في المصحف أوّل كل سورة عدا (سورة براءة)، مع الأمر بتجريد القرآن عن كلّ ما ليس منه، ومن ثمّ لم يكتبوا (آمين) في آخر (الفاتحة). - وما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن أنس - رضي الله عنه - أنّه قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: «نزلت عليّ آنفا سورة»، فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}، وذكر الحديث، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى. وروى أبو داود عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف إنقضاء السورة حتى ينزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وروى الدارقطنيّ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فاقرؤوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، فإنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إحدى آياتها». - وإجماع المسلمين على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى، والبسملة ¬

_ (¬1) المراغي.

بينهما، فوجب جعلها منه. - وقول أمّ سلمة رضي الله عنها: (قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (الفاتحة)، وعدّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} آية)، ومن أجل قولها اختلف في أنها آية برأسها، أم بما بعدها. وذهب مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي، وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو، ويعقوب من قرّاء البصرة - وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - إلى أنّها آية مفردة من القرآن، أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها، فليست بآية من (الفاتحة) ولا من غيرها، ولم يختلفوا في أنها بعض آية في (سورة النمل). وذهب عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، وهو رأي بعض الحنفية، ومن أدلّتهم على ذلك: حديث أنس رضي الله عنه، قال: صلّيت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في أوّل قراءة، ولا في آخرها. وعبارة الشوكاني هنا: اختلف أهل العلم، هل هي آية مستقلة في أول كلّ سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كلّ سورة، أو هي كذلك في (الفاتحة) دون غيرها، أو أنّها ليست بآية في الجميع، وإنّما كتبت للفصل، والأقوال وأدّلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. وقد اتفقوا على أنّها بعض آية في (سورة النمل)، وقد جزم قرّاء مكة والكوفة بأنها آية من (الفاتحة)، ومن كلّ سورة، وخالفهم قرّاء المدينة، والبصرة، والشام، فلم يجعلوها آية لا من (الفاتحة)، ولا من غيرها من السور. قالوا: وإنّما كتبت للفصل، والتبرّك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أمّ سلمة: (أنّ رسول الله، قرأ البسملة في أول (الفاتحة) في الصلاة وغيرها آية)، وفي إسناده عمرو بن هارون البلخيّ، وفيه ضعف. وروى نحوه الدارقطنّي مرفوعا عن أبي هريرة.

وكما وقع الخلاف في إثباتها، وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة، وقد أخرج النسائي في «سننه»، وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما»، والحاكم في «المستدرك»، عن أبي هريرة: (أنّه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، وصحّحه الدارقطني، والخطيب، والبيهقي، وغيرهم. وروى أبو داود، والترمذي، عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان يفتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال الترمذي: وليس إسناده بذاك، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، عن ابن عباس بلفظ، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قال: صحيح. وأخرج البخاريّ في صحيحه، عن أنس، أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (كانت قراءته مدّا، ثمّ قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} يمدّ {بِسْمِ اللَّهِ}، ويمدّ {الرَّحْمنِ}، ويمدّ {الرَّحِيمِ}. وأخرج أحمد في «المسند»، وأبو داود في «السنن»، وابن خزيمة في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه» عن أمّ سلمة أنّها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}، وقال الدارقطني: إسناده صحيح. واحتجّ من قال: بأنّه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، بما في «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين). وفي «الصحيحين»، عن أنس قال: (صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين)، ولمسلم لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في أوّل قراءة، ولا في آخرها. وأخرج أهل السنن نحوه، عن عبد الله بن مغفّل، وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة. وأحاديث الترك وإن كانت أصحّ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجا من

مخرج صحيح، فالأخذ به أولى، ولا سيّما مع إمكان تأويل الترك، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي، أعني: كونها قرآنا، والوصفي أعني: الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. انتهى من الشوكاني. والبحث الثاني في فضلها: وورد في فضلها أحاديث. منها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وابن خزيمة في كتاب البسملة، والبيهقي، عن ابن عباس قال: (استرق الشيطان من الناس، أعظم آية من القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}). وأخرج نحوه أبو عبيد، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا. وأخرج الدارقطني بسند ضعيف، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره»، والحاكم في «المستدرك»، وصحّحه، والبيهقي في «شعب الإيمان»، عن ابن عباس أنّ عثمان بن عفّان، سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؟ فقال: «هو اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلّا كما بين سواد العين وبياضها من القرب». ومنها: ما أخرجه ابن مردويه، والثعلبيّ، عن جابر قال: (لمّا نزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزّته، وجلاله أن لا تسمّى على شيء، إلّا بارك الله فيه). ومنها: ما أخرجه أبو نعيم، والديلمي، عن عائشة قالت: لمّا نزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ضجّت الجبال، حتى سمع أهل مكة دويّها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث الله دخانا، حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} موقنا، سبّحت معه الجبال، إلّا أنّه لا يسمع ذلك منها».

ومنها: ما أخرجه الديلميّ، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} كتب الله له بكلّ حرف أربعة آلاف حسنة، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة». ومنها: ما أخرجه الخطيب في الجامع، عن أبي جعفر، محمد بن عليّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} مفتاح كلّ كتاب. اه. من «الشوكاني». ومنها: ما أخرجه ابن العربي بسنده، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بالله العظيم، لقد حدّثني محمد المصطفى، وقال: «بالله العظيم، لقد حدّثني جبريل»، وقال: بالله العظيم، لقد حدّثني إسرافيل، وقال: قال الله تعالى: يا إسرافيل! بعزّتي، وجلالي، وجودي، وكرمي، من قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة؛ فاشهدوا أنّي غفرت له، وقبلت منه الحسنات، وتجاوزت عنه السيئات، ولا أحرق لسانه في النار، وأجيره من عذاب القبر وعذاب النار والفزع الأكبر، ويلقاني قبل الأنبياء، والأولياء أجمعين. اه. من المناوي على «الجامع الصغير». وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها، والكلام عليها، بما يتبيّن به حكمها بعد البحث عنها إن شاء الله تعالى. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع. منها: عند الوضوء، وعند الذبح، وعند الأكل، والشرب، وعند الجماع، وغير ذلك. وهذا كلّه مما يدلّ على فضلها، ومما ورد في فضلها أيضا. حديث: «من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إجلالا له ولاسمه عن أن يدنّس، كان عند الله من الصديقين، وخفّف عن والديه وإن كانا مشركين». ومما ورد في فضلها:

ما روي عن ابن مسعود قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر؛ فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؛ ليجعل الله له بكلّ حرف منها جنّة من كلّ واحد منهم، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار، الذين قال الله فيهم: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، وهم يقولون في كلّ أفعالهم: بِسْمِ اللَّهِ ... إلخ. فمن هنالك قوتهم. والبحث الثالث في تفسيرها ومعناها: والأحسن أن يقدر متعلّق الباء هنا (قولوا): لأنّ هذا المقام مقام تعليم، وهذا كلام صادر عن حضرة الربّ تعالى. اه. «جمل». وقال الطبري: إنّ الله سبحانه وتعالى، أدّب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم، بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتّبعونه عليها. اه. فمعنى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؛ أي: اقرأ يا محمد أنت وأمّتك كتابي، حالة كونكم متبركين باسم الله الواجب الوجود، المستحقّ لجميع المحامد. الرَّحْمنِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بجلائل النعم، كنعمتي الإيجاد والإيمان. الرَّحِيمِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بدقائقها، كالزيادة في الجمال، والعلم، وقوّة السمع، وحدّة البصر. وقال البيضاوي: والرحمن الرحيم: اسمان بنيا للمبالغة، كالغضبان من غضب، والعليم من علم. والرحمة في اللغة: رقّة القلب، وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان، ومنه: الرحم لانعطافها على ما فيه. والحكمة في تخصيص التسمية بهذه الأسماء الثلاثة؛ ليعلم العارف أنّ المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولي النعم كلها عاجلها، وآجلها، جليلها، وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسّك بحبل التوفيق، ويشغل سرّه بذكره والاستغناء به عن غيره. اه. منه. والبحث الرابع في حكم الجهر بها والإسرار: إذا ثبت بما تقدم من الأدّلة؛ أنّ البسملة آية من (الفاتحة)، ومن غيرها من

السور، حيث كتبت، كان حكمها في الجهر، والإسرار حكم (الفاتحة)، فيجهر بها مع (الفاتحة) في الصلاة الجهريّة، ويسرّ بها مع الفاتحة في الصلاة السريّة. وممن قال بالجهر بالبسملة من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومن التابعين فمن بعدهم: سعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعليّ بن الحسين، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، وابن سيرين، وابن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، ومسلم بن خالد، وإليه ذهب الشافعي، وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك، ويحكى أيضا عن ابن المبارك، وأبي ثور. وممن ذهب إلى الإسرار بها من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفّل، وغيرهم، ومن التابعين فمن بعدهم: الحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأعمش، والثوري، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم. وأما حجة من قال بالجهر: فقد روى جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وأنس، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وأمّ سلمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، جهر بالبسملة، فمنهم من صرّح بذلك، ومنهم من فهم ذلك من عبارته. ولم يرد في صريح الإسرار بها، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا روايتان: إحداهما: ضعيفة، وهي رواية عبد الله بن مغفّل. والأخرى: عن أنس، وهي في «الصحيح»، وهي معلّلة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها. وروى نعيم بن عبد الله المجمر قال: صلّيت وراء أبي هريرة فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ثمّ قرأ بأمّ القرآن، وذكر الحديث. وفيه ثم يقول إذا سلّم: (إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه النسائي، وابن خزيمة في صحيحه. وقال: أما الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد ثبت وصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.

وروى الدارقطني بسنده، عن أبي هريرة. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (كان إذا قرأ وهو يؤمّ الناس، افتتح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وذكر الحديث. قال الدارقطني: إسناده كلّهم ثقات. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني، وقال: ليس في رواته مجروح. وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: إسناده صحيح، وليس له علّة. وفي رواية عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني، وقال: صحيح ليس في إسناده مجروح. وأخرجه الترمذي وقال: ليس إسناده بذاك. قال الشيخ أبو شامة؛ أي: لا يماثل إسناده ما في الصحيح، ولكن إذا انضمّ إلى ما تقدم من الأدلة، رجح على ما في الصحيح. وعن أنس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر بالقراءة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وفيه عن محمد بن أبي السريّ العسقلاني قال: صلّيت خلف المعتمر بن سليمان، ما لا أحصي صلاة الصبح، وصلاة المغرب، فكان يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما ألوي أن أقتدي، بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: (ما ألوي أن أقتدي، بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه الدارقطني وقال: كلهم ثقات. وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم كلّهم ثقات. قلت: وفي الباب أحاديث وأدلّة وإيرادات وأجوبة من الجانبين يطول ذكرها، وفي هذا القدر كفاية، وبالله التوفيق. اه. من «الخازن». البحث الخامس في مفرداتها، وتصاريفها: فمنه البحث في الباء: فإن قلت (¬1): ما الحكمة والسر في أنّ الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء، واختارها على سائر الحروف لا سيّما على ¬

_ (¬1) روح البيان.

الألف، فإنّه أسقط الألف من الاسم وأثبت مكانه الباء في {بِسْمِ}؟. فالجواب: إنّ الحكمة في افتتاح الله بالباء عشرة معان: أحدها: أنّ في الألف ترفّعا وتكبّرا وتطاولا، وفي الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا، فمن تواضع لله رفعه الله. وثانيها: أنّ الباء مخصوصة بالإلصاق بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف من حروف القطع. وثالثها: أنّ الباء مكسورة أبدا، فلمّا كانت فيها كسرة، وانكسار في الصورة، والمعنى: وجدت شرف العندية من الله تعالى، كما قال تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي). ورابعها: أنّ في الباء تساقطا وتكسّرا في الظاهر، ولكن رفعة درجة، وعلوّ همة في الحقيقة، وهي من صفات الصدّيقين، وفي الألف ضدّها. أمّا رفعة درجتها: فبأنّها أعطيت نقطة، وليست للألف هذه الدرجة. وأمّا علوّ الهمة: فإنه لمّا عرضت عليها النقط ما قبلت إلّا واحدة؛ ليكون حالها كحال محبّ لا يقبل إلّا محبوبا واحدا. وخامسها: أنّ في الباء صدقا في طلب قربة الحق؛ لأنها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتها تحت قدمها، وما تفاخرت بها، ولا يناقضه الجيم، والياء؛ لأنّ نقطتها في وضع الحروف ليست تحتهما؛ بل في وسطهما، وإنّما موضع النقط تحتهما عند اتصالهما بحرف آخر؛ لئلا يشتبها بالخاء، والتاء، بخلاف الباء؛ فإنّ نقطتها موضوعة تحتها سواء كانت مفردة، أو متصلة بحرف آخر. سادسها: أنّ الألف حرف علّة بخلاف الباء. وسابعها: أنّ الباء حرف تامّ متبوع في المعنى، وإن كان تابعا صورة، من حيث إنّ موضعه بعد الألف في وضع الحروف؛ وذلك لأنّ الألف في لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الألف، فإنّ الباء لا يتبعه، والمتبوع في المعنى أقوى.

وثامنها: أنّ الباء حرف عامل ومتصرف في غيره، فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة، فصلحت للابتداء بخلاف الألف؛ فإنّه ليس بعامل. وتاسعها: أنّ الباء حرف كامل في صفات نفسه؛ بأنّه للإلصاق والاستعانة والإضافة، مكمّل لغيره؛ بأن يخفض الاسم التابع له، ويجعله مكسورا متصفا بصفات نفسه، وله علوّ وقدرة في تكميل الغير بالتوحيد والإرشاد، كما أشار إليه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: (أنا النقطة تحت الباء). فالباء له مرتبة الإرشاد والدلالة على التوحيد. وعاشرها: أنّ الباء حرف شفوي، تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية؛ ولذلك كان أول انفتاح فم الذرة الإنسانية، في عهد {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بالباء في جواب {بَلى}، فلمّا كان الباء أول حرف نطق به الإنسان، وفتح به فمه، وكان مخصوصا بهذه المعاني، اقتضت الحكمة الإلهيّة اختياره من سائر الحروف، فاختارها ورفع قدرها، وأظهر برهانها، وجعلها مفتاح كتابه ومبتدأ لكلامه وخطابه تعالى وتقدس، كذا في التأويلات النجمية. وأما الباء: فلا بحث فيها من جهة التصريف، كما قال ابن مالك في الخلاصة: حرف وشبهه من الصّرف بري ... وما سواهما بتصريف حري (اسم): اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم، فذهب البصريون إلى أنّه من السموّ، وهو العلوّ؛ لأنه من سما يسمو سموا. وذهب الكوفيّون (¬1) إلى أنّه مشتق من السمة؛ لأنه من وسم يسم، وسما، وسمة، وهي العلامة؛ لأنه علامة على مسماه، وكلاهما صحيح من جهة المعنى. وفيه خمس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمّها بوزن أفع، والذاهب من الواو لام الكلمة؛ لأنه من سموت، وجمعه: أسماء، وتصغيره: سميّ. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا ¬

_ (¬1) القرطبي.

لهذا الوزن، وهو مثل: جذع، وأجذاع، وقفل، وأقفال. وسم بكسر السين، وسم بضمّها، وسمى بوزن هدى. والاسم: هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة توصّلا للابتداء بالساكن؛ لسلامة لغتهم من كلّ لكنة، وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء. وذهب أبو عبيدة، معمر بن المثنى؛ إلى أنّ لفظ (اسم) هنا صلة زائدة، واستشهدوا بقول لبيد: إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر فذكر اسم زيادة؛ وإنّما أراد ثمّ السلام عليكما. واختلفوا في معنى زيادة (اسم) هنا، فقال قطرب: زيدت؛ لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت؛ ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرّك؛ لأنّ أصل الكلام: بالله. واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه: هل دخلت على معنى الأمر، والتقدير: ابدأ بسم الله؟ أو معنى الخبر، والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان: الأول للفرّاء، والثاني للزّجّاج؛ فبسم في موضع نصب على التأويلين. وقيل: المعنى ابتدائي بسم الله؛ فبسم في موضع رفع خبر الابتداء. وقيل: الخبر محذوف؛ أي: ابتدائي مستقر، أو ثابت بسم الله، وإذا قلت: بسم الله يكتب بغير ألف، استغناء عنها بباء الإلصاق في الخطّ واللفظ؛ لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، فإنّها لم تحذف؛ لقلّة الاستعمال. وعبارة البيضاوي هنا: والاسم عند أصحابنا البصريين، من الأسماء التي حذفت أعجازها؛ لكثرة استعمالها، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل؛ لأنّ من دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن، ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمي، ومجيء سمى، كهدى لغة فيه، قال: والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا

والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو عند البصريين؛ لأنّه رفعة للمسمّى وشعار له، ومن السمة عند الكوفيين، وأصله: وسم حذفت الواو، وعوضت عنها همزة الوصل؛ ليقلّ إعلاله، وردّ: بأنّ الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته: سم، وسم، قال: بسم الّذي في كلّ سورة سمه والاسم إن أريد به اللفظ؛ فغير المسمّى؛ لأنّه يتألّف من أصوات مقطّعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى، والمسمّى لا يكون كذلك. وإن أريد به ذات الشيء؛ فهو عين المسمّى، لكنّه لم يشتهر بهذا المعنى. وقوله تعالى: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} المراد به اللفظ؛ لأنّه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى، وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها، عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم مقحم، كما في قول الشاعر: إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما كما مرّ. وإنما قال: {بِسْمِ اللَّهِ} ولم يقل: بالله؛ لأنّ التبرّك والاستعانة بذكر اسمه، أو للفرق بين اليمين والتيمّن، ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط؛ لكثرة الاستعمال، وطوّلت الباء عوضا عنها. ولفظ {اللَّهِ} أصله: إله على وزن فعال، فحذفت الهمزة، وعوّض عنها الألف واللام؛ ولذلك قيل: يا آلله بالقطع، إلا أنّه يختص بالمعبود بالحق. والإله في أصله يطلق على كل معبود، سواء بحق، أم لا، ثم غلب على المعبود بالحق. واشتقاقه من أله الرجل إلهة، وألوهة، وألوهيّة بمعنى: عبد عبادة، ومنه تألّه، واستأله. وقيل: من أله إذا تحيّر؛ لأنّ العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان؛ أي: سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وألهه غيره: أجاره، إذا العائذ يفزع إليه، وهو يجيره حقيقة، أو بزعمه، أو من أله الفصيل، إذا أولع بأمه، إذ

العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد، أو من وله، إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله: ولاه، فقلبت الواو همزة؛ لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل: إله كإعاء، وإشاح، وإسادة في وعاء، ووشاح، ووسادة، ويرده الجمع على آلهة دون أولهاء، وقيل؛ أصله لاه من لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع؛ لأنّه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع عن كل شيء مما لا يليق به، ويشهد له قول الشاعر: كحلفة من أبي رباح ... يشهدها لاهه الكبّار فكأنه سبحانه يسمى بذلك؛ لاستتاره، واحتجابه عن إدراك الأبصار، وما أجمل قول الشريف الرضي الشاعر: تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته، لاحتجابها بأنوار العظمة وتحيروا أيضا في لفظ الجلالة، كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهر أعين المستبصرين، فاختلفوا: أسريانيّ هو أو عربي؟ أإسم، أو صفة؟ مشتق؟ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟، أو غير مشتق؟ علم، أو غير علم؟. وقيل: هو علم مرتجل غير مشتق عند الأكثرين، وإليه ذهب سيبويه في أحد قوليه، فهو علم لذاته خاصة؛ لأنه يوصف ولا يوصف به؛ ولأنه لا بد من اسم تجري عليه صفاته، ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه؛ ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول: لا إله إلّا الله توحيدا، مثل: «لا إله إلا الرحمن»، فإنه لا يمنع الشركة. والأظهر: أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره، وصار له كالعلم، مثل: الثريا والصعق، أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به، وعدم تطرّق احتمال إليه؛ لأنّ ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي، أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص، لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ} معنى صحيحا؛ ولأنّ معنى الاشتقاق: هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول

المذكورة. وقيل: أصله: لاها بالسريانية، فعرّب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله، أو انضم، وقيل: مطلقا. وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين. وقد جاء لضرورة الشعر: ألا لا بارك لاه في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال {الرَّحْمنِ}: صيغة فعلان في اللغة، تدل على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة، كعطشان، وغرثان. {الرَّحِيمِ}: صيغة فعيل، تدلّ على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة؛ ولهذا لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر. والرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأنّ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبا، كما في قطّع، وقطع، وكبّار، وكبار، وخرج بقولنا غالبا نحو: حذر، وحاذر، وتلك المبالغة تارة تؤخذ باعتبار الكميّة، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنّه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة؛ لأنّه يخص المؤمن. وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة؛ لأن النعم الأخروية كلّها جسام، وأما النعم الدنيوية؛ فجليلة وحقيرة. وإنما قدم الرحمن، والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا؛ ولأنّه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى؛ لأنّ معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره تعالى، فإن من عداه فهو مستفيض بلطفه، وإنعامه، يريد به جزيل ثواب، أو جميل ثناء، أو يزيح رقة الجنسية، أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك؛ لأنّ ذات النعم، ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتقام بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد. أو لأنّ الرحمن لما دل على جلائل النعم، وأصولها، ذكر الرحيم؛ ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له، أو للمحافظة على رؤوس الآي. وأمّا وصف أهل اليمامة مسيلمة الكذاب به مضافا، فقالوا: رحمن اليمامة، فمن تعنّتهم، قال شاعرهم يمدح مسيلمة الكذاب:

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا وقد هجاه بعض المؤمنين فقال: سموت بالخبث يا ابن الأخبثين أبا ... وأنت شرّ الورى لا زلت شيطانا والبحث السادس في بلاغتها: فمن بلاغتها: مجاز بالحذف في متعلّق {{بِسْمِ اللَّهِ}}، والأولى تقديره: فعلا خاصّا مؤخرا على مذهب الكوفيين؛ لأنّ الأصل في العمل أن يكون للأفعال، ولوقوعه في القرآن، والحديث، كقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وكقوله صلّى الله عليه وسلّم: «باسم ربّي وضعت جنبي»، والتمسّك بالأصل أولى؛ ولأنه يفيد التجدد الاستمراري، وتقديره: اسما خاصا مؤخرا على مذهب البصريين، لأنّه يفيد الديموميّة والثبوت، كأنّما الابتداء باسم الله، حتم دائم في كل ما تمارسه من عمل، وتردّده من قول. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا «الباكورة الجنية في إعراب الآجرومية». ومنها: الإيجاز بإضافة العام إلى الخاصّ في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ}، ويسمى إيجاز قصر. ومنها: الاستعارة المكنية التبعية، إذا جعلنا الباء للاستعانة؛ لتشبيهها بارتباط يحصل بين المستعين، والمستعان به، وإذا جعلنا الباء للإلصاق يكون في الكلام مجاز مرسل، علاقته المحليّة، نحو: مررت بزيد؛ أي: ألصقت مروري بمكان يقرب إلى زيد، لا بزيد نفسه. والبحث السابع في إعرابها: {بِسْمِ اللَّهِ} الباء: حرف جرّ واستعانة، أو تبرّك، (اسم): مجرور بالباء، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره. (اسم): مضاف، ولفظ الجلالة {اللَّهِ}: مضاف إليه، مجرور على التعظيم، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره. {الرَّحْمنِ}: صفة أولى للجلالة، مجرور بكسرة ظاهرة في آخره. {الرَّحِيمِ}:

صفة ثانية له، والجار والمجرور متعلّق بواجب الحذف؛ لشبهه بالمثل. قدّره البصريّون اسما خاصّا مؤخّرا، تقديره هنا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قراءتكم كتابي، أي: حاصلة ببسم الله ... الخ. وقدّره الكوفيون فعلا خاصّا مؤخرا، تقديره: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} اقرؤوا كتابي وقد بسطنا الكلام في إعراب البسملة، وما يتعلّق به من العلل، والتقسيمات في كتابنا المذكور، فراجعه إن شئت الخوض فيه. البحث الثامن في فوائد تتعلّق بالبسملة: الأولى: يقال لمن قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} مبسمل، وهو ضرب من النحت اللغوي. وهو لغة: مطلق الاختصار. واصطلاحا: أن يختصر حرف، أو حرفان، أو أكثر من كلمة، أو كلمتين، أو أكثر، ك: ح، من التحويل، و: اه، من انتهى، وإلخ: من إلى آخره. وبسمل: من البسملة وغير ذلك مما سيأتي، وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة، حيث قال: لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل قال الماورديّ: ويقال لمن قال: {بِسْمِ اللَّهِ} مبسمل، وهي لغة: مولّدة (¬1). قلت: المشهور عن أهل اللغة: بسمل، قال يعقوب بن السكيت، والمطرّزي، والثعالبيّ، وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل إذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ}. ويقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي: من قول بسم الله، ومثله: حوقل الرجل إذا قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله، وهلّل إذا قال: لا إله إلا الله، وسبحل إذا قال: سبحان الله، وحمدل إذا قال: الحمد لله، وحيصل إذا قال: حيّ على الصلاة، وجعفل إذا قال: جعلت فداك، وطبقل إذا قال: أطال الله ¬

_ (¬1) القرطبي.

بقاءك، ودمعز إذا قال: أدام الله عزك، وحيفل إذا قال: حيّ على الفلاح، ولم يذكر المطرّزيّ الحيصلة إذا قال: حيّ على الصلاة. وهذا كله من النحت المولد، والنحت عند العرب خاصّ بالنسبة، أي: إنّهم يأخذون اسمين، فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه، كقولهم: حضرميّ، وعبقسيّ، وعبشسيّ: نسبة إلى حضرموت، وعبد القيس، وعبد شمس، على أنّ الفراء ذكر عن بعض العرب معنى: عشرة فأحدهنّ لي: صيّرهن لي أحد عشر. وقال الفرّاء: معنى اللهم: يا الله أمّنا بخير؛ أي: اقصدنا بخير، فكثرت في كلام العرب. ونحت العرب من اسمين، فقيل عن الصّلدم: إنه من الصّلد والصّدم، ومنه: بلحارث لبني الحارث، ولعلّ الحقلد: وهو السّيّء الخلق، والثقيل الروح منحوت من الحقد، والثقل. ونحتوا من اسم وحرف، فقالوا: من لا شيء: تلاشي، ونحتوا من حرفين، فقال الخليل: إنّ كلمة (لن) منحوتة من (لا) و (أن)، وإنها تضمنت بعد تركيبها، معنى لم يكن في أصليها مجتمعين. وإنما أوردنا هذه الأقوال؛ لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف، كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها؛ لتتوافر همّ المشتغلين باللغة على النحت، ففيه ثروة جديدة للغتنا، وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها. والثانية: كانت (¬1) قريش قبل البعثة تكتب في أوّل كتابها باسمك اللهمّ، وكان أميّة بن أبي الصلت، أوّل من كتب باسمك اللهمّ، إلى أن جاء الإسلام، ونزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وروى محمد بن سعد في طبقاته: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كان يكتب كما تكتب قريش باسمك اللهمّ، حتى نزل قوله تعالى: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} فكتب باسم الله، حتى نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ}، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ، حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، فكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. ¬

_ (¬1) الدرويش.

والثالثة: افتتح (¬1) الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بالبسملة؛ إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد في الحديث: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر»؛ أي: مقطوع الذّنب ناقص. وقد كان العرب قبل الإسلام، يبدؤون أعمالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزّى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا؛ مرضاة لملك، أو أمير يقول: أعمله باسم فلان، إنّ ذلك العمل لا وجود له، لولا ذلك الملك، أو الأمير. وإذا: فمعنى ابتدىء عملي باسم الله الرحمن الرحيم: أنني أعمله بأمر الله، ولله، لا لحظّ نفسي وشهواتها، ويمكن أن يكون المراد: أنّ القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله، ولولا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمدّ القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله. وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم: أنّ جميع ما في القرآن من الأحكام، والشرائع، والأخلاق، والآداب، والمواعظ هو لله، ومن الله، ليس لأحد غيره فيه شيء. وكأنّه قال: اقرأ يا محمد! هذه السورة ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؛ أي: اقرأها على أنّها من الله لا منك، فإنّه أنزلها عليك؛ لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، يقصد من تلاوتها على أمّته؛ أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه؛ أي: أنّها من الله لا منه، فإنّما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى، كما جاء في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}. والرابعة: ندب (¬2) الشرع إلى ذكر البسملة في أوّل كلّ فعل، كالأكل، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) القرطبي.

والشرب، والنحر، والجماع، والطهارة، وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال. قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وقال: {ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها}. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أغلق بابك، واذكر اسم الله، واطفىء مصباحك، واذكر اسم الله، وخمّر إناءك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله»، وقال: «لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنّه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضرّه شيطان أبدا». وقال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، وقال: «إنّ الشيطان ليستحلّ الطعام إلّا أن يذكر اسم الله عليه»، وقال: «من لم يذبح باسم الله». وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر»، هذا كلّه ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجه، والترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستر ما بين ما أعين الجنّ وعورات بني آدم إذا دخل أحد الكنيف أن يقول: بسم الله». وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا مسّ طهوره سمّى الله تعالى ثمّ يفرغ الماء على يديه». الخامسة: روي عن عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه (¬1) -: أنه قال: في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} شفاء من كلّ داء، وعون على كلّ دواء، وأمّا الرحمن: فهو عون لكلّ من آمن به، وهو اسم لم يسمّ به غيره تعالى، وأمّا الرحيم: فهو لمن تاب، وآمن، وعمل صالحا. وقد فسّره بعضهم على الحروف. فروي عن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه -: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؟ فقال: ¬

_ (¬1) قرطبي.

أمّا الباء: فبلاء الله، وروحه، ونصره، وبهاؤه، وأمّا السين: فسناء الله، وأما الميم: فملك الله، وأمّا الله: فلا إله غيره. وأما الرحمن: فالعاطف على البرّ والفاجر من خلقه. وأمّا الرحيم: فالرفيق بالمؤمنين خاصّة. وروي عن كعب الأحبار: أنّه قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، فلا شيء أعلى منه، والميم: ملكه، وهو على كلّ شيء قدير، فلا شيء يعازّه. وقد قيل: إنّ كلّ حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء: مفتاح اسمه بصير، والسين: مفتاح اسمه سميع، والميم: مفتاح اسمه مليك، والألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والهاء: مفتاح اسمه هادي، والراء: مفتاح اسمه رازق، والحاء: مفتاح اسمه حليم، والنون: مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كلّه: دعاء الله تعالى عند افتتاح كلّ شيء. إلى هنا انتهى ما يتعلّق بالاستعاذة، والبسملة في تاريخ: 28/ 2/ 1417 هـ. والآن نريد الشروع في تفسير (الفاتحة) بعون الله سبحانه، وتوفيقه، إن شاء الله تعالى، وصلّى الله وسلّم، على سيدّنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين. آمين. والله أعلم * * *

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة [نزولها] سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدّثّر، وهو قول أكثر العلماء، وقيل: نزلت بالمدينة، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت مرّتين: مرّة بمكة، ومرّة بالمدينة. وسبب تكرار نزولها؛ الدلالة على شرفها وفضلها. وقيل: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره، والقول (¬1) الأول أصحّ؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، وهذه الآية في سورة الحجر و (الحجر) مكية بالإجماع، ولا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} يدلّ على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب». وهي سبع آيات، وسبع وعشرون كلمة، ومائة وأربعون حرفا. وقال القرطبي: أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب سبع آيات، إلّا ما روي عن حسين الجعفي: أنّها ستّ آيات، وهذا شاذّ، وإلّا ما روى عن عمرو بن عبيد: أنّه جعل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} آية، وهي على هذا ثمان آيات، وهذا شاذ أيضا، ويردّ هذين القولين قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكيه عن ربّه: «قسمت الصلاة». وأجمعت الأمة أيضا على أنّها من القرآن، فإن قيل: لو كانت من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، ولمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده. فالجواب: ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب بسنده، عن إبراهيم قال: قيل لعبد الله بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني: ¬

_ (¬1) القرطبي.

أنّ كلّ ركعة سبيلها أن تفتح بأمّ القرآن قبل السورة المتلوّة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لها، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كلّ سورة، إذ كانت تتقدّمها في الصلاة. أسماؤها: ولها نحو عشرين اسما: الأول: فاتحة الكتاب؛ لأنّها مفتتحه، ومبدؤه، فكأنّها أصله ومنشؤه؛ ولذلك تسمّى أساس القرآن؛ أو لأنّها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله، والتعبّد بأمره، ونهيه، وبيان وعده، ووعيده. والثاني: سورة الكنز؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش. والثالث: الوافية. والرابع: الكافية؛ لأنّها وافية كافية في صحة الصلاة عن غيرها، عند القدرة عليها، وقيل: سمّيت وافية؛ لأنها لا تقبل التنصيف؛ لأنّه لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ، ولو نصفت (الفاتحة) في ركعتين لم يجزىء. والخامس: الشافية. والسادس: سورة الشفاء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هي شفاء من كلّ داء». والسابع: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنّى في كلّ ركعة وتكرّر. والثامن: أمّ القرآن. والتاسع: سورة النور. والعاشر: سورة الرّقية. والحادي عشر: سورة الحمد والشكر. والثاني عشر: سورة الدعاء.

والثالث عشر: سورة تعليم المسألة؛ لاشتمالها على ذلك. والرابع عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها عليه. والخامس عشر: سورة المناجاة. والسادس عشر: سورة التفويض. والسابع عشر: أمّ القرآن. والثامن عشر: أمّ الكتاب. والتاسع عشر: سورة السؤال. والعشرون: سورة الصلاة؛ لخبر: «قسمت الصلاة - أي: الفاتحة - بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، يقول الله: حمدني عبدي» الحديث، وكثرة الأسماء يدلّ على فضلها وشرفها. والسورة: طائفة من القرآن، مترجمة باسم مخصوص تتضمّن ثلاث آيات فأكثر، وفاتحة الشيء: أوّله، وهي مصدر بمعنى المفعول، أو صفة جعلت اسما للسورة، والتاء: للنقل كالذبيحة، وإضافة السورة إلى (الفاتحة)، أو إلى غيرها من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، وعلم النحو وهي؛ أي: إضافة (الفاتحة) إلى الكتاب لاميّة؛ لأنّ المضاف إليه ليس ظرفا للمضاف ولا جنسا له، وهو؛ أي: القرآن يطلق على مجموع ما في المصحف، وعلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه. والله أعلم * * *

فصل في ذكر فضائلها فقد دلّ على فضلها أحاديث كثيرة. فمنها: ما أخرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم أجبه ثمّ أتيته فقلت: يا رسول الله! إنّي كنت أصلّي، فقال: «ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ}؟ ثمّ قال لي: لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثمّ أخذ بيدي»، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: يا رسول الله! ألم تقل: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني}، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه مالك في الموطأ عنه، وقال فيه: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، نادى أبيّ بن كعب، وهو يصلّي، وذكر نحوه. ومنها: ما روي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: «ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل»، أخرجه الترمذي، والنسائي. ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني»، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ومنها: ما روي عن ابن عباس قال: «بينا جبريل قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء، فتح اليوم ولم يفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة» لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته، أخرجه مسلم. قوله: (سمع نقيضا) بالقاف والضاد المعجمة؛ أي: صوتا كصوت فتح الباب. ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام». قال:

فقلت: يا أبا هريرة! إنّا أحيانا نكون وراء الإمام، فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسيّ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى»: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) الحديث، أخرجه مسلم. وقال ابن عبد البرّ: (¬1) الصحيح من القول: إلغاء تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، ويأتي بركعة بدلا منها، كمن أسقط سجدة سهوا، وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري: وأكثر أهل البصرة. والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأمّ القرآن مرّة واحدة في الصلاة أجزأه، ولم يكن عليه إعادة؛ لأنّها صلاة قد قرأ فيها بأمّ القرآن، وهي تامّة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن»، وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كلّ ركعة، وهو الصحيح، ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف. وقال أبو حنيفة والثوريّ، والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلّها، وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات. وجه تسميتها: سمّيت بفاتحة الكتاب: إمّا لافتتاح المصاحف، والتعليم، وقراءة القرآن، والصلاة بها؛ وإمّا لأنّ الحمد فاتحة كلّ كلام؛ وإمّا لأنها أوّل سورة نزلت؛ وإمّا لأنّها أوّل ما كتبت في اللوح المحفوظ؛ وإمّا لأنّها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا وأبواب الجنان في العقبى، وقيل: غير ذلك. وهذه السورة الكريمة كلّها محكم، لا ناسخ فيها ولا منسوخ. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) القرطبي.

[1]

قال الله سبحانه وتعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - استدراكٌ في بحث البسملة: والباء (¬1) في {بِسْمِ اللَّهِ}: حرف خافض يخفض ما بعده، مثل: من وعن، والمتعلق به مضمر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: أبدأ باسم الله أو باسم الله أبدأ أو أقرأ. وإنما طوّلت الباء في {بِسْمِ اللَّهِ}، وأسقطت الألف؛ طلبا للخفة، وقيل: لمّا أسقطوا الألف عوضوا طولها عن الألف المحذوفة، وأثبتت الألف في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}؛ لقلّة استعماله. وقيل: إنّما طوّلوا الباء؛ لأنّهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب الله بحرف معظم. وقيل: الباء حرف منخفض الصورة، فلمّا اتصل باسم الله ارتفع واستعلى، وقيل: إنّ عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتّابه: طوّلوا الباء من {بِسْمِ اللَّهِ} وأظهروا السين، ودوّروا الميم؛ تعظيما لكتاب الله تعالى. والاسم: هو المسمى عينه، وذاته، قال الله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى}، ثمّ نادى الاسم فقال: {يا يَحْيى}، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ}، و {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ}، وهذا القول ليس بقوي. والصحيح المختار: أنّ الاسم غير المسمى، وغير التسمية، فالاسم: ما تعرف به ذات الشيء، وذلك؛ لأنّ الاسم هو الأصوات المقطّعة، والحروف المؤلّفة على ذات ذلك الشيء، فثبت بهذا أنّ الاسم غير المسمى، وأيضا: قد تكون الأسماء كثيرة، والمسمّى واحد، كقوله ¬

_ (¬1) الخازن.

تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}، وقد يكون الاسم واحدا، والمسمّيات به كثيرة، كالأسماء المشتركة، وذلك يوجب المغايرة، وأيضا فقوله: {فَادْعُوهُ بِها} أمر أن يدعى الله تعالى بأسمائه، فالاسم آلة الدعاء، والمدعو هو الله تعالى، فالمغايرة حاصلة بين ذات المدعو، وبين اللفظ المدعو به. وأجيب عن قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى} بأنّ المراد: ذات الشخص المعبّر عنه بيحيى، لا نفس الاسم. وأجيب عن قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} و {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ}: بأنّ معنى هذه الألفاظ: يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقيل: كما يجب تنزيه ذاته تعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه. وكون الاسم غير التسمية، هو أنّ التسمية: عبارة عن تعيين اللفظ المعيّن؛ لتعريف ذات الشيء، والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة، والفرق ظاهر مما ذكرنا. واختلفوا في اشتقاق الاسم كما مرّ، فقال البصريون: من السموّ، وهو العلوّ، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له. وقال الكوفيون: من السمة، وهي العلامة، فكأنّه علامة لمسمّاه. وحجة البصريين: لو كان الاسم اشتقاقه من السمة؛ لكان تصغيره وسيما، وجمعه أو ساما، وأجمعوا على أنّ تصغيره سميّ، وجمعه أسماء، وآسام. {اللَّهِ}: هو اسم (¬1) خاص لله تعالى، تفرّد به البارىء سبحانه وتعالى، ليس بمشتقّ، ولا يشركه فيه أحد، وهو الصحيح المختار. دليله قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}. وقيل: هو مشتق من أله يأله إلاهة من باب فتح، مثل: عبد الرجل يعبد عبادة. دليله قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}؛ أي: وعبادتك على قراءة قرّاء كسر الهمزة. ومعناه: المستحق للعبادة دون غيره. وقيل: من الوله، وهو الفزع؛ لأن الخلق يولهون إليه؛ أي: يفزعون إليه في حوائجهم. قال بعضهم: ولهت إليكم في بلايا تنوبني ... فألفيتكم فيها كرائم محتد ¬

_ (¬1) الخازن.

[2]

وقيل: أصله أله، يقال: ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فكأنّ الخلق يسكنون إليه ويطمئنّون بذكره. وقيل: أصله ولاه، فأبدلت الواو همزة، سمّي بذلك؛ لأنّ كلّ مخلوق واله نحوه: إمّا بالتحيّر، أو بالإرادة، ومن هذا قيل: الله محبوب كلّ الأشياء، يدلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. ومن خصائص هذا الاسم: أنّك إذا حذفت منه شيئا، بقي الباقي يدّل عليه، فإن حذفت الألف بقي لله، وإن حذفت اللام، وأثبتّ الألف بقي إله، وإن حذفتهما بقي له، وإن حذفت الألف واللامين معا، بقي هو، والواو عوض عن الضمّة. وذهب بعضهم إلى أنّ هذا الاسم هو الاسم الأعظم؛ لأنّه يدّل على الذات، وباقي الأسماء تدلّ على الصفات. {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرقّ من الآخر. وقيل: هما بمعنى؛ مثل: ندمان ونديم، ومعناهما: ذو الرحمة، وإنما جمع بينهما؛ للتأكيد. وقيل: ذكر أحدهما بعد الآخر؛ تطميعا لقلوب الراغبين إليه. وقيل: الرحمن فيه معنى العموم، والرحيم فيه معنى الخصوص. فالرحمن: بمعنى الرزاق في الدنيا، وهو على العموم لكافة الخلق المؤمن والكافر، والرحيم: بمعنى الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة، فهو على الخصوص؛ ولذلك قيل: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، ورحمة الله؛ إرادة الخير والإحسان لأهله. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقاب، وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحق، فهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل. وقيل: الرحمن بكشف الكروب، والرحيم بغفر الذنوب. وقيل: الرحمن بتبيين الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق أسمائه. اه. من الخازن. 2 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: جنس الحمد، والثناء الحسن مستحقّ لله سبحانه وتعالى وحده، فلا يستحق لغيره؛ لأنّه الفاعل المختار. والأولى (¬1) من ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير.

الاحتمالات التسعة، الجارية في جملة الحمدلة؛ أن تكون (أل) جنسية، واللام للاستحقاق كما في حلّنا؛ لأنّه يلزم من استحقاق الجنس استحقاق الإفراد؛ أي: جنس الحمد مستحقّ لله سبحانه؛ وذلك لأنّ (أل) في {الْحَمْدُ}: إمّا جنسيّة؛ أي: جنس الحمد، أو استغراقية؛ أي: كلّ الحمد بأنواعه، أو للعهد؛ أي: الحمد المعهود، وهو حمد الله لنفسه، وحمد عباده له، واللام في {لِلَّهِ}: إما للاستحقاق، أو للملك، أو للاختصاص، فهذه ثلاثة في الثلاثة الأولى بتسعة. وقال النسفي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لفظه خبر، كأنّه سبحانه يخبر (¬1)، أنّ المستحقّ للحمد هو الله تعالى، ومعناه الأمر؛ أي: قولوا: الحمد لله، وفيه تعليم الخلق كيف يحمدونه. و {الْحَمْدُ} لغة (¬2): هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا. وعرفا: فعل يدلّ على تعظيم المنعم بسبب كونه منعما، سواء كان قولا باللسان؛ بأن يثني عليه به، أو اعتقادا بالجنان، بأن يعتقد اتصافه بصفات الكمال، أو عملا وخدمة بالأعضاء، والأركان؛ بأن يجهد نفسه في طاعته، فمورد العرفي؛ أي: محلّه عامّ، ومتعلّقه؛ أي: سببه الباعث عليه، وهو النعمة خاصّ، والشكر: مقابلة النعمة قولا، وعملا، واعتقادا، قال بعضهم: وما كان شكري وافيا بنوالكم ... ولكنني حاولت في الجهد مذهبا أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا يعني: أنّ الشكر هو الاعتراف بالفضل، إزاء نعمة صدرت من المشكور، بالقلب، أو باللسان، أو باليد، أو غيرها من الأعضاء، كما في البيت: يريد الشاعر أنّ يدي، ولساني، وقلبي لكم فليس في القلب إلّا نصحكم ومحبتكم، ولا في اللسان، إلّا الثناء عليكم ومدحكم، ولا في اليد، وسائر الجوارح، والأعضاء؛ إلّا مكافأتكم وخدمتكم. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوي.

والمدح: هو الثناء على الجميل مطلقا. تقول: حمدت زيدا على علمه، وكرمه، ولا تقول: حمدته على حسنه، بل مدحته. وقيل: هما أخوان. والشكر أعمّ منهما من وجه، وأخصّ من آخر. وقيل: الحمد باللسان قولا، والشكر بالأركان فعلا، والذمّ نقيض الحمد، والكفران نقيض الشكر، والثناء يستعمل في المدح، والذّم على السواء، فيقال: أثنى لله عليه شرّا كما يقال: أثنى عليه خيرا. ورفعه بالابتداء، وخبره {لِلَّهِ}، وأصله النصب، وقد قرىء به؛ لأنّه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة أقيمت مقامها، لا تكاد تستعمل معها، كسقيا لك، ورعيا لك. وإنّما عدل عنه إلى الرفع؛ ليدلّ على عموم الحمد، وثباته دون تجدده، وحدوثه، ولهذا أجمع (¬1) عليها القرّاء السبعة. وقراءة النصب تحتاج إلى عامل مقدر من مادة الحمد، واللام عليها؛ للتبيين، تقديره: أحمد لله، أو حمدت لله، فيتخصّص الحمد؛ بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد والحدوث، واللام متعلّقة بالعامل المحذوف: ك: لام سقيا لك، وقدر بعضهم عاملا للنصب فعلا غير مشتق من الحمد؛ أي: أقول الحمد لله، أو إلزموا الحمد لله، كما حذفوا من نحو: اللهم وضبعا وذئبا، والأول هو الصحيح؛ لدلالة اللفظ عليه، وقرىء {الْحَمْدُ لِلَّهِ} (¬2) باتباع الدال اللام، وبالعكس تنزيلا لهما، من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة. قال الشيخ داود القيصري (¬3): الحمد قوليّ، وفعليّ، وحاليّ، أمّا القولي: فحمد اللسان، وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه، على لسان أنبيائه عليهم السلام، وأمّا الفعليّ: فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات، والخيرات؛ ابتغاء لوجه الله تعالى، وتوجها إلى جنابه الكريم؛ لأنّ الحمد كما يجب على الإنسان باللسان، كذلك يجب عليه بحسب كلّ عضو، بل على كلّ عضو، كالشكر، وعند كلّ حال من الأحوال، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله على كلّ حال»، وذلك لا يمكن، إلّا باستعمال كلّ عضو فيما خلق لأجله، على الوجه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) روح البيان.

المشروع؛ عبادة للحق تعالى وانقيادا لأمره، لا طلبا لحظوظ النفس، ومرضاتها. وأما الحاليّ: فهو الذي يكون بحسب الروح، والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية، والعملية، والتخلّق بالأخلاق الإلهية؛ لأنّ الناس مأمورون بالتخلّق بأخلاق الله تعالى، بلسان الأنبياء عليهم السلام؛ لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم. وورد في الأثر (¬1): (الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده). وقد جعله رأس الشكر؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان، والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس، ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به، أمّا الشكر بالقلب: فهو خفيّ قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح مبهم لا يستبين لكثير من الناس. {لِلَّهِ} الله (¬2): علم على المعبود بحقّ، المستجمع لجميع صفات الكمال، عربي، مرتجل، جامد، أي: غير مشتقّ، وهو الصحيح. وعند الزمخشري: أنّه اسم جنس صار علما بالغلبة من أله بمعنى: تحيّر. والإله: هو المعبود سواء بحقّ، أم بباطل، ثمّ غلب في عرف الشرع على المعبود بحقّ، وهو الذات الواجب الوجود. اه. كرخي. وقد ورد في فضل {الْحَمْدُ} أحاديث (¬3): منها: ما أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه، والبخاري في «الأدب المفرد» عن الأسود بن سريع قال: قلت: يا رسول الله! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربّي تبارك وتعالى؟ فقال: «أما إنّ ربّك يحبّ الحمد». وأخرج الترمذي وحسّنه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله». وأخرج ابن ماجه، والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني.

أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلّا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ». وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، والقرطبي في «تفسيره» عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ الدنيا كلّها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثمّ قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك»، قال القرطبي: معناه: لكان إلهامه الحمد، أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا؛ لأنّ ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى. وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد ينعم عليه بنعمة، إلّا كان الحمد أفضل منها». وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» نحوه عن الحسن مرفوعا. وأخرج مسلم، والنسائي، وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» الحديث. وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي وحسّنه، وابن مردويه، عن رجل من بني سليم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر». وغير ذلك من الأحاديث الواردة. وفي «القرطبي» (¬1): اختلف العلماء: أيّما أفضل؟ قول العبد: الحمد لله ربّ العالمين أو قوله: لا إله إلّا الله؟ فقالت طائفة: قول الحمد لله ربّ العالمين أفضل؛ لأنّ في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلّا الله، ففي قوله: الحمد لله توحيد، وحمد، وفي قوله: لا إله إلّا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلّا الله أفضل؛ لأنّها تدفع الكفر، والإشراك، وعليها يقاتل الخلق. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله». واختار هذا القول ابن عطيّة. قال: ويدّل على ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل ما قلت أنا، والنبيون من قبلي: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له». متفق عليه. ¬

_ (¬1) الجمل.

ولمّا ذكر سبحانه، استحقاقه الذاتي بجميع المحامد بمقابلة الحمد باسم الذات، أردفه بأسماء الصفات، فقال: {رَبِّ الْعالَمِينَ} جمعا بين الاستحقاقين، وهو؛ أي: رب العالمين، كالبرهان على استحقاقه جميع المحامد الذاتي، والصفاتي، والدنيوي، والأخروي؛ أي: مالك جميع من في السموات، والأرض، وغيرهما من ملك، وإنس، وجنّ، وغيرهم، ومعبودهم. والربّ يأتي لعدّة معان، مجموعة (¬1) في قول بعضهم نظما من بحر الطويل: قريب محيط مالك ومدبّر ... مربّ كثير الخير والمولي للنعم وخالقنا المعبود جابر كسرنا ... ومصلحنا والصاحب الثابت القدم وجامعنا والسيّد احفظ فهذه ... معان أتت للرّب فادع لمن نظم قال البيضاوي: الربّ في الأصل: مصدر بمعنى التربية، والإصلاح، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثمّ وصف به للمبالغة، كالصوم، والعدل. وقيل: هو وصف من ربّه يربّه، فهو ربّ، كقولهم: نمّ ينمّ نمّا ونميمة، فهو نمّ. سمّي به المالك؛ لأنّه يحفظ ما يملكه، ويربّيه، ويصلحه. وقيل: هو اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله: رابّ، كما قالوا: رجل بارّ، وبرّ. وعبارة المراغي: والربّ (¬2): هو السيّد المربّي الذي يسوس من يربيه، ويدبر شؤونه، وتربية الله للناس نوعان: تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشدّ، وتنمية قواهم النفسية، والعقلية، وتربية دينية تهذيبية، تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم؛ ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم، وتصفو نفوسهم، وليس لغيره تعالى أن يشرع للناس عبادة، ولا أن يحل شيئا، ويحرّم آخر إلّا بإذن منه. ويطلق الرّب: على الناس، فيقال: ربّ الدار، وربّ هذه الأنعام، كما قال ¬

_ (¬1) البيجوري على السلم. (¬2) المراغي.

تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام في مولاه عزيز مصر: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوا} يَ وقوله: {ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ} وكقول عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي: أمّا الإبل: فأنا ربّها، وأما البيت: فإنّ له ربّا يحميه. وعبارة «الروح»: والرّب: (¬1) بمعنى التربية، والإصلاح، أمّا في حقّ العالمين: فيربّيهم بأغذيتهم، وسائر أسباب بقاء وجودهم، وأمّا في حقّ الإنسان: فيربّيه تارة بأطواره، وفيض قوى أنواره في أعضائه. فسبحان من أسمع بعظم، وبصّر بشحم، وأنطق بلحم، وأخرى بترتيب غذائه في النبات بحبوبه، وثماره، وفي الحيوان بلحومه، وشحومه، وفي الأراضي بأشجاره، وأنهاره، وفي الأفلاك بكواكبه، وأنواره، وفي الزمان بسكونك، وتسكين الحشرات، والحركات المؤذية في الليالي، وحفظك، وتمكينك من ابتغاء فضله في النهار. فيا هذا! يربّيك كأنّه ليس له عبد سواك، وأنت لا تخدمه، أو تخدمه كأنّ لك ربّا غيره. انتهى. وقرأ زيد بن عليّ، وطائفة (¬2): {رَبِّ الْعالَمِينَ} بالنصب على المدح، وهي فصيحة، لولا خفض الصفات بعدها، وضعّفت إذ ذاك، على أنّ الأهوازي حكى في قراءة زيد بن عليّ أنّه قرأ: {رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} بنصب الثلاثة، فلا ضعف إذ ذاك، وإنّما ضعّفت قراءة نصب رب، وخفض الصفات بعدها؛ لأنّهم نصّوا على أنّه لا إتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا، ولا سيّما على مذهب الأعلم، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحسّن ذلك على مذهب غيره، كونه وصفا خاصّا، وكون البدل على نيّة تكرار العامل، فكأنّه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب. وقول من زعم: أنّه نصب رب بفعل دلّ عليه الكلام قبله، كأنّه قيل: نحمد الله ربّ العالمين. ضعيف؛ لأنّه مراعاة التوهّم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه. دقيقة: (¬3) في لفظ ربّ خصوصيّة لا توجد في غيره من أسمائه تعالى، وهي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) هداية الطالب.

أنك إذا قرأته طردا كان من أسمائه تعالى، وإن قلبته كان من أسمائه تعالى. انتهت. وقوله: {الْعالَمِينَ}: اسم جمع لعالم بفتح اللام، لا جمع له؛ لعدم العلمية، أو الوصفية فيه، وقيل: جمع له شاذ. قال في «الكشاف»: ساغ ذلك لوجود معنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وفي البيضاوي: والعالم: اسم لما يعلم به، كالخاتم، والقالب، من العلامة؛ لأنّه علامة على صانعه. وهو كلّ (¬1) ما سوى الله تعالى من الجواهر، والأعراض، فإنّها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدلّ على وجوده؛ لأنّها محدثة، وكلّ محدث له صانع، فالعالم له صانع. وإنّما جمعه؛ ليشمل جميع ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلّب العقلاء منهم، فجمعه بالياء والنون، كسائر أوصافهم. اه. فإن قلت (¬2): لم جمع العالمين جمع قلّة، مع أنّ المقام مستدع للإتيان بجمع الكثرة، كالعوالم؟ قلت: تنبيها على أنهم، وإن كثروا فهم قليلون في جانب عظمته تعالى، وكبريائه. فإن قلت: الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة، وهي هنا مختلفة. قلنا: بل هي متفقة من حيث إنّ كلّا منها علامة يعلم بها الخالق، والاختلاف إنما عرض بواسطة أسمائها. اه. كرخي. وقيل (¬3): اسم وضع لذوي العلم من الملائكة، والثقلين، وتناوله لغيره على سبيل الاستتباع. وقيل: عنى به الناس ههنا، فإنّ كلّ واحد منهم عالم من حيث، إنّه يشمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض، يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالم، ولذلك سوّى بين النظر فيهما، حيث قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}. وقد جرت (¬4) عادتهم، على أن لا يطلقوا هذا اللفظ، إلّا على كلّ جماعة ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الفتوحات. (¬3) البيضاوي. (¬4) المراغي.

متمايزة لأفرادها صفات تقرّبها من العقلاء، إن لم تكن منهم، فيقولون: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات، ولا يقولون: عالم الحجر، ولا عالم التراب. ذلك أنّ هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ ربّ، إذ يظهر فيها الحياة، والتغذية، والتوالد. وخلاصة معنى الآية: أنّ كلّ ثناء فهو لله تعالى، إذ هو مصدر جميع الكائنات، وهو الذي يسوس العالمين، ويربّيهم من مبدئهم إلى نهايتهم، ويلهمهم ما فيه خيرهم، وصلاحهم، فلله الحمد على ما أسدى، والشكر له على ما أولى. وفي «الخازن»: واختلف في مبلغ عددهم، فقيل: لله ألف عالم، ستمائة عالم في البحر، وأربعمائة في البرّ. وقيل: ثمانون ألف عالم، أربعون ألفا في البرّ، ومثلهم في البحر. وقيل: ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلّا كفسطاط في صحراء، قاله: وهب بن منبه. الفسطاط: الخيمة. اه. وفي «الروح»: وقال الضحاك: لله ثلاثمائة وستّون عالما، ثلاثمائة منهم: عراة حفاة لا يعرفون خالقهم، وهم حشو جهنم. وستّون عالما: يلبسون الثياب، مرّ بهم ذو القرنين، وكلّمهم. وقال كعب الأحبار: لا يحصى؛ لقوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ الله تعالى خلق الخلق أربعة أصناف: الملائكة، والشياطين، والجنّ، والإنس، ثمّ جعل هؤلاء عشرة أجزاء، تسعة منهم الملائكة، وواحد الثلاثة الباقية، ثمّ جعل هذه الثلاثة، عشرة أجزاء، تسعة منهم الشياطين، وجزء واحد الجنّ والإنس، ثمّ جعلهما عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجنّ، وواحد الإنس، ثمّ جعل الإنس مائة وخمسة وعشرين جزءا، فجعل مائة جزء في بلاد الهند، منهم ساطوح، وهم: أناس رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب، وماسوخ وهم: أناس آذانهم كآذان الفيلة، ومالوف، وهم: أناس لا يطاوعهم أرجلهم، يسمّون دوال باي، ومصير كلّهم إلى النار. وجعل اثني عشر

[3]

جزءا منهم في بلاد الروم: النسطورية، والملكانية، والإسرائيليّة، كلّ من الثلاث أربع طوائف، ومصيرهم إلى النار جميعا. وجعل ستّة أجزاء منهم في المشرق: يأجوج ومأجوج، وترك خاقان، وترك حد خلخ، وترك خزر، وترك جرجير. وجعل ستّة أجزاء في المغرب: الزنج، والزّط، والحبشة، والنوبة، وبربر، وسائر كفار العرب، ومصيرهم إلى النار. وبقي من الإنس من أهل التوحيد جزء واحد، فجزأهم ثلاثا وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون على خطر، وهم أهل البدع والضلالات، وفرقة ناجية وهم أهل السنة والجماعة، وحسابهم على الله تعالى، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. وفي الحديث: «إنّ اليهود افترقت إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّهم في النار إلّا فرقة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هم من على ما أنا عليه وأصحابي». يعني: ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد، والفعل، والقول، فهو حقّ، وطريق موصل إلى الجنة، والفوز، والفلاح، وما عداه باطل. وطريق النار: إن كانوا إباحيين فهم خلود، وإلّا فلا. انتهى. 3 - {الرَّحْمنِ}؛ أي: المنعم بما لا يتصوّر صدور تلك النعمة من العباد. {الرَّحِيمِ}؛ أي: المنعم بما يتصوّر صدور تلك النعمة من العباد، فلا يقال لغير الله: رحمن، ويقال لغيره من العباد: رحيم، وقد مرّ ذكرهما في البسملة، وهو دليل على أنّ البسملة ليست من (الفاتحة)، إذ لو كانت منها لما أعادهما؛ لخلّو الإعادة من الإفادة. اه. «نسفي». وقيل: كرّرهما (¬1) مع بقيّة الأوصاف؛ تعليلا لاستحقاقه الحمد. والمعنى عليه: وإنّما استحقّ الحمد من عباده؛ لكونه ربّا موجدا لهم، منعما عليهم بالنعم كلّها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب. وقيل: كرّرهما (¬2)؛ ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر من غيرها من الأمور، وأنّ الحاجة إليه أكثر، فنبّه سبحانه ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير. (¬2) الخازن.

وتعالى بتكرير ذكر الرحمة على كثرتها، وأنّه هو المتفضّل بها على خلقه. قال القرطبي: وصف سبحانه وتعالى نفسه بعد {رَبِّ الْعالَمِينَ} بأنه {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؛ لأنّه لمّا كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمّن من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ}، وقال: {غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ}. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد». انتهى. وفي «روح البيان»: في التكرار وجوه: أحدها: ما سبق من أنّ رحمتي البسملة ذاتيّتان، ورحمتي (الفاتحة) صفاتيتان. والثاني: ليعلم أنّ التسمية ليست من (الفاتحة). والثالث: أنّه ندب العباد إلى كثرة الذكر، فإنّ من علامة حبّ الله، حبّ ذكر الله. وفي الحديث: «من أحبّ شيئا أكثر ذكره». والرابع: أنّه ذكر ربّ العالمين، فبيّن أنّ ربّ العالمين: هو الرحمن الذي يرزقهم في الدنيا، الرحيم: الذي يغفر لهم في العقبى، ولذلك ذكر بعده {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. يعني: أنّ الربوبية إمّا بالرحمانية: وهي رزق الدنيا، وإما بالرحيمية: وهي المغفرة في العقبى. والخامس: أنّه ذكر الحمد، وبالحمد تنال الرحمة، فإنّ أول من حمد الله تعالى من البشر: آدم عليه السلام حين عطس، فقال: الحمد لله، وأجيب في الحال: يرحمك ربّك، ولذلك خلقه، فعلّم خلقه الحمد، وبين أنّهم ينالون رحمته بالحمد. والسادس: أنّ التكرار للتعليل كما مرّ؛ لأنّ ترتيب الحمد على هذه الأوصاف أمارة علّيّة مأخذها، فالرحمانية، والرحيمية من جملتها؛ لدلالتهما على

أنّه مختار في الإحسان لا موجب، وفي ذلك استيفاء أسباب استحقاق الحمد، من فيض الذات بربّ العالمين، وفيض الكمالات بالرحمن الرحيم، ولا خارج عنهما في الدنيا، وفيض الأثوبة لطفا، والأجزية عدلا في الآخرة، ومن هذا يفهم وجه ترتيب الأوصاف الثلاثة. والفرق بين الرَّحْمنِ والرَّحِيمِ: إمّا باختصاص الحق بالأوّل، أو بعمومه، أو بجلائل النعم، فعلى الأول: هو الرحمن بما لا يصدر جنسه من العباد، والرحيم: بما يتصور صدوره منهم، فذا كما روي عن ذي النون المصري - رحمة الله تعالى - قال: وقعت ولولة في قلبي، فخرجت إلى شطّ النيل، فرأيت عقربا يعدو، فتبعته، فوصل إلى ضفدع على الشطّ، فركب ظهره، وعبر به النيل، فركبت السفينة واتبعته، فنزل، وعدا إلى شابّ نائم، وإذا أفعى بقربه تقصده، فتواثبا، وتلادغا، وماتا، وسلم النائم. ويحكى: أنّ ولد الغراب إذا خرج من القشر يكون كلحم أحمر، ويفرّ الغراب منه، فيجتمع عليه البعوض، فيلتقمه إلى أن ينبت ريشه، فعند ذلك تعود الأمّ إليه، ولهذا قيل: يا رازق النّعاب في عشّه! وأمّا على أنّ الرحمن عامّ، فقيل: كيف ذلك وقلّما يخلو أحد، بل حالة له عن نوع بلوى؟ قلنا: الحوادث منها ما يظنّ أنّه رحمة ويكون نقمة، وبالعكس، قال الله تعالى: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، فالأول كما قال الشاعر: إنّ الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسده وكلّ منها في الظاهر نعمة، والثاني: كحبس الولد في المكتب، وحمله على التعلّم بالضرب، وكقطع اليد المتآكلة، فالأبله يعتبر الظواهر، والعاقل ينظر إلى السرائر، فما من بليّة ومحنة إلّا وتحتها رحمة ومنحة، وترك الخير الكثير للشر القليل شرّ كبير، فالتكاليف؛ لتطهير الأرواح عن العلائق الجسمانية، وخلق النار؛ لصرف الأشرار إلى أعمال الأبرار، وخلق الشيطان؛ لتميّز المخلصين من العباد، فشأن المحقق أن يبني على الحقائق، كالخضر عليه السلام في قصّة

[4]

موسى معه. فكلّ ما يكره الطبع فتحته أسرار خفيّة، وحكمة بالغة. وأمّا على أنّ الرحمن لجلائل النعم: فإنّما أتبعه بالرحيم؛ لدفع توهم أن يكون طلب العبد الشيء اليسير سوء أدب، كما قيل لبعضهم: جئتك لحاجة يسيرة. قال: أطلب لها رجلا يسيرا، فكأنّ الله سبحانه يقول: لو اقتصرت على الرحمن؛ لاحتشمت عنّي، ولكنّي رحيم فاطلب منّي حتى شراك نعلك، وملح قدرك. انتهى. وعبارة المراغي هنا: وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين؛ ليبيّن لعباده أن ربوبيته ربوبيّة رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه، وهم مطمئنو النفوس منشرحو الصدور، لا ربوبيّة جبروت وقهر لهم. والعقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، لمن تعدّى حدوده، وانتهك حرماته، هي قهر في الظاهر، ورحمة في الحقيقة؛ لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادّة التي شرعها لهم، إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفي تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرؤوف كيف يربّي أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع، والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السويّ، لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا؟. قال أبو تمّام: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم 4 - {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي: مالك الأمور ومدبّرها، وقاضيها يوم المجازاة للعباد على أعمالهم؛ بإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين، وهو يوم القيامة. هذا على قراءة الألف، وقرىء بلا ألف، والمعنى حينئذ؛ أي: ذي الملك، والسلطنة، والقهر في ذلك اليوم؛ لأنّه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلّا لله تعالى بدليل {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}، أمّا في الدنيا: ففيها الملك ظاهرا لكثير من الناس، فتحصّل: أنّ وصف الملكيّة ثابت له تعالى أزلا، وظهوره يكون يوم القيامة؛ لإقرار جميع الخلق به. واختلف في أيّ القراءتين أبلغ وأولى؟ فقيل: ملك بلا ألف؛ لأنّه أعمّ وأبلغ من مالك، إذ كلّ ملك مالك ولا عكس؛ ولأنّ أمر الملك نافذ على

المالك في ملكه حتى لا يتصرّف المالك إلّا عن تدبير الملك؛ ولأنّه قراءة أهل الحرمين؛ ولقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ}؛ ولما فيه من التعظيم. وقيل: المالك أبلغ لما فيه من زيادة البناء، فيكون أكثر ثوابا؛ لأنّه أكثر حروفا؛ ولأنّه أوسع بابا من ملك؛ لأنّه يقال: مالك العبد والدابة، ولا يقال: ملك هذه الأشياء. وقيل: هما بمعنى واحد، مثل: فرهين، وفارهين. وعبارة المراغي هنا: قرأ بعض القراء {مالك} بالألف، وبعض آخر {ملك} بلا ألف، والفارق بينهما: أنّ المالك: هو ذو الملك بكسر الميم، والملك: هو ذو الملك بضمّ الميم، وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}، ويعاضد الثانية قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}. قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة فالثانية يعني: ملك بلا ألف يكنفها من الجلال والروعة، وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى يعني: مالك بالألف، فهي تدلّ على أنّه سبحانه هو المتصرّف في شؤون العقلاء بالأمر والنهي والجزاء، ومن ثمّ يقال: ملك الناس، ولا يقال: ملك الدابة، وملك العبد، وملك الدار. فائدة: والفرق بين {الْمُلْكُ} بضمّ الميم، و {الْمِلْكُ} بكسرها: أنّ الملك بضمّ الميم: عبارة عن السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، والغلبة التامة، والقدرة على التصرّف الكلّي بالأمر والنهي. والملك بكسر الميم: عبارة عن السلطنة، والتصرف غير التامّين. والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه: أنّ الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله كما في الشوكاني. {يَوْمِ} واليوم في العرف: عبارة عمّا بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان. وفي الشرع: عمّا بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس، والمراد هنا: مطلق الوقت؛ لعدم الشمس والفجر ثمّ. و {الدِّينِ}: الجزاء إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وبيت الحماسة: ولم يبق سوى العدوا ... ن دنّاهم كما دانوا

أي: مالك الأمر كلّه في يوم الجزاء، وأضاف اسم الفاعل إلى الظرف؛ إجراء له مجرى المفعول به على الاتّساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. والمعنى: مالك الأمر كلّه في يوم الجزاء، فإضافة اليوم إلى الدين لأدنى ملابسة، كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث؛ كيوم الأحزاب، ويوم الفتح، وتخصيصه؛ إمّا لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرّده بإجراء الأمر فيه، وانقطاع العلائق بين الملّاك والأملاك حينئذ بالكلّية، ففي ذلك اليوم لا يكون مالك، ولا قاض، ولا مجاز غيره تعالى. وأصل الملك والملك: الربط، والشدّة، والقوّة، فلله في الحقيقة؛ القوّة الكاملة، والولاية النافذة، والحكم الجاري، والتصرّف الماضي، وهو للعباد مجاز، إذ لملكهم بداية ونهاية، وعلى البعض لا على الكلّ، وعلى الجسم لا العرض، وعلى النّفس لا النّفس، وعلى الظاهر لا الباطن، وعلى الحيّ لا الميّت، بخلاف المعبود الحقّ، إذ ليس لملكه زوال، ولا لملكه انتقال. وقال في «تفسير الإرشاد»: قرأ أهل الحرمين المحترمين {مَلْكِ} من الملك: الذي هو عبارة عن السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، والغلبة التامّة، والقدرة على التصرف الكلّي في أمور العامّة بالأمر والنهي، وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين. انتهى. ولكلّ قراءة وجوه ترّجحها كما ذكرنا سابقا. ويحكى عن أبي عبد الله، محمد بن شجاع الثّلجيّ - رحمه الله تعالى - أنّه قال: كان من عادتي قراءة {مالك}، فسمعت من بعض الأدباء أنّ {ملك} أبلغ، فتركت عادتي وقرأت {مَلِك}، فرأيت في المنام قائلا يقول: لم نقصت من حسناتك عشرا، أما سمعت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القرآن كتب له بكلّ حرف عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفعت له عشر درجات»؟. فانتبهت فلم أترك عادتي حتى رأيت ثانيا في المنام أنّه قيل لي: لم لا تترك هذه العادة، أما سمعت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا القرآن فخما مفخّما»؛ أي: عظيما معظّما. فأتيت قطربا، وكان إماما في اللغة، فسألته ما بين المالك والملك من الفرق؟ فقال: بينهما فرق كثير، أمّا المالك: فهو الذي ملك شيئا من الدنيا، وأما

الملك: فهو الذي يملك الملوك. وفي «البيضاوي»: وإجراء (¬1) هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين، ربّا لهم، منعما عليهم بالنعم كلّها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب؛ للدلالة على أنّه الحقيق بالحمد لا أحد أحقّ به منه، بل لا يستحقّه على الحقيقة سواه، فإنّ ترتّب الحكم على الوصف يشعر بعلّيّته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أنّ من لم يتّصف بتلك الصفات؛ لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد؛ ليكون دليلا على ما بعده، فالوصف الأول: لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية، والثاني والثالث: للدلالة على أنّه مفضّل بذلك، مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات، أو وجوب عليه قضيّة بسوابق الأعمال حتى يستحقّ به الحمد، والرابع: لتحقيق الاختصاص، فإنّه مما لا يقبل الشركة، ولتضمين الوعد للحامدين، والوعيد للمعرضين. انتهى. وفي «الروح»: والوجه في سرد الصفات الخمس كأنّه يقول: خلقتك فأنا إله، ثمّ ربّيتك بالنعم، فأنا ربّ، ثمّ عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن، ثمّ تبت فغفرت، فأنا رحيم، ثمّ لا بدّ من الجزاء، فأنا مالك يوم الدين. فعلم مما تقدم: أنّ يوم الدين هو يوم القيامة، سمّي به؛ لأنّه يدان فيه كلّ أحد، ويجازى على عمله. وقيل: الدين الشريعة. وقيل: الطاعة. والمعنى: يوم جزاء الدين، فالدين يطلق لغة: على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الشريعة وعلى الطاعة، وعلى الدين وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا، وإنّما قال: (¬2) {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ولم يقل: {مالك الدين}؛ ليعلم أنّ للدين يوما معيّنا يلقى فيه كلّ عامل جزاء عمله. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم في الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء، جزاء تفريطهم في أداء الحقوق والواجبات التي عليهم، فربّما يظهر ذلك في بعض دون بعض، فإنّا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم، يقضون أعمارهم وهم متمتّعون بلذّاتهم. نعم: إنّهم لا يسلمون من المنغّصات، وربّما أتتهم الجوائح في أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات. كذلك نرى كثيرا من المحسنين، يبتلون بهضم حقوقهم، ولا ينالون ما يستحقّون من حسن الجزاء. نعم: إنّهم ينالون بعض الجزاء براحة ضمائرهم، وسلامة أجسامهم، وصفاء ملكاتهم، وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقّون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم، استوفى كلّ عامل جزاء عمله كاملا، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، جزاء وفاقا لما عملوا {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. أمّا الناس باعتبارهم أمما وجماعات: فيظهر جزاؤهم في الدنيا ظهورا تامّا، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السويّ، ولم تراع سنّة الله في الخليقة، إلّا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزّة، ومهانة بعد جلال وهيبة. فائدة: (¬1) ومن لطائف {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: أنّ مخالفة الملك تؤول إلى خراب العالم وفناء الخلق، فكيف مخالفة ملك الملوك؟ كما قال تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} والطاعة سبب المصالح، كما قال تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى}، فعلى الرعيّة مطاوعة الملوك، وعلى الملوك مطاوعة ملك الملوك؛ لتنتظم مصالح العالم. ومن لطائفه أيضا: أنّ {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يبيّن أنّ كمال ملكه بعدله حيث قال: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، فالملك المجازي إن كان عادلا كان حقّا، فدرّت الضروع، ونمت ¬

_ (¬1) روح البيان.

الزروع. وإن كان جائرا كان باطلا، فارتفع الخير. قرأ (¬1) {مالِكِ} على وزن فاعل بالخفض عاصم، والكسائي، وخلف في اختياره، ويعقوب، وهي قراءة العشرة المبشرة إلّا طلحة، والزبير، وقراءة كثير من الصحابة منهم: أبيّ، وابن مسعود، ومعاذ، وابن عباس، والتابعين منهم: قتادة، والأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة، وزيد، وأبو الدرداء، وابن عمر، والمسور، وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ {مَلْكِ} على وزن سهل: أبو هريرة، وعاصم الجحدري، ورواها الجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ {ملكي} بإشباع كسرة الكاف: أحمد بن صالح، عن ورش، عن نافع. وقرأ {مِلك} على وزن عجل: أبو عثمان النهدي، والشعبي، وعطيّة، ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة. وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك، وأبو نوفل، عمر بن مسلم بن أبي عدي {مَلِكَ يوم الدين} بنصب الكاف من غير ألف، وجاء كذلك عن أبي حياة. انتهى. وقرأ كذلك إلّا أنّه رفع الكاف: سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورّق العجليّ. وقرأ {مَلَكَ} فعلا ماضيا: أبو حياة، وأبو حنيفة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم، عبيد بن عمير الليثي، وأبو المحشر، عاصم بن ميمون الجحدري، فينصبون اليوم. وذكر ابن عطيّة: أنّ هذه قراءة يحيى بن يعمر، والحسن، وعليّ بن أبي طالب. وقرأ {مالك} بنصب الكاف: الأعمش، وابن السميقع، وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند. وذكر ابن عطيّة: أنّها قراءة عمر بن عبد العزيز، وأبي صالح السمان، وأبي عبد الملك الشاميّ. وروى ابن أبي عاصم، عن اليمان {ملكا} بالنصب والتنوين. وقرأ {مالك} برفع الكاف والتنوين: عون العقيليّ، ورويت، عن خلف بن هشام، وأبي عبيد، وأبي حاتم، وبنصب {اليوم}. وقرأ {مالك يوم} بالرفع والإضافة: أبو هريرة، وأبو حياة، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح، عون بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[5]

أبي شدّاد العقيلي ساكن البصرة. وقرأ {مليك} على وزن فعيل: أبيّ، وأبو هريرة، وأبو رجاء العطاردي. وقرأ مالِكِ بالإمالة البليغة: يحيى بن يعمر، وأيوب السختياني، وبين بين: قتيبة بن مهران، عن الكسائي، وجهل أبو علي الفارسيّ النقل في قراءة الإمالة، فقال: لم يمل أحد من القرّاء ألف مالك، وذلك جائز إلّا أنّه لا يقرأ بما يجوز إلّا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، وذكر أيضا: أنّه قرىء في الشاذ {ملّاك} بالألف، وتشديد اللام، وكسر الكاف. فهذه ثلاث عشرة قراءة بعضها راجع إلى الملك، وبعضها إلى المالك، وهما راجعان إلى الملك، وهو الربط، ومنه: ملك العجين. ذكره أبو حيان. 5 - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ أي: إيّاك لا غير نخصّ بالعبادة، ونوحّدك، ونطيعك خاضعين لك. وفيه (¬1) التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفائدة ذلك من أوّل السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} دعاء، والخطاب في الدعاء أولى. وقيل: فيه مضمر تقديره: أي: قولوا إيّاك نعبد؛ أي: إيّاك نخصّ بالعبادة، ونوحدك، ونطيعك خاضعين لك، والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل، وسمّي العبد عبدا؛ لذلّته وانقياده. وقيل: (¬2) العبادة: عبارة عن الفعل الذي يؤدّى به الفرض لتعظيم الله تعالى، فقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} معناه: لا أعبد أحدا سواك، والعبادة: غاية التذلّل من العبد، ونهاية التعظيم للرب سبحانه وتعالى؛ لأنّه العظيم المستحقّ للعبادة، ولا تستعمل العبادة إلّا في الخضوع لله تعالى؛ لأنّه مولي أعظم النعم، وهي إيجاد العبد من العدم إلى الوجود، ثمّ هداه إلى دينه فكان العبد حقيقا بالخضوع، والتذلّل له. وقال ابن كثير: والعبادة في الشرع: عبارة عمّا يجمع كمال المحبّة والخضوع. اه. وعبارة المراغي: والعبادة (¬3) خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأنّ له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته؛ لأنّه أعلى من أن يحيط به ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

فكره، أو يرقى إليه إدراكه. فمن يتذلّل لملك لا يقال: إنّه عبده؛ لأن سبب التذلّل معروف، وهو إما؛ لخوف من جوره وظلمه، وإما؛ رجاء كرمه وجوده. وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلّها شرعت؛ لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى؛ ولتقويم المعوجّ من الأخلاق، وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين. هاك الصلاة: هب أنّ الله أمرنا بإقامتها، والإتيان بها كاملة، وجعل من آثارها: أنّها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}، فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس، كانت صورا من الحركات والعبارات، خالية من روح العبادة وسرّها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعّد الله سبحانه فاعلها بالويل والثبور، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ}، فهم وإن سمّاهم مصلّين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها؛ وهو توجّه القلب إلى الله والإخبات إليه، وهو المشعر بعظمته. وفي الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بعدا». وأنّها «تلفّ كما يلّف الثوب البالي، ويضرب بها وجهه». {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي (¬1): منك لا من غيرك نطلب المعونة على عبادتك، وعلي جميع أمورنا دينا ودنيا. فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل الشروع فيه، فلم أخّر الاستعانة عن العبادة، وما الحكمة فيه؟ قلنا: قدّمت العبادة على الاستعانة؛ لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو قدّمها؛ لرعاية الفاصلة كما قدّم الرحمن، وإن كان الأبلغ لا يقدّم. اه. «نسفي». وعبارة «الخازن» هنا: فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل ¬

_ (¬1) النسفي.

الشروع فيه، فلم أخّر الاستعانة عن العبادة؟ قلت: ذكروا فيه وجوها: أحدها: أنّ هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل، ونحن بحمد الله نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل، فلا فرق بين التقديم والتأخير. الثاني: أنّ الاستعانة نوع تعبّد، فكأنّه ذكر جملة العبادة أولا، ثمّ ذكر ما هو من تفاصيلها ثانيا. الثالث: كأنّ العبد يقول: شرعت في العبادة فأنا أستعين بك على إتمامها، فلا يمنعني من إتمامها مانع. والرابع: أنّ العبد إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حصل له الفخر، وذلك منزلة عظيمة، فيحصل بذلك العجب، فأردف ذلك بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة. وفي «النسفي»: وأطلقت الاستعانة؛ لتتناول كلّ مستعان فيه، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات، ويكون قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ} بيانا للمطلوب منه المعونة، فكأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ...} الخ. اه. والمجيء بالنون في الفعلين (¬1)؛ لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد. وقيل: إنّ المقام لمّا كان عظيما، لم يستقلّ به الواحد؛ استقصارا لنفسه، واستصغارا لها، فالمجيء بالنون؛ لقصد التواضع لا لتعظيم النفس، وتقديم المعمول على العامل في الفعلين؛ لقصد الاختصاص. وقيل: للاهتمام، والصواب أنّه لهما، ولا تزاحم بين المقتضيات. وكرّر (¬2) {إِيَّاكَ} للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة أيضا، والاستعانة: طلب العون، ويعدّى بالباء وبنفسه؛ أي: نطلب العون على عبادتك، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

أو على ما لا طاقة لنا به، أو على محاربة الشيطان المانع من عبادتك، أو في أمورنا بما يصلحنا في ديننا ودنيانا، والجامع للأقاويل: نسألك أن تعيننا على أداء الحقّ وإقامة الفروض، وتحمّل المكاره وطلب المصالح. والضمير المستكن في {نَعْبُدُ}، وكذا في {نَسْتَعِينُ} للقارىء، ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموحدين، أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، وخلط حاجته بحاجتهم، لعلّها تقبل ببركتها، وتجاب، ولهذا شرعت الجماعة. ثمّ قوله {نَعْبُدُ} يحتمل أن يكون من العبادة، كما عليه تفسيرنا السابق، أو من العبودة. والعبادة: هي العابدية، والعبودة: هي العبدية، فمن العبادة: الصلاة بلا غفلة، والصوم بلا غيبة، والصدقة بلا منّة، والحج بلا إراءة، والغزو بلا سمعة، والعتق بلا أذيّة، والذّكر بلا ملالة، وسائر الطاعات بلا آفة. ومن العبودة: الرضى بلا خصومة، والصبر بلا شكاية، واليقين بلا شبهة، والشهود بلا غيبة، والإقبال بلا رجعة، والإيصال بلا قطيعة. وخلاصة ما في الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1) قد أمرنا أن لا نعبد أحدا سواه. لأنّه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا أن لا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتّمّمة للعمل، والموصلة إلى الثمرة المرجوّة إلّا منه فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها. بيان هذا: أنّ الأعمال يتوقّف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبّباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتي الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة، كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه، وفي هذا القدر أمرنا أن نتعاون، ويساعد بعضنا بعضا، كما قال تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى ¬

_ (¬1) المراغي.

الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}. فنحن نحضر الدواء مثلا؛ لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع، ونكثر الجند؛ لغلب العدوّ، ونضع في الأرض السماد، ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارّة؛ للخصب وتكثير الغلّة. وفيما وراء ذلك مما حجب عنّا من الأسباب: يجب أن نفوّض أمره إلى الله تعالى، فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا، كما قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وأرشد إلى أنّه قريب منّا، يسمع دعاءنا، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. وفي ذكر الاستعانة بالله: إرشاد للإنسان إلى أنّه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد خالف الفطرة، ونبذ هدي الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا لا متوكلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أنّ الإنسان مهما أوتي من حصافة الرأي، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها، لا يستغني عن العون الإلهيّ، واللطف الخفي. والاستعانة (¬1) بهذا المعنى ترادف التوكّل على الله، وهي من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرّا كريما لا سلطان لأحد عليه لا حيّ ولا ميّت، وفي هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء، والدجّالين المخرّفين، وإطلاق العزائم من قيود الأفاكين الكاذبين. إيّا (¬2): تلحقه ياء المتكلم، وكاف المخاطب، وهاء الغائب، وفروعها، فيكون ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف، خلافا لزاعمه، وهل الضمير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

هو مع لواحقه، أو هو وحده واللواحق حروف تبيّن المراد به؟ أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها، أو اللواحق وحدها، وإيّا زائدة لتتصل بها الضمائر. أقوال ذكرت في كتب النحو. وأما لغاته: فبكسر الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الجمهور، وبفتح الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الفضل الرقاشيّ، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء، وبها قرأ عمرو بن فائد، عن أبيّ، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء، وبذلك قرأ ابن السوّار الغنويّ، وذهاب أبي عبيدة إلى أنّ (إيّا) مشتق ضعيف، وكان أبو عبيدة لا يحسن النّحو، وإن كان إماما في اللّغات وأيّام العرب. وإضافة (إيّا) إلى الظاهر نادر، نحو: وإيّا الشوابّ، أو ضرورة، نحو: دعني وإيّا خالد، واستعماله تحذيرا معروف، وإياك والأسد. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو المتوكل {إيّاك يعبد} بالياء مبنيا للمفعول، وهذه القراءة مشكلة؛ لأنّ إيّاك ضمير نصب ولا ناصب له، وتوجيهها أنّ فيها استعارة والتفاتا، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنّه قال: أنت، ثمّ التفت فأخبر عنه إخبار الغائب؛ لمّا كان {إِيَّاكَ} هو الغائب من حيث المعنى فقال: يعبد، فكأنّه قيل: هو يعبد؛ أي: ربّ العالمين الموصوف بما ذكر يعبد، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة. وعن بعض أهل مكة {نَعْبُدُ} بإسكان الدال. وقرأ زيد بن عليّ، ويحيى بن وثّاب، وعبيد بن عمير الليثيّ {ونِعبد} بكسر النون. وقرأ الجمهور {نَسْتَعِينُ} بفتح النون الأولى، وهي لغة الحجاز، وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثيّ، وزرّ بن حبيش، ويحيى بن وثّاب، والنخعيّ، والأعمش بكسرها، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطّوسيّ: هي لغة هذيل. وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان وياء في نستعين ومستعين والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف، فراجعه.

[6]

وكرر {إِيَّاكَ} ليكون كلّ من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين، وكلّ منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه، بخلاف ما لو قال: إيّاك نعبد ونستعين، فإنّه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب العون؛ أي: وليطلب العون من غير أن يعيّن ممن يطلب منه، وفي قوله: {نَعْبُدُ} قالوا: ردّ على الجبرية، وفي {نَسْتَعِينُ} ردّ على القدرية، وقالوا: في قوله: {إِيَّاكَ} ردّ على الدهرية، والمعطلة، والمنكرين لوجود الصانع، فإنه خطاب لموجود حاضر، والله أعلم بأسرار كتابه. 6 - {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}، أي: أرشدنا إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، الذي هو دين الإسلام، وثبتنا على المنهاج الواضح الذي رضيته لنا، وهذا بيان للمعونة المطلوبة أوّلا، فكأنّه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا. وإفراد لما هو المقصود الأعظم الذي هو الهداية وهي الدلالة بلطف. والمراد زدنا هداية إليه، أو أدمنا مهديّين إليه، وإلا فنحن مهديّون بحمد الله تعالى. وفي «السمين»: وأصل هدى أن يتعدّى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرّ، وهو إمّا إلى أو اللام، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، ثمّ قد يتّبع فيه، فيحذف الحرف فيتعدى للثاني بنفسه، كما هنا، فأصل {اهْدِنَا الصِّراطَ}: اهدنا للصراط، أو إلى الصراط، ثم حذف الحرف ووصل الفعل إلى المفعول بنفسه، ووزن اهد: إفع، حذفت لامه وهي الياء؛ حملا للأمر على المضارع المجزوم، والمجزوم تحذف لامه إذا كان حرف علّة. والهداية: الإرشاد، والدلالة، والتبيين، كقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ} أي: بيّنا لهم، والإلهام: كقوله: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}؛ أي: ألهمه لمصالحه، والدعاء: كقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}؛ أي: داع. وقال الراغب: الهداية دلالة بلطف، ومنه: الهديّة؛ لأنّها تمال من مالك إلى مالك. والصراط: الطريق المستهل، وبعضهم لا يقيده بالمستهل، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم

أي: على طريقة حسنة، والمراد به هنا: دين الإسلام كما قاله ابن عباس. وقيل: هو القرآن، وروي ذلك مرفوعا. وقيل: السنة والجماعة (¬1). وقيل: معناه: اهدنا صراط المستحقّين للجنة. وأصله (¬2): السين، وقرأ بها قنبل حيث ورد، وإنّما أبدلت صادا؛ لأجل حرف الاستعلاء؛ أي: ليطابق الطاء في الإطباق. والسراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه، فكأنّه يسرط السابلة، ولذلك سمّي لقما؛ لأنّه يلتقمهم، وجمعه: سرط ككتب، وقد تشمّ الصاد في الصراط زايا، وبه قرأ خلف، وقرىء بالزاي المحضة، ولم يرسم في المصحف إلّا بالصاد مع اختلاف قراءتهم فيها، كما سيأتي. والصراط يذكر ويؤنّث كالطريق، فالتذكير: لغة تميم، والتأنيث: لغة الحجاز. والمستقيم: اسم فاعل من استقام، ومعناه: استوى من غير اعوجاج، وأصله: مستقوم، ثم أعلّ كإعلال {نَسْتَعِينُ}، كما سيأتي في مباحث الصرف. وفي «أبي السعود»: والصراط: جمعه صرط، ككتاب وكتب، وهو كالطريق والسبيل، في التذكير والتأنيث. والمستقيم: المستوي، والمراد به: طريق الحقّ، وهي الملّة الحنيفيّة السّمحة المتوسّطة بين الإفراط والتفريط. اه. وأصل الصراط: السراط بالسين. وقرأ قنبل، ورويس (¬3): {الصراط} بإبدال سينه صادا، وهي الفصحى، وهي لغة قريش، وبها قرأ الجمهور، وبها كتبت في مصحف الإمام. والزراط: لغة رواها الأصمعيّ، عن أبي عمرو، وإشمامها زايا: لغة قيس، وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته. وقال أبو عليّ. وروي عن أبي عمرو السين والصاد، والمضارعة بين الزاي والصاد. وقال أبو جعفر الطّوسي في تفسيره: الصراط بالصاد: لغة قريش، وهي اللغة الجيّده، وعامّة العرب يجعلونها سينا، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

والزاي: لغة لبني عذرة، وكعب، وبني القين، وقال أبو بكر بن مجاهد: وهذه القراءة تشير: إلى أنّ قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلّف حرف بين حرفين، وذلك صعب على اللسان، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا من حروف المعجم، لست أدفع أنّه من كلام فصحاء العرب إلّا أنّ الصاد أفصح وأوسع. وقرأ زيد بن علي، والضحاك، ونصر بن علي، عن الحسن اهدنا صراطا مستقيما بالتنوين من غير لام التعريف، كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ}. وقرأ جعفر الصادق في {صراط مستقيم} بالإضافة. واعلم (¬1): أنّ هداية الله للإنسان على ضروب. 1 - هداية الإلهام: وتكون للطفل منذ ولادته فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء، ويصرخ طالبا له. 2 - هداية الحواسّ: وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما في الحيوان أتم منهما في الإنسان، إذ إلهامه وحواسّه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا. 3 - هداية العقل: وهي هداية أعلى من هداية الحسّ والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بدّ له من العقل الذي يصحّح له أغلاط الحواسّ. ألا ترى الصّفراويّ يذوق الحلو مرّا، والرّائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجّا. 4 - هداية الأديان والشرائع: وهي هداية لا بدّ منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذّاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بني جنسه، وحدث بينه وبينهم التّجاذب والتدافع، فبها يحصل الرشاد، إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبينّ للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها، ويكفّوا أيديهم عمّا وراءها إلى أنّ في غرائز الإنسان الشعور بسلطان غيبيّ متسلط على الأكوان، ¬

_ (¬1) روح البيان.

إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة، فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضّل الله بها عليه ووهبه إيّاها. وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم في آيات كثيرات، كقوله: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: طريق الخير والشرّ، والسعادة والشقاء، وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى}؛ أي: أرشدناهم إلى طريق الخير والشرّ، فاختاروا الثاني الذي عبّر عنه بالعمى. وهناك نوع آخر من الهداية. وهي المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير، وهي التي أمرنا الله بطلبها في قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}، إذ المراد: دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبيّة تحفظنا بها من الوقوع في الخطاء والضلال، وهذه الهداية خاصّة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثم نفاها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}، وأثبتها لنفسه في قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}. أمّا الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحقّ مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة، والفوز، والفلاح، فهي مما تفضّل الله بها على خلقه، ومنحهموها، ومن ثمّ أثبتها للنبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}. هذا والصراط المستقيم: هو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا، والآخرة من عقائد، وأحكام، وآداب، وتشريع دينّي، كالعلم الصحيح بالله والنبوة، وأحوال الكون، وأحوال الاجتماع. وقد سمّى هذا صراطا مستقيما؛ تشبيها له بالطريق الحسي، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنويّ يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسيّ يصل به إلى غاية أخرى. وقد أرشدنا الله سبحانه إلى طلب الهداية منه؛ ليكون عونا لنا بنصرنا على أهوائنا وشهواتنا، بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد في معرفة أحكام الشريعة، ونكلّف أنفسنا الجري على سننها؛ لنحصل على خير الدنيا والآخرة.

[7]

قال في «التيسير» (¬1): {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لإظهار التوحيد، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لطلب العون عليه، اهْدِنَا لسؤال الثبات على دينه، وهو تحقيق عبادته واستعانته؛ وذلك لأنّ الثبات على الهداية أهمّ الحاجات، إذ هو الذي سأله الأنبياء والأولياء، كما قال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا، وسحرة فرعون: {وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ}، والصحابة: {وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ}؛ وذلك لأنه لا ينبغي أن يعتمد على ظاهر الحال، فقد يتغيّر في المآل كما لإبليس، وبرصيصا، وبلعم بن باعورا. اه. 7 - {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل (¬2) من الصراط، بدل كلّ من كلّ، فهو على نيّة تكرار العامل، وفائدته: التأكيد والإشعار بأنّ الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعمت عليهم. ويجوز أن يكون عطف بيان، وفائدته الإيضاح. والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في (سورة النساء)، حيث قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيمًا}، وأطلق الإنعام؛ ليشمل كلّ إنعام. والمعنى: أي أرشدنا إلى صراط الأقوام الذين مننت عليهم بالهداية، وأكرمتهم بالتوفيق. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هم قوم موسى وعيسى الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا. وقيل: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته. وقرىء (¬3): {صراط من أنعمت عليهم}. والإنعام: إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذّها الإنسان، فأطلقت لما يستلذه من النعمة، وهي اللين. ونعم الله، وإن كانت لا تحصى كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها}، تنحصر في جنسين دنيوي وأخروي. والأول قسمان: موهبيّ وكسبيّ. ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير. (¬2) البيضاوي. (¬3) البحر المحيط.

والموهبيّ قسمان: روحاني: كنفخ الروح فيه، وإشراقه بالعقل، وما يتبعه من القوى، كالفهم، والفكر، والنطق. وجسماني: كتخليق البدن والقوى الحالّة فيه، والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبيّ: تزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق السنيّة والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة، والحلي المستحسنة، وحصول الجاه، والمال. والثاني: أن يغفر ما فرط منه، ويرضى عنه ويبوّئه في أعلى عليّين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين. والمراد هنا: هو القسم الأخير، وما يكون وصلة إلى نيله من القسم الآخر، فإنّ ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر. وحكى اللّغويّون في {عَلَيْهِمْ} عشر لغات (¬1): ضمّ الهاء وإسكان الميم، وهي قراءة حمزة، وكسرها وإسكان الميم، هي قراءة الجمهور، وكسر الهاء والميم وياء بعدها، وهي قراءة الحسين، وزاد ابن مجاهد، أنها قراءة عمر بن قائد، وكذلك بغير ياء، وهي قراءة عمرو بن فائد، وكسر الهاء وضمّ الميم وواو بعدها، وهي قراءة ابن كثير، وقالون بخلاف عنه، وكسر الهاء وضمّ الميم بغير واو، وضمّ الهاء والميم وواو بعدها، وهي قراءة الأعرج، والخفاف، عن أبي عمرو، وكذلك بدون واو، وضمّ الهاء وكسر الميم بياء بعدها، وكذلك بغير ياء، وقرىء بهما. وتوضيح هذه القراءات بالخط والشكل: عليهم، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهمو، عليهم، عليهمو، عليهم، عليهمي، عليهم. وفي «القرطبي»: (¬2) وفي {عَلَيْهِمْ} عشر لغات قرىء بعامّتها: {عليهم} بضمّ الهاء وإسكان الميم، و {عَلَيْهِمْ} بكسر الهاء وإسكان الميم، و {عليهمي} بكسر الهاء والميم، وإلحاق ياء بعد الكسرة، و {عليهمو} بكسر الهاء وضمّ الميم، وزيادة واو بعد الضمّة، و {عليهمو} بضمّ الهاء والميم، وزيادة واو بعد الميم، و {عليهم} بضمّ الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستّة مأثورة عن أئمّة القرّاء. الثلاثة الأول منها: سبعيّة، وأوجه أربعة منقولة عن العرب ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البيضاوي.

غير محكيّة عن القرّاء. {عليهُمي} بضمّ الهاء وكسر الميم، وزيادة ياء بعد الميم، حكاها الأخفش البصري عن العرب، وعليهم بضمّ الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء، وعليهم بكسر الهاء وضمّ الميم من غير إلحاق واو، و {عليهم} بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلّها صواب قاله ابن الأنباري. اه. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بدل من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل كلّ من كلّ. أي: صراط غير اليهود الذين غضبت عليهم وخذلتهم، وانتقمت منهم؛ لقوله تعالى فيهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ}. {وَلَا الضَّالِّينَ}. أي: وصراط غير النصارى الذين ضلّوا وأخطأوا عن الهدى لقوله تعالى فيهم: {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} وقيل: غير المغضوب عليهم بالبدعة، ولا الضالّين عن السنّة، والله أعلم. والمعنى: وفّقنا طريق الهدى والرشاد التي هي طريق الأنبياء والمؤمنين، وجنّبنا عن طريق أهل الغضب والضلال التي هي طريق الكفار والمنافقين. وورد في الحديث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ المغضوب عليهم اليهود، وإنّ الضالّين هم النصارى» رواه ابن حبّان وصحّحه. وإنّما سمّي كلّ من اليهود والنصارى بما ذكر، مع أنّ كلّا منهم مغضوب عليه وضالّ؛ لاختصاص كلّ منهما بما غلب عليه. اه. خطيب. ويتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة، والضالون الجاهلون بالله؛ لأنّ المنعم عليه من وفّق للجمع بين معرفة الحقّ لذاته، والخير للعمل به، وكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة، والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه؛ لقوله تعالى في القاتل عمدا: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}، والمخل بالعلم جاهل ضالّ؛ لقوله تعالى: {فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}. اه. من «البيضاوي». والحاصل: {أنّ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بدل (¬1) من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} على ¬

_ (¬1) الشوكاني.

معنى: أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، أو صفة له مبيّنة، أو مقيّدة على معنى: أنّهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنّما يصحّ بأحد تأويلين: أجراء الموصول مجرى النكرة في الإبهام، إذ لم يقصد به معهود كالمحلّى ب (أل) الجنسية في قوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فمضيت ثم قلت لا يعنيني وكقولهم: إنّي لأمرّ على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل {غَيْرِ} معرّفا بالإضافة؛ لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد، وهو المنعم عليه، فيتعيّن تعيّن الحركة من غير السكون، وعن ابن كثير: نصبه على الحال من الضمير المجرور في {عَلَيْهِمْ}، والعامل {أَنْعَمْتَ} أو بإضمار أعني أو بالاستثناء، إن فسّر المنعم بما يعمّ القبيلين، وبه قرأ عمر، وابن مسعود، وعليّ، وابن الزبير وليست في المتواتر عن ابن كثير. والغضب: ثوران النفس لإرادة الانتقام، ومعنى الغضب في صفة الله: إرادة العقوبة، فهو صفة ذاته، أو نفس العقوبة. ومنه الحديث: «إنّ الصدقة تطفىء غضب الربّ»، فهو صفة فعله. قال في «الكشاف»: غضب الله إرادته الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده. والفرق (¬1) بين {عَلَيْهِمْ} الأولى و {عَلَيْهِمْ} الثانية: أنّ الأولى في محل نصب على المفعولية، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و (لا) في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} زائدة لتأكيد النفي المفهوم من {غَيْرِ}، فكأنّه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضّالّين. وقرأ عمر وأبيّ (¬2): {وغير الضالّين}، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض، ويدلّ على أنّ المغضوب عليهم هم غير الضالين. والتأكيد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

فيها أبعد، والتأكيد في لا، أقرب. وقرأ أيوب السختياني {وَلَا الضَّالِّينَ} بإبدال الألف همزة؛ فرارا من التقاء الساكنين. وحكى أبو زيد: دأبّة وشأبّة في دابّة وشابّة في كتاب الهمز، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال؛ لأنّه لم يكثر كثرة توجب القياس، نصّ على أنّه لا ينقاس النحويّون. قال القرطبي: الضلال في لسان العرب: هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحقّ، ومنه ضلّ اللبن في الماء؛ أي: غاب. ومنه: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: غبنا بالموت وصرنا ترابا. ويقال: ضللت الشيء: جهلت المكان الذي وضعته فيه، وأضللت الشيء: ضيعته، وأضل أعمالهم وضلّ: غفل ونسي، {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما}، والضلال: سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق: سلك غير جادتها، والضلال: الحيرة والتردّد. ومنه: قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي: ضلضلة. وفي «الخطيب»: وفي قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} مدّان: مدّ لازم، ومدّ عارض، فاللازم: هو الذي على الألف بعد الضاد وقبل اللام المشدّدة، والعارض: هو الذي على الياء قبل النون. اه. والأصل في الضالّين: الضاللين، ثمّ أدغمت اللام في اللام، فاجتمع ساكنان مدّت الألف واللام المدغمة. والحاصل من معنى الآيتين، كما قاله المراغي: أنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا (¬1) باتباع صراط من تقدّمنا؛ لأنّ دين الله واحد في جميع الأزمان، فهو إيمان بالله ورسله، واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق، وعمل الخير، وترك الشرّ، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}. والْمَغْضُوبِ قيل: هم الذين بلغهم الدين الحقّ الذي شرعه الله تعالى لعباده، فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلّة؛ تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد، وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال في نار جهنم وبئس القرار. ¬

_ (¬1) المراغي.

والضالّون: هم الذين لم يعرفوا الحقّ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحقّ، فهم تائهون في عماية، لا يهتدون معها إلى مطلوب تعترضهم الشّبهات التي تلبّس الحق بالباطل والصواب بالخطأ، إن لم يضلّوا في شؤون الدنيا، فقد ضلّوا في شؤون الحياة الآخرة، فمن حرم هدى الدين ظهر له أثر الاضطراب في أحواله المعيشيّة، وحلّت به الرزايا، والذين جاؤوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذّبون في الآخرة؛ لقوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. وهذا رأي جمهرة العلماء (¬1)، وترى فئة منهم: أنّ العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض، والتدبّر، والتفكّر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال بقدر ما يهديه عقله، ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين. تنبيه: آخر (الفاتحة) (¬2): {وَلَا الضَّالِّينَ}، وأما لفظ آمين: فليس منها ولا من القرآن مطلقا، بل هو سنّة يسنّ لقارىء (الفاتحة) في الصلاة، وغيرها أن يختم به، وهو اسم فعل دعاء بمعنى استجب وتقبّل يا الله هذا الدعاء! وهو قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها. وهذا الاسم مبنّي؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليّا على الفتح؛ فرارا من التقاء الساكنين وللخفّة، كما في أين وكيف. وفيه لغتان: المد على وزن فاعيل، كياسين، أو قابيل وهابيل، فيكون اسما أعجميا، والقصر على وزن يمين، ومن المدّ قول الشاعر: يا رب لا تسلبنّي حبّها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

وقال الآخر: آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أكمّلها ألفين آمينا ومن القصر قول الآخر: أمين فزاد الله ما بيننا بعدا قال الجوهري: وتشديد الميم خطأ، وروي عن الحسن، وجعفر الصادق، والحسين بن فضل: التشديد من أمّ إذا قصد؛ أي: نحن قاصدون نحوك، ومنه قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} حكى ذلك القرطبيّ. وقيل: ليست اسم فعل، بل هي من أسماء الله، والتقدير: يا آمين، وضعفه أبو البقاء بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضمّ؛ لأنّه منادى مفرد معرفة. الثاني: أنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة. ووجّه الفارسيّ قول من جعله اسما لله تعالى على معنى: أنّ فيه ضميرا يعود على الله تعالى، فكأنّه اسم فعل، وهو توجيه حسن، نقله صاحب المغرب، ويكون المعنى: إنّا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير. وفي «الخطيب»: والسنّة للقارىء: أن يقول بعد فراغه من (الفاتحة): آمين مفصولا عن {الضَّالِّينَ} بسكتة؛ ليتميّز ما هو قرآن عمّا ليس بقرآن، وهو اسم الفعل الذي معناه: استجب دعاءنا. فائدة: في مشروعيّة التأمين بعد قراءة (الفاتحة): اعلم: أنّ السنّة الصحيحة، الصريحة، الثابتة تواترا، قد دلّت على ذلك، فمن ذلك: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، مدّ بها صوته. ولأبي داود: رفع بها صوته، وقد حسّنه الترمذي. وأخرجه أيضا النسائي، وابن أبي شيبة، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه، وفي لفظ من حديثه: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «رب اغفر لي آمين». وأخرجه الطبراني والبيهقي. وفي لفظ أنه

قال: آمين ثلاث مرّات، وأخرجه الطبراني. وأخرج وكيع، وابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: لمّا أقرأ جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتحة الكتاب، فبلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: قل: «آمين»، فقال: «آمين». وأخرج ابن ماجه عن عليّ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين. وأخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ - يعني: الإمام - {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين يحبّكم الله». وأخرج البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن، وأحمد، وابن أبي شيبة، وغيرهم عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه». وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي بسند. قال السيوطي صحيح عن عائشة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء، ما حسدتكم على السلام والتأمين». وأخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ اليهود قوم حسّد، حسدوكم على ثلاثة: إفشاء السلام، وإقامة الصفّ، وآمين». وأخرج الديلميّ عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثمّ قرأ فاتحة الكتاب، ثمّ قال: آمين. لم يبق ملك في السماء مقرّب إلّا استغفر له». وأخرج الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله سبحانه، أعطى أمتي ثلاثا، لم تعط أحدا قبلهم: السلام، وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلّا ما كان موسى وهارون». قال أبو عبد الله: معناه: أنّ موسى دعا على فرعون، وأمّن هارون، فقال الله تبارك وتعالى عند ما ذكر دعاء موسى في تنزيله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما}، ولم يذكر مقالة هارون، وقال موسى: {رَبَّنا}، فكان من هارون التأمين، فسمّاه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك دعوة منه. وقيل: إنّ آمين خاصّ بهذه الأمّة، كما مرّ قريبا. فائدة أخرى: في حكم (الفاتحة):

اختلف العلماء في وجوب قراءة (الفاتحة): فذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء إلى وجوب (الفاتحة)، فإنّها متعيّنة في الصلاة، ولا تجزىء إلّا بها، واحتجّوا بما روى عبادة بن الصامت: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»، أخرجاه في الصحيحين. وبحديث أبي هريرة: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج ثلاثا غير تمام» الحديث وقد تقدم في بحث فضل (سورة الفاتحة). وذهب أبو حنيفة: إلى أنّ (الفاتحة) لا تتعيّن على المصلّي، بل الواجب عليه قراءة آية من القرآن طويلة، أو ثلاث آيات قصار، واحتج بقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ}، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأعرابيّ المسيء صلاته: «ثمّ اقرأ بما تيّسر معك من القرآن»، أخرجاه في الصحيحين. دليل الجمهور: ما تقدم من الأحاديث، فإن قيل: المراد من الحديث: لا صلاة كاملة. قلت: هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث، ومما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»، أخرجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. وعنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يخرج فينادي «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، فما زاد» أخرجه أحمد، وأبو داود. وأجيب عن حديث الأعرابيّ: بأنه محمول على (الفاتحة)، فإنّها متيسرة، أو على ما زاد على (الفاتحة)، أو على العاجز عن قراءة (الفاتحة)، والله أعلم. الإعراب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)}. {الْحَمْدُ} مبتدأ مرفوع بالابتداء. {لِلَّهِ} جار ومجرور، متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مستحقّ لله، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا نحويّا، أو في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قولوا: الحمد لله ربّ العالمين. {رَبِّ} صفة أولى للجلالة، مجرور بالكسرة الظاهرة، وهو مضاف. {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم.

{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}. {الرَّحْمنِ} صفة ثانية للجلالة، مجرور بالكسرة الظاهرة. {الرَّحِيمِ} صفة ثالثة لها. {مالِكِ} صفة رابعة لها، وهو مضاف. {يَوْمِ الدِّينِ} مضاف إليه. {إِيَّاكَ} إيّا ضمير نصب منفصل، في محل النصب مفعول به مقدم؛ لغرض الحصر، والكاف حرف دالّ على الخطاب. {نَعْبُدُ} فعل مضارع مرفوع بالضمة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المتكلم، تقديره: نحن يعود على القارىء ومن معه، أو على المعظم نفسه، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا. {وَإِيَّاكَ} الواو عاطفة. {إِيَّاكَ} ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول مقدم. {نَسْتَعِينُ} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على القارىء ومن معه، والجملة معطوفة على جملة {نَعْبُدُ}. {اهْدِنَا} (اهد) فعل دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على الله، والجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب، أو في محلّ النصب مقول قولوا كسابقها، أو جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. (نا) ضمير نصب متصل، يعود على القارىء ومن معه، في محل النصب مفعول أول، مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ للتخلّص من التقاء الساكنين. {الصِّراطَ} مفعول ثان {الْمُسْتَقِيمَ} صفة للصراط. {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. {صِراطَ} بدل من الصراط، بدل كلّ من كلّ، وهو مضاف. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محلّ الجر بالإضافة، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، وإنّما حرك مع كون الأصل في المبني السكون؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة؛ للخفة مع ثقل الموصول. {أَنْعَمْتَ} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ} متعلّق بأنعمت، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير عليهم. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} {غَيْرِ} بدل من الذين، أو من الضمير في عليهم، بدل كلّ من كلّ، أو نعت للموصول، مجرور بالكسرة الظاهرة، وهو مضاف. {الْمَغْضُوبِ} مضاف إليه،

مجرور بالكسرة الظاهرة. {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور في محلّ الرفع نائب فاعل للمغضوب؛ لأنّه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المغيّر. {وَلَا} الواو عاطفة. لا: زائدة زيدت؛ لتأكيد النفي المفهوم من غير. {الضَّالِّينَ}. معطوف على المغضوب عليهم، مجرور بالياء؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين والحركة اللذين كانا في الاسم المفرد. آمين: اسم فعل أمر؛ أي: دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه؛ بمعنى: استجب، مبنّي على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليا، والشبه الاستعمالي: هو أن يشبه الاسم الحرف في كونه عاملا لا معمولا، وإنّما حرك؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، أو فرارا من التقاء الساكنين، كما في أين وكيف، وكانت الحركة فتحة؛ للخفة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على البارىء سبحانه، والجملة من اسم الفعل وفاعله لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ اسم الفعل عامل غير معمول، أو جملة دعائية، والمعنى: اسمع يا الله قراءتنا واستجب دعاءنا! وتقدم الخلاف في معناه. التّصريف ومفردات اللغة {رَبِّ الْعالَمِينَ} والرب: هو السيّد، والمالك، والمصلح، وغير ذلك من المعاني المارّة، فهو اسم فاعل من ربّ يربّ ربّا، نظير: نمّ ينم نمّا، إذا نقل الحديث على وجه الإفساد، فهو ربّ وذاك مربوب. أصله: رابّ، حذفوا ألفه؛ اعتباطا، كما في برّ وبارّ. {الْعالَمِينَ}: جمع عالم بفتح اللام، وجمع جمع المذكر السالم العاقل؛ تغليبا للعقلاء، والمراد به جميع الكائنات، والعالم لا واحد له من لفظه، ولا من غير لفظه؛ لأنّه اسم جمع لأشياء مختلفة الحقائق. {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والمالك: إمّا من الملك بضمّ الميم، وهو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر، أو من الملك بكسر الميم، وهو السلطنة الخاصّة، والدين: الجزاء، وهو المراد هنا، ويوم الجزاء: هو يوم القيامة، والطاعة، كقوله تعالى: {فِي دِينِ الْمَلِكِ}، والدين أيضا الملّة، وفي «القرطبي» ما نصّه: إن قال قائل: كيف قال: مالك يوم الدين، ويوم الدين لم يوجد بعد،

فكيف وصف نفسه سبحانه بملك ما لم يوجد؟ قيل له: اعلم أنّ مالكا: اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده، وهو بمعنى الفعل المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا؛ أي: سيضرب زيدا، وهكذا حاجّ بيت الله في العام المستقبل تأويله: سيحج في العام المستقبل، أفلا ترى أنّ الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعل بعد؛ وإنّما أريد به الاستقبال، فكذلك قوله عزّ وجل: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على تأويل الاستقبال؛ أي: سيملك يوم الدين، أو في يوم الدين إذا حضر. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أصله: نستعون بوزن نستخرج، فهو سداسيّ أجوف واويّ؛ لأنّه من العون، ففيه إعلال بالنقل والقلب، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها على حدّ قول ابن مالك في «الخلاصة» في باب التصريف: لساكن صحّ انقل التحريك من ... ذي لين آت عين فعل كأبن فسكنت الواو بعد النقل، وانكسر ما قبلها فقلبت ياء، وهذه قاعدة مطردة عند الصرفيّين، نحو: ميزان وميقات، وهما من الوزن والوقت. اه. «سمين» مع زيادة. وفي «المصباح»: استعان به فأعانه، وقد يتعدى بنفسه، فيقال: أعانه، والاسم: المعونة والمعانة بالفتح. اه. والاستعانة: طلب العون، والطلب أحد معاني استفعل، وهي ثلاثة عشر، فمنها: هذا، والاتخاذ، والتحوّل، وإلقاء الشيء بمعنى: ما صيغ منه وعدّه كذلك، ومطاوعة أفعل وموافقته، وموافقة تفعّل، وافتعل، والفعل المجرد، والاغناء عنه وعن فعّل، وموافقة تفاعل. مثل ذلك: استطعم، واستعبده، واستنسر، واستعظمه، واستحسنه، وإن لم يكن كذلك، واستشلى مطاوع أشلّ، واستنبل موافق ومطاوع أبل، واستكبر موافق تكبّر، واستعصم موافق اعتصم، واستغنى موافق غني، واستنكف، واستحيا مغنيان عن المجرّد، واسترجع، واستعان حلق عانته مغنيا عن فعل، فاستعان طلب العون، كاستغفر، واستعظم، واستمسك بالشيء، وتماسك به، ومسك به بمعنى واحد أي: احتبست به. اه. من «البحر المحيط». وقد بسطنا الكلام على

أبنية الفعل المزيد، ووضعنا لها جدولا في كتابنا «مناهل الرجال على لاميّة الأفعال» في الصرف، فراجعه. {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} ووزن اهد إفع، حذفت لامه، وهي الياء حملا للأمر على المضارع المجزوم، والمجزوم تحذف لامه إذا كانت حرف علة. والصراط، كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث، كما مرّ، يجمع على صرط، ككتاب وكتب. والمستقيم: اسم فاعل من استقام السداسيّ الذي من باب استفعل بمعنى: الفعل المجرد من الزوائد، فهو هنا بمعنى: قام إذا استوى وانتصب، وأصله: مستقوم بوزن مستفعل، استثقلت الكسرة على الواو، ثمّ نقلت إلى الساكن قبلها، فقلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار مستقيم. {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهمزة أنعم؛ لجعل الشيء صاحب ما صيغ منه؛ أي: جعلتهم أصحاب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون معنى، وهذا أحدها، والتعدية، والكثرة، والصيرورة، والإعانة، والتعريض، والسلب إلى آخر ما في مطوّلات الصرف فراجعها. والتاء المتصلة بأنعمت: ضمير المخاطب المنزه عن الذكورة والأنوثة الباري سبحانه، وهي حرف خطاب في أنت، والضمير هناك أن، فهو مركب من اسم وحرف. {وَلَا الضَّالِّينَ} جمع ضالّ، اسم فاعل من ضلّ الثلاثي، فأصله: الضّاللين، سكّنت اللام الأولى؛ لثقل توالي كسرتين فالتقى ساكنان، فأدغمت اللام في اللام، فصار ضالّين، ووزن ضالّين فاعلين، وقد تقدم لك أنّ أيّوب السختياني يقرأ وَلَا الضَّالِّينَ؛ فرارا من التقاء الساكنين، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ}، فظننته قد لحن، حتى سمعت من العرب دأبّة، وشأبّة. البلاغة وقد تضمّنت هذه السورة الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة، والبيان، والبديع:

فمنها: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أوّلها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ على قول من عدّها منها، فناهيك بذلك حسنا، إذ كان مطلعها مفتتحا باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بما له من الصفات العليّة، أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظم، وقد تكرّر الافتتاح بالحمد في كثير من السور. والمطلع ينقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفيّ على ما قسم في علم البديع. ومنها: المبالغة في الثناء على الله؛ وذلك لعموم أل في {الْحَمْدُ} على التفسير الذي مرّ. ومنها: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنّه ذكر أنّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: لا ريب فيه ومعناه: النهي؛ أي: لا ترتابوا فيه. ومنها: الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصّة به تعالى، فهو مستحق لها، وبالإضافة في مالك يوم الدين؛ لزوال الأملاك والممالك عن سواه تعالى في ذلك اليوم، وتفرّده فيه بالملك والملك، قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؛ ولأنّه لا يجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه. ومنها: الحذف، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، وتقدم هل يقدّر من لفظ الحمد، أو من غير لفظه، قال بعضهم: ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدّر بكائن، أو مستقرّ، قال: ومنه حذف صراط من قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، التقدير: صراط غير المغضوب عليهم وصراط غير الضالّين، وحذف سورة إن قدّرنا العامل في الحمد إذا نصبناه باذكروا، أو اقرؤا، تقديره: اقرءوا سورة الحمد. ومنها: الإتيان بالرحمن الرحيم عقب اتصافه بربّ العالمين؛ لإفادة الترغيب بعد الترهيب، فيكون أرغب للعبد على الطاعة، وأمنع من المعصية.

ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لإفادة الحصر والاختصاص. ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في {يَوْمِ الدِّينِ} كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزاب، ويوم الفتح. ومنها: تقديم العبادة على الاستعانة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ ليوافق رؤوس الآي؛ وليعلم أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. ومنها: إعادة إيّاك مع الفعل الثاني؛ ليفيد أنّ كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كلّ منهما الآخر. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} إلى الخطاب في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...} إلخ؛ تطريبا للنفس، وزيادة في نشاطها جريا على أساليبهم. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} حيث شبّه دين الإسلام بالطريق الحسّيّ، بجامع أنّ كلّا يوصل إلى المقصود، واستعير اسم المشبّه به للمشبّه. ومنها: طلب الشيء مرادا به طلب دوامه واستمراره في قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}، أي: ثبّتنا عليه. ومنها: التفسير والبيان في قوله: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بعد الإبهام في قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنّه أوقع في النفس، وأرسخ فيه. ومنها: نسبة الغضب إلى المجهول في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، حيث لم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ تعليما لعباده الأدب، حيث أسند الخير إلى نفسه، وأبهم في الشرّ، نظير قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها}، {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما}، وقوله: {وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.

ومنها: زيادة لا في قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ}؛ لتأكيد النفي المستفاد من غير. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى تفسير سورة الفاتحة بعون الله وتوفيقه، بعيد الظهر من يوم الاثنين، اليوم السابع من شهر ربيع الأول من شهور سنة ألف وأربع مئة وسبع عشرة سنة من الهجرة النبوية: 7/ 3/ 1417 هـ على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلّى الله وسلم على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.

سورة البقرة

سورة البقرة سورة البقرة مدنية كلّها، نزلت بعد المطفّفين في مدد شتّى، وهي أوّل ما نزل بالمدينة. قيل: إلّا قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية، فإنّها آخر آية نزلت من السماء، نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن، ذكره القرطبي في «تفسيره». وهي (¬1) مئتان وستّ أو سبع أو ثمان وثمانون آية، وستّة آلاف كلمة، ومئة وإحدى وعشرون كلمة، وخمس وعشرون ألف حرف وخمس مئة حرف. المناسبة: مناسبتها للفاتحة ظاهرة؛ لأنّ سورة الفاتحة ختمت بالأمر بطلب الهداية من الله سبحانه وتعالى، حيث قال فيها: قولوا: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وسورة البقرة بدئت ببيان محلّ الهداية والوسيلة إليها، حيث قال فيها: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}. وقال صاحب «الروح»: فإن قلت: (¬2) ما الحكمة في ابتداء البقرة بآلم والفاتحة بالحرف الظاهر المحكم وهو قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}؟ فالجواب ما قاله السيوطي - رحمه الله - في «الإتقان»: أقول في مناسبة ابتداء البقرة بآلم: أنّه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكلّ أحد، بحيث لا يعذر في فهمه أحد، ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل؛ ليعلم مراتبه للعقلاء والحكماء: ليعجزهم بذلك؛ ليعتبروا ويدبّروا آياته. التسمية: سمّيت السورة الكريمة بسورة البقرة: إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة التي ظهرت في زمن موسى الكليم عليه السلام، حيث قتل شخص من بني ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

إسرائيل، ولم يعرفوا قاتله إلى آخر ما سيأتي. وسيأتي بيان الناسخ والمنسوخ منها في آخرها، إن شاء الله تعالى. فضلها: وورد في فضلها أحاديث كثيرة: منها: ما أخرجه مسلم، والترمذي، وأحمد، والبخاري في «تاريخه»، ومحمد بن نصر، عن النوّاس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران». قال: وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو قال: كأنّهما غيايتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجان عن صاحبهما». ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، وأحمد، ومحمد بن نصر، والحاكم وصحّحه عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلّموا سورة البقرة وآل عمران فإنّهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة، كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف». قال ابن كثير: وإسناده حسن على شرط مسلم. ومنها: ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، وعنه أيضا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيّدة آي القرآن، آية الكرسيّ»، أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب. ومنها: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» مطولا، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة؛ يعني: السحرة. ومنها: ما أخرجه أبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في

بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». وأخرج أحمد، ومحمد بن نصر، والطبراني بسند صحيح، عن معقل بن يسار: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كلّ آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من تحت العرش، فوصلت بها». وأخرج البغوي في «معجم الصحابة»، وابن عساكر في «تاريخه» عن ربيعة الجرسيّ قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ القرآن أفضل؟ قال: «السورة التي يذكر فيها البقرة» قيل: فأيّ البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسيّ وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش». إلى غير ذلك مما ورد في فضلها من الأحاديث المختلفة صحة، وحسنا، وغرابة، وضعفا. وقوله: سورة البقرة كذا وكذا آية يؤخذ منه: أنّ تسميتها بما ذكر غير مكروه خلافا لمن قال بكراهة ذلك، وقال: لا يقال ذلك؛ لما فيه من نوع تنقيص بإضافتها إلى البقرة، أو إلى العنكبوت مثلا، وإنّما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها آل عمران، أو العنكبوت مثلا، واستدلّ هذا القائل بما رواه الطبراني في «الأوسط»، والبيهقي في «الشّعب»، وغيرهما بسند ضعيف، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء، وكذا القرآن كلّه، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كلّه». قال ابن كثير: هذا حديث غريب لا يصحّ رفعه، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص، وهو ضعيف الرواية لا يحتجّ به. وبما أخرجه البيهقي في «الشعب» بسند صحيح، عن ابن عمر قال: (لا تقولوا سورة البقرة، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة)، ولكنه موقوف على ابن عمر لم يرفعه. والذي عليه الجماهير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم عدم الكراهة، فقد روي عن جماعة من الصحابة ما يدلّ على عدم الكراهة، فثبت في «الصحيحين» عن ابن مسعود: أنّه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن

يساره، ومنى عن يمينه، ثمّ قال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة). وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، وأهل السنن، والحاكم وصحّحه عن حذيفة قال: (صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة من رمضان فافتتح البقرة، فقلت: يصلّي بها في ركعة، ثمّ افتتح النساء فقرأها، ثمّ افتتح آل عمران فقرأها مترسّلا» الحديث. وأخرج أحمد، وابن الضريس، والبيهقي عن عائشة قالت: (كنت أقوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليل، فيقرأ بالبقرة وآل عمران و (النساء). وأخرجه أبو داود، والترمذي في «الشمائل»، والنسائي، والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فقام، فقرأ سورة البقرة لا يمرّ بآية رحمة إلّا وقف» الحديث. والسورة قد يكون لها اسم واحد، وقد يكون لها اسمان أو أكثر، والسورة مأخوذة من سور البلد؛ لارتفاع رتبتها كارتفاعه، وإحاطتها بالمعاني الغزيرة، كإحاطته بالبلد، وهي طائفة من القرآن، لها أوّل وآخر. وتسميتها باسم خاصّ بها توقيفي على الراجح، والراجح: أنّ المكيّ: ما نزل قبل الهجرة، ولو في غير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة. والآية في العرف: هي طائفة من كلمات القرآن، متميّزة بفصل، والفصل: هو آخر الآية، يجمع على فواصل، وقد تكون كلمة، مثل: {الفجر}، {والضحى}، {والعصر}، وكذا {ألم} و {طه} و {يس} ونحوها عند الكوفيين، وغيرهم لا يسمّيها آيات، بل يقول: هي فواتح السور. وعن أبي عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلّا قوله تعالى. {مُدْهامَّتانِ}. اه. من «التحبير». وأصل آية: أيية كشجرة، قلبت عينها ألفا على غير قياس، وقيل: آيية كفاعلة، حذفت الهمزة تخفيفا، وقيل: غير ذلك، وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في المقدمة فراجعها. واعلم: أنّ كون ترتيب الآيات والسور توقيفيا؛ إنما هو على الراجح.

وقيل: إنّه ثبت باجتهاد الصحابة. وقال السيوطي - رحمه الله تعالى في «التحبير»: اختلف: هل ترتيب الآي والسور على النظم الذي هو الآن عليه، بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو باجتهاد من الصحابة؟ فذهب قوم إلى الثاني، واختار مكي وغيره: أنّ ترتيب الآيات والبسملة في الأوائل من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وترتيب السور منه لا باجتهاد الصحابة. والمختار: أنّ الكلّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم. اه. وعلى كلّ من القولين: فأسماء السور في المصاحف لم يثبتها الصحابة في مصاحفهم؛ وإنّما هو شيء ابتدعه الحجاج، كما ابتدع إثبات الأعشار، والأسباع، كما ذكره الخطيب. فإثبات أسماء السور ظاهر، كما فعل المفسرون، وإثبات الأعشار بأن جزّأ الحجاج القرآن عشرة أجزاء، وكتب عند أول عشر بهامش المصحف عشر بضمّ العين، وكذلك كتب الأسباع، فآخر السبع الأول: الدالّ من قوله في النساء: {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}، وآخر السبع الثاني: التاء من قوله في الأعراف: {أولئك حَبِطَتْ}، وآخر الثالث: الألف من أكلها في قوله في الرعد: {أُكُلُها دائِمٌ}، وآخر الرابع: الألف من جعلنا في قوله في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا}، وآخر الخامس: التاء من قوله في الأحزاب: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ}، وآخر السادس: الواو من قوله في الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}، وآخر السابع: ما بقي من القرآن، كما ذكره القرطبي. وذكر القرطبي أيضا: أنّ الحجاج كان يقرأ كلّ ليلة ربعا، فأوّل ربعه: خاتمة الأنعام، والربع الثاني: في الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ}، والربع الثالث: خاتمة الزمر، والربع الرابع: ما بقي من القرآن، وقيل غير ذلك. وقال السيوطي في «التحبير» ما نصّه: وكون أسماء السور توقيفية؛ إنّما هو بالنسبة إلى الاسم الذي تذكر به السورة، وتشتهر به، وإلّا فقد سمّى جماعة من الصحابة والتابعين سورا بأسماء من عندهم، كما سمّى حذيفة التوبة بالفاضحة، وسورة العذاب، وسمّى خالد بن معدان البقرة: فسطاط القرآن، وسمّى سفيان بن عيينة سورة الفاتحة: الوافية، وسمّاها يحيى بن كثير الكافية؛ لأنّها تكفي عمّا عداها. ومن السور ما له اسمان فأكثر، فالفاتحة تسمّى أمّ القرآن، وأمّ الكتاب،

وسورة الحمد، وسورة الصلاة، والشفاء، والسبع المثاني، والرقية، والنور، والدعاء، والمناجاة، والشافية، والكافية، والكنز، والأساس. وبراءة تسمّى التوبة، والفاضحة، وسورة العذاب. ويونس تسمّى السابعة؛ لأنّها سابعة السبع الطوال. والإسراء تسمّى سورة بني إسرائيل، والسجدة تسمّى المضاجع، وفاطر تسمّى سورة الملائكة، وغافر تسمّى المؤمن، وفصّلت تسمّى السجدة، والجاثية تسمّى الشريعة، وسورة محمد صلّى الله عليه وسلّم تسمّى القتال، والطلاق تسمّى النساء القصرى. وقد يوضع اسم لجملة من السور كالزهراوين للبقرة وآل عمران، والسبع الطوال، وهي البقرة وما بعدها إلى الأعراف، والسابعة يونس، كذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والمفصّل، والأصحّ: أنّه من الحجرات إلى آخر القرآن؛ لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، والمعوذات للإخلاص، والفلق والناس. اه. بحروفه. فائدة: فإن قلت: أيّ سورة أطول في القرآن، وأيّها أقصر؟ وأيّ آية أطول وأيّها أقصر؟، وأيّ كلمة أطول وأيها أقصر؟. قلت: أطول سورة في القرآن: البقرة، وأقصرها: الكوثر، وأطول آية: آية الدّين، وأقصرها آية: {وَالضُّحى} و {الفجر} و {مُدْهامَّتانِ}، وأطول كلمة: ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوها}، وأما قوله: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فهو عشرة أحرف في الرسم، وأحد عشر في اللفظ. وأقصرها: ما كان على حرفين نحو: ما، ولا، وله، وبه وما أشبه ذلك، ومن حروف المعاني ما هو على حرف واحد، كهمزة الاستفهام، وواو العطف إلّا أنّه لا ينطق به مفردا. فإن قلت: (¬1) ما الحكمة في كون سورة البقرة أعظم السور ما عدا الفاتحة؟. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قلت: كانت أعظمها؛ لأنّها فصّلت فيها الأحكام، وضربت الأمثال، وأقيمت الحجج، إذ لم تشتمل سورة على ما اشتملت عليه؛ ولذلك سميت فسطاط القرآن. قال ابن العربي في «أحكام القرآن»: سمعت بعض مشايخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف خبر، ولعظم فقهها أقام ابن عمر - رضي الله عنهما - ثماني سنين على تعلّمها، كذا في «أسئلة الحكم». فإن قلت: لم سوّرت السور طوالا، وأوساطا، وقصارا؟. قلت: سوّرت كذلك تنبيها على أنّ الطول ليس من شرط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، وهي معجزة إعجاز سورة البقرة، ثمّ ظهرت لذلك التسوير؛ حكمة في التعليم، وتدريج الأطفال من السور القصار إلى ما فوقها تيسيرا من الله تعالى على عباده، وفي ذلك أيضا: ترغيب وتوسيع في الفضيلة في الصلاة، وغيرها، كسورة الإخلاص من القصار تعدل ثلث القرآن، فمن فهم ذلك فاز بسر التسوير. فإن قلت: ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن، وتكرّر مشاهده مكيّا، مدنيا، ليليّا، نهاريّا سفريّا، حضريّا، صيفيّا، شتائيا، نوميّا، برزخيّا: يعني: بين الليل والنهار أرضيّا سماويّا. غاريّا. يعني: ما نزل في الغار تحت الأرض برزخيا. يعني: ما نزل بين مكة والمدينة، عرشيّا معراجيّا. يعني: ما نزل ليلة المعراج. آخر (سورة البقرة)؟. قلت: الحكمة في ذلك تشريف مواطن الكون كلّها بنزول الوحي الإلهيّ فيها، وحضور الحضرة المحمّديّة عندها، كما قيل: سرّ المعراج والإسراء به، وسير المصطفى في مواطن الكون كلّها: كأنّ الكون، والعرش، والجنان، يسأل كلّ موطن بلسان الحال، أن يشرّفه الله تعالى بقدوم قدم حبيبه، وتكتحل أعين الأعيان والكبار بغبار نعال قدم سيّد السادات. والله أعلم * * *

[1]

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} {الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. أسباب النزول وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله: {الم} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} أقوالا. أحدهما: أنّها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة. والثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. اه. من «البحر». التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم}: الله أعلم بمراده بذلك، فأرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدىء بها كثير من السور سواء كانت أحاديّة: كـ {ق} و {ص} و {ن}، أو ثنائية: كـ {طس} و {يس}، أو ثلاثية: كـ {الم} و {الر} و {طسم}، أو رباعية: كـ {المص} و {المر} أو خماسيّة: كـ {كهيعص}: أنّه من المتشابه الذي اختصّ الله سبحانه وتعالى بعلمه، وعلى هذا فلا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، فلا يحكم عليها بإعراب، ولا بناء، ولا تركيب مع عامل. والحاصل: أنّ مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور: أربعة عشر حرفا، وهي نصف حروف الهجاء، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة، المبدوء بالألف

واللام منها: ثلاثة عشر، وبالحاء والميم سبعة، وبالطاء أربعة، وبالكاف واحدة، وبالياء واحدة، وبالصاد واحدة، وبالنون واحدة. وبعض هذه الحروف المبدوء بها أحاديّ، وبعضها ثنائي، وبعضها ثلاثي، وبعضها رباعيّ، وبعضها خماسيّ، ولا تزيد عليه. وعبارة «الروح» هنا: واعلموا أنّهم تكلّموا في شأن هذه الفواتح الكريمة، وما أريد بها. فقيل: إنّها من العلوم المستورة، والأسرار المحجوبة؛ أي: من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها: طلب الإيمان بها، والإشارة إلى أنّ القرآن إنّما نزل للإعجاز. وقيل: كلّ حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، فالألف: مفتاح اسم الجلالة، واللام: مفتاح اسم اللطيف، والميم: مفتاح اسم المجيد، كما أنّ قوله تعالى: {الر} أنا الله أرى، و {كهيعص} أنا الله الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، وكذا قوله تعالى: {ق} إشارة إلى أنّه القادر، و {ن} إشارة إلى أنّه النور الناصر، فهي حروف مقطعة كلّ منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، كما قال الشاعر: قلت لها قفي فقالت ق أراد قالت: وقفت وقال زهير: بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا أراد وإن شرّا فشرّ، وأراد إلّا أن تشا. وقيل: إنّ هذه الحروف ذكرت في أوائل بعض السور؛ لتدل على أنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي: أب ت ث، فجاء بعضها مقطعا، وبعضها مؤلّفا؛ ليكون إيقاظا لمن تحدّى بالقرآن، وتنبيها لهم على أنّه منتظم من عين ما ينظّمون منه كلامهم، فلولا أنّه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلّاق القوى والقدر؛ لأتوا بمثله. هذا ما جنح إليه أهل التحقيق. وقال الشيخ الأكبر - رحمه الله تعالى في «تفسيره»: وأمّا الحروف المجهولة التي أنزلها الله تعالى في أوائل السور، فسبب ذلك؛ من أجل لغو العرب عند

نزول القرآن، فأنزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفّر دواعيهم، لما أنزل الله تعالى إذا سمعوا مثل هذا الذي ما عهدوه، والنفوس من طبعها أن تميل إلى كلّ أمر غريب غير معتاد، فينصتون عن اللغو، ويقبلون عليها، ويصغون إليها، فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتي بعد هذه الحروف النازلة من عند الله تعالى، وتتوفّر دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاء بها مقطعة، وبين ما يجاورها من الكلم، وأبهم الأمر عليهم من عدم اطلاعهم عليها. فردّ الله سبحانه بذلك شرّا كبيرا من عنادهم، وعتوّهم، ولغوهم كان يظهر منهم؛ فذاك رحمة للمؤمنين، وحكمة منه سبحانه وتعالى. انتهى. وقال المراغي: {الم} هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: {المص} و {الر} حروف للتنبيه كألا، ويا، ونحوهما مما وضع؛ لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت؛ للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم، والإشارة إلى إعجازه، وإقامة الحجة على أهل الكتاب، إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة. وتقرأ مقطعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال في أسماء الأعداد: واحد اثنان ثلاثة. انتهى. وعلى هذا القول: فلا محلّ لها من الإعراب، كالقول الأوّل الراجح. وقيل: إنّها أسماء للسور التي ابتدئت بها. وقيل: أسماء للقرآن. وقيل: أسماء لله تعالى. وقيل: كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، كما مرّ؛ أي: إنّ كلّ حرف منها اسم مدلوله حرف من حروف المباني، وذلك الحرف جزء من اسم من أسماء الله تعالى، فألف: اسم مدلوله اه من الله، واللام، اسم مدلوله له من لطيف، والميم: اسم مدلوله مه من مجيد. وقيل: كلّ حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله تعالى. وقيل: إلى ملك. وقيل: إلى نبيّ. وقيل: الألف تشير إلى آلاء الله، واللام تشير إلى لطف الله، والميم تشير إلى ملك الله. وعلى هذه الأقوال فلها محلّ من الإعراب، فقيل: الرفع، وقيل: النصب، وقيل: الجرّ. فالرفع على أحد وجهين: إما بكونها مبتدأ خبرها ما بعدها، وإما بكونها خبرا لمحذوف، كما سيأتي بيانه. والنصب على

[2]

أحد وجهين أيضا: إمّا بإضمار فعل لائق تقديره: اقرؤا {الم}، وإما بإسقاط حرف القسم، كقوله: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد يريد: وأمانة الله، وكذلك هذه الحروف أقسم الله تعالى بها. والجرّ من وجه واحد، وهو أنّها مقسم بها حذف حرف القسم وبقي عمله، كقولهم: الله لأفعلنّ. أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء، وهذا ضعيف؛ لأنّ ذلك من خصائص الجلالة المعظّمة لا يشركها فيه غيرها. فتلخّص مما تقدّم: أنّ في {الم} ونحوها ستة أوجه، وهي: أنّها لا محلّ لها من الإعراب، أو لها محلّ وهو الرفع بالابتداء، أو على الخبر، والنصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم، والجرّ بإضمار حرف القسم. 2 - وأما قوله: {ذلِكَ الْكِتابُ} فيجوز في ذلك أن يكون مبتدأ ثانيا، والكتاب خبره، والجملة خبر {الم}، وأغني عن الرابط باسم الإشارة، ويجوز أن يكون {الم} مبتدأ، و {ذلِكَ} خبره، و {الْكِتابُ} صفة لذلك، أو بدل منه، أو عطف بيان، و {لا رَيْبَ} فِيهِ خبر للمبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر عن الأول، ويجوز أن يكون {الم} خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه ألم، فتكون جملة مستقلّة بنفسها، ويكون {ذلِكَ} مبتدأ و {الْكِتابُ} خبره، ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلا، أو بيانا، و {لا رَيْبَ فِيهِ} هو الخبر عن ذلك، أو يكون {الْكِتابُ} خبرا لذلك، و {لا رَيْبَ فِيهِ} خبر ثان. تنبيه: ثمّ اعلم أنّ المتشابه كالمحكم من جهة أجر التلاوة؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، ففي ألم تسع حسنات». فائدة هذا الربع من هذه السورة ينقسم أربعة أقسام: قسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا وباطنا، وهو الآيات الأربع الأول إلى

{الْمُفْلِحُونَ}. وقسم يتعلّق بالكافرين كذلك، وهو الآيتان بعد ذلك. وقسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا لا باطنا، وهو ثلاث عشر آية من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ}. وقسم يتعلق بالفرق الثلاثة، وهو من قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى آخر الربع. اهـ. شيخنا. فعلى القول الأول: الراجح الذي جرى عليه السلف: أنّ {الم} مهمل لا يحكم عليه بإعراب، ولا بناء، وقوله: {ذلِكَ} مبتدأ، وقوله: {الْكِتابُ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، أو صفة له، وجملة {لا رَيْبَ فِيهِ} خبر المبتدأ. والمعنى؛ أي: (¬1) هذا القرآن المنزل عليك يا محمّد لا ريب، ولا شكّ، ولا تهمة، في أنّه منزل من عند الله تعالى لمن تدبّر فيه وتأمّل، وتذكّر لما اشتمل عليه من الإعجاز الباهر. وأشار إليه بإشارة البعيد؛ تنزيلا لبعد المرتبة منزلة البعد الحسّيّ. فإن قلت: إنّ الريب فيه موجود عند بعض الناس كالكفار، فكيف نفي الريب عنه؟ قلت: المعنى لا ريب به عند المؤمنين، كما أشرنا إليه في الحلّ. وعلى القول: بأنّ {الم} اسم للقرآن، فهو؛ أي لفظ {الم}: مبتدأ و {ذلِكَ} خبره إشارة إلى الكتاب، و {الْكِتابُ}: صفة لاسم الإشارة، والمعنى: {الم} هو ذلك الكتاب الكامل الموعود إنزاله في الكتب المتقدمة حال كونه لا ريب ولا شكّ في إنزاله من عند الله تعالى، وإنّما أشار بذلك إلى ما ليس ببعيد؛ ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير.

لأنّ الكتاب من حيث كونه موعودا في حكم البعيد. قالوا: لمّا أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وهي: ألف سورة كل سورة ألف آية. قال موسى عليه السلام: يا ربّ ومن يطيق قراءة هذا الكتاب وحفظه؟ فقال تعالى: إنّي أنزل كتابا أعظم من هذا، قال: على من يا ربّ؟ قال: على خاتم النبيين، قال: وكيف تقرؤه أمته، ولهم أعمار قصيرة؟ قال: إنّي أيسره عليهم حتى يقرأه صبيانهم، قال: يا ربّ وكيف تفعل؟ قال: إنّي أنزلت من السماء إلى الأرض مئة وثلاثة كتب: خمسين على شيث، وثلاثين على إدريس، وعشرين على إبراهيم، والتوراة عليك، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، وذكرت الكائنات في هذه الكتب، فأذكر جميع معاني هذه الكتب في كتاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأجمع ذلك كلّه في مائة وأربع عشرة سورة، وأجعل هذه السور في ثلاثين جزءا، والأجزاء في سبعة أسباع؛ يعني: في سبع آيات (الفاتحة)، ثمّ أجعل معانيها في سبعة أحرف، وهي {بِسْمِ اللَّهِ}، ثمّ ذلك كلّه في الألف من {الم} ثمّ افتتح سورة (البقرة) فأقول {الم}. ولمّا وعد الله ذلك في التوراة، وأنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم جحدت اليهود لعنهم الله تعالى أن يكون هذا ذلك، فقال تعالى: ذلك الكتاب، كما في تفسير «التيسير». وقد مرّ لك: أنّ في هذه الآية أوجه أخر من الإعراب، وسيأتي تطبيق بعضها في مبحث الإعراب. والكتاب: (¬1) اسم بمعنى المكتوب، وهو النقوش والرقوم الدالّة على المعاني، والمراد به هنا: الكتاب المعروف المعهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي وعده الله تعالى به؛ لتأييد رسالته، وكفل به هداية طلّاب الحقّ، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم. وفي التعبير به: إيماء إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بكتابة شيء سواه، وعدم كتابة القرآن كلّه بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أنّ من ¬

_ (¬1) المراغي.

المستفيض الشائع في التخاطب: أن يقول إنسان لآخر: هلّم أمل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد. {لا رَيْبَ}: كائن {فِيهِ}، فقوله: (¬1) {رَيْبَ}: اسم لا، و {فِيهِ}: خبرها، وهو في الأصل: من رابني الشيء، إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمّي به الشكّ؛ لأنّه يقلق النفس، ويزيل الطمأنينة، قال الشاعر: ليس في الحقّ يا أميّة ريب ... إنّما الرّيب ما يقول الكذوب وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». فإنّ الشكّ ريبة، والصدق طمأنينة. ومنه: ريب الزمان لنوائبه. وفي «التيسير»: الريب: شكّ فيه خوف، وهو أخصّ من الشكّ، فكلّ ريب شكّ، وليس كلّ شكّ ريبا. والشكّ: هو التردّد بين النقيضين، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكّ. ولم يقدم الظرف على الريب؛ لئلّا يذهب الفهم إلى أنّ هناك كتابا آخر فيه الريب لا فيه. فإن قلت: الكفّار شكّوا فيه فلم يقرّوا بكتاب الله تعالى، والمبتدعون من أهل القبلة شكّوا في معاني متشابهه، فأوّلوها وضلّوا بها، والعلماء شكّوا في وجوهه، فلم يقطعوا القول على وجه منها، والعوامّ شكّوا فيه فلم يفهموا معانيه، فما معنى نفي الريب عنه؟. فالجواب: إنّ هذا إنما هو نفي الريب عن الكتاب لا عن الناس، والكتاب موصوف بأنّه لا يتمكّن فيه ريب، فهو حقّ صدق معلوم ومفهوم شكّ فيه الناس، أو لم يشكّوا، كالصدق صدق في نفسه وإن وصفه الناس بالكذب، والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق، فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب، أو يتمكن فيه عيب، ويجوز أن يكون خبرا في معنى الأمر، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} المعنى: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، كما في «الوسيط» و «العيون». ¬

_ (¬1) روح البيان.

والمعنى (¬1): أنّ هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة. وإلى هذا أشار بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. وارتياب كثير من الناس فيه؛ إنّما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنّت عنادا، واستكبارا، واتباعا للهوى، أو تقليدا لسواهم. والهاء (¬2) المتصلة بفي من {فِيهِ}: ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة، والإسكان، والاختلاس، والإشباع في كتب النحو. والوقف (¬3) على {فِيهِ} هو المشهور، وقد روي عن نافع، وعاصم، الوقف على {لا رَيْبَ}. قال في «الكشاف»: ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ونظيره قوله تعالى: {قالُوا لا ضَيْرَ}، وقول العرب: لا بأس. وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه. فيه هدى. {هُدىً}؛ أي: هو رشد وبيان {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: (¬4) للضالّين المشارفين التقوى الصائرين إليها. ومثله حديث «من قتل قتيلا فله سلبه»، وقال أبو السعود في «الإرشاد» {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: للمتصفين بالتقوى حالا، أو مآلا. وتخصيص الهدى بهم؛ لما أنّهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملا لكلّ ناظر من مؤمن وكافر. والهداية: عبارة عن الدلالة. وقيل: دلالة بلطف. وقيل: هو هاد لا ريب في هدايته للمتقين. قال في «التيسير»: وكذلك يقال في كلّ من انتفع بشيء دون غيره: إنه لك على الخصوص؛ أي: المنتفع به وحدك. وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا به ما يخرجه من أن يكون هدى، فالشمس ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

شمس وإن لم يرها الضرير، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه الممرور، والمسك مسك وإن لم يدرك طيبه المأنوف. فالخيبة كلّ الخيبة؛ لمن عطش، والبحر زاخر، وبقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطيب حاضر، والحسرة كل الحسرة؛ لمن عصى وفسق، والقرآن ناه آمر، وفارق الرغبة والرهبة، والوعد متواتر والوعيد متظاهر، ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ}. والمتقين: جمع متّق، والمتقي: اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية، وهي فرط الصيانة، قال البغوي: هو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحاجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه؛ أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين من يقصده. وفي الحديث: كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدوّ، فكأنّ المتقي يجعل امتثال أمر الله، والاجتناب عمّا نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى في عرف الشرع (¬1): عبارة عن كمال التوقّي عمّا ضرّه في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الأولى: التوقّي عن العذاب المخلّد؛ بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى}. والثانية: التجنّب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، وهو المعني بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا}. والثالثة: أن يتنزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ عز وجلّ، ويتبتل إليه بكليته، وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ}. وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى: ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية، وما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح، عن العروج إلى عالم الأرواح، ولم تصدّهم الملابسة بمصالح الخلق، عن الاستغراق في شؤون الحقّ؛ لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيّدة ¬

_ (¬1) روح البيان.

بالقوة القدسية، وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين، فهداية العامّ بالإسلام، وهداية الخاص بالإيقان والإحسان، وهداية الأخصّ بكشف الحجب ومشاهدة العيان. وفي «التأويلات النجمية»: المتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه، ووصلوا به ما أمر الله أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرا وباطنا، يدلّ على هذا قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} إلى قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}. والعقاب الذي يتّقى منه ضربان (¬1): دنيوي وأخروي، وكلّ منهما يتّقى باتقاء أسبابه، فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا، يتوقّف على معرفة نظم الحرب، وفنونها، وآلاتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ}، كما يتوقّف على القوة المعنوية: من اجتماع الكلمة، واتحاد الأمة، والصبر والثبات، والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده، وعقاب الآخرة يتقى: بالإيمان الخالص، والتوحيد، والعمل الصالح، واجتناب ما يضادّ ذلك من الشرك، واجتناب المعاصي والآثام التي تضرّ المرء، أو تضرّ المجتمع. والمتقون في هذه الآية: هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية، واستعدادا لتلقي نور الحقّ، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم، ويبلغ إليه اجتهادهم. وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أنّ خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. ومن المعلوم: أنّ في قوله: {هُدىً} مجازا عقليًّا؛ لما فيه من إسناد الشيء إلى سببه؛ أي: هو هاد، أو مجازا بالحذف؛ أي: ذو هدى، أو مبالغة ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

فيه حتى جعل نفس الهدى على حدّ: زيد عدل. والمعنى؛ أي: هذا الكتاب هاد ومرشد للمؤمنين المتصفين بالتقوى من سخط الله تعالى، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. 3 - ثم وصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}؛ أي يصدّقون ويوقنون {بِالْغَيْبِ} أي: بالشيء الغائب عنهم مما لم تدركه عقولهم، ولم تعرفه حواسّهم مما أخبرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو القرآن من اليوم الآخر وأحواله من البعث، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك من أهواله. والإيمان: تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته: العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب عنهم علمه، كذات الله سبحانه، وملائكته،، والدار الآخرة وما فيها من البعث، والنشور، والحساب، والمجازاة. والإيمان بالغيب: هو اعتقاد وجود موجود وراء المحسّسات، متى أرشد إليه الدليل، أو الوجدان السليم. ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض، منزه عن المادّة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله وانفرد بعلمها، كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر، لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به، أمّا من لا يعرف إلّا ما يدركه الحسّ، فإنه يصعب إقناعه، وقلّما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا. وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إمّا (¬1) موصول بالمتقين، ومحلّه الجرّ على أنّه صفة مقيّدة له، إن فسّرت التقوى بترك المعاصي فقط، مرتّبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، أو موضحة إن فسرت التقوى بما هو المتعارف شرعا، والمتبادر عرفا من فعل الطاعات، وترك المعصيات معا؛ لأنّها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصول إجمالا، وصفة مادحة للموصوفين بالتقوى المفسّرة بما مرّ من فعل الطاعات، وترك السيئات. وتخصيص ما ذكر من ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الخصال الثلاث بالذكر؛ لإظهار شرفها، وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسم التقوى من الحسنات. أو محلّه النصب على المدح بتقدير: أمدح، أو الرفع عليه بتقدير: هم. وإمّا مفصول عنه مرفوع بالابتداء، خبره الجملة المصدّرة باسم الإشارة، كما سيأتي بيانه، فالوقف على المتقين حينئذ وقف تامّ؛ لأنّه وقف على مستقلّ، وما بعده أيضا مستقل، وأما على الوجوه الأول، فالوقف حسن غير تامّ؛ لتعلّق ما بعده به وتبعيته له. اه. «أبو السعود». وقرأ الجمهور (¬1): {يُؤْمِنُونَ} بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش والسوسي وأبو جعفر وقفا ووصلا، وحمزة وقفا فقط وهذه القراءات كلها في المتواتر، وقرأ رزين - شاذا - بتحريك الهمزة، مثل: {يُؤَخِّرَكُمْ}، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لسكونها، وأقرّ همزة أفعل؛ لتحركها، وتقدمها، واعتلالها في الماضي والأمر. اهـ. من «البحر». وقوله: {بِالْغَيْبِ}: الغيب هنا مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما مرّت الإشارة إليه، قال أبو السعود: والغيب: إما مصدر وصف به الغائب مبالغة، كالشهادة في قوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ}؛ أي: ما غاب عن الحسّ والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وهو قسمان: قسم: لا دليل عليه، وهو المراد من قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}. وقسم: قامت عليه البراهين كالصانع وصفاته، والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام، والشرائع، واليوم الآخر، وأحواله من البعث والنشر، والحساب والجزاء، وهو المراد ههنا. فالباء: صلة للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازا عن الوثوق، وهو واقع موقع المفعول به. وإمّا مصدر على حاله كالغيبة، فالباء: متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل، كما في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}؛ أي: يؤمنون ملتبسين بالغيبة إما عن المؤمن به؛ أي: غائبين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، غير مشاهدين لما معه من شواهد النبوة، وإما عن الناس؛ أي: غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم. وقيل: المراد بالغيب القلب؛ لأنّه مستور، والمعنى: يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباء حينئذ للآلة. وترك ذكر المؤمن به على التقادير الثلاثة؛ إيماء للقصد إلى إحداث نفس الفعل، كما في قولهم: فلان يعطي ويمنع؛ أي: يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإنّ الكتب الإلهية ناطقة بتفاصيل ما يجب الإيمان به. {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}؛ أي: يؤدّونها بحقوقها الظاهرية من الشروط، والأركان، والسنن، وترك المفسدات، والمكروهات، والباطنية، كالخشوع، وحضور القلب، والإخلاص. والصلاة في هذه الآية: اسم جنس، أريد بها الصلوات الخمس، كما في «الروح». وإقامتها: عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها، وسننها، وآدابها خلل، من أقام العود إذا قوّمه وعدّله. وقيل: عبارة عن المواظبة عليها من قولهم: قامت السوق إذا نفقت. وقيل: عبارة عن التشمير لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجاد، وضدّه قعد عن الأمر وتقاعد. واعلم: أنّ الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، ودعاء المعبود بالقول، أو بالفعل، أو بكليهما، يشعر العابد بالحاجة إليه؛ استدرارا للنعمة، أو دفعا للنقمة، والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام، من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه، لو أقيمت على وجهها، أمّا إذا خلت عن الخشوع، فإنّها تكون صلاة لا روح لها، وإن كانت قد وجدت صورتها، وهي الكيفيات المخصوصة، ولا يقال للمصّلي حينئذ: أنّه امتثل أمر ربه، فأقام الصلاة؛ لأنّ الإقامة مأخوذة من أقام العود، إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها، واستشعار الخشية

ومراقبة الخالق، كأنّك تنظر إليه، كما ورد في الحديث: «أعبد الله كأنّك تراه، فإنّ لم تكن تراه فإنه يراك». ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسمو بها إلى الملكوت الأعلى، أبان الله سبحانه عظيم آثارها بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم عماد الدين، فقال: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام». وقد أمر الله سبحانه بإقامتها بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، والمحافظة عليها، وإدامتها بقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ}، وبأدائها في أوقاتها بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا}، وبأدائها جماعة بقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وبالخشوع فيها بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}. {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ} أي: ومن بعض ما أعطيناهم، وملّكناهم من الأموال؛ لأنّ المراد بالرزق هنا: الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يمكن تعديه لغيره. وفي قوله: {وَمِمَّا} حذف نون من التبعيضية لفظا وخطّا؛ لإدغامها في ما الموصولة. {يُنْفِقُونَ}: ويصرفون إنفاقا واجبا، كالزكاة، والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوبا، كالتوسعة على العيال، ومواساة الأقارب والفقراء، فالإنفاق هنا شامل للواجب والمندوب، كما اختاره ابن جرير. وروي عن ابن عباس: أنّ المراد بها: زكاة الأموال. والرزق في اللغة: العطاء، وفي العرف: ما ينتفع به الحيوان، وهو يتناول الحلال والحرام عند أهل السنة، كما قال أحمد بن رسلان: يرزق من شاء ومن شا أحرما ... والرزق ما ينفع ولو محرّما ولكنّ (¬1) القرينة ههنا تخصصه بالحلال؛ لأنّ المقام مقام المدح. وتقديم المفعول للاهتمام به، وللمحافظة على رؤوس الآي. وإدخال من التبعيضية عليه؛ للكفّ عن الإسراف المنهيّ عنه. وصيغة الجمع في رزقنا مع أنّه تعالى واحد لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

شريك له؛ لأنّه خطاب الملوك، والله تعالى مالك الملك، وملك الملوك، والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه: الإخبار على لفظ الواحد، نحو: فعلت كذا، وعلى لفظ الجمع، نحو: فعلنا كذا، وعلى ما لم يسم فاعله، نحو: رسم كذا، وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة، نحو: أمركم سلطانكم بكذا، والقرآن نزل بلغة العرب، فجمع الله فيه هذه الوجوه كلّها فيما أخبر به عن نفسه، فقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} على صيغة الواحد، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} على صيغة الجمع، وقال فيما لم يسمّ فاعله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} وأمثاله، وقال في المغايبة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأمثاله، كذا في «التيسير». والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أنّ في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمراد بهذا الإنفاق: الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا. ومن فسّره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها، وهي الصلاة. واعلم: أنّه سبحانه ذكر في الآية الإيمان، وهو بالقلب، ثمّ الصلاة وهي بالبدن، ثمّ الإنفاق وهو بالمال، وهو مجموع كل العبادات. ففي الإيمان النجاة، وفي الصلاة المناجاة، وفي الإنفاق الدرجات، وفي الإيمان البشارة، وفي الصلاة الكفارة، وفي الإنفاق الطهارة، وفي الإيمان العزة، وفي الصلاة القربة، وفي الإنفاق الزيادة. فصل في مسائل تتعلق بالصلاة المسألة الأولى: واعلم أنّ الناس بالنسبة إلى الصلاة على أربع طباق: الأولى: طبقة لم يقبلوها، ورأسهم أبو جهل لعنه الله، وفي حقّه قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}، وذكر مصيرهم بقوله: {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}. والثانية: طبقة قبلوها ولم يؤدوها، وهم أهل الكتاب، وذكرهم الله تعالى

بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} وهم أهل الكتاب {أَضاعُوا الصَّلاةَ}، وذكر مصيرهم {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. والثالثة: طبقة قبلوها وأدّوا بعضا منها، ولم يؤدُّوا بعضا آخر متكاسلين، وهم المنافقون، وذكرهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى}. والرابعة: طبقة قبلوها، وهم يراعونها في أوقاتها بشرائطها، ورأسهم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}، وأصحابه كذلك، وذكرهم الله تعالى بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ}، وذكر مصيرهم بقوله: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}. المسألة الثانية: روي (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (بعث الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّق زاد الصلاة، فلمّا صدّق زاد الزكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام، فلمّا صدّق زاد الحج، ثمّ الجهاد، ثمّ أكمل لهم الدين). وقال مقاتل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بمكة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشاء، فلمّا عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس، كما في «روضة الأخيار». وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج؛ لأنّ المعراج أفضل الأوقات، وأشرف الحالات، وأعزّ المناجات، والصلاة بعد الإيمان أفضل الطاعات، وفي التعبّد أحسن الهيئات، ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات، وهو وصول العبد إلى ربّه، وقربه منه. المسألة الثالثة: في ذكر بعض الحكم. وأمّا الحكمة في فرضيتها؛ فلأنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكّانها من الملائكة، فاستكثرها صلّى الله عليه وسلّم غبطة، وطلب ذلك لأمّته، فجمع الله له في الصلوات الخمس ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

عبادات الملائكة كلّها؛ لأنّ منهم من هو قائم، ومنهم من هو راكع، ومنهم من هو ساجد، وحامد، ومسبّح، ومكبّر، إلى غير ذلك. فأعطى الله سبحانه أجور عبادات أهل السموات لأمّته إذا أقاموا بالصلوات الخمس، هكذا قالوا، والله أعلم. والحكمة في كونها خمس صلوات: أنها كانت متفرّقة في الأمم السالفة، فجمعها سبحانه لنبيّه وأمّته؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم مجمع الفضائل كلّها دنيا وأخرى، وأمته من بين الأمم كذلك، فقد قيل: أوّل من صلّى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، والعصر يونس، والمغرب عيسى، والعشاء موسى. فهذا سرّ القرار على خمس صلوات. وقيل: صلّى آدم الصلوات الخمس كلّها، ثمّ تفرقت بعده بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأوّل من صلّى الوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، ولذلك قال: «زادني ربّي صلاة»؛ أي: الوتر على الخمس، أو صلاة الليل، فافهم. قيل (¬1): وأول من بادر إلى السجود جبريل - عليه السلام - ولذلك كان رفيق الأنبياء وخادمهم، وأوّل من قال: سبحان الله جبريل، والحمد لله آدم، ولا إله إلّا الله نوح، والله أكبر إبراهيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك كلّه في «كشف الكنوز وحلّ الرموز»، وهكذا قالوا ولكن لا أصل له. 4 - وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} معطوف على الموصول الأول، وهو نوع آخر للمتقين، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم: كعبد الله بن سلام، وعمّار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول: فهم الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مشركي العرب؛ لأنّهم لم يرسل إليهم غيره صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت الآية الأولى إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} فيهم. روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ المراد بالمؤمنين هنا: من آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من آمنوا من مشركي العرب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

أي: والذين يصدّقون {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد، وهو القرآن الذي يتلى، والوحي الذي لا يتلى. وهو ما بيّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أعداد الركعات، ونصب الزكوات، وحدود الجنايات. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وقال أيضا: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}. والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقبا حينئذ؛ لتغليب المحقّق على المقدّر، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحقّقه منزلة الواقع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى} مع أنّ الجنّ ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا، ولا كان الجميع إذ ذاك نازلا. وفي «الكواشي»: لأنّ القرآن شيء واحد في الحكم، ولأنّ المؤمن ببعضه مؤمن بكلّه. انتهى. والإنزال هنا (¬1): بمعنى الوحي، وسمّي إنزالا، وهو نقل الشيء من العلو إلى السفل، ولا يكون إلّا في الأجسام؛ لما في جانب الألوهية من علوّ الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي صلّى الله عليه وسلّم لتبليغه للخلق، كما قال في آية أخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}؛ يعني: أنّ الإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل، وهو إنّما يلحق المعاني بواسطة لحوقه الذوات الحاملة لها، فنزول ما عدا الصحف من الكتب الإلهيّة إلى الرسل عليهم السلام والله أعلم: بأن يتلقّاها الملك من جنابه تعالى تلقّيا روحانيا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ، فينزل بها إلى الرسل، فيلقيها عليهم. {وَ} يؤمنون بـ {ما أُنْزِلَ} من الكتب السالفة من التوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها على الرسل الذين أرسلوا {مِنْ قَبْلِكَ} إيمانًا إجماليًّا لا تفصيليًّا، والإيمان بالكل جملة فرض عين، وبالقرآن تفصيلا من حيث إنّا متعبّدون بتفاصيله فرض كفاية، فإنّ في وجوبه على الكلّ عينا حرجا بيّنا، وإخلالا بأمر المعاش. قال في «التيسير»: (¬2) الإيمان بكلّ الكتب مع تنافي أحكامها على وجهين: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أحدهما: التصديق أنّ كلّها من عند الله تعالى. والثاني: الإيمان بما لم ينسخ من أحكامها. {وَبِالْآخِرَةِ} تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهو في المعدودات اسم للفرد اللاحق، وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ}، وهي من الصفات الغالبة، وكذا الدنيا، وسمّيت الدنيا دنيا لدنوها؛ أي: قربها من الآخرة، أو لدناءتها وخسّتها، وسمّيت الآخرة آخرة؛ لتأخّرها، وكونها بعد الدنيا. {هُمْ يُوقِنُونَ}؛ أي: يعتقدون اعتقادا جازما، وتقديم الجار والمجرور على الفعل؛ لرعاية الفاصلة، أو لإفادة الحصر، وأتى بالجملة الاسمية للاهتمام به؛ لأنّه أعلى من الإنفاق. والإيقان: إتقان العلم بالشيء بنفي الشكّ، والشبهة عنه نظرا واستدلالا، ولذلك لا يسمّى علمه تعالى يقينا، وكذا العلوم الضرورية. وفيه ردّ على من أنكر الآخرة ممن لا يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ الجمهور {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} مبنيا للمفعول. وقرأهما النخعيّ، وأبو حيوة، ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل، وقرىء شاذّا {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} بتشديد اللام، ووجه ذلك: أنه أسكن لام {أُنْزِلَ} ثم حذف همزة (إلى)، ونقل كسرتها إلى لام «أنزل»، فالتقى المثلان من كلمتين، فأدغم، والإدغام جائز. وقرأ الجمهور {يُوقِنُونَ} بواو ساكنة بعد الياء، وهي مبدلة من ياء؛ لأنّه من أيقن. وقرأ أبو حية النّمريّ بهمزة ساكنة بدل الواو. ومعنى الآية: أي (¬1) والذين يصدقون بما أنزل إليك من القرآن والوحي، أنه من عند الله تعالى، ويصدقون بما أنزل على الرسل من قبلك من سائر الكتب السماوية، أنها من عند الله سبحانه وتعالى، لا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله. وقال ابن عباس: أي: يصدقون بما جئت به من الله تعالى، وبما جاء به من قبلك من الرسل، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون بما جاءؤوا به من ربهم، وبمجيء الدار الآخرة التي تتلو الدنيا مع ما فيها من البعث، والحشر والحساب، ¬

_ (¬1) العمدة.

والميزان، والجزاء، والجنة والنار. هم يوقنون؛ أي: (¬1) يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان عليه أهل الكتاب من الشكوك والأوهام التي من جملتها: زعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فقال فرقة منهم: يجري حالهم في التلذذ بالمطاعم، والمشارب، والمناكح على حسب مجراها في الدنيا، وقال آخرون: إنّ ذلك إنّما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام، ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه، فلا يتلذذون إلا بالنسيم، والأرواح العبقة، والسماع اللذيذ، والفرح والسرور. وفي بناء {يُوقِنُونَ} على الضمير تعريض بمن عداهم من أهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، فإنّ اعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلا من الوصول إلى مرتبة اليقين. فدل التقديم على التخصيص، بأن إيقان من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز إلا ما أثبته الكفار بالإقرار من أهل الكتاب. واليقين (¬2): هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور، أو يشرب الخمر، أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم يظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقّا إلّا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرّفا لها في أعمالها. والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين: 1 - البحث والتأمّل فيما يحتاج إلى ذلك، كالعلم بوجود الله سبحانه ورسالة الرسل. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[5]

2 - خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكّا، وهي طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه. وعلينا أن نقف عند ذلك، فلا نزيد فيه شيئا، ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص ولا تثبّت من صحته، وقد دوّنه المفسرون في كتبهم، وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه في شيء. قال أبو الليث - رحمه الله تعالى - في «تفسيره»: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين دلالة، ويقين خبر. فأما يقين العيان: فهو أنّه إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء. وأما يقين الدلالة: فهو أن يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها. وأما يقين الخبر: فهو أنّ الرجل يعلم باليقين أنّ في الدنيا مدينة يقال لها: بغداد وإن لم ينته إليها. فههنا يقين خبر ويقين دلالة؛ لأنّ الآخرة حقّ، ولأنّ الخبر يصير معاينة عند الرؤية. انتهى. ويقال: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحقّ اليقين المشاهدة فيها، ثمّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها. فقد قيل: عشرة من المغرورين: من أيقن أنّ الله خالقه ولا يعبده، ومن أيقن أنّ الله رازقه ولا يطمئن به، ومن أيقن أن الدنيا زائلة ويعتمد عليها، ومن أيقن أنّ الورثة أعداؤه ويجمع لهم، ومن أيقن أنّ الموت آت فلا يستعدّ له، ومن أيقن أنّ القبر منزله فلا يعمره، ومن أيقن أنّ الديّان يحاسبه فلا يصحح حجته، ومن أيقن أنّ الصراط ممرّه فلا يخفف ثقله، ومن أيقن أنّ النار دار الفجّار فلا يهرب منها، ومن أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار فلا يعمل لها، كما في «التيسير». قال ذو النون المصريّ: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب. اه. 5 - وجملة قوله: {أُولئِكَ} في محل (¬1) الرفع، إن جعل أحد الموصولين ¬

_ (¬1) روح البيان.

مفصولا عن المتقين على أنّها خبر له، وكأنّه لما قيل: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} قيل: ما بالهم خصّوا بذلك؟ فأجيب بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى آخر الآيات. وإلّا فاستئناف لا محلّ لها، فكأنّه ينتجه الأحكام السابقة، والصفات المتقدمة. وأولاء: جمع، لا واحد له من لفظه، مبني على الكسر، وكافه للخطاب كالكاف في {ذلِكَ}؛ أي: المذكورون قبله، وهم المتقون الموصوفون بالإيمان بالغيب وسائر الأوصاف المذكورة بعده. وفيه دلالة على أنّهم متميّزون بذلك أكمل تميّز، منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار بعلوّ درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وهو مبتدأ، وقوله عزّ وجل: {عَلى هُدىً} خبره، وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير؛ لكمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى؛ أي: هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وإيراد كلمة الاستعلاء؛ لتمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى، وتمسكهم به، واستقرارهم عليه بحال من يقبل الشيء، ويستولي عليه. يعني: شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد؛ وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر، وإدامة النظر فيما نصب من الحجج، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. يعني: أكرمهم الله تعالى في الدنيا، حيث هداهم، وبيّن لهم طريق الفلاح قبل الموت. {مِنْ رَبِّهِمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة له، مبيّنة لفخامته الإضافية إثر بيان فخامته الذاتيّة، مؤكّدة لها؛ أي: على هدى كائن من ربهم سبحانه، وهو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم؛ لغاية تفخيم الموصوف، والمضاف إليهم وتشريفهما. ثمّ في هذه الآية (¬1) ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات، وفي قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ¬

_ (¬1) روح البيان.

فَقَدِ اهْتَدَوْا} ذكر لهم الهداية بالإقرار والاعتقاد بدون سائر الطاعات؛ بيانا لشرف الإيمان، وجلالة قدره، وعلو أمره، فإنّه إذا قوي لم يبطله نفس المخالفات، بل هو الذي يغلب، فيردّ إلى التوبة بعد التمادي في البطالات، وكما هدي اليوم إلى الإيمان يهدى غدا إلى الجنان. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ}. وذلك، أن المطيعين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقاهم. قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا}، وتتلقّاهم الملائكة، وتبقى العصاة منفردين منقطعين في متاهات القيامة، ليس لهم نور الطاعات، ولا في حقهم استقبال الملائكة، فلا يهتدون السبيل، ولا يهديهم دليل. وقرأ ابن هرمز {من ربهم} بضمّ الهاء، وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ذكره في «البحر». فإن قلت: لم ذكر هدى هنا مع قوله أولا: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}؟ قلت: لأنّه ذكر هنا مع هدى فاعله بخلافه ثمّ. ذكره في فتح الرحمن. {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تكرير {أُولئِكَ} (¬1)؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به عن غيرهم، فكيف بهما، وتوسيط العطف بينهما؛ تنبيه على تغايرهما في الحقيقة لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا، بخلاف قوله: {أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} فإنّ التسجيل بالغفلة، والتشبيه بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى، فلا تناسب الفصل. وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر بالضمير: الدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره، فصفة الفلاح مقصورة عليهم، لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، ولا يلزم من هذا أن لا يكون {لِلْمُتَّقِينَ} صفة أخرى غير الفلاح، فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس، حتى يلزم ذلك. أو {هُمُ} مبتدأ، و {الْمُفْلِحُونَ} خبره والجملة خبر ¬

_ (¬1) روح البيان.

{أُولئِكَ}. والمفلح بالحاء والجيم: هو الفائز بالبغية بعد سعي في الحصول عليها، واجتهاد في إدراكها، كأنه انفتحت له وجوه الظفر، ولم تستغلق عليه من الفلح، وهو الشقّ والقطع، ومنه سمّي الزارع فلاحا؛ لأنّه يشقّ الأرض. وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين، نحو: فلق، وفلذ، وفلى يدلّ على الشق والفتح. والمشار إليه بأولئك في الموضعين واحد، وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب، والمؤمنون منهم. تنبيه (¬1): تأمّل كيف نبّه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى: بناء الكلام على اسم الإشارة؛ للتعليل مع الإيجاز، وتكريره، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل لإظهار قدرهم، والترغيب في اقتفاء أثرهم. وقد تشبثت الوعيدية بهذه الآية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، وردّ بأن المراد بالمفلحون: الكاملون في فلاحهم، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح لهم رأسا، كما في «تفسير البيضاوي». وحاصل الفلاح يرجع إلى ثلاثة أشياء (¬2): أحدها: الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها، والدنيا فلم يطغوا بزخارفها، والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه، وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم. والمعنى: أولئك الموصوفون بالصفات المذكورة، كائنون على هدى ورشاد كائن من ربّهم، ومعبودهم، ومالكهم، وأولئك المذكورون هم المفلحون؛ أي: الفائزون في الدنيا وفي الآخرة بالجنّة، والناجون من النار، والمقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. وقال ابن كثير: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي (¬3): المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم، وإيمانهم بالله، وكتبه، ورسله من الفوز ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) ابن كثير.

بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب. انتهى. فائدة: ويستفاد من هذه الآيات (¬1): أنّ الهداية الموصلة إلى الفلاح الأبديّ لا تحصل إلا لمن اتصف بالتقوى، وآمن بالغيب الذي أخبر به محمد صلّى الله عليه وسلّم وأقام الصلاة المفروضة، وأنفق في الواجبات مما رزقه الله تعالى، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام، وأيقن مجيء الدار الآخرة. الإعراب {الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}. {الم} كلمة أريد لفظها لا معناها؛ لأنها اسم للسورة، في محلّ الرفع خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هذه {الم}، أي: هذه السورة مسمّاة بلفظ {الم} مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا. أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألم هذا محلّه. وقد تقدم بسط الكلام في معناه وإعرابه في مبحث التفسير، فراجعه. والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا نحويا، لا محلّ لها من الإعراب. وعبارة «عمدة التفاسير» هنا: قوله: {الم} تقدم لك أنّ الأرجح فيه القول: بأنّه مما انفرد الله سبحانه وتعالى بعلم المراد منه، وعلى هذا القول فلا يوصف بإعراب، ولا بناء؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، ومعناه لم يعلم لنا. وعلى القول: بأنّه اسم لهذه السورة مثلا، ففيه ثلاثة أوجه من الإعراب: الأول: الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف. والثاني: النصب على أنّه مفعول به لفعل محذوف وجوبا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: اقرؤوا {الم} اقرؤوا فعل وفاعل، {الم} في محل النصب مفعول به، ¬

_ (¬1) العمدة.

مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليا بواسطة شبهه بأسماء الأصوات، والجملة الفعلية مستأنفة. والثالث: الجرّ على أنّه مقسم به حذف منه حرف القسم. اه. وقال العكبري: هذه الحروف المقطعة كل واحدة منها اسم، فألف: اسم يعبّر به عن مثل الألف الذي في (قال)، ولام: اسم يعبّر به عن مثل اللام الذي في (قال)، وكذلك ما أشبهها. والدليل على أنّها أسماء: أنّ كلّا منها يدلّ على معنى في نفسه، وهي مبنية؛ لأنّك لا تريد أن تخبر عنها بشيء، وإنما يحكي بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها، فهي كالأصوات، نحو: غاق في حكاية صوت الغراب. انتهى. {ذلِكَ} ذا: اسم إشارة يشار به للمفرد المذكر البعيد تنزيلا للبعد المعنوي منزلة البعد الحسي، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، واللام: لبعد المشار إليه، أو لمبالغة البعد، والكاف: حرف دالّ على الخطاب. {الْكِتابُ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، مرفوع بالضمة الظاهرة. {لا} نافية لحكم الخبر عن جنس الاسم، تعمل عمل إنّ، {رَيْبَ} في محل النصب، اسمها مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا لتضمّنه معنى من الاستغراقية، {فِيهِ} جار ومجرور، متعلّق بمحذوف وجوبا؛ لوقوعه خبرا للا، تقديره: لا ريب موجود فيه، وجملة لا من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلّم مخبر عنه بعدم وجود ريب فيه، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. {هُدىً} خبر ثان للمبتدأ، ففيه الإخبار بالمفرد بعد الإخبار بالجملة، فهو جائز فصيح، والخبر مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذّر؛ لأنّه اسم مقصور، مثل: فتى، وصح الإخبار به مع كونه اسم معنى؛ لأنّه في تأويل هاد، ويجوز أن يكون {ذلِكَ} مبتدأ، {الْكِتابُ} خبر أول له؛ لأنه قصد به الإخبار بأنه الكتاب المقدّس المستحق لهذا الاسم، وجملة {لا رَيْبَ فِيهِ} خبر ثان له، أو حال من الكتاب، و {هُدىً} خبر ثالث له، {لِلْمُتَّقِينَ} جار ومجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنّه من جمع المذكر السالم، وهو جمع متّق

أصله: متقيين بياءين، الأولى لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان، وهما الياءان، فحذفت إحداهما، وهي الأولى، فصار متقين، كما سيأتي بسط الكلام فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. الجار والمجرور متعلّق بهدى؛ لأنّه مصدر، ويجوز أن تجعله صفة لهدى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. {الَّذِينَ} اسم موصول لجمع المذكر في محل الجر صفة للمتقين، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، ويجوز فيه القطع إلى الرفع، أو النصب. {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والواو ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع. {بِالْغَيْبِ} جار ومجرور، متعلّق بيؤمنون، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد الواو في يؤمنون، وهو أعني الموصول جامد مؤول بمشتق مأخوذ من الصلة، تقديره: هدى للمتقين المؤمنين بالغيب، أو مأخوذ من ضدّ معنى الموصول، تقديره: للمتقين المعلوم إيمانهم بالغيب. {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على يؤمنون على كونه صلة الموصول. {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ} الواو عاطفة. {مِمَّا} من حرف جرّ مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ما. {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بمن، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، الجار والمجرور متعلّق بينفقون المذكور بعده، قدّم عليه اهتماما بشأن المنفق، أو لرعاية الفاصلة. {رَزَقْناهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ومما رزقناهم إياه، وهو المفعول الثاني لرزقناهم، وفي «الجمل»: أنّ العائد محذوف، فيقدّر متصلا أو منفصلا على حدّ قول ابن مالك: وصل أو افصل هاء سلنيه {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} على كونها صلة الموصول والعائد إلى الموصول الواو في {يُنْفِقُونَ}.

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}. {وَالَّذِينَ} الواو عاطفة. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر، معطوف على الموصول الأوّل، على كونه صفة للمتقين. {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِما} الباء حرف جرّ. {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محلّ الجر بالباء، والجار والمجرور متعلّق بيؤمنون. {أُنْزِلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لما، أو صفة لها. {إِلَيْكَ} جار ومجرور متعلّق بأنزل. {وَما} الواو عاطفة. ما في محلّ الجر معطوفة على ما الأولى. {أُنْزِلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر فيه، والجملة صلة لما، أو صفة لها. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور متعلّق بأنزل. {وَبِالْآخِرَةِ} الواو عاطفة. {بِالْآخِرَةِ} جار ومجرور متعلّق بيوقنون الآتي، قدّم عليه اهتماما بشأن الآخرة، أو لرعاية الفاصلة. {هُمْ} الهاء ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا، والميم حرف دالّ على الجمع. {يُوقِنُونَ} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: وهم موقنون بالآخرة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} على كونها صلة الموصول، ففيه عطف الجملة الإسمية على الفعلية، وهو جائز. {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. {أُولئِكَ} اسم إشارة يشار به للجمع المطلق، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، الكاف حرف دال على الخطاب مبني على الفتح. {عَلى هُدىً} جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: كائنون على هدى، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا بيانيّا، لا محلّ لها من الإعراب. {مِنْ رَبِّهِمْ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف صفة لهدى، تقديره: على هدى كائن من ربّهم. {وَأُولئِكَ} الواو عاطفة. {أُولئِكَ} مبتدأ. {هُمُ} ضمير

فصل، حرف لا محلّ له من الإعراب. {الْمُفْلِحُونَ} خبر المبتدأ، مرفوع بالواو، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ويصحّ أن يعرب {أُولئِكَ} مبتدأ أول. {وهُمُ} ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع مبتدأ ثان {الْمُفْلِحُونَ} خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول معطوفة على الجملة التي قبلها. التصريف ومفردات اللغة {الم} هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: {المص} و {المر} وغيرها، أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال: إنّها معربة؛ لأنّها لم يدخل عليها عامل فتعرب، ولا يقال: إنها مبنية؛ لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، فتقول: هذه ألف حسنة، ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة أسماء العدد إذا عدوا يقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة. وقد اختلف العلماء في المراد بها، كما مرّ بسطه. {ذلِكَ الْكِتابُ} الكتاب يطلق على معان كثيرة، منها: العقد المعروف بين العبد وسيّده على مال منجّم، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}، وعلى الفرض، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}، وعلى الحكم قاله الجوهري، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لأقضينّ بينكما بكتاب الله، كتاب الله القصاص»، وعلى القدر، كما في قوله: يا ابنة عمّي كتاب الله أخرجني ... عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا أي: قدر الله سبحانه، وعلى مصدر كتبت، تقول: كتبت كتابا وكتبا، ومنه: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وعلى المكتوب، كالحساب بمعنى المحسوب، ومنه قول الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجّاج يتلى كتابها

ومنه ما هنا. {لا رَيْبَ} الريب: الشكّ بتهمة، وللريب في اللغة ثلاثة معان. أحدها: الشكّ، وهو المراد هنا. وثانيها: التهمة، كما في قول جميل: بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب وثالثها: الحاجة، كما قال الشاعر: قضينا من تهامة كلّ ريب ... وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا {هُدىً}؛ أي: رشاد وبيان، فهو مصدر من هداه، كالسّرى والبكى. اه. «أبو السعود». {لِلْمُتَّقِينَ} جمع متّق، وأصله: متّقيين بياءين، الأولى لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت إحداهما، هي الأولى، فقيل: للمتقين. ومتّق: اسم فاعل من الوقاية؛ أي: المتخذ له وقاية من النار. اه. «جمل». وأصل هذه الكلمة: موتقيين بوزن مفتعلين؛ لأنّ أصل المادّة من الوقاية، وفعلها: وقى لفيف مفروق، واتقى منه وزنه افتعل، وأصل اتقى أو تقي تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثمّ أبدلت الواو - فاء الكلمة - تاء، وأدغمت في تاء الافتعال على حدّ قول ابن مالك في باب التصريف: ذو اللّين فا تا في افتعال أبدلا ... وشذّ في ذي الهمز نحو ائتكلا وعليه فاسم الفاعل موتقي بوزن مفتعل، أبدلت الواو تاء وأدغمت في تاء الافتعال، كما تقدّم قريبا، ثم أعلّ إعلال قاض بحذف يائه، وأصل التقوى: وقيا، أبدلت الواو تاء، كما أبدلت الياء واوا فقيل: تقوى بعد أن كانت وقيا، كما قال ابن مالك في «الخلاصة»: من لام فعلى اسما أتى الواو بدل ... ياء كتقوى غالبا جا ذا البدل {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يؤمنون على وزن يفعلون بضمّ حرف المضارعة

مضارع آمن الرباعي، أصله: أأمن بوزن أفعل، فكرهوا اجتماع الهمزتين في كلمة، فقلبوا الثانية ألفا. {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} مضارع أقام الرباعيّ، وفيه حذف همزة أفعل، إذ القياس إثباتها، وفيه إعلال بالتسكين والقلب، فأصله: يقومون، نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ، فوزنه يفعلون. وفي «الجمل»: أصله: يؤقومون، حذفت همزة أفعل؛ لوقوعها بعد حرف المضارعة، فصار يقومون بوزن يكرمون، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى القاف، ثمّ قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. اه. «سمين». الصلاة أصله: صلوة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ففيه إعلال بالقلب. وقيل: من الوصلة؛ لأنها وصلة بين العبد وبين ربّه، وعليه فأصلها وصلة، قلبت الواو قلبا مكانيا فصار صلوة، ثمّ يقال: تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا. {يُنْفِقُونَ} فيه حذف همزة أفعل من المضارع، إذ القياس: يؤنفقون. {وَبِالْآخِرَةِ} الآخرة مؤنث الآخر، كما أنّ الدنيا مؤنث الأدنى، ثمّ صارا علمين للدارين. {هُمْ يُوقِنُونَ} أصله: ييقنون بياءين؛ لأنّ المادة من اليقين، وفيه همزة أفعل؛ لأنّه من مضارع أيقن، وفيه إعلال بالقلب حيث قلبت الياء الثانية الساكنة واوا؛ لسكونها إثر ضمّة، فجعلت حرف مدّ، وهذا على حدّ قول ابن مالك: ووجب إبدال واو بعد ضمّ من ألف ... ويأكموقن بذاله اعترف {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} جمع مفلح، أصله: مؤفلح بوزن مفعل، ففيه حذف همزة أفلح الرباعي من اسم الفاعل، أصله: المؤفلحون. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: حسن الافتتاح في قوله: {الم} حيث افتتح بما فيه غموض ودقة؛

لتنبيه السامع على النظر، والفكر، والاستنباط. ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: {ذلِكَ} إشارة إلى بعد منزلته ورتبته. ومنها: التعريف بالألف واللام في قوله: {الْكِتابُ} تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره. ومنها: معدول الخطاب في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ}، حيث عبّر فيه بصيغة الخبر مرادا به الأمر؛ أي: لا ترتابوا فيه. ومنها: تقديم الريب على الجار والمجرور في هذه الجملة؛ لأنّه أولى بالذكر أوّلا استعددا لصورته حتى تتجسّد أمام السامع. ومنها: المجاز العقليّ في قوله: {هُدىً} لما فيه من الإسناد إلى السبب، حيث أسند الهداية إلى الكتاب والهادي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: الصائرين إلى التقوى، علاقته اعتبار ما يؤول إليه. ومنها: الإيجاز في ذكر المتقين؛ لأنّ الوقاية اسم جامع لكلّ ما تجب الوقاية منه. ومنها: الاختصاص في قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}؛ لكونهم المنتفعين به. ومنها: إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}؛ لأنّه بمعنى الغائب مبالغة فيه. ومنها: تقديم {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ} على {يُنْفِقُونَ} اهتماما بشأن المنفق به، أو لرعاية الفاصلة. ومنها: التعبير بضمير جماعة المتكلمين في قوله: {رَزَقْناهُمْ} مع كون الله واحدا لا شريك له؛ جريا على عادة خطاب الملوك في التعبير عن أنفسهم بصيغة الجمع، كما مرّ في مبحث التفسير.

ومنها: التكرار في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} {يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وفي قوله: {الَّذِينَ وَالَّذِينَ} إن كان الموصوف واحدا، فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفا كان من تكرار اللفظ دون المعنى. ومنها: تكرار {أُولئِكَ}؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به من غيرهم، فكيف بهما؟. ومنها: توسيط العاطف بينهما؛ تنبيها على تغايرهما في الحقيقة. ومنها: الفصل بين المبتدأ والخبر في قوله: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ للدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره. وفي هذه الجملة أيضا: قصر الصفة على الموصوف؛ لأنّ صفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، وفي هذه الجملة أيضا: تأكيد المظهر بالمضمر. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {عَلى هُدىً}؛ تشبيها لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده، فحذف المشبه فاستعيرت كلمة على: الدالّة على الاستعلاء؛ لبيان أنّ شيئا تفوّق واستعلى على ما بعدها حقيقة، نحو: زيد على السطح، أو حكما، نحو: عليه دين، فالدّين للزومه وتحمّله، كأنّه ركب عليه وتحمّله. والدّقّة: أنّ الاستعارة بالحرف، ويقال في تقريرها: شبّه مطلق ارتباط بين هدى ومهدى بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعل عليه؛ بجامع التمكن في كلّ منهما، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، ثمّ استعيرت على وهي من جزئيات المشبه به لجزئيّ من جزئيات المشبه على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الحذف، وهو في مواضع: فمنها: قوله هذه: {الم} على قول من يقدر ذلك، وقوله: {هُدىً} أي: هو هدى، فحذف المبتدأ، وقوله: {يُنْفِقُونَ}؛ أي: المال. {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ}؛ أي: من القرآن. {مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: من قبل إرسالك، أو قبل الإنزال إليك. {وَبِالْآخِرَةِ}؛ أي: بجزاء الآخرة.

ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} مع كون بعضه مترقبا حينئذ؛ لتغليب المحقّق على المترقّب نزوله، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحقّقه منزلة الواقع. ومنها: التنكير في قوله: {عَلى هُدىً}؛ للدلالة على كمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى أي هدى لا يقادر قدره. ومنها: التعرّض لعنوان الربوبية في قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}؛ للدلالة على تفخيم الموصوف، وشرف المضاف إليهم. ومنها: حسن التقسيم، وهو فنّ من فنون البلاغة، وهو استيعاب المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد استوعبت هذه الآيات جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات التي يعكف عليها المؤمنون؛ لأنّ العبادات كلّها تنحصر في نوعين: بدنيّة ومالية، ولا بدّ من استيفائهما لتكون العبادات كلّها مستوفاة. فائدة مستجادة: وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث (¬1): منها: ما أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء أعرابيّ، فقال: يا نبي الله! إنّ لي أخا وبه وجع، فقال: «وما وجعه؟» قال: به لمم، قال: فأتني به، فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة وهاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد، وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}، وآية من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} وآخر سورة المؤمنين {فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، وآية من سورة الجنّ {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، {وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. فقام الرجل كأنّه لم يشتك قطّ، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وأخرج نحوه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى، عن رجل، عن أبيّ مثله. وأخرج الدارميّ، وابن الضريس عن ابن مسعود قال: (من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثا من آخر (سورة البقرة) لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلّا أفاق. وأخرج الدارميّ، وابن المنذر، والطبراني عنه قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح؛ أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها: أوّلها {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ}. وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة. وقد ورد في ذلك غير هذا. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}. المناسبة مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا (¬1) بيّن حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل من قبله، وبيّن ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية، وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنّه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال أن لا يجدي فيهم الإنذار والتبشير، وأن لا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون. فالإنذار وعدمه سيّان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع؟ مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له وعداوة لمن دعا إليه، لأنّ الجهل أفسد وجدانه، وأصبح لا يميّز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ. وقد جرت عادة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم، فلا يبقي فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم، فلا يسمعون إلّا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لم ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنّهم لا يبصرون شيئا، وكأنّه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة. وقد حكم الله سبحانه عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العزّ والسلطان في الدنيا، كما قال سبحانه: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

أسباب النزول روي: أنّ هاتين الآيتين نزلتا في من علم الله عدم إيمانه من الكفار، إما مطلقا، وإما في طائفة مخصوصة، كأبي جهل، وأبي لهب، وغيرهما من كفار مكة. والحكمة في إخبار الله سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك؛ إراحة قلبه من تعلّقه بإيمانهم، فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم. قال أبو حيان: وذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين أقوالا: أحدها: أنّها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم. الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية. الثالث: في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. الرابع: في أصحاب القليب، وهم: أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. الخامس: في مشركي العرب قريش، وغيرها. السادس: في المنافقين. والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنّه يستحيل إيمانهم، أنّه يرجو الإيمان من ذرّيتهم. التفسير وأوجه القراءة 6 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا، وأنكروا بآيات الله، وكذبوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصرّوا، وداموا على ذلك. {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي: مستو عندهم في عدم الإفادة، إنذارك وتخويفك يا محمد إياهم من عذاب الله على كفرهم، وعدم إنذارك إيّاهم. فهم {لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدّقون بما جئتهم به من التوحيد، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ لأنّه قد سبق في علمنا عدم إيمانهم بك. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على تكذيب قومه له.

لمّا ذكر سبحانه خاصّة عباده، وخالصة أوليائه بصفاتهم التي أهّلتهم للهدى والفلاح، أعقبهم بأضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يغني عنهم الآيات والنذر. وتعريف الموصول: إمّا للعهد، والمراد به: ناس بأعيانهم، كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود، أو للجنس متناولا كلّ من صمّم على كفره تصميما لا يرعوي بعده وغيرهم، فخصّ منهم غير المصرّين بما أسند إليه. والكفر لغة: الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافرا، لأنّه يستر الأشياء بظلمته. قال الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها أي: سترها. وشرعا: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به. واعلم: أنّ الكفر على أربعة أضرب (¬1): كفر إنكار: وهو أن لا يعرف الله سبحانه أصلا، ككفر فرعون، حيث قال: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي}. وكفر جحود: وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس اللعين. وكفر عناد: وهو أن يعرف الله بقلبه، ويقرّ بلسانه، ولا يدين به، ككفر أمية ابن أبي الصلت، وأبي طالب، حيث قال في شعر له: ولقد علمت بأنّ دين محمد ... من خير أديان البريّة دينا لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لو جدتّني سمحا بذاك مبينا وكفر نفاق: وهو أن يقرّ بلسانه، ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر. ¬

_ (¬1) الخازن.

وحاصله (¬1): أنّ من جحد الله سبحانه، أو أنكر وحدانيته، أو أنكر شيئا مما أنزله على رسوله، أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو نبوة أحد من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو كافر، فإن مات على ذلك فهو في النار خالدا فيها، ولا يغفر الله سبحانه له. والمراد بالذين كفروا هنا: من علم الله سبحانه أنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدّين للإيمان بجحودهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا، وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء. وسبب كفرهم: إما عناد للحق بعد معرفته، وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كأبي جهل وأضرابه، وأحبار اليهود، ككعب بن الأشرف وإما إعراض عن معرفته، واستكبار عن النظر فيه. والمعرضون عن الحقّ يوجدون في كلّ زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائف الحقّ لوّوا رؤوسهم، واستكبروا، وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}. {سَواءٌ عَلَيْهِمْ} أي (¬2): مستو عند هؤلاء الكفرة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر مبالغة، كما في قوله تعالى: {تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ}. وارتفاعه على أنّه خبر إنّ، وقوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} يا محمد {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} مرتفع على الفاعلية بسواء؛ لأنّ الهمزة وأم مجرّدتان عن معنى الاستفهام؛ لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما، كما جرّد الأمر والنهي عن معنييهما؛ لتحقيق معنى الاستواء في قوله عزّ وجلّ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كأنّه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، كقولك: إن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

زيدا مختصم أخوه وابن عمّه. وقيل: {سَواءٌ} خبر مقدم للمصدر المنسبك من الجملة التي بعده من غير سابك لإصلاح المعنى، وخبر إنّ جملة قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} الآتية، وجملة {سَواءٌ} معترضة بين اسم إنّ وخبرها. وصحّ على هذا القول الابتداء بالفعل والإخبار عنه بسواء؛ هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنّه قيل: إنذارك إياهم وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أي: سماعك به خير من رؤيته. وأصل الإنذار: الإعلام بأمر مخوف، وكلّ منذر معلم، وليس كلّ معلم منذرا، كما في «تفسير أبي الليث»، والمراد ههنا: التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، وإنّما اقتصر على الإنذار دون التبشير؛ لمّا أنّهم ليسوا بأهل للبشارة أصلا؛ ولأنّ الإنذار أوقع في القلوب، وأشدّ تأثيرا في النفوس، فإنّ دفع المضار أهمّ من جلب المنافع، فحيث لم يتأثّروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا أولى. فإن قلت: لم حذف الواو هنا، وأثبت في (يس) حيث قال فيها: {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ}؟ قلت: لأنّ (ما) هنا جملة هي خبر عن اسم إنّ، و (ما) هناك جملة عطفت على أخرى، فبينهما فرق. وإنما لم يقل: (سواء عليك)، كما قال لعبدة الأوثان: {سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ}، لأنّ إنذارك، وترك إنذارك ليسا سواء في حقّك؛ لأنّك تثاب على الإنذار وإن لم يؤمنوا، وأمّا في حقّهم فهما سواء في عدم الإفادة؛ لأنّهم لا يؤمنون في الحالين، وهو نظير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنّه يثاب به الآمر وإن لم يمتثل المأمور. وكان هؤلاء القوم، كقوم هود عليه السلام حيث قالوا له: {سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ}. وقوله: {لا يُؤْمِنُونَ} جملة مستقلّة على الوجه الأول، مؤكدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلّ لها من الإعراب، أي: موضحة لتساوي الإنذار وعدمه في حقّهم لا في حقّه صلّى الله عليه وسلّم، ولا في حقّ الدّعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كلّ كافر إلى الدين الحقّ، لا فرق بين المستعدّ للإيمان وغير

المستعد. أو حال مؤكدة، أو بدل منه، أو خبر إن، والجملة قبلها اعتراض بما هو علّة الحكم. ثّم هذا تيئيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتفريغ لقلبه، حيث أخبره عن هؤلاء بما أخبر به نوحا عليه السلام في الانتهاء، فإنّه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان، ومقاساة الشدائد والأحزان: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، فدعا بهلاكهم بعد ذلك، وكذلك سائر الأنبياء. وفي الآية الكريمة: إخبار بالغيب على ما هو به، إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة. وفي الآية: إثبات فعل العبادة، فإنّه قال: {لا يُؤْمِنُونَ}، وفيه إثبات الاختيار، ونفي الإكراه، والإخبار، فإنّه لم يقل: لا يستطيعون، بل قال: لا يؤمنون. فإن قلت (¬1): حين علم الله أنهم لا يؤمنون، فلم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعائهم؟ قلت: فائدة الإنذار بعد العلم: بأنّه لا ينجع إلزام الحجة، كما أنّ الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان، وعلم أنّه لا يؤمن، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ}. فإن قلت: قد أخبر الله رسوله أنّهم لا يؤمنون، فهلّا أهلكهم كما أهلك قوم نوح عليه السلام، بعدما أخبره أنّهم لا يؤمنون؟ قلت: لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان رحمة للعالمين، كما ورد به الكتاب، فقد قال تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. والآية (¬2) مما احتّج به من جوّز تكليف ما لا يطاق، فإنّه سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي.

أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون، وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا، وشمل إيمانهم الإيمان بأنّهم لا يؤمنون، فيجتمع الضدّان، والحقّ أنّ التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إنّ الأحكام لا تستدعي غرضا سيّما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء والإخبار بوقوع الشيء، أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره سبحانه عمّا يفعله هو أو العبد باختياره، فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق. وقال صاحب اللوامح (¬1): قرأ الجحدريّ {سَواءٌ} بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنّه أخلص الواو، ويجوز أنّه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو، وفي كلا الوجهين لا بدّ من دخول النقص فيما قبل الهمزة المليّنة من المدّ. انتهى. فعلى هذا: يكون {سَواءٌ} ليس لامه ياء، بل واوا، فيكون من باب قواء. وعن الخليل: {سوء عليهم} بضمّ السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل {دائرة السوء} على قراءة من ضمّ السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسّبّ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلّق إعراب بالجملة بعدها، بل يبقى قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} إخبارا بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك، وعدم إنذارك، وأمّا سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: (قاموا سواك) بمعنى: قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. وقوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} فيه خمس قراءات سبعيّة (¬2): الأولى: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف؛ أي: مدّ طبيعيّ بينهما. والثانية: تحقيق بلا إدخال ألف بينهما. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) صاوي بتصرف.

[7]

والثالثة: تسهيل الثانية، وهو أن تكون بين الهمزة والهاء مع إدخال ألف بين المسّهلة والأخرى. والرابعة: تسهيل الثانية بلا إدخال ألف بين المسّهلة والأخرى. والخامسة: إبدال الثانية ألفا؛ أي: مدّا لازما، وقدره سّت حركات خلافا للبيضاوي، حيث قال: إنّ قراءة الإبدال لحن؛ لوجهين: الأوّل: أنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا. والثاني: أن فيه التقاء الساكنين على غير حدّه. وردّ عليه ملّا علي القاري: بأنّ القراءة متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أنكرها كفر، فيستدلّ بها لا لها. وأما قوله: إنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا في القلب القياسيّ، وأمّا السماعّي كما في سأل، ومنسأته، فلا لحن فيه؛ لأنّه يقتصر فيه على السماع. وقوله: فيه التقاء الساكنين على غير حدّه نقول: سهّله طول المدّ والسماع اه. صاوي بتصرف، وسيأتي بسطه في مبحث القراءة. وفي «الجمل»: قال الجعبريّ (¬1): وجه الإبدال المبالغة في التخفيف، إذ في التسهيل قسط همز. قال قطرب: هي قرشيّة وليست قياسيّة، لكنها كثرت حتى اطّردت، وأما تعليلهم بأنّه يؤدّي إلى جمع الساكنين على غيره، فمدفوع بأنّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا على مقدار الألف بحيث يصير المدّ لازما، فيكون فاصلا بين الساكنين، ويقوم قيام الحركة، كما في {مَحْيايَ} بإسكان الياء لنافع وصلا، ويسمّي هذا حاجزا. وقد أجمع القراء وأهل العربية على إبدال الهمزة المتحركة الثانية في نحو: الآن، ثم اعلم أنّ موافقة العربية؛ إنما هي شرط لصحة القراءة، إذا كانت بطريق الآحاد، وأما إذا ثبتت متواترة فيستشهد بها لا لها، وإنّما ذكرنا ما ذكر؛ تفهيما للقاعدة، وتتميما للفائدة اه. 7 - ثمّ بيّن سبب تركهم الإيمان، فقال: {خَتَمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، وقفّل ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{عَلى قُلُوبِهِمْ} وطبع عليها، وطمس (¬1) نور بصيرتهم بحيث لا تعي خبرا ولا تفهمه، فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان. وذلك أنّ القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص. والمراد بالختم هنا: عدم وصول الحقّ إلى قلوبهم، وعدم نفوذه واستقراره فيها. وهذه الجملة مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما سبق من الحكم، وهو عدم إيمانهم. وأصل الختم (¬2): التغطية، وحقيقته: الاستيثاق من الشيء؛ لكي لا يخرج منه ما حصل فيه، ولا يدخله ما خرج منه. ومنه: ختم الكتاب ولا ختم في الحقيقة، وإنما المراد به: أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرّنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات، بسبب غيّهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ إليها الحقّ أصلا. وسمّى هذه الهيئة: ختما على سبيل الاستعارة، فالمراد بالقلب هنا: محلّ القوة العاقلة من الفؤاد. وقد يطلق ويراد به: المعرفة والعقل، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ}. والمراد (¬3) بالقلب هنا: جسم لطيف قائم بالقلب اللحمانيّ، الصنوبري الشكل، قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب: هو الذي يحصل به الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف، وهو العقل، بخلاف القلب الذي بمعنى اللحمة الصنوبرية الشكل، فإنّها للبهائم والأموات. {وَ} ختم الله {عَلى سَمْعِهِمْ} وآذانهم؛ أي: أصمّ مواضع سمعهم، فجعلها بحيث تعاف استماع الحقّ، ولا تصغي إلى خير، ولا تعيه، ولا تقبله. والختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم إياه. والسمع هو: إدراك القوة السامعة، وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها، ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير. (¬2) روح البيان. (¬3) العمدة.

وهو المراد هنا؛ لأنّه أشدّ مناسبة للختم، وهو المختوم عليه أصالة. والمعنى: أصمّ مواضع سمعهم، فلا يسمعون الحقّ، ولا ينتفعون به: لأنّها تمّجه، وتنبو عن الإصغاء إليه. وقرىء شاذا {وعلى أسماءهم}، كما سيأتي في مبحث القراءة. وإنّما أفرده وجمع صاحبيه؛ لأنّه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع. وقيل: أفرده لوحدة المسموع، وهو الصوت، كذا في «الجمل». وفي «الروح»: وفي توحيد السمع وجوه (¬1): أحدها: أنّه في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع؛ لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة. فإن قلت: فلم جمع الأبصار والواحد بصر، وهو كالسمع؟ قلنا: إنّه اسم للعين، فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك. وثانيها: أنّ فيه إضمارا، أي: على مواضع سمعهم وحواسّه، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها. وثبت هذا الإضمار بدلالة أنّ السمع فعل، ولا يختم على الفعل، وإنّما يختم على محله. وثالثها: أنّه أراد سمع كلّ واحد منهم، والإضافة إلى الجمع تغنى عن الجمع، وفي التوحيد أمن اللبس، كما في قول الشاعر: كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص أي: في أنصاف بطونكم، إذا البطن لا يشترك فيه. ورابعها: قول سيبويه: أنّه توسّط بين جمعين، فدلّ على أنّه جمع معنى وإن توّحد لفظا، كما في قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}، دلّ على الأنوار ذكر الظلمات. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وتقديم ختم قلوبهم؛ للإيذان بأنّها الأصل في عدم الإيمان، وتقديم حال السمع على حال أبصارهم؛ للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال. قالوا: السمع أفضل من البصر؛ لأنّه تعالى حيث ذكرهما، قدّم السمع على البصر، ولأنّ السمع شرط النبوة، ولذلك ما بعث الله تعالى رسولا أصمّ، ولأنّ السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف إلى تتلقّف من أصحابها. وقوله: {وَعَلى سَمْعِهِمْ} معطوف على قوله: {عَلى قُلُوبِهِمْ}، فالوقف عليه تامّ، وما بعده جملة اسمية. وقوله: {وَعَلى أَبْصارِهِمْ} خبر مقدم، جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين، وهو المراد ههنا؛ لأنّه أشدّ مناسبة للتغطية. {غِشاوَةٌ} مبتدأ مؤخر، أي: غطاء عظيم، وساتر جسيم، فلا يبصرون الحقّ، وفي الحقيقة لا تغشية، وإنّما المراد بها: إحداث حالة تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلي الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، كما تجتليها أعين المستبصرين، وتصير كأنّها غطّي عليها، وحيل بينها وبين الإبصار. ومعنى التنكير: أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات. ولما اشترك السمع والقلب في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاصّ فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما كان مما اختصّ بجهة المقابلة، جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. وإنّما خصّ سبحانه وتعالى هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنّها طرق للعلم، فالقلب محلّ العلم، وطريقه: إما السماع، وإما الرؤية. اه. كرخي. وقال في «التيسير»: إنّما ذكر في الآية القلوب، والسمع، والأبصار؛ لأنّ الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة في الحقّ، كما قال تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} {أَفَلا تُبْصِرُونَ} {أَفَلا تَسْمَعُونَ} اهـ. {وَلَهُمْ} أي: ولهؤلاء الكفار المذكورين في الآخرة {عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: عذاب شديد دائم لا ينقطع بسبب كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى. والعذاب

كالنكال وزنا ومعنى، وهو إيصال الآلام إلى الحيوان على وجه الهوان، فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. يقال: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه، وسمّي العذاب عذابا، لأنّه يمنع عن الجناية إذا تأمّل العاقل فيها، ومنه الماء العذب، لما أنّه يقمع العطش، أي: يكسره ويردعه بخلاف الملح فإنّه يزيده. وقيل: إنمّا سمّي به؛ لأنّه جزاء ما استعذبه المرء بطبعه؛ أي: استطابه، ولذلك قال تعالى: {فَذُوقُوا عَذابِي}، وإنما يذاق الطيب على معنى: أنّه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه في الدنيا. والعظيم (¬1): نقيض الحقير، والكبير: نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير، كما أنّ الحقير دون الصغير. قال في «التيسير»: {عَظِيمٌ} أي: كبير، أو كثير، أو دائم، وهو التعذيب بالنار أبدا، ثمّ عظمه بأهواله، وبشدة أحواله، وكثرة سلاسله وأغلاله. فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقّونه في الآخرة. وقيل: هو القتل والأسر في الدنيا، والتحريق بالنار في العقبى. ومعنى التوصيف بالعظيم: أنّه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه، ومعنى التنكير: أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه إلّا الله سبحانه وتعالى، فعلى العاقل أنّ يجتنب عمّا يؤدّي إلى العذاب الأليم، والعقاب العظيم، وهو الإصرار على الذنوب، والإكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب. وأمّهات الخطايا ثلاث: الحرص، والحسد، والكبر. فحصل من هؤلاء سّت خصال، فصارت جملتها تسعا: الشبع، والنوم، والراحة، وحّب المال، وحبّ الجاه، وحبّ الرياسة. فحّب المال والرياسة من أعظم ما يجرّ صاحبه إلى الكفر والهلاك. وظاهر قوله تعالى (¬2): {خَتَمَ اللَّهُ} أنّه إخبار من الله تعالى بختمه، وحمله بعضهم على أنّه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئا من الحقّ ولا تعيه؛ لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس للشيء المعقول، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

أو مثّل القلب بالوعاء الذي ختم عليه؛ صونا لما فيه، ومنعا لغيره من الدخول إليه. والأول مجاز بالاستعارة، والثاني مجاز بالتمثيل. وتكرير حرف الجرّ في قوله: {وَعَلى سَمْعِهِمْ} يدلّ على أنّ الختم ختمان، أو على التوكيد إن كان الختم واحدا، فيكون أدلّ على شدّة الختم. وقرأ ابن أبي عبلة (¬1): {وعلى أسماعهم}، فطابق في الجمع بين القلوب، والأسماع، والأبصار. وقرأ الجمهور {وَعَلى سَمْعِهِمْ} على التوحيد، إمّا لكونه مصدرا في الأصل، فلمح فيه الأصل، وإمّا اكتفاء بالمفرد عن الجمع؛ لأنّ ما قبله وما بعده يدلّ على أنّه أريد به الجمع. وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان وروح، عن يعقوب وخلف العاشر قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف؛ فقرأ قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بتسهيل الهمزة الثانية بينها وبين الألف مع إدخال ألف بينهما، وقرأ ابن كثير ورويس عن يعقوب بتسهيل الهمزة الثانية من غير إدخال ألف بينهما، ولهشام وجهان: الأول: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق، والثاني: التسهيل مع إدخال الألف. ولورش عن نافع أيضا وجهان: الأول: كابن كثير ورويس، والثاني: إبدال الثانية ألفا مع المد المشبع فيلتقي ساكنان على غير حدهما وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أنّ ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين، وقد مرّ لنا ذكر الوجهين مع الرد عليهما، فراجعه. وما قاله الزمخشري هو مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل، لا تدفع باختيار المذاهب، ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن. وقرأ الزهري، وابن محيصن {أنذرتهم} بهمزة واحدة حذفا الهمزة الأولى؛ لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عادلها، وهو {أَمْ} وقرأ أبيّ أيضا (¬2): بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الساكنة قبلها، والمفعول الثاني لأنذر محذوف؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه. وقد قرىء {أَبْصارِهِمْ} بالإمالة، وهي جائزة، لأنّه قد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما جازت الإمالة، وهذا بتمامه مذكور في كتب النحو. وقرأ الجمهور {غشاوة} بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية؛ ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية، وإسناد الجملة الابتدائية. فيكون ذلك آكد؛ لأنّ الفعلية تدلّ على التجدّد والحدوث، والاسمية تدلّ على الثبوت والدوام، وكان تقديم الفعلية أولى، لدلالتها على أنّ ذلك قد وقع وفرغ منه. قال الفرّاء (¬1): أما قريش وعامّة العرب، فيكسرون الغين من {غشاوة}، وعكل يضمّون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنّها لربيعة. وروى الفضل عن عاصم {غشاوة} بالنصب على تقدير: جعل على أبصارهم غشاوة، أو على (¬2) عطف {أَبْصارِهِمْ} على ما قبله، ونصب {غِشاوَةٌ} على حذف حرف الجر؛ أي: بغشاوة، وهو ضعيف. قال أبو علي: وقراءة الرفع أولى؛ لأنّ النصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، يكون الكلام عليه من باب: علفتها تبنا وماء باردا. ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. وقرأ الحسن باختلاف عنه، وزيد بن عليّ {غشاوة} بضمّ الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلّا أنّه رفع التاء. وقرأ {بعضهم} غشاوة بالكسر والرفع. وقرأ بعضهم {غشاوة} بالفتح والرفع والنصب، وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش. قال الثوري: وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها {غشية} بفتح الغين والياء والرفع، وقال يعقوب {غشاوة} بالضمّ لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراء. وقرأ بعضهم {عشاوة} بالعين المهملة المكسورة والرفع، من العشي، وهو شبه العمى في العين. وقال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها: ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة. ¬

_ (¬1) زاد المير. (¬2) البحر المحيط.

وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1) ضرب مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكّن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شيء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه، بحال بيوت معدّة؛ لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمّة للناس، لكنّه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله. فقد حدث في كلّ منهما امتناع دخول شيء بسبب مانع قويّ، وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع، فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمّل وتدبّر، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالّة على الإيمان، ومن ثمّ لا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل في قلوبهم الإيمان. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)}. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب اسمها، مبنيّ على الفتح. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والألف تكتب؛ للفرق بين واو الضمير وبين واو جزء الكلمة في غير الرسم العثماني، وفرقا بين المتطرّفة والمتوّسطة في الرسم العثماني. والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {سَواءٌ} خبر مقدم، أو خبر إنّ. {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور، متعلّق بسواء؛ لأنّه اسم مصدر لاستوى الخماسّي. {أَأَنْذَرْتَهُمْ} الهمزة في أصلها للاستفهام، ولكن سحبت معناها الأصلي، فجعلت للتسوية؛ لوقوعها بعد سواء. {أَنْذَرْتَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف؛ لدلالة المقام عليه؛ أي: أنذرتهم العذاب، والجملة من الفعل والفاعل في تأويل مصدر من غير سابك؛ لإصلاح المعنى، مرفوع على كونه مبتدأ مؤخّرا لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا إنذارك إياهم وعدم إنذارك إياهم سيّان عندهم. والجملة من المبتدأ المؤخّر وخبره المقدم في محلّ الرفع خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة، أو في تأويل مصدر مرفوع ¬

_ (¬1) المراغي.

على كونه فاعلا لسواء، الذي أجري مجرى المصادر في عمله عمل الفعل، والتقدير: إنّ الذين كفروا مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه. ويجوز أن يكون سَواءٌ مبتدأ، سوّغ الابتداء بالنكرة عمله في الجار والمجرور، والمصدر المنسبك مما بعدها خبرها، وجملة {سَواءٌ} معترضة، لا محلّ لها من الإعراب، لاعتراضها بين اسم إنّ وخبرها، وهو جملة قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} الآتية، وفي «الصاوي»: وعلى ما ذكرنا هنا فقولهم: الفعل لا بدّ له من سابك قاعدة أغلبية. وقيل: السابك هنا الهمزة؛ لأنّ بعض النحاة جعل السابك للفعل ستة، وعدّ منها هذه الهمزة، كما ذكره الفاسيّ في «حاشيته على الألفيّة». {أَمْ} عاطفة متصلة؛ لوقوعها بعد همزة التسوية. {لَمْ} حرف نفي وجزم. {تُنْذِرْهُمْ} فعل مضارع ومفعول أول وفاعل مستتر مجزوم بلم، والثاني محذوف، تقديره: العذاب. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ}، على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، أو على الفاعلية، أو على الخبرية لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا، إنذراك إياهم العذاب، وعدم إنذارك إياهم سواء في عدم الإفادة لهم. {لا} نافية. {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، أو خبر بعد خبر لها، أو في محل النصب حال من ضمير عليهم، أو مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها، لا محلّ لها من الإعراب، والتقدير: على كونها خبرا؛ لأنّ إنّ الذين كفروا عادمون الإيمان بك، لما سبق في علمي من كفرهم فلا تأس عليهم، وإنذراك إياهم وعدمه سواء عليهم، لا ينتفعون به. وجملة إنّ مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}. {خَتَمَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة؛ لتعليل عدم إيمانهم. {عَلى قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور، متعلّق بختم. {وَعَلى سَمْعِهِمْ} جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله. وَعَلى أَبْصارِهِمْ الواو عاطفة. {عَلى أَبْصارِهِمْ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدم. {غِشاوَةٌ} مبتدأ مؤخّر والجملة معطوفة على جملة {خَتَمَ} عطف اسمية على فعلية، كما مرّ. {وَلَهُمْ}

الواو عاطفة {لَهُمْ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} صفة لعذاب، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ختم أيضا على كونها مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها. فصل في هاء الضمير نحو: (عليهم، وعليه، وفيه، وفيهم). وإنّما أفردناه بالفصل؛ لكثرة تكرّره في القرآن، والأصل في هذه الهاء الضمّ؛ لأنّها تضمّ بعد الفتحة والضمة والسكون، نحو: (أنّه، وله، وجاء غلامه، ويسمعه، ومنه). وإنما يجوز كسرها بعد الياء، نحو: (عليهم وأيديهم)، وبعد الكسر، نحو: (به وبداره). وضمّها في الموضعين جائز، لأنّه في الأصل كما قرأ به حفص بعد الياء في قوله تعالى: {وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ}، وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ}. وإنّما كسرت في الموضعين؛ لتجانس ما قبلها من الياء والكسرة، وبكلّ من الضمّ والكسر قد قرىء. انتهى من «العكبري». فوائد: 1 - همزة التسوية هي الواقعة بين سواء وبعد ما أبالي، وما أدري، وليت شعري. وضابطها: أنّها الهمزة التي تدخل على جملة يصحّ حلول المصدر محلّها، كما رأيت. 2 - أم: لها حالان: أ - متصلة وهي منحصرة في نوعين؛ وذلك لأنّها: إما أن تتقدم عليها همزة التسوية، كما في الآية، أو همزة يطلب بها وبأم التعيين، نحو: أزيد في الدار أم عمرو، وسمّيت متصلة؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمّى أيضا معادلة؛ لمعادلتها الهمزة في النوع الأول، إذ كلتاهما تفيد التسوية. ب - منقطعة: وهي المسبوقة بالخبر المحض، نحو: قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ}. وسمّيت منقطعة؛

لانقطاع ما بعدها عمّا قبلها، فكلّ منهما كلام مستقل لا ارتباط له بالآخر. التصريف ومفردات اللغة {سَواءٌ} فيه إعلال بالإبدال، فأصله: سواي، أبدلت الياء همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، أجري مجرى المصادر، فلذلك لا يثنّى ولا يجمع. قالوا: هما وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى قالوا: سيّان، وإن شئت قلت سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وأيضا على غير القياس: هم سواسي وسواسية؛ أي: هما متساويان وهم متساوون. والسّواء: العدل الوسط بين حديثين يقال: ضرب سواءه، أي: وسطه، وجئته في سواء النهار؛ أي: في منتصفه. وإذا كانت سواء بعد همزة التسوية، فلا بدّ من (أم) اسمين كانت الكلمتان أم فعلين. وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة التسوية، عطف الثاني بأو، نحو: سواء عليّ قمت أو قعدت، وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو أو بأو، نحو سواء عليّ قيامك وقعودك، وقيامك أو قعودك. وقوله: {أأنذرتهم} قراءة ورش بإبدال همزة التعدية حرف مدّ مجانسا لحركة همزة الاستفهام المفتوحة في رواية عنه، وعليه يكون في الكلمة إبدال حرف بحرف، وذلك نوع من التصريف، كما هو معروف، وقس على هذا اللفظ كلّ ما شابهه مما اجتمعت فيه همزتان: إحداهما للاستفهام والثانية للتعدية. {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} والختم الكتم، سمّي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ لأنّه ختم له، وبلوغ آخره، ومنه ختم القرآن. {عَلى قُلُوبِهِمْ} جمع قلب، وهو الفؤاد، سمّي قلبا؛ لتقلّبه في الأمور، ولتصرّفه في الأعضاء، كما قال بعضهم: وما سمّي الإنسان إلّا لنسيه ... وما القلب إلّا أنّه يتقلّب وفي «تفسير الشيخ»: القلب: قطعة لحم مشكّل بالشكل الصنوبري معلّق بالوتين مقلوبا، والوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه، ويقال: الأبهر. وفي «تفسير الكواشي» القلب: قطعة سوداء في الفؤاد، وزعم بعضهم: أنّه الشكل

الصنوبري المعلّق بالوتين مقلوبا. وفي «تعريفات السيّد»: القلب لطيفة ربّانية، لها بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلّق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، والمراد بالقلب في الآية: محلّ القوة العاقلة من الفؤاد، كما مرّ. {وَعَلى سَمْعِهِمْ} والسمع: هو إدراك القوة السامعة، وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا، كما مرّ. {وَعَلى أَبْصارِهِمْ} جمع بصر، وهو إدراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة. {غِشاوَةٌ} وهو فعالة من غشاه، أو غشيه إذا غطّاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة. ويجوز في الغين الكسر، والضمّ والفتح. {وَلَهُمْ عَذابٌ} والعذاب: العقوبة. يقال: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، وسمّي العذاب عذابا، لأنّه يمنع من الجناية إذا تأمّل فيها العاقل. {عَظِيمٌ} أي: قوي شديد، ومنه: العظم. والعذاب: إيصال الألم إلى الحيّ هوانا وذلّا، كما مرّ. والعظيم: ضدّ الحقير، وفعيل له معان كثيرة، يكون اسما وصفة، والاسم: إما مفرد أو جمع، والمفرد: إما اسم معنى أو اسم عين، نحو: قميص، وظريف، وصهيل، وكليب جمع كلّب، ويكون اسم فاعل من فعل المضموم، نحو: عظيم من عظم، ومبالغة في فاعل، نحو: عليم في عالم، وبمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، ومفعل، كسميع بمعنى مسمع، ومفاعل، كجليس بمعنى مجالس، ومفتعل، كبديع بمعنى مبتدع، ومنفعل، كسعير بمعنى منسعر، وفعل، كعجيب بمعنى عجب، وفعال، كصحيح بمعنى صحاح، وبمعنى الفاعل والمفعول، كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجمع، نحو: خليط، وجمع فاعل، كغريب جمع غارب. اه. «سمين». البلاغة وقد تضمنت هاتان الآيتان الكريمتان ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الخطاب العام: اللفظ الخاص المعنى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذا أريد بهم أشخاص معيّنون.

ومنها: الاستفهام الذي يراد به: تقرير المعنى في النفس؛ أي: تقرير أنّ الإنذار وعدمه سواء عندهم في قوله: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الخ. ومنها: مجاز بالاستعارة في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ}، لأنّ حقيقة الختم: وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم، يكون علامة للخاتم. والختم هنا معنويّ، فإنّ القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره، استعير له اسم المختوم عليه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وقيل: في إسناد الختم إلى القلوب استعارة تمثيلية، فقد شبّهت قلوبهم في نبوّها عن الحقّ، وعدم الإصغاء إليه بحال قلوب ختم الله عليها، وهي قلوب البهائم، وهو تشبيه معقول بمحسوس، أو هو مجاز عقليّ، وهو باب واسع عند العرب. يقولون: سال بهم الوادي؛ إذا هلكوا، وطارت بفلان العنقاء؛ إذا طالت غيبته. ومنها: توحيد السمع لوحدة المسموع، وهو الصوت دون القلوب والأبصار؛ لتنوع المدركات والمرئيّات. ومنها: تنكير {غِشاوَةٌ} في قوله: {وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} إشارة (¬1) إلى أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات الكونية. ومنها: تنكير {عَذابٌ} في قوله: {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} إشارة إلى أنّه نوع منه مجهول الكمّ والكيف. ومنها: وصفه بعظيم؛ لدفع الإيهام بقلّته وندرته، وللإشارة إلى أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما، لا يعلم كنهه إلّا الله عزّ وجلّ. ومنها: الحذف، وهو في مواضع (¬2). منها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إنّ القوم الذين كفروا بالله وبك، وبما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

جئت به. ومنها: {لا يُؤْمِنُونَ} أي: بالله، وبما أخبرتهم به عن الله. ومنها: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} أي: فلا تعي. {وَعَلى سَمْعِهِمْ} أي: فلا تصغي. ومنها: {وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} على قراءة من نصب، أي: وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يبصرون سبيل الهدى. ومنها: وَ {لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: لهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والأسر، أو بالإذلال ووضع الجزية، وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (¬1) ذكر أوّلا من أخلص دينه لله، ووافق سرّه علنه، وفعله قوله، ثمّ ثنّى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. ثلّث هنا بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة؛ لأنّهم ضموا إلى الكفر استهزاء، وخداعا، وتمويها، وتدليا، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، وقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ}. وقد وصف الله سبحانه حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية. نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

واستهزأ بهم، وتهكّم بفعلهم، ودعاهم صمّا بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال. فنعى عليهم خبثهم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، ونعى عليهم مكرهم في قوله: {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وفضحهم في قوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وفي قوله: {وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}، وفي قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، واستجهلهم في قوله: {وَما يَشْعُرُونَ} وفي قوله: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} وفي قوله: {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ}، وتهكّم بفعلهم في قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى}، ودعاهم صمّا بكما عميا في قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (18)، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا ...} إلخ، وفي قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الاعتقاد، وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية، وذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى، وفي الآخرة من الفلاح. ثمّ أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران، وبقي قسم ثالث: أظهروا الإسلام مقالا، وأبطنوا الكفر اعتقادا، وهم المنافقون. أخذ يذكر شيئا من أحوالهم، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ}. الخ. قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر في الآيات السابقة مقالتهم الكاذبة، وخداعاتهم العاطلة، وأمراضهم المعضلة، عدّد (¬2) في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتّبة على كفرهم ونفاقهم. ففصّل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بعض هفواتهم. ثمّ أظهر فسادها، وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدّي إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل، واتباع ذوي الأحلام الراجحة والعقول الناضجة. ثمّ ما أجابوا به، مما دلّ على عظيم جهلهم، وتماديهم في سفههم وغفلتهم. قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها. أنّه سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما قبلها بعض خبائثهم وجناياتهم، وبعض هفواتهم، ذكر (¬1) هنا حال جماعة من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، قد بلغ من دعارتهم، وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدّون عن سبيل الحقّ. قالوا لهم: إنّما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم، وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم، وزادهم حيرة في أمورهم. ثمّ ذكر أنّهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها؛ لأنّهم باعوا ما وهبهم الله تعالى من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه لما ذكر فيما قبلهما بعض أحوال المنافقين الذين يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، أراد أن يضرب لهم الأمثال؛ لأنّ نهج القرآن الكريم، كنهج لغات العرب في أساليبها، فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا ...} إلخ. فضرب الأمثال التي تجلي المعاني أتمّ جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر، ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره؛ لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر. وعلى هذا السنن ضرب الله سبحانه مثل المنافقين، فمثّل حالهم حينما ¬

_ (¬1) المراغي.

أسلموا أوّلا، ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثمّ داخلهم الشكّ فيه، فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله، ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية، ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين. بحال جماعة أوقدوا نارا؛ لينتفعوا بها في جلب خير، أو دفع ضرّ، فلمّا أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن جاءها عارض خفيّ، أو أمر سماوي، كمطر شديد، أو ريح عاصف، جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنّى لهم الإبصار بحال. ثمّ جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر والحواسّ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنّهم فقدوها، فما فائدة السمع إلّا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلّا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان؛ لتتجلّى المعقولات وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلّا النظر والاعتبار؛ لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنّه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة أو يرجع إلى هدى. ثمّ أراد سبحانه أن ينتقل إلى أسلوب آخر من الأمثال، فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فضرب (¬1) سبحانه في هذه الآيات مثلا آخر، يشرح به حال المنافقين، ويبيّن فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم؛ زيادة في التنكيل بهم وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم، وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء، فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد، والخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثمّ استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البيّنة والحجج القيّمة، فيعزمون على اتباع الحقّ، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشبهات، فتقيد ¬

_ (¬1) المراغي.

الفكر وإن لم توقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة، كحال قوم في إحدى الفلوات، نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولّاهم الدهش والرعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلّما قصف هزيم الرعد؛ ليسدّوا منافذ السمع لما يحذرونه من الموت الزؤام، ويخافونه من نزول الحمام، ولكن هل ينجي حذر من قدر؟ تعددت الأسباب والموت واحد! بلى إنّ الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنّا سرّها، ومصلحة لا تعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآيات، نزلت (¬1) هذه الآيات في المنافقين: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ومعتّب بن قثير، وجدّ بن قيس، وأصحابهم. وذلك أنّهم أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا بها من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وأسرّوا الكفر واعتقدوه، وأكثرهم من اليهود. قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، سبب نزوله: ما أخرجه الواحدي، والثعلبيّ من طريق محمد بن مروان السدّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (نزلت (¬2) هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله بن أبيّ: أنظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه سيد بني ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) لباب النقول.

هاشم ما خلا رسول الله. ثمّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا. فرجع المسلمون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية). ولكن هذا الإسناد واه جدا، فإنّ السدي الصغير كذّاب، وكذا الكلبي، وأبو صالح ضعيف. قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ...} الآية، سبب نزوله: ما أخرجه (¬1) ابن جرير من طريق السدي الكبير، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس وعن مرّة، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: (كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، كلّما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما؛ من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما. وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأتيا مكانهما يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما). فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ فرقا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان كذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما. {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}؛ أي: فإذا كثرت أموالهم وولدهم، وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيها، وقالوا حينئذ: إنّ دين محمد صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل محمد، وارتدّوا كفارا، كما قال ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما. وفي «الصاوي»: والمراد من المنافقين هنا: بعض سكان البوادي؛ وبعض ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[8]

أهل المدينة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم. وخير ما فسّرته بالوارد، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ...} الآية. وأخّرهم عن المؤمنين والكافرين ظاهرا وباطنا؛ إشارة إلى أنّهم أسوأ حالا من الكفار. التفسير وأوجه القراءة 8 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ}؛ أي: وبعض (¬1) الناس يقولون بألسنتهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ}؛ أي: صدّقنا بوحدانية الله تعالى. {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: صدّقنا بمجيء اليوم الآخر بما فيه من البعث، والحشر والجزاء، وبجميع ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البينات. وفي تكرير الباء؛ ادّعاء الإيمان بكلّ واحد على الأصالة والاستحكام، ذكره البيضاوي. وفي «العمدة»: وأعاد الجار؛ لإفادة تأكيد دعواهم الإيمان بكلّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم. فردّ الله سبحانه عليهم بأبلغ ردّ بقوله: {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} حيث أتى بالجملة الاسمية، وزاد الجار في الخبر. أي: يقولون ذلك والحال أنّهم غير مصدّقين بما ذكر؛ لأنّهم يقولون ذلك قولا لسانيّا دون اعتقاد، وكلاما خداعيا دون تصديق. والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة، سمّي بذلك؛ لأنّه يأتي بعد الدنيا، وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة، وما بعده فلا حدّ له ولا آخر. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} لمّا افتتح الله سبحانه وتعالى (¬2) كتابه بشرح حاله، وساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنّى بأضدادهم الذين محّضوا الكفر ظاهرا، وباطنا. ثلّث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، وهم أي المنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله؛ لأنّهم موّهوا الكفر، وخلطوا به خداعا واستهزاء، ولذلك طوّل في بيان خبثهم. ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

قال الفاشانيّ: الاقتصار في وصف الكفار المصرّين المطبوع على قلوبهم على آيتين، والإطناب في وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية للإضراب عن أولئك صفحا، إذ لا ينجع فيهم الكلام، ولا يجدي عليهم الخطاب. وأمّا المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعيير، وعسى أن يرتدعوا بالتشنيع عليهم، وتفظيع شأنهم وسيرتهم، وتهجير عادتهم، وخبث نيتهم وسريرتهم، وينتهوا بقبح صورة حالهم، وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم، وتنقاد نفوسهم، وتزّكّى بواطنهم، وتضمحل رذائلهم، فيرجعون عما هم عليه، ويصيرون من المستثنى في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}. والنّاس (¬1): اسم جمع للناسي، سمّي به؛ لأنّه عهد إليه فنسي. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: نسّاء للنعم، ذكّار للمحن. وقيل: سمي به؛ لظهوره من آنس؛ أي: أبصر؛ لأنّهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سمّوا بشرا، كما سمّي الجنّ جنا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن أعين الناس. وقيل: هو من الأنس الذي هو ضدّ الوحشة؛ لأنّهم يستأنسون بأمثالهم، أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم، وأبدانهم بأرواحهم. واللام فيه للجنس. {ومِنَ} في قوله: {مَنْ يَقُولُ} نكرة موصوفة، إذ لا عهد، فكأنّه قال: ومن الناس ناس يقولون؛ أي: يقرّون باللسان. والقول: هو التلفظ بما يفيد، ويأتي بمعنى المقول. وللمعنى المحصور في النفس المعبّر عنه باللفظ وللرأي، وللمذهب مجازا. ووحّد الضمير في {يَقُولُ} باعتبار لفظ {مِنَ}، وجمعه في قوله: {آمَنَّا}، وقوله: {وَما هُمْ} باعتبار معناها؛ لأنّ كلمة {مِنَ} تصلح للواحد والجمع، أو اللام فيه للعهد، والمعهود: هم الذين كفروا. {ومِنَ} موصولة مراد بها: عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، ونظراؤه من المنافقين، حيث أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا من ¬

_ (¬1) روح البيان.

النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، واعتقدوا خلافها، وأكثرهم من اليهود، كما مرّ. فإنّهم من حيث إنهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم. واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإنّ الأجناس إنما تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها. فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني. {آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: صدّقنا بالله. {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى؛ أي: الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية، والمراد به: البعث، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ لأنّه آخر الأيام المحدودة، إذ لا حدّ وراءه، وسمّي بالآخر؛ لتأخّره عن الدنيا. وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له؛ ادّعاء أنّهم قد حازوا الإيمان من قطريه، وأحاطوا به من جانبيه، وإيذان بأنّهم منافقون فيما يظنّون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق؛ لأنّ القوم كانوا يهودا، وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا كلا إيمان؛ لاعتقادهم التشبيه، واتخاذ الولد، وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة، وغيرها، ويرون المؤمنين أنّهم آمنوا مثل إيمانهم. وحكاية الله سبحانه عبارتهم؛ لبيان كمال خبثهم، فإنّ ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق، وعقيدتهم عقيدتهم الأولى، لم يكن ذلك إيمانا، فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم، فكان خبثا إلى خبث، وكفرا إلى كفر. {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أي: وما هم (¬1) بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين، الذين يشعرون بعظيم سلطان الله، ويعلمون أنّه مطلع على سرّهم ونجواهم، إذ كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ظنا منهم أنّ ذلك يرضي ربّهم، ثمّ هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب، وغشّ، وخيانة، وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم، ونقله الرواة أجمعون. ¬

_ (¬1) المراغي.

[9]

و {ما} نافية (¬1) بمعنى ليس، ولهذا عقّب بالباء؛ أي: ليسوا بمصدّقين؛ لأنّهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون. وفي الحكم عليهم بأنّهم ليسوا بمؤمنين، نفي ما ادّعوه على سبيل البت والقطع؛ لأنّه نفي أصل الإيمان منهم بإدخال الباء في خبر {ما}، ولذا لم يقل: وما هم من المؤمنين، فإنّ الأول أبلغ من الثاني. دلّت الآية: على أنّ الدعوى مردودة، إذا لم يقم عليها دلائل الصحة. قال بعضهم: من تحلّى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدّعيه، فإنّ من مدح نفسه ذمّ، ومن ذمّ نفسه مدح، قال فرعون عليه لعنة الله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقيل فيه: {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، وقال يونس - عليه السلام -: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فقيل له: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}. 9 - وقوله: {يُخادِعُونَ اللَّهَ} جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله الخ. أي: يخدعون الله سبحانه وتعالى، وإنما أخرج على زنة فاعل؛ للمبالغة، فليست المفاعلة على بابها، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره؛ لأنّه لا تخفى عليه خافية؛ ولأنّهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيكون الكلام على حذف مضاف، كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: يخادعون رسول الله ويغرّونه بما أظهروا من الإسلام، أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله، من حيث إنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده. ففيه رفع درجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه. والخدع على ما ذكرنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة؛ للدلالة على المبالغة في حصول الفعل، وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال: مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدّقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلّا من ¬

_ (¬1) روح البيان.

مخادع، لا من تائب خاشع والخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه؛ لتحول بينه وبين ما يريد. وقيل: الخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه؛ ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به؛ ليغترّ بذلك، فيتجوّز منه بسهولة من قولهم: ضبّ خادع وخدع، وهو الذي إذا أمرّ الحارش يده على باب جحره يوهمه الإقبال عليه، فيخرج من بابه الآخر. وكلا المعنيين مناسب للمقام، فإنّهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين، فيحملوها إلى أعدائهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب بسائر الكفرة من القتل، والأسر، والنهب، وأن ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا، كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإعطاء. وإما لأنّ صورة صنعهم مع الله من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده تعالى أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله تعالى في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين، فتكون المخادعة بين الاثنين، فتكون المفاعلة على بابها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} معطوف على الجلالة؛ أي: ويريدون بذلك القول: أن يخدعوا الذين آمنوا، ويغروهم بإظهار الإيمان، وإخفاء الكفر للاطلاع على أسرارهم، وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم. وجملة قوله: {وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} حال من فاعل {يَخْدَعُونَ}؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين بذلك القول، والحال أنّهم ما يضرّون بخداعهم ومكرهم في الحقيقة إلّا أنفسهم؛ لأنّ وبال خداعهم وعقوبته راجع إليهم، قال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، وأمره بإخراجهم من المسجد. ونزل فيهم: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآيات، ويعاقبون في الآخرة بالعذاب الدائم المؤبّد في الدرك الأسفل من النار. أي: فدائرة فعلهم مقصورة عليهم. ومن راعى صيغة المفاعلة قال: وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلّا بأنفسهم؛ لأنّ ضررها لا يحيق إلّا

بهم، ووبال خداعهم راجع إليهم. والمراد بأنفسهم هنا: ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس، كالروح، والدم، والقلب. وجملة قوله: {وَما يَشْعُرُونَ} حال من ضمير {ما يَخْدَعُونَ}؛ أي: يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنّهم ما يحسّون وما يعلمون ذلك. أي: أنّ ضرر خدعهم ووباله عليهم؛ لتمادي غفلتهم وتكامل حماقتهم، ولو علموا ذلك ما فعلوا الخداع، بل أخلصوا في إيمانهم. والخدع، وكذا الخديعة، والحيلة، والمكر: هو ما يتوصّل به إلى المقصود بطريق خفيّ، كما ذكره القسطلاني في كتاب الحيل من «صحيح البخاري». والشعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، مشتق من الشعر لدقّته. وقيل: (¬1) هو الإدراك بالحاسّة، مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومنه: مشاعر الإنسان؛ أي: حواسه الخمس التي يشعر بها. اه. «سمين». وسميت مشاعره حواس؛ لكون كلّ حاسة منها محلّا للشعور والعظة. والمعنى: أنّ لحوق ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. ثمّ في هذه الآية (¬2) نفي العلم عنهم، وفي قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إثبات العلم لهم، فبينهما معارضة، فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: الجمع بينهما بأن يقال: إنّهم علموا به حقيقة، ولكن لم يعملوا بما علموا، فكأنّهم لم يعلموا، وهو كقوله عز وجلّ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة، لكن لم ينتفعوا بذلك، فكانوا كأنّهم صّم بكم عمي، فذو الآلة إذا لم ينتفع بها، فهو وعادم الآلة سواء، والعالم الذي لا يعمل بعلمه، فهو والجاهل سواء، والغني الذي لا ينتفع بماله، فهو والفقير سواء. فإثبات العلم للكفار إلزام الحجة، وذكر الجهل إثبات المنقصة، بخلاف المؤمنين فإنّ إثبات العلم لهم إثبات الكرامة، وذكر الجهل تلقين عذر المعصية. فعلى المؤمن أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

يتحلّى بالعلم والعمل، ويجتنب عن الخطاء، والزلل، والبطالة، ويطيع ربّه خالصا لوجهه الكريم، ويعبده بقلب سليم. وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم»: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون لهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم خيرا). وإنّما يقال لهم ذلك: لأنّ عملهم في الدنيا كان على وجه الخداع، فيعاملون في الآخرة على وجه الخداع، كذا في «تنبيه الغافلين». وأخرج (¬1) أحمد بن منيع في «مسنده» بسند ضعيف، عن رجل من الصحابة: «أنّ قائلا من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غدا؟ قال: «لا تخادع الله»، قال: وكيف نخادع الله؟ قال: «أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء، فإنّه الشرك بالله، فإنّ المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء»: يا كافر، يا فاجر، يا خاسر، يا غادر ضلّ عملك، وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا} الآية، {وإِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ} الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}؟ قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنّهم مؤمنون بما أظهروه. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو (¬2): {يُخادِعُونَ} بالألف في الموضعين، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وابن عامر في الثاني {يَخْدَعُونَ} بلا ألف. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنّهم يمنّونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنّيهم. والحاصل: أنّه قد نفى (¬3) الشعور عنهم في مخادعتهم؛ لأنّهم لم يحاسبوا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[10]

أنفسهم على أقوالهم، ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكّروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فهم يعملون عمل المخادعين، وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون، وجدوا لهم من المعاذير ما يسهّل أمره، إمّا بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمّونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السويّ ناكبون. والمشاهد: أنّ الإنسان إذا همّ بعمل وناجى، وجد كأنّ في قلبه خصمين مختصمين: أحدهما: يميل به إلى اللذة، ويسير به في طريق الضلال والغواية. وثانيهما: يأمره بالسير في الطريق القويم، وينهاه عن اتباع النفس والهوى. ولقد جاء في كلامهم عن المتردّد: (فلان يشاور نفسه) ولا يترجّح عنده جانب الشرّ إلّا إذا خدع نفسه، وصرفها عن الحقّ، وزيّن لها اتباع الباطل. وإنّما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة، تجول في الخاطر، وتهجس في النفس، ربّما لا يلتفت إليها الإنسان، ولا يشعر بما يجول بين جنبيه. 10 - {فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: في قلوب هؤلاء المنافقين وعقولهم، فالمراد بالقلوب هنا: العقول، وهو تعبير معروف عند العرب. {مَرَضٌ}؛ أي: مرض معنوي الذي هو الشكّ، والكفر، والنفاق. والمرض: حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق، ويوجب الخلل في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخلّ بكمالها: كالجهل، وسوء العقيدة، والحسد، والضغينة، وحبّ المعاصي، وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني؛ لأنّها مانعة عن نيل الفضائل، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، والآية الكريمة تحتملها، فإنّ قلوبهم كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرياسة، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستعلاء شأنه يوما فيوما. {فَزادَهُمُ اللَّهُ} على مرضهم الأول {مَرَضًا} آخر بما أنزله من القرآن؛ لأنّ

نزول القرآن يزيد الكافر والمنافق مرضا بمعنى: كفرا وشكّا، فينشأ عنه المرض الحسّيّ، كما يزيد المؤمن إيمانا فينشأ عنه البهجة والسرور. قال تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا ...} الآيات، ويحتمل بما أنزله في حقّهم من فضيحتهم خصوصا بسورة التوبة، فإنّها تسمّى الفاضحة. والمعنى: فزاد الله غمّهم بما زاد في إعلاء أمره ورفع قدره، وأنّ نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر، وسوء الاعتقاد، ومعاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحوها، فزاد الله ذلك بأن طبع على قلوبهم؛ لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثّر فيها التذكير والإنذار، وبازدياد التكاليف الشرعية، وتكرير الوحي، وتضاعف النصر؛ لأنّهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفرا، وقد كان يشقّ عليهم التكلم بالشهادة، فكيف وقد لحقتهم الزيادات، وهي وظائف الطاعات، ثمّ العقوبة على الجنايات، فازدادوا بذلك اضطرابا على اضطراب، وارتيابا على ارتياب، ويزدادون بذلك في الآخرة عذابا على عذاب. قال تعالى: {زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ}، والمؤمنون لهم في الدنيا ما قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}، وفي العقبى ما قال: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. قال القطب العلّامة: أمراض القلب: إمّا متعلّقة بالدين، وهو سوء الاعتقاد والكفر، أو بالأخلاق، وهي إما رذائل فعليّة، كالغلّ والحسد، وإما رذائل انفعاليّة، كالضعف والجبن. فحمل المرض أوّلا على الكفر، ثمّ على الهيئات الفعلية، ثمّ على الهيئات الانفعالية. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} دعاء عليهم. فإن قلت: (¬1) فكيف يحمل على الدعاء، والدعاء للعاجز عرفا، والله تعالى منزّه عن العجز؟ قلت: هذا تعليم من الله لعباده أنّه يجوز الدعاء على المنافقين، والطرد لهم؛ لأنّهم شرّ خلق الله؛ لأنّه أعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، وهذا كقوله تعالى: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ} {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وعبارة المراغي هنا: وقد وجد (¬1) هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل، فلم يكن لهم حظّ من قراءة كتب الدين إلّا تلاوتها، ولا من أعماله إلّا إقامة صورها، من غير أن تنفذ أسرارها إلى قلوبهم، فتهذب النفوس، وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق، والتفقّه في الدين. {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} بعد أن جاء النذير البشير، ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكّهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعلوّ شأنه يوما بيوم. انتهى. {وَلَهُمْ}؛ أي: ولهؤلاء المنافقين في الآخرة {عَذابٌ أَلِيمٌ} يصل ألمه إلى القلوب، وهو بمعنى: المؤلم بفتح اللام على أنّه اسم مفعول من الإيلام. يقال: ألم يألم فهو أليم بمعنى: مؤلم، كسميع بمعنى: مسمع. وصف به للمبالغة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب بفتح الذال المعجمة، كما أنّ الجدّ للجادّ في قولهم: جدّ جدّه. وجه المبالغة: إفادة أنّ الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب بفتح الذال إلى العذاب المتعلّق به. أي: ولهم عذاب موجع {بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} بالتخفيف (¬2)؛ أي: بسبب كذبهم في قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقرىء بالتشديد؛ أي: بسبب تكذيبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به في السرّ. والكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، كقولك: الجهل نافع والعلم ضارّ، وهو قبيح كلّه. و (الباء) (¬3) فيه للسببية، أو للمقابلة، {وما} مصدرية، داخلة في الحقيقة على {يَكْذِبُونَ} وكلمة {كانُوا} مقحمة؛ لإفادة دوام كذبهم وتجدده؛ أي: بسبب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

كذبهم المتجدّد المستمر الذي هو قولهم: {آمَنَّا ...} إلخ. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المتخيّلة، لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتّى، وأنّ الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. وأمّا ما روي: أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد به: التعريض، لكن لمّا شابه الكذب في صورته سمّي به، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقوله: (هذه أختي) كما هو مذكور في محلّه. وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه جعل (¬1) العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى، كالكفر وغيره من أعمال السوء؛ للتحذير منه، وبيان فظاعته، وعظم جرمه؛ وللأشعار بأنّ الكفر من محتوياته، وإليه ينتهي في حدوده وغاياته، ومن ثم حذر منه القرآن أتمّ التحذير. فما فشا في أمة إلّا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة ومنشأ كلّ كبيرة. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «إياكم والكذب، فإنّه مجانب للإيمان»؛ يعني: أنّ الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر منه، مقابل له، وهذا كناية عن كمال البعد بينهما. وفي الحديث (¬2): «ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار». كلّ الكذب مكتوب كذبا لا محالة، إلّا أن يكذب الرجل في الحرب، فإنّ الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء، فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته ليرضيها، مثل أن يقول: (لا أحد أحبّ إليّ منك)، وكذا من جانب المرأة. فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها: ما أدّاها إذا ارتبط بمقصود صحيح له، أو لغيره، لكن هذا في حقّ الغير، وأمّا في حقّ نفسه، فالصدق أولى وإن لزم الضرر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[11]

واعلم: أنّ المراد بالكذب في الحقيقة: الكذب في العبوديّة والقيام بحقوق الربوبيّة، كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم، ولا يصح الاقتداء بأرباب الكذب مطلقا، ولا يعتمد عليهم، فإنّهم يجرّون إلى الهلاك، والفراق عن مالك الأملاك. وأمال حمزة (¬1) {فَزادَهُمُ}، ووافقه ابن ذكوان، وأجمع القراء على فتح الراء في قوله: {مَرَضٌ}، إلّا ما رواه الأصمعيّ، عن أبي عمرو: أنّه قرأ بإسكان الراء. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي {يكذبون} بالتخفيف. وقرأ الحرميان: نافع، وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو، وابن عامر بالتشديد. وقد سئل (¬2) القرطبيّ وغيره من المفسرين، عن حكمة كفّه صلّى الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم؟ فذكروا أجوبة عن ذلك. منها: ما ثبت في «الصحيحين»: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر - رضي الله عنه -: «أكره أن يتحدّث العرب أنّ محمدا يقتل أصحابه». ومنها: ما قال مالك: (إنّما كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنافقين؛ ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه). ومنها: ما قاله بعضهم: أنّه إنما لم يقتلهم؛ لأنّه كان لا يخاف من شرّهم مع وجوده صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، يتلو عليهم آيات الله بينات. فأمّا بعده: فيقتلون إذا أظهروا النفاق، وعلمه المسلمون. انتهى. 11 - ثمّ (¬3) شرع في بيان قبائحهم وأحوالهم الشنيعة، وفي الحقيقة: هو تفصيل للمخادعة الحاصلة منهم، فقال: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: وإذا قال المسلمون لهؤلاء المنافقين: {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لا تسعوا في الأرض بالإفساد بالكفر، وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإفشاء أسرار المؤمنين إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) ابن كثير. (¬3) العمدة.

الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك. وإسناد (¬1) قِيلَ إلى {لا تُفْسِدُوا} إسناد له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم: هذا اللفظ، كقولك: ألّف ضرب من ثلاثة أحرف. والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعا به، وضدّه: الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. وكلاهما يعمّان كلّ ضارّ ونافع، والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن المستتبعة؛ لزوال الاستقامة عن أحوال العباد، واختلال أمر المعاش والمعاد. والمراد بما نهوا عنه: ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك من فنون الشرور. فلمّا كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد. قيل: {لا تُفْسِدُوا}، كما يقال للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. وكانت الأرض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصي، فلمّا بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ارتفع الفساد، وصلحت الأرض، فإذا أعلنوا بالمعاصي، فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما في «تفسير أبي الليث». {قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} جواب لإذا، وردّ للناصح على سبيل المبالغة؛ أي: نحن مقصورون على الإصلاح المحض؛ أي: ليس شأننا الإفساد أبدا، بل نحن محصورون في الإصلاح، لا نخرج عنه إلى غيره، فهو من حصر المبتدأ في الخبر. والمعنى (¬2): أنّه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإنّ شأننا ليس إلّا الإصلاح، وإنّ حالنا متمّحضة عن شوائب الإفساد، وإنّما قالوا ذلك؛ لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}. فأنكروا كون ذلك فسادا، وادّعوا كونه إصلاحا محضا. وهو من قصر الموصوف على الصفة، مثل: إنّما زيد منطلق. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[12]

قال ابن التمجيد (¬1): إنّ المسلمين لمّا قالوا لهم: لا تفسدوا في الأرض، توهّموا أنّ المسلمين أرادوا بذلك أنّهم يخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوا بأنّهم مقصورون على الإصلاح، لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد، فيلزم منه عدم الخلط. فهو من باب قصر الإفراد، حيث توهّموا أنّ المؤمنين اعتقدوا الشركة. فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدلّ على القصر القلبيّ، وهو قوله تعالى: {أَلا} أيّها المؤمنون انتبهوا، واعلموا {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فإنّهم لمّا أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا. والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح، من باب قصر الشيء على الحكم، فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد، ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين. ثمّ استدرك بقوله: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسّ لهم حتى يدركوه. قال الشيخ في «تفسيره»: ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق؛ لأنّه كالمحسوس عادة، ثمّ فيه بيان شرف المؤمنين، حيث تولّى جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين. 12 - والحاصل: أنّهم أكّدوا ذلك بإنّما المفيدة للحصر، وبالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار. فردّ الله سبحانه عليهم بجملة مؤكّدة بأربع مؤكّدات: {أَلا} التي للتنبيه و {إن} وضمير الفصل، وتعريف الخبر، حيث قال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}؛ أي: إنّهم وحدهم هم المفسدون، لا من أوماؤا إليهم من المؤمنين، ولكن لا يعلمون أنّ ما فعلوه فساد؛ لأنّه أصبح غريزة في طباعهم؛ بما تمكّن فيها من الشّبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم، والثقة بآرائهم. أو لا يعلمون أنّ الله تعالى يطلع نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على فسادهم. 13 - {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} من طرف المسلمين بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن ¬

_ (¬1) روح البيان.

المنكر إتماما للنصح وإكمالا للإرشاد، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عمّا لا ينبغي، وهو المقصود بقوله تعالى: {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، والإتيان بما ينبغي، وهو المطلوب بقوله تعالى: {آمِنُوا} حذف المؤمن به؛ لظهوره؛ أي: آمنوا بالله وباليوم الآخر، أو أريد: فعلوا الإيمان. والمعنى: أي (¬1) وإذا قال لهؤلاء المنافقين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعض أصحابه بطريق الأمر بالمعروف نصيحة لهم: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر إيمانا صادقا، لا يشوبه نفاق ولا رياء. {كَما آمَنَ النَّاسُ}؛ أي: كما آمن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله. والكاف في محل النصب على أنّه نعت لمصدر مؤكّد محذوف؛ أي: آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم، فما مصدرية أو كافّة؛ أي: حقّقوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم. واللام (¬2) في النَّاسُ للجنس، والمراد به: الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، أو للعهد، والمراد به: الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، أو من آمن من أهل بلدتهم؛ أي: من أهل ضيعتهم: كابن سلام وأصحابه. والمعنى: آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص، متمحّضا من شوائب النفاق، مماثلا لإيمانهم. {قالُوا} مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} الهمزة فيه للإنكار مع الاستهزاء والسخرية، واللام فيه مشار بها إلى الناس الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد. والسفه: خفّة عقل وسخافة رأي، يورثهما قصور العقل، ويقابله الحلم والأناة. وإنّما نسبوهم إليه مع أنّهم في الغاية القاضية من الرشد، والرزانة، والوقار؛ لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة، وتماديهم في الغواية، وكونهم ممن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

فمن حسب الضلال هدى يسمّي الهدى لا محالة ضلالا؛ أو لتحقير شأنهم، فإنّ كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم الموالي، كصهيب، وبلال، أو للتجلّد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس: عبد الله بن سلام وأمثاله. وقيل: إنّما سفّهوهم؛ لأنّ الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا، وتحملّوا المشاقّ، فسموهم سفهاء لذلك. فإن قيل: كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقوله: {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ}. قلنا: فيه أقوال: الأول: إنّ المنافقين لعنهم الله، كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم، لكن هتك الله أستارهم، وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم، وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن، وإن لم يتكلموا به بالألسن؛ تحقيقا لولايتهم، قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} إلى أن قال: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، وكان هذا في قلوبهم، فأظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم. وهذا قول صاحب «التيسير». والثاني: أنّ المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك، هذا قول البغويّ. والثالث: قول أبي السعود في «الإرشاد» حيث قال: هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم، لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين، فإنّه ضرب من الكفر أنيق، وفنّ في النفاق عريق؛ لأنّه محتمل للشرّ، كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يحمل على ادّعاء الإيمان، كإيمان الناس، وإنكار ما اهتمّوا به من النفاق على معنى: أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وعلى الأول: ردّ الله - سبحانه - ذلك عليهم بجملة مؤكّدة بأربع تأكيدات كالسابقة، حيث قال: {أَلا} فانتبهوا أيّها المؤمنون {إِنَّهُمْ}؛ أي: إنّ المنافقين

القائلين ما ذكر {هُمُ السُّفَهاءُ} لا غيرهم؛ لأنّ من ركب متن الباطل كان حقيقا بالسفه بلا امتراء. {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أنّهم هم السفهاء، ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه، والمؤمنون بإيمانهم وإخلاصهم هربوا من السفه، وغبّوا في العلم والحقّ، وهم العلماء في الحقيقة، والمستقيمون على الطريقة. فائدة: قال أبو حيان: وإذا التقت الهمزتان، أولاهما مضمومة، والثانية مفتوحة، نحو: {السُّفَهاءُ أَلا} ففي ذلك أوجه: أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا. وأجاز قوم وجها. خامسا: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع ذلك بعضهم. وهذا ردّ (¬1) ومبالغة في تجهيلهم، فإنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع، أعظم ضلالة، وأتمّ جهالة من المتوقّف المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. وقال النسفيّ: وإنّما ذكر هنا {لا يَعْلَمُونَ}. وفيما تقدم {لا يَشْعُرُونَ}؛ لأنه قد ذكر السفه هنا، وهو جهل، وكان ذكر العلم أحسن طبقا له. انتهى. وفي «الروح»: واعلم أن قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ} في الآية الأولى: نفي ¬

_ (¬1) روح البيان.

الإحساس عنهم، وفي الثانية: نفي الفطنة؛ لأنّ معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة، وفي الآية الثالثة: نفي العلم، وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق، وذلك: أنّه بيّن في الأولى: أنّ في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحسّ، وفي الثانية: أنّهم لا يفطنون تنبيها على أنّ ذلك لازم لهم؛ لأنّ من لا حسّ له لا فطنة له، وفي الثالثة: أنّهم لا يعلمون تنبيها على أنّ ذلك أيضا لازم لهم؛ لأنّ من لا فطنة له لا علم له، فإنّ العلم تابع للعقل، كما حكي: أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام أتى إليه جبريل عليه السلام بثلاث تحف: العلم، والحياء، والعقل. فقال: يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد، فاختار العقل. فأشار جبريل إلى العلم والحياء بالرجوع إلى مقرّهما، فقالا: إنّا كنا في عالم الأرواح مجتمعين، فلا نرضى أن يفترق بعضنا عن بعض في الأشباح أيضا، فنتبع العقل، حيث كان، فقال جبريل عليه السلام: استقرا، فاستقر العقل في الدماغ، والعلم في القلب، والحياء في العين. فليسارع (¬1) العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة، حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة. قال الإمام القشيري - رحمه الله تعالى -: للعقل نجوم، وهي للشيطان رجوم، وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار، وللمعارف شموس، ولها على أسرار العارفين طلوع، والعلم اللدنّي هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج، وللقلب بابان: باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام. فمثل القلب، كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة، فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة، بخلاف ما إذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى، فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو من كدرة، وشكّ، وشبهة، بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض الإلهيّ، فإنّه أصفى وأولى. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال الشيخ زين الدين الحافيّ - رحمه الله تعالى -: والعجب ممن دخل في هذه الطريقة المحمدية، وأراد أن يصل إلى الحقيقة اليقينية، وقد حصّل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعاني من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته، والإعراض عما سواه، لتنصبّ إلى قلبه العلوم اللدنية التي لو عاش ألف سنة في تدريس الاصطلاحات وتصنيفها، لا يشمّ منها رائحة، ولا يشاهد من آثارها وأنوارها لمعة. فالعلم بلا عمل عقيم، والعمل بلا علم سقيم، والعمل بالعلم صراط مستقيم. انتهى. وعبارة المراغي هنا: (¬1) {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ} الذين اتبعوا قضيّة العقل، وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم، كعبد الله بن سلام وأشباهه من أحبارهم. {قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} أرادوا بالسفهاء: أتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم. أمّا المهاجرون منهم: فلأنّهم عادوا قومهم وأقاربهم، وهجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم؛ ليتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويسيروا على هديه. وأمّا الأنصار: فلأنّهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة، وتمادى في الغواية، ومن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وظنّ الضلال هدى أن يسمّي الهدى سفها وضلالا، كما مرّ. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ} وحدهم دون من عرّضوا بهم، ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم، واكتفوا بانتظار شفاعتهم، ولم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك المؤمنين الذين لا سلف لهم إلّا عابدي أصنام، وقد هداهم الله تعالى، وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أنّ المؤمنين سفهاء. وقد ختمت هذه الآية بـ {لا يَعْلَمُونَ}، وسابقتها بـ {لا يَشْعُرُونَ}؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالعلم اليقينيّ، والفائدة المرجوة منه، وهي السعادة في المعاش والمعاد، لا يدركها إلّا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في ¬

_ (¬1) المراغي.

[14]

إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم. أمّا نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه. انتهى. 14 - ثمّ بيّن سبحانه وتعالى، مصانعتهم ومعاملتهم مع المؤمنين بعد ما بيّن أولا مذهبهم ونفاقهم في الواقع، ونفس الأمر بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فلا تكرار بين ما هنا وهناك، فقال: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قال صاحب «الروح»: وهذا بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار، وما صدّرت به القصة، فمساقه؛ لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم، فليس بتكرير مع ما سبق؛ أي: وإذا لقي هؤلاء المنافقون، وعاينوا، وصادقوا، واستقبلوا الذين آمنوا بالحقّ، وهم المهاجرون والأنصار {قالُوا}؛ أي: قال هؤلاء المنافقون كذبا: {آمَنَّا} كإيمانكم وتصديقكم، كما سبق في سبب النزول: أنّ عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - الخ. أي: وإذا رأى هؤلاء المنافقون المؤمنين، واجتمعوا معهم، أظهروا لهم الإيمان والموالاة نفاقا ومصانعة. {وَإِذا خَلَوْا}؛ أي: مضوا، أو اجتمعوا على الخلوة. و {إِلى} بمعنى: مع أو انفردوا و {إِلى} بمعنى: الباء، أو بمعنى: مع، تقول: خلوت بفلان، وإليه، إذا انفردت معه. {إِلى شَياطِينِهِمْ}؛ أي: إلى أصحابهم المماثلين للشيطان في التمردّ والعناد المظهرين لكفرهم. وإضافة الشياطين إلى ضميرهم للمشاركة في الكفر، أو إلى كبار المنافقين، والقائلون صغارهم، وكلّ عات متمرّد فهو شيطان. وقال الضحاك: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - المراد بشياطينهم: كهنتهم، وهم في بني قريظة: كعب بن الأشرف، وفي بني أسلم: أبو بردة، وفي جهينة: عبد الدار، وفي بني أسد: عوف بن عامر، وفي الشام: عبد الله بن سوداء. وكانت العرب تعتقد فيهم أنّهم مطّلعون على الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وليس من كاهن إلّا وعند العرب أنّ معه شيطانا يلقي إليه

[15]

كهانته، وسمّوا شياطين؛ لبعدهم عن الحقّ، فإنّ الشّطون هو البعد، كذا في «التيسير». والمعنى: أي وإذا انفردوا عن المؤمنين، ورجعوا إلى شياطينهم؛ أي: إلى كبرائهم، ورؤسائهم في الضلال والنفاق الذين شابهوا الشياطين في تمردهم وعتوهم، أو إلى كهنتهم. {قالُوا}؛ أي: قال هؤلاء المنافقون لرؤسائهم: {إِنَّا مَعَكُمْ}: أي: مصاحبوكم، وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم في حال من الأحوال. وكأنه قيل لهم عند قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ}: فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الشهادة، وتشهدون مشاهدهم، وتدخلون مساجدهم، وتحجون، وتغزون معهم؟ فقالوا: {إِنَّما نَحْنُ} في إظهار الإيمان عند المؤمنين {مُسْتَهْزِؤُنَ} بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة، فنريهم أنا نوافقهم على دينهم ظاهرا وباطنا، وإنما نكون معهم ظاهرا؛ لنشاركهم في غنائمهم، وننكح بناتهم، ونطّلع على أسرارهم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم. والاستهزاء: التجهيل للغير، والسخرية به، والاستخفاف به. والمعنى: إنّا نجهّل محمدا وأصحابه، ونسخر بهم بإظهارنا الإسلام. وقرىء {مُسْتَهْزِؤُنَ} بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة؛ لانكسار ما قبلها، ومنهم من يحذف الياء؛ تشبيها بالياء الأصلية في نحو: يرمون، ذكره في «البحر». 15 - فردّ الله عليهم بقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي: يجازيهم على استهزائهم، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم، أو ينزل الحقارة بهم والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم، أمّا في الدنيا: فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال، والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة: فبما يروى: أنّه يفتح لهم بابا إلى الجنة، وهم في جهنّم، فيسرعون نحوه، فإذا وصلوا إليه سدّ عليهم الباب، وردّوا إلى جهنم. والمؤمنون على الأرائك في الجنة، ينظرون إليهم، فيضحكون لهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا، فذلك بمقابلة هذا،

ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرّة. قال ابن كثير: وهذا إخبار من الله تعالى أنّه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء، مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقّوا العقاب عليه. فاللفظ متفق والمعنى مختلف، كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}؛ لأنّ الأول ظلم والثاني عدل. {وَيَمُدُّهُمْ}؛ أي: يزيدهم، ويقويهم من مدّ الجيش وأمده؛ إذا زاده وقوّاه، لا من المدّ في العمر، فإنّه يعدى باللام كأملي لهم. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير وَيَمُدُّهُمْ. {فِي طُغْيانِهِمْ} متعلّق بيمدّهم. والطغيان: مجاوزة الحد في كلّ أمر، والمراد هنا: إفراطهم في العتوّ، وغلّوهم في الكفر. وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم، وتأييد لما أشير إليه من ترتب المدّ على سوء اختيارهم. والمشهور فتح الياء من {يَمُدُّهُمْ}. وقرىء شاذا بضمّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بمعنى واحد، ونسبت هذه القراءة إلى ابن محيص، وشبل، وابن كثير، كما مرّ. حالة كونهم {يَعْمَهُونَ} فيه؛ أي: يتردّدون في الضلالة، متحيّرين عقوبة لهم في الدنيا لاستهزائهم. وهو حال من الضمير المنصوب، أو المجرور، لكون المضاف مصدرا، وهو مرفوع حكما. والعمه في البصيرة، كالعمى في البصر، وهو التحيّر والتردّد بحيث لا يدري أين يتوجّه. والمعنى: أي يزيدهم بطريق الإمهال والترك في طغيانهم، وضلالتهم، وكفرهم حالة كونهم يعمهون؛ أي: يتردّدون ويتحيّرون في طغيانهم، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأنّ الله طبع قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشدا، ولا يهتدون سبيلا، أو المعنى: يتردّدون في البقاء على الكفر وتركه، والدخول في الإيمان. والمراد بالعمه: عدم معرفة الحقّ من الباطل، فمنهم: من يظهر له وجه الحقّ، ويكفر عنادا ومنهم: من يشكّ في الحقّ ويقال له: عمي أيضا. فبين العمه والعمى عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في طمس القلب، وينفرد العمى بفقد البصر.

[16]

16 - {أُولئِكَ} المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة، المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تميز، بحيث صاروا كأنّهم حضار مشاهدون على ما هم عليه من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى هنا. والإشارة إليهم باسم إشارة البعيد؛ للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ، وسوء الحال. ومحلّه الرفع على الابتداء، وخبره قوله: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} وأصل الاشتراء: بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأشياء، ثمّ استعير للإعراض عمّا في يده محصّلا به غيره، ثمّ اتسع فيه، فاستعمل في الرغبة عن الشيء طمعا في غيره، وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكيّة. وقرأ يحيى بن يعمر {اشتروا الضلالة} بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي بفتحها؛ لخفة الفتحة، وأجاز الكسائي همز الواو. وقرأ الجمهور بضمّ الواو، وأمال حمزة والكسائي وخلف العاشر {الهدى}، وهي لغة تميم، وقلله ورش والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. أي: أولئك المنافقون هم الذين اشتروا الضلالة، وأخذوها، واختاروها، وهي الكفر والعدول عن الحقّ، والصواب بدل الهدى، وهو الإيمان والسلوك في الطريق المستقيم، والاستقامة عليه أخذا متّصفا بالرغبة فيها والإعراض عنه؛ أي: اختاروها عليه، واستبدلوها به، وأخذوها مكانه، وجعل الهدى كأنّه في أيديهم لتمكنهم منه، وهو الاستعداد به، فبميلهم إلى الضلالة عطلوه، وتركوه. والباء تدخل على المتروك في باب المعاوضة. وهذا دليل: على أنّ الحكم في البيع ونحوه، يثبت بالتعاطي من غير تكلم بالإيجاب والقبول على ما ذهب إليه الأحناف، فإنّ هؤلاء سمّوا مشترين، بترك الهدى وأخذ الضلال من غير تكلّم بصيغة المبادلة، كما في «التيسير». فيكون دليلا لهم على أنّ من أخذ شيئا من غيره، وترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم. {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} أي: (¬1) ما ربحت صفقتهم في هذه المعاوضة؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان.

ما ربحوا في تجارتهم ومعاوضتهم، وهذا ترشيح للمجاز؛ أي: ما ربحوا فيها، فإنّ الربح مسند إلى أرباب التجارة في الحقيقة، فإسناده إلى التجارة نفسها على الاتساع؛ لتلبّسها بالفاعل؛ أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران، ودخلت الفاء؛ لتضمّن الكلام معنى الشرط، تقديره: وإذا اشتروا فما ربحوا، كما في «الكواشي». والتجارة: صناعة التجار، وهو التصدّي بالبيع والشراء لتحصيل الربح، والربح: هو الفضل على رأس المال. {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} إلى طريق التجارة، فإنّ المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح، ولئن فات الربح في صفقة، فربّما يتدارك في صفقة أخرى؛ لبقاء الأصل، وأمّا اتلاف الكلّ بالمرة، فليس من باب التجارة قطعا، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين؛ لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختلّ عقلهم، ولم يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح، فاقدين الأصل نائين عن طريق التجارة بألف منزل. واعلم: أنّ المهتدي: هو الذي ترك الدنيا والعادة، ثمّ اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة، لا من اتبع كلّ ما يهواه، وخلّط هواه بهداه. فإن قلت (¬1): مقتضى هذه الآية: أنّ الهدى كان موجودا ثمّ دفعوه، وأخذوا الضلالة. قلت: الأمر كذلك؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه» الحديث؛ ولأنّهم في العهد يوم ألست بربكم أجابوا بالإيمان جميعا؛ أو لأنّهم لمّا تمكنوا من الإيمان جعلوا كأنّ الهدى بأيديهم، فتركوه، وأخذوا الضلالة. فمثلهم، كمثل من عنده كنز عظيم ينفع في الدنيا والآخرة، فاستبدله بالنار؛ لأنّ الضلالة سبب النار. وحاصل معنى الآيات: أي (¬2) وإذا رأى المنافقون المؤمنين، واجتمعوا بهم ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي.

[17]

قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم، وصدّقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنّا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم؛ لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم، ونطّلع على أسرارهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ أي: الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم، وسمّي هذا الجزاء استهزاء؛ للمشاكلة في اللفظ، كما سمّي جزاء السيئة سيئة، ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين متردّدين في الضلال؛ عقوبة لهم. {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا}؛ أي: هؤلاء هم الذين رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال، واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة إذ أضاعوا رأس المال، وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح، وإنّ من كانت هذه حالتهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإنّ التاجر إن فاته الربح في صفقة، فربّما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال. 17 - ولمّا بيّن الله سبحانه وتعالى قبائحهم وعاقبة أمرهم، شرع يضرب أمثالهم، ويبيّن فيها وصفهم وما هم عليه، فقال: {مَثَلُهُمْ ...} إلخ، والمثل في الأصل: بمعنى النظير، ثمّ قيل: للقول السائر الممثل بمورده، كما ورد من غير تغيير، ولا يضرب إلّا بما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثمّ استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن عجيب، وفيها غرابة، كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وقوله أيضا: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى}؛ أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال. وعبارة «الروح»: ولمّا جاء الله بحقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب المثل؛ زيادة في التوضيح والتقرير، فإنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع ثورة الجامح الأبيّ، كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف، وإراءة للمخيّل محقّقا، وللمعقول محسوسا، وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص، ومن

ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد، ولأمر مّا أكثر الله سبحانه في كتبه الأمثال والعبر، وفي الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال، وفي القرآن ألف آية من الأمثال والعبر، وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة، لا تحصى، ذكر السيوطي في «الإتقان» من أعظم علم القرآن أمثاله، والناس في غفلة عنه. والمعنى (¬1): مثلهم؛ أي: حالهم وصفتهم العجيبة الشأن {كَمَثَلِ الَّذِي}؛ أي: كحال الذين من باب وضع مفرد الموصول موضع الجمع منه؛ تخفيفا للكلام؛ لكونه مستطالا بصلته، كقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا}، والقرينة ما قبله وما بعده، لكن إنّه وحّد الضمير في قوله: اسْتَوْقَدَ نارًا نظرا إلى صورة اللفظ، وجمع في الأفعال الآتية نظرا إلى المعنى. والاستيقاد: طلب الوقود، والسعي في تحصيله، وهو سطوع النور، وارتفاع لهبها. والنار: جوهر لطيف مضيء محرق حارّ، والنور ضوؤها وضوء كلّ نيّر، وهو نقيض الظلمة؛ أي: كمثل الذي أوقد في مفازة في ليلة مظلمة نارا عظيمة؛ خوفا من السباع وغيرها. {فَلَمَّا أَضاءَتْ} الإضاءة: فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا}. وقرأ ابن السميقع، وابن أبي عبلة {فلما ضاءت} ثلاثيا فيتخرّج على زيادة ما، أو على أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة، أو موصوفة؛ أي: أنارت النار {ما حَوْلَهُ}؛ أي: ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أنّ {ما} مفعول {أَضاءَتْ} إن جعلته متعدّيا و (حول) نصب على الظرفية، وإن جعلته لازما، فهو مسند إلى {ما}، والتأنيث؛ لأنّ ما حوله أشياء وأماكن، وأصل الحول: الدّوران، ومنه الحول للعام؛ لأنّه يدور. وجواب {لما} قوله سبحانه {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}؛ أي: أذهبه بالكلية، وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم. وإنّما علّق الإذهاب بالنور دون نفس النار؛ لأنّه المقصود بالاستيقاد. وقرأ اليمانيّ {أذهب الله نورهم}، وهذا يدلّ على مرادفة الباء للهمزة في التعدية. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى (¬1): إمّا لأنّ الكلّ بخلقه تعالى؛ وإما لأنّ الإنطفاء حصل بسبب خفي، أو أمر سماوي، كريح أو مطر؛ وإما للمبالغة، كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة؛ لما فيها من معنى الاستصحاب والإمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله تعالى وأمسكه، فلا مرسل له من بعده، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور؛ لأنّ ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور في الجملة، لعدم استلزام عدم القوي، لعدم الضعيف، والمراد إزالته بالكلّية، كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} فإنّ الظلمة هي عدم النور، وانطماسه بالمرة، لا سيّما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها فوق بعض، كما يفيده الجمع، والتنكير التفخيميّ، وما بعده من قوله: {لا يُبْصِرُونَ} لا يتحقّق إلّا بعد أن لا يبقى من النور عين ولا أثر. و (ترك) في الأصل بمعنى: طرح وخلّى، وله مفعول واحد، فضمّن معنى التصيير، فجرى مجرى أفعال القلوب؛ أي: صيّرهم {فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} ما حولهم. فعلى هذا يكون قوله: {فِي ظُلُماتٍ} وقوله: {لا يُبْصِرُونَ} مفعولين لصيّر بعد المفعول الأول على سنن الأخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد، وإن حمل معناه على الأصل يكونان حالين من المفعول، مترادفين، أو متداخلين. والمعنى (¬2): أنّ حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي: عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق، المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى، وظلمة يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ}، وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو الفطري النوري، المؤيّد بما شاهدوه من دلائل الحقّ، كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها، فأطفأها الله تعالى، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار. وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السماك {ظلمات} بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيليّ بفتح اللام. وقرأ الجمهور بضمّ اللام. وهذه اللّغي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[18]

الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين غير المضعّف، ولا المعل اللام بالياء. وفي «التيسير والعيون»: إنّ المنافقين أظهروا كلمة الإيمان، فاستناروا بنورها، واستعزّوا بعزّها، وأمنوا بسببها، فناكحوا المسلمين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا بلغوا إلى آخر العمر كلّ لسانهم عنها، وبقوا في ظلمة كفرهم أبد الآباد، وعادوا إلى الخوف والظلمة. وعبارة «العمدة» هنا: {مَثَلُهُمْ}؛ أي: صفة هؤلاء المنافقين في نفاقهم وحالهم الشنيعة، كصفة الشخص الذي أوقد نارا ليستدفىء بها، ويستضيء. {فَلَمَّا} اتقدت تلك النار، {وأَضاءَتْ}؛ أي: أنارت له {ما حَوْلَهُ} أي: المكان الذي حوله، فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه من عدوّ، وسباع، وحيّات، وغير ذلك مما يضرّه، وتمّ له النفع بها، أطفأ الله تلك النار، و {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}؛ أي: أذهب الله، وأعدم نور نارهم وضوءها، {وَتَرَكَهُمْ}؛ أي: خلّاهم، وصيّرهم {فِي ظُلُماتٍ} ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة السحاب والريح مع المطر حالة كونهم {لا يُبْصِرُونَ} ما حولهم متحيّرين عن الطريق خائفين. فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم، وأولادهم، وأموالهم من القتل والسبي، وانتفعوا بأخذ الغنائم والزكاة، حيث أسلموا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فإذا ماتوا فقد ذهب الله بنورهم، فلم يؤمنوا من النار، ولم ينتفعوا بالجنة، وتركهم في ظلمات ثلاث: ظلمة الكفر، والنفاق، والقبر، والجامع بينهما قلّة الانتفاع، ودفع المضار في كلّ منهما. 18 - {صُمٌّ} أي: هم صمّ عن الحقّ، لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا، فكأنّهم لم يسمعوا. والصمم: انسداد خروق المسامع، بحيث لا يكاد يصل إليها هواء يحصل الصوت بتموجه. والصّمّ: جمع أصمّ وهو من انسدّت خروق مسامعه. وقرأ ابن مسعود، وحفصة أمّ المؤمنين (¬1): {صمّا بكما عميا} بالنصب على الذمّ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[19]

في الثلاثة، ويجوز أن ينتصب بقوله: {تَرَكَهُمْ}. {بُكْمٌ}؛ أي: خرس عن نطق الحقّ، لا يقولونه لمّا أبطنوا خلاف ما أظهروا، فكأنّهم لم ينطقوا. وهو جمع أبكم، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأبكم والأخرس كلاهما بمعنى واحد، والبكم: آفة في اللسان يمنع اعتماد الصوت على مخارج الحروف. {عُمْيٌ}؛ أي: فاقدوا الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤدّيهم إلى الهدى، وفاقدوا البصيرة أيضا؛ لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له. فالعمى هنا مستعمل في عدم البصر والبصيرة جميعا، والعمى: فقدان البصر خلقة كان أم لا. والكلام في كل من الثلاثة على التشبيه البليغ، كما سيأتي. وهذه صفاتهم في الدنيا، ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها. قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، فلا يسمعون سلام الله، ولا يخاطبون الله، ولا يرونه، والمسلمون كانوا سامعين للحقّ قائلين بالحق، ناظرين إلى الحقّ، فيكرمون يوم القيامة بخطابه، ولقائه، وسلامه. {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}؛ أي: هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه، وضيّعوه، وباعوه. أو لا يرجعون عمّا هم عليه من الغيّ، والضلال، والفساد. والفاء: للدلالة على أنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب تحيّرهم واحتباسهم. وهذه الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وأفادت أنّهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات، حيث استحقّوا الذمّ بتركه، وأنّ قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ليس بنفي الآلات، بل هو نفي تركهم استعمالها. 19 - ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا آخر لهم؛ زيادة في الكشف والإيضاح، فقال: {أَوْ} مثلهم في حيرتهم وترددهم ويصحّ أن تكون {أَوْ} للتنويع، أو للإبهام، أو للشكّ، أو الإباحة، أو التخيير، أو الإضراب، أو بمعنى الواو، وأحسنها الأول. قال الشوكاني عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك؛ لقصد التخيير بين المثلين؛ أي: مثّلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل

للشكّ، فقد توسّع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شكّ. وقيل: إنّها بمعنى الواو، قاله الفرّاء، وغيره. انتهى. وقوله: {كَصَيِّبٍ} على حذف مضاف؛ أي: صفتهم وحالهم في تردّدهم وحيرتهم، كصفة وحال أصحاب صيّب؛ أي: مطر يصوب؛ أي: ينزل من السماء، ويقع على الأرض من الصوب، وهو النزول. أصله: صيوب نظير سيّد، كما سيأتي. والكاف مرفوع المحل، معطوف على الكاف الذي في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ}. و {أَوْ} للتخيير والتساوي. أي: (¬1) كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين، والقصتان سواء في استقلال كلّ واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. وقرىء أو كصايب وهو اسم فاعل من صاب يصوب، وصيب أبلغ من صائب، ذكره في «البحر». وقوله: {مِنَ السَّماءِ} متعلّق بصيّب؛ أي: كأصحاب مطر نازل من السماء. والسماء: سقف الدنيا، وتعريفها للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها؛ أي: كلّ ما يحيط به كلّ أفق منها سماء على حدة. والمعنى: أنّه صيّب عامّ نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء. وفيه أنّ السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماؤه، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر. قال الإمام: من الناس من قال: المطر إنما يتحصّل عن ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثمّ ينزل مرة أخرى، وأبطل الله ذلك المذهب هنا، بأن بيّن أنّ ذلك الصيب نزل من السماء. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ تحت العرش بحرا ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله، فيغربله، فليس من قطرة تقطر، إلّا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، ووزن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[20]

معلوم، إلّا ما كان من يوم الطوفان من ماء، فإنّه نزل بلا كيل ولا وزن، كذا في تفسير «التيسير». قال الشوكاني (¬1): وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلّا منها: أنّه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب. وإطلاق السماء على المطر واقع كثيرا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا {فِيهِ} أي: في ذلك الصيّب {ظُلُماتٌ}؛ أي: أنواع من ظلمات، وهي ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال ما يلزمه من الغمام المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وليس في الآية ما يدلّ على ظلمة الليل، 20 - لكن يمكن أن يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية، حيث قال تعالى بعد هذه الآية: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ} وبعده {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا}. فإنّ خطف البرق البصر، إنما يكون غالبا في ظلمة الليل، وكذا وقوف الماشي عن المشي، إنما يكون إذا اشتدت ظلمة الليل، بحيث يحجب الأبصار عن إبصار ما هو أمام الماشي من الطريق وغيره، وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه في النهار، لا يوجب وقوف الماشي عن المشي. وجعل (¬2) المطر محلّا للظلمات، مع أنّ بعضها لغيره، كظلمة الغمام والليل؛ لما أنّهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدّته، وتهويلا لأمره، وإيذانا بأنّه من الشدة والهول، بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام. {وَرَعْدٌ} هو صوت قاصف شديد يسمع من السحاب، والصحيح الذي عليه المعوّل: أنّه اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب، لما روى الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ قال: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

«ملك من الملائكة بيده مخاريق» جمع مخراق: آلة تزجر الملائكة بها السحاب مثل السوط من نار، «يسوق بها السحاب حيث شاء الله»، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر»، قالت: صدقت. الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. فالمراد بالرعد في هذه الآية: صوت ذلك الملك لا عينه، كما في بعض الروايات: من أنّ الرعد: ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وأنّه يجوز الماء في نقرة إبهامه، وأنّه يسبّح الله، فإذا سبّح الله لا يبقى ملك في السماء إلّا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل المطر. قال القرطبيّ: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، والمشهور عند الحكماء: أنّ الرعد يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض، أو من إقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياها سوقا عنيفا، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة، وجهلة المتكلمين. {وَبَرْقٌ} وهو لمعان يظهر من السحاب إذا تحاكّت أجزاؤه، أو عند ضرب الملك السحاب بالمخاريق عند سوقه، وهي جمع مخراق، كما مرّ آنفا، والمخراق في الأصل: ثوب يلفّ، ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، وهي هنا: آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وكونهما؛ أي: الرعد والبرق في الصيّب مع أنّ مكانهما السحاب، باعتبار كونهما في أعلاه ومنصبّه، وملتبسين في الجملة ووصول أثرهما إليه، فهما فيه. والضمائر في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} للمضاف المحذوف في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} لأنّ التقدير: أو كأصحاب صيّب، كما مرّ. وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه، لكن معناه باق، فيجوز أن يعود عليه الضمير، ولا محلّ لهذه الجملة؛ لكونها مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنّه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن الشدة والهول، فكأنّ قائلا قال: كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذنهم، والمراد: أناملهم، وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، كأنّهم يدخلون من شدّة الحيرة أصابعهم كلّها في آذانهم لا أناملها

فحسب، كما هو المعتاد. ويجوز (¬1) أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم، وفرط دهشتهم، وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتاد؛ أعني: السبّابة. وقيل: لرعاية الأدب؛ لأنّها فعّالة من السبّ، فكأن اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنّهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهلّلة، وغيرهما، ولم يذكر من أمثال هذه الكنايات؛ لأنّها ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد. وإطلاق الأصبع على بعضها - وهو الأنملة - مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية؛ لأنّ الذي يجعل في الأذن، إنما هو رأس الأصبع لا كلها. وقوله: {مِنَ الصَّواعِقِ} متعلّق بيجعلون؛ أي: يجعلون من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد. والصواعق (¬2): ويقال لها: الصواقع، جمع صاعقة، وهي قطعة نار، تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه على السحاب وشدة ضربه لها، كما روي: إذا اشتدّ غضبه على السحاب طارت من فيه النار، فتضطرب أجرام السحاب، وترتعد. اه. «كرخي». ويدلّ على ذلك: ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا، وبه قال كثير من علماء الشريعة، ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك، وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار، تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد، وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة: ومن قال بقولهم: إنّها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامها، وسيأتي في (سورة الرعد) إن شاء الله تعالى في تفسير الرعد، والبرق، والصواعق، ماله مزيد فائدة وإيضاح. وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} منصوب (¬3) بيجعلون على أنّه مفعول لأجله؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البروسوي.

يجعلونها في آذانها؛ لأجل مخافة الهلاك من سماعها. والموت: فساد بنية الحيوان، أو عرض لا يصحّ معه إحساس معاقب للحياة. {وَاللَّهُ مُحِيطٌ} أصل الإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع جهاته، بحيث لا يفوت المحاط به المحيط بوجه من الوجوه؛ أي: والله سبحانه محيط محدق {بِالْكافِرِينَ} بعلمه وقدرته، لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة، فيحشرهم يوم القيامة، ويعذّبهم، وهذه الجملة اعتراضية منبهة، على أنّ ما صنعوا من سدّ الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر، والحيل لا تردّ بأس الله عز وجلّ. وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب؛ الإيذان بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم. وحاصل معنى الآية (¬1): صفة هؤلاء المنافقين في حيرتهم ودهشتهم، كصفة أصحاب مطر شديد نازل من السماء {فِيهِ ظُلُماتٌ}؛ أي: مع ذلك المطر ظلمات متكاثفة مجتمعة من ثلاثة أنواع: ظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الليل. {وَ} معه {رَعْدٌ} قاصف؛ أي: شديد، وهو صوت الملك الموكل بالسحاب، {وَ} معه {بَرْقٌ} خاطف؛ أي: مسرع، وهو لمعان سوطه التي يسوق بها السحاب، وهي من نار {يَجْعَلُونَ}؛ أي: يجعل أصحاب الصيّب أصابعهم؛ أي: رؤوس أصابعهم ويضعونها في آذانهم {مِنَ الصَّواعِقِ}؛ أي: من أجل شدّة صوت الرعد. ف (أل) في {الصَّواعِقِ} للعهد الذكري؛ لأنّه تقدم ذكرها بعنوان الرعد، فهي عين الرعد السابق، فالتعبير هنا بالصواعق، وهناك بالرعد؛ للتفنّن، ولا يضرّ في العهد الذكري اختلاف العنوان، كما هو مقرر في محلّه، كما في «الجمل». {حَذَرَ الْمَوْتِ}؛ أي: لأجل خوف الموت والهلاك من سماعها. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}؛ أي: محيط بهم بقدرته وعلمه، وهم في قبضته، وتحت إرادته ومشيئته، لا يفوتونه، كما لا يفوت من أحاط به الأعداء من كلّ جانب. ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير.

والمعنى: أي والله مطّلع على أسرارهم، عالم بما في ضمائرهم، قادر على أخذهم أينما كانوا، فما صنعوا من سدّ الآذان بالأصابع لا يغني عنهم من الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها. وقوله: {يَكادُ الْبَرْقُ} من تمام المثل، وأمّا قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} فجملة معترضة بين أجزاء المشبّه به، كما مرّ قريبا، جيء بها تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: يقرب البرق لشدّته وقوته، وكثرة لمعانه {يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ}؛ أي: يختلس أبصار أصحاب الصيّب ويستلبها، ويأخذها بسرعة، ويذهبها من شدّة ضوئه. وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، واقعا في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك البرق يخطف أبصارهم. وقرأ مجاهد، وعليّ بن الحسين، ويحيى بن زيد (¬1): {يَخْطَفُ} بسكون الخاء وكسر الطاء. قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك: بأنّ أحدا لم يقرأ {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} بالفتح. وقال الزمخشري: الفتح - يعني في المضارع - أفصح. انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء يخطف بالكسر. قال ابن عطيّة: ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن، وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود {يختطف}. وقرأ أبيّ {يتخطّف}، وقرأ الحسن أيضا {يخطّف} بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضا، والجحدري، وابن أبي إسحاق {يخطّف} بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله: {يختطف}، وقرأ الحسن أيضا، وأبو رجاء، وعاصم، والجحدري وقتادة {يخطّف} بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضا الحسن، والأعمش {يخطّف} بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي {يخطّف} بضمّ الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، من (خطّف) المضعف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة {يخطّف} بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والتحقيق: أنّه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان؛ لأنّه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حدّة، فهذا الحرف قرىء عشر قراءات، واحدة سبعيّة، وهي {يَخْطَفُ} بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء، وباقيها شواذّ. {كُلَّما أَضاءَ} ولمع البرق {لَهُمْ} أي: لأصحاب الصيّب. ولفظ (¬1) {كُلَّما} ظرف زمان، ضمّن معنى الشرط، والعامل فيه جوابه، وهو {مَشَوْا}. و {أَضاءَ} متعد؛ أي: كلّما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة، وهو استئناف ثالث، كأنّه قيل: كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ أيفعلون بأبصارهم ما يفعلون بآذانهم أم لا؟ فقيل: كلّما نوّر البرق لهم ممشى ومسلكا {مَشَوْا فِيهِ}؛ أي: في ذلك المسلك؛ أي: في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم، وإيثار المشي على ما فوقه من السعي والعدو؛ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم. وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيّب. وفي مصحف ابن مسعود: {مضوا فيه}. {وَإِذا أَظْلَمَ} البرق {عَلَيْهِمْ}؛ أي: خفي، واستتر، فصار الطريق مظلما {قامُوا}؛ أي: وقفوا في أماكنهم، وثبتوا على ما كانوا عليه من الهيئة، متحيّرين، مترصّدين لحظة أخرى عسى يتسنّى لهم الوصول إلى المقصد، أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم. وقرأ زيد بن قطيب، والضحاك {وَإِذا أَظْلَمَ} مبنيا للمفعول، ذكره في «البحر». وهذا تصوير (¬2) لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإذا صادفوا من البرق لمعة، مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوها فرصة، فيخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، واستتر، وفتر لمعانه، وفقد: وقفوا عن السّير، وثبتوا في مكانهم؛ خشية التردّي في حفرة، فكذلك المنافقون لمّا آمنوا بألسنتهم مشوا فيما بين المؤمنين؛ لأنّه يقبل إيمانهم اللسانيّ، فلما ماتوا بقوا في ظلمة القبر والعذاب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

{وَلَوْ شاءَ اللَّهُ} مفعوله (¬1) محذوف، تقديره: أي: ولو أراد الله سبحانه أن يذهب الأسماع التي في الرأس، والأبصار التي في العين، كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصارها {لَذَهَبَ}؛ أي: لأذهب سبحانه {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ}؛ أي: لأذهب الأسماع بصوت الرعد، والأبصار بنور البرق عقوبة لهم؛ لأنّه لا يعجز عن ذلك؛ أي: لزاد في قصف الرعد، فأصمّهم، وأذهب أسماعهم، ولزاد في ضوء البرق فأعماهم، وأذهب بأبصارهم، لكنّه لم يشأ؛ لحكم ومصالح هو بها عليم. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه وأراده؛ أي: على كلّ موجود بالإمكان، والله تعالى وإن كان يطلق عليه الشيء، لكنه موجود بالوجوب دون الإمكان، فلا يشكّ العاقل، أنّ المراد من الشيء في أمثال هذا الموضع ما سواه تعالى، فالله تعالى مستثنى في الآية مما يتناوله لفظ الشيء بدلالة العقل، فالمعنى: على كلّ شيء سواه قدير، كما يقال: فلان أمين، على معنى: أمين على من سواه من الناس، ولا يدخل فيه نفسه، وإن كان من جملتهم، كما في «حواشي ابن التمجيد». {قَدِيرٌ}؛ أي: فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا ناقصا ولا زائدا؛ أي: قادر على إيجاده وإعدامه لا منازع له فيه، ومنه إذهاب أسماعهم وأبصارهم. قال ابن جرير: وإنّما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كلّ شيء في هذا الموضع؛ لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنّه محيط بهم، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر. اه. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2): {لأذهب بأسماعهم وأبصارهم}، فالباء زائدة، التقدير: لأذهب أسماعهم وأبصارهم. ثمّ اعلم (¬3): أنّ هذا التمثيل كشف بعد كشف، وإيضاح بعد إيضاح، أبلغ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

من الأوّل. شبّه الله حال المنافقين في حيرتهم، وما خبطوا فيه من الضلالة، وشدّة الأمر عليهم، وخزيهم، وافتضاحهم بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد، وبرق، وخوف من الصواعق والموت. هذا إذا كان التمثيل مركبا، وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل، فإنّك تتصوّر في المركّب، الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور، وكيفياتها المتضامّة، فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات، كما إذا تصوّرت من مجموع الآية، مكابدة من أدركه الوابل الهطل، مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر، وصوت الرعد الهائل، والبرق الخاطف، والصاعقة المحرقة، ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذّر الموت. حصل لك منه أمر عجيب، وخطب هائل، بخلاف ما (¬1) إذا تكلّفت لواحد واحد مشبّها به. يعني: إن حمل التمثيل على التشبيه المفرّق، فشبه القرآن، وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية بالصيّب الذي هو سبب الحياة الأرضية، وما عرض لهم بنزوله من الغموم، والأحزان، وانكساف البال بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد، بالرعد والبرق، وتصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد، بحال من يهوّله الرعد والبرق، فيخاف صواعقه، فيسد أذنه، ولا خلاص له منها، واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد يحرزونه، بمشيهم في مطرح ضوء البرق، كلما أضاء لهم، وتحيرهم في أمرهم، حين عنّ لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم. فهذه حال المنافقين، قصارى عمرهم الحيرة والدهشة. فعلى العاقل أن يتمسّك بحبل الشرع القويم، والصراط المستقيم، كي يتخلّص من الغوائل والقيود، ومهالك الوجود، وغاية الأمر خفيّة لا يدري بم يختم. الإعراب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. {وَمِنَ} الواو استئنافية. {مِنَ النَّاسِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ} اسم ¬

_ (¬1) البروسوي.

موصول بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة بمعنى فريق، في محل الرفع مبتدأ مؤخّر. {يَقُولُ} فعل مضارع وفاعله مستتر، يعود على من، وجملة يقول صلة من الموصولة، لا محلّ لها من الإعراب، إن قلنا: {مِنَ} موصولة، تقديره: والذي يقول آمنا بالله كائن من الناس. أو في محل الرفع صفة لمن، إن قلنا: {مِنَ} نكرة موصوفة، تقديره: وفريق يقول آمنا بالله كائن من الناس. والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {يَقُولُ}. وردّه (¬1) أبو السعود فقال: أمّا جعل الظرف خبرا مقدما، كما هو الشائع في الاستعمال، فيأباه جزالة معنى القرآن؛ لأنّ كون القائل: آمنا بالله من الناس ظاهر معلوم، فالإخبار به عار عن الفائدة، والحقّ أن يقال في إعرابه: {مِنَ} اسم بمعنى: بعض في محل الرفع مبتدأ، مبني بسكون مقدر؛ لشبهها بالحرف شبها وضعيا، و {مِنَ} مضاف. {النَّاسِ} مضاف إليه مجرور بها. {مَنْ يَقُولُ} من اسم موصول، أو موصوف في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكن المقصود بالإخبار الصلة لا الموصول، والمعنى: وبعض الناس يقول آمنا بالله وباليوم الآخر الخ. والجملة الإسمية على كلا التقديرين مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} مقول محكيّ ليقول، لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، والمقول منصوب بالقول، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية. وإن شئت قلت: {آمَنَّا} فعل وفاعل، وحدّ الفعل آمن، آمن فعل ماض مبني بفتحة ظاهرة على النون المدغمة في نون نا. {نا} ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع فاعل. {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلّق بآمنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ليقول. {وَبِالْيَوْمِ} جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {الْآخِرِ} صفة لليوم. {وَما} الواو حالية. {ما} نافية حجازية، تعمل عمل ليس. {هُمْ} ضمير منفصل لجماعة الغائبين في محل الرفع اسمها. {بِمُؤْمِنِينَ} الباء حرف جرّ زائد للتوكيد؛ لأنّه ليس في القرآن حرف زائد خال عن الفائدة. {مؤمنين} خبر ما الحجازية، منصوب وعلامة نصبة الباء المقدرة، منع من ¬

_ (¬1) الصاوي والجمل.

ظهورها الياء المجلوبة لحرف جرّ زائد؛ لأنّه من الجمع المذكر السالم، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل يقول. {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ}. {يُخادِعُونَ} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل. {اللَّهَ} مفعول به، منصوب بالفتحة، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا؛ لوقوعها في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما الحامل لهم على إظهار الإيمان وإخفاء الكفر؟ فأجاب بقوله: لأنّهم يريدون مخادعة الله سبحانه والمؤمنين. أو بدل من صلة من في قوله: {مَنْ يَقُولُ} بدل اشتمال؛ لأنّ قولهم ذلك مشتمل على الخداع؛ أي: ومن الناس من يقول آمنا بالله ويخادع الله والذين آمنوا. {وَالَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب معطوف على الجلالة، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول. {وَما} الواو حالية. {ما} نافية. {يَخْدَعُونَ} فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخادعون؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين حال كونهم غير مخادعين إلّا أنفسهم. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به، وهو مضاف، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَما} الواو حالية، أو استئنافية، أو عاطفة. ما نافية. {يَشْعُرُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخدعون؛ أي: وما يخدعون إلّا أنفسهم حالة كونهم غير شاعرين بذلك، أو مستأنفة، أو معطوفة على جملة يخدعون، ومفعول {يَشْعُرُونَ} محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أنّ خداعهم راجع إلى أنفسهم، ويسمّى هذا الحذف حذف اختصار. وهو حذف الشيء لدليل. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ}. {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر مقدم. {مَرَضٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لا محل لها من الإعراب. {فَزادَهُمُ اللَّهُ} الفاء عاطفة. {زادهم الله} فعل ومفعول أول وفاعل. {مَرَضًا} مفعول ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} عطف فعلية على اسمية. ويحتمل أن تكون الفاء استئنافية، وتكون جملة {زادهم} جملة دعائية لا

محل لها من الإعراب. {وَلَهُمْ} الواو عاطفة، أو استئنافية. {لَهُمْ} خبر مقدم. {عَذابٌ} مبتدأ مؤخّر. {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة معطوفة على جملة قوله في قلوبهم مرض، أو مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما عاقبة خداعهم؟ فقال: عاقبتهم عذاب أليم. {بِما} الباء حرف جرّ وسبب. {ما} مصدرية. {كانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْذِبُونَ} في محل النصب خبر كان؛ أي: بما كانوا كاذبين أو مكذبين، وجملة كان صلة (ما) المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالياء؛ أي: بسبب كذبهم أو تكذيبهم، الجار والمجرور متعلّق بالنسبة الكائنة بين المبتدأ والخبر في قوله: ولهم عذاب أليم، أو صفة ثانية لعذاب. {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)}. {وَإِذا} الواو استئنافية، أو عاطفة. {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه متعلّق بالجواب الآتي. {قِيلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلّق بقيل. {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، وإن شئت قلت: {لا} ناهية جازمة. {تُفْسِدُوا} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل. {فِي الْأَرْضِ} متعلّق بتفسدوا، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤول بمفرد؛ لأنّها محكية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف لإذا على كونها فعل شرط لها. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول الواقعة صلة لمن الموصولة. {إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} مقول محكيّ لقالوا، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت: {إِنَّما} أداة حصر ونفي بمعنى (ما) النافية، وإلّا المثبتة. {نَحْنُ} ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ. مُصْلِحُونَ خبر مرفوع بالواو، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لقالوا. {أَلا} حرف استفتاح وتنبيه. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {هُمُ} ضمير فصل حرف لا محل له من الإعراب، أو

حرف عماد. {الْمُفْسِدُونَ} خبر إنّ مرفوع بالواو. أو {هُمُ} مبتدأ. {الْمُفْسِدُونَ} خبره، وجملة المبتدأ مع خبره في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إن مستأنفة. {وَلكِنْ} الواو عاطفة. {لكِنْ} حرف استدراك لا عمل لها. {لا} نافية. {يَشْعُرُونَ} فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة إنّ. {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ}. {وَإِذا} الواو استئنافية، أو عاطفة. {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، متعلّق بالجواب الآتي. {قِيلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح. {لَهُمْ} متعلّق بقيل. {آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ} نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف إليه لإذا على كونه فعل شرط لها. وإن شئت قلت: {آمِنُوا} فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤوّل؛ لأنّها محكية. {كَما} الكاف حرف جرّ وتشبيه. {ما} مصدرية. {آمَنَ النَّاسُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: آمنوا إيمانا كائنا، كإيمان الناس في كونه قلبيّا لا لسانيّا. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسابقتها. {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} مفعول محكي لقالوا، منصوب بفتحة مقدرة. وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري. نُؤْمِنُ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. {كَما} الكاف حرف جرّ وتشبيه. {آمَنَ السُّفَهاءُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور متعلّق بمحذوف صفة لمصدر

محذوف، تقديره: أنؤمن إيمانا كائنا كإيمان السفهاء؛ أي: لا نؤمن. {أَلا} حرف استفتاح وتنبيه. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {هُمُ} ضمير فصل، أو حرف عماد. {السُّفَهاءُ} خبر إنّ أو {هُمُ} مبتدأ. و {السُّفَهاءُ} خبره، والجملة خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة. {وَلكِنْ} الواو عاطفة. {لكِنْ} حرف استدراك. {لا} نافية. {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة إنّ. {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}. {وَإِذا} الواو استئنافية أو عاطفة. {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {لَقُوا الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلّق بالجواب الآتي، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، وجملة {قالُوا} جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها. {آمَنَّا} مقول محكيّ لقالوا منصوب بفتحة مقدرة، وإن شئت قلت: {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قالوا. {وَإِذا} الواو استئنافية أو عاطفة. {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان متعلّق بالجواب الآتي. {خَلَوْا} فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. {إِلى شَياطِينِهِمْ} متعلّق بخلوا. {قالُوا} فعل وفاعل، جواب إذا، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها. {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} مقول محكيّ لقالوا، وإن شئت قلت: {إِنَّا} ناصب واسمه، {مَعَكُمْ} مع منصوب على الظرفية الاعتبارية بالفتحة الظاهرة. {مع} مضاف، والكاف ضمير المخاطبين في محل الجرّ مضاف إليه، مبني على الضمّ، والميم حرف دالّ على الجمع، والظرف متعلّق بمحذوف خبر إنا، تقديره: إنّا كائنون معكم، وجملة إنا في محلّ النصب مقول قالوا. {إِنَّما} كافّة ومكفوفة. {نَحْنُ} مبتدأ. {مُسْتَهْزِؤُنَ} خبر المبتدأ مرفوع بالواو، والجملة في محل النصب مقول قالوا. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

{اللَّهُ} مبتدأ. {يَسْتَهْزِئُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {بِهِمْ} متعلّق بيستهزىء، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَيَمُدُّهُمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة يستهزىء، على كونها خبر المبتدأ. {فِي طُغْيانِهِمْ} متعلّق بيمدهم. {يَعْمَهُونَ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير يمدهم، أو من ضمير طغيانهم، وجاءت الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف مصدر مضاف إلى فاعله. {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ}. {أُولئِكَ} مبتدأ. {الَّذِينَ} خبره، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. {اشْتَرَوُا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {الضَّلالَةَ} مفعول به. {بِالْهُدى} متعلّق باشتروا. {فَما} الفاء حرف عطف وتعقيب. {ما} نافية. {رَبِحَتْ} فعل ماض، و (التاء) لتأنيث الفاعل. {تِجارَتُهُمْ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة اشتروا. {وَما} الواو عاطفة. {ما} نافية. {كانُوا} فعل ناقص واسمه. {مُهْتَدِينَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة ربحت. {مَثَلُهُمْ} مبتدأ ومضاف إليه. {كَمَثَلِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مثلهم كائن كمثل الذي استوقد نارا، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. {مثل} مضاف. {الَّذِي} اسم موصول في محل الجرّ مضاف إليه. {اسْتَوْقَدَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، واستعمل {الَّذِي} في موضع الذين، ولذلك قال فيما بعد: {بِنُورِهِمْ}. {نارًا} مفعول به. {فَلَمَّا} الفاء حرف عطف وتعقيب. {لما} حرف شرط غير جازم. {أَضاءَتْ} فعل ماض، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على النار، والجملة فعل شرط للمّا لا محل لها من الإعراب. {ما} اسم موصول بمعنى المكان في محلّ النصب، مفعول به. {حَوْلَهُ} منصوب على الظرفية المكانية. {حول} مضاف، والهاء

مضاف إليه، والظرف متعلّق بمحذوف صلة لما، تقديره: ما استقرّ حوله. {ذَهَبَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة جواب لما، وجملة لما من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة أستوقد، على كونها صلة الموصول. {بِنُورِهِمْ} متعلّق بذهب. {وَتَرَكَهُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنّ (ترك) هنا بمعنى صيّر. {فِي ظُلُماتٍ} جار ومجرور متعلّق بترك على كونه مفعولا ثانيا له، تقديره: وصيّرهم كائنين في ظلمات، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ذهب، {لا} نافية. {يُبْصِرُونَ} فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من ضمير تركهم، أو من الضمير المستكن في الجار والمجرور؛ أعني: في ظلمات، ومفعول يبصرون محذوف، تقديره: ما حولهم، ويحتمل كون (ترك) بمعنى: خلّى وأهمل، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وهو الضمير البارز في تركهم وفي ظلمات لا يبصرون حالان من الضمير في تركهم. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)}. {صُمٌّ} خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هم صمّ، والجملة مستأنفة. {بُكْمٌ} خبر ثان. {عُمْيٌ} خبر ثالث، وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى؛ لأنّ مآلها إلى عدم قبول الحقّ مع كونهم سمع الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين. فليس المراد نفي الحواسّ الظاهرة. وقرىء شاذّا بالنصب على الحال من الضمير في {يبصرون}. {فَهُمْ} الفاء حرف عطف وتفريع. {هم} مبتدأ. {لا} نافية. {يَرْجِعُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: (هم صمّ بكم عمي). {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} أو حرف عطف وتفصيل؛ أي: إنّ الناظرين في حالهم منهم من يشبّههم بحال المستوقد، ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيب. {كَصَيِّبٍ} جار ومجرور معطوف على كمثل، ولا بدّ من تقدير مضاف؛ أي: كأصحاب صيّب، بدليل قوله: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} على كونه خبر المبتدأ، تقديره: أو مثلهم كائن كمثل أصحاب صيّب. {مِنَ السَّماءِ} جار ومجرور متعلق

بمحذوف صفة لصيّب، تقديره: نازل من السماء. {فِيهِ} جار ومجرور خبر مقدم لقوله: ظلمات، و {ظُلُماتٌ} مبتدأ مؤخّر، مرفوع بالضمة الظاهرة، {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} معطوفان على ظلمات، والتقدير: ظلمات ورعد وبرق كائنات في ذلك الصيّب، والجملة الإسمية في محلّ الجر صفة ثانية لصيّب، تقديره: موصوف بكون ظلمات ورعد وبرق فيه. {يَجْعَلُونَ} فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، واقعا في جواب سؤال مقدر، فكأنّه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل: فكيف حالهم مع ذلك الرعد القاصف؟ فأجاب بقوله: يجعلون ... إلخ. {أَصابِعَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه. {فِي آذانِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بيجعلون على كونه مفعولا ثانيا له. {مِنَ الصَّواعِقِ} جار ومجرور متعلّق بيجعلون. و {مِنَ} سببيّة. {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول لأجله ليجعلون، وهو مضاف. {الْمَوْتِ} مضاف إليه. {وَاللَّهُ} الواو اعتراضية. {اللَّهُ} مبتدأ. {مُحِيطٌ} خبره. {بِالْكافِرِينَ} متعلّق بمحيط، والجملة الإسمية جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين جملتين من أجزاء المشبّه به، وهما: يجعلون أصابعهم، ويكاد البرق. {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {يَكادُ} فعل مضارع من أفعال المقاربة تعمل عمل كان، وفيها لغتان: فعل وفعل، ولذلك يقال فيها عند اتصال ضمير الرفع بماضيه: كدت كبعت، وكدت كقلت. {الْبَرْقُ} اسمها مرفوع. {يَخْطَفُ} فعل مضارع وفاعل مستتر فيه جوازا، تقديره: هو، يعود على البرق، وجملة يخطف في محل النصب خبر يكاد، وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما حالهم مع تلك الصواعق؟ فأجاب بقوله: يكاد البرق، أو معطوفة بعاطف مقدر على يجعلون. {أَبْصارَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه. {كُلَّما} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويّا، والظرف متعلق بالجواب، وهو {مَشَوْا} {أَضاءَ} فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على البرق. {لَهُمْ} متعلق بأضاء، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما، لا محل لها من

الإعراب. {مَشَوْا} فعل وفاعل. {فِيهِ} متعلق بمشوا، والجملة الفعلية جواب كلما لا محل لها من الإعراب، وجملة كلما من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافا بيانيا لا محل لها من الإعراب، كأنّه قيل: ما يفعلون في حالتي خفوق البرق وخفيته؟ فأجاب بذلك. وهذا أصحّ ما قيل في إعراب كلّما، كما في كتب النحاة، كما بسطناه في تفسيرنا «عمدة التفاسير والمعربين». {وَإِذا} إذا ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه. {أَظْلَمَ} فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا، تقديره: هو، يعود على البرق، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {عَلَيْهِمْ} متعلّق بأظلم. {قامُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة كلما على كونها مستأنفة. {وَلَوْ} الواو استئنافية. لَوْ حرف شرط غير جازم. {شاءَ اللَّهُ} فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: ذهاب سمعهم وأبصارهم. والجملة الفعلية فعل شرط للو. {لَذَهَبَ} اللام رابطة لجواب لو الشرطية. {ذهب} فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله. {بِسَمْعِهِمْ} جار ومجرور متعلّق بذهب. {وَأَبْصارِهِمْ} معطوف على سمعهم، وجملة ذهب جواب لو، لا محل لها من الإعراب، وجملة لو الشرطية مستأنفة استئنافا نحويا لا محل لها من الإعراب. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {عَلى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلّق بقدير، و {قَدِيرٌ} خبره، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَمِنَ النَّاسِ} الناس اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومادّته عند سيبويه والفرّاء همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا، وأصله: أناس، وقد نطق القرآن بهذا الأصل، قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}. وذهب الكسائي إلى أنّ مادّته: نون وواو وسين، مشتق من النوس، وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوسا، والنّوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه: نوس القرط في الأذن، وسمي أبو نواس بذلك؛ لأنّ ذؤابتين له كانتا تنوسان عند أذنيه، واسمه

الحقيقي الحسن بن هانىء. وإنّما أطلنا في هذا البحث؛ لأنّ بعض المعاجم الحديثة خلط في أصله، فأوردوه في مادة أنس، وبعضها أورده في مادة نوس، وأضاعوا بذلك الطالب والمراجع في متاهات لا منافذ منها. اه. درويش. وقيل: أصله من نسي، فوقع فيه القلب المكاني بتقديم الياء على السين، فصار نيس بوزن فعل، تحركت الياء عندئذ وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فقيل: ناس، فدخلت الألف واللام للتعريف، فصار الناس. وعلى هذا سمّوا بذلك لنسيانهم، ووزن الفعل عليه فلع، وعلى القول الأول وزنه فعال، وعلى القول الثاني أجوف واويّ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، وقيل غير ذلك. {مَنْ يَقُولُ} أصله: يقول بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت الواو، فصارت حرف مدّ. {آمَنَّا} أصله: أأمنّا بوزن أفعلنا، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدّ مجانسا لحركة الأولى، وهكذا كلّ همزة ساكنة وقعت فاء للفعل ودخلت عليها همزة مفتوحة، وقوله {الْآخِرِ}، الألف فيه مبدلة من همزة ساكنة. {يُخادِعُونَ} الخداع في الأصل: الإخفاء. ومنه سمّي البيت المفرد في المنزل مخدعا تستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه: الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمّي الدهر خادعا؛ لما يخفي من غوائله. {وَما يَشْعُرُونَ} الشعور؛ إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، وهو مشتقّ من الشعر لدقّته، كما مرّ. وقيل: هو الإدراك بالحاسّة، فهو مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه، وشعر بالأمر من بابي: نصر وكرم: علم به وفطن له، ومنه يسمي الشاعر شاعرا؛ لفطنته ودقّة معرفته. والتحقيق: أنّ الشعور إدراك ما دقّ من حسي وعقلي. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} المرض مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، وقالوا المرض في القلب: الفتور عن الحقّ، وفي البدن فتور الأعضاء، وفي العين فتور النظر. ويطلق المرض فيراد به الظلمة، كقوله: في ليلة مرضت من كلّ ناحية ... فما يحسّ بها نجم ولا قمر

{فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وزاد يستعمل لازما ومتعديا لاثنين، ثانيهما غير الأول، كأعطى وكسا، فيجوز حذف مفعوليه وأحدهما اختصارا واقتصارا، فالأول حذف لدليل والثاني حذف بلا دليل، تقول: زاد المال فهو لازم، وزدت زيدا خيرا، ومنه: {وَزِدْناهُمْ هُدىً}، {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وزدت زيدا ولا تذكر ما زدته، وزدت مالا ولا تذكر من زدته، وألف زاد منقلبة عن ياء لقولهم: يزيد. اه. «سمين». وأصل زاد زيد بوزن فعل بفتح العين، يفعل بكسرها يائي العين، نظير باع يبيع، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا. {عَذابٌ أَلِيمٌ} من ألم من باب طرب، فهو أليم، كوجع فهو وجيع؛ أي متألم ومتوجع. {بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} الباء سببية، وما يجوز أن تكون مصدرية؛ أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول: بأن كان لها مصدر، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر: ببذل وحلم ساد في قومه الفتى ... وكونك إيّاه عليك يسير وقد صرّح بالكون، وعلى هذا فلا حاجة إلى ضمير عائد على ما؛ لأنّها حرف مصدري على الصحيح، خلافا للأخفش وابن السرّاج، في جعل ما المصدرية اسما، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدّ من تقدير عائد؛ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حذف العائد لاستكمال الشروط وهو كونه متصلا منصوبا بفعل، وليس ثمّ عائد آخر. اه. «سمين». {يكذبون} قرىء بالتخفيف مضارع كذب الثلاثي، وقرىء بالتشديد مضارع كذّب المضعف. {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} {قِيلَ} فعل ماض مبني للمجهول واوي العين، أصله: قول استثقلت الكسرة على الواو، والانتقال من ضمّ إلى كسر، فحذفت حركة الفاء التي هي القاف، ونقلت إليها حركة العين التي هي الواو، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ، وهكذا كلّ فعل من هذا النوع معتل العين بني للمجهول. {قالُوا} أصله: قولوا، تحركت الواو وفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: قالوا. {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته،

ونقيضه: الصلاح. والفساد في الأرض: تهييج الحروب وإثارة الفتن، والإخلال بمعايش الناس. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ألا: حرف تنبيه واستفتاح، وليست مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، بل هي بسيطة، ولكنها لفظ مشترك بين التنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجملة اسمية كانت أو فعلية وبين العرض والتحضيض، فتختصّ بالأفعال لفظا أو تقديرا. اه. «سمين». {الْمُفْسِدُونَ} فيه حذف همزة أفعل من اسم الفاعل، كما تقدم في {الْمُفْلِحُونَ} {كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} جمع سفيه، وهو المنسوب إلى السفه، والسفه: خفّة رأي، وسخافة يقتضيها نقصان العقل، ومقابله الحلم، يقال: سفه بكسر الفاء وضمّها. {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} من اللقاء، وهو المصادفة، يقال: لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه: ألقيته إذا طرحته، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى. اه. «بيضاوي». وأصل لقوا: لقيوا بوزن شربوا، استثقلت الضمة على الياء، ثمّ نقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركته، فالتقى ساكنان، وهما الياء وواو الجماعة، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثمّ ضمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار لقوا بوزن فعوا بعد أن كان على وزن فعلوا. {وَإِذا خَلَوْا} أصله: خلووا بوزن نصروا، تحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان وهما الألف وواو الضمير، ثمّ حذفت الألف؛ لبقاء دالّها وهو فتحة اللام، فصار خلوا بوزن فعوا. {إِلى شَياطِينِهِمْ} جمع شيطان، نحو: غرانين في جمع غرنان، حكاه الفراء. والشيطان فيعال عند البصريّين، فنونه أصلية من شطن؛ إذا بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أميّة: أيّما شاطن عصاه عكاه ... ثمّ يلقى في السّجن، والأكبال وعند الكوفيّين وزنه فعلان، فنونه زائدة من شاط يشيط؛ إذا هلك، قال الشاعر: قد تظفر العير في مكنون قائلة ... وقد تشيط على أرماحنا البطل

والشيطان: كلّ متمرّد من الجنّ، والإنس، والدوابّ، قاله ابن عباس، وأنثاه: شيطانة، قال الشاعر: هي البازل الكوماء لا شيء غيرها ... وشيطانة قد جنّ منها جنونها {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} اسم فاعل من استهزأ السداسي، والاستهزاء بالشيء: السّخرية منه يقال: هزأت واستهزأت بمعنى، وأصله: الخفّة من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات فجأة، وتهزأ به ناقته؛ أي: تسرع به وتخبّ. اه. «أبو السعود». {وَيَمُدُّهُمْ} من مدّ الجيش من باب ردّ، وأمده إذا زاده وقواه، ومنه: مددت السراج والأرض؛ إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، أصله: يمددهم نقلت حركة الدال الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. {فِي طُغْيانِهِمْ} الطّغيان: مصدر طغى يطغى طغيانا بضم الطاء، وطغيانا بكسرها ولام طغى. قيل: ياء وقيل: واو. يقال: طغيت وطغوت، وأصل المادّة مجاوزة الحدّ، ومنه: قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ}. {يَعْمَهُونَ} من العمه، وهو التردّد والتحيّر، وهو قريب من العمى، إلّا أنّ بينهما عموما وخصوصا مطلقا؛ لأنّ العمى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلّا على الخطأ في الرأي، يقال عمه يعمه من باب طرب عمها وعمهانا، فهو عمه وعامه اه. «سمين». {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} الاشتراء، والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلّا أنّ الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو ممّا جاء فيه افتعل بمعنى: الفعل المجرّد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل، وأصل اشترى اشتري بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالّة عليها، ثمّ تحركت الواو لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها؛ لأنّ همزة الوصل ساقطة في الدرج، وخصّت بالضمة؛ لأنّها أخت الواو، وأخفّ

الحركات عليها. وقرىء بكسرها على أصل التقاء الساكنين وبفتحها؛ لأنّه أخفّ. {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} الربح: ما يحصل من الزيادة على رأس المال. والتجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرّف في المال لطلب النّمو والزيادة. {وَما كانُوا} أصله: كونوا؛ لأنّه أجوف واويّ تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. {مُهْتَدِينَ} وزنه مفتعين، أصله: مهتديين بياءين: الأولى لام الكلمة، والثانية ياء إعراب الجمع، استثقلت الحركة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء الأولى لام الكلمة. وهو جمع مهتد، وهو اسم فاعل من اهتدى الخماسي، وافتعل فيه للمطاوعة، يقال: هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم، والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، ولا يكون افتعل للمطاوعة، إلّا إذا كان من الفعل المتعدّي. {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا} المثل في أصل كلام العرب بمعنى: المثل، والمثيل، كالشّبه والشّبه والشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل، والمثل على أمثال، قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل؛ الوصف. يقال: هذا مثل كذا؛ أي: وصفه مساو لوصف الآخر بوجه من الوجوه. وأما المثل في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} فهو القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ على لفظه فلم يغيّر، فيقال لكلّ من فرّط في كل أمر عسر مدركه: (الصيف ضيّعت اللبن) سواء كان المخاطب به مفردا، أو مثنى، أو مجموعا، أو مذكرا، أو مؤنّثا. {اسْتَوْقَدَ} والاستيقاد بمعنى: الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار: ارتفاع لهبها. وَ {النَّارُ}: جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنار مؤنثة، وهي واويّة العين؛ لأنّ تصغيرها نوير، والجمع نور ونيران، وأصل الثاني نوران، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة، وعليه فوزنها فعل بفتح العين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، وقس على هذا ما ورد من هذا اللفظ. {فَلَمَّا أَضاءَتْ} من الإضاءة، وهو الإشراق، وهو فرط الإنارة، أصله: أضوأ بوزن أفعل من الضوء، نقلت حركة حرف العلة (الواو) إلى الساكن الصحيح قبله (الضاد)، فتحركت الضاد بالفتح، ثم أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في

الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن، وقس على هذا ما شاكله من الأفعال: كاستجاب، وأصاب، وأناب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} جموع كثرة على وزن فعل، كأحمر وحمر. والصّمّ جمع أصمّ، وهو الذي لا يسمع، يقال: صمّ يصمّ بفتح الصاد فيهما؛ إذا ثقل السمع منه. قيل: أصله السدّ، تقول: صممت القارورة؛ إذا سددتها، والصمم: داء يحصل في الأذن يسد العروق، فيمنع من السمع، وقيل: أصله الصّلابة، قالوا: قناة صمّاء، والأصمّ أصله: أصمم نقلت حركة الميم الأولى إلى الصاد، فسكنت، فأدغمت في الميم الثانية، فوزنه أفعل. {بُكْمٌ} جمع أبكم، والبكم: آفة في اللسان تمنع من الكلام. قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام، ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. {عُمْيٌ} جمع أعمى، والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على وزن فعل بكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. فوزن الكلمات الثلاث بعد الجمع فعل بضمّ الفاء وسكون العين، ووزن مفردها أفعل، ويجمع أفعل قياسا على فعل بضمّ الفاء، فالأوصاف الثلاثة صفات مشبهة، جاءت على هذا الوزن، قال ابن مالك في «الخلاصة»: فعل لنحو أحمر وحمراء. {لا يَرْجِعُونَ} والرجوع إن لم يتعدّ فهو بمعنى العود، وإن تعدّى فبمعنى الإعادة. {أَوْ كَصَيِّبٍ} فيه إعلال بالقلب والإدغام. أصله: صيوب من الصّوب، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار صيّب، كما فعل في ميّت وسيّد. قال ابن مالك في باب التصريف: إن يسكن السّابق من واو ويا ... واتّصلا ومن عروض عريا فياء الواو اقلبنّ مدغما ... وشذّ معطى غير ما قد رسما {مِنَ السَّماءِ} والسماء: كلّ ما علاك فأظلّك، والسماء مؤنّث وقد يذّكر، كما في قول الشاعر:

فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالسّماء مع السّحاب وأصل السماء: السماو من السمو، أبدلت فيه الواو همزة لمّا تطرّفت إثر ألف زائدة، وهذا القلب مطرد فيها، وفي الياء المتطرفة أيضا بعد ألف زائدة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مادّة البناء، وقد تقدم عند قوله: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ}. {مُحِيطٌ} وزنه: مفعل اسم فاعل من أحاط الرباعيّ، فأصله: محوط واويّ العين، إذ يقال: حاطه يحوطه حوطا وحوّط تحويطا، فالمصدر ظهرت فيه الواو، ولمّا كان أصله محرط، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. {يَكادُ الْبَرْقُ} أصله: يكود بفتح العين بوزن يفعل؛ لأنّ الصحيح أنّه من باب فعل مكسور العين، نقلت حركة حرف العلّة إلى الساكن الصحيح قبله، ثمّ أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن. {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أصله: مشيوا بوزن ضربوا، قلبت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف. {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا} أصل قام قوم، بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة، فضمّ آخره. {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ} أصله: شيء بوزن فعل بكسر العين، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، دلّ على ذلك كون مضارعه يشاء، وسيأتي بيان تصريف مضارعه إن شاء الله تعالى في محلّه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة، والبيان، والبديع: فمنها: الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، حيث لم يقل: وما آمنوا المطابق لقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}؛ لإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة؛ لإفادتها الدوام والاستمرار؛ أي: لم يتصفوا

بالإيمان في حال من الأحوال، لا في الماضي، ولا في الحال، ولا في الاستقبال، بخلاف الفعلية الموافقة لدعواهم، فلا تفيد إلّا نفيه في الماضي. اهـ. «أبو السعود». ومنها: إعادة الجار في قوله: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ لإفادة تأكّد دعواهم الإيمان، بكلّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليهم المولى بأبلغ ردّ بقوله: {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، حيث أتى بالجملة الإسمية وزاد الجار في الخبر. ومنها: المشاركة في قوله: {يُخادِعُونَ اللَّهَ}؛ لأنّ المفاعلة تقتضي المشاركة في المعنى، وقد أطلق عليه تعالى مقابلا؛ لما ذكره من خداع المنافقين، كمقابلة المكر بمكرهم، ومن أمثلة هذا الفنّ في الشعر قول بعضهم: قالوا التمس شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا ومنها: الاستعارة التمثيلية في الخداع المنسوب إليه تعالى، حيث شبّه حالهم مع ربّهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، بحال رعية تخادع سلطانها، واستعير اسم المشبّه به للمشبّه، بطريق الاستعارة التمثيلية، أو شبه حالهم في معاملتهم مع الله تعالى، بحال المخادع مع صاحبه من حيث القبح، أو من باب المجاز العقلي في النسبة الإيقاعية، حيث أسند الشيء إلى غير من هو له، وأصل التركيب: يخادعون رسول الله، أو من مجاز الحذف، أو من باب التورية، حيث ذكر معاملتهم لله بلفظ الخداع. اه. من «أبي السعود» وغيره. والتورية: أن يكون للكلام معنى قريب وبعيد، فيطلق القريب ويراد البعيد، وهو مطلق الخروج عن الطاعة باطنا، وإن كان العالم لا تخفى عليه خافية اه. «صاوي». ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، حيث استعير المرض لما ران على قلوبهم، من جهل وسوء عقيدة؛ لأنّ المرض حقيقة في الأجسام. ومنها: زيادة كان في قوله: {بِما كانُوا يَكْذِبُونَ}؛ لتأكيد الكلام؛ ولإفادة دوام كذبهم وتجدّده.

ومنها: قصر الموصوف على الصفة في قوله: {قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ}؛ أي: مقصورون على الإصلاح، نظير قولهم: إنّما زيد منطلق. وقال ابن التمجيد: هذا القصر إفراد؛ لأنّه لما قال المسلمون لهم: لا تفسدوا توهّموا أنّ المسلمين أرادوا بذلك، أنّهم يخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوهم بأنّهم مقصورون على الإصلاح، لا يتجاوزون عنه إلى صفة الإفساد، فيلزم منه عدم الخلط، فهو من باب قصر الإفراد، حيث توهّموا أنّ المؤمنين اعتقدوا الشركة، فأجابهم الله سبحانه بعد ذلك، بما يدل على القصر القلبي بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، فإنّهم لما أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا، بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا. والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح. اه. «روح». ومنها: جمع المؤكدات في هذه الجملة؛ لتأكيد الردّ عليهم، حيث أكد بألا، وبأنّ، وبضمير الفصل، وتعريف الخبر مبالغة في الردّ عليهم، لما ادّعوه من قولهم: {إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ}؛ لأنّهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكّدة بإنما، ليدلّوا بذلك على ثبوت الوصف لهم، فردّ الله عليهم بأبلغ وأوكد مما ادعوه. اه. «سمين». وكذا جملة قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ}. ومنها: المفارقة بين الجمل في قوله: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} وقوله: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}. فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وهي جملة {آمَنَّا}، وخاطبوا شياطينهم بالجملة الإسمية، وهي جملة {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ وذلك لأنّ الجملة الإسميّة أثبت من الجملة الفعلية، فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم إلى شياطينهم، دائم الاستمرار والتجدّد، وهو أعلق بنفوسهم وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها. ومنها: المخالفة بين جملة مستهزؤن، وجملة يستهزىء؛ لأنّ هزء الله بهم متجدد وقتا بعد وقت، وحالا بعد حال، يوقعهم في متاهات الحيرة والإرتباك، زيادة في التنكيل بهم.

ومنها: المشاكلة في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ لأنّ الاستهزاء ضرب من العبث واللهو، وهما لا يليقان به سبحانه وتعالى، وهو منزّه عنهما، ولكنه سمّى جزاء الاستهزاء استهزاء، فهي مشاكلة لفظيّة لا أقلّ ولا أكثر. فالمشاكلة: هي الإتفاق في اللفظ دون المعنى. ومنها: الفصل الواجب في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ لأنّ في عطفها على شيء من الجمل السابقة مانعا قويّا؛ لأنّها تدخل حينئذ في حيّز مقول المنافقين، والحال: أنّ استهزاء الله بهم وخذلانه إيّاهم ثابتان مستمرّان، سواء خلوا إلى شياطينهم أم لا. فالجملة مستأنفة على كلّ حال، واجبة الفصل عمّا قبلها؛ لأنّها مظنة سؤال ينشأ، فيقال: ما مصير أمرهم؟ ما عقبى حالهم؟. فيستأنف جوابا عن هذا السؤال. ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ، وسوء الحال. ومنها: الاستعارة التصريحية الترشيحية في قوله: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ}، حيث استعار الشراء الذي هو بذل الثمن؛ لتحصيل ما يطلب لاختيارهم الضلالة بدل الهدى، ورشّح تلك الاستعارة وقوّاها، بذكر الريح والتجارة، لأنّ الترشيح ذكر ما يلائم المستعار منه الذي هو الشراء هنا. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} حيث أسند الربح إلى التجارة؛ لكونها سببه، وحقّ الإسناد أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم. ومنها: التتميم في قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}، وهو أن يأتي المتكلم في آخر كلامه بكلمة أو جملة، تتمّ معنى الكلام السابق، فقوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} تتميم لما قبله؛ لأنّه أفاد أنّهم ضالّون مخطئون في جميع ما فعلوه من عمل الشراء، وغيره. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} نارًا الخ، وكذلك في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}. والتشبيه التمثيلي: هو أن يكون وجه

الشبه منتزعا من أمور متعدّدة، فقد شبّه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار. وفي المثال الثاني شبّه الإسلام بالمطر؛ لأنّ القلوب تحيا به، كحياة الأرض بالمطر، وشبّه شبهات الكفّار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد، بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الفتن، والبلايا بالصواعق. ومنها: المخالفة بين الضميرين، فقد وحّد الضمير في قوله: {اسْتَوْقَدَ} وفي قوله: {ما حَوْلَهُ} نظرا إلى جانب اللفظ؛ لأنّ المنافقين كلّهم على قول واحد وفعل واحد، وجمع في قوله: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} رعاية للمعنى لكون المقام مقام تقبيح أحوالهم، وبيان صفاتهم وضلالهم، فإثبات الحكم لكلّ فرد منهم واقع. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فقد شبّههم بالصمّ، والبكم، والعمي، وطوى ذكر المشبّه، وجعله بعضهم من التشبيه البليغ؛ أي: هم كالصمّ البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه، فصار تشبيها بليغا، وهو في كلامهم كثير، كقوله: صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} حيث أطلق الأصابع، وأراد رؤوسها، فهو من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء؛ لأنّ إدخال الأصبع كلّها في الأذن لا يمكن. ومنها: جمع الأصابع إشارة إلى أنّه لم يرد أصبعا معيّنة؛ لأنّ الحالة حالة دهش وحيرة، فأيّة أصبع اتّفق لهم أن يسدّوا بها آذانهم، فعلوا غير معرّجين على ترتيب معتاد، أو تعيين مفترض. ومنها: إفراد البرق والرعد، وجمع الصواعق، لكونهما في الأصل مصدرين، والمصادر لا تجمع. يقال: رعدت السماء رعدا وبرقت برقا، فراعى فيهما حكم الأصل، فترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع، ولا يخفى أنّ من

الألفاظ ما يعذب مفرده ويقبح جمعه، وبالعكس. ومنها: تعريف السماء في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}؛ للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها سماء على حدة، والمعنى: أنّه نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء كلها. ومنها: التعبير بالأصابع دون الأنامل في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ} إشارة إلى أنّهم لشدّة حيرتهم ودهشتهم، يدخلون أصابعهم كلّها في إذانهم لا أناملهم فقط، كما هو المعتاد. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} حيث لم يقل: والله محيط بهم بالضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب، إيذانا. بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكيّة بسبب كفرهم. ومنها: إيثار المشي في قوله: {مَشَوْا فِيهِ} على ما فوقه من السّعي والعدو؛ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم وحيرتهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. فائدة: والحاصل: أنّ الله وصف المنافقين في هذه الآيات، بثمان صفات كلّها قبيحة شنيعة تدلّ على رسوخهم في الضلال، وهي: الكذب، والخداع، والسفه، والاستهزاء، والإفساد في الأرض، والجهل والضلال، والمرض. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}. المناسبة قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1)، لما ذكر أصناف الخلق، وبيّن أنّ منهم المهتدين والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك .. دعا الناس إلى دين التوحيد الحقّ، وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنّهم ينظرون إليه، ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنّه يراهم، فإن ¬

_ (¬1) المراغي.

فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغوا الغاية القصوى. ثمّ عدّد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثمّ خلق الأرض مستقرّا ومهادا؛ لينتفعوا بخيراتها، ويستخرجوا معادنها ونباتها. ثمّ بنى لهم السماء التي زيّنها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء، فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها، أفليس في كلّ هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أنّ خالق هذا الكون البديع المثال، لا ندّ له ولا نظير، وأنّ ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق، وأنّهم يعلمون ذلك حقّ العلم، فكيف يدعون غير الله من الأصنام والأحجار، ويستشفعون به، ويتوسّلون إليه مع أنّه لا خالق ولا رازق إلّا الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (¬1) أنّ الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون معرضون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك .. طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي أنّ القرآن معجزته، أن يتعرّفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي هو أو من عند نفسه كما يدّعون، فيروّزوا أنفسهم، ويحاكموه، لعلّهم يأتون بمثل سورة من أقصر سورة، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم، فهو لم يمرّن عليه، ولم يبار أهله، ولم ينافسهم فيه. فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون، وإن تظاهر أنصارهم وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجنّ جميعا، فليعلموا أنّ ما جاءهم به، فأعجزهم لم يكن إلّا بوحي سماوي وإمداد إلهيّ، لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا ¬

_ (¬1) المراغي.

يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه. وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة فقد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعى، وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحقّ العقاب، وكان جزاءه النار التي وقودها العصاة الجاحدون، وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدّت لكلّ من جحد الرسل أو استحدث في الدين، ما هو منه براء. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر الكافرين، وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنّة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب؛ تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله؛ وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه (¬1)، لما ذكر الدليل القاطع على أنّ القرآن كلام الله، لا يتطرّق إليه شكّ ولا ريب، وأنّه كتاب معجز، أنزله على خاتم المرسلين، وتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله. ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه، وهي: أنّه جاء في القرآن ذكر النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل، وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء، فضلا من كلام ربّ الأرباب. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردّ عليهم: بأنّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإعجازه، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي ...} إلخ. قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما (¬2) ذكر أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل، ووصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير والمعربين. (¬2) المراغي.

الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجّه الخطاب إليهم في هاتين الآيتين. وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالّة على قدرته تعالى، من مبدأ الخلق إلى منتهاه من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذّرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق ما في الأرض جميعا لهم؛ ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتّى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزيّنة بمصابيح؛ ليهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر. أفبعد هذا كله يكفرون به، وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال؛ ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: (¬1) ما أخرجه ابن جرير عن السدي بأسانيده، لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، وهما قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} إلى قوله: {الْخاسِرُونَ}. وما أخرجه الواحدي من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفيّ، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إنّ الله ذكر آلهة المشركين، فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا}، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمدّ، أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية). وعبد الغني واه جدّا، وقال عبد الرزاق في «تفسيره»: أخبرنا معمر، عن قتادة: لمّا ذكر الله العنكبوت ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[21]

والذباب، قال المشركون ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: لما نزلت {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} قال المشركون: ما هذا من الأمثال فيضرب؟ أو ما يشبه هذه الأمثال، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ...} الآية. قلت: القول الأول أصحّ إسنادا، وأنسب بما تقدّم أوّل السورة، وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية. وما أوردناه عن قتادة والحسن حكاه عنهما الواحديّ بلا إسناد بلفظ (قالت اليهود)، وهو أنسب. التفسير وأوجه القراءة 21 - {يا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ أي: يا أيّها المكلّفون من الإنس والجنّ {اعْبُدُوا}؛ أي: وحّدوا، وأفردوا بالعبادة، والطاعة، والاستغاثة، والدعاء {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}؛ أي: خالقكم الذي ابتدع خلقكم على غير مثال سابق؛ لأنّه الذي يستحقّ العبادة منكم دون غيره من الأصنام، والأحجار، لأنّ تعليق الحكم بمشتقّ يؤذن بعليّة ما منه الاشتقاق، فكأنّه قال: اعبدوه لخلقه إيّاكم، فإنّه هو الذي يعبد دون غيره. وهذه الآية (¬1) مسوقة لإثبات التوحيد، وتحقيق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم - اللذين هما أصل الإيمان. والناس يصلح اسما للمؤمنين، والكافرين، والمنافقين. والنداء فائدته؛ تنبيه الغافلين، أو إحضار الغائبين، وتحريك الساكنين؛ وتعريف الجاهلين، وتفريغ المشغولين، وتوجيه المعرضين، وتهييج المحبّين، وتشويق المريدين. قال بعضهم: أقبل عليهم بالخطاب جبرا؛ لما في العبادة من الكلفة بلذّة الخطاب؛ أي: يا مؤنس لا تنس أنسك بي قبل الولادة، أو يا ابن النسيان تنبّه، ولا تنس حيث كنت نسيا منسيا، ولم تك شيئا مذكورا، فخلقتك وخمرتك طينا، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثم نطفة، ثم دما، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما ولحوما وعروقا وجلودا وأعصابا، ثمّ جنينا، ثم طفلا، ثمّ صبيا، ثمّ شابا، ثمّ كهلا، ثمّ شيخا، وأنت فيما بين ذلك تتمرّغ في نعمتي، وتسعى في خدمة غيري، تعبد النفس والهوى، وتبيع الدين بالدنيا، لا تنس من خلقك، وجعلك من لا شيء شيئا مذكورا كريما مشكورا، علّمك، وقوّاك، وأكرمك، وأعطاك ما أعطاك. فهذا خطاب للنفس والبدن. قال في «التيسير»: وإذا كان الإنسان من النسيان، ففيه عتاب وتلقين، أمّا العتاب، فكأنّه يقول: أيّها الناس! قابلتم نعمنا بالكفران، وأوامرنا بالعصيان، وأمّا التلقين للعذر، فكأنّه يقول: أيّها المخالف لنا ناسيا لا عامدا، وساهيا لا قاصدا! اعذرناك لنسيانك، وعفونا عنك لإيمانك. قال ابن عباس - رضي الله عنهما (¬1) -: يا أيّها الناس: خطاب لأهل مكة، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لأهل المدينة. وهو هنا خطاب عامّ لسائر المكلّفين؛ لأنّ ذلك أمر أغلبي على أنّ السورة مدنية. واعلم (¬2): أنّ النداء الواقع في القرآن على سبعة مراتب: الأول: نداء مدح، كقوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ}. والثاني: نداء ذمّ، كقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا}، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا}. والثالث: نداء تنبيه، كقوله: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ}، {يا أَيُّهَا النَّاسُ}. والرابع: نداء إضافة، كقوله: {يا عِبادِيَ}. والخامس: نداء نسبة، كقوله: {يا بَنِي آدَمَ}، {يا بَنِي إِسْرائِيلَ}. والسادس: نداء تسمية، كقوله: {يا داوُدُ}، {يا إِبْراهِيمُ}. والسابع: نداء تعنيف، كقوله: {يا أَهْلَ الْكِتابِ}. ¬

_ (¬1) صاوي. (¬2) الخازن.

{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يقول للكفّار: (¬1) وحّدوا ربّكم، ويقول للعاصين: أطيعوا ربّكم، ويقول للمنافقين: أخلصوا بالتوحيد معرفة ربّكم، ويقول للمطيعين: اثبتوا على طاعة ربّكم. واللفظ يحتمل لهذه الأوجه كلّها، وهو من جوامع الكلم، كما في «تفسير أبي الليث». والعبادة: استفراغ الطاقة في استكمال الطاعة، واستشعار الخشية في استبعاد المعصية. {الَّذِي خَلَقَكُمْ} صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه: أطيعوا ربّكم الذي خلقكم، لخلقكم ولم تكونوا شيئا. والخلق: اختراع الشيء على غير مثال سبق. {وَ} خلق {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: من أهل زمن قبل زمانكم من الأمم. فـ {مِنْ} ابتدائية متعلّقة بمحذوف، وفي الوصف به، إيماء إلى سبب وجوب عبادته تعالى، فإنّ خلق أصولهم من موجبات العبادة، كخلق أنفسهم. وفيه دلالة على شمول القدرة، وتنبيه من سنة الغفلة؛ أي: أنّهم كانوا فمضوا، وجاءوا وانقضوا، فلا تنسوا مصيركم، ولا تستجيزوا تقصيركم. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: اعبدوه وحده؛ لتجعلوا عبادته وقاية وسترا بينكم وبين عذابه، هذا إن جرينا على أنّ (لعلّ) للتعليل. ويحتمل كونها على أصل معناها من الترجيّ، فتكون جملتها حالا من فاعل {اعْبُدُوا}؛ أي: أفردوه بالعبادة حالة كونكم راجين أن تدخلوا، وتنظّموا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المستوجبين لجوار الله تعالى. و (لعلّ) للترجّي والإطماع، وهي من الله تعالى واجب؛ لأنّ الكريم لا يطمع إلّا فيما يفعل. والأولون والآخرون مخاطبون بالأمر بالتقوى. وخصّ المخاطبين بالذكر؛ تغليبا لهم على الغائبين، كما في «الكواشي». وقرأ ابن السميفع (¬2) {وخلق من قبلكم} جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} بفتح ميم (من) قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها بأن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته؛ تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[22]

يا تيم تيم عدي لا أبالكم تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في (لا أبالك). انتهى كلامه. ذكره في «البحر». وفيه تنبيه: على أنّ التقوى منتهى درجة السالكين، وهو التبرّي من كلّ شيء سوى الله تعالى، وأنّ العابد ينبغي له أن لا يغترّ بعبادته، ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ}. وحاصل المعنى: أي أنّ هذا الربّ العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها، هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، وربّاكم وربّى أسلافكم، ودبّر شؤونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21)؛ أي: فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإنّ العبادة على هذا السنن هي التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى. 22 - ثمّ ذكر بعض خصائص الربوبيّة التي تقتضي الاختصاص به تعالى، فقال: {الَّذِي جَعَلَ} وصيّر {لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} صفة ثانية لربّكم؛ أي: بساطا تقعدون، وتنامون عليها، وتتقلّبون فيها، كالفراش المبسوط. وقدم (¬1) ذكر الأرض على السماء وإن كانت أعظم في القدرة، وأمكن في الحكمة، وأتمّ في النعمة، وأكبر في المقدار؛ لأنّ السقف والبنيان فيما يعهد، لا بدّ له من أساس وعمد مستقرّ على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس، وتستقرّ القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولا قبل ذكر الأرض التي تستقرّ عليها قواعده؛ أو لأنّ خلق الأرض متقدم على خلق السماء، ذكره في «البحر». قال أهل اللغة: الأرض: بساط العالم وبسيطها، من حيث إنّه يحيط بها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

البحر الذي هو البحر المحيط أربعة وعشرون ألف فرسخ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال، وهو اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة، وكلّ ذراع ستّ وثلاثون أصبعا، كلّ أصبع ستّ حبّات شعير، مصفوفة بطون بعضها إلى بعض. فللسودان: اثنا عشر ألف فرسخ، وللبيضان: ثمانية، وللفرس: ثلاثة، وللعرب ألف، كذا في كتاب «الملكوت». وسمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة المشرفة، وأمّا وسط الأرض كلّها عامرها وخرابها، فهو الموضع الذي يسمّى قبّة الأرض، وهو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحرّ والبرد، ويستوي الليل والنهار أبدا، لا يزيد أحدهما على الآخر، كما في «الملكوت». وروي عن عليّ - كرم الله وجهه -: أنّه قال: (إنّما سميت الأرض أرضا؛ لأنّها تتأرّض ما في بطنها)؛ يعني: تأكل ما فيها. وقال بعضهم: لأنّها تتأرّض بالحوافر والأقدام. ومعنى جعلها {فَرْشًا} جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب، وجعلها متوسّطة بين الصلابة واللين، صالحة للقعود عليها والنوم فيها، كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا، وهو الذي له طول وعرض، فإنّ كرويّة شكلها مع عظم جرمها مصّححة لافتراشها. وعبارة النسفي هنا: وليس فيه دليل على أنّ الأرض مسطّحة أو كروية، إذ الافتراش ممكن على كلا التقديرين. {وَ} جعل {السَّماءَ} وهو ما علاك وأظلّك؛ لأنّه من السموّ بمعنى: العلوّ. {بِناءً} أي: سقفا مبنيا فوق الأرض مرفوعا فوقها، كهيئة القبّة؛ أي: جعلها قبّة مضروبة عليكم. وكلّ سماء مطبقة على الأخرى، مثل: القبّة، والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض، كما في «تفسير أبي الليث». قيل (¬1): إذا تأمّل الإنسان المتفكّر في العالم، وجده كالبيت المعمور فيه كلّ ¬

_ (¬1) الخازن.

ما يحتاج إليه، والسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مفروشة كالبساط، والنجوم كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت، وفيه ضروب النبات المهيّئة لمنافعه، وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه، فيجب على الإنسان المسخرة له هذه الأشياء، شكر الله تعالى عليها بالتوحيد، والإيمان، والطاعة. وما أحسن قول أبو العتاهية: فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه الواحد {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ}؛ أي: من السحاب {ماءً}؛ أي: مطرا عذبا فراتا، أو أنزل من السماء مطرا ينحدر منها على السحاب، ومنه على الأرض. وفيه ردّ لزعم من قال: إنّه يأخذه من البحر. {فَأَخْرَجَ} سبحانه وتعالى بفضله وقدرته، وأنبت {بِهِ}؛ أي: بسبب ذلك الماء الذي أنزل من السماء {مِنَ} أنواع {الثَّمَراتِ} والفواكه والنباتات، فالمراد بالثمرات ههنا: المأكولات كلّها من الحبوب والفواكه، وغيرها مما يخرج من الأرض والشجر، كما في «التيسير». {رِزْقًا} وغذاء وقوتا {لَكُمُ} وعلفا لدوابّكم. وذلك (¬1) أنّه أودع في الماء قوة فاعليّة، وفي الأرض قوة منفعلة، فتولّد من تفاعلهما أصناف الثمار، فبين المظلّة والمقلّة شبه عقد النكاح، بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها، أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبني آدم، ولسائر الأنعام والدوابّ. و {مِنَ} للبيان، و {رِزْقًا}؛ أي: طعاما وعلفا لكم ولدوابّكم، كما مرّ آنفا، ففيه تقديم البيان على المبيّن؛ لغرض الاهتمام. والمعنى (¬2): أنّ الله تعالى أنعم عليكم بذلك كلّه، لتعرفوه بالخالقيّة والرازقيّة، فتوحّدوه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا} والفاء فيه إما تفريعية، أو فصيحية؛ أي: إذا عرفتم أنّه خالق السموات والأرض وما فيهما، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم، فأقول لكم: لا تجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادا؛ أي: شركاء وأشباها من الأصنام، وغيرها تشركونها مع الله تعالى في العبادة. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: والحال أنكم تعلمون أنّها لا تخلق شيئا، ولا ترزق أحدا، وأنّ الله هو الخالق الرازق. أو تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد. والأنداد: جمع ندّ، وهو المثل؛ أي: لا تجعلوا له أمثالا تعبدونهم كعبادة الله؛ يعني: لا تقولوا له شركاء تعبد معه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (لا تقولوا لولا فلان لأصابني كذا، ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا)، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إيّاكم ولو فإنّه من كلام المنافقين» قالوا: {لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا}. وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل الله ندّا وهو خلقك» الحديث، وكذا حديث معاذ «أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقّ الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» الحديث. قال البيضاويّ: واعلم أنّ مضمون الآيتين: هو الأمر بعبادة الله وتوحيده، والنهي عن الإشراك به، والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي لذلك. انتهى. وفي «المراغي»: الأنداد (¬1): هم الذين خضع الناس لهم، وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركوا العرب يسمّون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله تعالى، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا، كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمّون ذلك الاتخاذ عبادة، ولا أولئك المعظّمين آلهة وأندادا، بل يسمّون دعاءهم غير الله، والتقرب إليه توسّلا واستشفاعا، ويسمّون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل ¬

_ (¬1) المراغي.

[23]

المنكرات، وتحريم بعض الطيبات فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنّه لا خالق إلّا الله ولا رازق إلّا هو. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: وإنّكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنّكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض؟ ومن يدبّر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدعون غيره وتستشفعون به؟. ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضرّ ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أنّ التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}. وقرأ زيد بن عليّ، ومحمد بن السميفع (¬1): {ندا} على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به: العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله ندّا واحدا، بل أندادا. 23 - ولمّا احتجّ سبحانه وتعالى، عليهم في إثبات توحيد الألوهية والربوبيّة بما تقدم، احتجّ عليهم في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بما قطع عذرهم، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ} أيّها الناس {فِي رَيْبٍ} وشكّ {مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} أي: في كون القرآن المعجز الذي نزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وحيا منزّلا من عند الله تعالى، أو مفترى من عند نفسه. والتنزيل (¬2): هو النزول على سبيل التدريج، وأنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا إلى بيت العزّة، ثمّ منه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مفرّقا منجما في ثلاث وعشرين سنة؛ ليحفظ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب، ففرّق عليه؛ ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظ الجميع من الكتاب، ولذا قالوا: إنّ سائر الكتب الإلهية أنزلت جملة. وفي إضافة العبد إليه تعالى: تنبيه على عظم قدره صلّى الله عليه وسلّم واختصاصه بخالص العبودية ورفع محلّه. وإضافته إلى نفسه تعالى واسم العبد عامّ وخاصّ، وما هنا من الخاص، كقوله: لا تدعني إلّا بيا عبدها ... لأنّه أشرف أسمائي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

ومن قرأ {على عبادنا} بالجمع، فقيل: يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمّته، قاله الزمخشري، ذكره في «البحر»؛ لأنّ المكذّب لمحمد مكذّب لأمته، لأنّهم تبعه. وقوله: {فَأْتُوا} جواب الشرط، وهو أمر تعجيز {بِسُورَةٍ} واحدة كائنة {مِنْ مِثْلِهِ}؛ أي: من مثل هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في البلاغة، والفصاحة، والبيان الغريب، وعلوّ الطبقة في حسن النظم، والتركيب، والإخبار عن المغيّبات؛ أي: فهاتوا وجيئوا بسورة واحدة مماثلة له فيما ذكر، فأنتم بشر فصحاء مثله، هذا إن جرينا على أنّ الضمير في {مِثْلِهِ} عائد على ما نزلنا، وهو المتبادر. والمعنى: أي (¬1) ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو، إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر، إذ أنتم وهو سواء في الجوهر، والخلقة، واللسان، وليس هو أولى بالاختلاق منكم. ثمّ القرآن وإن كان لا مثل له؛ لأنّه صفة الله وكلامه ووحيه، ولا مثل لصفاته، كما لا مثل لذاته، لكن معناه من مثله على زعمكم، فقد كانوا يقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا، كما في «التيسير». ويحتمل (¬2) عود الضمير على {عَبْدِنا}، والمعنى حينئذ: فهاتوا بسورة واحدة واقعة من بشر مماثل لعبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في كونه عربيّا فصيحا. وحدّ السورة: هي قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر، مترجم عنها باسم خاصّ، أقلّها ثلاث آيات. وإنّما سميت سورة؛ لكونها أقوى من الآية من سورة الأسد والشراب؛ أي: قوته. والآية قطعة من السورة مميزا بفصل يسمّى الفاصلة، هذا إن كان واوها أصلية، وإن كانت منقلبة عن همزة، فهي مأخوذة من السؤر الذي هو البقية من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن مفرزة باقية من غيرها. قال القاضي زكريا: إن قلت: لم ذكرت {مِنْ} هنا، وحذفت في سورتي: يونس وهود؟ قلت: لأنّ {مِنْ} هنا للتبعيض، أو للتبيين، أو زائدة على قول الأخفش: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

بتقدير رجوع الضمير في {مِثْلِهِ} إلى ما في قوله: {مِمَّا نَزَّلْنا}، وهو الأوجه، والمعنى على الأخير: فأتوا بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم، وعلى الأولين: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البلاغة وحسن النظم، وحينئذ فكأنّه منه، فحسن الإتيان بمن الدالة على ما ذكر، بخلاف ذاك، فإنّه قد وصف السور بالافتراء صريحا في هود، وإشارة في يونس، فلم يحسن الإتيان بمن الدالة على ما ذكر؛ لأنّها حينئذ تشعر بأنّ ما بعدها من جنس ما قبلها، فيلزم أن يكون قرآنا، وهو محال. ويجوز جعل {مِنْ} للابتداء بتقدير رجوع الضمير في {مِثْلِهِ} إلى {عَبْدِنا}؛ أي: محمد، والمعنى: فأتوا بسورة مبتدأة من شخص مثل محمد، ذكره في «فتح الرحمن». وقوله: {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ} معطوف على جواب الشرط، جمع شهيد بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إما متعلّقة بادعوا، فالمعنى: ادعوا متجاوزين الله من حضركم كائنا من كان، للاستظهار في معارضة القرآن، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم من الملمّات، وتعوّلون عليهم في المهمّات. أو القائمين بشهادتكم الجارية فيما بينكم من أمثالكم المتولّين، لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة. أو القائمين بنصركم حقيقة أو زعما من الإنس والجنّ، ليعينوكم. وقال القاضي: معنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: من غيره، وهو بهذا المعنى في جميع ما جاء في القرآن. وإما متعلّقة بشهداءكم، والمراد بهم: الأصنام. و {دُونِ} بمعنى: التجاوز على أنّها ظرف مستقرّ وقع حالا من ضمير المخاطبين، والعامل ما دلّ عليه {شُهَداءَكُمْ}؛ أي: ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة، وزعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنّكم على الحقّ، متجاوزين الله في اتخاذها كذلك. والمعنى عليه: وادعوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ليساعدوكم في معارضة هذا القرآن والإتيان بمثله. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في مقالتكم: إنّ محمّدا افتراه من عند نفسه، فإنّكم عربيون فصحاء مثله. وسميّت الآلهة شهداء؛ لزعمهم

أنّهم يشهدون لهم يوم القيامة بصحّة عبادتهم إياهم. والصدق: خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو الاعتقاد، أو لهما على الخلاف المذكور في علم المعاني. ودلّت الآية: على أنّ الاستعانة بالخلق لا تغني شيئا، وما يغني رجوع العاجز عن العاجز، فلا ترفع حوائجك إلّا إلى من لا يشّق عليه قضاؤها، ولا تسأل إلّا من لا تفنى خزائنه، ولا تعتمد إلّا على من لا يعجز عن شيء ينصرك من غير معين، ويحفظك من كلّ جانب ومن غير صاحب، ويغنيك من غير مال، فيقلّ أعداد الأعداء الكثيرة إذا حماك، ويكثر عدد المال القليل إذا كفاك. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، وفي أنّ فيه مجالا للريب، وأنّ آلهتكم شهداؤكم. شرط جوابه محذوف، تقديره: فافعلوا؛ أي: فأتوا بسورة من مثله. وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أوّلها: ما في سورة الإسراء {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الآية، ثمّ ما في سورة هود {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}، ثمّ ما في سورة يونس {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، وما جاء في هذه السورة المدنية. فائدة: وأصل (¬1) معنى {دُونِ}: أدنى مكان من الشيء، واتسع فيه حتى استعمل في تخطّي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وله معان أخر: منها: التقصير عن الغاية والحقارة. يقال: هذا الشيء دون؛ أي: حقير، ومنه قوله: إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدّون من كان دونا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[24]

والقرب. يقال: هذا دون ذاك؛ أي: أقرب منه، ويكون إغراء. تقول: دونك زيدا؛ أي: خذه من أدنى مكان. 24 - {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود، يعني: فيما مضى وغبر، وحضر من الزمان، والجملة فعل شرط لإن. وقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}. فيما يستقبل أبدا؛ وذلك لظهور إعجاز القرآن. اعتراض بين الشرط وجوابه، وهذه الجملة المعترضة معجزة باهرة، أخبر بها القرآن قبل وقوعها، حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وتعالى، وقد وقع القرآن كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء بداية في الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف، فلم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيّام النبوة وفيما بعدها إلى الآن. وقوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقيام بفرائضه، واجتناب مناهيه. جواب الشرط. والمعنى: أي (¬1) فإن لم تأتوا الآن بسورة من مثل المنزل على محمدّ صلّى الله عليه وسلّم لعجزكم عنها، ولن تقدروا على أن تأتوا بمثله في المستقبل لتحقّق عجزكم الآن {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي: فاجعلوا لأنفسكم وقاية وسترا من النار المذكورة، بتصديق هذا القرآن، ومن جاء به. وعبّر عن الإتيان بالفعل؛ لأنّ الإتيان فعل من الأفعال، ولقصد الاختصار. والخلاصة: أي (¬2) وحين عجزتم عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله، لزمتكم الحجة على أنّ محمدا رسولي، والقرآن كتابي، ولزمكم تصديقه والإيمان به، وإن لم تؤمنوا صرتم من أهل النار، فاتقوها. وفي «الكشاف»: لصيق اتقاء النار، وضميمة ترك العناد من حيث إنّه من نتائجه؛ لأنّ من اتّقى النار ترك المعاندة، فوضع {فَاتَّقُوا النَّارَ} موضع فاتركوا العناد. اه. ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

وقال القاضي: إن قلت: لم عرّف النار هنا، ونكرّها في التحريم؟ قلت: لأنّ الخطاب في هذه السورة مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذين يعذّبون من عصاتهم بالنار يكونون في جزء من أعلاها. فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت في مكة قبل هذه، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة، فنكّرها ثمّ، وهذه نزلت بالمدينة، فعرفت إشارة إلى ما عرفوه أوّلا. وردّ هذا: بأنّ آية التحريم نزلت بالمدينة بعد هذه الآية التي هنا. {الَّتِي وَقُودُهَا} وحطبها الذي توقد به {النَّاسُ}؛ أي: العصاة من الكفار وغيرهم. وقدم الناس على الحجارة؛ لأنّهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذّبون؛ أو لكونهم أكثر إيقاد للنار من الجماد، لما فيهم من الجلود، واللحوم، والشحوم، والعظام، والشعور؛ أو لأنّ ذلك أعظم في التخويف، فإنّك إذا رأيت إنسانا يحرق، اقشعرّ بدنك وطاش لبّك، بخلاف الحجر. {وَالْحِجارَةُ} أي: (¬1) حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها منها؛ لسرعة اتقادها؛ أي التهابها، وبطىء خمودها، وشدة حرها، وقبح رائحتها، ولصوقها بالبدن. أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها، وإنما جعل التعذيب بها؛ ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها؛ وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزّها وعظمتها، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، والكافر عبد الصنم، واعتمده، ورجاه، فعذّب به، إظهارا لجهله وقطعا لأمله، كأتباع الكبراء خدموهم، ورجوهم، وفي النار يسحبون معهم؛ ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم. فإن قلت: أنار الجحيم كلّها توقد بالناس والحجارة، أم هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة؟ قلت: بل هي نار شتّى منها: نار توقد بالناس والحجارة، يدلّ على ذلك ¬

_ (¬1) روح البيان.

تنكيرها في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا}، وقوله سبحانه {فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى}. ولعل لكفّار الجنّ ولشياطينهم نارا وقودها الشياطين، كما أنّ لكفرة الإنس نارا وقودها هم، جزاء لكلّ جنس بما يشاكله من العذاب. وفي هذا من (¬1) التهويل ما لا يقادر قدره، من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها. {أُعِدَّتْ} أي: هيّئت {لِلْكافِرِينَ} أي: للذين كفروا بما نزلناه على رسلنا، وجعلت عدّة لعذابهم. وفيه دلالة على أنّ النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة، وفيه أيضا: دلالة على أنّ الكافرين هم المقصود بخلقها أصالة. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أنّ ثمرة الأخذ بالقرآن والإقرار به، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة، وفيه زيادة فضل القرآن وأهله. قال البغوي عند قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} قيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة، وسمّيت سورة؛ لأنّ القارىء ينال بقراءتها منزلة رفيعة، حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن. اه. وخلاصة معنى الآية (¬3): إذا ظهر عجزكم عن المعارضة، صحّ عندكم صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا صحّ ذلك فاتركوا العناد، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار. وقرأ الجمهور (¬4): {وَقُودُهَا} بفتح الواو، وهو الحطب الذي تتقد به، وقد جاء بالفتح مصدرا أيضا. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد، وطلحة، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر الهمدانيّ بضمّ الواو، وهو مصدر بمعنى: التوقد، وهو حينئذ على حذف مضاف؛ أي: ذو وقودها، لأنّ الناس والحجارة ليسا نفس الاتقاد، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[25]

أو على أن جعلوا نفس الوقود مبالغة. وقرأ عبيد بن عمير {وقيدها} على وزن فعيل، وهو بمعنى: الحطب، كقراءة الجمهور. وعبارة المراغي هنا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الآية، والنار (¬1) موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود بفتح الواو: ما توقد به النار، والمراد بالناس: العصاة، والمراد بالحجارة هنا: الأصنام، كما قال: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ}؛ أي: هيّئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل، أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدي الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين من الخرافات والبدع. والخلاصة: فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فليس في استطاعتكم، فاحذروا من العناد، واعترفوا بكونه منزلا من عند الله تعالى، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدّت لأمثالكم من الكافرين. اه. 25 - ولمّا ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الكافرين، عقّبه بجزاء المؤمنين؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز؛ لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه، فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ...} الخ. وقال ابن كثير: (¬2) لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى، ما أعدّه لأعدائه من الأشقياء الكافرين بالله وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصحّ أقوال العلماء، وهو أن يذكر الإيمان، ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء، ثمّ الأشقياء أو عكسه. وحاصله: أنّه ذكر الشيء ومقابله. انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) ابن كثير.

والبشارة: الخبر السارّ الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة من البشر والسرور. والمأمور بالتبشير هنا، قيل: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هو كل أحد ممن يتأتّى منه التبشير، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي، بالنور التامّ يوم القيامة»، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بذلك واحدا بعينه، بل كلّ أحد ممّن يتأتّى منه ذلك، كالعلماء وولاة الأمور. والأمر على الأول للوجوب؛ لأنّ البشارة من جملة ما أمر بتبليغه. أي: فرّح يا محمد قلوب الذين آمنوا، وصدّقوا بأنّ القرآن منزل من عند الله تعالى، وبجميع ما أرسلت به. {وَعَمِلُوا} الأعمال {الصَّالِحاتِ} من الفرائض والنوافل، جمع صالحة؛ أي: وعملوا الفعلات الصالحات، وهي كلّ ما كان لله تعالى. وفي عطف (¬1) العمل على الإيمان، دلالة على تغايرهما، وإشعار بأنّ مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين، فإنّ الإيمان أساس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناء بأساس لا بناء عليه. وطلب الجنة بلا عمل حال السفهاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى، جعل العمل سببا لدخول الجنة، والعبد وإن كان يدخله الله الجنة بمجرّد الإيمان، لكن العمل يزيد نور الإيمان، وبه يتنوّر قلب المؤمن، وكم من عقبة كؤود تستقبل العبد إلى أن يصل إلى الجنة، وأوّل تلك العقبات عقبة الإيمان، أنّه هل يسلم من السلب أم لا؟ فلزم العمل لتسهيل العقبات. أي: أخبر يا محمد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بشارة بـ {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أي: حدائق وبساتين ذات أشجار مثمرة، ومساكن مزيّنة. والجنة: ما فيه النخيل، والفردوس: ما فيه الكرم، كذا قال الفراء. ولفرط التفاف أغصان أشجارها، وتستّرها بالأشجار سمّيت جنة، كأنّها سترة واحدة، لأنّ الجنة بناء مرّة. وإنّما سميت دار الثواب بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور؛ لما أنّها مناط نعيمها ومعظم ملاذّها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فإن قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلّها، وهي مشتملة على جنّات كثيرة مرتّبة مراتب على استحقاقات العاملين، لكلّ طبقة منهم جنة من تلك الجنات. والمراد بالجنة هنا (¬1): دار الخلود في الحياة الآخرة، أعدّها الله للمتقين، كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. ثمّ (¬2) الجنان ثمان: دار الجلال كلّها من نور مدائنها، وقصورها، وبيوتها، وأوانيها، وشرفها وأبوابها، ودرجها، وغرفها، وأعاليها، وأسافلها، وخيامها، وحليها، وكلّ ما فيها. ودار القرار كلّها من المرجان، ودار السلام كلّها من الياقوت الأحمر، وجنة عدن من الزبرجد كلّها، وهي قصبة الجنة، وهي مشرفة على الجنان كلّها، وجنة المأوى من الذهب الأحمر كلّها، وجنّة الخلد من الفضّة كلّها، وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلّها، وجنة النعيم من الزمردّ كلّها، كذا قالوا، والله أعلم. وجملة قوله: {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها ومساكنها على ظهر الأرض من غير حفيرة. {الْأَنْهارُ} الأربعة المذكورة في (سورة محمد)؛ أي: المياه المعهودة في الجنة المذكورة في قوله تعالى: {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. وهي أنهار الخمر، واللبن، والعسل، والماء. صفة لقوله: {جَنَّاتٍ}. والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو (¬3) المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل وهو نهر مصر، والمراد بها: الماء الجاري فيها، وأسند الجري إليها مجازا، والجاري حقيقة هو الماء، كما في قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: أهلها، وكما قال الشاعر: ونبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

والضمير في قوله: {مِنْ تَحْتِهَا} عائد إلى الجنات، ولكنه على تقدير مضاف؛ لاشتمالها على الأشجار؛ أي: من تحت أشجارها، كما مرّ آنفا. فإن قلت (¬1): كيف جري الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية. وعن مسروق: أنّ أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهو الشقّ من الأرض بالاستطالة، وأنزه البساتين، وأكرمها منظرا، ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطّردة. ولولا أنّ الماء الجاري من النعمة العظمى، وأنّ الرياض وإن كانت أحسن شيء، لا تجلب النشاط حتى يجري فيها الماء، وإلّا كان السرور الأوفر مفقودا، وكانت كتماثيل لا أرواح لها، وصورا لا حياة لها، لما جاء الله بذكر الجنات ألبتة مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها. وقوله: {كُلَّما رُزِقُوا} وصف (¬2) آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّ سائلا قال: كيف ثمارها؟. و {كُلَّما} ظرف زمان ضمّن معنى الشرط؛ أي: متى أطعموا {مِنْها}؛ أي: من تلك الجنات {مِنْ ثَمَرَةٍ}؛ أي: من أيّ ثمرة من أنواع ثمراتها. وليس المراد بالثمرة (¬3): التفاحة الواحدة أو الرمّانة الفذّة، وإنما المراد: نوع من أنواع الثمرات. و {مِنْ} الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأنّ الرزق قد ابتدىء من الجنات، والرزق من الجنّات قد ابتدىء من ثمرة. {رِزْقًا} مفعول رزقوا. والرزق: ما ينتفع به الحيوان طعاما. {قالُوا}؛ أي: قال أصحاب الجنة للملائكة والولدان: {هذَا} الطعام الذي أتيتمونا به هو {الَّذِي رُزِقْنا} به {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: مثل الطعام الذي رزقنا به من قبل هذا في الدنيا، ولكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته. وإنّما (¬4) جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا؛ لتميل النفس إليه حين تراه، فإنّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

الطباع مائلة إلى المألوف، متنفرة عن غير المعروف؛ وليتبيّن لها مزيّة، إذ لو كان جنسا غير معهود، لظن أنّه لا يكون إلّا كذلك وإن كان فائقا، فحين أبصروا الرمّانة من رمّان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأنّ الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثمّ يبصرون رمّانة الجنة، وهي تشبع السكن - أي: أهل الدار - كان ذلك أبين للفضل، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجّب من أن يفاجئوا ذلك الرمّان من غير عهد سابق بجنسه. وعموم {كُلَّما} يدلّ على ترديدهم هذه المقالة، كلّ مرة رزقوا فيما عدا المرّة الأولى، يظهرون بذلك التبجّح وفرط الاستغراب، لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذّة، مع اتحادهما في الشكل واللون، كأنّهم قالوا: هذا عين ما رزقناه في الدنيا، فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب. ولا يقدح فيه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (أنّه ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم)، فإنّ ذلك، لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذّة، والحسن، والهيئة، لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا، كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا. وجملة قوله: {وَأُتُوا بِهِ} حال من فاعل قالوا؛ أي: قالوا ذلك والحال أنّهم أتوا به، أي: جيئوا بذلك الرزق، أو المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا. والضمير عائد إلى ما دلّ عليه فحوى الكلام، مما رزقوا في الدارين حال كون ما أتوا به وأعطوه في الدارين. {مُتَشابِهًا} بعضه بعضا في اللون والجودة، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك أجود وألذّ، يعني: لا يكون فيه رديء، فقوله: {مُتَشابِهًا} حال من ضمير {بِهِ}. وقيل المعنى: (¬1) كلّما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا: هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان، وصالح الأعمال، فهو من وادي قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ ¬

_ (¬1) المراغي.

حَيْثُ نَشاءُ}. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} أي: إنّ رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته، ويختلف في طعمه ولذته. وقيل المعنى: (¬1) {كُلَّما رُزِقُوا} وأعطوا، واطعموا {مِنْها}؛ أي: من تلك الجنات {مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا}؛ أي: عطاء وطعاما من ثمرة من ثمارها. {قالُوا} للملائكة والولدان: {هذَا} الطعام الذي أتيتمونا به في هذه المرّة، مثل الطعام. {الَّذِي رُزِقْنا} وأعطينا به {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذه المرّة في الجنة؛ أي: مثله في الشكل واللون، فتقول الملائكة: كل يا عبد الله، فاللون واحد، والطعم مختلف. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا}؛ أي: والحال أنّهم أعطوا بذلك الطعام، حال كونه متشابها بعضه بعضا في اللون والمنظر دون الطعم؛ أي: تأتيهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم. وقرأ الجمهور {وَأُتُوا بِهِ} مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الخدم والولدان، يبيّن ذلك قراءة هارون الأعور، والعتكي {وَأُتُوا بِهِ} على البناء للفاعل، ذكره في «البحر». وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتمخّطون، ولا يبزقون، ويلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النّفس طعامهم جشاء، ورشحهم كرشح المسك. وفي رواية: ورشحهم المسك. وعن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها؛ أي: منضود بعضها على بعض؛ أي: متراكب ومجتمع ليس كأشجار الدنيا متفرّقة أغصانها وثمرتها أمثال القلال، كلّما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا، ولو اجتمع الخلائق على عنقود لأشبعهم. وجاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم - فقال: يا أبا القاسم! تزعم أنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون، فقال: «نعم والذي نفس محمد بيده، إنّ أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع»، قال: فإنّ الذي يأكل له ¬

_ (¬1) العمدة.

حاجة، والجنة طيّبة ليس فيها أذى، قال عليه السلام: «حاجة أحدهم عرق كريح المسك». وجملة قوله: {وَلَهُمْ فِيها}؛ أي: في الجنة {أَزْواجٌ}؛ أي: نساء وحور. معطوفة على جملة قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}. على كونها صفة لجنات؛ أي: وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وجنات لهم فيها أزواج. {مُطَهَّرَةٌ}؛ أي: (¬1) مهذّبة منقّاة من الأحوال المستقذرة، كالحيض، والنفاس، والبول، والغائط، والمنيّ، والمخاط، والبلغم، والورم، والدّرن، والصّداع، وسائر الأوجاع، والولادة، ودنس الطبع، وسوء الخلق، وميل الطبع إلى غير الأزواج، وغير ذلك. وقوله: {مُطَهَّرَةٌ} أبلغ من طاهرة ومتطهرة؛ للإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ، وما هو إلّا الله سبحانه وتعالى. وقرأ الجمهور (¬2) {مُطَهَّرَةٌ} صفة للأزواج، مبنيّة على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي {مطهّرات} فجمع بالألف والتاء على معنى: طهّرن. قال الزمخشري: وهما لغتان فصيحتان. يقال: النساء فعلن وهنّ فاعلات، والنساء فعلت وهي فاعلة. وقرأ عبيد بن عمير {مُطَهَّرَةٌ} بتشديد الطاء المفتوحة وتشديد الهاء المكسورة. أصله: متطهرة، وهي مناسبة لقراءة الجمهور. قال الحسن: هنّ عجائزكم العمص العمش طهّرن من قاذورات الدنيا. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب؛ أي: الأبيض، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور، إذ أقبلت يتلألأ نور وجهها، كما يتلألأ نور الشمس لأهل الدنيا). وجملة قوله: {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} حال من ضمير لهم؛ أي: ولهم فيها أزواج مطهّرة خالصة من الأدناس الحسية والمعنوية، حالة كونهم خالدين في تلك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الجنات ماكثين فيها أحياء أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون منها؛ لأنّ من تمام النعمة عليهم الخلود فيها. قال عكرمة: (¬1) أهل الجنة ولد ثلاث وثلاثين سنة، رجالهم ونساؤهم، وقامتهم ستون ذراعا على قامة أبيهم آدم، شباب جرد مرد، مكحلون، عليهم سبعون حلّة، تتلوّن كلّ حلة في كلّ ساعة سبعين لونا، لا يبزقون، ولا يتمخّطون، وما كان فوق ذلك من الأذى، فهو أبعد، يزدادون كلّ يوم جمالا وحسنا، كما يزداد أهل الدنيا هرما وضعفا، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم. واعلم: أنّ معظم اللذات الحسيّة، لما كان مقصورا على المساكن، والمطاعم، والمناكح حسبما يقضي به الإستقراء، وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات، إذ كلّ نعمة وإن جلّت حيث كانت في شرف الزوال، ومعرض الاضمحلال، فإنّها منغّصة غير صافية من شوائب الألم، بشّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور، ولذلك قيل: أشدّ الغمّ عندي في سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا واعلم (¬2): أنّ صحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها، كما أخبر الله تعالى، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغّصات في الطعام، والشراب، والمباشرة الزوجيّة، كما أخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث مسلم السابق. وقد ورد في الحديث الصحيح (¬3)، ما يدلّ على كثرة الأزواج من الحور وغيرهنّ، وأريد بالأزواج هنا القرناء من النساء اللاتي تختصّ بالرجل، لا يشركه فيها غيره، فمعنى تطهيرهنّ: (إن كنّ من الحور، كما روي عن عبد الله: خلقهنّ على الطهارة لم يعلق بهنّ دنس ذاتيّ ولا خارجيّ) (وإن كنّ من بني آدم، كما روي عن الحسن: تطهيرهنّ من الأدناس الّتي كانت بها في الدنيا، ذاتيّة كانت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[26]

كالحيض، والنفاس، والبول، والغائط، أو عرضيّة، كالبخر، والصّنان، والقيح، والصديد، أو معنويّة كالغضب، والحقد، والحدّة، والكيد، والمكر، والميل إلى غير الأزواج). 26 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي}. الخ. أنزل الله سبحانه هذه الآية ردّا على الكفار، لمّا أنكروا ما ضربه من الأمثال، كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا}. وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}، فقالوا: الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال. وقال الحسن وقتادة: لمّا ذكر الله سبحانه الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية، كما مرّ في الأسباب بسطه. والظاهر (¬1) ما ذكرناه أوّلا؛ لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك، لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز. والحياء: تغيّر وانكسار، يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، كذا في «الكشاف»، وتبعه الرازي في «مفاتيح الغيب». وقال القرطبي: أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء، والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء، فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفّار، وقيل: هو من باب المشاكلة، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في «الكشاف»: مثّل تركه تخييب العبد، وأنّه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه، بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. اه. والمعنى: أنّ الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. وما (¬2) الأمثال إلّا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

المحسوسة، لتأنس بها النفس، وتستنزل الوهم عن معارضة العقل. والحكيم علام الغيوب، يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة، وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك. والناس إزاء هذا فريقان: مؤمنون يقولون: إنّ الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها، فالكلّ لديه سواء، وكافرون يستهزؤن بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربّهم، فأصبحوا من الخاسرين. فمحلّ {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}؛ أي: يذكر. نصب (¬1) على المفعولية؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم، وما في قوله: {ما بَعُوضَةً} اسمية إبهامية؛ أي: موجبة لإبهام ما دخلت عليه؛ أي: تزيد ما تقارنه من الاسم المنكّر إبهاما وشيوعا، حتى يكون أعمّ مما كان عليه أوّلا، وأكثر شيوعا في أفراده، فكأنّه قيل: يضرب مثلا ما من الأمثال أيّ مثل كان، فهي في موضع نصب، صفة لما قبلها، و {بَعُوضَةً} بدل من {مَثَلًا}. {فَما فَوْقَها} معطوف على بعوضة؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم أيّ مثل كان، ولا يترك أن يذكر بعوضة، فيذكر الذي هو أزيد منها في الكبر، كالذباب والعنكبوت، أو يذكر ما دونها في الصغر، كالذرّة، وجناح بعوضة. قيل: إنّه من الأضداد، ويطلق على الأعلى والأدنى. وقيل: أن يضرب بمعنى: يجعل، فتكون. {بَعُوضَةً} المفعول الثاني، كما سيأتي. فإن قلت (¬2): مثّل الله آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب، فأين تمثيلها بالبعوضة فما دونها؟ قلت: في هذه الآية كأنّه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها، فما ظنّكم بالعنكبوت والذباب؟. والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع. يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: الناموس، والواحدة: بعوضة. قال الربيع بن أنس: ضرب المثل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

بالبعوضة عبرة لأهل الدنيا، فإنّ البعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا شبعت، فكذا صاحب الدنيا، إذا استغنى طغا، وأحاط به الردى. وقال الإمام أبو منصور: الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى، في الخلق الصغير الجثّة والجسم، أكثر منها في الكبار العظام؛ لأنّ الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج من الفم، والأنف، والعين، والرجل، واليد، والمدخل، والمخرج ما قدروا عليه، ولعلّهم يقدرون على تصوير العظام من الأجسام الكبار منها، فالبعوضة أعطيت على قدر حجمها الحقير، كلّ آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القويّ. قال بعضهم: (¬1) إنّ الله تعالى قوّى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس، وعرّف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء، فإنّ البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره، وفي البعوض زيادة جناحين، فلا يستبعد من كرمه، أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق، كما أعطى صغير الجثة ما أعطى كبير الجثة من الخلقة، ومن العجب أنّ هذا الصغير يؤذي هذا الكبير، فلا يمتنع منه. ومن لطف الله تعالى: أنّه خلق الأسد بغاية القوة، والبعوض والذباب بغاية الضعف، ثمّ أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس، وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبّهما بالمذبّة، وركّب الجبن في الأسد، وأظهر ذلك بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم، ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس. فمنّ الله تعالى، وجعل في الضعيف التجاسر، وفي القوي الجبن، ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف، وقدرتك على ذلك الكبير. وتقدّم لك أنّ المراد بالبعوض هنا: الناموس، وهو من عجيب خلق الله تعالى، فإنّه في غاية الصغر، وله ستّة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم ¬

_ (¬1) روح البيان.

مجوّف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل، فيبلغ منه الغاية حتى إنّ الجمل يموت من قرصته. قال القشيري - رحمه الله تعالى - (¬1): الخلق في التحقيق بالإضافة إلى قدرة الخالق، أقلّ من ذرّة من الهباء في الهواء، وسيّان في قدرته العرش والبعوضة، فلا خلق العرش عليه أعسر، ولا خلق البعوضة عليه أيسر، سبحانه وتقدّس عن لحوق العسر واليسر. انتهى. أي: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لا يَسْتَحْيِي} ولا يترك {أَنْ يَضْرِبَ} ويذكر، ويبيّن للخلق {مَثَلًا ما}؛ أي: شبها ما أيّ مثل كان {بَعُوضَةً فَما فَوْقَها}؛ أي: فوق البعوضة في الذات والكبر، كالذباب والعنكبوت، أو فوقها في الغرض المقصود من التمثيل، كجناح البعوضة، أو دونها في الذات، كالذرة صغار النمل، وكيف يستحيي الله سبحانه من ذكر شيء، لو اجتمع الخلائق كلّهم على تخليقه ما قدروا عليه. والمعنى: أنّ الله تعالى، لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها، إذا علم أنّ فيه عبرة لمن اعتبر، وحجة على من جحد. والخلاصة: أي: إنّ الله جلّت قدرته، لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنّه هو الخالق لكلّ شيء جليلا كان أو حقيرا. وقرأ الجمهور (¬2): {يَسْتَحْيِي} بياءين، والماضي استحيا، وهي لغة أهل الحجاز، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد، كاستنكف، واستأثر، واستبدّ، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال: حيي الرجل من الحياء، كما يقال: نسي، وخشي، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرّد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب {يستحي} بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، وبكر بن وائل، يجرونها مجرى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

يستبي، قال الشاعر: ألا تستحي منّا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدّم بالدم والماضي استحى، قال الشاعر: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بستّ في إناء من الورد وأصله: {يَسْتَحْيِي} بياءين، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء، فسكنت، ثمّ استثقلت الضمة على الثانية، فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل: لام الكلمة، فالوزن: يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين، فصارت يستفع. وقيل: المحذوف العين، فالوزن: يستفل، ثمّ نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام، فصارت يستفل، وأكثر نصوص الأئمّة على أنّ المحذوف هو العين. وقرأ الجمهور (¬1): بنصب {بَعُوضَةً}، واختلف في توجيه النصب على أوجه: أحدهما: أن تكون صفة لـ {ما}، إذا جعلنا {ما} بدلا من {مَثَلًا}، و {مَثَلًا} مفعول {يَضْرِبَ}. والثاني: أن تكون {بَعُوضَةً} عطف بيان، و {مَثَلًا} مفعول {يَضْرِبَ}. والثالث: أن تكون بدلا من {مَثَلًا}. والرابع: أن تكون مفعولا لـ {يَضْرِبَ}، وانتصب {مَثَلًا} حالا من النكرة مقدّمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولا لـ {يَضْرِبَ} ثانيا، والأول هو {مَثَلًا} على أنّ {يَضْرِبَ} بمعنى يجعل يتعدّى لاثنين. والسادس: أن تكون مفعولا أوّل لـ {يَضْرِبَ}، و {مَثَلًا} المفعول الثاني. والسابع: أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار، والمعنى: أن يضرب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مثلا ما بين بعوضة فما فوقها، نظير قولهم: له عشرون ما ناقة فجملا. وقرأ الضحاك (¬1)، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب {بَعُوضَةً} بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك: أنّ {ما} اسم بمنزلة الذي و {بَعُوضَةً} رفع على إضمار المبتدأ، ويجوز أن تكون {ما} استفهامية في محلّ الرفع بالابتداء، و {بَعُوضَةً} وما بعدها خبرها، وقيل غير ذلك. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدّقوا بالقرآن، وبما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو محمد وأصحابه. والفاء؛ للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها، كأنّه قيل: فيضربه فأما الذين آمنوا {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ}؛ أي: أنّ ضرب المثل بالبعوضة والذباب هو الأمر الْحَقُّ الثابت الذي لا يسوغ إنكاره حال كونه {مِنْ رَبِّهِمْ} لا من محمد، فلا يسوغ إنكاره؛ لأنّه ليس عبثا، بل هو مشتمل على الحكم والفوائد، فيؤمنون به. والجار والمجرور (¬2) حال من الضمير المستكن في {الْحَقُّ}، أو من الضمير العائد إلى المثل؛ أي: كائنا منه تعالى، فيتفكرون في هذا المثل الحقّ، ويوقنون أنّ الله هو خالق الكبير والصغير، وكلّ ذلك في قدرته سواء، فيؤمنون به. والمعنى: أي (¬3) فالمؤمنون يقولون: ما ضرب الله هذا المثل إلّا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحقّ، والأخذ به، فهو إنّما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والمشركون، {فـ} يتعجّبون من ذلك المثل، و {يقولون} إنكارا له: {ماذا}؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

أي: أيّ شيء، أو ما الغرض الذي {أَرادَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِهذا} المثل الخسيس الذي هو التمثيل بالأشياء الحقيرة من البعوضة والذباب. وفي كلمة {هذا} تحقير للمشار إليه، واسترذال له. {مَثَلًا}؛ أي: من جهة كونه مثلا من الأمثال، فهو تمييز ذات من اسم الإشارة؛ أي: أيّ فائدة وأيّ غرض في ضرب المثل بهذه الأشياء الخسيسة؟ فليس من الله، بل افتراء من محمّد. قال في «الروح» (¬1): الأصل: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فلما حذف الألف واللام نصب على الحال؛ أي: ماذا أراد الله بهذا حال كونه ممثّلا به، أو على التمييز؛ أي: من جهة كونه مثلا. والمعنى (¬2): وأمّا الذين كفروا، وهم اليهود والمشركون، وكانوا يجادلون بعد أن استبانت الحجة، وحصحص الحقّ، ويقولون: ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك، وما أعرضوا، وانصرفوا {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. فأجابهم الله تعالى، ردّا عليهم بقوله: {يُضِلُّ بِهِ}؛ أي: يخذل بهذا المثل والإضلال: هو الصرف عن الحقّ إلى الباطل، وإسناد الإضلال؛ أي: خلق الضلال إليه سبحانه، مبنيّ على أنّ جميع الأشياء مخلوقة له تعالى، وإن كانت أفعال العباد مستندة إليهم من حيث الكسب؛ أي: أراد الله بهذا المثل أن يضلّ به {كَثِيرًا} من أهل الكفر والنفاق؛ وذلك. لأنّهم ينكرونه، ويكذّبونه، فيزيدون بإنكاره ضلالا على ضلالهم الأول. {وَيَهْدِي بِهِ}؛ أي: بهذا المثل {كَثِيرًا} من أهل الإيمان والإخلاص؛ لأنّهم يعرفون، ويصدّقون به، فيزيدون به إيمانا على إيمانهم. يعني: (¬3) يضلّ به من علم منهم أنّه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أنّه يختار الهدى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

والمعنى: أي (¬1) إنّ من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا، وعاندوا، وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف، والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به؛ لأنّهم يقدّرون الأشياء بحسب فائدتها. ومن المعلوم: أنّ أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}، والعالمون: هم المؤمنون المهتدون بهدي الحقّ. وقد جعل الله سبحانه، المهتدين في الكثرة كالضالين مع أنّ هؤلاء أكثر، كما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}. إشارة إلى أنّ المؤمنين المهتدين على قلّتهم، أكثر نفعا وأجل فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين، وما أحسن قول بعضهم: إنّ الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا وفي «الروح»: فإن قلت: (¬2) لم وصف المهديّون بالكثرة والقلّة صفتهم؟ قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلّة إنّما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال، وأيضا: فإنّ القليل من المهديّين كثير في الحقيقة، وإن قلّوا في الصورة؛ لأنّ هؤلاء على الحقّ، وهم على الباطل. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (السواد الأعظم هو الواحد على الحقّ). ثمّ أكمل الجواب، وزاد في البيان، فقال: {وَما يُضِلُّ} الله سبحانه {بِهِ}؛ أي: بهذا المثل؛ أي: لا يخذل، ولا يذلّ بهذا المثل وتكذيبه {إِلَّا الْفاسِقِينَ}؛ أي: إلّا الخارجين عن حدّ الإيمان والإخلاص إلى الكفر والنفاق، كاليهود والمنافقين. أي: (¬3) وما يضلّ بضرب المثل إلّا الذين خرجوا عن سنّة الله في خلقه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[27]

وعمّا هداهم إليه بالعقل، والمشاعر، والكتب المنزلة على من أوتوها. وفي هذا إيماء إلى أنّ علّة إضلالهم، ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكّر، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبّر في حكمة المثل إلى حقارة الممثّل به، حتى رسخت به جهالتهم، وازدادت ضلالتهم، فأنكروه. والفسق في اللغة (¬1): الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة، وله طبقات ثلاث: الأولى: التغابي، وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها. والثانية: الانهماك في تعاطيها. والثالثة: المثابرة عليها مع جحود قبحها، وهذه الطبقة من مراتب الكفر، فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن، لاتصافه بالتصديق الذي يدور عليه الإيمان. 27 - ثمّ زاد في ذمّ الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم، فقال: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} أي: يخالفون، ويتركون أمر الله تعالى {مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ}؛ أي: من بعد توثيق ذلك العهد، وتوكيده بالقبول. فالضمير للعهد، أو من بعد توثيق الله سبحانه ذلك العهد، بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فالضمير إلى الله. فالمراد بالميثاق هنا: نفس المصدر لا نفس العهد. أي: الذين يخالفون أمر الله ووصيّته في الكتب المتقدمة، بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ميثاقه وتوكيده عليهم، وإيجاب وفائه عليهم المذكور في آية {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ} الآية. وقيل (¬2): المراد بالعهد: هو الحجة القائمة على عباده الدالّة على وجوب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

وجوده ووحدانيته، وعلى وجوب صدق رسله. فالمعنى: الذين ينقضون كلّ عهد وميثاق من الإيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع. قيل (¬1): عهد الله ثلاثة: الأول: ما أخذه على ذرّيّة آدم - عليه السلام - بأنّ يقرّوا بربوبيته تعالى. والثاني: ما أخذه على الأنبياء - عليهم السلام - أن أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه. والثالث: ما أخذه على العلماء بأن يبيّنوا الحقّ، ولا يكتموه. والنقض: الفسخ، وفكّ التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. وعبارة المراغي هنا: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ}؛ أي: (¬2) الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل، ومشاعر، وحواس ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له، حتى كأنّهم فقدوها، كما قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ}. وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطريّ، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع، وهو العهد الدينيّ، وقد وثّق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهيّة التي في الكون، كما وثّق الثاني، بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل، ولم يهتد بهديهم، فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشريّة والنفسيّة حدّ الكمال الإنسانيّ الممكن لها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وقرأ الجمهور (¬1): {يُضِلُّ} بضمّ الياء وكسر الضاد من (أضلّ) الرباعيّ المبني للفاعل في المواضع الثلاثة، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى. وقرأ زيد بن عليّ {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} في الثلاثة على البناء للمفعول. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر مفتوح حرف المضارعة. وروي عن ابن مسعود: أنّه قرأ {يُضِلُّ} بضمّ الياء في الأول، {وما يضل به} بفتح الياء، و {الفاسقون} بالواو، وكذا أيضا: في القراءتين السابقتين، وهي قراءات متجهة في أنّها مخالفة للمصحف المجمع عليه. {وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} محلّ {أَنْ يُوصَلَ} الجرّ على أنّه بدل من الهاء في {بِهِ} العائد إلى {ما} الموصولة؛ أي: (¬2) يقطعون ما أمر الله بوصله، من الأرحام والقرابات الدينية والنسبية. وذلك أنّ قريشا قطعوا رحم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعاداة، والله أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين، فهم انقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفّار. فلفظ (¬3) القطع عامّ في كلّ قطيعة لا يرضى الله بها، كقطع الرحم، وقطع موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب السماوية في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ، فإنّه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد، من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كلّ وصل وفصل. وفي الحديث: «إذا أظهر الناس العلم، وضيّعوا العمل به، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام لعنهم الله عند ذلك، فأصمّهم وأعمى أبصارهم». وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ثلاثة في ظلّ عرش الله يوم القيامة: امرأة مات عنها زوجها، وترك عليها يتامى صغارا، فخطبت فلم تتزوج، وقالت: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

[28]

أقوم على أيتامي حتى يغنيهم الله تعالى أو يميت - يعني: اليتيم أو هي -، ورجل له مال صنع طعاما، فأطاب صنعته، وأحسن نفقته، فدعا عليه اليتيم والمسكين، ورجل وصل الرحم، يوسّع له في رزقه، ويمدّ له في أجله، ويكون تحت ظلّ عرش ربّه». {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي، والفتن، وتعويق الناس من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، والاستهزاء بالحقّ، وقطع الصلة التي عليها يدور فلك نظام العالم، وصلاحه. {أُولئِكَ} الموصوفون بنقض العهد وبما بعده {هُمُ الْخاسِرُونَ}؛ أي: المغبونون بفوات المثوبة والجنة لهم، والمصير إلى العقوبة والنار المؤبّدة عليهم؛ لأنّهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إلى النار المؤبّدة؛ لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل والفساد بالصلاح. وروي: أنّه ليس من مؤمن ولا كافر إلّا وله منزل، وأهل، وخدم في الجنة، فإن أطاع الله تعالى أعطي أهله، وخدمه، ومنزله في الجنة، وإن عصاه ورّثه الله المؤمن فقد غبن عن أهله، وخدمه، ومنزله. 28 - {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} كيف (¬1) نصب حالا من الضمير في {تَكْفُرُونَ}؛ أي: حالة كونكم معاندين تكفرون، وتجحدون {بِاللَّهِ}؛ أي: بوحدانية الله، ومعكم ما يصرفكم عن الكفر إلى الإيمان من الدلائل الأنفسيّة والآفاقية. والاستفهام في {كَيْفَ} إنكاري، لا بمعنى: إنكار الوقوع، بل بمعنى: إنكار الواقع واستبعاده، والتعجيب منه، والتوبيخ عليه؛ لأنّ التعجّب من الله يكون على وجه التعجيب، والتعجيب: هو أن يدعو إلى التعجب، وكأنّه يقول: ألا تتعجّبون أنّهم يكفرون الله، كما في «تفسير أبي الليث». وقال القاضي: هو استخبار، والمعنى: أخبروني على أيّ حال تكفرون. {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا}؛ أي: والحال أنكم كنتم أمواتا؛ أي: أجساما لا حياة ¬

_ (¬1) روح البيان.

لها، عناصر، وأغذية، ونطفا، ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة؛ أي: لا ينبغي ولا يليق بكم الكفر مع وجود البرهان الساطع على الوحدانية فيكم. والأموات: جمع ميت، كأقوال جمع قيل. قال في «الكشاف»: فإن قلت: كيف قيل لهم: أموات حال كونهم جمادا، وإنما يقال: ميت فيما تصحّ منه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى: {بَلْدَةً مَيْتًا}. {فَأَحْياكُمْ} بخلق الأرواح، ونفخها فيكم في أرحام أمهاتكم، ثمّ في دنياكم. وهذا إلزام لهم بالبعث، والفاء (¬1) للدلالة على التعقيب، فإنّ الإحياء حاصل إثر كونهم أمواتا، وإن توارد عليهم في تلك الحالة أطوار مترتّبة بعضها متراخ عن بعض، كما أشير إليه آنفا. ثمّ لما كان المقام في الدنيا قد يطول، جاء بثمّ الدالة على التراخي، فقال: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم، وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر، وأمّا كونها من النعم، فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التي هي الحيوان الأبدي والنعمة العظمى. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للسؤال في القبور، فيحيى الميت حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين، ويقال: من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟. ودلّت {ثُمَّ} التي للتعقيب على سبيل التراخي على أنّه لم يرد به حياة البعث، فإنّ الحياة يومئذ يقارنها الرجوع إلى الله بالحساب والجزاء، وتتصل به من غير تراخ. فلا يناسب {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. ودلّت الآية على إثبات عذاب القبر وراحة القبر، كما في «التيسير». ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الحشر لا إلى غيره، فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، وإليه تنشرون من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فإن قيل: إن علموا أنّهم كانوا أمواتا، فأحياهم ثمّ يميتهم، لم يعلموا أنّه يحييهم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. قلت: تمكنهم من العلم بهما، لما نصب لهم من ¬

_ (¬1) روح البيان.

الدلائل منزّل منزلة علمهم في إزاحة العذر، سيّما. وفي الآية تنبيه على ما يدلّ به على صحتهما. وهو أنّه تعالى، لمّا قدر أن أحياهم أوّلا، قدر أن يحييهم ثانيا، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته. وحاصل المعنى على هذا التفسير الذي قرّرناه: {كُنْتُمْ أَمْواتًا}؛ أي: نطفا في أصلاب الرجال. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حياة الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد هذه الحياة {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في القبور {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في القبور ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الحياة التي ليس بعدها موت. قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال. فعلى هذا يجيء أربع موتات، وأربع إحياءات. وقيل معنى الآية: (¬1) {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} وتجحدون أيّها العباد إنسكم وجنّكم {بـ} وحدانية {الله} سبحانه وتعالى، وتعبدون معه غيره، {وَ} الحال أنّه قد وجد فيكم ما يدلّ على وحدانية الله؛ لأنّكم {كُنْتُمْ أَمْواتًا}؛ أي: أجساما لا حياة لها نطفا علقا ومضغا {فَأَحْياكُمْ} بنفخ الأرواح فيكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في الدنيا بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في الآخرة بالبعث والنشور. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة، فمن بعدهم. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين، ثمّ أحياء في الدنيا، ثمّ أمواتا فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى. وقال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. {ثُمَّ} بعد بعثكم {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى لقائه {تُرْجَعُونَ} وتردّون، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ؛ أي: ثمّ إليه تنشرون من قبوركم للحساب. وعبارة المراغي هنا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: على (¬2) أيّ حال ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) المراغي.

[29]

تكفرون بالله؟ وعلى أيّ شبهة تعتمدون؟ وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع لكم عذرا في الكفران به، والاستهزاء بما ضربه من المثل، وإنكار نبوة نبيه. {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ}؛ أي: والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرّقة في الأرض بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى في الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات في ذلك، ثمّ خلقكم في أحسن تقويم، وفضّلكم على غيركم بنعمة العقل، والإدراك، والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحلّ أبدانكم، وتعود سيرتها الأولى، وتنبثّ في طبقات الأرض، وينعدم هذا الوجود الخاصّ الذي لها. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكّى نفسه، وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته والتدبّر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل، وفسق عن أمر ربّه. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {تُرْجَعُونَ} مبنيا للمفعول من رجع المتعدي. وقرأ مجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، والفيّاض بن غزوان، وسلّام، ويعقوب {تُرْجَعُونَ} مبنيا للفاعل، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم؛ لأنّ (رجع) يكون لازما ومتعديّا. وفي قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية، ويردّه عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخبر، ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان. 29 - وبعد أن عدّد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى، ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكلّ شيء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيّأ لهم ومعدّا لمنافعهم. فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} هذا بيان نعمة أخرى؛ أي: (¬2) قدّر خلقها لأجلكم ولانتفاعكم بها في دنياكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

ودينكم؛ لأنّ الأشياء كلّها لم تخلق في ذلك الوقت. {ما فِي الْأَرْضِ} أي: الذي فيها من الأشياء. {جَمِيعًا} نصب حالا من الموصول الثاني، وقد يستدلّ بهذا على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة، كما في «الكواشي». وقال في «التيسير»: أهل الإباحة من المتصوّفة الجهلة حملوا اللام في {لَكُمْ} في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} على الإطلاق والإباحة على الإطلاق، وقالوا لا حظر ولا نهي ولا أمر، فإذا تحقّقت المعرفة، وتأكّدت المحبة سقطت الخدمة، وزالت الحرمة. فالحبيب لا يكلّف حبيبه ما يتعبه، ولا يمنعه ما يريده ويطلبه. وهذا منهم كفر صريح، وقد نهى الله تعالى، وأمر، وأباح، وحظّر، ووعد، وأوعد، وبشّر، وهدّد، والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة، فمن حمل هذه الآية على الإباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية. انتهى كلام «التيسير». واستدلّ بعضهم بقوله: {ما فِي الْأَرْضِ} على تحريم أكل الطين، قال: لأنّه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ذكره في «البحر». {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ}؛ أي: قصد إليها؛ أي: إلى خلقها بإرادته ومشيئته قصدا سويّا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة شيء آخر في تضاعيف خلقها، أو غير ذلك. وسيأتي في مبحث الفائدة البسط في معنى الاستواء. ولا تناقض بين هذا وبين قوله (¬1): {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها}؛ لأنّ - الدّحو هو البسط. وعن الحسن: (خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفهر - أي: الحجر ملء الكفّ - عليها دخان يلتزق بها، ثمّ أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعه ثمّ بسط منه الأرض)، كذا في «الكواشي». وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أوّل ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر إليها بالهيبة، فذابت، واضطربت، ثمّ ثار منها دخان، فارتفع واجتمع زبد، فقام فوق الماء، فجعل ¬

_ (¬1) روح البيان.

الزبد أرضا، والدخان سماء). قالوا: فالسماء من دخان خلقت، وبريح ارتفعت، وبإشارة تفرّقت، وبلا عماد قامت، وبنفخة تكسّرت. وقرأ أهل الحجاز {اسْتَوى} بالفتح، وأهل نجد بالإمالة، وقرىء في السبعة بهما. {فَسَوَّاهُنَّ}؛ أي: أتمّهنّ، وقوّمهنّ، وخلقهنّ ابتداء مصونات عن العوج والفطور؛ لأنّه سوّاهنّ بعد أن لم يكن كذلك. والضمير فيه مبهم، فسّر بقوله تعالى: {سَبْعَ سَماواتٍ} فهو منصوب على أنّه تمييز، نحو: ربّه رجلا. وفي هذا تصريح بأنّ السموات سبع، وأمّا الأرض فلم يأت في ذكر عددها، إلّا قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}. قال سلمان: (هي سبع. اسم الأولى: رفيع، وهي من زمرّد خضراء، واسم الثانية: أرفلون، وهي من فضة بيضاء، والثالثة: قيدوم، وهي من ياقوتة حمراء، والرابعة: ماعون، وهي من درّة بيضاء، والخامسة: دبقاء، وهي من ذهب أحمر، والسادسة: وفناء، وهي من ياقوتة صفراء، والسابعة: عروباء، وهي من نور يتلألأ). {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما قبله، كأنّه قال: ولكونه عالما بكنه الأشياء كلّها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليما، فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها، وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلّا من عالم حكيم رحيم. وإزاحة لما يختلج في صدورهم، من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت وتكسرت وتبدّدت أجزاءها، واتصلت بما يشاكلها كيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية، بحيث لا يشذّ شيء منها، ولا ينضمّ إليها ما لم يكن معها، فيعاد منها كما كان. وقرأ بتسكين {وهو} أبو عمرو والكسائي، وقالون. وقرأ الباقون بضمّ الهاء على الأصل. ووقف يعقوب على {وهو} بالهاء، نحو: وهوه، وتسكين الهاء في هو، وهي، بعد الواو والفاء واللام قراءة أبي عمرو والكسائي وقالون

وبعد ثمّ قراءة الكسائي وقالون، وقلّ بعد كاف الجر، وهمزة الاستفهام، وندر بعد لكن في قراءة أبي حمدون لكنّ هو الله ربّي، ذكره في «البحر». وحاصل معنى الآية: {هُوَ}؛ أي: (¬1) الإله الذي ثبتت وحدانيته، ووجبت عبادته هو الخالق {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ}؛ أي: لأجل انتفاعكم في الدين والدنيا، بالاستدلال على موجدكم وإصلاح الأبدان {ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}؛ أي: الأرض، وجميع ما فيها، بعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار. {ثُمَّ اسْتَوى}؛ أي: قصد، ووجّه إرادته بعد خلق الأرض {إِلَى} خلق طباق {السَّماءِ} {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ}؛ أي: صيّرهنّ سبع طباق مستويات، لا شقوق فيها، ولا فطور، ولا تفاوت. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من الموجودات {عَلِيمٌ}؛ أي: عالم به، إذ بالعلم يصحّ الفعل المحكم، فلا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها، وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب، إلّا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلّياتها، أفلا تعتبرون بأنّ القادر على خلق ذلك وهنّ أعظم منكم قادر على إعادتكم. بلى إنّه على كلّ شيء قدير. والخلاصة: أنّ هذا النظام المحكم لا يكون إلّا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحي إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته جلّ أو حقر، عظم أو صغر. فائدة: وفي معنى الاستواء هنا سبعة أقوال للعلماء (¬2): أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها، وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، قاله الفرّاء، واختاره الزمخشري. وثانيها: علا، وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره ابن جرير. ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

وثالثها: أن يكون {إِلَى} بمعنى على؛ أي: استوى على السماء؛ أي: تفرّد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر: فلمّا علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر ورابعها: معناه: تحوّل أمره إلى السماء، واستقرّ فيها، قاله الحسن البصري. وخامسها: معناه: استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول هذا المعنى إلى القول الأول. وسادسها: معناه: كمّل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه. وسابعها: أنّ الضمير في {اسْتَوى} عائد على الدخان، وهذا بعيد جدّا، يبعده قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسّره سياق الكلام. وهذه التأويلات كلّها فرار عما تقرّر في العقول، من أنّ الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث، أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش إن شاء الله تعالى، ذكره في «البحر». والقول الأرجح الأسلم: أن يقال في تفسير الاستواء هنا: ثمّ استوى سبحانه وتعالى إلى السماء، وارتفع، وعلا استواء يليق به، نثبته ولا نعطله، نعتقده ولا نكيّفه، ولا نمثّله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. الإعراب {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. {يا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء للمتوسط، ولم يقع النداء في القرآن بغيرها من

أدوات النداء، مبني على السكون. {أي} منادى نكرة مقصودة في محل النصب على المفعولية، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا. {ها} حرف تنبيه زائد تعويضا عمّا فات. أيّ من الإضافة مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين. {النَّاسُ} بدل من أيّ، أو عطف بيان له، أو صفة له تبعه في لفظه، مرفوع بضمّة ظاهرة، وجملة النداء مستأنفة استئنافا نحويا. {اعْبُدُوا} فعل أمر، مبني على حذف النون؛ لأنّه أمر من الأفعال الخمسة، والواو في محل الرفع فاعل، والألف تكتب؛ للفرق بين واو الضمير وواو جزء الكلمة في غير الرسم العثماني؛ وفرقا بين المتطرّفة والمتوسّطة في الرسم العثماني. {رَبَّكُمُ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعليّة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب، صفة لربكم. {خَلَقَكُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب، معطوف على الكاف من {خَلَقَكُمْ}، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ أي: وخلق الذين من قبلكم. {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف صلة الموصول، تقديره: والذين مضوا من قبلكم. {لَعَلَّكُمْ} لعلّ حرف نصب وترج، أو حرف نصب وتعليل بمعنى: كي، مبنيّ على الفتح، والكاف ضمير المخاطبين في محل النصب اسمها. {تَتَّقُونَ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لعلّ، تقديره: لعلكم متقون، ومفعول التقوى محذوف، تقديره: لعلّكم تتقونه، وجملة لعلّ من اسمها وخبرها لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ موقعها مما قبلها موقع الجزاء من الشرط؛ لأنّه في تقدير: إن عبدتم ربّكم ترجى لكم التقوى. أو في محلّ النصب حال من فاعل {اعْبُدُوا}، تقديره: يا أيها الناس اعبدوا ربّكم حالة كونكم راجين نيل التقوى. أو في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلّقة باعبدوا تقديره: يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم لوقاية أنفسكم من عذاب الله تعالى. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً}.

{الَّذِي} اسم موصول في محل النصب، بدل من ربكم، أو صفة ثانية له، أو منصوب بفعل محذوف، تقديره: أمدح، أو مرفوع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الذي جعل لكم الأرض. {جَعَلَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول {لَكُمُ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من فراشا؛ لأنّه صفة نكرة تقدمت عليها الْأَرْضَ مفعول أوّل لجعل، إن كان من الجعل بمعنى التصيير. {فِراشًا} مفعول ثان له، وإن كان من الجعل بمعنى الخلق، ففراشا حال مؤوّلة من الأرض؛ أي: مفروشة. وجملة {جَعَلَ} صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {وَالسَّماءَ} معطوف على الأرض على كونه مفعولا أوّل لجعل {بِناءً} مفعول ثان لجعل، أو حال من السماء. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {وَأَنْزَلَ} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على جعل {مِنَ السَّماءِ} جار ومجرور متعلّق بأنزل {ماءً} مفعول به لأنزل {فَأَخْرَجَ} الفاء عاطفة سببية {أخرج} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على أنزل. {بِهِ} متعلّق بأخرج {مِنَ الثَّمَراتِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من رزقا؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. {رِزْقًا} مفعول به لأخرج {لَكُمُ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف صفة ثانية لرزقا {فَلا تَجْعَلُوا} الفاء عاطفة تفريعية، أو فصيحية؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنّه خالق السموات والأرض وخالق ما فيهما لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: لا تجعلوا. {لا} ناهية جازمة {تَجْعَلُوا} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف، مفعول ثان لجعل، مقدم على الأول وجوبا؛ لأنّ المفعول الأول نكرة ولم يوجد له مسوّغ إلا تقديم الجار والمجرور، ومعنى تجعلوا: لا تصيّروا، أو لا تسمّوا {أَنْدادًا} مفعول أول لتجعلوا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة اعبدوا ربكم، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.

{وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تَعْلَمُونَ} خبره، ومفعول العلم محذوف، تقديره: وأنتم عالمون بطلان ذلك، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل تجعلوا. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. {وَإِنْ} الواو استئنافية {إِنْ} حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه وحدّ الفعل: كن (كن) فعل ماض في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع اسمها، مبني على الضمّ، والميم: حرف دالّ على الجمع. {فِي رَيْبٍ} جار ومجرور، متعلّق بمحذوف خبر كان، تقديره: وإن كنتم كائنين في ريب. فائدة: ولا تدخل {إِنْ} الشرطية على فعل ماض في المعنى، إلّا على كان؛ لكثرة استعمالها؛ ولأنّها لا تدلّ على حدث، ذكره أبو البقاء العكبري. {مِمَّا} من حرف جرّ، مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما}، و {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، في محل الجرّ بمن، الجار والمجرور متعلّق بمحذوف صفة لريب، تقديره: في ريب كائن من الذي نزلناه، أو كائن في شيء نزلناه على عبدنا. {نَزَّلْنا} فعل وفاعل، صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: من الذي نزلناه، أو من شيء نزلناه. {عَلى عَبْدِنا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلّق بنزّلنا. {فَأْتُوا} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبا: لكون الجواب جملة طلبية {أتوا} فعل أمر، مبني على حذف النون؛ لأنّه أمر من الأفعال الخمسة، والواو ضمير لجماعة المخاطبين، في محل الرفع فاعل، والألف تكتب للفرق، والجملة الفعليّة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة مسوقة؛ للردّ على من ارتابوا في القرآن تعنّتا ولجاجا. {بِسُورَةٍ} جار ومجرور، متعلّق بأتوا، {مِنْ مِثْلِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف صفة (لسورة) إن قلنا: إنّ الضمير عائد على القرآن، والمعنى على هذا يتناول عدة أمور:

1 - فأتوا بسورة كائنة من مثل القرآن في حسن النظم، وبديع الوصف، وروعة الأسلوب وإيجازه. 2 - فأتوا بسورة من مثله في غيبوبة أخباره، وأحاديثه عن الماضين، وتحدّثه عما سيكون. 3 - فأتوا بسورة من مثله فيما انطوى عليه من أمر ونهي، ووعد وعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأمثال. 4 - فأتوا بسورة من مثله في صدقه وصيانته من التحريف والتبديل. الجار والمجرور متعلّق بأتوا إن قلنا: إنّ الضمير عائد على {عَبْدِنا}، وفي معناه أيضا عدّة أمور: (أ) فأتوا من مثل الرسول في كونه أمّيّا على الفطرة الأصلية، لا يقرأ ولا يكتب. (ب) فأتوا من مثل الرسول في كونه لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يتعاط أخبار الأولين، ولم يؤثر ذلك عنه بحال من الأحوال. (ج) فأتوا من مثل الرسول؛ أي: من كلّ رجل، كما تحسبونه في زعمكم شاعر أو مجنون. وكلا المعنيين واضح صحيح. {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}. {وَادْعُوا} فعل وفاعل، معطوف على (أتوا) {شُهَداءَكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف حال من شهدائكم، تقديره: حال كونهم منفردين عن الله، أو مغايرين لله، أو متعلّق بادعوا؛ أي: وادعوا من دون الله شهداءكم. {إِنْ} حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع اسمها {صادِقِينَ} خبرها، منصوب بالياء، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: فافعلوا ذلك، كذا قال السيوطي قال

المحليّ في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا ...} الآية، إذا اجتمع شرطان وتوسّط بينهما جواب، فالجواب للأخير، والأول قيد فيه، ولا يحتاج لجواب ثان، والتقدير في الآية: إن كنتم صادقين في دعواكم أنّه من عند محمد، ودمتم على الريب فأتوا بسورة من مثله، وهو أولى لعدم التقدير. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ}. {فَإِنْ} (الفاء) استئنافية أو فصيحية؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم فأقول: إن لم تفعلوا. {إن} حرف شرط جازم {لَمْ} حرف جزم وقلب ونفي {تَفْعَلُوا} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها. {وَلَنْ} الواو اعتراضية {لَنْ} حرف نفي ونصب واستقبال {تَفْعَلُوا} فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الشرط وجوابه، قصد بها تأكيد العجز. {فَاتَّقُوا} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبا، {اتقوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محلّ الجزم بإن الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {النَّارَ} مفعول به منصوب {الَّتِي} اسم موصول في محل النصب، صفة للنار {وَقُودُهَا} مبتدأ ومضاف إليه {النَّاسُ} خبر المبتدأ {وَالْحِجارَةُ} معطوف على الناس، والجملة الإسمية صلة الموصول {أُعِدَّتْ} فعل ماض مغيّر الصيغة، والتاء علامة تأنيث نائب الفاعل، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على النار {لِلْكافِرِينَ} جار ومجرور متعلّق بأعدّت، والجملة الفعلية في محل النصب حال لازمة من النار، تقديرها: حالة كونها معدّة مهيّئة للكافرين، أو مستأنفة، كما قاله أبو حيان، وابن عطية. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.

{وَبَشِّرِ} (الواو) استئنافية أو عاطفة {بَشِّرِ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على كلّ من يصلح للتبشير. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه. والجملة الفعليّة مستأنفة أو معطوفة على معنى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الآية؛ لأنّه في معنى: وأنذر الذين كفروا بالنار التي وقودها الناس {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل، {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ}. {أَنَّ} حرف نصب وتوكيد ومصدر {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم؛ لأنّ جَنَّاتٍ اسمها مؤخّر منصوب بالكسرة؛ لأنّه جمع مؤنّث سالم، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض المتعلّق ببشّر، تقديره: وبشّر الذين آمنوا بكون جنات تجري من تحتها الأنهار لهم؛ لأنّ حذف الجار مع أنّ وأن مطرد، كما قال في «الخلاصة»: نقلا وفي أنّ وأن يطّرد ... مع أمن لبس كعجبت أن يدوا {تَجْرِي} فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بتجري {الْأَنْهارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لجنات، ولكنّها سببيّة، والرابط الضمير في تحتها. {كُلَّما} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، والظرف متعلّق بالجواب الآتي. {رُزِقُوا} فعل ماض مغيّر الصيغة، والواو في محل الرفع نائب فاعل. {مِنْها} جار ومجرور متعلق برزقوا، والجملة الفعلية فعل شرط لكلّما لا محل لها من الإعراب {مِنْ ثَمَرَةٍ} جار ومجرور، بدل من الجار والمجرور قبله بدل اشتمال بإعادة العامل، وإنّما قلنا بدل اشتمال؛ لأنّه لا يتعلّق

حرفان بمعنى واحد بعامل واحد، إلّا على سبيل البدلية، أو العطف، والمعنى: كلّ وقت رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، ذكره في «الفتوحات». {رِزْقًا} مفعول ثان لرزقوا؛ أي: مرزوقا، والأوّل واو الضمير القائمة مقام الفاعل {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب كلّما لا محل لها من الإعراب، وجملة كلما من فعل شرطها وجوابها في محل النصب صفة ثانية لجنات، قاله في «الفتوحات»، أو حال من جنات، أو من الذين آمنوا، تقديره: مرزوقين على الدوام، كما قاله أبو البقاء، والرابط على الوجهين الأولين الضمير في {مِنْها}، وعلى الثالث الواو في {رُزِقُوا}. هذَا مبتدأ {الَّذِي} خبره، ولكن على تقدير مضاف، كما مرّت الإشارة إليه في مبحث التفسير؛ أي: مثل الذي رزقنا من قبل. والجملة الإسمية في محل النصب مقول لقالوا {رُزِقْنا} فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: رزقناه {مِنْ قَبْلُ} من حرف جرّ {قَبْلُ} في محل الجر بمن، مبني على الضمّ، لقطعه عن المضاف إليه مع نية معناه، والجار والمجرور متعلّق برزقنا {وَأُتُوا} الواو حالية أو اعتراضية أُتُوا فعل ماض مغير الصيغة، والواو نائب فاعل {بِهِ} متعلّق بأتوا؛ أي: بالثمرة المرزوقة لهم من الجنة، والجملة الفعلية معترضة مقرّرة لمعنى ما قبلها، أو حال من الواو في {قالُوا}، ولكن مع تقدير قد، تقديره: قالوا ذلك وقد أتوا به. {مُتَشابِهًا} حال من ضمير {بِهِ}، {وَلَهُمْ} الواو عاطفة أو استئنافية {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {فِيها} جار ومجرور متعلّق بالاستقرار المعلوم من الخبر {أَزْواجٌ} مبتدأ مؤخّر {مُطَهَّرَةٌ} صفة لأزواج، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة تجري، على كونها صفة ثالثة لجنات، أو مستأنفة. {وَهُمْ} الواو عاطفة، أو استئنافية، أو حالية {هُمْ} ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ {فِيها} متعلّق بـ {خالِدُونَ}، وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة {تَجْرِي}، على كونها صفة رابعة لجنات، أو مستأنفة، أو حال من الضمير في {لَهُمْ}، والعامل فيها معنى الاستقرار. {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}. {إِنَّ} حرف نصب {اللَّهَ} اسمها منصوب {لا} نافية {يَسْتَحْيِي} فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {أن} حرف نصب ومصدر {يَضْرِبَ} فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {يَضْرِبَ} مع {إِنَّ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، إن كان {يَسْتَحْيِي} يتعدّى بنفسه؛ أي: إنّ الله لا يستحيي ضرب مثل، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: من ضرب مثل، إن كان غير متعدّ بنفسه و {يَضْرِبَ} إما بمعنى: يبيّن متعدّ لواحد {مَثَلًا} مفعول به {ما} اسم مبهم بمعنى: أيّ مثل في محل النصب صفة لمثلا، أو زائدة زيدت؛ لتأكيد الخسّة، {بَعُوضَةً} بدل من مثلا، بدل كلّ من كلّ {فَما فَوْقَها} الفاء عاطفة {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب، معطوفة على {بَعُوضَةً}، {فوق} منصوب على الظرفية المكانية، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه، والظرف متعلّق بمحذوف صلة لما، أو صفة لها، تقديره: فالذي استقرّ فوقها، أو فشيئا مستقرّا فوقها، وإما بمعنى: يجعل فمتعدّ لاثنين. {مَثَلًا} مفعول أول، و {ما} زائدة بَعُوضَةً مفعول ثان، فَما فَوْقَها معطوف عليه، ويحتمل كون بَعُوضَةً مفعولا أوّل مؤخرا، ومَثَلًا مفعولا ثانيا مقدّما للاهتمام به. وقرىء بَعُوضَةً بالرفع شاذا، كما مرّ، على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو بعوضة، والجملة الإسمية في محل النصب صفة لـ {مَثَلًا}، و {ما} زائدة، تقديرها: مثلا موصوفا بكونه بعوضة فما فوقها. {فَأَمَّا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّ الله لا يستحيي من ضرب المثل، وأردت بيان فائدة ذلك المثل فأقول لك: أمّا. {أما} حرف شرط وتفصيل {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {آمَنُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول {فَيَعْلَمُونَ} الفاء رابطة لجواب {أما}، واقعة في غير موضعها للثقل، لأنّ موضعها موضع {أما}. {يعلمون} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: فأمّا الذين آمنوا فعالمون أنّه الحقّ، والجملة الاسمية جواب {أَمَّا} لا محلّ لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} في محل النصب مقول

لجواب إذا المقدرة، وجملة (إذا المقدرة) مستأنفة استئنافا بيانيا لا محلّ لها من الإعراب. {أَنَّهُ}. ناصب واسمه {الْحَقُّ} خبره {مِنْ رَبِّهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بمحذوف حال من الحقّ، تقديره: حال كون ذلك الحقّ كائنا من ربّهم، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي علم، تقديره: (فيعلمون كونه الحقّ من ربّهم). {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ}. {وَأَمَّا} الواو عاطفة {أَمَّا} حرف شرط وتفصيل {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {فَيَقُولُونَ} الفاء رابطة لجواب {أما}، وجملة {يقولون} خبر المبتدأ، تقديره: (وأمّا الذين كفروا فقائلون ماذا أراد الله بهذا مثلا). والجملة الإسمية جواب {أَمَّا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} في محل النصب معطوفة على جملة أمّا الأولى {ماذا} ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ذا اسم موصول بمعنى: الذي، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ليقولون {أَرادَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لذا الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما الذي أراده الله، وإن شئت قلت: {ماذا} اسم استفهام مركب في محلّ النصب مفعول به مقدم وجوبا لأراد الله، وجملة {أَرادَ اللَّهُ} في محلّ النصب مقول ليقولون؛ أي: يقولون: أيّ شيء أراد الله بهذا مثلا. {بِهذا} جار ومجرور، متعلّق بأراد {مَثَلًا} تمييز ذات لاسم الإشارة، منصوب به، {يُضِلُّ} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، {بِهِ} متعلّق بيضلّ، {كَثِيرًا} مفعول به، منصوب، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا، جارية مجرى التفسير، والبيان للجملتين المصدّرتين بأمّا، وهي على هذا من كلام الله تعالى. وقيل: في محل النصب صفة لمثلا، تقديره: مثلا يفترق به الناس إلى ضالّين ومهتدين، وهي على هذا من كلام الكفار، وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من اسم الله؛ أي: مضلّا به كثيرا وهاديا به كثيرا. {وَيَهْدِي} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على يضلّ

في إعرابه السابق {بِهِ} متعلّق بيهدي {كَثِيرًا} مفعول به ليهدي، {وَما} الواو استئنافية {ما} نافية. {يُضِلُّ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ، {الْفاسِقِينَ} مفعول به ليضلّ، منصوب بالياء، وجوّز الفراء أن يكون منصوبا على الاستثناء، والمستثنى منه محذوف، تقديره: وما يضلّ به أحدا إلّا الفاسقين. اه. «سمين». {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محلّ نصب صفة للفاسقين {يَنْقُضُونَ} فعل وفاعل {عَهْدَ اللَّهِ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور، متعلّق بينقضون {مِيثاقِهِ} مضاف إليه، والضمير إما عائد على الله، أو على العهد، كما مرّ. {وَيَقْطَعُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {يَنْقُضُونَ}. {ما} اسم موصول في محلّ النصب مفعول به. {أَمَرَ اللَّهُ} فعل وفاعل {بِهِ} متعلّق بأمر، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة. {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يُوصَلَ} فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بأن، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على {ما}، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور على أنّه بدل من ضمير {بِهِ} بدل كلّ من كلّ؛ أي: ويقطعون ما أمر الله بوصله، أو مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: كراهية وصله، أو لئلّا يوصل. {وَيُفْسِدُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {وَيَقْطَعُونَ}، {فِي الْأَرْضِ} متعلّق بيفسدون {أُولئِكَ} اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل، أو حرف عماد لا محل له من الإعراب {الْخاسِرُونَ} خبر المبتدأ، ولك أن تعرب {هُمُ} مبتدأ. و {الْخاسِرُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محلّ الرفع خبر {أُولئِكَ} وجملة {أُولئِكَ} مستأنفة. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب على الحال من

فاعل تكفرون و {تَكْفُرُونَ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون {بِاللَّهِ} متعلّق بتكفرون، والجملة مستأنفة، والتقدير: أتكفرون بالله حالة كونكم معاندين لوحدانية الله تعالى. ويجوز أن تكون {كَيْفَ} منصوبة على كونها مفعولا مقدّما لتكفرون {وَكُنْتُمْ} الواو حالية {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه {أَمْواتًا} خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَكْفُرُونَ} ولكنها بتقدير: قد. {فَأَحْياكُمْ} الفاء حرف عطف وتعقيب وترتيب {أحياكم} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {يُمِيتُكُمْ} فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَحْياكُمْ}. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على جملة قوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}. {ثُمَّ} حرف عطف {إِلَيْهِ} متعلّق بترجعون {تُرْجَعُونَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {خَلَقَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {لَكُمْ} متعلّق بخلق، والجملة صلة الموصول {ما} اسم موصول في محلّ النصب مفعول خلق {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف صلة لما الموصولة، {جَمِيعًا} حال من المفعول الذي هو ما الموصولة، ولكنه في تأويل مشتقّ، تقديره: مجتمعين. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {اسْتَوى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {إِلَى السَّماءِ} متعلّق باستوى، والجملة معطوفة على جملة خلق، وعطف بثمّ؛ إشعارا بأنّ خلق السماء متأخر عن خلق الأرض بأعمال أخر، كجعل الجبال رواسي، وتقدير الأقوات فيها. {فَسَوَّاهُنَّ} الفاء حرف عطف وتعقيب (سوّى) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء ضمير لجماعة الإناث الغائبات في محل النصب مفعول به

أوّل، والنون المشدّدة علامة جمع الإناث. {سَبْعَ سَماواتٍ} مفعول ثان ومضاف إليه؛ لأنّ سوى بمعنى صيّر، يتعدّى إلى مفعولين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة اسْتَوى. {وَهُوَ} مبتدأ {بِكُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بعليم و {عَلِيمٌ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها، كأنّه قال: ولكونه عالما بكنه الأشياء كلّها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، كما ذكره البيضاوي. قال أبو البقاء: ويقرأ وهو بإسكان الهاء، وأصلها الضمّ، وإنّما أسكنت هنا؛ لأنّها صارت كعضد، فخفّفت، وكذلك حالها مع الفاء واللام، نحو: فهو لهو، ويقرأ بالضمّ على الأصل كما مر. التصريف ومفردات اللغة {يا أَيُّهَا النَّاسُ} والناس أصله: أناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، وعوّض عنها (أل)، فلا يجمع بينهما. اه. شيخنا. {اعْبُدُوا} والعبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود. {رَبَّكُمُ} والربّ: هو الذي يسوس من يربيه، ويدبر شؤونه. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وفي «السمين» ما نصه: وإذا ورد (لعلّ) في كلام الله تعالى فللناس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ لعلّ على بابها من الترجي والإطماع، ولكنه بالنسبة إلى المخاطبين؛ أي: لعلكم تتقون على رجائكم وطمعكم. وقد نصّ على هذا التأويل سيبويه في «كتابه» في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}؛ أي: اذهبا على رجائكما، وكذا نصّ عليه الزمخشري في «كشافه». والثاني: أنّها للتعليل؛ أي: اعبدوا ربّكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب، واختاره الطبري في «تفسيره الكبير». والثالث: أنّها للتعريض للشيء، كأنّه قيل افعلوا ذلك متعرّضين لأن تتقوا، نصّ عليه أبو البقاء، واختاره المهدوي في «تفسيره» الممتع. وهذه الجملة على كلّ قول متعلّقة من جهة المعنى باعبدوا؛ أي: اعبدوه على رجائكم التقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى.

{تَتَّقُونَ} أصله توتقيون على وزن تفتعلون، أبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء، ثمّ أدغمت في تاء الافتعال، واستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت الياء، فالتقت مع واو الجماعة الساكنة، فحذفت الياء، ثمّ صحّحت حركة القاف، فجعلت ضمّة؛ لتناسب الواو، فصار تتقون بوزن تفعلون. {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} والفراش: واحد الفرش، وفرش الشيء يفرشه بالضمّ فراشا إذا بسطه. {وَالسَّماءَ بِناءً} أصله: بناي بدليل قوله: بنيت بنيانا، فلما تطرّفت الياء بعد ألف زائدة قلبت همزة، وهذا مطّرد في كلّ واو أو ياء تطرّفتا بعد ألف زائدة. وفي «السمين»: والبناء مصدر بنيت، وإنّما قلبت الياء همزة؛ لتطرّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول. اه. وأصل معنى البناء: وضع شيء على شيء آخر، بحيث يتكوّن من ذلك شيء بصورة خاصة، كوضع حجر على حجر ليتكوّن البيت. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} فيه إعلال بالقلب والإبدال. أصله: موه، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فصار ماه، فاجتمع حرفان ضعيفان: الألف والهاء، فأبدلت الهاء حرفا قويا وهو الهمزة؛ ليتقوى بها الضعيف، ودليل ذلك: أنه يصغر على مويه، أما جمعه على مياه، فلإبدال الواو ياء لانكسار ما قبلها، كما فعلوا في ديار إذ الأصل مواه ودوار، وقد جمع على الأصل فقيل: أمواه {أَنْدادًا} جمع ند بكسر النون وهو المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المساوي قال جرير: أتيم تجعلون إليّ ندّا ... وهل تيم لذي حسب نديد وقال أبو البقاء أنداد جمع ندّ ونديد، وفي جعله جمع نديد نظر؛ لأنّ أفعالا إنما يحفظ في فعيل، بمعنى فاعل، نحو: شريف وأشراف، ولا يقاس عليه والندّ المقاوم المضاهي، سواء كان مثلا، أو ضدا، أو خلافا. وقيل: هو الضد، وقيل الكفء والمثل. اه. بمعنى يقال فلان ند فلان: إذا كان مماثلا له في بعض الشؤون {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أصل كان: كون بوزن فعل واوي العين نظير قال، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار كان، ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك فسكن آخره وهو النون، فالتقى ساكنان الألف وآخر

الفعل، فحذفت الألف فصار اللفظ كنتم بفتح الكاف، فاحتيج إلى معرفة عين الفعل التي حذفت، هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة فاء الفعل وعوض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة، وهي الضمة؛ لأنها تناسب الواو، فقيل: كنتم بوزن فلتم، وهكذا كل فعل من هذا النوع. {فَأْتُوا} أصله: ائتيوا أمر من أتى الثلاثي يائيّ اللام اتصل به واو الجماعة، فوزنه الأصلي افعلوا، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لمّا سكّنت؛ لالتقاء الساكنين على حد قول ابن مالك في «الكافية»: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق ... وإن يكن لينا فحذفه استحق ثم قلبت كسرة التاء ضمة، لتناسب الواو، ثم حذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بدخول الفاء؛ لأن الغرض منها التوصل إلى النطق بالساكن، وقد توصل إليه بالفاء فوزنه الآن إفعوا. {بِسُورَةٍ} السورة: الطائفة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، ومن معانيها: المرتبة الرفيعة، قال النابغة الذبياني: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب وفي «البيضاوي» والسورة: الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة؛ لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السورة التي هي الرتبة؛ لأن السورة كالمنازل والمراتب، يترقى فيها القارىء، أو لها مراتب في الطول والقصر، والفضل والشرف، وثواب القراءة، وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السؤر. التي هي البقية والقطعة من الشيء. والحكمة في تقطيع القرآن سورا: إفراد الأنواع، وتلاحق الأشكال، وتناسب النظم، وتنشيط القارىء، وتسهيل الحفظ والترغيب فيه، فإنه إذا ختم سورة نفّس ذلك عنه بعض كربة، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا، أو طوى بريدا، والحافظ متى حفظها، اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما، وفاز بطائفة محدودة مستقلة، فعظم ذلك عنه، وابتهج به إلى غير ذلك من

الفوائد. {وَادْعُوا} أمر جماعة من دعا يدعو ناقص واويّ، فلما أسند الفعل إلى واو الجماعة التقى ساكنان، فأصله هنا: ادعووا بواوين، الأولى مضمومة وهي لام الكلمة، والثانية ساكنة وهي واو الجماعة، فاستثقلت الضمة على الواو الأولى، وحذفت الضمة فاجتمع ساكنان، فحذفت الواو الأولى التي هي لام الكلمة؛ لالتقاء الساكنين، وبقيت واو الجماعة؛ لأنها جىء بها لغرض، فلام الكلمة أولى بالحذف؛ لأنها جزء كلمة، وواو الجماعة كلمة مستقلة، فحذف جزء الكلمة أولى من حذف كلمة مستقلة؛ لما فيه من إجحاف الكلمة، فوزنه إفعوا. {شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} والشهداء: جمع شهيد، كشرفاء جمع شريف، وعليم وعلماء، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد، كشاعر وشعراء، وليس فعلاء مقيسا لباب فاعل، كما في «البحر» والشهيد الحاضر، أو الناصر، أو القائم بالشهادة، أو الإمام، وكأنه سمّي به؛ لأنه يحضر المجالس، وتبرم بمحضره الأمور ومعنى {دُونِ} أدنى مكان من الشيء، ومنه: تدوين الكتب؛ لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا؛ أي: خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للتفاوت في الرتب، فقيل: زيد دون عمرو؛ أي: في الشرف، ومنه: الشيء الدّون، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد، وتخطى أمر إلى أمر قال الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، وهي من الظروف المكانية الملازمة الحقيقية، أو المجازية، ولا يتصرف فيه بغير من، وتجىء دون صفة بمعنى: ردىء، يقال: ثوب دون؛ أي: ردىء. حكاه سيبويه في أحد قوليه. فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون مشتركا {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} والصدق يقابله الكذب وهو: مطابقة الخبر للمخبر عنه. {فَاتَّقُوا} أصله: اتقيوا، استثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضم ما قبلها؛ لمناسبة الواو {وَقُودُهَا} بفتح الواو وهو: ما توقد به النار من حطب، أو غيره. وأما بضمها فهو: مصدر وقد، وكذا يقال فيما جاء على هذا الوزن، كالوضوء والطّهور والسّحور، وهذه التفرقة على المشهور في أن المفتوح: اسم للآلة والمضموم مصدر، وبعضهم قال: كل من الضم والفتح يجري في الآلة

والمصدر، فما توقد به النار يقال له وقود بالفتح والضم، وإيقادها كذلك، ومثله نظائره ونحوه. اه. بمعنى. {وَالْحِجارَةُ} جمع الحجر، والتاء فيها لتأكيد تأنيث الجمع، كالفحولة. {أُعِدَّتْ} أصله: أعددت، نقلت حركة الدال الأولى إلى العين، فسكّنت فأدغمت في الدال الثانية. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} أصل الكلمة: أتيوا بوزن فعلوا بالبناء للمجهول، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت الياء فحذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي أسند إليها الفعل، فوزنه الأصلي فعلوا، ووزنه الحاليّ فعوا؟ {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ} جمع زوج، والزوج: ما يكون معه آخر، فيقال: زوج للرجل والمرأة، وأمّا زوجة بالتاء فقليل. ونقل الفراء أنها لغة تميم، والزوج أيضا: الصنف والتثنية زوجان. {مُطَهَّرَةٌ} والطهارة النظافة، والفعل منها: طهر بالفتح من باب قتل، ويقل الضم من باب قرب، واسم الفاعل: طاهر فهو مقيس على الفتح شاذ على الضم، كخاثر، وحامض من خثر اللبن، وحمض بضم العين. اه. «سمين». {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} والمراد بالخلود هنا: الدوام لما يشهد له من الآيات والأحاديث، وأصله: ثبات طويل المدة دام أو لم يدم، ولذا يوصف بالأبدية. اهـ. كرخي. {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} بياءين أولاهما عين الكلمة، والثانية لامها والحاء فاؤها، وفي «السمين»: واستفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد؛ أي: إنه موافق له، فإنه قد ورد حيي واستحيا بمعنى واحد، والمشهور استحيا يستحيي فهو مستحي ومستحي منه من غير حذف، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح، مثل: استقى يستقي، وقد قرىء به كما مر، واختلف في المحذوف، فقيل: عين الكلمة فوزنه يستفل، وقيل: لامها فوزنه يستفع، ثم نقلت حركة اللام على القول الأول، وحركة العين على القول الثاني إلى الفاء وهي الحاء. والحياء لغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، أو يذم عليه، واشتقاقه من الحياة؛ ومعناه على ما قاله الزمخشري: نقصت حياته واعتلت مجازا واستعماله هنا في حق الله

تعالى بمعنى: الترك، وجعله الزمخشري من باب المقابلة يعني: أن الكفار لما قالوا أما يستحي ربّ محمد أن يضرب المثل بالمحقرات، قوبل قولهم ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} والضرب: إمساس جسم بجسم بعنف، ويكنى به عن السفر في الأرض، ويكون بمعنى الصنع والاعتمال {فَيَقُولُونَ} أصله: يقولون بوزن يفعلون بضم العين، فنقلت حركة حرف اللين إلى الساكن الصحيح قبله فسكنت الواو إثر ضمه، فصارت حرف مد {ماذا أَرادَ اللَّهُ} أصله: أرود بوزن أفعل أجوف واويّ؛ نقلت حركة عينه الواو إلى الراء، فتحركت الراء بالفتح وسكنت الواو لما سلبت حركتها، لكنها أبدلت ألفا؛ لتحركها أصالة وفتح ما قبلها الآن، فلفق لها موجب الإبدال، كما قلبت ياء في المضارع، فقالوا: يريد، وسقطت في المصدر؛ لاجتماعها مع ألف الإفعال على أن المحذوف هي لا ألف الإفعال، أما على مقتضى قول ابن مالك: وألف الإفعال واستفعال أزل. فلم تحذف في المصدر، والهاء عوض عن المحذوفة منهما {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} أصله: يضلل بوزن يفعل، فنقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أصله: يهدي بوزن يفعل، سكنت الياء؛ لوقوعها إثر كسرة، فصارت حرف مد {إِلَّا الْفاسِقِينَ}؛ أي: الخارجين عن طاعة الله تعالى، وفي «المصباح»: فسق فسوقا من باب قعد خرج عن الطاعة، والاسم: الفسق، وفسق يفسق بالكسر من باب جلس. لغة حكاها الأخفش، فهو فاسق، والجمع فساق وفسقة. اهـ. {مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} أصل ميثاق: موثاق من الموثق بوزن مفعال، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة. {هُمُ الْخاسِرُونَ} جمع. خاسر، والخاسر: من خسر أحد أمور ثلاثة المال، والبدن، والعقل، وهؤلاء من الثالث. اه. كرخي. وفي «القاموس»: خسر، كفرح وضرب، خسرا وخسرا، وخسرا، وخسرا وخسرانا، وخسارة، وخسارا: ضلّ، فهو خاسر، وخسير، وخسر التاجر إذا غبن في تجارته، والخسر: النقص، كالإخسار والخسران. اه.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} كيف: للسؤال عن الأحوال، والمراد هنا: الأحوال التي يقع عليها الكفر من العسر واليسر، والسفر والإقامة، والكبر والصغر، والعز والذل، وغير ذلك، والاستفهام هنا: للتوبيخ والإنكار، فكأنه قال: لا ينبغي أن توجد فيكم تلك الصفات التي يقع عليها الكفر، فلا ينبغي أن يصدر منكم الكفر في كل حال من تلك الأحوال {فَأَحْياكُمْ} أصله: أحيي بوزن أفعل، عينه ولامه حرفا علّة، تحركت الياء الأخيرة وفتح ما قبلها فقلبت ألفا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} مضارع أمات الرباعي وأصله: يموتكم بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أصله: يحييكم بوزن يفعل، استثقلت الضمة على الياء الأخيرة فحذفت، فلما سكنت إثر كسرة صارت حرف مد {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} أصله استوي بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا {فَسَوَّاهُنَّ} أصله: سوّي بوزن فعّل المضعف، قلبت ياؤه ألفا؛ لتحركها بعد فتح. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: ذكر عنوان الربوبية في قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} مع إضافته إلى المخاطبين؛ للتفخيم والتعظيم. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً} فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {عَلى عَبْدِنا}؛ لأنه أشرف أسمائه صلّى الله عليه وسلّم. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا} الخ. إلى التكلم في قوله: {مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} لما فيه من التفخيم للمنزّل والمنزل عليه، ما لا يؤدّيه ضمير غائب لو قال مما نزل على عبده، لا سيما كونه أتى بـ (نا) المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر، ونظيره {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا}.

ومنها: التعجيز في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}؛ لأن الأمر هنا، خرج مخرج التعجيز. ومنها: تنكير السورة؛ لإرادة العموم والشمول. ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}؛ لبيان التحدي في الماضي والمستقبل، وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان، ومن أمثلة الاعتراض، قول عوف بن محلّم الخزاعيّ: إنّ الثمانين قد بلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان فقوله وبلغتها: اعتراض بين اسم إن وخبرها، وفائدتها: الدعاء للمخاطب، بأن يمتد عمره إلى الثمانين، مع التنصل عن مسؤولية عدم السمع؛ بسبب كبر السن ووقر السمع. ومنها: إيجاز القصر في قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} والإيجاز: هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل، مع الإبانة والإفصاح؛ لأن المعنى: فإن عجزتم عن الإتيان بما ذكر في الحال، والمستقبل، والماضي، فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} والعلاقة المحلية، هذا إذا كان النهر مجرى الماء، كما قال بعض علماء اللغة، أما إذا كان بمعنى الماء في المجرى، فلا مجاز فيه. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ} وسمي بليغا؛ لأنّ أداة التشبيه فيه محذوفة، فساوى طرفا التشبيه في المرتبة. ومنها: وصف الأزواج بمطهرة في قوله: {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل: طاهرة أو متطهرة؛ للإشعار بأنّ لهن مطهّرا طهرهن، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. المعنى: إن الله لا يترك أن يبين مثلا، فعبّر بالحياء عن الترك؛ لأنّ الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه، كما أفاده الزمخشري.

ومنها: الإشارة بهذا في قوله: {ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} تحقيرا للمشار إليه واسترذالا له. ومنها: زيادة ما في قوله: {مَثَلًا ما بَعُوضَةً} لتأكيد خسة الممثّل به وهو البعوض، وغيره، والمراد بقولنا: زيادة ما؛ لتأكيد الخسة رفع ما يقال، إن القرآن مصون عن الحشو والزائد حشو. وعبارة ابن السبكي: ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة، خلافا للحشوية، ومحصل جوابه: أنّ زيادتها لفائدة، وهي التأكيد، فليست حشوا محضا. وعبارة البيضاوي: ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل مرادنا بالمزيد، هو الذي لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضع ليذكر مع غيره فيفيد الكلام وثاقة وقوّة، وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. انتهت. أفاده في «الفتوحات». ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النقض، على سبيل الاستعارة المكنية، لأنه إحدى حالتي الحبل، وهما النقض والإبرام. ومنها: الإلتفات من الغيبة في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الخ. إلى الخطاب في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} لغرض التوبيخ، والتقريع، والتعجيب. ومنها: الطباق بين قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} وقوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}، وبين {يَقْطَعُونَ} و {يُوصَلَ}. ومنها: تقديم الإضلال فيهما على الهداية، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب، أمرا فظيعا يسوؤهم ويفتت أكبادهم. ومنها: إيثار صيغة الاستقبال فيهما؛ إيذانا بالتجدد والاستمرار. اه. «أبو السعود». ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى، لما امتنّ على العباد بنعمة الخلق والإيجاد، وأنه سخرّ لهم ما في الأرض جميعا، أتبع ذلك بذكر بدء خلقهم، وامتنّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة في الأرض، وإسكانه دار الكرامة، وأمر الملائكة بالسجود له؛ تعظيما لشأنه، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء. فائدة: والحكمة في إخبار الله تعالى للملائكة، عن خلق آدم واستخلافه في الأرض؛ تعليم لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها. ¬

_ (¬1) العمدة.

وقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ...} الآية. ليس (¬1) اعتراضا على الله، ولا حسدا لبني آدم؛ وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك. يقولون: ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض؟ وإنما (¬2) علمت الملائكة أن بني آدم يفسدون في الأرض، بإعلام الله إياهم ذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا فيها، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلوهم، فقاست الملائكة بني آدم عليهم. وروى (¬3) الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء؛ وقتل بعضهم بعضا، قال: فبعث الله عليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فعلى هذا القول المعنى: إني جاعل في الأرض خليفة من الجن يخلفونهم فيها، فيسكنونها ويعمرونها. انتهى. ابن جرير. وفي «المراح» روى الضحاك عن ابن عباس: أنه تعالى إنما (¬4) قال هذا القول، للملائكة الذين كانوا في الأرض محاربين مع إبليس، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا، بعث الله إبليس مع جند من الملائكة، فقتلهم إبليس مع عسكره حتى أخرجوهم من الأرض، وألحقوهم بجزائر البحر، وهؤلاء خزّان الجنان، أنزلهم الله تعالى من السماء إلى الأرض؛ لطرد الجن إلى الجزائر والجبال، وسكنوا الأرض، فخفف الله عنهم العبادة، وكان إبليس يعبد الله، تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة، فدخله العجب، فقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه، فقال تعالى له ولجنده هذا الكلام. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآيات، مناسبتها لما قبلها: ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) شهيل. (¬3) ابن جرير. (¬4) المراح.

[30]

لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة، تخصيص آدم بالخلافة في الأرض، وبعلم ما لم تعلمه الملائكة، ذكر هنا نوعا من التكريم أكرمه الله تعالى به، وهو أمر الملائكة بالسجود له، وهو أعلى وجوه التكريم والتشريف لهذا لنوع الإنساني. قوله تعالى: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما شرف آدم برتبة العلم بإسجاد الملائكة له، امتّن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم وأباح له جميع ما فيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها إن شاء الله تعالى. ذكره في «البحر». التفسير وأوجه القراءة 30 - {وَإِذْ} مفعول اذكر مقدرا؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك وأخبرهم {إذ قالَ رَبُّكَ}؛ أي: قصة ذلك الوقت، وتوجيه (¬1) الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث، مع أنها المقصودة بالذات؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها؛ لما أن إيجاب ذكر الوقت، إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني؛ ولأن الوقت مشتمل عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها، كأنّها مشاهدة عيانا، واللام في قوله: {لِلْمَلائِكَةِ} للتبليغ وتقديم الجار والمجرور في هذا الباب مطرد؛ لما في المقول من الطول غالبا مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر، والملائكة (¬2): جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، وقيل: جمع ملأك بوزن مفعل، قاله أبو عبيدة من لأك إذا أرسل، والألوكة: الرسالة، قال لبيد: وغلام أرسلته أمّه ... بألوك فبذلنا ما سأل وقال عديّ بن زيد: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

أبلغ النّعمان عنّي مألكا ... أنّه قد طال حبسي وانتظار ويقال: ألكني؛ أي: أرسلني، وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة؛ لتأكيد تأنيث الجمع، ومثله: الصلادمة والصلادم: الخيل الشداد واحدها صلدم، وقيل: هي للمبالغة، كعلّامة، ونسابة وسموا (¬1) بها؛ لأنهم وسائط بين الله وبين الناس فهم رسله؛ لأنّ أصل ملك: ملأك مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة، كما مرّ آنفا، والملائكة عند أكثر المسلمين: أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. والدليل: أن الرسل كانوا يرونهم كذلك، وروي في بيان كثرتهم: أن بني آدم عشر الجن، وهما عشر حيوانات البر، والكل عشر الطيور، والكل عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، وهكذا إلى السماء السابعة، ثم كل أولئك في مقابلة الكرسي نزر قليل، ثم جميع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق، وعرضه، وسمكه، إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما، وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس، وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد، أو راكع، أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثمّ كلّ هؤلاء في مقابلة الذين يحومون حول العرش، كالقطرة في البحر، ثم ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام، لا يحصى أجناسهم، ولا مدة أعمارهم، ولا كيفيات عباداتهم إلا باريهم العليم الخبير، على ما قاله سبحانه وتعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} وأراد بهم هنا الملائكة الذين كانوا في الأرض، وذلك أن الله خلق السماء والأرض، وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة في السماء، وأسكن الجن في الأرض، والجن هم بنو الجان، والجان: أبو الجن، كآدم أبو البشر، وخلق الله الجان من لهب من نار، لا دخان لها بين السماء والأرض، والصواعق تنزل منها، ثم لما سكنوا فيها كثر نسلهم، وذلك قبل آدم بستين ألف سنة، فعمروا دهرا طويلا في ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأرض، مقدار سبعة آلاف سنة، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فأفسدوا وقتلوا، فبعث الله إليهم ملائكة سماء الدنيا، وأمّر عليهم إبليس، وكان اسمه عزازيل، وكان أكثرهم علما، فهبطوا إلى الأرض حتى هزموا الجن، وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور وشعوب الجبال، وسكنوا الأرض، وصار أمر العبادة عليهم أخف؛ لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السموات يكون خوفهم أشدّ، وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم، وأعطى الله إبليس ملك الأرض، وملك السماء الدنيا، وخزانة الجنة، وكان له جناحان من زمرد أخضر، وكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة، فدخله العجب، فقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه، وأيضا: كلّ من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحوّل عنها، فقال الله له ولجنوده {إِنِّي جاعِلٌ}؛ أي: خالق ومصيّر {فِي الْأَرْضِ} دون السماء؛ لأن التباغي والتظالم كان في الأرض {خَلِيفَةً} ورسولا يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها، وهو آدم عليه السلام، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أو قوما يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} أو خالق فيها بدلا منكم، وهو آدم عليه السلام؛ لأنه خلف الجن وجاء بعدهم؛ ولأنه خليفة الله في أرضه؛ أي: أريد أن أخلق في الأرض بدلا منكم، ورافعكم إليّ، فكرهوا ذلك؛ لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والمراد به: آدم عليه السلام. وقرأ الجمهور: {خَلِيفَةً} بالفاء وقرأ زيد بن علي، وأبو البر، هشيم عمران {خليقة} بالقاف، ومعناه واضح ذكره في «البحر». واعلم (¬1) أن الله تعالى، يحفظ العالم بالخليفة، كما يحفظ الخزائن بالختم، فالبدء كان آدم، والختام يكون بعيسى عليه السلام، والحكمة في الاستخلاف: قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، وتلقّي أمره بغير واسطة؛ لأن المفيض ¬

_ (¬1) روح البيان.

تعالى في غاية التنزّه والتقدّس، والمستفيض منغمس في العلائق الدنيئة، كالأكل والشرب، وغيرهما، والعوائق الطبيعية، كالأوصاف الذميمة، فالاستفاضة منه إنما تحصل بواسطة ذي جهتين؛ أي: ذي جهة التجرّد، وجهة التعلق، وهو الخليفة أيّا كان، ولذا لم يستنبىء الله سبحانه ملكا، فإن البشر لا يقدر على الاستفادة منه؛ لكونه خلاف جنسه، ألا ترى أن العظم لمّا عجز عن أخذ الغذاء من اللحم؛ لما بينهما من التباعد، جعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضروف، والأعصاب المناسب، ليأخذ من اللحم ويعطي العظم، وجعل السلطان الوزير بينه وبين رعيته، إذ هم أقرب إلى قبولهم منه، وجعل المستوقد الحطب اليابس بين النار وبين الحطب الرطب، وحكمة قوله تعالى: {لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أربعة أمور: الأول: تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة، ويقال: أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولى الألباب، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط، وأورع النساء لا تستغني عن الزوج. والثاني: إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وهو قوله: {أَتَجْعَلُ}. إلخ. وجوابه وهو قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}. والثالث: تعظيم شأن المجعول، بأن بشر بوجوده سكان ملكوته، ولقّبه بالخليفة قبل خلقه. والرابع: بيان أن الحكمة تقتضي ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير، لأجل الشر القليل، شرّ كثير، كقطع العضو الذي فيه أكلة شرّ قليل، وسلامة جميع البدن، خير كثير، فلو لم يقطع ذلك العضو، سرت تلك الآفة إلى جميع البدن، وأدّت إلى الهلاك الذي هو شرّ كثير. {قالُوا}؛ أي: قالت الملائكة استكشافا عما خفي عليهم من الحكمة، لا اعتراضا على الله تعالى، ولا طعنا في بني آدم على سبيل الغيبة، وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا قالت الملائكة حينئذ، فقيل: قالوا:

{أَتَجْعَلُ فِيها}؛ أي: أتجعل يا إلهنا في الأرض خليفة {مَنْ يُفْسِدُ فِيها} بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية، كما أفسدت الجن، وفائدة تكرار الظرف؛ تأكيد الاستبعاد {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} بمقتضى القوة الغضبية؛ أي: يصبّ الدماء ظلما، كما سفك بنو الجان، فغفلوا عن مقتضى القوة العقلية التي يحصل بها الكمال والفضل، والتعبير عن القتل بسفك الدماء؛ لما أنه أقبح أنواع القتل وقرأ الجمهور (¬1): {وَيَسْفِكُ} بكسر الفاء ورفع الكاف، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بضم الفاء، وقرىء {وَيَسْفِكُ} من أسفك الرباعي {ويَسْفِكُ} من سفّك المشدد، وقرأ ابن هرمز {وَيَسْفِكُ} بنصب الكاف، فمن رفع الكاف عطف على يفسدوا ومن نصب، فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج حسن. وفي قوله: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إيماء (¬2) إلى أن ملائكة الأرض هم الطاعنون، إذ الظن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب، وأهل السموات مدبّرات للعالم العلوي، فما قالت الملائكة الأرضية إلا بمقتضى نشأتهم التي هم عليها، من غبطة منصب الخلافة في الأرض، والغيرة على منصب ملكهم وتعبّدهم، بما هم عليه من التسبيح والتقديس، فكلّ إناء يترشّح بما فيه، وأما الاعتراض على فعل الحكيم، والنزاع في صنعه عند حضرته، فمعفو عنه؛ لكمال حكمته، وفي «الفتوحات»: إن هاروت وماروت من الملائكة الذين نازعوا آدم، ولأجل هذا ابتلاهما الله تعالى بإظهار الفساد، وسفك الدماء، فافهم سرّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «دع الشّماتة عن أخيك، فيعافيه الله تعالى، ويبتليك» وأيضا من تلك الملائكة الطاعنين بسفك الدماء: الملائكة التي أرسلها الله تعالى نصرة للمجاهدين، وسفك الدماء غيرة على دين الله وشرعه، كذا في «حل الرموز وكشف الكنوز». {وَنَحْنُ}؛ أي: والحال إنّا {نُسَبِّحُ}؛ أي: ننزهك عن كل ما لا يليق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

بشأنك ملتبسين {بِحَمْدِكَ} وثنائك على ما أنعمت به علينا، من فنون النعم التي من جملتها، توفيقنا لهذه العبادة، فالتسبيح؛ لإظهار صفات الجلال، والحمد؛ لتذكير صفات الإنعام {وَنُقَدِّسُ} تقديسا {لَكَ}؛ أي: نصفك بما يليق بك، من العلوّ والعزة، وننزهك عما لا يليق بك، فاللام للبيان، كما في سقيا لك، متعلقة بمصدر محذوف، ويجوز أن تكون مزيدة؛ أي: نقدسك. قال في «التّيسير» التسبيح: نفي ما لا يليق به، والتقديس: إثبات ما يليق به، وكأنّه قيل: أتستخلف من شأن ذريته الفساد، مع وجود من ليس من شأنه ذلك أصلا، والمقصود: عرض أحقيتهم منهم بالخلافة، والاستفسار عما رجح بني آدم عليهم مع ما هو متوقّع منهم من الفساد، وكأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل: {قالَ} الله سبحانه وتعالى جوابا لهم {إِنِّي أَعْلَمُ} من المصلحة في استخلاف آدم {ما لا تَعْلَمُونَ} ـه؛ لأنه قد يكون من ذريته الطائع والعاصي، فيظهر الفضل والعدل، وقد يكون منهم من يسبحني، ويقدسني، ويحمدني، فلا تعترضوا على حكمي وتقديري، ولا تستكشفوا عن غيبة تدبيري، فليس كلّ مخلوق يطلع على غيب الخالق، ولا كلّ أحد من الرعية يقف على سرّ الملك، وقالت الملائكة فيما بينهم: لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم؛ لسبقنا له، ورؤيتنا ما لم يره، فخلق الله آدم من أديم الأرض؛ أي: ترابها، وسواه ونفخ فيه من روحه، فصار حيوانا حساسا بعد أن كان جمادا {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} (¬1)؛ أي: خلق في قلبه علما بأسماء كل ما خلق، من أجناس المحدثات بجميع اللغات المختلفة التي يتكلّم بها أولاد آدم اليوم، بعد أن عرض عليه المسميات، كما عرضها على الملائكة، فعلم المسميات مشترك بينه وبينهم، واختصاصه عنهم إنما هو بالأسماء، فكان يعرف أن هذا الجرم يسمى بكذا، وهم يعرفون الجرم ولا يعرفون اسمه، ففاق عليهم بعلم الأسماء. والحاصل: أنه سبحانه وتعالى، لما أخبر (¬2) الملائكة عن وجه الحكمة في ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

خلق آدم وذريته على سبيل الإجمال، أراد أن يفصّل، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوما لهم، وذلك بأن علّمه الأسماء؛ ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم، فأكّد الجواب الإجمالي بالتفصيل، ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبل هذا؛ لأنه بها يتمّ المعنى ويصحّ هذا العطف، تقديرها: فجعل في الأرض خليفة، ولما كان لفظ الخليفة محذوفا مع الجملة المقدرة، أبرزه في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ} ناصّا عليه ومنوّها بذكره باسمه، وأبعد من زعم: أنّ وعلّم آدم معطوف على قوله قالَ من قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ} وهل التعليم بتكليم الله تعالى له في السماء، كما كلم موسى في الأرض، أو بواسطة ملك، أو بالإلهام (¬1) أقوال أظهرها: أن الباري سبحانه هو المعلم، لا بواسطة، ولا إلهام. وقرأ اليمانيّ، ويزيد اليزيديّ {وَعَلَّمَ آدَمَ} مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل؛ للعلم به. والتضعيف في علّم؛ للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدّي به إلى اثنين، وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازما، أم كان متعديا، نحو: علّم المتعدية إلى واحد، وأما إن كان متعديا إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاثة. فصل في قصة خلق آدم عليه السلام قال وهب بن منبه (¬2): لما أراد الله أن يخلق آدم، أوحى إلى الأرض؛ أي: أفهمها وألهمها أني جاعل منك خليفة، فمنهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار، فقالت الأرض: مني تخلق خلقا يكون للنار؟ قال: نعم، فبكت فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، وبعث إليها جبريل عليه السلام؛ ليأتيه بقبضة من زواياها الأربع، من أسودها، وأبيضها، وأحمرها، وأطيبها، وأخبثها، وسهلها، وصعبها، وجبلها، فلما أتاها جبريل ليقبض منها، قالت الأرض: بالله الذي أرسلك، لا تأخذ مني شيئا، فإن منافع التقرب إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

السلطان كثيرة، ولكن فيه خطر عظيم، فرجع جبريل عليه السلام إلى مكانه، ولم يأخذ منها شيئا، فقال: يا رب! حلفتني الأرض باسمك العظيم، فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل سبحانه ميكائيل عليه السلام، فلما انتهى إليها، قالت الأرض له، كما قالت لجبريل، فرجع ميكائيل، فقال كما قال جبريل، فأرسل الله سبحانه إسرافيل عليه السلام، وجاء ولم يأخذ منها شيئا، وقال مثل ما قال جبريل، وميكائيل، فأرسل الله تعالى، ملك الموت، فلما انتهى إليها، قالت الأرض: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك، أن تقبض مني اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غدا! فقال ملك الموت: وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا! فقبض قبضة من وجه الأرض، مقدار أربعين ذراعا من زواياها الأربع، فلذلك يأتي بنوه أخيافا؛ أي: مختلفين على حسب اختلاف ألوان الأرض وأوصافها، فمنهم الأبيض، والأسود، والأحمر، واللين، والغليظ، فصار كل ذرة من تلك القبضة أصل بدن للإنسان، فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه، ثم صعد إلى السماء، فقال الله سبحانه له: (أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك)، فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها، فقال: أنت تصلح لقبض أرواح ولده. قال في «روضة العلماء»: فشكت الأرض إلى الله تعالى، وقالت: يا رب نقص مني! قال الله تعالى: (عليّ أن أرد إليك أحسن وأطيب ممن كان) فمن ثمّة يحنط الميت بالمسك والغالية. انتهى. فأمر الله تعالى عزرائيل، فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف، بعد ما جعل نصف تلك القبضة في النار، ونصفها في الجنة، فتركها إلى ما شاء الله، ثم أخرجها، ثم أمطر عليها من سحاب الكرم، فجعلها طينا لازبا، وصور منه جسد آدم. واختلفوا في خلقة آدم عليه السلام، فقيل: خلق في سماء الدنيا، وقيل: في جنة من جنات الأرض بغربيتها، كالجنة التي يخرج منها النيل، وغيره من الأنهار، وأكثر المفسرين: أنه خلق في جنة عدن، ومنها أخرج، كما في «كشف الكنوز». وفي الحديث القدسي: (خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا) يعني أربعين يوما، كل يوم منه ألف عام من أعوام الدنيا، فتركه أربعين سنة حتى يبس وصار صلصالا، وهو الطين المصوت من غاية يبسه، كالفخار، فأمطر عليه مطر

الحزن تسعا وثلاثين سنة، ثم أمطر عليه مطر السرور سنة واحدة؛ فلذلك كثرت الهموم في بني آدم، ولكن يصير عاقبتها إلى الفرح، كما قيل: إن لكل بداية نهاية، وإنّ مع العسر يسرا. وكانت الملائكة يمرون عليه، ويتعجبون من حسن صورته، وطول قامته؛ لأن طوله كان خمس مئة ذراع، الله أعلم بأيّ ذراع، وكان رأسه يمسّ السماء، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك صورة تشابهها، فمرّ به إبليس فرآه، ثم قال: لأمر ما خلقت، ثم ضربه بيده فإذا هو أجوف، فدخل من فيه وخرج من دبره، وقال لأصحابه الذين معه من الملائكة: هذا خلق أجوف لا يثبت ولا يتماسك، ثم قال لهم: أرأيتم إن فضّل هذا عليكم ما أنتم فاعلون. قالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه: والله لا أطيعه إن فضّل عليّ، ولئن فضّلت عليه لأهلكنه، وجمع بزاقه في فمه وألقاه عليه، فوقع بزاق اللعين على موضع سرة آدم عليه السلام، فأمر الله جبريل، فقور بزاق اللعين من بطن آدم، فحفرة السرة من تقوير جبريل، وخلق الله من تلك القوارة كلبا، وللكلب ثلاث خصال، فأنسه بآدم؛ لكونه من طينه، وطول سهره في الليل؛ من أثر مس جبريل عليه السلام، وعضه الإنسان، وغيره، وأذاه من غير خيانة من أثر بزاق اللعين، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، وسمي بآدم؛ لكونه من أديم الأرض؛ لأنه مؤلّف من أنواع ترابها، ولمّا أراد الله سبحانه أن ينفخ فيه الروح، أمره أن يدخل فيه، فقال: الروح موضع بعيد القعر، مظلم المدخل، فقال له: ثانيا: أدخل، فقال كذلك، فقال له ثالثا: فقال كذلك، فقال: أدخل كرها؛ أي: بلا رضى، واخرج كرها، ولذا لا يخرج من البدن إلا كرها، فلما نفخه فيه مرّ في رأس آدم، وجبينه، وأذنيه، ولسانه، ثم مرّ في جسده كله حتى بلغ قدميه، فلم يجد منفذا، فرجع إلى فخذيه، فعطس، فقال له ربّه: قل الحمد لله رب العالمين، فقالها آدم، فقال سبحانه له: يرحمك الله، ولذا خلقتك يا آدم، فلما انتهى إلى ركبتيه أراد الوثوب فلم يقدر فلما بلغ قدميه وثب، فقال تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} فصار بشرا لحما ودما، وعظاما وعصبا، وأحشاء، ثم كساه لباسا من ظفر يزداد جسده في كل يوم، وهو في ذلك منتطق متوج، وجعل في جسده تسعة أبواب، سبعة في رأسه، أذنين يسمع بهما،

وعينين يبصر بهما، ومنخرين يجد بهما كل رائحة، وفما فيه لسان يتكلم به، وحنك يجد به طعم كل شيء، وبابين في جسده وهما قبله ودبره، يخرج منهما ثفل طعامه وشرابه، وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليتيه، وغضبه في كبده، وشجاعته في قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم، وينطق بلحم، ويعرف بدم، فلما سوّاه ونفخ فيه من روحه علّمه أسماء الأشياء كلها؛ أي: ألهمه، فوقع في قلبه فجرى على لسانه بما في قلبه بتسمية الأشياء من عنده، فعلمه جميع أسماء المسميات بكل اللّغات، بأن أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينية والدنيوية، وعلمه أسماء الملائكة، وأسماء ذريته كلهم، وأسماء الحيوانات والجمادات وصنعة كل شيء، وأسماء المدن والقرى، وأسماء الطير والشجر وما يكون، وكل نسمة يخلقها إلى يوم القيامة، وأسماء المطعومات والمشروبات، وكل نعيم في الجنة، وأسماء كل شيء حتى القصعه والقصيعة، وحتى الجنّة والمحلب - والقصعة إناء الأكل معروف، والقصيعة تصغيرها يعني: حتى الوضيع والحقير، والجنة الترس، والمحلب إناء يحلب فيه. وفي الخبر: لما خلق الله آدم، بثّ فيه أسرار الأحرف، ولم يبث في أحد من الملائكة، فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات، فجعلها الله صورا له ومثلت له بأنواع الأشكال. وفي الخبر: علّمه سبعمائة ألف لغة، فلما وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلا العربية، فلما اصطفاه بالنبوة رد الله عليه جميع اللغات، فكان من معجزاته، تكلمه بجميع اللغات المختلفة التي يتكلّم بها أولاده إلى يوم القيامة، من العربية، والفارسية، والرومية، والسريانية، واليونانية، والعبرانية، والزنجية، والآراميّة، وغيرها. قال بعض المفسرين: علم الله آدم ألف حرفة من المكاسب، ثم قال: قل لأولادك: إن أردتم الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف، ولا تطلبوها بالدين وأحكام الشرائع. وكان آدم حراثا؛ أي: زراعا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا، وصالح تاجرا، وداود زرّادا، وسليمان كان يعمل الزنبيل في سلطنته، ويأكل من ثمنه ولا

[31]

يأكل من بيت المال، وكان موسى، وشعيب، ومحمد رعاة، وكان أكثر عمله صلّى الله عليه وسلّم في البيت الخياطة، وفي الحديث: «عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل» كذا في «روضة الأخيار». 31 - وقال العلماء: الأسماء في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ} تقتضي الاستغراق واقتران قوله {كُلَّها} يوجب الشمول، فكما علمه أسماء المخلوقات علّمه أسماء الحق تعالى، فإذا كان تخصيصه بمعرفة أسماء المخلوقات يقتضي أن يصح سجود الملائكة له، فما الظنّ بتخصيصه بمعرفة أسماء الحق، وما الذي يوجب له؟! {ثُمَّ عَرَضَهُمْ}؛ أي: ثم عرض الله سبحانه وتعالى مسميات تلك الأسماء وأظهرها عَلَى الْمَلائِكَةِ وسألهم عن أسمائها تبكيتا لهم، وإظهارا لفضل آدم عليه السلام، وذكّر (¬1) الضمير في قوله: {عَرَضَهُمْ}؛ لأن في المسميات العقلاء فغلّبهم على غيرهم، والعرض: إظهار الشيء للغير ليعرف العارض منه حاله. وفي الخبر: أنه عرضهم أمثال الذر، ولعله سبحانه وتعالى، عرض عليهم من أفراد كل نوع، ما يصلح أن يكون أنموذجا يتعرف منه أحوال البقية وأحكامها. والحكمة في التعليم والعرض؛ تشريف آدم واصطفاؤه، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى، على لسان من يشاء من عباده، وهو المعلّم المكرّم آدم الصفيّ، كيلا يحتجّ الملك وغيره عليه بعلمه ومعرفته، وذلك رحمة الله التي وسعت كل شيء. وثمّ (¬2): حرف تراخ ومهلة؛ يعني: علّم آدم، ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال: أنبئهم بأسمائهم ليتقرّر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم؛ ثم أخبرهم عما تحقق به واستيقنه. وأما الملائكة، فقال لهم على وجه التعقيب من غير مهلة: نبئوني، فلما لم يتقدّم لهم تعريف، لم يخبروا، ولمّا تقدم لآدم التعليم، أجاب وأخبر ونطق؛ إظهارا لعنايته السابقة به سبحانه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وقرأ أبي (¬1): {ثمّ عرضها على الملائكة} وقرأ عبد الله {ثم عرضهنّ} والضمير عائد على الأسماء فتكون هي المعروضة، أو يكون التقدير مسمياتها، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء، كما مرّ. وقوله: {عَلَى الْمَلائِكَةِ} ظاهرة العموم، فقيل: هو المراد، وقيل: الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى علم (¬2) آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها، وخواصّها، وصفاتها، وأسمائها ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد، أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شيء. وإن كان لفظ علّم يشعر بالتدريج، كما يشهد له نظائره من نحو: {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} و {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم. لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ}؛ أي: ثم أطلع الملائكة على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام، أو غيره، مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها، كما مرّ. وتقدم لك أن الحكمة في التعليم والعرض؛ تشريف آدم واصطفاؤه، كي لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم؛ وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده. {فَقالَ} الله سبحانه وتعالى للملائكة تبكيتا وتعجيزا لهم، وخطاب (¬3) التعجيز جائز، وهو الأمر بإتيان الشيء، ولم يكن إتيانه مرادا ليظهر عجز المخاطب، وإن كان ذلك محالا، كالأمر بإحياء الصورة التي يفعلها المصورون يوم القيامة، ليظهر عجزهم ويحصل لهم الندم، ولا ينفعهم الندم. والفاء (¬4) في قوله: {فَقالَ} للتعقيب؛ أي: ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

تروّ أو فكر، وذلك أجدر بعدم الإجابة {أَنْبِئُونِي}، أي: أخبروني {بِأَسْماءِ هؤُلاءِ} المسميات فردا فردا، أو بأسماء هؤلاء الموجودات، كما في «الروح». وقرأ الأعمش (¬1): {نبّوني} بغير همز. وقد استدل بقوله: {أَنْبِئُونِي} على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو استدلال ضعيف؛ لأنه على سبيل التبكيت، ويدل عليه قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وظاهر قوله: {هؤُلاءِ} حضور أشخاص من الموجودات حالة العرض على الملائكة، ومن قال إن المعروض إنما هي أسماء فقط، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها سبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم: لأيّ شخص هذا الاسم؟ وهذا فيه بعد وتكلّف، وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، كما ينبىء عنه مقالكم، وهذا شرط (¬2) جوابه محذوف، تقديره: فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبئوني السابق هو الجواب. هذا مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، وخالف الكوفيون، وأبو زيد، وأبو العباس، فزعموا: أن جواب الشرط هو المتقدم في نحو هذه المسألة، والصدق هنا هو الصواب، أي: إن كنتم مصيبين، كما يطلق الكذب على الخطأ، كذلك يطلق الصدق على الصواب، ومتعلق الصدق فيه أقوال: إن كنتم صادقين في أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه؛ لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدستموني، وإن استخلفت غيركم عصاني، أو في قولكم: إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق، إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به. قاله ابن مسعود، وابن عباس، أو في ذلك الإنباء، وجواب السؤال بالأسماء. وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف؛ لعصمة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[32]

الملائكة، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية. وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو: {هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} فورش، وقنبل، يبدلان الثانية ياء ممدودة، إلا أن ورشا في {هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ} و {عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ} أبدل الهمزة الثانية ياء خفيفة الكسر، أي: مختلة الكسر، وقالون، والبزي، يسهّلان الأولى، ويحققان الثانية. ذكره في «البحر». ويقال: هذه الآية دليل (¬1) على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد، تعلم علم اللغة؛ لأنه تعالى أراهم فضل آدم بعلم اللغة، ودلت أيضا: أن المدعي يطالب بالحجة، فإن الملائكة ادعوا الفضل، فطولبوا بالبرهان، وبحثوا عن الغيب، فقرعوا بالعيان؛ أي: لا تعلمون أسماء ما تعاينون، فكيف تتكلمون في فساد من لا تعاينون. فيا أرباب الدعاوي! أين المعاني؟ ويا أرباب المعرفة! أين المحبة؟ ويا أرباب المحبة! أين الطاعة؟ قال أبو بكر الواسطي: من المحال أن يعرفه العبد، ثم لا يحبه، ومن المحال أن يحبه، ثم لا يذكره، ومن المحال أن يذكره، ثم لا يجد حلاوة ذكره، ومن المحال أن يجد حلاوة ذكره، ثم يشتغل بغيره. قال أبو عثمان المغربي: ما بلاء الخلق إلا الدعاوي، ألا ترى أن الملائكة لمّا قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: {لا علم لنا} ذكره في «البحر». 32 - وقوله: {قالُوا} استئناف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا حينئذ؟ هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أولا؟ فقيل: قالوا؛ أي: قالت الملائكة اعترافا لعجزهم وقصورهم {سُبْحانَكَ}؛ أي: تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك، وتبنا إليك من ذلك القول، أو نسبّحك عما لا يليق بشأنك الأقدس، من الأمور التي من جملتها خلوّ أفعالك عن الحكم والمصالح، وهي كلمة تقدّم على التوبة. قال موسى عليه السلام: {سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} وقال يونس عليه السلام: {سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وسبحان: اسم واقع ¬

_ (¬1) روح البيان.

موقع المصدر، لا يكاد يستعمل إلا مضافا، فإذا أفرد عن الإضافة، كان اسما علما للتسبيح، لا ينصرف للتعريف والألف والنون في آخره، نحو: قول الأعشى: أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر فجعله علما، فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، وأما صرفه في قول الآخر: سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد فضرورة، وقوله: {لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} اعتراف منهم بالعجز عما كلفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا، إذ معناه {لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} وألهمتنا بحسب قابليتنا من العلوم المناسبة لعالمنا، ولا قدرة لنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا، حتى لو كنا مستعدين لذلك، لأفضته علينا، يعنون: أن علمهم علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكلّ المسميات، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، وما في قوله: {إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} موصولة، أو موصوفة، ومحلّه رفع على أنه بدل من موضع {لا عِلْمَ} كقولك لا إله إلا الله؛ أي: لا علم لنا إلا العلم الذي علمتناه، أو علما علمتناه. والمعنى: أي (¬1) لا معلوم عندنا إلا المعلوم الذي علمتناه من المسميات، فلا علم لنا بأسمائها؛ أي: وإنما قلنا لك: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها}؛ لأنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقلنا لك ذلك، وأمّا هذه الأسماء، فإنك ما أعلمتنا إياها فكيف نعلمها، ثم أكدوا ما تقدم بقولهم: {إِنَّكَ أَنْتَ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو في محل النصب تأكيد لاسم إن {الْعَلِيمُ} الذي أحاط بعلمه كل الأشياء فلا تخفى عليه خافية، وهذه إشارة إلى تحقيقهم لقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}. {الْحَكِيمُ} في صنعه، المحكم ¬

_ (¬1) العمدة.

[33]

لمبتدعاته، الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة. وناسب (¬1) تقديم الوصف بالعلم على تقديم الوصف بالحكمة؛ لأنه المتصل به في قوله: {وَعَلَّمَ} {أَنْبِئُونِي} {لا عِلْمَ لَنا} فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة، هو العلم، فناسب ذكره متصلا به؛ ولأنّ الحكمة إنما هي آثار العلم، وناشئة عنه، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة؛ وليكون آخر مقالهم مخالفا لأوله، حتى يتبين رجوعهم عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها} وفي هذا الجواب (¬2) منهم، إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم أن لا يغفلوا عن مثله، من التفويض إلى واسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبيّن لهم ما تبيّن، وإيماء إلى أنّ الإنسان ينبغي له أن لا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم. وقال العلماء: قول الشخص لا أدري نصف العلم، وسئل (¬3) أبو يوسف القاضي عن مسألة؟ فقال: لا أدري، فقالوا له: ترتزق من بيت المال كلّ يوم كذا وكذا، ثم تقول لا أدري، قال: إنما أرتزق بقدر علمي، ولو أعطيت بقدر جهلي لم يسعني مال الدنيا، وحكي: أن عالما سئل عن مسألة وهو فوق المنبر؟ فقال: لا أدري، فقيل له: ليس المنبر موضع الجهّال، فقال: إنما علوت بقدر علمي ولو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء. 33 - وقوله: {قالَ} الله سبحانه وتعالى لآدم كلام مستأنف أيضا {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ}؛ أي: أخبر الملائكة وأعلمهم {بِأَسْمائِهِمْ} التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها؛ أي: أخبرهم بأسماء هؤلاء المسمّيات، فسمّى لهم كل شيء باسمه حتى القصعة والقصيعة، وبين لهم أحوال كل من المسميات، وخواصّه، وأحكامه المتعلقة بالمعاش، والمعاد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وقال: {أَنْبِئْهُمْ} (¬1) دون أنبئني؛ للإشارة إلى أنّ علمه عليه السلام بها ظاهر، لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره، فتكون له منّة المعلّم المفيد، ولهم مقام المتعلم المستفيد؛ ولئلا تستولي عليه الهيبة، فإنّ إنباء العالم ليس كإنباء غيره. وقرأ الجمهور {أَنْبِئْهُمْ} بالهمز وضم الهاء، وهذا هو الأصل، كما تقول: أكرمهم. وروي عن ابن عباس {أَنْبِئْهُمْ} بالهمز وكسر الهاء، ووجهه: أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء، ولم يعتدّ بالهمزة؛ لأنها ساكنة، فهي حاجز غير حصين وقرأ الحسن، والأعرج، وابن كثير، من طريق الغواس {أنبهم} على وزن أعطهم. قال ابن جني: وهذا على إبدال الهمزة ياء على أنه تقول: أنبيت، كأعطيت، قال: وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. انتهى. كلام أبي الفتح. ذكره أبو حيان في «البحر المحيط». {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} أي أنبأ آدم الملائكة {بِأَسْمائِهِمْ}؛ أي: بأسماء تلك المسميات مفصلة، وبين لهم أحوال كل منها، وخواصّه، وأحكامه. روي (¬2) أنه رفع على منبر، وأمر أن ينبىء الملائكة بالأسماء، فلما أنبائهم بها وهم جلوس بين يديه، وذكر منفعة كل شيء {قالَ} الله سبحانه وتعالى، للملائكة توبيخا لهم وتقريرا منهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا ملائكتي، والاستفهام للتقرير مع التوبيخ؛ أي: قد قلت لكم: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم ممّا كان ومما يكون، مما لا دليل عليه، ولا طريق إليه، وقيل: غيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة؛ لأنها أوّل معصية وقعت في السماء، وغيب الأرض قتل قابيل هابيل؛ لأنها أوّل معصية كانت في الأرض، وقيل غير ذلك. وذلك أنه سبحانه وتعالى، علم أحوال آدم قبل أن يخلقه، فلهذا قال لهم أعلم ما لا تعلمون {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ}؛ أي: ما تظهرون من قولكم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

{وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}؛ أي: تسرون من قولكم، لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، وهو استحضار لقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} وروى الشعبي، عن ابن عباس، وابن مسعود: أن المراد بقوله تعالى: {ما تُبْدُونَ} قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} وبقوله: {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، ومن أن لا يسجد، وفيه تعريض (¬1) بمعاتبتهم على ترك الأولى من السؤال، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبيّن لهم، وفي هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم، ومع ذلك لم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم، بل هو العمدة فيها، وعلى أنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة، لأنه أعلم منهم، والأعلم هو الأفضل من غيره لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فالعلم أشرف جوهرا، ولكن لا بدّ للعبادة مع العلم، فإن العلم بمنزلة الشجرة، والعبادة بمنزلة الثمرة، فالشرف للشجرة وهو الأصل، لكن الانتفاع بثمرتها. وفي استخلاف (¬2) آدم في الأرض، معنى سام من الحكمة الإلهية، خفي على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون، وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شيء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصّها الكيمائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية، ولا المستحدثات الطبية، ولا شيء من العلوم التي تفنى السنون، ولا يدرك الإنسان لها غاية. وقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ} (¬3) ياء المتكلم المتحرك ما قبلها، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة جاز فيها وجهان: التحريك والإسكان، وقرىء بالوجهين في السبعة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[34]

على اختلاف بينهم في بعض ذلك، وتفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات. 34 - {وَ} اذكر يا محمد لأمتك قصة {إِذْ قُلْنا}؛ أي: قصة وقت قولنا: {لِلْمَلائِكَةِ} الذين أنزلهم الله سبحانه إلى الأرض؛ لطرد الجن، أو لجميع الملائكة، وهو الظاهر من قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} وقرأ الجمهور (¬1) {لِلْمَلائِكَةِ} بجر التاء، وقرأ أبو جعفر، يزيد بن القعقاع، وسليمان بن مهران، بضم التاء إتباعا لحركة الجيم، ونقل أنها لغة أزد شنوءة، وقال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، ولكن لا ينبغي أن يغلّط؛ لأنّ القارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا، عن عبد الله بن عباس، وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علّل ضمّ التاء؛ لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه: أنّ الهمزة تسقط في الدرج؛ لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضا؛ لأنها ليست بأصل، ألا تراهم قالوا الملائك، وقيل: ضمت؛ لأنّ العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها. {اسْجُدُوا} لله سبحانه وخروا له سجودا شرعيا بوضع الجبهة مستقبلين إلى {آدم} عليه السلام قبلة لسجودهم؛ تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله، فجعل آدم قبلة لسجودهم، والسجود لله، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة، والصلاة لله، أو اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء من غير وضع الجبهة على الأرض. والسجود لغة (¬2): الخضوع والانقياد. وشرعا: وضع الجبهة على الأرض مع أعضائه بقصد العبادة. والمأمور به؛ إما المعنى الشرعي، كما ذكرناه أولا، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم، تفخيما لشأنه؛ وإما المعنى اللغوي، كما ذكرناه آنفا، وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى من الأمم، ثم نسخ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

بقوله صلّى الله عليه وسلّم لسلمان الفارسي، حين أراد أن يسجد له صلّى الله عليه وسلّم أوّل ما قدم على عادة ملوكهم: «لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا الله تعالى، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» فتحية هذه الأمة هي السلام، لكن يكره الإنحناء؛ لأنه يشبه فعل اليهود، كما في «الدرر». وكان هذا القول الكريم بعد إنبائهم بالأسماء (¬1). قيل: لما خلق آدم، أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم، فلما سألهم عن الأسماء فلم يعرفوا، وسأل آدم فأخبر بها، ظهر لهم أن آدم أعلم منهم، ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم، فلما أمرهم بالسجود له، ظهر لهم فضله، ومن لطف الله تعالى بنا، أن أمر الملائكة بالسجود لأبينا، ونهانا عن السجود لغيره، فقال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} نقل الملائكة المقربين إلى آدم وسجدته، ونقلنا إلى سجدته وخدمته. وفائدة هذه السجدة راجعة إلى الإنسان لمعنيين: أحدهما: أنّ الإنسان يقتدي بهم في الطاعة، ويتأدّب بآدابهم في امتثال الأوامر، وينزجر عن الإباء والاستكبار، كيلا يلحق به الطرد واللعن، كما لحق بإبليس، ويكون مقبولا ممدوحا مكرما، كما كان الملائكة في امتثال الأمر، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}. وثانيهما: أن الله تعالى من كمال فضله ورحمته مع الإنسان، جعل همة الملائكة في الطاعة، والتسبيح، والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للإنسان، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} فلذلك أمرهم بالسجود لأجلهم، وليستغفروا لهم. واعلم: أن (¬2) الملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الحق والخير إلى الملائكة، كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين، وهو مشهور في الكتاب والسنة. فقد روى الترمذي: إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمّة؛ فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق؛ وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} واللمّة الإلمام والإصابة، فالملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر. {فَسَجَدُوا}؛ أي: سجدت الملائكة كلهم أجمعون؛ أي: لآدم، دل عليه قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}؛ لأنهم خلقوا من نور، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «خلقت الملائكة من نور» والنور من شأنه الانقياد والطاعة، وكان هذا السجود قبل دخول آدم الجنة؛ لأن الظاهر من السياق وقوع التعليم لآدم، فإنباؤه للملائكة، فأمر الملائكة بالسجود له، فإسكانه الجنة، ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض. وأول من سجد منهم (¬1): جبريل، فأكرم بإنزال الوحي على النبيين، وخصوصا على سيد المرسلين، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل، ثم سائر الملائكة، وقيل: أول من سجد: إسرافيل، فرفع رأسه، وقد ظهر كل القرآن مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقه إلى الائتمار. والفاء في قوله: {فَسَجَدُوا} للتعقيب؛ لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال، وعدم تلعثمهم في ذلك، وهذه القصة ذكرت في القرآن في سبع سور، في هذه السورة، والأعراف والحجر، والإسراء، والكهف، وطه، وص. والحكمة (¬2) في تكريرها؛ تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان في محنة عظيمة في قومه وأهل زمانه، فكأنه تعالى يقول لنبيه: ألا ترى أن أول الأنبياء وهو آدم عليه السلام، كان في محنة عظيمة في مبدأ خلقه، فاصبر كما صبر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

إِلَّا إِبْلِيسَ؛ أي: ما سجد؛ لأنه خلق من النار، والنار من شأنها الاستكبار، وطلب العلو طبعا، وسمي إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله؛ أي: أيس. وللعلماء في هذا الاستثناء قولان: القول الأول: أنه استثناء متصل؛ لأن إبليس كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة، مغمورا بهم، متصفا بصفاتهم، فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدُوا} ثم استثني منهم استثناء واحد منهم، وأكثر المفسرين: أن إبليس من الملائكة؛ لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، فعلى هذا كان منهم ثم أبلس وغضب عليه، ولعن، فصار شيطانا. قال البغوي: وهو الأصح وعليه الجمهور، وابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، وغيرهم. قال في «التيسير»: أما وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون، فذلك دليل تصوّر العصيان منهم، ولولا التصوّر لما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع، وعصيانهم تكلّف، وطاعة البشر تكلّف، ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصوّر العصيان، فقد ذكر من هاروت وماروت ما ذكر. والقول الثاني: أنه منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن بالنص، قال تعالى: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وروى ابن مسعود، وشهر بن حوشب. أنه من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبّد مع الملائكة، وخوطب معهم. وعن الحافظ: أن الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن {أَبى}؛ أي: امتنع عما أمر به من السجود والإباء إمتناع باختيار {وَاسْتَكْبَرَ}؛ أي: تعظم وأظهر كبره، ولم يتخذه وصلة في عبادة ربه، أو تعظيمه، وتلقيه بالتحية والتكبر، أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره، والاستكبار طلب ذلك بالتشبّع؛ أي: بالتزين بالباطل وبما ليس له، ولكن السين هنا للمبالغة لا للطب، وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسبّبا عنه؛ لظهوره ووضوح أثره، فعطفه عليه من عطف العلة على المعلول؛ أي: أبى وامتنع لكبره، كما في «الصاوي».

قالوا (¬1): لما سجد الملائكة، امتنع إبليس ولم يتوجه إلى آدم، بل ولّاه ظهره وانتصب هكذا، إلى أن سجدوا وبقوا في السجود مائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة ورفعوا رؤوسهم، وهو قائم معرض لم يندم من الامتناع، ولم يعزم على الاتباع، فلمّا رأوه عدل ولم يسجد، وهم وفّقوا للسجود، سجدوا لله تعالى ثانيا، فصار لهم سجدتان، سجدة لآدم، وسجدة لله تعالى، وإبليس يرى ما فعلوه وهذا إباؤه، فغيّر الله تعالى صفته، وحالته، وصورته، وهيئته، ونعمته، فصار أقبح من كل قبيح، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} قال بعضهم: جعل ممسوخا على مثال جسد الخنازير، ووجهه كالقردة، وللشيطان نسل وذرية، والممسوخ وإن كان لا يكون له نسل، لكن لما سأل النظرة وأنظر، صار له نسل. وفي الخبر: قيل له من قبل الحق: اسجد لقبر آدم أقبل توبتك، وأغفر معصيتك، فقال: ما سجدت لقالبه وجثته، فكيف أسجد لقبره وميتته. وفي الخبر أيضا: إن الله تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار، ويخرج آدم من الجنة، ويأمره بالسجود لآدم فيأبى، ثم يرد إلى النار. {وَكانَ} إبليس اللعين {مِنَ الْكافِرِينَ}؛ أي: في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم، اعتقادا بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوصل به، كما أشعر به قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} جوابا لقوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} لا بترك الواجب وحده، وإنما قال: {مِنَ الْكافِرِينَ} ولم يكن حينئذ كافر غيره؛ لأنه كان في علم الله أن يكون بعده كفار، فذكر أنه كان من الكافرين؛ أي: من الذين يكفرون بعده، وهذا كما في قوله: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال (¬2) أبو العالية: {مِنَ الْكافِرِينَ}؛ أي: من العاصين، وصلة (أل) هنا ظاهرها الماضي؛ أي: من الذين كفروا، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقا، إذ لم يصح أنه كان كفار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[35]

قبله، وإن صح فيفيد أول من كفر بعد إيمانه، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق، وكفر إبليس قيل: جهل سلب الله ما كان وهبه من العلم فخالف الأمر، ونزع يده من الطاعة، وقيل: كفر عناد ولم يسلب العلم، بل كان الكبر مانعه من السجود. ومن فوائد هذه الآية (¬1): استقباح الاستكبار، وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، والحثّ على الائتمار لأمره، وترك الخوض في سره، وأنّ الأمر للوجوب، وأنّ الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر حقيقة، إذ العبرة بالخواتم، وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهي مسألة الموافاة؛ أي: اعتبار تمام العمر الذي هو وقت الوفاة، فإذا كان العبرة بالخاتمة، فليسارع العبد إلى الطاعات، فكل ميسر لما خلق له، كما ورد في الخبر الصحيح، خصوصا في آخر السنة، وخاتمتها، كي يختم له الدفتر بالعمل الصالح. وفي الخبر: قيل يا رسول الله: من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره، وساء عمله، وخيف شره، ولم يرج خيره». وقال الحسن البصري لجلسائه: يا معشر الشيوخ، ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، قال: يا معشر الشباب، فإن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يبلغ، وأنشد بعضهم: ألا مهّد لنفسك قبل موت ... فإنّ الشّيب تمهيد الحمام وقد جدّ الرّحيل فكن مجدّا ... لحطّ الرّحل في دار المقام وعن الحسن أيضا: قال يا ابن آدم: لا تحمّل همّ سنة على يوم، كفى يومك بما فيه، فإن تكن السنة من عمرك، يأتك الله فيها برزقك، وإلّا تكن من عمرك، فأراك تطلب ما ليس لك. 35 - وقوله: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬2) معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا} لا على {قُلْنا} وحده لاختلاف زمانيهما ومعمول القول المنادى وما بعده، وفائدة النداء؛ تنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وتحريكه لما يخاطب به، إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يجعل لها البال، وهو الأمر بسكنى الجنة. قالوا: ومعنى الأمر هنا: إباحة السكنى والإذن فيها مثل: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}؛ لأن الاستقرار في المواضع الطيبة لا يدخل تحت التّعبّد. قال القرطبي في «تفسيره»: لا خلاف أنّ الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال: {يا آدَمُ اسْكُنْ}؛ أي؛ أقم وامكث، ولازم الجنة، واتخذها مسكنا لك، وهو محل السكون، وليس المراد به ضدّ الحركة، بل اللّبث والاستقرار و {أَنْتَ} تأكيد للضمير المستكن في {اسْكُنْ} وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا {وَزَوْجُكَ} معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، كما هو مذكور في محله؛ أي: اسكن أنت وزوجك حواء {الْجَنَّةَ} يقال للمرأة الزوج والزوجة، والزوج أفصح، كما في «تفسير أبي الليث» وإنما لم يخاطبهما أوّلا؛ تنبيها على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف عليه تبع له، والجنة هي دار الثواب بإجماع المفسرين، خلافا لبعض المعتزلة، والقدرية، حيث قالوا: المراد بالجنة بستان كان في أرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان، خلقه الله تعالى امتحانا لآدم، وأوّلوا الهبوط بالانتقال منه إلى أرض الهند، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا}، وفيه نظر؛ لأن الهبوط قد يستعار للانتقال إذا ظهر امتناع حقيقته وابتعادها، وهناك ليس كذلك، وقوله: {وَقُلْنا يا آدَمُ} هو من خطاب الأكابر والعظماء، فأخبر الله تعالى عن نفسه بصيغة الجمع؛ لأنه ملك الملوك؛ أي: اتّخذا جنة الخلد مأوى ومنزلا كلّها، وسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض؛ أي: ترابها، كما مر. وسميت زوجه حوّاء؛ لأنها خلقت من حي؛ لأنها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فلذا كان كل إنسان ناقصا ضلعا من الجانب الأيسر، فجهة اليمين أضلاعها ثمانية عشر، وجهة اليسار أضلاعها سبعة عشر. واختلفوا (¬1) في خلق حواء: هل كان قبل دخول الجنة أو بعده؟ ويدل على ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأول: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه بعث الله جندا من الملائكة، فحملوا آدم وحواء على سرير من الذهب مكلل بالياقوت، واللؤلؤ، والزمرد، وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت. حتى أدخلوهما الجنة، ويدل على الثاني: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه لما خلق الله الجنة، وأسكن فيها آدم، بقي فيها وحده، فألقى الله عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من الجانب الأيسر، ووضع مكانه لحما، فخلق منه حواء. ومن الناس من قال: لا يجوز أن يقال خلقت حواء من ضلع آدم؛ لأنه يكون نقصانا منه، ولا يجوز القول بنقص الأنبياء. قلنا: هذا نقص منه صورة، تكميل له معنى؛ لأنه جعلها سكنه وأزال بها وحشته، وحزنه، فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة، فسألها من أنت؟ فقالت: إني امرأة، فقال: ولم خلقت، قالت: لتسكن إليّ، وأسكن إليك، فقالت الملائكة: يا آدم! ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم؟ قال: لأنها خلقت من حي، أو لأنها أصل كل حي، أو لأنها كانت في ذقنها حوّة؛ أي: حمرة مائلة إلى السواد، وقيل: في شفتها، وسميت مرأة؛ لأنها خلقت من المرء، كما أن آدم سمي بآدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، وعاشت بعد آدم سبع سنين وسبعة أشهر، وعمرها تسعمائة وسبع وتسعون سنة. واعلم: أن الله تعالى، خلق واحدا من أب دون أم وهو حواء، وآخر من أم دون أب وهو عيسى، وآخر من أب وأم وهم أولاد آدم، وآخر من غير أب وأم وهو آدم عليه السلام، فسبحان من أظهر من عجائب صنعه ما يتحيّر فيه العقول. ثم اعلم (¬1): أن الله تعالى، خلق حواء لأمر تقتضيه الحكمة؛ ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه؛ وليبقي الذرية على ممر الأزمان والأيام إلى ساعة القيام، فإن بقاءها سبب لبعثه الأنبياء، وتشريع الشرائع والأحكام، ونتيجة لأمر معرفة الله تعالى، فإن الله تعالى خلق الخلق لأجلها. وفي الزوجية منافع كثيرة دينية، ودنيوية، وأخروية، ولم يذكر الله تعالى في ¬

_ (¬1) روح البيان.

كتابه من الأنبياء إلا المتزوجين، وقالوا إن يحيى عليه السلام، قد تزوج لنيل الفضل وإقامة السنة، ولكن لم يجامع؛ لكون ذلك عزيمة في تلك الشريعة، ولذلك مدحه الله تعالى بكونه حصورا. وفي «الأشباه» ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن، ثم تلك العبادة تستمر في الجنة إلا الإيمان والنكاح. قيل: فضل المتأهل على العزب، كفضل المجاهد على القاعد، وركعة من المتأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب، هذا كله لكون التزوج سببا لبقاء النسل، وحفظا من الزنا، والترغيب في النكاح يجري إلى ما يجاوز المائة الأولى من الألف الثاني، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة بعد الألف، فقد حلّت العزوبة، والعزلة، والترهب على رؤوس الجبال»، وذلك لأن الخلق في المائتين أهل الحرب والقتل، فتربية جرو حينئذ خير من تربية ولد، وأن تلد المرأة حيّة خير من أن تلد الولد. {وَكُلا} أنتما {مِنْها}؛ أي: من ثمار الجنة. وجّه الخطاب (¬1) إليهما؛ إيذانا بتساويهما في مباشرة المأمور به، فإن حواء أسوة له في الأكل بخلاف السكن فإنها تابعة له فيها، ثمّ معنى الأمر بهذا والشغل به مع أنه اختصّه واصطفاه، وللخلافة أبداه أنه مخلوق، والذي يليق بالخلق هو السكون بالخلق، والقيام باستجلاب الحظّ؛ أي: وكلا أنتما من ثمار الجنة أكلا {رَغَدًا}؛ أي: أكلا واسعا رافها بلا تقدير، ولا تقتير {حَيْثُ شِئْتُما}؛ أي: من أيّ مكان من الجنة شئتما وأردتما الأكل منه، وسّع عليهما؛ إزاحة للعلّة والعذر، في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر. فإن قلت: لم قال هنا {وَكُلا} بالواو وفي الأعراف {فَكُلا} بالفاء؟ قلت: لأن اسكن معناه هنا استقر، لكون آدم وحواء كانا في الجنة، والأكل يجامع الاستقرار غالبا، فلهذا عطف بالواو الدالّة على الجمع والمعنى، اجمعا بين الأكل وبين الاستقرار، وفي الأعراف معناه ادخل، لكونهما، كانا ¬

_ (¬1) روح البيان.

خارجين عنها، والأكل لا يكون مع الدخول عادة، بل عقبه، فلهذا عطف بالفاء الدالة على التعقيب وقد بسطت الكلام على ذلك في «الفتاوي». اه. شيخ الإسلام. وقرأ الجمهور (¬1): {رَغَدًا} بفتح الغين، وقرأ إبراهيم النخعي، ويحيى بن وثاب بسكونها {رَغَدًا}، والتسكين لغة تميم؛ أي: أكلا واسعا كثيرا لا عناء فيه ولا حجر. قال امرؤ القيس: بينما المرء نراه ناعما ... يأمن الأحداث في عيش رغد وبقوله سبحانه: {حَيْثُ شِئْتُما} أباح لهما الأكل حيث شاءا، فلم يحظر عليهما مكانا من أماكن الجنة، كما لم يحظر عليهما مأكولا إلا ما وقع النهي عنه. و (شاء) في وزنه خلاف: فنقل عن سيبويه: أنّ وزنه فعل بكسر العين، فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت واللام ساكنة للضمير، فالتقى ساكنان فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين؛ لتدل على أن المحذوف ياء، كما صنعت؟ في بعت، كما سيأتي في مبحث التصريف. {وَلا تَقْرَبا} بالأكل ولو كان (¬2) النهي عن الدنو لضمت الراء {هذِهِ الشَّجَرَةَ} الشجرة منصوب على أنه بدل من اسم الإشارة، أو نعت له بتأويلها بمشتق؛ أي: هذه الحاضرة من الشجر؛ أي: لا تأكلا منها، وإنما علق النهي بالقربان منها؛ مبالغة في تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه، والشجرة: هي البر والسنبلة. قاله ابن عباس، وأبو مالك، وقتادة، وهو الأشهر، والأجمع، والأنسب؛ لأنّ النوع الإنساني ظهر في دور السنبلة، وعليها من كل لون، وثمرها أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأشد بياضا من الثلج، كل حبة من حنطتها، مثل كلية البقرة، وقد جعلها الله سبحانه رزق أولاده في الدنيا، ولذلك قيل: تناول سنبلة فابتلي بحرث السنبلة، وقيل: الكرمة، ولذلك حرّمت علينا الخمر. قاله ابن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

مسعود، وابن عباس أيضا، وابن جبير. أو التين: قاله بعض الصحابة، وقتادة، ولهذا ابتلاه الحق بلباس ورقها، كما ابتلاه بثمرها، وهو البلاء الحسن، وقيل: شجرة من أكل منها أحدث. قاله أبو العالية، وقال علي: شجرة الكافور، وقال بعض أهل الكتاب: شجرة الحنظل، وقال أبو مالك: النخلة، والأولى عدم تعينها؛ لعدم ورود النص القاطع فيها. وقرىء (¬1): {ولا تقربا} بكسر التاء، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون، وأكثرهم لا يكسر الياء، ومنهم من يكسرها، وقرأ ابن محيصن {هذي} بالياء، وقرأ الجمهور بالهاء وقرىء {الشجرة} بكسر الشين، حكاها هارون الأعور، عن بعض القراء، وقرأ أيضا {الشيرة} بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسوادنها، وينبغي أن لا يكرهها؛ لأنها لغة منقولة فيها، وقال الأصمعي: نحسبه بين الأنام شيره. وفي نهي (¬2) الله سبحانه آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل: على أن سكناهما في الجنة لا تدوم لأن المخلد لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يمنع من شيء. وقوله: {فَتَكُونا} إما معطوف على تقربا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وهذا هو الأظهر، والتقدير عليه: لا يكن منكما قربان الشجرة فكونكما {مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: من الذين ظلموا أنفسهم وأضروها بمعصية الله تعالى، أو بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها، أو بالفضيحة في الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس، أو بترك الأولى. وقال قوم: هما أول من ظلم نفسه من الآدميين. وقال قوم: كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم، ونسبوا إليهم، وفي قوله: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} دلالة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب؛ لأن تاركه لا يسمى ظالما. وقال بعض أهل الإشارات (¬1): الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية، فلما جاءه الشّكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء، أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل، فوقع فيما وقع ولقد قيل: داء قديم في بني آدم ... صبوة إنسان بإنسان قال القشيري: نبه سبحانه، على أن عاقبة دخول آدم الجنة خروجه منها بارتكاب الخطيئة بقوله: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فإذا أخبر سبحانه بجعله خليفة في الأرض، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة. كان آدم لا يساويه أحد في الرتبة، يتوالى عليه النداء بيا آدم، ويا آدم، فأمسى وقد نزع عنه لباسه، وسلب استئناسه، والقدرة لا تكابر، وحكم الله لا يعارض، وقال الشاعر: لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك وراحوا كالمساكين تتمة (¬2): واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا: فمن قائل: إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدل عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها. ومن قائل: إنها جنة أخرى، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بفلسطين، وليست هي الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة، وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى «بالتأويلات»، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة عن الغياض، كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها، ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

السنة وغيرهم. اهـ. قال الألوسي في تفسيره «روح المعاني»: (¬1) ومما يؤيد هذا الرأي: 1 - أن الله خلق آدم في الأرض؛ ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة. 2 - أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر؛ لأنه أمر عظيم. 3 - أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة. 4 - أنها دار للنعيم والراحة لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه أن لا يأكلا من الشجرة. 5 - أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها. 6 - أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة؛ لأنها دار طهر لا دار رجس، وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع، لا تنطبق على جنة آدم. {وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما}؛ أي: كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما، وأباح لهما الأكل كذلك، إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها، من بين أشجارها التي لا حصر لها {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} الخ. لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعينها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع؛ ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهي لحكمة، كأن يكون في أكلها ضرر، أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر. ¬

_ (¬1) روح المعاني.

[36]

36 - {فَأَزَلَّهُمَا}؛ أي: أزلق آدم وحواء، ونحاهما، وأبعدهما الشيطان؛ أي: إبليس بوسوسته عَنْها؛ أي: عن الجنة؛ أي: تسبب بوسوسته ودعائه إلى أكل الشجرة في إخراجهما عن الجنة. وقيل: الضمير في عنها عائد إلى الشجرة، وعن بمعنى الباء السببية؛ أي: أوقعهما الشيطان في الزلل، والهفوة، والخطيئة بسبب الشجرة: أي: بسبب حثه إياهما على أكل الشجرة. والإزلال: الإزلاق والزلة بالفتح، الخطأ، وهو الزوال عن الصواب من غير قصد. فإن قلت (¬1): إبليس كافر، والكافر لا يدخل الجنة، فكيف دخل هو؟ قلت: إنما منع من الدخول على وجه التكرمة، كما تدخلها الملائكة، ولم يمنع من الدخول للوسوسة؛ ابتلاء لآدم وحواء. وقيل: إنه دخلها على صورة دابة من دواب الجنة. وقيل: وسوس إليهما وهو خارج عنها، وهما داخلها، لكن أتوا على بابها. وقيل: غير ذلك. وقرأ حمزة، والحسن، وأبو رجاء، فأزالهما، ومعنى: الإزالة التنحية. وروي عن حمزة، وأبي عبيدة إمالة فأزالهما {فَأَخْرَجَهُما}؛ أي: تسبب إبليس في إخراجهما {مِمَّا كانا فِيهِ} من الكرامة والنعيم الواسع الذي كانا فيه في الجنة أولا، بأن قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد، وقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فأكلا منها، ولم يقصد إبليس إخراج آدم من الجنة؛ وإنما قصد إسقاطه من مرتبته، وإبعاده، كما أبعد، فلم يبلغ مقصده، فقال تعالى: {فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى}. {وَقُلْنَا} نحن لآدم، وحواء، وإبليس {اهْبِطُوا}؛ أي: انزلوا إلى الأرض، فالمأمور بالهبوط آدم، وزوجه، وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس، ومجاهد، وكثير من السلف، ويشهد له قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إذ العداوة بين الشيطان والإنسان. وقيل: الخطاب لآدم وحواء، ورجحه الزمخشري وجمع الضمير؛ لأنهما أصلا الجنس، فكأنهما الجنس كله، ويدل له قوله تعالى في سورة طه: {اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا} وقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ}. وقيل: الخطاب لأربعة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

والرابع الحية. قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال كعب، ووهب: اهبطوا جملة، ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل: اهبطوا متفرقين، فهبط إبليس. قيل بالأبلّة، وحواء بجدة، وآدم بالهند. وقيل: بسرنديب بجبل يقال له واسم. وقيل: كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع، وهذا لا يصح، إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعا. وروي عن ابن عباس: أن الحية اهبطت بنصيبين. وروى الثعلبي: بأصبهان، والمسعودي: بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات. وقيل: ببيسان. وقيل: لما نزل آدم بسرنديب من الهند، ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وذكر ابن الجوزي كيفية في إخراجه، قال: وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمس مئة عام مما يعد أهل الدنيا، ولكن لا أصل له. والأشبه أن قوله (¬1): {اهْبِطُوا} أمر تكليف؛ لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة. وقرأ الجمهور {اهْبِطُوا} بكسر الباء، وقرأ أبو حيوة {اهبطوا} بضم الباء، وهما لغتان. قال القرطبي (¬2) في تفسيره: إن الصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض، ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك، وهي نثر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي، إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطهما من الجنة فأخرجهما؛ لأنهما خلقا منها؛ وليكون آدم خليفة الله في الأرض، ولله أن يفعل ما يشاء، وقد قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وهذه منقبة عظيمة، وفضيلة كريمة شريفة. انتهى كلام القرطبي. فهبوطه من الجنة هبوط التشريف، والامتحان، والتمييز بين قبضتي السعادة والشقاوة؛ لأن ذلك من مقتضيات الخلافة الإلهية، وأكثر المفسرين على أن المعنى: انزلوا استخفافا بكم، لكن القول ما قالت حذام. وجملة قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) القرطبي.

اهبطوا حالة كونكم متعادين، يبغي بعضكم على بعض بتضليله، حال من (¬1) فاعل اهبطوا، استغنى فيها عن الواو بالضمير، والعدو يصلح للواحد والجمع، ولهذا لم يقل أعداء، فإبليس عدو لهما، وهما عدو لإبليس، والحية عدو لبني آدم، وهم عدوها، هي تلسعهم وهم يدمغونها، وإبليس يفتنهم وهم يلعنونه، وكذا العداوة بين ذرية آدم وحواء، بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين، والعداوة مع إبليس دينية، فلا ترتفع ما بقي الدين، والعداوة مع الحية طبيعية، فلا ترتفع ما بقى الطبع، ثم هذه عداوة تأكدت بيننا وبينهم، لكنّ حزبا يكون الله معهم كان الظفر لهم، ثم قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إخبار عن كونه؛ أي: التعادي لا أمر بتحصيله، ولما قال: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قال آدم: الحمد لله، حيث لم يقل سبحانه: أنا لكم عدو. والعدو: هو المجاوز حده في مكروه صاحبه. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}؛ أي: موضع استقرار على وجهها بالإقامة فيها، أو في القبور. والمستقر ثلاثة: الأول: رحم الأم. قال تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أودع في صلب الأب، واستقر في رحم الأم. والثاني: الدنيا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}. والثالث: العقبى، إما في الجنة. قال تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وإما في النار. قال تعالى: {إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا} (66) {وَمَتاعٌ}؛ أي: تمتع بنعيمها، وانتفاع به {إِلى حِينٍ}؛ أي: إلى وقت انقضاء آجالكم؛ يعني: إلى الموت. والمعنى (¬2): أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها، ينتهيان إلى وقت محدد، وليسا بدائمين، كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد، وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض؛ للعمل فيها، لا للفناء، ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها، ولا للخلود فيها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[37]

قال بعض العلماء في قوله تعالى: {إِلى حِينٍ} فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقل إلى الجنة التي وعد الرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب، ولما هبطوا وقع آدم بأرض الهند، ووقعت حواء بجدة، وبينهما سبعمائة فرسخ، فجاء آدم في طلبها حتى أتى جمعا، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، واجتمعا بجمع، والحية بسجستان، وكانت أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد تأكلها، وتفني كثيرا منها، لأخليت سجستان من أجل الحيات، وإبليس بسدّ يأجوج ومأجوج، فابتلي آدم بالحرث، والكسب، وحواء بالحيض، والحبل، والطلق، ونقصان العقل، وجعل الله قوائم الحية في جوفها، وجعل قوتها التراب، وجعل إبليس بأقبح صورة وأفضح حالة. يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة، فخانته بأن مكنت عدوه من نفسها، وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة، فقيل لها: أنت عدو بني آدم، وهم أعداؤك، وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك. 37 - قيل: إنها أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تنذره ما تركها تدخل به، وقال إبليس: أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلها ولو في الصلاة، والفاء في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} للدلالة على أن التوبة، حصلت عقب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به، ومن ثمة قال القرطبي: إن آدم تاب، ثم هبط، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {اهْبِطُوا} ثانيا؛ ومنه يعرف أن الأمر بالهبوط ليس للاستخفاف، ومشوبا بنوع سخط، إذ لا سخط بعد التوبة، فآدم أهبط بعد أن تاب الله عليه، ومعنى تلقّي الكلمات: استقبالها بالأخذ، والقبول، والعمل بها حين علمها، فإن قلت: ما هن؟ قلت: هي قوله تعالى: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - إن أحب الكلام إلى الله تعالى، ما قال أبونا آدم حين اقترف الخطيئة، وهي: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وتلقى من باب تفعّل الخماسي، وهو هنا بمعنى المجرد؛ أي: بمعنى: لقي آدم من ربه كلمات وأخذها. وقرأ الجمهور برفع آدم ونصب كلمات، والمعنى عليه: حفظ آدم، وألهم من ربه

كلمات، يدعو بها لتكون سببا ووسيلة له، ولأولاده إلى التوبة، وتلك الكلمات مبيّنة في (سورة الأعراف) بقوله تعالى: {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} الآية. وقرأ ابن كثير بنصب آدم، ورفع كلمات، والمعنى: استقبلت آدم، وجاءته من ربه كلمات كانت سببا لتوبته {فَتابَ عَلَيْهِ}؛ أي: فقبل منه ربه التوبة، وتفضل عليه بالرحمة، ورجع عليه بالقبول، وأصل التوب الرجوع، فإذا وصف به العبد، كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصف به البارىء، أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة، والفاء للدلالة على ترتبه، على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة، وتمام التوبة من العبد بالندم على ما كان، وبترك الذنب الآن، وبالعزم على أن لا يعود إليه في مستأنف الزمان، وبردّ مظالم العباد، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه باليد، والاعتذار عنه باللسان واكتفى بذكر (¬1) آدم عليه السلام؛ لأن حواء كانت تابعة له في الحكم، ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى: {هُوَ التَّوَّابُ}؛ أي: الرجاع على عباده بالمغفرة، أو كثير القبول لتوبة عباده، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة {الرَّحِيمُ}؛ أي: كثير الرحمة لعباده، وفي الجمع بين الوصفين، وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران، والجملة تعليل؛ لقوله: {فَتابَ عَلَيْهِ}. وقرأ الجمهور (¬2): {إِنَّهُ} بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب {أنه} بفتح الهمزة، ووجهه: أنه فتح على التعليل، والتقدير: لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضله، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته، لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر، فهي جملة ثابتة تامة، أخرجت مخرج الإخبار المتقبل الثابت. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما (¬3) - قال: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا، ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة، وقال شهر بن حوشب: بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[38]

مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله. وروي أن الله تعالى: تاب على آدم في يوم عاشوراء. قالوا: لو أن دموع أهل الأرض جمع، لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود، ودموع أهل الأرض جمع، لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة، فإذا كان حال من اقترف خطيئة دون صغيرة هذا، فكيف حال من انغمس في بحر العصيان، والتوبة بمنزلة الصابون، فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة، فكذا التوبة تزيل الأوساخ الباطنة، والعبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله، أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمته الفائتة. قلت: وما أوردوه في قصة هبوط آدم وحواء من الجنة، وما يتعلق به، قد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شيء منها عند النّقدة من أهل العلم، ورجال الدين. فإن قلت: كيف يصح عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون؟ قلت: أجيب عنه بثلاثة أجوبة: 1 - أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها. 2 - أن الذي وقع منه كان نسيانا؛ فسمي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة. 3 - أن ذلك من المتشابه، كسائر ما جاء في القصة مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله تعالى، كما هو رأي سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل، كما هو رأي الخلف. 38 - {قُلْنَا اهْبِطُوا}؛ أي: انزلوا {مِنْها}؛ أي: من الجنة إلى الأرض حالة كونكم {جَمِيعًا} نصب على الحال من ضمير الجمع؛ تأكيد في المعنى للجماعة من آدم، وحواء، وإبليس، والحية، وكأنه قيل: اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان؛ أي: اهبطوا منها حال كونكم مجتمعين

في الهبوط في زمان واحد، أو في أزمنة متفرقة، وكرر (¬1) الأمر بالهبوط؛ للتأكيد، وإيذانا بتحتم مقتضاه، وتحققه لا محالة، ودفعا لما عسى يقع في أمنيته عليه السلام، من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك؛ ولأن الأول: دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها، ولا يخلدون. والثاني: أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فاختلف المقصود، وكان يصح لو قرن المعنيان بذكر الهبوط مرة، لكن اعترض بينهما كلام، وهو تلقّيه الكلمات، ونيله قبول التوبة، فأعاد الأول ليتصل المعنى الثاني به، وهو الابتلاء بالعبادة، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية. وقيل: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا. والثاني: منها إلى الأرض. قال في «الإرشاد» (¬2) والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة والنجاح، وما فيه من وعيد العقاب، فليس بمقصود من التكليف قصدا أوليا، بل إنما هو دائر على سوء اختيار المكلفين، ثم إن في الآية دليلا على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها؛ لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصية واحدة، وهذا كما قال القائل: إذا تمّ أمر دنا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تم إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي}، يا ذرية آدم؛ أي: إن يأتينكم مني، فما مزيدة، والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به {هُدىً}؛ أي: رشد وبيان شريعة، برسول أبعثه إليكم، وكتاب أنزله عليكم، والخطاب في قوله: {يَأْتِيَنَّكُمْ} لآدم، والمراد ذريته، وإبليس وذريته، لم يأتهم كتاب ولا رسول، ولا يكون منهم أتباع. وجواب الشرط الأول، هو الشرط الثاني مع جوابه، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ}؛ أي: اقتدى برسولي، وتمسك بشريعتي. وكرّر (¬3) لفظ الهدى، ولم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعود. (¬3) روح البيان.

يضمر بأن. يقال فمن تبعه؛ لأنه أراد بالثاني ما هو أعمّ من الأول، وهو ما أتى به الرسل من الاعتقاديات والعمليات، واقتضاه العقل، أي: فمن تبع ما أتاه من قبل الشرع، مراعيا فيه ما يشهد به العقل من الأدلة الآفاقية والأنفسية {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين، من لحوق مكروه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات مطلوب، فالخوف (¬1) على المتوقع، والحزن على الواقع. وقيل: الخوف غم يلحق الإنسان من توقع أمر في المستقبل، والحزن: غم يلحقه من فوات أمر في الماضي، وهو بمعنى ما قبله، وأما الخوف المثبت لهم في بعض الآيات، فهو في الدنيا. اه. «كرخي». أي: لا يعتريهم ما يوجب ذلك، لا أنه يعتريهم ذلك، لكنهم لا يخافون ولا يحزنون، ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلا، بل يستمرون على السرور والنشاط، كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله تعالى، وهيبته، واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية، من خصائص الخواص والمقربين. والمعنى (¬2): فبعد هبوطكم إلى الأرض، إن يأتكم من جهتي هدى، وشريعة، وبيان حق، ودعوة إليه على ألسنة رسلي، فمن تبع هداي الذي أرسلت به رسلي، واستمسك بالشرائع التي أتوا بها، وراعى ما يحكم العقل بصحته، بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس، فلا خوف عليهم في الآخرة من العذاب، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا؛ أي: إن المهتدين بهدي الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى، سهل عليه كل ما أصابه، أو فقده؛ لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضي ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاه عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى، وتنسيه لذة الربح آلام التعب. والأديان قد حرّمت بعض اللذات، التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص، أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[39]

اللذة المحرمة، وتصوّر ما لها من تأثير في نفسه، أو في الأمة، فرّ منها فرار السليم من الأجرب، إلا أن المؤمن بالله واليوم الآخر يرى في انتهاك حرمات الدين، ما يدنس النفس ويبعدها عن الكرامة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. والخلاصة: أن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة، وبعد عنه الحزن، والخوف يوم الحساب، والجزاء والعرض على الملك الديان يوم يقوم الناس لرب العالمين. قرأ الأعرج (¬1): هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين الساكنين كقراءة من قرأ (محياي)، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن أبي عمر {هدي} بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء؛ لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل يقلبون ألف المقصور ياء، ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم: سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكل قوم مصرع وقرأ الجمهور (¬2): {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري، وعيسى الثقفي، ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين. وجه قراءة الجمهور، مراعاة الرفع في {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها عمل ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعا بالابتداء لوجهين: أحدهما: أنّ إعمال (لا) عمل ليس قليل جدا. 39 - والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ، ولم تعمل فيهما. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا برسلنا المرسلة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

إليهم، معطوف (¬1) على من تبع. إلخ قسيم له، كأنه قيل: ومن لم يتبعه. الخ، وإنما أوثر عليه ما ذكر؛ تفظيعا لحال الضلالة؛ وإظهارا لكمال قبحها، وإيراد الموصول بصيغة الجمع؛ للإشعار بكثرة الكفرة. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} المنزلة عليهم، أو كفروا بالآيات جنانا، وكذبوا بها لسانا {أُولئِكَ} إشارة إلى الموصول، باعتبار إتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب {أَصْحابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها، وفي الصحبة معنى الوصلة، فسموا أصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها، فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها {هُمْ فِيها}؛ أي: في النار {خالِدُونَ}؛ أي: دائمون، والجملة في حيز النصب على الحالية. وعبارة أبي حيان هنا قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2) قسيم لقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ}؛ أي: وهو أبلغ من قوله: (ومن لم يتبع هداي) وإن كان التقسيم يقتضيه؛ لأنّ نفي الشيء يكون بوجوه: منها: عدم القابليّة بخلقة، أو غفلة. ومنها: تعمد ترك الشيء فأبرز القسيم بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} في صورة ثبوتية، ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني به كفر النعمة، وكفر المعصية، بين أن المراد هنا الشرك بقوله: {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} وبآياتنا متعلق بقوله: {وَكَذَّبُوا} وهو من إعمال الثاني، إن قلنا إن كَفَرُوا يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال. والآيات هنا الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليه السلام، أو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته أقوال، وفي قوله: {أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} (¬3) دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة، وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

النار، فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قول الشاعر: وإني لتعروني لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر انتهى. وفي هاتين الآيتين (¬1)، دلالة على أن الجنة في جهة عالية، دل عليه قوله: {اهْبِطُوا مِنْها} وأن متّبع الهدى مأمون العاقبة، لقوله تعالى فلا خوف. إلخ. وأن عذاب النار دائم، والكافر مخلد فيه، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى: {هُمْ فِيها خالِدُونَ} فإنه يفيد الحصر. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي: أن رجلا قال: يا رسول الله! أنبيّ كان آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح. قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وبين إبراهيم. قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال: يا رسول الله! كم كانت الرسل في ذلك؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا. الإعراب {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ}. {وَإِذْ} الواو استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، والظرف متعلق بمحذوف جوازا، تقديره: واذكر يا محمد لأمتك قصة إذ قال ربك .. إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة {قالَ رَبُّكَ} فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ {لِلْمَلائِكَةِ} جار ومجرور متعلق بقال {إِنِّي} ناصب واسمه، إن حرف نصب وتوكيد مبني بفتحة مقدرة على الأخير منع ¬

_ (¬1) روح البيان.

من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن ما قبل الياء لا يكون إلا مكسورا، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها {جاعِلٌ} خبرها، وجملة إن في محل النصب مقول قال: {فِي الْأَرْضِ} متعلق بجاعل إن كان بمعنى خالق، أو في محل المفعول الثاني إن كان من الجعل بمعنى التصيير {خَلِيفَةً} مفعول به لجاعل؛ لأنه اسم فاعل {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَتَجْعَلُ} الهمزة للاستفهام التعجبيّ المجرد، كأنهم يطلبون استكناه ما خفي عليهم من الحكمة الباهرة {تجعل} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: أنت، والجملة في محل النصب مقول قالوا {فِيها} جار ومجرور متعلق بتجعل إن كان بمعنى تخلق، أو في موضع المفعول الثاني المقدم على الأول، إن كان بمعنى تصيّر {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به أول لتجعل {يُفْسِدُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على من الموصولة، والجملة الفعلية صلة الموصول؛ والتقدير: أتجعل من يفسد خليفة فيها، كمن كان فيها من قبل، كما ذكره العكبري {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على من الموصولة، والجملة معطوفة على جملة يفسد على كونها صلة لمن. {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}. {وَنَحْنُ} الواو حالية نَحْنُ ضمير منفصل لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ {نُسَبِّحُ} فعل مضارع وفاعل مستتر وجوبا، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ {بِحَمْدِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل نسبح، والتقدير: ونحن مسبحون إياك ملتبسين بحمدك، والجملة الإسمية حال من مفعول فعل محذوف، تقديره: وتركتنا عن الخلافة حالة كوننا مسبحين إياك بحمدك {وَنُقَدِّسُ} فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على نسبح {لَكَ} جار ومجرور متعلق بنقدس، ويجوز أن تكون زائدة زيدت؛ لبيان المفعول به؛ أي: ونقدسك كاللام في سقيا لك. قال العكبري: ويجوز أن تكون اللام زائدة؛ لتأكيد التخصيص؛ أي: نقدسك. وقال الصاوي: ويحتمل أنها للتعدية والتعليل؛ أي: ننزهك لا طمعا في عاجل ولا آجل، فتنزيهنا لذاتك فقط. اه.

{قالَ} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة {إِنِّي} ناصب واسمه، إن حرف نصب وتوكيد، والياء في محل النصب اسمها. قال العكبري: والأصل: إنني بثلاث نونات فحذفت النون الوسطى لا نون الوقاية على الصحيح. اه. {أَعْلَمُ} فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنا {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول به لأعلم، لأن علم هنا بمعنى عرف يتعدى إلى مفعول واحد {لا} نافية {تَعْلَمُونَ} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة أعلم في محل الرفع خبر إن، تقديره: إني عالم ما لا تعلمونه، وجملة إن في محل النصب مقول قال. {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}. {وَعَلَّمَ} الواو استئنافية {عَلَّمَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {آدَمَ} مفعول أول لعلم {الْأَسْماءَ} مفعول ثان له كُلَّها تأكيد للأسماء، والجملة الفعلية مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {عَرَضَهُمْ} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قال {عَلَى الْمَلائِكَةِ} جار ومجرور متعلق بعرض {فَقالَ} الفاء عاطفة (قال) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة عرض {أَنْبِئُونِي} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو ضمير المخاطبين يعود على الملائكة في محل الرفع فاعل، والنون نون الوقاية، والياء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول {بِأَسْماءِ} جار ومجرور متعلق بأنبئوني على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال: {أسماء} مضاف {هؤُلاءِ} {ها} حرف تنبيه {أولاء} اسم إشارة للجمع المطلق في محل الجر مضاف إليه مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا {إِنْ} حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها {صادِقِينَ} خبر كان منصوب بالياء، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، وجملة إن الشرطيّة في محل النصب مقول قال {قالُوا} فعل

وفاعل، والجملة مستأنفة {سُبْحانَكَ} سبحان منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبا، تقديره: نسبحك سبحانا وهو مضاف، والكاف ضمير متصل في محل الجر مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا {لا} نافية للجنس تعمل عمل إن {عِلْمَ} في محل النصب اسمها {لَنا} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، تقديره: لا علم موجود لنا، وجملة لا في محل النصب مقول قالوا {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {ما} اسم موصول في محل الرفع بدل من محل لا واسمها؛ لأن محلهما رفع بالابتداء، أو من الضمير المستتر في خبر لا نظير قولك لا إله إلا الله، أو في محل النصب على الاستثناء {عَلَّمْتَنا} فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إلا ما علمتناه، وهو العائد على ما الموصولة، والجملة صلة لما الموصولة وما واقعة على معلوم، وعلم بمعنى معلوم، والمعنى: لا معلوم لنا إلا معلوما، أو معلوم علمتنا إياه، ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: لا تعليم لنا إلا تعليمك إيانا {إِنَّكَ} ناصب واسمه {أَنْتَ} أن ضمير فصل حرف لا محل له، أو حرف عماد، والتاء حرف دال على الخطاب {الْعَلِيمُ} خبر أول، لأنّ {الْحَكِيمُ} خبر ثان له، وجملة إن في محل النصب مقول قالوا مسوقة لتعليل ما قبلها، ويحتمل كون {أَنْتَ} مبتدأ و {الْعَلِيمُ} خبره، والجملة الإسمية خبر إن، ويجوز كونه تأكيدا لاسم إن مستعارا عن إياك. {قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. {قالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة {يا آدَمُ} {يا} حرف نداء للمتوسط {آدَمُ} منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم، وجملة النداء في محل النصب مقول قال {أَنْبِئْهُمْ} فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على الله، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول {بِأَسْمائِهِمْ} جار ومجرور متعلق بأنبئهم على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال. {فَلَمَّا} الفاء فاء الفصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال الرب جل جلاله لآدم، وأردت بيان ما قال للملائكة بعد ذلك فأقول لك لما أنبأهم.

{لما} حرف شرط غير جازم {أَنْبَأَهُمْ} أنبأ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على آدم، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول {بِأَسْمائِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأنبأهم على أنه مفعول ثان له، والجملة الفعلية فعل شرط للمّا لا محل لها من الإعراب {قالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية جواب شرط للمّا لا محل لها من الإعراب، وجملة لما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} الهمزة للاستفهام التقريري {لَمْ} حرف جزم {أَقُلْ} فعل مضارع مجزوم بلم، وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا يعود على الله {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بأقل، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول قال {إِنِّي} ناصب واسمه، وجملة {أَعْلَمُ} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول لأقل {غَيْبَ السَّماواتِ} مفعول به ومضاف إليه {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات {وَأَعْلَمُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على أعلم الأول {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول {أَعْلَمُ}، وجملة {تُبْدُونَ} صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره ما تبدونه {وَما} اسم موصول في محل النصب معطوف على ما الأولى {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكْتُمُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لما الموصولة لا محل لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: وما كنتم تكتمونه، وإن شئت قلت إن قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي لأقل؛ لأن مرادنا لفظه لا معناه، والمقول منصوب بالقول وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية. {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ}. {وَإِذْ} الواو عاطفة أو استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ قلنا، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة سابقا، أو مستأنفة. {قُلْنا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {لِلْمَلائِكَةِ} متعلق بقلنا.

{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ}. {اسْجُدُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل {لِآدَمَ} اللام حرف جر {آدم} مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة، والجار والمجرور متعلق باسجدوا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا {فَسَجَدُوا} الفاء حرف عطف وتفريع (سجد) فعل ماض والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة قلنا {إِلَّا} أداة استثناء {إِبْلِيسَ} مستثنى بإلا متصل إن كان إبليس في الأصل من الملائكة، وقيل: منقطع؛ لأنه ليس من الملائكة، وهو منصوب بالفتحة الظاهرة ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة {أَبى} فعل ماض معتل بالألف مبني بفتحة مقدرة، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة الفعلية في محل النصب حال من إبليس؛ أي: حالة كونه آبيا وممتنعا من السجود {وَاسْتَكْبَرَ} فعل وفاعل مستتر معطوف على أبى؛ أي: ومستكبرا {وَكانَ} الواو عاطفة، أو حالية، أو استئنافية {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على إبليس {مِنَ الْكافِرِينَ} خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة أبى، أو حالية، أو مستأنفة. {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ}. {وَقُلْنا} الواو استئنافية أو عاطفة {قُلْنا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على قلنا الأول، واختلاف الزمانين ليس علة مانعة من عطف الفعل على الفعل {يا آدَمُ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: {يا آدَمُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول قلنا {اسْكُنْ} فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره {أنت}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قلنا أَنْتَ أن ضمير رفع منفصل في محل الرفع مؤكد للضمير المستتر في اسكن، ليصح العطف عليه {وَزَوْجُكَ} معطوف على الضمير المستتر في اسكن، كما قال ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل

{الْجَنَّةَ} مفعول به وليس بظرف؛ لأنك تقول سكنت البصرة، وسكنت الدار بمعنى: نزلت فهو كقولك: انزل من الدار حيث شئت. ذكره العكبري. {وَكُلا} الواو عاطفة {كُلا} فعل أمر للمثنى مبني على حذف النون، والألف ضمير متصل في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة اسكن {مِنْها} متعلق بكلا {رَغَدًا} منصوب على المفعولية المطلقة، لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: أكلا رغدا. {حَيْثُ} في محل النصب على الظرفية المكانية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا {شِئْتُما} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لحيث، والظرف متعلق بكلا. وقال العكبري: ويجوز أن يكون بدلا من الجنة، فيكون {حَيْثُ} مفعولا به {وَلا} الواو عاطفة {لا} ناهية جازمة {تَقْرَبا} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والألف في محل الرفع فاعل {هذِهِ} مفعول به {الشَّجَرَةَ} بدل من اسم الإشارة، أو صفة له كما مر، والجملة معطوفة على جملة اسكن، أو على جملة كلا {فَتَكُونا} الفاء عاطفة سببية (تكونا) فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والألف ضمير متصل في محل الرفع اسمها {مِنَ الظَّالِمِينَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر تكونا، وجملة تكونا صلة أن المصدرية، وأن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر، متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن قربانكما لهذه الشجرة فكونكما من الظالمين، ويجوز كون الفاء لمجرد العطف، والفعل مجزوم بالعطف على ما قبله. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}. {فَأَزَلَّهُمَا} الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه المقام، تقديره: فأكلا من الشجرة التي نهيا عنها، {فَأَزَلَّهُمَا} (أزل) فعل ماض، و (الهاء) ضمير متصل في محل النصب مفعول به، {الشَّيْطانُ} فاعل {عَنْها} متعلق بأزلهما، وإن شئت قلت: الفاء فاء الفصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قول الله لهما اسكن أنت وزوجك الجنة. الخ. وأردت بيان حالهما بعد

ذلك فأقول لك: أزلهما، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فَأَخْرَجَهُما} الفاء عاطفة {أخرجهما} فعل وفاعل مستتر يعود على الشيطان، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة أزلهما {مِمَّا} من حرف جر مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ما {ما} اسم موصول في محل الجر بمن، الجار والمجرور متعلق بأخرجا {كانا} كان فعل ماض ناقص، والألف ضمير للمثنى الغائب في محل الرفع اسمها {فِيهِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر كان، تقديره: مما كانا كائنين فيه، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد ضمير، فيه {وَقُلْنَا} الواو عاطفة أو استئنافية {قُلْنَا} فعل وفاعل معطوف على قوله: {فَأَزَلَّهُمَا}، أو مستأنفة {اهْبِطُوا} فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقول قلنا {بَعْضُكُمْ} مبتدأ {لِبَعْضٍ} متعلق بعدو، أو بمحذوف حال من عدو؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها و {عَدُوٌّ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل اهبطوا، تقديره: اهبطوا حالة كونكم متعادين {وَلَكُمْ} الواو عاطفة أو استئنافية {لَكُمْ} خبر مقدم {فِي الْأَرْضِ} متعلق بمستقر و {مُسْتَقَرٌّ} مبتدأ مؤخر {وَمَتاعٌ} معطوف على مستقر {إِلى حِينٍ} متعلق بمحذوف صفة لمتاع؛ أي: ممتد إلى حين؛ أي: إلى يوم القيامة، أو متعلق بمتاع؛ لأنه اسم مصدر بمعنى التمتع، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله بعضكم لبعض عدو، على كونها حالا من فاعل اهبطوا؛ أي: اهبطوا حالة كونكم متعادين، ومستحقين الاستقرار في الأرض والتمتع إلى حين، أو الجملة مستأنفة. {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}. {فَتَلَقَّى} الفاء استئنافية أو فصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قول الله لهم اهبطوا، أو أردت بيان عاقبة أمر آدم بعد ذلك، فأقول: تلقى آدم {تلقى} فعل ماض و {آدَمُ} فاعل {مِنْ رَبِّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتلقى {كَلِماتٍ} مفعول به منصوب بالكسرة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية مستأنفة، أو مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. وقرىء بنصب آدم على المفعولية، ورفع كلمات على الفاعلية، كما مرّ

في مبحث القراءة {فَتابَ} الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فقالها فتاب عليه (تاب) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {عَلَيْهِ} متعلق بتاب، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والمحذوفة معطوفة على جملة تلقى {إِنَّهُ} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل، أو حرف عماد، ويجوز أن يكون مبتدأ {التَّوَّابُ} خبر أول لإن {الرَّحِيمُ} خبر ثان لها، ويجوز أن يكونا خبرين لهو، والجملة الإسمية خبر لإن، وجملة إن مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها. {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}. {قُلْنَا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {اهْبِطُوا} فعل وفاعل، والجملة مقول لقلنا مِنْها متعلق باهبطوا {جَمِيعًا} حال من فاعل اهبطوا؛ أي: مجتمعين في الهبوط في زمان واحد، أو في أزمنة متفرقة {فَإِمَّا} الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فعاهدنا عليهم، أو فصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قول الله لهم اهبطوا، وأردت بيان ما عاهد عليهم بعد الهبوط، فأقول لك: قال الله لهم: إما يأتينكم مني هدى {إن} حرف شرط جازم يجزم فعلين، مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ما الزائدة و {ما} زائدة زيدت: لتأكيد معنى الكلام {يَأْتِيَنَّكُمْ} {يأتين} فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، مبني على الفتح، الكاف ضمير لجماعة الذكور المخاطبين في محل النصب مفعول به، والميم حرف دال على الجمع {مِنِّي} جار ومجرور متعلق بيأتينكم {هُدىً} فاعل {فَمَنْ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبا؛ لكون الجواب جملة اسمية {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {تَبِعَ} فعل ماض في محل الجزم بمن الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على من {هُدايَ} مفعول به ومضاف إليه {فَلا} الفاء رابطة لجواب من الشرطية وجوبا؛ لكون الجواب جملة اسمية {لا} نافية ملغاة لا عمل لها لتكررها {خَوْفٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ تقدم النفي عليها {عَلَيْهِمْ} متعلق بمحذوف خبر

المبتدأ، ولك أن تعمل لا عمل ليس، فخوف اسمها، وعليهم خبرها، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة من الشرطية في محل الجزم جواب إن الشرطية، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {وَلا} الواو عاطفة {لا} زائدة؛ زيدت لتأكيد نفي ما قبلها {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل الجزم، معطوفة على جملة قوله فلا خوف، على كونها جوابا لمن الشرطية. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}. {وَالَّذِينَ} الواو عاطفة {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {وَكَذَّبُوا} معطوف على كفروا على كونه صلة الموصول {بِآياتِنا} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بكذبوا لقربه، أو بكفروا لسبقه {أُولئِكَ} مبتدأ ثان {أَصْحابُ النَّارِ} خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره، في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول وخبره في محل الجزم، معطوفة على جملة من الشرطية، على كونها جوابا لأن الشرطية {هُمْ} مبتدأ {فِيها} متعلق بخالدون {خالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من أصحاب النار، أي: حالة كونهم مقدرا خلودهم فيها. وفي العكبري، وقيل: يجوز أن تكون الجملة حالا من النار؛ لأن في الجملة ضميرا يعود عليها، ويكون العامل في الحال معنى الإضافة، أو اللام المقدرة. انتهى. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ} {وَإِذْ} اسم ثنائيّ الوضع مبني؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا، أو افتقاريا، وهو ظرف زمان للماضي، وما بعده جملة اسمية، أو فعلية، وإذا كانت فعلية، قبح تقديم الاسم على الفعل، وإضافته إلى المصدرة بالمضارع، وعمل المضارع فيه، مما يجعل المضارع ماضيا، وهو ملازم للظرفية، إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولا به، ولا حرفا للتعليل، أو للمفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة، خلافا لزاعمي ذلك. ولها أحكام غير هذا مذكورة في كتب النحو {قالَ} أصله: قول بوزن فعل، تحركت الواو وانفتح

ما قبلها فقلبت ألفا، فصار قال: {لِلْمَلائِكَةِ} جمع ملك وميمه أصلية، وهو فعل من الملك، وهو القوة ولا حذف فيه، وجمع على فعائلة شذوذا، قاله أبو عبيدة، وكأنهم توهّموا أنه ملاك على وزن فعال، وقد جمعوا فعالا المذكر والمؤنث على فعائل قليلا. وقيل: وزنه في الأصل فعأل، نحو: شمأل، ثم نقلوا الحركة وحذفوا. وقيل: غير ذلك مما لا يسعه هذا المختصر. والملك: جسم لطيف قادر على التشكل بأشكال مختلفة {إِنِّي جاعِلٌ}؛ أي: خالق أو مصيّر، ولم يذكر الزمخشري غيره {خَلِيفَةً} مفعول به على الأول، وعلى الثاني هو المفعول الأول، وفي الأرض هو الثاني قدم عليه. اه. «كرخي» كما مرّ. وصيغة اسم الفاعل في قوله جاعل بمعنى المستقبل، كما ذكره أبو السعود. والخليفة: من يخلف غيره، وينوب منابه فعيل بمعنى فاعل، والتاء للمبالغة، وهو من خلف من باب كتب، كما في «القاموس». {وَيَسْفِكُ} وفي «المصباح» وسفك الدم أراقه، وبابه ضرب، وفي لغة: من باب قتل، وقرىء بهما كما مرّ في مبحث القراءة {الدِّماءَ} جمع دم، أصله: دمي، أو دمو، والهمزة في الدماء: إما مبدلة من واو، أو ياء. والثاني: هو مذهب سيبويه، وظاهر كلام صاحب القاموس. والأول ظاهر كلام الجوهري، حيث صدر به، وعلى كلا التقديرين تطرّفت الواو، أو الياء إثر ألف زائدة فقلبت همزة، وهذا أمر مطرد، سواء أكان أصله دماو، أو دماي {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} التسبيح تنزيه لله وتبرئته عن السوء، ولا يستعمل إلا لله تعالى، وأصله: من السّبح وهو الجري، والمسبّح جار في تنزيه لله تعالى {وَنُقَدِّسُ لَكَ} والتقديس التطهير، ومنه بيت المقدس، والأرض المقدسة، ومنه القدس للسطل الذي يتطهر به، وقال الزمخشري: من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. وفائدة الجمع بين التسبيح والتقديس، وإن كان ظاهر كلامهم ترادفهما أن التسبيح بالطاعات، والعبادات، والتقديس بالمعارف في ذات الله تعالى، وصفاته، وأفعاله؛ أي: التفكر في ذلك. اه. «كرخي». {وَعَلَّمَ} وزنه فعل المضعّف، منقول من علم التي تتعدّى لواحد، فرقوا بينها وبين علّم التي تتعدى لاثنين في النقل، فعدوا تلك بالتضعيف، وهذه

بالهمزة، قاله الاستاذ أبو علي الشلوبين {آدَمَ} أصله: أأدم بهمزتين مفتوحة وساكنه، فأبدلت الثانية حرف مدّ للأولى. وفي «البحر» آدم: اسم أعجمي كآزر، وعابر، ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ومن زعم أنه أفعل مشتق من الأدمة وهي كالسمرة، أو من أديم الأرض وهو وجهها، فغير صواب؛ لأن الاشتقاق من خواص الألفاظ العربية، قد نص التصريفيّون على أنه لا يكون في الأسماء الأعجمية. وقيل: هو عربيّ من الإدام وهو التّراب، ومن زعم أنه فاعل من أديم الأرض، فخطؤه ظاهر؛ لعدم صرفه. وأبعد الطبري في زعمه أنه فعل رباعي سمّي به، ومن هذا الخطإ محاولتهم اشتقاق يعقوب من العقب، وإبليس من الإبلاس، وإذن: يحقّ لنا أن نتساءل: لم منعت هذه الأعلام من الصرف لولا العلمية والعجمة، فتنبّه لهذا الفصل. {الْأَسْماءَ} وزنه أفعال، والهمزة فيه على الصحيح مبدلة من واو؛ لأنه من السمو، كما مرّ في مبحث البسملة؛ أي: علّمه الأسماء لفظا، ومعنى، وحقيقة مفردا، ومركبا، كأصول العلم، فإن الاسم باعتبار الاشتقاق علامة للشيء، ودليله الذي يرفعه إلى الذهن؛ أي: يوصله إلى الفطنة. والمراد بالاسم: ما يدلّ على معنى، ولو كان ذاتا وجرما فهو أعمّ من الاسم، والفعل، والحرف. اه. «كرخي». {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} العرض: إظهار الشيء حتى تعرف جهته {فَقالَ أَنْبِئُونِي} والإنباء: الإخبار، ويتعدى فعله لواحد بنفسه، ولثان بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف، ويضمّن بمعنى أعلم فيتعدى إلى ثلاثة. {قالُوا سُبْحانَكَ} وسبحان: مصدر كغفران، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله، كمعاذ الله، ولا يجوز إظهاره {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وهما فعيل بمعنى فاعل، وفيهما من المبالغة ما ليس فيه، والحكمة لغة: الإتقان والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه حكمة الدابة. والحكيم: صفة ذات إن فسّر بذي الحكمة، وصفة فعل إن فسّر بأنه المحكم لصنعته {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أصله: أقول، فدخل على الفعل المضارع الجازم وهو لم، فسكن حرفه الأخير لمّا جزم، فصار اللفظ أقول، فالتقى ساكنان الواو ولام الفعل، فحذفت الواو فقيل: أقل على وزن أفل، وهكذا كلّ ما كان من هذا القبيل {ما تُبْدُونَ} أصله: تبديون

بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضمت الدال لمناسبة الواو {وَما كُنْتُمْ} أصله: كون بوزن فعل أجوف واويّ مفتوحها، أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، ولمّا أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، سكّن آخره فالتقى ساكنان الألف وآخر الفعل النون، فصار اللفظ كانت، فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظ كنت بوزن فلت، ولحذف عينه احتيج إلى معرفة العين المحذوفة، هل هي واو، أو ياء؟ فحذفت حركة فاء الفعل، وعوّض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة؛ لتدل عليها وهي هنا الضمة؛ لأنها هي التي تجانس الواو، فقيل: كنتم بوزن فلتم، وهكذا كلّ فعل أجوف واوي العين أسند إلى ضمير الرفع المتحرك {إِلَّا إِبْلِيسَ} في «المصباح» وأبلس إبلاسا، إذا سكت غمّا وأبلس أيس، وفي «التنزيل» فإذا هم مبلسون وإبليس أعجمي، ولهذا لا ينصرف للعلمية والعجمة. وقيل: هو عربي مشتق من الإبلاس وهو اليأس. ورد بأنه لو كان عربيا لانصرف كما تنصرف نظائره. اه. من «السمين». {أَبى}؛ أي: امتنع وأنف من السجود لآدم، وأصله: أبي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا {وَاسْتَكْبَرَ}؛ أي: تكبّر وتعاظم في نفسه، والسين للمبالغة لا للطلب، وإنما قدم الإباء على الاستكبار، وإن كان متأخرا عنه في الترتيب؛ لأنه من الأفعال الظاهرة بخلاف الاستكبار، فإنه من أفعال القلوب. واقتصر في (سورة ص) على ذكر الاستكبار؛ اكتفاء به، وفي (سورة الحجر) على ذكر الإباء حيث قال: {أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} {وَكُلا} أمر من أكل، وقياس الثلاثي إذا بني منه الأمر، أن يؤتى قبله بهمزة وصل؛ توصلا للنطق بالساكن، كما في اضرب، واصبر، لكن فاء الفعل الساكنة، حذفت من هذا الأمر شذوذا في القياس غالبا، كما حذفت من الأمر من أخذ وأمر، ومعنى قولي شذوذا في القياس: أنّ استعمالها فاش {رَغَدًا} الرّغد: الهنيء الذي لا عناء فيه، أو الواسع. يقال: رغد عيش القوم، إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش {حَيْثُ شِئْتُما} أصله شيء بوزن فعل بكسر العين، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار شاء، ثمّ أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، فسكن آخره، فالتقى ساكنان الألف والهمزة آخر الفعل،

فحذفت الألف، فصار اللّفظ شأت بوزن فلت، لحذف عينه، فاحتيج إلى معرفة حركة العين المحذوفة، فحذفت حركة فاء الفعل، ونقلت إليها حركة العين المحذوفة وهي الكسرة، كما تقدم، فقيل: شئتما بوزن فلتما {وَلا تَقْرَبا} في «المصباح» قرب الشيء منا قربا، وقرابة، وقربة، وقربى؛ أي دنا وقربت الأمر أقربه، من باب تعب، وفي لغة: من باب قتل، قربانا بالكسر، فعلته، أو دانيته، ومن الأول ولا تقربوا الزنا، ومن الثاني لا تقرب الحمى؛ أي: لا تدن منه. اه. {فَتَكُونا} أصله تكونان بوزن تفعلان، نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فسكنت الواو إثر ضمة فصارت حرف مد، ثم حذفت نون الرفع لما نصب الفعل بأن المضمرة بعد الفاء السببية، فوزنه تفعلا {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ}؛ أي: أصدر زلتهما وحملهما على الزلّة بسببها، وفي «المصباح» زلّ عن مكانه زلا، من باب ضرب نحى عنه، وزل زللا من باب تعب لغة، وزل في منطقه، أو فعله يزل، من باب ضرب زلة أخطأ. اه. والزلل: السقوط. يقال: زل في طين، أو منطق، يزل بالكسر زللا. وقال الفراء: زل يزل بالفتح زللا، وأصله: أزللهما، نقلت حركة اللام الأولى إلى الزاي، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. وقرأ حمزة بمدّ الزاي وتخفيف اللام من الإزالة، وأصله: أزولهما، نقلت حركة حرف العلة الواو إلى الساكن الصحيح قبله، ثم قلبت الواو ألفا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {مِمَّا كانا فِيهِ} أصله كون، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، ثم ألحق به ألف الاثنين، فصار كانا {اهْبِطُوا} والهبوط، كما قال الرّاغب الانحدار على سبيل القهر، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة، فسمّي الخروج منها هبوطا، أو سمّي بذلك؛ لأنّ ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد، كقوله لبني إسرائيل {اهْبِطُوا مِصْرًا} {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أصله عدوو بوزن فعول، أدغمت الواو الأولى واو فعول في الواو لام الكلمة، وأفرد لفظ عدوو إن كان المراد به جمعا لأحد وجهين: إمّا اعتبارا بلفظ بعض، فإنه مفرد، وإما لأن عدوّا أشبه المصادر في الوزن، كالقبول، ونحوه. وقد صرّح أبو البقاء، بأن بعضهم جعل عدوا مصدرا. اه. «سمين» {مُسْتَقَرٌّ} والمستقر: الاستقرار والبقاء، وأصله مستقرر بوزن مستفعل، إما اسم مكان، أو مصدر

ميمي، نقلت حركة الراء الأولى إلى القاف، فسكنت وأدغمت في الراء الثانية {وَمَتاعٌ} والمتاع الانتفاع الذي يمتد وقته {إِلى حِينٍ} والحين: مقدار من الزمن قصيرا كان أو طويلا {فَتَلَقَّى آدَمُ} وتلقي الكلمات: هو أخذها بالقبول والعمل بها حين علمها، وأصله تلقّي بوزن تفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا {فَتابَ عَلَيْهِ} أصله توب بوزن فعل واويّ العين؛ لأنّ مصدره توبة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا {جَمِيعًا} حال من فاعل اهبطوا؛ أي: مجتمعين، إما في زمان واحد، أو في أزمنة متفرقة؛ لأنّ المراد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا هو الفرق بين جاؤا جميعا، وجاؤوا معا، فإن قولك معا يستلزم مجيئهم جميعا في زمن واحد؛ لما دلّت عليه من الاصطحاب، بخلاف جميعا، فإنها إنما تفيد أنه لم يتخلف أحد منهم عن المجيء، من غير تعرض لاتحاد الزمان. اه. «سمين». {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ} والهدى: الرشد بإرسال رسول بشريعة يأتي بها، وكتاب ينزله ويبلّغه لكم {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} والخوف: ألم الإنسان مما يصيبه من مكروه، أو حرمانه من محبوب، يتمتّع به أو يطلبه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والحزن: ألم يلمّ به إذا فقد ما يحب {بِآياتِنا} جمع آية، وهي: العلامة الظاهرة، والمراد بها: كلّ ما يدلّ على وجود الخالق ووحدانيته، مما أودعه في الكون ونشاهده في الأنفس، وتطلق على كلّ قسم من أقسام القرآن، التي تتألّف منها سورة القرآن، ويقف القارىء عندها في تلاوته. والعمدة في معرفة ذلك، على التوقيف المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمّيت بذلك؛ لأنها دلائل لفظية على الأحكام والآداب، التي شرعها الله سبحانه لعباده. وأصل آية عند الخليل: أيية بوزن فعلة، أبدلت الياء الأولى ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكان القياس إبدال الثانية ألفا وتصحيح الأولى؛ لأن القاعدة المعروفة، أنه إذا استحق حرفان متواليان الإعلال، صحح الأول منهما، وأعلّ الثاني، ولا يعلان معا: لئلا يجتمع إعلالان متواليان في كلمة، كما قال ابن مالك: وإن لحرفين ذا الإعلال استحقّ ... صحّح أوّل وعكس قد يحق وأشار بقوله: وعكس قد يحق إلى ما هنا في الآية، وكذلك لفظ راية. ومذهب الكسائي: أن آية أصله آيية بوزن فاعلة، حذفت الياء الأولى؛ لئلا تدغم

في الثانية، كما فعلوا في دابّة، وكافّة. ومذهب سيبويه: أن أصلها أوية، حكاه عن الجوهري، وقيل في أصلها غير ذلك، ومذهب الخليل أصوب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعريض بعنوان الربوبية في قوله: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ} مع الإضافة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتشريف والتكريم لمقامه العظيم. ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {لِلْمَلائِكَةِ} على المقول؛ للاهتمام بما قدم؛ وللتشويق إلى ما أخر. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ}. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {لِلْمَلائِكَةِ}؛ لأن المراد بهم هنا، سكان الأرض من الملائكة بعد الجان على ما قيل. ومنها: عطف الخاص في قوله: {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} على العام في قوله: {مَنْ يُفْسِدُ}؛ اهتماما بشأن الدماء. ومنها: العطف للتأكيد في قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}؛ لأنه كالتوكيد للتسبيح؛ لأن التقديس هو التطهير، والتسبيح هو التنزيه والتبرئة من السوء، فهما متقاربان في المعنى ذكره في «البحر». ومنها: الأمر الذي أريد به التعجيز في قوله: {أَنْبِئُونِي} مبالغة في التبكيت. ومنها: إطلاق الأسماء مرادا بها المسميات في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ}؛ أي: مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ}؛ لأن قبله محذوف، تقديره: فأنبأهم بها، فلما أنبأهم بأسمائهم. ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ}؛

لأن الميم في هم علامة لجمع الذكور العقلاء، ولو لم يغلب لقال: ثمّ عرضها، أو عرضهن. ومنها: الحذف في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}؛ لأن جوابه محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فأنبئوني، يدل عليه أنبئوني السابق. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا}. ومنها: إبراز الفعل في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ} ثمّ قال: {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} للاهتمام بالخبر، والتنبيه على إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإطناب. ومنها: الطباق بين السموات وبين الأرض في قوله: {غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وبين {ما تُبْدُونَ} وبين {ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} في قوله: {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} هذا وإنّ الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها، ولذلك سماه بعضهم بالتضادّ والتكافؤ، وهو الجمع بين معنيين متضادين، ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، وبين معناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة يقال: طابقت بين الشيئين، إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وابن الأثير يعجب من هذه التسمية؛ لأنه لا يعرف من أين اشتقت هذه التسمية، إذ لا مناسبة بين الاسم ومسماه، وابن قدامة يسميه التكافؤ، ولا فرق بين أن يكون التقابل حقيقيا، أو اعتباريا، أو تقابل السلب والإيجاب، ومن طباق السلب، قول السموءل اليهوديّ: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول فقد طابق بين ننكر وهو إيجاب، وبين ولا ينكرون وهو سلب، وقد يصح الطباق مقابلة حين يؤتى بمعنيين، أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، كقول البحتري: فإذا حاربوا أذلّوا عزيزا ... وإذا سالموا أعزّوا ذليلا ومنها: التعبير بصيغة الجمع في قوله: {وَإِذْ قُلْنا} للتعظيم؛ لأنه صيغة مكالمة الأكابر، وهي معطوفة على قوله: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ} وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم؛ لتربية المهابة؛ وإظهار الجلالة.

ومنها: إفادة الفاء في قوله: {فَسَجَدُوا} التعقيب؛ لأنها دلت على أنهم سارعوا في الامتثال، ولم يثبّطوا فيه، وفيه أيضا: الإيجاز بالحذف؛ لأن التقدير فسجدوا له، وكذلك قوله: {أَبى} مفعوله محذوف تقديره؛ أي: أبى السجود. ومنها: التعبير في النهي عن الأكل بالنهي عن القربان في قوله: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه. ومنها: الإبهام في قوله: {مِمَّا كانا فِيهِ} فإنه أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات، مما لو قيل من النعيم أو الجنة؛ لأنّ من أعظم أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء وفخامته، أن يعبّر عنه بلفظ مبهم، كما هنا، لتذهب نفس السامع في تصوّر عظمته إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه. ومنها: التعبير بقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}؛ أي: كثير التوبة واسع الرحمة؛ لأن فعالا وفعيلا من صيغ المبالغة. ومنها: التكرار في قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا} تأكيدا لما قبله، وتوطئة لما بعده. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم. فائدة: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحطّ عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة، لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية، فقال: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ}. وقال الشاعر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع والله أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}. المناسبة قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) خطاب المكلفين عموما في أول السورة، ثم ثنّى بمبدأ خلق آدم عليه السلام، وقصته مع إبليس اللعين، ثلّث هنا بذكر بني إسرائيل، سواء كانوا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أو قبله، وما يتعلق بهم من هنا إلى قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ} فعدّد عليهم نعما عشرا، وقبائح عشرا، وانتقامات عشرا. والحكمة في ذكر بني إسرائيل (¬2)، الذين تقدموا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنهم لم يخاطبوا بالإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ من كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم يدّعي أنه على قدمهم، وأنه متبع لهم، وأن أصولهم كانوا على شيء، فلذلك تبعوهم. فبين ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الصاوي.

سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على أصولهم، وبين لهم أنهم قابلوا تلك النعم بالقبائح، وبين أنه أنزل عليهم العقاب؛ ليعتبر من يأتي بعدهم. وحكمة تخصيصهم بالخطاب: أن السورة أول ما نزل بالمدينة، وأهل المدينة كان غالبهم يهودا، وهم أصحاب كتاب وشوكة، فإذا أسلموا، أو انقادوا، انقاد جميع أتباعهم، لذلك توجّه الخطاب لهم. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى أولا نعمه على بني إسرائيل إجمالا، ذكر هنا أنواع تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في ذكرها وأدعى لشكرها، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم، واذكروا إذ فرقنا بكم البحر، واذكروا إذ واعدنا موسى، وإذ آتينا موسى الكتاب، إلى آخر ما عدده من النعم عليهم، وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا، لا كفرانه وعصيانه. أسباب النزول قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الواحدي، والثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: (نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذوي قرابته، ولمن بينه وبينهم رضاع من المسلمين، أثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل، فإنّ أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه). وعبارة أبي حيان هنا قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ ...} الآيات، هذا (¬2) افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن إلى غير ذلك مما ذكره، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البحر المحيط.

[40]

ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنها، وأن الحامل له على ذلك إبليس، وكانت هاتان الطائفتان، أعني: اليهود والنصارى أهل الكتاب، مظهرين اتّباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى. وقد اندرج ذكرهم عموما في قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فجرّد ذكرهم هنا خصوصا، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلّم معهم هنا، وذكر ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة إلى آخر الكلام معهم، على ما سيأتي جملة مفصلة، وناسب الكلام معهم قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعد ما أوتوا من البيان الواضح، والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل، من الإيفاء بالعهد، والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضدّ ذلك بكفرهم بالقرآن، ومن جاء به وأقبل عليهم بالنداء، ليحرّكهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} و {يا آدَمُ اسْكُنْ} انتهى. وللشوكاني هنا: كلام في الرد على من يبحث عن المناسبة بين السور وبين الآيات فلا يغتر بكلامه؛ لأنه إذا ثبت أن ترتيب الآيات والسور في وضع المصاحف، على غير ترتيب النزول، والحال أن ذلك وضع توقيفي، فلا بدّ من معرفة حكمة تغيير الترتيب النزولي إلى هذا الترتيب الوضعي، ويتوصل إلى معرفتها بالبحث عن المناسبة الموصل إلى معرفة بلاغات القرآن وإعجازه، فحينئذ لا بد من البحث عنها ويقال: وكم من عائب بحثا صحيحا لعدم اطّلاعه على ما فيها ولا نطيل الكلام في الرد عليه، كما أطاله وخطّأ غيره، وحمّقه، ولا نقول فيه إلا كما قيل: وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا التفسير وأوجه القراءة 40 - {يا بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: يا أولاد يعقوب، وهذا خطاب مع جماعة اليهود

الذين كانوا بالمدينة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإسرائيل: هو نبي الله يعقوب بن إسحاق، بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام، وفي إسرائيل سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة، رواها ابن شنبوذ، عن ورش، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز، وهي قراءة الأعمش، وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز ولا مدّ، وإسرائل بهمزة مكسورة، وإسراءل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين، ذكره الشوكاني وأضافهم (¬1) إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل: يا بني يعقوب! لما في لفظ إسرائيل من الإضافة المشرفة؛ لأنّ معناه عبد الله، أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزّهم بالإضافة إليه، فكأنّه قيل: يا بني عبد الله أو يا بني صفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح! أطع الله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله؛ لأنّ الإنسان يحبّ أن يقتفي أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محمودا، فكيف إذا كان محمودا ألا ترى إنا وجدنا آباءنا على أمة بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا وفي قوله: يا بني إسرائيل! دليل على أنّ من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه، وعليه يا بني آدم! ويسمى ذلك أبا، وفي إضافتهم إلى إسرائيل، تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. ونقل عن أبي الفرج ابن الجوزي: أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم اسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل ونقل الجوهري في «صحاحه»: أن المسيح اسم علم لعيسى لا اشتقاق له. وذكر البيهقيّ عن الخليل بن أحمد، خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: محمد وأحمد نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل. والمراد بقوله: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} من كان بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول؛ لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ} إلا على ضرب بعيد من التأويل؛ ولأن من آمن منهم لا يقال له: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} إلا بمجاز بعيد. ويحتمل قوله: {اذْكُرُوا} الذكر باللسان، والذكر بالجنان، فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النّعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها وفي النعمة (¬1) المأمور بشكرها، أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون، وإهلاك عدوّهم، وإيتائهم التوراة، ونحو ذلك قاله الحسن، والزجاج، أو إدراكهم مدّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه، وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال: أنها ما اختصّ به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظّمة، وظلّل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى. قال ابن عباس (أعطاهم عمودا من النّور ليضيء لهم باللّيل) وكانت رءوسهم لا تتشعّث، وثيابهم لا تبلى، وإنما ذكّروا بهذه النعم؛ لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو التوراة، والإنجيل، والزبور. وليحذروا مخالفة ما دعوا إليه، من الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن، ولأنّ تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة، وهذه النعم وإن كانت على آبائهم فهي أيضا نعم عليهم؛ لأن هذه النعم حصل بها النسل؛ ولأنّ الانتساب إلى آباء شرّفوا بنعم، تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المنعم، فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فدلّ ذلك على فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأمم. وفي قوله: {نِعْمَتِيَ} نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: {آياتِنا} إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه، إشارة إلى عظم قدرها، وسعة برّها، وحسن موقعها. وفي قوله (¬1): {عَلَيْكُمْ} إشعار بأنهم قد نسوها بالكلية، ولم يخطروها بالبال، لا أنهم أهملوا شكرها فقط. وتقييد النعمة بكونها عليهم؛ لأن الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره، حمله الغيرة والحسد على الكفران والسّخط، ولذا قيل: لا تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا، لئلّا تزدري نعمة الله عليك، فإنّ من نظر إلى ما أنعم الله به عليه، حمله حبّ النعمة على الرضى والشكر؛ أي: احفظوا بالجنان، واشكروا باللسان نعمتي التي تفضّلت بها عليكم. ويجوز (¬2) في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقرّاء السبعة متفقون على الفتح، وأنعمت صلة التي، والعائد محذوف، والتقدير: أنعمتها عليكم {وَأَوْفُوا}؛ أي: أتمّوا {بِعَهْدِي} الذي قبلتم يوم الميثاق، ولا تتركوا وفاءه وهو عام في جميع أوامره، من الإيمان، والطاعة، ونواهيه، ووصاياه، فيدخل في ذلك ما عهده تعالى إليهم في التوراة، من اتّباع محمد صلّى الله عليه وسلّم والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا، والمراد منه هنا: الموثق. والوصية والعهد هنا مضاف إلى الفاعل {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما ضمنت لكم من الجزاء؛ أي: أتّمم جزاءكم بحسن الإثابة، والقبول، ودخول الجنة، والعهد هنا مضاف إلى المفعول، فإنّ العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد، فإن الله عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح، بنصب الدلائل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وأوّل مراتب الوفاء منّا: هو الإتيان بكلمتي الشهادة، ومن الله حقن المال والدم، وآخرها منّا: الاستغراق في بحر التوحيد بحيث نغفل عن أنفسنا فضلا عن غيرنا، ومن الله الفوز باللّقاء الدائم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

والمعنى (¬1): يا أولاد يعقوب! اذكروا بألسنتكم وبقلوبكم نعمتي التي أنعمت بها عليكم، وعلى آبائكم، من الإنجاء من فرعون، وفلق البحر، وتظليل الغمام في التيه، وإخراج الماء من الحجر، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من النعم التي لا تعدّ ولا تحصى، واشكروا عليها بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وحذف الشكر؛ إكتفاء بذكر النعمة {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}؛ أي: أتموا وأدّوا بما أمرتكم به من الطاعات، واجتنبوا ما نهيتكم عنه من الكفر والعصيان، أو أوفوا العهد الذي جعلنا عليكم في كتبكم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}؛ أي: أوف لكم وأتمم بما عاهدته لكم عليّ، وضمنته لكم، من الجزاء بإثابتكم وإدخالكم الجنة {وَإِيَّايَ} لا غيري {فَارْهَبُونِ}؛ أي: خافوني فيما تأتونه وفيما تذرونه؛ أي: خافوا عقابي في نقض ذلك العهد، فإن عذابي لشديد. ونصب (¬2) {إِيَّايَ} بمحذوف، تقديره: وإياي ارهبوا، فارهبوني فيما تأتون وتذرون، وخصوصا في نقض العهد لا بارهبون فإنه قد أخذ مفعوله، والأصل: ارهبوني، لكن حذفت الياء تخفيفا؛ لموافقة رؤوس الآي، والفاء الجزائية دالة على تضمن الكلام معنى الشرط، كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني لا غيري. والرهبة: خوف معه تحرز، والآية متضمنة للوعد لقوله: {أُوفِ} والوعيد لقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} دالة على وجوب الشكر. والوفاء بالعهد، وأن المؤمن ينبغي له أن لا يخاف أحدا إلا الله؛ للحصر المستفاد من تقديم إياي، والمعنى (¬3): أي: لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها، وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى، وهو القادر على سلبها منكم، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها، ولا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع، ونزول بعض الأضرار، إذا أنتم اتبعتم الحق، وخالفتم غيركم من الرؤساء. وقيل: المراد بالنعمة نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا، حتى ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[41]

كانوا يسمون شعب الله، وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصوا بها، وكانوا مفضلين بها على الأمم والشعوب، تقتضي ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبي يرسله الله سبحانه لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم؛ ولو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام، أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل الله إليهم. ومنها: أنه سيرسل إليهم نبيا من بني عمهم إسماعيل، يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وكانوا من الفائزين. أما عهد الله لهم، فأن يمكن لهم في الأرض المقدسة، ويرفع من شأنهم، ويخفض لهم العيش فيها، وينصرهم على أعدائهم الكفرة، ويكتب لهم السعادة في الآخرة. وقرأ الزهري (¬1): {أوف} بعهدكم مشددا، ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقا للمجرد. وقرأ ابن أبي إسحاق {فارهبوني} بالياء على الأصل. ولما كان من مواضع الوفاء بالعهد، خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله تعالى وحده، فقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 41 - وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام، انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق، فقال: {وَآمِنُوا} يا بني إسرائيل: {بِما أَنْزَلْتُ} إفراد الإيمان (¬2) بالقرآن بالأمر به، بعد اندراجه تحت العهد؛ لمّا أنّه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهد؛ أي: صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلته على محمد صلّى الله عليه وسلّم {مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ}؛ أي: حال كون القرآن مصدقا للتوراة؛ لأنه نازل حسبما نعت فيها، وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم؛ لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم، مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ} فريق {كافِرٍ بِهِ}؛ أي: بالقرآن، فإن وزر المقتدي يكون على المبتدىء كما يكون على المقتدي؛ أي (¬3): لا تسارعوا إلى الكفر به؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به؛ لمّا أنكم تعرفون شأنه وحقيقته بطريق التلقي، مما معكم من الكتب الإلهية، كما تعرفون أبناءكم، وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون، فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم، ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم، من كونكم أول كافر به. ودلت الآية: على أنه صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، فكذبه يهود المدينة، ثم بنو قريظة، وبنو النضير، ثم خيبر، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود. وإنما (¬1) قال: أول كافر به، مع أنه قد تقدمهم إلى الكفر به كفار قريش؛ لأن المراد أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق. وقيل: مفهوم الصفة غير مراد هنا، فلا يرد ما يقال: إن المعنى: ولا تكونوا أول كافر بل آخر كافر، وإنما ذكرت الأولية؛ لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر. وقيل: الضمير في به عائد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: لا تكونوا أول كافر بهذا النبي، مع كونكم قد وجدتموه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، مبشرا به في الكتب المنزلة عليكم. وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: {لِما مَعَكُمْ}، وإنما قال: أول كافر به بالإفراد، ولم يقل كافرين: حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى، نحو: فريق، أو فوج. وقال الأخفش، والفراء: إنه محمول على معنى الفعل؛ لأن المعنى أول من كفر، وقد يكون من باب قولهم: هو أظرف الفتيان، وأجمله، كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائما مقام الجمع. والمعنى (¬2): وآمنوا يا أهل الكتاب! بما أنزلته على محمد صلّى الله عليه وسلّم، من القرآن، وصدقوا أنه من عندي، حالة كون ذلك المنزل مصدقا، وموافقا لما معكم؛ أي: للكتاب الذي معكم من التوراة والإنجيل في التوحيد، وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعض الشرائع، ولا تكونوا أيها اليهود أول من يكفر بهذا القرآن من أهل الكتاب؛ لأنكم إذا كفرتم به كفر أتباعكم، فتكونوا أئمة في الضلال، أو لا تكونوا أول من جحد مع المعرفة؛ لأن كفر قريش مع الجهل لا مع المعرفة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) العمدة.

ومفهوم الأولية معطل (¬1). ومعنى الآية: لا تكفروا به، فتكونوا أولا بالنسبة لمن بعدكم من ذريتكم، فتبوءوا بإثمكم وإثمهم، فهذا أبلغ من قوله ولا تكفروا؛ لأن فيه إثما واحدا؛ أي: بل يجب أن تكونوا أول من آمن به، لأنكم أهل نظر في معجزاته وعلم بشأنه {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي}؛ أي: لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها {ثَمَنًا قَلِيلًا} هي الحظوظ الدنيوية، فإنها وإن جلّت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى ما فاتهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان. قيل: كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويعطونهم الرّشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع. وكان ملوكهم يجرون عليهم الأموال؛ ليكتموا ويحرفوا، فلما كانت لهم رياسة عندهم، ومآكل منهم، خافوا أن يذهب ذلك منهم؛ أي: من الأحبار لو آمنوا بمحمد واتبعوه، وهم عارفون صفته وصدقه، فلم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويغيرون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما حكي أن كعب بن الأشرف قال لأحبار اليهود: ما تقولون في محمد؟ قالوا: إنه نبيّ. قال لهم: كان لكم عندي صلة وعطية لو قلتم غير هذا. قالوا: أجبناك من غير تفكر، فأمهلنا نتفكر وننظر في التوراة، فخرجوا، وبدّلوا نعت المصطفى بنعت الدّجال، ثم رجعوا وقالوا ذلك، فأعطى كلّ واحد منهم صاعا من شعير، وأربعة أذرع من الكرباس، فهو القليل الذي ذكره الله سبحانه في هذه الآية الكريمة. والمعنى: {وَلا تَشْتَرُوا}؛ أي: لا تأخذوا بكتمان آياتي؛ أي: بكتمان محمد صلّى الله عليه وسلّم المذكور في كتابكم {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضا يسيرا من الدنيا من سفلتكم يعني: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم. وعبارة «الجمل» هنا (¬2): وذلك أن كعب بن الأشرف، ورؤساء اليهود، وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم، وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئا معلوما من زرعهم، وثمارهم، ونقودهم، فخافوا أنهم إن بيّنوا صفة ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

[42]

محمد وتبعوه تفوتهم تلك الفوائد، فغيروا نعته بالكتابة، فكتبوا في التوراة بدل أوصافه أضدادها، وكانوا إذا سئلوا عن أوصافه كتموها، ولم يذكروها، فأشار إلى التغيير بالكتابة بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا} {وَلا تَلْبِسُوا} وإلى الكتمان بقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. اه. {وَإِيَّايَ} لا غيري {فَاتَّقُونِ}؛ أي: فاخشون في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا ما يفوتكم من الرئاسة؛ أي (¬1): فاتقون بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن حطام الدنيا وأعاده؛ لأن معنى الأول اخشوني في نقض العهد، وهذا معناه في كتمان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو لأنّ الخطاب بالآية الأولى، لمّا عمّ العالم والمقلّد أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السّلوك، وبالثانية لمّا خصّ أهل العلم، أمرهم بالتقوى الذي هو منتهاه. 42 - {وَلا تَلْبِسُوا}؛ أي: ولا تخلطوا {الْحَقَّ} المنزّل من عندي في أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم {بِالْباطِلِ} المخترع من عندكم؛ أي: لا تخلطوا الحقّ الذي أنزلت عليكم في التوراة، من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالكذب الذي تكتبونه بأيديكم، من تغيير صفته، وتبديل نعته، وهو معطوف (¬2) على ما قبله. واللّبس بالفتح: الخلط؛ أي: لا تخلطوا الحقّ المنزّل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميّز بينهما، أو لا تجعلوا الحقّ ملتبسا، بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله. وفي «البحر» {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ}؛ أي: الصدق (¬3) بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها، أو بما بدّلوا فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة؛ لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى غيرهم، وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم بصفة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

الدجال. وظاهر هذا التركيب: أن الباء في قوله: {بِالْباطِلِ} للإلصاق كقولهم: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحقّ بالباطل فلا يتميز الحق من الباطل. انتهى. {وَ} لا {تَكْتُمُوا الْحَقَّ} مجزوم (¬1) عطفا على تلبسوا، والمعنى: النّهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالجزم، نهيا عن كل واحد من الفعلين، أو منصوب بإضمار أن، وعلى الأول يكون كل واحد من اللّبس والكتم منهيا عنه، وعلى الثاني يكون المنهيّ عنه هو الجمع بين الأمرين، ومن هذا يظهر رجحان دخوله تحت حكم النهي، وأنّ كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد: النهي عن كتم حجج الله التي أوجب تبليغها، وأخذ عليهم بيانها. وجملة قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حالية من واو الفاعل في الفعلين؛ أي: حالة كونكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون، أو أنتم تعلمون أنه حق نبي مرسل، قد أنزل عليكم ذكره في كتابكم، فجحدتم نبوته مع العلم به، أو المعنى: وأنتم تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم، وليس إيراد الحال لتقييد المنهي به، بل لزيادة تقبيح حالهم، إذ الجاهل قد يعذر. وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم (¬2): 1 - التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب. 2 - أن الله سبحانه يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل، يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية هاجر، وبيّن علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه، فأخذ الأحبار والرهبان يلبسّون على العامّة الحقّ بالباطل، ويوهمونهم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولئك الأنبياء الكذبة، الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين. وسبيل دعوتهم إلى الله أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم، بعدم الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

بزيادات يتحدّثونها، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل، والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم، ويحكّمونها في الدين، ويحتجّون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشدّ اتباعا لهم، فعلى من بعدهم أنّ يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم، لكن (¬1) هذه المعذرة لم يتقبّلها الله منهم، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا، كما لم يتقبّل ممن بعدهم من العلماء في أيّ شريعة ودين، أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها، فكل ما يعلم من كتاب الله، يجب علينا أن نعمل به، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر، ومتى فهمناه وعلمناه علمنا به. قال في «التيسير» ويجوز صرف الخطاب إلى المسلمين، وإلى كل صنف منهم، وبيانه أن يقال: أيّها السلاطين! لا تخلطوا العدل بالجور، ويا أيها القضاة! لا تخلطوا الحكم بالرشوة، وهكذا كل فريق. وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه وقد تعيّن عليه أداؤه، حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في حكم الآية. اه. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تعلّم علما لا يبتغي به وجه الله، لا يتعلّمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»؛ أي: ريحها. فمن (¬2) رهب وصاحب التقوى، لا يأخذ على علمه عوضا، ولا على وصيته ونصيحته صفدا، بل يبين الحق ويصدع به، ولا يلحقه في ذلك خوف ولا فزع. وفي الحديث: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان»، وفي التنزيل {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والعلم لهذه الآية {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} والفتوى في هذا الزمان، على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، والفقه، وغيره؛ لئلا يضيع. وفي الحديث «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». والآية في حق من تعيّن عليه التعليم، فأبى حتى يأخذ عليه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[43]

أجرا، فأما إذا لم يتعيّن، فيجوز له أخذ الأجرة، بدليل السنة في ذلك، كما إذا كان الغسّال في موضع لا يوجد فيه من يغسل الميت غيره، كما في القرى، والنّواحي، فلا أجر له لتعيّنه لذلك، وأما إذا كان ثمّة ناس غيره، كما في الأمصار، والمدن، فله الأجر حيث لم يتعيّن عليه، فلا يأثم بالترك، وقد يتعيّن عليه، إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه، ولا على عياله، فلا يجب عليه التعليم، وله أن يقبل على صنعته، وحرفته، ويجب على الإمام أن يعيّن له شيئا، وإلا فعلى المسلمين؛ لأنّ الصدّيق - رضي الله عنه - لمّا ولي الخلافة وعيّن لها، لم يكن عنده ما يقيم به أهله، فأخذ ثيابا، وخرج إلى السوق، فقيل له في ذلك، فقال: ومن أين أنفق على عيالي، فردوه وفرضوا له كفايته. وكذا يجوز للإمام، والمؤذن، وأمثالهما أخذ الأجرة، وبيع المصحف ليس بيع القرآن، بل هو بيع الورق وعمل أيدي الكاتب. وقالوا في زماننا: تغيّر الجواب في بعض المسائل، لتغيّر الزمان، وخوف اندراس العلم والدّين. منها: ملازمة العلماء أبواب السلاطين. ومنها: خروجهم إلى القرى لطلب المعيشة. ومنها: أخذ الأجرة لتعليم القرآن، والأذان، والإمامة. ومنها: العزل عن الحرّة بغير إذنها. ومنها: السلام على شربة الخمور، ونحوها، فأفتى بالجواز فيها، خشية الوقوع فيما هو أشدّ منها وأضرّ. كذا في «نصاب الأحساب»، وغيره. 43 - ثم ذكر لزوم الشرائع لهم بعد الإيمان، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} خطاب (¬1) لبني إسرائيل؛ أي: اقبلوا يا بني إسرائيل! وجوب الصلوات الخمس المفروضة، واعتقدوا فرضيتها، وأدوها بشرائطها، وأركانها، وآدابها في أوقاتها المحدودة لها، كصلاة المسلمين، فإن غيرها ك: لا صلاة {وَآتُوا الزَّكاةَ}؛ أي: اعطوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

الزكاة الواجبة في أموالكم، وأدوها إلى مستحقيها، كزكاة المؤمنين، فإن غيرها ك: لا زكاة. والزكاة: من زكى الزرع إذا نمى، فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال، ويثمر للنفس فضيلة الكرم، أو من الزكاة بمعنى الطهارة، فإنها تطهّر المال من الخبث، والنّفس من البخل {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}؛ أي: صلوا الصلوات الخمس مع المصلين محمد وأصحابه في جماعتهم، فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة؛ لما فيها من تظاهر النّفوس، فإن الصلاة كالغزو والمحراب كمحل الحرب ولا بد للقتال من صفوف الجماعة، فالجماعة قوّة. وخصّ الله سبحانه وتعالى الركوع بالذكر؛ تحريضا لليهود على الإتيان بصلاة المسلمين، فإن اليهود لا ركوع في صلاتهم، فكأنّه تعالى قال: صلّوا الصلاة ذات الركوع في جماعة. وقيل: لكونه ثقيلا على أهل الجاهلية. وقيل: إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة، والركوع الشرعيّ: هو أن ينحني المصلّي، ويمدّ ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه، ويقبض على ركبتيه، ثم يطمئن راكعا ذاكرا بالذكر المشروع فيه. والخلاصة (¬1): أنه سبحانه وتعالى، بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان، أمرهم بصالح عمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة؛ لتطهّر نفوسهم، كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي: مظهر شكر الله على نعمه، والصلة العظيمة بين الناس؛ لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله، وهم الفقراء؛ ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنيّ في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغني، كما ورد في الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا». وبعد (¬2) إذ أمرهم بالركوع مع الراكعين؛ أي: أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلّوا صلاتهم، وقد حثّ على صلاة الجماعة؛ لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين؛ ولأنه عند اجتماعهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[44]

يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء، أو يجلب لهم السرّاء. ومن ثم جاء في الخبر: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» وعبر عن الصلاة بالركوع؛ ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها. 44 - والخطاب في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} موجّه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان. فقد روي عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرا بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يؤمنون به. وقال السدّيّ: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى، وينهونهم عن معصيته، وهم يفعلون ما ينهون عنه. والاستفهام (¬1) فيه للتوبيخ، والتقريع لهم على ما فعلوا من أمر الناس، وترك أنفسهم المضمّن للإنكار والنهي، ونظيره في النهي، قول أبي الأسود الدؤليّ: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقال الآخر: وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البرّ هنا أقوال: الثّبات على دين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته صلّى الله عليه وسلّم. وروي عن قتادة، وابن جريج، والسدي: أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهو لا يصدقون، أو على الصلاة، والزكاة وهم لا يأتونهما. وقال القشيري: أتحرضون الناس على البدار، وترضون بالتخلّف. وقال: أتدعون الخلق إلينا، وتقعدون عنا، ونحو ذلك. والأمر (¬2): القول لمن دونك افعل، والمراد بالناس سفلتهم. والبرّ: التوسع في الخير، من البرّ الذي هو الفضاء الواسع {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: (¬3) تتركونها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

من البر، كالمنسيّات، لأنّ أصل السهو، والنسيان الترك، إلا أن السهو يكون لما علمه الإنسان، ولما لم يعلمه. والنسيان لما عزب بعد حضوره، كانوا يقولون لفقرائهم الذين لا مطمع لهم فيهم بالسرّ: آمنوا بمحمد، فإنه حقّ، وكانوا يقولون للأغنياء: نرى فيه بعض علامات نبي آخر الزمان دون بعض، فانتظروا، استيفاء لما ينالون منهم، ويؤخّرون أمور أنفسهم، فلا يتبعونه في الحال، مع عزيمتهم أن يتبعوه يوما، وكذا حال من تمادى في العصيان، وهو يقول: أتوب عند الكبر والشيب، وربّما يفجؤه الموت، فيبقى في حسرة الفوت {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ}؛ أي: والحال أنكم تقرؤون التوراة الناطقة بنعوته صلّى الله عليه وسلّم، الآمرة بالإيمان به {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؛ أي: أتدومون على ذلك، فلا تفهمون أنه قبيح، فترجعون عنه؛ أي: أليس لكم عقل تعرفون به، أنه قبيح منكم عدم إصلاح أنفسكم، والاشتغال بغيركم؟!. والعقل في الأصل: المنع والإمساك، ومنه العقال الذي يشدّ به وظيف البعير إلى ذراعيه لحبسه عن الحراك، سمي به النور الروحانيّ الذي به تدرك النفس العلوم الضروريّة، والنظرية؛ لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح، ويعقل على ما يحسن، ومحله الدماغ؛ لأنّ الدماغ محلّ الحسّ، وعند البعض محلّه القلب؛ لأنّ القلب معدن الحياة ومادّة الحواس، وعند البعض هو نور في بدن الآدمي والله أعلم. والأوّل أرجح، ثم هذا التوبيخ ليس على أمر الناس بالبر، بل لترك العمل به، فمدار الإنكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة، وهي جملة تنسون أنفسكم، دون ما عطفت هي عليه، وهي أتأمرون الناس بالبر. ولا يستقيم قول: من لا يجوّز الأمر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية، بل يجب العمل به، ويجب الأمر به، وقد جاء في الخبر «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه»، وذلك؛ لأنه إذا أمر به مع أنه لا يعمل به، وفقد ترك واجبا، وإذا لم يأمر به، فقد ترك واجبين، فالأمر بالحسن حسن وإن لم يعمل به، ولكن قلّما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه. ومن أمر بخير، فليكن أشد الناس مسارعة إليه، ومن نهى عن شيء، فليكن أشدّ الناس انتهاء عنه. وهذه الآية كما ترى، ناعية على من يعظ غيره، ولا يعظ نفسه سوء

[45]

صنيعه، وعدم تأثره، وإن فعله فعل الجاهل بالشّرع، أو الأحمق الخالي عن العقل. والمراد (¬1) بها: حثّ الواعظ على تزكية النفس، والإقبال عليها بالتكميل؛ لتقوم بالحق، وتقيم غيرها، لا منع الفاسق من الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما، لا يوجب الإخلال بالآخر. ويروى أنه كان عالم من العلماء، مؤثّر الكلام، قويّ التصرف في القلوب، وكان كثيرا ما يموت من أهل مجلسه واحد، أو اثنان من شدة تأثير وعظه. وكان في بلده عجوز لها ولد صالح، رقيق القلب، سريع الانفعال، وكانت تحترز عليه، وتمنعه من حضور مجلس الواعظ، فحضره يوما على حين غفلة منها، فوقع من أمر الله تعالى ما وقع، ثمّ إن العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت: أتهدي الأنام ولا تهتدي ... ألا إن ذلك لا ينفع فيا حجر السّنّ حتى متى ... تسنّ الحديد ولا تقطع وأشدّ (¬2) ما قرّع الله سبحانه في هذا الموضع، من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أوّلا أمرهم للناس بالبرّ، مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس؛ إيهاما للناس بأنهم مبلغون عن الله ما يتحمّلونه من حججه، ومبيّنون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك، وأبعدهم من نفعه، وأزهدهم فيه. وهذا الخطاب (¬3) وإن كان موجها إلى اليهود، فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم، فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح، لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد. 45 - وبعد أن بيّن سبحانه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

سوء حالهم، وذكر أن العقل لم ينفعهم، والكتاب لم يذكّرهم، بيّن (¬1) لهم طريق التّغلّب على الأهواء والشهوات، والتخلّص من حب الرئاسة والوجاهات، فقال: {وَاسْتَعِينُوا} يا بني إسرائيل! على ترك ما تحبون من الدنيا، وعلى الدخول في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان أثقل ثقيل عليكم؛ أي: اطلبوا المعونة والمساعدة على ذلك {بِالصَّبْرِ}؛ أي: بحبس النفس عن الشهوات، ومنعها عنها، وبتحمّل ما يشق عليها من التكاليف الشرعية، كالصوم {وَ} بأداء {الصَّلاةِ} المفروضة التي هي عماد الدين، وجامعة لأنواع العبادات، وناهية عن الفحشاء والمنكر، أو استعينوا (¬2) على قضاء حوائجكم، بانتظار الظفر والفرج، توكّلا على الله تعالى، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات، لما فيه من كسر الشهوة، وتصفية النفس {وَالصَّلاةِ}؛ أي الناهية عن الفحشاء والمنكر. وقدّم الصبر عليها؛ لأنه مقدّمة الصلاة، فإنّ من لا صبر له، لا يقدر على إمساك النفس عن الملاهي حتى يشتغل بالصلاة، فلا يمكن حصولها كاملة إلا به. اه. «كرخي»: أي: استعينوا بالتوسّل ... الخ؛ أي: بالتوسل بالصلاة، والإلتجاء إليها حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب، وجبر المصائب، كأنهم؛ أي: بني إسرائيل، لمّا أمروا بما شقّ عليهم، لما فيه من ترك الشهوة، وترك الرياسة، والإعراض عن المال، عولجوا بذلك. وروى أحمد أنه صلّى الله عليه وسلّم: كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وروي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - نعي له بنت وهو في سفر، فاسترجع وقال: (عورة سترها، ومؤونة كفاها، وأجر ساقه الله، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}. واعلم: أنّ الصبر (¬3) الحقيقيّ إنما يكون، بتذكّر وعد الله بحسن الجزاء، لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

التي تشق عليها، والتفكر في أن المصائب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له، والتسليم لأمره. والاستعانة به تكون باتباع الأوامر، واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها، وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة؛ لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر؛ ولما فيها من مراقبة الله تعالى في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجي فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات. {وَإِنَّها}؛ أي: وإن الصلاة {لَكَبِيرَةٌ}؛ أي: لثقيلة شاقّة {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ}؛ أي: إلا على المتواضعين المستكينين إلى طاعة الله تعالى، الخائفين من سطوته، المصدّقين بوعده ووعيده. وقال ابن جرير: معنى الآية (¬1): واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين؛ أي: المتواضعين المستكينين لطاعة الله، المتذللين من مخافته. هكذا قال والظاهر (¬2): أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، فإنها عامة لهم ولغيرهم. والله أعلم. وفي «البحر»: أنّ الضمير في {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} عائدة على الصلاة، هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية، أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: {وَاسْتَعِينُوا} فيكون مثل: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ}؛ أي: العدل أقرب. وقيل: غير ذلك، وأظهرها ما بدأنا به أولا. انتهى. والاستثناء في قوله (¬3): {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} مفرغ؛ لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين؛ أي: وإن الصلاة لشاقّة صعبة الاحتمال، إلا على المخبتين لله، الخائفين من شديد عقابه، وإنما (¬4) لم تثقل على هؤلاء؛ لأنهم ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) ابن كثير. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

[46]

مستغرقون في مناجاة ربهم، فلا يشعرون بشيء من المتاعب والمشاق. ومن ثم قال صلّى الله عليه وسلّم «وجعلت قرة عيني في الصلاة»؛ لأنّ اشتغاله بها كان راحة له، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا؛ ولأنهم مترقبون ما ادّخروا من الثواب، فتهون عليهم المشاق. ومن ثم قيل للربيع بن خثيم، وقد أطال صلاته: أتعبت نفسك، قال: راحتها أطلب. وقيل: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية. 46 - ثمّ وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم، وتدعوهم للإخبات إليه، فقال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} ويوقنون، ويعلمون، ويعتقدون اعتقادا جازما في كل لحظة {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}؛ أي: ملاقوا جزائه بالموت. والمفاعلة هنا، ليست على بابها، ولا أرى بأسا في حملها على معناها الأصليّ من دون تقدير مضاف؛ أي: أنهم معاينوه، وراؤوه، وهو كناية عن شهودهم مشهد العرض والسؤال يوم القيامة، وهو الوجه فيما يروى في الأخبار، نحو: لقي الله وهو عليه غضبان، وما يجري مجراه؛ أي: يعتقدون في كل لحظة اعتقادا جازما أنهم يبعثون، ويرون ربهم، ويحاسبون على أعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ}؛ أي: إلى ربهم {راجِعُونَ} في الآخرة؛ أي: إلى جزائه إياهم، فيجازيهم بأعمالهم؛ أي: يصدّقون بالبعث، والحساب، والمجازاة، وأمّا الذين لا يوقنون بالجزاء، ولا يرجون الثواب، ولا يخافون العقاب، كانت عليهم مشقة خالصة، فتثقل عليهم، كالمنافقين، والمرائين. فالصبر على الأذى والطاعات، من باب جهاد النفس، وقمعها عن شهواتها، ومنعها من تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء، والصالحين. قال يحيى بن اليمان: الصبر: أنّ لا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله، والرضى بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك، وهو بمنزلة الرأس من الجسد. اه. فإن قلت: ما فائدة قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} مع قوله: {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} مع أن الأول يغني عن الثاني؟. قلت: لا يغني عنه؛ لأنّ المراد بالأول: أنهم ملاقو ثواب ربهم على الصبر

[47]

والصلاة وبالثاني: أنهم موقنون بالبعث وبحصول الثواب على ما ذكر. والخلاصة (¬1): أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث، فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل. وعبر بالظن؛ للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشقّ عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأنّ هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله، 47 - ثم ذكّرهم سبحانه وتعالى، بنعمه، وآلائه العديدة مرة أخرى، فقال: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: يا أولاد العبد الصالح! المطيع لربه، المسمى بإسرائيل؛ أي: بعبد الله {اذْكُرُوا}؛ أي: اشكروا {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ} بها {عَلَيْكُمْ}؛ أي (¬2): على آبائكم بإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام، وتفجير الماء من الحجر، وغيرها. وذكر النعم على الآباء، إلزام الشكر على الأبناء، فإنهم يشرفون بشرفهم، ولذلك خاطبهم، فقال: {أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} ولم يقل: فضلت آباءكم؛ لأن في فضل آبائهم فضلهم، وهذا تأكيد لما تقدّم، وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل، الذي هو من أجل النعم وَاذكروا {أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ}؛ أي: فضّلت آباءكم عَلَى {الْعالَمِينَ} من عطف الخاص على العام للتشريف؛ أي: فضلت آباءكم على عالمي زمانهم؛ بما منحتهم من العلم، والإيمان، والعمل الصالح، وجعلتهم أنبياء، وملوكا مقسطين، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده، قبل أن يغيّروا، وهذا كما قال في مريم: {وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ}؛ أي: نساء زمانك، فإن خديجة، وعائشة، وفاطمة، أفضل منها، فلم يكن لهم فضل على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال تعالى في حقهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، كما في «التيسير». فالاستغراق في {الْعالَمِينَ} عرفيّ لا حقيقيّ والمعنى؛ أي (¬3): وأعطيتكم الفضل والزيادة على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[48]

غيركم، بإرسال الرسل منكم، وإنزال الكتب عليكم؛ أي: على غيركم من الشعوب والأمم، حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية، كالمصريين، وسكان الأراضي المقدّسة. وقد ناداهم باسم أبيهم؛ لأنه منشأ فخارهم، وأصل عزهم. وأسند النعمة والفضل إليهم جميعا؛ لشمولهما إياهم، والتفضيل إنما أتاهم؛ لتمسكهم بالفضائل، وتركهم للرذائل، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنيا، وذكّرهم بهذا الفضل؛ لينبّههم إلى أن الذي فضّلهم على غيرهم، له أن يفضل عليهم غيرهم، كمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب، بالتأمل فيما أوتيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات، فإنّ المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضل عليه، وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء، فلا مزاحم له فيه، ولا تقتضي هذه الفضيلة أن يكون كلّ فرد منهم، أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تمنع أن يفضلهم أخسّ الشعوب إذا انحرفوا عن جادّة الطريق، وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم، وإن كان بالقرب من الله باتباع شرائعه، فذلك إنما يتحقّق في أولئك الأنبياء والمهتدي من أهل زمانهم، ومن تبعهم بإحسان ما داموا على الاستقامة، وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل. قال القشيري (¬1): أشهد الله سبحانه بني إسرائيل فضل أنفسهم، فقال: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} وأشهد محمدا صلّى الله عليه وسلّم فضل ربه، فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} وشتان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه، وشهوده فضل نفسه، قد يورث الإعجاب، وشهوده فضل ربه، يورث الإيجاب. ثم إن اليهود كانوا يقولون: نحن من أولاد إبراهيم خليل الرحمن، ومن أولاد إسحاق ذبيح الله، والله تعالى يقبل شفاعتهما، 48 - {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} [البقرة: 49] فرد الله عليهم، فأنزل هذه الآية وقال: {وَاتَّقُوا}؛ أي: واخشوا يا بني إسرائيل! وخافوا {يَوْمًا}؛ أي: حساب يوم، أو عذاب يوم، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، وهو يوم القيامة {لا تَجْزِي} فيه؛ أي: لا تغني ولا تدفع فيه، أو لا تقضي ولا تؤدّي فيه، والجملة صفة يوم، والرابط فيه محذوف، كما قدّرنا {نَفْسٌ} مؤمنة عَنْ {نَفْسٍ} كافرة {شَيْئًا} من ¬

_ (¬1) روح البيان.

عذاب الله، أو شيئا مّا من الحقوق التي لزمت عليها. وإيراده منكرا مع تنكير النفس؛ للتعميم والإقناط الكليّ. قال تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} وكيف تنفع وقد قال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (34) الآية. وقرأ ابن السّماك العدويّ (¬1): {لا تَجْزِي} من أجزأ؛ أي: أغنى. وقيل: جزى، وأجزأ بمعنى واحد {وَلا يُقْبَلُ مِنْها}؛ أي: من النفس الأولى المؤمنة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {ولا تقبل} بالتاء المثناة الفوقية، وهو القياس، والأكثر؛ لأنّ الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء التحتية، فهو أيضا جائز فصيح، لمجاز التأنيث، وحسنه أيضا الفصل بين الفعل ومرفوعه. وقرأ سفيان (¬2): {ولا يقبل} بفتح الياء، ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات، وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب؛ لأن قبله {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} وبناؤه للمفعول أبلغ؛ لأنه في اللفظ أعمّ، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى؛ أي: ولا يقبل من النفس المؤمنة {شَفاعَةٌ} للنفس الثانية الكافرة، إن شفعت عند الله تعالى، لتخليصها من عذابه؛ أي: لا توجد منها شفاعة فتقبل، ولا يؤذن لها فيها، والشفاعة: طلب الخير من الغير للغير، فلا (¬3) شفاعة في حق الكافر، بخلاف المؤمن. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فمن كذب بها لم ينلها» والآيات الواردة في نفي الشفاعة خاصّة بالكافر: وسبب الآية كما مرّ: أن اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء فآيسهم الله تعالى عن ذلك، لأن الأصول لا تنفع الفروع، إلا إذا كان مع الفروع إيمان {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها}؛ أي: من النفس الكافرة المشفوع لها، وهي الثانية العاصية {عَدْلٌ}؛ أي: فداء من عذاب الله من مال، أو رجل مكانها، أو توبة تنجو بها من النار. والعدل بالفتح مثل الشيء من خلاف جنسه، وبالكسر مثله من جنسه، وسمّي به ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الفدية؛ لأنها تساويه، وتماثله، وتجري مجراه {وَلا هُمْ}؛ أي: ولا أصحاب النفوس الكافرة {يُنْصَرُونَ}؛ أي: يمنعون من دخول عذاب الله تعالى، ومن أيدي المعذّبين، فلا نافع، ولا شافع، ولا دافع لهم، والضمير، لما دلّت عليه النفس الثانية المنكرة، الواقعة في سياق النّفي من النفوس الكثيرة، والتذكير، لكونها عبارة عن العباد والأناسي. والنصرة ههنا أخصّ من المعونة؛ لاختصاصها بدفع الضرر. فإن قلت: ما الحكمة في تقديم الشفاعة على العدل هنا؟ وعكسه فيما يأتي في قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ}. قلت: للإشارة هنا إلى من ميله إلى حبّ نفسه، أشدّ منه إلى حب المال، وثم إلى من هو بعكس ذلك والمعنى؛ أي: ليس (¬1) لهم أنصار يمنعونهم من عذاب الله، ويدفعون عنهم عقابه يعني (¬2): أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل، ولا فدية. بطلت هنالك المحابة، واضمحلت الرّشا، والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء، والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها. والخلاصة (¬3): أن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا، من دفع المكروه عن النفس بالفداء، أو بشفاعة الشافعين عند الأمراء، والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق، والباطل على سواها، وتضمحل فيه جميع الوسائل، إلا ما كان من إخلاص في العمل، قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله تعالى. وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية، يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب، بفداء يدفع، أو ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) العمدة. (¬3) المراغي.

[49]

بشفاعة بعض المقربين إلى الحاكم، فيغيّر رأيه، وينقض ما عزم عليه، فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة؛ ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم، إلا مرضاة الله تعالى بالعمل الصالح، والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس، ويتجلّى في أعمال الجوارح 49 - {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ} (¬1) وقرىء {أنجيناكم} والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم، ونسبت هذه القراءة إلى النخعي، وذكر بعضهم أنه قرأ {أنجيتكم} فيكون الضمير فيه موافقا للضمير في نعمتي، {وَإِذْ} في موضع (¬2) نصب عطفا على نعمتي، عطف مفصّل على مجمل، وكذلك الظروف الآتية في الكلام المتعلق ببني إسرائيل، وينقضي عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} والخطاب للموجودين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، تذكيرا لهم بما أنعم الله على آبائهم؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء، والمعنى: ويا بني إسرائيل! اذكروا إذ نجينا آباءكم، وسلمناهم، وخلصناهم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}؛ أي: من بطش فرعون وأتباعه، وأهل دينه؛ أي: (¬3) واذكروا قصة وقت تنجيتنا آباءكم فإن تنجيتهم تنجية لكم، ومن عادة العرب يقولون: قتلناكم يوم عكاظ، أي: قتل آباؤنا آباءكم. والنجو: المكان العالي من الأرض؛ لأنّ من صار إليه يخلص، ثم سمي كلّ فائز ناجيا؛ لخروجه من ضيق إلى سعة؛ أي: جعلنا آباءكم بمكان حريز، ورفعناكم من الأذى. وفرعون: لقب من ملك العمالقة، ككسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وخاقان لمن ملك الترك، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبّع لمن ملك اليمن، والعمالقة الجبابرة، وهم أولاد عمليق بن لاود بن إرم، بن سام، بن نوح عليه السلام سكان الشام، منهم سمو الجبابرة. وملوك مصر، منهم سموا بالفراعنة، ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل، إذا عتا وتمرّد، فليس المراد الاستغراق، بل الذين كانوا بمصر. وفرعون موسى: هو الوليد بن مصعب بن الريان، وكان من القبط، وعمّر أكثر من أربعمائة سنة. وقيل: إنه كان عطارا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

أصفهانيا، ركبته الديون فأفلس، فاضطر إلى الخروج فلحق بالشام، فلم يتيسّر له المقام، فدخل مصر، فرأى في ظاهرها حملا من البطيخ بدرهم، وفي سوقها بطيخة بدرهم، فقال في نفسه: إن تيسّر لي أداء الديون فهذا طريقه، فخرج إلى السواد فاشترى حملا بدرهم، فتوجه به إلى السوق، فكل من لقيه من المكاسين؛ أي: العشارين، أخذ بطيخة، فدخل البلد وما معه إلا بطيخة، فباعها بدرهم ومضى بوجهه، ورأى أهل البلد متروكين سدى، لا يتعاطى أحد سياستهم، وكان قد وقع بها وباء عظيم، فتوجه نحو المقابر، فرأى ميتا يدفن، فتعرض لأوليائه، فقال: أنا أمين المقابر، فلا أدعكم تدفنونه حتى تعطوني خمسة دراهم، فدفعوها إليه، ومضى لآخر وآخر، حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهر مالا عظيما، ولم يتعرّض له أحد قطّ، إلى أن تعرّض يوما لأولياء ميت، فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم، فأبوا ذلك، فقالوا: من نصبك هذا المنصب، فذهبوا به إلى فرعون؛ أي: إلى ملك المدينة، فقال: من أنت؟ ومن أقامك بهذا المقام؟ قال: لم يقمني أحد، وإنما فعلت ما فعلت؛ ليحضرني أحد إلى مجلسك، فأنبّهك على اختلال حال قومك، وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال، فأحضره، ودفعه إلى فرعون، فقال: ولّني أمورك ترني أمينا كافيا، فولاه إياها، فسار بهم سيرة حسنة، فانتظمت مصالح العسكر، واستقامت أحوال الرعيّة، ولبث فيهم دهرا طويلا، وترامى أمره في العدل والصلاح، فلما مات فرعون أقاموه مقامه، فكان من أمره ما كان، وكان فرعون يوسف عليه السلام ريّان، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة. وقد روى المؤرخون: أنّ أول من دخل مصر من بني إسرائيل، يوسف عليه السلام، وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة، نحو: ستمائة ألف، حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد، ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستن لهم، ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن، والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم، لا يشركون المصريين. في شيء، ولا يندمجون في غمارهم إلى ما لهم من أنانية، وإباء، وترفع على

سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله، وأفضل خلقه؛ فهال المصريين ما رأوا، وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها، وينتزعوها من بين أيديهم، وهم ذلك الشعب النشيط، المجدّ، العامل، المفكّر، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم، واستحياء بناتهم، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلي حين ولادته، فكان من أمرهم ما ذكره الله سبحانه بقوله: {يَسُومُونَكُمْ ...} إلخ. والعبرة من هذه القصص: أنه كما أنعم على اليهود، ثمّ اجترحوا الآثام، فعاقبهم بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء، فألّف بين قلوبهم، وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين في الأرض، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من فرّطوا، أو قصّروا. ثم لما كفروا بهذه النعم (¬1)، أذاقهم الله تعالى ألوانا من العذاب على يد التّتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية، إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون ينتقصون بلادهم من أطرافها، ويصبون عليهم العذاب، وهم لاهون ساهون، وكلما حلت كارثة، أو أصابتهم جائحة، أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر، دون أن يتعرّفوا أسبابها، ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحل بهم من النكبات، ويدهمهم من الويلات. وقوله: {يَسُومُونَكُمْ} حال من آل فرعون؛ أي: واذكروا قصة وقت تنجيتنا آباءكم من آل فرعون وقومه، حالة كونهم يذيقونكم {سُوءَ الْعَذابِ} وأشده، ويكلفونكم أشقّ الأشغال، وأتعبها، وأصعبها. وقيل: حال من ضمير المفعول في نجيناكم، والمعنى: نجيناكم مسومين منهم أقبح العذاب، كقولك: رأيت زيدا يضربه عمرو؛ أي: حال كونه مضروبا لعمرو. وذلك (¬2) أنّ فرعون جعل بني إسرائيل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال، فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكن منهم في عمل، وضع عليهم الجزية، وقال وهب: كانوا أصنافا في أعمال فرعون، فذو القوة ينحتون السواري من الجبال، ويحملونها حتى قرحت أعناقهم وأيديهم، ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون الحجارة والطين، يبنون له القصور، وطائفة منهم يضربون اللبن، ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون، وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة، ويؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته، غلت يمينه إلى عنقه شهرا، والنساء يغزلن الكتان وينسجن. وقيل تفسير قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} ما بعده، وهو قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ}؛ أي: يقتلّون أبناءكم الصغار بالذبح، فهو مستأنف استئنافا بيانيا، كأنه قيل: ما حقيقة سوء العذاب الذي يذيقونهم، فأجيب بأنهم يذبحون أبناءهم؛ أي: يقتلونهم، والتشديد للتكثير، كما يقال: فتحت الأبواب، والمراد من الأبناء: هم الذكور خاصّة، بدليل المقابلة بما بعده، وأن الاسم يقع على الذكور والإناث في غير هذا الموضع، كالبنين في قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ} فإنهم كانوا يذبحون الغلمان لا غير، وكذا أريد به الصغار دون الكبار؛ لأنهم كانوا يذبحون الصغار. فإن قلت: ما الحكمة في ترك العاطف هنا في قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ}؟ وذكره في سورة إبراهيم؟. قلت: لأن ما هنا من كلام الله تعالى فوقع تفسيرا لما قبله، وما هناك من كلام موسى، وكان مأمورا بتعداد المحن في قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} فعدد المحن عليهم، فناسب ذكر العاطف. انتهى من «فتح الرحمن». وقرأ الجمهور {يُذَبِّحُونَ} (¬1) بالتشديد، وهو أولى؛ لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهريّ، وابن محيصن {يذبحون} مخففا من ذبح المجرد؛ اكتفاء بمطلق الفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يقتلون بالتشديد مكان يذبحون، والذبح: القتل، ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى: {يَلْقَ أَثامًا يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا ويحتمل أن يكون ممّا حذف منه حرف العطف؛ لثبوته في (سورة إبراهيم) وقول من ذهب إلى أنّ الواو هناك زائدة لحذفها هنا ضعيف، ويجوز أن يكون يذبحون في موضع الحال من ضمير الرفع في يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفا كما مرّ {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}؛ أي: يستبقون بناتكم ويتركونهن حيّات؛ استبقاء للخدمة، وذكر النساء، وإن كانوا يفعلون هذا بالصغائر؛ لأنه سماهن باسم المآل؛ لأنهم إذا استبقوهن صرن نساء بعد البلوغ؛ ولأنهم كانوا يستبقون البنات مع أمهاتهن، والاسم يقع على الكبيرات، والصغيرات عند الاختلاط. وذلك (¬1) أنّ فرعون رأى في منامه، كأنّ نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحاطت بمصر، وأخرجت كل قبطيّ بها، ولم تتعرض لبني إسرائيل، فهاله ذلك، وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه، فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام، يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل، فقال لهن: لا يسقط على أيديكن غلام يولد في بني إسرائيل إلا قتل، ولا جارية إلا تركت، ووكل القوابل، فكن يفعلن ذلك حتى قيل: إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنا عشر ألف صبيّ، وتسعون ألف وليد، وقد أعطى الله نفس موسى عليه السلام، من القوة على التصرف، ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء، ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة، ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤوس القبط على فرعون، وقال: إن الموت وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم، ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة، ويتركوا سنة، فولد هارون عليه السلام في السنة التي لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

يذبح فيها، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها، فلم يردّ اجتهادهم من قضاء الله شيئا، وشمّر فرعون عن ساق الاجتهاد، وحسر عن ذراع العناد، فأراد أن يسبق القضاء ظهوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره {وَفِي ذلِكُمْ} إشارة (¬1) إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء {بَلاءٌ}؛ أي: محنة وبليّة، وكون استحياء نسائهم؛ أي: استبقائهن على الحياة محنة، مع أنه عفو، وترك للعذاب، لما أن ذلك كان للاسترقاق والاستعمال في الأعمال الشاقّة، ولأنّ بقاء البنات مما يشق على الآباء، ولا سيما بعد ذبح البنين، لما فيه من انقطاع النسل، وفساد أمر معيشتهن {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: من جهته تعالى، بتسليطهم عليكم {عَظِيمٌ} صفة للبلاء، وتنكيرهما للتفخيم، والمعنى على هذا القول: وفي ذلكم المذكور من ذبح الأبناء واستبقاء البنات للخدمة، اختبار وامتحان شديد واقع عليكم من ربكم، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الإنجاء من فرعون، ومعنى البلاء حينئذ النعمة؛ لأنّ أصل البلاء الاختبار، والله تعالى يختبر عباده تارة بالمنافع ليشكروا فيكون ذلك الاختبار منحة؛ أي: عطاء ونعمة؛ وأخرى بالمضار ليصبروا فيكون محنة، فلفظ الاختبار يستعمل في الخير والشر. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} ومعنى من ربكم؛ أي ببعث موسى وبتوفيقه لتخليصكم منهم، والمعنى على هذا القول: وفي ذلكم المذكور من تنجيتكم من عذابهم، نعمة عظيمة واقعة لكم من ربكم. وحمل البلاء (¬2) على النعمة أرجح؛ لأنها هي التي صدرت من الله تعالى؛ ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم. اه. «مراح». وقال أبو حيان: (¬3) هو أضعف من القول الذي قبله؛ لما فيه من إعادة اسم الإشارة إلى أبعد مذكور، وهو المصدر المفهوم من نجيناكم. والمتبادر إلى الذهن، والأقرب في الذكر، هو القول الأول. اه. 50 - {وَ} اذكروا يا بني إسرائيل! أيضا {إِذْ فَرَقْنا} وفلقنا، وشققنا، وفصلنا {بِكُمُ}؛ أي: بسبب إنجائكم، فالباء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

للسببية وهو أولى؛ لأنّ الكلام مسوق لتعداد النعم والامتنان، وفي السببية دلالة على تعظيمهم، وهو أيضا من النعم. وقيل: الباء بمعنى اللام كقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: لأن الله. {الْبَحْرَ}؛ أي: فصلنا بعضه عن بعض لأجل أن يتيسر لكم سلوكه، وهو (¬1) بحر القلزم، بحر من بحار فارس، أو بحر من ورائهم يقال له: إساف، فجعلنا فيه اثني عشر ملكا، بعدد أسباط بني إسرائيل. والسبط: ولد الولد. والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، وهم أولاد يعقوب، فخضتم فيها {فَأَنْجَيْناكُمْ} من الغرق بإخراجكم إلى الساحل {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} يعني: فرعون وقومه للعلم به بدخوله فيهم، وكونه أولى به منهم. والغرق: الرسوب في الشيء المائع، ورسب الشيء في الماء رسوبا؛ أي: سفل فيه. والإغراق: الإهلاك في الماء {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}؛ أي: الحال أنكم تنظرون، وتبصرون، وتشاهدون انفراق البحر حين سلكتم فيه، وانطباقه على آل فرعون بعد سلامتكم منه، وتنظرون إليهم أيضا غرقى موتى، وجثثهم التي رماها البحر إلى الساحل بعد ثلاثة أيام، وفرعون معهم طافين. وفي ذلك آية باهرة من آيات الله سبحانه، حيث أنجى أولياءه، وأهلك أعداءه في زمن يسير، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، كما في الصحيحين، وغيرهما، فصامه موسى شكرا. قال القرطبي: أن الله تعالى لمّا أنجاهم وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى! إنّ قلوبنا لا تطمئن أن فرعون قد غرق، حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه. وروي (¬2) أنه: لما دنا هلاك فرعون، أمر الله سبحانه موسى عليه السلام، أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلا، فأمرهم أن يخرجوا، وأن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح، ومن خرج لطخ بابه بكف من دم؛ ليعلم أنه قد خرج، فخرجوا ليلا وهم ستمائة ألف وعشرون ألف مقاتل، لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره، والقبط لا يعلمون، ووقع في القبط موت فجعلوا يدفنونهم، وشغلوا عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

طلبهم، فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك، فقالوا: إنّ يوسف لما حضره الموت، أخذ على إخوته عهدا، أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم، فلذلك انسد عليهم الطريق، فسألهم عن موضع قبره، فلم يعلمه أحد غير عجوز قالت: لو دللت على قبره، أتعطيني كلّ ما سألتك؟ فأبى عليها، وقال: حتى أسأل ربي، فأمره الله بإيتاء سؤلها، فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي، فاحملني، وأخرجني من مصر، هذا في الدنيا، وأمّا في الآخرة، فأسألك أن لا تنزل في غرفة إلا نزلتها معك. قال: نعم. قالت: إنه في جوف الماء في النيل، فادع الله أن يحسر عنه الماء، فدعا الله أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع، واستخرجه في صندوق من صنوبر. قالوا: إنّ موسى استخرج تابوت يوسف من قعر النيل بالوفق، وهو أول علم أوجده الله سبحانه بنفسه، وعلمه آدم عليه السلام، فتوارثه الأنبياء آخرا عن أوّل. ثم إنه حمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق فساروا، فكان هارون أمام بني إسرائيل، وموسى على ساقتهم، فلمّا علم بذلك فرعون، جمع قومه فخرج في طلب بني إسرائيل، وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف جواد ذكر ليس فيها رمكة، على رأس كل واحد منهم بيضة، وفي يده حربة، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، والماء في غاية الزيادة، فأدركهم فرعون حين أشرقت الشمس، فقال فرعون في أصحاب موسى: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، فلما نظر أصحاب موسى إليهم، بقوا متحيّرين، فقالوا لموسى: إنا لمدركون يا موسى! أوذينا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا، اليوم نهلك، فإنّ البحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا يا موسى! كيف تصنع؟ وأين ما وعدتنا؟ قال موسى: كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فلم يطعه، فأوحي إليه أن كنّه، فضربه، وقال: انفلق يا أبا خالد! انفلق، فصار فيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالجبل العظيم، وكان لكل سبط طريق يأخذون فيه وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا، فخاضت بنو إسرائيل البحر، وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم لا يرى بعضهم بعضا، فقالوا: ما لنا لا نرى إخواننا؟

وقال كل سبط: قد قتل إخواننا. قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فقال موسى: اللهم! أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه، أن قل بعصاك هكذا وهكذا يمنة ويسرة، فصار فيها كوى ينظر بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فساروا حتى خرجوا من البحر، فلما جاز أخر قوم موسى، هجم فرعون على البحر فرآه منفلقا. قال لقومه: انظروا إلى البحر، انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا، فهاب قومه أن يدخلوه، وقيل له: إن كنت ربّا فادخل البحر، كما دخل موسى، وكان فرعون على حصان أدهم؛ أي: ذكر أسود من الخيل، ولم يكن في قوم فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل على أنثى وديق، وهي التي تشتهي الفحل، وتقدمه إلى البحر، فشمّ أدهم فرعون ريحها، فاقتحم خلفها البحر؛ أي: هجم على البحر بالدخول وهم لا يرونه، ولم يملك فرعون من أمره شيئا، وهو لا يرى فرس جبريل، وتبعته الخيول، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يعجّلهم، ويسوقهم حتى لا يشذّ رجل منهم، حتى خاضوا كلّهم البحر، ودخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، وهمّ أولهم بالخروج، فأمر الله البحر أن يأخذهم، فانطبق على فرعون وقومه، فأغرقوا، فنادى فرعون: لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين القصة، وقالت بنوا إسرائيل: الآن يدركنا فيقتلنا، فلفظ البحر ستمائة وعشرين ألفا عليهم الحديد، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}، فلفظ فرعون وهو كأنه ثور أحمر، فلم يقبل البحر بعد ذلك غريقا إلا لفظه على وجه الماء. واعلم (¬1) أنّ هذه الواقعة، كما أنها لموسى عليه السلام، معجزة عظيمة لأوائل بني إسرائيل، موجبة عليهم شكرها، كذلك اقتصاصها على ما هي عليه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية، وتنقاد لها النفوس الغيبة، موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالأذهان؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بذلك مع أنه كان أميّا لم يقرأ كتابا، وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب، فإخباره به دلّ على أنه أوحى إليه ذلك، وذلك علامة لنبوته، فما تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها، ¬

_ (¬1) روح البيان.

حيث اتخذوا العجل إلها بعد الإنجاء، ثمّ صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم، وسيرتهم في دينهم، وسوء أخلاقهم، ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها، حيث بدلوا التوراة، وافتروا على الله، وكتبوا بأيديهم، واشتروا به عرضا، وكفروا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، إلى غير ذلك. فيا لها من عصابة ما أعصاها، وطائفة ما أطغاها. وفي الآية تهديد للكافرين، وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا، وينتهوا عن المعاصي في جميع الأوقات، خصوصا في الزمان الذي أنجى الله فيه موسى مع بني إسرائيل من الغرق، وهو اليوم العاشر من المحرم. وفي سفر الخروج من التوراة (¬1): أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر أربعمائة وثلاثين سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم اتّبعهم فرعون وجنوده، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم، وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه، وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام، كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم. وزعم بعض الناس: أنّ عبور بني إسرائيل البحر، كان وقت الجزر وفي بحر القلزم - البحر الأحمر - رقارق يتيسّر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقتين عظيمتين ممتدّين، كالطود العظيم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} ولم يقل فرقنا لكم وقوله: {فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة، كقوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ} وقوله: {وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32)} ألا ترى أنّ الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع (¬2)، ولما اتبعهم فرعون وجنوده، ورآهم قد عبروا البحر، مشى إثرهم، وكان المدّ قد بدأ، ولم يتم خروج بني ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[51]

إسرائيل إلا وقد علا المد وطغى، حتى أغرق المصريّين جميعا، وتحقّقت نعمة الله على بني إسرائيل، وتمّ لهم التوفيق، ولعدوّهم الخذلان. ونعم الله بغير طريق المعجزات، أتمّ وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة لموسى عليه السلام. انتهى. ومثل هذا التأويل، ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بدّ أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي، وإرسال الرسل، وتأييدهم بالمعجزات. وقرأ الجمهور (¬1): {وَإِذْ فَرَقْنا} بالتخفيف. وقرأ الزهري {فَرَّقنا} بالتشديد ويفيد التكثير؛ لأنّ المسالك كانت اثنتي عشرة مسلكا على عدد أسباط بني إسرائيل، ومن قرأ {فَرَقْنا} مجردا اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط 51 - {وَ} اذكروا يا بني إسرائيل! {إِذْ واعَدْنا}؛ أي: قصة وعدنا {مُوسى} ابن عمران عليه السلام، وقت انقضاء أربعين ليلة لإيتاء التوراة، فصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي المجرد، فيكون صدور الوعد من واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، أو على أصلها، فإنّ الوعد وإن كان من الله، فقبوله كان من موسى، وقبول الوعد شبه الوعد، أو أنّ الله تعالى وعده بالوحي، وهو وعده المجيء للميقات إلى الطور (¬2). قرأ الجمهور {وعدنا} بالألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وقرأ أبو عمرو {ووعدنا} بغير ألف هنا، وفي (الأعراف) و (طه) وقد رجح أبو عبيد، قراءة من قرأ {وعدنا} بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ {واعَدْنا} بالألف، ووافقه على معنى ما قال: أبو حاتم، ومكيّ، وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر. وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

وقد مرّ تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأنّ كلا منهما متواتر، فهما في الصحة على حد سواء. وقوله {مُوسى} مفعول أوّل لواعدنا. (مو) (¬1) بالعبرانية الماء. و (شى) بمعنى الشجر، فقلبت الشين المعجمة سينا في العربية، وإنّما سمّي به؛ لأنّ أمّه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون، وألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت فأخذنه، فسمّي عليه السلام، باسم المكان الذي أصيب به، وهو الماء والشجر. ونسبه: هو موسى بن عمران، بن يصهر بن قاهث بن لاوى، بن يعقوب إسرائيل، بن إسحاق، بن إبراهيم خليل الرحمن، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}؛ أي: واعدناه تمام أربعين ليلة لإيتاء التوراة، وهو مفعول ثاني لواعدنا، ولكنه على حذف مضاف كما قدرنا أمره الله سبحانه بصوم ثلاثين وهو ذو القعدة، ثم زاد عليه عشرا من ذي الحجة. قاله أبو العالية، وأكثر المفسرين. وقيل ذو الحجة، وعشر من المحرم، وعبّر (¬2) عنها بالليالي؛ لأنها غرر الشهور، وشهور العرب وضعت على سير القمر، ولذلك وقع بها التاريخ. فالليالي أولى الشّهور، والأيّام تبع لها، أو لأنّ الظّلمة أقدم من الضوء، بدليل {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلا ونهارا؛ لأنّه لو كان التفسير باليوم، أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلمّا نصّ على الليالي، اقتضت قوّة الكلام أنّه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكليم، أو لإنزال التوراة. قال المهدويّ: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوما وعشرة ليال، فقالوا: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[52]

قد أخلفنا، كما سيأتي بسطه في الأعراف. وقرأ عليّ (¬1)، وعيسى بن عمر، بكسر باء {أربعين} شاذا؛ اتباعا لكسرة العين؛ أي: جعلنا انقضاء أربعين وتمامها، ميعادا لتكليمه، وإعطاء الكتاب له، لتعملوا به لمّا عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه، والمعنى: واذكروا إذ واعدنا موسى إعطاء الكتاب المسمى بالتوراة، بعد ما تم له أربعون ليلة في الرياضة؛ لأنّ بعد تمام الخدمة من العبد، تكون العطايا من الرب سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ} وجعلتم {الْعِجْلَ} الذي صاغه السامريّ من الحلي الذي استعاروه من القبط، بسبب العرس المسمّى بالبهموت إلها ومعبودا لكم {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد ذهاب موسى إلى محل المناجاة {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ}؛ أي: والحال أنكم ظالمون أنفسكم، وضارّون لها بعبادة العجل، أو واضعون العبادة في غير موضعها؛ أي: بوضع عبادة الله تعالى في غير موضعها بعبادة العجل، والجملة حال من ضمير اتخذتم، وهذا تنبيه على أن كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل زمن موسى. وأتى بثم في قوله (¬2): {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} وهو ولد البقرة الذكر؛ لأنه تعالى، لمّا وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه، وفضيلة بني إسرائيل، ليكون ذلك تنبيها للحاضرين على علوّ درجتهم، وتعريفا للغائبين، وتكملة للدين، كان ذلك من أعظم النعم، فلما أتوا عقب ذلك بأقبح أنواع الكفر والجهل، كان ذلك في محل التعجب، فهو كمن يقول: إنّني أحسنت إليك، وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسوء والأذى 52 - {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ}؛ أي: محونا عنكم جريمتكم التي هي عبادة العجل حين تبتم {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ}؛ أي: من بعد الاتخاذ الذي هو متناه في القبح، فلم نعاجلكم بالإهلاك، بل أمهلناكم إلى مجيء موسى، فنبهكم وأخبركم بكفارة ذنوبكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[53]

تشكروا نعمة عفوي، وتستمروا بعد ذلك على طاعتي، فإنّ الإنعام يوجب الشكر. وأصل الشكر: تصوّر النعمة وإظهارها، وحقيقته العجز عن الشكر، والمعنى؛ أي: ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة، ولم نعاجلكم، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى، وأخبركم بكفارة ذنوبكم؛ ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر على النعم. قاله الجمهور وفي «البحر» {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي (¬1): تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرون النعمة بالثناء. وقالوا: الشكر باللسان؛ وهو الحديث بنعمة المنعم والثناء عليه بذلك، وبالقلب؛ وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه وبالعمل، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا} وبالله؛ أي: شكر الله بالله؛ لأنّه لا يشكره حق شكره إلا هو. وقال بعضهم: وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة ... وبالقلب أخرى ثمّ بالعمل الأسنى وشكري لربّي لا بقلبي وطاعتي ... ولا بلساني بل به شكره عنّا 53 - {وَ} اذكروا يا بني إسرائيل! {إِذْ آتَيْنا}؛ أي: قصة إذ أعطينا {مُوسَى} بن عمران رسولكم {الْكِتابَ}؛ أي: التوراة {وَالْفُرْقانَ}؛ أي: الحكم الفارق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وهو من عطف الصفة على الموصوف، لغرض التفسير والبيان لماهية الموصوف؛ أي: قصة إذ أعطينا له التوراة الجامعة بين كونها كتابا، وحجة تفرق الحق والباطل، كقولك: لقيت الغيث الليث، تريد الشخص الجامع بين الجود والجراءة، فالمراد (¬2) بالفرقان والكتاب واحد، فكأنه قيل: إذ آتينا له الكتاب الفارق بين الحق والباطل. وقيل: الكتاب التوراة، والفرقان الآيات والمعجزات التي أعطاه الله تعالى، من العصا، واليد، وغيرهما، وهذا أولى وأرجح، ويكون العطف على بابه، والمعنى: وإذ آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: لكي تهتدوا بذلك الكتاب من الضلال إلى الحق، وبالعمل به إلى دار الثواب. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وهذا بيان الحكمة دون العلة؛ أي: الحكمة في إنزاله: أن يتدبّروا فيه، فيعلموا أن الله تعالى لم يفعل ذلك إلا للدلالة على صحة نبوته، فيجتهدوا بذلك في اتّباع الرشد، وإذا فعلتم ذلك آمنتم بمحمد؛ لأنه قد أتى من المعجزات بما يدلكم إذا تدبّرتم فيه على صحة دعواه النبوّة. والمعنى (¬1): واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيّدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع، ليعدّكم للاسترشاد بها، حتى لا تقعوا في وثنيّة أخرى، وأن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب، أن تعرفوا أنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم دليل على صحة نبوته، فتؤمنوا به، وتهتدوا بهديه، وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه. واعلم: أنه روي (¬2): أن بني إسرائيل، لمّا أمنوا من عدوهم بإغراق الله آل فرعون، ودخلوا مصر، لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله سبحانه موسى أن ينزل عليه التوراة، فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي، آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون، وما تذرون، ووعدهم أربعين ليلة، واستخلف عليهم أخاه هارون، فلما أتى الوعد جاءه جبريل على فرس، يقال له: فرس الحياة، لا يصيب شيئا إلا حيي؛ ليذهب بموسى إلى ربه، فلما رآه السامريّ، وكان رجلا صائغا من أهل باجرمي، واسمه ميحا، ورأى مواضع الفرس تخضرّ من ذلك، وكان منافقا، أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فلما رأى جبريل على ذلك، قال: إنّ لهذا شأنا، وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل. وقيل: إنه عرف جبريل، لأنّ أمه حين خافت عليه أن يذبح سنة ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل، خلفته في غابة، وكان جبريل يأتيه فيغذيه بأصابعه، فكان السامريّ يمصّ من إبهام يمينه عسلا، ومن إبهام شماله سمنا، فلمّا رآه حين عبر البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه، فلم تزل القبضة في يده حتى انطلق موسى إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

الطور، وكأن السامريّ سمعهم حين خرجوا من البحر، وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ووقع في نفسه أن يفتنهم من هذا الوجه وكان بنو إسرائيل، استعاروا حليّا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر، بعلّة عرس لهم، فأهلك الله تعالى فرعون، وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فلمّا ذهب موسى إلى المناجاة، عدّ بنو إسرائيل اليوم مع الليلة يومين، فلمّا مضى عشرون يوما، قالوا: قد تم أربعين ولم يرجع موسى إلينا فخالفنا، فقال السامريّ: هاتوا الحلي التي استعرتموها، أو أنّ موسى أمرهم أن يلقوها في حفرة، حتى يرجع ويفعل ما يرى فيها، فلما اجتمعت الحليّ صاغها السامريّ عجلا في ثلاثة أيام، ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب سنبك فرس جبريل، فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون، فصار جسدا له خوار؛ أي: صوت كصوت العجل، وله لحم، ودم، وشعر. وقيل: دخل الريح في جوفه من خلفه وخرج من فيه، كهيئة الخوار، فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى، فنسي؛ أي: أخطأ موسى الطريق وربّه هنا، وهو ذهب يطلبه، فأقبلوا كلهم على عبادة العجل إلا هارون، مع اثني عشر ألفا اتبعوا هارون، ولم يتبعه غيرهم، وهارون قد نصحهم، ونهاهم، وقال: يا قوم! إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة، ثمّ زيدت العشر، وكانت فتنتهم في تلك العشر، فلمّا مضت الثلاثون ولم يرجع موسى، وظنّوا أنه قد مات، ورأوا العجل وسمعوا قول السامري، عكفوا على العجل يعبدونه. قال أبو اللّيث في «تفسيره»: وهذا الطريق أصحّ، فلما رجع موسى ووجدهم على ذلك، ألقى الألواح، فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد، وهو الحلال والحرام وما يحتاجون، وأحرق العجل وذرّاه في البحر، فشربوا من مائه حبّا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة، وورمت بطونهم، فتابوا، ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم، وهذه حالهم. وأمّا هذه الأمة فلا يحتاجون إلى قتل النفس للتوبة في مثل هذه الصورة.

الإعراب {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}. {يا بَنِي} {يا} حرف نداء {بَنِي} منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وقد تغير بناء مفرده، كما سيأتي في مبحث التصريف {بَنِي} مضاف {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة النداء مستأنفة {اذْكُرُوا} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب {نِعْمَتِيَ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة {نعمة} مضاف، و (الياء) ضمير المتكلم في محل الجر مضاف إليه {الَّتِي} اسم موصول في محل النصب صفة لنعمتي {أَنْعَمْتُ} فعل وفاعل و {عَلَيْكُمْ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنعمتها {وَأَوْفُوا} فعل وفاعل معطوف على اذكروا {بِعَهْدِي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوفوا {أُوفِ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنا يعود على الله، والجملة الفعلية جملة طلبية لا محل لها من الإعراب {بِعَهْدِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوف {وَإِيَّايَ} الواو عاطفة {إِيَّايَ} ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول به لفعل محذوف وجوبا يفسره المذكور بعده، تقديره: وارهبوا إياي {فَارْهَبُونِ} ارهبوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة اذكروا {فَارْهَبُونِ} الفاء واقعة في جواب الأمر المحذوف، تقديره: تنبهوا. فارهبون نظير قولهم: زيدا فاضرب؛ أي: تنبه فاضرب زيدا، ثم حذف تنبه، فصار فاضرب زيدا، ثم قدم المفعول إصلاحا للفظ؛ لئلا تقع الفاء صدرا؛ وإنما دخلت الفاء لربط هاتين الجملتين؛ أو زائدة لتحسين اللفظ، وكذا يقال في قوله الآتي: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ارهبون فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة،

اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به مبنية على السكون، والجملة الطلبية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}. {وَآمِنُوا} الواو عاطفة {آمِنُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة اذكروا {بِما} الباء حرف جر {ما} موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بآمنوا {أَنْزَلْتُ} فعل وفاعل، والجملة صلة، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: بما أنزلته {مُصَدِّقًا} حال من ما الموصولة، أو الضمير المحذوف لِما جار ومجرور متعلق بمصدقا {مَعَكُمْ} مع منصوب على الظرفية المكانية، والكاف مضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف صلة لما، أو صفة لها {وَلا} الواو عاطفة {لا} ناهية جازمة {تَكُونُوا} فعل ناقص واسمه، مجزوم بلا الناهية {أَوَّلَ} خبرها منصوب {كافِرٍ} مضاف إليه {بِهِ} متعلق بكافر، وجملة تكونوا معطوفة على جملة آمنوا {وَلا} الواو عاطفة {لا} ناهية جازمة {تَشْتَرُوا} فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية معطوف على جملة آمنوا {بِآياتِي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتشتروا {ثَمَنًا} مفعول به لتشتروا {قَلِيلًا} صفة له {وَإِيَّايَ} الواو عاطفة {إِيَّايَ} ضمير نصب منفصل في محل النصب بفعل محذوف وجوبا، تقديره: واتقوا إياي {فَاتَّقُونِ} والجملة المحذوفة معطوفة على جملة آمنوا {فَاتَّقُونِ} الفاء رابطة لجواب الأمر، أو زائدة، كما مرت الإشارة إليه (اتقوا) فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، والياء المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. {وَلا} الواو عاطفة {لا} ناهية جازمة {تَلْبِسُوا} فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية {الْحَقَّ} مفعول به {بِالْباطِلِ} جار ومجرور متعلق بتلبسوا، والجملة معطوفة على

جملة آمنوا {وَتَكْتُمُوا} فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية عطفا على تلبسوا، داخلة تحت حكم النهي، ولك أن تجعل، الواو للمعية، و {تَكْتُمُوا} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية، الواقعة في جواب النهي، والتقدير: لا يكن منكم لبس الحق بالباطل، وكتمانكم الحق {الْحَقَّ} مفعول به. {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل تكتموا، تقديره: ولا تكتموا الحق حالة كونكم عالمين حقيته. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على آمنوا {وَآتُوا الزَّكاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على آمنوا {وَارْكَعُوا} فعل وفاعل معطوف على آمنوا {مَعَ الرَّاكِعِينَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق باركعوا. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (45)}. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، المضمن للتوبيخ والتعجب من هؤلاء اليهود؛ لأنه ليس هناك أقبح في العقول، من أن يأمر الإنسان غيره بخير، وهو لا يأتيه تأمرون فعل وفاعل مرفوع بثبات النون {النَّاسَ} مفعول به {بِالْبِرِّ} متعلق به، والجملة جملة طلبية لا محل لها من الإعراب {وَتَنْسَوْنَ} الواو عاطفة {تَنْسَوْنَ} فعل وفاعل معطوف على تأمرون {أَنْفُسَكُمْ} مفعول به {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أَنْتُمْ} مبتدأ {تَتْلُونَ الْكِتابَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل تنسون، تقديره: وتنسون أنفسكم حالة كونكم تالين الكتاب {أَفَلا تَعْقِلُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أتفعلون ذلك فلا تعقلون، والجملة المحذوفة مستأنفة، والفاء عاطفة و {لا} نافية {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة. {وَاسْتَعِينُوا} الواو استئنافية {اسْتَعِينُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مستأنفة {بِالصَّبْرِ} متعلق باستعينوا {وَالصَّلاةِ} معطوف على الصبر {وَإِنَّها} الواو حالية، على ما قيل، أو استئنافية {إِنَّها} ناصب واسمه {لَكَبِيرَةٌ} اللام حرف ابتداء (كبيرة) خبر إن {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، وشرطه أن يسبق بنفي، فيؤول الكلام هنا بالنفي، تقديره: وإنها لا تخف

ولا تسهل إلا على الخاشعين. والخشوع: حضور القلب، وسكون الجوارح {عَلَى الْخاشِعِينَ} جار ومجرور متعلق بكبيرة، وجملة إن في محل النصب حال من الصلاة، أو مستأنفة وهو الأصح. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الجر صفة للخاشعين {يَظُنُّونَ} فعل وفاعل صلة الموصول {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {مُلاقُوا} خبره مرفوع بالواو {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، وجملة أن من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن، تقديره: الذين يظنون لقاء ربهم بالبعث {وَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه {إِلَيْهِ} متعلق براجعون و {راجِعُونَ} خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول من أن الأولى، تقديره: ويظنون رجوعهم إلى ربهم للمجازاة. {يا بَنِي إِسْرائِيلَ} منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة {اذْكُرُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب {نِعْمَتِيَ} مفعول به ومضاف إليه {الَّتِي} اسم موصول للمفردة المؤنثة في محل النصب صفة لنعمتي {أَنْعَمْتُ} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنعمتها {عَلَيْكُمْ} متعلق بأنعمت {وَأَنِّي} ناصب واسمه {فَضَّلْتُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به {عَلَى الْعالَمِينَ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، تقديره: وأني مفضلكم على العالمين، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على نعمتي على كونه مفعولا به لاذكروا، تقديره: اذكروا نعمتي عليكم، وتفضيلي إياكم على العالمين. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}. {وَاتَّقُوا} الواو عاطفة {اتَّقُوا} فعل، وفاعل مبني على حذف النون، معطوف على اذكروا {يَوْمًا} مفعول به {لا} نافية {تَجْزِي} فعل مضارع {نَفْسٌ} فاعل {عَنْ نَفْسٍ} متعلق بتجزي {شَيْئًا} مفعول به، والجملة الفعلية في محل النّصب صفة ليوما، ولكنها صفة سببية، والرابط محذوف، تقديره: فيه {وَلا}

الواو عاطفة {لا} نافية {يُقْبَلُ} فعل مضارع مغير الصيغة {مِنْها} متعلق بيقبل {شَفاعَةٌ} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة لا تجزي على كونها صفة سببية ليوما، والرابط محذوف أيضا، تقديره: فيه {وَلا يُؤْخَذُ} فعل مضارع مغير الصيغة {مِنْها} متعلق بيؤخذ {عَدْلٌ} نائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة لا تجزي على كونها صفة ليوما، والرابط محذوف أيضا، تقديره: ولا يؤخذ منها فيه عدل {وَلا} الواو عاطفة لا نافية {هُمْ} مبتدأ {يُنْصَرُونَ} فعل ونائب فاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة لا تجزى على كونها صفة سببية ليوما، والرابط محذوف أيضا، تقديره: ولا هم ينصرون فيه. {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على كونها مفعولا به لاذكروا مبنية على السكون {نَجَّيْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، تقديره: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي، وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتي إياكم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بنجيناكم و {فِرْعَوْنَ} ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة {يَسُومُونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به أول {سُوءَ الْعَذابِ} مفعول ثاني ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آل فرعون، والرابط واو الفاعل، تقديره: حالة كونهم سائمين إياكم سوء العذاب، ويحتمل أن تكون مستأنفة {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب بدل من جملة يسومونكم، بدل تفصيل من مجمل على كونها حالا من آل فرعون، تقديره: حالة كونهم مذبحين أبنائكم، أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على يذبحون {وَفِي ذلِكُمْ} الواو اعتراضية، أو استئنافية {فِي ذلِكُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {بَلاءٌ} مبتدأ مؤخر {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أولى لبلاء

{عَظِيمٌ} صفة ثانية لبلاء، والتقدير: وبلاء عظيم واقع من ربكم، كائن في ذلكم العذاب، أو في ذلكم الإنجاء، والجملة الإسمية معترضة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على كونها مفعولا به لاذكروا مبني على السكون؛ لشبهها بالحرف شبها افتقاريا {فَرَقْنا} فعل، وفاعل {بِكُمُ} متعلق بفرقنا على كونه مفعولا ثانيا له {الْبَحْرَ} مفعول أول له، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ، والتقدير: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي عليكم، وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتي إياكم من آل فرعون، ووقت فرقي بكم البحر {فَأَنْجَيْناكُمْ} الفاء حرف عطف وتفريع {أنجيناكم} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة فرقنا بكم البحر، على كونها مضافا إليه لإذ، تقديره: واذكروا وقت فرقي بكم البحر، فإنجائي إياكم من الغرق {وَأَغْرَقْنا} فعل وفاعل معطوف على أنجيناكم، تقديره: وإغراقنا آل فرعون و {آلَ فِرْعَوْنَ} مفعول به، ومضاف إليه {وَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تَنْظُرُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من آل فرعون، تقديره: حالة كونكم ناظرين إليهم وقت إغراقهم. {وَإِذْ} الواو عاطفة إِذْ ظرف لما مضى في محل النصب، معطوف على نعمتي {واعَدْنا مُوسى} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {أَرْبَعِينَ} مفعول ثان منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون حرف زائد؛ لشبه الجمع {لَيْلَةً} تمييز ذات لأربعين منصوب به، والتقدير: واذكروا وقت مواعدتنا موسى أربعين ليلة {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {اتَّخَذْتُمُ} فعل وفاعل، وهو من أخوات ظن ينصب مفعولين {الْعِجْلَ} مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إلها {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذتم، والجملة الفعلية في محل الجر، معطوفة على جملة واعدنا على كونها مضاف إليه لإذ {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل

النصب حال من فاعل اتخذ، تقديره: حالة كونكم ظالمين أنفسكم بعبادته. {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {عَفَوْنا} فعل وفاعل {عَنْكُمْ} متعلق بعفونا {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بعفونا أيضا، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة اتخذتم {لَعَلَّكُمْ} لعل حرف نصب وتعليل، والكاف في محل النصب اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ} في محل الرفع خبر لعل، تقديره: لعلكم شاكرون نعمتنا عليكم، وجملة لعل جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من ضمير عنكم. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي على أنه مفعول به لاذكروا {آتَيْنا} فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا يتعدى إلى مفعولين مُوسَى مفعول أول {الْكِتابَ} مفعول ثان {وَالْفُرْقانَ} معطوف على الكتاب عطف صفة على موصوف، كما مر بسط الكلام فيه في مبحث التفسير، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ، تقديره: واذكروا وقت إيتائنا موسى الكتاب والفرقان {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه، وجملة {تَهْتَدُونَ} في محل الرفع خبره، وجملة لعلّ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {يا بَنِي إِسْرائِيلَ} وبني منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذلك عاملته العرب بعض معاملة جمع التكسير، فألحقوا بفعله المسند إليه تاء التأنيث، فقالوا: قالت بنو فلان: وهل لامه ياء؟ لأنه مشتق من البناء؛ لأن الابن فرع الأب ومبنيّ عليه، أو واو لقولهم: البنوة كالأبوة. والأخوة قولان: الصحيح الأول، وأما البنوة فلا دلالة فيها؛ لأنهم قد قالوا الفتوّة، ولا خلاف في أنها من ذوات الياء إلا الأخفش. رجح الثاني، بأن حذف الواو أكثر. واختلف في وزنه، فقيل: هو فعل بفتح العين. وقيل: هو بسكونها، وهو أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها، وعوّض من لامها همزة الوصل، وجمع ابن جمع

تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون وهو جمع شاذّ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: إبنون {وَإِسْرائِيلَ} خفض بالإضافة، ولا ينصرف للعلمية والعجمة، وهو مركب تركيب الإضافة، مثل: عبد الله، فإن إسر بالعبرانية هو العبد، وإيل هو الله. وقيل: إسرا مشتق من الأسر وهو القوة، فكأن معناه الذي قواه الله. وقيل: لأنه أسرى بالليل مهاجرا إلى الله تعالى. وقيل: لأنه أسر جنيّا كان يطفىء سراج بيت المقدس، فعلى هذا بعض اسم يكون عربيا، وبعضه عجميا، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها، لغة القرآن، وهي قراءة الجمهور {إِسْرائِيلَ} بوزن إسرافيل. {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} الذّكر والذّكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد، يكونان باللّسان وبالجنان. وقال الكسائي: هو بالكسر للّسان، وبالضم للقلب، فضدّ المكسور الصمت، وضد المضموم النسيان، وبالجملة فالذكر الذي محله القلب ضد النسيان، والذي محلّه اللسان ضد الصمت، سواء قيل: إنها بمعنى واحد، أم لا (والنعمة) اسم لما ينعم به، وهي شبيهة بفعل بمعنى مفعول، نحو: ذبح، ورعي، والمراد بها الجمع؛ لأنها اسم جنس. قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} يقال: أوفى ووفّى ووفى مشددا، ومخففا، ثلاث لغات بمعنى واحد. وقيل: يقال: وفيت ووفّيت بالعهد، وأوفيت بالكيل لا غير، والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا، والمراد منه الموثق، والوصيّة، وأصل أوفوا أوفيوا بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الفاء؛ لمناسبة الواو، فصار وزنه أفعوا. وقوله: {أُوفِ} وزنه أفع؛ لمناسبة حذف لام الكلمة، بسبب جزم الفعل الواقع جوابا للطلب {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} وزن أوّل أفعل، فاء الكلمة وعينها معتلّان، كلاهما واو، ولم يتصرف من هذا اللفظ فعل، فأصل الكلمة على هذا وول، هذا مذهب سيبويه. وقال غيره: أصله أو أل من وأل إذا نجا، أو طلب النجاة، أبدلت الهمزة الثانية واوا للتخفيف، ثم أدغمت فيها الواو الأولى، فقيل: أوّل. وقيل: إنه من آل، فهو أأول، وقع فيه قلب مكانيّ، بجعل العين مكان الفاء، والفاء مكان العين، فصار وزنه أعفل؛ أي: أو أل، ثم خفف بإبدال الهمزة الثانية واوا، وإدغام الواو الأولى فيها. انظر «الأشموني».

{وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي} أصله تشتريوا من اشترى، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء؛ لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وضمت الراء؛ لمناسبة الواو {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} وفي «المصباح» لبس الثوب من باب تعب لبسا بضم اللام، واللّبس بالكسر، واللباس ما يلبس، ولبست عليه الأمر لبسا، من باب ضرب خلطته. وفي التنزيل {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} والتشديد مبالغة. وفي الأمر لبس بالضم، ولبسة أيضا؛ أي: إشكال، والتبس الأمر أشكل، ولا بسته بمعنى خالطته. اه. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أصله: أقوموا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو إلى فاء الكلمة الساكن، فسكنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياء حرف مد {الصَّلاةَ} الألف فيه منقلبة عن واو، فأصله: صلوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح {وَآتُوا الزَّكاةَ} والألف فيه أيضا منقلبة عن واو؛ لأنه من زكا يزكو، كنما ينمو وزنا ومعنى، فأصله: زكوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} الأمر طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه أمر يأمر على وزن فعل يفعل، من باب نصر، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيدا، وإتمامه قليل أؤمر زيدا، فإن تقدم الأمر واو، أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة يحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ، ولا يقاس عليها. ذكره في «البحر» {بِالْبِرِّ} والبر الصلة، وأيضا الطاعة. قال الراجز: لا همّ ربّ إنّ بكرا دونكا ... يبرّك النّاس ويفجرونكا والبرّ: الفؤاد، وولد الثعلب والهرّ. وبرّ والده: أجلّه وأعظمه. يبرّه على وزن فعل يفعل، ورجل بارّ، وبرّ، وبرّت يمينه، وبرّ حجّه، جمع أنواعا من الخير. اه. من «البحر». وفي «البيضاوي» البرّ: بالكسر التوسع في الخير، مأخوذ من البرّ، وهو الفضاء الواسع. والبرّ بالضم: القمح، والواحدة برّة. والبرّ بالكسر ثلاثة أقسام: برّ في عبادة الله، وبرّ في مراعاة الأقارب، وبرّ

في معاملة الأجانب. وفي «السمين» والبرّ سعة الخير من الصلة، والطاعة. والفعل منه برّ يبرّ، كعلم يعلم. والبر بالفتح: الإجلال والتعظيم، ومنه ولد برّ بوالديه؛ أي: يعظّمهما، والله تعالى برّ لسعة خيره على خلقه. اه. {وَتَنْسَوْنَ} والنسيان ضد الذكر. وهو: السهو الحادث بعد حصول العلم. ويطلق أيضا على الترك، وضدّه الفعل. والفعل نسي ينسى على وزن فعل يفعل، وأصله: تنسيون بوزن تفعلون، تحركت الياء بعد فتح، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالّة عليها {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ} من تلا يتلو واويّ اللام، أسند الفعل إلى واو الجماعة، وحذفت حركة الواو لام الفعل؛ للتخفيف، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى لام الكلمة، وأبقيت واو الجماعة للغرض الذي جيء بها له، فصار وزنه تفعون بعد أن كان تفعلون والتلاوة القراءة، وسميت بها؛ لأن الآيات، أو الكلمات، أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، والتلو التبع، وناقة متل يتبعها ولدها {أَفَلا تَعْقِلُونَ} العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير يمنعه من التحرك، والمعقل: مكان يمتنع فيه، والعقل الدية؛ لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل ثوب موشّى قال الشاعر: عقلا ورقما تظلّ الطّير تتبعه ... كأنّه من دم الأجواف مدموم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} أصله: استعونوا بوزن استفعلوا، نقلت حركة الواو إلى العين فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. والصبر: حبس النفس على المكروه، كالاجتهاد في العبادة، وكظم الغيظ، والحلم، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن المعاصي. وبما تقرر علم أن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على الشدة والمصيبة. وصبر على الطاعة، وهو أشدّ من الأول، وأجره أكثر منه وصبر عن المعصية، وهو أشدّ من الأول والثاني، وأجره أكثر منهما. اه. «كرخي» والفعل منه صبر يصبر، من باب نصر. وأصله: أن يتعدّى لواحد. وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعد. {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ}؛ أي: إلا على المتصفين بالخشوع والخوف من الله

سبحانه، والخشوع بالجوارح، والخضوع بالقلب، أو الخشوع بالبصر، والخضوع بسائر الأعضاء {الَّذِينَ يَظُنُّونَ}؛ أي: يوقنون؛ لأن الظنّ هنا بمعنى اليقين، كما في قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)} فاستعمل الظن استعمال اليقين مجازا، كما استعمل العلم استعمال الظن، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ}. اه. «كرخي». وأصل يظنون: يظننون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء، فضمت، وأدغمت النون في النون {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} أصله ملاقيوا بضم الياء، استثقلت الحركة على الياء فحذفت فسكنت، فالتقت ساكنة مع واو الجماعة فحذفت، ثم ضمت القاف؛ لمناسبة الواو، وهذا بعد حذف نون الرفع للإضافة، والملاقاة: مفاعلة تكون من الجانبين؛ لأنّ من لاقاك فقد لاقيته. قال المهدويّ، والمارودي، وغيرهما: الملاقاة هنا وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد، كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله. وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم: فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية، بأن اللقاء هو رؤية الله تعالى، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمون. وقيل: ذلك على حذف مضاف؛ أي: جزاء ربهم؛ لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية. وقيل: ذلك كناية عن انقضاء أجلهم، كما يقال لمن مات: لقي الله، ومنه قول الشاعر: غدا نلقى الأحبه ... محمدا وصحبه وكنى بالملاقاة عن الموت؛ لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت. اه. من «البحر» بتصرف {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} والفضل: الزيادة واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل من باب نصر، وأصله: أن يتعدى بحرف الجر وهو على، ثم يحذف على، على حدّ قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين: وجدنا نهشلا فضلت فقيماه ... كفضل ابن المخاض على الفصيل {يَوْمًا لا تَجْزِي} الجزاء القضاء عن المفضّل والمكافأة. قال الراجز: يجزيه ربّ العرش عنيّ إذ جزى ... جنات عدن في العلاليّ العلا والإجزاء الإغناء {لا يُقْبَلُ} وقبول الشيء التوجه إليه، والفعل قبل يقبل

من باب فتح، والقبل ما واجهك {شَفاعَةٌ} والشفاعة. ضمّ غيره إلى وسيلته. من الشفع ضد الوتر؛ لأن الشفيع ينضمّ إلى الطالب في تحصيل ما يطلب، فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ} والأخذ ضد الترك، والأخذ: القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير: أخيذ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، وقلّ الإتمام. والعدل: الفداء. وأصل العدل بالفتح: ما يساوي الشيء قيمة وقدرا، وإن لم يكن من جنسه، وبالكسر المساوي في الجنس، والحجم. والعدل بالفتح: المقبول القول من الناس {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} والنّصر العطاء والانتصار: الانتقام. والنصرة أخصّ من المعونة؛ لأنها مختصة بدفع الضرر {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ} والنجاة: التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها. والأصل: الإلقاء بنجوة. والنجو: المكان العالي من الأرض؛ لأنّ من صار إليه يخلص وينجو، ثم سمّي كلّ فائز ناجيا؛ لخروجه من الضيق إلى السعة {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} اختلف في أصل آل، فقيل: أصله أهل بوزن فعل، أبدلت الهاء همزة؛ ليتوصل إلى إبدالها ألفا، ثم أبدلت ألفا، فقيل: آل، لأنها صارت همزة ساكنة بعد أخرى مفتوحة، وعلى هذا الأكثر. وقيل: أصله أول بوزن فعل بالتحريك، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وهو من آل يئول بمعنى رجع؛ لأنه يرجع إليك في قرابة، أو رأي، أو مذهب، وهذا مذهب الكسائي، وإلى ما ذكر أشار الشاطبيّ في «حرز الأماني» بقوله: فإبداله من همزة هاء اصلها ... وقد قال بعض النّاس من واو ابدلا ومراده ببعض الناس الكسائيّ: وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالبا، فلا يقال: آل الإسكاف والحجّام. قال الشاعر: نحن آل الله في بلدتنا ... لم نزل إلّا على عهد إرم قال الأخفش: لا يضاف آل. إلّا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآل فرعون؛ لأنّه رئيسهم في الضلالة. قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان، فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة، ومن

أهل الكوفة. انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس، وإلى الضمير. قال الشاعر: وانصرّ على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك وقال هدبة: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا وجمع بالواو والنون رفعا، وبالياء والنون جرا ونصبا، كما جمع أهل، فقالوا: آلون. والآل: السراب يجمع على أفعال. قالوا: أأوال. والآل: عمود الخيمة. والآل: الشخص، والآلة الحالة الشديدة. {يَسُومُونَكُمْ} من سامه إذا كلّفه العمل الشاقّ. قال الشاعر: إذا ما الملك سام النّاس خسفا ... أبينا أن نقرّ الخسف فينا وقيل: معناه: يعلّمونكم من السيماء وهي العلامة، ومنه تسويم الخيل. وقيل: يطالبونكم من مساومة البيع. وقيل: يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرعي. وقال أبو عبيدة: يولونكم. يقال: سامه خطّة خسف؛ أي: أولاه إياها، وأصله يسومونكم بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى السين، فسكّنت إثر ضمة، فصارت حرف مد {سُوءَ الْعَذابِ} السّوء: اسم مصدر من أساء الرباعيّ، ومصدر لساء الثلاثي. يقال: ساء يسوء وهو متعدّ، وأساء الرجل؛ أي: صار ذا سوء. قال الشاعر: لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالكا ومعنى ساءه: أحزنه وهذا أصله. ثمّ يستعمل في كل ما يستقبح، ويقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. وسوء العذاب: أشدّه وأفظعه {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} والذبح أصله الشقّ. قال الشاعر: كأنّ بين فكّها والفكّ ... فأرة مسك ذبحت في سكّ والذّبحة: داء في الحلق يقال منه: ذبحه يذبحه ذبحا، والذبح المذبوح

{أَبْناءَكُمْ} الهمزة فيه مبدلة من واو؛ لتطرفها فيها إثر ألف زائدة {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ} والاستحياء هنا: الإبقاء حيّا. واستفعل فيه بمعنى أفعل. استحياه وأحياه بمعنى واحد. وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} وأصل يستحيون يستحييون بوزن يستفعلون، عينه ولامه حرفا علة، استثقلت الضمة على الياء التي هي لام الفعل، فحذفت، فسكنت، فالتقت ساكنة مع واو الجماعة، فحذفت الياء لام الفعل؛ لالتقاء الساكنين، وضمت الياء؛ لمناسبة الواو، فصار وزنه يستفعون {نِساءَكُمْ} والنساء: اسم يقع على الصغار والكبار، وهو جمع تكسير لنسوة، ونسوة على وزن فعلة، وهو جمع قلة خلافا لابن السراج، إذا زعم أنّ فعلة اسم جمع لا جمع تكسير، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، والواحدة امرأة {بَلاءٌ} والبلاء الاختبار والامتحان، وهو تارة يكون بما يسر؛ ليشكر العبد ربه، وتارة بما يضر؛ ليصبر، وتارة بهما؛ ليرغب ويرهب. يقال: بلاه يبلوه بلاء، إذا اختبر، ثم صار يطلق على المكروه والشدة. يقال: أصاب فلانا بلاء؛ أي: شدّة، وهو راجع لمعنى البلى، كأنّ المبتلى يؤول حاله إلى البلى وهو الهلاك والفناء، ويقال: أبلاه بالنعمة، وبلاه بالشدة. وقد يدخل أحدهما على الآخر، فيقال: بلاه بالخير، وأبلاه بالشر. قال الشاعر: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو فاستعملهما بمعنى واحد، ويبنى منه افتعل، فيقال: ابتلى، وأصل بلاء بلاو، فالهمزة فيه مبدلة من واو، لأنّ الواو إذا وقعت متطرّفة بعد ألف زائدة، قلبت، وكذلك الياء، كما تقدم في سماء، وبناء {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} افتعل من الأخذ. يقال: تخذ بكسر الخاء، يتخذ بفتحها في المضارع، كعلم يعلم من الأخذ، فهي بمعنى أخذ، أدغمت إحدى التاءين في الأخرى، كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى. وعليه تكون اتخذ أصلها إئتخذ، أبدلت الهمزة الساكنة ياء، حرف مد للهمزة المتحركة بالكسر قبلها، ثم أبدلت الياء تاء وأدغمت في التاء الثانية، ولما كثر استعمال هذا اللفظ من أخذ بصيغة الافتعال، توهموا أصالة التاء، فبنوا منه فعل يفعل. هذا ما ذهب إليه صاحب «القاموس»،

والجوهري في «صحاحه»، ولم يذكر الجوهري مادّة تخذ، خلافا لصاحب «القاموس»، فإنه ذكر المادتين أخذ، وتخذ، إلا أنه جعل الثانية من الأولى. وقال ابن الأثير: إنه ليس من الأخذ في شيء، وأشار بذلك إلى أنّ تخذ مادة مستقلة، وقال: إن الافتعال من الأخذ إئتخذ؛ لأنّ فاءه همزة، والهمزة لا تدغم، وغلّط الجوهريّ. وقول الجوهري أظهر. والله أعلم. {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ} لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، بني على سكون آخره، فوزنه فعلنا لا فعونا {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} آتينا أصله أأتى بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الثانية حرف مد مجانسا لحركة الأولى، وسكن آخره حين أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أصله تهتديون بوزن تفتعلون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الدال؛ لمناسبة الواو {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} في «القاموس» البحر: الماء الكثير، أو الملح، والجمع بحور، وبحار، وأبحر. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة للتعظيم في قوله: {نِعْمَتِيَ} فإن فيها إشارة إلى عظم قدرها، وسعة برها، وحسن موقعها؛ لأن الإضافة إلى العظيم والشريف تفيد التعظيم والتشريف، كما في قولهم: {بيت الله}، وقوله: {ناقَةُ اللَّهِ}. ومنها: فن التعطّف في قوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ومعناه: إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام، ويسميه بعضهم فن المشاركة. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ}؛ لأنه على حذف موصوف؛ أي: أوّل فريق كافر به. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي}؛ لأن الاشتراء مستعار للاستبدال بجامع الأخذ في كل، كما تقدم في قوله: {أُولئِكَ

الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى}. ومنها: تكرار الحق في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}؛ لزيادة تقبيح المنهي عنه، إذ في الإظهار ما ليس في الإضمار من التأكيد، ويسمى هذا أيضا بالإطناب. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فهو من باب تسمية الكل باسم الجزء لعلاقة الجزئية؛ أي: صلّوا مع المصلين. ومنها: التقديم في قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}؛ لإفادة الحصر. ومنها: حذف ياء المفعول فيهما؛ لرعاية رؤوس الفواصل. ومنها: الاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ}. ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} مع أنّ الأمر واقع منهم؛ لإفادة التجدد والاستمرار. ومنها: التعبير عن تركهم البر بالنسيان في قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}؛ لإفادة المبالغة في تركهم، فكأنّ البر لا يخطر ببالهم، ولا يخالج نفوسهم، ولا يدور في خلدهم. ومنها: إفراد الإيمان بالقرآن في قوله: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ} بالأمر به مع اندراجه في العهد المذكور قبله، لما أنه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهد. ومنها: تقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم في قوله: {مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ}؛ لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإنّ إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدّقه قطعا، ومنه التكرار في قوله: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}؛ توطئة لما بعده. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}؛ لبيان الكمال والتشريف؛ لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فعطف التفضيل عليها من عطف الخاص على العام؛ لبيان فضلهم وشرفهم على غيرهم من أهل

زمانهم. ومنها: ذكر المحل وإرادة الحال في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا}؛ أي: عذاب يوم. ومنها: تنكير شيئا مع تنكير نفس في قوله: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}؛ لإفادة التعميم والإقناط الكليّ. ومنها: الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} مع أنّ الجمل التي قبلها فعلية، للمبالغة، والدلالة على الثبات والديمومية؛ أي: إنهم غير منصورين دائما، ولا عبرة بما يصادفونه من نجاح مؤقت. ومنها: الاستعارة التصريحيّة التبعيّة في قوله: {يَسُومُونَكُمْ}؛ أي: يذيقونكم، فإنه استعارة من السوم في البيع. ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: {سُوءَ الْعَذابِ}؛ أي: العذاب السيىء الفظيع. ومنها: تفسير العذاب السيىء بقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}؛ لأنّ التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس. ومنها: الاستعارة في قوله: {يَسْتَحْيُونَ}؛ لأنه مجاز عن الاستبقاء للخدمة. ومنها: التنكير في كلّ من {بَلاءٌ}، و {عَظِيمٌ} للتفخيم والتهويل. ومنها: التشديد في قوله: {يُذَبِّحُونَ}؛ لإفادة التكثير. يقال: فتّحت الأبواب. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. فائدة: قال عليّ كرم الله وجهه: (قصم ظهري رجلان: عالم متهتّك، وجاهل متنسّك، ومن دعا غيره إلى الهدى ولم يعمل به، كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه). قال الشاعر:

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالرّأي منك وينفع التّعليم وقال أبو العتاهية: وصفت التّقى حتّى كأنّك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال آخر: وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى ... طبيب يداوي النّاس وهو عليل والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلّها مصدر فخار لهم، ولها تهتزّ أعطافهم خيلاء وكبرا؛ لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم ... بيّن هنا كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم، وهي: اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفّى ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا، وتجبّرا، وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله سبحانه عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصّاعقة وهم يرون ذلك رأى العين. ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما: تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة. وثانيتهما: إنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ...} الآيتين، ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى

[54]

خاشعين لله، فعصى بعضهم، وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي، واقترفوه من الآثام. قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى؛ ذكر فيها نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها. ذلك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه، أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم، فأجاب دعوته. وقد كان من دأب بني إسرائيل، أن يعودوا باللّوم على موسى إذا أصابهم الضيق، ويمنّون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا. فقد روي أنهم قالوا: من لنا بحر الشمس، فظلل عليهم الغمام. وقالوا: من لنا بالطعام، فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى. فقالوا: من لنا بالماء، فأمر موسى بضرب الحجر. التفسير وأوجه القراءة 54 - ثمّ بين سبحانه كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {وَ} اذكروا أيضا يا بني إسرائيل! وهذا هو الإنعام الخامس {وَإِذْ قالَ مُوسى}؛ أي: قصة وقت قوله: {لِقَوْمِهِ} الذين عبدوا العجل، بعد ما رجع من الميعاد الذي وعده ربّه، فرآهم عبدوا العجل {يا قَوْمِ}؛ أي: يا قومي! والإضافة فيه للشفقة {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ} وأضررتم {أَنْفُسَكُمْ} بتفويتها الثواب الواجب لها، بالإقامة على عهد موسى {بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ}؛ أي: بسبب اتخاذكم العجل معبودا لكم، فقالوا لموسى: فماذا تأمرنا {فـ} قال {توبوا} قلبا وقالبا؛ أي: فاعزموا على التوبة، والفاء للسببية، لأنّ الظلم سبب للتوبة {إِلى بارِئِكُمْ}؛ أي: إلى خالقكم الذي خلقكم بريئا من العيوب، والنقصان، والتفاوت، وميّز بعضكم من بعض بصور، وهيئات مختلفة، ولو (¬1) أظهرتم التوبة بالبدن دون القلب فأنتم ما تبتم إلى الله، وإنما تبتم إلى الناس. والتعرّض (¬2) لعنوان البارئية؛ للإرشاد إلى أنهم بلغوا من الجهالة أقصاها، ومن الغباوة منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

بلطيف حكمته، بريئا من التفاوت، والتنافر، إلى عبادة العجل الذي هو مثل في الغباوة، وأنّ من لم يعرف حقوق منعمه، حقيق بأن تستردّ هي منه، ولذلك أمروا بالقتل، وفكّ التركيب، فقالوا له: كيف نتوب إلى الله سبحانه {فـ} قال لهم {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: سلّموا أنفسكم للقتل، وارضوا به، واصبروا عليه، وليقتل البريء منكم المجرم، وإنما قال أنفسكم؛ لأن المؤمنين إخوة، وأخو الرجل كأنّه نفسه، كما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين. كذا في «التيسير»، و «تفسير أبي الليث»، والفاء في قوله: {فَاقْتُلُوا} للتعقيب، وتوبتهم هي قتلهم؛ أي: فاعزموا على التوبة، فاقتلوا أنفسكم. كذا في «الكشاف». وقال في «التفسير الكبير»: وليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس، بل بيان أنّ توبتهم لا تتمّ، ولا تحصل إلا بقتل النفس، وإنما كان كذلك؛ لأنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل {ذلِكُمْ}؛ أي: القتل في التوبة {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي أنفع لكم {عِنْدَ بارِئِكُمْ} سبحانه من الامتناع الذي هو إصرار، وفيه عذاب، لما أن القتل طهرة من الشرك، ووصلة إلى الحياة الأبدية، والبهجة السرمدية؛ أي: إنّ التوبة أجر لكم عند خالقكم، من إقامتكم على عبادة العجل؛ لما فيها من الطهارة من الشرك. وقوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} خطاب منه تعالى، معطوف على محذوف؛ أي: ثم فعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم بارئكم؛ أي: قبل توبتكم، وتجاوز عنكم، وإنما لم يقل: فتاب عليهم، على أنّ الضمير للقوم؛ لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم. فإن قلت (¬1): أنه تعالى أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة. قلت: إن الله سبحانه نبّههم على عظيم ذنبهم، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون من ذلك العظيم، وذلك من النعم في الدّين؛ أي: قبل توبة من قتل منكم، وغفر لمن لم يقتل من بقية المجرمين، وعفا عنهم من غير قتل. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ التَّوَّابُ}؛ أي: الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة، ويبالغ في قبولها منهم: {الرَّحِيمُ}؛ أي: كثير الرحمة للمطيعين أمره حيث جعل القتل كفارة لذنوبهم. روي أنهم لمّا أمرهم موسى بالقتل. قالوا: نصبر لأمر الله، فجلسوا في الأفنية محتبين مذعنين. وقيل لهم: من حلّ حبوته، أو مدّ طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل، فهو ملعون مردود توبته، وأصلت القوم عليهم الخناجر؛ أي: حملوا عليهم الخناجر، ورفعوا بها وضربوهم بها، وكان الرجل يرى ابنه، وأباه، وأخاه، وقريبه، وصديقه، وجاره، فلم يمكنهم المضيّ لأمر الله. قالوا: يا موسى! كيف نفعل؟ فأرسل الله سبحانه ضبابة، وسحابة سرداء، لا يبصر بعضهم بعضا، فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر القتل، دعا موسى وهارون، وبكيا، وتضرّعا، وقالا: يا رب! هلكت بنو إسرائيل، البقية، البقية، فكشف الله السحابة، ونزلت التوبة، وأمرهم أن يكفّوا عن القتل، فقتل منهم سبعون ألفا، فكان من قتل شهيدا، ومن بقي مغفورة ذنوبه. وأوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام، إني أدخل القاتل والمقتول الجنة. هذا على رواية أن القاتل من المجرمين، على أن معنى قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} بعض المجرمين بعضا، فالقاتل هو الذي بقي من المجرمين بعد نزول أمر الكف عن القتل، وإلا فالقاتل على الرواية الأخرى هو البرىء، كما سبق في تفسير الآية. وروي: أنّ الأمر بالقتل من الأغلال التي كانت عليهم، وهي المواثيق اللازمة لهم لزوم الغلّ، ومن الإصر وهو الأعمال الشاقة، كقطع الأعضاء الخاطئة، وعدم جواز صلاتهم في غير المسجد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بالذنوب، وكون الزكاة ربع مالهم، وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح، وكما روي: أن بني إسرائيل إذا قاموا يصلّون، لبسوا المسوح، وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم، وربّما ثقب الرجل ترقوته، وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية، وحبس نفسه على العبادة. فهذه الأمور رفعت عن هذه الأمة؛ تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وحاصل معنى الآية (¬1): أي ¬

_ (¬1) المراغي.

واذكر أيها الرسول الكريم! فيما تلقيه على بني إسرائيل، وغيرهم من العظات، قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل، حيث كان يناجي ربه: يا قوم! إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أضررتم بأنفسكم، وأنقصتم مالها من الأجر والثواب عند ربكم، لو أنكم أقمتم على عهدي، واتّبعتم شريعتي وقد فصّلت هذه القصة في سورتي الأعراف وطه {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ ...} إلخ؛ أي: فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم، وميّز بعضكم من بعض بصور، وهيئات مختلفة. وفي قوله: {إِلى بارِئِكُمْ} إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارىء، وعبدوا أغبى الحيوان، وهو البقر، وليقتل البرىء منكم المجرم. وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم، ففيها دعاء موسى: من للربّ فإليّ، فأجابه بنو لاوى، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا، ففعلوا، فقتل في ذلك اليوم، نحو: ثلاثة آلاف رجل. والعبرة من القصة، لا تتوقّف على عدد معين، فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرّض له. ذلكم المذكور من التوبة، والقتل، أنفع لكم عند الله من العصيان، والإصرار على الذنوب؛ لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهّركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم، ويجعلكم أهلا للثواب {فَتابَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ففعلتم ما أمركم به موسى، فقبل توبتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، إنه سبحانه هو التواب؛ أي: كثير قبول التوبة ممن تاب إليه. الرحيم: أي كثير الرحمة بمن ينيب إليه، ويرجع، ولولا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام، وكرّر البارىء باللفظ الظاهر؛ توكيدا؛ ولأنها جملة مستقلة، فناسب الإظهار. وللتنبيه على أنّ هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم، فكما رأى أن إنشاءكم راجح؛ رأي: أنّ إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقّي ما يرد من قبله بالقبول، والامتثال. ذكره في «البحر». وقرأ الجمهور (¬1): بظهور حركة الإعراب في {بارِئِكُمْ} وروي عن أبي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عمرو الاختلاس. روى ذلك عنه سيبويه، وروي عنه الإسكان؛ وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجري المكسوران في بارئكم مجرى إبل. ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء؛ لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر. وقرأ الزهري {باريكم} بكسر الياء من غير همز. وروي ذلك عن نافع، وليست في المتواترات ولهذه القراءة تخريجان: أحدهما: أنّ الأصل الهمزة، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف، جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم بالياء من غير همز، فيكون مأخوذا من قولهم بريت القلم إذا أصلحته، أو من البري وهو التراب، ثم حرّك حرف العلة، وإن كان قياسه تقدير الحركة في مثل هذا رفعا وجرا. وقد ذكر الزمخشري (¬1) في اختصاص ذكر البارىء هنا كلاما حسنا هذا نصه: فإن قلت: من أين اختصّ هذا الموضع بذكر البارىء؟ قلت: البارىء: هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} ومميّزا بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة، والصّور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم، من ترك عبادة العالم الحكيم، الذي برأهم بلطيف حكمته، على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت، والتنافر، إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة، والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور. حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله، ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم، وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها. انتهى. ¬

_ (¬1) الكشاف.

[55]

55 - ولمّا فرغ سبحانه من محاورة موسى لقومه .. شرع في محاورتهم له عليه السلام، فقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ} هذا هو الإنعام السادس؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! وقت قول السبعين من أسلافكم، الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور للاعتذار عن عبادة العجل، وهم غير السبعين الذين اختارهم موسى أوّل مرة، حين أراد الانطلاق إلى الطور بعد غرق فرعون لأخذ التوراة {يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ}؛ أي: لن نصدّقك لأجل قولك ودعوتك على أنّ هذا كتاب الله، وأنك سمعت كلامه، وأنّ الله تعالى أمرنا بقبوله، والعمل به، ولم يريدوا (¬1) نفي الإيمان به بدليل: قولهم لك، ولم يقولوا بك، نحو: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا}؛ أي بمصدّق. وقيل معناه: لن نقرّ لك بأن التوراة من عند الله {حَتَّى نَرَى اللَّهَ} سبحانه وتعالى {جَهْرَةً}؛ أي: (¬2) عيانا لا ساتر بيننا وبينه، كالجهر في الوضوح والانكشاف؛ لأن الجهر في المسموعات، والمعاينة في المبصرات، ونصبها على المصدرية؛ لأنها نوع من الرؤية، فكأنها مصدر الفعل الناصب، أو حال من الفاعل؛ أي: حتى نرى الله مجاهرين، أو من المفعول؛ أي: حتى نرى الله مجاهرا بفتح الهاء، وذلك أنّه لمّا تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل، أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالا يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم، كما قال تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا} وقال لهم: صوموا، وتطهّروا، وطهّروا ثيابكم، ففعلوا، وخرج بهم إلى طور سيناء، فقالوا لموسى: أطلب لنا أن نسمع كلام ربنا، فقال موسى: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشّى الجبل كلّه، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام. وقعوا سجودا، فسمعوا الله سبحانه يكلّم موسى، يأمره، وينهاه، فلمّا انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، كما بيّنه تعالى بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى} وقد عرفت أنّ هذا الظرف معطوف على الظروف المتقدمة، وأنّ التقدير فيه: واذكروا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

إذ قلتم يا موسى! إلخ. والقائلون لهذا القول: هم سبعون رجلا من خيارهم، كما عرفت. وقرأ الجمهور. {جَهْرَةً} بسكون الهاء. وقرأ ابن عباس، وسهل بن شعيب، وحميد بن قيس {جهرة} بفتحها، وتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: يكون جهرة مصدرا، كالغلبة، فيكون معناها ومعنى جهرة المسكّنة الهاء سواء. والثاني: أن يكون جمعا لجاهر، كما تقول فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال؛ أي جاهرين بالرؤية. ذكره في «البحر». والمعنى (¬1): واذكروا يا بني إسرائيل! حين خرجتم مع موسى إلى جبل الطور لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل، فسمعتم كلام الله مع موسى، فقلتم لموسى لمّا أقبل إليكم من المناجاة {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ}؛ أي: لن نصدقك في أن المخاطب لنا هو ربنا، وأن ما سمعناه كلامه {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}؛ أي: حتى نبصره ونراه رؤية جهرة؛ أي: ظاهرة واضحة عيانا، لا يستره عنا شيء {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}؛ أي: فأحرقتكم النار النازلة من السماء؛ أي: فأخذت الصاعقة من قال ذلك، والباقون ينظرون بأعينهم. وقد فصّل ذلك في الأعراف. وقرأ عمر، وعليّ {الصّعقة} بلا ألف. ذكره في «البحر». والصاعقة (¬2): هي نار محرقة فيها صوت، نازلة من السماء. وقيل: هي كلّ أمر مهول مميت، أو مزيل للعقل والفهم، وتكون صوتا، وتكون نارا، وتكون غير ذلك. وقيل: هي صوت ملك صاح عليهم، وإنما أحرقتم الصاعقة، لسؤالهم ما هو مستحيل على الله في الدنيا؛ ولفرط العناد والتعنّت، وإنما الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة، وللأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا، كما قيل: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى الصاعقة النازلة حين نزولها، فإن كانت نارا فقد عاينوها، وإن كانت صوتا هائلا فقد مات بعضهم ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

[56]

أولا، ورأى الباقون أنهم ماتوا، ويسمّى هذا رؤية الموت مجازا. وسيأتي (¬1) في الأعراف أنهم ماتوا بالرجفة؛ أي: الزلزلة، ويمكن الجمع بينهما، بأنه حصل لهم الجميع. انتهى. من «الفتوحات». وقال الواحديّ: وإنما (¬2) أخذتهم الصاعقة؛ لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا عاقبهم الله تعالى. وهذه الآية موبخة للمعاصرين في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، على مخالفة محمد صلّى الله عليه وسلّم مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى، مع ما أتى به من المعجزات الباهرة. وفي التوراة: إن طائفة (¬3) منهم قالوا: لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشاع ذلك في بني إسرائيل، وقالوا لموسى بعد موت هارون: إنّ نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم، وإسحاق، فتعمم الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه، فلا يحقّ لك أن تسودنا بلا مزيّة، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذهم إلى خيمة العهد، فانشقت الأرض، وابتلعت طائفة منهم، وجاءت نار من الجانب الآخر، فأخذت الباقين. اه. وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى، يتمرّدون، ويعاندون، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض، وسلّطت عليهم هوام الأرض وحشراتها، حتى فتكت بالعدد العديد، والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعاندوها 56 - {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ} وأحييناكم {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وحرقكم بتلك النار الصاعقة، وموتكم يوما وليلة، وقاموا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيا! وعاشوا بعد ذلك؛ لأنهم (¬4) لما ماتوا، جعل موسى يبكي ويتضرع إلى الله، ويقول: يا رب! إنهم خرجوا معي وهم أحياء، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا بعد ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الواحدي. (¬3) التوراة. (¬4) كرخي.

رجل، بعد ما مكثوا ميّتين يوما وليلة؛ وذلك لإظهار آثار القدرة؛ وليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يحيوا إلى يوم القيامة. وقيّد البعث بقوله (¬1): {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} مع أنه إنما يكون بعد الموت، لما أنه قد يكون من الإغماء، أو من النوم. قال قتادة: أحياهم، ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكان ذلك الموت بلا أجل، وكانت تلك الموتة لهم، كالسّكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة. اه. فإن قلت: كيف يجوز أن يكلّفهم، وقد أماتهم؟ فإن جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثوا بعد الموت؟. قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة، هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما منع ذلك من التكليف، لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ومعرفة ما في الجنة من اللذات، وما في النار من الآلام، وبعد العلم الضروري لا تكليف، فإذا كان المانع هو هذا، لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصعقة، أن لا يكون قد اضطرهم، وإذا كان كذلك صحّ أن يكلفوا من بعد، ويكون موتهم، ثم الإحياء بمنزلة النوم، أو بمنزلة الإغماء {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى، نعمة إحيائه لكم بعد موتكم بالصاعقة بالتوحيد والطاعة، أو لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس الله بالصاعقة، نعمة الإيمان التي كفرتموها بقولكم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فإن ترك النعمة لأجل طلب الزيادة كفران لها؛ أي: لعلكم تشكرون نعمة الإيمان، فلا تعودون إلى اقتراح شيء بعد ظهور المعجزة. وفي «المراغي» (¬2): يرى بعض المفسرين: أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة، أو غيرها؛ ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبيّة لغيرهم. ويرى آخرون، أن المراد بالبعث: كثرة النسل؛ أي: إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتّى الأسباب، وظنّ أنهم ينقرضون، بارك الله في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

نسلهم؛ ليعدّ الشعب بالبلاء السابق، للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتّع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها. وإنما قصّ الله سبحانه علينا هذا القصص، ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل؛ لبيان وحدة الأمة، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات، وما يجازيها به من النعم والنقم، إنما هو لمعنى فيها يسوّغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق، كأنّه وقع منه، ليعلم الناس أنّ الأمم متكافلة، سعادة الفرد منها، مرتبطة بسعادة سائر الأفراد، وشقاؤه بشقائهم، ويتوقّع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة، وإن لم يفعلها هو، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وفي هذا التكافل رقيّ الأمة، وتقدمها في المدنية والحضارة، إذ يحملها على التعاون في البأساء والضراء، فتحوز قصب السبق بين الأمم. وأصل (¬1) هذه القصة: أنّ موسى عليه السلام، لمّا رجع من الطور إلى قومه، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه والسامري ما قال، وأحرق العجل وألقاه في البحر، وندم القوم على ما فعلوا، وقالوا: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أمر الله سبحانه موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين من قومه من خيارهم، فلما خرجوا إلى الطور، قالوا لموسى: سل ربنا حتى يسمعنا كلامه؟ فسأل موسى عليه السلام ذلك، فأجابه الله، ولما دنا من الجبل، وقع عليه عمود من الغمام، وتغشّى الجبل كله، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه، وقال للقوم: ادخلوا، فكلم الله موسى يأمره وينهاه، وكلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نورا ساطعا، لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه، وسمعوا كلامه تعالى مع موسى، افعل لا تفعل، فعند ذلك طمعوا في الرؤية، وقالوا ما قالوا، فأخذتهم الصاعقة، فخرّوا صعقين ميتين يوما وليلة، فلمّا ماتوا جميعا، جعل موسى يبكي ويتضرّع رافعا يديه إلى السماء يدعو، ويقول: يا إلهي! اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، وماذا أقول لهم إذا أتيتهم، وقد ¬

_ (¬1) روح البيان.

أهلكت خيارهم، لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع أصحاب العجل، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فلم يزل يناشد ربّه حتى أحياهم الله سبحانه، وردّ إليهم أرواحهم، وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. قالوا: إن موسى (¬1) عليه السلام، سأل الرؤية في المرة الأولى في الطور، ولم يمت، لأن صعقته لم تكن موتا، ولكن غشية، بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفاقَ} وسأل قومه في المرة الثانية، حين خرجوا للاعتذار وماتوا، وذلك؛ لأنّ سؤال موسى كان اشتياقا وافتقارا، وسؤال قومه كان تكذيبا واجتراء، ولم يسألوا سؤال استرشاد، بل سؤال تعنّت، فإنهم ظنّوا أنه تعالى يشبه الأجسام، وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات، والأحياز المقابلة للرائي، وهي محال. وليس في الآية دليل على نفي الرؤية، بل فيها إثباتها، وذلك أنّ موسى عليه السلام، لمّا سأله السبعون لم ينههم عن ذلك، وكذلك سأل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عن ذلك، بل قال: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي} وهذا تعليق بما يتصوّر، قال بعض العلماء الحكماء: الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه: الأول: أن الدنيا دار أعدائه؛ لأن الدنيا جنة الكافر. الثاني: لو رآه المؤمن لقال الكافر: لو رأيته لعبدته، ولو رأوه جميعا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر. الثالث: أنّ المحبة على غيب، ليست كالمحبة على عين. الرابع: أن الدنيا محلّ المعيشة، ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معاشهم، فتعطلت. الخامس: أنه جعلها بالبصيرة دون البصر؛ ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[57]

السادس: ليقدّر قدرها، إذ كل ممنوع عزيز. السابع: إنما منعها رحمة بالعباد؛ لما جبلوا عليه في هذه الدار من الغيرة، إذ لو رآه أحد تصدّع قلبه من رؤية غيره إياه، كما تصدّع الجبل غيرة من أن يراه موسى. والله أعلم. 57 - {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ} هذا هو الإنعام السابع؛ أي: جعلنا السحاب الرقيق ظلا عليكم، يحفظكم من حر الشمس، وكان يسير بسيرهم، وكانوا يسيرون ليلا ونهارا، وذلك في التيه، وهو: واد بين الشام ومصر وقدره تسعة فراسخ، وقيل: اثنا عشر فرسخا، مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين، لا يهتدون إلى الخروج منه، وسبب ذلك؛ مخالفتهم أمر الله تعالى إياهم بقتال الجبارين الذين كانوا بالشام؛ أي: جعلنا (¬1) الغمام ظلّة عليكم يا بني إسرائيل. وهذا كما ذكرنا جرى في التيه، واد بين مصر والشام، فإنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر، وقعوا في صحراء لا أبنية فيها، وأمرهم الله تعالى بدخول مدينة الجبّارين، الذين كانوا في الشام وقتالهم، فقبلوا أمره، فلما قربوا منها سمعوا بأنّ أهلها جبارون أشدّاء، قامة أحدهم سبعمائة ذراع، ونحوها، فامتنعوا، وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} فعاقبهم الله تعالى، بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وكانت المفازة يعني: التيه، اثني عشر فرسخا، فأصابهم حرّ شديد، وجوع مفرط، فشكوا إلى موسى، فرحمهم الله تعالى، فأنزل عليهم عمودا من نور يدلى له من السماء، فيسير معهم بالليل يضيىء لهم مكان القمر إذا لم يكن قمر، وأرسل غماما أبيض رقيقا. أطيب من غمام المطر، يظللهم من حر الشمس في النهار. وسمّي السحاب غماما؛ لأنه يغمّ السماء؛ أي: يسترها. والغمّ: حزن يستر القلب. ولم يكن لهم في التيه شيء يسترهم، ويستظلّون به، وكانت ثيابهم لا تتسخ، ولا تبلى، ثم سألوا موسى الطعام، فدعا ربه فاستجاب له، وهو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ}؛ أي: الترنجبين بفتح ¬

_ (¬1) روح البيان.

الراء وتسكين النون: وهو شيء أبيض مثل الثلج، كالشّهد المعجون بالسمن. وقيل: هو يشبه العسل الأبيض. وقيل: هو كان يقع على أشجارهم من الفجر إلى طلوع الشمس، لكلّ إنسان صاع، أو المنّ جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب، ولا زرع، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين»؛ أي: ممّا منّ الله به على عباده من غير تعب، ثمّ لما ملّوا من أكله، قالوا: يا موسى! قتلنا هذا المنّ بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فأنزل الله عليهم السلوى، وذلك قوله: {وَالسَّلْوى}؛ أي: وأرسلنا عليكم السلوى، وهو السماني، وهو: طائر لذيذ اللحم، ليس له ذنب، ولا يطير إلا قليلا، ويموت إذا سمع صوت الرعد، فيلهمه الله أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد، إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر في الأرض. وخاصّيّته: أنّ أكل لحمه يليّن القلوب القاسية، وكانت تحشره عليهم ريح الجنوب، وكانت الريح تقطع حلقومها، وتشق بطونها، وتمعط شعورها، وكانت الشمس تنضجها، فكانوا يأكلونها مع المنّ. وأكثر المفسرين على أنهم يأخذونها، فيذبحونها، فكان ينزل عليهم المنّ نزول الثلج، من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السلوى، فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد، إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين؛ لأنه لم يكن ينزل يوم السبت؛ لأنه كان يوم عبادة، فإن أخذ أكثر من ذلك دوّد وفسد. وقوله: {كُلُوا} مقول (¬1) لقول محذوف، معطوف على فعل محذوف، تقديره: أنعمنا عليكم بأنواع النعم من الطعام والشراب، من غير كدّ ولا تعب، وقلنا لكم كلوا {مِنْ طَيِّباتِ} وحلالات {ما رَزَقْناكُمْ} وأعطيناكم؛ أي: كلوا من لذائذ ما رزقناكموه من المنّ والسلوى، ولا ترفعوا منه شيئا ادخارا لغد، ولا تعصوا أمري، فرفعوا، وادّخروا، وجعلوا اللحم قديدا مخافة أن ينفد، فقطع الله عنهم، ودوّد ما ادّخروه، ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك. والطيبات: جمع ¬

_ (¬1) العمدة.

طيب، والطّيب: ما لا تعافه طبعا ولا تكرهه شرعا. وفي الحديث المتفق عليه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا بنوا إسرائيل، لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم»؛ أي: لم ينتن ولم يتغيّر «ولولا حواء، لم تخن أنثى زوجها الدّهر». وقوله: {وَما ظَلَمُونا}؛ أي: وما نقصونا بما ادخروا، معطوف على محذوف، تقديره: فظلموا بأن كفروا تلك النعمة الجليلة، وادّخروا بعد ما نهوا عنه، وما ظلمونا؛ أي: ما بخسوا بحقّنا {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ أي: يضرّون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم، بلا مؤونة في الدنيا، ولا حساب في العقبى، فرفعنا ذلك عنهم؛ لعدم توكلهم علينا. فإن قلت: ما الحكمة في ذكر كانوا هنا وفي الأعراف، وحذفها في آل عمران؟ فالجواب: أن ما في السورتين إخبار عن قوم انقرضوا، وما في (آل عمران) مثل منبّه عليه بقوله: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ} إلخ. اه «كرخي». وقوله في الحديث: لم يخنز اللحم ولم تخن أنثى زوجها؛ أي: واستمرّ نتن اللحم من ذلك الوقت، لأنّ البادي للشيء كالحامل للغير على الإتيان به، وكذلك استمرت الخيانة من النساء؛ لأنّ أمّ النساء خانت بأن أغواها إبليس قبل آدم حتى أكلت من الشجرة، ثم أتت آدم، فزيّنت له ذلك حتى حملته على أن أكل منها، فاستمرّت تلك الخيانة من بناتها لأزواجها. قال في «الأشباه والنظائر»: الطعام إذا تغيّر واشتدّ تغيره تنجّس، وحرم أكله واللّبن، والزّيت، والسمن، إذا أنتن لا يحرم أكله. انتهى. وفي سفر الخروج من التوراة (¬1): أنهم أكلوا المن أربعين سنة، وأنّ طعمه كالرّقاق بالعسل، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول، والخضر. وفي هذا إيماء إلى أنّ كلّ ما يطلبه الله من عباده، فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[58]

عنه، فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم. وقد جاء في الحديث القدسي: (فكلّ عمل ابن آدم له أو عليه) وهو بمعنى قوله تعالى: {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} 58 - {وَإِذْ قُلْنَا} هذا هو الإنعام الثامن؛ لأنه تعالى أباح لهم دخول البلدة، وأزال عنهم التيه. وَإِذْ (¬1) معطوف على نعمتي على كونها مفعولا لا ذكروا، كما مرّ مرارا؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي التي أنعمت بها عليكم، ووقت قولنا لآبائكم إثر ما أنقذتم من التيه {ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} منصوب على الظرفية؛ أي: مدينة بيت المقدس، كما قاله مجاهد، أو قرية أريحاء، كما قاله ابن عباس، وهي قرية قريبة من بيت المقدس. وجزم القاضي، وغيره بالأول، ورجّح الثاني بأنّ الفاء في قوله {فَبَدَّلَ} تقتضي التعقيب، فيكون واقعا عقب هذا الأمر في حياة موسى عليه السلام، وموسى توفّي في التيه، ولم يدخل بيت المقدس. قاله الرازيّ. اه. «كرخي». وعبارة الخازن: قال ابن عباس: القرية هي أريحا قرية الجبارين، بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة، قرية بالغور قريبة من بيت المقدس. قيل: كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم: العمالقة، ورأسهم عوج بن عنق، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون؛ لأنه الذي فتح أريحا بعد موسى؛ لأن موسى مات في التيه. وقيل: هي بيت المقدس، وعلى هذا فيكون القائل موسى، والمعنى: إذا خرجتم بعد مضيّ الأربعين سنة، فادخلوا بيت المقدس. اه. والقرية (¬2): اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد تطلق عليهم مجازا، كما في قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: أهلها، والمعنى؛ أي: واذكروا قصة، إذ قلنا لكم بعد خروجكم من التيه على لسان موسى، أو على لسان يوشع، ادخلوا هذه القرية {فَكُلُوا مِنْها}؛ أي: من ثمارها، وطعامها {حَيْثُ شِئْتُمْ} وأنى شئتم أكلا {رَغَدًا}؛ أي: واسعا لا حجر فيه، على أنّ النصب على ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

المصدرية، أو هو حال من الواو في كلوا؛ أي: راغدين متوسعين، وفيه دلالة على أن المأمور به الدخول على وجه الإقامة والسّكنى. قال في «التيسير»؛ أي: أبحنا لكم، ووسعنا عليكم، فتعيشوا فيها أنّى شئتم بلا تضييق ولا منع، وهو تمليك لهم بطريق الغنيمة. وذكر الأكل؛ لأنه معظم المقصود {وَادْخُلُوا الْبابَ}؛ أي: بابا من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب، والمراد الباب الثاني من بيت المقدس، ويعرف اليوم بباب حطة، أو باب القبّة التي كان يتعبّد فيها موسى وهارون، ويصلّيان مع بني إسرائيل إليها {سُجَّدًا}؛ أي: ركعا منحنين، ناكسي رؤوسكم بالتواضع، على أن يكون المراد معناه الحقيقيّ، أو ساجدين شكرا لله تعالى على خلاصكم وإخراجكم من التيه، على أن يكون المراد به معناه الشرعيّ {وَقُولُوا} بألسنتكم مسألتنا منك يا ربنا! {حِطَّةٌ}؛ أي: حطّ ذنوبنا عنّا، وغفرانها لنا بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: مسألتنا من الله أن يحط عنا ذنوبنا، أو بالنصب على المصدرية لفعل محذوف؛ أي: حطّ عنا ذنوبنا حطة وذلك أنهم أصابوا خطيئة بإبائهم على موسى دخول القرية. وقيل: أريد بها كلمة الشهادة؛ أي: قولوا كلمة الشهادة الحاطّة للذنوب. والحاصل: أنهم أمروا بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع، وأن يذكروا بألسنتهم التماس حطّ الذنوب، حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب، وخضوع الجوارح، والاستغفار باللسان. وقرأ الجمهور (¬1): (حطة) بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة بالنصب، على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. وقيل معناه: الاستغفار، ومنه قول الشاعر: فاز بالحطّة الّتي جعل اللّ ... هـ بها ذنب عبده مغفورا {نَغْفِرْ لَكُمْ} مجزوم على أنه جواب الأمر من الغفر، وهو: الستر؛ أي: نستر عليكم {خَطاياكُمْ}؛ أي: ذنوبكم، فلا نجازيكم بها لما تفعلون من السجود والدعاء، وهم الذين عبدوا العجل ثمّ تابوا، وهي جمع خطيئة ضدّ الصواب. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقرأ نافع بالياء المضمومة مبنيا للمجهول (¬1)، وذكّر الفعل؛ لأنّ الخطايا مؤنث مجازي، أو لوقوع الفصل. وقرأ ابن عامر بالتاء المضمومة مبنيا للمجهول أيضا. وقرأ الباقون نغفر بنون العظمة، وهي أولى؛ لجريانها على نظام ما قبله من قوله: {وَإِذْ قُلْنَا} وما بعده من قوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وقرأ أبو بكر من طريق الجعفيّ يغفر بالياء المفتوحة، على أنّ الفاعل ضمير الغائب العائد على الله سبحانه. وقرأت طائفة تغفر بالتاء الفوقية المفتوحة، فيكون ضمير الفاعل عائدا على الحطة، كأنه تكون سبب الغفران، وليس بجيّد؛ لأنّ نفس اللّفظة بمجردها لا تكون سببا للغفران، وراوي هذه القراءة هو ابن عطية، وأمال الكسائي {خَطاياكُمْ} وقرأ الجحدريّ وقتادة {تغفر خطيئتكم} بضم التاء، وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن {يغفر خطيئاتكم} بالياء مفتوحة، وبالجمع المسّلم. وقرأ أبو حيوة {تغفر خطيئاتكم} بالتاء مضمومة، وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ {خَطاياكُمْ} بهمزة الألف، وسكون الألف الأخيرة. وحكى عنه أيضا العكس. وتوجيه هذا الهمزة؛ أنه استثقل النطق بألفين مع أنّ الحاجز حرف مفتوح، والفتحة تنشأ عنها الألف، فكأنّه اجتمع ثلاث ألفات، فهمّزت إحدى الألفين، ليزول هذا الاستثقال. والحاصل (¬2): أنّ من قرأ بضم الياء، أو التاء، كان خطاياكم، أو خطيئاتكم، أو خطيئتكم مفعولا، لم يسمّ فاعله. ومن قرأ بفتح التاء، أو الياء، أو بالنون، كان ذلك مفعولا به، وجزم هذا الفعل؛ لأنه جواب الأمر. والمعنى: أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم، وكفرنا عنكم خطاياكم. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بالطاعة والامتثال لأمرنا ثوابا من فضلنا، وهم الذين لم يعبدوا العجل، جمع محسن، والمحسن (¬3): من أحسن في فعله، وإلى نفسه، وغيره. وقيل: المحسن من صحّح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[59]

فرائضه، وكفّ شرّه. وقيل: هو الفاعل ما يجمل طبعا، ويحمد شرعا. وأخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد؛ إيذانا بأن المحسن بصدد زيادة الثواب، وإن لم يقل حطة، فكيف إذا قالها، واستغفر، وبأنه يقول ويستغفر، لا محالة أمرهم بشيئين: بعمل يسير، وقول صغير، فالعمل الانحناء عند الدخول، والقول التكلّم بالقول، ثم وعد عليهما غفران السيئات، والزيادة في الحسنات. 59 - {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: غيرّ الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية، ما قيل لهم من التوبة، والاستغفار {قَوْلًا} آخر مما لا خير فيه، فأحد مفعولي بدّل محذوف {غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} غير نعت لقولا، وإنما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة؛ تحقيقا لمخالفتهم، وتنصيصا على المغايرة من كلّ وجه، والمعنى: أنهم غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا: حنطة بدل حطّة، وكذلك بدلوا الفعل الذي أمروا به من دخولهم سجدا، فدخلوا زحفا. فالحاصل: أنهم دخلوا الباب زاحفين على أدبارهم، قائلين حنطة على شعيرة؛ استخفافا بأمر الله تعالى. وقيل: قالوا (¬1): بالنبطية، وهي لغتهم (حطّا سمقانا) يعنون حنطة حمراء. وقال مجاهد: طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فأبوا أن يدخلوه سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل، كما بدّلوا القول، وأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به، ولذا لم يقل: فبدّلوا بصيغة العموم، بل قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وظاهر نظم القرآن أنّهم بدّلوا القول فقط دون العمل، وبه قال جماعة. وقيل: بل بدلوا العمل والقول جميعا، فمعنى قوله: {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي: أمرا غير الذي أمروا به، فإن أمر الله قول، وهو تغيير جميع ما أمروا به {فَأَنْزَلْنا}؛ أي: فعقيب ذلك التبديل أنزلنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتغيير ما أمروا به قولا وفعلا، ولم (¬2) يقل: عليهم على الاختصار. وقد سبق ذكر الذين ظلموا في الآية؛ لأنه سبق ذكر المحسنين أيضا، فلو أطلق وأضمر، لوقع احتمال دخول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الكل فيه، ثم هذا ليس بتكرار؛ لأنّ الظلم أعمّ من الصغائر، والكبائر، والفسق لا بد وأن يكون من الكبائر، فالمراد بالظلم ههنا: الكبائر بقرينة الفسق، والمراد بالظلم المتقدم: هو ما كان من الصغائر، وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ}؛ لأن المضمر هو المظهر. وقال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر، مبالغة في تقبيح شأنهم {رِجْزًا}؛ أي: طاعونا، وبلاء، وعذابا مقدّرا {مِنَ السَّماءِ} والتنوين فيه للتهويل، والتفخيم، وما في قوله: {بِما} مصدرية {كانُوا يَفْسُقُونَ}؛ أي: بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعتنا. والرجز في الأصل: ما يخاف ويستكره، وكذلك الرجس، والمراد به هنا الطاعون. روي: أنه مات منهم بالطاعون في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفا، ودام فيهم حتى بلغ سبعين ألفا. وقال أبو حيان (¬1): واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى. وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفا. وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة، ثمّ ماتوا بعد ذلك. وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا. وقال ابن عباس: ظلمة وموت، مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا. وهلك سبعون ألفا عقوبة. والذي يدل عليه القرآن: أنه أنزل عليهم عذاب، ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعيين النوع، فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين على أنه الطاعون. وقوله: {مِنَ السَّماءِ} إن فسر الرجز بالثلج، كان كونه من السماء ظاهرا، وإن فسر بغيره، فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم، أو مبالغة في علوّه بالقهر والاستيلاء. وقال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله: {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}. وفائدة التكرار التأكيد؛ لأنّ الوصف دالّ على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم، وأنّ إنزال الرجز سببه الظلم أيضا. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرّرا لوجهين: أحدهما: أنّ الظلم قد يكون من الصغائر، كما في قوله: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} ومن الكبائر كما في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} والفسق لا يكون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

إلا من الكبائر، فلما وصفهم بالظلم أولا، وصفهم هنا بالفسق الذي هو لا بدّ أن يكون من الكبائر. والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل، ونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل، بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى. وقرأ ابن محيصن (¬1): {رجزا} بضم الراء، وقد تقدم أنها لغة في الرجز بكسر الراء. وقرأ النخعي، وابن وثاب، وغيرهما {يفسقون} بكسر السين وهي لغة فيه، واستدل بعضهم بقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وترتيب العذاب على هذا التبديل، على أن ما ورد فيه التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره، ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ مسدها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة، والبيع، والتمليك، وفي نقل الحديث بالمعنى. فائدة: وذكروا أنّ في الآية سؤالات (¬2): الأول: قوله هنا: {وَإِذْ قُلْنَا} وفي الأعراف {وَإِذْ قِيلَ} وأجيب: بأنه صرح بالفاعل في البقرة، لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف؛ للعلم به في (سورة البقرة). الثاني: قال هنا: {ادْخُلُوا} وهناك {اسْكُنُوا}. وأجيب: بأنّ الدخول مقدم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدمة، والسكنى في المتأخرة. الثالث: قال هنا: {خَطاياكُمْ} وهناك {خَطِيئاتِكُمْ}. وأجيب: بأنّ الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة، لمّا لم يضف ذلك إلى نفسه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[60]

الرابع: ذكر هنا {رَغَدًا} وهناك حذف. وأجيب: بالجواب قبل. الخامس: قدم هنا دخول الباب على القول، وهناك عكس. وأجيب: بأن الواو للجمع، والمخاطبون بهذا مذنبون، فاشتغاله بحط الذنب، مقدّم على اشتغاله بالعبادة، فكلّفوا بقول حطة أولا، ثم بالدخول غير مذنبين، فاشتغاله أوّلا بالعبادة، ثم بذكر التوبة ثانيا، على سبيل هضم النفس، وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسام، ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس: إثبات الواو في {وَسَنَزِيدُ} هنا، وحذفها هناك. وأجيب: بأنه لما تقدّم أمران كان المجيء بالواو، مؤذنا بأن مجموع الغفران، والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع: لم يذكر ههنا {منهم} وذكر هناك. وأجيب: بأنّ أول القصة في الأعراف مبنيّ على التخصيص بلفظ من قال: ومن قوم موسى أمة، فذكر لفظ من آخرا؛ ليطابق آخره أوله. وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن: قال هنا {فَأَنْزَلْنا} وهناك {فَأَرْسَلْنا}. وأجيب: بأنّ الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم، واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع: هنا {يَفْسُقُونَ} وهناك {يَظْلِمُونَ}. وأجيب: بأنه لمّا بين هنا، كون ذلك الظلم فسقا، اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف؛ لأجل ما تقدم من البيان هنا. ذكره في «البحر». 60 - {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ} هذا هو (¬1) الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين، أما في الدنيا؛ فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الإنعام؛ لأنهم في مفازة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

منقطعة، وأما في الدين؛ فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام. والاستسقاء: طلب الماء عند عدمه، أو قلّته. وتقدّم (¬1) غير مرة، أنّ الظروف كلّها معطوفة على نعمتي، في قوله: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا حين طلب موسى السقيا لقومه، وقد عطشوا في التيه، فاستغاثوا به، فدعا ربّه أن يسقيهم {فَقُلْنَا} له بالوحي أن {اضْرِبْ بِعَصاكَ} وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع، على قدر طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، حملها آدم معه من الجنة، فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى {الْحَجَرَ}؛ أي: اضرب أيّ حجر كان تتفجّر منه العيون بقدرتنا، إن قلنا: إن أل فيه جنسية. أو اضرب الحجر المحمول معك، إن قلنا: إن أل فيه عهدية، وهو الحجر الذي فرّ بثوبه. عبارة «الروح» هنا: اللام (¬2) فيه، إما للعهد، والإشارة بها إلى معلوم. فقد روي أنه كان حجرا طوريا حمله معه، وكان خفيفا مربعا كرأس الرجل، له أربعة أوجه، في كل وجه ثلاث أعين، أو هو الحجر الذي فرّ بثوبه، حين وضعه عليه ليغتسل، وبرأه الله تعالى مما رموه به من الأدرة، فأشار إليه جبريل أن ارفعه، فإن لله فيه قدرة، ولك فيه معجزة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان بنوا إسرائيل ينظر بعضهم إلى سوءة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنوا إسرائيل إلى سوءة موسى، فقالوا: والله ما بموسى أدرة» وهي بالمد: نفخة بالخصية، وإما للجنس؛ أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وهو الأظهر في الحجة؛ أي: أبين في القدرة، وأدلّ عليها. فإنّ إخراج الماء بضرب العصا من جنس الحجر، أيّ حجر كان، أدلّ على ثبوت نبوة موسى عليه السلام، من إخراجه من حجر معهود معين، لاحتمال أن يذهب الوهم إلى تلك الخاصية في ذلك الحجر ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

المعين، كخاصية جذب الحديد في حجر المغناطيس {فَانْفَجَرَتْ} الفاء عاطفة على محذوف، والانفجار (¬1): الانكباب. والانبجاس: الترشّح والرشّ، فالرشّ أوّل، ثم الانكباب. عبّر بدل ما هنا في الأعراف بقوله: {فَانْبَجَسَتْ} والأول أبلغ؛ لأنه انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهور الماء، فناسب ذكر الانفجار هنا، الجمع قبله بين الأكل، والشرب الذي هو أبلغ من الاقتصار على أحدهما؛ أي: فضربه فانفجرت؛ أي: جرت وسالت {مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الحجر {اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا} ماء عذبا؛ أي اثنا عشر نهرا بعدد قبائل بني إسرائيل، لكلّ سبط عين، وكان يضربه بعصاه إذا نزل، فيتفجّر، ويضربه إذا ارتحل، فييبس. وفي هذا الانفجار من الإعجاز، ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض، فتكون مادته منها، وخروجه كثيرا من حجر صغير، وخروجه بقدر حاجتهم، وخروجه عند الضرب بالعصا، وانقطاعه عند الاستغناء عنه. والتاء في اثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للالحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ}؛ أي: كل سبط من الأسباط الاثني عشر مَشْرَبَهُمْ؛ أي: موضع شربهم، ونهرهم من تلك الأنهار التي جرت من الحجر، فكان كل سبط يأتي عينهم الخاصة بهم، لا يدخل سبط على غيره في شربه. والمشرب: إما مصر، أو اسم مكان. والحكمة في ذلك: أن الأسباط كانت بينهم عصبية، ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر، وكل سبط يريد تكثير نفسه، فجعل الله لكل سبط منهم نهرا على حدة، ليستقوا منها، ويسقوا دوابهم؛ لكيلا يقع بينهم جدال، ومخاصمة. وكان ينبع من كل وجه من الحجر، ثلاث أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثني عشر ميلا. ثم إن الله تعالى، قد كان قادرا على تفجير الماء، وفلق البحر من غير ضرب، لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب، حكمة منه للعباد، في وصولهم إلى المراد، ويترتب على ذلك ثوابهم، وعقابهم في المعاد. ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله، وقلة تدبره في عجائب صنعه، فإنه ¬

_ (¬1) روح البيان.

لمّا أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر، ويمقّر الخلّ، ويجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخّره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب، ويصيّره ماء بقوة التبريد، ونحو ذلك. قال القرطبي في تفسيره: ما ورد من انفجار الماء، ونبعه من يد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبين أصابعه، أعظم في المعجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار آناء الليل، وأطراف النهار، ومعجزة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لم تكن لنبيّ قبل، إذ لم يخرج الماء من لحم ودم. واعلم (¬1): أنّ المعجزات كلها من صنع الله تعالى، وهي سنّة جديدة غير ما نشاهد كل يوم، فحركة الشمس، وطلوعها من المشرق مع عظمها، لا تحدث دهشة؛ لتعودنا إياها، ولكن إذا طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة، وأحدث غرابة، ودهشة، مع أن الحركتين من صنع الله تعالى، لا فارق بينهما. ولئلا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة، يهيّىء الله الظروف لتحمّلها، ويهيّىء النبيّ لقبولها، ويهيّىء الحاضرين لمشاهدتها، وقبولها. فأمر الله موسى بإدخال يده جيبه، وإخراجها بيضاء، تهيئة لمعجزاته الأخرى. وليس للعقل أن يحكم أيّ المعجزات أعظم من الأخرى؛ لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله، أن يصل إلى صنعها، بل هي فوق قدرته. أمّا (¬2) المخترعات العلمية، فهي مبنيّة على السّنن العلمية مهما ظهرت مدهشة، كالكهرباء، والمسرّة - التليفون - وغاية ما هناك: أن العلماء سخروها لأغراضهم، فالذي يتكلم في أوروبا، ويسمع صوته في مكة المكرمة، أو في مصر مثلا بوساطة الراديو، إنما استطاع ذلك؛ لأنه استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كلّه، وهكذا حال سائر المخترعات، إنما هي كشف لناموس إلهي، يتكرّر دائما على يد كل إنسان، لكن المعجزات تجري على طراز آخر، فهي خلق سنة جديدة في الكون، ولا تتكرر إلا بإذن الله، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة، ولا يدرك طريقا لصنعها. وقوله: {كُلُوا} على تقدير القول؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الطب الحديث.

قلنا (¬1) لهم، أو قيل لهم: كلوا {وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} الذي يأتيكم من غير كدّ منكم، ولا تعب، بل هو من محض فضل الله تعالى، وإنعامه؛ أي: وقلنا لهم: كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الأنهار الاثني عشر كلّها، فالأكل يتعلّق بالأولين، والشرب بالثالث. وإنما لم يقل من رزقنا، كما يقتضيه قوله تعالى: {فَقُلْنَا} إيذانا بأن الأمر بالأكل، والشرب لم يكن بطريق الخطاب، بل بواسطة موسى عليه السلام. {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لا تعتدوا في الأرض حال كونكم {مُفْسِدِينَ}؛ أي: متمادين ومبالغين في الإفساد، والطغيان بمخالفة موسى عليه السلام. وقال البيضاوي: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬2)؛ أي: لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيّده به؛ لأن العثيّ وإن غلب في الفساد؛ فإنه قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا، كقتل الخضر عليه السلام الغلام، وخرقه السفينة. انتهى. والأصل في العثيّ: مطلق التعدّي، وإن غلب في الفساد، فيكون التقييد بالحال تقييدا للعامل بالخاص. وقوله: {اثْنَتا عَشْرَةَ} قرأ الجمهور {عَشْرَةَ} بسكون الشين. وقرأ مجاهد، وطلحة، وعيسى، ويحيى بن وثاب، وابن أبي ليلى، ويزيد بكسر الشين. وروى ذلك، نعيم السعيديّ، عن أبي عمرو، والمشهور عنه: الإسكان. وتقدم أنها لغة تميم، وكسرهم لها نادر في قياسهم؛ لأنهم يخفّفون فعلا، يقولون في نمر: نمر. وقرأ ابن الفضل الأنصاري (¬3)، والأعمش بفتح الشين. وروي عن الأعمش الإسكان، والكسر أيضا. قال الزمخشري: الفتح لغة. وقال ابن عطية: هي لغة ضعيفة. وقال المهدويّ: فتح الشين غير معروف، وإضافة المشرب إليهم في قوله: {مَشْرَبَهُمْ}؛ لأنه لمّا تخصص كلّ مشرب بمن تخصّص به، صار كأنه ملك لهم، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل، لا على لفظها، ولا يجوز أن يعود على لفظها، فيقال: مشربه؛ لأن مراعاة المعنى هنا لازمة؛ لأن كل قد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) البحر المحيط.

أضيفت إلى نكرة، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير، وغيره. قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقال الشاعر: وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم ... ونحن حللنا قيده فهو سارب وقال: وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} وتقول: كل رجلين يقولان ذلك، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل، وثمّ محذوف، تقديره: مشربهم منها؛ أي: من الاثنتي عشرة عينا، ونصّ على المشروب؛ تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة. والحكمة في قوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أنهم (¬1) لما أمروا بالأكل، والشرب من رزق الله، ولم يقيّد ذلك عليهم بزمان، ولا مكان، ولا مقدار من مأكول، أو مشروب، كان ذلك إنعاما، وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل، والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوة الاستعلائية تنهاهم عمّا يمكن أن ينشأ عن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. وقال ابن عباس، وأبو العالية معناه: ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم؛ لأن كل سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل معناه: لا تتمادوا في فسادكم. وقال ابن زيد: لا تطغوا. وهذه الأقوال كلها متقاربة. وقوله: {فِي الْأَرْضِ} الجمهور على أنها أرض التيه، ويجوز أن يريدها، وغيرها، ممّا قدّر أن يصلوا إليها، فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلّها. وأل لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها، من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات، والبطر يؤذن بانقطاع الغيث، وقحط البلاد، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ونزع البركات، وذلك انتقام يعمّ الأرض بالفساد. وحاصل المعنى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}. أي وقلنا لهم (¬1): كلوا مما رزقناكم من المن والسلوى، واشربوا ممّا فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد. وقد عبّر عن الحال الماضية بالأمر؛ ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى، حتى كأنّهم حاضرون الآن، والخطاب موجّه إليهم {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}؛ أي: ولا تنشروا فسادكم في الأرض، وتكونوا قدوة لغيركم فيه، وقد جاء هذا النهي عقب الإنعام عليهم بطيب المأكل، والمشرب؛ خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما؛ ولئلا يقابل النعم بالكفران، وقد أراد موسى عليه السلام أن يجتث أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه، ويربأ بهم عن الذّلّ الذي ألفته نفوسهم، بتقادم العهد، واستعباد المصريين إياهم، ويعودهم العزة، والشّمم، والإباء بعبادة الله وحده. وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة، وكلّما عرض لهم شيء من مشاق السفر، برموا بموسى، وتحسّروا على فراق مصر، وتمنّوا الرجوع إليها، واستبطئوا وعد الله، فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله، وصنعوا عجلا وعبدوه، وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين، كما قصه الله سبحانه وتعالى: {قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا ما دامُوا فِيها} فضرب الله سبحانه عليهم التيه أربعين سنة، حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية، ويخرج جيل جديد يتربّى على العقائد الحقّة، وفضائل الأخلاق، فتاهوا هذه المدة، وقضى الله أمرا كان مفعولا. الإعراب {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}. ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على نعمتي {قالَ مُوسى} فعل وفاعل {لِقَوْمِهِ} متعلق بقال، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ، تقديره: واذكروا وقت قول موسى لقومه {يا قَوْمِ} منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون، وجملة النداء في محل النصب مقول قال {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، تقديره: إنكم ظالمون أنفسكم، وجملة إن في محل النصب مقول قال، على كونها جواب النداء {بِاتِّخاذِكُمُ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بظلمتم، والباء سببية، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، وهو من اتخذ المتعدي إلى مفعولين {الْعِجْلَ} مفعول أول للمصدر، والثاني محذوف، تقديره: إلها {فَتُوبُوا} الفاء عاطفة تفريعية (توبوا) فعل وفاعل {إِلى بارِئِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتوبوا، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة إن، على كونها مقولا لقال {فَاقْتُلُوا} الفاء حرف عطف وتفصيل {اقتلوا} فعل وفاعل {أَنْفُسَكُمْ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة توبوا، عطف تفصيل على مجمل، على كونها مقولا لقال {ذلِكُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال لَكُمْ متعلق بخير {عِنْدَ بارِئِكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بخير أيضا {فَتابَ} الفاء عاطفة سببية على محذوف، تقديره: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم {تاب} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على البارىء {عَلَيْكُمْ} متعلق بتاب، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} على كونها مضافا إليه لإذ {إِنَّهُ} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل {التَّوَّابُ} خبر أول، لأن الرحيم خبر ثان لها، أو صفة للتواب، ويجوز أن يكون {هُوَ} مبتدأ {التَّوَّابُ} خبره و {الرَّحِيمُ} صفة له، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، على كونها مفعولا به لاذكروا، كما مرّ مرارا، تقديره: وقت قولكم يا موسى {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {يا مُوسى} منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية، مبني بضم مقدر منع من ظهوره التعذر؛ لأنه اسم مقصور، وجملة النداء في محل النصب مقول لقلتم {لَنْ} حرف نفي ونصب {نُؤْمِنَ} فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: نحن يعود على قوم موسى {لَكَ} متعلق بنؤمن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقلتم {حَتَّى} حرف جر وغاية {نَرَى} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى الجارة، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذر؛ لأنه فعل معتل بالألف، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: نحن يعود على قوم موسى، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} مفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية {جَهْرَةً} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: حتى نرى الله رؤية جهرة، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى رؤيتنا الله جهرة، الجار والمجرور متعلق بنؤمن؛ لأنه فعل مضارع {فَأَخَذَتْكُمُ} الفاء حرف عطف وتفريع {أخذتكم} فعل ومفعول به، والتاء علامة تأنيث الفاعل {الصَّاعِقَةُ} فاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قلتم، على كونها مضافا لإذ {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تَنْظُرُونَ} خبره، ومتعلق النظر محذوف، تقديره: وأنتم تنظرون ما حل بكم، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير المخاطبين، تقديره: حال كونكم ناظرين ما حل بكم. {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {بَعَثْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به،

والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة قوله {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}. {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق ببعثناكم {لَعَلَّكُمْ} لعل حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف في محل النصب اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبرها، تقديره: لعلكم شاكرون، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بلعل التعليلية المتعلقة ببعثناكم، تقديره: ثم بعثناكم لشكركم إيانا على نعمة بعثكم. {وَظَلَّلْنا} فعل وفاعل {عَلَيْكُمُ} متعلق بظللنا {الْغَمامَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر، معطوفة على جملة بعثنا. {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. {وَأَنْزَلْنا} فعل وفاعل معطوف على بعثناكم {عَلَيْكُمُ} متعلق بأنزلنا {الْمَنَّ} مفعول به {وَالسَّلْوى} معطوف عليه {كُلُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف معطوف على أنزلنا، تقديره: وقلنا لكم كلوا مِنْ {طَيِّباتِ} جار ومجرور متعلق بكلوا {طَيِّباتِ} مضاف {ما} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه {رَزَقْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما رزقناكموه، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول، ورزق هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين. {وَما} الواو عاطفة {ما} نافية {ظَلَمُونا} فعل ماض وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فظلموا أنفسهم بكفران النعم، وما ظلمونا على كونها مقولا لمحذوف، تقديره: قال الله تعالى: فظلموا أنفسهم. إلخ. {وَلكِنْ} الواو عاطفة {لكِنْ} حرف استدراك مهمل؛ لتخفيف النون {كانُوا} فعل ناقص واسمه {أَنْفُسَهُمْ} مفعول مقدم ليظلمون، وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر كان، تقديره: ولكن كانوا ظالمين أنفسهم، وجملة كان معطوفة على جملة قوله: {وَما ظَلَمُونا}. {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا

وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، كما مرّ مرارا، تقديره: يا بني إسرائيل! اذكروا نعمتي، ووقت قولنا لكم ... إلخ. {قُلْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذ إليها {ادْخُلُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقلنا {هذِهِ} ها حرف تنبيه، ذه: اسم إشارة في محل النصب على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعول به عند الأخفش، كما في «الفتوحات» {الْقَرْيَةَ} نعت لهذه، أو عطف بيان منه، أو بدل عنه. {فَكُلُوا} الفاء عاطفة {كلوا} فعل وفاعل معطوف على ادخلوا {مِنْها} متعلق بكلوا {حَيْثُ} ظرف مكان في محل النصب، مبني على الضم {شِئْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لحيث، والظرف متعلق بمحذوف حال من فاعل كلوا؛ أي كلوا منها حال كونكم متنقلين في أي مكان شئتم {رَغَدًا} مفعول مطلق منصوب بكلوا، لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلا رغدا {وَادْخُلُوا} فعل وفاعل {الْبابَ} مفعول به على السعة، والجملة معطوفة على كلوا {سُجَّدًا} حال من فاعل كلوا؛ أي: متواضعين متطامين، كحال الساجد {وَقُولُوا} فعل وفاعل معطوف على ادخلوا {حِطَّةٌ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مسألتنا حطة، أو أمرنا حطة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قولوا، والأصل فيها النصب؛ لأن معناها حط عنا ذنوبنا، ولكنه عدل إلى الرفع؛ للدلالة على ديمومية الحط، والثبات عليه {نَغْفِرْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير مستتر فيه؛ تقديره: نحن يعود على الله، والجملة الفعلية جواب الطلب لا محل لها من الإعراب {لَكُمْ} متعلق بنغفر {خَطاياكُمْ} مفعول به {وَسَنَزِيدُ} الواو عاطفة، والسين حرف استقبال {نزيد} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله {الْمُحْسِنِينَ} مفعول به منصوب بالياء، والجملة معطوفة على جملة نغفر، على كونها جواب الطلب لا محل لها من الإعراب، وإنما لم يجزم؛ لأن الطلب عامل ضعيف فلا يقوى على العمل في المعطوف، أو الجملة مستأنفة. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا

مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)}. {فَبَدَّلَ} الفاء استئنافية، أو فصيحية؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم أمروا بقول حطة، وأردت بيان ما قالوا، فأقول لك: بدّل الذين ظلموا {بدل} فعل ماض {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {قَوْلًا} مفعول به منصوب {غَيْرَ} صفة لـ {قَوْلًا} منصوب وهو مضاف {الَّذِي} مضاف إليه {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بقيل، والجملة صلة الموصول {فَأَنْزَلْنا} الفاء عاطفة {أنزلنا} فعل وفاعل معطوف على جملة بدّل، على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة {عَلَى الَّذِينَ} متعلق بأنزلنا {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {رِجْزًا} مفعول به لأنزلنا {مِنَ السَّماءِ} صفة لرجزا {بِما} الباء حرف جر وسبب {ما} مصدرية {كانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْسُقُونَ} خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها، صلة {ما} المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بكونهم فاسقين، أو بفسقهم الجار والمجرور متعلق بأنزلنا. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ} أصل قال: قول بوزن فعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، وهو أجوف واويّ. يا قوم! أصله: يا قومي، حذفت ياء المتكلم، وبقيت الكسرة دالّة عليها، وهكذا حيثما ورد في القرآن. والقوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرؤ، وقياسه: أن لا يجمع، وشذّ جمعه حيث قالوا: أقوام، وجمع جمعه قالوا: أقاويم. قيل: يختصّ بالرجال. قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} ولذلك قابله بقوله: {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} وقال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء

وقال آخر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي وقال آخر: لا يبعدنّ قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر وقيل: لا يختصّ بالرجال، بل يطلق على الرجال والنساء، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ} وقال: {وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ}. والمرسل إليهم يشمل النساء والرجال، وصاحب هذا القيل يقول: أمّا إذا قامت قرينة على التخصيص، فيبطل العموم، ويكون المراد ذلك الشيء المخصّص. والقول الأول أصوب، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع، وتغليب الرجال على النساء، والمجاز خير من الاشتراك. وسمّي الرجال قوما؛ لأنهم يقومون بالأمور اه. من «البحر». {إِلى بارِئِكُمْ} البارىء: هو الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرأ، إذا خلقهم. وفي الجمع بينهما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ} ما يدلّ على التباين، إلا أن يحمل على التوكيد. وقد فرّق بعض الناس بينهما، فقال: البارىء: هو المبدع المحدث. والخالق: هو المقدّر الناقل من حال إلى حال. وقال بعض العلماء: برأ، وأنشأ، وأبدع نظائر. وأصل مادة برأ يدلّ على انفصال شيء من شيء، وتميّزه عنه. يقال: برأ المريض من مرضه، إذا زال عنه المرض وانفصل، وبرىء المدين من دينه، إذا زال عنه الدين وسقط. ومنه البارىء في أوصاف الله تعالى؛ لأنه الذي أخرج من العدم، (وفصلهم عنه إلى الوجود). وفي «المختار»: أنّ برىء المريض، من بابي سلم، وقطع، وأنّ برأ الله الخلق، من باب قطع لا غير. اه. {فَتُوبُوا} أمر من تاب يتوب، والأمر قطعة من المضارع، وأصل مضارعه يتوبون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى التاء، فسكنت الواو إثر ضمة، فصارت حرف مد، فلما بني منه الأمر، حذفت نون الرفع، وحرف المضارعة،

ودخل عليه الفاء العاطفة {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} القتل: إزهاق الروح بفعل أحد، من طعن، أو ضرب، أو ذبح، أو خنق، أو ما شابه ذلك، وأمّا إذا كان من غير فعل، فهو موت هلاك {ذلِكُمْ خَيْرٌ} أصله: أخير صيغة تفضيل، ولمّا كثر استعمال هذه اللفظة على لسان العرب، حذفوا همزها تخفيفا، وسكّنوا الياء، ونقلوا حركتها إلى الخاء، وكذلك فعلوا في شر أصله: أشرر بوزن أفعل، خففوه لما كثر استعماله، بنقل حركة الراء الأولى إلى الشين، وإدغامها في الراء الثانية، وحذفوا الهمزة، فقالوا: شرّ وفي «البحر» {خَيْرٌ} هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذا في الكلام، فنقص بناؤها، فانصرفت. وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، كما في قوله: بلال خير الناس وابن الأخير. وتأتي خير أيضا لا بمعنى التفضيل، تقول: زيد خير، تريد بذلك فيه خصلة جميلة، ومخفّفا من خير، تقول: رجل خير؛ أي: فيه خير، ويمكن أن يكون من ذلك {فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ}. {فَتابَ عَلَيْكُمْ} أصله؛ توب بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} قلتم بوزن فلتم، وذلك أنّ أصله: قول بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم لمّا أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك؛ سكن آخره لبنائه على السكون، فالتقى ساكنان الألف ولام الفعل، فحذفت الألف عين الفعل، فصار اللفظ هكذا. قلت: فاحتيج للتنبيه على نوع عين الفعل المحذوفة، هل هي واو؟ أو ياء؟ فحذفت حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة التي هي الواو، فضم أول الفعل، فقيل: قلت: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ} أصله: نرأي بوزن نفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء فاء الفعل، ثم حذفت الهمزة؛ تخفيفا، فقيل: نرى، وهذا الحذف لعين هذا الفعل، مطرد في الماضي من الرباعي، والمضارع منه، والأمر، كما تحذف من الثلاثي في المضارع، والأمر، وهذا الحذف الذي ذكرناه، هو إذا كان مدلول رأى الإبصار في يقظة، أو منام، أو الاعتقاد، وأمّا إذا كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يراه؛ أي: أصاب رئته. نقله صاحب كتاب الأمر {جَهْرَةً} الجهرة العلانية، ومنه الجهر ضدّ السر، وفتح عين هذا النحو مسموع

عند البصريين، مقيس عند الكوفيين، يقال: جهر الرجل الأمر، إذا كشفه، وجهرت الركيّة، إذا أخرجت ما فيها من الحمأة، وأظهرت الماء. قال الشاعر: إذا وردنا آجنا جهرنا ... أو خاليا من أهله غمرنا والجهوريّ: العالي الصوت، وصوت جهير عال، ووجه جهير ظاهر الوضاءة والأجهر: الأعمى. سمّي على الضد {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ} البعث: الإحياء، وأصله: الإثارة. قال الشاعر: أنيخها ما بدا لي ثمّ أبعثها ... كأنّها كاسر في الجوّ فتخاء وقال آخر: وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين عان ونشوان وقيل أصله: الإرسال، ومنه {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} وتأتي بمعنى الإفاقة من الغشي، أو النوم، ومنه {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ} {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ} ظلّل بوزن فعل المضعف، مشتق من الظل، والظلّ أصله: المنفعة. والسحابة: ظلّة لما يحصل تحتها من الظل، ومنه قيل: السلطان ظلّ الله في الأرض. قال الشاعر: فلو كنت مولى الظلّ أو في ظلاله ... ظلمت ولكن لا يدي لك بالظّلم والغمام: اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده هاء التأنيث، تقول: غمامة، وغمام، نحو: حمامة وحمام، وهو السّحاب. وقيل: ما ابيض من السحاب، وسمّي غماما؛ لأنه يغمّ وجه السماء؛ أي: يستره، ومنه: الغمّ، والغمم الأغمّ، والغمّة، والغمّى، والغمّاء. وغمّ الهلال، والنبت الغميم: هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} والمنّ مصدر مننت؛ أي: قطعت. والمنّ: الإحسان. والمنّ: صمغة تنزل على الشجر حلوة، وفي المراد به في الآية أقوال: مرّت في مبحث التفسير {وَالسَّلْوى} اسم جنس واحدها سلواة، قاله الخليل، والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث، نحو: علقى وعلقاة، إذ لو كانت للتأنيث لما أنّث بالهاء. قال الشاعر:

وإنّي لتعروني لذكراك سلوة ... كما انتقض السّلواة من بلل القطر وقال الكسائي: السلوى واحدة، وجمعها سلاوى. وقال الأخفش: جمعه وواحده بلفظ واحد. وقيل: جمع لا واحد له من لفظه {كُلُوا} هذا أمر من مادة أكل يأكل، كخرج يخرج، والقياس في بناء الأمر منه حذف حرف المضارعة، وتسكين فائه، واستجلاب همزة الوصل؛ للتوصل إلى النطق بالساكن فاء الكلمة، لكن هذا اللّفظ، ولفظ الأمر من أمر يأمر، ولفظ الأمر من أخذ يأخذ، نطقت بها العرب هكذا شذوذا عن القياس، فسمعت عنهم هكذا، والسماع مانع القياس، كما هو معروف، فوزن الكلمات الثلاث عل. قال ابن مالك في لاميّة الأفعال: وشذّ بالحذف مر وخذ وكل وفشا ... وأمر ومستندر تميم خذ وكلا {مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} جمع طيب، والطيب فيعل، من طاب يطيب، وهو اللذيذ من كل شيء {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} والدخول معروف، وفعله دخل يدخل، وهو مما جاء على يفعل بضم العين، وكان القياس فيه أن يفتح؛ لأنّ وسطه حرف حلق، كما جاء الكسر في ينزع، وقياسه أيضا الفتح. {الْقَرْيَةَ} المدينة من قريت؛ أي: جمعت، سميت بذلك؛ لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل: إن قلّوا قيل لها قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمّى به قرية ثلاثة فما فوقها، ومنه: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه. والمقراة الحوض، ومنه القرى، وهو الضيافة. ولغة أهل اليمن القرية بكسر القاف، ويجمعونها على قرى بكسر القاف، نحو: رشوة ورشا، وأما قرية بالفتح، فجمعت على قرى بضم القاف، وهو جمع على غير قياس (من حيث شئتم) أصله: شيىء بوزن فعل بكسر العين، يفعل بفتحها، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار شاء، فأسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك فبني على السكون، فصار اللفظ شاءت، فالتقى ساكنان فحذفت الألف، فصار اللفظ شأت، فاحتيج إلى معرفة عين الفعل المحذوفة، فحذفت حركة فاء الفعل، ونقلت إليها حركة العين المحذوفة، وهي هنا الكسرة؛ لأن العين المحذوفة ياء، فقيل: شئت بوزن فلت {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا} والباب معروف وهو المكان الذي

يدخل منه، وجمعه أبواب، وهو قياس مطرد، وسمع جمعه على أبوبة {سُجَّدًا} جمع ساجد، وهو قياس مطرد في فاعل، وفاعلة، الوصفين الصحيحي اللام {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أمر من قال يقول، والأصل: يقولون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد، ولمّا بني الأمر من المضارع، حذفت حرف المضارعة، ونون الرفع، فقيل: قولوا بوزن فعلوا. وقال أبو حيان: كل أمر من ثلاثي، اعتلت عينه فانقلبت ألفا في الماضي، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر، نحو: قل، وبع، أو لضمير إناث، نحو: قلن وبعن، فإن اتصل به ضمير الواحدة، نحو: قولي، أو ضمير الاثنين، نحو: قولا، أو ضمير الذكور، نحو: قولوا، ثبتت تلك العين، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في كتب النحو، والصرف {حِطَّةٌ} بوزن فعلة من حط، وهو مصدر كالحط، وقيل: هو هيئة وحال، كالجلسة، والقعدة، والحطّ: الإزالة، يقال: حططت عنه الخراج أزلته عنه {نَغْفِرْ لَكُمْ} الغفر، والغفران الستر، وفعله غفر يغفر بفتح العين في الماضي، وكسرها في المضارع، ومنه المغفر لستره الرأس، والجمّ الغفير؛ أي: يستر بعضهم بعضا من الكثرة {خَطاياكُمْ} جمع خطيئة بوزن فعيلة، والياء فيه زائدة في المفرد، فلما جمعت جمع تكسير، أبدلت الياء الزائدة في المفرد مزة، فصارت خطائىء بهمزتين، الأولى مبدلة من ياء فعيلة الواقعة حرف مد ثالثا زائدا، كما في صحيفة، وكتيبة، فالقياس إبدال هذه الياء همزة، على حدّ قول ابن مالك في «الخلاصة» في باب التصريف: المدّ زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد ثم أبدلت الهمزة الثانية ياء؛ لتطرفها، وانكسار ما قبلها، فصارت خطائي، ثم قلبت كسرة الهمزة فتحة؛ للتخفيف، فصارت خطاءي فأبدلت الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فصارت خطاءا، ثم أبدلت الهمزة ياء، فقيل: خطايا بعد خمس عمليات تصريفية. وقال أبو حيان: الخطيئة فعيلة من الخطأ، والخطأ: العدول عن القصد، يقال: خطىء الشيء أصابه بغير قصد، وأخطأ إذا تعمّد، وأما خطايا فجمع خطيّة مشددة عند الفراء، كهدية، وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل، وعند سيبويه أصله: خطائي، مثل: صحائف وزنه

فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة، فصار خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار خطاءا فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف، فصار كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء، فصار خطايا، كهدايا، ومطايا. وعند الخليل أصله: خطايىء، ثم قلب، فصار خطائي على وزن فعالى المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قول سيبويه. انتهى. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا؛ أي: عوضه، ويتعدى لاثنين، الثاني أصله حرف جر. تقول: بدّلت دينارا بدرهم؛ أي: جعلت دينارا عوض درهم، وقد يتعدّى لثلاثة، فتقول: بدّلت زيدا دينارا بدرهم؛ أي: حصلت له دينارا عوضا من درهم {قِيلَ} أصله: قول بضم أوله وكسر ثانيه، استثقل الانتقال من ضمة إلى كسرة، فحذفت حركة فاء الفعل، ونقلت إليه حركة العين، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وهكذا كلّ من شاكل هذا النوع من معتل العين، إلا أن الياء تسلم فيما عينه ياء، كجيىء، وبيع، وتقلب الواو ياء فيما عينه واو، كقيل. {رِجْزًا} الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصّعدات. {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ} والاستسقاء: طلب سقيا الماء، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأصله: استسقي بوزن استفعل، قلبت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} أصل قلنا: قولنا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فلما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، وبني آخره على السكون، التقى ساكنان الألف واللام، فحذفت الألف، وحذفت أيضا حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة، فصار قلنا، كما مر {بِعَصاكَ} العصا الألف فيها منقلبة عن واو، لتثنيته على عصوين، وقولهم: عصوته؛ أي: ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذا، فقالوا: أعص أصله: أعصو، وعلى فعول قياسا. قالوا: عصيّ أصله: عصوو، يتبع حركة العين حركة الصاد و {الْحَجَرَ} الجسم الصلب المعروف عند الناس، ويجمع على أحجار وحجار، وهما جمعان مقيسان

فيه، وقالوا فيه: حجارة بالتاء {فَانْفَجَرَتْ} والانفجار: انصداع شيء عن شيء، ومنه الفجر، والفجور، وهو الانبعاث في المعصية، كالماء، وهو مطاوع فعل. يقال: فجر فانفجر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل {اثْنَتا عَشْرَةَ} اثنتان تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة؛ لأنه لا يفرد، فلا يقال: إثن ولا إثنة، ولامه ما محذوفة وهي ياء؛ لأنه من ثنيت العشرة بإسكان الشين لغة الحجاز، وبكسرها لغة تميم، والفتح فيها شاذ غير معروف، وهو أول العقود {عَيْنًا} والعين لفظ مشترك بين منبع الماء، والعضو الباصر، والسحابة تقبل من جهة القبلة، والمطر يمطر خمسا، أو ستا {كُلُّ أُناسٍ} والأناس اسم جمع لا واحد له من لفظه، كما مر {مَشْرَبَهُمْ} والمشرب مفعل من الشراب، يكون للمصدر، والزمان، والمكان، ويطّرد من كلّ ثلاثي متصرف مجرد لم تكسر عين مضارعه، سواء صحت لامه، ك: سرق، ودخل، أو أعلّت، كرمى، وغزا، وشذّ من ذلك ألفاظ ذكرها الصرفيون في باب المفعل، كما بسطنا الكلام عليها في شرحنا «مناهل الرجال على لامية الأفعال». {وَلا تَعْثَوْا} قيل أصل هذه الكلمة: عثى يعثي، كرمى يرمي. وقيل أصلها: عثى يعثى، كسعى يسعى. وقيل أصلها: عثى يعثى، كرضى يرضى. وقيل أصلها: عثا يعثو، كسما يسمو، والموجود في القرآن يوافق الثانية والثالثة من اللغات، وعليه يكون التغيير الذي وقع فيها، أنّ واو الجماعة اتصل بلام الفعل، سواء أكانت من باب سعى، أم من باب رضي، تحركت الياء وفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. أمّا التي من باب رمى وسما، فلا داعي للكلام عليهما، لعدم ورودهما في القرآن، والعثو والعثيّ أشدّ الفساد. يقال: عثا يعثو عثوا، وعثيا، وعثى يعثى عثيا، وعثى يعثى عثيا لغة شاذّة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة في قوله: {يا قَوْمِ} للشفقة عليهم.

ومنها: التعرض لعنوان البارئية في قوله: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ}؛ للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها، ومن الغباوة منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمته، إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة. اه. «أبو السعود». ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} علاقته اعتبار ما يؤول إليه؛ أي: أسلموها للقتل تطهيرا لها. ومنها: الالتفات في قوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} والالتفات هنا من التكلم الذي يقتضيه سياق الكلام إلى الغيبة، إذ كان مقتضى المقام أن يقول: فوفقتكم فتبت عليكم، وفيه أيضا مجاز بالحذف، تقديره: ففعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم بارئكم. ومنها: العدول من ضمير الغائبين العائد إلى القوم، إلى ضمير المخاطبين في قوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} حيث لم يقل: فتاب عليهم العائد إلى الأسلاف؛ إشعارا بأنها نعمة، أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم. ومنها: تقييد البعث بكونه من بعد الموت، مع أن البعث لا يكون إلا بعد الموت؛ لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي؛ ولدفع ما عساه يتوهم أنّ بعثهم كان بعد إغماء، أو بعد نوم. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}؛ أي: قلنا لهم كلوا، وفي قوله: {وَما ظَلَمُونا}، تقديره: فظلموا أنفسهم بكفرهم تلك النعمة، وما ظلمونا بذلك دل على هذا المحذوف قوله: {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ومنها: الجمع بين صيغتي الماضي والمضارع في قوله: {ظَلَمُونا} وقوله: {يَظْلِمُونَ}؛ للدلالة على تماديهم في الظلم، واستمرارهم على الكفر. ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه أيضا ضرب تهكم بهم.

ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: فأنزلنا عليهم؛ لزيادة التقبيح، والمبالغة في الذم، والتقريع. ومنها: تنكير {رِجْزًا}؛ لإفادة التهويل والتفخيم. ومنها: الإضافة في قوله: {كلوا من رزق الله}؛ تعظيما للمنّة والإنعام، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب، ولا مشقة. ومنها: ذكر {فِي الْأَرْضِ} في قوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ} مبالغة في تقبيح الفساد. ومنها: الإتيان بالحال؛ لتأكيد معنى عامله في قوله: {مُفْسِدِينَ}؛ لأنّ معناها قد فهم من عاملها، وحسن ذلك اختلاف اللفظين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}. المناسبة قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنها في تعداد قبائحهم، كسوابقها. والحاصل منها: أنهم لما (¬1) سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك، وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم، وأكثر أهل الظاهر من المفسرين، على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية؛ ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى، وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} هو على سبيل الإنكار. ذكره في «البحر». قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب، وما حل بهم من العقوبة، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم، دالا على أنه يجزي كلا بفعله. وعبارة المراغي هنا مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر (¬2) باللائمة على اليهود في الآيات السالفة، وبين ما حاق بهم من الذل والمسكنة، وما نالهم من غضب الله جزاء ما اجترحوه من السيئات، من كفر بآيات الله تعالى، وقتل للنبيين، وعصيان لأوامر الدين، وترك لحدوده، ومخالفة لشرائعه. ذكر هنا حال المستمسكين بحبل الله - الدين المتين - من كل أمة، وكل شعب، ممن اهتدى بهدي نبي سابق، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر، وسطع على قلبه نور اليقين، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ...} الآيتين، ذكر (¬3) سبحانه في هاتين الآيتين، جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}. إلخ. فقبلوها، وأراهم من الآيات ما فيه مقنع لهم؛ رفع الجبل فوقهم كالظلة حتى ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب، والعمل بما فيه بالجد والنشاط كي يعدّوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك، وانصرفوا عن طاعته، ولولا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا، وخسروا سعادة الآخرة، وهي خير ثوابا، وخير أملا، لكن وفقهم الله تعالى بعد ذلك فتابوا، ورحمهم فقبل توبتهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ...} الآيتين، وفي هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد تعداد لنكث العهود، والمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل، الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحل بهم جزاء ما عملوا، من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[61]

مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم - الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلّل دورهم دور الأنصار - أن لا يجحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن لا يصرّوا على كفرهم، وعدم التصديق بما جاء به خوفا من أن يحل بهم ما حلّ بأسلافهم، مما لا قبل لهم به من غضب الله تعالى، فمن عهودهم التي نكثوها: أنهم اعتدوا يوم السبت. ذاك أنّ موسى عليه السلام حظّر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم، والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم؛ وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى، لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت فجازاهم الله تعالى بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني، وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخسّ أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية بأنواع المنكرات جهارا عيانا بلا خجل، ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم، والعدني في مسنده من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال سلمان: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أهل دين كنت معهم؟ فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...} الآية إلى قوله: {يَحْزَنُونَ}. التفسير وأوجه القراءة 61 - {وَإِذْ قُلْتُمْ}؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! حين كنتم في التيه تأكلون من المن والسلوى، فمللتم منه، وذكرتم عيشا كان لكم بمصر، وقلتم لنبيكم عليه السلام {يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ}؛ أي: على نوع واحد من الطعام الذي هو المن والسلوى، ولن نكتفي به. وهذا (¬1) تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني ¬

_ (¬1) روح البيان.

إسرائيل، وكفرانهم لنعمة الله عز وجل. خاطبهم تنزيلا لهم مكان آبائهم؛ لما بينهم من الاتحاد، وكان هذا القول منهم في التيه حين سئموا من أكل المن والسلوى؛ لكونهما غير مبدلين، والإنسان إذا داوم شيئا واحدا سئمه، وتذكروا عيشهم الأول بمصر؛ لأنهم كانوا أهل فلاحة، فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا: يا موسى! لن نصبر على طعام واحد غير مبدّل بنوع آخر، والطعام ما يتغذى به. وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان؛ لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فيصيران طعاما واحدا، أو أريد بالواحد نفي التبدل والاختلاف، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدّة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها. قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا. وفي «تفسير البغوي» والعرب تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين؛ لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء، فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض، لاستغناء كل واحد بنفسه، وكان فيهم أوّل من اتخذ العبيد والخدم {فَادْعُ لَنا}؛ أي: فاسأل لأجلنا {رَبَّكَ} أن يخرج لنا من نبات الأرض. ولغة بني عامر بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي؛ والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء؛ أي: إن دعوته {يُخْرِجْ لَنَا} أي يظهر لنا ويوجد شيئا {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} ومفعول يخرج محذوف، كما قدّرنا والجزم في جواب الطلب، فإنّ دعوته سبب الإجابة؛ أي: إن تدع لنا ربك يخرج لنا شيئا مما تنبته الأرض من الحبوب والبقول، فقد سئمنا المن والسلوى وكرهناه، ونريد ما تخرجه الأرض كعادتنا في مصر. وفي قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} (¬1) إسناد مجازي بإقامة القابل وهو الأرض، مقام الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، ومن تبعيضية، وما موصولة، ومن في قوله: {مِنْ بَقْلِها} بيانية واقعة موقع الحال من الضمير العائد إلى ما المحذوف؛ أي: مما تنبته الأرض، أو من ما الموصولة؛ أي: حال كون ذلك النابت من ¬

_ (¬1) روح البيان.

بقول الأرض وحبوبها؛ أي: من أطايب بقولها. ويجوز أن تكون بدلا من (ما) الأولى بإعادة الجار، فمن على هذا تبعيضية، كهي في مما تنبت. والبقل: كل ما تنبته الأرض من الخضر، أو كل نبات لا يبقى له ساق، والمراد أصناف البقول التي يأكلها الناس، كالكراث، والسلق، والخص، والملوخية، والنعناع، والفجل، وشبهها {وَقِثَّائِها} وقرأ (¬1) يحيى بن وثاب، وطلحة بن مصرف، وغيرهما {وَقِثَّائِها} بضم القاف وهي لغة فيه. وقرأ الجمهور بكسرها وهي المشهورة، والقثاء: شيء يشبه الخيار معروف، ولكن المراد به هنا: كلّ شيء من خضرواتها، كالبطيخ، والخيار، والدباء، والقرع. فالمراد بالبقول؛ ما يؤكل ورقه من البقول، وبالقثاء؛ ما يؤكل ثمره منها، أو هو من عطف الخاص على العام، والبقل: ما ليس له ساق ضدّ الشجر {وَفُومِها}؛ أي: حنطتها وهو الأقرب؛ لأن ذكر العدس يدلّ على أنه المراد؛ لأنه من جنسه. وقيل: هو الثوم، كما هو مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وهو اختيار الكسائي لقراءة ابن مسعود {وثومها} بالثاء المثلثة؛ ولأنّ ذكر البصل يدلّ على أنه هو المراد فإنه من جنسه. قال ابن التمجيد في «حواشيه». وحمله على الثوم أوفق من الحنطة؛ لاقتران ذكره بالبصل والعدس، فإن العدس يطبخ بالثوم، والبصل. {وَعَدَسِها} وهو حب معروف يستوى كيله ووزنه {وَبَصَلِها} بقل معروف تطيب به القدور، وإنما طلبوا (¬2) هذه الأنواع؛ لأنها تعين على تقوية الشهوة؛ أو لأنهم ملّوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد، وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة. وقال أبو حيان: وأحوال (¬3) هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا أولا: ما هو جامع للحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب، كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس، كالكرفس والسذاب، ومنه ما هو حار ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

وفيه رطوبة عرضيّة، كالنعناع. وثانيا: القثاء وهو بارد رطب. وثالثا: الثوم وهو حار يابس. ورابعا: العدس وهو بارد يابس. وخامسا: البصل وهو حار رطب، وإذا طبخ صار باردا رطبا، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة. انتهى. وقوله: {قالَ} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله لهم، أو موسى عليه السلام، فقيل: قال إنكارا عليهم. إلخ. والظاهر (¬1) عود الضمير في قال إلى موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ}. والهمزة في قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ}؛ للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبيّ {أتبدلون} وهو مجاز؛ لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى، لكن لما كان حصول التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل {الَّذِي هُوَ أَدْنى}؛ أي: أتأخذون لأنفسكم، وتختارون لها الطعام الذي هو أدنى، وأخسّ من البقل وما بعدها {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؛ أي: بدل الذي هو خير وأنفس؛ لأن الباء تدخل على المتروك دون المأخوذ، وخيريّة المن والسلوى في اللّذاذة، أو سقوط المشقة والسعي في تحصيلها، وغير ذلك. ولا كذلك الفوم، والعدس، والبصل، وأمثالها. قال بعضهم: الحنطة وإن كانت أعلى من المن والسلوى، لكن خساستها ههنا بالنسبة إلى قيمتها، وليس في الآية ما يدل على قطعها عنهم على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى. وحصول ما طلبوا مكانه؛ لتحقق الاستبدال في صورة المناوبة؛ لأنهم أرادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد أن يكون لهم هذا تارة وذاك أخرى. وقرأ زهير الفرقبيّ، ويقال له: زهير الكسائيّ {أدنأ} بالهمزة. والمعنى: أي (¬2) قال لهم موسى منكرا عليهم ويحكم: أتريدون استبدال الطعام الذي هو أخسّ، من البقل، والقثاء، والفوم، والبصل، عن الطعام الذي هو أنفس، وأفضل، وأعلى، الذي هو المن والسلوى، فإنه خير في اللذة، والنفع، وعدم الحاجة إلى السعي، فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهْبِطُوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة.

مِصْرًا}؛ أي: انحدروا واخرجوا من التيه، وانزلوا إن كنتم تريدون هذه الأشياء مصرا من الأمصار، وانزلوا بلدة من البلدان؛ لأنكم في البرية فلا يوجد فيها ما تطلبون، وإنما يوجد ذلك في الأمصار والبلدان، وليس المراد هنا مصر فرعون؛ لقوله تعالى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وإذا وجب عليهم دخول تلك الأرض، فكيف يجوز دخول مصر فرعون وهو الأظهر. وقيل: مصر فرعون الذي خرجتم منه، وصرفه حينئذ مع وجود السبيين، وهما: العلمية والتأنيث المعنوي لإرادة البلد، أو لسكون وسطه، كنوح، ولوط، وفيها العجمة والتعريف، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - وعبارة «الروح» هنا: والمصر: (¬1) البلد العظيم من مصر الشيء يمصره؛ أي: قطعه سمي به؛ لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة، وقد تسمى القرية مصرا، كما تسمى المصر قرية، وهو ينصرف ولا ينصرف، فصرف ههنا؛ لأن المراد به غير معين. وقيل: أريد به مصر فرعون، وإنما صرف؛ لسكون وسطه، كهند، ودعد، ونوح؛ أو لتأويله بالبلد دون المدينة، فلم يوجد فيه غير العلمية. انتهى. قال أبو حيان: فتلخّص من قراءة التنوين أن يكون مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصرا غير معين من أمصار الشام، أو معينا وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال. انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {اهْبِطُوا} بكسر الباء، لأنه من باب ضرب. وقرىء بضم الباء على أنه من باب دخل وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن، وطلحة، والأعمش، وأبان بن تغلب بغير تنوين، وبيّن كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان {فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} تعليل للأمر بالهبوط؛ أي: فإن لكم فيه ما سألتموه من بقول الأرض ونباتها، ثم قال تعالى منبها على ضلالهم، وفسادهم، وبغيهم، وعدوانهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ}؛ أي: جعلت على فروع بني إسرائيل الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم {الذِّلَّةُ}؛ أي: الذل والهوان بضرب الجزية عليهم، وإلزامهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

إياها إلزاما لا يبرح {وَالْمَسْكَنَةُ}؛ أي: الفقر والفاقة، وسمي الفقير مسكينا؛ لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة؛ أي: جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم، كما يضرب الطين على الحائط، فهو استعارة بالكناية، فترى اليهود وإن كانوا مياسير، كأنهم فقراء إما على الحقيقة، أو على التكلف مخافة أن تضاعف عليهم الجزية. والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله الجمهور، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق، أو القائلون {ادْعُ لَنا رَبَّكَ} ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة. ذكره في «البحر». {وَباؤُ}؛ أي: رجعوا {بِغَضَبٍ} وسخط عظيم كائن {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: استحقّوا الغضب واللعنة من الله تعالى بسبب طغيانهم، وكفرهم نعمة الله تعالى. وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه {ذلِكَ} المذكور من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب من الله، وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور في قوله: {بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ}؛ أي: بسبب أن اليهود كانوا يجحدون على الاستمرار بآيات الله الباهرة؛ التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يدي موسى عليه السلام؛ التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر، وما لم يعدّ، كاليد، والعصا، والضفادع، والقمّل، والجراد، أو بسبب أنهم يجحدون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وينكرون صفته في التوراة، والإنجيل، وبالقرآن، وآية الرجم التي في التوراة والإنجيل {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} عندهم؛ أي: وبسبب قتلهم الأنبياء ظلما حتى عندهم، كشعياء، وزكريا، ويحيى، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. وفائدة (¬1) التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل: أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق، إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحدهم عليهم السلام، فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من ¬

_ (¬1) روح البيان.

المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس، والحسن - رضي الله عنهم -: لم يقتل قطّ من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر، فظهر أن لا تعارض بين قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا}: وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} مع أنه يجوز أن يراد به النصرة بالحجّة وبيان الحق، وكلهم بهذا المعنى منصور. روي أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا. فإن قلت: لم عرّف الحق هنا ونكره في آل عمران والنساء؟ قلت: لأن ما هنا لكونه وقع أولا إشارة إلى {الْحَقِّ} الذي أذن الله أن تقتل النفس به، وهو قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} فكان التعريف به أولى، وهناك أريد به {بغير حق} في معتقدهم ودينهم، فكان بالتنكير أولى انتهى. من فتح الرحمن. {ذلِكَ} المذكور من كفرهم بآيات الله العظام، وقتلهم أنبياء الله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام {بِما عَصَوْا}؛ أي: بسبب عصيانهم بترك المأمورات {وَكانُوا يَعْتَدُونَ}؛ أي: وبسبب اعتدائهم ومجاوزتهم الحد بارتكاب المنهيات؛ أي: ذلك بسبب مجاوزتهم أمري وارتكابهم محارمي؛ أي: جرّ بهم العصيان والتمادي في العدوان إلى المشار إليه، فإن صغار الذنوب إذا دووم عليه أدت إلى كبارها، كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها، وسقم القلب بالغفلة عن الله تعالى منعهم عن إدراك لذاذة الإيمان وحلاوته؛ لأن المحموم ربما وجد طعم السّكر مرّا، فالغفلة سمّ للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله نفرتك عن الطعام المسموم و (ما) في قوله: {بِما عَصَوْا} مصدرية، كما أشرنا إليه في الحل؛ أي: ذلك بعصيانهم، ولم (¬1) يعطف الاعتداء على العصيان؛ لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي؛ وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائما، والمعنى {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[62]

بِآياتِ اللَّهِ}؛ أي: إن (¬1) ما حل بهم من ضروب الذلة والمسكنة، واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى، وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون، ويقتلون النبيين بغير الحق، فهم قتلوا شعياء، وزكرياء، ويحيى، وغيرهم بغير الحق؛ أي: بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق؛ لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك. وفي قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} مع أن قتل غير النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم، ولا متأوّلين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. {ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ}؛ أي: إن كفرهم بآيات الله، وجرأتهم على النبيين بالقتل إنما كانا بسبب عصيانهم، وتعدّيهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدّى حدوده مرة ضعف ذلك السلطان الدينيّ في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة، وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه، 62 - ثم دعا الله سبحانه وتعالى أهل الملل من المؤمنين بألسنتهم، واليهود، والنصارى، والصابئين إلى الإيمان الصادق وإخلاص العمل لله، وساقه بصيغة الخبر، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وهذه الآية معترضة بين قصص بني إسرائيل؛ أي إنّ (¬2) الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب، وهم المنافقون بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة، والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق؛ للتصريح بأنّ تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا، ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والأولى (¬1) أن يقال: إن المراد إن الذين صدقوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن (¬2) حال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو: أنّ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، استحقّ ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كلّه، والأجر دقّه وجلّه، والمراد بالإيمان ها هنا هو ما بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله لمّا سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره» ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بالقرآن فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا، ولم يبق يهوديا، ولا نصرانيا، ولا مجوسيا. اه. من الشوكاني. وقيل المعنى (¬3): إن الذين آمنوا بالأنبياء الماضين قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، كبحيرا الراهب، وورقة بن نوفل، وقسّ بن ساعدة، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، ووفد النجاشي، وغيرهم {وَالَّذِينَ هادُوا}؛ أي: تهودوا وصاروا يهود من هاد إذا دخل في اليهودية، ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل، وخصّوا به، لما كانت توبتهم توبة هائلة، وإما معرب من يهوذا بالذال المعجمة اسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، فقلبتها العرب دالا مهملة. وقيل: إنما سمي اليهود يهودا؛ لأنهم إذا جاءهم رسول، أو نبيّ هادوا إلى ملكهم فدلّوه عليه فيقتلونه {وَالنَّصارى} جمع (¬4) نصران، كندامى جمع ندمان، سمّوا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح عليه السلام؛ أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: ناصرة، فسموا باسمها، أو لاعتزائهم إلى نصرة، وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام، والمعنى؛ أي: والذين كانوا على الدين المحرّف الباطل الذي كان لليهود والنصارى {وَالصَّابِئِينَ}؛ أي: الخارجين من دين إلى دين، وهم قوم من اليهود، أو النصارى صبئوا من دينهم. وقرأ نافع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) العمدة. (¬4) روح البيان.

{الصابون} بغير همز جمع صابىء من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية، والنصرانية، وعبدوا الكواكب، والملائكة، فكانوا كعبدة الأصنام، وإن كانوا يقرؤون الزبور، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. فإن قلت: لم قدم النصارى على الصابئين هنا. وعكس في المائدة والحج؟. قلت: لأن النصارى مقدمون على الصابئين في الرتبة؛ لأنهم أهل كتاب، فقدموا في البقرة لكونها أولا، والصابئون مقدمون على النصارى في الزمن، فقدموا في الحج، وروعي في (المائدة) المعنيان فقدموا في اللفظ وأخروا في المعنى إذ التقدير: والصابئون كذلك، كما في قول الشاعر: فمن يك أمس في المدينة رحله ... فإنّي وقيّار بها لغريب إذ التقدير: فإني لغريب بها وقيّار كذلك. اه. «فتح الرحمن». وروي أنه جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لم يسمّى الصابئون صابئين؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأنهم إذا جاءهم رسول أو نبي أخذوه، وعمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه، حتى إذا كان محمى صبّوه على رأسه حتى ينفسخ». كذا في «روضة العلماء». واختلف القرّاء فيه، فهمزوه جميعا إلا نافعا، فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو إذا مال {مَنْ} مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والجملة خبر إن؛ أي: من {آمَنَ} من هؤلاء الكفرة {بِاللَّهِ} وبما أنزل على جميع النبيين، ويجوز أن تكون من في موضع نصب بدلا من الذين أمنوا وما بعده؛ أي: من صدّق منهم بوحدانية الله سبحانه وتعالى {وَ} بمجيء {الْيَوْمِ الْآخِرِ} مع ما فيه من البعث، والحساب، والميزان، والمجازاة، وغيرها؛ أي: من أحدث منهم إيمانا خالصا بالمبدإ والمعاد على الوجه اللائق، ودخل في ملة الإسلام دخولا حقيقيّا {وَعَمِلَ} عملا {صالِحًا} مرضيا مقبولا عند الله تعالى. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)} ودخلت الفاء في قوله: {فَلَهُمْ}؛ لتضمن اسم إنّ معنى الشرط {أَجْرُهُمْ} الموعود لهم؛ أي: ثواب أعمالهم مدّخرا لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ أي: مالك أمرهم

[63]

ومبلغهم إلى كمالهم اللائق بأن يدخلهم الجنة، وعند متعلّق بما تعلّق به لهم من معنى الثبوت. أخبر سبحانه أن هؤلاء إذا آمنوا وعملوا الصالحات لم يؤاخذوا بقديم أعمالهم، ولا بفعل آبائهم، ولا ينقصون من أجور أعمالهم، وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة حين يخاف الكفار العقاب، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وقرأ الجمهور {ولا خوف} بالرفع والتنوين. وقرأ الحسن {ولا خوف} من غير تنوين {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، ولا يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم النعيم المقيم، والمراد بيان دوام انتفاء الخوف والحزن عنهم. وخلاصة الكلام: من أخلص إيمانه وأصلح عمله دخل الجنة. 63 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} تذكير (¬1) لجناية أخرى لأسلاف بني إسرائيل؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! وقت أخذنا لعهد آبائكم على العمل بما في التوراة، وذلك قبل التيه حين خرجوا مع موسى من مصر ونجوا من الغرق؛ أي: واذكروا قصة حين أخذنا وطلبنا من آبائكم العهد المؤكد باليمين على قبول التوراة، والعمل بما فيه، واتباع موسى، وأبيتم من إقراره وقبوله {وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} كأنه ظلّة حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. والطور: جبل معروف بفلسطين، والطور معناه: الجبل بالسريانية، وذلك أنّ موسى عليه السلام جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقّة، فكبرت عليهم، وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه، وظلّله فوقهم، وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقى عليكم، فلما رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود؛ لئلا ينزل عليهم، فصارت عادة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، ويقولون بهذا السجود رفع عنا العذاب، ثم رفع الجبل ليقبلوا التوراة لم يكن جبرا على الإسلام؛ لأن الجبر ما يسلب الاختيار وهو جائز، كالمحاربة مع الكفار ليدخلوا في الإسلام، وأما قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} وأمثاله فمنسوخ بالقتال. قال ابن عطية: والذي لا يصحّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[64]

سواه، أنّ الله تعالى جبرهم وقت سجودهم على الإيمان؛ لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك، والمعنى؛ أي؛ اقتلعنا جبل الطور، ونتقناه من أصله، ورفعناه فوق رؤوسكم مقدار قامة حتى يكون كالظلّة، وقلنا لكم {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ}؛ أي: ما أعطيناكم من الكتاب واعملوا بما فيه، فهو على تقدير القول كما قدرنا {بِقُوَّةٍ}؛ أي بجدّ، واجتهاد، وعزيمة، ومواظبة من غير تقصير ولا توان، والمعنى: خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ بالعمل به. اه. «كرخي». {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ}؛ أي: وادرسوا ما في الكتاب من الثواب والعقاب، واحفظوا ما فيه من الحلال والحرام، ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: لكي (¬1) تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى، وإلّا رضخت رؤوسكم بهذا الجبل، أو رجاء (¬2) منكم أن تكونوا متقين، فلمّا رأوا ذلك نازلا بهم قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصار ذلك سنة في سجود اليهود، كما مر آنفا 64 - {ثُمَّ} بعد ما رفعنا فوقكم وقبلتم الميثاق {تَوَلَّيْتُمْ}؛ أي: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق، وتركتم العمل بكل ما أمرتم به {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي من بعد أخذ الميثاق منكم على العمل بما في الكتاب، وهذا تأكيد لما يفهم من ثمّ {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ}؛ أي: تفضله سبحانه وتعالى عليكم بتأخير العذاب عنكم {وَرَحْمَتُهُ} لكم بقبول التوبة منكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}؛ أي: لصرتم من الهالكين في الدنيا والآخرة، أو من المغبونين بذهابكم، وانعدامكم في الدنيا والعذاب في العقبى، ولكن تفضّل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم، ولولا ذلك لسقط عليكم، والخسران في الأصل: ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس؛ لأنها الأصل. وقرأ الجمهور (¬3): {وَاذْكُرُوا} أمرا من ذكر الثلاثي. وقرأ أبيّ {واذّكّرو ما فيه} أمرا من اذّكّر، وأصله: واذتكروا، ثم أبدل من التاء دال، ثم أدغم الذال في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) نسفي. (¬3) البحر المحيط.

الدال، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ويدغم فيه الأول، ويقال: إذكر، ويجوز الإظهار، فتقول: إذ ذكر. وقرأ ابن مسعود {تذكروا} على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا، وذكر الزمخشري أنه قرىء {وتذكّروا} أمرا من التذكر، ودخول (¬1) ثمّ مشعر بالمهلة، ومن تشعر بابتداء الغاية، لكن بين الجملتين كلام محذوف، تقديره - والله أعلم - فأخذتم ما آتيناكم، وذكرتم ما فيه، وعملتم بمقتضاه، ثم تولّيتم من بعد ذلك، وقد علم أنهم بعد ما قبلوا التوراة تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره، ومن ذلك ما اختصّ به بعضهم، وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب يخالفون موسى، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم حتى خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرؤون بها، ثمّ فعل ساحروهم ما لا خفاء فيه حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح، وهمّوا بقتله. والإشارة (¬2) في قوله: {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} إلى قبول ما أوتوه، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به ورفع الجبل، أو خروج موسى من بينهم، أو الإيمان. أقوال، ذكره في «البحر». والمعنى: أي ثمّ توليتم، وأعرضتم، وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق، وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر، فلولا لطف الله بكم، وإمهاله إياكم، إذ لم يعاملكم بما تستحقون لكنتم من الهالكين بالانهماك في المعاصي. والخلاصة: إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم، ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة، وقد منّ الله تعالى على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة، ولم يفرض عليهم جملة، فإذا استقرّت الواحدة في قلوبهم فرض عليهم الأخرى، وأما بنو إسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة، فشق عليهم ذلك، ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب، ثمّ إن (¬3) الله تعالى أمر بحفظ الأوامر والعمل، وبعدم النسيان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[65]

والتضييع، وقال: {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ} وهو المقصود من الكتب الإلهية؛ لأنّ العمدة العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان، وترتيلها بالأنغام، فإنّ ذلك نبذ لها. قال الغزالي: وما مثل ذلك إلا مثل ملك أرسل كتابا إلى أحد أمرائه، وأمره أن يبني له قصرا في ناحية من مملكته، فلم يكن حظّ الكتاب منه إلا أن يقرأه كل يوم دون أن يبني القصر، أفلا يستحق هذا الأمير بعدئذ العقاب من الملك الذي أرسل به إليه؟ 65 - وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} خطاب لمعاصري النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود؛ أي: وبالله قد عرفتم يا بني إسرائيل! {الَّذِينَ اعْتَدَوْا}؛ أي: تجاوزوا الحد ظلما {مِنْكُمْ}؛ أي: من أسلافكم، محلّه نصب على أنه حال {فِي} يوم {السَّبْتِ}؛ أي: جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه، واشتغلوا بالصيد، وأصل السبت القطع؛ لأنّ اليهود أمروا بأن يسبتوا فيه؛ أي: يقطعوا الأعمال، ويشتغلوا بعبادة الله، ويسمّى النوم سباتا؛ لأنه يقطع الحركات الاختيارية، وفيه تحذير وتهديد؛ فكأنّه يقول: إنكم تعلمون ما أصابهم من العقوبة، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم {فَقُلْنا لَهُمْ} قهرا {كُونُوا قِرَدَةً} جمع قرد، كالديكة جمع ديك، وهذا أمر تحويل وتكوين، فهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم من حقيقة البشرية إلى حقيقة القردة؛ لأنهم لم يكن لهم قدرة على التحول من صورة إلى صورة، وهو إشارة إلى قوله: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}؛ أي: لمّا أردنا ذلك صاروا كما أردنا من غير امتناع ولا لبث {خاسِئِينَ}؛ أي: ذليلين، هو وقردة خبران لكان؛ أي: كونوا جامعين بين القرديّة والخسىء، وهو الصغار والطرد. فإن قلت: كيف أمروا بذلك مع أنه ليس في وسعهم؟. قلت: هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، كقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} والمعنى؛ أي (¬1): وعزتي وجلالي، لقد عرفتم عقوبة الذين تجاوزوا الحد في الاصطياد باصطيادهم في يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه، وأمروا بالتفرّغ فيه للعبادة، فقلنا لهم: كونوا وصيروا بقدرتنا قردة؛ أي: حيوانا معروفا خاسئين؛ ¬

_ (¬1) العمدة.

أي: ذليلين مطرودين عن الرحمة والشرف. وأصل هذه القصة (¬1): أنهم كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها: أيلة بين المدينة والشام على ساحل بحر القلزم، فحرّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك، إمّا ابتلاء لأولئك القوم، وإما لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس بن متى، في كل سبت يجتمعن لزيارتها، ويخرجن خراطيمهن من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها، وإذا مضى السبت تفرقن ولزمن مقل البحر فلا يرى شيء منها، ثمّ إن الشيطان وسوس إليهم، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال من أهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلا يقدرون على الخروج؛ لبعد عمقها؛ وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد يصطادونها، فأخذوا، وأكلوا، وملّحوا، وباعوا، فكثرت أموالهم، ففعلوا ذلك زمانا أربعين سنة، أو سبعين لم تنزل عليهم عقوبة، وكانوا يتخوّفون العقوبة، فلمّا لم يعاقبوا استبشروا وتجرّءوا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا، ثم أستنّ الأبناء سنة الآباء، فلو أنهم فعلوا ذلك مرة أو مرتين لم يضرهم، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية - وكانوا نحوا من سبعين ألفا - ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفا فنهوهم عن ذلك، وقالوا: يا قوم! إنكم عصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم، فانتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم البلاء، فلم يتعظوا وأبوا قبول نصحهم، فعاقبهم الله بالمسخ، وذلك قوله تعالى: {فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} ثمّ إنّ المجرمين لما أبوا قبول النصح قال الناهون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وصيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود، وغضب الله عليهم؛ لإصرارهم على المعصية، فمسخوا ليلا، فلما أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت ولا يعلو منها دخان، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[66]

فتسوّروا الحيطان ودخلوا، فرأوهم قد صار الشّبّان قردة، والشيوخ خنازير لها أذناب يتعاوون، فعرفت القردة أنسابهم من الإنس، ولم يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم عن ذلك، فكانوا يشيرون برؤوسهم؛ أي: نعم والدموع تفيض من أعينهم، ودلّ ذلك على أنهم لمّا مسخوا بقي فيهم الفهم والعقل، ثمّ لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء، بل كانت قبلهم قردة، وهؤلاء حولوا إلى صورتها؛ لقبحها جزاء على قبح أعمالهم وأفعالهم، وماتوا بعد ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا، والقردة التي في الدنيا: هي نسل قردة كانت قبلهم 66 - {فَجَعَلْناها} (¬1)؛ أي: صيّرنا مسخة تلك الأمة وعقوبتها {نَكالًا}؛ أي: عبرة تنكل من اعتبر بها؛ أي: تمنعه من أن يقدم على مثل صنيعهم {لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها}؛ أي: لما قبلها وما بعدها من الأمم والقرون؛ لأنّ مسختهم ذكرت في كتب الأولين واعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، فاستعير ما بين يديها للزمان الماضي، وما خلفها للمستقبل {وَمَوْعِظَةً}؛ أي: تذكرة {لِلْمُتَّقِينَ} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متّق سمعها، فاللام للاستغراق العرفيّ على كلا التقديرين، وخصّ المتقين بالذكر؛ لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير. قال الله تعالى: {فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} والمعنى: {فَجَعَلْناها}؛ أي (¬2): جعلنا تلك العقوبة، والمسخة التي مسخناهم بها {نَكالًا}؛ أي: عقوبة رادعة زاجرة {لِما بَيْنَ يَدَيْها}؛ أي: للأمم التي في زمانها، التي ترى تلك الفرقة الممسوخة عن الإتيان بمثل فعلهم {وَما خَلْفَها}؛ أي: وزاجرة للأمم التي تأتي بعدها إلى يوم القيامة أن يعملوا بمثل ما عملوا، فيمسخوا مثل ما مسخوا {وَمَوْعِظَةً}؛ أي: عبرة وتذكرة {لِلْمُتَّقِينَ} المؤمنين من هذه الأمة؛ لئلّا يفعلوا مثل فعلهم؛ فإن كلّ من سمع تلك الواقعة يخاف أن ينزل به مثل ما نزل بهم إن فعل مثل فعلهم، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمن اليهود، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

والنصارى، والصابئين، ومؤمن غيرهم في كينونة الأجر لهم، وأن ذلك عند من يرى أن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة، فلا خوف مما يستقبل، ولا حزن على ما فات، إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. انتهى. من «البحر». واعلم: أن عقوبة الأمم الماضية بالخسف والمسخ على الأجساد، وعقوبة هذه الأمة على القلوب، وعقوبات القلوب أشدّ من عقوبات النفوس. قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ...} الآية. ثم علامة (¬1) مسخ القلوب ثلاثة أشياء: لا يجد حلاوة الطاعة، ولا يخاف من المعصية، ولا يعتبر بموت أحد، بل يصير أرغب في الدنيا كل يوم. كذا في «زهرة الرياض». وروي عن عوف بن عبد الله أنه قال: كان أهل الخير يكتب بعضهم بثلاث كلمات: من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. وقال محمد بن علي الترمذي: صلاح أربعة أصناف في أربعة مواطن: صلاح الصبيان في الكتّاب، وصلاح القطّاع في السجن، وصلاح النساء في البيوت، وصلاح الكهول في المساجد. انتهى. الإعراب {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! إذ قلتم {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {يا مُوسى} منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني بضمة مقدرة منع من ظهورها التعذر، وجملة النداء في محل النصب مقول لقلتم {لَنْ} حرف نصب ونفي واستقبال {نَصْبِرَ} ¬

_ (¬1) روح البيان.

فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقلتم، وإن شئت قلت: {يا مُوسى} إلى قوله {قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ} مقول محكي لقلتم؛ لأن مرادنا لفظه لا معناه عَلى طَعامٍ جار ومجرور متعلق بنصبر {واحِدٍ} صفة لطعام {فَادْعُ} الفاء حرف عطف وتفريع {ادع} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنت يعود على موسى، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَنْ نَصْبِرَ} على كونها مقولا لقلتم {لَنا} جار ومجرور متعلق بادع {رَبَّكَ} مفعول به ومضاف إليه {يُخْرِجْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا، تقديره: هو يعود على ربك، والجملة جواب الطلب لا محل لها من الإعراب {لَنا} متعلق بيخرج {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بيخرج أيضا على أنه مفعول به ليخرج، أو مفعول يخرج محذوف؛ تقديره: يخرج لنا شيئا {مِمَّا} جار ومجرور صفة لذلك المحذوف؛ أي: شيئا كائنا مما تنبت الأرض {وتُنْبِتُ الْأَرْضُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: شيئا مما تنبته الأرض {مِنْ بَقْلِها} جار ومجرور ومضاف إليه بدل من الجار والمجرور في قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} بدل تفصيل من مجمل، أو حال من مفعول تنبت المحذوف، تقديره: حال كونه كائنا من {بَقْلِها} و {وَقِثَّائِها} معطوف على {بَقْلِها}، وكذا قوله: {وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها} معطوف على بقلها جريا على القاعدة المشهورة عندهم: أن العطف إذا كان بغير مرتب يكون على الأول ولو كثرت المعطوفات، وإن كان بمرتب، كالفاء، وثم، يكون الكل معطوفا على ما قبله. {قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}. {قالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، أو على الرب سبحانه، والجملة مستأنفة {أَتَسْتَبْدِلُونَ} إلى قوله {اهْبِطُوا مِصْرًا} مقول محكي لقال، لأن مرادنا لفظه لا معناه، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري المضمن

للتوبيخ، والمعنى: لا ينبغي لكم ذلك الاستبدال ولا يليق بكم {تَسْتَبْدِلُونَ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب مقول قال {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب مفعول به {هُوَ أَدْنى} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول {بِالَّذِي} متعلق بتستبدلون {هُوَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول {اهْبِطُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول قول محذوف، تقديره: قلنا لهم {مِصْرًا} مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة على قراءة التنوين وهو خط المصحف؛ لأنه نكرة؛ لأن المعنى انزلوا بلدا من البلدان؛ لأنهم كانوا وقتئذ في صحراء التيه. وقيل: معرفة؛ لأن المعنى اهبطوا مصر فرعون، وإنما صرف حينئذ، لخفته بسكون وسطه، كهند، ودعد، ونوح، ولوط، ونحوها. وقرأه الحسن وغيره بلا تنوين، كأنهم عنوا مكانا بعينه، كما سبق {فَإِنَّ} الفاء تعليلية {إن} حرف نصب وتوكيد {لَكُمْ} جار ومجرور خبر مقدم لإن {ما} اسم موصول في محل النصب اسم إن مؤخر {سَأَلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: فإن ما سألتموه من البقول كائن وحاصل لكم في مصر لا في التيه، وجملة إن مستأنفة؛ مسوقة لتعليل الأمر بالهبوط في مصر {وَضُرِبَتْ} الواو استئنافية، أو اعتراضية؛ لأن قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} إلى قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} معترض في خلاف القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، يدل على هذا قوله: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم. ذكره في «الجمل». ضرب: فعل ونائب فاعل مغير الصيغة، والتاء علامة تأنيث نائب الفاعل {عَلَيْهِمُ} متعلق بضربت {الذِّلَّةُ} نائب فاعل {وَالْمَسْكَنَةُ} معطوف عليه، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معترضة. {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ}. {وَباؤُ} فعل وفاعل معطوف على ضربت {بِغَضَبٍ} متعلق بباؤا {مِنَ اللَّهِ} صفة لغضب {ذلِكَ} اسم إشارة للمفرد البعيد في محل الرفع مبتدأ {بِأَنَّهُمْ} الباء

حرف جر وسبب متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب أنهم كانوا، والجملة الإسمية مستأنفة، أو معترضة {أنهم} ناصب واسمه {كانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْفُرُونَ} خبر كان بِآياتِ اللَّهِ متعلق بيكفرون، وجملة كان في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله سبحانه {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على يكفرون {بِغَيْرِ الْحَقِّ} جار ومجرور متعلق بيقتلون، أو بمحذوف حال من فاعل يقتلون، تقديره: حالة كونهم ملتبسين بغير الحق، أو حالة كونهم ظالمين متنكرين للحق في اعتقادهم، ولو اعترفوا لاتصفوا بالواقع {ذلِكَ} مبتدأ {بِما} الباء حرف جر وسبب متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: ذلك كائن بسبب عصيانهم، والجملة الإسمية مستأنفة، أو معترضة {عَصَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب عصيانهم {وَكانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْتَدُونَ} خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة عصوا على كونها صلة لما المصدرية، والتقدير: ذلك كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}. {إِنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول {وَالَّذِينَ} في محل النصب معطوف على الموصول الأول وجملة {هادُوا} صلة للموصول الثاني {وَالنَّصارى} معطوف على اسم إن، وكذلك قوله: {وَالصَّابِئِينَ} معطوف على اسم إن {مَنْ} اسم موصول في محل النصب بدل من اسم إن، وجملة {آمَنَ} صلة من الموصولة {بِاللَّهِ} متعلق بآمن {وَالْيَوْمِ} معطوف على لفظ الجلالة {الْآخِرِ} صفة لليوم {وَعَمِلَ} معطوف على آمن {صالِحًا} مفعول به لعمل، أو مفعول مطلق لعمل؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: وعمل عملا صالحا {فَلَهُمْ} الفاء رابطة الخبر باسم إن؛ لما في الموصول من معنى الشرط، أو رابطة الجواب بالشرط إن قلنا ما شرطية {لهم} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم {أَجْرُهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الرفع خبر إن إذا

جعلنا من موصولة، أو في محل جزم جواب الشرط إذا جعلناها شرطية، وجملة الشرط مع جوابها في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة، أو معترضة {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الأجر، تقديره: فلهم أجرهم حال كونه ثابتا مدخرا لهم عند ربهم، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وأفرد الضمير في آمن وعمل؛ نظرا للفظ من وجمعه في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} نظرا لمعناه {وَلا خَوْفٌ} الواو عاطفة {لا} نافية {خَوْفٌ} مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة؛ تقدم النفي عليها وبطل عمل لا؛ لتكررها {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} وكذلك جملة قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} معطوفة على جملة الجواب. {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}. {وَإِذْ أَخَذْنا} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي على أنه مفعول به لاذكروا {أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} فعل وفاعل، ومفعول به ومضاف إليه والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {وَرَفَعْنا} الواو عاطفة، أو حالية {رَفَعْنا} فعل وفاعل والجملة في محل الجر معطوف على {أَخَذْنا} أو في محل النصب حال من فاعل {أَخَذْنا} ولكن بتقدير: قد {فَوْقَكُمُ} فوق منصوب على الظرفية المكانية متعلق برفعنا، والكاف في محل الجر مضاف إليه {الطُّورَ} مفعول به {خُذُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على {أَخَذْنا} تقديره: وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم، أو حال من فاعل رفعنا، تقديره: ورفعنا فوقكم الطور قائلين خذوا ... إلخ: {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول لخذوا {آتَيْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن آتى بمعنى أعطى، تقديره: آتيناكموه، وهو العائد على {ما} الموصولة، والجملة صلة لما الموصولة {بِقُوَّةٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {خُذُوا} تقديره: ملتبسين بقوة واجتهاد {وَاذْكُرُوا} فعل وفاعل معطوف على {خُذُوا} {ما} اسم

موصول في محل النصب مفعول به لاذكروا {فِيهِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة، تقديره: ما استقر فيه {لَعَلَّكُمْ} {لعل} حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة {تَتَّقُونَ} خبرها، ومفعول التقوى محذوف، تقديره: لكي تتقون عقابي، وجملة لعل جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، والتقدير: واذكروا ما فيه لإتقائكم عقابي. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {تَوَلَّيْتُمْ} فعل وفاعل معطوف على محذوف، تقديره: فقبلتم الميثاق ثم توليتم {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتوليتم {فَلَوْلا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أخذ الميثاق منكم، ثم توليكم بعد ذلك وأردتم بيان ما يترتب على ذلك، فأقول لكم: لولا فضل الله {لولا} حرف امتناع لوجود مضمن معنى الشرط {فَضْلُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه وخبره محذوف وجوبا، تقديره: موجود، والجملة الإسمية قائمة مقام الشرط لا محل لها من الإعراب {عَلَيْكُمْ} متعلق بفضل الله {وَرَحْمَتُهُ} معطوف على فضل الله {لَكُنْتُمْ} اللام واقعة في جواب لولا {كنتم} فعل ناقص واسمه {مِنَ الْخاسِرِينَ} متعلق بمحذوف خبر كان، وجملة كان جواب لولا لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}. {وَلَقَدْ} الواو استئنافية، واللام موطئة لقسم محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي {لَقَدْ عَلِمْتُمُ} {قد} حرف تحقيق {عَلِمْتُمُ} فعل وفاعل {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وعلم هنا بمعنى عرف يتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب {اعْتَدَوْا} فعل ماض وفاعل، والجملة

صلة الموصول {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من الضمير في اعتدوا، تقديره: حالة كون المعتدين كائنين منكم {فَقُلْنا} الفاء عاطفة {قلنا} فعل وفاعل معطوف على جملة {اعْتَدَوْا} على كونها صلة الموصول، والعائد ضمير {لَهُمْ} و {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق باعتدوا {كُونُوا} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمها {قِرَدَةً} خبرها {خاسِئِينَ} خبر ثان لها، ولا مانع من جعلها صفة لقردة، وقيل: كلاهما خبرها، وإنهما نزلا منزلة كلمة واحدة، كقولهم: هذا حلو حامض، وهو قول جيد وجملة {كُونُوا} في محل النصب مقول {فَقُلْنا} {فَجَعَلْناها} فعل وفاعل ومفعول أول والجملة معطوفة على جملة {فَقُلْنا} {نَكالًا} مفعول ثان لجعلنا {لِما} اللام حرف جر و {ما} اسم موصول في محل الجر باللام، والجار والمجرور صفة لنكالا، أو متعلق بنكالا، لأنه اسم مصدر لنكّل الرباعي {بَيْنَ} منصوب على الظرفية الاعتبارية {بَيْنَ} مضاف {يَدَيْها} مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنه مثنى، ويدي مضاف والهاء مضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة؛ أي: لما استقر بين يديها {وَما} معطوف على {ما} الأولى {خَلْفَها} ظرف متعلق بمحذوف صلة لما الثانية {وَمَوْعِظَةً} معطوف على {نَكالًا} {لِلْمُتَّقِينَ} جار ومجرور صفة لموعظة، أو متعلق بموعظة، لأنه مصدر ميمي بمعنى عظة. التصريف ومفردات اللغة {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ} ادع وزنه أفع لحذف لامه لبناء الأمر {مِنْ بَقْلِها} والبقل: كلّ ما تنبته الأرض من النجم؛ أي: مما لا ساق له، وجمعه بقول {وَقِثَّائِها} والقثاء: اسم جنس معروف، الواحدة قثاءة، وفيها لغتان: المشهور منهما كسر القاف، وقرىء بضمها، والهمزة أصل بنفسها لثبوتها في قوله: أقثأت الأرض؛ أي: كثر قثاؤها، ووزنها فعّال. اه. «سمين». وقال الخليل: وهو الخيار، ويقال: أرض مقثاة؛ أي: كثيرة القثاء {وَفُومِها} قال الكسائي، والفراء، والنضر بن شميل، وغيرهم. الفوم هو الثوم، أبدلت الثاء فاء، كما قالوا في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاشور: عافور. قال أمية بن أبي الصلت:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها القراديس والفومان والبصل وأنشد مؤرّج لحسّان: وأنتم أناس لئام الأصول ... طعامكم الفوم والحوقل يعني: الفوم والبصل، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء، قالوا في الأثافي: الأثاثي وكلا البدلين لا ينقاس؛ أعني: إبدال الثاء فاء والفاء ثاء، وقال ابن قتيبة، والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل، وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلّاح: قد كنت أحسبني كأغنى واحد ... قدم المدينة عن زراعة فوم قيل: وهي لغة مصر، وهو اختيار المبرد. وقال الفراء: وهي لغة قديمة. وقيل: هي الحبوب التي تخبز. وقيل؛ هو الخبز نفسه. وقيل: إنه الحمص {وَعَدَسِها} والعدس معروف، وعدس من الأسماء الأعلام، وعدس زجر للبغل {وَبَصَلِها} البصل معروف بـ {الَّذِي هُوَ أَدْنى} أصله: أدني بوزن أفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وهو أفعل تفضيل من الدنوّ وهو القرب. يقال: منه دنا يدنو دنوا، وقال عليّ بن سليمان الأخفش: هو أفعل من الدناءة وهي الخسّة والرداءة، خفّفت الهمزة بإبدالها ألفا، وقال أبو زيد في المهموز: دنؤ الرجل يدنأ دناءة ودناء. ودنأ يدنأ، وقال غيره: هو أفعل من الدون؛ أي: أحطّ في المنزلة، وأصله: أدون فصار وزنه أفلع؛ نحو: أولى لك؛ لأنه أفعل من الويل أصله: أويل، فقلب. وفي «الفتوحات» {أَدْنى} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو الظاهر، وهو قول الزجاج أن أصله: أدنو من الدنو هو القرب، فقلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدنو في ذلك القرب؛ لأنه أقرب وأسهل تحصيلا من غيره لخساسته، وقلة قيمته. والثاني: أصله: أدنأ مهموز من دنأ يدنأ دناءة، إلا أنه خففت همزته بقلبها ألفا.

والثالث: أنّ أصله أدون مأخوذ من الشيء الدون؛ أي: الرديء، نقلت الواو التي هي عين الكلمة إلى ما بعد النون التي هي لامها، فصار أدنو بوزن أفلع، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. اه. من «السمين». {اهْبِطُوا}؛ أي: انزلوا وانتقلوا من هذا المكان إلى مكان آخر فيه ما تطلبون، فالهبوط لا يختص بالنزول من المكان العالي إلى الأسفل، بل قد يستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مطلقا. اه. من «الشهاب» وفي «المصباح» وهبطت من موضع إلى موضع من بابي ضرب وقعد، انتقلت وهبطت الوادي هبوطا نزلته. اه. {مِصْرًا} والمصر في أصل اللغة: الحد الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل هجر أنهم إذا كتبوا بيع دار، قالوا: اشترى فلان الدار بمصورها؛ أي: حدودها اه. «سمين» وفي «الخطيب» المصر البلدة العظيمة. اه. وقال عديّ بن زيد: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا {فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} والسؤال الطلب، ويقال: سأل يسأل سؤالا والسؤل المطلوب، وسال يسال على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب، كما في قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ} قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}؛ أي: ألزموها وقضي عليهم بها، والذلة بالكسر: الصغار، والهوان، والحقارة، والذّلّ بالضم ضدّ العزّ، والذلّة مصدر ذلّ يذلّ ذلا وذلّة. وقيل: الذلة كأنها هيئة من الذلّ، كالجلسة، والذّلّ الخضوع وذهاب الصعوبة {وَالْمَسْكَنَةُ} المسكنة: مفعلة من السكون، ومنه سمي المسكين؛ لقلة حركاته وفتور نشاطه، فهو مفعيل منه. {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وأصل باء بوأ بوزن فعل، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم أسند الفعل إلى واو الجماعة فبني على الضم، فألف باء منقلبة عن واو لقولهم: باء يبوء، مثل: قال يقول، وقال صلّى الله عليه وسلّم: (أبوء بنعمتك) والمصدر البواء، ومعناه: الرجوع. يقال: باء بكذا؛ أي: رجع قاله الكسائيّ، أو اعترف قاله أبو عبيدة، أو استحقّ قاله أبو روق، أو نزل وتمكّن قاله المبرد، أو تساوى قاله الزجاج، وانشدوا لكل قول ما يستدل به من كلام العرب، وحذفنا ذلك. اه. من «البحر».

{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} جمع نبي أصله: فعيل فمن قرأه بالهمز، كنافع لم يحدث فيه تغييرا، على أن آخر الكلمة همزة هي لامها، ومن قرأ بترك الهمز، إما أن يكون أبدلت فيه الهمزة ياء، ثم أدغمت فيها ياء فعيل، ثم جاءت ياء الجمع، وعلى أنّ لام الكلمة أصلها واو من النبوة، فهو فعيل بمعنى مفعول، اجتمعت الواو والياء؛ لأن الأصل على هذا نبيو، فلمّا اجتمعتا وسبقت إحداهما ساكنة، قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء، على حدّ قول ابن مالك: إن يسكن السّابق من واو ويا ... واتّصلا ومن عروض عريا فياء الواو اقلبنّ مدغما ... وشذّ معطى غير ما قد رسما قال الكسائيّ: النّبيّ: الطريق، سمّي به؛ لأنه يهتدى به. قالوا: وبه سمي الرسول؛ لأنه طريق إلى الله تعالى {بِما عَصَوْا} أصله: عصيوا بوزن فعلوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف لكونها أوّل الساكنين، وبقيت الفتحة دالّة عليها {وَكانُوا يَعْتَدُونَ} أصله: يعتديون من اعتدى من باب افتعل، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لمّا سكنت مع واو الجماعة، وضمت الدال؛ لمناسبة الواو، فوزنه يفتعون {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أصله: أأمنوا أبدلت الهمزة الساكنة حرف مد للأول، وكذلك القول في {آمن} {وَالَّذِينَ هادُوا} من هاد يهود من باب قال إذا تاب ورجع، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فهو أجوف واويّ. وقيل: من هاد يهيد من باب باع إذا تحرّك، وعليه قلبت الياء ألفا، فهو أجوف يائي، والأول أولى، لقوله تعالى: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} {وَالنَّصارى} جمع نصران، كندامى جمع ندمان، وألفه للتأنيث، ولذلك منع الصرف في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى} والياء في نصراني؛ للمبالغة، كما في أحمري، سموا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح؛ أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: نصران؛ أو ناصرة فسموا باسمها، أو باسم من أسسها. اه. «بيضاوي» {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابىء. وفي «السمين» والصابىء التارك لدينه. اه. وفي «المصباح» وصبا يصبو صبوا من باب قعد، وصبوة أيضا، مثل شهوة إذا مال وصبأ من دين إلى دين،

يصبأ مهموز بفتحتين خرج فهو صابىء، ثم جعل هذا اللقب علما على طائفة من الكفار. يقال: إنها تعبد الكواكب في الباطن، وتنسب إلى النصرانية في الظاهر، وهم الصابئة والصابئون، ويدّعون أنهم على دين صابىء بن شيث بن آدم، ويجوز التخفيف، فيقال: الصابون وقرأ به نافع. اه. {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} والأجر في الأصل مصدر. يقال: أجره الله يأجره أجرا من بابي ضرب وقتل، وقد يعبّر به عن نفس الشيء المجازى به، والآية الكريمة تحتمل المعنيين. اه. «سمين» {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} أصله: موثاق مفعال من التوثيق، سكنت الواو بعد كسرة فقلبت ياء حرف مد {وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} والطّور: يطلق على أيّ جبل كان، كما في «القاموس» ويطلق أيضا: على جبال مخصوصة بأعيانها، وهذا الجبل الذي رفع فوقهم كان من جبال فلسطين، كما في «الخازن» عن ابن عباس. اه. «كرخي» {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعلّ تعليلية؛ أي: لكي تتقوا المعاصي، أو رجاء منكم أن تكونوا متقين. اه. «بيضاوي». وأصل تتقون: توتقيون بوزن تفتعلون؛ لأن أصل المادة من الوقاية، فأصل التقوى وقيا، أبدلت الواو تاء والياء واوا، فقيل: تقوى، وبعد هذا الإعلال يصير الإفتعال منه، كما هنا توتقوون بواوين، فتبدل الواو الأولى ياء؛ لكسر ما قبلها وهي في الطرف، واستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان الياء، وواو الجماعة، فحذفت الياء، ثم ضمت القاف؛ لمناسبة الواو، وسبب تشديد التاء؛ أنّ فاء الكلمة التي هي واو، كما مر آنفا أن المادة من الوقاية، أبدلت تاء، ثم أدغمت في تاء الافتعال؛ لأنّ فاء الكلمة إذا كان حرف لين وبني منها افتعال، أبدل تاء، وأدغم في تاء الافتعال على حدّ قول ابن مالك: ذو اللّين فاتا في افتعال أبدلا {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} التولي تفعّل من الولي، وأصله: الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا. اه. «سمين» {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} علمتم بمعنى عرفتم فيتعدّى لواحد فقط. والفرق بين العلم والمعرفة: أنّ العلم يستدعي معرفة الذات، وما هي عليه من الأحوال، نحو: علمت زيدا قائما، أو ضاحكا، والمعرفة تستدعي معرفة

الذات فقط، أو يقال في الفرق بينهما: إن المعرفة يسبقها جهل، والعلم قد لا يسبقه جهل، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة على الله سبحانه وتعالى {الَّذِينَ اعْتَدَوْا} أصله: اعتديوا؛ لأنه من العدوان واويّ اللام، أبدلت الواو ياء في الافتعال؛ لوقوعها خامسة، فاتصل بالفعل واو الجماعة فضمت الياء؛ لمناسبتها، ثم أبدلت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان فحذفت الألف؛ فقيل: اعتدوا بوزن افتعوا {فِي السَّبْتِ} والسبت في الأصل مصدر سبت؛ أي؛ قطع، وقال ابن عطية: والسبت إما مأخوذ من السّبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو القطع؛ لأن الأشياء فيه سبتت وتمّ خلقها، ثم سمي به اليوم من الأسبوع، ومنه قولهم: سبت رأسه؛ أي حلقه {كُونُوا قِرَدَةً} أمر من كان يكون، وأصل يكون: يكون بوزن يفعل بضم العين، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فسكنت إثر ضمها فصارت حرف مد، فلمّا بني الأمر من مضارعه حذف منه حرف المضارعة ونون الرفع، فقيل: كونوا بوزن فعلوا {خاسِئِينَ} وفي «المختار»: خسأ الكلب طرده من باب قطع، وخسأ هو بنفسه خضع وانخسأ أيضا، وخسأ البصر حسر من باب قطع وخضع. اه. {فَجَعَلْناها نَكالًا} والنكال المنع، ومنه النكل، والنكل: اسم للقيد من الحديد واللّجام؛ لأنه يمنع به، وسمي العقاب نكالا؛ لأنه يمنع به غير المعاقب أن يفعل فعله، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فعله الأول، والتنكيل: إصابة الغير بالنكال ليرتدع غيره، ونكل عن كذا ينكل نكولا من باب قعد إذا امتنع. اه. «سمين». البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة للتشريف في قوله: {رَبَّكَ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ}؛ لما فيه من إسناد ما للفاعل إلى المحل؛ لأن المنبت الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، علاقته

المحلية؛ لأن الأرض لما كانت محلا للإنبات أسند إليها. ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: {مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها}. إلخ؛ لأنه أوقع في النفس. ومنها: الاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ في قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى}. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}؛ لأن ضربهما عليهم كناية عن إحاطتهما بهم، كما تحيط القبة بمن ضربت عليه نظير قول الشاعر: إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ... في قبّة ضربت على ابن الحشرج ومنها: الأمر للتعجيز والإهانة في قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا} على حد قوله: {كُونُوا حِجارَةً}؛ لأنهم لا يمكنهم هبوط مصر لانسداد الطرق عليهم، إذ لو عرفوا طريق مصر لما أقاموا أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى طريق من الطرق. ومنها: التنوين في قوله: {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}؛ للتعظيم. ومنها: تقييد قتل الأنبياء بغير الحق في قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ للإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق، إذ لم يكن أحد منهم معتقدا بحقية قتل نبي من الأنبياء، وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى، كما يفصح عنه قوله تعالى: {ذلِكَ بِما عَصَوْا ...} إلخ. اه. من «أبي السعود». ومنها: تكرير اسم الإشارة في قوله: {ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ}؛ للتأكيد إن قلنا: إن الثاني مشار به إلى ما أشير إليه بالأول. ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: {بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ}. الخ؛ لإفادة الاستمرار والدوام. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ}؛ لأنه على تقدير القول؛ أي: قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة واجتهاد.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} إذ التولي حقيقة في الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا. اه. «سمين». ومنها: استعمال الأمر في الإهانة والتحقير في قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}؛ لأنه ليس لهم قدرة على تحولهم إلى القردة، بل المراد بالأمر الإخبار عن تعلق القدرة، بنقلهم من حقيقة البشرية إلى حقيقة القردة. ومنها: الاستعارة في قوله: {لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها}؛ لأنه استعير فيه ما بين يديها للزمان الماضي، وما خلفها للمستقبل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}. المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) فيما سبق بعض قبائح بني إسرائيل، وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، أردفه بذكر نوع آخر من مساوئهم وقبائحهم، ألا وهو مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إليهم، مع كثرة اللجاج والعناد للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وجفائهم في مخاطبة نبيهم موسى عليه السلام. وعبارة أبي حيان هنا: ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم، وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم، فناسب ذلك ذكر هذه الآية؛ لما تضمنت من المراجعة، والتعنت، والعناد مرة بعد مرة. اهـ. ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

[67]

التفسير وأوجه القراءة 67 - {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} وهذا توبيخ آخر لأخلاق بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من أسلافهم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصة إذ قال موسى عليه السلام، لأسلافكم وأجدادكم الذين نكثوا ميثاقي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}؛ أي: إن ربكم يأمركم أن تذبحوا بقرة حين تدافعوا في القتيل الذي وجد فيهم، ولم يظهر قاتله، فترافعوا إلى موسى، فاشتبه أمر القتيل على موسى، وكان (¬1) ذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله تعالى ليبين لهم بدعائه، فدعاه لهم، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها، فيحيا فيخبرهم بقاتله. واسم القتيل عاميل، وكان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكينا والمقتول كثير المال، فاستعجل ميراثه. وقيل: كان أخاه. وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال؛ فقتله لينكحها. كذا في «البحر». وأول هذه القصة، قوله سبحانه وتعالى الآتي: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} وإن كان مؤخرا في التلاوة، فحق (¬2) ترتيبها أن يقال: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} إلخ. {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلخ. {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} إلخ. وقوم موسى أتباعه وأشياعه. فإن قلت: إذا كان حق الترتيب هكذا، فما وجه عدول التنزيل عنه؟ قلت: وجهه أنه لما ذكر سابقا خبائثهم وجناياتهم ووبخوا عليها، ناسب أن يقدم في هذه القصة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى، لتتصل قبائحهم بعضها ببعض. اه. من «الخازن». روي عن ابن عباس، وسائر المفسرين (¬3): أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) المراح.

قتل ابن أخيه، أو أخاه، أو ابن عمه لكي يرثه، ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام، فاجتهد موسى في تعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه؟ فسأله فأوحى الله إليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فتعجبوا من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها فذبحوها، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية، فقتلوه قودا، فلم يعط من ماله شيئا، ولم يورث قاتل بعده. وقد روى الحسن مرفوعا: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (والذي نفس محمد بيده، لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) (¬1) وإنّما اختصّ البقر من سائر الحيوانات، لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك إذ هذا من الابتلاء العظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه؛ أو لأن أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه، كما سيأتي. وقرأ الجمهور (¬2): {يَأْمُرُكُمْ} بضم الراء، وعن أبي عمرو السكون والاختلاس، وإبدال الهمزة ألفا {قالُوا} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ هل سارعوا إلى الامتثال أولا؟ فقيل: قالوا: {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا}؛ أي: أتجعلنا مكان هزء وسخرية، وتستهزىء بنا وتلعب بنا يا موسى؟ حيث نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة، ولا جامع بينهما، وإنما قالوا ذلك: لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة، وإخباره بقاتله. قال بعض العلماء: كان ذلك هفوة منهم وجهالة، فما انقادوا للطاعة وذبحها، وقد كان الواجب عليهم أن يمتثلوا أمره ويقابلوه بالإجلال والاحترام، ثم ينتظروا ما يحدث بعد {قالَ} موسى وهو استئناف أيضا {أَعُوذُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

بِاللَّهِ}؛ أي: امتنع بالله تعالى وألتجىء إليه من {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}؛ أي (¬1): من المستهزئين بالمؤمنين؛ لأن الهزء والسخرية في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل وسفه، ودل على أن الاستهزاء بأمر الدين كبيرة، وكذلك بالمسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل، وصاحبه مستحق للوعيد، وليس المزاح من الاستهزاء. وقال علي - رضي الله عنه - لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس. روي أنه قدم رجل إلى عبيد الله بن الحسين وهو قاضي الكوفة، فمازحه عبيد الله، فقال: جبتك هذه من صوف نعجة، أو من صوف كبش؟ فقال: أتجهل أيها القاضي؟ فقال له عبيد الله: وأين وجدت المزاح جهلا؟ فتلا هذه الآية، فأعرض عنه عبيد الله؛ لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزاح من الاستهزاء، أو المعنى من المبلّغين عن الله الكذب. اه. «صاوي». وأصل هذه القصة (¬2): أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم! إني استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل، فصارت العجلة في الغيضة عوانا؛ أي: نصفا بين المسنّة والشابّة، وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن كان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك قد ورثك عجلة استودعها في غيضة كذا، فانطلق وادع إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، أن يردها عليك، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمّى المذهبة؛ لحسنها وصفرتها؛ لأن صفرتها كانت صفرة زين لا صفرة شين، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها فتكلّمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيها الفتى البارّ لوالدته! اركبني، فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمّي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

بني إسرائيل، لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له: إنك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة. قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف برّه بأمه، وكان الله به خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضى والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضى أمي، فردّها إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق فأتى الملك، فقال: أستأمرت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا انقصها من ستة على أن استأمرها، فقال الملك إني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك، فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي؛ ليختبرك، فإذا أتى فقل له: أتأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل، فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلا بملىء مسكها دنانير، فأمسكوها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافأة له على برّه بوالدته، فضلا منه ورحمة. والوجه في تعيين البقرة دون غيرها من البهائم؛ أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل، وحبّب إليهم ذلك، كما قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} ثم تابوا وعادوا إلى طاعة الله تعالى وعبادته، فأراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان منهم في قلوبهم وقيل: كان أفضل قرابينهم حينئذ البقر، فأمروا بذبح البقرة؛ ليجعل الله التقرب لهم بما هو أفضل عندهم. وفي هذه القصة (¬1) بيان نوع آخر من مساويهم، لنعتبر به ونتعظ، وفيه من ¬

_ (¬1) المراغي.

[68]

وجوه العبر: 1 - أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال، مما يقضي التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وبما جاء في الأحاديث الصحيحة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال». 2 - أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان؛ لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بأجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته. 3 - استهزاؤهم بأوامر الأنبياء. 4 - أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدداها. 68 - ثم إن القوم (¬1) لما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله وجدّ، استوصفوها من موسى فـ {قالُوا} كأنه قيل: فماذا قال قوم موسى بعد ذلك؟ فقيل: توجهوا نحو الامتثال، وقالوا: يا موسى! {ادْعُ لَنا}؛ أي: سل لأجلنا {رَبَّكَ} أن يبين لنا سنّها إن دعوته {يُبَيِّنْ} ويوضح {لَنا} ويعرّف ويعيّن {ما هِيَ}؛ أي: جواب ما تلك البقرة؛ أي: ما سنّها؟ أصغيرة أم كبيرة. وهذا تشديد منهم على أنفسهم. و {ما} مبتدأ و {هِيَ} خبره، والجملة في حيز النصب بيبين؛ أي: يبين لنا جواب السؤال. وقد سألوا عن حالها وصفتها، لمّا قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى، فما ههنا سؤال عن الحال والصفة. تقول: ما زيد، فيقال: طبيب أو عالم؛ أي: ما سنّها وما صفتها من الصغر والكبر {قالَ}؛ أي: موسى عليه السلام، بعد ما دعا ربه بالبيان وأتاه الوحي {إِنَّهُ}؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى {يَقُولُ إِنَّها}؛ أي: إن البقرة المأمور بذبحها {بَقَرَةٌ لا} هي {فارِضٌ}؛ أي: مسنة هرمة من الفرض وهو القطع، كأنها قطعت سنّها وبلغت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[69]

آخره {وَلا} هي {بِكْرٌ}؛ أي: فتية صغيرة، ولم يؤنّث البكر والفارض؛ لأنهما كالحائض في الاختصاص بالأنثى، والفارض المسنة التي لا تلد، والبكر الفتيّة التي لم تلد {عَوانٌ}؛ أي: وسط نصف {بَيْنَ ذلِكَ} المذكور من الفارض والبكر {فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ} به من ذبح البقرة تعرفوا القاتل، ولا تكثروا السؤال فيشدّد عليكم، وحذف الجار قد شاع في هذا الفعل، حتى لحق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين، فأبوا عن الانتهاء فـ {قالُوا} تعنتا منهم لموسى، وهذا مستأنف أيضا، كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد هذا البيان الثاني والأمر المكرر، فقيل: 69 - قالوا: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ}؛ أي: سل لنا ربك ما لونها؟ أهي سوداء أم صفراء أم حمراء؟ {يُبَيِّنْ لَنا} جواب {ما لَوْنُها} من الألوان حتى تتبين لنا البقرة المأمور بها، واللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر. {قالَ} موسى عليه السلام، بعد المناجاة إلى الله تعالى ومجيء البيان منه تعالى {إِنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّها}؛ أي: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها {بَقَرَةٌ صَفْراءُ} والصفرة لون بين البياض والسواد وهي الصفرة المعروفة، وليس المراد بها هنا السواد، كما في قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)}؛ أي: سود، والتعبير عن السواد بالصفرة؛ لما أنها من مقدماته؛ وإما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة {فاقِعٌ لَوْنُها}؛ أي: صافية صفرتها لم يخالطها لون آخر، وهو مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لبقرة، والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها. يقال في التأكيد: أصفر فاقع، كما يقال: أسود حالك. وفي إسناده إلى اللون مع كونه من أحوال اللون؛ لملابسته به ما لا يخفى من فضل التأكيد، كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها، كما في جد جده، وجنونك جنون. قيل: كانت صفراء الكل حتى القرن والظلف {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} إليها وتبهجّهم، أي: تعجبهم لحسن صورتها، ومنظرها، وهيئتها، وشدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد، والمعنى: يعجبهم حسنها، وصفاء لونها، ويفرّح قلوبهم لتمام خلقتها، ولطافة قرونها وأظلافها، والسرور: لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقعه، وعن علي - رضي الله عنه - (من لبس نعلا صفراء قلّ همّه)؛ لأن الله تعالى قال: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ونهى ابن الزبير، ومحمد بن كثير عن لباس النعال السود؛ لأنها تهمّ. وذكر أنّ الخفّ الأحمر خفّ فرعون، والخفّ

[70]

الأبيض خفّ وزيره هامان، والخفّ الأسود خفّ العلماء. وروي أنّ خفّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أسود؛ أي: إنها بقرة صفراء فاقع لونها فاذبحوها، ولا تكثروا السؤال، فأبوا عن قبول ذلك ف 70 - {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ}؛ أي: سل لنا ربك ما حالها؟ أعاملة هي أم سائمة؟ إن دعوته {يُبَيِّنْ لَنا} جواب {ما هِيَ}؛ أي: ما حال تلك البقرة؟ أعاملة أم سائمة؟ وفي «الكشاف» هذا تكرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستكشاف زائد؛ ليزدادوا بيانا لوصفها، والاستقصاء شؤم. وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطي فلانا شاة، سألتني أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني وفي الحديث: «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم لأجل مسألته». {إِنَّ الْبَقَرَ}؛ أي: إن (¬1) جنس البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فـ {تَشابَهَ} أي: تشاكل {عَلَيْنا}؛ أي: فاشتبه أمرها علينا، فلم ندر ما البقرة المأمور بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ} هدايتنا {لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها، وسنعرف ما التبس علينا من أمرها وتشابه، أو لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها. وعن عطاء: لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد؛ أي: لو لم يقولوا إن شاء الله. وقال الطبري: لما زادوا نبيهم أذى وتعنتا، زادهم الله عقوبة وتشديدا، ولو أنّ بني إسرائيل، كما قال ابن عباس (أخذوا أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدد الله عليهم) والمراد بالاستثناء هنا التعليق بالمشيئة، وسمي التعليق بها استثناء؛ لصرفه الكلام عن الجزم، وعن الثبوت في الحال من حيث التعليق بما لا يعلمه إلا الله تعالى. اه. «كرخي» قال أبو عبد الله (¬2)، محمد بن أبي الفضل المرسيّ في «ريّ الظمآن»: وجه الاشتباه عليهم: أنّ كلّ بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية؛ لما علموا من ناقة صالح، وما كان فيها من العجائب، فظنّوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب، وذلك لمّا نبّئوا أنها آية سألوا عن ماهيتها وكيفيتها، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات، وإنما سألوا عن ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

التعيين وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق؛ لأنهم لو عملوا بمطلقه لم يحصل التقصّي عن الأمر بيقين. انتهى كلامه. وقال غيره: لما لم يكن التماثل من كل وجه، وحصل الاشتباه عليهم، ساغ لهم السؤال، فأخبروا بسنها فوجدوا مثلها في السن كثيرا، فسألوا عن اللون فأخبروا بذلك، فلم يزل اللبس بذلك، فسألوا عن العمل فأخبروا بذلك، وعن بعض أوصافها الخاصّ بها فزال اللبس بتبيين السن، واللون، والعمل، وبعض الأوصاف، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر، فهذا هو السبب الذي جرّأهم على تكرار السؤال. وقرأ الجمهور (¬1) {تَشابَهَ} جعلوه فعلا ماضيا على وزن تفاعل مسندا لضمير البقر على أنّ البقر مذكر. وقرأ الحسن {تشابه} بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء، وماضيه {تَشابَهَ} وفيه ضمير يعود على البقر على أنّ البقر مؤنث. وقرأ الأعرج كذلك، إلا أنه شدّد الشين جعله مضارعا وماضيه {تشابه} أصله: تتشابه، فأدغم، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي عن الحسن أيضا. وقرأ محمد المعيطيّ المعروف بذي الشامة (تشبّه علينا) جعله ماضيا على تفعل. وقرأ ابن مسعود {يشّابه} بالياء وتشديد الشين جعله مضارعا من تفاعل، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرىء {متشبّه} اسم فاعل من تشبّه. وقرأ بعضهم {يتشابه} مضارع تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أبيّ {تشابهت} وقرأ الأعمش متشابه ومتشابهة وقرأ ابن أبي إسحاق {تشّابهت} بتشديد الشين مع كونه فعلا ماضيا وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنتا عشرة قراءة، وتوجيه هذه القراءات ظاهر إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها، وتبيين ما قاله: أنّ تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها، والماضي لا يكون فيه تاءان، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى، ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله: إن البقرة اشابهت علينا، فأدغمت التاء في الشين فاجتلبت همزة الوصل. وقد أطال الكلام هنا أبو حيان، فراجعه فإنه لا يليق بمختصرنا هذا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[71]

وقوله: {وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}؛ أي: إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو إلى ما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة. وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة، وانقياد، ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر. وتوسط الشرط هنا بين اسم إنّ وخبرها؛ ليحصل توافق رؤوس الآي؛ وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله جاء خبر إن اسما؛ لأنه أدل على الثبوت، وعلى أن الهداية حاصلة لهم، وأكد بحرفي التأكيد إنّ واللام، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم، وأكدوا تلك النسبة ولو كان تعليقا محضا لما احتيج إلى تأكيد 71 - {قالَ} موسى عليه السلام {إِنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّها}؛ أي: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها {بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ}؛ أي؛ لا مذللة ذللها العمل. يقال: دابة ذلول بيّنة الذل بالكسر، وهو خلاف الصعوبة، وهو صفة لبقرة، بمعنى: أنها بقرة غير مذللة بأيّ عمل، ولا مهيّأة لأي خدمة. قال الحسن: كانت البقرة وحشية، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث، ولا يسنى عليها فتسقي، ولم يقل: ذلولة بالتاء؛ لأن فعولا إذا كان وصفا لم تدخله الهاء، كصبور وقوله: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} أي تقلب الأرض للزراعة صفة ذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة للأرض، وقوله: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} معطوف على تثير على كونه صفة لذلول؛ أي: ليست بسانية يسقي عليها بالسواني، ولا الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية، كذا في «الكشاف» والمعنى؛ أي: ولا تحمل الماء إلى الأرض المهيأة للزراعة، يعني: أنها فارغة من أي عمل ليست مسخرة لحرث الأرض، ولا لسقاية الزرع، ولا لغيرهما. قال الإمام أبو منصور - رحمه الله تعالى -: دلت الآية على أن البقرة كانت ذكرا؛ لأن إثارة الأرض وسقي الحرث من عمل الثيران، وأما الضمائر الراجعة إليها على التأنيث فللفظها، كما في قوله: {وَقالَتْ طائِفَةٌ} فالتاء للتوحيد لا للتأنيث خلافا لأبي يوسف، إلا أن يكون أهل ذلك الزمان يحرثون بالأنثى، كما يحرث أهل هذا الزمان بالذكر {مُسَلَّمَةٌ}؛ أي: سليمة من جميع العيوب، سلمها الله تعالى منها، أو معافاة من العمل وآثاره، سلّمها أهلها منه، أو مخلصة اللون

[72]

صافيته من سلم له كذا إذا خلص له، لم يشب صفرتها شيء من الألوان، ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: {لا شِيَةَ فِيها}؛ أي: لا خلط في لونها يخالف لون جلدها، فهي صفراء كلّها حتى قرنها وظلفها. قال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد، بل هي صافية، وأصله: وشية، كالعدة، والصفة، والزنة. أصلها: وعد ووصف ووزن، واشتقاقها من وشى الثوب وهو استعمال ألوان الغزل في نسجه، وقال بعضهم: الشية بكسر الشين العلامة، والمراد: لا لمعة فيها من لون آخر سوى الصفرة {قالُوا}؛ أي: قال قوم موسى لموسى عندما سمعوا هذا النعوت {الْآنَ}؛ أي: في هذا الوقت الحاضر الذي أجبت فيه الجواب الأخير {جِئْتَ بِالْحَقِّ}؛ أي: بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها. وقرأ الجمهور {الأن} بإسكان اللام والهمزة بعده. وقرأ ورش عن نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وهي في المتواتر وعن نافع - في الشاذ - روايتان: إحداهما: حذف واو قالوا إذ لم يعتدّ بنقل الحركة، إذ هو نقل عارض، والرواية الأخرى إثبات الواو اعتدادا بالنقل، واعتبارا لعارض التحريك؛ لأنّ الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها، فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالها من الثبوت. والمعنى: أي في هذا الوقت الحاضر الذي قلت فيه: {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها} نطقت بالبيان الشافي، وأتيت بالوصف التام الذي تتميّز به عن أجناسها، فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار لأمه، فاشتروها بملىء جلدها ذهبا {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ}؛ أي: والحال أنهم ما قاربوا أن يذبحوها، لأجل غلاء ثمنها؛ أو لخوف الفضيحة بإظهار الله نبيه موسى على القاتل؛ أي: قاربوا أن يتركوا ذبحها لأجل ذلك، والجملة حال من ضمير ذبحوا؛ أي: فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه. والخلاصة: أنهم ذبحوها بعد توقف وبطء. قيل: مضى من أول الأمر إلى الامتثال أربعون سنة، فعلى العاقل أن يسارع إلى الامتثال، وترك التفحص عن حقيقة الحال، فإن قضية التوحيد تستدعي ذلك، 72 - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعمّا شاهدوه من آيات الله الباهرة، فقال: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} وهذا مؤخر لفظا مقدّم معنى؛ لأنه أول القصة؛ لأنّ أصيل

الكلام وتركيبه أن يقال: وإذ قتلتم نفسا، وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فقال موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وتضربوا القتيل ببعض البقرة فيحيى فيخبر عن قاتله، وإنما (¬1) أخّره ولم يقدّمه لفظا؛ لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة؛ للكشف عن القاتل؛ وليواصل قبائح بني إسرائيل بعضها ببعض، كما مر. فهو اعتراض بين المعطوف وهو قول: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ} والمعطوف عليه وهو {فَذَبَحُوها} كما سيأتي في مبحث الإعراب. وأضيف القتل إلى اليهود المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرضاهم بفعل أولئك الأسلاف، وخوطبت الجماعة بالقتل مع كون القاتل واحدا؛ لوجود القتل فيهم. والقتل: نقض البنية الذي بوجوده تنتفي الحياة. واسم القتيل: عاميل بن شراحيل. وقيل: نكّار بن شراحيل، والمعنى: واذكروا يا بني إسرائيل! قصة إذ قتل أسلافكم نفسا محرّمة {فَادَّارَأْتُمْ}؛ أي: اختلفتم، وتنازعتم، وتخاصمتم {فِيها}؛ أي: في شأن قتل تلك النفس وبيان قاتلها، وأصبح كلّ فريق يدفع أن يكون قاتلها وينسبه إلى غيره من الدرء وهو الدفع؛ أي: تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، إذ كلّ واحد من الخصماء يدافع الآخر؛ أي: يدفع الفعل عن نفسه، ويحيله على غيره. قال أبو حيان (¬2): ويحتمل هذا التدارؤ وهو التدافع أن يكون حقيقة، وهو أن يدفع بعضهم بعضا بالأيدي لشدة الاختصام، ويحتمل المجاز بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح، أو بأن دفع بعضهم بعضا بالتّهمة والبراءة. اه. وقرأ الجمهور (¬3): {فَادَّارَأْتُمْ} بالإدغام. أصله: تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال فتعذّر الابتداء بالمدغم الساكن، فاجتلبوا همزة الوصل، فصار ادرأتم. وقرأ أبو حيوة، وأبو السوار الغنويّ {فادّرأتم} بغير ألف قبل الراء، وجملة قوله: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مُخْرِجٌ}؛ أي: مظهر لا محالة {ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ـه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[73]

وتخفونه، وتسترونه من أمر القتل لا يتركه مكتوما مستورا. جملة معترضة بين المعطوف عليه وهو قوله: {فَادَّارَأْتُمْ} وبين المعطوف وهو قوله: 73 - {فَقُلْنا} لموسى {اضْرِبُوهُ}؛ أي: اضربوا هذا القتيل، والضمير راجع إلى النفس بمعنى القتيل، أو بمعنى الشخص، أو بمعنى الإنسان {بِبَعْضِها}؛ أي: ببعض البقرة أيّ بعض كان؛ أي: بعضو من أعضائها. قيل: بلسانها؛ لأنه آلة الكلام، أو بعجب الذنب؛ لأنه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى، ويركّب عليه الخلق. وقيل: بفخذها الأيمن. وقيل: غير ذلك من الأعضاء، والبعض أقلّ من النصف، وفي الكلام حذف، تقديره: فضربوه ببعضها، فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه، فقتل قاتله، فحرم ميراثه الذي استعجله؛ لأن من استعجل بالشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وفي الحديث: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة» ثمّ إنّ موسى عليه السلام، أمرهم بضربه ببعضها وما ضربه بنفسه؛ نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر، أو الحيلة. والخطاب في قوله: {كَذلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الإحياء العجيب {يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} يوم القيامة لمنكري البعث في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، والحاضرين عند نزول الآية الكريمة، فلا حاجة إلى تقدير القول، كما في القول الآتي، بل تنتهي الحكاية عند قوله: فـ {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} وقيل: الخطاب للحاضرين عند حياة القتيل، والكلام حينئذ على تقدير القول؛ أي: فضربوه فحيي وقلنا كذلك. إلخ؛ أي: كما أحيا الله سبحانه هذا القتيل بعد موته في الدنيا يحيي الله الموتى في الآخرة من غير احتياج إلى آلة. فإن قلت: إن بني إسرائيل كانوا مقرين بالبعث، فما معنى إلزامهم بقوله: {كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى}؟. قلت: كانوا مقرين قولا وتقليدا، فثبته عيانا وإيقانا، وهو كقول إبراهيم عليه السلام: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. {وَيُرِيكُمْ} أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو أيها الحاضرون حياة القتيل {آياتِهِ}؛ أي: دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير، ويجعلكم مبصرين براهين قدرته وتوحيده، وإحيائه للموتى عند البعث، وصدق رسله {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: لكي تعلموا وتفهموا قدرة الله، وأن محمدا محقّ صادق،

[74]

وأن من قدر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء نفوس كثيرة، فتصدّقوا بالبعث بعد الموت. يقال: عقلت نفسي عن كذا؛ أي: منعتها منه؛ أي: لتكمل عقولكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء الأنفس كلها، وتمنعوا نفوسكم عن هواها، وتطيعوا الله فيما يأمركم به. ولعل الحكمة في اشتراط ما اشترط في الإحياء من ذبح البقرة وضربه ببعضها، مع ظهور كمال قدرته على إحيائه ابتداء بلا واسطة أصلا؛ لاشتماله على التقرب إلى الله تعالى وأداء الواجب، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والتنبيه على بركة التوكل على الله تعالى، والشفقة على الأولاد ونفع بر الوالدين، وأنّ من حقّ الطالب أن يقدّم قربة، ومن حق المتقرّب أن يتحدّى الأحسن ويغالي بثمنه، كما يروى عن عمر - رضي الله عنه -: أنه ضحّى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار، وأنّ المؤثر هو الله تعالى، وإنما الأسباب أمارات لا تأثير لها. واعلم: أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة، أو من يقول: إنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه. قيل: على قبره. والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر، 74 - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم، فقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} خطاب لأهل عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحبار، و {ثُمَّ}؛ لاستبعاد القسوة من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها. وعبارة «الصاوي» هنا: نزّل استبعاد قسوة قلوبهم؛ لظهور خوارق العادات العظيمة منزلة التراخي، فأتى بثم، وأكده بالظرف بعده. اه. ونحو الآية قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} والقسوة والقساوة: عبارة عن الغلظ والصلابة، كما في الحجر، ووصف القلوب بالقسوة والغلظ؛ مثل لنبوّها وتكبرها عن الاعتبار، وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها، أي ثمّ صلبت وغلظت قلوبكم يا كفار بني إسرائيل! فلم تقبل الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ}؛ أي: من بعد سماع تلك الآيات الباهرة، أو رؤيتها من إحياء القتيل وإخباره بقاتله، والمسخ قردة وخنازير، ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من حجر، وغيرها من الآيات، والقوارع التي تميع منها الجبال، وتلين بها الصخور {فَهِيَ}؛ أي: القلوب {كَالْحِجارَةِ}؛ أي: مثل الحجارة في

شدتها وقسوتها، والفاء لتفريع مشابهتها لها، على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه، كقولك: احمرّ خدّه فهي كالورد؛ أي: فقلوبكم أيها اليهود مثل الحجارة الجامدة في القساوة، والصلابة، واليبس {أَوْ أَشَدُّ} منها {قَسْوَةً}؛ أي: بل هي أزيد قساوة وصلابة من الحجارة. وعنى بهذه القسوة. تركهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ما عرفوا صدقه، وقدرة الله على عقابهم بتكذيبهم إياه. وقوله: {قَسْوَةً} تمييز أو بمعنى بل، أو للتخيير؛ أي: إن شئتم فاجعلوها أشدّ منها، كالحديد، فأنتم مصيبون، وإنما لم تحمل {أَوْ} على معناها الأصلي وهو الشكّ والتردّد؛ لمّا أنّ ذلك محال على علام الغيوب. فإن قلت: لم قيل: {أَشَدُّ قَسْوَةً}؟ وفعل القسوة مما يبنى فيه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة من لفظ أقسى؛ لأن دلالته على الشدة بجوهر اللفظ الموضوع لها مع هيئة موضوعة للزيادة في معنى الشدة، بخلاف لفظ الأقسى، فإن دلالته على الشدة والزيادة في القسوة بالهيئة فقط. والحكمة في ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة، وتشبيهها بها دون غيرها من الأشياء الصلبة من الحديد، والصفر، وغيرهما؛ لأن الحديد تلينه النار وهو قابل للتليين، كما لان لداود عليه السلام، وكذا الصفر حتى يضرب منها الأواني والحجر لا يلينه نار ولا شيء آخر، فلذلك شبّه قلب الكافر بها، وهذا والله أعلم في حقّ قوم علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، والمعنى؛ أي: إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحقّ وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشدّ منها. وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ} (¬1) بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة، وتقرير لقوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} و {مِنَ الْحِجارَةِ} خبر {إِنَّ} والاسم قوله: {لَما} واللام لام الابتداء؛ أي: لأحجارا {يَتَفَجَّرُ}؛ أي: يتفتح بكثرة وسعة {مِنْهُ} عائد إلى ما {الْأَنْهارُ} جمع ¬

_ (¬1) روح البيان.

نهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء، والمعنى؛ أي: وإن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفّق منها الماء الكثير؛ أي: يتصبّب؛ أي: وإن من بعض الحجارة الحجر الذي يتصبّب ويخرج منه الأنهار الكبار. قيل: أراد به جميع الأحجار. وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى عليه السلام، ليسقي الأسباط {وَإِنَّ مِنْها}؛ أي: من الحجارة {لَما يَشَّقَّقُ} ويتصدّع ويتخرّق طولا أو عرضا. أصله: يتشقق، كما سيأتي. والتّصدّع جعل الشيء ذا نواحي {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ}؛ أي: ينشق إنشقاقا قليلا بالطول أو بالعرض ينبع منه الماء؛ ليكون عينا نابعة دون الأنهار. وقرأ الجمهور {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ} {وَإِنَّ مِنْها} {وَإِنَّ مِنْها} في المواضع الثلاثة مشددة. وقرأ قتادة في كلها مخففة على جعلها مخففة من الثقيلة. ذكره في «البحر». وقرأ الجمهور (¬1): {يَتَفَجَّرُ} بالياء مضارع تفجر. وقرأ مالك بن دينار {ينفجر} بالياء، والنون مضارع انفجر، وكلاهما مطاوع، أمّا يتفجر فمطاوع فجّر بالتشديد، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففا، والتفجّر التفتّح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر. وقرأ أبيّ، والضحاك {منها الأنهار} بتأنيث الضمير. وقرأ الجمهور {مِنْهُ} بتذكيره، فالقراءة الأولى حمل على المعنى، وقراءة الجمهور حمل على اللفظ؛ لأنّ ما، لها هنا لفظ ومعنى؛ لأن المراد به الحجارة، ولا يمكن أن يراد به مفرد المعنى فيكون لفظه ومعناه واحدا، إذ ليس المعنى وإن من الحجارة للحجر الذي يتفجر منه الأنهار؛ إنما المعنى وإن من الحجارة للأحجار التي يتفجر منها الأنهار، كما مرّ. وقرأ الجمهور (¬2) {يَشَّقَّقُ} بتشديد الشين، وأصله: يتشقق، فبه قرأ الأعمش، فقلبت التاء شينا وأدغمت الشين في الشين، فصار يشقق. وقرأ الأعمش أيضا تشقق بالتاء والشين المخففة، ورأيتها معزوة لابن مصرف، ورأيت في بعض نسخ تفسير ابن عطية ما نصه: وقرأ ابن مصرف {ينشقق} بالنون وقافين، والذي يقتضيه اللسان بقاف واحدة مشددة، وقد يجىء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الفك في شعر، وهي قراءة شاذة {وَإِنَّ مِنْها}؛ أي: من الحجارة {لَما يَهْبِطُ} وينزل ويتردى من أعلى الجبل إلى أسفله. وقرأ الأعمش {يَهْبِطُ} بضم الباء، وقد تقدم أنها لغة. ذكره في «البحر» مِنْ {خَشْيَةِ اللَّهِ}؛ أي من خوف الله سبحانه وتعالى، وانقيادها لأمره. والخشية هي الخوف عن العلم، وهنا مجاز عن انقيادها لأمر الله؛ أي: فخشيتها عبارة عن انقيادها لأمر الله، وأنها لا تمتنع عما يراد منها، وقلوبكم يا معشر اليهود! لا تلين، ولا تخشع، ولا تتحرك من خوف الله تعالى، ولا تفعل ما أمر به، وهذا (¬1) كله تعليل لتفضيل الحجارة عليهم. والمعنى: أن الحجارة تتأثر وتنفعل، فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء، ويتفجر منه الأنهار، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به، وقلوب هؤلاء اليهود لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى {وَمَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِغافِلٍ}؛ أي: بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عن العمل الذي تعملونه، أو عن عملكم، فما إما موصول اسمي أو حرفي، وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب، وما يترتّب عليها من الأعمال السيئة، فقلب الكافر أشدّ في القساوة في الحجارة، وإنها مع فقد أسباب الفهم والعقل منه، وزوال الخطاب عنها تخضع له تعالى وتتصدع. قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقلب الكافر مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة هيئة القبول لا يخضع، ولا يلين، والمعنى (¬2)؛ أي: وليس الله سبحانه غافلا عن أفعالكم الخبيثة، ولا ساهيا عنها، بل هو محص لها وحافظ إياها، وسيعاقبكم عليها في الآخرة؛ أي: وإن الله لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم عليها في الآخرة. قرأ الجمهور (¬3): {تَعْمَلُونَ} بالتاء، وهو الجاري على نسق قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وقرأ ابن كثير، ونافع، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر بالياء؛ نظرا ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) العمدة. (¬3) البحر المحيط.

إلى ما بعده، ويكون ذلك التفاتا إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} إلى الغيبة في قوله: {يعملون} وحكمة هذا الالتفات: أنه أعرض عن مخاطبتهم وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه؛ لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام، إقبال من المخاطب عليه وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب؛ لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات والخلاصة: إن (¬1) هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس، والحيوان، والزرع بخروج الأنهار، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة، فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردّي والسقوط بلا منفعة للناس، وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدي فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان، وتصل إلى الجنان، وإن الله تعالى لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم، ثم يجازيكم بها وهو يربّيكم بصنوف النّقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد. الإعراب {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب معطوف على نعمتي، والمعنى: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي، وحين قال موسى لقومه {قالَ مُوسى} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {لِقَوْمِهِ} متعلق بقال {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {يَأْمُرُكُمْ} فعل ومفعول به، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول قال. {أن} حرف نصب ومصدر {تَذْبَحُوا} فعل وفاعل منصوب بحذف النون {بَقَرَةً} مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة متعلقة بيأمركم، تقديره: إن الله يأمركم بذبح ¬

_ (¬1) المراغي.

بقرة {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كما مرت الإشارة إليه {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا} مقول محكي منصوب بقالوا، وإن شئت قلت: {أَتَتَّخِذُنا} الهمزة للاستفهام الإنكاري {تتخذ} فعل مضارع من أخوات ظن، وفاعله ضمير مستتر يعود على موسى، ونا ضمير لجماعة المتكلمين في محل النصب مفعول أول {هُزُوًا} مفعول ثان، ولكن على تأويله باسم مفعول، تقديره: مهزؤا بنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا {قالَ} فعل وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {أَعُوذُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على موسى {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال {أن} حرف نصب ومصدر {أَكُونَ} فعل مضارع ناقص منصوب بأن، واسمها ضمير يعود على موسى {مِنَ الْجاهِلِينَ} خبر {أَكُونَ} وجملة {أَنْ أَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: من كوني من الجاهلين، الجار والمجرور متعلق بأعوذ. {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)}. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة المستأنفة {ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} مقول محكي منصوب بقالوا، وإن شئت قلت: {ادْعُ} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الواو، وفاعله ضمير مستتر يعود على موسى، والجملة في محل النصب مقول قالوا {لَنا} جار ومجرور متعلق بادع {رَبَّكَ} مفعول به ومضاف إليه {يُبَيِّنْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله {لَنا} متعلق بيبين، والجملة جواب الطلب لا محل لها من الإعراب {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {هِيَ} ضمير للمفردة المؤنثة الغائبة في محل الرفع خبر لما الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب مفعول به ليبين، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: يبين لنا جواب ما هي {قالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة الفعلية مستأنفة {إِنَّهُ يَقُولُ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {يَقُولُ} خبره، وجملة إن في محل النصب مقول قال {إِنَّها} ناصب واسمه {بَقَرَةٌ}

خبره، وجملة إن في محل النصب مقول يقول {لا} نافية {فارِضٌ} صفة لبقرة مرفوع بالضمة الظاهرة، وجوزوا اعتراض لا النافية بين الصفة والموصوف؛ لأنه شائع كثير في كلامهم، كما في قولهم: مررت برجل لا طويل ولا قصير {وَلا} الواو عاطفة {لا} نافية {بِكْرٌ} معطوف على {فارِضٌ} وتكررت لا؛ لأنها متى وقعت قبل خبر، أو نعت، أو حال وجب تكرارها، كقولهم: زيد لا قائم ولا قاعد، ومررت به لا ضاحكا ولا باكيا {عَوانٌ} صفة ثانية لبقرة مرفوع بالضمة الظاهرة بَيْنَ منصوب على الظرفية الاعتبارية، وهو مضاف. واسم الإشارة {ذلِكَ} في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بعوان؛ لأنه بمعنى متوسط. وجوّز إضافة بين إلى مفرد كونه بمعنى متعدد؛ لأن اسم الإشارة هنا قائم مقام اثنين، حيث وقعت الإشارة به إلى الفارض والبكر معا. نظير قول عبد الله بن الزبعري يوم أحد قبل إسلامه: إنّ للخير وللشرّ مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل {فَافْعَلُوا} الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما يقول الرب تعالى، وأردتم بيان ما هو الأصلح واللازم لكم، فأقول لكم: افعلوا ما تؤمرون {افعلوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول به وجملة {تُؤْمَرُونَ} صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تؤمرون به. {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة {ادْعُ لَنا} إلى قوله: {قالَ} مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: {ادْعُ} فعل أمر وفاعل مستتر {لَنا} متعلق به {رَبَّكَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. {يُبَيِّنْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الرب لَنا متعلق بيبين، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب {ما} اسم استفهام في

محل الرفع مبتدأ {لَوْنُها} خبر، والجملة الإسمية في محل النصب مفعول به ليبين {قالَ} فعل وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {إِنَّهُ يَقُولُ ...} إلخ. مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {يَقُولُ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال {إِنَّها بَقَرَةٌ} ناصب واسمه وخبره، وجملة إن في محل النصب مقول يقول {صَفْراءُ} صفة لبقرة {فاقِعٌ} صفة صفراء {لَوْنُها} فاعل فاقع، ويجوز أن يكون {فاقِعٌ} خبرا مقدما و {لَوْنُها} مبتدأ مؤخرا، والجملة صفة لصفراء {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على البقرة، والجملة صفة ثانية لبقرة، تقديره: سارّة للناظرين. {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} مقول محكي لقالوا، وإن أردت بسط إعرابه، فقد تقدّم لك قريبا، فجدّد به عهدا {إِنَّ الْبَقَرَ} ناصب واسمه {تَشابَهَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على البقر {عَلَيْنا} متعلق بتشابه، وجملة تشابه في محل الرفع خبر إن، وجملة إن جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، ولكن في محل النصب مقول قالوا {وَإِنَّا} ناصب واسمه {إِنَّ} حرف شرط جازم {شاءَ} في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها {اللَّهُ} فاعل، وجواب الشرط محذوف، تقديره: اهتدينا، وجملة إن الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين إن وخبرها لَمُهْتَدُونَ اللام حرف ابتداء {مهتدون} خبر إن مرفوع بالواو وجملة إن معطوفة على جملة قوله {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} على كونها مقولا لقالوا، وعلى كونها تعليلية. {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)}. {قالَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {يَقُولُ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال {إِنَّها بَقَرَةٌ} ناصب واسمه وخبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول يقول {لا} نافية {ذَلُولٌ} صفة لبقرة، وإن شئت قلت {لا} اسم بمعنى غير في محل الرفع صفة

لبقرة، ولكن نقل إعرابها إلى ما بعدها؛ لكونها على صورة الحرف {ذَلُولٌ} صفة لبقرة مرفوع بالضمة الظاهرة {تُثِيرُ} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على ذلول {الْأَرْضَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لذلول، تقديره: لا ذلول مثيرة الأرض، ويجوز أن تكون جملة {تُثِيرُ} حالا من الضمير في ذلول، تقديره: لا تذل في حال إثارتها، وهذه الجملة الفعلية في المعنى مفسرة لذلول، فالنفي مسلط على الموصوف وصفته؛ أي: إنها بقرة انتفى عنها التذليل وإثارة الأرض، وانتفى عنها سقي الحرث أيضا على ما سيأتي {وَلا} الواو عاطفة {لا} زائدة زيدت؛ لتأكيد نفي لا الأولى {تَسْقِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ذلول {الْحَرْثَ} مفعول به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة تثير الأرض على كونها صفة ثانية لذلول، تقديره: لا ذلول مثيرة الأرض وساقية الحرث، فالنفي مسلط على الموصوف بصفته {مُسَلَّمَةٌ} صفة ثانية لبقرة لا نافية للجنس تعمل عمل إن {شِيَةَ} في محل النصب اسمها {فِيها} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: لا شية موجودة فيها، وجملة {لا} في محل الرفع صفة ثالثة لبقرة، تقديره: موصوفة بعدم وجود شية فيها {قالُوا} فعل وفاعل مستأنف {الْآنَ جِئْتَ} ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح، لشبهه بالحرف شبها معنويا؛ لتضمنه معنى حرف التعريف، أو معنى حرف الإشارة، كأنه قلت: هذا الوقت والظرف متعلق بجئت، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا {بِالْحَقِّ} حال من فاعل {جِئْتَ}؛ أي: حال كونه ملتبسا بالحق {فَذَبَحُوها} الفاء عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فطلبوها فوجدوها عند فتى بار فذبحوها. {ذبحوها} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، وتلك المحذوفة معطوفة على جملة قالوا {وَما} الواو حالية {ما} نافية {كادُوا} فعل ناقص واسمه، لأنه من أفعال المقاربة، وجملة {يَفْعَلُونَ} في محل النصب خبر كاد، وجملة كاد في محل النصب حال من فاعل ذبحوها؛ أي: حال كونهم غير مقاربين فعل الذبح؛ يعني؛ قبل زمان الذبح. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة قصة على قصة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في

محل النصب معطوف على نعمتي، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي وحين قتلتم نفسا {قَتَلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {نَفْسًا} مفعول به {فَادَّارَأْتُمْ} الفاء عاطفة {ادارأتم} فعل وفاعل {فِيها} متعلق بادرائتم، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {قَتَلْتُمْ}. {وَاللَّهُ} الواو اعتراضية {اللَّهُ مُخْرِجٌ} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف الذي هو قوله: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ} والمعطوف عليه الذي هو قوله {فَذَبَحُوها}. {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول {مُخْرِجٌ}؛ لأنه اسم فاعل من أخرج يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره: هو يعود على الله {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكْتُمُونَ} خبره، وجملة كان صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: تكتمونه. فإن قلت: كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضي؟ قلت: قد حكي ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ، كما حكي الحاضر في قوله: {باسِطٌ ذِراعَيْهِ}. {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}. {فَقُلْنا} الفاء عاطفة {قلنا} فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: فذبحوها {اضْرِبُوهُ}، فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مقول القول {بِبَعْضِها} جار ومجرور متعلق باضربوه {كَذلِكَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف وجوبا؛ لوقوعه صفة لمصدر محذوف، تقديره: يحيي الله الموتى يوم القيامة إحياء مثل إحياء هذا القتيل {يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين قصتي بني إسرائيل ردا على مشركي العرب المنكرين للبعث، كما سبق في مبحث التفسير {وَيُرِيكُمْ} الواو عاطفة {يُرِيكُمْ} فعل مضارع ومفعول أول، والفاعل ضمير مستتر يعود على الله {آياتِهِ} مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله كذلك: {كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} على كونها معترضة لا محل لها من الإعراب {لَعَلَّكُمْ} لعل حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة {تَعْقِلُونَ} خبرها،

وجملة لعل جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها سيقت لتعليل الإرادة. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {قَسَتْ} فعل ماض مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والتاء علامة تأنيث الفاعل {قُلُوبُكُمْ} فاعل، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فضربوه فحيي القتيل، ثم قست قلوبكم، أو معطوفة على جملة قوله: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ} والأول أوضح وأولى {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقست {فَهِيَ} الفاء حرف عطف وتفريع {هي} مبتدأ {كَالْحِجارَةِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، أو الكاف اسم بمعنى مثل في محل الرفع خبر المبتدأ {الحجارة} مضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة مفرّعة على جملة قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}. {أَوْ} حرف عطف بمعنى بل {أَشَدُّ} بالرفع معطوف على الكاف إذا كانت اسما، أو على {كَالْحِجارَةِ}؛ لأن الجار والمجرور في موضع رفع. وقرىء أشد بالفتح على أنه معطوف على الحجارة {قَسْوَةً} تمييز نسبة منصوب بأشد {وَإِنَّ} الواو استئنافية {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد {مِنَ الْحِجارَةِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم لأنّ {لَما} اللام حرف ابتداء {ما} اسم موصول في محل النصب اسم إن مؤخر، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {يَتَفَجَّرُ} فعل مضارع {مِنْهُ} متعلق به {الْأَنْهارُ} فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، وتقدير الكلام: وإن الذي يتفجر منه الأنهار لكائن من الحجارة. {وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}. {وَإِنَّ} الواو عاطفة {إِنَّ} حرف نصب {مِنْها} خبر {إِنَّ} مقدم على اسمها {لَما} اللام حرف ابتداء {ما} اسم موصول في محل النصب اسم {إِنَّ} مؤخر {يَشَّقَّقُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، وتقدير الكلام: وإن الذي يشقق فيخرج منه الماء لكائن من الحجارة، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى

{فَيَخْرُجُ} الفاء عاطفة {يخرج} فعل مضارع {مِنْهُ} متعلق به {الْماءُ} فاعل ليخرج، والجملة معطوفة على جملة {يَشَّقَّقُ} على كونها مستأنفة {وَإِنَّ} الواو عاطفة إِنَّ حرف نصب وتوكيد {مِنْها} خبر مقدم لإن {لَما} اللام حرف ابتداء {يَهْبِطُ} فعل مضارع. وفاعل مستتر يعود على ما، والجملة صلة الموصول، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيهبط {وَمَا} الواو استئنافية {مَا} نافية حجازية تعمل عمل ليس {اللَّهِ} اسمها {بِغافِلٍ} خبرها منصوب بفتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف جر زائد، والباء زائدة، وجملة {ما} الحجازية مستأنفة {عَمَّا} {عن} حرف جر {ما} اسم موصول في محل الجر بعن، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: عما تعملونه، والجار والمجرور متعلق {بِغافِلٍ} ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلتها، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بعن، تقديره: وما الله بغافل عن عملكم، والجار والمجرور متعلق بغافل أيضا. التصريف ومفردات اللغة {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الذبح: قطع أعلى العنق. والنحر: طعن أسفله. والبقرة واحد البقر تقع على الذكر والأنثى، نحو: حمامة وحمام، والصفة تميّز الذكر من الأنثى. تقول: بقرة ذكر وبقرة أنثى. وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصة من هذا الجنس، والذكر الثور، نحو: ناقة وجمل، وأتان وحمار، وسمي هذا الجنس بذلك؛ لأنه يبقر الأرض؛ أي: يشقها بالحرث، أو بقرنه، ومنه: بقر بطنه إذا شقّه، ومنه سمي محمد الباقر، وهو محمد بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء. وفي «المصباح» وبقرت الشيء بقرا من باب قتل، شققته وبقرته فتحته، والمراد بقرة مبهمة، كما هو ظاهر النظم، فكانوا يخرجون من العهدة بذبح أي بقرة كانت، كما في الحديث السابق، لكن ترتب على تعنتهم فسخ الحكم الأول بالثاني، والثاني بالثالث تشديدا عليهم، لكن لا على وجه ارتفاع حكم المطلق

بالكلية، بل على طريقة تقييده وتخصيصه شيئا فشيئا، ولا يصح أن يكون المراد من أول الأمر بقرة معينة، كما قيل: إذ لو كان كذلك لما عدّت مراجعتهم المحكية من قبيل الجنايات، بل كانت تعدّ من قبيل العبادات، فإن الامتثال للأمر بدون الوقوف على المأموريّة مما لا يتيسر. اه. من «أبي السعود». والمراد من تذبحوا بقرة؛ أن تذبحوها وتأخذوا بعضها وتضربوا به القتيل فيحيا فيخبركم بقاتله، ففي الكلام اختصار يدل عليه السياق {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا} وفي «المصباح» هزأت به أهزأ مهموزا من باب تعب، وفي لغة من باب نفع سخرت منه، واسم المصدر منه الهزؤ بضم الزاي وسكونها؛ للتخفيف، وقرىء بهما في السبع. اه. أي أتصيرنا هزوا، وهزوا مفعول ثاني لتتخذنا، وفي وقوعه مفعولا ثلاثة أقوال: أحدها: على حذف مضاف، أي: ذوي هزؤ. والثاني: أنه اسم مصدر واقع موقع المفعول؛ أي مهزوا بنا. والثالث: أنهم جعلوا نفس الهزؤ مبالغة وهذا أولى. اه. «سمين». {قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} والعياذ والمعاذ: الاعتصام والالتجاء، والفعل. منه عاذ يعوذ، وأصل أعوذ: أعوذ بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى العين، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد {أَكُونَ} أصله: أكون، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فسكنت الواو وضمت الكاف فجعلت الواو حرف مد، كما مر في أعوذ {مِنَ الْجاهِلِينَ} الجهل معروف وهو ضد العلم، والفعل منه جهل يجهل. قيل: وقد جمع على أجهال وهو شاذ. قال الشّنفرى: ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى ... سؤولا بأطراف الأقاويل أنمل ويحتمل أن يكون جمع جاهل، كأصحاب جمع صاحب، وهو أبلغ من قولك: أن أكون جاهلا، فإنّ المعنى أن أنتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ} أصله: يقول بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد {لا فارِضٌ} الفارض: المسنّ التي انقطعت ولادتها من الكبر. يقال: فرضت من بابي قعد وكرم، والمصدر الفروض، والفرض القطع، ويقال لكل ما قدم وطال أمره: فارض، وكأنّ المسنة سمّيت

فارضة؛ لأنها فرضت سنّها؛ أي: قطعتها وبلغت آخرها. قال خفّاف بن ندبة: لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا ... تساق إليه ما تقوم على رجل ولم تعطه بكرا فيرضى سمينه ... فكيف تجازى بالمودّة والفضل وفي «المختار» فرضت البقرة طعنت في السن، ومنه قوله تعالى: {لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ} وبابه جلس وظرف. اه. فالمصدر فراضة وفروضا، كما في «القاموس» {وَلا بِكْرٌ} والبكر: الصغيرة التي لم تلد من الصغر. وقال ابن قتيبة التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسّها الرجل. وقال ابن قتيبة أيضا: هي التي تحمل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى. قال الراجز: يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحت منّي كذراع من عضد والبكر بفتح الباء الفتى من الإبل، والأنثى بكرة، وأصله: من التقدم في الزمان، ومنه البكرة والباكورة {عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} والعوان: النصف وهي التي ولدت بطنا أبو بطنين. وقيل: التي ولدت مرة. وفي «المصباح» العوان النصف في السن من النساء والبهائم، والجمع عون بضم العين وسكون الواو، والأصل: عون بضم الواو، لكن سكّن تخفيفا. اه. و {بَيْنَ} ظرف مكان متوسط متصرف. تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقيّ بين الحاجبين. قال تعالى: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ودخولها إذا كانت ظرفا بين ما تمكن البينة فيه، والمال بين زيد وبين عمرو مسموع من كلامهم، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في كتب الكوفيين باب معقود كبير. ذكره في «البحر». {ما لَوْنُها} واللون: عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر، كما مر. وجمعه على القياس ألوان، واللون أيضا النوع، ومنه ألوان الطعام؛ أي: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه قولهم: يتلون تلون الحرباء، وذلك أن الحرباء لصفاء جسمها أيّ لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون {صَفْراءُ} والصّفرة: لون بين البياض والسواد وقياس الفعل من هذا المصدر صفر فهو أصفر وهي صفراء، كقولهم: شهب فهو أشهب

وهي شهباء، والهمزة في صفراء مبدلة من ألف، وذلك أن أصلها: صفرى كسكرى، فزيدت ألف قبل الألف الأخيرة؛ للمد كألف كتاب وغلام، فأبدلت الألف الثانية همزة. قال ابن مالك في الكافية: من حرف لين آخر بعد ألف ... مزيد ابدل همزة وذا ألف وهذا أشمل من قوله في الألفية: فأبدل الهمزة من واو ويا؛ لأنه لم يذكر الألف في ألفيته. وذكره في الكافية، حيث ذكر حروف اللين {فاقِعٌ لَوْنُها}؛ أي: شديد الصفرة. والفقوع بضم الفاء: نصوع الصفرة وخلوصها، فالفاقع شديد الصفرة وقد فقع لونه من بابي خضع ودخل. اه. «مختار» والفقوع أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه يقال: أصفر فاقع ووارس، وأسود حالك وحايك، وأبيض نقق ولمق، وأحمر قاني وزنجيّ، وأخضر ناضر ومدهامّ، وأزرق خطباني وأرمك ردانيّ {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أصله: تسرر بوزن تفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين، فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. والسرور: لذة في القلب عند حصول نفع، أو توقعه، أو رؤية أمر معجب رائق، ومنه السرير الذي يجلس عليه إذا كان لأولي النعمة، وسرير الميت شبيها له به في الصورة وتفاؤلا بذلك. وقال قوم: السرور، والفرح، والحبور، والجذل نظائر، ونقيض السرور الغمّ {إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} شاء أصله: شيء بوزن فعل بكسر العين، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا {لَمُهْتَدُونَ} أصله: مهتديون جمع مهتد اسم فاعل من اهتدى، استثقلت الضمة على الياء فحذفت وسكنت الياء؛ فحذفت لالتقاء الساكنين، وضمّت الدال؛ لمناسبة الواو، أو كما يقول بعضهم: نقلت حركة الياء إلى الدال والمؤدّى واحد {لا ذَلُولٌ} الذلول: الريض الذي زالت صعوبته. يقال: دابة ذلول بيّنة الذل بكسر الذال، ورجل ذليل بين الذلّ بضم الذال، والفعل ذلّ يذل والذّلّ بالكسر ضد الصعوبة، وبالضم ضدّ العزّ، والمراد به هنا الأول {تُثِيرُ الْأَرْضَ} الإثارة: الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان قال النابغة: يثرن الحصى حتّى يباشرن تربه ... إذا الشّمس مجّت ريقها بالكلاكل وأصل تثير: تثور بوزن تفعل واويّ العين، نقلت حركة الواو إلى الثاء،

فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} والحرث: مصدر حرث يحرث وهو شقّ الأرض ليبذر فيها الحبّ، ويطلق على ما حرث وزرع، وهو مجاز في قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} والحرث الزرع، والحرث الكسب، والحرائث الإبل الواحدة حريثة. وفي الحديث: (أصدق الأسماء الحارث)؛ لأنّ الحارث هو الكاسب، واحتراث المال اكتسابه. يقال: حرث من باب نصر وكتب. {مُسَلَّمَةٌ} المسلمة: المخلصة المبرأة من العيوب. يقال: سلم له كذا؛ أي: خلص سلاما، وسلامة مثل لذاذا ولذاذة {لا شِيَةَ فِيها} والشّية: مصدر وشي الثوب يشيه وشيا وشية، إذا حسّنه وزيّنه بخطوط مختلفة الألوان، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس: واش؛ لأنه يحسّن كذبه عندهم حتى يقبل. والشية: اللّمعة المخالفة للون البدن، كما مر. ومنه ثور موشّى القوائم، والشية في الأصل: مصدر وشي من باب وعد وشيا وشية، إذا خلط لونا بلون آخر، والمراد هنا نفس اللون، والتصرّف فيها كالتصرف في عدة. اه. شيخنا. وفي «السمين» وشية مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، فحذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكسرة في المضارع، ثم حمل ما في الباب عليه وعوّض عنها تاء التأنيث في المصدر، ووزنها علة، ومثلها صلة وعدة وزنة ومنه ثوب موشى؛ أي: منسوج بلونين فأكثر، وثور موشى القوائم؛ أي: أبلقها، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، كلّ ذلك بمعنى أبلق. اه. {الْآنَ} ظرف زمان يقتضي الحال ويخلص المضارع له عند جمهور البصريين، وهو لازم للظرفية لا يتصرّف غالبا بني؛ لتضمنه معنى حرف الإشارة، كأنك قلت: هذا الوقت؛ أو لتضمنه معنى حرف التعريف، كأنك قلت: الوقت الحاضر. واختلف في أل التي فيه، فقيل: للتعريف الحضوريّ. وقيل: زائدة لازمة. اه. «كرخي» وزعم الفراء أنه منقول من الفعل. يقال: آن يئين أينا؛ أي: حان {جِئْتَ} أصل الفعل: جيأ بوزن فعل من باب ضرب، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فصار جاء، فأسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرّك فسكّن آخره، فصار جاءت، فالتقى ساكنان الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار

جأت على وزن فلت، فاحتيج إلى معرفة عين الفعل المحذوفة، هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة الفعل وعوّض عنها حركة مجانسة للعين المحذوفة وهي الكسرة، فقيل: جئت بوزن فلت، وهكذا كلّ ما كان من هذا الباب {كادُوا} أصل: كاد كود بوزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، بدليل قولهم: يكاد، تحركت الواو في الماضي وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فقيل: كاد، والدليل على أنّ أصل العين واو قولهم: كاد يفعل كذا كودا ومكادة؛ أي: قارب ولم يفعل {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} والقتل: نقض البنية بوجوه تنتفي الحياة عندها. فادرائتم: من الدرء وهو الدفع، كقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ} وادّارأ تفاعل منه، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أوّلها همزة وصل. ذكر في النحو. اه. «بحر». وأصله: تدارأتم بوزن تفاعل من الدرء وهو الدفع؛ أي: تدافعتم، فأدغمت تاء الافتعال في الدال التي هي فاء الفعل بعد أن أبدلت التاء دالا، ثم استجلبت همزة الوصل؛ للتوصل به إلى النطق بالساكن؛ يعني: الحرف المدغم، فقيل: ادارءتم. وعبارة «السمين» هنا: أصل ادارأتم: تفاعلتم من الدرء وهو الدفع، فاجتمعت التاء مع الدال وهما متقاربان في المخرج، فأريد الإدغام، فقلبت التاء دالا وسكنت لأجل الإدغام ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل؛ ليبتدأ بها، فبقي اددارأتم فأدغم. اه. {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} فيه حذف همزة أفعل من اسم الفاعل، إذ القياس مؤخرج {كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} أصله يحيي بوزن يفعل، حذفت منه همزة أفعل وسكنت ياؤه الأخيرة؛ للتخفيف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ} مضارع الرباعي، والرؤية هنا بصرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولا ثانيا وهو آياته، والمعنى: ويجعلكم مبصرين آياته، والكاف هو المفعول الأول، وأصله: يرئيكم بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء فائه، ثم حذفت الهمزة تخفيفا، فقيل: يرى، فالعين من أرى الرباعي في الماضي والمضارع محذوفة دائما {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} القساوة والقسوة: غلظ القلب وصلابته وعدم لينه لقبول الخير. يقال: قسا يقسو من باب عدا قسوا، وقساوة وقسوة، وفيه إعلال بالحذف. أصله: قسو، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فلما اتصلت

بالفعل تاء التأنيث الساكنة التقى ساكنان الألف والتاء، فحذفت الألف {أَشَدُّ} أصله: أشدد بوزن أفعل صيغة تفضيل، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية {يَشَّقَّقُ} أصله: يتشقق، أبدلت التاء شينا وأدغمت في الشين. والشقّ: أن يجعل الشيء شقين وتشقق منه {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} والخشية: الخوف مع تعظيم المخشيّ. يقال: خشي يخشى، كرضي يرضى {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ} الغفلة، والسهو، والنسيان متقاربة. يقال: منه غفل يغفل، ومكان غفل لم يعلم به. اه. «بحر». البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرير للسؤال والجواب وهو داخل في باب الإطناب، كأنهم يكررون السؤال استكناها لحقيقة البقرة. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ}؛ لأنّ قبل هذه الجملة جمل محذوفة، تقديرها: فطلبوها ووجدوها عند فتى بار لوالدته، فاشتروها فذبحوها. ومنها: الاعتراض بقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}؛ لأن هذه الجملة معترضة بين قوله: {فَادَّارَأْتُمْ} وقوله: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ} والجملة المعترضة بين ما شأنهما الاتصال، تجيء تحلية يزداد بها الكلام البليغ حسنا. وفائدة الاعتراض هنا: إشعار المخاطبين بأنّ الحقيقة ستنجلي لا محالة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} حيث شبه عدم الإذعان بالقسوة بجامع عدم قبول التأثير في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من القساوة قست بمعنى لم تذعن، فلم تقبل المواعظ ولم تؤثر فيها. اه. «صاوي» وقيل: فيه الاستعارة المكنية التبعية تشبيها لحال القلوب في عدم الاعتبار والاتعاظ بما هو ماثل أمامها، ناطق بلسان الحال بالحجارة النابية التي من خصائصها القسوة والصلابة.

ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَالْحِجارَةِ}؛ لأن أداة الشبه مذكورة، ووجه الشبه محذوف، فقد شبّه قلوبهم في نبوّها عن الحق وتجافيها مع إحكامه بالحجارة القاسية، ثم ترقّى في التشبيه فجعل الحجارة أكثر لينا من قلوبهم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ} حيث أطلق المحلّ الذي هو المجرى المسمّى بالنهر، وأراد الحالّ فيه وهو الماء، والقرينة حالية؛ لأن التفجر إنما يكون للماء لا للنهر. ومنها: المجاز العقليّ في إسناد الخشية إلى الحجارة،؛ لأنه مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى، وأنها لا تمتنع عمّا يريد منها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد، ولا تلين، ولا تخشع، ولا تفعل ما أمرت به. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، ومنه يرجى نجاح كل الآراب، لا سيما تفسير أفضل الكتاب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) خاتمة: إلى هنا وقفت الأقلام في ترقيم المجلّد الأول على الحزب الأول من القرآن الكريم، في تكملته في أوائل الشهر السادس من شهور سنة ألف وأربع مئة وسبع عشرة بتاريخ 6/ 6/ 1417 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلّم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين. انتهى المجلد الأول على الحزب الأول من تفسير حدائق الروح والريحان، ويليه المجلد الثاني وأوّله قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...} الآية. تم تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه ليلة السبت بعيد العشاء الموافق تاريخ 11/ 4/ 1420 هـ.

شعر العَبْدُ ذُو ضَجَرٍ والربُّ ذُو قدَرٍ ... والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والعِلْمُ مَقْسُوم والخَيْرُ أجْمعُ فيما اخْتار خالِقُنَا ... وفي اختيار سواه اللُّومُ والشُّوم آخر فَلَيْتَكَ تَحْلُو والحياةُ مَرِيْرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وبَيْني وبَيْنَ العَالَمِين خَرَابُ آخر فَزادِي قَلِيلٌ ما أُراه مُبلِّغي ... على الزادِ أبكي أم لِبُعْدِ مَسافَتي أتَيْتُ بأعمالٍ قِبَاحٍ رَدِيئَةٍ ... وَمَا في الوَرى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايتي

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ الصَّبْرُ مفتاحُ ما يُرَجَّى ... وكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُونُ وَرُبَّما نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قِيْل هَيْهَاتَ لا يَكونُ ومِنْ كلام الإِمام الشافعيِّ - رحمه الله تعالى -: إنَّما النَفْس كالزُّجَاجَةِ والعِلْـ ... ـمُ سِرَاجٌ وحِكْمةُ الله زَيْتُ فَإذَا أَبْصَرَت فَإنَّكَ حَيُّ ... وَإِذَا أظْلَمَتْ فَإنَّكَ مَيْتُ وقال ابنُ السيد: أخو العِلْم حيٌّ خالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَأوْصَالُه تَحْتَ التُّراب رمِيمُ وَذُو الجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ ماشٍ عَلَى الثَّرَى ... يُظَنُّ مِنَ الأحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيْمُ آخرُ تَعلَّم يا فَتَى فالجَهْلُ عارُ ... وَلاَ يَرْضَى بِهِ إلاَّ الحِمَارُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأوّلين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلّا في كتاب مبين. والصلاة والسلام على من أُوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشان، سيدنا محمد، الذي أجرى من مسجله ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم ببلاغته كُلَّ متكلّم مِنطيق، وفسَّر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلّاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممَّن تخلَّق بالقرآن في كُلّ آنٍ وزمانٍ، صلاة وسلامًا دائمين بدوام المدى والأوان. أمَّا بعد: فيقول العُبَيْد المعترف بذنبه وخَطاه، المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف النَّدى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلَّاءه، وأعاذه وإيَّاهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه، سميُّ محمد الأمين الهرريُّ. إنّي لمّا فرغْتُ من تفسير المجلّد الأول على الحزب الأوّل من القرآن الكريم .. عزمتُ إن شاء الله تعالى على الشروع في المجلّد الثاني على الحزب الثاني، وقد قصدت أن أخُصَّ كلَّ حزب من الأحزاب الستِّين بمجلَّدٍ، فيكون الكتاب ستين مجلّدًا، ولكن ما أدري ما سيفعل بي ربّي، وإنْ كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كُلُّ ذمير، وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كُلُّ أميرٍ، وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليلٌ، كالنَّيرين لغير كليلٍ، ومع خطر هذا الأمر فالأمد قصير، وفي العبد تقصيرٌ، وكَمْ ترى مِنْ تَحْرِيرٍ كاملٍ في التحرير

والتقرير، قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون، والأجل، أو بتطاول أيدي الزمان، فإنَّ الدنيا لا تصفو لشاربٍ، وإن كانت ماء الحيوان، وأيُّ وجودٍ لا ينسج عليه عناكب العاهات، وأيُّ نعيم لا يكدِّره الدهر، هيهات هيهات. اللهم كما وفَّقتني في الأوَّل خيرًا كثيرًا؛ فيسِّر لي الأمر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا للفوز بجنّات النعيم، بحقِّ كتابك الكريم، ذلك الحمد في الأولى والعُقبى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. والله أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}. المناسبة قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر تعنُّت اليهود، وعدم انقيادهم لأمر الله تعالى ومجادلتهم للأنبياء .. أردف ذلك بذكر بعض قبائحهم التي ارتكبوها، كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنّهم أحباب الله، وأنّ النار لن تمسَّهم إلّا أيّامًا معدودةً، وبدأ ذلك بتيئيس المؤمنين من إيمانهم؛ لأنّهم فُطِروا على الضلال، وجُبِلوا على العناد. قال أبو حيان: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ...} الآية، مناسبة ارتباط هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله تعالى لمَّا بيَّن أمر الفرقة الضالّة التي حرَّفت كتاب الله، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم، ثُمَّ بيَّن أمر الفرقة الثانية المنافقين، وأمر الثالثة المجادلة .. أخذ يُبيِّن أمر الفرقة الرابعة، وهي العامَّة وهي التي طريقها التقليد وقبول ما يقال لهم، قال أبو العالية، ومجاهد، وغيرهما: ومن هؤلاء

اليهود المذكورون، فالآية مُنبِّهة على عَامَّتِهم وأتباعِهم؛ أي: إنَّهم لا يُطْمَعُ إيمانُهم. انتهى. أسباب النزول قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...} الآية، نزلت في الأنصار (¬1)، كانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوارٌ ورضاعةٌ، وكانوا يودُّون لو أسلموا، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن جرير، عن السُّدّيّ قال: نزلت في ناسٍ من اليهود آمنوا ثُمَّ نافقوا، وكانوا يأتون المؤمنين من العرب بما تحدَّثُوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدِّثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليقولوا: نحن أحبُّ إلى الله منكم وأكرم على الله منكم، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت في أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مكتوبةً في التوراة: أَكْحَلُ أَعْيَنُ، رَبْعَةٌ، جَعْدُ الشعر، حَسَنُ الوجه، فَمَسَحُوا ذلك حسدًا وبغيًا، وقالوا: نجده طويلًا، أزرق، سَبِطَ الشعرِ. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك، عن ابن عباس قالوا: لن ندخل النار إلّا تَحِلَّة القسم الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلةً، فإذا انقضت انقطع عنّا العذاب، فنزلت الآية. قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول. (¬3) لباب النقول.

أنّه (¬1) لمَّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه؛ لأنَّ دينهم أقرب الأديان إلى دينهم، في تعاليمهم، ومبادئه، وأغراضه، فهم شركوهم في الاعتقاد بالتوحيد، والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّقٌ لما معهم. قصَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم، ما أزال به أطْماعهم وإياسهم من إيمانهم، بذكر ما يحدث من أسلافهم مع نبيِّهم موسى عليه السلام بَيْنَ آنٍ وآخر، من تمرُّدٍ وعنادٍ، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تِلْو الآية، ويحلُّ بهم من العقاب ما هم له أهلٌ، فيطلبون من موسى أن يدعو الله، ليرفع عنهم العذاب ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدِّق بك، ولا نطيع أوامرك حتى نسمع كلام الله، ومناجاته إيّاك، فاختار موسى بأمر الله تعالى، سبعين رجلًا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته حيث يناجي ربَّه، فسمعوا كلامه بطريقٍ نحن لا نعرفها، ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربَّه، وسمعوا أوامره ونواهيه. ثمَّ كان منهم أن حرَّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه، وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبتٌ عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدَّس. فلا عجيب إذًا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئتَ به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم، ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرِّفون، ويبدّلون، ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسّية تَتْرى بين يدي موسى عليه السلام، فأَحْرِ بهم أن يَجْحَدُوا دينًا دلائله عقليَّةٌ، وآياته الكبرى معنويَّةٌ، وهو القرآن الكريم، بِمَا اشتمل عليه من تشريعٍ فيه سهولةٌ وتيسيرٌ للناس، وفيه فصاحةٌ أعجزت فُصحاءَ العرب عن محاكاته، لجأُوا إلى السيف والسِّنان، بعد أن أعجزتهم الحجَّة والبرهان، ثم ذكر حالًا أخرى لعلمائهم هي: أنَّ علماءهم وقعوا في الحيرة ¬

_ (¬1) المراغي.

[75]

والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتَّبعونه؟ ولكن رُبّما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم، ولكن رُبّما كسدت سوقه وقلَّ أنصاره، وقالوا: من الخير كل الخير أن نُوافق كُلَّ حزبٍ نَخْلُو به، ونعَتِذرَ إلى الحزبِ الآخر إذا عَرَف ما كان منَّا، حتى يَتبيَّنَ اتّجاهُ ريحِ السفينة. أمَّا عامَّتهم: فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلّا ظُنونٌ أخذوها عن أسلافهم، دون أن يكون لديهم دليلٌ على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمَّى عِلْمًا، إنّما العلم ما كان عن حجّة وبرهان، ولا يقبل الله إلّا العلم الصحيح في عقائد الأديان. التفسير وأوجه القراءة 75 - والخطاب في قوله (¬1): {أَفَتَطْمَعُونَ} للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكان - صلى الله عليه وسلم -، شديد الحرص على الدعاء إلى الحق، وقبول الناس الإيمانَ منه، وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمرّدهم، فقصَّ الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع نبيّهم، مع مشاهدة الآيات الباهرة منه؛ تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يظهر من أهل الكتاب، في زمانه، من قلّة القبول، والاستجابة. والطَّمَعُ: تَعلُّقُ النفس بإدراك ما تُحِبُّ تعلُّقًا قويًّا، وهو أشدُّ من الرجاء. والهمزة فيه للاستفهام الإنكاريِّ الاستبعاديِّ، وهو حمل المخاطب على الإنكار، بأمر علم عنده نفيه مع استبعاده؛ أي: لإنكار الواقع واستبعاده، كما في قولك: أتضرب أباك، لا لإنكار الوقوع، كما في قولك: أأضرب أبي، داخلةٌ على محذوف يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أتسمعون أخبارهم، وتعلمون أحوالهم، فتطمعون بعد ذلك في إيمانهم. ومآل المعنى: أي: أَبَعْدَ أَنْ علمتم تفاصيلَ شؤونِهم المُؤيسَة، من إيمانهم تطمعون في: {أَنْ يُؤْمِنُوا} جميع اليهود أو علماؤهم، فإنّهم متماثلون في شدّة الشَّكيمة والأخلاق الذميمة، لا يتأتَّى من ¬

_ (¬1) روح البيان.

أخْلافِهم إلّا مِثْلُ ما أتى من أسلافهم، فلا تحزنوا على تكذيبهم، واللام في قوله: {لَكُمْ} لتضمين معنى الاستجابة؛ أي: أتطمعون في إيمانهم مستجيبين لكم، أو للتعليل؛ أي: في أن يُحْدِثُوا الإيمانَ لأجل دعوتكم إيّاهم، والمعنى (¬1): أي: أتعلمون وتسمعون أخبارهم، فتطمعون، وترجون أيُّها النبيُّ والمؤمنون في أن يؤمن هؤلاء اليهود بواسطتكم، ويستجيبوا لكم، ويصدِّقوا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، {و} الحال أنَّه {قد كان فريق} كائنٌ {مِنْهُمْ} أي: طائفةٌ ممن سلف من اليهود. والفريق: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، كالرهط؛ أي: والحال أنَّ جماعة منهم، وهم أحبارهم {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: يسمعون كلام الله في التوراة من موسى عليه السلام، ويقرؤونه بأنفسهم {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}؛ أي (¬2): يغيِّرونه ويبدِّلون معناه؛ أي: يغيِّرون ما فيها من الأحكام، كتغييرهم صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآية الرجم. وقيل: كان قومٌ من السبعين المختارين، سمعوا كلام الله حين كلَّم موسى بالطور، وما أمر به ونهى عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: (إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس). قال في "التيسير": الصحيحُ أنهم لم يسمعوا كلام الله بلا واسطةٍ، فإنَّ ذلك كان لموسى عليه السلام على الخصوص، لم يشركه فيه غيره في الدنيا. ومعنى يسمعون كلام الله؛ أي: التوراة من موسى بقراءته، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}؛ أي: من بعدما فهموه وضبطوه بعقولهم، ولم يبق لهم شبهةٌ في صحته؛ أي: يحرِّفونه من بعد تعقُّلهم، ومعرفتهم تأويله ومعناه بعقولهم؛ أي: لم يفعلوا (¬3) ذلك عن خطأ ونسيان، بل فعلوه عن تعمُّد {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنهم يعلمون أنّهم مبطلون، ومفترون كاذبون، وذلك كنعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكانت صفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: أكحل العين، ربعة القامة، جعد الشعر، حسن ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان. (¬3) العمدة.

[76]

الوجه، فكتبوا بدلها: طويلًا، أزرق العين، سبط الشعر، وكآية الرَّجْم بدَّلوها بالجَلْد، وغير ذلك. 76 - يقول سبحانه: كيف يؤمن هؤلاء وهم يقلّدون أولئك الآباء، فهم من أهل السوء الذين مضوا بالعناد، فلا تطمعوا في الإيمان منهم، {وَإِذَا لَقُوا} أي اليهود {الَّذِينَ آمَنُوا} من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {قَالُوا} أي: منافقوهم {آمَنَّا} كإيمانكم، وأنَّ محمدًا هو الرسول المُبشَّر به؛ أي: إذا رأى منافقوا اليهود المؤمنين قالوا لهم: {آمَنَّا} وصدَّقنا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبأنَّكم على الحق، وأن رسولكم هو المُبشَّر به في التوراة، وقرأ الجمهور (¬1): {لَقُوا} من لقى الثلاثي. وقرأ ابن السميقع: {لاقَوا} من باب فاعل الرباعي الذي هو بمعنى المجرد، فمعنى القراءتين هنا واحد. قال أبو حيان: ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفةً مُنْبئةً عن نوع آخر من قبائح اليهود، الذين كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاشفةً عمَّا أكنُّوه من النفاق، ويحتمل أن تكون جملةً حاليةً معطوفةً على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} الآية؛ أي: كيف يطمع في إيمانهم، وقد كان من أسلافهم من يحرِّف كلام الله، وهؤلاء سالكوا طريقتهم، وهم في أنفسهم منافقون يظهرون موافقتكم إذا لقوكم، وأنَّهم منكم، وهم في الباطن كفارٌ، فمن جمع بين هاتين الحالتين، من اقتدائهم بأسلافهم الضُّلَّال، ومنافقتهم للمؤمنين، لا يطمع في إيمانهم، والذين آمنوا هنا هم: أبو بكر، وعمر، وجماعةٌ من المؤمنين. قاله جمهور المفسّرين، وقال بعضهم: المؤمنون هنا: جماعة من اليهود، آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، والضمير في: {لَقُوا} لجماعةٍ من اليهود غير معيَّنة، باقين على دينهم، أو لجماعةٍ منهم أسلموا ثُم نافقوا، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة، ويتجسَّسُوا أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: ادخلوا المدينة، وأظهروا الإيمان، فإنّه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمنٌ. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَإِذَا خَلَا} أي: إذا مضى وذهب ورجع {بَعْضُهُمْ} الذين نافقوا؛ أي: إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين، ورجعوا من عندهم متوجِّهين ومنضمِّين {إِلَى بَعْضٍ} أي: إلى رؤسائهم الذين لم ينافقوا، بحيث لم يبق معهم غيرهم؛ أي: رجع (¬1) هؤلاء المنافقون من عند المؤمنين إلى رؤسائهم الذين لم ينافقوا، ولم يؤمنوا ظاهرًا، ككعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهما. {قَالُوا} أي: قال الرؤساء للمنافقين الذين جاءوا من عند المؤمنين موبِّخين، وعاتبين لهم على ما صنعوا {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} أي: أتحدّثون أيّها المنافقون، وتخبرون لأصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والهمزة للاستفهام الإنكاري المضمَّن للنهي؛ أي: لا تحدِّثوهم، يعني: المؤمنين. {بِمَا فَتَحَ الله} سبحانه وتعالى، وبيَّنه لكم في التوراة خاصّةً، من نعت النبيِّ المَبشَّر به في التوراة، والتعبير عنه بالفتح؛ للإيذان بأنَّه سرّ مكنون، وبابٌ مُغْلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ، والسلام في قوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} متعلقة بالتحديث (¬2)، لا بالفتح كما توهَّمه بعضهم، والضمير في به، لما فتح الله؛ أي: ليجادلوكم ويخاصموكم بما أخبرتموهم، بما فتح الله عليكم، ويحتجُّوا عليكم به، ويبكتوكم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الآخرة، أو في حكمه وكتابه، كما يقال: هو عند الله كذا؛ أي: في كتابه وشرعه، والمحدِّثون به، وإن لم يحوموا حول ذلك الغرض، وهو المحاجَّة، لكن فعلهم ذلك لمَّا كان مستتبعًا له ألبتة، جُعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهارًا لكمال سخافة عقلهم وركاكة آرائهم؛ أي (¬3): أتحدِّثون أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بما فتح الله عليكم في التوراة. وبيَّنه لكم، ليخاصموكم ويحتجّوا عليكم بإخباركم، فيقولوا لكم: قد أقررتم أنّه نبيٌّ حقٌّ في كتابكم، فلم لا تتبعونه، وذلك: أنَّ اليهود قالوا لأهل المدينة، حين مشاورتهم في اتّباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: آمنوا به، فإنّه نبيّ حقّ، ثُمَّ لام بعضهم بعضًا، فقالوا: أتحدِّثونهم بما فتح الله عليكم، لتكون لهم الحجَّة عليكم، عند ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن بتصرف.

ربّكم في الدنيا والآخرة. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخيّ العتابيّ، داخلةٌ على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تلاحظون فلا تعقلون الخطأ الفاحش، وهو أنَّ ذلك حجّة لهم عليكم، فالمنكَر عدم التعقُّل ابتداءً، أو تفعلون ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحه، حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه، فالمُنْكر حينئذٍ عدم التعقّل بعد الفعل. قال أبو حيان: قوله: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} {مَا} (¬1) موصولة، والضمير العائد عليها محذوف، تقديره: بما فتحه الله عليكم، وقد جوَّزوا في {مَا}: أن تكون نكرةً موصوفة، وأن تكون مصدريَّة؛ أي: بفتح الله عليكم، والوجه الأوَّل هو الأولى، والذي تحدثوا به هو ما تكلَّم به جماعةٌ من اليهود من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاله أبو العالية وقتادة، أو عُذِّب به أسلافهم، قاله: السدّيُّ، وقال مجاهد: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لبني قريظة: "يا إخوة الخنازير والقردة"، فقال الأحبار لأتباعهم: ما عُرِفَ هذا إلّا عندكم. وقال ابن زيد؛ كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكره ذلك أحبارهم، ونهوا عن الخلوة عنه. فعلى ما قاله أبو العالية: يكون الفتح بمعنى: الإعلام والإذكار؛ أي: أتحدِّثونهم بما أعلمكم الله به من صفة نبيّهم. ورواه الضحاك، عن ابن عباس. وعلى قول السدي يكون بمعنى: الحكم والقضاء؛ أي: أتحدِّثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاه من تعذيبهم. وعلى قول ابن زيد: يكون بمعنى: الإنزال؛ أي: أتحدِّثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة. وقال الكَلْبِيُّ: المعنى: بما قضى الله عليكم، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل المعنى: بما بيَّن الله لكم من أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصفته، وشريعته، وما دعاكم إليه من الإيمان به، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل المعنى: بما مَنَّ الله عليكم من النصر على عدوّكم، ومن تأويل كتابكم. والسلام في قوله: {ليحاجوكم} لام كي، والنصب بأن مضمرةٍ بعدها، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وهي جائزة الإضمار، إلاَّ إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها، وهي متعلِّقةٌ بقوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} فهي لام جرٍّ، وتُسمَّى لام كي، بمعنى: أنّها للسبب، كما أنَّ كي للسبب، ولا يعنون أنَّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصحّ التصريح بكي، فتقول: لكي أكرمك؛ لأنّ الذي يضمر إنَّما هو أنْ، لا كَيْ، وقد أجاز ابن كيسان، والسيرافي: أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن، وذهب الكوفيون: إلى أنَّ النصب بعده اللام؛ إنّما هو بها نفسها، وأنَّ ما يظهر بعدها من كي، وأن؛ إنَّما ذلك على سبيل التأكيد، وتحرير الكلام في ذلك مذكورٌ في مبسوطات كتب النحو فراجعها. انتهى. وذهب بعض المعربين: إلى أنَّ اللام تتعلَّق بقوله: فتح، وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المُحَاجَّة ليست علةً للفتح، إنّما المحاجة ناشئةٌ عن التحديث، والضمير في قوله: {بِهِ} عائدٌ (¬1) إلى ما في قوله: {بِمَا فَتَحَ الله}، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنَّ {مَا} مصدريّة؛ لأنَّ المصدريّة لا يعود عليها ضمير، وقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} معمولٌ لقوله {لِيُحَاجُّوكُمْ} والمعنى: ليحاجُّوكم به في الآخرة، فكنى بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} عن اجتماعهم بهم في الآخرة، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}، وقيل: معنى {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في ربّكم، فيكونون أحقَّ به، فتكون عند بمعنى: في، وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ليحاجُّوكم عند ذكر ربّكم، وقيل معناه: أنّه جعل المحاجَّة في كتابكم محاجَّةً عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا، وهو عند الله كذا بمعنى واحدٌ، وقيل: هو معمولٌ لقوله: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} عند ربّكم؛ أي: من عند ربّكم ليحاجُّوكم، وهو بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل: وهذا القول هو الصحيح؛ لأنّ الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى: حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديمٍ ولا تأخيرٍ إذا أمكن ذلك، وقد أمكن حمل قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} على بعض المعاني التي ذكرنا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[77]

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: ظاهره أنّه مندرج تحت قول من قال: أتحدّثونهم بما يكون حجّةً لهم عليكم؟ أفلا تعقلون! فلا تحدّثونهم بذلك. وقيل: هو خطابٌ من الله للمؤمنين؛ أي: أفلا تعقلون! أنَّ هؤلاء اليهود لا يؤمنون، وهم على هذه الصفات الذميمة من اتّباعِ أسلافهم المحَرِّفين كلامَ الله، والتقليدِ لهم فيما حرَّفوه، وتظاهرهم بالنفاق، وغير ذلك بما نُعِيَ عليهم ارتكابُهُ. وفي "الخازن" (¬1): نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس - رضي الله عنهما: - (إنّ منافقي اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لهم: آمنّا بالذي آمنتم به، وإنّ صاحبكم صادقٌ، وقوله حق، وإنّا نجد نعته في كتابنا)، قال تعالى ردًّا عليهم: 77 - {أَوَلَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: اللائمون، أو المنافقون، أو كلاهما {أَنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ}؛ أي: ما يخفون من التكذيب بمحمّد - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي: وما يظهرون من التصديق له - صلى الله عليه وسلم -، أو من إخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره، فيرتدعوا عن ذلك. والهمزة في قوله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ} للاستفهام التقريري، داخلةٌ على مقدّر ينساق إليه الذهن. والواو عاطفة ما بعدها على ذلك المقدَّر (¬2)، وضمير الفاعل للموبِّخين، والتقدير: أيلومونهم على التحديث بما ذكر مخافة المحاجة، ولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يسرون وما يعلنون؛ أي: بجميع ما يسرّونه وما يعلنونه، ومن ذلك إسرارهم الكفر، وإعلانهم الإيمان، فحينئذٍ يظهر الله للمؤمنين ما أرادوا إخفاءه بواسطة الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتحصل المحاجَّة والتبكيت، كما وقع في آية الرجم، وتحريم بعض المحرّمات عليهم، فأيُّ فائدةٍ في اللوم والعتاب؟ قال أبو حيان: قوله: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ} توبيخ من الله تعالى لهم (¬3)؛ أي: إذا كان علم الله محيطًا بجميع أفعالهم، وهم عالمون بذلك، فكيف يسوغ لهم أن ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) جمل. (¬3) البحر المحيط.

[78]

ينافقوا، ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه؟ فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأنّ الله عالم بذلك، والأولى حمل ما يسرّون وما يعلنون على العموم إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل: الذي أسرُّوه الكفر، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل: العداوة والصداقة. وقيل: قولهم لشياطينهم {إِنَّا مَعَكُمْ}، وقولهم للمؤمنين {آمَنَّا} وقيل: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتغيير صفته إلى صفة أخرى حتى لا تقوم عليهم الحُجّة. وقرأ ابن محيصن (¬1) (أو لا تعلمون) بالتاء، قالوا: فيكون ذلك خطابًا للمؤمنين، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية، ويحتمل أن يكون خطابًا لهم، وفائدته: التنبيه على سماع ما يأتي بعد، ثُمَّ أعرض عن خطابهم، وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالًا لهم، فيكون ذلك من باب الالتفات، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه. 78 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن اليهود رهْطٌ {أُمِّيُّونَ} لا يحسنون الكتْب، ولا يقدرون على القراءة جمع أمّيّ، والأُمِّيُّ: من لا يكتب ولا يقرأ، منسوبٌ إلى أمّة العرب، وهي الأمة الخالية عن العلم والقراءة، فاستعير لمن لا يعرف الكتابة والقراءة أو إلى الأُمّ؛ لأنّه على حالة ولادة أُمّه، وظاهر الكلام أنّها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه الآية، قاله ابن عباس. وقيل: في المجوس، قاله عليُّ بن أبي طالب. وقيل: في اليهود والمنافقين، وقال عكرمة، والضحاك: في نصارى العرب، فإنَّهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل: في قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا أمّيِّين؛ لجحودهم الكتاب، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئًا، والقول الأوّل هو الأظهر؛ لأنَّ سياق الكلام إنما هو مع اليهود، فالضمير لهم، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة: {أُمِّيُّونَ} بتخفيف الميم؛ أي: ومن (¬2) اليهود جهلةٌ لا يكتبون ولا يقرؤون، {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ}؛ أي: لا يعرفون التوراة بكتابةٍ ولا قراءةٍ، وطريقتهم التقليد، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة.

{إِلَّا أَمَانِيَّ}؛ أي (¬1): إلا ما هم عليه من أمانيَّ وأكاذيب، وأحاديث مُختلقَةٍ يسمعونها من كبرائهم، والأمانيُّ جمع أُمنيَّةٍ بتشديد الياء فيهما وبتخفيفها فيهما، وهي في الأصل: ما يُقدِّره الإنسان في نفسه من مُنًى إذا قدَّر، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يتمنَّى، وعلى ما يقرأ، والاستثناء (¬2) فيه منقطعٌ؛ لأنّها ليست من جنس الكتاب؛ أي: لكن الشهوات الباطلة ثابتةٌ عندهم، وهي المفتريات من تغيير صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّهم لا يعذَّبون إلّا أيامًّا معدودة، وأنَّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنّ الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ويرحمهم، ولا حُجَّة لهم في ذلك، والمعنى؛ أي: لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدًا من المحرّفين، أو مواعيد فارغة سمعوها منهم، من أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودًا، إلى غير ذلك. وقيل المعنى: إلّا ما يقرؤون قراءة عارية من معرفة المعنى، وتقدّم لك قريبًا أنّ الاستثناء هنا منقطع؛ لأنّ الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو (¬3) أحد قسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجَّهُ عليه العامل. ألا ترى أنَّه لو قيل: لا يعلمون إلّا أماني لكان الكلام مستقيمًا، وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان: أحدهما: النصب على الاستثناء وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني؛ الاتباع على البدل بشرط التأخُّر وهي لغة تميم، فنصب أمانيّ هنا يصحُّ من الوجهين. والمعنى: إلّا ما هم عليه من أمانيِّهم، وأمانيُّهم أنّ الله يعفو عنهم، ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، إلى غير ذلك ما مرّ، أو ما يُمنِّيم أحبارهم من أنَّ النار لا تمسُّهم، إلّا أيّامًا معدودة، أو لا يعلمون إلّا أكاذيب مختلقةً سمعوها من علمائهم نقلوها على التقليد، قاله ابن عباس، ومجاهد، واختاره ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

الفرَّاء. وقيل معناه: لا يعلمون إلّا تلاوةً؛ أي: لا يعلمون فقه الكتاب، ومعناه: إنّما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قال أبو مسلم: حمله على تمنِّي القلب أولى؛ لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}. وقرأ الجمهور (¬1): {أَمَانِيَّ} بالتشديد. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وابن جمَّاز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو: {أَمَانِيَّ} بالتخفيف، جمعه على أفاعل، ولم يعتدَّ بحرف المدّ الذي في المفرد. قال أبو حاتم: كُلُّ ما جاء من هذا النحو واحده مشددٌ فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل: أثافي، وأغاني، وأماني، ونحوها. قال الأخفش: هذا كما يقال: في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح. وقال النحَّاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال: وَهَلْ رَجَّعَ التَّسْلِيمَ أوْ يَكْشِفُ العَمَى ... ثَلاثُ الأثافِي والرُّسُومُ البَلاقِعُ {وَإِنْ هُمْ} (¬2)؛ أي: وما هم في جحد نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وغيره ممَّا يختلقونه {إِلَّا يَظُنُّونَ} أي: إلّا ظانُّون ظنًّا وتوهُّمًا لا أصل له فيجحدون نبوته بالظنّ، وليسوا على يقين، إلّا ما سمعوا من المحرِّفين أحبارهم، والمعنى؛ أي: ما هم إلّا قومٌ قصارى أمرهم الظنُّ والتقليد من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم، فأنَّى يُرْجَى منهم الإيمان المُؤسَّس على قواعد اليقين. قال أبو حيان: و {إِنْ} (¬3) هنا هي: النافية بمعنى ما، و {هُمْ} مرفوع بالابتداء، و {إِلَّا يَظُنُّونَ} في موضع الخبر وهو من الاستثناء المفرَّغ، وإذا كانت إن نافية فدخلت على المبتدأ والخبر لم تعمل عمل ما الحجازيّة؛ لانتقاض نفيها هنا بإلا الاستثنائيّة، ومن أجاز شَرَطَ نَفْيَ الخبرِ وتأخيرَهُ، والصحيح أنّه لا يجوز إعمالها؛ لأنّه لم يحفظ من ذلك إلا بيتٌ نادرٌ، وهو قوله: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[79]

إنْ هُو مُسْتَوْلِيًا عَلَى أحدِ ... إلّا عَلَى أضْعَفِ المَجَانِين وأتى بالخبر فعلًا مضارعًا ولم يأت باسم الفاعل؛ لأنّه يدلُّ على حدوث الظنّ وتجدده لهم شيئًا فشيئًا، فليسوا ثابتين على ظنّ واحد، بل يتجدَّد لهم ظنونٌ دالةٌ على اضطراب عقائدهم، واختلاف أهوائهم. وفي هذه الآية (¬1): دليلٌ على أن المعارف كسبيَّةٌ، وعلى بطلان التقليد، وعلى أنّ المغترَّ بإضلال المُضِلّ مذمومٌ، وعلى أنَّ الاكتفاء بالظنّ في الأصول غير جائز، وعلى أنَّ القول بغير دليل باطلٌ، وعلى أنَّ ما تساوى وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلّا بدليل سمعيّ، وتمسَّك بها أيضًا منكروا القياس وخبر الواحد؛ لأنَّهما لا يفيدان العلم. ثُمَّ ذكر الله سبحانه وتعالى، جريمة هؤلاء الرؤساء المُضلين الذين أضلُّوا العوامَّ، 79 - فقال: {فَوَيْلٌ}؛ أي: عذابٌ شديد، أو وادٍ في جهنّم، والويل كلمةٌ يقولها كُلُّ مَنْ وقع في هلكة بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب؛ أي: عقوبةٌ عظيمةٌ وهلكةٌ شديدة، أو هو وادٍ في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا، قبل أن يبلغ قعره، كما روي عن أبي سعيد الخدريِّ. وقال سعيد بن المسيّب إنه وادٍ في جهنّم لو سُجّرت فيه جبال الدنيا، لذابت من شدّة حرّه. رواه الترمذي وغيره مرفوعًا. وهو مبتدأ خبره ما بعده، وسوَّغ الابتداء به مع كونه نكرة؛ ما فيه من معنى الدعاء، إذ الدعاء أحد المسوغات للابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغًا، كما هو مبسوط في كتب النحو؛ أي: فعذابٌ شديدٌ وعقوبةٌ عظيمة كائنة {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ}؛ أي: يُحرِّفون التوراة عمَّا أنزلت عليه، ويكتبونه كتابةً مختلقةً من عند أنفسهم موافقةً لهواهم، وهم أحبار اليهود، وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيدٌ؛ لأنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ أو لأنّه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب، فقال: {بِأَيْدِيهِمْ} لرفع هذه الشُّبهة، والمراد (¬2) بالذين يكتبون الكتابَ اليهودُ، وذلك أنَّ رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم، وزوال رياستهم حين قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) خازن وأبو سعود.

الإيمان به، فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيَّرُوها، وكانت صفته فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعةً؛ أي: متوسِّط القامة، فغيروا ذلك وكتبوا مكانه: طويلٌ أزرق العينين، سبط الشعر؛ أي: جعده، وكانوا إذا سألتهم سفلتهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا، فيجدونه مخالفًا لصفته - صلى الله عليه وسلم - فيكذبونه. والكتابة معروفة ويقال: أوّل من كتب بالقلم إدريس عليه السلام. وقيل: آدم أبو البشر عليه السلام. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدلُّ على خلاف صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبثُّوها في سفهائهم، وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل، وصار سفهاؤهم ومن يأتيهم من مشركي العرب إذا سألوهم عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدَّلة المغيَّرة، ويقرؤونها عليهم، ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا بها ثمنًا قليلًا. وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم إذا آمن الناس كُلُّهم، فجاؤوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها من التوراة وكتبوا بأيديهم كتابًا، وحلَّلوا فيه ما اختاروا، وحرَّموا ما اختاروا. وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} قال أبو حيان: تأكيدٌ يَرْفَعُ توهُّمَ المجاز؛ لأنّ قولك: زيد يكتب، ظاهره أنّه يباشر الكتابة، ويحتمل أن يُنسب إليه على طريقة المجاز، ويكون آمرًا بذلك، كما جاء في الحديث: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب)، وإنّما المعنى أمر بالكتابة؛ لأنّ الله تعالى قد أخبر أنّه النبيُّ الأمّيُّ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} ونظير هذا التأكيد {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} و {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقوله: نظَرْتَ فلم تَنْظُر بَعْينيك مَنْظرًا فهذه كلَّها أُتى بها؛ لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ ولرفع المجاز الذي كان يحتمله، وفي هذا التأكيد أيضًا تقبيحٌ لفعلهم إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم واجترحوه بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ} لأتباعهم (¬1) وسفلتهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قُرىء لهم، ومعمول ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

القول هذه الجملة التي هي قوله: {هَذَا} المحرَّف هو الذي أنزل {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى في التوراة، وقوله: {لِيَشْتَرُوا} علة في القول وهي لام كي، وهي مكسورة؛ لأنّها حرف جرّ فيتعلَّق بيقولون. وبنو العنبر يفتحون لام كي، قاله مكّيٌّ في "إعراب القرآن" له، وقد أبعد من قال: إنها متعلِّقة بالاستقرار، وقوله: {بِهِ} متعلّق بقوله: {لِيَشْتَرُوا}، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو المكتوب المحرَّف؛ أي: يقولون هذا المحرَّف من عند الله، ليأخذوا لأنفسهم بمقابلة المحرف من سفلتهم، {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا لا يُعْبأَ به من الدنيا، وهو ما أخذوه من الرُّشَا في مقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل الزائغ. وإنّما عبَّر عن (¬1) المشترى الذي هو المقصود بالذات في عقد المعاوضة، بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه؛ إيذانًا بتعكيسهم، حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة، والوسيلة مقصودة بالذات، وإنّما وصفه بالقلّة؛ إمّا لفنائه وعدم ثوابه، وإمّا لكونه حرامًا؛ لأنّ الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله تعالى. كذا في "تفسير القرطبي". وقد جمعوا (¬2) في هذا الفعل أنّهم ضلوا وأضلُّوا، وكذبوا على الله، وضمُّوا إلى ذلك حُبَّ الدنيا، وهذا الوعيد مرتَّب على كتابة الكتاب المحرَّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى وكلاهما منكرٌ، والجمع بينهما أنكر، وهذا يدلُّ على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي {فَوَيْلٌ لَهُمْ}؛ أي: العقوبة العظيمة ثابتةٌ لهم {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من أصل كتابهم إيّاه {وَوَيْلٌ لَهُمْ}؛ أي: عذابٌ شديد حاصلٌ لهم {مِمَّا يَكْسِبُونَ}؛ أي: من أصل كسبهم وأخذهم الرشوة، وعملهم المعاصي، وأصل الكسب: الفعل لجر نفعٍ أو دفع ضرٍّ، ولهذا لا يوصف به سبحانه وتعالى. وكتابتهم (¬3) مقدّمةٌ نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرَّر الويل في كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

واحد منهما؛ لئلّا يتوهم أنَّ الوعيد هو على المجموع فقط، فكل واحد من هذين متوعَّد عليه بالهلاك، وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية، وقيل المراد: بما يكسبون الأعمال السيّئة، والمعنى: فويلٌ لهم لأجل ما كتبته أيديهم من الكتاب المحرَّف، وويل لهم لأجل ما يصيبونه ويأخذونه من سفلتهم، ومن الرُّشا والحرام على تحريفهم. وفي الآيات إشاراتٌ (¬1): الأولى: أنَّ علم الرجل، ويقينه، ومعرفته، ومكالمته مع الله لا يفيده الإيمان الحقيقيّ، إلّا أن يتداركه الله سبحانه بفضله ورحمته، قال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وأنَّ الله تعالى كلَّم إبليس وخاطبه بقوله: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وما أفاده ذلك الإيمان الحقيقيُّ، إذ لم يكن مؤيَّدًا من الله بفضله ورحمته، ولم يبق على الإيمان بعد العيان، فكيف يؤمن بالبرهان. والثانية: أنَّ العالم المعاند، والعاميَّ المُقلِّد سواءٌ في الضلال؛ لأنَّ العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكنٌ من العلم، وأنَّ الدين ليس بالتَّمَنِّي، فالذين ركنوا إلى التقليد المحض واغترُّوا بظنونٍ فاسدةٍ، وتخميناتٍ مبهمةٍ، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلّا قراءتها دون معرفة معانيها، وإدراك أسرارها وحقائقها، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدّعي الإِسلام بلا معرفة قواعده، وامتثال مأموراته واجتناب منهيّاته، فالمدَّعي والمُتمنِّي عاقبتهما خسرانٌ وضلالٌ، وحسرةٌ وندامة، ووبال وأنكال. والثالثة: أنَّ من بدَّل، أو غيَّر، أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخلٌ في الوعيد المذكور، وقد حذَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته عن ذلك؛ لما علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين ¬

_ (¬1) روح البيان.

[80]

وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، كلّها في النار إلّا واحدةً". فحذَّرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله، أو سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو سنّة خلفائه، فيضلُّوا به الناس، وقد وقع ما حذره، وشاع، وكثر، وذاع، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. فعلى العاقل أن يجتهد في الوصول إلى الحق، ويتخلَّص من الموهوم الباطل، ولا يغترَّ بظواهر الحالات غافلًا عن بطون الاعتبارات، فإنَّ طريق الحق أدقُّ من كُلِّ دقيقٍ، وماءٍ عَمِيقٍ، وفجٍّ سحيقٍ، وأجهلُ (¬1) الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التي لا شكّ فيها، لظنِّ ما عند الناس من صلاحية حاله. قال الحارث المحاسبيُّ رحمه الله تعالى: الراضي بالمدح الباطل كمن يهزأ به، ويقال له: إنّ العذرة التي تخرج من جوفك لها رائحةٌ كرائحة المسك، وهو يفرح ويرضى بالسُّخرية به، فالعاقل لا يغترُّ بمثله، بل يجتهد إلى أن يصل إلى رضا ربّه، ويفتح له باب قربه بأن يكون سمعه، وبصره، ولسانه، ورجله، ويده التي يبطش بها، فويلٌ لواعظٍ تكبر وافتخر بتقبيل الناس يده، ورأى نفسه خيرًا من السامعين، ويتقيَّد بالمدح والذمّ، اللهم إلّا أن يخرج ذلك من قلبه، والمعيار مساواة المقبِّل، واللَّاطم عنده، بل رجحان اللاطم والضارب عنده. قال الجُنيد البغداديُّ في مجلس وعظه: لو لم أسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر لما اجترأت على الوعظ، فأنا ذلك الرجل الفاجر. اهـ. ولمَّا أوعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار عند تكذيبهم إيّاه 80 - {قَالُوا}؛ أي: قالت اليهود زعمًا منهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ}؛ أي: لن تصيبنا النار، ولن تصل إلينا في الآخرة {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}؛ أي: أيامًا قلائل محصورةً يسهل عدُّها قدر سبعة أيّام، فإنّهم يقولون: إنّ أيّام الدنيا سبعة آلاف سنة، فنعذَّب مكان كُل ألف سنةٍ يومًا واحدًا، أو قدر أربعين يومًا مقدار عبادة آبائهم العجل، ثم يزول عنّا العذاب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال أبو منصور - رحمه الله تعالى -: تُصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذي عصوا فيه، وهم لم يروا التعذيب إلّا على قدر وقت العصيان، أو كانوا لا يرون التخليد في النار كالجهميِّ، أو لأنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحبّاؤه فلا نعذَّب أبدًا، بل نُعذَّب تعذيب الأب ابنه، والحبيب حبيبه في وقت قليل ثم يرضى. وهذا منهم باطل، وعقوبة الكفر مؤبَّدة، وثواب الإيمان كذلك؛ لأنَّ من اعتقد دينًا إنّما يعتقده للأبد، فعلى ذلك جزاؤه للأبد. وروي أنَّ سبب (¬1) نزول هذه الآية: أنّهم زعموا أنّهم وجدوا في التوراة مكتوبًا: إنَّ ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالو: إنّما نعذّب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنّم وتهلك. روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ اليهود من أهل النار" فقالوا: نحن، ثُمَّ تخلفوننا أنتم، فقال: "كذبتم لقد علمتم أنَّا لا نخلفكم" فنزلت هذه الآية. والضمير في قوله (¬2): {وَقَالُوا} عائد على الذين يكتبون الكتاب، جمعوا إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم على أنّه من عند الله، الإخبار بالكذب البحت عن مدّة إقامتهم في النار. فإن قلت (¬3): لِمَ قال هنا {مَعْدُودَةً} بالإفراد، وفي آل عمران {معدودات} بالجمع؟. قلت: إشارةً إلى الجمع بين الأصل والفرع، إذ الأصل في الجمع بالألف والتاء: إذا كان واحده مذكّرًا أن يقتصر في الوصف على تأنيثه مفردًا، كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)} وقد يقال: (سرر مرفوعات) على الجمع، فهو فرعٌ عن الأول، فذكر في البقرة على الأصل؛ لكونها أوّل، وفي آل عمران على الفرع؛ لكونها آخرًا، ثُمَّ قال تعالى رَدًّا عليهم وتكذيبًا لهم: {قُلْ} لهم يا محمد! ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) فتح الرحمن.

تبكيتًا لهم وتوبيخًا {أَتَّخَذْتُمْ} بقطع الهمزة؛ لأنّها همزة استفهام للتوبيخ، والهمزة المجلوبة للوصل حذفت للدرج. وفي "البيضاوي": قرأ ابن كثير، وحفصٌ: بإظهار الذال، والباقون بإدغامها. انتهى؛ أي: اتّخذتم وجعلتم {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه {عَهْدًا} وموثقًا ووعدًا بما تزعمون، فإنّما تدَّعون لا يكون إلّا بناءً على وعد قويٍّ، ولذلك عبَّر عنه بالعهد؛ أي: هل جعلتم عند الله موثقًا أن لا يعذبكم إلّا هذه المدة، {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}؛ أي: فإذًا لن يخلف الله وعده إيّاكم على ذلك؛ لأنَّ الله لا يخلف الميعاد. وعبارة "الروح" هنا قوله: {فَلَن} الفاء (¬1) فصيحةٌ معربة عن شرط محذوف؛ أي: إن اتخذتم عند الله عهدًا وأمانًا، فلن يخلف الله عهده الذي عهده إليكم؛ يعني: ينجز وعده ألبتة؛ والإخلاف نقض العهد، فتكون جملة الشرط معترضة بين المعطوف الذي هو قوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} الخ، والمعطوف عليه الذي هو قوله: {أَتَّخَذْتُمْ} قال الإِمام أبو منصور: لهذا الكلام وجهان: أحدهما: هل عندكم خبرٌ عن الله تعالى؟ أنّكم لا تعذَّبون أبدًا لكن أيامًا معدودة، فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده ووعده. والثاني: ألكم عند الله أعمالٌ صالحةٌ، ووعدكم بها الجنة؟ فهو لا يخلف وعده {أَمْ تَقُولُونَ} ذلك مفترين {عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقوعه؛ أي: أم لم تتَّخذوا من الله عهدًا، بل تتقولون على الله الباطل والكذب، وأم معادلةٌ لهمزة الاستفهام، بمعنى: أيُّ الأمرين المتساويين كائنٌ على سبيل التقرير؟ لأنَّ العلم واقعٌ يكون أحدهما. خلاصته: إن لكم عنده عهد فلا ينقض، ولكنّكم تخرصون وتكذبون. روي أنهم إذا مضت تلك المدة عليهم في النار، يقول لهم خزنة جهنّم: يا أعداء الله! ذهب الأجل وبقي الأبد، فأيقنوا بالخلود. انتهت. والمعنى: قل لهم يا محمد (¬2) أعَهِد إليكم ربُّكم بذلك، ووعدكم به وعدًا حقًّا؟ إن كان كما تقولون، فلن يخلف الله وعده، أم أنتم تقولون على الله شيئًا لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[81]

علم لكم به، فإنَّ مثله لا يكون إلّا بوحي يبلِّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتًا على الله وجراءةً عليه؛ لأنَّه قولٌ بلا علم، فهو كفر صراحٌ. وخلاصة هذا (¬1): إنّ مثل ذلك القول لا يصدر إلّا عن أحد أمرين: إمّا اتخاذ عهدٍ من الله، وإمّا افتراءٌ وتقوُّلٌ عليه، وإِنْ كان اتخاذُ العهد لم يحصل، فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدَّعون أنَّكم أبناء الله وأحبّاؤه. 81 - ثُمَّ ردَّ الله سبحانه وتعالى على اليهود قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} بقوله: {بَلَى} تمسُّكم النار، وتخلدون فيها أبدًا، و {بَلَى} (¬2) إثباتٌ لما بعد النفي، فهو جواب النفي، ونعم: جواب الإيجاب؛ أي إنّكم قلتم: لن تمسَّنا النار سوى الأيام المعدودة، بلى تمسُّكم أبدًا بدليل {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وبيَّن ذلك بالشرط والجزاء، وهما قوله: {مَن ...} إلخ. ومن يحتمل أن تكون موصولة، ودخلت الفاء حينئذٍ في الخبر، لما في المبتدأ من العموم؛ لشبه الموصول بالشرط في العموم {كَسَبَ} وعمل وارتكب {سَيِّئَةً} من السيئات يعني: كبيرةً من الكبائر، والمراد بالسيئة هنا: الكفر والشرك، قاله ابن عباس، ومجاهد. والكسب: استجلاب النفع، والاكتساب: استجلاب الضرّ. واستعمال الكسب هنا في استجلاب الضرّ، كالسيئة، على سبيل التهكُّم، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} تلك واستولت عليه من جميع جوانبه، من قلبه، ولسانه، ويده، كما يحيط العدوُّ، وهذا إنّما يتحقق في الكافر، ولذلك فسَّر السلف السيئة بالكفر {فَأُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات، وإحاطة خطاياهم بهم، أشير إليهم بعنوان الجمعيَّة؛ مراعاةً لجانب المعنى في كلمة {مَن} بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا؛ لما يستوجبها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات الله، وتحريف كلامه، والافتراء عليه، وغير ذلك، وهو خبر أولئك، والجملة خبر للمبتدأ {هُمْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

فِيهَا}؛ أي: في النار {خَالِدُونَ}؛ أي: دائمون، فأنى لهم التَفَضِّي منها بعد سبعة أيّام، أو أربعين يومًا كما زعموا، والجملة في حيِّز النصب على الحالية؛ لورود التصريح به في قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ}، ولا حُجَّة في الآية على خلود صاحب الكبيرة؛ لما عرفت من اختصاصها بالكافر، والمراد بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقةً لا مَن دخلها، ثُمَّ خرج منها. وقرأ الجمهور (¬1): {خَطِيئَتُهُ} بالإفراد، ونافع: {خطيئاته} جمع سلامة، وقرأ بعض القرَّاء: {خطاياه} جمع تكسير. وقريء: {خطيَّته} و {خطيَّاته} على القلب والإدغام فيهما، والمعنى: أنَّها أخذته من جميع جوانبه، ومعنى الإحاطة به: أنّه يوافي على الكفر والإشراك، هذا إذا (¬2) فسرت الخطيئة بالشرك، ومن فسَّرها بالكبيرة، فمعنى الإحاطة به: أن يموت وهو مُصِرٌّ عليها، فيكون الخلود على القول الأوّل، المراد به الإقامة لا إلى انتهاء، وعلى القول الثاني المراد به: الإقامة دهرًا طويلًا؛ إذ مآله إلى الخروج من النار. قال الكلبيُّ: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصرَّ عليها. وقال الربيع: مات على الشرك. وقال الحسن: كل ما توعَّد الله عليه بالنار، فهو الخطيئة المحيطة. ومعنى الآية: ليس (¬3) الأمر كما ذكرتم، بل تمسُّكم النار وتمسُّ غيركم دهرًا طويلًا، فكلُّ من أحاطت به خطيئته، وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه، واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدًا فيها أبدًا؛ لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب. وعبارة "العمدة" (¬4): {بَلَى} تمسُّكم النار، وتخلدون فيها أبدًا {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي عمل شركًا {وَأَحَاطَتْ}؛ أي: أحدقت {بِهِ خَطِيئَتُهُ} وذنوبه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) العمدة.

[82]

وغمرته من جميع جوانبه، وسدَّت عليه مسالك النجاة بأن مات على تركه، فأمَّا إذا مات مؤمنًا، فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه، فلا يكون الذنب محيطًا به، فلا يتناوله نصُّ الآية، فحينئذٍ فالمراد بالخطيئات: أنواع الكفر المتجدِّدة في كلّ وقت، {فَأُولَئِكَ} الذين كسبوا السيئات، وأحاطت بهم خطيئاتهم، {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها في الآخرة، كما أنَّهم ملازمون أسبابها في الدنيا 82 - {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: دائمون فيها، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله تعالى، وصدَّقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: وأطاعوا الله تعالى بأداء فرائضه، واجتناب محارمه {أُولَئِكَ} الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}؛ أي: ملازموا الجنّة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: مخلَّدون فيها، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. والمعنى (¬1): أي وأمَّا الذين صدَّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال، فأدُّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي، فأولئك جديرون بدخول الجنّة؛ جزاءً وفاقًا على إخباتهم لربّهم، وإنابتهم إليه، وإخلاصهم له في السرّ والعلن. وفي هذا دليلٌ على أنَّ دخول الجنّة منوطٌ بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح معًا، كما روي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لسفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - وقد قال له: يا رسول الله؛ قل لي في الإِسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" رواه مسلم. وقد جرت سنّة الله في القرآن، أن يَشْفَع الوعد بالوعيد؛ مراعاةً لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارةً، والترهيب أخرى، والتبشير مرّة، والإنذار أخرى؛ إذ باللُّطف والقهر يَرْقَى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله، وحسن توفيقه ورضوان الله أكبر. وأتى (¬2) في الشقّ الأوّل؛ أعني: أصحاب النار، بالفاء دون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

[83]

الشقّ الثاني؛ أعني: أصحاب الجنّة؛ إيذانًا بتسبُّب الخلود في النار عن الشرك، وعدم تسبّب الخلود في الجنّة عن الإيمان، بل بمحض فضل الله تعالى. 83 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوراة، والميثاق: العهد المؤكَّد باليمين، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرةٍ، وعهد نبوّةٍ ورسالةٍ، وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم وجعل على لسان موسى، وغيره من أنبيائهم. قال أبو السعود: وهذا شروع في تعداد بعضٍ آخر من قبائح أسلاف بني إسرائيل، بما ينادي بعدم إيمان أخلافهم. وكلمة {إِذْ} نصبت بإضمار فعل خوطب به اليهود الموجودون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ توبيخًا لهم بسوء صنيع أسلافهم، تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! الموجودين في عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل الموجودين في زمن موسى عليه السلام، الذين هم أسلافكم وأصولكم، أو خوطب به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون؛ ليؤدِّيهم التأمُّل في أحوالهم إلى قطع الطمع في إيمان أخلافهم؛ لأنَّ قبائح أسلافهم ممَّا يؤدِّي إلى عدم إيمانهم، ولا تلد الحيّة إلّا الحيَّة، ومن ها هنا قل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه؛ أي: واذكروا يا أيها الرسول والمؤمنون! حين جعلنا عليهم الميثاق. ثم بيَّن الميثاق، فقال: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: بأن لا تعبدوا إلّا الله تعالى، ولا تشركوا به شيئًا؛ أي: فاعبدوه دون غيره؛ لأنّه المستحقّ للعبادة، فلمّا أسقط (أن) رفع تعبدون لزوال الناصب، أو على أن يكون إخبارًا بمعنى النهي؛ أي: لا تعبدوا إلّا الله، ولا تجعلوا الألُوهيَّة إلّا لله، كأنَّ المخاطب سيمتثل النهي حتمًا، ويسارع إلى الترك، فيخبر به الناهي، وقيل: إنّه جواب قسم دلَّ عليه المعنى، كأنَّه قيل: واستحلفناهم، أو قلنا بالله لا تعبدون إلّا الله، وقد نهوا عن عبادتهم غير الله تعالى، مع أنّهم كانوا يعبدون الله خوفًا من أن يشركوا به سواه، من ملك، أو بشر، أو صنم بدعاء، أو غيره من أنواع العبادات، ودين الله على ألسنة الرسل جميعًا، فيه الحثُّ على عبادة الله وعدم

الشرك بعبادة أحد سواه {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، فالتوحيد عماده الأمران معًا، وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. وقرأ نافع (¬1)، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف العاشر، بالتاء؛ حكايةً لما خوطبوا به. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة؛ لأنَّ (¬2) بني إسرائيل اسم ظاهر، والأسماء الظاهرة من قبيل الغيب، ومعناه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا يعبدوا، فلمَّا حذفت أن رفع الفعل، كما مرّ. وقرأ عبدُ الله، وأُبيٌّ: {لا تعبدوا} بصريح النهي، وهذه قراءة شاذة، {و} تحسنون {بالوالدين إحسانًا} على لفظ تعبدون؛ لأنّه إخبارٌ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانًا على معناه؛ لأنّه إنشاءٌ؛ أي: وأحسنوا بالوالدين، وإنْ عَلَيا إحسانًا كثيرًا؛ أي (¬3): برًّا، وعطفًا، ورحمةً لهما، ونزولًا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى، ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه ولا يؤذيهما ألبتة، وإن كانا كافرين، بل يجب عليه الإحسان إليهما، ومن الإحسان إليهما. أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين، يأمرهما بالمعروف بالرفق واللين من غير عُنْفٍ. وإنّما عطف (¬4) برّ الوالدين على الأمر بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ شكر المنعم واجبٌ، ولله على عبده أعظم النعم؛ لأنّه أوجده بعد العدم، فيجب تقديم شكره على شكر غيره، ثُمَّ إنّ للوالدين على الولد نعمةً عظيمة؛ لأنّهما السبب في وجوده، ولهما عليه حقُّ التربية أيضًا، فحقُّهما يلي حقّ المنعم بالوجود الحقيقيِّ. وقد جاء في التوراة: أنَّ من يسبَّ والديه يقتل. والحكمة في البرّ بهما: أنّهما قد بذلا للولد وهو صغير كُلَّ عنايةٍ وعطفٍ، بتربيته، والقيام بشؤونه حين كان عاجزًا ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) النسفي. (¬3) الخازن. (¬4) جمل.

ضعيفًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذٍ مكافأتهما جزاءً وفاقًا لما صنعا؟! {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. ولِحُبِّ الوالدين لولدهما أسبابٌ: 1 - الحنان الفِطريُّ الذي أودعه الله فيهما، إتمامًا لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدَّره في سابق علمه. 2 - التفاخر بالأبناء، كما قال ابن الروميِّ: وَكَمْ أبٍ قَدْ عَلاَ بابْنٍ ذُرَى شَرَفِ ... كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ الله عَدْنَانُ 3 - الأمل في الاستفادة منهما مالًا وعوْنًا على المعيشة، وهذا الحبُّ لا يحتاج إلى ما يُقَرِّبُهْ، ويُوثِقُ صلته، ومن ثَمَّ ترك القرآن النصَّ عليه {و} أحسنوا بـ {ـذي القربى} أو وتحسنون بـ {ـذي القربى}؛ أي: بصاحب القرابة لكم، والقربى مصدر، كالرُّجعى بمعنى القرابة، بأن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقَّه؛ لأنَّ الإحسان إليهم ممَّا يُقوِّي الروابط بينهم. أحسن إلى الناسِ تَسْتَعْبِد قُلُوبهم ... فَطالمَا اسْتَعْبَدَ الإنْسَانَ إحسانُ فما الأُمةُ إلّا مجموعة الأُسَر والبُيوت، فصلاحُهَا بصلاحها، وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمُّة له، ومَنْ قطع لُحمة النَّسب، فكيف يصل ما دونها؟ وكيف يكون جُزْءًا من الأمّة؟ يسرُّه ما يسرُّها، ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرّتها مضرَّته. ونظام الفطرة (¬1) قاضٍ بأنَّ صلة القرابة أَمْتَنُ الصِلات، وجاء الدين حاثًّا عليها، مؤكِّدًا لأوَاصِرها، مقوِّيًا لأركانها، مقدِّمًا لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة، وعَطَف على برِّ الوالدين بر ذوي القربى؛ لأنَّ حقَّ القرابة تابعٌ لحقّ الوالدين، والإحسان إليهم إنّما هو بواسطة الوالدين {و} أحسنوا بـ {اليتامى} أو وتحسنون إلى {اليتامى}، بأن (¬2) تتعطَّفوا عليهم بالرأفة والرحمة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) العمدة.

ذكورًا كانوا أو إناثًا، جمع يتيم، كنديمٍ وندامى، واليتيم من الآدميين: من فقد أباه، ومِن غيرهم من فقد أُمَّه وهو صغيرٌ، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليُتْمُ، فالإحسانُ إلى اليتيم بحسن تربيته، وحفظ حقوقه من الضياع، والكتابُ والسنة مليئان بالوصيّة به، وحسبك من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين" وأشار بالسَّبابة والوسطى، ويجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمورٍ: لصغره، ويتمه، ولخلوِّه عمَّن يقوم بمصلحته، إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه، ولا يقوم بحوائجه. والحكمة في وجوب الإحسان إلى اليتيم: أنّه لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته، والقيام بشؤونه، وحفظ أمواله، والأُمُّ وإن وُجدت، تكون في الغالب عاجزةً عن تنشئته وتربيته التربيةَ المُثْلى، إلى أنَّ الأيتام أعضاءٌ في جسم الأُمة، فإذا فسدت أخلاقهم، وساءت أحوالهم، تسرَّب الفساد إلى الأُمَّة جمعاء، إذ يُصْبِحُون قُدْوةً سيّئةً بينَ نَشئْها، فيدِبُّ فيها الفساد، ويتطرَّقُ إليها الانحلال، وتأَخذ في الفناء {و} أحسنوا بـ {المساكين} أو وتحسنون إلى {المساكين} المتذلِّلين من الفاقة والحاجة، وعجزوا عن الكسب بأن تُواسوهم، وتؤتوهم حقوقَهم التي فُرض لهم في أموالكم، جمع مسكين بوزن مفعيل من السكون، كأنَّ الفقر أسكنه عن الحراك؛ أي: الحركة، وأثقله عن التقلّب، والمراد بهم (¬1): ما يشمل الفقراء، فإنّ الفقير والمسكين متى اجتمعا افترقا، ومتى افترقا اجتمعا، وإنّما تأخَّرت درجة المساكين عن اليتامى؛ لأنّه قد يُمْكِن أن ينتفع بنفسه، وينفع غيره بالخدمة، بخلاف اليتيم، فإنّ الصغر مانعٌ له من ذلك، والحاصل: أن الإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم، ومواساتهم حين البأس والضراء. روى مسلم، عن أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر" {و} قلنا لهم {قولوا للناس} عمومًا قولًا {حُسْنًا} ونَحْوُه الحديثُ: "وخالق الناس بخلق حسن" وسمَّاه حسنًا بفتحتين مبالغةً، لفرط حسنه؛ أي: هو حسنٌ في ¬

_ (¬1) العمدة.

نفسه، وأمر سبحانه بالإحسان بالمال في حقِّ أقوامٍ مخصوصين، وهم الوالدان، والأقرباء، واليتامى، والمساكين، ولمَّا كان (¬1) المال لا يسع الكُلَّ، أمر بمعاملة الناس كلهم بالقول الجميل الذي لا يعجز عنه العاقل؛ يعني: وألينوا لهم القول بحسن المعاشرة وحسن الخلق، ومروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، إن كان المراد بالمخاطبين الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، كما هو الظاهر، والقول الحسن: هو الذي يحصل انتفاعهم به. وقيل المعنى: قولوا للناس صدقًا وحقًّا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبيِّنوا صفته، ولا تكتموها، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - إن كان الخطاب للحاضرين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي القيام بهذه الفرائض إصلاحٌ لحال المجتمع، وسعيٌ في رُقيِّه وتقدُّمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب (¬2): {حَسَنًا} بفتحتين على أنّه صفة مشبهة لمصدر محذوف، تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا. وقرأ الباقون: {حُسْنًا} بضمّ الحاء وسكون السين على أنّه مصدر وصف به مبالغةً. وقرأ عطاء بن أبي رباح، وعيسى بن عمر: {حُسُنًا} بضمّهما، فضمّة السين اتباع بضمّة الحاء، وهي قراءة شاذة. وقرأ أبي، وطلحة بن مصرف: {حُسْنَى} على وزن فُعْلى على أنّه مصدر كالرُّجْعَى، والعُقْبَى، والبشرى. وقرأ الجحدريّ: {إحسانًا} على أنّه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قولًا إحسانًا، وإحسانًا مصدرٌ من أحسن الذي همزته للصيرورة؛ أي: قولًا ذا حسنٍ، كما تقول أعشبت الأرض إعشابًا؛ أي: صارت ذات عُشْبٍ. وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصَّل بعضًا من ذلك ممَّا لا يُهتدى إليه إلّا بهُدًى إلهيّ، ووحيٍ سماويٍّ، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: أدّوا الصلاة التي فرضت عليكم في ملتكم وشريعتكم، فقبلتم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

الميثاق المذكور إن كان الخطاب مع الأسلاف، كما هو ظاهر السياق، أو أدّوا الصلاة المفروضة كاملةً بالركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، إن كان الخطاب مع الحاضرين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الصلاة والزكاة مع دخولهما في عموم العبادة المذكور أوّلًا، من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ؛ إظهارًا لمزيته وفضله على غيره؛ لأنَّ الصلاة أفضل عبادات البدن، والزكاة أفضل عبادات المال؛ لأنّ الصلاة هي التي تصلح النفوس، وتنقّيها من أدران الرذائل، وتحلِّيها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله، والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورًا ورسومًا لا تغني فتيلًا، وهم ما تولَّوا ولا أعرضوا عن تلك الصُّور والرسوم إلى عصر التنزيل {وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ أي: وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم في ملّتكم، أو ادفعوا زكاة أموالكم إلى المُسْتَحقّين؛ لما (¬1) في الزكاة من إصلاح شؤون المجتمع، وقد كان لهم ضروبٌ من الزكاة: منها: مالٌ خاصٌّ يؤدَّى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللَّاوِيِّين - سبطٌ من أسباطهم -. ومنها: مالٌ للمساكين. ومنها: ما يؤخذ من ثمرات الأرض. ومنها: سَبْتُ الأرض، وهو تركها في كلِّ سبع سنين مرَّةً بلا حرث ولا زرعٍ، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقةٌ. ولمَّا أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به، أخبر عنهم أنّهم ما وَفَوا بذلك بقوله: {ثُمَّ} بعدما قبلتم الميثاق أوّلًا {تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم، ورفضتموه {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}؛ أي: إلّا قليلًا من أسلافكم، وهم الذين أقاموا اليهوديَّة على طريقتها قبل النسخ، أو من أخلافكم، ¬

_ (¬1) المراغي.

وهم الذين آمنوا منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، فإنّهم وفوا بالعهد فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ورُوي عن أبي عمرو أنّه قرأ {إلا قليلٌ} بالرفع. وقرأ بذلك أيضًا قومٌ، قال ابن عطية: وهذا على إبدال قليلٌ من الضمير في تولّيتم. اهـ. من "البحر" تلخيصه: أخذنا عهدكم يا بني إسرائيل! بجميع المذكور، فقبلتم وأقبلتم عليه، ثمّ أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاق ورفضتموه، إلّا قليلًا من أسلافكم وأخلافكم {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} عمّا عهد إليكم، كأوائلكم، وهذا خطابٌ للفروع؛ أي: أنتم مكذّبون للحقِّ والهدى، وتاركون له حيث أتاكم به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه (¬1) الجملة مؤكّدة لعاملها؛ لأنَّ توليتم يغني عنه. وقيل المعنى؛ تولَّيتم بأبدانكم وأنتم معرضون بقلوبكم، فعلى هذا فهي حال منتقلة. وقيل هذه الجملة: تذييليَّةٌ (¬2)؛ أي: وأنتم قومٌ عادتكم الإعراض عن الطاعة، ومراعاة حقوق الميثاق، وليس الواو للحال؛ لاتحاد التولِّي والإعراض، فالجملة اعتراضٌ؛ للتأكيد في التوبيخ، وأصل الإعراض: الذهاب عن المواجهة، والإقبال إلى جانب العرض. وعبارة المراغي: وفي قوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} مبالغةٌ (¬3) في الترك المستفاد من التولّي؛ لأنّ الإنسان قد يتولَّى عن شيء وهو عازمٌ على أن يعود إليه، ويؤدِّي ما يجب عليه، فليس كُلُّ من تولَّى عن شيء يكون معرضًا عنه، وقد كان من تولّيهم وإعراضهم، أن تخذوا الأحبار والرهبان أربابًا مشرِّعين، يُحِلُّون، ويحرّمون، ويبيحون، ويحظرون، ويزيدون، ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينيَّة، فكأنّهم شركاء لله، يشرِّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توّليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينيَّة، كالنفقة على ذوي القربى، وأداء الزكاة، وتركوا النهي عن المنكر، إلى نحو ذلك بما يدل على الاستهتار بأمور الدين. وفائدة ذكر قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}؛ إفادة عدم بخس العاملين حقَّهم، ¬

_ (¬1) عكبري. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أنَّ وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد، وعمَّ البلاء، وقد جرت سنّة الله، بأنَّ بقاء الأمة عزيزةً مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأسٍ، إنّما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة، والدأب على العمل الذي به تستحقُّ العزَّ والشرف. بعد هذا (¬1)، لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين، الذين فتنوا في دينهم ودنياهم، وهم غافلون لاهون لا يعتبرون، ولا يذكرون. فصلٌ فيما يتعلَّق بهذه الآية واعلم: أنَّ في هذه الآية عدَّة أشياء (¬2): منها: العبادة، فمِنْ شَرْط العُبودية: تفَرُّد العبد لعبادة المعبود، وتجرُّده عن كل مقصود، فمن لاحظ خلقًا، أو استحلى ثناءً، أو استجلب بطاعته إلى نفسه حظًّا من حظوظ الدنيا والآخرة، أو داخله بوجهٍ من الوجوه مزجٌ، أو شوبٌ، فهو ساقطٌ عن مرتبة الإخلاص برؤية نفسه. ومنها: الإحسان إلى الوالدين، وقد عظَّم الله حقَّ الوالدين، حيث قرن حقَّه بحقّهما في آياتٍ من القرآن؛ لأنَّ النَّشْأة الأولى من عند الله سبحانه، والنشأة الثانية وهي التربية من جهة الوالدين، ويقال: ثلاث آيات أنزلت مقرونةً بثلاث آيات، ولا تقبل إحداها بغير قرينتها إحداها، قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} والثانية: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} والثالثة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، والامتثال إلى أمرهما، وصلة أهل وُدِّهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما. وفي "التأويلات النجمية": إنّ في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إشارةٌ إلى أنَّ أعزَّ الخلق على الولد والداه، لأجل أنَّهما سُدَا وجوده في الظاهر، ولكن ينبغي أن يحسن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

إليهما بعد خروجه من عهدة عبودّية ربّه، إذ هو موجد وجوده، ووجود والديه في الحقيقة، ولا يختار على أداء عبوديّته إحسان والديه، فكيف الالتفات لغيرهما، وفي الحديث: "ما قعد يتيمٌ مع قوم على قصعتهم، فلا يقرب قصعتهم الشيطان"، وفي الحديث أيضًا: "مَنْ ضمَّ يتيمًا من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله سبحانه، غفرت له ذنوبه ألبتة، إلّا أن يعمل عملًا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمته، فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه" قالوا: وما كريمته؟ قال: "عيناه"، ومن كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فأنفق عليهنّ، وأحسن إليهنّ حتى يكبرن، أو يمتن، غفرت له ذنوبه ألبتةَ، إلّا أن يعمل ما لا يغفر، فناداه رجل من الأعراب ممَّن هاجر، فقال: يا رسول الله! أو اثنتان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أو اثنتان". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة". وأشار بالسبابة والوسطى، والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهليّة تدعى بالسبَّابة؛ لأنّهم كانوا يسبُّون بها، فلما جاء الله بالإِسلام كرهوا هذا الاسم، فسمَّوها بالمشيرة؛ لأنّهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد، والمُشيرة من أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثمّ البنصر أقصر من الوسطى، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وهو كهاتين في الجنة" وقوله في الحديث الآخر: "أُحْشر أنا، وأبو بكر، وعمر يوم القيامة هكذا". وأشار بأصابعه الثلاث، فإنّما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق، فقال: نحشر هكذا، ونحن مشرفون، وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلةٌ رفيعةٌ، فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل تأويل الحديث على الانضمام، واقتراب - بعضهم من بعض في محل القربة، وهذا معنى بعيد؛ لأنّ منازل الأنبياء، والمرسلين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، مراتب متباينة، ومنازل مختلفةٌ. كذا في "تفسير القرطبي". ومنها: البِرُّ إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وذلَّلتهم، وهذا يتضمَّن الحضَّ على الصدقة، والمواساة، وتفقد أحوال المساكين والضعفاء، وفي الحديث: "السَّاعي على الأرملة والمساكين، كالمجاهد في سبيل الله" وكان طاووسٌ يرى السعي على الأخوات، أفضل من الجهاد في سبيل الله.

ومنها: القول الحسن، ولمّا خرج العبد من عهدة حقِّ العبوديّة، وعمت رحمته وشفقته الوالدين، وغيرهما، لَزِمَ له أن يقول للناس حسنًا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الله تعالى، ويهديهم إلى طريق الحقِّ، ويخالقهم بحسن الخلق، وأن يكون قوله ليّنًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسُنِّيِّ والمبتدع، من غير مداهنةٍ، ومن غير أن يتكلَّم معه بكلام يُظَنُّ أنَّه يرضى مذهبه؛ لأنَّ الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فليس بأفضل من موسى وهارون عليهما السلام، والفاجر ليس بأخسّ من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالمبتدع. الإعراب {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}. {أَفَتَطْمَعُونَ} الهمزة فيه للاستفهام الاستبعاديّ، وتدخل على ثلاثة من حروف العطف، الفاءُ كما هنا، والواو كقوله الآتي: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ}، وثُمَّ كقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. واختلف في مثل هذه التراكيب بين الجمهور والزمخشري، فذهب الجمهور: إلى أنّ الهمزة مقدّمة من تأخير؛ لأنّ لها الصدر، ولا حذف في الكلام، والفاء زائدة عندهم، والتقدير: ... (أتَطُمْعَوُن) و (أَلاَ يعلمون)، و (ثُمَّ إذا ما وقع). وذهب الزمخشري: إلى أنها داخلة على محذوف دلَّ عليه سياق الكلام، والتقدير هنا: أتسمعون أخبارهم، وتعلمون أحوالهم، فتطمعون في إيمانهم. انتهى من "أبي السعود". {أَفَتَطْمَعُونَ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاريِّ، المضمّن للنهي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف؛ أي: أتسمعون، وتعلمون أحوالهم فتطمعون {تطمعون} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة على كونها إنشائيّة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمعنى: لا تطمعوا في إيمان هؤلاء العتاة الجفاة القاسية قلوبهم، {أَن} حرف نصب ومصدر {يُؤمِنُوا} فعل وفاعل منصوب

بأن المصدريّة {لَكُمْ} جاز ومجرور متعلّق بيؤمنوا على تضمينه معنى الانقياد، أو اللام زائدة، والكاف في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدريّة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جَرٍّ محذوف متعلّق يتطمعون، تقديره: أفتطمعون في إيمانهم إيّاكم؛ أي: لا تطمعوا في ذلك فإنّه بعيد عقلًا {وَقَدْ} الواو حالية {قَدْ} حرف تحقيق {كَانَ فَرِيقٌ} فعل ناقص واسمه {مِنهُمْ} وجارّ ومجرور صفة لفريق {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان في محل النصب حال من الواو في {يُؤْمِنُوا}، تقديره: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم حالة كون فريق منهم سامعين كلام الله {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {يُحَرِّفُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة يسمعون على كونها خبر لكان، تقديره: ثمّ محرّفين إيّاه {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلّق بيحرّفون، و {مَا} مصدريّة {عَقَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، وضمير المفعول في {عَقَلُوهُ} عائد إلى كلام الله، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدريّة. و {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد عقلهم وفهمهم إياه؛ أي: كلام الله، ويجوز أن تكون موصولًا اسميًّا في محل الجرّ بإضافة الظرف إليه، وجملة {عَقَلُوهُ} صلة لها، والعائد ضمير {عَقَلُوهُ}؛ أي: يحرّفون الكلام من بعد المعنى الذي عقلوه وعرفوه، وفهموه {وَهُمْ} الواو حالية {هم} مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبر المبتدأ، ومفعول العلم محذوف، تقديره: وهم عالمون أنّهم مبطلون، والجملة الإسمية حال من الواو، في يحرّفون؛ تقديره: ثمّ يحرّفونه حالة كونهم عالمين أنّهم مبطلون معاندون. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}. {وَإِذَا لَقُوا} الواو استئنافية أو عاطفة {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلّق بالجواب الآتي {لَقُوا الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا

محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت. {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقالوا {وَإِذَا} الواو عاطفة {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان متعلّق بالجواب الآتي {خَلَا بَعْضُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها {إِلَى بَعْضٍ} جار ومجرور متعلق بخلا {قَالُوا} فعل وفاعل جواب {إذا}، وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله: {وَإِذَا لَقُوا} على كونها مستأنفة، أو حالًا {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} الهمزة، للاستفهام الإنكاري، {تُحَدِّثُونَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول قالوا. {بِمَا} (الباء) حرف جر {مَا} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلّق بتحدثونهم {فَتَحَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، أو صفة للموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: فتحه الله. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلق بفتح {لِيُحَاجُّوكُمْ} اللام حرف جرّ وتعليل. {يحاجوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي، والكاف مفعول به {بِهِ} جار ومجرور متعلق بيحاجوكم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بيحاجوا، والجملة الفعلية صلة أنّ المصدرية، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم لمحاججتهم إيّاكم به عند ربّكم يوم القيامة، واللام متعلقة بتحدثونهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الهمزة للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف {لَا} نافية {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: أنّ ذلك يكون عليكم حجّة لهم عند ربّكم، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتغفلون عن ذلك فلا تعقلونه، والجملة المحذوفة مع المعطوفة في محل النصب مقول قالوا. {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}. {أَوَلَا} الهمزة للاستفهام التقريريّ المضمّن للتوبيخ داخلة على محذوف، والاستفهام التقريري: هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده ثبوته، مع التوبيخ والتقريع له، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره:

أيلومونهم على التحديث بما ذكر ولا يعلمون. الخ، والجملة المحذوفة مستأنفة {لا} نافية {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ} من الفعل والفاعل المستتر في محل الرفع خبر أنّ، تقديره: أنّ الله عالم، وجملة أنّ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي يعلمون إن كانت يقينيّة، أو مسدّ مفعول يعلمون إن كانت عرفانية، تقديره: أو لا يعرفون علم الله ما يسرّون وما يعلنون {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول يعلم، أو مصدريّة {يُسِرُّونَ} فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: أنّ الله يعلم الأمر الذي يسرّونه في قلوبهم، أو صلة لما المصدرية، تقديره: أنّ الله يعلم إسرارهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} معطوف على ما يسرّون، يجري فيه ما جرى فيه من أوجه الإعراب. {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}. {وَمِنْهُمْ} الواو عاطفة أو استئنافية منهم جار ومجرور خبر مقدّم {أُمِّيُّونَ} مبتدأ مؤخّر مرفوع بالواو؛ لأنّه جمع مذكر سالم، تقديره: وأمّيون كائنون منهم، والجملة الإسمية مستأنفة، أو في محل النصب على الحالية معطوفة على جملة قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وقال أبو السعود: هذه الجملة معطوفة على الجمل الثلاث الحالية؛ لمشاركتها لهنّ، فإنّ مضمونها مناف لرجاء الخير منهم، وإن لم يكن فيها ما يحسم مادة الطمع في إيمانهم، كما هو مضمون الجمل الثلاث، فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله تعالى، ولا بمثابة النفاق، ولا بمثابة النهي عن إظهار ما في التوراة. اهـ. {لَا} نافية {يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لأمّيون، تقديره: ومنهم أمّيون عادمون علم الكتاب {إلّا} أداة استثناء منقطع بمعنى لكن {أَمَانِيَّ} منصوب على الاستثناء، ولكن بعامل محذوف، تقديره: لكن يعتقدون أماني، كما أشار إليه البيضاوي في "الحلّ"، ولا يصحّ نصبه بيعلمون؛ لأنّ إدراك الأماني؛ أي: الأكاذيب لي علمًا، بل هو جهل مركّب، أو اعتقاد ناشيء عن تقليد. اهـ. "جمل". {وَإِنْ} والواو استئنافية، أو حالية {إِنْ} نافية لا عمل لها عند الجمهور؛

لانتقاض نفيها بإلّا، وعاملة عمل ليس عند سيبويه مستدلًا بقول الشاعر: إن هو مستوليًا على أحد ... إلّا على أضعف المجانين {هُمْ} مبتدأ عند الجمهور، واسم {إِن} نافية عند سيبويه، {إلّا} أداة استثناء مفرّغ {يَظُنُّونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ عند الجمهور، أو في محل النصب خبر {إِنْ} النافية، وحذف مفعولي ظنّ؛ للعلم بهما، أو اقتصارًا، والتقدير: وما هم إلّا ظانون أكاذيب باطلة لا أصل لها، أو ما هم إلّا ظانّين أكاذيب باطلة، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من الواو في قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} تقديره: ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب حالة كونهم ظانّين ومعتقدين أكاذيب باطلة. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}. {فَوَيْلٌ} الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفت هؤلاء اليهود يسمعون كلام الله، ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وأردت بيان عاقبة من فعل ذلك، فأقول لك: ويل للذين يكتبون الكتاب {ويل} مبتدأ مرفوع، وسوّغ الابتداء بالنكرة ما فيه من معنى الدعاء {لِلَّذِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول {بِأَيْدِيهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيكتبون {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {يَقُولُونَ} فعل وفاعل معطوف على {يَكْتُبُونَ} على كونه صلة الموصول {هَذَا} مبتدأ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلقّ بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ليقولون {لِيَشْتَرُوا} اللام حرف جرّ وتعليل {يشتروا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي {به} جار ومجرور متعلق بيشتروا {ثَمَنًا} مفعول به {قَلِيلًا} صفة لثمنا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لاشترائهم به ثمنًا قليلًا، الجار والمجرور

متعلق بيكتبون {فَوَيْلٌ} الفاء عاطفة كرّرها للتأكيد {ويل} مبتدأ {لَهُمْ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} {مِمَّا} جارّ ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما كتبته أيديهم {وَوَيْلٌ} الواو عاطفة {ويل} مبتدأ {لَهُمْ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ما قبلها {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {يَكْسِبُونَ} فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ممّا يكسبونه، ويصحّ أن تكون {مَا} مصدريّة في الموضعين، وإنّما كرّر الويل؛ ليفيد أنّ الهلاك مرتّب على كل واحد من الفعلين على حدته لا على مجموع الأمرين، وأخّر {يَكْسِبُونَ}؛ لأن الكتابة مقدّمة، ونتيجتها كسب المال، فالكَتْب سبب، والكسب مسبب عنه، فجاء النظم على هذا الترتيب اهـ. "كرخي". وقال أبو السعود: قوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تأكيد لقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ومع ذلك فيه نوع مغايرة؛ لأن قوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} وقع تعليلًا، فهو مقصود، وقوله فيما سلف: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وقع صلة، فهو غير مقصود، وقوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} الكلام فيه كالذي فيما قبله من جهة أنّ التكرير للتأكيد. انتهى. {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}. {وَقَالُوا} الواو استئنافية {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَنْ} حرف نفي ونصب {تَمَسَّنَا} فعل مضارع ومفعول به منصوب بلن {النَّارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ {أَيَّامًا} منصوب على الظرفية الزمانيّة بالفعل المذكور قبله متعلق به، والتقدير: لن تمسّنا النار أبدًا إلّا في أيام قلائل يحصرها العدّ؛ لأنّ العدّ يحصر القليل {مَعْدُودَةً} صفة {أَيَّامًا} {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -،

والجملة الفعلية مستأنفة {أَتَّخَذْتُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لقل، وإن شئت قلت: {أَتَّخَذْتُمْ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري مبنية على الفتح، وحذفت همزة الوصل المتصلة بالماضي الخماسي؛ لاستثقال اجتماع همزتين {أَتَّخَذْتُمْ} فعل وفاعل بمعنى جعلتم المتعدّية إلى مفعول واحد، كما في العكبري، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف ومضاف إليه متعلق باتخذ {عَهْدًا} مفعول به {فَلَنْ} الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر وجوبًا لكونه مقرونًا بلن، تقديره: إن جعلتم عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده {لَنْ} حرف نفي ونصب واستقبال {يُخْلِفَ} فعل مضارع منصوب بلن {اللَّهُ} فاعل {عَهْدَهُ}، مفعول به ومضاف إليه، والجملة من الفعل والفاعل في محل الجزم جواب للشرط المقدّر، وجملة الشرط المقدّر مع جوابه في محل النصب مقول لقل {أَمْ} حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام فهي متّصلة، أو منقطعة بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي {تَقُولُونَ} فعل وفاعل مرفوع بالنون، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَتَّخَذْتُمْ} على كونها مقولًا لقل، أو في محل النصب مقول {قُلْ}. {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تَقُولُونَ} {مَا} اسم موصول، والعائد محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وعلم هنا بمعنى عرف يتعدّى لمفعول واحد {لا} نافية {تعلمون} فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول. {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}. {بَلَى} حرف جواب يجاب بها النفي، فيصير إثباتًا بخلاف نعم، وجير، وأجل، وإيْ، فإنها لتقرير ما قبلها إثباتًا أو نفيًا {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أوّل، ويصحّ كونها شرطيّة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {كَسَبَ} فعل ماض وفاعل مستتر صلة لمن الموصولة، أو في محل الجزم بمن الشرطيّة على كونها فعل شرط لها {سَيِّئَةً} مفعول به {وَأَحَاطَتْ} الواو عاطفة {أحاط} فعل ماض،

والتاء علامة تأنيث الفاعل {بِهِ} متعلق بأحاطت، {خَطِيئَتُهُ} فاعلٌ ومضافٌ إليه، والجملة معطوفة على جملة {كَسَبَ} على كونها صلةً لمن الموصولة، أو فعل شرطٍ لِمَنِ الشرطية {فَأُولَئِكَ} الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لما في المبتدأ من العموم، لشبه الموصول بأسماء الشرط في الإبهام على كون {مَن} موصولة، أو رابطة الجواب بالشرط وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية على كون {مَن} شرطيّة {أُولَئِكَ} أولاء اسم إشارة يشار به للجمع المطلق في محل الرفع مبتدأ ثان، على كون {مَن} موصولة أو في محل الرفع مبتدأ، والكاف حرف قال على الخطاب {أَصْحَابُ} خبر للمبتدأ الثاني، أو خبر المبتدأ {النَّارِ} مضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول وخبره جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، على كون {مَن} موصولة، أو جملة {أُولَئِكَ} في محل الجزم بمن الشرطيّة على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطيّة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب {هُمْ} ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ {فِيهَا} متعلق بخالدون و {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من أصحاب النار، تقديره؛ حالة كونهم خالدين فيها {وَالَّذِينَ} الواو عاطفة، أو استئنافية، الذين مبتدأ أوّل {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا} {أُولَئِكَ} هو مبتدأ ثان {أَصْحَابُ} خبر له {الْجَنَّةِ} مضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} على كونها جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تقدم إعرابها. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إذْ} ظرفٌ لما مضى من الزمان في محل النصب معطوفة على {نِعْمَتِيَ} كالظروف السابقة {أَخَذْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل

الجرّ مضاف إليه لإذ، والتقدير: واذكروا - يا بني إسرائيل - حين أخذنا ميثاق أسلافكم. {مِيثَاقَ} مفعول به {بَنِي} مضاف إليه مجرور بالياء، وهو مضاف {إِسْرَائِيلَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة {لَا} نافية {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل، والجملة جملة مفسّرة للميثاق لا محل لها من الإعراب {إِلَّا اللَّهَ} إِلَّا أداة استثناء ولفظ الجلالة مفعول به {وَبِالْوَالِدَيْنِ} الواو عاطفة {بِالْوَالِدَيْنِ} متعلق بمحذوف معطوف على جملة {لَا تَعْبُدُونَ} على كونها جملة مفسّرة، تقديره: وأحسنوا بالوالدين {إحْسَانًا} منصوبٌ على المفعولية المطلقة {وَذِي} الواو عاطفة ذي معطوف على الوالدين مجرور بالياء؛ لأنّه من الأسماء الستّة ذي مضاف {الْقُرْبَى} مضاف إليه {وَالْيَتَامَى} معطوف على الوالدين، وكذلك {وَالْمَسَاكِينِ} معطوف على الوالدين {وَقُولُوا} الواو عاطفة {قولوا} فعل أمر وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تَعْبُدُونَ} على كونها مفسّرة للميثاق {لِلنَّاسِ} متعلق بقولوا {حُسْنًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف، تقديره: قولًا حسنًا {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة {لَا تَعْبُدُونَ} {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {تَعْبُدُونَ} {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {تَوَلَّيْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ معطوفة على جملة قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} على كونها مضافًا إليه لـ {إِذْ}، أو معطوفة على محذوف، تقديره: فقبلتم الميثاق، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {أَخَذْنَا} {إِلَّا} أداة استثناء {قَلِيلًا} منصوب على الاستثناء {مِنْكُمْ} صفة لقليلًا، تقديره: قليلًا كائنًا منكم {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أنتم معرضون} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تَوَلَّيْتُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {أَفَتَطْمَعُونَ} الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقًا قويًّا، وهو أشدّ من الرجاء؛ لأنّه لا يحدث إلّا عن قوّة رغبة، وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعًا، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء، يقال: طمع يطمع طمعًا وطماعة وطماعية مخفّفًا، كطواعية، كقول الشاعر:

طَمَاعِيَةَ أَنْ يَغْفِرَ الْذَنْبَ غَافِرُهُ واسم الفاعل طَمِعٌ وطامعٌ، ويعدَّى بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعةً، ويقال: طمُع بضم الميم كثر طمعه، وضِدُّ الطمع اليأس، قال كُثيِّرٌ: لاَ خَيْرَ في الحُبِّ وَقْفًا لا يُحرِّكُهُ ... عَوَارِضُ اليَأْسِ أوْ يَرْتَاجُهُ الطَّمَعُ ويقال: امرأةٌ مِطماعٌ؛ أي: تَطْمَعُ ولا تُمكِّنُ، وقد توسِّع في الطمع، فسمِّي به رزقُ الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم؛ أي: أرزاقهم وهو من وضع المصدر موضع المفعول. اهـ. "بحر". {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم. اهـ. "سمين". {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} والكلام: هو القول الدالُّ على نسبةٍ إسناديَّةٍ مقصودةٍ لذاتها، ويطلق أيضًا على الكلمة، ويُعبَّر به أيضًا عن الخَطِّ والإشارة، وما يفهم من حال الشيء، وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبّر عنها بالكلام في ذلك خلاف، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} التحريف: إِمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف الحدُّ المائل. {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} والتحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه: يُحدِّث، وأصله: من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالثٍ بالباء، فقال: حدثت زيدًا عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمَّن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدّية إلى اثنين، فيتعدَّى إلى ثلاثة، {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} والفتح: القضاء بلغة اليمن، ومنه الفتَّاح العليم والإِذْكَار، ومنه فتَحَ على الإِمام والظفُرُ، فمنه {فقد جاءكم الفتح}. قال الكلبي: وبمعنى القصص. قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المنِّ، وأصل الفتح: خرق الشيء، والسدُّ ضدُّه. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أصلُ لقوا: لقيوا بوزن فعلوا، استثقلت الحركة على الياء فحذفت للتخفيف، فسكنت الياء لمَّا حذفت حركتها، فالتقت ساكنةً مع واو الجماعة فحذفت، ثُمَّ ضُمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار وزنها فَعُوا بعد أن كان فعلوا، كما مرّ {خَلَا} أصله: خلَوَ من الخلوة فعلٌ ناقصٌ، واويُّ اللام، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها بعد فتح، {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أصله يحاجِّجونكم حذفت نون الرفع لمَّا دخلت لام التعليل على الفعل، ونصب بأن

مضمرة بعدها، ثُمَّ أدغمت الجيم الأولى في الثانية، والمُحاجَّة من الاحتجاج وهو القصد للغلبة، يقال: حاجَّهُ قَصَد أن يغلب، والحُجَّة الكلام المستقيم، مأخوذٌ من محجَّة الطريق {مَا يُسِرُّونَ} أصله: يُسْرِرون بوزن يفعلون، نقلت حركة الراء الأُولى إلى السين، فلما سُكِّنت أدغمت في الثانية، يقال: أسرَّ الشيء إذا أَخْفاه، وأعلنه إذا أظهره. {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} جمع أُمِّي، والأمّيُّ: هو الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأُمّ؛ لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن، أو يقرأن في كتاب، أو لأنه بحال ولدَتْه أُمُّه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمّة وهي القامة والخلقة، كأنَّ الذي لا يكتب ولا يقرأ قائمٌ على الفطرة والجِبلَّة، أو إلى الأُمَّة، إذ هي سَاذجَةٌ قبل أن تَعِرف المعارف {إِلَّا أَمَانِيَّ} الأماني: جمع أُمنيَّة بضم الهمزة، وكسر النون، وتشديد الياء، وأصلها: أُمْنُوية بوزن أفُعولة، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسرت النون؛ لمناسبة الياء، فجمعت على أفاعيل، وما روي من تخفيفها فجَمْعُه على أفاعِل، كما يقال: في جمع مفتاح مفاتحِ، وكأنَّ من قرأ بالتخفيف لم يعتد بحرف المدّ الذي في المفرد، كما مرّ مِن مَنَى إذا قدَّر؛ لأنّ المُتَمنِّي يقدِّر في نفسه، ويَحْزَرُ ما يتمنَّاه، أو من تمنَّى إذا كذب، قال أعرابي لابن دأبٍ في شيء حدَّث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي: اختلقته، وقال عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمنَّى إذا تلا، قال تعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}؛ أي: إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر: تَمَنَّى كِتابَ الله أوَّل لَيْلهِ ... وآخِرَه لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير، فالتقدير أصله، قال الشاعر: وَلاَ تَقُولَنَّ لشيءٍ سَوْف أَفْعَلُه ... حتَّى تَبَيَّنَ ما يُمْنِي لَكَ المَانِي أي: يقدِّر وجمعها بتشديد الياء؛ لأنّه أفاعيل، وإذا جمع على أفاعل خففت الياء، والأصل التشديد؛ لأنّ الياء الأولى في الجمع هي: الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياءً، ألا ترى أنَّ جمع أمُلْوُدْ أماليد. اهـ. من "البحر".

والمراد أنّهم لا يعلمون الكتاب إلّا كما حَدَسوه، أو تخيَّلُوه في هواجسهم من أنهم شعب الله المختار، وأنَّ الله يعفو عنهم، وأنَّ آباءَهم الأنبياء يشفعون لهم، وما ذلك كلُّه إلّا أكاذيب مُنَمَّقة لفّقها لهم أحبارهم، فتناقلوها من غير تمحيصٍ، أو رويَّةٍ {إِلَّا يَظُنُّونَ} أصله: يَظْنُنُون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء، فسكنت فأدغمت في النون الثانية {فَوَيْلٌ} الويل: مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم، وَأَلَ مصنوعٌ، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واوٌ وعينها ياء إلّا وَيْل، وويح، وويس، وويب، ولا يثنى ولا يجمع، ويقال: ويله، ويجمع على ويلاتٍ. قال امرؤ القيس: ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْر خِدْرَ عُنيزةٍ ... فقالَتْ لك الوَيْلاَتُ إنّك مُرْجل وإذا أضيف ويْلٌ فالأحسن فيه النصب على المفعولية المطلقة؛ لأنَّه مصدرٌ لفعل أماته العرب، قال تعالى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وزعم بعضٌ أنَّه إذا أضيف لا يجوز فيه إلّا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع على الابتداء قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ} ويجوز النصب أيضًا. قال الشاعر: فَويْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرابِيْلها الخُضْرِ والوَيْلُ معناه: الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الوَيْلُ: شِدَّةُ الشرِّ، وقال غيره: الويل: الهلكة، وكُلُّ مَنْ وقع في هلكةٍ دعا بالوَيْلِ، وقال الأصمعيُّ: هي كلمة تفجُّعٍ، وقد يكون ترحُّمًا، ومنه قوله: وَيْلَ أُمِّه مِسْعَرُ حَرْبِ {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والأيدي جمع يدٍ، ويدٌ مما حذف منه اللام، كدم، ووزنه فعلٌ، وقد صرح بالأصل، فقالوا يَدْيٌ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع الله أَدْيَهُ، وأبدلوا منها أيضًا جيمًا، قالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقةٌ في الجارحة مجازٌ في غيرها، وأمَّا الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، وأَصْلُ الأيْدي أيْدُي، استثقلت الضمّةُ على الياء، فحذفت، فسكنت الياء، وقبلها ضمّةٌ، فانقلبت واوًا، فصار الأيْدُوُ، كما قيل: في مِيقنٍ موقِنٌ، ثمّ إنّه لم يوجد في لسانهم واوٌ ساكنةٌ قبلها ضمَّةٌ في اسم، وإذا أدَّى القياسُ إلى ذلك قُلِبَت تلك الواو ياءً، وتلك الضمَّةُ قبلها

كسرةً، فصار: الأيدي {ثُمَّ يَقُولُونَ} أصله: يقْوُلون بوزن يفعُلون، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمّة، فصارت حرف مدّ {لِيَشْتَرُوا} أصله: يشتريون بوزن يفتعلون، حذفت منه نون الرفع لمَّا نصب الفعل بأن المضمرة بعد لام التعليل، ثُمّ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكِّنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضُمَّت الراء؛ لمناسبة واو الجماعة. {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} والكسب أصله: اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضرِّ، ومنه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} والفعل منه يجيء متعدّيًا إلى واحد، تقول: كسبت مالًا، وإلى اثنين تقول: كسبت زيدًا مالًا، وقال ابن الأعرابي: يقال: كسب هو نفسه، وأكسب غيره. وأنشد: فأكْسَبَني مَالًا وأكْسبته حمدًا {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} المَسُّ: الإصابة، المسُّ: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب، واللَّمْسُ مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيءُ المسُّ مع الإحساس، وحقيقة المسّ واللَّمس باليد، ونقل من الإحساس إلى المعاني، مثل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} كـ {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ومنه سمّي المجنون مسًّا. وقيل: المسُّ واللَّمْسُ والجسُّ متقاربٌ، إلّا أنّ الجسَّ عامٌ في المحسوسات، والمسُّ فيما يخفى ويدقُّ، كنَبْضِ العروق، والمسُّ واللَّمْسُ بظاهر البشرة، والمَسُّ كنايةٌ عن النكاح وعن الجنُون، وقد تقدّم أنَّ {النَّارُ} ألفها منقلبةٌ عن واو؛ بدليل تصغيرها على نويرة، وأصل أيَّامٍ: أيوامٌ بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء فصار أيَّامًا. المعدود: اسم مفعول من عدَّ بمعنى حَسَب، والعدد هو الحساب. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} {قُلْ} فيه إعلال بالحذف، أصله: قُوْلْ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين {أَتَّخَذْتُمْ} حذفت منه همزة الوصل؛ للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام؛ لأنّها إنّما جيء بها للتوصُّل إلى النُّطق بالساكن، وهمزة الاستفهام حصل بها ذلك، وتقدَّم الكلام على مادَّة الاتخاذ عند الآية: (51)، والإخلاف عدم الإيفاء بالشيء الموعود. فائدة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى حرف جواب، مثل: نعم، وجير، وأجل، وإي، والفرق بينها وبين بلى: أنَّ بلى جواب لنفي متقدّمٍ، أي: إبطالٍ،

ونقْضٍ، وإيجابٍ له، سواءٌ دخله استفهامٌ أم لا، فتكون إيجابًا له، نحو: قول القائل: ما قام زيد؟ فتقول: بلى؛ أي: قد قام، وقوله: أليس زيد قائمًا؟ فتقول: بلى؛ أي: هو قائم، قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ويُروى عن ابن عباس: (أنّهم لو قالوا: نعم لكفروا). اهـ. "سمين". ومما وقعت فيه جوابًا للاستفهام، قول الجَحَّاف بن حكيم: بَلَى سَوْفَ نُبْكِيْهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدِ ... وَنُبْكِي نُمَيْرًا بالرِّمَاحِ الخَواطِرِ وقعت جوابًا للذي، قال له الأخطل: ألا فَاسْأَل الجَحَّافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ ... بِقَتْلَى أُصِيْبَتْ مِنْ نُميْر بنِ عَامِرِ وبلى عندنا ثلاثيُّ الوضع وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافًا للكوفيين. اهـ. من "البحر" {سَيِّئَةً} أصله: سَيْوَأَةٌ بوزن فيعلةٍ، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت فيها الياء، كما في سيّد وميِّت؛ لأنَّ المادّة واويُّ العين، يقال: ساءه يسوءهُ سوءًا ومساءةً إذا أحزنه الأمر، وساء زيدٌ إذا حزن، والسيئة تسوء صاحبها عاجلًا وآجلًا، وهي تأنيث السيء {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} تقدَّم أنَّ أصله موثاقٌ، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة {وَقُولُوا لِلنَّاسِ} هو أمرٌ من قال يقول، وأصل يقول: يَقْوُل بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر ضمَّةٍ، فصارت حرف مدّ، فلمَّا بُنِيَ الأمر منه، حُذفت حرف المضارعة ونون الرفع، فقيل: قولوا. {حُسْنًا} في "القاموس": الحسن بضمّ الحاء، وسكون السين الجمال، والجمع محاسن على غير قياس، وقياسه أن يكون جمعًا لمحسنٍ، كمسجد ومساجد، وحسن ككرم ونصر، فهو حاسِنٌ وحَسَنٌ، بفتحتين وحَسِينٌ كأمير، وحُسَانٌ كغُراب، وحسَّان كرُمَّان. اهـ. وأمَّا حَسَنٌ بفتحتين على قراءة حمزة والكسائي، فهو صفة مشبَّهة لا مصدرٌ، كما فهم من عبارة "القاموس"، فسقط ما للكرخي هنا. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أصله: أَقْوِمُوا بوزن أَفْعِلُوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} آتوا أصله: أَأْتِيوا، أمرٌ من آتى الرباعيّ، حذفت منه نون الرفع لبناء الأمر، ثُمَّ أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى، ثُمَّ استثقلت الضمة على الياء،

فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، ثُمَّ ضمَّت التاء؛ لمناسبة الواو، {الزَّكَاةَ} تقدَّم أنَّ ألفه منقلبةٌ عن واو؛ لأنّه من: زكا يَزْكُو، كنما ينمو. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ} استبعادًا لعدم قبولهم الإيمان مع مشاهدة الآيات الباهرة، وتسليةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وللمؤمنين؛ لأنّهم كانوا شديدي الحرص على إيمانهم. ومنها: الإتيان بالجملة الحالية في قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إفادةً لكمال قُبْحِ صنيعهم، وأنَّ تحريفهم للتوراة كان عن قصدٍ وتصميمٍ، لا عن جهل ونسيانٍ، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحقُّ الذمَّ والتوبيخ، أكثر ممن ارتكبها وهو جاهل. ومنها: الاستفهام بمعنى النهي في قوله: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ}؛ لأنَّ المعنى: لا تحدِّثوهم يعنون المؤمنين. ومنها: التعبير بالفتح في قوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}؛ للإيذان بأنّه سِرٌّ مكنون، وبابٌ مغلقٌ لا يقف عليه أحدٌ. ومنها: التوبيخ والعتاب في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ومنها: الطباق في قوله: {يسرون ويعلنون} حيث قابل بين لفظتي يسرّون ويعلنون، وهو نوع طباق الإيجاب. ومنها: ذكر الأيدي في قوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} مع أنَّ الكتابة لا تكون إلّا بالأيدي؛ لدفع توهُّم المجاز بأنَّ المراد أَمْلَوْهُ لغيرهم، وللتأكيد بأنَّ الكتابة باشروها بأنفسهم، كما يقول القائل: كتبته بيميني وسمعته بأذني، وفيه الإطناب أيضًا لتصوير حالة الكتابة في النفس، كما وقعت، وتجسيدها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدًا لها، ولتسجيل الأمر عليهم، كما تقول لمن ينكر معرفته: ما كتب ووقع أنت كتبته بيمينك.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ لأنّ الاشتراء مستعارٌ عن الاستبدال. ومنها: التكرار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}، وقوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} للتوبيخ، والتقريع، ولبيان أنَّ جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى. ومنها: التهكُّم في قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}؛ لأنّ الكسب حقيقةٌ في استجلاب النفع، فاستعماله في استجلاب الضُرّ، كالسيئة على سبيل التهكّم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} حيث شبَّه الخطايا بعدوٍ نزل بقوم، وأحاطوا بهم من كل الجوانب إحاطة السِوَار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة؛ لغلبة السيّئات على الحسنات، فكأنَّها أحاطت بها من جميع الجهات. ومنها: الإشارة بعنوان الجمع في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} مراعاةً لجانب المعنى في كلمة (مَنْ) بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة قبله. ومنها: المقابلة بين فريقي الأشقياء والسعداء في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}، وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. ومنها: الإتيان بالفاء في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} دون قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} إشارة إلى أنَّ خلود النار تسبَّب عن الكفر، بخلاف خلود الجنّة، فلا يتسبَّب عن الإيمان، بل بمحض فضل الله تعالى كذا قاله بعض الأشياخ. اهـ. "صاوي". ومنها: الإتيان بالجملة الخَبَريَّة في قوله: {لَا تَعْبُدُونَ} مرادًا بها النهي؛ لأنّها أبلغ من صريح النهي؛ لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكُّد طلب امتثاله حتى كأنّه امتثل وأخبر عنه. ومنها: الالتافات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} وفي قوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} على قراءة التاء؛ لأن ذكر بني إسرائيل إنّما وقع بطريق الغيبة، ومن فوائد الالتفات: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والإملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقُّلات، والسآمة

من الاستمرار على مِنْوال واحدٍ، كما هو مقرَّرٌ في محلّه. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جَلَّ وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر بني (¬1) إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أُمروا به، من إفراده تعالى بالعبادة، والإحسان إلى الوالدين وذي القربى، ثُمَّ بيَّن أنهم لم يأتمروا بذلك. ذكّرهم في هذه الآيات بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ¬

_ (¬1) المراغي.

[84]

ولم ينتهوا. والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل؛ إرشادًا إلى أنَّ الأمَّة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، ما داموا على سنتهم يحتذون بحذوهم، ويجرون على نهجهم، كما أنَّ ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثِّر في قواه العقليَّة، وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "الدلائل" بسند ضعيف، عن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلّما التقوا هزموا يهود، فعاذت يهود بهذا الدعاء: اللهمّ! إنّا نسألك بحقّ محمدٍ النبيّ الأمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فيهزمون غطفان، فلمَّا بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كفروا به، فأنزل الله سبحانه {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيدٍ، أو عكرمة عن ابن عباس: (أنَّ يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر اليهود! اتَّقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنَّه مبعوثٌ، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني نضير: ما جاءنا بشيءٍ نعرفه، وما هو بالذي كنَّا نذكر لكم) فأنزل الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ...} هو الآية. التفسير وأوجه القراءة 84 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} وهذا شروع في بيان ما فعلوا بالعهد المتعلِّق بحقوق ¬

_ (¬1) لباب النقول.

العباد، بعد بيان ما فعلوا بالعهد المتعلِّق بحقوق الله، فخانوا كُلًّا من العهدين، وهي متضمنةٌ لأربعة عهود (¬1): الأوّل: لا يسفك بعضهم دماء بعضٍ. الثاني: لا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم. الثالث: لا يتظاهر بعضهم على بعض بالإثم والعدوان. الرابع: إن وجد بعضهم بعضًا أسيرًا فداه ولو بجميع ما يملك. والخطاب (¬2) هنا لليهود المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أسلافهم المعاصرون لموسى عليه السلام، على سنن التذكيرات السابقة. أي: واذكروا أيّها اليهود المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقت أن أخذنا الميثاق، وجعلنا العهد على آبائكم في التوراة، وقلنا لهم: {لَا تَسْفِكُونَ} ولا تريقون {دِمَاءَكُمْ} أي: لا يُرقْ بعضكم دم بعض، ولا يقتله ظلمًا وعدوانًا، فهو إخبارٌ بمعنى النهي، كأنّه سورع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه، وإنّما جعل (¬3) قتل الرجل غيره قتل نفسه؛ لاتصاله به نسبًا أو دينًا؛ أو لأنَّ من أراق دم غيره فكأنَّما أراق دم نفسه؛ لأنّه يوجب قصاصًا. وقرأ الجمهور (¬4): {تَسْفِكُونَ} بفتح التاء، وسكون السين، وكسر الفاء، وقرأ طلحة، وشعيب بن أبي حمزة كذلك، إلّا أنهما ضَمَّا الفاء، وقرأ أبو نهيك، وأبو مجلز بضمّ التاء، وفتح السين، وكسر الفاء المشدّدة، وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلّا أنّه سكَّن السين وخفف الفاء. قال أبو حيان: وظاهر قوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}؛ أي: لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدَّةٍ تُصِيبكُم، وحَنَق يَلْحَقُكم، ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الفتوحات. (¬3) الخازن. (¬4) البحر المحيط.

وقد جاء في الحديث: أَمْرُ الذي وضع نصل سيفه في الأَرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، وإخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّه من أهل النار"، وصحَّ: "من قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا"، وتظافرت على تحريم قتل النفس المِلَلُ، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وقيل معناه: لا تسفكوا دماءَ الناس، فإنَّ من سَفك دماءهم سُفك دمه، قال الشاعر: سَقَيْناهُمُ كَأْسًا سَقُونَا بِمِثْلِهَا ... وَلَكِنَّهم كانوا على الموت أصبرا وقيل معناه: لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالإرتداد والزنا بعد الإحصان، والمحاربة وقتل النفس بغير حق، ونحو ذلك مما يُزيل عصمةَ الدماء. وقيل معناه: لا يسفكْ بعضكم دماء بعض، وإليه أشار بقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وكُلُّ أهل دين كنفس واحدة. قاله قتادة، واختاره الزمخشريُّ. اهـ. "ابن عطيّة". قال ابن عطيّة: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقًا أن لا يقتل بعضهم بعضًا، ولا ينفيه، ولا يسترقّه، ولا يدعه يُسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. اهـ. {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} وأوطانكم، والديار: جمع دار، وهو المنزلة الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال؛ أي: لا يخرج (¬1) بعضكم بعضًا من منزله ووطنه، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم، فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنّة التي هي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم؛ أي: إخوانكم؛ لأنّكم كنفسٍ واحدةٍ، أو لا تفسدوا فيكون سببًا لإخراجكم من دياركم، كأنَّه يشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء، أقوالٌ ستّةٌ. وفي اقتران الإخراج من الديار بالقتل (¬2)، إيذانٌ بأنّه بمنزلة القَتْلِ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

والمعنى: أي (¬1) واذكروا إذ أخذنا عليكم العهد، لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضًا من ديارهم، وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل، كأنّه نفسه، ودمه كأنَّه دمه، إذا اتصل به دِينًا، أو نسبًا، إشارةً إلى وحدة الأُمّة وتضامنها، وأنَّ ما يصيب واحدًا منها فكأنَّما يصيب الأمّة جَمْعَاءَ، فيجب أن يشعر كُلُّ فرد منها بأنَّ نفسه نفس الآخرين، ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به، والدم الذي يَنْبِضُ في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحَّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يؤْمىء إليه الحديثُ: "إنّما المؤمنون في تراحمهم، وتعاطفهم، بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهر"، وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصًا، أو بالإخراج من الديار، فتكونون كأنّكم قد قتلتم أنفسكم؛ لأنّكم فعلتم ما تستحقُّون به القتل، كما يقول الرجل لآخر، قد فعل ما يستحقُّ به العقوبة: أنت الذي جنى على نفسه. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} ذلك الميثاق، وقبلتموه، واعترفتم بلزومه، وبوجوب المحافظة عليه، يعني: قَبِلَ ذلك الميثاق، وأقرّ به أسلافكم {وَأَنْتُمْ} أيّها المعاصرون لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - {تَشْهَدُونَ} على أسلافكم قَبُولَهم ذلك الميثاقَ والعهدَ، وتعلمون ذلك، أو المعنى؛ أي: ثمّ أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون، واعترفتم به، ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة قائمةٌ عليكم، وقد يراد وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه السلام، إِمَّا بالنقل المتواتر، وإمّا بما تتلونه في التوراة، وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعيَّن أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثمّ أقررتم عائدٌ إلى الخلق، وأنتم تشهدون عائد إلى السَّلفِ؛ لأنّهم عاينوا سَفْكَ دماءِ بعضهم بعضًا، وقال: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}؛ لأنَّ الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة. وقيل: إنَّ قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} تأكيدٌ للإقرار، ¬

_ (¬1) المراغي.

[85]

كقولك: فلان مقرٌّ على نفسه بكذا شاهدٌ عليها. 85 - {ثُمَّ أَنْتُمْ} مبتدأ {هَؤُلَاءِ}؛ خبرٌ، أي: ثم بعد ذلك الإقرار والشهادة، أنتم أيها المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -! هؤلاء المشاهدون، الحاضرون، الناقضون، الذين يخالفون ما أخذه الله تعالى عليهم في التوراة، فتقتلون أنفسكم وأهل دينكم مع المشركين إلى آخر الآية؛ يعني: أنكم - أيُّها المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قومٌ آخرون غير أولئك المقرّين الذين هم أسلافكم، وكأنّهم قالوا: كيف نحن، فقيل لهم: إنّكم {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: أهل دينكم مع حلفائكم من المشركين؛ أي: تقتلون الفريق الجارين مجرى أنفسكم باتحادكم في الدين، وهذا وما بعده من الإخراج، والمظاهرة، والمفاداة بيانٌ لقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ}؛ لأنّ معنى قوله: {أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أنّكم على حالة أسلافكم من نقض الميثاق، وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين؛ أي: ثمّ أنتم الذين تقتلون أنفسكم ... إلخ. وقيل: {أَنْتُمْ} مبتدأ، و {هَؤُلَاءِ} منادى، حذف منه حرف النداء، وجملة {تَقْتُلُونَ} وما بعده خبرٌ له، والمعنى عليه، ثُمَّ بعد إقرار أسلافكم الميثاق، وشهادتكم على أسلافكم بقبول الميثاق، أنتم - يا هؤلاء المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تقتلون أنفسكم؛ أي: أهل دينكم مع المشركين، أي: ثُمَّ أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد، فتقتلون أنفسكم؛ أي: يقتل بعضكم بعضًا، كما كان يفعل مَن قبلكم، مع أنّكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم، ومن أمثلة ذلك: أنَّ بني قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس، وأعداءً لإخوانهم في الدين بني قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإِسلام أعداء يقتتلون، ومع كلٍّ حلفاؤه، وهذا ما نعاه الله على اليهود بقوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} كما سيأتي بسط هذه القصة عن السدّي. وقرأ الجمهور {تَقْتُلُونَ} مخففًا من قَتَلَ الثلاثي. وقرأ الحسن {تُقَتِّلونَ} مشدَّدًا من قَتَّل الرباعيِّ، هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدويّ: إنّها قراءة أبي نَهِيْك، قال: والزهريِّ والحسنِ {تُقَتِّلونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ} من قتَّلَ؛ يعني: مشدّدًا. والله أعلم بصواب ذلك.

{وَتُخْرِجُونَ} أنتم - أيها المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {فَرِيقًا} وطائفةً {مِنْكُمْ} أي: من أهل دينكم مساعدين للمشركين {مِنْ دِيَارِهِمْ}؛ أي: من ديار أولئك الفريق وأوطانهم، غير مراعين لميثاق الله سبحانه عليكم في التوراة، وقوله: {تَظَاهَرُونَ} وتتعاونون بحلفائكم من المشركين، {عَلَيْهِمْ} أي: على إخراج أولئك الفريق من ديارهم، حالٌ من فاعل {تُخْرِجُونَ} أو من مفعوله مبيِّنةٌ لكيفية الإخراج، رافعةٌ لتوهُّم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال، دون المظاهرة والمساعدة للغير، والمعنى: تُقوون ظُهوركَم بالمشركين للغلبة عليه، وقوله: {بِالْإِثْمِ} حال من فاعل {تَظَاهَرُونَ}؛ أي: حال كونكم ملتبسين بالإثم، وهو الفعل الذي يستحقُّ فاعله الذمَّ واللَّوم، {و} ملتبسين بـ {العدوان}؛ أي: بالتجاوز للحد في الظلم. وفي "النهر": الإثم: ما يستحق متعاطيه الذمَّ، أو ما تنفر منه النَّفس، ولا يطمئن إليه القلب، كالقتل ظلمًا. والعدوان: مجاوزة الحدِّ في الظلم، كالإخراج من الديار، وأخذ الأموال، وسبْي الذراريِّ. وقرأ عاصمٌ، وحمزة، والكسائي: {تَظَاهَرُونَ} بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء، وأصله: تتظاهرون، فحذفت إحدى التاءين وهي عندنا الثانية، لا الأولى خلافًا لهشامٍ، إذ زعم أنَّ المحذوف هي التي للمضارعة الدالَّة في مثلِ هذا المثال على الخطاب، وكثيرًا جاء في القرآن، حذف التاء، وقال الشاعر: تَعاطسون جميعًا حولَ دارِكُمُ ... فكلُّكُمْ يا بني حمدانَ مزكومُ يريد تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء؛ أي: بإدغام التاء في الظاء. وقرأ أبو حيوة {تُظَاهِرُونَ} بضمّ التاء، وكسر الهاء. وقرأ مجاهدٌ، وقتادة باختلافٍ عنهما {تَظَّهَّرُوْنَ} بفتح التاء والظاء والهاء مشدّدين دون ألف، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ بعضهم: {تتظاهرون} على الأصل، فهذه خمس قراءات، ومعناها كُلِّها: التعاون والتناصر {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ}؛ أي: وإن أتاكم هؤلاء الفريق الذين تظاهرون على إخراجهم، وجاءُوكم، ووقعوا في أيديكم حال كونهم {أُسَارَى} أي: مأسورين في يد حلفائكم المشركين، معنى إتيانهم لهم: وقوعهم في يد حلفائهم المشركين الأوس، أو الخزرج، فيتمكَّنون من افتدائهم منهم

بالمال، والأسارى: جمع أسرى بفتح الهمزة وسكون السين، والأسرى: جمع أسير، فالأسارى بضمّ الهمزة والقصر: جمع الجمع، كما ذكره أبو النجا في "حاشيته على متن الأجرُّوميَّة". والأسير: من أُخذ قهرًا، فهو فعيل بمعنى مفعول من الأسر بمعنى الشدِّ والإيثاق، كما سيأتي بسط الكلام فيه في مبحث اللغة. وقرأ الجمهور (¬1) {أُسَارَى} بضمّ الهمزة بوزن فعالى. وقرأ حمزة أسرى بفتح الهمزة بوزن فَعْلَى، وقوله: {تُفَادُوهُمْ} جواب إن الشرطيّة؛ أي: تخرجوهم من الأسر بأعطاء الفداء، والمفاداة تجري بين الفادي وبين قابل الفداء. وقرأ عاصم (¬2)، ونافع، والكسائي {تُفَادُوهُمْ} بضمّ التاء وفتح الفاء، من فادى الرباعي. وقرأ الباقون {تَفْدُوهُم} بفتح التاء وسكون الفاء من فدى، ومعنى تفادوهم: تفدوهم إذ المفاعلة تكون من اثنين ومن واحدٍ، ففاعل بمعنى فعل المجرد وهو أحد معانيه وقيل: معنى فادى بادل أسيرًا بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأوّل قول العباس: (فادَيْتَ نَفسي وفاديت عقيلًا) ومعلوم أنّه ما بادل أسيرًا بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل. تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير، الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله: قِفِي فَادِي أَسِيْرَكِ إنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ ما أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا وتفدوهم: تعطوا فديتهم. وقال أبو عليّ: معنى تفادوهم في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئًا، وفاديت نفسي؛ أي: أطلقتها بعد أن دفعت شيئًا، وفادى وفدى يتعدَّيان إلى مفعولين، الثاني بحرف جرّ وهو هنا محذوف، تقديره: تفادوهم به؛ أي: بالمال، ذكره في "البحر". والمعنى: أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرًا في يد حلفائكم المشركين، تُخلِّصونه من الأسر بدفع مال الفداء ¬

_ (¬1) البحر. (¬2) البحر المحيط.

عنهم، وقوله: {وَهُوَ} مبتدأ؛ أي: الشأن {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متعلّق (¬1) بقوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} وما بينهما اعتراضٌ، والضمير للشأن، كما ذكرنا في الحلِّ، أو مبهمٌ يفسِّره إخراجهم، أو راجعٌ إلى ما دلَّ عليه {وَتُخْرِجُونَ} من المصدر، وإخراجهم بدلٌ منه، أو عطف بيان، وقال في "الروح" {هُوَ} مبتدأ {مُحَرَّمٌ} فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرًا عن {إِخْرَاجُهُمْ}، والجملة خبر لضمير الشأن. اهـ. والمعنى (¬2): أي وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، والحال أنَّ الشأن محرَّم عليكم إخراجهم من ديارهم أوّل مرّةٍ، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى، أخذ على بني إسرائيل في التوراة أربعة عهودٍ: ترك القتل؛ أي: أن لا يقتل بعضهم بعضًا، وترك الإخراج؛ أي: لا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، وترك المظاهرة على أهل دينهم مع أعدائهم، وفك أسراهم من أيدي أعدائهم، وأيما عبدٍ، أو أمةٍ، وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه، وأعتِقوه، فأَعْرَضوا عن الكلِّ إلّا الفداء. وكان النضير (¬3)، وقريظة أخوين، كالأوس والخزرج، فافترقوا، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة، فكان كُلُّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خرَّبوا ديارهم، وأخرجوهم من ديارهم، ثُم إذا أُسِرَ رجلٌ من الفريقين فدوه، كما لو أُسِرَ واحدٌ من النضير، ووقع في يد الأوس، افتدته قريظة منهم بالمال، وهكذا يقال في عكس ذلك، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا، ولا حرامًا، يُعيِّرون قريظة والنضير، ويقولون لهم: كيف تقاتلونهم أوَّلًا ثم تفادونهم؟ فيقولون: أُمِرْنَا أن نفديهم، وحُرِّم علينا قتالهم، ولكن نستحي أن تُذَلَّ حلفاؤنا، فذمَّهم الله تعالى بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ} ما في {الْكِتَابِ} والتوراة، وتصدِّقونه، وتمتثلونه وهو ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) العمدة. (¬3) المراح.

المفاداة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ما فيه، وتجحدونه ولا تمتثلونه، وهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، والذي في الكتاب فعل جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، فهم فعلوا الواجب الذي هو المفاداة، ولم يتركوا المحرَّم الذي هو القتل، والإخراج، والمظاهرة، وذلك منتهى ما يكون من الحماقة، فإنَّ الإيمان لا يتجزأ، والغرض من ذلك؛ التوبيخ لهم؛ لأنّهم جمعوا بين الكفر والإيمان، والكفرُ ببعض آيات الله كفرٌ بالكتاب كِلّه، فلهذا عقب ذلك بقوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ...} إلخ. والهمزة في قوله (¬1): {أَفَتُؤْمِنُونَ} للاستفهام التوبيخي المضمَّن للإنكار، داخلةٌ على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتفعلون ذلك، فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ، مع أنَّ قضيَّة الإيمان، الإيمان بالباقي؛ لكون الكل من عند الله تعالى داخلًا في الميثاق، فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض {فَمَا جَزَاءُ} نفي؛ أي: ليس جزاء {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ}؛ أي: الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان بالبعض {مِنْكُمْ} يا معشر اليهود: حالٌ من فاعل يفعل، {إِلَّا خِزْيٌ} استثناءٌ (¬2) مفرع وقع خبرًا للمبتدأ؛ أي: ذُلٌّ وهوانٌ مع الفضيحة، وهو قتل بني قريظة، وأسرهم، وإجلاء بني النضير إلى أذرعات، وأريحا من الشام، وقيل: هو أخذ الجزية {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفة خزي، ولعلَّ بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب، وإظهار أنَّه لا أثر له أصلًا مع الكفر بالبعض {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: ويوم تقام فيه الأجزية، وهو عبارةٌ عن زمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار، {يُرَدُّونَ}؛ أي: يرجعون، والردُّ: الرَّجع بعد الأخذ {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} وهو التعذيب في جهنّم، وهو أشدُّ من خزيهم في الدنيا، وأشدُّ من كل عذاب كان قبله، فإنَّه ينقطع وهذا لا ينقطع، وفي الحديث: "فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، وإنّما كان أشدَّ؛ لما أنَّ معصيتهم كانت أشدَّ المعاصي. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[86]

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} أي: بساهٍ {عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكر؛ أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيجازيهم بها يوم البعث، وهذا تهديدٌ شديدٌ، وزجرٌ عظيمٌ عن المعصية، وبشارةٌ عظيمةٌ على الطاعة؛ لأنّ الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه تعالى، مع أنّه أقدر القادرين وصَلَتِ الحُقوقُ إلى مستحقِّيها، فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيّئات. وقرأ الجمهور (¬1): {يُرَدُّونَ} بالياء، وهو مناسب لما قبله من قوله: {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} ويحتمل أن يكون التفاتًا، فيكون راجعًا إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ} فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن، وابن الهرمز باختلاف عنهما (تُردُّون) بالتاء، وهو مناسبٌ لقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ} ويحتمل أن يكون التفاتًا بالنسبة إلى قوله: {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، وأشدُّ العذاب الخلود في النار، وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو أنواع عذاب جهنّم؛ لأنّها دركاتٌ مختلفةٌ، وفيها أوديةٌ، وحَيَّاتٌ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا رَوح مع اليأس من التخلُّصِ، أو الأشدِّية بالنسبة إلى عذاب الدنيا، أو الأشدِّية بالنسبة إلى عذاب عامَّتهم؛ لأنّهم الذين أضلُّوهم ودلَّسُوا عليهم، أقوالٌ خمسةٌ. وقرأ نافع (¬2)، وابن كثير، وأبو بكر: (عمّا يعملون) بالياء، والباقون بالتاء من فوق، فبالياء ناسب {يُرَدُّونَ} قراءة الجمهور، وبالتاء تُناسب قراءةَ {تُردُّون} بالتاء، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبًا في الآية قبل، ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنَّ بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تُعنَوْن بهذا يا أُمّة محمدٍ! وبما يجري مجراه). وهذه الآية من أوعظ الآيات إذ المعنى: إنّ الله بالمرصاد لكل كافرٍ وعاصٍ، ثُمَّ أكَّد عظيم حماقتهم وسيىء، إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا، فقال: 86 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة التي منها الجمع بين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الإيمان والكفر، هم {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: استبدلوا الحياة الدنيا {بِالْآخِرَةِ}؛ أي: عن الآخرة، وأعرضوا عن الآخرة مع تمكِّنهم من تحصيلها؛ أي (¬1) اختاروا لذَّات الحياة الدنيا على لذات الآخرة اختيار المشتري المبيع بدل الثمن؛ لأنّ الجمع بين لذَّات الدنيا ولذات الآخرة غير ممكنٍ، فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة، أي: أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا، واستبدلوها بالآخرة، فقدَّمُوا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الآخرة، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءَهم، كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإيّاه رابطة الدين، والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاءَ مرضاته {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} دنيويًّا، أو أخرويًّا، فلا يُهَوَّن عليهم العذاب، ولا يُقلَّل بنقص (¬2) الجزية عنهم في الدنيا، والتعذيب في الآخرة. وقيل: نفس التخفيف مختصٌّ بالآخرة، والمعنى حينئذٍ: فلا يخفَّف عنهم العذاب في الآخرة بالانقطاع، ولا بالقلَّة في كل وقت، أو في بعض الأوقات {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: ولا هم يمنعون من عذاب الله؛ أي: ليس (¬3) لهم ناصرٌ يدفع عنهم العذاب، وينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمديِّ، ويجيرهم منه. وهذا (¬4) إخبار من الله سبحانه وتعالى، بأنَّ اليهود لا يزالون في عذاب موفَّر، لازم لهم بالجزية، والصغار، والذلّة، والمهانة، فلا يُخفَّف عنهم ذلك أبدًا ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوِّهم. واعلم: أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنعٌ غير ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البيضاوي. (¬3) ابن كثير. (¬4) الشوكاني.

ممكن، والله سبحانه مكَّن المكلَّف من تحصيل أيّتهما شاء وأراد، فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما، فقد فوَّت الأخرى على نفسه، فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتابهم، وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا، كالبيع والشراء، وذلك من الله نهاية الذمِّ لهم؛ لأنَّ المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذمومٌ، فأنْ يُذَمَّ مشتري الدنيا بالآخرة أولى، فعلى العاقل أن يرغب في تجارة الآخرة، ولا يركن إلى الدنيا ولا يسفك دمه بامتثال أوامر الشيطان في استجلاب حظوظ النفس، ولا يخرج من ديار دينه التي عليها في الأصل الفطرة، فإنَّه إذًا يضِلُّ ويشقى. قال أبو حيان: وقد تضمّنت (¬1) هذه الآيات الكريمة من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} إلى هنا، إخبار الله تعالى، أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة لله تعالى، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنّهم نقضوا الميثاق بتولِّيهم، وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا، والتزموا ذلك، فإن الميثاق الأول يتضمَّن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمَّن النواهي؛ لأنَّ التكاليف الإلهيّة مبنيَّةٌ على الأوامر والنواهي، وكان البدء بالأوامر آكد؛ لأنّها تتضمَّن أفعالًا والنواهي. تتضمَّن تُروكًا، والأفعال أشقُّ من التروك، وكان من الأوامر: الأمر بإفراد الله بالعبادة وهو رأس الإيمان، إِذ مُتعلَّقه أشرف المتعلَّقات، فكان البدء به أولى، ثمَّ نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدَّم إخباره أنَّهم خالفوا في الأوامر بقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} لأنَّ فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات؛ لأنَّها تروك، كما ذكرنا. ثمّ قرَّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنّهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان، ثمَّ ذكر تناقض آرائهم، وسخف عقولهم بفداء من أتى إليهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[87]

منهم، مع أنَّهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم مع علمهم بتحريم إخراجهم، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، هذا مع أنَّه كُلَّه حَقٌّ وصِدْقٌ، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض والإيمان ببعض، ثم ذكر أنَّ الجزاء لفاعل ذلك هو الخزيُ في الدنيا، وأشدُّ العذاب في الآخرة، وأنَّ الله تعالى لا يغفل عمَّا عملوه فيجازيهم على ذلك. ثم أشار إلى أنَّ من تحلَّى بهذه الأوصاف الذميمة، وخالف أمر الله ونهيه، هو قد اشترى عاجلًا تافهًا بآجلٍ جليلٍ، وآثر فانيًا مكدَّرًا على بَاقٍ صافٍ، وأنَّ نتيجة هذا الشراء أن لا يخفَّف عنهم ما حلَّ بهم من العذاب، ولا يجدوا ناصرًا يدفع عنهم سوء العذاب، وشديد العقاب، لقد خسروا تجارةً، وبدَّلُوا بالنعيم السرمديِّ نارًا وقودها الناس والحجارة، وإذا كان التخفيف قد نفي، فالرفع أولى، وهل هذا إلّا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟!. انتهى. 87 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا}؛ أي: بالله لقد أعطينا يا بني إسرائيل {مُوسَى} بن عمران؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد أعطينا موسى بن عمران {الْكِتَابَ} أي: التوراة جملةً واحدةً. ومناسبة هذه الآية لِمَا قبلها (¬1): أنّ إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم، إذْ فيه أحكامهم وشرائعهم، ثُمَّ قابلوا تلك النعمة بالكفران، وذلك جَرْيٌ على ما سبق من عادتهم، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء، فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكْرُ هذه الآية ما قبلها، والإيتاء (¬2): الإعطاء، فيحتمل أن يراد به الإنزال؛ لأنَّه أنزله عليه جملةً واحدةً، ويحتمل أن يراد آتيناه: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود، والأحكام، والأنباء، والقصص، وغير ذلك ممَّا فيه، فيكون على حذف مضاف؛ أي: آتينا موسى علم الكتاب، أو فهم الكتاب، وموسى هو نبيُّ الله موسى بن عمران صلى الله على نبيّنا وعليه وسلّم، وهو لغةٌ عبرانيةٌ، قد سبق عند قوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى ...} الآية. والكتاب هنا: التوراة في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد إذ قرن بموسى، وانتصابه على أنّه مفعول ثان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

لآتينا، وقال السهيليُّ: إنّه مفعول أوّل له، وموسى هو المفعول الثاني {وَقَفَّيْنَا} يقال: قفاه به إذا أتبعه إيّاه؛ أي: أتبعنا، وأردفنا، وجئنا {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد موسى بن عمران {بِالرُّسُلِ} زمن عيسى عليهم السلام، متواترةً يظهر بعضهم إثر بعضٍ، والشريعة واحدة، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام، وجاءهم بشريعةٍ جديدةٍ، وغيَّر بعض أحكام التوراة. وقيل إنَّ مدَّة ما بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة وخمسٌ وعشرون سنةً. ذكره السيوطي في "التَّحْبِير". قيل (¬1): إنّ الرسل بعد موسى هم: يوشع بن نون، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرميا، وعزيرٌ، وحزقيلٌ، وإلياسُ، واليسعُ، ويونسُ، وزكريا، ويحيى، وغيرهم، ومنْ في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} لابتداء الغاية وهو ظاهرٌ؛ لأنَّه يُحْكَى: أنَّ موسى لم يَمُتْ حتى نُبِّىء يوشعُ، والباء في قوله: {بِالرُّسُلِ} متعلقةٌ بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد؛ لما استفيد من القرآن وغيره، أنَّ هؤلاء بعثوا من بعده، ويحتمل أن تكون التقفية هي كونهم يتَّبعون في العمل بالتوراة، وأحكامها، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور (¬2). {بِالرُّسُلِ} بضمّ السين. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر بتسكينها، وهما لغتان فيه، ووافقهما أبو عَمْرو إن أُضيف إلى ضمير جمع، نحو: (رُسْلهم ورُسْلكم ورُسْلنا)؛ استُثقل توالي أربع متحركات، فسُكِّن تخفيفًا {وَآتَيْنَا}؛ أي: أعطينا {عِيسَى} بالسريانة (¬3) اليسوع، ومعناه: المبارك، والأصحّ: أنّه لا اشتقاق له ولأمثاله في العربية، وأضافه إلى مريم أمّه؛ ردًّا على اليهود فيما أضافوه إليه. {ابْنَ} بإثبات الألف، وإن كان واقعًا بين العلمين؛ لندرة الإضافة إلى الأمّ {مَرْيَمَ} بالسريانية بمعنى الخادمة والعابدة، قد جعلتها أمّها محرّرة لخدمة المسجد، ولكمال عبادتها ¬

_ (¬1) أبو السعود والخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

لربّها، سمّاها الحقّ تعالى في كتابه الكريم مع الأنبياء عليهم السلام سبع مرّات، وخاطبها كما خُوطِب الأنبياء، كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} فشاركها مع الرجال. وقد أجمل (¬1) الله سبحانه ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى؛ لأنّ من قبله كانوا متّبعين شريعة موسى، وأمّا عيسى فنسَخَ شَرْعُه كثيرًا من شرع موسى؛ أي: وآتينا عيسى ابن مريم {الْبَيِّنَاتِ}؛ أي: الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات الدَالَّة على نُبوّته، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام، وهذا هو الظاهر. وقيل: الإنجيل. وقيل: الحجج التي أقامها الله على اليهود، كإحياء الموتى وهو أربعةٌ: سامُ بن نوح، والعازِرو ابنُ العَجوز، وبنتُ العَشَّار، ومن الطير الخفاش. قيل: لم يكن مِنْ قَبْلِ عيسى، بل هو صوَّرهُ، والله نفخ فيه الروح، وقيل: كان قَبْلَهُ، فوضَع عيسى على مثاله. قالوا: وإنّما اختصَّ هذا النوع من الطير؛ لأنّه ليس شيءٌ من الطير أشدَّ خلقًا منه؛ لأنّه لحمٌ كلُّه، وكإبراء الأكمه سواء كان كمهه خلقيًّا، أو طارئًا، وإبراء الأبرص، والإخبار بالمغيَّبات. فائدة: ولفظ عيسى (¬2) لغةٌ عبرانيةٌ معناه: السَّبُوح بفتح السين وضمّ الباء المخفّفة بمعنى: السَّابح، وهو من الخيل السريعُ الجري، وبالسريانية اسمه: أيشوع، ومعناه: المبارك، ولفظ مريم لغة سريانية معناه: خادمة الله، وفي كتاب "لسان العرب" هي: المرأة التي تكره مخالطة الرجال، وإنّما خصَّ عيسى بالذكر مع دخوله في قوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}؛ إشعارًا بفضله، ومزيَّته على غيره لكونه رسولًا مستقلًّا بشرع يخصه: لأنّه نسخ بعض ما في التوراة، وردًّا على اليهود حيث ادَّعوا أنهم قتلوه، وما بين موسى وعيسى: أربعة آلاف نبيٍّ، وقيل: سبعون ألف نبيٍّ، {وَأَيَّدْنَاهُ} أي: قوَّينا عيسى عليه السلام. وقرأ الجمهور (¬3) على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة. (¬3) البحر المحيط.

وزن فعَّلناه. وقرأ مجاهد، والأعرج، وحميد، وابن محيصن، وحسين عن أبي عمرو {أَأْيَدْناه} على وزن أفعلناه. وقرأ ابن كثير {آيَدْنَاه} بمد الهمزة وتخفيف الياء، وهاتان القراءتان من الشواذ والأصحّ أنّها كلها بمعنى: قوَّيناه، وكُلُّها من الأيد وهو القوّة؛ أي: قوَّيناه، وآنَسْنَاه، وشدَدْناه {بِرُوحِ الْقُدُسِ} من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ أي: بالروح المُقدَّس؛ أي: المطهَّر الذي هو جبريل عليه السلام، وذلك لأنّه بشَّر مريم بولادتها له، وكان من نفخه في جيبها، وهو الذي ربَّاه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد به إلى السماء وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وسُمِّي جبريل روحًا؛ لأنَّ به حياة القلوب بسبب وحيه إلى الأنبياء، كما أنَّ الروح المعروفة بها حياة الأبدان، ووصف بالقدس بمعنى الطُّهْرِ؛ لطهارته من المعاصي، والمخالفات، والأقذار، وقد مدحه تعالى بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فمعنى تقويته به: أنّه عصمه من أوّل حاله إلى كبره، فلم يدن منه الشيطان عند الولادة، ورفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله. وقيل (¬1): أيدناه بالروح المقدَّسة المطهرة، وهي روح عيسى عليه السلام، وُصِفَت بالقدس؛ للكرامة؛ لأنَّ القدس هو الله سبحانه وتعالى، كالقدُّوس. وقرأ الجمهور (¬2) بضمّ القاف والدال. وقرأ مجاهد، وابن كثير بسكون الدال حيث وقع في القرآن، وفيه لغةٌ: فتحها. وقرأ أبو حيوة: {القُدُوْس} بواوٍ. قال أبو حيان: والرُّوح هنا: اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يُحيي الموتى. قاله ابن عباس، أو الإنجيل، كما سَمَّى الله تعالى القرآن روحًا في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قاله ابن زيد، أو الروح الَّتي نفخها الله تعالى في عيسى عليه السلام، أو جبريل عليه السلام. قاله قتادة، والسديّ، والضحاك، والربيع، ونسب هذا القول لابن عباس. قاله ابن عطيّة. وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لحسَّان بن ثابت: "أُهْجُ قُريشًا وروح القدس معك" ومرَّةً قال له: "وجبريل معك". انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

قالوا ويُقوِّي ذلك قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وقال حسان بن ثابت - رضي الله تعالى عنه -: وجبريلُ رسولُ اللهِ فينا ... وروحُ القُدْسِ لَيْس لَهُ كِفَاءُ وتسمية جبريل بذلك؛ لأنَّ الغالب على جسمه الرُّوحانيَّة، وكذلك سائر الملائكة؛ أو لأنّه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح، فإنَّه هو المتولِّي لإنزال الوحي؛ أو لتكوينه روحًا من غير ولادةٍ، وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام؛ لإظهار حجته وأمر دينه؛ أو لدفع اليهود عنه إذ أرادوا قتله، أو في جميع أحواله، قالوا: وإطلاق الروح على جبريل، وعلى الإنجيل، وعلى اسم الله الأعظم مجازٌ؛ لأنَّ الرُّوح هو الريح المتردّدُ في مخارق الإنسان، أي: في منافذه، ومعلومٌ أنَّ هذه الثلاثة ما كانت كذلك. اهـ. من "البحر". وخلاصة معنى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ...} إلخ؛ أي (¬1): ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهي التوراة، ثمّ أتبعنا من بعده رسولًا بعد رسول مقتفين إثره، فلم يمض زمنٌ إلّا كان فيه نبيٌّ، أو أنبياء، يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع، أو تحريفها، وتغيير أوضاعها، ثُمَّ خصَّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام، فقال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .. الخ؛ أي: وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدلُّ على صدق نُبوّته، وأنّه مُوحًى إليه من ربّه، وأيّدناه بروح الوحي الذي يُؤيِّد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم، ومعارفهم، وأرسلناه بعد ظهور كثيرٍ من الرسل، ولم يكن حظّهُ بينهم أحسن من حظِّ سابقيه، ثُمَّ بين ماذا كان حظُّ الرسل من بني إسرائيل، فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} خاطب بهذا أهل عصر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد فعله أسلافهم؛ يعني: لم يوجد منهم القتل، وإن وجد منهم الاستكبار؛ لأنّهم يتولَّونهم ويرضون بفعلهم، والراضي بفعل الغير كفاعله، وقد كذَّبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، وسقوه السُمَّ ليقتلوه، وسحروه. ويجوز أن (¬2) يكون الخطاب عامًّا لجميع بني إسرائيل، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

إذ كانوا على طبق واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشكِّ، والارتياب فيما أتوهم به، ويحتمل أن يكون الخطاب لأسلافهم الذين فعلوا ذلك، وسياق الآيات يدلُّ عليه. والهمزة (¬1) فيه للاستفهام التوبيخيّ داخلةٌ على محذوف، والفاء عاطفة لجواب كلّما على ذلك المحذوف؛ لأنَّ حقَّ الهمزة والفاء أن يدخلا على الجواب؛ أي: ألم تطيعوهم؟ فكلَّما جاءكم رسول {بِمَا لَا تَهْوَى} ولا تريد {أَنْفُسُكُمُ} ولا يوافق هواكم من الحق الذي لا انحراف عنه {اسْتَكْبَرْتُمْ}؛ أي: تكبَّرتم، وتعظَّمتم عن الاتباع له، والإيمان بما جاء به من عند الله، واستفعل هنا بمعنى: تفعَّل، وهو أحد معاني استفعل، وفسَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكِبْرَ بأنَّه: "دَفْعُ الحقِ، وغَمْطُ الناس"؛ أي: إنكار الحقِّ، واحتقار الناس. والمعنى: أدمتم يا معشر اليهود! على التكذيب، فاستكبرتم عن الإيمان كُلَّما جاءكم رسولٌ من الرسل بما لا تهوى، ولا تُحِبُّ أنفسكم؛ أي: استكبرتم عن الإيمان، ودمتم على التكذيب كُلَّ وقتٍ جاءكم رسولٌ منهم بالحقِّ الذي لا يوافق هواكم. {فَفَرِيقًا}؛ أي: طائفةً منهم {كَذَّبْتُمْ} كعيسى، ومحمدٍ عليهما السلام، والجملة معطوفة على قوله: {اسْتَكْبَرْتُمْ}؛ أي: فنشأ عن الاستكبار مبادرتهم فريقًا من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، ولم يتمكَّنوا منه {وفريقًا} منهم {تَقْتُلُونَ} كزكريا، ويحيى، وغيرهما عليهم السلام؛ أي: وفريقًا منهم بادروه بالقتل إذ قدروا على قتله، وتهيَّأ لهم ذلك، ومعلوم (¬2) أنَّ من قتلوه فقد كذّبوه، واستغنى عن التصريح بتكذيبه؛ للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} معطوفًا على قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ} ويكون قوله: أفكُلَّمَا مع ما بعده اعتراضًا بينهما على سبيل الإنكار، والأظهرُ في ترتيب الكلام الأوّلُ، وهذا أيضًا محتملٌ. وقدَّم المفعول وأخر العامل في قوله: {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}؛ ليتَواخى رؤُوسُ الآي، وثَمَّ محذوف، ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

تقديرُهُ: ففريقًا منهم كذبتم، وبدأ بالتكذيب؛ لأنَّه أوَّل ما يفعلونه من الشرِّ؛ ولأنه المشترك بين الفريقين المكذَّبِ والمقتولِ، وأَتَى بفعلِ القتل مضارعًا؛ لحكاية الحال الماضية؛ ولِمَا فيه من مناسبةِ رؤوس الآي التي هي فواصلُ، وإمَّا لكونه مستقبلًا، لأنّهم يَرُوموُن قَتْلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك سَحَروه وسَمُّوه. اهـ. من "البحر". والمعنى: إنَّه نشأ من استبكارهم مبادرتهم لفريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرتهم لآخرين بالقتل. وعبارة "الروح" هنا؛ وقدَّم (¬1) فريقًا في الموضعين؛ للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، لا للقصر، ولم يقل قتلتم، وإن أريد الماضي؛ تفظيعًا لهذه الحالة، فكأنَّها - وإن مضت - حاضرةٌ لشناعتها، ولثبوت عارها عليهم، وعلى ذرِّيتهم بعدهم، أو يراد: وفريقًا تقتلونهم بعد، وإنّكم على هذه النيَّة؛ لأنّكم حاولتم قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لولا أنَّي عصمته منكم، ولذلك سحرتموه، وسممتم له الشاة حتى قال - صلى الله عليه وسلم - عند موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني"؛ أي: يراجعني أثر سُمِّها في أوقاتٍ معدودة: "فهذا أوان قَطعَتْ أبهري" وهو عرقٌ منبسطٌ في القلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقصته: أنّه لمّا فتحت خيبر وهو موضع بالحجاز قرب المدينة، أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ فيها سُمٌّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ فيه" قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا" قالوا: نعم، قال: "فما حملكم على ذلك" قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت صادقًا لم يضرَّك. واعلم: أنَّ اليهود أَنِفُوا من أن يكونوا أتباعًا، وكانت لهم رئاسةٌ، وكانوا متبوعين، فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرئاسة، فما دام لم يخرج حُبُّ الرئاسة من القلب، لا تكون النَّفس مؤمنةً بالإيمان الكامل. وللنفس صفاتٌ سبعٌ مذمومةٌ: العجب، والكبر، والرياء، والغضب، والحسد، وحُبُّ المال، وحبّ الجاه. ولجهنَّم أيضًا أبوابٌ سبعةٌ: فمن زكى نفسه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[88]

عن هذه السبع، فقد أغلق سبعة أبواب جهنم، ودخل الجنّة. وأوصى إبراهيم بن أدهم بعض أصحابه، فقال: كُنْ ذَنَبًا ولا تكن رأسًا، فإنَّ الرأس يهلك، والذنب يسلم. ومعنى قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ ...} إلخ؛ أي: أَبَلَغَ (¬1) الأمر بكم أنَّكم كُلَّما جاءكم رسولٌ من رسلي بغير الذي تهوى نفوسكم أعرضتم، فاستكبرتم عليه تجبُّرًا وبغيًا في الأرض، فبعضًا منهم تكذِّبون، وبعضًا تقتلون، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ العناد والجحود من طبعكم، وسجيَّةٌ عرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم. قال ابن عطيّة: روي أنَّ بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سُوقهُم آخرَ النهار. وروي: قتلوا سبعين نبيًّا، ثمّ تقوم سُوقُ بَقْلِهم آخرَ النهار، فضلًا عن سوق الأقمشة النفيسة. 88 - ثُمَّ أخبر سبحانه وتعالى عن اليهود المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبين ضلالهم في اقتدائهم بأسلافهم، فقال حكايةً عنهم: {وَقَالُوا}؛ أي: اليهود المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف، كحمر جمع أحمر، مستعارٌ من الأغلف الذي لم يختن؛ أي: قلوبنا مغشّاة مغطّاة بأغشيةٍ جِبِليَّةٍ، وأغطية خِلْقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا تفقهُهُ، ولا تفهمُهُ. وقرأ الجمهور (¬2) {غُلْفٌ} بإسكان اللام، واختلف في سكون اللام، أهو سكونٌ أصليٌّ، فيكون جمع أغلف، كحمر وأحمر؟ أم هو سكون تخفيف، فيكون جمع غلاف؟ وأصله: الضُمُّ، كحمار وحمر. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن {غُلُف} بضمّ اللام وهي مرويّةٌ عن أبي عمرو - وليست في المتواتر عنه - وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف؛ لأنّ تثقيل فُعَّل الصحيح العين لا يجوز إلّا في الشعر، يقال: غلفت السيف، جعلت فيه غلافًا، وأمّا من قرأ {غُلْفٌ} بالإسكان، فمعناه: أنَّها مستورة عن الفهم والتمييز، وقال مجاهد؛ أي: عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابعٌ. وقال الزجاج: ذوات غلفٍ؛ أي: عليها غُلْفٌ لا تصل إليها الموعظة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقيل معناه: خُلِقَتْ غُلفًا لا تتدبَّر ولا تعتبر. وقيل: محجوبةٌ عن سماع ما تقُول، وفهمِ ما تُبيِّن، ويحتمل على هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البَهْتِ والمدافعة حتى يُسْكِتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون ذلك خبرًا منهم بحال قلوبهم؛ لأن الأوّل فيه ذَمُّ أنفسهم بما ليس فيها، وكانوا يدفعون بغير ذلك، وأسباب الدفع كثيرةٌ. وأمّا من قرأ بضمّ اللام (¬1)، فمعناه: أنّها أوعيةٌ للعلم، أقاموا العلم مقام شيءٍ مجسَّدٍ، وجعلوا الموانع التي يمنعهم غلفًا له؛ ليستدلّ بالمحسوس على المعقول، ويحتمل أن يريدوا بذلك أنَّها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقًّا وصدقًا لوَعَتْهُ، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، ويحتمل أنّ يكون المعنى: أنَّ قلوبنا غُلُفٌ؛ أي: مملوءة علمًا فلا تسع شيئًا، ولا تحتاجُ إلى علمٍ غيرِه، فإنَّ الشيء المغلق لا يسع غلافه غيره، ويحتمل أن يكون المعنى: إنّ قلوبهم غُلْفٌ على ما فيها من دينهم وشريعتهم واعتقادهم؛ أي: أنَّ دوامَ ملَّتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها، وقوَّتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يَصُونُ المُغَلَّف أن يصل إليه ما يغيِّره. وقيل المعنى: كالغلاف الخالي الذي لا شيء فيه. اهـ. من "البحر". والغرض (¬2): إقناطه - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم، رَدَّ الله تعالى أن تكون قلوبهم مخلوقةً كذلك؛ لأنها خلقت على الفطرة، والتمكُّن من قبول الحق، وأضرب وقال: {بَلْ لَعَنَهُمُ} وطردهم وأبعدهم {اللَّهُ} سبحانه وتعالى عن رحمته {بِكُفْرِهِمْ}؛ أي: بسبب كفرهم وضلالهم: أي: ليس عدم قبولهم لخللٍ في قلوبهم، ولكنَّ الله سبحانه أبعدهم عن رحمته، وخَذلَهم، وخلَّاهُم وشَأنَهم بسبب كفرهم العارض، وإبطالهم لاستعدادهم بسوءِ اختيارهم بالمرَّةِ. وقال أبو حيَّانْ و {بَلْ} هنا (¬3) للإضراب الإبطاليّ عن النسبة التي تضمَّنها قولهم: إنّ قلوبهم غُلفٌ، وليس ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) البحر المحيط.

[89]

إضرابًا عن اللفظ المقول؛ لأنّه واقعٌ لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنَّما الإضراب عن النسبة المفهومة من قولهم: قلوبنا غلفٌ؛ لأنّها خُلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورةً لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تُخْلق عليه، ثمّ أخبر تعالى أنّهم لُعِنُوا بسبب ما تقدّم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللَّعن المتسبَّب عن الذنب الذي هو الكفر، فانتصاب {قليلًا} في قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} على المصدرية على أنّه نعت لمصدر محذوف، و {مَا} مزيدةٌ؛ لتأكيد القلَّة، والفاء لسببية (¬1) اللعن؛ لعدم الإيمان؛ أي: فَبسبَبِ ذلك اللعنِ يؤمنون إيمانًا قليلًا في غاية القلّة، قاله قتادة؛ أي: يؤمنون بالقليل مِمَّا كلفوا به؛ لأنّهم يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل، وبما جاؤوا به؛ أي: إيمانهم قليلٌ جدًّا، أو على الظرفية على أنّه نعت لزمان محذوف؛ أي: فيؤمنون زمانًا قليلًا في غاية القلة؛ لقوله تعالى: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} أو على الحالية من فاعل يؤمنون حال كونهم جمعًا قليلًا؛ أي: المؤمن منهم قليلٌ، كعبد الله بن سلام، وأضرابه، وقال هذا المعنى ابن عباس، وقتادة أيضًا، وهو مذهب سيبويه، والأحسن من هذه المعاني كلِّها هو الأول؛ لأنّ دلالة الفعل على مصدره، أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل؛ ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلّا قليلًا} اهـ. من "البحر". 89 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: ولما جاء اليهود المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {كِتَابٌ} وقرآن نازلٌ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ووصفه بقوله: من عند الله؛ للتشريف؛ وللدلالة على أنَّه جديرٌ بأن يقبل، ويُتَّبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو واردٌ من عند خالقهم، وإلههم الذي هو ناظرٌ في مصالحهم، {مُصَدِّقٌ}؛ أي: موافقٌ {لِمَا مَعَهُمْ}؛ أي: لكتابهم؛ أي: للتوراة التي في أيديهم في التوحيد، وبعض الشرائع، وصفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو صفةٌ ثانيةٌ، وقُدّمت (¬2) الأولى عليها؛ لأنّ الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشيءٌ عن كونه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

من عند الله تعالى، لا يقال: إنّه يحتمل أن يكون من عند الله متعلِّقًا بجاءهم، فلا يكون صفة؛ للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمولٌ لغير أحدهما. وفي مصحف أُبَيٍّ {مصدقًا} وبه قرأ ابن أبي عبلة، ونصبه على الحال من كتاب وإن كان نكرة، وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرطٍ، فقد تخصَّص هنا بالصفة فقَرَّبَتْهُ من المعرفة، وقوله: {لِمَا مَعَهُمْ} هو التوراة والإنجيل، وتصديقه إمّا بكونهما من عند الله، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته. قال ابن التمجيد: المصدَّق به: ما يختصُّ ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما يدلُّ عليها من العلامات لا الشرائع والأحكام؛ لأنَّ القرآن نسخَ أكثرها. وجواب (¬1) {لِمَا} محذوفٌ دلَّ عليه جواب {لِمَا} الثانية تقديره: ولمَّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدّق لما معهم كذَّبوه. وقيل: جوابها جملة قوله الآتي: {كَفَرُوا بِهِ} كما سيأتي قريبًا. {و} قد {كانوا}؛ أي: اليهود {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونزول القرآن، وبُني لقطعِه عن الإضافة إلى معرفة {يَسْتَفْتِحُونَ} ويستنصرون؛ أي: يطلبون من الله الفتح والنصر {عَلَى} أعدائهم {الَّذِينَ كَفَرُوا} وأشركوا بالله؛ أي: يستنصرون به على مشركي العرب، وكفار مكة من أَسَدٍ، وغَطَفَانَ، ومُزَيْنَةَ، وجُهَيْنَةَ، ويقولون: اللهمّ! انصرنا عليهم بالنبيِّ الأميّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة، فكانوا يُنصَرون عليهم، وكانوا يقولون: لأعدائهم المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتلَ عاد وإرم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} وظهر لهم {مَا عَرَفُوا} وما سبق لهم تعريفه للمشركين؛ أي: الحقُّ الذي عرفوه أوّلًا من كتابهم حقَّ المعرفة، وأخبروه للمشركين من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونزول القرآن: لأنَّ معرفة من أنزل هو عليه معرفةٌ له، والفاء (¬2) للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلَّل بينهما مدّةٌ مَنْسِيَّةٌ {كَفَرُوا بِهِ} أي: بذلك الحق؛ أي: ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

جحدوا، وأنكروا برسالته - صلى الله عليه وسلم - وبِكَوْنِ القرآن من عند الله تعالى حسدًا، وخوفًا على الرئاسة، وحرصًا عليها، وغيَّروا صفته، وهو جواب {لمَّا} الأولى، والثانية تكريرٌ لها، كما مرت الإشارة إليه؛ أي: فيكون قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} تكريرًا لقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ للتأكيد؛ ولطول الفصل بين لمّا الأولى، وجوابها الذي هو جملة قوله: {كَفَرُوا بِهِ} {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ أي: إِبعادُ الله سبحانه، وطَرْده من خيرات الدنيا والآخرة عليهم؛ أي: على اليهود، ففيه (¬1) وَضْعُ الظاهر موضع المضمر؛ إشعارًا بأنّهم استحقُّوا اللعنة لكفرهم، والفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر، واللام في الكافرين للعهد، أو للجنس، ودخلوا فيه دخولًا أوَّليًّا؛ لأنّ الكلام فيهم. واعلم: أنّ (¬2) اللعنة في حقّ الكفار: الطرد والإبعاد من الرحمة، والكرامة، والجنّة على الإطلاق، وفي حقّ المذنبين من المؤمنين: الإبعاد عن الكرامة التي وعد بها من لم يَخُضْ في ذلك الذنب، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتكر فهو ملعون"؛ أي: من ادّخر ما يشتريه وقت الغلاء لبيعه وقت زيادة الغلاء، فهو مطرودٌ من درجة الأبرار لا من رحمة الغفار. واعلم: أن الصفات المقتضية للعن ثلاثٌ: الكفر، والبدعة، والفسق، وله في كل واحدة ثلاث مراتب: الأولى: اللعن بالوصف الأعم، كقولك: لعنة الله على الكافرين، أو المبتدعة والفسقة. والثانية: اللعن بأوصافٍ أخصَّ منه، كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى، أو على القدريّة، والخوارج، والروافض، أو على الزُّناة والظلمة، وآكل الربا، وكُلُّ ذلك جائزٌ. والثالثة: اللعن علي الشخص، فإن كان ممن ثبت كفرهم شرعًا، يجوز لعنه ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

إن لم يكن فيه أذًى على مسلم، كقولك: لعنة الله على فرعون، وقارون، وهامان، وأبي جهل؛ لأنّه ثبت أنَّ هؤلاء ماتوا على الكفر، وعُرف ذلك شرعًا، وإن كان ممن لم يثبت كفره شرعًا كلعنة الله على زيدٍ، أو عمرٍو، أو غيرهما بعينه، فهذا فيه خطرٌ؛ لأنَّ حال خاتمته غير معلوم، ورُبَّما يسلم الكافر، أو يتوب المذنب، فيموت مقرَّبًا عند الله تعالى، فكيف يحكم بكونه ملعونًا؟ ألا ترى أنَّ وحشيًّا قتَلَ عمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعني حمزة رضي الله عنه - ثُمَّ أسلم على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبشَّره الله بالجنّة، وهذا حجةُ مَنْ لم يلعن يزيد بن معاوية؛ لأنّه يحتمل أن يتوب ويرجع عمَّا عليه، فمع هذا الاحتمال لا يُلْعنُ. قال بعضُهم: لَعْنُ يزيد على اشتهارِ كفره، وتواترِ فظاعةِ شرّه؛ لَمَّا أنَّه كفَرَ حين أمر بقتل الحُسين - رضي الله عنه - ولمَا قال في الخمر: فإنْ حُرِّمَتْ يومًا على دينِ أَحمدٍ ... فخُذْهَا على دينِ المسيحِ ابنِ مريمِ واتَّفقوا على جواز اللَّعن علي من قتل الحُسَيْن - رضي الله عنه - أو أمر به، أو أجازه، أو رضي به، كما قال سعد الدين التفتازانيُّ: الحقُّ إِنَّ رِضَى يزيد بقَتْلِ الحسين، واستبشاره به، وإهانَته أهلَ بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحادًا، فنحن لا نتوقَّف في شأنه، بل في إيمانه لعنة الله عليه، وعلى أنصاره وأعوانه. انتهى. ثم اعلم (¬1): أن اللعنة ترتدُّ على اللاعن إن لم يكنْ الملعون أهلًا لذلك، ولعن المؤمن كقتله في الإثم، وربَّما يلعن شيئًا من ماله، فتنزع منه البركة، فلا يلعن شيئًا من خلق الله تعالى، لا للجماد ولا للحيوان، ولا للإنسان، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال العبد لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربّه" فالأولى أن يترك، ويشتغل بدله بالذكر والتسبيح، إذ فيه ثوابٌ، ولا ثواب في اللعن، وإن كان يستحقُّ اللعن. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[90]

قال أبو حيان (¬1): وظاهر قوله: {مَا عَرَفُوا} أنّه الكتاب؛ لأنّه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنّه يراد به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ {مَا} قد يعبَّر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوّته، وشريعته، وكتابه، وما تضمنه، وقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} لمَّا كان الكتاب جائيًا من عند الله إليهم فكذَّبوه، وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانةً بالمُرْسَلِ، والمُرْسَل به، قابلهم الله تعالى بالاستهانة والطَّرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة؛ لأنَّ من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقةً {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}، ثمّ إنّه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعليةً عليهم، كأنّه شيءٌ جاءهم من أعلاهم فجلَّلهم بها، ثُمَّ نبَّه على علّة اللَّعنة وسببها وهي الكفر، كما قال قبل: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} و {مَا} (¬2) في قوله: 90 - {بِئْسَمَا} نكرةٌ موصوفة منصوبةٌ على التمييز، مفسّرةٌ لفاعل بئس المحذوف وجوبًا، تقديره: بئس وقبح الشيء شيئًا {اشْتَرَوْا} صفة لما، واشترى بمعنى: باع وابتاع، والمراد هنا الأوَّل {بِهِ} عائد إلى {مَا}؛ أي: بذلك الشيء {أَنْفُسَهُمْ} المرادُ (¬3) بها الإيمان، وإنَّما وضع الأنفسَ موضع الإيمان؛ إيذانا بأنّها إنّما خُلقت للعلم، والعملِ به المُعبَّر عنه الإيمان، ولمّا بدّلوا الإيمان بالكفر كانوا كأنّهم بدَّلوا الأنفس به؛ أي: بئس الشيء شيئًا باعوا به أنفسهم؛ أي: إيمانَهم، والمخصوص بالذمِّ ما ذكره بقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بالكتاب المصدِّق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته؛ أي: والمخصوص بالذمّ كفرهم بالقرآن الذي أنزل الله سبحانه على محمد - صلى الله عليه وسلم -، المصدّق للتوارة التي معهم {بَغْيًا} علّة (¬4) لأنْ يَكْفُروا أي: حسدًا وطلبًا لما ليس لهم، كما أنّ الحاسد يطلب ما ليس له لنفسه مما للمحسود من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

جاه، أو منزلةٍ، أو خصلة حميدة، والباغي: هو الظالم الذي يفعل ذلك عن حسده، والمعنى: بئس الشيء شيئًا باعوه به إيمانَهم كُفْرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائن لأجل {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} أي حسدًا على أن ينزّل، فإنَّ الحسد يستعمل بعلى؛ أي: حسدًا على أن ينزّل الله سبحانه وتعالى وحْيًا وكتابًا {مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه {عَلَى مَنْ يَشَاءُ}، ويختاره، ويصطفيه {مِنْ عِبَادِهِ} وخلقه المستأهلين لتحمُّل أعباء الرسالة. وهو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وطلبًا لما أُنزل عليه لأنفسهم، وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شكٍّ واشتباهٍ، وإنما كان حسدًا حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل، وذلك أنَّ اليهود كانوا يعتقدون نبيَّ آخر الزمان، ويتمنَّون خروجه، وهم يظنُّون أنَّه من ولد إسحاق، فلمَّا ظهر أنّه من ولد إسماعيل حسدوه، وكرهوا أن يخرج الأمر من بني إسرائيل، فيكون لغيرهم من العرب، وعِزُّ النبوّة من يعقوب إلى عيسى عليهما السلام، كان في إسحاق فختم في عيسى، ولم يكن من ولد إسماعيل نبيٌّ غير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فختمت النبوَّة على غيرهم، وعدموا العزّة، والشرف، والفضل، فحسدوا لذلك. وقرأ أبو عمرو (¬1)، وابن كثير: جميع المضارع مخفَّفًا من أنزل، إلّا ما وقع الإجماع على تشديده وهو في الحِجْرِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ} إلّا أن أبا عمرو شدَّد {على أن ننزل} آيةٌ في الأنعام، وابن كثير شدد، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} و {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} وشدَّد الباقون المضارع حيثما وقع إلّا حمزة، والكسائي فخفَّفا {وينزل الغيث} في آخر لقمان {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في الشورى والهمزة والتشديد كُلٌّ منهما للتعدية. {فَبَاءُوا} أي: رجعوا وانصرفوا من الله ملتبسين {بِغَضَبٍ} كائنٍ {عَلَى غَضَبٍ} أي: احتملوا بلعنةٍ من الله بسبب كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن مع غضبٍ استحقُّوه، أوَّلًا بتضييع التوراة وبتبديله، وبالكفر بعيسى؛ أي: استحقُّوا غضبًا لاحقًا مع غضبٍ سابقٍ لهم، فاستحقُّوا لعنةً بعد لعنةٍ لأمور صدرت منهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[91]

فصاروا مستحقين غضبًا مترادفًا، ولعنةً إثر لعنةٍ لعله: بما اقترفوا من كُفْر على كُفْر، فإنّهم كفروا بنبي الحق، وبغوا عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها، والثاني بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الأوّل بعبادتهم العجل، والثاني: بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الأوّل بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن {وَلِلْكَافِرِينَ}؛ أي: ولهم، والإظهار (¬1) في مقام الإضمار؛ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم {عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: ذو إهانة وإذلالٍ؛ أَيْ: وللجاحدين بنبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الناس كُلِّهم {عَذَابٌ} شديدٌ {مُهِينٌ}؛ أي: مُذِلٌّ لهم؛ أي: ذو إهانة وإذلال لهم، ولا يوصف بذلك إلّا عذاب الكافرين؛ لأن كفرهم سببه التكبُّر والحسد، فقوبلوا بالإهانة والصغار، وأمّا ما يقع للعصاة في الدنيا من المصائب، وفي الآخرة من دخول النار، فهو تطهيرٌ لهم. ودلَّت الآية على أنَّ عذاب المؤمنين تأديبٌ وتطهيرٌ، وعذاب الكافرين إهانةٌ وإذلالٌ، وأنّ المراتب الدُّنيويَّة والأخرويَّة كُلَّها من فيض الله وفضله، فليس لأحدٍ أن يعترض عليه، ويحسده على الألطاف الإلهيَّة، فإنَّ الكمالات، مثل: النبوّة والولاية، ليست من الأمور الاكتسابيَّة التي يصل إليها العبد بجهد كثير، وكمال اهتمامٍ. والمعنى: أي (¬2) ولهم بسبب كفرهم عذابٌ يصحبه إهانةٌ وإذلالٌ في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فيما يصيبهم من الخزي، والنكال، وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأمّا في الآخرة فبخلودهم في جهنَّم وبئس المصير. ثمَّ ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: 91 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: وإذا قال المسلمون لليهود الموجودين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وما حولها، ومعنى اللام: الإنهاء، والتبليغ. وإسناد {قِيلَ} إلى {آمِنُوا} إسنادٌ له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول، كقولك: أُلِّف (ضَرَبَ) من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ثلاثة أحرف {آمِنُوا} وصدِّقوا {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}؛ أي: بالقرآن الذي أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو بكُلِّ ما أنزل الله من الكتب الإلهيّة جميعًا {قَالُوا}؛ أي: قالت اليهود في جواب هذا القيل: {نُؤْمِنُ}؛ أي: نستمر على الإيمان {بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوارة، وما أنزل على أنبياء بني إسرائيل لتقرير حكمها، ويدسُّون فيه، أنَّ ما عدا ذلك غير منزل عليهم، وأسندوا الإنزال على أنفسهم؛ لأنّ المنزَّل على نبيٍّ، منزلٌ على أُمّته معنًى؛ لأنّه يلزمهم؛ أي: نؤمن ونصدِّق بما أنزل على أنبيائنا من التوراة، وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شريعة موسى عليه السلام؛ أي: يكفينا الإيمان به دون غيره {و} هم {يكفرون بما وراءه}؛ أي: سوى ما أنزل عليهم؛ أي: بما بعد ما أنزل عليهم من الإنجيل والقرآن {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنَّ ما وراء التوراة؛ أي: أنّ ما أنزل عليهم من القرآن {الحق} أي: الصدق الثابت من الله تعالى؛ أي: المعروف بالحقيقةِ، الحَقِيقُ بأن يُخَصَّ به اسمُ الحق على الإطلاق حال كونه {مُصَدِّقًا} وموافقًا في التوحيد {لِمَا مَعَهُمْ} من التوراة غير مخالف له حالٌ مؤكّدةٌ من الحق، والعامل فيها ما في الحق من معنى الفعل، وصاحب الحال ضميرٌ دَلَّ عليه الكلام: أي: أُحِقُّه مصدّقًا؟ أي: حال كونه موافقًا لما معهم، وفيه ردٌّ لمقالتهم؛ لأنّهم إذا كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها فلا يصحّ دعواهم الإيمان بالتوراة. ثمَّ اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادِّعَائهم الإيمانَ بالتوراة (¬1)، والتوراة لا تسوِّغ قتل نبي بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد! تبكيتًا لهم من جهة الله تعالى، ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم؛ أي: إلزامًا وبيانًا لكفرهم بالتوراة التي ادَّعوا الإيمان بها، إذا كان إيمانكم بالتوراة صحيحًا {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} أي فلم قتلتم أنبياء الله {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل نزول القرآن، كزكريَّا ويحيى {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة حقًّا، فإنَّ في التوراة تحريمَ القتل بغير حقّ، فأيُّ كتاب جوَّز لكم قتلهم؟ والمعنى: أنّهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء، فآلَ أمْرُهُم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى، لا بالبعض فقط كما ادَّعوه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[92]

قوله: {فَلِمَ} أصله: (لما) لامه للتعليل، دخلت على ما الاستفهامية، وسقطت الألف؛ فرقًا بين الاستفهامية والخبريّة. وصيغة الاستقبال في قوله: {تَقْتُلُونَ}؛ لحكاية الحال الماضية، وهو جواب شرط محذوف، تقديره: قُلْ لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون، فلأيِّ شيءٍ تقتلون أنبياء الله من قبل وهو فيها حرام؟. فإن قلت: الخطاب (¬1) مع الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم خوطبوا بالقتل مع أنَّ قتل الأنبياء ليس واقعًا منهم، بل من أسلافهم؟. قلتُ: خوطبوا بذلك؛ لأنّهم رضوا بفعل أسلافهم، والرضا بالكفر كفرٌ؛ أو لأنّهم أصرُّوا على قتل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقد تسبَّبُوا في ذلك مرارًا، كما مرّ. وعبارة "الروح": وأسند فعل الآباء وهو القتل إلى الأبناء؛ للملابسة بين الآباء والأبناء. اهـ. قال أبو الليث: وفي الآية دليل على أنّ من رضي بالمعصية، فكأنَّه فاعلٌ لها؛ لأنّ اليهود راضون بقتل آبائهم، فسمَّاهم الله تعالى قاتلين، حيث قال: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ} الآية. وقرأ نافع وحده {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} مهموزًا في جميع القرآن، ووقف (¬2) البزّيُّ (فَلِمَهْ) بالهاء، ووقف غيره بغير هاء، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار، أو لانقطاع النفس. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط جوابه محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم، وهو تكريرٌ للاعتراض؛ لتأكيد الإلزام، وتشديد التهديد. وقيل: {إن} نافية؛ أي: ما كنتم مؤمنين؛ لأنَّ من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنًا، فأخبر تعالى: أنَّ الإيمان لا يجامع مع قتل الأنبياء؛ أي ما اتَّصف بالإيمان مَنْ هذه صفته. قيل: والأظهر أنَّ {إن} شرطية، والجواب محذوف كما مرَّ آنفًا. 92 - ثمّ ذكر سبحانه: أنّهم كفروا بالله مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

السلام، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى} وهذا من (¬1) تمام التبكيت والتوبيخ، داخلٌ تحت الأمر بالقول، واللام موطِّئةٌ للقسم؛ أي: وعزّتي وجلالي: لقد جاءكم وأتاكم موسى بن عمران عليه السلام، حالة كونه ملتبسًا {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الواضحة الظاهرة الدالّة على صدقه، وصحّة نبوّته؛ يعني: الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام، المذكورةَ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وهي العصا، واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والدم، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، وفلق البحر {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} إلهًا وعبدتموه {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد مجيئه بها، أو من بعد ذهاب موسى إلى جبل الطور لأخذ التوراة، و {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، والدلالة على نهاية قبح ما فعلوا، وجملة قوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أنفسكم بعبادته، حال من فاعل {اتخذْتُمُ}؛ أي: عبدتم العجل، والحال أنّكم واضعون العبادة في غير موضعها، أو حال كونكم ظالمين أنفسكم بعبادته، وهذه الآية توبيخ لليهود على كفرهم، وعبادتهم العجل بعدما رأوا آيات موسى، وبيان أنّهم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فليس بأعجب من كفرهم في زمن موسى؛ لقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب قدرة الله تعالى التي أجراها على يد موسى عليه السلام، ومع ذلك عبدوا العجل وكرّرت هذه الجملة - أعني: جملة اتخاذ العجل - لدعواهم أنّهم يؤمنون بما أنزل عليهم وهم كاذبون في ذلك، ألا ترى أنّ اتخاذ العجل ليس في التوراة؛ بل فيها أن يفرد الله سبحانه بالعبادة؛ أو لأنّ عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرّر عبادة العجل؛ تنبيهًا على عظيم جرمهم؛ ولأنّ ذكر ذلك أعقبه تعداد النعم بقوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} و {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ، ولأنّ في قصّة الطور ذكر توليهم عما أمروا به من قبول التوراة، وعدم رضاهم أحكامها اختيارًا حتى أُلْجِئُوا إلى القبول اضطرارًا، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة، ثمّ في قصّة الطور تذييلٌ لم يتقدّم ذكره، والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء، أو تعظيمه كرَّرته، وفي هذا - التكرار أيضًا من الفائدة: تذكارهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بتعداد نعم الله عليهم، ونقمه منهم؛ ليزدجر الأخلاف بما حلّ بالأسلاف. اهـ. من "البحر". الإعراب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إذ} ظرف لما مضى من الزمان {أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجرّ بإضافة {إذ} إليها، والظرف في محل النصب معطوف على الظروف السابقة المعطوفة على {نِعْمَتِيَ} تقديره: واذكروا يا بني إسرائيل! وقت أخذنا ميثاقكم {لَا} نافية {تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جملة مفسّرة للميثاق لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وإذ أخذنا ميثاقكم وقلنا: لا تسفكون دماءَكم {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} نافية {تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به {مِنْ دِيَارِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتخرجون، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تَسْفِكُونَ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {أَقْرَرْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجرّ معطوفة على جملة {أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}. {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أنتم} مبتدأ، وجملة {تَشْهَدُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من تاء {أَقْرَرْتُمْ}، تقديره: حالة كونكم شاهدين على آبائكم قبول ذلك الميثاق. {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {أَنْتُمْ} مبتدأ {هَؤُلَاءِ} ها حرف تنبيه {أولاء} اسم إشارة للجمع المطلق في محل النصب منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء للتخفيف، مبني بضمّ مقدّر على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي، وجملة النداء جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به

ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: ثمّ أنتم يا هؤلاء! قاتلون أنفسكم، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} {وَتُخْرِجُونَ} الواو عاطفة {تُخْرِجون فريقًا} فعل وفاعل ومفعول به {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لفريقًا {مِنْ دِيارهم} جار ومجرور متعلّق بتخرجون، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {تَقْتُلُونَ}. {تَظَاهَرُونَ} فعل مضارع وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {تخرجون}؛ أي: تخرجونهم من ديارهم حالة كونكم مُتعَاوِنيْن {عَلَيْهِمْ} متعلِّقٌ بتظاهرون {بِالْإِثْمِ} هو جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {تَظَاهَرُونَ} والباء للملابسة {وَالْعُدْوَانِ} معطوف على الإثم، والتقدير: تظاهرون عليهم حالة كونكم ملتبسين بالإثم والعدوان {وَإِنْ} الواو استئنافية، أو اعتراضية إِنْ حرف شرط وجزم {يَأْتُوكُمْ} فعل مضارع وفاعل ومفعول به مجزوم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون {أُسَارَى} حال من فاعل {يَأْتُوكُمْ}؛ أي: حالة كونهم مأسورين لحلفائكم {تُفَادُوهُمْ} فعل مضارع وفاعل ومفعول به مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف النون، وجملة إن الشرطية مستأنفة، أو معترضة؛ لاعتراضِها بين المعطوف وهو قوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ ...} الخ، والمعطوف عليه وهو جملة {تَظَاهَرُونَ}. أو في محل الرفع معطوفة على جملة {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}. {وَهُوَ} الواو حالية {هو} ضمير الشأن في محل الرفع مبتدأ، ويسمّى ضمير القصّة، ولا يرجع إلّا على ما بعده، إذ لا يجوز للجملة المفسِّرة له أن تقدَّم هي، ولا شيءٌ منها عليه، وفائدته: الدلالة على تعظيم المخبَر عنه وتفخيمه، وهذا هو الظاهر من الوجوه المنقول فيه، فيكون في محل رفع بالابتداء، قال في "المغني": خالف القياس في خمسة أوجه: أحدها: عوده على ما بعده لزومًا، إذ لا يجوز للجملة المفسِّرة له أن تتقدَّم عليه، ولا شيءٌ منه. الثاني: أنَّ مفسِّره لا يكون إلّا جملةً.

الثالث: أن لا يتبع بتابع فلا يؤكَّد، ولا يعطف عليه، ولا يبدل منه. الرابع: أنّه لا يعمل فيه إلّا الابتداء، أو ناسخٌ. الخامس: أنّه ملازم للإفراد، ومن أمثلته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}. اهـ. "كرخي". {مُحَرَّمٌ} خبر مقدّم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل {عَلَيْكُمْ} متعلق بمحرّم. {إِخْرَاجُهُمْ} مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبرٌ لضمير الشأن، ولم يحتج هنا إلى عائدٍ على المبتدأ؛ لأنَّ الخبر نفس المبتدأ وعينه. اهـ. "كرخي"، والجملة الاسمية من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب، معطوفة على جملة {تَظَاهَرُونَ} على كونها حالًا من فاعل {تخرجون}، تقديره: وحالة كونكم محرّمًا عليكم إخراجهم، ولكنّها حالةٌ سببيّةٌ، أو من مفعوله، أو منهما، وما بينهما اعتراض. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. {أَفَتُؤْمِنُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، تقديره: أتفعلون ذلك، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف {تؤمنون} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة {بِبَعْضِ الْكِتَابِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتؤمنون {وَتَكْفُرُونَ} فعل وفاعل معطوف على {تؤمنون} {بِبَعْضٍ} متعلق بتكفرون {فَمَا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفتم قبح صنيعكم، وأردتم بيان جزاء من يفعل ذلك، فأقول لكم: ما جزاء {مَا} نافيةٌ مهملةٌ؛ لانتقاض نفيها بإلَّا {جَزَاءُ} مبتدأ، وهو مضاف {مَنْ} اسم موصول في محل الجرّ مضاف إليه {يَفْعَلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. {ذَلِكَ} مفعول به، والجملة صلةُ {مَنْ} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل {مِنْكُمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوفٍ حالٍ من فاعل {يَفْعَلُ}، تقديره: حالة كونه كائنًا منكم {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ {خِزْيٌ} خبر

المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {فِي الْحَيَاةِ} جار ومجرور متعلق بخزيٌ، أو بمحذوفٍ صفةٍ لخزي {الدُّنْيَا} صفة للحياة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} الواو عاطفة {يَوْمَ القِيَامَةِ} ظرفٌ ومضاف إليه متعلِّق بيردُّون {يُرَدُّونَ} فعل مغيّر الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} عطف فعليّة على إسميّة {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بيردّون، {وَمَا اللَّهُ} الواو عاطفة مَا نافية حجازيّة ولفظ الجلالة اسمها مرفوع {بِغَافِلٍ} خبرها منصوب بفتحة مقدّرة والباء زائدة، وجملة مَا الحجازيّة من اسمها وخبرها في محلِّ النصب معطوفة على جملة قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ}. {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بغافل مَا موصولة، أو موصوفة، أو مصدريّة في محل الجرّ بعن، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة للموصولة، أو صفة للموصوفة، أو صلةٌ لما المصدريَّة؛ أي: عن عملكم، وعائد الموصولة محذوف، تقديره: عمّا تعملونه. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}: {أُولَئِكَ} مبتدأ {الَّذِينَ} خبره، والجملة مستأنفة {اشْتَرَوُا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل {الْحَيَاةَ} مفعول به {الدُّنْيَا} صفة للحياة {بِالْآخِرَةِ} متعلّق باشتروا {فَلَا} الفاء حرف عطف وتفريغ، {لَا} نافية {يُخَفَّفُ} فعل مضارع مغيَّر الصيغة {عَنْهُمُ} متعلق به {الْعَذَابُ} نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {اشْتَرَوُا} على كونها صلة الموصول {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} نافية {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْصَرُونَ} خبره، تقديره: ولا هم منصورون، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} عطف إسميةٍ على فعليّة. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا

كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}. {وَلَقَدْ} الواو استئنافية {لقد} اللام موطِّئةٌ للقسم {قد} حرف تحقيق {آتَيْنَا} فعل وفاعل، وهو بمعنى، أعطينا يتعدَّى لمفعولين {مُوسَى} مفعول أوّل {الْكِتَابَ} مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلٌ لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {وَقَفَّيْنَا} الواو عاطفة قفينا فعل وفاعل معطوفٌ على آتينا وهو بمعنى جئنا يتعدّى إلى المفعول بواسطة حرف الجر {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقفَّيْنا، أو متعلقٌ بمحذوفٍ حال من الرُّسل {بِالرُّسُلِ} جار ومجرور متعلِّق بقفينا أيضًا {وَآتَيْنَا عِيسَى} فعل وفاعل ومفعول أوّل معطوف على {قفينا}. {ابْنَ} هو بدل أو صفة لعيسى {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة للعَلَميَّة والعجمية، أو التأنيث المعنوي {الْبَيِّنَاتِ} مفعول ثان منصوب بالكسرة {وَأَيَّدْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آتينا}. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأيدناه {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} الهمزة للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة لجواب كلّما على ذلك المحذوف؛ لأنّ حقَّ الهمزة والفاء أن يدخلا على الجواب؛ لأنّه المستفهم عنه، والموبَّخ عليه، والمعيَّر به، والتقدير: أدمتم على التكذيب يا معشر اليهود! واستكبرتم عن الإيمان كلّما {جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ}. {كلّما} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبنيٌّ على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلِّق بالجواب {جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فعل ومفعول به وفاعل، و {جاء} هنا بمعنى: أتى يتعدَّى إلى المفعول بلا واسطة حرف جرٍّ، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {كلّما} لا محل لها من الإعراب {بِمَا} جار ومجرور متعلق بجاءكم {لَا} نافية {تَهْوَى} فعل مضارع {أَنْفُسُكُمُ} فاعل، والجملة صِلةٌ لما الموصولة لا محل لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: بما لا تهواه أنفسكم {اسْتَكْبَرْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة جواب {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كلّما} من فعل شرطها وجوابها، جملةٌ إنشائيّة لا محل لها من الإعراب {فَفَرِيقًا} الفاء عاطفة {فَرِيقًا} مفعول به مقدَّم لكذبتم؛ قُدِّم للاهتمام به {كَذَّبْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَكْبَرْتُمْ}

على كونها جوابًا لكلّما {وَفَرِيقًا} الواو عاطفة {فريقا} مفعول مقدّم لتقتلون؛ لرعاية الفواصل {تَقْتُلُونَ} هو فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبْتُمْ}. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}. {وَقَالُوا} الواو استئنافية {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بَلْ} حرف إضراب وعطف، للإضراب الإبطالي {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} فعل ماض ومفعول مقدّم وفاعل مؤخر وجوبًا {بِكُفْرِهِمْ} مُتعلِّق بلعنهم، والجملة معطوفة على جملة {قَالُوا}، {فَقَلِيلًا} الفاء استئنافية، أو عاطفة {قليلًا} منصوب على المصدرية بيؤمنون، قدّم عليه؛ لرعاية الفاصلة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: يؤمنون إيمانًا قليلًا، أو منصوب على الظرفية بيؤمنون أيضًا؛ لأنّه صفة لزمان محذوف، تقديره: أي يؤمنون زمانًا قليلًا، أو على الحالية من فاعل {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: حال كونهم جمعًا قليلًا و {مَا} زائدة؛ زيدت لتأكيد القلّة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أو مستأنفة. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}. {وَلَمَّا} الواو استئنافية {لمَّا} حرف شرط غير جازم {جَاءَهُمْ} فعل ومفعول به {كِتَابٌ} فاعل، والجملة فعل شرطٍ للمَّا لا محل لها من الإعراب {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة أولى لكتاب، تقديره: منزَّلٌ من عند الله {مُصَدِّقٌ} صفة ثانية لكتاب، وفي قراءة: بالنصب على الحال من {كِتَابٌ} كما مرّ {لِمَا} اللام حرف جرٍ {مَا} اسم موصول في محل الجرّ باللام متعلِّق بمصدق {مَعَهُمْ} (مع) منصوب على الظرفية، والهاء ضمير الغائبين في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوفٍ صلة {لِمَا} الموصولة، وجواب {لِمَا} محذوف؛ لعلمه من جواب {لمَّا} الآتية، تقديره: كذّبوه وأنكروه، وجملة {لِمَا} مع جوابها المحذوف مستأنفة {وَكَانُوا} الواو حالية {كانوا} فعل ناقص واسمه {مِن} حرف جر {قَبْلُ} ظرف زمان في محل الجر بمن، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى المضاف إليه

المحذوف لنية معناه، والجار والمجرور متعلق بيستفتحون، أو بكانوا {يَسْتَفْتِحُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان في محل النصب حال من فاعل الجواب المحذوف {عَلَى الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بيستفتحون، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} الفاء عاطفة بمعنى الواو {لَمَّا} حرف شرط غير جازم جَاءَهُم فعل ومفعول به {مَا} اسم موصول في محل الرفع فاعل {عَرَفُوا} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما عرفوه، وجملة {جَاءَهُمْ} فعل شرط لِلَمَّا لا محل لها من الإعراب {كَفَرُوا} فعل وفاعل جواب {لمَّا} لا محل لها من الإعراب {بِهِ} جار ومجرور متعلق بكفروا، وجملة {لَمَّا} من فعل شرطها وجوابها معطوفةٌ على جملة {لَمَّا} الأولى، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ} الفاء استئنافيّة، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت صنعهم القبيح، وأردت بيان ما يستحقون به، فأقول لك: لعنة الله على الكافرين {لَعْنَةُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه {عَلَى الْكَافِرِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}. {بِئْسَمَا} {بئس} فعل ماض من أفعال الذمّ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: يعود على شيء {مَا} نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب تمييز لفاعل {بئس}. {اشْتَرَوْا} فعل وفاعل {بِهِ} جار ومجرور متعلق باشتروا، والجملة صفة لما، والرابط ضمير {بِهِ}. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لما، ولكنّها سببية، والتقدير: بئْسَ الشيء شيئًا مشترًى به أنفسهم {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يَكْفُرُوا} فعل مضارع منصوب بأن، والواو فاعل {بِمَا} جار - ومجرور متعلق بيكفروا {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: بما أنزل الله به، وجملة {يَكْفُرُوا} صلة {أَنْ} المصدرية و {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، على كونه

مخصوصًا بالذمّ لبئس، وجملة {بئس} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبرٌ عنه، والتقدير: كفرهم بما أنزل الله به، بئس شيئًا باعوا به أنفسهم، والجملة من المبتدأ والخبر جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، أو مرفوعٌ على أنّه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: والمخصوص بالذمّ كفرهم بما أنزل الله، كما قال: ابن مالك في "خلاصته": ويُعْرَبُ المَخْصُوص بَعْدَ مُبْتَدَا ... أوْ خَبَر اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أبدَا {بَغْيًا} مفعول لأجله منصوب بيكفروا {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يُنَزِّلَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: بغيًا وحسدًا على إنزال الله من فضله على من يشاء، والجار المحذوف متعلِّقٌ ببغيًا؛ لأنّه بمعنى حسدًا {مِنْ فَضْلِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف معمول لـ {يُنَزِّلَ اللَّهُ}، تقديره: أن ينزّل الله وحْيًا كائنًا من فضله وإحسانه {عَلَى مَنْ} جار ومجرور متعلق بينزّل {يَشَاءُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مِنْ} الموصولة، والجملة صلة {مِنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: على من يشاؤهُ {مِنْ عِبَادِهِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد على {مَنْ} الموصولة {فَبَاءُوا} الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر، تقديره: إذا عرفت بغيهم الشنيع، وحسدهم الفظيع، وأردت بيان جزائهم، فأقول لك: باءوا بغضبٍ {باءوا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {بِغَضَبٍ} متعلِّق بباءوا، أو حال من فاعل {باءوا}؛ أي: حال كونهم ملتبسين بغضب {عَلَى غَضَبٍ} صفة لغضب {وَلِلْكَافِرِينَ} الواو استئنافية {للكافرين} خبر مقدم {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر {مُهِينٌ} صفة العذاب، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}.

{وَإِذَا قِيلَ} الواو استئنافية {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {قِيلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بقيل {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نائب فاعل محكي لقيل مرفوع بضمّة مقدّرة على لفظ الجلالة الممنوعة بحركة الحكاية، والجملة من الفعل المُغيَّر ونائب فاعله، في محل الجر بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وإن شئت قلت: {آمِنُوا} فعل أمر وفاعله، والجملة في محل الرفع نائب فاعل {بِمَا} جار ومجرور متعلق بآمنوا {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما}، والعائد محذوف، تقديره: بما أنزله الله {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًّا {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: {نُؤْمِنُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على اليهود، تقديره: نحن، والجملة في محل النصب مقول لقالوا {بِمَا} جار ومجرور متعلق بنؤمن {أُنْزِلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على {مَا} تقديره: هو، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة {عَلَيْنَا} متعلق بـ {أَنزَلَ} {وَيَكْفُرُونَ} الواو حالية {يكفرون} فعل وفاعل. والجملة في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا} تقديره قالوا ذلك حال كونهم كافرين بما وراءه {بِمَا} جار ومجرور متعلق بيكفرون {وَرَاءَهُ} منصوب على الظرفيّة، والهاء مضاف إليه، والظرف متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه صلة لـ {ما} الموصولة {وَهُوَ} الواو حالية {هُوَ} مبتدأ {الْحَقُّ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حالٌ من {مَا} في قوله: {بِمَا وَرَاءَهُ} والعامل فيها {يكفرون} تقديره: ويكفرون بما وراءه حالة كونه حقًّا {مُصَدِّقًا} حال ثانية من {مَا} أيضًا مؤكّدة لمضمون الجملة؛ لأنّ تصديق القرآن لازم له، لا ينتقل عنه؛ لأنّ قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} قد تضمّن معناها، وصاحبها ضمير دلّ عليه الكلام، وعاملها فعل مضمر، تقديره: أحقّه مصدّقًا {لِمَا} جار ومجرور متعلّق بمصدّقًا {مَعَهُمْ} ظرف ومضاف إليهم متعلق بمحذوف صلة {لِمَا}، أو صفة لها {قُل} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَلِمَ} الفاء رابطة لجواب شرط

مقدّر، تقديره إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله، اللام حرف جرّ {مَا} اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ فرقًا بينها وبين الموصولة؛ لشبهها بالحرف شبهًا معنويًّا، وقد تحمل الاستفهامية على الخبريّة فتثبت ألفها، وقد تحمل الخبريّة على الاستفهامية فتحذف ألفها. انتهى. "سمين". الجار والمجرور متعلق بتقتلون {تَقْتُلُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بأن الشرطيّة على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية المحذوفة في محل النصب على كونها مقولًا لقل {أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} مفعول به ومضاف إليه {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلق بتقتلون {إن} حرف شرط {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها {مُؤْمِنِينَ} خبرها، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم مؤمنين، فلم فعلتم ذلك، وجملة {إن} هو الشرطية في محل النصب مقول لقل. وفي "الفتوحات الإلهية" قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في {إن} قولان: أحدهما: أنّها شرطيّة، وجوابها محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين، فَلِم فعلتم ذلك، ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين، فحذف الشرط من الجملة الأولى، وبقي جوابها وهو فلِمَ تقتلون، وحذف الجواب من الثانية، وبقي شرطه، فقد حُذف من كل واحدٌ ما أثبت في الأخرى، فيُسمَّى هذا احتباكًا، عند البديعيين، وقال ابن عطيّة: جوابها متقدّم وهو قوله: {فَلِمَ} وهذا إنّما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأبي زيد. والقول الثاني: أَنّ {إِن} نافية بمعنى (ما)، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم للإيمان. اهـ. "سمين". {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}. {وَلَقَدْ} الواو عاطفة جملة القسم على جملة قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} على كونها مقولًا لقل، أو استئنافية، واللام موطِّئة للقسم {قَدْ} حرف

تحقيق {جَاءَكُمْ مُوسَى} فعل ومفعول به وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} فهو داخل تحت الأمر السابق، والتقدير: وقيل لهم: لقد جاءكم موسى بالبينات، كما في "الجمل". {بِالْبَيِّنَاتِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من موسى، تقديره: حالة كونه متلبسًا بالبينات {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ في الرتبة، والدلالة على نهاية قبح ما صنعوا {اتَّخَذْتُمُ} فعل وفاعل {الْعِجْلَ} مفعول أوّل، والثاني محذوف، تقديره: إلهًا، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قد جاءكم} على كونها جواب القسم {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذتم {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {أَنْتُمْ} مبتدأ {ظَالِمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {اتَّخَذْتُمُ}، تقديره: ثمّ اتخذتم العجل من بعده حالة كونكم ظالمين؛ أي: واضعين العبادة في غير موضعها، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لَا تَسْفِكُونَ} السفك: الصبُّ والإراقة، وفي "المصباح"؛ سفكت الدمع والدمّ سَفْكًا من باب ضرب، وفي لغةٍ من باب قتل، أَرَقْتُه، والفاعل السَّافِكُ وسَفَّاكٌ مبالغةٌ. اهـ. وفي "السمين": وقرىء: {لَا تَسْفُكُون} بضم الفاء، وتُسْفِكُون من أسفك الرباعيِّ. اهـ. {دِمَاءَكُمْ} جمع دم، والدم معروفٌ وهو محذوف اللام، وهي ياءٌ لقول الشاعر: لَقَدْ جَرَى الدَّمْيانِ بِالخَبرِ اليْقِينِ أو واوٌ لقولهم: (دَمَوان) ووزنه فَعْلٌ، وقيل: فَعَلٌ، وقد سمع مقصورًا، قال: غفلَتْ ثُمَّ أتَتْ تَطْلُبُهُ ... فَإذا هِيَ بعِظَامٍ وَدَمَا وقال: آخر

وَلَكِنْ عَلَى أعْقَابِنَا يَقْطُرُ الدَّمَا في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدَّد الميم، قال الشاعر: أَهَانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ ... يَا عَمْرُو نَعْيُكَ إصْرارًا عَلَى الحَسَدِ قال سيبويه: أصله: دَمْيٌ على وزن فَعْل بالتسكين؛ لأنّه يجمع على دماء نظير ظَبْي وظِبَاءٍ، ولو كان مثل قفا وعصا لما جمع هذا الجمع، وعلى هذا فلامه الذاهبة ياءٌ، وقال المبرّد: أَصْلُهُ: دَمَيٌ بوزن فَعَلٍ بالتحريك، وجاء جمعه مخالِفًا لنظائره، ويثنَّى: على دَمَيان، وقال الجوهري: في "صحاحه": الدم أصله: دَمَوٌ بالتحريك، وإنّما قالوا: دَمِيَ يَدْمَى؛ لحال الكسرة التي قبل الياء، كما قالوا: رضي يرضى وهو من الرضوان، وعلى كُلِّ حالٍ، فالهمزة في قوله: {دِمَاءَكُمْ} إمّا بدلٌ من واوٍ، كما هو رأيُ الجوهري ومن وافقه، أو بدلٌ من ياءٍ، كما هو رأي سيبويه، والمبرد، وصاحب "القاموس" ومن وافقهم، تطرَّف حرف العلة بعد ألف زائدةٍ، فقلبت همزةً {مِنْ دِيَارِهِمْ} جمع دار، وأصل دار: دَوَرٌ، تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فلمّا أُعِل اللفظُ في المفرد حُمل عليه الجمعُ، فأُعِلَّ بإبدال الواو ياءً، إذ الأصل في الجمع أن يقال: دِوَارٌ، ولمَّا وقعت الواو بين كسرةٍ وألفٍ قلبت ياءً، كما سيأتي نظائره في المصادر، كالصيام، والقيام، وعبارة "السمين" هنا: وديار جمع دار والأصل: دِوار؛ لأنّها من دار يدور، وإنّما قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها، واعتلالها في الواحد. اهـ. وقال أبو حيان: الديار: جمع دار وهو قياسٌ في فَعَلٍ الاسم إذا لم يكن مضاعفًا، ولا معتلَّ لامٍ، نحو: طَلَلٍ، وفتى، والياء في هذا الجمع منقلبةٌ عن واو، إذ أصله: دِوَارٌ وهو قياسٌ - أعني: هذا الإبدال - إذا كان جمعًا لواحدٍ معتل العين، كثوب، وحوض، ودار بشرط أن يكون فعالٌ صحيح اللام، فإن كان معتلَّه لم يبدل، نحو: رَاوٍ، وقالوا في جمع طويل: طِوالٌ، وطِيالٌ. اهـ. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أقرَّ الشي اعترف به، والإقرار: شهادة المرء على نفسه وهو مجازٌ عن القبول، والرضا بالشيء. {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} تتعاونون عليهم كأنَّ المتظاهرين يسند كُلُّ واحد منهم ظهره إلى صاحبه، والظهر المعين، قريء

بتخفيف الظَّاء على حذف إحدى التاءين، والأصل: تتظاهرون على حدِّ قول ابن مالك في "الخلاصة" في باب الإدغام: وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِى قدْ يُقْتَصَرْ ... فِيهِ عَلَى تَا كَـ (تَبَيَّنُ) العِبَرْ الأصل: تتبيَّنُ العبر، ولم يكن هناك سبيلٌ إلى الإدغام لاستدعائه همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على المضارع، ومذهب سيبويه، والجمهور: أنَّ المحذوفة الأخيرة؛ لأنَّ الثقل وقع بها؛ ولعدم دلالتها على معنى المضارعة، ومذهب الكوفيين: أنَّ المحذوفة الأولى، ولا طائل تحت هذا الخلاف. وقرىء: {تَظَّاهَرُون} بالتشديد، ووُجِّه ذلك أنَّ التاء الثانية أبدلت ظاءً وأدغمت في الظاء، وكذلك ما سيأتي في سورة التحريم من قوله: {وإن تظاهرا عليه} {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وصلة الفعل محذوفةٌ، والمعنى: تظاهرون بحلفائكم من العرب حال كونكم مُلْتَبسين بالإثم والعدوان. اهـ. شيخنا. والإثم في الأصل: الذَّنْبُ، وجمعه آثام، ويطلق على الفعل الذي يستحقُّ به صاحبه الذم واللَّوْم، وقيل: هو ما تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب، فالإثم في الآية يحتمل أن يكون مرادًا به ما ذكرتُ من هذه المعاني، ويحتمل أن يتجوَّز به عمّا يوجب الإثم إقامة للسبب مقام المسبب، والعدوان: التجاوز في الظلم وهو مصدرٌ، كالغفران، والكفران، والمشهور: ضمُّ فائه، وفيه لغةٌ بالكسر. اهـ. "سمين". {أُسَارَى} وفي "المصباح": أنَّ كُلًّا من أسرى، وأُسارى جمع أسير، وفي "السمين": يحتمل أنَّ أُسارى جمع أسرى، وأسرى جمع أسير. اهـ. وفي "البحر": الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيسٌ في فعيلٍ بمعنى: مُمْسَكٍ، أو مُوجَعٍ، كقتيلٍ، وجريحٍ، وأمّا الأُسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأَسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية، وقيل أُسارى: جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قاله المفضَّلُ. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوِثاقِ، والأسير هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة {تُفَادُوهُمْ}؛ أي: تنقذوهم. من الأسر بالمال، وفي "المختار": فاداه، وفداه: أعطى فداءه من المال، أو الرجال، فأنقذه. اهـ. وفي "البحر" الفداء بالكسر فيُمدُّ، كما قال النابغة:

مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الأقْوَامُ كُلُّهُم ... وَمَا أثْمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ ويقصر قال: فِدًا لله مِنْ رَبِّ طَرِيْفِي وَتالِدِي وإذا فُتح أوّلهُ قصر يقال قُمْ فَدًا لَكَ أَبِي قاله الجوهري، ومعنى: فَدَى فلانٌ فلانًا أي أعطى عوضه. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} المحرَّم: اسم مفعول من حرَّم، وهو راجع إلى معنى المنع، تقول: حرَّمه يحرِّمه إذا منعه {فَمَا جَزَاءُ} الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشرّ، والهمزة فيه مبدلة من ياء؛ لتطرّفها إثر ألفٍ زائدة، فالأصل: جزايُ {إِلَّا خِزْيٌ} الخزي: الهوان، قال الجوهري: خَزِي بالكسر يخزَى خِزْيًا، وقال ابن السكيت: وقع في بليّةٍ، وأخزاه الله أيضًا، وخزِي الرجل في نفسه، يخزى خزايةً إذا استحيا وهو خزيانٌ، وقومٌ خَزَايا، وامرأةٌ خَزْيا، وفي "المصباح": خَزِي خِزْيًا من باب علم، إذا ذَلَّ وهان، وأخزاه الله أذلَّه وأهانه، وخَزِي خَزايةً بالفتح وهو الاستحياء، فهو خَزْيانٌ. اهـ. {فِي الْحَيَاةِ} تقدَّم أن ألف الحياة منقلبةٌ عن واو {الدُّنْيَا} وصفٌ جاء على وزن فعلى هو من الدُّنُوِّ بمعنى: القرب، والمعروف أنَّ فُعلى إذا كانت وصْفًا، وكانت لامُها واوًا أُعِلَّت؛ أي: أبدلت ياءً، كما في الدنيا، أصلها: الدُّنْو، أبدلت الواو ياءً، وسلمت في الاسم فلم تُبْدَل، ولم يأت ذلك في القرآن، ولكن ورد في "لسان العرب"، قال ذُو الرُّمَّةِ: أَدَارٌ بِحُزْوَى هُجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَاءُ الهَوَى يَرْفَضُّ أوْ يَتَرَقْرَقُ فَتراهُ قال: حُزْوَى، ولم يَقُلْ حُزْيا؛ لأنّه اسمٌ لا وَصْفٌ، وعلى العَكْسِ من ذلك إذا كانَتْ وَصْفًا، أما عَدمُ إعلالِ قُصْوَى في قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} فهو فصيحٌ في الاستعمال نادرٌ في القياس، وقد بَيَّن ابنُ مالك هذه الأحكام، فقال: مِنْ لاَمِ فَعْلَى اسْمًا أتَى الوَاوُ بَدَلْ ... يَاءٍ كَتَقْوَى غَالِبًا جَا ذَا البَدَلْ بِالعَكْسِ جَاءَ لاَمُ فُعْلَى وَصْفاَ ... وَكَوْنُ قُصْوَى نَادِرًا لا يَخْفَى

قال أبو حيان: والألف في الدنيا للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلّا في شعرٍ: في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ سُدَّت والدنيا تارةً تستعمل صفةً، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا استعملت صفةً، فالياء مُبْدَلة من واوٍ إذْ هي مشتقَّةٌ من الدُّنُوّ، وذلك نحو: العليا، ولذلك جَرَتْ صفةً على الحياة في قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} فأمَّا القصوى والحلوى: فشاذٌّ، وإذا استعملت استعمال الأسماء فكذلك، وقال أبو بكر بن السرَّاج في "المقصور والممدود" له: الدُّنيا مؤنّثةُ الأدنى، مقصورةٌ تكتب بالألف، هذه لغة نجدٍ، وتميمٍ خاصَّةً، إلّا أنَّ أهل الحجاز، وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دُنْوَى، مثل: شُرْوَى، وكذلك يستعملون بكل فُعْلى موضع لامها واوًا يفتتحون أوَّلها، ويقلبون الواوَ ياءً؛ لأنّهم يستثقلون الضمّة والواو. انتهى. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} القيامة فيه إعلال بالقلب، فالياء فيه منقلبة عن واو؛ لأنّه من قام يقوم، واويَّ العين، أعلَّت عين المصدر حملًا له على الفعل قام، فالأصل: القوامة، أبدلت الواو ياءً؛ لوقوعها إثر كسرةٍ وبعدها ألفٌ {يُرَدُّونَ} أصله: يردد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أصله: أشدد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أصله: اشتريوا من اشترى بوزن افتعل من الشراء، تحرَّكت الياء وانفتح ما قبلها، فَقُلِبَتْ ألفًا، فالتقى ساكنان الألف، وواو الجماعة، فحذفت الألف {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} آتينا أصله: أَأْتينا بوزن أَفْعلنا، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مدّ للأولى {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} يقال: قفوت الأثر اتَّبعته، والأصل: أن يجيء الإنسان تابعًا لقفا الذي اتَّبعه، ثُمَّ تُوسِّع فيه حتى صار لمطلق الاتباع، وإنْ بَعُد زمان المتبوع من زمان التابع، وقال أُميَّةُ: قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيْهِ عَنْ جُنُبٍ ... وَكيَفْ تَقْفُو ولا سَهْلَ ولا جُدَدُ وفي "السمين": {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ} التضعيف فيه للتعدية، إذ لو كان

كذلك لتعدَّى إلى اثنين؛ لأنّه قبل التضعيف يتعدَّى لواحدٍ، نحو: قفوت زيدًا، ولكنّه ضُمِّن بمعنى جئنا، كأنَّه قيل: وجئنا من بعده بالرسل، وأصله: قفَّونا، ولكن لمَّا وقعت الواو رابعةً قلبت ياء، واشتقاقه من قفوته إذا اتبعت قفاه، ثُمَّ اتسع فيه، فأُطلق على كُلِّ تابع وإن بعد التابع من زمان المتبوع، كما مرّ آنفًا، والقفا: مؤخّر العنق، ويقال له: القافية أيضًا، ومنه قافية الشعر. {بِالرُّسُلِ} جمع رسول بمعنى: المرسل، ولا ينقاس فُعْلٌ في فعول بمعنى مفعول، وتسكين عينه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة بني تميم {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} عيسى: اسمٌ أعجميٌّ، علم لا يصرف للعجمة والعَلَميَّة، ووزنه عند سيبويه: فِعْلى، والياء فيه مُلْحَقةٌ ببنات الأربعة بمنزلة ياء معزى؛ يعني: بالياء، الألف سمَّاها ياءً؛ لكتابتهم إيّاها ياءً. قال أبو علي: وليست، ألفه للتأنيث، كالتي في ذكرى؛ بدلالة صرفهم له في النكرة، ومن زعم أنّه مشتقٌّ من العيس وهو بياضٌ يخالطه شُقْرةٌ، فغير مُصيب؛ لأنَّ الاشتقاق العربيَّ لا يدخل الأسماء الأعجمية {ابْنَ مَرْيَمَ} مريم باللُّغة السريانية، معناه: الخادم، وسُمّيت به أمُّ عيسى، فصار علمًا، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ومريم باللِّسان العربي من النساء، كالزِّيْرِ من الرجال، وبه فُسِّر قول رؤْبة: قُلْتُ لِزِيْرٍ لَمْ تَصلْهُ مَرْيَمُهْ والزِّيْرُ: الذي يُكْثِرُ خُلطةَ النساء وزيارتَهنّ، والياء فيه مبدلة من واو، كالريح، إذ هما من الزَّوْرِ، والرَّوْحِ، فصار هذا اللفظ مشتركًا بالنسبة إلى اللِّسانين، ووزن مَرْيَم عند النحويِّين مَفْعَلٌ؛ لأنَّ فَعْيَلًا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية، كما ثبت نحو: عَثْبَرٍ، وعَلْبَبٍ. قاله الزمخشري، وغيره {الْبَيِّنَاتِ} جمع بَيِّنَة بوزن فَيْعِلَة، فأصلها: بَيْيَنَةٌ بوزن فيْعَلَة، أدغمت ياء فيعل في عين الكلمة، وكذلك بَيِّنَاتٌ وَزْنُه فَيْعِلاتٌ، والبَيّنُ: الواضح من كل شيء من بان إذا وضح وظهر. {وَأَيَّدْنَاهُ} وفي "المختار": آد الرجل: اشتدَّ وقوى، وبابه: باع، والأيد والآد بالمدِّ: القوَّةُ، تقول: أيَّده تأييدًا، والفاعل منه مُؤيِّد بوزن مُكَرِّم، وتأيَّد الشيء تقوَّى، ورجلٌ أيِّدٌ بوزن جَيّدٍ؛ أي: قَوِيٌّ. اهـ. يقال: أيَّد تأييدًا من باب

فَعَّل المضعَّف، وآيد إئْيادًا من باب أفعل، وكلاهما من الأيد، وهو القُوَّة {بِرُوحِ الْقُدُسِ} والرُّوح من الحيوان: اسمٌ للجزء الذي تحصل به الحياة، قال الراغب: واختلف الناس فيه وفي النفس، أهما من المشترك أم من المتباين؟ وفي ماهية الروح والنفس، وقد صُنِّف في ذلك {الْقُدُسِ} الطهارة، وقيل البركة {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} الرسول: فعول، بمعنى: المرسل وهو قليلٌ في كلامهم، ومنه الحلوب، والرَّكُوب بمعنى: المحلوب، والمَرْكُوب {بِمَا لَا تَهْوَى}؛ أي: تُحِبّ وتختار، ماضيه على فَعِل كرضي، ومصدره الهوى، وفيه إعلالٌ بالقلب، أصله: تَهْوَى بوزن تَفْعَل، تحرَّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، وفي "الجمل": وتهوى: مضارع هَوِيَ بالكسر إذا مال وأحبَّ، وفي "المختار": هَوِيَ أحبَّ، وبابه: صَدِيَ، ويقال: هَوَى يَهْوِي، كرمى يرمي، هَوْيًا بالفتح إذا سقط. اهـ. وهُويًّا بضمّ الهاء وفتحها. انتهى. اهـ. "مصباح". {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} وفي "السمين": وغُلْفٌ بسكون اللام: جمع أغلف، كأحمر وحُمْرٍ، وأصفر وصفر، وهو الذي لا يفقه، والمعنى على هذا: إنّها خلقت وجبلت مُغشَّاةً لا يصل إليها الحق. اهـ. أو جمع غلافٍ وهو الغشاء، فيكون أصله التثقيل فخفِّف. اهـ. من "البحر" {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} واللَّعْنُ: الطَّرد والإبعاد، يقال: شَأْوٌ لَعِينٌ؛ أي: بعيدٌ، وقال الشَّمَّاخُ: ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنُغَيْتُ عَنْهُ ... مَقامَ الذِئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِيْنِ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} مضارع شَيِءَ بكسر العين يشاء بفتحها، كعلم يعلم، نقلت حركة الياء إلى الشين في المضارع، فسكنت الياء وفتح ما قبلها، ثُمَّ قلبت ألفًا نظرًا إلى حركتها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال، فكأنَّها توفَّرت فيها شروط القلب نظرًا لحالها الأوَّل، وحالها الرَّاهن، ولهذا نظائر كثيرةٌ في القرآن، مِثْلُ: يكادُ، ويراد، وفي كلام العرب. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} المعرفة: العلم المتعلق بالمفردات، ويسبقه الجهل، بخلاف أصل العلم، فإنّه يتعلَّق بالنِّسَبِ، وقد لا يسبقه الجهل، ولذلك لم يوصَفِ الله تعالى بالمعرفة، ووُصِفَ بالعلم {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بئس: فعلٌ وضع للذمِّ، وأصله: فعل، وله، ولنِعْم باب معقودٌ في النحو {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ}.

البَغْيُ: الظلم، وأصله: الفساد، من قولهم: بغى الجرح إذا فسد. قاله الأصمعي. وقيل: أصله: شدة الطلب، ومنه ما نَبْغِي، ومنه سُمِّيت الزانية: بَغِيًّا؛ لشدّة طلبها للزنا {باءوا بغضب} أصله: بَوَأ، تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثمّ أسند الفعل إلى ضمير الجماعة، فبني على الضمّ {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} مهين: اسم فاعل من أهان الرباعي، واشتقاقه من الهوان، فأصله: مُهْوِنٌ على وزن مُفْعِل، نقلت حركة حرف العلة إلى الساكن الصحيح قبله، فسكنت الواو، إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ، والإهانة: الإذلال، ويقال: هان هوانًا لم يُحْتَمل به، وهو معنى الذُّلِّ، وهو كون الإنسان لا يُؤْبَهُ به، ولا يُلْتَفت إليه {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} والوَرَاءُ من الظروفِ المتوسطةِ التصرفِ، وتكون بمعنى: قُدَّام، وبمعنى: خلف، وهو الأشهر فيه. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}؛ أي: لا تُسَبِّبُوْا في إراقة دمائكم؛ لأنَّ من أراق دم غيره، فكأنَّما أراق دم نفسه، فهو من باب المجاز بأدنى ملابسةٍ؛ أو لأنّه يوجب قصاصًا، فهو من باب إطلاق المسبَّب وإرادة السبب. ومنها: الاستعارة التصريحيَّة التبعيَّة في قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}؛ لأنّه استعار الإقرار لقبول الميثاق ورضاه، ثُمَّ اشتقَّ منه أقررتم بمعنى: قبلتم على طريقة الاستعارة التصريحية التبعيَّة. ومنها: الإسناد العقليُّ في قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}؛ لأنَّ الإقرار إنَّما وقع للأسلاف، فأسنده إلى الأخلاف الذين خوطبوا بهذا الكلام؛ لرضاهم بما فعل أسلافهم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} عبَّر عن قتل الغير

بقتل النفس؛ لأنَّ من أراق دم غيره، فكأنَّما أراق دم نفسه، فهو من باب المجاز لأدنى ملابسة، كما مرّ آنفًا. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ}. ومنها: بيان جزائهم بطريق القصر في قوله: {إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم بِبَعْضِ الكتاب، وإظهار أنّه لا أثر له أصلًا مع الكفر ببعض. ومنها: التنكير في قوله: {إِلَّا خِزْيٌ}؛ لإفادة التهويل والتفخيم. ومنها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} حيث استعار الشراء للاستبدال تقدّم نظيرها. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} فإنّه أطلق الملزوم الذي هو الإيمان، وأراد لازمه الشرعي وهو فعل الواجبات، وترك المنهيات، وقد فعلوا بعض الواجبات، وهو الفداء، ولم يتركوا المحرم، وهو القتال والإخراج. ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: {فريقا كذّبتم} وقوله: {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}؛ للاهتمام به، وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه؛ وللفاصلة. ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: {فريقا تقتلون} ولم يقل قتلتم، كما قال {كذبتم}؛ لأنّ الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة، يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغًا عظيمًا، فكأنّه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السَّامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم، ويسمَّى هذا عند البلغاء: حكايته الحال الماضية، وصورتها: أن يُقدَّر، ويفرض الواقع في الماضي واقعًا وقت التكلُّم، ويخبرَ عنه بالمضارع الدال على الحال اهـ. من "الفتوحات". ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي:

بالروح المقدَّس وهو جبريل، وتسميته روحًا على سبيل الاستعارة، لمشابهته الروح الحقيقيَّ في أنَّ كُلًّا جسمٌ لطيفٌ نورانيٌّ، وأنَّ كلًّا مادّة الحياة، فجبريل تحيا به القلوب والأرواح من إتيانه بالوحي، والعلوم، والروح تحيا به الأبدان والأجساد. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف مستعارٌ من الأغلف الذي لا يُختَن؛ أي: مغشَّاةٌ بالغشاء المعنويِّ، كما أنَّ الحشفة مُغطَّاةٌ بالقُلْفة. ومنها: زيادة ما في قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}؛ لإفادة المبالغة في القِلَّة. ومنها: وصف الكتاب بكونه من عند الله في قوله: {كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ للتشريف. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} حيث لم يقل: عليهم؛ للدلالة على أنَّ اللَّعنة لحقتهم لكفرهم. ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا}؛ حكايةً للحال الماضية، واستحضارًا لفعلهم الشَّنِيع. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} حيث لم يقل: ولهم؛ للإشعار بعِلِّية كفرهم لما حاق بهم. ومنها: المجاز العقليُّ في قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} حيث أسند الإهانة إلى العذاب؛ لكونه سببها. ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} حيث لم يقل: فلم قتلتم أنبياء الله؛ لحكاية الحال الماضية. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}. المناسبة قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات

لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمّا عدَّد (¬1) في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، ذكر هنا أنَّ الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى، ووحدانية الله، وعظيم قدرته، لم تزدهم إلّا انهماكًا في الشرك، وتوغّلًا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلّا اتخاذ العجل إلهًا يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، بأنَّهم لا يؤمنون إلّا بما أنزل إليهم، وهذا دليل على قسوة قلوبهم، وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكرٍ وتأمُّلٍ، بعد أن اختلَّ الوجدان، وضعف الجنان، وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا: كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآيات السالفة معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من الآيات البينات، كقولهم: إنهم مؤمنون بكتابٍ من ربّهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فَنَقَض دعواهم، وأَلْزمَهم الحجة، وقولَهم: إنّهم ناجون حتمًا في الآخرة؛ لأنّهم شَعْبُ الله وأبناؤُه، فأبطل مزاعمهم، ودَحضَ حُجَجهم ... ذكر (¬2) هنا تَعِلَّةً أخرى هي أعجبُ من كل ما تقدَّم، وفنَّدَها كما فنَّد ما قبلها، تلك هي قولهم: إنَّ جبريل الذي يَنِزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي عدوُّهم، فلا يؤمنون بما يجيء به منه، وقد أُثِر عنهم عدَّة روايات تشرحُ هذه المقالةَ: منها: أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: هو عدو اليهود؛ لأنّه أنذرهم بخراب بيت المقدس، فكان ما أنذر به. ومنها: أنّ عمر بن الخطاب دخل مِدْراسهم، فذكر جبريل، فقالوا: ذاك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

عدونا يطلع محمدًا على أسرارنا، وأنّه صاحب كل خسف وعذاب، وأنّ ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء. ولا شكّ أنّ هذا منهم دليل على خطل الرأي، وعدم التدبُّر، وإنّما ذكره الكتاب الكريم؛ ليستبين للناس حجج أهل الكتابِ، ويعرفوا مِقدارَ مِرائهِم وسخفهم في جَدَلهِم، وأنهم ضعات الأحلام، قليلوا التَدبرِ في عواقب ما يقولون. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذَكَّر فيما سبق ببعض أحوالهم الشَّنيعة، ومقالاتهم القبيحة .. بيَّن في هذه الآيات حالًا من أحوالهم هي عِلَّةُ ما يصدر عنهم من جحود، وعناد، ومعاداةٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هي أنَّ فريقًا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يَفْخَروُن حين جاء الرسول بكتابٍ مصدِّقٍ لما بين أيديهم، فإنَّ ما في كتابهم من البشارة بنبيٍّ يجيءُ من ولد إسماعيل لا ينطبق إلّا على هذا النبي الكريم، وليس المراد (¬1): أنّهم نبذوا الكتاب جملةً وتفصيلًا، بل نبذوا منه ما يُبشّر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُبيِّن صفاته، وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أنَّ ترك بعضه كترك كله، إذ إنَّه يُذْهِب باحترام، ويفتح البابَ لترك الباقي، وهذا الجحود لم يكن بِضَائرٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا لدعوته، وقد قبلها، واهتدى بها كثيرٌ من اليهود، ومن غيرهم، وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات، وأعمال صادَّةٍ عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجنّ، فاشتغلوا بالسحر، والشَّعوذة، والطلسمات التي نسبوها إلى سليمان، وزعموا أنَّ ملكه كان قائمًا عليها، وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين، فصدَّقوهم فيما زعموا منها، وكذّبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم، ويخطُّون خطوطًا، ويعملون طلسمات يسمُّونها خاتم سليمان، وعهودًا يزعمون أنّها تحفظ ¬

_ (¬1) المراغي.

من يحملها من اعتداء الجنّ، ومسِّ العفاريت. وإنَّما قصَّ القرآن علينا هذا القصص (¬1)؛ للذكرى؛ وليبيِّن لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر، فكان صادًّا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثمَّ لم يهتدوا بالنبيِّ الذي بشَّر به كتابهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى، لما فرغ من الأحاديث الخاصَّة باليهود، انتقل إلى حديثٍ مشترك بينهم وبين المؤمنين، والنصارى في أمرٍ من أمور الدِّين. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة إلّا من كان هودًا، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً ...} الآية. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...} الآية، سبب نزولها: ما روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمع عبد الله بن سلام، مقدم رسول الله وهو في أرضٍ يخترف، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيٌّ ما أوّلُ أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه؟ قال: أخبرني بهنّ جبريل آنفًا، قال جبريل: قال نعم، قال: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ...}. قال شيخ الإِسلام ابن حجر العسقلانيُّ في "فتح الباري": ظاهر السياق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية ردًّا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد: فقد صحَّ في سبب نزول الآية: قصّةٌ غير قصّة عبد الله بن سلام، فأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي من طريق بكر بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

ابن عباس قال: (أقبلت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا أبا القاسم! إنَّا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنّك نبيٌّ) فذكر الحديث، وفيه أنَّهم سألوه عمَّا حرَّم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي، وعن الرَّعد وصوته، وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمَّن يأتيه بخبر السماء؛ إلى أن قالوا: فأخبرنا عن صاحبك، قال: جبريل، قالوا: جبريل، ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب، عدوُّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر، لكان خيرًا، فنزلت. وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، وابن جرير عن طريق الشعبي: أنَّ عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة، فيتعجَّب كيف تُصدِّق ما في القرآن، فمرَّ بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: نشدتكم بالله، أتعلمون أنّه رسول الله؟ فقال عالمهم: نعم نعلم أنَّه رسول الله، قلت: فلم لا تتبعونه؟ قالوا: سألناه عمَّن يأتيه بنبوّته، فقال: عدوُّنا جبريل؛ لأنّه ينزل بالغلظة، والشدّة، والحرب، والهلاك، قلت: فمن رسلكم من الملائكة؟ قالوا: ميكائيل ينزل بالقطر، والرحمة، قلت: وكيف منزلتهما من ربّهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن الجانب الآخر قلت: فإنّه لا يحلُّ لجبريل أن يعادي ميكائيل، ولا يحلُّ لميكائيل أن يسالم عدوَّ جبريل، وإنني أشهد أنَّهما وربَّهما سِلْمٌ لمن سالموا، وحَرْبٌ لمن حاربوا، ثمَّ أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أريد أن أخبره، فلمَّا لقيته قال: ألا أخبرك بآياتٍ - أنزلت عليَّ؟ فقلت: بلى يا رسول الله! فقرأ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} حتى بلغ {لِلْكَافِرِينَ} قلت: يا رسول الله! والله ما قمت من عند اليهود إلّا إليك، لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم، فوجدت الله سبقني. وإسناده صحيح إلى الشعبي، لكنّه لم يدرك عمر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم من طريق آخر عن الشعبي، وأخرجه ابن جرير من طريق السدي، عن عمر، ومن طريق قتادة عن عمر، وهما أيضًا منقطعان. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آخر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنَّ يهوديًّا لقي عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم هو عدوّ لنا، فقال عمر: من كان عدوًّا لله، وملائكته، ورسله، وجبريل، وميكائيل فإنَّ الله عدوُّه، قال: فنزلت على لسان عمر، فهذه طرقٌ يقوِّي بعضها بعضًا. وقد نقل ابن جرير الإجماع على أنَّ سبب الآية ذلك؛ أي: أنّها نزلت جوابًا لليهود، إذْ زعموا

أنَّ جبريل عدوٌّ لهم، وأنَّ ميكائيل وليٌّ، فيكون الإجماع مؤيِّدًا للحديث على ما به من الضعف؛ لأنّ بكير بن شهاب قد خولف فيه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ...} الآيتين، سبب نزولهما (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال ابن صوريا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد! ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل في ذلك: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآية. وقال: مالكُ بن الصيف حِينَ بُعِثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكَرَ ما أُخذ عليهم من الميثاق، وما عُهد إليهم في محمد، والله ما عُهِدَ إلينا في محمدٍ، ولا أُخذَ علينا ميثاق، فأنزل الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا ...} الآية. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن شهر بن حوشب، قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلُط الحقَّ بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، أفما كان ساحرًا يركب الريح؟! فأنزل الله عزّ وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية: أنَّ اليهود سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: زمانًا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلّا أنزل الله عليه ما سألوا عنه، فلمَّا رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منّا، وأنَّهم سألوا عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عزّ وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر (¬2)، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود مالك ابن الصيف، ورفاعة بن زيد، إذا لقيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالا وهما يكلِّمانه: راعنا سمعك، واسمع غير مسمع، فظنَّ المسلمون أنّ هذا اللفظ كان أهل الكتاب يعظِّمون به أنبيائهم، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فأنزل تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[93]

لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}. وأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن ابن عباس قال: راعنا بلسان - اليهود: السَّبُّ القبيح، فلمَّا سمعوا أصحابه يقولون، أعلنوا بها له، فكانوا يقولون ذلك، ويضحكون فيما بينهم، فنزلت هذه الآية، فسمعها منهم سعد بن معاذ، فقال لليهود: يا أعداء الله! لئن سمعتها من رجل منكم بعد هذا المجلس لأضربنَّ عنقه. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان الرجل يقول: أرعني سمعك، فنزلت الآية. وأخرج عن عطية قال: كان أناسٌ من اليهود يقولون: أرعنا سمعك، حتى قالها أناسٌ من المسلمين، فكره الله لهم ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن قتادة قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك؛ فكان اليهود يأتون، فيقولون مثل ذلك، فنزلت الآية. وأخرج عن عطاء قال: كانت لغة الأنصار في الجاهليّة، فنزلت. وأخرج عن أبي العالية قال: إنّ العرب كانوا إذا حدَّث بعضهم يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك، فنهوا عن ذلك. التفسير وأوجه القراءة 93 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}؛ أي: العهد منكم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصّة حين أخذنا العهد المؤكَّد باليمين منكم، على العمل بما في التوراة {وَرَفَعْنَا} أي: قلعنا وحبسنا {فَوْقَكُمُ}؛ أي: فوق رؤوسكم {الطُّورَ} أي: جبله ليسقط عليكم حين أبيتم، وامتنعتم من قبول التوراة قائلين لكم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ}؛ أي: اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجدٍّ واجتهادٍ {وَاسْمَعُوا} ما أمرتم به في الكتاب سماع قبول وطاعةٍ {قَالُوا} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: {سَمِعْنَا} قولك بآذاننا، ولكن لا سماع طاعةٍ وقبولٍ {وَعَصَيْنَا} وخالفنا أمرك بقلوبنا، ولولا مخافة الجبل ما قبلنا في الظاهر، فإذا كان حال أسلافهم هكذا فكيف يتصوَّر من أخلافهم الإيمان؟ وقيل: إنّهم يقولون ذلك بألسنتهم، ولكن لَمَّا سمعوه وتلقَّوه، تلقوه بالعصيان، فنسب ذلك إليهم. وقيل كأنَّهم يقولون: لولا

الجبل لسمعنا ذلك، وعصينا أمرك، وجملة قوله: {وَأُشْرِبُوا} في محل النصب على الحال من فاعل {قَالُوا}؛ أي: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} والحال أنَّهم أشربوا وسُقوا {فِي قُلُوبِهِمُ} بيانٌ لمكان الإشراب، كقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} {الْعِجْلَ} أي: حبَّ عبادة العجل، فهو على حذف مضافين، يقال: أشرب قلبه كذا؛ أي: حلَّ محلَّ الشراب، أو اختلط، كما خلط الصبغ بالثوب. وحقيقة (¬1) أُشربَه كذا جعله شاربًا لذلك، فالمعنى: جُعلوا شاربين حبَّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يَتغَلْغَلُ فيه. قال الراغب: من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حبِّ، أو بغضٍ في القلب، أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ مساغًا في البدن، ولذلك قالت الأطباء: الماء مطيَّة الأغذية والأدوية {بِكُفْرِهِمْ} أي: بسبب كفرهم السابق لهم في مصر من الوثنية الموجب لذلك، والمعنى: حُبّب إليهم العجل، وخالط حبُّه قلوبهم، كما يخالط الشراب أجزاء البدن الباطنة. قيل: كانوا مُجسِّمةً، أو حُلُوليَّةً، ولم يروا جسمًا أعجب منه، فتمكَّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ، وجَعَل حلاوةَ عبادةِ العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم. وفي القصص: أنَّ موسى عليه السلام، لمَّا خرج إلى قومه أمَرَ أَنْ يُبْرَدَ العجل بالمِبْرد ثم يُدرَّى في النهر، فلم يبق نهرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه منه شيءٌ، ثم قال لهم: اشربوا منه فمن بقي، في قلبه شيءٌ من حبّ العجل ظهَرَتْ سُحَالة الذَهب على شاربه؛ أي: خَرَجت بُرادَتهُ على شاربه، وهذا (¬2) قولٌ يردُّهُ قولهُ: {فِي قُلُوبِهِمُ} وروي أنَّ الذين تبيَّن لهم حُبُّ العجل أصابهم من ذلك الماء الجُبْنُ، وبناؤه للمفعول في قوله: {وَأُشْرِبُوا} دليلٌ على أنَّ ذلك فُعِل بهم، ولا يفعلُه إلّا الله تعالى. وقال أبو حيان: ومعناه: أنَّه داخلهم حبُّ عبادته، كما داخل الصبغُ الثوبَ، وأنشدوا: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

إِذا مَا القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ ... فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافا وقال ابن عرفة: يقال: أُشرب قلْبُه حبَّ كذا؛ أي: حلَّ محلَّ الشراب، ومازَجَهُ. انتهى كلامه. وإنّما عبَّر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأنَّ شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولهذا قال بعضهم: جَرَى حُبُّها مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي ... فَأصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بهَا شُغْلُ وأمّا الطعام (¬1)، فقالُوا: هو مجاور لها غير متغلغلٍ فيها، ولا يصل إلى القلب منه إلّا يسيرٌ، وقال: تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِيْ ... فَبَادِيْه مَعَ الخَافِي يَسِيرُ والظاهر: أنَّ الباء في قوله: {بِكُفْرِهِمْ} للسبب؛ أي: الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق لهم في مصر. وقيل ويجوز أن تكون الباء بمعنى مع متعلِّقة بمحذوف وقع حالًا؛ أي: وأشربوا في قلوبهم حبَّ العجل حال كونه مصحوبًا بكفرهم السابق من الوثنية {قُلْ} لهم يا محمد! توبيخًا (¬2) لحاضري اليهود، إثر ما بُيِّنَ أحوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون في كُلِّ ما يأتون ويذرون {بِئْسَمَا} أي: بئس الشيء شيئًا {يَأْمُرُكُمْ بِهِ}، أي: بذلك الشيء {إِيمَانُكُمْ} بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدَّعون، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: ما ذكر من قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وعبادتهم العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكّم بهم، وإضافة الإيمان إليهم؛ للإيذان بأنّه ليس بإيمانٍ حقيقةً، كما ينبيء عنه قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة، إذ لم يُسوِّغ الإيمان بها مثلَ تلك القبائح، فلستم بمؤمنين بها قطعًا، فقد علم أن من ادَّعى أنّه مؤمن ينبغي أن يكون فعله مصدِّقًا لقوله: وإلّا لم يكن مؤمنًا؛ أي: بئس الشيء شيئًا يأمركم به إيمانكم بما أنزل عليكم من التوراة، والمخصوص بالذمّ قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، وعبادتُهم العجل، والمعنى: بئس الإيمان إيمانٌ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[94]

يأمركم بعبادة العجل إن كنتم مؤمنين بالتوارة كما زعمتم، والمعنى: لستم بمؤمنين؛ لأنَّ الإيمان لا يأمركم بعبادة العجل، وهذا تكذيبٌ لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وذلك أنّ آباءهم ادَّعوا الإيمان ثُمَّ عبدوا العجل، فقيل: لهم بئس الإيمان إيمانٌ يأمر بالكفر. والخلاصة: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل؛ يعني آباءهم، وكذلك كذبهم في قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} حيث قال: 94 - {قُلْ} لهم يا محمد! أيضًا: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ}؛ أي: نعيمها وهي الجنة مُدَّخرةً {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ظَرْفٌ للاستقرار في الخير؛ أعني: لكم حالة كونها {خَالِصَةً}؛ أي: خاصَّةً بكم منصوبٌ على الحالية من الدار؛ أي: إن كانت لكم الدار الآخرة حالة كونها سالمةً لكم خاصَّةً بكم {مِنْ دُونِ النَّاسِ} في محل النصب بـ {خَالِصَةً}؛ أي: من دون محمد وأصحابه، فاللام في الناس للعهد، وتستعمل هذه اللفظة للاختصاص، يقال: هذا إليَّ من دون الناس؛ أي: أنا مختصُّ به؛ أي: ليس لأحد سواكم فيها حقٌّ بأن صحَّ قولكم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا}. والمعنى: إن صحّ قولكم لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودًا {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}؛ أي: أَحِبُّوه، واسألوه بالقلب واللسان، وقولوا: اللهم! أمتنا، فإنَّ من أيقن بدخول الجنّة اشتاق إليها، وتمنَّى سرعة الوصول إلى النعيم، والتخلُّص من دار البوار، وقرارة الأكدار، ولا سبيل إلى دخولها إلّا بعد الموت، فاستَعْجِلُوه بالتَّمنِّي {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: إنّ الجنة خاصَّةٌ لكم فتمنَّوه، وأصل التمنّي: تقدير شيء في النفس، وأكثر ما يستعمل فيما لا حقيقة له. قوله: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} فسَّرُوا الدار الآخرة بأنّها هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا، وسميت آخرة؛ لأنّها متأخّرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن، فتشمل الجنة والنار، ولكن الكلام هنا على تقدير مضاف؛ أي: نعيم الآخرة. وقرأ الجمهور {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} بضمّ الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل: اخشوا القوم، ويجوز الكسر؛ تشبيهًا لهذه الواو بواو لو استطعنا، كما شبَّهوا واو

لو بواو اخشوا، فضَمُّوا، فقالوا: لو استطعنا. وقرأ ابن أبي إسحاق: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} بالكسر، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يَزْداد، عن أبي عمرو، أنّه قرأ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} بفتح الواو وحركها بالفتح؛ طلبًا للتخفيف؛ لأنَّ الضمة والكسرة في الواو يثقلان، وحكي أيضًا عن أبي عمرو اختلاس ضمّة الواو وكلها شاذة باستثناء ما عليه الجمهور وجواب الشرط في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} محذوفٌ، تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ الجنّة لكم دون غيركم، فتمنوا الموت، وعَلَّق تمنِّيهم على شرطٍ مفقودٍ وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أنَّ الجنة خالصةٌ لهم دون الناس، فلا يقع التمنِّي، والمقصود من ذلك التحدِّي، وإظهار كذبهم، وذلك أنَّ من أيقن أنّه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إليها، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار، كما روي عمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، كعثمان، وعلي، وعمّار، وحذيفة، أنّهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وقد روي عن كثير من الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - تمنّي الموت عند القتال، معبِّرين بألسنتهم عمّا يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعدَّ الله للمؤمنين في الدار الآخرة، فقد جاء في الأخبار: أنَّ عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم: يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ واقْتِرابها طَيِّبةٌ وَبارِدٌ شَرابُها والرُّومُ رُوْمٌ قَدْ دَنَا عَذابُهَا وأنَّ عمَّار بن ياسر في حرب صفين قال: غَدًا نَلْقَى الأحِبَّهْ ... مُحمَّدًا وصَحْبَه وروي عن حذيفة أنّه كان يتمنَّى الموت، فلما احتُضِر قال: (حبيبٌ جاء على فاقةٍ). وعن علي أنّه كان يطوف بين الصفين بغلالةٍ، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزيِّ المحاربين، فقال: يا بني! لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط أم عليه سقط الموت. وفي قصتي قتل عثمان، وسعيد بن جبير ما يدلُّ على اختيارهما

[95]

الشهادة، وذلك أنّ عثمان جاءه جماعة من الصحابة، فقالوا له: نقاتل عنك، فقال لهم: وكان له قريبٌ من ألف عبد، فشهروا سيوفهم لمَّا هُجِمَ عليه، فقال: من أغمد سيفه فهو حرّ، فصبر حتى قتل، وأمَّا سعيد بن جبير، فإنَّ الموكَّلين به لمَّا طلبه الحجاج لمَّا شاهدوا من لياذ السباع به، وتمسُّحها به، قالوا: لن ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح، قالوا له: طَلَبك لِيَقْتلَك، فاذهب حيث شئت، ونحن نكون فداءك، فقال: لا والله، إنّي سالت ربّي الشهادة، وقد رزقنيها، والله لا بِرَحْتُ. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): لو تمنَّوا الموت - يعني: اليهود - لغص كل إنسانٍ منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ، وذلك: أنَّ الله سبحانه، أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمنّي الموت، وأن يعلمهم أنَّه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقًا من الله سبحانه، وهذا من المعجزات؛ لأنّه إخبارٌ بالغيب، وكان كما أخبر به ولو وقع من أحد منهم تمني موته لنقل واشتُهر. وحاصل معنى الآية: أي إن صدق (¬2) قولكم وصحت دعواكم: أنَّ الجنة لا يدخلها إلّا من كان هودًا، وفي أنّكم شعب الله المختار، وأنَّ النار تمسُّكم أيامًا معدودات، فتمنَّوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم، الخالص، الدائم، الذي لا ينازعكم فيه أحدٌ، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة، ويختار الشقاء، فإن لم تتمنَّوه، بل كنتم شديدي الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقي الإيمان، وهذه حجةٌ تنطبق على الناس عامَّة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانًا يزنون بها دعواهم اليقين بالإيمان، والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله، والذود عن الدين، كانوا مؤمنين حقًّا، وإن ضنُّوا بها وكانوا شديدي الحرص على الحياة إذا جدَّ الجِدُّ، ودعا الداعي، كانوا بعكس ما يدَّعون. 95 - {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ}؛ أي: الموت {أَبَدًا} أي: في جميع الزمن المستقبل؛ لأنّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أبدًا اسم لجميع مستقبل الزمان، كقطُّ لماضيه، وفيه (¬1) دليلٌ على أنَّ (لن) ليس للتأبيد؛ لأنّهم يتمنَّون الموت في الآخرة، ولا يتمنَّوه في الدنيا؛ أي: لن يسألوا الموت، ولن يطمعوا فيه أبدًا ما عاشوا {بـ} سبب {ما قدمتـ} ـه وعملته واجترحته {أَيْدِيهِمْ} من المعاصي الموجبة لدخول النار، كالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن الذي أنزل عليه، وتحريف نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - المذكور في التوراة؛ لأنّهم عرفوا أنهم كفرةً، ولا نصيب لهم في الجنّة. فإن قلت: لِمَ قال هنا (لن) وفي الجمعة (لا)؟ قلت: لأنَّ (لن) أبلغ في النفي من (لا) حتى قيل: إنّها لتأبيد النفي، ودعواهم في (البقرة) بالغةٌ قاطعةٌ، وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص، فناسب ذكر (لن) فيها، ودعواهم في الجمعة قاصرةٌ مردودة، وهي زعمهم أنّهم أولياء لله، فناسب ذكر (لا) فيها. انتهى من "فتح الرحمن". والمعنى: أي ولن يقع منهم هذا التمنِّي بحالٍ؛ لأنّهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي، والذنوب التي يستحقون بها العقوبة، كتحريف التوراة وتبديلها، وتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - مع البشارة به في كتابهم. وخصَّ الأيدي بالذكر (¬2)؛ لأنّ الأعمال غالبًا تكون بها، وهي من بين جوارح الإنسان مناط عامَّة صنائعه، ومدار أكثر منافعه، ولذا عبَّر بها تارةً عن النفس، والشخص، كما هنا، والأخرى عن القدرة {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}؛ أي: بالكافرين من اليهود، والنصارى، وغيرهم؛ أي: محيط علمه بهم، وبما صدر عنهم، وسيجازيهم عليه، ففيه معنى التهديد، والتخويف لهم، وإنّما (¬3) خصَّهم بالظلم؛ لأنّه أعمّ من الكفر عمومًا وخصوصًا مطلقًا؛ لأنّ كلَّ كافر ظالم، وليس كل ظالم كافرًا، فلهذا كان أعم، وكانوا أولى به. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

[96]

96 - {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} من الوجدان العقليِّ وهو جار مجرى العلم، خلا أنّه مختصٌّ بما وقع بعد التجربة، ونحوها، واللام لام قسم؛ أي: وعزّتي وجلالي، لتجدنَّ يا محمد! اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ} أي: أشدَّ الناس حرصًا {عَلَى حَيَاةٍ}؛ أي: على بقاء في الدنيا، وأشدَّهم كراهية للموت، والتنكير (¬1) للنوع، وهي الحياة المخصوصة المتطاولة، وهي حياتهم التي هم فيها؛ لأنّها نوعٌ من مطلق الحياة. وقرأ أُبيٌّ: {على الحياة} بالتعريف، قال الزمخشريُّ: التنكير أبلغ من قراءة أُبيٍّ لعمومه، وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} عطفٌ على ما قبله بحسب المعنى، المعنى: كأنّه قيل: أي: ولتجدنّهم أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا؛ أي: وأحرص من مشركي العرب المنكرين للبعث على الحياة؛ لعلمهم بأنّ مصيرهم إلى النار دون المشركين؛ لإنكارهم له؛ أي: فهم أكره للموت من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث. فإن قلت: الذين أشركوا قد دخلوا في الناس في قوله: {أَحْرَصَ النَّاسِ} ولمَ أفردهم بالذكر؟ قلت: أفردهم بالذكر؛ لشدَّة حرصهم على الحياة، وفيه توبيخٌ عظيم لليهود؛ لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بالمعاد، ولا بالمجازاة، ولا يعرفون إلّا الحياة الدنيا، فلا يستبعد حرصهم عليها؛ لأنّها جنّتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتابٌ، وهو مقرٌّ بالبعث والجزاء، كان حقيقًا بالتوبيخ العظيم. فإن قلت: لِمَ زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنّهم علموا لعلمهم بحالهم أنّهم صائرون إلى النار لا محالة، والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل: إنّ الواو في قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} استئنافية، تقديره: ومن الذين أشركوا أُناسٌ يودُّون تعميرهم ألف سنة، أو أُناسٌ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

حريصون على حياةٍ {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف؛ أي: يحبُّ ويتمنَّى أحد هؤلاء اليهود، وأحد المشركين {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي؛ تعميره (¬1)، وعيشه، وحياته، وبقاءه في الدنيا ألف سنة؛ لأنّه يعلم أنَّ آخرته قد فسدت عليه، وليس المراد بألف سنة: خصوص هذا العدد، ولا قول الأعاجم: عشر ألف سنةٍ، بل المراد: التكثير والمبالغة. وقوله: {أَحَدُهُمْ}؛ أي: واحدٌ (¬2) منهم، وليس أحدٌ هنا هو الذي في قولهم: (ما قام أحدٌ)؛ لأنَّ هذا مستعملٌ في النَّفْي، أو ما جرى مجراه، والفرق بينهما: أنَّ أحدًا هذا أصوله همزةٌ وحاءٌ ودالٌ، وأصول ذلك واو وحاء ودال، فالهمزة في أحدهم بدلٌ من واو، والإتيان (¬3) بالمضارع في {يَوَدُّ} حكايةٌ لودادهم و {لَوْ} مصدريَّةٌ فيه معنى التمنِّي، كأنَّه قيل: ليتني أُعمَّر، إلّا أنَّه جرى على لفظ الغيبة لقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} كقولك: حلف بالله ليفعلنّ، ومحلُّه النصب على أنه معمول ليودُّ إجراءً له مجرى القول؛ لأنّه فعلٌ قلْبيٌّ، والمعنى: تمنَّى أحدهم أن يعطى البقاء والعمر ألف سنة، وهي للمجوسي، وخصَّ هذا العدد؛ لأنّهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العُطَاس والتحية: عشر ألف سنةٍ وألف نورٍ، وصحَّ إطلاق المشركين على المجوس؛ لأنّهم يقولون بالنور والظلمة، {وَمَا هُوَ}؛ أي: وما طول عمره وتعميره ألف سنة، {بِمُزَحْزِحِهِ} أي: بمبعده، ومنجيه {مِنَ الْعَذَابِ}؛ أي: من عذاب الله؛ لأنّه لا بدَّ للعمر، وإن طال من الفناء، والعمر: مدَّةٌ أجلها الله تعالى لعباده في دار الفناء، وجملة قوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} بدلٌ من الضمير الذي فسَّرناه سابقًا بالتعمير، ويحتمل عود الضمير على أحدهم، وهو اسم {مَا} {بِمُزَحْزِحِهِ} خبر {مَا} والباء زائدة، و {أنْ يُعَمَّرَ} فاعلُ بمزحزحه. والمعنى عليه: وما أحدهم بمن يزحزحه ويبعده من العذاب والنار تعميره ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

ألف سنة {وَاللَّهُ بَصِيرٌ}، أي: عالم {بِمَا يَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، والبصير في كلام العرب: العالم بكنه الشيء، الخبير به؛ أي: عالمٌ بخفيَّات أعمالهم من الكفر، والمعاصي، لا يخفى عليه شيءٌ منها، فهو مجازيهم عليها لا محالة بالخزي، والذلِّ في الدنيا، والعقوبة في العقبى، وهذه الحياة العاجلة تنقضي سريعةً، وإن عاش المرء ألف سنةٍ، أو أزيد عليها، فمن أحبَّ طول العمر للصلاح فقد فاز، وفي الحديث: "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" ومن أحبَّه للفساد فقد ضلَّ، ولا ينجو ممَّا يخاف، فإن الموت يجيءُ ألبتة، واجتمعت الأمة على أن الموت ليس له سِنٌّ معلومٌ، ولا أجلٌ معلومٌ، ولا مرضٌ معلومٌ، وذلك ليكون المرء على أهبةٍ من ذلك، وكان مستعدًا لذلك بعض الصالحين ينادي بالليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل! فلمَّا توفّي فقد صوته أمير تلك المدينة، فسأل عنه، فقيل له: إنّه مات. مَا زَالَ يَلْهَجُ بِالرَحِيْلِ وذِكْرِهِ ... حَتَّى أناخَ بِبَابِهِ الجَمَّالُ فأصَابَهُ مُسْتَيْقِظًا مُتَسَمِّرًا ... ذَا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمَالُ فإصابةُ الموت حقٌّ وإن كان العيش طويلًا، والعمر مديدًا، وهو ينزل بكل نفسٍ، راضيةً كانت، أو كارهةً. وقرأ الجمهور (¬1) {يَعْمَلُونَ} بالياء على نسق الكلام السابق. وقرأ الحسن، وقتادة، والأعرج، ويعقوب: بالتاء على سبيل الالتفات، والخروج من الغيبة إلى الخطاب، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه تعالى محيطًا بأعمالهم السالفة، والآتية؛ لتواخي الفواصل. وقد تضمَّنت هذه الآية الكريمة: الامتنان على بني إسرائيل، وتذكارهم بنعم الله تعالى، إذ أتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور، ووالى بعده بالرسل؛ لتجديد دين الله وشرائعه، وأتى عيسى الأمور الخارقة للعادة من إحياء الأموات، وإبراء الأكمه والأبرص، وإيجاد المخلوق، ونفخ الروح فيه، والإنباء بالمغيَّبات، وغير ذلك، وأيَّده بمن ينزل الوحي على يديه وهو جبريل عليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

السلام، ثُمَّ مع هذه المعجزات والنعم، كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله تعالى، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسولٌ بما لا يوافقهم، بادروا إلى تكذيبه، أو قتلوه وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم، حتى حكي أنَّهم في إثر قتلهم الجماعة من الأنبياء، تقوم سوق البقل بينهم التي هي أردأ الأسواق، وأرذلها، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النَّفيسة؟ ثُمَّ نعى تعالى عليهم أنَّهم باقون على تلك العادة، من تكذيب ما جاء من عند الله، وإن كانوا من قبل مجيئه يذكرون أنّه يأتيهم من عند الله، فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه، ويعرفونه كفروا به، فختم الله عليهم باللعنة، وأنَّ سبب طردهم عن رحمة الله؛ هو ما سبق من كفرهم، وأنَّ إيمانهم كان قليلًا، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنّه سيأتي كتابٌ، ثُمَّ أخذ في ذكر ذمهم، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتَّب لهم على كفرهم بآيات الله، من المآكل، والرياسات المنقضية في الزمن اليسير؛ وأنَّ الحامل على ذلك هو البغي والحسد؛ لأن الله اختصَّ بفضله من شاء من عباده، فلم يرضوا بحكمه، ولا باختياره، فباؤا بالغضب من الله، وأَعَدَّ لهم في الآخرة العذاب الذي يذلُّهم، ويهينهم، إذ كان امتناعهم من الإيمان إنّما هو للتكبُّر، والحسد، وعدم الرضا بالقدر، فناسب ذلك أن يعذَّبوا العذاب الذي فيه صغارٌ لهم، وذلَّةٌ، وإهانةٌ، ثُمَّ أخبر تعالى عنهم أنّهم إذا عُرِضَ عليهم الإيمان بما أنزل الله، أجابوا بأنَّهم يؤمنون بالتوراة، وأنّهم يكفرون بما سوى هذا، والكتب المنزَّلة من عند الله تعالى، سواءٌ إذ كُلُّها حقٌّ يُصدِّق بعضها بعضًا، فالكفر ببعضها كفرٌ بجميعها. ثُمَّ أخبر تعالى بكذبهم في قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وذلك بأنّهم قتلوا الأنبياء، والتوراة ناطقةٌ باتّباع الأنبياء، والاقتداء بهم، فقد خالف قولهم فعلهم، ثُمَّ كرَّر عليهم؛ توبيخًا لهم أنَّ موسى الذي أنزل عليه التوراة، وأنّهم يزعمون أنهم آمنوا بها، قد جاءهم بالأشياء الواضحة، والمعجزات الخارقة، من نجاتهم من فرعون، وفلق البحر، وغير ذلك، ومع ذلك اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاةِ ربِّه إلهًا من أبعد الحيوان ذهنًا، وأبلدها، وهو العجل المصنوع من حُليِّهم، المشاهد إنشاؤهُ وعمله، وموسى لم يَمُتْ بَعْدُ، وكتاب الله طريٌّ نزولُه عليهم، لم

[97]

يتقادم عهده، وكرَّر تعالى: ذكر رفع الطور عليهم؛ ليقبلوا ما في التوراة، وأمروا بالسمع والطاعة، فأجابوا بالعصيان هذا، وهم ملجؤون إلى الإيمان، أو كالملجئين؛ لأنَّ مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم لينشد جوابه، جديرٌ بأن يأتي الإنسان ما أُمِر به، ويقبل ما كُلِّف به من التكاليف، وإِباؤُهم لذلك، وعدمُ قبولهم؛ سببَهُ أنَّ عبادة العجل خامرَتْ قلوبهم، ومازَجَتها حتى لم تسمح قبولًا لشيءٍ من الحق، والقلب إذا امتلأَ بحبِّ شيءٍ لم يسمع سواه، ولم يُصْغِ إلى مَلاَم، وأنشدوا: مَلأْتُ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِي ... فَإنْ تُرِدْ الزِيَادَة هَاتِ قَلْبَا ثمَّ ذمَّهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم، ولا إيمان لهم حقيقةً، بل نسب ذلك إليهم على سبيل التهكُّم من عبادة العجل، واتخاذه إلهًا من دون الله، ثُمَّ كذَّبهم في دعواهم أنَّ الجنّة هي خالصةٌ لهم لا يدخلها أحدٌ سواهم، فأمرهم بتمنِّي الموت؛ لأنَّ من اعتقد أنّه يصير إلى سرور، وحبور، ولذّةٍ دائمةٍ لا تنقضي، يؤثر الوصول إلى ذلك، وانقضاء ما هو فيه من الذلَّة، والنَّكدِ. وأخبر تعالى أنَّ تمنِّي الموت لا يقع منهم أبدًا، وأنَّ امتناعهم من ذلك هو بما قدَّمت أيديهم من الجرائم، فظهر كذبهم في دعواهم بأنَّهم من أهل الجنة، ثُمَّ ذكر ترشيحًا لما قبله من عدم تمنيهم الموت، أنّهم أشدُّ الناس حرصًا على حياةٍ، حتى إنّهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة، ولا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، ثُمَّ ذكر أنَّ أحدهم يودُّ أن يُعَمَّر ألف سنة ومع ذلك فتعميره وإن طال ليس بمنجيه من عذاب الله. ثُمَّ ختم الآيات بأنَّ الله تعالى، مطلع على قبائح أفعالهم، ومجازيهم عليها، وتبيَّن بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم، وتناقض أفعالهم وأقوالهم، ونقص عقولهم، وكثرة بهتهم، أعاذنا الله من ذلك، وسلك بنا أنهج المسالك 97 - {قُلْ} يا محمد! لهؤلاء اليهود الذين زعموا أنَّ جبريل عدوٌّ لهم من بين الملائكة؛ لأنّه ينزل بالعذاب والشدّة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} بِسَبَب نزوله بالقرآن المشتمل على سبِّهم وتكذيبهم، فليمت غيظًا؛ لأنَّ من عاداه فقد

عادى الله؛ لأنَّ الله تعالى جعله واسطة بينه وبين رسله {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإنَّ جبريل الأمين {نَزَّلَهُ}؛ أي: نزل هذا القرآن {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد! وإنَّما خصَّ القلب بالذكر؛ لأنّه محلُّ الحفظ {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بأمر الله تعالى، وإذا كان نزوله بإذن الله تعالى، فلا وجه للعداوة، وإنّما كان لها وجهٌ لو كان النزول برأيه، فالضمير (¬1) في قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} الأول لجبريل، والثاني للقرآن، وإضماره في الثاني مع عدم سبق المرجع يدلُّ على فخامة شأن القرآن؛ كأنَّه لتعينه؛ وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره؛ ولدلالة (¬2) المعنى عليه، ألا ترى إلى قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، وهذه كُلُّها من صفات القرآن، ولقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: فإنَّ جبريل نزَّل القرآن على قلبك. وقيل: الضمير في {فَإِنَّهُ} عائدٌ على الله، وفي {نَزَّلَهُ} عائدٌ على جبريل، والتقدير: فإن الله نزَّل جبريل بالقرآن على قلبك، وفي كل من هذين التقديرين إضمارٌ يعود على ما عليه سياق المعنى، لكن التقدير الأوَّل أولى لما ذكرناه آنفًا؛ وليكون موافقًا لقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} ويُنْظَر للتقدير الثاني قراءةُ مَنْ قرأ {نَزَّلَ} بالتشديد و {الرُّوحَ} بالنصب. وأتى بلفظ على في قوله: {عَلَى قَلْبِكَ}؛ لأنَّ القرآن مستعلٍ على القلب، إذ القلب سامع له، ومُطيعٌ يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، وكانت أبلغ من إلى؛ لأنَّ إلى تدلُّ على الانتهاء فقط، و (على) تدلُّ على الاستعلاء، وما استعلى على الشيء يُضمَّنُ الانتهاء إليه. وخصَّ القلب ولم يقل عليك؛ لأن القلب هو محلُّ العقل، والعلم، وتلقِّي الواردات؛ أو لأنَّه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها؛ أو لأنَّه سلطان الجسد. وفي الحديث: "إنَّ في الجسد مضغةً، ثُمَّ قال أخيرًا: ألا وهي القلب"؛ أو لأنَّ القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنّه بيت الله؛ أو لأنّه كنى به عن العقل إطلاقًا للمحلِّ على الحالِّ؛ أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

أو يكون إطلاقًا لبعض الشيء على كلّه أقوالٌ سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يُضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلم يقتضيه ظاهرًا؛ لأنَّ قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} هو معمولٌ لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد! قال الله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بأمر الله (¬1) اختاره في المنتخب، ومنه: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقد صرَّح ذلك في قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}، أو بعلمه وتمكينه إيّاه من هذه المنزلة، قاله ابن عطيّة، أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري. وقوله: {مُصَدِّقًا} حالٌ من الضمير المنصوب في {نَزَّلَهُ} إن كان يعود على القرآن، والمعنى: أي: حالة كون القرآن مصدِّقًا وموافقًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما قبله من الكتب الإلهية في التوحيد وبعض الشرائع، وإن قلنا: إنّ ضمير {نَزَّلَهُ} عائد على جبريل، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالًا من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والمعنى: فإنّ الله نزّل جبريل بالقرآن حال كون القرآن مصدِّقًا لما بين يديه. والثاني: أن يكون حالًا من جبريل، وما في قوله: {لِمَا} موصولةٌ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل. والهاء في {بَيْنَ يَدَيْهِ} يحتمل أن تكون عائدةً على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل، فالمعنى: مصدّقًا لما بين يديه من الرسل والكتب {و} حالة كون القرآن {هُدًى}؛ أي: هاديًا للناس من الضلالة إلى دين الحق {و} حالة كونه {بُشْرَى}؛ أي: مبشِّرًا {لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: للموحِّدين بالجنة، فلا وجه لمعاداته، فلو أنصفوا لأحبُّوه، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم، ويَنْصَحُ المُنزَّل عليهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وهذا (¬1) ردٌّ على اليهود حين قالوا: إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشدّة، فقيل لهم: إنْ كان ينزل بالحرب والشدة على الكافرين، فإنّه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين، وقوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى} (¬2) معطوفان على {مُصَدِّقًا} فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل، كأنَّه قال: وهاديًا ومبشِّرًا أو من باب المبالغة، كأنّه لمَّا حصل به الهدى والبشرى، جُعِل نفس الهدى والبشرى، والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعى وهو مصدر. والخلاصة: أنَّه وصف القرآن بتصديقه لِمَا تقَّدمه من الكتب الإلهية، وأنّه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التَّكْليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنّه بشرى لمن حصل له الهدى، فصار هذا الترتيب اللفظيُّ في هذه الأحوال؛ لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبًا وجوديًّا: فالأوّل: كونه مصدِّقًا للكتب، وذلك؛ لأنَّ الكتب كلَّها من ينبوع واحد. والثاني: أنَّ الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث: أنَّه بشرى لمن حصلت له به الهداية، وقوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} خصَّ الهدى والبشرى بالمؤمنين؛ لأنَّ غير المؤمنين لا يكون لهم هُدًى به ولا بشرى، كما قال: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}؛ ولأنَّ المؤمنين هم المبشَّرون، كما قال: {فبشِّر عبادي} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ}. ودلَّت هذه الآية على تعظيم جبريل، والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزَّل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى. وهذه الآية (¬3) تعلَّقت بها الباطنية حيث قالوا: إنّ القرآن إلهامٌ، والحروف ¬

_ (¬1) الواحدي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[98]

عبارة الرسول. ورُدَّ عليهم: بأنَّه معجزةٌ ظاهرةٌ بنظمه، وأنَّ الله سمَّاه وحيًا، وكتابًا عربيًّا، وأنَّ جبريل نزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل، ثُمَّ عمَّم الشرط والجزاء ردًّا عليهم بقوله: 98 - {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} بمخالفته أمر الله عنادًا، وخروجه عن طاعته مكابرةً، أو بمعاداة المقرَّبين من عباده، وصدَّر (¬1) الكلم بذكر الله؛ تفخيمًا لشأنهم {و} لـ {ملائكته} {و} لـ {رسله} {و} لـ {جبريل و} لـ {ميكال} أفردهما بالذكر مع كونهما داخلين في جملة الملائكة؛ لبيان شرفهما؛ وإظهار فضلهما؛ وعلوِّ منزلتهما، فكأنَّهما جنسٌ آخر أشرف ممَّا ذكر تنزيلًا؛ للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الجنس، وللردّ على اليهود حيث قالوا: جبريل عدوُّنا، وميكال ولِيُّنا. قال عكرمة: جبرَ، وميك، وإسراف، معناها: العبد بالسُّريانية، وإيل، وآيْل، معناهما: الله، ومعنى هذه الأسماء: عبد الله، أو عبد الرحمن، وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن جبر بمعنى: عبد بالتكبير، وميكا بمعنى: عبيدٍ بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله، قال: ولا نعلم لابن عباس في هذا مخالفًا. اهـ. "سمين". أي: من عادى هؤلاء المذكورين، فقد كفر، والكافر عدوٌّ لله {فَإِنَّ اللَّهَ} جواب الشرط (¬2)، ولم يقل: فإنَّه؛ لاحتمال أن يعود إلى جبريل، أو ميكال {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}؛ أي: عدوٌّ لهؤلاء اليهود، وغيرهم من الكفرة، وأظهر في موضع الإضمار؛ لأنَّ مقتضى السياق، فإنَّ الله عدوٌّ لهم؛ ليدلَّ على أنَّ الله إنّما عاداهم لكفرهم، والمعنى: من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشدَّ العقاب، أي: فإنّ الله سبحانه تولَّى بنفسه عداوة ذلك الكافر بالانتقام منه، وكفى رسله، وملائكته عن أمر من عاداهم. قال الواحديُّ: والمعنى: أنَّ من كان عدوًّا لأحد من هؤلاء، فإنَّ الله عدوٌّ له؛ لأنَّ عَدُوَّ الواحد منهم عدوٌّ للجمع، وعدوُّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عدوُّ الله، وليس ¬

_ (¬1) العمدة (¬2) روح البيان.

المراد: مَنْ جَمَعَ عداوة الجميع فالله عدوُّهُ، والواو هنا بمعنى أوْ، وليست للجمع، وقال بعضهم: الواو للتفصيل. وليس المراد (¬1): من كان عدوًّا لجميع الملائكة، وجميع الرسل، بل هذا من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع، كقوله: (إنْ كلَّمْتِ الرجال فأنتِ طالق) لا يريد بذلك إن كلمت كُلَّ الرجال، ولا أقلَّ ما ينطلق عليه الجمع، وإنّما علَّق بالجنس، وإن كان بصورة الجمع، فلو كلَّمَتْ رجلًا واحدًا طلقتْ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل. فالمعنى: أن من عادى الله، أو ملكًا من ملائكته، أو رسولًا من رسله، فالله عدوٌّ له، والعداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقةً، وعداوة العبد لله تعالى مجازٌ. ومعناها: مخالفة أمره، وعداوة الله للعبد مجازاته على مخالفته. وقرأ حمزة (¬2)، والكسائي: جبرائيل بفتح الجيم والراء وهمزةٍ مكسورةٍ بعد الراء. وقرأ شعبة كذلك، إلّا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همزٍ بعد الراء، إلّا أنَّ ابن كثير: فتح الجيم. وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ: {ميكال} بغير همزة، ولا ياءٍ بين الألف واللام. وقرأ نافع بهمزةٍ بعد الألف، ولا ياء بعد الهمزة، والباقون بهمزةٍ بعد الألف وياءٍ. والخلاصة: أي إنَّ (¬3) من عادى الله وعادى هؤلاء المقرَّبين عنده، فالله عدوٌّ له؛ لأنَّه كافرٌ به ومعادٍ له، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب، وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريحٌ بأنّهم أعداء الحق، وأعداء كلِّ من يدعو إليه، ومعاداة القرآن، كمعاداة سائر الكتب السماويّة؛ لأنَّ المقصد من الجميع واحدٌ، وهو هداية الناس، وإرشادهم إلى سبيل الخير، ومعاداة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كمعاداة سائر الأنبياء؛ لأنَّ رسالتهم واحدة، والمقصد واحدٌ. والواو في قوله: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[99]

99 - {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا} استئنافية، واللام فيه للقسم؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد أنزلنا {إِلَيْكَ} يا محمد! {آيَاتٍ} من القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على معانيها، وعلى كونها من عند الله تعالى، مفصَّلاتٍ بالحلال والحرام، والحدود، والأحكام {وَمَا يَكْفُرُ} ويجحد، وينكر، ويكذّب {بِهَا}؛ أي: بالآيات التي توضِّح الحلال والحرام، وتفصِّل الحدود، والأحكام {إِلَّا الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الخارجون عن طاعتنا، وما أمروا به، المتمرِّدون في الكفر من سائر الكفرة، فإنّ من ليس على تلك الصفة لا يجترىءُ على الكفر بمثل هاتيك الآيات البينات، فاللام فيه للجنس، والأحسن جعلها للعهد إشارةً إلى أهل الكتاب؛ لأنَّ الكلام فيهم، والمعنى حينئذٍ، إلّا الخارجون عن دينهم المحرِّفون لكتابهم؛ لأن اليهود خرجت بالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عن شريعة موسى عليه السلام. واعلم: أنَّ القرآن هو النور الإلهيُّ الذي كشف الله به الظُّلمات، واليهود أرادوا أن يُطفِئُوا نور الله، والله متم نوره، وليس لهم في ذلك إلا الفضاحة والخزي، كما إذا دخل الحمام ناسٌ في ليلٍ مظلم، وفيهم الأصحاء وأهل العيوب، فجاء واحدٌ بسراج مضيءٍ لا يسارع إلى إطفائه إلّا أهل العيوب، مخافة أن يُظهر عيوبهم للأصحَّاء، ويلحق بهم مذمَّةً (أو) الهمزة (¬1) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلةٌ على محذوف معلوم من السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، كما هو مذهب الزمخشري، والتقدير: أكفروا بهذه الآيات البيِّنات مع كونها في غاية الوضوح؟ 100 - {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا}؛ أي: أعطوا {عَهْدًا} لله سبحانه في حقِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو مصدرٌ مؤكِّد لعاهدوا من غير لفظه بمعنى: معاهدةً. وقرأ أبو السمال العدويُّ (¬2)، وغيره {أوْكُلَّما} بسكون الواو، وخرَّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين وقدَّره: وما يكفر بها إلّا الذين فسقوا، أو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

نقضوا عهد الله مرارًا كثيرةً، وخرَّجه المهدوي، وغيره على أنَّ (أو) للخروج من كلام إلى غيره بمنزلة أمْ المنقطعة، فكأنَّه قال: بل كُلَّما عاهدوا عهدًا. الخ. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين، إذْ تكون {أو} عندهم بمعنى بل، ويحتمل أن تكون {أو} على هذه القراءة الشاذة بمعنى: الواو، كأنَّه قيل: وكلَّما عاهدوا عهدًا. وقرأ الحسن، وأبو رجاء {أو كلّما عوهدوا} على البناء للمفعول، وهي قراءةٌ شاذة تخالف رسم المصحف. وقرىء {أو كلما عهدوا عهدًا} ويكون {عهدًا} مصدرًا لفظيًّا؛ أي: نبذ ذلك العهد، وطرحه، أو نقضه، أو ترك العمل به، أو اعتزله، أو رماه، أقوالٌ خمسةٌ، هي متقاربة المعنى، ونسبة النبذ إلى العهد مجازٌ؛ لأنَّ العهد معنى من المعاني، والنَّبْذُ إنّما هو حقيقةٌ في المتجسدات، كقوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} وقوله: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} {فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من اليهود، والفريق: الطائفة، وهم اسم جنس يصدق على القليل والكثير، ولا واحد له من لفظه، وإسناد النبذ إلى فريق منهم؛ لأنَّ منهم من لم ينبذه. وقرأ عبد الله (نقضه فريقٌ منهم) وهي قراءة تخالف سواد المصحف، فالأولى حملها على التفسير. أي: أكفروا (¬1) بتلك الآيات البينات؟ وكلَّما عاهدوا وأعطوا عهد الله في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - نقضه، ورماه جماعةٌ منهم، وقوله: {نَبَذَهُ} جواب {كلما} وهو محلُّ الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أنقضوا العهد كُلَّما عاهدوا عهدًا، ولا ينبغي ولا يليق بهم ذلك النقض، وذلك (¬2) العهد، كقولهم قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -: لئن خرج نبيُّ آخر الزمان لنؤمننَّ به، ولنخرجنَّ المشركين من ديارهم، وككونهم عاهدوا الله على أن لا يعينوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أحدًا من المشركين، ثم أعانوا عليه قريشًا يوم الخندق. وفي "المراغي": والمراد بالعهود هنا: هي عهودهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولمَّا كان لفظ الفريق يُوهم قلّةَ العدد، مع أن الناقِضينَ للعهد هم أكثر، أَضْرَبَ عنه، ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) المراح.

[101]

وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ لأنّهم لا عهود لهم؛ أي: بل أكثر اليهود لا يصدِّقون ربَّك أبدًا؛ لحَسَدِهم. وقيل المعنى: بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعتدُّون - نقض العهد والمواثيق ذنبًا، ولا يبالون، وهذا ردٌّ لما يتوهَّم من أنَّ الفريق النابذين هم الأقلُّون، أو أنّ من لم ينبذ جهارًا فهم مؤمنون به خفاءً. وهذا من (¬1) إخبار الغيب، إذ أنَّ أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلّا ممَّن يعلم خفيَّات الأمور. والخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى، بيَّن في هذه الآية حالين لأهل الكتاب. أولاهما: أنّه لا يوثق بهم في شيء؛ لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان. ثانيتهما: أنّه لا يرجى إيمان أكثرهم؛ لأنّ الضلال قد استحوذ عليهم، وجعلهم في طغيانهم يعمهون. 101 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: ولمَّا أتى اليهود {رَسُولٌ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلِّق بجاء {مُصَدِّقٌ}؛ أي: مُقرِّرٌ {لِمَا مَعَهُمْ}؛ أي: لما مع اليهود من التوراة من (¬2) حيث إنّه - صلى الله عليه وسلم - قرَّر صحتها، أو حقَّق حقيقة نبوّة موسى عليه السلام بما أنزل الله تعالى عليه، أو من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - جاء على وفق ما نعت له فيها {نَبَذَ}؛ أي: طرح ورمى جواب {لَمَّا} {فَرِيقٌ}؛ أي: طائفةٌ {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا} وأعطوا {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة، وتمسَّكوا به أوَّلًا، يعني: علماء اليهود وأحبارهم {كِتَابَ اللَّهِ} الذي أوتوه وهو مفعول نبذ؛ أي: التوراة؛ أي، طرح ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) كرخي.

أحبارهم، ورمى علماؤهم التوراة {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وأعرضوا عنها بالكلِّية، وتركوا العمل بما فيها من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وجحدوا به، وأصرُّوا على إنكار نبوّته؛ لأنّهم لمَّا كفروا بالرسول المصدِّق لما معهم، فقد نبذوا التوراة التي فيها أنَّ محمدًا رسول الله، وقد علموا أنها من الله تعالى، مثل تركهم وإعراضهم عنه بالكلية بما يرمى به وراء الظهر استغناءً، وقلَّة التفاتٍ إليه، وقوله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: كأنَّ هؤلاء الفريق لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتصديقه، أو مما بينته من نعوته - صلى الله عليه وسلم -، جملةٌ حاليةٌ من فريقٌ؛ لتخصيصه بالوصف؛ أي: نبذوه وراء ظهورهم حال كونهم متشبِّهين بمن لا يعلمه أنّه كتاب الله. والنبذُ (¬1): كناية عن عدم الالتفات إليها، وعدم الاعتناء بما فيها؛ لأنّ النبذ الحقيقيَّ لم يحصل منهم؛ لأنّها بين أيديهم يقرؤونها. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوها في الحرير والديباج، وحلَّوه بالذهب والفضة، ولم يُحِلُّوا حلالها، ولم يحرّموا حرامها، فذلك النَّبذ، وهذه الآية تنطبق على كُلِّ من يقرأ القرآن، ولم يعمل بما فيه، وفَّقنا الله تعالى بالعمل بما فيه، وإنَّما عبر عنها بكتاب الله، تشريفًا لها، وتعظيمًا لحقّها عليهم، وتهويلًا لما اجْتَرؤُوا عليه من الكفر بها. قيل (¬2): أصل اليهود: أربع فرقٍ: فرقةٌ آمنوا بالتوراة، وقاموا بحقوقها، كمؤمن أهل الكتاب، وهم الأقلُّون المشار إليهم بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وفرقةٌ جاهروا بنبذ العهود تمردًا وفسوقًا، وهم المعنيُّون بقوله عَزَّ وَجَلَّ {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ} وفرقةٌ لم يجاهروا بنبذها، ولكن نبذوها لجهلهم، وهم الأكثرون، وفرقةٌ تمسَّكوا بها ظاهرًا، ونبذوها خفيةً وهم المتجاهلون. وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ فَعَل فِعْل الجاهل، وتعمَّدَ الخلافَ مع علمه، يلتحقُ بالجُهَّال، وهو والجاهل سواءٌ، فكما أنَّ الجاهلَ لا يجَيِءُ منه خيرٌ، فكذا العالم لا يعمل بِعلْمِه، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واعظُ اللِّسان ضائعٌ كلامه، وواعظ القلب نافذٌ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

[102]

سهامه" فالأوّل: هو العالم غير العامل، والثاني: هو العالم العامل الذي يُؤثِّر كلامه في القلوِب، وتُنْتِج كلمته ثمراتِ الحكمَة، والعبرةَ، والفكرةَ. ومعنى الآية (¬1): أيْ: إنّه حين جاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ مصدِّقٍ للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة، نبذ فريقٌ من اليهود كتابهم وهو التوراة؛ لأنّهم حين كفروا بالرسول المصدِّق لما معهم، فقد نبذوا التوراة التي فيها أنَّ محمد رسول الله، وأهملوها إهمالًا تامًّا كأنَّهم لا يعلمون أنها من عند الله تعالى، وقد جعل تركهم إيَّاها، وإنكارهم لها إلقاءً لها وراء الظهر؛ لأنَّ من يلقي الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكَّره. فعلى العاقل (¬2): أن يسارع إلى الامتثال خوفًا مِنْ بطشِ يدِ ذي الجلال، ويقال: الندامةُ أربعٌ: ندامةُ يومٍ: وهي أنْ يَخْرُج الرجلُ من منزله قبل أن يتغدَّى، وندامةُ سنة: وهي تَرْكُ الزراعة في وقتها، وندامةُ عُمْر: وهو أن يتزوَّج امرأة غير موافقة، وندامةُ الأبَدِ: وهي أن يترك أَمْرَ الله، ومجرَّدُ قراءة الكتاب بِترْياقِ الظاهر لا يدفع سُمَّ الباطن، فلا بدّ من العمل بما علم، كما أنَّ من كان ينظر إلى كُتُب الطبّ، وكان مريضًا، فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالأدوية، وكان خُلقه - صلى الله عليه وسلم -: القرآن؛ يعني: يعملُ بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وقال السدي (¬3) لمَّا جاءهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - خاصموه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها، وأخذوا بكتابِ آصفِ بن بَرْخِيَا، وسِحْر هاروت وماروت، فلم يوافق ذلك القرآن، كما قال تعالى: 102 - {وَاتَّبَعُوا} معطوف على نَبَذ؛ أي: ولمَّا جاءهم كتاب مِنْ عند الله، نبذ فريق من أهل الكتاب كتاب الله وراءَ ظهورهم واتَّبعوا؛ أي: واتبع أولئك الفريق؛ يعني: علماءَهم وأحبارَهم {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}؛ أي: تَلَتْهُ الشياطين وقرأَتْهُ، والإتيان (¬4) بصيغة المضارع في تَتْلُوا؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

لحكاية الحال الماضية، والمراد بالاتِّباع: التوغُّل والتمحُّض فيه، والإقبالُ عليه بالكلّية. وقرأ الحسن (¬1)، والضحَّاك: {الشياطون} بالرفع بالواو وهو شاذٌّ، قاسه على قول - العرب: بستان فلانٍ حوله بساتون، رواه الأصمعي، قالوا: والصحيح: أنَّ هذا لحنٌ فاحشٌ، وقال أبو البقاء: شبَّه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح، وهو قريبٌ من الغلط، وقال السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الخَازَرَبَجِيُّ. أي: واتَّبعوا ما كانت الشياطين تتلوه وتقرؤه {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} بن داود عليهما السلام؛ أي: في عهده وزمان ملكه من السحر، وتكذيبه على سليمان، والكلام على حذف مضاف، وعَلَى بمعنى: في، وكانت الشياطين دفنتهُ تحت كرسيه لمَّا نُزِع ملكه، فلم يشعر بذلك سليمان، فلمَّا مات استخرجوه، وقالوا للناس: إنّما مَلككم سليمان بهذا، فتعلَّموه، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشَتْ الملامةُ على سليمان، فلم تزل هذه حالَهم حتى بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عليه براءةَ سليمان، فقال: وما كفر سليمان الخ. قال السديُّ (¬2): كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت، وغيره، ويأتون الكهنة ويُخلِّطون بما سمعوا في كُلِّ كلمة سبعين كذبةً، ويخبرونهم بها، فاكتتبت الناس ذلك، وفشا في بني إسرائيل: أنَّ الجنّ تعلم الغيب، وبعث سليمان في الناس، وجمع تلك الكتب، وجعلها في صندوق، ودفنه تحت كرسيه، وقال: لا أسمع أحدًا يقول: إنّ الشيطان يعلم الغيب إلّا ضرَبْتُ عنقهَ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أَمْرَ سليمان، ودَفْنَه الكُتبَ، وخَلفَ من بعدهم خلفٌ تمثَّل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلُّكم على كنزٍ تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، وذهب معهم، فأراهم المكان، وقام ناحيةً، فقالوا: ادْنُ، قال: لا ولكني ها هنا، فإِنْ لم تجدوه، فاقتلوني، وذلك أنَّه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

لم يكن أحدٌ من الشياطين يَدْنُو من الكرسي إلّا احترق، فحفروا، وأخرجوا تلك الكتب، قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنَّ، والإنس، والشياطين، والطير بهذه، ثمّ - طار الشيطان، وفشا في الناس أنَّ سليمان كان ساحرًا، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكُتب، فلذا أكثر ما يُوجَدُ السحرُ في اليهود، فلمَّا جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بَرَّأَ الله سليمان عليه السلام من ذلك، وأنزل عُذْر سليمان، بقوله واتبعوا ما تتلوا الشياطين في زمن ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر وعمله؛ يعني: لم يكن ساحرًا؛ لأنَّ الساحر كافرٌ، والتعرُّض لكونه كفرًا؛ للمبالغة في إظهار نزاهته عليه السلام، وكذب باهتيه بذلك. أي: ما كتب سليمان السحر، وما عمل به؛ لأنّ عمل السحر كفر في شريعته، وأمّا في شريعتنا (¬1)، فإن اعتقد فاعله حِل استعماله كَفَر، وإلّا فلا، وأمّا تعلّمه، فإن كان ليعمل به فحرام، أو ليتوقّاه فمباح أولًا، ولا، فمكروه، والسحرُ (¬2): كُلُّ ما دَقَّ ولَطُفَ، يقال: سحره إذا أبدى له أمرًا يَدِقُّ عليه، ويَخْفَى. وعرَّفه ابنُ العربي (¬3): بأنّه كلام مؤلَّف يُعظَّم به غير الله، وتُنْسَب له المقادير، فعليه فهو كفر، حتى في شَرْعِنا {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} باستعمال السحر، وتعليمِه، وتدوينِه، وِإمّا بتكفيرهم سليمانَ به، ويحتمل كفرهم بغير ذلك، واستعمالُ لكن هنا حَسَنٌ؛ لأنّها بين نفي وإثبات. وقرىء {وَلَكِنَّ} بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرىء بتخفيفِ النون، ورفعِ ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وإذا خُففت، فهل يجوز إعمالُها؟ مسألةُ خلافٍ: الجمهورُ على المنع، وقال الكسائي، والفراء: الاختيارُ التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو؛ ذلك لأنّها مخفّفة تكون عاطفة، ولا تحتاجُ إلى واو كبَلْ، وإذا كانت قبلها واوٌ لم تشبه بل؛ لأنَّ بل لا تدخل عليها الواو، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات. (¬3) الصاوي.

فإذا كانت لكن مشدَّدةً عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. أي: ولكنَّ الشياطين من الإنس والجنِ الذين نسَبَوُا إلى سليمان عليه السلام، ما انتحلوه من السحر، وكتبوه، ودوَّنوه، وعلَّموه الناس، هم الذين كفروا حالة كون الشياطين {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إِغواءً لهم، وإِضلالًا؛ أي: يقصدون بتحليمهم إياه إضلالهم عن طريق الحق، فعلَّموهم حتى فشا أمر السحر بين الناس وكَثُر. واعلم: أَنَّهُ (¬1) قد جاء ذِكْرُ السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصَص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداعٌ، وتخييلٌ للأعين، حتى ترى ما ليس بكائنٍ كائنًا، كما قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقال في آية أخرى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} والآية نصٌّ صريح على أنَّ السحر يُعلَّم، ويُلقَّن، والتاريخ يؤيِّد هذا. والسحر (¬2): إمَّا حيلةٌ وشعوذةٌ، وإما صناعةٌ، وعلمٌ خفيٌّ يعرفه بعض الناس، ويجهله الكثير منهم، ومن ثَمَّ يسمُّون العمل به سحرًا؛ لخفاء سببه عليهم، وقد روى المؤرِّخون: أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحِبَال والعِصي بصُوَر الحيَّاتِ والثَّعابِين، حتى خُيِّل إلى الناس أنَّها تَسْعى. وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعةً للمعاش، أن يتكلَّموا بأسماءٍ غريبةٍ، وألفاظ مبهمةٍ اشتهر بين الناس أنها من أسماءِ الشياطين، وملوكِ الجن، لِيوهموُهم أنَّ الجنَّ يَسْتَجِيبون دُعاءهم، ويُسخرِّون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامَّة أنَّ السحر عملٌ يستعان عليه بالشياطينِ، وأرواحِ الكواكب، ولمثل هذا تأثيرٌ في إثارة الوهم دلَّت التجربة على وجوده، وهو يُغْنِي مُنتحِلَ السحر عن توجيهِ هِمتِه، وتأثير إرادته فيمن يُعملُ له السحرُ، وسيأتي بَسْطهُ أواخرَ هذه الآيات {و} حالة كونهم يعلِّمونهم أيضًا {ما أنزل على الملكين} فهو معطوف على السحر؛ أي: (¬3) ويُعلِّمُون الناسَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الواحدي.

الأمر الذي أنزل على الملكين؛ أي: ما أُلْهِمَ الملكان، وقُذِفَ في قلوبهما من علم التفرقة، وهو رُقيْةٌ وليس بسحر، قال "المراغي": وظاهر الآية يدلُّ - على أنَّ ما أنزل على الملكين غَيْرُ السحر، لكنه من جنسه، وقد أُلهماه، واهتديا إليه بلا أستاذٍ، ولا معلِّمٍ، وقد يُسمَّى مثل هذا وحيًا، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}. وقيل: معطوفٌ على تتلو الشياطين، والمعنى عليه، وكما اتَّبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتَّبعوا ما أنزل على الملكين، وقرىء في الشواذ المَلِكينِ بكسر اللام، قيل: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقيل: عِلْجَان، والقراءة (¬1) المشهورة بفتح اللام، وهما ملكان من الملائكة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو الأسود الدؤلي، والضحَّاك، وابن أبزي المَلِكين بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران ببابل، واعلم أنَّ الملكيَنِ أنزلا لتعليم السحر امتحانًا من الله تعالى للناس، هل يتعلَّمونه أم لا؟ كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر، فمَنْ تعلَّمه منهم وعَمِلَ به كان كافرًا، ومن تَجنَّبه أو تعلَّمه لا يعمل به، ولكن ليتوقَّاه كان مؤمنًا، كما قيل: عَرَفْتُ الشَرَّ لا للشَّرِّ ولكن لِتوَقِّيه وهذا كما إذا أتى عرَّافًا فسأله عن شيء؛ لِيَمْتَحِن حالَه؛ ويختبر باطنَ ما عنده، وعنده ما يَميِّزُ بهِ صدقُه من كذبه، فهذا جائزٌ. قال الإِمام فخر الدين الرازيُّ: كانت الحكمة في إنزالهما: أنَّ السَّحرة كانوا يسترقُون السمعَ من الشياطين، ويُلقون ما سمعوا بين الخلق، وكانوا بسببِ ذلك يُثْبِتُون لأنفسهم الوَحْي النازلَ، على الأنبياء، فأَنْزلَهما إلى الأرضِ ليعلِّما الناسَ كيفيةَ السحر، ليظهر بذلك الفَرْقُ بين لام الله، وكلام السحرة؛ لئلا يغترَّ الناس بالسحر؛ لأنَّ السحرةَ كثرُوا في ذلك الزمن، واستنبطوا أبوابًا - غريبةً من السحر، وكانوا يدَّعون النبوة، فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلِّما الناس أبواب السحر، حتّى يتمكنوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

من معارضة أولئك الكذَّابين، وإظهار أمرهم على الناس. {بِبَابِلَ} الباء (¬1) بمعنى في، وهي متعلقةٌ بأنزل، أو بمحذوف وقع حالًا من الملكين، وهي: بابل العراق، أو بابل أرض الكوفة، ومنع الصرف للعجمة والعلمية، وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل: أنَّ نوحًا عليه السلام، لمَّا هبط إلى أسفل الجوديِّ، بَنَى قريةً وسمَّاها ثمانين، فأصبح ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربيُّ، وكان لا يفهم بعضهم من بعض. كذا في "تفسير القرطبي"، واختصت بابل بالإنزال؛ لأنّها كانت أكثر البلاد سحرًا {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} عطف بيان للملكين؛ لأنَّهما علمان لملكين نَزَلا من السماء، كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، ومُنع صرفهما للعلمية والعجمية، وما روي في قصتهما من أنَّها شربا الخمر، وسفكا الدم، وزنيا، وقتلا نفسًا، وسجدا للصنم، فَمِمَّا لا تعويل عليه؛ لأنَّ مداره رِوايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلَّة النقل والعقل. يقول الفقير: قد تصَفَّحْتُ كتبَ أرباب الخبر والبيان، وأصحاب الشهود والعيان، فوُجدتُ عامَّتَها مشحونةً بذكر ما جرى من قصتهما، وكيف يجوز الاتِّفاق من الجمِّ الغفير على ما مداره - روايةُ اليهود، خُصوصًا في مثل هذا الأمر الهائل، فأقول: وَصْفُ الملائكِةِ بأنَّهم لا يعصون، ولا يستكبرون، يسبِّحون الليل والنهار، لا يفتُرون، ويفعلون ما يؤمرون، دليلُ تصوُّرِ العصيان منهم، ولولا ذلك لما مدحوا به، إذ لا يُمْدَح أحدٌ على الممتنع، لكن طاعتهم طبعٌ، وعصيانهم تكلُّفٌ، على عكس حال البشر، كما في "التيسير"، فهذا يقتضي جوازُ الوقوع مع أنَّ فيما روي في سبب نزولهما ما يزيل الإشكال قطعًا، وهو أنَّهم لمَّا عيَّروا بني آدم بقلّة الأعمال، وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام، قال الله تعالى: (لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا)، فقالوا: سبحانك ربَّنا، ما كان ينبغي لنا أن نعصيك، قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) روح البيان.

فاختاروا ملكين من خياركم أَهْبِطْهمُا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة، وأعبدهم، فأُهِبْطا بالتركيب البشريِّ، فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأةٍ تسمَّى بالعربية الزهرة، وبالفارسية: مِيْذَخْتَ، فطَلَباها وامتنعت إلّا أن يعبدا صنمًا، ويَشْرَبا خمرًا، ويقتلا نفسًا، ففعلا ما فعلا، فخافا على أمرهما، فعلَّماها ما تَصْعَدُ به إلى السماء، وما تنزلُ به، فصعدت ونَسِيَتْ ما تنزلُ به، فمُسخت بالكوكب المضيء في السماء الثانية، وأنَّهما تشفعا بإدريس عليه السلام إلى الله تعالى، فخيَّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ لأنَّه مؤقَّتٌ وعذاب الآخرة مؤبَّدٌ، فهما في بئر بابل مُعلَّقان فيه بشُعورهما إلى يوم القيامة، قال مجاهد: مُلىءَ الجُبُّ نارًا فجُعلا فيه، وقيل: معلَّقان بأرجلهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا أربع أصابع، فهما يعذَّبان بالعطش، وهذا الذي رُوي فيهما ليس ببعيدٍ، إذْ ليس مجرَّدُ هُبوط الملك ممَّا يقتضي العِصْيانَ، وذلك ظاهرٌ، وإلَّا لظهر من جبريل، وغيره، ألا ترى أنَّ إبليس له الشهوة والذريَّة مع أنّه كان من الملائكة على أحدِ القولين؛ لأنّها ممَّا حدثَتْ بعد أن مُحي من ديوانهم، فيجوز أن تَحْدُث الشهوة في هاروت وماروت، بعد أن أهبطا إلى الأرضِ؛ لاستلزام التركيب البشريِّ ذلك، وقد قال في "آكام المرجان": إنّ الله تعالى باين بَيْنَ الملائكة، والجنِّ، والإنس في الصورة، والأشكال، فإنْ قلَبَ الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، خرج عن كونه ملكًا، وكذلك لو قلب الشيطان إلى بِنْيةِ الإنسان، خرج بذلك عن كونه شيطانًا. وفي الحديث: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا الدُّنيا، فوالذي نفسي بيده، إنَّها لأَسْحَرُ من هاروت وماروت" قال العلماء: إنّما كانت الدنيا أسحر منهما؛ لأنّها تدعوك إلى التَّحارص عليها، والتَّنافس فيها، والجمع لها، والمنع حتى تُفرِّق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتُفرِّق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، وسحر الدنيا محبتها، وتلذُّذك بشهواتها، وتمنِّيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "حُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" أَرَادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ من الحُبِّ ما يعمي عن طريق الحقّ والرَّشدِ، ويُصِمُّكَ عن استماع الحق، وإنَّ الرجل إذا غلب الحُبُّ على قلبه، ولم يكن له رادعٌ من عقلٍ، أو ديْنٍ أصمَّهُ حُبُّه عن

العدل، وأعماه عن الرشد، أو يعمي العين عن النظر إلى مساويه، ويُصِمُّ الأذن عن استماع العذل فيه، أو يعمي، ويُصِمُّ عن الآخرة، وفائدته: النَّهي عن حُبِّ ما لا ينبغي الإغراق في حُبِّه، ثُمَّ في هذه (¬1) القصة إشارةٌ إلى أنّه لا يجوز الاعتماد إلّا على فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فإنَّ العصمة من آثار حفظ الله تعالى. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} قرأ الجمهور بالتشديد من علَّم المُضعَّف، وقرأ طلحة بن مصرِّف: {وما يُعْلِمَان} من أعلم، وقالت طائفةٌ: بالتضعيف وبالهمزة بمعنًى واحدٍ ذكره في "البحر"؛ أي: وما يُعلِّم الملَكان أحدًا من الناس السحر، فمن (¬2) مزيدةٌ في المفعول به؛ لإفادة تَأْكيد الاستغراقِ الذي يفيده أحدٌ، والمعنى: ولكن الشياطين كفروا يعلِّمون الناس ما أنزل على الملكين، ويحملونهم على العمل به؛ إغواءً وإضلالًا، والحال أنَّ الملكين ما يُعلِّمان ما أنزل عليهما من السحر أحدًا من طالبيه {حَتَّى} يَنْصَحاه أوَّلًا، ويَنْهَيَاه عن العمل به، والكفر بسببه، و {يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} وابتلاءٌ من الله تعالى، فمن عمل بما تعلَّم مِنَّا، واعتقد حقيته كفر، ومن توقَّي عن العمل به، أو اتخذه ذريعةً للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان، والفتنةُ: الاختبارُ والامتحانُ، يقال: فتنت الذهب، كالبَليَّةِ، والمعصيةِ، والقتل، والعذاب، وغير ذلك من الأفعال الكريهة، وقد تكون الفتنة في الدين مثل الارتداد والمعاصي، وإكراه الغير على المعاصي، وأُفردت الفتنةُ مع تعدُّد الملكين؛ لكونها مصدرًا، وحَمْلُها عليهما؛ مُوَاطأةٌ للمبالغةِ، كأنَّهما نفس الفتنة، والقَصْرُ؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سِواهُ؛ لينصرف الناس عن تعلُّمه {فَلَا تَكْفُرْ} بتعلُّمِه، واعتقادِ حقيته مع أنّه ليس بباطلٍ شرعًا، وجوازِ العمل به، ويقولان ذلك سَبْع مراتٍ، فإن أبى إلّا التعلُّم علَّماه. أي: فلا تتعلَّم السحر (¬3)، ولا تعمل به؛ لأنَّ عمله كفرٌ باللهِ؛ أي: لا يصفان السحر لأحدٍ حتى يبذلا - النصيحةَ له أوَّلًا، فيقولا لَهُ: هذا الذي نَصِفُه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) عمدة التفاسير.

لك، وإن كان الغرض منه أن يتميَّز به الفرقُ بين السحر والمعجزة، ولكنَّه يمكنك أن تتوصَّل به إلى المفاسد والمعاصي. فإيَّاك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نُهِيت عنه، أو تتوصَّل به إلى شيء من الأغراض العاجلة. وفي هذا (¬1) إيماءٌ إلى أنَّ تعلُّم السحر، وكُلِّ ما لا يجوز اتباعه، والعمل به ليس محظورًا، وإنّما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحَسْبُ. وإنما كانا يقولان ذلك إِبْقاءً على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان: إنّهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين يحترفون مثل ذلك، لمن يعلِّمونهم الكتابة للحبِّ، والبغض، نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأةٍ إلى حبِّ غير زوجها، ولا تكتب لأحد زوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامَّة، كالحُبِّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهامٌ بأنَّ علومهم إلهِيَّةٌ، وقرأ الجمهور {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} بفتح التاء، وهما بدلٌ من الملكين، وتكون الفتحة علامةً للجر؛ لأنّهما ممنوعان من الصرف لما مرَّ. وقرأ الحسن، والزهريُّ: {هاروتُ وماروتُ} بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هما هاروت وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ} عطف (¬2) على الجملة المنفيَّة، فإنّها في قوَّة المثبتة، كأنّه قيل: يعلِّمانهم بعد قولهما، إنما نحن فتنة ... الخ، والضمير لأحد حملًا على المعنى، والمراد به: السحرة؛ أي: فالنَّاس يتعلَّمون {مِنْهُمَا}؛ أي: من الملكين، أو من السحرِ، والمنزَّلِ على الملكين، أو من الفتنة والكفر؛ أي: فيأتي السحرة من الناس الملكين، فيتعلَّمون من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ}، أي: بسببهِ واستعمالهِ {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}؛ أي: يتعلَّمون منهما من علم السحر ما يكون سببًا في التفريق بين الزوجين ببغض كل واحدٍ منهما إلى الآخر، فبعد أن كانت المودَّة، والمحبة بينهما، يُصبح الشقاق، والفراق، والخِلاف بينهما، عند ما فعلوا من السحر، كالتَّمويه، والتَّخييل، والنَّفث في العقد، ونحو ذلك ممَّا يُحدث الله عنده البغضاء، والنشوز، والخلافَ بين الزوجين، ابتلاءً من الله تعالى؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

السحر هو المؤثِّر في ذلك، بل بحَسَب جري العادة الإلهية، من خلق المسببَّات عقيب حصول الأسباب العاديَّة ابتلاءً منه تعالى، كما يدل عليه قوله سبحانه الآتي: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} تعالى، قوله: {وَزَوْجِهِ} ظاهره أنه يريد امرأة الرجل، وقيل: الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ذكره في "البحر". قال السدي (¬1): كانا يقولان لمن جاءهما: إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت الرَّماد فَبُلْ فيه، فإذا بال فيه خرج نورٌ يَسْطَعُ إلى السماء، وهو الإيمان، والمعرفةُ، وينزل شيءٌ أسود شِبهُ الدُّخان، فيدخل في أذنيه، ومسامعه، وهو الكفر، وغضبُ الله، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك، علَّماه ما يفرِّق به بين المرء وزوجه، ويقدر الساحر على أكثر ممَّا أخبر الله عنه من التفريق؛ لأنَّ ذلك خُرِّج على الأغلب. قيل: يُؤخذ الرجلُ عن المرأة بالسحر لا يقدر على الجماع. قال في نصابِ الاحتساب: إنَّ الرجل إذا لم يَقْدِر على مجامعة أهله، وأطاق ما سواها، فإنّ - المُبْتلى بذلك يأخذ حُزْمَة قصبات، ويطلب فأسًا ذا فقارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجِّجُ نارًا في تلك الحزمة، حتى إذا أُحمي الفأس استخرجه من النار، وبال على حدّه، يبرأ بإذن الله تعالى. انتهى. والآية (¬2) لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلَّمُونه من السحر أمؤثرٌ بطبعه، أو بسببٍ خفيٍّ، أو بخارقٍ من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنَّها لم تُبيِّن نوعَ ما يتعلَّمونه، أتمائمٌ وكتابةٌ هو، أم تلاوةُ رُقًى وعزائمَ، أم أسَالِيب سِعَايةٍ، أم دسَائسُ تنفيرٍ ونكايةٍ، أم تأثيرٌ نفسانيٌّ أم وسواسٌ شيطانيٌّ؟ فأيُّ ذلك أثبته العِلْمُ، كان تفِصيلًا لما أَجْملَه القرآن، ولا نتَحكَّم في حَمْله على نوعٍ منها، ولو علم الله الخَيْر في بيَانهِ لبينه، ولكنَّه وَكَل ذلك إلى بُحُوث الناس، وارتقائهم في العلم، فهو الذي يُجلِّي الغوامضَ، ويكشف الحقائق {وَمَا هُمْ}؛ أي: ليس السَّاحرون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

{بِضَارِّينَ بِهِ}؛ أي: بما تعلَّموه من السحر {مِنْ أَحَدٍ}؛ أي: أحدًا {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: إنَّ هؤلاء لم يُعْطَوا شيئًا من القوى الغيبيَّة فوق ما أعطي سائر الناس، بل هي أسبابٌ ربط بها مسبَّباتها، فإذا أُصيب أحدٌ بضررٍ بعمل من أعمالهم، فإنَّما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسبَّبات عند حصول الأسباب، والاستثناء (¬1) في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} مفرَّغٌ، والباء متعلِّقةٌ بمحذوف وقع حالًا من ضمير {ضَارِّينَ} أو من مفعوله، وإنْ كان نكرةً؛ لاعتمادها على النَّفي، أو الضمير المجرور في {بِهِ}؛ أي: ما يضرُّون به أحدًا إلّا مقرونًا بعلم الله تعالى، وإرادته، وقضائه لا بأمره؛ لأنّه لا يأمر بالكفر، والإضرار، والفحشاء، ويقضي على الخلق بها، فالسَّاحر يسحر، والله يكوِّن، فقد يُحدث عِنْد استعمالِهم السحر فعلًا من أفعاله ابتلاءً، وقد لا يحدثه، وكُلُّ ذلك بإرادته، ولا يُنْكَر أنَّ السحر له تأثيرٌ في القلوب، بالحُبِّ والبغض، وبإلقاءِ الشرور، حتى يَحُولَ بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام، وعظيم الأسقام، وكُلُّ ذلك مُدْرَكٌ بالحس والمشاهدة، وإنكاره معاندةٌ. وإن أردت التفصيلَ وحقيقةَ الحال (¬2)، فاستمع لما نَتْلُو عليك من المقال، وهو أن السحر: إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفسٍ شِرِّيرةٍ خِبَيثةٍ، بمباشرة أعمال مخصوصةٍ، يَجْرِي فيه التعلُّم والتعليم، وبهذين الاعتبارين يُفارق المعجزة، والكرامة؛ وذلك لأنَّ المعجزة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد من يدَّعي النبوة والرسالة عند ردِّ الملحدة، والكرامة: أمرٌ خارق للعادة، يظهر على يد عبدٍ من عباد الله الصالحين، والسِّحر: أمرٌ خارقٌ للعادة، يظهر على يد نفسٍ شريرةٍ خبيثةٍ، بمباشرة أعمالٍ مخصوصة. فَصْل في بيان حقيقة السحر واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فذهب الجمهور: إلى ثبوته في الخارج، وقالت المعتزلة: لا ثبوت له، ولا وجود له في الخارج، بل هو تمويهٌ وتخييلٌ، ومجرَّد إراءة ما لا حقيقة له، يرى الحبال حيَّاتٍ بمنزلة الشعوذة التي سببها: خِفَّة حركات اليد، أو إخفاء وجه الحيلة، وتمسّكوا بقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ولنا وجهان: الأوّل: يدل على الجواز، والثاني يدلّ على الوقوع، أمّا الأول: فهو إمكان الأمر في نفسه، وشمول قدرة الله سبحانه وتعالى له، فإنّه الخالق، وإنما الساحر فاعلٌ وكاسبٌ، وأمّا الثاني: فهو قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، وفيه إشعارٌ بأنّه ثابتٌ حقيقة ليس مجرد إراءةٍ وتمويهٍ، وبأنَّ المؤثّر والخالق هو الله تعالى وحده، وأمّا الشَّعوذة، وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الأدلَّة الهندسية، وخفّة اليد، والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإطلاق السحر عليها مجازٌ، أو لما فيها من الدِقَّة؛ لأنّه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ولذا يقال: سحرٌ حلالٌ، وأكثرُ من يتعاطى السحر النساء، وخاصةً حالَ حيضهنّ، والأرواحُ الخبيثةُ ترى غالبًا للطبائعِ المغلوبةِ، والنفوسِ الرذيلة، وإن لم يكن لهم رياضةٌ، كالنساء، والصبيان، والمُخنثين، والإنسان إذا فَسَد نفسه، أو مزاجه يشتهي ما يضرُّه، ويتلذَّذ به، بل يعشق ذلك عشقًا يفسد عقلَه، ودينَه، وخلقه، وبدنه، وماله، والشياطين خبيثةٌ، فإذا تقرَّب صاحبُ العزائم، والإِقسام، وكَتْبِ الرُّوحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم، بما يحبُّونه من الكفر، والشرك صار ذلك كالرَّشوة والبَرْطِيْلِ لهم، فيقضون بعض أغراضهم، كمن يعطي رجلًا مالًا - ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشةٍ، أو ينال منه فاحشةً، ولذلك يكتب السحرة، والمُعْزِمُون في كثيرٍ من الأمور، كلامَ الله تعالى بالنَّجاسة، والدماء، ويتقرَّبون بالقرابين، ومن حيوانٍ ناطقٍ، وغير ناطق، والبُخور، وتَركِ الصلاة، والصومِ، وإباحات الدماء، ونكاح ذوات المحارم، وإلقاء المصحف في القاذورات، وغيرِ ذلك مما ليس فيه رضا الله تعالى، فإذا قالوا كفرًا، أو كتبوه، أو فعلوه أعانتهم الشياطين؛ لأغراضهم، أو بعضها، إمَّا بتَغْوِيرِ مَاءٍ، وإمّا بِأَنْ يُحْمَلَ في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإمّا بأنْ يأتيه بمالٍ من أموال الناس، كما

يسرقه الشياطينُ من أموالِ الخائِنين، وأموال من لم يذكر اسم الله عليه، ويأتي به، وإمّا بغير ذلك، من قتل أعدائهم، أو إمراضهم، أو جَلْبِ من يهوونه وكثيرًا ما يتصوَّر الشيطان بصورة الساحر، ويقف بعرفاتٍ ليظنَّ مَنْ يُحسِن الظنَّ به أنّه وقف بعرفات، وقد زيَّن لهم الشيطان أنَّ هذا كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإنَّ الله تعالى لا يُعبد إلّا بما هو واجبٌ، أو مستحبٌّ، وما فعلوه ليس بواجبٍ، ولا مستحبٍ شرعًا، بل هو منهيٌّ عنه حرامٌ، ونعوذ بالله من اعتقاد ما هو حرامٌ عبادةً، ولأهل الضلال الذين لهم عبادةٌ على غير الوجه الشرعيّ، مكاشفاتٌ أحيانًا، وتأثيراتٌ يأوون كثيرًا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، كالحمَّام، والمزبلة، والمقبرة، وأعطان الإبل، وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات؛ لأنَّ الشياطين تنزل عليهم فيها، ويخاطبهم ببعض الأمور، كما يخاطبون الكفار، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلّم عُبَّاد الأصنام. قال العلماء: إن كان في السحر ما يخل شرطًا من شرائط الإيمان، من قول، وفعل، كان كفرًا، وإلا لم يكن كفرًا، وعامَّة ما بأيدي الناس من العزائم، والطَّلاسم، والرُّقي التي لا تفهم بالعربية، فيها ما هو شِرْكٌ وتعظيمٌ للجن، ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرُّقي التي لا يفهم معناها بالعربية؛ لأنَّها مظنَّة الشرك، وإن لم يعرف الرَّاقي أنّها شركٌ، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه رخّص في الرُّقي ما لم تكن شركًا، وقال "مَن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" ولذا نقول: إنه يجوز أن يكتب للمصاب، وغيره من المرضى شيءٌ من كتاب الله تعالى، وذكره. بالمداد المباح، ويُسقى، أو يعلَّق عليه، وفي أسماء الله تعالى، وذكره خاصَّةً قمع الشياطين، وإذلالهم، ولأنفاس أهل الحق تأثيراتٌ عجيبةٌ؛ لأنّهم تركوا الشهوات، ولزموا العبادات على الوجه الشرعيِّ، وظهر لهم حكم قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ولذا يطيعهم الجنُّ والشياطين، ويستعبدونهم، كما استعبدها سليمان عليه السلام، بتسخير من الله تعالى، وإقداره. واعلم: أنَّ حكم الساحر القتل ذكرًا كان أو أنثى، إذا كان سعيه بالإفساد، والإهلاك في الأرض، وإذا كان سعيه بالكفر، فيقتل الذكر دون الأنثى، فتضرب، وتحبس؛ لأنَّ الساحرة كافرةٌ، والكافرةُ ليست من أهل الحرب، فإذا كان الكفر

الأصليُّ يدفع عنها القتل، فكيف الكفر العارض؟ والساحر إن تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته، وإن أُخِذ ثم تاب لا تقبل، كما قال في "الأشباه": كُلُّ كافر تاب فتوبته مقبولةٌ في الدنيا والآخرة، إلّا الكافر بسبِّ نبيٍّ، أو بسبِّ الشيخين، أو أحدهما، وبالسحر ولو امرأةً، وبالزندقة إذا أُخِذَ قبل توبتهِ، والزنديق: هو الذي يقولُ بقدمِ الدهر، وإسنادِ الحوادث إليه مع اعتراف النبوَّةِ، وإظهارِ الشرع. هذا، وأكثر المنقول إلى هنا من كتاب آكام المرجان، وهو الذي ينبغي أن يكتب على الأحداق لا على القراطيس والأوراق. قوله {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} قرأ الجمهور (¬1) بفتح الميم وسكون الراء والهمزة. وقرأ الحسن، والزهري، وقتادة {المَرِ} بغير همز مخففًا. وقرأ ابن أبي إسحاق: {المُرءُ} بضمّ الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي {المِرْءِ} بكسر الميم والهمزة، ورُويت عن الحسين. وقرأ الزهري أيضًا {المَرِّ} بفتح الميم وإسقاط الهمزة وتشديد الراء، فأمَّا فتح الميم وكسرها وضمُّها، فلغاتٌ، وأمَّا المرِ بكسر الراء، فوجهه أنّه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وخفَّف الهمزة، وأمّا تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنّه نوى الوقف فشدَّد، كما روي عن عاصم مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثُمَّ أُجري الوصل مجرى الوقف، فأقرَّها على تشديدٍ فيه، قوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} قرأ الجمهور بإثبات النون في {بِضَارِّينَ} وقرأ الأعمش بحذفها، وخرج ذلك على وجهين: أحدهما: أنّها حذفت تخفيفًا، والثاني: أنَّ حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو {بِهِ} كما قال: هما أخوا في الحرب من لا أخا لَهُ وكما قال: كما خُطَّ الكتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ وهذا التخريج ليس بجيد؛ لأنَّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثمَّ مضافٌ إليه؛ لأنّه مشغولٌ بعاملٍ جارٍ، فهو المؤثِّر فيه لا الإضافة، وأمَّا جعل حرف الجر جُزْءًا من المجرور، فهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّه مؤثّر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأوّل؛ لأنَّ له نظيرًا في نظم العرب ونثرها، فمن النثر قول العرب: قَطَاقطَا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مائتا يُريدُون ثِنْتَان ومِائتَانِ {وَيَتَعَلَّمُونَ} منهما {مَا يَضُرُّهُمْ} في الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم، صرَّح (¬1) بذلك؛ إيذانًا بأنّه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضَّرر، بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ، لأنّهم لا يقصدون به التخلُّصَ عن الاغترار بأكاذيب من يدَّعي النبوَّة مثلًا من السحرة، أو تخليصَ النَّاس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة. وعبارة أبي حيان: لمَّا ذكر أنّه يحصل به الضرر لمن يفرَّق بينهما، ذكر أيضًا أنَّ الضرر لا يقتصر على من يُفعل به ذلك، بل هو أيضًا يضرُّ مَن تعلَّمه، ولمَّا كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النَّفع؛ لأنّه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر، ويحصل به النفع، نَفَى النفع عنه بالكليَّة وأتى بلفظ لا؛ لأنّها يُنفى بها الحال والمستقبل، والظاهر أنَّ {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} معطوفٌ على {يَضُرُّهُمْ} وكلا الفعلين صلةٌ لما، فلا يكون لها موضعٌ من الإعراب، وجوَّز بعضهم أن يكون {لا ينفعهم} على إضمار هو؛ أي: وهو لا ينفعهم فيكون في موضع رفعٍ، وتكون الواو للحال، وتكون جملةً حاليَّةً، وهذا الوجه ضعيفٌ، وقد قيل: الضرر وعدم النفع مختصٌّ بالآخرة. وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإنَّ تعلُّمه إن كان غير مباح، فهو يجرُّ إلى العمل به، وإلى التنكيل به إذا عُثِر عليه، وإلى أنَّ ما يأخذه عليه حرامٌ، هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فلِمَا يترتَّب عليه من العقاب. انتهى. قال المراغي: وهذا مِما يعاقبُ الله عليه، ومَنْ عُرِف بإيذاء الناس أبغضوه، واجتنبوه، ولا نفع لهم فيه، فإنَّا نرى منتحلي هذه المِهَنِ مِنْ أفقر الناس وأَحْقِرهم، وذلك حالُهم في ¬

_ (¬1) روح البيان.

الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يُجزى كلُّ عامل بما عمل. انتهى. وفي الآية: إيماءٌ إلى أنَّ الاجتناب عما لا يؤمن غوَائلِهُ واجب، كتعلُّم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرَّ إلى الغَواية، وإن قال مَنْ قال: عرفت الشرَّ لا للشرِّ لكنْ لِتَوَقِّيهِ ... ومَنْ لا يعرف الشرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فيهِ وذكَر في "التَّجْنيس": أنَّ تعلُّم النجوم حرام إلّا ما يُحتاج إليه للقبلة، ولمعرفة فصول السنة وحسابها، ومعرفة فيء الزوال من المنازل الثمانية والعشرين، ومِنْ أحاديث "المصابيح": (مَنِ اقتبس - علمًا من النجوم، اقتبس شعبةً من السحر) وإذا لم يكن في تعلُّم مثل هذه العلوم خيرٌ، فكذا إمساكُ الكتب التي اشتملت عليها من كتب الفلاسفة وغيرها، بل لا يجوز النظر إليها، كما في "نصابِ الاحتساب" {وَلَقَدْ عَلِمُوا}؛ أي: لقد علم هؤلاء اليهود في التوراة، واللام فيه للقسم؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد علم اليهود الذين أخذوا السحر، واتَّبعوا الشياطين بدل متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان به. وقال أبو حيان (¬1): الضمير في علموا قيل: عائدٌ على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان بن داود عليه السلام، وكانوا حاضرين استخراجَ الشياطين السحرَ ودفنه، أو أَخْذَ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيّه، ولمَّا أخرجوه بعد موته، قالوا: والله ما هذا مِن عمل سليمان، ولا من ذخائره، وقيل: عائدٌ على من بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود، وقيل: يعود على اليهود قاطبةً؛ أي: علموا ذلك في التوراة، وقيل: عائدٌ على علماء اليهود، وقيل: عائدٌ على الشياطين، وقيل: على الملكين؛ لأنَّهما كانا يقولان لمن يتعلَّم السحر فلا تكفر، فقد علموا أنَّه لا خَلاق له في الآخرة وأتى بضمير الجمع على قول: مَنْ يرى ذلك وعَلِم هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين وعُلِّقت عن الجملة، ويحتمل أن تكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضًا كما علقت عرفتُ، والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

واللام في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم وأخواتها، وهي أحد الأسباب المُوِجبة للتعليق، وأجازوا حَذْفَها، وهي باقيةٌ على منع العمل، وخرَّجُوا على ذلك قوله: كَذاكَ أُدِّبْتُ حتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... إنّي وجدتُ مِلاكُ الشِيمةِ الأَدبُ يريد لَمُلاكُ الشيمة، و {مِنْ} هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء، والجملة من قوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} في موضع خبرها؛ أي: لقد (¬1) علموا أنَّ من اشترى السحر، واختاره، واستبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله تعالى، ما له في الآخرة من خلاق ونصيبٍ من دار الكرَامة؛ لأنّه من أهل النار؛ أي: ليس لذلك المشتري، والآخذ بالسحر في الآخرة خلاقٌ، وحظٌّ، ونصيبٌ من الجنة، بل هو من أهل النار. والمعنى (¬2): أي إنَّهم عالمون بأنَّ من اختار هذا، وقدَّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين، فليس له حظٌّ في الآخرة؛ لأنّه خالف حكم التوراة التي حظَرت تعلُّم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنَّ، والشياطين، والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان، واللام في قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} موطئةٌ (¬3) لقسم محذوف، والشراء هنا بِمَعْنَى: البيعِ؛ لأنَّ الشراء من الأضداد، والمخصوص بالذمّ محذوف. والمعنى (¬4): وعزّتي وجلالي: لبئس وقَبُح الشيء شيئًا باعوا به حظوظ أنفسهم في الآخرة، والمخصوص بالذمّ تعلُّم السحر، أو الكفر حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله تعالى؛ يعني: أنَّ اليهود لمَّا نبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم، وأقبلوا على التَّمسُّكِ بما تتلو الشياطين، فكأنَّهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) العمدة.

[103]

وعبَّر عن إيمانهم بأنفسهم (¬1)؛ لأنّ النَّفس خلقت للعلم والإيمان، وجواب لو في قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} محذوف، تقديره: لو كانوا يعلمون عاقبة أمرهم، وما يصيرون إليه من العذاب، لَما فعلوا ما فعلوا من تعلُّم السحر، والعمل به، أثبت لهم العلم أوَّلًا بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}، ثُمَّ نفى عنهم بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛ لأنَّهم لمَّا لم يعملوا بعلمهم، فكأنَّهم لم يعلموا، فهذا في الحقيقة نفي الانتفاع بالعلم لا نفي العلم. وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت (¬2): كيف أثبت الله لهم العلم أوَّلًا في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} على - التوكيد القسميّ، ثُمَّ نفاه آخرًا في قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، ففيه تناقضٌ؟ قلت: إنّهم قد علموا أنَّ من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ثُمَّ مع هذا العلم خالفوا واشتغلوا بالسحر، وتركوا العمل بكتاب الله تعالى، وما جاءت به الرسل؛ عنادًا منهم وبغيًا، وذلك على معرفةٍ منهم بما لِمَنْ فعَلَ ذلك منهم من العقاب، فكأنَّهم حين لم يعملوا بعلمهم كانوا منسلخين منه، والمعنى هنا: لو كانوا يَعْمَلُون بعلمهم ذلك ما تعلَّموه؛ فالمثبت أوّلًا العلم، والمنفيُّ هنا العمل به. انتهى. وهذا هو ما يفعلُ مِثْلهَ بعضُ المسلمين اليوم، إِذْ يَنْتَهِكون بعض حرماتِ الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلةٍ، ويأكلون أموال الناس بحيلةٍ أخرى ويشهدون الزور بحيلةٍ ثالثة، وهكذا. 103 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ} أي ولو أنَّ اليهود الذين اتَّبعوا ما تتلوا الشياطين، وتعلَّموا السحر {آمَنُوا} بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن {وَاتَّقَوْا}؛ أي: واجتنبوا اليهوديَّة، والسحر، وجواب {لَوْ} محذوف دَلَّ عليه قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، تقديره: لأُثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسحر، والمثوبةُ مَفْعُلةٌ (¬3) من الثواب، مِنْ ثاب يثوب إذا رجع، وسُمِّي الجزاء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

ثوابًا؛ لأنّه عوضُ عمَلِ المحسن يرجع إليه، والتنكير فيه للتقليل؛ أي: شيءٌ قليلٌ من الثواب كائنٌ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وقوله: {لَمَثُوبَةٌ} مبتدأ خبره {خَيْرٌ} لهم من السحر وما اكتسبوا به، واسم التفضيل ليس على بابه، بل المراد بيان أنَّ المثوبة فاضلة على السحر، كقوله تعالى: {أصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. وقرأ الجمهور (¬1): {لَمَثُوبَةٌ} بضم الثاء، كالمَشُورة. وقرأ قتادة، وأبو السمال، وعبد الله بن بريدة بسكون الثاء، كمَشْوُرةٍ، ومعنى قوله: {لَمَثُوبَةٌ}؛ أي: لثَوابٌ وهو الجزاء، والأَجر على الإيمان، والتقوى بأنواع الإحسان. وقيل: {لَمَثُوبَةٌ} لرجعةٌ إلى الله خيرٌ، والجارُّ والمجرور في قوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} في موضع الصفة؛ أي: كائنةٌ من عند الله تعالى، وهذا الوصف هو المسوِّغ لجواز الابتداء بالنكرة، وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله تفخيمٌ وتعظيمٌ لها، ولمناسبة الإيمان والتقوى لذلك كان المعنى: إنّ الذي آمنتم به، واتقيتم محارمه هو الذي ثوابكم منه على ذلك، فهو المُتكفِّل بذلك لكم، وحذف المفضَّل عليه؛ إجلالًا للمفضَّل من أن ينسب إليه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} خيريةَ ثوابِ الله وجزاءه، وجواب {لَوْ} محذوف، تقديره: ما اختاروا السحر على الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت (¬2): قد علموا ذلك من كتابهم، فكيف جهَّلهم؟. قلت: جهَّلهم لعدم عملهم بعلمهم، فإنَّ من لم يعمل بما علم، فهو كمن لم يعلم، ومجرد العلم باللسان لا ينفع بدون أن يصل التأثير إلى القلب، ويظهر ذلك التأثير بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة، والاتباع للكتاب والسنة، فمن أمَّر السُّنَّة على نفسه أخذًا وتركًا، حُبًّا وبغضًا، نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. قال بعض (¬3) العلماء: زيادة العلم في الرجل السوء، كزيادة الماء في أصول الحنظل، كلما ازداد، ريًّا ازداد مرارةً ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة فيها، كمثل من رفع العذرة بملعقة من الياقوت، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

[104]

فما أشرف الوسيلة، وما أخسَّ المتوسَّل إليه، والذي يَحْملُ على تعلُّم ما لا يليق، وذِكْر ما يجبُ صَوْنُه عنه، إنما هو إيثار الدنيا على الآخرة، والله يقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وإن أردت معرفة قدرك عند الله تعالى، فانظر إلى أعمالك؛ لأنّ الأعمال علاماتٌ على ذلك، وقد جاء في الخبر: "من سرَّه أن يعرف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله يُنزل العبد عنده حيث أنزله العبد من نفسه". ومعنى الآية: أي ولو أنَّهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والأمر باتّباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاءً على أعمالهم الصالحة، خيرًا لهم من كلِّ ما يتوقَّعُون من المنافع، والمصالح الدنيوية. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛ أي: إنّهم (¬1) ليسوا على شيء من العلم الصحيح، إذْ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعوه، وصاروا من المفلحين، لكنهم يتَّبعون الظنَّ، ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب، وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم، فوقعوا في الضلال البعيد. 104 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به (¬2)، وهذا النداء وقع في القرآن في ثمانية وثمانين موضعًا، وهذا أوَّل خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإقبال عليه، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين، يذكرهم بأنَّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقَّى أوامر الله تعالى ونواهيه، ويحسن الطاعة والامتثال. قال أبو حيان (¬3): إنَّ أوّل نداءٍ أتى عامًّا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وثاني: نداء أتى خاصًّا {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا} وهي الطائفة العظيمة، اشتملت على الملّتين اليهودية والنصرانية، وثالث نداءٍ لأمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين، فكان أوّل نداء عامًّا أمروا فيه بأصل الإِسلام، وهو عبادة الله، وثاني نداء ذُكّرُوا فيه بالنعم الجزيلة، وتُعِبِّدُوا بالتكاليف الجليلة، وخُوّفوا من حلول النقم الوبيلة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

من النقم والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلّا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه، والتبجيل، والخطاب بيا أيها الذين آمنوا، متوجِّهٌ إلى من في المدينة من المؤمنين. قيل: ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره، وروي عن ابن عباس: أنّه حيث جاء هذا الخطاب، فالمراد به أهل المدينة، وحيث ورد يا أيها الناس، فالمراد أهل مكة. انتهى. {لَا تَقُولُوا} (¬1) لنبيّكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذا ألقى عليكم شيئًا من العلم، وأكثر عليكم في الإلقاء وتابع فيه، وصَعُب عليكم الأَخْذُ منه مع الموالاة، وطلبتم منه الإمهال والتأنّي في الإلقاء؛ لِيُحفَظَ لكم ما سمعتم منه أوَّلًا، قبل الإلقاء الثاني {رَاعِنَا} يا رسول الله!؛ أي: أمهلنا وانظرنا في الإلقاء، وتأنَّ، ولا تتابعه علينا؛ لنحفظ ما سمعنا منك أوَّلًا قبل أن تُلْقي علينا ثانيًا؛ لأنَّ هذه الكلمة وإن كان معناها في لغة العرب هكذا، فإنَّها توَافق في اللفظ كلمةً عبرانيةً، أو سريانيَّةً، وضعت للمَسبَّة كانت اليهود يتسابُّون بها فيما بينهم؛ لأنَّ معنى {رَاعِنَا} عندهم: اشملَنْا بحُمْقِك، وأَفِدْنا ولَهَك، وخاطِبْنَا بكلامك الخسيس، فإنَّ اليهود إذا سمعت مخاطبتكم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة، وأنتم تريدون معناها العربيَّ، فإنَّهم يخاطبون النبيَّ بهذه. روي: أنَّ (¬2) المسلمين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تلا عليهم شيئًا من العلم: راعنا يا رسول الله! أي: تأنَّ بنا، وأمهل في الإلقاء حتى نفهم كلامك، واليهود كانت لهم كلمةٌ عبرانيةٌ يتسابُّون بها فيما بينهم، فلمَّا سمعوا المؤمنين يقولون: {رَاعِنَا} خاطبوا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهم يريدون بها تلك المسبَّة، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ منهم، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده: لئن سمعتها من أحد منكم يقولها: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأضربنَّ عنقه، قالوا: أو لستم تقولون بها؟ فنهي المؤمنون عنها، فأُمِروا بلفظةٍ أخرى؛ لئلا يجد اليهود بذلك سبيلًا إلى شتم ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) المراح.

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك قوله الآتي: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} وهو إمَّا مأخوذٌ من الرعاية، والمراعاة: المبالغة في الرعي، وهو النظر في مصالح الإنسان، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، أو من الرُّعونة، والرَعْنُ: الجَهْلُ، والهَوَجُ، والحُمْقُ، والخِسَّة. وبُدِءَ بالنهي؛ لأنّه من باب التُّروك فهو أسهل، ثُمَّ أتى بالأمر بعده الذي هو أشقُّ؛ لحصول الاستئناس قَبْلَ النهي، ثُمَّ لم يكن نهيًا عن شيء سبق تحريمه، ولكن لمّا كانت لفظةُ المُفاعلة تقتضي الاشتراكَ غالبًا صار المعنى: لِيقع منك رَعْيٌ لنا، ومِنّا رَعْيٌ لك، وهذا فيه ما لا يخفى مع مَنْ يُعظَّم؛ نُهوا عن هذه اللفظة لهذه العلةِ، وأُمروا بأن يقولوا: {انْظُرْنَا} إذ هو فعلٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مشاركة لهم فيه معه. وقرأ الجمهور (¬1): {رَاعِنَا} وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبيّ {راعونا} خاطبوه بذلك؛ إكبارًا؛ وتعظيمًا إذْ أقاموه مُقامَ الجمع، وتضمَّن هذا النهيُ النَّهْيَ عن كُلِّ ما يكون فيه استواءٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن مُحيصن: {رَاعِنًا} بالتنوين جعله صفةً لمصدر محذوف؛ أي: لا تقولوا قولًا راعنًا، وهو على طريق النسب، كلابن، وتامر، وقال الحسنُ: الراعن من القول، السُّخريُّ منه. اهـ. ولمّا كان القول سببًا في السَّبِّ اتَّصف بالرعْنِ، فنُهوا في هذه القراءة أن يخاطبوا الرسولَ بلفظٍ يكون، أو يوهم شيئًا من الغَضِّ والنَّقص، ممَّا يستحقُّه - صلى الله عليه وسلم - من التعظيم، وتلطيفِ القول وأدَبِهِ، مأخوذٌ من الرُّعونة وهو الحُمْقُ، وكذا قيل: في {راعونا} إنّه فاعولا من الرعونة، كعاشورا. وقيل: إنّ اليهود تقول: راعنا؛ أي: رَاعِي غنمنا {وَقُولُوا} أيها المؤمنون عند طلب الإمهال منه، والتأني في الإلقاء {انْظُرْنَا}؛ أي: انتظرنا وأَمْهِل لنا، ولا تُوال في الإلقاء من نظره إذا انتظره. وقرأ الجمهور (¬2): {انْظُرْنَا} موصولَ الهمزة مضمومَ الظاء من النظرة وهي التأخير؛ أي: انتظرنا وتأنَّ علينا، نحو قوله: فإِنَّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

أو من النَّظَرِ واتُّسِعَ في الفِعْلِ، فعدِّي بنفسه، وأصله: أن يتعدَّى بإلَى، كما قال الشاعر: ظَاهِراتُ الجَمَالِ والحُسْن يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ يريد إلى الأراك، ومعناه: تَفَقَّدْنا بنظرك، وقال مجاهد معناه: فَهِّمْنَا وبيِّنْ لنا، فسَّر باللازم في الأصل وهو أَنظِرَ؛ لأنّه يلزمُ من الرفقِ والإمهالِ على السائل، والتأنِّي أن يَفْهَم بذلك. وقيل: هو من نَظَرِ البصيرة بالتَّفكُّرِ والتدبُّرِ فيما يَصْلُح للمنظور فيه، فاتُّسِعَ في الفعل أيضًا، إذ أصله: أن يتعدَّى بفي، ويكون أيضًا على حذف مضاف؛ أي: انظر في أمرنا. قال ابن عطيّة: وهذه لفظةٌ مُخلصةٌ لتعظيم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ أبي (¬1)، والأعمش: {أنْظِرْنَا} بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار، ومعناه: أخِّرنا وأمهلنا حتى نتلقَّى عنك، وهذه القراءة تشهد للقول الأوّل في قراءة الجمهور، ومنه قول الشاعر: أبا هند فلا تَعْجَلْ علينا ... وأَنظِرنا نُخَبِّرْك اليقينا ثُمَّ أمرهم بعد هذا النَّهي والأمر الأول، بأمرٍ آخر بقوله: {وَاسْمَعُوا} أيُّها المؤمنون ما يقوله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي أحسنوا (¬2) سماعه بآذان واعيةٍ، وأذهانٍ حاضرةٍ، حتى لا تحتاجوا إلى الاسْتعادة، وطلب المراعاة، أو المعنى: واسمعوا ما تؤمرون به في مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - وأطيعُوا. نَهَى الله سبحانه وتعالى، عباده المؤمنين أن يقولوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - راعنا؛ لئلا يتطرَّق أحدٌ إلى شَتْمِه، وأمرهم بتوقيره وتعظيمه، وأن يتخيَّروا لخطابه - صلى الله عليه وسلم - من الألفاظ أحسنهَا، ومن المعاني أدقَّها، وإن سألوه يسألوه بتبجيلٍ، وتعظيمٍ، ولينٍ، ولا يخاطبوه بما يَسُرُ اليهود. ولمَّا نهى أوّلًا، وأمر ثانيًا، وأمر بالسمع وحضَّ عليه إذ في ضِمْنهِ الطاعةُ، أخَذَ يُذَكِّرُ لِمَنْ خالَف أَمْرَه بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ}؛ أي: ولليهود الذين سبُّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهاونوا بأمر الرسول، وظاهره العموم، فيدخل فيه اليهود دخولًا أوَّليًّا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[105]

{عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم موجعٌ يخلص وجعه إلى قلوبهم، ونحو الآية قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وفي التعبير بالكافرين الذين هم اليهود هنا: (¬1) إيماءٌ إلى أنَّ ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه - صلى الله عليه وسلم -، كُفْرٌ لا شكَّ فيه؛ لأنَّ من يصف النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، بأنّه شريرٌ، فقد أنكر نبوّته، وأنه مُوحًى إليه من قبل ربّه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحقَّ العذاب الأليم. قال الأستاذ الإمام (¬2): إنَّ هذا التأديب ليس خاصًّا بمن كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين، بل يعم من جاء بعدهم أيضًا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم، وكان يجب عليهم الاستماع له، والإنصات لتدبره، هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيءٌ، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولًا تجب طاعته، والاهتداء بهديه، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون، إنهم يلغطون في مجلس القرآن، فلا يستمعون، ولا ينصتون، ومن أنصت، واستمع؛ فإنَّما ينصت طربًا بالصوت، واستلذاذًا بتوقيع نغمات القارئ، وإنّهم ليقولون في استحسان ذلك، واستجادته ما يقولون في مجلس الغناء، ويهتزُّون للتلاوة، ويصوِّتون بأصواتٍ مخصوصة، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيءٍ من معانيه إلّا ما يرونه مدعاةً لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عمَّا فيها من العبرة، وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العِفَّةُ والأمانة، أليس هذا أقربَ إلى الاستهانة بالقرآن، منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة، وأمثالها؟ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}. 105 - {مَا يَوَدُّ} ويحبُّ {الَّذِينَ كَفَرُوا} وأنكروا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: من اليهود والنصارى، ككعب بن الأشرف {وَلَا} من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

{الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: مشركي العرب عبدة الأوثان، كأبي جهل وأصحابه، وكان فريقٌ من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبَّةً، ويزعمون أنَّهم يودُّون لهم الخير، فنزل تكذيبًا لهم. والودُّ (¬1): حُبُّ الشيء مع تمنيه، ونفي الودِّ كنايةٌ عن الكراهة؛ أي: ما يحبُّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومِن للتبيين؛ لأنَّ الذين كفروا جنسٌ تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، فكأنَّه قيل: ما يودُّ الذين كفروا وهم أهل الكتاب والمشركون، فبيَّن أنَّ الذين كفروا باقٍ على عمومه، وأنَّ المراد كلا نوعيه جميعًا، والمعنى: أنَّ الكفار جميعًا لم يُحِبُّوا {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: على نبيكم؛ لأنّ المُنزَّل عليه منزَّلٌ على أُمَّته، وهو في موضع المفعول بيودُّ، وبناؤه للمفعول؛ وحذف للعلم به؛ وللتصريح به في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ}. فائدةٌ: وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. {مِنْ خَيْرٍ} هو قائم مقام فاعله، و {مِنْ} مزيدةٌ لاستغراق الخير، والخير الوحي، والقرآن، والنصرة كائنٌ {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: أن ينزَّل عليكم وحيٌ من ربّكم؛ لأنّهم يحسدونكم فيه، و {مِنْ} هنا لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد، ويجوز (¬2) أن تكون، للتبعيض، والمعنى: من خير كائن من خيوركم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلَّقت بقوله: {يُنَزَّلَ}، وإذا كانت للتبعيض تعلَّقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضافٍ، كما قدَّرناه آنفًا. ذكره في "البحر". والمعنى (¬3): إنّهم يرون أنفسهم أحقَّ بأن يوحى إليهم، فيحسدونكم، ويكرهون أن يُنزَّل عليكم شيءٌ من الوحي، أمَّا اليهود فَبِناءً على أنّهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياء النَّاشِئُون في مَهابِطِ الوحي، وأنتم أميُّون، وأمَّا المشركون فإدْلاَلًا بما كان لهم من الجاه والمال، زعمًا منهم أنَّ رياسة الرسالة كسائر الرياسات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الدنيويّة، منوطةٌ بالأسباب الظاهرة، ولذا قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وهم كانوا يتمنَّون أن تكون النُبوَّة في أحد الرجلين: نعيم بن مسعودٍ الثقفيِّ بالطَّائف، والوليد بن المغيرة بمكّة، ثُمَّ أجاب عن قول من يقول: لِمَ لَمْ يُنزَّل عليهم بقوله: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَخْتَصُّ}؛ أي: يخصُّ {بِرَحْمَتِهِ}؛ أي: بوحيه، ونبوّته، وبالهداية {مَنْ يَشَاءُ} ويختار من عباده؛ أي: من كان أهلًا لذلك وهو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون. يقال: خصَّه بالشيء. واختصه، إذا أفرده به دون غيره، ومفعول المشيئة محذوفٌ، تقديره: من يشاء تخصيصه بفضله، والرحمة (¬1) هنا عامَّةٌ بجميع أنواعها، أو النبوة، والوحي، والحكمة، والنصرة، اختصَّ بها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - قاله عليٌّ، والباقر، ومجاهدٌ، والزجَّاجُ، أو الإِسلام، قاله ابن عباس، أو القرآن، أو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وهو نبيُّ الرحمة أقوالٌ خمسةٌ أظهرها الأول. والمعنى: يفرد (¬2) سبحانه برحمته من يشاء إفراده بها، ويجعَلها مقصورة عليه؛ لاستحقاقه الذاتيِّ الفائض عليهِ بحُبِّ إرادته عزّ وجلّ، لا تتعدَّاه إلى غيره، لا يجب علِيه شيءٌ، وليس لأحدٍ عليه حقٌّ، وسبب (¬3) عدم ودهم ذلك، أمَّا في اليهود، فلِكون النبوة كانت في بني إسماعيل؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا النصارى؛ فلتكذيبهم في ادعائهم ألوهيَّة عيسى، وأنّه ابنُ الله؛ ولخوفهم على رئاستهم، وأمَّا المشركون؛ فلسبِّ آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجلٌ منهم يختصُّ بالرسالة، واتباع الناس له. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}؛ أي: صاحب المَنِّ الكبير، والعطاء الكثير بالوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالإِسلام بلا غرض، ولا علَّةٍ؛ يعني (¬4): أنَّ الله تعالى يخصُّ بنبوّته ورسالته من يشاء من عباده، ويتفضَّل بالإيمان والهداية على من أحبَّ من خلقه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) العمدة.

رحمةً منه لهم، فكُلُّ خيرٍ ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنَّه منه ابتداءً، وتفضّلًا عليهم من غير استحقاق أحدٍ منهم لذلك، بل له الفضل والمنَّة على خلقه، وفي الآية تعريضٌ بأهل الكتاب في حسدهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين. فائدةٌ: قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربَّه من خمسة أوجهٍ: أولها: أنّه أبغض كُلَّ نعمةٍ ظهرت على غيره. والثاني: أنّه يتسخَّطُ قسمته تعالى، ويقول لربّه: لِمَ قسمت هكذا. والثالث: أنَّ فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضله. والرابع: أنّه خذل وليَّ الله تعالى؛ لأنّه يريد خذلانه، وزوال النعمة عنه. والخامس: أنّه أعان عدوَّه؛ يعني: إبليس اللعين. واعلم: أنَّ حسدك لا ينفذ على عدوِّك، بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظةٍ، أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي حجرًا إلى عدوّه ليصيب به مقلته، فلا يصيبه، بل يرجع إلى حدقته اليُمْنى فيقلعها، فيزيد غضبه ثانيًا، فيعود ويرمي أشدَّ من الأولى، فيرجع على عينه اليسرى فيعميها، فيزداد - غضبه ثالثًا، فيعود ويرميه، فيرجع الحجر على رأسه فيشُجُّه، وعدوُّه سالمٌ في كُل حال، وهو إليه راجعٌ كرَّةً بعد أُخرى، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون، وهذا حال الحسود، وسخرية الشياطين. وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يأتي بعض الملوك، فيقوم بحذائه ويقول: أَحْسِنْ إلى المحسنِ بإحسانه، فإنَّ المسيء يكفيه إساءته، فحسده رجلٌ على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، وقال: إنّ هذا الرجل يَزْعُم أنَّ الملك أبْخَرُ، فقال الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك فانظر، فإنّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه أن لا يشمّ ريح البخر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، فقام بحذاء الملك، فقال على عادته مثل ما قال، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه واضعًا يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فصدَّق الملك في نفسه قول

الساعي، قال: وكان الملك لا يكتب بخطّه إلّا لجائزة، فكتب له كتابًا بخّطه إلى عامل له، إذا أتاك الرجل فاذبحه واسلخه، واحش جلده تبنًا، وابعث به إليّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فاستوهب منه ذلك الكتاب، فأخذه منه بأنواع التضرّع والامتنان، ومضى إلى العامل، فقال له العامل: إنَّ في كتابك أن أذبحك، وأسلخك، قال: إنَّ الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أراجع الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعةٌ، فذبحه، وسلخه، وحشا جلده تبنًا، وبعث به، ثمَّ عاد الرجل كعادته، فتعجب منه الملك، فقال: ما فعلت بالكتاب؟ قال لقيني فلانٌ فاستوهبه منّي، فوهبته، قال الملك: إنّه ذكر لي أنَّك تزعم أنِّي أبخر، فقال كلَّا، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعامًا فيه ثومٌ، فكرهت أن تشمَّه منّي، قال: ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيءَ إساءتُه، اللهمّ! احفظنا من مساويء الأخلاق، فإنَّها بئس الوثاق، وأكرمنا بمكارم الأخلاق، فإنّها نعم الرفاق. ذكره في "روح البيان". وخلاصة معنى الآية (¬1): أي إنَّ الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدةٌ لكم، لا يودُّون أن ينزل عليكم خيرٌ من ربّكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم، ووحَّد شعوبكم، وقبائلكم، وطهَّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون، إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوَّةً للإسلام، ورسوخًا لقواعده، وتثبيتًا لأركانه، وانتشارًا لهديه، وهم يودُّون أن تدور عليكم الدَّوائر، وينتهي أمركم، ويزول دينكم من صفحة الوجود. وحسد الحاسد يدلُّ على أنَّه ساخطٌ على ربّه معترضٌ عليه؛ لأنَّه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يضيره سخط الساخطين ولا يحول مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختص من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنَّة، وكُلُّ عباده غارقٌ في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحدٍ أن يحسد أحدًا على خيرٍ أصابه، وفضلٍ أوتيه من عند ربه. ¬

_ (¬1) المراغي.

الإعراب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}. {وَإِذْ} الواو استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب، معطوف على {نِعْمَتِيَ} كما مرّ مرارًا {أَخَذْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والتقدير: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم، وحين أخذنا ميثاقكم {مِيثَاقَكُمْ} مفعول به ومضاف إليه {وَرَفَعْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {أَخَذْنَا}. {فَوْقَكُمُ} ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق برفعنا {الطُّورَ} مفعول به {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} مقول محكي لقول محذوف معطوف على {رفعنا}، تقديره: ورفعنا فوقكم الطور فقلنا خذوا ما آتيناكم، وإن شئت قلت: {خُذُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقلنا المحذوف {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به لخذوا {آتَيْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أوّل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما آتيناكموه؛ لأنّ آتى بمعنى: أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد المفعول الثاني المحذوف {بِقُوَّةٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير المخاطبين، تقديره: حال كونكم ملتبسين بقوّة وعزيمة {وَاسْمَعُوا} الواو عاطفة {اسمعوا} فعل أمر وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {خُذُوا}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} مقول محكي لقالوا منصوب بفتحة مقدّرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت: {سَمِعْنَا} فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: سمعنا قولك، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَعَصَيْنَا} فعل وفاعل معطوف على {سَمِعْنَا}، ومفعوله محذوف، تقديره: وعصينا أمرك {وَأُشْرِبُوا} الواو حالية {أشربوا} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل {في قُلُوبِهِمُ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأُشربوا {الْعِجْلَ} مفعول به ثان لأُشربوا؛ لأن الأول كان نائب فاعل، والجملة

من الفعل المغيّر، ونائب فاعله في محل النصب حال من الواو في {قَالُوا}، ولكن بتقدير قد لتقرب الماضي إلى الحال، والتقدير: قالوا سمعنا وعصينا حاله كونهم مشْرَبين في قلوبهم حُبَّ عبادة العجل، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على {قَالُوا} على كونها مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب {بِكُفْرِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأُشربوا، والباء فيه سببية، ويجوز أن يكون حالًا من الحبّ المحذوف؛ أي: حال كون ذلك الحبّ مختلطًا بكفرهم، كما ذكَره العكبري {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي لقل منصوب بفتحة مقدّرة، وإن شئت قلت: {بئس} فعل ماض جامد من أفعال الذمّ مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: هو يعود على الشيء المبهم {مَا} نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب تمييز لفاعل {بئس}. {يَأْمُرُكُمْ} فعل ومفعول به {بِهِ} جار ومجرور متعلق بيأمركم {إِيمَانُكُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب صفة لما، ولكنها صفة سببية، والرابط ضمير {بِهِ} وجملة {بئس} في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف يسمى المخصوص بالذمّ، تقديره: عبادة العجل، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنْ} حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإنْ على كونه فعل شرط لها {مُؤْمِنِينَ} خبر كان منصوب بالياء، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم مؤمنين بالتوراة، فلم عبدتم العجل، والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتموه. {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {إِنْ} حرف شرط جازم {كَانَتْ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بإن الشرطية، والتاء علامة تأنيث اسمها {لَكُمُ} جار ومجرور خبر لكان، مقدّم على اسمها {الدَّارُ} اسمها مؤخّر، {الْآخِرَةُ} صفة للدار {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف مكان ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والتقدير: إن كانت الدار الآخرة كائنة

لكم عند الله تعالى، {خَالِصَةً} حال من الدار تقديره حالة كونها خاصة بكم {مِنْ دُونِ النَّاسِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال مؤكّدة للحال المذكور قبلها؛ لأنّ دون تستعمل للاختصاص، يُقال هذا لي دونك؛ أي: من دونك؛ أي: لا حقَّ لك فيه، كما في "الشهاب"، وفي "السمين" في خبر كان هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنّه {خَالِصَةً} فيكون {عِنْدَ} ظرفًا لخالصةً، وللاستقرار الذي في {لَكُمُ}. والثاني: أنَّ الخبر {لَكُمُ} فيتعلَّق بمحذوف، ونصب {خَالِصَةً} حينئذٍ على الحال. والثالث: أنَّ الخبر هو الظرف و {خَالِصَةً} حال أيضًا. انتهى. وفي "الكرخي": {خَالِصَةً} مصدرٌ جاء على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة، وهو بمعنى الخلوص. اهـ. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} الفاء رابطةٌ لجواب {إِن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية {تمنّوا} فعل أمر في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونها جوابًا لها مبني على حذف النون، والواو فاعل {الْمَوْتَ} مفعول به، وجملة {إِن} الشرطية مع جوابها في محل النصب مقول {قُلْ}. {إن} حرف شرط جازم {كنتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونه فعل شرط لها {صَادِقِينَ} خبر كان منصوب بالياء، وجواب {إن} الشرطية معلومٌ مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت، وجملة {إِن} الشرطية في محلِّ النصب مقول {قُل} أيضًا. فائدة: ولا تدخل {إِن} الشرطية على فعل ماض في المعنى إلّا على كان؛ لكثرة استعمالها، وأنها لا تدلّ على حدث. ذكره العكبريُّ. {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}. {وَلَنْ} الواو استئنافية {لن} حرف نفي ونصب واستقبال {يَتَمَنَّوْهُ} فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به {أَبَدًا} ظرف زمان متعلق بيتمنوه {بِمَا} جار ومجرور متعلق بيتمنوه أيضًا، والجملة الفعلية مستأنفة {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فعل وفاعل صلة لما الموصولة، والعائد

محذوف، تقديره: بما قدّمته أيديهم، {وَاللَّهُ} الواو استئنافية (ولفظ الجلالة) مبتدأ {عَلِيمٌ} خبر، والجملة الاسمية مستأنفة {بِالظَّالِمِينَ} جار ومجرور متعلق بعليم. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم {لتجدنّ} فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أوّل، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو على أيِّ مخاطب {أَحْرَصَ النَّاسِ} مفعول ثاني لتجد ومضاف إليه {عَلَى حَيَاةٍ} جار ومجرور متعلقٌ بأحرص، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَمِنَ الَّذِينَ} الواو عاطفة {من الذين} جار ومجرور متعلق بمحذوف دل عليه السياق، معطوف ذلك المحذوف على {أَحْرَصَ} لغرض التخصيص بعد التعميم، والتقدير: ولتجدنّهم أحرص من جميع الناس على حياةٍ متطاولة، وأحرص من الذين أشركوا {أَشْرَكُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد واو الفاعل {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} فعل وفاعل ومضاف إليه {لَوْ} حرف مصدر {يُعَمَّرُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة مرفوع، ونائب فاعله ضمير يعود على {أَحَدُهُمْ}. {أَلْفَ} منصوب على الظرفية متعلق بيعمّر، وهو مضاف {سَنَةٍ} مضاف إليه، وجملة {يُعَمَّرَ} صلة {لَوْ} المصدرية و {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليودّ، تقديره: يودّ أحدهم تعميره ألف سنة، وجملة {يَوَدُّ} من الفعل والفاعل في محل النصب حال من ضمير المفعول في {تجدنّهم}، تقديره: لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة حالة كون أحدهم وادًّا تعميره ألف سنة، أو مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب {وَمَا} الواو حالية {مَا} حجازيّة {هُوَ} ضمير يعود على التعمير المفهوم من السياق، في محل الرفع اسم {مَا} الحجازيّة {بِمُزَحْزِحِهِ} الباء زائدة في خبر {مَا} الحجازيّة {مزحزحه} مجرور لفظًا منصوب محلًا على أنّه خبر {مَا} وهو مضاف،

والضمير مضاف إليه {مِنَ الْعَذَابِ} جار ومجرور متعلق {بِمُزَحْزِحِهِ}. {أَن} حرف نصب ومصدر {يُعَمَّرَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن المصدرية، ونائب فاعله ضمير يعود على {أَحَدُهُمْ} والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية. و {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على البدليّة من اسم {مَا} الحجازيّة، تقديره: وما هو تعميره بمزحزحه من العذاب، وجملة {مَا} الحجازية في محل النصب حال من مفعول {يَوَدُّ} المؤوّل من {لَوْ} المصدريّة مع فعلها، تقديره: يودّ أحدهم تعميره ألف سنة حالة كون تعميره عادم الزحزحة، والإبعاد له من العذاب، وفي المقام أوجه من الإعراب ضربنا عنها صفحًا؛ خوفًا من الإطالة، فراجع المطوَّلات؛ لأنّ كتابنا مختصرٌ، {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {اللَّهُ} مبتدأ {بَصِيرٌ} خبر، والجملة مستأنفة {بِمَا} جار ومجرور متعلق ببصير، و {مَا} موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية {يَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: يعملونه، أو صلة {مَا} المصدرية، تقديره: بعملهم. {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...} إلخ مقول محكي لقل، وإن شئت قلت: {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أقوال: قيل: فعل الشرط وهو الراجح، كما في "أبي النجا على الأجرومية"، وقيل: جوابه، وقيل: هما معًا {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَن}. {عَدُوًّا} خبرها {لِجِبْرِيلَ} اللام حرف جرّ {جبريل} مجرور بالفتحة للعلمية والعجمية، والجار والمجرور متعلق بعدوًّا؛ لأنّه بمعنى معاديًا، وجواب الشرط محذوف جوازًا، تقديره: فليمت غيظًا، وجملة {مَن} الشرطية في محل النصب مقول {قُل}. {فَإِنَّهُ} الفاء تعليلية للجواب المحذوف {إِنَّ} حرف نصب، والهاء اسمها، وهو عائد على جبريل {نَزَّلَهُ} فعل ومفعول، والهاء عائد على القرآن، وفي إضماره على ما لم يسبق ذكره؛ تفخيم لشأن صاحبه، كأنّه يدلُّ على نفسه، وفاعله ضمير مستتر يعود على جبريل، {عَلَى قَلْبِكَ} جار ومجرور

ومضاف إليه متعلق بنزّله، والجملة الفعلية خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجرّ بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، تقديره، وإنّما قلنا: فليمت غيظًا لتنزيله إيّاه بإذن الله تعالى {بِإِذْنِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل، في {نَزَّلَهُ} العائد على جبريل، تقديره: حالة كونه ملتبسًا بإذن الله، أو مأذونًا {مُصَدِّقًا} حال من الهاء في {نَزَّلَهُ} العائد على القرآن {لِمَا} اللام حرف جرّ {مَا} اسم موصول في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمصدّقًا {بَيْنَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة {بَيْنَ} مضاف {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنّه مثنّى، أو ملحق به، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه {وَهُدًى} معطوف على {مُصَدِّقًا} منصوب على الحالية، ولكنّه في تأويل مشتقّ؛ أي: هاديًا {وَبُشْرَى} معطوف أيضًا على {مُصَدِّقًا} كذلك؛ أي: مبشّرًا {لِلْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور، تنازع فيه هدى وبشرى. {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}: {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، خبره جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، كما مرّ آنفًا. {كاَنَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَن} {عَدُوًّا} خبرها منصوب {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق بعدوًّا {وَمَلَائِكَتِهِ} معطوف على الجلالة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه، وكذلك {وَرُسُلِهِ} معطوف على الجلالة، وكذلك {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} معطوفان على الجلالة مجروران بالفتحة للعلمية والعجمة، وذكرهما من بعد الملائكة من ذكر الخاص بعد العام؛ إظهارًا لمزيّته، كما مرّ {فَإِنَّ اللَّهَ} الفاء رابطة لجواب مَن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية {إنّ الله} ناصب واسمه، وأُظهِر في موضع الإضمار؛ دفعًا لإيهام أنّه يعود إلى جبريل {عَدُوٌّ} خبر {إِنَّ} {لِلْكَافِرِينَ} متعلق به، وجملة {إِنَّ} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط موجود، وهو الاسم الظاهر؛ أعني: لفظ الجلالة؛ لقيامه مقام الضمير؛ لأنّ الأصل من كان عدوًّا لله، وملائكته، ورسله، فإنّ الله عدوٌّ له، أو لهم، وقيل: الرابط العموم، وله في القرآن

نظائر كثيرة ستمر بك إن شاء الله تعالى، وجملة {مَن} الشرطية وجوابها مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة بعاطف مقدّر على جملة قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} على كونها مقولًا لقل. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}. {وَلَقَدْ} الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم {قَدْ} حرف تحقيق {أَنْزَلْنَا} فعل وفاعل {إِلَيْكَ} متعلق به {آيَاتٍ} مفعول به {بَيِّنَاتٍ} صفة لآيات، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وعزّتي وجلالي، لقد أنزلنا إليك ... الخ. وجملة القسم مستأنفة {وَمَا يَكْفُرُ} الواو حالية {مَا} نافية {يَكْفُرُ} فعل مضارع {بِهَا} متعلق بيكفر {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ {الْفَاسِقُونَ} فاعل مرفوع بالواو، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آيات، وسوّغ مجيء الحال من النكرة وصفها بما بعدها {أَوَكُلَّمَا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب {كلما} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمّنه معنى إن الشرطية، والظرف متعلق بالجواب {عَاهَدُوا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب {عَهْدًا} منصوب على المفعولية المطلقة، أو منصوب على أنّه مفعول به ثان لعاهدوا، إذا كان {عَاهَدُوا} بمعنى أعطوا، والأوّل محذوف، تقديره: عاهدوا الله عهدًا {نَبَذَهُ} فعل ومفعول {فَرِيقٌ} فاعل {مِنْهُمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق، والجملة جواب {كلما} لا محل لها من الإعراب، وهذه الجملة هي محل الاستفهام الإنكاري، وجملة {كلما} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها مستأنفة {بَلْ} حرف عطف وإضراب {أَكْثَرُهُمْ} مبتدأ ومضاف إليه، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة السابقة. أو مستأنفة، إن قلنا: إنّ بَلْ حرف ابتداء.

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}. {وَلَمَّا} الواو عاطفة {لَمَّا} حرف شرط غير جازم {جَاءَهُمْ} فعل ماض ومفعول به {رَسُولٌ} فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط للمَّا لا محل لها من الإعراب {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ} جار ومجرور ومضاف إليه، صفة أولى لرسول، تقديره: رسول مرسل من عند الله {مُصَدِّقٌ} صفة ثانية لرسول {لِمَا مَعَهُمْ} اللام حرف جرّ {مَا} اسم موصول في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمصدّق {مَعَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لما الموصولة، تقديره: مصدّق للذي استقرّ معهم {نَبَذَ فَرِيقٌ} فعل وفاعل، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {كلما} أو مستأنفة {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور صفة لفريق {أُوتُوا الْكِتَابَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، والواو نائب فاعل والكتاب مفعول ثانٍ لأوتوا، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب {كِتَابَ اللَّهِ} مفعول به لنبذ {وَرَاءَ} منصوب على الظرفية المكانية متعلق بنبذ، وهو مضاف {ظُهُورِهِمْ} مضاف إليه {كَأَنَّهُمْ} كأنّ حرف نصب وتشبيه، والهاء اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبرها، وجملة {كأنّ} في محل النصب حال من فريق؛ لتخصّصه بالوصف، تقديره: حالة كونهم مشبهين بمن لا يعلم. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. {وَاتَّبَعُوا} فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: نَبَذَ فَرِيق على كونها جوابًا للمّا، وفي "الفتوحات": والأولى أن تكون هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إلى آخرها؛ لأنّ عطفها على نَبَذَةُ يقتضي كونها جوابًا لقوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ الله. واتِّباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتِّبًا على مجيء الرسول، بل كان اتباعهم لذلك قبله {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول اتبعوا {تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} فعل مضارع معتلّ

بالواو وفاعل، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تتلوه الشياطين {عَلَى} حرف جرّ بمعنى: في {مُلْكِ} مجرور بعلى {سُلَيْمَانَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة، وزيادةُ الألف والنون موقوفةٌ على معرفة الاشتقاق، الجار والمجرور متعلق بتتلوا {وَمَا} الواو استئنافية، أو اعتراضية {مَا} نافية {كَفَرَ سُلَيْمَانُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف الذي هو قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} إن قلنا: إنّ {ما أنزل على الملكين} معطوف على {تَتْلُو}. {وَلَكِنَّ} الواو عاطفة {لَكِنِ} حرف نصب واستدراك {الشَّيَاطِينَ} اسمها منصوب بالفتحة؛ لأنّه جمع تكسير، وجملة {كَفَرُوا} في محل الرفع خبر لَكِنِ وجملة لَكِنِ معطوفة على جملة قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ على كونها مستأنفة، أو معترضة {يُعَلِّمُونَ} فعل وفاعل {النَّاسَ} مفعول أوّل {السِّحْرَ} مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الشَّيْاطِينَ، أو من فاعل كَفَرُوا أو خبر ثان لـ {لكن}. وفي "الفتوحات": واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال: أحدها: أنّها حال من فاعل {كَفَرُوا}؛ أي: كفروا معلمين الناس. الثاني: أنّها حال من {الشَّيَاطِينَ} وردّه أبو البقاء بأن {لَكِنِ} لا تعمل في الحال، وليس بشيء، فإنّ {لَكِنِ} فيها رائحة الفعل. الثالث: أنها في محل الرفع على أنّها خبر ثان للشياطين. الرابع: أنها بدل من {كفروا} أبدل الفعل من الفعل. الخامس: أنّها استئنافية أخبر عنهم بذلك. هذا إذا أعدنا الضمير من {يُعَلِّمُونَ} على {الشَّيَاطِينَ}، أما إذا أعدناه على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين، فتكون حالًا من فاعل اتبعوا، أو استئنافية فقط. انتهى. {وَمَا} الواو عاطفة {مَا} اسم موصول في محل النصب معطوفة على

السحر، تقديره: ويعلمونهم ما أنزل عليهما، وسوّغ عطفه عليه مع كون هذا سحرًا أيضًا؛ تغايرهما لفظًا، أو المراد {بما أنزل على الملكين} نوع أقوى من السحر، فالتغاير بالحقيقة لا بالاعتبار. ذكره "الكرخي" {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة الفعلية صلة لما الموصولة على الملكين متعلق بأنزل {بِبَابِلَ} الباء حرف جر بمعنى في {بابل} مجرور بالباء، وجره بالفتحة للعلمية والعجمية، أو التأنيث المعنوي؛ لأنّه بمعنى: البلدة، الجار والمجرور متعلق بأنزل، أو الباء على معناها متعلقة بمحذوف حال من {الْمَلَكَيْنِ}. {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} بدل من {الْمَلَكَيْنِ} أو عطف بيان لهما، وجرّهما بالفتحة للعلمية والعجمية {وَمَا} الواو استئنافية {مَا} نافيه {يُعَلِّمَانِ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية مستأنفة، ولا تغترّ بما قال في "الفتوحات" هنا، من أنّ الجملة معطوفة على ما قبلها؛ لأنّ عطفها عليه لا يصحّ، تأمّل {مِنْ} زائدة {أَحَدٍ} مفعول أوّل، والثاني محذوف، تقديره: وما يعلمان أحدًا السحر حتى يقولا {حَتَّى} حرف جر وغاية بمعنى إلى {يَقُولَا} فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة بعد حتّى، والجملة صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: وما يعلمان أحدًا إلى قولهما له نصيحة {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} مقول محكي ليقولا منصوب بفتحة مقدرة على الأخير، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا} أداة حصر {نَحْنُ} مبتدأ {فِتْنَةٌ} خبر، والجملة في محل النصب مقول ليقولا {فَلَا} الفاء حرف عطف وتفريع {لَا} ناهية جازمة {تَكْفُرْ} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير مستتر يعود على أحد، تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة مفرّعة على الجملة الإسمية قبلها على كونها مقولًا ليقولا. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}. {فَيَتَعَلَّمُونَ} الفاء استئنافية، أو فصيحة، مبني على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الملكين لا يعلمان أحدًا حتى

يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وأردت بيان حال الناس هل ينجزون أم لا؟ فأقول لك: يتعلمون {يتعلمون} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة {مِنْهُمَا} جار ومجرور متعلق بيتعلمون {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به {يُفَرِّقُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول، {بِهِ} جار ومجرور متعلق بيفرقون، والعائد ضمير {بِهِ}. {بَيْنَ الْمَرْءِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بيفرقون أيضًا {وَزَوْجِهِ} معطوف على المرء {وَمَا} الواو حالية، أو اعتراضية {مَا} حجازية {هُمْ} اسمها {بِضَارِّينَ} خبرها، والباء زائدة {بِهِ} جار ومجرور متعلق {بِضَارِّينَ}. {مِنْ أَحَدٍ} مفعول ضارين منصوب بفتحة مقدّرة؛ لأنّه اسم فاعل، و {من} زائدة، وجملة {مَا} الحجازية في محل النصب حال من واو {وَيَتَعَلَّمُونَ}، تقديره: يتعلمون منهما حالة كونهم غير ضارين به من أحد، أو معترضة؛ لاعتراضها بين المعطوف عليه {إلّا} أداة استثناء مفرّغ {بِإِذْنِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر الفاعل لضارين، أو من المفعول به، الذي هو أحد. وفي "الفتوحات": وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه: أحدها: أنّه الفاعل المستكن في {بِضَارِّينَ} والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونهم ملتبسين بإذن الله. والثاني: أنّه المفعول وهو أحد، وسوّغ مجيء الحال من النكرة اعتمادها على النفي، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كونه ملتبسًا بإذن الله. والثالث: أنه الهاء في {بِهِ}؛ أي: بالسحر، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا إلّا حالة كون ذلك السحر مقرونًا بإذن الله، وإرادته. والرابع: أنّه المصدر المعرف وهو الضرر، إلّا أنّه حذف؛ للدلالة عليه، والتقدير: وما هم بضارين به أحدًا الضرر إلّا حالة كون ذلك الضرر واقعًا بإذن الله وقدرته {وَيَتَعَلَّمُونَ} فعل وفاعل معطوف على قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا} {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به {يَضُرُّهُمْ} فعل وفاعل مستتر

ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} الواو عاطفة {لَا} نافية {يَنْفَعُهُمْ} فعل ومفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على {مَا} والجملة معطوفة على جملة {يَضُرُّهُمْ} على كونها صلة الموصول، قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ...} الخ وفي "الفتوحات" هذا الكلام في المعنى راجع لقوله: {وَاتَّبَعُوا} فهو معطوف عليه في المعنى. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. {وَلَقَدْ} الواو استئنافية مسوقة للشروع في بيان حالهم بعد تعلم السحر، واللام موطئة لقسم محذوف {قَدْ} حرف تحقيق {عَلِمُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} اللام حرف ابتداء مُعلِّقَةٌ لما قبلها عن العمل فيما بعدها لفظًا {مَنِ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {اشْتَرَاهُ} فعل ومفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على {مَنِ} والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {مَا} نافية {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بمحذوف حال مقدمة على صاحبها الذي هو {خَلَاقٍ}. {مِنْ} زائدة {خَلَاقٍ} مبتدأ مؤخّر، والتقدير: ما خلاق كائن له حال كونه في الآخرة، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {لَمَنِ} الموصولة. وجملة {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} من المبتدأ والخبر في محل النصب سادّة مسدّ مفعولَي {عَلِمُوا} إن كان متعديًا لاثنين، ومسد مفعوله إن كان متعديًا لواحد. {وَلَبِئْسَ} الواو استئنافية، أو عاطفة، واللام موطئة لقسم محذوف {بئس} فعل ماض جامد من أفعال الذم وفاعله ضمير مستتر وجوبًا يعود على الشيء المبهم {مَا} نكرة موصوفة بمعنى شيء في محل النصب على التمييز مفسّرة لفاعل {بئس}. {شَرَوْا} فعل وفاعل {بِهِ} متعلق بشروا، وهذا الضمير هو الرابط بين جملة الصفة والموصوف {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به لشروا، والتقدير: ولبئس الشيء شيئًا شروا به أنفسهم، وجملة {بئس} من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة

قوله: {عَلِمُوا}، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: السحرُ والكفرُ وهو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو السحر {لَوْ} حرف شرط غير جازم {كَانُوا} فعل ماض ناقص، والواو اسمها، وجملة {يَعْلَمُونَ} في محل النصب خبر كان، تقديره: لو كانوا عالمين عاقبة ما تعلَّموا، وجملة كان فعل شرط للو لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب {لَوْ} الشرطية محذوف دَلَّ عليه السياق، تقديره: لو كانوا يعلمون عاقبة ما تعلَّموا، لما أقدموا على ما اجترحوه من عمل السحر، وجملة {لَوْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}. {وَلَوْ} الواو استئنافية {لَوْ} حرف شرط غير جازم {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {وَاتَّقَوْا} معطوفة على جملة {آمَنُوا} والتقدير: ولو أنّهم مؤمنون بالله ومتّقون إيّاه، وجملة أنّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف جوازًا؛ لأنَّ لو الشرطية لا يليها إلّا الفعل، والتقدير: ولو ثبت إيمانهم وتقواهم {لَمَثُوبَةٌ} اللام رابطة لجواب لَّوْ الشرطية، وقيل: هي لام الابتداء مثوبة مبتدأ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة {لَمَثُوبَةٌ} وهذا الوصف سوّغ الابتداء بالنكرة، والتقدير: لمثوبة كائنة من عند الله {خَيْرٌ} لهم خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب لو الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة لو الشرطية مستأنفة {لَوْ} حرف شرط غير جازم، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها فعل شرط للو لا محل لها من الإعراب، وجواب لو محذوف دلّ عليه ما قبلها، تقديره: لو كانوا يعلمون خيرية الثواب من عند الله لما اختاروا السحر عليه، وجملة لو الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}.

{يَا أَيُّهَا} {يَا} حرف نداء؛ أي: منادى نكرة مقصودة مبني على الضمّ، ها حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات؛ أي: من الإضافة، كما عوضوا عنها ما الزائدة في نحو: أيًّا تدعوا، وخصّت ها بالنداء؛ لأنّه محل تنبيه، وجملة النداء مستأنفة {الَّذِينَ} بدل من أي، أو عطف بيان له، أو صفة {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {لَا} ناهية {تَقُولُوا} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب {رَاعِنَا} مقول محكي لتقولوا، ولو شئت قلت: {راع} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الياء، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنت يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونا ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لتقولوا {وَقُولُوا} فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة معطوفة، على جملة {لَا تَقُولُوا} على كونها جواب النداء {انْظُرْنَا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {انْظُرْنَا} فعل أمر، ومفعول به، وفاعل مستتر فيه، والجملة في محل النصب مقول {قُولُواْ}. {وَاسْمَعُوا} فعل أمر وفاعل معطوف على {قُولُواْ} والمفعول محذوف، تقديره: واسمعوا ما يُكلِّمُكم به الرسول، ويُلْقِي عليكم من المسائِل المُؤدِّيةِ إلى فَلاَ حكُمْ دينا، ودنيا، ومعادًا {وَلِلْكَافِرِينَ} الواو استئنافية {للكافرين} جار ومجرور خبر مقدّم {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخّر {أَلِيمٌ} صفة لعذاب، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مسوقة للإجمال بعد التفصيل. {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}. {مَا} نافية، {يَوَدُّ} فعل مضارع مرفوع {الَّذِينَ} فاعل، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا} صلة الموصول {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الواو في كَفَرُوا {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} معطوف على أَهْلِ الكِتَاب وزيدت لا هنا؛ لتأكيد النفي السابق، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها {أَن} حرف نصب ومصدر {يُنَزَّلَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن المصدرية

{عَلَيْكُمْ} متعلق بينزّل {مِنْ} هو زائدة {خَيْرٍ} نائب فاعل لينزل {مِنْ رَبِّكُمْ} صفة لخير، والجملة الفعلية مع أَن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليودّ، تقديره. ما يودّ الذين كفروا تنزيل خير كائن من ربّكم عليكم {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {اللَّهُ} مبتدأ {يَخْتَصُّ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {بِرَحْمَتِهِ} جار ومجرور متعلق بيختّص {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَشَاءُ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: من يشاؤه؛ أيْ: يشاء تخصيصه {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {اللَّهُ} مبتدأ {ذُو} خبر مرفوع بالواو المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين؛ لأنّه من الأسماء الستة، وهو مضاف {الْفَضْلِ} مضاف إليه {الْعَظِيمِ} صفة للفضل، والجملة الاسمية مستأنفة، والله سبحانه وتعالى أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} تقدّم أن أصل الميثاق مِوْثاق، قلبت الواو ياءً لمَّا سُكِّنت بعد كسرةٍ {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} أمر من أخذ، والقياس أن يسكن فاؤه، ويؤتى بهمزة وصل؛ للتوصل بها إلى النطق بالساكن، كما قالوا: اضرب، اصبر، ولكن قدَّمنا أنَّ هذا الفعل وهو أخذ، وكذلك أكَلَ، وأَمَر، أنَّ الأمر منها دائمًا، هكذا: خُذ، كُل، مُر {مَا آتَيْنَاكُمْ} أصله: أأتيناكم بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا حرف مدِّ للأولى {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} وبئس فعلٌ، وضع لإنشاء الذمّ، وأصله. فعِلَ، ولكنّهم خفَّفوا بسكون الوسط وله ولنِعْمَ باب معقود في النحو، وأصل إيمانكم: إئمانكم بهمزتين، أبدلت الثانية الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى. {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الدار فيه إعلال بالقلب، فألفه منقلبة عن واو، وأصله؛ دَوَرٌ تحركت الواو بعد فتح فقلبت ألفًا، ولذلك يصغر على دويرة {خَالِصَةً} الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصًا، إذا

سلم من شائبة الغير، فالخالصة مصدر جاء على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة، وهو بمعنى الخلوص، كما ذكره "الكرخي" {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أصله: تمنّيوا بوزن تفعلوا من التمنّي، يقال: تمنّى يتمنّى تمنيًّا، وأمرُ الجماعة منه تمنّووا، وذلك أنّ المضارع لمّا بني منه الأمر، حذف حرف المضارعة ونون الرفع، فصار تمنّيوا، فتحركت الياء فقلبت ألفًا فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف، ثمّ حركت الواو بالضمّ؛ لالتقائها ساكنة مع لام ال بعده؛ لأنّ همزة الوصل ساقطة في الدرج، ومعنى تمنوا الموت: تشوفوا، واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه، وتودُّ المصير إليه {وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} والعجل: هو الذي صنعه لهم السامري من حليهم، وجعلوه إلهًا وعبدوه، ويقال: أشرب قلبه كذا؛ أي: حُلَّ محلَّ الشراب، كأنَّ الشيء المحبوب شراب يُساغُ، فهو يسري في قلب المحب، ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللَّهاة، وحقيقة أُشْرِبَه كذا جعله شارِبًا له. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} تجدنهم مضارع وجَدَ، وأصله: يَوْجِدُ من فَعَل بفتح العين في الماضي يفعِل بكسرها في المضارع، فهو مثالٌ وقعت الواو بين عدوَّتيها الياء المفتوحة والكسرة فحذفت، ثُمَّ بني الفعل على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد المباشرة، وقس على هذا ما شابهه، ومادَّة. وجد مشتركٌ بين الإصابة، والعلم، والغنى، والحرج، ويختلف بالمصادر، كالوجدان، والوجد، والموجدة، والحرص شدَّة الطلب، وفي "المصباح": وحَرَص عليه حرصًا من باب ضرب إذا اجتهد، والاسم الحِرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا من باب تعب إذا رغب رغبةً مذمومةً. اهـ. {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} من الود وهو المحبَّة للشيء والإيثار له، وهو مضارع وَدِدَ بكسر العين في الماضي، يَوْدَدُ بفتحها في المضارع من باب فَعِلَ يَفْعَلَ، نقلت حركة الدال إلى الواو، فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية {أَنْ يُعَمَّرَ} من عمَّر المضعَّف، والتضعيف فيه للنقل، إذ هو من عَمَّر الرجل إذا طال عمره، وعمَّره الله إذا أطال عمره، والعمر مدَّةُ البقاء {أَلْفَ سَنَةٍ} والألف عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدلُّ على الشيء الكثير وهو من الألفة، إذ هو ما لَفَّ أنواعَ الأعداد، إذ العشرات ما لَفَّ الآحاد، والمئون ما لفَّ العشرات، والألف ما لفَّ المِئِين

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} من الزحزحة: وهي الإزالة والتنحية عن المقرِّ، وزحزح يستعمل متعدِّيًا كما هنا، ولازمًا، كقول الشاعرِ: خَلِيْلَيَّ ما بَالُ الدُّجَى لا يُزَحْزَحُ ... وَمَا بالُ ضَوءِ الصُّبْحِ لا يتَوضَّحُ والمعنى: بمنجيه من العذاب، وقيل: من بمعنى عن؛ أي: بمبعده عن العذاب، وتكرار الحروف يشابه تكرار العمل {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} والعدوُّ ضِدُّ الصديق، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمثنى والجميع، وأصله: عَدُوْوٌ بوزن فَعولٍ، أدغمت وَاوُ فَعول في لام الكلمة {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نَبْذُ الشيءِ طَرَحُهُ وإلقاؤهُ، والفريق: العدد القليل، وأصل أوتوا: أؤتيوا مبنيًّا للمجهول، وفيه همزتان الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، فأبدلت الثانية حرف مدٍّ للأولى من جنس حركتها على حدِّ قول ابن مالك: وَمَدًّا ابْدِل ثَانِيَ الهَمْزَيْنِ مِنْ ... كِلْمَةٍ إنْ يَسْكُنْ كَآثِرْ وائتُمِينْ ثمّ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فسكنت، فحذفت لالتقاء الساكنين {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} {اتبعوا} افتعلوا من الاتباع، أدغمت فاء الفعل في تاء الافتعال، فقيل: اتبعوا بعد أن استجلبت همزة الوصل، للتوصّل إلى النطق بالساكن {تَتْلُو} أصَلْهُ: تَتْلُوُ بوزن تَفعُلُ من تلا يتلو، كسما يسمو ناقصٌ واويٌّ، ولمَّا تطرفت الواو إثر ضمة سكنت، وجعلت حرف مدّ {بضارِّين} أَصْلُه: بضارِرِين، أدغمت الراء الأولى بعد تسكينها في الثانية {مَا يَضُرُّهُمْ} أصله: يَضْرُرْهم بوزن يفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد، فسكنت، فأُدغمت في الراء الثانية {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} علمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهَرْتِ والمَرتِ؛ أي: الكُسْرِ كما زعَمَ بعضهم لانَصْرَفَا {بِبَابِلَ} وبابلُ مدينة قديمة مُنع من الصرف للعلمية والعجمة، وتقعُ أنْقاضُها على الفُراتِ قُرْبَ الحُلَّةِ شرقيَّ بغدادَ {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} أصله: اشتَرَيَ بوزن افتَعَلَ، قُلبت الياءُ لامُ الفعل ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فهي مِنْ شرَاه يَشْرِيهِ إذا باعه، أو ملَكَه بشراءٍ، ودليلُ ذلك قولُه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} {مِنْ خَلَاقٍ} بالفتح بمعنى نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا} أصل: شروا كما تقدّم قريبًا شَرَيُوا، تحركت الياء وانفتح ما

قبلها فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} أصله؛ أَأْمنُوا، أبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مَدٍّ للأولى {وَاتَّقَوْا} أصله: أوْتَقَيُوا، أبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ثم أبدلت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان الألف والواو، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة دالةً عليها {لَمَثُوبَةٌ} وَزْنهُ مَفْعُلَةً بضمّ العين من الثواب، نقلت حركة الواو إلى الفاء، فسكنت الواو إثر ضمة، فجعلت حرف مدّ. ونقل الواحديُّ: أنَّ المثوبة فيها قولان: أحدهما: أنّ وزنها مَفْعُولة، والأصلُ: مَثْوُوْبةٌ بواوين، فثقلت الضمةُ على الواو الأولى، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان، فحذف أوّلهما الذي هو عين الكلمة، فصار مثوبة على وزن مفولة، ومحوزة، ومصونة، ومشوبة، وقد جاءت مصادر على وزن مفعول، كالمعقود، فهي مصدر نقل ذلك الواحديُّ. والثاني: أنّها مفعُلةٌ بضم العين، وإنما نُقلت الضمة منها إلى الثاء، وكان من حقّها الإعلال، فيقال: مَثابة، كمَقالة، إلّا أنّها صحَّحوها. اهـ. "سمين". {تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} يقال: تلا يتلو إذا تبع، وتلا القرآن؛ قرأه. وتلا عليه؛ كذَب. قاله أبو مسلم، وقال أيضًا: تلا عنه؛ صدف. فإذا لم يذكر الصِلَتَين احتمل الأمرين {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}؛ أي: في زمنه، وسليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أنَّ آخرُهُ ألفًا ونونًا هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان؛ لأنَّ زيادة الألف والنون موقوفةٌ على الاشتقاق، والتصريف، والاشتقاق، والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية {السِّحْرَ} مصدر سَحَر يَسْحَر سِحْرًا على وزن فِعْلٍ، ولا يوجد مصدرٌ على وزن فِعْلٍ إلّا سِحْرٌ وفِعْلٌ، قاله بعض أهل العلم، قال الجوهري: كُلُّ ما لطَفُ ودقَّ فهو سِحر، يقال: سحَرَهَ؛ أَبْدَى، له أمرًا يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. انتهى. وقال الشاعر: أدَاءٌ عرَانِي مِنْ حَيائِكَ أمْ سِحْرُ ويقال: سحَرَه إذا خدَعه، ومنه قولُ امريء القيس:

أَرانَا موضعيَنِ لأمْرِ عيْب ... وَنُسْحَرُ بالطَّعَامِ وَبالشرَابِ أي نُعَلَّلُ ونُخْدَعُ {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان أعجميَّان ممنوعان من الصرف، ومن نظائرهما طالوتُ وجالوتُ، ويجمعان على هواريت، ومواريت. {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} والفتنة: الابتلاءُ والاختبار، يقال: فتن يفتن فتونًا، وفتنةً {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} والضُرُّ والنفع معروفان، ويقال: ضرَّ يضُرُّ بضمّ الضاد، وهو قياس المضعَّف المتعدِّي، ومصدره: الضُرُّ والضَرُّ والضرر، ويقال: ضار يضير، قال: يَقُولُ أُناسٌ لا يَضِيْرُكَ نَابُهَا ... بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يضيْرُهَا ويقال: نفع ينفع نفعًا، قيل: لا يقال منه اسم مفعول، نحو: منفوع، والقياس النحويُّ يقتضيه {مِنْ خَلَاقٍ} الخلاق في اللغة: النصيب، قاله الزجَّاج، قال لكنه أكثر ما يستعمل في الخير، قال: يَدْعُوْنَ بالوَيْلِ فِيْهَا لا خَلاَقَ لَهُمْ ... إلّا السَّرَابِيْلُ مِنْ قَطْرٍ وأغلاَلُ والخلاقُ أيضًا: القَدْرُ، قال الشاعر: فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ ... وَمالَكَ في غَالِب مِنْ خَلاق {لَمَثُوبَةٌ} مفعلة من الثواب كما مرّ، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ويقال: مثوبةٌ، وكان قياسه الإعلال، فتقول: مثابةٌ، ولكنهم صحَّحُوه كما صحَّحُوا في الأعلام مَكْوُرة، ونظيرهُما في الوزنِ من الصحيح مَقْبَرة ومَقْبُرة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قال الراغبُ: العداوةُ: التجاوز، ومُنافاة الالتئام. فبالقَلْبِ يقال: العداوة. وبالمَشْي يقال: العَدْوُ. وبالإخلال في العدل يقال: العُدْوان. وبالمكان أو النَّسب، يقالَ: قومٌ عِدَي؛ أي: غُرباء. {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وهذا مثلٌ يُضرب لمن أعرض عن الشيء جملةً، تقول العرب: جعل هذا الأمر ورَاءَ ظهرِه ودُبُرَ أُذنه، وقال الفرزدق: تَمِيمُ بنُ مُرٍّ لا تَكُونَنْ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ وَلاَ يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا وقالت العرب ذلك. لأنَّ ما جُعل وراء الظهر لا يمكن النظرُ إليه، ومنه {واتَّخذتُموه ظهريا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} راعنا وزنه فاعنا،

أُعلّ بحذف لامه؛ لمناسبة باء الأمر؛ لأنّه من الرعاية، يقال: راعى يراعي مراعاة، إذا نظر في مصالح الإنسان، وتدبير أموره. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} حيث شبَّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبَّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الإشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في "تلخيص البيان"، وهذه استعارةٌ، والمراد: وصف قلوبهم بالمبالغة في حُبِّ العجل، فكأنَّها تشرَّبَتْ حُبَّه، فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ، وقال بعضهم فيه: التشبيه البليغ؛ أي: جعلت قلوبهم لتَمَكُّن حب العجل منها، كأنَّها تشرب، ومثله قول زهير: فصحوتَ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ داخِلٍ ... وَالْحُبُّ يَشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَائِمًا وإنما عبَّر عن حُبّ العجل بالشرب دون الأكل؛ لأنَّ شُرْبَ الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعامُ لا يتغلغل فيها. ومنها: التهكُّم في قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} حيث أسند الأمر إلى إيمانهم، وكذلك إضافةُ الإيمان إليهم، أمَّا الثاني فظاهرٌ في قوله تعالى: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} تحقيرًا ودلالة على أنَّ مثل هذا لا يليق أن يسمَّى إيمانًا إلّا بالإضافة إليكم، وأمَّا الأوّل؛ فلأنَّ الإيمان إنّما يأمر ويدعو إلى عبادة من هو في غاية العلم والحكمة، فالإخبار بأنَّ إيمانهم يأمر بعبادة ما هو في غاية البلادة، في غاية التهكم والاستهزاء، سواءٌ جعل يأمر به بمعنى يدعو إليه أم لا. انتهى. من "الكرخي". ومنها: التنكير في قوله: {عَلَى حَيَاةٍ}؛ للتنبيه على أنَّ المراد بها حياةٌ مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص ألوفًا من السنين.

ومنها: تخصيص هذا العدد في قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ}؛ لأنّهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العطاس والتحيّة عِشْ ألفَ سنة، وألف نَوَّروُزْ، وأَلْفِ مهرجان. ومنها: الإتيانُ بالجملة الاسمية في جواب الشرط في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}؛ لزيادة التقبيح والتشنيع؛ لأنّها تُفِيدُ الثباتَ والدوامَ. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} حيث لم يقل: عدوٌّ لهم؛ لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنّهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين. ومنها: الإظهار في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} حيث لم يقل: فإنه؛ دفعًا لاحتمال أن يعود الضمير إلى جبريل، أو ميكائيل. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}، إظهارًا لمزيَّتِهِ وشرفه. ومها؛ إسناد النبذ إلى فريق منهم في قوله: {نبذ فريق منهم}؛ إشعارًا بأنَّ منهم من لم ينبذ. ومنها: خُروج الأمر عن معناه الأصليِّ إلى معنى التعجيز، في قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} هو لأنَّ ذلك ليس من سِماتهم، ولا من ظواهرهم المألوفة، فإنَّ تمني الموت من شأن الأبرار المقرَّبين؛ لأنَّ من أيقن بالشهادة اشتاق إليها، وبكى حنينًا إليها، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب (أنّه كان يطوف بين الصفين، في غلالة، فقال ابنه الحسن: ما هذا بزيِّ المحاربين؟ فقال: يا بنيّ! لا يبالي أبوك سقط على الموت أم سقط عليه الموت)، ولمَّا احتضر خالد بن الوليد بكى، فقيل له: ما يبكيك؛ قال: (والله ما أُبالي إشفاقًا من الموت، ولكن لأنّي حضرت كذا وكذا معركةً، ثمّ أموت هكذا، كما تموت العنز، فلا نامت أعين الجبناء) وعن حذيفة أنّه كان يتمنَّى الموت، فلما احتضر قال: (حبيبٌ جاء على فاقةٍ لا أفلح من ندم! يعني: على التمنِّي، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو تمنَّوا الموت لغَصَّ كُلُّ إنسان منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ).

ومنها: الإيجاز في قوله: {عَلَى حَيَاةٍ} ففي تنكير حياة فائدةٌ عجيبة، فحواها: أنَّ الحريص لا بُدَّ أن يكون حيًّا، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة، فإنّهما حاصلتان، بل على الحياة المستقبلة، ولمَّا لم يكن الحرص متعلِّقًا بالحياة على الإطلاق، بل بالحياة في بعض الأحوال، وجب التنكير، وفي الحذف توبيخٌ عظيمٌ لليهود؛ لأنَّ الذين لا يؤمنون بالمعاد، ولا يعرفون إلّا الحياة، لا يستبعد حرصهم عليها، فإذا زاد أهل الكتاب عليهم في الحرص، وهم مُقِرُّون بالبعث والجزاء، كانوا أحرى باللَّوم والتوبيخ. ومنها: الكناية في قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ}؛ لأنّه كنايةٌ عن الكثرة، فليس المراد خصوص الألف. ومنها: التنكير في قوله: {رَسُولٌ}؛ للدلالة على التفخيم والتعظيم. ومنها: وصفه بقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ أي: بأنَّه آتٍ من عند الله، إفادةً لمزيد التعظيم. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ} كناقة الله وبيت الله. ومنها: التمثيل في قوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}؛ لأنّه تمثيل لتركهم وإعراضهم عن كتاب الله بالكلية، حيث رموه بالعناد، ولم يعملوا به بما يرمى به وراء الظهر استغناءً عنه، وقلَّة التفاتٍ إليه. ومنها: حكاية حالٍ ماضيةٍ في قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} حيث لم يقل تلت الشياطين؛ لأنَّ تلاوتهم من الأمور الماضية فعبَّر عنها بالمستقبل حكايةً لها. ومنها: زيادة مِنْ في المفعول في قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ}؛ لإفادة تأكيد الاستغراق المستفاد من أحد. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}؛ لبيان أنّه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأنٌ سواها؛ لِنَصْرِفَ الناسَ عن تعلُّمِه.

ومنها: الطباق بين الضرِّ والنفع في قوله: {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}؛ لأنَّ بينهما طباق السَّلْب. ومنها: فنٌّ رفيعٌ في فنون البلاغة في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ}؛ الخ. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وهو تنزيل العلم منزلة الجاهل، فإنَّ صدر الآية يدلُّ على ثبوت العلم في أنّه لا نفع لهم في اشتراء كتب السحر والشعوذة، واختيارها على كتب الله تعالى، وآخر الآية ينفي عنهم العلم، فإنَّ لو تدلُّ على امتناع الثاني لامتناع الأول، إلا أنَّ نفي العلم عنهم لأمرٍ خطابيٍّ، نظرًا إلى أنَّهم لا يعملون على مقتضى العلم، ولكن في ذلك مبالغةٌ من حيث الإشارة، إلى أنَّ علمهم بعدم الثواب كافٍ في الامتناع، فكيف العلم بالذمِّ والرداءة. ومنها: الإتيان بالجملة الاسمية في جواب لو الشرطية في قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بدل الجملة الفعلية؛ للدلالة على الثبوت والاستمرار. ومنها: تنكير مثوبة في قوله: {لَمَثُوبَةٌ}؛ لإفادة التقليل؛ أي: شيءٌ قليلٌ من الثواب كائنٌ من عند الله خيرٌ. ومنها: حذف المفضَّل عليه في قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}؛ إجلالًا للمفضَّل من أن ينسب إليه، وهو السحر. ومنها: الكناية في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ لأنَّ نفي الودِّ عنهم كنايةٌ عن الكراهة؛ أي: ما يحب الذين كفروا الخ. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ}. ومنها: تصدير الجملتين بلفظ الجلالة في قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ} للإيذان بفخامة الأمر. ومنها: فنُّ التهذيب في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} وهو ترداد النظر فيما يكتبه الكاتب، وينظمه الشاعر، فقد خلصت هذه الآية من الإيهام، ودلَّتْ على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئًا من المطاعن، بعيدًا عن الملاحن.

ومنها: زيادة لا النافية في قوله: {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} تأكيدًا للنفي المستفاد ممَّا قبلها؛ لأنَّ المعنى ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، بغير زيادة لا. اهـ."سمين". ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. المناسبة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه، لمَّا بيَّن حقيقة الوحي (¬1)، وردَّ كلام الكارهين له جملةً .. بَيَّنَ سرَّ نسخه، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنّه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثمَّ ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذٍ، فأطيعوا أمره، واتَّبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا. قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا نهى في الآيات السابقة عن الاستماع لنصح ¬

_ (¬1) المراغي.

اليهود، وعدم قبول آرائهم في شيء من أمور دينهم، ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهي أنَّ كثيرًا منهم يودون لو ترجعون كفارًا حسدًا لكم ولنبيّكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإِسلام، ويتمنون أن تحرموا منها. وقد كان لأهل الكتاب حيلٌ في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوَّل النهار، ويكفروا آخره كي يتأسَّى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين، ليشككوهم في دينهم. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها من حيث إنَّ هذه الآيات في بيان أباطيل أخر لأهل الكتاب وقبائحهم، حيث ادَّعى كلٌّ من الفريقين اليهود والنصارى أنَّ الجنّة خاصَّةٌ به، وطعن في دين الآخر، فأكذب الله الفريقين، وبيَّن أنّ الجنّة إنّما يفوز بها المؤمن التقيُّ الذي عمل الصالحات. واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية حالين من أحوال اليهود (¬1): أولاهما: تضليل من عداهم، وادعاؤهم أنَّ الحق لا يعدوهم، وأنّ النبوة مقصورةٌ عليهم. وثانيهما: تضليل اليهود للنصارى، وتضليل النصارى لهم، كذلك مع أنَّ كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمِّمٌ لكتاب اليهود. والعبرة من هذا القصص: أنَّهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء، لا يعتدُّ معها بقول أحد منهم، لا في نفسه، ولا في غيره، فطعنهم في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإعراضهم عن الإيمان به، لا يثبت دعواهم في أنّه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى، وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة، وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذٍ يعتدُّ برأيهم في محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ وهو من غير ¬

_ (¬1) المراغي.

شعبهم، وجاء بشريعةٍ نسخت شرائعهم. قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} سبحانه الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر افتراء اليهود والنصارى وقولهم: إنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودًا أو نصارى، وإنّها خاصة بهم .. أردف ذلك بذكر بعض قبائحهم، وقبائح المشركين في ادّعائهم: أنّ لله ولدًا، حيث زعمت اليهود: أنَّ عزيرًا ابن الله، وزعمت النصارى: أنّ المسيح ابن الله، وزعم المشركون: أنّ الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله وردَّ عليهم دعواهم الباطلة. أسباب النزول قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: (كان ربما ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي بالليل وينساه في النهار، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنْسَخْ} الآية). وروي أنَّ هذه الآيات نزلت حين قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرٍ، ثُمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول: اليوم قولا ويرجع عنه غدًا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللِّسان حيث قال: {فَآذُوهُمَا} ثُمَّ غيَّره وأمر بإمساكهن في البيوت، حيث قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} ثمَّ غيَّره بقوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فما هذا القرآن إلّا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضًا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين؛ ليضعِّفوا عزيمة من يريد الدخول فيه، وينضوي تحت لوائه. قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رفيع بن خزيمة، ووهب بن زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد! ائتنا بكتابٍ تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارًا نتَّبعك ونصدِّقك، فأنزل الله في ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

وما أخرجه ابن جرير، عن مجاهد قال: سألت قريشٌ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فقال: "نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم" فأبوا، ورجعوا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآية، سبب نزولها: أنّه كان حُييُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، من أشدّ اليهود حسدًا، للعرب، إذْ خصّهم الله تعالى برسوله، وكانوا جاهدين في رد الناس عن الإِسلام، فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد أنّه أخبره: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار، فقال لسعد: "ألم تسمع ما قال أبو الحباب" يريد عبد الله بن أبي؟ قال: "كذا وكذا"، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لمَّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رافع بن حرملة من اليهود: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى، وبالإنجيل، وقال: رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} الآية. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية، ما أخرجه ابن جرير، عن ابن زيد قال: نزلت هذه الآية في المشركين حين صدُّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن مكة يوم الحديبية، وأخرج ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ قريشًا منعوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله سبحانه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} الآية.

[106]

التفسير وأوجه القراءة 106 - ولمَّا حرَّم الله سبحانه وتعالى قولهم: {رَاعِنَا} بعد حلِّه، وكان ذلك من باب النسخ، قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} بغير عطف؛ لشدّة ارتباطه بما قبله. و {مَا} شرطية جازمة لننسخ، منتصبةٌ به على المفعولية؛ أي: أي شيء {نَنْسَخْ}! ومحلُّ قوله: {مِنْ آيَةٍ} النَّصب تمييزًا لما الشرطيَّة، والنسخ في اللُّغة: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر؛ أي: أزالته، ونسخت الشمس الظلَّ إذا أزالته، ونسخت الكتاب؛ أي: نقلته من نسخةٍ. واصطلاحًا: بيان انتهاء حكم التعبُّد بتلاوة الآية، وقراءتها، أو انتهاء التعبُّد بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعًا. فالأوَّل: أعني: نسخ التلاوة دون الحكم، كآية الرجم، كما روي أنَّ مما يتلى عليكم في كتاب الله (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتةَ) فهو منسوخ التلاوة دون الحكم، ومعنى النسخ في مثلها: انتهاء التكليف بقراءتها عند نسخ تلاوتها، وهذا القسم قليلٌ، وهو المراد بقوله: {أَوْ نُنْسِهَا}. والثاني: أعني: نسخ الحكم دون التلاوة، فكآية عدّة الوفاة بالحول، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نسخت بأربعة أشهر وعشرًا، المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} إلى غير ذلك من الأمثلة، كالآيات التي نسخت بآية السيف، وكمصابرة الواحد لعشرة في القتال، نسخت بمصابرة الواحد للاثنين، فهو منسوخ الحكم دون التلاوة، وهو المعروف الكثير من النسخ في القرآن، فتكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين في التلاوة، إلّا أنَّ المنسوخة لا يعمل بها، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بالحكم المستفاد منها عند نزول الآية المتأخِّرة عنها، وحسن بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ورفعه؛ ليبقى حصول الثواب بقراءتها، فإنّ القرآن كما يتلى لحفظ حكمه لتيسير العمل به، يتلى أيضًا؛ لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه.

والثالث: أعني: نسخ الحكم والتلاوة جميعًا، فكما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها قالت: (كان مما يتلى في كتاب الله {عَشْرُ رضعات يُحَرِّمْنَ} ثُمَّ نسخ بـ {ـخمسُ رضعاتٍ يُحرّمن}) فهو منسوخ الحكم والتلاوة جميعًا، ومعنى النسخ في مثلها: بيان انتهاء التكليف بقراءتها وبالحكم المستفاد منها عند نسخها. وهذان القسمان هما المذكوران بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فدخل تحت قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قسمان من أقسام النسخ، وهما: نسخ الحكم واللفظ معًا، أو الحكم فقط، وتحت قوله: {أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} قسمٌ واحد، وهو نسخ اللفظ دون الحكم. قال القرطبي: الجمهور على أنَّ النسخ إنّما هو مختصٌّ بالأوامر، والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ؛ لاستحالة الكذب على الله تعالى. والمعنى: أيَّ شيء من الآيات ننسخ ونرفع حكمها مع بقاء لفظها؟ كآية عدّة الوفاة بالحول بآية أربعة أشهر وعشرة أيام، أو ننسخ ونرفع لفظها وحكمها جميعًا، كنسخ عشر رضعات بخمس رضعات {أو ننسأها}؛ أي: نؤخِّر ونبق حكمها مع رفع تلاوتها، كآية الرجم؛ لأنّه إمّا من النَّسيء إنْ قرأنا بفتح النون والسين، أو من الإنساء إن قرأنا بضمّ النون وكسر السين، وكلاهما بمعنى التأخير، والمراد: تأخير حكمها وإبقاؤه مع نسخ تلاوتها، أو تأخيرها في اللوح المحفوظ عن الإنزال إلى وقتٍ أراد الله سبحانه إنزالها فيه، وفي "الروح" قوله: {أَوْ نُنْسِهَا}؛ أي: نذهبها عن قلوبكم، فإنساء الآية إذهابها من القلوب، كما روي إنَّ قومًا من الصحابة قاموا ليلةً ليقرؤوا سورةً، فلم يذكروا منها إلّا البسملة، فغدوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تلك سورةٌ رفعت بتلاوتها وأحكامها" {نَأْتِ}؛ أي: نرسل جبريل {بِخَيْرٍ} أي: بآيةٍ هي خيرٌ وأسهل على العباد؛ أي: من المنسوخة؛ أي: نرسله (¬1) بما هو أنفع لكم، وأسهل عليكم، وأكثر لأجوركم، وليس معناه: أنَّ آيةً خيرٌ من آية؛ لأنَّ كلام الله تعالى واحدٌ، وكلُّه ¬

_ (¬1) الخازن.

خيرٌ، فلا يتفاضل بعض الآيات على بعض في أنفسها من حيث إنّه كلام الله تعالى، ووحيه، وكتابه، بل التفاضل فيها إنّما هو بحَسَب ما يحصل منها للعباد، والخيريَّة: إمَّا في السُّهولة، كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة، بوجوب مصابرته لاثنين، أو في كثرة الأجر، كنسخ التخيير بين الصوم والفدية، بتعيين الصوم، فالأول من النسخ بالبدل الأخفِّ، والثاني من النسخ بالبدل الأثقل {أَوْ} نرسله بـ {مِثْلِهَا}؛ أي: بمثل المنسوخة في النفع، والثواب، والعمل، وذلك كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس، بوجوب استقبال الكعبة، فهما متساويان في الأجر. والمعنى: إنّ كُلَّ آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة، والمصلحة من إزالة لفظها، أو حكمها، أو كليهما معًا إلى بدلٍ، أو إلى غير بدل، كما في إنسائها، وإذهابها عن القلوب بالكلية، كما روي عن قومٍ من الصحابة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}؛ أي: نوح إليك غيرها مما هو خيرٌ للعباد، بحسب الحال من الذاهبة، أو ممَّا هو مثلها في النفع والثواب. فكلُّ ما نسخ إلى أيسر، فهو أسهل في العمل، وما نسخ إلى الأشقّ، فهو في الثواب أكثر، أمَّا الأول: فكنسخ الاعتداد بحولٍ، ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، وأمَّا الثاني: فكنسخ ترك القتال بإيجابه، وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخفَّ ولا أشقَّ، كنسخ التوجُّه إلى بيت المقدس، بالتوجه إلى الكعبة، وهذا الحكم غير مختصٍّ بنسخ الآية التامَّة فما فوقها، بل جارٍ فيما دونها أيضًا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب. واعلم: أنَّ الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوّزًا في الإسناد، بناءً على أنَّ النسخ يقع به، والمنسوخ هو الحكم المزال، والمنسوخ عنه: هو المُتعبِّدُ بالعبادةِ المُزالَةِ وهو المكلَّف، والحكمة (¬1) في النسخ: أنّ الطبيبَ المباشرَ لإصلاح البدن، يُغيِّر الأغذية، والأدوية، بحسب اختلاف الأمزجة، والأزمنة، كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس، يغيِّرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقيَّة التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير، والأغذية ¬

_ (¬1) روح البيان.

للأبدان، فإنَّ أغذية النفوس، وأدويتها: هي الأعمال الشرعية، والأخلاق المرضية، فيغيِّرها الشارع على حسب تغيُّر مصالحها، فكما أنَّ الشَّهْدَ يكون دواءً للبدن في وقتٍ، ثمّ قد يكون داءً في وقتٍ آخر، كذلك الأعمال قد تكون مصلحةً في وقت، ومفسدة في وقت آخر، وخلاصة (¬1) المعنى: ما نغير حكم آيةٍ، أو نُنْسِيْكَهُ، إلّا أتينا بما هو خيرٌ منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب، أو بمثله فيه. قال الأستاذ الإمام: والمعنى الصحيح الذي يَلْتَئِمُ مع السياق: أنَّ الآية هنا ما يؤيّد الله تعالى به الأنبياء، من الدلائل على نبوتهم؛ أي: ما ننسخ من آية نقيمها دليلًا على نبوّة نبيّ من الأنبياء؛ أي: نزيلها، ونترك تأييد نبيٍّ آخر بها، أو ننسها الناس؛ لطول العهد بمن جاء بها، فإنَّا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرّف في الملك؛ نأت بخير منها في قوّة الإقناع، وإثبات النبوة، أو بمثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته، وسعة ملكه، فلا يتقيَّدُ بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه. اهـ. وقد سبقه إلى مثله محيي الدين ابن العربي في "تفسيره". وقرأ الجمهور (¬2) {مَا نَنْسَخْ} من نسخ الثلاثي بمعنى: أزال. وقرأت طائفة، وابن عامر من السبعة {ما نُنسِخ} بضمّ النون الأولى من أنسخ الرباعي، وهو بمعنى: نسخ الثلاثي. وقرأ عُمر وابن عباس، والنخعيُّ، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، ومن السبعة ابن كثير، وأبو عمرو {أو نَنْسَأْهَا} بفتح نون المضارعة والسين، وسكون الهمزة. وقرأ طائفة كذلك، إلّا أنّه بغير همز، وذكر أبو عبيد البكريُّ في كتاب "اللَّالي" ذلك، عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وَهِمَ، وكذا قال ابن عطية، قال: وقرأ سعد بن أبي وقاص: {تَنْسَاها} بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز، وهي قراءة الحسن، وابن يعمر، وقرأت فرقة كذلك، إلّا أنهم همَّزوا. وقرأ أبو حيوة كذلك، إلّا أنّه ضمَّ التاء. وقرأ سعيدٌ كذلك، إلّا أنه بغير همز، وقرأ باقي السبعة {نُنْسِها} بضمّ النون وكسر السين من غير همزت، وقرأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[107]

فرقةٌ كذلك إلّا أنَّها همزت بعد السين. وقرأ الضحاك، وأبو رجاء بضمّ النون الأولى وفتح الثانية، وتشديد السين وبلا همزٍ. وقرأ أُبيٌّ: {أو نُنْسِكَ} بضمّ النون الأولى وسكون الثانية، وكسر السين من غير همز، وبكاف الخطاب بدل ضمير الغيبة، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك، إلّا أنّه جمع بين الضميرين، وهي قراءة أبي حذيفة. وقرأ الأعمش: {ما نُنْسِكَ مِنْ آيةٍ أو نُنْسِخْهَا نَجِىءْ بِمِثْلِها} وهكذا ثبت في مصحف عبد الله، فتحصَّل من هذه القراءات دون قراءة الأعمش إحدى عشرة قراءةً، فمعنى هذه اللفظة في الآية: نُؤخّر نسخها، أو نُزُولُها، قاله عطاء، وابن أبي نجيح، أو نمحها لفظًا، وحكمًا، قاله ابن زيد، أو نمضها فلا ننسخها، قاله أبو عبيدة، وهذا يضعِّفه قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}؛ لأنّ ما أمضى وأُقِرّ لا يقال فيه نأت بخير منها. ثمّ أقام الدليل على إمكان الننسخ، فقال: 107 - {أَلَمْ تَعْلَمْ} يا محمد! الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد (¬1) غيره من المؤمنين الذين ربّما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود، وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثِّر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الرُّكونِ إلى الشُّبهة، أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك؛ تثبيتًا لهم؛ وتقويةً لإيمانهم ببيان أنَّ القادر على كل شيء، لا يستنكر عليه نسخ الأحكام؛ لأنّها ممَّا تتناولها قدرته. والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: إنك تعلم يا محمد! {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فمنه النسخ والتبديل {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، فيقدر على النسخ، والإتيان بمثل المنسوخ، وبما هو خير منه. والمعنى (¬2): ألم تعلم يا محمد؟ أني قادر على تعويضك ممَّا نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خيرٌ لك، ولعبادي المؤمنين، وأنفع لك ولهم عاجلًا، أو آجلًا، وسبق لك آنفًا أنَّ الهمزة للاستفهام التقريري، والمعنى: أي: أَقرَّ واعترفْ يا محمد! بكون الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

قديرًا على كُلِّ شيء. وفي هذه الجملة تنبيهٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وغيره، على قدرته تعالى، وأنّه القادر المتصرِّف في شؤون الخلق، يحكم بما شاء، ويأمر بما شاء، وأنّه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار. ثُم أقام دليلًا آخر، فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ} يا محمد! الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: هو وأمّته، بدليل قوله: {وَمَا لَكُمْ} وإنّما أفرده هنا؛ لأنّه أعلمهم، ومبدأ علمهم ومأخذه. قال بعضهم: وإنّما (¬1) خصَّه - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب، مع أنَّ غيره داخلٌ في الخطاب أيضًا حقيقةً، بناءً على أنَّ المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب بما ذكر، ولا أحد من البشر أعلم بذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، إذ قد وقف من أسرار ملكوت السموات والأرض، على ما لا يطَّلع عليه غيره، وعِلْمُ غيره بالنسبة إلى علمه - صلى الله عليه وسلم -، مُلْحَقٌ بالعلم؛ لأنّ علم الأولياء من علم الأنبياء، بمنزلة قطرةٍ من سبعة أبحر، وعلم الأنبياء من علم نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه المنزلة، وعلم نبينا من علم الحقّ سبحانه بهذه المنزلة. انتهى. {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَهُ} لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما فيهما، وما بينهما، أي: سلطنتهما، فهو المتصرِّف فيهما دون غيره، يحكم فيهما، وفيما فيهما بما شاء من أمر، ونهي، ونسخ، وتبديل، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو كالدليل على قوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الملك: تمام القدرة واستحكامها، وتخصيص السموات والأرض بالذكر، وإن كان الله تعالى له ملك الدنيا والآخرة جميعًا؛ لكونهما أعظم المصنوعات المحسوسة، وأعجبها شأنًا. وهذا الخبر (¬2)، وإن كان خطابًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكن فيه تكذيبٌ لليهود الذين أنكروا النسخ، وجحدوا نبوّة عيسى، ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، فأخبرهم أنَّ الله سبحانه وتعالى، له ملك السموات والأرض، وأنَّ الخلق كُلَّهم عبيده، وتحت تصرُّفه، يحكم فيهم ما يشاء، وعليهم السمع والطاعة، فعلم أنَّ هذه الجملة، كالدليل على قوله: {أنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ}، كما مرَّ، أو على جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف {وَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

[108]

سبحانه، أي: سوى الله، وهو في حيِّز النصب على الحالية من الوليِّ؛ لأنّه في الأصل صفةٌ له، فلمّا قدِّم انتصب حالًا {مِن} زائدة للاستغراق {وَلِيٍّ}؛ أي: قريبٌ وصديقٌ يلي أمركم، وقيل: والٍ، وهو القيِّم بالأمور {وَلَا نَصِيرٍ}؛ أي: معينٌ ومانع ينصركم على أعدائكم؛ أي: ناصركم ومعينكم هو الله وحده، فلا تبالوا بمن ينكر النسخ، أو يعيِّبكم به، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذًى، والفَرْقُ بين الولي والنصير: أنَّ الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيًّا عن المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجهٍ، والمقصود: التسكين لقلوب المؤمنين، بأنَّ الله وليُّهم، وناصرهم دون غيره، فلا يجوز الاعتماد إلّا عليه ولا يصحُّ الالتجاء إلّا إليه. والمعنى: إن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة وهو العلم بـ {أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} والعلمُ بـ {أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والعلمُ بأنْ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} هو الجَزْمُ والإيقان، بأنّه تعالى لا يفعل بهم في أمرٍ من أمور دينهم، أو دنياهم إلّا ما هو خيرٌ لهم، والعمل بموجبه شيءٌ من الثقة والتوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه من غير إصغاءٍ إلى أقاويلِ الكفرة، وتشكيكاتهم التي هي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ. وقيل: المعنى: {وَمَا لَكُمْ} يا معشر اليهود والكفار! عند نزول العذاب {مِنْ دُونِ اللهِ}؛ أي: ممَّا سوى الله {مِنْ وَلِيٍّ}؛ أي: قريبٍ وصديقٍ يحميكم من عذاب الله، وقيل: والٍ يلي أمركم ويقوم به {وَلَا نَصِيرٍ}؛ أي: ولا ناصر يمنعكم من عذاب الله، وإنما هو الذي يملك أموركم، ويجريها على ما يصلح لكم، وفي هذا تحذيرٌ من عذاب الله، إذ لا مانع منه. ولمَّا قالت اليهود: يا محمد! ائتنا بكتابٍ من السماء جملةً، كما أتى موسى بالتوراة، نزل قوله تعالى: 108 - {أَمْ تُرِيدُونَ} وأمْ هنا (¬1) منقطعةٌ تقدَّر ببل والهمزة، ويكون إضراب انتقال من قصّةٍ إلى أخرى، لا إضراب إبطالٍ، ¬

_ (¬1) العمدة.

والخطاب لليهود؛ أي: بل أتريدون يا معشر اليهود! الذين كانوا في عهد محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ}؛ أي: الرسول الذي جاءكم؛ أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه رسول الخلق أجمعين، أن يأتيكم بكتاب من السماء جملةً {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} عليه السلام؛ أي: سأله أسلافكم وآباؤكم رؤية الربِّ، وسماع كلامه، وغير ذلك حيث قالوا: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتضلُّوا كما ضلُّوا؛ وذلك لأنَّ السؤال بعد قيام البراهين كفرٌ. وقيل (¬1): أم في قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} معادِلةٌ للهمزة في {أَلَمْ تَعْلَمْ} والخطاب للمؤمنين؛ أي: ألم تَعْلَموا؟ أيها المؤمنون! أنّه سبحانه مالك الأمور، وقادرٌ على الأشياء كلِّها، يأمر وينهى كما أراد، أم تعلمون، وتقترحون بالسؤال، كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام، والمراد: توصية المؤمنين بالثقة به، وترك الاقتراح عليه، وهو المفاجأة بالسؤال من غير رويَّةٍ وفكرٍ {أَنْ تَسْأَلُوا} وأنتم مؤمنون {رَسُولَكُمْ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وهو في تلك المرتبة من علوِّ الشأن، وتقترحوا عليه ما تشتهون، غير واثقين بأموركم بفضل الله تعالى، حسبما يوجبه قضيّةُ علمكم بشؤونه تعالى. قيل: لعلَّهم كانوا يطلبون منه - صلى الله عليه وسلم -، تفاصيل الحِكَمِ الداعية إلى النسخ {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} مصدر تشبيهيٌّ! أي: نعت لمصدر مؤكّد محذوف، وما مصدرية؛ أي: تسألون رسولكم سؤالًا مشبهًا لله سؤال موسى عليه السلام، حيث قيل له: اجعل لنا إلهًا، وأرنا الله جهرةً، وغير ذلك. وقرىء (سِيْلَ بالياء) {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - متعلق بسئل؛ جيء به للتأكيد {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ}؛ أي: من يختر الكفر لنفسه، ويأخذه، {بِالْإِيمَانِ}؛ أي: بدل الإيمان؛ أي: أخذه في مقابلة الإيمان بدلًا عنه؛ أي: ومن يختر الكفر على الإيمان، ويأخذه لنفسه بدل الإيمان. وحاصله: من يترك الثقة بالآيات البينة المنزَّلة، بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خيرٌ محضٌ، وحقٌّ بحتٌ، واقترح غيرها {فَقَدْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[109]

ضَلَّ}؛ أي: عدل وجار من حيث لا يدري {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تنبيه الهوى، وتردَّى في مهاوي الردى. ومعنى {سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: قصد الطريق السويّ، ووسطه الذي هو بين الغلوّ والتقصير وهو الحق، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: قد أخطأ الطريق المستوي؛ أي: المعتدل الحقَّ. وقرىء {يُبْدِلْ} من أبدل الرباعيِّ. وقد قرئ {فَقَدْ ضَلَّ} بالإدغام، وبالإظهار في السبعة، والمعنى: ومن ترك الثقة بالآيات البينات المنزَّلة، وشكّ فيها، واقترح غيرها، فقد ضَلَّ الطريق المستوي حتى وقع في الكفر بعد الإيمان، وحاصل معنى الآية: لا تقترحوا فتضِلُّوا وسط السبيل وقصده، ويؤدِّي بكم إلى البعد عن المقصد، وتبديل الكفر بالإيمان. وأكثر المفسرين (¬1): على أنَّ سبب نزول الآية اليهود حين قالوا: يا محمد! ائتنا بكتاب من عند الله جملةً، كما جاء موسى بالتوارة جملةً، فنزلت هذه الآية كما قال في آية أخرى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {جَهْرَةً} فالمخاطبون بقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} هم اليهود، وإضافة الرسول إليهم في قوله: {رَسُولَكُمْ} باعتبار أنّهم من أمة الدعوة، ومعنى تبدُّل الكفر بالإيمان، ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك، وإيثارهم للكفر عليه. قال الإِمام: وهذا القول أصحُّ؛ لأنَّ الآية مدنيَّةٌ؛ ولأنّ هذه السورة من أوّل قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} حكايةٌ عنهم، ومحاجَّةٌ معهم، وفي الآية إشارة إلى حفظ الآداب، فمن لم يتأدَّب بين يدي مولاه، ورسوله، وخلفائه، فقد تعرَّض للكفر، وحقيقة الأدب: اجتماع خصال الخير، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حقُّ الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن مرضعه، ويحسن أدبه، فإنّه مسؤولٌ عنه يوم القيامة، ومؤاخذٌ بالتقصير فيه". وسئل ابن سيرين: أيُّ الأدب أقرب إلى الله؟ فقال: معرفة ربوبيته، والعمل بطاعته، والحمد على السراء، والصبر على الضرّاء. انتهى كلامه. 109 - {وَدَّ} أي: تمنَّى وأحبَّ {كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

أي: من أحبار اليهود، ككعب بن الأشرف، وحيّي بن أخطب {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ}؛ أي: أن يردّوكم أيها المؤمنون، فإنّ {لَوْ} من حروف المصادر، إذا جاء بعد فعلٍ يفهم منه معنى التمني، كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}؛ أي: ودّوا أن يصرفوكم عن التوحيد والإِسلام {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ} يا معشر المؤمنين! بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن {كُفَّارًا}؛ أي: مرتدّين، حال من ضمير المخاطبين في {يَرُدُّونَكُمْ} ويحتمل أن يكون مفعولًا ثانيًا ليردُّونكم على تضمينه معنى يصيِّرونكم، وقوله: {حَسَدًا} علةٌ، لقوله: {وَدَّ} كأنَّه قيل: ودَّ كثير منهم ذلك من أصل الحسد، وقوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يتعلَّق بودَّ على معنى: أنّهم تمنَّوا ارتدادكم من عند أنفسهم، وقِبَلِ شهوتهم وأهوائهم، لا من قِبَل التديُّنِ، والميل مع الحق، ولو على زعمهم؛ لأنّهم ودُّوا ذلك، فكيف يكون تمنّيهم من قبل الحق؟ ويجوز أن يتعلَّق بحسدًا؛ أي: حسدًا منبعثًا من أصل نفوسهم، بالغًا أقصى مراتبه، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} وظهر {لَهُمُ الْحَقُّ} وعلموا في كتابهم التوارة، أنَّ ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ودينه، ونعته، وصفته، هو الحقُّ لا يشكُّون فيه، فكفروا به حسدًا وبغيًا، متعلِّقٌ بقوله: {وَدَّ}؛ أي: ودُّوا ذلك بعد ظهور الحق عندهم، وأولئك الكثير هم رهطٌ من أحبار اليهود. روي أنَّ فنحاص بن عازوراء، وزيد بن قيس، ونفرًا من اليهود، قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمّار بن ياسر - رضي الله عنهما - بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلًا، فقال عمَّارٌ: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديدٌ، قال: فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، فقالت اليهود: أمَّا عمَّارٌ فقد صبأ؛ أي: خرج عن ديننا بحيث لا يرجى منه الرجوع إليه أبدًا، فكيف أنت حذيفة؟ ألا تبايعنا؟ قال حذيفة: رضيت بالله ربًّا، وبمحمد نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، فقالوا: وإله موسى، لقد أشرب في قلوبكما حبُّ محمد، ثُمَّ أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبراه، فقال: أصبتما خيرًا، وأفلحتما، والمعنى أحبَّ وأراد كثيرٌ منهم ردَّكم عن دينكم من بعد إيمانكم، حالة كونكم كفارًا مرْتدين، من بعد ما ظهر لهم الحقُّ من

أصل حسدهم إيّاكم حسدًا ناشئًا من قبل أنفسهم، وأهوائهم، لا بأمر الله إيّاهم بذلك، وأصل (¬1) الحسد: تمنِّي زوال النعمة عمَّن يستحقُّها، ربّما يكون مع ذلك سعيٌ في إزالتها، والحسد مذمومٌ من الكبائر؛ لما رُوِي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والحسد، فإنّ الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب" أخرجه أبو داود، فإذا أنعم الله على عبده نعمةً فتمنَّى آخر زوالها عنه، فهذا هو الحسد، وهو حرامٌ، فإن استعان بتلك النعمة على الكفر والمعاصي، فتمنَّى آخر زوالها عنه فليس بحسدٍ، ولا يحرم ذلك؛ لأنّه لم يحسده على تلك النعمة من حيث إنّها نعمةٌ، بل من حيث إنّه يتوصَّل بتلك النعمة إلى الشرِّ والفساد. {فَاعْفُوا} واسمحوا عنهم أيها المؤمنون! إساءتهم، أي: اتركوهم، فلا تؤاخذوهم بهذه المقالة بالانتقام الفعلي، كالقتل والضرب {وَاصْفَحُوا}؛ أي: أعرضوا عنهم، فلا تلوموهم على أخلاقهم، وكلامهم السيء، ولا تقابلوهم بالانتقام القولي؛ أي: فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عمّا يكون منهم من الجهل، والعداوة. وأصل (¬2) العفو: ترك عقوبة المذنب، يقال: عفت الريح المنزل درسته، وعفا المنزل يعفو درس، ويتعدّى، ولا يتعدّى، ومن ترك المذنب، فكأنّه درس ذنبه من حيث إنّه ترك المكافأة والمجازاة، وذلك لا يستلزم الصفح، ولذا قال تعالى: {وَاصْفَحُوا} فإنّه قد يعفو الإنسان ولا يصفح. والصفح: ترك التقريع باللسان والاستقصاء، يقال: صفحت عن فلانٍ، إذ أعْرضْتَ عن ذنبه بالكلية، وقد ضربت عنه وتركته، وليس المراد بالعفو والصفح المأمور بهما: الرضى بما فعلوا؛ لأنّ ذلك كفرٌ، والله تعالى لا يأمر به، بل المراد بهما: ترك المقاتلة والإعراض عن الجواب عن مساوي كلامهم. انتهى من "الروح". والفرق بين العفو والصفح: أنّ العفو: ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[110]

تقريعه ولومه بالكلام، فبينهما مغايرة، كذا ذكره البيضاوي، وفي "الصاوي": أنّهما متحدان، ومعناهما: عدم المؤاخذة، ولم يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، مع أنّهم ناقضون للعهد بتلك المقالة؛ لأنَّ الواقعة كانت بعد غزوة أحد، فكان الإذن في القتال حاصلًا، فالجواب: أنَّ القتال المأذون فيه كان للمشركين، وأمَّا أهل الكتاب، فلم يؤمروا بقتالهم إلّا في غزوة الأحزاب، قيل: قبلها، وقيل: بعدها، فقتَلَ بني قريظة، وأجلَى بني النضير، وغزا خيبر. وقال ابن كثير (¬1): عن ابن عباس قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} منسوخٌ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وبقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة والسدي: إنّها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {بِأَمْرِهِ} فيهم؛ أي: فاعفوا واصفحوا عنهم حتى يبيِّن الله سبحانه حكمه فيهم؛ أي: بقتل قريظة، وسبيهم، وإجلاء بني النضير، وإذلالهم، بضرب الجزية عليهم، أو بإذنه في القتال. والمعنى (¬2): حتى يحكم الله بحكمه الذي هو الإذن في قتالهم، وضرب الجزية عليهم، أو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير. روي أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بأنفسهم، ودعوا المسلمين إلى الكفر، فنزلت الآية بترك القتال، والإعراض عن المكافأة إلى أن يجيء الإذن من الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ} فهو يقدر على الانتقام منهم بالقتل والإجلاء، وينتقم منهم إذا جاء أوانه، ففيه وعيدٌ وتهديدٌ لهم. والمعنى: أنّه تعالى قويٌّ قادرٌ على كل شيء، إن شاء انتقم منهم، وإن شاء هداهم. له الخلق والأمر. ولمَّا أمر الله سبحانه وتعالى، المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود، أمرهم بما فيه صلاحُ أنفسهم من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، الواجبتين، فقال: 110 - {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) روح البيان.

أي: أدُّوا الصلاة المفروضة عليكم بشروطها وأركانها، وادفعوا زكاة أموالكم عن طيب نفسٍ منكم إلى مصارفها، فهو معطوف على قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} كأنّه أمرهم بالصبر والمخالفة، واللجوء إلى الله تعالى بالعبادة والبرِّ، فالمراد: الأمر بملازمة طاعة الله تعالى من الفرائض، والواجبات، والتطوّعات، بقرينة قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا} و {مَا} شرطية؛ أي: أيَّ شيء تفعلوه، وتسلفوه (لـ) مصلحة {أنفسكم من خير}؛ أي: عملٍ صالحٍ، كصلاة، وصدقة، وصيام، لمصلحة أنفسكم {تَجِدُوُه}؛ أي: تجدوا ثوابه وجزاءه لا عينه؛ لأنَّ عين تلك الأعمال لا تبقى؛ ولأنَّ وجدان عينها لا يرغب فيه؛ أي: تجدوه مدَّخرًا لكم {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، محفوظًا عنده في الآخرة، فتجدوا التمرة واللُّقمة فيها مثل أُحُدٍ، فالخير المذكور في الآية يتناول (¬1) أعمال البر كُلَّها، إلّا أنّه تعالى خصَّ من بينها إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، بالذكر؛ تنبيهًا على عظم شأنهما، وعلوِّ قدرهما عند الله تعالى، فإنَّ الصلاة قربةٌ بدنيةٌ، ليكون عمل كل عضوٍ شكرًا لما أنعم الله عليه في ذلك، والزكاة قربةٌ مالية، ليكون شكرًا للأغنياء الذين فضَّلهم الله في الدنيا بالاستمتاع بلذيذ العيش؛ بسبب سعتهم في صنوف الأموال. وقرىء {تُقْدِمُوا} من أقدم الرباعي. ذكره البيضاوي، ولفظ التقديم في قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} إشارةٌ إلى أنَّ المقصود الأصليَّ، والحكمة الكلية في جميع ما أنعم الله تعالى به على المكلفين في الدنيا، أن يقدّموه إلى معادهم، ويدَّخروه ليومهم الآجل، كما جاء في الحديث: "إنّ العبد إذا مات قال الناس: ما خلَّف، وقالت الملائكة ما قدَّم" وما أحسن قول بعضهم: سَابِقْ إلى الخيرِ وبَادِر به ... فإنَّما خَلْفَكَ ما تَعْلَمُ وقدِّمَ الخَيْرَ فكُلُّ امرئٍ ... عَلَى الَّذي قدَّمَهُ يَقْدُمُ {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخيرات، وما تنفقون من الصدقات {بَصِيرٌ}؛ أي: عليم بنياتكم، لا يخفى عليه شيء من قليل الأعمال ¬

_ (¬1) روح البيان.

وكثيرها، ولا يضيع عنده عمل عامل، ففيه ترغيبٌ في الطاعات، وأعمال البرّ، وزجرٌ عن المعاصي؛ أي: فالعمل المذكور في الآية، غير مقيَّد بالخير، أو الشرِّ، فهو عام شامل للترغيب والترهيب، فالترغيب من حيث إنّه يدلُّ على أنّه تعالى يجازي على القليل من الخير، كما يجازي على الكثير منه، والترهيب من حيث إنّه يجازي على القليل من الشرّ والكثير منه أيضًا، فلا يضيع عنده عمل عامل خيرًا أو شرًّا. وقرىء {يعملون} بالياء، فيكون وعيدًا. ذكره البيضاوي. وعن عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه مرَّ ببقيع الغرقد، فقال: (السلام عليكم أهل القبور أخبار ما عندنا، إنَّ نساءكم قد تزوَّجْنَ، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتفٌ: يا ابن الخطاب! أخبار ما عندنا: إنّ ما قدَّمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلَّفناه فقد خسرناه). ولقد أحسن هذا القائل: قَدِّم لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِك صَالِحًا ... واعْمَلْ فَلَيْس إلَى الخُلُودِ سَبِيلُ ومن مواعظ عليّ - كرّم الله وجهه - أنّه كان إذا دخل المقبرة قال: (السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحالِّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، ثُمَّ قال: أمّا المنازل فقد سكنت، وأمّا الأموال فقد قسمت، وأمّا الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم، والذي نفسي بيده، لو أنَّ لهم في الكلام لقالوا: إنّ خير الزاد التقوى) وفي الحديث الصحيح "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له" والأوّل يشمل بناء المساجد، ومعاهد العلم، والمستشفيات، والملاجىء، والأَحْبَاسَ على المُعْوزِينَ والمحتاجين، والثاني: يَنْضَوِي تحته ما يُخْلِفهُ الإنسان من تصنيف علمٍ، أو تَعليمٍ للعلوم الدينية، وما يحتاج إليه في تعلُّمِها، كالنحو، والصرف، وما كان آلة لها، وقيَّد الولد بكونه صالحًا؛ لأنّ الأجر لا يحصل من غيره، وأمّا الوزر، فلا يلحق الأب سيئة ابنه إذا كانت نيّته في تحصيله الخَيْرَ، وإنما ذكر الدعاء له؛ تحريضًا للولد على الدعاء لأبيه، لا لأنَه قيدٌ؛ لأنَّ الأجر يحصل للوالد بولدهِ الصالح كُلَّما عمل عملًا صالحًا، سواء

[111]

دعا لأبيه، أم لا، كمن غرس شجرة يحصل له مِن أَكْلِ ثمرتها ثوابٌ، سواء دعا له مَنْ أَكَلَها، أم لم يدع، وكذلك الأُمُّ. 111 - {وَقَالُوا} معطوف (¬1) على {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وتقدّم لك في الأسباب: أنَّ هذه المحاورة وقعت بين يهود المدينة ونصارى نجران، حينما اجتمعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} لم يقل كانوا؛ حملًا للاسم على لفظ من، وجمع الخبر؛ حملًا على معناه، واليهود: جمع هائدٍ، اسم فاعل من هاد إذا تاب، نظير قوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} وكأنَّه في الأصل: اسم مدح لمن تاب من عبادة العجل، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازمًا لجماعتهم، كالعَلَم لهم، والنصارى: جمع نصران كسكران، والمعنى: أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، ولا دين إلّا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيًّا، ولا دين إلّا دين النصرانية، و {أَوْ} هنا للتفصيل. وقدّمت اليهود على النصارى (¬2)؛ لفظًا لتقدّمهم زمانًا {تِلْكَ} المقالة الباطلة وهي: أنّ الجنة لا يدخلها إلّا من كان هودًا أو نصارى. {أَمَانِيُّهُمْ}؛ أي: متمنِّياتهم الكاذبة التي تمنّوها من الله من غير حجة ولا برهان، وشهواتهم الباطلة التي لا أصل لها، وخيالاتهم العاطلة التي لا وجود لها، والأمانيُّ: جمع أمنيَّةٍ أفعولةٌ من التَّمنِّي وهي: ما يتمنَّى، كالأضحوكة، والأعجوبة، والتَّمنِّي: التشهِّي، والعرب تُسمِّي الكلام العاري عن الحجة تمنِّيًا، وغرورًا، وضلالًا، وأحلامًا مجازًا، وجمع (¬3) الأمانيّ باعتبار صدورها عن الجميع من اليهود والنصارى، وعبارة "الصاوي" هنا: وإنّما جمع الخبر مع كون المبتدأ مفردًا؛ لأنّه في المعنى جمعٌ؛ لأنّه عائد على القولة، وهي بمعنى: المقالات باعتبار القائلين. اهـ. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) كرخي. (¬3) روح البيان.

[112]

ثُمّ أومأ الله سبحانه إلى بطلان مقالاتهم بقوله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ} يا محمد! لهؤلاء الحَمْقى المتقاولين {هَاتُوا}؛ أي: أحضروا، وقرِّبوا، وهو أمرٌ تعجّبيٌّ {بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة، ولم يقل براهينكم؛ لأنَّ الدعوى كانت واحدة وهي: نفي دخول غيرهم الجنّة، والحجة على تلك الدعوى واحدة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في مقالتكم هذه، فإنَّ كُلَّ قولٍ لا دليل عليه غير ثابت. 112 - {بَلَى} إثباتٌ لما نفوه من دخول غيرهم الجنة؛ لأنَّ بلى لإثبات النفي؛ أي: يدخلها غيركم، وعبارة "الروح": اعلم أنَّ قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ...} إلخ. مشتملٌ على إيجاب ونفي، أمّا الإيجاب: فهو أن يدخل الجنّة اليهود والنصارى، وأمّا النفي: فهو أن لا يدخل الجنة غيرهم، فقوله: {بَلَى} إثبات لما نفوه في كلامهم، فكأنّهم قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، فأجيبوا بقوله: بلى يدخل الجنة غيركم، وليس الأمر كما تزعمون {مَنْ أَسْلَمَ} وبذل {وَجْهَهُ}؛ أي: نفسه (لـ) ـطاعة {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، وأخلص إيمانه لا يشرك به شيئًا، وانقاد لأمره، وأخلص عبادته من شوائب الرياء والسمعة، فإنَّ إسلام (¬1) شيءٍ لشي جعله سالمًا بأن لا يكون لأحد حقٌّ فيه، لا من حيث التخليق والمالكية، ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم، عبَّر عنها بالوجه؛ لكونه أشرف الأعضاء من حيث إنَّه معدن الحواس، والفكر، والتخيُّل، فهو مجاز من باب ذكر الجزء، وإرادة الكل، ومنهم قولهم: كرَّم الله وجهك، ويحتمل أن يكون إخلاص الوجه كنايةً عن إخلاص الذات؛ لأنَّ من جاد بوجهه لا يبخل بشيء من جوارحه، ويكون الوجه بمعنى العضو المخصوص، وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} حالٌ من ضمير {أَسْلَمَ}؛ أي: وهو مع إخلاصه وتسليم النفس إلى الله بالكلية بالخضوع والانقياد، محسنٌ في جميع أعماله، بأن يعملها على وجهةٍ يستصوبها، فإنَّ إخلاصها لله لا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع، وحقيقة الإحسان: الإتيان بالعمل على الوجه اللائق، وهو حسنه الوصفيُّ التابع لحسنه الذاتيِّ، وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أن تعبد الله كأنّك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا ¬

_ (¬1) روح البيان.

المعنى حقيقة الإيمان، وظاهره الإحسان، وأمَّا باطنه، فمرتبةُ، كنتُ سمعه وبصره؛ أي: بلى يدخل الجنة غيركم؛ لأنّه من أَسْلمَ وَجْهَه لله سبحانه، وهو محسن؛ أي: موحِّد مصدِّق بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {فَلَهُ أَجْرُهُ} جواب {مَنْ} الشرطية؛ أي: فلذلك المسلم المحسن ثوابه، وأجره على انقياده الظاهريِّ، وتصديقه الباطنيِّ: أي: ثوابه الذي وعد له على عمله، وهو عبارةٌ عن دخول الجنّة، وتصويره (¬1) بصورة الأجر؛ للإيذان بقوّة ارتباطه بالعمل، واستحالة نيله بدونه حال كون ذلك الأجر ثابتًا مدَّخرًا له {عِنْدَ رَبِّهِ} ومالك أمره، ومدبِّر شؤونه، ومبلِّغه إلى كماله، لا يضيع ولا ينقص؛ والعندية للتشريف، والجملة جواب {مَنْ} الشرطية، كما مرّ آنفًا إن كانت شرطيّة، وخبرها إن كانت موصولة، والفاء حينئذٍ؛ لتضمن معنى الشرط، وعبارة "الخازن" هنا: وإنّما خصَّ الوجه بالذكر؛ لأنّه أشرف الأعضاء، وإذا جاد الإنسان بوضع وجهه على الأرض في السجود، فقد جاد بجميع أعضائه، قال عمرو بن نفيل: وأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأرضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا وأسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلاَلاَ يعني بذلك: استسلمت لطاعته الأرض والمزن {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة بالخلود في النار، أمَّا في الدنيا، فالمؤمنون أشدُّ خوفًا وحزنًا من غيرهم من أجل خوفهم من العاقبة، فإنَّهم يخافون من أن يصيبهم الشدائد، والأهوال العظام قُدَّامَهَم، ويحزنون على ما فاتهم من الأعمال، والطاعات، المؤدِّية إلى الفوز بأنواع السعادات، فإنَّ المؤمن، كما لا يقنط من رحمة الله، لا يأمن من غضبه وعقابه، كما قيل: لا يجتمع خوفان ولا أمنان، فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر، وتفويت الثواب، فإنَّ الخوف إنّما يكون مما يتوقَّع في المستقبل، كما أنَّ الحزن على ما وقع سابقًا، ومن أَمِنَ في الدنيا خاف في الآخرة ... وجمع الضمير هنا؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[113]

اعتبارًا لمعنًى مِن {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا في الدنيا، والمعنى: أي: إنّ (¬1) الذين أسلموا وجوههم لله، وأحسنوا العمل، لا تُساوِرُ نفوسَهم مخاوفُ، ولا أحزانٌ، كما تختلج صدور الذين أشرب قلوبهم حبُّ الوثنية، وأعرضوا عن الهداية، إذ من طبيعة المؤمن أنّه إذا أصابه مكروهٌ بحث عن سببه، واجتهد في تلاوته، فإن لم يمكنه دفعه، فوَّض أمره إلى ربه، ولم يضطرب، ولم تهن له عزيمةٌ، علمًا منه بأنَّه قد ركن إلى القوة القادرة على دفع كُلِّ مكروه. وتوكَّل على من بيده دفع كُلِّ محظور. أمَّا عابدوا الأوثان والأصنام، فهم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، داخلهم الهلع، ولم يستطيعوا صبرًا على البأساء، وهم يَسْتَخْذُون للدجَّالين، والمُشَعْوِذين، ويعتقدون سَلْطَنةً غيبيَّة لكل من يعمل عملًا لا يهتدون إلى معرفة سببه. والآية (¬2) ترشد إلى أنَّ الإيمان الخالص لا يكفي وحده للنجاة، بل لا بدّ أن يقرن بإحسان العمل، وقد جَرَتْ سنة القرآن، إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات، كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ثُمَّ ذكر مقال كلٍّ من الفريقين في الآخرة بقوله: 113 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ ...} إلخ. بيان لتضليل كل فريق من اليهود والنصارى صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كُلَّ من عداه على وجه العموم؛ أي: وقالت اليهود {لَيْسَتِ النَّصَارَى} في دينهم {عَلَى شَيْءٍ}؛ أي: على أمر يصحُّ، ويعتدُّ به عند الله؛ أي: ليسوا على صواب، فكفروا بعيسى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} في دينهم {عَلَى شَيْءٍ}؛ أي: على أمر يصحُّ، ويعتدُّ به عند الله تعالى، أي: ليسوا على صواب، فكفروا بموسى، وهذه المقالة منهما أصدق مقالةٍ قالتها اليهود والنصارى، وجملة قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الْكِتَابَ} حال من فاعل قالوا؛ أي: قال كُلٌّ (¬1) من الفريقين ما قالوا، والحال أن كُلًّا من الفريقين يقرؤون الكتاب المنزَّل عليهم من التوراة والإنجيل، ويقولون: ما ليس فيه، فكان حقُّ كُلِّ فريق منهم أن يعترف بحقيقة دين صاحبه حسبما ينطق كتابه، فإنّ كتب الله تعالى متصادقةٌ، واللام في {الْكِتَابَ} للجنس؛ أي: قالوا ذلك، وهم من أهل العلم والكتاب، والتلاوة للكتب، فحقُّ من تلا كتابًا من كتب الله تعالى، وآمن به، أن لا يكفر بالباقي؛ لأنّ كل واحد من كتب الله يصدّق ما عداه، وليس في كتابهم هذا الاختلاف، فدلَّت تلاوتهم الكتاب، ومخالفتهم لما فيه على كفرهم، وكونهم على الباطل {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى بعينه، لا قولًا مغايرًا له، أي: مثل ذلك القول الذي سمعته من هؤلاء الضالَّة، على أنَّ الكاف في موضع النصب على أنّه مفعول، قال: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} كتاب الله، من عبدة الأصنام، والمعطِّلة، ونحوهم من الجهلة؛ أي: قال المشركون من العرب، وغيرهم {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}؛ أي: مثل قول اليهود والنصارى، فهذا تأكيدٌ وبيانٌ لمعنى {كَذَلِكَ} أي: قالت الجهلة الذين لا علم عندهم، ولا كتاب، من عبدة الأوثان، والمعطِّلة، مثل قول اليهود والنصارى؛ أي: قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء ودينٍ صحيحٍ؛ أي: قالوا ليست اليهود ولا النصارى على شيء، ولا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - على شيء، بل كلُّهم على أباطيل مفترياتٍ، فالغرض من ذلك تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وقع من المشركين، فإنَّ اليهود والنصارى كفروا وضلُّوا مع علمهم بالحق، فكيف بمن لا علم عنده؟! فلا تَسْتَغْرِبْ ذلك منهم، وقوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} بدلٌ من محل الكاف في {كَذَلِكَ} وفيه توبيخٌ عظيمٌ، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلًا. {فَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَحْكُمُ} ويَفْصِلُ، ويقضى {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين هؤلاء الفرق الثلاثة، وغيرهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: يوم الجزاء، سُمِّي يوم القيامة؛ لأنّه يوم يقوم الناس فيه لربّ العالمين {فِيمَا كَانُوا فِيهِ} متعلِّقٌ بيختلفون، قدم عليه؛ للمحافظة على رؤوس الآي؛ أي: يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[114]

{يَخْتَلِفُونَ} فيه من أمر الدين، فيقسم لكل فريق منهم من العقاب ما يستحقُّه، ويليق به. وقال الحسن؛ أي: فالله يكذبهم جميعًا، ويدخلهم النار. وقيل (¬1): معنى {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين الفرق المذكورة اليهود، والنصارى، ومشركي العرب، ومن أسلم وجهه لله وهو محسن، فيُدْخِل المحقَّ الجنة، والمبطل النار، وهذا المعنى الذي يقتضيه السياق؛ أي: فهو العليم بما عليه كُلُّ فريق من حقٍّ وباطل، فَيُحِقّ الحقَّ، ويجعل أهله في النعيم، ويبطل الباطل، ويُلْقيَ أهلَه في سواء الجحيم. وفِعْلُ الحُكْم يتعدَّى بجارّين، الباء، وفي، كما يقال: حكم الحاكم في هذه القضية بكذا، وفي الآية قد ذكر المحكوم فيه دون المحكوم به. واعلم أنَّ كُلَّ حزب بما لديهم فرحون، وليس ذلك في الفرق الضالة خاصَّةً. 114 - {وَمَنْ أَظْلَمُ} {مَنْ} للاستفهام الإنكاري المضَمَّن للنفي، مبتدأ، و {أظلم} خبره، أي: وأيُّ امرئٍ أشدُّ ظلمًا وتعدِّيًا على الله تعالى {مِمَّنْ مَنَعَ}؛ أي: من امرئٍ منع {مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}؟ والمراد بالمساجد: بيت المقدس، والمسجد الحرام، على الخلاف في سبب النزول، كما سيأتي، وصيغة الجمع؛ لكون حكم الآية عامًّا لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجد كان، كما تقول: لمن آذى صالحًا واحدًا، ومن أظلم ممَّن آذى الصالحين؛ لأنّه لا عبرة بخصوص السبب، كما هو القاعدة في الأسباب، وقوله: {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ثاني مفعولَي مَنَع، فإنَّه يقتضي ممنوعًا وممنوعًا عنه، فتارةً يتعدى إليهما بنفسه، كما في قَوْلِك: مَنَعْتُه الأمر، وتارة يتعدى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرّ، وهو كلمة عن، أو من مذكورةً كانت كما في قولك: منعته من الأمر، أو محذوفةً، كما في الآية؛ أي: من أن يسبَّح ويقدَّس ويصلَّى له فيها {وَسَعَى}؛ أي: عمل واجتهد {فِي خَرَابِهَا} بالهدم، والخراب: اسم مصدرٍ للتخريب، كالسلام للتسليم، وأصله: الثَّلْمُ والتفريقُ؛ أي: لا أحد من المانعين عن الخيرات أشدُّ ظلمًا وتعديًا على الله سبحانه ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، ¬

_ (¬1) الصاوي.

بالصلاة، والتسبيح، والأذان، ومدارسة العلوم الدينية، وتدريسها من التفسير، والحديث، والفقه، والتوحيد، وما يحتاج إليه فيها من علوم القواعد العربية، كالنحو، والصرف، والبلاغة، فهذا المانع أشدُّ ظلمًا، وأقبح جرمًا، لما فيه من الجراءة على الله، وقطع دينه، ومعاداته، فإنَّ الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات؛ أي: لا أحد أظلم ممن منع الناس أن يعبدوا الله تعالى في المساجد، بالصلاة، والأذكار، وغيرها، بغلقها، وتعطيلها عن العبادة، ومنع الوصول إليها، كما فعل المشركون حين صدُّوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية عن البيت عام ستٍّ من الهجرة {وَسَعَى}؛ أي: عمل واجتهد {فِي خَرَابِهَا} أي: في أسباب تخريبها بالهدم، وإلقاء الجيف، والقاذورات فيها، قال قتادة: أولئك أعداء الله النصارى خرَّبوا بيت المقدس. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن فَلَيْطَيُوسَ الرُّوميّ مَلِكَ النصارى، وأصحابه غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسَبَوْا ذرارِيَّهم، وأحرقوا التوراة، وخرَّبوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، ولم يزل خرابًا حتى بناه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) وذلك لمَّا استولى عُمر رضي الله عنه على ولاية كِسرى، وغنم أموالَهم، عَمَّر بها بَيْتَ المقدس، ثم صار في أيدي النصارى من الإفرنج أكثر من مائة سنة، حتى فتحه، واستخلصه من أيديهم، الملك الناصر صلاح الدين من آل أيوب، سنة خمسمائة وخمس وثمانين بعد الهجرة. وقيل: نزلت الآية في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله عن الدعاء إلى الله تعالى بمكة، وألجؤوه إلى الهجرة، فصاروا بذلك مانعين له - صلى الله عليه وسلم -، ولأصحابه أن يذكروا اسم الله في المسجد الحرام، وأيضًا: أنّهم صدُّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية، وهي السنة السادسة من الهجرة، والحديبية: موضعٌ على طريق مكة، فعلى هذا يكون المسجد الذي نزلت الآية فيه المسجد الحرام، فالمراد بالخراب في قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} تعطيلهم المسجد الحرام عن الذكر والعبادة، دون تخريبه وهدمه حقيقةً، ويجعل تعطيل المسجد عنهما تخريبًا؛ لأنَّ المقصود من بنائه إنما هو الذكرُ والعبادةُ فيه، فما دام لم يترتَّب عليه هذا

المقصود من بنائه صار كأنه هُدِّم وخُرِّب، أو لم يُبْنَ من أصله، فإنَّ عمارة المسجد كما تكون ببنائه، وإصلاحه، تكون أيضًا بحضوره، ولزومه، يقال: فلان يعمر مسجد فلانٍ، إذا كان يحضره ويلزمه، ويقال لسكان السموات من الملائكة: عُمَّارها. وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان" وذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فجعل حضور المساجد عمارةً لها، وعن عليٍّ - رضي الله عنه - (سِتٌّ من المروءة: ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السفر، فأما اللَّاتي في الحضر فتلاوة كتاب الله، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللاتي في السفر فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله). وعدَّ من علامات الساعة: تطويل المنارات، وتنقيش المساجد، وتزيينها، وتخريبها عن ذكر الله تعالى، فتعطيل المساجد عن الصلاة والتلاوة، وإظهار شعائر الإِسلام، أقبح سيئةٍ لا سيَّما إذا اقترن بفتح أبواب بيوت الخمر، وإغلاق أبواب المكاتب، وغير ذلك، ولقد شوهد في أكثر البلاد الروميَّة، وغيرها في هذا الزمان، فلنبك على غربة الدين أيها الإخوان، فيا لها مصيبةً، أيَّ مصيبة؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون! فإن قلت: إنّ هذه الآية تقتضي: أنَّ من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، لا يساويه أحدٌ في الظلم، فهي تعارض مع قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ومع قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} المقتضي كُلُّ آيةٍ منها بأنّه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها؟ قلت: إنّ معنى المفاضلة في كل منها يعتبر بالنظر إلى صلته، فكأنَّه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، ولا أحد من الكذابين أظلم ممن كذب على الله سبحانه وتعالى، وهكذا كُلُّ ما جاء من أمثالها، وقد يجاب عنه بأجوبة أخرى، فليرجع إليها في المطولات.

فإن قلتَ: إنّ (¬1) الممنوعَ بَيْتُ المقدس على قول، أو المسجد الحرام على قول آخر، فكيف التعبير بالجمع هنا؟ أجيب عنه: بأنَّ من خرَّب مسجدًا من هذين، فكأنّما خرَّب مساجد كثيرة بالقوَّة؛ لأنَّهما أفضل المساجد، وغيرهما تبعٌ لهما {أُولَئِكَ} المانعون الذين يسعون في تخريب بيوت الله {مَا كَانَ} ينبغي {لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا}؛ أي: أن يدخلوا المساجد {إِلَّا خَائِفِينَ} من المسلمين أن يبطشوا بهم فضلًا عن أن يمنعوهم منها، وهذا الحكم عامٌّ لكل من فعل ذلك في أيِّ مسجدٍ كان {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المانعين {فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}؛ أي: هوان بالقتل، والسبي، وضرب الجزية عليهم {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديدٌ أشدَّ مما لهم في الدنيا؛ بسبب كفرهم، وظلمهم، وهو عذاب النار. الإعراب {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}. {مَا} اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا؛ لأنّه من أسماء الشروط لننسخ {نَنْسَخْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية {مِنْ آيَةٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، واسم الشرط ليس معرفة، فلا يجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا منه، والتقدير: أي شيء كائنًا من الآيات ننسخه، فهو مفردٌ وقع موقع الجمع، وهذا مطردٌ بعد الشرط؛ لما فيه من معنى العموم، وعلى هذا يخرَّج كُلُّ ما جاء من هذا التركيب، كقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة وما بكم من نعمة فمن الله، وأجاز بعضهم أن تكون من آية في موضع نصب على التمييز والمُميَّز {مَا} وليس ببعيدٍ أيضًا، وأعربها ابن هشام في موضع نصب على الحال، وليس ببعيدٍ أيضًا {أَوْ} حرف ¬

_ (¬1) العمدة.

عطف وتنويع {نُنسِهَا} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوفٌ على نسخ مجزومٌ بما الشرطية على كونه فعل الشرط، وعلامة جزمه سكون الهمزة المحذوفة للتخفيف، والأصل: ننسئها؛ أي: نرجئها، أو سكونٌ ظاهر على الهمزة على قراءة {نَنْسَأها}. {نَأْتِ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء؛ لأنّه من أتى يأتي، وجملة {مَا} الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب {بِخَيْرٍ} جار ومجرور متعلق بنأت {مِنْهَا} جار ومجرور متعلق بخير؛ لأنّه اسم تفضيل، {أَوْ مِثْلِهَا} أَوْ حرف عطف وتفصيل {مثل} معطوف على خير وهو مضاف، والهاء مضاف إليه. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري {لم} حرف نفي وجزم {تَعْلَمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - مجزوم بلم، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقدير، و {قَدِيرٌ} خبر أنّ المفتوحة، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادّ مسدَّ مفعولَي علم؛ أي: ألم تعلم كون الله قادرًا على كلّ شيء. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري {لم تعلم} جازم وفعل مجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدّم {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات، والجملة من المبتدأ والخبر في محل رفع خبر أَنَّ وجملة أَنَّ من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي {تَعْلَمْ}. {وَمَا لَكُمْ} الواو عاطفة مَا نافية لَكُم جار ومجرور خبر مقدّم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف حال من قوله: {وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. {مِنْ} زائدة {وَلِيٍّ} مبتدأ مؤخّر {وَلَا نَصِيرٍ} معطوف على {وَلِيٍّ}، والتقدير: وما وليّ ولا نصير كائنان لكم من دون الله، أو حالة كونهما كائنين من دون الله، والجملة من المبتدأ والخبر في

محل النصب معطوفة على جملة {أَنْ}. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والهمزة الاستفهامية أعني: الإضراب الانتقالي؛ أي: الانتقال من قصّة إلى أخرى، ولم تجعل متّصلة؛ لفقد شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام، أو التسوية {تُرِيدُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ} حرف نصب ومصدر {تَسْأَلُوا} فعل وفاعل منصوب بأن {رَسُولَكُمْ} مفعول أوَّل ومضاف إليه، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إنزال الكتاب جملةً، أو الإتيان بالله والملائكة قبيلًا، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية و {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعوليَّة لتريدون، تقديره: بل أتريدون سؤال رسولكم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إنزال الكتاب جملةً مثلًا {كَمَا سُئِلَ} الكاف حرف جرّ وتشبيه {مَا} مصدرية {سُئِلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة {مُوسَى} نائب فاعل، وهو المفعول الأول لسئل، والثاني محذوف، تقديره: رؤية الربّ جهرةً {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلِّق بسئل، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، و {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كسؤال أسلافكم موسى رؤية الربّ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: أم تريدون أن تسألوا رسولكم سؤالًا كائنًا، كسؤال أسلافكم موسى عليه السلام، {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ} الواو استئنافية {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، والأول أصحُّ {يَتَبَدَّلِ} فعل مضارع مجزوم بِمَنْ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {الْكُفْرَ} مفعول به {بِالْإِيمَانِ} جار ومجرور متعلق بيتبدل، وهو المتروك {فَقَدْ} الفاء رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بقد {قَدْ} حرف تحقيق {ضَلَّ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} {سَوَاءَ} مفعول به على التوسُّع، وهو مضاف {السَّبِيلِ} مضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السبيل المستوي، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة

استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {وَدَّ كَثِيرٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جار ومجرور ومضاف إليه صفة لكثير {لَوْ} حرف مصدر {يَرُدُّونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أوّل مرفوع بثبات النون {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيردّون {كُفَّارًا} مفعول ثان ليردّونكم؛ لأنّه من أفعال التصيير، والجملة الفعلية صلة {لَوْ} المصدرية، و {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لودَّ؛ تقديره: ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب ردَّكم كفارًا من بعد إيمانكم {حَسَدًا} مفعولٌ لأجله منصوب بودَّ {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف صفةٍ لحسدًا، تقديره: حسدًا كائنًا من عند أنفسهم {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلّق بودَّ {ما} مصدرية {تَبَيَّنَ} فعل ماض {لَهُمُ} متعلق به {الْحَقُّ} فاعل، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبيُّن الحق، وظهوره لهم {فَاعْفُوا} الفاء فاء الفصيحة، مبنيةٌ على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حسدهم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم {اعْفُوا} فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة {وَاصْفَحُوا} فعل وفاعل معطوف على {فَاعْفُوا} {حَتَّى} حرف جر وغاية بمعنى إلى {يَأْتِيَ} فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة بعد حتى (ولفظ الجلالة) فاعل {بِأَمْرِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بيأتي، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى إتيان الله بأمره، الجار والمجرور تنازع فيه كُلٌّ من الفعلين، فاعفوا واصفحوا {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلِّق بقدير، و {قَدِيرٌ} خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {فَاعْفُوا}. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} معطوف على {فَاعْفُوا}. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

{وَمَا} الواو استئنافية {مَا} اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا {تُقَدِّمُوا} فعل وفاعل مجزوم بها على كونه فعل الشرط {لِأَنْفُسِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتقدّموا {مِنْ خَيْرٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، تقديره: أيَّ شيء كائنًا من خيرٍ تقدِّموه لأنفسكم، أو حال من اسم الشرط، ولكنَّه ضعيفٌ، كما مرّ في نظيره {تَجِدُوُه} فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بما على كونه جواب الشرط {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من المفعول، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: تجدوا ثوابه حال كونه مدّخرًا عند الله، أو متعلق بتجدوا، وجملة {مَا} الشرطيّة مع معموليها مستأنفة {إنَّ اَللهَ} ناصب واسمه {بِمَا} جار ومجرور متعلق ببصير {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل صلة لما إن قلنا: إنها موصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما تعملونه، ويصحّ كونها مصدرية؛ أي: بعملكم و {بَصِيرٌ} خبر إنّ، وجملة {إنَّ} مع معموليها مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها، لا محل لها من الإعراب. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}. {وَقَالُوا} الواو عاطفة {قَالُوا} فعل وفاعل معطوف على {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} والضمير لأهل الكتاب {لَنْ يَدْخُلَ} ناصب ومنصوب {الْجَنَّةَ} مفعول به على السعة {إِلَّا} أداة استثناء مفرَّغ {مَن} اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {كاَنَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، تقديره: هو يعود على {مَنْ}، {هُودًا} خبرها منصوب {أَوْ نَصَارَى} معطوف على {هُودًا}، والجملة صلة لِمَنْ الموصولة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الدعوى، وهي قوله: {وَقَالُوا}، ودليلها وهو قوله: {قُلْ ...} إلخ. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {هَاتُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل {بُرْهَانَكُمْ} مفعول به، والجملة مقول {قُلْ}. {إِنْ} حرف شرط {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فعل

ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول {قُلْ} {بَلَى} حرف جواب لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، وهو الأصحّ، أو الجواب، أو هما، كما مرّ مرارًا {أَسْلَمَ} فعل ماض في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {وَجْهَهُ} مفعول به ومضاف إليه {لِلَّهِ} متعلق بأسلم، {وَهُوَ} الواو حالية {وَهُوَ مُحْسِنٌ} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {أَسْلَمَ}. {فَلَهُ} الفاء رابطة لجواب مَنْ الشرطية وجوبًا {له} جار ومجرور خبر مقدّم {أَجْرُهُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بمن على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مع معموليها جملة جوابية لا محل لها من الإعراب {عِنْدَ رَبِّهِ} ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من أجره؛ أي: فله أجره حال كونه مدّخرًا له عند ربّه {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} نافية؛ مهملة لتكرّرها {خَوْفٌ} مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداء بالنكرة، تقدُّمُ النفي عليه {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ} على كونها جواب الشرط لمن، تقديره: بلى من أسلم وجهه لله فلا خوف عليهم {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} نافية مهملة {هُم} مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}. {وَقَالَتِ} الواو استئنافية {قالت اليهود} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة؛ مسوقة لبيان حالة من حالات جهالتهم المتأصّلة في نفوسهم {لَيْسَتِ النَّصَارَى} فعل ناقص واسمه {عَلَى شَيْءٍ} جار ومجرور خبره، وجملة ليس في محل النصب مقول {قَالَتِ}. {وَقَالَتِ النَّصَارَى} فعل وفاعل معطوف على {قالت

اليهود} {لَيْسَتِ الْيَهُودُ} فعل ناقص واسمه {عَلَى شَيْءٍ} خبره، وجملة ليس في محل النصب مقول {قَالَتِ} {وَهُمْ} الواو حالية {هُمْ} مبتدأ {يَتْلُونَ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من اليهود والنصارى {كَذَلِكَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف منصوب بقال الآتي، مقدّم عليه؛ لإفادة الحصر، تقديره: قولًا كائنًا، كقول اليهود والنصارى {قَالَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ومفعول العلم محذوف، تقديره: لا يعلمون شيئًا من المعلومات {مِثْلَ} منصوب على كونه بدلًا من {كَذَلِكَ} بدل كل من كل، وهو مضاف {قَوْلِهِمْ} مضاف إليه وهو مضاف، والهاء مضاف إليه {فَاللَّهُ} الفاء استئنافية، أو فصيحة، مبنية على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال كل فريق، وأردت بيان عاقبة أمرهم، فأقول لك: {الله يحكم بينهم} {اللهُ} مبتدأ {يَحْكُمُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللهُ} {بَيْنَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بيحكم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بيحكم أيضًا، وجملة {يَحْكُمُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فِيمَا} {في} حرف جرّ {مَا} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بفي، والجار والمجرور متعلق بيحكم {كَانُوا} فعل ناقص واسمه {فِيهِ} متعلق بيختلفون، قدّم عليه؛ لرعاية الفاصلة، وجملة {يَخْتَلِفُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لما الموصولة، أو صفة لما الموصوفة، والعائد أو الرابط ضمير فيه. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}. {وَمَنْ} الواو استئنافية {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَظْلَمُ} خبره، والجملة مستأنفة {مِمَّنْ} {مِن} حرف جرّ {مَنْ} اسم موصول في محل

الجر بمن، والجار والمجرور متعلق بأظلم {مَنَعَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَن} والجملة الفعلية صلة {مَن} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل {مَسَاجِدَ اللَّهِ} مفعول به ومضاف إليه {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يُذْكَرَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بأن {فِيهَا} جار ومجرور متعلق به {اسْمُهُ} نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية من الفعل المغيّر ونائب فاعله صلة {أَن} المصدرية. و {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لمنع، ولكنه على تقدير {مِن} الجارة؛ لأنّه يتعدى إلى الثاني بواسطة {مِن} الجارة، تقديره: ممن منع مساجد الله من ذكر اسمه فيها، أو منصوب على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: منع مساجد الله كراهية ذكر اسمه فيها، أو منصوب على كونه بدل اشتمال من مساجد، تقديره: منع مساجد الله ذكر اسمه فيها، والأوّل أرجح، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير {وَسَعَى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على مَن معطوف على {مَنَعَ}. {فِي خَرَابِهَا} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بسعى، {أُولَئِكَ} مبتدأ {مَا} نافية {كاَنَ} فعل ماض ناقص {لَهُم} خبر {كاَنَ} مقدم {أَن} حرف نصب ومصدر {يَدْخُلُوهَا} فعل وفاعل ومفعول به على التوسّع، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخّرًا، تقديره: أولئك ما كان دخولهم إيّاها كائنًا لهم، وجملة {كَانَ} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال {خَائِفِينَ} حال من فاعل {يَدْخُلُوهَا}، أي: ما كان لهم دخولها في جميع الأحوال إلا في حالة الخوف. اهـ. "سمين" {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدّم {فِي الدُّنْيَا} متعلق بمحذوف حال من {خِزْيٌ}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها {خِزْيٌ} مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية مستأنفة {وَلَهُمْ} خبر مقدّم {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بمحذوف حال من عذاب {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخرّ {عَظِيمٌ} صفة لعذاب، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.

التصريف ومفردات اللغة {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} النسخ: الإزالة والنقل، يقال: نسخت الريح الأثر، أي: أزالته، ونسختَ الكتاب إذا نقلتَه من كتاب إلى آخر {أَوْ نُنْسِهَا} قرئ بغير همز من أنسى ينسى إنساء، يقال: أنسى الشيء جعله منسيًّا، فهو من النسيان الذي هو ضِدُّ الذكر، وهو ذهاب الشيء من الذاكرة؛ أي: نمحها من القلوب، وقرىء {نَنْسَأها} بفتح النون والسين، وبالهمز من قولهم: نَسَأتُ هذا الأمر إذا أخَّرته، وأنسأ الله أجلك أخَّره وأطاله، والإنساء: تأخير الشيء أو إذهابه عن الذاكرة، والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تبليغه إيّاها {مِنْ وَلِيٍّ} الوليّ: القريب والصديق، وأصله: ولِيْيٌ على وزن فعِيْل، أدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة، والنصير: المعين، وتقدم الفرق بينهما في مبحث التفسير. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} وأصل تريدون: تُرْوِدون بوزن تُفْعِلون؛ لأنّه من راد لي رود، نقلت حركة الواو إلى الراء قبلها، فسكِّنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ فصار تريدون، والسؤال: الاقتراح المقصود به التعنت {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ} بدَّل وتبدَّل واستبدل: جعل شيئًا موضع آخر. بعد الإيمان، أصله: إءمان بوزن إفعال، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مد مجانسًا لحركة الأولى {فَقَدْ ضَلَّ}؛ أي: عَدَلَ وجار، أصله: ضَلَلَ بوزن فعل، أدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكنت {سَوَاءَ} تقدم أن الهمزة فيه مبدلة عن ياء {وَدَّ كَثِيرٌ} أصل ودَّ: وَدِدَ بكسر العين في الماضي، ومضارعه ودد، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، أمَّا في المضارع، فنقلت حركة الدال إلى الواو، ثمّ أدغمت الدال في الدال، فقيل: يَودُّ {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} أصله: يَرْدُدُونكم بوزن يفعُلُون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. {فَاعْفُوا} أمر من عفا يعفو، كصفا يصفو من باب فعل بفتح العين في الماضي، يفعُلُ بضمّها في المضارع، ولام الفعل واوٌ، وإذا أسند المضارع إلى واو الجماعة، صار يفعوون بوزن يفعلون، حذفت منه نون الرفع؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، ثُمَّ استثقلت الحركة على الواو، فحذفت فسكنت فالتقى ساكنان، لام الكلمة وواو الجماعة، فحذفت الأولى التي هي لام الكلمة، فصار

اعْفُوا بوزن أفعوا. والعفو: ترك العقاب على الذنب، كما قال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}، والصَّفح: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب، وترك اللوم والتثريب. وفي "المصباح": عفا الله عنك؛ أي محا ذنوبك، وعفوت عن الحق: أسقطته، كأنّك محوته عن الذي هو عليه، وعافاه الله: محا عنه الأسقام. اهـ. وفيه أيضًا: صفحت عن الذنب صفحًا من باب نفع: عفوت عنه، وصفحت عن الأمر: أعرضت عنه وتركته اهـ. فعلى هذا يكون العطف في الآية للتأكيد، وحسَّنه تغاير اللفظين، وقال بعضهم: العفو: ترك العقوبة على الذنب، والصفح: ترك اللوم والعتاب عليه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أصله: أَقْوِموا بوزن أَفْعِلوا، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أصله: أأتيوا بوزن أفعلوا، أمر من أتى الرباعي، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدٍّ مجانسًا لحركة الأولى، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت للتخفيف، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء كما حذفت نون الرفع، ثمَّ ضُمَّت التاء؛ لمناسبة الواو {الزَّكَاةَ} تقدَّم أنَّ ألفه منقلبة عن واوٍ؛ لأنّه من زكا يزكو زكاءً إذا نما. {كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} والهود: جمع هائد على أظهر القولين فيه، نحو: بازلٍ وبُزْلٍ، وعائذٍ وعوذ، وحائل وحول، وبائر وبور، وهائدٌ من الأوصاف الفارق بين مذكَّرها ومؤنثها تاء التأنيث. اهـ. "سمين" والعوذ بالذال المعجمة، قال الجوهري: الحديثات النتاج من الظباء، والإبل، والخيل واحدها: عائذ. اهـ. زكريا، وفي "المختار": هاد إذا تاب ورجع، وبابه قال، فهو هائد، وقومُ هود. قال أبو عبيدة: التهوُّد: التوبة والعمل الصالح، يقال أيضًا: هاد وتهوَّد؛ أي: صار يهوديًّا، والهود بوزن العود: اليهود. اهـ. {أَوْ نَصَارَى} وفي "المختار": جمع نصران، ونصرانة كالندامى جمع ندمان، وندمانة، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. اهـ. وفي "المصباح": والنصارى. جمع نصرى، كمهرى ومهارى، فتلخص أنّ نصارى له مفردان: نصرى ونصران {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} جمع

أمنيَّة: وهي ما يُتمنَّى على وزن أفعولة، كأعجوبة، وأضحوكة، وتقدم بسط الكلام عليها في قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} هاتوا: أمرٌ للجماعة، أصله: هاتيوا، حذفت الضمة؛ لثقلها، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار هاتوا؛ لأنّه من هاتى يهاتي على وزن رامي يرامي، وأميت تصريفها إلّا في الأمر، ويقال للمفرد المذكر: هات، والمؤنث: هاتي. وفي "الفتوحات": واختلف في هات على ثلاثة أقوال: أحدها: أنّه فعل أمر، وهذا هو الصحيح؛ لاتصاله بالضمائر المرفوعة البارزة، نحو: هاتوا هاتي هاتيا هاتين. الثاني: أنّه اسم فعل بمعنى أحضروا. والثالث: وبه قال الزمخشري: أنّه اسم صوت بمعنى ها الَّتي بمعنى احضروا. اهـ. "سمين". وقيل: الهاء فيه بدل من الهمزة في آتوا. وقيل: تنبيهٌ، وحذفت همزة آتى لزومًا، كذا في "تفسير ابن عطية" {بُرْهَانَكُمْ} واختلف في برهان على قولين: أحدها: أنّه مشتق من البره وهو القطع، وذلك أنّه دليلٌ يفيد العلم القطعيَّ، ومنه برهة الزمان؛ أي: القطعة منه، فوزنه فعلان. والثاني: أنَّ نونه أصلية؛ لثُبُوتها في برهن يبرهن برهنةً، والبرهنة: البيان، فبرهن من باب فعلل لا من فعلن؛ لأنّ فعلن غير موجود في أبنيتهم، فوزنه فعلان، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلاف في صرف برهان وعدمه، إذا سُمِّي به. اهـ. "سمين". {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} وليس فعل ماض ناقص أبدًا من أخوات كان، ولا يتصرّف، ووزنه على فَعِل بكسر العين. اهـ. "سمين". وهو بناءٌ نادر في الثلاثي اليائي العين {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أصله: يتلوون بوزن يفعلون، الواو الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، استثقلت الحركة على الواو، فحذفت، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو الأولى، فوزنه يفعون {يَوْمَ

الْقِيَامَةِ} تقدّم أنَّ الياء فيه منقلبة عن واو؛ لأنّه من قام يقوم قيامًا، أصله: قواما {مَسَاجِدَ اللَّهِ} جمع مسجد: اسم لمكان السجود، وكان قياسه أن يكون على وزن مَفْعَلٍ بالفتح، لانضمام عين مضارعه، نظير مدخل من دخل يدخل، ولكنه شذَّ كسره كما شذَّتْ ألفاظٌ أخر في كتب الصرف، كالمشرق، والمغرب، والمطلع، والمنِسك، والمجزِر، والمنِبت، والمسقِط، ويجوز فيها الفتح والكسر، ولكن السماع أفصح. كما بسطنا الكلام في شرحنا "مناهل الرجال على لاميّة الأفعال" وقد سمع مسجَد بالفتح على الأصل، وقد تبدل جيمه ياءً، ومنه: المَسْيِد في لغةٍ. اهـ. "سمين". {وَسَعَى} أصله: سَعَيَ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها {خَائِفِينَ} أصله: خاوفين لأن مادته خوفَ واوي العين أعلت عين فعله فقلبت ألفًا. فقيل: خاف، فحمل الوصف على فعله في الإعلال، فأعلّ بإبدال الواو همزةً، إذ القياس أن يقال: خاوفين، وقس عليه ما شابهه، فقالوا: قائل بدل قاول، وقالوا بائع بدل بايع {فِي الدُّنْيَا} تقدّم أنَّ الياء في الدنيا منقلبة عن واوٍ، فأصله: الدنو، وتقدّم علَّةُ هذا القلب. البلاغة وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التقريريُّ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما عُلِم عنده ثبوته، أو نفيه في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ أي: إنّك علمت. ومنها: تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع أنَّ غيره داخلٌ في الخطاب أيضًا، بدليل قوله فيما بعد: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ إيذانًا بأنَّ المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق. ومنها: تخصيص السموات والأرض بالذكر مع أنّه تعالى له ملك الدنيا

والآخرة؛ لكونهما أعظم المصنوعات، وأعجبها شأنًا. ومنها: وضع الاسم الجليل موضع الضمير في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ومقتضى السياق أن يقال: ألم تعلم أنّه، من دونه؛ لسبق المرجع؛ لتربية الرَّوعة، والمهابة في النفوس. ومنها: المصدر التشبيهي في قوله: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}؛ لتأكيد الكلام؛ أي: سؤالًا مشبهًا بسؤال موسى عليه السلام. ومنها: الإتيان بقوله: {مِنْ قَبْلُ}؛ لتأكيد الكلام؛ لأنّ كون سؤال موسى من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من المعلوم، فالإتيان به؛ لتأكيد الكلام. ومنها: الطباق في قوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}. ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: الطريق المستوي، وفي التعبير به نهاية التَّبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق، فعدل عنه إلى الباطل. ومنها: الاعتراض بين الدعوى ودليلها في قوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} فإنّها جملة اعتراض اعترض بها بينهما؛ لغرض بيان بطلان الدعوى، وأنّها دعوى كاذبة. ومنها: الأمر للتعجيز والتبكيت في قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}. ومنها: التعريض بكذبهم، وبطلان دعواهم في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفيه أيضًا: الإيجاز بالحذف؛ لأنّه حُذف فيه جواب الشرط؛ لعلمه من السابق؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فهاتوا برهانكم. ومنها: تخصيص الوجه بالذكر في قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}؛ لكونه أشرف أعضاء الإنسان؛ لكونه مركز الحواس، ففيه إمّا استعارة تصريحية؛ لأنّه استعار الوجه للنفس، أو مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: العنديَّة؛ للتشريف في قوله {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وفيه أيضًا: وضع

اسم الربّ مضافًا إلى ضمير {مَنْ أَسْلَمَ} موضع ضمير الجلالة؛ لإظهار مزيد اللُّطف به. ومنها: تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر مع كونهما داخلين في قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}؛ تنبيهًا على عظيم شأنهما، وعلوِّ قدرهما عند الله تعالى؛ لأنّ الصلاة قربةٌ بدنية، والزكاة قربة مالية، كما مرّ في مبحث التفسير. ومنها: التعبير بلفظ التقديم في قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}؛ إشارةً إلى أنّ المقصود الأصليَّ، والحكمة الكلية في جميع ما أنعم الله تعالى به على المكلفين في الدنيا، أن يقدِّموه إلى معادهم، ويدّخروه ليومهم الآجل. ومنها: تقديم المعمول على عامله؛ لإفادة الحصر في قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: قال الذين لا يعلمون الكتاب قولًا مثل ذلك القول بعينه، لا قولًا مغايرًا له اهـ. "أبو السعود". وفيه أيضًا: توبيخ عظيم، وتقريع لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلًا. ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}؛ محافظةً على رؤوس الآي. ومنها: الاستفهام الإنكاري المضمَّن معنى النفي في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}؛ أي: لا أحد أظلم منه. ومنها: التنكير في قوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}؛ للتهويل؛ أي: خزي هائل فظيع، لا يوصف لهوله. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...} الآية، قال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها: هو أنَّه تعالى لما ذكر منع المساجد من ذكر الله، والسعي في تخريبها .. نبَّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله تعالى،، إذ المشرق والمغرب كلاهما لله تعالى، فأيُّ جهةٍ أدَّيتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد، والمعنى: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما، فيكون على حذف مضافٍ. انتهى. قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر أنَّه مالكٌ لجميع من في السموات والأرض، وأنَّ كُلَّهم قانتون له، وهم المظروف للسموات والأرض، ذكر الظرفين، وخصَّهما بالبداعة؛ لأنّهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدلُّ على طواعية المخترع، وسرعة تكوينه. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لِمَا قبلها: أنّه تعالى لمَّا ذكر (¬2) فيما سلف الردَّ على من أنكر الوحدانية، واتخذ لله ولدًا، ذكر هنا من أنكر نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وطعن في الآيات التي جاء بها، وتجنَّى بطلب آيات أخرى؛ تعنُّتًا وعنادًا؛ كما جاء في نحو قوله حكايةً عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر فيما سلف أنَّ اليهود والنصارى لن ترضى عنك حتى تتَّبع ملَّتهم، وحذر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من اتباع أهوائهم، وأعلمه بأنّ هدى الله هو الهدى الذي أعطاه، وبعثه به، ذكر هنا أنَّ فريقًا منهم يرجى إيمانهم، وهم الذين يتدبَّرون كتابهم، ويُمَيِّزُونَ بين الحق والباطل، ويفهمون أسرار الدِّين، ويعلمون أنّ ما جئت به هو الحقُّ الذي يتَّفِق مع صالح البشر، فهو الذي يهذِّب نفوسهم، ويصفِّي أرواحهم، ويُنظِّم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وبعد أنَّ أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ...} إلخ. وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا ينبغي لمن كرَّمه الله تعالى، وفضّله على غيره من الشعوب، أن يكون حظه من كتابه، كحظّ الحمار يحمل أسفارًا. قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنّه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأنَّ اليهود عيَّروا المؤمنين بتوجُّههم إلى الكعبة، وترك بيت المقدس، كما قال: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} ذَكَر حديث إبراهيم، وما ابتلاه الله، واستطرد إلى ذكر البيت، وكيفية بنائه، وأنَّهم لمَّا كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعًا لشرعه، واقتفاءً لآثاره فكان تعظيم البيت لازمًا لهم، فنبَّه الله بذلك على سوء اعتقادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنّهم وإن كانوا من نسله لا ينالون لظلمهم شيئًا من عهده. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصلي على راحلته تطوّعًا أينما توجّهت به، وهو مقبل من مكّة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وقال: في هذه نزلت هذه الآية). وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: (أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لمّا هاجر إلى المدينة، أمره الله سبحانه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهرًا، وكان يحبّ قبلة إبراهيم، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول.

[115]

فارتاب في ذلك اليهود، قالت: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} إسناده قويّ، والمعنى: أيضًا يساعده فليُعتمدْ، وفي الآية رواياتٌ أُخر ضعيفةٌ. قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما رواه البخاري، وغيره، عن عمر - رضي الله عنه - قال: (وافقت ربّي في ثلاثٍ، قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلًّى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قلت: يا رسول الله! إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرُّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه في الغَيرة، فقلت لهنَّ: عسى ربُّه إن طلَّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ، فنزلت كذلك، وللحديث طرقٌ كثيرةٌ. التفسير وأوجه القراءة 115 - {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْمَشْرِقُ}؛ أي: مكان شروق الشمس {وَالْمَغْرِبُ}؛ أي: مكان غروبها، يريد (¬1) بهما ناحيتي الأرض إذ لا وجه لإرادة موضعي الشروق والغروب بخصوصهما؛ أي: له الأرض كلُّها لا يختصُّ به من حيث الملك والتصرف ولا من حيث المحلية، لعبادته مكان منها دون مكان، فإن مُنعتم أن تصلُّوا في المسجد الحرام، أو الأقصى، فقد جعلت لكم الأرض كلَّها مسجدًا. والمعنى: أي له (¬2) سبحانه وتعالى جميع نواحي الأرض شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا؛ لأنّه خالقها، فإن مُنعتم أن تصلوا في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، فقد جعلت لكم الأرض كلّها مسجدًا، فهذه الجملة مرتبطة بقوله: {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} يعني: أنّه إن سعى ساع في المنع من ذكره تعالى، وفي خراب بيوته، فليس ذلك مانعًا من أداء العبادة في غيرها؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

لأنَّ المشرق المغرب وما بينهما له تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} وقرىء بفتح التاء واللام؛ أي: ففي أي مكانٍ فعلتم تولية وجوهكم القبلة. قال الإمام الراغب: ولَّى: إذا أقبل، ولَّى إذا أدبر، وهو من الأضداد، والمراد ها هنا: الإقبال. اهـ. {فَثَمَّ}؛ أي: هناك {وَجْهُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: هناك (¬1) جهته التي أمر بها، ورضيها لكم قبلةً، فإنَّ إمكان التولية غير مختص بمسجدٍ دون مسجدٍ، أو مكانٍ دون آخر، أو فثمَّة ذاته تعالى، بمعنى: الحضور العِلْميِّ، فيكون الوجه مجازًا من قبل إطلاق اسم الجزء على الكل، والمعنى عليه: ففي أيِّ مكان فعلتم التولية، فهو سبحانه موجودٌ فيه، ويمكنكم الوصول إليه، إذْ ليس هو جوهرًا، ولا عرضًا حتى يكون بكونه في جانب مفرِّغًا جانبًا، ولمَّا امتنع عليه أن يكون في مكانٍ، أريد أنَّ علمه محيطٌ لما يكون في جميع الأماكن والنواحي؛ أي: فهو عالم بما يُفعل فيه، ومثيب لكم على ذلك. اهـ. من "الروح". واعلم (¬2): أنَّ {أين} اسم شرط في المكان، وهو ها هنا منصوب بتُوَلُّوا؛ لأنّه فعل شرطه، و {ما} مزيدةٌ؛ للتأكيد، و {ثمَّ} ظرف مكانٍ بمنزلة هناك، تقول لِمَا قَرُب من المكان هنا، ولِمَا بَعُد ثَمَّ وهناك، وهو خبر مقدَّمٌ، و {وَجْهُ اللَّهِ} مبتدأٌ مؤخَّر، والجملة الإسمية في محل الجزم على أنّها جواب الشرط، كما سيأتي في مبحث الإعراب. والمعنى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}؛ أي (¬3): ففي أيِّ مكانٍ وبقعةٍ، تحوِّلوا، وتوجِّهوا فيه وجوهكم في الصلاة إلى القبلة التي أمرتم بالاستقبال إليها {فَثَمَّ}؛ أي: هناك في الجهة التي أمرتم بالاستقبال إليها {وَجْهُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: جهته التي ارتضاها لكم قبلةً، وأمر بالتوجُّه إليها، فإن إمكان التولية والتحوّل لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) العمدة.

يختصُّ بمكانٍ ولا مسجدٍ، فإنَّها ممكنةٌ في كُلِّ مكانٍ. وفي "المختار"؛ الوجه والجهة بمعنًى، والهاء عوضٌ من الواو. ومعنى الآية (¬1): إنَّ لله المشرق والمغرب وما بينهما خلقًا وملكًا، وإنّما خصَّ المشرق والمغرب؛ اكتفاءً بهما عن جميع الجهات؛ لأنَّ له تعالى كُلَّها، وما بينهما خلقه وعبيده، وإنَّ على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه، فالجهة التي أمرهم باستقبالها، فهي القبلة، فإنَّ القبلة ليست قبلةً لذاتها؛ بل لأنَّ الله سبحانه جعلها قبلةً، وأمر بالتوجُّه إليها، فإن جعل الكعبة قبلةً، فلا تنكروا ذلك؛ لأنّه تعالى يُدبِّر عباده كيف يريد {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}؛ أي: فَهُنَالِكَ قبلة الله التي وَجَّهَكُمْ إليها. وقيل معناه: فثمَّ وجه الله سبحانه وتعالى بلا تأويلٍ، والوجه صفةٌ ثابتة لله تعالى، نثبتها، ونعتقدها من غير تشبيه ولا تمثيل، وهذا القول هو الصحيح الأسلم الذي ينبغي الاعتماد عليه. وقيل: المعنى: فثمَّ رضا الله؛ أي: يريدون بالتوجه إليه رضاه تعالى. وقال ابن العربي: مقتضى التوحيد أنَّ الصلاة لأيِّ جهةٍ تصحُّ، وإنّما أُمِرنا بجهةٍ مخصوصةٍ؛ تعبدًا، ولم نعقل له معنى. وقال ابن عباس (¬2) - رضي الله تعالى عنهما -: (لمَّا حُوِّلت القبلة عن بيت المقدس، أنكر اليهود ذلك، فنزلت هذه الآية ردًّا عليهم). وقال أبو مسلم: إنَّ اليهود إنّما استقبلوا بيت المقدس؛ لأنّهم اعتقدوا أنَّ الله تعالى صعد السماء من الصخرة، والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأنَّ عيسى عليه السلام ولد هناك، فردَّ الله سبحانه عليهما بهذه الآية. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {وَاسِعٌ} بفضله، ورحمته، جميع الخلائق، يريد التوسعة على عباده في القبلة، وغيرها، أو واسعٌ بإحاطته بالأشياء ملكًا وخلقًا، فيكون تذييلًا لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وكذا إن فسرت السعة بسعة الرحمة، فإنَّ قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} لمَّا اشتمل على معنى قولنا: لا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

تختصُّ العبادة والصلاة ببعض المساجد، بل الأرض كلُّها مسجدٌ لكم، فصلُّوا في أيِّ بقعة شئتم من بقاعها فُهِم منه أنَّه واسع الشريعة بالترخيص والتوسعة على عباده في دين، لا يضطرُّهم إلى ما يعجزون عن أدائه، والمقصود: التوسعة على عباده والتيسير عليهم في كُلِّ ما يحتاجون إليه، فيدخل فيه التوسعة في أمر القبلة دخولًا أوّليًّا، وهذا التعليم مستفادٌ من إطلاق {وَاسِعٌ}، حيث لم يقيَّد بشيء دون شيء. قال الغزاليُّ في "شرح الأسماء الحسنى": الواسع مشتقٌّ من السعة، والسَّعة تضاف مرَّةً إلى العلم إذا اتَّسع، وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة أخرى إلى الإحسان، وبسط النعم، وكيفما قُدِّر، وعلى أيِّ شيءٍ نزِّل، فالواسع المطلق هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه إن نُظِر إلى علمه، فلا ساحل لبحر علمه، بل تنفد البحار لو كانت مدادًا لكلماته، وإن نظر إلى إحسانه ونعمه، فلا نهاية لقدرته، وكُلُّ سعةٍ وإن عظمت، فتنتهي إلى طرفٍ، والذي لا يتناهى إلى طرف، فهو أحقُّ باسم السعة، والله تعالى هو الواسع المطلق؛ لأنَّ كُلَّ واسع بالإضافة إلى ما هو أوسع منه ضيِّقٌ، وكُلُّ سعة تنتهي إلى طرف، فالزيادة عليها متصوَّرة، وما لا نهاية له ولا طرف، فلا يتصوَّر عليه زيادةٌ، فهو تعالى الواسع المطلق الذي ليس لسعته نهايةٌ ولا طرفٌ. {عَلِيمٌ} بمصالحهم ونياتهم في جميع الأماكن والجهات كلِّها، وهذا لا يخلو عن إفادة التهديد؛ ليكون المصلِّي على حذر من التفريط، والتساهل، كما أنَّه يتضمَّن الوعد بتوفية ثواب المصلِّين في جميع الأماكن. فقد ظهر أنَّ هذه الآية مرتبطةٌ بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية، وأنَّ المعنى: إنَّ بلاد الله تعالى أيها المؤمنون! تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرَّب مساجد الله، أن تُولُّوا وجوهكم نحو قبلة الله تعالى أينما كنتم من أرضه. فائدةٌ فقهيَّةٌ تتعلَّق بحكم الآية وهي: أنَّ المسافر إذا كان في مفازة، أو بلاد الشرك، واشتبهت عليه القبلة، فإنّه يجتهد في طلبها بنوع من الدلائل، ويصلّي إلى الجهة التي أدَّى إليها اجتهاده، ولا إعادة عليه، وإن لم يصادف القبلة، فإنّ جهة

الاجتهاد قبلته، وكذا الغريق في البحر إذا بقي على اللوح، فإنَّه يصلي على حسب حاله، وتصحُّ صلاته، وكذلك المشدود على جذع، بحيث لا يمكنه الاستقبال. اهـ. "خازن". قالوا: وكذلك راكب الطائرة إذا علم أنه لا يدرك الوقت بعد نزوله من الطائرة، يجتهد، ويصلِّي إلى أيِّ جهة ظنَّها قبلةً، ولا إعادة عليه إن لم يدرك الوقت بعد نزوله منها. وعبارة "المراغي" هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}؛ أي: له (¬1) تعالى هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد، والمراد ربُّ الأرض كلِّها، فهو كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}؛ أي: أي مكانٍ تستقبلونه في صلاتكم، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم، ويأمركم بالتوجُّه إليها، فأينما توجه المصلِّي في صلاته، فهو متوجِّه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره، والله تعالى راضٍ عنه، مقبلٌ عليه، والحكمة في استقبال القبلة: أنّه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله تعالى، شرع للناس مكانًا مخصوصًا يستقبلونه في عبادتهم إيّاه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}؛ أي: إنّه تعالى لا يُحْصَر، ولا يتحدَّد، فيصحُّ أن يُتوجَّه إليه في كل مكان، وهو عليم بالمتوجِّه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجَّهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيَّد، وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطالٌ لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة، من أنَّ العبادة لا تصحُّ إلّا في الهياكل، والمعابد، وإزالةٌ لما قد يتوهَّم من أنَّ الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة، فأبان بها أنَّ الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقًا؛ لأنَّ الله تعالى لا تحدِّده الجهات، ولا تحصره الأمكنة. انتهت. وروي (¬2) عن ابن عباس ومقاتل: أنّه عبَّر عن الذات بالوجه، كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقيل المعنى: العمل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[116]

لله، قاله الفرَّاء، قال: أسْتَغْفِرُ الله ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيهِ ... رَبَّ العِبَادِ إلَيْه الوَجْهُ والعَمَلُ 116 - {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} نزلت في اليهود، إذ قالوا: عزير ابن الله، أو في النصارى، إذ قالوا: المسيح ابن الله، أو في المشركين، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، أو في النصارى والمشركين أقوالٌ أربعة، والأخير قاله الزجاج، ولاختلافهم في سبب النزول، اختلفوا في مرجع الضمير في {قالوا} على من يعود، فقيل: عائدٌ على الجميع من غير تخصيص، فإنَّ كلًّا منهم قد جعل لله ولدًا، قاله ابن إسحاق، فحينئذٍ ضمير {قالوا} راجع إلى الفرق الثلاثة المذكورة سابقًا، أمَّا اليهود والنصارى، فقد ذُكِروا صريحًا، وأمّا المشركون، فقد ذُكِروا بقوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}. وقرأ الجمهور (¬1). {وَقَالُوا} بواو العطف، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها؛ أي: معطوفًا على قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}، أو على منع، أو على مفهوم قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}؛ أي: على معناه، وكأنّه قيل: لا أحد أظلم ممَّن منع مساجد الله، ولا ممَّن قال؛ اتخذ الله ولدًا، وإن كان الثاني أظلم من الأول. وقيل: هو معطوف على قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} فيكون معطوفًا على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيدٌ جدًّا ينزَّه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس، وابن عامر، وغيرهما: {قالوا} بغير واو، استئنافًا وملحوظًا فيه معنى العطف، واكتفى على هذا بالضمير، والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسيُّ: وبغير واوٍ هي في مصاحف أهل الشام، فالقراءتان سبعيتان، وأمَّا آية يونس، فبترك الواو لا غير؛ لعدم ما يناسب العطف؛ أي: وقالت اليهود، والنصارى، ومشركوا العرب {اتَّخَذَ اللَّهُ}؛ أي: صنع الله، وجعل لنفسه {وَلَدًا} ذكرًا أو أنثى، والاتخاذ (¬2): إمّا بمعنى الصنع والعمل، فلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

يتعدَّى إلّا إلى واحد، وإمّا بمعنى: التصيير، والمفعول الأول محذوف؛ أي: صيَّر بعض مخلوقاته ولدًا، وادَّعى أنَّه ولده، لا أنّه ولده حقيقةً، وكما يستحيل عليه تعالى أن يلد حقيقةً، كذا يستحيل عليه التبني واتخاذ الولد؛ أي: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، فنزَّه تعالى نفسه عمّا قالوا في حقه، فقال ردًّا عليهم {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عمَّا يقول هؤلاء الكفرة، فهي كلمة تنزيه، نزَّه الله تعالى بها نفسه عن اتخاذ الولد، ومن قولهم، وافترائهم عليه؛ أي: منزَّهٌ (¬1) سبحانه عن السبب المقتضي للولد، وهو الاحتياج إلى من يعينه في حياته، ويقوم مقامه بعد مماته، وعمّا يقتضيه الولد وهو التشبيه، فإنّ الولد لا يكون إلّا من جنس والده، فكيف يكون للحقّ سبحانه ولدٌ وهو لا يشبهه شيءٌ؟ روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: (كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له، فأمَّا تكذيبه إيَّاي، فزعم أنِّي لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إيَّاي، فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتَّخذ صاحبةً أو ولدًا) ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمَّة، أو من بعضها، فإنَّ أفرادها متكافلون في كلّ ما يعملون، وما يقولون ممَّا يعود أثره من خيرٍ أو شرٍّ إلى الجميع {بَل} ليس الأمر كما زعموا {لَهُ} سبحانه وتعالى عبيدًا وملكًا {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: جميع ما فيهما، والملكية تنافي الولدية، فكيف ينسب إليه الولد، وهو داخل فيهما؟ بل هو خالق جميع الموجودات علويًّا وسفليًّا، التي من جملتها عزيرٌ، والمسيح، والملائكة، وهذا ردٌّ لما قالوه، واستدلالٌ على فساده، فإنَّ الإضراب عن قول المبطلين معناه: الردُّ، والإنكار، وفي "الوسيط" {بَلْ}؛ أي: ليس الأمر كما زعموا، والمعنى: إنه خالق ما في السموات والأرض جميعًا، الذي يدخل فيه الملائكة، وعزيرٌ، والمسيح، دخولًا أوّليًّا، فكان المستفاد من الدليل، امتناع أن يكون شيءٌ ما مما في السموات والأرض ولدًا، سواءً كان ذلك ما زعموا أنّه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[117]

ولدٌ، أم لا {كُلٌّ}؛ أي: كُلُّ ما فيهما من أولي العلم، وغيرهم {لَهُ}؛ أي: لله سبحانه وتعالى {قَانِتُونَ} جمع الخبر اعتبارًا لمعنى كلٍّ؛ أي: منقادون، ولا يمتنع شيءٌ منهم، ولا يستعصي على مشيئته، وتكوينه، وتقديره، ومطيعون له طاعة تسخير وقهرٍ، فالجماد مسخَّر لما أراد الله منه، فالطاعة هنا: طاعة الإرادة والمشيئة، لا طاعة العبادة، أو مقروُّن له بالعبوديَّة والتوحيد، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكوِّنه الواجب لذاته، فلا يكون له ولدٌ؛ لأنّه من حقّ الولد أن يجانس والده، وإنّما عبَّر عن (¬1) جميع الموجودات أوّلًا بما يعبَّر به عن غير ذوي العلم، وعبَّر عنه آخرًا بما يختصُّ بالعقلاء وهو لفظ {قَانِتُونَ}؛ تحقيرًا لشأن العقلاء الذين جعلوا ولدًا لله سبحانه {قَانِتُونَ} خبرٌ (¬2) عن كلٌّ؛ وجمع حملًا على المعنى، وكلٌّ إذا حذف ما تضاف إليه جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد، وإنّما حسنت مراعاة الجمع هنا؛ لأنّها فاصلة رأس آية؛ ولأنَّ الأكثر في لسانهم؛ أنّه إذا قطعت عن الإضافة، كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال: {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقد جاء إفراد الخبر، كقوله: كلٌّ يعمل على شاكلته، وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى، ذكر ما حسَّن إفراد الخبر. والخلاصة (¬3): أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له، قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته، فما وجه تخصيص واحد منهم بالانتساب إليه، وجعله ولدًا مجانسًا له {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} ثمَّ إن الله سبحانه، يخصُّ من يشاء من عباده بما شاء من الفضل، كالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولكن هذا لا يرتقي بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق. 117 - {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: هو سبحانه وتعالى مبدعهما، وموجدهما، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

وخالقهما، ومنشئهما على غير مثال سبق، ولم يكونا شيئًا، على أنَّ (¬1) البديع بمعنى: المبدع وهو الذي يبدع الأشياء؛ أي: يحدثها، أو ينشئها، على غير مثال سبق، والإبداع: اختراع الشيء لا عن شيء دفعةً؛ أي: من غير مادّةٍ ومُدّةٍ، أو المعنى: بديع سمواته وأرضه؛ أي: بدعت لمجيئهما على شكلٍ فائقٍ، حسنٍ غريبٍ، فعلى الأول: من أبدع، والإضافة معنويةٌ، وعلى الثاني: من بدع إذا كان على شكلٍ فائق، وحسنٍ رائقٍ، والإضافة لفظيةٌ، فهو من باب إضافة الصفة إلى منصوبها الذي كان فاعلًا في الأصل؛ لأنَّ الأصل بديعٌ سمواته وأرضه. وهذه حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنيعة (¬2)، تقريرها: إنّ الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادّته عنه، والله تعالى مبدع الأشياء كلها على الإطلاق، منزَّهٌ عن الانفعال، فلا يكون والدًا، ومن قدر على خلق السموات والأرض من غير شيء، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟! والمعنى: هو سبحانه وتعالى، موجدهما اختراعًا وابتكارًا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما، والموجد لجميع من فيهما، فكيف يصحُّ أن ينسب إليه شيءٌ منهما على أنّه مجانسٌ له؟! تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. وقرأ الجمهور (¬3): {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، وقرأ المنصور بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنّه بدل من الضمير في {لَهُ} {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}؛ أي: وإذا أراد سبحانه وتعالى إيجاد أمر من الأمور، وإحداث شيء من الأشياء {فَإِنَّمَا يَقُولُ} سبحانه {لَهُ}؛ أي: لذلك الذي أراد إيجاده {كُنْ}؛ أي: احْدُث {فيكون}؛ أي: فذلك الأمر المأمور، يكون، ويحدث من غير توقُّفٍ، ولا إباءٍ، وبلا مهلةٍ، وتأخُّرٍ، وأصل القضاء: الأحكام، أطلق هنا على الإرادة الإلهيَّة المتعلقة بوجود الشيء؛ لإيجابها إيّاه ألبتة، والأمر واحد الأمور، و {كُنْ} و {يكون} هنا: من كان التامة بمعنى: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط بتصرف.

أحدث يحدث. ففي هذه الجملة: تقرير (¬1) معنى الإبداع، وذلك أنَّ اتخاذ الولد ممَّا يكون بأطوار، ومهلةٍ، وفعله تعالى يستغني عن ذلك، وقوله {كُنْ} تمثيلٌ لسهولة حصول المقدورات بحسب تعلُّق مشيئته تعالى، وتصويرٌ لسرعة حدوثها من غير توقُّفٍ، ولا تأخُّرٍ، كطاعة المأمور المطيع للأمر القويِّ المطاع، ولا يكون من المأمور الإباء. والمعنى: أي (¬2) وإذا أراد سبحانه إحداث أمرٍ وإيجاده، فإنَّما يأمره أن يكون موجودًا، فيكون والكلام تمثيلٌ وتشبيهٌ؛ لتعلُّق إرادته بإيجاد الشيء، فيعقبه وجوده بأمرٍ يصدر، فيعقبه الامتثال، والإيجاد، والتكوين من أسرار الألوهية عبَّر عنهما بما يُقَرِّبُهما من الفهم، وهو أن يقول للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ}. وقرأ ابن عامر (¬3) {كُنْ فَيَكُونَ} بالنصب في كلِّ القرآن إلّا في موضعين: في أوّل آل عمران في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وفي الأنعام في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} فإنّه رفعه فيهما، وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس، وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كُلِّ القرآن، أمَّا النصب فعلى جواب الأمر، وأمّا الرفع فإمّا على أنّه خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: فهو يكون، أو معطوفٌ على {يَقُولُ} أو معطوفٌ على {كُنْ} من حيث المعنى، كما هو قول الفارسي. واعلم: أنَّ (¬4) أهل السنة لا يرون تعلُّق وجود الأشياء بهذا الأمر وهو {كُنْ} بل وجودها متعلِّق بخلقه، وإيجاده وتكوينه، وهو صفةٌ أزليةٌ، وهذا الكلام عبارةٌ عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده، وكمال قدرته على ذلك، لكن لا يتعلق علم أحدٍ بكيفية تعلُّق القدرة بالمعدومات، فيجب الإمساك عن بحثها، وكذا عن بحث كيفية وجود الباري سبحانه، وكيفية العذاب بعد الموت، وأمثالها، فإنّها من الغوامض، والأمور المغيبة عنّا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

ثمّ اعلم: أنَّ السبب في هذه الضلالة، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى، والقول بأنّه اتخذ ولدًا؛ أنَّ أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على الباري تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى قالوا: إنَّ الأب هو الربُّ الأصغر، وإنّ الله تعالى هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنّه تعالى هو السبب الأوّل في وجود الإنسان، وأنَّ الأب هو السبب الأخير في وجوده، فإنَّ الأب هو معبود الابن من وجهٍ؛ أي: مخدومه، ثم ظنت الجهلة منهم أنَّ المراد به: معنى الولادة الطبيعية، فاعتقدوا ذلك تقليدًا ولذلك كفر قائله، ومنع منه مطلقًا؛ أي: سواءٌ قصد به معنى السببية، أو معنى الولادة الطبيعية؛ حسمًا لمادة الفساد. واتخاذ الحبيب أو الخليل جائزٌ من الله تعالى؛ لأنّ المحبّة تقع على غير جوهر المحبِّ، قالوا: أوحى (¬1) الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: ولَّدتك، أي أوجدتك بلا والدٍ، وأنت نبيٌّ، فخفَّف النصارى التشديد الذي في ولَّدتك؛ لأنه من التوليد وصحفوا بعض إعجام النَّبيِّ بتقديم الباء على النون، فقالوا: ولدتك وأنت بُنيَّ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون؟! وقال تعالى: يا أحباري! ويا أبناء رسلي! فغيَّره اليهود، وقالوا: يا أحبائي! ويا أبنائي! فكذَّبهم الله تعالى بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فالله سبحانه منزَّه عن الحدود والجهات، ومتعالي عن الأزواج، والبنين والبنات، ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السموات، وفي الحديث الصحيح كما مرَّ لك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: (كذَّبني ابن آدم)، أي: نسبني إلى الكذب (ولم يكن له ذلك)؛ أي: لم يكن التكذيب لائقًا به، بل كان خطأً (وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إيّايَ، فزعم أن لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إيّاي، فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتخذ صاحبةً أو ولدًا) وإنّما كان هذا شتمًا؛ لأنّ التولُّد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو، وهذا إنّما يكون في المركَّب، وكُلُّ مركّب محتاجٌ. فإن قلت: قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} تكذيبٌ أيضًا؛ لأنّه تعالى أخبر أنّه لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[118]

ولد، وقولهم: لن يعيدنا، شتمٌ أيضًا؛ لأنّه نسبةٌ له إلى العجز؛ فَلِمَ خصَّ أحدهما بالشتم، والآخر بالتكذيب؟. قلت: نفي الإعادة نفي صفة كمالٍ، واتخاذ الولد إثبات صفة نقصانٍ له، والشتم أفحش من التكذيب، والكذب على الله فوق الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث: "إنّ كذبا عليَّ ليس ككذب على أحد"؛ يعني: الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعظم أنواع الكذب سوى الكذب على الله؛ لأنّ الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤدِّي إلى هدم قواعد الإِسلام، وإفساد الشريعة والأحكام. وفي الصحيح أيضًا: (من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوَّأ مقعده من النار). فعلى المؤمن أن يتجنب عن الزيغ والضلال، وأشنع الفعال، وأسوإِ المقال، وأن يداوم على التوحيد في الأسحار والآصال، إلى أن لا يبقى للشرك الخفي أيضًا مجالٌ. وفي الحديث: "لو يعلم الأمير ماله في ذكر الله لترك إمارته، ولو يعلم التاجر ماله في ذكر الله لترك تجارته، ولو أنَّ ثواب تسبيحة قسم على أهل الأرض لأصاب كُلَّ واحد منهم عشرة أضعاف الدنيا" ولكن لا أصل له. وفي الحديث: "للمؤمن حصونٌ ثلاثة: ذكر الله، وقراءة القرآن، والمسجد" والمراد بالمسجد: مُصلَّاه، سواء كان في بيته، أو في الخارج، ولا بُدَّ من الصدق والإخلاص حتى يظهر أثر التوحيد في الملك والملكوت، اللهمّ! أوصلنا إلى اليقين، وهيِّىءْ لنا مقامًا من مقامات التمكين! آمين. 118 - {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد الله؛ أي: جهلة المشركين من كفار مكة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قال مشركوا العرب الجاهلون حقيقةً، وأهل الكتاب المتجاهلون ونفى عنهم العلم؛ لعدم انتفاعهم بعلمهم؛ لأنَّ المقصود هو العمل {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} مشافهةً بأنّك رسوله؛ أي: هلا يكلِّمنا مشافهةً من غير واسطة بالأمر والنهي، كما يُكلِّم الملائكة، أو موسى، وهلّا يَنُصُّ لنا على نبوّتك، وهذا منهم استكبارٌ. و {لَوْلَا} (¬1) هنا: للتحضيض، وحرف التحضيض إذ دخلت على ¬

_ (¬1) روح البيان.

الماضي كان معناها التوبيخ، واللوم على ترك الفعل بمعنى: لِمَ لَمْ يفعله، ومعناها في المضارع تحضيض الفاعل على الفعلِ، والطلبِ له في المضارع بمعنى: الأمر، والمعنى: هلَّا يُكلِّمنا الله عيانًا بأنّك رسوله، كما يُكلِّم الملائكة بلا واسطة، أو يرسل إلينا ملكًا، ويكلِّمنا بواسطة ذلك، إنّك رسوله، كما كلَّم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على هذا الوجه، وهذا القول من الجهلة استكبارٌ يعنون به: نحن عظماء، كالملائكة، والنبيين، فلم اختصُّوا به دوننا {أَوْ} هلّا {تَأْتِينَا آيَةٌ} وحجةٌ، ومعجزةٌ، تدلُّ على صدقك مما اقترحناه من الأمور الأربعة المذكورة في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ...} الآيات. و (أَوْ) هنا: للتخيير؛ أي: فإن كان الله لا يكلِّمنا، فلم لا يخصك بآيةٍ ومعجزةٍ تأتينا بها، وهذا جحودٌ منهم لأن يكون ما آتاهم به من القرآن، وسائر المعجزات آيات؛ لأنهم لو أقروا بكونه معجزة، لاستحال أن يقولوا ذلك، والجحود: هو الإنكار مع العلم، والعجب أنّهم عظَّموا أنفسهم وهي أحقر الأشياء، واستهانوا بآية الله وهي أعظمها، ثم أجاب الله عن هذه الشبهة، فقال: {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل قول هؤلاء الشنيع الصادر عن عنادهم واستكبارهم {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}؛ أي: شبه قول هؤلاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في التشديد، وطلب الآيات المقترحة، فقالت اليهود لموسى عليه السلام: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وقالوا: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقالت النصارى لعيسى عليه السلام: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} ونحو ذلك ممَّا اقترحوه من أنبيائهم. وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ} مع قوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على (¬1) تشبيهين، تشبيه المقول بالمقول في المؤدَّى، والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور بلا رويّةٍ، بل بمجرد التشهي، واتباع الهوى، والاقتراح على سبيل التعنّت والعناد، لا على سبيل الإرشاد، وقصد الجدوى، والكاف في كذلك منصوب ¬

_ (¬1) روح البيان.

المحل على أنّه مفعول {قَالَ} وقوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} مفعول مطلق؛ أي: قال كفار الأمم الماضية، مثل ذلك القول الذي قالوه قولًا مثل قولهم فيما ذكر، فظهر أنَّ أحد التشبيهين لا يغني عن الآخر {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تماثلت قلوب هؤلاء ومَن قبلهم في العمى، والقسوة، والعناد، وهو استئنافٌ على وجه تعليل، تشابه مقالتهم بمقالة مَن قبلهم، فإنَّ الألسنة ترجمان القلوب، والقلب إن استحكم فيه الكفر، والقسوة، والعمى، والسفه، والعناد، لا يجري على اللسان إلّا ما ينبىء عن التَّعلُّل، والتَّباعد عن الإيمان. وقرأ ابن إسحاق (¬1)، وأبو حيوة {تشَّابهت} بتشديد الشين وقال: أبو عمرو الدانيُّ، وذلك غير جائز؛ لأنّه فعل ماض، يعني: أنّ اجتماع التائين المزيدتين لا يكون في الماضي، إنّما يكون في المضارع، نحو: تتشابه، وحينئذٍ يجوز فيه الإدغام، أمَّا الماضي، فليس أصله: تتشابه، وقد مرَّ نظير هذه القراءة في قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وخرَّجنا ذلك على تأويلٍ لا يمكن هنا؛ فليطلب تأويلٌ لهذه القراءة. والمعنى (¬2): أي تشابهت، وتماثلت، وتوافقت، قلوب هؤلاء المكذبين لك يا محمد! مع قلوب كفار الأمم الماضية المكذِّبين لأنبيائهم؛ أي: أشبهت قلوبهم بعضها بعضًا في الكفر، والقسوة، وطلب المحال، وإلّا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة، وفي هذا تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم - {قَدْ بَيَّنَّا} ووضَّحنا {الْآيَاتِ}؛ أي: الدلالات والمعجزات الدالَّة على صدقك، وصدق ما جئت به من الآيات القرآنية، والمعجزات الباهرة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ أي: لقوم ينصفون، فيوقنون، ويصدِّقون أنها آياتٌ يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها، أو المعنى {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ} أي (¬3): قد نزلناها بيّنة بأن جعلناها كذلك في أنفسها، كما في قولهم: سبحان من صغر البعوض، وكبَّر الفيل، لا أنّا بيَّناها بعد أن لم تكن بينةً {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ أي: لقوم يطلبون اليقين، واليقين أبلغ العلم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العمدة. (¬3) روح البيان.

[119]

وأوكده بأن يكون جازمًا؛ أي: غير محتمل للنقيض، وثابتًا؛ أي: غير زائل بالتشكيك بعد أن يكون مطابقًا للواقع، فالإيقان هنا مجازٌ عن طلب اليقين على طريق ذكر السبب وإرادة المسبَّب، ولا بُعْد في نصب الدلائل لطلَّاب اليقين ليحصِّلوه بها، وإنّما حمل على المجاز؛ لأنّ الموقن بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى نصب الدلائل، وبيان الآيات، فبيان الآيات له طلبٌ لتحصيل الحاصل. وفي الآيات (¬1): إشارةٌ إلى أنَّهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات، أو لطلب مزيد اليقين، وإنّما قالوه؛ عتوًّا وعنادًا، وحاصل (¬2) الجواب من الله تعالى: إنّا قد أيَّدْنا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزات، وبَيَّنَّا صدق ما جاء به بالآيات القرآنية، والمعجزات الباهرة، فكان طلب هذه الزوائد من باب التَّعنُّت، فإذا كان كذلك لم تجب إجابتها. 119 - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد! كافَةً للناس حالة كونك ملتبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالدِّين الحق، والهدى المستقيم، والقرآن العظيم، وحالة كونك {بَشِيرًا}؛ أي: مبشِّرًا للمؤمنين بالثواب الجسيم، وجنات النعيم {وَنَذِيرًا}؛ أي: ومنذرًا ومخوِّفًا للكافرين من العقاب الأليم، وعذاب الجحيم، فلا بأس عليك إن أصرُّوا، أو كابروا. والمعنى: إنَّ شأنك بعد إظهار صدقك في دعوى الرسالة بالدلائل، والمعجزات، ليس إلّا الدعوة والإبلاغ، والتبشير والإنذار، لا أنْ تجبرهم على القبول والإيمان، فلا عليك إن أصرُّوا على الكفر والعناد، فإنَّ الأحوال أوصافٌ لذي الحال، والأوصاف مقيِّدةٌ للموصوف {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ما لَهُمْ يؤمنوا بعد أن بَلَّغْتَ، والجحيم: المكان الشديد الحرِّ، والمتأجِّجُ من النار؛ أي: ولست يا محمد! بمسؤولٍ عن أصحاب النار؛ أي: وليس عليك عهدةٌ وتبعةٌ في عدم إيمانهم بعد ما بلَّغت ما أرسلت به، وبذلت جهدك في دعوتهم، إنَّما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، وذلك أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنَّ الله عزَّ وجلّ أنزل بأسه باليهود لآمنوا" فأنزل الله هذه الآية. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراح.

[120]

وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا تُسْأَلُ} بضمّ التاء واللام. وقرأ أُبيٌّ {وما تُسألُ} بضمّ التاء واللام. وقرأ ابن مسعود: {ولن تُسأَل} وهذا كُلَّه على الخبر والنفي، فالقراءة الأولى، وقراءة أُبيٍّ، يحتمل أن تكون الجملة فيهما مستأنفةً، وهو الأظهر، ويحتمل أن تَكون في موضع الحال، وأمَّا قراءة ابن مسعود، فيتعيَّن فيها الاستئناف، والمعنى: على الاستئناف إنَّك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا؛ لأنَّ ذلك ليس إليك {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} في ذلك تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم، فكأنَّه قيل: لست مسؤولًا عنهم، فلا يحزنك كفرهم، وفي ذلك دليلٌ: على أنَّ أحدًا لا يسأل عن ذنب أحدٍ، ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وأمَّا الحال، فعطفٌ على ما قبلها من الحال، أي: وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون، فيكون قيدًا في الإرسال بخلاف الاستئناف. وقرأ نافعٌ، ويعقوبٌ {ولا تَسْأَلْ} بفتح التاء وجزم اللام على النهي؛ أي: (¬2) لا تسأل يا محمد! عن حال كفار أهل الكتاب التي تكون لهم يوم القيامة، ولا يمكنك في هذه الدار الاطلاع عليها، وذلك إعلامٌ بكمال شدّة عقوبة الكفار، فلا يستطيع السامع أن يسمع خبرها، ولا يصبر على استماعه لشدّتها 120 - {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ} يا محمد! {الْيَهُودُ} ولن تحب دينك، ولو خلَّيتهم وشأنهم حتى تتبع دينهم وقبلتهم {وَلَا} ترضى يا محمد! {النَّصَارَى} ولن تحبّ دينك، ولو تركتهم ودينهم {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وتصلِّي إلى قبلتهم. قال الواحديُّ: الآية نزلت في تحويل القبلة، وذلك أنّ اليهود والنصارى كانوا يرجون أن يرجع محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إلى دينهم، فلمَّا صرف الله القبلة إلى الكعبة، شقَّ عليهم، وأيسوا منه أن يوافقهم، فأنزل الله تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} يعني: دينهم وتُصلِّي إلى قبلتهم، وفي الآية مبالغةٌ في إقناط الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من طمعه في إسلامهم، حيث علَّق رضاهم عنه بما لا سبيل إليه، وما يستحيل وجوده، فإنَّهم إذا لم يرضوا عنه حتّى يتَّبع ملتهم، فكيف يتَّبعون ملَّته؟ أي: دينه، فكأنَّهم قالوا: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

لن نَرْضى عنك، وإن أبلغْتَ في طلب رضانا حتى تتَّبعَ ملتنا إقْناط منهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخولهم في الإِسلام، فذكر الله سبحانه كلامهما، والمعنى: أي: لن ترضى عنك اليهود إلّا بالتهوُّد والصلاة إلى قبلتهم وهي المغرب، ولا النصارى إلّا بالتنصُّرِ والصلاة إلى قبلتهم وهي المشرق، ووحَّدَ الملّة؛ لأنّ الكفر ملّةٌ واحدةٌ. {قُل} لهم يا محمد! ردًّا لقولهم لك: لن نرضى عنك حتى تَتَّبع ملّتنا، وتصلي إلى قبلتنا، بطريق قصر القلب {إِنَّ هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إنّ دين الله الذي هو الإِسلام، وقبلته التي هي الكعبة {هُوَ الْهُدَى}؛ أي: هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ليس وراءه هدى، والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى، إنّما هو هوى، ألا ترى إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ}؛ أي: وعزّتي وجلالي: لئن اتبعت، وسايرت يا محمد! على سبيل الفرض والتقدير {أَهْوَاءَهُمْ} الفاسدة، وآراءَهم الزائغة، ومللهم الباطلة، وقبلتهم العاطلة، وهي التي عبَّر عنها فيما قَبْلُ بملّتهم، إذ هي التي ينتمون إليها، وأمّا ما شرعه الله تعالى من الشرعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي المعنى الحقيقيُّ للملَّة، فقد غيروها تغييرًا، والأهواء: جمع هوًى: وهو رأيٌ عن شهوة داعٍ إلى الضلال، وسُمِّي بذلك؛ لأنّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهيةٍ، وفي الآخرة إلى الهاوية. وإنّما قال: {أَهْوَاءَهُمْ} بلفظ الجمع، ولم يقل: هواهم؛ تنبيهًا على أنَّ لكل واحد هوًى غير هوى الآخر، ثم هوى كُلِّ واحد منهم لا يتناهى، فلذلك أخبر سبحانه أنّه لا يرضى الكُلُّ إلّا باتباع أهواء الكل. واعلم: أنّ الطريقة المشروعة تسمَّى ملّة باعتبار أنَّ الأنبياء الذين أظهروها قد أملوها، وكتبوها لأُمَّتهم، كما أنَّها تسمَّى دينًا باعتبار طاعة العباد لمن سنَّها، وانقيادهم لحكمه، وتسمَّى أيضًا شريعة باعتبار كونها موردًا للمتعطِّشين إلى زُلاَلِ ثوابه ورحمته. {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والبيان بأنَّ دين الله هو الإِسلام، وأنَّ ما هم عليه ضلالٌ، أو بعد ما ظهر لك الحقُّ بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، أو بعد القرآن الموحى إليك، وهو حالٌ من فاعل جاءك {مَا لَكَ} يا محمد! {مِنَ اللَّهِ}؛

أي: من عذاب الله، أو من جهته العزيزة، وهو جواب لئن {مِنْ وَلِيٍّ}؛ أي: قريب ينفعك ويحفظكَ منْ عَذَابِه، من الولي، وهو القرب {وَلَا نَصِيرٍ}؛ أي: ولا ناصر ينصرك ويدفع عنك عذابه، وتقدَّم لك، أنَّ الفرق بين الولي، والنصير: العموم والخوص من وجهٍ؛ لأنَّ الوليَّ قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيًّا عن المنصور، كما يكون من أقرباء المنصور، وهو مادَّة اجتماعهما، وقوله: {مِنْ وَلِيٍّ} مرفوع على الابتداء، و {لَكَ} خبره، و {مِنَ} صلةٌ، وقوله: {مِنَ اللَّهِ} منصوب المحلِّ على أنّه حال؛ لأنّه لما كان متقدِّمًا على قوله {مِنْ وَلِيٍّ} امتنع أن يكون صفةً له، ونظيره قوله: لِمَيَّة موحشًا طللُ والخطاب في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} متوجِّهٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة، وقيل: المراد به: أمّته، والمعنى: حينئذٍ إيّاكم أُخاطب، ولكم أُؤَدِّب وأنهى، فقد علمتم أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد جاءكم بالحق والصدق، وقد عصمته، فلا تتبعوا أنتم أهواء الكافرين، ولئن اتبعتم أهواءَهم بعد الذي جاءكم من العلم والبيان، ما لكم من الله من وليّ ولا نصير، وما قيل على القول الأوّل (¬1): من أنّه تعالى حكم بعصمة الأنبياء، وعلم منهم أنّهم لا يعصون له، ولا يخالفون، ولا يرتكبون ما نهى عنه، فكانت عصمتهم واجبةً، فلا وجه لتحذيرهم عن اتباع هوى الكفرة، فوجب أن يكون التحذير متوجِّهًا إلى الأمّة لا إلى أنفسهم، فالجواب عنه: أنّ التكليف والتحذير؛ إنّما يعتمد على كون المكلف به محتملًا، ومتصوَّرًا في ذاته من حيث تحقُّق ما يتوقف عليه وجوده من الآلات، والقوى، والامتناع الحاصل من حكمه تعالى، بعصمتهم، وعلمه بها، امتناعٌ بالغير، وهو لا ينافي الإمكان الذاتي الذي هو شرط التكليف، والتحذير، فثبت أنّ الخطاب متوجِّهٌ إليه - صلى الله عليه وسلم - حقيقةً، فلا اعتراض. ولمَّا ذكر سبحانه قبائح المتعنِّتين الطالبين للرئَاسة من اليهود والنصارى، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[121]

أتبع ذلك بمدح من ترك طريق التعنت وحبَّ الرئَاسة منهم، وطلب مرضاة الله تعالى، وحسن ثواب الآخرة، وآثره على الحظوظ العاجلة الفانية، فقال: 121 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من قبلك يا محمد! من مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وبحيرا الراهب وأصحابه، والنجاشيِّ وأصحابه، من الذين أسلموا من اليهود والنصارى، وإنّما خصَّهم بذكر الإيتاء؛ لأنّهم هم الذين عملوا به فخُصُّوا به، والكتاب التوراة والإنجيل، واسم الموصول مبتدأ أول، خبره جملة قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل حال كونهم {يَتْلُونَهُ}، أي: يتلون ذلك الكتاب ويقرؤونه {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} بمراعاة لفظه عن التحريف، وبالتدبُّر في معانيه، والعمل بما فيه، وهو حال مقدَّرةٌ من الضمير المنصوب في آتيناهم، أو من الكتاب؛ لأنّهم لم يكونوا تالين له وقت الإيتاء، وقوله (¬1): {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} نعتٌ لمصدر محذوف دلَّ عليه الفعل المذكور؛ أي: يتلونه تلاوةً حقَّ تلاوته، واختار الكواشيُّ كونه منصوبًا على المصدرية على تقدير تلاوة حقًّا، فإنَّ نعت المصدر إذا قدم عليه، وأضيف إليه نصب المصادر، نحو: ضربت أشدَّ الضرب، بنصب أشدَّ على المصدرية، والمعنى: أي: يقرؤونه قراءةً حقَّةً، كما أنزل، لا يغيّرونه، ولا يحرّفونه، ولا يبدّلون ما فيه من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل المعنى: أي يتبعونه حقَّ اتباعه، فيحلُّون حلاله، ويحرِّمون حرامه، ويبيِّنون أمره ونهيه لمن سألهم {أُولَئِكَ} الذين يتلونه حقَّ تلاوته هو مبتدأٌ ثان، خبره قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ}، أي: بكتابهم المستلزم إيمانهم به الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - دون المحرِّفين، فإنّ بناء الفعل على المبتدأ، وإن كان اسمًا ظاهرًا يفيد الحصر، مثل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أو يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن المنزَّل عليه {وَمَنْ يَكْفُرْ} أي: بالكتاب المؤتى له بأن يغيِّره، ويحرِّفه، ويجحد ما فيه من فرائض الله، ونبَّوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: سواءٌ كان كفرهم بنفس التحريف، أو بغيره، كالكفر بالكتاب الذي يصدِّقه، أو يكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن {فَأُولَئِكَ} الذين كفروا بكتابهم، أو بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - {هُمُ} لا غيرهم {الْخَاسِرُونَ} أي: الهالكون، المغبونون ¬

_ (¬1) روح البيان.

[122]

الذين خسروا في الدنيا والآخرة، حيث اشتروا الكفر بالإيمان؛ لمصيرهم إلى النار المؤبَّدة عليهم. 122 - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} لمّا صدر (¬1) قصّتهم بالأمر بذكر النعم، والقيام بحقوقها، والحذر من إضاعتها، والخوف من الساعة وأهوالها، كرَّر ذلك وختم به الكلام معهم؛ مبالغةً في النصح لهم؛ وإيذانًا بأنّه فذلكة القصة، والمقصود من القصة، والمعنى: يا بني إسرائيل! اذكروا أيادييّ لديكم، وصنعي بكم، واستنقاذي إيّاكم من أيدي العدو في نعم كثيرة أنعمت بها عليكم، ومن جملة النعم: التوراة، وذكر النعمة إنّما يكون بشكرها، وشكرها الإيمان بجميع ما فيها، ومِنْ لازم الإيمان بها الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة ما فيها {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ أي: واذكروا تفضيلي إيّاكم على عالمي زمانكم بكثرة الأنبياء فيكم، وإعطاء التوراة لكم. 123 - {وَاتَّقُوا يَوْمًا}؛ أي: واخشوا، وخافوا عذاب يوم رهيب، وهو يوم القيامة {لَا تَجْزِي} ولا تدفع فيه، تقول: جزى عنّي هذا الأمر يجزي، كما تقول: قضى عنّي يقضي وزنًا، ومعنى؛ أي: لا تقضي في ذلك اليوم {نَفْسٌ} من النفوس، أو نفسٌ مؤمنةٌ {عَنْ نَفْسٍ} أخرى أو كافرةٍ {شَيْئًا} من الحقوق التي لزمتها؛ أي: لا تقضي نفسٌ ليس عليها شيءٌ شيئًا من الحقوق التي وجبت على نفسٍ أخرى؛ أي: لا تؤخذ نفسٌ بذنب أخرى، ولا تدفع شيئًا، وأمّا إذا كان عليها شيءٌ، فإنّها تجزي وتقضي بغير اختيارها، بما لها من حسناتها ما عليها من الحقوق، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرض، أو غيره، فليستحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه". {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا}؛ أي: من النفس الأولى أو الكافرة {عَدْلٌ}؛ أي: فداءٌ، وهو بفتح العين: الفدية، وهي ما يماثل الشيء قيمةً، وإن لم يكن من جنسه، والعِدْل بالكسر: ما يساوي، الشيء في الوزن والجرم من جنسه. والمعنى: لا يؤخذ منها فديةٌ تنجو بها من النار، ولا تجد ذلك لتفتدي به، ¬

_ (¬1) العمدة.

[124]

وسميت الفدية عدلًا؛ لأنّها تعادل ما يقصد إنقاذه وتخليصه، يقال: فداه إذا أعطى فداءه فأنقذ {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} شافع؛ لأنّها كفرت بالله {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}؛ أي: يمنعون من عذاب الله تعالى؛ أي: ولا الكفار ينصرون فيه؛ أي: يمنعون فيه ممَّا يريد الله بهم من الانتقام الأليم؛ أي: لا يدفع عنهم أحدٌ عذاب الله، ولا يجيرهم من سطوة عذابه. والمعنى: أي: واتقوا يا معشر بني إسرائيل! المبدِّلين كتابي، المحرِّفين له عن وجهه، المكذّبين برسولي محمد - صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفسٌ بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئًا. وفي "الصحيحين": "يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت! لا أغني عنك من الله شيئًا" ولا يؤخذ فيه من نفسٍ فديةٌ تنجو بها من النار، إذ هي لا تجد ذلك لتفتدي به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقٍّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفرات تؤخذ فديةٌ عمَّا فرَّطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله تعالى أنّه لا يقوم مقام الاهتداء به شيءٌ آخر، وأنّهم لا يأتيهم ناصر ينصرهم، فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم، وهذا ترهيبٌ لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها. 124 - {و} اذكر يا محمد! لقومك قصّة {إذ ابتلى} اختبر وكلَّف {إبراهيم} عليه السلام، وهو اسم أعجميٌّ معناه: أبٌ رحيمٌ، قال السهيليُّ: وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو تقاربه في اللفظ ألا ترى: أن إبراهيم تفسيره: أب رحيم؛ لمرحمته بالأطفال {رَبُّهُ} سبحانه وتعالى، والضمير لإبراهيم، وقُدّم المفعول لفظًا وإن كان مؤخّرًا رتبةً؛ لاتصال الفاعل بضميرٍ يعود عليه؛ وللاهتمام به، فإنّ الذهن يتشوَّق، ويطلب معرفة المبتلى، والابتلاء في الأصل: الامتحان والاختبار، والتكليف بالأمر الشاقِّ؛ ليُعلم ما جُهل من حال الإنسان، من جودته، أو رداءته، ولكن ابتلاء الله سبحانه لعباده ليس ليعلم ما خفي عليه من أحوالهم؛ لأنّه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد؛ ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة أو رداءة، فالمراد هنا: عامله معاملة المختبر؛ ليظهر ذلك للخلق، فاختبر إبراهيم، فظهر صدقه، وإبليس، فظهر كذبه؛ أي: واذكر وقت اختباري إبراهيم، والمقصود من ذكر

الوقت، ذكر ما، وقع فيه من الحوادث؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليها، فإذا استحضر كانت حاضرةً بتفاصيلها، كأنّها مشاهدةٌ عيانًا {بِكَلِمَاتٍ}؛ أي: اختبره، وكلَّفه بأوامر ونواهٍ {فَأَتَمَّهُنَّ} إبراهيم، وأدَّاهُنَّ أحسن التأدية، وقام بهنّ حقَّ القيام من غير تفريط، ولا تقصير، ولا توان، ولذا قيل: لم يُبْتَلَ أحدٌ بهذا الدين، فأقامه كلَّه إلا إبراهيم، فكتب الله له البراءة، فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} والقرآن الكريم لم يعيِّن تلك الكلمات، ولذلك اختلف المفسّرون في تفسير تلك الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام، فقال عكرمة عن ابن عباس: هي ثلاثون من شرائع الإسلام: عشرٌ في براءة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ...} إلخ. وعشرٌ في الأحزاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} إلخ. وعشرٌ في المؤمنون إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وفي سأل: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}. وقال طاووس عن ابن عباس: ابتلاه الله بعشرة أشياء هي: الفطرة: خمسٌ في الرأس الشامل للوجه: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء؛ أي: غسل مكان الغائط والبول بالماء، وأمَّا بالحجر، فهو من خصائص هذه الأمّة. كانت فرضًا في شرعه، وهي سنة في شرعنا، وقال قتادة: هي مناسك الحج؛ أي: فرائضه، وسننه، كالطواف، والسعي، والرَّمى، والإحرام، والتعريف، وغيرهنَّ. وقال الحسن: ابتلاه الله بذبح ولده، فصبر على ذلك، وابتلاه بالنظر في الكواكب، والشمس والقمر، إقامةً للحجة على قومه، فأحسن النظر في ذلك، وعرف أن ربّه دائم لا يزول، ثمّ ابتلاه بالهجرة من وطنه، فخرج مهاجرًا إلى الله، ثم ابتلاه بالإلقاء في النار، فصبر عليها، وبالختان بعد الكبر، فصبر عليه، وهذا القول الأخير أرجح ما قيل هنا، وفي الخبر: أنّ إبراهيم أوّل من قصّ الشارب، وأوّل من اختتن، وأوّل من قلّم الأظفار، وأوّل من رأى الشيب، فلمّا رآه قال: يا ربّ! ما هو؟ قال: الوقار، قال: يا ربّ! زدني وقارًا. وقرأ الجمهور {إِبْرَاهِيمَ} بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين، زاد هشام أنّه قرأ كذلك في إبراهيم والنحل ومريم

والشورى والذاريات والنجم والحديد وأول الممتحنة وثلاثةٍ آخر النساء وآخر التوبة وآخر الأنعام والعنكبوت وقرأ المفضّل إبراهام بألفين إلّا في التوبة والأعلى. وقرأ ابن الزبير (إبراهام) أيضًا، وقرأ أبو بكرة (إبراهم) بألفٍ وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور: بنصب {إبْرَاهِيمَ} ورفع {رَبُّهُ}، وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة: برفع {إبراهيمُ} ونصب {ربَّهُ}، والمعنى حينئذٍ: وإذا دعا إبراهيم ربَّه بكلمات؛ أي: بدعواتٍ، فأتَّمهنّ الله تعالى؛ أي: فأجابهنّ، وأعطاه إياهنّ، وتلك الدعوات، كقوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} وقولهُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} وقوله {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، وإبراهيم الخليل عليه السلام، هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو خليل الله بن تارخ، وهو آزر بن ناخور، بن شاروخ بن أرغو، بن فالغ، بن عابر، وهو هود النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بن شالح، بن أرفَخْشَذْ، بن سام، بن نوح عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز، وقيل: بكوثى، وقيل: ببابل، وقيل: بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان، وقوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ} كلام مستأنف أيضًا واقعٌ في جواب سؤال مقدّر، كأنّه قيل: فماذا قال له ربُّه حين أتمَّ الكلمات؟ فقيل: {قَالَ} الله تعالى لإبراهيم بعدما أتمهنَّ {إِنِّي جَاعِلُكَ} ومُصَيِّرُكَ {لِلنَّاسِ إِمَامًا} يأتمون به في هذه الخصال، ويقتدى به الصالحون، فهو نبي في عصره، ومقتدًى به لكافة الناس إلى يوم القيامة؛ أي: جاعلك قدوة لهم في الدين إلى يوم القيامة، إذ لم يبعث بعده نبيٌّ إلّا كان من ذريته مأمورًا باتباعه في الجملة، والمعنى: أي؛ ثُمَّ قال له ربّه: يا إبراهيم! إنّي مصيِّرك إمامًا للناس في الخيرات، يقتدون بأفعالك، ويهتدون بهديك، ويستنون بسنتك، فلذلك اجتمعت أهل الأديان كلُّهم على تعظيمه، وجميع أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون في آخر صلاتهم: اللهمّ صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وقوله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} كلام مستأنف أيضًا واقعٌ في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال إبراهيم عنده؟ فقيل: {قَالَ} إبراهيم {و} اجعل يا ربّ! {مِنْ ذُرِّيَّتِي}؛ أي: من بعض أولادي أئمّةً يقتدى بهم في الدين؛ أي: أنبياء وملوكًا عدولًا، وعلماء يقتدى بهم، وتخصيص البعض بذلك؛ لبداهة استحالة

إمامة الكل، وإن كانوا على الحق، وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} عطفٌ على الكاف في {جَاعِلُكَ} و {من} تبعيضية متعلِّقة بجاعل؛ أي: وجاعل بعض ذريتي إمامًا يقتدى به؛ أي: اجعل، لكنَّه راعى الأدب بالاحتراز عن صورة الأمر. وقرأ زيد بن ثابت {ذُرِّيَّتِي} بكسر الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها وليست في المتواتر عنه. وقرأ الجمهور بالضمّ، وهي لغاتٌ فيها، وقوله: {قَالَ لَا يَنَالُ} كلام مستأنف أيضًا واقعٌ في جواب سؤال مقدّر، كأنّه قيل: فماذا قال الرب جلَّ جلاله؟ فأجيب: {قال} الله سبحانه وتعالى لإبراهيم {لَا يَنَالُ} ولا يصيب {عَهْدِي}؛ أي: لا يصل ما عهدته، ووعدته لك من الإمامة، والنبوة في أولادك إلى {الظَّالِمِينَ} والكافرين منهم، يعني: أنّ أولادك منهم مسلمون، وكافرون، فلا تصل الإمامة والاستخلاف بالنبوة الذي عهدت إليك من كان ظالمًا من أولادك، وغيرهم، وإنما ينال عهدي من كان بريئًا من الظلم؛ لأنَّ الإِمام لمنع الظلم، فكيف يجوز أن يكون ظالمًا؟! وإن جاز، فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب الغنم ظلم. ودلَّت الآية بمفهومها على أنّه ينالها ويصيبها غير الظالم؛ يعني: من كان ظالمًا من أولادك، لا يكون إمامًا وقدوة للناس؛ لأنّ الإمامة في أوليائه لا في أعدائه. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء {الظالمون} بالرفع على الفاعلية و {عَهْدِي} مفعول به؛ لأنّ العهد يَنال كما يُنال، أي: عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه، ولا يُدْرِكُونَهُ، ومعنى: عهدي نبوّتي، وفي هذا دليلٌ على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر. وفي (¬1) ذكر الظلم مانعًا من الإمامة، تنفيرٌ لذرية إبراهيم منه، وتبغيضٌ لهم فيه ليتحاموه، ويُنَشِّئُوا أولادهم على كراهته كيلا يَقَعُوْا فيه ويُحرَموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، كما هو تنفيرٌ من الظالمين، وعن مخالطتهم، فالإمامة الصالحة لا تكون إلّا لذوي النفوس الفاضلة التي تَسوق صاحبهَا إلى خير العمل، وتَزَعُهُ عن الشرورِ والآثام، ولا حظَّ للظالمين في شيء من هذا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[125]

والخلاصة: أنَّ الإمامة والنبوة لا ينالها من دنس نفسه، ودسّاها بالظلم، وقبيح الخلال، وإنّما ينالها من شرفت خلاله، وكملت أخلاقه، وصفت نفسه؛ لأنَ أهمَّ أعمال الإِمام رفع الظلم والفساد، حتى ينتظم العمران، وتَسُود السكينةُ بين الناس. 125 - {و} اذكر يا محمد! لقومك قصة {إذ جعلنا البيت}؛ أي: الكعبة، أو جميع الحرم، فإنَّه تعالى وصفه بكونه آمنًا، وهذا صفة جميع الحرم {مَثَابَةً} أي: مرجعًا ومعادًا {لِلنَّاسِ} يعودون إليه، ويقضون منه وطرًا، كلما انصرفوا اشتاقوا إليه، فإنّهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم، وبأمثالهم، كما قاله الحسن، أو المراد: لا ينصرف عنه أحد إلّا وهو يتمنّى العود إليه، كما قاله ابن عباس ومجاهد، أو المعنى: جعلنا الكعبة موضع ثواب، يثابون بحجِّهِ واعتماره، وعبارة "الروح" هنا: أي: (¬1) واذكر يا محمد! لقومك قصة وقت تصييرنا الكعبة المعظَّمة {مَثَابَةً} كائنةً للناس؛ أي: مباءةً، ومرجعًا للحجَّاج والمعتمرين، يتفرَّقون عنه، ثم يثوبون إليه؛ أي: يرجع إليه أعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرّةً بعد أخرى، أو يرجع أمثالهم وأشباههم في كونهم وفد الله، وزوار بيته، فإنَّهم لما كانوا أشباهًا للزائرين أوَّلًا، كان ما وقع منهم من الزيارة ابتداءً بمنزلة عود الأوَّلين، فتعريف الناس؛ للعهد الذهنيِّ، وهم الزوار؛ أو للاستغراق، كما سيأتي، والتاء في {مثابة}؛ للمبالغة لكثرة ما يثوب إليه، قاله الأخفش؛ أو لتأنيث المصدر؛ أو لتأنيث البقعة، كما يقال: مقامٌ ومقامةٌ، قال الشاعر: ألَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةْ ... فَهَلْ يُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِها ذكَّرَ رَحْبًا على مراعاة المكان، وأنث فسيحةً على اللفظ، وقرأ الأعمش، وطلحة: {مثاباتٍ} على الجمع، وقال ورقة بن نوفل: مَثابًا لأفناء القبائل كُلِّها ... تَخِبُّ إلَيْهَا اليَعْمُلاتُ الطَّلائِحُ ويروى الذَّوابل، ووجه قراءة الجمع: أنَّه مثابةٌ لكل من الناس لا يختصُّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

به واحدٌ منهم، سواء العاكف فيه والباد. وقال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب؛ أي: يحجونه في كل عام، فهم يتفرقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم، أو أمثالهم، ولا يقضي أحدٌ منهم وطرًا، وقال الشاعر: جَعَلَ البَيْتَ مَثَابًا لَهُمُ ... لَيسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ وقال ابن عباس: معاذًا وملجأً، وقال قتادة والخليل: مجمعًا، والألف واللام في قوله: {لِلنَّاسِ} إمّا لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أنَّ الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإمَّا للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. {وَأَمْنًا}؛ أي: محلَّ أمنٍ لمن يسكنه ويلجأ إليه من الأعداء، والخسف، والمسخ، فإنّ المشركين كانوا لا يتعرَّضون لسكان الحرم، ويقولون: البيت بيت الله، وسكَّانه أهل الله، بمعنى: أهل بيته، وكان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم، فلا يتعرَّض له، ويتعرَّضون لمن حوله، وهذا شيء توارثوه من دين إسماعيل عليه السلام، فبقوا عليه إلى أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يأمن لمن حجَّه من عذاب الآخرة من حيث إنّ الحج يجبُّ ما قبله؛ أي: يقطع ويمحو ما وجب قبله من حقوق الله تعالى غير الماليَّة، مثل: كفارة اليمين، وأمَّا حقوق العباد، فلا يجبُّها الحجُّ. {و} قلنا {اتخذوا}؛ أي: اجعلوا يا أمّة محمد! لأنفسكم {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام؛ أي: عند مقام إبراهيم {مُصَلًّى}؛ أي: موضع صلاة، فمن هنا بمعنى: عند، والعندية تصدق بجهاته الأربع، والتخصيص بكون المصلى خلفه، إنّما استفيد من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل الصحابة بعده؛ أي: واذكر إذ جعلنا البيت مثابةً، وقلنا لكم: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهو على تقدير القول؛ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار، ومقام إبراهيم: الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت، وفيه أثر قدميه، أو الموضع الذي كان فيه حين قام عليه، ودعا الناس إلى الحج، أو حين رفع بناء البيت، والذي يسمى اليوم مقام إبراهيم هو موضع ذلك الحَجَر. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور {وَاتَّخِذُوا} بكسر الخاء على صيغة الأمر، فلا بدّ على هذه القراءة من تقدير

القول، كما مرّ آنفًا. وقرأ نافع، وابن عامر {وَاتَّخِذُوا} بفتحها، جعلوه فعلًا ماضيًا عطفًا على {جَعَلْنَا}؛ أي: واتَّخذ الناس مقامه الموسوم به؛ يعني: الكعبة قبلةً يصلُّون إليها، فهو إخبار عن قوم إبراهيم أنّهم اتخذوا من مقامه مصلى. وفي "الفتوحات" قرأ نافع، وابن عامر: {وَاتَّخِذُوا} فعلًا ماضيًا على لفظ الخبر، والباقون على صيغة الأمر، فأمَّا قراءة الخبر، ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنّه معطوف على {جَعَلْنَا} المخفوض بإذ تقديرًا، فيكون الكلام جملة واحدة. الثاني: أنّه معطوف على مجموع قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا} فيحتاج إلى تقدير: إذ؛ أي، وإذ اتخذوا، ويكون الكلام جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء: أن يكون معطوفًا على محذوف، تقديره: فثابوا واتخذوا. وأمّا قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه: أحدها: أنّه عطف على {اذْكروا} إذ قيل إنَّ الخطاب هنا لبني إسرائيل؛ أي: اذكروا نعمتي، واتخذوا. الثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تضمنه قوله {مَثَابَةً} كأنَّه قال: ثوبوا، واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المهدويّ. الثالث: أنّه معمولٌ لقول محذوف؛ أي: وقلنا اتخذوا بأن قيل: إنّ الخطاب لإبراهيم وذرّيته، أو لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمّته. الرابع: أن يكون مستأنفًا. اهـ. "سمين". وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أنّ إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت، وإسماعيل يناول الحجارة، ويقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}! فلمَّا ارتفع البنيان، وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة، قام على حجرٍ وهو مقام إبراهيم عليه السلام فبناء البيت كان متأخرًا من بناء مكة، وكُلّ منهما في زمن إبراهيم، أمّا الأول، فبناء إبراهيم، وأمّا الثاني، فبناء طائفة من جرهم، كما في تاريخ مكة.

وروي: أنّه لمَّا أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر، ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مُدّةٌ، ونزلها الجرهميُّون، وتزوَّج إسماعيل منهم امرأة، وماتت هاجر، استأذن إبراهيم سارة في أن يأتي هاجر، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيَّد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم، فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليست عندي، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدّةٍ، فشكت إليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: فليغيِّر عتبة بابه، والمراد: ليطلِّقكِ، فإنّك لا تصلحين له امرأةً، وذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل، فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحدٌ؟ قالت: جاءني شيخٌ صفته كذا وكذا، كالمستخفَّة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيِّر عتبة بابه، قال: ذلك أبي، وقد أمرني أن أُفارقك، ألحقي بأهلك، فطلَّقها وتزوَّج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثُمَّ استأذن سارة في أن يزور إسماعيل، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيَّد، وهو يجيء الآن إن شاء الله، فأنزل رحمك، قال: هل عندك ضيافةٌ؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن، واللحم، وسألها عن عيشهم؟ قالت: نحن في خير وسعة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذٍ بخبز بُرٍّ، أو شعيرٍ، أو تمرٍ لكانت أكثر أرض الله بُرًّا، أو شعيرًا، أو تمرًا، وقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءت بالمقام فوضعته على شقِّه الأيمن، فوضع قدمه عليه وهو راكبٌ، فغسلت شقَّ رأسه الأيمن، ثمّ حوَّلته إلى شقه الأيسر، فغسلت شقَّ رأسه فبقي أثر قدميه عليه، وقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت بابك، فلمَّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، جاء شيخٌ أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم ريحًا، فقال لي: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذلك إبراهيم، وأنت عتبة بابي، أمرني أن أمسكك، ثُمَّ لبث عنهم ما شاء الله، ثُمَّ جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلًا تحت دوحة قريبة من زمزم، فلمَّا رآه قام

إليه، فصنع كما يصنع الولد بالوالد، ثمّ قال: يا إسماعيل! إنّ الله أمرني بأمرٍ، أتعينني عليه؟ قال: أعينك عليه، قال: أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجر، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. ثمَّ لمَّا فرغ من بناء الكعبة قيل له: أَذِّنْ في الناس بالحج، فقال: أنادي وأنا بين الجبال! ولم يحضرني أحدٌ! فقال الله: عليك النداء، وعليَّ البلاغ، فصعد أَبَا قُبيسٍ، وصعد هذا الحجر، وكان قد خُبىءَ في أبي قُبيسٍ أيامَ الطوفان، فارتفع هذا الحجر حتى علا كُلَّ حجر في الدنيا، وجمع الله له الأرض كالسفرة، فنادى: يا معشر المسلمين! إنّ ربّكم بنى لكم بيتًا، وأمركم أن تحجُّوه، فأجابه الناس من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، فمن أجابه مرّةً حجَّ مرة ومن أجابه عشرًا حج عشرًا. وفي الحديث: "إنَّ الركنَ والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا مماسة أيدي المشركين لأضاءتا. ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ" والمرادُ منهما: الحجر الأسود والحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت. {و} اذكر يا محمد! لأمّتك قصّة إذ {عهدنا} وأوصينا {إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وأمرناهما بـ {أن} أسِّسا بيتي على التقوى و {طَهِّرَا بَيْتِيَ} من الأوثان والأنجاس كُلِّها؛ يعني: الكعبة وأضافه إليه؛ تشريفًا له؛ أي: عهدنا إليهما، وأمرناهما أمرًا مؤكَّدًا، ووصَّينا إليهما، فإنَّ العهد قد يكون بمعنى الأمر والوصيّة، يقال: عهد إليه؛ أي: أمره ووصَّاه، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} وسمَّاه بيته؛ لأنّه جعله معبدًا للعبادة الصحيحة، وأمر المُصلِّين بأن يتوجَّهُوا إليها، وفي إبراهيم (¬1) سبع لغات: أشهرها إبراهيم بألفٍ وياءٍ، وإبراهام بألفين، والثالثة: إبراهم بألف بعد الراء وكسر الهاء دون ياء، الرابعة: كذلك إلّا أنّه بفتح الهاء، والخامسة: كذلك إلّا أنّه بضمّ الهاء، السادسة: أبْرَهَم بفتح الهاء ¬

_ (¬1) الفتوحات.

من غير ألف وياء، السابعة: أبراهوم بالواو. اهـ. "سمين". وإسماعيل: اسم أعجمي، وفيه لغتان: اللام والنون، ويجمع على سماعلة، وسماعيل، وأساميع، ومن أغرب ما نقل في تسميته: أنَّ إبراهيم لما دعا الله تعالى أن يرزقه ولدًا، كان يقول في دعائه: اسمع إيل! اسمع إيل! وإيل: اسم الله تعالى بالسريانية، فلمَّا ولد سمَّاه بذلك؛ أي: أمرناهما، وألزمناهما، وأوجبنا عليهما أن طهِّرا بيتي؛ أي: أن أسساه وابنياه على التوحيد، وطهِّراه من الأوثان والأنجاس، وعن كُلِّ ما لا يليق به من كُلِّ رجسٍ حسيٍّ ومعنوي، كاللغو، والرَّفث، والتنازع فيه حين أداء العبادات، كالطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والعكوف فيه، وكالشرك، والرياء، والسمعة، إلى غير ذلك، والمراد: احفظاه من أن ينصب حوله شيءٌ منها، وأقراه على طهارته، وإلّا لم يكن هناك إذ ذاك أوثانٌ عند البيت حتى يطهَّر منها، ونظيره قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فإنّهنّ لم يُطهَّرن من نجس، بل خلقهن طاهراتٍ، كقولك للخياط: وسِّع كم القميص، فإنّك لا تريد أن تقول: أزل ما فيه من الضِّيق، بل المراد: اصنعه ابتداءً واسع الكمّ. والحكمة في جعل الله سبحانه معبدًا لعباده، وهو هذا البيت؛ لأنَّ الخلق في حاجةٍ إلى التوجّه إلى خالقهم بشكر، والثناء عليه، والتوسّل إليه لاستمداد رحمته، ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجودٍ غيبيٍّ، لا يتقيَّد بمكان، ولا ينحصر في جهة، فعيَّن لهم مكانًا نسبه إليه رمزًا إلى أنَّ ذاته المقدَّسة تحضره والحضور الحقيقيُّ مَحالٌ عليه، فالمراد: أنَّ رحمته الإلهية تحضره، ومن ثمَّ كان التوجُّه إلى هذا المكان، كالتوجُّه إلى تلك الذات العليَّة لو وجد العبد إلى ذلك سبيلًا، وانظر حكمة تخصيص هذه البقعة من بين بقاع الأرض باتخاذه معبدًا، فإنَّه من الذخائر المدفونة في قلوب خواص عباده. {لِلطَّائِفِينَ}؛ أي: للزائرين الدائرين حوله {وَالْعَاكِفِينَ}؛ أي: المقيمين عنده، والمعتكفين فيه؛ أي: المجاورين الذين عكفوا عنده؛ أي: أقاموا عنده لا يرجعون، ولا يذهبون، ولا يرتحلون منه، وهذا في أهل الحرم، والأول؛ أعني: الطائفين في الغرباء القادمين إلى مكة للزيارة والطواف، وإن كان الطواف لا

[126]

يختصُّ بهم، إلّا أن له مزيد اختصاص بهم من حيث إن مجاوزة الميقات لا تجوز لهم إلّا بالإحرام {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}؛ أي: المصلِّين إليه من سائر البلدان جمع راكعٍ وساجدٍ؛ لأن القيام، والرُّكوع، والسجود من هيئات المصلِّي، ولتقارب الركوع والسجود ذاتًا وزمانًا، ترك العاطف بين موصوفيهما، والجلوس في المسجد الحرام ناظرًا إلى الكعبة من جملة العبادات الشريفة المرضية، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ لله تعالى في كُلِّ يوم مائةً وعشرين رحمةً، تنزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين". واعلم: أنّه تعالى لمّا قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} دخل فيه بالمعنى: جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير، والنظافة، وإنّما خصَّ الكعبة بالذكر؛ لأنّه لم يكن هناك غيرها، وفي الآية: إيماء إلى أنَّ إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل إلى معرفة الطريق التي كانوا يؤدُّونها بها. فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجًّا، أو معتمرًا، فيطوف به، وبالعاكفين: من يقوم هناك ويجاور فيه، وبالركع السجود: من يصلّي إليه الصلوات الخمس، وغيرها. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء: إنّ الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. 126 - {و} واذكر يا محمد! لأمّتك قصّة {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} عليه السلام؛ أي: قصّة إذ دعا إبراهيم ربَّه، فقال: في دعائه يا {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} الوادي الأقفر الخالي عن الأنيس، الذي ليس فيه زرعٌ، ولا ماءٌ، ولا بناءٌ {بَلَدًا} مَسْكنًا {آمِنًا} أي: ذا أمنٍ يأمن فيه أهله من القحط، والجدب، والخسف، والمسخ، والزَّلازل، والجذام، والبرص، ونحو ذلك من المَثُلاَتِ التي تَحُلُّ بالبلاد غيرها، فهو من باب النَّسب؛ أي: بلدًا منسوبًا إلى الأمن كلابن، وتامر، فإنّهما لنسبة موصوفهما إلى مأخذهما، كأنّه قيل: لبنيٌّ وتمريٌّ، فالإسناد حقيقيٌّ، أو المعنى: بلدًا آمنًا أهله، فيكون من قبيل الإسناد المجازي؛ لأنَّ الأمن الذي هو صفةٌ لأهل البلد حقيقةً، قَدْ أُسْنِدَ إلى مكانهم للملابسة بينهما. وكان هذا الدعاء في أوَّلِ ما قَدِم إبراهيم عليه السلام مكة؛ لأنّه لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك، وعاد مُتوجِّهًا إلى الشام تبعته هاجر، فجعلت تقول: إلى مَنْ تكلنا في هذا البَلْقَعِ؛ أي: المكانِ الخالي من الماء، والنبات،

وهو لا يردُّ عليها جوابًا، حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، فرضِيَتْ، ومضَى، حتى إذا استوى على ثنية كداء، أقبل على الوادي، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...} إلى آخر الآية، وإنما (¬1) دعا إبراهيم له بالأمن؛ لأنه ليس فيه زرع، ولا ثمرٌ، فإذا لم يكن آمنًا، لم يجلب إليه شيءٌ من النَّواحي، فيتعذَّر المقام فيه، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم، فجعله بلدًا آمنًا لا يُسْفَك فيه دم إنسان، ولا يظلم أحد، ولا يصاد صيده، ولا يُخْتَلَى خلاه، فما قصده جَبَّارٌ إلّا قصَمَه الله تعالى، كما فعل بأصحاب الفيل، وغيرهم من الجبابرة. فإن قُلْتَ: ما الفائدة في قول إبراهيم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} مع قوله تعالى أوّلًا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}؟ قلت: المراد من الأمن المذكور: أوّلًا الأمن من الأعداء، والخسف، والمسخ، ومن المذكور في دعاء إبراهيم: الأمن من القحط، والجوع، وقيل: معنى بلدًا آمنًا؛ أي: كثير الخصب، يؤمن فيه من الجوع، والقحط، فإن الدنيا إذا طلبت ليُتقوَّى على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنًا، وحصل فيه الخصب تفرَّغ أهله لطاعة الله، وأيضًا إنَّ الخصب مما يدعو الناس إلى تلك البلدة، فهو سبب اتصاله في الطاعة. والمعنى (¬2): أي قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة! وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنًا في نفسه من الجبابرة، وغيرهم، أن يسلَّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان من خسف، وزلزال، وغرق، ونحو ذلك ممَّا يُنْبِىءُ عن سخط الله، ومثلاته التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه، فلم يقصده أحدٌ بسوءٍ إلا قصم ظهره، ومن تعدَّى عليه لم يطل زمن تعدِّيه، بل يكون تعدّيًا عارضًا ثمَّ يزول. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

{وارزق} يا ربّ! {أَهْلَهُ}؛ أي: أهل هذا البلد وسُكَّانه مواطنًا كان، أو مقيمًا {مِنَ الثَّمَرَاتِ}؛ أي: من أنواع الثمرات، وحمل الشجر: جمع ثمرة وهي المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر، فهو سؤال الطعام والفواكه، وقيل: هي الفواكه، وإنّما خصَّ هذا بالسؤال؛ لأنّ الطعام المعهود مما يكون في كُل موضع، وأمّا الفواكه، فقد تندر، فسأل لأهله الأمن والسعة، مما يطيب العيش، ويدوم، وقد تحصل في مكَّة الفواكه الربيعيَّة، والصيفيَّة، والخريفيَّة في يوم واحد، فاستجاب له في ذلك؛ لما روي أنّه لما دعا هذا الدعاء، أمر الله سبحانه جبريل بنقل قرية من قرى فلسطين كثيرة الثمار إليها، فأتى جبريل فقلعها، وجاء بها، وطاف بها حول البيت سبعًا، ثم وضعها على ثلاث مراحل من مكة وهي الطائف، ولذلك سُمِّيت به، ومنها أكثر ثمرات مكة، ويجيءُ إليها أيضًا من الأقطار الشَّاسِعَة، والبلاد النَّائية، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، خصوصًا في هذا الزمان بالطائرات، والباخرات، والسيَّارات، وهذا آية من آيات الله، فسبحانه فعالًا لما يريد، وخصّ الثمرات حيث لم يقل من الحبوب؛ لما في تحصيلها من الذلّ الحاصل بالحرث، وغيره، فاقتصاره على الثمرات؛ لتشريفهم، ثم أبدل قوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} من أهله بدل بعض من كل؛ مراعاة لحسن الأدب، وترغيبًا لقومه في الإيمان؛ أي: وارزق المؤمنين باللهِ وباليوم الآخر من أهله خاصة {قَالَ} سبحانه وتعالى {وَمَن كَفَرَ} معطوف على محذوف، تقديره: أي: ارزق من آمن منهم ومن كفر أيضًا. قاس إبراهيم عليه السلام الرزق على الإمامة، حيث سأل الرزق لأجل المؤمنين خاصة، كما خصّ الله تعالى الإمامة بهم في قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فلمّا ردّ سؤال الإمامة في حقّ ذرّيته على الإطلاق، حسب أن يردَّ سؤاله الرزق في حقّ أهل مكة على الإطلاق، فلذلك قيد بالإيمان تأدُّبًا بالسؤال الأول، فنبَّه سبحانه على أنَّ الرزق رحمةٌ دنيويَّةٌ تعمُّ المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة والتقدُّم؛ أي: وأَرْزُقُ أيضًا من كفر باللهِ واليوم الآخر {فَأُمَتِّعُهُ}؛ أي: أمدُّ له ليتناول من لذات الدنيا؛ إثباتًا للحجة عليه، وأمتعه تمتيعًا {قَلِيلًا} فإنّ الدنيا بكليتها قليلةٌ، وما يتمتَّع الكافر به منها قليلٌ من القليل، فإنَّ نعمته تعالى في الدنيا

وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض، فإنّها قليلةٌ بإضافتها إلى نعمة الآخرة، وكيف لا يقلُّ ما يتناهى بالإضافة إلى ما لا يتناهى، فقليلًا: صفة لمصدر محذوف، كما قدَّرنا، ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف؛ أي: أُمتِّعُه زمانًا قليلًا، وهو مدَّة حياته {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ}؛ أي: ثمّ بعد تمتيع ذلك الكافر مدّة حياته أضطرُّه؛ أي: ألجئه، وأرجعه، وأسوقه في الآخرة {إِلَى عَذَابِ النَّارِ} فلا يجد عنها محيصًا، والاضطرار في اللُّغة: حمل الإنسان على ما يضرُّه، وهو في المتعارف: حمل الإنسان بكفره على أن يفعل ما أكره عليه باختياره، فلا يكون اضطرارهم إلى عذاب النار مستعملًا في معناه العرفي، فهو مستعارٌ لِلَزِّهِمْ، وإلصاقِهِم به، بحيث يتعذَّر عليهم التخلّصُ منه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} فإنَّه صريحٌ في أن لا مدخل لهم في لحوق عذاب الآخرة بهم، ولا اختيار إلّا أنّهم سُمُّوا مضطرين إليه مختارين إيّاه على كُره، تشبيهًا لهم بالمضطر الذي لا يملك الامتناع عمَّا اضطرّ إليه، فالمعنى: أَلُزُّهُ إليه لَزُّ المضطرِّ لكُفْرِه، وتضييعهِ ما متَّعتُهُ به من النِعَم بحيث لا يمكن الامتناعَ منه {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: قَبُح المرجع مرجعُه المخصوص بالذمّ محذوف؛ أي: بئس المرجع الذي يرجع إليه للإقامة فيه النارُ، أو عذابها، فللعبد في هذه الدنيا الفانية الإمهالُ أيّامًا لا لإهمالٍ، إذ كُلُّ نفس تُجزى بما كسبت، ولا تغرَّنك الزخارف الدنيوية، فإنَّ للمطيع والعاصِي نصيبًا منها، وليس ذلك من موجبات الرفعة في الآخرة، فعلى العاقل أن لا يغترَّ بالزخارف الدُّنيوية، بل لا يفرح بشيء سوى الله تعالى، فإنَّ ما خلا الله باطلٌ وزائلٌ، والاغترار بالزائل الفاني ليس من قضيّة كمال العقل، والفهم، والعرفان. وقرأ الجمهور (¬1) من السبعة {فَأُمَتِّعُهُ} مشدَّدًا على الخبر. وقرأ ابن عامر {فأمتعه} مخفَّفًا على الخبر. وقرأ هؤلاء {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} خبرًا، وقرأ يحيى بن وثاب: {فأُمْتِعهُ} مخفَّفًا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بإدغام الضاد في الطاء خبرًا. وقرأ يزيد بن أبي حبيب {ثُمَّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أَضْطَرُّهُ} بضمّ الطاء خبرًا. وقرأ أبيُّ بن كعب {فنُمتِّعُه ثمّ نضطرُّه} بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: {فأَمْتِعْهُ قليلًا ثم اضْطرُّه} على صيغة الأمر فيهما، فأمَّا على هذه - القراءة، فيتعيَّن أن يكون الضمير في {قَالَ} عائدًا على إبراهيم لمَّا دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل، والإلزاز إلى العذاب، ومَنْ على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء على أن تكون موصولة، أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضًا وأمّا على قراءة الباقين، فيتعيَّن أن يكون الضمير في قال عائدًا على الله تعالى، ومَنْ يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل، تقديره: قال الله: وأرزق مَنْ كفر فأمتعه، ويكون {فَأُمَتِّعُهُ} معطوفًا على ذلك الفعلِ المحذوف الناصب لِمَنْ، ويحتمل أن تكون {مَنْ} في موضع رفع على الابتداء إمّا موصولًا، وإمّا شرطًا، والفاء فاءُ جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول؛ لشبهه باسم الشرط. انتهى. ملخصًا من "البحر". وحاصل مَعنى الآية: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}. الخ. أي: وارزق (¬1) أهله من أنواع الثمار، إمّا بزرعها بالقرب منه، وإمّا بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابةً لدعوة إبراهيم، كما هو مشاهدٌ، وقد جاء في سورة القصص {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} وخصَّ إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته، جعل رزق الدنيا عامًّا للمؤمنين والكافرين {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}؛ لأن تمتيع الكافرين قصيرٌ محدودٌ بذلك العمر القصير، ثمَّ إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بيَّنه عز اسمه بقوله: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ ...} إلخ. أي: قال الله سبحانه: يا إبراهيم! قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمن أهل البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضًا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدًا قليلًا، وهو مدّة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أنَّ عملهم ينتهي بهم إليه. ¬

_ (¬1) المراغي.

ذاك أنَّ أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثارٌ وغاياتٌ اضطراريَّةٌ تنتهي بهم إليها، وتكون نتيجةً لها، بحسب ما وضعه الله سبحانه في نظام الكون، من وجود المسببات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضي إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار، والفساق، مختارون في كفرهم، وفسوقهم، وتكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السُّنن الموضوعة. وكُل أعمال الإنسان النفسانية، والبدنية، لها الأثر الذي يفضي بصاحبها إلى السعادة، أو الشقاء، وهي أعمال كسبية اختيارية، فالإنسان متمكّن من اختيار الحق، وترك الباطل، وترك الخبيث، وفعل الطيّب بما أعطاه الله من العقل، وبما نزَّل عليه من الوحي، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه، وعرَّضها للعذاب، والشَّقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي، وأثرها اضطراريٌّ، وهذه السُّنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثَمّ يصحُّ أن يقال: إن الله قد اضطرّ الكافر إلى العذاب، وأَلْجَأَهُ إليه، وجعل الأرواح المدنَّسة بالأخلاق الذميمة، أو بالعقائد الفاسدة محلَّ سخطه، وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضةً للأمراض في الدنيا. الإعراب {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {وَلِلَّهِ} الواو استئنافية {لله} خبر مقدّم {الْمَشْرِقُ} مبتدأ مؤخّر {وَالْمَغْرِبُ} معطوف على {الْمَشْرِقُ} والجملة الاسمية مستأنفة، ولكنّها مرتبطة من حيث المعنى بقوله: {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} يعني: أنّه إن سعى ساع في المنع من ذكره تعالى، وفي خراب بيوته، فليس ذلك مانعًا من أداء العبادة في غيرها؛ لأنّ المشرق والمغرب وما بينهما له تعالى. ذكره في "الفتوحات" {فَأَيْنَمَا} الفاء فاء الفصيحة، مبنية على الفتح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن المشرق والمغرب لله تعالى، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} {أين} اسم شرط جازم يجزم فعلين في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط؛ أعني:

تولّوا {ما} زائدة زيدت، لإفادة العموم {تُوَلُّوا} فعل مضارع مجزوم بأين على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون، والواو ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع فاعل {فَثَمَّ} الفاء رابطة لجواب أين الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {ثَمَّ} اسم إشارة يشار به للمكان البعيد في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا مقدّمًا {وَجْهُ اللَّهِ} مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل الجزم بأين على كونها جوابًا لها، وجملة أين الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {وَاسِعٌ} خبر أوّل له {عَلِيمٌ} خبر ثان، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}: {وَقَالُوا} الواو عاطفة، أو استئنافية {قالوا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}. {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالوا} و {اتَّخَذَ} هنا بمعنى: صنع، يتعدّى إلى مفعول واحد {سُبْحَانَهُ} {سبحان} مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبّح سبحانه؛ أي: أنزّه الله تعالى عن اتخاذ الولد تنزيهًا، والهاء ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة في محل البحر مضاف إليه، وجملة التسبيح معترضة، فهو تعالى نزّه نفسه بنفسه {بَل} حرف عطف وإضراب، أو حرف ابتداء وإضراب {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدّم {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بمحذوف صلة الموصول {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة الإسمية معطوفة على جملة {قالوا} عطف اسمية على فعلية، أو مستأنفة {كُلٌّ} مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة؛ ما فيه من العموم، والتنوين عوض عن مضاف إليه محذوف؛ أي: كل فرد من أفراد المخلوقات {لَهُ} متعلق بقانتون، و {قَانِتُونَ} خبر المبتدأ، والجملة

الإسمية مستأنفة، وجمع الخبر؛ مراعاة لمعنى كل، وجمعه جمع العقلاء؛ تغليبًا لهم على غيرهم {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو بديع السموات، والجملة مستأنفة {السَّمَاوَاتِ} مضاف إليه {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات، وهو من باب إضافة الصفة المُشبَّهة إلى فاعلها، والأصل: بديعٌ سمواته {وَإِذَا} الواو استئنافية {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه متعلِّق بالجواب {قَضَى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {أَمْرًا} مفعولٌ به، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذا على كونها فعل شرط لها {فَإِنَّمَا} الفاء رابطة لجواب إذا جوازًا {إنما} أداة حصر {يَقُولُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله {لَهُ} جار ومجرور متعلِّق بيقول، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة {كن} مقولٌ محكي ليقول منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الحكاية، وهو أمر من كان التامة، بمعنى: أُحْدُثْ، وكذلك قوله: {فَيَكُونُ}؛ أي: يحدث {فَيَكُونُ} الفاء استئنافية {يكون} فعل مضارع تام، وفاعله ضمير يعود على {أَمْرًا} والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو يكون، والجملة الإسمية مستأنفة أيضًا، ويعزى هذا القول إلى سيبويه، وقال الزجاج، والطبري: إنّ جملة قوله: {فَيَكُونُ} معطوف على جملة {يَقُولُ} والفاء حينئذٍ عاطفة، وقال الفارسي: معطوفة على {كُنْ} من حيث المعنى. ذكره في "الفتوحات". {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}: {وَقَالَ الَّذِينَ} هو فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: {وقالوا} أو مستأنفة، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} مقول محكي، لقال، منصوب بفتحة مقدرة على الأخير، وإن شئت قلت: {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى: هلّا، والتحضيض: الطلب بحثّ وإزعاج {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قال {أَوْ}

حرف عطف وتفصيل، {تَأْتِينَا آيَةٌ} فعل ومفعول وفاعل والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يُكَلِّمُنَا}. {كَذَلِكَ} الكاف اسم بمعنى: مثل، في محل النصب على أنّه صفة لمصدر محذوف قدّم على عامله؛ لإفادة الحصر، تقديره: قولًا مثل قول الذين لا يعلمون، {قَالَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِن قَبْلِهِم} جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول، تقديره: قال الذين كانوا من قبلهم {مِثْلَ} بدل من الكاف في {كَذَلِكَ} بدل كل من كل، جيء به؛ لتأكيد معنى المثلية، وهو مضاف {قَوْلِهِمْ} مضاف إليه مجرور {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة؛ لتقرير ما قبلها {قَدْ} حرف تحقيق {بَيَّنَّا الْآيَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {لِقَوْمٍ} متعلق ببينا، وجملة {يُوقِنُونَ} صفة لقوم. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}. {إِنَّا} ناصب واسمه {أَرْسَلْنَاكَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، والجملة الإسمية مستأنفة {بِالْحَقِّ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المفعول في {أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: حال كونك ملتبسًا بالحق، أو من الفاعل؛ أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق، والأوّل أولى؛ لموافقة ما بعده {بَشِيرًا} حال ثانية من الكاف أيضًا، تقديره: حالة كونك مبشرًا بالجنة لمن اتبعك {وَنَذِيرًا} معطوف على {بَشِيرًا}؛ أي: وحالة كونك منذرًا لمن خالفك بالعذاب {وَلَا} الواو استئنافية على الأرجح، أو عاطفة {لَا} نافية {تُسْأَلُ} فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالضمّة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {إن} {عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتسأل. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}. {وَلَنْ}: الواو استئنافية {لن} حرف نصب ونفي {تَرْضَى} فعل مضارع منصوب بلن {عَنْكَ} متعلق بترضى، {الْيَهُودُ} فاعل {وَلَا النَّصَارَى} معطوف على

{الْيَهُودُ} والجملة مستأنفة {حَتَّى} حرف جرّ وغاية بمعنى: إلى {تَتَّبِعَ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، منصوب بأن مضمرة وجوبًا، بَعْدَ حتى بمعنى: إلى {مِلَّتَهُمْ} مفعول به ومضاف إليه، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى: إلى، تقديره إلى اتباعك ملّتهم، الجار والمجرور متعلق بترضى {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة {إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} مقول محكي لقل، وإن شئت قلت: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ} ناصب واسمه ومضاف إليه {هُوَ} ضمير فصل {الْهُدَى} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَئِنِ} الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم {إنْ} حرف شرط {اتَّبَعْتَ} فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها {أَهْوَاءَهُمْ} مفعول به، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه جواب القسم، تقديره: إن اتبعت أهواءهم فما لك من ولي ولا نصير، وجملة {إنْ} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه {بَعْدَ الَّذِي} ظرف ومضاف إليه متعلق باتبعت {جَاءَكَ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {مِنَ الْعِلْمِ} حال من فاعل {جاءَك} {مَا} نافية {لَكَ} خبر مقدم، {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور تنازع فيه، كل من ولى ونصير {مِنَ} زائدة {وَلِيٍّ} مبتدأ مؤخّر {وَلَا نَصِيرٍ} معطوف على {وَلِيٍّ}، والتقدير: ما ولي ولا نصير من عذاب الله كائنان لك، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب؛ جريًا على القاعدة المشهورة عندهم: من أنّه إذا اجتمع شرط وقسم، يحذف جواب المتأخر منهما، كما قال ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقَسَمْ ... جواب ما أخرّت فهو ملتَزَمْ وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}. {الَّذِينَ} مبتدأ أول {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول {يَتْلُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المفعول في {آتَيْنَاهُمُ} ولكنّها حال

مقدّرة؛ لأنّهم لم يكونوا تالين حال إيتائه، تقديره: حالة كونهم تالين إياه {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} منصوب على المفعولية المطلقة {أُولَئِكَ} مبتدأ ثَانٍ {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل مرفوع بالنون {بِهِ} متعلق بيؤمنون، والجملة الفعلية خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة استئنافًا نحويًّا {وَمَنْ} الواو استئنافية، أو عاطفة {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {يَكْفُرْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على مَن مجزوم بمَن الشرطية على كونه فعل شرط لها {بِهِ} متعلق بيكفر {فَأُولَئِكَ} الفاء رابطة لجواب الشرط وجوبًا {فَأُولَئِكَ} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْخَاسِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} يا حرف نداءه {بني إِسْرَائيلَ} منادى مضاف منصوب بالياء {إِسْرَائِيلَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة، وجملة النداء مستأنفة {اذْكُرُوا} فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة الطلبية جواب النداء لا محل لها من الإعراب {نِعْمَتِيَ} مفعول به ومضاف إليه {الَّتِي} اسم موصول صفة لنعمتي، {أَنْعَمْتُ} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: التي أنعمتها {عَلَيْكُمْ} متعلق بأنعمت {وَأَنِّي} الواو عاطفة {أنى} ناصب واسمه {فَضَّلْتُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به {عَلَى الْعَالَمِينَ} متعلق بفضّلت، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على {نِعْمَتِيَ} تقديره: اذكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم، وتفضيلي إياكم على العالمين. {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}. {وَاتَّقُوا} فعل أمر معطوف على {اذْكُرُوا} على كونها جواب النداء {يَوْمًا} مفعول به {لَا} نافية {تَجْزِي نَفْسٌ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ليومًا، ولكنّها سببية، والرابط محذوف، تقديره: لا تجزي فيه نفس {عَنْ نَفْسٍ} متعلق بتجزي {شَيْئًا} مفعول به لتجزي {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} زائدة زيدت؛ لتأكيد نفي ما قبلها {يُقْبَلُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة {مِنْهَا} متعلق بيقبل

{عَدْلٌ} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة لا تجزي، والرابط أيضًا محذوف، تقديره: فيه {وَلَا تَنْفَعُهَا} فعل ومفعول به {شَفَاعَةٌ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَجْزِي}. {وَلَا} الواو عاطفة {لَا} نافية مهملة {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْصَرُونَ} من الفعل المغيّر، ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة {لَا تَجْزِي}. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}. {وَإِذِ} الواو استئنافية {إذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! لأمتك قصة إذ ابتلى إبراهيم، والجملة المحذوفة مستأنفة {ابْتَلَى} فعل ماض {إِبْرَاهِيمَ} مفعول مقدّم على فاعله وجوبًا؛ لاتصال الفاعل بضميره، فلو قدم الفاعل عليه لزم عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، قال ابن مالك: وشاع نحو خاف ربَّه عمرْ ... وشذّ نحو زان نوره الشجر {رَبُّهُ} فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذ، وهذا على القراءة المشهورة، وأمّا على القراءة غير المشهورة فـ {إِبْرَاهِيمَ} فاعل و {رَبَّهُ} مفعول به، والتركيب جار على أصله {بِكَلِمَاتٍ} متعلق بابتلى {فَأَتَمَّهُنَّ} الفاء عاطفة {أتمهن} فعل وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، ومفعول به معطوف على ابتلى، {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الربّ، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال ربّه حين أتمّ الكلمات؟ فقيل: قال: {إِنِّي} ناصب واسمه {جَاعِلُكَ} خبره ومضاف إليه، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله الأول {لِلنَّاسِ} متعلق بجاعلك، أو بمحذوف حال من {إِمَامًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، والأصل إمامًا كائنًا للناس {إِمَامًا} مفعول ثانٍ لجاعلك، وجملة إنّ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة واقعة

في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد قول الربّ: إني جاعلك للناس إمامًا. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} الواو عاطفة في المعنى على معنى {جَاعِلُكَ} عطفًا تلقينيًّا {من ذريتي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف، تقديره: واجعل من ذرّيتي إمامًا للناس، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر أيضًا، كأنّه قيل: ماذا قال ربّه؟ فقيل: قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي ...} الخ؛ {لَا} نافية {يَنَالُ} فعل مضارع {عَهْدِي} فاعل ومضاف إليه {الظَّالِمِينَ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}. {وَإِذْ} الواو عاطفة، أو استئنافية {إذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة {إذ قال ربّك}، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} أو مستأنفة {جَعَلْنَا} فعل وفاعل {الْبَيْتَ} مفعول أول {مَثَابَةً} مفعول ثان {لِلنَّاسِ} متعلق بجعلنا، أو محذوف صفة لـ {مَثَابَةً}. {وَأَمْنًا} معطوف على {مَثَابَةً}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ {وَاتَّخِذُوا} الواو عاطفة لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم، قلنا: فعل وفاعل، والجملة في محل البحر معطوفة على جملة {جَعَلْنَا}. {اتخذوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باتخذوا {مُصَلًّى} مفعول {اتخذوا}. {وَعَهِدْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {جَعَلْنَا}. {إِلَى إِبْرَاهِيمَ} متعلق بعهدنا {وَإِسْمَاعِيلَ} معطوف على {إِبْرَاهِيمَ}. {أَن} مفسرة، بمعنى: أي، مبني على السكون {طَهِّرَا} فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعل {بَيتِيَ} مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب {لِلطَّائِفِينَ} متعلق بطهِّرًا {وَالْعَاكِفِينَ} معطوف على {الطائفين} {وَالرُّكَّعِ} معطوف أيضًا على {الطائفين} {السُّجُودِ} معطوف عليه أيضًا، ولما كان الركوع

والسجود بمثابة كلمة واحدة؛ لأنّ الركوع والسجود ركنان متّصلان، أسقط حرف العطف من بينهما، ونزّلهما منزلة الكلمة الواحدة، ولو عطف السجود بالواو، ولأوهم أنهما عبادتان منفصلتان. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. {وَإِذْ} الواو عاطفة {إذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصة {إذ قال إبراهيم}، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ}. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} فعل وفاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ {رَبِّ اجْعَلْ} إلى قوله: {قَالَ} مقول محكي لقال إبراهيم، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اجْعَلْ} فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله {هَذَا} اسم إشارة في محل النصب مفعول أوّل لاجْعل {بَلَدًا} مفعول ثان {آمِنًا} صفة لبلدًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على {اجْعَلْ}. {مِنَ الثَّمَرَاتِ} متعلق بارزق {مَن} اسم موصول في محل النصب بدل من {أَهْلَهُ} بدل بعض من كل، والرابط ضمير {مِنْهُمْ} {آمَنَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} والجملة صلة {مَنْ} الموصولة {مِنْهُمْ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {آمَنَ}. {بِاللَّهِ} متعلق بآمن {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوف على لفظ الجلالة {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة {وَمَنْ كَفَرَ ...} إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {وَمَن} الواو استئنافية، أو عاطفة عطفًا تلقينيًّا على محذوف، تقديره: من آمن أرزقه من الثمرات، ومن كفر أمتعه قليلًا، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَنْ} اسم موصول، أو اسم شرط في محل الرفع مبتدأ {كَفَرَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} في محل الجزم بمن الشرطية على كونه فعل شرط لها، إن قلنا:

{مَّنْ} اسم شرط، وجملة الشرط في محل الرفع خبر {مَنْ} الشرطية، أو الخبر جملة الجواب، أو هما. إن قلنا: {مَنْ} شرطية، أو الجملة الفعلية صلة {مَنْ} الموصولة إن قلنا: {مَنْ} موصولة، والعائد ضمير الفاعل في {كَفَرَ} {فَأُمَتِّعُهُ} الفاء رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية جوازًا. إن قلنا: {مَنْ} شرطية، أو زائدة في خبر المبتدأ، لما في المبتدأ من شبه الشرط إن قلنا {مَنْ} موصولة {أمتّعه} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به {قَلِيلًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو على الظرفية، أي: زمانًا قليلًا، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية. إن قلنا: إنّها اسم شرط، أو خبر المبتدأ. إن قلنا: إنها موصولة، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ {أَضْطَرُّهُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أمتّعه} {إِلَى عَذَابِ النَّارِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأَضطّره {وَبِئْسَ} الواو استئنافية، ولا يصحّ هنا كونها عاطفة؛ لئلّا يلزم علينا عطف الإنشاء على الإخبار، كما في المغني {بئس} فعل ماض لإنشاء الذمّ {الْمَصِيرُ} فاعل بئس، والجملة مستأنفة لإنشاء الذمّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: النار أو عذابها. التصريف ومفردات اللغة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} هما من الألفاظ الشاذة التي انفردت بالكسر على الشذّوذ، لما علم عند الصرفيين أنّه إذا لم تكسر عين المضارع، فحق اسم المصدر، والمكان، والزمان، فتح العين قياسًا لا تلاوة {أينما تولوا} أصل تولّوا: تُولِّيُون، حذفت منه نون الرفع للجازم، ثم استثقلت الضمة على الياء؛ فحذفت تخفيفًا، فسكنت فالتقى ساكنان، الياء، والواو، فحذفت الياء، وصُحِّحت حركة اللام بجعلها ضمة، لتناسب الواو، فصار تولّوا {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وثَمَّ: اسم إشارة للمكان البعيد خاصَّة، مثل: هَنَّا وهِنَّا بتشديد النون، وهو مبني؛ لتضمّنه معنى حرف الإشارة، وفي "المختار": الوجه والجهة بمعنًى، والهاء عِوضٌ عن الواو؛ أي: فثمّ جهته التي ارتضاها قبلةً، وأمر بالتوجه نحوها {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} واتخذ افتعَلَ من تَخِذَ بكسر العين يَتْخَذُ، بفتحها، في المضارع،

فأدغمت فاءُ الفعلِ التي هي التاء الأولى في تاء الافتعال، والمادةُ معناها بمعنى: أخذ، فتَخِذَ وأخذ بمعنى واحدٍ، خلافًا لابن الأثير القائل: بأنّها مادّة مستقلّة، وليست من الأخذ في شيء محتجًّا بأنّ فاء الأخذ همزة، والهمزة لا تدغم في التاء؛ يعني: أنّ افتعل من أخذ قياسه ائتخذ. قلت: قول ابن الأثير: إنّ فاء الكلمة إذا كان همزة لا يبدل تاء إن كان يعني قياسًا، فمسلَّمٌ، وإلّا فإبدال الهمزة ياءً، وإبدال الياء تاءً، وإدغامها في تاء الافتعال واردٌ، لكنّه شاذٌّ كما عقد ذلك ابن مالك في باب التصريف بقوله: ذو اللِّيْنِ فَاتَا في افْتِعالٍ أُبْدِلا ... وَشذّ في ذي الهمز نَحْوُ ائْتَكَلا يعني: أنَّ فاء الكلمة إذا كان همزةً شذَّ إبدالها تاءً، كما قالوا: اتكل، واتَّزَرَ بإبدال الياء المبدلة من الهمزة تاءً، ولكن الأشمونيَّ وافق ابن الأثير، ونسب الجوهريَّ إلى الوهم في دعواه أنّها من الأخذ، كما نسبه ابن الأثير في النهاية، أمّا صاحب "القاموس": فقد وافق الجوهري في مذهبه مصدِّرًا به كلامه، ثم ذكر كلام ابن الأثير الذي نقَلْتُه، وعلى كل حالٍ اتخذ وزنه افتعل، سواء أكان من الأخذ، أو من تخذ، وذهب بعض المتأخّرين إلى أنَّ اتخذ أصله: وخذ واويُّ الفاء، وعليه يكون إبدالها تاءً جاء على اللغة الفصحى من إبدال فاء الكلمة تاء إذا كان حرف لين، وبني منها افتعالٌ، والله أعلم. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من باب الصفة المشبهة التي أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلًا في الأصل، والأصل: بديعٌ سمواته؛ أي: بدعت لمجيئها على شكلٍ فائق حسنٍ غريب، ثمّ شبّهت هذه الصفة باسم الفاعل، فتنصب ما كان فاعلًا، ثُمَّ أضيفت إليه تخفيفًا، وهكذا كل ما جاء من نظائره بالإضافة لا بدّ، وأن تكون من نصبٍ؛ لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل. اهـ. "سمين". وفي "القاموس": وبَدُعَ، ككرم بداعةً وبدوعًا. اهـ. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أصله: قَضَيَ بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والقضاء له معانٍ كثيرةٌ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، فيكون

بمعنى خلق، نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وبمعنى: أعلم، نحو: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وبمعنى: أمر، نحو: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وبمعنى: وفي، نحو: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} وبمعنى: ألزم، نحو: قضى بكذا، وبمعنى: أراد، نحو: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} وبمعنى: قدر وأمضى تقول: قضى يقضي قضاء. اهـ. من "السمين". {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} أمرٌ من كان التامة، فأصل كن: يَكْوُن بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فسكنت فالتقى ساكنان، الواو، وآخر الفعل المسكن لبناء الأمر، فحذفت الواو، فصار كن بوزن فل {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أصله: ييقنون من اليقين، أبدلت الياء واوًا؛ لسكونها إثر ضمة، كما قال ابن مالك في باب الإبدال من "الخلاصة": ووجب: إبدالُ واوٍ بَعْدَ ضمٍ مِنْ ألِفْ ... وَيا كَمُوقِنٍ بِذَالِها اعْتَرِف بمعنى: أنَّ الألف إذا كانت قبلها ضمَّة أبدل واوًا، كوارى إذا بُني للمجهول، يقال: وُوِري، وأنَّ الياء إذا سُكِّنت بعد ضمٍّ أُبدلت واوًا، كما في يوقنون، يُيْقنون من اليقين، وكذلك موسرٌ، أصله: مُيْسِرٌ من اليسار {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} وفي "القاموس": الجحيم: النار الشديدة التأجُّج، وكُلُّ نار بعضها فوق بعض، وجحمها كمنعها أوقدها، فجَحُمَت، ككَرُمت جحومًا، وجَحِمت، كفَرِح جحمًا وجحمًا وجحومًا اضطرمت، والجاحم: الجمر الشديد الاشتعال، ومن الحرب معظمها. اهـ. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} أصل ترضى: ترضَي بوزن تفعَل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، والرضا ضدُّ الغضب، وهو من ذوات الواو لقولهم: الرضوان، والمصدر رِضًى ورضاءً بالقصر والمدّ، ورضوانٌ بكسر الراء وضمّها، وقد يضمَّن معنى عطف، فيتعدَّى بعلى، كقوله: إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} يتلون مضارع من تلا يتلو واويُّ اللام، وأصل يتلون: يتلوون بواوين الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، فحذفت حركة الواو

الأولى لام الكلمة؛ للتخفيف، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة، وبقيت واو الجماعة، فوزنه يفعون. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} أصله: ابتلَيَ بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا {فَأَتَمَّهُنَّ} أصله: أتممهنَّ بوزن أفعل، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء، فسكنت فأدغمت في الميم الثانية {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} جاعلك: اسم فاعل من جعل بمعنى صيَّر، فيتعدَّى لاثنين أحدهما الكاف، وفيها الخلاف المشهور، والإمام: اسمٌ لكل ما يُؤْتمُّ به؛ أي: يقصد ويتَّبع، كالإزار: اسمٌ لما يؤتزر به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام. اهـ. "سمين". {يَنَالُ عَهْدِي} أصله: يَنْيَل بوزن يفعل؛ لأنَّ نال أصله نيل بكسر العين في الماضي يائيُّ العين، نقلت حركة الياء إلى النون، ثمّ قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. فقيل: ينال. {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أصله: مَثْوُبةٌ بوزن مفعلة: اسم مكان من ثاب يثوب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، فسكنت الواو، وتحركت الثاء بالفتح، لكن الواو قلبت ألفًا؛ نظرًا لتحركها في الأصل، ونظرًا إلى فتح ما قبلها في الحال، ويحتمل أن تكون من الثواب؛ لأنَّ الناس يثابون عند البيت على الطواف به، والصلاة حوله، أمَّا على المعنى الأول، فلأنَّ الناس يثوبون إلى البيت؛ أي: يرجعون إليه لا يقضون وطرهم منه {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} اسم مكان من قام يقوم ووزنه مفعلٌ بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت ثمّ أبدلت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن {مُصَلًّى} أصله: مصلوٌ؛ لأنّ ألفه منقلبةٌ عن واو؛ لأنّ الصلاة من ذوات الواو {لِلطَّائِفِينَ} أصله: للطاوفين من طاف يطوف، وأصل طاف: طَوَف، أعِلَّت بقلب الواو في الفعل ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ولمّا أُعلّ الفعل حمل عليه الوصف، فأُعِلَّ بإبدال الواو همزةً، وهو جمع طائف اسم فاعل من طاف يطوف، ويقال: أطاف رباعيًّا، وهذا من باب فعل وأفعل بمعنًى {وَالْعَاكِفِينَ} جمع عاكف من العكوف، وهو لغة: اللزوم واللُّبْث، يقال: عكف يعكف، ويعكف بالفتح في الماضي، والضمّ والكسر في المضارع {أَضْطَرُّهُ} أصله: اضطرره بوزن افتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء، ثمّ أدغمت الراء الأولى في الثانية {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مصدرٌ ميميٌّ من صار،

أصله: مَصْيِر بوزن مَفْعِل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مدّ، والله أعلم. البلاغة وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجملة الاعتراضية في قوله: {سُبْحَانَهُ}، لغرض بيان بطلان دعوى الظالمين الذين زعموا أن لله ولدًا. ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}؛ لأنَّ غيرهم لا يجمع هذا الجمع؛ لأن التغليب من المحسنات البديعيَّة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} بأن شبِّهت الحال التي تتصوَّر من تعلق إرادته تعالى بشيء من المكوَّنات، وسرعة إيجاده إياه بحالة أمر الآمر النافذ تصرُّفه في المطيع، لا يتوقَّف في الامتثال، فأطلق على هذه الحالة ما كان يستعمل في تلك، من غير أن يكون هناك أمر ولا قولٌ. ومنها: التعبير عن الكافرين والمكذبين بكلمة أصحاب الجحيم في قوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}؛ إيذانًا بأنَّ أولئك المعاندِيْنَ من المطبوع على قلوبهم، فلا يرجى منهم الرجوع عن الكفر والضلال، إلى الإيمان والإذعان. ومنها: إيراد الهدى معرَّفًا باللام، مع اقترانه بضمير الفصل في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}؛ لإفادة القصر؛ أي: قصر الهداية على دين الله، فهو من باب قصر الصفة على الموصوف، فالإِسلام هو الهدى كلُّه، وما عداه فهو هوًى وعمًى. ومنها: التكرير في قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ...} إلخ. حيث كرَّره في أوّل السورة وهنا؛ لإفادة التوكيد، وتذكيرًا للنعم. ومنها: التعرض بعنوان الربوبية في قوله: {إذ ابتلى إبراهيم ربُّه}؛ إيذانًا بأنّ ذلك الابتلاء تربيةٌ له، وترشيحٌ لأمرٍ خطيرٍ، إذ المعنى: عامله معاملة

المختبر، كلَّفه بأوامر ونواهي يظهر بها استحقاقه للإمامة العظمى. ومنها: الإضافة في قوله: {رَبُّهُ}؛ لتشريف المضاف إليه الذي هو ضمير الخليل عليه السلام. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَأَمْنًا}؛ أي: ذا أمْنٍ، وهو أظهر من جعله بمعنى: اسم الفاعل؛ أي: آمنا على سبيل المجاز. ومنها: الإضافة لتشريف المضاف في قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} نظير ناقة الله. ومنها: عطف أحد الوصفين على الآخر في قوله: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}؛ إفادةً لتباين ما بينهما. ومنها: ترك عطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}؛ إفادة بأنَّ المراد منهما شيءٌ واحدٌ وهو الصلاة، إذ لو عطف لتوهّم أنَّ كلا منهما عبادةٌ مستقلة. ومنها: جمع الصفتين الأوليين جمع سلامة، والأخريين جمع تكسير؛ لغرض المقابلة، وهو نوع من الفصاحة. ومنها: تأخير صيغة فُعول عن فعَّلٍ؛ لكونها فاصلةً. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {بَلَدًا آمِنًا} حيث أسند الأمن إلى البلد؛ للمبالغة، مع أنّ المقصود: أمن المتلجىء إليه من إسناد ما للحال إلى المحل. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} حيث شبه حالة الكافر المذكور، بحالة من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، فاستعمل في المشبَّه ما استعمل في المشبه به. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال سبحانه جل وعلا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لمَّا (¬1) ذكر العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت، وجَعْلِهِ مثابةً للناس وأمْنًا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطن هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءَه، إذ جعله بلدًا آمنًا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار؛ ليتمتَّع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن طهّرا بيته للطائفين، والعاكفين، والركّع السجود؛ تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام، والتماثيل، وعبادتها الفاسدة انتقل بهم إلى التذكير بأنَّ الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم الخليل، بمعونة ابنه إسماعيل عليهما السلام؛ ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه، ويفاخرون به، وقد كانت قريشٌ تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدِّعي أنها على ملّة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تَبَعٌ لقريش. ¬

_ (¬1) المراغي.

[127]

قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) أنّه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمَّهنّ، وأنّه عهد إليه ببناء البيت، وتطهيره للعبادة، فصدع بما أمر .. أردف ذلك بذكر أنَّ ملّة إبراهيم التي كان يدعو إليها، وهي التوحيد، وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل لا ينبغي التحوُّل عنها، ولا يرضى عاقلٌ أن يتركها إلّا إذا ذلَّ نفسه، واحتقرها، وبها وصَّى يعقوب بنيه، ووصَّى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم ردَّ على شُبْهةٍ لليهود، إذْ قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ يعقوب كان يهوديًّا وكذَّبهم بما قال له بنوه حين موته: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ... إِلَهًا وَاحِدًا}. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ...} الآية، قد روي في سبب نزول هذه الآية: أنَّ عبد الله بن سلام، دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرًا إلى الإِسلام، قال لهما: قد علمتما أنَّ الله تعالى قال في التوراة: إنّي باعثٌ من ولد إسماعيل نبيًّا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأَبَى مهاجرٌ الإِسلام، فنزلت فيه هذه الآية، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هي القاعدة، عندهم وفيه تعريضٌ لليهود، والنصارى، ومشركي العرب. التفسير وأوجه القراءة ثُمَّ قال تعالى: حكايته عن قصة بناء البيت العتيق: 127 - {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ} فيه (¬2) حكايته حالٍ ماضيةٍ، حيث عبَّر بلفظ المضارع عن الرفع الواقع في الزمان المتقدِّم على زمان نزول الوحي، بأن يقدَّر ذلك الرفع السابق واقعًا في الحال، كَأنَّكَ تُصَوِّرُه للمخاطب، وتُرِيْهِ على وَجْهِ المشاهدةِ والعِيان {الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} جمع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

قاعدة، وهي في الأصل: صفةٌ بمعنى الثابتة، ثُمَّ صارت بالغلبة من قبيل الأسماء بحيث لا يذكر لها موصوفٌ، ولا يقدَّر، ولعل لفظ القعود حقيقةٌ في الهيئة: المقابلة للقيام، ومستعارٌ للثبات والاستقرار؛ تشبيهًا له بها في أنَّ كُلًّا منهما حالةٌ مباينةٌ للانتقال والنزول، وقوله: {مِنَ الْبَيْتِ} حالٌ من القواعد، وكلمة من ابتدائية لا بيانية؛ لعدم صحّة أن يقال: الَّتي هي البيت. فإن قلت: رفع الشيء أن يفصل عن الأرض، ويجعل عاليًا مرتفعًا، والأساس أبدًا ثابتٌ على الأرض، فما معنى رفعه؟ قلت: المراد برفع الأساس: البناء عليه، وعبَّر عن البناء على الأساس برفعه؛ لأنَّ البناء ينقله عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، فيوجد الرفع حقيقةً إلّا أنَّ أساس البيت واحدٌ، وعبَّر عنه بلفظ القواعد باعتبار أجزائه، كأنَّ كُلَّ جزء من الأساس أساسٌ لما فوقه، والمعنى: واذكر يا محمد! وقت رفع إبراهيم أساس البيت؛ أي: الكعبة {وَإِسْمَاعِيلُ} ولده، وكان له أربعة بنين: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، ومدين، ومداين من امرأة أخرى، وهو عطفٌ على إبراهيم، وتأخيره عن المفعول مع أنَّ حقَّ ما عطف على الفاعل أن يُقدَّم على المفعول؛ للإيذان بأنَّ الأصل في الرفع هو إبراهيم وإسماعيل تبعٌ له. قيل: إنّه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها. واعلم: أنَّ رفع الأساس الذي هو البناء عليه، يدلّ على أنَّ البيت كان مؤسَّسا قبل إبراهيم، وأنّه إنما بنى على الأساس الموجودة قبله، واختلف الناس فيمن بنى البيت أوّلًا، وأسَّسَه؟ فقيل: هو الملائكة، وذلك أنَّ الله تعالى لما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه، وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم حتى رضي عنهم، وقال لهم: (ابْنُوا لي بيتًا في الأرض، يتعوَّذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنهم) فبنوا هذا البيت. وقيل: إنّ الله بنى في السماء

بيتًا وهو البيت المعمور، ويسمَّى ضراحًا، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله. وقيل: أوّل من بنى الكعبة: آدم، واندرست زمن الطوفان، ثُمَّ أظهرها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّه قال: (لمّا أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض، قال له: (يا آدم! اذهب فَابْنِ لي بيتًا، وطف به، واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي) فأقبل آدم يتخطَّى، وطويت له الأرض، وقيِّضت له المفاوز، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلّا صار عامرًا، حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأنَّ جبريل ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن الأسِّ الثابت على الأرض السابعة السفلى، وقدَّمت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وأنَّه بناه من خمسة أجبل: طور سيناء؛ وطور زيتاء، ولبنان وهو جبلٌ بالشام، والجوديِّ هو جبلٌ بالجزيرة، وحراء وهو جبلٌ بمكة، وكان رَبَضُهُ من حراء؛ أي: الأساس المستدير بالبيت من الصخر، فهذا بناء آدم) وروي أنَّ الله خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زُبَيْدةً بيضاء على الماء، فدحيت الأرض من تحته، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش، فشكا إلى الله، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتةٍ من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد أخضر، بابٌ شرقيٌّ، وبابٌ غربيٌّ، فوضعه على موضع البيت، وقال (يا آدم! إنّي أهبطت لك بيتًا، فطف به كما يطاف حول عرشي، وصلّ عنده كما يُصلَّى عند عرشي، وأنزل الحجر، وكان أبيض، فاسودَّ من لمس الحيَّض في الجاهلية. فتوجَّه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيًا، وقيَّض الله له ملكًا يدله على البيت، قيل لمجاهد: لِمَ لَمْ يركب قال: وأيُّ شيء كان يحمله إنَّ خُطْوَتَهُ مسيرة ثلاثة أيام، فأتى مكة، وحجَّ البيت، وأقام المناسك، فلمَّا فرغ تلقَّته الملائكة، فقالوا: برَّ حجُّك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام). قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (حَجَّ آدم أربعين حجةً من الهند إلى مكة على رجليه، فبقي البيت يطوف به هو والمؤمنون من ولده إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى في تلك الأيام إلى السماء الرابعة، يدخله كُلَّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون إليه، وبعث الله جبرائيل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل

أبي قبيس؛ صيانةً من الغرق، وكان موضع البيت خاليًا إلى زمن إبراهيم عليه السلام، ثُمَّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم ببناء بيت يذكر فيه، فسأل الله تعالى أن يُبيِّن له موضعه، فبعث الله السكينة لتدلَّه على موضع البيت، وهي ريحٌ حجوجٌ لها رأسان شبه الحيَّة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث استقرَّت السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة، فتطوَّت السكينة على موضع البيت؛ أي: تحوت، وتجمَّعت، واستدارت، كتطوِّي الحجفة، ودورانها، فقالت لإبراهيم: ابن علي موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، فقال لابنه: يا بني! ائتني بحجرٍ أبيض يكون للناس علمًا، فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن من هذا، فمضى إسماعيل يطلبه، فصاح أبو قبيسٍ، يا إبراهيم! إنّ لك عندي وديعةً، فخذها، فإذا هو بحجرٍ أبيض من ياقوت الجنة، كان آدم قد نزل به من الجنة، كما وجد في بعض الروايات، أو أنزله الله تعالى حين إنزال البيت المعمور، كما مرَّ، فأخذ إبراهيم ذلك الحجر فوضعه مكانه، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، جاءت سحابة مربَّعة فيها رأسٌ فنادت: أن ارفعا على تربيعي، فهذه بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أنَّ إبراهيم وإسماعيل لمَّا فرغا من بناء البيت، أعطاهما الله تعالى الخيل جزاء معجَّلًا على رفع قواعد البيت، وكان الخيل قبل ذلك وحشيَّةً كسائر الوحوش، فلمَّا أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد، قال الله تعالى: (إنّي معطيكما كنزًا ادّخرته لكما، ثُمّ أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد، فادع يأتك الكنز) فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه الله تعالى، فدعا، فلم يبق على وجه الأرض فرسٌ بأرض العرب إلّا جاءته، فأمكنه من ناصيتها، وذلَّلها له وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فاركبوها واعلفوها، فإنّها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل" وإنّما سمّي الفرس عربيًّا؛ لأنَّ إسماعيل هو الذي أمر بدعائه، وهو أتى إليه، والعربيُّ: نسبةٌ إلى عربة بفتحتين، وهي باحة العرب؛ لأنَّ أباهم إسماعيل نشأ بها. قيل: كان إبراهيم يتكلَّم بالسريانية، وإسماعيل بالعربية، وكُلُّ واحد منهما يفهم ما يقوله صاحبه، ولا يمكنه التَّفوُّه به. وأمَّا بنيان قريش إياه فمشهور، فخبر الحيَّة في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن

اجتمعت قريش، فعجُّوا إلى الله تعالى؛ أي: رفعوا أصواتهم، وقالوا: لم تراع وقد أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإنْ كنت ترضى بذلك، وإلّا فما بدا لك فافعل، فأُسمِعوا خوّاتًا في السماء، والخوَّات: دَوِيُّ جناح الطير الضَّخم؛ أي: صوته، فإذا هم بطائر أعظم من النَّسر، أسود الظهر، أبيض البطن والرجلين، فغمز مخالبه في قفا الحيَّة، ثمّ انطلق بها تَجُرُّ ذَنبَها أَعْظَمَ مِنْ كذا وكذا، حتى انطلق بها إلى أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريشٌ على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا. وذكر عن الزهري: أنّهم بنوها حتى إذا بلغوا موضع الركن، اختصمت قريشٌ في الرُّكْن، أيُّ القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: حتى نحكِّم أوّل من يطلع علينا من هذه السكَّة، فاصطلحوا على ذلك، فاطَّلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحكَّموه، فأمر بالركن، فوضع في ثوب، ثُمَّ أمر سيّد كُلِّ قبيلة، فأعطاه ناحيةً من الثوب، ثمّ ارتقى هو على البناء، فرفعوا إليه الركن، فأخذه من الثوب، فوضعه في مكانه. قيل: إنّ قريشًا وجدوا في الركن كتابًا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجلٌ من اليهود، فإذا فيه: أنا الله ذو مكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصوَّرت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاكٍ احتفاءً لا يزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء، واللبن. وعن أبي جعفر: كان باب الكعبة على عهد العماليق، وجرهم، وإبراهيم بالأرض، حتى بنته قريش. وعن عائشة - رضي الله عنها -: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدار، أمن البيت هو؟ قال: "نعم" قلت: فلم لَمْ يدخلوه؟ قال: "إنّ قومك قصرت بهم النفقة" قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك، ولو حِدْثَانُهُمْ بالجاهليَّة لهدمت الكعبة، فأُلَزِقُ بابها بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدت فيه ستَّ أذرع من الحِجْر، فإنَّ قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة، فهذا بناء قريش. ثُمَّ لمّا غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير، ووهنت الكعبة من حريقهم، هدَّمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، فجعل لها بابين بابًا يدخلون منه، وبابًا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستَّ أذرعٍ، وكان طولها قبل ذلك ثماني أذرع، ولمَّا زاد في البناء مما يلي الحجر، استقصر ما كان من طولها تسع أذرع، فلمَّا

قتل ابن الزبير، أمر الحجَّاج أن يُقرَّر ما زاده ابن الزبير في طولها، وأن يُنَقص ما زاده من الحجر، ويردَّها إلى ما بناها قريشٌ، وأن يسدَّ الباب الذي فتحه إلى جانب الغرب. وروي: أنَّ هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس، أنَّه يريد هدم ما بني الحجاج من الكعبة، وأن يردَّها إلى بناء ابن الزبير، لِمَا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وامتثلَه ابن الزبير، فقال له مالكٌ: ناشدتُك اللهَ يا أمير المؤمنين! أن لا تجعل هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ منهم إلّا نقض البيت بناءه، فتذهب الهيبة من صدور الناس. وفي "القسطلاني على البخاري": ما نصُّه: وبنيت الكعبة عشرة مرات. الأول: بناء الملائكة. روي أنّ الله أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتًا، وفي كل أرض بيتًا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتًا. روي أنَّ الملائكة حين أسست الكعبة، انشقت الأرض إلى منتهاها، وقذفت الملائكة فيها حجارة، كأمثال الإبل، فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل بناءهما. الثاني: بناء آدم. روي أنّه قيل له: أنت أوّل الناس، وهذا أوّل بيتٍ وضع للناس. الثالث: بناء ابنه شيثٍ بالطين والحجارة، فلم يزل معمورًا به، وبأولاده، ومَن بعدهم حتى كان زمن نوح، فأغرقه الطوفان، وغيَّر مكانه. الرابع: بناء إبراهيم، وقد كان المُبلِّغ له ببنائه جبريل من الملك الجليل، ومن ثمَّ قيل: ليس ثمَّ في هذا العالم بيت أشرف من الكعبة؛ لأنَّ الآمر ببنائها الملك الجليل، والمبلِّغ، والمهندس جبريل، والباني الخليل، والمعين إسماعيل. الخامس: بناء العمالقة. السادس: بناء جرهم، والذي بناه منهم هو الحارث بن مضَّاض الأصفر. السابع: بناء قصيٍّ خامس جدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثامن: بناء قريش وحضره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمسٍ وثلاثين سنة. التاسع: بناء عبد الله بن الزبير، وسببه: توهين الكعبة من حجارة المنجنيق

التي أصابتها، حين حوصر ابن الزبير بمكة في أوائل سنة أربعٍ وستين، بمعاهدة يزيد بن معاوية، فهدمها بعد أن استخار واستشار، وكان يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة أربعٍ وستين، وبلغ بالهدم قامةً ونصفًا حتى وصل قواعد إبراهيم، فوجدها كالإبل المسنَّمة، وبعضها متصلٌ ببعضٍ، حتى إن من ضرب بالمعول طرف البناء تحرَّك طرفه الآخر، فبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها ما أخرجته منها قريشٌ من الحجر بكسر الحاء، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما: بابها الموجود الآن، والآخر: المقابل له المسدود، وكان ابتداء البناء في جمادى الآخرة، وختمه في رجب سنة خمسٍ وستين، ثمَّ ذبح مائة بدنةٍ للفقراء وكساهم. العاشر: بناء الحجاج، وكان بناؤه للجدار الذي من جهة الحجر بكسر الحاء، والباب الغربيُّ المسدود عند الركن اليماني، وما تحت عتبة الباب الشرقيّ، وهو أربع أذرع وشبر، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، واستمرَّ بناء الحجاج إلى الآن. انتهى ملخصًا. وهذا بحسب ما اطلع عليه رحمه الله تعالى، وإلّا فقد بناه بعد ذلك بعض الملوك سنة ألفٍ وتسعٍ وثلاثين، كما نقله بعض المؤرِّخين. اهـ. وقد نظم العشرة الأولى بعضهم، فقال: بَنَى بَيْتَ ربِّ العَرْشِ عَشْرٌ فخذْهُمُ ... ملائكةُ الله الكِرامِ وآدَمُ فَشِيثٌ فَإبْرَاهِيْمُ ثُمَّ عَمَالِقٌ ... قُصَيٌّ قُرَيْشٌ قَبْلَ هَذَينِ جُرْهُمُ وَعَبْدُ الإلهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَى كَذَا ... بِنَاءٌ لِحَجَّاجٍ وَهَذَا مُتمِّمُ والمعنى: أي واذكر يا محمد! لأمّتك قصّة إذ يرفع ويبني إبراهيم الخليل، وولده إسماعيل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، القواعد، والأساس، والجدار المستتر في الأرض التي هي من بعض جدران البيت الموجودة قبله، والمراد برفعهما: البناء عليها، فإنَّها كانت موجودةً من قبل بنائه، غائصةً في الأرض إلى منتهاها، وإنما بنى عليها ورفع البناء فوقها؛ لأنَّها إذا بُنِيَ عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتطاولت بعد التقاصر، وبناؤهما أنَّ إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، ولكنَّه لمّا كان له دخلٌ في البناء عطف

[128]

عليه، وقيل كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} وقد أظهر عبد الله (يقولان) في قراءته؛ أي: يرفعانها حالة كونهما قائلين {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} الدعاء، وغيره من القرب، والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء؛ أي: حالة كونهما قائلين: ربّنا واقبل منّا ما عملنا لك! وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، وبناءَنا بيتك، وفُرِّق (¬1) بين القبول والتقبُّل: بأنَّ التَّقبُّل لكونه على بناء التكلُّف، إنّما يطلق حيث يكون العمل ناقصًا لا يستحق أن يقبل إلا على طريق التفضُّل، والكرم، ولفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى، فاختيار لفظ التقبُّل اعتراف منهما بالعجز، والانكسار، والقصور في العمل {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا، وتضرُّعنا إليك {الْعَلِيمُ} بكل المعلومات التي من زُمْرَتها نياتنا في جميع أعمالنا، ودلَّ هذا القول، على أنّه لم يقع منهما تَقْصِير بوجه في إتيان المأمور به، بل بذلا في ذلك غاية ما في وسعهما، فإنَّ المقصِّر المتساهل كيف يتجاسر على أن يقول بأطلق لسانٍ، وأرقِّ جنانٍ {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؟! ودلت الآية أيضًا (¬2) على أنَّ الواجب على كُلِّ مأمور بعبادةٍ وقربةٍ إذا فرغ منها، وأدَّاها كما أمر بها، وبذل في ذلك ما في وسعه أن يتضرَّع إلى الله سبحانه، ويبتهل ليتقبَّل منه، ولا يردَّ عليه، فيضيع سعيه، وأن لا يقطع القول بأنَّ من أدَّى عبادةً وطاعةً تقبل منه لا محالةٍ، إذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنًى، فالقبول والردُّ إليه تعالى، ولا يجب عليه شيءٌ 128 - {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ}؛ أي: منقادين لحكمك مخلصين {لَكَ} بالتوحيد والعبادة، لا نعبد إلّا إياك فالمراد بالمسلم: من يجعل نفسه وذاته خالصًا لله تعالى، بأن يجعل التذلُّلَ، والتعظيم الواقع منه لِلِّسانِ، والأركانِ، والجَنَان خالصًا له تعالى، ولا يُعظِّم معه تعالى غيره، ويعتقد بأنَّ ذاتَه، وصفاتِه، وأفعالَه خالصةٌ له تعالى، خلقًا، وملكًا، لا مدخل في شيءٍ منها لأحدٍ سواه، أو المعنى: واجعلنا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

مستسلمين لك، منقادين بالرضى بكل ما قدَّرت، وبترك المنازعة في أحكامك، فإنّ الإِسلام إذا وصل باللام الجارة يكون بمعنى الاستسلام والانقياد، والرضا بالقضاء. فإنْ قلت (¬1): لا شكَّ أنَّهما كانا مخلصين، ومستسلمين في زمان صدور هذا الدعاء منهما. قلت: المراد طلب الزيادة في الإخلاص، والإذعان، أو الثبات عليه، فهذا تعليمٌ منهما الناس الدعاء؛ للتثبيت على الإيمان، فإنّهما لمّا سألا ذلك مع أمنهما من زواله عنهما، فكيف غيرهما مع خوفه، وسألا أيضًا الثبات على الانقياد، فأجيبا إلى ذلك حتى أسلم إبراهيم للإلقاء في النار، إسماعيل للأمر بالذبح. {وَ} اجعل {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا}؛ أي: بعض أولادنا {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}؛ أي: جماعةً منقادة لأمرك، مخلصةً لك بالتوحيد، والطاعة، والعبادة، خاضعةً لعظمتك؛ وإنَّما خصَّا الذريَّة بالدعاء مع أنَّ الأنسب بحال أصحاب الهمم، لا سيما الأنبياء أن لا يخصُّوا ذرّيَّتهم بالدعاء، لكنهما خصّاهم لوجهين: الأول: كونهم أحقَّ بالشفقة، كما في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فدعوا لأولادهما؛ ليكثر ثوابهما بهم، وفي الحديث: "ما مِن رجلٍ من المسلمين، يخلف من بعده ذريةٌ يعبدون الله تعالى، إلّا جعل الله له مثل أجورهم ما عبد الله منهم عابدٌ حتى تقوم الساعة". والثاني: إنّه وإن كان تخصيصًا صورةً، إلّا أنّه تعميمٌ معنى؛ لأنَّ صلاح أولاد الأنبياء سببٌ وطريقٌ لصلاح العامَّة، فكأنَّهما قالا: وأصلح عامة عبادك بإصلاح بعض ذريّتنا. وخصَّا البعض من ذريّتهما (¬2)؛ لما علما أنَّ من ذريّتهما محسنٌ، وظالمٌ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

لنفسه مبينٌ، وطريق علمهما بذلك أمران، تنصيص الله تعالى بذلك بقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والاستدلال بأنَّ حكمته تعالى تقتضي أن لا يخلو العالم عن أفاضل، وأواسط، وأراذل، فالأفاضل: هم أهل الله الذين أخلصوا أنفسهم لله تعالى، بالإقبال الكليِّ عليه. والأواسط: هم أهل الآخرة الذين يجتنبون المنكرات، ويواظبون على الطاعات؛ رغبةً في نيل المثوبات. والأراذل: هم أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، جُلُّ همَّتهم عمارة الدنيا، وتهيئة أسبابها. وقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء: أحدها: الزراعة والغرس، والثاني: الحماية والحرب، والثالث: جلب الأشياء من مصرٍ إلى مصر، ومن أكبَّ على هذه الأشياء، ونسي الموت، والبعث، والحساب، وسعى لعمارة الدنيا سعيًا بليغًا، ودقَّق في إعمال فكره تدقيقًا عجيبًا، فهو متوغِّلٌ في الجهل، والحماقة، ولهذا قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا. {وَأَرِنَا} أي بصرنا، أو عرفنا {مَنَاسِكَنَا}؛ أي: مواضع نسكنا، أو أعمال نسكنا، والمناسك: جمع منسكٍ بفتح السين وكسرها، ويحتمل أن يكون المراد به: اسم مكان، فتكون الرُّؤية حنيئذٍ بصريةً، والمعنى: بصّرنا مواضع نسكنا؛ أي: المواضع التي يتعلَّق بها النسك؛ أي: أفعال الحج، نحو: المواقيت التي يحرم منها، والموضع الذي يوقف بعرفة، ومزدلفة، وموضع الطواف، والصفا والمروة، وما بينهما من المسعى، وموضع رمي الجمار، ويحتمل أن يكون المراد به: مصدرًا لا اسم مكان؛ أي: أفعال الحج نفسها لا مواضعها، ويكون جمعه حينئذٍ لاختلاف أنواعه، وتكون الرُّؤية حينئذٍ علميَّةً؛ لأنَّ نفس الأفعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب، والمعنى حينئذٍ: وعرِّفنا أفعال حجنا، وكيفيتها من الطواف، والوقوف، والرمي، والنُّسُك: كُلُّ ما يُتعبَّد به إلى الله تعالى، وشاع في أعمال الحج؛ لكونها أشقَّ الأعمال بحيث لا تتأتَّى إلّا بمزيد سعيٍ واجتهادٍ، فأجاب (¬1) ¬

_ (¬1) الخازن.

[129]

الله تعالى دعاءَهما، فبعث جبريل، فأراهما المناسك في يوم عرفة، فلمَّا بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم! قال إبراهيم: نعم، فَسمِّي ذلك الوقت عرفة، والموضع عرفات. وفي قراءة ابن مسعود {وأرهِم مناسكَهم} بإعادة الضمير إلى الذرية. وقرأ (¬1) ابن كثير، والسُّوسيُّ عن أبي عمرو، ويعقوب {أرْنَا} بإسكان الراء قياسًا على فخذ في فخذٍ، ولكن أبو عمرو يُشِمُّ الكسرة، وقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصًّا عن العرب، قال الشاعر: أَرْنَا إدَاوَةَ عَبْدِ الله نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا ولا اعتبار بإنكار من أنكرها؛ لأنّها قراءةٌ متواترةٌ، فإنكارها ليس بشيءٍ {وَتُبْ عَلَيْنَا} عمَّا فَرَط منا سَهْوًا من الصغائر، ومن ترك الأولى، ولعلهما قالا ذلك؛ هضمًا لأنفسهما، وإرشادًا لذريتهما؛ أي: سامح لنا تقصيرنا في طاعتك، وتجاوز عنَّا، فإنّ العبد وإن اجتهد في طاعة ربّه، فإنّه لا ينفكُّ عن التقصير من بعض الوجوه، إمّا على سبيل السهو، أو على سبيل ترك الأولى، والأفضل، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك لا لذنبهما؛ لأنّهما معصومان، أو المعنى: وتب على ظلمة أولادنا حتى يرجعوا إلى طاعتك، فيكون ظاهر الكلام الدعاء لأنفسهما، والمراد به ذريتهما، فإنّهما لمَّا بنيا البيت أرادا أن يَسنَّا للناس، ويعرِّفاهم أنَّ ذلك البيت، وما يتبعه من المناسك، والمواقف، أمكنة التفصِّي من الذنوب، وطلب التوبة من علام الغيوب {إِنَّكَ} يا ربّنا {أَنْتَ التَّوَّابُ}؛ أي: كثير القبول لتوبة من تاب {الرَّحِيمُ}؛ أي: كثير الرحمة والإنعام على عباده. وأصل التوبة: الرجوع، وتوبة الله على العبد قبوله توبته، وأن يخلق الإنابة والرجوع في قلب المسيء، ويزيِّن جوارحه الظاهرة بالطاعات، بعد ما لوَّثها بالمعاصي والخطيئات، وتوّابٌ: من صيغة المبالغة، أُطلق عليه تعالى في صدور الفعل منه، وكثرة قبوله توبة المذنبين؛ لكثرة من يتوب إليه يا 129 - {رَبَّنَا} {و} يا مَالِكَ أمرِنا {ابعث} وأرسل {فِيهِمْ}؛ أي: في جماعة الأمة المسلمة من أولادنا، وهم ¬

_ (¬1) البيضاوي.

العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام {رَسُولًا} ونبيًّا {مِنْهُمْ}؛ أي: من أنفسهم ونسبهم، ولم يبعث من ذريتهما غير محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو المجاب به دعوتهما، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أُمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام" أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية. وقال: {مِنْهُمْ} ولم يقل: فيهم؛ لأنَّ البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم، بل يكون منهم، ومن غيرهم. وجملة قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ}؛ أي: يقرأ عليهم {آيَاتِكَ}؛ أي: آيات القرآن صفةٌ لرسولًا؛ أي: رسولًا يملي عليهم آياتك القرآنية ليأخذوها منه، ويتعلَّموها، أو يأمرهم بتلاوة القرآن، وحفظ ألفاظه، أو يقرؤها عليهم ويبلِّغها إياهم بلا كتمان شيءٍ منها. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} معطوف على يتلو؛ أي: يعلِّمهم بحسب قوَّتهم النظريَّة معاني الكتاب والقرآن، بتعليمهم ما فيه من دلائل التوحيد، والنبوة، والأحكام الشرعية، فلمَّا ذكر الله تعالى أوَّلًا أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن، ودراسته؛ ليبقى مصونًا من التحريف والتبديل، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ القراءة، وما يتعلَّق به، ذكر بعده تعليم معانيه، وحقائقه، وأسراره، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ التفسير، وما يتعلَّق به {وَ} يعلمهم {الحكمة}؛ أي: السنة والحديث، وفهم ما في القرآن، قاله قتادة، وفيه إشارةٌ إلى فنِّ الحديث، وما يتعلَّق به درايةً وروايةً، أو يعلِّمهم ما يُكمّل به نفوسهم من المعارف الحقّة، والأحكام الشرعيَّة. قال أبو بكر ابن دريد: وكُلُّ كلمةٍ وَعَظَتْك، أودعتك إلى مكرمةٍ، أو نَهَتْك عن قبيحٍ، فهي حكمةٌ {وَيُزَكِّيهِمْ} بحسب قوّتهم العمليَّة؛ أي: يطهِّرهم عن دنس الشرك والوثنيَّة، وفنون المعاصي، سواء كانت بترك الواجبات، أو بفعل المنكرات، وفيه إشارةٌ إلى علم العقائد. ثمَّ إنّ إبراهيم لمَّا ذكر هذه الدعوات الثلاث، ختمها بالثناء على الله تعالى؛ لأنّه أرجى للقبول، فقال: {إِنَّكَ} يا ربَّنا! {أَنْتَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يغالب ويقهر على ما يريد {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمصلحة العامَّة لعباده، فهو سبحانه عزيزٌ حكيمٌ بذاته، وكُلُّ ما سواه ذليلٌ جاهلٌ في نفسه.

[130]

فائدة: فإن قلت (¬1): ما الحكمة في ذكر إبراهيم، وآله مع محمد - صلى الله عليه وسلم - في باب الصلاة حيث يقال: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟. قلت: أجيب عنها بأجوبة كثيرة: منها: أنّ إبراهيم دعا لمحمد بهذه الدعوات، فأجرى الله سبحانه ذكر إبراهيم على ألسنة أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، أداءً لحقٍّ واجبٍ على محمد لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام. ومنها: أنَّ إبراهيم سأل ربَّه بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}؛ أي: أبق لي ثناءً حسنًا في أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنّ إبراهيم كان منادي الشريعة في الحجِّ، ومحمدًا كان منادي الإيمان، فجمع الله بينهما في الذكر الجميل إلى غير ذلك من الأجوبة. 130 - ومَن في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ} للاستفهام الإنكاري التوبيخيِّ، فهو بمعنى: النفي؛ أي: لا يرغب، ولا يعرض {عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام، ولا يترك دينه، وشريعته التي منها ما أرسل به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}؛ أي: إلا من استخفَّ، وأذلَّ، وامتهن نفسه، وأهلكها، وخسَّرها، وجهل قدرها بأن لم يعلم أنّها مخلوقةٌ لله، يجب عليها عبادة خالقها؛ لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه؛ لأنّه لم يعترف بأنَّ الله خالقها، وقد ورد: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه). وعنى بذلك اليهود، والنصارى، ومشركي العرب لاختيارهم اليهوديَّة، والنصرانيَّة، والوثنية، على الإسلام. فائدة: فالمِلَّة والدّين والشريعة بمعنى واحد، وهي: الأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده للتَّعبُّد بها، فمن حيث إملاء الرسول إيَّاها علينا تسمَّى ملَّةً، ومن حيث إنَّها شرعها الله على لسان رسوله تسمَّى شريعةً، ومن حيث إنّا نتديَّن بها ¬

_ (¬1) المراح.

تسمى دينًا، كما مرَّ لك {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ}؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد اصطفينا إبراهيم واخترناه {فِي الدُّنْيَا} من بين سائر الخلق، للرسالة والخلَّة، وعرَّفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد، والعدل، والشرائع {وَإِنَّهُ}؛ أي: إنّ إبراهيم {فِي الْآخِرَةِ}؛ أي: في اليوم الآخر {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: لمن الفائزين بالرضا والكرامة مع الأنبياء، والمرسلين، وسائر عباد الله الصالحين، ففيه بيان (¬1) لخطأ من رغب عن ملَّته؛ لأنَّ من جمع كرامة الدارين لم يكن أحدٌ يرغب عن طريقته إلا من سفيه. وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ} متعلق (¬2) بقوله: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: لمن المشهود لهم بالثبات على الاستقامة، والخير، والصلاح، فمن كان صفوة العباد في الدنيا، مشهودًا له في الآخرة بالصلاح، كان حقيقًا بالاتباع، لا يرغب عن مِلَّتَهِ إلّا سفيهٌ؛ أي: في أصل الخلقة، أو متسفِّهٌ يتكلَّف السَّفاهة بمباشرة أفعال السفهاء باختياره، فيذلُّ نفسه بالجهل، والإعراض عن النظر، والتأمُّل، وفي قوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} بشارةٌ عظيمةٌ له في الدنيا بصلاح الخاتمة، ووعد له بذلك، وكم من صالحٍ في أوَّل حاله ذهب صلاحه في ماله، وكان في الآخرة لعذابه، ونكاله، كبلعم بن باعوراء، وبرصيصا، وقارون. والمعنى (¬3): أي: إنّ ملتكم هي ملة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون وتحتقرون عقولكم، وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا؟! ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمةً يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير، والصلاح، وإرشاد الناس للعمل بهذه الملّة، ولا شكّ (¬4) أنَّ ملّةً هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربّه، لا يرغب عنها إلّا سفيهٌ يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

[131]

والنفسية الدالَّة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته، والظرف في 131 - قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} متعلِّق باصطفيناه، وتعليلٌ له؛ أي: اصطفيناه واخترناه {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}؛ أي: أخلص دينك لربّك، واستقم على الإِسلام، واثبت عليه، وذلك حين كان في الرب، ونظر إلى الكواكب، والقمر، والشمس، فألهمه الله الإخلاص {قَالَ} إبراهيم {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أخلصت ديني له، كقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. وقد امتثل ما أمر به من الإخلاص والاستسلام، وأقام على ما قال، فسلَّم القلب، والنفس، والولد، والمال، ولمَّا قال له جبريل حين ألقي في النار: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: ألا تسأل ربَّك؟ فقال: حسبي بسؤالي علمه بحالي. وقيل: الظرف متعلق بمحذوف، كنظائره، تقديره: واذكر يا محمد! لأمَّتك قصة {إذ قال له}؛ أي: لإبراهيم {رَبُّهُ} سبحانه وتعالي {أَسْلِمْ}؛ أي: أخلص دينك وعملك لله {قَالَ} إبراهيم {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أخلصت ديني وعملي لمالك الخلائق، ومدبِّرها، ومحدثها، ويقال: قال له ربُّه حين ألقي في النار: أسلم نفسك إليَّ. قال: أسلمت نفسي لله ربِّ العالمين؛ أي: فوَّضْتُ أمري إليه، وقد حقَّق ذلك حيث لم يستعن بأحدٍ من الملائكة حين ألقي في النار. قال أهل التفسير (¬1): إنّ إبراهيم ولد في زمن النمروذ بن كنعان، وكان النمروذ أوّل من وضع التاج على رأسه، ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كُهَّانٌ ومنجِّمون، فقالوا له: إنّه يولد في بلدك في هذه السنة غلامٌ يغيِّر دين أهل الأرض، ويكون هلاكك، وزوال ملكك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كُلِّ غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، فلمَّا دنت ولادة أُمّ إبراهيم، وأخذها المخاض خرجت هاربةً مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فولدته في نهرٍ يابسٍ، ثُمَّ لفَّته في خرقةٍ، ووضعته في حلفاء، وهو نبتٌ في الماء، يقال له بالتركي: حَصِير قَمشَي، ثُمَّ رجعت فأخبرت زوجها بأنَّها ولدت، وأنَّ الولد في موضع كذا، فانطلق أبوه، فأخذه من ذلك المكان، وحفر له سُرْبًا؛ أي: بيتًا في الأرض ¬

_ (¬1) روح البيان.

كالمغارة، فواراه فيه، وسدَّ عليه بابه بصخرةٍ مخافة السباع، وكانت أمُّه تختلف إليه فترضعه، وكان اليوم على إبراهيم في الشباب والقوّة، كالشهر في حقّ سائر الصبيان، والشهر كالسنة، فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلّا خمسة عشرة شهرًا، أو سبع سنين، أو أكثر من ذلك فلمَّا شبَّ إبراهيم في السرب قال لأمّه: من ربّي؟ قالت: أنا. قال: فمن ربّك؟ قالت: أبوك. قال: فمن ربُّ أبي؟ قالت: أسكت. ثمَّ رجعت إلى زوجها، فقالت: أرأيت الغلام الذي كنَّا نحدَّث أنّه يغيِّر دين أهل الأرض؟ فإنَّه ابنك، ثُمَّ أخبرته بما قال، فأتى أبوه، وقال له إبراهيم: يا أبتاه! من ربي؟ قال: أمُّك. قال: فمن ربُّ أمي؟ قال: أنا. قال فمن ربُّك؟ قال: النمروذ. قال: فمن ربُّ نمروذ؛ فلطمه لطمةً، وقال له: اسكت، فلمَّا جنَّ عليه الليل، دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة، فرأى السماء، وما فيها من الكواكب، ففكَّر في خلق السموات والأرض، فقال: إنَّ الذي خلقني ورزقني، وأطعمني وسقاني، ربّي الذي مالي إلهٌ غيره، ثمّ نظر في السماء، فرأى كوكبًا، فقال: هذا ربّي، ثُمَّ أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب، فلمَّا أفل قال: لا أحبُّ الآفلين، ثم رأى القمر، ثمّ الشمس، فقال فيهما كما قال في حقِّ الكواكب، وقد نشأ إبراهيم في قومٍ عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أنَّ للعالم ربًّا واحدًا يدبِّره في شؤونه، وإليه مصيره، وحاجَّ قومه في ذلك، وبهرهم بحجته، فقال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} الخ. والحاصل (¬1): أنّ إبراهيم مستسلم للربّ الكريم، وأنّه على الصراط المستقيم، لا يرغب عن طريقته إلّا من سفه نفسه؛ أي: لم يتفكَّر فيها كما تفكَّر إبراهيم في الأنفس، والآفاق، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} والسَّفاهة: الجهل وضعف الرأي، وكلُّ سفيه جاهلٌ، وذلك أنَّ من عبد غير الله فقد جهل نفسه؛ لأنّه لم يعرف الله خالقها، ولمَّا كمل إبراهيم في نفسه كمَّل غيره بالتوصية المذكورة في قوله: {وَوَصَّى بِهَا}. قرأ نافع وابن عامر {وأوصى} بالهمزة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[132]

المفتوحة. وقرأ الباقون 132 - {وَوَصَّى} وبها متعلق بوصَّى، والضمير عائدٌ على الملَّة المذكورة في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وبه قال الزمخشري، أو الكلمة التي هي قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} والتوصية: هي التقديم إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاحٌ من قول، أو فعل على وجه التفضُّل والإحسان، سواءٌ كان أمرًا دينيًّا، أو دنيويًّا، وأصلها: الوصل، يقال: وصَّاه إذا أَوْصَلَه، وهي أبلغ من الإيصاء؛ أي: وأوصى إبراهيم عليه السلام بالملّة المذكورة في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أو بكلمة: أسلمت لله ربّ العالمين، أو بكلمة: لا إله إلّا الله {بَنِيهِ}؛ أي: أولاده الذُّكور، وقد سبق أنّهم كانوا أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وقيل (¬1): هم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر أولاده، وأُمُّهُ هاجر القبطية، وإسحاق وأمّه سارةُ، ومدين، ومداين، وبُقْشَانُ، وزُمْرَانُ، وشَبقٌ، ونُوحٌ، وأمُّهم قنَطْوُراءُ بنتُ يَقْطَنَ الكنعانيةُ، تزوَّجها إبراهيم بعد وفاة سارة. وقيل أولادهُ: أربعة عشرة، والذي بقي نسله من هؤلاء الثمانية: إسماعيل، وإسحاق والمعنى: أي: أمر إبراهيم عليه السلام بنيه عند موته باتباع هذه الملة الحنيفية، وإنّما خصَّهم بهذه الوصية؛ لأنّ شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم، وقيل: لأنّهم كانوا أئمّة يقتدى بهم، وكان صلاحهم صلاحًا لغيرهم. {وَيَعْقُوبُ} بن إسحاق بالرفع عطفًا على إبراهيم؛ أي: ووصّى يعقوب بنيه عند موته بهذه الملة، كوصيّة إبراهيم، وقرىءَ بالنصب عطفًا على بنيه، والمعنى: ووصى إبراهيم بنيه ويعقوب نافلته بهذه الملة عند موته. وقرأ الجمهور {وَيَعْقُوبُ} بالرفع. وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكيُّ الضرير، وعمر بن فائد الأسواريُّ بالنصب، فأمَّا قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفًا على إبراهيم، ويكون دَاخِلًا في حكم توصية بنيه؛ أي: ووصى يعقوب بنيه. الثاني: أن يكون مرفوعًا على الابتداء، وخبره محذوف، تقديره: ويعقوب ¬

_ (¬1) المراغي.

قال يا بَنيّ: إن الله اصطفى لكم الدين، والأوّل أظهر. وأمّا قراءة النصب فيكون عليها معطوفًا على بنيه؛ أي: ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب نافلته؛ أي: ابن ابنه إسحاق، وكان (¬1) جملة أولاد يعقوب اثني عشر: روبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، وشنوخون، وزبولون، وزَوَابِي، ونَفْتُونِي، وكُوْدا، وأوشيز، وبنيامين، ويوسف، وسُمّي يعقوب؛ لأنّه مع أخيه عَيْصُو كانا توأمين، فتقدَّم عيصو في الخروج من بطن أمِّه، وخرج يعقوب على أثره آخذًا بعقبه، وذلك أنَّ أُمَّ يعقوب حملَتْ في بطنٍ واحد بولدين توأمين، فلمَّا تكامل عدَّةٌ أشهر الحمل، وجاء وقت الوضع تكلَّما في بطنها وهي تسمع، فقال: أحدهما للآخر: طرِّق لي حتى أخرج قبلك، وقال الآخر: لئن خرجت قبلي لأشُقَّن بطنها حتى أخرج من خصرها، فقال الآخر: اخرج قبلي، ولا تقتل أمي. قال: فخرج الأول فسمَّته عيصو؛ لأنَّه عصاها في بطنها، وخرج الثاني وقد أمسك بعقبه فسمَّته يعقوب، فنشأ عيصو بالغلظة والفظاظة، صاحب صَيْدٍ وقَنَصٍ، ويعقوب بالرحمة واللين، صاحب زرع وماشية. وروي: أنّهما ماتا في يوم واحد، ودُفنا في قبر واحد. قيل: عاش يعقوب مائةً وسبعًا وأربعين سنة بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدَّسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف فدفنه عند أبيه. وقال المؤرِّخون: نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيعٌ، وقيل: ابن سنتين، وقيل: ابن أربع عشرة سنة، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات إسماعيلُ وله مائةٌ وثلاثون سنة، وكان لإسماعيل حين مات أبوه إبراهيم تسعٌ وثمانون سنةً، وعاش إسحاق مائةً وثمانين سنةً، ومات بالأرض المقدَّسة، ودفن عند أبيه، وكان بين وفاة إبراهيم الخليل ومولد محمد - صلى الله عليه وسلم - نحوٌ من ألف سنةٍ وستمائة سنة، على ما قيل واليهود تنقص من ذلك نحوًا من أربعمائة سنة، وقوله: {يَا بَنِيَّ} على إضمار القول عند البصريين، تقديره: ووصَّى بها بنيه، وقال {يَا بَنِيَّ} الخ. وذلك؛ لأنّ يا بني ¬

_ (¬1) البيضاوي.

جملةٌ، والجملة لا تقع مفعولًا إلّا لأفعال القلوب، أو فعل القول، وأمَّا عند الكوفيين فمنصوبٌ بفعل الوصية؛ لأنّها في معنى القول على رأيهم. وفي "الفتوحات" قوله: {يَا بَنِيَّ} فيه وجهان: أحدهما: أنّه مقول إبراهيم، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم، وهو الأظهر كما مرّ، ومقول يعقوب محذوفٌ؛ لدلالة مقول إبراهيم عليه، والتقدير: ووصَّى بها إبراهيم بنيه، وقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الخ. ووصى بها يعقوب بنيه، وقال: {يَا بَنِيَّ} الخ. والثاني: أنه من مقول يعقوب؛ إن قلنا رفعه بالابتداء، ومقول إبراهيم محذوف؛ لدلالة مقول يعقوب عليه، والتقدير: ووصَّى بها إبراهيم بنيه، وقال: {يَا بَنِيَّ ...} الخ. ويعقوب وصَّى بها بنيه، وقال: {يَا بَنِيَّ}. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {اصْطَفَى} واختار {لَكُمُ} من بين الأديان {الدِّينَ}؛ أي: دين الإِسلام الحنيفي الذي هو صفوة الأديان، ولا دين عنده غيره، والألف واللام في الدين للعهد؛ لأنهم كانوا قد عرفوا، كما في "الكرخي" {فَلَا تَمُوتُنَّ}؛ أي: لا يصادفنكم الموت في الظاهر، وفي الحقيقة: نهى عن ترك الإِسلام؛ لأنَّ الموت ليس في أيديهم، فكأنَّه قال: لا تموتوا على حالةٍ غير حالة الإِسلام، فليس فيه نهيٌ عن الموت الذي هو قَهْريٌّ، والاستثناء مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوال {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محلِّ النصب على الحال، والعامل فيها ما قبل {إِلَّا}، كأنه قال: لا تموتنَّ على حالٍ من الأحوال إلّا على هذه الحالة التي هي اتصافكم بالإِسلام. والمعنى: أي فاثبتوا على الإِسلام حتى تموتوا مسلمين مخلصين له تعالى بالتوحيد والعبادة، والمراد: نهيهم عن ترك الإِسلام، وأمرهم بالثبات عليه إلى مصادفة الموت، وإلَّا فالموت قهريٌّ ليس باختيارهم. وذلك حين دخل يعقوب مصر، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإِسلام، فإنَّ موتهم لا على حال الثبات على الإِسلام موتٌ لا خير فيه، وأنَّه ليس بموت السعداء، وأنَّ من حقّ هذا الموت أن لا يحلَّ فيهم. وتخصيص الأبناء بهذه

[133]

الوصية مع أنّه معلومٌ من حال إبراهيم إنَّه كان يدعو الكُلَّ أبدًا إلى الإِسلام والدين، للدلالة على أنَّ أمر الإِسلام أولى الأمور بالاهتمام، حيث وصَّى به أقرب الناس إليه، وأحراهم بالشفقة، والمحبَّة، وإرادة الخير، مع أنَّ صلاح أبنائه سببٌ لصلاح العامَّة؛ لأنَّ المتبوع إذا صلح في جميع أحواله صلح التابع. وروي أنَّ اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألست تعلم أنَّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديَّة يوم مات؟ فنزلت هذه الآية: 133 - {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} وأم فيه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري. قال في "التيسير": أم إذا لم يتقدَّمها ألف الاستفهام كانت بمنزلة مجرَّد الاستفهام، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، والشهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر؛ أي: بل كنتم يا معشر اليهود! حاضرين وصيّة يعقوب، {إِذْ حَضَر} وقرىء بكسر (¬1) الضاد {يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وقرأ الجمهور (¬2) بنصب يعقوب، ورفع الموت، وقرىء بالعكس، والمعنيان متقاربان، أي: أكنتم حاضرين يعقوب حين حضره أسباب الموت ومقدّماته؟ أي: (¬3) إنّكم لم تحضروا ذلك فلا تدَّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتنسبوهم إلى اليهوديَّة، فإنّي ما ابتعثت خليلي إبراهيم، وولده، وأولاده إلا بدين الإِسلام، وبذلك وصّوا أولادهم، وبه عهدوا إليهم. ثُمَّ بيَّن ما قال يعقوب لبنيه بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ} يعقوب، {إِذْ} بدلٌ من إذ الأولى بدل اشتمال، والعامل فيهما شهداء، أو ظرفٌ لحضر، أي: أكنتم حاضرين وصيّته؟ إذ قال: {لِبَنِيهِ}؛ أي: لأولاده الاثني عشر {مَا تَعْبُدُونَ}؛ أي: أيَّ شيء تعبدونه؟ {مِنْ بَعْدِي}؛ أي: من بعد موتي، أراد به تقريرهم على التوحيد والإِسلام، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما؛ أي: فأنتم لم تحضروا وصيته، فكيف تنسبونه إلى اليهودية؟ قيل: إنّ الله تعالى لم يقبض نبيًّا حتى يخيّره بين الحياة والموت، فلمَّا خيِّر يعقوب، وكان قد رأى أهل مصر يعبدون الأوثان والنيران، قال: أنظروني حتى أسأل أولادي، وأوصيهم، فأمهل، فجمع أولاده، ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) العكبري. (¬3) الخازن.

وأولاد أولاده، وقال لهم: قد حضر أجلي، ما تعبدون من بعدي؟ قال الراغب: لم يَعْنِ بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} العبادة المشروعة فقط، وإنَّما عنى أن يكون مقصودهم في جميع الأعمال وجه الله تعالى ومرضاته، وأن يتباعدوا عمَّا لا يتوسَّل به إليهما، وكأنَّه دعاهم إلى أن لا يتحرَّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يَخَفْ عليهم الاشتغالَ بعبادة الأصنام، وإنّما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: ما قطعك عن الله فهو طاغوتٌ، ولهذا قال في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}؛ أي: أن نخدم ما دون الله تعالى. قال النحرير التفتازانيُّ: و (ما) عامٌّ؛ أي: يصحُّ إطلاقه على ذي العقل، وغيره عند الإبهام، سواءٌ كان للاستفهام، أو غيره، وإذا علم أنَّ الشيء من ذي العقل والعلم، فُرِّقَ (بمَنْ) و (ما)، فيخُصُّ (مَنْ) بذي العلم، و (ما) بغيره، وبهذا الاعتبار يقال: إنَّ (ما) لغير العقلاء. انتهى كلامه. وتمَّ الإنكار عليهم عند قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ثُمَّ استأنف وبيَّن أنَّ الأمر قد جرى على خلاف ما زعموا، فقال: و {قَالُوا} كأنَّه قيل: فماذا قال أولاد يعقوب؟ فقيل: قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} ربَّ العالمين {وَإِلَهَ آبَائِكَ} معبود الأولين والآخرين، وأعيد ذكر الإله؛ لئلَّا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار. وقرأ الجمهور {وَإِلَهَ آبَائِكَ}. وقرأ أُبيٌّ {وإلهَ إبراهيم} بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدريُّ وأبو رجاء {وإله أبيك} وقوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} عطف بيان لآبائك، أو بدل تفصيل له؛ أي: نعبد الإله المتفق على وجوده، وإلهيته، ووجوب عبادته، وقدَّم إسماعيل؛ لأنّه كان أكبر من إسحاق، وجعله من جملة آبائه مع كونه عمًّا له؛ تغليبًا للأب والجدِّ؛ ولأنَّ العمَّ أبٌ، والخالة أُمٌّ؛ لانْخِرَاطِهما في سلكٍ واحدٍ، وهو الأخوَّة لا تفاوت بينهما، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في العباس: "هذا بقيَّة آبائي" وفي "الصحيحين": "عمُّ الرجل صنو أبيه"؛ أي: مثله في أنَّ أصلهما واحدٌ؛ أي: لا تفاوت بينهما، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} بدلٌ من {إله آبائك} كقوله تعالي: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} وفائدته: التصريح بالتوحيد، ودفع التوهُّم الناشىء من تكرار المضاف لتعذّر العطف على المجرور، والتأكيد، أو

[134]

منصوبٌ على الاختصاص، كأنّه قيل: نريد ونعني بإله آبائك إلهًا واحدًا، وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ} سبحانه وتعالى وحده {مُسْلِمُونَ} حالٌ من فاعل نعبد؛ أي: مقرُّون له بالتوحيد وبالعبادة، منقادون. قال تعالى: مشيرًا إلى تلك الذرية الطيبة 134 - {تِلْكَ} الجماعة المذكورة التي هي إبراهيم، ويعقوب، وبنوهما المُوحِّدون {أُمَّةٌ}؛ أي: جماعةٌ {قَدْ خَلَتْ} ومضت وسلفت بالموت، والأمَّة في الأصل: المقصود، كالعهدة بمعنى: المعهود، وسمّي بها الجماعة؛ لأنَّ فِرَقَ الناس تؤمُّها؛ أي يقصدونها، ويقتدون بها، وهي خبر تلك، وجملة قوله: {قَدْ خَلَتْ} نعتٌ لأمّةٍ؛ تلك الجماعة المذكورة أمّةٌ قد خلت ومضت بالموت، وانفردت عمَّن عداها، وأصله: صارت إلى الخلاء، وهي الأرض التي لا أنيس بها {لَهَا}؛ أي: لتلك الأمة {مَا كَسَبَتْ}؛ أي: جزاء ما عملت من الخيرات، ودَعُوا يا معشر اليهود والنصارى! ذِكْرهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم، وتقديم المسند؛ لقصره على المسند إليه؛ أي: لها كسبها لا كسب غيرها {وَلَكُمْ} يا معشر اليهود والنصارى {مَا كَسَبْتُمْ} لا كسب غيركم؛ أي: جزاء ما كسبتموه من العمل، أي: إنَّ أحدًا من الناس لا ينفعه كسب غيره متقدِّمًا كان أو متأخرًا، فكما أنَّ أولئك لا ينفعهم إلّا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلّا ما اكتسبتم، فلا ينفعكم الانتساب إليهم، بل إنّما ينفعكم موافقتهم واتباعهم {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: لا تؤاخذون بسيئات الأمّة الماضية، كما أنهم لا يؤاخذون بسيئاتكم، بل كُلُّ فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره، ففي الكلام حذفٌ، تقديره ولا يسألون عما كنتم تعملون، ودلَّ على المحذوف قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} وذلك لمَّا ادعى اليهود أنَّ يعقوب عليه السلام مات على اليهودية، وأنه عليه السلام، وصَّى بها بنيه يوم مات، ورُدُّوا بقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ ...} الآية، قالوا: هب أنَّ الأمر كذلك، أليسوا آباءنا، وإليهم ينتمي نسبنا؟ فلا جرم ننتفع بصلاحهم، ومنزلتهم عند الله تعالى. قالوا ذلك: مفتخرين بأوائلهم، فرُدُّوا بأنّهم لا ينفعهم انتسابهم إليهم، وإنَّما ينفعهم اتباعهم في الأعمال، فإنَّ أحدًا لا ينفعه كسب غيره، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا صفية عمة محمد! يا فاطمة بنت محمد! ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم، فإنّي لا أغني عنكم من الله

شيئًا" وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: "مَنْ أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" يعني: من أخره في الآخرة عمله السيىء، أو تفريطه في العمل، لم ينفعه شرف نسبه، ولم تنجبر نقيصته به. قال الشاعر: أَتَفْخَرُ باتّصالِكَ مِنْ عَلِيٍّ ... وَأصْلُ البَوْلَةِ الماءُ القَراحُ وَلَيْسَ بِنَافِعٍ نسَبٌ زكّي ... يُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ القِبَاحُ والأبناء وإن كانوا يتشرَّفون في الدنيا بشرف آبائهم، إلّا أنّه إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والافتخار بمثل هذا، كالافتخار بمتاع غيره، وإنّه من المجنون، فلا بُدَّ من كسب العمل والإخلاص فيه، فإنَّه المنجي بفضل الله تعالى، فالقربى لا تغني شيئًا إذا فسد العمل، وأمَّا قول من قال: إذا طَابَ أصْلُ المَرْءِ طَابَتْ فُرُوعُهُ فباعتبار الغالب، فمن عادته تعالى أن يخرج الحيَّ من الميت، والميت من الحيّ. الإعراب {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}: {وَإِذْ} الواو عاطفة {إذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد! قصّة {إذ يرفع إبراهيم}، والجملة معطوفة على جملة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}. {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {مِنَ الْبَيْتِ} جار ومجرور حال من {الْقَوَاعِدَ}. {وَإِسْمَاعِيلُ} معطوف على إبراهيم {رَبَّنَا} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء وما بعدها في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: يقولان: ربّنا تقبّل منا، وجملة القول المحذوف حال من إبراهيم وإسماعيل، كما أشرنا إليه في الحلّ {تَقَبَّلْ} فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه {مِنَّا} جار

ومجرور متعلق بتقبل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف {إِنَّكَ} ناصب واسمه {أَنْتَ} ضمير فصل {السَّمِيعُ} خبر أوّل؛ لأنَّ {الْعَلِيمُ} خبر ثانٍ لها، وجملة {إنّ} مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف. {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف {وَاجْعَلْنَا} الواو عاطفة {اجعلنا} فعل ومفعول أوّل، وفاعل مستتر يعود على الله {مُسْلِمَيْنِ} مفعول ثان {لَكَ} جار ومجرور متعلق بمسلمين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {تَقَبَّلْ مِنَّا} {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على المفعول الأول في قوله: {وَاجْعَلْنَا}؛ أي: على كونه متعلقًا بمحذوف، تقديره: واجعل من ذرّيتنا أمّة مسلمة، وإن شئت قلت: الواو عاطفة {مِنْ} اسمٌ بمعنى بعض في محل النصب معطوفٌ على المفعول الأول في قوله: {وَاجْعَلْنَا} {منْ} مضافٌ {ذريّة} مضافٌ إليه {ذرية} مضافٌ (نا) مضاف إليه، {أُمَّةً} مفعول ثانٍ {مُسْلِمَةً} صفةٌ لأمة {لَكَ} متعلِّق بمسلمة {وَأَرِنَا} الواو عاطفة {أرنا} فعل ومفعول أوّل، وفاعله ضمير يعود على الله {مناسكنا} مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {تقبل} على كونها مقولًا للقول المحذوف، {وَتُبْ} الواو عاطفة {تب} فعل دعاءٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تقبل}، {عَلَيْنَا} جار ومجرور متعلق بتب {إِنَّكَ} ناصب واسمه {أَنتَ} ضمير فصل {التَّوَّابُ} خبر أول، لـ {إنَّ} {الرَّحِيمُ} خبر ثان لها، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف. {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}. {رَبَّنَا} منادى مضاف، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف، {وَابْعَثْ} الواو عاطفة {بعث} فعل دعاء سُلُوكًا مسلك الأدب مع الباري جلَّ

وعلا، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تقبل} {فِيهِمْ} متعلق بابعث {رَسُولًا} مفعول به {مِنْهُمْ} صفة أولى لرسولًا {يَتْلُو} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على رسولًا {عَلَيْهِمْ} متعلق به {آيَاتِكَ} مفعول به ومضاف إليه، وجملة {يَتْلُو} في محل النصب صفة ثانية لرسولًا {وَيُعَلِّمُهُمُ} فعل ومفعول أوّل، وفاعل مستتر يعود على {رَسُولًا}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَتْلُو} {الْكِتَابَ} مفعول ثان، {وَالْحِكْمَةَ} معطوف على {الْكِتَابَ} {وَيُزَكِّيهِمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يَتْلُو} {إِنَّكَ} ناصب واسمه {أَنْتَ} ضمير فصل {الْعَزِيزُ} خبر أول؛ لأنَّ {الْحَكِيمُ} خبر ثان له، وجملة {إن} مسوقة؛ لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} الواو استئنافية {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {يرغب} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {من} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة {عن ملّة إبراهيم} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيرغب. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: {إِلَّا} أداة استثناء {مَن} اسم موصول في محل الرفع بدل من فاعل {يَرْغَبُ}، أو في محل النصب على الاستثناء {سَفِهَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {نَفْسَهُ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {وَلَقَدِ} الواو استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {اصْطَفَيْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة {فِي الدُّنْيَا} جار ومجرور متعلق باصطفينا {وَإِنَّهُ} الواو عاطفة، أو استئنافية {إِنَّهُ} ناصب واسمه {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بالصالحين، أو حال من الضمير المستكن في الظرف الخبري {لَمِنَ} اللام حرف ابتداء {من الصالحين} جار ومجرور خبر {إنّ}؛ أي: وإنّه لكائن من الصالحين؛ أي: الفائزين في الآخرة، وجملة {إنّ} مستأنفة، أو معطوفة على جملة القسم المذكور قبلها. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ

وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة {قَالَ} فعل ماض {لَهُ} متعلق بقال {رَبُّهُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ {أَسْلِمْ} فعل أمر وفاعل مستتر والجملة في محل النصب مقول قال (قال) فعل ماضي وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، والجملة مستأنفة {أَسْلَمْتُ} فعل وفاعل {لِرَبِّ} متعلق بأسلمت، {الْعَالَمِينَ} مضاف إليه، وجملة {أَسْلَمْتُ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَوَصَّى} الواو استئنافية {وَصَّى} فعل ماض {بِهَا} متعلق بوصى {إِبْرَاهِيمُ} فاعل {بَنِيهِ} مفعول به منصوب بالياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والهاء ضمير متصل في محل البحر مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة {وَيَعْقُوبُ} بالرفع معطوف على إبراهيم وهو الأظهر، ومفعوله محذوف، تقديره: ووصّى يعقوب بنيه أيضًا، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ويعقوب قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} ومفعول {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} محذوف؛ لعلمه ممَّا بعده، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {وصَّى بها إبراهيم}، وبالنصب معطوفٌ على {بَنِيهِ} كما سبق في مبحث التفسير في {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} مقول محكي للقول المحذوف الواقع حالًا من فاعل {وصى} والتقدير: ووصى بها إبراهيم حال كونه قائلًا يا بني إنّ الله. الخ. وإن شئت قلت: {يَا بَنِيَّ} {يا} حرف نداء، {بني} منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنّ أصله يا بنين لي {بني} مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لقال المحذوفة {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {اصْطَفَى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ} {لَكُمُ} متعلق باصطفى، {الدِّينَ} مفعول به وجملة {اصْطَفَى} خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول لقال المحذوفة {فَلَا تَمُوتُنَّ}، الفاء عاطفة تفريعية {لَا} ناهية جازمة {تَمُوتُنَّ} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والنون المشددة حرف توكيد، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة {إنَّ} على

كونها مقولًا لقال المحذوفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {وَأَنْتُمْ} الواو حالية {مُسْلِمُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {تَمُوتُنَّ}، والرابط ضمير المبتدأ، والتقدير: فلا تموتن في حال من الأحوال إلّا حالة كونكم مسلمين .. {أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه {شُهَدَاءَ} خبره، وجملة كان مستأنفة {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بشهداء {حَضَرَ} فعل ماض {يَعْقُوبَ} مفعول به {الْمَوْتُ} فاعل، والجملة في محل البحر مضاف إليه لإذ {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان بدل من {إِذْ} الأولى، فيكون متعلِّقًا بشهداء، أو متعلِّقٌ بحضر {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير {يَعْقُوبَ}، والجملة الفعلية في محل البحر مضاف إليه لإذْ {لِبَنِيهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقال {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {مَا} اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدّم وجوبًا لتعبدون، {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}، {مِنْ بَعْدِي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلِّق بتعبدون، أو بمحذوف حال من فاعل تعبدون، {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} إلى آخر الآية، مقولٌ محكيٌّ لقالوا، وإن شئت قلت: {نَعْبُدُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على أولاد يعقوب، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِلَهَكَ} مفعول به ومضاف إليه {وَإِلَهَ} الواو عاطفة {إِلَهَ} معطوف على {إِلَهَكَ} {إِلَهَ} مضاف {آبَائِكَ} مضاف إليه {آباء} مضاف، والكاف مضاف إليه {إِبْرَاهِيمَ} بدل من {آبَائِكَ} بدل تفصيل من مجمل تبعه بالجر، وعلامة جره الفتحة {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} معطوفان على {إِبْرَاهِيمَ} وإنّما كرَّر إله؛ ليصحَّ عطف {آبَائِكَ} على ضمير المخاطب المجرور بإضافة {إلهٍ} إليه؛ أعني: {إِلَهَكَ} كما قال ابن مالك:

وعَوْدُ خَافضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ... ضَمِيرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ ولمَّا كان رُبَّما يتوهَّم من ظاهر هذا العطف تعدُّد الإله أبدل منه، قوله: {إِلَهًا وَاحِدًا} لدفع هذا التوهُّم، كما مر في مبحث التفسير {إِلَهًا} بدلٌ من {إلهٍ} الأول بدل كل من كل، ويجوز أن يكون حالًا موطئةً منه، كقولك: رأيت زيدًا رجلًا صالحًا {وَاحِدًا} صفة {إِلَهًا}، {وَنَحْنُ} الواو عاطفة {نحن} مبتدأ {له} متعلق بمسلمون {مُسْلِمُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله {نعبد إلهك} على كونها مقولًا لقالوا، أو حال من فاعل {نَعْبُدُ}. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}. {تِلْكَ} تي: اسم إشارة يشار به للمفردة المؤنثة البعيدة في محل الرفع مبتدأ، مبنيٌّ بسكون على الياء المحذوفة، للتخلُّص من التقاء الساكنين، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لأنَّ أصله: تِي كذِي، فالياء جزء الكلمة عند البصريين، وقال الكوفيون: التاء وحدها هي اسم الإشارة، والياء زائدةٌ، وعلى كلا المذهبين حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين مع اللام؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، واللام لبعد المشار إليه، والكاف حرف قال على الخطاب {أُمَّةٌ} خبر، والجملة مستأنفة {قَدْ} حرف تحقيق {خَلَتْ} فعل ماض مبني بفتحة مقدّرة على الألف المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنّه فعل معتلٌّ بالألف، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أُمَّةٌ} والجملة الفعلية في محل الرفع صفةٌ أولى لأمَّةٍ {لَهَا} جار ومجرور خبر مقدّم {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية في محل الرفع صفة ثانية لأمّة، أو في محل النصب حالٌ من الضمير في {خَلَتْ} أو مستأنفة وهو أولى، وجملة {كَسَبَتْ} صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبته {وَلَكُمْ} الواو استئنافية {لكم} خبر مقدّم {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة مستأنفة، وجملة {كَسَبْتُمْ} صلةٌ لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كسبتموه {وَلَا} الواو استئنافية {لَا} نافية {تُسْأَلُونَ} فعل

مضارع مغيَّر الصيغة مرفوع بثبات النون والواو في محل الرفع نائب فاعله، والجملة مستأنفة {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بتسألون {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر كان، وجملة كان صلةٌ لما الموصولة لا محلَّ لها من الإعراب، والعائد محذوف، تقديره: عمّا كانوا يعملونه. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال الكسائي، والفراء: القواعد: الجدر جمع جدار، ككتاب، وكتب: الحائط. وقال أبو عبيدة: القواعد: الأساس، وأساس البناء أصله الثابت في الأرض. وقال بعضهم: القواعد: جمع قاعدةٍ، والقاعدة: هي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس، أو من السَّافات (طاقات البناء)، ورفعُها إعلاءُ البناء عليها، قال الشاعر: في ذِرْوَةٍ مِنْ بِقَاعِ أوَّلِهِم ... زَانَتْ عَوالِيهَا قَواعِدُهَا والقواعد من النساء: جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعدٍ لم يأت بالتاء في مكانه إن شاء الله تعالى: {تَقَبَّلْ مِنَّا} تقبل الله العمل: قَبِلَه ورضي به {مُسْلِمَيْنِ} أي: منقادين لك، يقال: أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} والذرِّية: النسل، مشتقَّةٌ من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذرَّ، ويضم ذالها أو يكسر أو يفتح، فأمَّا الضمُّ فيجوز أن تكون ذُرَيَّة فُعَيلة من ذرأ الله الخلق. وأصله: ذريئةٌ، فخفّفت الهمزة بإبدالها ياءً، كما خفَّفوا همزة النَّسِىءَ، فقالوا: النَّسِيْيَ، ثُمَّ أدغمُوا الياء التي هي لام الفعل في الياء التي هي للمد، ويجوز أن تكون فَعُولةً من ذروت، الأصلُ: ذَرُوْوَةٌ، أبدلت لام الفعل ياءً، اجتمعت فيه واوٌ وياءٌ، واوُ المدّ، والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المدِّ ياءً، وأدغمت الياء في الياء وكُسر ما قبلها؛ لأنَّ الياء تطلب الكسر، وقد أطال الكلام في هذه المادَّة أبو حيان، فراجع "البحر". {وَأَرِنَا} أصلُه: أَرْءِيْنَا، أمرٌ من أرى الرباعيِّ، فالهمزة الثانية عين الكلمة، والياء لامها، فحذفت الياء؛ لأجل بناء الفعل، فصار أرئنا بوزن أَفْعِنا، ثُمَّ نقلت

حركة الهمزة إلى الراء الساكنة قبلها، وهي فاءُ الكلمة، ثمّ حذفت الهمزةُ للتخفيف، فصار أرنا بوزن أَفِنَا، فلم يبق من الفعل إلا فاؤُهُ، وهي إمَّا بصريَّةٌ بمعنى: بصِّرنا، أو عرفانيةٌ بمعنى: عرِّفنا، تتعدَّى في أصلها إلى واحد، وتعدَّت هنا للثاني بواسطة همزة النقل {مَنَاسِكَنَا} جمع منسكٍ بفتح السين وكسرها، وقد قرئ بهما، والمفتوح هو المقيس؛ لانضمام عين مضارعه {وَتُبْ عَلَيْنَا} يقال: تاب العبدُ إلى ربّه إذا رجع إليه؛ لأنّ اقتراف الذنب إعراضٌ عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد رحمه وعطف عليه {وَتُبْ} أمرٌ من تاب يتوب، ووزنه فل، وأصل يتوب: يتوب بوزن يفعل؛ نقلت حركة الواو إلى التاء، فسكنت إثر ضمٍّ، فصارت حرف مدّ، فلمَّا بُنِي منه الأمر حذف حرف المضارعة وسكن آخره، فقيل: تُبْ، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ويقال: رغب في الشيء إذا أحبَّه، ورغب عنه كرهه (وسفه) نَفْسه أذلَّها واحتقرها. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أصله: اصْتَفَوَ بوزن افتَعَلَ من الصفوة لامه واوٌ، لكنَّها أبدلت ياءً؛ لمجيئها خامسةً، ثُمَّ بُنِيَ الفعل على السكون؛ لاتصاله بضمير الرفع (نا) ثُمَّ أبدلت تاء الافتعال طاءً؛ لوقوعها بعد حرفٍ من حروف الإطباق، كما قال ابن مالك: طاتا افْتِعَالٍ رُدَّ إثر مُطْبَقِ ... في ادَّان وازْدَدْ وادَّكِر دالًا بَقي وعبارة "العمدة" هنا: واصطفيناه؛ أي: جعلناه صافيًا من الأدناس الظاهرة والباطنة، مشتقٌّ من الصفوة، ومعناه: تخيير الأصفى، فأصله: اصتفيناه، قلبت تاء الافتعال طاء؛ لوقوعها بعد حرف الإطباق، فصار اصطفى، وألف اصطفى بدلٌ من الياء التي هي بدلٌ من الواو؛ لأنَّ أصله: اصْطَفَوَ؛ لأنَّه من الصفوة، يقال: صفا يصفو صفوةً، فقلبت الواو ياءً؛ لأن الواو إذا وقعت رابعةً فصاعدًا قلبت ياءً، فصار اصطفى، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار اصطفى {وَوَصَّى} أصله: وَصَّيَ بوزن فَعَّلَ المضعَّف قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقرىء وأوصى بوزن أفعل وأصله: أَوْصَيَ تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا {يَا بَنِيَّ} أصله: يا بنين لي، حذفت النون واللام للإضافة، ثُمَّ أدغمت ياء الجمع في ياء المتكلم المضاف إليها الجمع، فقيل: يا بنيَّ بفتح الياء المشددة. {فَلَا تَمُوتُنَّ} أصله: تموتونن بثلاث نونات، الأولى علامة الرفع، والثانية

المشدَّدة للتوكيد، فحذفت نون الرفع للجازم، فالتقى ساكنان الواو والنون الأولى المدغمة من نوني التوكيد، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ نون التوكيد أولى بالبقاء؛ لدلالتها على معنى مستقلٍّ، وبقيت ضمّةُ التاء لتدلَّ على الواو المحذوفة، فصار تموتُنَّ {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} والشهداء: جمع شهيد بمعنى حاضر، وحضور الموت حضور أماراته، وأسبابه، وقرب الخروج من الدنيا {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ} جمع أبٍ على أفعال، أصله: أأباوٌ، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى وهو الألف، ثم أبدلت الواو همزةً؛ لتطرُّفها إثر ألفٍ زائدةٍ {قَدْ خَلَتْ} فعلٌ ماض مؤنّثٌ لإسناده إلى ضمير المؤنَّث، وأصله: خلو بوزن فعل بفتح العين، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، فلحقت بالفعل تاء التأنيث الساكنة فالتقى ساكنان، حيث صار اللفظ خَلاْت، فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار خلت بوزن فعت. البلاغة وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بصيغة الاستقبال في قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}؛ لحكاية الحال الماضية، ومعنى حكاية الحال الماضية: أن يفرض ويقدَّر الواقع الماضي واقعًا وقت التكلم، ويخبر عنه بالمضارع الدال على الحال، وفي ذلك غرضٌ معروفٌ عند أهل المعاني، وهو استحضار الصورة الماضية، كأنّها مشاهدة بالعيان، فكأنَّ السامعُ ينظرُ إلى البُنْيانِ وهو يرتفعُ، والبَنَّاءِ وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}؛ لأنه على تقدير القول؛ أي: يقولان: ربَّنا تقبَّل منَّا. ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التقريع، والنفي في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}؛ لأنَّ الجملة واردةٌ مورد التوبيخ والتقريع للكافرين، كما

مرَّ في مبحث التفسير. ومنها: التأكيد بإنَّ واللام معًا في قوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} مع أنَّه أكَّد باللام فقط فيما قبله؛ أعني: قوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}؛ إشعارًا بأنَّ الجملة الثانية محتاجةٌ لمزيد التأكيد دون الأولى، وذلك أنَّ كونه في الآخرة من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاج الإخبار عنه إلى زيادة تأكيد، وأمَّا اصطفاء الله تعالى له في الدنيا، فأمر مشاهدٌ نقله جيلٌ عن جيل. ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} إلى الغيبة في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}؛ لأنَّ الأسماء الظاهرة من قبيل الغيبة، إذ مقتضى السياق أن يقال: إذ قلنا له أسلم، وكذا قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ مقتضاه أن يقال: أسلمت لك؛ لأنَّ الالتفات من المحسِّنات البديعة، ولهم فيه غرضٌ، والغرض من الالتفات في الأوَّل؛ إظهار مزيد اللُّطف به، والاعتناء بتربيتِهِ بذكر عنوان الربوبية، وفي الثاني: الإيذان بكمال قوّة إسلامه، والإشارة إلى أنَّ من كان ربًّا للعالمين لا يليق به إلّا أن يُتلقَّى أمره بالقبول، والإذعان، والخضوع ... ومنها: التعبير بما الموضوعة لغير العاقل دون مَن الموضوعة للعاقل في قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؛ لأنَّ المعبودات في ذلك الوقت كانت من غير العقلاء، كالأوثان، والأصنام، والشمس، والقمر، فاستفهم بما التي لغير العاقل، فَعرَف بَنوُهُ ما أَرَادَ، فأجابوه بالحق، إذ الجواب على وَفْقِ السؤال، ففيه مطابقة الكلام لمقتضَى الحال. ومنها: فنُون البلاغة التي تضمَّنها قولُه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} إلى آخره. ومنها: الاطراد وهو: أن يذكر المتكلم أسماء آباء المخاطب مرتَّبةً على طبق ترتيبها في الميلاد، فقد تجاوز جدَّهم الأدنى إلى جدِّهم الأعلى؛ لكونه المبتدأ بالملة المتبعة.

ومنها: فنُّ المساواة؛ لأنَّ ألفاظ هذه الأسماء لا فضل فيها لبعضٍ على بعض. ومنها: حسن البيان؛ لأنَّ فيها بيانًا عن الدين بأحسن بيانٍ، لا يتوقَّف أحدٌ في فهمه. ومنها: الاحتراس؛ لأنّه لو وقف عند آبائك ولم يذكر ما بعده لاختلَّت صحة المعنى؛ لأنَّ مطلق الآباء يتأول من الأب الأدنى إلى آدم، وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملّته، فاحترس بذكر البدل عمَّا يرد على المبدل منه، لو كان وقع الاختصار عليه، فتأمَّل واعجب، وفيه أيضًا التغليب؛ لأنّ قوله: {آبَائِكَ} شمل العمَّ الذي هو إسماعيل، والجدَّ الذي هو إبراهيم والأب الذي هو إسحاق، فغلَّب الأب على غيره، فعبَّر عن الكل بالآباء من المجازات المعهودة، في فصيح الكلام. ومنها: النهي عن الموت في قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مع أنَّ الموت ليس من الأمور التي تدخل تحت إرادة الإنسان؛ إشعارًا بأنَّ الموت على خلاف الإِسلام هو موتٌ لا خير فيه، وأنّه ليس بموت السعداء. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}. المناسبة قوله تعالى: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (¬1) ذكر أنَّ ملة إبراهيم هي الملة الحنيفية السمحة، وأنَّ من لم يؤمن بها، أو رغب عنها، فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة .. ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة، من زعمهم أنَّ الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيَّن أنَّ تلك الدعاوي لم تكن عن دليلٍ، أو شبهةٍ، بل هي مجرَّد جحود وعناد، ثُمَّ عقَّب ذلك بأنَّ الدين الحق هو التمسك بالإِسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين. قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ...} الآية، قال أبو حيان: وارتبطت (¬2) هذه الآية بما قبلها؛ لأنّه لمَّا ذكر في قوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} جوابًا إلزاميًّا، وهم ما ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) البحر المحيط.

أُمروا باتباع اليهودية والنصرانية، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد، وكُلُّ طائفةٍ منهم تكفِّر الأخرى، أجيبوا بأنَّ الأولى في التقليد اتباع إبراهيم؛ لأنّهم أعني: الطائفتين المختلفتين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم، والأخذُ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، إن كان الدين بالتقليد، فلما ذكر هنا جوابًا إلزاميًّا ذكر بعده برهانًا في هذه الآية، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات، وقد ظهرت على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجب الإيمان بنبوَّته، فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالردِّ يوجب التناقض في الدليل، وهو ممتنعٌ نقلًا. انتهى. قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لمَّا بيَّن (¬1) سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنَّ الملَّة الصحيحة هي ملة إبراهيم، وليست هي باليهودية والنصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدةٌ عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاعُ الرؤساء، فطمست ما جرى عليه الأنبياء، حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله سبحانه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه .. شرع هنا يُبطل الشبهاتِ التي تعترض سبيل الحق، فلقَّن نبيَّه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات. أسباب النزول قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: (قال ابن صُوريا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الهدى إلّا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد! تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ...} الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[135]

قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ...} الآيات، روي أنَّ سبب نزول هذه الآيات: أنَّ اليهود والنصارى قالوا: يجب أن يكون الناس لنا تبعًا في الدِّين؛ لأنَّ الأنبياء منا، والشريعة نزلت علينا، ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فردَّ الله عليهم بهذه الآيات. التفسير وأوجه القراءة 135 - وقوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} في المعنى معطوف على قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ}. الخ. وهو بيان فن آخر من فنون كفرهم، وإضلالهم لغيرهم إثر بيان ضلالتهم في أنفسهم قبل، نزلت هذه الآية في رؤساء يهود المدينة، وفي نصارى نجران، والضمير في {قالوا} لأهل الكتابين، وأو في قوله: {أَوْ نَصَارَى}؛ لتفصيل القول المجمل بقوله: {قالوا}؛ أي: قالت اليهود للمؤمنين: {كُونُوا هُودًا}؛ أي: اتَّبعوا اليهوديَّة تهتدوا من الضلالة، وتصلوا إلى الخير، وتظفروا بالسعادة، فإنّ نبيَّنا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفروا بعيسى والإنجيل، وبمحمدٍ والقرآن، وقالت النصارى للمؤمنين: كونوا نصارى؛ أي: اتبعوا النصرانية تهتدوا، فإنّ نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفروا بموسى والتوراة، وبمحمدٍ والقرآن؛ أي: قال كُلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دين إلّا ذلك، وقوله: {تَهْتَدُوا} جوابٌ للأمر؛ أي: إن تكونوا كذلك تجدوا الهداية من الضلالة، فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم {قُلْ} لهم يا محمد! على سبيل الردِّ، ببيان ما هو الحقُّ لا نتَّبعُ دينكم {بَلْ} نتبع {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ودينه. وقرأ الجمهور (¬1): بنصب (مِلَّةَ) بإضمار فعل، إمّا على المفعول؛ أي: بل نتبع ملة إبراهيم؛ لأنَّ معنى قوله: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} اتَّبعوا اليهوديَّة والنصرانيَّة، وإمَّا على أنَّه خبر كان؛ أي: بل نكون ملة إبراهيم؛ أي: أهل ملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[136]

إبراهيم، وإمّا على أنَّه منصوب على الإغراء؛ أي؛ الزموا ملَّة إبراهيم، وإمَّا على أنّه منصوبٌ على إسقاط الخافض؛ أي: نقتدي ملّة إبراهيم؛ أي: بملة إبراهيم، ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار، فيكون المضمر اتبعوا، أو كونوا، ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيقدَّر نتَّبع، أو نكون، أو نقتدي على ما تقدم تقديره. وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} برفع ملَّة وهو خبر مبتدإٍ محذوف؛ أي: بل الهدى ملة إبراهيم، أو أمْرُنا ملَّتُه، أو نحن ملَّتُه؛ أي؛ أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: بل ملة إبراهيم حنيفًا ملَّتنا؛ أي: بل نتبع ملة إبراهيم حالة كون إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة كُلِّها من اليهودية، والنصرانية، والوثنية، إلى الدين الحق السَّمح الذي هو التوحيد، وهو حالٌ من المضاف إليه، وهو إبراهيم، كما في قولهم: رأيت وجه هندٍ قائمةً؛ لأنَّ رؤية وجه هندٍ يستلزم رؤيتها، فالحال هنا تبين هيئة المفعول، أو من المضاف وهو المِلَّة، وتذكير حنيفًا حينئذٍ بتأويل الملة بالدين؛ لأنّهما متَّحدان ذاتًا، والتغاير بالاعتبار، وإنَّما خصَّ (¬1) إبراهيم دون غيره من الأنبياء، وإن كان كُلُّهم مائلين إلى الحق مستقيمين في الطريقة حنفاء؛ لأنّ الله تعالى اختصَّ إبراهيم بالإمامة؛ لِمَا سنَّه من مناسك الحج، والختان، وغير ذلك من شرائع الإِسلام ممَّا يقتدى به إلى قيام الساعة {وَمَا كاَنَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بالله تعالى؛ أي: وما كان على دينهم، والمراد بالإشراك: مطلق الكفر، وفي هذا تعريضٌ بهم، وإيذانٌ ببطلان دعاويهم اتباع إبراهيم عليه السلام مع إشراكهم، فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: المسيح ابن الله وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان، والشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، وغيرها. وفي الآية: إرشاد (¬2) إلى اتباع دين إبراهيم، وهو الدين الذي عليه نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأتباعه، وبعد أن أمر الله سبحانه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الناس إلى اتّباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك، فقال: 136 - (قُولُوا) أيُّها المؤمنون! ¬

_ (¬1) العمدة. (¬2) روح البيان.

لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم ذلك {آمَنَّا بِاللَّهِ} وحده، وصدَّقنا بوحدانيَّته {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}؛ أي: آمنا بالقرآن الذي أنزل على نبينا، والإنزال إليه إنزالٌ إلى أمته؛ لأنَّ حكم المنزل يَلْزَمُ الكُلَّ؛ لأنّهم المخاطبون فيه بتكالفيه من الأوامر، والنواهي، وغير ذلك. أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، ولكن قولوا: آمنا باللهِ وما أنزل إلينا، فإن كان حقًّا لم تكذبوه، وإن كان كذبًا لم تصدقوه". وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعًا: (آمِنُوا بالتوارة والإنجيل، وليسعكم القرآن) {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} من صحفه العشر، قال تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} وكرَّر الموصول؛ لأنّ المنزل إلينا وهو القرآن غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم، فلو حذف الموصول لأوهم أنَّ المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم، وعطف قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} على إبراهيم مع أنَّه لم ينزل إليهم شيءٌ؛ لأنّهم كلِّفوا العمل بما أنزل إلى إبراهيم، والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم كما أضيف إلينا في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والأسباط: جمع سبطٍ وهو في الأصل شجرةٌ واحدةٌ لها أغصانٌ كثيرةٌ، والمراد هنا: أولاد يعقوب من صلبه اثنا عشر، كما مر، سُمُّوا بذلك؛ لأنّه وُلد لكلٍ منهم جماعةٌ، وسبط الرجل: حافده؛ أي: ولد ولده، وحينئذٍ تسمية أولاد يعقوب بالأسباط بالنظر، لكونهم أولاد أولاد إسحاق وإبراهيم، وقيل: المراد: أولاد أولاد يعقوب وتسميتهم أسباطًا ظاهرةٌ، والأسباط من بني إسرائيل، كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم، وهم جماعةٌ من أبٍ وأمٍ، وكان في الأسباط أنبياء {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى}؛ أي: وآمنَّا بالذي أوتي، وأعطي موسى بن عمران، كليم الله من التوراة، والآيات {و} ما أوتى {عيسى} ابن مريم من الإنجيل، والآيات، ونصَّ على موسى وعيسى؛ لأنّهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم، والكلام هنا معهم، ولم يكرِّر الموصول في عيسى؛ لأنه إنّما جاء مصدِّقًا لما في التوراة، ولم ينسخ منها إلّا نزرًا يسيرًا، فالذي أوتي عيسى هو ما أوتي موسى، وإن كان قد

خالف في نزرٍ يسيرٍ، وتعبيره أوّلًا بأنزل، وثانيًا بأوتي مع كون المعنى واحدًا؛ للتفنُّن، ولمَّا (¬1) ذكر في الإنزال خاصًّا عطف عليه جمعًا، فكذلك لما ذكر في الإيتاء خاصًّا عطف عليه جمعًا، ولمَّا أظهر الموصول في الإنزال في العطف أظهره في الإيتاء، فقال: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ}؛ أي: وبجميع ما أعطى النبيون المذكورون، وغيرهم من الكتب، والمعجزات، والمعنى: آمنَّا أيضًا بالتوراة والإنجيل، والكتب التي أوتي جميع النبيين، وصدَّقنا أنَّ ذلك كُلَّه حق، وهدى، ونور، وأنَّ الجميع من عند الله تعالى، وأنَّ جميع ما ذكر الله من أنبيائه كانوا على هدى، وحقٍّ، وذكر ما أوتي هنا، وحذفه في آل عمران؛ اختصارًا، كما هو الأنسب بالآخر، وقال هنا: أوتي موسى، ولم يقل: وما أنزل إلى موسى، كما قال قبل: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ}؛ للاحتراز عن كثرة التكرار. {لَا نُفَرِّقُ} في الإيمان لا في الأفضليَّة {بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}؛ أي: بين أحدٍ من الأنبياء؛ أي: لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضٍ، كما فعلت اليهود والنصارى، فاليهود كفرت بعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقرَّت ببعض الأنبياء، بل نؤمن نحن بكلِّ الأنبياء، وأنَّ جميعهم كانوا على حقّ وهدى؛ لأنَّ تصديق الكُل واجبٌ، والدليل الذي أوجب علينا أن نؤمن ببعض الأنبياء، وهو تصديق الله إياه بخلق المعجزات على يديه، يوجب الإيمان بالباقين، فلو آمنَّا ببعضهم، وكفرنا بالبعض لناقضنا أنفسنا، والجملة حال من الضمير في آمنا، ولفظ أحد (¬2)؛ لوقوعه في سياق النفي عامٌّ، فساغ أن يضاف إليه (بين) من غير تقدير معطوفٍ، نحو: المال بين الناس، ووجَّهَهُ في "الكشاف" بقوله: وأحدٌ في معنى الجماعة بحسب الوضع، وعلَّله التفتازانيُّ بقوله: لأنّه اسمٌ لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع كُلٍّ، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد الذي هو أوَّل العدد في مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرةً في سياق النفي على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

ما سبق إلى كثيرٍ من الأذهان، ألا ترى أنَّه لا يستقيم لا نُفرِّق بين رسولٍ من الرسل إلّا بتقدير العطف؛ أي: بين رسولٍ ورسولٍ. اهـ. "كرخي". {وَنَحْنُ لَهُ} سبحانه وتعالى {مُسْلِمُونَ}؛ أي: منقادون خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية؛ أي: آمنَّا بالله، والحال أنَّا مخلصون لله تعالى جميع أعمالنا، ومذعنون له، وله متعلِّقٌ بمسلمون، وتأخَّر عنه العامل؛ لرعاية الفواصل، أو قدَّم له؛ للاعتناء بالضمير العائد على الله تعالى. فائدةٌ: وابتدأ أوّلًا بالإيمان بالله (¬1)؛ لأنَّ ذلك أصل الشرائع، وقدَّم ما أنزل إلينا، وإن كان متأخِّرًا في الإنزال عن ما بعده؛ لأنّه أولى بالذكر؛ لأنَّ الناس بعد بعثة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مدعوون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملةً وتفصيلًا، وقدَّم ما أنزل إلى إبراهيم على ما أوتى موسى وعيسى؛ للتقدم في الزمان؛ أو لأنَّ المنزل على موسى ومن ذكر معه هو المنزل إلى إبراهيم، إذ هم داخلون تحت شريعته، وأنزل (¬2) يتعدَّى بعلى، وإلى، فلذا أورد بإلى، وفي آل عمران بعلى. فائدة أخرى: وظاهر قوله (¬3): {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} يقتضي التعميم في الكتب، والشرائع، وعن أبي سعيد الخدري قال: قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله من كتاب؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيثٍ خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، ثُمَّ أنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان"، وأمَّا عدد الأنبياء: فروي عن ابن عباس، ووهب بن منبه أنّهم مائة ألف نبيٍّ وأربعة وعشرون ألف نبي، كُلُّهم من بني إسرائيل إلّا عشرين ألف نبيٍّ، وعدد الرسل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، كُلُّهم من ولد يعقوب إلّا عشرين رسولًا، ذُكِر منهم في القرآن خمسةٌ وعشرون، نصَّ على أسمائهم وهم: آدم، وإدريس، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النفي. (¬3) البحر المحيط.

[137]

ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون، واليَسع، ويونس، وأيوب، وداود، وسليمان وذو الكفل، وإلْياس، وزكريا، ويحيى، وعيسى، ومحمد صلى الله تعالى عليهم أجمعين، وفي روايةٍ عن ابن عباس: (أنَّ الأنبياء كُلَّهم من بني إسرائيل إلّا عشرةً: نوحًا، وهودًا، وشعيبًا، وصالحًا، ولوطًا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل ومحمدًا صلى الله عليهم أجمعين ولمَّا نزل قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ...} الآية، قرأها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى، وقال: "الله أمرني بهذا"، فلمَّا سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا، وقالت النصارى: إنّ عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء، ولكنَّه ابن الله تعالى فأنزل الله تعالى: 137 - {فَإِنْ آمَنُوا}؛ أي: اليهود والنصارى {بِمِثْلِ مَا}؛ أي: بمثل الدين الذي {آمَنْتُمْ بِهِ} هذا من (¬1) باب التعجيز والتبكيت؛ أي: إلزام الخصم، وإلجائه إلى الاعتراف بالحق بإرخاء عنانه، وسدِّ طرق المجادلة عليه، والمثل مقحمٌ هنا، كما تدلُّ عليه القراءتان الآتيتان. والمعنى: فإن آمنوا بما آمنتم به وهو الله تعالى، فإنَّه ليس لله تعالى مثلٌ، وكذا دين الإِسلام. وقرأ عبد الله بن مسعود، وابن عباس: {بما آمنتم} وقرأ أُبيٌّ {بالذي آمنتم به} وقرأ الجمهور {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} ومثل على هذه القراءة مقحمٌ كما ذكرناه آنفًا، كما في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}؛ أي: عليه، وتشهد له قراءة من قرأ {بما آمنتم به} {وبالذي آمنتم به}؛ لئلّا يلزم علينا ثبوت المثل لله تعالى، وللقرآن. وهذا مُرتب على قوله (¬2): {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ...} إلخ. أي: وإذا قلتم ما ذكر فحال اليهود، إمَّا مساواتكم فيما ذكر، أو مخالفتكم فيه، والمعنى: أي: فإن آمنت اليهود والنصارى، وغيرهم، بجميع ما آمنتم به من سائر كتب الله تعالى، وجميع رسله {فَقَدِ اهْتَدَوْا} من الضلالة إلى الحق، وأصابوه، كما اهتديتم، وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق؛ أي: فقد صاروا مهتدين مسلمين مثلكم، وقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) العمدة.

المعنى: فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيفٍ، ولا تحريفٍ، كما أنّكم آمنتم بالقرآن من غير تصحيف، ولا تحريف، فقد اهتدوا؛ لأنّهم يتوصَّلون بذلك إلى معرفة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال في: "الكشَّاف": إنّه من باب التبكيت والتعجيز، كما مرّ آنفًا؛ لأنَّ دين الحق واحدٌ لا مثل له، وهو دين الإِسلام، قال: أي (¬1): فإن حصَّلوا دينًا آخر مثل دينكم، مساويًا له في الصحة والسَّداد، فقد اهتدوا {وَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: أعرضوا عن الإيمان بالنبيين وكتبهم؛ أي: أعرضوا عن الدخول في الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلُّوا بشيءٍ من ذلك، كأن آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، كما هو دينهم وديدنهم {فَإِنَّمَا هُمْ} مستقرُّون {فِي شِقَاقٍ} وخلافٍ عظيمٍ بعيدٍ عن الحق، وعداوةٍ شديدةٍ لكم. وهذا (¬2) لدفع ما يتوهَّم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون، فقوله: {فِي شِقَاقٍ} خبرٌ لقوله: {هم} وجَعْلُ الشقاق ظرفًا لهم، هم مظروفون له مبالغةً في الإخبار باستيلائه عليهم، فإنَّه أبلغُ من قولك هم مشاقُّون، والشِقاقُ: مأخوذٌ من الشِّقِّ وهو الجانب، فكأنَّ كُلَّ واحدٍ من الفريقين في شقٍّ غير شقِّ صاحبه؛ بسبب العداوة، ولمَّا دلَّ تنكير الشقاق على امتناع الوفاق، وأنَّ ذلك ممَّا يؤدِّي إلى الجدال، والقتال لا محالة، عقَّب ذلك بتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفريح المؤمنين بوعد النصرة والغلبة، وضمان التأييد، والإعزاز بالسين الموضوعة للتأكيد الدالَّة على تحقُّق الوقوع ألبتة، فقال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: فسيكفيك الله يا محمد! ويقيك شرَّ شقاقهم، ومكر عنادهم، والضميران منصوبا المحلِّ على أنَّهما مفعولان ليكفي، يقال: (¬3) كَفَاهُ مؤونتَهُ كفايةً، وإن كثر استعماله معدًّى إلى واحد، نحو: كفاك الشيء، والظاهر: أنَّ المفعول الثاني حقيقةً في الآية هو المضاف المقدَّرُ؛ أي: فسيكفي الله إياك أَمْر اليهود والنصارى، ويدفع شرَّهم عنك، وينصرك عليهم، فإنَّ الكفاية لا تتعلَّق بالأعيان، بل بالأفعال، وقد ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[138]

أنجز الله سبحانه وعده الكريم بالقتل، والسبي في بني قريظة، والجلاء، والنفي إلى الشام، وغيره في بني النضير، والجزية، والذلّة في نصارى نجران، وعَطْفُ الجملةِ بالفاء مشعرٌ بتعقُّب الكفاية عقيب شقاقهم، والمجيءُ بالسين يدلُّ على قرب الاستقبال، إذ السينُ في وضعها أقرب من التنفيس من سوف، والذواتُ ليست المكفية، فهو على حذف مضافٍ، كما مرَّ آنفًا؛ أي: فسيكفيك شقاقهم والمكفيُّ به محذوف؛ أي: بمن يهديه الله من المؤمنين؛ أي: بتفريق كلمة المشاقِّين، أو بإهلاك أعينهم، وإذلال باقيهم بنحو: السبي، والقتل، وهذا تسليةٌ وتسكينٌ للمؤمنين، ووعدٌ لهم بالحفظ والنصرة على من عاداهم، وضمانٌ من الله تعالى؛ لإظهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه إذا تكفَّل بشيءٍ أنجزه، وهو إخبارٌ بغيب، ففيه معجزةٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأحوالهم ونيَّاتهم، يَسْمَعُ جميع ما ينطقون به، ويعلم جميع ما يُضمِرونه به من الحسد والغلِّ، وهو مجازيهم، ومعاقبهم. وفي "الرُّوح": وهذه الجملة تذييلٌ لما سبق من الوعد، وتأكيدٌ له، والمعنى: أنَّه تعالى يسمع ما تدعوه، ويعلم ما في نيتك من إظهار الدين، فيستجيب لك، ويوصلك إلى مرادك. اهـ. وقال أبو حيَّان: ومناسبة هاتين الصفتين هنا (¬1): أنَّ كُلًّا من الإيمان وضدِّه مشتملٌ على أقوالٍ وأفعالٍ، وعلى عقائد تنشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختم ذلك بهما؛ أي: وهو السميع لأقوالكم العليم بنياتكم واعتقادكم، ولمَّا كانت الأقوال هي الظاهرة لنا، الدالَّة على ما في الباطن، قُدِّمت صفة السميع على العلم؛ ولأنَّ العلم فاصلةٌ أيضًا، وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد؛ لأنَّ المعنى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فيجازيكم بما يصدر منكم. 138 - وقرأ الجمهور {صِبْغَةَ اللَّهِ} بالنصب، فيكون إمّا على الإغراء؛ أي: إلزموا يا أهل الكتاب! صبغة الله، ودينه الذي هو دين الإِسلام، وتمسَّكوا به واتَّبعوه، لا صبغة أحباركم، ورهبانكم، وسمِّي الدين صبغةً؛ لظهور أثره على صاحبه، كظهور أثر الصبغ على الثوب؛ ولأنَّه يلزمه، ولا يفارقه، كالصبغ في الثوب؛ لأنَّ الصبغ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالكسر: ما يُلوَّن به الثياب، والصَّبغ بالفتح: المصدر، والصبغة: الفعلة التي تبنى للنوع، والحالة مِنْ صبَغَ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع الصبغ عليها، وهي؛ أي: الصبغة في الآية؛ مستعارةٌ لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي دينه، شبِّهت الخلقة السليمة التي يستعدُّ بها العبد للإيمان، وسائر أنواع الطاعات بصبغ الثوب من حيث إن كُلَّ واحدة منهما حليةٌ؛ لما قامت هي به وزينة له. وقيل: إنَّ الصبغة: الاغتسال لمن أراد الدخول في الإِسلام بدلًا من معموديَّة النصارى، إذا ولد لأحدهم مولودٌ، وأتى عليه: سبعةُ أيام، غمسوه في ماءٍ لهم أصفر يُسمُّونه ماء المعموديَّة، وصبغوه به ليطهِّروه به مكان الختان، وكانوا يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم؛ تشبيهًا للمولود بعيسى عليه السلام. فإذا فعلوا ذلك به قالوا: الآن صار نصرانيًّا حقًّا، وزعموا أنَّ الإنجيل ذكر عيسى بأنَّه الصَّابغ، والمعمودية: هي اسم ماء غُسل به عيسى عليه السلام حين ولادته، فمزجوه بماءٍ آخر، وكُلَّما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر. اهـ. فأخبر الله تعالى: أنَّ دين الإِسلام ليس ما تفعله النصارى. وقيل: إنّه منصوب على كونه بدلًا من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وقيل: إنّه منصوبٌ انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}. وقيل: عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. وقيل عن قوله: {فَقَدِ اهْتَدَوْا} والتقدير: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله صبغةً؛ أي: فطرنا، وخلقنا على استعداد قبول الحق، والإيمان فطرته، فهذا المصدر مفعولٌ مطلق مؤكِّد لنفسه؛ لأنَّه مع عامله المقدَّر بعينه، وقع مؤكّدًا لمضمون الجملة المتقدمة، وهو قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، لا محتمل لها من المصادر إلّا ذلك المصدر؛ لأنَّ إيمانهم بالله يحصل بخلق الله إيّاهم على استعداد اتباع الحق، والتحلِّي بحلية الإيمان. وهذا الوجه؛ أعني: كونه منتصبًا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أحسنها، وأظهرها، لما سيأتي عند قوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} من تنافر آخر الآية لأوَّلها إذ نَصَبْنَا على الإغراء، ولأنَّ نصبه على الإبدال من ملة إبراهيم بعيدٌ؛ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه، ويحتمل أن يكون التقدير: طهَّرنا الله تطهيره؛ لأنَّ الإيمان يُطهِّر النفوس من أوضار الكفر، وسمَّاه صبغةً؛ للمشاكلة لما فعلته النصارى، والمشاكلة: هي ذكر الشيء

بلفظ غيره لوقوع ذلك الشيء في صحبة الغير، إمَّا بحسب المقال المحقَّق، أو المقدَّر بأن لا يكون ذلك الغير مذكورًا حقيقةً، ويكون في حكم المذكور لكونه مدلولًا عليه بقرينة الحال، فالمشاكلة تجري بين قولين، كما في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فإنَّه عبَّر عن ذات الله تعالى بلفظ النفس؛ لوقوعه في صحبة لفظ النفس، وعبَّر هنا عن لفظ الفطرة بلفظ الصبغة؛ لوقوعه في صحبة صبغة النصارى إذ كانوا يشتغلون بصبغ أولادهم في سابع الولادة مكان الختان، للمسلمين بغمسهم في الماء الأصفر الذي يسمُّونه المعمودية بالدال، أو المعمورية بالراء، على زعم أنَّ ذلك الغمس وإن لم يكن مذكورًا حقيقةً، لكنَّه واقعٌ فعلًا من حيث إنّهم يشتغلون به، فكان في حكم المذكور بدلالة قرينة الحال عليه من حيث اشتغالهم به، ومن حيث إنّ الآية نزلت ردًّا لزعمهم ببيان أنَّ التطهير المعتبر هو تطهير الله عباده، لا تطهير أولادكم بغمسهم في المعمودية، وهي اسم ماءٍ غسل به عيسى عليه السلام حين ولادته، وهو نهرٌ في الأردن، وهو عند النصارى مثل الزمزم عند المسلمين في غسل أولادهم به تبرُّكًا به عندما ينصِّرونهم، فمزجوه بماءٍ آخر، وكُلَّما استعملوا منه جعلوا مكانه ماءً آخر. وقرأ الأعرج (¬1)، وابن أبي عبلة: بالرفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، تقدير: ذلك الإيمان صبغة الله؛ أي: دين الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}؛ أي: دينًا. وقيل: تطهيرًا؛ لأنّه يطهِّر من أوساخ الكفر؛ أي: لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنّه تعالى يصبغ عباده بالإيمان، ويطهِّرهم به من أوضار الشرك. وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ (¬2) وخبرٌ، والاستفهام فيه للإنكار بمعنى النفي {مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} نصب على التمييز من أحسن، منقولٌ من المبتدأ، والتقدير: ومَنْ صِبْغَتُهُ أحسنُ من صبغته تعالى، فالتفضيل جارٍ بين الصبغتين لا بين فاعليهما، والمعنى: أيُّ شخصٍ تكون صبغته أحسن من صبغة الله تعالى؟ فإنّه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

يصبغ عباده بالإيمان، ويُطهِّرهم به من أوضار الكفر، وأنجاس الشرك، فلا صبغة أحسن من صبغته، فهي جماع كُلِّ خير، وبها تتألَّف القلوب، والشعوب، وتزكو النفوس، أمَّا ما أضافه الأحبار والرُّهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهي من صبغة البشريَّة، والصنعة الإنسانيَّة التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرقّةً، والأمَّة شيعًا متنافرةً. {وَنَحْنُ} معاشر المسلمين {لَهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: لله الذي أعطانا تلك النعمة الجليلة {عَابِدُونَ}؛ أي: مطيعون شكرًا لها، ولسائر نعمه التي لا تحصى، فإذا كان حرفةُ العبد العبادة، فقد زيّن نفسه بصبغٍ حسنٍ يزيِّنه ولا يشينه. وفيه تعريضٌ لأهل الكتاب؛ أي: لا نشرك به كشرككم، وتقديم الظرف على عامله؛ للاهتمام به؛ ولرعاية الفاصلة، وهو معطوف على آمنَّا داخلٌ تحت الأمر وهو قولوا، وهذا العطف (¬1) يردُّ قول من زعم أنَّ صبغة الله بدل من ملَّة أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فكِّ النظم، وإخراج الكلام عن التئامِه واتِّساقِه، وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدرٌ مؤكدٌ، هو الذي ذكره سيبويه، والقول: ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء: عليكم صبغة الله ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإغراء إذا كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف، ولا المجرور، ولذلك حينَ ذَكَرنا وَجْهَ الإغراء قدَّرنا: الزموا صبغة الله، ومعنى عابدون: موحِّدون، ومنه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}؛ أي: لِيُوحّدُون. وقيل: مطيعون، متَّبعون ملَّة إبراهيم عليه السلام، وصبغة الله. وقيل: خاضعون، مستكينون في اتباع ملةِ إبراهيم، غير مستكبرين، وهذه أقوالٌ متقاربة. والمعنى (¬2): أي ونحن معاشر المسلمين له تعالى عابدون، ولا نعبد سواه، فلا نتَّخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا، وينقصون، ويحلُّون، ويحرِّمون، ويَمْحُون مِنْ نفُوسِنا صبغةَ التوحيد، ويُثْبِتُون مكانَها صبغة البشر التي تُفْضِي إلى الإشراك بالله، واتخاذِ الأنداد له، وفي الآية إيماءٌ إلى أنَّ الإِسلام لم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[139]

يشرع أعمالًا خاصَّةً يتميَّز بها المسلم مِنْ سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعوَّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص، وحبِّ الخير، والاعتدال، كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. 139 - {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} والخطابُ في قل لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو لكلِّ من يصلح للخطاب، والهمزة فيه للإنكار، والتوبيخ، والمحاجَّةُ المجادلةُ، ودعوى الحق، وإقامة الحُجَّة على ذلك من كلِّ واحدٍ، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ اليهود والنصارى قالوا: إنَّ الأنبياء كانوا منَّا، وعلى ديننا، وديننا أقدمُ، فقال تعالى: {قُلْ} يا محمد! لليهود والنصارى أتجادلوننا، وتخاصموننا {فِي} شأن دين {الله} واصطفائه النَّبيَّ من العرب دونكم، وتدَّعون أنَّ دينه الحقَّ هو اليهوديَّة والنصرانيَّة، وتبنون دخول الجنَّة، والاهتداء عليهما، وتقولون تارةً: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وتارةً: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، وتقولون: (لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا) وترونكم أحقَّ بالنبوَّة منَّا {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}؛ أي: والحال أنّه تعالى خالقنا وخالقكم، ومالك أمرنا وأمركم، لا اختصاص له بقومٍ دون قوم، يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده وهو أعلم بتدبير خلقه، وبمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا وجه للمجادلة، فحينئذٍ لا تعترضوا على خالقكم، فإنَّ العبد ليس له أن يعترض على ربّه، بل يجب عليه تفويض الأمر. بالكلية إليه تعالى {وَلَنَا أَعْمَالُنَا} فنجازى عليها خيرًا أو شرًّا، ولا يصيبكم منَّا ضررٌ ولا أجرٌ، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} السيئة المخالفة لأمر الله، فلا يرجع علينا من أعمالكم ضررٌ، وإنما مرادنا نصحكم وإرشادكم، فكيف تدعون أنّكم أولى بالله؟! قال البيضاويُّ: كأنَّه ألزمهم على كُلِّ مذهب ينتحلونه إقحامًا وتبكيتًا، فإنّ كرامة النبوة: إمَّا تفضُّلٌ من الله تعالى على من يشاء، والكُلُّ فيه سواءٌ، وإما إفاضة حقّ على مستعدِّين لها بالمواظبة على الطاعة، والتحلِّي بالإخلاص، فكما أنَّ لكم أعمالًا ربما يعتبرها الله في إعظامها، فلنا أيضًا أعمالٌ، فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا {وَنَحْنُ لَهُ} تعالى {مُخْلِصُونَ} في تلك الأعمال، لا نبتغي بها إلّا وجهه، فأنّى لكم المحاجَّة، وادعاء حقيّة ما أنتم

عليه، والطمع في دخول الجنة بسببه، ودعوة الناس إليه، وأنتم به مشركون، ونحن مخلصون الطاعة والعبادة له تعالى، وأنتم به مشركون، والمخلص أحرى بالكرامة، وأولى بالنبوَّة من غيره، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السيف، كما سيأتي في آخر السورة، والإخلاص (¬1): أن يخلص العبد دينه وعمله لله تعالى، فلا يشرك في دينه، ولا يرائي بعمله، وحقيقة الإخلاص: تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين. قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى - ترك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعمل لأجل الناس شركٌ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. انتهى. وحاصل المعنى (¬2): أي ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربُّنا وربُّكم، وربُّ العالمين. فهو الخالق، وجميعنا خلقه، وإنّما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدةٌ إلينا خيرًا أو شرًّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا، لا نبتغي إلّا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنَّهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقرَّبون إلّا بصالح العمل، وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم، وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة. وخلاصة مما سبق: أنَّ روح الدين هو التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبر عنه بالإِسلام، فإذا زال هذا المقصد، وحفظت الأعمال الصوريَّة، لم يغن ذلك شيئًا، وأهل كتاب أزهقوا هذا الروح، وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شيء من الدين، ولكنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء، والمرسلين، فهو الذي كمَّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلِّ زمان، ومكان. وقرأ الجمهور (¬3): {أَتُحَاجُّونَنَا} بنونين: إحداهما: نون الرفع، والأخرى ضمير المتكلمين. وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[140]

والأعمش، وابن محيصن بإدغام النون في النون، وأجاز بعضهم حذف النون. أما قراءة الجمهور فظاهرةٌ، وأمَّا قراءة زيدٍ، ومن ذكر معه، فوَجْهها: أنّه لمَّا التقى مثلان، وكان قبل الأولى حرف مدٍّ ولينٍ جاز الإدغام، كقولك: دار راشدٍ؛ لأنَّ المد يقوم مقام الحركة في نحو: جعل، وأمَّا جواز حذف النون الأولى، فوجَهَّهُ: من أجاز ذلك على قراءة من قرأ {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بكسر النون. 140 - {أَمْ تَقُولُونَ} قرأ حمزة (¬1)، وابن عامر، والكسائي، وعاصم في روايةِ حفصٍ: بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون أم هنا متَّصلة معادلةً للهمزة في قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} أي: أتحاجوننا في الله أم تقولون: إنّ هؤلاء الأنبياء على دينكم، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجَّة في الله، والادِّعاء على إبراهيم، ومن ذكر معه أنَّهم كانوا يهودًا أو نصارى؛ أي: أيُّ الأمرين وقع منكم؟ وقرأ الباقون بالياء التحتية، فعلى هذه القراءة تكون أم منقطعةً تقدَّر ببل، وهمزة الإنكار؛ أي: بل أيقولون: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ} وهم حفدة يعقوب، وهم أولاد أولاده الاثني عشر. وعن الزجَّاج أنّه قال: الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولد كل واحدٍ من ولد إسحاق سبطٌ، ومن ولد إسماعيل قبيلةٌ. اهـ. {كَانُوا} قبل نزول التوراة والإنجيل {هُودًا أَوْ نَصَارَى} فهم مقتدون بهم، والاستفهام إنكاريٌّ بمعنى: النَّفي؛ أي: لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنَّ اليهوديَّة والنصرانيَّة إنّما حدثت، ووقعت بعدهم في زمن موسى وعيسى، وإبراهيم ومن ذكر معه قبلها بزمانٍ، فكيف يقال فيهم إنَّهم كانوا هودًا أو نصارى؟ كما قال سبحانه في آيةٍ أخرى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} عبارة "السمين". والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضًا، فيكون قد انتقل عن قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} وأخذ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى، والمعنى: على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، ومن ذكر معه. انتهت. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

والمعنى: على أنَّ أم متصلةٌ معادلةٌ للهمزة أتحاجُّوننا في الله أم تقولون إنّ إبراهيم؛ أي: أتقيمون الحجة على حقيَّة ما أنتم عليه، أم تقولون إنّ إبراهيم، ومن ذكر معه كانوا هودًا أو نصارى، فنحن مقتدون بهم، والمراد: إنكار كلا الأمرين، والتوبيخ عليهما؛ أي: كيف تحاجون وكيف تقولون في حقِّ الأنبياء الذين بعثوا قبل نزول التوراة والإنجيل: أنّهم كانوا هودًا أو نصارى؟ ومن المحال أن يقتدي المتقدِّم بالمتأخِّر، ويستنَّ بسنته. والخلاصة: أي: أتقولون إنَّ اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله، وهو ربُّنا وربُّكم؟ أم تقولون: إنّ امتيازكم باليهودية والنصرانية التي أنتم عليها، إنّما كان بأنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فنحن مقتدون بهم. فإن كان هذا ما تدَّعون، فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإنَّ هذين الإسمين إنّما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلّا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلّا بعد عيسى، فكيف تزعمون أنَّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا وقضيَّة العقل شاهدةٌ بكذبكم؟ {قُلْ} لهم يا محمد! {أَأَنْتُمْ} الاستفهام للتقرير والتوبيخ {أَعْلَمُ} بدينهم {أَمِ اللَّهُ} أعلم به؛ أي: أأنتم أعلم بدين إبراهيم ومن ذكر معه من الله، أم الله أعلم منكم، حيث نفى عن إبراهيم ومن ذكر معه ما نسبتم إليهم من اليهودية والنصرانية، بل الله أعلم منكم، وخبره أصدق، وقد أخبر سبحانه في التوراة، والإنجيل، وفي القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، أنّهم كانوا مسلمين مبرَّئين من اليهودية والنصرانية، حيث قال سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} والمذكور معه تبعٌ. والمعنى: أي أأنتم أعلم بالمرضِيِّ عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبَّله، لا شكّ أنَّ الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم، وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدِّقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلم لا ترضون لأنفسكم هذه الملة. وقال أبو حيان: والقول في القراءة في {أَأَنْتُمْ} كهو في قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وقد توسَّط السؤال عنه هنا، وهو أحسن من تقدُّمه، نحو: أعلم أنتم أم الله، أو تأخُّره، نحو: أأنتم أم الله أعلم، وهذا تهكُّم

بهم؛ لأنّه ليس عندهم علمٌ، والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}؛ لإنكار أن يكون أحدٌ أظلم منه، فهو بمعنى: النفي؛ أي: لا أحد أشدُّ ظلمًا {مِمَّنْ كَتَمَ}؛ أي: ستر وأخفى عن الناس {شَهَادَةً} ثابتةً {عِنْدَهُ}؛ أي: عند من كائنةً {مِنَ اللَّهِ} تعالى، فقوله: {عِنْدَهُ} و {مِنَ اللَّهِ} صفتان لشهادة؛ أي: شهادةً حاصلةً عنده، صادرةً من الله تعالى، وهو شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بدين الإِسلام، والبراءة من اليهودية، والنصرانية، وهم اليهود، وفيه تعريضٌ بكتمانهم شهادة الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوَّة والرسالة في كتبهم، وسائر شهاداته، وتقدَّم الكلام في دفع المعارضة في أفعل التفضيل الجائي بعد الاستفهام، كمن عند قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} فالمراد هنا: لا أحد من الكاتمين أظلم ممن كتم شهادة الله تعالى؛ يعني: يا أهل الكتاب! قد علمتم بشهادةٍ حصلت عندكم، صادرةٍ من الله تعالى، بأنَّ إبراهيم وبنيه كانوا حنفاء مسلمين بأن أخبركم الله بذلك في كتابكم، ثم إنّكم تكتمونها، وتدَّعون خلاف ما شهد الله به في حقِّهم، فلا أحد أظلم منكم، حيث اجترأتم على تكذيب الله تعالى فيما أخبر به في شأن إبراهيم، ومن معه. وتعليقُ الأظلمية بمطلق الكِتْمَانِ؛ للإِيمْاء إلى أنَّ مرتبة مَنْ يَدْرِيها، ويَشْهَدُ بخلافها في الظلم، خارجةٌ عن دائرة البيان. وعن ابن عباس: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة) {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} والمراد: مَسْخُ القلب، وطَبْعُه، ونعوذ بالله من ذلك {وَمَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِغَافِلٍ} أي: بساهٍ {عَمَّا تَعْمَلُونَ} (ما) موصولة عامّة لجميع ما يكتسب بالجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، ويدخل فيه كتمان شهادة الله دخولًا أوّليًّا؛ أي: هو سبحانه وتعالى محيط بجميع ما تأتون، وما تذرون، فيعاقبكم بذلك أشدَّ عقاب، ويجوز كونها مصدرية؛ أي: بغافلٍ عن عملكم من الكتمان، وغيره، بل محصيه عليكم، ثمّ يعاقبكم عليه في الآخرة، وفيه وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيدٌ، وإعلامٌ بأنَّ الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على الظلم القبيح، والذنب الفظيع. وقرىء {يعملون} بالياء التحتانية؛ يعني: أنَّ الله لا يترك أمركم سُدًى، بل يعذِّبكم أشدَّ العذاب، وهو محيطٌ بما تأتون، وما تذرون.

[141]

وخلاصة معنى الآية: لا أحد أشدُّ ظلمًا ممن يكتم شهادةً في كتاب الله، تبِشِّرُ بأنَّ الله يبعث فيهم نبيًّا من بَنِي إخوتهم، وهم العرب أبناءُ إسماعيل، وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطلع على التوراة، ويحُرِّفون على المُطَّلع عليها. 141 - {تِلْكَ} الجماعة المذكورة من إبراهيم، ومَنْ معه {أُمَّةٌ}؛ أي: جماعةٌ {قَدْ خَلَتْ}؛ أي: مضت وسلفت بالموت {لَهَا} جزاء {مَا كَسَبَتْ} من الأعمال خيرًا أو شرًّا {وَلَكُمْ} أيها اليهود والنصارى جزاء {مَا كَسَبْتُمْ} من الأعمال، كذلك {وَلَا تُسْأَلُونَ} أيها اليهود والنصارى يوم القيامة {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا، كما أنَّهم لا يسألون عما تعملون. والمعنى: أنّ جماعة الأنبياء قد مضت بالموت ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يُسأل أحدٌ عن عمل غيره، بل كُلُّ إنسان يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله، ويجازى به، فلا يضرُّه، ولا ينفعه سواه. وهذه قاعدةٌ أقرَّتها الأديان جميعًا، وأيَّدها العقل، كما قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان، فأوَّلوهم نصوص الدين اتِّباعًا للهوى، ومن ثمَّ جاء القرآن يقرِّر ارتباط السعادة بالكتب، والعمل، وينفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجَّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم، ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم، ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة. وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا، ورائدنا في أعمالنا، تلك القاعدة: الجزاء على العمل، ولا نغترَّ بشفاعة سلفنا الصالح ونجعلها وسيلةً لنا في النجاة إذا نحن قصَّرنا في عملنا، فكلٌّ من السلف والخلف مجزيٌّ بعمله، ولا ينفع أحدًا عملُ غيره، وفَّقنا الله تعالى لما يحبّه ويرضاه {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. وبالجملة، ففي الآية: وعظٌ لليهود، ولكل من يتكل على فضل الآباء، وشرفهم، أن لا يتَّكلوا على فضل الآباء، فكلٌّ يؤخذ بعمله، ولا ينفعه غيره، وإنّما كُرِّرت هذه الآية؛ لأنّه إذا اختلف مواطن الحِجاج، والمجادلة، حسن

تكريره للتذكير به، وتأكيده، وقيل: إنّما كرَّره؛ تنبيهًا لليهود؛ لئلّا يغترُّوا بشرف آبائهم وعبارة الكرخي: وكرر تأكيدًا وزجرًا عمّا هم عليه، من الافتخار بالآباء، والاتكال على أعمالهم؛ أو لأنَّ الأمة في الآية الأولى للأنبياء، وفي الثانية لأسلاف اليهود والنصارى؛ أو لأنَّ الخطاب في تلك الآية لهم، وفي هذه الآية لنا. انتهت. والله أعلم. الإعراب {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 35)}. {وَقَالُوا} الواو استئنافية، أو عاطفة {قالوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ...} هو الخ. {كُونُوا هُودًا} إلى قوله: {قُلْ} مقولٌ محكيٌّ لقالوا، وإن شئت قلت: {كُونُوا} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمها {هُودًا} خبرها، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {أَوْ} حرف عطف وتفصيل {نَصَارَى} معطوف على {هُودًا}. {تَهْتَدُوا} فعل مضارع وفاعل مجزوم بالطلب السابق، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {بَلْ} حرف عطف وإضراب {مِلَّةَ} مفعول به لفعل محذوف، تقديره: بل نتَّبع ملة إبراهيم، أو منصوب على الإغراء بتقدير الزموا، والجملة المحذوفة معطوفة على جملةٍ مقدّرةٍ قبلها، تقديرها: لا نتبع اليهودية، ولا النصرانية، بل نتّبع ملة إبراهيم، والجملة المقدرة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول {قُلْ} {مِلَّةَ} مضاف {إِبْرَاهِيمَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة {حَنِيفًا} حال من إبراهيم؛ لأنّ الملة كالجزء من إبراهيم، كما قال ابن مالك في "الخلاصة": ولا تُجِزْ حالًا من الْمُضافِ لَه ... إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَه

أو كانَ جُزْءَ مَا لَهُ أضيفَا ... أو مِثْلَ جُزْئهِ فلا تَحِيفَا {وَمَا} الواو حالية (ما) نافية (كاَنَ) فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جار ومجرور خبر {كاَنَ}، وجملة {كاَنَ} في محل النصب حال ثانية من إبراهيم. {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}. {قُولُوا} فعل أمر مبنيٌّ على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مستأنفة {آمَنَّا بِاللَّهِ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لقولوا، وإن شئت قلت: {آمَنَّا} فعل وفاعل، والملة في محل النصب مقول {قُولُوا} {بِاللَّهِ} متعلق بآمنَّا، {وَمَا} الواو عاطفة {ما} اسم موصول في محل الجر معطوفة على لفظ الجلالة {أُنْزِلَ} فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل مستترٌ فيه، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد ضمير النائب {إِلَيْنَا} جار ومجرور متعلق بأنزل {وَمَا} موصول معطوف على لفظ الجلالة، وجملة {أُنْزِلَ} صلتها {إِلَى إِبْرَاهِيمَ} متعلِّق بأنزل {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} معطوفات على إبراهيم، مجروراتٌ بالفتحة للعلمية والعجمية، والأسباط معطوف أيضًا على إبراهيم مجرور بالكسرة الظاهرة {وَمَا} معطوف أيضًا على الجلالة {أُوتِيَ} فعل ماض مغيّر الصيغة {مُوسَى} نائب فاعل {وَعِيسَى} معطوف على {مُوسَى}، والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما أوتيه موسى {وما} معطوف على لفظ الجلالة أيضًا، {أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} فعل ماض ونائب فاعل، والجملة صلة لما، والعائد محذوف، تقديره: وما أوتيه النبيون {مِنْ رَبِّهِمْ} جار ومجرور متعلق بأوتي {لَا} نافية {نُفَرِّقُ} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، تقديره: نحن {بَيْنَ أَحَدٍ} ظرف ومضاف إليه متعلق بنفرق {مِنْهُمْ} صفة لأحد، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {آمَنَّا}، أو مستأنفة {وَنَحْنُ} الواو حالية {نحن} مبتدأ {لَهُ} متعلق بمسلمون، قدّم عليه؛ للاهتمام به {مُسْلِمُونَ} خبر

المبتدأ، والجملة الإسمية حال ثانية من فاعل {آمنا}. {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}. {فَإِنْ} الفاء استئنافية، أو فصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا امتثلتم ما أمرتكم به، وأردتم بيان حال أهل الكتاب، فأقول لكم: إن آمنوا. الخ. {إن} حرف شرط جازم {آمَنُوا} فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها {بِمِثْلِ} الباء حرف جر {مثل} زائدة {ما} موصول في محل الجر بالباء الجار والمجرور متعلق بآمنوا؛ أي: فإن آمنوا بما آمنتم {آمَنْتُمْ} فعل وفاعل {به} متعلق بآمنتم، وجملة {آمَنْتُمْ} صلةٌ لما الموصولة، والعائد ضمير {بِهِ}. {فَقَدِ} الفاء رابطةٌ لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بقد، {قد} حرف تحقيق {اهْتَدَوْا} فعل ماض وفاعل في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مع جوابها مستأنفة، أو مقولٌ لجواب إذا المقدَّرة وجملة إذ المقدرة مستأنفة {وَإِنْ} الواو عاطفة {إن} حرف شرط جازم {تَوَلَّوْا} فعل ماض وفاعل في محلِّ الجزم بإنْ الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَإِنَّمَا} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة إسمية، {إنما} أداة حصر {هُمْ} مبتدأ {فِي شِقَاقٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوفٍ خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} الفاء حرف عطف وتعقيب؛ لإشعارها بوقوع الكفاية عقب شقاقهم، والسين حرف تنفيس للاستقبال القريب {يكفي} فعل مضارع، والكاف مفعول أوّل، والهاء مفعول ثانِ {اللَّهُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب، ولذا دخلت الفاء الرابطة عليه؛ لاشتماله على حرف التنفيس {وَهُوَ} الواو استئنافية {هو} مبتدأ {السَّمِيعُ} خبر أول {الْعَلِيمُ} خبر ثان، والجملة الإسمية مستأنفة؛ مسوقة لتعليل ما قبلها.

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}. {صِبْغَةَ اللَّهِ} مصدر مؤكّد لفعله المحذوف، منصوب على المفعولية المطلقة، تقديره: صبغنا الله صبغته، والجملة معطوفة في المعنى على جملة {آمَنَّا} داخلةٌ تحت حكم الأمر في قوله: {قُولُوا آمَنَّا}؛ أي: قولوا آمنَّا بالله، وصبغنا الله صبغته، وهذا أحسن الأوجه في إعرابه كما مرّ، وقيل: منصوبٌ على الإغراء؛ أي: الزموا صبغة الله {وَمَنْ أَحْسَنُ} الواو استئنافية {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَحْسَنُ} خبره والجملة مستأنفة {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بأحسن {صِبْغَةً} تمييزٌ محوَّل عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والأصل: ومن صبغته أحسن من صبغة الله؛ أي: لا أحسن منها {وَنَحْنُ} الواو استئنافية، أو عاطفة {نحن} مبتدأ {لَهُ} متعلق بـ {عَابِدُونَ}، وهو خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على {آمنّا} فهو داخلٌ معه تحت الأمر؛ أي: وقولوا نحن ... الخ. وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. انتهى. "أبو السعود". {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {أَتُحَاجُّونَنَا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري {تحاجُّوننا} فعل وفاعل ومفعول به مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} {فِي اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بتحاجون {وَهُوَ} الواو حالية {هو} مبتدأ {رَبُّنَا} خبر ومضاف إليه {وَرَبُّكُمْ} معطوف على {رَبُّنَا}، والجملة في محل النصب حالٌ من الواو في {أَتُحَاجُّونَنَا}، وكذا قالوا، أو من ضمير المفعول، أو من الجلالة {وَلَنَا} الواو حالية {لنا} خبر مقدّم {أَعْمَالُنَا} مبتدأ مؤخّر، والجملة في محل النصب حال من ضمير المفعول في {أَتُحَاجُّونَنَا} {وَلَكُمْ} الواو عاطفة {لكم} خبر مقدّم، {أَعْمَالُكُمْ} مبتدأ مؤخّر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لنا أعمالنا} {وَنَحْنُ} الواو حالية {نحن} مبتدأ {لَهُ} متعلق بمخلصون {مُخْلِصُونَ} خبر المبتدأ، والجملة في محل

النصب حال من ضمير المفعول في {أَتُحَاجُّونَنَا} أو من واو الفاعل، وفي "الجلالين": والجمل الثلاث؛ يعني قوله: {رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، والثالثة: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أحوالٌ من الواو في {أَتُحَاجُّونَنَا} والعامل فيها: {أَتُحَاجُّونَنَا}. {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}. {أَمْ} عاطفة متصلة معادلة لهمزة {أتحاجون} {تَقُولُونَ} بالتاء فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {تحاجون}، وإن شئت قلت: {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار {يقولون} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. وقال أبو البقاء: قرئ {أَمْ تَقُولُونَ} بالياء ردًّا على قوله: {فسيكفكهم} وبالتاء ردًّا على قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا}؛ انتهى. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} ناصب واسمه {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ} معطوفاتٌ على إبراهيم {كَانُوا} فعل ماض ناقص واسمه {هُودًا} خبره {أَوْ نَصَارَى} معطوف على {هُودًا}، وجملة كان في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {تَقُولُونَ}. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {أَأَنْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري {أنتم} مبتدأ {أَعْلَمُ} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} {أَمِ} عاطفة متّصلة {اللَّهُ} معطوف على {أنتم}، ولكنه فصل بين المتعاطفين بالمسؤول عنه {وَمَنْ} الواو استئنافية {من} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَظْلَمُ} خبره، والجملة مستأنفة؛ مسوقة للتعريض بكتمانهم شهادة الله، وهذا دَيْدَنُ اليهود دائمًا {مِمَّن} جار ومجرور متعلق بأظلم {كَتَمَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} {شَهَادَةً} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب {عِنْدَهُ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لشهادة {وَمَا} الواو استئنافية، أو عاطفة {ما} حجازية

{اللَّهُ} اسمها {بِغَافِلٍ} خبرها، والباء زائدة، وجملة {ما} الحجازية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}، {عَمَّا} جار ومجرور متعلق {بِغَافِلٍ} {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: عمّا تعملونه. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}. {تِلْكَ أُمَّةٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {قَدْ} حرف تحقيق {خَلَتْ} فعل ماض مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أُمَّةٌ} والجملة في محل الرفع صفةٌ لأُمَّةٌ {لَهَا} خبر مقدم {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الإسمية مستأنفة، أو حال من {أُمَّةٌ} أو صفة ثانية لها، والأول أظهر، وجملة {كَسَبَتْ} صلة لما الموصولة، {وَلَكُمْ} خبر مقدم {مَا} مبتدأ مؤخّر، وجملة {كَسَبْتُمْ} صلة لما الموصولة، والجملة الإسمية معطوفة على ما قبلها، {وَلَا تُسْأَلُونَ} الواو عاطفة {لا} نافية {تُسْأَلُونَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، والواو نائب فاعله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ} مسوقة؛ لتأكيد ما قبلها {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {تُسْأَلُونَ} {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة كان صلة لما الموصولة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {حَنِيفًا} الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، يقال: حَنَف حَنْفًا من باب ضرب إذا مال، وحَنِف من باب تعب حَنَفًا، وحَنُف حنافة من باب ظرف اعوجَّت رجله إلى داخلٍ، فهي حنفاء، فالحنيف في أصل اللغة الذي تميل قدماه كُلُّ واحدة إلى أختها، وقد يستعمل في اليدين {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} أصله: تهتديوا بوزن تفتعلوا من اهتدى الخماسيِّ، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلمَّا سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الدال؛ لمناسبة واو الجماعة، وهذا بعد حذف نون الرفع للجازم، وهو الطلب السابق

{وَالْأَسْبَاطِ} جمع سبط بكسر السين وسكون الباء، وهو في الأصل: ولد البنت مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن، وهو مشتق من السبط، أي: الشجرة. وفي "الفتوحات": وهذا كله بالنظر إلى أصل اللغة في إطلاق السبط على ولد الولد مطلقًا، وإلّا فالعرف خصَّص السبط بولد البنت، والحفيد بولد الابن. اهـ. {فقد اهتدوا} أصله: اهتديوا بوزن افتعلوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة دالَّةً عليها. {فإن تولّوا} أصله: تَوَلَّيُوا أيضًا، فُعِل به ما فعل بـ {اهْتَدَوْا} المذكور قبله، فوزن اهتدوا افتعوا، ووزن تَوَلَّوا تفعَّوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الشقاق: المخالفة والعداوة، وأصله: من الشقِّ وهو الجانب؛ لأنّ كل واحد من المتشاققين يكون في شقٍّ غير شق صاحبه؛ أي: في ناحيةٍ منه، وهو مصدر شاقَّ شقاقًا من باب فاعَلَ، وفيما ذكر إشارة إلى بيان المراد بالشقاق هنا؛ لأنَّ له في اللغة ثلاث معان: أحدها: الخلاف، ومنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}. والثاني: العداوة، ومنه قوله: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}. والثالث: الضلال، مثل: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {صِبْغَةَ اللَّهِ} والصبغ بالكسر: ما يلوَّن به الثياب، وبالفتح: المصدر، والصبغة: الحالة التي تبنى لبيان النوع، كصبغت صِبغةَ الأمير نظير جِلسةَ الإقعاء، والصَبغة بالفتح: المرَّة من الصبغ، كصبغت صبغةً. وفي "المصباح": صبغت الثوب صبغًا من بابي نفع وقتل، وفي لغة من باب ضرب. انتهى. والصبغة، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والعرب تسمِّي ديانة الشخص لشيء، واتصافه به صبغةً، قال بعض ملوكهم: وكُلُّ أُناسٍ لهم صبغةٌ ... وصِبغة همدان خير الصِّبَغْ صبغنا على ذاك أبناءَنا ... فأَكْرِم بصبغتنا في الصِّبَغْ {أَتُحَاجُّونَنَا} أصله: أتحاججوننا، فأدغمت الجيم الأولى في الثانية،

والمحاجُّة: المجادلة ودعوى الحق، وإقامة الحجة، على ذلك من كل واحد من الجانبين. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}؛ أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، وليس المعنى: إنّ الفريقين قالوا ذلك؛ لأنّ كل فريق يعدُّ دين الآخر باطلًا. ومنها: جعل الشقاق ظرفًا لهُمْ في قوله: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}؛ مبالغةً في الإخبار عن استيلائه عليهم، فإنّه أبلغ من قولك: هم مشاقون. ومنها: تنكير شقاق؛ دلالةً على امتناع وفاق بينهم أصلًا. ومنها: التذييل بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لأنّه تذييلٌ لما سبق من الوعد، وتأكيدٌ له. ومنها: الإيجاز بالحذف في {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}؛ لأنّ الأصل: فسيكفيك شرَّهم، وفيه تصدير الفعل بالسين دون سوف؛ إشعارًا بأنَّ ظهوره عليهم واقعٌ في زمن قريبٍ. ومنها: التعجيز والتبكيت في قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}؛ لأنّ المراد منه إلزام الخصم، وإلجاءَه إلى الاعتراف بالحق بإرخاء عِنانه، وسدّ طرق المجادلة عليه؛ لأنّه ليس لله سبحانه، وكذا لدين الإِسلام مثلٌ، فيؤمنون به. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} حيث شبَّه الدين الإِسلاميَّ بالصبغة، وحذف المشبَّه، وأبقى المشبه به بجامع أنَّ في كل منهما حليةً وزينةً، لِمَا قام به، وفيه أيضًا: فنُّ المشاكلة: وهو ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوع ذلك الشيء في صحبة الغير، إمّا بحسب المقال المحقَّق، أو المقدَّر بأن لا يكون ذلك الغير مذكورًا حقيقةً، ويكون في حكم المذكور؛ لكونه مدلولًا عليه بقرينة الحال، فسمي الدين هنا صبغةً؛ لوقوعه في مقابلة صبغة النصارى

أولادهم في المعمودية. قال البغوي: إنّ إطلاق مادة لفظ الصبغ على التطهير مجاز تشبيهي، وذلك أنه شبه التطهير من الكفر بالإيمان بصبغ المغموس في الصبغ الحسِّي، ووجه الشبه ظهور أثر كل منهما على ظاهر صاحبه، فيظهر أثر التطهير على المؤمن حسًّا ومعنًى بالعمل الصالح، والأخلاق الطيبة، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، ولا ينافي ذلك كونه مشاكلة. انتهى. وتقرير المشاكلة مبسوط في "التلخيص" وشرحه للسعد التفتازاني، فراجعهما. ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} وقوله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}؛ لرعاية الفواصل، وللاعتناء بالضمير المجرور العائد إلى الله سبحانه وتعالى. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} والتوبيخيُّ في قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} والتقريري في قوله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}. ومنها: التهديد في قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. ومنها: تكرير الآية {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} بعينها؛ مبالغة في الزجر عمَّا هم عليه من الافتخار بالآباء، والاتكال على أعمالهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع (¬1). * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تمَّ المجلّد الثاني بالتكملة في تاريخ: 17/ 9/ 1417 - هـ، في اليوم السابع عشر قبيل الظهر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: ألفٍ وأربعمائة وسبع عشرة سنة من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، ويليه المجلَّد الثالث، وأوَّله قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}. وصلَّى الله وسلَّم على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه السادة الغُرِّ المحجَّلين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين. تم تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه يوم الجمعة وقت الضحى من شهر ربيع الآخر في تاريخ 17/ 4/ 1420 من الهجرة المصطفية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية آمين.

شعرٌ إِذَا رَأيْتَ زَلِيقًا ... كُنْ سَاتِرًا وحَلِيما يا مَنْ يُعَيِّبُ تَفْسِيري ... لِمَ لا تَمُرُّ كَرِيمَا (وفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْمٍ عليم)

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر وَعيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا قَدَّمْتُهُ لِلِإخْوَانِ مُعْتَذِرَا ... وَالْعُذْرُ مِنْ شِيَمِ السَّادَاتِ مَقْبُوْلُ

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}. المناسبة قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن اليهود والنصارى قالوا: إن إبراهيم ومَن ذكر معه كانوا يهودًا أو نصارى، ذكروا ذلك طعنًا في الإِسلام؛ لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا: الانتقال عن قبلتنا باطلٌ وسفَهٌ، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...} الآية، فبين ما كان هداية وما كان سفهًا. وحاصل ما ذكر في المناسبة: أن اليهود والنصارى زعموا أن إبراهيم والأنبياء الذين ذُكروا معه كانوا يهودًا أو نصارى، وقد كانت قِبْلةُ الأنبياء بيتَ المقدس، وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة يستقبل بيت المقدس، فلما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إلى الكعبة المشرفة .. طعن اليهود في رسالته، واتخذوا ذلك ذريعةً للنيل من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإِسلام، وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دين قومه، فأخبر الله رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - بما سيقوله السفهاء، ولقَّنه الحجة الدامغة؛ ليرد عليهم ويوطن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه، وكان هذا الإخبار قبل تحويل القبلة معجزةً له عليه الصلاة والسلام. أسباب النزول قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ...} إلى آخر الآية قال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس ويُكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات قبل أن نُصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا قبل بيت المقدس، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، وقال السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ...} إلى آخر الآية. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا أبو نعيم، سمع زهيرًا، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل البيت رجال قُتلوا، فلم نَدْرِ ما نقول فيهم؛ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. سبب نزول قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ...} الآية، أخرج البخاري أيضًا رحمه الله تعالى في "صحيحه" قال: حدثنا عبد الله بن

[142]

رجاء، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال هو: يشهد أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم نحو الكعبة). وأخرج هذا الحديث أيضًا الترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والدارقطني، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير"، وابن سعد في "الطبقات"، وعندهما زيادة: (وقال السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟) فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أنس. التفسير وأوجه القراءة 142 - {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}؛ أي: الجهال الذين خفت أحلامهم، وضعفت عقولهم {مِنَ النَّاسِ}؛ أي: من اليهود والمشركين والمنافقين و {السُّفَهَاءُ}: جمع سفيه، والسفيه (¬1): من لا يميز ما له وما عليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره. ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا، فيكون الكافر أولى بهذا الاسم، فلا كافر إلا وهو سفيه. وقيده (¬2) بالناس؛ لأن السفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الحيوان والجماد، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب إلى غيرهم مجازًا، فرفع المجاز بقوله: {مِنَ النَّاسِ} ذكره ابن عطيه وغيره. ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) سمين.

وأتى (¬1) بسين الاستقبال في {سَيَقُولُ} مع مضي القول المذكور؛ لاستمرارهم عليه؛ بناءً على أن الآية متقدمة في تركيب المصحف متأخرة في النزول عن آية {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} كما ذكره ابن عباس وغيره. فمعنى {سَيَقُولُ}: أنهم يستمرون على هذا القول إن كانوا قد قالوه. وحكمة الاستقبال أنهم كما قالوا ذلك في الماضي منهم أيضًا من يقوله في المستقبل. وقال البيضاوي كالسيوطي تبعًا لما في "الكشاف". والإتيان (¬2) بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب هو ما عليه أكثر المفسرين. وفائدة تقدم الإخبار به - أي: على المخبر عنه - توطين النفس، وإعداد الجواب. وقيل: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، فقبل الرمي يراش السهم. {مَا وَلَّاهُمْ}؛ أي: أيُّ شيءٍ صرفَ النبي والمؤمنين وحوَّلَهم إلى الكعبة {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أولًا وهي بيت المقدس. والقِبْلة: هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وإنما سميت قِبْلةً؛ لأن المصلي يقابلها وهي تقابله. والاستفهام هنا للإنكار؛ أي: أيُّ شيء، وأيُّ سبب اقتضى انصرافهم عن قبلتهم التي كانوا عليها التي هي قبلة الأنبياء والمرسلين؛ أي: لا سبب يقتضي ذلك، وإنما هو من تشهيهم وتصرفهم برأيهم. ومحصل الجواب المذكور بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} إلخ بيان السب المقتضي لذلك، وهو: إرادة المالك المختار. {قُلْ} لهم يا محمد: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}؛ أي: جميع الجهات من المشارق، والمغارب، وما بينهما كلها لله ملكًا، والخلق عبيده. لا يختص به مكان دون مكان، وإنما العبرة بامتثال أمره، لا بخصوص المكان، يكلف عباده أن يستقبلوا بما شاء منها، وأن تجعل قبلة لهم، فلا اعتراض عليه. {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إلى طريق قويم، موصل إلى سعادة ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) جمل.

[143]

الدارين، وهو ما ترتضيه الحكمة، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة أخرى. والظاهر: أن الصراط المستقيم هو ملة الإِسلام وشرائعه، فالكعبة من بعض مشروعاته. والإشارة في قوله: 143 - {وَكَذَلِكَ} راجعة إلى مفهوم الآية المذكورة قبله؛ أي: كما جعلناكم معديين إلى الصراط المستقيم، أو هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل، أو جعلنا قِبلتكم أفضل القبل {جَعَلْنَاكُمْ} يا أمة محمد {أُمَّةً وَسَطًا}؛ أي: أمة خيارًا عدولًا ممدوحين بالعلم والعمل. {لِتَكُونُوا}؛ أي: لكي تكونوا يوم القيامة {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ أي: على الأمم الماضية بأن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم؛ وذلك (¬1) لأن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير؟ فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الله الأنبياء عن ذلك، فيقولون: كذبوا قد بلغناهم، فيسألهم البينة - وهو أعلم بهم - إقامة للحجة، فيقولون: أمة محمد تشهد لنا، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيشهدون لهم بأنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل الله تعالى هذه الأمة، فيقولون: أرسلت إلينا رسولًا، وأنزلت علينا كتابًا أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيُسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم. وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بنوح وأمته يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيسأل أمته هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم، فتشهدون، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ". زاد الترمذي "وسطًا عدولًا". {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ أي: يشهد بعدالتكم، وعلى صدقكم في شهادتكم على الأمم ¬

_ (¬1) الخازن.

الماضية، فهو معطوف على {لِتَكُونُوا} يعني (¬1): أن الرسول يزكيكم في شهادتكم على الأمم السابقة أن أنبياءهم بلَّغوهم، وعلى هذا تكون {عَلَى} بمعنى اللام؛ أي: يكون شاهدًا لكم؛ أي: مزكيًا لكم شاهدًا بعدالتكم. وأخرت (¬2) صلة الشهادة أولًا، وقدمت آخرًا؛ لأن المراد في الأول: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر: اختصاصهم بكون الرسول شهيدًا عليهم. وقيل (¬3): معنى قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا ادعى على أمته أنه بلغهم .. تقبل منه هذه الدعوى، ولا يطالب بشهيد يشهد له، فسميت دعواه شهادة من حيث قَبولها، وعدمِ توقفها على شيء آخر، بخلاف سائر الأنبياء لا تقبل دعواهم على أممهم إلا بشادة الشهود، وهم هذه الأمة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ}؛ أي: وما صيرنا لك القبلة الآن بعد الهجرة الجهة {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا}؛ أي: كنت على استقبالها أولًا في مكة قبل الهجرة، وتلك الجهة الكعبة، فـ {القبلة}: هو المفعول الثاني لـ {جعل} مقدمًا، و {التي} صفة لموصوف محذوف؛ أي: الجهة التي كنت عليها، وهذا هو المفعول الأول مؤخرًا، وجعل: بمعنى صير، والتقدير: وما صيرنا الجهة التي كنت عليها أولًا قبل الهجرة - وهي الكعبة - القبلة الآن؛ أي: بعد نسخ استقبال بيت المقدس؛ أي: وما جعلنا قبلتك الأولى قبلة لك ثانيًا؛ أي: ما حولناك ورجعناك إليها {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}؛ أي: إلا لنعاملهم معاملة مَنْ يمتحنهم، ونعلم حينئذ مَنْ يتبع الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في التوجه إلى ما أُمر به - وهو الكعبة - ويصدقه، ممن ينقلب ويرجع إلى الكفر مرتدًا، وراجعًا على عقبيه شكًّا في الدين، وظنًّا منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حيرة من أمره، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى الكعبة قبل الهجرة، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفًا لليهود، فصلى إليها سبعة عشر شهرًا، ثم حول إلى الكعبة، وارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجعَ محمد إلى دين آبائه. وقرأ الزهري: {ليُعلَم} بالبناء للمفعول وقرىء: {على ¬

_ (¬1) كرخي بتصرف. (¬2) نسفي. (¬3) مراح.

عقْبيه} بسكون القاف، وهي لغة تميم، وكلا القراءتين شاذتان. {وَإِنْ}؛ أي: وإنها {كَانَتْ}؛ أي: التولية إلى الكعبة {لَكَبِيرَةً}؛ أي: لشاقة على الناس ثقيلة عليهم. وقرأ (¬1) اليزيدي شذوذًا: {لكبيرةٌ} بالرفع، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة {كاَنَتْ} والتقدير: وإن هي لكبيرة، وهذا ضعيف؛ لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا اتصل بها الضمير فعملت فيه، ولذلك استكن فيها وقرأ الجمهور {لَكَبِيرَةً} بالنصب على أن تكون خبر {كاَنَتْ}. {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} منهم؛ أي: هداهم ووفَّقهم لاتّبَاع الرسول، وهم الثابتون على الإيمان {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}؛ أي: تصديقكم بالقِبْلة الأولى المنسوخة، وصلاتكم إليها؛ أي: لا يجعل صلاتكم إليها ضائعًا غير محسوب لكم، بل يثيبكم عليها؛ لأن سبب نزولها: السؤال عمن مات قبل التحويل. وذلك (¬2) أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس، إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه، وإن كانت على ضلالة فقد دنتم الله بها مدة، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة، فقال المسلمون: إنما الهدى فيما أمر الله به، والضلالة فيما نهى الله عنه. قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قِبْلتنا وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة: أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقبا ورجال آخرون؟ فانطلقت عشائرهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله، قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}؛ يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس. وقرأ الضحاك {ليضَيَّع} بفتح الضاد، وتشديد الياء، مضاعف ضاع، وهي قراءة شاذة {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ} أي: بالمؤمنين {لَرَءُوفٌ}؛ أي: لمنعم لهم بجلائل النعم. {رَحِيمٌ} بهم بدقائقها. وهذه الجملة جارية مجرى التعليل لما قبلها؛ أي: للطف رأفته، وسعة رحمته، لا يضيع إيمان من آمن، ولا عمل من عمل صالحًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[144]

وقرأ (¬1) الحِرْمِيَّان وابنُ عامر وحفص {لَرَءُوفٌ} مهموزًا على وزن فَعُول بالمد، حيث وقع في القرآن. قال الشاعر: نُطِيْعَ رَسُوَلَنَا وَنُطِيْعُ رَبًّا ... هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَؤُوْفَا وقرأ باقي السبعة: {لرؤف} مهموزًا بالقصر على وزن فعل. وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع: {لروف} مثقّلًا بغير همز. و {الرءوف}: كثير الرأفة، وهي أشد من الرحمة (¬2)، وقيل: الرأفة أخص من الرحمة، وقيل: الرأفة الرحمة، وقيل في الفرق بين الرأفة والرحمة: أن الرأفة: مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه، وإزالة الضرر، وأما الرحمة: فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه أيضًا جميع الإفضال والإنعام، فذكر الله الرأفة أولًا؛ بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم، ثم ذكر الرحمة ثانيًا؛ لأنها أعم وأشمل. 144 - {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} قال القرطبي في "تفسيره": قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} و {قد} هنا للتحقيق، أو للتكثير؛ أي: حقًّا نرى تحول وجهك إلى السماء، وتردد نظرك في السماء طالبًا قبلة غير التي أنت مستقبلها، أو كثيرًا نرى تصرف نظرك في جهة السماء انتظارًا وتطلعًا للوحي؛ وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يترجى من ربه أن يحوله إلى الكعبة؛ لأنها قبلة إبراهيم أبيه، وأَدْعَى للعرب إلى الإيمان؛ لأنها مفخرة لهم، ولمخالفة اليهود، فكان ينتظر نزول جبريل بالوحي بالتحويل، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}؛ أي: فلَنحولنك في الصلاة إلى قِبْلةٍ تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها في قلبك {فَوَلِّ وَجْهَكَ}؛ أي: فاصرف جملة بدنك {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: تلقاء الكعبة، وفي حرف (¬3) عبد الله شذوذًا: {فول وجهك تلقاء المسجد الحرام}؛ أي: استقبل عينها بصدرك في الصلاة إن كنت قريبًا، واستقبل جهتها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) حرف: قراءة.

إن كنت بعيدًا. وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في المدينة. والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن في استقبال عينها حرجًا عليه بخلاف القريب، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية. والمراد بالمسجد الحرام هنا: الكعبة كما هو في أكثر الروايات، وقال آخرون: المراد بالمسجد الحرام: جميع المسجد الحرام، وقال آخرون: المراد به الحرم كله. وقال القرطبي: روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي". {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}؛ أي: وفي أي موضع كنتم فيه يا أمة محمد، من بر أو بحر، مشرق أو مغرب، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}؛ أي: فاصرفوا، وحولوا وجوهكم في الصلاة جهة المسجد الحرام الذي هو بمعنى الكعبة. خص (¬1) الرسول أولًا بالخطاب تعظيمًا له، وإيجابًا لرغبته، ثم عمم تصريحًا بعموم الحكم، وتأكيدًا لأمر القبلة، وتحضيضًا للأمة على المتابعة. وقال (¬2) ابن كثير: أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيث ما توجه قالبه، وقلبُه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا مَنْ جَهِلَ جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئًا في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها. انتهى. وأخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة؛ يعني: أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت، فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إلى الكعبة أبدًا، فهي قبلتكم". ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) ابن كثير.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة) متفق عليه. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا} من قبلكم؛ يعني: أحبار اليهود، وعلماء النصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ}؛ أي: أن التولي والتحويل إلى الكعبة هو {الْحَقُّ}؛ أي: الأمر الثابت {مِنْ رَبِّهِمْ} لمعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى القبلتين، ولكن يكتمونه {وَمَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {بِغَافِلٍ}؛ أي: بساه {عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تَعْمَلُونَ} بالتاء إما خطابًا للمؤمنين؛ أي: وما الله بساه عما تعملون أيها المسلمون من امتثال أمر القبلة. وقال (¬1) ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: أنكم - يا معشر المؤمنين - تطلبون مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم، فأنا أثيبكم على طاعتكم أفضل الثواب، وأجزيكم أحسن الجزاء. وإما خطابًا لأهل الكتاب؛ أي: وما الله بغافل عما تكتمون - يا أهل الكتاب - خبر الرسول، وخبر القبلة. وقرأ الباقون: {يَعْمَلُونَ} بالياء على أنه راجع لأهل الكتاب؛ يعني: وما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود والنصارى، فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة، فهو على هذا القول وعلى القول الثاني: وعد للكافرين، وتهديد لهم بالعقاب على الجحود والإباء، وعلى القول الأول: وعد للمؤمنين بالثواب على القبول والأداء. الإعراب {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. سَيَقُولُ: {السين}: حرف تنفيس واستقبال، {يقول السفهاء}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور، حال من {السُّفَهَاءُ}. {مَا وَلَّاهُمْ ...}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَاَ}: استفهامية في محل الرفع ¬

_ (¬1) خازن.

مبتدأ، {وَلَّاهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَاَ}، {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بولّى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {سَيَقُولُ}، {الَّتِي}: اسم موصول في محل الجر، صفة للقبلة. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {عَلَيْهَا} جار ومجرور، خبر (كان)، وجملة (كان) صلة الموصول، والعائد ضمير {عَلَيْهَا}. {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْمَشْرِقُ}: مبتدأ مؤخر، {وَالْمَغْرِبُ}: معطوف عليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة. (مَن: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}، {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يشاء هدايته. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور، صفة متعلق بـ {يَهْدِي}. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. {وَكَذَلِكَ} {الواو} استئنافية. {كذلك}: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف. {جَعَلْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {أُمَّةً}. مفعول ثان. {وَسَطًا}: صفة لـ {أُمَّةً}، والتقدير: وجعلناكم أمة وسطًا جعلًا كائنًا كجَعْلِنا إياكم على صراط مستقيم؛ لأن معنى {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يجعل من يشاء على صراط مستقيم. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. {لِتَكُونُوا}: (اللام): لام كي. {تكونوا}: فعل ناقص، واسمه منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {شُهَدَاءَ}: خبر {تكونوا}. {عَلَى النَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {شُهَدَاءَ}، وجملة (تكونوا): صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في

تأويل مصدر مجرور بلام كي، والجار والمجرور متعلق بـ (جعلنا)، والتقدير: جعلناكم أمة وسطًا لكونكم شهداء على الناس. {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {وَيَكُونَ} {الواو} عاطفة. {يكون}: معطوف على (تكونوا). {الرَّسُولُ}: اسمه. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بقوله: {شَهِيدًا}، وهو خبر لـ {يكون}. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. {وَمَا جَعَلْنَا} {الواو} استئنافية. {ما}: نافية {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل. {الْقِبْلَةَ}: مفعول ثانٍ مقدم. {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب، صفة لمحذوف هو المفعول الأول، والتقدير: وما جعلنا الجهة التي كنت على استقبالها أولًا قبل الهجرة - وهي الكعبة - القبلة لك الآن بعد نسخ بيت المقدس إلا لنعلم .. إلخ. وجملة {جَعَلْنَا} من الفعل والفاعل مستأنفة. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَيْهَا}: خبر كان، وجملة (كان): صلة الموصول، والعائد ضمير {عَلَيْهَا}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لِنَعْلَمَ}: (اللام)، لام كي. نعلم: منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله، وهو بمعنى (عرف) يتعدى لمفعول واحد، والجملة صلة (أن) المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ تقديره: إلا لعلمنا من يتبع، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {لِنَعْلَمَ}، {يَتَّبِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على (مَنْ)، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل. {الرَّسُولَ}: مفعول لـ {يتبع}. {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {نعلم}، {يَنْقَلِبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {عَلَى عَقِبَيْهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {يَنْقَلِبُ}. {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية. {إن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ تقديره: وإنها، أي: القصة. {كان} فعل ناقص واسمها ضمير يعود على

القصة أيضًا. {لَكَبِيرَةً}: (اللام): فارقة بين (إن) المخففة والنافية، {كبيرة} خبر كان، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بكبيرة. فإن (¬1) قلت: لم يتقدم هنا نفي ولا شبهه، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك .. قلت: إن الكلام وإن كان موجبًا لفظًا، فإنه في معنى النفي؛ إذ المعنى إنها لا تخفُّ ولا تسهل إلا على الذين {هَدَى اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: هداهم الله. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {وَمَا}: {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {كَانَ اللَّهُ} فعل ناقص واسمه. {لِيُضِيعَ}: (اللام): حرف جر وجحود. (يضيع): فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِيمَانَكُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه. والجملة الفعلية صلة (أن) المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، ولام الجحود متعلقة بمحذوف خبر كان؛ تقديره: وما كان الله مريدًا لإضاعة إيمانكم، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. وهذا الإعراب على مذهب البصريين ويدل لمذهبهم التصريح بالخبر المحذوف في قوله: سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِتَسْمُوْ وأما على مذهب الكوفيين: فاللام وما بعدها في محل الخبر، ولا يقدِّرون شيئًا، وإنّ (اللام) للتأكيد. وقد أشبعتُ الكلام على لام الجحود بإعرابها على كلا المذهبين في كتابي "الخريدة البهية في إعراب أمثلة الأجرومية" فراجعه إن شئت. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {بِالنَّاسِ}: جار ومجرور تنازع فيه ما بعده. {لَرَءُوفٌ} (اللام): لام الابتداء. {رءوف}: خبر أول لـ {إنَّ}. ¬

_ (¬1) جمل.

{رَحِيمٌ} خبر ثان لها، والجملة مستأنفة بمنزلة التعليل لما قبلها. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. {قَدْ}: حرف تحقيق أو تكثير. {نَرَى}: فعل مضارع، وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على الله. {تَقَلُّبَ}: مفعول به، وهو مضاف {وَجْهِكَ}: (وجه): مضاف إليه وهو مضاف، و {الكاف} مضاف إليه، والجملة مستأنفة وهي في المعنى علة ثانية لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} إلخ؛ أي: إنما حولنا القبلة؛ لنعلم ... الخ، ولأنا نرى ... الخ. {فِي السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقَلُّبَ}، وقال أبو البقاء: ولو جعل حالًا من الوجه لجاز {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ}: {الفاء}: عاطفة سببية (اللام): موطئة لقسم محذوف جوازًا؛ تقديره: وعزتي وجلالي لنولينك. (نولين): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله {قَدْ نَرَى} و (الكاف): مفعول أول لـ (نولي) {قِبْلَةً}: مفعول ثان. {تَرْضَاهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {قِبْلَةً}. {فَوَلِّ وَجْهَكَ}: (الفاء): عاطفة تفريعية. (ولّ): فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة القسم. {وَجْهَكَ}: مفعول أول ومضاف إليه. {شَطْرَ}: مفعول ثان وهو مضاف. {الْمَسْجِدِ}: مضاف إليه. {الْحَرَامِ}: صفة له. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. {وَحَيْثُ}: {الواو} استئنافية. {حيث} اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بـ {كُنْتُمْ}. {كُنْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {حيثما} على كونه فعل شرط لها. {فَوَلُّوا} {الفاء} رابطة لجواب حيثما وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية {ولوا} فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {حيثما} على كونها جواب شرط

لها. وجملة {حيثما} مِنْ فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وُجُوهَكُمْ}: مفعول أول ومضاف إليه. {شَطْرَهُ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}. {وَإِنَّ}: {الواو} استئنافية: (إن) حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسمها. {أُوتُوا}: فعل ماض مغير ونائب فاعل، وهو بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين والأول منهما نائب الفاعل. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان، وجملة {أُوتُوا}: صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. {لَيَعْلَمُونَ}: (اللام): لام الابتداء. {يعلمون}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن}: مستأنفة. {أَنَّهُ}: {أن} حرف نصب ومصدر. و {الهاء}: اسمها. {الْحَقُّ}: خبرها، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي علم؛ تقديره: ليعلمون حقِيَّة التولي. {مِنْ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الحق؛ تقديره: حال كونه كائنًا من ربهم {وَمَا اللَّهُ}: {الواو}: استئنافية {ما}: حجازية. {اللَّهُ}: اسمها. {بِغَافِلٍ}: (الباء) زائدة. {غافل}: خبر {ما} منصوب {عَمَّا}: {عن} حرف جر. {ما}: مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة. {يَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (عن)؛ تقديره: عن عملهم، الجار والمجرور متعلق بـ {غافل}، أو الجملة صلة لـ {ما} الموصولة، أو صفة للموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: يعملونه، وجملة {ما} الحجازية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {السُّفَهَاءُ} جمع سفيه، ككرماء جمع كريم، والسفيه: هو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم. كذا قال بعض أهل اللغة، وقال في "الكشاف": هم خفاف الأحلام، ومثله في "القاموس". {مَا وَلَّاهُمْ} يقال: ولاه عن الشيء يوليه إذا صرفه وحوله عنه، من باب فعل

المضاعف، كزكى تزكية. {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} يقال: شرقت الشمس تشرق - من باب نصر - شرقًا ومشرقًا، وهذا مشرق الشمس؛ أي: مكان شروقها، بالكسر على الشذوذ في المصدر والظرف كليهما، وقياسه: فتح مصدره وظرفه جميعًا، ويقال: غربت الشمس تغرب - من باب نصر - غربًا ومغربًا، وهذا مغرب الشمس؛ أي: مكان غروبها، بالكسر على الشذوذ فيهما، وقياسه: فتح مصدره وظرفه معًا. {أُمَّةً وَسَطًا}: الوسط: الخيار أو العدل. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه الترمذي كما مر في مبحث المناسبة تفسير الوسط هنا بالعدل، فوجب الرجوع إلى ذلك. ومنه قول الراجز: لاَ تَذْهَبَنَّ في الأُمُوْرِ مُفْرِطَا ... لاَ تَسْألنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيْعًا وَسَطَا والآية تحتمل المعنيين، ومما يحتملها قول الآخر: هُمْ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعَظَّمِ ولما كان الوسط مجانبًا للغلو والتقصير .. كان محمودًا؛ أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى، ولا قصّروا تقصيرَ اليهود في أنبيائهم. {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}: جمع شهيد من الشهادة. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبِر عن حقوق الناس بألفاظٍ مخصوصةٍ على جهات. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}: و {نَرَى}: هنا مضارعٌ بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي {قَدْ} في بعض المواضع، ومنه {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ}، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}. ويقال: تَقَلَّب تقلُّبًا - من باب تفعَّل - إذا تحول عن وجهه، وتقلب على فراشه إذا تحول من جانبٍ إلى جانبٍ آخر، وتقلب في الأمور إذا تصرف فيها، وانتقل من أمرٍ إلى غيره. {شَطْرَ الْمَسْجِدِ}: الشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه. ومنه

حديث: "الطهور شطر الإيمان"، ويكون بمعنى الجهة والنحوِ كما هنا. ويقال: شطر - من باب دخل - شطورًا إذا بَعُدَ. وشَطرت الدار إذا بَعُدت، ومنه الشاطر؛ وهو الشابّ البعيد من الجيران الغائب عن منزله يجمع على شطر، والابن الشاطر هو الذي عصى أباه، وعاش في الخلاعة بعيدًا عنه، ثم عاد إليه ثانيًا، والشطر أيضًا الجهة والناحية، يجمع على أشطر وشطور، ومنه شطر شطره إذا قصد قصده، ومنه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ}؛ أي: تلقاءه. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}: وأصلُ ولُّوا: وليوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الياء، وضم ما قبله لتجانس الضمير، فوزنه فعوا. البلاغة {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}؛ أي: على استقبالها، أو على اعتقادها، ففيه إيجازٌ بالحذفِ، والاستعلاء في قوله: {عليها} فيه مجاز بالاستعارة حيث شبه مواظبتهم على المحافظة عليها باستعلاء من استعلى على الشيء. {أُمَّةً وَسَطًا}؛ أي: خيارًا عدولًا، فالوسط مستلزِم للخيار والعدول، فأطلق الملزوم وأراد اللازم، فيكونان استعارةً. وأصل الوسط: مكانٌ تستوي إليه المساحة من سائر الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة، ثم أطلق على المتصِف بها. {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ}: والالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {الرَّسُولَ} مع إيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الإتباع. قاله أبو السعود. {يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}: فيه استعارةٌ تمثيليةٌ حيث مثل لمن يرتدّ عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. أفاده الفخر الرازي. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغًا فيها من حيث لام الجحود .. ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغًا فيها، فبولغ فيها بإن

وباللام، وبالوزن على فعول وفعيل، كل ذلك إشارةً إلى سَعَة الرحمة، وكثرة الرأفة، وتقدم المجرور اعتناءً بالمرؤوف بهم، وتأَخرَ الوصف بالرحمة رعاية للفاصلة؛ لأنها على الميم، والفاصلة: هي الكلمة آخرَ الآيةِ كقافيةِ الشعرِ، وقرينة السجع، وسميت بالفاصلة أخذًا من قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} وهي هنا قوله سابقًا: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهنا: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: والوجه (¬1) هنا قيل: أُريد به مدلول ظاهره. قال قتادة والسدي وغيرهما: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوِّله إلى قبلة مكة)، وقيل: كُنِّي بالوجه عن البصر؛ لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول: بذلت وجهي في كذا، وهو من الكناية بالكل عن الجزء. وفي قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مجازٌ مرسل من إطلاق اسم الكل على الجزء إن قلنا المراد منه الكعبة كما علله الأكثرون. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[145]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ...} الآيات، مناسبتها (¬1) لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يقوله السفهاء من اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يتوجه في صلاته نحو الكعبة، وأعلمه أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه .. سلَّاه - صلى الله عليه وسلم - عن قبولهم الحق بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبةٍ لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق .. ما تبعوك، ولا سلكوا طريقك، وإذا كانوا لا يتبعونك مع مجيئك لهم بجميع المعجزات .. فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزةٍ واحدة، والمعنى بكل آيةٍ يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق. التفسير وأوجه القراءة 145 - {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: وعزَّتي وجلالتي لَئِن جئتَ يا محمدُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

اليهودَ والنصارى الذين أعطوا التوراة والإنجيل {بِكُلِّ آيَةٍ}؛ أي: بكل حجةٍ قطعيةٍ دالةٍ على صدقك في أنَّ تحولك بأمرٍ من الله، وذلك (¬1) بأنّهم قالوا: ائتنا بآيةٍ على ما تقول، فأنزل الله هذه الآية: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الكعبة، وما دخلوا في دينك، والجملة جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه سادٌ مسد جواب الشرط؛ وذلك لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهةٍ تزيلها عنهم بإيراد الحجة والمعجزة عليهم، إنما هو عن مكابرةٍ وعنادٍ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق، فهم معاندون جاحدون نبوتك مع العلم بها، ففي الآية تسليةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إيمانهم، وترويحُ خاطره؛ لأنَّ هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهانٍ، فضلًا عن برهانٍ واحد {وَمَا أَنْتَ} يا محمدُ {بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} وقرىء {بتابعِ} بالإضافةِ إلى ما بعدَه بلا تنوينٍ تخفيفًا؛ لأن اسم الفاعل المستكمِل لشروطِ العمل يجوز فيه الوجهان؛ أي: بتابعِ قبلةِ اليهود والنصارى، وهذه الجملة خبرية، قيل معناها: النهي، وطلب الدوام على قبلته؛ أي: لا تتبع قبلتهم، ودُمْ على قبلتك التي حولناك إليها - وهي الكعبة - وإلا فهو معصومٌ عن اتِّباع قبلتهم بعدَ ورود الأمر بالتحول، وقيل معناها: بيانُ أن هذه القبلة باقيةٌ غيرَ منسوخةٍ، وقطعٌ لأطماعهم، فإنهم قالوا: لو ثَبَتَّ على قبلتنا لكنّا نرجو أَنْ تكون صاحبنا الذي ننتظره تعزيرًا له، وطمعًا في رجوعه إلى قبلتهم. وأفردَ القِبلة في قوله: {قِبْلَتَهُمْ} مع أن لهم قبلتين: قبلةً لليهود، وقبلة للنصارى مغايرةً لقبلة اليهود؛ لأنها وإن تعددت فهي في البطلان كالقبلةِ الواحدةِ. {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}؛ أي: وما بعضُ أهلِ الكتاب اليهودِ والنصارى بتابعٍ قبلةَ البعضِ الآخر؛ أي: فإنهم وإن اتفقوا في التظاهر على النبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفونَ فيما بينهم، فلا اليهود تتبعُ قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، فقبلةُ اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس، وقبلة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، فلا يرجى توافقهم، كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلّب كل حزبٍ فيما هو فيه، وذلك إشارةً إلى أن اليهود لا تتنصر، وإلى أنَّ النصارى لا ¬

_ (¬1) الخازن.

تتهوَّد، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض، وقد رأينا اليهود والنصارى كثيرًا ما يدخلون في ملة الإِسلام، ولم نشاهد يهوديًّا تنصر، ولا نصرانيًّا تهود. وفي "بدائع الفوائد" لابن القيم: قبلةُ أهل الكتاب ليست بوحي ولا توقيف من الله تعالى، بل بمشورةٍ واجتهادٍ منهم، أما النصارى: فلا ريب أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيرِه باستقبالِ المشرقِ، وهم يُقرُّون بأنَّ قبلة المسيح عليه السلام قبلةُ بني إسرائيل وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلةَ وهم يعتذرون عنهم بأنَّ المسيحَ عليه السلام فوَّض إليهمُ التحليلَ والتحريم وشرع الأحكامِ، وأنَّ ما حلّلوه وحرّموه فقد حلّله هو وحرّمه في السماء، فهم واليهود متفقون على أنَّ الله تعالى لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدًا، والمسلمونَ شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما قبلة اليهود: فليس في التوراة الأمر باستقبالِ الصخرةِ البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت، ويصلون إليه حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرةِ وصلّوا إليه، فلما رُفع صلوا إلى موضعه، وهو الصخرة. انتهى. ووقع في بعض كتب القصص (¬1): أن قبلة عيسى عليه السلام كانت بيتَ المقدس، وبَعْد رَفْعِه ظهر بولس ودسَّ في دينهم دسائسَ، منها أنه قال: لقيتُ عيسى عليه السلام فقال لي: إن الشمس كوكبٌ أحبه يبلِّغ سلامي في كل يومٍ فَمُرْ قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم، ففعلوا ذلك. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لَئِن اتبعتَ يا محمدُ - فَرَضًا - أهواءهم وشهواتهم؛ أي: الأمورَ التي يهوونها، ويحبونها، ويطلبونها منك، ومنها: رجوعك إلى قبلتهم {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والوحي من أمر القبلةِ بأنَّك لا تعود إلى قبلتهم، وأنَّ القبلةَ هي الكعبةُ، وأنَّ دينَ اللهِ هو الإِسلامُ، وقيل (¬2) معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأنَّ اليهود والنصارى مقيمون على باطلٍ وعنادٍ للحقِ {إِنَّكَ} يا محمد {إِذًا} ولفظ {إذا} هنا ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) الخازن.

مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، ولا عمل لها فهي زائدة بين إن وخبرها؛ أي: {إنك} يا محمد لو فعلتَ ذلك الاتباعَ على سبيلِ تقديرِ المُحال المستحيلِ وقوعه {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أنفسَهم بارتكابِ الظلمِ الفاحش. وأكَّد (¬1) تهديده وبالغ فيه تعظيمًا للحث المعلومِ، وتحريضًا على اقتفائه، وتحذيرًا من متابعةِ الهوى، واستفظاعًا لصدورِ الذنبِ عن الأنبياء. ولزم الوقف على الظالمين؛ إذ لو وصل لصار {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} صفة للظالمين، وليس كذلك. وقال الشوكاني (¬2): وفي قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى آخر الآية، من التهديد العظيم، والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون - وحاشاه - من الظالمين .. فما ظنك بغيره من أمته؛! وقد صان الله هذه الفرقة الإِسلامية بعث ثبوت قدم الإِسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ولم تبق إلا دسيسة شيطانية، ووسيلة طاغوتية؛ وهو ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة؛ لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والثمرة الثمرة، وقد تكون مَفْسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة أتباع أهويةِ أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإِسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقُلون مَنْ يميل إلى أهويتهم مِن بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين، ويخرجوه وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي ¬

_ (¬1) النهر. (¬2) بيضاوي.

[146]

هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين ومن جملة الجاهلين. وإن كان من أهل العلم والفهم المميِزين بين الحق والباطل .. كان باتباعه لأهوتيهم ممن أضله الله على علم، وختمَ على قلبه، وصار نقمةً على عباد الله، ومصيبةً صبّها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلّا إلى الحق، ولا يتبع إلّا الصواب فيضلّون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة. نسأل الله اللطف والسلامة والهداية. انتهى. 146 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}؛ أي: أعطيناهم علم التوراة والإنجيل {يَعْرِفُونَهُ}؛ أي: يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - معرفةً جليةً واضحةً، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين الذي يجدونه في كتابهم، أو يعرفون القرآن، أو تحويل القبلة. والأول أظهر؛ لقوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}؛ أي: يعرفون أنهم منهم، وأنهم من نسلهم؛ أي: يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم، لا يلتبس عليهم بغيره. روي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: كيف هذه المعرفة المذكورة في هذه الآية؟ فقال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمدٍ أشد من معرفتي بابني، فقال عمر: فكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، وقد نعته الله تعالى في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبّل عمر رأسه وقال: وفقك الله يا أبا سلام، فقد صدقت. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ}؛ أي: وإن جماعةً من أهل الكتاب - وهم علمائهم - {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ}؛ أي: ليخفون الأمر الحق الذي هو نعتُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعلنونه للناس، أو ما هو أعم منه {وَهُمْ}؛ أي: والحال أنهم {يَعْلَمُونَ}؛ أي: يعرفون ذلك الحق بما يجدونه في كتابهم، أو يعلمون أن كتمان الحق معصية. 147 - {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} قرأ الجمهور: برفع {الْحَقُّ} على أنه مبتدأ، والخبر {مِنْ رَبِّكَ}، و (اللام) (¬1): إما للعهد؛ أي: الحق الذي أنت عليه يا محمد، أو الحق ¬

_ (¬1) فتح القدور.

[148]

الذي يكتمونه كائنٌ من ربك، أو للجنس، والمعنى: أنَّ جنس الحق هو ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه، لا ما لم يثبت أنه منه كالذي عليه أهل الكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: {هو}، والضمير عائد على الحق المكتوم؛ أي: مما كتموه هو الحق كائنًا من ربك، ويكون المجرور حينئذٍ في موضع الحال، أو خبرًا بعد خبر، وعلى كل التقادير فالجملة مستأنفة. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بالنصب على أنه بدل من {الحق} المكتوم وهي قراءة شاذة، والتقدير: يكتمون الحق من ربك، أو منصوب على الإغراء؛ أي: الزم الحق، أو مفعول لـ {يعلمون} {فَلَا تَكُونَنَّ} يا محمدُ {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}؛ أي: من الشَّاكين في أنه الحق من ربك، أو في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أن علماء أهل الكتاب علموا صحة نبوءتك وشريعتك. وعلى الأول فالخطاب مع الرسول، والمراد به الأمة؛ أي: لا يكن أحد من أمته من الممترين في ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه وتعالى. وقال أبو العالية (¬1): يقول الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: فلا تكونن - يا محمد - في شكٍّ أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك. 148 - {وَلِكُلٍّ} بحذفِ المضاف إليه؛ لدلالة التنوين عليه؛ أي: ولكل أهل دينٍ سواء كان بحقٍ أو بباطلٍ {وِجْهَةٌ}؛ أي: جهة وقبلة يستقبلها؛ أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم. والضمير في قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} راجعٌ إلى لفظ {كل}، و (الهاء) في قوله: {مُوَلِّيهَا} عائد على الـ {وجهة} وهو المفعول الأول. والمفعول الثاني محذوفٌ؛ تقديره: موليها وجهه. والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلةً، صاحبُ تلك القبلة موليها وجهه، أو المعنى ولكل قومٍ من المسلمين جهة من الكعبة يصلي إليها، جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، إذا كان الكلام في المسلمين. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} عائدًا على الله سبحانه، وإن لم يسبق له ذكر لعلمه من السياق؛ إذ من المعلوم أن الله ¬

_ (¬1) بيضاوي.

فاعل ذلك، والمعنى حينئذٍ: أن لكل صاحب ملة قبلةٌ، الله موليها إياه؛ أي: أمر بأن يستقبلها، اتبعها من اتبعها، وتركها من تركها؛ يعني: شارعها ومكلِّفهم بها. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلِكُلٍّ} منوَّنًا: {وِجْهَةٌ} مرفوعًا، {هُوَ مُوَلِّيهَا} بكسر اللام اسم فاعل. وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي {هوَ مُوَلَّاها} بفتح اللام اسم مفعول، وهي قراءة ابن عباس، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر، والمعنى: {هو}؛ أي: كل قوم مولَّى لتلك الجهة؛ أي: مأمور باستقبالها، وقرىء شاذًا: {ولكلِّ وجهةٍ} بالإضافة؛ أي: بخفض اللام من {كل} بلا تنوين، {وجهةٍ} بالخفضِ منونًا على الإضافة، قال في "الكشاف": والمعنى عليها: وكل وجهة وقبلة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك لزيد ضربت. وقال ابن جرير: هي خطأ لا سيما وهي معزوة إلى ابن عامر أحد القراء السبعة، وقرأ أبي: (ولكل قبلة) وهي قراءة شاذة، وقرأ عبد الله: {ولكل جعلنا قبلة} وهي قراءة شاذة أيضًا. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}؛ أي: فبادروا - يا أمة محمد - إلى الطاعات والأعمال الصالحة، وقبول أوامرها، من التوجه إلى القبلة وغيره مما تنال به سعادة الدارين. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا}؛ أي: في أي موضع تكونوا من برٍّ أو بحرٍ أنتم وأعداءكم من موافق ومخالف، مجتمع الأجزاء ومفترقها {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}؛ أي: يبعثكم الله جميعًا، ويحشركم إلى المحشر يوم القيامة للمجازاة، فيجازيكم على أعمالكم خيرًا أو شرًّا، أو (¬2) أينما تكونوا من أعماق الأرض، وقلل الجبال يقبض أرواحكم، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة .. يأت بكم الله جميعًا، ويجعل صلواتكم كأنّها إلى جهةٍ واحدة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه مِنْ جَمْعِكم وغيره {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر يقدر على الإعادة بعد الموت، والإثابة لأهل الطاعة، والعقاب لمستحق العقوبة. ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[149]

ومعلومٌ (¬1) أن مثل هذه الجملة المصدّرة بإن تجيء كالعلةِ لِما قبلَها، فكأن المعنى: إتيان الله بكم جميعًا لقدرته على ذلك. 149 - {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}؛ أي: وفي أي مكانٍ خرجت إليه يا محمد لسفرٍ، أو غزو. وقرأ عبد الله بن عمير: {وَمِنْ حَيْثُ} بفتح المثلثة تخفيفًا، {فَوَلِّ وَجْهَكَ}؛ أي: فاصرف، وحول، ووجه ذاتك في صلاتك {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: تلقاء المسجد الحرام وجهة الكعبة. {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن التولي إلى المسجد الحرام في الصلاة {لَلْحَقُّ}؛ أي: للأمر الموافق للحكمة الثابت الذي لا يعرض له نسخ، ولا تبديل حال كونه واقعًا {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ أبو عمرو: {يعملون} بالياء على الغيبة، وهو راجع للكفار؛ أي: من إنكار أمر القبلة، والباقون: {تعملون} بالتاء على الخطاب؛ أي: ليس هو بساهٍ عن أعمالكم، ولكنه محصيها لكم وعليكم، فيجازيكم بها يوم القيامة. 150 - {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة {فَوَلِّ وَجْهَكَ} في الصلاة {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: تلقاءه {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}؛ أي: وفي أي مكان كنتم فيه - يا أمة محمد - من أقطار الأرض مقيمين، أو مسافرين في برٍّ أو بحرٍ {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}؛ أي: فوجِّهوا وجوهكم في الصلاة من محالكم {شَطْرَهُ}؛ أي: شطر المسجد الحرام وتلقاءه. وكرّر (¬2) الله سبحانه وتعالى أمرَ التولي لشطرِ المسجد الحرام ثلاثَ مرات؛ لتأكيد أمر القبلة، فالثالثة مؤكدةٌ للثانية لا للأولى؛ لأنّا بينّا أن الأولى: في الإقامة، والثانية: في السفر، وأما الثالثة: ففي السفر أيضًا، فهي مؤكدةٌ للثانية، وحكمة هذا التأكيد: تثبيت هذا الحكم، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس؛ لأن النسخ من مظانِّ الفتنة والشبهة، مع أنه تعالى علق بكل آية فائدةً. أما في الآية الأولى فبيّن أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد، وأمر هذه القبله حق؛ ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في الآية الثانية: فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقًّا مغايرةٌ لعلم أهل الكتاب بكونه حقًّا، وأما في الآية الثالثة: فبين أنه تعالى قطع حجة اليهود والمشركين، وذلك قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ}؛ أي: عرّفناكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة لكم؛ لكي لا يكون لليهود والمشركين {عَلَيْكُمْ} أيها الأمة المحمدية {حُجَّةٌ}؛ أي: مجادلة ومعارضة في التولي، والمعنى: أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن محمدًا يجحد ديننا، ويتبع قبلتنا، وذلك مدفوع بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وتدفع احتجاج المشركين بأنه - صلى الله عليه وسلم - يدّعي مِلة إبراهيم ويخالف قبلته. {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قرأ الجمهور: {إِلَّا} بكسر الهمزة جعلوها أداة استثناء متصل، وقرأ ابن عامر، وزيد بن علي، وابن زيد شذوذًا {ألا} بفتح الهمزة وتخفيف اللام جعلوها {أَلاَ} التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مبتدأ خبره جملة {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، ودخلت الفاء؛ لأنه سَلَكَ بـ {الذِينَ} مسلك الشرط، والفعل الماضي هو مستقبل المعنى. كأنه قيل: من يظلم من الناس فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم، واخشوني فلا تخالفوا أمري، وقال أبو عبيدة: إنّ {إلّا} هنا بمعنى الواو؛ أي: و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فهو استثناء بمعنى {الواو} ومنه قول الشاعر: وَمَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيْفَةِ إلا دَارُ مَرْوَانَا كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، ونقل السجاوندي في قراءة شاذة عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ: {إلى الذين} جعلها حرف جر، وتأويلها بمعنى (مع) والمعنى على قراءة الجمهور: لكي لا يكون حجة لأحد من اليهود والمشركين إلا للمعاندين منهم، القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلًا إلى دين قومه، وحبًّا لبلده، ولو كان على الحق .. للزم قبلة الأنبياء {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}؛ أي: فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم، فإنهم لا يضرونكم {وَاخْشَوْنِي}؛ أي: واحذروا عقابي، فلا تخالفوا أمري. وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ}؛ أي: فهو علة ثانية، وكأن المعنى: عرّفناكم وجه الصواب في

قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ولإتمام النعمة عليكم، فيكون التعريف معللًا بهاتين العلتين. والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل؛ إذ هو من متعلق العلة الأولى، وقيل: معطوف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني؛ لأوفقكم، ولأتم نعمتي عليكم. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة. وقيل: دخول الجنة. والمعنى: ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنفية. وقيل: تمام النعمة الموت على الإِسلام، ثم دخول الجنة، ثم رؤية الله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: ولكي تهتدوا من الضلالة إلى الحق، فهو علة ثالثة، فإن قلتَ: إن الله تعالى أنزل عند قرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فدلّ على أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين كثيرة في هذه الآية: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}؟ قلنا: تمام النعمة في كل وقتٍ بما يليق به، فلا معارضة بين الآيتين. الإعراب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}. {وَلَئِنْ}: {الواو} استئنافية، أو داخلة على مقسم به محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي {اللام}: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط جازم. {أَتَيْتَ}: فعل، وفاعل في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به؛ لأن (أتى) هنا بمعنى جاء. {أُوتُوا}: فعل ماض مُغيَّر ونائب فاعل وهو المفعول الأول. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان؛ لأن (أتى) هنا بمعنى أعطى، والجملة من الفعل المغيَّر ونائب فاعل صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. {بِكُلِّ آيَةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَتَيْتَ}. {مَا تَبِعُوا}: {ما}: نافية. {تَبِعُوا} فعل وفاعل، {قِبْلَتَكَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه ساد مسد جواب الشرط، وجملة الشرط مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب، وإنما جعلنا المذكور جوابًا للقسم لا للشرط جريًا على القاعدة النحوية: أنه إذا اجتمع شرط وقسم فإنه يحذف جواب المتأخر

منهما، كما قال ابن مالك: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ وأيضًا لا يصلح قوله: {مَا تَبِعُوا} أن يكون جوابًا للشرط؛ لأنه فعل منفي بـ {ما} فحقه دخول الفاء عليه، فوجب أن يكون جوابًا للقسم لا للشرط، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيًا؛ لأنه متى حذف الجواب .. وجبَ كون فعل الشرط ماضيًا إلا في ضرورةٍ، كما هو مقرر في محله. {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}. {وَمَا}: {الواو} عاطفة. {ما}: حجازية أو تميمية. {أَنْتَ}: في محل الرفع اسمها، أو مبتدأ. {بِتَابِعٍ} {الباء}: زائدة، {تابع}: خبر {ما} منصوب، أو خبر المبتدأ مرفوع. {قِبْلَتَهُمْ}: مفعول لـ {تابع} ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة الشرط وجوابه، لا على الجواب وحده، إذ لا تحل محله؛ لأن نفي تبعيتهم مقيد بشرطٍ لا يصح أن يكون قيدًا في نفي تبعيته قبلتهم. {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}. {وَمَا}: {الواو} عاطفة. {ما}: حجازية أو تميمية. {بَعْضُهُمْ}: اسم {ما} ومضاف إليه، أو مبتدأ {بِتَابِعٍ} {الباء}: زائدة {تابع}: خبر ما، أو خبر المبتدأ. {قِبْلَةَ بَعْضٍ}: مفعول {تابع}، ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة الشرط وجوابه في قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ} ... إلخ. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. {وَلَئِنِ}: {الواو} استئنافية فيه، أو داخلة على مقسم به محذوف، وتقديره: وعزتي وجلالي. {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم. {اتَّبَعْتَ}. فعل وفاعل في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها. {أَهْوَاءَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق

بـ {اتَّبَعْتَ}، {بَعْدِ}: مضاف. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه {جَاءَكَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلةٌ لما، أو صفة لها. {مِنَ الْعِلْمِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في جاء. {إِنَّكَ}: {إن}: حرف نصب، و {الكاف} اسمها. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء زائد لتأكيد الكلام، ولا تعمل هنا شيئًا؛ لأن عملها في الفعل، ولا فعل هنا. {لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: {اللام}: حرف ابتداء {من الظالمين}: جار ومجرور خبر لـ {إن}، وجملة إن من اسمها وخبرها جوابٌ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه سادٌّ مسد جواب الشرط، وجملة القسم مستأنفة. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آتَيْنَاهُمُ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {الْكِتَابَ}: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائبين. {يَعْرِفُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {كَمَا} (الكاف): حرف جر وتشبيه، {ما} مصدرية. {يَعْرِفُونَ}: فعل وفاعل. {أَبْنَاءَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. (ما) مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بالكاف، تقديره: كمعرفتهم أبناءهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يعرفونه معرفةً كائنةً كمعرفتهم أبناءهم، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون {الَّذِينَ} بدلًا من {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في الآية قبلها، ويجوز أن يكون بدلًا من {الظَّالِمِينَ}، فيكون {يَعْرِفُونَهُ} حالًا من الكتاب، ويجوز أن يكون نصبًا على تقدير: أعني، ورفعًا على تقديرهم: انتهى. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ}: الواو استثنائية، {إن}: حرف نصب وتوكيد. {فَرِيقًا}: اسمها. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {فَرِيقًا}، {لَيَكْتُمُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {يكتمون}: فعل وفاعل. {الْحَقَّ}: مفعول به، والجملة الفعلية خبر (إن)، تقديره: وإن فريقًا منهم لكاتمون الحق، وجملة (إن) مستأنفة. {وَهُمْ}

{الواو} حالية، {هم} مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب حال من فاعل {يكتمون}. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}. {الْحَقُّ}: مبتدأ. {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، وقيل: خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ تقديره: هو؛ أي: ما كتموه، وقيل: الحق. {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور حال من الحق، وقيل: غير ذلك {فَلَا} (الفاء): عاطفة تفريعية {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ (لا) مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: جار ومجرور خبر (تكون)، وجملة (تكون) معطوفة على جملة المبتدأ. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. {وَلِكُلٍّ} {الواو} استئنافية. (لكل): جار ومجرور خبر مقدم. {وِجْهَةٌ}: مبتدأ مؤخر، وسَوَّغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، والجملة مستأنفة. {هُوَ}: ضمير يعود على (كل) في محل الرفع مبتدأ. {مُوَلِّيهَا}: خبر ومضاف إلى المفعول الأول، والضمير عائد على وجهة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: وَجْهَهُ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع صفةٌ لوجهة {فَاسْتَبِقُوا} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم فأقول {استبقوا} فعل وفاعل، {الْخَيْرَاتِ}: منصوب بنزع الخافض تقديره: إلى الخيرات والجملة الفعلية في محل النصب مفعول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {أَيْنَ}: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية مبنية على الفتح، والظرف متعلق بـ {تَكُونُوا}. {مَا}: زائدة. {تَكُونُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {أَيْنَ} على كونه فعل شرط لها، وهو من كان التامة، {يَأْتِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {أَيْنَ} على كونه فعل شرط لها. {بِكُمُ}: جار ومجرور متعلق به.

{اللَّهُ}: فاعل. {جَمِيعًا}: حال من ضمير المخاطبين، وجملة {أَيْنَ} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}، وهو خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بجواب {أَيْنَ}. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. {وَمِنْ}: {الواو} استئنافية. {من حيث}: جار ومجرور متعلق بـ {ولِّ} الآتي. {خَرَجْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {فَوَلِّ}: {الفاء}: زائدة، {ولِّ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَجْهَكَ}: مفعول أول ومضاف إليه. {شَطْرَ}: مفعول ثانٍ وهو مضاف. {الْمَسْجِدِ}: مضاف إليه. {الْحَرَامِ}: صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. {وَإِنَّهُ} {الواو} استئنافية، {إن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها {لَلْحَقُّ}: اللام حرف ابتداء، الحق: خبرها، والجملة مستأنفة. {مِن رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الحق. {وَمَا}: {الواو} عاطفة، {ما} نافية {اللَّهُ} مبتدأ. أو: {ما}: حجازية، {اللَّهُ}: اسمها. {بِغَافِلٍ}: {الباء} زائدة، {غافل}: خبر المبتدأ، أو خبر {ما}، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: تعملونه، أو صلة {ما} المصدرية؛ تقديره: عن عملكم، الجار والمجرور متعلق بـ {غافل}. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: تقدم إعرابه آنفًا، فلا عود ولا إعادة، فراجعه إن شئت. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. {وَحَيْثُ مَا} {الواو} عاطفة. {حيث ما}: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {كُنْتُمْ}: فعل وفاعل؛ لأنه من كان التامة في محل الجزم بـ {حيث ما} على كونها فعل شرط

لها. {فَوَلُّوا} {الفاء}: رابطة لجواب الشرط، {وَلُّوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {حيث ما} على كونها جوابًا لها، وجملة {حيث ما} معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}. {وُجُوهَكُمْ} مفعول أول ومضاف إليه. {شَطْرَهُ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. {لِئَلَّا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {أن} حرف مصدري ونصب {لا}: نافية. {يَكُونَ} فعل مضارع منصوب بأن المذكورة في {لِئَلَّا}. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور خبر مقدم {لِيَكُونَ}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور حال من {حُجَّةٌ}؛ لأنه نعت نكرة قُدِّم عليها. {حُجَّةٌ}: اسم {يَكُونَ}: مؤخر، وجملة {يَكُونَ} من اسمها وخبرها صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بلام التعليل؛ تقديره: لعدم كون حجة ثابتة للناس عليكم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ تقديره: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم وكيفية الاحتجاج في القبلة بما بيَّنا في قولنا: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} لإعدام كون حجة للناس عليكم ونفيها. {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء من الناس متصل؛ لأن ما قبل إلا ظالمون أيضًا، والمعنى: لئلا تكون حجةً لأحد من الناس - أي: اليهود والمشركين - عليكم إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلًا إلى دين قومه وحبًّا لبلده، ولو كان على الحق .. للزم قبلة الأنبياء قَبْله عليهم السلام. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {ظَلَمُوا}. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}. {فَلَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرطٍ مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنما فعلنا بكم ذلك لقطع حجة الناس عنكم، وأردتم بيان ما يلزمكم .. فأقول لكم {لا تخشوهم} {لا}: ناهية جازمة، {تَخْشَوْهُمْ} فعل وفاعل ومفعول

مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة معترضة. {وَاخْشَوْنِي}: {الواو} عاطفة، {اخشوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}. {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وَلأُتِمَّ: {الواو} عاطفة {اللام}: حرف جر وتعليل، {أتم}: منصوب بـ {أن} مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {نِعْمَتِي}: مفعول به ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أتم}، أو حال من (نعمتي)، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ تقديره: ولإتمام نعمتي عليكم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، والتقدير: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لقطع حجة الناس عنكم، ولإتمام نعمتي عليكم بتحويلكم إلى أشرف القبل، قبلة أبيكم إبراهيم عليه السلام. {وَلَعَلَّكُمْ}: {الواو} عاطفة {لعل}: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، {الكاف}): اسمها، وجملة {تَهْتَدُونَ} في محل الرفع خبرها، وجملة (لعل) في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة؛ تقديره: ولإرادتي هدايتكم إلى الحق، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، وتقدير الكلام: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لقطع حجة الناس عنكم، ولإتمام نعمتي عليكم، ولإرادتي هدايتكم إلى الحق، والله أعلم بمعنى كلامه. التصريف ومفردات اللغة {بِكُلِّ آيَةٍ} الآية: الحجة والعلامة. قيل: أصلها أيَيَة كتمرة، قلبت عينها ألفًا على غير قياس، وقيل: أصلها آئية كقائلة، حذفت همزتها تخفيفًا، وقيل: غير ذلك. {مَا تَبِعُوا}؛ أي: لا يتبعوا، فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت {مَا} حملًا على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب مع كونه منفيًّا بها؛ لأن فعل

الشرط ماض غير مجزوم لفظًا. {أَهْوَاءَهُمْ}: جمع هوى مقصورًا، والهوى: كل ما تحبه النفس وتميل إليه طبعًا. {إِذًا}: حرف، والنون فيه أصل، ولا تستعمل إلا في الجواب، ولا تعمل هنا شيئًا؛ لأن عملها في الفعل، ولا فعل هنا، فهي هنا مؤكدةٌ لجواب ارتبط بمتقدم، ولا عمل لها إذا كانت مؤكدة. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: اسم فاعل من الامتراء؛ وهو الشك، يقال: امترى في الشيء - من باب افتعل - إذا شك فيه، ومثله: المراء والمرية. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}: وعبارة "السمين" هنا: وفي {وِجْهَةٌ} قولان: أحدهما: اسم للمكان المتوجه إليه كالكعبة، وعلى هذا يكون إثبات {الواو} قياسًا؛ إذ هي غير مصدر. والثاني: أنها مصدر بوزن فِعْلةٌ، وعلى هذا يكون ثبوت {الواو} شاذًا منبِّهًا على الأصل المتروك في عدة ونحوها. انتهت. وقال أبو البقاء: {وِجْهَةٌ} مصدر جاء على الأصل، والقياس: جهة مثل (عِدَة) و (زِنَه)، و {الوجهة}: مصدر في معنى المتوجه إليه، كالخلق بمعنى المخلوق، وهي مصدر محذوف الزوائد؛ لأن الفعل تَوجّه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه؛ لأنه لم يستعمل منه وَجْهٌ كَوْعدٌ. {هُوَ مُوَلِّيهَا} بكسر اللام على قراءة الجمهور اسم فاعل من ولّى يولّي توليةً من باب فَعّل المضاعف المعتل، وأما بفتح اللام: فاسم مفعول منه. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}: والخيرات جمع خيرة، وفيها احتمالان: أحدهما: أن تكون مخففة من خيرة بالتشديد بوزن فيعلة، نحو ميِّت في ميْت. والثاني: أن تكون غير مخففة من خَيِّرة، بل ثبتت على فَعْلَة بوزن جَفْنَة. يقال: رجل خَيْر وامرأة خَيْرَة، وعلى كلا التقديرين فليستا للتفضيل، والسبق: الوصول إلى

الشيء أولًا، وأصله: المتقدم في السير، ثم تجوّز به في كل تقديم. اهـ. البلاغة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: فيه وضع اسم الموصول موضع الضمير؛ للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد؛ يعني: أنهم قد انتهوا في العناد، وإظهار المعاداة إلى رتبةٍ لو جئتهم فيها بجميع المعجزات .. ما تبعوك، ولا سلكوا طريقك. {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}: وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} من وجوه: كونها اسميةً، وتكرر الاسم فيها، وكون نفيها مؤكدًا بالباء. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}: هذا من باب التهييج والإلهاب للثبات على الحق. {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}: فيه تشبيه مرسل مفصل؛ أي: يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - معرفةً واضحةً كمعرفة أبنائهم الذين من أصلابهم، وخصَّ الأبناء دون البنات أو الأولاد؛ لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة؛ للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له - صلى الله عليه وسلم - من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورًا في الكتاب منعوتًا بالنعوت التي من جملتها أنه - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى القبلتين، كأنه قيل: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وبهذا تظهر جزالة النظم الكريم وبلاغة القرآن العظيم. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}. المناسبة قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ...} الآيات، لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة النعم التي أنعمها على بني إسرائيل التي قابلوها بالجحود والكفران فيما يزيد على ثلث السورة، وعدد جرائمهم؛ ليعتبر ويتعظ بها المؤمنون، وأنهى الكلام عليهم .. بدأ هنا بمخاطبة المؤمنين وتذكيرهم بنعمةِ الله العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالتشريعات الحكيمة التي بها سعادتهم في الدارين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرًا، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. انتهى. أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} الآية، أخرج ابن منده في "المعرفة" من طريق السُدِّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قتل تميم بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ...} الآية. قال أبو نعيم: اتفقوا على ¬

_ (¬1) مراح.

[151]

أنه عمير بن الحمام، وأنَّ السُدِّي صَحَّفه. التفسير وأوجه القراءة 151 - والكاف في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} التشبيه المستفاد منها؛ إما عائد (¬1) إلى ما قبلها، والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال رسول من جنسكم ونسبكم فيكم يا معشر العرب، قاله الفراء، ورجّحه ابن عطيه، أو عائد إلى ما بعدها، والتقدير: فاذكروني بالطاعة كما ذكرتكم بإرسال رسولٍ منكم فيكم أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله الزجاج. والخطاب (¬2) في الآية لأهلِ مكة ولجميع العرب، وفي إرساله رسولًا منهم نعمة عظيمة عليهم؛ لما فيه من الشرف لهم، ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير، فكان بعثه الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبولِ قوله والانقياد له. والمعنى: كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولًا فيكم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {يَتْلُو}: أي يقرأ {عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي؛ لتتعبدوا بتلاوتها، وهي من أعظم النعم؛ لأنها معجزة باقية مستمرة على ممر الدهور، وفي هذا احتجاج عليهم؛ لأنهم عرفوا أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فلما قرأ عليهم القرآن تبين صدقه في النبوة {وَيُزَكِّيكُمْ}؛ أي: يطهركم من دنس الشرك والمعاصي بالتوحيد والطاعات والصدقات، وقيل: معناه يحملكم على ما إذا فعلتموه صرتم أزكياء مثل محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال، وقدّمه (¬3) هنا باعتبار القصد، وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ}؛ أي: يفهمكم معاني القرآن وأحكامه لتعملوا بها، فالتعليم غير التلاوة، فليس بتكرار. {وَ} يعلمكم {الحكمة}؛ أي: السنة والفقه في الدين. {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}؛ أي: يعلمكم أمورًا لم تكونوا عالمين بها قبل بعثه - صلى الله عليه وسلم - من ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) بيضاوي وشوكاني. (¬3) خازن.

[152]

أخبار الأمم الماضية، والقرون الخالية، وقصص الأنبياء، وأخبار الحوادث المستقبلة والمغيبات في الآخرة، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر. 152 - {فَاذْكُرُونِي} باللسان والقلب والجوارح، فالصلاة مشملة على الثلاثة: فالأول: كالتسبيح والتكبير. والثاني: كالخشوع وتدبر القراءة. والثالث: كالركوع والسجود. {أَذْكُرْكُمْ} بالإحسان والرحمة والنعمة في الدنيا والآخرة {وَاشْكُرُوا لِي} بالطاعة {وَلَا تَكْفُرُونِ}؛ أي: لا تتركوا شكرها بكفرانها وجحدها، وعصيان الأمر، فمن أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول الله عز وجل: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه". متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت" متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" أخرجه مسلم، المفردون (¬1): الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا، وهم يذكرون الله تعالى، ويقال: تفرد الرجل إذا تفقه واعتزل. 153 - ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإيمان؛ ليستنهض هممهم إلى امتثال الأوامر الإلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {اسْتَعِينُوا}؛ أي: اطلبوا المعونة من الله على أمور دنياكم وآخرتكم {بِالصَّبْرِ} على مشقة أداء فرائض الله، وترك المعاصي، وحظوظ النفس وعلى المرازي والمصائب وإذاية الكفار {و} بـ {الصلاة}؛ أي: وبإكثار صلاة التطوع في الليل والنهار، إنما (¬2) ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) الخازن.

[154]

خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات، أما الصبر: فهو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله، وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات، وسائر الطاعات، وتجنب الجزع، وتجنب المحظورات، ومنهم من حمل الصبر على الصوم، وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد. وأما الاستعانة بالصلاة: فلأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود، والإخلاص له. وقيل: استعينوا بالصبر على طلب الآخرة، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تمحيص الذنوب. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} على مشاق التكاليف، والمصائب بالعون والنصر والتأييد؛ أي: معين وحافظ وناصر للصابرين على ذلك. وفي ذلك ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال. ولمَّا قال المنافقون وبعض الناس لشهداء أحد وبدر: مات فلان وفلان، وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذاتها .. أنزل الله هذه الآية فقال: 154 - {وَلَا تَقُولُوا} أيها الناس {لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعة الله في قتال المشركين وجهادهم لإعلاء كلمة الله؛ أي: لا تقولوا للشهداء: إنهم {أَمْوَاتٌ} كسائر الأموات {بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ} أهل الجنة في الجنة يرزقون من التحف؛ أي: بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان، كما ورد: (أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة). أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، فهم أحياء من هذه الجهة وإن كانوا أمواتًا من جهة خروج الروح من أجسادهم {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}؛ أي: لا تعلمون بحياتهم وحالهم، وما هم فيه من النعيم والكرامة. وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوًا وعشيًّا، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة، ويجدون ريحها، وليسوا فيها.

[155]

155 - {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لنصيبنكم أيها المؤمنون إصابه من يختبر أحوالكم، أتصبرون على النبلاء وتستسلمون للقضاء أم لا؟ {بِشَيْءٍ} قليل {مِنَ الْخَوْفِ}؛ أي: خوف العدو. وقرأ الضحاك {بأشياء} فلا حذف على هذه القراءة، وأما على قراءة الجمهور: فلا بد من تقدير حذفٍ؛ أي: شيء من الخوف، وشيءٍ من الجوع، وشيء من نقص الثمراتِ والأنفسِ، والخوف: توقع مكروه يحصل منه ألم في القلب. إنما (¬1) قلله بالإضافة والنسبة إلى ما وقاهم منه؛ ليخفف عليهم ويريهم أن رحمته لا تفارقهم، أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة، وإنما أخبرهم به قبل وقوعه؛ ليوطنوا عليه أنفسهم {و} شيء من {الجوع} بسبب القحط وتعذر حصول القوت {و} شيء من {نقص من الأموال} والمواشي بسبب النقصان والخسران الحاصل في النقود والهلاك في المواشي {و} بشيء من نقص {الأنفس} بالقتل والموت، أو بالمرض والشيب {و} شيء من نقص {الثمرات} والحبوب بالجوائح والآفات. وقال (¬2) الشافعي رحمه الله تعالى: الخوف خوف الله، والجوع صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال الزكاة والصدقات، والنقص من الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد {وَبَشِّرِ} يا محمد {الصَّابِرِينَ} على تجرع غصص هذه المصائب والبلايا بجنات النعيم، والأجر الجسيم. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم قال: أقبضتم ثمرةَ فؤاده؟ قالوا: نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتًا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. 156 - ثم وصف تعالى الصابرين الذين يستحقون تلك البشارة وبيّنهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) بيضاوي.

[157]

أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}؛ أي: نائبة وشدة مما ذكر، وحلت بهم؛ أي: بشر الصابرين الذين إذا نزل بهم كرب أو بلاءً أو مكروه {قَالُوا} باللسان والقلب جمعًا، لا باللسان فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبح وسخط للقضاء، وذلك بأن يتصور بقلبه ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله تعالى عليه؛ ليرى أن ما أبقى الله تعالى عليه أضعاف ما استرده منه، فهون عليه، ويستسلم {إِنَّا لِلَّهِ} ملكًا وخلقًا وعبدًا؛ أي: نحن عبد الله وأموالنا له، يفعل فينا ما يشاء، لا يسئل عما يفعل {وَإِنَّا إِلَيْهِ}؛ أي: إلى لقائه {رَاجِعُونَ} بالبعث والنشور بعد الموت، وإن لم نرض بقضائه لا يرضى منا أعمالنا. قال أبو بكر الوراق {إنَّا لله} إقرارٌ منا بالملك له تعالى {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار على أنفسنا بالهلاك. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها .. إلا آجره الله في مصيبته واخلف له خيرًا منها" أخرجه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن مصباح النبي - صلى الله عليه وسلم - طفىء فاسترجع، فقلت: إنما هو مصباح. فقال: "كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة" رواه أبو داود في مراسله. قيل: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيه أحد لأعطي يعقوب عليه السلام، ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} قيل: وفي قول العبد {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 157 - تفويض منه إلى الله وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب {أُولَئِكَ} الصابرون المسترجعون عند المصيبة {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} ومغفرة {مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}؛ أي: نعمة وإنما جمع الصلوات للتنبيه على كثرتها وتنوعها؛ لأنه أراد مغفرة بعد مغفرة، والرحمة من الله إنعامه وإحسانه وإفضاله، وذكر الرحمة بعد الصلاة للتأكيد. وقيل: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ}؛ أي: مغفرة من ربهم في الدنيا، {وَرَحْمَةٌ}؛ أي: مغفرة من ربهم في الدنيا، ورحمة؛ أي: سلامة من العذاب في الآخرة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} إلى الحق والصواب؛ حيث استرجعوا لمصيبتهم واستسلموا لقضاء الله تعالى، وقيل: المهتدون إلى الجنة الفائزون بالثواب.

فصل في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء، وأجر الصابرين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا .. يصب منه" يعني: يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك. أخرجه البخاري. وعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا حزَنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها .. إلا كفر الله عنه بها خطاياه" متفق عليه. وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يصيبه أذى، من مرض فما سواه .. إلا حط الله به عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد" متفق عليه. الأرزة: شجرٍ معروف بالشام، ويعرف في العراق ومصر بالصنوبر، والصنوبر ثمر الأرزة، وقيل: الأرزة الثابتة في الأرض. وعن أنسٍ رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا .. عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد شرًّا .. أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة" أخرجه الترمذي. وعن أنس أيضًا رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن عظم الجزاء مع عظم النبلاء، وإن الله إذا أحب قومًا .. ابتلاهم، فمن رضي .. فله الرضا، ومن سخط .. فله السخط" أخرجه الترمذي. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا

بالمقاريض" أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم أحتسبه إلا الجنة" أخرجه البخاري. وعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا .. اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة (¬1) .. هون عليه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. الإعراب {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، ما: مصدرية. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {فِيكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأرسلنا. {رَسُولًا}: مفعول به. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {رَسُولًا}، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بالكاف؛ تقديره: كإرسالنا فيكم رسولًا {مِنْكُمْ}، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة إتمامًا كائنًا كإرسالنا رسولًا؛ أي: إتمامًا كائنًا كإتمامها عليكم بإرسال رسول منكم {يَتْلُو}: فعل مضارع معتل بالواو، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولًا}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق ¬

_ (¬1) الرقة - بكسر الراء وتشديد القاف -: الدقة ورقة الجانب، كناية عن الضعف. اهـ.

بـ {يتلوا}، {آيَاتِنَا}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {رَسُولًا}. {وَيُزَكِّيكُمْ}: {الواو} عاطفة، {يزكيكم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على رسولًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة لـ {رَسُولًا}. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. {وَيُعَلِّمُكُمُ}: {الواو} عاطفة {يعلمكم}: مضارع معطوف على يتلوا. {الْكِتَابَ} مفعول به {وَالْحِكْمَةَ}: معطوفة على الكتاب {وَيُعَلِّمُكُمْ} الواو: عاطفة، {يعلمكم}: فعل مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولًا}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة لـ {رَسُولًا}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة، في محل النصب مفعول ثان لـ {علم}، {لم} حرف نفي. {تَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ {لم}. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، وهو بمعنى (عرف) يتعدى إلى واحد؛ تقديره: تعلمونه، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {تَكُونُوا} تقديره: ما لم تكونوا عالمين، وجملة {تَكُونُوا}: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من {تَعْلَمُونَ}. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. {فَاذْكُرُونِي}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم إتمام نعمتي عليكم بما ذكر، وأردتم بيان ما هو الواجب عليكم .. فأقول لكم: {اذكروني}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مفعول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَذْكُرْكُمْ}: {أَذْكُرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، و {الكاف}: مفعول به، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {وَاشْكُرُوا}: الواو: عاطفة، {اشكروا}: فعل وفاعل. {لِي}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَاذْكُرُونِي}، {وَلَا تَكْفُرُونِ}: {الواو} عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَكْفُرُونِ}: فعل مضارع

مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل، والنون للوقاية؛ لأنها تقي الفعل عن الكسرة، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {وَاشْكُرُوا لِي} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء؛ {أي}: منادى نكرة مقصودة {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}، تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {اسْتَعِينُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بِالصَّبْرِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اسْتَعِينُوا}. {وَالصَّلَاةِ}: معطوف عليه. {إن}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {مَعَ الصَّابِرِينَ}: ظرف ومضاف إليه والظرف متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} تقديره: كائن مع الصابرين، وجملة {إنَّ} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}. {وَلَا تَقُولُوا}: {الواو} استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {تَقُولُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {لِمَن}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُوا}. {يُقْتَلُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة لـ {من} الموصولة. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُقْتَلُ}. {أَمْوَاتٌ}: خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هم أموات، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول لـ {تَقُولُوا}. {بَلْ} حرف ابتداء. {أَحْيَاءٌ}: خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: بل هم أحياء، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {لا}: نافية. {تَشْعُرُونَ} فعل وفاعل، ومفعوله محذوف؛ تقديره: ولكن لا تشعرون ما هم فيه من الكرامة والنعيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله

{بَلْ أَحْيَاءٌ} على كونها مستأنفة. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}: {الواو} استئنافية، أو حرف جر وقسم داخلة على مقسم به محذوف تقديره: وعزتي وجلالي، {اللام}: موطئة للقسم، (نبلون): فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، و {الكاف}: مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {بِشَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {نبلونكم}. {مِنَ الْخَوْفِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {شيء}؛ تقديره: بشيء كائن من الخوف، {وَالْجُوعِ}: معطوف على الخوف. {وَنَقْصٍ}: معطوف على شيء. {مِنَ الْأَمْوَالِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمحذوف؛ تقديره: وبنقص شيء كائن من الأموال؛ لأن النقص مصدر نقصت؛ وهو متعد إلى مفعول، وقد حذف المفعول، تقديره: وبنقص شيء من الأموال، {وَالْأَنْفُسِ}: معطوف على الأموال. {وَالثَّمَرَاتِ}: معطوف على الأموال أيضًا، عطف خاصٍّ على عام. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}: {الواو} استئنافية، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب صفة للصابرين، أو منصوب بـ (أعني) {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها، وجملة إذا صلة الموصول لا محل لها من الإعراب {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت {إن}: حرف نصب، و {نا}: اسمها، {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر إن، والجملة في محل النصب مقول القول {وَإِنَّا} {الواو} عاطفة، {إنّا} حرف واسمها. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {رَاجِعُونَ}؛ وهو خبر إن، والجملة في محل النصب

معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول القول. {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ الثاني. {صَلَوَاتٌ}: مبتدأ ثان. {مِنْ رَبِّهِمْ}: صفة لـ {صَلَوَاتٌ}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: ما الذي بشروا به؟ فقيل: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}. {وَرَحْمَةٌ}: معطوف على {صَلَوَاتٌ}: {وَأُولَئِكَ}: {الواو} عاطفة، {أولئك} مبتدأ. {هُمُ} ضمير فصل. {الْمُهْتَدُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَاشْكُرُوا لِي} وشكرٌ يتعدى تارةً بنفسه، وتارةً بحرف جرٍ على حدٍّ سواء على الصحيح، وقال بعضهم: إذا قلت: شكرت لزيدٍ: فمعناه: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه متعديًا لاثنين: أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف الجر، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت عليكم. وقال ابن عطية: {وَاشْكُرُوا لِي} واشكروني بمعنى واحد، و {لي} أفصح وأشهر مع الشكر، ومعناه: اشكروا نعمتي وأياديَّ، وكذلك إذا قلت: شكرتك فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته. فَحَذَف المضاف؛ إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معًا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف انتهى "سمين" وقيل: معنى الشكر هنا: الاعتراف بحق المنعم والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ}. {وَلَا تَكْفُرُونِ} هو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ولا تكفروا نعمتي، ولو كان من الكفر ضد الإيمان لقال: ولا تكفروا، أو: ولا تكفروا بي، وهذه النون نون الوقاية حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفًا لتناسب الفواصل، وقيل: المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} جمع صابر، اسم فاعل من صبر على الأمر - من باب ضرب - إذا جرأ وشجع وتجلد، فهو صابر وصبر وصبور، والصبر من خواص الإنسان؛ لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة وهو بدني، وهو إما فعلي كتعاطي الأعمال الشاقة، وإما احتمالي كالصبر على الضرب الشديد، ونفسي وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع فإن كان من شهوة الفرج والبطن سمي عِفَّة، وإن كان من احتمال مكروه اختلفت أساميه باختلاف المكروه ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ويضاده الجزع، وإن كان في الغنى سُميَ ضبط النفس ويضاده البطر، وإن كان في حربٍ سُمي شجاعةً ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مُضجرة سُمي سعة صدر ويضاده الضجر، وإن كان في إخفاء كلام سُمي كتمانًا ويضاده الإعلان، وإن كان في فضول الدنيا سُمي زهدًا ويضاده الحرص، وإن كان على يسير من المال سمِّي قناعةً ويضاده الشره. قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ولو ظهر منه أولًا ما لا يُعد معه صابرًا ثُمَّ صبر لم يعد ذلك إلا سلوانًا. {مُصِيبَةٌ}: اسم فاعل من أصابت، والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفسٍ أو مالٍ أو أهلٍ، صغرت أو كبرت حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يُسمى: مصيبة. البلاغة {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}: والتعبير بصيغة التكلم الدالّة على العظمة بعد التعبير بالصيغة التي لا دلالة لها عليها من قبيل التفنن، وجريًا على سَنَنِ الكبراء. أفاده أبو السعود. وبين كلمتي {أَرْسَلْنَا} و {رَسُولًا} من المحسنات البديعية جناس الاشتقاق؛ وهو توافق الكلمتين في الحروف والأصول مع الاتفاق في أصل المعنى.

قوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}: ذكره بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} من باب ذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول والعموم، ويسمى مثل هذا عند البلغاء بالإطناب. {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: فيه إيجاز بالحذف؛ أي: لا تقولوا: هم أموات، بل هم أحياء وبينهما طباق. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ}: والإتيان بالجملة الخبرية مقسمًا عليها تأكيدٌ لوقوع الابتلاء، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه، وأن هذه المحن من الله تعالى. {بِشَيْءٍ} الباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل؛ أي: بشيءٍ قليلٍ؛ إذ لو جمعه فقال: بأشياء .. لاحتمل أن تكون ضروبًا من كل واحدٍ مما بعده. قوله: {وَالثَّمَرَاتِ}: ذكره بعد ذكر الأموال من ذكر الخاص بعد العام اهتمامًا به؛ لاندراجها تحت الأموال. قوله: {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}: فيه من المحسنات البديعية التجنيس المغاير؛ وهو أن تكون إحدى الكلمتين اسمًا، والأخرى فعلًا، ومنه قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ}، {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، وفي "المنتخب" ما ملخَّصه: إن إسناد الإصابة إلى المصيبة لا إلى الله تعالى؛ ليعم ما كان من الله وما كان من غيره، فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: {إِنَّا لِلَّهِ}؛ لأن في الإقرار بالعبودية تفويضًا للأمور إليه، وما كان في غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى. كأنه في الأول: {إِنَّا لِلَّهِ} يدبر كيف يشاء، وفي الثاني: {وَإِنَّا إِلَيْهِ} ينصف لنا كيف يشاء انتهى. {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}: التنوين فيهما للتفخيم، وجمع صلوات؛ ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة، بل صلاة بعد صلاة، ووصفها بكونها {مِنْ رَبِّهِمْ} ليدل بـ {من} على ابتدائها من الله؛ إذ تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى، ويحتمل أن تكون {من} تبعيضية، فيكون ثَمَّ حذف مضاف؛ أي: صلوات من صلوات ربهم، وأتى بلفظ الرب مع إضافته إلى ضميرهم؛ لما فيه من

دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربِّيه به. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}: أكّد بقوله: {هُمُ} وبالألف واللام؛ لإفادة الحصر، كأن الهدايةَ انحصرت فيهم، وهو من قَصْرِ الصفة على الموصوف، وأتى باسم الفاعل، ليدل على الثبوت؛ لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتًا بعد وقت فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصف ثابتٌ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}. المناسبة لما أمر الله سبحانه وتعالى بذكره وشكره، ودعا المؤمنين إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، وأثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن، وكان أحد أركان الإِسلام .. أعقب ذلك ببيان أهمية الحج، وأنه من شعائر دين الله، ثم نبه تعالى على وجوب نشر العلم، وعدم كتمانه، وذكر خطر كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، كما فعل اليهود والنصارى في كتبهم، فاستحقوا اللعنة والغضب من الله تعالى ومن عباده. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" (ج 4 ص 244): حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح ألا يطّوف بالصفا والمروة؟ فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار؛ كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها بالمشلل (¬1)، فكان مَنْ أهلَّ يتحرج أن ¬

_ (¬1) مشلل: موضع بين مكة والمدينة.

يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالًا من أهل العلم يذكرون: أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن .. قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} الآية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما؛ في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم يتحرجوا أن يطوفوا بهما في الإِسلام؛ من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. والحديث أخرجه مسلم والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود، وأحمد ابن حنبل، ومالك في "الموطأ". وأخرج البخاري في "صحيحه" ومسلم والترمذي، وصححه عن أنس رضي الله عنه؛ أنه سئل عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإِسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} الآية. ولا مانع من أن الآية نزلت في الجميع. وأخرج الحاكم (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الشياطين في الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكان بينهما أصنام لهم، فلما جاء الإِسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[158]

شيء كنا نصنعه في الجاهلية، فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا ...} الآية. أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد نفرًا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 158 - {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}: اسمان للجبَلَيْنِ المعروفين بمكة في طرفي المسْعى. {مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} لا من شعائر الجاهلية؛ أي: من علامات مواضع عبادة الله تعالى الحج والعمرة، جمع شعيرة وهي العلامة؛ لأن الصفا والمروة كانا حدين وغايتين لطرفي المسعى، أو الكلام على حذف مضافٍ تقديره: إن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله؛ أي: من أحكام دين الله وعبادته (¬2)، ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، بل إنما يكون عبادةً إذا كان بعض حج أو عمرة، بين تعالى ذلك بقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ}؛ أي: قصد الكعبة لعبادة مخصوصة معروفة في الشرع {أَوِ اعْتَمَرَ}؛ أي: أو زار الكعبة لعبادة مخصوصة معروفة في الشرع؛ لأن الحج لغة: القصد، والعمرة كذلك الزيارة، وفي الشرع: عبادتان معروفتان. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ}؛ أي: فلا ذنب، ولا إثم على ذلك الحاج أو المعتمر {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؛ أي: أن يدور ويسعى بينهما؛ أي: فلا إثم عليه في سعيه بين الصفا والمروة سبعة أشواط. قال ابن عباس: كان على الصفا صنم اسمه: إساف، وعلى المروة صنم آخر اسمه: نائلة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما، ويتمسحون بهما، فلما جاء ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البحر المحيط.

الإِسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأذن الله تعالى فيه، وأخبر أنه من شعائر الله، لا من شعائر الجاهلية. وأخرج مسلم (¬1) عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} "ابدأ بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا، الحديث. فإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى وجب علينا السعي، لقوله تعالى: {فاتَّبِعُوه}، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" والأمر للوجوب. وأخرج مسلم (¬2)، وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}. وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". فائدة (¬3): اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، فذهب جماعة إلى وجوبه؛ وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن، وإليه ذهب مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنه تطوع؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال ابن سيرين، وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أنه ليس بركن، وعلى من تركه دم. وروي عن ابن الزبير، ومجاهد، وعطاء أنّ من تركه فلا شيء عليه، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا والمروة لم يُجْزِه حجه ولا عمرته، وروي عنه أنه لا شيء في تركه عمدًا ولا سهوًا، ولا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) شوكاني. (¬3) الخازن.

ينبغي أن يتركه. ونقل الجمهور عنه أنه تطوع. وسبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} يصدق عليه أنه لا إثم عليه في فعله، فدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، فظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو غير واجب. فحجة الشافعي ومن وافقه في أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة .. ما روى الشافعي وغيره عن حبيبة بنت أبي تَجْرَأَةَ قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعوا فإن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب عليكم السعي" ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم". وقرأ الجمهور (¬1): {أَنْ يَطَّوَّفَ} أصله: يتطوف، فأدغمت التاء في الطاء، ماضيه تطوف، وقرأ أنس، وابن عباس، وابن سيرين، وشُهِر {أن لا} وكذلك في مصحف أُبي، وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة {لا} نظير: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} فتتحد معنى القراءتين، وقرأ أبو حمزة: {أن يطُوف بهما} مِن طاف، يطوف الثلاثي، وهي قراءة ظاهرة، وقرأ ابن عباس، وأبو السمال {يَطَّاف بهما} أصله يطتوف بوزن يفتعل، وماضيه اطتوف بوزن افتعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء، فصارا اطّاف، وجاء مضارعه يطّاف، ومصدره اطيافًا وكل القراءات المذكورة شاذة عدا قراءة الجمهور. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}؛ أي: تبرع وزاد على ما فرض الله عليه من حج وعمرة تطوعًا ونفلًا، فطاف بين الصفا والمروة في ضمن حج تطوع وعمرته، لا استقلالًا؛ لأن السعي لا يتنفل به. {فَإِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {شَاكِرٌ} له على طاعته، وقابل منه، ومجازٍ له عليها. {عَلِيمٌ} بنيته، ويعلم قدر الجزاء، فلا يبخس المستحق حقه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[159]

وقرأ ابن كثير (¬1)، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر {تَطَوَّعَ} فعلًا ماضيًا هنا، وفي قوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}. وقرأ حمزة والكسائي في المتواتر: {يطَّوَّع} مضارعًا مجزومًا بـ {من} الشرطية، وقرأ ابن مسعود: (يتطوع بخير) ويطوع أصله: يتطوع كقراءه عبد الله، وهذه قراءة شاذة. 159 - ونزل في أحبار اليهود قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}؛ أي: يخفون الناس {مَا أَنْزَلْنَا} في التوراة، وهم علماء اليهود. {مِنَ الْبَيِّنَاتِ}؛ أي: من العلامات الواضحة الدالة على صدق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، من نعوته وأخلاقه وأفعاله. {وَالْهُدَى}؛ أي: ومن الأحكام التي هدى الله الخلق إليها، ودعاهم لها، وشرعها لهم من الأوامر والنواهي كآية الرجم. {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} وأوضحناه. {لِلنَّاسِ}؛ أي: لبني إسرائيل {في الْكِتَابِ}؛ أي: في التوراة، والمراد بالكتم هنا: إزالة ما أنزل الله، ووضع غيره في موضعه؛ فإنهم محوا آية الرجم، ونعته - صلى الله عليه وسلم -، وكتبوا مكان ذلك ما يخالفه. ومعلوم أن الكتم والكتمان: ترك إظهار الشيء قصدًا مع مسيس الحاجة إليه، وتحقق الداعي إلى إظهاره؛ لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد من الكتمان، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، ويكون بإزالته ووضع شيء آخر مكانه. وقرأ الجمهور: {بَيَّنَّاهُ} مطابقة لقوله: {أنزلنا}، وقرأ طلحة بن مصرف شذوذًا: {بينة} بضمير مفرد غائب، ففيه حينئذٍ التفات من التكلم إلى الغيبة. {أُولَئِكَ} الكاتمون لما أنزلنا. {يَلْعَنُهُمُ اللهُ}؛ أي: يبعدهم الله من رحمته {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} من الملائكة والمؤمنين، أو جميع الخلائق؛ أي: يسألون الله أن يلعنهم ويطردهم من رحمتهم، ويقولون: اللهم العنهم. 160 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}؛ أي: ندموا على ما فعلوا، فرجعوا عن الكفر إلى الإِسلام {وَأَصْلَحُوا} ما بينهم وبين الله تعالى بالتوحيد والطاعات {وَبَيَّنُوا}؛ أي: أوضحوا للناس ما كتموا من العلم {فَأُولَئِكَ} التائبون المصلحون البيِّنون {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: أقبل منهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[161]

توبتهم، وأتجاوز عن سيئاتهم وكتمانهم {وَأَنَا التَّوَّابُ}؛ أي: القابل لتوبة من تاب {الرحيم} المبالغ في نشر الرحمة لمن مات على التوبة، وفي قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} إشارة إلى أركان التوبة الثلاثة؛ لأن معنى تابوا: ندموا، ومعنى أصلحوا: بالعزم على عدم العود إلى المعصية، ومعنى بينوا: بالإقلاع عن الكتمان؛ لأن الإقلاع مفارقة المعصية؛ وهي هنا الكتمان ومفارقتها حاصلة بالبيان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا وهما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}، وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} إلى آخر الآيتين. متفق عليه. وهل (¬1) إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين؟ فيه خلاف، والأصح أنه إذا ظهر للبعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتومًا، وقيل: متى سئل العالم عن شيءٍ يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره، وإلا فلا. وفي "الكرخي": وهذه الآية: تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجًا إليها، ثم تركها أو كتمها، وكتم شيئًا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه لحقه هذا الوعيد. 161 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالكتمان وغيره {وَمَاتُوا}؛ أي: واستمروا على ذلك حتى داهمهم الموت. {وَهُمْ كُفَّارٌ} بالله ورسوله. {أُولَئِكَ} المستمرون على كفرهم حتى ماتوا عليه. {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} وطرده لهم من رحمته {و} لعنة {الملائكة والناس} كلهم {أجمعين} حتى أهل دينهم، فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضًا، وقرأ الجمهور: {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} بالجر عطفًا على لفظ الجلالة، وقرأ الحسن: {والملائكة والناس أجمعون} بالرفع، وخرج على أنه مبتدأ حذف خبره تقديره: والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم حالة كونهم ¬

_ (¬1) الخازن.

[162]

162 - {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مستمرين في اللعنة، أو في النار، وفي إضارها قبل الذكر تفخيم لشأنها، وتهويل منها، أو أضمرها لدلالة اللعنة عليها {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} طرفة عين {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: لا يمهلون ولا يؤجلون من العذاب، فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون، وقيل: لا ينظرون ليعتذروا، وقيل: لا يُنظر إليهم نظر رحمة، وفي "الفتوحات الإلهية" قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} إشارة إلى كم العذاب، وأنه كثير لا ينقطع، وقوله {لَا يُخَفَّفُ ...} إلخ إشارة إلى كيفه وشدته. الإعراب {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}. {إِنَّ} حرف نصب. {الصَّفَا}: اسمها. {وَالْمَرْوَةَ}: معطوف عليه. {مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر إن؛ تقديره: كائنان من شعائر الله، وجملة إنّ مستأنفة. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. {فَمَن}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الصفا والمروة من شعائر الله، وأردتم بيان حكم السعي بينهما .. فأقول لكم: {مَن حج البيت}: {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {حَجَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على (مَن). {الْبَيْتَ}: مفعول به. {أَوِ}: حرف عطف وتفصيل {اعْتَمَرَ}؛ فعل ماضٍ في محل الجزم معطوف على {حَجَّ}، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {لا}: نافية تعمل عمل إن. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها،

وجملة (مَن) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَطَّوَّفَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على (مَن). {بِهِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ تقديره: فلا جناح عليه في طوافه بهما، والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}. {وَمَنْ}: {الواو} عاطفة {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {تَطَوَّعَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، {خَيْرًا}: منصوب؛ إما على (¬1) إسقاط حرف الجر؛ أي: تطوع بخيرٍ، فلما حذف الحرف انتصب على حد قوله: تَمُرُّوْنَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعَوِّجُوا أو على أن يكون نعت مصدر محذوف؛ أي: تطوعًا خيرًا، أو على أن يكون حالًا من ذلك المصدر المقدر معرفةً، وهذا مذهب سيبويه. اهـ "سمين". {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا، {إِنَّ}: حرف نصب. {اللهَ}: اسمها. {شَاكِرٌ}: خبر أول لها. {عَلِيمٌ}: خبر ثان. وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}. ¬

_ (¬1) جمل.

{إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب اسمها: {يَكْتُمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف؛ تقديره: ما أنزلناه. {مِنَ الْبَيِّنَاتِ}: جار ومجرور حال من ضمير المفعول المحذوف من {أَنْزَلْنَا} أو حال من {مَا} ويصح أن يتعلق بـ {أَنْزَلْنَا} كما ذكره أبو البقاء. {وَالْهُدَى}: معطوف على البينات. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَكْتُمُونَ} {بَعْدِ}: مضاف. {مَا} مصدرية. {بَيَّنَّاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والضمير عائد على {مَا أَنْزَلْنَا}، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: من بعد تبيننا إياه {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {بَيَّنَّاهُ}. {في الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق أيضًا بـ {بَيَّنَّاهُ}، فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى أو اللفظ مما لا خلاف في جوازه. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {يَلْعَنُهُمُ اللهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إِنَّ الَّذِينَ}، وجملة إن من اسمها وخبرها جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ويصح أن يكون {أُولَئِكَ} بدلًا من اسم إن، وجملة {يَلْعَنُهُمُ اللهُ}: خبرها. {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: {الواو} عاطفة، {يلعنهم اللاعنون}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَلْعَنُهُمُ اللهُ} على كونها خبر إن. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مستثنى من المفعول في قوله: {يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. {تَابُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَأَصْلَحُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على {تَابُوا} على كونها صلة الموصول، وكذا جملة قوله: {وَبَيَّنُوا}:

معطوفة على {تَابُوا}. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: تعليلية؛ لوقوعها بعد الاستثناء. {أولئك}: مبتدأ. {أَتُوبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما استثنيتهم لتوبتي عليهم. {وَأَنَا}: {الواو} عاطفة، {أَنَا}: مبتدأ {التَّوَّابُ}: خبر أول. {الرَّحِيمُ} خبر ثان، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {أتوب}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب اسمها. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَمَاتُوا}: {الواو} عاطفة، {مَاتُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {كَفَرُوا} على كونها صلة الموصول. {وَهُمْ} {الواو} حالية، {هم} مبتدأ. {كُفَّارٌ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {ماتوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {لَعْنَةُ اللهِ}: مبتدأ ثان ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها: مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {وَالْمَلَائِكَةِ}: معطوف على لفظ الجلالة، وكذا قوله {وَالنَّاسِ}: معطوف على لفظ الجلالة. {أَجْمَعِينَ}: توكيد للملائكة والناس. {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ {162}}. {خَالِدِينَ}: حال من الضمير في {عَلَيْهِمْ}. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {لا}: نافية. {يُخَفَّفُ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة. {عَنْهُمُ}: متعلق به. {الْعَذَابُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستتر في {خَالِدِينَ} أو مستأنفة. {وَلَا هُمْ}: الواو عاطفة، {لَا}

نافية {هم} مبتدأ {يُنْظَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ؛ تقديره: ولا هم منظرون، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {ولا يخفف} على كونها حالًا من الضمير المستتر في {خَالِدِينَ} أو على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {الصَّفَا}: جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، وعبارة "السمين": وألف الصفا منقلبة عن واو؛ بدليل قلبها في التثنية واوًا، فإنهم قالوا في تثنيته: صفوان، والاشتقاق يدل عليه أيضًا؛ لأنه من الصفو، وهو الخلوص، والصفا الحجر الأملس، وقيل: الذي لا يخالطه غيره من طين أو تراب، ويفرق بين واحده وجمعه بتاء التأنيث نحو: صفا كثيرة وصفاة واحدة، وقد يجمع الصفا على فعول وأفعال، فإنهم قالوا: صُفِي بكسر الصاد وضمها كعِصي وأصفاء، والأصل صفوو وأصفاو، فقلبت الواوان في صفوو يائين، والواو في أصفاو همزةً ككساء وبابه. {وَالْمَرْوَةَ}: الحجارة الصغار، فقيل: اللينة، وقيل: الصلبة، وقيل: البيض، وقيل: السود. انتهت. وجمعها: مرو ومروات، وهذا بالنظر إلى أصلهما وإلا فهما عَلَمان للجبلين المعروفين في مكة. {مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} والشعائر: جمع شعيرة؛ وهي العلامة؛ أي: من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله تعالى أعلامًا للناس من الموقف والمسعى والمنحر. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} يقال: حج يحج حجًّا - من باب رَدَّ - فهو حاجّ، والحج لغةً: القصد، وشرعًا: قصد مكة لنسك مخصوص. {أَوِ اعْتَمَرَ}: من باب افتعل، والمصدر الاعتمار، وهو الزيارة، والعمرة مأخوذة منه؛ وهي زيارة مكة لنسك معلوم.

{فَلَا جُنَاحَ}: والجناح: الميل إلى الإثم، ثم أطلق على الإثم نفسه، يقال: جنح إلى كذا جنوحًا - من بأبي قَعَدَ وفَتَحَ - إذا مال إليه، ومنه جُنْحُ الليل؛ أي: ميله. {وَمَنْ تَطَوَّعَ}: تطوع - من باب تفعَّل - من الطوع؛ وهو الانقياد، ولكن المراد هنا: التبرع بأي طاعة كانت، أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه. البلاغة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}: في هذا التركيب مجازٌ بالحذف؛ إما من الأول تقديره: إن السعي بين الصفا والمروة من أحكام شرع الله التي شرعها لعباده، أو من الآخر تقديره: إن الصفا والمروة من أعلام عبادة الله وحدودها. {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}: وشكرُ اللهِ العبدَ بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء عليه. قال أبو السعود: عبر عن ذلك بالشكر مبالغةً في الإحسان على العباد، فأطلق الشكر، وأراد به الجزاء بطريق المجاز. وعلمه (¬1) هنا؛ هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل، وقد وقعت الصفتان الموقَع الحسن؛ لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل؛ لتواخي رؤوس الآي. ذكره أبو حيان. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا}: فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم. {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} وتبيينه (¬2) لهم تلخيصه وإيضاحه، بحيث يتلقاه كل واحد منهم من غير أن يكون له فيه شبهة، وهذا عنوان مغاير؛ لكونه بينًا في ¬

_ (¬1) الجر المحيط. (¬2) أبو السعود.

نفسه، وهدى مؤكد؛ لقبح الكتم أو تفهيمه لهم بواسطة موسى عليه السلام. {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} وأبرز (¬1) الخبر في صورة جملتين: توكيدًا وتعظيمًا، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد؛ لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}، ولذلك أتى بصلة {الَّذِينَ} فعلًا مضارعًا ليدل أيضًا على التجدد؛ لأن بقاءهم في الكتمان هو تجدد كتمانٍ، وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله؛ لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب، وجاءت الجملة الثانية؛ لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين، وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات؛ إذ لو جرى على نسق الكلام السابق .. لكان أولئك نلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم الشريف من الفخامة، وإلقاء الروعة والمهابة في القلب ما لا يكون في الضمير، وفي قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} من المحسنات البديعية التجنيس المغاير؛ وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسمًا والأخرى فعلًا. وقوله (¬2): {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: اعتراض تذييلي محقق لمضمون ما قبله، والالتفات إلى التكلم؛ للتفنن في النظم الكريم، مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فعليه تعالى: السابق وهو اللعن، واللاحق وهو الرحمة. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: من الإنظار لا من النظر، فإيثار الجملة الإسمية لإفادة دوام النفي واستمراره. ذكره الكرخي. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) جمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه لما كان كفر معظم الكفار المستحقين اللعنة والخلود في النار؛ لاتخاذهم آلهة مع الله ... أخبر تعالى أن الإله واحد لا يتعدد، ولا يتجزأ، ولا مثيل له في صفاته، وحصر الإلهية فيه. قوله تعالى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية .. لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار، واستدل على وحدانيته واختصاصه بالإلهية بهذا الخلق الغريب، والبناء العجيب استدلالًا بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون، فبدأ أولًا بذكر العالم العلوي فقال: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}، ثم بالعالم السفلي، ثم بتعاقب الليل والنهار، ثم بالسفن التي تمخر أمواج البحار، ثم بالأمطار التي فيها حياة الزروع والنفوس، ثم بما بثّ في الأرض من أنواع الحيوانات العجيبة، ثم بالرياح والسحب التي سخرها الله تعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[163]

لفائدة الإنسان، وختم ذلك بالأمر بالتفكير في بدائع صنع الله، وإعمال العقل في عجيب خلقه؛ ليستدل العاقل بالأثر على وجود المؤثر، وبالصنعة على عظمة الخالق المدبر الحكيم، ثم ذكر تعالى بعد ذكر هذه الآيات البينات الواضحات أنّ من الناس متخذي أندادًا، وأنهم يحبونهم مثل محبة الله، ثم ذكر أن من المؤمنين من هو أشد حبًّا لله من هؤلاء لأصنامهم، ثم خاطب من خاطب بقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ...} حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد لرأيت أمرًا عظيمًا. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} سبب (¬1) نزول هذه الآية: أن كفار قريش قالوا: يا محمَّد صف، لنا ربك، وانسبه؟ فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص. قوله تعالى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} سبب نزولها: ما روي عن (¬2) عطاء قال: نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} الآية. فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. التفسير وأوجه القراءة 163 - {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} روي: أنه كان للمشركين ثلاث مدّة صنم يعبدونها من دون الله، فبين الله أنه إلههم، وأنه واحد، فقال: {وَإِلَهُكُمْ}؛ أي: معبودكم الذي يستحق العبادة منكم أيها العباد {إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: إله منفرد في ألوهيته وربوبيته، ليس له شريك فيهما، ومنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله ليس له نظير فيها (¬3)، وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المُتصوّر منهم العبادة؛ فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى، ويحتمل أن يكون خطابًا للمشركين الذين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) لباب النقول. (¬3) البحر المحيط.

صف لنا ربك؟ أو خطابًا لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار. وقال في "المنتخب": لمّا قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ..} أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم أن يزيل ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق، فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فقوله: {لَا إِلَهَ}: يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: {إلا الله} أفاد التوحيد التام المطلق المحقق. انتهى. {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود {إِلَّا هُوَ}؛ أي: إلا الله الواحد الفرد الصمد، وهذه (¬1) الجملة توكيدٌ لمعنى الوحدانية، ونفي الإلهية عن غيره، وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الإلهية، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الجملة الأولى على نسبة الوحدانية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه. والمعنى (¬2): إلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدًا، والشرك به ضربان. الأول: شرك في الألوهية والعبادة: بأنْ يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله، أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها، ويصده عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عندما يتوجه إلى الله ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله؛ ليكشف عنه ضرًّا، أو يجلب له نفعًا. الثاني: شرك به في الربوبية: بأنْ يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلغه عنه الرسل استنادًا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين هم أعلم بمراد الله؛ وهذا هو المراد بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}. فواجب على علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه كما فعل مَنْ قبلَهم من أهل الكتب المنزلة حين زادوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) مراغي.

[164]

على الوحي أحكامًا كثيرةً من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلاتٍ وتعسفات بعيدةٍ عن روح الدين وسره. وقوله: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} خبران آخران للمبتدأ؛ أي: وإلهكم هو الرحمن؛ أي: كثير الرحمة والإنعام لعباده بحلائل النعم، الرحيم؛ أي: كثير الرحمة والإحسان لعباده بدقائق النعم. فالله تعالى (¬1) هو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها، ولا يعتمد على رحمة سواه ممن يظن أنهم مقربون إليه؛ إذ كل ما يعتمد عليه من دونه، فليس أهلًا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك. والإله الذي بيده أزمة المنافع، والقادر على دفع المضار؛ واحدٌ لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته. وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته؛ لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غيرَ الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة، وتحول بينهم وبين اليأس من فضله بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} وفاتحة آل عمران {الم (1) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث صحيح. 164 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته؛ لتكون برهانًا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} إلى آخر الآية، فذكر من عجائب مخلوقاته ودلائل قدرته ووحدانيته ¬

_ (¬1) مراغي.

تسعة أنواع، إن جعلنا قوله: {وَبَثَّ فِيهَا} معطوفًا على ما أنزل، وهو الظاهر كما قاله في "الكشاف" وإن عطفناه على قوله: {فَأَحْيَا} فتكون الدلائل ثمانية؛ لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر: الأول والثاني منها ذكره بقوله: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: إن في إيجادهما على غير مثال سبق مع عظمهما وكثرة أجزائهما، وقيل: الخَلْقُ هنا بمعنى المخلوق؛ إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض، وحينئذ فإضافته بيانية، وإنما جمع السموات؛ لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، وأفرد الأرض؛ لأنها جنس واحد وهو التراب. والآيات في السماء هي: سمكها، وارتفاعها بغير عمد ولا علَّاقة، وما يُرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، وفي ذلك كله ما يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير. وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ والآيات في الأرض: مدها، وبسطها على الماء، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار والثمار {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. وذكر الثالث منها بقوله: {و} في {اختلاف الليل والنهار}؛ أي: في تعاقبهما بمجيء أحدهما، وذهاب الآخر، واختلافهما في الطول والقصر، والزيادة والنقصان، والنور والظلمة، وإنما قُدِّم الليل على النهار؛ لأن الظلمة أقدم، والآيات في الليل والنهار تعاقبهما بالمجيء والذهاب واختلافهما فيما ذكر، واختلاف انتظام أحوال العباد في معاشهم بالراحة في الليل، والسعي والكسب في النهار. وذكر الرابع منها بقوله: {و} في الفلك والسفن {الَّتِي تَجْرِي} وتسير {في الْبَحْرِ} والماء العميق.

والآياتُ في السفن: جريانها على وجه الماء؛ وهي موقرة بالأثقال والرجال فلا ترسب (¬1)، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة، وتسخير البحر لحمل السفن، مع قوة سلطان الماء وهيجان الجر، فلا يُنجي منه إلا الله تعالى. فدلالتها (¬2) على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء، وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هي العمدة في سير السفن الكبرى في هذا العصر، وكل ذلك يجري على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام؛ هي قدرة الإله الواحد العليم كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ في الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}. النوع الخامس منها: ركوب السفن، والحمل عليها في التجارة. وذكره بقوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}؛ أي: ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم؛ فهي تحمل أصناف المتاجر من إقليم إلى إقليم، ومن قطر إلى قطر آخر، فتجعل العالم كله مشتركًا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها، والآيات في ذلك أن الله تعالى لو لم يقوِّ قلوب من يركب هذه السفن .. لما تم الغرض في تجاراتهم ومنافعهم، وأيضًا فإن الله تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين فصار ذلك سببًا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن، وخوض البحر، وغير ذلك. والنوع السادس منها: نزول المطر من السماء، وذكره بقوله: {و} في {مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب {مِنْ مَاءٍ}؛ أي: من المطر الذي به حياة البلاد والعباد، فـ {من} الأولى للابتداء، والثانية للبيان. قيل: أراد بالسماء السحاب، سُمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء؛ لأنه خلق الله الماء في السحاب، ومنه ينزل إلى الأرض، وقيل: أراد السماء بعينها؛ لأنه خلق الله الماء في السماء، ومنه ينزل إلى السحاب، ثم منه إلى الأرض، ثم عطف على ¬

_ (¬1) لا ترسب: أي لا تذهب سافلة إلى قاع البحر. اهـ. (¬2) مراغي.

أنزل قوله: {فَأَحْيَا بِهِ}؛ أي: بذلك الماء {الْأَرْضَ} وأنبتها، وأظهر نضارتها، وحسنها {بَعْدَ مَوْتِهَا} ويبسها وجدبها سماه: موتًا مجازًا؛ لأنها إذا لم تنبت شيئًا، ولم يصبها المطر .. فهي كالميتة، والمعنى: أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار. والآيات في ذلك: أنّ الله جعل الماء سببًا لحياة جميع الموجودات من حيوان ونبات، وأنه ينزله عند الحاجة إليه بمقدار المنفعة، وعند الاستسقاء، وينزله بمكان دون مكان. والسابع منها: انتشار كل دابةٍ في الأرض، وذكره بقوله: {و} في {بث} وفرق {فِيهَا}؛ أي: في الأرض {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}؛ أي: من كل حيوان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد كل ما دبّ على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، فقوله: {بث} إما معطوف على {أنزل} فتقدر {ما} الموصولة قبلها، فتكون الآيات حينئذ تسعة أنواع، أو معطوف على {أحيا}، فتكون الآيات ثمانية كما أشرنا إليه فيما مر، والآيات في ذلك: أن جنس الإنسان مثلًا يرجع إلى أصل واحد وهو آدم، مع ما فيهم من الاختلاف في الصور، والأشكال، والألوان والألسنة، والطبائع، والأخلاق، والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان. والثامن منها: الريح وذكره بقوله: {يَعْقِلُونَ}؛ أي: وفي تقليب الرياح وتحويلها، وتوجيهها مرة جنوبًا ومرة من شمالًا، وباردةً وحارةً، ولينةً وعاصفةً. والآيات فيها: أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى؛ وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الشجر والصخر، وتخرب البنيان، وهي مع ذلك حياة الوجود، فلو أمسكها طرفة عين .. لمات كل ذي روح، وأنتن ما على وجه الأرض. والنوع التاسع منها: السحاب وذكره بقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ}؛ أي: وفي الغيم المذلل لقدرة الله تعالى يسير {بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} بواسطة الرياح حيث شاء الله تعالى، وهو يحمل الماء الغزير، ثم يصبه على الأرض قطرات قطرات.

[165]

قال كعب الأحبار (¬1): السحاب غربال المطر، ولولا السحاب .. لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض، وتسخيره بعثه من مكان إلى مكان، وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه، والآيات في ذلك: أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية الكبيرة يبقى معلقًا بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه، ولا دعامة تسنده. {لَآيَاتٍ}؛ أي: إن في جميع ما ذكر من خلق السموات والأرض إلى هنا لدلائل وبراهين عظيمة دالة على وحدانية الرب الحكيم، ودالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة. قيل: وإنما جمع آيات؛ لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقًا مدبرًا مختارًا {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم، فيعرفون بأن هذه الأمور من صنع إله قادرٍ حكيم، وفيه تعريضٌ بجهلِ المشركين الذين اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية تصدقه، وفي الحديث (¬2): "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها"؛ أي: لم يتفكر فيها. 165 - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سوء عاقبة المشركين الذين عبدوا غير الله تعالى فقال: {وَمِنَ النَّاسِ}؛ أي: ومن الكفار أهل الكتاب، وعبدة الأوثان {مَنْ يَتَّخِذُ}؛ أي: يعبد {مِنْ دُونِ اللهِ}؛ أي: من غير الله {أَنْدَادًا}؛ أي: أصنامًا وأحبارًا أندادًا؛ أي: أمثالًا وأشباه يشبه بعضها بعضًا في العجز، وعدم النفع والضر، والأحسن (¬3) حمل {النَّاسِ} على الطائفتين: من أهل الكتاب وعبدة الأوثان، فالأنداد باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم اتبعوا ما رتبوه وشرعوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} والأنداد باعتبار عبدة الأوثان هي الأصنام اتخذوها آلهةً، وعبدوها من دون الله. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) بيضاوي.

وقال المراغي: الأنداد قسمان: قسم: يتخذ شارعًا، يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغًا من الله ورسوله، وقسمٌ: يعتمد عليه في دفع المضار، وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية، لا من طريق الأسباب. {يُحِبُّونَهُمْ}؛ أي: يود العابدون المعبودين، ويعظمونهم، ويخضعون لهم {كَحُبِّ اللهِ}؛ أي: يحبونم حبًّا كائنًا كحب الله؛ أي: كحبهم الله تعالى؛ أي: يسوون (¬1) بينه تعالى وبين الأصنام في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه تعالى إذ هم لا يرجون من الله شيئًا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربًا من التوسط الغيبي فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمنٍ موحدٍ، وللمشركين أندادٌ متعددون وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضرٌّ .. لجأ إلى بشرٍ، أو حجر، فهو دائمًا مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال. وقيل المعنى (¬2): يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم عز وجل، ومن قال بالقول الأول .. فقد أثبت للكفار محبةَ اللهِ تعالى، لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب، ومن قال بالثاني .. لم يثبت للكفار محبةَ الله تعالى. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}؛ أي: أكثر وأثبت وأدوم على محبتهم لله تعالى من الكفار لأصنامهم؛ لأنهم لا يختارون مع الله غيره والمشركون قد اتخذوا صنمًا، ثم رأوا آخر أحسن منه، طرحوا الأول واختاروا الثاني. وقيل: إن الكفار يعدلون عن أصنامهم في الشدائد، ويقبلون إلى الله تعالى كما أخبر عنهم. {فَإِذَا رَكِبُوا في الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والمؤمنون لا يعدلون عن الله تعالى في السرّاء ولا في الضّراء، ولا في الشدة ولا في الرخاء. وقيل: إن المؤمنين يوحدون ربهم، والكفار يعبدون أصنامًا كثيرة؛ فتنقص المحبة لصنم واحد، قال أبو حيان: والمفضل عليه محذوف؛ وهم المتخذون الأنداد، وهذه الجملة كالاستدراك (¬3)؛ لما يفيده التشبيه من التساوي؛ أي: لكن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

إن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد؛ لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون بذلك بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم؛ ليقربوهم إلى الله تعالى. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قرأ الجمهور: بالياء التحتانية، و {إذ} في قوله: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} بمعنى إذا الدالة على المستقبل، وقرأ الجمهور أيضًا قوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} بفتح همزة {أن} في الموضعين، و {يَرَى} بصرية، وجواب {لو} محذوف، وجملة {أن} معمولة لجواب {لو} المحذوف؛ والمعنى: ولو رأى وشاهد الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، واتخاذ الأنداد في الدنيا وقت رؤيتهم العذاب يوم القيامة .. لعلموا أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، وأن الأنداد عاجزة لا تنفع ولا تضر. وعلى قراءة بعض القراء، غير السبع - أي في الشواذة - بكسر الهمزة من {أن}؛ والمعنى حينئذ: ولو يرى الذين ظلموا بعبادة الأصنام عجزها حال مشاهدتهم عذاب الله .. لقالوا: إن القوة لله جميعًا. وقرأ نافع وابن عامر في المتواتر: {ترى} بالتاء الفوقية مع فتح الهمزة في {أن} على الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح للخطاب؛ والمعنى: ولو ترى يا محمَّد الذين ظلموا حالهم إذ يرون العذاب .. لعلمت أن القوة لله جميعًا، ولو كسرت الهمزة .. كان المعنى: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب .. لقلت: إن القوة لله جميعًا، وقرأ ابن عامر: {إذ يُرون} بضم الياء. وقال أبو حيان (¬1): قال عطاء: المعنى: ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمس مئة عام، تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة .. لعلموا أن القوة لله والقدرة لله جميعًا. وقيل المعنى: لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه إذ يرون العذاب .. لأقروا ¬

_ (¬1) شوكاني.

[166]

بأن القوة لله جميعًا؛ أي: لتبرؤا من الأنداد، و {يرى} الثانية: من رؤية العين. انتهى. 166 - {إِذْ} في قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} بدل من قوله: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}؛ أي: ولو يرى الذين ظلموا حالهم إذ يتبرأ ويتخلص الرؤساء الذين اتبعوا، وأضلوا أتباعهم لعلموا أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}؛ أي: من السفلة والأتباع الذين اتبعوهم في الضلال، كما قال تعالى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، {و} قد {رأوا العذاب}؛ أي: والحال أن الرؤساء والسفلة كلهم قد رأوا العذاب {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}؛ أي: وقد انقطعت عنهم الأسباب والمواصلات التي كانت بينهم في الدنيا من الأرحام والمودة على الكفر، وأنكر المتبوعون إضلال الأتباع، وانقلبت مودتهم عداوة. وقرأ الجمهور: {اتُّبِعُوا} الأول مبنيًّا للمفعول والثاني مبنيًّا للفاعل، وقرأ مجاهد في الشواذ: بالعكس، ومعنى تبرأ المتبوعين: قولهم إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم، وعقاب كفرهم عليهم لا علينا، ومعنى تبرأ التابعين: هو انفصالهم عن متبوعيهم، والندم على عبادتهم وطاعتهم. 167 - {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}؛ أي: الأتْباع {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}؛ أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}؛ أي: نتخلص من المتبوعين في الدنيا إذا رجعنا إليها، فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}؛ أي: كما تبرأ المتبوعون منا في هذا اليوم العصيب، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم {كَذَلِكَ}؛ أي: كما أراهم شدة عذابه {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} السيئة من الشرك وغيره حالة كونها {حَسَرَاتٍ}؛ أي: ندامات شديدة {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على تفريطهم فيها؛ لأنهم أيقنوا بالهلاك والعذاب الشديد عليها، والحسرة (¬1) الغم على ما فاته، وشدة الندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ارتكبه. والمعنى: أن الله تعالى يريهم السيئات التي عملوها وارتكبوها في الدنيا، فيتحسرون لِمَ عملوها، وقيل: يريهم ما تركوا من الحسنات، فيندمون على تضييعها، وقيل: يرفع لهم منازلهم في الجنة، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين، فذلك حين يتحسرون ويندمون على ما فاتهم، ولا ينفعهم الندم {وَمَا هُمْ}؛ أي: وما القادة والسفلة {بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} بعد دخولها، بل هم فيها دائمون. أصله (¬1): وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة؛ للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا. الإعراب {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}. {وَإِلَهُكُمْ}: الواو استئنافية {إلهكم}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَهٌ}: خبر. {وَاحِدٌ}: صفة له، والجملة مستأنفة. {لَا}: نافية. {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر (لا) محذوف جوازًا، تقديره: موجود، وجملة {لَا} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر ثان لـ {إلهكم}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير منفصل في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا. وعبارة "السمين" هنا: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلًا من {هُوَ} بدل ظاهر من مضمر، إلا أن هذا يؤدي إلى البدل بالمشتقات وهو قليل، ويمكن الجواب عنه: بأن هاتين الصفتين جريا مجرى الجوامد، ولا سيما عند من يجعل الرحمن عَلَمًا. الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن، وحسّن حذفه توالي اللفظ بـ {هُوَ} مرتين. الثالث: أن يكون خبرًا ثالثًا لقوله: {وَإِلَهُكُمْ} أخبر عنه بقوله: {إِلَهٌ ¬

_ (¬1) الخازن.

وَاحِدٌ}، وبقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وبقوله: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وذلك عند من يرى تعدد الخبر. الرابع: أن يكون صفة لـ {هُوَ} وذلك عند الكسائي؛ فإنه يجيز وصف ضمير الغائب بصفة المدح، فاشترط في وصف الضمير هذين الشرطين: أن يكون غائبًا، وأن تكون الصفة صفة مدح. انتهت. والأرجح أن يكون {الرَّحْمَنُ}: خبرًا ثالثًا لقوله: {وَإِلَهُكُمْ}، و {الرَّحِيمُ} خبرًا رابعًا. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ {إنَّ} {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السموات. {وَاخْتِلَافِ}: معطوف على {خَلْقِ}، وهو مضاف. {اللَّيْلِ}: مضاف إليه. {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {اللَّيْلِ}. {وَالْفُلْكِ}: معطوف على {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}. {الَّتِي}: صفة للفلك. {تَجْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الفلك، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فِي الْبَحْرِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَجْرِي}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَجْرِي} أيضًا، أو حال من الضمير المستتر في {تَجْرِي}؛ تقديره: حالة كونها مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس. {يَنْفَعُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {ما} {النَّاسَ}: مفعول به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ}. {وَمَا}: {الواو} عاطفة، {ما} موصولة، أو موصوفة في محل البحر معطوفة على {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} {أَنْزَلَ}: فعل ماضٍ. {اللَّهُ}: فاعل. {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنزل}، وجملة {أَنْزَلَ} صلة لـ {ما}، أو صفة

لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: وما أنزله الله. {مِنْ مَاءٍ}: جار ومجرور حال من ضمير المفعول المحذوف. {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}. {فَأَحْيَا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {أحيا}: فعل ماض. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَأَحْيَا}. {الْأَرْضَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلَ} على كونها صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. {وَبَثَّ}: {الواو} عاطفة. {بث}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بث}، والجملة من الفعل والفاعل معطوفة على جملة {أَنْزَلَ} على كونها صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير محذوف؛ تقديره: وما بث به، وفي "السمين" ما حاصله: أن بعضهم أجاز حذف العائد المجرور بالحرف وإن لم يجر الموصول بمثله كما هنا، وذكر شواهد على ذلك. انتهى. {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من العائد المحذوف. {وَتَصْرِيفِ}: معطوف على {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}، وهو مضاف. {الرِّيَاحِ}: مضاف إليه. {وَالسَّحَابِ}: معطوف على {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}. {الْمُسَخَّرِ}: صفة للسحاب. {بَيْنَ السَّمَاءِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {المسخر}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاءِ} {لَآيَاتٍ}: {اللام}: حرف ابتداء، {آيات}: اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب بالكسرة، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة {لَآيَاتٍ}. {يَعْقِلُونَ}: جملة فعلية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ}، والرابط ضمير الفاعل. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.

{وَمِنَ}: {الواو} استئنافية، {من الناس} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {يَتَّخِذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، والجملة صلة الموصول، وأفرد الضمير في {يَتَّخِذُ} حملًا على لفظ {مِن}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يتخذ}، و {دُونِ} هنا: بمعنى (غير)، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف. {أَنْدَادًا}: مفعول به لـ {يَتَّخِذُ}، وهو يتعدى لمفعول واحد. {يُحِبُّونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، وأتى هنا بواو الجمع نظرًا لمعنى {مِنْ}، والجملة في محل النصب صفة لـ {أَنْدَادًا}. {كَحُبِّ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف؛ صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: حبًّا كائنًا كحب الله. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. {وَالَّذِينَ}: {الواو} عاطفة، {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَشَدُّ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمِنَ النَّاسِ}. {حُبًّا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ {أشد}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حبا} و {من} الداخلة على المفضل عليه محذوفة؛ تقديره: أشد حبًّا لله من حب هؤلاء لأندادهم. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}. {وَلَوْ}: {الواو} استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {يَرَى الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو}. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، و {يَرَى} هنا بصرية تتعدى لواحد. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، ولكنها مضمنة معنى {إذا} الدالة على المستقبل. {يَرَوْنَ الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والظرف متعلق بـ {يَرَى}، ومفعول {يَرَى} محذوف؛ تقديره: ولو رأى الذين ظلموا في الدنيا حالَهم وقت رؤيتهم العذاب في الآخرة، وجواب

{لو} محذوف؛ تقديره: لعلموا أن القوة لله جميعًا، وجملة {لو} مستأنفة. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {الْقُوَّةَ}: اسمها. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {أن}، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية للجواب المحذوف؛ تقديره: لعلموا كون القوة لله وحده، {جَمِيعًا}: حال من الضمير المستكن في خبر {أن}؛ أعني الجار والمجرور. {وَأَنَّ اللَّهَ}: {أن}: حرف نصب ومصدر، ولفظ الجلالة: اسمها. {شَدِيدُ الْعَذَابِ}: خبرها ومضاف إليه، وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} الأولى على كونها مفعولًا للجواب المحذوف. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، ولكنها بمعنى {إذا}. {تَبَرَّأَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، و {إِذْ} بدل من {إِذْ} في قوله: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}، {اتُّبِعُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير نائب. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَبَرَّأَ}. {اتَّبَعُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}. {وَرَأَوُا}: {الواو} حالية، {رأوا العذاب}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من الموصولين؛ تقديره: حالة كون المتبوعين والأتباع رائين العذاب. {وَتَقَطَّعَتْ}: الواو: عاطفة، {تقطع}: فعل ماضٍ. {بِهِمُ}: متعلق به، والباء بمعنى (عن). {الْأَسْبَابُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {رَأَوُا}. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}. {وَقَالَ}: الواو: استئنافية، {قال الذين}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {اتَّبَعُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَوْ} مقول محكي لـ {قال} وإن شئت قلت {لَوْ}: حرف تمن. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {لَنَا}: جار

ومجرور خبر مقدم لـ {أن}. {كَرَّةً}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعلٍ محذوف دل عليه حرف التمني؛ تقديره: وقال الذين اتبعوا: نتمنى كون كرة لنا. {فَنَتَبَرَّأَ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {نتبرأ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ تقديره: نحن {منهم}: جار ومجرور متعلق بـ {نتبرأ}، والجملة من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سَابِقٍ لإصلاح المعنى؛ تقديره: نتمنى كون كرة لنا، فنتبرأ منهم. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر، {ما}: مصدرية. {تَبَرَّءُوا}: فعل وفاعل. {مِنَّا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف؛ تقديره: كتبرؤهم منا، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فنتبرأ منهم تبرؤًا كائنًا كتبرئهم منا. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: يريهم الله أعمالهم إراءةً كائنة كإراءتهم العذاب الشديد. {يُرِيهِمُ}: فعل ومفعول أول، وهو من (رأى) البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين. {اللَّهُ}: فاعل. {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {حَسَرَاتٍ}: حال من أعمالهم. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور صفة لـ {حَسَرَاتٍ} {وَمَا هُم}: الواو: عاطفة. {ما} حجازية، أو تميمية. {هُم} اسمها، أو مبتدأ. {بِخَارِجِينَ}: {الباء}: زائدة، {خارجين}: خبر ما، أو خبر المبتدأ. {مِنَ النَّارِ}: متعلق بـ {خارجين}، وجملة {ما} من اسمها وخبرها، أو جملة المبتدأ والخبر معطوفة على جملة {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والليل: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: ليل وليلة كتمر وتمرة، والصحيح: أنه مفرد ولا يحفظ له جمع، ولذلك

خطأ الناس مَنْ زعم أن الليالي جمع ليل، بل الليالي جمع ليلة، وقدم الليل على النهار؛ لأنه سابقه. قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} وهذا أصح القولين، وقيل: النور سابق الظلمة، ونبني على هذا الخلاف فائدة وهي: أن الليلة هل هي متابعة لليوم قبلها، أو لليوم بعدها؟ فعلى القول الصحيح: تكون الليلة لليوم بعدها، فيكون اليوم تابعًا لها، وعلى القول الثاني: تكون لليوم قبلها، فتكون الليلة متابعة له، فيوم عرفة على القول الأول: مستثنى من الأصل، فإنه تابع لليلة بعده، وعلى الثاني: جاء على الأصل: ذكره "السمين". {وَالْفُلْكِ} ولفظ الفلك يكون مفردًا كقوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فهو حينئذٍ مذكر، ويكون جمعًا؛ أي: جمع تكسير كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فإن قيل: إن جمع التكسير لا بد فيه من تغيرٍ ما، وهنا لا تغير .. فالجواب أن تغيره مقدر، فالضمة في حالة كونه جمعًا كالضمة في حُمر وبُدن، وفي حالة كونه مفردًا كالضمة في قُفل، وهو هنا جمع بدليل قوله: التي تجري في البحر. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تصريف: مصدر صرّف المضاعف، ويجوز أن يكون مضافًا للفاعل، والمفعول محذوف؛ أي: وتصريف الرياح السحاب، فإنها تسوق السحاب، وأن يكون مضافًا للمفعول، والفاعل محذوف؛ أي: وتصريف الله الرياح، والرياح: جمع ريح جمع تكسير، وياء الريح والرياح منقلبة من واو، والأصل روح ورواح؛ لأنه من راح يروح، وإنما قلبت في ريح؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي رياح؛ لأنها عين في جمع بعد كسرة، وبعدها ألف، وهي ساكنة في المفرد، وهو إبدال مطرد، ولذلك لمّا زال موجب قلبها .. رجعت إلى أصلها، فقالوا: أرواح. {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} يتخذ: يفتعل من الأخذ، وهي متعدية إلى واحد، وهو أندادًا، والأنداد: جمع ند كأرطال جمع رطْل، والنِّد بكسر النون: الشبيه والمثل.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} وأتى بأشد متوصلًا به إلى أفعل التفضيل من مادة الحب؛ لأن حب مبني للمفعول، والمبني للمفعول لا يُتعجب منه، ولا يبنى منه أفعل التفضيل؛ فلذلك أتى بما يجوز ذلك منه، وأما قولهم: ما أحبه إلي .. فشاذٌّ. ذكره الكرخي. قال الراغب: الحب أصله من المحبة، يقال: أحببته، أصبت حبة قلبه، وأصبته بحبة القلب، وهي في اللفظ فعل، وفي الحقيقة انفعال، وإذا استعمل في الله .. فالمعنى: أصاب حبه قلب عبده، فجعلها مصونةً عن الشيطان والهوى وسائر أعداء الله انتهى. وقال عبد الجبار: حب العبد لله تعظيمه والتمسك بطاعته، وحب الله. العبد إرادة الثناء عليه وإثابته. انتهى. {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وجميع: في الأصل فعيل من الجميع، وكأنه اسم جمع، فلذلك يتبع تارة بالمفرد، قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}، وتارة بالجمع، قال تعالى: {جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وينتصب حالًا، ويؤكد به بمعنى (كل)، ويدل على الشمول كدلالة (كل) عليه. {الْأَسْبَابُ}: جمع سبب، وأصله الحبل، والمراد به: ما يكون بين الناس من الروابط كالنسب والصداقة. {كَرَّةً} الكرة: الرجعة والعودة، وفعلها كر يكر كرًّا، وفي المختار الكر: الرجوع، وبابه: رَدّ. {حَسَرَاتٍ}: جمع حسرة، وهي أشد الندم على شيء فائت، وفي المصباح: حسرت على شيء حسرًا من باب تعب، والحسرة اسم منه، وهي التلهف والتأسف، وحسَّرته بالتشديد أوقعته في الحسرة. انتهى. البلاغة {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ورد الخبر خاليًا من التأكيد تنزيلًا للمنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن بين أيديهم من البراهين الساطعة والحجج القاطعة ما لو

تأملوه .. لوجدوا فيه غاية الإقناع. {إِلَهٌ وَاحِدٌ} {إِلَهٌ} خبر المبتدأ؛ {وَاحِدٌ}: صفته، وهو - أعني لفظ {وَاحِدٌ} - الخبر في الحقيقة؛ لأنه محط الفائدة، ألا ترى أنه لو اقتصر على ما قبله لم يفسد، وهو ذا يشبه الحال الموطئة، نحو: مررت يزيد رجلًا صالحًا، فرجلًا حال، وليست مقصودة، إنما المقصود وصفها. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذه الجملة تقرير للوحدانية؛ لأن الاستثناء هنا إثبات من نفي، فهو بمنزلة البدل، والبدل هو المقصود بالنسبة، وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلهًا، ولكن لا يستحق منهم العبادة، ذكره الكرخي. {لَآيَاتٍ} التنكير في آيات للتفخيم، أي: آيات عظيمة دالة على قدرة قاهرة، وحكمة باهرة. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} {إِنَّ}: حرف توكيد ونصب، والجار والمجرورات به خبرها مقدم، واسمها قوله: {لَآيَاتٍ} بزيادة لام الابتداء فيه، والتقدير: إن آيات لكائنة في خلق السموات ... الخ فيفيد هذا التركيب أن في كل واحد من هذه المجرورات آيات متعددة، وهو كذلك كما بيناه فيما مر. {كَحُبِّ اللَّهِ}: فيه تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه. {أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} التصريح بالأشدِّية أبلغ أن يقال: أحب لله، كقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} مع صحة أن يقال: أو أقسى. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} فيه وضع الظاهر موضع المضمر، والظاهر أن يقال: {ولو يرون} لإحضار الصورة في ذهن السامع، وتسجيل لسبب في العذاب الشديد، وهو الظلم الفادح. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ...} إلخ في هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع؛ وهو أن يكون الكلام مسجوعًا، كقوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} وهو في القرآن كثير، وهو في هذه الآية في موضعين: أحدهما: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهو محسن الحذف

لضمير الموصول في قوله: {اتبعوا} إذ لو جاء اتبعوهم .. لَفاتَ هذا النوع من البديع. والموضع الثاني: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} وفي استعمال السبب في المواصلة مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحبل الذي يُرتقى به للشجرة، ثم أطلق على ما يتوصل به إلى شيء عينًا كان أو معنى. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الجملة اسمية وإيرادها بهذه الصيغة؛ لإفادة دوام الخلود. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}. المناسبة قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمّا بين التوحيد، ودلائله، وما للمؤمنين المتقين والكفرة العاصين .. أردف ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن؛ ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام؛ لأنه سبحانه وتعالى عام إحسانه لجميع الأنام دون تمييز بين مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ثم دعا المؤمنين إلى شكر المنعم جل وعلا، والأكل من الطيبات التي أباحها الله تعالى، واجتناب ما حرمه الله من أنواع الخبائث. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ...} مناسبته (¬2) لما قبله: أنّه ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

تعالى لمّا أخبر أنه عدو .. أخذ بذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها؛ وهو أمره - عليه لعائن الله - لمن اتبعه بالسوء والفحشاء. قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمّا ذكر أن هؤلاء الكفار إذا أُمروا باتباع ما أنزل الله .. أعرضوا عن ذلك، ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشؤوا عليه، ووجدوا عليه أباءهم، ولم يتدبروا ما يقال لهم، وصموا عن سماع الحق، وخرسوا عن النطق به، وعموا عن أبصار النور الساطع النبوي .. ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهًا على حالة الكافر في تقليده أباه، ومحقرًا نفسه إذ صار هو في رتبة البهيمة، أو في رتبة داعيها على الخلاف المذكور في هذا التشبيه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا أباح لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة .. بين لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل، فلما بين ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عمّا يلبس المُحْرِم؟ فقال: "لا يلبس القميص ولا السراويل" فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور: لكثرة المباح، وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ...} مناسبته (¬2) لما قبله: أنه تعالى لمّا أمر بأكل الحلال في الآية السابقة .. فصل هنا أنواع الحرام، وأسند التحريم إلى الميتة وما نسق بعدها وفي المقام حذف، والظاهر أن المحذوف هو الأكل؛ لأن التحريم لا يتعلق بالعين، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فالممنوع هنا هو الأكل، وكذا غيره من سائر الانتفاعات على الراجح. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} هذه (¬1) الآية مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات، ثم فصل أشياء من المحرمات، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئًا من دين الله، وما أنزله على أنبيائه، فكان ذلك تحذيرًا أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب مِن كتمِ ما أنزل الله عليهم، واشترائهم به ثمنًا قليلًا. أسباب النزول قوله (¬2) تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ..} الآية، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود إلى الإِسلام، ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال رافع بن حريطة ومالك بن عون: بل نتبع - يا محمد - ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيرًا منا، فأنزل الله في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ...} الآية). قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ...} الآية، أخرج (¬3) ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} والتي في آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} نزلتا جميعًا في اليهود، وأخرج الثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم .. خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ...} الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) المراغي والخازن.

[168]

التفسير وأوجه القراءة 168 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال ابن عباس (¬1): نزلت هذه الآية في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبني مدلج، حرموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرمتموه افتراءً على الله من الحرث والأنعام، فـ {كُلُوا} أمرُ إباحةٍ وتسويغ؛ لأنه تعالى هو الموجد للأشياء، فهو المتصرف على ما يريد؛ أي: كلوا أكلًا {حَلَالًا طَيِّبًا}، أو حال كونه حلالًا؛ أي: مباحًا طيبًا يستطيبه الشرع، أو الطبيعة السليمة، فالحلال (¬2): هو المباح الذي أحله الشرع، وانحلت عنه عقدة الحظر، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب ما يُستلذ، والمسلم لا يستطيب إلا الحلال، ويعاف الحرام، وقيل: الطيب هو الطاهر؛ لأن النجس تكرهه النفس وتعافه، وقال الحسن: الحلال الطيب هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا، ولا وَبَال عليه في الآخرة. وقد بين الله سبحانه وتعالى (¬3) ما حرّم من المأكل في الآية الكريمة: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الآية. فما عدا هذا مباح بشرط أن يكون طيبًا، وهو ما لا يتعلق به حق الغير؛ وبيانه أن المحرم قسمان: الأول: محرم لذاته لا يحل إلا للمضطر. والثاني: محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرؤوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرؤوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[169]

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}؛ أي: لا تسلكوا ولا تقتدوا طرق وساوس الشيطان في تحريم الحرث والأنعام، أو لا تقتدوا به في اتباع الهوى، فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام، أو لا تتبعوا سيرته في الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء، والمعنى: احذروا أن تتعدوا ما أحل لكم إلى ما يدعوكم إليه الشيطان {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: بيَّن العداوة وظاهرها عند ذوي البصيرة؛ إذ هو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرض على ارتكاب الجرائم والآثام. قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. فهذا نهي عن اتباع وحي الباطل والشر؛ لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة البائس الفقير، فهم نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير .. فليعلم أن هذا من وحي الشيطان، ولا ينخدع لما يسِّوله له من إرجاء هذا العطاء، ووضعه في موضع أنفع أو بذله لفقير أحوج. وقرأ ابن عامر (¬1)، والكسائي، وقنبل، وحفص، وعباس عن أبي عمرو، والبرجمي عن أبي بكر: {خُطُوَاتِ} بضم الخاء والطاء وبالواو، وقرأ باقي السبعة بضم الخاء، وسكون الطاء، وبالواو، وقرأ أبو السمال شذوذًا: {خُطَوات} بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو، ونقل ابن عطية، والسجاوندي أن أبا السمال قرأ شذوذًا: {خَطَوات} - بفتح الخاء والطاء وبالواو - جمع خطوة، وهي المرة من الخطو، وقرأ علي، وقتادة، والأعمش، وسلام شذوذًا {خُطُؤات} بضم الخاء والطاء والهزة. 169 - وقد أظهر الله عداوته بآية السجود لآدم، وبيَّن هنا كيفية عداوته، وفنون شره وإفساده، فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} الشيطان {بِالسُّوءِ}؛ أي: القبيح من الذنوب التي لا حد فيها، {وَالْفَحْشَاءِ}؛ أي: المعاصي التي فيها حد، وقيل: العطف فيه لاختلاف الوصفين؛ فإنه سوء لاغتمام العاقل به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل: ¬

_ (¬1) المراغي.

[170]

السوء يعم القبائح، والفحشاء ما يجاوز الحد في القبح من الكبائر {و} يأمركم {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون}؛ أي: بأن تفتروا على الله ما لا تعلمون أن الله تعالى حرمه، أو حلله كقولكم هذا حلال، وهذا حرام بغير علم ويقين. والمعنى (¬1): ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرّعه لكم من عقائد، وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد وتحريف الشرائع. ألا ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل شيئًا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه، وهو يقول: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها اعتمادًا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أنَّ لهم نصيبًا من السلطة الغيبية، والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب قد ضلوا ضلالًا بعيدًا، واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأي الرؤساء حجةً في الدين من غير أن يكون بيانًا، أو تبليغًا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله، وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. 170 - ثم بين الله سبحانه وتعالى كمال ضلالهم، وعدد جناياتهم فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين {اتَّبِعُوا} وتمسكوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على رسوله من الوحي، ولا تتبعوا من دونه أولياء .. جنحوا إلى التقليد و {قَالُوا} لا نتبع ما أنزل الله {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا}؛ أي: وجدنا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وكبرائنا، وأسلافنا من عبادة الأصنام، وتحريم الطيبات، ونحو ذلك من العقائد ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[171]

الزائفة، والمذاهب الفاسدة {أ} يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال، وفي كل شيء {ولو كان أباؤهم}؛ أي: وإن كان أباؤهم الذين يتبعونهم {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا}؛ أي: لا يعلمون شيئًا من أمر الدين وعقائده وعباداته، ولفظ {شَيْئًا} عام ومعناه خاص، وذلك أنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، {وَلَا يَهْتَدُونَ} إلى الحق والصواب؛ أي: أيتبعونهم ولو تجردوا من دليل عقلي أو نقلي في عقائدهم وعباداتهم، فالهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، وتعجيب غيرهم من حالهم؛ أي: لا ينبغي ولا يليق أن يتبعوهم، وهم جهلة لا يعقلون شيئًا، ولا يهتدون. وقال البيضاوي: وجواب (¬1) {لو} محذوف؛ أي: لو كان أباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون .. لاتبعوهم، وقال أبو السعود: أن {لو} في مثل هذا المقام لا تحتاج إلى جواب؛ لأن القصد منها تعميم الأحوال، وهو دليل على المنع من التقليد في أمر الدين لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأما إذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على الحق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهذا ليس بتقليد، بل اتباعٌ لما أنزل الله، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. 171 - {وَمَثَلُ}؛ أي: وصفة {الَّذِينَ كَفَرُوا} وداعيهم إلى الهدى؛ وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - {كَمَثَلِ} كصفة الراعي وبهيمته من الإبل والبقر والغنم مثلًا. {الَّذِي يَنْعِقُ} ويصيح {بِمَا لَا يَسْمَعُ}؛ أي: كالبهيمة التي لا تفهم معنى ما يقول: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}؛ أي: إلا مجرد سماع صوته بلا فهم معناه، شبه راعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا ينتفعون بما دُعوا إليه إلا مجرد سماع صوت، ففيه الحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني؛ وهو الذي ينعق، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول؛ وهو المنعوق به، وقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفهم من الأمر والنهي غير الصوت، فيراد بـ {الَّذِي يَنْعِقُ} الذي ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[172]

ينعق به؛ أي: المنعوق به، وعلى هذا التقدير فلا حذف. والفرق بين الدعاء والنداء (¬1): أن الدعاء للقريب، والنداء للبعيد، والفرق بين الكافر والضال: أن الكافر يرى الحق، ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله؛ فهو كالبهائم يرضى بأن يقوده غيره، ويصرفه كيف يشاء. والضالّ يخطيء الطريق مع طلبه، أو جهله بمعرفته بنفسه، أو بدلالة غيره. وحاصل المعنى: أن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تألمهم فيما يُلقى إليهم من الأدلة مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته، وتنزجر بزجره، وهي لا تعقل مما يقول شيئًا ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتًا تقبل لسماع بعضها، وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببًا للإقبال والإدبار. فهم {صُمٌّ} عن سماع الحق سماع قبول وانتفاع به. {بُكْمٌ} عن النطق به. {عُمْيٌ} عن رؤيته؛ أي: يتصامون عن الحق، ويتباكمون عنه، ويتعامون عنه. {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: لا يفقهون أمر الله، ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما لا تعقل الإبل والغنم كلام الراعي، قيل: المراد به العقل الكسبي؛ لأن العقل الطبيعي كان حاصلًا فيهم، ثم بيّن أن ما حرّمه المشركون حلال. فقال: 172 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}؛ أي كلوا من حلالات ما أعطيناكم من الحرث والأنعام. قيل (¬2): إن الأمر في {كُلُوا} يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس، ودفع الضرر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف، وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض. وهذا الذي (¬3) ذكره هنا تأكيدٌ للأمر السابق في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) شوكاني.

[173]

فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وإنما خص المؤمنين هنا؛ لكونهم أفضل أنواع الناس وقيل: المراد بالأكل الانتفاع، وقيل: المراد به الأكل المعتاد، وهو الظاهر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر رجلًا يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام فأنى يستجاب له"؟ أخرجه مسلم. أَشْعَثُ: هو البعيد العهد بالدهن، أَغْبَرَ: هو البعيد العهد بالغسل والنظافة، ويستفاد من هذا الحديث أن المراد بالطيبات الحلالات. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الذي رزقكموها على جميع نعمه {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}؛ أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه إلهكم لا غيره، وأنه هو مولى جميع النعم لا غيره .. فإن الشكر رأس العبادات، وقيل: معناه: إن كنتم عارفين بالله وبنعمه .. فاشكروه عليها. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه (¬1): "يقول الله تعالى: إنّي والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري". 173 - {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} لمّا (¬2) أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة لا تنحصر .. بيّن لهم في هذه الآية ما حرم عليهم؛ لكونه أقل، فلما بيّن ما حرم .. بيّن ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر: وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عما يلبس المُحْرِم فقال: لا يلبس القميص ولا السراويل". فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور؛ لكثرة المباح، وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. كما مر آنفًا في محل المناسبة. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

و {إِنَّمَا} كلمة موضوعة؛ للدلالة على إثبات المذكور، ونفي غيره، فهي بمعنى {ما} النافية، و {إلا} المثبته؛ أي: ما حرم عليكم شيئًا من الأشياء إلا الميتة؛ أي: إلا أكل الميتة، والانتفاع بها بأي وجهٍ كان؛ وهي التي زالت حياتها بغير ذكاة شرعية، وأُلحق بها بالسُّنة: ما أُبينَ من حيٍّ. رواه أبو داود والترمذي وحسنه بلفظ: "ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وإنما حرم الميتة لما يتوقع من ضررها؛ لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق، أو بعلمة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها، وخص منها السمك والجراد في خبر: "أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" رواه ابن ماجه والحاكم. {و} إلا {الدم} السفوح كما في سورة الأنعام؛ أي: الجاري، وكانت العرب تجعل الدم في المصارين، ثم تشويه وتأكله، فحرم الله الدم. وخص منه بالقيد المذكور الكبد والطحال، وإنما حُرم الدم؛ لأنه قذر وضارّ كالميتة {و} إلا {لحم الخنزير} وجميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه المقصود بالأكل، وإنما حرم لحم الخنزير؛ لأنه ضار، ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة. {و} إلا {ما أهل به لغير الله}؛ أي: وما حرم عليكم شيئًا من الأشياء إلا ما رفع به الصوت عند ذبحه لغير الله، من صنم أو غيره مما يعبد من دون الله؛ لأنه من أعمال الوثنيين، فـ {ما} (¬1) موصولة و {به}: نائب فاعل لـ {أهل} و {الباء} بمعنى (في) مع حذف مضاف، والمعنى: وما صيح في ذبحه لغير الله، والمشركون يرفعون الصوت لآلهتهم عند الذبح، فجرى ذلك مجرى أمرهم وحالهم حتى قيل لكل ذابح مهل وإن لم يجهر بالتسمية، وقال الربيع بن أنس، وابن زيد: المعنى: وذكر عليه غير اسم الله، وعلى هذا فـ {غير الله} نائب الفاعل، واللام صلة. وقد نص الفقهاء (¬2) على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله، ولو مع اسم الله؛ فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى؛ إذ يقولون عند الذبح: باسم الله، الله أكبر، يا سيد، يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر، ويقضي حاجة صاحبه. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

وقال العلماء (¬1): لو أن مسلمًا ذبح ذبيحة، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدًا، وذبيحته ذبيحة مرتد لا يحل أكلها. وإنما قدّم (¬2) لفظة {بِهِ} هنا على قوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} وأخره عنه في المائدة والأنعام والنحل؛ لأن {الباء} للتعدية كالهمزة والتشديد، فهي كالجزء من الفعل، فكان الموضع الأول أولى بها وبمدخولها، وأخَّر في بقية المواضع نظرًا للمقصود فيها من ذكر المستنكر؛ وهو الذبح لغير الله. ذكره الكرخي. وقرأ الجمهور (¬3): {حَرَّمَ} مبنيًا للفاعل مسندًا إلى ضمير اسم الله، وما بعده منصوب، و {ما} في {إِنَّمَا} مهيئة هيأت {إنّ} لدخولها على الجملة الفعلية، وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا: برفع {الميتة} وما بعدها، فتكون {ما} موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف؛ تقديره: إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبر إن، وقرأ أبو جعفر في الشاذ {حُرِّم} مشددًا مبنيًّا للمفعول، و {ما} تحتمل كونها موصولة، أو مهيئة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية شاذة: {إنما حَرُمَ} بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازمًا {الميتة} وما بعدها مرفوع، وتحتمل ما للوجهين من التهيئة والوصل، و {الميتة} فاعل بـ {حَرُم} إن كانت {ما} مهيِّئة، وخبر إنّ إنْ كانت {ما} موصولة، وقرأ أبو جعفر في المتواتر: {الميّتة} - بتشديد الياء - في جميع القرآن. {فَمَنِ اضْطُرَّ}؛ أي: أُلجىء وأُحوج إلى أكل شيء مما ذكر بأن أصابه جوع شديد، ولم يجد حلالًا يسد به الرمق، أو أكره على تناول ذلك، وقرأ (¬4) أبو جعفر في المتواتر: {فَمَنِ اضْطُرَّ} بضم النون للاتباع، وبكسرها على أصل حركة التقاء الساكنين، وقرأ ابن محيص شذوذًا بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ أبو السمال بكسر الطاء وهي قراءة شاذة أيضًا، والمراد: مَنْ صيرةُ الجوع والعدم إلى ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الجمل. (¬3) البحر المحيط. (¬4) شوكاني.

الاضطرار والاحتياج إلى الميتة حالة كونه غير مباح؛ أي: غير طالب للذة {وَلَا عَادٍ}؛ أي: متجاوز سد الجوعة، كما نقل عن الحسن، وقتادة، والربيع، ومجاهد، وابن زيد. وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} على الوالي وخارج عن طاعته. {وَلَا عَادٍ}؛ أي: غير متعد على المسلمين بقطع الطريق، فأكله - {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ أي: فلا حرج ولا ذنب على المضطر المذكور في أكل جميع ما ذكر، لترخيص الله سبحانه وتعالى له في ذلك {إِنَّ اللَّهَ} تعالى {غَفُورٌ} لمن أكل في حال الاضطرار {رَحِيمٌ} له حيث أباح له في تناول قدر الحاجة. فخرج بذلك الباغي والعادي، فمن (¬1) خرج يقطع الرحم، أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض، أو مفارقًا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله كالناشزة والآبق، فاضطر إلى أكل الميتة ونحوها .. لم تحل له ما لم يتب؛ لأن الرخص لا تفعل مع المعصية. أما الباغي والعادي (¬2) المقيمان المضطران إلى أكل ما ذكر: فيحل لهما أكله؛ وذلك لأن الترخيص لا يمتنع في حق المقيم العاصي إلا إذا كان مراقَ الدم، وقادرًا على توبة نفسه كالمرتد، وتارك الصلاة بشرطه، أما غيره: فتحل له سائر الرخص التي من جملتها أكل الميتة، هكذا يقتضي كلام الرملي في باب الأطعمة. قلتُ: والظاهر من إطلاق الآية أن الباغي والعادي لا يحل لهما أكل الميتة ونحوها عند الاضطرار مطلقًا؛ أي: سواء كانا مقيمين أو مسافرين. وعبارة المراغي هنا (¬3): {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ أي: فمن ألجىء إلى أكل شيء حيث حرم الله عليه بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبًا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة .. فلا ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) جمل. (¬3) مراغي.

[174]

إثم عليه؛ لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعًا أشد ضررًا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق، وهو في فعله مظنون، كما أن من أكل مما أهل به لغير الله مضطرًا لم يقصد إجازةَ عمل الوثنية ولا استحسانه. وإنما ذكر قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}؛ لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء الضرورة. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم إذ رخص لهم في تناولها، ولم يوقعم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها. انتهت. وظاهر قوله (¬1): {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} نفى كل فرد فرد من الإثم عنه إذا أكل، لا وجوب الأكل. وقال الطبري: ليس الأكل عند الضرورة رخصة، بل ذلك عزيمة واجبة، ولو امتنع من الأكل كان عاصيًا. وقال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة، فلم يأكل حتى مات .. دخل النار، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له. 174 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} لما بين سبحانه وتعالى فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم .. ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك، فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة، كما قال في آية أخرى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} فقال: إن الذين يخفون ما أنزل الله على رسله من الكتاب المشتمل على الأحكام من المحللات والمحرمات، وعلى نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[175]

موضعه برأيهم واجتهادهم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ}؛ أي؛ ويأخذون بسبب كتمانه من سفلتهم {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا حقيرًا يسيرًا من حطام الدنيا كالرشوة على الكتمان المذكور، أو الجعل؛ أي: الأجر على الفتاوى الباطلة، أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرؤوسين، وسمي قليلًا وإن كان كثيرًا في ذاته؛ لأن كل عوض عن الحق .. فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل .. فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. {أُولَئِكَ} الكاتمون لكتاب الله المتجرون به {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} من ثمنه {إِلَّا النَّارَ}؛ أي: إلا الحرام الذي يكون سببًا لدخولهم النار يوم القيامة، وقد يكون (¬1) المعنى: إنه لا تملأ بطونهم إلا النار؛ أي: لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها، على نحو ما جاء في الحديث: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب". وهذا الحكم عام يصدق على علماء المسلمين الذين يعرضون عن السنن، ويظهرون البدع كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق، وخذلان أهل الباطل. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} بكلام لطف ورحمة {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: إن الله تعالى يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا .. أعرضوا عن المغضوب عليهم، ولم يكلموهم، كما أنّهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر. {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}؛ أي: ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة، والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرون على كفرهم وكتمانهم {وَلَهُمْ}؛ أي: ولهؤلاء الكاتمين {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: شديد الألم والإيجاع، يخلص ألمه إلى قلوبهم. 175 - {أُولَئِكَ} الكاتمون الذين جزاؤهم ما تقدم، هم {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ}؛ أي: أخذوها واختاروها لأنفسهم في الدنيا {بِالْهُدَى}؛ أي: بدل الهدى {و} ¬

_ (¬1) المراغي.

[176]

اختاروا {العذاب} في الآخرة الذي سببه كتمان الحق؛ للأغراض الدنيوية {بِالْمَغْفِرَةِ}؛ أي: بدل المغفرة والجنة التي سببها إظهار ما أنزل الله تعالى، والمعنى: إنهم اختاروا الضلالة على الهدى، واختاروا العذاب على المغفرة؛ لأنهم كانوا عالمين بالحق، ولكن كتموه، وأخفوه، وكان في إظهاره الهدى والمغفرة، وفي كتمانه الضلالة والعذاب، فلما أقدموا على إخفاء الحق وكتمانه .. كانوا بائعين الهدى بالضلالة، والمغفرة بالعذاب. {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}؛ أي: فما (¬1) الذي صَبَّرهم، وأيُّ شيءٍ جسرهم وأجرأهم وأدومهم على عمل أهل النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ فهو استفهام بمعنى التوبيخ لهم، وقيل: إنه بمعنى التعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، فلما أقدموا على ما يوجب النار مع علمهم بذلك .. صاروا كالراضين بالعذاب، والصابرين عليه، فتعجب من حالهم بقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} والمراد (¬2) تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم. 176 - {ذَلِكَ} العذاب المذكور مستحق لهم {بِأَنَّ اللَّهَ}؛ أي: بسبب أن الله سبحانه وتعالى {نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}؛ أي: أنزل كتابه - التوراة - ببيان الحق الذي منه نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكتموا وحرفوا ما فيه، وأرادوا ستر الحق وغلبته، والحق لا يغالب، فمن غالبه غُلِب. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ}؛ أي: اختلفوا في تأويله ومعانيه، فحرفوها وبدلوها، وقيل: آمنوا ببعض وكفروا ببعض. {لَفِي شِقَاقٍ}؛ أي: خلاف ومنازعة {بَعِيدٍ} عن الحق والصواب مستوجب لهم أشد العذاب. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) شوكاني.

أو المعنى (¬1): أن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق، وإزالة الاختلاف - وهو القرآن - لفي شقاق بعيد عن سبيل الحق، فلا يهتدون إليه، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأي ومذهب، وينأى بجانبه عن الآخر، فيكون الشقاق بينهما بعيدًا. وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلًا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن الكريم حيث قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فلا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يكونوا شِيَعًا ومذاهب شتى كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ} فإذا وجد خلاف في الفهم - وهو ضروري في طباع البشر - وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم حيث جعلوه مذاهب وطرائق شتى؛ لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجًا على أنّ ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلفوا فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أيّ}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد زيدت تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {النَّاسُ}: صفة لـ {أيّ} تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. {كُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {كُلُوا}، أو بمحذوف حال من {حَلَالًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، فأعربت حالًا. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {حَلَالًا}: مفعول به ¬

_ (¬1) المراغي.

لـ {كُلُوا}. {طَيِّبًا}: صفة مؤكدة لـ {حَلَالًا}؛ لأن معناهما واحد، وهو قول ابن مالك، أو مخصصة له؛ لأن معناه مغاير لمعنى الحلال، وهو المستلذ؛ وهو قول الشافعي وغيره، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر، وكل ما هو خبيث. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. {وَلَا}: {الواو} عاطفة، {لا}: ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {كُلُوا}. {إِنَّهُ} {إن}: حرف نصب وتوكيد، والهاء اسمها، وإنما كَسَرَ (¬1) همزة {إن}؛ لأنه تعالى أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه لو فتح الهمزة .. لكان التقدير: لا تتبعوه؛ لأنه عدو لكم، واتباعه ممنوع وإن لم يكن عدوًّا لنا، ومثله: لبيك إن الحمد لك والنعمة لك، فكسر الهمزة أجود فيه لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كل حال، والمراد بالشيطان هنا الجنس، فيشمل جميع شياطين الإنس والجن، وليس المراد به واحدًا. قاله أبو البقاء. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {عدو}. {عَدُوٌّ}: خبر إن. {مُبِينٌ}: صفة لـ {عدو}، وجملة إن في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {يَأْمُرُكُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانِ}، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي في قوله {وَلَا تَتَّبِعُوا}. بـ {السُّوءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَأْمُرُكُمْ}. {وَالْفَحْشَاءِ}: معطوف على {بِالسُّوءِ}. {وَأَن}: {الواو} عاطفة، و {أن}: حرف نصب ومصدر. {تَقُولُوا}: فعل وفاعل، ومنصوب بأن. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُوا}، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على {بِالسُّوءِ}، تقديره: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وبقولكم على الله. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{مَا لَا تَعْلَمُونَ}: {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {تَقُولُوا}. {لَا}: نافية. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، وعلم هنا بمعنى عرف، يتعدى لمفعول واحد، وهو محذوف؛ تقديره: ما لا تعلمونه، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. {وَإِذَا} {الواو} استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط. {قِيلَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {قِيلَ}. {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: مقول محكي في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وإن شئت قلت {اتَّبِعُوا}: فعل وفاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}؛ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: أنزل الله. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب الشرط لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {بَلْ} حرف عطف وإضراب. {نَتَّبِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الكفار، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة محذوفة؛ تقديرها: قالوا لا نتبع ما أنزل الله، بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {نَتَّبِعُ}. {أَلْفَيْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ {ألفى}. {آبَاءَنَا}: مفعول أول ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير عليه. {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.

{أَوَلَوْ}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والواو عاطفة على محذوف؛ تقديره: أيتبعونهم ولو كان أباؤهم، أو حالية كما قاله الزمخشري {لو}: غائية لا جواب لها، وقال أبو السعود: إن {لو} في مثل هذا التركيب لا تحتاج إلى جواب؛ لأن القصد منها تعميم الأحوال، فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة، بدلالة ما قبلها عليه. {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص. {آبَاؤُهُمْ}: اسم كان ومضاف إليه. {لَا}: نافية. {يَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل. {شَيْئًا}: مفعول به. {وَلَا} {الواو} عاطفة، {لا}: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {يَهْتَدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَعْقِلُونَ}، وجملة {يَعْقِلُونَ} مع ما عطف عليها في محل النصب خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} من اسمها وخبرها معطوفة على جملة محذوفة؛ على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من مفعول الجملة المحذوفة؛ تقديره: أيتبعون آباءهم حالة كون آبائهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}. {وَمَثَلُ}: {الواو} استثنائية، {وَمَثَلُ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {كَمَثَلِ الَّذِي}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ولكنه على حذف مضاف؛ إما من الأول تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق، أو من الثاني تقديره: ومثل الذين كفروا كمثل مواشي الذي ينعق، كما مرت الإشارة إليه في قسم التفسير. {يَنْعِقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَنْعِقُ} {لَا}: نافية. {يَسْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {دُعَاءً}: مفعول به. {وَنِدَاءً}: معطوف عليه. {صُمٌّ}: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم صمّ. {بُكْمٌ}: خبر ثان. {عُمْيٌ}: خبر ثالث، والجملة الإسمية في محل الجر باللام

المقدرة المعللة للتشبيه المذكور. {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}. {يَا أَيُّهَا}: {يَا} حرف نداء، {كُلُوا}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: في محل الرفع صفة لـ {أي} تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {كُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {مِنْ طَيِّبَاتِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كُلُوا} وهو مضاف. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {رَزَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن رَزَقْنا بمعنى: أعطيَنْا، يتعدى لمفعولين، والثاني محذوف تقديره: رزقناكموه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. {وَاشْكُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {كُلُوا}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اشكروا}، {إن}: حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها. {إِيَّاهُ}: مفعول مقدم لـ {تَعْبُدُونَ}، وجملة {تَعْبُدُونَ}: في محل النصب خبر كان، وجواب {إن} معلوم مما قبلها؛ تقديره: إن كنتم إياه تعبدون .. فاشكروا له، وجملة الشرط جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. {إِنَّمَا} كافة ومكفوفة؛ لا عمل لها، وهي أداة حصر. {حَرَّمَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {عَلَيْكُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {حرم}. {الْمَيْتَةَ}: مفعول به. {وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}: معطوفان عليه. {وَمَا}: {الواو} عاطفة {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوف على {الْمَيْتَةَ}. {أُهِلَّ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة:

{بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {أهل}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. {لِغَيْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أهل}. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. {فَمَنِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الله حرم عليكم الميتة وما بعدها، وأردتم بيان حكم من اضطر إليها .. فأقول لكم. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {اضْطُرَّ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}. {غَيْرَ}: منصوب على الحالية من نائب فاعل {اضْطُرَّ} {غيرَ}: مضاف. {بَاغٍ}: مضاف إليه. {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لا}: زائدة. {عَادٍ}: معطوف على باغٍ. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، {لا} نافية تعمل عمل إن. {إِثْمَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأن هذه الجملة سيقت لتعليل ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ}: في محل الرفع اسمها. {يَكْتُمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مَا}: اسم موصول، أو

نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به. {أَنْزَلَ}: فعل ماض. ولفظ الجلالة {اللَّهُ}: فاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف؛ تقديره: أنزله الله. {مِنَ الْكِتَابِ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف في {أَنْزَلَ}. {وَيَشْتَرُونَ}: {الواو} عاطفة، {يشترون}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَكْتُمُونَ} على كونها صلة الموصول. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به. {ثَمَنًا}: مفعول به. {قَلِيلًا}: صفة له. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {مَا}: نافية. {يَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل. {فِي بُطُونِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَأْكُلُونَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {النَّارَ}: مفعول {يَأْكُلُونَ}، وجملة يأكلون في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {وَلَا}: {الواو} عاطفة. {لا}: نافية. {يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {مَا يَأْكُلُونَ} على كونها خبر المبتدأ. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُكَلِّمُهُمُ}. {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لا}: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها. {يُزَكِّيهِمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {يَأْكُلُونَ}. {وَلَهُمْ}: الواو: عاطفة، {لهم} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل الرفع معطوفة على جملة {يَأْكُلُونَ} على كونها خبر المبتدأ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}. {أُولَئِكَ} مبتدأ. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {اشْتَرَوُا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الضَّلَالَةَ}: مفعول به. {بِالْهُدَى}: متعلق بـ {اشْتَرَوُا}. {وَالْعَذَابَ}: معطوف على {الضَّلَالَةَ}. {بِالْمَغْفِرَةِ}: متعلق بـ {اشْتَرَوُا} أيضًا. {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}: {الفاء}: فاء

الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم صنيعهم القبيح وعقوبتهم القبيحة، وأردتم بيان ما يقال فيهم .. فأقول لكم: {ما أصبرهم على النار}: (ما) استفهامية، أو تعجبية في محل الرفع مبتدأ. {أصبر}: فعل ماض، أو فعل تعجب، وفاعل ضمير يعود على {ما}، والهاء مفعول به {عَلَى النَّارِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أصبر}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ}: {الباء}: حرف جر، {أنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {نَزَّلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} {الْكِتَابَ}: مفعول به. {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {نَزَّلَ}، أو حال من {الْكِتَابَ}، وجملة {نَزَّلَ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بواجب الحذف؛ لوقوعه خبر المبتدأ، تقديره: ذلك العذاب مستحق لهم بسبب تنزيل الله الكتاب، واختلافهم فيه، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. {وَإِنَّ}: {الواو} استئنافية، أو عاطفة، {إن}: حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب اسم إن {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فِي الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفُوا}. {لَفِي شِقَاقٍ}: {اللام}: حرف ابتداء، {في شقاق} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر إن. {بَعِيدٍ}: صفة لـ {شِقَاقٍ}، والتقدير: لكائنون في شقاق بعيد، وجملة {إن} من اسمها وخبرها مستأنفة استئنافًا نحويًّا، أو معطوفة على جملة قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {خُطُوَاتِ}: الخُطوات - بضم الخاء والطاء -: جمع خُطوة بضم الخاء، وأما على قراءة فتحهما: فجمع خَطوة بفتح الخاء، والفرق بين الخُطوة بالضم،

والخَطوة بالفتح: أن المضموم اسم لما بين القدمين، كأنه اسم للمسافة، كالغرفة اسم لما يغترف، والمفتوح مصدر دال على المرة، من خطا يخطو إذا مشى، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحد. ذكره أبو البقاء. {أَلْفَيْنَا}: من ألفى يلفي الرباعي، ولامه واو لا ياء؛ لأن الأصل فيما جهل من اللامات أن يكون واوًا؛ لأنه أوسع وأكثر، فالرد إليه أولى. ذكره السمين. {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يقال: نَعَق - بفتح العين - ينعِق - بكسرها - نعيقًا، ونُعاقًا بالضم، ونَعَقَانًا بفتحتين، والنعيق: نداء الراعي وتصويته بالغنم ليزجرها، ولا يقال: نعق إلا لراعي الغنم وحدها، وأما نعق الغراب: فبالمعجمة، وحكى بعضهم بالمهملة. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} جمع أصم وأبكم وأعمى، كحمر جمع أحمر. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الأصل في كلوا: أأكلوا، فالهمزة الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، إلا أنهم حذفوا الفاء، فاستغنوا عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها، والحذف هنا شاذ ليس بقياس، ولم يأت إلا في (كل) و (خذ) و (مر)، كما قال ابن مالك في لامية الأفعال: وَشَذَّ بِالْحَذْفِ مُرْ وَخُذْ وَكُلْ وَفَشَا ... وَأْمُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيْمُ خُذْ وَكُلاَ {وَمَا أُهِلَّ بِهِ} يقال: أهل يهل إهلالًا إذا صرخ ورفع صوته، ومنه الهلال؛ لأنه يصرخ عند رؤيته، واستهلّ الصبي إذا صرخ عند خروجه. {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} والباغي: اسم فاعل من بغى يبغي فهو باغٍ، كقاضي فهو ناقص يائي، وهو من البغي وهو الظلم، والعادي: اسم فاعل من عدا يعدو إذا تجاوز الحد، والأصل: عادو، فقلبت {الواو} ياء لانكسار ما قبلها، كغاز من الغزو، فهو ناقص واوي، وهو من العدوان؛ وهو مجاوزة الحد. {فِي بُطُونِهِمْ} البطن معروف، وجمعه على فعول قياس، ويجمع أيضًا على بطنان، ويقال: بطن الأمر يبطن إذا خفي، وبطن الرجل، فهو بطين إذا كبر بطنه، والبطنة امتلاء البطن بالطعام، ويقال: البطنة تذهب الفطنة.

البلاغة {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} استعارة (¬1) عن الاقتداء به واتباع آثاره؛ وهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعته فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال: شُبِّه تزيِّنه وبعثه لهم على الشر تسفيهًا لرأيهم وتحقيرًا لشأنهم، يأمر من يأمر بشيءٍ، ثم اشتق من الأمر بمعنى التزيين، يأمر بمعنى يزين على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. {بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} هو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن السوء يتناول جميع المعاصي، والفحشاء أقبح وأفحش المعاصي. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة فيه، ومجمل لحذف وجه الشبه فيه، فقد شبه الكفار بالبهائم التي تسمع صوت المنادي من غير أن تفقه كلامه وتفهم مراده. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فيه تشبيه بليغ حذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه؛ أي: هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالبكم والعمي في عدم الانتفاع بالقرآن. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} فيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جرى على الأسلوب الأول .. لقال: واشكرونا. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} فيه قصر قلب للرد على من استحل هذه الأربعة، وحرم الحلال غيرها كالسوائب، ومع ذلك هو، أي: ما حرم عليكم إلا هذه الأربعة لا غيرها من البحيرة. وفي قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم، وتصويرهم بمن يتناول رضف جهنم، وذلك أفظع سماعًا وأشد إيجاعًا. {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال: ¬

_ (¬1) عكبرى.

شبه استبدال الضلالة عن الهدى باشتراء من اشترى شيئًا بشيءٍ، ثم اشتق من الاشتراء بمعنى الاستبدال، اشتروا بمعنى: استبدلوا على طريقة الاستعارة التصريحية. {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} فيه مجاز بالحذف؛ أي: على عمل أهل النار. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}. المناسبة قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، وجه (¬1) مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا أمر في الآيات السابقة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، وأنكروا على المسلمين التحول إلى الكعبة، ووقع الجدال بينهم وبين المسلمين، حتى بلغ أشده، وادعى كل من اليهود والنصارى أن الهدى مقصور على قبلته، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعًا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يقبلها الله إلا إذا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعًا .. فلأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين؛ لأنه إنما شرع لتذكير المصلي بأنه يناجي ربه ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارًا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم في سائر ¬

_ (¬1) تلخيص البيان.

[177]

شؤونهم وأغراضهم، وتوحيد جهودهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} سيأتي لك إن شاء الله تعالى بيان مناسبتها لما قبلها في محل تفسيرها. أسباب النزول قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، قال عبد (¬1) الرزاق: أنبأنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قِبل المغرب، والنصارى قِبل المشرق، فنزلت: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البر؛ فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا}، فدعا الرجل، فتلاها عليه، وكان في ابتداء الإِسلام قبل نزول الفرائض، إذا شهد الرجل أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى إلى أي ناحية كانت، ثم مات على ذلك يرجى له، ويطمع له في خير، فأنزل الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وكانت اليهود توجهت قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلِ المشرق. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ...} الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيَّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإِسلام بقليل، وكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العُدد والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرُّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم؛ فنزل فيهم: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. التفسير وأوجه القراءة 177 - {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ حمزة وحفص بنصب ¬

_ (¬1) المراغي بتصرف وزيادة.

{الْبِرَّ} على جعله خبر {لَيْسَ} مقدمًا على الاسم، و {أَنْ تُوَلُّوا} في موضع الرفع اسم {لَيْسَ} مؤخر، والمعنى: ليس توليةُ وجوهكم جهة المشرق والمغرب البر كله، وهذه القراءة أولى من وجه، وهو أنه جعل فيها اسم ليس أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرف بالألف واللام، وقرأ الجمهور برفع البر، والمعنى: ليس البرُّ والخير الكامل توليةَ وجوهكم إلى المشرق والمغرب، والوجه أن يلي المرفوع لـ {لَيْسَ}؛ لأنها بمنزلة الفعل المتعدي، وقراءة الجمهور أولى من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل. وفي مصحف أُبي وعبد الله {ليس البر بأن تولوا} وخرج على زيادة الباء في خبر {ليس} وقال الأعمش في مصحف عبد الله أيضًا: {لا تحسبن البر} وكلاهما شاذ. وهذا الخطاب (¬1) لأهل الكتاب؛ لأن النصارى تصلي قبل مشرق بيت المقدس، واليهود قبل مغربه، وادعى كل واحد من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم، وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما بينه الله، واتبعه المؤمنون، وقيل: الخطاب عام لهم وللمسلمين، أي: ليس البر مقصورًا بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: والبر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله الموجبة للثواب، والمؤدية إلى الجنة، فهو معنى من المعاني، فلا يصح الإخبار عنه بالذوات إلا بتجوز، إما بحذف مضاف من الأول تقديره: ولكن ذا البر وصاحبه من آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ شذوذًا: {ولكن البار} بالألف بعد الباء الموحدة، أو من الثاني تقديره: ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن باللهِ، وهذا أوفق وأحسن، ويحتمل (¬2) كون البر اسم فاعل، يقال: بررت أبر، فأنا برّ وبارّ، فبنى اسم فاعله ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البيضاوي.

تارة على فعل، نحو كهل وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادعاء حذف الألف من البر، ومثله سرّ وقرّ وربّ، أي: سار وقار وراب. وقرأ نافع وابن عامر: {ولكن} بسكون النون خفيفة، ورفع {البرُّ}، وقرأ الباقون بفتح النون مشددةً، ونصب {الْبِرَّ}، ومضمون الآية: أن البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع هذه الأمور المذكورة في هذه الآية. ومعنى الآية: ليس البر والخير العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر العظيم الذي يجب الاهتمام به بر من آمن بالله فالمراد بالبر هنا الإيمان بالله، والتقوى من الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. والحاصل: أن البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور ثمانية. أحدها: الإيمان بالله، وذكره بقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}؛ أي: صَدَّق بوجوده، وقدمه وبقائه، وربوبيته وألوهيته، وسائر صفاته، وإنما قدم الإيمان بالله؛ لأنه أساس كل بر، فأهل الكتاب أخلُّوا بذلك؛ لأن اليهود تقول: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فالإيمان (¬1) بالله لا يكون إلا إذا كان متمكنًا من النفس مصحوبًا بالإذعان والخضوع، واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} والإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطنة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله ودعوى التشريع، والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدًا ذليلًا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه. وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وذكره بقوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ مَنْ آمن باليوم الآخر؛ أي: صدق بمجيء يوم البعث والجزاء بعلم الموت ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مع ما فيه من الحساب والميزان، والجنة والنار، فاليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، والنصارى أنكروا المعاد الجسماني. والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبي غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها فحسب. وثالثها: الإيمان بالملائكة، وذكره بقوله: {وَالْمَلَائِكَةِ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالملائكة؛ أي: صدق بوجودهم، وأنهم عباد الله لا يعصون ما أمرهم، فاليهود أخلوا بذلك حيث أظهروا عدواة جبريل عليه السلام، فالإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، والنبوة، واليوم الآخر، فمن أنكرهم أنكر كل ذلك؛ لأن ملك الوحي هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين، كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}. وقال أيضًا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}. ورابعها: الإيمان بكتب الله، وذكره بقوله: {وَالْكِتَابِ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن وصدق بكتب الله المنزلة من السماء، فاليهود والنصارى قد أخلوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن، فالإيمان بالكتب السماوية التي جاءت بها الأنبياء يستدعي امتثال ما فيها من أوامر ونواه؛ إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع .. توجهت نفسه إلى قبوله والعمل به، ومن اعتقد أنه ضار .. ابتعد عنه ونفرت نفسه منه. وخامسها: الإيمان بالنبيين، وذكره بقوله: {وَالنَّبِيِّينَ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالنبيين؛ أي: صدق بنبوتهم وصحة ما جاؤوا به عن الله من الشرائع، فاليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، وطعنوا في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والإيمان بالنبيين يستدعي الاهتداء بهديهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم. وقد جاء في "الصحيحين": أن جماعة من أمته - صلى الله عليه وسلم - يردون الحوض يوم القيامة، فيذادون عنه؛ أي: يطردون دونه، فيقول: "أمتي"، فيقال: إنك لا تدري

ما أحدثوا بعدك، فيقول: "سحقًا لمن بدل بعدي". وإنما خص الإيمان (¬1) بهذه الأمور الخمسة؛ لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها. وقدم الإيمان (¬2) بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل؛ لأن المكلف له مبدأ ووسط ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط: فلا تتم إلا بالرسالة؛ وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول. وقدم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو إيتاء المال والصلاة والزكاة؛ لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان، وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان حصلت حقيقة الإيمان. فإن قلتَ: لِمَ قدم هنا ذكر اليوم الآخر وأخَّره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؟ قلتُ: إنما قدمه هنا وأخره هناك؛ لأجل أن الكافر لا يحرف الآخرة ولا يعتني بها، وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده، فلذلك أخره هناك، ولما ذكر هنا حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى، ثم أمر الآخرة قدم ذكره هنا تنبيهًا على أن البر مراعاة الله، ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما. وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى، واليهود أخلوا بذلك؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل، وذكره بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من أعطى المال على حبه؛ أي: لأجل حب الله ورضاه، أو أعطى مع حب المال، أو أعطى مع حب الإيتاء، يريد أن يعطيه، وهو طيب النفس بالإيتاء، فالضمير إما راجع إلى الله، أو إلى المال، أو إلى المصدر المفهوم من الفعل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" متفق عليه؛ أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته إياه {ذَوِي الْقُرْبَى}؛ أي: أصحاب قرابة المعطي؛ المحاويج منهم، وآثرهم به على نفسه، وإنما قيدناهم بالفقراء والمحاويج منهم؛ إذ الإعطاء للأغنياء هدية لا صدقة، كما ذكره الكرخي. وإنما قدمهم على من بعدهم؛ لأنهم أحق بالإعطاء، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة" أخرجه النسائي. وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة - أي: جارية - ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: "أوقد فعلت"؟ قالت: نعم. قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" متفق عليه. والمراد بذوي القربى كل من بينه وبين المعطي قرابة بولادة، ولو كان غير محرم. {وَالْيَتَامَى}؛ أي: وأعطى يتامى المسلمين؛ يعني: الصغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب؛ لأنهم في حاجة إلى معونة ذوي اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررًا على أنفسهم وعلى الناس. {وَالْمَسَاكِينَ}؛ أي: وأعطى المحاويج الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم،

فيجب على المسلمين أن يساعدوهم، ويقدموا لهم المعونة؛ إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر؛ حفظًا لكيانها، وإبقاءً على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال، وهو جمع مسكين سمي بذلك؛ لأنه دائم السكون إلى الناس؛ لأنه لا شيء له. {وَابْنَ السَّبِيلِ}؛ أي: وأعطى المسافر المنقطع عن أهله؛ أي: المنقطع به السفر دون وطنه؛ لذهاب نفقته أو وقوف دابته سمي المسافر ابن السبيل؛ أي: الطريق، لملازمته إياها في السفر، أو لأن الطريق تبرزه، فكأنها ولدته، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض. {وَالسَّائِلِينَ}؛ أي: وأعطى الطالبين للإحسان الذين اضطروا إلى تكفف الناس لشدة عوزهم، ولو كانوا أغنياء. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اعطوا السائل ولو جاء على فرس" أخرجه أبو داود. وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطوا السائل ولو جاء على فرسٍ" أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن أم نجيد رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئًا أعطيه إياه. قال: "إن لم تجدي إلا ظلفًا محرقًا فادفعيه إليه في يده" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال حديث حسن صحيح. {وَفِي الرِّقَابِ}: معطوف على المفعول الأول، وهو {ذَوِي الْقُرْبَى}؛ أي: وأعطى المال ودفعه في فك الرقاب وتحريرها وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم. والمكاتَب: هو الرقيق الذي يشتري نفسه من مولاه بثمنٍ يجعله منجمًا بنجمين فأكثر. والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بملك نصاب محدود من المال، ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى طاقة المعطي وحال المعطى، وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حثَّ عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العام بين المسلمين، ولو أدوها ..

لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإِسلام؛ لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقًا في أموال الأغنياء، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين. وسابعها: إقامة الصلاة وأداء الزكاة، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما، وذكره بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} المفروضة؛ أي: أداها في أوقاتها المحدودة لها. {وَآتَى الزَّكَاةَ}؛ أي: وأعطى الزكاة المفروضة في مصارفها المبينة شرعًا، وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} معطوف على {آمَنَ} على كونها صلة لـ {مَنْ}؛ أي: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله، وبر من أقام الصلاة وآتى الزكاة. والمرادُ بإقامة الصلاة: أداؤها على أقوم وجه، ولا يستحق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون ذلك بوجود سرِّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلي المصلي بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشةً ولا منكرًا. وقلما تجيء (¬1) الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة، وذلك لأن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البر، ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن مانعها يهدم ركنًا من أركان الإِسلام، وينقض أساس الإيمان، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه سبعين مرة. وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد، وذكره بقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} معطوف على {مَنْ آمَنَ} على كونه خبر {لكِنِ}؛ أي: ولكن البرَّ المؤمنون بالله، واليوم الآخر، والموفون بعهدهم؛ أي: ولكن البرَّ برُّ المؤمنين بالله، وبر الموفين بعهدهم؛ أي: المتمِّين بعهدهم فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس. {إذا عَاهَدُوا} الله أو الناس، يعني: إذا وعدوا أنجزوا، وإذا نذروا أوفوا، وإذا حلفوا برّوا في أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم، وإذا ائتمنوا أدوا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وفي الوفاء بالعهود (¬1) والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينحل عقده، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام مفسد للعمران، فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد - وهو ركن الأمانة، وقوام الصداق - إلا حل بها العقاب الإلهي، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين، وكأنهم وحوش مفترسة ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثم يضطر أفرادها إلى الاستيثاق في عقودهم بكلِّ ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء .. لسلموا من هذا البلاء. وفي مصحف عبد الله (¬2): {والموفين} نصبًا على المدح وهي قراءة شاذ شذوذًا، وقرأ الجحدري {بعهودهم} على الجمع، {وَالصَّابِرِينَ}: مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: وأمدح الصابرين. {فِي الْبَأْسَاءِ}؛ أي: عند الشدة والفقر والفاقة. {وَالضَّرَّاءِ}؛ أي: وعند التفسير من مرض، وفقد أهل وولد ومال. {وَحِينَ الْبَأْسِ}؛ أي: وفي وقت شدة القتال في سبيل الله، وكثرة الضرب والطعان، ومنازلة الأقران. إنما خص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال؛ لأن من صبر فيها .. كان في غيرها أصبر، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولًا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض؛ وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال، وهو أشد من الفقر والمرض. وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب شذوذًا: {والصابرون} عطفًا على {الموفون}، وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمر البأس .. نتَّقي به، وإن الشجاع منّا الذي يُحاذي به؛ يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه، قوله: احمر البأس؛ أي: اشتد الحرب، ونتقي به؛ أي: نجعله وقاية لنا من العدو، {أُولَئِكَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[178]

الموصوفون بهذه الصفات السابقة من الاتصاف بالإيمان وما بعده. {الَّذِينَ صَدَقُوا} في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا: آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} عن الكفر؛ أي: وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقايةً بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة. وقال بعض العلماء: مَنْ عمل بهذه الآية .. فقد كل إيمانه، ونال أقصى مراتب إيقانه. 178 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه لما حلل ما حلل من قبل، وحرم ما حرم، ثم أتبع بذكر من أخذ مالًا من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلا النار، واقتضى ذلك انتظام جيع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها .. أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي بحفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مالٍ بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص؛ لعموم البلوى بالمأكول؛ لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان، ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة؛ لأن من كان يندر منه وقوع القتل .. فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان تقديم ذكر ما تعم به البلوى أهم، ونبه أيضًا على أنه وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجًا له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}؛ أي: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كتب عليكم القصاص في اللوح المحفوظ، وفرض عليكم في سابق علمي استيفاء القصاص من القاتل: {الْقَتْلَى}؛ أي: بسبب قتل، القتلى: جمع قتيل بمعنى: مقتول بغير ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حق، ويكون الخطاب موجهًا إلى الإِمام، أو من ينوب منابه؛ أي: كتب عليكم أيها الأئمة استيفاء القصاص من القاتل إذا أراد ولي الدم استيفائه، أو يكون (¬1) الخطاب موجهًا إلى القاتل، والتقدير: يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص، وذلك أنه يجب على القاتل إذا أراد الولي قتله أن يستسلم لأمر الله، وينقاد لقصاصه المشروع، وليس له أن يمتنع، بخلاف الزاني والسارق؛ فإن لهما الهرب من الحد، ولهما أن يستترا بستر الله، ولهما أن لا يعترفا، والقصاص: المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح، من قص الأثر إذا اتبعه، فالمفعول به يتبع ما فعل به، فيفعل به مثل ذلك، والمعنى: فرض عليكم المساواة والعدل في القصاص بسبب القتل عند مطالبة الولي بالقصاص، لا كما يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، ثم فسر المساواة بقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}؛ أي: يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حرٌّ حرًّا .. قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها، ولا يقتل الحر بالعبد. {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}؛ أي: يؤخذ العبد ويقتل بالعبد، وبالحر من باب أولى، وبينت الأحاديث: أنه يقتل أحد النوعين الذكر والأنثى بالآخر، ويعتبر أن لا يفضل القاتل القتيل بالدين، والأصلية، والحرية. ومعنى الآية (¬2): أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين، أو العبيد من المسلمين، أو الأحرار من المعاهدين، أو العبيد منهم: فيُقتل كل صنف إذا قَتَل بمثله؛ الذكر بالذكر وبالأنثى، والأنثى بالأنثى وبالذكر، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا حر بعبد، ولا والد بولد، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ويدل عليه ما روى البخاري في "صحيحه" عن جحيفة قال: سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد" أخرجه الترمذي. والخلاصة (¬1): أن القصاص على القاتل أيًّا كان، لا على أحد من قبيلته، ولا على فرد من أفراد عشيرته. قال البيضاوي في "تفسيره": كان بين حيّين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول - أي فضل وشرف - على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد منا، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فنزلت الآية، وأمرهم أن يتبارؤوا؛ أي: يتساووا. وقد جرى العمل من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتل الرجل بالمرأة، وبعد أن ذكر وجوب القصاص؛ وهو أساس العدل .. ذكر هنا العفو؛ وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ}؛ أي: فالقاتل الذي ترك له {مِنْ} دم {أَخِيهِ} المقتول {شَيْءٌ} من العفو، ولو يسيرًا، كأن عفى بعض أولياء الدم - ولو واحد. فيما إذا تعددوا .. سقط عنه القود ووجبت الدية إن حصل العفو عليها {فـ} حينئذٍ وجب على العافي الذي هو ولي الدم {اتباع} القاتل ومطالبته {بـ} الدية على الوجه {المعروف} شرعًا؛ وهو أن يطالبه بالمال من غير تشديد عليه ولا عنف، ولا يطالبه بأكثر من حقه، ويأخذه منه في ثلاث سنين إن كانت دية تامة، أو في سنتين إن كان ثلثي الدية أو نصفًا، وإن كان ثلثها ففي عامه، {و} على القاتل المطلوب بالمال {أداء}؛ أي: تأدية المال {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الولي العافي {بِإِحْسَانٍ}؛ أي: بسهولة من غير مماطلة ولا تسويف ولا بخس، بل بطيب نفس، وطلاقة وجه، وقول جميل. {ذَلِكَ} الحكم الذي شرعناه لكم من جواز العفو على الدية {تَخْفِيفٌ}؛ أي: تسهيل ورخصة {مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} منه للقاتل بسلامته من القتل؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى شرع لهذه الأمة المحمدية ¬

_ (¬1) المراغي.

[179]

العفو من غير عوض أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود؛ فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى؛ فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية، وهذه الأمة خيِّرت بين القصاص وبين العفو والدية تخفيفًا من الله؛ إذ فيه انتفاع الولي بالدية، وحصول الأجر بالعفو، واستبقاء مهجة القاتل، وبذل ما سوى النفس هيِّنٌ في استبقائها، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب؛ لأنه المصلح لأحوال عباده الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية، وعطف {وَرَحْمَةٌ} على {تَخْفِيفٌ}؛ لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها .. فقد رحمك، وأي رحمة أعظم من استبقاء المهجة. {فَمَنِ اعْتَدَى} على القاتل من أولياء الدم، وظلمه باقتصاصه منه {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعد عفوه، وأخذه الدية {فَلَهُ}؛ أي: فلذلك المعتدي {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: شديد الألم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بأن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه الدية، كما روي (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذه الدية". 179 - وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر .. أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص؛ لأن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به، فقال: {وَلَكُمْ فِي} مشروعية {الْقِصَاصِ} والقتل بقاءٌ و {حَيَاةٌ} هنيئة لكم وصيانة لأنفسكم من اعتداء بعضكم على بعض؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها .. يرتدع عن القتل، فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع؛ إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه، وعبارة "الخازن": {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هذا الحكم غير مختص بالقصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح، والشجاج، وغير ذلك؛ لأن الجارح إذا علم أنه إذا جَرَحَ جُرِح .. لم يَجْرح، فيصير ذلك سببًا لبقاء الجارح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت؛ فيقتص من الجارح. انتهى. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[180]

{يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: يا أصحاب العقول الكاملة الذين يعرفون المصالح من المفاسد، وخص أرباب العقول بالنداء، للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة، ويحافظ عليها هم العقلاء، كما أنهم هم الذين يفقهون سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام. ولما كان القصاص حياةً لكم .. كتبناه عليكم، وشرعناه لكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: لكي تتقون الاعتداء، وتكفون عن سفك الدماء، وتنتهون عن القتل مخافةَ القصاص؛ لأن العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص، ولا يريد إتلاف نفسه بتلاف غيره. 180 - ولما كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل؛ وهو ضَرْبٌ من ضروب الموت .. ناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: فرض عليكم يا معشر المؤمنين {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}؛ أي: إذا حضرته ونزلت به أسباب الموت، وعلله، ومقدماته، والأمراض المخوفة {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}؛ أي: مالًا كثيرًا كان، أو قليلًا {الْوَصِيَّةُ} مرفوع بـ {كُتِبَ}؛ أي: كتب عليكم الإيصاء {لِلْوَالِدَيْنِ}؛ أي: للأبوين وإن عليا {و} لو {الأقربين} غيرهما، وهو من عطف العام على الخاص. كانت الوصية في ابتداء الإِسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال، وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلبًا للفخر والشرف والرياء، ويتركون الأقربين فقراء، فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث، وبما روي عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال: كنت آخذ بزمام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فسمعته يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" أخرجه النسائي، وللترمذي نحوه. وهي مستحبة في حق من لا يرث، ويدل على استحباب الوصية، والحث عليها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حُقَّ لامرىء مسلم له شيء يوصي فيه - وفي رواية: له شيء يريد أن يوصي به - أن

[181]

يبيت ليلتين - وفي رواية: ثلاثة ليال - إلا ووصيته مكتوبة عنده". قال نافع: سمعت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي مكتوبة عندي. أخرجه الجماعة. {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، فلا يزيد على الثلث، ولا يوصي للغني ويدع الفقير. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله إن بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير - أو قال والثلث كبير - إنك أن تذر ذريتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه. والعالة: الفقراء. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال في الوصية: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد: والثلث كثير. متفق عليه. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أن أوصي بالثلث، فمن أوصى بالثلث .. فلم يترك. وقيل: يوصي بالسدس أو بالخمس أو بالربع. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}؛ أي: حق ذلك الإيصاء حقًّا على المؤمنين الذين يتقون الشرك، ويمتثلون أوامري، وثبت ذلك عليهم ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب، أو ثبوت وجوب، لكنه منسوخ. 181 - {فَمَنْ بَدَّلَهُ}؛ أي: فمن غيّر ذلك الإيصاء من الأولياء، أو الأوصياء، أو الشهود؛ إما بإنكار الوصية من أصلها، أو بالنقص فيها، أو بتبديل صفتها، أو بكتمان الشهادة، وإنما ذكر الضمير في {بَدَّلَهُ} مع أن الوصية مؤنث؛ لأن الوصية بمعنى الإيصاء كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ}؛ أي: وعظ؛ أي: فمن بدل قول الميت الموصي، أو ما أوصى به {بَعْدَمَا سَمِعَهُ}؛ أي: بعدما سمع ذلك

[182]

الإيصاء من الموصي، وعلمه، وحققه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ}؛ أي: إثم ذلك التبديل وذنبه {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}؛ أي: على من بدله وغيَّره أيًّا كان لا يعود إلا على المبدل. والموصي والموصى له بريئان منه؛ يعني برئت منه ذمة الموصي، وثبت له الأجر عند ربه. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سميع} لأقوال المبدلين والموصين {عَلِيمٌ} بنياتهم فيجازي كلًّا على وفق عمله، فيثيب الميت، ويعاقب المبدِّل، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الوعيد الشديد للمبدلين، والوعد الحسن للموصين. 182 - ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح، وإزالة التنازع، فقال: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} قرأه شعبة وحمزة والكسائي {مُوَصٍّ} بفتح {الواو} وتشديد الصاد من وصَّى المضَعَّف، وقرأ الباقون: {مُوصٍ} من أوصى، وهما لغتان؛ أي: فمن علم من ميت موص {جَنَفًا}؛ أي: خطأ في الوصية من غير عمد، وميلٍ عن الحق فيها جهلًا كأن يوصي لبعض ورثته، أو يوصي بماله كله خطأ، وقرأ الجمهور {جَنَفًا} بالجيم والنون، وقرأ علي شذوذًا {حيفا} بالحاء والياء {أَوْ إِثْمًا}؛ أي: ميلًا عن الحق في الوصية عمدًا وعِلمًا {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} بعد موت الموصي معطوف على محذوف؛ تقديره: أي فتنازعت الورثة والموصى لهم في المال الموصى به، فتوسط بينهم من علم ذلك، وأصلح بينهم؛ أي: فعل ما فيه الصلاح بينهم بتبديل هذا الجنف أو الإثم برده الوصية إلى الثلث مثلًا. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ أي: فلا حرج ولا ذنب على هذا المصلح الذي أزال الجنف أو الإثم في هذا التبديل؛ لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، فهو ليس بمبدل آثم، بل هو متوسط للإصلاح، وليس عليه إثم بخلاف الأول، وقلما يكون الإصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئًا مما يرونه حقًّا لهم، والظاهر (¬1) أن هذا المصلح هو الوصي والشاهد، ومن يتولى بعد موته ذلك من وال، أو ولي، أو من يأمر بالمعروف، فكل هؤلاء يدخل تحت قوله: {فَمَنْ خَافَ} إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي، ودلت (¬2) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفخر الرازي.

الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للميت إن أخطأ أو جار، أو للوصي إن بدل للإصلاح {رَحِيمٌ} للوصي حيث رخص له الرد إلى الثلث، والعدل والإصلاح؛ أي: فمن خالف وبدل لصلاح .. فإن الله يغفر له، ويثيبه على عمله. ومعنى الآية (¬1): أن الميت إذا أخطأ في وصيته، أو جار فيها متعمدًا .. فلا إثم على من علم ذلك أن يغيره، ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والربيع. وقيل هذا (¬2): في حال حياة الموصي، فالمعنى حينئذ: فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع، فنهاه عن ذلك، وحمله على الصلاح .. فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولًا. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار"، ثم قرأ أبو هريرة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: إلى قوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أخرجه أبو داود والترمذي، قوله: فيضاران (¬3) المضارة: إيصال الضرر إلى شخص، ومعنى المضارة: الوصية أن لا تمضي، أو ينقص بعضها، أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف في الوصية، ونحو ذلك. الإعراب {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {الْبِرَّ}: بالنصب خبر {لَيْسَ} مقدم على ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) نسفي. (¬3) الخازن.

اسمها. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تُوَلُّوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ}. {وُجُوهَكُمْ}. مفعول به ومضاف إليه. {قِبَلَ}: منصوب على الظرفية المكانية. {الْمَشْرِقِ}: مضاف إليه. {وَالْمَغْرِبِ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {لَيْسَ} مؤخرًا عن خبرها؛ تقديره: ليس تولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}. {وَلَكِنَّ} {الواو} عاطفة، {لكن}: حرف نصب واستدراك. {الْبِرَّ}: اسمها. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع خبر {لكن}، ولكنه على حذف مضاف كما سبق في محل التفسير. {آمَنَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لَيْسَ} على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ}. {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة {الْآخِرِ} مضاف إليه. {وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} معطوفات على {اليوم}. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}. {وَآتَى الْمَالَ} {الواو} عاطفة {آتى المال}: فعل ومفعول أول، أو ثان مقدم على الأول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَ} على كونها صلة {مَنْ} الموصولة. {عَلَى حُبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {آتَى}، أو بمحذوف حال من فاعل {آتَى}. {ذَوِي الْقُرْبَى}: مفعول ثانٍ، أو أول، ومضاف إليه. {وَالْيَتَامَى}، وكذا {وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ}: معطوفات على {ذَوِي الْقُرْبَى} {وَفِي الرِّقَابِ}: جار ومجرور في محل النصب معطوف على {ذَوِي}؛ أي (¬1): وآتى المال في الرقاب؛ أي: دفعه ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

في فكها من الرق، أو الأسر؛ أي: لأجله وسببه، فضمن آتى بالنسبة لهذا المعطوف معنى دفع، فيكون متعديًا لواحد، كما عرفت في محل التفسير. {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. {وَأَقَامَ} {الواو} عاطفة، {أقام}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {الصَّلَاةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {آمَنَ} على كونها صلة {مَنْ} الموصولة. {وَآتَى الْمَالَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة معطوفة أيضًا على جملة {آمَنَ}. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}. {وَالْمُوفُونَ} {الواو} عاطفة، {الموفون}: معطوف على {مَنْ آمَنَ} على كونه خبر {لكن}؛ أي: ولكن البر المؤمنون بما ذكر. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: وهم الموفون {بِعَهْدِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {الموفون}. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية. {عَاهَدُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، والظرف متعلق بـ {الموفون} والتقدير: والموفون بعهدهم وقت معاهدتهم مع الله، أو مع الناس. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. {وَالصَّابِرِينَ}: الواو: استئنافية، {الصابرين}: منصوب على المدح بفعل محذوف؛ تقديره: وأمدح الصابرين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فِي الْبَأْسَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {الصابرين}. {وَالضَّرَّاءِ}: معطوف على {الْبَأْسَاءِ}. {وَحِينَ الْبَأْسِ}. ظرف ومضاف إليه، والظرف معطوف على الجار والمجرور قبله على كونه متعلقًا بـ {الصَّابِرِينَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبر، والجملة مستأنفة. {صَدَقُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَأُولَئِكَ}: الواو: عاطفة، {أولئك}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير

فصل. {الْمُتَّقُونَ}: خبر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها} حرف تنبيه زائدة. {الَّذِينَ}: في محل الرفع صفة لـ {أَيّ}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {كُتِبَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة. {عَلَيْكُمُ}: متعلق به. {الْقِصَاصُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فِي الْقَتْلَى}: جار ومجرور متعلق بـ {كُتِبَ}. {الْحُرُّ}: مبتدأ. {بِالْحُرِّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: الحر مأخوذ بالحر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَالْعَبْدُ}: {الواو}: عاطفة، {الْعَبْدُ}: مبتدأ. {بِالْعَبْدِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ تقديره: العبد مأخوذ بالعبد، والجملة معطوفة على جملة قوله {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}. {وَالْأُنْثَى}: مبتدأ. {بِالْأُنْثَى}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: والأنثى مأخوذة بالأنثى، والجملة معطوفة على جملة قوله {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}. {فَمَنْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن القصاص مكتوب عليكم، وأردتم بيان حكم ما إذا عفي عنه .. فأقول لكم {من عفي له}، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله، ويصح كونها موصولة. {عُفِيَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ {من} الشرطية. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {عُفِيَ}. {مِنْ أَخِيهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال مقدم على صاحبها، وهو {شَيْءٌ}؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، فينصب حالًا. {شَيْءٌ}: نائب فاعل لـ {عُفِيَ}.

{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}. {فَاتِّبَاعٌ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا إن كانت {من} موصولة {اتباع}: خبر لمحذوف جوازًا؛ تقديره: فالواجب اتباع. {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق بـ {اتِّبَاعٌ}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأَدَاءٌ}: معطوف على {اتباع}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أداء}. {بِإِحْسَانٍ}: متعلق أيضًا بـ {أداء}، ويجوز أن يكون حالًا من الهاء كما ذكره العكبري. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {تَخْفِيفٌ} خبر، والجملة مستأنفة. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {تَخْفِيفٌ}. {وَرَحْمَةٌ}: معطوف على {تَخْفِيفٌ}. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {فَمَنِ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا عفي عن القصاص، وأردتم بيان حكم من اعتدى بعد ذلك .. فأقول لكم: {من اعتدى}: {من}: اسم شرط جازم، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح، أو الجملة الآتية إن كانت موصولة. {اعْتَدَى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اعْتَدَى}. {فَلَهُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، {له}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، أو خبر {من} الموصولة، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}. {وَلَكُمْ} الواو: استئنافية، {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الْقِصَاصِ}: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. {حَيَاةٌ}:

مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء بالنكرة .. تقدم الخبر الظرفي عليه، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وقال أبو حيان (¬1): وهذه الجملة مبتدأ وخبر، و {فِي الْقِصَاصِ}: متعلق بما تعلق به قوله {لكم}، وهو في موضع الخبر، وتقديم هذا الخبر مسوغ؛ لجواز الابتداء بالنكرة، والمعنى: أنه يكون لكم في القصاص حياةٌ. انتهى. {يَا أُولِي}: {يا}: حرف نداء، {أُولِي}: منادى مضاف بالياء المحذوفة. {الْأَلْبَابِ}: مضاف إليه. {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، و {الكاف}: اسمها، وجملة {تَتَّقُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما شرعنا لكم القصاص لكي تتقون القتل والاعتداء. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}. {كُتِبَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، أو شرطية وجوابها معلوم مما قبلها. {حَضَرَ}: فعل ماضٍ. {أَحَدَكُمُ}: مفعول به ومضاف إليه. {الْمَوْتُ}: فاعل {حَضَرَ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، والظرف متعلق بـ {كُتِبَ}؛ تقديره: كتب عليكم أن يوصي أحدكم وقت حضور الموت له {إِنْ تَرَكَ} {إِنْ}: حرف شرط. {تَرَكَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {إِنْ}: على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدَكُمُ}. {خَيْرًا}: مفعول به، وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها؛ تقديره: إن ترك خيرًا .. كتب عليكم الوصية، وجملة {إِنْ} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل ونائبه. {الْوَصِيَّةُ}: نائب فاعل لـ {كُتِبَ}، وجملة {كُتِبَ} من الفعل المغيّر ونائب فاعله. مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإعراب. {لِلْوَالِدَيْنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {الْوَصِيَّةُ} لأنه اسم مصدر لأوصى. {وَالْأَقْرَبِينَ}: معطوف على الوالدين. {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور متعلق بـ {الْوَصِيَّةُ}: أيضًا، أو بمحذوف حال من {الْوَصِيَّةُ}؛ تقديره: حالة كونها متلبسة بالمعروف، لا جور فيها. {حَقًّا}: منصوب على المفعولية المطلقة بعامل محذوف؛ تقديره: حق ذلك الإيصاء حقًّا، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف؛ أي: كتبًا حقًّا، أو إيصاء حقًّا. {عَلَى الْمُتَّقِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {حَقًّا}. {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}. {فَمَنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنه كتب عليكم الإيصاء، وأردتم بيان حكم من بدله .. فأقول لكم {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح كما مر مرارًا {بَدَّلَهُ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {بعد}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {بَدَّلَ}. {ما} مصدرية، أو موصولة في محل الجر مضاف إليه. {سَمِعَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة صلة {ما} المصدرية، و {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: فمن بدل ذلك الإيصاء بعد سماعه ذلك الإيصاء، أو صلة {ما} الموصولة؛ تقديره: فمن بدل ذلك الإيصاء بعد الإيصاء الذي سمعه {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا {إنما}: أداة حصر. {إِثْمُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {يُبَدِّلُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {سَمِيعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}. {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن من بدله آثم، وأردتم بيان حكم من خاف من موص جنفًا .. فأقول لكم: {من خاف} {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {خَافَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {مِنْ مُوصٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خاف} {جَنَفًا}: مفعول به. {أَوْ إِثْمًا}: معطوف عليه. {فَأَصْلَحَ}: {الفاء}: عاطفة {أصلح}: فعل ماضٍ في محل الجزم، معطوف على خاف، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بأصلح. {فَلَا}: {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا {لا}: نافية تعمل عمل إن. {إِثْمَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {إِنَّ اللَّهَ}. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {قِبَلَ الْمَشْرِقِ}: قِبَل ظرف مكان، تقول: زيد قِبَلَك؛ أي: في المكان الذي هو مقابلك، وقد يتوسع فيه، فيكون بمعنى العندية المعنوية، تقول: لي قبل زيد دين؛ أي: عنده. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} وفي "السمين" (¬1): في هذه الجملة أربعة أوجه: ¬

_ (¬1) جمل.

أحدهما: أن {البر}، اسم فاعل مِنْ بَرَّ يَبَرُّ، من باب فرح، والأصل بَرِرَ - بكسر الراء الأولى - بوزن بَطِن وفَرِح، فلما أريد الإدغام .. نقلت كسرة الراء إلى الباء بعد سلب حركتها، فعلى هذا لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويل، فكأنه قيل: ولكن الشخص البرّ من آمن، ويؤيد هذا القراءة الشاذة بصيغة اسم الفاعل الصريح. الثاني: أن الكلام على حذف مضاف من الأول؛ تقديره: ولكن ذا البرِّ مَنْ آمن. الثالث: أن الكلام على حذف مضاف من الثاني؛ تقديره: ولكن البرَّ برُّ مَنْ آمن. الرابع: أن المصدر الذي هو البر - بالكسر - بمعنى اسم الفاعل الصريح الذي هو {البار}، ويؤيده القراءة، الشاذة أيضًا. {عَلَى حُبِّهِ} والحب: مصدر حَبه يحِبه - بفتح الباء وكسر الحاء - حبًّا لغة في أحبه يُحِبه بضم الياء وكسر الحاء، ويجوز أن يكون مصدرًا للرباعي على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر لأحب الرباعي، ومصدره الأحباب. {وَفِي الرِّقَابِ} (¬1) والرقاب: جمع رقبة، والرقبة مؤخر العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال أعتق الله عنقه؛ لأنها لما سميت رقبة كانت كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رقوب لأجل مراعاتها موت ولدها. قال في "المنتخب": وفِعال جمعٌ يطَّرد في فَعَلَة سواء كانت اسمًا نحو رقبة ورقاب، أو صفة نحو حسنة وحسان، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته. {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} اسمان مشتقان من {البُؤس} بضم الباء و {الضُر} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بضم الضاد وألفهما للتأنيث، و {البؤس} بالضم و {البأساء} بالمد: الفقر، يقال: بَئِس الرجل - بكسر الهمزة - يبأَس بالفتح على القياس، ويئِس بالكسر على الشذوذ بؤسًا، وبئيسًا، وبؤوسًا، وبؤس إذا اشتدت حاجته وافتقر {وَحِينَ الْبَأْسِ} يقال: بَؤُسَ الرجل - من باب كَرُم - بأْسًا بسكون الهمزة إذا شجع. {الْقِصَاصُ}: مصدر قاصّ يُقاصّ مُقَاصَّةً وقِصَاصًا، نحو قاتل يقاتل مقاتلةً وقتالًا، والقصاص: مقابلة الشيء بمثله، ومنه قتل من قُتِل بالمقتول. {فِي الْقَتْلَى}: جمع {قتيل} بمعنى: {مقتول} يستوي فيه المذكر والمؤنث، كجَرْحَى جمع (جريح)، وفعلى ينقاس في جمع فعيل بمعنى مفعول. {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}: {الْحُرُّ}: معروف، تقول: حر الغلام يحر حرية - من باب منع - إذا عتق، يجمع على أحرار كمر وأمرار، وهو غير مقيس، والأنثى حرة، وتجمع على حرائر. {الأنثى}: معروف، وهي فعلى، والألف فيه للتأنيث، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل المرأة، ويقال للخصيتين: أنثيان، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث، ولا تكون للإلحاق؛ لفقد فعلل في كلامهم. {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} و (الأداء): اسم مصدر بمعنى التأدية، يقال: أديت الدين - أداء وتأدية - إذا قضيته. {أولوا الألباب}: {أولو} هو من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجر والنصب بالياء، ومعنى {أولو}: {أصحاب}، ومفرده من غير لفظه؛ وهو (ذو) بمعنى صاحب. {الْأَلْبَابِ}: جمع لُبّ؛ وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك؛ إما لبنائه من قولهم: ألب بالمكان ولب به إذا أقام، وإما من اللباب؛ وهو الخالص، وهذا الجمع مطرد، أعني أن يجمع فعل ما على أفعال. {الْوَصِيَّةُ} والوصية: تبرع مضاف لما بعد الموت، وهي: إما مصدر سماعي، أو اسم مصدر لوصى توصيةً ووصية، أو أوصى إيصاءً ووصيةً. {جَنَفًا} الجنف: الجور، وهو مصدر لجنف بكسر النون - من باب فَرِح - يَجْنَف جَنَفًا، فهو جَنِف وجانف، ويقال: أجنف الرجل إذا جاء بالجنف، كما يقال: ألاَمَ الرجل إذا أتى بما يلام عليه، وأخَسَّ الرجل إذا أتى بخسيس.

البلاغة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} جعل البر نفس من آمن على طريق المبالغة، وهذا معهود في كلام البلغاء، كقولهم السَّخاءُ حاتم، والشِّعرُ زهير؛ أي: إن السخاءَ سخاءُ حاتمٍ، والشعرَ شعرُ زهير. {وَفِي الرِّقَابِ} فيه إيجاز بالحذف؛ أي: وفي فك الرقاب؛ أي: في فداء الأسرى والمكاتبين، وفي لفظ {الرقاب} مجاز مرسل حيث أطلق الرقبة، وأراد به النفس، وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} منصوب على الاختصاص؛ أي: وأخص الصابرين بالذكر، وإنما لم يؤت به مرفوعًا كقوله: والموفون بأن يقال: والصابرون تنبيهًا على فضيلة الصبر، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله من حيث المعنى. قال أبو علي: إذا ذكرت صفات للمدح أو الذم، وخولف الإعراب في بعضها .. فذلك تفنن، ويسمى قطعًا؛ لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، ومزيد اهتمام بشأنه. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}: مبتدأ وخبر، وأتى بخبر {أُولَئِكَ} الأول موصولًا، وصل بفعل ماضٍ، إشعارًا بتحقق اتصافهم بالصدق، وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وأتى بخبر {أُولَئِكَ} الثاني موصولًا، وصل بجملة اسمية ليدل على الثبوت، وأنه ليس متجددًا، بل صار كالسجية لهم، ومراعاة للفاصلة أيضًا. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} {الْمُتَّقِينَ} من باب الإلهاب والتهييج. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قال أبو السعود: فيه بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته، حيث جعل الشيء؛ وهو القصاص محلًّا لضده؛ وهو الحياة، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعًا من الحياة عظيمًا، لا يبلغه الوصف. وبَيْنَ قوله: {اتباع} و {أداء} وكذا بين قوله: {الحر} و {العبد} الطباق.

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ}؛ أي: علم؛ وهو مجاز مرسل، والعلاقة السببية، وهو أن الإنسان لا يخاف شيئًا حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير عن السبب بالمسبب. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}. المناسبة مناسبة (¬1) هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى أخبر أولًا بكتب القصاص؛ وهو إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانيًا بكتب الوصية، وهو إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثًا إلى كتب الصيام؛ وهو منهك للبدن مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار؛ فابتدأ بالأشق ثم بالأشقّ بعده ثم بالشاق، فهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة الإيمان والصلاة والزكاة فأتى بهذا الركن الرابع؛ وهو الصوم، ونادى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام؛ لينبههم على استماع ما يلقى إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني؛ لانسلاكه مع الأول في نظام واحد؛ وهو حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها. أسباب النزول قوله (¬1) تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ...} الآية، أخرج ابن سعد في "طبقاته" عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: فأفطر وأطعم لكل يوم مسكينًا. قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ...} الآية، عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه، فسكت عنه؛ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ...} الآية. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: سأل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - أين ربنا؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ...} الآية. مرسل، وله طرق أخرى. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تعجزوا عن الدعاء فإن الله أنزل علي: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} " فقال رجل: يا رسول الله، ربنا يسمع الدعاء، أم كيف ذلك؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ...} الآية. قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}. روى البخاري رحمه الله عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب ¬

_ (¬1) لباب النقول.

محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق، فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فقالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار أُغشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}. وفي لفظ له في كتاب "التفسير": لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم؛ فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية. وظاهر الروايتين التغاير، لكن لا مانع من أن تكون نزلت في هؤلاء وفي هؤلاء. وروى أبو داود، وأحمد، والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كانوا يأكلون ويشربون، ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار - يقال له: قيس بن صرمة - صلى العشاء، ثم نام، فلم يأكل، ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح مجهودًا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} هذا الحديث مشهور عن ابن أبي ليلى، عن معاذ لكنه لم يسمع من معاذ، وله شواهد كما أخرجه البخاري عن البراء. وأخرجه أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى، فنام .. حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ووقع عليها، وصنع كعب مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فنزلت الآية.

[183]

قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} روى البخاري عن سهل بن سعيد قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني الليل والنهار. قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ ..} الآية، أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان الرجل إذا اعتكف، فخرج من المسجد: جامع إن شاء، فنزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. التفسير وأوجه القراءة 183 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدَّقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وناداهم بالإيمان تنبيهًا لهم على استماع ما يلقى إليهم من هذا التكليف. {كُتِبَ}؛ أي: فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛ أي: صيام شهر رمضان {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: كتب عليكم كتابته على الذين سبقوا من قبلكم من الأنبياء وأممهم، من لدن آدم إلى عهدكم هذا، لكن لا كصومنا من كل وجه، فالتشبيه في الفرضية لا الكيفية والثواب. والمعنى: أن الصوم عبادة قديمة؛ أي: في الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم، وأنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تَعَبَّد من كان قبلكم به. وحكمة ذكر التشبيه: التأكيد في الأمر والتسلي بمن كان قبلنا، وذلك لأن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عمَّ سهل عمله. والصومُ لغةً: الإمساك عن الشيء، ولو عن الكلام كما في قول مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}؛ أي: صمت، وشرعًا: الإمساك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما في وقت مخصوص، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية مخصوصة؛ وهي نية التقرب إلى الله تعالى. قال (¬1) الراغب: للصوم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فائدتان: رياضة الإنسان نفسه عما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. وقيل (¬1): إن صيام شهر رمضان كان واجبًا على النصارى كما فرض علينا، فصاموا رمضان زمانًا، فربما وقع في الحر الشديد والبرد الشديد، وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء، فجعلوه في فصل الربيع، ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارةً لما صنعوا، فصاموا أربعين يومًا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه، فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعًا، فبرأ، فزاد فيه أسبوعًا، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر، فقال: ما شأن هذه الثلاثة أيام؟ أتموها خمسين يومًا، فأتموه، وقيل: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزادوا عشرًا قبله وعشرًا بعده. وقيل: كان النصارى أولًا يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا ثم انتبهوا، وكان ذلك في أول الإِسلام، ثم نسخ بسبب عمر وقيس بن صرمة كما مر. واختلف (¬2) المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل: هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان، فغيروا، وقيل: هو الوجوب فإن الله وجب على الأمم الصيام، وقيل: هو الصفة؛ أي: ترك الأكل والشرب، ونحوهما في وقت، فعلى الأول معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: لكي تخافون عقاب الله بصومكم وترككم للشهوات، فالرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في غيرهما، والاتقاء ¬

_ (¬1) خازن. (¬2) شوكاني.

[184]

عنهما أشق، فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما .. كان اتقاء الله بترك غيرهما أسهل وأخف، وقيل: لعلكم تتقون المعاصي بالمحافظة على عبادة الصوم؛ فإنه يكسر الشهوة ويضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث "ومن لم يستطع - يعني الباءة - فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء"؛ أي: قاطع لشهوته كما تنقطع بالخصي، وقيل معناه: لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين؛ لأن الصوم من شعارهم. 184 - صوموا {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}؛ أي: أيامًا مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يومًا، وهي شهر رمضان، ويقال (¬1): إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة، وشرط وجوبه الإطاقة بأن كان صحيحًا مقيمًا. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أيها الأمة المحمدية {مَرِيضًا} مرضًا يشق معه الصوم ويضره، أو يزيد بالصوم ولو في أثناء النهار {أَوْ} كان عازمًا {عَلَى} إتمام {سَفَرٍ} ومتلبسًا به ولو قصيرًا، فلا يبيح (¬2) السفر الفطر إذا طرأ في أثناء النهار، وهذا سر التعبير بـ {عَلَى} السفر دون المرض؛ أي: فمن كان مريضًا أو عازمًا على إتمام السفر، ومتمكنًا منه بأن كان متلبسًا به وقت طلوع الفجر إن لم يشق معه الصوم، فإن المسافر يباح له الفطر، وإن لم يجهده الصوم، ولا فرق في السفر بين كونه برًّا أو بحرًا أو جوًا، والحق (¬3) أن ما صدق عليه مسمى السفر؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وكذا ما صدق عليه مسمى المرض؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة، واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية؛ أي: فمن كان منكم مريضًا أو مسافرًا، فأفطر في رمضان .. فعليه عدة؛ أي: فواجب عليه ¬

_ (¬1) خازن. (¬2) جمل. (¬3) شوكاني.

صيام عدد ما أفطر من رمضان للمرض أو للسفر {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ أي: من أيام غير رمضان قضاءً عما أفطر في رمضان، وقرىء {عدةً} بالنصب؛ أي: فليصم عدة من أيام أخر، ولو مفرقًا. وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فَوَاتِر، وإن شئت فَفَرق، وروي أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: علي أيام من رمضان فيجزيني أن أقضيها متفرقة، فقال له: "أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك"؟ قال: نعم، قال: "فالله أحق أن يعفو ويصفح". وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، هل أصوم على السفر؟ فقال: "صم إن شئت، وأفطر إن شئت" وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مر الظهران؟ فقال: لا، لكن أقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}؛ أي: يقدرون على الصوم بأن لم يكن لهم عذر مرضٍ ولا سفر؛ أي: القادرين على الصوم إن أفطروا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ أي: جزاء وضمان قدر ما يأكله مسكين واحد في يوم واحد، يعطيه للمسكين بدل كل يوم من رمضان؛ وهو مدٌّ من غالب قوت بلده. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية (¬1)، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شق عليهم؛ لأنهم لم يتعودوا الصيام، فرخص لهم في الإفطار، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا .. ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قول الجمهور. وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى ¬

_ (¬1) شوكاني.

الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ..} كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها، وفي رواية حتى نزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. متفق عليه. وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصةً إذا كانوا لا يطيقون الصوم إلا بمشقة. والمعنى على هذا: وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. وعن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين}: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا، وهو حديث آحاد؛ أي لا يحتج به في إثبات القرآن الكريم. وقراءة (¬1) الجمهور: {يُطِيقُونَهُ} - بكسر الطاء وسكون الياء - من أطاق، وأصله: يطوقونه، نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت {الواو} ياء؛ لانكسار ما قبلها. وقرأ أحمد {يطوقونه} على الأصل من غير إعلال، من أطوق، كقولهم أطول في أطال. وقرأ ابن عباس {يطَوّقونه} بفتح الطاء مخففة وتشديد {الواو} المفتوحة؛ أي: يكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس {يَطّيَقونه} بفتح الياء وتشديد الطاء والياء المفتوحتين بمعنى: يطيقونه، وما عدا قراءة الجمهور شاذ لا يقرأ به. وقرأ أهل المدينة والشام: {فديةُ طعامِ} مضافًا إضافة بيانيةً؛ أي: بإضافة فدية إلى طعام، وعليها يتعين جمع المساكين، وأما على عدم الإضافة: فيصح الجمع والإفراد، فالقراءت ثلاث، وقرؤوا أيضًا: {مساكين} بالجمع، وقرأ ابن عباس: {طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وكله في المتواتر. و {الفدية} الجزاء؛ وهو القدر الذي يبذله الإنسان يقي به نفسه من تقصيرٍ ¬

_ (¬1) شوكاني.

[185]

وقَعَ منه في عبادة ونحوها، وقد اختلفوا في مقدار الفدية، فقيل: كل يوم صاع من غير البر ونصف صاع منه، وقيل: مُدّ فقط؛ وهو قول فقهاء الحجاز، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره. {فَمَنْ تَطَوَّعَ}؛ أي: تبرع {خَيْرًا} فزاد في الفدية على القدر الواجب، أو صام مع إخراج الفدية، أو أطعم مع المسكين مسكينًا آخر، وقرأ عيسى ابن عمرو، ويحيى بن ثابت، وحمزة، والكسائي {يَطُّوْع} مشددًا مع جزم الفعل على معنى يتطوع، وقرأ الباقون: بتخفيف الطاء على أنه فعل ماضٍ: {فَهُوَ}؛ أي: فذلك التطوع {خَيْرٌ لَهُ} بالثواب، {وَأَنْ تَصُومُوا} أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين والذين يقدرون على الصوم مع المشقة {خَيْرٌ لَكُمْ} من الإفطار والفدية، أو تطوع الخير، أو منهما ومن التأخير للقضاء. وقرأ أبي: {والصوم خير لكم} وهي قراءة شاذة. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما في الصوم من الفضيلة، ومن المعاني المورثة للتقوى، وبراءة الذمة، فإن العبادة كلما كانت أشق .. كانت أكثر ثوابًا، وجواب {لو} محذوف دل عليه ما قبله؛ تقديره: اخترتموه. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة. وأخرج (¬1) عبد بن حميد، وابن جرير، والدارقطني، وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصوم، عليك الطعام، لا قضاء عليك. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت إليه تسأله عن صوم رمضان، وهي حامل؟ قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. 185 - {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}؛ أي: تلك الأيام المعدودات التي فرضت صومها عليكم أيها المؤمنون؛ هي شهر رمضان الذي ابتدي فيه إنزال القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في محل من تلك السماء يسمى: ¬

_ (¬1) شوكاني.

بيت العزة، ثم نزل جبريل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجومًا في ثلاث وعشرين سنة - مدة النبوة - بحسب الحاجة يومًا بيوم، آية وآيتين وثلاثًا، وسورة، وقرأ الجمهور: {شَهْرُ رَمَضَانَ} بالرفع. وقرأه بالنصب شاذًا مجاهد وغيره، وفي "القرطبي" (¬1) ما نصه: قال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجومًا؛ يعني: الآية والآيتين في إحدى وعشرين سنة. اهـ. أو المعنى: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا احترق جوفه من شدة العطش، و {القرآن} اسم لهذا الكتاب الذي أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حالة كونه. {هُدًى لِلنَّاسِ}؛ أي: هاديًا للناس من الشرك والضلالة إلى التوحيد والإيمان {و} حالة كونه آيات {بينات من الهدى}؛ أي: آيات واضحات من أمر الدين، من الحرام والحلال، والحدود والأحكام، فالهدى الأول: محمول على أصول الدين، والهدى الثاني: على فروع الدين {و} من {الفرقان}؛ أي: ومن الفرق بين الحق والباطل، والمعنى: حالة كونها آيات واضحات كائنات مما يهدي إلى الحق، ومما يفرق بين الحق والباطل، وعطف {الفرقان} على {الْهُدَى} من عطف الخاص على العام، فكل أخص مما قبله {الهدى} صادق بالواضح وغيره كان معه دليل أم لا، والـ {بينات} من الهدى صادقة بوجود الحجج معها أم لا، {وَالْفُرْقَانِ} هو الآيات البينات التي معها حجج، {فَمَنْ شَهِدَ}؛ أي: حضر {مِنْكُمُ} أيها المؤمنون هذا {الشَّهْرَ} يعني شهر رمضان ولم يكن في سفر، بل كان مقيمًا صحيحًا؛ أي: فمن كان حاضرًا مقيمًا غير مسافر، فأدركه الشهر {فَلْيَصُمْهُ}؛ أي: فليصم في هذا الشهر، فالخطاب للمكلف القادر غير المعذور. وقال جماعة من السلف والخلف (¬2): أن من أدركه شهر رمضان مقيمًا غير مسافر .. لزمه صيامه سافر ذلك أو أقام؛ استدلالًا بهذه الآية. وقال الجمهور: ¬

_ (¬1) قرطبي. (¬2) شوكاني.

إنه إذا سافر أفطر؛ لأن معنى الآية: إذا حضر الشهر من أوله إلى آخره، لا إذا حضر بعضه وسافر، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحق، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة، وقد كان يخرج - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فيفطر. وشهود الشهر (¬1): إما بالرؤية، وإما بالسماع، فإذا رأى إنسان هلال رمضان، وقد انفرد بتلك الرؤية، ورد الإِمام شهادته .. لزمه أن يصوم؛ لأنه قد حصل شهود الشهر في حقه فوجب عليه الصوم، وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال .. حكم بهما في الصوم والفطر جميعًا، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال .. لا يحكم به، أما إذا شهد على هلال رمضان: فيحكم به احتياطًا لأمر الصوم؛ أي: يقبل قول الواحد في إثبات العبادة، ولا يقبل في الخروج منها إلا قول اثنين؛ لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطًا. {وَمَنْ كَانَ} منكم {مَرِيضًا} في شهر رمضان، وإن كان مقيمًا {أَوْ} كائنًا {عَلَى سَفَرٍ} ومتلبسًا به وقت طلوع الفجر، وإن كان صحيحًا {فَعِدَّةٌ}؛ أي: فعليه صيام قدر ما أفطر من رمضان {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ أي: من أيام غير رمضان، وهذا الكلام تقدم مثله، وإنما كرره (¬2)؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح، ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فلو اقتصر على هذا .. لاحتمل أن يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر؛ ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}؛ أي: يريد الله سبحانه وتعالى التسهيل عليكم أيها المؤمنون بترخيص الإفطار لكم بعذر المرض والسفر {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}؛ أي: ولم يرد التشديد عليكم بإيجاب الصوم في السفر والمرض، وقرىء بإسكان السينين في اليسر والعسر، وبضمهما. ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) خازن.

[186]

ولكون ذلك في معنى العلة عطف عليه قوله: {وَلِتُكْمِلُوا} بالتخفيف والتشديد {الْعِدَّةَ}؛ أي: عدة صوم رمضان، والتقدير: وإنما (¬1) أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم بتدارك ما فات منها بالقضاء {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}؛ أي: ولتذكروا الله بالتكبير وغيره عند انقضاء عبادتكم شكرًا {عَلَى مَا هَدَاكُمْ}؛ أي: على هدايته إياكم إلى معالم دينكم وإرشاده إياكم إلى هذه العبادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حقٌّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على رخصه بالمحافظة على ما أمركم الله به من أداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده. وإنما ختمت هذه الآية (¬2) بترجي الشكر؛ لأن قبلها تيسيرًا وترخيصًا، فناسب ختمها بذلك، وختمت الآيتان قبلها بترجي التقوى، وهما قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛ لأن القصاص والصوم من أشق التكاليف، فناسب ختمها بذلك، وهذا مطرد في القرآن، فحيث ورد ترخيص عقب بترجي الشكر غالبًا، وحيث جاء عدم ترخيص عقب بترجي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن علم البيان. 186 - ولما سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ نزل قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ} يا محمد {عِبَادِي عَنِّي}؛ أي: عن قربي أو بعدي {فَإِنِّي قَرِيبٌ}؛ أي: فقل لهم يا محمد: أني قريب منهم، بالعلم والإجابة والإنعام، والقرب هنا عبارة عن سماعه لدعائهم، وقال في "الكشاف": إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}؛ أي: أسمع وأقبل دعاء عبدي الداعي ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) جمل.

إذا {دَعَانِ}: وهذا تقرير للقرب ووعد للداعي بالإجابة. ثم إجابة الدعاء (¬1) وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعاء تخالف قضاء الحاجة، فإجابة الدعوة أن يقول العبد: يا رب، فيقول الله: لبيك عبدي، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن، وقضاء الحاجة إعطاء المراد، وهذا قد يكون ناجزًا، وقد يكون بعد مدة، وقد يكون في الآخرة، وقد تكون الخيرة له في غيره. وقيل (¬2): المراد من الدعاء التوبة من الذنوب؛ لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء هو قبول التوبة، وقيل: المراد من الدعاء العبادة، قال - صلى الله عليه وسلم -:"الدعاء هو العبادة" ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}: وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: {الداعي إذا دعاني} بإثبات الياء فيهما مع الوصل، والباقون بحذفها على الوصل في الأولى، وعلى التخفيف في الثانية. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}؛ أي: فليجيبوا إلى دعوتي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ومهماتهم، ولينقادوا لي وليستسلموا لأوامري، فالإجابة من العبد الطاعة، ومن الله الإثابة والعطاء {وَلْيُؤْمِنُوا بِي}؛ أي: وليواظبوا على الإيمان بي وبرسولي، وهذا الترتيب يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ويهتدون؛ أي: لكي يهتدوا إلى مصالح دينهم ودنياهم إذا استجابوا لي، وآمنوا بي وبرسولي. ثم إنه كانت الشريعة صدرَ الإِسلام أنَّ الرجل إذا أمسى .. حلَّ له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد، فإذا صلاها، أو رقد ولم يفطر .. حَرُمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إن عمر رضي الله ¬

_ (¬1) نسفي. (¬2) مراح.

[187]

عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما فعل، فقال عليه السلام: "ما كنت جديرًا بذلك"؛ فنزلت هذه الآية الآتية ناسخة لتلك الشريعة. 187 - {أُحِلَّ لَكُمْ}؛ أي: أبيح لكم أيها الصائمون {لَيْلَةَ الصِّيَامِ}؛ أي: ليالي الصيام {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}؛ أي: إلى حلائلكم من زوجة وأمة؛ أي: المجامعة مع نسائكم والإفضاء إليها بالمباشرة {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ}؛ أي: النساء سكن وستر لكم عن الحرام، وهذا الكلام مستأنف سيق تعليلًا لما قبله من الإحلال {وَأَنْتُمْ} أيها الرجال {لِبَاسٌ} وستر {لَهُنَّ} عن الحرام. قيل (¬1): لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وسمي كل واحد من الزوجين لباسًا؛ لتجردهما عن النوم واجتماعهما في ثوب واحد، وقيل: اللباس اسم لما يواري، فيكون كل واحد منهما سترًا لصاحبه عما لا يحل، كما جاء في الحديث: "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه". وإنما قدم (¬2) قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على قوله: {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} تنبيهًا على ظهور احتياج الرجل إلى المرأة، وعدم صبره عنها، ولأنه هو البادىء بطلب ذلك، فحاجة الرجل إليها أكثر، لما في الحديث: "لا خير في النساء ولا صبر عنهن، يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم، وأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا، ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا". وكني باللباس عن شدة المخالطة. {عَلِمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَنَّكُمْ كُنْتُمْ} أيها الصائمون قبل هذا الإحلال لكم {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: تظلمون أنفسكم بالجماع في ليالي رمضان وتنقصون حظها من الخير، والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب، فيدل على زيادة الخيانة من حيث كثرة مقدمات الجماع؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا. ¬

_ (¬1) خازن. (¬2) سمين.

ففي هذه الجملة إشارة إلى سبب النزول. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: قبل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور، {وَعَفَا عَنْكُمْ}؛ أي: محا ذنوبكم وما فعلتموه قبل النسخ ولم يعاقبكم على خيانتكم {فَالْآنَ}؛ أي: ففي هذا الزمن الحاضر الذي أحل الله لكم فيه الرفث إلى نسائكم {بَاشِرُوهُنَّ}: جامعوهن في ليالي الصوم؛ فهو حلال لكم لنسخ التحريم، وهو أمر إباحة، وسميت الجماع مباشرة؛ لالتصاق بشرتيهما عنده. {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: واطلبوا بالمباشرة ما قدر الله وقسمه لكم، وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد، وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمباشر أن يكون غرضه الولد، فإنه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح: لإقضاء الوطر والشهوة، وقيل: فيه إشارة إلى النهي عن العزل. قال الشافعي: لا يعزل الرجل عن المرأة إلا بإذنها، ولا بأس أن يعزل من الأمة. وقيل: معنى ذلك ابتغوا هذه المباشرة من الزوجة والمملوكة، فإن ذلك هو الذي كتب الله لكم؛ أي: قسم الله لكم {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الليل كله من أوله {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ويتضح {لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}؛ أيّ: كلوا واشربوا الليل كله من أوله إلى أن يتبين ويظهر لكم بياض النهار من سواد الليل حال كون الخيط الأبيض بعضًا {مِنَ الْفَجْرِ} الصادق، وسمي الصبح الصادق فجرًا؛ لأنه يتفجر وينتشر منه النور. وهذا أمر إباحة، وسُمِّيَا (¬1) خيطين؛ لأن كل واحد منهما يبدو في الأفق ممتدًا كالخيط، قال الشاعر: فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا السدف: اختلاط الظلام، وأسدف الفجر: أضاء. واعلم: أن الفجرَ الذي يُحرِّمُ على الصائم الطعامَ والشرابَ والجماعَ هو الفجر الصادق المستطير المنتشر في الأفق سريعًا، لا الفجر الكاذب المستطيل. ¬

_ (¬1) خازن.

فإن قلتَ: كيف شبه الصبح الصادق بالخيط والخيط مستطيل، والصبح الصادق ليس بمستطيل؟ قلت: إن القدر الذي يبدو من البياض؛ وهو أول الصبح يكون رقيقًا صغيرًا ثم ينتشر؛ فلهذا شبه بالخيط، والفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب: أن الفجر الكاذب يبدو في الأفق فيرتفع مستطيلًا، ثم يضمحل ويذهب، ثم يبدو الفجر الصادق بعده منتشرًا في الأفق مستطيرًا. وروى مسلم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا". وحكاه حماد بيديه. قال: يعني معترضًا. وفي رواية الترمذي: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق". فإذا تحقق طلوع الفجر الثاني وهو الصادق .. حرم على الصائم الطعام والشراب، والجماع إلى غروب الشمس، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}؛ أي: ثم بعد تبين الفجر الصادق أتموا الصيام والإمساك عن المفطرات في جميع النهار إلى دخول أول الليل بغروب الشمس، وهذا أمر إيجابٍ في صوم الفرض، وبيان لآخر وقت الصوم، ولإخراج الليل عنه، فينتفي صوم الوصال، ولمّا بين الله تعالى أن الجماع يحرم على الصائم نهارًا، ويباح ليلًا، فكان يحتمل أن حكم الاعتكاف كذلك؛ لأنه يشارك الصوم في غالب أحكامه .. بين الله بتحريمه على المعتكف ليلًا ونهارًا بقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ}؛ أي: لا تجامعوهن ليلًا ولا نهارًا {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ}؛ أي: ماكثون {فِي الْمَسَاجِدِ} بنية الاعتكاف للتقرب إلى الله تعالى، ولا تقربوهن ما دمتم معتكفين فيها ليلًا ونهارًا حتى تفرغوا من الاعتكاف. {تِلْكَ} الأحكام المذكورة في آيات الصيام من أولها إلى هنا {حُدُودُ اللَّهِ}؛ أي: أوامره وزواجره، وأحكامه التي شرعها لكم؛ فلا تخالفوا الأوامر منها ولَا تَقْرَبُوا الزواجر والممنوعات منها؛ أي: من تلك الحدود كالأكل والشرب والجماع في الصوم، والمباشرة في حال الاعتكاف،

والنهي عن القربان بالنظر إلى الزواجر منها، وإلا فالحدود تطلق على الأوامر أيضًا والله أعلم. {كَذَلِكَ}، أي: كما بين الله سبحانه وتعالى أوامره وزواجره في الصوم والاعتكاف {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ}؛ أي: معالم دينه وأحكام شريعته من الأوامر والزواجر في غير الصوم {لِلنَّاسِ} كافة على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيانًا شافيًا وإيضاحًا وافيًا {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، أي: لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي، فينجوا من العذاب. قيل (¬1): نزلت هذه الآية في حق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وغيرهما، فكانوا معتكفين في المسجد، فيأتون إلى أهاليهم إذا احتاجوا، ويجامعون نساءهم ويغتسلون، فيرجعون إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. يا: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع، أو في محل النصب صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {كُتِبَ} فعل ماض مغيَّر الصيغة. {عَلَيْكُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الصِّيَامُ}: نائب فاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية، أو موصولة في محل الجر بالكاف، {كُتِبَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود ¬

_ (¬1) مراح.

على {الصِّيَامُ}. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {كُتِبَ}، والجملة صلة لما المصدرية، لـ {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف؛ تقديره: ككتبه على الذين {مِنْ قَبْلِكُمْ}، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: كتب عليكم الصيام كتبًا كائنًا ككتبه على الذين من قبلكم، أو الجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير الغائب، والجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال من {الصِّيَامُ}؛ تقديره: كتب عليكم الصيام حالة كونه كائنًا كالصيام الذي كتب على الذين من قبلكم. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه صلة الموصول؛ تقديره: كما كتب على الذين استقروا من قبلكم {لَعَلَّكُمْ}. {لعل}: حرف ترج وتعليل ونصب، و {الكاف} اسمها، وجملة {تَتَّقُونَ}: خبرها؛ تقديره: لعلكم متقون، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. {أَيَّامًا}: منصوب على الظرفية الزمانية. {مَعْدُودَاتٍ}: صفة لـ {أَيَّامًا}، والظرف متعلق بمحذوف جوازًا؛ تقديره: صوموا أيامًا، والجملة المحذوفة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {فَمَن}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم وجوب الصيام عليكم، وأردتم بيان حكم من كان معذورًا بمرض أو سفر .. فأقول لكم: من كان {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح، أو جملة الجواب، أو هما. {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {من}، واسمها ضمير يعود على {من}. {مِنكمُ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من اسم {كَانَ}؛ تقديره: فمن كان حالة كونه كائنًا منكم. {مَرِيضًا}: خبر {كَانَ} {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم. {عَلَى}: حرف جر. {سَفَرٍ}: مجرور بـ {عَلَى}، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معطوف على {مَرِيضًا}؛ تقديره: فإن كان منكم مريضًا أو عازمًا على إتمام سفر. {فَعِدَّةٌ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {عدة}: مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: فصيام عدة

واجب عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {مِنْ أَيَّامٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {عدة}؛ تقديره: فعدة كائنة من أيام. {أُخَرَ}: صفة لـ {أَيَّامٍ} مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف: الوصف والعدل؛ لأنه معدول عن الآخر؛ لأن الأصل في فعلى صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. {وَعَلَى الَّذِينَ} الواو: استئنافية. {على الذين}: جار ومجرور خبر مقدم. {يُطِيقُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فِدْيَةٌ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. {طَعَامُ}: مضاف إليه، وهو مضاف. {مِسْكِينٍ}: مضاف إليه إذا قرئ بلا تنوين، وأما على قراءة التنوين فـ {طَعَامٍ}: بدل من {فِدْيَةٌ}: بدل كل من كل؛ والتقدير: وفدية طعام مسكين واجب على الذين يطيقونه. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}. {فَمَن} {الفاء}: عاطفة بمعنى الواو. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. {تَطَوَّعَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {خَيْرًا}: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بخير، أو صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: تطوعًا خيرًا. {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {هو}: مبتدأ. {خَيْرٌ}: خبر. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {وَأَنْ} الواو: عاطفة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {تَصُومُوا}: فعل

وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة من الفعل والفاعل صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء؛ تقديره: وصومكم. {خَيْرٌ}: خبر له. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {إن}: حرف شرط، أو غائية لا جواب لها. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب، خبر {كان}؛ تقديره: إن كنتم عالمين، ومفعول العلم محذوف، وجواب {إن} معلوم مما قبله إن قلنا شرطية لها جواب؛ تقديره: إن كنتم تعلمون خيريته .. فافعلوه، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. {شَهْرُ رَمَضَانَ}: خبر لمبتدأ محذوف جوازًا؛ تقديره: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. و {شَهْرُ} مضاف. {رَمَضَانَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية وزيادة الألف والنون. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {شَهْرُ}. {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة {فِيهِ} جار ومجرور متعلق بأنزل {الْقُرْآنُ}: نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير فيه. {هُدًى}: حال من {الْقُرْآنُ}. {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {هُدًى} {وَبَيِّنَاتٍ}: معطوف على {هُدًى}. {مِنَ الْهُدَى}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {بينات} تقديره: كائنات من الهدى. {وَالْفُرْقَانِ}: معطوف على {الْهُدَى}. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. {فَمَن}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر إذا عرفتم أن الأيام المعدودات شهر رمضان، وأردتم بيان حكم من شهده .. فأقول لكم: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على

الراجح. {شَهِدَ}: في محل الجزم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنْكُمُ}: جار ومجرور، حال من فاعل {شَهِدَ}؛ تقديره: حال كونه كائنًا منكم {الشَّهْرَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بـ {شَهِدَ} {فَلْيَصُمْهُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. {اللام}: لام الأمر. {يصم}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، و {الهاء}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا}. الواو: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {كَانَ}: فعل ناقص في محل الجزم بـ {من}، واسمها ضمير يعود على {من}. {مَرِيضًا}: خبرها. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم {عَلَى سَفَرٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف معطوف على {مَرِيضًا}؛ تقديره: أو عازمًا على إتمام سفر. {فَعِدَّةٌ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية. {عدة}: مبتدأ، خبره محذوف؛ تقديره: فعدة ما أفطر واجب عليه. {مِنْ أَيَّامٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {عدة}؛ تقديره: فعدة كائنة من أيام أخر. {أُخَرَ}: صفة لـ {أَيَّامٍ} مجرور بالفتحة للوصفية والعدل، والجملة من المبتدأ والخبر المحذوف في محل الجزم بـ {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من شهد منكم الشهر}. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِكُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْيُسْرَ}: مفعول به. {وَلَا يُرِيدُ}: الواو: عاطفة. {لا} نافية. {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}. {بِكُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُرِيدُ}. {الْعُسْرَ}: مفعول به. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}: الواو: عاطفة. {لتكملوا}: {اللام}: لام كي. {تكملوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام

كي. {الْعِدَّةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: ولإكمالكم العدة الجار والمجرور معطوف على علة محذوفة لمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر وأمركم بالقضاء؛ لإرادته بكم اليسر، ولإكمالكم عدة شهر رمضان. {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {وَلِتُكَبِّرُوا} الواو: عاطفة. {لتكبروا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {تكبِّروا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا. {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل؛ تقديره: ولتكبيركم الله، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ}: {عَلَى}: حرف جر وتعليل. {مَا}: مصدرية. {هَدَاكُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} التعليلية تقديره: لهدايته إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ {كبروا}. {وَلَعَلَّكُمْ}: الواو: عاطفة. {لعل}: حرف ترج ونصب {الكاف}: في محل النصب اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ}: في محل الرفع خبرها تقديره: ولعلكم شاكرون، وجملة {لعل}: في محل الجر معطوفة على جملة؛ قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}؛ تقديره: ولتكبيركم إياه لهدايته إياكم، ولشكركم إياه على رخصته. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}. {وَإِذَا}: {الواو} اعتراضية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {سَأَلَكَ}: فعل ومفعول {عِبَادِي}: فاعل ومضاف إليه. {عَنِّي}: جار ومجرور متعلق بـ {سأل}، والجملة في محل الجر بإضافة {إذا} إليها على كونها

فعل شرط لها، والظرف بمتعلق بالجواب {فَإِنِّي}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {إن}: حرف توكيد ونصب و {الياء}: اسمها. {قَرِيبٌ}: خبر أول لها، وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لمحذوف هو جواب؛ تقديره: فقل لهم: إني قريب أجيب وجملة {إذا} جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين مباحث الصيام. {أُجِيبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع خبر ثان لـ {إنَّي}؛ تقديره: مجيب. {دَعْوَةَ}: مفعول به وهو مضاف. {الدَّاعِ}: مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخفيف منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. {إِذَا دَعَانِ}: {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية. {دَعَانِ}: {دعا}: فعل ماض. و {النون}: للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف في النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود إلى {الدَّاعِ}، والجملة من الفعل والفاعل في محل الجر بإضافة {إذَا} إليها، والظرف متعلق بـ {أُجِيبُ}؛ تقديره: أجيب دعوة الداعي وقت دعوته إياي. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت أني أجيب دعوتهم، وأردت بيان ما هو اللازم لهم .. فأقول لك: {اللام}: لام الأمر. {يستجيبوا}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر. {لِي}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَلْيُؤْمِنُوا}: الواو: عاطفة. {اللام}: لام الأمر. {يؤمنوا}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر. {بِي}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {يستجيبوا}. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: {لعل}: حرف نصب وتعليل. و {الهاء}: اسمها، وجملة {يَرْشُدُونَ}: خبرها؛ تقديره: لعلهم راشدون، وجملة {لعل}: في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ تقديره: وليؤمنوا بي لرشادهم؛ أي: لنيل رشادهم وفوز هدايتهم. {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}.

{أُحِلَّ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {لَيْلَةَ الصِّيَامِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {أُحِلَّ}. {الرَّفَثُ}: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَى نِسَائِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {الرَّفَثُ}: {هُنَّ}: مبتدأ. {لِبَاسٌ}: خبر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة {لِبَاسٌ}. {وَأَنْتُمْ} الواو: عاطفة. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {لِبَاسٌ}: خبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ}. {لَهُنَّ}: جار ومجرور صفة {لِبَاسٌ}. {عَلِمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أنكم}: {أنّ}: حرف نصب ومصدر و {الكاف} في محل النصب اسمها. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {تَخْتَانُونَ}: فعل وفاعل. {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول ومضاف إليه، والجملة من الفعل والفاعل في محل النصب خبر {كان}؛ تقديره: مختانين أنفسكم، وجملة كان في محل الرفع خبر {أن} تقديره: أنكم مختانون أنفسكم، وجملة {أنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علم تقديره: علم الله اختيانكم؛ أي: خيانتكم أنفسكم. {فَتَابَ}: {الفاء}: عاطفة {تاب}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {عَلِمَ}، أو معطوفة على محذوف؛ تقديره: فتبتم فتاب عليكم. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تاب}، {وَعَفَا}: الواو: عاطفة. {عَفَا}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تاب} {عَنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَفَا}. {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}. {فَالْآنَ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الله تاب عليكم وعفا عنكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول: الآن باشروهن. {الآن}: ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {بَاشِرُوهُنَّ}. {بَاشِرُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَابْتَغُوا}: الواو: عاطفة. {وَابْتَغُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بَاشِرُوهُنَّ}.

{مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {كَتَبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: ما كتبه الله لكم. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. {وَكُلُوا}: الواو: عاطفة. {كلوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بَاشِرُوهُنَّ}. {وَاشْرَبُوا}: الواو: عاطفة. {اشربوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بَاشِرُوهُنَّ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى {إلى}. {يَتَبَيَّنَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى {إلى}. {لَكُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْخَيْطُ}: فاعل. {الْأَبْيَضُ}: صفة له. {مِنَ الْخَيْطِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَبَيَّنَ}. {الْأَسْوَدِ}: صفة للخيط. {مِنَ الْفَجْرِ}: جار وجرور متعلق بمحذوف حال من {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}؛ تقديره: حالة كون الخيط الأبيض كائنًا من الفجر، وجملة {يَتَبَيَّنَ} صلة أن المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى {إلى}؛ تقديره: إلى تبين الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود، الجار والمجرور تنازع فيه كلوا واشربوا. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {أَتِمُّوا الصِّيَامَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}. {إِلَى اللَّيْلِ}: جار ومجرور معلق بـ {أَتِمُّوا}. {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ}: الواو: استئنافية. {لا}: ناهية. {تُبَاشِرُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} الواو: حالية. {أنتم}: مبتدأ. {عَاكِفُونَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تُبَاشِرُوهُنَّ}. {فِي الْمَسَاجِدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَاكِفُونَ}. {تِلْكَ}: مبتدأ. {حُدُودُ اللَّهِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {فَلَا تَقْرَبُوهَا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: تنبهوا فلا تقربوها {لا}: ناهية جازمة. {تَقْرَبُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف.

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: بيانًا كائنًا كذلك. {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ}: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُبَيِّنُ}. {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترجٍّ ونصب، و {الهاء}: اسمها، وجملة {يَتَّقُونَ}: خبرها. وجملة {لعل}: في محل الجربـ {لام} التعليل المقدرة المتعلقة بـ {يُبَيِّنُ}. التصريف ومفردات اللغة {فِدْيَةٌ طَعَامُ} الفدية: مصدرُ فدى يفدي فِدْيةً وفِداءً، والهاء فيها لا تدل على المرة الواحدة، بل هي للتأنيث فقط، وطعام: اسم مصدر لأطعم يطعم إطعامًا وطعامًا، فهو هنا بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، ويضعف (¬1) أن يكون الطعام هنا بمعنى المطعوم؛ لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعام للمسكين قبل تملكه إياه، فلو حمل على ذلك .. لكان مجازًا؛ لأنه يكون تقديره: فعليه إخراج الطعام يصير للمساكين، ولو حملت الآية على هذا .. لم يمتنع؛ لأن حذف المضاف جائز، وتسمية الشيء بما يؤول إليه جائز. {شَهْرُ رَمَضَانَ} والشهر (¬2) لأهل اللغة فيه قولان: أشهرهما: أنه اسم لمدة الزمان الذي يكون مبدؤها الهلال ظاهرًا إلى أن يستتر، سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه من المعاملات. والثاني: قاله الزجاج اسم للهلال نفسه. و {رَمَضَانَ} علم لهذا الشهر المخصوص، وهو علم جنس، وفي تسميته رمضان أقوال: أحدها: أنه وافق مجيئه في الرمضاء، وهي شدة الحر، فسمي به كربيع لموافقته الربيع، وجمادى لجمود الماء فيه. وثانيها: أنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها، بمعنى: يمحوها. ¬

_ (¬1) أبو البقاء. (¬2) جمل.

وثالثها: أن القلوب ترمض؛ أي: تحترق فيه من الموعظة. {الْقُرْآنُ}: في الأصل مصدر قرأت، ثم صار علمًا لما بين الدفتين، وهو من قرأ بالهمزة إذا جمع؛ لأنه يجمع السور والآيات والحكم والمواعظ، والجمهور على همزه، وقرأ ابن كثير من غير همز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، ثم حذفها. {دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}؛ أي: دعاء الداعي لا خصوص المرة، فـ (فعلة) ليست هنا للمرة؛ لأن محل كونها للمرة إذا لم يبن المصدر عليها كضربة، وأما إذا بُني المصدر عليها كرحمة ودعوة: فلا تكون للمرة إلا بذكر الواحدة، كما هو مبين في محله. والياءان (¬1) من قوله: {الدَّاعِ} و {دَعَانِ} من الزوائد عند القراء، ومعنى ذلك أن الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف، فمن القراء من أسقطها تبعًا للرسم، وقفًا ووصلًا، ومنهم من يثبتها في الحالين، ومنهم من يثبتها وصلًا ويحذفها وقفًا. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} السين والتاء فيه زائدان بمعنى: فليجيبوا لي، ويكون استفعل فيه بمعنى: أفعل الرباعي، وهو كثير في القرآن، كقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ}، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}: إلا أن تعديته في القرآن باللام، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه، قال الشاعر: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيْبُ أي: فلم يجبه، ونظيره من كلام العرب كاستحصد الزرع بمعنى: أحصد، واستعجل الشيء بمعنى: أعجل، واستقر بمعنى أقر، وكون استفعل بمعنى أفعل هو أحد المعاني التي ذكروها لـ (استفعل). {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} يقال: رَشِدَ (¬2) رشدًا من باب تعب، ورشد يرشد من باب قتل، فهو راشد، والاسم الرشاد ويتعدى بالهمزة، والرشد والرشاد ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) مصباح.

الصلاح، وهو خلاف الغي والضلال، وهو إصابة الصواب. {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يقال: رفث في منطقه رفثًا من باب طلب، ويرفِث - بالكسر - لغة: إذا أفحش فيه، أو صرح بما يكنى عنه من ذكر النكاح، والمراد بالرفث هنا: الجماع. {نِسَائِكُمْ} والهمزة (¬1) في نساء مبدلة من واو، لقولك في معناه نسوة، وهو جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدته امرأة، وقيل النساء جمع نسوة، والنسوة جمع امرأة فهو جمع الجمع. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} يقال: تبين الشيء وبان وأبان واستبان كله لازم، وقد يستعمل أبان واستبان وتبين متعديةً. البلاغة {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ} التشبيه في الفرضية لا في الكيفية، وهذا التشبيه يسمى عندهم تشبيهًا مرسلًا مجملًا. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فيه إظهار في مقام الإضمار؛ ليدل على التنويه به والتعظيم له، وفيه من أنواع المجاز: المجاز اللغوي؛ وهو إطلاق اسم الكل على الجزء، حيث أطلق الشهر وهو اسم للكل، وأراد جزءًا منه. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فيه من المحسنات البديعية: طباق السلب؛ وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين يتنافى وجود معناهما معًا في شيء واحد في وقت واحد، وخلاصة هذا الكلام أن طباق السلب: هو ما اختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا بحيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد أحدهما مثبت مرة والآخر منفي تارةً أخرى في كلام واحد نحو قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ}. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} علة للأمر بمراعاة العدد {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} علة للأمر بالقضاء، وبيان كيفيته. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة للترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسالك، لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلا النقاد من علماء البيان. ¬

_ (¬1) عكبري.

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}؛ أي: عن قربي وبعدي، ففيه مجاز بالحذف. {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}: {الرفث}: الجماع، وعداه بإلي وإن كان أصله التعدية بالباء؛ لتضمينه معنى الإفضاء، وحسن اللفظ به هذا التضمين، فصار ذلك قريبًا من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}، {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ}، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} مثلًا. {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ}. جمعت (¬1) هذه الآية ثلاثة أنواع من البيان: الطباق المعنوي بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} فإنه يقتضي تحريمًا سابقًا، فكأنه قيل: أحل لكم ما حرم عليكم، أو ما حرم على من قبلكم، والكناية: بقوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وهو كناية عن الجماع، والاستعارة البديعة بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} فإنه شبه (¬2) كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق والضم باللباس المشتمل على لابسه؛ أي: كالفراش واللحاف، وحاصله أنه تمثيل لصعوبة اجتنابهن وشدة ملابستهن، أو لستر أحدهما الآخر عن الفجور. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} فيه مجازان (¬3)؛ لأنه شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل وظلامه، شبها بخيطين أبيض وأسود، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} كقولك: رأيت أسدًا من زيد، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة؛ لأن الاستعارة لا تكون إلا حيث يدل عليها الحال أو الكلام، وهنا لو لم يأت من الفجر .. لم يعلم الاستعارة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) جمل. (¬3) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}. المناسبة قوله تعالى (¬1): {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام، فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد لها في مكان تعبد الله تعالى صائمًا له ممنوعًا من اللذة الكبرى بالليل والنهار، جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد فهي العبادة .. فلذلك نهى عن أكل الحرام الذي يمضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وهي أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال، وكذلك الإفطار في شهر شوال، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وأفطروا لرؤيته". وكان أيضًا قد تقدم كلام في شيء من أعمال الحج، وهو الطواف والحج أحد الأركان التي بني عليها الإِسلام، وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى، وفي الصلاة والزكاة والصيام، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو الحج، ليكون قد كملت الأركان التي بُني الإِسلام عليها. قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج .. استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر، فبين لهم أن ذلك ليس من البر، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه في الحج، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة، وما حكمة ذلك، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم فأفعاله جارية على الحكمة .. رد عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها إذا أحرموا ليس من الحكمة في شيء، ولا من البر، ولما وقعت القصتان في وقت واحد .. نزلت الآية فيهما معًا، ووصل إحداهما بالأخرى. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا أمرهم بالتقوى، وكان أشد أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله .. أمر به، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل والكف عمن كف، فهي ناسخة لآية الموادعة. أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {وَلَا تَأْكُلُوا ...} أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير ¬

_ (¬1) لباب النقول.

قال: إن امرئ القيس بن عابس الكندي وعبدان بن الأشوع الحضرمي اختصما في أرض، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ...}. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ...} أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة، فنزلت هذه الآية. وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقًا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق، حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحد كالشمس؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ...}. قوله تعالى (¬1): {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ...} روى البخاري عن البراء - رضي الله عنه - نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجّوا فجاؤوا .. لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} أخرج (¬2) الواحدي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صُدَّ من البيت الحرام .. صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام .. فأنزل الله ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري. (¬2) لباب النقول.

[188]

قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ...} أخرج ابن جرير عن قتادة قال: أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية .. صدهم المشركون، وصالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع من عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فلما كان العام المقبل .. أقبل هو وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة، فأقام بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه، فأقصه الله منهم، فأدخله مكة في مثل ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه، فأنزل الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ...}. قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ...} أخرج البخاري عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال نزلت في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه .. قال بعضنا لبعض سرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإِسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. التفسير وأوجه القراءة 188 - {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}؛ أي: لا يأخذ بعضكم مال بعض بالطريق الحرام شرعًا كالنهب والغصب واللهو كالقمار، وأجرة المغني، وثمن الخمر والملاهي، والرشوة وشهادة الزور، والخيانة في الأمانة، وذلك لأن الله قدر لكلٍّ رزقه، فلا يتسع بالباطل، ولا يضيق بالحق. {و} لا {تدلوا} عطف على المنهي، وقرأ أبي: (ولا تدلوا) بإعادة لا الناهية؛ أي: ولا تلقوا {بِهَا}؛ أي: بحكومتها؛ أي: لا تسرعوا ولا تبادروا بالخصومة على الأموال {إِلَى الْحُكَّامِ}؛ أي: إلى الولاة ليعينوكم على إبطال حق، أو تحقيق باطل {لِتَأْكُلُوا}؛ أي: تأخذوا بالتحاكم إليهم {فَرِيقًا}؛ أي: قطعة وجملة {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} وسماها

[189]

فريقًا؛ لأنها تفرق بين الناس، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: لتأكلوا أموال فريق من الناس {بِالْإِثْمِ}؛ أي: بالظلم والعدوان، وقال ابن عباس - رضي الله عنهم - باليمين الكاذبة، وقيل: بشهادة الزور {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء فالإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها" متفق عليه. ويستفاد من الآية: أن أكل أموال الناس بالوجه الباطل حرام، فأكله (¬1) بالباطل على وجوه: الأول: أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب. الثاني: أن يأكله بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني، وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك. الثالث: أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم، وشهادة الزور. الرابع: الخيانة، وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك، وإنما عبر عن أخذ المال بالأكل؛ لأنه المقصود الأعظم، ولهذا وقع في التعارف: فلان يأكل أموال الناس؛ بمعنى: يأخذها بغير حلها. 189 - ولما سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يمتليء نورًا، ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقًا كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ}؛ أي: يسألك الناس يا محمد {عَنِ} حكمة اختلاف {الْأَهِلَّةِ} بالزيادة والنقصان لماذا؟ وقرأ (¬2) الجمهور {عَنِ الْأَهِلَّةِ} بكسر النون ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

وإسكان لام الأهلة بعدها همزة وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة، وقرىء شاذًا بإدغام نون عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف، و {الْأَهِلَّةِ} جمع هلال، وهو اسم لما يبدو أول الشهر، ويسمى بالهلال ليلتين أو ثلاثًا، وبعد ذلك يسمى: قمرًا، وسمي هلالًا؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته، وإنما جمعها نظرًا إلى هلال كل شهر، أو كل ليلة تنزيلًا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات. {قُلْ} لهم يا محمد {هِيَ}: الأهلة {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}؛ أي: علامات لأوقات أغراض الناس الدينية والدنيوية {و} علامات لأوقات {الحج}؛ يعني أن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه: زوال الالتباس عن أوقات أغراض الناس في متاجرهم وآجال ديونهم وعدد نسائهم، وأيام حيضهن، وأجور أجرائهم، ومدد حواملهم، وصومهم وفطرهم، وأوقات زرعهم، ودخول وقت الحج وخروجه، وإنما أفرد الحج بالذكر مع دخوله في بقية الأغراض .. اعتناء بشأنه من حيث أن الوقت أشد لزومًا له من بقية العبادات: وذلك لأنه لا يصح فعله أداء ولا قضاء إلا في وقته المعلوم، وأما غيره من العبادات، فلا يتقيد قضاؤه بوقت أدائه، وقرأ الجمهور: {وَالْحَجِّ} بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق - شذوذًا - بكسرها في جميع القرآن. {وَلَيْسَ الْبِرُّ} والخير {بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} وتدخلوا في حال الإحرام. {مِنْ ظُهُورِهَا} وسطوحها وخلفها كما فعلوا ذلك في الجاهلية وصدر الإِسلام، فكان (¬1) الرجل إذا أحرم بالعمرة أو الحج .. لم يحل بينه وبين السماء شيء، فإن كان من أهل المدر .. نقب نقبًا في ظهر بيته يدخل منه، أو يتخذ سلمًا ليصعد، وإن كان من أهل الوبر .. دخل وخرج من خلف الخباء، ولا يدخل ولا يخرج من الباب، وكان إذا عرضت له حاجة في بيته .. لا يدخل من باب الحجرة من أصل سقف الباب مخافة أن يحول بينه وبين السماء شيء، فيفتح الجدار من ¬

_ (¬1) خازن.

[190]

ورائه، ثم يقف في صحن داره، فيأمر بحاجته. ووجه (¬1) اتصال هذا الكلام بالسؤال عن الأهلة والجواب عنه: أنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر، وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنِ اتَّقَى} محارم الله ومخالفة أمره كالصيد، وتوكل على الله في جميع أموره، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف لكنْ ورفع البرُّ، والباقون {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بالتشديد والنصب، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ} جمع بيت ككعب وكعوب، وقرىء بضم الباء وكسرها؛ أي: وادخلوا بيوتكم في حالة الإحرام {مِنْ أَبْوَابِهَا} التي كنتم تدخلونها وتخرجون منها قبل ذلك؛ إذ ليس في العدول عنها بر، فباشروا الأمور من وجوهها {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله فيما أمركم به ونهاكم عنه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا، والنعيم السرمدي في الآخرة، أو لكي تنجوا من السخط والعذاب. 190 - {وَقَاتِلُوا}؛ أي: جاهدوا أيها المهاجرون، والخطاب للمهاجرين كما قاله ابن جرير {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .. فهو في سبيل الله". {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}؛ أي: الذين يبدؤونكم بالقتال من الكفار؛ يعني: قريشًا، {وَلَا تَعْتَدُوا} عليهم ولا تظلموا بابتداء القتال في الحرم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ أي: لا يريد الخير بالمتجاوزين الحد بمخالفة أمره ونهيه، 191 - وهذا منسوخ بآية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، أو بقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}؛ أي: في أي محل وجدتموهم فيه من الحل والحرم وإن لم يبدؤوكم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}؛ يعني: من مكة، وقد فعل بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

القتل والإخراج بمن لم يسلم منهم عام الفتح. {وَالْفِتْنَةُ}؛ أي: شركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدهم لكم عنه {أَشَدُّ}؛ أي: أشر وأقبح. {مِنَ الْقَتْلِ}؛ أي: من قتلكم إياهم في الحرم الذي استعظمتموه، وإنما (¬1) كان الشرك أعظم من القتل؛ لأن الشرك بالله ذنب يستحق صاحبه الخلود في النار، وليس القتل كذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، وليس القتل كذلك، فثبت أن الفتنة أشد من القتل، وهذه الجملة جواب عن سؤال مقدر؛ تقديره: إن خفتم أن تقاتلوهم في الشهر الحرام وراعيتم حرمة الشهر والإحرام والحرم .. فالشرك الذي حصل منهم الذي فيه تهاون برب الحرم أبلغ، أو المعنى: والمحن التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أشد؛ أي: أصعب من القتل، لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ}؛ أي: لا تبدؤوهم بالقتال {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: في الحرم {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}؛ أي: حتى يبدؤوكم بالقتال فيه؛ أي: في الحرم {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ}؛ أي: فإن بدؤوكم بالقتال في الحرم {فَاقْتُلُوهُمْ}؛ أي: فقاتلوهم فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه؛ لأنهم الذين هتكوا حرمته، فاستحقوا أشد العذاب، وقرأ حمزة والكسائي: {ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم} كله بغير ألف؛ والمعنى: حتى يقتلوا بعضكم، كقولهم: قتلنا بنو أسد. واختلف العلماء في هذه الآية (¬2) هل هي محكمة أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من العلماء إلى أنها محكمة، وأنه لا يحل أن يقاتل في المسجد الحرام إلا من قاتل فيه وثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن مكة لا تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حرامًا إلى يوم القيامة". فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلا أن يُقَاتَلوا فيقَاتِلوا، ويكون دفعًا لهم. ¬

_ (¬1) خازن. (¬2) خازن.

[192]

وذهب قتادة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فأمر بقتالهم في الحل والحرم، وقيل: إنها منسوخة بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}؛ أي: يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم من المؤمنين. 192 - {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن قتالكم ودخلوا في الإِسلام {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهم ما سلف منهم من الكفر {رَحِيمٌ} بهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم. 193 - {وَقَاتِلُوهُمْ}؛ أي: وبادئوا المشركين بالقتال في الحل والحرم {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ أي: حتى يسلموا ولا يوجد شرك، {و} حتى {يكون الدين} كله والعبادة خالصًا {لِلَّهِ} وحده ليس للشيطان فيه نصيب ولا يعبد في الحرم وغيره إلا الله، وترك (¬1) هنا {كله} وذكره في الأنفال؛ لأن القتال هنا مع أهل مكة فقط، وتم مع جميع الكفار فناسب ذكره، {فَإِنِ انْتَهَوْا} وانزجروا وانكفوا عن الكفر وقتالكم في الحرم .. فلا تعتدوا عليهم، دل عليهم {فَلَا عُدْوَانَ}؛ أي: فلا اعتداء بقتل أو غيره؛ أي: فلا سبيل لكم بالقتل {إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}؛ أي: على المبتدئين بالقتل، أو المعنى: فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم، وهو إما كفرهم، أو قتالهم .. فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم، وسمي جزاء الظالمين ظلمًا للمشاكلة. 194 - {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} الذي دخلت فيه - يا محمَّد - لقضاء العمرة؛ وهو ذو القعدة من السنة السابعة، وسمي بالحرام لحرمة القتال فيه مقابل {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الذي صدوك فيه عن دخول مكة؛ وهو ذو القعدة من السنة السادسة؛ أي: من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام .. فاستحلوه فيه؛ أي: إن قاتلوكم فيه فقاتلوهم فيه {وَالْحُرُمَاتُ} جمع حرمة؛ وهي ما يجب احترامه، وقرأ الحسن شذوذًا: {والحرْمات} بإسكان الراء على الأصل؛ إذ هو جمع حرمة، والضم في ¬

_ (¬1) كرخي.

[195]

الجمع اتباع؛ أي: الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام. {قِصَاصٌ}؛ أي: يجري فيه قصاص وبدل؛ أي: فكما هتكوا حرمة شهركم بالصد والقتال .. فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم عنوة فاقتلوهم إن قاتلوكم، ولا تبالوا بالحرمات كما قال: {فَمَنِ اعْتَدَى}؛ أي: تعدى {عَلَيْكُمْ} بالقتال في الحرم أو الإحرام، أو الشهر الحرام {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}؛ أي: جازوه {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}؛ أي: بعقوبة مثل الجناية التي اعتدى عليكم بها، سمى المجازاة اعتداء للمشاكلة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فمن اعتدى عليكم فقابلوه وجازوه بمثل ما اعتدى عليكم به {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله في الانتصار ممن اعتدى عليكم، فلا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم فيه. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بالنصر والحفظ فيحرسهم ويصلح شأنهم. والحاصل: أنه لما أباح لهم الاقتصاص بالمثل، وشأن النفس حب المبالغة في الانتقام .. حذرهم من ذلك فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}. 195 - {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: وابذلوا أموالكم وأنفسكم في طاعة الله ومراضيه سواء الجهاد وغيره، فالإنفاق (¬1): صرف المال في وجوه المصالح الدينية، كالإنفاق في الحج والعمرة، وصلة الرحم والصدقة، وفي الجهاد وتجهيز الغزاة، وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة إلى الله تعالى؛ لأن كل ذلك مما هو في سبيل الله، لكن إذا أطلقت هذه اللفظة .. انصرفت إلى الجهاد {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ}؛ أي: ولا توقعوا ولا تطرحوا أنفسكم {إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ أي: إلى الهلاك، وعبر بالأيدي عن الأنفس اكتفاء بالجزء الأهم؛ لأن بها البطش والحركة؛ أي: لا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه؛ لأن به يقوى العدو، وتكثر المصائب في الدين والذل لأهله كما هو مشاهد، ومن أنفق أمواله ونفسه في سبيل الله .. فقد ألقى نفسه إلى العز الدائم في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) خازن.

{وَأَحْسِنُوا} أعمالكم وأخلاقكم، أو أحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته بأن يكون ذلك الإنفاق وسطًا، فلا تسرفوا ولا تقتروا، أو أحسنوا الظن بالله في الإخلاف عليكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: يريد بهم الخير ويثيبهم على إحسانهم. الإعراب {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {وَلَا تَأْكُلُوا} {الواو} استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {تَأْكُلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {أَمْوَالَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {تَأْكُلُوا}، وعبارة (¬1) "السمين" هنا قوله: {بَيْنَكُمْ}: في هذا الظرف وجهان: أحدهما: أن يتعلق بـ {تَأْكُلُوا} بمعنى لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل. والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من {أَمْوَالَكُمْ}؛ أي: لا تأكلوها كائنة بينكم. {بِالْبَاطِلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأْكُلُوا}، وفي "السمين" (¬2) قوله {بِالْبَاطِلِ}: فيه وجهان: أحدهما: تعلقه بالفعل؛ أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل. والثاني: أن يكون حالًا فيتعلق بمحذوف، ولكن في صاحبها احتمالان: أحدهما: أنه المال، كأن المعنى لا تأكلوها متلبسة بالباطل. والثاني: أنه الضمير في تأكلوا، كان المعنى لا تأكلوها مبطلين؛ أي: متلبسين بالباطل. ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) جمل.

{وَتُدْلُوا}: الواو: عاطفة. {تدلوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَأْكُلُوا} مجزوم بـ {لا} الناهية. {بِهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تدلوا}. {إِلَى الْحُكَّامِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تدلوا} أيضًا. {لِتَأْكُلُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تأكلوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة جوازًا بعد لام كي. {فَرِيقًا}: مفعول به. {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {فَرِيقًا}؛ تقديره: فريقًا كائنًا من أموال الناس، وجملة {تَأْكُلُوا} صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {لام} التعليل؛ تقديره: لأكلكم فريقًا {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} الجار والمجرور متعلق بـ {تدلوا}. {بِالْإِثْمِ}: جار ومجرور متعلق بقوله: {لِتَأْكُلُوا}، وعبارة "السمين" قوله: {بِالْإِثْمِ}: يحتمل أن تكون {الباء} سببية، فتتعلق بقوله: {لِتَأْكُلُوا}، وأن تكون للمصاحبة؛ فتكون حالًا من الفاعل في {لِتَأْكُلُوا}، وتتعلق بمحذوف؛ أي: لتأكلوا ملتبسين بالإثم. {وَأَنْتُمْ}: الواو: حالية، {أنتم}: مبتدأ. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {لِتَأْكُلُوا}، وذلك على رأي من يجيز تعدد الحال، وأما من لا يجيز تعدده: فيجعل {بِالْإِثْمِ} غير حال. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {عَنِ الْأَهِلَّةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يسألون}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {هِيَ}، مبتدأ. {مَوَاقِيتُ}: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {مَوَاقِيتُ}؛ تقديره: كائنات للناس. {وَالْحَجِّ}: معطوف على {النَّاسِ}. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}. {وَلَيْسَ}: الواو استئنافية، {ليس البرُّ}. فعل ناقص واسمه. {بِأَنْ تَأْتُوا}: {الباء}: زائدة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {تَأْتُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {الْبُيُوتَ}: مفعول به. {مِنْ ظُهُورِهَا}: جار ومجرور

ومضاف إليه متعلق بـ {تَأْتُوا}، وجملة {تَأْتُوا} صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {ليس} تقديره: وليس البر إتيانكم البيوت من ظهورها، وجملة {ليس} مستأنفة. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَلَكِنَّ}: {الواو} عاطفة، {لكن} حرف نصب واستدراك. {الْبِرَّ}: اسمها {مَنِ}: اسم موصول في محل الرفع خبر {لكن}، ولكنه على حذف مضاف؛ تقديره: ولكن البرَّ برُّ من اتقى كما مر في الحل، والجملة معطوفة على جملة {ليس البر}. {اتَّقَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {وَأْتُوا}: الواو: عاطفة، {أتوا البيوت}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَلَيْسَ الْبِرُّ}. {مِنْ أَبْوَابِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أتوا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الواو} عاطفة، {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: {لعل}: حرف نصب وتعليل، والكاف: اسمها، وجملة {تُفْلِحُونَ}: خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة المتعلقة بـ {اتقوا}؛ تقديره: واتقوا الله؛ لفوزكم وفلاحكم. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: {الواو} استئنافية. {قاتلوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قاتلوا} {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يُقَاتِلُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَلَا تَعْتَدُوا}: {الواو} عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَعْتَدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {قاتلوا}. {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}

اسمها {لَا}: نافية. {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْمُعْتَدِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}. {وَاقْتُلُوهُمْ} الواو: استئنافية، {اقتلوهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: و {وَقَاتِلُوا}. {حَيْثُ}: ظرف مكان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {اقتلوهم}. {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَأَخْرِجُوهُمْ}: {الواو} عاطفة، {أخرجوهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَاقْتُلُوهُمْ}. {مِنْ حَيْثُ} جار ومجرور متعلق بـ {أخرجوا}. {أَخْرَجُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَالْفِتْنَةُ}: الواو: اعتراضية. {الفتنة}: مبتدأ. {أَشَدُّ}: خبر. {مِنَ الْقَتْلِ}: متعلق به، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ}: الواو: عاطفة، {لا}: ناهية، {تقاتلوهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا}، مؤكدة لها ومفسرة. {عِنْدَ الْمَسْجِدِ}: ظرف ومضاف إليه. {الْحَرَامِ}: صفة لـ {الْمَسْجِدِ}، والظرف متعلق بـ {تُقَاتِلُوهُمْ}. {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}: {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُقَاتِلُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن} مضمرة. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى}؛ تقديره: إلى مقاتلتهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ}. {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.

{فَإِنْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا لم يقاتلوكم، وأردتم بيان حكم ما إذا قاتلوكم .. فأقول: إن قاتلوكم، {إن}: حرف شرط. {قَاتَلُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَاقْتُلُوهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {اقتلوهم}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {جَزَاءُ}: مبتدأ مؤخر. {الْكَافِرِينَ}. مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}. {فَإِنِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت حكم ما إذا قاتلوا، وأردت بيان حكم ما إذا انتهوا .. فأقول لك: إن انتهوا، {إن}: حرف شرط. {انْتَهَوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل الشرط. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {إن}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، وجملة إنَّ في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. {وَقَاتِلُوهُمْ} الواو: استئنافية، {قاتلوهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {لَا}: نافية. {تَكُونَ}: فعل مضارع تام منصوب بـ {أن} مضمرة. {فِتْنَةٌ}: فاعل، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى المتعلقة بـ {قاتلوهم}؛ تقديره: وقاتلوهم إلى عدم فتنة وشرك. {وَيَكُونَ}: الواو: عاطفة، {يكون}: فعل مضارع معطوف على تكون، منصوب بـ {أن} مضمرة، ولكن يصح كونها ناقصة وتامة، وعلى كونها ناقصة: {الدِّينُ}: اسمها. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق

بمحذوف خبر {يكون}؛ تقديره: ويكون الدين خالصًا لله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {لَا تَكُونَ} تقديره: وقاتلوهم إلى عدم فتنة، وإلى كون الدين خالصًا لله. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}. {فَإِنِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت وجوب مقاتلتهم إلى عدم الفتنة، وأردت بيان حكم ما إذا انتهوا .. فأقول لك: إن انتهوا، {إن}: حرف شرط جازم. {انْتَهَوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن}. {فَلَا عُدْوَانَ}: {الفاء}: رابطة لجواب إن وجوبًا. {لا}: نافية تعمل عمل إن. {عُدْوَانَ}: في محل النصب اسمها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {عَلَى الظَّالِمِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}؛ تقديره: فلا عدوان كائن إلا على الظالمين، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}. {الشَّهْرُ}: مبتدأ. {الْحَرَامُ}: صفة له. {بِالشَّهْرِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. {الْحَرَامِ}: صفة للشهر مجرور؛ والتقدير: الشهر الحرام مقابل الشهر الحرام، والجملة مستأنفة. {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} على كونها مستأنفة. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. {فَمَنِ}: {الفاء}: تفريعية، وهي التي كان ما قبلها علة لما بعدها. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. {اعْتَدَى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {اعْتَدَى}. {فَاعْتَدُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية؛ لكون الجواب

جملة طلبية، {اعتدوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب الشرط، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}؛ لأنها مفرعة عليها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اعتدوا}. {بِمِثْلِ}: جار ومجرور متعلق أيضًا بـ {اعتدوا}. وعبارة "السمين" (¬1) في هذه {الباء} قولان: أحدهما: أن تكون غير زائدة، بل تكون متعلقة بـ {اعتدوا}، والمعنى: بعقوبة مثل جناية اعتدائه. والثاني: أنها زائدة؛ أي: مثل اعتدائه، فيكون نعتًا لمصدر محذوف، أي: اعتداء مماثلًا لاعتدائه، و {ما} يجوز أن تكون مصدرية، فلا تفتقر إلى عائد، وأن تكون موصولة، فيكون العائد محذوفًا، أي: بمثل ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفه؛ لأن المضاف إلى الموصول قد جر بحرف جر، وبه العائد، واتحد المتعلقان. انتهى. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الواو} استئنافية، {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا}: الواو: عاطفة، {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اتقوا}. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر، {اللَّهَ}. اسمها. {مَعَ الْمُتَّقِينَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي {اعلموا}؛ تقديره: واعلموا كون الله مع المتقين. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. {وَأَنْفِقُوا}: {الواو} استئنافية، {أَنْفِقُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أنفقوا}. {وَلَا تُلْقُوا} ¬

_ (¬1) جمل.

الواو: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُلْقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {وَأَنْفِقُوا}. {بِأَيْدِيكُمْ}: {الباء}: زائدة، {أيديكم}: مفعول به ومضاف إليه. {إِلَى التَّهْلُكَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُلْقُوا}. {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. {وَأَحْسِنُوا}: {الواو} عاطفة، {أحسنوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أنفقوا}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْمُحْسِنِينَ}: مفعول به، وجملة {يُحِبُّ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إن} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة؛ تقديره: وأحسنوا لمحبة الله المحسنين؛ أي: لطلب محبته إياكم. التصريف ومفردات اللغة {الباطل}: اسم فاعل من بطل الشيء يبطل بطولًا فهو باطل؛ أي: زائل ذاهب، والمراد هنا الطريق الحرام كالنهب والغصب {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} يقال: أدلى الدلو في البئر إذا أرسلها فيه؛ فهو من الرباعي المزيد، والمراد بالإدلاء هنا: المبادرة إلى الحكام بالخصومة، أو بالرشوة ليحكم له بالباطل. {الْأَهِلَّةِ}: جمع هلال، وهو القمر أول ما يراه الناس ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا كما مر، ثم يكون قمرًا، ثم بدرًا حين تكامل نوره، وأصل الأهلة: أهللة، نقلت كسرة اللام الأولى إلى الساكن قبلها، ثم أدغمت في اللام الأخرى، وهو جمع مقيس في فعال المضعف نحو عِنَان وأَعِنَّة، وشذ فيه (فعل) قالوا: عنن في عنان، وحجج في حجاج. {مَوَاقِيتُ}؛ جمع ميقات، أصله: موقات قلبت {الواو} ياء لسكونها إثر كسرة، وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: الميقات منتهى الوقت. والفرق (¬1) بين الوقت والمدة والزمان: أن المدة المطلقة: امتداد حركة ¬

_ (¬1) كرخي.

الفلك من مبدئها إلى منتهاها. والزمان: مدة منقسمة إلى الماضي والحال والمستقبل، والوقت: الزمان المفروض لأمر. {بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} البيوت (¬1) يقرأ: بضم الباء، وهو الأصل في الجمع على فعول، والمعتل كالصحيح، وإنما ضم أول هذا الجمع ليشاكل ضمة الثاني والواو بعده. ويقرأ بكسر الباء؛ لأن بعده ياء، والكسرة من جنس الباء، ولا يستثقل بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأن الضمة هنا في الياء، والياء مقدرة بكسرتين، فكانت الكسرة في الياء كأنها وليت كسرة، وهكذا الخلاف في العيون والجيوب والشيوخ، ومن هنا جاز في التصغير الكسر، فيقال في بيت: بييت. {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يقال: ثقُف الرجل - من باب ظرُف - إذا صار حاذقًا خفيفًا، فهو ثَقف مثل ضخُم فهو ضخم، ومنه الثقافة. وثقف من باب طرب لغةٌ فيه، فهو ثَقِفْ وثَقُف كعضد، وفي "القاموس": وثقفه كسمعه إذا أخذه أو ظفر به أو أدركه، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء علمًا أو عملًا، وفيه معنى الغلبة. {فَإِنِ انْتَهَوْا} وأصل انتهوا: انتهيوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان؛ فحذفت الألف وبقيت الفتحة تدل عليها. {وَالْحُرُمَاتُ} جمع حرمة كالظلمات جمع ظلمة، وإنما جمع الحرمات؛ لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والحرمة ما منع الشرع من انتهاكه. {التهلكة} مصدر (¬2) لهلك من باب ضرب، وفي "المختار" يقال: هلك الشيء يهلِك - بالكسر من باب ضرب - هلاكًا وهلوكًا وتهلُكةً بضم اللام، والاسم: الهلك بالضم، قال اليزيدي: التهلكة من نوادر المصادر، ليست مما يجري على القياس، وقيل (¬3): التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك ما لا يمكنه التحرز منه، وقيل: التهلكة الشيء المهلك، والهلاك حدوث التلف، وقيل: ¬

_ (¬1) عكبري. (¬2) جمل. (¬3) البحر المحيط.

التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك. البلاغة {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وقد جعل (¬1) بعض علماء المعاني هذا الجواب من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يَترقب مُنَبِّها على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها؛ لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعلمه. انتهى. لأنه من الأحكام الظاهرة (¬2) التي شأن الرسول التصدي لبيانها، وأما سبب اختلافه: فهو من قبيل المغيبات التي لا غرض للمكلف في معرفتها، ولا يليق أن تبين له. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالمراد بالسبيل دين الله؛ لأن السبيل في الأصل الطريق، ففيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الله بالسبيل بجامع الوصول إلى المقصود في كلٍّ. {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} المراد به الحرم كله، ففيه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} فيه مجاز بالحذف؛ تقديره: هتك حرمة الشهر الحرام له وقع منكم مقابلٌ بهتك حرمة الشهر الحرام الواقع منهم؛ لأنم قاتلوا المسلمين في عام الحدييبة قتالًا خفيفًا بالرمي بالسهام والحجارة. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} تسمية جزاء العدوان عدوانًا من قبيل المشاكلة؛ وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قال الزجاج: العرب تقول: ظلمني فلان فظلمته؛ أي: جازيته بظلمه. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فيه مجاز حيث أطلق الأيدى، وأراد الأنفس ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) جمل.

من إطلاق الجزء على الكل. فائدة: وفي تفسير (¬1) التهلكة أقوال تسعة: أحدها: ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال. قاله أبو أيوب. الثاني: ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة. قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن جبير. الثالث: التقحم في العدو بلا نكاية. قاله أبو القاسم البلخي. الرابع: التصدق بالخبيث قاله عكرمة. الخامس: الإسراف بإنفاق كل المال قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}. قاله أبو علي. السادس: الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته، قاله البراء، وعبيدة السلماني. السابع: القنوط من التوبة. قاله قوم. الثامن: السفر للجهاد بغير زاد. قاله زيد بن أسلم، وقد فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق، أو إلى كونهم عالة على الناس، التاسع: إحباط الثواب بالمن والرياء والسمعة، كقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية، والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله؛ يعني غير الجهاد. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}. المناسبة لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام .. أردف ذلك بذكر أحكام الحج؛ لأن شهور الحج تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال التي فصلت بين آيات الصيام وآيات الحج: فقد ذكرت عرضًا لبيان حكم هام؛ وهو بيان الأشهر الحرم، وحكم القتال فيها فيما لو تعرض المشركون للمؤمنين، وهم في حالة الإحرام هل يباح لهم رد العدو عن أنفسهم والقتال في الأشهر الحرم؟ فقد وردت الآيات السابقة تبين حكمة الأهلة وأنها مواقيت للصيام والحج ثم بينت الآيات بعدها موقف المسلمين من القتال في الشهر الحرام،

وذلك حين أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العمرة وصده المشركون ومنعوه من دخول مكة، ووقع صلح الحديبية، ثم لما أراد القضاء في العام القابل وخشي أصحابه غدر المشركين بهم، وهم في حالة الإحرام .. نزلت الآيات تبين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص ودفع العدوان، ثم عاد الكلام إلى أحكام الحج وحكم الإحصار فيه، فهذا هو الارتباط والمناسبة بين الآيات السابقة واللاحقة. أسباب النزول قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ...} أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متضمخًا بالزعفران، عليه جبة فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي، فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أين السائل عن العمرة؟ " قال: ها أنا ذا، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك". قوله (¬1) تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ...} روى البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} قال: حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة" قلت: لا. قال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك"، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة. قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا ...} الآية، روى البخاري، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ...} الآية، روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[196]

يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ...} أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ...}. وأخرج ابن المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش يقفون بالمزدلفة، ويقف الناس بعرفة إلا شيبة بن ربيعة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ...} الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر أفعال آبائهم، فأنزل الله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ...} الآية. قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ...} أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين، فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}. التفسير وأوجه القراءة 196 - {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ أي: أدوهما تامين كاملين بأركانهما وشروطهما وواجباتهما وآدابهما خالصين {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى غير مخلوطين بشيء من الأغراض الدنيوية كالتجارة والاكتساب، أو بشيء مما يحبطهما كالرياء والسمعة والشهرة باسمهما، وفي قراءة {وأقيموا الحج والعمرة لله} واختلف العلماء في معنى إتمامها. قال ابن عباس: إتمامهما: أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما

وسننهما، وقيل: إتمامهما: أن يتحرم بهما من دويرة أهلك، وقيل: هو أن تفرد لكل واحد منهما سفرًا، وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالًا، وتنتهي عما نهى الله عنه، وقيل: إتمامهما أن تخرج من أهلك، لهما لا للتجارة ولا لحاجة، وقيل، إذا شرع فيهما وجب عليه الإتمام. فصل واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلًا. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت نعم .. لوجب ولما استطعتم". وفي وجوب العمرة قولان للشافعي: أصحهما: أنها واجبة، وهو قول علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإليه ذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين. وحجتهم على أنها واجبة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، وإني أهللت بهما، فقال: هديت لسنة نبيك محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو داود، والنسائي بأطول من هذا. وجه الاستدلال أنه أخبر عن وجوبهما عليه، وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنها كقرينها في كتاب الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الحج والعمرة فريضتان، وعنه رضي الله عنه: ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا قال: العمرة واجبة كوجوب الحج. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة، وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة" أخرجه الترمذي والنسائي "وما من مؤمن يظل يومه محرمًا إلا غابت الشمس بذنوبه" وقال حديث حسن صحيح. وجه الاستدلال: أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة، والأمر للوجوب، ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام، فكانت واجبة كالحج. والقول الثاني: أنها سنة، ويروى ذلك عن ابن مسعود، وجابر، وإبراهيم، والشعبي، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم. وحجتهم على أنها سنة: ما روي عن جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا وأن تعتمروا خير لكم" أخرجه الترمذي. وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطاه، وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه، وقلة مراعاته لما يحدث به. وأجمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على إحدى ثلاثة أوجه: إفراد وتمتع وقران. فصورة الإفراد: أن يحج، ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يحج في تلك السنة. وصورة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة، وإنما سمي تمتعًا؛ لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج. وصورة القران: أن يحرم بالحج والعمرة معًا في أشهر الحج فينويهما بقلبه، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنًا.

واختلفت الأئمة في الأفضل منها، فذهب مالك والشافعي إلى أن الإفراد أفضل، ثم التمتع، ثم القران، ويدل عليه ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد بالحج. أخرجه مسلم. وله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردًا، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفردًا. وله عن جابر رضي الله عنه قال: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نصرخ بالحج صراخًا. وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القران أفضل، ويدل عليه ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعًا، وفي رواية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لبيك عمرة وحجًّا". أخرجاه في "الصحيحين". وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل، ويدل عليه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأول من نهى عنها معاوية. أخرجه الترمذي. واختلفت الروايات في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان مفردًا، أو متمتعًا، أو قارنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، ورجحت كل طائفة نوعًا، وادعت أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أولًا مفردًا، ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج، فصار قارنًا. فمن روى أنه كان مفردًا فهو الأصل، ومن روى القِران اعتمد آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقِران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على عمل واحد، وبهذا أمكن الجمع بين الروايات المختلفة في صفة حجة الوداع، وهو الصحيح. واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - وهؤلاء لهم مزية في حجة

الوداع على غيرهم، فأما جابر رضي الله عنه: فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر رضي الله عنهما: فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وإنما سمعه يلبي بالحج، وأما ابن عباس رضي الله عنهما فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما عائشة رضي الله عنها: فقربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروف، واطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها. ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وواظبوا عليه وأركان الحج خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة، والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين. وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه الأركان يحصل تمام الحج والعمرة. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}؛ أي: منعتم عن إتمام الحج أو العمرة، بعدوّ أو مرض أو كسر أو سجن، وأردتم التحلل من إحرامكم {فَمَا اسْتَيْسَرَ}؛ أي: فعليكم ذبح ما تيسر وسهل لكم {مِنَ الْهَدْيِ} من بدنة أو بقرة أو شاة، واذبحوها حيث أحصرتم من حل أو حرم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح عام الحديبية بها، وإليه ذهب الشافعي وأحمد ومالك، وقال أبو حنيفة: أنه يقيم على إحرامه، ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك، ثم يحل في ذلك الوقت، والهدي: هو ما يهدي إلى بيت الله الحرام، أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة؛ أي: فعليكم ذبح ما تيسر من هذه الأجناس، ويشترط (¬1) فيها أن تكون مجزئة في الأضحية، فإن لم يتيسر .. عدل إلى قيمة الحيوان، واشترى به طعامًا: وتصدق به في مكان الإحصار، فإن ¬

_ (¬1) جمل.

لم يقدر .. صام عن كل مد يومًا حيث شاء، وله التحلل حالًا؛ أي: قبل الصوم وهذا الدم دم ترتيب وتعديل، هكذا قال الفقهاء، وليس لهم عليه حجة. والظاهر من الآية: أنه إذا لم يتيسر له .. فلا شيء عليه. {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}؛ أي: ولا تحللوا من إحرامكم أيها المحصورون بالحلق أو التقصير {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}؛ أي: حتى يصل الهدي المكان الذي يحل فيه ذبحه، وهو الحرم عند أبي حنيفة، ومكان الإحصار عند الشافعي وهو الراجح؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح عام الحديبية بها، وهي من الحل، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق أو يقصر وبه يحصل التحلل والخروج من النسك، فبلوغ الهدي محله كناية عن ذبحه في مكان الإحصار، فتفيد الآية وجوب تقديم الذبح على الحلق، وهو كذلك كما هو مقرر في الفروع، و {الْهَدْيُ} (¬1) جمع هدية كجدي وجدية، وقرىء {من الهدي} جمع هدية كمطي جمع مطية، والمَحِل - بالكسر - يطلق على المكان والزمان، ويطلق (¬2) الهدي على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هدية لأهل الحرم من غير سبب يقتضيه، وهذا ليس مرادًا هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب، سواء كان محظورًا وهو الواجب بفعل حرام أو ترك واجب، أو لم يكن كالإحصار والتمتع، وهذا هو المراد هنا. واقتصاره على الهدي (¬3) دليل على عدم وجوب القضاء، وقال أبو حنيفة: يجب القضاء. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} مرتب على محذوف؛ تقديره: ولا تحلقوا رؤسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى كقمل وصداع؛ أي: فمن كان منكم أيها المحرمون مريضًا في بدنه محتاجًا إلى المداواة واستعمال الطيب ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) جمل. (¬3) بيضاوي.

واللباس {أَوْ} كان {بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}؛ أي: ألم في رأسه بسبب الجراحة، أو بسبب القمل والصئبان أو بسبب الصداع، أو كان عنده خوف من حدوث مرض أو ألم، فحلق أو تطيب أو لبس {فـ} عليه {فدية من صيام} ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} بثلاثة آصع من غالب قوت مكة على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع {نُسُكٍ}؛ أي: ذبح شاة مجزئة في الأضحية، وهذه الفدية على التخيير لأن {أَوْ} في الآية للتخيير، إن شاء ذبح أو صام أو تصدق، وكل هدي أو طعام يلزم المحرم فإنه لمساكين الحرم إلا الهدي المحصر؛ فإنه يذبحه حيث أحصر، وأما الصوم: فله أن يصوم حيث شاء، وقد سبق لك أن هذه الآية نزلت في كعب بن عجرة - رضي الله عنه - وقد بين في حديثه مقدار الصيام والصدقة والنسك. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} من العدو أو لم يكن من أول الأمر؛ أي: فإذا كنتم آمنين من العدو بعد ما وقع الإحصار، أو كنتم آمنين من أول الأمر {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ}؛ أي: فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب والدهن واللباس والنساء بسبب فراغه من أعمال العمرة {إِلَى الْحَجِّ}؛ أي: إلى إحرامه بالحج {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}؛ أي: فعليه ذبح ما تيسر وسهل له من الدم، وهو شاة يذبحها يوم النحر، وهو الأفضل، فلو ذبح قبله بعد ما أحرم بالحج. أجزأه عند الشافعي كسائر دم الجبرانات، ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر. ولوجوب دم التمتع خمسة شرائط: الأول: أن يقدم العمرة في أشهر الحج. الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث: أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة. الرابع: أن يحرم بالحج من جوف مكة، ولا يعود إلى ميقات بلده، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه .. لم يكن متمتعًا. الخامس: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. فهذه الشروط معتبرة

في وجوب دم التمتع، ومتى فُقِد شيء منها لم يكن متمتعًا، ودمُ التمتعِ دمُ جبران عند الشافعي، فلا يجوز أن يأكل منه، وقال أبو حنيفة: هو دم نسك، فيجوز أن يأكل منه. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهدي لفقده أو فقد ثمنه {فـ} عليه {صيام ثلاثة أيام في} حال إحرامه بـ {الحج}؛ أي: في أيام اشتغاله بأعمال الحج؛ يعني: بعد إحرامه وقبل التحلل منه، والأفضل أن يصومها قبل يوم عرفة؛ ليكون مفطرًا فيه بأن يصوم خامسه وسادسه وسابعه بعد ما أحرم بالحج في اليوم الرابع مثلًا، وقال أبو حنيفة: يصومها في أشهره بين الإحرامين، ولا يجوز صومها يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين، وقرىء {صيامَ} - بالنصب - على تقدير: فليصم، والمصدر مضاف إلى ظرفه في المعنى، وهو في اللفظ مفعول به على السعة كما ذكره العكبري. {و} عليه أيضًا صيام {سبعة} أيام {إذا} فرغتم من الحج و {رَجَعْتُمْ} إلى أهليكم ووطنكم مكة أو غيرها، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان مقتضى السياق أن يقول: إذا رجع، وقرأ ابن أبي عبلة {سبعةَ} - بالنصب - عطفًا على محل {ثلاثة}، أو بفعل محذوف تقديره: وصوموا سبعة أيام إذا رجعتم {تِلْكَ} الأيام الثلاثة والسبعة جملتها {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} في الثواب والأجر، أو في مقامها مقام الهدي؛ لأنه قد يحتمل أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي، فأعلم الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقام الهدي. وقيل: فائدة ذلك: الفذلكة في علم الحساب؛ وهو أن يعلم العدد مفصلًا، ثم يعلمه جملة؛ ليحتاط به من جهتين، و {ذلك} الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بأن يكونوا على مرحلتين فأكثر من الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى، أو يكونوا وراء المواقيت الخمسة: ذي الحليفة، والجحفة، وقرن، ويلملم، وذات عرق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أو يكونوا من أهل الحل عند طاووس رضي الله عنه، أو يكونوا غير مكيين عند مالك رحمه الله تعالى، فحاضرو الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى من كان وطنه دون مرحلتين منه، ومن كان من أهل المواقيت أو دونها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وأهل الحرم عند طاووس، وأهل مكة عند مالك رحمه الله تعالى.

[197]

والمراد (¬1) بالأهل: الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والأخوة. ومفهوم الآية: أن من كان من حاضري المسجد الحرام .. فلا هدي ولا صمام عليه وإن تمتع على ما قاله الشافعي ومن وافقه، وألحق بالتمتع في وجوب الدم أو بدله القارن بالسنة، وهو من أحرم بالحج والعمرة معًا، أو يدخل الحج عليها قبل الطواف كما مر. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه في الحج وفي غيره. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن خالف أمره، وتهاون بحدوده، وارتكب مناهيه. 197 - {الْحَجُّ}؛ أي: وقت الحج {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}؛ أي: معروفات بين الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي. فإن قلتَ: ما وجه جمع الأشهر مع أن الوقت شهران وعشر ليال؟ قلتُ: إنما جمعه؛ لأن المراد بالجمع ما فوق الواحد كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، أو أنه نزل بعض الشهر منزلة كله. وأما وقت العمرة: فجميع السنة، وهذه الآية مخصصة لعموم آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} حيث اقتضت أن جميع الأهلة وقت للحج. تنبيه: واختلفت الأئمة في وقت الحج، وقال (¬2) الشافعي رحمه الله تعالى: وقت الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فيخرج وقته بطلوع فجر يوم النحر، وبه قال عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، والشعبي، وعليه الثوري، وأبو ثور رحمهم الله تعالى. ¬

_ (¬1) طبري. (¬2) الخازن.

وحجة الشافعي رحمه الله تعالى ومن وافقه: أن الحج يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها، فدل على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج، وأيضًا فإن الإحرام بالحج فيه لا يجوز، فدل على أنه وما بعده ليس من أشهر الحج. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشرة أيامٍ من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وبه قال ابن عمر، وعروة بن الزبير، وطاووس، وعطاء، والنخعي، وقتادة، ومكحول، وأبو حنيفة؛ وأحمد بن حنبل، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وحجة هذا القول: أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، ولأن فيه يقع طواف الإفاضة، وهو تمام أركان الحج، وهذا القول شاذ في مذهب الشافعي. وقيل: إن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر وبه قال الزهري، وهي الرواية الأخرى عن مالك، وحجة هذا القول: أن الله تعالى ذكر أشهر الحج بلفظ الجمع وأقل الجمع المطلق ثلاث، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك، وعلى هذا القول: يصح الإحرام في جميع ذي الحجة، وهذا القول أشذ وأبعد. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}؛ أي: فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام في هذه الأشهر عند الشافعي، أو بالتلبية، أو سوق الهدي عند أبي حنيفة؛ لأنه يقول لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى تنضم إليه التلبية أو سَوْق الهدي، ووجهه: أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم، فلا بد من انضمام شيء إلى النية كتكبيرة الإحرام مع النية في الصلاة، وفي الآية: دليل على أن الإحرام بالحج لا ينعقد إلا في أشهره. {فَلَا رَفَثَ}؛ أي: فلا جماع، أو فلا فحش من الكلام {وَلَا فُسُوقَ}؛ أي: ولا خروج عن حدود الشرع بالسباب وارتكاب المحظورات. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج ولم يرفث ولم يفسق .. رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه. {ولا جدال}؛ أي:

ولا مراء ولا خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما {فِي} أيام {الْحَجِّ} نفي الثلاثة على قصد النهي عنها للمبالغة، وإنما أمر باجتناب ذلك - وهو واجب الاجتناب - في كل حال؛ لأنه مع الحج أقبح، كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ} بالرفع والتنوين و {ولا جدال} بالفتح، والباقون قرؤوا الكل بالفتح، والمعنى على هذا: لا يكونن رفث ولا فسوق ولا خلاف في الحج، وذلك أن قريشًا كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام، فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حج فلم يرفث ولم يفسق .. خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه" فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الجدال. ويروى عن عاصم برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي - شذوذًا - بنصب الثلاثة والتنوين. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} كصدقة وكترك المنهي عنه {يَعْلَمْهُ اللَّهُ}؛ أي: يقبله منكم ويجازيكم عليه خير الجزاء، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلًّا على الناس {وَتَزَوَّدُوا}؛ أي: خذوا من الزاد ما يكفيكم لسفركم، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} وأفضله {التَّقْوَى}؛ أي: الاتقاء عن الإبرام، والتثقيل عليهم، والاستعفاف عن سؤالهم؛ أي: فإن خير الزاد ما يعفكم عن سؤال الناس، أو المعنى: تزودوا من التقوى لمعادكم، فإنها خير زاد، وهي فعل المأمورات وترك المنهيات {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: خافوا عقابي بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات يا أصحاب العقول الكاملة الذين يعلمون حقائق الأمور، وقيل معناه: واشتغلوا بتقواي، وفيه: تنبيه على كمال عظمة الله جل جلاله. واعلم: أن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا ولا بد فيه من زاد، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب، وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بد فيه من

[198]

زاد أيضًا، وهو تقوى الله والعمل بطاعته، وهذا الزاد أفضل من الزاد الأول، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة، وفي هذا المعنى قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقوى ... ولاقيت بعد الموت مَنْ قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأَنَّك لم ترصد كما كان أرصدا 198 - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} يا أولي الألباب {جُنَاحٌ}؛ أي: حرج وذنب في {أَنْ تَبْتَغُوا} وتطلبوا {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: رزقًا من ربكم بالتجارة في الحج، وقرأها ابن عباس في الشاذ {فضلًا من ربكم في مواسم الحج}. وسبق لك في أسباب النزول ما روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإِسلام فكأنهم تأثموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت هذه الآية، وعكاظ: سوق معروف بقرب مكة، ومَجِنة - بفتح الميم وكسرها -: سوق بقرب مكة أيضًا. قال الأزرقي: هي بأسفل مكة على بريد منها. وذو المجاز: سوق عند عرفة كانت العرب في الجاهلية يتجرون في هذه الأسواق ولها مواسم، فكانوا يقيمون بعكاظ عشرين يومًا من ذي القعدة، ثم ينتقلون إلى مجنة فيقيمون فيها ثمانية عشر يومًا، عشرة أيام من آخر ذي القعدة، وثمانية أيام من أول ذي الحجة، ثم يخرجون إلى عرفة في يوم التروية. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ}؛ أي: ذهبتم ورجعتم {مِنْ عَرَفَاتٍ} وانصرفتم منها بعد الوقوف بها إلى مزدلفة، ففيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد الوقوف {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والثناء والدعوات بعد المبيت بمزدلفة {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهو جبل صغير في آخر مزدلفة يقف عليه الإِمام وعليه المِيقَدة يسمى قُرَح بوزن عُمَر، وفي الحديث: (أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدًّا). رواه مسلم. وإنما سمي مشعرًا؛ لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته، ومعنى {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}: مما يليه ويقرب منه، فإنه أفضل، وإلا فالمزدلفة كلها

[199]

موقف إلا وادي محصر، {وَاذْكُرُوهُ} بالتوحيد والتعظيم {كَمَا هَدَاكُمْ}؛ أي: كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه، أو المعنى: واذكروه سبحانه وتعالى؛ لأجل هدايته إياكم لمعالم دينه، فالكاف للتعليل، أو (¬1) نعت لمصدر محذوف؛ أي: اذكروه ذكرًا حسنًا كهدايته إياكم هداية حسنة، وكرر الأمر بالذكر تأكيدًا، وقيل: الأول: أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص، وقيل: المراد بالثاني: تعديد النعمة عليهم {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}؛ أي: وإن الشأن كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الجاهلين بالإيمان والطاعة لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه، و {إن} مخففة من الثقيلة، وقيل: بمعنى قد؛ أي: وقد كنتم، و {الهاء} (¬2) في من قبله عائد إلى الهدى، وقيل: إلى الرسول؛ أي: من قبل إرسال الرسول لمن الضالين، وهو كناية عن غير مذكور، وقيل: يرجع إلى القرآن، والمعنى: واذكروه كما هداكم بكتابه الذي أنزله عليكم، وإن كنتم من قبل إنزاله لمن الضالين. 199 - {ثُمَّ} بعد وقوفكم بعرفة وذكركم عند المشعر الحرام {أَفِيضُوا}؛ أي: ارجعوا يا قريش {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} غيركم من سائر العرب وعامة الناس؛ أي: ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر إن قلنا: إنه خطاب لقريش، وأمرٌ لهم بالإفاضة من حيث أفاض غيرهم (¬3)، وقرىء شذوذًا: {الناسي} يريد آدم، وهي صفة غلبت عليه كالعباس والحارث، ودل عليه قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإِسلام أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فعلى هذا القول المراد بالناس: ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) خازن. (¬3) عكبري.

[200]

جميع العرب سوى الحمس، سموا حمسًا جمع أحمس؛ لتشددهم في دينهم من الحماسة؛ وهي الشدة والشجاعة، والقول الثاني: أنه خطاب لسائر المسلمين، والمراد بالناس: إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما، والمعنى على هذا القول: ثم بعد ذكركم أيها المسلمون عند المشعر الحرام ارجعوا من المزدلفة إلى منى حيث أفاض الناس؛ أي: ارجعوا إلى منى للرمي والنحر في الوقت الذي أفاض ورجع فيه الناس؛ أي: إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما؛ أي: ارجعوا قبل طلوع الشمس كما رجع منها إبراهيم وإسماعيل في ذلك الوقت على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان العرب الذين وقفوا بالمزدلفة يرجعون إلى منى بعد طلوع الشمس، وهذا القول اختاره الضحاك، لكن القول الأول هو الأصح الذي عليه جمهور المفسرين. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}؛ أي: واطلبوا من الله باللسان مغفرة ذنوبكم، وتقصيركم في أعمال الحج، مع التوبة بالقلب؛ وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله، ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد، ويقصد بذلك: تحصيل مرضاة الله تعالى. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوب المستغفرين {رَحِيمٌ} بهم بقبول توبتهم، ومنعم عليهم بإحساناته. 200 - {فَإِذَا قَضَيْتُمْ}؛ أي: أديتم {مَنَاسِكَكُمْ}؛ أي: أعمال حجكم وعبادتكم، وفرغتم منها بأن رميتم جمرة العقبة، وطفتم واستقررتم بمنى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه، وذكر نعمائه {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}؛ أي: كما كنتم تذكرون آبائكم عند فراغ حجكم بالمفاخر، وتبذلون جهدكم في الثناء عليهم {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}؛ أي: بل اذكروا الله ذكرًا أكثر من ذكركم آباءكم؛ لأنه هو المنعم عليهم وعلى الآباء، فهو المستحق للذكر والثناء مطلقًا؛ لأن صفات الكمال لله تعالى غير متناهية. وسئل ابن عباس عن معنى هذه الآية، فقيل له: قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، فقال: ليس المعنى كذلك، ولكن المعنى: أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شُتِمَا.

[201]

قال أهل التفسير (¬1): كانت العرب في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم .. وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل - وقيل: عند البيت - فيذكرون مفاخر آباءهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم، فيقول أحدهم: كان أبي كبير الجفنة رحب الفناء يقري الضيف، وكان كذا وكذا، يعدُّ مفاخره ومناقبه، ويتناشدون الأشعار في ذلك، ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح، وغرضهم الشهرة والسمعة والرفعة بذكر مناقب سلفهم وآبائهم، فلما مَنَّ الله عليهم بالإِسلام .. أمرهم أن يكون ذكرهم لله لا لآبائهم، وقال: اذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم، وأحسنت إليكم وإليهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يفصح الكلام يقول: أبه أمه، لا يعرف غير ذلك، فأمرهم أن يذكروه كذكر الصبيان الصغار الآباء. {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} في الموقف وهم المشركون: {رَبَّنَا آتِنَا}؛ أي: أعطنا {فِي الدُّنْيَا} إبلًا وبقرًا وغنمًا، وعبيدًا أو إماء، ومالًا {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}؛ أي: من حظ ولا نصيب في الجنة بِحَجِّه. 201 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} في الموقف: {رَبَّنَا آتِنَا}؛ أي: أعطنا {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}؛ أي: علمًا وعبادة وعصمة من الذنوب، وشهادة وغنيمة وصحة وكفافًا، وتوفيقًا للخير {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}؛ أي: الجنة ونعيمها، وقيل: من آتاه الله الإِسلام والقرآن، وأهلًا ومالًا .. فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة؛ يعني: في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". متفق عليه. {وَقِنَا}؛ أي: وادفع عنا {عَذَابَ النَّارِ} واحفظنا منها بالعفو والغفران. 202 - {أُولَئِكَ} الداعون بالحسنتين {لَهُمْ نَصِيبٌ}؛ أي: حظ وافر في الجنة ¬

_ (¬1) الخازن.

[203]

{مِمَّا كَسَبُوا}؛ أي: لأجل ما عملوا من حجهم ودعائهم، أو بسبب ما كسبوا من أعمالهم الصالحة {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}؛ أي: سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وعالم بجملة سؤالات السائلين، أو (¬1) المعنى: سريع المحاسبة والإحصاء، يحاسب العباد على العبادة على كثرتهم، وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس، فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات. وهذا الكلام ذكره في الفريقين تفصيلًا لحال الذاكرين، إلى من لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا، وإلى من يطلب الدارين، والمراد به: الحث على الإكثار من الدعاء والذكر وسائر الطاعات، وطلب الآخرة. 203 - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} أيها الحجاج وكذا غيرهم بالتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}؛ أي: في أيام معلومات العدد أيام التشريق الثلاثة عند رمي الجمرات، وخلف الصلوات، وعلى الأضاحى والهدايا، سميت معدودات لقلتهن، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. روى مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير". وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكبّر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعًا. {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}؛ أي: فمن استعجل بالنفر والذهاب من منى في ثاني أيام التشريق قبل الغروب بعد رمي جماره بعد الزوال؛ وهي إحدى وعشرون حصاة يرمي سبعة لكل جمرة يكبر مع كل حصاة، فإن غربت عليه الشمس وهو بمنى .. لزمه المبيت بها؛ ليرمي اليوم الثالث عند الشافعي، وقال أبو حنيفة (¬2): ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) خازن.

يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر؛ لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ أي: فلا حرج عليه بتعجيله النفر {وَمَنْ تَأَخَّرَ} بها؛ أي: استمر وبقي بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره بعد الزوال عند الشافعي، وقال أبو حنيفة (¬1): يجوز تقديم رمية على الزوال {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} بتأخره فهم مخيرون بين التعجيل والتأخير، ومعنى نفي (¬2) الإثم بالتعجيل والتأخير: التخيير بينهما، والرد على أهل الجاهلية، فإن منهم من أثّم المتعجل، ومنهم من أثّم المتأخر، وقيل (¬3): إنما قال: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لمشاكلة اللفظة الأولى، فهو كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. ذلك التخيير، ونفي الإثم {لِمَنِ اتَّقَى} الله في حجه باجتنابه محظورات الإحرام، وإتيانه بالمأمورات؛ لأنه المنتفع بحجه دون من سواه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في المستقبل في مجامع أموركم بفعل الواجبات، وترك المحظورات {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ} أيها العباد {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى {تُحْشَرُونَ} وتجمعون يوم القيامة بالبعث من قبوركم، فيجازيكم بأعمالكم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وفيه حث على التقوى. فصل وأجمع العلماء (¬4) على أن المراد بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} هو التكبير عند رمي الجمار، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق. وأجمعوا أيضًا على أن التكبير في عيد الأضحى، وفي هذه الأيام في أدبار الصلوات منه، واختلفوا في وقت التكبير، فاقيل: يُبتدأ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في خمس عشر صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) بيضاوي. (¬3) خازن. (¬4) خازن.

الشافعي في أصح أقواله. قال الشافعي: لأن الناس فيه تبع للحاج، وذكر الحاج قبل هذا الوقت هو التلبية، ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر، وقيل: إنه يُبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر، ويختتم به بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق؛ وهو القول الثاني للشافعي، فيكون التكبير على هذا القول في ثمانية عشر صلاة. والقول الثالث للشافعي: أنه يُبتدأ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة، يختتم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومكحول، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال ابن مسعود: يبتدأ به من صبح يوم عرفة، ويختم بصلاة العصر من يوم النحر، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات، وبه قال أبو حنيفة. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان حلالًا كبّر عقيب ثلاث وعشرين صلاة، أولها الصبح من يوم عرفة، وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرمًا كبر عقيب سبع عشرة صلاة، أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها أيام التشريق. ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثًا نسقًا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وهو قول سعيد بن جبير، والحسن، وهو قول أهل المدينة. قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن، ويروى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه يكبر مرتين، فيقول: الله أكبر الله أكبر، وهو قول أهل العراق. فائدة: فإن (¬1) قلتَ: قوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فيه إشكال، وهو أن الذي أتى بأفعال الحج كاملة تامة، فقد أتى بما يلزمه، فما معنى قوله: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} إنما يخاف من الإثم من قصر فيما يلزمه؟. قلتُ: فيه أجوبة: ¬

_ (¬1) خازن.

أحدها: أنه تعالى لما أذن في التعجيل على سبيل الرخصة، احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم .. فأزال الله تعالى هذه الشبهة، وبين أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء عجل، وإن شاء أخَّر. الجواب الثاني: أن مِنَ الناس مَنْ كان يتعجل، ومنهم مَنْ كان يتأخر، وكل فريق يصوب فعله على فعل الآخر، فبين الله تعالى أن كل واحد من الفريقين مصيب في فعله، وأنه لا إثم عليه. الجواب الثالث: إنما قال: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لمشاكلة اللفظة الأولى، فهو كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ومعلوم أن جزاء السيئة ليست سيئة. الجواب الرابع: أن فيه دلالة على جواز الأمرين، فكأنه تعالى قال: فتعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل، ولا في التأخير. انتهى. الإعراب {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. {وَأَتِمُّوا}: الواو: استئنافية، {أتموا الحج}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أتموا}، أو بمحذوف حال من {الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}؛ تقديره: حالة كونهما كائنين لله، وفي قراءة برفع {العمرةُ} على الابتداء، والجار والمجرور خبره؛ تقديره: والعمرة كائنة لله، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن الحج والعمرة واجب إتمامهما إذا كنتم غير معذورين، وأردتم بيان حكم ما إذا أحصرتم عنهما، أو كنتم مرضى، أو بكم أذى في الرأس .. فأقول لكم: {إن أحصرتم}، {إن}: حرف شرط جازم، {أحصرتم}: فعل ماضٍ

مغيَّر ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. {اسْتَيْسَرَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {ما}. {مِنَ الْهَدْيِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل، وخبر المبتدأ محذوف جوازًا؛ تقديره: واجب عليكم، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة استئنافية استئنافًا بيانيًّا. {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. {وَلَا تَحْلِقُوا} {الواو} عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَحْلِقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الشرطية. {رُءُوسَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَبْلُغَ الْهَدْيُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المضمرة بعد {حَتَّى}. {مَحِلَّهُ}: ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {يَبْلُغَ}، والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى}؛ تقديره: إلى بلوغ الهدي محله، والجار والمجرور متعلق بـ {لا تحلقوا}. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. {فَمَنْ} {الفاء}: عاطفة، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط على الراجح. {كَانَ}: فعل ناقص في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَن}. {مِنكُم}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال مقدمة من قوله {مَرِيضًا}. {مَرِيضًا}: خبر {كَانَ}. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف معطوف على {مَرِيضًا}؛ تقديره: أو كائنًا به. {أَذًى}: فاعل للجار والمجرور. {مِنْ رَأْسِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {أَذًى}؛ تقديره: أو

كائنًا به أذى كائن في رأسه. وعبارة الكرخي (¬1) قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفردات، وأن يكون من باب عطف الجمل. أما الأول: فيكون الجار والمجرور في قوله {بِهِ} معطوفًا على {مَرِيضًا} الذي هو خبر {كان}، فيكون في محل نصب، ويكون {أَذًى} مرفوعًا به على سبيل الفاعلية؛ لأن الجار إذا اعتمد رفع الفاعل عند الكل، فيصير التقدير: فمن كان كائنًا به أذى من رأسه. وأما الثاني: فيكون {بِهِ} خبرًا مقدمًا، ومحله على هذا رفعٌ. {أَذًى}: مبتدأ مؤخر، وتكون هذه الجملة في محل نصب؛ لأنها معطوفة على {مَرِيضًا} الواقع خبرًا لـ {كان}، وهي وإن كانت جملة لفظًا، فهي في محل مفرد؛ إذ المعطوف على المفرد مفرد، لا يقال: إنه عاد إلى عطف المفردات، فيتحد الوجهان لوضوح الفرق. انتهت. {فَفِدْيَةٌ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية، {فدية}: مبتدأ خبره محذوف؛ تقديره: واجب عليه، والجملة من المبتدأ والخبر المحذوف في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب معطوفه على جملة قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}. {مِنْ صِيَامٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {فِدْيَةٌ}؛ تقديره: فدية كائنة من صيام واجبة عليه. {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}: معطوفان على {صِيَامٍ} و {أَوْ}: فيهما للتخيير. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. {فَإِذَا} {الفاء} (¬2): عاطفة، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {أَمِنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) جمل.

{فَمَنْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، {من}: اسم شرط جازم، أو موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {تَمَتَّعَ} فعل ماضٍ في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {بِالْعُمْرَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمَتَّعَ}. {إِلَى الْحَجِّ}: جار ومجرور (¬1) متعلق بمحذوف معطوف على {تَمَتَّعَ}؛ تقديره: واستمر تمتعه إلى الحج. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية، {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: فما استيسر من الهدي واجب عليه، والجملة من المبتدأ والخبر المحذوف في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} على كونها مقولًا لجواب {إذا} المقدرة. {اسْتَيْسَرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {مِنَ الْهَدْيِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل، وجملة {اسْتَيْسَرَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}. {فَمَنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أن من تمتع بالعمرة .. فعليه ما استيسر من الهدي، وأردتم بيان حكم من لم يتيسر له فأقول: {من لم يجد}، {من}: اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط إن قلنا شرطية، أو جملة قوله {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} إن قلنا موصولة. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَجِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها، أو صلة الموصول، ومفعول {يَجِدْ} محذوف؛ تقديره: فمن لم يجد الهدي؛ لأن (وجد) هنا بمعنى (أصاب)، فيتعدى ¬

_ (¬1) جمل.

لواحد. {فَصِيَامُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، أو رابطة للخبر بالمبتدأ إن قلنا {من} موصولة. {صيام}: مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: واجب عليه، والجملة في محل الجزم جواب {من} الشرطية، أو خبر {من} الموصولة، وجملة {من} الشرطية، أو المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {صيام}: مضاف. {ثَلَاثَةِ}: مضاف إليه وهو مضاف. {أَيَّامٍ}: مضاف إليه. {فِي الْحَجِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {صيام}. {وَسَبْعَةٍ}: معطوف على {ثَلَاثَةِ}، وعلى قراءة النصب الشاذة: منصوب بفعل محذوف؛ تقديره: وصوموا سبعة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {صيام} أيضًا. {رَجَعْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}؛ تقديره: فصيام سبعة وقت رجوعكم إلى وطنكم {تِلْكَ}: مبتدأ. {عَشَرَةٌ}: خبر. {كَامِلَةٌ}: صفة لـ {عَشَرَةٌ}، والجملة في محل الجر صفة مؤكدة لـ {ثَلَاثَةِ} و {سَبْعَةٍ}. {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: ذلك كائن لمن لم يكن، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {لَمْ}: حرف جزم. {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لَمْ}. {أَهْلُهُ}: اسم {يَكُنْ}، ومضاف إليه. {حَاضِرِي}: خبر {يَكُنْ} منصوب بـ {الياء} المحذوفة وهو مضاف. {الْمَسْجِدِ}: مضاف إليه. {الْحَرَامِ}: صفة للمسجد، وجملة {يَكُنْ} صلة {مَن} الموصولة، والعائد ضمير {أَهْلُهُ}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: الواو: استئنافية. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا}: الواو: عاطفة، {اعلموا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اتقوا}. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {اللَّهَ}: اسمها. {شَدِيدُ}: خبرها، وهو مضاف. {الْعِقَابِ}: مضاف إليه، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي

{اعلموا}؛ تقديره: واعلموا شدة عقاب الله سبحانه وتعالى. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. {الْحَجُّ}: مبتدأ. {أَشْهُرٌ}: خبر، ولكن على تقدير مضاف؛ تقديره: وقت الحج؛ لئلا يلزم علينا الإخبار باسم الزمان عن اسم المعنى، والجملة مستأنفة. {مَعْلُومَاتٌ}: صفة {أَشْهُرٌ}. {فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت أن الحج أشهر معلومات، وأردت بيان حكم من أحرم الحج فيها .. فأقول لك: {من فرض}، {مَن}: اسم شرط جازم، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة قوله {فَلَا رَفَثَ} إن قلنا: {من} موصولة، {فَرَضَ}: في محل الجزم بـ {مَن}، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، {فِيهِنَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرَضَ}. {الْحَجَّ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا، أو رابطة الخبر بالمبتدأ، {لا}: نافية تعمل عمل إنّ {رَفَثَ}: في محل النصب اسمها، ومثله في الإعراب قوله {وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ}. {فِي الْحَجِّ}: جار ومجرور تنازع فيه كل من قوله {فَلَا رَفَثَ}، {وَلَا فُسُوقَ}، {وَلَا جِدَالَ} على كونه خبرًا لـ {لا}؛ تقديره: فلا رفث جائز في الحج، ولا فسوق كذلك، ولا جدال كذلك، والجمل الثلاث في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}. {وَمَا} الواو: استئنافية، {ما}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {ما} على كونه فعل الشرط لها، والخبر جملة الشرط إن قلنا {ما} مبتدأ. {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {ما}. {يَعْلَمْهُ اللَّهُ}: فعل

ومفعول وفاعل مجزوم بـ {ما} على كونه جواب الشرط لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة. {وَتَزَوَّدُوا} الواو: عاطفة أو استئنافية، {تزودوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَمَا تَفْعَلُوا}، أو مستأنفة. {فَإِنَّ} {الفاء}: تعليلية، {إن}: حرف نصب وتوكيد. {خَيْرَ الزَّادِ}: اسم {إن}، ومضاف إليه. {التَّقْوَى}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة المدلول عليها بـ {الفاء} التعليلية. {وَاتَّقُونِ} الواو: استئنافية، {اتقوا}: فعل وفاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف في محل النصب مفعول به، والجملة مستأنفة. {يَا أُولِي} {يا}: حرف نداء، {أُولِي}: منادى مضاف منصوب بـ {الياء} المحذوفة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وهو مضاف. {الْأَلْبَابِ}: مضاف إليه، وجملة النداء جواب الطلب السابق. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {جُنَاحٌ}: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {تَبْتَغُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {فَضْلًا}: مفعول به. {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {فَضْلًا}؛ تقديره: فضلًا كائنًا من ربكم، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ تقديره: في ابتغاء فضل من ربكم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنه لا جناح عليكم في ابتغاء فضل الله، وأردتم بيان ما هو المطلوب لكم .. فأقول: {إذا أفضتم}: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَفَضْتُمْ}: فعل وفاعل. {مِنْ عَرَفَاتٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة

في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {فَاذْكُرُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {اذكروا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة. {عِنْدَ الْمَشْعَرِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {اذكروا}. {الْحَرَامِ}: صفة لـ {الْمَشْعَرِ}. {وَاذْكُرُوهُ} الواو: عاطفة، {اذكروه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اذكروا الله}. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتعليل، {ما}: مصدرية. {هَدَاكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة صلة {ما} المصدرية و {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} المتعلقة بـ {اذكروا}؛ تقديره: واذكروه لهدايته إياكم. {وَإِنْ} الواو: عاطفة أو استئنافية، {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ تقديره: و {إنه}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {الضَّالِّينَ}، أو بمحذوف مماثل له. {لَمِنَ الضَّالِّينَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {من الضالين}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {كان}؛ تقديره: وإنه كنتم لكائنين مع الضالين قبله، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة المخففة معطوفة على جملة {اذكروا}، أو مستأنفة. {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}. {ثُمَّ}: حرف عطف بمعنى الواو. {أَفِيضُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} إن جرينا على القول بأن المراد بهذه الإفاضة الإفاضة من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، كما قاله الضحاك. {مَنْ يَقُولُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَفِيضُوا}. و {حَيْثُ} إما ظرف زمان أو مكان. {أَفَاضَ النَّاسُ}: فعل وفاعل، والجملة مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَفِيضُوا}.

{إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة. {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. {فَإِذَا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أحكام مناسككم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم بعد قضائها .. فأقول لكم: {إذا قضيتم}. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قَضَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {مَنَاسِكَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {اذكروا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مفعول لجواب {إذا} المقدرة. {كَذِكْرِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {آبَاءَكُمْ}: مفعول المصدر، ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فاذكروا الله ذكرًا كائنًا كذكركم آباءكم. {أَوْ}: حرف عطف بمعنى (بل). {أَشَدَّ}: منصوب على الحالية من {ذِكْرًا} المذكور بعده، المنصوب بـ {اذكروا}؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، فينصب على الحال. {ذِكْرًا}: مفعول مطلق لـ {اذكروا} منصوب به؛ لأن القاعدة: أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالًا، وتعرب النكرة بحسب العوامل، فيكون التقدير: فاذكروا الله ذكرًا كائنًا كذكركم آباءكم، بل اذكروه ذكرًا أشد من ذكركم آباءكم؛ أي: أكثر منه. {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. {فَمِنَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من المناسك وما هو الأصلح لكم بعد قضاء

المناسك، وأردتم بيان أحوال الناس في الدعاء .. فأقول لكم: {من الناس}: جار ومجرور خبر مقدم. {من} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب، مقول لجواب {إذا} المقدرة. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {رَبَّنَا}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف منصوب، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {آتِنَا}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {رَبَّنَا}، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول القول. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ {آتِنَا}، ومفعول {آتِنَا} الثاني محذوف؛ تقديره: مطلوبنا. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما}: نافية. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. {مِنْ}: زائدة. {خَلَاقٍ}: مبتدأ مؤخر، والتقدير: وما خلاق كائن له في الآخرة، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَمِنَ النَّاسِ}. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}. {وَمِنْهُمْ} والواو: عاطفة، {منهم}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَمِنَ النَّاسِ}، وجملة يقول صلة {مَنْ} الموصولة. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {آتِنَا}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {رَبَّنَا}، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ {آتِنَا}. {حَسَنَةً}: مفعول ثان لـ {آتِنَا}. {وَفِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور معطوف على قوله {فِي الدُّنْيَا}. {حَسَنَةً}: معطوف على {حَسَنَةً} الأولى، على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {آتِنَا}. {وَقِنَا}: الواو: عاطفة، {قِ} فعل أمر مبني

على حذف العلة، وهي الياء، {نا}: مفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {رَبَّنَا}. {عَذَابَ}: مفعول ثان لـ {قنا}. {النَّارِ}: مضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {آتِنَا}. {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {نَصِيبٌ}: مبتدأ ثان مؤخر. {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبٌ}؛ والتقدير: أولئك نصيب مما كسبوا كائن لهم، والجملة مستأنفة. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: مما كسبوه. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ: {سَرِيعُ} خبر. {الْحِسَابِ}: مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. {وَاذْكُرُوا} الواو: استئنافية، {اذكروا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {فِي أَيَّامٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {اذكروا}. {مَعْدُودَاتٍ}: صفة لـ {أَيَّامٍ}. {فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط قدر؛ تقديره: إذا عرفتم مشروعية الذكر لكم، وأردتم بيان حكم من تعجل ومن تأخر .. فأقول لكم: {من تعجل}، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {تَعَجَّلَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَن} وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {فِي يَوْمَيْنِ} جار ومجرور متعلق بـ {تَعَجَّلَ}. {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {لا}: نافية تعمل عمل {إن}. {إِثْمَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}؛ تقديره: فلا إثم كائن عليه، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {مَن} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {وَمَن}: الواو: عاطفة، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط.

{تَأَخَّرَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، وجملة فلا إثم عليه في محل الجزم بـ {مَن} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {مَن} الأولى. {لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. {لِمَنِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: ذلك الحكم المذكور كائن لمن اتقى الله، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الواو: استئنافية، {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا} الواو: عاطفة، {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَاتَّقُوا}. {أَنَّكُمْ}: {أن}: حرف نصب ومصدر، {الكاف}: اسمها. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}، {تُحْشَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}؛ تقديره: أنكم محشورون إليه، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي {اعلموا}؛ تقديره: واعلموا حشركم إليه للمجازاة بالبعث من القبور. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} استيسر وتيسر بمعنى واحد، مثل صعب واستصعب، وغنى واستغنى، وليست السين للطلب، وذلك لأن العرب لا تزيد حرفًا غالبًا إلا للدلالة على معنى زائد لا يدل عليه الأصل كما هو مقرر في التصريف. {الْهَدْيِ}: بتخفيف الياء مصدر في الأصل، وهو بمعنى المهدي، ويقرأ بتشديد الياء، وهو جمع هدية، وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول. {مَحِلَّهُ}: وهو بالكسر يطلق على الزمان والمكان، وبالفتح على المكان فقط. {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها. {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}: الرفث: الإفحاش في الكلام، يقال: رفث يرفُث بكسر الفاء وضمها، والفسوق: الخروج عن حدود الشرع،

الجدال: (¬1) بوزن فِعال مصدر جادل، من باب فاعل الذي هو من مزيد الثلاثي، وهو المخاصمة الشديدة، مشتق من الجدل، وهو الفتل، ومنه قيل: زمام مجدول، وقيل: له جديل لفتله، وقيل للصقر: الأجدل لشدته واجتماع حلقه، كأن بعضه فتل في بعض فقوي. {الزَّادِ} (¬2) معروف؛ وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ومشروب ومركوب وملبوس إن احتاج إلى ذلك، وألفه منقلبة عن واو يدل على ذلك قولهم: تزود تفعل من الزاد. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} وأصل أفضتم: أفيضتم؛ لأنه من فاض السيل يفيض إذا سال، وإذا كثر الناس في الطريق كان مشيهم كجريان للسيل. {عَرَفَاتٍ}: اسم (¬3) لتلك البقعة؛ أي: موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين فيه للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين، وسميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: لأن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل: غير ذلك. قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع. وقال أبو السعود (¬4): وعرفات جمع سمي به كأذرعات، وإنما صرف وفيه العلتان لأن تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكين، وهذا الاسم من الأسماء المرتجلة إلا على القول بأن أصله جمع. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} السين والتاء فيه للطلب على بابها، والمفعول الثاني محذوف للعلم به؛ أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم، واستغفر يتعدى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بمن، نحو استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر كقوله: أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}؛ أي: أديتم؛ لأن قضى إذا علق بفعل النفس ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) شوكاني. (¬4) جمل.

فالمراد منه الإتمام والفراغ، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. {مَنَاسِكَكُمْ}: جمع (¬1) منسَك بفتح السين وكسرها، والجمهور على إظهار الكاف الأولى، وأدغمها بعضهم؛ شبه حركة الإعراب بحركة البناء فحذفها. البلاغة {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}: فيه مجاز في الفاعل وفي المفعول: أما في الفاعل: ففي إسناد الحلق إلى الجميع، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض، وهو مجاز شائع كثير، تقول: حلقت رأسي والمعنى: أن غيره حلقه له. وأما المجاز في المفعول: فإنه على حذف مضاف تقديره: شعر رؤوسكم، والخطاب يخص الذكور؛ لأن الحلق مثلةً (¬2) للنساء في الحج وفي غيره، وإنما التقصير سنتهن في الحج. {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}: فيه مجاز بالحذف؛ لأن الأصل فمن كان منكم مريضًا فحلق، أو به أذى من رأسه فحلق .. فعليه فدية. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}: فيه من مباحث البلاغة شيئان: أحدهما: الإلتفات، والآخر: الحمل على المعنى. أما الإلتفات: فإن قبله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، فجاء بضمير الغيبة عائدًا على {من} فلو نسق هذا على نظم الأول .. لقيل: إذا رجع، بضمير الغيبة. وأما الحمل على المعنى: فلأنه أتى بضمير الجمع اعتبارًا بمعنى {من}، ولو روعي اللفظ لأفرد، فقيل: إذا رجع. {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}: فيه إجمال بعد التفصيل، وهذا من باب الإطناب، وفائدته زيادة التأكيد والمبالغة في المحافظة على صيامها وعدم التهاون بها، أو ¬

_ (¬1) عكبري. (¬2) مَثَلةٌ: تشويه.

تنقيص عددها، والتنبيه على أنها كاملة في الثواب؛ يعني: أن ثواب صيام العشرة كثواب الذبح لا ينقص عنه شيئًا. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: فيه إظهار في مقام الإضمار؛ لتربية المهابة في روع السامع. {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}: فيه إظهار في مقام الإضمار، ونكتته كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها من موجبات ترك الأمور المذكورة، وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يقع، فإن ما كان منكرًا مستقبحًا في نفسه، ففي خلال الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة؛ لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: ومن شر ففيه اكتفاء، وهو ذكر أحد المتقابلين، وحذف الآخر لعلمه من المذكور. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}: فيه تشبيه تمثيلي، يسمى: مرسلًا مجملًا. {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}: فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ولو جاء على الخطاب .. لكان: فمنكم من يقول ومنكم من يقول. وحكمة هذا الالتفات: أنهم لما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل، وهو الاقتصار على الدنيا .. أبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله، بأن جعلوا في صورة الغائبين، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}. المناسبة ومناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة العبادات التي تطهر القلوب، وتزكي النفوس كالصيام والصدقة والحج، وقسم السائلين له إلى مقتصر على أمر الدنيا وطلبها، وسائل حسنة الدنيا والآخرة والوقاية من النار .. أتى هنا بذكر النوعين، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق مظهر الود، وليس ظاهره كباطنه، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى، ويبيع نفسه في طلبه، وقدم الأول هنا؛ لأنه هناك هو المقدم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره من الأوصاف؛ لأن القول هو الظاهر منه أولًا في قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا} فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا، وأن يسأل ما ينجيه من عذابه، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته، ثم حذر تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان، وبين لنا عداوته الشديدة.

[204]

أسباب النزول قوله (¬1) تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ...} الآية، أخرج ابن جرير عن السدي قال: نزلت في الأخنس بن شريق، أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأظهر له الإِسلام، فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر؛ فأنزل الله الآية. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ...} أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني مِنْ أرماكم رجلًا، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم منه، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة، وخليتم سبيلي. قالوا: نعم، فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال: ربح البيع أبا يحيى، ربح أبا يحيى، ونزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ...} الآية. أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: قال عبد الله بن سلام، وثعلبة، وابن يامين، وأَسد وأُسد ابنا كعب، وسعيد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها الليل؛ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 204 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ...} إلخ، هذان (¬2) قسمان يضمان لقوله ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) جمل.

سابقًا: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ...} إلخ. فأول الأربعة: راغب في الدنيا فقط ظاهرًا وباطنًا، والثاني: راغب فيها وفي الآخرة كذلك، والثالث: راغب في الآخرة ظاهرًا وفي الدنيا باطنًا، والرابع: راغب في الآخرة ظاهرًا وباطنًا معرض عن الدنيا كذلك؛ أي: ومن بعض الناس - يا محمَّد - من يعجبك ويحبك، ويشوقك ويعظم في نفسك قوله وكلامه وحديثه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: يعجبك ما يقوله في أمور الدنيا، وأسباب المعاش وما يتكلم به لطلب مصالح الدنيا؛ لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا، ولا يريد به الآخرة، هذا إن قلنا: إن الجار والمجرور متعلق بالقول، ويصح تعلقه بـ {يعجبك}. والمعنى حينئذ: أي يعجبك كلامه في الدنيا حلاوة وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه في الموقف من الدهشة والحيرة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أنه موافق لقوله؛ أي: يحلف بالله على أن ما في قلبه من محبتك أو من الإِسلام موافق لكلامه، ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإِسلام، وقرأ ابن محيصن (¬1) شذوذًا {وَيشهدُ اللهُ} بفتح حرف المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال، ومثله قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، وقرأ ابن عباس شذوذًا {واللهَ يُشْهِدُ على ما في قَلْبِهِ}، وقرأ أبي، وابن مسعود شذوذًا أيضًا: {وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ على ما في قلبه}. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}؛ أي: والحال أنه شديد الخصومة والعداوة لك وللمسلمين، وهو الأخنس بن شريق الثقفي، واسمه أبي كان منافقًا حسن العلانية خبيث الباطن، أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإِسلام، وحلف بالله إنه يحبه ويتابعه في السر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدنيه من مجلسه، وعن ابن عباس (¬2) أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع - موضع بين مكة والمدينة - وعابوهم؛ فأنزل الله في ذم المنافقين، ومدح خبيب وأصحابه. ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) ابن كثير.

[205]

وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" يعني: الشديد في الخصومة. متفق عليه. 205 - {وَإِذَا تَوَلَّى} وانصرف وذهب من عندك يا محمَّد بعد إلانة القول، وإحلاء المنطق {سَعَى} ومشى {في} بقاع {الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}؛ أي: ليوقع الفساد فيها بقطع الأرحام، وسفك دماء المسلمين، وإيقاع الاختلاف بينهم وتفريق كلمتهم {و} لـ {يهلك} ويعدم {الْحَرْثَ} والزرع بالإحراق {و} يهلك {النسل}؛ أي: نسل الدواب والحمر وأولادها بالقتل، فقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} معطوف على قوله: {لِيُفْسِدَ} عطف خاص على عام كما أشرنا إليه في الحل، فإن الأخنس هذا لما انصرف من بدر مر على بني زهرة، وكان بينهم وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلًا، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم، وقيل: معناه إذا تولى؛ أي: إذا صار واليًا وملك الأمر .. سعى في الأرض؛ ليفسد فيها بالظلم والعدوان، كما يفعله ولاة السوء والظلمة، وقيل: يظهر ظلمه حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر، فهلك الحرث والنسل بسبب منع المطر، وهذه الآية وإن نزلت في الأخنس، فهي عامة في كل منافق يقول بلسانه ما ليس في قلبه. يُعْطِيْكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلاَوَةً ... وَيرُوغُ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ وفي (¬1) قراءة شاذة عن أبيّ {وليهلك}، وقرأه قتادة بالرفع، وروي عن ابن كثير {ويَهلكُ} بفتح الياء وضم الكاف ورفع الحرث والنسل، وهي قراءة الحسن وابن محيصن، وما عدا قراءة الجمهور شاذ لا يقرأ به. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}؛ أي: لا يرضى به ويعاقب صاحبه، يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا. 206 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُ}؛ أي: لذلك الإنسان {اتَّقِ اللَّهَ}؛ أي: خَفْ عقاب الله في فعلك {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ}؛ أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية {بِالْإِثْمِ}؛ أي: على فعل الإثم والفساد الذي أُمر باتقائه، ولزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه، ¬

_ (¬1) شوكاني.

[207]

فإن التكبر إنما حصل بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل، وعدم النظر في الدلائل، {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ}؛ أي: كافيه جهنم جزاء وعذابًا، وجهنم: اسم من أسماء النار التي يعذب بها الكفار في الآخرة، وقيل: هي اسم أعجمي، وقيل: بل هي عربي، سميت النار بذلك لبعد قعرها، {وَلَبِئْسَ} وقبح {الْمِهَادُ}؛ أي: الفراش جهنم، والمهاد: التوطئة أيضًا، والمعنى: أن العذاب بالنار يجعل تحته وفوقه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعًا لله. ونزل في صهيب بن سنان الرومي حين أسلم وتعرض له المشركون وأرادوا قتله، فاشترى نفسه منهم بماله وأتى المدينة، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن 207 - المنكر حتى يقتل، قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي}؛ أي: يشتري {نَفْسَهُ} من الكفار بماله {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه}؛ أي: لأجل طلب رضا الله سبحانه وتعالى بالهجرة إلى الله ورسوله، وهو صهيب بن سنان، لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة، وترك لهم ماله، فعلى هذا: فالشراء على معناه الأصلي. وقيل معناه: ومن الناس من يبيع ويبذل نفسه في طاعة الله من صلاة وصيام وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة، فصار كالبائع، والله تعالى هو المشتري، والثمن هو رضا الله تعالى وثوابه المذكور في قوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه}. {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}؛ أي: محسن إليهم ومكرم لهم بالنعم الجسام، حيث أرشدهم لما فيه رضاه، ومن (¬1) رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن المصر على الكفر ولو مئة سنة إذا تاب ولو لحظة ... أسقط عنه ¬

_ (¬1) كرخي.

[208]

عقاب تلك السنين، وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس والمال له، ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلًا منه ورحمة وإحسانًا، ومن رأفته مضاعفة الحسنات، وعدم مضاعفة السيئات. 208 - ونزل في عبد الله بن سلام وأضرابه حين عظموا السبت، وكرهوا الإبل بعد الإِسلام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} بفتح السين وكسرها الإِسلام؛ أي: تلبسوا بالإِسلام {كَافَّةً}؛ أي: جميعًا، واعملوا بجميع أحكامه واتركوا ما كنتم عليه من شريعة موسى المخالفة لملة الإِسلام؛ لأنها صارت منسوخة، والسلم (¬1) هنا قرأها بالفتح نافع، والكسائي، وابن كثير، والباقون بكسرها، والتي في (الأنفال) لم يقرأها بالكسر إلا أبو بكر وحده عن عاصم، والتي في القتال، فلم يقرأها بالكسر إلا حمزة، وأبو بكر أيضًا، وقرأ الأعمش السَلَم بفتح السين واللام. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}؛ أي: ولا تتبعوا طرق تزيين الشيطان ووسوسته بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى، وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها كعدم تعظيم السبت، وعدم كراهة الإبل؛ يعني: لا تتبعوا طرق الشيطان التي يزينها بوسوسته لكم، وقيل المعنى: ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية والأهواء المضلة؛ لأن من اتبع سنة إنسان .. فقد تبع أثره {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشيطان {لَكُمْ} يا بني آدم {عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: بيّن العداوة وظاهرها بالنسبة لمن أنار الله قلبه، وأما غيره: 209 - فهو حليف له {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} وملتم عن الدخول في كافته وجميعه، وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وقرىء شذوذًا {زللتم} بكسر اللام {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ} وظهرت لكم {الْبَيِّنَاتُ}؛ أي: الدلالات الواضحات من البراهين القطعية، والدلائل النقلية كالمعجزة الدالة على الصدق، وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة. ¬

_ (¬1) سمين.

[210]

{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}؛ أي: قوي لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم، ولا يمنعه مانع عنكم، ولا يفوته ما يريده منكم {حَكِيمٌ} في صنعه لا ينتقم إلا بحق، أو حكيم فيما شرعه لكم من الدين. 210 - {هَلْ يَنْظُرُونَ}؛ أي: ما ينتظر هؤلاء التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة بلا كيف ولا تشبيه، لفصل القضاء بين الأولين والأخرين {فِي ظُلَلٍ}؛ أي: في سحاب رقيق {مِنَ الْغَمَامِ}؛ أي: من السحاب الأبيض {و} إلا أن تأتيهم {الملائكة} الموكلون بتعذيبهم، وقيل: إن قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} فيه تقديم وتأخير بدليل ما في بعض القراءات شاذة: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية (¬1) يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيىء فيما يشاء بدليل هذه القراءة. وقال ابن كثير: وقد ذكر الإِمام أبو جعفر بن جرير ها هنا حديث الصوَر بطوله من أوله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات .. تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا من آدم، فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاؤوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه الله، ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكروبيون (¬2)، قال: وينزل الجبار عَزَّ وَجَلَّ في ظلل من الغمام والملائكة". الحديث. قال ابن أبي حاتم، وحدثنا أبي قال: حدثنا محمَّد بن الوزير الدمشقي، ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الكروبيون: سادة الملائكة "لسان العرب".

حدثنا الوليد قال: سألت زهير بن محمَّد عن قول الله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال: ظلل من الغمام منظوم من الياقوت مكلل بالجواهر والزبرجد، وقال ابن أبي نجيح وعن مجاهد: في ظلل من الغمام قال: هو غير السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيه حين تاهوا. والقول الأسلم (¬1) الذي عليه سلف الأمة وأعلام أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها: الإيمان والتسليم لما جاء فيها من الصفات، فيجب علينا الإيمان بظاهرها، وأن نؤمن بها كما جاءت، ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع الإيمان والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث، وعن الحركة والسكون. قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر، وقال سفيان بن عيينه: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله. وكان الزهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها: اقرؤوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، هذا مذهب أهل السنة، ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى: عَقِيْدَتُنَا أَنْ لَيْسَ مِثْلُ صِفَاتِهِ ... وَلاَ ذَاتِهِ شَيءٌ عَقِيْدَةُ صَائِبِ نُسَلِّمُ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا ... وَأَخْبَارَهَا للظَّاهِرِ المُتَقَارِبِ وَنُؤْيِسُ عَنْهَا كُنْهَ فَهْمِ عُقُوْلِنَا ... وَتَأْوِيْلُنَا فِعْلُ اَللَّبِيْبِ الْمُغَالِبِ وَنَرْكَبُ لِلتَسْلِيْمِ سُفْنًا فَإِنَّهَا ... لِتَسْلِيْمِ دِيْنِ الْمَرْءِ خَيْرُ الْمَركَبِ والظلل: جمع (¬2) ظلة كقلة وقلل، وهي ما أظلك، وقرأ قتادة، ويزيد بن القعقاع {ظلال} كقلال، والغمام: السحاب الأبيض، وقرأ يزيد (¬3) أيضًا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) بيضاوي. (¬3) شوكاني.

{والملائكةِ} بالجر عطفًا على {الْغَمَامِ} أو على {ظُلَلٍ}. قال الأخفش: والملائكة بالخفض بمعنى: وفي الملائكة، قال: والرفع أجود، وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام، ومن الملائكة. والمعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة؟. وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}: معطوف على {يَأْتِيَهُمُ}، داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه، فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة؛ أي: وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن جبل شذوذًا: {وقضاء الأمر} بالمصدر عطفًا على الملائكة، وقرأ يحيى بن يعمر شذوذًا أيضًا: {وقضى الأمور} بالجمع؛ أي: فهل ينتظرون إلا أن يُقضى الأمر بين الخلائق، ويفصل بينهم بأخذ الحقوق لأربابها، وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته، إما في الجنة وإما في النار، وذلك يوم القيامة. {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يوم النشور؛ أي: ترد إليه أمور الخلائق وشؤونهم؛ ليقضي بينهم القضاء الفاصل، ويجازي كلًّا على عمله. فإن قلتَ (¬1): هل كانت الأمور ترجع إلى غيره تعالى؟. قلت: إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة، ولكن المراد من هذا: إعلام الخلق بأنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب. وفيه جواب آخر، وهو أنه لمّا عبد قوم غيره تعالى في الدنيا .. أضافوا أفعاله تعالى إلى طاغوتهم، فإذا كان يوم القيامة، وانكشف الغطاء .. ردوا إلى الله أضافوه إلى غيره في الدنيا. وقرأ ابن كثير (¬2)، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم على البناء للمفعول على أنه بمعنى: ترد، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي على البناء للفاعل بالتأنيث على ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) بيضاوي ومراح.

[211]

أنه بمعنى: تصير، وقرىء أيضًا بالتذكير، وبناء المفعول. 211 - {سَلْ} يا محمَّد {بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: أولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخًا لهم وتقريعًا {كَمْ آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: أيُّ عدد أعطيناهم {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}؛ أي: من معجزة واضحة، وحجج باهرة تدل على صدق أنبيائهم؛ أي: سلهم كم من المعجزات أعطينا لموسى نبيهم تدل على صدقه؟ كيَده، وعصاه، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك، فبدلوها كفرًا؛ أي: أخذوا بدل موجبها وهو الإيمان كفرًا، فاستوجبوا العقاب من الله تعالى، فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى .. لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم فيه، وهذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فلا غرابة في عدم إيمانهم بك، فإننا آتيناهم آيات بينات على يد موسى، فلم يؤمنوا ولم ينقادوا {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ}؛ أي: ومن يغير آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالكفر؛ أي: بدل موجبها الذي هو الإيمان بها بالكفر {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}؛ أي: من بعد ما وصلت إليه وعرفها، أو المعنى: ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} له فيعاقبه أشد عقوبة؛ لأنه ارتكب أشد جريمة، وفي هذا من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره. وقال ابن جرير الطبري (¬1): النعمة هنا الإِسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائنًا من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها، ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: حسنت (¬2) في أعينهم، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا فيها، وأعرضوا عن غيرها، والمزين لهم في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، ويدل عليه قراءة {زيَّن} بالبناء ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) بيضاوي.

للفاعل، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية، وما خلقه الله فيها من الأمور البهيمية، والأشياء الشهوية مزين بالعرض، وإنما لم (¬1) يلحق الفعل علامة التأنيث لكونه مؤنثًا مجازيًا، وحسن ذلك الفصل، وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا: {زينت} بالتأنيث مراعاة للفظ، وقرأ مجاهد، وأبو حيوة شذوذًا أيضًا {زَين} - بفتح الزاي مبنيًّا للفاعل، الحياة مفعول، والفاعل هو الله تعالى، والمعتزلة (¬2) يقولون: إنه الشيطان، وهذا تأويل ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يتناول جميع الكفار، فيدخل فيه الشيطان وغواة الجن والإنس، وإن كلهم مزين لهم، وهذا المزين لا بد وأن يكون مغايرًا لهم، فثبت بهذا ضعف قول المعتزلة. وقيل: إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها وأحبوها، فكان هذا الإمهال هو التزيين. قيل: نزلت هذه الآية (¬3) في مشركي العرب، أبي جهل وأضرابه؛ لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال، ويكذبون بالمعاد، وقيل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: نزلت في رؤساء اليهود، ويحتمل أنها نزلت في الكل {و} هم {يسخرون من الذين آمنوا} ويستهزؤون بفقراءهم بضيق معيشتهم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مثل عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، ونظرائهم رضي الله عنهم، وقيل: كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمَّد أنه يغلب بهم {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} عن الشرك، وعن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى، وهم فقراء المؤمنين {فَوْقَهُمْ}؛ أي: فوق الكفار حسًّا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ لأن المؤمنين في عليين، والكافرين في سجين، والمعنى: لأنهم في أوج الكرامة، وهم في حضيض المذلة، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا. ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن.

وعن حارثة بن وهب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ جواظ جعظري مستكبر". متفق عليه. العتل: الفظ الغليظ الشديد في الخصومة، الذي لا ينقاد لخير، والجواظ: الفاجر المختال في مشيته، وقيل: هو القصير البطين، والجعظري: الفظ الغليظ، وقيل: هو الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده. وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء". متفق عليه. الجَد - بالفتح -: الحظ والغنى وكثرة المال. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}؛ أي: والله يعطي من يشاء من عباده في الدنيا من مؤمن أو كافر، أو في الآخرة لمؤمن رزقًا واسعًا {بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ أي: رزقًا لا حساب فيه، ولا عد ولا ضبط لكثرته، فلا يضبطه عد، ولا كيل، ولا وزن من غير تكلف من المرزوق، ومن حيث لا يحتسب، وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاض عليهم من أموال صناديد قريش، ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر، ولكن البسط في الدنيا لا يخلو: إما من الاستدراج، أو من الابتلاء. الإعراب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {وَمِنَ} الواو: استئنافية، {من الناس}: جار ومجرور خبر مقدم {مَن}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {يُعْجِبُكَ}: فعل ومفعول. {قَوْلُهُ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {من} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير في {قَوْلُهُ}. {الْحَيَاةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُعْجِبُكَ}، أو بـ {القول}. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}. {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.

{وَيُشْهِدُ} الواو: عاطفة، أو حالية، {يشهد}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يُعْجِبُكَ} على كونها صلة الموصول، أو في محل النصب حال من فاعل {يُعْجِبُكَ}. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يشهد}. {فِي قَلْبِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة لـ {ما} أو صفة لها؛ تقديره: على ما استقر في قلبه. {وَهُوَ} الواو: عاطفة، {هو}: مبتدأ. {أَلَدُّ الْخِصَامِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة يشهد على كونها حالًا من فاعل {يُعْجِبُكَ}، أو معطوفة على جملة {يُعْجِبُكَ} على كونها صلة الموصول. {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}. {وَإِذَا} الواو: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {تَوَلَّى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ يُعْجِبُكَ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {سَعَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ يُعْجِبُكَ}، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرط وجوابها مستأنفة. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {سَعَى}. {لِيُفْسِدَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يفسد}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ يُعْجِبُكَ}. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، تقديره: لإفساده فيها، الجار والمجرور متعلق بـ {سَعَى}. {وَيُهْلِكَ} الواو: عاطفة، {يهلك}: معطوف على {يفسد}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {الحَرْثَ}: مفعول به. {وَالنَّسْلَ}: معطوف على {الْحَرْثَ}، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من {يفسد}؛ تقديره: ولإهلاكه الحرث والنسل.

{وَاللَّهُ} الواو: استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ. {لَا}: نافية. {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {الْفَسَادَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}. {وَإِذَا} الواو: عاطفة جملة على جملة، أو استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قِيلَ}: فعل ماض مغيَّرا الصيغة {لَهُ}: جار ومجرور متعلق به. {اتَّقِ اللَّهَ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ} في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وإن شئت قلت: {اتَّقِ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ تقديره: أنت. {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والتاء علامة تأنيث الفاعل. {بِالْإِثْمِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {الْعِزَّةُ}؛ تقديره: حالة كونها ملتبسة بالإثم، أو حال من المفعول؛ تقديره: حال كونه ملتبسًا بالإثم، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {يُعْجِبُكَ} على كونها صلة الموصول، أو مستأنفة. {فَحَسْبُهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت أنه إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، وأردت بيان عاقبته .. فأقول لك: {حسبه جهنم}، {حسبه}: {الحسب}: مبتدأ، و {الهاء}: مضاف إليه. {جَهَنَّمُ}: خبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الواو: استئنافية، أو حرف قسم، والمقسم به محذوف؛ تقديره {والله}، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف؛ تقديره: أقسم والله، و {اللام}: موطئة للقسم، {بئس}: فعل ماضٍ من أفعال الذم. {الْمِهَادُ}: فاعل، وجملة {بئس} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر للمبتدأ المحذوف وجوبًا؛ لكونه مخصوصًا بالذم؛ تقديره:

جهنم، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}. {وَمِنَ النَّاسِ} الواو: عاطفة، أو استئنافية، {من الناس}: جار ومجرور، خبر مقدم. {مَن} اسم موصول، أو موصوف في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ}، أو مستأنفة. {يَشْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {نَفْسَهُ}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {مَن} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. {ابْتِغَاءَ}: مفعول لأجله، وهو مضاف. {مَرْضَاتِ}: مضاف إليه، وهو مضاف. {الله}: مضاف إليه. {وَاللَّهُ} والواو: استئنافية. {اللهُ}: مبتدأ. {رَءُوفٌ}: خبر. {بِالْعِبَادِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}. {يَا أَيُّهَا}. {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي: من الإضافة. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فِي السِّلْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ادْخُلُوا}. {كَافَّةً}: حال من {السِّلْمِ}، و {السلم} يذكر ويؤنث؛ فلذلك أنث الحال منها، فقيل كافة، ولم يقل كافًّا. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}. {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: مفعول به ومضاف إليه. {إِنَّهُ}: {إنَّ}: حرف نصب

وتوكيد، و {الهاء}: اسمها. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَدُوٌّ} وهو: خبر {إن}. {مُبِينٌ}: صفة له، وجملة {إن} في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة. {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أمرنا إياكم بالدخول في السلم كافة، ونهينا إياكم عن اتباع خطوات الشيطان، وأردتم بيان حالكم فيما إذا خالفتم الأمر والنهي .. فأقول لكم: {إن زللتم}، {إن}: حرف شرط جازم. {زَلَلْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {زَلَلْتُمْ}. {مَا}: مصدرية. {جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}: فعل ومفعول وفاعل، و {التاء} علامة تأنيث الفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ تقديره: فإن زللتم من بعد مجيء البينات إياكم .. فاعلموا. {فَاعْلَمُوا}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {اللَّهَ}: اسمها. {عَزِيزٌ}: خبر أول لها. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي {اعلموا}؛ تقديره: فاعلموا كون الله عزيزًا حكيمًا. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}. {هَلْ}: للاستفهام الإنكاري. {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل منصوب بـ {أَن}، والجملة صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع

صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: هل ينتظرون إلا إتيان الله إياهم. {فِي ظُلَلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يأتي}. {مِنَ الْغَمَامِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {ظلل}؛ تقديره: في ظلل كائنة من الغمام. {وَالْمَلَائِكَةُ}: معطوف على لفظ الجلالة. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} الواو: عاطفة. {قضي الأمر}: فعل مغيَّر ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يأتي}. {وَإِلَى اللَّهِ} الواو: استئنافية، {إلى الله}: جار ومجرور متعلق بـ {تُرْجَعُ}. {تُرْجَعُ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة. {الْأُمُورُ}: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}. {سَلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {بَنِي}: مفعول أول لـ {سَلْ} منصوب بـ {الياء}، وهو مضاف. {إِسْرَائِيلَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة. {كَمْ}: استفهامية بمعنى: أي عدد، أو خبرية بمعنى: عدد كثير، معلقة لـ {سَلْ} عن العمل فيما بعدها في محل النصب مفعول ثان لـ {آتيناهم} مقدم عليه وجوبًا؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام؛ تقديره: آتيناهم أي عدد، أو أتيناهم عددًا كثيرًا، وإنما عُلِّق (¬1) سل عن العمل فيما بعده مع أنه ليس من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سبب للعلم، والعلم يعلق، فكذلك سببه، فأجري المسبب مجرى المسبب، والتعليق هو إبطال العمل لفظًا لا محلًّا، كقولهم: ظننت لزيد قائم وعمرًا جالسًا. {آتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن أتى بمعنى أعطى، فيتعدى إلى مفعولين، وجملة {آتَيْنَاهُمْ} من الفعل والفاعل سادة مسد المفعول الثاني لـ {سَلْ}. {مِنْ}: زائدة، زيدت ليعلم أن مدخولها مميز لا مفعول ثانٍ لـ {آتَيْنَاهُمْ}: تمييز لـ {كَمْ} منصوب بفتحة مقدرة. {بَيِّنَةٍ}: صفة له. {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ¬

_ (¬1) كرخي.

{وَمَنْ} الواو: اسئنافية، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {يُبَدِّلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، {نِعْمَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُبَدِّلْ}. {مَا}: مصدرية. {جَاءَتْهُ}: فعل ومفعول، والتاء علامة تأنيث الفاعل. وفاعله ضمير يعود على {نِعْمَةَ}، والجملة من الفعل والفاعل صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف؛ تقديره: من بعد مجيئها إياه. {فَإِنَّ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} وجوبًا، {إن}: حرف نصب وتوكيد، {اللَّهَ}: اسمها. {شَدِيدُ}: خبرها. {الْعِقَابِ}: مضاف إليه، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {مَن} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. {زُيِّنَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {الْحَيَاةُ}: نائب فاعل. {الدُّنْيَا}: صفة له، والجملة من الفعل المغيَّر ونائبه مستأنفة. {وَيَسْخَرُونَ} الواو: عاطفة، {يسخرون}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {زُيِّنَ}. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {يسخرون}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. {وَالَّذِينَ} الواو: عاطفة. {الذين}: مبتدأ. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فَوْقَهُمْ}: ظرف مكان ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف وجوبًا، خبر المبتدأ؛ تقديره: والذين اتقوا كائنون فوقهم، والجملة معطوفة على جملة {يسخرون}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف زمان ومضاف إليه، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف المذكور قبله. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَرْزُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة.

{مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: يشاءه. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَرْزُقُ}. التصريف ومفردات اللغة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} هو من أعجب الرباعي، يقال: أعجبني كذا؛ أي: ظهر لي ظهورًا لم أعرف سببه، والتعجب: انفعال يحدث في النفس عند شعورها بأمر خفي سببُهُ، ولذا يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، والإعجاب: استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له، وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإنسان بسب الشيء. {أَلَدُّ الْخِصَامِ}. أَلَدُّ: صفة مشبهة من اللدد، وهو شدة الخصومة، يقال: لددت لددًا ولدادةً، ورجل ألد، وامرأة لداء الخِصَامِ، إما مصدر لخاصم على حد قول ابن مالك: لِـ (فَاعَلَ) الفِعَالُ وَالمُفَاعَلاَ ... وَاجْعَلْ مَقِيْسًا ثَانِيًا لاَ أَوَّلاَ وعلى هذا فالإضافة على معنى في والمعنى: شديد في خصومته، وإما جمع خصم كصعب وصعاب، وكلب وكلاب، وبحر وبحار، وكعب وكعاب؛ والمعنى: أشد المخاصمين في الخصومة. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} وفي "المختار" الحرث: الزرع، سمي الزرع حرثًا؛ لأنه يزرع، ثم يحرث، يقال: حرث يحرث حرثًا، من باب نصر، والحراث الزراع، وهو هنا بمعنى المحروث {وَالنَّسْلَ} الولد، يقال: نسل نسلًا - من باب ضرب - إذا كثر نسله، وسمي الولد نسلًا؛ لأنه ينسل؛ أي: يسقط من بطن أمه بسرعة، وهو هنا بمعنى المنسول. {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه، ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر: أخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فَعَلَ الضَّجَرْ وقيل: العزة هنا المنعة وشدة النفس، ومعنى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} حملته

العزة على الإثم. {الْمِهَادُ}: جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهادًا؛ لأنها مستقر الكفار. {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ}؛ أي: يبيع نفسه في مرضاة الله، يقال: شرى المال يشري - من باب رمى - إذا باع، ومنه قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وقد يكون يشري بمعنى: يشتري، لا بمعنى يبيع ويبذل، وهو المناسب لسبب نزول الآية. {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} والمرضاة: مصدر ميمي بمعنى الرضا، تقول: رضي يرضى رضا ومرضاة، ضد سخط. {فِي السِّلْمِ} بفتح السين وكسرها مع سكون اللام فيهما قال الكسائي: معناهما واحد الإِسلام والمسالمة، وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح للمسالمة، وبالكسر للإسلام، ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإِسلام. {كَافَّةً} بمعنى جميعًا، وهو مشتق من قولهم: كففت؛ أي: منعت؛ أي: لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإِسلام، وأصل الكف المنع، ولكن المراد به هنا الجميع كما مر آنفًا. {زَلَلْتُمْ} يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا إذا دحضت قدمه، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء، وغير ذلك. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} بالبناء للمفعول وللفاعل، فـ {رجع} يستعمل لازمًا ومتعديًا، فالمبني للمفعول من المتعدي، ومصدره الرجع كالضرب، وهو الرد، والمبني للفاعل من اللازم، ومصدره الرجوع، على حد قول ابن مالك: وَفَعَلَ اللَّازِمُ مِثْلُ قَعَدَا ... لَهُ فُعُوْلٌ بِاطِّرَادٍ كَغَدَا {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أصله: اسأل نقلت حركة الهمزة الثانية التي هي عين الكلمة إلى الساكن قبلها، ثم حذفت تخفيفًا، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها، فصار وزنه: فل. البلاغة {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} معطوف على قوله: {لِيُفْسِدَ} من عطف

الخاص على العام؛ لأن الإفساد عام يكون بأنواع من الجور والقتل والنهب والسبي والكفر، ويدخل تحته إهلاك الحرث والنسل، وفائدة هذا العطف: الاهتمام بشأن هذا الخاص؛ لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا، فكان إفسادهما غاية الإفساد. {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} فيه استعارة تصريحية تبعية، وتقريرها أن يقال: شبه حال حمية الجاهل، وحملها إياه على الإثم بحالة شخص له على غريمه حق، فيأخذه به ويلزمه إياه بجامع اللزوم في كل، ثم اشتق من الأخذ بمعنى الحمل أخذ بمعنى حمل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: {الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} التتميم، وهو نوع من علم البديع؛ وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس، وتقربها من الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة، فَمِنْ مجيئها محمودة قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولو أطلقت .. لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها المحمودة، فقيل {بالإثم} توضيحًا للمراد. فرفع اللبس بها. {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} فهذا من باب التهكم والاستهزاء؛ أي: جعلت لهم جهنم غطاء ووطاء فأكرمهم بذلك كما تكرم الأم ولدها بالغطاء، والوطاء: اللين. {هَلْ يَنْظُرُونَ} استفهام إنكاري في معنى النفي بدليل مجيء {إِلَّا} بعدها؛ أي: ما ينظرون، والاستفهام الإنكاري هو حمل المخاطب على الإنكار بأمر عُلِمَ عنده نفيه، والضمير في {يَنْظُرُونَ} عائد على المخاطبين بقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وفائدة هذا الالتفات: الإشعار بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم، وحكاية جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريق المهانة. {فِي ظُلَلٍ} التنكير فيه للتهويل، فهي في غاية الهول والمهابة؛ لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فيه وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضي الأمر، وفائدته: الدلالة على أنه محقَّقٌ، فكأنه قد كان كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.

[212]

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} هذا السؤال ليس للاستعلام؛ لأن محمدًا عالم بجميع الآيات التي أوتوها، فحينئذ لا يحتاج إلى جواب؛ لأن السؤال إذا كان لغير الاستعلام. لا يحتاج إلى الجواب. {كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} {كَمْ} فيه للاستفهام التقريري، وضابطه هو حمل المخاطب على الإقرار بأمر علم عنده ثبوته، ولا ينافي التبكيت؛ لأن معنى التقرير: الحمل على الإقرار، وهو لا ينافي التقريع والتبكيت. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}؛ أي: من بعد ما عرفها، أو تمكن من معرفتها، وإثبات المجيء للآيات فيه استعارة تصريحية تبعية. فإن قلتَ: من المعلوم أن تبديل الآية لا يصح إلا بعد مجيئها، فَلِمَ صرح به، وما فائدة التصريح به؟ قلت: إنه ربما يوجد التبديل من غير خبرة بالمبدل، أو عن جهل به، فيعذر فاعله، وهؤلاء على خلاف ذلك، والفائدة في التصريح به: التقريع والتشنيع. ذكره في "الكشاف". {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، وإدخال الروعة. 212 - {زُيِّنَ}. {وَيَسْخَرُونَ} من عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتحاد الزمان، وأتى بقوله: {زُيِّنَ} ماضيًا؛ للدلالة على أن ذلك قد وقع وفرغ فيه، وبقوله: {وَيَسْخَرُونَ} مضارعًا؛ للدلالة على التجدد والحدوث. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: إيثار الجملة الإسمية؛ للدلالة على دوام مضمونها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}. المناسبة قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم؛ هو حب الدنيا، وأن ذلك ليس مختصًّا بهذا الزمان الذي بعثت فيه، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة؛ إذ كانوا على حق، ثم اختلفوا بغيًا وحسدًا، وتنازعًا في طلب الدنيا. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه قال: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، والمراد إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة، فبين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف، أو لمّا بين أنه هداهم .. بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق، فكذا أنتم أصحابَ محمَّد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن. قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما يتحلى به المؤمن، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة، حتى لقد ورد: "الصدقة تطفيء غضب الرب". قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه لمّا ذكر ما مسَّ مَنْ تقدمنا مِنْ أتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على مَنْ ذكر، فهو جهاد النفس بالمال .. انتقل إلى أعلى منه، وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة، وقيل: لمّا أوجب الجهاد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، وبين أن تركه سبب الوعيد .. أتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويتبعه وعد. أسباب النزول قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...} الآية، قال (¬1) عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة قال: نزلت هذه الآية في غزوة الأحزاب، وهي غزوة ¬

_ (¬1) لباب النقول بزيادة من الخازن.

[213]

الخندق حين أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدة، والخوف والبرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ...} الآية، أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين يضعون أموالهم؟ فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}. وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه - وكان شيخًا كبيرًا ذا مالٍ - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ...} الآية، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "سننه" عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رهطًا، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش - وهو ابن عمته - في جُمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، فلقوا عمرو بن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ...} الآية. فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا ليس لهم أجر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} الآية. فأثبت الله لأصحاب هذه السرية جهادًا. التفسير وأوجه القراءة 213 - {كَانَ النَّاسُ} من لدن آدم إلى نوح عليهما السلام {أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: متفقين على الحق والتوحيد، فاختلفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} ويدل على هذا المحذوف - أعني قوله: فاختلفوا - قراءة ابن مسعود التفسيرية، والتي ليست بقرآن بل بتفسير، فإنه قرأ: {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين}. والمراد (¬1) بالناس: القرون التي بين آدم ونوح؛ وهي عشرة، كانوا على ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الحق حتى اختلفوا، فبعث الله نوحًا فمن بعده. قاله ابن عباس وقتادة. والمعنى: كان الناس الذين بين آدم ونوح أمة متفقة في الدين قائمة على الحق، ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا، فآمن بعض وكفر بعض، فبعث الله النبيين؛ أي: نوحًا فمَن بعده حالة كونهم {مُبَشِّرِينَ} من آمن بالله بالجنة {وَمُنْذِرِينَ}؛ أي: مخوِّفين من كفر بالله بالنار، وقدم البشارة؛ لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يُلقي النبي، وقيل (¬1): جملة الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاث مئة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ}؛ أي: مع كل واحد منهم {الْكِتَابَ}؛ أي: كتابه حال كون ذلك الكتاب ملتبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: ببيان الحق والتوحيد، أو متعلق بأنزل؛ أي: وأنزل معهم الكتاب بالعدل والصدق (¬2)، وقيل: جملة الكتب المنزلة من السماء مئة وأربعة كتب: أنزل على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمَّد صلى الله وسلم عليه وعليهم القرآن {لِيَحْكُمَ} الله، أو ذلك الكتاب والنبي المبعوث، والحاكم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإسناد الحكم إلى الكتاب والنبي مجاز عقلي. {بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}؛ أي: في دين الإِسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق عليه أولًا؛ أي: ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق، فالكتاب حاكم، والمختلف فيه - وهو الحق - محكوم عليه. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}؛ أي: في ذلك الحق والدين {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ}؛ أي: أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا، وأن يرفعوا المنازعة في الدين، فعكسوا الأمر، فجعلوا ما أنزل مزيحًا للاختلاف سببًا لاستحكامه، والمراد (¬3) بالكتاب: التوراة والإنجيل، والذين أوتوه اليهود والنصارى، واختلافهم هو تكفير بعضهم بعضًا ¬

_ (¬1) البيضاوي والشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن.

بغيًا وحسدًا، وقيل: اختلافهم هو تحريفهم: وتبديلهم، وقيل: الضمير في (فيه) راجع إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: وما اختلف في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد وضوح الدلالات على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - إلا اليهود الذين أوتوا الكتاب بغيًا منهم وحسدًا، و {مِنْ} في قوله (¬1): {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} متعلقة بـ {اختلف}، وهي وما بعدها - أعني قوله: {بَغْيًا} - مقدم على الاستثناء في المعنى، والاستثناء مفرغ، والمستثنى منه محذوف، والمعنى (¬2): وما اختلف في الدين والحق أحد من بعد ظهور الحجج الواضحة، لأجل البغي والحسد الواقع منهم إلا الذين أوتوه، وإنما جعل مقدمًا على الاستثناء؛ لئلا يكون الاستثناء المفرغ متعدِّدًا مع أنه لا يكون كذلك؛ لأنه يصير المعنى حينئذ: إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جاءتهم البينات إلا بغيًا بينهم. وقيل المعنى (¬3): وما اختلف في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد وضوح الدلالات الواضحة على صحة نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لهم بغيًا وحسدًا إلا اليهود؛ أي: إلا الذين أوتوا الكتاب، وهم علماء اليهود؛ لأن المشركين وإن اختلفوا في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد، والحرص على طلب الدنيا، ولم تأتهم البينات في شأن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما أتت اليهود، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالنبيين {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}؛ أي: إلى الدين والحق الذي اختلف فيه من اختلف، وقوله: {مِنَ الْحَقِّ} بيان لما اختلفوا فيه، وفي قراءة شاذة تنسب لعبد الله {لما اختلفوا فيه من الإسلام} {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بإرادته وعلمه ولطفه. قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: ¬

_ (¬1) الجلالين. (¬2) الصاوي. (¬3) الواحدي.

[214]

كان نصرانيًّا، فقلنا: إنه كان حنيفًا مسلمًا، واختلفوا في عيسى، فاليهود فرطوا حيث أنكروا نبوته ورسالته، والنصارى أفرطوا حيث جعلوه إلهًا، وقلنا: قولًا عدلًا، وهو إنه عبد الله ورسوله. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله، فغدا لليهود وبعد غد للنصارى". متفق عليه. وفي رواية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له - زاد النسائي: يعني يوم الجمعة - ثم اتفقا، فالناس لنا تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد". وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة فجعل الله الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق". رواه مسلم. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى طريق الحق الموصل إلى جنات النعيم، وله الحكمة (¬1) والحجة البالغة، وفي "صحيح" البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". 214 - ونزل في جهد أصاب المسلمين في غزوة الأحزاب قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على ¬

_ (¬1) ابن كثير.

الأنبياء من بعد مجيء الآيات تشجيعًا لهم على الثبات مع مخالفيهم، و {أَمْ} فيه منقطعة، تفسر بـ {بل} وبهمزة الإنكار؛ أي: بل أظننتم يا معشر المؤمنين أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: والحال أنه لم يصبكم شبه ما أصاب الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء وأممهم من الشدائد والمحن، ولم تبتلوا بمثل ما ابتلوا به من النكبات، فتصبروا كما صبروا، فإنهم {مَسَّتْهُمُ} جملة مستأنفة مبينة لما قبلها؛ أي: أصابتهم {الْبَأْسَاءُ}؛ أي: الخوف والبلايا والشدائد {وَالضَّرَّاءُ}؛ أي: الأمراض والأوجاع والجوع {وَزُلْزِلُوا} مبني للمجهول حذف الفاعل للعلم به؛ أي: زلزلهم أعداءهم؛ أي: وحركوا بأنواع البلايا والرزايا، وأزعجوا إزعاجًا شديدًا، واستمر ذلك {حَتَّى} تناهى الأمر من الشدائد و {يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر، وقرأ (¬1) نافع: {يقولُ} بالرفع على أنها حكاية حال ماضية كقولك: مرض حتى لا يرجونه، وقرأ الأعمش شذوذًا: {وزلزلوا ويقول الرسول} بالواو بدل حتى {مَتَى} يأتي لنا {نَصْرُ اللَّهِ} الذي وعدناه استبطاء له لتأخره عنهم، ومعناه: طلب النصر، واستطالة زمان الشدة، وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم، وأصبر وأضبط للنفس عند نزول البلاء، وكذا أتباعهم من المؤمنين. والمعنى: أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء، ولم يبق لهم صبر، وذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية، واستبطؤوا النصر .. قيل لهم من جهة الله تعالى: {أَلَا}؛ أي: انتبهوا {إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ} لأوليائه على أعدائه و {قَرِيبٌ} لهم لا بعيد، إجابة لهم إلى ما طلبوا من نصر عاجل، والمعنى (¬2): هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله، فكونوا - يا معشر المؤمنين - كذلك، وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق، فإن نصر الله قريب، فاصبروا كما صبروا تظفروا. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

[215]

والأحسن (¬1) أن يقال: إن معنى هذا الكلام: فالذين آمنوا قالوا: متى نصر الله؟ ثم رسولهم قال: ألا إن نصر الله قريب. روى البخاري عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تنصرنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". 215 - {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}؛ أي: ما قدره وما جنسه، والمراد نفقة التطوع، فالآية محكمة لا منسوخة؛ أي: يسألك يا محمَّد أصحابك المؤمنون عن الشيء الذي ينفقونه، هل ينفقون مما تيسر ولو محرمًا، أو يتحرون الحلال؟ وفي الآية حذف سؤال آخر دل عليه الجواب، والتقدير: وعلى من ينفقون، والسؤال عن صدقة التطوع، والسائل عمرو بن الجموح، وكان شيخًا ذا مال، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما ينفق، وعلى من ينفق؟ وإنما جمع في الآية؛ لأن التكليف لكل مسلم، فكان هذا السائل ترجمانًا عن كل مسلم، وإنما اعتني بذلك السؤال لأن الإنسان يوم القيامة ورد أنه يسأل عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ {قُلْ} لهم يا محمَّد في الجواب {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: من مال قليلًا كان أو كثيرًا، وفي هذا: بيان المنفق الذي هو أحد شقي السؤال المذكور في الآية، وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر الذي سؤاله مطوي في الآية بقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ}؛ أي: فمصروف لهما، وإن عَلَيا {و} مصروف لـ {الأقربين} من الأولاد والأخوة والأعمام والعمات، وعطفه على الوالدين من عطف العام على الخاص، وصرح بذكر الوالدين أولًا، وإن دخلا في الأقربين اعتناءً بشأنهما؛ لوجوب حقهما على ¬

_ (¬1) المراح.

[216]

الولد؛ لأنهما كانا السبب في إخراجه من العدم إلى الوجود، وإنما ذكر بعد الوالدين الأقربين؛ لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، فتقديم القرابة أولى من غيرهم {و} مصروف لـ {اليتامى} المحتاجين، جمع يتيم، وهو من فقد أباه، وهو دون البلوغ، وإنما ذكر اليتامى بعد الأقربين؛ لصغرهم وعجزهم عن التكسب، ولا لهم أحد ينفق عليهم. {و} مصروف لـ {المساكين} المراد بهم ما يشمل الفقراء، وإنما أخرهم؛ لأن حاجتهم أقل من حاجة غيرهم {و} مصروف لـ {ابن السبيل}؛ أي: الغريب المسافر؛ فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الحاجة والفقر، فانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق، فالمراد بهذه الآية: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة .. فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات، فيقدم الأول فالأول في صدقة التطوع. ثم لما فصل الله هذا التفصيل الحسن الكامل .. أتبعه بالإجمال، فقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} مع هؤلاء أو غيرهم طلبًا لوجه الله تعالى ورضوانه {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}؛ أي: عالم به وبنياتكم، فيجازيكم عليه، ويوفي ثوابه لكم. 216 - ثم قال تعالى مبينًا حكمة مشروعية القتال في الإِسلام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}؛ أي: فرض وأوجب عليكم - أيها المؤمنون - الجهاد للكفار في أوقات النفير العام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}؛ أي: والحال أن القتال شاق عليكم مكروه لكم طبعًا لنفور الطبع عنه؛ لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف، لا لأنهم كرهوا أمر الله؛ لأن ذلك ينافي كمال تصديقهم؛ لأن معناه كراهة نفس ذلك الفعل ومشقته، كوجع الضرب في الخد، مع كمال الرضا بالحكم والإذعان له. وهو - أعني كرهًا - مصدر أقيم مقام الوصف للمبالغة، أو هو فعل بمعنى مفعول، كالخبز بمعنى المخبوز، وقرىء بالفتح على أنه لغة فيه كالضُعف والضَعف. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا}؛ أي: وحق وثبت كراهتكم شيئًا، وهو جميع ما

[217]

كلفوا به كالجهاد، فإن الطبع يكرهه {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن ذلك الشيء {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: مناط صلاحكم وسبب فلاحكم، فإنكم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا}؛ أي: وحق وثبت محبتكم شيئًا، وهو جميع ما نهوا عنه كالقعود عن الغزو، فإن النفس تحبه وتهواه {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن ذلك الشيء {شَرٌّ لَكُمْ}؛ أي: مفضٍ لكم إلى الردى والهلاك الأبدي، فإنكم تحبون القعود عن الغزو، وفيه ذلّكم وفقركم وحرمانكم من الغنيمة والأجر، وطمع العدو فيكم؛ لأنه إذا علم ميلكم إلى الراحة والدعة والسكون .. قصد بلادكم وحاول قتالكم، وإذا علم أن فيكم شهامة وجلادة على القتال .. كفّ عنكم. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه صلاحكم وفلاحكم، فبادروا إلى ما يأمركم به من الجهاد، وإن شق عليكم، ويعلم ما فيه ذلّكم وهلاككم، فانتهوا عما ينهاكم عنه من القعود عن الغزو {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك؛ أي: ما هو خير لكم وما هو شر لكم: لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم، وفي هذا الكلام: تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير، وقال الحسن: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلربّ أمر تكرهه فيه أربك، ولربّ أمر تحبه فيه عطبك، ونزل في سرية بعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتلوا المشركين، وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك، فقالت قريش: استحل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الشهر 217 - الحرام شهرًا يأمن فيه الخائف - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}؛ أي: يسألك يا محمَّد أصحابك عن الشهر الحرام {قِتَالٍ فِيهِ} بدل اشتمال من الشهر الحرام، وقرىء {عن قتال فيه} بتكرير العامل، وقرىء أيضًا بالرفع؛ أي: يسألك أصحابك - يا محمَّد - عن القتال في الشهر الحرام خطأ، أيحل لهم أم لا؟ {قُلْ} لهم - يا محمَّد - في الجواب {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} مبتدأ وخبر، وقد تم الكلام ها هنا، والوقف هنا تام، وما بعده كلام مستأنف، وقرأ عكرمة {قتل فيه قل قتل فيه} بغير ألف فيهما؛ أي: قل لهم في جوابهم: القتال في الشهر الحرام أمره كبير ووزره عظيم، ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر منه، وهو ما ذكره بقوله: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: ومنع المشركين المؤمنين عن دين الله وطاعته {وَكُفْرٌ بِهِ}؛ أي: وكفرهم بتوحيد الله {و} صدهم الناس عن {الْمَسْجِدِ

الْحَرَامِ}، يعني: عن مكة، وقرىء شاذًا: {والمسجدُ الحرام} بالرفع ووجهه أنه عطفه على قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ}، ويكون على حذف مضاف؛ أي: وكفر بالمسجد الحرام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ}؛ أي: أهل المسجد الحرام، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون {مِنْهُ}؛ أي: من المسجد الحرام، يعني: من مكة، كل ذلك {أَكْبَرُ} وأعظم وزرًا وذنبًا {عِنْدَ اللَّهِ} تعالى من قتل من قتلتم من المشركين، فإذا استعظموا قتالكم في الشهر الحرام .. فليعلموا أن ما ارتكبوه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أعظم وأشنع. {وَالْفِتْنَةُ}؛ أي: وفتنتهم المؤمنين عن دينهم تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم، وتارة بالتعذيب، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم. {أَكْبَرُ}؛ أي: أعظم وزرًا وأفظع حالًا عند الله {مِنَ الْقَتْلِ}؛ أي: من قتل من قتلتموه من المشركين في الشهر الحرام. روي أنه لما نزلت هذه الآية .. كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام .. فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام {وَلَا يَزَالُونَ}؛ أي: ولا يزال المشركون من أهل مكة وغيرهم {يُقَاتِلُونَكُمْ}؛ أي: يجتهدون في قتالكم أيها المؤمنون {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ}؛ أي: كي يردوكم عن دينكم الحق، ويعيدوكم إلى دينهم الباطل {إِنِ اسْتَطَاعُوا}؛ أي: إن أطاقوا وقدروا على ذلك .. يردوكم، ولكن لا يستطيعون ذلك، وهذا استبعاد لاستطاعتهم، وإشارة إلى ثبات المؤمنين على دينهم {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}؛ أي: ومن يرجع منكم عن دينه الحق إلى دينهم الباطل {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}؛ أي: فيمت على ردته، ولم يرجع إلى الإِسلام {فَأُولَئِكَ} المصرون على الارتداد إلى حين الموت {حَبِطَتْ} بكسر الباء وقرىء بفتحها، وهي لغة فيه؛ أي: بطلت. {أَعْمَالُهُمْ} الصالحة وردت حسناتهم التي عملوها في حالة الإِسلام {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فلا اعتداد بها في الدنيا، ولا ثواب عليها في الآخرة، فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحق من المسلمين نصرًا ولا

[218]

ثناءً حسنًا، وتَبِيْنُ زوجته منه، ولا يستحق الميراث من كل أحد، وحبوط أعمالهم في الآخرة أن الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة. أما لو رجع المرتد إلى الإِسلام: عادت إليه أعماله الصالحة مجردة عن الثواب، فلا يكلف بإعادتها، وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي، وأما عند أبي حنيفة: فإن الردة تبطل العمل وإن أسلم. {وَأُولَئِكَ} المصرون {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: مقيمون لا يخرجون ولا يموتون. 218 - وروي أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: يا رسول الله، هبْ أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرًا وثوابًا؟ فنزلت هذه الآية الآتية؛ لأن عبد الله كان مؤمنًا، وكان مهاجرًا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدًا، ثم هي عامة في مَنْ اتصف بهذه الأوصاف. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا}؛ أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم وأموالهم، وفارقوا مُسَاكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عن المشركين وعن بلادهم إلى غيرها {وَجَاهَدُوا} المشركين {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعة الله لإعلاء دين الله، وبذلوا جهدهم في قتل العدو، كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر، وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء {أُولَئِكَ} الموصوفون بالأوصاف الثلاثة {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}؛ أي: يطمعون في نيل رحمة الله، وينالون جنة الله {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لما فعلوه خطأً وقلة احتياطٍ {رَحِيمٌ} بإجزال الأجر والثواب لهم. الإعراب {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {النَّاسُ}: اسمها. {أُمَّةً}: خبرها. {وَاحِدَةً}: صفة {أُمَّةً}، والجملة مستأنفة. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}: {الفاء}:

عاطفة، {بعث اللَهُ النبينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {كَانَ}. {مُبَشِّرِينَ}: حال من {النَّبِيِّينَ}. {وَمُنْذِرِينَ}: معطوف عليه. {وَأَنْزَلَ} الواو: عاطفة، {أنزل}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة معطوفة على جملة {بعث}. {مَعَهُمُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أنزل}. {الْكِتَابَ}: مفعول به. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنزل}، أو بمحذوف حال من {الْكِتَابَ}؛ تقديره: حال كونه ملتبسًا بالحق. {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. {لِيَحْكُمَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يحكم}: منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الْكِتَابَ}، والجملة صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}؛ تقديره: لحكمه {بين الناس}، الجار والمجرور متعلق بـ {أنزل}. {بَيْنَ النَّاسِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {يحكم}. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يحكم}. {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفُوا}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميرُ {فيه}. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ}. {وَمَا} الواو استئنافية، {ما}: نافية. {اخْتَلَفَ}: فعل ماض. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة. {أُوتُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفَ} وهو مضاف. {مَا}: مصدرية. {جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مجيء البينات إياهم. {بَغْيًا}: مفعول لأجله منصوب بـ {اخْتَلَفَ}، وفي

"الفتوحات الإلهية": أو منصوب على الحال. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {بَغْيًا}؛ تقديره: بغيًا كائنًا بينهم. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. {فَهَدَى} {الفاء} عاطفة، {هدى الله الذين}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {هدى}. {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميرُ {فِيهِ}. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفُوا}. {مِنَ الْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {ما}؛ تقديره: حالة كون ما اختلفوا فيه كائنًا من الحق. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {هدى}. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {وَاللَّهُ} الواو: استئنافية، {الله}: مبتدأ. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة خبر المتبدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: من يشاءه. {إِلَى صِرَاطٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَهْدِي}. {مُسْتَقِيمٍ}: صفة لـ {صِرَاطٍ}. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل، والهمزة للإنكار. {حَسِبْتُمْ}: فعل وفاعل، وهي من أخوات {ظن}، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر سادٍّ، مسد مفعولي {حسب} عند سيبويه؛ تقديره: أم حسبتم دخولكم الجنة، وعند الأخفش: سادة

مسد المفعول الأول، والثاني محذوف؛ تقديره: أم حسبتم دخولكم الجنة واقعًا بمجرد الإيمان. {وَلَمَّا}: {الواو} حالية، {لمّا}: حرف نفي وجزم. {يَأْتِكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لما}، وجزمه بحذف حرف العلة. {مَثَلُ}: فاعل وهو مضاف. {الَّذِينَ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {حَسِبْتُمْ}؛ تقديره: أم حسبتم دخول الجنة حالة كونكم عادمين إتيان {مثل الذين}. {خَلَوْا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَوْا}. {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}. {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَالضَّرَّاءُ}: معطوف على {الْبَأْسَاءُ}. {وَزُلْزِلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَقُولَ}: منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد {حتى} بمعنى {إلى}. {الرَّسُولُ}: فاعل. {وَالَّذِينَ}: معطوف على {الرَّسُولُ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {آمَنُوا}، وجملة {يَقُولَ} صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} بمعنى {إلى}؛ تقديره: وزلزلوا إلى قول الرسول والذين آمنوا معه، الجار والمجرور متعلق بـ {زلزلوا}. {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}: مقول محكي لـ {يَقُولُ}، وإن شئت قلت: {مَتَى}: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا. {نَصْرُ اللَّهِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {نَصْرَ اللَّهِ}: اسم {إنَّ} ومضاف إليه. {قَرِيبٌ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب، مقول لقول محذوف؛ تقديره: قال الله لهم: إن نصر الله قريب، وجملة القول المحذوف مستأنفة.

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة مستأنفة. {مَاذَا} {ما}: اسم استفهام مبتدأ، {ذا}: اسم موصول في محل الرفع خبر. {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: ما الذي ينفقونه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب، مفعول به ثان لـ {سأل}؛ تقديره: يسألونك أي الشيء الذي ينفقونه؟. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {مَا}: موصولة في محل الرفع مبتدأ. {أَنْفَقْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: ما أنفقتموه. {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف؛ تقديره: ما أنفقتموه حالة كونه كائنًا من خير. {فَلِلْوَالِدَيْنِ}: {الفاء}: زائدة في الخبر، أو رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في المبتدأ من العموم. {للوالدين}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: فمصروف للوالدين، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول {قُلْ}، ويحتمل كون {مَا} شرطية، والجواب جملة {فَلِلْوَالِدَيْنِ}. {وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}: معطوفات على {الوالدين}. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {ما} على كونه فعل الشرط لها. {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {ما}؛ تقديره: حالة كونه كائنًا من خير. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا، {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وهو خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {ما} على كونها جواب الشرط لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ}.

{كُتِبَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {عَلَيْكُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْقِتَالُ}: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ كُرْهٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من {الْقِتَالُ}؛ تقديره: حالة كونه مكروهًا. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {كُرْهٌ}. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا}. {وَعَسَى}: الواو: استئنافية، {عسى}: فعل من أفعال الرجاء، ولكن هنا للتحقيق، فنقول في إعرابه {عسى}: فعل ماض تام بمعنى حق. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَكْرَهُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {شَيْئًا}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: حق وثبت كراهتكم شيئًا وهو خير لكم، والجملة مستأنفة. وفي "الفتوحات الإلهية": ليس معنى {عسى} هنا على الترجي كنظائرها الواقعة في كلامه تعالى، فإن الكل للتحقيق، ويصح الترجي باعتبار حال السامع، وهي هنا تامة على حد قول ابن مالك: بَعْدَ عَسَى اخْلَوْلَقَ أَوشَكَ قَدْ يَرِدْ ... غِنَىً بِـ (أَنْ) يُفْعَلَ عَنْ ثَانٍ فُقِدْ وفي "السمين" {عسى}: فعل ماضٍ نقل إلى إنشاء الترجي والاشتقاق، وهو يرفع الاسم وينصب الخبر، ولا يكون خبرها إلا فعلًا مضارعًا مقرونًا بـ {أن}، وهي في هذه الآية ليست ناقصة فتحتاج إلى خبر، بل تامة؛ لأنها أسندت إلى {أن}، وتَقَدم أنها تسد مسد الجزئين بعدها. انتهى. {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. {وَهُوَ خَيْرٌ} الواو حالية، أو زائدة، {هو خير}: مبتدأ وخبر. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خير}، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {شَيْئًا} - وإن كان مجيء الحال من النكرة التي لا مسوغ لها قليلًا - أو في محل النصب صفة لـ {شَيْئًا}، وإنما دخلت {الواو} على الجملة الواقعة صفة لأن صورتها صورة الحال، فكما تدخل {الواو} عليها حالية تدخل عليها صفة، قاله

أبو البقاء. وإنما توسطت {الواو} بين الصفة والموصوف؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. {وَعَسَى} الواو: عاطفة، {عسى}: فعل ماض تام بمعنى {حق}. {أَن}: حرف مصدر. {تُحِبُّوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {شَيْئًا}: مفعول به، وجملة {أَن} مع مدخولها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: وعسى محبتكم شيئًا، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} جملة اسمية في محل النصب حال من {شَيْئًا}، أو صفة له، كما مر نظيره قريبًا. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. {وَاللَّهُ} هو الواو: استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: والله عالم، والجملة مستأنفة. {وَأَنْتُمْ} الواو: عاطفة، {أنتم}: مبتدأ. {لَا تَعْلَمُونَ} {لَا}: ناهية {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: وأنتم غير عالمين مصالحكم، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة مستأنفة. {عَنِ الشَّهْرِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يسألون} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {الْحَرَامِ}: صفة لـ {الشهر} بمعنى المحرم؛ أي: المعظم. {قِتَالٍ}: - بالجر - بدل اشتمال من {الشَّهْرِ}. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قِتَالٍ}، أو بمحذوف صفة لـ {قِتَالٍ}، وعلى قراءة الرفع {قتال}: مبتدأ، والجار والمجرور خبره، وسوغ الابتداء بالنكرة فيه همزة الاستفهام؛ لأنه في معنى أقتال كائن فيه؟ وهذه الجملة المستفهم عنها في محل الجر بدل من {الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، وزعم بعضهم: أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل؛ تقديره: أجائز قتال فيه.

{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله مستتر فيه يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {قِتَالٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده. {فِيهِ}: جار ومجرور صفة لـ {قِتَالٍ}. {كَبِيرٌ}: خبر، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. {وَصَدٌّ} الواو: استئنافية، أو عاطفة، {صد}: مع ما عطف إليه مبتدأ، وجملتها أربعة، فأخبر عنها بقوله {أَكْبَرُ}؛ لأنه أفعل تفضيل، وهو يستوي فيه الواحد والأكثر إذا كان مجردًا من {أل} و {الإضافة} على حد قول ابن مالك: وإنْ لِمَنْكُوْرٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا ... أُلْزِمَ تَذْكِيْرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {صَدٌّ}. {وَكُفْرٌ}: معطوف على {صد}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كفر}. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ}، وللمعطوف حكم المعطوف عليه، تبعه بالجر، واعترض بأنه إذا كان معطوفًا على {سَبِيلِ اللَّهِ ..} كان متعلقًا بقوله {وَصَدٌّ}؛ إذ التقدير: وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله {وَكُفْرٌ بِهِ}، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وأجيب بأن الكفر بالله، والصد عن سبيله متحدان معنىً، فكأنه لا فصل بأجنبي بين {سَبِيلِ} وما عطف عليه. {وَإِخْرَاجُ}: معطوف على {صد} وهو مضاف. {أَهْلِهِ}: {أهل}: مضاف إليه، وهو مضاف، والضمير: مضاف إليه. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {إخراج}. {أَكْبَرُ}: خبر المبتدأ وما عطف عليه. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أكبر}، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة قوله {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}؛ لأن المعنى: قل لهم: قتال في الشهر الحرام إثم كبير،

وقيل لهم: صد عن سبيل الله، وكذا وكذا أكبر من القتال، أو مستأنفة استئنافًا نحويًّا؛ لأن المقصود منها مجرد إخبار عن أن الصد عن سبيل الله، وكذا وكذا أكبر عند الله. {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}. {وَالْفِتْنَةُ}: مبتدأ. {أَكْبَرُ}: خبر. {مِنَ الْقَتْلِ}: متعلق بـ {أَكْبَرُ}، والجملة مستأنفة. {وَلَا} الواو استئنافية، {لا}: نافية. {يَزَالُونَ}: به فعل مضارع ناقص، والواو اسمها. {يُقَاتِلُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب خبر {يزال}؛ تقديره: ولا يزالون مقاتلين إياكم، والجملة مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَرُدُّوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ {أن} مضمرة. {عَنْ دِينِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يردون}، وجملة {يَرُدُّوكُمْ} صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى؛ تقديره: إلى ردّهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ {يقاتلون}. {إِنِ اسْتَطَاعُوا}: {إنِ}: حرف شرط وجزم. {اسْتَطَاعُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنَّ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف دل عليه السياق؛ تقديره: إن استطاعوا يردوكم عن دينكم، وجملة {إنِ} الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. {وَمَنْ} الواو: استئنافية، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. {يَرْتَدِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل الشرط، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَرْتَدِدْ}. {عَنْ دِينِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَرْتَدِدْ}. {فَيَمُتْ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب،

{يمت}: فعل مضارع معطوف على {يَرْتَدِدْ} وفاعله ضمير يعود على {من}. {وَهُوَ كَافِرٌ}: مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب حال من فاعل {يمت}. {فَأُولَئِكَ}؛ {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {أولئك}: مبتدأ. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ {حَبِطَتْ}. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}. {وَأُولَئِكَ}: الواو: عاطفة {أولئك}: مبتدأ. {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} على كونها جوابًا لـ {من} الشرطية. {هُمْ}: مبتدأ {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ}، وهو خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب، حال من {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ تقديره: حالة كونهم مقدرين الخلود فيها، أو حال من {النَّارِ}؛ تقديره: حالة كونها مقدرًا خلودهم فيها. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ}: اسمها. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَالَّذِينَ}: في محل النصب معطوف على {الَّذِينَ} الأول. {هَاجَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَجَاهَدُوا}: معطوف على {هَاجَرُوا}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جَاهَدُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ؛ تقديره: أولئك راجون رحمت الله، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {وَاللَّهُ} الواو: استئنافية، {الله}: مبتدأ. {غَفُورٌ}: خبر أول. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة {أَمْ حَسِبْتُمْ}: وحَسِب من باب فَعِل المكسور، وفي مضارعه وجهان: الفتح على القياس، والكسر على الشذوذ، ومعناها الظن، وقد تستعمل لليقين كقوله. حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُوْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاوَيًا وفي "المصباح" يقال: حسبت زيدًا قائمًا أحسَبه - من باب تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس حسبانًا بالكسر بمعنى ظننته، وحسبت المال حسبًا - من باب قتل - أحصيته عددًا، وفي المصدر أيضًا حِسْبةً بالكسر، وحُسبانًا بالضم. انتهى. {خَلَوْا}: أصله خلووا؛ لأنه من الأفعال المعتلة بالواو كدعا وغزا، تحركت {الواو} وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار خلوا. {وَزُلْزِلُوا} يقال: زلزل الله الأرض زلزلةً وزلزالًا بالكسر، فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، والزلزلة: شدة التحريك يكون في الأشخاص والأحوال، وقال الزجاج: أصل الزلزلة نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت: زلزلته .. فمعناه كررت زلله من مكانه، فهو من الثلاثي المزيد بالتضعيف والتكرير؛ لأن أصله زل. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قرئ بضم الكاف وفتحها، وهما لغتان بمعنى، وقيل: بالفتح مصدر بمعنى الكراهية، وبالضم اسم مصدر بمعنى المشقة، يقال: كرهت الشيء كُرهًا وكَرهًا، وكَراهةً وكَراهيةً، وأكرهته عليه إكراهًا. {صد} الصد: المنع والطرد، يقال: صده عن الشيء يصده صدًّا - من باب شدّ - إذا منعه منه، فهو من المضاعف المعدى الذي لم يسمع فيه إلا القياس الذي هو ضم عين المضارع. {وَمَنْ يَرْتَدِدْ} بالفك؛ لأنه لما سكنت الدال الثانية للجازم .. تعذر تسكين

الأول؛ لئلا يجتمع ساكنان. البلاغة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ}: فيه إيجاز بالحذف، والأصل: فاختلفوا، فبعث الله النبيين. {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}: فيه مجاز عقلي إن عاد الضمير إلى الكتاب من إسناد ما للفاعل إلى المفعول، وقوله {بَيْنَ النَّاسِ} إظهار في مقام الإضمار، لزيادة التعيين. {أَمْ حَسِبْتُمْ}: {أَمْ} منقطعة مقدرة بمعنى بل التي في ضمنها الانتقال من أخبار إلى أخبار، وبمعنى الهمزة التي في ضمنها الإنكار والتوبيخ، والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تحسبوا هذا الحسبان، ولم حسبتموه؟ والغرض من هذا التوبيخ تشجيعهم على الصبر، وحضهم عليه. {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا}: فيه إيجاز بالحذف؛ لأن فيه حذف مضاف وحذف موصوف؛ تقديره: ولما يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا {مِنْ قَبْلِكُمْ}: متعلق بـ {خلوا}، وهو كالتأكيد لمعنى {خَلَوْا} فإن القبلية مفهومة من قوله: {خَلَوْا}. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} بالنصب على قراءة الجمهور على أن {حَتَّى} بمعنى إلى، وأن مضمرة بعدها؛ أي: إلى أن يقول الرسول، فهي غاية لما تقدم من المس والزلزال، وحتى إنما ينصب بعدها المضارع إذا كان مستقبلًا، وهذا قد وقع ومضى، والجواب: أنه على حكاية الحال الماضية، وبالرفع: فعلى قراءة نافع على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى ولا غيرها؛ لأن الناصب مخلص للاستقبال فتنافيا، واعلم أن حتى إذا وقع بعدها فعل .. فإما أن يكون حالًا أو مستقبلًا أو ماضيًا، فإن كان حالًا .. رفع نحو مرض زيد حتى لا يرجونه؛ أي: في الحال، وإن كان مستقبلًا .. نصب تقول: سرت حتى أدخل البلد، وأنت لم تدخل بعد، وإن كان ماضيًا .. فتحكيه ثم

حكايتك له؛ إما أن تكون بحسب كونه مستقبلًا، فتنصبه على حكاية هذا الحال، وإما أن يكون بحسب كونه حالًا، فترفعه على حكاية هذه الحال، فيصدق أن تقول في قراءة الجمهور حكاية حال، وفي قراءة نافع حكاية حال أيضًا، وإنما نبهت على ذلك؛ لأن عبارة بعضهم تخصص حكاية الحال بقراءة الجمهور، وعبارة آخرين تخصها بقراءة نافع. ومعنى حكاية الحال الماضية: أن يفرض ويقدر الواقع في الماضي واقعًا وقت التكلم، ويخبر عنه بالمضارع الدال على الحال. {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} في هذه الجملة عدة مؤكدات: الأول: بدء الجملة بأداة الاستفتاح. الثاني: ذكر إن. الثالث: إيثار الجملة الإسمية. الرابع: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى عندهم بالمقابلة، فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: فيه طباق بالسلب. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}. المناسبة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون، فبين لهم مصرف ذلك في الوالدين وما بعدهما، ثم ذكر تعالى فرض القتال والجهاد في سبيل الله .. ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر؛ إذ هما أيضًا من مصارف المال، ومع مداومتهما قَلَّ أن يبقى مال فتتصدق به أو تجاهد به، فلذلك وقع السؤال عنهما. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال، وذكر السؤال عن النفقة، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم .. ناسب ذلك النظر في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حال اليتيم وحفظ ماله وتنميته واصلاح اليتيم بالنظر في تربيته، فالجامع بين الآيتين: أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوال أنفسهم، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحًا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه، فيكونون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم، والظاهر أن السائل جمع بين الاثنين بواو الجمع. قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة، حتى أن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط، وكان في اليتامى من يكون من أولاد الكفار .. نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح؛ وهي الأخوّة الدينية، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوّة، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك. وفيها مناسبة أخرى أيضًا وهي: أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر والأكل في الميسر .. ذكر حكم المنكح، فكما حرم الخمر من المشروبات وما يجر إليه الميسر من المأكولات .. حرم المشركات من المنكوحات. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار، وتضمن مناكحة أهل الإيمان وإيثار ذلك .. بين حكمًا عظيمًا من أحكام النكاح، وهو نكاح في زمان الحيض. قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بتقوى الله تعالى وحذرهم يوم الميعاد .. نهاهم عن ابتذال اسمه، وجعله معرضًا لما يحلفون عليه دائمًا؛ لأن من يُتقى ويُحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه من قليل أو كثير، عظيم أو حقير؛ لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به. وفيه مناسبة أخرى أيضًا: وذلك أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من الخمر والميسر، وإنفاق العفو، وأمر اليتامى، ونكاح من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أشرك، وحال وطيء الحائض .. أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم، فانتظم بذلك أمرهم بالتحرز في الأفعال والأقوال. أسباب النزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...} سبب نزولها: أنه جاء جماعة من الأنصار فيهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، ومسلبة للمال، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...} الآية. قوله تعالى (¬1): {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ...} سبب نزولها: أنه أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله .. أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ...}. وأخرج أيضًا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل، وثعلبة رضي الله عنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: يا رسول الله، إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا، فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ...} أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ...} الآية، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم؛ فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ...}. قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...} أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والواحدي عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنوي، ¬

_ (¬1) لباب النقول.

استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عناق أن يتزوجها، وهي مشركة، وكانت ذات حظ وجمال؛ فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ ...} الآية، سبب نزولها: أنه أخرج الواحدي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره وقال: لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فطعن عليه ناس، وقالوا: ينكح أمه، فأنزل الله هذه الآية، وأخرجه ابن جرير عن السدي منقطعًا. قوله تعالى (¬1): {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ...} الآية، روى مسلم، والترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ..} الآية، فقال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ظننا أن قد وجد (¬2) عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. أخرجه الترمذي - وقال: هذا حديث حسن صحيح - وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والطيالسي. قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...} الآية، روى الشيخان، وأبو داود، والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: وما أهلكك"؟ قال: حولت ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) وَجَدَ: من الحزن والغضب.

[219]

رحلي الليلة، فلم يزد عليه شيئًا، فأنزل الله هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ...} أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة. قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ...} الآية، أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج قال: حدثت أن قوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ...} الآية، نزلت في أبي بكر في شأن مسطح. التفسير وأوجه القراءة 219 - {يَسْأَلُونَكَ}؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد {عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}؛ أي: عن حكم تناولهما وتعاطيهما، وأصل (¬1) الخمر في اللغة: الستر والتغطية، وسميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، وقيل: لأنها تستره وتغطيه، وشرعًا: عبارة عن عصير العنب النيء الشديد الذي قذف بالزبد، وكذلك نقيع الزبيب والتمر، والمتخذ من العسل والحنطة والشعير والأرز والذرة، وكل ما أسكر فهو خمر، قاله الشافعي. وقال أبو حنيفة: الخمر من العنب والرطب ونقيع التمر والزبيب، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه .. حل شربه، والمسكر منه حرام، واحتج على ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي. وفي رواية: أما بعد: فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان، فإن له اثنين ولكم واحد. أخرجه النسائي، والطِلاء - بكسر الطاء والمد -: الشراب المطبوخ من عصير العنب الذي ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه. وأصل الميسر في اللغة: مصدر ميمي بمعنى اليسر، سمي القمار بالميسر؛ لما فيه من أخذ المال بسهولة من غير تعب، وشرعًا: هو القمار وهو آلات الملاهي التي يلعب بها في نظير مال، فيشمل الطاب والشطرنج والنرد وغيرها، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وأما إن كان بغير مال: ففيه خلاف بين العلماء، فقيل: كبيرة، وقيل: صغيرة، وقيل: مكروه، وحدّه بعضهم: هو كل ¬

_ (¬1) خازن.

لعب تردد بين غُنم وغُرم، وفي مصحف عبد الله وقراءته شذوذًا {أكثر} بالثاء المثلثة، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو؛ فمنه النرد والشطرنج وآلات الملاهي كلها، وميسر القمار؛ وهو ما يتخاطر الناس عليه، وقال القاسم: كل شيء ألهى عن ذكر الله، وعن الصلاة فهو ميسر. ذكره أبو حيان. {قُلْ} لهم يا محمَّد {فِيهِمَا}؛ أي: في تعاطيهما {إِثْمٌ كَبِيرٌ}؛ أي: عظيم بعد التحريم، لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف المال، ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا، وقرأ حمزة والكسائي {كثير} بالثاء المثلثة. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قبل التحريم: بالتجارة فيها، وباللذة والفرج وتصفية اللون، وحمل البخيل على الكرم، وزوال الهم، وهضم الطعام، وتقوية الباءة، وتشجيع الجبان في شرب الخمر، وإصابة المال بلا كد ولا تعب في الميسر والقمار، قيل: بما أن الواحد منهم كان يقمر في المجلس الواحد مئة بعير، فيحصل له المال الكثير، وربما كان يصرفه إلى المحتاجين، فيكسب بذلك الثناء والمدح، وهو المنفعة {وَإِثْمُهُمَا} بعد التحريم ومفاسدهما بعده {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} قبل التحريم، وقرىء شذوذًا: {أقرب من نفعهما}؛ يعني: المفاسد (¬1) التي تنشأ عنهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما. وقيل (¬2): إثمهما، قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر. وجملة القول في تحريم الخمر: أن الله عَزَّ وَجَلَّ أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} فكان المسلمون يشربونها في أول الإِسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة في جواب سؤال عمر ومعاذ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فتركها قوم لقوله: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} وشربها قوم لقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ثم إن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

بن عوف - رضي الله عنه - صنع طعامًا، ودعا إليه ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطعمهم وسقاهم الخمر، وحضرت صلاة المغرب، فقدموا أحدهم يصلي بهم، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون} - بحذف حرف لا إلى آخر السورة؛ فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فحرم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء، فيصبح وقد زال سكره، فيصلي الصبح ويشربها بعد صلاة الصبح، فيصحوا وقت صلاة الظهر، ثم إن عتبان بن مالك اتخذ صنيعًا - يعني: وليمة - ودعا رجالًا من المسلمين، وفيهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد سوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير، فضرب به رأس سعد، فشجه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشكا إليه الأنصاري، فقال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا؛ فأنزل الله الآية التي في المائدة إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا يا رب، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام. والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا، فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة .. لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل هذا التدريج، وهذا الرفق. قال أنس - رضي الله عنه -: حرمت الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر. روى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة، وأبا أيوب، وفلانًا وفلانًا؛ إذ جاء رجل فقال: حرمت الخمر، فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر هذا الرجل. الفضيخ - بالضاد والخاء المعجمتين -: شراب يتخذ من بسر مطبوخ، والإهراق: الصب، والقلال - جمع قلة -: وهي الجرة الكبيرة. {وَيَسْأَلُونَكَ}؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد {مَاذَا يُنْفِقُونَ}؛ أي: قدر ما

[220]

ينفقونه من أموالهم، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصدقة، فقالوا: ماذا ننفق؟ قيل: سائله أيضًا عمرو بن الجموح، سأل أولًا عن المنفق والمصرف، ثم سأل عن كيفية الإنفاق، وقيل: السائل معاذ بن جبل وثعلبة، وقال الرازي: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق، ويدلان على عظيم ثوابه .. سألوا عن مقدار ما كلفوا به: هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله تعالى أن العفو؛ أي: الفاضل عن الكفاية مقبول. {قُلِ} لهم يا محمَّد في الجواب أنفقوا {الْعَفْوَ}؛ أي: المال الفاضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله، ومن تلزمه مؤنتهم، فكان (¬1) الرجل منهم بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه، وينفق باقيه إلى أن فرضت الزكاة، فنَسخت آية الزكاة التي في براءة هذه الآية، وكل صدقة أمروا بها قبل الزكاة، وقراءة الجمهور بالنصب، وقرأ أبو عمر وحده {العفوُ} بالرفع. وقال الشوكاني: والعفو هو ما سهل وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى على النصب: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وعلى الرفع: الذي أُمرتم بإنفاقه هو العفو؛ أي: ما فضل عن نفقة العيال {كَذَلِكَ}؛ أي: كما بين الله لكم قدر المنفق، وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الدالة على الأحكام 220 - الشرعية {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: لكي تتأملوا {في} أحوال {الدُّنْيَا} فتعرفوا أنها فانية، فتزهدوا فيها {و} تتفكروا في أمور {الآخرة} فتعرفوا أنها باقية، فتقبلوا عليها، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة .. علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا؛ لبقاء الآخرة. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربما تزوجوا باليتيمة طمعًا في مالها، ثم إن الله تعالى أنزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. ¬

_ (¬1) الواحدي.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم، والقيام بأمورهم، فاختلَّت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم، فثقل ذلك على الناس، فقال عبد الله بن رواحة - وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري -: يا رسول الله، ما لكلِّنا منازل تسكنها الأيتام، ولا كلنا يجد طعامًا وشرابًا يردهما لليتيم، فهل يجوز مخالطة اليتامى بالطعام والشراب والمسكن أم لا؟ فنزلت هذه الآية؛ أي: يسألونك يا محمَّد عن مخالطة اليتامى في أموالهم، أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ {قُلْ} لهم في الجواب {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}؛ أي: مخالطة اليتامى وإصلاح أموالهم من غير أخذ أجرة ولا عوض خير لهم من ترك مخالطتهم، وأعظم أجرًا لكم {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} في الطعام والخدمة والسكن، وهذا فيه (¬1) إباحة المخالطة وحث عليها؛ أي: شاركوهم في أموالهم واخلطوها بأموالكم ونفقاتكم ومساكنكم وخدَمكم ودوابكم، فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم، أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم {فَإِخْوَانُكُمْ} في الدين؛ أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويصيب بعضهم من مال بعضٍ، على وجه الإصلاح والرخاء. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} لمال اليتيم بالمخالطة {مِنَ الْمُصْلِحِ} له، ويعلم الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وأكل مال اليتيم بغير حق، والذي يقصد الإصلاح، فيجازي كلًّا على قصده، فاتقوا الله في مال اليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعةً إلى إفساد مال اليتيم، وأكله بغير حق {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} إعناتكم وإحراجكم وتضييقكم، والتشديد عليكم {لَأَعْنَتَكُمْ}؛ أي: لأوقعكم في العنت والمشقة، وشدد عليكم في شأن اليتامى بتحريم مخالطتهم ومداخلتكم عليهم، ولكن وسع عليكم بتجويزها لكم، فاشكروا هذه النعمة {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب يقدر أن يشدد على عباده، ويعنتهم ويكلفهم ما لا يطيقونه، ولكنه {حَكِيمٌ} يحكم ما تقتضيه الحكمة، وتتسع له الطاقة، لا يكلف عباده إلا ما تتسع له طاقتهم. وفي وصفه تعالى بالعزة (¬2) - وهو الغلبة والاستيلاء -: إشارةٌ إلى أنه مختص ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[221]

بذلك لا يُشارك، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى .. نبههم على أنهم لا يقهرونهم ولا يغالبونهم ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر، فإن هذا الوصف لا يكون إلا لله تعالى، وفي وصفه تعالى بالحكمة: إشارة إلى أنه لا يتعدى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم، فليس لكم نظر إلا بما أذنتْ لكم فيه الشريعة، واقتضته الحكمة الإلهية؛ إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع، فالإصلاح لهم ليس راجعًا إلى نظركم إنما هو راجع لاتّباع ما شرع في حقهم. 221 - ثم قال تعالى محذرًا من زواج المشركات اللاتي ليس لهن كتاب: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}؛ أي: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون النساء المشركات بالله حتى يؤمن؛ أي: يصدقن بالله ورسوله، وهو الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام المسلمين، نزلت في أبي مرثد الغنوي، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتزوج عناق وهي مشركة، والمشركات ها هنا عامة في كل من كفرت بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حرم الله بهذه الآية نكاحهن، ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة، فبقي نكاح الأمة الكتابية على التحريم، وقراءة الجمهور بفتح التاء في قوله {وَلَا تَنْكِحُوا}، من نَكَح الثلاثي إذا تزوج، وقرىء بضمها، من أنكح الرباعي بمعنى: ولا تزوجوهن من المسلمين. {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ}؛ أي: ولرقيقة مؤمنة بالله ورسوله {خَيْرٌ} لكم وأنفع وأصلح وأفضل {مِن} حرة {مُشْرِكَةٍ} بالله؛ أي: تزوج الأمة خير لكم عند الله من تزوج مشركة {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} المشركة؛ أي: أحبتكم وأعشقتكم لجمالها أو مالها أو حسبها أو جاهها، أو غير ذلك، وقد تقدم لك أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كانت عنده أمة سوداء الحديث. والواو للحال و {لو} بمعنى {إن}؛ أي: وإن كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها .. فالأمة المؤمنة خير منها. وفي هذا (¬1): دليل على جواز نكاح الأمة المؤمنة، ومفهوم الصفة يقتضي .. أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة كتابية كانت أو غيرها، وفي هذه الآية: دليل ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لجواز نكاح القادر على طَول الحرة المسلمة للأمة المسلمة، ووجه الاستدلال أن قوله: {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} معناه: من حرة مشركة، وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرة المسلمة؛ لأنه لا يتفاوت الطولان بالنسبة إلى الإيمان والكفر، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحهما سواء، فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة .. يجوز له نكاح الأمة المسلمة، وهذا استدلال لطيف. {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وهنا خطاب لأولياء المرأة؛ أي: ولا تزوجوا - أيها الأولياء - النساء المؤمنات من الكفار وثنيين كانوا أو أهل كتاب حتى يؤمنوا بالله ورسوله {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ}؛ أي: ولتزويجكم المؤمنات لرقيق مؤمن بالله. {خَيْرٌ} لكم عند الله وأفضل وأصلح {مِنْ} تزويجهن لحر {مُشْرِكٍ} باللهِ {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وأحبكم ذلك المشرك لحسبه أو ماله أو جماله أو جاهه، أو غير ذلك. {أُولَئِكَ} المذكورون من المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم {يَدْعُونَ} كُمْ {إِلَى} الشرك والكفر الذي يؤديكم إلى {النَّارِ} في الآخرة فلا يليق بكم مصاهرتهم ومناكحتهم، فإن الزوجية مظنة المحبة، وذلك يوجب الموافقة في الأغراض، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال الدين بسبب موافقة المحبوب {وَاللَّهُ يَدْعُو}؛ أي: أولياءه (¬1) المؤمنون يدعون، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيمًا لشأنهم؛ أي: يدعون إلى الاعتقاد والعمل الموصلَين {إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} فهم الأَحِقَّاء بالمواصلة دون غيرهم، أو الكلام على ظاهره بلا حذف، والمعنى والله يدعو عباده إلى الجنة والمغفرة بتبيان هذه الأحكام من الإباحة والتحريم، فإن من تمسك بها .. استحق الجنة والمغفرة {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بتيسيره تعالى، وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة، أو بقضائه وإرادته. يعني: أنه تعالى بين هذه الأحكام، وأباح بعضها، وحرم بعضها، فاعملوا بما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه من عمل بذلك .. استحق الجنة ¬

_ (¬1) البيضاوي والنسفي.

[222]

والمغفرة، وقرأ الحسن شذوذًا {والمغفرةُ بإذنه} بالرفع؛ أي: والمغفرة حاصلة بتيسيره تعالى {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ}؛ أي: يوضح أدلته وحجته في أوامره ونواهيه وأحكامه في التزوج والتزويج للناس {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويتعظون؛ أي: لكي يتذكروا، فيميزوا بين الخير والشر، والخبيث والطيب؛ فيعرفوا قبح المنهي عنه، وحسن المدعو إليه. 222 - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}؛ أي: يسألك أصحابك يا محمَّد عن إتيان النساء في حالة الحيض، أيحل ذلك أم يحرم؟ وتقدم لك أن السائل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن الحضير؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في البيت كفعل اليهود والمجوس، وأما النصارى؛ فكانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض. ولعله سبحانه وتعالى (¬1) إنما ذكر {يَسْأَلُونَكَ} بغير {واو} ثلاث مرات. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، وثلاث مرات بـ {واو} {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} إشارة إلى أن الأسئلة الثلاثة الأولى كانت في أوقات متفرقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد مع السؤال عن الخمر والميسر، فجاء بحرف الجمع لذلك، كأنه قال: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا وكذا، والله أعلم. {قُل} لهم يا محمَّد في الجواب {هُوَ}؛ أي: الحيض {أَذًى}؛ أي: شيء مستقذر مؤذ مَنْ يقربه للرائحة الكريهة التي فيه، واللون الفاسد، وللحدة القوية التي فيه {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ}؛ أي: فاجتنبوا معاشرة النساء ومجامعتهن {فِي الْمَحِيضِ}؛ أي: في حالة الحيض وزمانه ومكانه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم"، وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض، وإنما وصفه ¬

_ (¬1) البحر المحيط والبيضاوي.

[223]

بأنه أذى، ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارًا بأنه العلة. {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ}؛ أي: لا تجامعوهن {حَتَّى يَطْهُرْنَ}؛ أي: حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويغتسلن، وهذا تأكيد لحكم الاعتزال، وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، ويعقوب الحضرمي {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بسكون الطاء وضم الهاء بمعنى: حتى ينقطع عنهن الدم، وقرأ شعبة، وحمزة والكسائي {يطهرن} بتشديد الطاء والهاء بمعنى: يغتسلن {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}؛ أي: اغتسلن من حيضهن أو تيممن عند تعذر استعمال الماء {فَأْتُوهُنَّ}؛ أي: جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}؛ أي: في المكان الذي أحله الله لكم؛ وهو القبل الذي هو مكان النسل والولد، ولا تعتدوا إلى غيره؛ وهو الدبر، أو المعنى جامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في حالة الحيض وهو القبل. واتفق مالك والأوزاعي والثوري والشافعي أنه إذا انقطع حيض المرأة .. لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام .. لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام .. جاز أن يقربها قبل الاغتسال. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ} ويثيب {التَّوَّابِينَ} من الذنوب والرجاعين عنها، بالندم على ما مضى منها، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثلها في المستقبل {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}؛ أي: المتنظفين بالماء من الأحداث والجنابات والنجاسات، أو المتنزهين عن المعاصي والفواحش، كمجامعة النساء في زمان الحيض، وإتيانهن في الأدبار، وقيل: يحب المستنجين بالماء. 223 - {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}؛ أي: فروج نسائكم مزرعة لأولادكم {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}؛ أي: مزرعتكم {أَنَّى شِئْتُمْ}؛ أي: من أي جهة شئتم من أمامها أو ورائها، وعلى أي حال شئتم من قيام أو قعود أو اضطجاع، فهو مخير بين ذلك إذا كان الإتيان في قبلها لا في دبرها. وفي الآية: دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن؛ لأن محل الحرث لها والزرع هو القبل لا الدبر، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه

[224]

- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ملعون من أتى امرأة في دبرها". أخرجه أبو داود. {وَقَدِّمُوا} صالح الأعمال التي تكون ذخرًا {لِأَنْفُسِكُمْ} في الآخرة، وقيل: معناه وقدموا على الجماع ما يكون صلاحًا لأنفسكم ولأولادكم من التسمية والدعاء، وقيل: معناه وقدموا نية الولد أو نية الإعفاف لأنفسكم. أخرج الشيخان عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا .. فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا"؛ أي: قدموا ما يدخر لكم من الثواب، ولا تكونوا في قيد قضاء الشهوة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله في أدبار النساء، ومجامعتهن في الحيض {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}؛ أي: ملاقوا الله بالبعث وراجعون إليه في الآخرة للمجازاة، فتزودوا ما تنتفعون به فيها {وَبَشِّرِ} يا محمَّد {الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: الكاملين في الإيمان؛ أي: بشرهم بالفضل الجسيم، والفوز العظيم في جنات النعيم؛ لأنهم تلقوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهي بحسن القبول والامتثال. 224 - {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} نزلت في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث أهل الإفك؛ أي: ولا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف باسم الله عرضة؛ أي: عارضًا ومانعًا وحاجزًا لكم عن أيمانكم؛ أي: عن أعمالكم الصالحة، فالمراد بالأيمان هنا: الأعمال الصالحة، واللام فيه بمعنى عن وسميت: أيمانًا لتعلق الإيمان بها، وقوله: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} بدل من الأيمان بدل تفصيل من مجمل؛ أي: ولا تجعلوه حاجزًا لكم عن أن تبروا وتصلوا الرحم، ولا عن أن تتقوا؛ أي: ولا أن تصلّوا أو تصوموا مثلًا، ولا عن أن تصلحوا بين الناس، فعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام، والمعنى: لا تجعلوا الحلف باسم الله مانعًا لكم عن أعمال البر، ولا عن أن تبروا بالوالدين والأرحام، ولا أن تفعلوا ما فيه تقوى الله كالصلاة والصيام، ولا أن تفعلوا

[225]

الإصلاح بين الناس، يعني: لا تجعلوا الحلف بالله سببًا مانعًا لكم عن فعل الخير، وعن فعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ فتتعللوا باليمين بأن يقول أحدكم: قد حلفت بالله على أن لا أفعله، وأريد أن أبر بيميني، بل افعلوا الخير، وكفروا عن أيمانكم. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها .. فليأتها، وليكفر عن يمينه". وقيل معناه: لا تجعلوا الله عرضة؛ أي: معروضًا ومذكورًا في أيمانكم، وحلفكم على أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ يعني: لا تكثروا الحلف بالله، وإن كنتم بارين متقين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجراءة عليه {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأيمانكم {عَلِيمٌ} بنياتكم، وختم الله سبحانه وتعالى (¬1) هذه الآية بهاتين الصفتين؛ لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف؛ لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح؛ إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم، كما قدم الحلف على الإرادة. 225 - {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} ولا يعاتبكم، أو لا يطالبكم بالتكفير {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}؛ أي: بما جرى على ألسنتكم من ألفاظ الإيمان من غير قصد الحلف كقول أحدكم: بلى والله، تارة، ولا والله، تارة أخرى، لا يقصد به اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} ويعاتبكم، أو يطالبكم بالتكفير {بِمَا كَسَبَتْ} وقصد به {قُلُوبُكُمْ} من ألفاظ الإيمان، وكسب القلب: هو العقد والنية. واختلف العلماء في معنى اللغو من اليمين: فقال الشافعي: هو ما سبق إليه اللسان من غير قصد اليمين، فلا إثم ولا كفارة له، بخلاف أبي حنيفة فيهما كقول القائل: لا والله، وبلى والله، من غير ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قصد ولا نية، ويعضده ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: نزل قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، بلى والله. أخرجه البخاري موقوفًا، ورفعه أبو داود. وقال أبو حنيفة ومالك: اللغو من اليمين: هو أن يحلف الرجل على شيء يرى أنه صادق، ثم يتبين له خلاف ذلك، فلا إثم فيه، ولا كفارة له عندهما بخلاف الشافعي فيهما. ومعنى الآية عند الشافعي: لا يؤاخذكم الله بغير المقصود لقلوبكم، وإنما يؤاخذكم بالمقصود لها، وعند أبي حنيفة ومالك لا يؤاخذكم باللغو؛ أي: بما حلفتم عليه معتقدين حقيقته بحيث يكون اللسان موافقًا للجنان ثم تبين خلافه، ولكن يؤاخذكم بما حلفتم عليه غير معتقدين حقيقته، وهي اليمين الغموس؛ أي: ولكن يؤاخذكم بما كسبته واقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب. ومذهب الشافعي: هو قول عائشة رضي الله عنهما والشعبي، وعكرمة، ومذهب أبي حنيفة: هو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومكحول. {وَاللهُ غَفُورٌ} لعباده فيما لغوا من أيمانهم {حَلِيمٌ} حيث لم يعجل العقوبة على يمين الجد تربصًا للتوبة، وجاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان. الإعراب {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {عَنِ الْخَمْرِ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان. {وَالْمَيْسِرِ}: معطوف على {الْخَمْرِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلتَ: {فِيهِمَا}:

جار ومجرور خبر مقدم. {إِثْمٌ}: مبتدأ. {كَبِيرٌ}: صفة لـ {إِثْمٌ}، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {وَمَنَافِعُ}: معطوف على {إثم}. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {منافع}؛ تقديره: كائنات للناس. {وَإِثْمُهُمَا} الواو: عاطفة. {إثمهما}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَكْبَرُ}: خبر. {مِنْ نَفْعِهِمَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَكْبَرُ}، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {وَيَسْأَلُونَكَ} الواو: عاطفة، {يسئلونك}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} على كونها مستأنفة. {مَاذَا يُنْفِقُونَ}: {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر، والجملة في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {سأل}؛ تقديره: يسألونك أي القدر الذي ينفقونه. {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ذا} الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: ينفقونه. {قُلِ الْعَفْوَ}: {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {الْعَفْوَ} - بالنصب على قراءة الجمهور -: مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: أنفقوا العفو، وبالرفع: خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو العفو، والجملة المحذوفة على كلا التقديرين في محل النصب مقول القول. وسبب اختلاف القراءتين (¬1) الاختلاف في إعراب {مَاذَا يُنْفِقُونَ}، فمن أعرب {مَاذَا} جميعهما اسم استفهام مركبًّا معمولًا لـ {ينفقون} .. فالجملة فعلية، فيكون جوابها كذلك، فقوله: {الْعَفْوَ} - بالنصب - معمول لمحذوف؛ تقديره: أنفقوا العفو، والجملة في محل النصب مقول القول؛ لأن القول لا ينصب إلا الجمل أو ما قام مقامها، ومن أعرب {ما} وحدها اسم استفهام مبتدأ، و {ذا} اسم موصول خبره، وجملة {ينُفِقُونَ} صلته، والجملة اسمية .. فيكون جوابها كذلك، فالعفوُ - بالرفع - خبر لمحذوف؛ تقديره: هو العفو، والجملة المحذوفة ¬

_ (¬1) الصاوي.

على كل حال مقول القول، وهذا هو الأحسن المناسب للسؤال، وإلا فيصح .. جعل السؤال جملة اسمية، والجواب فعلية، وبالعكس. انتهى. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: تبيينًا كائنًا كتبيين ما ذكر. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَكُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُبَيِّنُ} {الْآيَاتِ}: مفعول به. {لَعَلَّكُمْ}: حرف نصب وتعليل بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة {تَتَفَكَّرُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} من اسمها وخبرها في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة؛ تقديره: يبين لكم الآيات تبيينًا كائنًا كتبيين ما تقدم؛ لتفكركم واتعاظكم. {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَتَفَكَّرُونَ}. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الواو: عاطفة، {يسألونك}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ}. {عَنِ الْيَتَامَى}: جار ومجرور في محل النصب، مفعول ثان لـ {سأل}. {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِصْلَاحٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء وصفه بالجار والمجرور بعده، أو عمله في الجار والمجرور. {لَهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {إِصْلَاحٌ}، أو متعلق به. {خَيْرٌ}: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَإِنْ} الواو: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {تُخَالِطُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن}. {فَإِخْوَانُكُمْ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إخوانكم}: خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: فهم إخوانكم، والكاف مضاف إليه،

والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {وَاللَّهُ} الواو: عاطفة، {الله}: مبتدأ. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع بمعنى يعرف، والفاعل ضمير مستتر يعود على {الله}. {الْمُفْسِدَ}: مفعول به. {مِنَ الْمُصْلِحِ}: متعلق بـ {يَعْلَمُ}، وجملة {يَعْلَمُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} الواو: عاطفة. {لو}: حرف شرط غير جازم. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَأَعْنَتَكُمْ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {أعنتكم}: فعل ماض ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة جواب لولا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {إِنَّ اللَّهَ}: {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {عَزِيزٌ}: خبر أول لها. {حَكِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول القول، أو في محل الجر بـ (لام) التعليل المقدرة. {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. {وَلَا}: الواو: استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بلا الناهية، والجملة مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُؤْمِنَّ}: فعل مضارع في محل النصب بـ {أن} مضمرة بعد {حَتَّى} بمعنى (إلى) مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى إيمانهن، الجار والمجرور متعلق بـ {لا تنكحوا}. {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} الواو: اعتراضية، {اللام}: حرف ابتداء، {أمة}: مبتدأ. {مُؤْمِنَةٌ}: صفة له. {خَيْرٌ}: خبر له، وأفعل التفضيل ليس على بابه.

{مِنْ مُشْرِكَةٍ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الإسمية جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}: الواو: حالية، {لو}: حرف شرط بمعنى إن، {أعجبتكم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُشْرِكَةٍ}، وجواب {لو} محذوف؛ تقديره: ولو أعجبتكم فالمؤمنة خير، وجملة {لو} في محل النصب حال من {مُشْرِكَةٍ}، وسوَّغ مجيء الحال منها قصد الجنس، والتقدير: ولأمة مؤمنة خير من مشركة حال كونها قد أعجبتكم. وعبارة الكرخي (¬1): قوله {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} الواو: للحال؛ أي: ولأمة مؤمنة خير من مشركة حال كونها قد أعجبتكم، و {لو} هنا بمعنى إن، وكذا كل موضع وَلِيَها الفعل الماضي كقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} و"أعطوا السائل ولو جاء على فرس"، ويطرد حذف كان واسمها بعدها، والمعنى: وإن كانت المشركة تعجبكم فالمؤمنة خيرٌ. انتهت. {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}. {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة. {تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ {لا} الناهية، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: المؤمناتِ، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المضمرة بعد {حَتَّى}، وأن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}؛ تقديره: إلى إيمانهم، الجار والمجرور متعلق بـ {لا تنكحوا}. {وَلَعَبْدٌ}: {الواو} استئنافية، {اللام}: حرف ابتداء، {عبد}: مبتدأ. {مُؤْمِنٌ}: صفة له. {خَيْرٌ}: خبر له، واسم التفضيل ليس على بابه. {مِنْ مُشْرِكٍ}: متعلق بخبر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَلَوْ} الواو: حالية، {لو}: حرف شرط بمعنى {إن}. {أَعْجَبَكُمْ}: فعل ماضٍ ومفعول به، وجواب {لو} محذوف؛ تقديره: ولو أعجبكم فلا تزوجوه، وجملة {لو} في محل النصب حال من {مُشْرِكٍ}؛ ¬

_ (¬1) الجمل.

تقديره: ولعبد مؤمن خير من مشرك حال كونه قد أعجبكم، فهذه الجملة موافقة لجملة قوله. {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} في الإعراب والمعنى. {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، فاسم الإشارة هنا واقع على كل من الإناث والذكور؛ لأنه يصلح لهما، كما قال ابن مالك: وَبِـ (أُوْلَى) أَشِرْ لِجَمْعٍ مُطْلَقَا ... وَالْمَدُّ أَوْلَى وَلَدَى الْبُعْدِ انْطِقَا {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، وجملة {يَدْعُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة {أُولَئِكَ يَدْعُونَ} في محل الجر بـ (لام) التعليل المقدرة؛ لأنها معللة لقوله {وَلَأَمَةٌ ...} إلخ، وقوله: {... وَلَعَبْدٌ} إلخ. {إِلَى النَّارِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَدْعُون}. {وَاللَّهُ} الواو: عاطفة، {الله}: مبتدأ. {يَدْعُو}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، وجملة {يَدْعُو} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله {أُولَئِكَ يَدْعُونَ}. {إِلَى الْجَنَّةِ}: متعلق بـ {يَدْعُو}. {وَالْمَغْفِرَةِ} معطوف على {الْجَنَّةِ}. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَدْعُو}، أو حال من {الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} هذا على قراءة جر {المغفرِة}، وأما على قراءة الرفع الشاذة، فـ {المغفرةُ}: مبتدأ، والجار والمجرور خبره؛ تقديره: والمغفرة حاصلة بإذنه. {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. {وَيُبَيِّنُ}: الواو: عاطفة، {يبين}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَدْعُو}. {آيَاتِهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يبين}. {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف نصب وتعليل، والهاء اسمها، وجملة {يَتَذَكَّرُونَ}: خبرها. وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.

{وَيَسْأَلُونَكَ}: الواو: عاطفة، {يسألونك}: فعل وفاعل ومفعول أول. {عَنِ الْمَحِيضِ}: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف في محل النصب مفعول ثان لـ {سأل}، والجملة معطوفة على جملة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} إلى قوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هُوَ}: مبتدأ. {أَذًى}: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. {فَاعْتَزِلُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {اعتزلوا النساء}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {هُوَ أَذًى} على كونها مقول القول. {فِي الْمَحِيضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اعتزلوا}. {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لا} نافية. {تَقْرَبُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَاعْتَزِلُوا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَطْهُرْنَ}: فعل مضارع في محل النصب بـ {أن} المضمرة مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}؛ تقديره: إلى طهارتهن، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقْرَبُوهُنَّ}. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}. هذا تصريح بمفهوم الغاية، {فَإِذَا}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم النهي عن قربانهن إلى طهارتهن، وأردتم بيان حكم القربان بعد الطهارة .. فأقول لكم: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان خافضة لشرطها منصوبة بجوابها، والظرف متعلق بالجواب. {تَطَهَّرْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَأْتُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {أتوهن}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة في محل النصب مقول القول لـ {قُلْ}. {مِنْ}: حرف جر. {حَيْثُ}:

ظرف مكان في محل الجر بـ {أتوهن}، الجار والمجرور متعلق بـ {أتوهن}. {أَمَرَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها جملة معترضة في محل النصب مقول {قُلْ}؛ لاعتراضها بين المبيَّن وهو: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}، وبين البيان وهو {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} على كونها خبرًا لـ {إِنَّ}. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ}: مبتدأ ومضاف إليه وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، وهذه الجملة سيقت لبيان قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {حَرْثٌ}؛ تقديره: حرث كائن لكم. {فَأْتُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {ائتوا حرثكم}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {أَنَّى}: اسم شرط جازم لتعميم الأحوال بمعنى كيف في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {شِئْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {أَنَّى} على كونه فعل الشرط لها، وجواب الشرط محذوف؛ تقديره: أنى شئتم فأتوه، وجملة {أَنَّى} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول القول. {وَقَدِّمُوا}: الواو: عاطفة {قدموا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {أَنَّى شِئْتُمْ} على كونها مقول القول. {لِأَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قدموا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

{وَاتَّقُوا}: الواو: عاطفة، {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {وَاعْلَمُوا}: الواو: عاطفة، {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {وَاتَّقُوا} على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {أَنَّكُمْ}: {أن}: حرف نصب ومصدر، والكاف: اسمها. {مُلَاقُوهُ}: خبرها ومضاف إليه، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي {اعلم}؛ تقديره: واعلموا لقاءكم إياه. {وَبَشِّرِ} الواو: عاطفة أو استئنافية، {بشر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {قُلْ}، أو مستأنفة. {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول به منصوب بالياء. {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}. {وَلَا}: {الواو} استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {تَجْعَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {اللَّهَ}: لفظ الجلالة، مفعول أول. {عُرْضَةً}: مفعول ثان، والجملة مستأنفة. {لِأَيْمَانِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عُرْضَةً} أو بـ {تَجْعَلُوا}؛ لأن المعنى لا تجعلوا الحلف بالله عارضًا مانعًا لكم عن أيمانكم؛ أي: عن الأعمال الصالحة كما مر في التفسير والحل. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَبَرُّوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، والجملة من الفعل والفاعل صلة {أَنْ} و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من {أيمانكم} وعطف بيان عنه؛ تقديره: مانعًا لكم عن بركم وإحسانكم إلى الأرحام. {وَتَتَّقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَبَرُّوا}، وكذلك {تصلحوا} معطوف عليه على كونهما بدلًا، أو عطف بيان {لأيمانكم}؛ والتقدير: ومانعًا لكم عن تقواكم وإصلاحكم بين الناس. وقوله: {بَيْنَ النَّاسِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تصلحوا}. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية، {الله}: مبتدأ. {سَمِيعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}.

{لَا}: نافية. {يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِاللَّغْوِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُؤَاخِذُكُمُ}. {فِي أَيْمَانِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من اللغو، أو صفة له إن قلنا: إن أل فيه جنسية، فهو بمنزلة النكرة، أو متعلق باللغو؛ لأنه مصدر. {وَلَكِنْ}: الواو: عاطفة، {لكن} حرف استدراك، ولكن وقعت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين؛ لأنها لا تخلو: إما أن لا يعضدها القلب، بل جرت على اللسان وهي اللغو، وإما أن يعضدها وهي المنعقدة. {يُؤَاخِذُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ}. {بما}: {الباء}: حرف جر، {ما}: موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية في محل الجر بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤَاخِذُكُمْ}. {كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: بما كسبته قلوبكم. {وَاللَّهُ} الواو: استئنافية، {الله}: مبتدأ. {غَفُورٌ}: خبر أول. {حَلِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} والخمر في الأصل: مصدر خَمرتُ الإناء إذا غطيته بالغطاء، سمي الخمر بذلك؛ لأنه يغطي العقل ويستره. {وَالْمَيْسِرِ} في الأصل مصدر ميمي من يسر، كالموعد من وعد، يقال: يسرته إذا قهرته وغلبته، واشتقاقه: إما من اليسر؛ لأن فيه أخذ المال بسهولة ويسر بلا كد ولا تعب، وإما من اليسار بمعنى الغنى؛ لأنه سبب لتحصيل الغنى، أو لسلبه، وفي "المصباح": الميسر وزان مسجد، قمار العرب بالأزلام، يقال: منه يسر الرجل ييسر - من باب وعد - فهو ياسر، وبه سمي. {وَإِثْمُهُمَا} والإثم في الأصل مصدر أثِم يأثَم إثمًا ومأثمًا - من باب طرب إذا أذنب، والإثم - الذنب يجمع على آثام. {قُلِ الْعَفْوَ} والعفو في الأصل مصدر عفا يعفو عفوًا إذا سامح عن الإساءة، وهو هنا اسم للمال الفاضل عن الحاجة. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} العلم هنا بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد، وأتى بـ {من} لتضمنه

بمعنى التمييز؛ أي: يعلم من يفسد في أمورهم عند المخالطة، أو من يقصد بمخالطته الخيانة والإفساد مميزًا له ممن يصلح فيها، أو يقصد الإصلاح، فيجازي كلًّا منهما بعمله. {حَتَّى يُؤْمِنَّ} وأصله يؤمنن، فسكنت النون الأولى التي هي آخر الفعل؛ لدخول نون النسوة، ثم أدغمت الأولى في الثانية. {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} بضم التاء هنا وبفتحها في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}؛ لأن الأول: من نكح الثلاثي، وهو يتعدى إلى مفعول واحد، والثاني: من أنكح الرباعي، وهو يتعدى إلى الاثنين. الأول: في الآية {الْمُشْرِكِينَ} والثاني: محذوف، وهو المؤمنات. {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} اسم الإشارة راجع إلى المشركات والمشركين، ويدعون خبره، فمن حيث وقوعه على الذكور يكون الفعل مرفوعًا بالنون، والواو فاعل، ويكون وزنه ينعون، أصله يدعوون بواوين، فحذفت أولاهما وهي لام الكلمة، ومن حيث وقوعه على الإناث يكون الفعل مبنيًّا على السكون، وتكون النون نون النسوة، وتكون {الواو} حرفًا هي لام الكلمة، ووزنه يفعلن. {عَنِ الْمَحِيضِ} المحيض: مصدر ميمي يصلح للحديث والزمان والمكان، والحيض في اللغة السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال ماؤه، وشرعًا عند الفقهاء: دم جبلة يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة. {قُلْ هُوَ أَذًى} وفي "المصباح": أذي الشيء يَأذي أذىً - من باب تعب - إذا قذر. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وأصل ائتوا: ائتيوا بوزن اضربوا، فالهمزة الأولى همزة وصل أُتيَ بها للابتداء بالساكن، والثانية فاء الكلمة اجتمع همزتان، فقلبت ثانيتهما ياء على حد إيمان وبابه، واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت، فسكنت الياء وبعدها واو الضمير ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء قبلها للتجانس، فوزن ائتوا افعوا، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداء أما في الدرج: فإنها يستغنى عنها، وتعود الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لأنها إنما قلبت لأجل الكسر الذي كان قبلها، وقد زال.

{عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} عرضة فُعلة بمعنى المفعول، كالقبضة والغرفة؛ بمعنى المقبوض والمغروف، تطلق على ما يعرض دون الشيء، فيصير حاجزًا عنه. {بِاللَّغْوِ} واللغو مصدر لغا يلغو، يقال: لغا يلغو لغوًا، مثل غزا يغزو غزوًا، ولغى يلغى لغيًا، مثل يلقى لقيًا. وفي "الخازن": اللغو: كل ساقط مطروح من الكلام وما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، واللغو في اليمين: هو الذي لا عقد ولا قصد معه، كقول الإنسان لا والله، وبلى والله. البلاغة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}: فيه إيجاز بالحذف؛ أي: يسألونك عن شرب الخمر وتعاطي الميسر؛ أي: أيحل ذلك أم لا؟ {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} هذا من باب التفصيل بعد الإجمال، وهو ما يسمى عند أهل المعاني بالإطناب. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ}: فيه تشبيه مرسل مجمل. {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن قبله {ويسألونك} فالواو ضمير الغائبين، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وتعلق العلم بالمفسد أولًا؛ ليقع الإمساك عن الإفساد، ومن متعلقه بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن كان المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح. وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم؛ لأن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح، ولأنه لما قيل: {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح ومقابله، ولا يخفى ما في الآية من الطباق بين كلمة المفسد والمصلح، وهو من المحسنات البديعية. {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ}: تعليل للنهي عن مواصلة المشركات، وترغيب في مواصلة المؤمنات، وصدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة

في الحمل على الانزجار. {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} من المعلوم أن المغفرة قبل دخول الجنة، ولذلك قدمت في غير هذه الآية: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} وإنما قدمت الجنة هنا تقديمًا للمقابل؛ لتكمل وتظهر المقابلة؛ لأن النار يقابلها الجنة، ولا يخفى ما في الآية من الطباق بين كلمة النار وكلمة الجنة. {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} كناية عن الجماع {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} هذا تصريح بمفهوم الغاية، والتصريح له، وإن علم مما قبله لمزيد العناية بأمر التطهر. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} جملة معترضة بين المبين وهو قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وبين البيان وهو قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ونكتة هذا الاعتراض: الترغيب فيما أمروا به، والتنفير عما نهوا عنه، وقدم الذي أذنب على الذي لم يذنب؛ لكيلا يقنط التائب من الرحمة، ولئلا يعجب المتطهر بنفسه كما في آية {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}؛ أي: كالأرض التي تُحرث ليوضع فيها البذر، فشبه النساء بالأرض التي تحرث، وشبه النطفة بالبذر الذي يوضع في تلك الأرض، وشبه الولد بالزرع الذي ينبت من الأرض، فهو من باب التشبيه البليغ، وأنشد ثعلب: إِنَّمَا الأَرْحَامُ أَرْضُوْ ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتْ فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيْهَا ... وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتْ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} كناية عن الوطء، وجاء {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} نكرة؛ لأنه الأصل في الخبر، وجاء {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} معرفة؛ لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق واختصاصًا بما أضيف إليه، ونظير ذلك أن تقول: زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك؛ لأن القاعدة عند البلغاء إذا تقدمت نكرة، وأعيدت بلفظها .. فلا بد أن يكون معرفة، إما بالألف واللام كقوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}، وإما

بالإضافة كما هنا، كما قال السيوطي في "عقود الجمان": ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَةْ ... إِذَا أَتَت نَكِرَةً مُكَرَّرَةْ تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِي ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ وفي قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} مع ما فيه من تلوين الخطاب، وجعل المبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المبالغة في تشريف المؤمنين ما لا يخفى. وقال أبو حيان (¬1): وفي قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تنبيه على الوصف الذي به يتقى الله، ويقدم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان، وفي أمره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتبشير تأنيس عظيم، ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم} في هذا الكلام حذف؛ تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، فحذف لدلالة ما قبله عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}. المناسبة قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه تقدم شيء من أحكام النساء، وشيء من أحكام الإيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين. قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جدًّا؛ لأنه حكم غالب من أحكام النساء؛ لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائمًا، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء، فناسب ذكرها بعقبها. قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...} مناسبتها لما قبلها ظاهرة: وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي، وكانوا يطلقون، ويراجعون من غير حد ولا عد .. بين في هذه الآية أنه مرتان، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يملك المراجعة إذا طلقها، ثم يملكها إذا طلق، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها. قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان .. اقتضى ذلك أن من الإحسان أن لا يأخذ الزوج من امرأته شيئًا مما أعطاها. أسباب النزول قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ...} عن ابن عباس (¬1) - رضي الله عنهما - قال: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئًا فأبت أن تعطيه .. حلف لا يقربها السنة والسنتين والثلاث، فيدعها لا أيِّما ولا ذات بعل، فلما كان الإِسلام .. جعل الله ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية، وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية فكان الرجل لا يريد امرأته، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدًا فيتركها لا أيِّما ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإِسلام، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ...}. قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ...} الآية، أخرج (¬2) أبو داود وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله العدة للطلاق بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...} الآية، أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة وإن طلقها مئة مرة وأكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همتْ عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة، فأخبرت ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) لباب النقول.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسكت حتى نزل قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ...}. قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ...} أخرج أبو داود في "الناسخ والمنسوخ" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يأكل مال امرأته من نحله الذي نحلها وغيره، ولا يرى أن عليه جناحًا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ...} والآية. قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ...} الآية، أخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا مال، ولكني أكره الكفر في الإِسلام - قال أبو عبد الله: يعني تبغضه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" قولها ما أعتب عليه: تعني، ما أجد عليه، والحديقة: البستان من النخل. قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ...} الآية، أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقًا بائنًا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنه طلقني قبل أن يمسني، فأرجع إلى الأول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى يمس" ونزل فيها: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فيجامعها، فإن طلقها بعد ما جامعها، فلا جناح عليهما أن يتراجعا. وأخرج الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " قالت: نعم، قال: "حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".

[226]

التفسير وأوجه القراءة 226 - {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} قرأ عبد الله شذوذًا: {للذين آلوا} بلفظ الماضي، وقرأ أبي وابن عباس شذوذًا: {للذين يقسمون}؛ أي: للذين يحلفون أن يبتعدوا {مِنْ نِسَائِهِمْ} وحلائلهم ولا يجامعوهن مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر كما تقرر في الفروع {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}؛ أي: انتظارهن في أربعة أشهر؛ أي: للمولي حق التلبث والانتظار في هذه المدة، فلا يطالب بفيئة ولا طلاق؛ أي: جعل الله الأجل في ذلك أربعة أشهر، فإذا مضت هذه المدة .. فإما أن يطلق، وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعًا .. طلق عليه الحاكم طلقة واحدة، ولها النفقة والكسوة في تلك المدة؛ لأن الامتناع من قبله، وتحسب تلك المدة من يوم الحلف إن كانت صريحة في ترك الوطء، ومن يوم الرفع للحاكم إن لم تكن صريحة، فالإيلاء: لغة مطلق الحلف؛ لأنه مصدر آلى يولي إيلاء إذا حلف، وشرعًا: الحلف بالله أو بغيره، كالعتق والنذر على ترك وطء الزوجة المدخول بها المطيقة للوطء مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر. {فَإِنْ فَاءُوا} قرأ عبد الله: {فإن فاءوا فيهن} وقرأ أبيّ شذوذًا: {فإن فاؤوا فيها}؛ أي: فإن رجع المولون عما حلفوا عليه من ترك جماعهن؛ بأن جامعوا قبل مضي أربعة أشهر، وحينئذ يلزمهم ما يترتب على الحنث من كفارة إن كان اليمين بالله، أو العتق مثلًا إن كان به. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} ليمينهم إن تابوا بفعل الكفارة، أو ما تعرض بالإيلاء من ضرار المرأة بالفيئة التي هي كالتوبة {رَحِيمٌ} بهم حيث بيَّن كفارتهم. 227 - {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} قرأ ابن عباس شذوذًا: {وإن عزموا السراح}؛ أي: وإن جزموا نية الطلاق، وقصدوا إيقاعه بأن تركوا الفيئة إلى مضي المدة، وجواب الشرط محذوف؛ تقديره: فليوقعوه {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لإيلائهم {عَلِيمٌ} بنياتهم، فليس لهم بعد التربص إلا الفيئة أو الطلاق، فإن بَرَّ المولي يمينه وترك مجامعة امرأته حتى يتجاوز أربعة أشهر .. بانت منه امرأته بتطليقة واحدة، وإن جامعها قبل ذلك .. فعليه كفارة اليمين، كما قاله ابن عباس، كما ذكرناه آنفًا، ففي قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} من الوعيد على الامتناع، وترك الفيئة ما لا يخفى.

[228]

228 - {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الحرائر المدخول بهن، الخاليات من حبال أزواجهن، ذوات الأقراء؛ لأن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} عام مخصوص بهذه القيود المذكورة، فخرجت الإماء، فعدتهن قُرْآن بالسنة، وغير المدخول بهن فلا عدة عليهن؛ لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} والحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن كما في سورة الطلاق، والآيسة والصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر، كما في سورة الطلاق أيضًا، والمطلقات جمع مطلقة؛ وهي التي أوقع عليها الزوج الطلاق؛ أي: والواجب في المطلقات المذكورة في عدتهن أن {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}؛ أي: أن ينتظرن ويتأخرن عن الزواج مدة ثلاثة أطهار على قول الشافعي ومالك، أو ثلاث حيض على قول أبي حنيفة وأحمد، ثم تتزوج إن شاءت بعد انتهاء عدتها، والباء في قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} يحتمل كونها زائدة في توكيد النون؛ أي: يتربصن أنفسهن، ويحتمل كونها للتعدية؛ أي: يتربصن بأنفسهن لا بأمر غيرهن، فلا دخل له في أمر العدة، والمراد: أنه لا تتوقف العدة على ضرب قاض بخلاف مدة العنّة، وقرأ الجمهور (¬1): {قروء} على وزن فعول، وقرأ الزهري {قروّ} بالتشديد من غير همز، وروي ذلك عن نافع، وقرأ الحسن {قَرْو} بفتح القاف وسكون الراء وواو خفيفة، وما عدا قراءة الجمهور شاذ. {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ}؛ أي: لا يجوز للمطلقات {أَنْ يَكْتُمْنَ} ويخفين {مَا خَلَقَ اللَّهُ} وأوجده {فِي أَرْحَامِهِنَّ} من الحبل أو الحيض؛ لأجل استعجال انقضاء العدة لإبطال حق الزوج من الرجعة، أو لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفيًا أو إثباتًا. والحاصل: أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، فإذا كتمت الحبل .. قصرت مدة عدتها، فتتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج، وأحبت التزوج بزوج آخر، أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وإذا كتمت الحيض .. فقد تحب تطويل عدتها؛ لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لبطل رجعته، ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الحيض في بعض الأوقات. {إِنْ كُنَّ} تلك المطلقات {يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ} ورسوله {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وجواب الشرط محذوف، فلا يحل لهن ذلك الكتمان، ولا يجترئن عليه، وهذا وعيد شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب أداء الأمانة بالإخبار عما في الرحم من الحيض والحبل. والمعنى: أن هذا من فعل المؤمنات، وإن كانت المؤمنة والكافرة فيه سواء، كقولك: أدِّ حقي إن كنت مؤمنًا؛ يعني: أن أداء الحقوق من أفعال المؤمنين. {وَبُعُولَتُهُنَّ}؛ أي: أزواج تلك المطلقات، والبعولة جمع بعل، سمي الزوج بعلًا؛ لقيامه بأمر زوجته، وأصل البعل السيد والمالك {أَحَقُّ} وأولى {بِرَدِّهِنَّ}؛ أي: بمراجعتهن ولو أبين {فِي ذَلِكَ}؛ أي: في زمن ذلك التربص الذي أمرن أن يتربصن فيه، وهو زمن الأقراء الثلاثة، فلا حق لغيرهم في ردهن ورجعتهن، فأفعل التفضيل ليس على بابه، فكأنه قال: وبعولتهن حقيقون بردهن، وقرأ مسلمة بن محارب {وبعولتهن} بسكون التاء، فرارًا من ثقل توالي الحركات، وقرأ أبي {بردتهن} بالتاء بعد الدال {إِنْ أَرَادُوا}؛ أي: إن أراد الأزواج بالرجعة {إِصْلَاحًا} لما بينهم وبينهن، وإحسانًا إليهن بحسن المعاشرة، لا الإضرار بهن، وذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يراجعون ويريدون بذلك الإضرار، فنهى الله المؤمنين عن مثل ذلك، وأمرهم بالإصلاح وحسن العشرة بعد الرجعة {وَلَهُنَّ}؛ أي: وللزوجات على الأزواج من الحقوق {مِثْلُ الَّذِي} لهم {عَلَيْهِنَّ} من الحقوق {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا؛ أي: على الوجه الذي أمر الله تعالى به من حسن العشرة، وترك الضرار؛ يعني: يجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والمهر وحسن العشرة، وترك الضرار، كما يجب للأزواج عليهن امتثال أمرهم، ونهيهم في الاستمتاعات والخدمة، فالمماثلة تكون في وجوب ما يفعله الرجل من ذلك ووجوب امتثال المرأة أمره ونهيه، لا في جنس الواجب على كل منهما؛ لأنه مختلف. وذلك: أن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يراعي حق الآخر فيما له وعليه، فيجب على الزوج أن يقوم بجميع حقوقها ومصالحها،

ويجب على الزوجة الانقياد والطاعة له. روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه ذكر خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وقال فيها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك .. فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". ومعنى بالمعروف (¬1)؛ أي: بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفًا له، بل يقابل كل منهما صاحبه بما يليق به. وقال ابن جرير (¬2): اختلف أصحابنا - يعني: أصحاب مالك - هل على الزوجة أن تطالب بغير الوطء أم لا؟ فقال بعضهم: ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء، وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة مثلًا .. فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال .. فعليها أن تفرش الفراش ونحوه، وإن كانت من نساء الكرد والدينم في بلدهن .. كلفت ما تكلفه نسائهم. وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن نساء الصحابة كن يكلفن الطحن والخبيز والطبيخ، وفرش الفراش، وتقريب الطعام، وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصّرن في ذلك. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}؛ أي: ولكن للأزواج على الزوجات فضيلة ومزية في الحق؛ أي: فعليهن مزيد إكرام واحترام وتعظيم لرجالهن؛ بسبب كونه رجلًا يقالب الشدائد والأهوال، ويسعى دائمًا في مصالح زوجته، ويكفيها تعب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[229]

الاكتساب، فبإزاء ذلك صار عليهن درجة، فللرجل في مبالغة الطوعية، وفيما يفضي إلى الاستراحة عندها. وقيل (¬1): إن فضيلة الرجال عن النساء بأمور منها: العقل، والشهادة، والميراث، والدية، وصلاحية الإمامة، والقضاء، وللرجل أن يتزوج عليها ويتسرى، وليس لها ذلك، وبيد الرجل الطلاق، فهو قادر على تطليقها، وإذا طلقها رجعية .. فهو قادر على رجعتها، وليس شيء من ذلك بيدها. روى البغوي بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل رضي الله عنه خرج في غزاة بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، ثم رجع فرأى رجالًا يسجد بعضهم لبعض، فذكر، ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد .. لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". {وَاللَّهُ عَزِيزٌ}؛ أي: غالب يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه {حَكِيمٌ} في جميع أفعاله وأحكامه، وفيما حكم بين الزوجين. وإنما (¬2) ختم الآية بهذين الاسمين؛ لأنه لما تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ}، والنهي في قوله {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ}، والجواز في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ}، والوجوب في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ}، ناسب وصفه تعالى بالعزة، وهو القهر والغلبة، وهي تناسب التكليف، وناسب وصفه بالحكمة، وهي إتقان الأشياء، ووضعها على ما ينبغي، وهي تناسب التكليف أيضًا. 229 - {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}؛ أي (¬3): عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج على زوجاتهم إذا كن مدخولًا بهن هو مرتان، أي: الطلقة الأولى والثانية؛ إذ لا رجعة بعد الثالثة، وقيل: معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، ولذلك قالت الحنفية: الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة، وإنما قال سبحانه وتعالى: {مَرَّتَانِ} ولم يقل: طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية، إلا أحد أمرين: إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك لها واستدامة نكاحها وعدم إيقاع الثالثة عليها. قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف؛ أي: بما هو معروف في الشرع من أداء حقوق النكاح، وحسن المعاشرة. {أَوْ تَسْرِيحٌ}؛ أي: أو إرسال لها بإيقاع طلقة ثالثة عليها {بِإِحْسَانٍ}؛ أي؛ من غير إضرار لها؛ بأن يؤدي إليها جميع حقوقها المالية، ولا يذكرها بسوء بعد المفارقة، ولا ينفر الناس عنها. وقيل المراد: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: برجعة بعد الطلقة الثانية {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}؛ أي: بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها، والأول أظهر، وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثًا أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم؛ وهو الحق. انتهى. من "الشوكاني". فائدة: قال الفخر الرازي: الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري: هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه .. فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجعة .. لعظمت المشقة على الإنسان؛ إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة .. أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده. فوائد تتعلق بأحكام الطلاق الأولى: صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاث: الطلاق والفراق والسراح، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط. الثانية: الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها .. فله مراجعتها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإذا لم يراجعها حتى انقضت

عدتها، أو طلقها قبل الدخول بها، أو خالعها .. فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها. الثالثة: العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين، واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حرًّا، فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين، فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة، فالعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث تطليقات، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين. {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} أيها (¬1) الأزواج أو الحكام؛ لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهما الآخذون والمؤتون، والأول أظهر {أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ}؛ أي: أعطيتموهن من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها {شَيْئًا} قليلًا فضلًا عن الكثير؛ لأنه استمتع بها في مقابلة ما أعطاها، وتنكير {شَيْئًا} للتحقير؛ أي: شيئًا حقيرًا، وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه، مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئًا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر؛ لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحل له .. كان ما عداه ممنوعًا منه بالأَولى. ثم استثنى الخلع، فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا}؛ أي: الزوجان، وقرىء {يظنا}، وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن؛ أي: إلا أن يعلم الزوج والمرأة من أنفسهما عند الخلع {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ}؛ أي: عدم إقامة حدود الله التي حدها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة. وقرأ حمزة: {إلا أن يُخافا} على البناء للمجهول فـ {أَلَّا يُقِيمَا} بدل اشتمال ¬

_ (¬1) النسفي.

من الضمير فيه، والتقدير: إلا أن يخافا عدم إقامتهما حدود الله، وأصل (¬1) الكلام على هذه القراءة إلا أن يخاف ولاة الأمور الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، فالولاة فاعل، والرجل مفعول به، والمرأة معطوف عليه، و {أَلَّا يُقِيمَا}: بدل اشتمال من المفعول الذي هو الرجل والمرأة، فحذف الفاعل، وبني الفعل لما لم يسم فاعله، وأتى بدل المفعول به الظاهر بضمير التثنية، وبقي {أَلَّا يُقِيمَا} بدل اشتمال على حاله، لكن من الضمير الذي صار نائب الفاعل، فهذا التركيب على حد {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} تأمل. وقرىء شاذًا بالفوقانية في الفعلين مفتوحة في الأول، مضمومة في الثاني مع بنائهما للفاعل، وعلى هذه القراءة: فلا التفات في الكلام {فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكام، وجاز أن يكون أول الخطاب للأزواج، وآخره للحكام؛ يعني: فإن خشيتم وأشفقتم {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ}؛ أي: ما أوجب الله على كل منهما من طاعته فيما أمر به من حسن الصحبة والمعاشرة. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}؛ أي: لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج، فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور: إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف، وهو الذي صرح به القرآن، وقد تقدم لك أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وفي شأن جميلة بنت عبد الله بن أبي، اشترت نفسها من زوجها بمهرها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت: "خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها"، ففعل، فكان ذلك أول خلع في الإِسلام. ثم الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن كما قريء شاذًا {إلا أن يظنا} والخوف: إما أن يكون من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو ¬

_ (¬1) الجمل.

[230]

من قبلهما معًا، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما، فإن كان الخوف من قبل المرأة بأن تكون ناشزة مبغضة للزوج .. فيحل له أخذ المال منها، وإن كان من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفداء .. فهذا المال حرام، كما إذا كان حاصلًا من قبلهما معًا، فذلك المال حرام أيضًا، وإن لم يحصل الخوف من قبل واحد منهما .. فقال أكثر المجتهدين: إن هذا الخلع جائز، والمال المأخوذ حلال، وقال قوم: إنه حرام. {تِلْكَ} الأحكام المذكورة من قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} إلى هنا {حُدُودُ اللهِ}؛ أي: ما حدد الله وشرعه، وبينه لعباده في النكاح واليمين والإيلاء والعدة والطلاق والخلع، وغير ذلك {فَلَا تَعْتَدُوهَا}؛ أي: فلا تجاوزوها بالمخالفة إلى ما نهى الله تعالى لكم عنه {وَمَنْ يَتَعَدَّ}؛ أي: يتجاوز {حُدُودَ اللهِ}؛ أي: أحكام الله إلى ما نهى الله عنه {فَأُولَئِكَ} المعتدون {هُمُ الظَّالِمُونَ} أنفسهم، والضارون لها بتعريضها لسخط الله، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه. 230 - ثم رجع إلى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}؛ أي: الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بعد الطلقتين، فكأنه قال: فإن (¬1) سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد الطلاق، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وغيرهم؛ أي: فإن وقع منه ذلك .. فقد حرمت عليه بالتثليث {فَلَا تَحِلُّ} تلك المطلقة {لَهُ}؛ أي: لمطلقها ثلاثًا {مِنْ بَعْدُ}؛ أي: من بعد التطليقة الثالثة {حَتَّى تَنْكِحَ}؛ أي: حتى تتزوج {زَوْجًا غَيْرَهُ}؛ أي: غير الأول بعد انقضاء عدتها من الأول، ويطأها الزوج الثاني، ويطلقها الثاني، وتنقضي عدتها من الثاني، وقد أخذ (¬2) بظاهر الآية سعيد بن المسيب ومن وافقه، فقالوا: يكفي مجرد العقد؛ لأنه المراد بقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا بد مع العقد من الوطء؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اعتبار ذلك، وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

وفي الآية: دليل على أنه لا بد أن يكون ذلك نكاحًا شرعيًّا مقصودًا لذاته، لا نكاحًا غير مقصود لذاته، بل حيلة للتحليل وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأول، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذم فاعله، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع، ولعن من اتخذه لذلك. واعلم: أن مذهب جمهور السلف والخلف أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لذلك المطلق إلا بخمس شرائط: تعتد منه، وتعقد للثاني ويطؤها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه. والحكمة في تشريع التحليل (¬1): الردع عن المسارعة إلى الطلاق، وعن العود إلى المطلقة ثلاثًا والرغبة فيها {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الزوج الثاني طلاقًا بائنًا، وانقضت عدتها منه {فَلَا جُنَاحَ}؛ أي: فلا إثم ولا حرج {عَلَيْهِمَا}؛ أي: على الزوج الأول والمرأة {أَنْ يَتَرَاجَعَا}؛ أي: أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بنكاح جديد ومهر {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}؛ أي: حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو تردد أو أحدهما ولم يحصل لهما الظن .. فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة لمعصية الله، والوقوع فيما حرمه على الزوجين. وأجمع أهل العلم (¬2) على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثًا، ثم انقضت عدتها، ونكحت زوجًا آخر ودخل بها، ثم فارقها وانقضت عدتها، ثم نكحها الزوج الأول .. أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. {وَتِلْكَ} الأحكام المذكورة من النكاح وغيره {حُدُودُ اللَّهِ}؛ أي: أحكام شرعه {يُبَيِّنُهَا} وقرىء {نبينها} بالنون على طريق الالتفات؛ أي: يوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أنها من الله ويصدقون بها وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم وغيره ووجوب التبليغ لكل فرد؛ لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور، أما من ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الشوكاني.

لا يعلم .. فهو أعمى لا يبصر شيئًا من الآيات ولا يتضح له {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}. الإعراب {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {يُؤْلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ نِسَائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُؤْلُونَ}. {تَرَبُّصُ}: مبتدأ مؤخر وهو مضاف. {أَرْبَعَةِ}: مضاف إليه وهو مضاف. {أَشْهُرٍ}: مضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {فَإِنْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفت حكم الإيلاء، وأردت بيان حكم ما إذا فاؤوا .. فأقول لك: إن فاءوا. {إن}: حرف شرط جازم. {فَاءُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل الشرط لها. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا، {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنْ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {وَإِنْ} الواو: عاطفة، {إن}: حرف شرط. {عَزَمُوا الطَّلَاقَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية، {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {سَمِيعٌ}: خبر أول لها. {عَلِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إنْ} على كونها جواب شرط لها، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. {وَالْمُطَلَّقَاتُ}: الواو: استئنافية، {المطلقات}: مبتدأ. {يَتَرَبَّصْنَ}: فعل وفاعل. {بِأَنْفُسِهِنَّ} {الباء}: زائدة في التوكيد. {أَنْفُسِهِنَّ}: مؤكد لنون الفاعل ومضاف إليه، والجملة خبر المبتدأ؛ تقديره: والمطلقات متربصات هن أنفسهن، والجملة مستأنفة. {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} مفعول به ومضاف إليه. {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لَا}: نافية. {يَحِلُّ}: فعل مضارع. {لَهُنَّ}: جار ومجرور متعلق به. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَكْتُمْنَ}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: ولا يحل لهن كتمانهن، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {يَتَرَبَّصْنَ}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {خَلَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: ما خلقه الله. {فِي أَرْحَامِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَقَ}. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {كُنَّ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم على كونه فعل شرط لـ {إنَّ}. {يُؤْمِنَّ}: فعل وفاعل في محل النصب على كونه خبرًا لـ {كان}؛ تقديره: إن كن مؤمنات بالله. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يؤمن}، {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة. {الْآخِرِ}: صفة لليوم، وجواب {إن} معلوم مما قبله؛ تقديره: إن كن يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وجملة {إن} الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. {وَبُعُولَتُهُنَّ}: الواو: استئنافية، {بعولتهن}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَحَقُّ}: خبر، وصح الإخبار بالمفرد عن الجمع؛ لأن الخبر اسم تفضيل، والجملة

مستأنفة. {بِرَدِّهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَحَقُّ}. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {ردهن}. {إِنْ}: حرف شرط. {أَرَادُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل الشرط. {إِصْلَاحًا}: مفعول به، وجواب {إنْ} معلوم مما قبله؛ تقديره: فهم أحق بردهن، وجملة {إِنْ} الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {وَلَهُنَّ}: الواو: استئنافية، {لهن}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِثْلُ}: مبتدأ مؤخر، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم الخبر الظرفي عليه، أو تخصصه بالإضافة، والجملة مستأنفة، وهو مضاف. {الَّذِي}: مضاف إليه. {عَلَيْهِنَّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول. {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور (¬1) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به {لهن} أي: استقر ذلك بالمعروف، ويجوز أن يكون في موضع رفع صفة لـ {مِثْلُ}؛ لأنه لا يتعرف بالإضافة. {وَلِلرِّجَالِ}: الواو: عاطفة، {للرجال}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَلَيْهِنَّ}: جار ومجرور (¬2) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به {للرجال}، ويجوز أن يكون في موضع نصب حالًا من {دَرَجَةٌ}؛ والتقدير: درجة كائنة عليهن، فلما قدم وصف النكرة عليها .. صار حالًا. {دَرَجَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية. {اللَّهُ}: مبتدأ. {عَزِيزٌ}: خبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. {الطَّلَاقُ}: مبتدأ، وهو على حذف مضاف؛ تقديره: عدد الطلاق الذي تملك بعده الرجعة؛ ليصح الإخبار. {مَرَّتَانِ}: خبر، والجملة مستأنفة. {فَإِمْسَاكٌ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم عدد الطلاق الذي تملك بعده الرجعة، وأردتم بيان مالكم بعد المرتين .. ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) العكبري.

فأقول لكم: عليكم إمساك بمعروف، {إمساك}: مبتدأ مؤخر، وخبره محذوف مقدر قبله؛ ليصح الابتداء بالنكرة؛ تقديره: عليكم إمساكهن. {بِمَعْرُوفٍ}: جار ومجرور صفة لـ {إمساك}، أو متعلق به، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {أَوْ تَسْرِيحٌ}: معطوف على {إمساك}. {بِإِحْسَانٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {تَسْرِيحٌ}، أو متعلق به. {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}. {وَلَا}: الواو: استئنافية. {لا}: نافية. {يَحِلُّ}: فعل مضارع {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَأْخُذُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن، وصلة لها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية؛ تقديره: ولا يحل لكم أخذكم. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأْخُذُوا}. {آتَيْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط المفعول الثاني المحذوف. {شَيْئًا}: مفعول به لـ {تَأْخُذُوا}. {إِلَّا أَنْ يَخَافَا}: {إِلَّا}: أداة (¬1) استثناء من مفعول له محذوف تقديره: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا بسبب من الأسباب إلا بسبب أن يخافا. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَخَافَا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة محذوف إليه؛ تقديره: إلا بسبب خوفهما، الجار والمجرور متعلق بـ {تأخذوا}. {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}: {أن}: حرف نصب ومصدر. لا: نافية. {يُقِيمَا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، وصلة لها. {حُدُودُ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: إلا بسبب خوفهما عدم إقامة حدود الله. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. {فَإِنْ خِفْتُمْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه لا يحل الأخذ منهن إلا في حالة الخوف، وأردتم بيان حكمه حينئذ هل معه جناح أم لا؟ فأقول لكم: {إن}: حرف شرط. {خِفْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل الشرط، {أن}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية. {يقيما}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، وصلة لها. {حُدُودُ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فإن خفتم عدم إقامتهما حدود الله. {فَلَا جُنَاحَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {لا}: نافية تعمل عمل {إن}. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِمَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: فلا جناح كائن عليهما، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به عليهما. {افْتَدَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على المرأة. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {فَلَا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا}: نافية. {تَعْتَدُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية. {وَمَنْ يَتَعَدَّ} الواو: استئنافية. {من}؛ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {يَتَعَدَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {حُدُودَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية. {أولئك}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الظَّالِمُونَ}: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة.

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم حكم الطلاق مرتين، وأردتم بيان حكم ما إذا طلق الثالثة .. فأقول لكم: {إن}: حرف شرط. {طَلَّقَهَا}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن}، وفاعله ضمير يعود على المطلق مرتين. {فَلَا تَحِلُّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية جوازًا، {لا}: نافية. {تَحِلُّ}: فعل مضارع مرفوع ليشاكل الجواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على المطلقة مرتين. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {تحل}، وكذا يتعلق به قوله: {مِنْ بَعْدُ} والجملة الفعلية في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {حَتَّى تَنْكِحَ}: {حتى}: حرف جر وغاية. {تَنْكِحَ}: منصوب بأن المضمرة بعد حتى، وفاعله ضمير يعود على المطلقة ثلاثًا {زَوْجًا}: مفعول به، {غَيْرَهُ}: بدل من {زَوْجًا} ومضاف إليه، وجملة {تَنْكِحَ} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى نكاحها زوجًا غيره، الجار والمجرور متعلق بـ {لا تحل}. {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}. {فإن}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم أنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وأردتم بيان حكم ما إذا نكحت زوجًا آخر .. فأقول لكم {إن طلقها}، {إن}: حرف شرط. {طَلَّقَهَا}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن}، وفاعله ضمير يعود على الزوج الثاني. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {لا}: نافية تعمل عمل إن. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها، {عَلَيْهِمَا}: جار ومجرور خبر {لا}، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَتَرَاجَعَا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} وصلة لها، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ تقديره: فلا جناح عليهما في تراجعهما، والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به

{عَلَيْهِمَا}. {إن}: حرف شرط. {ظَنَّا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُقِيمَا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} وصلة لها، وجملة {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن؛ تقديره: إن ظنا إقامتهما. {حُدُودَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، وجواب {إن} محذوف؛ تقديره: إن ظنا أن يقيما حدود الله .. فلا جناح عليهما في تراجعهما، وجملة {إن} الشرطية جملة غائية لا محل لها من الإعراب. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. {وَتِلْكَ} {الواو}: استئنافية، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {يُبَيِّنُهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر بعد خبر، أو في محل النصب حال من {حُدُودَ اللَّهِ}؛ أي: مبينة، والعامل فيها اسم الإشارة {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يبين}، وجملة {يَعْلَمُونَ} في محل الجر صفة لـ {قوم}؛ تقديره: لقوم عالمين؛ أي: فاهمين إياها. التصريف ومفردات اللغة {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} الإيلاء: مصدر آلى الرباعي، يولي إيلاء إذا حلف، فهو لغة: الحلف، وشرعا: حلف الزوج على أن لا يطأ زوجته مطلقًا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر. {تَرَبُّصُ} التربص: الانتظار والترقب، وهو مصدر تربص الخماسي، وهو مقلوب التبصر. {فَاءُوا} وهو من الأجوف المهموز، يقال: فاء يفيء فيأً إذا رجع، وسمي الظل بعد الزوال فيأً؛ لأنه رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق. {عَزَمُوا الطَّلَاقَ} العزم: ما يعقد عليه القلب ويصمم، يقال: عزم عليه يعزم عزمًا وعزيمةً وعزامًا إذا صمم عليه. {الطَّلَاقَ}: انحلال عقد النكاح، يقال: طلقت تطلق فهي طالق وطالقة،

ويقال: طَلُقت بضم اللام. حكاه أحمد بن يحيى، وأنكره الأخفش. {قُرُوءٍ} القرء: في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء المرأة حيضها وطهرها، والقرء فيه لغتان: الفتح ويجمع المفتوح على قُرُؤ وأقرء مثل فلس وفلوس وأفلس، والضم: ويجمع المضموم على أقراء مثل قفل وأقفال. {وَبُعُولَتُهُنَّ} البعولة: جمع بعل، فالتاء لتأنيث الجمع، وفي "المصباح" البعل: الزوج، يقال: بعل يبعل - من باب قتل - بعولةً إذا تزوج، والمرأة بعل أيضًا، وقد يقال فيها: بعلة بالهاء، كما يقال: زوجة تحقيقًا للتأنيث، والجمع البعولة، وفي "القاموس": أن بعل من باب منع، فيؤخذ منه مع كلام "المصباح"، أنه يأتي من باب قتل ومنع، ونص كلام "القاموس" والبعل الزوج، والجمع بعال وبعول وبعولة، والأنثى بعل وبعلة، بعل - كمنع - بعولةً صار بعلًا، والبعال: الجماع وملاعبة المرء أهله، والبعل أيضًا الملك، وبه سمي الصنم. {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وصيغة (¬1) التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة، والمرأة تأباها .. وجب إيثار قوله على قولها، وليس معناه أن لها حقًّا في الرجعة. {وَلِلرِّجَالِ}: جمع رجل، والرجل معروف، وهو مشتق من الرجلة، وهي القوة، يقال: رجل بين الرجولة والرجلة، وهو أرجل الرجلين؛ أي: أقواهما. {دَرَجَةٌ} الدرجة: المنزلة، يقال: درجت الشيء وأدرجته إذا طويته، وأدرجهم الله، فهو كطي الشيء منزلة منزلة، ومنه الدرجة التي يرتقى إليها. {إمساك}: مصدر أمسك الشيء إمساكًا إذا حبسه. {تَسْرِيحٌ}: مصدر سرح الرباعي، يقال: سرح الماشية تسريحًا إذا أرسلها لترعى، وسرح الشعر إذا خلص بعضه من بعض. البلاغة {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}: في إضافة المصدر إلى الظرف تجوز، والأصل ¬

_ (¬1) الجمل.

تربصهنّ في أربعة أشهر. {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: فيه من الوعيد والتهديد على الامتناع وترك الفيئة ما لا يخفى. {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}: هذا خبر بمعنى الأمر، والأصل: وليتربصن المطلقات، وإيراده خبرًا أبلغ من صريح الأمر؛ لإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإتيان به، فكأنهن امتثلن الأمر بالفعل، فهو يخبر عنه موجودًا، وبناؤه على المبتدأ مما زاده تأكيدًا. {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ}: ليس الغرض منه التقييد بالإيمان، بل للتغليظ وتهويل الأمر في نفوسهن حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضًا. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}: فيه من الإيجاز والإبداع ما لا يخفى على المتمكن في علوم البيان، فقد حذف شيئًا من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئًا في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل الكلام: ولهن على أزواجهن من الحقوق مثل الذي لأزواجهن عليهن من الحقوق، وفيه من المحسنات البديعية أيضًا الطباق بين {لهن} و {عليهن} وهو طباق بين حرفين. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}: وإيثار لفظ مرتان على لفظ ثنتان؛ للإيذان بأن حقهما أن يوقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة وإن أنت الرجعة ثابتة أيضًا، وبين لفظ {إمساك} ولفظ {تَسْرِيحٌ} طباق. {إِلَّا أَنْ يَخَافَا}: فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}: فيه وفيما بعده الإظهار في مقام الإضمار؛ لتربية المهابة وإدخال الروع في ذهن السامع. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: فيه قصر صفة على موصوف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}. المناسبة مناسبة الآيتين لما قبلهما ظاهرة؛ لأن الآيتين تتحدثان عن أحكام الطلاق وتنهيان عن الإيذاء والإضرار، وعن عضل الأولياء موليتهم عن نكاح مطلقها. أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ...} الآية. أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج عن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة .. راجعها، ثم طلقها مضارة، فأنزل الله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ...}. قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ...} أخرج ابن أبي عمر في مسنده، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق، ثم يقول: لعبت، فأنزل الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ...}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[231]

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ...} الآية، روى البخاري، وأبو داود، والترمذي وغيرهم عن معقل ابن يسار أنه زوج أخته رجلًا من المسلمين، فكانت عنده، ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، فخطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه وقال: أزوجك وأكرمك، وأخرجه ابن مردويه من طرق كثيرة. التفسير وأوجه القراءة 231 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} طلاقًا رجعيًّا {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}؛ أي: قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها، ولم تنقض؛ لأنه لو انقضت .. لم يكن للزوج إمساكها؛ لأنها ليست بزوجة، فلا سبيل له عليها، والأجل: هو الذي (¬1) ضربه الله للمعتدات من الأقراء والأشهر ووضع الحمل، وأضاف الأجل إليهن؛ لأنه أمس بهن، ولذا قيل: الطلاق للرجال، والعدة للنساء. {فَأَمْسِكُوهُنَّ}؛ أي: راجعوهن قبل انقضاء العدة {بِمَعْرُوفٍ} في الشرع؛ أي: بالقول وبالإشهاد على الرجعة، لا بالوطء كما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، أو بحسن الصحبة والمعاشرة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ}؛ أي: خلوهن واتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتها، وتبين فيملكن أنفسهن {بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: بأداء حقوقهن بلا تخاصم ولا تقابح ولا تشاتم {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ}؛ أي: لا تراجعوهن {ضِرَارًا}؛ أي: لأجل إضرارها بسوء العشرة، وتضييق النفقة وتطويل العدة، وأنتم لا حاجة لكم إليهن، أو حالة كونكم مضارين لهن بذلك، وهذا النهي (¬2) كالتوكيد لقوله أولًا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} نهاهم عن أن يكون الإمساك ضرارًا، وحكمة هذا النهي: أن الأمر في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يحصل لإمساكها مرة بمعروف هذا مدلول الأمر، ولا يتناول سائر الأوقات، وجاء بالنهي ليتناول سائر الأوقات ويعمها، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل الضرار، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة بخصوصها تعظيمًا لهذا المرتكب السيء الذي هو أعظم إيذاء للنساء حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر. {لِتَعْتَدُوا}؛ أي: لكي تظلموهن بتطويل العدة عليهن، أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمال، واللام متعلق بضرارًا؛ إذ المراد تقييده وتعليله، وقيل: غير ذلك كما سنبينه في بحث الإعراب. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الإمساك المؤدي إلى الضرار والعدوان {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}؛ أي: أضر بنفسه بمخالفة أمر الله، وتعريضها لعقاب الله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا} أيها الأزواج {آيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: أحكامه التي بينها بوحيه وتنزيله من أمره ونهيه وحلاله وحرامه {هُزُوًا}؛ أي: استهزاء ولعبًا؛ أي: مهزوءًا بها، ومتروكًا العمل بها بالإعراض عنها، والتهاون بالعمل بما فيها من قولهم لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت هازىء، كأنه نهى عن الهزء، وأراد به الأمر بضده؛ أي: جدوا (¬1) في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد أخذتموها هزوًا ولعبًا، فمن وجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله، ثم وصل إليه هذه الأحكام التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة .. فلا يتخذها هزوا، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد. وعن أبي هريرة (¬2) رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" أخرجه أبو داود والترمذي. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان الرجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنت لاعبًا، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله سبحانه: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب فهن جائزات عليه: الطلاق والنكاح والعتاق". ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الشوكاني.

[232]

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال. كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت، ويعتق ثم يقول: لعبت، فأنزل الله سبحانه: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طلق أو أعتق، فقال: لعبت .. فليس قوله بشيء يقع عليه فيلزمه". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق، فأنزل الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطلاق. وقرأ حمزة (¬1): {هزْءا} بإسكان الزاي، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمزة كما بين في علم القراءات، وهو من تخفيف فُعْل كعنق، وقرأ أيضًا: {هزُوا} بضم الزاي وإبدال الهمزة واوًا وذلك لأجل الضم، وقرأ الجمهور: {هُزُوءا} بضمتين وبالهمز، قيل: وهو الأصل. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: إنعامه عليكم بنعمة الإِسلام وبعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية؛ أي: فاشكروها واحفظوها بالامتثال وترك المخالفة. {و} واذكروا {ما أنزل} الله {عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ}؛ أي: القرآن {وَالْحِكْمَةِ}؛ أي: السنة التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنها لكم، وقيل المراد بالحكمة: مواعظ القرآن، وأفردهما بالذكر مع دخولهما في النعمة إظهارًا لشرفهما؛ أي: اشكروهما بالعمل بما فيهما حالة كونه {يَعِظُكُمْ بِهِ}؛ أي: يذكركم بما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة؛ أي: يأمركم وينهاكم به {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله بالامتثال فيما أمركم به، وترك المخالفة فيما نهاكم عنه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم ما أخفيتم من طاعة ومعصية في سر وعلن، فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون، فيؤاخذكم بأنواع العقاب، وهذا أبلغ وعد ووعيد. 232 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} والخطاب هنا في قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ}، وفي قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} إما للأزواج، والمعنى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حينئذ: وإذا طلقتم أيها الأزواج النساء، فبلغن أجلهن؛ أي: انقضت عدتهن .. فلا تعضلوهن؛ أي: لا تمنعوهن أيها الأزواج، وتسميتهم أزواجًا حينئذ بالنظر إلى ما كان من أن ينكحن ويتزوجن من يريدون من الرجال أن يتزوجوهن، فإن الأزواج قد يعضلون مطلقاتهم أن يتزوجن ظلمًا، وإما للأولياء فنسبة الطلاق إليهم باعتبار تسببهم فيه كما يقع كثيرًا أن الولي يطلب من الزوج طلاقها، والمعنى حينئذٍ: وإذا خلصتم أيها الأولياء النساء من أزواجهن بتطليقهن، فانقضت عدتهن .. فلا تمنعوهن أيها الأولياء من أن ينكحن الرجال الذين كانوا أزواجًا لهن، فتسميتهم أزواجًا باعتبار ما كان، والمراد ببلوغ أجلهن هنا: انقضاء عدتهن، وفي ما سبق مقاربة انقضائها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، وفي هذه (¬1) الآية حجة للشافعي ومن وافقه في أن المرأة لا تلي عقد النكاح، ولا تأذن فيه؛ إذ لو كانت تملك ذلك .. لم يكن عضل، ولا لنهي الولي عن العضل معنى. {إِذَا تَرَاضَوْا}؛ أي: إذا تراضى الخطاب والنساء {بَيْنَهُمْ} واتفقوا تراضيا ملتبسا {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا من عقد حلال، ومهر جائز، وذلك بأن يرضى كل منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه، والخطاب في قوله: {ذَلِكَ} للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل أحد؛ أي: ذلك المذكور من النهي عن العضل، أو من جميع الأحكام السابقة {يُوعَظُ بِهِ}؛ أي: يؤمر به ويمتثله؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أيها المكلفون. {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} خص المؤمن بالذكر؛ لأنه هو الذي يتعظ وينتفع بالوعظ. تنبيه: وإنما قال (¬2) هنا: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} وقال في الطلاق: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ لأنه لما كانت كاف ذلك لمجرد الخطاب لا محل لها من الإعراب .. جاز الاقتصار على الواحد كما هنا، كما في قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، وجاز الجمع نظرًا للمخاطبين كما في الطلاق، فإن قلتَ: لِمَ ذكر منكم هنا، وتركه ثَمَّ؟ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

قلتُ: لتركِ ذكر المخاطبين هنا في قوله: {ذَلِكَ} واكتفى بذكرهم ثَمَّ فيه. اهـ كرخي. {ذَلِكُمْ} الاتعاظ والعمل بمقتضاه، وهو ترك العضل {أَزْكَى}؛ أي: أصلح وأنفع لكم {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم وقلوبهن من العدواة والتهمة بسبب المحبة بينهما، وذلك أنهما إذا كان في قلب كل واحد منهما علاقة حب لم يؤمن عليهما، أو أزكى وأطهر؛ أي: أفضل لكم وأطيب عند الله، وعبارة أبي حيان: {ذَلِكُمْ}؛ أي: التمكين من النكاح {أَزْكَى} لمن هو بصدد العضل؛ لما له في امتثال أمر الله من الثواب {وَأَطْهَرُ} للزوجين؛ لما يخشى عليهما من الريبة إذا مُنعا من النكاح، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه صلاح أموركم {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك، فدعوا رأيكم، وهاتان الجملتان في قوة التعليل لما قبله. وعبارة (¬1) أبي السعود: والله يعلم ما فيه من الزكاة والطهر، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو الله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع التي من جملتها ما بيّنه لكم هنا، وأنتم لا تعلمونها، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى، ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون. انتهت. وعبارة (¬2) أبي حيان: والله يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كلٍّ منهما إلى الآخر، لذلك نهى الله تعالى عن العضل، قال ابن عباس: معناه أو يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب، أو يعلم بواطن الأمور ومآلها، وأنتم لا تعلمون ذلك، إنما تعلمون ما ظهر، أو يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها، ويكون المقصود بذلك تقرير الوعد والوعيد. انتهت. الإعراب {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط.

{وَإِذَا} {الواو}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَبَلَغْنَ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب. {بلغن}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {طَلَّقْتُمُ}. {أَجَلَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَأَمْسِكُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {أمسكوهن}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {بِمَعْرُوفٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أمسكوهن}. {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}: {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل {سَرِّحُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أمسكوهن} على كونها جوابًا لـ {إذا} {بِمَعْرُوفٍ}: متعلق بـ {سرحوهن}. {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا}: الواو: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تمسكوهن}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {أمسكوهن} على كونها جوابًا لـ {إذا}، وفائدة العطف هنا: توكيد المعطوف عليه. {ضِرَارًا}: مفعول لأجله، أو حال من الفاعل، ولكن بعد تأويله بمثشتق؛ تقديره: ولا تمسكوهن حالة كونكم مضارين. {لِتَعْتَدُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {تعتدوا}: فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة بعد لام كي جوازًا، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي؛ تقديره: لاعتدائكم وظلمكم إياهن، وهذه (¬1) اللام إن كان {ضِرَارًا} حالًا .. تعلقت به أو بـ {لا تمسكوهن}، وإن كان {ضِرَارًا} مفعولًا لأجله .. تعلقت اللام به، وكانت علة للعلة. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. {وَمَنْ} {الواو} استئنافية {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر فعل الشرط على الراجح. {يَفْعَلْ}: مضارع مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من} {ذَلِكَ} مفعول به. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {ظَلَمَ}: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {نَفْسَهُ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. {وَلَا} {الواو} عاطفة، أو استئنافية. {لا}: ناهية جازمة. {تَتَّخِذُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة، أو مستأنفة على الجملة التي قبلها. {آيَاتِ اللَّهِ}: مفعول أول ومضاف إليه. {هُزُوًا} مفعول ثان. {وَاذْكُرُوا}: الواو: استئنافية. {اذكروا}: فعل وفاعل {نِعْمَتَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {نعمة}؛ لأنه اسم مصدر لأنعم الرباعي، أو متعلق بمحذوف حال من {نِعْمَتَ} تقديره: حالة كونها كائنة عليكم. {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}. {وَمَا} الواو عاطفة. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوفة على {نِعْمَتَ اللَّهِ}. {أَنْزَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: أنزله {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أنزل}. {مِنَ الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الهاء المحذوفة من أنزل؛ تقديره: حالة كون ما أنزله كائنًا. {مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}: معطوف على {الْكِتَابِ}. {يَعِظُكُمْ بِهِ}: {يَعِظُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {به}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {أَنْزَلَ} العائد على الله تقديره: حالة كونه واعظًا إياكم به، ويجوز (¬1) أن يكون حالًا من {ما}، والعائد إليها الهاء في به، ويجوز أن تكون {ما} مبتدأ، و {يعظكم}: خبره. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {وَاتَّقُوا} {الواو} استئنافية. {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اتقوا} {أَنَّ}: ¬

_ (¬1) عكبري.

حرف نصب ومصدر وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عليم}، وهو خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا علم الله سبحانه وتعالى بكل شيء. {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. {وَإِذَا} الواو: عاطفة، أو استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب. {بلغن}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {طَلَّقْتُمُ}، {أَجَلَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب إذا جوازًا {لا}: ناهية جازمة، {تَعْضُلُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} التي قبلها، أو مستأنفة. {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}: {أن}: حرف نصب ومصدره {يَنْكِحْنَ}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن}. {أَزْوَاجَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف المتعلق بـ {لا تعضلوهن} تقديره فلا تعضلوهن من نكاحهن أزواجهن {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {تَرَاضَوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ {ينكحن}، أو بلا تعضلوهن. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تراضوا} {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره: تراضيًا كائنًا بالمعروف، أو متعلق بـ {تراضوا}. {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {يُوعَظُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة {بِهِ}: متعلق بـ {يُوعَظُ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَنْ} {مِنْكُمْ}: خطاب للمنتهين عن العضل

متعلق بـ {كان}، أو بمحذوف حال من الضمير المستكن في {يُؤْمِنُ}، وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلا هم، ذكره في "النهر" {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {من} {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يؤمن}، {وَالْيَوْمِ}: معطوف على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ}: صفة لليوم، وجملة {يُؤْمِنُ} في محل النصب خبر {كان} تقديره: من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، وجملة {كاَنَ} صلة {مَن} الموصولة، وجملة {يُوعَظُ} في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: ذلك متعظ به من كان منكم مؤمنًا بالله واليوم الآخر، والجملة الإسمية مستأنفة. {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ. {أَزْكَى}: خبر، والجملة مستأنفة {لَكُمْ} متعلق بـ {أَزْكَى}. {وَأَطْهَرُ} معطوف على أزكى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}. الواو: استئنافية. {الله} مبتدأ وجملة {يَعْلَمُ} خبره، والجملة مستأنفة. {وَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}. التصريف ومفردات اللغة {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} هو من باب فعَل يفعُل - بفتح العين في الماضي وضمه في المضارع - من باب قعد يقال: بلغ يبلغ بلوغًا وبلاغًا وبلغة، {ضِرَارًا} وهو مصدر ضار ضرارًا ومضارة - من باب فاعل - إذا أدخل عليه الضرر. {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: المنع، يقال: عضلها من الزواج يعضلها - بكسر الضاد وضمها - من بابي ضرب ونصر إذا منعها من الزواج، ويقال: دجاج معضل إذا احتبس بيضها. قاله الخليل، ويقال: أصله الضيق، ومنه عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم، وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم علاجه، وأعضل الأمر إذا اشتد وضاق. {إِذَا تَرَاضَوْا} أصله: إذا تراضيوا؛ لأنه من باب تفاعل الناقص كتراموا، تحرت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تراضو كتراموا.

{أَزْكَى لَكُمْ} الألف في أزكى مبدلة من واو؛ لأنه من زكا الزرع يزكو زكاةً إذا نما بكثرة وبركة. {أطهر} من طهر إذا تنزه عن الأدناس والمعاصي. البلاغة {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: قاربن انقضاء عدتهن، فهو من المجاز المرسل، أطلق فيه اسم الكل على الأكثر؛ لأنه لو انقضت العدة .. لما جاز إمساكها، والله تعالى يقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} هذا قد سبق، وأعاده اعتناء بشأنه، ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف، وتوضيح لمعناه، وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه من الإضرار. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} هو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن النعمة يراد بها نعم الله، والكتاب والحكمة من أفراد هذه النعم، هذا إن جعلنا النعمة اسمًا للمنعم به، وأما إن جعلناه مصدرًا بمعنى الإنعام .. فيكون العطف من المغاير؛ لأن النعمة حينئذ المراد بها الإنعام، والكتاب والحكمة من أفراد النعم، لا من أفراد الإنعام. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كرر لفظ الجلالة؛ لكونه من جملتين، فتكريره أفخم وترديده في النفوس أعظم، وبين كلمة {اعلموا} وكلمة {عَلِيمٌ} من المحسنات البديعية ما يسمى بجناس الاشتقاق. {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} يراد بأزواجهن المطلقين لهن، فهو من المجاز المرسل، والعلاقة اعتبار ما كان. وقد تضمنت (¬1) هاتان الآيتان ستة أنواع من ضروب الفصاحة والبلاغة من علم البيان: الأول: الطباق، وهو الطلاق والإمساك، فإنهما ضدان، والتسريح طباق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ثان؛ لأنه ضد الإمساك، والعلم وعدم العلم؛ لأن عدم العلم هو الجهل. الثاني: المقابلة في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} قابل المعروف بالضرار، والضرار منكر، فهذه مقابلة معنوية. الثالث: التكرار في قوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} كرر اللفظ لتغيير المعنيين، وهو غاية الفصاحة؛ إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين. الرابع: الالتفات في قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ثم التفت إلى الأولياء، فقال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}، وفي قوله: {ذَلِكَ} إذ كان خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم التفت إلى الجمع في قوله: {مِنْكُمْ}. الخامس: التقديم والتأخير، والتقدير: أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا. السادس: مخاطبة الواحد بلفظ الجمع؛ لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار أو في أخت جابر، وقيل: ابنته. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}. المناسبة قوله تعالى (¬1): {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر جملة من أحكام النكاح والطلاق والعدة والرجعة والعضل .. أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، وهو ما شرع من حكم الإرضاع ومدته، وحكم النفقة والكسوة على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله تعالى؛ لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلق الرجل زوجته، ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقامًا من الزوج وإيذاء له في ولده؛ لذلك وردت هذه الآيات: لندب الوالدات المطلقات إلى رعاية ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[233]

الأطفال والاهتمام بشأنهم، ثم أعقب ذلك ببيان حكم الفراق، بين الزوجين بالموت، وما يجب على المرأة من العدة فيه رعاية لحق الزوج، كما ذكر تعالى موضوع خطبة المرأة في حالة العدة، وموضوع استحقاق المرأة لنصف المهر، أو كاملة بعد الفراق أو الطلاق. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم ذكر عدة طلاق الحيض، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع، وكان في ضمنها قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}؛ أي: وارث المولود له .. ذكر عدة الوفاة؛ إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض. التفسير وأوجه القراءة 233 - {وَالْوَالِدَاتُ}؛ أي: الأمهات سواء كن مطلقات أو متزوجات {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وهذا خبر بمعنى الأمر؛ أي: ليرضعن أولادهن ندبًا عند استجماع (¬1) ثلاثة شروط: قدرة الأب على الاستئجار، ووجود غير الأم، وقبول الولد للبن الغير، ووجوبًا عند فقد واحد منها، كما يجب على كل أحد مواساة المضطر؛ لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها، ولكمال شفقتها عليه. ويدل على أنه لا يجب على الوالدة إرضاع الولد عند استجماع تلك الشروط قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولو وجب عليها الرضاع .. لما استحقت الأجرة، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. {حَوْلَيْنِ}؛ أي: عامين ظرف الرضاع {كَامِلَيْنِ}؛ أي: تامين صفة مؤكدة، وإنما أكده بكاملين؛ لأنه مما يتسامح فيه تقول: أقمت عند فلان حولين، وإن لم تستكملهما، فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان أربعة وعشرون شهرًا من غير نقص ولا زيادة، وهذا رد على أبي حنيفة في قوله: إن مدة الرضاع ثلاثون شهرًا، وعلى زفر في قوله: إن مدة الرضاع ثلاث سنين، وهذا التحديد بالحولين ¬

_ (¬1) الجمل.

ليس تحديد إيجاب، ويدل على ذلك قوله بعده: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}؛ أي: ذلك المذكور من الحولين لمن أراد إتمام الرضاعة الكاملة من الأبوين، فدل على أن إرضاع الحولين ليس حتمًا، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه، وليس فيما دون ذلك حد، وإنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به، فثبت أن المقصود من هذا التحديد قطع النزاع بين الزوجين في مقدار زمن الرضاعة، فقدر الله تعالى ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند التنازع. وقرأ مجاهد (¬1)، وابن محيصن {لمن أراد أن تتم} بفتح التاء، ورَفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من الرضاعة، وهي لغة، وروي عن مجاهد أنه قرأ: {الرضعة} وقرأ ابن عباس: {لمن أراد أن يكمل الرضاعة}، وما عدا قراءة الجمهور شاذ. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}؛ أي: على الأب الذي يولد لأجله وبسببه، وأثر (¬2) هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن، كأنهن إنما ولدن لهم فقط. قال بعضهم: وَإنَّمَا أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَللآبَاءِ أَبْنَاءُ وقيل (¬3): إن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولودًا على فراشه، فكأنه قال: إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرجل، وعلى فراشه .. وجب عليه رعاية مصالحه. {رِزْقُهُنَّ}؛ أي: طعامهن {وَكِسْوَتُهُنَّ}؛ أي: لباسهن لأجل الإرضاع إذا كن مطلقات من الأب طلاقًا بائنًا؛ لعدم بقاء علقة النكاح الموجبة لذلك، فلو لم ترضعهم الوالدات .. لم يجب، فإن كن زوجات أو رجعيات .. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الكشاف. (¬3) الخازن.

فالرزق والكسوة لحق الزوجية، ولهن أجرة الرضاع إن امتنعن منه وطلبن ما ذكر {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بما يتعارفه الناس من غير إسراف ولا تقتير {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} بالنفقة على الرضاع ولا تلزم {إِلَّا وُسْعَهَا}؛ أي: طاقتها وما يسعها وقدر ما أعطاها الله تعالى من المال. وقوله (¬1): {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تقييد لقوله {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه. وقيل: المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعي القصد، وقرأ أبو رجاء شذوذًا: {لا تكلف} - بفتح التاء؛ أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التائين. وفي هذه الآية (¬2): دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد؛ لعجزه وضعفه، ونسبه تعالى إلى الأم؛ لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع، وأجمع العلماء على أنه يجب على الأب نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم. {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}؛ أي: بأخذ ولدها منها بعد ما رضيت بما أعطي غيرها على الرضاع مع شدة محبتها له {وَلَا} يضار {مَوْلُودٌ لَهُ} وهو الأب {بِوَلَدِهِ}؛ أي: بطرح الولد عليه بعد إلف أمه، ولا يقبل ثدي غيرها مع أن الأب لا يمتنع عليها من الرزق والكسوة، فقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} راجع لقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} وقوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} راجع لقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} و {لا} في قوله: {لَا تُضَارَّ} يحتمل أن تكون نافية؛ فالفعل مرفوع على أنه بدل من {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ}، وأن تكون ناهية، فهو مجزوم. قوله: {لَا تُضَارَّ} قرأ (¬3) أبو عمرو، وابن كثير وجماعة، ورواه أبان عن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) القرطبي. (¬3) الشوكاني مع زيادة عن العكبري والجمل.

عاصم بالرفع على الخبر. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في المشهور عنه بفتح الراء المشددة على النهي، وعلى كل من القراءتين يحتمل أن يكون الفعل مبنيًّا للفاعل أو للمفعول، وأصله لا تُضارر، أو لا تَضارر بالبناء للفاعل أو المفعول، والباء في قوله: {بولدها} أو {بولده} سببية، والمعنى: لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو بأن تفرط في حفظ الولد، والقيام بما يحتاج إليه، أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين، فهذه أربع قراءات سبعية. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {لا تضارَر} على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {لا تضارْ} بإسكان الراء وتخفيفا، على أنه حذف الراء الثانية فرارًا من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وروي عنه الإسكان والتشديد، وجاز حينئذ الجمع بين الساكنين؛ إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، أو لأن مدة الألف تجري مجرى الحركة، فهاتان قراءتان شاذتان عن أبي جعفر المذكور. وقرأ الحسن، وابن عباس شذوذًا: {لا تضارِر} بكسر الراء الأولى، فجملة ما في هذه الكلمة من القراءات ثمانية، ويحتمل أن تكون الباء في قوله: {بِوَلَدِهِ} صلة لقوله: {تُضَارَّ} على أنه بمعنى تضر؛ أي: لا تضر والدة ولدها، ولا أب ولده، فتسيء تربيته، أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب، وتارة إلى الأم؛ لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل، وتقرير للجملة التي قبلها؛ أي: لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه، فلا تضاره بسبب ولده. {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}؛ أي (¬1): وعلى الصبي الذي هو وارث أبيه المتوفى مثل ما على الأب من النفقة والكسوة، فإنه إن كان له مال .. وجب أجر الرضاعة ¬

_ (¬1) المراح.

في ماله، وإن لم يكن له مال .. أجبرت أمه على الرضاعة، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان؛ وهو قول مالك والشافعي، وقيل: المراد من الوارث الباقي من الأبوين أخذًا من قوله: "اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا". وقيل (¬1): المراد بالوارث وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه؛ أي: فعلى هذا الوارث مثل ما كان على أب الصبي في حال حياته، واختلف في أي وارث هو؟ فقيل: هم عصبة الصبي كالجد والأخ والعم وابنه، وقيل: هو كل وارث له من الرجال والنساء، وبه قال أحمد، فيجبرون على نفقة الصبي كل على قدر سهمه منه، وقيل: هو من كان ذا رحم محرم منه، وبه قال أبو حنيفة لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك}. {فَإِنْ أَرَادَا}؛ أي: الوالدان، وقرىء شذوذًا: {فإن أراد} بلا ألف، {فِصَالًا}؛ أي: فطامًا للولد عن اللبن قبل تمام الحولين صادرًا {عَنْ تَرَاضٍ} واتفاق {مِنْهُمَا} لا من أحدههما فقط {وَتَشَاوُرٍ}؛ أي: مشاورة بينهما؛ أي: تدقيق النظر فيما يصلح للولد؛ أي: يشاوران أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد، والمشاورة استخراج الرأي بما فيه مصلحة {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}؛ أي: فلا حرج ولا إثم على الوالدين في الفطام قبل الحولين إذا لم يضر بالولد، وكما يجوز النقص عن الحولين عند اتفاق الأبوين عليه، كذلك تجوز الزيادة عليهما باتفاقهما {وَإِنْ أَرَدْتُمْ} أيها الآباء {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ}؛ أي: أن تطلبوا لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم، أو تعذر ذلك لعلة بهن من انقطاع لبن، أو غير ذلك أو أردن التزويج {فَلَا جُنَاحَ} ولا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} في ذلك الاسترضاع {إِذَا سَلَّمْتُمْ} إلى المراضع المستأجرات {مَا آتَيْتُمْ} بالمد على قراءة الجمهور؛ أي: ما أعطيتم؛ أي: سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه وإعطاءه لهن من الأجرة {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بطيب نفس وسرور ¬

_ (¬1) الخازن.

[234]

وموافقة، أو (¬1) بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن، أو حط بعض ما هو لهن من ذلك، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن عن التساهل بأمر الصبي، والتفريط في شأنه، فليس تسليم الأجرة شرطًا لصحة الإجارة، بل لتكون المرضعة طيبة النفس راضية، فيصير ذلك سببًا لصلاح حال الصبي، وللاحتياط في مصالحه. وقرأ ابن كثير وحده في المتواتر: {ما أتيتم} مقصورة الألف؛ أي: ما أتيتم وفعلتم به؛ أي: ما أردتم إتيانه وفعله، ومنه قول زهير: وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ وقيل المعنى: إذا سلمتم إلى أمهاتهم من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع، وروى شيبان عن عاصم: {ما أوتيتم} مبنيا للمفعول؛ أي: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ونحوها. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله فيما فرض عليكم من الحقوق، وفيما أوجب عليكم لأولادكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا تخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها، فإنه تعالى يراها ويعلمها، فيجازيكم عليها، ولما تقدم (¬2) أمر ونهي .. أمر بتقوى الله تعالى، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقًا بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم، ولا منعة مما يفعل بهم .. حذر وهدى بقوله: {وَاعْلَمُوا}، وأتى بالصفة التي هي {بَصِيرٌ} مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه. 234 - {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} قرأ الجمهور بضم الياء مبنيًّا للمفعول؛ أي: يتوفاهم الله ويموتون، وقرأ علي، والمفضل عن عاصم: {يَتوفون} بفتح الياء مبنيًّا للفاعل؛ أي: يستوفون آجالهم، وهو مبتدأ، ولكنه على حذف مضاف؛ ليصح الإخبار عنه بما بعده؛ أي: وأزواج الذين يموتون من رجالكم {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

أي: يتركون زوجات حرائر حائلات سواء كانت مدخولًا بها أو غيرها، وسواء كانت من ذوات الأقراء أو آيسة أو صغيرة، ولو كانت زوجة صبي، لعموم الآية الكريمة لهن. {يَتَرَبَّصْنَ}؛ أي: ينتظرون ويتصبرن عن النكاح بعد وفاتهم {بِأَنْفُسِهِنَّ}؛ أي: أنفسهن، فالباء زائدة ومدخولها توكيد للنون، أو سببية؛ أي: بسبب أنفسهن لا بسبب ضرب قاضٍ كما تقدم نظيره {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} من الليالي أن يمكثن أربعة أشهر وعشرة أيام من وفاة أزواجهن، إحدادًا على أزواجهن وعدة لوفاتهم، وهذه العدة سببها الوفاة عند الأكثرين، لا العلم بالوفاة كما قال به بعضهم، فلو انقضت المدة أو أكثرها، ثم بلغ المرأة خبر وفاة زوجها .. وجب أن تعتد بما انقضى، والدليل على ذلك: أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة. أما الحوامل: فعدتهن بوفع الأحمال بآية سورة الطلاق، والأمة على النصف من ذلك بالسنة، وإنما قال: {عَشْرًا} بلفظ التأنيث؛ لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلّبوا الليالي حتى إن أحدهم ليقول: صمت عشرًا من الشهر؛ لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام .. قالوا: صمنا عشرة أيام. والحكمة في جعل عدة الوفاة هذا المقدار: أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشرًا؛ لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة، فتتأخر حركته قليلًا، ولا تتأخر عن هذا الأجل. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}؛ أي: انقضت عدتهن {فَلَا جُنَاحَ}؛ أي: لا حرج ولا إثم {عليكم} يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة والحكام، أو أيها المسلمون {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}؛ أي: في تركهن على ما فعلن في أنفسهن من التزين والتطيب، والنقلة من المسكن، والتعرض للخطاب، وغير ذلك مما حرم عليهن في زمن العدة؛ لأجل وجوب الإحداد عليهن حال كونهن ملتبسات {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بما يحسن عقلًا وشرعًا، ومفهومه أنهن لو خرجن عن المعروف شرعًا بأن تبرجن،

[235]

وبالغن في الزينة، أو تزوجن في مدة العدة .. فإنه يحرم على الأولياء إقرارهن على ذلك {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخير والشر {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم بباطنه كظاهره، فيجازيكم عليه. فائدة: ويجب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وهو ترك الزينة والطيب، ودهن الرأس بكل الدهن والكحل المطيب، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة لرمد .. فيرخص لها فيه، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: تكتحل به بالليل، وتمسحه بالنهار. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا". وروى الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كُسْتِ أظَفَارٍ. تنبيه: وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت هذه الآية مقدمة في التلاوة، وسنذكر تمام الكلام عليه بعد في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم. 235 - {وَلَا جُنَاحَ}؛ أي: لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} أيها الرجال {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} ولوحتم وأشرتم {بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} المعتدات عن الوفاة، أو عن الطلاق البائن كقولكم لهن: إنك لجميلة ورب راغب فيك، ولعل الله أن ييسر لي امرأة صالحة، والتعريض وكذا التلويح: إفهام المقصود باللفظ الذي لم يوضع له حقيقة، ولا مجازًا كقول الفقير للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، والكناية: إفهام المقصود بذكر لوازمه وروادفه، كقولك للمضياف: كثير الرماد، والتصريح إفهام المقصود باللفظ الدال عليه حقيقة، والخِطبة - بكسر الخاء - طلب النكاح

والتماسه من المرأة أو الولي. {أَوْ} فيما {أَكْنَنْتُمْ} وسترتم به {فِي أَنْفُسِكُمْ} وقلوبكم من نكاحهن، إذا انقضت عدتهن، و {أو} هنا للإباحة أو للتخيير أو التفصيل أو الإبهام على المخاطب، أما التصريح بخطبتهن كقوله: أريد نكاحك .. فحرام مطلقًا، وأما الرجعيات: فيحرم التعريض والتصريح بخطبتهن {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} بقلوبكم ولا تصبرون على السكوت عنهن، وعن الرغبة فيهن؛ لأن شهوة النفس والتمني لا يخلو عنه أحد، وهذا كالتعليل لقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: وإنما أباح لكم التعريض؛ لعلمه بأنكم لا تصبرون عنهن، وقوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} استدراك على محذوف دل عليه قوله: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ}؛ تقديره: فاذكروا خطبتهن تعريضًا، ولكن لا تواعدوهن؛ أي: لا تذكروا خطبتهن سرًّا؛ أي: صريحًا بأن تذكروا صريح النكاح كقوله: أريد نكاحك، فالمراد بالسر: صريح الخطبة، وقيل: المراد بالسر: الجماع، والمعنى حينئذ: ولكن لا تواعدوهن بذكر الجماع، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: بأن يصف الخاطب نفسه لها بكثرة الجماع، كأن يقول لها: آتيك الأربعة والخمسة، وقيل: المراد بالسر النكاح، والمعنى حينئذ: ولكن لا تأخذوا ميثاقهن على النكاح؛ لكي لا ينكحن غيركم، كأن يقول لها: عاهديني أن لا تتزوجي غيري. {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} في الشرع، وهو أن تعرضوا لهن بالخطبة، ولا تصرحوا بها، أو المعنى: إلا أن تسارروهن بالقول غير المنكر شرعًا، كأن يعدها الخاطب في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدًا لذلك التعريض. {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}؛ أي: ولا تحققوا عقد النكاح، أو لا تجزموا ولا تقطعوا قصد عقد النكاح {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ}؛ أي: حتى تبلغ العدة المكتوبة المفروضة {أَجَلَهُ}؛ أي: آخرها ونهايتها، وصارت منقضية {وَاعْلَمُوا} أيها الرجال {أنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} وقلوبكم من العزم على ما نهيتم عنه {فَاحْذَرُوهُ}؛ أي: فخافوا عقابه بالاجتناب عن العزم على ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ

[236]

غَفُورٌ} لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى: {حَلِيمٌ} لا يعاجلكم بالعقوبة على ذنوبكم. 236 - {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: لا تبعة ولا مطالبة عليكم بالمهر، ولا ثقل عليكم بلزومه {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}؛ أي: إن لم تجامعوهن فـ {ما} شرطية بمعنى إن، وهو الأقعد من جعلها مصدرية، وقرأ حمزة والكسائي: بضم التاء وبالألف بعد الميم في جميع القرآن، فهو بمعنى الأول {أَوْ} ما لم {تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}؛ أي: أو لم تبينوا لهن صداقًا معينًا. وهذا في المفوضة، وهي رشيدة قالت لوليها: زوجني بلا مهر، فزوجها كذلك بأن نفى المهر أو سكت عنه، أو زوج بدون مهر المثل، أو بغير نقد البلد، فلا مهر لها؛ لخلو النكاح عن الوطء والفرض، ولكن لها المتعة كما سيأتي، أما الممسوسة - أي: الموطؤة - فلها كل المهر، وإن لم يفرض لها، وأما غير الممسوسة: فلها نصف المسمى إن فرض لها، وإن لم يفرض لها .. فلا مهر لها، بل تجب لها المتعة كما ذكره بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} معطوف على مقدر تقديره: فطلقوهن ومتعوهن؛ أي: أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به جبرًا لإيحاش الطلاق والمتعة والمتاع، وما يتبلغ به من الزاد، وتقديرها: مفوض إلى رأي الحاكم كما يدل عليه قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ}؛ أي: على الغني الذي في سعة من غناه {قَدَرُهُ}؛ أي: قدر إمكانه وطاقته، وهو بفتح الدال وكسرها قراءتان سبعيتان {وَعَلَى الْمُقْتِرِ}؛ أي: وعلى الفقير الذي في ضيق من فقره. {قَدَرُهُ}؛ أي: قدر إمكانه وطاقته، وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال، وقوله: {مَتَاعًا} مصدر مؤكد لعامله؛ أي: متعوهن تمتيعًا كائنًا {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بالوجه الذي تعرفه وتستحسنه الشريعة والمروءة من غير حيف ولا ظلم، ولا بخس ولا نقص، فلا يزاد على المقتر فوق طاقته، ولا ينقص من الموسع عن طاقته، وقوله: {حَقًّا} صفة ثانية لمتاعًا، أو مصدر مؤكد لعامله؛ أي: حق ذلك حقًّا، ووجب وجوبًا {عَلَى الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: متاعًا واجبًا على (¬1) المؤمنين الذين يحسنون إلى ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[237]

أنفسهم بالمسارعة إلى طاعة الله تعالى، أو إلى المطلقات بتمتيعهن؛ لأن المتعة بدل المهر، وسماهم محسنين قبل الفعل باعتبار المشارفة والقرب له ترغيبًا، وتحريضًا لهم على ذلك. قيل (¬1): نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أمتعتها؟ " قال: لم يكن عندي شيء قال: "متعها ولو بقلنسوات". واعلم: (¬2) أنه اختلف العلماء في المتعة، فقيل: واجبة نظرًا للأمر، ولقوله: {حَقًّا} وبه أخذ الشافعي، وقيل: مندوبة نظرًا لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} ولقوله: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وبه أخذ مالك. 237 - {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}؛ أي: طلقتم النساء {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}؛ أي: تجامعوهن {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}؛ أي: والحال أنكم سميتم لهن مهرًا مقدرًا معلومًا {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}؛ أي: فلهن نصف المهر المسمى ونصفه ساقط، وهذا في المطلقة بعد تسمية المهر، وقبل الدخول حكم الله لها بنصف المهر ولا عدة عليها، وقرأ ابن مسعود شذوذًا: {من قبل أن تجامعوهن} أخرجه عنه ابن جرير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وعاصم: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} بلا ألف، وقراءة حمزة والكسائي {تماسوهن} بالألف من المفاعلة. {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}؛ أي: إلا أن يسامحن المطلقات بإبراء حقها، فيسقط كل المهر، وأن والفعل في موضع النصب على الاستثناء؛ أي: فلهن نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من حقهن من نصف المهر، ويتركن لكم، فيسقط كل المهر حينئذ لا نصفه {أَوْ} إلا أن {يَعْفُوَ} ويسامح الزوج {الَّذِي بِيَدِهِ} وسلطنته {عُقْدَةُ النِّكَاحِ}؛ أي: عصمة النكاح وعقده؛ أي: يترك الزوج المالك لعقد النكاح وحله حقه من النصف الذي يعود إليه بالتشطير، ويبعث المهر لها كاملًا، فيثبت كل المهر حينئذ لا نصفه. ¬

_ (¬1) المراح والخازن. (¬2) الصاوي.

فرع لو مات أحد الزوجين بعد التسمية، وقبل المسيس .. فلها المهر كاملًا، وعليها العدة إن كان الزوج هو الميت {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} هذا خطاب للرجال والنساء جميعًا، وإنما غلب جانب التذكير؛ لأن الذكورة هي الأصل والتأنيث فرع عنها، والمعنى: وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى، وطيب النفس من عدم العفو الذي فيه التنصيف، وقيل: هو خطاب للزوج، والمعنى: وليعف الزوج، فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق، فهو أقرب للتقوى {وَأَنْ تَعْفُوا} قرأ الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ أبو نهيك والشعبي بالياء التحتية، فيكون الخطاب مع الرجال {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}؛ أي: ولا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض بأن يسلم الزوج المهر إليها بالكلية، أو تترك المرأة المهر بالكلية، حثهما جميعًا على الإحسان ومكارم الأخلاق. وقرأ الجمهور {وَلَا تَنْسَوُا} بضم الواو، وقرأ يحيى بن يعمر شذوذًا بكسرها، وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: (ولا تناسوا} والمعنى: أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الفضل والإحسان {بَصِيرٌ} لا يضيع فضلكم وإحسانكم، بل يجازيكم عليه، وإنما ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات؛ لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين؛ وهو أن يدفعن شطر ما قبضن، أو يكملون لهن الصداق هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات، ولما كان آخر قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ...} الآية. قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} مما يدرك بلطف وخفاء .. ختم ذلك بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} في ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعد جميل للمحسن، وحرمان لغير المحسن.

الإعراب {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. {وَالْوَالِدَاتُ}: مبتدأ. {يُرْضِعْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: والوالدات مرضعات، والجملة مستأنفة. {أَوْلَادَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه. {حَوْلَيْنِ}: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {يُرْضِعْنَ}. {كَامِلَيْنِ}: صفة لـ {حَوْلَيْنِ} مؤكدة له. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: ذلك المذكور من إرضاع حولين كائن لمن {أَرَادَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة {من} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل. {أَنْ يُتِمَّ}: {أن}: حرف مصدر. {يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}: فعل ومفعول منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على {من}، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: لمن أراد إتمام الرضاعة. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. {وَعَلَى} {الواو}: عاطفة. {على المولود}: جار ومجرور خبر مقدم. {لَهُ}: نائب فاعل لـ {المولود}. {رِزْقُهُنَّ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَالْوَالِدَاتُ}. {وَكِسْوَتُهُنَّ}: معطوف على {رِزْقُهُنَّ}. {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}، والعامل (¬1) فيها معنى الاستقرار في على، والتقدير: حالة كونهما ملتبسين بالمعروف. {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. {لَا}: نافية. {تُكَلَّفُ نَفْسٌ}. فعل ونائب فاعل، والجملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ}، وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}، أو في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأنها ¬

_ (¬1) العكبري.

علة لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}. {إِلَّا وُسْعَهَا}. {إلّا} أداة استثناء مفرغ. {وُسْعَهَا} (¬1): مفعول ثانٍ ومضاف إليه، وليس بمنصوب على الاستثناء؛ لأن {تُكَلَّفُ} يتعدى إلى مفعولين، ولو رفع الوسع هنا .. لم يجز؛ لأنه ليس ببدل. {لَا تُضَارَّ}: {لَا}: نافية، أو ناهية. {تُضَارَّ}: فعل مضارع مبني للمفعول، أو للفاعل مرفوع، أو مجزوم {وَالِدَةٌ}: نائب فاعل، أو فاعل، والجملة يجري فيها مثل ما جرى في قوله: {لَا تُكَلَّفُ}. {بِوَلَدِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تُضَارَّ}. {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ}: معطوف على {وَالِدَةٌ}. {بِوَلَدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تضار}. {وَعَلَى الْوَارِثِ}: الواو: عاطفة {على الوارث}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِثْلُ ذَلِكَ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}. {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن مدة الرضاع التام حولان كاملان، وأردت بيان حكم ما إذا أرادا النقص عنهما .. فأقول لك {إن}: حرف شرط جازم {أَرَادَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن}. {فِصَالًا}: مفعول به. {عَنْ تَرَاضٍ}: جار ومجرور صفة لـ {فِصَالًا} تقديره: فصالًا كائنًا عن تراضٍ منهما، أو متعلق بـ {أَرَادَا}. {مِنْهُمَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {تراض} تقديره: عن تراض كائن منهما. {وَتَشَاوُرٍ}: معطوف على {تَرَاضٍ} {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {لا}: نافية تعمل عمل {إن}، {جُنَاحَ} اسمها {عليهما}: خبرها، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. ¬

_ (¬1) العكبري.

{وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {أَرَدْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تَسْتَرْضِعُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {أَوْلَادَكُمْ}: مفعول أول ومضاف إليه، والمفعول الثاني محذوف؛ تقديره: مرافع، وجملة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: وإن أردتم استرضاع أولادكم {فَلَا جُنَاحَ}: {الفاء}: رابطة {لا}: نافية. {جُنَاحَ}: اسمها. {عَلَيْكُمْ}: خبرها، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا}. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {سَلَّمْتُمْ}: فعل وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها تقديره: فلا جناح عليكم وقت تسليمكم. {مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا} ويحتمل كونها شرطية وجوابها معلوم مما قبلها. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {آتَيْتُمْ}: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطى ينصب مفعولين، ومفعولاه محذوفان تقديره: ما أتيتموهن إياه. {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور متعلق بـ {سلمتم}، أو بـ {أتيتم}، أو بمحذوف حال من فاعل {سَلَّمْتُمْ}، أو من فاعل {آتَيْتُمْ} تقديره: متلبسين بالمعروف، وجملة {آتَيْتُمْ} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره إياه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. {وَاتَّقُوا} {الواو}: استئنافية. {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا} الواو: عاطفة. {اعْلَمُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَاتَّقُوا}. {أَنَّ اللَّهَ}: {أن}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بصير} الآتي. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تعملونه. {بَصِيرٌ}: خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر سادٍ مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا كون الله بصيرًا بما تعملون.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الذين}: مبتدأ، ولكنه على تقدير مضاف كما سبق تقديره: وأزواج الذين. {يُتَوَفَّوْنَ}: فعل مغيّر ونائب فاعل على قراءة الجمهور، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من ضمير الغائب تقديره: حال كونهم كائنين من رجالكم. {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. {وَيَذَرُونَ} الواو: عاطفة. {يذرون}: فعل وفاعل. {أَزْوَاجًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يُتَوَفَّوْنَ}. {يَتَرَبَّصْنَ}: فعل وفاعل، {بِأَنْفُسِهِنَّ}: {الباء}: زائدة. {أنفسهن}: توكيد لنون الفاعل، أو الباء سببية متعلقة بـ {يتربصن} كما مرت الإشارة إليه. {أَرْبَعَةَ}: منصوب على الظرفية، وهو مضاف. {أَشْهُرٍ}: مضاف إليه {وَعَشْرًا}: معطوف على {أَرْبَعَةَ}، وجملة {يَتَرَبَّصْنَ} في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا متربصات بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا، والجملة مستأنفة وفيه أوجه كثيرة من الإعراب، وهذا الذي ذكرناه أرجحها. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مدة تربصهن في العدة، وأردتم بيان حكم ما إذا انقضت المدة .. فأقول لكم. {إذا}: ظرف لما استقبل من الزمان. {بَلَغْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، والظرف متعلق بالجواب. {أَجَلَهُنَّ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {عَلَيْكُمْ}، {فَلَا جُنَاحَ}: {الفاء}: رابطة. {لا}: نافية. {جُنَاحَ}: اسمها. {عَلَيْكُمْ}: خبرها، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا}. {فَعَلْنَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط

محذوف تقديره: فيما فعلنه. {فِي أَنْفُسِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بفعلن {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرو حال من الضمير المحذوف من {فَعَلْنَ} تقديره: حال كون ما فعلنه متلبسًا بالمعروف. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية. {الله}. مبتدأ. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرٌ} الآتي {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. {خَبِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية. {لا}: نافية. {جُنَاحَ}: اسمها. {عَلَيْكُمْ}: خبرها، والجملة مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا}. {عَرَّضْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ} {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير {بِهِ}. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم {أَكْنَنْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {عَرَّضْتُمْ}. {فِي أَنْفُسِكُمْ}؛ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَكْنَنْتُمْ}. {عَلِمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَنَّكُمْ} {أن}: حرف نصب ومصدر {الكاف} اسمها. {سَتَذْكُرُونَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {أن} تقديره: أنكم ذاكرون إياهن، وجملة {أن} من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي {عَلِمَ}؛ تقديره: علم الله ذكركم إياهن. {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. {وَلَكِنْ} الواو: استئنافية. {لكن}: حرف استدراك {لَا}: نافية. {تُوَاعِدُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ {لا} الناهية. {سِرًّا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب استدرك بها عن محذوف تقديره: علم أنكم ستذكروهن فاذكروهن، ولكن لا تذكروا لهن صريح

الخطبة. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع. {أَنْ}: حرف نصب. {تَقُولُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} {قَوْلًا}: منصوب على المصدرية. {مَعْرُوفًا}: صفة له، وجملة {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر على الاستثناء تقديره: إلا قولكم قولًا معروفًا في الشرع، وهو التعريض. {وَلَا تَعْزِمُوا}: الواو: استئنافية {لا}: ناهية. {تَعْزِمُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {عُقْدَةَ}: مفعول به وهو مضاف. {النِّكَاحِ}: مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَبْلُغَ الْكِتَابُ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. {أَجَلَهُ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {يبلغ}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} بمعنى إلى تقديره، إلى بلوغ الكتاب أجله، الجار والمجرور متعلق بـ {لا تعزموا}. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. {وَاعْلَمُوا} الواو: استئنافية. {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {يَعْلَمُ}؛ لأنه بمعنى يعرف. {فِي أَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ {ما}، أو صفة لها، وجملة {يَعْلَمُ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا علم الله ما في أنفسكم. {فَاحْذَرُوهُ}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب، {احذروه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اعلموا}. {وَاعْلَمُوا}: الواو: عاطفة. {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}. {أَنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها {حَلِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا كون الله غفورًا رحيمًا. {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. {لا}: نافية. {جناح}: اسمها. {عَلَيْكُمْ}: خبرها، والجملة مستأنفة

{إن}: حرف شرط جازم. {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} معلوم مما قبلها تقديره: إن طلقتم النساء .. فلا جناح عليكم {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}، {ما}: شرطية بمعنى إن، {لَمْ}: حرف جزم ونفي {تَمَسُّوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لم}، والجملة في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {مَا} الشرطية معلوم من السياق أيضًا تقديره: إن لم تمسوهن .. فلا جناح عليكم إن طلقتموهن، وجعل {ما} شرطية قيدًا للشرط الأول أَوْلَى من جعلها مصدرية كما مر. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {تَفْرِضُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَمَسُّوهُنَّ}، {لَهُنَّ}: جار ومجرور متعلق به {فَرِيضَةً}: مفعول به. {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}. {وَمَتِّعُوهُنَّ} {الواو}: عاطفة. {متعوهن}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فطلقوهن ومتعوهن. {عَلَى الْمُوسِعِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {قَدَرُهُ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل والمفعول المطلق، أو حال من فاعل {متعوهن}، ولكن مع تقدير رابط تقديره: ومتعوهن حالة كون قدره كائنًا على الموسع منكم. {وَعَلَى الْمُقْتِرِ}: خبر مقدم، {قَدَرُهُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}. {مَتَاعًا}: مفعول مطلق منصوب بـ {متعوهن}، {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور صفة لـ {متاعًا} تقديره: متاعًا كائنًا بالمعروف. {حَقًّا}: صفة ثانية لـ {متاعا}، أو مصدر مؤكد عامله محذوف تقديره: حق ذلك التمتيع حقًّا. {عَلَى الْمُحْسِنِينَ}: جار ومجرور متعلق بالناصب للمصدر. {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية. {إن}: حرف شرط. {طَلَّقْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {طَلَّقْتُمُوهُنَّ}، أن: حرف نصب ومصدر. {تَمَسُّوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن}، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور

بإضافة الظرف إليه تقديره: من قبل مسكم إياهن. {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} الواو: حالية. {قد}: حرف تحقيق. {فَرَضْتُمْ}: فعل وفاعل. {لَهُنَّ}: جار ومجرور متعلق به {فَرِيضَةً}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {طَلَّقْتُمُوهُنَّ} تقديره: حالة كونكم فارضين لها فريضة. {فَنِصْفُ}: {الفاء}: رابطة، {نصف}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب عليكم نصف ما فرضتم، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {نصف}: مضاف. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {فَرَضْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: ما فرضتموه. {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع، {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يَعْفُونَ}: فعل مضارع في محل النصب بـ {أن} مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والواو فيه لام الكلمة لا واو الجماعة، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر، ولكن الكلام على حذف أمرين: حرف الجر ومضاف للمصدر، والتقدير: فنصف ما فرضتم إلا في حال عفوهن، أو عفو الزوج .. فلا تنصيف بل يجب الكل، أو يسقط الكل، فالاستثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف، وسقوطه ليس من جنس استحقاقهن له، وقيل (¬1): الاستثناء متصل على أنه استثناء من أعم الأحوال؛ أي: فنصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن، وعفو الذي بيده عقدة النكاح، ونظيره قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} لكن لا يصح على مذهب سيبويه أن تكون أن وصلتها حالًا، فتعين أن يكون منقطعًا. اهـ "كرخي". {أَوْ يَعْفُوَ}: {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {يَعْفُوَ}. فعل مضارع معطوف على {يَعْفُونَ}. {الَّذِي} فاعل. {بِيَدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {عُقْدَةُ النِّكَاحِ} مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية صلة الموصول، ¬

_ (¬1) الجمل.

والعائد ضمير {بِيَدِهِ}. {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. {وَأَنْ} الواو: استئنافية. {أن} حرف نصب ومصدر. {تَعْفُوا} فعل مضارع منصوب بحذف النون، والواو فاعل، والفعل مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء تقديره: وعفوكم. {أَقْرَبُ}: خبره. {لِلتَّقْوَى}: متعلق بـ {أقرب}، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ}: الواو: استئنافية، أو عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَنْسَوُا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {الْفَضْلَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة. {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {تنسوا}، أو حال من {الْفَضْلَ} تقديره: حال كونه كائنًا بينكم {إِنَّ اللَّهَ} {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد {اللَّهَ}: اسمها. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بصير}. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. {بَصِيرٌ}: خبر. {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأنها معللة لما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {يُرْضِعْنَ}: مضارع أرضعته أمه، وهو من مزيد الثلاثي، يقال: رضع يرضع رضعًا ورضاعًا ورضاعةً إذا مص الثدي لشرب لبنه، ويقال للئيم: راضع؛ وذلك لشدة بخله، لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب، فيطلب منه اللبن، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به. {حَوْلَيْنِ}: والحول السنة يجمع على أحوال، ويقال: أحول الشيء إذا مضى له حول. {وَكِسْوَتُهُنَّ}: والكسوة اللباس، يقال منه: كسا يكسو، وفعله يتعدى إلى مفعولين، تقول: كسوت زيدًا جبة. {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ}: هو مضارع كلف الرباعي، يقال: كلف يكلف تكليفًا،

والتكليف الإلزام. {وَعَلَى الْوَارِثِ}: الوارث معروف، يقال منه: ورِث يرث بكسر الراء في الماضي والمضارع وقياسها في المضارع الفتح، ويقال في فعله: أرث يرث إرثًا كما يقال: أنشده في ولده، والأصل الواو. {فِصَالًا}: مصدر فصله يفصله فصلًا وفصالًا إذا فطمه ومنعه عن ثدي أمه. {وَتَشَاوُرٍ}: هو مصدر تشاور من باب تفاعل الخماسي، والتشاور في اللغة: التأمل والإمعان للنظر واستخراج الرأي من قولهم: شرت العسل أشوره إذا اجتنيته، فكان كل واحد من المتشاورين أظهر ما في قلبه للآخر. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ}: مأخوذ من توفيت الدين إذا قبضته، يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته إذا أخذته وقبضته، والمعنى هنا: والذين يُقبضون؛ أي: نقبض أرواحهم. {وَيَذَرُونَ}: يذر معناه: يترك، ويستعمل منه الأمر، ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا اسم المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: خبير من صيغ المبالغة؛ لأنه على زنة فعيل، من خبرت الشيء إذا علمته، ولهذه المادة يرجع الخبر؛ لأنه الشيء المعلم به، والخبار: الأرض اللينة. {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} من التعريض، والتعريض: الإشارة والتلويح إلى الشيء من غير تصريح إظهار وكشف، وأصله: إمالة الكلام عن نهجه إلى عُرض منه - بضم العين - أي: جانب، وقد سبق لك الفرق بين التصريح والتعريض والكناية. {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} والخِطبة - بكسر الخاء كالقِعدة والجلسة -: ما يفعله الخاطب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل، فقيل: هي مأخوذة من الخطب؛ أي: الشأن الذي هو خطر؛ لما أنها شأن من الشؤون ونوع من الخطوب، وقيل: من الخطاب لأنها نوع مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة، وفي "السمين": والخطبة في الأصل مصدر بمعنى الخطب، والخطب: الحاجة، ثم خصت بالتماس النكاح؛ لأنه بعض الحاجات، يقال: ما خطبك؛ أي: شأنك اهـ.

{أَوْ أَكْنَنْتُمْ} يقال: أكنَّ في نفسه شيئًا؛ أي: أخفاه، وكنّ الشيء بثوب؛ أي: ستره به، فالهمزة في أكن للتفرقة بين الاستعمالين، كأشرقت وشرقت. {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} العقدة: في الحبل والغصن، يقال: عقدت الحبل والعهد، وأَعقدتُ العسلَ من العقد، وهو الشد، قال الراغب: العقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما. {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} والمقتر: المقل اسم فاعل من أقتر الرجل إذا أفقر، ويقال: قتر يقتر ويقتر قترًا وقترةً وقتارًا. {قَدَرُهُ} القدَر بالفتح والقدْر بالتسكين لغتان، وقد قرئ بهما في المتواتر، وقيل: القدْر بالتسكين: الطاقة، وبالتحريك المقدار. {مَتَاعًا}: اسم مصدر لمتّع الرباعي، والمصدر التمتيع، واسم المصدر يجري مجرى المصدر. {حَقًّا}: مصدر حق الشيء حقًّا إذا ثبت. {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} النصف: هو الجزء من اثنين على السواء، ويقال: بكسر النون وضمها، ونصيف، ومنه حديث: "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"؛ أي: نصفه، كما يقال: ثمن وثمين وعشر وعشير، ويقال: نصَفَ النهار ينصف ونصفَ الماء القدح، والإزار الساق، والغلام القرآن، وحكى الفراء في جميع هذا أنصف. {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فعل مسند إلى جماعة الإناث، فالواو فيه لام الكلمة، والنون ضمير النسوة، فوزنه يفعلن نظير يخرجن. فائدة: والفرق بين قولهم: الرجال يعفون، والنساء يعفون: أن قولهم: الرجال يعفون {الواو} فيه ضمير جماعة الذكور، وحذفت قبلها واو أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل يعفوون بوزن يخرجون فاستثقلت الضمة على {الواو} الأولى، فحذفت الضمة، فبقيت ساكنة وبعدها واو الضمير ساكنة أيضًا، فحذفت {الواو} الأولى؛ لئلا يلتقي ساكنان، فوزنه يفعون، والنون علامة الرفع، فإنه من الأمثلة الخمسة، وأن قولهم: النساء يعفون {الواو} فيه لام الفعل، والنون ضمير جماعة الإناث، والفعل معها مبني على السكون، لا يظهر للعامل فيه أثر، فوزنه يفعلن.

{أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وتاء التقوئ مبدلة من واو، وواوها مبدلة من ياء؛ لأنه من وقيت. البلاغة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}؛ أي: ليرضعن، فالآية خبر بمعنى الأمر أتى به بلفظ الخبر مبالغة في الحث على تحقيقه، كما مر نظيره في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}: فيه لطيفة، وهو: أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة .. ناسب أن يسلي بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق والكسوة لمرضعته. {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وإنما أتى بالجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النفي الذي هو {لا} للموضوع للاستقبال غالبًا؛ لأن تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيه مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع. وفي هذه الآية ضروب من البيان والبديع (¬1): منها: تلوين (¬2) الخطاب ومعدوله في قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} فإنه خبر معناه الأمر على قول الأكثر والتأكيد بـ {كَامِلَيْنِ}، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهم؛ لأنهن سبب توصل ذلك، والإيجاز في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، وتلوين الخطاب في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} فإنه خطاب للآباء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) التلوين: تغيير أسلوب الكلام إلى أسلوب آخر.

والأمهات، ثم قال: {إِذَا سَلَّمْتُمْ} وهو خطاب للآباء خاصة. ومنها: الحذف في قوله: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} التقدير: مراضع للأولاد، وفي قوله: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ذكر العزم للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح، فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل من باب أولى. قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ...} الآية، تضمنت هذه الآية ضروبًا من البديع (¬1): منها: معدول الخطاب: وهو أن الخطاب بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} عام، والمعنى على الخصوص. ومنها: النسخ: إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها: الاختصاص: وهو أن يخص عددًا، فلا يكون ذلك إلا لمعنى، وذلك في قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} كنى بالسر عن النكاح؛ وهي من أبلغ الكنايات. ومنها: التعريض في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}. ومنها: التهديد بقوله: {فَاحْذَرُوهُ}. ومنها: الزيادة في الوصف بقوله: {غَفُورٌ حَلِيمٌ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}. المناسبة قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...} الآية، والذي (¬1) يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء والإيلاء، والطلاق والرجعة والإرضاع، والنفقة والكسوة والعدد، والخطبة والمتعة والصداق والتشطير، وغير ذلك، وكانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلا لمن وفقه الله تعالى .. أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة العظمى بين الله وبين عبده، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين .. فلأن يؤمر بأداء حقوق الله تعالى أولى وأحق ولذلك جاء: فدين الله أحق أن يقضى، فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة حتى في حالة الخوف، فلا بد من أدائها رجالًا أو ركبانًا، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جدًّا لا بد معها من الصلاة .. فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى متى ذكر شيئًا من الأحكام التكليفية .. أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع، فيحمله ذلك على الانقياد، وترك العناد، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم، ثم أحياهم في الدنيا. وقيل: مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه تعالى لمّا ذكر {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} .. ذكر هذه القصة؛ لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر في الآية السابقة قصة الأمم الماضية وفرارهم من الموت .. ذكر هذه الآية مخاطبًا لهذه الأمة بالجهاد في سبيل الله، ومنبهًا لهم على أن لا يفروا من الموت كفرار أولئك، وتشجيعًا لهم وتثبيتا. قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله .. أثنى على من بذل شيئًا من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجًا على المؤمنين؛ إذ ليس فيه إلا بَذْلُ المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب.

أسباب النزول قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...} الآية، أخرج (¬1) أحمد والبخاري في "تاريخه" وأبو داود والبيهقي وابن جرير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ...}. وأخرج أحمد والنسائي، وابن جرير عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ...}. وأخرج الأئمة الستة وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، وكان الرجل يأمر أخاه بالحاجة، فأنزل الله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ...}. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ...} الآية، أخرج إسحاق بن راهويه في "تفسيره" عن مقاتل بن حبان: أن رجلًا من أهل الطائف قدم المدينة، وله أولاد رجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطى أولاده بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئًا غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول، وفيه نزلت: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ...} الآية. قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ...} الآية، أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزلت: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[238]

الله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}. قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ..} الآية، روى ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر قال: لما نزلت: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ...} إلى آخرها .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رب زد أمتي فنزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. التفسير وأوجه القراءة 238 - {حَافِظُوا}؛ أي: واظبوا وداوموا أيها المؤمنون {عَلَى} أداء {الصَّلَوَاتِ} الخمس في أوقاتها بأركانها وشروطها وسننها وآدابها، وهذه المحافظة التي هي المفاعلة تكون بين العبد والرب، كأنه قيل له: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة، وتكون أيضًا بين المصلي والصلاة، فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك {و} حافظوا على {الصلاة الوسطى}؛ أي: الفضلى، تأنيث الأوسط بمعنى الأفضل، وهي من الوسط الذي بمعنى الخيار، وليست من الوسط الذي معناه المتوسط، وأفردها بالذكر اهتمامًا بشأنها، لفضلها على غيرها كليلة القدر، فهي أفضل الليالي. وإنما أتى بهذه الآية في خلال ما يتعلق بالأزواج والأولاد تنبيهًا على أنه لا ينبغي للعبد أن يشتغل عن حقوق سيده بأمر الأزواج والأولاد. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. وقد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى على مذاهب: الأول: أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر؛ وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهم أجمعين. المذهب الثاني: أنها صلاة الظهر؛ وهو قول زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري، ورواية عن عائشة، وبه قال عبد الله بن شداد، وهو رواية عن أبي حنيفة.

والمذهب الثالث: أنها صلاة العصر وهو قول علي وابن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري، وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول أبي عبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر، وقال الترمذي: هو قول أكثر الصحابة فمن بعدهم، وقال الماوردي - من أصحاب الشافعية -: هذا مذهب الشافعي؛ لصحة الأحاديث فيه قال: إنما نص الشافعي على أنها الصبح؛ لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر، ومذهبه اتباع الحديث. ويدل على صحة هذا المذهب: ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب: - وفي رواية يوم الخندق - "ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وذكر نحوه، وزاد في أخرى "ثم صلاها بين المغرب والعشاء". أخرجاه في "الصحيحين" وفي مصحف عائشة وحفصة في قراءة تفسيرية شاذة: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر} وهذا هو المذهب الحق الراجح. والمذهب الرابع: أنها صلاة المغرب قاله قبيصة بن ذؤيب. والمذهب الخامس: أنها صلاة العشاء ولم ينقل عن أحد من السلف فيها شيء، وإنما ذكرها بعض المتأخرين. والمذهب السادس: أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، فأبهمها الله تعالى تحريضًا للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة. وإذا تقرر لك هذا (¬1)، وعرفت ما سقناه .. تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأما حجج بقية الأقوال: فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء، وبعض القائلين ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[239]

بها عول على أمر لا يعول عليه، فقال: إنها صلاة كذا؛ لأنها وسطى بالنسبة إلى أن ما قبلها كذا من الصلوات، وبعدها كذا من الصلوات، وهذا الرأي المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله، والتجري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى، فجاؤوا بما يضحك منه تارة، ويبكي منه أخرى. {وَقُومُوا} في الصلاة مخلصين {لِلَّهِ قَانِتِينَ}؛ أي: ساكنين فيها، ويدل لهذا المعنى حديث زيد بن أرقم في "الصحيحين" وغيرهما قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، وقيل: مطيعين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل قنوت في القرآن فهو طاعة". رواه أحمد وغيره، وقيل: ذاكرين، وقيل: داعين مواظبين على خدمة الله تعالى، وقد ذكر أهل العلم للقنوت ثلاثة عشر معنى، والمتعين هنا حمله على السكوت؛ للحديث المذكور. 239 - {فَإِنْ خِفْتُمْ} من عدو أو سبع مثلًا، ولم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود، والخضوع والخشوع؛ لخوف عدو أو غيره {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}؛ أي: فصلّوا حالة كونكم رجالًا؛ أي: ماشين على أرجلكم، أو حالة كونكم ركبانًا؛ أي: راكبين على دوابكم حيثما توجهتم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب. وصلاة الخوف قسمان: أحدهما: أن يكون في حال القتال؛ وهو المراد في هذه الآية. وقسم في غير حال القتال، وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في موضعه، وقرأ عكرمة وأبو مجلز {فرجالًا} بضم الراء وتشديد الجيم، وروي

[240]

عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء، وقرىء {فرُجَّلا} بضم الراء وفتح الجيم مشددة بغير ألف وقرىء: {فرَجْلا} بفتح الراء وسكون الجيم - وقرأ بديل بن ميسرة: {فرجالا فركبا} بالفاء جمع راكب وما عدا قراءة الجمهور شاذة: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}؛ أي: فإذا زال عنكم الخوف ورجاء الأمن، أو لم يكن أصلًا {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}؛ أي: فصلّوا الصلوات الخمس تامة بأركانها وشروطها وسننها، وعبر عن الصلاة بالذكر لاشتمالها {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}؛ أي: لأجل تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون قبل بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع. وكيفية الصلاة في حالتي الأمن والخوف، ففيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم، ولولا هدايته وتعليمه إيانا .. لم نعلم شيئًا، ولم نصل إلى معرفة شيء، فله الحمد على ذلك. فالأظهر جعل الكاف في الآية تعليلية، و {ما} مصدرية كما أشرنا إليه في الحل. 240 - ثم قال تعالى مبينا أحكام العدة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قرأ: {وَصِيَّةً} - بالنصب - أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم، والمعنى على هذا: والذين قاربوا الموت من رجالكم، ويتركون أزواجًا .. فليوصوا وصية لأزواجهم أن يمتعن بالنفقة والكسوة والسكنى إلى تمام الحول من موت الزوج حالة كونهن غير مخرجات من سكنهن، وقرأ: {وصيّة} بالرفع، وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي على أنه مبتدأ محذوف الخبر، والمعنى على هذا: والذين يقربون الوفاة من رجالكم، ويتركون أزواجًا .. فعليهم وصية لأزواجهم ما يمتعن به من النفقة والكسوة والسكنى إلى تمام الحول حالة كونهن غير مخرجات من سكنهن، وقرأ أبيّ شذوذًا {متاع لأزواجهم متاعًا إلى الحول}. {فَإِنْ خَرَجْنَ} عن منزل الأزواج باختيارهن قبل الحوف {فَلَا جُنَاحَ}؛ أي: فلا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}؛ أي: بسبب ما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب والتزين لهم {مِنْ مَعْرُوفٍ}؛ أي؛ مما هو معروف في الشرع غير منكر، وفي هذا دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول، وليس ذلك بحتم عليهن.

ولرفع الحرج عن الورثة وجهان (¬1): أحدهما: أنه لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والوجه الثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج؛ لأن مقامها في بيت زوجها حولًا غير واجب عليها، خيرها الله تعالى بين أن تقيم في بيت زوجها حولًا، ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى، ثم نسخ الله ذلك بأربعة أشهر وعشر. واعلم: أنه دلت هذه الآية على مجموع أمرين: أحدهما: أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة. والثاني: أن عليها عدة سنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والكسوة والسكنى: فنسخ بآية الميراث، فجعل لها الربع أو الثمن عوضًا عن النفقة والسكنى، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلتُ: قد تكون الآية المتقدمة متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول، كقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} مع قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}. فإن قلت (¬2): لِمَ نكَّر {مَعْرُوفٍ} هنا، وعرَّفه فيما سبق {بِالْمَعْرُوفِ}؟ قلتُ: لأن ما هنا سابق في النزول، فلم يسبق له عهد حتى يعرف، وما سبق متأخر عن هذا، فسبق له عهد، فعرف فما سبق هو عين ما هنا على القاعدة المشهورة عند البلغاء. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ}؛ أي: غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه، وتعدى حدوده. {حَكِيمٌ} فيما شرع وبين لعباده من الشرائع والأحكام، يراعي مصالحهم في أحكامه. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

[241]

241 - {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} اللواتي لم يجب لهن نصف المهر فقط بأن وجب لها كل المهر؛ وهي المدخول بها؛ ولم يجب لها شيء أصلًا، وهي المزوجة تفويضًا إذا طلقت قبل فرض مهر لها، وقبل الدخول، وهذه هي المذكورة سابقًا بقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}. {مَتَاعٌ}؛ أي: متعة مقدرة {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا؛ أي: مقدرة بقدر حال الزوجين وما يليق بهما، وضابطها أن الواجب فيها ما اتفق عليه الزوجان، ولا حد لقدرها، لكن يسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهما، فإن اختلفا في قَدْرها، قَدَّرَها القاضي مراعيًا في تقديرها حال الزوجين، وإنما كرر قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} وأعاد حكم المتعة هنا؛ ليعم هنا الموطوءة وغيرها؛ لأن ما سبق في غير الموطوءة فقط، فهو من ذكر العام بعد الخاص {حَقًّا}؛ أي: حق ذلك المتاع حقًّا؛ أي: وجب وجوبًا. {عَلَى الْمُتَّقِينَ}؛ أي: على المؤمنين الذين يتقون الشرك، أو عقاب الله بمخالفة أمره؛ أي: واجب عليهم إمتاع المطلقات بقدر استطاعتهم جبرًا لوحشة الفراق، فأثبت تعالى بهذه الآية المتعة للمطلقات جميعًا بعد ما أوجبها لواحدة منهن. 242 - {كَذَلِكَ}؛ أي: كما بين لكم ما ذكر من أحكام المطلقات والعدد {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}؛ أي: يبين الله لكم ما تحتاجون إليه معاشًا ومعادًا من معالم دينه ودلائل أحكامه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: لكي تعقلوا وتفهموا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام، وما فيه صلاحكم وصلاح دينكم، وتعملوا بموجبها، ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة غزاة بني إسرائيل، فقال: 243 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} وقرأ السلمي: {أَلَمْ تَرَ} بسكون الراء، قالوا: على توهم أن الراء آخر الكلمة، ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقد جاء في القرآن كإثبات أَلف الظنونا و {السبيلا} و {الرسولا}؛ أي: ألم ينته ويصل علمك يا محمَّد، أو أيها المخاطب إلى حال القوم الذين خرجوا {مِنْ دِيَارِهِمْ} وأوطانهم {وَهُمْ أُلُوفٌ} كثيرة: أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفًا {حَذَرَ الْمَوْتِ}؛ أي: خوفًا من الموت وفرارًا منه، والغرض من هذا الاستفهام: التعجيب والتشويق إلى سماع قصتهم {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فماتوا {ثُمَّ} بعد

[244]

ثمانية أيام {أَحْيَاهُمْ} الله تعالى بدعاء نبيهم حزقيل، فعاشوا دهرًا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبًا إلا عاد كالكفن، وبقي ذلك في أولادهم إلى اليوم، وهم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فهربوا خوفًا من الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام، ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل، فعاشوا بعد ذلك دهرًا، وقيل: هم قوم من بني إسرائيل هربوا من الطاعون، فأماتهم الله تعالى وكان (¬1) في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، وفي هذه القصة: عبرة على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} وإحسان عظيم {عَلَى النَّاسِ} جميعًا، أما (¬2) هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم فلكونه أحياهم ليعتبروا، وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} هم الكفار {لَا يَشْكُرُونَ} استدراك على ما تضمنه قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} تقديره: إن الله لذو فضل كثير على الناس بالإيجاد والرزق، فيجب عليهم أن يشكروا تفضله وإحسانه، ولكن أكثرهم غير شاكرين فضله تعالى كما ينبغي، أما الكفار فلم يشكروا أصلًا، وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره، وهذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة فضلًا وإحسانًا من الله تعالى على عبيده؛ لأن ذكر هذه القصة سبب لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة. 244 - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: هو خطاب للذين أحياهم، فعلى هذا القول في الكلام محذوف تقديره: ثم أحياهم الله، فقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، وقيل: هو خطاب لأمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فلم ينفعهم ذلك؛ أي: قاتلوا في طاعة الله مع عدوكم؛ أي: لإعلاء دينه لا لغنيمة ولإظهار شجاعة، وسميت (¬3) العبادات سبيلًا إلى الله ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

[245]

تعالى من حيث أن الإنسان يسلكها، ويتوصل إلى الله بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين، فكان طاعة، فلا شك أن المجاهد مقاتل في سبيل الله. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لكلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه. {عَلِيمٌ} بما في صدوركم من البواعث والأغراض، وأن ذلك الجهاد لغرض الدين، أو لغرض الدنيا. 245 - {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} ويسلفه {قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي: إقراضًا حسنًا طيبًا مقرونًا بالإخلاص لا لرياء وسمعة، أو مقرضًا حلالًا طيبًا {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}؛ أي: فيضاعف الله جزاءه وأجره له؛ أي: لذلك المنفق {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} كثرة لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي {فيضاعفُه} بالألف والرفع، وقرأ عاصم: {فَيُضَاعِفَهُ} بالألف والنصب، وقرأ ابن كثير: {فيضعِّفُه} بالتشديد والرفع بلا ألف، وقرأ ابن عامر: {فيضعِّفَه} بالتشديد والنصب، والمعنى: من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله ولإعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافًا كثيرة؛ لأنه قرض لأغنى الأغنياء رب العالمين جل جلاله، وهذا من تنزلات المولى لعباده حيث خاطبهم مخاطبة المحتاج المضطر مع أنه غني عنهم رحمة بهم على حد: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وسماه هنا قرضًا، وفي آية براءة بيعًا، وفي الحقيقة لا بيع ولا قرض؛ لأن الملك كله له سبحانه، وحينئذ فليست مضاعفته على ذلك ربًا؛ لأنه لا تجري أحكام الربابين السيد وعبده الحادثين لملكه له صورة، فأولى بين السيد المالك القديم وعبده الذليل الضعيف الذي لا يملك شيئًا أصلًا، فمن إحسانه عليه خلق ونسب إليه، بل هذا (¬1) تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد، شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَقْبِضُ}؛ أي: يمسك الرزق عمن يشاء، ويضيق عليه ابتلاء هل يصبر أم لا؟ {وَيَبْسُطُ} يقرأ بالسين، وهو الأصل، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وبالصاد على إبدالها من السين؛ لتجانس الطاء في الاستعلاء؛ أي: يوسع لمن يشاء امتحانًا هل يشكر أم لا؛ أي: أن الإنفاق لا يقبض الرزق، وعدمه لا يبسطه، بل القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى، أو المعنى. والله يقبض بعض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة {وَإِلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم، فيثيب المنفق ويعذب الممسك. الإعراب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}. {حَافِظُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {عَلَى الصَّلَوَاتِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حافظوا}. {وَالصَّلَاةِ} معطوف على الصلوات. {الْوُسْطَى}: صفة لـ {الصَّلَاةِ}، {وَقُومُوا}: الواو: عاطفة. {قوموا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {حَافِظُوا}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قوموا}. {قَانِتِينَ}: حال من فاعل {قوموا}. {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}: {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا عرفتم وجوب المحافظة على الصلوات، وأردتم بيان كيفية فعلها في حالة الخوف .. فأقول لكم: إن خفتم {إن}: حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط المحذوف تقديره: فصلوا رجالًا، {صلوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية {رجالًا}: حال من فاعل {صلوا}. {أَوْ رُكْبَانًا}: معطوف عليه، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر

تقديره: إذا عرفتم كيفية صلاة الخوف، وأردتم بيان حكم ما إذا زال الخوف .. فأقول لكم: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَمِنتم}: فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَاذْكُرُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {اذكروا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق به، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة. {كَمَا عَلَّمَكُمْ}: الكاف: حرف جر وتعليل. {ما}: مصدرية. {عَلَّمَكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، {مَا لَمْ تَكُونُوا}. {ما} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان. {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {لم}، وجملة {تَعْلَمُونَ} في محل النصب خبر {تَكُونُوا} تقديره: ما لم تكونوا عالمين، وجملة {تَكُونُوا} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من {تَعْلَمُونَ} وجملة {عَلَّمَكُمْ} صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف التعليلية المتعلقة باذكروا تقديره: فاذكروا الله لتعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه قبل بعثة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل نزول القرآن. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ}. {وَالَّذِينَ} الواو: استئنافية. {الذين}: مبتدأ، {يُتَوَفَّوْنَ}: فعل مغيَّر ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من ضمير الغائب. {وَيَذَرُونَ}: معطوف على جملة الصلة. {أَزْوَاجًا}: مفعول به. {وَصِيَّةً} بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف هو خبر المبتدأ تقديره: فليوصوا وصية، وعلى قراءة الرفع وصية: مبتدأ خبره محذوف تقديره: فعليهم وصية، والجملة الإسمية خبر المبتدأ الذي هو الموصول أيضًا، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا {لِأَزْوَاجِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {وصية} تقديره: وصية كائنة لأزواجهم. {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.

{مَتَاعًا}: منصوب إما على إضمار فعل من لفظه؛ أي: متعوهن متاعًا، أو من غير لفظه؛ أي: جعل الله لهن متاعًا، وجوزوا أن يكون {مَتَاعًا} صفة لـ {وصية}، أو بدلًا منها، أو حالًا من الموصين؛ أي: ممتعين أو ذوي متاع. {إِلَى الْحَوْلِ}: جار ومجرور صفة لـ {متاعا}. {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}: حال من الأزواج ومضاف إليه؛ أي: غير مخرجات، أو حال من الموصين؛ أي: غير مخرجين، وجوزوا أن يكون صفة لـ {متاعًا} أو بدلًا منه. {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {فَإِنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنها غير مخرجات، وأردتم حكم ما إذا خرجن بأنفسهن .. فأقول لكم: {إن}: حرف شرط جازم. {خَرَجْنَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، {لا}: نافية تعمل عمل إن، {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فيما}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا}. {فَعَلْنَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: فيما فعلنه. {فِي أَنْفُسِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {فعلن}، {مِنْ مَعْرُوفٍ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف من {فعلن} أو من {ما} الموصولة. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية. {الله}: مبتدأ. {عَزِيزٌ}: خبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}. {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} الواو: استئنافية. {للمطلقات}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَتَاعٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، {بِالْمَعْرُوفِ}: جار ومجرور صفة لـ {مَتَاعٌ}. {حَقًّا}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: حق ذلك حقًّا. {عَلَى

الْمُتَّقِينَ}: جار ومجرور متعلق بعامل المصدر المحذوف. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: تبيينًا كائنًا كالتبيين الذي ذكر {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يبين}، {آيَاتِهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف تعليل ونصب بمعنى كي، والكاف اسمها، وجملة {تَعْقِلُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره: يبين الله لكم آياته تبيينًا كائنًا كذلك لتدبركم. {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}. {أَلَمْ} {الهمزة} للإستفهام التعجبي، أو الإقراري، والاستفهام التعجبي: هو إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب. {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: أنت يعود على محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى أي مخاطب، وإنما عداه هنا بإلى؛ لأن معناه: ألم ينته علمك إلى كذا، والرؤية هنا بمعنى العلم، والجملة مستأنفة {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تر}، {خَرَجُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ دِيَارِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خرجوا}. {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل {خَرَجُوا}، {حَذَرَ الْمَوْتِ}: مفعول لأجله ومضاف إليه، والعامل فيه {خَرَجُوا}. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. {فَقَالَ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {قال}: فعل ماضٍ. {لَهُمُ}: متعلق به. {اللَّهُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {خَرَجُوا}. {مُوتُوا}: مقول محكي، أو فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {ثُمَّ

أَحْيَاهُمْ}: {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب ومهلة. {أَحْيَاهُمْ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فقال لهم الله موتوا، فماتوا ثم أحياهم. {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {اللام}: حرف ابتداء، {ذو}: خبر {إِنَّ}، {فَضْلٍ}: مضاف إليه وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بمحذوف صفة لـ {فضل}، أو متعلق بـ {فضل}، {وَلَكِنَّ}: الواو: عاطفة، {لكن}: حرف نصب واستدراك. {أَكْثَرَ} اسمها. {النَّاسِ}: مضاف إليه. {لَا}: نافية. {يَشْكُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {لكن} تقديره: ولكن أكثر الناس غير شاكرين، والجملة جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، استدرك بها عن محذوف تقديره: فيجب عليهم شكره. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}. {وَقَاتِلُوا} الواو: استئنافية. {قاتلوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قاتلوا}. {وَاعْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قاتلوا}. {أَنَّ اللَّهَ}: {أَنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {سَمِيعٌ} خبر أول، {عَلِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا كون الله سميعًا عليمًا. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. {مَنْ ذَا}: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ. {الَّذِي}: خبره، أو {مَنْ}: اسم استفهام مبتدأ، {ذَا}: اسم إشارة خبر المبتدأ {الَّذِي}: بدل من اسم الإشارة، أو نعت له، والجملة الإسمية مستأنفة. {يُقْرِضُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {قَرْضًا}: منصوب على المفعولية المطلقة. {حَسَنًا}؛ صفته. {فَيُضَاعِفَهُ} بالنصب: {الفاء}: عاطفة سببية {يضاعف}: منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والهاء مفعول به.

{لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يضاعف}. {أَضْعَافًا}: حال من ضمير المفعول، أو منصوب على المفعولية المطلقة. {كَثِيرَةً}: صفة له، وجملة {يضاعف} من الفعل والفاعل صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك تقديره: من ذا الذي يكون منه قرض حسن فمضاعفة من الله له، وبالرفع فهو معطوف على جملة الصلة. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. {وَاللَّهُ} الواو: استئنافية. {اللَّه}: مبتدأ، وجملة {يَقْبِضُ} خبره، والجملة مستأنفة، وجملة {وَيَبْسُطُ} في محل الرفع معطوف على جملة {يَقْبِضُ}، {وَإِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ترجعون}، وجملة {تُرْجَعُونَ} من الفعل المغيّر ونائبه معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} على كونها مستأنفة، أو معطوفة على جملة {يَقْبِضُ} على كونها خبر المبتدأ. التصريف ومفردات اللغة {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} الوسطى: مؤنث الأوسط بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَا أَوْسَطَ اَلنَّاسِ طُرًّا في مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وأَبَا لا من الأوسط بمعنى المتوسط بين شيئين، وذلك لأن أفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص، وكذلك فعل التعجب، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص .. لا يبنيان منه. {فَرِجَالًا} جمع راجل، يقال منه: رجل يرجل رجلًا إذا عُدم المركوب ومشى على قدميه، فهو راجل ورجل، ورجل على وزن رجل مقابل امرأة، ويجمع على رجُل ورجْل ورجال وأراجل وأرجيل. {أَوْ رُكْبَانًا}: جمع راكب، قيل: لا يطلق الراكب إلا على راكب الإبل، فأما راكب الفرس: ففارس، وراكب البغل والحمار؛ فبغَّال وحمَّار، الأجود صاحب بغل وحمار، وهذا بحسب اللغة، والمراد بهم هنا ما يعم الكل.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} الأصل (¬1) في ترى ترأى مثل يرعى إلا أن العرب اتفقوا على حذف الهمزة في المستقبل تخفيفًا، ولا يقاس عليه، وربما جاء في ضرورة الشعر على أصله، ولما حذف الهمزة .. بقي آخر الفعل ألفًا، فحذفت في الجزم والألف منقلبة عن ياء، وأما في الماضي: فلا تحذف الهمزة. {وَهُمْ أُلُوفٌ}: جمع أَلْف، والأَلْف عدد معروف، وجمعه في القلة آلاف، وفي الكثرة ألوف، ويقال آلفت الدراهم، وآلفت هي، وقيل: ألوف جمع آلف كشاهد وشهود. {قَرْضًا} القرض: القطع بالسكين، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع به، وقال ابن كيسان: القرض أن تعطي شيئًا ليرجع إليه مثله، ومنه يقال: أقرضت فلانًا؛ أي: قطعت له قطعة من المال، والقرض: اسم مصدر لأقرض، والمصدر الإقراض، ويجوز أن يكون القرض هنا بمعنى: المقروض كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولًا به. {أَضْعَافًا} جمع (¬2) ضعف، والضعف هو العين، وليس بالمصدر، والمصدر الأضعاف أو المضاعفة، فعلى هذا: يجوز أن يكون حالًا من الهاء في يضاعفه، ويجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا على المعنى؛ لأن معنى يضاعفه يصيره أضعافًا، ويجوز أن يكون جمع ضعف، والضعف اسم وقع موقع المصدر كالعطاء، فإنه اسم للمعطي، وقد استعمل بمعنى العطاء، فيكون انتصاب أضعافًا على المصدر. البلاغة {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا} وفي إيراد هذه (¬3) الشرطية بكلمة {إن} المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف وقلته، وفي إيراد الشرطية الثانية بكلمة {إذا} المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولي الأبصار. ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) العكبري. (¬3) أبو السعود.

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: قال أبو حيان (¬1): وفي هذه الآيات من بدائع البديع وصنوف الفصاحة: منها: النقل من صيغة افعلوا إلى فاعلوا؛ للمبالغة، وذلك في قوله: {حَافِظُوا}. ومنها: الاختصاص بالذكر في قوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. ومنها: الطباق المعنوي في {فَإِنْ خِفْتُمْ}؛ لأن التقدير في {حَافِظُوا}، وهو مراعاة أوقاتها وهيأتها إذا كنتم آمنين. ومنها: الحذف في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} العدو، أو ما جرى مجراه، وفي قوله: {فَرِجَالًا}؛ أي: فصلوا رجالا، وفي قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} سواء رفع، أو نصب وفي قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}؛ أي: لهن من مكانهن الذي يعتددن فيه، وفي قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ} من بيوتهن من غير رضا منهن، وفي قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}؛ أي: من ميلهن إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدة، وفي قوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ}؛ أي: عادة أو شرعًا، وفي قوله: {عَزِيزٌ}؛ أي: انتقامه، وفي قوله: {حَكِيمٌ}؛ أي: في أحكامه، وفي قوله: {حَقًّا}؛ أي: حق ذلك حقًّا، وفي قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}؛ أي: عذاب الله. ومنها: التشبيه في قوله {كَمَا عَلَّمَكُمْ}. ومنها: التجنيس المماثل؛ وهو أن يكون بفعلين أو باسمين، وذلك في قوله: {عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، و {فَإِنْ خَرَجْنَ}. ومنها: المجاز في قوله: {يُتَوَفَّوْنَ}؛ أي: يقاربون الوفاة. ومنها: التكرار في قوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ثم قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} فيكون للتأكيد إن كان إياه، ولاختلاف المعنيين إن كان غيره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ضروب علم البيان، وصنوف البلاغة: منها: الاستفهام الذي أجري مجرى التعجب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ}. ومنها: الحذف بين {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}؛ أي: فماتوا ثم أحياهم، وفي قوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: ملك الله بإذنه، وفي قوله: {لَا يَشْكُرُونَ}؛ أي: لا يشكرونه، وفي قوله: {سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأعمالكم، وفي قوله: {تُرْجَعُونَ} فيجازي كلًّا بما عمل. ومنها: الطباق في قوله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}، وفي {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}. ومنها: التكرار في قوله: {عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. ومنها: الالتفات في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. ومنها: التشبيه بغير أدائه في قوله: {قَرْضًا حَسَنًا} شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي، فأطلق اسم القرض عليه. ومنها: الاختصاص بوصفه بقوله: {حَسَنًا}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا}، وجمعه لاختلاف جهات التضعيف بحسب اختلاف الإخلاص، ومقدار القرض واختلاف أنواع الجزاء. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وفي تأخير البسط (¬1) عن القبض في الذكر إيماء إلى أنه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الجمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}. المناسبة مناسبة (¬1) هذه الآيات لما قبلها ظاهرة؛ وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالقتال أو بالطاعون على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين، والإعلام بأنه لا يُنجي حذرٌ من قدر .. أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبًا مشروعًا في الأمم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[246]

السابقة، فليس من الأحكام التي خصصتم بها؛ لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الانفراد. التفسير وأوجه القراءة 246 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} والاستفهام استفهام تعجيب وتشويق للسامع، والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر، ويجمع على أملاء كسبب وأسباب سمّوا بذلك؛ لأنهم يملؤون القلوب مهابة، والعيون حسنًا وبهاء؛ أي: ألم ينته علمك يا محمَّد إلى قصة القوم الذين كانوا من بني إسرائيل حالة كونهم كائنين {مِنْ بَعْدِ} وفاة {مُوسَى} عليه السلام {إِذْ قَالُوا}؛ أي: حين قال أولئك الملأ {لِنَبِيٍّ لَهُمُ} شمويل كما قاله وهب بن منبه، أو شمعون، أو يوشع بن نون كما قاله قتادة، وهذا القول ضعيف، أو حزقيل كما حكاه الكرماني، أو غيرهم كما قاله غيرهم، ولكن (¬1) معرفة حقيقة هذا النبي بعينه ليست مرادة من القصة، إنما المراد منها الترغيب في الجهاد، وذلك حاصل بلا معرفة عينه {ابْعَثْ لَنَا}؛ أي: أقم وعين لنا {مَلِكًا}؛ أي: أمير نرجع إليه ونعمل برأيه، ووله وأمره علينا {نُقَاتِلْ}؛ أي: ننهض معه للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وطاعته ونقاتل بأمره عدونا {نُقَاتِلْ} بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور، وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة شذوذًا {يقاتل} بالياء ورفع الفعل على أنه صفة للملك، وقرىء شذوذًا أيضًا {نقاتلُ} بالنون والرفع على أنه حال، أو كلام مستأنف. وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ذلك: أنه لما مات موسى وعظمت الخطايا .. سلط الله عليهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيرًا من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربع مئة وأربعين غلامًا، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولم يكن لهم حينئذ نبي يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم ¬

_ (¬1) الخازن.

يبق منهم إلا امرأة حبلى، فحبسوها في بيت، فولدت غلامًا، فلما كبر كفله شيخ من علمائهم في بيت المقدس، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له: اذهب إلى قومك، فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيًّا، فلما أتاهم كذبوه، وقالوا استعجلت بالنبوة، فإن كنت صادقًا .. فبين لنا ملك الجيش. وكان صلاح أمر بني إسرائيل بالإجماع على الملوك وبطاعة الملوك أنبياءهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي هو الذي يقيم أمره ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه فـ {قال} لهم ذلك النبي {هَلْ عَسَيْتُمْ} بفتح السين وكسرها لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون، وهذا الكلام استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم النبي حينئذ؟ فقيل: قال لهم النبي: هل عسيتم وحسبتم وظننتم {إِنْ كُتِبَ} وفرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}؛ أي: قال لهم نبيهم: هل ظننتم أن لا تقاتلوا عدوكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك؟ فصل بين عسى وخبره بالشرط والاستفهام؛ لتقرير المتوقع به، وإثباته، والمعنى: أتوقع وأخشى جبنكم عن القتال إن كتب عليكم القتال {قَالُوا وَمَا لَنَا}؛ أي: وأي شيء ثبت لنا في {أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وطاعته {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} وأبعدنا {مِنْ دِيَارِنَا} وأوطاننا {وَأَبْنَائِنَا} وأولادنا، وأفرد الأولاد بالذكر؛ لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة، ولأجل (¬1) قولهم هذا لم يتم قصدهم؛ لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله؛ لأنه قد أمرنا وأوجب علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا، والمعنى: وأي شيء ثبت لنا في ترك القتال في سبيل الله، والحال أنه قد أخرج وأبعد بعضنا من المنازل والأولاد، والقائلون لنبيهم بما ذكر كانوا في ديارهم، فسأل الله تعالى ذلك النبي، فبعث لهم ملكًا يقاتلون معه، وكتب عليهم القتال مع ذلك الملك {فَلَمَّا كُتِبَ} وأوجب {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} في سبيل الله {تَوَلَّوْا}؛ أي: أعرضوا عن قتال عدوهم لما شاهدوا كثرة العدو وشوكته {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} ثلاث مئة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر، وهم الذين عبروا النهر ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[247]

مع طالوت، واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي، وهذا القليل ثبتوا على نياتهم في قتال أعدائهم، وقرأ أُبي (¬1): {تولوا إلا أن يكون قليل منهم} وهو استثناء منقطع؛ لأن الكون معنى من المعاني، والمستثنى {مِنْهُمْ} حيث {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}؛ أي: عالم من ظلم نفسه حين خالف ربه، ولم يف بما قبل من ربه، وهذا وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد مخالفة لأمره تعالى، فالمراد بالظالمين بقية السبعين ألفًا، وهم من عدا القليل المذكور. 247 - {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}؛ أي: أخبرهم نبيهم بأن الله تعالى قد بعث لأجل سؤالكم وأمر عليكم طالوت؛ لتكونوا تحت إمرته في تدبير أمر الحرب، واختاره ليكون أميرًا عليكم، واسم طالوت بالعبرانية: ساول بن قيس، من سبط بنيامين بن يعقوب، وإنما سمي طالوت لطوله، وكان أطول من جميع الناس برأسه ومنكبيه، وكان طالوت رجلًا دباغًا يدبغ الأديم. قاله وهب {قَالُوا} لنبيهم معترضين عليه {أَنَّى يَكُونُ لَهُ}؛ أي: كيف يكون {الْمُلْكُ} والإمرة لطالوت {عَلَيْنَا} ولم يكن هو من بيت الملك حتى نتبعه لشرفه {وَنَحْنُ أَحَقُّ} وأولى {بِالْمُلْكِ} والإمرة {مِنْهُ}؛ أي: من طالوت {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}؛ أي: لم يعط غنى من المال يستعين به على إقامة الملك. والمعنى (¬2): كيف يتملك علينا، والحال إنه لا يستحق التملك؛ لوجود من هو أحق بالملك منه، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك؛ لأن النبوة كانت في سبط لآوى بن يعقوب عليه السلام، والملك في سبط يهوذا، وهو كان من سبط بنيامين، ولم يكن فيهم النبوة والملك، وكان رجلًا سقاء يستقي الماء على حمار له، أو دباغا فقيرًا، وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكًا، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت {قَالَ} نبيهم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {اصْطَفَاهُ} واختاره للملك {عَلَيْكُمْ}؛ أي: أجابهم نبيهم على ذلك الاعتراض، فقال: إن الله اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}؛ أي: سعة في علوم السياسة والديانة والحروب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النسفي.

[248]

{وَالْجِسْمِ} بالقوة على مبارزة العدو، وبالجمال وبطول القامة، فإنه كان أطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى إن الرجل القائم كان يمد يده، فينال رأسه، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذ، وأجملهم وأتمهم خلقًا، والعمدة في الاختيار أمران: العلم؛ ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، والأمر الثاني: قوة البدن؛ ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء، ومكابدة الشدائد، وقد خصه الله منهما بحظ وافر. قال ابن كثير: ومن ها هنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم، وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه {وَاللَّهُ يُؤْتِي}؛ أي: يعطي {مُلْكَهُ} وسلطنته في الدنيا {مَنْ يَشَاءُ}، إيتاءه من عباده، وإن لم يكن من سبط الملك، فلا اعتراض عليه {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} الفضل والعطاء {عَلِيمٌ} بمن هو أهل 248 - للملك، ويليق به، ولما قال القوم لنبيهم: ليس ملكه من الله بل أنت ملكته علينا، وطلبوا منه آية تدل على اصطفاء الله تعالى إياه للملك .. أجابهم إلى ذلك {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}؛ أي: إن علامة ملكه واصطفائه من الله عليكم {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}؛ أي: يرد الله إليكم الصندوق الذي أخذ منكم، وهو صندوق التوراة، وكانوا يعرفونه، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل لما عصوا وأفسدوا، فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت .. قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء إلى الأرض، والملائكة يحفظونه، فأتاهم، والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت، وقرأ الجمهور: {التَّابُوتُ} بالتاء، وقرأ أبي وزيد بالهاء وهي لغة الأنصار {فِيهِ}؛ أي: في ذلك التابوت {سَكِينَةٌ} وقرأ أبو السماك: {سكّينة} بتشديد الكاف؛ أي: طمأنينة لقلوبكم؛ أي: مودع فيه ما تسكنون إليه؛ وهو التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدَّمه فسكن نفوسَ بني إسرائيل ولا يفرون، أو الضمير في الإتيان؛ أي: في إتيان ذلك التابوت سكون لكم وطمأنينة وبشارات {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: من كتب ربكم المنزلة على موسى وهارون، ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل عنهم الخوف من العدو {وَبَقِيَّةٌ}؛ أي: تركة {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}؛ أي: مما ترك موسى وهارون أنفسهما، والآل مقحم؛ لتفخيم شأنهما

[249]

كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" فالمراد به داود نفسه، وهي رضاض الألواح؛ أي: كسرها، وعصا موسى، وثيابه ونعلاه، وشيء من التوراة ورداء هارون وعمامته، حال كون ذلك التابوت {تَحْمِلُهُ} وقرأ مجاهد شذوذًا: {يحمله} بالياء من أسفل؛ أي: تسوقه {الْمَلَائِكَةُ} إليكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في إتيان التابوت ورجوعه إليكم {لَآيَةً لَكُمْ}؛ أي: لعلامة لكم دالة على أن ملكه من الله تعالى، أو لآية (¬1) لكم على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمر لكم به من طاعة طالوت {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين بتمليكه عليكم، أو بالله واليوم الآخر. أو المعنى: أن في هذه الآية من نقل القصة معجزة باهرة دالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بهذه التفاصيل من غير سماع من البشر إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة والرسالة، فلما رد الله عليهم التابوت .. قبلوا وأقروا بملكه، وتسارعوا إلى الجهاد، واختار من الشبان الفارغين من الأشغال ثمانين ألفًا، وقيل: مئة وعشرين ألفًا، وخرجوا معه. 249 - {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف؛ تقديره: فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت؛ أي: خرج من بيت المقدس وتوجه {بِالْجُنُودِ}؛ أي: بالجيش التي اختارها إلى جهة العدو، وكان من جملتهم داود عليه السلام كما سيأتي، وكان الوقت قيظًا، وسلك بهم في أرض قفرة، فأصابهم حر وعطش شديد، فطلبوا منه الماء {قَالَ} طالوت {إِنَّ اللَّهَ} تعالى {مُبْتَلِيكُمْ}؛ أي: مختبركم {بِنَهَرٍ} جارٍ ليظهر منكم المطيع والعاصي؛ وهو بين الأردن وفلسطين، وقرأ الجمهور: {بِنَهَرٍ} بفتح الهاء، وقرأ حميد ومجاهد والأعرج شذوذًا بسكون الهاء، والغرض من هذا الابتلاء: أن يميز الصديق من الزنديق، والموافق من المخالف {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ}؛ أي: كرع من ماء النهر، قليلًا كان أو كثيرًا {فَلَيْسَ مِنِّي}؛ أي: من أهل ديني، أو من أتباعي المؤمنين، فلا يكون مأذونًا له في هذا القتال {وَمَنْ لَمْ ¬

_ (¬1) ابن كثير.

يَطْعَمْهُ}؛ أي: ومن لم يذقه أصلًا، لا كثيرًا ولا قليلًا {فَإِنَّهُ مِنِّي}؛ أي: من أتباعي {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}؛ أي: إلا من أخذ شيئًا قليلًا من الماء بيده؛ فإنه مني ويكون أهلًا لهذا القتال. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {غَرفة} بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم، فالغُرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف، والغَرفة بالفتح الفعل؛ وهو الاغتراف مرة واحدة، فكانت تكفيهم هذه الغرفة لشربهم ودوابهم وحملهم؛ أي: قال لهم طالوت: من شرب من النهر وأكثر .. فقد عصى الله، ومن اغترف غرفة بيده .. أقنعته بعد عطش شديد، فوقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب، فهؤلاء جبنوا عن لقاء العدو، وأطاع قوم قليل عددهم، فلم يزيدوا على الاغتراف، فقويت قلوبهم، وعبروا النهر، فذلك قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ}؛ أي: فلما وصلوا إلى النهر .. وقفوا فيه وشربوا منه بالكرع بالفم كيف شاؤوا {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} ثلاث مئةٍ وثلاثة عشر رجلًا، فلم يشربوا إلا قليلًا، وهو الغرفة. روي (¬1) أن من اغترف غرفة كما أمر الله .. قوي قلبه، وصح إيمانه، وعبر النهر سالمًا، وكفته تلك الغرفة لشربه ودوابه وخدمه، وحمله مع نفسه؛ إما لأنه كان مأذونًا في أخذ ذلك المقدار، وإما لأن الله تعالى يجعل البركة في ذلك الماء حتى يكفي لكل هؤلاء، وذلك معجزة لنبي ذلك الزمان، وأما الذين شربوا منه، وخالفوا أمر الله تعالى فقد اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو، وقرىء شذوذًا: {إلا قليل} بالرفع حملًا على المعنى، فإن قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ} في معنى: فلم يطيعوه، وفيه تعسف {فَلَمَّا جَاوَزَهُ}؛ أي: النهر {هُوَ}؛ أي: طالوت {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} والظرف متعلق بـ {جاوز} من حيث عمله في المعطوف، وهو الموصول؛ أي: فلما جاوزه وجاز معه الذين آمنوا؛ وهم أولئك القليل الذين اقتصروا على الغرفة، وقال القرطبي: هم الذين لم يذوقوا الماء أصلًا. {قَالُوا}؛ أي: قال الذين شربوا وخالفوا أمر الله {لَا طَاقَةَ لَنَا}؛ أي: لا قوة لنا {الْيَوْمَ بِجَالُوتَ} هو ¬

_ (¬1) المراح.

[250]

جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد، وكان في بيضته ثلاث مئة رطل من الحديد؛ أي: لا قدرة لنا اليوم بمحاربة جالوت {وَجُنُودِهِ} وكانوا مئة ألف رجل شاكي السلاح. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ}؛ أي: يوقنون ويعلمون {أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}؛ أي: ملاقوا ثواب الله ورضوانه في الدار الآخرة؛ وهم القليل الذين اقتصروا على الغرفة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} وقرأ أبي شذوذًا: {وكأين} وهي مرادفة لـ {كم} في التكثير؛ أي: كم من جماعة قليلة من المؤمنين {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}؛ أي: غلبت جماعة كثيرة من الكافرين {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بنصر الله تعالى إياهم، أو بقضاء الله وإرادته {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصر والعون؛ أي: معين الصابرين على الحرب بالنصرة على أعدائهم. 250 - {وَلَمَّا بَرَزُوا}؛ أي: ولما برزوا طالوت وجنوده المؤمنون، وظهروا {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} الكافرين، ودنوا منهم وصافوا لهم {قَالُوا}؛ أي: قال طالوت وجنوده جميعًا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به تعالى؛ أي: قالوا ملتجئين إلى الله بثلاث دعوات {رَبَّنَا أَفْرِغْ}؛ أي: اصبب {عَلَيْنَا صَبْرًا} على القتال والمخاوف والأمور الهائلة؛ أي: أفض علينا صبرا يعمنا في جمعنا، وفي خاصة أنفسنا لنقوى على قتال أعدائك، وهذه هي الدعوة الأولى. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}؛ أي: أرسخها حتى لا تفر، أو قو قلوبنا لتثبت أقدامنا على مداحض القتال بكمال القوة عند المقارعة، وعدم التزلزل وقت المقاومة، وهذه هي الدعوة الثانية. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} جالوت وجنوده؛ أي: أعنا وأظفرنا بقهرهم وهزمهم، وذلك لأن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام، وهذه هي الدعوة الثالثة، وفيها (¬1) ترتيب بليغ إذ سألوا أولًا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب السبب عنه، ثم النصر على 251 - العدو والمترتب عليهما غالبًا. {فَهَزَمُوهُمْ}؛ أي: هزم طالوت وجنوده جالوت وجنوده؛ أي: كسروهم وغلبوهم وقهروهم وردوهم {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بنصره أو بقضائه وإرادته، أو بتمكين الله منهم إجابة لدعائهم {وَقَتَلَ دَاوُودُ} ¬

_ (¬1) البيضاوي.

ابن إيشا عليه السلام كان من سبط يهودا بن يعقوب، وكان في عسكر بني إسرائيل {جَالُوتَ} الكافر، ولم يبين تعالى كيفية القتل {وَآتَاهُ اللَّهُ}؛ أي: وأعطى الله سبحانه وتعالى لداود {الْمُلْكَ} الكامل سبع سنين بعد موت طالوت؛ أي: ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها {وَالْحِكْمَةَ}؛ أي: النبوة بعد موت شمويل، وكان موته قبل طالوت، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة لأحد قبله إلا له، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط آخر، ومع ذلك جمع الله له ولابنه سليمان بين الملك والنبوة، وقيل: الحكمة العلم النافع {وَعَلَّمَهُ}؛ أي: وعلم الله داود {مِمَّا يَشَاءُ}؛ أي: ما يشاء تعليمه من معلوماته كصنعة الدروع من الحديد، وكان يلين في يده وينسجه، وفهم كلام الطير والنمل، وكيفية القضاء، وما يتعلق بمصالح الدنيا، ومعرفة الألحان الطيبة، ولم يعط الله تعالى أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور .. تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطير {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} قرأ نافع هنا وفي الحج: {دفاع الله}؛ أي: ولولا أن يدفع الله {النَّاسَ بَعْضَهُمْ} بدل بعض من الناس، ويكف شرهم، وهم أهل الكفر والمعاصي {بِبَعْضٍ} منهم؛ وهم أهل الإيمان والطاعة {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} وخربت بغلبة المشركين، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ولولا دفع الله بجنود المسلمين .. لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد، كما دفع الله جالوت وجنوده بطالوت وجنوده، ومن المعلومات أن لولا حرف امتناع لوجود، والمعنى: امتنع فساد الأرض لأجل دفع الناس بعضهم لبعض، وهذه الآية كالدليل لما ذكر في القصة من مشروعية القتال، ونصر داود على جالوت. {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {ذُو فَضْلٍ}؛ أي: ذو تفضل وإنعام عظيم {عَلَى الْعَالَمِينَ} كافة بسبب دفع ذلك الفساد؛ يعني: أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام وإفضال عم الناس كلهم، وجه (¬1) الاستدراك هو أنه لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[252]

قسم الناس إلى مدفوع به ومدفوع، وأنه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد الأرض، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى غير متفضل عليه إذا لم يبلغه مقاصده ومآربه، فاستدرك أنه وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لذو فضل عليه ويحسن إليه. 252 - {تِلْكَ}؛ أي: هذه الآيات التي قصصناها عليك يا محمَّد من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم تمليك طالوت، وإظهاره الآية؛ وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي {آيَاتُ اللَّهِ} المنزلة من عنده تعالى: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}؛ أي: نقرأ تلك الآيات عليك يا محمَّد بواسطة جبريل حالة كونها ملتبسة {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالصدق واليقين الذي لا يشك فيه أحد من أهل الكتاب لما يجدونها موافقة لما في كتبهم {وَإِنَّكَ} يا محمَّد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى الإنس والجن كافة بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع على أحد يخبرك بذلك، فدل ذلك على رسالتك، وأن الذي تخبر به وحي من الله تعالى؛ أي: وإنك يا محمَّد لمن جملة الرسل الذين أرسلهم الله تعالى لتبليغ دعوة الله عز وجل. فائدة: قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): إن داود عليه السلام كان صغيرًا لم يبلغ الحنث راعيًا للغنم، وله سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا - بوزن كسرى - أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المطاف، وبادر جالوت الجبار، وهم من قوم عاد إلى البراز، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا بني إسرائيل، لو كنتم على حق .. لبارزني بعضكم، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته، فمر به طالوت وهو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا خارج إليه، وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى، وكان طالوت عارفًا بجلادته، فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت .. مر بثلاثة أحجار، فقلن يا داود: خذنا معك ¬

_ (¬1) المراح.

ففينا ميتة جالوت، فلما خرج إلى جالوت الكافر رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ثلاثين رجلًا فهزم الله تعالى جنود جالوت، وخر جالوت قتيلًا، فأخذه داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح بنو إسرائيل وانصرفوا إلى البلاد سالمين غانمين، فجاء داود إلى طالوت، وقال أنجزني ما وعدتني، فزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك كما وعده، فمكث معه كذلك أربعين سنة، فمات طالوت، وأتى بنو إسرائيل بداود، وأعطوه خزائن طالوت، واستقل داود بالملك سبع سنين، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى، فسبحان من لا ينقضي ملكه. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التعجبي التقريري، {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة. {إِلَى الْمَلَإِ}: جار ومجرور متعلق به {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {الْمَلَإِ} تقديره: حال كونهم كائنين من بني إسرائيل. {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله، ولا يضر تعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد؛ لاختلاف معناهما، فـ {مِنْ} الأولى تبعيضية، والثانية لابتداء الغاية. {إِذْ قَالُوا} {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، والظرف متعلق بـ {تر} أو بمحذوف؛ تقديره: ألم تر إلى قصتهم إذ قالوا: {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {لِنَبِيٍّ}: جار ومجرور متعلق بـ {قالوا}. {لَهُمُ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {نبي}. {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: {ابْعَثْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {نبي}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {لَنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بعث}. {مَلِكًا}: مفعول به. {نُقَاتِلْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلَإِ}، والجملة الفعلية جواب الطلب لا محل لها من الإعراب. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نُقَاتِلْ}.

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {بَنِي}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، {هَلْ} حرف استفهام {عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ} إلى آخره مقول محكي، وإن شئت قلت: {عَسَيْتُمْ} {عسى}: من أفعال المقاربة ترفع الاسم وتنصب الخبر، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع اسمها. {إن}: حرف شرط جازم. {كُتِبَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ {إن}. {عَلَيْكُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْقِتَالُ}: نائب فاعل، وجواب {إِن} الشرطية محذوف تقديره: إن كتب عليكم القتال فلا تقاتلوا، وجملة {إِن} الشرطية مع جوابها جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين عسى وخبرها. {أَلَّا تُقَاتِلُوا}: {أن}: حرف نصب ومصدر {لا}: نافية {تُقَاتِلُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عسى}، ولكن لا بد من تقدير وتأويل؛ لأن المصدر معنى من المعاني، فلا يخبر به عن الجنة، والتقدير: هل عسيتم كون حالكم عدم المقاتلة، وجملة {عسى} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَمَا لَنَا} إلى قوله: {وَأَبْنَائِنَا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {وَمَا لَنَا} الواو: رابطة (¬1) هذا الكلام بما قبله. {ما}: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. {لَنَا}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {أَلَّا تُقَاتِلُوا}: {أن}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية. {نُقَاتِلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود إلى {الْمَلَإِ}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نُقَاتِلْ}، والجملة الفعلية صلة {إن} المصدرية، {إن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: وما لنا في عدم قتالنا، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} الواو: حالية. ¬

_ (¬1) الجمل.

{قد}: حرف تحقيق. {أُخْرِجْنَا}: فعل ونائب فاعل. {مِنْ دِيَارِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أخرجنا}، {وَأَبْنَائِنَا}: معطوف على {دِيَارِنَا}، وجملة {أُخْرِجْنَا} في محل النصب حال من الضمير المستتر في {نُقَاتِلَ} تقديره: حالة كوننا مخرجين من ديارنا وأبنائنا. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. {فَلَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوا لنبيهم، وما قال النبي لهم، وأردت بيان حالهم بعد ما كتب كليهم القتال .. فأقول لك {لما}: حرف شرط غير جازم، {كُتِبَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة. {عَلَيْهِمُ}: متعلق به. {الْقِتَالُ}: نائب فاعل، والجملة من الفعل الصغير ونائبه فعل شرط لـ {ما} لا محل لها من الإعراب، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل والجملة جواب لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {إِلَّا}: أداة استثناء. {قَلِيلًا}: منصوب على الاستثناء. {وَاللَّهُ}: الواو: استئنافية. {الله}: مبتدأ {عَلِيمٌ} خبر {بِالظَّالِمِينَ}: متعلق بـ {عليم}، والجملة مستأنفة. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}. {وَقَالَ} الواو: عاطفة. {قال}: فعل ماض، {لَهُمْ}: متعلق به. {نَبِيُّهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ}. {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها، {قَدْ}: حرف تحقيق. {بَعَثَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {لَكُمْ}: متعلق به، {طَالُوتَ}: مفعول به. {مَلِكًا}: حال من {طَالُوتَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قال}. {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}.

{قَالُوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ} إلى قوله: {قال} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب حال من {الْمُلْكُ}، والعامل (¬1) فيه {يَكُونُ}، ولا يعمل فيه واحد من الظرفين؛ لأنه عامل معنوي، فلا يتقدم الحال عليه. {يَكُونُ}: مضارع ناقص، {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {يكون}. {الْمُلْكُ}: اسمها مؤخر، وجملة {يَكُونُ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من (¬2) {الْمُلْكُ}، والعامل فيه {يَكُونُ} أو الخبر، ويجوز أن يكون الخبر {عَلَيْنَا} و {له} حال، ويجوز أن تكون تامة، فيكون {لَهُ} متعلقًا بـ {يكون} و {عَلَيْنَا} حال، والعامل فيه {يَكُونُ}؛ أي: كيف يقع أو يحدث له الملك علينا، وفي "السمين": {أَنَّى يَكُونُ} (¬3) إما تامة أو ناقصة، و {عَلَيْنَا} متعلق بـ {الْمُلْكُ}؛ لأن مادته تتعدى بعلى، تقول: ملك فلان على بني فلان أمرهم اهـ. {وَنَحْنُ}: الواو: حالية. {نحن}: مبتدأ. {أَحَقُّ}: خبر {بِالْمُلْكِ}: متعلق بـ {أحق} {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَحَقُّ} أيضًا، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير {عَلَيْنَا}. {وَلَمْ يُؤْتَ}: الواو: عاطفة. {لم}: حرف نفي وجزم {يُؤْتَ}: فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {طَالُوتَ}. {سَعَةً}: مفعول ثان. {مِنَ الْمَالِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {سعة} تقديره: سعة كائنة من المال، والجملة من الفعل المغيّر ونائبه في محل النصب معطوف على جملة قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ} على كونها حالًا من ضمير {عَلَيْنَا}. {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نبيهم والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {اصْطَفَاهُ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) العكبري. (¬3) الجمل.

والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {اصْطَفَى} {وَزَادَهُ} الواو: عاطفة. {زاده}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {اصْطَفَاهُ} على كونها خبرًا لـ {إنَّ}، {بَسْطَةً}: مفعول ثان. {فِي الْعِلْمِ}: جار ومجرور صفة لـ {بَسْطَةً}، أو متعلق بـ {بسطة}، {وَالْجِسْمِ}: معطوف على {الْعِلْمِ}، {وَاللَّهُ}: الواو: عاطفة، أو اعتراضية {الله} مبتدأ. {يُؤْتِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: والله مؤت ملكه والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إنَّ} على كونها مقولًا لـ {قال}، أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب إن قلنا: إنها من كلام الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {مُلْكَهُ}: مفعول أول ومضاف إليه. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {يُؤْتِي} لأنه بمعنى يعطي. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره يشاءه. {وَاللَّهُ}: الواو: عاطفة. {الله}: مبتدأ، {وَاسِعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي}. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. {وَقَالَ} الواو: عاطفة. {قال} فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {نَبِيُّهُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ}. {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ} حرف نصب. {آيَةَ}: اسمها. {مُلْكِهِ}: مضاف إليه. {إن}: حرف نصب ومصدر. {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة صلة {أن} المصدرية، {إن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبرًا لـ {إن} تقديره: إن آية ملكه إتيان التابوت إياكم، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قال} {فِيهِ}: خبر مقدم. {سَكِينَةٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {سكينة} تقديره: سكينة كائنة من ربكم،

والجملة الإسمية في محل النصب حال من {التَّابُوتُ}، ولكنها حالة سببية تقديره: حال كون التابوت موصوفًا بكون السكينة فيه. {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}. {وَبَقِيَّةٌ} الواو: عاطفة. {بقية}. معطوف على {سَكِينَةٌ}، {مما}: جار ومجرور صفة لـ {بقية}. {تَرَكَ آلُ مُوسَى}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {وَآلُ هَارُونَ}: معطوف على {آلُ مُوسَى}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تركه آل موسى. {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل: والجملة في محل النصب حال من {التَّابُوتُ} تقديره: حالة كونه محمولًا للملائكة، أو الجملة مستأنفة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}. {لَآيَةً} {اللام}: حرف ابتداء {آية}: اسم {إِنَّ} مؤخر. {لَكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {آية}، وجملة {إن} في محل النصب مقول قال {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن}، {مُؤْمِنِينَ}: خبر {كان}، وجواب {إِن} محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين؛ أي: مصدقين بأن الله جعل لكم طالوت ملكًا .. فالآية على ملكه حاصلة، وجملة {إن} في محل النصب بمقول قال. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم نبيهم، وما قالوا، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول لك: {لما فصل}، {لما}: حرف شرط غير جازم، {فَصَلَ طَالُوتُ}: فعل وفاعل {بِالْجُنُودِ}: متعلق بـ {فصل}، أو حال من {طالُوتُ}، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها فعل شرط لـ {لما}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير

يعود على {طالُوت}، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} إلى قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها: {مُبْتَلِيكُمْ}: خبر {إن} ومضاف إليه، وجملة {أن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {بِنَهَرٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُبْتَلِيكُمْ}. {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} {الفاء}: تفصيلية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {شَرِبَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {شَرِبَ}. {فَلَيْسَ مِنِّي} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة جامدية؛ لأنه من المواضع السبعة المجموعة في قول بعضهم: اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدِ ... وَبِمَا وَلَنْ وَقَدْ وَبِالتَّنْفِيْسِ {ليس}: فعل ماضٍ ناقص في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على {من}، {مِنِّي}: جار ومجرور خبر {ليس}، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} الواو: عاطفة {من}، اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {لم}: حرف نفي وجزم {يَطْعَمْهُ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها. {فَإِنَّهُ مِنِّي}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {إن}: حرف نصب، {الهاء}: اسمها. {مِنِّي}: جار ومجرور خبرها، وجملة إن في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنِ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ شَرِبَ} على كونها مقولًا لـ {قال}، {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ}: {إلا}: أداة استثناء، {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، وأنت (¬1) بالخيار إن شئت جعلته استثناء من {من} الأولى، وإن شئت من {مَنِ} الثانية. ¬

_ (¬1) العكبري.

{اغْتَرَفَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {مَنِ}، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {غُرْفَةً} إما مفعول مطلق، أو مفعول به. {بِيَدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اغترف}، أو بمحذوف صفة لـ {غرفة}، {فَشَرِبُوا}: الفاء: عاطفة {شربوا}: فعل وفاعل. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق به. {إِلَّا}: أداة استثناء. {قَلِيلًا}: منصوب على الاستثناء. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {قليلًا}، وجملة {شربوا} معطوفة على محذوف تقديره: فابتلوا بذلك النهر فشربوا منه إلا قليلًا منهم على كونها مستأنفة. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}. {فَلَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنهم شربوا منه، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول لك. {لما}: حرف شرط غير جازم. {جَاوَزَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر يعود على {طَالُوتُ}، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {هُوَ}: ضمير مؤكد لضمير الفاعل المستتر، ليعطف عليه. {وَالَّذِينَ}: معطوف على ضمير الفاعل المستتر. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق (¬1) بـ {جاوز} من حيث عمله في المعطوف وهو الموصول؛ أي: فلما جاوزه وجاوز معه الذين آمنوا. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ} إلى قوله: {قال} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {طَاقَةَ}: اسمها. {لَنَا} خبرها، وجملة {لَا} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وهذا الجار والمجرور في قوله: {بِجَالُوتَ} متعلق بالاستقرار ¬

_ (¬1) الجمل.

المذكور، وجالوت كطالوت ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة {وَجُنُودِهِ}: معطوف على {جالوت} ومضاف إليه. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَظُنُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَظُنُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} {أن}: حرف نصب، {الهاء}: اسمها. {مُلَاقُو اللَّهِ}: خبر {أن} ومضاف إليه، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَظُنُّونَ} تقديره: لقاء الله. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمنه معنى رب التكثيرية، {مِنْ}: زائدة. {فِئَةٍ}: تمييز لكم منصوب بفتحة مقدرة، وقد تحذف {مِنْ}؛ فيجر تمييزها بالإضافة، لا بمن مقدرة على الصحيح. {قَلِيلَةٍ}: صفة لـ {فئة}. {غَلَبَتْ} غلب فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {فِئَةً}، والجملة من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر {كَمْ}، كثير من فئة قليلة غالبة فئة كثيرة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فِئَةً}: مفعول {غَلَبَتْ}. {كَثِيرَةً}: صفة لـ {فئة}، {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {فئة}؛ لتخصصها بالصفة وإن كانت نكرة، أو متعلق بـ {غَلَبَتْ} {وَاللَّهُ}: الواو: عاطفة، أو استئنافية. {الله} مبتدأ. {مَعَ الصَّابِرِينَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {كم من فئة} على كونها من مقولهم، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى، أخبر الله تعالى بها عن حال الصابرين، فتكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}.

{وَلَمَّا} الواو: استئنافية. {لما}: حرف شرط غير جازم. {بَرَزُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب. {لِجَالُوتَ}: متعلق بـ {بَرَزُوا}. {وَجُنُودِهِ} معطوف على {جالوت} ومضاف إليه. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} مستأنفة. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {أَفْرِغْ}: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {عَلَيْنَا}: متعلق بـ {أفرغ}. {صَبْرًا} مفعول {أَفْرِغْ}. {وَثَبِّتْ}: الواو: عاطفة. {ثبت}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَفْرِغْ}، {أَقْدَامَنَا}: مفعول به ومضاف إليه. {وَانْصُرْنَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {أَفْرِغْ}، {عَلَى الْقَوْمِ}: متعلق بـ {انصرنا}، {الْكَافِرِينَ} صفة لـ {لقوم}. {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}. {فَهَزَمُوهُمْ} {الفاء}: عاطفة، هزموهم: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالُوا رَبَّنَا}. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {هزموا}، أو حال من ضمير الفاعل. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على {هزموهم} {وَآتَاهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {الْمُلْكَ}: مفعول ثان. {وَالْحِكْمَةَ}: معطوف على {الْمُلْكَ}، والجملة معطوفة على جملة {قتل داود}. {وَعَلَّمَهُ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {قتل}. {مِمَّا}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: مما يشاءه.

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. {وَلَوْلَا} الواو: استئنافية، {لولا}: حرف امتناع لوجود. {دَفْعُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {النَّاسَ}: مفعول المصدر، {بَعْضَهُمْ} بدل من {النَّاسَ}، بدل بعض من كل {بِبَعْضٍ} جار ومجرور متعلق بـ {دفع}، وهو في محل المفعول الثاني، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا؛ لقيام جواب {لولا} مقامه تقديره: موجود. {لَفَسَدَتِ}: {اللام}: رابطة لجواب {لولا}، {فسدت الأرض}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مع جوابها مستأنفة. {وَلَكِنَّ}: الواو: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك ونصب. {اللَّهَ}: اسمها. {ذُو}: خبر {لكن}. {فَضْلٍ}: مضاف إليه، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لولا} على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}. {تِلْكَ}: {تِ} اسم إشارة يشار به إلى المفردة المؤنثة البعيدة في محل الرفع مبتدأ مبني بسكون على الياء المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين، {اللام}: لبعد المشار إليه، أو لمبالغة البعد حرف لا محل له من الإعراب مبني على السكون، {الكاف}: حرف قال على الخطاب. {آيَاتُ اللَّهِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {نَتْلُوهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {عَلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نتلوا}، وجملة {نتلوا} يجوز (¬1) أن تكون حالًا من الآيات، والعامل فيها معنى الإشارة، ويجوز أن تكون مستأنفة، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور يجوز أن يكون متعلقًا بـ {نتلوا}، وأن يكون حالًا من ضمير الآيات المنصوب؛ أي؛ متلبسة بالحق، ويجوز أن يكون حالًا من الفاعل؛ أي: ومعنا الحق، ويجوز أن يكون حالًا من الكاف؛ أي: ومعك الحق، وجملة {تِلْكَ} من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من ¬

_ (¬1) العكبري.

الإعراب. {وَإِنَّكَ}: الواو: عاطفة، {إن}: حرف نصب وتوكيد، والكاف اسمها. {لَمِنَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {من المرسلين}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {إن} تقديره: وإنك لكائن من المرسلين، وجملة {إن} معطوفة على جملة {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} سعة وزنها عَلَةً، أصله وسع حذفت فاء الكلمة، وهي الواو وعوض عنها تاء التأنيث كما في عدة وزنة، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملًا له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين عدوتيها الياء وهي حرف المضارعة والكسرة المقدرة؛ لأن أصله يوسع، وذلك أن وسع مثل وثق، فحق مضارعه أن يجيء على يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في يسع كون لامه حرف حلق، ففتح عين مضارعه لذلك وإن كان أصلها الكسرة، ولذلك قلنا بين ياء وكسرة مقدرة، فالفتحة عارضة، فأجرى عليها حكم الكسرة، ثم جعلت في المصدر مفتوحة؛ لتوافق الفعل، ويدلك على ذلك أن قولك وعد يعد مصدره عدة بالكسر لما خرج على أصله. {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} واسع قيل: هو على معنى النسب؛ أي: هو ذو سعة، وقيل: جاء على حذف الزائد، والأصل أوسع فهو موسع، وقيل: اسم فاعل من وسع الثلاثي؛ لأنك تقول: وسع علمه وحلمه. {التَّابُوتُ}: وزنه فاعول مشتق (¬1) من التوب الذي هو الرجوع، لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت وجبروت، والمشهور أن يوقف على تائه من غير أن تقلب هاء، ومنهم من يقلبها. {فِيهِ سَكِينَةٌ} السكينة: فعيلة من السكون، وهو الوقار، تقول: في فلان سكينة؛ أي: وقار وثبات. {وَبَقِيَّةٌ} (¬2) وأصل بقية بقيية، ولام الكلمة ياء ولا حجة في بقي لانكسار ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) العكبري.

ما قبلها، ألا ترى أن شقي أصلها واو. {وَجُنُودِهِ} الجنود جمع جند، وهو معروف واشتقاقه من الجند، وهو الغليظ من الأرض إذ بعضهم يعتصم ببعض، وفي "المصباح" الجند الأنصار والأعوان، والجمع أجناد وجنود، الواحد جندي، فالياء للوحدة مثل روم ورميّ اهـ، والياء في {مُبْتَلِيكُمْ} بدل من واو؛ لأنه من بلاه يبلوه. {بِنَهَرٍ} فتح الهاء وإسكانها لغتان، والمشهور في القراءة فتحها، وقرأ حميد بن قيس شذوذًا بإسكانها، وأصل النهر والنهار الاتساع، ومنه ما أنهر الدم. {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً} الغُرفة - بضم الغين - اسم للقدر المغترف من الماء كالأكلة للقدر الذي يؤكل، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة، نحو ضربت ضربة، والاغتراف الأخذ من الشيء باليد أو بآلته، والغرف مثل الاغتراف، فمعناهما واحد، والغرفة البناء العالي المشرف. {لَا طَاقَةَ} وعين الطاقة واو؛ لأنه من الطوق، وهو القدرة تقول: طوقته الأمر. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} الفئة القطعة من الناس، وأصل فئة فيئة؛ لأنه من فاء يفيء إذا رجع، فالمحذوف عينها، وقيل: أصلها فيوءة لأنها من فأوت رأسه إذا كسرته، فيكون المحذوف لام الكلمة. {أَقْدَامَنَا} جمع قدم، والقدم الرجل، وهي مؤنثة تقول في تصغيرها قديمة، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم. البلاغة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: فيه مجاز بالحذف إذ الأصل إلى قصة الملأ، وهذا المحذوف هو متعلق الظرف في قوله: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ}. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ}: في الكلام إيجاز وحذف تقديره: فسأل الله ذلك النبي، فكتب عليهم القتال وبعث لهم ملكًا؛ أي: عينه لهم ليقاتل بهم، فلما كتب عليهم القتال .. إلخ. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} والظاهر أن هذا من كلام ذلك النبي، قال ذلك لهم لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد

أن يتم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض فيه، وهو أظهر التأويلين، الثاني: أنه من كلام الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتكون الجملتان معترضتين في هذه القصة للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك؛ أي: فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه .. فلا اعتراض عليه لا يسئل عما يفعل. {آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}: فيه مجاز بالزيادة؛ لأن المراد أنفسهما، فلفظ آل مقحم وفائدة هذه الزيادة تفخيم شأنهما. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} وإفراد (¬1) حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين بتأويل الفريق أو غيره كما سلف في قوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} فيه استعارة تمثيلية، فقد شبه حالهم - والله تعالى يفيض عليهم الصبر - بحال الماء يصب ويفرغ على الجسم، فيعمه كله ظاهره وباطنه، فيلقي في القلب بردًا وسلامًا وهدوءًا واطمئنانًا. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وهو كناية (¬2) عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعليًا عليهم من الصبر .. سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها. {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فيه ثلاث تأكيدات .. التأكيد بإن، وباللام، وباسمية الجملة. اللهم كما وفقتني بابتدائه، فأكرمني بانتهائه، وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين (¬3). والله سبحانه وتعالى أعلم ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط. (¬3) تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه في تاريخ 11/ 4/ 1408 هـ وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. إلى هنا انتهى المجلد الثالث في تاريخ 9/ 1/ 1407 هـ.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر: أَخُو العِلْمِ حَيٌّ خَالدٌ بَعْدَ موتِه ... وأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ شعر: وعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... ولكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. المناسبةُ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لَمَّا ذكر اصطفاءَ طالوت على بني إسرائيل، وتفضيلَ داود عليهم بإيتائِه المُلْكَ والحكمة وتعليمِه، ثم خاطب نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأنه من المرسلين، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين المرسلين .. بيّن بأنَّ المرسلين متفاضلون أيضًا، كما كان التفاضل بين غير المرسلين، كطالوت وبني إسرائيل. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ...} مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: هو أنه لما ذُكِرَ أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الامتثال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه .. أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رَزَقَ، فشَمِلَ النفقةَ في الجهاد، وهي وإن لم ينص عليها مندرجةٌ في قوله: {أَنْفِقُوا}، وداخلة فيها دخولًا أوَّليًّا؛ إذ جاء الأمرُ بها عقب ذِكْر المؤمنِ والكافرِ، وَاقْتِتَالِهم. قال ابنُ جريج: والأكثرون على أن الآية عَامَّة في كل صدقة واجبة، أو تطوع.

[253]

التفسير وأوجه القراءة 253 - {تِلْكَ الرُّسُلُ}؛ أَي: جماعةُ الرسل المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وأتى بإشارة البعيد إشعارًا ببُعْدِ مرتبتهم في الكمال. {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في مراتب الكمال؛ بأن خصصناه بمنقبةٍ لَيْستَ لغيره؛ أيْ: لم نجعَلْهم سواءً في الفَضِيْلَة، وإنْ اسْتَوَوْا في القِيام بالرسالةِ؛ كالمؤمنين مُسْتوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان. فإن قلتَ (¬1): هذه الآيةُ يُعارضها ما ورد في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "لا تفضِّلوني على الأنبياء"، وفي لفظ آخر: "لا تُفَضِّلوا بينَ الأنبياءِ" وفي لفظ: "لا تخيَّروا بين الأنبياء"؟ قلتُ: لا تعارض بين القرآن والسُّنّة بوجهٍ من الوجوه؛ فالقرآنُ: فيه الإخبارُ من الله بأنه فضَّل بعضَ أنبيائه على بعضٍ، والسنةُ: فيها النهيُ لعباده أن يُفضّلوا بين أنبيائه، فمَنْ تعرَّض للجمع بينهما زاعمًا أنهما متعارضان فقد غَلِطَ غلطًا بَيِّنًا. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}. قرأ الجمهور: {كلّم} بالتشديدِ، ورفعِ الجلالة، والعائدُ على: {مَن} محذوفٌ؛ تقديره: مَنْ كلَّمه الله، وقُرىء بنصب الجلالة، والفاعل مستترٌ، يعود على {مَن}، وقرأ أبو المتوكل، وأبو {نَهْشَلٍ}، وابن السُّمَيْفِع شذوذًا: {كالم اللهُ} بالألف، ونَصْبِ الجلالة مِنَ المُكالمة، وهي: حُدُوثُ الكلامِ من اثنين، ومنه قيل: كَلِيْمُ الله؛ أَيْ: مُكالِمُهُ؛ فعيل بمعنى مُفاعل؛ أي: منهم من كَلَّمهم الله سبحانه وتعالى بلا واسطةٍ، كموسى؛ حيث كَلَّمه ليلةَ الحَيْرَةِ؛ وهي تحيُّره في معرفة طريقِه في مسيره من مَدْينَ إلى مصر، وفي الطور، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كلَّمه ليلة المعراج. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ} على بعض {دَرَجَاتٍ}؛ أي: في الدرجات، والفضائِل؛ كما ثبت (¬2) في حديث الإسراء حين رَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأنبياءَ في السموات بحسبِ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) ابن كثير.

تفاوت منازلهم عند الله عزّ وجلّ. وقال بعضُ المفسرين: أي رَفَع بعضَ الأنبياء والمرسلين على بعضهم الآخر في الدرجات والمنازل كإبراهيم؛ لأنه تعالى اتخذه خليلًا، ولم يُؤْتِ أحدًا مِثْلَه هذه الفضيلةَ، وإدريسَ فإنه تعالى رَفَعَهُ مكانًا عليًّا، وداودَ فإنه تعالى جَمَعَ له المُلْكَ والنُّبوةَ، ولم يَحْصُل هذا لغيره، وسليمانَ فإنه تعالى سخَّر له الإنسَ والجنَّ والطيرَ والرِّيْحَ، ولم يكنْ هذا حاصلًا لأبيه داود، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه تعالى خَصَّه بعُموم رسالته، وبأنَّ شرعه ناسخ لجميع الشرائع، ولكن هذا تفسيرٌ بالرَّأْيِ لا بالنَّقْلِ، والأَوْلَى تَرْكهُ مُبْهمًا كما أَبْهمَه سبحانه وتعالى، كما ذَكَره الشوكانيُّ. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}؛ أي: أعطيناه الآياتِ الباهرة، والمعجزاتِ الظاهرة الدالة على صدقه ونبوَّته، كإحياءِ الموتى، وإبراءِ الأكمه، والأبرص، والإخبار بالمغيبات. {وَأَيَّدْنَاهُ}؛ أي: قوَّيْنَاه. {بِرُوحِ الْقُدُسِ}، أي: بالروحِ المقدَّس، وأعَنَّاهُ بجبريل عليه السلام في أولِ أمره، وفي وَسطِه، وفي آخره؛ وهو نَفْخُ جبريل الروحَ في عِيْسى، وتعليمهُ العلومَ، وحفظُه من الأعداء، وإعانتُه ورفعُه إلى السماء حين أرادت اليهود قتله، فكان يسيرُ معه حيثُ سار. فإن قلتَ (¬1): لِمَ خُصَّ موسى وعيسى بالذِّكر من بين سائر الأنبياء؟ قلتُ: لَمَّا أوتيا من الآياتِ العظيمة، والمعجزاتِ الباهرة .. خُصَّا بالذكر في باب التفضيل. فعلى هذا: كل مَنْ كان من الأنبياء أعظمَ آياتٍ، وأكثرَ معجزاتِ .. كانَ أفضلَ؛ ولهذا أَحْرزَ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - قَصَباتِ السبق في الفَضْل؛ لأنه أعظم الأنبياءِ آياتٍ، وأكثرهم معجزاتٍ، فهو أفضلُهم - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} عَدَمَ (¬2) اقْتِتالِهم، أو هُدى (¬3) الناس جميعًا؛ أي: ولو أرادَ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) البيضاوي.

[254]

اللهُ ذلك {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: ما اختلَف الذين من بعدِ مجيءِ الرسل مِنَ الأممِ المختلفةِ اختلافًا مؤدِّيًا إلى الاقْتتالِ. فعَبَّرَ بالمُسَبِّبِ الذي هو الاقتتالُ عن السبب الذي هو الاختلافُ. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}؛ أي: مِنْ بعد ما جاءَتْهم المعجزاتُ الواضحة، والبراهينُ الساطعة التي جاءَتْهم بها رُسلُهم؛ بأَنْ جَعَلهم مُتَّفِقِينَ على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمةِ الحق. {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} في الدِّين. وهذا الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ ما قبلها ضِدٌّ لِمَا بعدها؛ لأن المعنى: لو شاء الاتفاقَ لاتفقوا، ولكنْ شاء الاختلافَ فاختلفوا بمشيئته، ثم بَيَّنَ الاختلافَ فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} بما جاءت به أولئك الرسلُ مِنْ كلِّ كتابٍ، وعملوا به، وثَبَتُوا عليه، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} بذلك بإعراضهِ عنه؛ لخذلانِ اللهِ إيَّاه؛ كالنصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرَقًا، ثُمَّ تحاربوا. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} قيل: هذه الجملةُ كُرِّرَتْ توكيدًا للأُولى، قاله الزمخشري. وقيل: لا توكيدَ، بل كُرِّر ذِكْرُ المشيئة باقتتالهم تكذيبًا لمَنْ زعم أنَّهم فَعَلوا ذلك من عند أنفسهم، ولم يوجبْه قضاءٌ مِنَ اللهِ؛ أي: ولو شاء الله عدمَ اقتتالهم بعدَ هذا الاختلافِ ما اقتتلوا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} لا رادَّ لحُكْمه، ولا مُبدِّل لقضائه، فهو يفعلُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد، فيوفِّقُ مَنْ يشاء، ويَخذلُ مَنْ يشاء، لا اعتراضَ عليه في فعله. 254 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصَدَّقوا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {أَنْفِقُوا}؛ أي: اصرِفُوا وتَصَدَّقُوا {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}؛ أي: مما أعطيناكم من الأموال في الخيرات {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ} أي: من قبل أن يجيء {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} وهو: يوم القيامة؛ أي: لا يُؤْخذ فيه بَدَلٌ، ولا فِداءٌ يَفْتَدي به الإنسانُ نَفْسَه مِنْ عذابِ اللهِ لو فُرِضَ، وإنما سمَّاه بيعًا؛ لأنَّ الفِداءَ شِراءُ النفس من الهلاك. والمعنى: قَدِّموا لأنفسكم اليوم من أموالكم، من قبل أن يأتي يومٌ لا تجارةَ فيه؛ فيكسب الإنسانُ ما يفتدي به من عذاب الله. {وَلَا خُلَّةٌ}؛ أي: ولا مَودّةَ ولا صَدَاقةَ تنفعُ يومئذٍ. قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}، وقال أيضًا؛ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}. {وَلَا شَفَاعَةٌ} للكافرين؛ أي: ولا تنفعهم شفاعةُ الشافعين. وقَرَأ ابن كثير،

وأبو عَمْرو ويعقوب: بالفتحِ بلا تنوينٍ في: بيعَ وخلةَ وشفاعةَ. وقرأ الباقون جميعًا: بالرفع، وهما لغتان مشهورتان متواترتان، ووجهان معروفان عند النحاة. {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يعني (¬1): والتاركونَ للزكاةِ هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، أو وضَعُوا المالَ في غير مَوضِعِهِ، وصَرَفُوه على غير وجهه، فوُضِع الكافرون موضِعَهم تغليظًا عليهم، وتهديدًا لهم، كقوله: و {مَنْ كفر} مكانَ ومَنْ لم يَحُجَّ، وإيذانًا بأنَّ تَرْك الزكاةِ مِنْ صفاتِ الكُفَّارِ لقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وأخرج (¬2) عبد بن حميد، وابنُ المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: قد عَلِم اللهُ أنَّ ناسًا يتخاللون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأمَّا يوم القيامة: فلا خُلَّةٌ إلا خُلَّةُ المتقين. وأخرج ابنُ جرير، وابنُ أبي حاتم، عن عطاءٍ قال: الحمد لله الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولم يقل: والظالمون هم الكافرون. الإعراب {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. {تِلْكَ}: مبتدأ. {الرُّسُلُ}: بدل منه، أو عطفُ بيانٍ، أو صفةٌ له {فَضَّلْنَا}: فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرُ المبتدأ، والجملةُ الإسميةُ مستأنفةٌ. {بَعْضَهُمْ}: مفعولٌ به، ومضافٌ إليه. {عَلَى بَعْضٍ} جارٌ ومجرورٌ متعلق بفَضَّلْنا. {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {كَلَّمَ اللَّهُ} فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ صلة الموصول، والعائدُ محذوفٌ: ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الشوكاني.

تقديره؛ كَلَّمهُ الله، والجملةُ من المبتدأ والخبر مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، أو في محل الرفع خبر ثانٍ لتلك الرسل. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ}: الواو عاطفة. {رفع}: فعلٌ ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. {بَعْضَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {دَرَجَاتٍ}: منصوبٌ بنزع الخافض؛ تقديره: في درجات، وجملة {وَرَفَعَ} معطوفةٌ على جملة {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}. {وَآتَيْنَا}: {الواو}: عاطفةٌ. {آتينا}: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا. {عِيسَى}: مفعول أول {ابْنَ}: صفةٌ له، وهو مضاف. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف: العلميةُ والتأنيث المعنوي. {الْبَيِّنَاتِ}: مفعول ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} على كونها مستأنفةً. {وَأَيَّدْنَاهُ}: {الواو}: عاطفةٌ. {أيدناه}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آتيناه}، {بِرُوحِ الْقُدُسِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلِّق بأيَّدْنا. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا}. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا اقْتَتَلَ}: ما: نافية. {اقْتَتَلَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجواب {لو} هنا منفيٌ بما، فالفصيح أنْ لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أنْ تدخل عليه اللام فيقول: لو قام زيدٌ لَمَا قامَ عَمْرٌو، وجملة {لو} مِنْ فعلِ شرطها وجوابها مستأنفةٌ. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلقٌ بمحذوف وجوبًا لوقوعه صلة الموصول. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اقتَتَلَ}. {مَا}: مصدرية. {جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} المصدرية، و {مَا} مع صلتها في تأويل مصدرٍ مجرور بالإضافة تقديره: مِنْ بعدِ مجيء البينات إيَّاهم. {وَلَكِنِ

اخْتَلَفُوا}: {وَلَكِنِ}: {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك. {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {لو}. {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. {فَمِنْهُمْ}: الفاء: عاطفةٌ تفصيليّة {منهم}: جار ومجرور خبرٌ مقدَّمٌ. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة الاستدراك. {آمَنَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول. {وَمِنْهُمْ} الواو: عاطفة، {منهم}: خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخَّر، والجملة معطوفة على جملة قوله {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ}، {كَفَر} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، والجملة صلة الموصول. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} {الواو}: عاطفة {لو} حرف شرط. {شَاءَ اللَّهُ} فعل شرطها. {مَا اقْتَتَلُوا} جوابها، وجملة {لو} معطوفة على جملة {لو} الأولى مؤكِّدةٌ لها. {وَلَكِنَّ اللَّهَ} {الواو}: عاطفة. {لكنَّ}: حرف نصب واستدراك. {اللَّهَ}: اسمها. {يَفْعَلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة خبر {لكن} وجملة {لكن} معطوفةٌ على جملة {لو} الثانية. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفةٌ لها، والعائد أو الرابط محذوفٌ؛ تقديره: ما يريده. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. {يَا أَيُّهَا}: يا: حرف نداء {أيُّ}: منادى نكرةٌ مَقْصُودَةٌ {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أيُّ: من الإضافة {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع، أو في محل النصب صفة لأي. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، وجملة النداء مستأنفةٌ. {أَنْفِقُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {مِمَّا}: جار ومجرور

متعلق بأنفقوا. {رَزَقْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفةٌ لها، والعائد أو الرابط محذوفٌ؛ تقديره: رزقناكموه. {مِنْ قَبْلِ} جار ومجرور متعلق أيضًا بأنفقوا، وجاز تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنىً؛ فإِنَّ الأُولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية. {أَن} حرف نصب ومصدر. {يَأْتِيَ يَوْمٌ} فعل وفاعل، منصوب بأن، والجملة في تأويل مصدر مجرور بالإضافة؛ تقديره: مِنْ قبل إِتْيَانِ يومٍ. {لَا بَيْعٌ فِيهِ} {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {بَيْعٌ}: اسمها. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}؛ تقديره: لا بيع موجودًا فيه، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل الرفع صفة ليوم تقديره: من قبل أن يأتي يوم موصوفٌ بعدم البيع فيه، وكذلك جملة قوله: ولا خلةٌ فيه، ولا شفاعةٌ فيه، في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {لَا بَيْعٌ فِيهِ} على كونها صفة ليوم تقديره: موصوف بعدم الخلة وبعدم الشفاعة فيه. {وَالْكَافِرُونَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فَصْلٍ، {الظَّالِمُونَ} خبره والجملة مستأنفةٌ. التصريف ومفردات اللغة {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا} التضعيف فيه للتعدية. {دَرَجَاتٍ}: جمع درجةٍ، وهي: المنزلة الرفيعة. {الْبَيِّنَاتِ}: جمع بَيِّنَة؛ وهي: المعجزة والحُجَّة. {وَأَيَّدْنَاهُ}: هو مِنَ التأييد بمعنى التَقْوِيَةُ، يُقال: أَيَّد الحقَّ - من باب فَعَّل المضعَّف - يؤيده تأييدًا إذا نَصَره وأظهره. {لَا بَيْعٌ فِيهِ} البيع معروف: وهو مقابلة مال بمال على وجه التمليك، والفعل منه: باع يبيع، وهو من الأجوف اليائي. ومَنْ قال: أَباعَ في معنى باع .. فقد أَخْطَأَ؛ لأنه لم يُسْمَع منهم. {وَلَا خُلَّةٌ}: الخُلَّة: الصداقة والمودة، سُمِّيتْ بذلك لأنها تتخلل الأعضاء؛ أي: تدخل خِلالَها ومنه الخليل. قال الشاعر: وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا {وَلَا شَفَاعَةٌ}: من الشَّفْع بمعنى: الضم؛ لانضمام الشافع إلى آخرَ ناصرًا

له، وسائلًا عونه، والشفاعة في اصطلاحهم: طلب الخير للغير من الغير. البلاغة {تِلْكَ الرُّسُلُ}: وأشار بتلك التي للبعيد؛ لبُعْد ما بينهم من الأزمان، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بُعْد مرتبتهم في الكمال، وأتى بتلك التي للواحدة المؤنثة وإنْ كانَ المشار إليه جمعًا؛ لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمهُ حكمُ الواحدة المؤنثة في الوَصْفِ، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك. وكان جمعَ تكسيرٍ هنا لاخْتِصَارِ اللفظِ، ولإزالةِ قلق التكرار؛ لأنه لو قال: أولئك المرسلون فضلنا .. كان في اللفظ طولٌ، وكان فيه التكرارُ. {فَضَّلْنَا}: فيه التفات؛ لأنه خروج إلى متكلِّم من غائب؛ إذ قبله ذُكِر لفظُ الله، وهو لفظٌ غائبٌ. {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}: هذا تفصيل لذلك التفضيل، ويسمى هذا في البلاغة: التقسيم، وكذلك في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}. وبَيْن لفظِ {آمَنَ} و {كَفَرَ} طِباقٌ، وفي قوله: {كَلَّمَ اللَّهُ} أيضًا: التفات؛ إذ هو خروج إلى ظاهرٍ غائبٍ منْ ضميرٍ متكلمٍ؛ لِمَا في ذِكْر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم، ولزوالِ قلق تكرار ضمير المتكلم؛ إذ كان التركيب فضَّلْنا وكلَّمنا ورَفَعْنَا وآتينا. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العَلَمُ الَّذي لا يَشْتَبه، والمتميِّز الذي لا يَلْتَبِسُ. وفي قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}: الإطنابُ حيث كَرَّر جملة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}. {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: فيه قصرُ الصفة على الموصوف، وقد أُكِّدتْ بالجملة الإسمية، وبضمير الفصل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}. المناسبة {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...} الآيات، مناسبةُ (¬1) هذه الآيات لِمَا قبلها: أنَّه تعالى لَمَّا ذكر أنه فَضَّل بعض الأنبياء على بعضٍ، وأنَّ منهم من كلَّمه، وفسِّر بموسى عليه السلام، وأنه رفع بعضهم درجاتٍ، وفسِّر بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ونصَّ على عيسى عليه السلام، وتفضيلُ المتبوعِ يُفهَمُ منه تفضيلُ التابعِ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعًا، وخرافاتٍ في أديانهم وعقائدهم، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعثَ إلى الناس كافَّةً، فكان منهم العرب، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهةً، وأشركوا، فصار جميع الناس المبعوث إليهم - صلى الله عليه وسلم - على غير استقامة في شَرائِعِهم وعقائدِهم، وذَكَر تعالى أنَّ {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وهم الواضعون الشيءَ في غير موضعه .. أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية المتضمَّنة بصفاته العليا من الحياة، والاستبداد بالملك، واستحالة كونه مَحَلًّا للحوادث، ومُلكِهِ لِمَا في السموات والأرض، وامتناع الشفاعة عنده إلا بإذنه، وسَعَة علمه، وعدم إحاطة أحد بشيءٍ من علمه، وباهر ما خلق من الكرسيِّ العظيم الاتساع، ووصفه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[255]

بالمبالغة في العلو والعظمة، إلى سائر ما تَضَمَّنتْهُ من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد، وعلى طرح ما سواها، وذَكَر أنه لا إكراه في الدين؛ فقد سطع نور الحق، وأشرق ضياؤه، فمَنَ تمسَّكَ به .. فقد استمسك بالعروة الوثقى، وذَكَر أنه وليُّ المؤمنين، وأن الكافرين لا وليَّ لهم إلا الطاغوت. أسباب النزول قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ...} روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تكون المرأة مقلاةً، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أنْ تُهوِّده، فلما أُجليتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندعُ أبنائنا، فَأَنْزَلَ الله {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ...}. وأخرج ابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت آية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجلٍ من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلمًا، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا أَسْتَكْرِههُما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية. قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ...} أخرج ابن جرير، عن عبدة، عن أبي لبابة في قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى، فلما جاءهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - .. آمنوا به، وأُنزلت فيم هذه الآية، وأخرج عن مجاهد قال: كان قومٌ آمنوا بعيسى، وقومٌ كفروا به، فلما بُعث محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - .. آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى، فأنزل الله هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 255 - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ومما ورد في فضل هذه الآية الكريمة: ما أخرجه مسلم عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب في صدري، وقال: "ليَهْنِكَ العلم يا أبا المنذر".

وما أخرجه أبو داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في صفة المهاجرين، فسأله إنسان: أيّ آية في القرآن أعظم؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ". وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قرأ حين يصبح آية الكرسي، وآيتين من أول: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} .. حُفظ يومه ذلك حتى يُمسي، ومن قرأها حين يمسي .. حُفظ ليلته تلك حتى يُصبح". وقال: حديث غريب. وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكلِّ شيءٍ سَنَام، وإن سَنَام القرآنِ البقرة، وفيها آيةٌ هي سيدة آيِ القرآن؛ آية الكرسي" والمراد منه: تعظيمُ هذه السورة. وقوله هي سيدة آي القرآن؛ أي: أفضله. وقال العلماء (¬1): إنما تميَّزتْ آيةُ الكرسيِّ؛ بكونها أعظمَ آية في القرآن؛ لِمَا جَمعتْ من أصول الأسماء والصفات، من الإلهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والقيومية، والملك، والقدرة، والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات؛ وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور، فما كان ذاكرًا له من توحيد وتعظيم .. كان أعظم الأذكار. وفي هذه الأحاديث حُجَّة لمن يقول: بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة. وقالوا أيضًا: معنى أن هذه الآية - أو هذه السورة - أعظمُ، أو أفضلُ هو: أنَّ الثواب المتعلق بها أكثر، وهذا هو المختار. ومعنى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة .. مُخبَرٌ عنه بكونه لا معبودَ بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، فجملة {لا} في محل الرفع خبرُ المبتدأ؛ نفى (¬2) الإلهية عن كل ما سواه، وأثبتَ الإلهية له ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

سبحانه وتعالى، فهو كقولك: لا كريم إلا زيدٌ، فإنه أبلغ من قولك: زيدٌ كريمٌ. {الْحَيُّ}؛ أي: الباقي على الأبد، الدائم بلا زوال، الذي لا سبيل إليه للموت والفناء، والحيُّ في صفة الله تعالى: هو الذي لم يزل موجودًا، وبالحياة موصوفًا، لم تحدثْ له الحياة بعد موتٍ، ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والعدم، فكل شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ سبحانه وتعالى. {الْقَيُّومُ}؛ أي: القائم (¬1) على كُلِّ نفسٍ بما كسبت. وقيل: القائم بذاته، المقيم لغيره. وقال مجاهد (¬2): القيوم: القائم على كلِّ شيءٍ؛ أي: القائم بتدبير خلقه في إيجادهم، وإرزاقهم، وجميع ما يحتاجون إليه. وقيل: هو القائم الدائم بلا زوال، الموجود الذي يمتنع عليه التغيير. وقرأ الجمهور (¬3): {الْقَيُّومُ} على وزن فيعول، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وعلقمة والنَّخَعِيُّ والأعمش شذوذًا {القَيَّام} بالألف، ورُوي ذلك عن عمر، وقرأ علقمة شذوذًا أيضًا {القَيِّمِ} كما تقول: دَيِّرْ ودَيَّار، ولا خلافَ بين أهل اللغة: أن القَيُّوم أعرف عند العرب، وأصحُّ بناءً، وأثبت عِلَّةً. وقال أمية: لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّوْمُ ... وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ إِلَّا لَأمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيْمُ {لَا تَأْخُذُهُ}؛ أي: لا تعتريه. {سِنَةٌ}؛ أي: نعاسٌ. {وَلَا نَوْمٌ} ثقيلٌ فيشغلَه عن تدبير خلقه وأمره؛ أَيْ: لا يأخذه نعاسٌ فضلًا عن أن يأخذه نوم؛ لأن النوم والسهو والغفلة محالٌ على الله تعالى؛ لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم، وذلك نقص وآفة، والله تعالى منزَّهٌ عن النقص والآفات، وأن ذلك تَغَيُّر، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن التغيُّر. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط مع الشوكاني.

وفي "الجمل" (¬1) قوله: {وَلَا نَوْمٌ} رتَّبَهما بترتيب وجودهما؛ إذ وجود السِّنَة سابق على وجود النوم، فهو على حدٍّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها؛ قصدًا إلى الإحاطة والإحصاء. والمعنى: أنه تعالى لا يغفل عن دقيق، ولا عن جليلٍ. عَبَّر بذلك عن الغفلة؛ لأنه سببها فأطلق اسم السبب على المسبِّب. والسِّنةُ: ما يتقدَّم النومَ من الفتور مع بقاء الشعور، وهو المسمَّى: بالنعاس. والنومُ: حالةٌ تعرض بسبب استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبة الأبخرة المتصاعدة، فتمنع الحواس الظاهرة من الإحساس رأسًا، ويمكن إيقاظ صاحبه. وقيل: النوم مزيل للقوة والعقل، وأمَّا السِّنة: ففي الرأس، والنعاس: في العين وقيل: السِّنةُ هي: النعاس. وقيل السِّنةُ: ريح النوم تبدو في الوجه، ثم تنبعث إلى القلب، فينعس الإنسان فينام. انتهى. وقال الشوكاني (¬2): وإذا ورد على القلب والعين دفعةً واحدة، فإنه يقال له: نوم، ولا يقال له: سِنة، فلا يستلزم نفيُ السِّنة نفيَ النوم، وقد ورد عن العرب نفيُهما جميعًا، ومنه قول زهير: لاَ سِنَةٌ طِوَالِ اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ ... وَلاَ يَنَامُ وَلاَ فِي أَمْرِهِ فَنَدُ فلم يكتفِ بنفي السِّنةِ. وأيضًا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السِّنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم؛ فقد يأخذه النومُ، ولا تأخذه السِّنة. فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السِّنة .. لم يُفِدْ ذلك نفيَ النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم .. لم يُفِدْ نفيَ السِّنة، فكم من ذي سِنة غير نائم، وكُرِّرَ حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. انتهى. وأخرج مسلم عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بخمس كلماتٍ فقال: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا ينام، ولا ينبغي ¬

_ (¬1) جمل. (¬2) فتح القدير.

له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور - وفي رواية: النار - لو كشفه .. لأحرقتْ سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". {لَهُ} سبحانه وتعالى، لا لغيره جميعُ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} السبع من الملائكة {و} جميع {ما في الأرض} من الخلق مَلِكًا ومُلْكًا. ذكر ما فيهما دونهما للردِّ على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء، والأصنام التي في الأرض؛ أي: فلا تصلح أن تكون معبودة؛ لأنها مملوكةٌ لله، مخلوقةٌ له. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ}؛ أي؛ لا يشفع عنده أحدٌ من أهل السموات والأرض يومَ القيامة. {إِلَّا بِإِذْنِهِ}، أي: إلا بأمره وإرادته تعالى، وهذا ردٌّ على المشركين؛ حيث زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فإنه تعالى لا يأذن لأحدٍ في الشفاعة إلا للمطيعين، وهو ما استثناه بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} يريد بذلك: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة، وشفاعة المؤمنين بعضهم بعضًا. وفي هذا (¬1) الاستفهام من الإنكار على مَنْ يزعم: أنَّ أحدًا من عباده يَقْدِر على أن ينفع أحدًا منهم بشفاعة أو غيرها، ومن التقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدَّفْع في صدور عُبَّادِ القبور، والصَّد في وجوهم، والفَتِّ في أَعْضَادِهِم ما لا يرتاد قدرهُ، ولا يبلغْ مَدَاه. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضميران لـ {{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، بتغليب العقلاء على غيرهم؛ أي: يعلم {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: ما هو حاضرٌ مشاهَدٌ لهم، وهو: الدنيا وما فيها. {وَمَا خَلْفَهُمْ}؛ أي: قُدَّامهم، وهو: الآخرة وما فيها. وقيل: بعكسه؛ لأنهم يُقْدِمون على الآخرة، ويُخَلِّفون الدنيا وراء ظهورهم. وقيل: يعلم ما كان قبلهم، وما كان بعدهم. وقيل: يعلم ما قَدَّموه بين أَيديهم من خيرٍ أو شرٍّ، وما خَلْفَهم مما هم فاعلوه. والمقصود من هذا: أنه سبحانه وتعالى عالمٌ بجميع المعلومات، لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال جميع خلقه، وكَنَّى بهاتين الجهتين عن سائر ¬

_ (¬1) فتح القدير.

جهات من أحاط علمه به. {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}؛ أي: لا يعلمون شيئًا قليلًا من معلوماته. {إِلَّا بِمَا شَاءَ} الله سبحانه وتعالى أن يُعْلِمَهم بها؛ أي: إنَّ أحدًا لا يحيط بمعلومات الله تعالى إلا ما شاء هو أن يُعْلِمَهم، أو المعنى: إنهم لا يعلمون الغيب إلا عند اطلاع الله بعض أنبيائه على بعض المغيبات؛ ليكون ما يُطلِعهم عليه من علمٍ غَيَّبَهُ دليلًا على نبوتهم؛ كما قال تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} سبحانه وتعالى: {السَّمَاوَاتِ} السبع {وَالْأَرْضَ}؛ أي: أحاط كرسيُّه، واشتمل عليهما لعظمته. وأصل (¬1) الكرسيِّ في اللغة: مِنْ تركب الشيء بعضه على بعضٍ، ومنه: الكُرَّاسة؛ لتركُّب بعض أوراقها على بعضٍ، والكرسيُّ في العُرْف: اسم لما يُقعد عليه، سُمِّيَ به لتركُّب خشباته بعضها على بعض. واختلفوا في المراد بالكرسيِّ هنا على أربعة أقوالٍ: أحدها: أنَّ الكرسيَّ: هو العرش. والقول الثاني: أن الكرسيَّ: غير العرش، وهو أمامه، وهو فوق السموات ودون العرش، فهو جسم عظيم تحت العرش، وفوق السماء السابعة، وهو أوسع من السموات والأرض. وقال ابن كثير: والصحيح: أن الكرسيَّ غيرُ العرش، والعرش أكبر منه، كما دلَّتْ على ذلك الآثار والأخبار. والقول الثالث: أنَّ الكرسي: هو الاسم الأعظم؛ لأن العلم يعتمد عليه، كما أن الكرسيَّ يُعتمد عليه. والقول الرابع: المراد بالكرسيِّ: المُلْك والسلطان والقدرة؛ لأن الكرسيَّ موضع السلطان، فلا يَبْعد أن يُكنى عن الملك بالكرسيِّ على سبيل المجاز. {وَلَا يَئُودُهُ}؛ أي لا يُثقله، ولا يُجهده، ولا يُتعبه، ولا يَشق عليه {حِفْظُهُمَا}؛ أي: حفظ السموات والأرض، فحَذَفَ الفاعلَ، وأضاف المصدرَ ¬

_ (¬1) الخازن.

[256]

إلى المفعول {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَلِيُّ}؛ أي: الرفيع فوق خلقه، الذي ليس فوقه شيءٌ فيما يجب له أن يوصف به، من صفات الجلال والكمال، فهو العليُّ بالإطلاق، المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد {الْعَظِيمُ}؛ أي: ذو العظمة والكبرياء، الذي لا شيء أعظم منه، أو الذي يستحقر كلَّ ما سواه بالنسبة إليه، فهو تعالى أعلى وأعظم من كلِّ شيء. ومن فضائلها أيضًا: أنه رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما قُرِئتْ هذه الآيةُ في دارٍ .. إلا هَجرتها الشياطينُ ثلاثين يومًا، ولا يدخُلُها ساحرٌ ولا ساحرة أربعينَ ليلةً". وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: سمعتُ نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: "مَنْ قرأ آية الكرسي في دُبُر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ .. لم يمنعْهُ من دخول الجنة إلا الموت"؛ أي: فإذا مات دخل الجنة، ولا يواظب عليها إلا صِدِّيقٌ أو عابدٌ، ومَنْ قرأها إذا أخذ مَضجِعه .. أُمِنَهُ على نفسه، وجاره، وجار جاره، والأبيات 256 - التي حوله. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ أي: لا إجبار على الدخول في دين الإِسلام؛ إذ الإكراهُ في الحقيقة: إِلْزَامُ الغيرِ فِعْلًا لا يَرى فيه خيرًا يَحْمِلُه عليه {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}؛ أي؛ قد تَميَّز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة؛ بكثرة الدلائل، والبراهين الساطعة. وقُرىء بسكون الشين، وبضمها، وبفتح الراء والشين، وكله عدا قراءة الجمهور شاذ، وقُرىء كذلك وبألف بعد الشين، وقُرىء بإدغام دال {قَد} في تاء {تَبَيَّنَ} لجميع القراء في المتواتر، وقُرىء بإظهارها شاذًا. وقال الشوكاني (¬1): وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوالٍ: الأول: أنها منسوخةٌ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أكره العرب على دين الإِسلام، وقاتلهم، ولم يرضَ منهم إلا الإِسلام، والناسخُ لها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا ¬

_ (¬1) فتح القدير.

الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}، وقد ذهب إلى هذا كثيرٌ من المفسرين. القول الثاني: أنها ليست بمنسوخةٍ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً، وأنهم لا يُكْرَهُون على الإِسلام إذا أَدَّوا الجِزْية، بل الذين يكرهون هم: أهلُ الأوثان، فلا يُقبل منهم إلا الإِسلام، أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاكُ. القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصةً، كما سبق لك بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها لِمَن أسلمَ تحت السيف؛ أنَّه مكرهٌ، فلا إكراه في الدين، إلى غير ذلك من الأقوال. والذي ينبغي اعتماده، ويتعيَّن الوقوف عنده: أنها في السَّبَبِ الذي نَزَلتْ لأجله، مُحْكَمةٌ غيرُ منسوخةٍ؛ وهو أن المرأة من الأنصار كانت مقلاةً، لا يكاد يعيش لها ولدٌ إلى آخر ما سبق {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}؛ أي: بالشيطان، أو الأصنام، أو بكلِّ ما عُبد من دون الله {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}؛ أي: ويُصدِّق بالله أنه ربه، ومعبودُه من دون كلِّ شيءٍ كان يعبده، وفيه: إشارةٌ إلى أنه لا بد للكافر أن يتوب أولًا عن الكفر، ويستبرأ منه، ثُمَّ يؤمنَ بعد ذلك بالله، فمَنْ فعل ذلك .. صحَّ إيمانه، وناسب ذلك أيضًا اتصاله بلفظ الغيِّ، ولم يَكْتَفِ بالجملة الأُوْلَى؛ لأنها لا تستلزم الجملة الثانية؛ إذ قد يَرْفُض عبادتَها، ولا يؤمن بالله، لكنَّ الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ}؛ أي: تَمَسَّكَ {بِالْعُرْوَةِ}؛ أي: بالعقدة {الْوُثْقَى}؛ أي: المحكمة {لَا انْفِصَامَ لَهَا}؛ أي: لا انقطاع لتلك العروة حتى تُوصله إلى الجنة؛ أي: فقد أخذ بالحبل الوثيق، الشديد المحكم المأمون، الذي لا انقطاع له؛ أي: فقد أَخَذ بالثقة بـ {لا إله إلا الله} التي لا انقطاع لصاحبها عن نعيم الجنة، ولا زوال عن الجنة، ولا هلاكَ بالبقاء في النار. وهذا تمثيلٌ للمعلوم بالنظر والاستدلال بالشاهد المحسوس حتى يَتَصَوَّره السامع كأنَّه ينظرُ إليه بعينه، فيُحْكِمُ اعتقاده. والمعنى: فقد عَقَد لنفسه من الدين

[257]

عِقدًا وثيقًا لا تَحُلُّه شُبْهةٌ {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر {عَلِيمٌ} بما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث، أو يقال: والله سميعٌ لدعائك يا محمَّد، عليمٌ بحرصك على إسلام أهل الكتاب؛ وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحِبُّ إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يسأل الله تعالى ذلك سِرًّا وَعلَانِيَةً. 257 - {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: الذين أرادوا أن يؤمنوا؛ أي: ناصِرُهم، ومعينُهم، ومحبُّهم، ومتولي أمورهم، وهِدَايتهم؛ كعبد الله بن سَلَام وأصحابه {يُخْرِجُهُمْ} بلطفه وتوفيقه {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ أي: من ظلمات الكفر والضلالة، واتباع الهوى، وقبول الوساوس والشُّبه المؤدية إلى الكفر. وجُمِعَتْ {الظُّلُمَاتِ} لاختلاف أنواع الضلالات {إِلَى النُّورِ}؛ أي: إلى نور الإيمان والهداية، ووُحِّد النور؛ لأن الإيمان واحدٌ لا يتنوع. وقال الواقدي (¬1): كلُّ شيءٍ في القرآن من الظلمات والنور .. فإنه أراد به: الكفر والإيمان، غير التي في الأنعام، وهو: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فإنه أراد به: الليل والنهار. وقال الواسطي: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها؛ كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة. وقال أبو عثمان: يُخرجهم من ظلمات الوَحْشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: والذين صَمَّموا على الكفر أمرَهُم، ككعب بن الأشرف وأصحابه. {أَوْلِيَاؤُهُمُ}؛ أي: ولاة أمورهم. {الطَّاغُوتُ}؛ أي: الشياطين، وسائر المضلين عن طريق الحق. وقرأ الحسن شذوذًا: {الطواغيت} بالجمع. {يُخْرِجُونَهُمْ} بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال، وأتى بضمير الجمع؛ لأن الطاغوت في معنى الجمع. {مِنَ النُّورِ} الفطري؛ أي: الذي جُبل ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عليه الناس كافةً، أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَى الظُّلُمَاتِ}؛ أي: إلى ظلمات الكفر، والانهماك في الضلال والشهوات، أو إلى ظلمات الشكوك والشبهات. {أُولَئِكَ} المذكورون من الطَّاغوت والكفار {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملَابِسُوها ومُلازِمُوها. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها أبدًا لا يموتون، ولا يخرجون بسبب مَا لَهُم من الجرائم. الإعراب {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {لَا}: نافية تعمل عمل إن. {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوفٌ جوازًا تقديره: موجودٌ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغٌ. {هُوَ} ضمير للمفرد المُنَزَّه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا} تقديره: لا إله موجودٌ هو إلا هو، وجملة {لَا} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مِنَ المبتدأ والخبر مستأنفةٌ استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. {الْحَيُّ}: صفةٌ أولى للمبتدأ الذي هو الله، مرفوعٌ. {الْقَيُّومُ}: صفةٌ ثانية له، وقيل (¬1): مرفوع على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من {هُوَ}، أو من {اللَّهُ}، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو، أو على أنه مبتدأ، والخبر: لا تأخذه. وأجود هذه الأوجه أولُها؛ أي: جعله صفة للمبتدأ، ويدل عليه قراءة من قرأ: {الحيَّ القيوم} بالنصب، فقطع على إضمار أمدح، فلو لم يكن وصفًا .. ما جاز فيه القطع، ولا يقال في هذا الوجه: الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر؛ لأن ذلك جائز حسن، تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}. {لَا}: نافيةٌ {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل. {وَلَا نَوْمٌ} {الواو}: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عاطفة. {لا}: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها {نَوْمٌ}: معطوف على {سِنَةٌ}، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ويجوز (¬1) أن تكون خبرًا آخر للفظ الجلالة، أو خبرًا لـ {الْحَيُّ}، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير المستتر في القيوم؛ أي: يقوم بأمر الخلق غير غافل. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو في محل الرفع خبر بعد خبر للفظ الجلالة. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. {مَنْ ذَا}: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ. {الَّذِي}: خبر له، والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {يَشْفَعُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَشْفَعُ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَشْفَعُ}. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأن عَلِم هنا بمعنى عَرَف. {بَيْنَ}: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، وهو مضاف. {أيدي}: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدَّرة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: معطوف على {مَا} الأولى. {خَلْفَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {وَلَا يُحِيطُونَ} {الواو}: استئنافية {لا}: نافية ¬

_ (¬1) العكبري.

{يُحِيطُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِشَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُحِيطُونَ}. {مِنْ عِلْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لشيءٍ؛ أي: بشيء كائن من معلوماته. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُحِيطُونَ}، ولا يضر (¬1) تعلُّق هذين الحرفين المتحدين لفظًا ومعنىً بعامل واحد؛ لأن الثاني ومجرورَه بدل من {شيءٍ} بإعادة العامل بطريق الاستثناء؛ كقولك: ما مررت بأحد إلا بزيد. {شَاءَ} فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد - أو الرابط - محذوف تقديره: إلا بما شاء. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {السَّمَاوَاتِ}: مفعول به {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه. {وَلَا يَئُودُهُ} {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {يَئُودُهُ}: فعل ومفعول. {حِفْظُهُمَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {وَسِعَ}. {وَهُوَ} {الواو}: استئنافية، {هو}: مبتدأ. {الْعَلِيُّ}: خبر أول. {الْعَظِيمُ}: خبر ثانٍ، أو صفة لـ {العلي}، والجملة مستأنفة. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}. {لَا}: نافية. {إِكْرَاهَ}: في محل النصب اسمها. {فِي الدِّينِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: لا إكراه كائن في الدين، والجملة مستأنفة {قد}: حرف تحقيق. {تَبَيَّنَ الرُّشْدُ}: فعل وفاعل {مِنَ الْغَيِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَبَيَّنَ}؛ لأنه بمعنى تميَّز، والجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأن هذه الجملة (¬2) كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، ولا موضع لها من ¬

_ (¬1) الكرخي. (¬2) النهر والبحر.

الإعراب. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} {فمن}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفتَ أنه لا إكراه في الدين، وأردت بيان حكم مَنْ كفر بالطاغوت .. فأقول لك: (من): اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {يَكْفُرْ}: فعل شرط مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على من. {بِالطَّاغُوتِ} متعلق بـ {يَكْفُرْ} {وَيُؤْمِنْ}: معطوف على {يَكْفُرْ} مجزومٌ بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يؤمن}. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {فَقَدِ}: الفاء: رابطة لجواب {مَن} وجوبًا؛ لاقترانه بقد. {قد} حرف تحقيق، {اسْتَمْسَكَ} في محل الجزم بـ {من} على كونه جوابًا له، وفاعله: ضمير يعود على {من}، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدَّرة مستأنفة. {بِالْعُرْوَةِ}: متعلق بـ {اسْتَمْسَكَ} {الْوُثْقَى}: صفة للعروة. {لَا انْفِصَامَ لَهَا} لا: نافية. {انْفِصَامَ}: في محل النصب اسمها {لَهَا}: جار ومجرور خبر {لَا} تقديره: لا انفصام كائن لها، وجملة {لَا} في محل النصب حال من {العروة}، والعامل فيها {اسْتَمْسَكَ}، أو حال (¬1) من الضمير المستتر في {الْوُثْقَى}، أو مستأنفة مُقرِّرةٌ لِمَا قبلها مِنْ وَثَاقة العروة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {سَمِيعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. {اللَّهُ وَلِيُّ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {يُخْرِجُهُمْ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة خبر (¬2) بعد ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البيضاوي.

خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو استئناف مبيَّن ومُقرِّرٌ للولاية. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: كلاهما متعلق بـ {يُخْرِجُهُمْ}. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة. {الذين}: مبتدأ أول. {كَفَرُوا}: صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَوْلِيَاؤُهُمُ}: مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه. {الطَّاغُوتُ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}. {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {يُخْرِجُونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، أو حال (¬1) من الطاغوت، والعامل فيه معنى الطاغوت؛ لأنه بمعنى المضلِّين، وهو نظير ما قاله أبو علي من نصب: {نَزَّاعَةً} على الحال، والعامل فيها {لظى}. {مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} جار ومجرور متعلقان بـ {يُخْرِجُونَهُمْ} {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {هُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}: وهو خبر المبتدأ والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {الْحَيُّ}: عينه ولامه ياءان؛ لأنه من: حَيِيَ بياءين، يحيا - من باب رضي - فهو حيٌّ. {الْقَيُّومُ}: على وزن فيعول؛ لأنه مِن قام بالأمر يقوم به إذا دَبَّره، وأصله: قيووم، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء فيها، فصار قيومًا. {سِنَةٌ}: أصله وَسْنة؛ لأنه من: وسن يسن، من باب: وعد يعد، فلما حُذفت الواو في المضارع حذفت في المصدر. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}: العلم هنا: مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: من معلوماته؛ كالخلق بمعنى: المخلوق، واللفظ بمعنى: الملفوظ. {وَلَا يَئُودُهُ}: في "المصباح": آده يؤده أودًا من باب: قال، فـ: انآد بوزن انفعل؛ أي: ثقل به، وآده أودًا إذا عطفه وحَنَاه. اهـ. {الْعَلِيُّ} هو فعيل؛ لأن أصله عليو؛ لأنه من: علا يعلو، اجتمعت الواو والياء وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، فأدغمت الياء فيها، فصار عليًّا. {بِالطَّاغُوتِ} والطاغوت (¬1): بناء مبالغة؛ كالجبروت والملكوت، واختُلِفَ فيه فقيل: هو مصدر في الأصل، فلذلك يؤنث ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسي، وقيل: هو اسم جنس مفرد، فلذلك لزم الإفراد والتذكير، وهذا مذهب سيبويه، وقيل: هو جمع، وقد يؤنث بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}، واشتقاقه من: طغى يطغى، كسعى يسعى، أو من: طغا يطغو على حسب ما فيه من الخلاف: هل هو من ذوات الواو، أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التقديرين فأصله: طَغْيُوتْ، أو طَغْوُوت؛ لقولهم: طغيان، فقلبت الكلمة: بأن قُدمت اللام وأُخرت العين، فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقلبت ألفًا، فوزنه الآن: فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدة، وإنما هي بدل من لام الكلمة، فوزنه: فاعول. {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: العروة في الأصل: موضع شد اليد، وأصل المادة تدل على التعلق، ومنه: عروته إذا ألممت به متعلقًا به، واعتراه الهمُّ إذا تعلق به. و {الْوُثْقَى}: على وزن فعلى للتفضيل، تأنيث الأوثق؛ كفضلى تأنيث الأفضل، وجمعها على: وُثَقَ؛ ككبرى وكُبَر، وأما وُثُق بضمتين: فجمع وثيقَ. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الولي: فعيل بمعنى فاعل، وهو الناصر. ¬

_ (¬1) سمين.

البلاغة {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}: وتقديم السّنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفى السّنة يدل على نفى النوم، ففي ذكره ثانيًا صريحًا إفادة المبالغة؛ أي: لا تأخذه سنَة فضلًا عن أن يأخذه نوم، وكُررت {لَا} تأكيدًا، وفائدتها: انتفاء كل واحد منهما على حِدَتِه؛ إذ لو أُسقطت {لَا} .. لاحْتُمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع. تقول: ما قام زيد وعمرو، بل أحدهما، ولا يقال: ما قام زيد ولا عمرو، بل أحدهما. {اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: هذا الكلام: إما من (¬1) باب الاستعارة التمثيلية، مبني على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم، وإما من باب الاستعارة المفردة؛ حيث استعيرت العروة الوثقى للاعتقاد الحق. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: فيه استعارة تصريحية؛ حيث شبَّه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور. قال في "تلخيص البيان": وذلك من (¬2) أحسن التشبيهات؛ لأن الكفر كالظلمة يتسكع فيها الخابط، ويضل فيها المقاصد، والإيمان كالنور الذي يَؤُمه الجائر، ويهتدي به الحائر، وعاقبة الإيمان مضيئة بالنعيم والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وقال أبو حيان (¬3): وذكروا في هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة، وعلم البيان: منها: في آية الكرسي حسن الافتتاح؛ لأنها افْتُتحِتْ بأجلِّ أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعًا، وتكرير الصفات، والقطع للجمل بعضها عن بعض، ولم يصلها بحرف العطف. ومنها: الطباق في قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} فإن النوم ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) تلخيص البيان. (¬3) البحر المحيط.

موت وغفلة، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} يناقضه، وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ}. ومنها: التشبيه في قراءة من قرأ شذوذًا: {وسْعُ كرسيهِ السمواتُ والأرضُ} بسكون السين وضم العين، والسموات والأرض بالرفع: مبتدأ وخبر؛ أي: كوسع كرسيه، فإن كان الكرسي جُرْمًا: فتشبيه محسوس بمحسوس، أو معنىً: فتشبيه معقول بمحسوس. ومنها: معدول الخطاب في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إذا كان المعنى لا تُكرهوا على الدين أحدًا. ومنها: الطباق في قوله أيضًا: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وفي قوله: {آمَنُوا} و {كَفَرُوا} وفي قوله: {الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. ومنها: التكرار في الإخراج لتباين تعليقهما. ومنها: التأكيد بالمضمر في قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}. المناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لَمَّا أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر أن الكفار أولياؤهم الطاغوت .. ذكر هذه القصة التي جَرَتْ بين إبراهيم والذي حاجه، وأنه نَاظَر ذلك الكافر فغلبه وقطعه؛ إذ كان الله وليَّه، وانقطع ذلك الكافر وبهت؛ إذ كان وليه هو الطاغوت. {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فصارت هذه القصة مثلًا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما. قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ...} وهذا إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه، وظاهره العموم، ومناسبة (¬2) هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة؛ لأنه ذكر حال مدع شركة الله في الإحياء والإماتة، مُموِّهًا بما فعله أنه إحياء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[258]

وإماتة، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك، فأخبر الله تعالى: أن من كان بهذه الصفة من الظلم، لا يهديه الله إلى اتباع الحق، ومثل هذا محتوم عليه عدم الهداية، مختوم له بالكفر. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها في غاية الظهور؛ إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى في قول إبراهيم لنمروذ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه، وفي حماره وإبراهيم عليه السلام أراه ذلك في غيره وقُدِّمت آية المار على آية إبراهيم عليه السلام، وإنْ كان إبراهيم عليه السلام مقدَّمًا في الزمان على المار؛ لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت وإنْ كان تعجب اعتبار فأشبهَ الإنكار، وإنْ لم يكن إنكارًا .. فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم عليه السلام. وأما إن كان المار كافرًا: فظهرت المناسبة أقوى ظهور، وأما قصة لُبَّة - أي شدة سؤاله - إبراهيم عليه السلام فهي سؤال لإرائه كيفية الإحياء؛ ليشاهد عيانًا ما كان يعلمه بالقلب، وأخبر به نمروذ. التفسير وأوجه القراءة 258 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}؛ أي: هل (¬2) انتهى إليك يا محمَّد خبر الذي خاصم إبراهيم في ربه وجادله؛ لأن {أَلَمْ تَرَ} كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها، فالهمزة لإنكار النفي، ولتقرير المنفي، أي: هل انتهى إليك يا محمَّد خبر هذا الطاغوت كيف تصدَّى لإضلال الناس، وإخراجهم من النور إلى الظلمات الذي حاج، وخاصم إبراهيم عليه السلام في معارضة ربوبية ربه؟ والهاء في {رَبِّهِ} يرجع إلى {إِبْرَاهِيمَ}، أو إلى {الَّذِي حَاجَّ} فهو ربهما. وقرأ علي بن أبي طالب شذوذًا: {ألم تَرْ} بسكون الراء، وهو من إجراء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

الوصل مجرى الوقف، وهذا استشهاد (¬1) على ما ذُكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وتقرير له؛ كما أن ما بعده وهو قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} استشهاد على ولاية الله للمؤمنين، وتقرير لها. وإنما بدأ بهذا؛ لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله، ولأن فيما بعده تعدد، أو تفصيلًا. والذي حاج إبراهيم عليه السلام هو: نمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام، وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض، وادَّعى الربوبية، ملك زمانه، وصاحب النار والعوضة، وكان ابن زنا، وهو أول من صَلَب، وقطع الأيدي والأرجل. {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}؛ أي: طغى، وادَّعى الربوبية، فحاج إبراهيم عليه السلام؛ لأنْ أعطاه الله الملك؛ أي: إنَّ إِيتَاءَ المُلْك له حَمَلَه على البطر، وأورثه الكِبْر والعتو، فحاج لذلك. وقال الزمخشري (¬2): فإن قلتَ: كيف جاز أن يؤتي الله المُلْك الكافرَ؟ قلتُ: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط، من المال والخدم والاتباع، وأما التغليب والتسليط: فلا، وقيل: مَلَّكه امتحانًا لعباده. انتهى. وقال مجاهد (¬3): مَلَك الأرض أربعة؛ مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان بن داود، وذو القرنين. وأما الكافران: فنُمروذ، وبختنصرُ. واختلفوا في وقت هذه المحاجة. فقيل: لما كَسَر إبراهيم الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه فقال له: مَنْ ربك الذي تدعونا إليه؟ قال إبراهيم: الذي يحيي ويميت. وقيل: كان هذا بعد إلقائه في النار، وخروجه منها سالمًا. وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام .. سأله: مَن ربك؟ فإن قال: أنت، باع منه الطعام. فأتاه إبراهيم، فقال له: مَنْ ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

ربك؟ فقال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت؛ كما ذكره تعالى بقوله: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} بفتح ياء ربي. وقرأ حمزة بسكونها، وقرىء شذوذًا بحذفا. و {إِذْ} ظرف لـ {حَاجَّ}؛ أي: ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر، ويحيه ويميته؛ كأنه قال: ربي الذي يحيي ويميت، هو متصرف فيك وفي أشباهك، بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك، من هذين الوصفين العظيمين المشاهدين للعالم، اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء، ولا طب الأطباء، وفيه إشارة أيضًا إلى المبدأ والمعاد. واختار إبراهيم من آيات الله الإحياء والإماتة؛ لأنهما أبدع آيات الله، وأشدها وأدلها على تمكُّن القدرة. {قَالَ} نمروذ اللعين {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} قرَأَ جمهورُ القُرَّاء (¬1): {أَنَا أُحْيِي} بطرح الألفِ التي بعد النون من {أَنَا} في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس. أراد (¬2) إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل، فيكون ذلك إحياءً، وعلى أن يقتل، فيكون ذلك إماتة. فكان هذا جوابًا أحمق، لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم؛ لأنه أراد غير ما أراده الكافر. فلو قال له: ربُّهُ الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء، وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسًا لخناقه وإرسالًا لعنان المناظرة. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} له ائتني ببيان ذلك، فدعا نمروذ برجلين من السِّجْنِ، فقتل أحدهما، وترك الآخر، قال: هذا بيان ذلك. قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ}، أي: يطلعها كل يوم من المشرق {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}؛ أي: فأطلعْها ولو يومًا واحدًا من المغرب إنْ كنت صادقًا فيما تدعيه من الربوبية، قال له ذلك؛ لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة. وكانوا أهل تنجيم (¬3). وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم. والحركة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) نسفي.

[259]

الشرقية المحسوسة لنا قسرية؛ كتحريك الماء النملَ على الرحى إلى غير جهة حركة النمل، فقال: إن ربي يحرك الشمس قسرًا على غير حركتها، فإن كنت ربًّا فحرِّكْها بحركتها فهو أهون {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}؛ أي: تحير نمروذ وسكت بغير حجة، فبقي مغلوبًا لا يجد للحجة مقالًا، ولا للمسألة جوابًا، ولم يقل: فبهت الذي حاج؛ إشعارًا بأن تلك المحاجة كُفْر. قراءة الجمهور (¬1): {فبُهت} مبنيًّا للمفعول، والفاعل المحذوف إبراهيم؛ إذ هو المناظِر له، فلما أتى بالحجة .. بهته بذلك وحيره وغلبه. ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف المصدرَ المفهوم من {قَالَ}؛ أي: فحيره قول إبراهيم وبهته. وقرأ ابن السميفع شذوذًا: {فبَهت} بفتح الباء والهاء، والظاهر أنه متعدٍّ كقراءة الجمهور مبنيًّا للمفعول؛ أي: فبهَتَ إبراهيمُ الذي كفر، فـ {الَّذِي} في موضع نصب، وقيل المعنى: فبهَتَ الكافرُ إبراهيمَ، أي: سَبَّ وقذف إبراهيم حين انقطعت الحجة، ولم تكن له حيلة. ويحتمل أن يكون لازمًا، ويكون الذي كفر فاعلًا، والمعنى فبهت؛ أي: أتى بالبهتان وقرأ أبو حيوة شذوذًا: {فبَهُت} بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بَهِت بكسر الهاء، وقرىء شذوذًا أيضًا فيما حكاه الأخفش {فبهِت} بكسر الهاء. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بالكفر إلى طريق الحجة؛ أي: لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان. بخلاف أولياؤه المتقين. قيل وعنى بالظالمين: نمروذ، ولكن الظاهر العموم، والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حَكَم عليه وقضى بأن يكون ظالمًا، أي: كافرًا، وقدَّر أن لا يسلم، فإنه لا يمكن أن تقع هداية من الله له {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}. 259 - {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قرأ الجمهور {أَوْ} ساكنة الواو. قيل ومعناها التفضيل، وقيل التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما. وقرأ (¬2) أبو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

سفيان بن حسين شذوذًا {أوَ كالذي} بفتح الواو، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التَّقْرِيرِ، والكاف بمعنى إلى فهو معطوف على قوله: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: أَلَمْ ينتهِ علمك يا محمَّد إلى قصة الذي حاج إبراهيم، وإلى قصة الذي مرَّ وجاوز على قرية وهو عزير بن شرخيا؟ والقرية: هي بيت المقدس حين خربه بُخْتُنَصَّرُ، أو القريةُ التي أَهْلَكَ اللهُ فيها الذين خَرجُوا مِنْ دِيارَهِم حذَرَ الموتِ، أَيْ: هل انْتَهى إليك يا محمَّد خَبرُهُ وقصتُه كيف هداه الله وأخرجه من ظلمةِ الاشتباهِ إلى نور العيان؟. ومقصود القصة (¬1): تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى على إحياء خلقه بعد إماتتهم، لا تعريف اسم ذلك المار في هذه القصةِ دلالة عظيمة بنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أخبر اليهود بما يجدونه في كتبهم ويعرفونه، وهو أميٌّ لم يقرأ الكتب القديمة. {وَهِيَ}؛ أي: والحال أن تلك القرية {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}؛ أي: خالية ساقطة جدرانها على سقوفها؛ وذلك أن السقوف سقطت أولًا، ثم وقعت الحيطان عليها بعد ذلك. {قَالَ} ذلك المار {أَنَّى يُحْيِي}؛ أي: كيف يحيي {هَذِهِ} القرية الخاوية {اللهُ} سبحانه وتعالى {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: قال كيف يحي الله سبحانه وتعالى أهل هذه القرية بعد موتهم!! تعجبًا من قدرة الله تعالى على إحيائها، واستعظامًا لقدرته، واعترافًا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء؛ وذلك (¬2) لِمَا رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبُعدها عن العود إلى ما كانت عليه. {فأماته الله} مكانه فالبثه ميتًا {مائة عامٍ} وعمرت القرية بعد مضى سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجع بنوا إسرائيل إليها {ثُمَّ بَعَثَهُ}؛ أي: أحياه في آخر النهار، فلما (¬3) بعثه الله عَزَّ وَجَلَّ بعد موته، كان أول شيء أحيا الله فيه: عينيه؛ لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحي بدنه، فلما استقل سويًّا {قَالَ} الله تعالى له بواسطة المَلَك: يا عزير {كَمْ لَبِثْتَ} أي: مكثت هنا بعد الموت؛ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) ابن كثير. (¬3) ابن كثير.

أي: كم قدر الزمان الذي مكثت فيه هنا ميتًا قبل أن أبعثك من مكانك حيًّا؟ {قال} عزير {لَبِثْتُ يَوْمًا} واحدًا؛ وذلك أن الله تعالى أماته ضحىً في أول النهار، وأحياه بعد مئة سنة في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس، فقال: لبثت يومًا، وهو يرى أن الشمس قد غابت، ثم التفت في أي بقية من الشمس، فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}؛ أي: بل لبثت بعض يوم، وظن أن الشمس شمسُ يوم إِماتته {قَالَ} الله تعالى له بواسطة الملك {بَلْ لَبِثْتَ}؛ أي: مكثت ميتًا هنا {مِائَةَ عَامٍ}. و {بَل} هذه عاطفة لهذه الجملة على جملة محذوفة تقديرها: قال ما لبثت هذه المدة، بل لبثت مئة عام. وقرأَ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار التاء في لبثتَ، وهو أَحْسَنُ لِبُعْدِ مخرج الثاءِ من مخرجِ التاءِ، قاله الشوكاني ولعلهم رأوه أسهل؛ لأن كلا القراءتين متواتر؛ فلا تفاضل بينهما. وقرَأَ الباقون بإدغام الثاءِ في التاء لِتقارُبِهما في المخرجِ. {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} أَيْ التِّين والعِنبِ الذي كان معه قبلَ موته، {وَشَرَابِكَ}؛ أي: العصيرِ {لَمْ يَتَسَنَّهْ}؛ أَيْ: لم يتغيَّرْ، ولم ينضُب في هذه المدةِ المتطاولةِ، فكان التين والعنب كأنه قد قطف من ساعته، والعصير كأنه عُصر مِنْ ساعتِه، واللبن كأنه قد حُلب من ساعته. وقرأ ابن مسعود: {وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه}، وقرأ طلحة ابن مصرف {وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة}، وروي عن طلحة أيضًا أنه قرأ: {لم يَسَّنَّ} بإدغام التاء في السين، وحذف الهاء، وكل هذه القراءات شاذة عدا قراءة الجمهور. وقراءة الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف في المتواتر بحذفها وصلًا فقط. والتَّسَنُّهُ: مأخوذ من السَّنَة؛ أي: لم تغيره السنون، أو المعنى على التشبيه؛ كأنه لم تمرَّ عليه المئة سنة لبقائه على حاله، وعدم تغيره، وإنْ شككت فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير بمرور الزمان، وكان معه عنب وتين وعصير، فوجدها على حالها لم تفسد. {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} كيف تقطعت أوصاله، وكيف تلوح عظامه بيضاء، فنظَرَ فإذا هو عظامٌ بِيضٌ، فركَّب الله تعالى العظامَ بعضَها على بعض، ثم كساها اللحم

والجلدَ، وأحياه وهو ينظر. فعلنا ذلك - الإحياء - لتُعاين ما ابتعدته من الإحياء بعد دهر طويل {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}؛ أي: ولكي نجعلك علامة للناس في إحياء الموتى، وأنهم يحيون على ما يموتون لأنه مات شابًّا، وبعث شابًّا، وعبرة للناس؛ لأنه كان ابن أربعين سنة حين أماته الله، وابنُه ابنُ مئة وعشرين سنة حين بعثه الله. وقيل: إنه أتى قومه راكبًا حماره وقال: أنا عزير. فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه، ولم يحفظها أحد قبله، وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخًا وهو شاب. {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ}؛ أي: عظام الحمار، أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم {كَيْفَ نُنشِزُهَا} قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي المنقوطة؛ أي: كيف نرفع بعضها على بعض، ونركبه عليه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {ننشرها} بالراء المهملة؛ أي: كيف نحييها ونخلقها؟ مِنْ أنشر الله الموتى إذا أحياهم. وروى أبان عن عاصم {نَنْشُرُها} بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الشين والراء، من نشَرَ بمعنى: أَحْيَا وهي قراءة شاذة، وقرأ أُبي شذوذًا: {كيف ننشيها} بالياء؛ أي: نخلقها، وقال بعضهم: العظام لا تحيى على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، فالزاي أولى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء. {ثُمَّ نَكْسُوهَا}؛ أي: العظام {لَحْمًا}؛ أي: ننبت عليها العصب والعروق واللحم والجلد والشعر، ونجعل فيه الروح بعد ذلك. والمعنى: ثم نستر العظام باللحم كما يستر الجلد باللباس. وفي الآية (¬1): تقديم وتأخير، تقديره: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها، ولنجعلك آية للناس {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ}؛ أي: فلما اتضح له عيانًا ما كان استغربه أولًا من إحياء القرية، ورآه عيانًا في نفسه {قَالَ} عُزيرٌ {أَعْلَمُ} علم (¬2) مشاهدة بعد العلم اليقيني الحاصل بالفطرة والأدلة العقلية {أَنَّ اللَّهَ عَلَى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

[260]

كُلِّ شَيْءٍ} من الإماتة والإحياء {قَدِيرٌ} قرأ الجمهور (¬1): {تَبَيَّنَ} مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن عباس شذوذًا {تُبِيِّن له} مبنيًّا للمفعول، وقرأ ابْنُ السُّميفع شذوذًا أْيضًا {بُيِّن له} مبنيًّا للمفعول بغير تاء. وقرأ الجمهور {أَعْلَمُ} مضارعًا، فيه ضمير المار. وقال ذلك على سبيل الاعتبار، وقرأ حمزة والكسائي (¬2): {اعلم} من: عَلِم الثلاثي أمرًا من الله، أو من المَلَك عن الله، أو منه لنفسه؛ نزَّلها منزلة الأجنبي المخاطب، وقرىء شذوذًا {أْعْلِمْ} أمرًا من: أعلَمَ الرباعي؛ أي: قال الله له: أعلِمْ غيرك بما شاهدته من قدرة الله تعالى. 260 - {و} اذكر يا محمَّد قصة {إذ قال إبراهيم} الخليل عليه السلام؛ أي: طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} سأله عن إراءَة كيفية الإحياء مع إيمانه الجازم بالقدرة الربانية، فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان. قال الحسن (¬3) والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج: سبب سؤاله: أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر، وقد توزعها دواب البحر والبر، فإذا مدَّ البحر .. أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر .. جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت السباع .. جاءت الطيور، فأكلت وطارت، فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها، وقال: يا رب، إني قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطيور وأجواف الدواب، فأرني كيف تحييها؛ لأعاين ذلك، فأزداد يقينًا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}؛ أي: أتسالني عن ذلك، لم توقن وتصدق بقدرتي على الإحياء. {قَالَ} إبراهيم {بَلَى} يا رب آمنت وصدقت أنك {قادر} على الإحياء، وليس سؤالي لعدم إيماني بذلك {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}؛ أي: ولكن سألتك عن ذلك؛ ليوقن قلبي ويزداد طمأنينةً وبصيرةً بمُضامَّةِ العِيان إلى الوحي والاستدلال، أو سألتك لتسكن حرارة قلبي، وأعلم بأني خليلك مجاب الدعوة والمطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريًّا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النهر. (¬3) مراح وخازن.

فإن قلتَ: كيف قال {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} وقد علم أنه أثبت الناس إيمانًا؟ قلتُ: ليجيب بما أجابه به؛ لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. قال الله سبحانه وتعالى: إن أردت ذلك يا إبراهيم {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} أشتاتًا. قال مجاهد: كانت طاووسًا وغرابًا وحمامة وديكًا؛ أي: خذ أربعة أنواع من الطيور {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}. قرأ حمزة: {فصِرهن} بكسر الصاد، ومعناه: قطعهن ومزقهن. وقرأ الباقون بضمها، وتخفيف الراء، ومعناه: اضْمُمْهُنَّ وأملهنَّ إليك واجمعهن عندك؛ أي: خذ أربعة أنواع منها، واضممهُنَّ إليك، واجمعهن عندك، ثم اذبحهن، وقطع لحومهن، واخلط بعضهن ببعض حتى يصبحن كتلة واحدة (¬1). وقرأ ابن عباس وقوم شذوذًا {فصُرَّهن} - بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها - من: صَرَّه يصُره ويصِره إذا جمعه، نحو: ضرَّه يضِره ويضُره، وعنه أيضًا: {فصَرَّهن} - بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها -: من الصرِيَةِ. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ}؛ أي؛ ضع على كل جبل من الجبال التي بحضرتك؛ أي: على أربعة أجبل من الجبال التي بقربك {مِنْهُنَّ جُزْءًا}؛ أي: جزءًا من لحومهن المجزأة. وقرأ الجمهور {جُزْءًا} بإسكان الزاي وبالهمزة، وضم أبو بكر شعبة الزاي فقرأ: {جزُءا}. وقرأ أبو جعفر {جزّا} بحذف الهمزة وتشديد الزاي؛ أي: جزِّىء لحومهن، وفرقهن على رؤوس الجبال {ثُمَّ ادْعُهُنَّ}؛ أي: نادهن بأسمائهن، وقيل لهن: تعالين بإذن الله تعالى: {يَأْتِينَكَ}؛ أي: يجئن إليك مشيًا أو طيرانًا {سَعْيًا}؛ أي؛ حالة كونهن ساعيات مسرعات إليك في مشيهن، أو طيرانهن. وقيل معنى: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا}؛ أي: مشيًا سريعًا ولم تأتِ طائرة ليتحقق أن أرجلهن سليمة في هذه الحالة. {وَاعْلَمْ} يا إبراهيم {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}؛ أي: غالب على جميع الممكنات، لا يعجزه شيء عما يريده {حَكِيمٌ} في تدبيره وصنعه، عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء. روي أنه عليه السلام أمر بذبحها، ونتف ريشها، وتقطيعها جزءًا جزءًا، وخلط دمائها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ولحومها، وأن يمسك رؤوسها بيده، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعًا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله تعالى، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها سعيًا على أرجلها، وانضم كل رأس إلى جثته، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. {أَلَمْ}: الهمزة للاستفهام التقريري التعجبي {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة {إِلَى الَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {تر}. {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {فِي رَبِّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {حَاجَّ}. {أَنْ آتَاهُ}: {أَنْ}: مصدرية. {آتَاهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {الْمُلْكَ} مفعول ثانٍ، والجملة صلة {أَنْ} المصدريةُ {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة تقديره: لأجل إيتاء الله إياه الملك، والجار والمجرور متعلق بـ {حَاجَّ}. {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى، متعلق بـ {حَاجَّ}. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل جر مضاف إليه {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} مقول محكي، وإن شئت قلتَ {رَبِّيَ}: مبتدأ ومضاف إليه {الَّذِي}: خبر، والجملة في محل النصب مقول القول. {يُحْيِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة له. {وَيُمِيتُ}: معطوف على {يُحْيِي}. {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نمروذ اللعين، والجملة

مستأنفة {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}: مقول محكيٌ، وإن شئتَ قلتَ: {أَنَا}: ضمير منفصل في محل الرفع مبتدأ، والاسم منه أنْ، والألف زائدة لبيان الحركة في الوقف؛ ولذلك حذفت وصلًا، والصحيح أنَّ فيه لغتين: إحداهما: لغة تميم وهي إثبات أَلِفِه وصلًا ووقفًا. والثانية: إثباتها وقفًا، وحذفها وصلًا. وقيل بل {أَنَا} كله ضمير، وفيه لغات: أنا، وأنْ؛ كلفظ أنْ الناصبة وآن، وكأنه قدم الألف على النون فصار آن مثل آن، المراد به: الزمان، وقالوا: آنه، وهي هاء السكت، لا بدل من الألف. اهـ "سمين". وجملة {أُحْيِي}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول {وَأُمِيتُ}: معطوف على أحي. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}: مقول محكي لـ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وإنْ شئت قلت: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ}. الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أَفْصَحت عن شرطٍ مقدَّرٍ تقديره: إذا كنت قادرًا كقدرة الله .. فأقول لك: {إن الله} {إن}: حرف نصب وتوكيد {اللَّهَ}: اسمها. {يَأْتِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} {بِالشَّمْسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَأْتِي} وجملة {يَأْتِي}: في محل الرفع خبر {إن} تقديره: فإن الله آتٍ بالشمس، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {مِنَ الْمَشْرِقِ}: متعلق بـ {يَأْتِي} أيضًا {فَأْتِ بِهَا} الفاء: عاطفة {ائت}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على الكافر اللعين. {بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}: كلاهما متعلق بـ {ائت}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة إن على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}. {فَبُهِتَ}: الفاء: حرف عطف وتقريع. {بهت الذي}: فعل وفاعل،

وهذا (¬1) الفعل من جملة الأفعال التي جاءت على صورة المبني للمفعول، والمعنى فيها على البناء للفاعل؛ فلذلك فسَّروه بدَهِش وتَحيَّر. فـ {الَّذِي كَفَرَ}: فاعل، لا نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}. {كَفَرَ}: فعلٌ ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة له. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ. {لَا}: نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الله. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الظَّالِمِينَ}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل وتخيير في التعجب، {الكاف}: زائدة، {الذي}: في محل الجر معطوف على الموصول في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مرَّ على قرية، وإنْ شئت قلت: الكاف حرف جر معنًى، {إِلَى الَّذِي}: في محل الجر بالكاف، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}؛ لأن حروف الجر بعضها يتقارض عن بعض، كما هو كثير في كلامهم، كما أشرنا إلى هذا الوجه الأخير في محل التفسير {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} {الواو}: حالية. {هي}: مبتدأ. {خَاوِيَةٌ}: خبره، والجملة (¬2) في محل النصب حال من الفاعل الذي في {مَرَّ}، أو من {قَرْيَةٍ}، ولكن مجيءَ الحال من النكرة إذا تأخَّرَتْ قليل، وقيل: الجملة في محل الجر صفة لـ {قَرْيَةٍ}، ويُبعِد هذا القولَ الواوُ. {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط.

{قَالَ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة مستأنفة. {أَنَّى يُحْيِي} إلى قوله: {مَوْتِهَا}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى متى في محل النصب على الظرفية الزمانية، أو بمعنى كيف في محل النصب حال من {هَذِهِ}، وعلى كِلا التقديرين، فالعامل فيه {يُحْيِي}. {يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول {بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يُحْيِي}. {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}. {فَأَمَاتَهُ}: الفاء: عاطفة تفريعية، {أماته الله}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}. {مِائَةَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {أماته}. {عَامٍ} مضاف إليه. {ثُمَّ بَعَثَهُ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {بَعَثَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {فَأَمَاتَهُ}. {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {كَمْ لَبِثْتَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {كَمْ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {لَبِثْتَ}؛ أي: كم مدة لبثت. {لَبِثْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة مستأنفة {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَبِثْتُ} فعل وفاعل {يَوْمًا}: ظرف متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوْ}: حرف عطف بمعنى بل: التي للإضراب {بَعْضَ}: معطوف على {يَوْمًا} وهو مضاف. {يَوْمٍ} مضاف إليه. {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}.

{قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} إلى قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {لَبِثْتَ}: فعل وفاعل. {مِائَةَ عَامٍ}: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {لَبِثْتَ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة هي مقول {قَالَ} تقديرها: قال: ما لبثتُ يومًا أو بعض يوم، بل لبثتُ مئة عام. {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} الفاء: عاطفة. {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة معطوفة على جملة {بَلْ لَبِثْتَ} على كونها مقول القول لـ {قَالَ}. {إِلَى طَعَامِكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {انظر}، {وَشَرَابِكَ}: معطوف على طعامك {لَمْ يَتَسَنَّهْ} {لَمْ}: حرف نفي وجزم {يَتَسَنَّهْ} فعل مضارع مجزوم بسكون آخره؛ أعني: الهاء؛ لأنها أصلية، وفاعله ضمير يعود على الطعام والشراب، والجملة في محل النصب حال من {طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} تقديره: حالة كونهما غير مُتسنِّهَين؛ أي: متغيِّرين. {وَانْظُرْ} {الواو}: عاطفة. {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَانْظُرْ}. {إِلَى حِمَارِكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {انظر}. {وَلِنَجْعَلَكَ} {الواو}: عاطفة، اللام: لام كي، {نجعلك}: فعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {آيَةً}: مفعول ثانٍ. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور صفة لـ {آية}، وجملة {نجعلك} صلة أنْ المصدرية، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولجعلنا إياك آية للناس، والجار والمجرور (¬1) معطوف على مقدَّر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف، مُقَرِّر لمضمون ما سَبَقَ؛ تقديرهُ: فعلْنَا بك ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر؛ لتعاين ما ابتعدته من الإحياء بعد دهر طويل، ولنجعلك آية للناس. {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} {الواو}: عاطفة، {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ}. {إِلَى الْعِظَامِ}: جار ومجرور متعلق ¬

_ (¬1) أبو السعود.

به. {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} {كَيْفَ}: في محل النصب على الحالية، وصاحب الحال مفعول {نُنْشِزُهَا}، {نُنْشِزُهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر بدل من {الْعِظَامِ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {نَكْسُوهَا لَحْمًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله {كَيْفَ نُنْشِزُهَا}. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {فَلَمَّا}: الفاء؛ عاطفة، {لما}: حرف شرط غير جازم {تَبَيَّنَ}: فعل ماضٍ له متعلق به، وفاعله ضمير يعود على معلوم من السياق تقديره: فلما تبين له كيفية الإحياء التي استغربها. والجملة فعل شرط لـ {لمَّا} لا محل لها من الإعراب. {قَالَ} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة جواب {لمَّا} لا محل لها من الإعراب. وجملة {لمَّا} - من فعل شرطها وجوابها - معطوفة على (¬1) مقدَّر يقتضيه المقام تقديره: فأنشزها الله تعالى، وكساها لحمًا، فنظر إليها، فتبين له كيفية الإحياء، فلما تبين له؛ أي: اتضح له اتضاحًا تامًّا .. قال: أعلم .... الآية. {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلتَ: {أَعْلَمُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المار، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}، وهو خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} - من اسمها وخبرها - في تأويل مصدر سادٌّ مسد مفعولي {أَعْلَمُ} تقديره: أعلم قدرة الله على كلِّ شيء. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}. {وَإِذْ}: {الواو}: عاطفة قصةً على قصة، أو استئنافية. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد قصة {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه ¬

_ (¬1) الجمل.

لـ {إذ}، {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء؛ لكثرة الاستعمال، منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدَّرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَرِنِي}: فعل، ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. وأرى هنا: بصرية (¬1) متعدية لواحد، وبدخول همزة النقل عليها طلبت مفعولًا آخر هو: جملة الاستفهام. {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب على الحال بـ {تُحْيِ}. {تُحْيِ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْمَوْتَى}: مفعول به، وجملة {تُحْيِ} في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {أرني} تقديره: ربِّ أرني كيفية إحيائِك الموتى. وجملة رأى في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} قَالَ: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئتَ قلتَ: الهمزة للاستفهام التقريري؛ كالهمزة في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}. والواو: عاطفة على محذوف تقديره: أتسأل، و {لم تؤمن} {لم}: حرف نفي وجزم {تُؤْمِنْ} مجزوم بلم، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. {قَالَ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة {بَلَى}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {بَلَى}: حرف جواب لإثبات النفي، ومدخولها محذوف تقديره: بلى آمنت. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {لِيَطْمَئِنَّ} اللام: لام كي. {يطمئن}: فعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {قَلْبِي}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة أن المضمرة تقديره: ولكن لاطمئنان قلبي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: ولكن سألتك لاطمئنان قلبي، وجملة الاستدراك معطوفة ¬

_ (¬1) أبو السعود.

على محذوف تقديره؛ بلى آمنت، وما سألت عن غير إيمان، ولكن سألتُ ليطمئن. {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَخُذْ} الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن أردت ذلك .. {خذ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة في محل الجزم جواب لذلك الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مع جوابه في محل النصب مقول قال. {أَرْبَعَةً}: مفعول به. {مِنَ الطَّيْرِ}: جار ومجرور صفة لـ {أربعة}. {فَصُرْهُنَّ}: الفاء: عاطفة، {صرهن}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً}. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {اجْعَلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة معطوفة على جملة {صرهن}. {عَلَى كُلِّ جَبَلٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {اجعل}. {مِنْهُنَّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {جُزْءًا}؛ لأنه نعت نكرة فلما قُدِّم عليها .. نصب حالًا. {جُزْءًا}: مفعول به لـ {اجعل}؛ لأنه بمعنى ألقِ، فيتعدى لمفعول واحد. {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {ثُمَّ}: حرف عطف {ادْعُهُنَّ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ}. {يَأْتِينَكَ} فعل، وفاعل، ومفعول. في محل الجزم بالطلب السابق {سَعْيًا}: حال من ضمير الفاعل، أو منصوب على المصدر النوعي؛ لأنه من الإتيان؛ إذ هو إتيان بسرعة، فكأنه قيل: يأتينك إتيانًا سريعًا. {وَاعْلَمْ} {الواو}: عاطفة. {اعلم}: فعل

أمر، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {أَنَّ}: حرف فصب ومصدر {اللَّهَ}: اسمها {عَزِيزٌ}: خبر أول لها. {حَكِيمٌ}: خبر ثانٍ، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدرٍ سَادٍّ مسَدَّ مفعولَي {اعلم} تقديره: واعلم كون الله عزيزًا حكيمًا. التصريف ومفردات اللغة {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}: يقال حاجَّةُ محاجة إذا خاصمه وجادله. من باب: فَاعَل. والمحاجة: الغالبة من الجانبين. ومعنى: {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}؛ أي: عارض حجته بمثلها، أو أتى على الحجة بما يبطلها، أو أظهر المغالبة في الحجة، ثلاثة أقوال. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}: على صورة المبني للمفعول، ومعناه على البناء للفاعل؛ كما سبق. وفي "القاموس": والبهت: الانقطاع والحيرة. وفعلُهما كعَلِم ونَصَر وكَرُم وزَهَي. وهو مبهوت، لا باهت ولا باهيت. اهـ. {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}: وأصل القرية من قريت الماء إذا جمعته، فالقرية مجتمع الناس {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وفي "المصباح": خوت الدار تخوى من باب: ضَرَب خَوْيًا إذا خلت من أهلها، أو سقطت. وخواء أيضًا: بالفتح والمد. وخويت خوىً من باب: تعب لغة اهـ. والعُروشُ: جمعُ عرش: وهو سقف البيت، وكذلك كل ما هيء ليُستظل به. وقيل: هو البنيان نفسه. {لَمْ يَتَسَنَّهْ} واشتقاقه من: السَّنَه، والهاء أصلية إِن قدِّرت لامَ السَّنَه هاءً؛ لقولهم في التصغير: سُنَيْهة، وفي الجمع: سَنَهات. وقالوا: سانهتُ وأسنهت عند بني فلان، وهي لغة الحجاز. وهاء السكت إن قُدرت لام الكلمة محذوفة للجازم، وهي ألف منقلبة عن واو عندما يُجعل لام السنه المحذوف واوًا؛ لقولهم: سنيته وسنوات، واشتق من الفعل فقيل: سانيت وأسنى وأسنتْ. أبدل من الواو تاء، وقيل أصله لم يتسنن؛ أي: لم يتغير من الحمأ المسنون، فأبدلت النون الثالثة ألفًا فرارًا من كراهة اجتماع الأمثال؛ كما قالوا: تَظَنَّى أصله: تظنن.

قال أبو عمرو: وخطَّأه الزجاج. {إِلَى حِمَارِكَ}: الحمار هو الحيوان المعروف، ويجمع في القلة على أَفْعِلة قالوا: أحمرة، وفي الكثرة على فُعُل، قالوا: حُمُر. وعلى فعيل، قالوا: حمير. {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} - بالزاي -: من أنشز الشيء إذا رفعه؛ أي: كيف نرفعها عن الأرض؟ لنركب بعضها مع بعض ونردَّها إلى أَماكنها من الجسد، فنركبها تركيبًا لائقًا بها. {وننشرها} - بالراء المهملة -: من أنشر الله الموتى إذا أحياهم ونشرهم، ونشر الميت إذا حيي، ولكن ليس المراد بالإحياء هنا، معناه الحقيقي الذي هو نفخ الروح؛ لقوله: ثم نكسوها لحمًا؛ أي: نسترها به كما يستر الجسد باللباس. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي} وأصل أرني: أرئيني بوزن أكرمني، فحذفت الياء الأولى؛ لأن الأمر كالمضارع في الحذف، فصار أرئي، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة، فصار أَرِني بوزن أَفِني؛ فإنه حُذف منه عينه ولامه، وهي الياء. {لِيَطْمَئِنَّ}: والهمزة في {يطمئن} أصلية، ووزنه يفعلل، ولذلك جاء {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} مثل: اقشعررتم. والطمأنينة مصدر: اطمأن على غير القياس، والقياس الاطمئنان، وهو السكون. {أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} والطير: اسم جمع كركب، وقيل بل جمع طائر نحو: تاجر وتُجرَ. وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفف طَيّر بالتشديد، كقولهم: هيْن وميْت في هيِّن وميِّت، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنس. {فَصُرْهُنَّ} وفي "المختار" صاره - من باب: قال وباع - إذا أمال إليه وقربه منه أمره بإمالتِهن إليه؛ أي: تقريبِهن منه؛ ليتحقق أوصافَهن حتى يعلم بعد الإحياء أنه لم ينتقل منها جزءٌ من موضعه الأول أصلًا، وصار الشيء إذا فعله وقطعه من بابي: قال وباع أيضًا.

{عَلَى كُلِّ جَبَلٍ}: والجبل معروف، ويجمع في القلة على: أجبال وأجبُل، وفي الكثرة على: جبال والجزء القطعة من الشيء، يقال: جزأ الشيء إذا جعله قِطعًا. البلاغة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}: الهمزة فيه للاستفهام التعجبي التَّقْرِيْري. {يُحْيِي وَيُمِيتُ}: التعبير بالمضارع يفيد التجدد، والاستمرار، وفي الجملة دلالةً على الاختصاص والقصر؛ لأنهم قد ذكروا أن الخبر إذا كان بمثل هذا .. دلَّ على الاختصاص. فتقول: زيد الذي يصنع كذا؛ أي: المختص بالصنع، وهنا المبتدأ والخبر كانا معرفتين، والمعنى: أنه سبحانه وحده هو الذي يحيي ويميت. وبين كلمتي يحيي ويميت من المحسِّنات البديعية: الطباق، وكذلك بين لفظي المشرق والمغرب. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}: التعبير بالموصول مع صلته يُشعر بالعلة، وأن سبب الحيرة هو: كفره. ولو قال: فبهت الكافر .. لَمَا أفاد ذلك المعنى الدقيق. {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي نسبة الإحياء والإماتة إلى القرية مجاز بالاستعارة: إنْ أُريد بهما العمارة والخراب، ومجاز مرسل: إن أريد أهلها .. فهو من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال على حدِ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}؛ أي؛ نسترها به؛ كما يستر الجسد باللباس فاستعار اللباس لذلك، كما استعاره النابغة للإسلام فقال: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيتُ من الإِسلام سربالًا والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}. المناسبة قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر قصة المار على قرية، وقصة إبراهيم، وكانا من أدلِّ دليل على البعث .. ذكر هنا ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدوى هناك؛ وهو: الإنفاق في سبيل الله؛ لأن ثمرة النفقة في سبيل الله، إنما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تظهر حقيقةً يوم البعث، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا. واستدعاءُ النفقة في سبيل الله مذكِّر بالبعث، وحاضُّ على اعتقاده؛ لأنه لو لم يعتقد وجوده .. لما كان ينفق في سبيل الله، وفي تمثيل النفقة بالحبَّة المذكورة إشارة أيضًا إلى البعث وعظيم القدرة؛ إذ حبة واحدة يُخرج الله منها سبع مئة حبة، فمن كان قادرًا على مثل هذا الأمر العجاب .. فهو قادر على إحياء الموات. ويقال: لما ذكر المبدأ والمعاد، ودلائل صحتهما .. أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام والتكاليف، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله، وأمعن في ذلك، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي يجوز شرعًا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لمّا شرط في الإنفاق أن لا يتبع منًّا ولا أذىً .. لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطِلًا للصدقة، ونهى عن الإبطال بهما؛ ليقوى اجتناب المؤمن لهما؛ ولذلك ناداهم بوصف الإيمان. ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين .. أعادهما هنا بالألف واللام، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة، ومعنى إبطالهما: أنه لا ثواب فيهما عند الله تعالى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله، وحثَّ عليها، وقبَّح المنة، ونهى عنها، ثم ذكر القصد فيها من الرياء، أو ابتغاء مرضات الله .. ذكر هنا وصف المنفَق من المختار الجيد، وسواء كان الأمر في الآية للوجوب، أو للندب، والأكثرون على أن {طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} هو الجيد المختار، وأن الخبيث هو الرديء. أسباب النزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} قيل (¬2): نزلت في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) واحدي.

عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك؛ حيث جهز عثمان ألف بعير بأحلاسها وأقتابها، ووضع بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف دينار، فصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقلبها ويقول: "ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم". وأتى عبد الرحمن بن عوف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة آلاف درهم، فقال: يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارك الله لك فيما أمسكتَ وفيما أعطيت"، فنزلت فيهما الآية. قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ...} الآية، أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}؟ قالوا: الله أعلم، قال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: لِرَجل غنيٍّ يعمل لطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...} الآية. روى (¬1) الحاكم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن البراء رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا - معشرَ الأنصار - كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو، فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...} الآية. وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: كان الناس يتيممون شر ثمارهم، فجاء رجل بتمر ردِيءٍ، فنزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...} الآية. وروى ابن أبي حاتم عن ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[261]

ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشترون الطعام الرخيص، ويتصدَّقون به، فأنزل الله هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 261 - {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}؛ أي: صفة صدقات الذين يصرفون أموالهم في طاعة الله، ووجوه الخير من الواجب أو النفل كصفة حبة أخرجت ساقًا واحدًا، تشعَّب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} فجملة ما فيها من الحبوب سبع مئة، وذلك مشاهد في الذرة والدخن، بل فيهما أكثر من ذلك. هذا إن قلنا: إن في الكلام حذفًا من أوله، ويحتمل كون الحذف في آخره، والمعنى حينئذٍ: مثل الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخيرات، كمثل زارع حبة أخرجت ساقًا تشعب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة، في كل سنبلة مئة حبة. فإن قلتَ: هل (¬1) رأيت سنبلة فيها مئة حبة حتى يضرب المثل بها؟ قلتُ: ذلك غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلًا .. فضرب المثل به جائز وإنْ لم يوجد. والمعنى {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} أن جعل الله ذلك فيها. وقيل: هو موجود في الدخن. وقيل: إن المقصود من الآية: أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبع مئة حبة .. ما كان ينبغي له ترك ذلك، ولا التقصير فيه، فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند الله في الآخرة، أن لا يترك الإنفاق في سبيل الله إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة ومئة وسبع مئة؛ أي: فكذلك نفقات هؤلاء تضاعف إلى سبع مئة. {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ} أكثر من ذلك؛ أي: أكثر من سبع مئة. {لِمَنْ يَشَاءُ} لا لكل الناس بل على حسب حال المنفِقِ من الخصاصة وتعبه؛ ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب؛ أي: فالزيادة (¬2) على السبع مئة لبعض الناس، بخلاف السبع مئة؛ فإنها لكل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

[262]

منفِق. وقيل المراد: والله يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء؛ أي: لبعض الناس، لا لكلهم. فالسبع مئة غير مطردة على هذا، بل المطرد التضعيف إلى عشرة فقط. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} فضله، لا يضيق عليه ما يتفضل به من التضعيف {عَلِيمٌ} بنية المنفِق، وبمن يستحق المضاعفة، وبما يستحقه المنفق من الجزاء والثواب عليه. 262 - {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} وهذا تقييد (¬1) لما قبله؛ أي: إن المضاعفة المذكورة مشروطة بعدم المن والأذى. والمعنى: الذين يصرفون أموالهم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في وجوه الخيرات واجبة كانت، أم لا. {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا}؛ أي: لا يعقبون ما أنفقوا {مَنًّا} على المنفَق عليه، وتحدثًا بما أعطى له. والمن: أن يعدد إحسانه على من أحسن إليه؛ كأن يقول له: أعطيتك كذا وكذا، فيعدد نعمه عليه، فيكدرها عليه، وهو من الكبائر، كما ثبت في "صحيح" مسلم وغيره: أن المانّ أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. وقدم المن على الأذى؛ لكثرة وقوعه، ووَسَّط كلمة {لَا} بينهما في قوله: {وَلَا أَذًى}؛ للدلالة على شمول النفي باتباع كل واحد منهما؛ أي: ولا يتبعون نفقاتهم أذىً للمنفَق عليه. والأذى: هو أن يعيِّره، فيقول: كم تسأل، وأنت فقير أبدًا، ولا تكتسب، وقد بليت بك، وأراحني الله منك، وأمثال ذلك، كالعبوس في وجهه. إذا عرفت هذا فنقول: المن: هو إظهار المعروف إلى الناس، والمن عليهم به. والأذى: هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم، فحرم الله تعالى على عباده المن بالمعروف، والأذى فيه، وذم فاعله. وقال عبد الرحمن بن يزيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلًا شيئًا، ورأيت أن سَلَامك يثقل عليه .. فلا تسلم عليه. والعرب تمدح بترك المن، وكتم النعمة، وتذم على إظهارها، والمن بها. قال قائلهم في المدح بترك المن: زَادَ مَعْرُوْفَكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُوْرٌ حَقِيْر ¬

_ (¬1) الجمل.

[263]

تَتَنَاسَاهُ كَأنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهُوَ فِي الْعَالَمِ مَشهُوْرٌ كَبِيْر وقال قائلهم يذم المنان بالعطاء: أتَيْتَ قَلِيلًا ثُمَّ أَسْرَعْتَ مِنَةً ... فَنَيْلُكَ مَمْنُونٌ لِذَلِكَ قَلِيْلُ وقيل المراد بالمن: هو المن على الله، وهو العُجب والأذى لصاحب النفقة. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}؛ أي: ثواب إنفاقهم مدخرًا لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يوم القيامة؛ أي: فلا يخافون فَقْد أجورهم، ولا يخافون العذاب البتة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا خلفهم من الدنيا. 263 - {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}؛ أي: كلام جميل يرد به السائل، من غير إعطاء شيء {وَمَغْفِرَةٌ} من المسؤول عن بذاءَة لسان الفقير {خَيْرٌ} للسائل {مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا}؛ أي: يعقبها {أَذًى}؛ أي: مَنٌّ وتعيير للسائل بالسؤال؛ لكونها مشوبة بضرر التعيير له؛ أي: هذا القول المعروف من المسؤول، والرد الجميل، والمسامحة عن بذاءة لسان السائل خيرٌ للسائل من صدقة يأخذها، ويعقبها المن والتعيير من المسؤول له. وقال الشوكاني (¬1): والمعنى: أن القول المعروف من المسؤول للسائل، وهو: التأنيس والترجية بما عند الله، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى. وقد ثبت في "صحيح مسلم" عنه صلّى الله عليه وآله وسلم: الكلمة الطيبة صدقة، وأن "مِنَ المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق". وما أحسن ما قاله ابن دريد: لاَ تُدْخِلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ ... فَلِخَيْرِ دَهْرِكَ أَنْ تُرَى مَسْؤُولاَ لاَ تَجْبَهَن بِالرَّدِّ وَجْهَ مَؤَمِّلٍ ... فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولاَ والمراد بالمغفرة: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدِّر صدر المسؤول. انتهى. 264 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد صَلى الله عليه وآله وسلم {لَا ¬

_ (¬1) فتح القدير.

تُبْطِلُوا}؛ أي: لا تحبطوا أجور {صَدَقَاتِكُمْ}، ولا تفسدوها {بِالْمَنِّ} على الفقير {وَالْأَذَى} له، أي: لا تبطلوها بالمن والأذى جميعًا، أو بأحدهما إبطالًا كإبطال أجر نفقة {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} في وجوه الخير {رِئَاءَ النَّاسِ}؛ أي: مُرآةً لهم وسمعة بهم؛ ليروا نفقته، ويمدحوه، ويقولوا: إنه سخي كريم، ولا يريد بإنفاقه رضا الله، ولا ثواب الآخرة. وقرأ طلحة بن مصرف {رياء} بإبدال الهمزة الأولى ياء لكسر ما قبلها، وهي مروية عن عاصم لكنها شاذة. {و} لإبطال (¬1) المنافق الذي {لا يؤمن بالله واليوم الآخر}؛ أي: أصلًا بأن يكون كافرًا، أو إيمانًا كاملًا؛ بأن يكون مسلمًا عاصيًا، فإن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة، لا لوجه الله تعالى. ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى .. فقد أتى بتلك الصدقة، لا لوجه الله أيضًا؛ إِذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى. لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه. فالمقصود من الإبطال: الإتيان بالإنفاق باطلًا؛ لأن المقصود الإتيان به صحيحًا، ثم إحباطه بسبب المن والأذى {فَمَثَلُهُ}؛ أي: فمثل هذا المرائي والمنافق، وصفته في إنفاقه، وحالته {كصفوان}؛ أي: كصفة صفوان، وحالته. و {الصفْوان} بسكون الفاء: الحجر الكبير الأملس. وقرأ ابن المسيب والزهري {كصفوان} بفتح الفاء ولكنّه شاذٌّ في الأسماء؛ لأن الفتح في المصادر، كالغليان والفوقان؛ أي: كحالة الحجر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ}؛ أي: شيء من تراب فظنه الظان أرضًا منبتة طيبة {فَأَصَابَهُ}؛ أي: أصاب ذلك الصفوان {وَابِلٌ}؛ أي: مطر شديد {فَتَرَكَهُ}؛ أي: فجعل المطر ذلك الحجر {صَلْدًا}؛ أي: أجرد أملس نقيًّا من التراب، وأخلف ما ظنه الظان كذلك، هذا المنافق والمرائى يرى الناس أن له أعمالًا؛ كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة .. اضمحلت وبطلت؛ كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب؛ كما قال تعالى: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}؛ أي: لا يقدر هؤلاء المراؤون على ثواب شيء في الآخرة مما أنفقوا في الدنيا رئاءً، فضمير قوله: {فَمَثَلُهُ} عائد على المرائي والمنافق، فيكون المعنى: إن الله ¬

_ (¬1) مراح.

[265]

تعالى شبَّه المانّ والمؤذي بالمنافق والمرائي، ثم شبه المنافق والمرائي بالحجر الكبير الأملس. وقيل: الضمير في قوله: {فَمَثَلُهُ} عائد على المان والمؤذي، وأنه شبه بشيئين: أحدهما: بالذي ينفق ماله رئاء الناس. والثاني: بصفوان عليه تراب. والمعنى: لا يجد المانُّ والمؤذي ثواب صدقة؛ كما لا يوجد على الصفوان التراب بعد ما أصابه المطر الشديد. قال القاضي (¬1) عبد الجبار: ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمن والأذى مثلين: فمثله أولًا: بمَنْ ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة مَنْ يتبعها بالمن والأذى. ثم مثله ثانيًا: بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار، ثم إذا أصابه المطر القوي، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلًا. قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان .. فكذا المن والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريح القول في الإحباط والتكفير. انتهى. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} إلى الخير والرشاد، وفي هذه الآية: تعريض بأن كلًّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من خصائص الكفار، فلا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. 265 - {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}، أي: وصفة الذين يصرفون أموالهم في وجوه الخير طلب رضاء الله تعالى {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: ويقينًا من قلوبهم بالثواب من الله تعالى، وتصديقًا بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ}؛ أي: كمثل بستان ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[266]

في مكان مرتفع مستو، أصابه مطر شديد كثير {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}؛ أي: فأعطت صاحبها ثمرها حال كونه مضاعفًا؛ مثل ما يثمر غيرها بسبب الوابل الكثير، فتحمل من الريع في سنة واحدة ما يحمل غيرها في سنتين. وقيل: أضعفت فحملت في السنة مرتين. وخص الربوة؛ لأن شجرها أحسن منظرًا وأزكى ثمرًا إذا كان لها ما يرويها من الماء. وقرأ ابن عامر وعاصم: {بِرَبْوَةٍ} بفتح الراء، وباقي السبعة {برُبوة} بالضم، وكذلك خلافهم في: {قد أفلح}. وقرأ ابن عباس شذوذًا بكسر الراء، وقرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن شذوذًا: {برباوة} على وزن كراهة، وأبو الأشهب العقيلي أيضًا: {برباوة} على وزن رسالة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {أُكْلَها} بضم الهمزة وسكون الكاف تخفيفًا، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {أكُلَها} بتحريك الكاف بالضم. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}؛ أي: فطل يكفيها لجودة منبتها، ولطافة هوائها. والمعنى: إن لم يكن أصابها وابل، وأصابها طلٌّ .. فيكفيها. والطل: المطر الخفيف الضعيف المشدق القطر، والمراد: أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين. يقول سبحانه وتعالى: كما أن هذه الجنة تثمر في كل حال، ولا يُخيب صاحبها، قلَّ المطر أم كثر .. كذلك يضعّف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّتْ نفقتهُ أم كثُرَتْ {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} عملًا ظاهرًا، أو قلبيًّا {بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء منه، يجازيكم عليه. يعني: أنه تعالى لا تخفى عليه نفقة المخلص في صدقته الذي لا يمن بها ولا يؤذي، والذي يمن بصدقته ويؤذي. وهذا تحذير من الرياء، وترغيب في الإخلاص. وقرأ شذوذًا {يعملون} الزهري بالياء، فظاره أن الضمير يعود على المنافقين، ويحتمل أن يكون عامًّا؛ فلا يختص بالمنافقين، بل يعود على الناس أجمعين، وقرأ الجمهور {تعملون} بالتاء على الخطاب، وفيه التفات. 266 - {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} هذه الجملة متصلة بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} الخ. فهو مَثَل آخر لنفقة المرائي والمانّ، والهمزة فيه للإنكار؛ أي: أيحب أحدكم أيها المراؤون في صدقاتكم. أي: لا يحب ذلك. والود: حب الشيء مع تمنيه {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}؛ أي: بستان {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خصصهما بالذكر؛ لأنهما

[267]

أشرف الفواكه وأحسنها، ولما فيهما من الغذاء والتفكه. {تَجْرِي} وتطرد {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها ومساكنها {الْأَنْهَارُ} والسواقي، فإن جري الأنهار فيها من تمام حسنها، وسبب لزيادة ثمرها {لَهُ}؛ أي: لذلك الأحد {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنة {مِنْ كُلِّ} أنواع {الثَّمَرَاتِ} والفواكه؛ لأن ذلك من تمام كمال البستان وحسنه {و} الحال أنه قد {أصابه}؛ أي: أصاب ذلك الأحد {الْكِبَرُ}، أي: كبر المن، فلا يقدر على الكسب {و} الحال أن {له ذرية ضعفاء}، وقرىء شذوذًا ضعاف، وكلاهما جمع ضعيف كظريف وظرفاء وظراف؛ أي: أولاد صغار لا يقدرون على الكسب بسبب الضعف والصغر. {فَأَصَابَهَا}؛ أي: أصاب تلك الجنة {إِعْصَارٌ}؛ أي: ريح شديدة مرتفعة إلى السماء، تستدير في الأرض كأنها عمود، لها صوت شديد {فِيهِ}؛ أي: في ذلك الأعصار {نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} تلك الجنة بذلك الإعصار، ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السن، وكثرة العيال، وطفولة الأولاد، فبقي هو وأولاده عجزة متحيرين، لا يقدرون على حيلة، كذلك يبطل الله عمل المرائي والمنافق؛ حيث لا توبة لهما، ولا إقالة من ذنوبهما. والمقصود من هذا المثل: بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورًا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة، وهو حينئذٍ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب .. عظمت حسرته، وتناهت حيرته. {كَذَلِكَ}؛ أي: كما بين الله تعالى لكم أمر النفقةِ المقبولة وغير المقبولة {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ}؛ أي: الدلائل في سائر أمور الدين {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: لكي تتفكروا في أمثال 267 - القرآن، وتفهموها وتنزلوها على المعاني المرادة منها، وتتعظوا بها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم {أَنْفِقُوا}؛ أي: زكوا {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}؛ أي: من جياد وخيار ما جمعتم من الذهب والفضة وعروض التجارة والمواشي. وقيل من حلالات ما كسبتم بالتجارة والصناعة. وفيه: دليل على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى: طيب وخبيث. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا

لَكُمْ}؛ أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم {مِنَ الْأَرْضِ} من الحبوب والثمار والمعادن والركاز، فحذف المضاف، لدلالة ما قبله عليه. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}؛ أي: ولا تقصدوا الرديء من أموالكم للإنفاق منه. وقراءة الجمهور بفتح حرف المضارعة وتخفيف الياء، وقرأ البزّي عن ابن كثير بتشديد التاء لدى وصلها بما قبلها. وقرأ ابن مسعود شذوذًا: {ولا تأمموا}، وهي لغة من أَمَمت؛ أي: قصدت. وقرأ أبو مسلم بن خباب شذوذًا أيضًا بضم الفوقية وكسر الميم، وحكى أبو عمرو: أن ابن مسعود شذوذًا أيضًا قرأ {تُئِمموا} بهمزة بعد المضمومة. وفي الآية (¬1): الأمر بإنفاق الطيب، والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف: إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون: إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوع، وهو الظاهر. وتقديم الظرف في قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} يفيد التخصيص؛ أي: لا تخصوا الخبيث بالإنفاق، والجملة في محل نصب حال؛ أي؛ لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاقَ به، قاصرين له عليه. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}؛ أي: والحال أنكم لا تأخذونه في معاملتكم في وقت من الأوقات. وقيل معناه: ولستم بأخذيه لو وجد تمره يباع في السوق. وقيل: إن قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} على تقدير (¬2) الاستفهام الإنكاري، و {مِنْهُ}: متعلق بالفعل بعده، والمعنى: أمن الخبيث تنفقون في الزكاة، والحال أنكم لستم قابلي الخبيث إذا كان لكم حق على صاحبكم. {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}؛ أي: إلا بأن تساهلوا في الخبيث، وتتركوا بعض حقكم، كذلك لا يقبل الله الرديء منكم. وفي هذا دلالة على أن الفقراء شركاء رب المال، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد إلا بالتساهل. وقال البراء (¬3) وابن عباس والضحاك وغيرهم: معنى هذا الكلام: ولستم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) مراح. (¬3) البحر المحيط.

[268]

بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تُساهِلُوا في ذلك، وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه؛ أي: فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم. وقرأ الجمهور: {تُغْمِضُوا} من أغمض، وجعلوه مما حذف مفعوله؛ أي: تغمضوا أبصاركم أو بصائركم. وقرأ الزهري: {تُغَمِّضُوا} بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم المشددة ومعناها كمعنى قراءة الجمهور. وروي عنه {تَغْمِضوا} بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم مضارع غمض، وهي لغة في أغمض. وروي عن اليزيدي: {تَغمُضوا} بفتح التاء وضم الميم، ومعناه: إلا أن يخفى عليكم رأيكم فيه. وروي عن الحسن؛ {تغمَّضوا} مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة {تُغْمَضوا} بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففًا، ومعناه: إلا أن يغمض لكم، وما عدا قراءة الجمهور شاذ. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وصدقاتكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم {حَمِيدٌ}؛ أي: محمود على كل حال، أو مستحق للحمد على نعمه العظام. وقيل: حامد بقبول الجيد، وبالإثابة عليه. 268 - {الشَّيْطَانُ}؛ أي: إبليس اللعين {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}؛ أي: يخوفكم بالفقر، ويخبركم بأسبابه عند الصدقة، ويقول لكم: أمسكوا أموالكم، فإنكم إذا تصدقتم .. صرتم فقراء، أو المعنى: النفس الأمارة بالسوء توسوس لكم بالفقر. والوعد: يكون في الخير، وفي الشر كما هنا. يقال: وعدته خيرًا، ووعدته شرًّا. والفقر: سوء الحال، وقلة ذات اليد. وأصله من كسر فقار الظهر. وقرىء شذوذًا: {الفُقْر} بالضم والسكون، و {الفُقُر} بضمتين، وبفتحتين. وقراءة الجمهور: {الفَقْر} بالفتح والسكون. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}؛ أي: بالبخل ومنع الزكاة والصدقة؛ أي: يوسوس لكم بها، ويحسن لكم إياها، ويغريكم عليها إغراء الآمر للمأمور. والفحشاء: الخصلة الفحشاء، وهي المعاصي والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات. {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ}؛ أي: سترًا لذنوبكم مكافأة على بذل أموالكم. {وَفَضْلًا}؛ أي: خلفًا في الدنيا أفضل مما

[269]

أنفقتم، أو وثوابًا عليه في الآخرة. فالمغفرة: إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل: إشارة إلى منافع الدنيا، وما يحصل من الرزق والخلف. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} بالمغفرة للذنوب، وبإغنائكم وإخلاف ما تنفقونه {عَلِيمٌ} بنياتكم وصدقاتكم، لا تخفى عليه خافية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا". متفق عليه. وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: قال الله تعالى: "أنفق ينفق عليك". وفي رواية: "يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة سحَّاء الليل والنهار"، وقال: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده - وفي رواية: فإنه لم يغض ما في يمينه - وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع. وفي رواية: وبيده الأخرى الفيض والقبض، يرفع ويخفض" متفق عليه. وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنفقي، ولا تحصي فيحصى عليك، ولا توعي فيوعى عليك" متفق عليه. قوله: "ولا توعي" أي: لا تشحي فيشح الله عليك؛ أي: فيجازيك بالتَّقْتِير في رزقك، ولا يخلف عليك، ولا يبارك لك. والمعنى: لا تجمعي وتمنعي، بل أنفقي ولا تعتدي ولا تشحي. 269 - {يُؤْتِي}؛ أي: يعطي الله سبحانه وتعالى {الْحِكْمَةَ}؛ أي: العلم النافع المؤدي إلى العمل الصالح {مَنْ يَشَاءُ} ويريد إيتاءَه من عباده. واختلفوا في تفسير الحكمة على أقوال كثيرة جدًّا، فقال السّدّيّ: هي النبوة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفهم بالقرآن ناسخِه ومنسوخه، مُحكمهِ ومتشابهه، عامِّه وخاصِّه، إلى غير ذلك. وقال مجاهد: الإصابة في القول. وقال مالك: الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقه فيه، والإتباع له، إلى غير ذلك من الأقوال المتلاطمة. وقراءة الجمهور بالياء في الفِعْلين. وقرأ الربيع بن خيثم بالتاء في {يُؤْتِي}، وفي {يَشَاءُ}

على الخطاب، وفيه التفات؛ إذ فيه خروج من خطاب إلى غيبة. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}؛ أي: إصابة القول والفعل والرأي. قرأ الجمهور: {يُؤْتَ} مبنيًّا للمفعول. وقرأ يعقوب: {ومن يؤتِ} بكسر التاء مبنيًّا للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله. وقرأ الأعمش شذوذًا: {ومن يؤته الحكمة} بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول، وفاعله ضمير عائد على الله تعالى؛ أي: ومن يعطِ الحكمة {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}؛ أي؛ فقد أعطي خير الدارين {وَمَا يَذَّكَّرُ}؛ أي: ما يتفكر في الحكمة {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي؛ إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى، أو المعنى: وما يتعظ بما وعظه الله إلا ذوو العقول الكاملة، الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه، أو: العلماء العمال. والمراد به: الحث على العمل بما تضمنت الآيُ في معنى الإنفاق. الإعراب {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}. {مَثَلُ}: مبتدأ، {الَّذِينَ} مضاف إليه، ولكن لا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين؛ ليصح الإخبار: إما في الأول تقديره: مثل نفقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة، أو في الثاني تقديره: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل باذر حبة. {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {أَمْوَالَهُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور وضاف إليه متعلق بـ {يُنفِقُونَ}، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: مثل نفقاتهم كائن كمثل حبة، والجملة مستأنفة. {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}: فعل ومفعول به، ومضاف إليه مجرور بالفتح؛ لأنه على زنة مفاعل، وفاعله ضمير يعود على حبة، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {حَبَّةٍ}؛ تقديره: كمثل حبة منبِّتة سبع سنابل. {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}. {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر مقدم

{مِائَةُ حَبَّةٍ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {سَنَابِلَ}؛ تقديره: موصوفة يكون مئة حبة في كل سنبلة منها؛ أي: من تلك السنابل، ويصح أن يكون مئة حبة فاعلًا للجار والمجرور قبله؛ لاعتماده على موصوف؛ لوقوعه صفة لسنابل، وهذا الوجه هو أولى من الأول؛ لأن الأصل الوصف بالمفردات دون الجمل، ولكن لا بد من تقدير محذوف، أي: في كل سنبلة منها؛ أي: من السنابل، ويجوز أن تكون الجملة في محل النصب صفة لـ {سَبْعَ}، كقولك: رأيت سبعة رجال أحرار وأحرارًا. وقرىء شاذًا: {مِائَةُ حَبَّةٍ} بالنصب، وقُدِّر بـ: أخرجت، وقدَّره ابن عطية بـ: أنبتت، والضمير عائد على الحبة. {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية. {الله}: مبتدأ، وجملة {يُضَاعِفُ}: خبره، والجملة الإسمية مستأنفة. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُضَاعِفُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول المحذوف؛ تقديره: لمن يشاء. {وَاللَّهُ} الواو عاطفة. {الله}: مبتدأ. {وَاسِعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. {الَّذِينَ}: مبتدأ {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب وتراخ (¬1)، نظرًا للغالب من أن وقوع المن والأذى يكون بعد الإنفاق بمدة. وقيل المراد: التراخي في الرتبة، وأن رتبة عدمهما أعظم في الأجر من رتبة الإنفاق. {لَا}: نافية، {يُتْبِعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة ¬

_ (¬1) الجمل.

على جملة الصلة {مَا أَنْفَقُوا}: {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول أول. {أَنْفَقُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة، والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: ما أنفقوه. {مَنًّا}: مفعول ثانٍ لـ {يُتْبِعُونَ}. {وَلَا أَذًى}: معطوف عليه، عطف عام على خاص، {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}: {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {أَجْرُهُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر لقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}، وجملة المبتدأ الأول وخبره مستأنفة، وإنما لم تدخل الفاء هنا في خبر الموصول؛ لعدم تضمُّنه معنى الشرط والتعليق؛ لأن هذه الجملة مفسِّرة لما قبلها، فهي كالشيء الثابت المفروغ منه، فلا تحتاج إلى تضمين تعليق. {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر، أعني قوله: {لَهُمْ} تقديره: لهم أجرهم حالَ كونه مدخرًا لهم عند ربهم. {وَلَا خَوْفٌ}: الواو عاطفة. {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ} اسم ليس. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر {لا}، وجملة {لا}: معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} على كونها خبر المبتدأ الأول، وكذا جملة قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} معطوفة عليها على كونها خبرًا. {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}. {قَوْلٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفهُ بما بعده، والعطف عليها. {وَمَغْفِرَةٌ}: معطوف عليه، وسوغ الإبتداء بها العطف، أو الصفة المقدرة؛ إذ التقدير: ومغفرة من السائل، أو من الله {خَيْرٌ} خبر عنهما، والجملة مستأنفة. {مِنْ صَدَقَةٍ}: متعلق بخبر. {يَتْبَعُهَا أَذًى}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر صفة صدقة. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ. {غَنِيٌّ}: خبر أول. {حَلِيمٌ} خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. {يَا أَيُّهَا}: يا: حرف نداء. أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه

زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب أو الرفع صفة لأي. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا تُبْطِلُوا}؛ {لَا}: ناهية. {تُبْطِلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {صَدَقَاتِكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه. {بِالْمَنِّ}: متعلق بـ {تُبْطِلُوا}. {وَالْأَذَى}: معطوف على المن. {كَالَّذِي}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر مع تقدير مضاف تقديره: لا تبطلوا إبطالًا كإبطال نفقات الذي {يُنْفِقُ مَالَهُ}: فعل، ومفعول به، ومضاف إليه، والفاعل ضمير يعود على الموصول، والجملة صلته {رِئَاءَ النَّاسِ}: مفعول لأجله، ومضاف إليه. {وَلَا يُؤْمِنُ}: الواو عاطفة. {لا}: نافية {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة {يُنْفِقُ} على كونها صلة الموصول {بِاللَّهِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُ}. {وَالْيَوْمِ}: معطوف على لفظ الجلالة {الْآخِرِ}: صفة لليوم. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. {فَمَثَلُهُ} الفاء رابطة لما بعدها بما قبلها جوازًا {مثله}: مبتدأ، ومضاف إليه، والضمير عائد على المرائي. {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: صفته كائنة كصفة صفوان، والجملة مستأنفة. {عَلَيْهِ}: خبر مقدَّم. {تُرَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجر صفة لصفوان. ولك (¬1) أن ترفع ترابًا بالجار؛ لأنه قد اعتمد على ما قبله، {فَأَصَابَهُ} الفاء عاطفة على الجار؛ لأن تقديره: استقر عليه تراب، فأصابه وابل، وهذا أحد ما يقوي شَبَه الظرف بالفعل، ذكره أبو البقاء. {أصابه وابل}، فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} {فَتَرَكَهُ} الفاء عاطفة {تركه صلدًا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ¬

_ (¬1) العكبري.

{وَابِلٌ}، ويحتمل كون ترك من أخوات صار الناقصة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ}. {لَا يَقْدِرُونَ}: {لَا}: نافية. {يَقْدِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه (¬1) قيل: فماذا يكون مآلهم حينئذٍ؟ فقيل: لا يقدرون، والضمير في {يَقْدِرُونَ} عائد على الموصول في قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}. ومن (¬2) ضرورة كون مثلهم كما ذكر، كون مثل من يُشْبههم، وهم أصحاب المن والأذى كذلك. {عَلَى شَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَقْدِرُونَ}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لشيء؛ تقديره: شيء كائن مما كسبوا {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبوه. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية. {الله} مبتدأ. {لَا يَهْدِي}: {لَا} نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الْكَافِرِينَ} صفة للقوم. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}. {وَمَثَلُ} الواو استئنافية. {مثل}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: مضاف إليه، ولكن على تقدير مضاف تقديره: ومثل نفقات الذين {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَمْوَالَهُمُ}: مفعول به، ومضاف إليه. {ابْتِغَاءَ}: مفعول لأجله، وهو مضاف. {مَرْضَاتِ}: مضاف إليه، مرضات: مضاف، ولفظ الجلالة {اللهِ} مضاف إليه. {وَتَثْبِيتًا}: معطوف على ابتغاء. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَثْبِيتًا}: أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، ويصح أن يكونا حالين؛ أي: مبتغين ومثبتين {كَمَثَلِ جَنَّةٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ تقديره: ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الجمل.

ومثل نفقات الذين ينفقون كائن كمثل جنة، والجملة مستأنفة. {بِرَبْوَةٍ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {جَنَّةٍ} تقديره: كائنة بربوة. {أَصَابَهَا وَابِلٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر صفة ثانية لجنة، ويجوز (¬1) أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال من الجنة؛ لأنها قد وصفت، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير في الجار، وقد مقدرة مع الفعل، ويجوز أن تكون الجملة صفة لربوة؛ لأن الجنة بعض الربوة. {فَآتَتْ}: الفاء عاطفة، {آتى}: فعل ماضٍ، والتاء علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على الجنة، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {أَصَابَهَا}، وأتى يتعدى إلى مفعولين، أولهما محذوف تقديره: صاحبها {أُكُلَهَا}: مفعول ثانٍ، ومضاف إليه. {ضِعْفَيْنِ}: حال من {أُكُلَهَا}؛ أي: حال كونه مضاعفًا. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالها فيما إذا أصابها وابل، وأردت بيان حالها فيما إذا لم يصبها وابل .. فأقول لك {إن لم يصبها}: {إن}: حرف شرط جازم. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يُصِبْهَا وَابِلٌ}: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {فَطَلٌّ} الفاء رابطة لجواب {إن} وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {طلّ}: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: فطل يكفيها، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ}. {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، إما صلة لها، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. {بَصِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ¬

_ (¬1) العكبري.

{أَيَوَدُّ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري {يود أحدكم}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، أو إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَنْ}: حرف نصب. {تَكُونَ}: فعل ناقص منصوب بـ {أَن}. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {تَكُونَ}. {جَنَّةٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: أيود أحدكم كون جنة له. {مِنْ نَخِيلٍ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {جَنَّةٌ}. {وَأَعْنَابٍ}: معطوف على {نَخِيلٍ}. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {جَنَّةٌ}، ولكنها سببية. {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم {فِيهَا}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لمبتدأ محذوف تقديره: رزقٌ كائن من كل الثمرات، كائن له حالة كونه في تلك الجنة، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع صفة ثالثة لـ {جَنَّةٌ}. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ}. {وَأَصَابَهُ}: الواو حالية. {أصابه الكبر}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة حال من {أَحَدُكُمْ} وقد مقدرة فيها. {وَلَهُ}: الواو حالية. {له}: خبر مقدم {ذُرِّيَّةٌ} مبتدأ مؤخر. {ضُعَفَاءُ}: صفة لـ {ذُرِّيَّةٌ}، والجملة في محل النصب حال من الهاء في {أصابه}. {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}. {فَأَصَابَهَا}: الفاء عاطفة {أصابها إعصار}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على صفة الجنة، قاله أبو البقاء؛ يعني على قوله: {من نخيلٍ} وما بعده. {فِيهِ نَارٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع صفة الإعصار. {فَاحْتَرَقَتْ}: الفاء عاطفة {احترقت}: فعل ماضٍ، وتاء تأنيث، وفاعله ضمير يعود على {جَنَّةٌ}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} على كونها صفة لـ {جَنَّةٌ}.

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: تبيينًا كائنًا كتبيين هذا المثل المذكور. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة .. {لَكُمُ}: متعلق بـ {يُبَيِّنُ}. {الْآيَاتِ}: مفعول به. {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف ترجٍ وتعليل، والكاف: اسمها. {تَتَفَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {لعل} تقديره: لعلكم متفكرون، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: في محل النصب، أو الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَنْفِقُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَنْفِقُوا}. {كَسَبْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كسبتموه. {وَمِمَّا}: جار ومجرور معطوف على قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ}، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: ومن طيبات ما أخرجنا لكم. {أَخْرَجْنَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: أخرجناه. {لَكُم}: متعلق بـ {أَخْرَجْنَا}. {مِنَ الْأَرْضِ}: متعلق أيضًا بـ {أَخْرَجْنَا}. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. {وَلَا}: الواو عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَيَمَّمُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {أَنْفِقُوا}. {الْخَبِيثَ} مفعول به. {مِنْهُ}: متعلق بـ {تُنفِقُونَ}، وجملة {تُنفِقُونَ} في محل النصب حال من فاعل {تَيَمَّمُوا}، وهي حال مقدرة؛ لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه،

ويجوز أن يكون حالًا من الخبيث؛ لأن في الكلام ضميرًا يعود إليه، أي: منفقًا منه. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. {وَلَسْتُمْ} {الواو}: استئنافية. {لستم}: فعل ناقص، واسمه. {بِآخِذِيهِ}: الباء زائدة في خبر ليس {آخذيه}: خبر {ليس} ومضاف إليه، وجملة {ليس} مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تُغْمِضُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُغْمِضُوا}، وجملة {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة تقديره: إلا بإغماضكم فيه، والباء المحذوفة متعلقة بـ {آخِذِيهِ}، ومفعول الإغماض محذوف تقديره: أبصاركم؛ أي: بإغماضكم فيه أبصاركم. وجوز أبو البقاء أنْ تكون {أَنْ} وما في حيزها في محل نصب على الحال، والعامل فيها {آخِذِيهِ}، والمعنى: لستم بآخذيه في حال من الأحوال إلا في حال الإغماض. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. {وَاعْلَمُوا}: الواو استئنافية. {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر {اللَّهَ} اسمها. {غَنِيٌّ}: خبر أول لها. {حَمِيدٌ}: خبر ثانٍ لها، والجملة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم} تقديره: واعلموا كون الله غنيًّا حميدًا. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}. {الشَّيْطَانُ}: مبتدأ. {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، وجملة: {يأمركم} معطوفة على جملة: {يَعِدُكُمُ} {بِالْفَحْشَاءِ}: متعلق بـ {يأمركم}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير

يعود على الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ} {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {مَغْفِرَةً}. {وَفَضْلًا}: معطوف على مغفرة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {وَاسِعٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة أو معطوفة. {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. {يُؤْتِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، وأتى هنا بمعنى: أعطى، يتعدى إلى مفعولين. {الْحِكْمَةَ}: مفعول أول له {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ له. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إيتاءَه {وَمَنْ يُؤْتَ} الواو عاطفة، أو استئنافية {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُؤْتَ}: فعل مضارع مغيَّر الصِّيغةِ مجزوم، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَن} وهو المفعول الأول. {الْحِكْمَةَ}: مفعول ثانٍ. {فَقَدْ}: الفاء رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بقَدْ. {أُوتِيَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ {مَن} على كونه جوابًا لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَن} وهو المفعول الأول {خَيْرًا}: مفعول ثانٍ. {كَثِيرًا}؛ صفة له، وجملة {مَن} الشرطية، إما معطوفة على جملة {يُؤْتِي}، أو مستأنفة. {وَمَا يَذَّكَّرُ} الواو استئنافية {ما}: نافية {يَذَّكَّرُ}: فعل مضارع. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أُولُو الْأَلْبَابِ}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {سَبْعَ سَنَابِلَ}: والسنابل: جمع سنبلة على وزن فُنْعلة، والنون فيه زائدة، والسنبلة معروفة، يدلك على ذلك قولهم: أسبل الزرعُ إذا أخرج سبله، والسبَلُ مثل السنابل واحدتها سَبَلة، مثل قَصَب وقصَبَة، ويقال: سَنْبل الزرع إذا أخرج

سنبله، وقال (¬1) بعض أصحابنا: النون أصلية، ووزنه فعلل؛ لأن فنعل لم يثبت، فيكون مع أسبل كسبط وسبطر. {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}: والأصل في مئة: مئية. يقول: مئيت القوم، إذا كملتهم مئة، ثم حذفت اللام تخفيفًا؛ كما حذفت لام يدٌ ودمٌ. {وَلَا أَذًى}: ولام (¬2) الأذى ياء، يقال: أذى يأذي أذىً مثل نصب ينصِب نصبًا. {رِئَاءَ النَّاسِ}: والهمزة الأولى في {رِئَاءَ}: عين الكلمة؛ لأنه من رئى، والأخيرة بدل من الياء؛ لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة كالقضاء والدماء، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى؛ بأن تقلب ياءً فرارًا من ثقل الهمزة بعد الكسرة. وقد قرئ به كما مَرَّ، والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، وفي "الجمل": ورئاء (¬3): مصدر كقائل قئالًا، والأصل ريايًا، فالهمزة الأولى بدل من ياءٍ هي عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءِ هي لام الكلمة؛ لأنها وقعت طرفًا بعد ألف زائدة والمفاعلة في {رِئَاءَ} على بابها؛ لأن المرائي يُري الناس أعماله حتى يروه الثناءَ عليه والتعظيم له. {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ}: الصفوان: الحجر الكبير الأملس كما سبق، وهو جمع صفوانه، والأفصح أن يقال: جنس لا جمع، ولذلك عاد الضمير عليه بلفظ الإفراد في قوله: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} وقيل: هو مفرد، وقيل: جمع واحدهُ صفا، ولكن جمعُ فَعَلٍ على فَعْلَان قليلٌ، وحُكي: صِفوان - بكسر الصاد - وهو أكثر في المجموع. ويقرأ بفتح الفاء، وهو شاذ؛ لأن فعلانًا شاذ في الأسماء، وإنما يجيء في المصادر؛ كالغليان كما مر. {عَلَيْهِ تُرَابٌ}: التراب معروف، ويقال: فيه توراب. وتَرِب الرجل: افتقر. وأترب: استغنى، الهمزة فيه للسلب؛ أي: زال عنه التراب وهو الفقر، وإذا زال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) عكبري. (¬3) جمل.

عنه كان غنيًّا. {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ}: وألف {أصابه} بَدَلٌ من واو؛ لأنه من: صاب يصوب كقال يقول. وفي "المصباح": وبلت السماء وبلًا من باب: وعد وبولًا: اشتد مطرها، وكان الأصل: وبل مطر السماء، فحذف للعلم به، ولهذا يقال للمطر: وابل. فائدة: المطر أوله رشٌّ، ثم طشٌّ، ثم طلٌّ، ثم نضح، ثم هطل، ثم وبل. {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وفي "المختار": حجر صلد؛ أي: صُلْبٌ أملس، وصلد الزند - من باب: جلس - إذا صوَّت، ولم يخرج نارًا، وأصلد الرجل: صلد زنده، ويقال أيضًا: صلِد بكسر اللام يصلَد بفتحها. {طل}: الطل: المستدق من القطر الخفيف، وفي "الصحاح": الطل أضعف المطر، والجمع: طلال، يقال: طلت الأرض، وهي مطلول. {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ونخيل فيها قولان: أحدهما: أنه اسم جمع واحدهُ نخلة. والثاني: أنه جمع نخل الذي هو اسم جنس، والأعناب جمع عنبٍ الذي هو اسم جنس واحدهُ عنبة، والعنب تمر الكرم، وقال الراغب: سمي النخل؛ لأنه منخول الأشجار وصفوها، وذلك أنه أكرم ما ينبت؛ لكونه مشبهًا للحيوان في احتياج الأنثى للذكر، وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر. {يَعِدُكُمُ} أصله: يوعدكم، فحذفت الواو؛ لوقوعها بين عدوتيها الياء والكسرة {يَذَّكَّرُ} أصله: يتذكر فأبدلت التاء ذالًا؛ لتقرب منها فتدغم. البلاغة {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ}: فيه مجاز بالحذف؛ لأنه لا بدَّ من تقدير مضاف في أحد الجانبين؛ أي: مثل نفقاتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ}: شبّه سبحانه وتعالى النفقة التي تنفق في سبيله بحبة أنبتت سبع سنابل، فأصبحت سبع مئة حبة، ففيه تشبيه مرسل مجمل؛ لذكر أداة التشبيه،

وحذف وجه الشبه. وهذا (¬1) التمثيل تصوير للأَضْعافِ كأنها ماثلة بين عين الناظر. قالوا: والممثل به موجود، شوهد ذلك في سنبلة الجاروس والذرة والدخن. قيل: واختص هذا العدد؛ لأن السبْع أكثر أعداد العشرة، والسبعين أكثر أعداد المئة، وسبع مئة أكثر أعداد الألف، والعرب كثيرًا ما تراعي هذه الأعداد. {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}: وإسناد الإنبات إلى الحبة إسناد مجازي، ويسمى: المجاز العقلي؛ لأن المنبِت في الحقيقة هو الله تعالى، وإنما نسب الإنبات إليها؛ لأنها كانت سببًا له كما يُنسب ذلك إلى الأرض والماء. {مَنًّا وَلَا أَذًى}: من باب ذِكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول؛ لأن الأذى يشمل المن، وفي توسيط كلمة {لا} دلالة على شمول النفي. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ...} الآية. وفي تكرير الإسناد، وتقييد الأجر بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} من التأكيد والتشريف ما لا يخفى، وفي إخلاء الخبر من الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها إيذانٌ بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق، وترك اتباع المن والأذى أمرٌ بَيِّنٌ، لا يحتاج إلى التصريح بالسببية. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}: وهذه الجملة تذييل (¬2) لما قبلها، مشتملة على الوعد والوعيد، مقرِّرةٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعًا. {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} فيه تشبيه تمثيلي؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدّد، وكذلك يوجد تشبيه تمثيلي في قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ}. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}: وهذه الجملة تذييل (¬3) مقرِّر لمضمون ما قبلها، وفيها تعريض بأنَّ كلًّا من الرياء، والمن والأذى على الإنفاق من خصائص ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) جمل. (¬3) جمل.

الكفار، فلا بدَّ للمؤمنين أن يجتنبوها. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ...} الآية. لم يذكر المشبه، ولا أداة التشبيه، وهذا النوع يسميه البيانيون استعارة تمثيلية، وهي تشبيه حال بحال لم يذكر فيه سوى المشبَّه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه. والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمعنى على النفي والتبعيد؛ أي: ما يود أحد ذلك. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}: هذا مؤكِّد للأمر؛ إذ هو مفهوم من قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، وفي هذا طباقٌ بذكر الطيبات، والخبيث. {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} في الكلام مجاز مرسل واستعارة؛ إذ الإغماض في اللغة: غمض البصر، وإطباق الجفن. والمراد هنا: التجاوز والمساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره .. أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}: وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها؛ لكونها في جملة أخرى، وللاعتناء بها، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها ظاهرةٌ؛ لما فيها من بيان أمر كلي شامل لجميع أفراد النفقات، وما في حكمها من النذور، بعد ما بيّن ما كان منها في سبيل الله تعالى. ولا تزال الآيات تتحدَّث عن الإنفاق في وجوه البر والخير، وأعلاها: الجهاد في سبيل الله، والإنفاق لإعلاء كلمة الله، وتُرغِّب في إخفاء الصدقات؛ لأنها أبعد عن الرياء. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} الآية. اقتضى أنه ليس أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا قسمين: من أتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال، فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية، وإيتاء الحكمة. إنما ذلك إلى الله تعالى ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإنْ لم يكونوا مهتدين تجوز الصدقة عليهم.

أسباب النزول قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا ...} الآية، قال (¬1) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا الحسين بن زياد المحاربي: أخبرنا موسى بن عمير عن عامر الشعبي في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا ...} الآية، قال: أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أمّا عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلفت وراءك يا عمر؟ قال: خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر: فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ فقال: عدة الله وعدة رسوله، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقًا. قال ابن كثير: وإنما أوردنا هذا الحديث ها هنا لقول الشعبي: إن الآية نزلت في ذلك. قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ...} روى (¬2) النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا عن ذلك، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ...} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل أهل دين. ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) لباب النقول.

[270]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ...} قال (¬1) ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلًا وبدرهم نهارًا وبدرهم سرًّا وبدرهم علانية. وفي رواية عنه قال: لمّا نزل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بعث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بدنانير كثيرة إلى أهل الصفة، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الليل بوَسَق من تمر، فأنزل الله فيهما: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} يعني بنفقة الليل نفقة علي، وبالنهار نفقة عبد الرحمن. التفسير وأوجه القراءة 270 - {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} أي: أديتم وبذلتم أيها المؤمنون {مِنْ نَفَقَةٍ}؛ أي: نفقة كانت في حق أو باطل، سرًّا أو علانية، قليلة كانت أو كثيرة. {أَوْ} ما {نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ}؛ أي: نذر كان في طاعة أو معصية، بشرط أو بغير شرط، متعلقًا بالمال أو بالأفعال؛ كالصيام والحج فوفيتم به. والنذر: أن يوجب الإنسان على نفسه شيئًا ليس بواجب بأصل شرعي {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُهُ}؛ أي: يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فيجازيكم عليه، وإنما قال (¬2): {يَعْلَمُهُ} ولم يقل: يعلمهما؛ لأنه ردَّ الضمير على الآخر منهما، فهو كقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا}. وقيل: إن الضمير عائد على ما في قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ}؛ لأنها اسم، فهو كقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} ولم يقل: بهما. وقيل: إنما أفرد الضمير؛ لكون العطف بأو، وإذا كان العطف بأو .. كان الضمير مفردًا؛ لأن المحكوم عليه هو أحدهما. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ}؛ أي للواضعين للنفقات أو النذور في غير موضعها بالإنفاق، والنذر ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[271]

في المعاصي أو بمنع الزكاة، وعدم الوفاء بالنذور، أو بالإنفاق بالخبيث، أو بالرياء والمن والأذى {مِنْ أَنْصَارٍ}؛ أي: من أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى، ففيه وعيد شديد لكل ظالم. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من نذر أن يطيع الله .. فليطعه، ومن نذر أن يعص الله. فلا يعصه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من نذر نذرًا لم يسمه .. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية .. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه .. فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا فأطاقه .. فليَفِ به". أخرجه أبو داود. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم". أخرجه النسائي. 271 - {إِنْ تُبْدُوا}؛ أي: إن تظهروا أيها المؤمنون إعطاء {الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}؛ أي: فنعم شيئًا إبداؤها وإظهارها، ولم يكن رياء ولا سمعة. وقيل (¬1): فنعمت الخصلة هي. وقيل: فنعم الشيء هي. والصدقات: جمع صدقة، والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربى، فيدخل فيه الزكاة الواجبة، وصدقة التطوع. وقرأ ابن عامر (¬2) وحمزة والكسائي وخلف هنا، وفي النساء: {فَنِعِمَّا} بفتح النون وكسر العين، وهذه القراءة على الأصل؛ لأن الأصل في نَعِمَ أن يكون على وزن: فَعِل كعلم. وقرأ ابن كثير وورش وحفص {فَنِعِمّا} بكسر النون والعينِ، وإنما كسرت النون إتباعًا لكسرة العين، وهي لغة هذيل. قيل: وتحتمل قراءة كسر العين على أن يكون أصل العين السكون، فلما وقعت {ما} بعدها، وأدغمت ميم {نعم} فيها .. كُسرت العين لالتقاء الساكنين. اهـ "سمين". وقال الشوكاني: وقرىء بفتح النون وكسر العين، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

وبكسرهما، وبكسر النون وسكون العين، وبكسر النون وإخفاء حركة العين. وقد حكى النحويون في: نِعْمَ أربع لغات، وهي هذه التي قرئ بها في المتواتر. انتهى. {وَإِنْ تُخْفُوهَا}؛ وإن تسروا الصدقات {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}؛ أي؛ وتعطوها الفقراء في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: أفضل من إبدائها وإيتائها الأغنياء؛ أي: وإن (¬1) تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين: إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لا في صدقة الفرض، فلا فضيلة للإخفاء فيها، بل قد قيل: إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع. وعبارة "الخازن" هنا يعني: أن إخفاء الصدقة أفضل من العلانية، وكلٌّ مقبول إذا كانت النية صادقة، واختلفوا في المراد بالصدقة المذكورة في الآية فقال الأكثرون: المراد بها: صدقة التطوع. واتفق العلماء على أن كتمان صدقة التطوع أفضل، وإخفاءها خير من إظهارها؛ لأن ذلك أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص؛ ولأن فيه بعدًا عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة، وفي صدقة السر أيضًا فائدة ترجع إلى الفقير الآخذ، وهي أنه إذا أُعطي في السر .. زال عنه الذل والانكسار، وإذا أُعطي في العلانية .. يحصل له الذل والانكسار. انتهت. ويدل على أن صدقة السر أفضل، ما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ... " الحديث، وفي آخره: "ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". ووجه جواز إظهار الصدقة (¬2) يكون ممن قد أمن على نفسه من مداخلة الرياء في عمله، أو يكون ممن يُقتدى به في أفعاله، فإذا أظهر الصدقة تابَعه غيره ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

على ذلك، وأما الزكاة: فإظهار إخراجها أفضل من كتمانها؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل، وصلاة التطوع في البيت أفضل، ولكن في إظهار الزكاة نفي التهمة عن المزكي. وقيل: إن الآية واردة في زكاة الفرض وكان إخفاؤها خيرًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم كانوا لا يظنون بأحد أنه يمنع الزكاة، فأما اليوم في زماننا: فإظهار الزكاة أفضل حتى لا يساء الظن به. {وَيُكَفِّرُ} الله، أو يكفِّر الإخفاءُ {عَنْكُمْ} أيها المؤمنون، ويستر شيئًا {مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} وذنوبكم يعني: من الصغائر؛ لأن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة، أو بمحض فضل الله تعالى. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة ويعقوب وعاصم في رواية أبي بكر (¬1): {نكفر} بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعمش وأبو جعفر وخلف: {ونكفرْ}: بالنون والجزم؛ أي: ونكفرْ عنكم شيئًا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص: {ويكفرُ} بالياء والرفع، والمعنى: يكفر الله، أو يكفر الإخفاء. وقرىء قراءة شاذة: بالتاء الفوقية، وبالرفع والجزم، والفاعل راجع للصدقات. وقرأ ابن عباس شذوذًا {تُكفَر}: بالتاء الفوقية وفتح الفاء والجزم. وقرأ الحسين بن علي الجعفي شذوذًا أيضًا {نكفَر}: بالنون ونصب الراء. وقال أبو حيان (¬2): قرأ الجمهور بالواو في: {وَيُكَفِّرُ} وقرأ غيرهم بإسقاطها، وبالياء، والتاء، والنون، وبكسر الفاء، وفتحها، وبرفع الراء، وجزمها، ونصبها. فإسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش شذوذًا، ونقل عنه أنه قرأ بالياء، وجَزمَ الراء وهو شاذ أيضًا. ووجهه: أنه بدل على الموضع من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ لأنه في موضع جزم، وكأن المعنى يكن لكم إخفاء خيرًا من الإبداء، أو على إضمار حرف العطف؛ أي: ويكفر. انتهى. ومن قرأ بالنصب .. فعلى تقدير: أن. قال سيبويه: والرفع ها هنا هو الوجه الجيد. {وَاللَّهُ} ¬

_ (¬1) الشوكاني ومراح. (¬2) البحر المحيط.

[272]

سبحانه وتعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} من إظهار الصدقات وإخفائها {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم لا يخفى عليه شيء منه، ففيه ترغيب في الإسرار. 272 - {لَيْسَ عَلَيْكَ} يا محمَّد {هُدَاهُمْ}؛ أي: هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإِسلام، فتصدق عليهم لوجه الله تعالى، ولا توقف ذلك على إسلامهم، فلا يجب عليك أن تجعلهم مهتدين، وإنما عليك البلاغ والإرشاد والحث على المحاسن، والنهي عن القبائح، كالمن والأذى وإنفاق الخبيث. فأعلمه الله تعالى أنه إنما بعث بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين: فليس ذلك عليك. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}؛ أي: ولكن الله تعالى يوفق من يشاء هدايته، فيهديه إلى الدخول في الإِسلام. وأراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، وأما هداية البيان والإرشاد والدعوة: فكانت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فلما نزلت هذه الآية .. أعطَوهُم وتصدقوا عليهم. {وَمَا تُنْفِقُوا}؛ أي: أيُّ شيءٍ تصرفونه في وجوه الخير كالفقراء وغيرهم {مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: من مال {فَلِأَنْفُسِكُمْ}؛ أي: فثوابه لأنفسكم، لا ينتفع به في الآخرة غيرها، وحينئذٍ فلا تمنوا عليه إن أعطيتموه، ولا تؤذوه بالتطاول عليه، ولا تنفقوا من الخبيث، أو المعنى: وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير، ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه، فلا يضركم كفرهم {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: والحال أنكم لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله تعالى، وطلب رضوانه، أو المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله تعالى، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم، وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: من مال على الفقراء {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}؛ أي: يوفر ويعط لكم ثواب ذلك في الآخرة، والضمير في {يُوَفَّ} عائد على {ما}. ومعنى تَوفيَتِه: إجزال ثوابه {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنكم لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئًا،

[273]

وفي هذا وفيما قبله (¬1): قطع عذرهم في عدم الإنفاق؛ إذ الذي ينفقونه هو لهم، حيث يكونون محتاجين إليه فيوفونه كاملًا موفرًا، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها، وقد جاء قوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي هريرة: "إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم 273 - فُلوَّه أو فَصِيلَهُ حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحد". وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ذلك الإنفاق المحثوث عليه مصروف للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد في سبيل الله، أو للفقراء الذين صفتهم كذا وكذا حق واجب. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش (¬2)، وكانوا نحو أربع مئة، وهم أصحاب الصفة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، ويتعلمون القرآن، ويصومون، ويخرجون في كل غزوة {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لا يقدرون سيرًا {فِي الْأَرْضِ} ولا سفرًا فيها لطلب المعاش، ولا يتفرغون لطلبها، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد، فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لخوفهم من الأعداء، كما قاله قتادة وابن زيد؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة وكانوا متى وجدوهم قتلوهم، فذلك يمنعهم من السفر، وإمَّا لمَرضهم بالجروح، كما قاله سعيد بن المسيب رضي الله عنه، فحث الله تعالى الناس على الإنفاق عليهم، فكان مَن عنده فَضْل أتاهم به إذا أمسى. {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم؛ أي: يظنهم من لم يختبر أمرهم {أَغْنِيَاءَ} غير محتاجين {مِنَ التَّعَفُّفِ}؛ أي: لأجل تحفظهم عن مسألة الناس وتركها، وإظهارهم التجمل. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {يحسَبهم} - بفتح السين من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

حَسِبَ حيث وَقع وهو القياس؛ لأن ماضيه على فَعِل بكسر العين. وقرأ باقي السبعة {يحسِبهم} بكسرها، وهو مسموع {تَعْرِفُهُمْ} أيها المخاطب {بِسِيمَاهُمْ}؛ أي: بعلامتهم. والسيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يُعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هنا، فقيل: هي الخضوع والتواضع وآثار الخشوع في الصلاة، وقيل: هي أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقيل: هي صفرة ألوانهم من الجوع ورثاثة ثيابهم من الضر؛ أي: تعرفهم أيها المخاطب بعلامتهم من الهيبة، ووقع في قلوب الخلق، وآثار الخشوع في الصلاة، فكل من رآهم تواضع لهم. ورُوي أنهم كانوا يقومون الليل ويحتطبون بالنهار للتعفف. {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ} أموالهم أصلًا، ولا يلحفونهم {إِلْحَافًا}؛ أي: ولا يلازمونهم ملازمة لطلب المال. والإلحاف (¬1) وكذا الإلحاح هو: أن يُلازِم المسؤولَ حتى يعطيهُ. من قولهم: لحفني من فضل لحافه؛ أي: أعطاني من فضل ما عنده. والمعنى: أنهم لا يسألون وإن سألوا للضرورة لم يلحفوا. وقيل: هو نفي للأمرين: السؤال والإلحاف؛ أي: لا يسألون إلحافًا، ولا غير إلحاف؛ أي: لا سؤال لهم أصلًا، فلا يقع منهم إلحاف؛ أي: كثرة التلطف وملازمة المسؤول؛ أي: أنهم سكتوا عن السؤال، ولا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف، بل يزينون أنفسهم عند الناس، ويتجملون بهذا الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. وفي قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} دلالة على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافًا. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّآل الملحف الذي إن أعطي كثيرًا أفرط في المدح وإن أعطي قليلًا أفرط في الذم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[274]

قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ليس المسكين الذي تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه عن الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس". متفق عليه. وعن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أم منعوه". رواه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خُموش - أو خدوش أو كدوح - قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. {وَمَا تُنْفِقُوا} أيها المؤمنون {مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: من مال {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، فيجازيكم عليه أحسن جزاء؛ يعني: أن الله تعالى يعلم مقادير الإنفاق، ويجازي عليها، ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة، خصوصًا على هؤلاء الفقراء. 274 - {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} في الصدقات {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} حالان؛ أي: مسرين ومعلنين؛ أي (¬1): الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله ابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر، ويعممون جميع الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج .. عجّلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت ولا حال، وهذا شروع في بيان صفة الصدقة ووقتها، فصفتها: السر والعلانية، ووقتها: ¬

_ (¬1) النسفي.

الليل والنهار. وعبارة الكرخي (¬1): أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة. ولعل تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية؛ للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار. قيل: نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة آلاف بالليل، وعشرة آلاف بالنهار، وعشرة آلاف بالسر، وعشرة آلاف بالعلانية. وقيل: غير ذلك كما سبق. وكون ما ذكر سببًا لنزولها لا يقتضي خصوص الحكم به، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالآية عامة في الذين ينفقون أموالهم في جميع الأوقات، ويعمون بها أصحاب الحاجات والفاقات. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا وتصديقًا بوعده .. كان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة". يعني: حسنات. أخرجه البخاري. {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر للموصول، وأتى بالفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، أو لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه؛ أي: فلهم جزاء أعمالهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الجنة {وَلَا خَوْفٌ} في الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في الدنيا. الإعراب {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} {الواو}: استئنافية {ما}: شرطية في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ. {أَنْفَقْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {ما} {مِنْ نَفَقَةٍ}: متعلق بـ {أَنْفَقْتُمْ}، أو متعلق بمحذوف حال من ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

{ما} تقديره: حال كونه كائنًا من نفقة، وكذا يقال، في قوله: {مِنْ نَذْرٍ} {أَوْ}: حرف عطف وتنويع {نَذَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على {أَنْفَقْتُمْ}. {مِنْ نَذْرٍ} متعلق بـ {نَذَرْتُمْ}. وفي قوله (¬1): {مِنْ نَذْرٍ} دلالة على حذف موصول قبل قوله: {نَذَرْتُمْ} تقديره. أو ما نذرتم من نذر؛ لأن {مِنْ نَذْرٍ} تفسير وتوضيح لذلك المحذوف، وحذف ذلك للعلم به، ولدلالة ما في قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} عليه؛ كما حذف ذلك في قول حسان: أمَنْ يَهْجُوْ رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَينصُرُهْ سَوَاءُ؟! {فَإِنَّ اللَّهَ} الفاء رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا، {إن}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها، {يَعْلَمُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل الجزم جواب {ما} الشرطية، أو في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة {ما} الشرطية، أو جملة المبتدأ مستأنفة، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ}: الواو استئنافية {ما}: نافية. {لِلظَّالِمِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ أَنْصَارٍ}: {مِنْ}: زائدة {أَنْصَارٍ}: مبتدأ مؤخر، والتقدير: وما أنصار كائنون للظالمين، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم بـ {إن} الشرطية. {فَنِعِمَّا هِيَ}: الفاء رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة جامدية. {نِعْمَ}: فعل ماضٍ من أفعال المدح، وفاعله ضمير مستتر تقديره: هو يعود على الشيء المبهم. {ما}: نكرة تامة في محل النصب تمييز لفاعل {نِعْمَ}. {هي}: مخصوص بالمدح خبر لمبتدأ محذوف تقديره: المخصوص بالمدح هي؛ أي: إبداء تلك الصدقات. أو {هي}: مبتدأ، والخبر جملة {نعم}. وجملة {نعم} في محل الجزم جواب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة {إن}: حرف شرط جازم. {تُخْفُوهَا} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه فعل الشرط، وجزمه حذف النون. {وَتُؤْتُوهَا}: الواو عاطفة {تؤتوها}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على تخفوها. {الْفُقَرَاءَ}: مفعول ثان. {فَهُوَ} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {هو}: مبتدأ {خَيْرٌ} خبر. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {خَيْرٌ}، كما ذكره أبو حيان في "البحر" تقديره: فهو - أي: الإخفاء - خير كائن لكم، والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها جواب الشرط، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}. {وَيُكَفِّرُ}: الواو عاطفة. {يُكفِّر}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على الله، أو على الإخفاء. {عَنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق به {مِنْ}: زائدة. {سَيِّئَاتِكُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه، ويحتمل كون {مِنْ} تبعيضية، والمفعول محذوف تقديره: شيئًا من سيئاتكم، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} على كونها جواب الشرط. وقرىء {يكفر} بالجزم عطفًا على الجواب، وبالنصب على تقدير أن، والمصدر المؤول من {أن} معطوفٌ على {خَيْرٌ}، والتقدير: فهو - أي الإخفاء - خير لكم، وتكفير سيئاتكم {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرٌ} الآتي. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. {خَبِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}. {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص {عَلَيْكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}.

{هُدَاهُمْ}: اسمها مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: ليس هداهم كائنًا عليك، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنَّ}: الواو عاطفة {لكن}: حرف نصب واستدراك. {اللَّهَ}: اسمها {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لَيْسَ}. {مَنْ يَشَاءُ}: {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يشاء}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يشاء هدايته. {وَمَا}: الواو استئنافية. {ما}: شرطية في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {تُنْفِقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {ما} على كونه فعل الشرط. {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {ما}. {فَلِأَنْفُسِكُمْ} الفاء رابطة. {لأنفسكم}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: فهو كائن لكم، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب {ما} الشرطية، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة. {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}. {وَمَا تُنْفِقُونَ} الواو استئنافية {ما}: نافية {تُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل {إِلَّا ابْتِغَاءَ} إلا أداة استثناء مفرغ {ابْتِغَاءَ}: مفعول لأجله، وهو مضاف. {وَجْهِ}: مضاف إليه، وجه مضاف، ولفظ الجلالة {الله} مضاف إليه والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها، وهي خبرية اللفظ إنشائية المعنى قصد بها النهي، والمعنى: لا تنفقوا لغرض من الأغراض إلا لغرض ابتغاء وجه الله تعالى. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. {وَمَا} الواو عاطفة. {ما}: اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم {تُنْفِقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {ما}. {مِنْ خَيْرٍ}: حال من {ما} {يُوَفَّ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {ما}، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، وجملة {ما} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}، وأتت الواو حالية، أو استئنافية. {أنتم}: مبتدأ، وجملة {لَا تُظْلَمُونَ} خبره،

والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير {إِلَيْكُمْ}، والعامل فيه {يُوَفَّ}، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}. {لِلْفُقَرَاءِ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف جوازًا؛ تقديره: الصدقات مصروفة للفقراء، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنهم لما أمروا بالصدقات .. قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا: بأنها لهؤلاء الفقراء المذكورين. {الَّذِينَ}: اسم موصول صفة {لِلْفُقَرَاءِ}. {أُحْصِرُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب .. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور مضاف إليه، متعلق بـ {أُحْصِرُوا}. {لَا يَسْتَطِيعُونَ}: {لَا}: نافية {يَسْتَطِيعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير النائب في {أُحْصِرُوا}، والعامل فيه {أُحْصِرُوا}؛ أي: أحصروا عاجزين، ويجوز أن يكون مستأنفًا. {ضَرْبًا}: مفعول به. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {ضَرْبًا}، أو بمحذوف صفة لـ {ضَرْبًا}، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} فعل ومفعول أول وفاعل، {أَغْنِيَاءَ}: مفعول ثانٍ. {مِنَ التَّعَفُّفِ}: جار ومجرور متعلق، بـ {يحسب}؛ أي: يحسبهم لأجل تعففهم. والجملة في محل النصب حال أيضًا من ضمير النائب في {أُحْصِرُوا}، ويجوز أن يكون مستأنفًا. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. {تَعْرِفُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة في محل النصب حال أيضًا، أو مستأنفة. {بِسِيمَاهُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَعْرِفُهُمْ}. {لَا}: نافية. {يَسْأَلُونَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أموالهم، والجملة في محل النصب حال، أو مستأنفة. {إِلْحَافًا}: قال السمين: في نصبه ثلاثة أوجه: أحدها: نصبه على المصدر بفعل مقدر؛ أي: يلحفون إلحافًا، والجملة المقدرة حال من فاعل {يَسْأَلُونَ}.

والثاني: أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي: لا يسألون لأجل الإلحاف. والثالث: أن يكون مصدرًا في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. انتهى. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. {وَمَا} الواو استئنافية. {ما}: اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم. {تُنْفِقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {ما}، {مِنْ خَيْرٍ}: حال من {ما}. {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة لجواب {ما} الشرطية. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها به متعلق بـ {عَلِيمٌ}، {عَلِيمٌ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {ما} على كونها جوابًا لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَمْوَالَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بِاللَّيْلِ}: الباء بمعنى: في، {الليل}: مجرور بها، والجار والمجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}، {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {الليل}، {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}؛ مصدران في موضع الحال من فاعل {يُنْفِقُونَ}؛ أي: مسرين ومعلنين {فَلَهُمْ}: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لِمَا في المبتدأ من العموم. {لهم}: خبر مقدم. {أَجْرُهُمْ}: مبتدأ ثانٍ ومضاف إليه {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبرٌ للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الواو عاطفة {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ}: اسمها. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر {لا}، وجملة {لا} في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} على كونها خبرًا للمبتدأ الأول. {وَلَا هُمْ}: الواو عاطفة. {لا}: نافية {هم}: مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الإسمية في

محل الرفع معطوفة أيضًا على جملة قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} على كونها خَبرًا للمبتدأ الأول. التصريف ومفردات اللغة {فَنِعِمَّا هِيَ}: أصلها نعم ما، ونعم (¬1): فعل جامد ليس له مضارع ولا أمر ولا غيرهما. فليس من مباحث الصرفيين ما هو معلوم، ولكن نذكره هنا لأجل هذا الإدغام، فهو في الأصل من باب فَعِل المكسور كـ: علِم كما جاء في الشعر كذلك، إلا أنهم سكنوا العين، ونقلوا حركتها إلى النون ليكون دليلًا على الأصل. ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل، ومنهم من يكسر النون والعين إتباعًا. وبكل قد قرئ في المتواتر كما سبق، وفيه قراءة أخرى أيضًا وهي: إسكان العين والميم مع الإدغام. وفيه بُعْدٌ لما فيه من الجمع بين الساكنين، ولكنه متواتر فلا بعد فيه. {مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}: السيئات: جمع سيئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واو، والأصل: سيوئة، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فصار سيئة. {مِنَ التَّعَفُّفِ} التعفف مصدر تعفف، - من باب: تفعَّل - تعففًا إذا أعرض عن الشيء، وتركه مع القدرة على تعاطيه. {بِسِيمَاهُمْ}: السيما (¬2) بالقصر: العلامة، ويجوز مدُّها، وإذا مدت .. فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق، إما واو أو ياء فهي كـ: علياء ملحقة بـ: سرداح، فالهمزة للإلحاق، لا للتأنيث، وهي منصرفة لذلك. وسيما مقلوبة قدمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقة من الوَسْم، فهي من السمة؛ أي: العلامة. فلما وقعت الواو بعد كسره قلبت ياء، فوزن سيما: عُفْلا، كما يقال: اضمحلَّ وامضحل. {إِلْحَافًا} الإلحاف: (¬3) الإلحاح في المسألة والتمادي فيها، وهو مشتق من اللِّحافِ، سُمِّي بذلك لاشتماله على وجود الطلب في المسألة، كاشتمال ¬

_ (¬1) عكبري. (¬2) الجمل. (¬3) الشوكاني.

اللِّحافُ على التغطية. البلاغة {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} بين {أَنْفَقْتُمْ} و {نَفَقَةٍ}: جناس الاشتقاق، وكذلك بين {نَذَرْتُمْ} و {نَذْرٍ} .. {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}: فالتعبير بالعلم كناية عن المجازاة، وإلا فهو معلوم، ذكره الكرخي. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}: فيه نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية قبله، وبيان له، ولذا ترك العطف بينهما، وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وكذلك بين لفظ الليل والنهار، والسر والعلانية. وهو من المحسنات البديعية. وفي قوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} طباق معنوي (¬1)؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الصدقات الأغنياء. وفي قوله: {هُدَاهُمْ} طباق معنوي؛ إذ المعنى: ليس عليك هدى الظالمين. وفي قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} إطناب؛ لوروده بعد قوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} الذي معناه يصلْكم وافيًا غير منقوص. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وفي هذه الآية طباق في موضعين: أحدهما: في قوله: {أُحْصِرُوا} و {ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}. والثاني: في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} و {أَغْنِيَاءَ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}. المناسبة قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ...} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله، وأنه يكون ذلك من طيبات ما كسب، ولا يكون من الخبيث، فذكر نوعًا غلب عليهم في الجاهلية - وهو خبيث - وهو: الربا، حتى يُمتنع من الصدقة بما كان من ربا، وأيضًا فتظهر مناسبة أخرى، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال، والربا فيه زيادة مال، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه، لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد. قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا، وحال من عاد إليه بعد مجيء الموعظة، وأنه كافر أثيم .. ذكر ضد هؤلاء؛ ليبين فرق ما بين الحالين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ...} أخرج (¬1) ابن جرير عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ما لَهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا .. فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من ابن المغيرة، وكان بنو المغيرة يرابون لهم في الجاهلية، فجاء الإِسلام ولهم عليهم مال كثير، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإِسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتاب، وقال: "إن رضوا، وإلا فأذنهم بحرب". وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، وأول ربا موضوع: ربا العباس". وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال (¬2): آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وقال: وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وثمانون يومًا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[275]

التفسير وأوجه القراءة 275 - {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}؛ أي: يأخذونه استحلالًا، ويعاملون به، وإنما خص الأكل؛ لأنه معظم الأمر المقصود من المال لأن المال لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، ثم يؤكل، فمنع الله التصرف في الربا بما ذكر فيه من الوعيد، ولأن الربا شائع في المطعومات. وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: "هم سواء". وأصل الربا في اللغة: الزيادة. يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر، فالربا شرعًا: الزيادة في المال. ومنه: ربا الفضل، وربا النسيئة. وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدَّين، قال مَنْ هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقضِ زاد مقدارًا في المال الذي عليه، وأَخَّر له الأجل إلى حين، وهذا حرام بالاتفاق. {لَا يَقُومُونَ} من قبورهم إذا بعثوا يوم القيامة {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ أي: الجنون، فقوله: {مِنَ الْمَسِّ} إما متعلق بـ {لَا يَقُومُونَ} على أن: {مِنَ} للتعليل، والمعنى (¬1): لا يقومون من قبورهم - لأجل المس والجنون والخبل الواقع بهم في الموقف - إلا قيامًا كقيام الشخص الذي يتخطبه ويصرعه ويسقطه الشيطان والجن في الدنيا إذا مسه بخبل وجنون. ومعنى الآية: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مثل المصروع المجنون، لا يستطيع الحركة الصحيحة، وذلك ليس لخلل في عقله، بل لأن الربا الذي أكله في الدنيا يربو في بطنه، فلا يقدر على الإسراع في النهوض، فإذا قام تميل به بطنه. قال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا يوم القيامة إذا استحله في الدنيا. يعني: أن آكل (¬2) الربا يُبعث يوم القيامة مجنونًا، وذلك كالعلامة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

المخصوصة بأكل الربا، فيعرفه أهل الموقف بتلك العلامة أنه أكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بالجنون، وإما متعلق بـ {يقوم} أو بـ {يتخبط} والخبط: الضرب، والمشي من غير استواء. وهذا على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، وفي الآية (¬1) دليل على فساد قول من قال: أن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم: أنه من فِعْل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح. وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مسٌّ، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كا أخرجه النسائي وغيره. {ذَلِكَ} العقاب الذي نزل بهم، وهو كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة {بِأَنَّهُمْ قَالُوا}؛ أي: بسبب قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}؛ أي: (¬2) إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل، كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب لا تعرف ربا إلا ذلك، وإنما شبهوا البيع بالربا مع أن الكلام في الربا، وكان مقتضاه: إنما الربا مثل البيع مبالغةً بجعلهم الربا أصلًا في الحل، والبيع فرعًا فيه. أو المعنى (¬3): إنما الزيادة والربح في البيع كالزيادة في الربا؛ أي: اعتقدوا مدلول هذا القول وفعلوا مقتضاه؛ أي: ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوا الربا استحلال البيع، وقالوا: يجوز بيع درهم بدرهمين؛ كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين، فجعلوا الربا أصلًا في الحل، وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما، فإن من أعطى درهمين بدرهم .. ضيَّع درهمًا، ومن اشترى سلعة بدرهمين تساوي درهمًا .. فلعل مساس الحاجة إليها، أو توقع رواجها يجبرُ هذا الغُبْن. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) أبو السعود.

وذكر بعضهم الفرق بين البيع والربا، فقال: إذا باع ثوبًا يساوي عشرة بعشرين، فقد جعل ذات الثوب مقابلًا للعشرين، فلما حصل التراخي على هذا التقابل .. صار كل واحد منهما مقابلًا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئًا بغير عوض، أما إذا باع عشرة دراهم بعشرين: فقد أخذ العشرة الزائدة بغير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن العوض هو الإمهال في مدة الأجل؛ لأن الإمهال ليس مالًا أو شيئًا يُشار إليه حتى يجعله عوضًا عن العشرة الزائدة، فقد ظهر الفرق بين الصورتين. انتهى. وعبارة "الخازن": وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلَّ ماله على غريمه فيطالبه، يقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك. وكانوا يقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند المحل لأجل التأخير، فكذبهم الله تعالى، ورد عليهم ذلك بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}؛ أي: أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء، وحرم عليكم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل؛ وذلك لأن الله تعالى خلق الخلق فهم عبيده، وهو مالكهم يحكم فيهم بما يشاء، ويستعبدهم بما يريد، ليس لأحد أن يعترض عليه في شيء مما أحل أو حرم، وإنما على كافة الخلق الطاعة والتسليم لحكمه وأمره ونهيه. {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: فمن بلغته موعظةٌ من الله، وزَجْرٌ وتخويفٌ عن الربا. وإنما ذكر الفعل؛ لأن الفاعل مؤنث مجازي، أو لوجود الفاصل. وقرأ أبو الحسن شذوذًا: {فمن جاءته} بالتاء على الأصل. {فَانْتَهَى}؛ أي: فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن أخذه {فَلَهُ مَا سَلَفَ}؛ أي: له ما تقدم، وأكل من الربا قبل النهي، وليس عليه رد ما أخذ وسلف قبل النهي، فلا يؤاخذ به؛ لأنه أخذه قبل نزول التحريم، وأما ما لم يقضِ قبل النهي: فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط. {وَأَمْرُهُ}؛ أي: أَمْر من عامل بالربا مفوض {إِلَى اللَّهِ} يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة، وصدق النية، وقيل: يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء، وليس من أمره إليكم شيء، فلا تطالبوه به.

[276]

{وَمَنْ عَادَ} إلى تحليل الربا بعد التحريم فأخذه، أو إلى القول: بأن البيع مثل الربا {فَأُولَئِكَ} العائدون إلى الربا {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها أبدًا؛ لأنهم باستحلاله صاروا كافرين؛ لأن من أحل ما حرم الله تعالى فهو كافر؛ فلذا استحق الخلود فيها، فقوله: {أولئك} راجع لـ {مَنْ} باعتبار معناها. 276 - {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}؛ أي: يذهب بركته وإن كان كثيرًا، ويهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا. وقيل: يمحق بركته في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة، ولا جهادًا، ولا حجًّا، ولا صلة رحم. {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}؛ أي: يزيدها ويثمرها، ويبارك في المال الذي أخرجت منه في الدنيا، ويضاعف أجرها في الآخرة. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من كَسْب طيِّب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: "من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيِّب، ولا يصعد إلى الله - وفي رواية: ولا يقبل الله - إلا الطيِّب - فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ}؛ أي: لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين؛ يعني: يعاقبه {كُلَّ كَفَّارٍ}؛ أي: جاحد بتحريم الربا، أو كل مصر على كفره مقيم عليه مستحل لأكل الربا. {أَثِيمٍ}؛ أي: فاجر بأخذه مع اعتقاده التحريم. فوائد تتعلق في تحريم الربا الأولى: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهًا: أحدها: أن الربا يقتضي أخذ مال الغير بغير عوض؛ لأن من باع درهمًا

بدرهمين نقدًا كان، أو نسيئة .. فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض فهو حرام. الوجه الثاني: إنما حرم عقد الربا؛ لأنه يمنع الناس من الاشتغال بالتجارة؛ لأن صاحب الدراهم إذا تمكن من عقد الربا .. خَفَّ عليه تحصيل الزيادة من غير تعب ولا مشقة، فيفضي ذلك إلى انقطاع منافعِ الناس بالتجارات وطلب الأرباح. الوجه الثالث: أن الربا هو سبب إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، فلما حرَّم الربا طابت النفوس بقرض الدراهم للمحتاج، واسترجاع مثله لطلب الأجر من الله تعالى. الوجه الرابع: أن تحريم الربا قد ثبت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بتحريم الربا وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في ذلك. الثانية: اعلم أن الربا في اللغة: هو الزيادة. وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام، فثبت أن الزيادة المحرمة هو: الربا، وهو على صفة مخصوصة في مال مخصوص بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الذهب بالوَرِق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، وفي رواية: الوَرِق بالوَرِق ربًا إلا هاء وهاء، والذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء" متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل، فمن زاد واستزاد .. فقد أربى، وفي رواية: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد واستزاد .. فقد أربى إلا ما اختلف ألوانه" أخرجه مسلم.

[277]

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرُّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف .. فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". أخرجه مسلم. الثالثة: الربا نوعان: ربا فضل: وهو الزيادة، وربا نسيئة: وهو الأجل. فإن باع ما يدخل فيه الربا بجنسه؛ كأن باع الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة .. اشترط في صحة العقد ثلاثة شروط: التقابض، والحلول، والتماثل بمعيار الشرع. فإن كان موزونًا كالذهب فبالوزن، وإن كان مكيلًا كالحنطة والشعير فبالكيل، فإن باع ما يدخل فيه بغير جنسه .. ففيه تفصيل، فإن باع بما لا يوافقه في وصف الربا وعلته؛ كان باع مطعومًا بأحد النقدين .. فلا ربا فيه؛ كما لو باعه بغير مال الربا. وإن باعه بما يوافقه في علة الربا ووصفه، لا في الجنس؛ كأن باع الدراهم بالدنانير، أو الحنطة بالشعير .. فلا يثبت فيه ربا التفاضل، فيجوز بيعه متفاضلًا، ويثبت فيه ربا النسيئة، فيشترط في صحة بيعه أمران: التقابض، والحلول. واختلفوا في علة الربا في النقود والمطعومات على أقوال كثيرة، والراجح منها: أن علة الربا في النقود: كونها قيم الأشياء وثمنها، وفي المطعومات: الطعم كما هو مقرر في محله. 277 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسله وكتبه وبتحريم الربا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: فيما بينهم وبين ربهم، وتركوا الربا {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: أتموا الصلوات الخمس بما يجب فيها من الأركان والشروط {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}؛ أي: أعطوا زكاة أموالهم. نص عليهما وإن كانا داخلين في قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ لعظم شأنهما {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}؛ أي: أجر أعمالهم وثوابها {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من مكروه آتٍ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على محبوب فات. 278 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: اخشوا الله في الربا، وقوا أنفسكم عقابه. {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}؛ أي: اتركوا طلب ما بقي لكم من الربا والزيادة

[279]

على رأس المال، وخذوا رؤوس أموالكم فقط {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين بقلوبكم في تحريم الربا، فإن دليله امتثال ما أُمرتم به. قيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة. كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناسٍ من ثقيف، فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية. 279 - {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أيها المؤمنون ما أمرتم به من التقوى، وترك بقايا الربا، وعدم الفعل، إما مع إنكار حرمة الربا .. فحربهم حينئذٍ حرب المرتدّين، وإما مع اعتقاد حرمتها .. فحربهم حرب البُغاة {فَأْذَنُوا}؛ أي: فاعلموا {بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} لكم {وَرَسُولِهِ}؛ أي: فاستعدوا للعذاب من الله في الآخرة بالنار، وللعذاب من رسوله في الدنيا بالسيف. قرأ الجمهور: {فَأْذَنُوا} بفتح الذال مع القصر؛ أي: فاعلموا أنتم، وأيقنوا بحربهما لكم. وهو من أذن الثلاثي. يقال أذن بالشيء: إذا علم به. وقرأ حمزة وأبو بكر شعبة عن عاصم {فآذِنوا} بالمد وكسر الذال، أمر من: آذن الرباعي على معنى: فاعلموا غيركم أنكم على حربهما وقيل المعنى: فاعلموا أيها المؤمنون من لم ينتهِ عن ذلك بحرب من الله ورسوله. وقرأ الحسن شذوذًا: {فأيقنوا بحرب} وتقوي قراءة الحسن هذه قراءةُ الجمهور بالقصر. وقد دل هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك. وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيمًا نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. {وَإِنْ تُبْتُمْ} من معاملة الربا، وتركتموها ورجعتم عنها {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}؛ أي: أصولها دون الزيادة {لَا تَظْلِمُونَ} الغريم بطلب الزيادة على رأس المال {وَلَا تُظْلَمُونَ}؛ أي: بنقصان رأس المال وبالمطل. فلما (¬1) نزل هذه الآية .. قال بنو عمرو الثقفي، ومن كان يعامِل بالربا من غيرهم: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يُدان لنا؛ يعني: لا قوة لنا بحرب الله ورسوله، ورضوا برؤوس أموالهم، فشكا بنو المغيرة العسرة، ومن كان عليه ¬

_ (¬1) الخازن.

[280]

دين، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله عزَّ 280 - وجلّ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}؛ أي: وإن وجد من غرمائكم غريم ذو عسرة؛ أي: غريم صاحب إعسار وعجز عن أداء الحق الذي عليه {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}؛ أي: فإنظاره وإمهاله إلى وقت يساره، وقدرته على أداء حقكم واجبٌ عليكم أيها الدائنون، لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه: إما أن تقضي، وإما أن تربي. {وَأَنْ تَصَدَّقُوا}؛ أي: وتصدقكم على المعسر برؤوس أموالكم بالإبراء منها {خَيْرٌ لَكُمْ} من التأخير والأخذ؛ لأنه يحصل لكم الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل التصدق على الإنظار والقبض فافعلوه. وقرأ الجمهور (¬1): {ذُو عُسْرَةٍ} بالواو: على أن {كَانَ} تامة. وروي عن أُبي وابن مسعود وعثمان وابن عباس: {ذا عسرة} بالألف على أن {كَانَ} ناقصة. وقرأ الأعمش: {وإن كان معسرا}. وقرىء: {ومن كان ذا عسرة}، وهي قراءة أبان بن عثمان، وحكى المهدوي: أن في مصحف عثمان {فإن كان} بالفاء وما عدا قراءة الجمهور شاذ. وقرأ الجمهور: {فَنَظِرَةٌ} بوزن: نَبِقَة. وقرأ أبو رجاء ومجاهد والحسن والضحاك وقتادة: {فنظْرة} بسكون الظاء وهي لغة تميمية. يقولون في كَبِد: كَبْد. وقرأ عطاء: {فناظرة} على وزن فاعلة، وخرَّجه الزجّاج على أنه مصدر كقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}، وقال: قرأ عطاء {فناظرة} بمعنى: فصاحب الحق ناظرهُ؛ أي: منتظرهُ، وعنه: {فناظِرْهُ} بصيغة الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها. انتهى. وقرأ عبد الله: {فناظروه}؛ أي: فأنتم منتظروه، فهذه ست قراءات كلها شاذة عدا قراءة الجمهور. ومن جعله اسم مصدر أو مصدرًا .. فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالأمر أو الواجب على صاحب الدِّيْن نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقرأ نافع وحده {ميسُرة} بضم السين، والضم لغة أهل الحجاز، وهو قليل كمقبرة ومشرفة، والكثير مفعَلة بفتح العين، وقرأ الجمهور: {ميسَرة} بفتح السين على اللغة الكثيرة، وهي لغة أهل نجد. وقرأ عبد الله شذوذًا: {إلى ميسوره} على وزن مفعول مضافًا إلى ضمير الغريم، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم: ماله معقول ولا مجلود؛ أي: عقل وجلد. ولم يثبت سيبويه مفعولًا مصدرًا. وقرأ عطاء ومجاهد: شذوذًا أيضًا {إلى ميسرِهِ} بضم السين وكسر الراء، بعدها ضمير الغريم. وقرىء كذلك بفتح السين، وخرِّج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة، وهو مذهب الفراء. وقرأ الجمهور: {وَأَن تَصَّدَقُواْ} بإدغام التاء في الصاد، وقرأ عاصم: {تصَدقوا} بحذف التاء، وفي مصحف عبد الله شذوذًا: {تتصدقوا} بتائين، وهو الأصل، والإدغام تخفيف، والحذف أكثر تخفيفًا. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في فضل إنظار المعسر، والوضع عنه، وتشديد أمر الدَّين والأمر بقضائه وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنه طلب غريمًا له، فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر، قال: الله الله! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة .. فلينفِّس عن معسر، أو يضع عنه". أخرجه مسلم. وعن أبي اليسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه .. أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله". أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرًا .. قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه". متفق عليه. وعن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال: "إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به عبدٌ بعد الكبائر التي نهى الله عنها: أن يموت رجل وعليه دين، لا يدع له قضاء". أخرجه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها .. أدَّى الله عَزَّ وَجَلّ عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها .. أتلفه الله". أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مطل الغني ظلم". زاد في رواية: "وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع". متفق عليه. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى فقال: "يا كعب"، قلت: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده: أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال: "قم فأقضه". متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجلٍ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سِنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه فقال: "أعطوه"، فطلبوا سِنَّهُ فلم يجدوا إلا سِنًّا فوقها، فقال: "أعطوه"، فقال: أوفيتني وفَّاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاءً". وفي رواية: أنه أغلظ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استقضاه حتى همَّ به بعض أصحابه، فقال: "دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا"، ثم أمر له بأفضل من سنه. متفق عليه. وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله .. تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه

[281]

وآله وسلم: "كيف قلت؟ " قال: أرأيت إن قتلت في سبيلى الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبريل قال لي ذلك". أخرجه مسلم. وعن محمَّد بن جحش رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع يده على جبهته، ثم قال: "سبحان الله ماذا نزل من التشديد!! " فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد .. سألته: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: "والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قُتل، ثم أحيي، وعليه دين .. ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه". أخرجه النسائي. 281 - {وَاتَّقُوا يَوْمًا}؛ أي: وخافوا عذاب يوم {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}؛ أي: تردون فيه إلى حسابه لأعمالكم، وهو يوم القيامة، فتأهبوا لمصيركم إليه. {ثُمَّ تُوَفَّى} وتوفر فيه {كُلُّ نَفْسٍ} بَرّةٍ وفاجرةٍ جزاء {مَا كَسَبَتْ} وعملت من خير أو شر {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في ذلك اليوم بنقص حسنة، أو زيادة سيئة، وفي هذه الآية وعيد شديد وزجر عظيم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وعشرين يومًا. وقيل: تسع ليال. وقيل: سبعًا. ومات صلى الله عليه وآله وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقرأ (¬1) يعقوب وأبو عمرو: {تَرجِعون} بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم مبنيًّا للفاعل؛ أي: تصيرون فيه إلى الله. وقرأ باقي السبعة {تُرجَعون} مبنيًّا للمفعول؛ أي: تردون إلى الله. وقرأ الحسن شذوذًا: {يَرجِعون} بياء الغيبة مبنيًّا للمفعول على معنى: يرجع فيه جميع الناس، وهو من باب الالتفات. وقرأ أُبيّ شذوذًا أيضًا: {تردون} بضم التاء، حكاه عنه ابن عطية، وقال الزمخشري: وقرأ عبد الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{يردون} وقرأ أُبي شذوذًا أيضًا: {تصيرون} انتهى. الإعراب {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {يَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل {الرِّبَا}: مفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا}: نافية {يَقُومُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والرابط ضمير الفاعل {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الكاف}: حرف جر. {ما}: مصدرية {يَقُومُ الَّذِي}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: إلا كقيام الذي يتخبطه الشيطان، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لا يقومون إلا قيامًا كائنًا كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس. {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول. {مِنَ الْمَسِّ} جار ومجرور متعلق بـ {يتخبط}. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. {ذَلِكَ}: مبتدأ {بِأَنَّهُمْ}: الباء حرف جر {أن}: حرف نصب، والهاء: اسمها. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بواجب الحذف؛ لوقوعه خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن بسبب قولهم: إنما البيع، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر {الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَأَحَلَّ اللَّهُ}: الواو استئنافية {أحل الله البيع}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَحَرَّمَ الرِّبَا} الواو عاطفة. {حرم}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله {الرِّبَا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة أحل الله البيع. {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}.

{فَمَنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لإنها أفصح عن شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت أن الله حرم الربا، وأردت بيان حكم من انتهى عنه بعد ما بلغه التحريم، وحكم من عاد إليه .. فأقول لك: {مَنْ} إمَّا شرطية في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو موصولة وخبرها جملة قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}، {جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، في محل الجزم بـ {من} الشرطية، أو صلة الموصول {مِنْ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جاء} {فَانْتَهَى}: الفاء عاطفة، {انتهى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة معطوفة على جملة {جاء}. {فَلَهُ}: الفاء رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا؛ لما في المبتدأ من العموم. {فَلَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب {من} الشرطية، أو في محل الرفع خبر {مَا} الموصولة، وجملة {من} الشرطية، أو الموصولة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {سَلَفَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، {وَأَمْرُهُ}: الواو عاطفة {أمره}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: وأمره مفوض إلى الله، والجملة الإسمية في محل الجزم، أو في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}. {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {وَمَنْ} الواو عاطفة. {مَن}: موصولة في الرفع مبتدأ أول {عَادَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول، {فَأُولَئِكَ}: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا. {أولئك}: مبتدأ ثانٍ {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبره ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة {هُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}: وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في

محل النصب حال مقدرة من أصحاب النار. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَيُرْبِي}: الواو عاطفة {يربي الصدقات}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يَمْحَقُ}. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {اللَّهُ}: مبتدأ {لَا}: نافية. {يُحِبُّ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {كُلَّ كَفَّارٍ}: مفعول به ومضاف إليه. {أَثِيمٍ} صفة لكفار. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب اسمها. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {أَجْرُهُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: الواو عاطفة. {لا} نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ} اسمها مرفوع {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر لا، وجملة لا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}، وكذا جملة قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} معطوفة عليها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}. {يا}: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد.

{الَّذِينَ}: في محل الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء. {وَذَرُوا مَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اتَّقُوا}. {بَقِيَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها {مِنَ الرِّبَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَقِيَ}، {إِنْ كُنْتُمْ}: {إِنْ}: حرف شرط جازم {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونهما فعل شرط لها. {مُؤْمِنِينَ}: خبر {كان}، وجواب {إن} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين .. فاتركوه، وجملة {إن} مستأنفة. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}. {فَإِنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم النهي من الربا، وأردتم بيان عاقبة من خالف النهي .. فأقول لكم: {إن}: حرف شرط. {لم}: حرف نفي وجزم {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {فَأْذَنُوا}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {أذنوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل جزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِحَرْبٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أذنوا}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {حرب}. {وَرَسُولِهِ} معطوف على الجلالة. {وَإِنْ تُبْتُمْ} {إن} حرف شرط {تُبْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها: {فلكم}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية. {لكم}: جار ومجرور خبر مقدم. {رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى. {لَا تَظْلِمُونَ}: {لَا}: نافية {تُظْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو في محل

النصب حال من الكاف في {لكم}، {وَلَا تُظْلَمُونَ}: الواو عاطفة لا: نافية {تُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَظْلِمُونَ}. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}. {وَإِنْ} الواو استئنافية {وَإِن}: حرف شرط. {كَانَ}: فعل ماضٍ تام في محل الجزم بـ {إن} {ذُو عُسْرَةٍ}: فاعل ومضاف إليه {فَنَظِرَةٌ} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. (نظرة): خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نَظِرة له، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: فنظرة عليكم، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَأَنْ تَصَدَّقُوا}: الواو استئنافية {أن}: حرف نصب ومصدر {تَصَدَّقُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن}، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. {خَيْرٌ}: خبر لذلك المصدر تقديره: والتصدق خير لكم؛ أي: إبراءه أفضل من الإنظار. {لَكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {خَيْرٌ}. {إِنْ كُنْتُمْ}: {إِنْ}: حرف شرط {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {أن} على كونه جوابًا لها. {تَعْلَمُونَ}: خبر كان، وجواب {إِن} معلوم مما قبلها تقديره: فافعلوه. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}. {وَاتَّقُوا} الواو استئنافية. {وَاتَّقُوا يَوْمًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل. {فِيهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {يَوْمًا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} فعل ونائب فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تُرْجَعُونَ} على كونها صفة لـ {يَوْمًا}، ولكن الرابط فيها مقدر تقديره: ثم توفي فيه كل نفس {كَسَبَتْ}: {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ. {كَسَبَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {كُلُّ نَفْسٍ}،

والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. {وَهُمْ}: الواو حالية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} من الفعل المغير ونائبه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ}، وجمع الضمير هنا اعتبارًا بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولًا في كسبت اعتبارًا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأَنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة، فكان تأخيره أحسن، كذا في "السمين". التصريف ومفردات اللغة {الرِّبَا}: الربا الزيادة، يقال: ربا الشيء إذا ازداد، وأرباه غيرهُ، وأربى الرجل: إذا عامل بالربا، ومنه الربوة والرابية، وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة، وبالألف وتُبدل الباء ميمًا. قالوا: الرِّما، كما أبدلوها في كَتَبَ فقالوا: كَتَمَ. ويُثَنَّى ربوان بالواو - وعند البصريين - لأن الألف منقلبة عنها. وقال الكوفيون: ويكتب بالياء، وتقول في تثنيته: ربيان. {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ}: يقول تخبط - من باب: تفعَّل (¬1) - من الخبط، وهو: الضرب على غير استواءٍ كخَبط العشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه. ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي: خبط عشواء، وتورط في عمياء، والمسُّ: الجنون. والأمَسّ: المجنون، يقال: مسَّ فهو ممسوس إذا جُنَّ، وأصله من المس باليد. كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، وسُمي الجنون: مسًّا كما أن الشيطان يخبطه ويطؤه برجله، فيخبله، فسُمي الجنون: خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد. {مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: والموعظة (¬2) والوعظ والعظة كالموعدة والعدة والوعد. مصادر معناها واحد وهو: الزجر والتخويف وتذكير العواقب. والاتعاظ: القبول والامتثال، فقوله: {فَانْتَهَى} بمعنى: أتعظ؛ أي: قَبِل وامتثل. {سَلَفَ}؛ أي: سبق ومضى وانقضى، ومنه سالف الدهر؛ أي: ماضيه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) مصباح.

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}: المحق: نقصان الشيء حالًا بعد حال، ومنه المِحَاقُ في الهلال، يقال: محقه الله فانمحق وامتحق. أنشد الليث: يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أعْقَبَهُ ... كَرَّ الْجَدِيْدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} من: أربى المتعدي، يقال: أرباه إذا زاده، كما يؤخذ من "القاموس". ويستعمل أربى لازمًا أيضًا، فيقال: أربى الرجل إذا دخل في الربا، كما في "المصباح". {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}: ذروا بوزن: علوا، فهو فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وحذفت فاؤه، وأصله: أوذروا، ماضيه: وذر، ولكن لم يستعمل إلا في لغة قليلة. {كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: هما من أمثلة المبالغة؛ لأنهما على وزن فعّال وفعيل، وأتى بصيغة المبالغة فيهما وإن كان الله لا يحب الكافر الأثيم تنبيهًا على عظم أمر الربا ومخالفة الله تعالى. البلاغة {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}: شبهوا البيع الذي هو مجمع على حلِّه بالربا الذي هو محرم، ولم يعكسوا تنزيلًا لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع، وهذا من عكس التشبيه، ويسمى: التشبيه المقلوب، وهو: أن يجعل المشبه مشبهًا به، والمشبه به مشبهًا، وهو أعلى مراتب التشبيه، وهو موجود في كلام العرب، كقولهم: القمر كوجه زيد، البحر ككفه. وكما قال أبو القاسم بن هانئ: كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ ... رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلاَقَتُهُ ضِعْفًا والأصل في الآية أن يقال: إنما الربا مثل البيع، ولكن لما بلغ اعتقادهم في حل الربا النهاية .. جعلوه أصلًا يقاس عليه، فشبهوا به البيع. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}: بين لفظ: {أحل} و {حرم} طباق، وكذا

بين لفظ: {يَمْحَقُ} و {يربي}. وقال أبو حيان (¬1): وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق، وفي ذكر الربا ويربي بديع التجنيس المغاير. {كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث إنه اختلف اللفظان. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ}: التنكير فيه للتهويل؛ أي: بنوع من الحرب عظيم، لا يقادر قدره كائن من عند الله. {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}: فيه من المحسنات البديعية ما يُسمى: الجناس الناقص؛ لاختلاف المعنى. {وَاتَّقُوا يَوْمًا}: التنكير للتفخيم والتهويل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لمَّا أمر بالنفقة في سبيل الله، وبترك الربا، وكلاهما يحصل به تنقيص المال .. نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته، وأكد في كيفية حفظه، وبسط في هذه الآية، وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه، قاله أبو حيان. وقيل: إنه تعالى لما ذكر الربا، وبيَّن ما فيه من القبح القبيح؛ لأنه زيادة مقتطعة من عرق المدين ولحمه، وهو كسب خبيث يحرمه الإِسلام، وذكر ما فيه من الوعيد الشديد .. أتبعه بذكر القرض الحسن بلا زيادة ولا منفعة للمقرض، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[282]

وذكر الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن. وكلها طرق شريفة لتنمية المال وزيادته بما فيه صلاح الفرد والمجتمع، وكون آية الدَّين أطول آيات القرآن على الإطلاق مما يدل على عناية الإِسلام بالنظم الاقتصادية. أسباب النزول وقد أخرج (¬1) عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج الشافعي وعبد الرازق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وحرم الربا، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية قال: أمر بالشهادة عند المداينة؛ لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يُشْهِدْ على ذلك فقد عصى. التفسير ووجه القراءة 282 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}؛ أي: تعاملتم بالدين، وتبايعتم به على أيّ وجه كان من: سَلَم أو بيع، أو داين بعضكم بعضًا، وعامله نسيئة، معطيًا كان أو آخذًا. وإنما قال: {بِدَيْنٍ} بعد قوله {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} مع أنه معلوم منه؛ ليعود الضمير عليه في قوله: {فَاكْتُبُوهُ}؛ إذ لو ذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدَّين، فلا يحسن النظم بذلك. وقيل: إنما ذكره للتأكيد. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معلوم الأول والآخر بالأيام والأشهر أو نحوهما، مما يرفع الجهالة، لا بالحصاد والدياس، وقدوم الحاج ونحوها مما لا يرفعها. ¬

_ (¬1) فتح القدير.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في التمر العام والعامين، فقال لهم: "من أسلف في تمر، ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم". متفق عليه. {فَاكْتُبُوهُ} أي: فاكتبوا ذلك الدين الذي تداينتم به وتحملتم به في ذممكم بيعًا كان ذلك التعامل، أو سلفًا بأجله؛ لأنه أوثق وأرفع للنزاع، والأكثرون على أن أمر هذه الكتابة أمر استحباب، فإن ترك فلا بأس، وهو أمر تعليم ترجع فائدته إلى منافع الخلق في دنياهم، فلا يثاب عليه المكلف إلا إن قصد الامتثال. قال المفسِّرون: المراد بالمداينة: السلَم، فالله تعالى لما منع الربا في الآية المُتقدِّمَةِ .. أذن في السلَم في هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله تعالى لتحصيل مثل تلك اللذة طريقًا حلالًا، وسبيلًا مشروعًا. والقرض غير الدين؛ لأن القرض: أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حبًّا أو ثمرًا أو ما أشبه ذلك، ويسترد مثله، فلا يجوز فيه شرط الأجل بخلاف الدين، فيجوز فيه الأجل، فإن ذكر الأجل في القرض، فإن كان للمقرض فيه غرض أفسده، وإلا فلا يفسده، ولا يجب الوفاء به، لكنه يُستحب. وقال أكثر المفسرين: إن البيوع على أربعة أوجه: أحدها: بيع العين بالعين؛ وذلك ليس بمداينة البتة. والثاني: بيع الدين بالدين، وهو باطل؛ فلا يكون داخلًا تحت هذه الآية. والثالث: بيع العين بالدين، وهو ما إذا باع شيئًا بثمن مؤجل. والرابع: بيع الدين بالعين وهو المسمى: بالسلم، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية. {وَلْيَكْتُبْ} كتاب الدين {بَيْنَكُمْ}؛ أي: بين الدائن والمديون، والبائع والمشتري. والبينية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين بالكتابة؛ لأنه يتهم فيها، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعًا على ما سطره الكاتب. {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}؛ أي: بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه، ولا في

قلمه ميل لأحدهما على الآخر؛ أي: وليكتب لكم كاتب عادل مأمون، لا يجور على أحد الطرفين؛ بحيث لا يزيد في المال والأجل، ولا ينقص في ذلك، فهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة، لا يكون في قلبه ولا في قلمه مساعدة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم، والعدل فيهم، وقرىء شذوذًا (¬1) بكسر لام: {ولِيكتب} وإسكانها. قيل: إن فائدة هذه الكتابة هي: حفظ المال من الجانبين؛ لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة .. تعذَّر عليه طلب زيادة، أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل. ومن عليه الدين إذا عرف ذلك .. تعذر عليه الجحود، أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلمَّا كانت هذه الفائدة في الكتابة .. أمر الله تعالى بها. {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ}؛ أي: ولا يمنع أحد من الكتاب {أَنْ يَكْتُبَ}؛ أي: من أن يكتب كتاب الدين بين الدائن والمديون {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}؛ أي: على الطريقة التي علمه الله في كتابة الوثائق، من غير أن يبدل ولا يغير؛ ليقضي حاجة أخيه المسلم {فَلْيَكْتُبْ} تلك الكتابة التي علّمه الله إياها، أو كما علمه الله بقوله: {بِالْعَدْلِ}. {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}؛ أي: ولْيبين المديون الذي عليه الحق قدر ما عليه من الدَّين وجنسه ونوعه؛ لأنه المشهود عليه، فلا بد من أن يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الدين. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}؛ أي: ولْيخش المديون ربه بأن يقر بمَبْلغ المال الذي عليه {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}؛ أي: ولا ينقص مما عليه من الدين شيئًا في إلقاء الألفاظ على الكاتب {فَإِنْ كَانَ} المديون {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} والدين {سَفِيهًا}؛ أي: ناقص العقل، مبذِّرًا يصرف المال في غير مصارفه {أَوْ ضَعِيفًا} في البدن، أو في الرأي لصغر، أو جنون، أو كبر مضعف للعقل؛ أي: أو كان صبيًّا، أو مجنونًا، أو شيخًا هرمًا {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ}؛ أي: أو ¬

_ (¬1) النهر.

عاجزًا لا يقدر أن يمل هو بنفسه على الكاتب، ولا يحسن الإسماع له بنفسه لخرس، أو عيٍّ، أو جهل باللغة، أو بما عليه وما له من الدين، أو حبس، أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، كما ذكره بقوله سبحانه وتعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}؛ أي: فليقر على الكاتب، ويبين له وليُّ كل واحد من هؤلاء الثلاثة: السفيه، والضعيف، وغير المستطيع {بِالْعَدْلِ}؛ أي: بالصدق والحق من غير زيادة ولا نقصان؛ لأنه يقوم مقامه في صحة الإقرار. والمراد بالولي لغة: هو من له ولاية عليه بأيِّ طريقٍ كان؛ كوالد ووصيٍّ وقيم ومترجم ووكيل. وقال (¬1) ابن عباس رضي الله عنهما: أراد بالولي صاحب الدين؛ يعني: إن عجز الذي عليه الحق عن الإملاء .. فليملل صاحب الحق؛ لأنه أعلم بحقه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}؛ أي: واشهدوا ندبًا على حقوقكم مع كتابتها شاهدين {مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ أي: من أهل ملتكم أيها المؤمنون؛ يعني: من الرجال البالغين الأحرار المسلمين زيادة في التوثقة؛ لأن المقصود من الكتابة هو الإشهاد، فالبلوغ مستفاد من لفظ رجال، والإِسلام من الإضافة إلى كاف الخطاب، والحرية مستفادة أيضًا من لفظ رجال؛ لأنه ظاهر في الكاملين؛ لأن الأرقاء بمنزلة البهائم، فبقي اشتراط العدالة، المستفادة من قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وعند (¬2) شُريح وابن سيرين وأحمد: تجوز شهادة العبيد، وأجاز أبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض. {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}؛ أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين؛ بأن لم يوجد أو لم يقصد إشهادهما {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}؛ أي: فليشهد رجل وامرأتان كائنون ممن ترضونه {مِنَ الشُّهَدَاءِ} لدينه وعدالته. وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} على حذف لام التعليل المتعلقة بمعلول محذوف؛ تقديره: وإنما اشترط التعدد في النساء؛ لأجل أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة؛ لنقص عقلهن وقلة ضبطهن، فتذكر إحداهما الذاكرةُ للشهادة المرأة الأخرى الناسية لها. والعلة في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) مراح.

الحقيقة التذكير، أي: وإنما اشترط التعدد؛ لأجل أن تذكِّر الذاكرةُ منهما الناسية للشهادة، ولكن لما كان الضلال سببًا له نزل منزلته؛ كقولهم: أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. قرأ حمزة والأعمش (¬1): {إِنْ تَضِلَّ} بكسر الهمزة، وجعلها حرف شرط. {فتذكرُ} بالتشديد ورفع الراء، وجعله جواب الشرط. وقرأ الباقون: بفتح همزة أن، وهي الناصبة، وفتح راء {فتذكرَ} عطفًا على {أَنْ تَضِلَّ}، وسَكَّن الذالَ وخفف الكاف ابن كثير، وأبو عمرو ويعقوب. وفَتَح الذال وشدد الكاف الباقون من السبعة. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران شذوذًا {تُضَل} بضم التاء وفتح الضاد مبنيًّا للمفعول بمعنى: تنسى. كذا حكى عنهما الداني، وحكى النقاش عن الجحدري شذوذًا: {أن تُضِل} بضم التاء وكسر الضاد بمعنى: أن تضل الشهادة. تقول: أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما. وقرأ زيد بن أسلم شذوذًا: {فتذاكر} من المذاكرة. {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ}؛ أي: إقامة الشهادة {إِذَا مَا دُعُوا}؛ أي: ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا إلى تحمل الشهادة وأدائها عند الحكام، فيحرم الامتناع عليهم؛ لأن تحمل الشهادة فرض كفاية مطلقًا، والأداء كذلك، إن زاد المتحملون على من يثبت بهم الحق وإلا ففرض عين. {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ}؛ أي: ولا تملوا أن تكتبوا الدَّين؛ لكثرة وقوع المداينة على أي حال كان الدين {صَغِيرًا} كان {أَوْ كَبِيرًا}، قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرًا أو مشبعًا حال كون ذلك الدَّين مستقرًا في ذمة المديون {إِلَى أَجَلِهِ}؛ أي: إلى وقت حلول أجله الذي أقر به المديون؛ أي: فاكتبوا الدين بصفة أجله، ولا تهملوا الأجل في الكتابة، فقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا} معطوف على قوله: {فَاكْتُبُوهُ}. {ذَلِكُمْ} إشارة إلى {أَنْ تَكْتُبُوهُ}؛ أي: ذلكم المذكور من كتابة الدين إلى أجله {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: أكثر قسطًا وعدلًا في حكم الله، أو في علمه؛ لأنه أمر به، واتباع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أمره أعدل من تركه. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}؛ أي: أثبت وأحفظ للشهادة، وأعون للشاهد على إقامتها إذا نسي {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}؛ أي: وأقرب إلى أن لا تشكُّوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك؛ أي: أقرب إلى انتفاء شككم في ذلك، فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك الشك. وقرأ السلَمِيّ شذوذًا: {ألا يرتابوا} بالياء، والمفضل عليه محذوف؛ تقديره: ذلك الكتاب المذكور أقسط وأقوم وأدنى أن لا ترتابوا من عدم الكتابة. وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} استثناء من الأمر بالكتابة؛ أي: ولا تسأموا أن تكتبوه في كل المعاملات إلا أن تقع تجارة حاضرة بحضور البدلين؛ أي: معاملة ومبايعة حالة ناجزة تتعاطونها وتقابضونها بينكم يدًا بيد بلا أجل؛ أي: إلا أن تتبايعوا بلا أجل يدًا بيد، فلا بأس في أن لا تكتبوه لبعده عن التنازع والنسيان. وقرأ عاصم: {تجارةً حاضرةً} بنصبهما على أن {كان} ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون هي؛ أي: المعاملة. وقرأ الباقون {تجارةٌ حاضرةٌ} برفعهما على أن يكون {تَكُونَ} تامة، و {تِجَارَةً}: فاعل لـ {تَكُونَ}، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة، وخبرها جملة قوله: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}؛ أي: ليس عليكم مضرة في ترك الكتابة في المداينة الحاضرة؛ كأن باع ثوبًا بدرهم في الذمة بشرط أن يؤدي الدرهم في هذه الساعة؛ أي: لا بأس بعدم الكتابة في ذلك لبعده عن التنازع والنسيان. وعبارة "الخازن" هنا: وإنما رخص الله في ترك الكتابة في هذا النوع من التجارة؛ لكثرة جريانه بين الناس، فلو كلفوا الكتابة فيه لشق عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد حقه في المجلس .. لم يكن هناك خوف الجحود، فلا حاجة إلى الكتابة انتهى. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} هذا التبايع المذكور (¬1) وهو التجارة الحاضرة؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

لأن الإشهاد يكفي فيها عن الكتابة. وقيل معناه: إذا تبايعتم؛ أيَّ تبايع كان حاضرًا أو كالئًا؛ لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف، وأقطع لمنشأ التشاجر. والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة. وقيل: إنها للوجوب، ثم اختلف في أحكامها ونسخها فقيل: إنها منسوخة بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، فالمعنى على هذا: ولا يضار كاتب صاحب الحق، أو من عليه الحق، فيأبى أن يكتب أو يزيد في الحق أو ينقص فيه، أو يحرِّف ما أملى عليه، ولا يضار شاهد صاحب الحق أو من عليه الحق فيأبى أن يشهد أو يزيد في شهادته أو ينقص، فعلى هذا يكون نهيًا للكاتب والشاهد عن إضرار من له الحق أو عليه الحق، ويدل على ذلك قراءة عمر رضي الله عنه شذوذًا: {ولا يضارِر} بالفك والكسر، واختار الزجاج هذا القول؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}؛ وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكليَّة أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد؛ ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع من الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} والآثم والفاسق متقاربان. وقال ابن عباس ومجاهد وعطاء: بأن يقولا علينا شغل ولنا حاجة. ويحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، فالمعنى على هذا: {ولا يضارَر} بفتح الراء الأولى {كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} بأن يدعيا إلى ذلك، وهما مشغولان بمهمٍّ لهما ويضيق عليهما في الإجابة، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، وكأن يكلفا بما لا يليق في الكتابة والشهادة، ولا يعطى الكاتب جُعْله، ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كانت، فإن لهما طلب الجُعْل، ولا يكلفان الكتابة والشهادة مجانًا، فعلى هذا يكون نهيًا لصاحب الحق أو من عليه الحق عن إضرار الكاتب والشاهد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود شذوذًا: {ولا يضارَر} بالفك وفتح الراء الأولى، ولو كان هذا نهيًا للكاتب والشاهد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما.

[283]

{وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من ضرار الكاتب والشهيد، أو من ضرار صاحب الحق ومن عليه الحق؛ أي: وإن تضاروا {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإن الضرار {فُسُوقٌ}؛ أي: خروج عن الطاعة ومأثم ملتبس {بِكُمْ} ولاحق بكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله، واحذروه فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها، أو المعنى: واتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما يكون إرشادًا واحتياطًا لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادًا لكم في أمر الدين {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من مصالح الدنيا والآخرة {عَلِيمٌ}، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم. وكرر لفظة (¬1) {اللَّهُ} في الجمل الثلاث لاستقلالها؛ فإن الأولى: حث على التقوى، والثانية: وعد بإنعامه، والثالثة: تعظيم لشأنه؛ ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية، وهذا آخر آية الدين، وقد حث الله سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سببًا لمصالح المعاش والمعاد. 283 - و {على} في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} بمعنى: في، أو بمعنى: إلى؛ أي: وإن كنتم مسافرين، أو متوجهين إلى السفر، وتعاملتم بالمداينة {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} أو آلة الكتابة في سفركم {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}؛ أي: فالوثيقة رهان مقبوضة، أو فرهان مقبوضة بدل من الشاهدين والكتابة، أو فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه. قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما ثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وآله وسلم: رهن درعا له من يهودي. وقرأ الجمهور (¬2): {كَاتِبًا} بالإفراد. وقرأ أُبيٌّ ومجاهد وأبو العالية شذوذًا: {كتابًا} على أنه مصدر، أو جمع كاتب كصاحب وصحاب، ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة، ونفي الكتابة يقتضي أيضًا نفي الكتب. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

وقرأ ابن عباس والضحاك شذوذًا أيضًا: {كُتّابا} على الجمع اعتبارًا بأن كل نازلة لها كاتب. وروي عن أبي العالية شذوذًا أيضًا: {كُتبًا} جمع كتاب، وجمع اعتبارًا بالنوازل أيضًا. وقرأ الجمهور: {فَرِهَانٌ} جمع رهن، نحو كَعْب وكِعَاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فرُهُن} بضم الراء والهاء. وروي عنهما شذوذًا تسكين الهاء. وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما. والرهن لغة (¬1): الثبوت والدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت. وشرعًا: ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينًا، يُستوفى منه الدين عند تعذر الوفاء. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعًا، ومع وجود الكاتب وعدمه، والظاهر من قوله: {مَقْبُوضَةٌ} اشتراط القبض. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله مِثلًا. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ أي: فإن أمن الدائن فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ}؛ أي: فليدفع المدين الذي اؤتمن على الدين {أَمَانَتَهُ}؛ أي: حق صاحبه. وحاصل المعنى: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن .. فليؤدِ الغريم أمانته؛ أي: ما ائتمنه عليه رب المال. وقرأ أُبي شذوذًا: {فإن أُومن} رباعيًّا مبنيًّا للمفعول؛ أي؛ آمِنه الناس، هكذا نقل عن أُبيّ هذه القراءة الزمخشري، وقال السجاوندي: وقرأ أُبي شذوذًا: {فإن ائتمن} افتعل من الأمن؛ أي: وثق بلا وثيقة صك ولا رهن. وقرأ ابن محيصن وورش بإبدال الهمزة ياء، كما أبدلت في بئر وذئب، وذلك شذوذًا أيضًا. وأصل هذا الفعل: اؤتمن بهمزتين الأولى: همزة الوصل، وهي مضمومة والثانية: فاء الكلمة، وهي ساكنة. وقرأ عاصم في شاذِّه: {اللذتيمن} بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسًا على أشر في الافتعال من اليسر، ذكره أبو حيان في ¬

_ (¬1) الخازن.

"البحر". {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}؛ أي: وليخشَ المدين ربه في أداء الدين عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا إنكار، بل يعامل الدائن معاملة حسنةً، كما أحسن هو ظنه فيه {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} عند الحكم إذا دعيتم إلى أدائها بإنكار العلم بتلك الواقعة، أو بالامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وفي "الجمل": الخطاب للشهود والمديونين، وشهادة المديونين على أنفسهم: إقرارهم واعترافهم بالدين. وقرأ السلمي شذوذًا: {ولا يكتموا} بالياء على الغيبة. {وَمَنْ يَكْتُمْهَا}؛ أي: الشهادة {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}؛ أي: فاجر قلبه؛ لأن كتم الشهادة من معارض القلب؛ لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به، وهو من التعبير بالبعض عن الكل؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب". {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشهادة وإقامتها، ومن الخيانة في الأمانة وعدمها {عَلِيمٌ} فيجازيكم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقرأ السلمي شذوذًا: {بما يعملون} بالياء جريًا على قراءته الشاذة: {ولا يكتموا} بالياء على الغيبة. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. {يَا}: حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة ها: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أيُّ}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {تَدَايَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها: {بِدَيْنٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَدَايَنْتُمْ} {إِلَى أَجَلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَدَايَنْتُمْ}، أو متعلق بمحذوف صفة لـ {دين} تقديره: مؤجل إلى أجل. {مُسَمًّى}: صفة لـ {أَجَلٍ}. {فَاكْتُبُوهُ} الفاء رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا {اكتبوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} جواب

النداء لا محل لها من الإعراب. {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. {وَلْيَكْتُبْ} الواو: عاطفة، اللام: لام أمر وجزم، مبني على السكون؛ لوقوعها بعد الواو. {يكتب}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يكتب}: {كَاتِبٌ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَاكْتُبُوهُ} {بِالْعَدْلِ}: متعلق بقوله: {وَلْيَكْتُبْ}؛ أي: وليكتب كاتب بالعدل، وهذه الجملة مبيِّنة لكيفية الكتابة المأمور بها أولًا ومعينة لمن يتولَّاها إثر الأمر بها إجمالًا، وذكر البَيْن للإيذان بأن الكاتب ينبغي له أن يتوسط في المجلس بين المتداينين. {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {يَأْبَ كَاتِبٌ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {أَنْ يَكْتُبَ}: فعل وناصب، وفاعله ضمير يعود على {كَاتِبٌ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا يأب كاتب كتابته. {كَمَا}: {الكاف} حرف جر وتعليل {ما} مصدرية. {عَلَّمَهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: كتابة الوثائق، والجملة صلة {ما} المصدريةُ، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بكاف التعليل تقديره: لتعليم الله إياه كتابة الوثائق، الجار والمجرور متعلق بقوله: {وَلَا يَأْبَ}؛ أي: يحرم عليه الإباء والامتناع من الكتابة؛ لأجل تعليم الله تعالى إياه إياها، ويحتمل أن تكون {ما} موصولة، أو موصوفة، وجملة {عَلَّمَهُ اللَّهُ} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والضمير في {عَلَّمَهُ} عائد على {ما} والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره: ولا يأب كاتب أن يكتب كتابًا مثل الكتاب الذي علَّمه الله في كتابة الوثائق. {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}. {فَلْيَكْتُبْ}: {الفاء} عاطفة، {اللام} لام أمر وجزم. {يكتب}:

مجزوم بها، وفاعله ضمير يعود على {كَاتِبٌ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} مؤكِّدة لها، أو معطوفة على جملة قوله؛ {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} مؤكِّدة للأمر اللازم للنهي. {وَلْيُمْلِلِ}: {الواو}: عاطفة، اللام: لام الأمر. {يملل}: مجزوم بها. {الَّذِي}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلْيَكْتُبْ}. {عَلَيْهِ الْحَقُّ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، والعائد الضمير المجرور. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}: {الواو}: عاطفة، اللام: لام الأمر {يتقِ الله}: فعل ومفعول مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلْيُمْلِلِ}. {رَبَّهُ}: بدل من لفظ الجلالة ومضاف إليه. {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}: {الواو}: عاطفة {لا}: نافية جازمة. {يَبْخَسْ}: مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على: {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلْيُمْلِلِ}. {مِنْهُ}: جار ومجرور. إما متعلق بـ {يَبْخَسْ}، و {مِنْ} لابتداء الغاية، والضمير للحق، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف حال من شيئًا؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة، فلما قدم عليها .. نصب حالًا {شَيْئًا}: مفعول به لـ {يَبْخَسْ}، أو منصوب على المفعولية المطلقة لـ {يَبْخَسْ}؛ أي: ولا يبخس منه بخسًا شيئًا. {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره إذا عرفت حكم ما إذا كان المدين رشيدًا كاملًا، وأردت بيان حكم ما إذا كان سفيهًا أو ضعيفًا .. فأقول لك {إن كان}: {إن}: حرف شرط جازم {كاَنَ}: فعل ماضٍ ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع اسم كان. {عَلَيْهِ الْحَقُّ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. {سَفِيهًا}: خبر كان {أَوْ ضَعِيفًا}: معطوف على {سَفِيهًا}. {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ}: {أَوْ}: حرف عطف وتنويع. {لَا}: نافية

{يَسْتَطِيعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، والجملة في محل النصب معطوفة على {سَفِيهًا} على كونها خبرًا لـ {كاَنَ} تقديره: فان كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو غير مستطيع. {أَنْ يُمِلَّ هُوَ}؛ {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُمِلَّ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: هو، يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، {هُوَ}: توكيد للضمير المستتر في {يُمِلَّ}، وجملة {يُمِلَّ} صلة أَن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يستطيع} تقديره: أو لا يستطيع الإملال. {فَلْيُمْلِلْ}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجوب جملة طلبية. {اللام}: لام أمر وجزم {يملل وليه}: فعل وفاعل ومضاف إليه، مجزوم بلام الأمر. {بِالْعَدْلِ} متعلق بـ {يملل}، وجملة {يملل} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. {وَاسْتَشْهِدُوا} {الواو}: عاطفة. {استشهدوا شهيدين}: فعل وفاعل ومفعول به {مِنْ رِجَالِكُمْ}، صفة لـ {شَهِيدَيْنِ}، أو متعلق بـ {استشهدوا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {فَاكْتُبُوهُ} في أول الآية {فَإِنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت أنه يستشهد الرجلان إن وجدا، وأردت بيان حكم ما إذا لم يوجدا .. فأقول لك: {إن لم يكونا}: {إن}): حرف شرط، {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَكُونَا}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم}، والألف اسمها، {رَجُلَيْنِ}: خبرها، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، {رجل}: مبتدأ، {وَامْرَأَتَانِ}: معطوف عليه، والخبر محذوف جوازًا تقديره: فرجل وامرأتان

يشهدون، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}: {مِمَّنْ}: جار ومجرور صفة لـ {رجل وامرأتين}، وهذا الشرط (¬1)، وإن كان مشترطًا في الرجُلين أيضًا بالأحاديث والآيات الأخَر كآية: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، لكن اقتصر على التنصيص عليه في جانب الرجل والمرأتين؛ لقلة اتصاف النساء به غالبًا. وقيل: هو متعلق بـ {استشهدوا} المتعلق بالصورتين، {تَرْضَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره ممن ترضونه، {مِنَ الشُّهَدَاءِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من العائد المحذوف في {تَرْضَوْنَ} تقديرهُ: ممن ترضونه حال كونه بعض الشهداء. {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَضِلَّ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}. {إِحْدَاهُمَا}: فاعل ومضاف إليه، {فَتُذَكِّرَ}: الفاء عاطفة. {تذكر}: معطوف على {تَضِلَّ}. {إِحْدَاهُمَا}: فاعل ومضاف إليه. {الْأُخْرَى}: مفعول به، وجملة {تَضِلَّ} من الفعل والفاعل صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما اشترط تعدد النساء؛ لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت تلك الأخرى، والمعول عليه في التعليل: التذكير؛ لأنه المقصود من الجملة، ولكن لما كان الإضلال سببًا فيه .. قدم عليه؛ كقولهم: أعددتُ الخشبة أن يميل الجدار، فأدعمه بها. فالإدعام علة في إعداد الخشبة، والميل علة الإدعام. {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ}: فعل وفاعل وجازم، ومفعوله محذوف تقديره: إقامة الشهادة، والجملة مستأنفة {إِذَا}: ظرف مجرد ¬

_ (¬1) الجمل.

عن معنى الشرط. {مَا}: زائدة {دُعُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بقوله: {وَلَا يَأْبَ} تقديره: ولا يأب الشهداء، ويمتنع من إقامة الشهادة وقت دعائهم إليها. {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {وَلَا تَسْأَمُوا}: فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ}. {أَنْ تَكْتُبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول وناصب، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا تسأموا كتابته. {صَغِيرًا}: حال من ضمير المفعول. {أَوْ كَبِيرًا}: معطوف عليه. {إِلَى أَجَلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الهاء في تكتبوه تقديره: حالة كونه مستقرًا في الذمة إلى حلول أجله، أو متعلق بـ {تَكْتُبُوهُ}. {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {أَقْسَطُ}: خبر، والجملة مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَقْسَطُ}؛ لأن اسم التفضيل يعمل في الظروف والمجرورات. {وَأَقْوَمُ}: معطوف على {أَقْسَطُ}. {لِلشَّهَادَةِ}: متعلق به. {وَأَدْنَى}: معطوف على {أَقْسَطُ}. {أَلَّا تَرْتَابُوا} {أن}: حرف نصب ومصدر {لا}: نافية {تَرْتَابُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإلى المقدَّرة المتعلِّقة بأدنى تقديره: وأدنى وأقرب إلى عدم ارتيابهم في جنس الدين ونوعه وقدره وشهوده. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}. {إِلَّا}: أداة استثناء من عام الأحوال. {أَنْ تَكُونَ}: {أَن} حرف نصب {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أَن}، واسمها ضمير يعود على المعاملة {تِجَارَةً}: خبرها منصوب. {حَاضِرَةً}: صفة لـ {تِجَارَةً}، وجملة

{تَكُونَ} من اسمها وخبرا صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقديره: ولا تسأموا كتابته في جميع الأحوال إلا حالة كون المعاملة تجارة حاضرة. {تُدِيرُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {تِجَارَةً}، ولكنها سببية، {بَيْنَكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تديرونها} {فَلَيْسَ}: الفاء تعليلية، {ليس}: فعل ماضٍ ناقص {عَلَيْكُمْ}: خبر مقدم لـ {ليس}، {جناح}: اسمها مؤخر، وجملة {ليس} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما استثنينا تجارة حاضرة لعدم ثبوت الجناح عليكم في عدم كتابتها، وإنما جعلنا الفاء تعليلية؛ لأن الفاء بعد الاستثناء للتعليل غالبًا. وفي "الجمل": أنها عاطفة. ولا معنى للعطف هنا. {أَلَّا تَكْتُبُوهَا}: {أن}: حرف نصب {لا}: نافية {تَكْتُبُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن}، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {في} المحذوفة تقديره: فليس عليكم جناح في عدم كتابتها، والجار المقدر متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {ليس}. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. {وَأَشْهِدُوا} {الواو}: استئنافية. {أشهدوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {تَبَايَعْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ {أشهدوا}؛ أي: وأشهدوا وقت مبايعتكم. {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} الواو عاطفة، أو استئنافية. {لا}: نافية {يُضَارَّ كَاتِبٌ}: فعل وفاعل، أو فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَشْهِدُوا} {وَلَا شَهِيدٌ}: معطوف على {كَاتِبٌ}: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} الواو استئنافية، {إن}: حرف شرط جازم. {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن}. {فَإِنَّهُ}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {إِنَّهُ}: حرف نصب وتوكيد، والهاء اسمها. {فُسُوقٌ}: خبرها. {بِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة

لـ {فُسُوقٌ}: تقديره: فسوق لاحق بكم، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} {الواو} استئنافية. {اتقوا الله}؛ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} الواو استئنافية. {يعلمكم الله}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مصالح أموركم. والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف شرط جازم {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {عَلَى سَفَرٍ}: جار ومجرور خبر {كان}، {وَلَمْ تَجِدُوا}: الواو عاطفة. {لم تجدوا}: فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة الشرط {كَاتِبًا}: مفعول به؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب، يتعدى لمفعول واحد. وفي "الفتوحات": في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عطف على فعل الشرط؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا. فتكون في محل جزم تقديرًا. والثاني: أن تكون معطوفة على خبر كان؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا. والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محل نصب. اهـ "سمين". {فَرِهَانٌ}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية {رِهَانٌ}: مبتدأ، {مَقْبُوضَةٌ} صفةٌ له، والخبر محذوف تقديره: وثيقة لدَينكم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.

{فَإِنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا كنتم على سفر، ولم تجدوا كاتبًا، ولم يأمن بعضكم بعضًا، وأردتم بيان حكم ما إذا أمن بعضكم بعضًا .. فأقول لكم: {إن أمن بعضكم}: إن: حرف شرط {أَمِنَ بَعْضُكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {بَعْضًا}: مفعول به، {فَلْيُؤَدِّ}: الفاء رابطة لجواب الشرط، اللام: لام أمر وجزم، {يؤدِ الذي}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {اؤْتُمِنَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب {أَمَانَتَهُ}: مفعول به، لـ {يؤد}، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}: الواو عاطفة، واللام لام الأمر، {يتقِ الله}: فعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي اؤْتُمِنَ}. {رَبَّهُ}: بدل من لفظ الجلالة، ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلْيُؤَدِّ} على كونها جوابًا لـ {إن} الشرطية. {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}: الواو استئنافية. لا: ناهية {تكتموا الشهادة}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {وَمَن}: الواو عاطفة {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. {يَكْتُمْهَا}: فعل ومفعول به مجزوم بـ {من} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {فَإِنَّهُ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية، {إنّ} حرف نصب، والهاء اسمها، {آثِمٌ}: خبرها. {قَلْبُهُ}: فاعل {آثِمٌ}، ومضاف إليه، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية.

{الله}: مبتدأ، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا تَدَايَنْتُمْ}: يقال: تداين - من باب تفاعل - من الدَّين. يقال: داينت الرجل عاملته بدين معطيًا أو آخذًا؛ كما يقال: بايعته إذ بعته أو باعك. قال رؤبة: دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُوْن تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: وألف {مُسَمًّى} منقلبة عن ياء؛ لأنه من التسمية، وكذا كل ألف وقعت رابعة فصاعدًا .. تكون منقلبة عن ياء ثم ينظر في أصل الياء، فالياء هنا منقلبة عن واو؛ لأنه من: سما يسمو. {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ}: هو من أبى يأبى؛ كسعى يسعى، إذا امتنع. {وَلْيُمْلِلِ}؛ أي: وليسمع {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}: الكاتب الألفاظ التي يكتبها ويلقيها عليه، أملَّ وأملى لغتان فصيحتان معناهما واحد، الأولى: لأهل الحجاز وبني أسد، والثانية: لتميم، يقال: أمليت وأمللت على الرجل؛ أي: ألقيت عليه ما يكتبه، وأصل المادتين في اللغة: الإعادة مرة بعد أخرى، قال الشاعر: أَلاَ يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ وقيل: الأصل: أمللت، أبدل من اللام ياء؛ لأنها أخف، والإدغام في مثل ذلك جائز لا واجب، كما قال في "الخلاصة": نَحْوِ حَلَلْتُ مَا حَلَلْتُهُ وَفي ... جَزمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيرٌ قُفِيْ فلذلك ترك الإدغام هنا، ويأتي الإدغام في {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ}. {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ}: والبخس: النقص، يقال منه: بخس زيد عمرًا حقه يبخسه بخسًا إذا نقصه، وبابه: قطع، وأصله من: بخست عينه، فاستعير لبخس

الحق، كما قالوا: عورت حقه استعارة عن عور العين، ويقال: بخصته بالصاد، ويقال للبيع إذا كان قصدًا لا بخس فيه ولا شطط. {وَلَا تَسْأَمُوا}: السأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه، يقال: سَئِم يسأم من باب: تعب مهموز، ويقال: سَئِمته أسأمه، وسئمت منه، وفي التنزيل: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} فهو يتعدى بنفسه، وبواسطة حرف الجر، ومنه قول الشاعر: سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِيْنَ حَوْلًا لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ {صَغِيرًا}: الصغير اسم فاعل من صغر يصغر، ومعناه: قلة الجرم، ويستعمل في المعاني أيضًا. {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}: من أقسط الرباعي على غير قياس، وكذلك قوله: {وَأَقْوَمُ}؛ إذ القياس أن يكون بناء أفعل التفضيل من المجرد لا من المزيد. وفي "المختار": القسوط: الجور والعدول عن الحق، وبابه: جلس، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. انتهى. والقِسط (¬1) بكسر القاف: العدل، يقال منه: أقسط الرجل إذا عدل، وبفتح القاف: الجور، ويقال منه: قسط الرجل إذا جار. والقسط بالكسر أيضًا النصيب. {فَرِهَانٌ}: جمع رهن بمعنى مرهون من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، يقال: رهن يرهن رهنًا من باب فتح، والرهن: ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه. البلاغة وفي الآية من ضروب الفصاحة (¬2): منها: التجنيس المغاير في قوله: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، وفي قوله: {وَلْيَكْتُبْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ}، وفي قوله: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ}، وفي قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وفي قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وفي قوله: {اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا}. ومنها: التأكيد في قوله: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، وفي قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ}، إذ يفهم من قوله {تداينتم}: الدينُ، ومن قوله {فليكتب}: الكاتبُ. ومنها: الطباق في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ}؛ لأن الضلال هنا بمعنى: النسيان، وفي قوله: {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا}. ومنها: التشبيه في قوله: {أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، وفي قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}، وفي قوله: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}، وفي قوله: {تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}. ومنها: الإطناب في قوله: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ}، وفي قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}؛ كرر الحق للدعاء إلى اتباعه، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالًا واستعلاء. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار أيضًا في قوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لزيادة الكشف والبيان، لا لأن الأمر والنهي لغيره كما ذكره أبو السعود. ومنها: التكرار في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، وفي قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وفائدة تكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث: إدخال الروع في القلب، وتربية المهابة في النفوس، والتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله، فإن: الأولى: حثٌّ على التقوى. والثانية: وعد بالإنعام بالتعليم.

والثالثة: تعظيم لشأنه تعالى. وفي على في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} استعارة تبعية، حيث شبَّه تمكنهم من السفر بتمكن الراكب من مركوبه، وجمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل في قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} مبالغة في التحذير. وفي الآية أيضًا: الإيجاز بالحذف، وذلك كثيرٌ، ومن أمثلته قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حذف متعلِّق الإيمان، وقوله: {مُسَمًّى}؛ أي: بينكم، وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}، أي: الكتابة والخط، وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}؛ أي: ما عليه من الدين، وقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}؛ أي: في إملائه، إلى غير ذلك من الأمثلة المذكورة في الآية كما بيَّنها أبو حيان في "البحر". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. المناسبة قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ..} مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم .. ذكر ما انطوى عليه الضمير، فكتمه أو أبداه، فإن الله يحاسبه به، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة، ولما علق الإثم بالقلب .. ذكر هنا الأنفس فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}. وناسب ذكر هذه خاتمة لهذه السورة؛ لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع: من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والقصاص والصيام والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والخلع والإيلاء والرضاعة والربا والبيع وكيفية المداينة، فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض، فهو يُلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته، ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس وما تنطوي عليه من النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة .. نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فصفة الملك تدل ¬

_ (¬1) البحر الم

على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين. قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما نزل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ...} الآية، أشفقوا منه، ثم أمروا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، فكشف عنهم ذلك الكرب، ورفع عنهم المشقة في أمر الخواطر. ولما كان ابتداء هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول، وإلى من قبله .. كان مختمها بذكر الكتاب، ومن آمن به؛ ليتوافق الابتداء والاختتام، وذلك من أبدع الفصاحة؛ حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، فبيَّن تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم. أسباب النزول قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ...} إلى آخر السورة، سبب نزولها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآية، قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم .. أنزل الله تعالى في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُ

[284]

وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ، فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال - أي تعالى -: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: نعم. أخرجه مسلم، وله عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وفيه: قد فعلت بدل نعم. والحديث أخرجه أحمد في "المسند" وابن جرير والبيهقي في "شعب الإيمان". التفسير وأوجه القراءة 284 - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} استدلال على قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فاستدل بسعة ملكه على سعة علمه؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السموات وما في الأرض، من الأمور الداخلة في حقيقتهما، والخارجة عنهما: من أولي العلم، وغيرهم، فقل غيرهم، فعبَّر {بِمَا}؛ لأنهم أكثر؛ أي: له تعالى الكل خلقًا وملكًا وتصرفًا، فالجميع عبيد له وهو مالكهم {وَإِنْ تُبْدُوا}؛ أي: وإن تظهروا أيها المكلفون {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: ما في قلوبكم من العزم على السوء بأن تظهروه للناس بالقول، أو بالفعل {أَوْ تُخْفُوهُ}؛ أي: تسروه بأن تكتموه منهم {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}؛ أي: يؤاخذكم به ويجازكم عليه يوم القيامة، ولا تَدْخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان؛ لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. فالخواطر الحاصلة في القلب على قسمين: ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في حيِّز الوجود، وما لا يكون كذلك، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولا يمكنه دفعها عن النفس. فالقسم الأول: يكون مؤاخذًا عليه، والثاني: لا يكون مؤاخذًا

[285]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به" وفي رواية: "ما وسوست به صدورها" متفق عليه. {فَيَغْفِرُ} بفضله {لِمَنْ يَشَاءُ} المغفرة له {وَيُعَذِّبُ} بعَدْله {مَنْ يَشَاءُ} تعذيبه، وقد يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وقد يعذب من يشاء على الذنب الحقير لا يُسأل عما يفعل. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءَه من المحاسبة والمغفرة والتعذيب وغيرها {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر. وقرأ ابن (¬1) عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} بالرفع فيهما على القطع والاستئناف على أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يغفر. وقرأ باقي السبعة: بالجزم عطفًا على الجواب، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة شذوذًا: بالنصب فيهما على إضمار: أن، فينسَبِك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب تقديره: يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر: فَإنْ يَهْلِكْ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ ... رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ يروى بجزم: ونأخذ، ورفعه ونصبه. وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف شذوذًا أيضًا: {يغفر لمن يشاء}، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله، قال ابن جني: هي على البدل من {يُحَاسِبْكُمْ}؛ فهي تفسير للمحاسبة. انتهى. قيل: وليس بتفسير بل هما مترتبان على المحاسبة. 285 - {آمَنَ الرَّسُولُ}؛ أي: صدق الرسول محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ}؛ أي: بأن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزلٌ عليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: من عند الله سبحانه وتعالى {و} صدق {المؤمنون} بذلك أيضًا، فيكون المؤمنون مرفوعًا على الفاعلية عطفًا على الرسول، فيكون الوقف عليه، ويدل على صحة هذا قراءة علي رضي الله عنه: {وآمن المؤمنون}، فأظهر الفعل. {كُلٌّ} أي: كل واحد من الرسول والمؤمنين {آمَنَ بِاللَّهِ}؛ أي: صدق بوجوده وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه {وَمَلَائِكَتِهِ}؛ أي: بوجودهم، وبأنهم معصومون مطهرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر، وأن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة {وَكُتُبِهِ}. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: {وكِتَابه} - بكسر الكاف وفتح التاء مع الألف - بالإفراد على إرادة الجنس وباقي السبعة: {وَكُتُبِهِ} بضم الكاف والتاء بالجمع، أي: كلٌّ صدق بأن هذه الكتب المنزلة وحي من الله تعالى إلى رسله، وأنها ليست من باب الكهانة، ولا من باب السحر، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة، وأن الشياطين لا يتمكنون من إلقاء شيء من ضلالتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر، وأن هذا القرآن الكريم لم يغيَّر ولم يحرَّف. {رُسُلِهِ}؛ أي: بأن لله رسلًا من البشر أمناء على وحيه معصومين من الذنوب، أرسلهم إلى عباده المكلفين بشرائع وتكاليف، من أطاعهم دخل الجنة ومن عصاهم دخل النار. وقرأ يحيى (¬1) بن يعمر شذوذًا: {وكتْبه ورسله} بإسكان التاء والسين وروي ذلك عن نافع، وقرأ الحسن شذوذًا أيضًا: {ورسْله}: بإسكان السين، وهي رواية عن أبي عمرو، وقرأ عبد الله شذوذًا أيضًا: {وكتابه ولقائه ورسله}، وقرأ الجمهور {وَرُسُلِهِ} بضم السين. {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} قرأ الجمهور: {لَا نُفَرِّقُ} بالنون؛ أي: حالة كون الرسول والمؤمنين يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله في الإيمان بهم كما فعلت اليهود والنصارى، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، بل نؤمن بجميع رسله تعالى، ونثبت نبوة جميع الأنبياء، ولا نكفر بأحد منهم. والمقصود من هذا الكلام: إثبات النبوة لكلهم، لا ما ادَّعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[286]

التفضيل بينهم. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب: {لا يفرق} بالياء على لفظ كل. قال هارون: وهي في مصحف أُبي وابن مسعود: {لا يفرقون} وهو شاذ، حملًا على معنى كل بعد الحمل على اللفظ. {وَقَالُوا}؛ أي: وقال المؤمنون أيضًا: {سَمِعْنَا}؛ أي: أجبنا قولك يا إلهما فيما كلفتنا به {وَأَطَعْنَا}؛ أي: امتثلنا أمرك يا مولانا في ذلك، وقدّم {سَمِعْنَا} على {وَأَطَعْنَا}؛ لأن التكليف طريقُه السمع، والطاعة بعده، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلًا هذا دهره وحياته. {غُفْرَانَكَ}؛ أي: نسألك غفرانك لذنوبنا يا {رَبَّنَا} وما قصرنا في حقك يا إلهنا {وَإِلَيْكَ} يا إلهنا لا إلى غيرك {الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع بعد الموت؛ يعني قالوا: إليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وفيه إقرار بالبعث والجزاء. 286 - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ظاهره أنه إخبار من الله سبحانه وتعالى مستأنف أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف، والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا والتقصير، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة .. فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى لا يكلف نفسًا ولا يلزمها من التكاليف والطاعات إلا وسعها وطاقتها؛ أي: إلا ما تسعه قدرتها فضلًا ورحمة منه تعالى، فلا يتعبدها بما لا تطيق. وقيل: هذا من كلام الرسول والمؤمنين؛ أي: وقالوا: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمعنى: أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا .. قالوا: كيف لا نسمع ذلك ولا نطيع وهو تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا!. وقرأ ابن أبي عبلة: {إلا وسعها} جعله فعلًا ماضيًا، وأوَّلوه على إضمار {ما} الموصولة؛ أي: إلا ما وسعها. {لَهَا مَا كَسَبَتْ} وعملت من الخير، أي: للنفس ثواب ما عملته من الخير وأجره {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}؛ أي: وعليها وزر ما عملته من الشر وعقابه؛ أي: لا ينتفع بطاعتها، ولا يتضرر بمعاصيها غيرها. وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشرِّ؛ لأن الاكتساب فيه اعتمال واشتهاء

وانجذاب، والشر تشتهيه النفس، وتنجذب إليه، فكانت أجد في تحصيله وأعمل، بخلاف الخير فإنه ثقيل عليها. وجاء في الخير بـ {اللام}؛ لأنه ما يفرح به ويسر، فأضيف إلى ملكه، وجاء في الشر بـ {على} من حيث هو أوزار وأثقال، فجعلت قد عَلَته، وصار تحتها يحملها، وهذا كما تقول: لي مال وعليَّ دين. وقولوا في دعائكم: يا {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا}؛ أي: لا تعاقبنا {إِنْ نَسِينَا} طاعتك؛ أي: إن تركنا أمرًا من أوامرك نسيانًا {أَوْ أَخْطَأْنَا} في أمرك إن تركنا الصواب فيه لا عن تعمد، كتأخير الصلاة عن وقتها في حالة الغيم جهلًا به، وكقتل الخطأ المشهور، وهذا تعليم منه سبحانه وتعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه، ومعناه: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا؛ أي: لا تعاقبنا بإثمِ ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد (¬1) استشكل هذا الدعاء جماعة من المُفسِّرين وغيرهم قائلين: إن النسيان والخطأ مغفوران غير مؤاخذ بهما، فالدعاء بذلك من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك: بأن المراد طلب ترك المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط، وعدم المبالاة، لا من النسيان والخطأ، فإنه لا مؤاخذة بهما، كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه وابن منذر وابن حبان في "صحيحه" والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في "سننه" وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: إنه للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته. وقيل: سؤاله على سبيل إظهار النعمة والتحدث بها على حد: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، والصحيح أنه يختلف ذلك باختلاف الوقائع، فقسمٌ: لا يسقط باتفاق، كالغرامات والدِّيات والصلوات المفروضات، وقسم: يسقط باتفاق، كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه: كمن أكل ناسيًا في رمضان، أو حنث ساهيًا، وما كان مثله مما يقع ¬

_ (¬1) الشوكاني.

خطأً أو نسيانًا، ويعرف ذلك في الفروع. انتهى. ومن هنا إلى آخر السورة سبع دعوات مستجابة. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}؛ أي: وقولوا يا ربنا لا تكلفنا بالأمور الشاقة {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} من بني إسرائيل؛ أي: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود. وفي قراءة أُبيّ بالتشديد شذوذًا في: {ولا تحمِّل علينا إصرًا} إفادةٌ للتكثير. قال المفسرون (¬1): إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة .. أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئًا .. عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة .. حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالًا لهم، ومن أصاب ذنبًا .. أصبح وذنبه مكتوب على بابه، ونحو ذلك من الأثقال والآصار التي كتبت عليهم، فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات والعهود الثقيلة، وقد أجاب الله دعائهم برحمته، وخفف عنهم بفضله وكرمه، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ}؛ أي: قوة {لَنَا به} من البلاء والعقوبة النازلة بمن قبلنا أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية، وهذا أعم من الإصر السابق؛ لتخصيصه بالتشبيه وعموم هذا، والتشديد في {وَلَا تُحَمِّلْنَا}: للتعدية. {وَاعْفُ عَنَّا}؛ أي: أمح آثار ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا}؛ أي: واستر عيوبنا، ولا تفضحنا بالمؤاخذة بين رؤوس الأشهاد {وَارْحَمْنَا}؛ أي: تعطف بنا وتفضل علينا {أَنْتَ مَوْلَانَا}؛ أي؛ ناصرنا وحافظنا وولينا ومتولي أمورنا، ونحن عبيدك. ويقال: واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى، واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط، فلما دَعَوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه، وعفا عنهم من ¬

_ (¬1) مراح خازن.

الخسف والمسخ والقذف. {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}؛ أي: الجاحدين الذين عبدوا غيرك، وجحدوا وحدانيتك؛ أي: انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإِسلام على دولتهم، فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة: قد فعلت. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها. قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} قال: فراشٌ من ذهب. قال: فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر - لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا - المقحمات. أخرجه مسلم. المقحمات: الذنوب التي تولج مرتكبها النار، وأصل الاقتحام: الولوج. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه" متفق عليه. معناه: كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة وشيطان، فلا يقربه تلك الليلة. وقيل: كفتاه عن قيام الليل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده جبريل عليه السلام، إذ سمع نقيضًا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشرْ بنورين أوتيتَهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. أخرجه مسلم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله كتب لنا كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان".

أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. ولما مدح الله سبحانه وتعالى المتقين في أول السورة .. بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}؛ وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ثم قال ها هنا؛ {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهو المراد بقوله تعالى هناك: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ثم قال ها هنا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وهو المراد بقوله هناك: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ثم حكى الله تعالى عنهم ها هنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخر السورة، وهو المراد بقوله تعالى هناك: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها. الإعراب {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {وَمَا}: الواو عاطفة و {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع معطوفة على {مَا} الأولى: {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لها، أو صفة لها. {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}. {وَإن} {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف شرط جازم {تُبْدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به {فِي أَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} أو صفة لها {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل {تُخْفُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية؛ لأنه معطوف على فعل الشرط

{يُحَاسِبْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه جواب الشرط {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، {اللَّهُ} فاعل، وجملة {إن} الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {فَيَغْفِرُ} الفاء بمعنى الواو الاستئنافية {يغفر}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فهو يغفر لمن يشاء، والجملة الإسمية مستأنفة. هذا على قراءة الرفع، وأما على قراءة الجزم فمعطوفٌ على يحاسبكم. وقرىء شذوذًا بالنصب كما مر على إضمار {أن}؛ فينسبك منها مع ما بعدها مصدرٌ مرفوع معطوف على مصدر متصيَّد من {يُحَاسِبْكُمْ} تقديره: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه الثلاثة قد جاءت في قول الشاعر: فَإنْ يَهْلِكَ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ ... رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ يروى بجزم ونأخذ ورفعه ونصبه ما سبق. {لِمَن}: جار ومجرور متعلق بـ {يغفر}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {من} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء مغفرته. {وَيُعَذِّبُ}: معطوف على {يغفر} بالأوجه الثلاثة السابقة {مَن}: اسم موصول مفعول {يعذب}، وجملة {يَشَاءُ} صلته، والعائد محذوف تقديره: يشاء تعذيبه. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {اللَّهُ}: مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قَدِيرٌ}، وهو خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. {آمَنَ الرَّسُولُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ}، {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود

على {ما}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير النائب {إِلَيْهِ} جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أُنْزِلَ} أيضًا، {وَالْمُؤْمِنُونَ} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية عطفًا على الرسول، فيكون الوقف عليه، ويكون قوله: {كُلٌّ آمَنَ} جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر مستأنفة استئنافًا بيانيًّا تدل على أن جميع من تقدم ذكره آمن بما سيذكر بعدها. والثاني: أن يكون المؤمنون مبتدأ أول، و {كُلٌّ}: مبتدأ ثانٍ، و {آمَنَ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره: خبر عن المبتدأ الأول، وعلى هذا فلا بد من رابط يربط بين الجملة الصغرى والكبرى، وهو محذوف تقديره: كلٌّ منهم، كقولهم: السَّمْنُ منوان بدرهمٍ، تقديره: منوانٍ منه {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ} {وَمَلَائِكَتِهِ}: معطوف على الجلالة ومضاف إليه، وكذا قوله: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}: معطوفان على لفظ الجلالة. {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. {لَا}: نافية {نُفَرِّقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، {بَيْنَ أَحَدٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {نُفَرِّقُ}، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف تقديره: يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، والقول المحذوف حال من الضمير المستتر في {آمَنَ} تقديره: كل آمن باللهِ وملائكته وكتبه ورسله حالة كونهم قائلين لا نفرق بين أحد. {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. {وَقَالُوا} الواو عاطفة {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {آمَنَ}. {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {سَمِعْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}، وكذلك جملة {أطعنا}: معطوفة على جملة {سَمِعْنَا}. {غُفْرَانَكَ}: مفعول لفعل محذوف ومضاف إليه تقديره: نسألك غفرانك،

والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالوا}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالوا}، {وَإِلَيْكَ}: الواو عاطفة {إليك}: جار ومجرور خبر مقدم {الْمَصِيرُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة {سَمِعْنَا} على كونها مقولًا لـ {قالوا} وفي "الجمل": أنها معطوفة على مقدَّر؛ أي: فمنك مبدأنا، وإليك المصير. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. {لَا}: نافية {يُكَلِّفُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {نَفْسًا}: مفعول أول {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {وُسْعَهَا}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. {لَهَا}: جار ومجرور خبر مقدم {مَا}: موصولة في محل الرفع مبتدأ، والجملة مستأنفة {كَسَبَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسًا}، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}: الواو عاطفة {عليها}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَا اكْتَسَبَتْ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ}. {اكْتَسَبَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسًا}، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما اكتسبته. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} إلى آخر السورة: مقول محكي لقول محذوف تقديره: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا، وجملة القول المحذوف مستأنفة، وإن شئت قلتَ: {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف. {لَا تُؤَاخِذْنَا}: {لَا}: دعائية جازمة {تُؤَاخِذْنَا}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لَا} الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف. {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} {إن}: حرف شرط {نَسِينَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {أَخْطَأْنَا}: فعل وفاعل في محل

الجزم معطوف على {نَسِينَا} وجواب {إن} معلوم مما قبله تقديره: إن نسينا أو أخطأنا لا تؤاخذنا بذلك النسيان أو الخطأ، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول للقول المحذوف. {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية. {تَحْمِلْ}: مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: لا تؤاخذنا. {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَحْمِلْ}. {إِصْرًا}: مفعول به {كَمَا}: الكاف حرف جر {ما}: مصدرية. {حَمَلْتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول {الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَمَلْتَهُ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ولا تحمل علينا إصرًا حملًا كائنًا كحملك على الذين من قبلنا. {مِنْ قَبْلِنَا}: {مِن}: حرف جر. {قَبْلِنَا}: مجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة الوصول. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {وَلَا تُحَمِّلْنَا}: الواو عاطفة {لا}: دعائية. {تُحَمِّلْنَا}: فعل ومفعول أول مجزوم بـ {لا} الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تُؤَاخِذْنَا}. {مَا لَا طَاقَةَ}؛ {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ {لَا}: نافية تعمل عمل {إن}. {طَاقَةَ}: اسمها {لَنَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لَا} {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {طَاقَةَ}؛ لأنه اسم مصدر من: أطاق الرباعي، وجملة {لَا} من اسمها وخبرها صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِه}. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {وَاعْفُ} الواو عاطفة، والجمل الثلاث معطوفات على جملة قوله: {لَا

تُؤَاخِذْنَا}، وكذا جملة قوله: {وَارْحَمْنَا} معطوفة عليها. {أَنْتَ مَوْلَانَا}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول. {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: الفاء: عاطفة سببية {انصرنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: جار ومجرور وصفة، متعلق بـ {انصرنا}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {أَنْتَ مَوْلَانَا}. التصريف ومفردات اللغة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} من أبدى الرباعي، يقال: أبدى ما في ضميره إذا أظهره بفعله أو قوله. {أَوْ تُخْفُوهُ} من أخفى الرباعي، يقال: أخفى الشيء إذا أسره في نفسه، وقدِّم الإبداء هنا على الإخفاء؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله تعالى في آل عمران: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}؛ فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب؛ لكون رحمته سبقت غضبه. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} والمصير (¬1): مصدرٌ ميميٌّ من صار يصير صيرورة ومصيرًا، وهو مبني على مفعِل بكسر العين، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو: يبيت ويعيش، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح نحو: يضرب يكون للمصدر بالفتح، وللمكان والزمان بالكسر نحو {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}؛ أي: عيشًا. والمصير بمعنى الصيرورة على هذا شاذ، وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعِل بكسر العين أو مفعَل بفتحها، وأما الزمان والمكان فبالكسر ذهب إلى ذلك الزجاج، ورده عليه أبو علي، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع، فحيث بنت العرب المصدر على مفعِل أو مفعل اتبعناه، وهذا المذهب أحوط. {إِلَّا وُسْعَهَا} والوسع بتثليث الواو كما في "القاموس": دون المجهود في ¬

_ (¬1) أبو حيان.

المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان، يقال: وسعه الشيء بالكسر يسعه سعة بالفتح، والسعة بالفتح الجدة والطاقة. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} يقرأ (¬1) بالهمزة وهو من الأخذ بالذنب، ويقرأ بالواو ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضًا، وإنما أبدلت الهمزة واو لانفتاحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيف قياسي. ويحتمل أن يكون من: وَاخَذَهُ بالواو. قاله: أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد وهو الله؛ لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله، فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه فحسنت المفاعلة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت. {إِصْرًا} الإصر: العناء الثقيل الذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة، ذكره أبو السعود. وفي "المختار": أصره يأصره - من باب ضرب - إصرارًا إذا حبسه، ويطلق على كل ما يثقل على النفس كشماتة الأعداء. {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: والطاقة القدرة على الشيء، وهي في الأصل مصدر جاء على حذف الزوائد، وكان من حقها إطاقة؛ لأنها من أطاق، ويصح أن تكون اسم مصدر لأطاق الرباعي. {مَوْلَانَا} المولى: مفعل من: ولى يلي، وهو هنا مصدر ميمي يراد به اسم الفاعل ويجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: صاحب تولينا؛ أي: نصرتنا. البلاغة وقد تضمنت الآية من ضروب البلاغة أنواعًا: ¬

_ (¬1) الجمل.

منها: الطباق بين قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، وقوله: {أَوْ تُخْفُوهُ}، وكذا بين {فَيَغْفِرُ}، و {وَيُعَذِّبُ}. ومنها: الطباق المعنوي بين: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}؛ لأن {لَهَا} إشارة إلى ما يحصل به نفع {وَعَلَيْهَا} إشارة إلى ما يحصل به ضرر، وقدم {لَهَا} {وَعَلَيْهَا} على الفعلين؛ ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وإنما كرر الفعل وخالف بين التصريفين تحسينًا للنظم، كما في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. ومنها: التكرار في قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} كرر {ما} تنبيهًا وتوكيدًا للكلام. ومنها: الجناس المغاير، ويسمى جناس الاشتقاق في قوله: {آمَنَ} {وَالْمُؤْمِنُونَ}. ومنها: تكرير النداء بين المتعاطفات لإظهار مزيد الضراعة والالتجاء إلى الرب الكريم. ومنها: الإطناب في قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. ومنها: الاستعارة المصرحة في قوله: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}؛ لأن الإصر في الأصل: الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه في مكانه، والمراد به هنا: التكاليف الشاقة. ومنها: التشبيه في قوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ}؛ أي؛ آمنوا بالله ورسله. وفي مواضع أخرى عديدة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

تتمة وخلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة خمسة عشر: الأول: دعوة الناس جميعًا إلى عبادة ربهم. والثاني: عدم اتخاذ أنداد له. والثالث: ذكر الوحي والرسالة، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده، وتحدي الناس كافة بالإتيان بمثله. والرابع: ذكر أُسِّ الدين، وهو توحيد الله. والخامس: إباحة الأكل من جميع الطيبات. والسادس: ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأحكام الصيام، والحج والعمرة، وأحكام القتال والقصاص. والسابع: الأمر بإنفاق المال في سبيل الله. والثامن: تحريم الخمر والميسر. والتاسع: معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة. والعاشر: أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة. والحادي عشر: تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه. والثاني عشر: أحكام الدَّين من كتابة وإشهاد، وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك. والثالث عشر: وجوب أداء الأمانة. والرابع عشر: تحريم كتمان الشهادة. والخامس عشر: خاتمة ذلك كله الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به، وعلى الجملة فقد فُصلت فيها الأحكام وضُربت الأمثال وأقيمت الحجج، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه، ومن ثمَّ سمُيت فسطاط القرآن.

خاتمة قال محمَّد بن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": واعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير، والناسخ بالمدينة كثير، وليس في أم الكتاب شيء منهما، فأما سورة البقرة وهي مدنية، ففيها ستة وعشرون آية من المنسوخ. الأولى منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية وهي منسوخة بقوله تعالى في آل عمران؛ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} مدنية 85. والثانية منها: قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فإنها منسوخة بقوله تعالى في براءة آية السيف: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} مدنية 5. والثالثة: قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فإنها منسوخة بقوله تعالى في براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} مدنية: 29. والرابعة: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} هذا محكم، والمنسوخ منها قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} منسوخ بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة مدنية 144. والخامسة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية منسوخة بالاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} البقرة 159. والسادسة: قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية، فنسخ منها بالسنَّة بعض الميتة وبعض الدم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال". وقال سبحانه: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، ثم رخص للمضطر إذا كان غير باغٍ ولا عاد بقوله: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. والسابعة: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وهذا الأخير موضع النسخ منها - أعني - والأنثى بالأنثى، وباقيها محكم وناسخها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية المائدة 45 وقيل: ناسخها قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَل

لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} مدنية 33، وقتل الحر بالعبد إسراف، وكذلك قتل المسلم بالكافر. والثامنة: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فإنها منسوخة بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} "النساء مدنية:11". والتاسعة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فإنها منسوخة، وذلك أنهم كانوا إذا أفطروا أكلوا وشربوا وجامعوا النساء ما لم يصلوا العشاء الأخيرة أو يناموا قبل ذلك، ثم نسخ الله ذلك بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} البقرة: 187 في شأن عمر رضي الله عنه والأنصاري؛ لأنهما جامعا معًا ونزل في صرفه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. والعاشرة: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هذه الآية نصفها منسوخ، وناسخها قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يعني: فمن شهد منكم الشهر حيًّا بالغًا حاضرًا صحيحًا عاقلًا فليصمه. والحادية عشرة: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} فإنّ خصوصها منسوخ بعموم قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} التوبة مدنية: 36. والثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإنها منسوخة بقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} البقرة مدنية: 191. والثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا من الأخبار التي معناها الأمر تأويله: فاغفروا لهم، واعفوا عنهم، ثم أخبار العفو منسوخة بآية السيف بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} التوبة مدنية:5. والرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} نسخ عمومها بخصوص قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ

صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. والخامسة عشرة: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نسخت بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية التوبة مدنية: 60. والسادسة عشرة: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية نسخت بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية التوبة مدنية:5. والسابعة عشرة: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية نسخت بقوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، فلما نزلت هذه الآية امتنع قوم عن شربها، وبقي قوم على شربها، ثم أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء: 43، وكانوا يشربون بعد العشاء الآخرة، ثم يرقدون، ثم يقومون من غد وقد صحوا، ثم يشربونها بعد الفجر إن شاؤوا فإذا جاء وقت الظهر لا يشربونها البتة، ثم أنزل الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} المائدة مدنية: 90؛ أي: فاتركوه. والثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}؛ يعني: الفضل من أموالكم منسوخة بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} الآية التوبة مدنية: 103. والتاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} نسخ عمومها الكتابيات والوثنيات بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة مدنية: 5. والعشرون: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} هذه الآية جميعها محكم إلا كلامًا في وسطها، وهو قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} نسخ بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} نسخ عمومها بالاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}. والثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}

نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فصارت هذه الإرادة بالاتفاق ناسخة لحولين كاملين. والثالثة والعشرون: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} الآية، نسخت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وليس في كتاب الله آية تقدم ناسخها على منسوخها إلا هذه الآية وآية أخرى في سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية، نُسخت بقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية. والرابعة والعشرون: قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية، منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية التوبة مدنية: 5. والخامسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} منسوخة بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. والسادسة والعشرون: قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذا محكم ثم قال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، فشق نزولها عليهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا، ولكن قولوا سمعنا وأطعنا"، فلما علم الله تسليمهم لأمره .. أنزل ناسخ هذه بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وخفف الله مع الوسع بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة مدنية: 185. انتهى (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد تم بحمد الله تعالى وعونه تفسير سورة البقرة في الساعة الثالثة من اليوم الثامن من شهر ربيع الأول المبارك من شهور سنة سبع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. بقلم مؤلِّفه الراجي من ربه المنعم سبحانه أن يعينه على تمامه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله ذخيرة له عنده يوم وفوده إلى دار الآخرة: محمَّد الأمين بن عبد الله الأرمي الأثيوبي الهرري غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وذريته وأحبائه ولجميع المسلمين. آمين يا رب آمين.

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية، ومما يدل (¬1) على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها. وآياتها: مئتان باتفاق العادِّين. وكلماتها: ثلاث آلاف وأربع مئة وستون كلمة. وحروفها: أربعة عشر ألفًا وخمس مئة وخمس وعشرون حرفًا. المناسبة: ومناسبة (¬2) هذه السورة لما قبلها واضحة؛ لأنه لما ذكر آخر البقرة: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .. ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين؛ حيث ناظرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وردَّ عليهم بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فقص تعالى أحوالهم، وردَّ عليهم في اعتقادهم، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون، وبداءةَ خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردَّ عليهم. ولما كان مفتتح آية آخر البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فكان في ذلك الإيمان بالله وبالكتب .. ناسب ذكر أوصاف الله تعالى، وذكر ما أنزل على رسوله، وذكر المنزل على غيره صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم. وذكر المراغي (¬3) في وجه مناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها خمسة أوجه: الأول منها: أن كلًّا منهما بدىء بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء، فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية ¬

_ (¬1) شوكاني وابن كثير. (¬2) أبو حيان. (¬3) المراغي.

طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ويقولون: كلّ من عند ربنا. والثاني منها: أن في الأولى تذكيرًا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرًا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق. والثالث منها: أن في كل منهما محاجَّة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا؛ لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليًا في المرتبة للحديث الأول. والرابع منها: أن في آخر كلٍّ منهما دعاء إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين، وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة. والخامس منها: أن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى؛ كأنها مُتَمِّمة لها؛ فبُدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. فائدة: قال محمَّد بن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ" (¬1): سورة آل عمران كلها محكمة إلا خمس آيات: الأولى منها: قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} فإنها منسوخة وناسخها آية السيف في سورة التوبة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. والثانية والثالثة والرابعة: قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} فهذه ثلاثة آيات نزلت في ستة رهط ارتدوا عن الإِسلام بعد أن أظهروا الإيمان، ثم استثنى واحدًا من الستة وهو سويد بن الصامت، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فهذه - أعني آية الاستثناء - ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ.

ناسخة لتلك الثلاث. والخامسة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لما نزلت .. لم يعلم ما تأويلها، فقالوا يا رسول الله، ما حق تقاته؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يكفر" فقالوا: يا رسول الله، ومَنْ يطيق ذلك؟ فانزعجوا لنزولها انزعاجًا عظيمًا، ثم أنزل الله بعد مدة يسيرة آية تؤكد حكمها، وهي قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} في سورة الحج، فكانت هذه أعظم عليهم من الأولى، ومعناها: اعملوا لله حق عمله، فكادت عقولهم تذهل، فلما علم الله ما قد نزل بهم في هذا الأمر العسير .. خفف فنسخها بالآية التي في التغابن، وهي قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وهي مدنية، فكان هذا تيسيرًا من التعسير الأول وتخفيفًا من التشديد الأول انتهى. ومما ورد في فضلها وفضل البقرة: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة". قال معاوية بن سلام: من رواته بلغني أن البطلة: السحرة. وروى مسلم أيضًا: عن النواس بن السمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تَقْدُمه سورة البقرة وآل عمران". وضرب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعدُ. قال "لأنهما غمامتان أو ظلَّتان سودوان بينهما شرق - أي: ضوء - أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}. المناسبة المناسبة بين هذه الآيات وبين السورة السابقة: فقد مرَّ بيانها آنفًا، فلا عود. أسباب النزول فقد روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران، إذ وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا نحو ستين راكبًا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم: عبد المسيح أميرهم، والأيهم مشيرهم، وأبو حارثة بن علقمة حبرهم. فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاصموه، فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا تارة: عيسى هو الله؛ لأنه كان يحي الموتى، وتارة هو ابن الله؛ إذ ليس له أب، وتارة إنه ثالث ثلاثة؛ لقوله تعالى: فعلنا وقلنا، ولو كان واحدًا لقال: فعلتُ وقلتُ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت، وأن عيسى يموت"؟ قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه"؟ قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئًا"

[1]

من ذلك؟ قالوا: لا، قال: "ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئًا من ذلك إلا ما عُلِّم"؛ قالوا: لا، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث، وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث"؟ قالوا: بلى، فقال رسول الله: "فكيف يكون هذا كما زعمتم" فعرفوا الحق وسكتوا، ثم أبوا إلا الجحود، فأنزل الله تعالى من أول السورة {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...} إلى نيف وثمانين آية. ووجه الرد عليهم فيها: أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفي عقيدة التثليث من أول الأمر، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيًّا قيومًا؛ أي: قامت به السموات والأرض، وهي وجدت قبل عيسى، فكيف تقوم به قبل وجوده؟ ثم ذكر أنه تعالى نزَّل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده، كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتاب على الأنبياء، وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر؛ ليفرقوا بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبًا للعقول، ثم قال: أنه لا يخفى عليه شيء مطلقًا سواء أكان في هذا العالم أم في غيره من العوالم السماوية، وعيسى لم يكن كذلك، ثم بيَّن أن الإله هو الذي يصوِّر في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب؛ إذ الولادة من غير أب ليست دليلًا على الألوهية، فالمخلوق عبدٌ كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدًا في رحم أمه، ثم صرَّح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم (1)} الله أعلم بمراده به، قال القرطبي في "تفسيره": اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سرٌّ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا نحب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتُمرُّ

[2]

كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال: وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر، وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله به عزّ وجل. وذكر سيبويه في "الكتاب" (¬1): أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد، طريق التلفظ بها: الحكاية فقط، ساكنة الإعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما علم أن مغتفر في باب الوقف فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها، ثم يبدأ بما بعدها كما فعله الحسن والأعمش وغيرهما. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد .. فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسور .. فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر أو اقرأ أو نحوهما، وما بعدها كلام مستأنف. والله أعلم. 2 - {اللَّهُ}؛ أي: المعبود المستحق منكم العبادة أيها العباد هو: الإله الذي {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود {إِلَّا هُوَ} ولا ربَّ سواه. {الْحَيُّ}؛ أي: المتصف بالحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء {الْقَيُّومُ}؛ أي: القائم بنفسه، المستغني عن غيره، أو القائم بتدبير خلقه ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم. وقرأ جماعة (¬2) من الصحابة كعمر وأُبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهم شذوذًا: {القيام}، وقال خارجة (¬3) رحمه الله تعالى في مصحف عبد الله رضي الله عنه: {القيم} وروي هذا أيضًا عن علقمة وهو شاذ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[3]

وقال الرازي رحمه الله تعالى (¬1): مطلع هذه السورة عجيب؛ لأنهم لما نازعوا كأنه قيل: إما أن تنازعوا في معرفة الله، أو في النبوة، فإن كان في الأول: فهو باطل؛ لأن الأدلة العقلية دلت على أنه حيٌّ قيوم، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد، وإن كان في الثاني: فهو باطل؛ لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هو بعينه قائم هنا، وذلك هو المعجزة. انتهى. 3 - هو سبحانه وتعالى {نَزَّلَ عَلَيْكَ} يا محمَّد {الْكِتَابَ}؛ أي: القرآن بالتدريج بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، وإنما فسرنا كذلك؛ لأن فعَّل المضعف يدل على التكرير، وأتى (¬2) هنا بذكر المنزل عليه وهو قوله: {عَلَيْكَ} ولم يأتِ بذكر المنزل عليه في التوراة، ولا في الإنجيل تخصيصًا له وتشريفًا بالذكر، وجاء بذكر الخطاب؛ لما في الخطاب من المؤانسة، وأتى بلفظة {على} لما فيها من الاستعلاء كأن الكتاب تجلله وتغشاه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت (¬3): إن القرآن وقت نزول هذه الآية لم يتكامل نزوله؟ قلت: إما أن يراد بالكتاب ما نزل منه إذ ذلك، أو يقال: الفعل مستعمل في الماضي والمستقبل. وقرأ الجمهور: {نَزَّلَ} مشددًا {الْكِتَابَ} بالنصب. وقرأ النخعي والأعمش وابن أبي عبلة رحمهم الله تعالى شذوذًا: {نزلَ} مخففًا و {الكتابُ} بالرفع، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن تكون منقطعة. والثاني: أن تكون متصلة بما قبلها؛ أي: نزل الكتاب عليك من عنده. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الجمل.

[4]

حالة كون ذلك الكتاب ملتبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالعدل فيما خصك به من شرف النبوة، وقيل: بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره عن القرون الماضية، وفي وعده ووعيده، وقيل. معنى بالحق: بالبراهين القاطعة والحجج المحققة أنها من عند الله تعالى، أو بالقول الفصل وليس بالهزل ولا بالمعاني الفاسدة المتناقضة. وحالة كون ذلك الكتاب {مُصَدِّقًا} وموافقًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي؛ لما تقدمه من الكتب السالفة في الدعوة إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بشأنه، وفي الأمر بالعدل والإحسان، وفي أنباء الأنبياء والأمم الخالية، وفي الشرائع التي لا تختلف فيها الأمم، وأما (¬1) في الشرائع المختلفة فيها فمن حيث أن أحكام كل واردة على حسب ما تقتضيه الحكمة التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفة بها مشتملة على المصالح اللائقة بشأنهم. وفائدة (¬2) تقييد التنزيل بهذه الحال - أعني: {مُصَدِّقًا} - حث أهل الكتاب على الإيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه، فإن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه حتمًا. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} جملة على موسى بن عمران {وَالْإِنْجِيلَ} جملة على عيسى بن 4 - مريم عليهما السلام {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل تنزيل القرآن {هُدًى}؛ أي: حال كونهما هاديين من الضلالة {لِلنَّاسِ} في زمانهما يعني بني إسرائيل فهو حال من التوراة والإنجيل، ولم يثنَّ؛ لأنه مصدر، ويصح كونه مفعولًا له، والعامل فيه {أنزل}؛ أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هداية الناس بهما. وعبر فيهما بـ {أنزل}، وفي القرآن بـ {نَزَّلَ} المقتضي للتكرير؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلاف القرآن، قاله السيوطي رحمه الله تعالى. وقيل هذا التعليل منتقض بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وبقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الكرخي.

عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} وبقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، وحينئذٍ فالأَولى أن يقال: اختلاف التعبير في الموضعين للتفنن. {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}؛ أي: وأنزل جميع الكتب الفارقة بين الحق والباطل، وذكره بعد ذكر الكتب الثلاثة أولًا ليعم ما عداها من بقية الكتب المنزلة، فكأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل، فيكون من عطف العام على الخاص؛ حيث ذكر أولًا الكتب الثلاثة، ثم عمم الكتب كلها؛ ليختص المذكور أولًا بمزيد شرف، قاله الكرخي رحمه الله تعالى. وقال ابن عطية رحمه الله تعالى (¬1): المراد بالفرقان القرآن، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقًا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله. وقيل الفرقان: كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث، فدخل في هذا التأويل طوفان نوح عليه الصلاة والسلام، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل، وقيل الفرقان: النصر. وقال الفخر الرازي رحمه الله تعالى (¬2): المختار أن المراد بالفرقان: هو المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الثلاثة؛ لأنه لما أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق دعوى الرسل حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ودعوى الكاذب، فالفرقان هي المعجزة، وقال ابن جرير: أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل، وقيل غير ذلك. وقال المراغي رحمه الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}؛ أي: وأنزل العقل الذي يفرق به بين الحق والباطل في العقائد، وغيرها، وقال السدي (¬3) رحمه الله ¬

_ (¬1) ابن عطية. (¬2) الفخر الرازي. (¬3) الخازن.

[5]

تعالى: في الآية تقديم وتأخير تقديره: وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا وأنكروا وكذبوا {بِآيَاتِ اللَّهِ} الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل المبشرة بنزول القرآن ومبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكذبوا بالقرآن أولًا، ثم بسائر الكتب تبعًا لذلك وردوها بالباطل كوفد نصارى نجران وغيرهم {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}؛ أي: عظيم أليم بسبب كفرهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالخلود في النار. ومناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما قرر أمر الألوهية وأمر النبوة بذكر الكتب المنزلة .. توعَّد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة وغيرها بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا؛ كالقتل والأسر والغلبة وعذاب الآخرة؛ كالنار. والذين كفروا عامٌّ داخل فيه من نزلت الآية بسببهم، وهم وفد نصارى نجران، وغيرهم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: منيع الجناب عظيم السلطان غالب لا يغلب {ذُو انْتِقَامٍ}؛ أي: ذو عقوبة شديدة لمن كفر بآياته، والانتقام: المبالغة في العقوبة فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلًا للعقاب. والمعنى (¬2): أن الله بقدرته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض. 5 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَخْفَى} ولا يستتر {عَلَيْهِ} ولا يغيب ولا يعزب عن علمه {شَيْءٌ} من الموجودات ولا أمر من أمور العالم كليًّا كان أو جزئيًّا إيمانًا كان أو كفرًا {في} جميع نواحي {الْأَرْضِ وَلَا} كائن {في} جميع أرجاء {السَّمَاءِ} فهو مطلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[6]

خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ففيه إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم، فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه ولا حال الكافر ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه إشارة إلى أن علمه لا يوازن علم المخلوقين، بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء. وعبر (¬1) عن الكون بالأرض والسماء؛ إذ الحس لا يتجاوزهما وإنما قدم الأرض ترقيًّا من الأدنى إلى الأعلى؛ ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها، فهو كالدليل على كونه حيًّا. 6 - و {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ}؛ أي: يخلقكم في أرحام أمهاتكم {كَيْفَ يَشَاءُ} ويجعلكم على صور مختلفة متغايرة، وأنتم في الأرحام من النطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح، ومن طول وقصر، ومن سعادة وشقاوة، ومن بياض وسواد، وكمال ونقصان. والمعنى: هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صورًا مختلفة في الشكل والطبع، وذلك من نطفة، وكل هذا على أتم ما يكون دِقَّة ونظامًا. ومستحيل أن يكون هذا من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق، وهذه الجملة كالدليل على القيومية. وقرىء شذوذًا (¬2): "تصوَّركم"، أي: صوَّركم لنفسِه وعبادته، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البيضاوي.

بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها". متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكل الله بالرحم ملكًا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فكتب له ذلك في بطن أمه". متفق عليه. وقيل (¬1): إن هذه الآية واردة في الرد على النصارى، وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين: بالعلم، والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب، فيقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ووضعت في دارك كذا، وكان يحيي الموتى، ويبرِىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى، وفي التثليث بقوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فالإله يجب أن يكون حيًّا قيومًا، وعيسى لم يكن كذلك، فيلزم القطع بأنه لم يكن إلهًا، ولما قالوا إن عيسى أخبر عن الغيوب .. فوجب أن يكون إلهًا ردَّ عليهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} والمعنى: لا يلزم من كونه عالمًا ببعض المغيبات أن يكون إلهًا؛ لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى ذلك، ولما قالوا: إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلهًا ردَّ الله عليهم بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} والمعنى: إن حصول الإحياء على وفق قول عيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارًا لمعجزته وإكرامًا له. ولما قالوا: أنتم أيها المسلمون توافقونا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنًا لله .. أجاب الله تعالى عن ذلك أيضًا بقوله: {هُوَ ¬

_ (¬1) المراح.

الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن هذا التصوير إذا كان من الله تعالى إن شاء صوَّره من نطفة الأب، وإن شاء صوَّره ابتداء من غير أب، ولما قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله؟ أجاب الله عن ذلك: بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله، ولا بابن الإله، وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} .. فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه؛ لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه على زعم النصارى، فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا، وهو جواب أيضًا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر .. وجب أن يكون ابنًا لله، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون عيسى ولدًا لله وقد صوَّرهُ في الرحم والمصور لا يكون أبًا للمصور؟. وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ...} إلى آخر الآيات .. فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم .. أعاد كلمة التوحيد زجرًا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال: {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود موجود {إِلَّا هُوَ} ولا رب سواه منفرد بالألوهية والربوبية {الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في صنعه، فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه، وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة ومن ثَمَّ خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان. فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهذا

[7]

إثبات لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلهًا فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم. 7 - {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {أَنْزَلَ عَلَيْكَ} يا محمَّد {الْكِتَابَ}؛ أي: القرآن العظيم منقسمًا إلى قسمين: قسم {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}؛ أي: واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، أو محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال قطعية الدلالة على المعنى المراد {هُنَّ}؛ أي: تلك المحكمات {أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أصل القرآن الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وعمدته التي ترد إليها الآيات المتشابهات، كقوله تعالى في شأن عيسى {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} وكقوله فيه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله وعبد من عباده ورسول من رسل الله {و} قسم منه آيات {أخر} جمع أخرى {مُتَشَابِهَاتٌ}؛ أي: محتملات لمعانٍ متشابهة لا يتضح مقصودها؛ لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق. أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد؛ كقوله تعالى في شأن عيسى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}؛ أي: ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة وخروج عنه إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}؛ أي: فيتعلقون ويأخذون بالمتشابه من الكتاب الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم. عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}؛ أي: طلب الإضلال لأتباعهم إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو

حجة عليهم لا لهم، أو طلب الفتنة في الدين وهي الضلال عنه فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفًا لبعض، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}؛ أي: وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان وطلب تحريفه على ما يريدون. وذلك كاحتجاج النصارى على عقيدتهم الفاسدة بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}؛ أي: والحال أنه ما يعلم تأويل المتشابه وتفسيره حقيقة {إِلَّا اللَّهُ} وحده، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: تفسير القرآن على أربعة أنحاء: تفسير لا يسع لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى. وقال المراغي قوله (¬1): {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} معناه: فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءَهم الباطلة، فينكرون المتشابه وينفِّرون الناس منه، ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم، ولا يناله حسهم؛ كالإحياء بعد الموت، وجميع شؤون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظرٍ إلى الأصل المحكم؛ ليفتنوا الناس بدعوته إلى أهوائهم .. فيقولون: إن الله روح، والمسيح روح مثله، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله: أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بُني عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها، ويصرفونها إلى معانٍ من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

عن دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}. انتهى. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}؛ أي: والذين رسخوا وثبتوا في العلم وتمكنوا فيه وعضوا فيه بضرس قاطع، وهذا كلام مستأنف عند الجمهور، والوقف عندهم على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وهو مبتدأ عندهم، والخبر قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}؛ أي: بالمتشابه أنه من عند الله، ولا نعلم معناه، وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره {كُلٌّ} من المحكم والمتشابه {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}؛ أي: من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه. والراسخ في العلم (¬1): هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل القطعية اليقينية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا رأى شيئًا متشابهًا، ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مرادًا لله تعالى .. علم حينئذٍ قطعًا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى، وقطع بأن ذلك المعنى على أيِّ شيءٍ كان فهو الحق والصواب؛ لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى. وقيل الراسخ في العلم (¬2): من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: وما يتعظ بما في القرآن وما يتيقظ له ويتدبر له إلا أصحاب العقول الكاملة المستنيرة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة، وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر. 8 - ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[9]

والمتشابهات .. تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {لَا تُزِغْ} ولا تمل {قُلُوبَنَا} عن الحق والهدى، كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ؛ أي: لا تمل قلوبنا عن دينك. قراءة الجمهور: بضم التاء ونصب القلوب، وقرىء شذوذًا بفتح التاء ورفع القلوب على نسبة الفعل إليها {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}؛ أي: وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك، أو يقال: يا ربنا لا تجعل قلوبنا مائلة إلى الباطل بعد أن تجعلها مائلة إلى الحق {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}؛ أي: أعطنا من فضلك وكرمك رحمة تثبتنا بها على دينك الحق والإيمان بكتابك، أو المعنى: أعطنا من عندك نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ونور الطاعة والعبودية والخدمة في الأعضاء، وسهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفافة في الدنيا، وسهولة سكرات الموت عند الموت، وسهولة السؤال والظلمة في القبر، وغفران السيئات وترجيح الحسنات في القيامة. {إِنَّكَ أَنْتَ} يا ربنا {الْوَهَّابُ} الهبة العظيم الخالية عن الأعواض والأغراض، فإن هذا الذي طلبنا منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلينا، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك. والوهاب في أسماء الله: هو الذي يعطي كل أحد على قدر استحقاقه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم مصرِّف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" أخرجه مسلم. وهذا الحديث من أحاديث الصفات، يجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه، بل نؤمن به كما جاء وأنه حق، ونكل علمه إلى مراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم وهو الأعلم الأسلم الذي نعض 9 - عليه بالنواجذ ويقولون أيضًا: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ}؛ أي؛ يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء. {إِنَّ اللَّه

سبحانه وتعالى {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}؛ أي: لا يترك وفاء ما وعده لعباده، وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم؛ وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة .. فكأنهم قالوا: ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة، وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة، فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفًا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. تنبيهات الأول منها: اختلفت عبارة العلماء في تفسير (¬1) المحكم والمتشابه على أقوال فقيل: إن المحكم ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره. والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا القول: جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما يحتمل وجوهًا. فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي .. صار المتشابه محكمًا، وقيل: إن المحكم: ناسخة وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه: منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. ورُوي هذا القول عن ابن عباس، وقيل: المحكم: الناسخ. والمتشابه: المنسوخ وبه قال: ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك. وقيل: المحكم: الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له. والمتشابه: ما فيه تصريف وتحريف وتأويل، وبه قال: مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال. وقيل: إن المحكم ما أطلع الله عباده على معناه. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة؛ مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول ¬

_ (¬1) الشوكاني.

عيسى وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة، فجميع هذا ما استأثر الله بعلمه. وبهذا القول اختار القرطبي والطبري، وقيل: إن المحكم: سائر القرآن. والمتشابه: هي الحروف المقطعة في أوائل السور إلى غير ذلك. والثاني منها: ما قيل (¬1): إن الله سبحانه وتعالى قد جعل القرآن هنا محكمًا ومتشابهًا، وجعله في موضع آخر كله محكمًا، كقوله في أول سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، وجعله في موضع آخر كله متشابهًا، كقوله في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت: حيث جعله كله محكمًا أراد به أنه كله حق وصدق، ليس فيه عبث ولا هزل. وحيث جعله متشابهًا أراد أن بعضه يشبه بعضًا في الحسن والحق والصدق. وحيث جعله هنا بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا فقد اختلفت عبارات العلماء في تفسيرهما آنفًا. والثالث منها (¬2): سؤال يخطر بالبال، وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله، والراسخون في العلم، ولم يكن كله محكمًا يتساوى في فهمه جميع الناس، لأنه نزل لإرشاد العباد هاديًا لهم، والمتشابه يحول دون الهداية؛ لوقوع اللبس في فهمه وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟ أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة: منها: أن في إنزال المتشابه امتحانًا لقلوبنا، في التصديق به؛ إذ لو كان ما جاء في الكتاب معقولًا لا شبهة فيه لأحد .. لما كان في الإيمان به شيء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله. ومنها: أن في وجود المتشابه في القرآن حافزًا لعقول المؤمنين إلى النظر ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

فيه؛ كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلي لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث .. مات. والدين أعز شيء على الإنسان فإذا ضعف عقله في فهمه .. ضعف في كل شيء، ومن ثم قال: والراسخون في العلم، ولم يقل: والراسخون في الدين؛ لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالًا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه؛ إذ بحثه يستلزم النظر في الأدلة الكونية والبراهين العقلية ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله. ومنها: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيقتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله والوقوف عند فهم المحكم؛ ليكون لكل نصيبه على قدر استعداده فإطلاق كلمة الله، وروح الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فُتن النصارى بمثل هذا التعبير؛ إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}. ومنها: أن القرآن نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم وكلامهم على ضربين: الأول: الموجز الذي لا يخفى على سامع وهذا هو الضرب الأول. والثاني: المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات، وهذا الضرب هو المستحسن عندهم، فأنزل القرآن على الضربين ليتحقق عجزهم، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم. ولو نزل كله محكمًا لقالوا؛ هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا. والرابع منها: اختلف في الوقف في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فذهب الجمهور إلى أن الوقف على {إِلَّا اللَّهُ} الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} للاستئناف، وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم، ويؤيد هذا القول قراءة أبي وابن عباس فيما رواه طاووس عنه شذوذًا: {إلا الله

ويقول الراسخون في العلم آمنا به}، وقراءة عبد الله: (ابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون) وهي شاذة ومعناه: إن الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه وحينئذٍ فحال الراسخين التصديق به. وجرى قوم على أن {الراسخون} معطوف على {اللَّهُ}، ويقولون حال من الراسخون، فالوقف حينئذٍ على أولو الألباب؛ لتعلق ما قبل ذلك بعضه ببعض، وروي هذا القول: عن ابن عباس أيضًا ومجاهد والربيع بن أنس وغيرهم، والمعنى: إن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، فالمراد ما للفكر والنظر فيه مجال. قال البغوي: والقول الأول أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية، وقال الفخر الرازي: في الثاني لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله .. لما كان لتخصيصهم بالإيمان وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلائل .. صار الإيمان كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح. الإعراب {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}. اعلم أن فواتح السور إن جعلت مسرودة على نمط التعديد .. فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسور .. فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام؛ كأذكر أو أقرأ أو نحوهما؛ كعليك والزم كما سبق ذلك كله في مبتدأ تفسير هذه السورة، وقد تقدم الكلام في إعرابه أيضًا في أول البقرة فراجعه. {اللَّهُ}: مبتدأ {لَا}: نافية تعمل عمل إن. {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف جوازًا تقديره: موجود. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر {لَا} بدل الشيء من الشيء، وجملة {لَا} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: خبران آخران

للاسم الشريف، أو خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الحي القيوم. وقيل: إنهما صفتان للفظ الجلالة، أو بدلان منه أو من الخبر. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}. {نَزَّلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الجلالة {عَلَيْكَ}: متعلق به {الْكِتَابَ}: مفعول به، والجملة الفعلية إما مستأنفة، أو خبر آخر للفظ الجلالة {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الكتاب تقديره: ملتبسًا بالحق {مُصَدِّقًا}: حال ثانية من {الْكِتَابَ} مؤكدة؛ لأنه لا يكون إلا مصدقًا، وبهذا قال الجمهور، وجوز بعضهم كونه منتقلة على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. قال أبو البقاء: وإن شئت جعلته بدلًا من موضع قوله: {بِالْحَقِّ}، وإن شئت جعلته حالًا من الضمير في المجرور. انتهى. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} اللام حرف جر {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الجر باللام متعلق بـ {مُصَدِّقًا} {بَيْنَ}: منصوب على الظرفية الاعتبارية، وهو مضاف. {يدي}: مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنه ملحق بالمثنى نظير: لبيك، وهو مضاف، والهاء: مضاف إليه، والظرف إما صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: الواو عاطفة. {أنزل}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {نزل}، {التَّوْرَاةَ}: مفعول به {وَالْإِنْجِيلَ}: معطوف عليه. {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنزل}. {هُدًى لِلنَّاسِ} {هُدًى}: حال من {التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، ولم يثنَّ؛ لأنه مصدر كما مر، ولكنه في تأويل المشتق تقديره: حالة كونهما هاديين. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بهدى، أو صفة له. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالًا من {الإنجيل}، ودل على حال للتوراة محذوف؛ كما يدل أحد الخبرين على الآخر. {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}؛ الواو عاطفة {أنزل}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْفُرْقَانَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {نزل} كالجملة التي قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

{إِنَّ}: حرف نصب {الَّذِينَ}: اسمها، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا}، {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر {شَدِيدٌ}: صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة إن مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ، {عَزِيزٌ}: خبر أول {ذُو}: خبر ثانٍ مرفوع بالواو، وهو مضاف، {انْتِقَامٍ} مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}. {إِنَّ}: حرف نصب، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} اسمها. {لَا}: نافية. {يَخْفَى}: فعل مضارع {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق به {شَيْءٌ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صفة لـ {شَيْءٌ}، أو متعلق بـ {يَخْفَى} {وَلَا فِي السَّمَاءِ}: الواو عاطفة {لَا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها {فِي السَّمَاءِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله {فِي الْأَرْضِ}. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}. {هُوَ} مبتدأ {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {يُصَوِّرُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير لعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {فِي الْأَرْحَامِ}: متعلق بـ {يُصَوِّرُكُمْ}، أو حال من ضمير المخاطبين؛ أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ، قاله العُكبَري. {كَيْفَ يَشَاءُ}: {كَيْفَ}: اسم (¬1) شرط غير جازم لعد دخول: {ما} عليه في محل النصب على الحالية بـ {يَشَاءُ} {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول {يَشَاءُ}: محذوف معلوم مما قبله تقديره: كيف يشاء تصويركم، وجملة {يَشَاءُ} فعل شرط {كَيْفَ} لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط ¬

_ (¬1) الجمل.

معلوم مما قبله تقديره: كيف يشاء تصويركم يصوركم، وجملة {كَيْفَ} مستأنفة، وإن كانت في المعنى متعلقة بما قبلها نظير قولهم: أنت ظالم إن فعلت، التقدير: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، وعند من يجيز تقديم الجزاء على الشرط الصريح يجعل: {يُصَوِّرُكُمْ} المتقدم هو الجزاء و {كَيْفَ}: منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، وقال بعضهم (¬1): {كَيْفَ يَشَاءُ} في موضع الحال معمول {يُصَوِّرُكُمْ}، ومعنى الحال؛ أي: يصوركم في الأرحام قادرًا على تصويركم مالكًا ذلك، وقيل التقدير: في هذه الحال يصوركم على مشيئته؛ أي: مريدًا، فيكون حالًا من ضمير اسم الله، ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون حالًا من المفعول؛ أي: من كاف المخاطبين؛ أي: يصوركم متقلبين على مشيئته، وقال الحوفي: يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة وكما يشاء. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. {لَا}: نافية {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا}: محذوف جوازًا تقديره: موجود، وجملة {لَا} مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {هُوَ}: في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر {لَا} بدل الشيء من الشيء {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبران لمبتدأ محذوف، أو بدلان من {هُوَ}. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. {هُوَ}: مبتدأ {الَّذِي}: خبره، والجملة مستأنفة {أَنْزَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ} {الْكِتَابَ}: مفعول به {مِنْهُ}: جار ومجرور خبر مقدم {آيَاتٌ}: مبتدأ مؤخر {مُحْكَمَاتٌ}: صفة لـ {آيَاتٌ}، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {الْكِتَابَ} {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}: مبتدأ وخبر مضاف إليه، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ {آيَاتٌ} وقال الشيخ السمين: وأخبر بلفظ المفرد - وهو {أم} - عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الجمع وهو هن، إما لأن المراد أن كل واحدة منهن {أُمُّ}، وإما لأن المجموع بمنزلة أم واحدة، كقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، وقيل: لأنه بمعنى أصل الكتاب، والأصل يوحد {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}: الواو عاطفة {وَأُخَرُ}: معطوف على {آيَاتٌ}، ولكنه على حذف موصوف تقديره: ومنه آيات أخر {مُتَشَابِهَاتٌ}: صفة لـ {أخر}. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. {فَأَمَّا} الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت انقسام، الكتاب إلى نوعين، وأردت بيان أقسام من يتبعه .. فأقول لك {أما}: حرف شرط، {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ. {فِي قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم {زَيْغٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الجمع {فَيَتَّبِعُونَ} الفاء رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها {يتبعون}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، والجملة الإسمية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {مَا تَشَابَهَ} {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يتبعون}. {تَشَابَهَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل {مِنْهُ}: جار ومجرور حال، من فاعل {تَشَابَهَ} {ابْتِغَاءَ}: مفعول لأجله وهو مضاف {تَأْوِيلِهِ}: مضاف إليه {وَابْتِغَاءَ}: معطوف على {ابْتِغَاءَ} الأول، وهو مضاف {تَأْوِيلِهِ} مضاف إليه، تأويل مضاف، والهاء: مضاف إليه. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. {وَمَا يَعْلَمُ} الواو حالية {ما}: نافية {يَعْلَمُ}: فعل مضارع {تَأْوِيلَهُ}: مفعول به ومضاف إليه {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة {اللَّهُ} فاعل،

والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. {وَالرَّاسِخُونَ}: الواو استئنافية {الراسخون}: مبتدأ {فِي الْعِلْمِ}: متعلق به {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، وإن شئت قلت: الواو عاطفة {الراسخون}: معطوف على الجلالة، وجملة {يَقُولُونَ} حال من {الراسخون}. {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}: مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {آمَنَّا}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق بـ {آمَنَّا}، والجملة في محل النصب مقول القول. {كُلٌّ}: مبتدأ {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}: جار ومجرور ومضافان إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {وَمَا} الواو استئنافية. {ما}: نافية. {يَذَّكَّرُ}: فعل مضارع. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {أُولُو الْأَلْبَابِ} فاعل ومضاف إليه مرفوع بالواو، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} مقول محكى لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {لَا تُزِغْ}: {لَا}: دعائية {تُزِغْ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {قُلُوبَنَا}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جوابًا للنداء. {بَعْدَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {تُزِغْ} {إِذْ}: حرف زائد بين المضاف والمضاف إليه لا معنى له {هَدَيْتَنَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {بَعْدَ} {وَهَبْ لَنَا} الواو عاطفة، {هب}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {لَا تُزِغْ} على كونها جواب النداء. {لَنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {هب}، {مِنْ لَدُنْكَ}. {مِن} حرف جر، {لدن} ظرف مكان بمعنى: عند في محل الجر بـ {مِن} مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا. {لدن} مضاف، والكاف: مضاف إليه والظرف متعلق بـ {تُزِغْ} {رَحْمَةً}: مفعول به. {إِنَّكَ}: إنَّ حرف نصب، والكاف اسمها. {أَنْتَ}: ضم

فصل أو مؤكد لاسم إن {الْوَهَّابُ}: خبر إن، والجملة في محل النصب مقول القول. {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {إِنَّكَ}: حرف نصب واسمها {جَامِعُ النَّاسِ} خبر {إن} ومضاف إليه، وجملة (إن) جواب النداء في محل النصب مقول القول {لِيَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَامِعُ}، واللام فيه بمعنى: في {لَا رَيْبَ فِيهِ}: {لَا} نافية {رَيْبَ} في محل النصب اسمها {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لَا} تقديره: لا ريب موجود فيه وجملة {لَا} من اسمها وخبرها في محل الجر صفة لـ {يوم} {إِنَّ اللَّهَ} {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها {لَا يُخْلِفُ}: {لَا}: نافية، {يُخْلِفُ}؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْمِيعَادَ}: مفعول به وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول لـ {يَقُولُونَ} أو مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة واختلف في: عمران الذي سميت به هذه السورة، فقيل المراد به: أبو موسى وهارون، فآله: هم موسى وهارون، وقيل المراد به: أبو مريم فالمراد بآله: مريم وابنها عيسى، ويرجح هذا القول ذكرُ قصتهما إثر ذكره وبين عمران أبي موسى وهارون، وعمران أبي مريم ألف وثمان مئة عام. {التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا لكونهما أعجميين؟ فذهب جماعة إلى الأول، فقالوا: التوراة مشتقة من قولهم: وري الزند يري إذا قدح فخرج منه نار، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنار من الظلام إلى النور .. سمي هذا الكتاب بالتوراة. فأصلها (¬1): وورية فأبدلت الواو ¬

_ (¬1) العكبري.

الأولى تاء وأبدلت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الفراء: أصلها تورية على وزن تفعلة كتوصية من وري في كلامه تورية، ثم أبدلت من الكسرة الفتحة، فانقلبت الياء ألفًا كما قالوا في ناصية: ناصاة. ويجوز إمالتها؛ لأن أصل ألفها ياء. {وَالْإِنْجِيلَ}: إفعيل من النجل، وهو التوسعة من قولهم نجلت الإهاب إذا شققته ووسعته، ومنه عين نجلاء، أي: واسعة الشق فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنَّ فيه توسعة لم تكن في التوراة؛ إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة فيها، والصحيح أنهما ليسا مشتقين بل اسمان عبرانيان، وقرأ الحسن شذوذًا: (الأنجيل) - بفتح الهمزة - ولا يعرف له نظير؛ إذ ليس في الكلام أفعيل إلا أن الحسن ثقة فيجوز أن يكون سمعها. {الْفُرْقَانَ}: فعلان من الفرق وهو في الأصل مصدر، فيجوز أن يكون بمعنى الفارق، أو المفروق، ويجوز أن يكون التقدير: ذا الفرقان. {ذُو انْتِقَامٍ} الانتقام: افتعال من النقمة، وهي السطوة والانتصار، وقيل: هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك، ويقال: نقم ونقم إذا أنكر وانتقم إذا عاقبه بسبب ذنب تقدم منه. {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} يقال: صوَّره إذا جعل له صورة، والصورة الهيئة التي يكون عليها الشيء بالتأليف وهو بناء مبالغة من صاره إلى كذا يصوره إذا أماله إليه، فالصورة مائلة إلى هيئة وشبه مخصوص، وقال المروزي: التصوير ابتداء مثال من غير أن يسبقه نظير. و {الأرحام}: جمع رحم مشتق من الرحمة؛ لأنه مما يتراحم به. {زَيْغٌ}. الزيغ مصدر زاغ يزيغ زيغًا من باب باع، ومعناه: الميل ومنه: زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين. {ابتغاء تأويله} التأويل مصدر أوَّل من باب: فعَّل المضعف، ومعناه آخر

الشيء ومآله {الراسخون}: جمع راسخ اسم فاعل من رسخ - من باب خضع - يرسخ رسوخًا، والرسوخ: الثبوت. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة والفصاحة أنواعًا كثيرة (¬1): منها: حسن الإبهام؛ وهو فيما افتتحت به لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام. ومنها: مجاز التشبيه في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}؛ لأن حقيقة التنزيل طرح جرم من علو إلى أسفل، والقرآن مثبت في اللوح المحفوظ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل، فشبِّه به وأُطلق عليه لفظ التنزيل. وعبر أيضًا عن القرآن بالكتاب الذي هو اسم جنس إيذانًا بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية، كأنه الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب. وفي قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} شبَّه القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئًا فشيئًا. وفي قوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمرًا؛ أي: يستره لما فيها من المعاني الغامضة، وشبه الإنجيل لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النبلاء، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد الطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه. وفي قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}؛ لأنه شبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين. وفي قوله: {يُصَوِّرُكُمْ} شبه أمره بقوله: كن، أو تعلق إرادته بكونه جاء ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

على غاية من الأحكام والصنع بمصوِّر يمثِّل شيئًا فيضم جرمًا إلى جرم ويصور منه صورة. وفي قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه، وفي غير ذلك، وقيل: هذه كلها استعارات ولا تشبيه فيها؛ لأنه لم يصرح فيها بذكر أداة التشبيه. ومنها: الاختصاص في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} على تفسير من فسَّره بالزبور، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل؛ لأن أصحاب الكتب، إذ ذاك المؤمنون واليهود والنصارى. وفي قوله: {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} خصهما بالذكر؛ لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا. وفي قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم وفي قوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز والنظر والاعتبار وفي قوله: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} اختص القلوب؛ لأن بها صلاح الجسد وفساده وليس كذلك بقية الأعضاء؛ ولأنها محل الإيمان، إلى غير ذلك ومنها الالتفات في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}. المناسبة لما حكى الله تعالى عن المؤمنين دعاءهم أن يثبتهم الله على الإيمان .. حكى عن الكافرين سبب كفرهم وهو: اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال والبنين، وبين أنها لن تدفع عنهم عذاب الله كما لم تغنِ عنهم شيئًا في الدنيا. وضرب على ذلك الأمثال بغزوة بدر حيث التقى فيها جند الرحمن بجند الشيطان، وكانت النتيجة اندحار الكافرين مع كثرتهم وانتصار المؤمنين مع قلتهم، فلم تنفعهم الأموال ولا الأولاد، ثم أعقب تعالى ذلك بذكر شهوات الدنيا، ومُتع الحياة التي يتنافس الناس فيها، ثم ختمها بالتذكير بأن ما عند الله خير للأبرار. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ...} سبب نزوله (¬1): ما روى ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[10]

أبو داود في "سننه" والبيهقي في "الدلائل" من طريق أبي إسحاق عن محمَّد ابن أبي محمَّد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصاب قريشًا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال لهم: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشًا فقد عرفتم أني نبي مرسل، فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال - يعني: جهالًا لا علم لهم بالحرب - إنك والله لو قاتلتنا .. لعرفت أنا نحن الرجال، وأنك لم تلقَ مثلنا، فأنزل الله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} الآية إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}. وأخرج ابن جرير (¬1) عن ابن مسعود في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} قال هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، وكان المشركون مثليهم ست مئة وستة وعشرين، فأيد الله المؤمنين. التفسير وأوجه القراءة 10 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا ما قد عرفوه من نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - سواء كانوا من بني إسرائيل، أم من كفار العرب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ}؛ أي: لن تدفع عنهم ولن تنجيهم، {أَمْوَالُهُمْ} التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} الذين يتناصرون ويتفاخرون بهم في مهام أمورهم ويعولون عليهم في الخطوب النازلة {مِنَ} عذاب {اللَّهِ شَيْئًا} وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين، فرد الله عليهم بقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} {وَأُولَئِكَ} الكفرة {هُمْ وَقُودُ النَّارِ}؛ أي: حطب النار الذي تسجر ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[11]

وتسعر به؛ أي: سيكونون يوم القيامة حطبًا لجهنم التي تُسعَّر بهم. وقيل: المراد بهؤلاء الكفرة: وفد نجران، وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز: إني لأعلم أن محمدًا رسول الله حقًّا، وهو النبي الذي كنا ننتظره، ولكني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه، فالله تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة. وقرأ أبو عبد الرحمن {لن يغني} بالياء على تذكير العلامة، وقرأ علي: (لن تغني) بسكون الياء، وقرأ الحسن {لن يغني} بالياء أولًا وبالياء الساكنة آخرًا وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع، وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة وينبغي أن لا يخص بها إذ كثر ذلك في كلامهم وكل هذه القراءة شاذ عدا قراءة الجمهور {تغنيَ}. وقرأ الجمهور: {وَقُودُ} بفتح الواو بمعنى: الحطب الذي توقد به النار، وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف شذوذًا: {وُقُود} بضم الواو وهو مصدر: وقدت النار تقد وقودًا، ويكون على حذف مضاف؛ أي: أهل وقود النار أو حطب وقود النار، أو جعلهم نفس الحطب مبالغة، وقد قيل في المصدر أيضًا: وَقود بفتح الواو، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو فيحتاج إلى تقدير مضاف؛ أي: هم أهل وقود النار. ولما ذكر سبحانه وتعالى أن من كفر وكذب بالله، مآله إلى النار، ولن يغني عنه ماله ولا ولده .. ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترتب العذاب على كفرهم كشأن من تقدم من كفار الأمم الماضية وأخذوا بذنوبهم وعذبوا عليها، ونبه على آل فرعون؛ لأن الكلام مع بني إسرائيل، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرًا إلى النار وظهور بني إسرائيل عليهم وتوريثهم أماكن ملكهم، ففي هذا كله بشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمن 11 - آمن به: أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاستئصال، وفي الآخرة إلى النار، كما جرى لآل فرعون؛ أُهلكوا في الدنيا وصاروا إلى النار، فقال: {كَدَأْبِ آلِ

[12]

فِرْعَوْنَ}؛ أي: شأن هؤلاء الكفرة في تكذيبهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكفرهم بشريعته وصنيعهم وعادتهم، كدأب آل فرعون، أي: كشأن فرعون وقومه وعادتهم في تكذيبهم موسى وشريعته {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: وكدأب الأمم الذين من قبل قوم فرعون من كفار الأمم الماضية في تكذيبهم أنبياءهم كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وغيرهم {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: قد كذب آل فرعون ومن قبلهم بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدق رسلنا وأنكروها، ومتى كذبوا بها. فقد كذبوا الأنبياء بلا شك {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: عاقب الله آل فرعون ومن قبلهم {بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: أهلكهم بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإنكارها، ونَصَر الرسل ومن آمن معهم ولم يجدوا من بأس الله محيصًا ولا مهربًا؛ إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات. وجملة {كَذَّبُوا}؛ إلى آخرها تفسير لدأبهم مما فعلوا أو فعل بهم. وإنما استعمل الأخذ في العقاب؛ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ الذي لا يقدر على التخلص {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}؛ أي: أليم العذاب شديد البطش، والغرض من الآية أن كفار قريش كفروا كما كفر أولئك المعاندون من آل فرعون ومن سبقهم، فلما لم تنفع أولئك أموالهم ولا أولادهم .. فكذا لن تنفع هؤلاء، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة سطوة الله على من كفر بآياته وكذب 12 - بها، ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال: {قُل} يا محمَّد {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ليهود المدينة ومشركي مكة {سَتُغْلَبُونَ}؛ أي: يغلبكم المسلمون عن قريب في الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده بقتل بني قريظة، فقد قتل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم واحد ست مئة، جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم، وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها، وبإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على أهلها وبالأسر على بعض ولله الحمد. {وَتُحْشَرُونَ}؛ أي: تجمعون وتساقون {إلى} نار {جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}؛ أي: قبح المهاد والفراش الذي مهدتموه وفرشتموه لأنفسكم، والمخصوص بالذم نار جهنم، ودلت الآية على حصول البعث في يوم القيامة والنشر والحشر وعلى أن مرد الكافرين النار.

[13]

وقرأ حمزة والكسائي وخلف (¬1): {سيغلبون ويحشرون} بالياء على الغيبة. وقرأ باقي السبعة: بالتاء خطابًا؛ أي: قل لهم في خطابك إياهم ستغلبون وتحشرون. فتكون الجملتان مقولًا لـ {قُلْ}، وعلى قراءة الياء لا تكون الجملة محكية بـ {قُلْ} بل محكية بقول آخر تقديره: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة. والفرق بينهما (¬2): أنه على الخطاب يكون الإخبار بمعنى كلام الله تعالى، 13 - وعلى الغيبة يكون بلفظه. ثم حذرهم وأنذرهم بأن لا يغتروا بكثرة العَدَد والعُدَّة فلهم مما يشاهدون عبرة فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}. وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي من تمام القول المأمور به لتقدير مضمون ما قبله، ولم يقل: كانت؛ لأن التأنيث غير حقيقي، وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه وبين الاسم بقوله: لكم، وقال ابن جرير: الخطاب فيه لليهود والمعنى: قل يا محمَّد لليهود: واللهِ لقد كانت وحصلت لكم علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم من أنكم ستغلبون {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}؛ أي في فرقتين اجتمعتا يوم بدر للقتال {فِئَةٌ}؛ أي: فرقة منهما {تُقَاتِلُ} وتجاهد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعة الله؛ لإعلاء كلمته، وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، سبعة وسبعون رجلًا من المهاجرين، ومئتان وستة وثلاثون رجلًا من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيرًا بين كل أربعة منهم بعير واحد ومن الخيل فرسان للمقداد بن عمرو ولمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم من السلاح ستة دروع وثمانية سيوف. وقراءة العامة: {فِئَةٌ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إحداهما. وقرأ الحسن ومجاهد وحميد شذوذًا: {فئةٍ} بالجر على البدلية من فئتين. وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: {فئة} بالنصب، فيكون نصب الأولى على المدح، والثاني على الذم، وكأنه قال: أمدح فئة تقاتل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

في سبيل الله، وأذم أخرى كافرة. وقرأ الجمهور: {تُقَاتِلُ} بالتاء على تأنيث الفئة، وقرأ مجاهد ومقاتل شذوذًا: {يقاتل} بالياء على التذكير نظرًا لكون الفئة بمعنى القوم {و} فرقة {أخرى كافرة} كافرة بالله ورسوله وهم مشركوا مكة، وكانوا تسع مئة وخمسين رجلًا من المقاتلة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان رئيسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مئة فرس، وكانت معهم من الإبل سبع مئة وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة {يَرَوْنَهُمْ}؛ أي: يرى المشركون المؤمنين بعد ما شرعوا في القتال {مِثْلَيْهِمْ}؛ أي: مثلي عدد المشركين قريبًا من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفًا وعشرين {رَأْيَ الْعَيْنِ}؛ أي: في رأي العين؛ أي: رؤية ظاهرة محققة بالعين لا بالوهم والخيال، وذلك أنه تعالى كَثَّر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا ويجبنوا عن قتالهم ولا يعارض هذا ما قال في سورة الأنفال: {ويقللكم في أعينهم}؛ لأنهم قللوا أولًا في أعينهم حتى اجترؤوا على قتالهم، فلما اجتمعوا. كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المجمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى لها: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وهذا (¬1) على قراءة الجمهور بالياء التحتانية، وقرأ نافع وأبان عن عاصم من السبعة وسهل ويعقوب {ترونهم} بالتاء على الخطاب، والمعنى: ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة، ومع ذلك غلبهم المؤمنون مع قلتهم جدًّا، فيكون هذا أبلغ في إكرام المؤمنين وعناية الله بهم، وقرأ ابن عباس وطلحة {تُرَونهم} بضم التاء على الخطاب، وقرأ السلمي: بضم الباء على الغيبة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[14]

{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُؤَيِّدُ} ويقوي {بِنَصْرِهِ} وعونه {مَنْ يَشَاءُ} ويريد نصره على عدوه ولو بدون الأسباب العادية {إِنَّ فِي ذَلِكَ} النصر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم بدر مع قلتهم عَدَدًا وعُدَدًا أو رؤية القليل كثيرًا، أو في غلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح {لَعِبْرَةً} عظيمة؛ أي: لعظة عظيمة {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة والأفكار السليمة المستقيمة والمعنى: إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظةٌ لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين. ووجه (¬1) نظم هذه الآية أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {سَتُغْلَبُونَ} نزلت في شأن اليهود وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى الإِسلام .. أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا، فالله تعالى قال لهم: إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدد والعدة .. فإنكم ستغلبون، ثم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك القول فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}. 14 - وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دعا اليهود إلى الإِسلام بعد غزوة بدر .. أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبين الله تعالى أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة، وأن الآخرة خير وأبقى، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}؛ أي: حسن لجنس الناس والآدميين. قرأ الجمهور: {زُيِّنَ} بالبناء للمفعول. وقرأ الضحاك: {زَيَّنَ} بالبناء للفاعل، والشهوات: جمع شهوة وهو توقان النفس إلى الشيء المشتهى، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول؛ أي: حسن لهم حب المشتهيات المذكورة، سماها شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ}، والمزيِّن لها هو الله تعالى عند أهل السنّة لا الشيطان كما قالت المعتزلة؛ لأنه ¬

_ (¬1) المراح.

تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه، ولعله زينه ابتلاءً، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، ولأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني. وتزيين الله: عبارة عن جعل القلوب متعلقة بها مائلة إليها، وتزيين الشيطان ووسوسته وتحسينه الميل إليها حالة كون تلك المشتهيات {مِنَ النِّسَاءِ}، والإماء داخلة فيها وإنما بدأ بذكر النساء؛ لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان {و} من {البنين}: جمع ابن، وإنما خص البنين بالذكر؛ لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى؛ لأنه يتكثر به ويعضده، ويقوم مقامه، وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمة بالغة، وهي بقاء التوالد. ولولا تلك المحبة لما حصل ذلك {و} من {القناطير}؛ أي: ومن الأموال الكثيرة والكنوز الوفيرة {الْمُقَنْطَرَةِ}؛ أي: المجموعة أو المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير، وإنما كانا محبوبين؛ لأنهما جعلا ثمن جمع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وقوله: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} بيان للقناطير، أو حال منه، والواو فيه بمعنى: أو المانعة الخلو فتجوز الجمع. قيل: سُمي الذهب ذهبًا؛ لسرعة ذهابه بالإنفاق، والفضة فضة لأنها تنفض؛ أي: تتفرق بالإنفاق، والفض: التفرق {و} من {الخيل المسومة}؛ أي: المرعية في المروج والمسارح، يقال: سامت الدابة إذا سرحت ورعت، والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها، أو المعلمة بعلامة خلقية بأن تكون غرًّا محجلة، أو بعلامة طارئة لتتميز عن غيرها كالكي، وقيل: الحسان المعدة للجهاد {و} من {الأنعام} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن منها المركب والمطعم والزينة {و} من {الحرث}؛ أي: ومن المزروع والمغروس وهو مصدر بمعنى: المحروث الشامل للمغروس؛ لأن فيه تحصيل أقواتهم {ذَلِكَ} المذكور من الأصناف السابقة {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: ما يتمتع ويتنعم به مدة الحياة الدنيا، ثم يذهب ولا يبقى {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}؛ أي: المآب الحسن؛ أي؛ المرجع الحسن الدائم الذي لا يفنى في الآخرة وهو الجنة، لمن ترك ذلك. وفيه تزهيد من الدنيا وترغيب في الآخرة، وقيل: فيه إشارة إلى

أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة؛ لأنها السعادة القصوى. إيضاح معنى الآية: معنى تزيين حب الشهوات للناس: أن حبها مستحسن لديهم، لا يرون فيه قبحًا ولا غضاضة، ومن ثمَّ لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحًا أو ضارًّا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به وقد يحب الإنسان شيئًا وهو يراه شيئًا لا زينًا، وضارًّا لا نافعًا، كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيه منه، ومن أحب شيئًا ولم يزين له يوشك أن يرجع عنه يومًا ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه. والمعنى: أن الله تعالى فطر الناس على حب هذه الشهوات الستة المبينة في الآية وغيرها كآلات الملاهي: فأولها: النساء: وهي موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية، وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدهم وجدهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهن له الأثر العظيم في شؤون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها. وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهن قد يزول وحب الأولاد لا يزول؛ لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا فوق الواحدة أفرطو في حب واحدة وقلوا أخرى وأهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق، وقد وسعوه على أولاد المحبوبة. وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب عندها وابتغاء الزلفى إليها. وثانيها: البنون: والمراد بهم الأولاد مطلقًا كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ

وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، وفي الحديث: "الولد مجبنة مبخلة". والعلة في حب الزوجة والولد واحدة: وهي تسلسل النسل وبقاء النوع، وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى. وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة: ومنها: أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس. ومنها: أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليهم لضعف أو كبر. ومنها؛ أنه يرجي بهم من الشرف ما لا يرجي الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة. ومنها: الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها، وتتصل بعشيرة أخرى. وثالثها: القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة، كما قالوا: ألوف مؤلفة، وظل ظليل، وليل أليل وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة. ومن ثمَّ كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين المستكبرين عن تلبية دعوتهم وإن أجابوها وآمنوا .. فهم أقل الناس عملًا وأكثرهم بعدًا عن هدي الدين انظر إلى قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}. وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا: أنه وسيلة إلى جلب الرغائب وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان

غير محدودة، ولذاته لا عد لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها حتى يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد، فيتفنن في الوصول إليه الفنون المختلفة والطرق التي تعن له، ولا يبالي أمن حلال كسب أم من حرام؟ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب .. لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" ولقد أعمَّتْ فتنة المال كثيرًا من الناس، فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزري بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم بشرفه ويفتح ثغره للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل؛ لأجل المال ومن ثم قالوا: المال ميّال. ورابعها: {الخيل المسومة} التي ترعى في الأودية يقال: سام الدابة: رعاها وأسامها أخرجها إلى المرعى وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة والمعلمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء، من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون حتى لقد يتغالى بعضهم في ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون. وخامسها: {الأنعام}: وهي مال أهل البادية، ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتن الله بها على عباده بقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} إلى قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وسادسها: {الحرث} وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتم منها، لكنه أخر عنها لأنه لما عم الارتفاق به .. كانت زينته في القلوب أقلَّ، وقلما يكون الانتفاع به صادرًا عن الاستعداد لأعمال الآخرة، أو مانعًا من نصرة الحق. وهناك ما هو أعم نفعًا وأعظم فائدة في الحياة وهو: الضوء والهواء، فلا

[15]

يستغني عنهما حي من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما، ولا يفكر في غبطته بهما. {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلًا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم وسببًا لقضاء شهواتهم، وقد زين لهم حبها في عاجل دنياهم. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل، وفي هذه الجملة دلالة على أنه ليس فيما عدد عاقبة محمودة، فعلى المؤمن أن لا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال، ووقف عند حدود الله .. سَعِد في الدارين، ووفق لخير الحياتين كما قال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. 15 - {قُلْ} يا محمَّد للكفار أو للناس عامة، وهو أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتفصيل ما أجمل أولًا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}؛ أي: هل أخبركم أيها الناس بشيء أفضل من ذلكم المذكور من النساء والبنين إلى آخره. وجيء بالكلام على صورة الاستفهام التشبيثي لتوجيه النفوس إلى الجواب، وتشويقها إليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {أأنبئكم} - بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية -. والباقون: بالتحقيق فيهما، مع زيادة مد بينهما لبعضهم، وبدون زيادة لبعض آخر فالقراءات ثلاث، وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا، وما في ص: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، وما في اقتربت: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا}. وقوله: {بِخَيْرٍ} يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك؛ إذ هي من أجل النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى يعطي امرأته حق غيرها، أو يهمل لأجلها تربية أولاده .. إلا مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز

حقوق الناس ويؤذيهم فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شرٌّ، ولا كون حبها شرًّا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة. ثم أجاب عن هذا الاستفهام على نظير قولك: هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر، ويفي بالوعد هو: فلان، فقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} هذه الجملة مستأنفة لبيان ما هو خير؛ أي: للذين اجتنبوا الشرك والمعاصي والشهوات النفسانية، وتبتلوا إلى طاعة الله، وأعرضوا عما سواها .. فلا تشغلهم الزينة عن طاعة الله تعالى، بساتينُ مؤبدة، وحدائق منضدة حالة كونها مدخرة لهم عند ربهم. وقرأ يعقوب: {جناتٍ} بالجر بدلًا من قوله: {بِخَيْرٍ}. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؛ أي: تسيل وتطرد من تحت أشجارها ومساكنها أنهار الخمر والعسل واللبن والماء حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها {و} لهم فيها {أزواج مطهرة}؛ أي: زوجات منظفة مهذبة من الحيض والنفاس والبصاق والمني وتشويه الخلقة وسوء العشرة والأخلاق الذميمة وسائر ما يستقذر لا يغوطن ولا يتبولن ولا يحضن ولا ينفسن ولا يعتريهن ما يعتري نساء الدنيا {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: ولهم فيها رضا ربهم أكبر ما فيهم، فيه من النعيم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". متفق عليه. وقيل: إن العبد إذا علم أن الله تعالى قد رضي عنه .. كان أتم لسروره وأعظم لفرحه. وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ

أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}، وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن: {رُضوان} بضم الراء ما عدا الثاني في سورة المائدة وهو قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} ففيه عنه خلاف. وقرأ باقي السبعة: بالكسر، وهما لغتان. وخلاصة المعنى: أن للذين اتقوا وأخبتوا إلى ربهم، وأنابوا إليه نوعين من الجزاء: أحدهما: جسماني: وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خَلْقًا وخُلُقًا. وثانيهما: روحاني عقلي: وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط، ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين. وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات، كما نرى ذلك في الدنيا، فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى، ولا يكون ذلك باعثًا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جربها في الدنيا ففي مثلها يرغب. ومنهم من ارتقى إدراكه وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه، ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة. وقد نبه بهذه الآية على نعمه، فأدناها متاع الدنيا، وأعلاها رضوان الله تعالى؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وأوسطها الجنة ونعيمها. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}؛ أي: بصير بأعمالهم مطلع عليها عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فيجازي كلًّا بعمله، فيثيب ويعاقب على قدر

[16]

الأعمال، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر. وقد ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة؛ ليحاسب الإنسانُ نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعد متقيًا، وإنما 16 - المتقي من يعلم منه ربه التقوى، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أن الجنة للمتقين .. ذكر شيئًا من صفاتهم فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى وأساسه فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ} بدل من قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين يقولون في الدنيا {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} وصدقنا بك وبرسولك إجابةً لدعوتك {فَاغْفِرْ} اللهم {لَنَا ذُنُوبَنَا} واسترها وتجاوز عنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}؛ أي: وادفع عنا عذاب النار بفضلك وكرمك إنك أنت الغفور الرحيم، وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة؛ لأن من زحزح عن النار 17 - يومئذٍ .. فقد فاز بالنجاة وحسن المآب، ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به عن غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال: أمدح {الصَّابِرِينَ} على تكاليف امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وفي البأساء والضراء وحين البأس {وَالصَّادِقِينَ} في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم {وَالْقَانِتِينَ}؛ أي: المطيعين لربهم المواظبين على العبادات وقيل هم المصلون. {المنفقين}؛ أي: الباذلين أموالهم في وجوه الخير، ويدخل فيه نفقة الرجل على نفسه وعلى أهله وأقاربه وصلة رحمه، والزكاة والنفقة في جميع القربات {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}؛ أي: الطالبين من ربهم مغفرة الذنوب في أواخر الليل؛ لأنها وقت إجابة الدعاء، ووقت الخلوة والفراغ. قال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديكُ أكيس منك ينادي بالأسحار، وقيل: المصلين التهجد: في آخر الليل، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم، ويشق فيه القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: مَنْ يدعوني .. فأستجيب له، مَنْ يسألني .. فأعطيه، مَنْ يستغفرني .. فأغفر له" متفق

عليه. وفي لفظ مسلم: "فيقول: أنا الملك أنا الملك مَنْ ذا الذي يدعوني ... " الحديث، وله في رواية أخرى: "فيقول: هل من سائل فيُعطى، هل من داعٍ فيستجابَ له، هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح". وهذا الحديث من أحاديث الصفات، فمذهب السلف فيه الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية عنه، وهو الأسلم الأعلم، وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم .. أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم. وخلاصة الكلام: أن المتقين هم الذين جمعوا هذه الصفات المذكورة التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة، وبها نالوا هذا الوعد وهي خمسة: إحداها: الصبر، وأكمل أنواعه: الصبر على أداء الطاعات، وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات، وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي، فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبت الإيمان ويقف بها عند حدود الشرع، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع، وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار. ثانيتها: الصدق، وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)}. وثالثتها: القنوت، وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبُّ العبادة وروحها وبدونه تكون العبادة جسمًا بلا روح وشجرة بلا ثمرة. ورابعتها: الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة فالإنفاق في وجوه الخير جميعًا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

وخامستها: الاستغفار بالأسحار؛ أي: التهجد في آخر الليل، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام وتكون النفس فيه أصفى والقلب فارغًا والاستغفار المطلوب: هو ما يقرن بالتوبة النصوح والعلم على ميزان الشرع، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه أو غر في معاملته لربه، ومن ثمَّ أثر عن بعضهم قوله: إنَّ استغفارنا يحتاج إلى استغفار. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب اسمها {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {لَن}: حرف نصب ونفي. {تُغْنِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لَن} {عَنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق به {أَمْوَالُهُمْ}: فاعل ومضاف إليه {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} معطوف على {أَمْوَالُهُمْ} {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من شيئًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {شَيْئًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إن} مستأنفة {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} الواو استئنافية أو عاطفة. {أولئك}): مبتدأ أول {هُمْ} مبتدأ ثانٍ، أو ضمير فصل، {وَقُودُ النَّارِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة مقررة لعدم الإغناء، أو معطوفة على خبر (أن) وعلى كلا الاحتمالين ففيها تعيين للعذاب الذي بين أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئًا، ذكره أبو السعود. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. {كَدَأْبِ آلِ} جار ومجرور ومضاف إليه، آل مضاف، {فِرْعَوْنَ}: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دأبهم كدأب

آل فرعون، والجملة مستأنفة {وَالَّذِينَ} في محل الجر معطوف على {آلِ فِرْعَوْنَ} {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة الموصول. {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. {كَذَّبُوا} فعل وفاعل. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}، والجملة الفعلية جملة مفسِّرة لـ (دأب آل فرعون)، أو في محل النصب حال من {آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ولكنه على تقدير: قد، ويحتمل كون {الذين من قبلهم} مبتدأ، وجملة {كَذَّبُوا} خبره، والجملة مستأنفة، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} الفاء عاطفة سببية (أخذهم الله): فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبُوا} {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ (أخذهم). {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مفيدة لتعليل ما قبلها، والإضافة فيه من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها والأصل: والله شديد عقابه. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}. {قُل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: جار ومجرور وصلة الموصول متعلق بـ {قُل} {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُل}، وإن شئت قلتَ: {سَتُغْلَبُونَ}: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعله، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَتُحْشَرُونَ} جملة فعلية في محل النصب معطوفة على جملة {سَتُغْلَبُونَ} {إِلَى جَهَنَّمَ}: {إِلَى}: حرف جر {جَهَنَّمَ}: مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى: الطبقة، والجار والمجرور متعلق بـ {تحشرون}. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: الواو عاطفة، أو استئنافية. {بئس}: فعل ماضٍ، وهو من أفعال الذم {الْمِهَادُ}: فاعل، والجملة في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف هو المخصوص بالذم تقديره: بئس المهاد جهنم، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة {سَتُغْلَبُونَ} على كونها مقولًا لـ {قُل}، أو جملة مستأنفة. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}.

{قَدْ}: حرف تحقيق {كَانَ}: فعل ماض ناقص، أو تام {آيَةٌ} اسمها مؤخر، أو فاعل {لَكُمْ}: جار ومجرور خبرها مقدم على اسمها أو متعلق بـ {كَانَ}. {فِي فِئَتَيْنِ}: جار ومجرور صفة لـ {آيَةٌ}، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: في قصة فئتين، أو متعلق بـ {كَانَ}، والتقدير على كونها ناقصة: قد كانت آية حاصلة في قصة فئتين كائنة لكم، وعلى كونها تامة: قد كان وحصل لكم في فئتين آية دالة على صدق ما أقول لكم من قول: {سَتُغْلَبُونَ}، وجملة {كَانَ} من اسمها وخبرها، أو من الفعل والفاعل: جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، والتقدير: قل لهم يا محمَّد: واللهِ قد كان لكم آية في فئتين ... إلى آخر الآية. {الْتَقَتَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر صفة لـ {فِئَتَيْنِ} تقديره: فئتين ملتقيتين. {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. {فِئَةٌ}: مبتدأ، سوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل، {تُقَاتِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {فِئَةٌ} {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تُقَاتِلُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: فئة مقاتلة في سبيل الله، والجملة الإسمية في محل الجر بدل من {فِئَتَيْنِ} بدل تفصيل من مُجمل، وأما على قراءة الجر فبدل من {فِئَتَيْنِ}، وعلى قراءة النصب فمنصوب على المدح بفعل محذوف. {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}: الواو عاطفة {أخرى}: مبتدأ، ولكنه على حذف موصوف تقديره: وفئة أخرى. {كَافِرَةٌ}: خبره، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على كونها بدلًا من {فِئَتَيْنِ}. {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}. {يَرَوْنَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية. {مِثْلَيْهِمْ}: حال من مفعول (يرون) منصوب بالياء، والضمير مضاف إليه، ولكنه على تأويله بمشتق

تقديره: حالة كون الفرقة المسلمة مماثلين للفرقة الكافرة، وجملة (يرون) (¬1) من الفعل والفاعل خبر ثانٍ لقوله: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} أو صفة له، أو نعت لقوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذه الاحتمالات على قراءة الياء التحتية، وأما على قراءة التاء الفوقية، فتكون الجملة مستقلة ومستأنفة راجعة لقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}، وأيًّا ما كان. فالقصد من هذا الوصف تقرير الآية التي في الفئتين وفي التقائهما واجتماعهما. تأملْ ذكره في "الفتوحات الإلهية". {رَأْيَ الْعَيْنِ}: مصدر مؤكد لعامله منصوب على المفعولية المطلقة بـ (يرون) و {الْعَيْنِ} مضاف إليه. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}. {وَاللَّهُ} {الواو}: عاطفة {الله}: مبتدأ. {يُؤَيِّدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {قَدْ كَانَ} على كونها مقولًا لـ {قُل}، {بِنَصْرِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤَيِّدُ} {مَنْ يَشَاءُ}: {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يُؤَيِّدُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن}، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: يشاؤه، وهو العائد على {مَن} الموصولة. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر {إن} مقدم على اسمها. {لَعِبْرَةً} اللام حرف ابتداء، عبرةً: اسم {إِنَّ} مؤخر وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة {لَعِبْرَةً} تقديره: إن عبرة كائنة لأولي الأبصار لكائنة في ذلك المذكور. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}. {زُيِّنَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق ¬

_ (¬1) الجمل.

بـ {زُيِّنَ} {حُبُّ الشَّهَوَاتِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة {مِنَ النِّسَاءِ}: جار ومجرور حال من {الشَّهَوَاتِ} {وَالْبَنِينَ}: معطوف على {النِّسَاءِ} {وَالْقَنَاطِيرِ}: معطوف على النساء أيضًا، {الْمُقَنْطَرَةِ} صفة لـ {قناطير} {مِنَ الذَّهَبِ}: جار ومجرور حال من {القناطير} {وَالْفِضَّةِ}: معطوف عليه. {وَالْخَيْلِ}: معطوف على {النِّسَاءِ} {الْمُسَوَّمَةِ}: صفة للخيل {وَالْأَنْعَامِ}: معطوف على {النِّسَاءِ}، وكذا قوله: {وَالْحَرْثِ}: معطوف عليه جريًا على القاعدة المشهورة عند النحاة: أن المعطوفات إذا كثرت، وكان العطف بغير مرتب .. يكون العطف على الأول لا غير. كما ذكرته في "الباكورة الجنية على متن الآجرومية". {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {مَتَاعُ الْحَيَاةِ}: خبر ومضاف إليه {الدُّنْيَا} صفة لـ {الحياة}، والجملة مستأنفة، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ أول {حُسْنُ الْمَآبِ} مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه. {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ الثاني تقدير الكلام: والله حسن المآب كائن عنده، والجملة مستأنفة. {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإنْ شئت قلتَ: {أَؤُنَبِّئُكُمْ}: الهمزة للاستفهام التقريري مبنية على الفتح، ولكن ليس (¬1) المراد هنا بالتقرير: طلب الإقرار والاعتراف من المخاطبين، كما هو معنى الاستفهام التقريري في الأصل، بل المراد به هنا: التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين؛ أي: تحقيق خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، (أنبئكم): فعل ¬

_ (¬1) الجمل.

مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {بِخَيْرٍ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {نبأ}، ونبأ هنا (¬1) تعدَّتْ إلى مفعولين: أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف الجر، قاله أبو حيان في "النهر" {مِنْ ذَلِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {بِخَيْرٍ} {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر - أعني قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} - ويجوز أن يكون الظرف حالًا من {جَنَّاتٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فتنصب حالًا {جَنَّاتٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية جواب للاستفهام السابق في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. ويقرأ شذوذًا (¬2): {جناتٍ} بكسر التاء، وفيه حينئذٍ وجهان: أحدهما: هو مجرور بدلًا من (خير)، فيكون: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} على هذا صفة لـ (خير). والثاني: أن يكون منصوبًا على إضمار: أعني، أو بدلًا من موضع {بِخَيْرٍ}، ويجوز أن يكون الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جنات. {تَجْرِي}: فعل مضارع، وفاعله {الْأَنْهَارُ} الآتي، والجملة الفعلية صفة لـ {جَنَّاتٌ} {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَجْرِي} أو حال من فاعل {تَجْرِي}؛ أي: تجري الأنهار حالة كونها كائنة تحتها. {خَالِدِينَ}: حال من {الذين اتقوا}، والعامل فيها الاستقرار المحذوف. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَالِدِينَ} {وَأَزْوَاجٌ}: معطوف على {جَنَّاتٌ}. {مُطَهَّرَةٌ}: صفة لـ {أزواج}، وكذا قوله؛ {وَرِضْوَانٌ}: معطوف على {جَنَّاتٌ}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {رضوان}. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: الواو استئنافية {اللَّهِ}: مبتدأ. {بَصِيرٌ}: خبره، والجملة مستأنفة، {بِالْعِبَادِ} متعلق بـ {بَصِيرٌ}. ¬

_ (¬1) النهر. (¬2) العكبري.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}. {الَّذِينَ}: في محل الجر بدل من (الذين اتقوا)، أو نعت له {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئتَ قلتَ: {رب}: منادى مضاف و {نا} مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {إِنَّنَا}: (إنَّ) حرف نصب، ونا اسمها، {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول القول. {فَاغْفِرْ لَنَا}: الفاء عاطفة. {اغفر}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله {لَنَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا}. قال الكرخي: وفي ترتيب هذا السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كافٍ في استحقاق المغفرة، وفيه ردٌّ على أهل الاعتزال؛ لأنهم يقولون: إن استحقاق المغفرة لا يكون بمجرد الإيمان. انتهى. {ذُنُوبَنَا}: مفعول به، ومضاف إليه. {وَقِنَا}: الواو عاطفة {قِ}: فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها؛ لأنه من وقى يقي، وفاعله ضمير يعود على الله و {نا}: مفعول أول {عَذَابَ}: مفعول ثانٍ {النَّارِ}: مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَاغْفِرْ لَنَا}. {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}. {الصَّابِرِينَ}: نعت {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، أو لـ {الَّذِينَ يَقُولُونَ} مجرور بالياء، وقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ} كلها معطوفات على {الصَّابِرِينَ}. {بِالْأَسْحَارِ}: متعلق بـ {المستغفرين}. التصريف ومفردات اللغة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ}: من أغنى الرباعي يغني إغناءً، والإغناء: الدفع والنفع، وفلان عظيم الغنى؛ أي: الدفع والنفع. {وَقُودُ}: الوقود؛ بفتح الواو على قراءة الجمهور اسم لما توقد به النار من الحطب، وبضمها مصدر: وقدت

النار تَقدُ وقودًا إذا اتقدت. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}: والدأب: الاجتهاد، وهو مصدر: دأب الرجل في عمله يدأب - من بابي: قطع وخضع - دأبًا ودؤبًا، إذا جدَّ واجتهد وتعب فيه، وغلب استعماله في العادة والشأن والحال، والمراد به هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ}: تثنية: فئة، والفئة: الجماعة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها: فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبرًا لما نقص، وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنها يفاء إليها عند الشدة؛ أي: يرجع إليها في وقت الشدة. {رَأْيَ الْعَيْنِ}: هو مصدر مؤكد ورأى هنا بصرية. {يُؤَيِّدُ}؛ أي: يقوي، مضارع أيده تأييدًا إذا نصره وأعانه. {لَعِبْرَةً}: العبرة: الاتعاظ، وهو اسم مصدر لاعتبر اعتبارًا، والاعتبار: الانتقال من حالة الجهل إلى حالة العلم، واشتقاقها من العبور، وهي مجاوزة الشيء إلى الشيء ومنه: عبور النهر، وفي "الخازن": العبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى العلم، وأصلها من العبور كالجلسة من الجلوس، كأنه طريق يعبرونه، فيوصلهم إلى مرادهم، وقيل: العبرة: هي التي يعبر عنها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم. انتهى. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}: والتزيين: تحسين الشيء وتجميله في أعين الناس، والشهوات: جمع شهوة: اسم مصدر من اشتهى اشتهاءً، والشهوة: ثوران النفس وميلها إلى الشيء المشتهى، فالمصدر هنا بمعنى: اسم المفعول، عبر به عنه مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبًا فيها كأنها نفس الشهوات. {القناطير}: جمع قنطار: وهو في الأصل عقد الشيء وإحكامه، يقال: قنطرتُ الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة؛ أي: المحكمة الطاق، وفي نونه قولان: أحدهما: وهو قول جماعة أصلية، فوزنه فعلال كقرطاس.

الثاني: أنها زائدة فوزنه: فنعال، والمراد به هنا: المال الكثير، واختلفوا فيه هل هو محدود أم لا؟ على قولين، وعلى الأول اختلفوا في حده، فقيل: هو مئة رطل، وقيل: ألف ومئتا أوقية، وقيل: أننا عشر ألف أوقية، وقيل: ألف ومئتا دينار، وكل هذه الأقوال رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني قال أبو عبيدة: القنطار وزن لا يحد، وقال ابن عطية: القنطار معيار يوزن به كما أن الرطل معيار. {وَالْخَيْلِ}: والخيل فيه قولان: أحدهما: أنه جمع لا واحد له من لفظه، بل مفرده: فرس، فهو نظير قوم ورهط ونساء. والثاني: أن مفرده: خائل، فهو نظير ركب وراكب وتاجر وتجر وطائر وطير، وفي اشتقاقها وجهان: أحدهما: من الاختيال، وهو العجب سميت بذلك لاختيالها في مشيتها بطول أذنابها. والثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها. {وَالْأَنْعَامِ}: جمع نعم، والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو يذكر ويؤنَّث، ويطلق على الإبل والبقر والغنم، وجمعه على: أنعام باعتبار أنواعه الثلاثة {وَالْحَرْثِ}: مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: المحروث، والمراد به المزروع سواء كان جوباص أم بقلًا أم ثمرًا، ولم يجمع كما جمعت أخواته نظرًا لأصله وهو المصدر يقال: حرث الرجل حرثًا إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والزرع، وقال ابن الإعرابي: الحرث: التفتيش. {حُسْنُ الْمَآبِ}: المآب (¬1): فعَل - بفتح العين - من آب يؤوب من باب: قال؛ أي: رجع، والأصل: المَأْوَب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

قبلها، فقلبت الواو ألفًا وهو هنا اسم مصدر بمعنى الرجوع، وقد يستعمل اسم مكان أو زمان تقول: آب يؤوب أوبًا وإيابًا، فالأوب والإياب مصدرين، والمآب اسم لهما، ذكره السمين. {وَرِضْوَانٌ} بكسر الراء وضمها مصدران لـ (رضي) فهما بمعنى واحد، وإن كان الثاني سماعيًّا، والأول قياسيًّا، ونظير الكسر كالإتيان والقربان ونظير الضم كالشكران والكفران، فالكسر لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم وبكر وقيس وغيلان وقيل الكسر للاسم ومنه: رضوان خازن الجنة، والضم للمصدر. {بِالْأَسْحَارِ}: جمع سَحَر بفتح الحاء وسكونها، وقال قوم منهم الزجاج: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر، ومنه يقال: سحر إذا أكل في ذلك الوقت، واستسحر إذا سار فيه. البلاغة {مِنَ اللَّهِ}: فيه مجازٌ بالحذف، والأصل من عذاب الله. {شَيْئًا}: التنكير فيه للتقليل؛ أي: لن تنفعهم نفعًا ما ولو قليلًا. {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}؛ أي: أتى بالجملة الإسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه، وفيها التشبيه؛ لأنه شبههم بالحطب الذي لا ينتفع به إلا في الوقود، وفيها التأكيد؛ لأنه أكدها بلفظة {هُمْ}. {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} فيه التفات عن الحاضر إلى الغيبة، والأصل: فأخذناهم. {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: فيه ذكر العام وإرادة الخاص على قول عامة المفسرين: إن المراد بهم اليهود، وهذا من تكوين الخطاب. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} الأصل: آية لكم وقدم للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والتنكير في آية للتفخيم والتهويل؛ أي: آية عظيمة. {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} في هذا الكلام من المحسنات البديعية شبه احتباك، وهو أن يحذف من أحد متقابلين نظير ما اشتبه

في الآخر، والأصل (¬1): فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأولى ما أثبت مقابله في الثانية، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى، فذكر في الأولى لازم الإيمان وهو: القتال في سبيل الله، وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان: وهو الكفر. {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}: فيه من المحسنات البديعية: التجنيس المغاير والاحتراس في {رَأْيَ الْعَيْنِ} قالوا: لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب، فهو من باب الحزر وغلبة الظن ومن ضروب البلاغة: الإبهام في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}، وفي إيقاع التزيين على حب مسامحة، لأجل المبالغة. والمزين حقيقة: هو المشتهيات، قال الزمخشري: عبَّر بالشهوات مبالغة، كأنها نفس الشهوات وتبنيها على خستها؛ لأن الشهوة رذيلة عند الحكماء وفي قوله: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ}، من المحسنات: التجنيس المماثل. {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} إبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم. {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}: التنكير فيه للتفخيم. {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} إدخال الواو في مثل هذه الصفات للتفخيم؛ لأنه يؤذن بأن كل صفة مستقلة يمدح الموصوف بها، وللدلالة على كماله في كل واحدة منها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}. المناسبة لما مدح الله تعالى المؤمنين، وأثنى عليهم بقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} .. أردفه ببيان أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ثم بيَّن أن الإِسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وأمر الرسول بأن يعلن باستسلامه لله، وانقياده لدين الله، وأعقبه بذكر ضلالات أهل الكتاب، واختلافهم في أمر الدين اختلافًا كبيرًا، وإعراضهم عن قبول حكم الله. أسباب النزول قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ...} سبب نزول هذه الآية: أن حبرين (¬1) من أحبار الشام قدما على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. عرفاه بالصفة فقالا له: أنت محمَّد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم، قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أنت أخبرتنا به .. آمنا ¬

_ (¬1) خازن وقرطبي.

[18]

بك وصدقناك، قال: اسألاني، قالا: فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عزّ وجلّ، فأنزل الله هذه الآية، فأسلم الحبران. وقيل (¬1): إن هذه الآية نزل في نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام. قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...} سبب نزولها: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية .. ردَّ الله عليهم فقال: إن الدين عند الله الإِسلام، وقال الكلبي: قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا} نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ...} الآية، أخرج (¬2) ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دينٍ أنت يا محمَّد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه، قالا: إن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {يَفْتَرُونَ}. التفسير وأوجه القراءة 18 - {شَهِدَ اللَّهُ}؛ أي: أخبر الله سبحانه وتعالى، وأعلم وبيّن لعباده بالدلائل السمعية والآيات العقلية {أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن والحال {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود موجود {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى {و} شهدت {الملائكة} كلهم وأقرَّت بتوحيد الله تعالى بما عاينوا من عظيم قدرته تعالى ¬

_ (¬1) الخازن والقرطبي. (¬2) لباب النقول.

{و} شهد {أولو العلم}؛ أي: أقر أصحاب العلم بذلك التوحيد، وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونًا بالعلم، والمراد بهم المؤمنون كلهم، فمعنى شهادة الله لتوحيده: أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم هي: إقرارهم بتوحيده تعالى وهذه الآية تدل على أن الدرجة العالية، والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. قال القرطبي: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقَرنه الله تعالى باسمه واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء ويكفي في شرف العلم قوله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن العلماء ورثة الأنبياء"، ولقد أجاد من قال في بيان فضل العلم: عِلْمُ الْعَلِيْمِ وَعَقْلُ الْعَاقِلِ اخْتَلَفَا ... مَنْ ذَا الَّذِيْ مِنْهُمَا قَدْ أَحْرَزَ الشَّرَفَا فَالْعِلْمُ قَالَ: أَنَا أَحْرَزْتُ غَايَتَهُ ... وَالْعَقْلُ قَالَ: أَنَا الرَّحْمنُ بِي عُرِفَا فَأَفْصَحَ الْعِلْمُ إِفْصَاحًا وَقَالَ لَهُ: ... بِأَيِّنَا اللهُ في فُرْقَانِهِ اتَّصَفَا فَبَانَ لِلْعَقْلِ أَنَّ الْعِلْمَ سَيِّدُهُ ... فَقَبَّلَ الْعَقْلُ رَأْسَ الْعِلْمِ وَانْصَرَفَا وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} حال لازمة من لفظ الجلالة، والعامل فيه معنى جملة: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ أي: تفرد سبحانه وتعالى حالة كونه قائمًا ومتصفًا بالقسط والعدل في تدبير أمور خلقه من الأرزاق والآجال والإحياء والإماتة والرفع والخفض والثواب والعقاب، وهذا بيان لكماله تعالى في أفعاله بعد بيان كماله في ذاته، وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد، وقيل: إن الأول: وصف وتوحيد والثاني: رسم تعليم؛ أي: قولوا لا إله إلا هو، وقيل: فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، ففيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها .. فقد اشتغل بأفضل العبادات. {الْعَزِيزُ} في ملكه الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء {الْحَكِيمُ} في صنعه وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره، فالعزة تلائم الوحدانية، والحكمة تلائم القيام

بالقسط، فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما. وفي "المدارك" (¬1): "من قرأ هذه الآية عند منامه وقال بعدها: أشهد بما شهد الله به، واستودع الله هذه الشهادة وهي عنده وديعة، يقول الله يوم القيامة: إن لعبدي هذا عندي عهدًا، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة". وعن عبد الله بن مسعود (¬2): قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ عبدي عهد إليَّ، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة". وقرأ أبو الشعثاء (¬3): {شُهِد} بضم الشين مبنيًّا للمفعول، فيكون: {أَنَّهُ} في موضع البدل؛ أي: شهد وحدانية الله وألوهيته. وارتفاع الملائكة على هذه على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والملائكة وأولو العلم يشهدون، وحذف الخبر لدلالة المعنى عليه. وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار: {شهداءَ الله} على وزن فعلاء جمعًا منصوبًا على الحال من الضمير في المستغفرين، وهو إما جمع شهيد، كظرفاء وظريف، أو جمع شاهد، كعلماء وعالم. وروي عنه وعن أبي نهيك: {شهداءُ الله} بالرفع؛ أي: هم شهداء الله، وفي هاتين القراءتين: شهداء مضاف إلى لفظ الجلالة. وذكر الزمخشري أنه قرأ: {شهداءُ لله} برفع الهمزة ونصبها وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من المذكورين والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفًا على الضمير المستكن في شهداء، وجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما. وروي عن أبي المهلب: {شُهُدًا} بضم الشين والهاء جمع شهيد، كنذير ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) ابن كثير. (¬3) البحر المحيط.

ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب. وذكر النقَّاش: أنه قرئ كذلك بضم الدال وبفتحها مضافًا لاسم الله في القراءتين. وقراءة الجمهور: {شَهِدَ اللهُ} على أنه فعل وفاعل فجملة القراءات في: {شهد} تسعة مع قراءة الجمهور، وكلها شاذة عدا قراءة الجمهور. وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه بإدغام واو {هُوَ} في واو {وَالْمَلَائِكَةُ}. وذكر ابن جرير (¬1) أن ابن عباس قرأ: {شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم أن الدين عند الله الإِسلام} بكسر: إنه، وفتح: أن الدين الإِسلام؛ أي: شهد هو والملائكة وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإِسلام، وتكون جملة قوله: أنه لا إله إلا هو جملةٌ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهي. قراءة شاذة والجمهور قرؤوها بكسر همزة: إن الدين، وفتح همزة: أنه، وكلا المعنيين صحيح، ولكن المعنى على قراءة الجمهور أظهر والله أعلم. وقرأ أبو حنيفة: {قَيِّمًا بالقسط} وقرأ ابن مسعود: {القائم} على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم بالقسط، وكلا القراءتين شاذتان. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}؛ أي: إن الشرع المرضي المقبول عند الله تعالى هو الإِسلام والانقياد لأمر الله ونهيه، واعتقاد ما جاءت به الرسل من صفات الله تعالى والبعث والجزاء، فلا دين مرضيًّا لله تعالى سوى الإِسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة التي عليها الرسل عليهم السلام. وتقدم لك قريبًا أن الجمهور قرؤوا بكسر همزة: أن، على أن الجملة مستأنفة، وقال الكسائي (¬2): أنا أفتحهما جميعًا يعني قوله: {شهد الله أنه}، ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الشوكاني.

[19]

19 - وقوله: {أن الدين الإِسلام} بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين الإِسلام. قال ابن كيسان: أن الثانية بدل من الأولى، وهذه رواية شاذة عن الكسائي رحمه الله تعالى. وخلاصة معنى هذه الجملة (¬1): أن جميع الملل والشرائع التي جاءت بها الأنبياء والرسل روحها الإِسلام، والانقياد والخضوع. وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون، فالمسلم الحقيقي مَنْ كان خالصًا من شوائب الشرك مخلصًا في أعماله مع الإيمان من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله جلَّ ذكره: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. وذلك أن الله شرع الدين لأمرين: أحدهما: تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات، بها تستطيع التصرف في الكائنات؛ لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها. وثانيهما: إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله. وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي؛ ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الإِسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله وهو: دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءَه، لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به. وخطب علي رضي الله عنه قال: الإِسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن ¬

_ (¬1) المراغي.

يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينَكُم دينَكُم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره؛ إن السيئة فيه تغفر وأن الحسنة في غيره لا تقبل. {وَمَا اخْتَلَفَ} وتفرق {الَّذِينَ أُوتُوا} وأعطوا {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى في دين الإِسلام، وأنكروا نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ} وحصل لهم {الْعِلْمُ} والمعرفة بصدق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بما عرفوه في كتبهم من نعته ووصفه قبل بعثته. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}؛ أي: ما خالفوه وأنكروه إلا لأجل الحسد الكائن منهم وطلب الرياسة لا لشُبهةٍ وخفاءٍ في أمره. وقال الأخفش (¬1): في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيًا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو: خلافهم في كون نبينا - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا أم لا، وقيل: اختلافهم في دين الإِسلام، فقال قوم؛ إنه حق، وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقًا، وقيل: اختلافهم في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقيل: اختلافهم في نبوة عيسى وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهودُ على شيء. وقيل معنى الآية (¬2): وما خرج أهل الكتاب من الإِسلام الذي جاء به أنبياؤهم وصاروا مذاهب وشيعًا يقتتلون في الدين، والدين واحد، لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحد من الرؤساء، ولولا بغيهم ونصرهم مذهبًا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه .. لما حدث هذا الاختلاف، والقصد من إخبار هذا الاختلاف أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، كما فعل مَن قبلنا، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[20]

ولكن واأسفًا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددًا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نَزَال نَئِنَّ منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ويمدنا بروح من عنده، فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ}، أي: ومن ينكر بالآيات الدالة على أن الدين المرضي عند الله هو الإِسلام بأن لم يعمل بمقتضاها {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}؛ أي: المجازاة له على كفره؛ أي: فإنه يحاسبه على كفره ويجازيه عليه قريبًا، ولا يخفى ما فيه من الوعيد والتهديد. وخلاصة هذا الكلام: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ويترك الإذعان لها .. فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب. والمراد بآيات الله هنا: هي آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفُها عن وجهها؛ لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد. وآياتهُ التشريعية التي أنزلها على رسله. والله أعلم. 20 - {فَإِنْ حَاجُّوكَ}؛ أي: خاصمك يا محمَّد أهل الكتاب اليهود والنصارى أو غيرهم في أن الدين عند الله هو الإِسلام بعد قيام الحجة عليهم {فَقُلْ} لهم {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ}؛ أي: أسلمت ذاتي من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أو أخلصت عملي وعبادتي {لِلِّهِ} سبحانه وتعالى وحده لا أشرك به في ذلك غيره {و} أسلم {من اتبعنِ} وجوهُهم لله تعالى، فهو معطوف على التاء في {أَسْلَمْتُ}، وجاز ذلك لوجود الفصل بالمفعول، والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله تعالى. وأثبت (¬1) الياء في: {اتَّبَعَنِ} نافع وأبو عمرو وصلًا، وحذفاها وقفًا، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، والباقون حذفوها وقفًا ووصلًا ¬

_ (¬1) الجمل.

موافقة للرسم، وحسَّن ذلك أيضًا كونها فاصلة ورأس آية نحو: {أكرمن} و {أهانن} وقال بعضهم: حذف هذه مع نون الوقاية خاصة فإن لم تكن نون .. فالكثير إثباتها، ومعنى الكلام: فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم - وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوا اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم، وتعودوه من التحريف والتأويل، والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله، والإخلاص له بعد أن أقيمت عليهم البراهين والبينات - وجئتهم بالحق، فقل لهم: أقبلت بعبادتي على ربي مخلصًا له معرضًا عما سواه أنا ومن اتبعني من المؤمنين. والخلاصة: أنه لا فائدة في الجدل مع مثل هؤلاء؛ لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة وبطلت شبهات الضالين، فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى. {وَقُلْ} يا محمَّد {لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: لليهود والنصارى {وَالْأُمِّيِّينَ}؛ أي: مشركي العرب الذين لا كتاب لهم، وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة؛ لأنهم هم الذين خوطبوا أولًا بالدعوة {أَأَسْلَمْتُمْ}؛ أي: أتسلمون بعد أن أتاكم من البينات ما يوجب الإِسلام كما أسلمت أنا ومن اتبعني، أم تصرون على كفركم وعنادكم. وهذه الجملة صورته استفهام تقريري، ومعناه: أمر؛ أي: أسلموا، كذا قاله ابن جرير وغيره وقال الزجاج: {أَأَسْلَمْتُمْ} تهديد، والمعنى: أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإِسلام فهل علمتم بموجب ذلك أم لا تبكيتًا لهم وتصغيرًا لشأنهم في الإنصاف وقبول الحق، وتعييرًا لهم بالبلادة وجمود القريحة {فَإِنْ أَسْلَمُوا} كما أسلمتم .. {فَقَدِ اهْتَدَوْا} للفوز والنجاة في الآخرة؛ أي: ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر، وفازوا بخيري الدنيا والآخرة. {وَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي: أعرضوا عن الإِسلام وقبول الحق والاتباع لدينك .. فلن يضروك شيئًا. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}؛ أي: ما عليك إلا إبلاغ ما أنزل إليك إليهم، وقد أدَّيته على أتم وجه وأكمله، ولست عليهم بمسيطر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وهذا قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ بآية السيف. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}؛ أي: عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن، فيجازي كلًّا منهم بعمله؛ أي:

[21]

فهو تعالى أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يُرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ. روي (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا، فقال - صلى الله عليه وسلم - لليهود: "أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده، ورسوله"، فقالوا: معاذ الله، وقال - صلى الله عليه وسلم - للنصارى: "أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله"، فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدًا، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا}. 21 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: بالقرآن، وبما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى وغيرهم. فالآية وإن كانت قد نزلت في فريق من اليهود والنصارى إلا أنها عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}؛ أي: بغير جرم ولا شبهة لديهم، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام. وقرأ الحسن شذوذًا: (ويقتّلون النّبيين) بالتشديد، والتشديد فيه للتكثير وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} (¬2) حال مؤكدة؛ لأن قتل الأنبياء لا يكون حقًّا. {وَيَقْتُلُونَ} الدعاة {الَّذِينَ يَأْمُرُونَ} الناس {بِالْقِسْطِ} والعدل وينهونهم عن ارتكاب المعاصي والمنكر حال كون أولئك الدعاة {مِنَ} بعض {النَّاسِ}. وقرأ حمزة (¬3) وجماعة من غير السبعة: {ويقاتلون الذين يأمرون بالقسط} بالألف. وقرأها الأعمش شذوذًا: (وقاتلوا الذين يأمرون بالقسط). وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبي شذوذًا أيضًا: {يقتلون النبيين والذين يأمرون بالقسط}. ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وإبراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع؛ لأن كل جملة مستقلة بنفسها، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة لمن وقع عليه الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالقسط من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان، وقيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) النسفي. (¬3) البحر المحيط.

[22]

روي أن اليهود قتلوا ثلاثة وأربعين نبيًّا في أول النهار، فقام مئة رجل من عباد بني إسرائيل من أتباع الأنبياء فنصحوهم وذكروهم، فقتلوهم من آخر النهار جميعًا، ففيهم نزلت هذه الآية: {فَبَشِّرْهُمْ}؛ أي: أخبرهم يا محمَّد وأعلمهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: بعذاب مؤلم موجع مهين. وعن (¬1) أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أشد عذابًا يوم القيامة، قال: "رجل قتل نبيًّا، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مئة وسبعون رجلًا من بني إسرائيل، فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعًا في آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله عَزَّ وَجَلَّ". 22 - {أُولَئِكَ} المتصفون بالصفات المذكورة القبيحة هم {الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}؛ أي: بطلت محاسن أعمالهم في الدارين. أمَّا بطلانها في الدنيا فبإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وبما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ المال منهم غنيمةً والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم. وأما بطلانها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب، وقيل: بطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا؛ ولا يجازى عليه في الآخرة. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} من عذاب الله في إحدى الدارين؛ أي: ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه. 23 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} استفهام تعجيب للنبي، أو لكل من تتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقيقته؛ أي: ألم تنظر يا محمَّد إلى سوء صنيع الذين أوتوا وأعطوا نصيبًا في الكتاب؛ أي: حظًّا عظيمًا من علم التوراة، ¬

_ (¬1) ابن كثير.

[24]

وهم أحبار اليهود. والمراد بذلك النصيب: ما بُيِّن لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة الإِسلام. والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقًّا من حقوقهم التي تجب مراعاتها والعمل بموجبها حال كونهم {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: التوراة {لِيَحْكُمَ} ذلك الكتاب {بَيْنَهُمْ} والداعي لهم هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقرىء شذوذًا: (ليُحكَم) بالبناء للمفعول. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ أي: ثم يُدبر جماعة منهم عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَهُمْ مُعْرِضُونَ}؛ أي: والحال أنهم معرضون بقلوبهم عن قبول حكم ذلك الكتاب مكذبون له، وذلك أنهم أنكروا آية الرجم من التوراة، وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حد المحْصَنَين إذا زنيا، فحكم بالرجم، فقالوا: جُرت يا محمَّد، فقال: بيني وبينكم التوراة، ثم أتوا بابن صوريا، فقرأ التوراة، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفه عنها، وقرأها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى اليهود فإذا فيها: "إن المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البينة .. رُجما، وإن كانت المرأة حبلى .. تتربص حتى تضع ما في بطنها". فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليهوديين، فرُجما، فغضبت اليهود لذلك وانصرفوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ...} إلخ. والقصة مذكورة في "صحيح البخاري" في كتاب التفسير. 24 - {ذَلِكَ} التولي والإعراض {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ}؛ أي؛ لن تصيبنا النار في الآخرة {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}؛ أي: أيامًا قلائل ومدة يسيرة - أربعين يومًا مدة عبادتهم العجل - ثم يخرجون منها {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ}؛ أي: في ثباتهم على دينهم اليهودية {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي؛ يختلقون من الكذب من قولهم: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات، وإن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم. وخلاصة ذلك: أنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالًا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادًا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كافٍ في نجاتهم. ومن استخف بوعيد الله زعمًا منه أنه غير نازل حتمًا بمن يستحقه .. تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك

[25]

حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات. وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراع السيئات. وقد ظهر ذلك في اليهود والنصارى، ثم في المسلمين، فإن كثيرًا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب للكبائر والإثم والفواحش؛ إما أن تدركه الشفاعات، أو تنجيه الكفارات؛ وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانًا من الله وفضلًا، فإن فاته ذلك .. عُذِّب على قدر خطيئته، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم. والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح، والخُلُق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته. أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم .. فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. 25 - {فَكَيْفَ} حالهم {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ}؛ أي: جمعنا الخلائق للمجازاة {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ}؛ أي: في يوم لا شك في مجيئه ووقوع ما فيه وهو يوم القيامة {وَوُفِّيَتْ كُلُّ}؛ أي: وتوفى وتنال فيه {كُلُّ نَفْسٍ} بَرَّةٍ، أو فاجرةٍ جزاء {مَا كَسَبَتْ}؛ أي: عملت من خير أو شر. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا يظلمون في المجازاة بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم، فلا ينقص أحد من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات. والضمير عائد لكل نفس على المعنى؛ لأنه في معنى كل إنسان. وهناك العدل الكامل والقضاء الفاصل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}. الإعراب {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. {شَهِدَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أن: حرف نصب ومصدر، والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها. {لَا} نافية تعمل عمل إن {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف جوازًا تقديره موجود. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر (لا)، وجملة (لا) من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لشهد تقديره: شهد الله وبين عدم وجود معبود بحق سواه. {وَالْمَلَائِكَةُ}: معطوف على لفظ الجلالة {وَأُولُو}: معطوف أيضًا على الجلالة، وهو مضاف. {الْعِلْمِ}: مضاف إليه. {قَائِمًا}: حال من الضمير الواقع بعد {إِلَّا} أو من لفظ الجلالة {بِالْقِسْطِ} متعلق بـ {قَائِمًا}. وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بدل من جملة قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الأولى بدلُ كلٍّ من كل كرره تأكيدًا. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في إعرابه (¬1) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بدل من {هُوَ}. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف. الثالث: أنه نعت لـ {هُوَ}، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي، فإنه يرى وصف الضمير الغائب. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. {إِنَّ} حرف نصب {الدِّينَ}: اسمها. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الدين {الْإِسْلَامُ} خبر {إنَّ}، والجملة مستأنفة. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ} الواو استئنافية. {ما}: نافية، {اخْتَلَفَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أُوتُوا}: فعل ماضٍ مغير، والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول؛ لأن آتى بمعنى: أعطى {الْكِتَابَ}: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفَ}، {ما}: مصدرية {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {بَعْدِ}، {بَغْيًا}: مفعول لأجله، والعامل فيه {اخْتَلَفَ}، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ {بَغْيًا}. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. {وَمَنْ} الواو استئنافية، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، وفي خبره (¬1) الأقوال الثلاثة أعني: فعل الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كليهما، وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر؛ أي: سريع الحساب له. والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة، {يَكْفُرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من} {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَكْفُرْ}، {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {إنَّ}: حرف نصب، {الله} اسمها، {سَرِيعُ}: خبرها. {الْحِسَابِ}: مضاف إليه، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وفي الحقيقة: هذه الجملة قائمة (¬2) مقام الجواب علة، وتقدير الجواب: فإن الله يجازيه ويعاقبه عن قرب فإنه سريع الحساب. {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. {فَإِنْ} الفاء فاء الفصيحة مبنية على الفتح؛ لأنها أفصحت عن جواب ¬

_ (¬1) السمين. (¬2) أبو السعود.

شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفت أن الدين المرضي عند الله الإِسلام، وأردت بيان ما تقول لمن حاجك فيه .. فأقول لك {إن}: حرف شرط جازم {حَاجُّوكَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه فعل شرط لإنْ. {فَقُلْ}: الفاء رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت، يعود على محمد، وجملة (إنْ) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا الشرطية المقدرة، وجملة إذا الشرطية مستأنفة. {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}: مقول محكي لـ {قل} منصوب بفتحة مقدرة، وإن شئت قلتَ: {أَسْلَمْتُ}: فعل وفاعل، {وَجْهِيَ}: مفعول به ومضاف إليه، {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَسْلَمْتُ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قل}، {وَمَنِ اتَّبَعَنِ}: الواو عاطفة {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع على الفاعلية معطوف على تاء {أَسْلَمْتُ}، {اتبع}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة تشبيهًا لهذه الكلمة برؤوس الآي: كـ {رَبِّي أَكْرَمَنِ}، {أهانن} - في محل النصب مفعول به. {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ}. {وَقُلْ لِلَّذِينَ} {الواو} استئنافية، {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قل}. {أُوتُوا الْكِتَابَ}: فعل ماضٍ مغير، ونائب فاعل، ومفعول ثان؛ لأن أتى بمعنى: أعطى، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الغائب. {وَالْأُمِّيِّينَ}: معطوف على الموصول. {أَأَسْلَمْتُمْ}: مقول محكى لـ {قل}، وإنْ شئت قلت: الهمزة للاستفهام التقريري، ولكن فيه معنى الأمر كما مرَّ {أسلمتم}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قل}. {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. {فَإِنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلت أمرنا بالقول لهم، وأردت بيان ما يترتب على ذلك القول .. فأقول لك

{إن أسلموا}: {إن}: حرف شرط جازم، {أَسْلَمُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {فَقَدِ}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {اهْتَدَوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ تَوَلَّوْا}: الواو عاطفة، {إن}: حرف شرط، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه شرطًا لها. {فَإِنَّمَا} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، {إنما}: أداة حصر بمعنى: ما النافية وإلا المثبتة. {عَلَيْكَ}: جار ومجرور خبر مقدَّم {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية {الله}: مبتدأ {بَصِيرٌ}: خبر {بِالْعِبَادِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسمها. {يَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يَكْفُرُونَ} {بِغَيْرِ حَقٍّ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل {يقتلون}؛ أي: حال كونهم ملتبسين بغير حق. {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يَكْفُرُونَ} {يَأْمُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {بِالْقِسْطِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَأْمُرُونَ}. {مِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَأْمُرُونَ} تقديره: حالة كونهم كائنين من بعض الناس، فهي حال مؤكدة؛ لأن من المعلوم أنهم من جملة الناس. {فَبَشِّرْهُمْ}: الفاء رابطة لخبر {إن} باسمها

جوازًا؛ لما في الموصول من العموم. وعبارة السمين: ولما ضُمّن هذا الموصول معنى الشرط في العموم .. دخلت الفاء في خبره، وهو قوله: {فَبَشِّرْهُمْ}. وخالف الأخفش فمنع دخولها، والسماع حجة عليه كهذه الآية. {بشر}: فعل أمر ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: جار ومجرور وصفة، متعلق بـ {بشرهم}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الجمع {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: جار ومجرور ومعطوف، متعلق بـ {حَبِطَتْ}، {وَمَا لَهُمْ}: الواو عاطفة {ما}: حجازية أو تميمية. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {ما} أو لمبتدأ مؤخر، {مِنْ}: زائدة {نَاصِرِينَ}: اسم {ما} مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على جملة حبطت على كونها صلة الموصول. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري، {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تر}، ورأى هنا علمية مضمنة معنى الانتهاء لتصح التعدية بإلى، والمعنى: ألم تعلم يا محمَّد منتهيًا علمك إلى قصة الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، ذكره السمين. {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به. {أُوتُوا}: فعل مغير ونائب فاعل. {نَصِيبًا}: مفعول ثانٍ، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْكِتَابِ}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبًا}. {يُدْعَوْنَ} فعل مضارع مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من {الَّذِينَ}. {إِلَى كِتَابِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُدْعَوْنَ}. {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.

{لِيَحْكُمَ}: اللام حرف جر وتعليل. (يحكم): منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام (كي)، وفاعله ضمير يعود على {الْكِتَابِ}، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يحكم}، والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لحكمه، {بَيْنَهُمْ}: الجار والمجرور متعلق بـ {يُدْعَوْنَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {فَرِيقٌ}، والجملة معطوفة على جملة {يُدْعَوْنَ}، {وَهُم}: الواو واو الحال {هم معرضون}: مبتدأ وخبر، والجملة حال من {فَرِيقٌ}، وصح مجيء الحال منه لوصفه بالجار والمجرور. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ}: الباء حرف جر، {أن}: حرف نصب ومصدر، والهاء: اسمها. {قَالُوا}: فعل وفاعل، وجملة {قَالُوا} في محل الرفع خبر {أن} تقديره: بأنهم قائلون، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالياء تقديره: ذلك بقولهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك التولي والإعراض كائن بسبب قولهم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}: مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {لَن}: حرف نفي ونصب. {تَمَسَّنَا النَّارُ}: فعل ومفعول وفاعل، منصوب بـ {لَن}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَيَّامًا}: منصوب على الظرفية، {مَعْدُودَاتٍ}: صفة لأيامًا، والظرف متعلق بـ {تَمَسَّنَا}، {وَغَرَّهُمْ}: الواو عاطفة. {غر}: فعل ماضٍ، الهاء: مفعول به. {فِي دِينِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {غرهم}، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كان} تقديره: ما كانوا مفترين، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يفترونه، وجملة (غرهم) في محل الرفع معطوفة على جملة {قَالُوا} على كونها خبر {أَنَّ}.

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}. {فَكَيْفَ}: الفاء بمعنى الواو الاستئنافية. (كيف): اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف تقديره: فكيف حالهم، مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، حالهم: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِذَا}: ظرف مجرد عن الشرط، والظرف متعلق بالمبتدأ المحذوف. {جَمَعْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذا، {لِيَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَمَعْنَاهُمْ}. {لا}: نافية، {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل الجر صفة لـ {يوم}. وفي "الفتوحات" (¬1): قوله: {فَكَيْفَ} ردٌّ لقولهم المذكور، وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيقع لهم، وتهويل لما يحيق بهم من الأهوال. و {كيف}: خبر مبتدأ محذوف قدَّره بقوله: حالهم. وعبارة السمين: ويجوز أن يكون {كيف} خبرًا مقدمًا، والمبتدأ محذوف تقديره: فكيف حالهم؟ وقوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه هو العامل في {كيف} إن قلنا: إنها منصوبة بفعل، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر، وهي منصوبة انتصاب الظرف .. كان العامل في إذا: الاستقرار العامل في {كيف}؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف بل لمجرد السؤال .. كان العامل فيها نفس المبتدأ الذي قدرناه؛ أي: كيف حالهم في وقت جمعهم، وقوله: {ليوم} متعلق بـ {جَمَعْنَاهُمْ}؛ أي: لقضاء يوم أو لجزاء يوم و {لَا رَيْبَ فِيهِ}: صفة للظرف. انتهى. {وَوُفِّيَتْ}: الواو عاطفة. {وُفي}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، التاء علامة التأنيث؛ لاكتساب الفاعل التأنيث من المضاف إليه. {كُلُّ نَفْسٍ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {لَا رَيْبَ} على كونها صفة لـ {يوم}، والرابط محذوف تقديره: وتوفى فيه كل نفس. {مَا كَسَبَتْ}: {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ ¬

_ (¬1) الجمل.

لـ {وفيت}. {كَسَبَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {كُلُّ نَفْسٍ}، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كسبته {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: الواو حالية {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حل من قوله: {كل نفس}. وذكر (¬1) ضمير {هم} وجمعه باعتبار معنى كل نفس؛ لأنه في معنى كل الناس، كما اعتبر المعنى في قولهم: ثلاثة أنفس، بتأويل الأناس. التصريف ومفردات اللغة {شَهِدَ اللَّهُ}: يقال: شهد الشيء يشهد شهادةً من باب: علم، إذا بين وأعلم وأخبر. قال الزجاج: الشاهد: هو الذي يعلم الشيء ويبيِّنه، فقد دلَّنا الله على وحدانيته بما خلق وبيَّن. {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: القسط: العدل يُجمع على أقساط، يقال: قسط قسطًا من باب: ضرب ونصر، وقسط الوالي وأقسط إذا عدل في حكمه. {الْحَكِيمُ} وعدل (¬2) عن صيغة الحاكم إلى الحكيم؛ لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز. ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عند الله هو الإِسلام؛ إذ حكم في كل شريعة بذلك. {الدِّينَ}: الجزاء، ويطلق على الملة وهو المراد هنا، وسُمّي الدِّين دِينًا؛ لأن الشخص يدان به. {الْإِسْلَامُ}: الاستسلام والانقياد التام، ويقال: أسلم زيد إذا تدين بدين الإِسلام، وأخلص عمله لله. فالإِسلام إخلاص العمل والعقيدة لله تعالى. {فَإِنْ حَاجُّوكَ}؛ أي: جادلوك ونازعوك، يقال: حاجَّه حجاجًا ومحاجَّةً إذا خاصمه .. فحَجَّه وغلبه، ويقال: تحاجَّا إذا تخاصما. ¬

_ (¬1) الكرخي. (¬2) النهر.

{غرهم} فتنهم، يقال: غر يغر غرورًا إذا خدع، فهو من المضاعف المعدَّى، والغِرُّ: الصغير، والغريرة: الصغيرة، سميا بذلك؛ لأنهما ينخدعان بالعجلة، والغرة منه يقال: أخذه على غرة؛ أي: تغفل وخداع. البلاغة {شَهِدَ اللَّهُ} قال الزمخشري (¬1): شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آيته الناطقة بالتوحيد، كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف على طريق الاستعارة التصريحية، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك، واحتجاجهم عليه. انتهى. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: كرر التهليل للتوكيد، أو لأن (¬2) الأول: قول الله، والثاني: حكاية قول الملائكة وأولي العلم، أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة، والثاني جرى مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الجملة معرفة الطرفين، فتفيد الحصر؛ أي: لا دين إلا الإسلام. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في التعبير (¬3) عن اليهود والنصارى بقوله: {أُوتُوا الْكِتَابَ} زيادة تقبيح لهم وتشنيع عليهم، فإن الاختلاف بعد إيتاء الكتاب أقبح، وقوله: {إلا من بعد} الخ زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد العلم أزيدُ في القباحة، وقوله: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} زيادة ثالثة؛ لأنه في حيز الحصر، فكأنه قال: وما اختلفوا إلا بغيًا؛ أي: لا لشبهة ولا لدليل، فيكون أزيد في القباحة {بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ} إظهار الاسم الجليل مع كون المقام للإضمار؛ لتربية المهابة، وإدخال الروعة في النفس. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الكرخي. (¬3) الجمل.

{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ}: فيه إطلاق الجزء وإرادة الكل، ففيه مجاز مرسل علاقته الكلية، وإنما خص الوجه؛ لشرفه ولاشتماله على معظم القوى والمشاعر، ولأنه معظم ما تقع به العبادة من السجود والقراءة، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء. {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: وضع (¬1) الموصول موضع الضمير؛ لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطفين؛ لأن الأميين يقابلون بالذين أوتو الكتاب. {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: الأصل في البشرة أن تكون في الخير، واستعمالها في الشر؛ للتهكم، ويسمَّى هذا: الأسلوب التهكمي؛ حيث نزل الإنذار منزلة البشارة السارة، كقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}، وهو أسلوب مشهور. قال أبو حيان (¬2): ومن ضروب البلاغة في هذه الآيات: منها: الاستفهام الذي يرد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ}. ومنها: الطباق المقدَّر في قوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} ووجهه أن الإِسلام: الانقياد إلى الإِسلام والإقبال عليه، والتولي ضد الإقبال، والتقدير: وإن تولوا .. فقد ضلوا، والضلالة ضد الهداية. ومنها: الحشو الحسن في قوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه لم يقتل قطٌّ نبي بحق، وإنما أتى بهذه الحشوة؛ ليتأكد قبح قتل الأنبياء ويعظم أمره في قلب العازم عليه. ومنها: التكرار في قوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ} تأكيدًا لقبح ذلك الفعل. ومنها: الزيادة في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} زاد الفاء إيذانًا بأن الموصول ضمن معنى الشرط. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: الاستفهام الذي أريد به التعجيب من حالهم والاستعظام لمقالتهم في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ}، وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أكثر استفهامات القرآن؛ لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}. المناسبة لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة دلائل التوحيد والنبوة، وصحة دين الإِسلام، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل .. أردف بذكر هذه الآيات الآتية تسليةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرًا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا توَلَّى هؤلاء الجاحدون عنك، ولم يقنعهم البرهان؛ فظل المشركون على جهلهم، وأهل الكتاب في غرورهم .. فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء. قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها .. ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة

[26]

الخلق، وكانت الآيات السابقة في الكفار، فنهوا عن موالاتهم، وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه؛ إذ هو تعالى مالك الملك. أسباب النزول 26 - قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ...} روى (¬1) الواحد عن ابن عباس وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -: أنه لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة .. وعد أمته مُلك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمدٍ ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: سأل ربه عز وجلّ أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلًا جاء بنقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الآية. وروي (¬2) أنه - صلى الله عليه وسلم -: لما خط الخندق في عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، وأخذوا يحفرون .. خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فذهب إليه، فجاء رسول الله، وأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها؛ أي: المدينة، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر وكبّر المسلمون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أضاء لي منها قصور الحيرة، كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا"، فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

تحفرون من الخوف، فنزلت هذه الآية. وروي أنها نزلت في شأن قريش لقولهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كسرى ينام على فرش الديباج، فإن كنت نبيًّا فأين ملكك؟ قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ...} سبب نزولها (¬1): ما روى ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفرٍ من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودة لكفار مكة. وقيل: نزلت في عبد الله بن أُبي وأصحابه، كانوا يتولون المشركين واليهود، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. وقيل: إن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله، إن معي خمس مئة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ...} قيل: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى؛ حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فنزلت هذه، فعرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فلم يقبلوها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قريش، وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف، وهم يسجدون ¬

_ (¬1) الخازن.

لها، فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، فقالت قريش: إنما نعبدها حبًّا لله؛ لتقربنا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية. وقيل: إنَّ نصارى نجران قالوا: إنما نقول هذا القول في عيسى حبًّا لله وتعظيمًا له، فأنزل: قل يا محمَّد إن كنتم تحبون الله. التفسير وأوجه القراءة {قُلْ} يا محمَّد معظمًا لربك وشاكرًا له ومفوضًا إليه ومتوكلًا عليه {اللَّهُمَّ}؛ أي: يا إلهي ويا معبودي ويا {مَالِكَ الْمُلْكِ} ويا صاحب السلطنة والغلبة العامة لجميع الكائنات، وقيل: يا مالك الخلق من العرش إلى الفرش، ومدبرهم ومصرفهم، وقيل: يا مالك الدنيا والآخرة أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى، والتصرف التام في تدبير الأمور، وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت {تُؤْتِي} وتعطي {الْمُلْكِ} الخاص والسلطنة والغلبة {مَنْ تَشَاءُ} وتريد إيتاءه وإعطاءه له من خلقك، فتملكه وتسلطه على من تشاء، أو تعطي النبوة من تشاء، كمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها أعظم مراتب الملك؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - له الأمر على الخلائق من جهة مالك الملوك، لا بالسياسة والأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ}؛ أي: تسلب الملك {مِمَّنْ تَشَاءُ} أن تسلبه منه؛ إما بالموت، أو إزالة العقل، أو إزالة القوى والحواس، أو بورود التلف على الأموال، أو بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك؛ من العدل، وحسن السياسة، وإعداد القوة بقدر المستطاع؛ كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم؛ بظلمهم وفسادهم، أو تنزع النبوة ممن تشاء، وتؤتيها من تشاء. ومعنى: نَزْعِها: نقلها من قومٍ إلى قومٍ؛ كما نقلها من بني إسرائيل إلى العرب، فأعطاها محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا نبي بعده، ولم يشركه في نبوته ورسالته أحد. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} إعزازه بإعطائه الملك والسلطنة، وتنصره على عدوه، أو بالإيمان والحق وبالأموال الكثيرة من الناطق والصامت، وبإلقاء الهيبة في قلوب الناس، أو بالنبوة والرسالة، كمحمد - صلى الله عليه وسلم - {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} إذلاله بسلب ملكه، وتسليط عدوه عليه، أو بالكفر والباطل، أو بنزع النبوة منهم وضرب الجزية عليهم؛ كاليهود، فأنت

المعطي (¬1) وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذه الأمة؛ لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن مَن كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء ولا رسولًا من الرسل، في العلم بالله، وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع. فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار. واعلم: أن للعزة آثارًا وللذل مثلها؛ فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكًا للقلوب بجاهه أو علمه، النافع للناس مع بسطة في الرزق، وإحسان إلى الخلق. والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من الاجتماع والاتفاق والتعاون على نشر دعوة الحق، ومقاومة الباطل، إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة، واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ولكن لم يغنِ ذلك عنهم شيئًا كما قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} الآية. والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الأرمية في شرق إفريقيا، على كثرة عدد كل شعب منها كيف استأمرها، وتحكم فيها ملوك الحبشة، على قلة عددهم. وما ذلك إلا لفشو الجهل، وتفرق الكلمة، والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، ¬

_ (¬1) ابن كثير.

[27]

والسعي في إزالة طغيانه وتحكمه في الرقاب والبلاد، هذه مصيبة ما أعظمها. فإنا لله وإنا إليه راجعون، فنسأل الله أن ينصر المسلمين على أعدائهم، ويردَّ إليهم أراضيهم بتوفيقهم كلمة الحق. آمين. {بِيَدِكَ} يا إلهي لا بيد غيرك {الْخَيْرُ} كله من الإعزاز والنصرة والغنيمة، وكذا بيدك الشر من الإذلال والخذلان والهزيمة، فهو من باب الاكتفاء. إلا أنه خص الخير بالذكر؛ لأنه المنتفع به والمرغوب فيه، ولأنه المناسب للمقام، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي، وضعف أتباعه، وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز والنصر، وأن يذكره بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يعطي نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطنة ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم، كما قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}. واليد صفة ثابتة له تعالى نؤمن بها ولا نكيفها ولا نمثلها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} كما هو المذهب الأعلم الأسلم الذي عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم {إِنَّكَ} يا إلهي {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} تريده من إيتاء الملك لمن تشاء ونزعه منه، وإعزاز من تشاء وإذلال من تشاء {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر عليه ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك. 27 - {تُولِجُ اللَّيْلَ}؛ أي: إنك يا إلهي بقدرتك تدخل بعض ساعات الليل {فِي النَّهَارِ} فيكون النهار أطول بقدر ما نقص من الليل حتى يكون النهار خمسة عشر ساعة، وذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات، وذلك غاية قصر الليل؛ كما يكون في زمن الصيف {وَتُولِجُ النَّهَارَ}؛ أي: وتدخل بعض ساعات النهار {فِي اللَّيْلِ} فيكون الليل أطول بقدر ما نقص من النهار حتى يكون الليل خمسة عشر ساعة، وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات، وذلك غاية قصره؛ كما يكون في زمن الشتاء.

وقيل (¬1): المراد أنه تعالى يأتي بسواد الليل عقيب ضوء النهار، ويأتي بضوء النهار بعد ظلمة الليل. والقول الأول أصح وأقرب إلى معنى الآية؛ لأنه إذا نقص الليل كان ذلك القدر زيادة في النهار، وبالعكس وهو معنى: الولوج. والخلاصة: أنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الملوين الليل والنهار ما يكون سببًا في نقص الآخر، فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتي النبوة والملك من تشاء؛ كمحمد وأمته من العرب، وتنزعهما ممن تشاء؛ كبني إسرائيل، فما مثل تصرفك في شؤون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار. {و} إنك يا إلهي {تخرج الحي} حياة معنوية {مِنَ الْمَيِّتِ} موتًا معنويًّا؛ كالعالم من الجاهل، والمؤمن من الكافر؛ كعكرمة من أبي جهل؛ لأن المؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد، أو حياة وموتًا حسيين؛ كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة. {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ} موتًا معنويًّا أو حسيًّا {مِنَ الْحَيِّ} حياة معنوية أو حسية؛ كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن؛ ككنعان من سيدنا نوح عليه السلام، وكالنطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، وكذلك سائر الحيوان. {و} إنك يا إلهي {ترزق} وتعطي {مَنْ تَشَاءُ} وتريد رزقه رزقًا كثيرًا {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومقدار لا يعرف الخلق عدده، ومقداره لكثرته وإن كان معلومًا عنده تعالى يعني من غير تضييق ولا تقتير، بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه. والخلاصة: أن من قدر على تلك الأفعال العجيبة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب .. فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم، ويذلهم، ويؤتيه العرب، ويعزهم فإن الأمر كله بيده، وفي بعض الكتب السالفة: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني .. جعلتهم ¬

_ (¬1) الخازن.

[28]

عليهم رحمة، وإنْ العباد عصوني .. جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشغلوا بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قوله عليه السلام: "كما تكونوا يولى، عليكم" وقيل معنى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ أي: يرزقه بلا تكلف ولا تعب ولا ضيق؛ أي: ومن غير توقف على عمل منا، وإلا فلو توقف رزقه على عمل منا .. لما أعطانا شيئًا أبدًا، فسبحان الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. وقال أبو العباس المقري (¬1): ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى: التعب، كما في هذه الآية، وبمعنى: العدد، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وبمعنى: المطالبة؛ كما في قوله تعالى: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وشدد حفص ونافع وحمزة والكسائي (¬2): {الْمَيِّتِ} في هذه الآية. وفي الأنعام والأعراف ويونس والروم وفاطر زاد نافع تشديد الياء في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} في الأنعام، {والأرض الميتة} في يونس، و {لحم أخيه ميتًا} في الحجرات، وقرأ الباقون بتخفيف ذلك، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال؛ كما نقول: لَيْن ولَيِّن وهيْن وهيّن، ومن زعم أن المخفف لما قد مات، والمشدد لما لم يمت .. فيحتاج إلى دليل. 28 - {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يجعل المؤمنون {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}؛ أي: أصدقاءً وأنصارًا وأعوانًا {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من غير المؤمنين وسواهم؛ أي (¬3): لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالًا ولا اشتراكًا مع المؤمنين، وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضًا فقط، فقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حال من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين بموالاتهم المؤمنين؛ أي: تاركين قصر الولاية عليهم، وذلك الترك يصدق ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

بصورتين كونها مشتركة بين الكفار والمؤمنين، وكونها مخصصة بالكفار؛ أي: لا يصطف (¬1) المؤمنون الكافرين، فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشؤون الدينية، ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين؛ إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان. وخلاصة هذا: نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار، أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإِسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب. ومن ثَمَّ تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المؤمنين .. فلا مانع منها، فقد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا. واعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع؛ لأن الرضا بالكفر كفر. وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع. وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة لهم والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهيٌّ عنه؛ لأن المُوالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان دينه والرضا بطريقته، وذلك يخرجه عن الإِسلام، فهذا هو الذي هَدَّد الله فيه بقوله الآتي: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}، وقرأ الضبي شذوذًا: لا يتخذُ برفع الذال على النفي، والمراد به: النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي وذلك شذوذًا كما سبق بيانه، قال أبو حيان (¬2): وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فسح ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

لنا فيه من اتخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم، فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه. انتهى. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}؛ أي: اتخاذ الكافرين أولياء بالاستقلال، أو بالاشتراك مع المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين؛ بنقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين لهم، أو يودهم ويحبهم {فَلَيْسَ} ذلك الموالي {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من ولاية الله ودينه {فِي شَيْءٍ} قليل ولا كثير؛ أي: فليس بمطيع لله ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في آية أخرى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه، وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}؛ أي: إلا أن تخافوا أيها المؤمنون من الكفار مخافة وضررًا؛ أي: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه والاحتراز منه؛ بأن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك، أو مالك، فحينئذٍ يجوز إظهار الموالاة وإبطان المعاداة؛ أي: لا تتخذوا الكفار أولياء ظاهرًا أو باطنًا في حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم وخوفكم من جهتهم اتقاءً ومخافةً. والمعنى: نهى (¬1) الله سبحانه وتعالى المؤمنين من موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا ومالًا حرامًا، أو غير ذلك من المحرمات، ومن غير أن يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع صحة النية. وخلاصة الكلام (¬2): أن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شي تتقونه منهم، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يُتقى ذلك الشيء؛ إذ القاعدة الشرعية أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر، فأولى أن تجوز لمصلحة المؤمنين، وإذًا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع خطر، أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تخص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت. وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية؛ بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق؛ لأجل توقي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال. فمن نطق بكلمة الكفر مكرهًا وقايةً لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان .. لا يكون كافرًا، بل يُعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر .. فوافقها مكرهًا وقلبه مليء بالإيمان، وفيه نزلت الآية: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}. وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، حين أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه، ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصمُّ ثلاثًا، فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئًا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تَبِعة عليه". وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائمًا، ومن ثمَّ وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان أن لا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين، ويصبرون عليه.

[29]

ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، وبذل المال لهم؛ لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما وقى به المؤمن عرضه، فهو صدقة". وعن عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة، ثم أذن له، فألان له القول"، فلما خرج .. قلت: يا رسول الله قلت ما قلت، ثم ألنتَ له القول، فقال: "يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه" رواه البخاري وروى قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنا لنبَشُّ - نبتسم - في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتقليهم - تبغضهم" - وقرأ الجمهور: {تُقَاةً}، وأمال الكسائي: {تُقَاةً} و {حق تقاته}، ووافقه حمزة هنا. وقرأ ورش بين اللفظين، وفتح الباقون وقرىء: {تقية}. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ}؛ أي: يخوفكم الله {نَفْسَهُ}؛ أي: غضبه وسخطه عليكم؛ بأن ترتكبوا المنهي، أو تخالفوا المأمور، أو توالوا الكفار، فتستحقوا غضبه وعقابه على ذلك كله، فالكلام على حذف مضاف، وفائدة ذكر: {نَفْسَهُ} الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى، وهو القادر على إنفاذه، ولا يعجزه شيء عنه. وفي ذلك وعيد شديد، وتهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه؛ لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقِب وقدرته. {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى غيره {الْمَصِيرُ} والمرجع؛ أي: رجوع جميع الخلائق بالبعث من القبور إلى الله، فيجازي كلًّا على عمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والمعنى: فاحذروه، ولا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه، وموالاة أعدائه، وهو وعيد آخر أيضًا. 29 - {قُلْ} لهم يا محمَّد {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ}؛ أي: تسروا وتستروا ما في قلوبكم من موالاة الكفار ومودتهم، أو من البغض والعداوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إن قلنا: إن الآية نزلت في حق المنافقين واليهود، وإنما ذكر الصدر؛ لأنه وعاء القلب. {أَوْ تُبْدُوهُ}؛ أي: أو تظهروا ما في قلوبكم من مودة الكفار قولًا وفعلًا، أو تظهروا ما في قلوبكم من بغض محمَّد وعداوته بالشتم له والطعن والمحاربة له

[30]

{يَعْلَمْهُ اللَّهُ}؛ أي: يحفظه الله عليكم، فيجازيكم به {و} هو سبحانه وتعالى {يعلم} جميع {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الخير والشر والسر والعلانية، وهذه الجملة مستأنفة وليست بمعطوفة على جواب الشرط، وهي من إتمام التحذير، يعني: أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض .. فكيف يخفى عليه حالكم، وموالاتُكم الكفار، وميلكم إليهم بقلوبكم؟. والمعنى: أنه تعالى يعلم ما تنطوي عليه قلوبكم إذ توالون الكفار، أو توادونهم، أو تتقون منهم ما تتقون. فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر .. جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان .. غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين، ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض؛ لأنه الخالق لها، كما قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، فهو يقدر على عقوبتهم، فلا تجترئوا على عصيانه وموالاة أعدائه؛ إذ ما من معصية خفيةً كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها، قادر على عقاب فاعلها، وقدرته نافذة في جميع ذلك، وهذا (¬1) تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته؛ لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر مَن أنظر منهم، فإنه يمهل، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا: 30 - {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}؛ أي: اذكروا واحذروا عقوبته {يَوْمَ تَجِدُ}، وتصيب كل نفس فيه جزاء ما عملته وكسبته من خير؛ وهو يوم القيامة حال كونه محضرًا؛ أي: مكتوبًا في ديوانها لم ينقص منه شيء، وتسر به. وقرأ الجمهور: {مُحْضَرًا} - بفتح الضاد - اسم مفعول، وقرأ عبيد بن عمير شذوذًا: (محضِرًا) - بكسر الضاد - اسم فاعل؛ أي: محضرًا للجنة، أو محضرًا مسرعًا به إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس إذا جرى وأسرع. {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} مبتدأ، خبره جملة قوله: ¬

_ (¬1) ابن كثير.

{تَوَدُّ}؛ أي: والذي عملته وكسبته نفس من سوء وعصيان حالة كونه محضرًا ومكتوبًا في ديوانها تود وتتمنى وتحب {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}؛ أي: تتمنى كون مسافة بعيدة طويلة بينها وبين ذلك السوء خوفًا من جزائه وعقوبته، قيل: كما بين المشرق والمغرب. فما رأى (¬1) من عمله حسنًا .. سرَّه ذلك، وأفرحه، وما رأى من قبيحٍ .. ساءَه وغصه وود لو أنه تبرأ منه، وكان بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان قرينًا به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}، ثم قال تعالى مؤكدًا ومهددًا ومتوعدًا: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}؛ أي: يخوفكم عقابه، والعني: احذروا من سخط الله؛ بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وكرر هذه الجملة؛ إما للتأكيد، والأحسن ما قاله سعد الدين التفتازاني: إن ذكره أولًا للمنع من موالاة الكافرين، وثانيًا للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر، ثم قال جل جلاله مرجيًا لعباده؛ لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}؛ أي: شديد الرحمة بهم؛ حيث قطع عذرهم ببيان ذلك في زمن يسع التوبة والرجوع إليه فيه، ومن جملة رأفته بهم: كثرة التكرار والتأكيد في الكلام؛ لعله يصل إلى قلوب السامعين، فيعملوا بمقتضاه. قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة .. دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. انتهى. ومن رأفته أيضًا أن جعل الفطرة الإنسانية ميَّالةً بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشرِّ في النفس قابلًا للمحو بالتوبة والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) ابن كثير.

[31]

31 - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: مناسبة الآية لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى جلال سلطانه، وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه، وأكد ذلك بالوعيد الشديد .. ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله، وامتثال أوامره التي جاء بها، واجتناب ما نهى عنه، وبذلك يكون المرء أهلًا لمحبته، مستحقًا لغفران ذنوبه. {قُلْ} لهم يا محمَّد {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ}؛ أي: تريدون محبة الله وطاعته، وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبًا للثواب فيما عنده {فَاتَّبِعُونِي}؛ أي: فاقتدوا بي بامتثال ما نزل به الوحي منه إليَّ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}؛ أي: يرضى الله عنكم أعمالكم ويثبكم عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي؛ ويتجاوز لكم عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة، فيقربكم من جنات عزِّه، ويبوئكم في جوار قدسه؛ إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك: المغفرة ورضوان الله. وهذا حجة على من يدعي محبة الله في كل زمان، وأعماله تكذب ما يقول؛ إذ كيف يجتمع الحب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه؟ فهو كما قال الورَّاق: تَعْصِي الإِلهَ وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي في الْقِيَاسِ بَدِيعٌ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحبُّ مَطِيعُ {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تحبب إليه بطاعته {رَحِيمٌ} بمن تقرب إليه باتباع نبيه في الدنيا والآخرة؛ إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها. فائدة: والمحبة (¬1) ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقربها - أي: النفس - إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا ¬

_ (¬1) الكرخي.

[32]

لله عَزَّ وَجلَّ، وأن كل ما يراه كمالًا من نفسه، أو من غيره، فهو من الله وبالله وإلى الله .. لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عبادته والحرص على مطاوعته، قاله القاضي. وقال بعضهم: إن محبة العبد لله عبارة عن: إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد عبارة عن: ثنائه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه، فذلك قوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقيل (¬1): محبة الله: معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به بذكره ودوام الأنس به. وقيل: علامة المحبة أن يكون دائم التفكر، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أُصيب، ولا يصرخ إذا أصاب، ولا يخشى أحدًا، ولا يرجوه. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية قال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين لأصحابه: إن محمدًا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه؛ كما أحبت النصارى عيسى بن مريم. فأنزل الله عزّ 32 - وجلّ أمرًا لكل أحد من خاص وعام {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}؛ أي: قل لهم يا محمَّد: أطيعوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنّته، والاهتداء بهديه. وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته؛ لأنه رسوله، لا كما تقول النصارى في عيسى. {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورًا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم على ملة إبراهيم {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله، فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به، المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ ¬

_ (¬1) النسفي.

الْكَافِرِينَ} فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني .. دخل الجنة، ومن عصاني .. فقد أبى" أخرجه البخاري في "صحيحه". وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني .. فقد أطاع الله، ومن عصاني .. فقد عصى الله، ومن يطع الأمير .. فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير .. فقد عصاني" متفق عليه. وروى مسلم في "صحيحه" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله إذا أحبَّ عبدًا .. دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا، فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا، فأحبُّوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا .. دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانًا، فأبغضْه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء؛ إن الله يبغض فلانًا، فأبغِضُوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض. وقرأ الجمهور (¬1): {تُحبون} و {يحببكم} - بضم التاء والياء - من: أحبَّ الرباعي، وقرأ أبو رجاء العطاردي شذوذًا: {تَحبون ويَحببكم} - بفتح التاء والياء - من: حبَّ الثلاثي، وهما لغتان، وذكر الزمخشري: أنه قرئ: {يحبكم} - بفتح الياء، والإدغام - وهو شاذ أيضًا وقرأ الزهري شذوذًا: {فاتبعوني} - بتشديد النون - أَلحق بفعل الأمر نون التوكيد، وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو؛ شبهًا بـ {تحاجوني}، وهذا توجيه شذوذ، وروي عن أبي عمرو إدغام راء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} في لام {لَكُمْ}. وذكر ابن عطية عن الزجاج: أن ذلك خطأ وغلط، ولكن رؤساء الكوفة كأبي جعفر الرؤاسي والكسائي والفراء رووا ذلك عن العرب، ورأسان من أهل البصرة - وهما أبو ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عمرو ويعقوب - قرآ بذلك وروياه، فلا التفات لمن خالف في ذلك. الإعراب {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} مقول محكي لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {اللَّهُمَّ}: منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والميم المشددة عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان، وهذا التعويض خاص بالاسم الجليل؛ كما اختص بجواز الجمع فيه بين (يا) و (أل) وبقطع همزته ودخول تاء القسم عليه. {مَالِكَ الْمُلْكِ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء تقديره: يا مالك الملك، وجملة النداء في النصب جزء المقول، وفي "الفتوحات": قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فيه (¬1) أربعة أوجه: أحدهما: أنه بدل من {اللَّهُمَّ}. الثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ حذف منه حرف النداء، أي؛ يا مالك الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابع. الرابع: أنه نعت لقوله: {اللَّهُمَّ} على الموضع؛ فلذلك نُصب. انتهى باختصار. {تُؤْتِي الْمُلْكَ}: فعل ومفعول ثانٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ولكنها الآن في محل النصب جزء المقول. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول، {تَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تشاؤه. {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ}: الواو عاطفة (تنزع الملك): فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}. {مِمَّنْ} جار ومجرور متعلق بـ {تنزع}، وجملة {تَشَاءُ} صلة {مَن} الموصولة. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَتُعِزُّ} الواو عاطفة. {تعز} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي الْمُلْكَ}. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلة لها، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إعزازه. {وَتُذِلُّ}: الواو عاطفة. (تذل): فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي}، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلته. {بِيَدِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم. {الْخَيْرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {تُؤْتِي}، {إِنَّكَ}: إنَّ حرف نصب، الكاف اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بقوله: {قَدِيرٌ}، وهو خبر {إن}، والجملة مستأنفة. {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}. {تُولِجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {اللَّيْلَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي} {فِي النَّهَارِ}: متعلق بـ {تُولِجُ}. {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: إعرابها مثل ما قبلها. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}: الواو عاطفة. {تخرج} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}. {الْحَيَّ}: مفعول به. {مِنَ الْمَيِّتِ}: متعلق بـ {تخرج}. {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هذه الجملة مثل ما قبلها إعرابًا. {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ}: الواو عاطفة. {ترزق}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلته. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، يجوز (¬1) أن يكون حالًا من المفعول المحذوف تقديره: ترزق من تشاؤه غير محاسب، وأن يكون حالًا من ضمير الفاعل تقديره: غير محاسب له، أو غير مُضيِّق له، ويجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف تقديره: رزقًا غير قليل. ¬

_ (¬1) العكبري.

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. {لَا}: ناهية جازمة، أو نافية، {يَتَّخِذِ}: مرفوع والمعنى: لا ينبغي أن يتخذوهم أولياء {الْمُؤْمِنُونَ}: فاعل {الْكَافِرِينَ}: مفعول أول، والجملة مستأنفة، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثانٍ. {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال (¬1) من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين للمؤمنين؛ أي: متجاوزين الاستقلال بموالاة المؤمنين؛ أي؛ تاركين قصر الموالاة على المؤمنين، وقال (¬2) أبو البقاء: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في موضع نصب صفة لأولياء. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}. {وَمَنْ يَفْعَلْ} الواو استئنافية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر؛ إما جملة الشرط، وهو الراجح، أو جملة الجواب، أو هما كما مرَّ مِرارًا. {يَفْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ (من)، وفاعله ضمير يعود على {من} {ذَلِكَ}: مفعول به. {فَلَيْسَ}: الفاء رابطة لجواب {مِنَ} الشرطية وجوبًا. {ليس}؛ فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على {مِنَ} {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {شَيْءٍ} الآن؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا. {في شَيءٍ}: جار ومجرور خبر {ليس}، وجملة {ليس} في محل الجزم بـ {مِنَ} على كونها جوابًا لها، وجملة {مِنَ} الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}. {إلّا}: أداة استثناء مفرغ من المفعول لأجله، والعامل فيه {لَا يَتَّخِذِ}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تَتَّقُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} المصدرية {مِنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَتَّقُوا} {تُقَاةً}: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بقوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ}، والتقدير: لا ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) العكبري.

يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لشيء من الأشياء، ولا لغرض من الأغراض إلا لأجل اتقائكم منهم تقاة. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ}: الواو استئنافية. {يحذركم الله}: فعل ومفعول أول وفاعل، {نَفْسَهُ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. وفي "السمين": قوله: {نَفْسَهُ} مفعول ثانٍ لـ {يحذر}؛ لأنه في الأصل متعدٍ بنفسه إلى مفعول واحد، فازداد بالتضعيف آخر. انتهى، والجملة الفعلية مستأنفة {وَإِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية، أو مستأنفة. {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إن}: حرف شرط {تُخْفُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِن} الشرطية. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به {فِي صُدُورِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل {تُبْدُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تُخْفُوا} مجزوم على كونه فعل الشرط. {يَعْلَمْهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول به وفاعل، مجزوم بـ {إِن} على كونه جواب الشرط لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {وَيَعْلَمُ} الواو استئنافية، {يعلم}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}: أو صفة لها. {وَمَا}: الواو عاطفة {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوفة على {مَا} الأولى. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية أو عاطفة. {الله}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}، وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة أو معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها.

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}. {يَوْمَ}: منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: اذكروا يوم، والجملة المحذوفة مستأنفة {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {تَجِدُ}؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب فيتعدَّى إلى مفعول واحد. {عَمِلَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عملته. {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَمِلَتْ}، أو حال من ضمير المفعول المحذوف. {مُحْضَرًا} حال من {مَا} الموصولة. {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. {وَمَا عَمِلَتْ} الواو استئنافية {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. {عَمِلَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {مِنْ سُوءٍ}: جار ومجرور حال من ضمير المفعول المحذوف {تَوَدُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَوْ}: زائدة. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر {بَيْنَهَا}: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {أَنَّ} مقدَّم على اسمها. {وَبَيْنَهُ}: معطوف عليه {أَمَدًا} اسم {أَنَّ} مؤخر {بَعِيدًا} صفة لـ {أمدًا}، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لـ {تَوَدُّ} تقديره: وما عملته من سوء تود كون أمد بعيد بينها وبينه. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تقدم إعرابها قريبًا، فلا عود ولا إعادة فراجعه. {وَاللَّهُ رَءُوفٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {بِالْعِبَادِ} جار ومجرور متعلق بـ {رَءُوفٌ}. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنْ كُنْتُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {إِن}: حرف شرط {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {تُحِبُّونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان} تقديره: محبين الله {فَاتَّبِعُونِي}: الفاء رابطة لجواب {إِن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. {اتبعوني}: فعل أمر وفاعل ومفعول به ونون وقاية، مبني على حذف النون، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل، مجزوم بالطلب السابق، والجملة في محل النصب مقول القول لـ {قُل}. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: الواو عاطفة {يغفر}: معطوف على {يُحْبِبْكُمُ} مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يغفر} {ذُنُوبَكُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، لكنها في محل النصب مقول القول. {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ. {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَطِيعُوا اللَّهَ} إلى آخر الآية أو إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} مقول محكي، وإن شئت قلتَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول. {وَالرَّسُولَ}: معطوف على لفظ الجلالة. {فَإِنْ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا أمرتهم بطاعة الله والرسول، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن طاعة الله .. فأقول لك، {إن تولوا}: (إن): حرف شرط جازم. (تولوا): يحتمل أن يكون من تمام مقول القول، فيكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين؛ أي: تتولوا، فيكون مجزومًا بحذف النون، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، فيكون ماضيًا في محل الجزم على كونه فعل الشرط لـ (إنْ)، والواو فاعل، {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة

لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إنَّ): حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. {لَا}: نافية. {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة: {إن}) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب جزء المقول، أو مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {تنزع}: يقال: نزع الله عنه الشر، أو الملك ينزع - من باب ضرب - إذا أزاله عنه، وسلبه منه. ونزع الشيء من مكانه: إذا قلعه منه. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ}: من مزيد عَزَّ يعز عزًّا بكسر العين فيهما إذا قوي بعد ذله أو غلب، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. {وَتُذِلُّ}: من مزيد ذلَّ يذل - بالكسر - ذلًّا وذلةً إذا غلب وقهر. {تُولِجُ}: يقال: ولج يلج - من باب: وعد - ولوجًا ولِجَة كعِدَة، والولوج: الدخول، والإيلاج الإدخال. {تُقَاةً}: مصدر على وزن فعلة؛ لأنه مصدر تقَيته - بفتح القاف - كرميته رمية، وأصله: وقية؛ لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو تاء، والياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفي "المختار": تقى يتقي كقضى يقضي، والتقوى والتقى واحد، والتقاة: التقية يقال: اتقى تقية وتقاة، وفي "القاموس": وتقيت الشيء أتقيه من باب ضرب اهـ. {مَا فِي صُدُورِكُمْ} جمع: صَدْر، كفَلْس وفُلُوس، والصَّدْر معروف. {أَمَدًا}: الأمد: غاية الشيء ومنتهاه، يجمع على آماد، والفرق بين الأمد والأبد: أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان: أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة، وضروبًا من البلاغة (¬1): منها: التكرار للتفخيم والتعظيم في قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ} وتكرار: {مَنْ تَشَاءُ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ}. ومنها: الطباق في قوله: {تُؤْتِي}، {وَتَنْزِعُ}، {وَتُعِزُّ} {وَتُذِلُّ}، وفي قوله: {اللَّيْلَ} و {النَّهَارِ}، وفي قوله: {الْحَيَّ} و {الْمَيِّتِ}، وفي قوله: {تُبْدُوهُ} و {تُخْفُوا}، وفي: {خَيْرٍ} و {سُوءٍ} و {مُحْضَرًا} و {بَعِيدًا}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {تُحِبُّونَ} و {يُحْبِبْكُمُ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله {تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وفي قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، و {غَفُورٌ}. ومنها: التعبير بالمحل عن الشيء في قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ} عبر بها عن القلوب قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} الآية. ومنها: الإشارة في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الآية، أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله. ومنها: الاختصاص في قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ}، وفي قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. ومنها: التأنيس بعد الإيحاش في قوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. ومنها: الحذف في عدة مواضع قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}؛ أي: من تشاء إيتاءَه، ومثله و {تنزع}. و {تعز} و {تذل}. ومنها: الخطاب العام الذي سببه خاص في قوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الْكَافِرِينَ}. ومنها: التكرار في قوله: {الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وفي قوله: {مِنَ اللَّهِ} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ}، وفي قوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ} وفي قوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {وَاللَّهُ عَلَى}، وفي قوله: {مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ}، وفي قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ}، وفي قوله: {تُحِبُّونَ اللَّهَ} و {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} و {وَاللَّهُ غَفُورٌ} وفي قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ}، {فَإِنَّ اللَّهَ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، وهو عبارة عن إدخال هذا على هذا، وهذا على هذا، فما ينقصه من الليل .. يزيده في النهار، والعكس، ولفظ الإيلاج أبلغ؛ لأنه يفيد إدخال كل منهما في الآخر بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة. ومنها: ذكر العام بعد الخاص تأكيدًا له وتقريرًا في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بعد قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، ولو جرى على سنن الكلام الأول .. لجاء بالكلام غيبة. فائدة: وروي في الحديث (¬1): "أن من أراد قضاء دينه، قرأ كل يوم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، ويقول: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت تعطي منهما من تشاء، فاقضِ عني دَيْني، فلو كان ملء الأرض ذهبًا .. لأدَّاه الله عنه". والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}. المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى أن الدين الحق هو دين الإِسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته .. ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم، ورفع درجاتهم، وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي: الإيمان به مع طاعته، والعمل بما يرضيه، فبدأ بآدم أولهم، وهو أبو البشر، اصطفاه واجتباه؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}، وثنَّى بنوحٍ وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم، فانقرض من السلاسل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته، وانتشرت في البلاد، وفشت فيهم الوثنية، ثم ثلَّث بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من ولد إسماعيل، ثم ربَّع بآل عمران، فاندرج فيهم عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك

بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى. وكلها خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما قدم قبل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وأردفه بقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، وختمها بأنه لا يحب الكافرين .. ذكر المصطفين الذين يجب اتباعهم، فبدأ أولًا بأولهم وجودًا وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام؛ إذ هو آدم الأصغر، ليس أحد على وجه الأرض إلا من نسله، ثم أتى ثالثًا بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعًا بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعل هؤلاء صفوة؛ أي: مختارين نَقاوة (¬2)، والمعنى: أنه نَقَّاهم من الكَدَر، وهذا من تمثيل المعقول بالمحسوس. أسباب النزول قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬3): قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم إسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: إن الله اصطفى هؤلاء بالإِسلام، وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإِسلام. وقيل (¬4): نزلت في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه ابن الله تعالى واتخذوه إلهًا .. نزلت ردًّا عليهم وإعلامًا أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) نقاوة الشيء - بضم النون -: خياره ومختاره. (¬3) الخازن. (¬4) البحر المحيط.

[33]

التفسير وأوجه القراءة 33 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {اصْطَفَى} واختار {آدَمَ} أبا البشر عليه السلام بالإِسلام والنبوة، وعاش آدم في الأرض تسع مئة وستين سنة، وأما مدة إقامته في الجنة، فلا تحسب {و} اختار {نوحًا} الأصل الثاني للبشر، بالتوحيد والنبوة والرسالة، وجعله من أولي العزم، ولقب بنوح؛ لكثرة نوحه بالدعوة إلى الله تعالى. قيل: اسمه عبد الغفار، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، وعُمِّر ألف سنة إلا خمسين عامًا. وقيل: اصطفاء آدم عليه السلام بوجوه منها: خلقه أول هذا الجنس الشريف، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، وإسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرفه الله به. واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء منها: أنه أول رسول بُعث إلى أهل الأرض بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر المحارم، وأنه أبو الناس بعد آدم، إلى غير ذلك. واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام: بأن جعل فيهم النبوة والكتاب. {و} اصطفى {آل إبراهيم}؛ أي: عشيرته وأقاربه، والمراد بهم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والأنبياء من أولادهم، ومن جملتهم خاتم المرسلين سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: المراد بـ {آل إبراهيم}: نفسه، فلفظ (آل) مُقحم؛ يعني: اختاره بالنبوة والرسالة والخلة، وعُمِّر إبراهيم مئة وسبعين سنة. {و} اصطفى {آل عمران}؛ أي: أهله، قيل: المراد بعمران هذا: هو عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم البتول أمِّ عيسى عليه السلام، والمراد بآله: عيسى، وأمه مريم، وقيل: عمران بن يصهر أبو موسى وهارون، والمراد بآله: موسى وهارون، ولكن الأرجح القولُ الأول بقرينة السياق، وبين العمرانين ألف وثمان مئة سنة، وقرأ عبد الله شذوذًا: {وآل محمَّد}. {عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ أي: على عالمي زمانهم. قال القرطبي: وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن الأنبياء والرسل جميعًا من نسلهم، والمعنى: اختارهم واصطفاهم

[34]

على العالمين؛ بما خصهم من النبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقوَ عليه غيرهم. 34 - {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}؛ أي: اصطفى الآلين حالة كونهم ذرية بعضها، متناسلون من بعض في النسب، وقيل: بعضها من بعض من التناصر والتعاضد، وقيل: متجانسين في الدين والتقى والصلاح، فكما أن الأصول أنبياء ورسل، وكذلك الذريةَ بل في بعضها ما يفوق الأصول جميعًا كمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} لأقوال العباد {عَلِيمٌ} بنياتهم وضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولًا وفعلًا، وقيل: معناه: والله سميع لمقالة اليهود: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء الله وأحباؤه، وعلى دينه، ولمقالة النصارى: المسيح ابن الله، عليم بعقوبتهم. 35 - واذكر لهم يا محمَّد قصة {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} حنة بنت فاقوذ، أم مريم حين شاخت، وكانت يومًا في ظل شجرة، فرأت طائرًا يطعم فرخًا له ويسقيه، فعطفت، واشتاقت للولد من أجل رؤية ذلك الطائر، فدعت ربها أن يرزقها ولدًا، ونذرت أن تهبه لبيت المقدس يخدمه، وكان ما من رجل من أشراف بيت المقدس إلا وله ولد منذور لخدمته، فاستجاب الله دعاءَها، فحملت بمريم، فلما أحسَّت بالحمل .. جددت النذر ثانيًا، فقالت: يا {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}؛ أي: أوجبت على نفسي أن أجعل ما في بطني من الحمل محررًا لك، عتيقًا من أمر الدنيا لطاعتك، ومخلصًا لعبادتك وخادمًا لمن يدرس الكتاب ويعلم في بيت المقدس {فَتَقَبَّلْ مِنِّي}؛ أي: خذ منى ما نذرته لك على وجه الرضا {إِنَّكَ} يا إلهي {أَنْتَ السَّمِيعُ} لتضرعي ودعائي وندائي {الْعَلِيمُ} بما في ضميري وقلبي ونيتي، وكان على أولادهم فرضًا أن يطيعوهم في نذرهم، فتصدقت بولدها على بيت المقدس، فلامها زوجها على ذلك؛ حيث أطلقت في نذرها، ولم تقيد بالذكر، فبقيت في حيرة وكرب إلى أن وضعت ومات زوجها 36 - {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}؛ أي: ولدت المنذورة التي في بطنها {قَالَتْ} على وجه التحسر والاعتذار {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا}؛ أي: ولدت المنذورة التي في بطني حالة كونها {أُنْثَى} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قالت هذا؛ لأنه لم يكن يُقبل في النذر إلا الذكور، قال

الله تعالى تعظيمًا لولدها وتجهيلًا لها بقدر ذلك الولد: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} بقدر {بِمَا وَضَعَتْ}؛ أي عالم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسنُ وأفضل من الذكر، وهي غافلة عن ذلك، فلذلك تحسرت، وكانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهن، وهذا المعنى على قراءة من قرأ بسكون التاء، وهي قراءة الجمهور، فيكون من كلام الله تعالى على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه والتجليل لها؛ حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويخصها بما لم يخص به أحدًا. وقرأ أبو بكر شعبة وابن عامر ويعقوب: {وضعتُ} - بضم التاء - فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلًا بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع والتنزيه له من أن يخفى عليه شيء، فإنها خافت من قولها: إني وضعتها أنثى أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في رواية شاذة: {بما وضعتِ} بكسر التاء على أنه خطاب من الله تعالى لها؛ أي: إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول من العجائب والآيات. {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}؛ أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإنَّ غاية ما أرادتْ من كونه ذكرًا أن يكون نذرًا خادمًا للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، وهذه الجملة معترضة بين المعطوف الذي هو قوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} مبيِّنة لما في الجملة الأولى - أعني قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} - من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت: كان الذكر مطلوبي لخدمة البيت، وهذه الأنثى هي موهبة لله تعالى، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها كما مر آنفًا، واللام في الذكر والأنثى للعهد. هذا على قراءة الجمهور وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر

وابن عامر فيكون قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} من جملة كلامها، ومن تمام تحسرها وتحزنها؛ أي: ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادمًا صالحًا للنذر، كالأنثى التي لا تصلح للنذر، والمراد منه: تفضيل الذكر على الأنثى؛ لأن الذكر يصلح لخدمة الكنيسة، ولا تصلح الأنثى لذلك؛ لضعفها وما يعرض لها من الحيض والنفاس؛ ولأنها عورة ولا يجوز لها الحضور مع الرجال، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} معطوف على قوله: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} ومقصودها من هذا: الإخبار بالتسمية للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون فعلها مطابقًا لمعنى اسمها، فإن معنى مريم: خادم الرب بلغتهم، فهي وإن كانت غير صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات، وكأنها أرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا؛ لأن المعنى: وإني سميت هذه البنت المولودة لي عابدة الرب. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} أي: وإني يا إلهي أجيرها وأحفظها وأولادها بحفظك وعصمتك {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}؛ أي: من ضرر إبليس اللعين المطرود عن رحمتك، ووسوسته، وهذه الجملة معطوفة على جملة قوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا}. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مولود يولد من بني آدم إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من نخسه إياه، إلا مريم وابنها"، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إنْ شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. وروى البخاري عنه رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب ليطعن، فطعن في الحجاب". والمراد: أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم

[37]

وابنها، فإن الله سبحانه وتعالى عصمها ببركة هذه الاستعاذة. وفي المقام إشكال قوي لم أرَ من نبَّه عليه من المفسرين، وحاصله: أن قوله: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} معطوف على ما قبه، الواقع حيزًا لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الاستعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها، فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية: أن إعاذتها من الشيطان الرجيم إنما كان بعد وضعها، وهذا لا ينافي تسلُّط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته، فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل. قلتُ: الجواب أنه استعمل المضارع بمعنى الماضي بقرينة السياق، فكأنه قال: وإني أعذتها بك وذريتها، والله أعلم. وفي "القرطبي": قال علماؤنا في هذا الحديث: إن الله استجاب دعاءَ أم مريم، وإن الشيطان ينخس جميع بني آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها، قال قتادة: كل مولود يطعنه الشيطان في جنبه حين يولد، غير عيسى وأمه، فإنه جعل بينهما حجاب هو المشيمة التي يكون فيها الولد، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ لهما منه شيء. وطعن الشيطان للأنبياء غير عيسى ليس فيه نقص لهم، ولا ينافي عصمتهم منه؛ لأنهم معصومون من وسوسته وإغوائه. والطعن من قبيل الأمراض والآلام المتعلقة بظاهر البدن، والأنبياء غير معصومين من مثل هذا، تأمل. انتهى. 37 - {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}؛ أي: تقبل الله سبحانه وتعالى مريم من أمها قبولًا حسنًا، ورضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ أي: رباها الله سبحانه وتعالى، ونماها بما يصلح أحوالها؛ كما يربي النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي، وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي، وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمَّى جسدَها، فكانت خير لذاتها جسمًا وقوة، كما نَمَّاها صلاحًا وعفةً وسداد رأيٍ. قيل: معنى

أنبتها نباتًا حسنًا؛ أي: جعل ثمرتها مثل عيسى، وقيل: القبول الحسن: تربيتها على نعت العِصْمة حتى قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}، والنبات الحسن: الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}؛ أي: جعل الله سبحانه وتعالى زكريا مربيًا لها، وضامنًا لمصالحها، وقائمًا بشؤونها؛ أي: كَفَّلها، لا بالوحي، بل بمقتضى القرعة، كما ذكره أبو السعود. قال أهل الأخبار: أن حنة حين وضعت مريم لفتها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون يومئذٍ من بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالت الأحبار: لا تقل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس بها .. لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فانطلقوا، وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر جار في حلب يقال له: قرمق، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فوق الماء، وثبت، فهو أولى بها من غيره، وعلى كل قلم اسم صاحبه، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا، ولما أخذها .. بنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطا لا يرقى إليه إلا بالسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها. وقرأ الكوفيون (¬1): {وَكَفَّلَهَا} - بتشديد الفاء - على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وباقي السبعة {وكفَلها} بتخفيفها على إسناد الفعل إلى زكريا بمعنى: ضمها إليه، وقرأ أُبي: {وأكفلها} وهو بمعنى التشديد، وقرأ عبد الله المزني شذوذًا: {وكفِلها} بالتخفيف وكسر الفاء، وهي لغة، يقال: كفل يكفل كنصر ينصر، وكفل يكفل كعلم يعلم، والفعل مسند إلى زكريا، ففيه أربع قراءات ثنتان ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

منها سبعية. وقرأ مجاهد (¬1): {فتقبلْها} بإسكان اللام على صيغة الأمر والدعاء، ونصب {ربَّها} على أنَّه منادى مضاف، وقرأ أيضًا: {وأنبتْها} بإسكان التاء، {وكفِّلْها} بتشديد الفاء المكسورة، وإسكان اللام، ونصب {زكرياء} مع المد وذلك كله شذوذًا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: {زَكَرِيَّا} بغير مدِّ، ومده الباقون مع الهمز هكذا {زكرياء}. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وهو من ذرية سليمان بن داود؛ أي: في أي وقت دخل عليها زكريا المحراب والغرفة التي بنى لها في المسجد {وَجَدَ عَندَهَا}؛ أي: رأى عند مريم {رِزْقًا}؛ أي: نوعًا من أنواع الطعام غير الذي رآه في المرة الأولى، أو فاكهة في غير وقتها المعتاد. روي أنه كان لا يدخل عليها غيره، وإذا خرج .. أغلق عليها سبعة أبواب، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف؛ مثل القصب، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ مثل العنب، ولم ترضع ثديًا قط، بل يأتيها رزقها من الجنة. وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية. {قَالَ} زكريا {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} الرزق؛ أي: من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه، الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك؟ {قَالَتْ} مريم {هُوَ}؛ أي: هذا الرزق {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى الذي يرزق الناس جميعًا، أتاني به جبريل من الجنة {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: بغير تقدير لكثرته، أو من غير استحقاف تفضلًا منه، أو من غير مسألة في حينه وفي غير حينه، وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم، أو ابتداء كلام من الله عز وجلّ: فلما رأى زكريا ما أوتيت مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف .. قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادرٌ على أن يصلح زوجي، ويهب ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[38]

لي ولدًا في غير حينه مع الكبر، وطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ، وأيس من الولد، فذلك قوله عزّ وجلّ: 38 - {هُنَالِكَ}؛ أي: في ذلك المكان الذي كان قاعدًا فيه عند مريم، وشاهد تلك الكرامات، أو في ذلك الوقت الذي رأى فيه خوارق العادات عندها {دَعَا} وسأل {زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، سبحانه وتعالى جوف الليل و {قَالَ} في مناجاته يا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: أعطني من عندك وبمحض قدرتك من غير سبب معتاد {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}؛ أي: ولدًا مباركًا تقيًّا صالحًا رضيًّا، كما وهبت لحنة العجوز العاقر مريم، وكان شيخًا كبيرًا، وامرأته عجوزًا عاقرًا، فإنه لما رأى حسن حال مريم ومعرفتها باللهِ .. تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلًا من عنده، فرؤية الأولاد النجباء مما تشوق نفوس الناظرين إليهم، وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم، والذرية تطلق على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، والمراد بها هنا: الواحد، وإنما قال: {طَيِّبَةً} لتأنيث لفظ الذرية {إِنَّكَ} يا إلهي {سَمِيعُ الدُّعَاءِ}، سماع قبول؛ أي: سامع دعاء من دعاه ومجيبه، وهذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط؛ لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر، وهو حكمة قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءَه، وبعث إليه الملائكة مبشرين له 39 - {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)} [آل عمران: 39] {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: نادى زكريا جبريل، كما قال به جمهور من المفسرين؛ كابن جرير عن السدي، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيمًا لشأنه، ولأنه رئيس الملائكة، وقلَّ أن يبعث إلا ومعه جمع من الملائكة، أو نادته جماعة من الملائكة؛ كما يروى عن ابن جرير مع جماعة آخرين، إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا القول قال قتادة وعكرمة ومجاهد، قيل: نادته بعد مضي أربعين سنة من دعوته. وقرأ حمزة والكسائي: {فناداه} بالإمالة والتذكير، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود، وقرأ الباقون: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}. {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن زكريا {قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}؛ أي: قائم في الموضع العالي الشريف من المسجد مصليًّا، والمحراب موقف الإِمام من المسجد، والظاهر أن المحراب هو

المحراب المذكور في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}، وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم، وقيل: المراد بالصلاة هنا: الدعاء، وفيه أيضًا دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيه إجابة الدعوات وقضاء الحاجات، وقال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب. {أنَّ اللَّهَ} تعالى {يُبَشِّرُكِ} بولادة ولد يسمى {بِيَحْيَى} منك ومن امرأتك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تَسمَّى يحيى؛ لأن الله أحيا به عقر أمه، وقيل: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهتم بمعصية قط. روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خُلقت. وقرأ ابن عامر وحمزة: {إنَّ} بكسر الهمزة على تأويل النداء بالقول، وقرأ الباقون: {أن} بفتح الهمزة على تقدير: بأن، وقرأ الجمهور: {يُبَشِركَ} بالتشديد وقرأ حمزة والكسائي {يَبْشُرك}، وفي "المختار": بَشَره بالتخفيف من البشرى، وبابه نصر ودخل. وقرأ حميد بن قيس المكي شذوذًا: {يُبشِرك} بكسر الشين مع ضم حرف المضارعة، قال الأخفش: هي ثلاثة لغات بمعنى واحد، وقرأ عبد الله بن مسعود في رواية شاذة: {يا زكريا إن الله}. حالة كون يحيى {مُصَدِّقًا} ومؤمنا بعيسى ابن مريم المخلوق بلا واسطة أب، بل {بِكَلِمَةٍ} كن الواقعة {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا بالسنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن يحيى كان أكبر سنًّا من عيسى بستة أشهر، وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة لله، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة. {و} حالة كون يحيى {سيدًا}؛ أي: رئيسًا يسود ويفوق قومه، والناس جميعًا في الشرف والصلاح وعمل الخير، وفي العلم والحلم والورع، وقال ابن عباس: أي: حليمًا عن الجهل. وقال مجاهد: كريمًا على الله {و} حالة كونه {حصورًا}؛ أي: مانعًا نفسه من النساء للعفة والزهد، لا للعجز عنها {و} حالة كونه {نبيًّا} مرسلًا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوة، وحالة كونه ناشئًا {مِّنَ}

[40]

أصلاب القوم {الصَّالِحِينَ} والمرسلين؛ لكونه من نسل الأنبياء أو كائنًا من جملة الصالحين، ولا غرو أنه من جملة الصالحين، وأنه من أصلاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. 40 - {قَالَ} زكريا لجبريل حين بشره بالولد {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}؛ أي: يا سيدي: على أي حال يكون لي ذلك الغلام أتردني وامرأتي إلى حال الشباب أم مع حال الكبر؟ {قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}؛ أي: أدركني كبر السن {امْرَأَتِي عَاقِرٌ}؛ أي: عقيم لا تلد. قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن مئة وعشرين سنة، وكانت امرأته أيشاع بنت فاقوذ بنت ثمان وتسعين سنة. والظاهر (¬1): أن هذا الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملد، وذلك لمزيد التضرع والجد في طلب الجواب عن سؤاله، وقيل: إنه أراد بالرب جبريل؛ أي: يا سيدي كما فسرنا، كذلك قيل: وفي معنى هذا الاستفهام وجهان: أحدهما: أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها؟ والثاني: قيل: معناه بأي سبب استوجب هذا، وأنا وامرأتي على هذه الحال؟ وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم استعظامًا لقدرة الله سبحانه وتعالى، لا لمحض الاستبعاد، وقيل: إنه قد مرَّ بعد دعائه إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة، وقيل: عشرون سنة، فكان الاستبعاد من هذه الحيثية. والله أعلم وفي "المراغي" (¬2): أن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم، من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها والرازق لما عندها هو من يرزق من يشاء بغير حساب .. أخذ عن نفسه، وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستفرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[41]

في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابًا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب حال استغراقه في الشعور بكمال الرب. ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه .. سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله: {قَالَ} جبريل {كَذَلِكَ}؛ أي: الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما، وأنتما على حالكما من الكبر. {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من الأفاعيل الخارقة للعادة، فمتى شاء أمرًا .. أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوض الأمر إليه، ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك إلى الوصول بمعرفتها، وإنما قال في حق زكريا: {يَفعَلُ}، وفي حق مريم: {يخلق} مع اشتراكهما في بشارتهما بولد؛ لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر بعيد، فحسن التعبير بـ {يَفعَلُ}، واستبعاد مريم لأمر خارق، أي: لأغربيته؛ لأنه اختراع بلا مادة؛ أي: من غير إحالة على سبب ظاهر، فكان ذكر الخلق أنسب. 41 - {قَالَ} زكريا {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}؛ أي: علامة في حبل امرأتي {قَالَ} الله تعالى {ءَايَتُكَ}؛ أي: علامتك في حبل امرأتك {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ}؛ أي: أن لا تقدر على تكليم الناس من غير خرسٍ، لا على غيره من الأذكار وقرأ ابن أبي عبلة؛ {أن} لا تكلمُ برفع الميم على أنَّ: {أن} هي المخففة من الثقيلة. {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} متوالية بلياليها {إِلَّا رَمْزًا}؛ أي؛ إلا إيماءً وإشارة بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين. وقرأ علقمة بن قيس ويحيى بن وثاب شذوذًا: (رُمُزًا) - بضم الراء واليم -، وخُرِّج على أنه جمع: رموز؛ كرسل ورسول وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فُعْل، وأتبعت العين الفاء؛ كاليسر والعسر. وقرأ الأعمش شذوذًا أيضًا: (رمزًا) بفتح الراء واليم، وخُرِّج على أنه جمع رامزٍ كخادم وخدم وانتصابه إذا كان جمعًا على الحال من الفاعل، وهو الضمير في {تكلم}، أو من المفعول، وهو: {الناس}؛ أي: مسترًا مزينًا؛ كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه، ووجه جعل حبس لسانه عن كلام الناس تلك

المدة آيةً له لتخلصَ تلك الأيام لذكر الله تعالى شكرًا على ما أنعم به عليه؛ قضاء لحق الشكر؛ كما قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} باللسان والقلب في مدة الحبسة عن كلام الدنيا مع الخلق شكرًا لله تعالى على هذه النعمة {كَثِيرًا}؛ أي: ذكرًا كثيرًا على كل حال {وَسَبِّحْ} أي: صلِّ {بِالْعَشِيِّ}؛ أي: آخر النهار {وَالْإِبْكَارِ}؛ أي: أوله؛ أي: صلِّ عشيًّا وبكرة كما كنت تصلي. والعشي هو من زوال الشمس إلى الغروب، وقيل: من العصر إلى نصف الليل. والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقريء شاذًا: (والأبكار) - بفتح الهمزة - جمع: بَكَر بفتح الفاء والعين، والعامة على الإبكار بالكسر اسم مفرد، وخص هذين الوقتين لفرضية الصلاة عليه فيهما، وقيل: المراد بالتسبيح التنزيه له تعالى بالصيغة المعروفة، فعَطْفه على ما قبله من عطف الخاص على العام. الإعراب {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. {اصْطَفَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {آدمَ}: مفعول به. {وَنُوحًا}: معطوف عليه، وصرِّف مع كونه أعجميًّا؛ لخفته بسكون الوسط. {وَءَالَ}: معطوف على {آدَمَ} {إِبْرَاهِيمَ}: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَءَالَ}: معطوف أيضًا {عِمْرَانَ}: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. {عَلَى الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {اصْطَفَى}. {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {ذُرِّيَّةً}: منصوب على البدلية من نوحٍ وما عطف عليه، كما قاله أبو البقاء، أو بدل من الآلين، كما قاله الزمخشري، أو منصوب على الحال منهم أيضًا، والعامل فيها {اصْطَفَى} تقديره: حال كونهم متشعبًا. {بَعْضُهَا}: مبتدأ ومضاف إليه. {مِنْ بَعْضٍ}: جار ومجرور خبر، والجملة في محل النصب صفة

لـ {ذُرِّيَّةً}، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: مبتدأ وخبر {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد لأمتك قصة إذ. {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي}: إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَتِ}، وإنْ شئت قلتَ {رَبِّ}: منادى مضاف حذف حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب جزء المقول. {إِنِّي} إنَّ: حرف نصب وتوكيد، وياء المتكلم في محل النصب اسمها. {نَذَرْتُ}: فعل وفاعل {لَكَ}: جار ومجرور متعلق به {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {نَذَرْتُ} {فِي بَطْنِي}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {مُحَرَّرًا}: حال من {مَا}، والعامل فيه {نَذَرْتُ}، أو مفعول ثانٍ لـ (نذر) إن جعلناه بمعنى: جعلت، وجملة {نَذَرْتُ} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول القول، {فَتَقَبَّلْ مِنِّي}: الفاء عاطفة {تقبل}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الرب {مِنِّي}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} على كونها مقول القول، {إِنَّكَ}: إنَّ حرف نصب، والكاف اسمها {أَنتَ}: ضمير فصل أو مؤكد للضمير المنصوب {السَّمِيعُ}: خبر أول لـ {إنْ}، {الْعَلِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إن} مستأنفة في محل النصب مقول القول. {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}. {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ}: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: ووضعتها جارية {لما}: حرف شرط غير جازم {وضع}: فعل ماضٍ، التاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير يعود على المرأة، والهاء مفعول به عائد على {مَا فِي بَطْنِي}؛ لأنه بمعنى الجارية، {قَالَتِ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على

المرأة، وجملة {قَالَتْ} جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة (لما) من فعل شرطها وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة. وقوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} مقول محكي لـ {قَالَتْ}، وإن شئتَ قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب جزء المقول {إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}: {إن}: حرف نصب وتوكيد، وياء المتكلم اسمها. {وَضَعَتْهَا}: فعل وفاعل ومفعول. {أُنْثَى}: حال من الهاء مؤكدة؛ لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت أنثى مؤكدة، أو بدل منها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة (إنّ) في محل النصب مقول القول. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}: {وَضَعَتْ} فعل ماضٍ والتاء علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على أم مريم، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما وضعته. {وَلَيْسَ}: الواو عاطفة (ليس): فعل ماضٍ ناقص. {الذَّكَرُ}: اسمها. {كَالْأُنْثَى}: جار ومجرور خبر (ليس)، والجملة معطوفة على جملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ} على كونها معترضة إن قلنا: إنها من كلام الله تعالى، ويحتمل أنها من كلامها، فتكون حينئذٍ من مقول القول. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا}: {الواو}: عاطفة. {إنَّ}: حر نصب والياء اسمها. {سَمَّيْتُهَا}: فعل وفاعل ومفعول أول. {مَرْيَمَ}: مفعول ثانٍ، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب معطوفة على جملة {إني وضعتها} على كونها مقول القول {وَإِنِّي أُعِيذُهَا}: الواو عاطفة {إن}: حرف نصب، والياء اسمها. {أعيذ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على أم مريم، والهاء مفعول به. {بِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أعيذ} {وَذُريتَهَا}: معطوف على ضمير المفعول، والهاء مضاف إليه {مِنَ الشَّيْطَانِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أعيذ} {الرَّجِيمِ}: صفة الشيطان، وجملة {أُعَيذُهَا} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: إني وضعتها على كونها مقول القول. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.

{فَتَقَبَّلَهَا} الفاء عاطفة تفريعية. {تَقَبَّلَهَا}: فعل ومفعول، {رَبُّهَا} فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} {بِقَبُولٍ}: الباء زائدة، {قَبولٍ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {حَسَنٍ}: صفة له. {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}: الواو عاطفة. {أَنْبَتَهَا}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تقبل} {نَبَاتًا}: منصوب على المفعولية المطلقة {حَسَنًا} صفة له. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}: الواو عاطفة {كفلها}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. {زَكَرِيَّا}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا}. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}. {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي {دَخَلَ}: فعل ماضٍ، {عَلَيْهَا} متعلق به. {زَكَرِيَّا}: فاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، {الْمِحْرَابَ} مفعول {دَخَلَ}. وحق {دَخَلَ} أن يتعدى بفي أو بإلى لكنه اتسع فيه، فأوصل بنفسه إلى المفعول، فهو كقولهم: دخلت الدار، وسكنت الشام كما ذكره أبو البقاء. {وَجَدَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {وَجَدَ}، {رِزْقًا}: مفعول به لـ {وَجَدَ}؛ لأنه متعد إلى واحد، وجملة {وَجَدَ} جواب {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّمَا} مستأنفة. {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كانه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذه الآية؟ فقيل: قال: يا مريم أنى لك هذا؟. وفي "الفتوحات": والذي (¬1) يظهر أن جملة قوله: {وَجَدَ} ¬

_ (¬1) الجمل.

في محل نصب على الحال من فاعل {دَخَلَ}، ويكون جواب {كُلَّمَا} هو نفس {قَالَ}، والتقدير: كلما دخل عليها زكريا المحراب واجدًا عندها الرزق .. قال، وهذا واضح جدًّا. انتهى {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإنْ شئت قلت: {يا}: حرف نداء {مريم} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنَّى}: اسم استفام بمعنى: أين، في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم {هَذَا}: مبتدأ مؤخر {لَكِ}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، ومن المبتدإِ على رأي سيبويه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} {قَالَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمُ}، والجملة مستأنفة. {هُوَ}: مبتدأ {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَتْ} {إِنَّ}: حرف نصب، ولفظ الجلالة {اللَّهِ}: اسمها، وجملة {يَرْزُقُ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول {يَرْزُقُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء رزقه، {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَرْزُقُ}. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}. {هُنَالِكَ}: اسم إشارة للمكان البعيد نظرًا إلى أصله، وأما في هذا المقام فهي مستعملة في الزمان تجوزًا، والظرف متعلق بدعا الآتي {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم كما مرّ، {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا}، والجملة مفسرة لجملة {دَعَا}، {رَبِّ هَبْ لِي} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإنْ شئتَ قلتَ: {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {هَبْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب النداء في محل

النصب مقول القول {لِي} متعلق بـ {هَبْ}، {مِنْ لَدُنْكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {هَبْ} {ذُرِّيَّةً}: مفعول {هَبْ}، {طَيِّبَةً}: صفة لـ {ذُرِّيَّةً} {إِنَّكَ}: إنَّ: حرف نصب، والكاف: اسمها. {سَمِيعُ}: خبر {إنَّ} {الدُّعَاءِ}: مضاف إليه، وجملة {إنَّ} مستأنفة بحسب الأصل، ومقول القول هنا. {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}. {فَنَادَتْهُ}: الفاء عاطفة تفريعية، {نادته الملائكة}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {هُنَالِكَ دَعَا}، {وَهُوَ قَائِمٌ}: {الواو}: حالية، {وَهُوَ قَائِمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير المفعول. {يُصَلِّي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا}، {فِي الْمِحْرَابِ}: متعلق بـ {يُصَلِّي}، أو بـ {قَائِمٌ}، والجملة في محل النصب حال ثانية من مفعول النداء، أو خبر ثانٍ لـ {هُوَ}. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية من مفعول النداء، و {يُصَلِّي} يحتمل أوجهًا: أحدها: أن يكون خبرًا ثانيًا عند من يرى تعدده مطلقًا نحو: زيد شاعر فقيه. الثاني: أنه حال ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضًا عند من يُجوِّز تعدد الحال. الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في {قَائِمٌ}؛ فيكون حالًا من حال. الرابع: أن يكون صفة لـ {قَائِمٌ}. "سمين"، انتهى. {أَنَّ اللَّهَ}: {إنْ}: - بكسر الهمزة في قراءة الكسر -: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. {يُبَشِّرُكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِيَحْيَى}: متعلق بـ {يُبَشِرُكَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ¬

_ (¬1) الجمل.

{إن}، وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: حال كون الملائكة قائلين له: إن الله يبشرك، {مُصَدِّقًا}: حال من {يحيى}، {بِكَلِمَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدَقَا}، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {كلمة}، {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا}: معطوفات على مصدقًا على كونها حالًا من {يحيى} {مِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {نبيًّا}. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على زكريا، والجملة مستأنفة، {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} إلى قوله: {عَاقِرٌ}: مقول محكي، وإنْ شئت قلتَ: {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء جزء المقول، {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل النصب خبر {يَكُونُ} مقدم عليه، {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، {لِي}: جار ومجرور متعلق به {غُلَامٌ}: اسم {يَكُونُ}، وجملة {يَكُونُ} في محل النصب مقول القول. وفي "الفتوحات"، قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} يجوز في كان أن تكون هي الناقصة، وفي خبرها حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنى؛ لأنا بمعنى: كيف، أو بمعنى: من أين، ولي على هذا تبيين. والثاني: أن الخبر الجار، وأنى: في محل النصب على الظرفية، ويجوز أن تكون تامة، فيكون الظرف والجار والمجرور كلاهما متعلقين بمحذوف على أنه حال من غلام؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له. انتهى. {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}: الواو حالية {قد}: حرف تحقيق {بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}: فعل ومفعول، ونون وقاية، وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الياء في {لِي} {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}: الواو حالية، {وَامْرَأَتِي}: مبتدأ ومضاف إليه، {عَاقِرٌ} خبر، والجملة حال؛ إما من الياء في (لي) بناءً على جواز تعدد الحال، وإما من الياء في {بَلَغَنِىَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على جبريل، والجملة مستأنفة {كَذَلِكَ اللَّهُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئتَ قلت:

{كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف منصوب بـ {يَفْعَلُ} الآتي، {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَفْعَلُ} خبره، {مَا يَشَاءُ}: مفعول {يَفْعَلُ}، والتقدير: الله يفعل ما يشاء فعلًا كائنًا كذلك، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا} والجملة مستأنفة {رَبِّ} منادى مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ} {اجْعَلْ لِي آيَةً}: مقول محكي، وإنْ شئتَ قلت: {اجْعَلْ}: فعل أمر بمعنى صيِّر يتعدى لمفعولين، وفاعله ضمير يعود على الله، {آيَةً}: مفعول أول، {لِي}: مفعول ثانٍ، كما ذكر أبو البقاء، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {ءَايَتُكَ}: مبتدأ ومضاف إليه، {أَلَّا} {أن}: حرف نصب ومصدر {لا}: نافية {تُكَلِّمَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا}. {النَّاسَ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة (أن) المصدرية، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية تقديره: آيتك عدم تكليم الناس، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تُكَلِّمَ} {إلّا}: أداة استثناء، {رَمْزًا}: منصوب على الاستثناء، وهو منقطع؛ إذ الرمز لا يدخل تحت التكليم، ومن أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير، فلا يبعد أن يكون هذا استثناءً متصلًا على مذهبه. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. {وَاذْكُرْ} الواو عاطفة، {اذكر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على

{زَكَرِيَّا}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقول القول، {رَبَّكَ}: مفعول به ومضاف إليه {كَثِيرًا}: صفة مصدر محذوف تقديره: ذكرًا كثيرًا {وَسَبِّحْ} الواو عاطفة، {سبح}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على زكريا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {ذكر}. {بِالْعَشِيِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {اذكر}، {وَالْإِبْكَارِ}: معطوف على {الْعَشِيِّ}. التصريف ومفردات اللغة {اصْطَفَى}: من الصفوة أصله: اصتفى من باب افتعل قلبت تاء الافتعال طاءً؛ لوقوعها إثر مُطْبَق. {عَلَى الْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {اصْطَفَى} ضمنَّه معنى فضل، فعداه بـ {عَلَى}، ولو لم يضمنه معنى فضل لعُدِّي بـ {من}. {ذُرِّيَّةً}: قيل: مشتق من الذرء، وهو الخلق، فعلى هذا يطلق على الأصول حتى على آدم، كما يطلق على الفروع، وقيل: منسوب إلى الذَّرّ؛ لأن الله أخرجهم من ظهر آدم كالذَّرّ؛ أي: صغار النمل، ويكون هذا من النسب السماعي؛ إذ كان القياس فتح الذال. {نَذَرْتُ لَكَ}: يقال نذر الشيء؛ إذا التزمه، والنذر لغةً الالتزام، وشرعًا: التزام قربة ليست لازمة في أصل الشرع. {مُحَرَّرًا}: اسم مفعول من حَرَّر الرباعي معناه: عتيقًا من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو مأخوذ من الحرية. {أُعِيذُهَا}: مضارع عاذ بكذا إذا اعتصم به عوذًا وعياذًا ومعاذًا ومعاذةً، ومعناه: التجأ واعتصم، وقيل: اشتقاقه من العَوذ، وهو عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح. {الرَّجِيمِ}: فقيل: من رجم إذا رمى وقذف، ومنه: رجمًا بالغيب؛ أي: رميًا به من غير تيقن، والرجيم: يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل؛ أي: أنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم، ويحتمل أن يكون بمعنى:

مرجوم؛ أي: يرجم بالشهب أو يبعدْ ويطردْ. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا}؛ أي: قبلها ورضيها مكان الذكر المنذور، فصيغة التفعل ليست هنا للتكلف ولا للمطاوعة، بل بمعنى أصل الفعل؛ كتعجب من كذا بمعنى: عجيب وتبرأ من كذا بمعنى برىء منه. {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قال الزجاج: الأصل؛ فتقبلها بتقبُّل حسن؛ لأن قبولًا مصدر لـ {قبل} الثلاثي، يقال: قبل الشيء قبولًا إذا رضيه، والقياس فيه: الضم، كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، فالقبول هنا من المصادر التي حذفت زوائده؛ إذ لو جاء على تقبل لقيل: تقبلًا حسنًا. {نَبَاتًا حَسَنًا}: النبات اسم مصدر لأنبت الرباعي، فهو بمعنى إنباتًا حسنًا {وَكَفَّلَهَا}: الكفالة الضمان، يقال: كفل يكفل من بابي نصر وعلم، فهو كافل وكفيل، وهذا أصله، ثم يستعار للضم والقيام على الشيء {زَكَرِيَّا}: هو اسم أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة، فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز. {يحيى} فيه قولان: أحدهما: وهو المشهور عند المفسرين: أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سموا بالأفعال كثيرًا نحو: يعيش ويعمِّر، وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل؛ كيزيد ويشكر وتغلب. والثاني: أنه أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويقال في جمعه على كِلا القولين: يحيون رفعًا، ويحين نصبًا وجرًّا على حد قوله: وَحْذِفْ مِنَ الْمَقْصُوْرِ فِيْ جَمْعٍ عَلَى ... حَدِّ الْمُثَنَّى مَا بِهِ تَكَمَّلاَ ويقال في تثنيته: يحييان رفعًا، ويحيين نصبًا وجرًّا على حد قوله: آخِرَ مَقْصُوْرٍ تُثَنِّ اجْعَلْهُ يَا ... إِنْ كَانَ عَنْ ثَلاَثَةٍ مُرْتَقِيَا ويقال في النسب إليه: يحيي بحذف الألف، ويحيوي بقلبها واوًا،

ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية على حد قوله: وإِنْ تَكُنْ تَرْبَعُ ذَا ثَانٍ سَكَنْ ... فَقَلْبُهَا وَاوًا وَحَذْفُهَا حَسَنْ ويقال في تصغيره: يحيِّي بوزن فعيعل على حد قوله: فُعَيْعِلٌ مَعَ فُعَيْعِيْلَ لِمَا ... فَاقَ كَجَعْلِ دِرْهَمٍ دُرَيْهِمَا {وَحَصُورًا}: الحصور: فعول محول عن فاعل للمبالغة؛ كضروب محول من ضارب، وهو الذي لا يأتي النساء، إما لطبعه على ذلك، وإما لمبالغة نفسه، وفي "القاموس": الحصور: من لا يأتي النساء، وهو قادر على ذلك، والممنوع منهن، أو: من لا يشتهيهن ولا يقربهن. {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}: والعاقر من لا يولد له، رجلًا كان أو امرأةً، مشتق من العقر، وهو: القطع، لقطعه النسل، وفي "المصباح": عقرت الناقة عقرًا من باب ضرب، وفي لغة من باب قرب، انقطع حملها فهي عاقر. {وَالْإِبْكَارِ} - بكسر الهمزة - مصدر لـ {أبكر} الرباعي بمعنى: بكر، ثم استعمل اسمًا للوقت الذي هو البكرة، هكذا يؤخذ من "المختار"، وبفتح الهمزة جمع بَكَر بفتحتين بمعنى البكرة. البلاغة وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة والبلاغة: منها: العموم الذي يراد به الخصوص في قوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}. ومنها: الإبهام في قوله: {مَا فِي بَطْنِي} لما تعذر عليها الاطلاع على ما في بطنها .. أتت بلفظ {مَا} الذي يصدق على الذكر والأنثى والتأكيد في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. ومنها: الخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها: {وَضَعْتُهَا أُنْثَى}. ومنها: الاعتراض في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} في قراءة من سكَّن التاء أو كسرها.

ومنها: تلوين الخطاب ومعدوله في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} في قراءة من كسر التاء، خرج من خطاب الغيبة في قولها: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} إلى خطاب المواجهة في قوله: {بِمَا وَضَعَت}. ومنها: التكرار في قوله: {وَإِنِّي}، {وَإِنِّي}، وفي قوله: {زَكَرِيَّا} و {زَكَرِيَّا}، وفي قوله: {مِنْ عَندِ اَللهِ}، {إِنَّ اللَّهَ}. ومنها: الدلالة على الاستمرار والتجدد في قوله: {وَإِنّي أُعِيذُهَا}؛ حيث أتى بخبر {إن} فعلًا مضارعًا دلالة على طلب استمرار الاستعاذة دون انقطاعها. ومنها: الدلالة على الانقطاع، حيث أتى بالخبرين فعلين ماضيين في قوله: {إِنِّي وَضَعْتُهَا}، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا}. ومنها: المجاز المرسل أو بالاستعارة في قوله: {وَأنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ لأنه مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم، أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية؛ إذ الزارع لم يزل يتعهد زرعه بسقيه، وإزالة الآفات عنه. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا}، وفي: {رِزْقًا} و {يَرْزُقُ}. ومنها: التعظيم والتفخيم في قوله: {رِزْقًا}؛ حيث أتى به منكرًا مشيرًا إلى أنه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة؛ لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة. ومنها: الطباق بين كلمتي: {العشي} و {الإبكار}. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} المناسبة لما فرغ (¬1) الله سبحانه وتعالى عن قصة ولادة يحيى بن زكريا من عجوز عاقر وشيخ كبير قد بلغ من الكبر عتيًّا، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها .. رجع إلى قصة مريم، وذكر فيها ما هو أبلغ وأروع في خرق العادات، فذكر قصة ولادة عيسى المسيح من غير أب، وهي شيء أعجب من الأول، وهكذا عادة أساليب العرب، متى ذكروا شيئًا .. استطردوا منه إلى غيره، ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه، والغرض من ذكر هذه القصة تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود، والردُّ على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى، فذكر ولادته من مريم البتول؛ ليدل على بشريته، وأعقبه بذكر ما أيده به من المعجزات؛ ليشير إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[42]

رسالته، وأنه أحد الرسل الكرام الذين أظهر الله على أيديهم خوارق العادات، وليس له شيء من أوصاف الربوبية. التفسير وأوجه القراءة 42 - {و} اذكر يا محمَّد لأمتك قصة {إذ قالت الملائكة}؛ أي: جبريل - ومن معه من الملائكة؛ لأنه نقل أنه لا ينزل لأمر إلا ومعه جماعة من الملائكة - لمريم ابنة عمران مشافهة. وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمرو شذوذًا: {وإذ قال الملائكة}. {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {اصْطَفَاكِ} واختارك أولًا حيث قبلك من أمك، وقبل تحريرك، ولم يسبق ذلك لغيرك من الإناث، وربَّاك في حجر زكريا، ورزقك من الجنة، وقيل: بتفرغك لعبادته وتخصيصك بأنواع اللطف والهداية والعصمة والكفاية في أمر المعيشة، وسماع كلام جبريل شفاهًا {وَطَهَّرَكِ} من المعصية ومسيس الرجال، ومن الأفعال الذميمة، ومن مقالة اليهود وتهمتهم، وقيل: أنجاك من القتل، وقيل: من الحيض والنفاس، فكانت لا تحيض؛ أي: خلقك مطهرة مما للنساء {اصْطَفَاكِ}؛ أي: اختارك آخرًا بولادة عيسى من غير أب ونطفة حال انفصاله من مريم حتى شهد ببراءتها عن التهمة. {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}؛ أي: عالمَي زمانها، وقيل: على جميع نساء العالمين، والمعتمد (¬1) أن مريم أفضل النساء على الإطلاق، كما هو ظاهر الآية، وقد نظم بعضهم ترتيب الأفضلية بينها وبين غيرها فقال: فُضْلَى النِّسَا بِنْتُ عِمْرَانَ فَفَاطِمَهْ ... خَدِيْجَةٌ ثُمَّ مَنْ قَدْ بَرَّأ اللهْ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد". متفق عليه. قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض، قيل: أراد وكيع بهذه ¬

_ (¬1) الجمل.

[43]

الإشارة تفسير الضمير في قوله: خير نسائها، ومعناه أنهما خير كل النساء بين السماء والأرض، قال النووي: والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام"، متفق عليه. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية؛ لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، وآسية امرأة فرعون" أخرجه الترمذي. 43 - {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}؛ أي: قالت الملائكة لها شفاهًا يا مريم دومي على طاعة ربك بأنواع العبادات شكرًا لذلك الاصطفاء، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة شكرًا لربك. وروى مجاهد (¬1): أنها لما خوطبت بهذا .. قامت حتى ورمت قدماها، وقال الأوزاعي: قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادًا؛ لسكونها في طول قيامها. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}؛ أي: ائتي بالسجود والركوع {مَعَ الرَّاكِعِينَ}؛ أي: مع المصلين، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ أي: صلي مع المصلين جماعة في بيت المقدس، فإنِّ اقتداء النساء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء، وإنما قدم السجود (¬2) على الركوع؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب إنما هي للجمع، كأنه قيل لها: افعلي الركوع والسجود، وقيل: إنما قدم السجود على الركوع؛ لأنه كان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) أبو السعود.

[44]

كذلك في شريعتهم، أو لكون السجود أفضل الأركان، أو ليقترن {اركعي} بـ {الرَّاكِعِينَ}، وإنما قال: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، ولم يقل: مع الراكعات؛ لأن لفظ الراكعين أعم، فيدخل فيه الرجال والنساء، والصلاة مع الرجال أفضل وأنتم كما مر آنفًا. وقيل: معناه افعلي كفعل الراكعين. 44 - {ذَلِكَ} المذكور من خبر حنة ومريم وزكريا ويحيى {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}؛ أي: من أخبار ما غاب عنك يا محمَّد {نُوحِيهِ إِلَيْكَ}؛ أي: نلقي ذلك الغيب إليك يا محمَّد بواسطة جبريل الأمين، ونرسله إليك ليعلمكه، والمعنى: هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب، ولا علمكها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين؛ لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزامًا لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين. والوحي في القرآن لأحد معانٍ أربعة (¬1): الأول: لكلام جبريل للأنبياء، كما قال تعالى: {نُوحِي إِلَيْهِمْ}. والثاني: للإلهام، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}. والثالث: لإلقاء المعنى المراد في النفس، كما قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}. والرابع: للإشارة، كما قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. فالوحي: تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كناية أو غيرهما. {وَمَا كُنتَ} يا محمَّد {لَدَيْهِمْ}؛ أي: حاضرًا عند الذين تنازعوا في تربية مريم {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}؛ أي: حين يرمون في نهر الأردن أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركًا بها؛ ليعلموا جواب {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}؛ أي: ليعلموا جواب استفهام؛ أي: أحدهم يربي مريم ويقوم بمصالحها. ¬

_ (¬1) المراغي.

[45]

{وَمَا كُنتَ} يا محمَّد شاهدًا {لَدَيْهِمْ}؛ أي: حاضرًا عند المتنازعين {إِذْ يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: حين يتنازعون تنافسًا في كفالتها؛ أي: وما كنت عندهم إذ يتقارعون على تربية مريم، وإذ يختصمون بسببها، فتخبر قومك عن مشاهدة. ولا كنت قارئًا فتخبرهم عن دراسة، فلزم كون ذلك بطريق الوحي الدال على نبوتك. وذلك أن حنة لما ولدت مريم .. أتت بها سدنة بيت المقدس، وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار؛ لكونها بنت إمامهم ورئيسهم، أو لكونها حررت لعبادة الله وخدمة المسجد، فاقترعوا عليها، فخرجت القرعة لزكريا؛ أخذها ورباها كما سبق. قال ابن كثير: وإنما قدر الله كون زكريا كافلًا لها؛ لسعادتها، ولتقتبس منه علمًا جمًّا وعملًا صالحًا. وفي "الفتوحات الإلهية" (¬1): واعلم أن هذا الكلام ونحوه كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} وإن كان معلومًا انتفاؤه جارٍ مجرى التهكم بمنكر الوحي يعني: أنه إذا علم أنك لم تعاصر أولئك ولم تدارس أحدًا في العلم .. فلم يبقَ اطلاعك عليه إلا من جهة الوحي. انتهى. 45 - واذكر يا محمَّد لأمتك قصة {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: جبريل لمريم وقرأ ابن مسعود وابن عمرو: {إذ قال الملائكة}. {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ}: سبحانه وتعالى {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}؛ أي: بولد مخلوق بكلمة واقعة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ أي: من غير واسطة الأسباب العادية، فإن غير عيسى من كل مخلوق، وإن وجد بكلمة: كن، لكنه بواسطة أب، وقوله: {مِنْهُ} نعت لـ {كلمة} و {من} للابتداء؛ أي: كلمة كائنة من الله؛ أي: مبتدأة وناشئة منه تعالى. واعلم (¬2): أن أول المبشر به قوله: {بِكَلِمَةٍ}، وآخره قوله: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقوله: {قَالَتْ رَبِّ} إلى قوله: {فَيَكُونُ} اعتراض في خلال المبشر به، فالمبشر به نحو خمسة عشر شيئًا: كونه ولدًا، وكون اسمه كذا، وكونه وجيهًا، ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الجمل.

[46]

وكونه من المقربين، وكونه يكلم الناس في المهد، وكونه من الصالحين، وكونه يعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وكونه رسولًا إلى بني إسرائيل، فهذا كله قاله لها الملك قبل وجود عيسى. تأمل {اسْمُهُ}؛ أي: اسم ذلك الولد {الْمَسِيحُ} قدم اللقب على الاسم لشهرته به، وإنما سُمي بالمسيح؛ لأنه يسيح في البلدان، أو لأنه ما مسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه، فهو فعيل بمعنى: فاعل، أو لأنه ممسوح القدمين، فليس فيهما خمص، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرِّجْل، وكان عيسى أمسح القدم لا خمص له، أو لمسحه بالبركة، أو لمسحه بالدهن الذي يمسح به الأنبياء حين خرج من بطن أمه، أو لمسح الجمال إياه، وهو ظهوره عليه، أو لمسحه من الأقذار التي تنال المولودين؛ لأن أمه كانت لا تحيض، ولم تدنس بدم نفاس، فعلى هذه الأقوال، فهو فعيل بمعنى: مفعول، وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيخًا، فغير، فعلى هذا يكون اسمًا مرتجلًا ليس هو مشتقًا من المسح، ولا من السياحة، فمشيخا معناه: المبارك {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وعيسى معرب: أيشوع، مشتق من العيس، وهو بياض يعلوه حمرة. فإن قلت: لِمَ قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثة أشياء الاسم والكنية واللقب؟. قلتُ: المراد اسمه الذي يتميز به عن غيره، وهو لا يتميز إلا بمجموع الثلاثة، وبهذا تعلم أن الخبر عن اسمه إنما هو مجموع الثلاثة من حيث المعنى، لا كل واحد منها على حياله، فهذا على حد الرُّمان حلو حامض، وإنما نسبه الله تعالى إلى الأم إعلامًا لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببًا لزيادة فضله وعلو درجته، وإنما لم بقل: ابنك كما هو الظاهر إشارةً إلى أنه يكنى بهذه الكنية المشتملة على الإضافة للظاهر. {وَجِيهًا} حال مقدرة من {كلمة}، وكذا قوله: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، 46 - وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ}، وقوله: {من الصالحين} فهذه أربعة أحوال من {كلمة}، والتذكير باعتبار معناها، وهي وإن كانت نكرة، لكنها موصوفة، أي: حالة كونه شريفًا رفيعًا ذا جاء وقدر. {فِي الدُّنْيَا} بالنبوة وبإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بسبب دعائه. {و} في {الْآخِرَةِ} بجعله شفيع أمته، وبقبول شفاعته فيهم، وبعلو درجته عند الله تعالى {و} حالة كونه كائنًا

[47]

{من المقربين} إلى الله في جنة عدن، وهذا الوصف كالتنبيه على أن عيسى سيرفع إلى السماء، وتصاحبه الملائكة {و} حالة كونه {يكلم الناس في} زمن {الْمَهْدِ} والطفولة، وهو في حجر أمه إظهارًا لبراءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته؛ حيث قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}، كما سيأتي في سورة "مريم"، وبعد ما تكلم بهذا الكلام .. سكت ولم يتكلم حتى بلغ أوان النطق عادة {و} يكلمهم حالة كونه {كهلا}؛ أي: بالغًا كبيرًا بكلام الأنبياء، والدعوة إلى الله، فهو إشارة إلى نبوته. وزمن الكهولة من الثلاثين سنة إلى الأربعين، وفي وصفه بهذه الصفات المتغايرة إشارة إلى أنه بمعزل عن الألوهية، ففيه ردٌّ على النصارى، كانه قال: لو كان إلهًا كما زعمتم .. ما اعتراه هذا التغير من كونه صبيًّا وكهلًا وغير ذلك. {و} حالة كونه كائنًا من العباد {الصَّالِحِينَ} ومعدودًا منهم، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، الذين تعرف مريم سيرتهم؛ مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، وغيرهم من الأنبياء. وإنما ختم (¬1) أوصاف عيسى عليه السلام بكونه من الصالحين، بعدما وصفه بالأوصاف العظيمة؛ لأن الصلاح من أعظم المراتب وأشرف المقامات؛ لأنه لا يسمى المرء صالحًا حتى يكون مواظبًا على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أقواله وأفعاله، فلما وصفه الله تعالى بكونه وجيهًا في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، وأنه يكلم الناس في المهد وكهلًا .. أردفه بقوله: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ ليكمل له أعلى الدرجات وأشرف المقامات. 47 - {قَالَتْ} مريم لجبريل لما بشرها بالولد، وقيل: تقوله لله عَزَّ وَجَلَّ - {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}؛ أي: يا سيدي من أين يكون لي ولد {و} الحال أني {لم يمسسني بشر}؛ أي: لم يصبني رجل بالحلال ولا بالحرام؟؛ لأن المحررة لا تتزوج أبدًا كالذكر المحرر. أي قالت: كيف يكون لي ولد وليس لي زوج؟ وقد يكون مرادها: أيحدث ¬

_ (¬1) الخازن.

ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها: التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه. وفي "الفتوحات": والاستفهام هنا استفهام حقيقي عن كيفية خلقه منها، هل يكون وهي بهذه الحالة عزباء، أو بعد أن تتزوج؟ فأجابها: بأنه يخلقه منها، وهي على هذه الحالة، كما يدل عليه قولنا الآتي من خلق ولدٍ منك بلا أب. انتهى. {قَالَ} جبريل الأمر {كَذَلِكِ}؛ أي: كما قلت لكِ من خلق ولد منك بلا أب {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} كيف شاء بسبب، وبلا سبب. أو المعنى (¬1): مثل هذا الخلق العجيب، والإحداث البديع - وهو خلق الولد بغير أبٍ - يخلق الله ما يشاء، فالكاف صفة لمصدر محذوف على هذا المعنى. فإن قلت (¬2): لِمَ عبَّر هنا بالخلق، وفي قصة يحيى بالفعل؟ قلت: لأن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر، أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير، فكأن الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل كما سبق. أي: هكذا يخلق الله منك ولدًا من غير أن يمسك بشر، فيجعله آية للناس وعبرة، فإنه {إِذَا قَضَى أَمْرًا}؛ أي: إذا أراد خلق شيء من الكائنات {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ}؛ أي: لذلك الأمر {كُن} لا غير، أي: أحدث وأخرج من العدم {فـ} هو {يكون}؛ أي: فذلك الأمر يوجد بسرعة من غير تباطؤ، فنفخ جبريل في جيب درعها، فوصل نَفَسه إلى فرجها فدخل رحمها، فحملت منه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجًا بأسباب ومواد .. يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته وتصوير لسرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع يفعل ما يطلب منه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الجمل.

[48]

على الفور. وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف، يعرف بوحي الله لأنبيائه، والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب وقوفًا عند العادة، وذهولًا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلي ينبيء بالاستحالة، وإنا نشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادًا من قبل، بعضه له أسباب معروفة، فيسمونه: استكشافًا أو اختراعًا، وبعضه ليس بمعروف له سببٌ، ويسمونه: فلتات الطبيعة. والمؤمنون يقولون: إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدي الحاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا. وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون .. لعدوه سحرًا، أو خرافة، أو أضافوه إلى الجن، ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابًا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذًا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقربُ إلى العقول، وأدنى إلى الإمكان. 48 - {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} قرأ نافع وعاصم: {يعلمه} بالياء ويكون معطوفًا على الحال، أعني: قوله: وجيهًا، فكأن جبريل قال: حالة كونه وجيهًا ومعلمًا الكتاب، وما بعده بفتح اللام، أو على: {يُبَشِرُكِ}، وقرأ الباقون: {ونعلمه} - بالنون - فيكون معمولًا لقول محذوف من كلام الملك تقديره: ويقول الله نعلمه إلخ، ويكون في المعنى معطوفًا على الحال أيضًا تقديره: وجيهًا ومقولًا فيه نعلمه، أو على {يُبَشِّرُكَ}؛ أي: إن الله يبشرك بعيسى، ويقول: نعلمه الكتاب، ويصح كونه مستأنفًا سيق تطييبًا لقلبها، وإزاحة لما أَهَمَّها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير زوج. أي: ويعلمه الكتاب؛ أي: الكتابة والخط باليد، وكان أحسن الناس خطًّا في زمانه، وقيل: يعلمه كتب الأنبياء {وَالْحِكْمَةَ}؛ أي: العلم المقترن بالعمل، وتهذيب الأخلاق {وَالتَّوْرَاةَ} التي أنزلت على موسى {وَالْإِنْجِيلَ} الذي أنزل عليه،

[49]

وإنما أفردهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة؛ لزيادة فضلهما على غيرهما، فكان يحفظهما على ظهر قلبه. وهذا إخبار من الله تعالى لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به، من الكرامة وعلو المنزلة. 49 - {و} حالة كونه {رسولًا إلى بني إسرائيل} كلهم، وتخصيص (¬1) بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم. وقرأ اليزيدي شذوذًا: {ورسولِ} - بالجر - وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على قوله: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}، وهي قراءة شاذة في القياس؛ لطول البعد بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعتمد عند الجمهور (¬2): أن عيسى إنما نبىء على رأس الأربعين، وأنه عاش في الأرض قبل رفعه مئة وعشرين سنة، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن أولهم يوسف بن يعقوب، وسيأتي بسط ذلك عند قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} إن شاء الله تعالى. {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} - بفتح الهمزة - على قراءة الجمهور، فيكون مجرورًا بباء الملابسة المقدرة المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر؛ لما فيه من معنى النطق، والتقدير: فلما جاءهم .. قال: إني رسول الله إليكم حالة كوني ملتبسًا بمجيئي إياكم بآية وعلامة تدل على صدق رسالتي، وتلك الآية: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير إلخ، وهذا التقدير أحسن (¬3)؛ لأن قصة البشارة قد تمت، وهذا شروع في قصة ما وقع له بعد وجوده في الخارج. وقريء بكسر همزة {إني} وهي شاذة، فيكون مفعولًا لقول محذوف تقديره: فلما جاءهم .. قال لهم: إني قد جئتكم بآية. {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: بعلامة دالة على صدقي كائنة من ربكم، وإنما قال: {بِآيَةٍ}، وقد جاء بآيات ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الجمل والمراح. (¬3) الجمل.

كثيرة؛ لأن الكل دال على شيء واحد، وهو صدقه في الرسالة. قرأ الجمهور: {بِآيَةٍ} بالإفراد، وفي مصحف عبد الله شذوذًا: (بآيات) بالجمع في الموضعين، فلما قال ذلك عيسى لبني إسرائيل .. قالوا: ما تلك الآية؟ قال هي {أَنِّي أَخْلُقُ} وأصور وأقدر {لَكُمْ}؛ أي: لأجل هدايتكم وتصديقكم بي {مِنَ الطِّينِ}؛ أي: من التراب الرطب {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}؛ أي: شيئًا مثل صورة الطير. قرأ الجمهور: {أَنِّي} - بفتح الهمزة - على كونه خبر مبتدأ محذوف كما قدرنا، أو على كونه بدلًا من آية، فيكون في محل جر. وقرأ نافع {إنيَ} بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول. وقرأ الجمهور {كَهَيْئَةِ} بفتحتين بينهما ياء ساكنة. وقرأ الزهري شذوذًا: (كهِيَّة) بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث. وقرأ الجمهور: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع في المتواتر: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}. {فَأَنْفُخُ فِيهِ}؛ أي: في فم ذلك الشيء المماثل للطير، فالضمير للكاف. وقرأ بعض القراء شذوذًا؛ (فأنفخ فيها) بالتأنيث كما هو كذلك في المائدة، فالضمير للهيئة. {فَيَكُونُ}؛ أي: فيصير ذلك المماثل الذي أنفخ فيه {طَيْرًا} حيًّا يطير بين السماء والأرض {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بأمر الله وتكوينه وتخليقه، وفيه إشارة إلى أن إحياءَه من الله تعالى، لا منه، وهذه هي المعجزة الأولى. وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: {طائرًا}، وقرأ الباقون: {طيرا}. روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخَفَّاش، وإنما طالبوه بخلق الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقًا، وأبلغ دلالة على القدرة؛ لأن له نابًا وأسنانًا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين: ساعة بعد المغرب، وساعة بعد طلوع الفجر، والأنثى منه لها ثدي وتحيض وتطهر وتلد. وخلاصة الكلام: أن من علامات نبوتي - إن كنتم فيه تمترون - أني أقتطع من الطين جزءًا مصورًا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه، فيصير

طيرًا حيًّا يحلق في جو السماء، كما تفعل بقية الطيور. وقد روي أنه عليه السلام لما أعلن النبوة، وأظهر المعجزات .. طالبوه بخلق خَفَّاش، فأخذ طينًا، وصوره، ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم .. سقط ميتًا؛ ليتميز عن خلق الله تعالى. وقد جرت سنّة الله أن تجرى الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها، وجعل الإيمان موقوفًا عليها، فإن كانوا سألوه شيئًا من ذلك .. فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير؛ إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنّة يعينه، فنقف حينئذٍ عند لفظ الآية. فلما صور لهم خفاشًا .. قالوا: هذا سحر، فهل عندك غيره؟ قال: نعم. {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}؛ أي: وأشفي الذي ولد أعمى، أو الممسوح العينين، وأصححه من عماه {و} أشفي {الأبرص} وأصححه من مرضه؛ وهو الذي في جلده بياض شديد، وهذه هي المعجزة الثانية، ولم يقل في هذه المعجزة، وفي المعجزة الرابعة: بإذن الله؛ لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة إلى الآخرين، فتوهم الألوهية فيهما بعيد، فلا يحتاج للتنبيه على نفيه خصوصًا وكان فيهم أطباء كثيرون، وإنما خُصَّا بالذكر؛ لأن مداواتهما أعيت الأطباء، وقد كان الطب متقدمًا جدًّا في زمن عيسى، فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس، وقد جرت السنّة الإلهية أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه؛ فأعطى موسى العصا، وابتلعت ما كانوا يأفكون؛ لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر؛ وأعطى عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره؛ وأعطى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - معجزة القرآن؛ لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان. فلما فعل ذلك قالوا: هذا سحر، فهل عندك غيره؟ قال: نعم. {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: وأحيي بعض الأموات بإرادة الله ودعائه، وكان يدعو لإحيائهم باسم الله الأعظم، وهو يا حي يا قيوم، وهذه هي المعجزة الثالثة.

وإنما كرر (¬1): بإذن الله هنا وفيما مرَّ؛ لنفي توهم الألوهية في عيسى، فهو رد على النصارى؛ لأن الإحياء والخلق ليس من جنس الأفعال البشرية، وأما إبراء الأكمه والأبرص، فهو من جنس أفعالهم، فلذا لم يذكر بإذن الله بعده، وذكر في المائدة أربعًا بلفظ: إذني؛ لأنه هنا من كلام عيسى، وثم من كلام الله تعالى، وأتى بهذه الأربع بلفظ المضارع دلالة على تجدد ذلك كل وقت طلب منه. روي أنه أحيا أربعة أنفس: أحيا عازَر بوزن هاجر بعد موته بثلاثة أيام حتى عاش، وولد له، وأحيا ابن العجوز وهو ميت محمول على السرير، فنزل عن سريره حيًّا، ورجع إلى أهله، وعاش وولد له، وأحيا بنت العاشر؛ أي: الذي يأخذ العشور من الناس بعد يوم من موتها، فعاشت، وولد لها، فقالوا لعيسى: إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت، فلعلهم لم يموتوا حقيقة، بل أصابهم سكتة، فأحي لنا سام بن نوح، وهو قد مضى من موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقام على قبره، فدعا الله باسمه الأعظم، فقام من قبره، وقال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله، ومات في الحال، فآمن به بعضهم، وكذبه آخرون، فقالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ}؛ أي؛ وأخبركم بما تطعمون وتشربون غدوة وعشية {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}؛ أي: وأخبركم ما ترفعون وتخبئون في بيوتكم من غداء لعشاء، ومن عشاء لغداء لتأكلوه فيما بعد ذلك. قيل: كان عيسى عليه السلام يخبر الرجل بما أكل البارحة، وبما يأكله اليوم، وبما يدخره للعشاء، وقال قتادة: إنما كان هذا في نزول المائدة، وكان خوانًا ينزل عليهم أينما كانوا، فيه من طعام الجنة، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغدٍ، فخانوا وادخروا، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بما أكلوا من المائدة، وما ادخروا منها، فمسخهم الله خنازير، وهذه هي المعجزة الرابعة، وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة له، وهي: إخباره عن المغيبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات من: إبراء الأكمه ¬

_ (¬1) الجمل.

[50]

والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه ذلك، وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر إليه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور الذي قلته لكم من خلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار عن المغيبات {لَأَيَة}؛ أي: لمعجزة قوية دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة {لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ومصدقين للحق غير معاندين انتفعتم بهذه الآيات. وقرأ الجمهور: {تَدَّخِرُونَ} بذال مشددة. وقرأ مجاهد والزهري وأيوب السختياني: {تذخرون} بذال ساكنة وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي: {وما تذدخرون} بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك جائز، وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، وما عداه شاذ. وتقدم أن في مصحف عبد الله بن مسعود: {لآيات} بالجمع، فمن أفرد أراد الجنس، وهو صالح للقليل والكثير. 50 - {وَمُصَدِّقًا} عطف ومصدقًا على قوله: بآية؛ إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية؛ لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوبًا بآية من ربكم، ومصدقًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}؛ أي: لما قبلي {مِنَ التَّوْرَاةِ} ومؤيدًا لها، ومعنى تصديقه للتوراة: الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالفها في أشياء، وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسع مئة سنة وخمس وسبعون سنة. والخلاصة: أي وجئتكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة، لا ناسخًا لها، ولا مخالفًا شيئًا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددًا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله {و} جئتكم {لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}؛ أي: ولأحل لكم بعض الطيبات التي حرمت عليكم في شريعة موسى بسبب ظلمكم، وكثرة سؤالكم؛ كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} من الشحوم والشروب، وهي شحم الكرش والأمعاء رقيق للبقر والغنم ولحوم الإبل، ومما لا صيصية له؛ أي: شوكة يؤذي بها من السمك والطير، ومن العمل في يوم السبت، وهذا لا يقدح في كونه مصدقًا للتوراة؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان.

[51]

قرأ الجمهور: {حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بالبناء للمفعول مع التشديد، وقرأ عكرمة شذوذًا: (حَرّم عليكم) بالتشديد مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير يعود على {ما} في قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ}، أو يعود على الله منزل التوراة، أو على موسى صاحب التوراة، والظاهر الأول؛ لأنه مذكور، وقرأ إبراهيم النخعي شذوذًا أيضًا: (حَرُم) بوزن: كَرُم. {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم دالة على صدق مقالتي، وشاهدة على صحة رسالتي مما ذكرت لم: من خلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، والإحياء والإنباء بالمغيبات إلى نحو ذلك (¬1)، وقرىء شذوذًا: {بآيات} بلفظ الجمع، وكرر هذا ليرتب عليه الأمر الذي ذكره بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله يا بني إسرائيل في عدم قبولها {وَأَطِيعُونِ}؛ أي: امتثلوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه عن الله تعالى، ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد، والاعتراف بالعبودية، فقال: 51 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {رَبِّي وَرَبُّكُمْ}؛ أي: خالقي وخالقكم، ومالكي ومالككم، وتكرار: {رَبِّي} {وَرَبُّكُمْ} أبلغ في التزام العبودية من قوله: ربنا، وأدل على التبري من الربوبية، وأقر بالعبودية لئلا يتقولوا عليه الباطل، فيقولوا: إنه إله وابن إله؛ لأن إقراره بالعبودية لله يمنعُ مما تدعيه جهال النصارى عليه {فَاعْبُدُوه}؛ أي: وحدوه ولازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن المناهي {هَذَا}؛ أي: الجمع بين التوحيد والعبادة {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}؛ أي: دين قويم يرضاه الله تعالى، وهو الإِسلام الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة. الإعراب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)}. {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ}: الواو استئنافية {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان. {قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، ¬

_ (¬1) قوله إلى نحو ذلك: كولادتي من غير أب، وكلامي في المهد اهـ.

والظرف متعلق بمحذوف تقديره: واذكر وقت قول الملائكة لمريم، والجملة المحذوفة مستأنفة. {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} إلى قوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} مقول محكي لـ {قَالَتِ}، وإنْ شئت قلت: {يَا مَرْيَمُ}: {يا}: حرف نداء. {مريم} منادى مفرد علم، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {قال} {إن}: حرف نصب، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} اسمها، {اصْطَفَاكِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إِنِّ} في محل النصب مقول (قال)، وجملة قوله: {وَطَهَّرَكِ} في محل الرفع معطوفة على جملة {وَاصْطَفَاكِ}، وكذا قوله: {وَاصْطَفَاكِ} الثاني. {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {وَاصْطَفَاكِ}. {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. {يَا مَرْيَمُ}: منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول القول. {اقْنُتِي}: فعل وفاعل {لِرَبِّكِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اقْنُتِي}، والجملة في محل النصب مقول القول {وَاسْجُدِي}: فعل وفاعل، وكذا قوله: {وَارْكَعِي}، والجملتان في محل النصب معطوفتان على جملة {اقْنُتِي}. {مَعَ الرَّاكِعِينَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {اركعي}. {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}. {ذلِكَ}: مبتدأ. {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {نُوحِيهِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة (¬1) الفعلية مستأنفة، والضمير في {نُوحِيهِ} عائد على {الْغَيْبِ}؛ أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب، ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}: الواو استئنافية {ما}: ¬

_ (¬1) الجمل.

نافية {كُنتَ}: فعل ناقص، واسمه. {لَدَيْهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بخبر {كان}، والجملة مستأنفة. {إذ} ظرف لما مضى. {يُلْقُونَ} فعل وفاعل، {أَقْلَامَهُمْ} مفعول ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والظرف متعلق بـ {كان}، أو بالاستقرار الذي وقع خبرًا لـ {كان}، والتقدير: وما كنت لديهم وقت إلقائهم أقلامهم. {أَيُّهُمْ} اسم استفهام مبتدأ مرفوع. {يَكْفُلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {أي}. {مَريَمَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أيهم كافل مريم، والجملة الإسمية في محل النصب معمول لمحذوف، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: إذ يلقون أقلامهم ليعلموا جواب أيهم يكفل مريم. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} إعرابه مثل إعراب قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}. {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى، {قَالَتِ الْمَلَائِكَة}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد قصة وقت قول الملائكة {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} إلى قوله: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} مقول محكي لـ {قَالَتِ}، وإن شئت قلت: {يَا مَرْيَمُ} منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول {قال} {إِنَّ اللَّهَ}: حرف نصب، واسمها {يُبَشِّرُكِ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول {بِكَلِمَةٍ}: متعلق بـ {يُبَشِّرُكِ} {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {كلمة}. {اسْمُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه {الْمَسِيحُ} خبره {عِيسَى} بدل منه، أو عطف بيان. {ابنُ مَرْيَمَ} بدل ثانٍ، أو عطف، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {كلمة}، والرابط ضمير اسمه، وقال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون {عِيسَى} خبرًا آخر؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ هنا مفرد، وهو قوله: {اسْمُهُ}، ولو كان {عِيسَى} خبرًا آخر لكان التقدير: أسماؤه، وأجاز أيضًا أن يكون {ابْنُ مَريَمَ} خبر

مبتدأ محذوف؛ أي: هو ابن مريم {وَجِيهًا}: حال من {كلمة}، والتذكير باعتبار معناها؛ لأنها بمعنى: مولود، وجاز مجيء الحال منها مع كونها نكرة لوصفها بالجار والمجرور بعدها {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَجِيهًا} {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}: جار ومجرور معطوف على {وَجِيهًا} على كونه حالًا من {كلمة}. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}. {وَيُكَلِّمُ} الواو عاطفة {يكلم الناس}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {كلمة}؛ لأنها بمعنى: مولود {فِي الْمَهْدِ}: متعلق بـ {يكلم}، أو حال من الضمير في {يكلم}؛ أي: يكلمهم صغيرًا. {وَكَهْلًا}: يجوز أن يكون حالًا معطونة على {وَجِيهًا}، وأن يكون معطوفًا على موضع {فِي الْمَهْدِ} إذا جعلناه حالًا، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على {وَجِيهًا} على كونها حالًا من {كلمة}. {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور، ومعطوف على {وَجِيهًا} على كونه حالًا من {كلمة}. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}. {قَالَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مريم}، والجملة مستأنفة. {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} إلى قوله: {بَشَرٌ}: مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: مناد مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى: من أين في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {يَكُونُ}. {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص {لِي}: جار ومجرور خبرها، {وَلَدٌ} اسمها، والجملة في محل النصب مقول {قال}، وتقدم مثل هذا الكلام في قصة زكريا، فراجعه {وَلَمْ}: الواو حالية {لم}: حرف نفي وجزم. {يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}: فعل ومفعول وفاعل، ونون وقاية، والجملة في محل النصب حال من ياء المتكلم في قوله: {لِي}. {قالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على جبريل، والجملة مستأنفة {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إلى آخر الآية مقول محكيٌّ، وإن شئت قلتَ: {كَذلِكِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك،

والجملة في محل النصب مقول القول. {اللَّهُ}: مبتدأ، {يَخلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {يَخْلُقُ} {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يشاؤه. {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط {قَضَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {أَمْرًا}: مفعول به، والجملة في محل الخفض فعل شرط لإذا، والعامل (¬1) في {إِذَا} محذوف يدل عليه الجواب من قوله: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ}، والتقدير: إذا قضى أمرًا .. يكون ويحصل، فلفظ: يكون المقدر، هو العامل في {إِذَا} {فَإِنَّمَا}: الفاء رابطة لجواب {إذَا} جوازًا، {إنما}: أداة حصر. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية دالة على جواب {إذَا} {كُن}: مقول محكي لـ {يَقُولُ}، وإن شئت قلتَ: {كُن}: فعل أمر بمعنى: أُحدث من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على {أَمْرًا}، {فَيَكوُنُ}: الفاء عاطفة {يكون}: فعل مضارع بمعنى يحصل من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على أمرًا، والجملة معطوفة على جملة {يَقُولُ}، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول {قال}. وفي "الفتوحات": قوله: {فَيَكوُنُ} الجمهور (¬2) على رفعه فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مستأنفًا؛ أي: خبرأ لمبتدأ محذوف؛ أي: فهو يكون، ويعزى لسيبويه. ¬

_ (¬1) الجمل ج 1 ص 99. (¬2) الجمل ج 1 ص 99.

الثاني: أن يكون معطوفًا على {كُن} من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وقرأ ابن عامر بالنصب هنا، وفي البقرة. انتهى. {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}. {وَيُعَلِّمُهُ} الواو عاطفة {يعلمه}: فعل مضارع ومفعول أول {الْكِتَابَ}: مفعول ثانٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب معطوفة على {وَجِيهًا} على كونها حالًا من {كلمة} على قراءة الياء، وأما على قراءة النون، فالجملة مستأنفة. وقال أبو البقاء (¬1): {ونعلمه} يقرأ بالنون حملًا على قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ويقرأ بالياء حملًا على {يُبَشِّرُكِ}، وموضعه حال معطوفة على {وَجِيهًا} انتهى. {وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: معطوفات على {الْكِتَابَ}. {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. {وَرَسُولًا}: حال معطوف على {وَجِيهًا}. {إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {رسولًا}؛ لأنه بمعنى مرسلًا. {أَنِّي}: أن: حرف نصب ومصدر، والياء اسمها {قَدْ}: حرف تحقيق {جِئْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {بِآيَةٍ}: متعلق به، أو في موضع الحال؛ أي: محتجًّا بآية، {مِنْ رَبِّكُمْ}: متعلق بمحذوف صفة لآية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (أن)، وجملة {أَن} في تأويل مصدر مجرور بباء الملابسة المقدرة، المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر تقديره: فلما جاءهم .. قال: إني رسول الله إليكم حالة كوني ملتبسًا بمجيئي إياكم بآية من ربكم، وعلى قراءة الكسر: تكون مقولًا لقول محذوف تقديره: فلما جاءهم .. قال لهم: إني قد جئتكم بآية من ربكم، كما مرت الإشارة إلى ذلك كله في مقام التفسير وأوجه القراءة. {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}. ¬

_ (¬1) العكبري.

{أَنِّي أَخْلُقُ} {أن} حرف نصب ومصدر، والياء اسمها، {أَخْلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على عيسى {لَكُمْ}: متعلق به، وكذا {مِنَ الطِّينِ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف تقديره: وهي؛ أي: تلك الآية خلقي لكم من الطين، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وقال أبو البقاء (¬1): {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} يقرأ بفتح الهمزة، وفي موضعه حينئذٍ ثلاثة أوجه: أحدها: الجر بدلًا من {آية}. والثاني: الرفع؛ أي: هي أني. والثالث: أن يكون بدلًا من {أَنِّي} الأولى. ويقرأ بكسر الهمزة على الاستئناف، أو على إضمار القول. انتهى. {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمحذوف تقديره: أني أخلق لكم من الطين هيئةً كائنة كهيئة الطير؛ أي: صورة كصورة الطير. {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}. {فَأَنْفُخُ}: الفاء عاطفة {أنفخ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على عيسى. {فِيهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {أَخْلُقُ}. {فَيَكُونُ طَيْرًا}: الفاء عاطفة {يكون}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على الشيء المصوَّر {طَيْرًا} خبرها، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {أنفخ}. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يكون}. {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}: فعل ومفعول. {وَالْأَبْرَصَ}: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على عيسى، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {أَخْلُقُ} {وَأُحْيِ الْمَوْتَى}: فعل ومفعول. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: متعلق به، وفاعله ¬

_ (¬1) العكبري.

ضمير يعود على عيسى، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {أَخْلُقُ}. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. {وَأُنَبِّئُكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على عيسى. {بِمَا}: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني. {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تأكلونه، وجملة {أنبئكم} في محل الرفع معطوفة على جملة {أَخْلُقُ} {وَمَا تَدَّخِرُونَ}: معطوف على قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ}. {فِي بُيُوتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَدَّخِرُونَ}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد {في ذلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لإنَّ {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، واللام فيه لام الابتداء، {لَكُمْ}: جار ومجرور صفة {لَآيَةً}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {إن} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها {مُؤْمِنِينَ}: خبر كان، وجواب {إن} محذوف تقديره: انتفعتم بهذه الآيات، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}. {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} الواو عاطفة {مصدقًا}: حال معطوفة على قوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: وجئتكم حال كوني محتجًا بآية من ربكم، وحالة كوني مصدقًا لما بين يدي {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مصدقًا} {بَيْنَ يَدَيَّ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف؛ إما صلة لـ {ما}، أو صفة لها {مِنَ التَّوْرَاةِ}: جار ومجرور في موضع نصب (¬1) على الحال من الضمير المستتر في الظرف، وهو {بَيْنَ}، والعامل فيها الاستقرار، أو نفس الظرف، ويجوز أن يكون حالًا ¬

_ (¬1) العكبري.

من {ما}، فيكون العامل فيه {مصدقًا}. {وَلِأُحِلَّ}: الواو عاطفة. {لأحل}: اللام حرف جر وتعليل، (أحل): فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على عيسى. {لَكُم}: جار ومجرور متعلق به {بَعْضَ}: مفعول به وهو مضاف {الَّذِي} مضاف إليه، {حُرِّمَ} ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائبه ضمير يعود على الموصول {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {حُرِّمَ}، وجملة {حُرِّمَ} صلة الموصول، وجملة {أحل} صلة إن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وجئتكم لإحلالي لكم بعض الذي حرم عليكم، وهذا المحذوف معطوف في المعنى على قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: الواو عاطفة {جئتكم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله السابق؛ {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، فهذه مؤكدة للسابقة لاتحادهما لفظًا ومعنى. {بِآيَةٍ}: متعلق بمحذوف حال من تاء الفاعل تقديره: وجئتكم حالة كوني ملتبسًا بآية، {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {آية}. {فَاتقُواْ اَللهَ وَأَطِيعُونِ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مجيئي لكم بآية من ربكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم: اتقوا الله. {اتقوا}: فعل وفاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {وَأَطِيعُونِ}: الواو عاطفة {أطيعون}: فعل وفاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة، أو استغناء عنها بكسر نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} اسمها. {رَبِّي}: خبرها ومضاف إليه، وكذلك قوله: {وَرَبُّكُمْ} معطوف عليه، وجملة {إِنَّ}. مستأنفة {فَاعْبُدُوهُ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا غرفتم كون معبودي ومعبودكم واحدًا، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم .. فأقول

لكم فاعبدوه. (عبدوه): فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {هَذَا}: مبتدأ {صِرَاطٌ}: خبره {مُسْتَقِيمٌ}: صفة لـ {صِرَاطٌ}، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}: الأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الهام، وهو اسم مصدر لأنبأ ينبىء إنباءً إذا أخبر بالخبر الذي يعتنى به. {نوُحِيهِ}: الوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء، فقد يكون بالمَلَك للرسل، وبالإلهام كما في النحل، والإشارة كما في زكريا وهو في المحراب، وهو اسم مصدر لأوحى يوحي إيحاءً ووحيًا إذا ألهم وأعلم. {أَقلَامَهُمْ}: جمع قلم، والقلم معروف، وهو الذي يكتب به، ويُطلق على السهم يقترع به، وهو فعل بمعنى مفعول؛ لأنه يقلم، أي: يبرى ويسوى، وقيل: هو مشتق من القلامة، وهي نبت ضعيف لترقيقه. {فِي الْمَهْدِ}: المهد: ما يمهد للصبي ويوطأ له لينام فيه، والكلام على حذف المضاف؛ أي: في زمان المهد. {وَكَهْلًا}: الكهل: اسم من اكتهل النبات إذا قوي وعلا، ومنه: الكاهل، وقال ابن فارس: اكتهل الرجل إذا خطه الشيب، من قولهم: اكتهلت الروضة إذا عمها النور، ويقال للرجل: كهل، وللمرأة: كهلة، والكهل: هو الذي بلغ سن الكهولة، وآخرها ستون، وقيل: خمسون، وقيل: اثنان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة، واختلف في أول سن الكهولة، فقيل: ثلاثون، وقيل: اثنان وثلاثون، وقيل: ثلاثة وثلاثون، وقيل: خمسة وثلاثون، وقيل: أربعون عامًا. فائدة: ونقل عن (¬1) الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله، أنه في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الرحم جنين، فإذا ولد فوليد، فإذا لم يستتم الأسبوع فصديع، وإذا دام يرضع فرضيع، وإذا فطم ففطيم، وإذا لم يرضع فجحوش، فإذا دبَّ ونما فدارج، فإذا سقطت رواضعه فمثغور، فإذا نبتت بعد السقوط فمتغر بالتاء والثاء، فإذا كان يجاوز العشر فمترعرع وناشىء، فإذا كان يبلغ الحلم فيافع ومراهق، فإذا احتلم فمحزور، وهو في جميع هذه الأحوال غلام، فإذا اخضر شاربه وسال عذاره فباقل، فإذا صار ذاقنًا ففتى وشارخ، فإذا أكملت لحيته فمجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى أن يستوفي الستين. هذا هو المشهور عند أهل اللغة. {اَلطِّينِ}: معروف، يقال: طانه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميمًا، إذا جبله وخلقه على كذا، ومطينٌ لقبٌ لمحدِّث معروف. {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}: الهيئة: الشَّكْل والصورة، وأصله مصدر، يقال: هاء الشيء يهاء - من باب هاب - هيئًا وهيئةً إذا ترتب واستقر على حال ما، وتعدِّيه بالتضعيف، فتقول: هيَّأته. قال تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ}. {الطَّيْرِ}: اسم جمع والطائر مفرده. {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}: الإبراء: إزالة العلَّة والمرض، وفي "المصباح" برأ من المرض يبرأ من بابي نفع وتعب، وبروء برءًا من باب: قرب لغة فيه، وفيه أيضًا: كمه كمهًا من باب تعب فهو أكمه، والمرأة كمهاء مثل أحمر وحمراء، وهو العمى يولد عليه الإنسان، وربما كان عارضًا. وفيه أيضًا: برص الجسم من باب تعب فالذكر أبرص، والأنثى برصاء، والجمع برص مثل: أحمر وحمراء وحمر، وفي "السمين": والبرص: داء معروف، وهو بياض يظهر على الجلد، ولم تكن العرب تنفر من شيء نُفْرتَها منه. {وَمَا تَدَّخِرُونَ}: يقال: ذخر الشيء يذخره إذا خبأه، والذُّخر: المذخور،

ويقال؛ إذ تخر من الذخر، أبدلت التاء دالًا، فصار: إذ دخر، ثم أدغمت الذال في الدال فقيل: ادّخر كما قيل: ادّكر في: اذدكر، فأصل تدخرون: تذدخرون؛ لأنه من باب افتعل كما مر في مقام التفسير. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة: منها: المجاز المرسل في قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} إذا أريد بالملائكة جبريل، فهو من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيمًا له، فهو مجاز مرسل علاقته العموم. ومنها: التكرار المسمى بالإطناب في قوله: {اصْطَفَاكِ}، وفي {يَا مَرْيَمُ}، وفي قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ}. ومنها: التقديم والتأخير في {وَاسْجُدِي} {وَارْكَعِي} على بعض الأقوال. وقال "أبو السعود" (¬1): وتكرير النداء في قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي} للإيذان بأن المقصود بهذا الخطاب ما يرد بعده، وأن الخطاب الأول من تذكير النعمة تمهيدًا لهذا التكليف وترغيبًا في العمل به. انتهى. وقال أيضًا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ} لا يخفى ما فيه من التهكم؛ إذ هو تقرير لكون ما ذكر وحيًا على طريقة التهكم بمنكريه، فإن طريق هذه الأمور الغريبة؛ إما المشاهدة، وإما السماع، وعدمه محقق عندهم، فبقي احتمال المعاينة المستحيلة باعترافهم، فنفيت تهكمًا بهم. انتهى. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ}: التكرير فيه مع تحقيق المقصود بعطف {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على؛ {إِذْ يُلْقُونَ} للدلالة على أن كل واحد من عدم حضوره إلقاء الأقلام، وعدم حضوره عند الاختصام، مستقل بالشهادة على بنوته. ¬

_ (¬1) الجمل.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}؛ لأنه سمى الولد كلمة؛ لوجوده بكلمة: كن، فهو من باب إطلاق السبب على المسبَّب. ومنها: العموم (¬1) الذي أريد به الخصوص في قوله: {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}. ومنها: الاستعارة عند من قال: القنوت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة. ومنها: الإشارة بـ {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}. ومنها: التشبيه في قوله: {أَقْلَامَهُمْ} إذا قلنا: إنه أراد القداح؛ أي: السهام. ومنها: إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ}؛ إذ هم المشافهون بالبشارة، والله الآمر بها، ومثله: نادى السلطان في البلد بكذا. ومنها: الاحتراس في قوله: {وَكَهْلًا} من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة .. لا يعيش. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كنَّت بالمس عن الوطء، ما كني عنه بالحدث واللباس والمباشر. ومنها: السؤال والجواب في قوله: {قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ}، وفي قوله: {أَنَّى يَكُونُ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} وفي قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} وفي قوله: {الطَّيْرِ}، وفي قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، وفي قوله: {رَبِي وَرَبُّكُم}، {ما} وفي قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ}. ومنها: التعبير عن الجمع بالمفرد في الآية: {الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}، وفي قوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا}. ومنها: الطباق في قوله: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى}، وفي قوله: {لأحل} و {حُرِّمَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الالتفات في قوله: {ونعلمه} عند من قرأ بالنون. ومنها: التفسير بعد الإبهام فيمن قال: الكتاب مبهم غير مُبين، والتوراة والإنجيل تفسير له. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جل وعلا: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}. المناسبة لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة، وإرساله رسولًا إلى بني إسرائيل، وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها .. ذكر هنا خبره مع قومه، وما لاقاه منهم من الصد والإعراض، ومقاساة الأهوال، وهمهم بقتله، وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به، وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدًا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاءً بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ...} أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راهبان من نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} إلى {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. وأخرج (¬2) ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رهطًا من أهل نجران قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، وأنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى آخر الآية، وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين. وقد أخرج (¬3) البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن العاقب والسيد أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يلاعنهما، فقال: أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعننا لا نفلح أبدًا نحن ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت فأبعث معنا رجلًا أمينًا، فقال: قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة. وأخرج (¬4) البيهقي في "الدلائل" من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران - قبل أن ينزل عليه طس سليمان باسم إله إبراهيم إسحاق ويعقوب - "من محمَّد النبي ... " الحديث، وفيه: بعثوا إليه شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبارًا الحرثي، فانطلقوا، فأتوه، فسألهم وسألوه، فلم يزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني. (¬4) لباب النقول.

[52]

فأصبح الغد، وقد أنزل الله هذه الآيات: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. وأخرج (¬1) ابن سعد في "الطبقات" عن الأزرق بن قيس قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقفُّ نجران والعاقب، فعرض عليهما الإسلام، فقالا: إنا كنا مسلمين قبلك، قال: كذبتما، إنه منع منكما الإِسلام ثلاث: قولكما اتخذ الله ولدًا، وأكلكما لحم الخنزير، وسجودكما للصنم، قالا: فمن أبو عيسى؟ فما درى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يرد عليهم حتى أنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فدعاهما إلى الملاعنة فأبيا، وأقرا بالجزية، ورجعا. التفسير وأوجه القراءة 52 - {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}؛ أي: فلما علم عيسى من قومه بني إسرائيل التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال والعناد، وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقي من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه، ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد، فيخبرهم فيسخرون منه، حتى طال ذلك به وبهم، وطلبوا قتله؛ لأنهم كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض. وفي هذا عبرةٌ وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان بأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضي إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان. فلما رأى منهم ذلك {قَالَ} وعيسى للحواريين: - كما تدل عليه آية الصف {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} - {مَنْ أَنْصَارِي} حالة كوني ملتجئًا {إِلَى اللَّهِ} ومتوجهًا إليه، أو ذاهبًا إليه أو في الدعوة إلى الله {قَالَ ¬

_ (¬1) لباب النقول.

الْحَوَارِيُّونَ}؛ أي: قال الأصفياء من أتباعه وخواصهم {نَحْنُ أَنصارُ اللهِ}؛ أي: نحن أنصار دين الله والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك، والآخذون بتعاليمك، والمنصرفون عن التقاليد السالفة، وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه. {آمَنَّا بِاللَّهِ}؛ أي: صدقنا بوحدانية الله، وبما جئتنا به، وهذا جارٍ مجرى بيان السبب في نصر دينه، والمعنى: يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أننا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذبَّ عن أولياء الله، والمحاربة لأعدائه {وَاشْهَدْ} لنا يا عيسى يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي مخلصون منقادون لأوامره، وفي هذا دليل على أن الإِسلام دين الله على لسان كل نبي، وإن اختلفت الأنبياء في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله، وإنما طلبوا شهادته؛ لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة، وإنما قال هنا: {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، وفي المائدة: {بأننا}؛ لأن ما فيها أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى، فناسب فيه التخفيف؛ لأن كلًّا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى، وإنما طلبوا منه عليه السلام الشهادة بذلك يوم القيامة إيذانًا بأن غرضهم السعادة الأخروية. والحواريون: جمع حواري، وحواريُّ الرجل: صفوته وخلاصته، والحواري أيضًا: الناصر، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل نبي حواري، وحواريي الزبير" أخرجه الشيخان. وهذا المعنى هو الصحيح، قاله ابن كثير. وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم، وقيل: لخلوص نياتهم، وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلًا، وقيل: تسعة وعشرين رجلًا آمنوا بعيسى عليه السلام واتبعوه، وكانوا إذا جاعوا .. قالوا: جعنا يا روح الله، فيضرب بيده الأرض ليخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا .. قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض، فيخرج منها الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا، نأكل من حيث شئنا، قال عليه السلام: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب للناس بالأجرة، فسموا حواريين.

[53]

53 - فلما أشهدوا عيسى على إيمانهم وإسلامهم .. تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا مبالغة في إظهار أمرهم يا {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {آمَنَّا} وصدقنا {بِمَا أَنْزَلْتَ} على عيسى من كتابك الإنجيل {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}؛ أي: وامتثلنا أمر رسولك عيسى فيما أتانا به من عندك {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: فاكتبنا في جملة من شهد لك بالوحدانية، ولرسلك بالرسالة بتصديقهم واتباعهم؛ أي: فثبِّت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما فاكتبنا في زمرة الأنبياء؛ لأن كل نبي شاهد لقومه، أو فاكتبنا مع محمَّد وأمته؛ لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة يوم القيامة، فإنهم يشهدون للرسل بالبلاغ، وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سأل الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم. 54 - {وَمَكَرُوا}؛ أي: ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى - عليه السلام - كفرهم من اليهود، واحتالوا في قتله بأن وكلوا به من يقتله غيلة {وَمَكَرَ اللَّهُ}؛ أي: أبطل الله مكرهم، فلم ينجحوا فيه، ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ أي: أقواهم مكرًا، وأنفذهم كيدًا، وأقدرهم على إيصال التفسير إليهم من حيث لا يحتسبون؛ حيث جعل تدميرهم في تدبيرهم، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته، وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم. واعلم: أن مكر الله استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم فمعنى: {وَمَكَرَ اللَّهُ}؛ أي: جازاهم على مكرهم، فحيث أضمروا على أخذ عيسى من حيث لا يحتسب .. جازاهم على ذلك وأخذهم من حيث لم يحتسبوا؛ حيث ألقى شبه عيسى عليه السلام على قاصد قتله فقتل، ورفع عيسى فسُمي الجزاء باسم الابتداء، كقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}. {وَهُوَ خَدِعُهُمْ} وأصل المكر: الاغتيال والخدع، حكاه ابن فارس، وهو إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي، وعلى هذا فلا يطلق

[55]

على الله إلا على طريق المشاكلة، فمعنى المشاكلة؛ الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى؛ إذ لا يجوز أن يوسف الله تعالى بالمكر إلا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به، هكذا قيل. وقد جاء إسناد المكر إلى الله تعالى من غير مقابلة في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}. وفي الحديث: "اللهم أمكر لي ولا تمكر عليّ". قال أبو حيان: سأل رجل الجنيد، فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر، وقد عاب به غيره؛ فقال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان الظهراني شعرًا: وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدِيْ ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا ثم قال: قد أجبتُك إن كنت تعقل. والمذهب الأسلم الذي عليه سلف الأمة إثبات المكر لله سبحانه وتعالى، فإذًا فالمكر صفة ثابتة لله تعالى نؤمن بها ونعتقدها ونثبتها من غير تمثيل ولا تعطيل، وهذا هو الذي نلقى الله عليه. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ملك بني إسرائيل اسمه: يهوذا، لما قصد قتل عيسى عليه السلام .. أمره جبريل أن يدخل بيتًا فيه روزنة - والروزنة: فرجة في سقف البيت - فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء، فقال الملك لرجل خبيث منهم يقال له تطيانوس: أدخل عليه فاقتله، فدخل البيت فلم يرَ عيسى، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام عليه، فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتال عظيم. 55 - وقوله: {إذ قالَ اَللهُ} ظرف لمكر الله؛ أي: مكر الله سبحانه وتعالى بهم حين قال لنبيه ورسوله عيسى عليه السلام: {يَعِيسى} ابن مريم {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}؛ أي: مستوفي أجلك المسمى، ومؤخرك إلى تمامه، وعاصمك من أن يقتلك الكفار، أو (¬1) قابضك من الأرض من توفيت مالي، أو متوفيك نائمًا؛ إذ رُوي أنه ¬

_ (¬1) البيضاوي.

رفع نائمًا، أو مميتك عن الشهوات العاتقة عن العروج إلى عالم الملكوت، وقيل: أماته الله سبع ساعات، ثم رفعه إلى السماء، وإليه ذهبت النصارى، والله أعلم بحقيقة الحال. {وَرَافِعُكَ} من الأرض {إلَيَّ}؛ أي: إلى سمائي ومحل كرامتي، ومقر ملائكتي. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: مخرجك من بينهم، ومنجيك منهم؛ أي: مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح، ونسبة السوء إليه، وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم، واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدونه بمكرهم وخبثهم. وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان (¬1): الأول: أن فيها تقديمًا وتأخيرًا، والأصل إني رافعك إليّ ومتوفيك؛ أي؛ إني رافعك الآن، ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك، وعلى هذا فهو رفع حيًّا بجسمه وروحه، وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، زاد في رواية: "حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أخرجه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس بيني وبينه - يعني: عيسى - نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه، فاعرفوه؛ فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين - أي: ثوبين مصبوغين بالممصرة، الممصرة: تراب أحمر يصبغ به - كأن رأسه يقطر ماءً، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الملل في زمانه كلها إلا الإِسلام، ويهلك المسيح الدجالَ، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ¬

_ (¬1) المراغي.

ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون" أخرجه أبو داود. والقول الثاني: أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح، ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان؛ لأن روحه هي هي. والمعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال تعالى في إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}، وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديثه آحاد، يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما. أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض: غلبة رُوحه، وسرد رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها. {وَجَاعِل اَلَذِينَ أتَّبَعُوكَ}؛ أي: وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، والذين صدَّقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومكروا بك، وهم اليهود بالحجة والسيف والقهر والسلطان والاستعلاء والنصرة {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ أي: إن هذه الفوقية مستمرة لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذٍ يفعل بهم ما يشاء، وهذه الفوقية؛ إما فوقية دينية روحانية، وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق؛ والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية، وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وفي هذا إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة، وقد تحقق ذلك؛ فإن مُلك اليهود قد ذهب، لم تبق لهم قلعة ولا سلطان ولا شوكة في جميع الأرض، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم، بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة، وملك النصارى باقٍ قائم إلى قريب من قيام الساعة، فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

[56]

وقيل: إن الخطاب في قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} لنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الوقف على قوله من الذين كفروا تامًّا، والابتداء بما بعده، وجاز هذا لدلالة الحال عليه؛ أي: جاعلهم قاهرين لهم إلى يوم القيامة يعني: أنهم ظاهرون على اليهود وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا؛ فأما يوم القيامة .. فيحكم الله بينهم، فيدخل الطائع الجنة، والعاصي النار، وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائها؛ لأن لهم استعلاء آخر غير هذا الاستعلاء. {ثُمَّ} بعد انقضاء الدنيا، وقيام الساعة {إِليَّ} لا إلى غيري {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم ومصيركم إليَّ بالموت والبعث، والخطاب لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به، وغلب المخاطبين على الغائبين. {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذٍ {فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}؛ أي: فيما اختلفتم فيه من أمور الدين. 56 - ثم بيَّن جزاء المحق والمبطل وكيفيته فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وكذبوك، وهم اليهود {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} بإذلالهم بالقتل والأسر والجزية وتسليط الأمم عليهم {و} في {الآخرة} بالنار، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}؛ أي: مانعين من عذاب الله في الدنيا والآخرة. 57 - {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ والكتاب، وبنبوة عيسى، وبنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فيما بينهم وبين ربهم؛ بأن امتثلوا الأوامر، واجتنبوا النواهي {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}؛ أي: يعطيهم الله تعالى أجور أعمالهم وثوابها في الجنة موفرًا كاملًا غير منقوص. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}؛ أي: لا يريد إيصال الخير إلى المشركين، أو المعنى: والله لا يحب من ظلم غيره حقًّا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له؟ فهو يجازيه بما يستحق، وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، وفي هذه (¬1) الآية قال: {فَيُوَفِّيهِمْ} بالياء على قراءة حفص ورويس وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[58]

إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور: {فنوفيهم}؛ أي: نعطيهم أجورهم كاملة موفرة - بالنون الدالة على المتكلم المعظم نفسه -، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية؛ ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر، وبالمؤمن؛ كما خالف في الفعل؛ ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة. 58 - {ذَلِكَ} المذكور الذي ذكرته لك من خبر عيسى، وأمه مريم، وأمها، وزكريا، وابنه يحيى، ومن خبر الحواريين واليهود. {نَتلُوُه}؛ أي: نقرأه {عَلَيْكَ} يا محمَّد على لسان جبريل الأمين، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل إلى نفسه سبحانه وتعالى؛ لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلًا، فأضافه إليه حالة كونه {مِنَ الْآيَاتِ}؛ أي: من العلامات الدالة على نبوتك يا محمَّد؛ لأنها إخبار لا يعلمها إلا من يقرأ ويكتب، أو نبي يُوحى إليه، وأنت أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب، فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}؛ أي: القرآن المحكم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}. وقد روى - كما مر لك -: أنه حضر وفد نصارى نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا ونسبه؟ فقال: مَنْ هو؟ قالوا: عيسى، قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد، قال: أجل هو عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب؟ ومن لا أب له فهو ابن الله، ثم خرجوا من عنده - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك: 59 - {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى}؛ أي: إن شأن عيسى وصفته في خلق الله تعالى إياه على غير مثال سابق؛ أي: من غير أب {كَمَثَلِءَادَمَ} أبي البشر؛ أي: كشأن آدم وصفته، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: {خَلَقَهُ}؛ أي: خلق آدم وأوجده وكوَّن جسمه {مِنْ تُرَابٍ} ميت؛ حيث أصابه الماء، فكان طينًا لازبًا لزجًا؛ أي: خلقه بلا أب وأم {ثُمَّ} بعد ما كوَّن جسمه من التراب {قَالَ} الله {لَهُ}؛ أي: لآدم {كُن} بشرًا حساسًا بنفخ الروح فيه {فَيَكُونُ}؛ أي: فكان بشرًا حساسًا ناطقًا ضاحكًا، والتعبير بالمضارع على حكاية الحال الماضية، أو

[60]

للفاصلة، وكذلك قال له: كن من غير أب .. فكان ولدًا بلا أب، فإذا كان آدم كذلك، ولم يكن ابنًا لله .. فكذلك عيسى، فمن لم يقرَّ بأن الله خلق عيسى من غير أب مع إقراره بخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو خارج عن طور العقلاء، وأيضًا: إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب .. فيجوز خلق الله تعالى عيسى من دم مريم من باب أولى، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقربُ إلى العقل من تولده من التراب اليابس. ثم أكد الله سبحانه وتعالى صدق هذا القصص، فقال: 60 - {الحق من ربك} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الحق؛ أي: ما قصصنا عليك يا محمَّد في شأن عيسى وأمه مريم، هو الخبر الحق، والقول الصدق، والأمر الثابت الذي لا شك فيه حالة كونه موحى إليك من ربك، لا ما تعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، أو ابن الله، ولا ما تزعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النجار. {فَلَا تَكنُ} يا محمَّد {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}؛ أي: من الشاكين فيما بينت لك في شأن عيسى وأمه، وهو كونه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم؛ أي: فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به، وهذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المقصود به نهي غيره لعصمته عن مثل ذلك الامتراء. وفي النهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع استحالة وقوع الامتراء منه فائدة من وجهين: الأول: إذا سمع - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الخطاب .. ازداد رغبة في الثبات على اليقين، واطمئنان النفس. والثاني: إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء؛ إذ أنه - صلى الله عليه وسلم - على جلالة قدره خوطب بمثل هذا، فما بالك بغيره. وخلاصة ذلك: دم على يقينك يا محمَّد، وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه. 61 - {فَمَنْ حَاجَّكَ} وخاصمك وجادلك {فِيهِ}؛ أي: في شأن عيسى، وهم النصارى الذين وفدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نجران، كما مر في مقام أسباب النزول. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ}؛ أي: بعد الذي جاءك وأوحي إليك {مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي: من الآيات البينات التي تفيد العلم واليقين، بأن

عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم. {فَقُلْ} لهم يا محمَّد: {تَعَالَوْا}؛ أي: هلموا وأقبلوا إليّ. قرأ الجمهور: {تَعَالَوْا} بفتح اللام وهم الأصل والقياس. وقرأ الحسن وأبو واقد وأبو السِّمال شذوذًا بضم اللام على أن أصله: تعاليوا، فنقلت الضمة إلى اللام، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وهذا تعليل شاذ. {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا}؛ أي: نخرج أبناءنا {وَأَبْنَاءَكُمْ}؛ أي: أخرجوا أنتم أبناءكم {وَنِسَاءَنَا}؛ أي: نخرج نساءنا {وَنِسَاءَكُمْ}؛ أي: وأخرجوا أنتم نساءكم {وَأنفُسَنَا}؛ أي: نخرج بأنفسنا {وَأَنْفُسَكُمْ}؛ أي: اخرجوا أنتم بأنفسكم. {ثُمَّ نَبْتَهِلْ}؛ أي: نتضرع ونجتهد ونبالغ في الدعاء {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} وغضبه فيما بيننا {عَلَى الْكَاذِبِينَ} منا ومنكم في شأن عيسى؛ أي: فقل لهم أقبلوا، وليدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة، وليقل: لعنة الله على الكاذبين منا ومنكم، أو اللهم العنْ الكاذب منا في شأن عيسى. وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم إيذانٌ بكمال أمته - صلى الله عليه وسلم -، وتمام ثقته بأمره، وقوة يقينه بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه، وهذه الآية تسمى: آية المباهلة. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اختار للمباهلة عليًّا، وفاطمة، وولديهما رضي الله عنهم، وخرج بهم، وقال: إن أنا دعوت .. فأمنوا أنتم. وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه: أنه لما نزلت هذه الآية .. جاء بأبي بكر وولده، وبعمر وولده، وبعثمان وولده، ولا شك أن الذي يفهم من الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالًا ونساءً وأطفالًا، ويجمع هو المؤمنين رجالًا ونساءً وأطفالًا، ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى. وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول، كما يدل امتناع من دُعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بيّنة فيما يعتقدون.

وفي الآية عبرة لمن ادَّكر؛ لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية، وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل، حتى في الأمور العامة، إلا في بعض مسائل؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها، وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم، في جهلهن بأمور الدين، وعدم مشاركتهن للرجال في عمل من الأعمال الدينية، أو الشؤون الاجتماعية، ولا هَمَّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة، والتنوق (¬1) في المطاعم والمشارب والملابس، والتفرج بآلات الملاهي المحرمة، والأغاني الخبيثة، وإضاعة الأوقات فيها، كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالأُتن الحاملة، والبقر العاملة، وكان من جزاء هذا أن صغُرتْ نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعمَّ الأُسَر والعشائر والشعوب والقبائل. وقد قام في هذا العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإِسلامية يطالبون بتحرير المرأة، ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشؤون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانًا صاغية، فبدأ المسلمون يعلِّمون بناتهم، ولكن ينبغي أن يصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية، والإصلاح في الأخلاق والعادات. وقد كان هذا عاملًا من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي لا ندري ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإِسلامية، ولا ما سينتج منه من نفع للإسلام والمسلمين، أو تتبع للنصارى والمشركين. فائدة: وأتى (¬2) بـ {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} تنبيهًا لهم على خطئهم في ¬

_ (¬1) التنوق: يقال تنوق في المطعم والمشرب إذا أخذ أجوده وأحسنه اهـ. (¬2) الجمل.

[62]

مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأَنَّوا؛ لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي. قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} هذه (¬1)، والتي في النور في قوله: {والخامسة أن لعنت الله عليه}، يكتبان بالتاء المبسوطة، وما عداهما بالهاء على الأصل. 62 - {إنَّ هَذَا} المذكور الذي ذكرته لك يا محمَّد من الدلائل التي دلت على أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولم يكن إلهًا، ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران {لَهُوَ اَلقَصَصُ الْحَقُّ}؛ أي: لهو الخبر الصدق، والقول الحق الذي لا شك فيه دون أكاذيب النصارى، وافتراء اليهود {وَمَا مِنْ إِلَهٍ} بلا شريك، ولا ولد، ولا زوجة {إِلَّا اللَّهُ} سبحانه وتعالى. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يُمنع، القادر على جميع المقدورات {الْحَكِيمُ}؛ أي: العالم بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمور، فذكر العزيز الحكيم ها هنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى: القدرة على الإحياء ونحوه، وإخبار الغيوب؛ أي: لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة، والحكمة البالغة، ليشاركه في الإلهية. 63 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة .. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عليم بـ} حال {المفسدين} في الدين، ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم وسيىء أعمالهم. وخلاصة المعنى: فإن أبوا عن قبول الحق، وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عالمًا قادرًا على جميع المقدورات، عالمًا بالنهايات، محيطًا بالمعلومات، مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك، ومع قولهم: إن اليهود قتلوه .. فاعلم أن إباءهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك عنهم، وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، ¬

_ (¬1) الجمل.

مطلِّع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم. الإعراب {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}. {فَلَمَّا أَحَسَّ} الفاء استئنافية (لما): حرف شرط غير جازم {أَحَسَّ عِيسَى}: فعل وفاعل. {مِنْهُمُ}: متعلق بـ {أَحَسَّ}، أو حال من {الكُفرَ} تقديره: أحسَّ الكفر حال كونه صادرًا منهم، كما قاله أبو البقاء. {الْكُفْرَ}: مفعول به لأحس، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} مستأنفة، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلتَ: {مَنْ}: اسم استفهام مبتدأ، {أَنْصَارِي}: خبر ومضاف إليه {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور حال من ياء المتكلم متعلق بمحذوف تقديره: حالة كوني ملتجئًا إلى الله، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} إلى قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلتَ: {نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {ءَامَنَّا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: الواو عاطفة {اشهد}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {آمَنَّا بِاللَّهِ} على كونها مقول {قَالَ} {بِأَنَّا}: الباء حرف جر، أن: حرف نصب ومصدر، ونا: ضمير المتكلمين اسمها. {مُسْلِمُونَ}: خبرها، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بـ {أشهد} تقديره؛ وأشهد بكوننا مسلمين.

{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}. {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {بِمَاَ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَّا}، {أَنْزَلْتَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزلته. {وَاتَّبَعْنَا}: الواو عاطفة، (اتبعنا) فعل وفاعل. {الرَّسُولَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا} على كونها مقول القول. {فَاكْتُبْنَا}: الفاء عاطفة تفريعية، {اكتبنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا}، {مَعَ الشَّاهِدِينَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اكتبنا}، أو حال من ضمير المفعول. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}. {وَمَكَرُوا} الواو استئنافية، {مكروا}: فعل وفاعل، والجملة مستئانفة {وَمَكَرَ اللَّهُ}: فعل وفاعل معطوف على {مكروا}، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية، {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. {إذْ}: ظرف لما مضى من الزمان {قَالَ اَللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والظرف متعلق بـ {مكر الله}؛ أي: مكرهم الله وقت قوله لعيسى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلتَ {يَا عِيسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: إنَّ: حرف نصب وتوكيد، والياء اسمها، {مُتَوَفِّيكَ}: خبرها ومضاف إليه {وَرَافِعُكَ}: معطوف على {مُتَوَفِّيكَ} {إلَيَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {رافعك}، وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمُطَهِّرُكَ}: معطوف على {مُتَوَفِّيكَ}. {مِنَ الَّذِينَ}:

متعلق بـ {مطهرك} {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَجَاعِلُ}: معطوف على {مُتَوَفِّيكَ}، وهو مضاف {الَّذِينَ} مضاف إليه {اتَّبَعُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فَوْقَ الَّذِينَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف مفعول ثانٍ لـ {جاعل} تقديره: ظاهرين فوقهم. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جاعل} يعني: أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم، ويجوز أن يتعلق بما تعلق به الظرف؛ أعني: فوق الذين كفروا. {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتب وتراخٍ، {إِلَيَّ}: جار ومجرور خبر مقدم لإفادة الحصر. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {فَأَحْكُمُ}: الفاء: حرف عطف وتعقيب، {أحكم}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، فالجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} على كونها مقول القول، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {أحكم}، {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أحكم}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمها {فِيهِ} متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ} وجملة {تَخْتَلِفُونَ}: خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير فيه، والتقدير: فأحكم بينكم فيما كنتم مختلفين فيه. {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}. {فَأَمَّا الَّذِينَ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت رجوعكم إليّ وحكمي بينكم، وأردت بيان كيفية ذلك الحكم .. فأقول لك {ما}: حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ}: مبتدأ {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {فَأُعَذِّبُهُمْ}: الفاء

رابطة لجواب {أما} {أعذبهم}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله {عَذَابًا}: مفعول مطلق. {شَدِيدًا} صفة {عَذَابًا}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ (أعذبهم) {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}، وجملة (أعذبهم) في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنها خبر سيِّىءٌ تقديره: فأما الذين كفروا .. فمعذب أنا إياهم، والجملة الإسمية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا في محل النصب مقول {قالَ} {وَمَا لَهُمْ}: الواو عاطفة، (ما): حجازية أو تميمية (لهم): جار ومجرور خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ المؤخر. {مِنْ}: زائدة {نَاصِرِينَ}: اسم (ما) الحجازية، أو مبتدأ مؤخر تقديره: وما ناصرون كائنين أو كائنون لهم، والجملة معطوفة على جملة {ما}) على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}. {وَأَمَّا الَّذِينَ} الواو عاطفة {ما}): حرف شرط {الذين}: مبتدأ {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}، {فَيُوَفِّيهِمْ}: الفاء رابطة لجواب (أما) (يوفيهم): فعل مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {أُجُورَهُمْ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سيِّئ، والجملة الإسمية جواب (أما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) في محل النصب معطوفة على جملة (أما) الأولى {وَاللَّهُ}: الواو عاطفة (الله): مبتدأ {لَا}: نافية {يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة (أما). {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}. {ذَلِكَ} مبتدأ {نَتلُوُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}،

والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب {عَلَيْكَ} متعلقان بـ {نتلوه} {مِنَ الْآيَاتِ}: جار ومجرور حال من ضمير {نَتلُوُه} {وَالذكِرِ}: معطوف على {الْآيَاتِ} {الْحَكِيمِ}؛ صفة لـ {ذكر}. {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}. {إِنَّ} حرف نصب {مَثَلَ}: اسمها، {عِيسَى}: مضاف إليه {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف حال من الضمير المستكن في خبر {إِنَّ} الآتي، وقال أبو حيان (¬1): والعامل في {عِندَ} العاملُ في كاف التشبيه. {كَمَثَلِ آدَمَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {خَلَقَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {مِنْ تُرَابٍ}: جار ومجرور متعلق بـ (خلق)، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ {مثل آدم} لا محل لها من الإعراب، وقيل: حال من {آدَمَ} على تقديره: قد، قال أبو حيان (¬2): وهذه الجملة تفسيرية لـ {مثل آدم}، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقد مع {خَلَقَهُ} مقدرةٌ، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية؛ ولا يجوز أن يكون {خَلَقَهُ} صفة لآدم، ولا حالًا منه إذ الماضي لا يكون حالًا أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه، مُضَمَّنه تفسير المثل. انتهى كلامه، وفيه نظر اهـ. {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {قالَ}، وجملة {قَالَ} معطوفة على جملة {خَلَقَهُ}، {كُن}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {كُن}: فعل أمر من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على {آدَمَ}، والجملة معطوفة على جملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

{قَالَ} {فَيَكُونُ} الفاء استئنافية {يكون} فعل مضارع تام مرفوع بالضمة والفاعل هو والجملة مستأنفة. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}. {الْحَقُّ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا هو الحق، والجملة مستأنفة {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {الْحَقُّ} تقديره: حال كونه كائنًا من ربك. {فَلَا تَكُنْ}: الفاء عاطفة تفريعية {لا}: ناهية جازمة {تَكُنْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {تكن} تقديره: فلا تكن كائنًا من الممترين، والجملة معطوفة على جملة قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا}. {فَمَنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن هذا المذكور في شأن عيسى هو الحق من ربك، وأردت بيان كيفية المعارضة مع من حاجك فيه .. فأقول لك {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما، أو موصولة بمعنى الذي في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: {فَقُلْ تَعَالَوْا}، ودخلت الفاء في خبره لشبه الموصول بالشرط في العموم {حَاجَّكَ}: فعل ماضٍ ومفعول في محل الجزم بـ (مَنْ) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على (من) {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَاجَّكَ}، {من بعد ما}؛ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {حَاجَّكَ}. {جَاَءَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها {مِنَ الْعِلْمِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {جَاَءَكَ} تقديره: حال كونه كائنًا من العلم. {فَقُلْ}: الفاء رابطة لجواب (من) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية (قل): فعل أمر في محل الجزم بـ (من) الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا الشرطية، وجملة إذا الشرطية مستأنفة. {تَعَالَوْا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت

قلتَ: {تَعَالَوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قل}. {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. {نَدْعُ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى، والجملة في محل النصب مقول {قل} {أَبْنَاءَنَا}: مفعول به ومضاف إليه {وَأَبْنَاءَكُمْ}: معطوف على {أَبْنَاءَنَا}، وكذلك معطوف عليه قوله: {وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخٍ. {نَبْتَهِلْ}: فعل مضارع معطوف على {نَدْعُ} على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} فعل مضارع ومفعول أول ومضاف إليه، معطوف على {نَدْعُ} على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه {عَلَى الْكَاذِبِينَ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {نجعل}. {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. {إِنَّ}: حرف نصب {هَذَا}: اسمها {لَهُوَ}: اللام حرف ابتداء {هو}: ضمير فصل {اَلقَصَصُ}: خبر {إنَّ} {الْحَقُّ}: صفة لـ {قصص}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}: الواو عاطفة أو استئنافية {ما}: نافية، {من}: زائدة زيدت لإفادة الاستغراق والعموم {إِلَهٍ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النافي عليه {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {اللَّهُ}: خبر المبتدأ، والجملة عاطفة على جملة {إِنَّ}، أو مستأنفة. وفي "الفتوحات الإلهية" قوله (¬1): {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن {مِنْ إِلَهٍ}: مبتدأ، و {مِنْ} مزيدة فيه، وإلا الله خبره تقديره: ما إله إلا الله، وزيدت {مِنْ} للاستغراق والعموم. ¬

_ (¬1) الجمل.

الثاني: أن يكون الخبر مضمرًا تقديره: وما من إله لنا إلا الله و {إلّا اللَّهُ}: بدل من موضع {مِنْ إِلَهٍ}؛ لأن موضعه رفع بالابتداء اهـ. "سمين". انتهى. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: الواو عاطفة أو استئنافية (إن): حرف نصب {اللهَ}: اسمها {لَهُوَ}: اللام حرف ابتداء {هو}: ضمير فصل {الْعَزِيزُ}: خبر أول لـ {إنَّ} {الْحَكِيمُ}: خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت كيفية المحاجة معهم، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن قبول الحق بعد المحاجة .. فأقول لك. {إنْ} حرف شرط جازم {تَوَلَّوْا}: فعل ماضٍ، وفاعل، في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعل شرط لها {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطةٍ لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إن): حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها {عَلِيمٌ}؛ خبرها. {بِالْمُفْسِدِينَ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (إنْ) الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}: الإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس، وهي: الذوق والشم واللمس والسمع والبصر، يقال: أحسست الشيء وبالشيء وحسست به، ويقال: حسيت به بإبدال سينه الثانية ياءً، وأحست بحذف سينه الأولى، وقال سيبويه: وما شذَّ من المضاعف - يعني: في الحذف - فشبيه بباب أقمت، وذلك قولهم: أحست وأحسن، يريدون أحسست وأحسسن، والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة. {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}: والأنصار جمع: نصير، نحو شريف وأشراف.

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}: جمع حواري، وهو الناصر، وهو مصروف وإن ماثل المفاعل؛ لأن ياء النسب فيه عارضة، وهو مشتق من الحور، وفعله من باب طَرِب يقال: حورت العين إذا صفا بياض بياضا وسواد سوادها، فسموا حواريين لخلوص بياض ألوانهم ونياتهم وسرائرهم، فعلى هذا القول الحَوَر وهو البياض قائمٌ بذواتهم وقلوبهم، وقيل: مأخوذ من التحوير وهو: التبييض؛ لأنهم يحورون الثياب، ويقصرونا؛ أي: يبيضونها. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} والمكر (¬1): الخداع والخبث، وأصله: الستر، يقال: مكر الليل وأمكر إذا أظلم، واشتقاقه من: المكر، وهو: شجر ملتف، فكأن المذكور به يلتف به المكر ويشتمل عليه ويقال: امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق، والمكر أيضًا ضرب من النبات، وفسره بعضم بأنه: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: محمود: وهو أن يتحرى به فعلَ جميلَ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. ومذموم: وهو أن يتحرى به فعل قبيحٍ؛ نحو: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. اهـ. "سمين". {فَقُلْ تَعَالَوْا}: العامة على فتح اللام؛ لأنه أمر من: تعالى يتعالى؛ كترامى يترامى، وأصل ألفه ياء، وأص هذه الياء واو؛ وذلك لأنه مشتق من العلو وهو: الارتفاع، والواو متى وقعت رابعة فصاعدًا قلبت ياءً، فصار تعالى فتحرك حرف العلة - وهو الياء -، وانفتح ما قبله، فقُلب ألفًا، فصار: تعالى كترامى، فإذا أمرتَ منه الواحد .. قلت: تعالَ يا زيد؛ بحذف الألف؛ لبناء الأمر على حذفها، وكذا إذا أمرت الجمع المذكر .. قلت: تعالَو!؛ لأنك لما حذفت الألف لأجل الأمر .. أبقيتَ الفتحة مشعرة بها، وإنْ شئت قلت: الأصل: تعاليوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم -، ثم استثقلت الصفة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين، وتركت الفتحة على حالها، وإنْ ¬

_ (¬1) الجمل.

شئت قلت: لما كان الأصل: تعاليوا .. تحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله - وهو الياء -، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالة عليها. والفرق بين هذا وبين الوجه الأول: أن الألف في الوجه الأول حذفت لأجل الأمر، وإن لم يتصل به وأو ضمير، وفي هذا حُذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكذلك إذا أمرت الواحدة .. تقولُ لها: تعالي، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف فيه كما تقدم في أمر جماعة المذكور، فتأتي هنا الوجوه الثلاثة، فيقال: حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع ياء المخاطبة، وبقيت الفتحة دالة عليها، أو يقال: استثقلت الكسرة على الياء التي هي من أصل الكلمة، فحذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياءَان فحذفت الأولى، أو يقال: تحركت الياء الأولى وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وأما إذا أمرت المثنى .. فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا أيضًا؛ يستوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمر جماعة الإناث، تثبت فيه الياء فتقول: يا نسوة تعالَين، قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ}؛ إذ لا مقتضى للحذف، ولا للقلب، وهو ظاهر بما تمهد من القواعد الصرفية. وقرأ الحسن شاذًا: {تعالُوا} بضم اللام، والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسوا الحرف المحذوف، حتى كأنهم توهموا أن الكلمة بُنيت على ذلك، وأن اللام هي الآخر في الحقيقة، فلذلك عوملت معاملة الآخر حقيقة، فضمت قبل واو الضمير، وكسرت قبل يائه. وتعال: فعل أمر صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة به. {ثُمَّ نَبْتَهِلْ}: والابتهال: افتعال من البهلة - بفتح الباء وضمها - وهي: اللعنة، هذا أصله، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه، وإن لم يكن التعانًا، وفي "القاموس": والبهل: اللعن، والترك، والاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه، وفي "المصباح": بهله بهلًا من باب نفع إذا لعنه، واسم الفاعل باهل، والأنثى: باهله، وبها سميت قبيلة، والاسم البُهْلة بالضم وزان: الغرفة، وباهله مباهلةً من

باب قاتل إذا لَعَن كل واحد منهما الآخر، وابتهل إلى الله إذا تضرع إليه. اهـ. {لَهُوَ الْقَصَصُ}: والقصَص: مصدر قولهم: قصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصه قصًّا قصصًا، وأصله: تتبع الأثر، يقال: فلان خرج يقص أثر فلان؛ أي: يتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}؛ أي: اتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام؛ لأنه يتتبع خبرًا بعد خبر. البلاغة {فَلَمَّا أَحَسَّ}: فيه استعارة تصريحية تبعية؛ إذ لا يحس إلا ما كان متجسدًا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس، إلا إذا كان أحس بمعنى: رأى أو سمع منهم كلمة الكفر، فيكون أَحسَّ لا استعارة فيه؛ إذ يكون المعنى: أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن. ومن ضروب البلاغة أيضًا في هذه الآيات: منها: السؤال والجواب في قوله: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}. ومنها: التكرار في قوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، وقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وفي قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، وفي قوله: {آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ}، وفي قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} و {الْمَاكِرِينَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ {مكروا} و {الْمَاكِرِينَ}. ومنها: إسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى}، والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة. ومنها: الاستعارة في قوله: {مُتَوَفِّيكَ}، وفي قوله: {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: التفصيل لِمَا أجمل في قوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} بقوله: {فَأَمَّا}، {وأما}. ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ}، {وَأَمَّا

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. ومنها: الالتفات في قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} على قراءة الياء من ضمير المتكلم، وفي قوله: {فَأُعُذبُهُمْ} إلى ضمير الغيبة. ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: {نَتلُوهُ}، وفي قوله: {فَيَكُونُ}. ومنها: تشبيه الغريب بالأغرب في قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ}؛ لأن فاقد الأبوين أغرب من فاقد الأب، فكان أشد خرقًا للعادة من الموجود من غير أب، وأقطع الخصم، وأحسم لمادة شبهته، والجامع: كون كل منهما من غير أب. ومنها: الإلهاب والتهييج في قوله: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. إلى غير ذلك من ضروب البلاغة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}. المناسبة لما (¬1) بين الله سبحانه وتعالى فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام، وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى التوحيد والإِسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودلَّ ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته .. دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين، وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعًا، وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، ¬

_ (¬1) المراغي.

وهو عبادة الله وَحْده لا شريك له، فلما أعرضوا .. أمر بأن يقول لهم: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. ولما بين أيضًا أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل ولا البرهان، فدعوتهم إلى دين الإِسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده، لا تجد منهم أذنًا صاغية، ولا قلوبًا واعية .. ذكر شأنًا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصًا على إضلال المؤمنين، فلا يَدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغًا أشده بين الفريقين، فإذا تمسكنا نحن وأنتم بها، وصدَّقناها .. كنا على السواء والاستقامة، وفي قراءةٍ شاذةٍ لابن مسعود: {إلى كلمة عدل بيننا وبينكم}. ثم فسر الكلمة بقوله هي: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}؛ أي تلك الكلمة: عدم عبادتنا سوى الله سبحانه وتعالى {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}؛ أي: وعدم إشراكنا به سبحانه وتعالى شيئًا من المخلوقات في العبادة {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: وعدم اتخاذ وجعل بعض منا بعضًا آخرنا ربًّا ومعبودًا ومطاعًا من دون الله سبحانه وتعالى؛ أي لا يطع أحد منا أحدًا من الرؤساء في معصية الله، وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عُزيرٌ ابنُ الله ولا المسيح ابن الله؛ لأنهما بشران مثلنا، ولا نطيع الأحبار والرهبان فيما أحلوا أو حرموا. روي أنه لما نزلت هذه الآية .. قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أما كانوا يحلون لكم، ويحرمون عليكم، فتأخذون بقولهم"؟ قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو ذاك". وتفسير الكلمة بهذه الجمل؛ لأن العرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر: كلمة. {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن أعرضوا عن التوحيد، ورفضوا قبول تلك الكلمة العادلة، وأَبَو إلا الإصرار على الشرك .. {فَقُولُوا} أنتم؛ أيها النبي والمؤمنون

لأهل الكتاب {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}؛ أي: اعترفوا لنا يا معشر أهل الكتاب بأنَّنا منقادون لأوامر الله، مُقِرُّون لله بالوحدانية، مخلصون لهُ بالعبادة دُونكم، فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام. وفي قوله (¬1): {بَعْضُنَا بَعْضًا} إشارة لطيفة وهي أنَّ البعضية تنافي الإلهية؛ إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهًا لك، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم: {إنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا أشد استبعادًا فيه، وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضًا؛ إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام. والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة: عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم: ثالث ثلاثة، واتخذوا أحبارهم أربابًا في الطاعة في تحليل وتحريم، وفي السجود لهم. وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهو بإلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به مع دِحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا غرابة في ذلك فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب، ومن المشركين. أما أهل الكتاب: فلأن فيه هدمًا لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون؛ فلأن للإلف والعادة سلطانًا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل، كما حكى الله - تعالى - عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ ...} قيل (¬1): نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس، وقيل: نزلت في شأن الفريقين اليهود والنصارى، وذلك أنه لما قَدِم وفد نجران المدينة، والتقوا مع اليهود .. اختصموا في دين إبراهيم، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيًّا، وأنهم على دينه، وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهوديًّا، ونحن على دينه، وأولى الناس به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه، بل كان إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإِسلام"، فقالت اليهود: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نتخذك ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نقول فيك كما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...}. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ..} الآية (¬2)، روى ابن إسحاق بسنده المتصل إلى ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار اليهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ}. الآية أخرجه البيهقي في "الدلائل". قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآية، روى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمَّد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) لباب النقول.

[64]

فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأنزل الله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}. التفسير وأوجه القراءة 64 - {قُلْ} لهم يا محمَّد {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {تَعَالَوْا}؛ أي: أقبلو وهلموا {إِلَى كَلِمَةٍ} بفتح الكاف وكسر اللام في قراءة العامة، وقرأ أبو السمال: (كَلْمة) كضَربة، و (كِلْمة) كسِدْرة وكلتاهما شاذتان؛ أي: أقبلوا إلى كلمة {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}؛ أي: إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم، وحكم حق لا تختلف فيه الأنبياء والرسل، ولا يختلف فيه التوراة والإنجيل والقرآن. "من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم .. تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت .. فإنما عليك إثم الأريسين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذا لفظ إِحدى روايات البخاري، وقد أخرجه بأطول من هذا، وفيه زيادة، وفي رواية: الأريسين، والأريس: الأكار: وهو الزراع والفلاح. 65 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: لِمَ تجادلون وتنازعون في إبراهيبم، وتزعمون أنه على دينكم {و} الحال أنه {ما أنزلت التوراة} على موسى {وَالْإِنْجِيلُ} على عيسى {إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: إلا من بعد إبراهيم بزمن طويل، أي: والحال أنه ما حدثت هذه الأديان إلا من بعده بقرون كثيرة، فكيف يكون من أهلها؟.

[66]

والمعنى (¬1) أن اليهودية والنصرانية حدثتنا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما السلام، وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة، وعيسى بألفين، فكيف يكون عليهما؟ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؛ أي: أتدَّعون أن إبراهيم منكم، وعلى دينكم، فلا تعقلون بطلان قولكم، وفساد دعواكم يا معشر اليهود والنصارى حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال؟ وأورد (¬2) على هذا التأويل أن الإِسلام أيضًا إنما حدث بعد إبراهيم، وموسى، وعيسى بزمان طويل، وكذلك إنزال القرآن، إنما نزل بعد التوراة والإنجيل، فكيف يصح ما ادعيتم في إبراهيم أنه كان حنيفًا مسلمًا؟ وأجيب عنه: بأن الله عزّ وجلّ أخبر في القرآن بأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، فصح وثبت ما ادعاه المسلمون، وبطل ما ادعاه اليهود والنصارى. 66 - {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} يقرأ إما بألف وبعدها همزة إما محققة أو مسهلة، أو بدون ألف، والهمزة إما محققة أو مسهلة، أو بألف فقط بدون همزة أصلًا، فالقراءات خمسٌ، وكلها سبعية متواترة، أي: انتبهوا أنتم يا معشر اليهود والنصارى. {حَاجَجْتُمْ} وخاصمتم {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: فيما وجدتم في كتبكم، وأنزل عليكم بيانه في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنكم على دينهما، وقد أنزلت التوراة. والإنجيل عليكم. {فَلِمَ تُحَآجُّونَ} وتخاصمون {فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: فيما ليس في كتابكم من أن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما كان عليه إبراهيم من الدين {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك، ثم صرَّح بما فهم من قبل تلويحًا، فقال: 67 - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا}؛ أي: ما كان إبراهيم على دين اليهودية، ولا على دين النصرانية، فإن اليهودية ملة محرفة عن شرع موسى، وكذلك النصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى. {وَلَكِنْ كَانَ} إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة كلها إلى الدين الحق القويم {مُسْلِمًا}؛ أي: منقادًا ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

[68]

لأوامر الله التي ألزم بها في شريعته، لا على ملة الإِسلام الحادثة {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بالله؛ أي: لم يكن مشركًا، وفي هذا تعريض بأنهم كانوا مشركين في قولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وردَّ على المشركين في ادعائهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام. 68 - {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ}؛ أي: أقربهم وأحقهم {بِإِبْرَاهِيمَ}؛ أي: بالانتساب إلى إبراهيم {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}؛ أي: لأتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده؛ كإسماعيل وإسحق ويعقوب وأولادهم، {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لموافقته له في أكثر شرعه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهم الذين يليق بهم أن يقولوا: نحن على دينه؛ لأن غالب شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - موافق لشرع إبراهيم؛ أي: في الأصول، أو في الفروع من حيث السهولة، فإن شريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - سهلةٌ نهلةٌ كشريعة إبراهيم، لا كشريعة موسى فإنها صعبة التكاليف بسبب عناد بني إسرائيل. والحاصل: أن أحق الناس بدين إبراهيم فريقان: أحدهما: من اتبعه من أمته. وثانيهما: النبي وسائر المؤمنين من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل نبي ولاةً من النبيين، وإن وَليي: أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} (1) أخرجه الترمذي. والخلاصة: أنَّ أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته والانتساب إليه هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره، فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء. وهذا هو روح الإِسلام، والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك .. فقد فاته الدين كله، ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم، فالله ناصرهم فقال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ

[69]

الْمُؤْمِنِينَ} أي: ناصرهم وحافظهم ومكرمهم، فهو يتولى أمورهم بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد، ويصلح شؤونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإِسلام في قلوبهم، ويجازيهم بالحسنى. ونبَّه على الوصف الذي يكون به الله وليًّا لعباده، وهو الإيمان فقال: {وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يقل: وليهم، وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا، وبالفوز بالآخرة، وهذا كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}. وقرىء شاذًّا (¬1): {وهذا النبي} - بالنصب - عطفًا على الهاء في: {اتَّبَعُوُه}، فيكون مُتَّبْعًا لا مُتَّبِعًا؛ أي: أحق الناس بإبراهيم من اتبعه هو، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ويكون {وَالَّذِينَ آمَنُوا} عطف على خبر {إنَّ} فهو في موضع رفع، وقرىء: {وهذا النبيِّ} بالجر، ووُجِّه على أنه عطف على إبراهيم؛ أي: إنَّ أولى الناس بإبراهيم، وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. قالوا: والنبي بدل من {هذا}، أو نعت، أو عطف بيان منه. 69 - ولما دعت اليهود معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر من دين الإِسلام إلى دين اليهودية .. نزلت هذه الآية: {وَدَّت}؛ أي: أحبَّت وتمنَّت {طَائِفَةٌ}؛ أي: جماعة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم أحبارهم ورؤساؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}؛ أي: وَدَّوا أن يضلوكم عن دينكم الإِسلام ويوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه أولًا من الكفر. {و} الحال أنهم {ما يضلون} عن دين الإِسلام {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}، أو أمثالهم، وما يعودُ وبالُ الإضلال إلا عليهم؛ لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، فالمؤمنون لا يقبلون قولهم، فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين، وهم صاروا خائبين عن مرادهم؛ حيث اعتقدوا شيئًا، وظهر لهم أن الأمر بخلاف ما قصدوه. {وَمَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: ما يعلمون أن هذا التمني يضرهم ولا يضر المؤمنين؛ لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[70]

وتمني إضلال المسلمين، وفي نفي الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم. 70 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: لأيِّ سبب تنكرون وتجحدون بآيات الله الورادة في التوراة والإنجيل، من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والإخبار بأن الدين هو الإِسلام، وبأن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا {وَأَنْتُمْ}؛ أي: والحال أنكم {تَشْهَدُونَ} وتعترفون صحتها إذا خلا بعضكم ببعض، وتنكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عند حضور عوامكم، وعند حضور المسلمين. أو المعنى: لِمَ تكفرون بالقران، فإنكم تنكرون عند العوام كونه معجزًا، وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزًا؟ 71 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ} وتخلطون {الْحَقَّ} المنزل في التوراة من نعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {بِالْبَاطِلِ} المحرف من عندكم، كما نقل عن الحسن وابن سيرين، أو لِمَ تشككون الناس بإظهار الإِسلام بالتواضع أولَ النهار، ثم الرجوع عنه في آخره؟ كما نقل عن ابن عباس وقتادة. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} الموجود في التوراة من نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ونعته، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنكم تعلمون أنه رسول من عند الله، وأن دينه حق، وإنما كتمتم الحق عنادًا وحسدًا، وأنتم تعلمون ما تستحقون على ذلك الكتمان من العقاب. وقرأ يحيى بن وثاب شاذًا: {تَلبَسون} - بفتح الباء - مضارعُ لَبِس الثوب، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في {بالباطل} على هذه القراءة للحال؛ أي: مصحوبًا بالباطل، وقرأ أبو مجلز شذوذًا: {تُلبِسون} - بضم التاء وكسر الباء المشددة - والتشديد هنا للتكثير، وقرأ عبيد بن عمير شذوذًا أيضًا: {لم تلبسوا} و {تكتموا} بحذف النون فيهما للجزم، قالوا: ولا وجه له إلا ما ذهب إليه من شَذّ من النحاة في إلحاق {لِمَ} بلَمْ في عمل الجزم، والثابت في "لسان العرب": أن لِمَ لا ينجزم ما بعدها، ولم أرَ أحدًا من النحويين ذكر أن: لِمَ تجري مجرى {لَمْ} في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الوفع في لغة بعض العرب، كما في قول الراجز:

[72]

أبِيْتُ أسْرِيْ وَتَبِيْتِيْ تُدَلِّكِي ... شَعْرَكِ بالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي ثم ذكر نوعًا آخر من تلبيسات اليهود، فقال: 72 - {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: جماعة منهم، وهم اثنا عشر حبرًا من أحبار يهود خيبر، منهم: عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكعب بن الأشرف، وأصحابه من الرؤساء؛ أي: قال بعضهم فيما بينهم: {آمِنُوا} وصدِّقوا ظاهرًا {بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: بالقرآن الذي أنزل عليهم، وامتثلوا بما أمر به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وصلُّوا معهم إلى قبلتهم الكعبة {وَجْهَ النَّهَارِ} وأوله وهو صلاة الفجر {وَاكْفُرُوا} به وارجعوا عنه {آخِرَهُ}؛ أي: في آخر النهار، وهو صلاة الظهر، وصلُّوا إلى بيت المقدس {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل العوام من أصحابه {يَرْجِعُونَ} ويرتدون عن دينه وقبلته معكم. وقيل: هذا في شأن القبلة، وذلك أنه لما صرفت إلى الكعبة .. شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أُنزل على محمَّد في أمر الكعبة، وصلوا إليها أول النهار، ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار؛ لعلهم يرجعون، فيقولون هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا، فأطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على سرهم، وأنزل هذه الآية حتى لا تُؤَثِّر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين؛ ولأنهم إذا افتضحوا فيها .. لا يقدمون على أمثالها، ويكون هذا وَازِعًا لهم، وفي هذا إنباء بالغيب، فيكون معجزةً لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. 73 - {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُم}: معطوف على قوله {آمِنُوا}؛ أي؛ وقالت طائفة من أهل الكتاب: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة من كلام الله سبحانه، وقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} معمول لتؤمنوا؛ أي: وقالت جماعة من أهل الكتاب في تلبيساتهم على المؤمنين؛ أي: قال بعضهم لبعض: لا تظهروا إيمانكم واعترافكم؛ بأن يؤتى ويعطى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، أو يحاججكم أحد ويغالبكم عند ربكم يوم القيامة، إلا لمن وافى دينكم، بل أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، وبأنهم يحاجونكم

عند ربكم يوم القيامة، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وجماعتكم وحدهم دون المسلمين؛ لئلا يزيدهم ذلك ثباتًا على دينهم، ودون المشركين؛ لئلا يدعوهم ذلك إلى الإِسلام. قل لهم يا محمَّد: ليست الهداية بأيديكم، وإنما الهدى هدى الله، يهدي من يشاء إلى الإيمان، ويثبته عليه، كما هدى المؤمنين. وهذا التفسير على كون اللام في قوله: {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أصلية متعلقة بـ {تُؤْمِنُوا}، ويحتمل كونها زائدة، و {من تبع دينكم}: استثناء مقدَّم و {أَحَدٌ} في قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} مستثنى منه مؤخر، والمعنى على هذا: وقالت طائفة من أهل الكتاب لا تؤمنوا ولا تصدقوا أن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم من النبوة والكتاب، أو يغالبكم عند ربكم يوم القيامة إلا من تبع دينكم؛ أي: إلا إن كان ذلك الأحد من أهل دينكم .. قل لهم يا محمَّد: إن الهدى بيد الله، يؤتيه من يشاء، وليس مخصوصًا بكم؛ أي: ليس الهدى مقصورًا على شعب معين، أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدي من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضل له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له. وقيل: في الكلام تقدير مضاف منصوب على كونه مفعولًا لأجله، والمعنى: قالت طائفة من أهل الكتاب بعضهم لبعض: لا تصدقوا كل من يدعي النبوة حتى تنظروا في أمره، فإن كان متبعًا لدينكم .. فصدقوه، وإلا فكذبوه، ولا تقروا ولا تعترفوا لأحد بالنبوة إلا إذا كان على دينكم؛ خشية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وخشية أن يحاجوكم به عند ربكم، فإذا أقررتم بنبوة محمَّد، ولم تدخلوا في دينه .. تكون له الحجة عليكم يوم القيامة، وغرضهم نفي النبوة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعبارة "الخازن": قوله عز وجل: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} هو كلام متصل بالأول، وهو من قول اليهود، يقول بعضهم لبعض: ولا تؤمنوا؛ أي: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم؛ أي: وأفتى ملتكم التي أنتم عليها، وهي: اليهودية، واللام في {لِمَن}: زائدة، كقوله تعالى: {ردف لكم}؛ أي ردفكم. {قُلْ إِنَّ

الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إن الدين دين الله، والبيان بيانه، وهذا خبر من الله تعالى، ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال: هذا كلام معترض بين كلامين، وما بعده متصل بالكلام الأول، وهو إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعنى الآية: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات، من فلق البحر، وإنزال المن والسلوى عليكم، وغير ذلك من الكرامات، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا منهم، فلما أخبر الله تعالى ذلك عن اليهود .. قال في أثناء ذلك {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}. والمعنى: إن الذي أنتم عليه إنما صار دينًا بحكم الله وأمره، فإذا أمر بدين آخر .. وجب اتباعه والانقياد لحكمه؛ لأنه هو الذي هدى إليه وأمر به. وقيل: إن المعنى: قل لهم يا محمَّد: إن الهدى هدى الله، وقد جئتكم به، ولن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف. وقرأ الحسن والأعمش شذوذًا: {إن يؤتي} - بكسر الألف - فيكون قول اليهود تامًّا عند قوله: إلا لمن تبع دينكم، وما بعده من قول الله تعالى. والمعنى: قل يا محمَّد: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، وتكون {أنْ} بمعنى الجحد والنفي؛ أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا محمَّد من الدين والهدى، و {أَوْ} في قوله: {أوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} بمعنى: إلا؛ أي: إلا أن يحاجوكم؛ أي: اليهود بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم عند ربكم؛ أي: عند فعل ربكم وجزائه، وقيل: {أَو} في قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} بمعنى: حتى، ومعنى الآية: ما أعطى الله أَحدًا مثلَ ما أعطيتم يا أمة محمَّد من الدين والحجة، حتى يحاجوكم عند ربكم. وقرأ ابن كثير: {أأَنْ يُؤْتَى} بهمزتين: الأولى محققة والثانية مسهلة، وذلك على الاستفهام التوبيخي، وحينئذٍ يكون في الكلام اختصار تقديره: إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة .. تحسدونه ولا تؤمنون به. هذا قول قتادة والربيع، قالا هذا من قول الله تعالى يقول:

قل لهم يا محمَّد: إن الهدى هدى الله إلا إن أنزل الله كتابًا مثل كتابكم، وبعث نبيًّا مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون {أَوْ} بمعنى إنْ الشرطية؛ لأنهما حرفا شرط وجزاء، يوضع أحدهما موضع الآخر. والمعنى: وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم .. فقل يا محمَّد: إن الهدى هدى الله، ونحن عليه، ويحتمل أن يكون الجميع خطابًا للمؤمنين، ويكون نظم الآية. {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ}؛ أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، فإن حسدوكم .. فقل: إن الفضل بيد الله، وإن حاجوكم .. فقل: إن الهدى هدى الله. ويحتمل أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وقوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا} من كلام الله تعالى، ثبَّت به قلوب المؤمنين؛ لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم من الدين والفضل، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك، فإن الهدى هدى الله، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع، فكون الآية كلها خطابًا للمؤمنين عند تلبيس اليهود؛ لئلا يرتابوا ولا يشكُّوا. انتهت. وقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن ذلك في الآخرة. والثاني: عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفًا، وكأن المعنى: أو يحاجوكم عند الحق، ذكره أبو حيان. وقال الشوكاني: وقد قيل: إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالًا، وذلك صحيح. {قُلْ إنَّ اَلفَضلَ} بالرسالة والنبوة والإسلام وقبلة إبراهيم مثلًا

[74]

{بِيَدِ اللَّهِ} فإنه مالك له {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} من عباده؛ أي: يعطيه محمدًا وأصحابه. والله تعالى حكى عن اليهود أمرين: أحدهما: أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره؛ ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإِسلام، فأجاب الله عن ذلك بقوله: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إن مع كمال هداية الله وقوة بيانه، لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر. وثانيهما: أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة، فأجاب الله عن ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} الفضل وكامل القدرة، فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء {عَلِيمٌ}؛ أي: كامل العلم، فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب. 74 - {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}، أي: يخص برحمته من النبوة والرسالة والدين، أي: برحمته التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس، أي: يجعل رحمته مقصورة على {مَنْ يَشَاءُ}: من عباده؛ أي: محمدًا وأصحابه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والمنّ الجسيم، فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده، والله أعلم بمعنى كلامه، وهو ولي التوفيق لأقوم العبارة والتحقيق، وهذا من المواضع التي تشاك فيها الأقدام، وتكل فيها الأقلام، وارتابت فيها الأفهام، وارتبكت فيها الأعلام إلا من مُنح بمنح العالم العلَّام. قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرًا وإعرابًا، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولًا يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى، وصحة النظم. الإعراب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} إلى قوله: {فَإن تَوَلَّوا} مقول محكي، وإنْ شئت قلت

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {تَعَالَوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {إِلَى كَلِمَةٍ}: متعلق بـ {تَعَالَوْا} {سَوَاءٍ}: صفة لـ {كَلِمَةٍ}؛ لأنه في تأويل مستوية، {بَيْنَنَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {سَوَاءٍ}. {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف عليه. {ألَّا}: {أَن}: حرف نصب ومصدر {لا} نافية. {نَعْبُدَ}: فعل مضارع منصوب بـ (أن)، وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه من أهل الكتاب {إِلَّا اللَّهَ}: منصوب على الاستثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: أحدًا إلا الله، والجملة الفعلية صلة (أنْ)، (أنْ) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بدل من {كَلِمَةٍ}، أو مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي عدم عبادتنا غير الله. {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {وَلَا} الواو عاطفة، {لا}: نافية، {نُشْرِكَ}: معطوف على {نَعْبُدَ}، منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه. {بِهِ}: متعلق بـ {نُشْرِكَ} {شَيْئًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {نَعْبُدَ} على كونها في تأويل مصدر مجرور أو مرفوع {وَلَا}: الواو عاطفة {لا}: نافية {يَتَّخِذَ}: معطوف على {نَعْبُدَ}، {بَعْضُنَا}: فاعل ومضاف إليه {بَعْضًا}: مفعول أول {أَرْبَابًا}: مفعول ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة {نَعْبُدَ} على كونها في تأويل مصدر مجرور أو مرفوع {من دون الله}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {أربابًا}. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. {فَإن} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا قلت لهم ما أمرتك به، وأردت بيان حكم ما إذا أعرضوا .. فأقول لك {إن}: حرف شرط جازم {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {أن} على كونه فعل شرط لها. {فَقُولُوا}: الفاء رابطة لجواب {إن}) وجوبًا. {قولوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل

النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: مقول محكي لـ {قولوا}، وإنْ شئت قلت: {اشْهَدُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قولوا}. {بِأَنَّا}: الباء حرف جر (أنا): حرف نصب، واسمها. {مُسْلِمُونَ}: خبرها، وجملة (أن) في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بكوننا مسلمين، الجار والمجرور متعلق بـ {اشْهَدُوا}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة، أو في محل النصب معطوفة بعاطف مقدر على جملة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الأولى. {لِمَ}: اللام حرف جر {م}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري التوبيخي أو التعجبي في محل الجر وباللام مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين (ما) الموصولة - الجار والمجرور متعلق بـ {تُحَاجُّونَ} المذكور بعده. {تُحَاجُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول القول على كونها معطوفة {فِي إِبْرَاهِيمَ}: متعلق بـ {تُحَاجُّونَ}. {وَمَا أُنْزِلَتِ}: الواو حالية {ما}: نافية، {أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ}: فعل ونائب فاعل {وَالْإِنْجِيلُ}: معطوف على {التَّوْرَاةُ}. {إلا} أداة استثناء مفرغ {من بعده}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أُنْزِلَتِ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من إبراهيم تقديره: لم تحاجون في إبراهيم، والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على مقدَّر هو المعطوف عليه بهذا العاطف المذكور - أعني: الفاء - تقديره: ألا تتفكرون. {فلا تعقلون}: الفاء عاطفة، {لا}: نافية، {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ألا تتفكرون المقدرة على كونها جملة استفهامية لا محل لها من الإعراب. {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ

يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}. {ها} حرف تنبيه {أنتم هؤلاء}: أنتم: مبتدأ، ها: حرف تنبيه، أولاء؛ اسم إشارة للجمع المذكر في محل النصب منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، مبني بضم مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة البناء الأصلي، وجملة النداء معترضة لاعتراضها بين المبتدأ والخبر {حَاجَجْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {حَاجَجْتُمْ}. {لَكُم}: خبر مقدم {عِلمٌ}: مبتدأ مؤخر {بِهِ}: متعلق بمحذوف حال من {عِلْمٌ}؛ إذ لو تأخر .. لصح جعله نعتًا، ولا يجوز أن يتعلق بـ {عِلْمٌ}؛ لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدم معموله عليه، والجملة الإسمية صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ} {فَلِمَ تُحَاجُّونَ}: الفاء عاطفة، اللام: حرف جر، (م): اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {تُحَاجُّونَ} المذكور بعده، {تُحَاجُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {حَاجَجْتُمْ}، {فِيمَا}، جار ومجرور متعلق بـ {تحاجون}. {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص. {لَكُم}: جار ومجرور خبر مقدم، {بِهِ}: حال من علم؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليه. {عِلْمٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية (الله): مبتدأ، {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة .. {وَأَنْتُمْ}: الواو عاطفة {أنتم}: مبتدأ، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}. {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}. {مَا}: نافية، {كاَنَ}: فعل ماضٍ ناقص {إِبْرَاهِيمُ}: اسمها، {يَهُودِيًّا}: خبرها، {وَلَا نَصْرَانِيًّا}: معطوف عليه، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}: الواو اعتراضية {لكن}: حرف استدراك {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص،

واسمها ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، {حَنِيفًا}: خبر أول لها، {مُسْلِمًا} خبر ثانٍ، وجملة {كاَنَ} جملة استدراكية معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: الواو عاطفة، (ما) نافية، {كاَنَ}: فعل ماضٍ، واسمها ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {كان} معطوفة على جملة {كاَنَ} الأولى. {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}. {إِنَّ}: حرف نصب {أَوْلَى النَّاسِ}: اسمها ومضاف إليه {بِإِبْرَاهِيمَ}: متعلق بـ {أَوْلَى}، {لَلَّذِينَ}: اللام حرف ابتداء (الذين): اسم موصول في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {اتَّبَعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {وَهَذَا} في محل الرفع معطوف على الموصول. {النَّبِيُّ}: صفة لاسم الإشارة، أو بدل، أو عطف بيان منه {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {وَاللَّهُ}: الواو عاطفة (الله): مبتدأ {وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ}. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {طَائِفَةٌ}، {لَوْ}: حرف مصدر {يُضِلُّونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة {لَوْ} المصدرية {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وَدَّتْ طائفة من أهل الكتاب إضلالهم إياكم {وَمَا يُضِلُّونَ}: الواو حالية (ما): نافية {يُضِلُّونَ}: فعل وفاعل {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة حال من فاعل {لو يضلون}، {وَمَا يَشْعُرُونَ}: الواو عاطفة {ما}: نافية {يَشْعُرُونَ}:

فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا يُضِلُّونَ}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة {لِمَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَكْفُرُونَ}. {تَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَكْفُرُونَ}. {وَأَنتُمْ}: الواو حالية، {أنتم}: مبتدأ، وجملة {تَشْهَدُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {تَكْفُرُونَ}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء معطوفة على جملة النداء الأولى {لِمَ تَلْبِسُونَ}: {لِمَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَلْبِسُونَ}، {تَلْبِسُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {الْحَقَّ}: مفعول به {بِالْبَاطِلِ} متعلق بـ {تَلْبِسُونَ}: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {تَلْبِسُونَ}. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الواو حالية {أنتم}: مبتدأ، {تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تكتمون}. {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}. {وَقَالَتْ} الواو استئنافية، {قالت طائفة}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {طَائِفَةٌ}. {آمِنُوا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {آمِنُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول، {بِالَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {آمِنُوا}. {أُنزِلَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنزِلَ}. {آمَنُوا} فعل وفاعل، الجملة صلة الموصول {وجْه اَلنَهَارِ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بقوله {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ}. {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}: الواو عاطفة {اكفروا}: فعل وفاعل {آخِرَهُ}:

ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {اكْفُرُوا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ}. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: {لعل}: حرف ترجٍ وتعليل، والهاء اسمها، وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ {اكفروا}. {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}. 73 - {وَلَا} الواو عاطفة {لا}: ناهية {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ} على كونها مقولًا لـ {قالت}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {لِمَن}: اللام زائدة (من): اسم موصول في محل النصب على الاستثناء مقدَّم على المستثنى منه {تَبِعَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول {دِينَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معترضة؛ لاعتراضها بين العامل والمعمول. {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإنْ شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب {الْهُدَى} اسمها {هُدَى اللَّهِ}: خبرها ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَن}: حرف نصب ومصدر {يُؤْتَى} فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ {أَن} {أَحَدٌ}: نائب فاعل، وهو المفعول الأول لـ (أتى)؛ لأنه بمعنى: أعطى، وهو المستثنى منه {مِثْلَ مَا}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه {أُوتِيتُمْ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أوتيتموه، وهو العائد على (ما)، وجملة {أُوتِيتُمْ} صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة {يُؤْتَى} صلة {أَن} المصدرية. {أن}: مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لقوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا} تقديره: ولا تؤمنوا إيتاء أحد من الناس مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، أي: إلا إيتاءه. {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ}: أو: حرف عطف، {يُحَاجُّوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُؤْتَى}، {عِنْدَ رَبِّكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُحَاجُّوكُمْ}.

{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إنَّ اَلفَضْلَ بِيَدِ اللهِ} إلى آخر الآية التالية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إنَّ}: حرف نصب. {اَلفَضْلَ}: اسمها. {بِيَدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ}: في محل النصب مقول {قُلْ}. {يُؤْتِيهِ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان، وجملة {يَشَاءُ} صلته، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إيتاءه، وجملة {يُؤْتِيهِ} في محل الرفع خبر ثانٍ لـ {إنَّ}، ويجوز أن تكون مستأنفة، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يؤتيه. {وَاللَّهُ}: مبتدأ {وَاسِعٌ}: خبر أول {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة {يَخْتَصُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على (الله)، والجملة مستأنفة {بِرَحْمَتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَخْتَصُّ}. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَخْتَصُّ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَن}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ {ذُو الْفَضْلِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {الْعَظِيمِ}: صفة لـ {الْفَضْلِ}. والله سبحانه وتعالى أعلم. التصريف ومفردات اللغة {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}: أصل تعالوا: تعاليوا، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع الواو - كما مر -، وسواء: اسم مصدر بمعنى؛ الاستواء، ويوصف به على أنه بمعنى: مستو، فيحتمل حينئذٍ ضميرًا، ويرفع الظاهر، ومنه قولهم: مررت برجل سواء والعدم - برفع العدم -، على أنه معطوف عى الضمير المستكن في سواء، ولا يثنى، ولا يجمع، إما لكونه في الأصل مصدرًا وإما للاستغناء عن تثنيته بتثنية نظيره، وهو سيّ بمعنى مثل، تقول: هما سِيَّان؛ أي: مثلان، وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولهم: قاموا سواء زيد وإن شاركه لفظًا. {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ}: وأولى: اسم تفضيل من ولى يلي، وألفه منقلبة عن

ياء؛ لأن فاءه واو، فلا تكون لامه واوًا؛ إذ ليس لنا في كلام العرب ما فاؤه ولامه واو إلا واو التهجي، فمعنى {أَوْلَى النَّاسِ}: أخصهم به وأقربهم منه؛ لأنه من الوَلي بمعنى: القرب. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ}: يقال: وددتُ لو تفعل كذا - من فَعِل المكسور المضاعف - يَوَد بفتح العين على القياس وُدًا بضم أوله وفتحه ووِدادًا ووَدادة بالفتح فيهما؛ أي: تمنيت ووددت لو أنك تفعل كذا مثله، وودِدت الرجل بالكسر وُدًا بضم أوله: أحببته، والود - بضم الواو وفتحها وكسرها -: المودة ذكره في "المختار" {والطائفة} من الشيء: القطعة منه وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الواحد فما فوقه. انتهى. "مختار". {تَلْبِسُونَ الْحَقَّ}: اللبس الخلط، يقال: لبس الأمر عليه إذا اشتبه واختلط عليه يلبِس من باب: ضَرَب. {وَجْهَ النَّهَارِ}: منصوب على الظرفية الزمانية، وناصبة {آمَنُوا} - كما مر، ومعناه أوَّلَ (¬1) النهار. شُبِّه بوجه الإنسان؛ لأنه أول ما يواجه من النهار، وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي: مَنْ كانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}: يقال: اختصه بكذا إذا خصه به، وهو من باب: افتعل فبناؤه لمبالغة الثلاثي، والله أعلم. البلاغة وقد جمعت هذه الآية من ضروب البلاغة أنواعًا كثيرة (¬2): فمنها: المجاز في قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ}؛ حيث أطلق اسم الواحد على الجمع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: التكرار في قوله: {إلا الله} {وإن الله}، وفي قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ}، وفي قوله: {إِبْرَاهِيمَ} و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ} و {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ}. ومنها: التشبيه في قوله: {أَرْبَابًا} لما أطاعوهم في التحليل والتحريم، وأذعنوا إليهم .. أطلق عليهم أربابًا تشبيهًا لهم بالرب المستحق للعبادة والربوبية. ومنها: الإجمال في الخطاب في قوله: {تَعَالَوْا}، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ}؛ كقول إبراهيم. {يا أبت}، {يا أبت}، وكقول الشاعر: مَهْلًا بَنِيْ عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِيْنَا ... لاَ تَنْبُشُوْا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُوْنَا وقول الآخر: بَنِيْ عَمِّنَا لاَ تَنْبُشُوْا اَلشَرَّ بَيْنَنَا ... فَكَمْ مِنْ رَمَادٍ صَارَ مِنْهُ لَهِيْبُ ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {أَوْلَى} و {وَلِيُّ}. ومنها: الطباق في قوله: {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}. ومنها: الطباق المعنوي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ}، {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}؛ لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر. ومنها: الجناس التام في قوله: {يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ}. ومنها: التجنيس المماثل والتكرار في قوله: {آمِنُوا} و {آمَنُوا}، وفي {الْهُدَى} و {هُدَى اَللهِ}، وقوله: {يُؤْتَى} و {أوتِيُتمْ}، وفي قوله: {إِنَّ اَلفَضْلَ} و {ذُو الْفَضْلِ}. ومنها: التكرار أيضًا في اسم الله في أربعة مواضع. ومنها: الطباق في قوله: {آمِنُوا} {وَاكْفُرُوا} وفي قوله: {وَجْهَ اَلنَهَارِ} و {آخِرَهُ}.

ومنها: الاختصاص في قوله: {وَجْهَ النَّهَارِ}؛ لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم و {آخِرَهُ}؛ لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار والحذف في مواضع. وفي قوله: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} تبكيت (¬1) لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله، فحلل ما حللوه له، وحَرَّم ما حرموه عليه، فإنَّ من فعل ذلك .. فقد اتخذ من قلده ربًّا، ومنه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}. المناسبة لمَّا بين الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الدين وقبائحهم وكيدهم للمسلمين ليرجعوا عن دينهم، وصدهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعمًا أنَّهم شعب الله المختار، وأنَّ الدين الحق خاص بهم، لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى .. أردف ذلك بذكر أوصاف طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحل أكل أموال الناس بالباطل، تأويلًا للكتاب وغرورًا في الدين، وهم اليهود خاصة، فهم خائنون من جهة الدين والمال فقد خانوا الله والناس بتحريفهم كلام الله عن معناه، واستحلالهم أكل أموال الناس بالباطل. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن شقيق، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ هو عليها فاجر .. لقي الله وهو

عليه غضبان"، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية، فجاء الأشعث فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن، فيَّ أنزلت هذه الآية؟ كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، فقال لي: شهودك؟ قلت: ما لي شهود، قال: فيمينه، قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث، فأنزل الله ذلك تصديقًا له. وأخرج البخاري أيضًا من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف فيها: لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...} الآية. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري"، ولا منافاة بين الحديثين، بل يحمل على أنَّ النزول كان بالسببين معًا، ولفظ الآية أعم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة (¬1): أنَّ الآية نزلت في حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة، وبدّلوه، وحلفوا أنَّه من عند الله، قال الحافظ ابن حجر: الآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في "الصحيح". قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ ...} الآية، أخرج (¬2) ابن إسحاق والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أبو رافع القرظي - حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاهم إلى الإِسلام -: أتريد يا محمَّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "معاذ الله". فأنزل الله في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" عن الحسن قال: بلغني أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: "لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله؛ فإنَّه لا ينبغي أنْ يُسجَد لأحد من دون الله"، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[75]

التفسير وأوجه القراءة 75 - {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} شروع في بيان خيانتهم في الأموال بعد بيان خيانتهم في الدين، وفي "الخازن"؛ نزلت هذه الآية في اليهود، أخبر الله عزّ وجلّ أنَّ فيهم أمانة وخيانة، وقسمهم قسمين، فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: ومن اليهود {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ}؛ أي: مَنْ إذا جعلته أمينًا على مال كثير، وأودعته عنده {يُؤَدِّهِ}؛ أي: يدفع ذلك القنطار ويرده {إِلَيْكَ} بلا خيانة فيه ولا تعب، لشدة أمانته، وكمال وثوقه؛ كعبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفًا ومئتي أوقية من ذهب، فأداه إليه {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن اليهود {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ}؛ أي: من إذا جعلته أمينًا على مال قليل، فضلًا عن كثير {لَا يُؤَدِّهِ}؛ أي: لا يدفع ذلك الدينار، ولا يرده {إِلَيْكَ} بل يستحله ويخون فيه؛ كفنحاص بن عازوراء، استودعه رجل من قريش دينارًا، فجحده وخانه {إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}؛ أي: لا يرده إليك في جميع المُدَدَ والأزمنة، إلا مدة دوامك يا صاحب الحق قائمًا على رأسه، ملازمًا له، مبالغًا في مطالبته بالتقاضي والترافع، وإقامة البنية عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد: تقوم عليه، وتطالبه بالإلحاح والخصومة والملازمة. وقيل: أراد أنَّه إنْ أودعته شيئًا، ثُمَّ استرجعته منه في الحال، وأنت قائم على رأسه لم تفارقه .. رده عليك، وإنْ أخرت استرجاع ما أودعته". أنكره ولم يرده عليك. وقيل: أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود؛ لأنَّ مذهبهم: أنْ يحل قَتل من خالفهم في الدين، وأخذ ماله بأي طريق كان {تَأْمَنْهُ} هذه (¬1) قراءة الجمهور، وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي شذوذًا: (تيمنه) بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم، ومثله قراءة من قرأ شذوذًا: {نِستعين} بكسر النون. وقرأ الجمهور (¬2): {يُؤَدِّهِ} بكسر الهاء ووصلها بياء، وقرأ قالون باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والأعمش: بالسكون، وقال الفراء: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون: ضربته ضربًا شديدًا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم، وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط، ليس بشيء؛ إذ هي قراءة في السبعة، وهي متواترة. وقرأ أبو المنذر سلام والزهري شذوذًا (¬1): {يؤده} بضم الهاء بغير واو، وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد شذوذًا أيضًا: بواو في الإدراج. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (¬2)، ويحيى بن وثاب، والأعمش وابن أبي ليلى، والفياض بن غزوان، وطلحة وغيرهم شذوذًا: (دِمت) بكسر الدال، وهي لغة تميم. وخلاصة الكلام: أنّ أهل الكتاب طائفتان: الأولى: طائفة تُؤَمَّن على الكثير والقليل،؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه، استودعه قرشي ألفًا ومائتي أوقية من ذهب، فأداها إليه كما مرَّ. والثانية: طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته، ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها، ملحًا في المطالبة، أو لاجئًا إلى التقاضي والمحاكمة، ومن هؤلاء: كعب بن الأشرف، استودعه قريش دينارًا فجحده. ثمَّ بيَّن السبب في فعلهم هذا فقال: {ذَلِكَ} المذكور من الخيانة وترك أداء الأمانة، واستحلال أموال الناس، مستحق لهم {بـ} ـسبب {أنَّهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}؛ أي: بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أخذنا من أموال المشركين من العرب سبيل؛ أي: مؤاخذة، وتبعة، وإثم عند الله تعالى؛ لأن أموال العرب حلال لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا، ولا حرمة لهم في كتابنا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم، أو المعنى: ليس علينا فيما أصبنا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[76]

من أموال العرب سبيل؛ أي: قدرة على المطالبة والإلزام؛ فإنَّهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا، وقيل: إنهم قالوا: أنَّ الأموال كلها كانت لنا، فما في يد العرب فهو لنا، وإنَّما هم ظلمونا وغصبوها منا، فلا سبيل علينا في أخذها منهم بأي طريق كان. {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}؛ أي: يفترون على الله الكذب بادعائهم أنَّ ذلك في كتابهم. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنَّهم كاذبون في ذلك؛ أي: أنَّهم قالوا: إنَّ جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة، وكانوا كاذبين في ذلك، وعالمين بكونهم كاذبين فيه، ومَنْ كان كذلك .. كانت خيانته أعظم، وجرمه أفحش. لكنهم لمَّا لم يكتفوا بالكتاب، ولجؤوا إلى التقليد، وعدّوا كلام أحبارهم دينًا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، ليؤيدوا آرائهم .. وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدَّعون. روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة؛ فإنّها مؤداة إلى البَّرِّ والفاجر". 76 - {بَلَى}: حرف يجاب به النفي، فيصير إثباتًا لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين؛ أي: بلى على اليهود في العرب سبيل، فعلى هذا يَحسن الوقف عليها، ثم يبتدىء بما بعده، وقوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} جملة مستأنفة مقرر للجملة التي سدت {بَلى} مسدها، والضمير في {بِعَهْدِهِ} يرجع إلى الله تعالى؛ أي: ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة، من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن الذي أنزل عليه، أو بأداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وقيل: الهاء في قوله: {بِعَهْدِهِ} عائد إلى الموفي؛ أي: بيعده فيما بينه وبين الله، أو فيما بينه وبين الناس. {وَاتَّقَى}؛ أي: خاف عقاب الله بالكفر والخيانة، ونقض العهد {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الشرك والخيانة؛ أي: يثيبهم على

تقواهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى {مَنْ}؛ أي: فإنَّ الله يحبه، أخبر تعالى: بأن من أوفى بالعهد، واتقى الله في نقضه .. فهو محبوب عند الله. وهذه الآية (¬1) دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأنَّ الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معًا؛ لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله، وذلك أمر الله، فالوفاء بالعهد تعظيم لأمر الله، ثم الوفاء كما يكون في حق الغير، يكون في حق النفس، فالوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات، والتارك للمحرمات. وخلاصة المعنى: بلى عليكم يا معشر اليهود في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالًا إلى أجل، أو باعك بثمنٍ مؤجل، أو ائتمنك على شيء .. وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه، دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب، أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة، وحتمت الشريعة، وفي هذا إيماء إلى أنَّ اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقًّا واجبًا لذاته، بل العبرة عندهم المعاهِد، فإن كان إسرائيليًّا .. وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره. والعهد ضربان: الأول: عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم. والثاني: عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه، من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله. واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذ لو وفوا بعهد الله .. لآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى عليه السلام. ¬

_ (¬1) المرح.

[77]

وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد، المتقين بالإخلاف والغدر، محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى أنَّ الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها، وفي سائر المعاصي والخطايا، هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلًا لمحبته، أما الانتساب إلى شعب بعينه، والافتخار والترفع به على غيره، كما كثر في عصرنا هذا والعياذ باللهِ، فلا قيمة له عند الله تعالى. وفي هذا أيضًا تعريض بأنَّ أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهي الدعامة الأساسية في كل دين قويم، رزقنا الله إياها وجميع المسلمين. وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وفي رواية "إذا حدث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". 77 - {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الباء فيه داخلة على المتروك؛ أي: إنَّ الذين يأخذن بنقض عهد الله عليهم من الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأداء بالأمانات {وبـ} ـحنث {أيمانهم} وحلفهم من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا، والمراد بالثمن القليل متاع الدنيا من الرشا والتراؤس ونحو ذلك {أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفات القبيحة {لَا خَلَاقَ}؛ أي: لا نصيب {لَهُمْ فِي} خير {الْآخِرَةِ} ونعيمها {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة أي: يشتد غضب الله عليهم {وَلَا يَنظُرُ} الله {إِلَيْهِمْ} بالإحسان والرحمة {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ}، أي: لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم. والمعنى: إنَّ الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة، بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ويتقوه في جميع الأمور، وبما حلفوا

عليه من قولهم: لنؤمنن به ولننصرنه، أي: يأخذون بدل وفاء عهدهم وبَرِّ أيمانهم ثمنًا قليلًا هو العوض أو الرشا أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم، ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم، هو الغاية في الألم. قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم؛ لأن من منع غيره كلامه في الدنيا .. فإنَّما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول؛ لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره .. لم يذكره بالجميل اهـ. وخلاصة القول: إنَّ الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم، وبالعذاب الأليم، وبأنَّهم يكونون في غضب الله، بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة، ولم يتوعد الله تعالى مرتكبي الكبائر من الزناة وشاربي الخمر، ولاعبي الميسر، وعاقي الوالدين، بما توعد به ناكثي العهود، وخائني الأمانات؛ لأنَّ مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد، التي لأجلها حرمت تلك الجرائم. فالوفاء بهما آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم .. زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات، وأساس النظام. والإيمان باللهِ لا يجتمع مع الخيانة، والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله علامة النفاق فقال: "آية النفاق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" كما مر آنفًا. وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". فما بال كثير من المسلمين - حتى المتدينين منهم - استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الأيمان، ويرون ذلك شيئًا صغيرًا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد، ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف

[78]

والعادة فقط، مع أنَّها دون ذلك عند الله، كما تدل عليه هذه الآية. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل حلف على سلعة: لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي ما منعت فضل ما لم تعمل يداك". وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". وروى مسلم أيضًا عن أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه .. حرم الله علية الجنة، وأوجب له النار، فقالوا: يا رسول الله وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: وإنْ كان قضيبًا من أراك". 78 - {وَإِنَّ مِنْهُمْ}؛ أي: وإنَّ من اليهود {لَفَرِيقًا}؛ أي: لطائفة {يَلْوُونَ}؛ أي: يفتلون ويعطفون {أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}؛ أي: بقراءة الكتاب، فيميلونها عن المنزل إلى المحرف، ويبدلون المحرف عن المنزل، كتحريفهم حركات الإعراب في آية الرجم، واللفظة الدالة على نبوة - صلى الله عليه وسلم -، تحريفًا يتغير به المعنى {لتحسبوه}؛ أي: لتظنوا أيها المسلمون أنَّ ذلك المحرف {مِنَ الْكِتَابِ}؛ أي: من كلام الله وتنزيله، يعني من التوراة {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}؛ أي: والحال أنَّ ذلك المحرف ليس من التوراة المنزل من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم. والمعنى (¬1): يلوون ألسنتهم ويعطفونها عن اللفظ المنزل إلى المحرَّف؛ لكي يظن السفلة أو المسلمون أنَّ المحرف من التوراة، وما هو من الكتاب؛ أي: والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر، وفي اعتقادهم {وَيَقُولُونَ ¬

_ (¬1) المراح.

هُوَ}؛ أي: المحرف {منْ عِندِ اَللهِ}، أي: موجود في كتب سائر الأنبياء، مثل شعياء وأرخياء وحيفوف {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنَّه من التوراة، والأذكياء زعموا أنَّه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى عليهم السلام، وعلم من هذا التفسير المغايرة بين اللفظين، فإنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإنَّ الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنّة، وتارة بالإجماع وتارة بالقياس، والكل من عند الله. وفي "الخازن" قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وإنَّما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى .. لأجل التأكيد؛ أي: إنَّهم (¬1) كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم، بأن الجرأة قد بلغت بهم حدًّا عظيمًا، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية، بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبًا، لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنَّه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب؛ لأنَّهم من أهل ذلك الدين. وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنَّا نرى كثيرًا من المسلمين اليوم يعتقدون أنَّ المسلم من أهل الجنة حتمًا، مهما أصاب من الذنوب؛ لأنَّه إنْ لم تدركه الشفاعة. أدركته المغفرة، ويجلِّي اعتقادهم ذلك قولهم: أمة محمَّد بخير. فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإِسلام دينًا، وإنْ لم يعمل بما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من صفات المسلمين الصادقين، بل ولو فعل فِعْل الكافرين والمنافقين. {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنَّهم كاذبون؛ أي: يتعمدون ذلك الكذب مع العلم، وهذا تأكيد وتسجيل عليهم بأنَّ ما افتروه على الله .. كان عن عمد لا عن خطأ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): هم اليهود الذين قدموا على كعب بن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الأشرف، وغيروا التوراة، وكتبوا كتابًا بدلوا فيه صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخذت قريظة ما كتبوا، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم، وقد جاء في كتب السيرة والحديث: أنَّ اليهود كانوا إذا سلَّموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يمضغون كلمة السلام، فيخفون اللام ويقولون: السام عليكم غير مفصحين بالكلمة؛ لأنَّهم يريدون معنى السام وهو الموت، وجاء في سورة النساء قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} فهؤلاء وضعوا {غَيْرَ مُسْمَعٍ} مكان "لا أسمعت مكروها" التي تقال عادة عند الدعاء و {راعنا} مكان انظرنا التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته، وإنَّما قالوا: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} لأنَّها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب، بمعنى لا سمعت، وقالوا: {راعنا} لأنَّ هذه الكلمة عبرانية أو سريانية، كانوا يَتَسابون بها. وقرأ الجمهور (¬1): {يَلْوُونَ} مضارع لوى الثلاثي، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع شذوذًا: {يَلْوُونَ} بالتشديد، مضارع لوّي مشددًا، ونسبها الزمخشري إلى أهل المدينة، والتضعيف للمبالغة والتكثير، لا للتعدية، وقرأ حميد شاذًّا: (يلوُن) بضم اللام، ونسبها الزمخشري إلى أنَّها رواية عن مجاهد وابن كثير، ووجهت على أنَّ الأصل يلوون، ثمَّ أبدلت الواو همزة، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبله، وحذفت هي. وقرأ الجمهور: {لِتَحْسَبُوهُ} والمخاطب المسلمون وقرىء شاذًا: {ليحسبوه} بالياء وهو يعود على المسلمين أيضًا، كما هم المراد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أنَّ المحرف من التوراة. ولمَّا بيَّن الله سبحانه وتعالى فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب، ونسبتهم إليه ما لم يقله .. أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله وسلامه علهيم أجمعين فقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[79]

79 - {مَا كاَنَ لشًرٍ}، أي: لا ينبغي ولا يليق لأحد من البشر، ولا لأحد من الأنبياء، كعيسى وموسى ومحمد عليهم السلام {أَن يُؤتِيَهُ اللهُ}؛ أي: لا يعطيه الله {الْكِتَابِ}؛ أي: التوراة أو الإنجيل أو القرآن {وَالْحُكْمَ}؛ أي: الفهم لذلك الكتاب {وَالنُّبُوَّةَ}؛ أي: الرسالة {ثُمَ يَقُولَ} ذلك البشر المشرف بالصفات الثلاثة {لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا} كائنين {لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين لله، أشراكًا أو أفرادًا والنفي في مثل هذه الصيغة {مَا كاَنَ} إنَّما يؤتى به للنفي العام الذي لا يجوز عقلًا ثبوته، والغرض أنَّه لا يصح أصلًا، ولا يتصور عقلًا صدور دعوى الألوهية من نبي قط، أعطاه الله النبوة والشريعة، فضلًا على أنْ يحصل ذلك بالفعل؛ لأنَّ الرسول سفير بين الله وخلقه، ليرشد الناس على عبادة الله، فكيف يدعوهم إلى عبادة نفسه؟! والمعنى: أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه ويعلمه فقه دينه، ومعرفة أسراره، ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله؛ لأنَّ من أتاه الله ذلك؛ فإنِّما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمي الناس الكتاب. ومعنى قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين ما يجب من إفراده؛ فإنَّ العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة، من التوجه إلى غيره ما قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} ومن دعا إلى عبادة نفسه .. فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإنْ لم ينههم عن عبادة الله، بل وإنْ أمرهم بعبادة الله، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري .. تركته وشركه" وفي رواية "فأنا منه بريء، هو للذي عمله" رواه مسلم وغيره. وقال - صلى الله عليه وسلم -:"وإذا جمع الله الناس يوم القيامة .. نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدًا .. فيطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإنَّ الله أغنى الشركاء عن

الشرك" رواه أحمد. وقرأ الجمهور {ثُمَّ يَقُولَ} بالنصب عطفًا على {أَن يُؤتِيَهُ} وقرأ شبل عن ابن كثير ومحبوب، عن أبي عمرو: بالرفع على القطع؛ أي: ثم هو يقول، وقرأ الجمهور عبادًا لي بتسكين ياء المتكلم، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها {وَلَكِنْ} يقول ذلك البشر المشرف بالكتاب والحكم والنبوة للناس {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، أي: علماء عالمين {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}؛ أي: بسبب كونكم معلمين الناس الكتاب {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، أي: وبسبب كونكم دارسين قارئين الكتاب؛ فإنَّ فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير، للاعتقاد والعمل به فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيًّا، فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود .. ضاع علمه، وخاب سعيه، وقال ابن عباس معنى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}؛ أي: حكماء علماء حلماء. والمعنى: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادًا لي، ولكن أدعوكم إلى أنْ تكونوا علماء فقهاء، مطيعين لله بتعليمكم الناس الكتاب، ودراستكم إياه. قرأ عبد الله وابن كثير وأبو عمرو ونافع (¬1): {تعلمون} بفتح التاء وسكون العين والباقون {تُعَلِّمُونَ} بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة، وقرأ مجاهد والحسن شذوذًا {تَعَلِّمُونَ} بفتح التاء والعين واللام المشددة، وهو مضارع حذفت منه التاء والأصل: (تتعلمون). وقرأ الجمهور (¬2): {تَدْرُسُونَ} من درس، من باب نصر، وقرأ أبو حيوة شاذًا (تدرِسون) بكسر الراء وروى عنه {تَدْرُسُونَ} بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة؛ أي: تدرسون غيركم العلم، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية، وقرىء: (تدرسون) من أدرس بمعنى درس، نحو: أكرم وكرم، وأنزل ونزل، ويحتمل أنْ تكون القراءة المشهورة بهذا المعنى على تقدير: وبما كنتم تدرسونه على الناس. ¬

_ (¬1) البحر المحيط ومراح. (¬2) البحر المحيط.

[80]

وخلاصة المعنى: ولكن يأمرهم هذا البشر، والنبي الذي أوتي الكتاب والحكم والنبوة، بأنْ يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة، وإنَّما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك، وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب، وتعليمه، والعمل به، يكون الإنسان ربانيًّا مرضيًّا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علمًا صحيحًا، ومن ثمَّ استغنى بذكره عن التصريح بالعمل، فالعلم بسبب للعمل، فقبيح على العالم تركه العمل، وأقبح منه أن يرشد الناس ويهديهم مع كونه هو غير مهتد في نفسه، فمثل العالم الذي يعلم الناس - وهو غير عامل - كشمعة موقودة تضيء للناس وتحرق نفسها، وفي هذا المعنى قال بعضهم: أَتَنْهَى النَّاسَ وَلاَ تَنْتَهِي ... مَتَى تُلْحَقُ الْقَوْمَ يَا أَكْوَعُ فَيَا حَجَرَ السَّنِّ حَتَّى مَتَى ... تَسُنُّ الْحَدِيْدَ وَلاَ تَقْطَعُ وكفى به (¬1) دليلًا على خيبة سعي من جهد نفسه، وكد روحه في جمع العلم، ثمَّ لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها، ولا تنفعه بثمرها. 80 - {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} قرأ (¬2) عاصم وحمزة وابن عامر ويعقوب وخلف العاشر {يأمركم} بفتح الراء عطفًا على يقول، والفاعل ضمير يعود على البشر، و {لا} مزيدة لتأكيد معنى النفي؛ أي: ما كان لبشر أن يجعله الله نبيًّا، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف، كما يدل على ذلك ما روي شاذًا عن ابن مسعود أنه قرأ؛ {ولن يأمركم} والفاعل حينئذٍ ضمير يعود على الله، كما قاله الزجَّاج، أو على محمَّد، كما قاله ابن جريج، أو إلى عيسى، أو إلى كل نبي من الأنبياء، كما قيل بكل؛ أي: ولا يأمركم محمَّد يا معشر قريش، أو موسى يا معشر اليهود، أو عيسى يا معشر النصارى مثلًا، بأنْ تتخذوا الملائكة والنبيين ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراح.

أربابًا، كما اتخذت الصابئة وقريش الملائكة، واليهود عزيرًا، والنصارى المسيح {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ}؛ أي: كيف يأمركم ذلك البشر أو الله بالكفر {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؛ أي: لا يأمركم، بل يأمركم بالإِسلام، والهمزة فيه للاستفهام التعجبي؛ لأنه خطاب للمؤمنين على طريق التعجب من حال غيرهم. وإنَّما خص (¬1) الملائكة والنبيين بالذكر؛ لأنَّ الذين وصفوا بعبادة غير الله عَزَّ وَجَلَّ من أهل الكتاب، لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة، وعبادة المسيح، وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر. والمعنى: أيأمركم بعبادة الملائكة، والسجود للأنبياء بعد توحيدكم لله، والإخلاص له إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس باللهِ، فإنَّ الله لا يؤتي وحيه إلا نفوسًا طاهرة، وأرواحًا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله. وأُثِرَ عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك؛ لأنَّ العالم ينفِّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغب الناس في الجهل بتنسكه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع". الإعراب {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}. {وَمِنْ} الواو استئنافية {من أهل الكتاب}: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم من اسم موصول، أو: نكرة موصوفة، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب {إن} حرف شرط {تأْمَنْهُ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على المخاطب. {بِقِنْطَارٍ} جار ومجرور متعلق بـ {تأمن} ¬

_ (¬1) الخازن.

والباء فيه بمعنى على، {يُؤَدِّهِ} فعل ومفعول، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تؤده}، وجملة {إن} الشرطية صلة {مَنْ} الموصولة، أو في محل الرفع صفة لـ (مَنْ}، إن قلنا إنَّها نكرة موصوفة تقديره: ومن أهل الكتاب شخص مؤد أمانته إنْ تأمنه على قنطار. {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. {وَمِنْهُمْ} الواو عاطفة، {منهم}: خبر مقدم، {مَنْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، {إن}: حرف شرط {تَأْمَنْهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب {بِدِينَارٍ}: متعلق بـ {تَأْمَنَهُ} {يُؤَدِّهِ} {لَا}: نافية {يُؤَدِّهِ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {إِلَيْكَ} متعلق به، وجملة {إن} الشرطية. صلة لـ {مَنْ} الموصولة، أو صفة لها {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ من الظرف العام، إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المدد والأزمنة إلا في مدة دوامك قائمًا عليه، {مَا}: مصدرية ظرفية {دُمْتَ}: فعل ناقص، واسمه {عَلَيْهِ} متعلق بـ {قَائِمًا}، و {قَائِمًا}: خبر دام، وجملة دام من اسمها وخبرها صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باضافة الظرف المقدر إليه تقديره: إلا مدة دوامك قائمًا عليه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُمْ}: الباء حرف جر، أنَّ: حرف نصب ومصدر والهاء اسمها، وجملة {قَالُوا} خبرها، وجملة أنَّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، المتعلقة بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك الاستحلال مستحق بقولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} مقول محكى لـ {قَالُوا} وإنْ شئت قلت {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص، {عَلَيْنَا}: جار ومجرور خبر {لَيْسَ} مقدم على اسمها {فِي الْأُمِّيِّينَ}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار. والمجرور قبله، أو

صفة لسبيل، قدمت عليه فصارت حالًا، وذهب قوم إلى عمل ليس في الحال، فيجوز على هذا أنْ يتعلق بها، ذكره أبو البقاء، {سَبِيلٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر عن خبرها، وجملة {لَيْسَ} في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. {وَيَقُولُونَ} الواو استئنافية {يقولونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يقولون}: لأنَّه بمعنى يفترون {الْكَذِبَ}: مفعول به، {وَهُمْ}: الواو حالية {هم}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، ومفعول العلم محذوف تقديره: أنَّه كاذبون، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {يَقُولُونَ}. {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}. {بَلَى} حرف جواب يجاب بها النفي فيصير إثباتًا، داخلة على جملة محذوفة تقديرها: بلى عليهم سبيل في الأميين {مَنْ}: موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أو شرطية في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {أَوْفَى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {مَنْ}: الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن} {بِعَهْدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَوْفَى}، {وَاتَّقَى}: معطوف على {أَوْفَى} وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة لجوابـ {من} الشرطية، أو رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها {يُحِبُّ اَلمُتقِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة (إنَّ): في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة مقررة للجملة المحذوفة بعد {بَلَى}. وفي "الفتوحات" والربط من الجملة الجزائية أو الخبرية هو العموم في {الْمُتَّقِينَ} وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول، ذلك هنا، وقيل: الجزاء أو الخبر محذوف تقديره: يحبه الله، ودل على هذ المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُتَّقِينَ}. اهـ "سمين". {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد {الَّذِينَ}: اسمها {يَشْتَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {بِعَهْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَشْتَرُونَ}، {وَأَيْمَانِهِمْ}: معطوف على {عهد الله} ومضاف إلى الضمير {ثَمَنًا} مفعول به {قَلِيلًا}: صفة له، {أُولَئِكَ}: مبتدأ {لَا}: نافية، {خَلَاقَ}: اسمها {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر {لَا} {فِي الْآخِرَةِ}: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} الواو عاطفة {لا}: نافية، {يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع، معطوف على جملة قوله: {لَا خَلَاقَ} على كونها خبر المبتدأ. {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الواو عاطفة (لا): نافية {يَنظُرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {إِلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَنظُرُ} {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَنظُرُ} والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: {لَا خَلَاقَ} على كونها خبر المبتدأ، وكذلك جملة قوله: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} معطوفة على جملة {لَا خَلَاقَ} {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الواو عاطفة {لهم} جار ومجرور خبز مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر {أَلِيمٌ}: صفة له والجملة الإسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: {لَا خَلَاقَ لَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ. {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}.

{وَإِنَّ} الواو استئنافية {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد {مِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {لأنَّ} على اسمها، {لَفَرِيقًا}: اللام لام الابتداء {فَرِيقًا} اسم {إنَّ} مؤخر {يَلْوُونَ}: فعل وفاعل {أَلْسِنَتَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {بِالْكِتَابِ}: متعلق بمحذوف حال من الألسنة تقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب، وجملة {يَلْوُونَ}: في محل النصب صفة {لَفَرِيقًا} وجمع الضمير نظرًا إلى المعنى؛ لأنَّه اسم جمع كالرهط والقوم، وجملة {إنّ}: من اسمها وخبرها مستأنفة {لِتَحْسَبُوهُ}: اللام حرف جر وتعليل، (تحسبوا): فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة جوازًا بعد لام كي، والواو فاعل، والهاء مفعول أول {مِنَ الْكِتَابِ}: متعلق بـ (تحسبوه) وهو في موضع المفعول الثاني، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لحسبانهم إياه {مِنَ الْكِتَابِ}: الجار والمجرور متعلق بـ {يَلْوُونَ} {وَمَا هُوَ}: الواو حالية {ما} نافية هُوَ: مبتدأ {مِنَ الْكِتَابِ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من الهاء في {تحسبوه}. {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. {وَيَقُولُونَ} الواو عاطفة {يقولون}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة {يَلْوُونَ} {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {هُوَ}: مبتدأ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول {وَمَا هُوَ}: الواو حالية، {ما}: نافية {هُوَ}: مبتدأ، {مِنْ عِندِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، أعني قوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. {وَيَقُولُونَ}: الواو عاطفة {يقولون}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَلْوُونَ} أيضًا {عَلَى اَللهَ}: جار ومجرور حال من {الْكَذِبَ} أو متعلق بـ {يقولون}؛ لأنَّه بمعنى يفترون، {الْكَذِبَ}: مفعول لـ (يقولون) {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل (يقولون) كما مر نظيره.

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}. {مَا}: نافية {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص {لِبَشَرٍ}: جار ومجرور خبر {كَانَ} مقدم على اسمها {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ}: حرف ناصب، وفعل ومفعول أول وفاعل {الْكِتَابَ} مفعول ثانٍ {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} معطوفان على {الْكِتَابَ}، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية {أَنْ}، مع صلتها في تاويل مصدر مرفوع على كونه اسمًا لكان تقديره: ما كان إيتاء الله بشرًا الكتاب والحكم والنبوة، ثم قوله للناس كونوا عبادًا لي لائقًا لبشر، وممكنًا منه. وجملة {كَانَ} مستأنفة. {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {يَقُولَ}: معطوف على {يؤتي} منصوب بأنْ المصدرية، وفاعلة ضمير يعود على {بشر} {لِلنَّاسِ} جار ومجرور متعلقان لـ {يقول} {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} مقول محكي وإنْ شئت قلت: {كُونُوا} فعل أمر ناقص واسمه {عِبَادًا}: خبره {لِي}: صفة لـ {عِبَادًا} وجملة {كوُنُوا}: في محل النصب مقول ليقول {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضماف إليه متعلق (¬1) بمحذوف حال من الواو في {كوُنُوا} تقديره: كونوا عبادًا لي حال كونكم متجاوزين الله، إشراكًا أو إفرادًا. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}. {وَلَكِنْ} الواو اعتراضية {لكن}: حرف استدراك {كوُنُوا}: فعل ناقص واسمه {رَبَّانِيِّينَ}: خبر {كُونُوا} وجملة {كُونُوا}: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ولكن يقول كونوا ربانيين، والجملة جملة استدراكية معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه {بِمَا كُنْتُمْ}: الباء حرف جر (ما) مصدرية، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعول ثانٍ، والأول محذوف تقديره: غيركم، وجملة {تُعَلِّمُونَ} خبر (كان)، وجملة (كان) صلة (ما) المصدرية (ما): مع صلتها في تأويل مصدر ¬

_ (¬1) الصاوي.

مجرور بالياء تقديره: بسبب كونكم معلمين غيركم الكتاب، الجار والمجرور متعلق بـ {كُونُوا} أو بـ {رَبَّانِيِّينَ} {وَبِمَا} {الواو}: عاطفة {الباء} حرف جر، {ما} مصدرية، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه {تَدْرُسُونَ}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف تقديره: الكتاب، وجملة {تَدْرُسُونَ} خبر {كان} وجملة {كان}: صلة {ما} المصدرية {ما}: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: وبسبب كونكم دارسين الكتاب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبه. {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}. {وَلَا} الواو عاطفة {لا}: زائدة زيدت لتأكيد معنى النفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} {يَأْمُرَكُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَقُولَ} وفاعله ضمير يعود على {بشر} {أَن}: حرف نصب ومصدر، {تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ}: فعل وفاعل ومفعول أول منصوب بأنْ {وَالنَّبِيِّينَ}: معطوف على {الْمَلَائِكَةَ} {أَرْبَابًا}: مفعول ثانٍ لـ {تَتَّخِذُوا}، وجملة {تَتَّخِذُوا}: صلة أنْ المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {يأمركم} تقديره: ولا يأمركم اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا، وجملة {يأمركم}: في تأويل مصدر معطوف على مصدر {يَقُولَ} والتقدير؛ ما كان إيتاء الله البشر الكتاب والحكم والنبوة، ثم قوله للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله، وأمره الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا لائقًا به {أَيَأْمُرُكُمْ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري {يأمركم} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {البشر}، أو على {اللَّهِ} {بِالْكُفْرِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، أي: لا يأمركم بالكفر {بَعْدَ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يَأْمُرَكُمْ} أو {باَلْكُفْرِ} {بَعْدَ}: مضاف، {إذْ} مضاف إليه، ولا يضاف {إذْ} إلا إلى ظرف زمان، و {إذْ}: مضاف وجملة {أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مضاف إليه؛ أي: لا يأمركم بالكفر بعد إسلامكم، ولا قبله، سواء كان الآمر الله، أم الذي استنبأه الله والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة {بِدِينَارٍ} والدينار أصله دننار بنونين، فاستثقل توالى مثلين، فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفًا لكثرة دورانه على ألسنتهم، ويدل على ذلك رده إلى النونين تكسيرًا وتصغيرًا في قولهم؛ دنانير ودنينير، ومثله قيراط، أصله قراط، بدليل قولهم: قراريط وقريريط، والدينار معرب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلًا وهو أربعة وعشرون قيراطًا، كل قيراط، ثلاث شعيرات معتدلة، فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة. {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} {دُمْتَ} بضم الدال، من دام يدوم، من باب قال يقول، قال الفراء: هذه لغة الحجاز وتميم، تقول: دمت بكسر الدال، قال: ويجتمعون في المضارع يقولون: يدوم، وأصل هذه المادة الدلالة على الثبوت والسكون، يقال: دام الماء إذا سكن وفي الحديث "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"؛ أي: الذي لا يجري {قَائِمًا} والمراد بالقيام هنا الملازمة؛ لأنَّ الأغلب أنَّ المطالب يقوم على رأس المطالب، ثمَّ جعل عبارة عن الملازمة، وإنْ لم يكن ثَمَّ قيام. {فِي الْأُمِّيِّينَ} جمع أمي، وأصل الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، والمراد بهم العرب؛ لأنَّهم كانوا كذلك {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يقال: لوى الحبل والتوى إذا فتله، ثم استعمل في الإزاغة في الحجج والخصومات، ومنه ليان الغريم، وهو دفعه ومطله، ومنه خصم ألوى؛ أي: شديد الخصومة، شبهت المعاني بالأجرام، والمراد أنَّهم يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة. {أَلْسِنَتَهُمْ} جمع لسان، واللسان الجارحة المعروفة، قال أبو عمرو: اللسان يذكَّر ويؤنث، فمن ذكَّر جمعه على ألسنة، ومن أنَّث جمعه على ألسن، كذراع وأذرع، وكراع وأكرع وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرًا. انتهى. ويعبر باللسان عن الكلام، وهو أيضًا يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك. {رَبَّانِيِّينَ} جمع رباني، والرباني إما منسوب إلى الرب، والألف والنون فيه

زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كما قالوا: رقباني وشعراني ولحياني، للغليظ الرقبة، والكثير الشعر، والطويل اللحية، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أمَّا إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا: رقبي وشعري ولحوي، هذا معنى كلام سيبويه، وإمَّا منسوب إلى الربان، والربان هو المعلم للخير، ومن يسوس الناس ويعرفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالان على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان، وتكون النسبة على هذا للمبالغة في الوصف كما قالوا: أحمري، في أحمر، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه. واختلف في معناه فقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلوم وكبارها، وقيل: هو العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل هو العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، وقيل: هو الذي جمع بين علم البصيرة، والعلم بسياسة الناس. ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمَّد ابن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة، وقيل: الربانيون هم ولاة الأمر والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان، ومعنى الآية على هذا التأويل: لا أدعوكم إلى أنْ تكونوا عبادًا لي، ولكن أدعوكم إلى أنْ تكونوا ملوكًا، وعلماء، ومعلمين الناس الخير، ومواظبين على طاعة الله وعبادته، وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية، وإنَّما هي عبرانية أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم، وعلَّم الناس طريق الخير {تَدْرُسُونَ} يقال: درس الكتاب يدرسه أدمن قراءته وكرره، ودرس المنزل، إذا عفا، وطلل دارس عاف. البلاغة وذكروا في هذه الآيات أنواعًا من البلاغة (¬1): منها: الطباق في قوله: {بِقِنْطَارٍ} و {بِدِينَارٍ}: إذا أريد بهما معنى القليل والكثير وفي قوله: {يُؤَدِّهِ} و {لَا يُؤَدِّهِ}؛ لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان، وفي قوله: {بِالْكُفْرِ} و {مُسْلِمُونَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الإشارة بالبعيد في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}، وفي قوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} إيذانًا بكمال غلوهم في الشر والفساد. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}؛ أي: ليس علينا في أكل أموال الأميين سبيل. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}؛ فقد استعار لفظ الشراء للاستبدال. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {اتقى} و {الْمُتَّقِينَ}. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}؛ لأنَّ الأصل: فإنَّ الله يحبهم اعتناء بشأن المتقين، وإشارة إلى عمومه لكل تَقي. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} و {أَيَأْمُرُكُمْ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، وفي قوله: {يَوْمَ اَلقِيامَةِ} اختصه بالذكر لأنَّه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال. ومنها: التكرار في قوله: {يُؤَدَهِ} و {لا يؤده} وفي اسم: {اللَّهِ} في مواضع، وفي: {الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}. ومنها: الكناية في قوله: {بِقِنْطَارٍ} وقوله: {بِدِينَارٍ}؛ لأنَّ القنطار كناية عن المال الكثير، والدينار كناية عن المال القليل كما مر. ومنها: التأكيد في قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} أكدت الجملة بإنَّ، واللام إشارة إلى أنَّ ذلك محقق منهم. ومنها: المجاز في قوله: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}؛ لأنَّه مجاز عن شدة غضبه وسخطه تعالى عليهم، وكذلك في الآتي بعدها: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} قال الزمخشري: مجاز عن الاستهانة بهم، والسخط عليهم؛ لأنَّ من اعتد بإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنَّه تعالى لما حكى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالم، وكان مما ذكر أخيرًا اشتراءهم بآيات الله ثمنًا قليلًا، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة، وإنَّ منهم مَنْ بَدل في كتابه، وغير وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكور في كتبهم حتى لا يؤمنوا به، ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره، بل تفرد تعالى بالعبادة .. أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوته ودينه، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم، بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق له، وبأن يكونوا من أتباعه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وأنصاره إنْ أدركوا زمنه، وذكر إقرارهم بذلك، وشهادتهم على أنفسهم، وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم، وشاهد بذلك أنبياؤهم، فإذا كان الأنبياء قد أخذ عليهم العهد: أنْ يؤمنوا به ويبشروا بمبعثه .. فكيف يصح من أتباعهم التكذيب برسالته - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر تعالى أن الإيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإيمان، وبيَّن أنَّ الإِسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله دينًا سواه، فالغرض من هذه الآيات: إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعًا لعذرهم، وإظهارًا لعنادهم، ودحضًا لمزاعمهم، وإزالةً لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب. أسباب النزول قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ...} قيل سبب نزولها: أنَّ (¬1) أهل الكتاب اختلفوا، فادعى كل فريق منهم أنَّه على دين إبراهيم عليه السلام، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ}. قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سبب نزولها (¬2): ما رواه النسائي وابن جرير وابن حبَّان والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم ارتدَّ ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لي من توبة؟ قال: فنزلت {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الحديث رجاله رجال الصحيح. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} سبب نزولها (¬3): ما رواه ابن كثير في تفسيره، عن ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) لباب النقول. (¬3) المسند الصحيح.

[81]

عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ قومًا أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم؟ فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} هكذا رواه، وإسناده جيد. التفسير وأوجه القراءة 81 - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} قرأ جمهور السبعة: {لَمَا} بفتح اللام وتخفيف الميم، وعلى هذه القراءة يُقرأ: {أتيناكم} بنون العظمة، وهي قراءة نافع وجعفر، ويُقرأ {أتيتكم} بالإفراد، وهو الموافق لما قبله وما بعده؛ لأنَّه تقدم قبله {إذ أخذ الله} وجاء بعده: {إصْرِي}؛ وهي قراءة الباقين من العشرة، وعلى هذه القراءة، أعني قراءة الجمهور بفتح اللام وتخفيف الميم، فاللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، و {ما} شرطية منصوبة على المفعولية بالفعل المذكور بعدها، {وأتيتكم}: فعل شرط لها، وقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ} معطوف على فعل الشرط وقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}: جواب القسم ودال على جواب الشرط. والمعنى على هذه القراءة: واذكر يا محمَّد لأهل الكتاب قصة إذ جعل الله سبحانه وتعالى العهد المؤكد باليمين على جميع النبيين المرسلين في عالم الذرة، أوفى كتبهم بقوله لمهما أعطيتكم به من كتاب منزل، أو حكمة وعلم نافع {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} من عندي، وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {مُصَدِّقٌ}؛ أي: موافق وصفه {لِمَا مَعَكُمْ}؛ أي: لوصفه المذكور في الكتاب الذي معكم من التوراة والإنجيل {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}؛ أي: لتصدقن أنتم وأممكم برسالته {وَلَتَنْصُرُنَّهُ} على أعدائه، قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمدًا وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته. وقيل: إنَّ {ما} موصولة مبتدأ، وصلتها {آتَيْتُكُمْ}، والعائد محذوف تقديره أتيتكموه، و {ثُمَّ جَاءَكُمْ} معطوف على الصلة، فهو صلة العائد منه قيل: مقدر؛ أي: جاءكم به، وقيل: الربط حاصل بإعادة الموصول بمعناه في

قول ما معكم. وقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} جواب قسم مقدر، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر المبتدأ الذي هو {لَمَا آتَيْتُكُمْ} والهاء في {بِهِ} تعود على المبتدأ، ولا تعود على {رَسُولٌ} لئلا يلزم خلو الجملة الواقعة خبرًا من رابط يربطها بالمبتدأ، وقيل: إنَّ {لَمَا} مخفف لما، والتقدير: حين آتيتكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد. وقرأ حمزة: بكسر اللام مع تخفيف الميم في {لما} وعلى هذه القراءة يقرأ {آتيتكم} بالتاء فقط، فاللام في هذه القراءة للتعليل، متعلقة بـ {أَخَذَ} و {ما} موصولة و {آتَيْتُكُمْ} صلته والعائد محذوف، و {ثُمَّ جَاءَكُمْ} معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إمَّا ضمير محذوف، وإمَّا هذا الظاهر الذي هو بمعنى الموصول، أعني قوله: {لِمَا مَعَكُمْ} كما مر آنفًا. والمعنى على هذه القراءة: واذكر يا محمَّد لأهل الكتاب، قصة إذ أخذ الله ميثاق النبيين لرعاية الذي آتيتكم من الكتاب والحكمة. الخ، ففي هذه القراءة تقدير مضاف بعد لام التعليل. وأجاز الزمخشري (¬1) في قراءة حمزة أنْ تكون (ما) مصدرية، وقال: معنى الكلام حينئذٍ لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لِمَا معكم لتؤمنن به، قالوا: فهو مخالف لظاهر الآية؛ لأنَّ ظاهر الآية يقتضى أنْ تكون تعليلًا لأخْذِ الميثاق، لا لمتعلقه، وهو الإيمان، فاللام متعلقة بـ {أَخَذْ}، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلق بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم، لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقال النسفي: والمعنى على كونها مصدريّة: أي أخذ الله ميثاقكم لتؤمنن بالرسول، ولتنصرنه، لأجل أنِّي آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالايمان به ونصرته، موافق لكم غير مخالف. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقرأ سعيد بن جبير والحسن شذوذًا: {لمَّا} بتشديد الميم، على أنَّها ظرف بمعنى حين، متعلق بـ {تُؤْمِنُنَّ}، والمعنى: اذكر يا محمد لأهل الكتاب، قصة إذ جعل الله العهد المؤكد باليمين علي النبيين في عالم الأرواح بقوله: حين أعطيتكم الكتاب والحكمة في عالم الأشباح، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه. وقرأ أبي وعبد الله شذوذًا: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} بدل النبيين، وكذا هو في مصحفيهما، وقرأ عبد الله شذوذًا: {رسول مصدقًا} بالنصب على الحال من النكرة المتقدمة، وهو جائز، وإن كان قليلًا، وقد ذكروا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنَّه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى؛ لأن المعني: به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على قول الجمهور. والمقصود من الآية (¬1): أنَّ الله تعالى، أخذ الميثاق من النبيين خاصة، قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده: أنْ يصدق بعضهم بعضًا، وأخذ العهد على كل نبي: أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه، وإنْ لم يدركه: أن يأمر قومه بنصرته إنْ أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاووس. وقيل: إنَّما أخذ الله الميثاق من النبيين في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبين بعضهم لبعض صفة محمَّد وفضله، وهو قول علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي، وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيًّا، آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه. وقيل: إن المراد من الآية أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق على أممهم، بأنَّه إذا بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - يؤمنون به وينصرونه، وهذا قول كثير من المفسرين، والمراد من قوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد بكونه مصدقًا لما معهم: أن صفاته ونعوته وأحواله مذكورة في ¬

_ (¬1) المراح.

[82]

التوراة والإنجيل، فلمَّا ظهر على نعوت وأحوال مطابقة لما كان مذكورًا في تلك الكتب .. كان نفس مجيئه تصديقًا لما كان معهم. وصفوة القول: إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق بشريعته، بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى عليه السلام، أنَّه إذا جاء نبي بعده، وصدق بما معه، يؤمن به، وينصره. وإيمانكم بموسى أو عيسى عليه السلام يقتضي التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما. {قَالَ} الله سبحانه وتعالى للنبيين {أَأَقْرَرْتُمْ} بتحقيق الهمزتين، مع إدخال ألف بينهما وتركه، وبتسهيل الثانية مع إدخال ألف بينهما، وبين الأولى المحققة وتركه، وبإبدال الثانية ألفًا ممدودة، فالقراءات خمسٌ كما في "الخطيب"؛ أي: هل اعترفتم بالإيمان به والنصرة له {وَأَخَذْتُم}؛ أي: قبلتم {عَلَى ذَلِكُمْ} المذكور من الإيمان به والنصر له {إِصْرِي}؛ أي: عهدي، وسمي العهد إصرًا؛ لأنَّه مما يؤصر؛ أي: يشد ويعقد والإصر في الأصل الحمل الثقيل، وقرىء شاذًا بضم الهمزة (أُصري) وهي مروية عن أبي بكر، عن عاصم شذوذًا، ويحتمل أن يكون لغة فيه، ويحتمل أن يكون جمعًا لأصار، كإزار وأزر {قَالُوا}؛ أي: قال النبيون جوابًا للرب جل جلاله {أَقْرَرْنَا}؛ أي: اعترفنا بذلك العهد وقبلناه، {قَالَ} الله تعالى للنبيين {فَاشْهَدُوا}؛ أي: على أنفسكم وعلى أتباعكم؛ أي: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وقبول العهد {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضًا، من الشاهدين معكم، لا يعزب عن علمي شيء. وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده، على طريق التمثيل، وليست الآية نصًّا في أنَّ هذه المحاورة وقعت، وهذه الأقوال قيلت، وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية. 82 - {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: فمن أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ونصرته

[83]

بعد قبول الميثاق والعهد {فَأُولَئِكَ} المعرضون {هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الخارجون عن طاعة الله وميثاقه. وخلاصة المعنى: فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه، ولم ينصره .. فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - خارجون عن ميثاق الله، ناقضون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء. وبعد أنْ بين الله سبحانه وتعالى أنَّ دين الله واحد، وأنَّ رسله متفقون فيه، ذكر حال منكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: 83 - {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض، وهي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والتقدير: أيتولون ويعرضون عن الحق بعد ما تبين لهم، ويطلبون غير دين الله وهو، الإِسلام، والإخلاص له في العبادة في السر والعلن {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: والحال أنَّه قد خضع له تعالى، وإنقاذ لحكمه أهل السموات والأرض حالة كونهم {طَوْعًا}؛ أي؛ طائعين راضين، يعني: الملائكة والمسلمين {و} حالة كونهم {كرهًا}؛ أي: كارهين، يعني الكفار في حالة البأس، ورؤية العذاب. فالطَّوْع (¬1): الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس، واختلفوا في معنى قوله: {طوعًا أو كرهًا}، فقيل: أسلم أهل السموات طوعًا، وأسلم بعض أهل الأرض طوعًا، وبعضهم كرهًا من خوف القتل والنبي، وقيل: أسلم المؤمن طوعًا، وانقاد الكفار كرهًا، وقيل: هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بلى} فمن سبقت له السعادة .. قال ذلك طوعًا، ومن سبقت له الشقاوة. قال ذلك كرهًا، وقيل: أسلم المؤمن ¬

_ (¬1) الخازن.

طوعًا، فنفعه إسلامه يوم القيامة، والكافر يسلم كرهًا عند الموت في وقت اليأس، فلم ينفعه ذلك في القيامة، وقيل: أنَّه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده، فأمَّا المسلم فينقاد لله، فينفذ أمره أو نهاه طوعًا، وأمَّا الكافر فينقاد لله كرهًا في جميع ما يقضى عليه، ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه. وحاصل معنى الآية (¬1): أنَّ هذا الميثاق لمَّا كان مذكورًا في كتبهم، وهم كانوا عارفين بذلك، فقد كانوا عالمين بذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - في النبوة، فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد، فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله أنَّهم متى كانوا كذلك .. كانوا طالبين دينًا غير دين الله، ومعبودًا سوى الله تعالى، ثمَّ بين أنَّ الإعراض عن حكم الله تعالى مما لا يليق بالعقلاء، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: لجلال الله تعالى لا لغيره انقاد في طرفي وجوده وعدمه؛ لأنَّ كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاده، ولا يعدم إلا بإعدامه، سواء كان عقلًا، أو نفسًا، أو روحًا، أو جسمًا، أو جوهرًا، أو عرضًا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعًا فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرهًا فيما يخالف طباعهم، من الفقر، والمرض، والموت، وما أشبه ذلك، أمَّا الكافرون .. فهم مناقدون لله تعالى كرهًا على كل حال؛ لأنَّهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، ويخضعون له تعالى في غير ذلك كرهًا؛ لأنَّه لا يمكنهم دفع قضائه تعالى، وقدره أيضًا، كل الخلق منقادون لإلهيته تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ومنقادون لتكاليفه، وإيجاده للآلام كرهًا. {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره {يُرْجَعُونَ}؛ أي: يرجع الخلائق كلهم للمجازاة يوم القيامة، ففيه وعيد شديد لمن خالفه في الدنيا؛ أي: أيبتغون غير ¬

_ (¬1) المراح.

[84]

دين الله، مع أن مرجعهم إليه تعالى. وقرأ أبو عمرو وحفص وعياش ويعقوب وسهل (¬1): {يبغون} بالياء على الغيبة، وقرأ الباقون {تبغون} بالتاء على الخطاب، فالياء على نسق {هُمُ الْفَاسِقُونَ}، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأ الأعمش شاذًا: (كُرهًا): بضم الكاف والجمهور بفتحها. وقرأ حفص وعياش ويعقوب وسهل {يرجعون} بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون عائدًا على {من أسلم}، ويحتمل أن يكون عائدًا على ضمير {يَبْغُونَ}، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ: {تبغون} بالتاء، إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة، وقرأ الباقون بالتاء، فإن كان الضمير عائدًا على {من أسلم} .. كان التفاتًا، أو على ضمير {تبغون} كان التفاتًا على قراءة من قرأ: {يَبْغُونَ} بالياء، إذ يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب. ولمَّا ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة، أنَّه إنَّما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقًا لما معهم .. بين الله تعالى من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كونه مصدقًا لما معهم فقال تعالى: 84 - {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} وإنَّما وحد الضمير في قوله: {قُلْ} وجمع في قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} إشعارًا بأنَّه لا يبلغ هذا التكليف من الله تعالى إلى الخلق إلا هو، فلذلك وحد الفعل في قوله: {قُلْ} وتنبيهًا على أنه وافقه حين قال هذا القول أصحابه فلذا حسنًا الجمع في قوله: {آمَنَّا}. ومعنى الآية: قل يا محمد {ءَآمَنَّا}؛ أي: صدقت أنا ومن معي {بِاللَّهِ}؛ أي: بوجود الله ووحدانيته، وتصرفه في الأكوان كلها، وأنَّه ربنا وإلهنا، لا إله لنا غيره، ولا رب سواه، والمراد؛ آمنا بالله وحده، لا كما آمن أهل الكتاب به على وجه التثليث؛ وإنَّما قدم الإيمان بالله على غيره لأنَّه الأصل {و} قل يا محمد ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أيضًا صدقنا بـ {ما أنزل علينا} من وحيه وتنزيله؛ وإنَّما قدم ذكر القرآن لأنَّه أشرف الكتب المنزلة؛ لأنَّ المعيار عليه؛ ولأنَّه لم يحرف ولم يبدل، وغيره حرف وبدل؛ أي: آمنا بالقرآن المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - أولًا، وعلى أمته بتبليغه إليهم. وإنَّما عدي الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى؛ لأنَّه يصح تعديته بكل منهما، فله جهة علو باعتبار إبتدائه، وجهة انتهاء باعبتار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولمَّا خص الخطاب هنا بالنبي .. ناسب الاستعلاء، ولما عمم هناك جميع المؤمنين .. ناسبه الانتهاء {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}؛ أي: وقيل يا محمد أيضًا: صدقنا بأنَّ الله أنزل على هؤلاء وحيًا لهداية أقوامهم، وأنَّه موافق في أصوله لما أنزل علينا؛ أي: آمنا بما أنزل على هؤلاء من الصحف والوحى، والأسباط هم بطون بني إسرائيل، المتشعبة من أولاد يعقوب، وإنَّما خص هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ أهل الكتاب يعترفون بفضلهم وبنبوتهم، ولم يختلفوا فيهم {و} صدقنا بـ {ما أوتي} وأعطي {مُوسَى وَعِيسَى} من التوراة والإنجيل، وسائر المعجزات الظاهرة على أيديهم، كما ينبىء عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب، وإنَّما أفرد هذين النبيين بالذكر؛ لأنَّ الكلام مع اليهود والنصارى، ثم جمع جميع الأنبياء فقال: {وَالنَّبِيُّونَ}؛ أي: وما أعطى النبيون {مِنْ رَبِّهِمْ} كداود، وسليمان، وأيوب، وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} تعالى بالتصديق والتكذيب، فنصدق بالبعض، ونكفر بالبعض، كما فعل اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل. فما مثل الأنبياء إلا كمثل الأمراء الأمناء الصادقين، يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشؤون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض القوانين السابقة، بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم، من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدينة وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها، وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.

[85]

{وَنَحْنُ لَهُ} سبحانه وتعالى {مُسْلِمُونَ}؛ أي: منقادون له بالطاعة، مخلصون له في العبادة، مقرون بالألوهية والربوبية، لا نشرك به أحدًا أبدًا، ولا نبتغي بذلك إلا التقرب إليه، لإصلاح نفوسنا، وتزكية أرواحنا وتطهيرها من أدران الذنوب والخطايا. وقد افتتحت الآية بالإيمان واختتمت بالإِسلام والخضوع، وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبي. 85 - ثم أخبر تعالى: بأنَّ كل دين غير الإِسلام باطل ومرفوض فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}؛ أي: ومن يطلب دينًا غير التوحيد والانقياد لحكم الله {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}؛ أي من سلك شريعة غير شريعة الإِسلام بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتدين بها، لن يقبل الله منه؛ يعني: إنَّ الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وإن كل دين سواه غير مقبول عنده؛ لأنَّ الدين الصحيح ما يأمر الله به، ويرضى عن فاعله، ويثيبه عليه {وَهُوَ}؛ أي: ذلك المبتغي {مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: من الواقعين في الخسران، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا .. فهو رد". والمعنى: أنَّ المعرض عن الإسلام، والطالب لغيره، فاقد للنفع، واقع في الخسران، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، محروم من الثواب، واقع في العقاب، متأسف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وعلى ما تحمله من التعب في الدنيا، في تقرير الدين الباطل. فائدة: قوله: {يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} العامة (¬1) على إظهار هذين المثلين؛ لأنَّ بينهما فاصلًا، فلم يلتقيا في الحقيقة، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجازم، وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإظهار على الأصل ولمراعاة الفاصل الأصلي، والإدغام لمراعاة اللفظ، إذ يصدق أنَّهما التقيا في الجملة؛ لأن ذلك الفاصل مستحق الحذف لعامل الجزم، وليس هذا مخصوصًا بهذه الآية، بل كلما التقى فيه مثلان بسبب حذف حرف العلة اقتضت ذلك، يجرى فيه الوجهان، ¬

_ (¬1) الجمل.

[86]

نحو {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}، وإن يأت كاذبًا، وقد استشكل على هذا نحو {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ} {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ}، فأنَّه لم يرد من أبي عمرو خلاف في إدغامهما، وكان القياس يقتضى جواز الوجهين؛ لأنَّ ياء المتكلم فاصلة تقديرًا. اهـ "سمين". ولفظ {دِينًا} إما مفعول و {غَيْرَ الْإِسْلَامِ} حال منه مقدم عليه، أو تمييز، أو بدل من غير، كما سيأتي ذلك في مباحث الإعراب. 86 - {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} نزلت (¬1) في إثني عشر رجلًا ارتدوا عن الإِسلام، وخرجوا من المدينة، وأتوا مكة كفارًا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري، وطعمة بن أبيرق، وحجوج بن الأسلت، كما أخرجه عن عكرمة ابن عساكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في اليهود والنصارى، وذلك أنَّ اليهود كانوا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتحون به على الكفار، ويقرون به ويقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .. كفروا به بغيًا وحسدًا. والاستفهام هنا (¬2) للإنكار، ويجوز أن يكون للتعجب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان، أو للاستبعاد والتوبيخ؛ فإنَّ الجاحد عن الحق بعد ما وضح له .. منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، فليس للإنكار، حتى يستدل به على عدم توبة المرتد، وإنْ كان إنكارًا فالاستشهاد يمنعه. ومعنى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان {قَوْمًا كَفَرُوا}؛ أي: جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}؛ أي: تصديقهم إياه بالقلب، وإذعانهم به، وبما جاء به من عند ربه {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}؛ أي: وبعد أنْ شهدوا وأقروا بلسانهم أنَّ محمدًا رسول الله إلى خلقه، وأنَّه حق وصدق {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}؛ أي: والحال أنَّه قد جاءهم الحجج والبراهين، والمعجزات ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

[87]

الدالة على صحة نبوته، وصدقه - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا يوفق القوم الكافرين الأصليين والمرتدين طريق الهدى والرشاد، لما سبق في علمه تعالى أنَّهم ظالمون، وقيل: لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب، فإنْ قلت (¬1): كيف قال الذي أول الآية: {كَيْفَ يَهْدِي} وفي آخر الآية: {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذا تكرار؟ قلتُ: ليس فيه تكرار؛ لأن قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا} إنَّما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام، ثمَّ إنَّه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الآية فقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يعني جميع الكفار، المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي، وإنَّما سمى الكافر ظالمًا لأنَّه وضع العبادة في غير موضعها. 87 - {أُولَئِكَ} الذين كفروا بعد إيمانهم {جَزَاؤُهُمْ} على كفرهم {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} أي: سخطه وغضبه، وإبعاده لهم عن رحمته {و} أنَّ عليهم لعنة {الملائكة والناس أجمعين}؛ أي: يستحقون غضب الله وسخطه، وسخط الملائكة والناس كلهم، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم؛ لأنَّها مجلبة للَّعن بطبعها لكل من عرفها. وهذا يدل (¬2) بمنطوقه على جواز لعنهم، وبمفهومه ينفي جواز لعن غيره، ولعل الفرق أنَّهم مطبوعون على الكفر، ممنوعون عن الهدى، آيسون عن الرحمة رأسًا، بخلاف غيرهم، والمراد بالناس المؤمنون، أو العموم؛ فإنَّ الكافر أيضًا يلعن منكر الحق، والمرتد عنه، ولكن لا يعرف الحق بعينه حالة كونهم 88 - {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود في اللعنة أو العقوبة، أو النار، وإنْ لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}، أي: لا ينقصون من العذاب شيئًا {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها؛ لأنَّ سببه ماران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد، وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا، ثمَّ استثنى سبحانه وتعالى فقال: 89 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ورجعوا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي.

من الكفر إلى الإيمان {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ارتدادهم وكفرهم، وذلك أن الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك، فأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة؟ ففعلوا، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية. فبعث إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبًا، وقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبته، وحسن إسلامه {وَأَصْلَحُوا}؛ أي: عملوا الأعمال الصالحة، وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لقبائحهم في الدنيا بالستر لها {رَحِيمٌ} في الآخرة بالعفو عنها، وقيل: غفور بإزالة العذاب، رحيم بإعطاء الثواب، وفي هذا الاستثناء وما بعده إشارة إلى أنَّ الكفار تنقسم ثلاثة أقسام: قسم: تاب توبة صادقة فنفعته، وإليهم الإشارة بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}. وقسم: تاب توبة فاسدة فلم تنفعه، وإليهم الإشارة بقوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}. وقسم: لم يتب أصلًا ومات على الكفر، وإليهم الإشارة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}. وخلاصة المعنى: أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم، وتابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر، الذي دنسوا به أنفسهم، نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذي الإيمان، وتمحو من صفحة القلب ما كان قدْ ران عليها، من ذميم الأخلاق والصفات. وفي هذا إيماء إلى أنَّ التوبة التي لا أثر لها في العمل، لا يعتد بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم، والاستغفار، والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أنْ يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات؛ لأنَّ التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم، ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شؤونهم، وتقويم المعوج من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك .. نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول

[90]

جنته، والفوز برحمته. 90 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعيسى والإنجيل {بَعْدَ إِيمَانِهِم} بموسى والتوراة، وهم اليهود {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إذا غرغروا أو ماتوا كفارًا، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى جميعًا، وذلك أنَّهم آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، وشهدوا أنَّه حق لما رأوا في كتبهم من نعته ووصفه، ثم كفروا به بعد بعثته، ثم ازدادوا كفرًا بالإصرار والعناد، والصد عن سبيل الله، وبالحرب، فهؤلاء لا تقبل توبتهم ما أقاموا على ذلك؛ لأنَّ نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر، وأحاطت بها خطيئتها، وضلت على علم، وقرأ عكرمة شاذًا: {لن نقبل}: بالنون {توبتَهم}: بالنصب. {وَأُولَئِكَ} الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا {هُمُ الضَّالُّونَ}؛ أي: المتناهون في الضلال، الذين ضلوا عن سبيل الحق، وأخطأوا منهاجه. وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض، تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف، ويزَولُ أثر ذلك الدنس، ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة، حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها .. تعذر تنظيفه، وإعادته إلى حاله الأولى، وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة. وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}. 91 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} باللهِ وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} بهما {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ}؛ أي: مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها {ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى} نفسه {بِهِ}؛ أي: بذلك الملء، قال الزجاج: إن الواو للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله في الدنيا بملء الأرض ذهبًا .. لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهبًا .. لم يقبل منه، أو المراد بالواو التعميم في الأحوال، كأنَّه قيل: لن يقبل من الكفار الفداء في جميع

الأحوال، ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة، وقيل: هي زائدة، كما قرئ شاذًا بإسقاطها، ومفعول افتدى محذوف؛ أي: ولو افتدى نفسه. وقرأ عكرمة شاذًا {فلنْ نقبل}: بالنون، و {وملء}: بالنصب، وقرىء شاذًا: {فلن يَقبل} بالياء مبنيًّا للفاعل؛ أي: فلن يقبل الله و {ملء} بالنصب، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال شذوذًا: {مل الأرض} بدون همز، ورويت عن نافع، ووجهه أنَّه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل - وهو اللام - وحذفت الهمزة، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا، وقرأ الأعمش شذوذًا أيضًا: {ذهبٌ}: بالرفع، وحمل على أنَّه بدل من (ملء)، وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا أيضًا: {لو افتدى به}: بدون واو. فإن قلت (¬1): الكافر لا يملك شيئًا في الآخرة فما وجه قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا}؟. قلتُ: الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير، والمعنى: لو أنَّ للكافر قدر ملء الأرض ذهبًا يوم القيامة .. لبذله في تخليص نفسه من العذاب، ولكن لا يقدر على شيء من ذلك. وقيل معناه: لو أنَّ الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبًا، ثم مات على كفره .. لم ينفعه ذلك؛ لأنَّ الطاعة مع الكفر غير مقبولة؛ لأنَّ الكفر يحبط أعماله، ويمحو كل حسناته، فمن لم تزك نفسه في الدنيا، وتسمُ عما يكدرها من ظلمات الكفر، وأوضار الشرك .. فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإنْ جَلَّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرحيم. {أُولَئِكَ} الكفار الذين ماتوا على الكفر {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}؛ أي: مانعين يدفعون عذاب الله ¬

_ (¬1) الخازن.

عنهم، أو يخففونه عنهم، كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم، أو إيقاع المكروه بهم. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله - عزّ وجلّ -: لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم، أنْ لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا الشرك". متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم. الإعراب {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية {إذ}: ظرف لما مضى، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: أذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة {أَخَذَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لي {إذ} {لَمَا} اللام: حرف زائد لتوطئة معنى القسم الآتي {ما}: شرطية في محل النصب على كونه مفعولًا ثانيًا لآتي {آتَيْتُكُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول أول في محل الجزم بـ {ما} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {مِنْ كِتَابٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لاسم الشرط، أو حال منه {وَحِكْمَةٍ}: معطوف على {كِتَابٍ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {جَاءَكُمْ رَسُولٌ}: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم معطوف على {آتَيْتُكُمْ} {مُصَدِّقٌ} صفة لي {رَسُولٌ}. {لِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقٌ}، {مَعَكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة {لِمَا}. أو صفة لها {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} اللام موطئة للقسم {تؤمنن} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، لعدم مباشرة نون التوكيد، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل

الجزم جواب لما الشرطية، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بقوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}. {وَلَتَنْصُرُنَّهُ} {الواو}: عاطفة، اللام: موطئة للقسم {تنصرن}: فعل مضارع مرفوع لتوالي الأمثال لعدم مباشرة نون التوكيد، والواو المحذوفة فاعل، والهاء مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ} وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، كما أشرنا إليها في مقام التفسير، لا نطيل الكلام بذكرها؛ لأنَّها تحتاج إلى أوراق كثيرة، تكون رسالة نفردها بالتأليف إنْ شاء الله تعالى. {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة مستأنفة {أَأَقْرَرْتُمْ}: إلى {قَالُوا}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإنْ شئت قلت الهمزة: للاستفهام التقريري {أَأَقْرَرْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} {وَأَخَذْتُمْ}: {الواو}: عاطفة {أخذتم}: فعل وفاعل {عَلَى ذَلِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أخذتم} {إِصْرِي}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {أَأَقْرَرْتُمْ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَقْرَرْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {فَاشْهَدُوا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {فَاشْهَدُوا} الفاء عاطفة (¬1) على محذوف تقديره: قال: أأقررتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف، ونظير ذلك قولك: ألقيت زيدًا؟ قال: لقيت، قلت فأحسن إليه، التقدير: لقيت زيدًا فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ذكره أبو حيان {أشهدوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب، معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {وَأَنَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مَعَكُمْ} {الواو}: استئنافية أو حالية {أنا}: مبتدأ. {مَعَكُمْ}: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {الشَّاهِدِينَ}، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، {مِنَ الشَّاهِدِينَ}: جار ومجرور، خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، أو حال من فاعل {اشهدوا} ولكنها سببية. {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}. {فَمَنْ تَوَلَّى} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من إقراركم، وشهادتكم، وشهادتي معكم، وأردتم بيان حكم من تولى بعد ذلك .. فأقول لكم. (مَنْ): اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو جملة الجواب فقط، أو هما إن كانت شرطية، أو جملة (أولئك) إنْ كانت موصولة، {تَوَلَّى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ (من) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَوَلَّى} أو الجملة الفعلية صلة من الموصولة إنْ قلنا: {من}: موصولة {فَأُولَئِكَ}: الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، أو رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في المبتدأ من العموم إنْ كانت موصولة، (أولئك): مبتدأ {هُمُ}: ضمير فصل {الْفَاسِقُونَ}: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لـ {من} الشرطية، أو خبر لـ {من} الموصولة، والجملة الشرطية، أو الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}. {أَفَغَيْرَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخله على محذوف تقديره: أيتولون .. فيبتغون غير دين الله، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {غير} مفعول مقدم لـ {يَبْغُونَ} وهو مضاف {دِينِ}: مضاف إليه وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، {يَبْغُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة،

{وَلَهُ}: الواو حالية {له} جار ومجرور متعلق بـ {أَسْلَمَ} {أَسْلَمَ}: فعل ماضٍ. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَنْ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من لفظ الجلالة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {طَوْعًا وَكَرْهًا} حالان من فاعل {أَسْلَمَ} تقديره: حالة كونهم طائعين وكارهين {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} {الواو}: عاطفة أو استئنافية، (إليه): جار ومجرور متعلق بـ {يُرْجَعُونَ} {يُرْجَعُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ} على كونها حالًا من الجلالة، أو مستأنفة. {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {آمَنَّا بِاللَّهِ}. إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {آمَنَّا} فعل وفاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لقل. {وَمَا أُنْزِلَ}: {الواو}: عاطفة {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على لفظ الجلالة، {أُنزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما} والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير النائب، {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أنُزِلَ}، {وَمَا أُنْزِلَ} معطوف على {ما أنزل علينا} {عَلَى إِبْرَاهِيمَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}: معطوفات على {إِبْرَاهِيمَ}. {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: معطوف على لفظ الجلالة، {أُوتِيَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، {مُوسَى}: نائب فاعل، وهو المفعول الأول لأوتي، والثاني محذوف تقديره: أوتيه موسى، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف {وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ}: معطوفان على {مُوسَى}، {مِن

رَبِّهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ضمير المفعول المحذوف {لَا}: نافية، {نُفَرِّقُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على النبي ومن معه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {آمَنَّا} تقديره: آمنا بما أوتي النبيون حالة كوننا لا نفرق {بَيْنَ أَحَدٍ} ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {نُفَرِّقُ}. {مِنْهُمْ} جار ومجرور صفة لـ {أَحَدٍ}. {الواو}: عاطفة، {نحن} مبتدأ، {لَهُ}: متعلق بـ {مُسْلِمُونَ}: وهو خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {لَا نُفَرِّقُ} على كونها حالًا من فاعل {آمَنَّا} تقديره: آمنا بالله حالة كوننا منقادين له. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو الجواب فقط، أو هما معًا، {يَبْتَغِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من}؛ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {غَيْرَ الْإِسْلَامِ}: مفعول به ومضاف إليه، {دِينًا}: تمييز، ويجوز أن يكون {دِينًا}: مفعولًا، و {غَيْرَ} صفة له، قدمت عليه فصارت حالًا، ويجوز أن يكون {دِينًا} بدل من {غَيْرَ} {فَلَن} الفاء: رابطة لجواب (من) الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ (لن)، (لن): حرف نصب {يُقْبَلَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ (لن)، ونائب فاعله ضمير يعود على {غَيْرَ الْإِسْلَامِ}. {مِنْهُ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {وَهُوَ} {الواو}: استئنافية أو عاطفة، {هو} مبتدأ، {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بـ {الْخَاسِرِينَ} الآتي، على أن الألف واللام ليست موصولة، بل للتعريف، كهي في الرجل، أو على أنها موصولة، وتُسُومِح في الظرف والمجرور؛ لأنَّه يشمع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ} على كونها جوابًا لـ {من} الشرطية.

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}. {كَيْفَ}: اسم للاستفهام الإنكاري لتعميم الأحوال، في محل النصب حال، أو ظرف والعامل فيها {يَهْدِى} {يَهْدِي الله قَوْمًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صفة لـ {قَوْمًا} {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا} {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} {الواو}: عاطفة (شهدوا): فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنَّ} مضمرة وجوبًا بعد الواو العاطفة على المصدر الصريح، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على قوله: {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} تقديره: كفروا بعد إيمانهم، وبعد شهادتهم أنَّ الرسول حق، ويجوز أن تكون جملة (شهدوا) حالًا من ضمير {كَفَرُوا} وأنْ تكون معطوفة على {كَفَرُوا} كما ذكره أبو البقاء، {أَنَّ} حرف نصب، {الرَّسُولَ}: اسمها، {حَقٌّ}: خبرها، وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {شهدوا} تقديره: وشهدوا حقية الرسول {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الواو حالية، {جاءهم البينات}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {كَفَرُوا}، ولكنه على تقدير، قد، تقديره: كيف يهدي الله قومًا كفروا وقد جاءهم البينات؟ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الواو}: استئنافية، {الله} مبتدأ، {لَا}: نافية {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة {الْقَوْمَ}: مفعول به {الظَّالِمِينَ}: صفة له. {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول، {جَزَاؤُهُمْ}: مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه، {أَنَّ}: حرف نصب، {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لأنَّ. {لَعْنَةَ اللَّهِ}: اسم {أَنَّ} مؤخر عن خبرها، ولفظ الجلالة مضاف إليه {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ} معطوفان على لفظ الجلالة {أَجْمَعِينَ} توكيد للناس، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في

تأويل مصدر خبر للمبتدأ الثاني تقديره: جزاؤهم كون لعنة الله عليهم، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة {خَالِدِينَ} حال من ضمير {عَلَيْهِمْ} والعامل فيها الجار والمجرور، أو ما يتعلق به {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ} {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فعل ونائب فاعل، و {لَا} نافية عنهم، متعلق بـ {يُخَفَّفُ}، والجملة في محل النصب حال ثانية من ضمير {عَنْهُمُ} ولكنها حال سببية {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} {الواو}: عاطفة (لا): نافية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُنْظَرُونَ} خبره، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {لَا يُخَفَّفُ} على كونها حالًا من ضمير {عَنْهُمُ}. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}. {إِلَّا}: أداة استثناء متصل {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء {تَابُوا}، فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَابُوا} {وَأَصْلَحُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {تَابُوا} {فَإِنَّ اللَّهَ} الفاء: تعليلية لقولهم: إنَّ الفاء بعد الاستثناء للتعليل (إنَّ): حرف نصب ولفظ الجلالة اسمها {غَفُور}: خبر أول لها، {رحيم} خبر ثانٍ، والجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره؛ وإنَّما استثنيناهم لكون الله غفورًا رحيمًا. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ}: اسمها، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}: ظرف زمان، ومضاف إليه، متعلق بـ {كَفَرُوا} {ثُمَّ ازْدَادُوا} عطف وفعل وفاعل {كُفْرًا}: مفعول به منصوب وفي "الفتوحات" قوله: {كُفْرًا}: تمييز محول عن الفاعل، والأصل: ثم ازداد كفرهم، كذا أعربه أبو حيان، وفيه نظر، إذ المعنى على أنَّه مفعول به، وذلك أن الفعل المتعدي إلى اثنين، إذا جعل مطاوعًا .. نقص مفعولًا، وهذا من ذلك، كقولهم: زدت زيدًا خيرًا فازداده، وكذلك أصل الآية

الكريمة: زادهم الله كفرًا فازدادوه، {لَنْ}: حرف نفي ونصب {تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ}، مستأنفة. {وَأُولَئِكَ}: {الواو}: عاطفة {أولئك}: مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الضَّالُّونَ}: خبر، والجملة الإسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة {لَنْ تُقْبَلَ}: على كونها خبرًا لـ {إنَّ} أو معطوفة على جملة {إنَّ} على كونها مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى}. {إن}: حرف نصب {الَّذِينَ}: اسمها {كَفَرُوا}: صلة الموصول {وَمَاتُوا}: معطوف على {كَفَرُوا} {وَهُمْ كُفَّارٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من واو {ماتوا}. {فَلَنْ} الفاء: رابطة لخبر {إن} باسمها لشبه الذين بالشرط في العموم، وإيذانًا بتسبب عدم القبول عن الموت على الكفر، الذي هو معطوف على الصلة، فهو من جملة المبتدأ، ولما لم يقع مثل هذا العطف في الآية التي قبلها .. لم يقترن خبر إنَّ بالفاء؛ لأنَّ الكفر في حد ذاته ليس سببًا في عدم قبول التوبة، بل السبب مجموعه، هو والموت عليه، كذا ذكره في "الفتوحات" {لن}: حرف نصب {يُقْبَلَ} فعل مضارع مغير الصيغة {مِنْ أَحَدِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُقْبَلَ}. {مِلْءُ الْأَرْضِ} نائب فاعل ومضاف إليه {ذَهَبًا} تمييز لـ {مِلْءُ} منصوب، والجملة من الفعل المغير ونائبه في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إنَّ} مستأنفة {وَلَوِ افتَدَى بِهِ} {الواو}: عاطفة كما قاله الزجاج {لو}: حرف شرط غير جازم، {افْتَدَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدِهِمْ}، {بِهِ} متعلق بـ {افْتَدَى}، وجواب {لو} محذوف تقديره: لم يقبل منه، وجملة {لو} معطوفة على محذوف تقديره: لو تقرب إلى الله في الدنيا بملء الأرض ذهبًا .. لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهبًا .. لم يقبل منه. وقيل: الواو زائدة و (لو): غائبة لا جواب لها.

{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ ثانٍ مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة {أَلِيمٌ} صفة، {وَمَا لَهُم}: الواو عاطفة {ما}: نافية {لَهُم} جار ومجرور خبر مقدم، {مِنْ نَاصِرِينَ}: من: زائدة {نَاصِرِينَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {أُولَئِكَ}. وفي "الفتوحات": يجوز أن يكون {لَهُم} خبرًا لاسم الإشارة، و {عَذَابٌ}: فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبر، أي: أولئك استقر لهم عذاب، وأن يكون {لَهُم}: خبرًا مقدمًا و {عَذَابٌ}؛ مبتدأً مؤخرًا، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأنَّ الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد. اهـ. "سمين". وفيها أيضًا قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يجوز أن يكون {مِنْ نَاصِرِينَ}: فاعلًا وجاز عمل الجار لاعتماده على حرف النفي؛ أي: وما استقر لهم من ناصرين، والثاني: أنَّه خبر مقدم، و {مِنْ نَاصِرِينَ}: مبتدأ مؤخر، و {مِنْ}: زائدة على الإعرابين، وأتى بـ {نَاصِرِينَ} جمعًا لرعاية الفواصل. التصريف ومفردات اللغة {مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الميثاق: العهد الموثق المؤكد باليمين، وهو أنْ يلتزم المعاهِد - بكسر الهاء - للمعاهَد - بفتحا - أنْ يفعل شيئًا، ويؤكد ذلك بيمين، أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة، يجمع على مواثق، ومياثق، ومواثيق، ومياثيق، وأصله موثاق، قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة؛ لأنه من وثق يثق. {أَأَقْرَرْتُمْ} أصله؛ أقر، بالإدغام، وإنَّما فك هنا؛ لأنَّه إذ اتصل بالفعل المدغم عينه في لامه ضمير رفع سكن آخره. فيجب حينئذٍ الفك، نحو: حللت وحللنا، كما قال في الخلاصة:

وَفُكَّ حَيْثُ مُدْغَمٌ فِيْهِ سَكَنْ ... لِكَوْنِهِ بِمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ نَحْوِ حَلَلْتُ مَا حَلَلْتُهُ وَفِي ... جَزْمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيْرٌ قُفِيْ وهو من قر الشيء إذا ثبت مكانه {أخذتم} بمعنى قبلتم؛ لأنَّه من أخذ الشيء إذا قبل، يأخذ من باب نصر ينصر، كما جاء نحوه في قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}. {إِصْرِي} الإصر - بكسر الهمزة -: العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه، وهمَّ، اسم من أصره إذا حبسه، من باب ضرب، وهو أيضًا الذنب والثقل كما في "المختار". {طَوْعًا} الطوع: مصدر لطاع لفلان يطوع طوعًا، من باب قال، إذا انقاد له وامتثل أمره. {كرهًا} الكره: مصدر كره الشيء يكره، من باب علم، كرهًا وكرهًا وكراهة وكراهية ضد أحبه، وفي "السمين" {طَوْعًا} {وَكَرْهًا} مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين. {الأسباط} جمع سبط، والمراد بهم الأحفاد، وهم أبناء يعقوب الاثني عشر وذراريهم، ولكن المراد بالأسباط هنا قبائل بني إسرائيل، المتشعبة من أولاد يعقوب. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} وهو مضارع ابتغى الشيء يبتغي ابتغاء، إذا طلبه، من باب التفعل، وبناؤه لمبالغة ثلاثيه يقال: بغى الشيء من باب رمى بغيًا وبغاء، وبغى وبغية وبغية إذا طلبه. {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} اسم فاعل من الظلم، والظلم هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق {لَعْنَةَ اللَّهِ} واللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الإنظار، الإمهال والتأخير.

{مِلْءُ الْأَرْضِ} والملء - بكسر الميم وسكون اللام - وهو ما يؤخذه الإناء إذا امتلأ، يقال: إنه ينام ملء جفنه، إذا نام خاليًا من الغم والهم، ويقال: فلان ملء كسائه؛ أي: سمين، ويجمع على أملأ. البلاغة وذكروا في هذه الايات أنواعًا من البلاغة والفصاحة: فمنها: الالتفات في قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ}، ففيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، إذ قبله ميثاق النبيين، وهو لفظ غائب. ومنها: الاكتفاء في قوله: {أَأَقْرَرْتُمْ} لأن الظاهر في الجواب أن يقال: أقررنا وأخذنا إصرك، فلم يذكر الثاني اكتفاء بالأول. ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ: {اشهدوا} و {الشَّاهِدِينَ}، وكذلك بين لفظ: {كَفَرُوا} و {كُفْرًا}، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الطباق بين {طَوْعًا} {وَكَرْهًا} وبين لفظ الكفر والإيمان في قوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} في موضعين. ومنها: التكرار في قوله: {يَهْدِي} و {لَا يَهْدِي}، وفي قوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {كَفَرُوا} و {كُفْرًا}. ومنها: التأكيد بلفظ هم في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}. ومنها: قصر صفة على موصوف في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومثله قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ}.

ومنها: التشبيه في قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم، بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. ومنها: العدول من مفعل إلى فعيل؛ لإفادة المبالغة في قوله: و {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما في فعيل من المبالغة. ومنها: الحذف في مواضع إلى غير ذلك (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى المجلد الرابع من الشرح على الجزء الثالث من القرآن الكريم في تاريخ 24/ 12/ 1407 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر إِنْ أخْرَجُونِي مِنْ بِلاَدِي ... فَإِنَّ مَعِيَ رَبَّ العِبَادِ في قَلْبِي إِيْمَانٌ وتَصْدِيقُ ... وَفِي جِسْمِيَ امْتِثَالٌ وَتَطْبِيْقُ وَلا أَقُولُ أَهلِي وِلادِي ... ولا مَالِي وَلاَ تِلاَدِي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا، ومولانا محمد خاتِم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}. المناسبة قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...} مناسبةُ (¬1) هذه الآية لِما قبلها: هو أنه تعالى لما أخبر عمن مات كافرًا، أنه لا يقبل منه ما أنفق في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الدنيا أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة .. حض المؤمن على الصدقة، وبيَّن أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب. قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. مناسبة هذه الآية لما قبلها، والجامع بينهما: أنه تعالى أخبر أنه لا ينال المرء البر إلا بالإنفاق مما يحب. ونبيُّ الله إسرائيل، روي في الحديث أنه مرض مرضًا شديدًا؛ فطال سقمه؛ فنذر لله نذرًا إن عافاه الله من سقمه، أن يحرم، أو ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب العام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب ألبانها. ففعل ذلك تقربا إلى الله تعالى. فقد اتفقت هذه الآية، والتي قبلها في أنَّ كلًّا منهما في ترك ما يحبه الإنسان، وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى. قوله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وهو أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم، وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم، ومن خصوصيات دينه .. أخذ في ذكر البيت وفضائله، ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه. وأيضًا، فإن اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة؛ طعنوا في نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال؛ لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جميع الأنبياء، فأكذبهم الله في ذلك بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}، كما أكذبهم في دعواهم قبل: إنما حرم عليهم ما كان محرمًا على يعقوب من قبل أن تنزل التوارة. وأيضًا: فإن كل فرقة من اليود والنصارى، زعمت أنها على ملة إبراهيم، ومن شعائر ملته حج الكعبة، وهم لا يحجونها، فأكذبهم الله في دعواهم تلك. أسباب النزول قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ...} سبب نزول هذه الآية (¬1): أن اليهود قالوا للنبيِّ محمد: - صلى الله عليه وسلم - تزعم أنك على ملة إبراهيم، ¬

_ (¬1) الخازن.

وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها، وأنت تأكل ذلك كلَّه، فلست على ملته. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان ذلك حلالًا لإبراهيم". قالوا: كل ما نحرمه اليوم، كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فأنزل الله عز وجل: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} وهو يعقوب {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} يعني: ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل، على إبراهيم، بل كان ذلك حلالًا على إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وإنما حرَّمه يعقوب بسببٍ من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده، فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحضار التوراة، وطلب منهم أن يستخرجوا منها: أنَّ ذلك كان حرامًا على إبراهيم. قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ...} سبب نزول هذه الآية: أنَّ اليهود قالوا للمسلمين، بيت المقدس، قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة، وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم، وأرض المحشر، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل هذه الآية. وقيل: لما ادَّعَتِ اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم أكذبهم الله تعالى، وأخبر أن إبراهيم كان {حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وأمرهم باتباعه فقال تعالى في الآية المتقدمة: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحج إلى الكعبة، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج. قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ...} سبب نزولها: ما أخرجه سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت آية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت"، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا فأنزل الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: مرَّ

[92]

شاس بن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر، شديد الطعن علي المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من الأنصار الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، وقد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي، فجلس إليهم، وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث، وهو موضع في المدينة، وكان يوم بعاث يومًا اقتتل فيه الأوس والخزرج قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بمئة وعشرين سنة، وكان الظفر فيه للأوس. وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار، فتنازع القوم وتغاضبوا، وقالوا: السلاح السلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فوصل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية، وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام، وألف بين قلوبكم! فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فما كان يوم أقبح أولًا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم. قال الواحدي: اصطفوا للقتال، فنزلت الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته، فلما سمعوا صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنصتوا له وجعلوا يستمعون له، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضًا، وجعلوا يبكون. التفسير وأوجه القراءة 92 - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي: لن تصيبوا، ولن تظفروا بثواب البر والخير وهو الجنة. والبر اسم جامع لكل خير، والكلام على حذف مضاف كما قدرنا، أو لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى الذي هو الرحمة والرضا، والجنة، أو لن تكونوا أبرارًا {حَتَّى تنُفِقُوا} وتصرفوا وتخرجوا {مِمَّا تُحِبُّونَ} من أموالكم وجاهكم وعلمكم في معاونة الناس، وبدنكم في طاعة الله، ومهجتكم في سبيله؛ يعني من جيد أموالكم، وأنفسها عندكم، قال

تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} وقيل: هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ} وقال أبو بكر الوراق: معنى الآية: لن تنالوا بري لكم إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، وقيل: المعنى لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارًا إلا بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم. قاله ابن عطية. ومن في قوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله الشاذة: {حتى تنفقوا بعض ما تحبون} {وَمَا}: موصولة. خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص، وحسن النية، ولكنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئًا من ماله، فإنما ينفق من أردأ ما يملك، وأبغضه إليه؛ لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره، تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب، فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين، وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟ والمعنى: لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته، برضاه عنهم، وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم، حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم. وقد أثر عن السلف الصالح: أنهم إذا أحبوا شيئًا .. جعلوه لله تعالى. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله عَزَّ وَجَلَّ، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بخ بخ - كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء - ذاك مال رابح، أو قال: ذلك مال رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، متفق عليه، وفي رواية لمسلم:

فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية .. جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها: (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها، فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمل عليها ابنه أسامة فكأن زيدًا وَجِدَ - حزن - في نفسه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه قال: "أما إن الله قد قبلها". فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدًا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين، ليثبت قلوبهما، ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلًا ينفذ به إلى ما بين الجوخ (¬1) فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدى الغرباء، إذ كثيرًا ما يفارق المرء شيئًا محبوبًا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: يأمر عمال الصدقة بإبقاء كرائم الأموال والبعد عنها حين جباية الصدقات. وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضًا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: حضرتني هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب، إلي من مرجانة - جارية رومية - فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى .. لنكتحها فأنكحتها نافعًا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده). فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له، ولا يفارقها، لولا أن كان مما عود نفسه عليه .. ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه. وعلى الجملة فآثار السلف في ¬

_ (¬1) الجوخ: نسيج من الصوف يجمع على أجواخ.

[93]

الإيثار، وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس شاة، فقال: إن أخي فلانًا كان أحوج مني إليه؛ فبعث به إليه، فلما وصل إليه، قال: إنَّ فلانًا كان أحوج مني إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات، ورجع إلى الأول. وفي هذه الآثر وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيقتدي بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: وأي شيء تنفقونه في سبيل الله سواء كان من طيب تحبونه، أو من خبيث تكرهونه، وسواء، كان إنفاقكم له لوجه الله أو لمدح الناس {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِهِ}، أي: بذلك الشيء المنفق وبنياتكم {عَلِيمٌ} فيجازيكم عليه بحسبه، وبحسب نياتكم، وهذا تعليل للجواب المحذوف، أي: فيجازيكم بحسبه جيدًا كان أو رديئًا، فإنه تعالى عالم بكل شيءٍ، تنفقونه من ذاته وصفاته علمًا كاملًا بحيث لا يخفى عليه شيء. فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، ورب فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبر ولو وجد ما أحبه .. لأنفقه أو أكثره. وفي هذه الآية ترغيب وترهيب، وحث على إخفاء الصدقة، كي لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين. 93 - {كُلُّ الطَّعَامِ}؛ أي: كل طعام حلال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، فخرج ما حرم عليهم، وعلى من قبلهم كالميتة والدم. {كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: كان حلالًا أكله لأولاد يعقوب عليه السلام {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ}؛ أي: يعقوب عليه السلام {عَلَى نَفْسِهِ} بالنذر {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}؛ على موسى، وذلك بعد إبراهيم بألف سنة. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ يعقوب مرض مرضًا شديدًا، فنذر لئن عافاه الله .. ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها" قال، الأصمّ: لعل

نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع، فامتنع من أكلها قهرًا للنفس، وطلبًا لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم، وذلك بعد إبراهيم بألف سنة، ولم تكن الإبل حرامًا على عهد إبراهيم كما زعموا. والمعنى: كل الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه، وهو لحم الإبل ولبنها ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة الشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم، أو المراد (¬1) بإسرائيل: الشعب كله، كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فقط، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه: أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببًا في هذا التحريم كما تدل عليه آية {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. وخلاصة هذا الجواب: أنَّ الأصل في الأطعمة الحلُّ، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبًا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم، وكان سببًا فيما نالهم من التحريم لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته لم يجترحوا هذه السيئات، فلا تحرم عليهم هذه الطيبات. ومعنى قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أنه قبل نزول التوراة كان حلًّا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات، أما بعد نزولها: فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله. {قُلْ} لهم يا محمد، هذا هو الحق لا زعمكم يا معشر اليهود {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ}؛ أي: أحضروها، {فَاتْلُوهَا}؛ أي: فاقرؤوها عليَّ لتحكم بيني وبينكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم بأن التحريم قديم. وفي استدعاء (¬2) التوراة منهم وتلاوتها، الحجة الواضحة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كان عليه السلام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[94]

النبي الأمي الذي لم يقرأ الكتب، ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم، ولا يجدون من إنكاره محيصًا. وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا، وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم. 94 - وفي الآية: دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك {فَمَنِ افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بزعمه أن ذلك كان محرمًا على الأنبياء السابقين كإبراهيم، ونوح، وعلى أممهم قبل نزول التوراة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ما ظهرت الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا على عهد إبراهيم، أو من جهة ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا. ومن بعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئًا قبل نزولها، {فَأُولَئِكَ} المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت لهم حقيقة الحال {هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم، ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم الذين لا ينصفون من أنفسهم، ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم؛ لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا، وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 95 - {قُل} لهم يا محمد {صَدَقَ اللَّهُ} فيما أنبأني به من أن سائر الأطعمة كانت حلالًا لبني إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذلك قامت عليكم الحجة، وثبت أني مبلغ عنه إذ ما كان في استطاعتي، لولا الوحي أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم، والجمهور على إظهار في {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} وهو الأصل، وقرأ أبان بن تغلب شذوذًا بإدغام اللام في الصاد. {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} التي هي ملة الإسلام التي أنا عليها حالة كون إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: من الذين أشركوا بالله غيره، وعبدوا سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادعائهم أن عزيرًا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله. وخلاصة هذا: أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام

[96]

وكلياتها، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه إلا على هذا الدين. 96 - {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ}؛ أي: بنى متعبدًا {لِلنَّاسِ}؛ أي: بني لعبادات الناس ربهم سبحانه وتعالى {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}؛ أي: للبيت الذي هو ببكة؛ أي: بمكة، سميت مكة بكة؛ لأنه يبك بعضهم فيها بعضًا؛ أي: يزدحمون في الطواف. وسميت مكة؛ لأنها تمك من ظلم فيها؛ أي: تهلكه؛ والمعنى: إن أول بيت وضعه الله، وجعله موضعًا للطاعات، والعبادات، وقبلة للصلاة، وموضعًا للحج وللطواف، تزداد فيه الخيرات، وثواب الطاعات هو الذي بكة. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: "المسجد الحرام قلت: ثم أيُّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركت الصلاة فصلِّ". متفق عليه، زاد البخاري: "فإن الفضل فيه"؛ أي: إنِّ آدم بنى الكعبة، ثم بنى بيت المقدس، وبين بنائهما أربعون سنة. وهذه الآية (¬1) ردٌّ لشبهة اليهود، أنَّ بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها، وهو أرض المحشر. وقيل: المعنى: إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع متعبدًا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون، بناه سليمان عليه السلام سنة (1005) قبل الميلاد، فكان جعله قبلة أَوْلى. وبذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - على ملة إبراهيم، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليه وعليهما. والخلاصة: أنَّ أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[97]

ويتبع هذا أولوية الشرف والتعظيم. ثم ذكر فضائل أربعة: الأول منها ذكره بقوله: {مُبَارَكًا}؛ أي: حالة كونه ذا بركة، وخير كثير؛ لأنه قد أفيض عليه من بركات الأرض، وثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع، كما قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنًا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة، كمصر والشام، وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} الآية. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا، أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام". متفق عليه. وذكر الثاني منها بقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: وحالة كونه هدى؛ أي: قبلة لكل نبي، ورسول وصديق، ومؤمن يهتدون بذلك البيت إلى جهة صلاتهم، ويولون وجوههم شطره في صلاتهم، وربما لا تمضي ساعة من ليل أو نهار إلّا وهناك ناس يتوجهون إليه، ويأتون إليه مشاة وركبانًا من كل فج عميق، لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة، ولا شك أنَّ هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات. وكونه قبلة لكل نبي؛ لأن تكليف الصلاة كان لازمًا في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}. فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام، كانوا يسجدون لله، والسجدة لا بد لها من قبلةٍ، فلو كانت قبلة شيث، وإدريس، ونوح، عليهم السلام موضعًا آخر سوى الكعبة .. لبطل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدّمين: هي الكعبة. فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدًا مشرفة مكرمة. 97 - وذكر الثالث منها بقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}؛ أي: وحالة كونه فيه؛ أي: في ذلك البيت آيات بينات؛ أي: دلائل وعلامات واضحات تدل على حرمته، ومزيد

فضله، وعظيم قدرته تعالى: منها: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: الحجر الذي يقوم عليه إبراهيم عند بناء البيت، وكان فيه أثر قدمي إبراهيم، فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وفيه دلالة على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم؛ لأن تأثير قدميه في الصخرة الصماء، وغوصهما فيها إلى الكعبين، وإلانة بعض الصخرة دون بعض، وإبقاءها ألوفًا من الأعوام معجزةٌ عظيمة، وسبب هذا الأثر أنه: لما ارتفع بنيان الكعبة .. قام على هذا الحجر، ليتمكن من رفع الحجارة، فغاصت فيه قدماه. ومنها: انحراف الطيور عن موازاة البيت، فلا تعلوا فوقه بل إذا قابل هواه في الجو .. انحرف عنه يمينًا أو شمالًا، ولا يستطيع أن يقطع هواه إلا إذا حصل له مرض فيدخل هواه للتداوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن الطير يعاين يعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره. ومنها: مخالطة ضواري السباع، الصيود في الحرم من غير تعرض لها. ومنها: إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه، وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه، ومن الآيات التي فيها الحجر الأسود، والملتزم والحطيم، وزمزم، ومشاعر الحج التي فيها كالصفا والمروة. ومنها: أنَّ الآمر ببناء هذا البيت هو المولى الجليل، والمهندس له جبريل عليه السلام، والباني هو إبراهيم الخليل عليه السلام، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل عليه السلام، فهذه كلها فضيلة عظيمة لهذا البيت. وقرأ الجمهور: {وُضِعَ} بالبناء للمفعول، وقرأ عكرمة، وابن السميقع شذوذًا {وضع} مبنيًّا للفاعل، فاحتمل أن يعود على الله، واحتمل أن يعود على إبراهيم، وهو أقرب في الذكر، وأليق بالمقام. وقرأ الجمهور: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} على صيغة الجمع، وقرأ أبي، وعمر وابن عباس، ومجاهد، وأبو جعفر، في رواية قتيبة: {آية بينة} على الإفراد وهي قراءة شاذة أيضًا. وذكر الرابع منها بقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}؛ أي: ومن دخل البيت كان

آمنًا من ذنوبه. وعن ابن (¬1) عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ دَخَل البَيْتَ .. دَخَل في حسنةٍ، وخَرَجَ من سيئة، وخرج مغفورًا له" ولكن تفرد به عبد الله بن المؤمل، وليس بالقوي. وقيل: من دخل الحرم للنسك تقربًا إلى الله تعالى .. كان آمنًا من النار يوم القيامة، وإن الله أودع في قلوب الخلق الشفقة على كل من التجأ إليه. وعبارة أبي السعود: ومعنى أمن داخله: أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} وكان الرجل إذا أجرم كل جريمة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر - رضي الله عنه -: "لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب .. ما مسسته حتى يخرج منه". ولذلك قال أبو حنيفة - رحمه الله -: "من لزمه القتل في الحل بقصاصٍ أو ردةٍ أو زنا، فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى، ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يبايع، حتى يضطر إلى الخروج". وقيل: المراد أمنه من النار، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمنًا". وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما، وينثران في الجنة"؛ وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثنية الحجون، وليس بها يومئذٍ مقبرةٌ، فقال: "يبعث الله تعالى من هذه البقعة، ومن هذا الحرم سبعين ألفًا وجوههم كالقمر ليلة البدر". وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صبر على حر مكة ساعة من نهار .. تباعدت عنه جهنم مسيرة مئتي عام" انتهت بالحرف، ولكن هذه الأحاديث أكثرها ضعاف. وفتح مكة بالسيف؛ كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة فقط، حلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعةً من نهار، لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، كما جاء في الحديث. ¬

_ (¬1) ابن كثير.

على أنَّ حِلَّ مكة وما يتبعُها من أرباضها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستحل البيت ساعة، وما دونها، بل كان مناديه ينادي: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق باب بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وقد أخبر أبو سفيان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة". وما فعله الحجاج عن رمي البيت بالمنجنيق فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، ويقع به في الظلم والإلحاد؛ إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلَّ ما فعلوا. {وللَّهِ}؛ واجب {عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}؛ أي: قصد البيت للعبادة المخصوصة المعروفة {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}؛ أي: على من أطاق، وقدر إلى حج البيت سبيلًا؛ أي: طريقًا وبلاغًا إليه بوجود الراحلة، والزاد، والنفقة للعيال إلى الرجوع، لأنه - صلى الله عليه وسلم -: فسَّره بالزاد والراحلة، رواه الحاكم وغيره. وكذا أمن الطريق. والحج أحد أركان الإسلام. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان". متفق عليه. فعد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحج من أركان الإسلام الخمسة. والمعنى: أنه يجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيما تعظيم، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون عملًا بسنة إبراهيم، جروا على هذا جيلًا بعد جيل، لم يمنعهم من ذلك شركهم، ولا عبادتهم للأوثان والأصنام، فهي آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبراهيم.

واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه، كما قال تعالى: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك. وقد اختلف في تفسيرها، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعضهم: إنها صحة البدن، والقدرة على المشي. وقال آخرون: هي صحة البدن، وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشتري منه الزاد والراحلة وقضاء جميع الديون، والودائع، ودفع النفقة التي تكفي لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج. وخلاصة ذلك: أنَّ هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة، وهي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان. {وَمَنْ كَفَرَ}: أي: ومن جحد، وأنكر كون هذا البيت أول بيت وضعه الله للعبادة، وأنكر ما فرضه الله من حجه، والتوجه إليه بالعبادة {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَنِيٌّ}؛ أي: مستغنٍ {عَنِ} إيمانه وإيمان جميع {الْعَالَمِينَ} والخلق، وعن حجهم وعبادتهم. وفسر بعضهم الكفر بترك الحج، وعبر عنه بالكفر تأكيدًا لوجوبه وتغليظًا على تاركه، والمعنى حينئذٍ: ومن لم يحج مع استطاعته .. فإن الله غني عن حجه، وحج العالمين كلِّهم. قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الأديان الستة: المسلمين والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخطبهم، وقال: "إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا، فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}؛ أي: ومن ترك اعتقاد وجوب الحج .. فإن الله غني عنه. فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات ولم يحج .. فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا". وروي عن عليٍّ كرم الله وجهه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة له: "أيها الناس،

إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلًا، ومن لم يفعل .. فليمت على أي حال شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا". وأثر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فلينظروا كل من كان له جدة - سعةٌ - ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون: إنه واجب على التراخي. وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ}. فأفاد أنَّ ذلك ما كان لجر نفع، ولا لدفع ضر، بل كان لعزة الإلهية ولكبرياء الربوبية. وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك لبيان أنَّ فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه، وأن تاركه يسخط عليه سخطًا عظيمًا. وحسب البيت شرفًا وفضلًا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين، وما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرمته وفضله من أنه لا يسفك فيه دم، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه - لا يقطع نباته - وأنَّ قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر الأسود، فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه، والإخلاص له وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله ومشيدة بذكره. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في فضل البيت وفضل الحج والعمرة عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول بيت وضع للناس مباركًا يصلى فيه: الكعبة، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا". متفق عليه. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن - صلى الله عليه وسلم - وإنما سودته خطايا بني آدم".

أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر "والله ليبعثنّه الله يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق". أخرجه الترمذي. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: "إن الركن، والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما .. لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب". أخرجه الترمذي، وقال: هذا الحديث يروى عن ابن عمر موقوفًا. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى". وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال له رجل في كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم". أخرجه مسلم. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة". أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن. وإبراهيم بن يزيد الجوزي المكي، قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". متفق عليه. وفي رواية سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج لله - عز وجل - وفي لفظ من حج هذا البيت - فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه". أخرجه

الترمذي، وقال: "غفر له ما تقدم من ذنبه". وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب، والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة، وما من مؤمن يظل يومه محرمًا إلا غابت الشمس بذنوبه". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله، من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وههنا". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طاف بالبيت خمسين مرةً خرج من ذنوبه، كيوم ولدته أمه". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. فصل في ذكر بعض أحكام تتعلق بالحج قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، ولوجوبه خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. ولا يجب على الكافر والمجنون ولو حجا .. لم يصح حجهما؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة، ولا حكم لقول المجنون، ولا يجب على الصبي والعبد، ولو حج صبي مميزٌ، أو حج عبد صح حجهما تطوعًا، ولا يسقط فرض الإسلام. فإذا بلغ الصبي وعتق العبد، واجتمع فيهما شرائط الحج .. وجب عليهما أن يحجا ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع؛ لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، فلو تكلف غير المستطيع الحج، وحج: صح حجه، وسقطت عنه حجة الإسلام. والاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعًا بنفسه. والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره. فأما المستطيع بنفسه: فهو أن يكون قويًّا، قادرًا على الذهاب؛ واجدًا للزاد والراحلة، لما تقدم من حديث ابن عمر في الزاد والراحلة.

وقال ابن المنذر: واختلف العلماء في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبرًا ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماعًا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضًا. فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل - بأي كانت الاستطاعة - الحج على ظاهر الآية. قال ابن المنذر: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة: الصحة. وقال: الضحاك: إذا كان شابًّا صحيحًا .. فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه". وقال مالك: الاستطاعة تختلف باختلاف الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة، ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه. وقال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما: أن يكون الرجل مستطيعًا ببدنه، واجدًا في ماله ما يبلغه الحج، فتكون استطاعته تامة، فعليه فرض الحج. والثاني: لا يقدر أن يثبت على الراحلة، وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه، أو قادر على مال، ويجد من يستأجره فيحج عنه، فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج. أما حكم الزاد والراحلة: فهو أن يجد راحلة تصلح له، ووجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه، فاضلًا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم، وعن دَيْنٍ إن كان عليه، ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت العادة بخروج أهل البلد في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله، أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا بقطع أكثر من مرحلة في يوم لا يلزمه الخروج معهم، ويشترط أن يكون الطريق آمنًا، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم، أو كافر، أو رصدي يطلب الخفارة لا يلزمه الحج. ويشترط أن تكون منازل الماء مأهولة معسورة يجد فيها ما جرت به العادة بوجوده من الماء والزاد، فإن تفرق أهلها لجدب، أو غارت مياهها، فلا يلزمه الخروج. ولو لم يجد الراحلة وهو قادر على المشي، أو لم يجد الزاد وهو قادر على الاكتساب لا يلزمه الحج عند من جعل وجدان الزاد والراحلة شرطًا

[98]

لوجوب الحج، ويستحب له أن يفعل ذلك ويلزمه الحج عند مالك. هذا كله في الزمن القديم، وأما الآن فالشرط القدرة على تحصيل جواز السفر، وعلى أجرة الطائرة، أو الباخرة، أو السيارة مع مؤونة سفره مطعمًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، ذهابًا وإيابًا، والقدرة على ما تطلب منه الحكومة التي يسافر منها، والتي يسافر إليها فاضلًا عن مؤونة من تلزمه نفقتهم ذهابًا، وإيابًا، وعن دين حالٍّ أو مؤجل يحل أجله قبل رجوعه من الحج. وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه، بأن يكون زَمِنًا، أو به مرض لا يرجى برؤه، وله مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وإن لم يكن له مال، وبذل ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه .. لزمه الحج، إن كان يعتمد على صدقه؛ لأن وجوب الحج متعلق بالاستطاعة. وعند أبي حنيفة: لا يجب الحج ببذل الطاعة، وعند مالك: لا يجب الحج على من غصب ماله أو سرق. وحُجَّةُ من أوجب الحج ببذل الطاعة ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركَتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع. أخرجه الشيخان في "الصحيحين". وقرأ حمزة والكسائي وحفص {حِجُّ} بكسر الحاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان: الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية، ثم أخذ يبكت أهل الكتاب على كفرهم فقال: 98 - {قُلْ} يا محمد لليهود والنصارى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: لأي سبب تنكرون آيات الله التي دلتكم على صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: والحال أن الله شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجترئوا على الكفر بآياته، ولا ينفعكم التحريف والاستسرار. ولا يخفى ما في هذا من

[99]

التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل: هاتوا عذركم، إن كان ذلك في مكنتكم. 99 - {قُلْ} لهم يا محمد أيضًا {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} وتصرفون وتمنعون {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ودينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية، وهو ملة الإسلام {مَنْ آمَنَ} باللهِ وبمحمد وبالقرآن بإضلالكم ضعفة المسلمين، وإلقاء الشبهة والشكوك في قلوبهم، وذلك بإنكارهم صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - المذكورة في كتبهم {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}؛ أي: حالة كونكم تطلبون لسبيل الله اعوجاجًا وميلًا عن القصد، والاستقامة بقولكم: إن النسخ ممنوع، لأنه يدل على البداء، وبقولكم: ورد في التوراة أن شريعة موسى باقية إلى الأبد، وبتغيير صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: لم تطلبون الزيغ والميل في سبيل الله بلقاء الشبه في قلوب الضعفاء. وخلاصة المعنى: لِمَ تتركون السبيل المعتدلة، وتطلبون السبيل المعوجة؟! {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}؛ أي: والحال أنكم تشهدون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وصفته مكتوبة في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره: هو الإسلام. وقيل: معناه: وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - الدالة على نبوته، وأنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل. وحاصل المعنى: لأي سبب تصرفون من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة، وتكذبون بذلك كفرًا، وعنادًا، وكبرًا، وحسدًا، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيًا وكيدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الخير عوجًا، وضلالًا، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك. فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال؟!. قرأ الجمهور {لِمَ تَصُدُّونَ} من صد الثلاثي، وهو متعدّ، ومفعوله من آمن، وقرأ الحسن شذوذًا {تَصُدُّونَ} من أصد الرباعي عدى صد اللازم بالهمز،

[100]

وهما لغتان. قال الراغب: (¬1) وقد جاء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بدون {قُلْ} وجاء هنا مع {قُلْ}، فبدون {قُلْ}: هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم؛ ليكونوا أقرب إلى الانقياد، ولما قصد الغض عنهم .. ذكر {قل} تنبيهًا على أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه، وإن كان كلا الخطابين. وصل إليهم على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. {وَمَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِغَافِلٍ} أي بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} من هذا الصد وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد كما يقول الرجل لعبده، وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه: لا يخفى علي ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك. إنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة؛ لأن صدهم عن الإسلام. كان بضرب من المكر، والكيد، ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} لأن العمل الذي فيها، وهو الكفر ظاهر مشهود. 100 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}. مناسبة (¬2) هذه الآية لما قبلها: لما أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين .. حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم، وناداهم بوصف الإيمان تنبيهًا على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ {قل} ليكون ذلك خطابًا منه تعالى لهم، وتأنيسًا لهم، وأبرز نهيه عن موافقتهم، وطواعيتهم في صورة شرطية؛ لأنه لم يقع طاعتهم لم، والإشارة بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: إلى الأوس والخزرج بقرينة سبب النزول كما مر. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إن تطيعوا، وتوافقوا فريقًا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[101]

وجماعة من الذين أوتوا الكتاب فيما يدعونكم إليه، وأصغيتم لهم، واستجبتم لما يدعونكم إليه مما يثير الفتنة بينكم كما مر في سبب النزول، وهم: شاس بن قيس، وعمرو بن شاس، وجبار بن صخر، وغيرهم {يَرُدُّوكُمْ} أي: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين؛ أي: يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان، والكفر: يوجب الهلاك في الدنيا والدين. أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة المؤدي إلى سفك الدماء. وأما الدين فلا حاجة إلى بيانه. 101 - {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام إنكار واستبعاد لوقوع الكفر منهم في هاتين الحالتين، وهما تلاوة كتاب الله عليهم، وهو القرآن الظاهر الإعجاز، وكينونة الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر، ولا تجامعه، فلا يتطرق إليهم كفر مع ذلك، أي: وكيف يوجد منكم الكفر {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ}؛ أي: والحال أنكم تقرأ عليكم آيات الله القرآنية التي فيها بيان الحق من الباطل على لسان نبيكم غضًّا طريًا {وَفِيكُمْ}؛ أي: ومعكم {رَسُولُهُ} تعالى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي يبين لكم الحق، ويدفع عنكم الشبه. قال قتادة (¬1): في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله. فأما نبي الله: فقد مضى، وأما كتاب الله: فأبقاه الله بين أظهرهم رحمةً منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته انتهى. وقال الزمخشري (¬2): {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} معنى الاستفهام فيه: الإنكار، والتعجب، والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن آيات الله، وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم، ويزيح شبهكم، ولكم في سنته خير أسوة تُغَذِّي إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغي لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[102]

وقرأ الجمهور {تُتْلَى} بالتاء وقرأ الحسن والأعمش شذوذًا: (يتلى) بالياء؛ لأجل الفصل ولأن التأنيث غير حقيقي؛ ولأن الآيات هي القرآن. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}؛ أي: ومن يستمسك بدين الله وكتابه، وهو القرآن وبرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ ويحتفظ به عن الوقوع في الهلاك الأبدي {فَقَدْ هُدِيَ} وأرشد {إِلَى صِرَاطٍ} وطريق {مُسْتَقِيمٍ}، أي: مستو قويم موصل إلى الجنة، وهو طريق دين الإسلام. وقيل المعنى (¬1): ومن يجعل ربه ملجأً ومفزعًا عند الشبه .. يحفظه عن الشبه. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فينا خطيبًا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكر، ثم قال: أما بعد: "ألا أيها الناس: إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". أخرجه مسلم. 102 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى ضلال الكفار في أنفسهم، وإضلالهم لغيرهم .. شرع في بيان تكميل المؤمنين لأنفسهم بهذه الآية، ولغيرهم بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} الخ؛ أي: يا أيها الذين صدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - اتقوا الله، وخافوه {حَقَّ تُقَاتِهِ}؛ أي: نهاية تقواه وكاملها، وأبلغها، وأدومها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات، والاجتناب عن المحرمات كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، والذي يصدر عن العبد على سبيل السهو والنسيان، غير قادح فيه؛ لأن التكليف في تلك الحال مرفوع عنه. وقيل: هو أن ينزه الطاعة عن ¬

_ (¬1) النسفي.

[103]

الالتفات إليها، وعن توقع المجازاة عليها، وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وقيل: هو ألا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقال قتادة، (¬1) والسدي، وابن زيد، والربيع: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أمروا أولًا بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء، ثم نسخ، وقال ابن عباس، وطاووس: هي محكمة، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بيان لقوله: و {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وقال ابن عباس: المعنى: جاهدوا في الله حق جهاده. وقال (¬2) الماتريدي، وفي حرفِ حفصةَ {واعبدوا الله حق عبادته} {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؛ أي: ولا يأتينكم الموت إلا وأنتم ملتبسون بالإسلام، أي: (¬3) حافظوا على الإِسلام في حال صحتكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه، فيا عياذًا بالله من خلاف ذلك، والاستثناء فيه مفرغ من عام الأحوال؛ أي: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإِسلام. والخلاصة: استمروا على الإِسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت. وقد جاء ولا تغيروا، ولا تبدلوا، لئلا يصادفكم الموت في حالة التغيير هذا في مقابلة قوله: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}. وعن جابر رضي الله عنه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ" رواه مسلم. 103 - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}؛ أي: تمسكوا بدين الله الذي هو الإِسلام، أو بكتابه الذي هو القرآن، أو عهده الذي عهد به إليكم الذي هو التوحيد حالة كونكم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين على الاعتصام والتمسك بحبل الله وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض". ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) ابن كثير.

وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم". {وَلَا تَفَرَّقُوا}؛ أي: لا تتفرقوا، ولا تختلفوا في الدين كما اختلف من قبلكم من اليهود والنصارى، أو لا تتفرقوا تفرقكم الجاهلي يحارب بعضكم بعضًا، ويقتل بعضكم بعضًا، وقيل: معناه لا تحدثوا بينكم ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع، والألفة التي أنتم عليها كالعصبية، والجنسية، ففيه النهي عن التفرق والاختلاف، والأمر بالاتفاق، والاجتماع؛ لأن الحق لا يكون إلا واحدًا، وما عداه يكون جهلًا وضلالًا، وإذا كان كذلك .. وجب النهي عن الاختلاف في الدين، وعن الفرقة؛ لأن كل ذلك كان عادة أهل الجاهلية فنهوا عنه. وبالجملة فحبل الله في هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هي السبل التي نهي عنها فيها، ومن السبل المفرقة في الدين إحداث الشيع، والفرق كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. ومنها: العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير "ليس منا من دعا إلى عصبية". وقد سار على هذا النهج أهل أوربا في العصر الحديث، فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإِسلامية، بل عم جميعها، وفشا فيها، فحاول أهلها أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية، ومفاخرات عصبية. وكانت كل دولة تتفاخر بجنسيتها ظنًّا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، ويزيدهم شرفًا، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا في تفرقهم وعصبيتهم، فإن ذلك مما يورث الشحناء والبغضاء بينهم، خصوصًا، التقدم بالجنسية والعصبية في التعليم والتدريس والإفتاء، بل التقدم في ذلك بالعلم والتقوى، وما لهم في ذلك سند إلا الاقتداء

بالنصارى، والعياذ بالله من ذلك. فالدين يأمر باتحاد كل قوم، تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام. {وَاذْكُرُوا}؛ أي: تذكروا يا معشر الأوس والخزرج {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي: إنعامه سبحانه وتعالى عليكم نعمة دنيوية، وأخروية التي من جملتها: الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف، وزوال الغل {إِذْ كُنْتُمْ}: ظرف لقوله: {نِعْمَتَ اللَّهِ} أي: اذكروا إنعامه عليكم إذ كنتم في الجاهلية {أَعْدَاءً} متقاتلين يبغض بعضكم بعضًا ويحارب بعضكم بعضًا {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإِسلام؛ أي: قذف الله تعالى فيها المحبة بتوفيقكم للإسلام {فَأَصْبَحْتُمْ} وصرتم {بِنِعْمَتِهِ} بسبب إنعامه عليكم بنعمة الإِسلام {إِخْوَانًا} في الدين: أي: متحابين مجتمعين على الأخوة في الله سبحانه وتعالى، وقيل: كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحروب بينهم مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإِسلام، وألف بينهم برسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الخطاب على العموم، والمعنى حينئذٍ؛ واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداءً يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإِسلام، فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانًا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم، وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة وأنقذهم مما هو أدهى وأمر، وهو عذاب الآخرة. {وَكُنْتُمْ} يا معشر الأوس والخزرج {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ}؛ أي: على طرف وهدة {مِنَ النَّارِ} الأخروية مثل شفا البئر؛ أي: وكنتم قريبين من الوقوع في النار بسبب كفركم، ليس بينكم، وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم {فَأَنْقَذَكُمْ}؛ أي: فأنجاكم {مِنْهَا}؛ أي: من تلك الحفرة أو النار، بأن هداكم للإسلام. والخلاصة: أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله كأنكم على طرف حفرة، يوشك أن ينهار، ويسقط بكم في النار، فليس بين الشرك، والهلاك في النار إلا

الموت، والموت أقرب غائب ينتظر؛ فأنقذكم الإِسلام منها. وفي هذه الآيات جماع المنن التي أنعم الله بها عليهم، فقد أخرجهم بالإِسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه، وأنقذهم بذلك من النار فسعدوا بالحسنيين. فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته كيف حول قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون إلى جماعات متعافية القلوب مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعًا واحدة هي حكم الله ورفعة دينه ونشره بين البشر. {كَذَلِكَ}؛ أي: كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما تضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإِسلام ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: يفصل الله تعالى لكم {آيَاتِهِ}؛ أي: سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: لكي تهتدوا من الضلالة، وتستعدوا للاهتداء الدائم حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان؛ والمعنى يزيدكم بيان ذلك ما دام رسول الله فيكم. فائدة: والاختلاف (¬1) الذي يقع بين البشر ضربان: الأول: ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف في الرأي والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها في الشيء الواحد كما يختلف حبهم له؛ وميلهم إليه، وهذا ضرب لا ضرر فيه. والثاني: ضرب جدت الشرائع في هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأي والهوى في أمور الدين وشؤون الحياة، وهاك مثلًا يتضح لك به ما تقدم. قد اختلف الأئمة المجتهدون في فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما ¬

_ (¬1) المراغي.

كان في ذلك من حرج، فمالكٌ نشأ في المدينة، ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين؛ لأنهم لقرب عهدهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل. وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق؛ فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان. لعذر كل منها صاحبه فيما رأى؛ لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخير والطاعة لأمره. ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم في سيرتهم، وحكموا الرأي والهوى في الدين، وتفرقوا شيعًا كل فريق يتعصب لرأي فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادي المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكًا أخطآ في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة. وإذًا فكيف يمضي نحو أربعة عشر قرنًا، ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية! فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها!. وهذا الضرب من الخلاف، وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة، فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها وضعفت بعد قوتها. وقد حدث مثل هذا في الفرق الإِسلامية في علم العقائد، فإن أبدى أحدهم رأيًا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر والإطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق. لما حدث مثل هذا الخلاف، بل اقتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه. والمسلم ما دام محافظًا على نصوص دينه، لا يخل بواحد منها مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه، لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه. فإذا تحكم الرأي والهوى، ولعن بعضهم بعضًا، وكفر بعضهم بعضًا؛ فقد

باء بها من قالها، كما ورد في الحديث، وكذلك الحال في الاختلاف في المعاملة في المسائل السياسية والدينية، لا ينبغي أن يكون مفرقًا بين جماعة المسلمين، بل عليهم أن يرجعوا من النزاع إلى حكم الله، وآراء أولي العلم منهم، وبذلك نتقي غائلة الخلاف، ونكون في وفاق، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. الإعراب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. {لَنْ}: حرف نصب {تَنَالُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {لَنْ}. {الْبِرَّ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {حَتَّى} حرف جر وغاية. {تُنْفِقُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد {حتى}، الجار والمجرور متعلق بـ {تَنَالُوا}. {مِمَّا}: من حرف جر وتبعيض {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ {مِنْ}. الجار والمجرور متعلق بـ {تُنْفِقُوا}. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون {ما} مصدرية، لأن المحبة لا تنفق، فإن جعل المصدر بمعنى المفعول .. فهو جائز على رأي أبي عليّ الفارسي انتهى. {تُحِبُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تحبونه. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم. {تُنْفِقُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {ما} على كونه فعل شرط لها. {مِنْ شَيْءٍ}: متعلق بـ {تُنْفِقُوا}. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا. {إنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها {بِهِ} متعلق بعليم. {عَلِيمٌ}: خبرها، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة. {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. {كُلُّ الطَّعَامِ}: مبتدأ، ومضاف إليه {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها

ضمير يعود على {كُلُّ}. {حِلًّا}: خبرها. {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {حِلًّا}؛ لأنه مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ لأنه بمعنى جائزًا، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء؛ لأنه استثناء من اسم {كَانَ} والعامل فيه {كَانَ}. {حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ}: فعل وفاعل. {عَلَى نَفْسِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {حَرَّمَ}. والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضميرٌ محذوف تقديره: حرمه. {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَرَّمَ}، قاله أبو البقاء، وفي "الفتوحات" قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ} متعلق بقوله {كَانَ حِلًّا} ولا ضَيْرَ في توسط الاستثناء بينهما إذ هو فصل جائز، وذلك على مذهب الكسائي، وأبي الحسن في جواز أن يعملَ ما قبل إلّا فيما بعدَها؛ إذا كان ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو حالًا، وقيل: متعلِّق بـ {حَرَّمَ}. وفيه: أنَّ تقييد تحريمه - عليه السلام - بقبلية تنزيل التوراة ليس فيه مزيد فائدة، إذ كان ما عدا المستثنى حلالًا لهم قبل نزولها، مشتملة على تحريم أمور أخر؛ حرمت بسبب ظلمهم وبغيهم كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية. أبو السعود انتهت. {أَنْ}: حرف نصب. {تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} فعل ونائب فاعل منصوب بـ {أَنْ} والمصدر المؤول بـ {أَنْ} مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: من قبل تنزيلها. {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة، {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} إلى آخر الآية مقول محكي، لِـ {قُلْ} وإن شئتَ: قلت {فَأْتُوا}: {الفاء} عاطفة على محذوف تقديره: هذا هو الحق لا زعمكم يا معشر اليهود،

كما أشرنا إليه في مقام التفسير. {أتُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {بِالتَّوْرَاةِ} متعلق بـ {أتوا}. {فَاتْلُوهَا}: {الفاء}: عاطفة. {اتلوها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {فَأْتُوا} {إِنْ}: حرف شرط {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعلَ شرط لها. {صَادِقِينَ}: خبرُ {كَانَ}، وجواب إن معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين .. فاتلوها، وجملة إن الشرطية في محل النصب: مقول {قُلْ}. {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {فَمَنِ} {الفاء}: عاطفة أو استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو الجواب فقط، أو هما على الخلاف المذكور في محله {افْتَرَى} فعل ماض في محل الجزم بِـ {مِنْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {افْتَرَى}. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {افْتَرَى} أو بـ {الْكَذِبَ} كما ذكره أبو البقاء. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية {أولئك}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الظَّالِمُونَ}: خبر والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، والجملة الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَأْتُوا} بالتوراة على كونها مقولًا لِـ {قُلْ} أو مستأنفة. {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة {صَدَقَ اللَّهُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت .. قلت {صَدَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فَاتَّبِعُوا}: {الفاء}: عاطفة، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به، وأردتم بيان ما هو المصلحة لكم .. فأقول لكم: {فَاتَّبِعُوا}: {اتبعوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفةٌ على جملة قوله {صَدَقَ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ} أو مقولًا لجواب إذا المقدرة. {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}:

مفعول به، ومضاف إليه {حَنِيفًا}: حال من {إبراهيم}. {وَمَا كَانَ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جار ومجرور خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل النصب معطوفة على {حَنِيفًا} على كونها حالًا من {إِبْرَاهِيمَ} تقديره: حالة كونه عادمًا كونه من المشركين. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}. {إِنَّ}: حرف نصب {أَوَّلَ بَيْتٍ}: اسم {إِنَّ}، ومضاف إليه {وُضِعَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {بَيْتٍ}. {لِلنَّاسِ} متعلق بـ {وُضِعَ} والجملة صفة لِـ {بَيْتٍ}. {لَلَّذِي} {اللام}: حرف ابتداءٍ. {الذي}: اسم موصول في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {بِبَكَّةَ}: جار ومجرور صلة الموصول. {مُبَارَكًا}: حال من الضمير المستتر في الصلة، أو المستتر في {وُضِعَ}. {وَهُدًى}: معطوف على {مُبَارَكًا}. {لِلْعَالَمِينَ}: جار ومجرور تنازع فيه كل من {مُبَارَكًا} و {هدى} أو متعلق بـ {هدى} فقط. {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {آيَاتٌ}: مبتدأ مؤخر {بَيِّنَاتٌ} صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب حال ثالثة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها لبيان وتفسير بركته وهداه كما في "السمين". {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} بدل من {آيَاتٌ} بدل تفصيل من مجمل و {إِبْرَاهِيمَ} مضاف إليه، والرابط محذوف تقديره {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} منها {وَمَنْ} {الواو}: {وَ} استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط فقط، أو جملة الجواب، أو هما معًا {دَخَلَهُ} فعل ومفعول في محل الجزم بِـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {كَانَ}: فعل ماضٍ، ناقص في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على {مَنْ}. {آمِنًا}: خبرها، وجملة من الشرطية: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا سيقت لبيان تلك الآيات البينات، أو في محل الرفع معطوفة على {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} على كونها بدلًا

من {آيَاتٌ}، والمعنى: فيه آيات بينات. منها: مقام إبراهيم، ومنها: أمن داخله. {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. {وَلِلَّهِ} {الواو}: استئنافية. {لله}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بما تعلَّق به الجار والمجرور قبله. {حِجُّ الْبَيْتِ}: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: {حِجُّ الْبَيْتِ}: واجب لله على الناس. {مَنِ} اسم موصول في محل الجر بدل {من الناس} بدل بعض من كل، والرابط محذوف تقديره: منهم. {اسْتَطَاعَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول. {إِلَيْهِ} متعلق بـ {اسْتَطَاعَ}. {سَبِيلًا}: مفعول به لـ {استطاع}. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب {كَفَرَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم على كونه فعلَ شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {إنْ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها {غَنِيٌّ}: خبرها. {عَنِ الْعَالَمِينَ}: متعلق بغني، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (من) الشرطية: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محلَّ لها من الإعراب، ويجوز أن تكون {مَنْ} موصولة، ودخلت الفاء تشبيهًا للموصول باسم الشرط، وقد تقدم نظيره غير مرة. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى آخر الآية: مقول محكي لِـ {قُلْ}. وإن شئت قلت: {يا} حرف نداء، {أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {لِمَ تَكْفُرُونَ}: {اللام}؛ حرف جر. {مَ}: اسم استفهام في

محل الجر باللام مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {تَكْفُرُونَ}. {تَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَكْفُرُونَ}. {وَاللَّهُ}: {الواو}: حالية {اللَّهُ}: مبتدأ. {شَهِيدٌ}: خبر. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهِيدٌ} والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {تَكْفُرُونَ}. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه، ويصح كون {مَا} مصدرية كما مر نظيره مرارًا. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول محكي لِـ {قُلْ}. {لِمَ تَصُدُّونَ} {اللام}: حرف جر. {م}: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {تَصُدُّونَ}. {تَصُدُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي لـ {قُلْ}. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {تَصُدُّونَ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَصُدُّونَ}. {آمَنَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول. {تَبْغُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الضمير في {تَصُدُّونَ} أو من {السبيل}؛ لأنَّ في هذه الجملة ضميرين راجعين إليهما؛ فلذلك صح أن تجعل حالًا من كل واحد منهما؛ كما ذكره أبو البقاء، أو الجملة مستأنفة. {عِوَجًا}: حال من {الهاء} في {تَبْغُونَهَا} بتأويله بمشتق تقديره: معوجة. {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}: {الواو}: حالية. {أَنْتُمْ}: مبتدأ {شُهَدَاءُ}: خبر، والجملة في محل النصب: حال إما من فاعل {تَصُدُّونَ} وإما من فاعل {تَبْغُونَ}. {وَمَا اللَّهُ}: {الواو}: حالية. {ما}:

حجازية أو تميمية. {اللَّهُ}: اسمها، أو مبتدأ. {بِغَافِلٍ}: {الباء}: زائدة {غافل}: خبر لـ {ما} أو خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَصُدُّونَ}. {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {غافل} وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}. {يَا}: حرف نداء {أيّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة؛ كما مر مرارًا، وجملة النداء: مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول: في محل الرفع صفة لـ {أي}: {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنْ}: حرف شرط. {تُطِيعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {فَرِيقًا}: مفعول به. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {فَرِيقًا}. {أُوتُوا الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول. {يَرُدُّوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ {إِنْ} على كونه جوابًا لها؛ لأنه من أفعال التصيير. {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يردون}. {كَافِرِينَ}: مفعول ثان {يَرُدُّوكُمْ} وجملة {إن} الشرطية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}. {وَكَيْفَ} {الواو}: استئنافية {كيف}: اسم استفهام في محل النصب، على الحالية. {تَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَأَنْتُمْ}: {الواو}: حالية. {أنتم}: مبتدأ. {تُتْلَى}: فعل مضارع مغيّر الصيغة. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {آيَاتُ اللَّهِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {تَكْفُرُونَ}. {وَفِيكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {فيكم}: جار ومجرور خبر مقدم. {رَسُولُهُ}: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة

قوله: {وَأَنْتُمْ تُتْلَى} على كونها حالًا من فاعل {تَكْفُرُونَ}. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ}: {الواو}: استئنافية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب أو هما. {يَعْتَصِمْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يَعْتَصِمْ}. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ {قد} لأنه من المواضع التي يجب فيها إقتران الجواب بالفاء المجموعة في قول بعضهم: إِسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وبِجَامِدٍ ... وَبِمَا وَلَنْ وَبِقَدْ وَبِالتَّسْوِيفِ {قَدْ} حرف تحقيق. {هُدِيَ}: فعل ماضٍ مغيّر الصيغة في محل الجزم بِـ {مَنْ} على كونه جواب الشرط، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {هُدِيَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}. {يَا}: حرف نداء. {أيُّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أيُّ}، وجملة النداء، مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء. {حَقَّ}: منصوب على المفعولية المطلقة، وهو مضاف {تُقَاتِهِ}: مضاف إليه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل {اتَّقُوا اللَّهَ} التقاة الحق، أي: الثابتة. {وَلَا تَمُوتُنَّ} {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية {تَمُوتُنَّ}: فعل مضارع مجزوم {بلا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأن أصله تَمُوتُونَنَّ والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال. {وَأَنْتُمْ} {الواو}: حالية {أنتم}: مبتدأ. {مُسْلِمُونَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَمُوتُنَّ} تقديره، ولا تموتن على حالةٍ من الأحوال إلَّا حالة كونكم مسلمين. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.

{وَاعْتَصِمُوا} {الواو}: استئنافية. {اعتصموا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِحَبْلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اعتصموا}. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {اعتصموا} تقديره: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ} الله حالة كونكم مجتمعين عليه. {وَلَا تَفَرَّقُوا} {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية {تَفَرَّقُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {وَاعْتَصِمُوا}. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. {وَاذْكُرُوا} {الواو}: عاطفة. {اذكروا} {نِعْمَتَ اللَّهِ} فعل وفاعل ومفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {وَاعْتَصِمُوا}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {نِعْمَتَ اللَّهِ} لأنه بمعنى إنعامه عليكم. {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. {إِذْ}: ظرف لما مضى مجرد عن معنى الشرط، والظرف متعلق بـ {نِعْمَتَ اللَّهِ}. {كُنْتُمْ أَعْدَاءً} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فَأَلَّفَ}: {الفاء}: عاطفة {أَلَّفَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {كان}. {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَلَّفَ}. {فَأَصْبَحْتُمْ} {الفاء} عاطفة. {أصبحتم}: فعل ناقص واسمه. {بِنِعْمَتِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أصبح}. {إِخْوَانًا}: خبر {أصبح} وجملة {أصبح} في محل الجر معطوفة على جملة {أَلَّفَ}. {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. {وَكُنْتُمْ} {الواو} عاطف. {وَكُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر {كان} تقديره؛ وكنتم كائنين على شفا حفرة، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {كُنْتُمْ أَعْدَاءً}. {مِنَ النَّارِ} جار ومجرور صفة لـ {حُفْرَةٍ}. {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} الفاء عاطفة. {أنقذكم} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله

{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ}. {مِنْهَا} متعلق بـ {أَنْقَذَكُمْ}. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. {كَذَلِكَ} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: يبين لكم بيانًا كائنًا كذلك؛ أي: كائنًا مِثْلَ البيان المذكور هنا. {يُبَيِّنُ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَكُمْ} متعلق {يُبَيِّنُ}. {آيَاتِهِ} مفعول به، ومضاف إليه {لَعَلَّكُمْ} {لعل} حرف نصب وتعليل بمعنى كي، و {الكاف} اسمها. وجملة {تَهْتَدُونَ} خبرها وجملة {لعل} من اسمها وخبرها في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلِّقة بـ {يُبَيِّنُ} تقديره: كذلك بين لكم آياته لاهتدائكم أي لإرادة اهتدائكم. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} يقال: ناله من فلان معروف يناله نيلًا إذا وصل إليه. والنوال: العطاء من قولك: نولته تنويلًا إذا أعطيته. والنيل: إدراك الشيء ولحوقه، وقيل: هو العطية، وقيل: هو تناول الشيء، باليد يقال: نلته أناله نيلًا قال تعالى: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا}. وأما النول بالواو فمعناه: التناول يقال: نلته أنوله: أي: تناولته وأنلته زيدًا أنيله إياه؛ أي ناولته إياه. والبر اسم جامع لوجوه الخير، والمراد به هنا الجنة. {حِلًّا} الحل لغة: في الحلال، كما أن الحرم لغة: في الحرام، والحلال، وكذا الحل مصدر يستوي فيه الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث. {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فيه مراعاة لفظ {مَنْ} وفي قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مراعاة معناها، والإفتراء اختلاق الكذب وهو من باب افتعل أصله: من: فرى الأديم إذا قطعه؛ لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود. {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} هي مكة بقلب الميم باء، وبكة علم للبلد الحرام، وكذا مكة، وهما لغتان: وقيل: إن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل: بكة للمسجد، ومكة للحرم كله، يقال: بك يبك من باب رد إذا دق

الشيء، وسميت بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وبكها لأعناقهم كناية عن إهلاكهم، وإذلالهم ويقال: بك القوم إذا ازدحموا؛ لأنهم يزدحمون فيها في الطواف. وأما تسميتها مكة فقيل: سميت بذلك؛ لأنها قليلة الماء تقول العرب: مك الفصيل ضرع أمه، وأمكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن. وقيل: لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم، إذا أخرجت ما فيه، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تمك من ظلم فيها؛ أي: تهلكه. وقد اختلف في الباني له في الابتداء، فقيل: الملائكة، وقيل: آدم، وقيل: إبراهيم، ويجمع بين ذلك؛ بأن أول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم. {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} والعوج - بكسر أوله وفتحه -: الميل، ولكن العرب فرقوا بينهما، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان، تقول: في دينه وكلامه عوج بالكسر، وفي الجدار عوج بالفتح. قال أبو عبيدة العوج بالكسر الميل في الدين، والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع. وقال أبو إسحاق بالكسر فيما لا ترى له شخصًا، وبالفتح فيما له شخص، وقال صاحب المجمل: العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط، وبالكسر ما كان في بساط أو دين أو أرض أو معاشٍ، فقد فرق بينهما بغير ما تقدم، يقال: عوج من باب: طرب فهو أعوج، والاسم: العوج كما ذكره في "المختار". {حَقَّ تُقَاتِهِ} هو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها كما تقول: ضربت زيدًا شديد الضرب أي؛ الضرب الشديد فكذلك ما هنا، والتقدير: اتقو الله الإتقاء الحق؛ أي: الواجب الثابت. {شَفَا حُفْرَةٍ} في "المصباح"، وشفا كل شيء حرفه، مثل النوى، وفي "السمين": الشفا: طرف الشيء، وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو يثنى بالواو نحو شفوان، ويكتب بالألف، ويجمع على أشفاء، ويستعمل مضافًا إلى أعلى الشيء، وإلى أسفله، فمن الأول {شَفَا جُرُفٍ} ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا إذا قاربه، ومنه أشفى المريض على الموت. البلاغة وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة أنواعًا:

منها: التبكيت والتوبيخ، حيث أمرهم بالإتيان بالتوراة للدلالة على كمالِ القبح. ومنها: الهزء في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؛ لأنه خرج مخرج الممكن وهو معلوم كذبهم، وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك: إن كنت شجاعًا فالقني، ومعلوم عندك أنه ليس بشجاع، ولكن هزأت به؛ إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به. ومنها: التفخيم في قوله: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} حيث حذف الموصوف، وذكر الصفة؛ لأن أصل الكلام للبيت الذي ببكة. ومنها: التأكيد والتشديد في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} حيث وضع هذا اللفظ موضع، ومن لم يحج تأكيدا لوجوبه، وتشديدًا على تاركه. قال أبو السعود: ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ما لا مزيد عليه، وهي قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق، وأبرزت في صورة الجملة الإسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه وتعالى في ذمم الناس، وسلك بهم مسلك التعميم، ثم التخصيص والإبهام، ثم التبيين والإجمال، ثم التفصيل. وقال أبو حيان (¬1): وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة: منها: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ} {لِمَ تَصُدُّونَ} {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}. ومنها: التكرار في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، وفي اسم الله في مواضع، وفي ما يعملون. ومنها: الطباق في الإيمان والكفر، وفي الهداية والكفر، إذ هو ضلال، وفي العوج والاستقامة، والتجوز بإطلاق اسم الجمع في قوله: {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فقيل: هو يهودي غير معين، وقيل: هو شاس بن قيس وإطلاق العموم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الذي أريد به الخصوص في {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} على قول الجمهور إنه خطاب للأوس والخزرج. ومنها: الحذف في مواضع. انتهى. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} حيث شبه الدين أو القرآن بالحبل، واستعير اسم المشبه به، وهو الحبل للمشبه، وهو الدين أو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، والجامع بينهما التوصل للمقصود في كل، وإضافته للفظ الجلالة قرينة مانعة، والاعتصام ترشيح. وفيه أيضًا: استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الوثوق بالاعتصام، واستعار الاعتصام للوثوق، واشتق من الاعتصام {وَاعْتَصِمُوا} بمعنى ثقوا. والحاصل: (¬1) أنَّ في الآية استعارتين: استعارة الحبل للدين، أو للكتاب فتكون استعارة مصرحة أصلية تحقيقية، والقرينة الإضافة إلى الله تعالى، واستعارة الاعتصام للوثوق به، والتمسك به، فتكون استعارة مصرحة تبعية تحقيقية، والقرينة اقترانها بتلك الاستعارة. ومنها: الاستعارة التمثيلية حيث شبه حالهم الذي كانوا عليه بالجاهلية، بحال من كان مشرفًا على حفرة عميقة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) جمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}. المناسبة لما حذر الله سبحانه (¬1) وتعالى المؤمنين فيما سلف من مكايد أهل الكتاب، وأمرهم بتكميل أنفسهم، وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس، والأرجاس بالعمل بتقوى الله، والمحافظة على إخلاص العمل له حتى المماتِ، وأمرهم بالاعتصام بحبل الله المتين باتباع كتابه، والتمسك بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفت الأهواء وتضاربت الآراء .. أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة بدعوتهم إلى الله تعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر تثبيتًا لهم جميعًا على مراعاة ما في الشريعة من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من التكاليف، وبذلك تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعًا حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل ¬

_ (¬1) المراغي.

[104]

الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" رواه مسلم. وروى البخاري غيره: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها أمر بعض أفرادها بعضًا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ثم ذكر ما حل باليهود من الذل والصغار بسبب البغي والعدوان. التفسير وأوجه القراءة 104 - {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}؛ أي: ولتوجد منكم يا معشر المؤمنين {أُمَّةٌ}؛ أي: جماعةٌ متميزةٌ يقتدي بها فرق الناس {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى الْخَيْرِ} ويحثونهم على ما فيه صلاح معاشهم، ومعادهم، فأفضل الدعوة، الدعوة إلى توحيد الله وإلى إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، وإلى تقديسه عن الأنداد والشركاء، وعن مشابهة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ لأنها أساس الدين ومبنى الإيمان. {وَيَأْمُرُونَ} الناس {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا، والمعروف كلُ ما استحسنه الشرع والعقل، والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبًا .. فواجب، وإن كان مندوبًا .. فمندوب {وَيَنْهَوْنَ} الناس {عَنِ الْمُنْكَرِ} شرعًا، والمنكر ضد المعروف، وهو ما عرف بالعقل، والشرع قبحه. فالنهي عن الحرام واجب كله، لأن تركه واجب. وهذه الأمور من فروض الكفاية؛ لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال، وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور، أو المنهي في زيادة الفجور، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة. وقوله (¬1) {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} من باب عطف الخاص على العام؛ إظهارًا لترفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه كما قيل، في عطف جبريل وميكال على الملائكة، وحذف مفعول ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الأفعال الثلاثة إيذانًا بالعموم؛ أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك. وقرأ الجمهور (¬1) {وَلْتَكُنْ} بإسكان اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة، بكسرها، وعلة بنائها على الكسر مذكورةٌ في كتب النحو، وسنبينها لك في مقام الإعراب إن شاء الله تعالى. وقرأ عثمان وعبد الله بن الزبير {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم} قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذه الزيادة تفسيرٌ من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين عنه، فألحقه بألفاظ القرآن، وقد روي عن عثمان كما مر آنفًا أنه قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست من القرآن. وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع مقامها. فائدة (¬2): ويشترط فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط أربعةٌ؛ ليؤدي وظيفته خير الأداء، ويكون مثلًا صالحًا يحتذى به في علمه وعمله: الأول: أن يكون عالمًا بالقرآن والسنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاءِ الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. الثاني: أن يكون عالمًا بحال من توجه إليهم بالدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي: معرفة أحوالهم الاجتماعية. والثالث: أن يكون عالمًا بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة بتعلم العبرانية لحاجته إلى محاورة اليهود، الذين كانوا يحاورونه ومعرفة حقيقة حالهم. والرابع: معرفة الملل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

باطلٍ، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، وبالجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع، وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان على مقدار علمهم في المساجد، والمعابد، والمنتديات العامة، وفي المحافل عند سنوح فرصةٍ. فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهاليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم. وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها إذ لا مطمع لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها وسيادتها العالم كله. ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدته، وكملوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغي السعادة والرقي، وتخلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات حتى يكونوا مثلًا عليا يحتذى بها، ويشار إليهم بالبنان. وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن خير الناس، فقال: "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم". وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم". وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن غضب لله غضب الله له. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع

[105]

فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" أخرجه مسلم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا". أخرجه البخاري. واختلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقيل: يجبان على كلِّ مكلف، فمعنى الآية على هذا القول: كونوا أمةً دعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. وصاحب هذا القول يقول: هما فرض كفاية إذا قام بهما واحد سقط الفرض عن الباقين. وقيل: هنا يختصان بالعلماء وولاة الأمر، فعلى هذا يكون معنى الآية ليكن بعضكم آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر. {وَأُولَئِكَ} الدعاة الآمرون الناهون {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: المختصون بالفلاح الكامل، والنجاح الواصل. روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر .. فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله وخليفة كتابه". وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. بين ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية الآمرة الناهية من وحدة المقصد، واتحاد الغرض؛ لأن الذين سبقوهم من الأمم، لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم، وتفرق أهوائهم؛ لأن كلًّا منهم يذهب إلى تأييد رأيه وإرضاء هواه. أما المتفقون في القصد: فاختلافهم في الرأي لا يضر بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعيٌّ، لا بدَّ منه لتمحيصه، وتبين وجه الصواب فيه فقال: 105 - {وَلَا تَكُونُوا} يا معشر المؤمنين {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا}؛ أي: كاليهود والنصارى الذين تفرقوا بالعداوة {وَاخْتَلَفُوا} في الدين، وكانوا شيعًا تذهب كل شيعة منها مذهبًا يخالف مذهب الآخر، وتنصر مذهبها وتدعو إليه، وتخطىء ما سواه ولذا تعادوا واقتتلوا، أو

المعنى تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسًا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل، قال الفخر الرازي: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان، صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، أي: تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه، وإتحاد الكلمة. ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غايةٍ واحدةٍ لما تفرقوا واختلفوا فيه. ولما تعددت مذاهبهم في أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضًا: فلا تكونوا مثلهم؛ فيحل بكم ما حل بهم. قالوا: وهذا الاختلاف المنهي عنه يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية: فالاختلاف فيها جائزٌ. وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين، في أحكام الحوادث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اختلاف أمتي رحمة" ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اجتهد .. فأصاب؛ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ". وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وزاد الحاكم في رواية: "كلها في النار إلّا ملة واحدة". وزاد أحمد في روايةٍ عن أنس "قيل يا رسول الله: من تلك الفرقة؟ قال: "الجماعة". وإنما قال: {جَاءَهُمُ}، ولم يقل: جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل عند وجود الفاصل، أو عند كون الفاعل مؤنثًا مجازيًّا كما هنا. ثم ذكر سبحانه وتعالى عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال: {وَأُولَئِكَ} الذين تفرقوا واختلفوا في الدين {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا والآخرة؛ بسبب تفرقهم واختلافهم. وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف. وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما في الدنيا: فلأن بأسهم يكون بينهم شديدًا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء

[106]

وتذيقهم الخزي والنكال. وأما في الآخرة: فعذاب الله أشد وأبقى. وهذا الوعيد المذكور في هذه الآية يقابل الوعد المذكور في الآية السابقة، وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فارق الجماعة شبرًا .. فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه". أخرجه أبو داود. ربقة الإِسلام: عقدة الإِسلام وحبله وعراه. وروى البغويُّ بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سَرَّه أن يسكن بحبوحة الجنة .. فعليه بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفذِّ، وهو من الاثنين أبعد". بحبوحة الجنة: وسطها، والفذ: هو الواحد. 106 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى زمان ذلك العذاب فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} الظرف منصوب بمحذوف تقديره: اذكروا يوم تبيض وتستنير، وتلألأ فيه وجوه كثيرة من المؤمنين بسبب ما تراه من الفرح والسرور بحسناتها، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} كثيرة من الكافرين بسب ما تراه من الحزن والكآبة والغمّ بسيئاتها، وهو يوم القيامة حين (¬1) يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة، ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب إذ قرأ المؤمن كتابه .. رأى حسناته، فاستبشر وأبيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه .. رأى سيئاته؛ فحزن واسود وجهه. وفي بياض (¬2) الوجوه وسوادها قولان: أحدهما: البياض كناية عن الفرح، والسرور، والسواد: كناية عن الغم والحزن، واستعمال البياض في السرور والسواد في الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد على سبيل التجوز. والقول الثاني: بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه، فيبيض وجه المؤمن، ويكسى نورًا، ويسود وجه الكافر ويكسى ظلمة؛ لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

والحكمة في بياض الوجوه وسوادها: أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن، عرفوا أنه من أهل السعادة، وإذا رأوا سواد وجه الكافر .. عرفوا أنه من أهل الشقاوة. ونحو هذه الآية قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)} وقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} وفي الحديث: "إن أمتي يحشرون غرًّا محجلين من أثر الوضوء". وخلاصة الكلام: أنَّ هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم في هذا اليوم، كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث، كما يكون لهم مثل ذلك في الدنيا؛ إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون، ولا يتعاونون، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة وعز الأمة، فتسود وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم، واختلافهم بقهر الغاصب لهم، وانتزاعه السلطة عن أيديهم، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا. أما المتفقون الذين اعتصموا، واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها، وأصبح كل واحد منهم عونًا للآخر، وناصرًا له، فأولئك تبيض وجوههم، وتتلألأ بهجة وسرورًا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم، واعتصامهم بوجود السلطان والعزة والشرف وارتفاع المكانة بين الأمم. وقرأ (¬1) الجمهور {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} بفتح التاء، وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي، وأبو نهيك {تبْيَضُّ} و {تسْوَدُّ} بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء {تَبياض} و {تسواد} بألف فيهما، ويجوز كسر التاء في {تبياض وتسواد}، ولم ينقل أنه قرئ ذلك. ثم فصل سبحانه وتعالى أحوال الفريقين فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} وأظلمت {وُجُوهُهُمْ} بسبب تفرقهم واختلافهم فيلقون في النار، وتقول الزبانية توبيخًا لهم {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، أي: هل كفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإيمان؟ وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة. وقال عكرمة، والأصم، والزجاج: أي أكفرتم يا أهل الكتاب بعد بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد إيمانكم به قبل مبعثه؟. وابتدأ (¬1) بالذين اسودت وجوههم، للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله وتسود وجوه، وليكون الابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئًا يسر الطبع، ويشرح الصدر. فإن قلت (¬2): كيف قال؟ أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين، فمن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ قلت: اختلف العلماء في ذلك، فروي عن أبيّ بن كعب أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فآمن الكل، فكل من كفر في الدنيا .. فقد كفر بعد الإيمان، وقال الحسن: هم المنافقون؛ وذلك أنهم تكلموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروه بقلوبهم. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب؛ وذلك أنهم آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فلما بعث .. أنكروه وكفروا به كما مر آنفًا. وقيل: هم الذين ارتدوا في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهم أهل الردة. ذكر الأحاديث المناسبة للآية وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأنالهم، اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنَّ: أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي: لا تدري ما أحدثوا بعدك". زاد في رواية "فأقول سحقا لمن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[107]

بدل بعدي". متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرد علي يَوْمَ القيامة رهط من أصحابي، أو قال: من أمتي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى". متفق عليه. وقيل: هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب، وقتلهم، وهم الحرورية. وقيل: هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية، ونحوهم، فكفرهم بعد إيمانهم على هذا القول هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، أي: باشروا العذاب وادخلوه {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كفركم بالله وبرسوله وبكتابه، والأمر بذوق العذاب على طريق الإهانة لهم، والاستهزاء بهم. وقد جرى عرف القرآن أن يعد المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر؛ لأن الإيمان اعتقادٌ، وقولٌ، وعملٌ، وهو ذو شعبٍ كثيرة، من أجلها تحري العدل، واجتناب الظلم، فمن استرسل في الظلم .. كان كافرًا كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وكذلك من ترك الاتحاد، والوفاق، والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان. 107 - {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ} واستنارت {وُجُوهُهُمْ} بالفرح والسرور؛ بما رأوا من حسناتهم التي من جملتها اتحاد الكلمة، وعدم التفرق {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}؛ أي:

[108]

فيكونون في رحمة الله وجنته، وعبر عنها بالرحمة تنبيهًا على أن المؤمن، وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى، فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى: {هم فيها خالدون}؛ أي: هم دائمون في رحمته وجنته، لا يظعنون عنها ولا يموتون، قيل: إنما كرر {في} لأن في كل واحدة منها معنى غير الأخرى المعنى أنهم في رحمة الله، وأنهم في الرحمة خالدون، وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر {فأما الذين اسوادات وأما الذين ابياضت} بألف. 108 - {تِلْكَ}؛ أي: هذه الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار {آيَاتُ اللَّهِ} القرآنية، ودلائله الدالة على صدقك يا محمَّد {نَتْلُوهَا}، أي: نقرؤها بواسطة جبريل {عَلَيْكَ} يا محمَّد حالة كونها ملتبسة {بِالْحَقِّ} والعدل في مجازاة المحسن، والمسيء بما يستوجبانه، أو حالة كوننا ملتبسين بالحق والصدق. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: وما يريد الله فردًا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلًا عن أن يفعله، وأما ظلم بعضهم لبعض فواقع كثيرًا، وكل واقع فهو بإرادته تعالى، والمعنى لا يشاء أن يظلم هو عباده، فيأخذ أحدًا بغير جرم أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن. والحاصل: أن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم، إلى ما يكمل فطرتهم ويتم به نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء، وكانوا هم الظالمين، لأنفسهم بتفرقهم، واختلافهم إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع، وتجعل أهله في شقاء، ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها، فزحزحها عن الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. 109 - ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفي الظلم عنه تعالى فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ولله سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السموات، وما في الأرض ملكًا، وخلقًا، إحياءً وإماتة، وإثابةً، وتعذيبًا. لما ذكر الله تعالى أنه لا يريد ظلمًا للعالمين، لأنه لا حاجة به إلى الظلم،

[110]

وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالًا أو عزًّا أو سلطانًا أو يتم نقصًا فيه بما يظلم به غيره، ولما كان الله عز جل مستغنيًا عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض، وأن جميع ما فيهما ملكه وأهلهما عبيده، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحدًا من خلقه؛ لأنهم عبيده وفي قبضته، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ ولأن الظلم ينافي الحكمة، والكمال في النظام، وفي التشريع، {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {تُرْجَعُ الْأُمُورُ}؛ أي: إلى حكمه تصير أمور الخلائق، وشؤونها في الآخرة المؤمن، والكافر، والعاصي، والطائع، فيجازي الكل على قدر استحقاقهم، ولا يظلم أحدًا منهم فلا مفر منه، ولا محيص عنه. وقرىء {ترجع} بالبناء للفاعل، أو المفعول، وبالتاء المثناة من فوق على القراءتين. 110 - {كُنْتُمْ} يا أمة محمَّد في سابق علمه تعالى {خَيْرَ أُمَّةٍ}؛ أي: أفضل أمة {أُخْرِجَتْ} وأظهرت بفضلها وشرفها {لِلنَّاسِ}؛ أي: عرف فضلها وشرفها للناس حتى تميزت عنهم بما فيها من الخصال الآتية، أو المعنى أخرجت، وأظهرت في عالم الوجود في الدنيا، لنفع الناس كما أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة في الآية قال: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإِسلام، وفي الآخرة بالشهادة للأنبياء على أممهم، وقال ابن عباس: أخرجت من مكة إلى المدينة، وقيل: اللام فيه بمعنى من، والمعنى: كنتم يا أمة محمَّد في سابق علمي خير أمة أخرجت: أي: اختيرت من الناس لنفعها لهم في الدنيا والآخرة. ثم بين وجه خيريتها بقوله: {تَأْمُرُونَ} الناس {بِالْمَعْرُوفِ}، أي: بالتوحيد واتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَتَنْهَوْنَ} الناس {عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عن الشرك ومخالفة الرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: وتصدقون بالله وتخلصون له التوحيد والعبادة، أو المعنى تؤمنون بالله إيمانًا متعلقًا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول، وكتاب، وحساب، وجزاء، وغير ذلك. وقال قتادة: هم أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر نبي قبله بالقتال؛ فهم يقاتلون الكفار، فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة أخرجت للناس.

فإن قلت (¬1): لِمَ قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان يلزم أن يكون مقدمًا على جميع الطاعات، والعبادات لأنه أساسها؟ قلت: إنَّ الإيمان بالله أمر يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة، وإنما فضلت هذه الأمة الإِسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر الأمم، فكأنهما هما المقصودان هنا وإن كان الإيمان بالله شرطًا فيهما؛ فلهذا السبب حسن تقديم ذكرهما على ذكر الإيمان، فهذه الأمة لها شبه بالأنبياء من حيث إنها مهتدية في نفسها هادية لغيرها. فصل في ذكر الأحاديث الدالة على خيرية هذه الأمة عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، "ثم إن بعدهم قومًا يشهدون، ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن". زاد في رواية "ويحلفون ولا يستحلفون". متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته". متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدًا أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم، ولا نصيفه". متفق عليه. النصيف: النصف." وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم ¬

_ (¬1) الخازن.

خيرها، وأكرمها على الله تعالى". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". أخرجه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله لا يجمع أمتي، أو قال: أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار". أخرجه الترمذي. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا، الفتن والزلازل والقتل". أخرجه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه: "مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله". أخرجه الترمذي. وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهل الجنة عشرون ومئة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أمتي من يشفع في الفئام من الناس، ومنهم من يشفع في القبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للواحد". أخرجه الترمذي. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا، أو سبع مئة ألف سماطين (¬1) متماسكين، آخذ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". أخرجه البخاري. {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ}؛ أي: ولو آمنت اليهود والنصارى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سماطين: أي صفين.

[111]

وبما جاء به من الدين إيمانًا كاملًا كإيمانكم {لَكَانَ} ذلك الإيمان {خَيْرًا لَهُمْ} مما هم عليه من اليهودية والنصرانية، وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة، واستتباع العوام، ولو أنهم آمنوا .. لحصلت لهم الرياسة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة، وهو دخول الجنة، فكان ذلك خيرًا لهم مما قنعوا به {مِنْهُمُ}؛ أي: من أهل الكتاب {الْمُؤْمِنُونَ} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود، والنجاشي، وأصحابه الذين أسلموا من النصارى {وَأَكْثَرُهُمُ}؛ أي: أكثر أهل الكتاب {الْفَاسِقُونَ} في أديانهم، فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم؛ لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم، والكفار لا يقبلونهم، لكونهم فاسقين، فيما بينهم؛ فليسوا بمن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء 111 - {لَنْ يَضُرُّوكُمْ}؛ أي: لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود {إِلَّا أَذًى}؛ أي: إلا ضررًا يسيرًا باللسان، لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم إما بطعنهم في دينكم أو نبيكم، وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم عزير ابن الله، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين فلا يصل إليكم منه شيء، وإنما هو مجرد لقلقة اللسان. قيل: سبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود عمدوا إلى من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}. والمعنى: أن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر عليكم، بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات، وتحريف النصوص التي في التوراة، والخوض في النبيّ - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ}؛ أي: وإن يقابلوكم في ميدان القتال {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ}؛ أي: يجعلوا أدبارهم وظهورهم مولى إلى جهتكم، وينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، والمنهزم من شأنه أن يحول ظهره إلى جهة مقاتله، ويستدبره في هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه {ثُمَّ} بعد انهزامهم من قتالكم {لَا يُنْصَرُونَ} عليكم أبدًا؛ أي: لا يجدون الشوكة والقوة والنصرة عليكم أبدًا ما داموا على فسقهم ودمتم على خيرتكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله.

[112]

112 - {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}؛ أي: جعلت الذلة والصغار والهوان على اليهود، بأن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم، وتسبى ذراريهم، وتملك أراضيهم، وقيل: الذلة ضرب الجزية عليهم؛ لأنها ذلة وصغار، وقيل: ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكًا قاهرًا، ولا رئيسًا معتبرًا، بل هم مستضعفون في جميع البلاد، {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}؛ أي: حيثما وجدوا وصودفوا؛ فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}: أي؛ إلا بعهد من الله، وهو أن يسلموا؛ فتزول عنهم الذلة {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}؛ أي: أو بعهد من المؤمنين ببذل الجزية، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، وهو ذمة الله، وعهده، وذمة المسلمين وعهدهم، لا عز لهم أبدًا إلا في هذه الحالة الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من بذل الجزية وإنما سمي العهد حبلًا؛ لأنه سبب يوصل إلى الأمن، وزوال الخوف. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: استوجبوا، واستحقوا غضبًا من الله، ولعنة منه، وغضب الله تعالى ذمه إياهم في الدنيا، وعقوبته لهم في الآخرة {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير خارجين منها، يعني: جعل عليهم زي الفقر، واليهود في غالب الأحوال مساكين، تحت أيدي المسلمين والنصارى. فاليهودي، وإن كان غنيا موسرًا يظهر من نفسه الفقر. {ذَلِكَ} المذكور من ضرب الذلة، والمسكنة، وغضب الله {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: ينكرون آيات الله الناطقة بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يحرفونها، وسائر الآيات القرآنية {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}؛ أي: بلا جرم، فإن الذين قتلوا الأنبياء، أسلافهم، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب إليهم، كما أن التحريف من أفعال أحبارهم، ينسب إلى كل من يتبعهم، والتقييد بغير حق، مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقًّا بحسب اعتقادهم أيضًا، وللتشنيع عليهم، وللدلالة على أن ذلك حدث منهم عن عمد لا عن خطأ {ذَلِكَ} الكفر والقتل {بِمَا عَصَوْا}؛ أي: بسبب كثرة عصيانهم، ومخالفتهم لأوامر الله تعالى، وغشيانهم لمعاصي الله، كالاصطياد في يوم السبت مثلًا {و} بما {كانوا يعتدون}؛ أي: يتجاوزون

حدود الله باستحلال المحارم؛ أي؛ ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم حدود الله تعالى؛ فنزل بهم ما نزل. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها، فالعصيان والاعتداء هو عين الكفر، وقتلهم الأنبياء، ويحتمل أنها ليست مؤكدة بل هي علة للعلة؛ أي: فعلة ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب من الله: كفرهم، وقتلهم الأنبياء، وعلة الكفر، والقتل: عصيانهم أمر الله وتجاوزهم الحد. وقال بعض العارفين: من ابتلي بترك الآداب .. وقع في ترك السنن ومن ابتلي بترك السنن .. وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة .. وقع في اسحقار الشريعة، ومن ابتلى بذلك .. وقع في الكفر. الإعراب {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. {وَلْتَكُنْ} {الواو} استئنافية. {اللام} لام الأمر، مبنية على السكون لسبقها بعاطف والأصل فيها: البناء على الكسر كما في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} وإنما حركت حينئذٍ؛ لكونها على حرف واحد، ولتعذر الابتداء بالساكن، وكانت الحركة كسرة للفرق بينها وبين لام القسم، والالتباس بينها وبين لام الجر يندفع بالمقام؛ لأن هذه لا تدخل إلا على الفعل، وتلك إلا على الاسم، كما ذكرته في "الفتوحات القيومية على متن الآجرومية" {تكن} فعل مضارع تام، أو ناقص مجزوم باللام. {مِنْكُمْ} متعلق به، أو خبر لـ {تكن} إن قلنا ناقصة. {أُمَّةٌ} فاعل، أو اسمٌ لها، والجملة مستأنفة. {يَدْعُونَ} فعل وفاعل. {إِلَى الْخَيْرِ} متعلق به، والجملة صفة لـ {أُمَّةٌ}، وجملة {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وكذلك جملة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} معطوفتان على جملة {يَدْعُونَ} على كونهما صفة لـ {أُمَّةٌ}. {وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية. {أولئك} مبتداء. {هُمُ} ضمير فصل. {الْمُفْلِحُونَ} خبر، والجملة مستأنفة.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. {وَلَا} {الواو} استئنافية، أو عاطفة. {لا} ناهية جازمة. {تَكُونُوا} فعل ناقص واسمه. {كَالَّذِينَ} جار ومجرور خبره، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}. {تَفَرَّقُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. وجملة قوله: {وَاخْتَلَفُوا} معطوفة على جملة {تَفَرَّقُوا}. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور تنازع فيه كل من {تَفَرَّقُوا} {وَاخْتَلَفُوا}. {مَا} مصدرية. {جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مجيء البينات إياهم. {وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية. {أولئك} مبتدأ أول {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ ثانٍ مؤخر، وسوغ الابتداء، تقدم الخبر الظرفي عليه {عَظِيمٌ} صفة لـ {عَذَابٌ}، والجملة الإسمية مستأنفة. {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: أذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويجوز: أن يكون الظرف متعلقًا بـ {عَظِيمٌ}، أو للاستقرار في {لَهُمْ} كما ذكره أبو البقاء. {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. وجملة {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} معطوفة على جملة {تَبْيَضُّ}. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}. {فَأَمَّا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الناس في القيامة فريقان: فرقة تبيض وجوههم، وفرقة تسود وجوههم، وأردت بيان مأوى الفريقين فأقول لك {أما الذين} {أما} حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ} مبتدأ. {اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، وخبر المبتدأ، محذوف تقديره: فيلقون في النار، أو يكونون في النار، والجملة من المبتدإ، والخبر جواب {أمَّا} لا محل لها من

الإعراب، وجملة {أما} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقولٌ لجواب، إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. {الهمزة} للاستفهام التوبيخي، وقال أبو حيان: الاستفهام، فيه للتقرير والتوبيخ والتعجيب {كفرتم} فعل وفاعل. {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ظرف، ومضاف إليه متعلق {بكفرتم}، وجملة الاستفهام في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على الخبر المحذوف تقديره؛ ويقال لهم توبيخًا: أكفرتم بعد إيمانكم. {فَذُوقُوا} {الفاء} عاطفة تفريعية. {ذوقوا العذاب} فعل وفاعل ومفعول، فالجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَكَفَرْتُمْ} على كونها مقولًا لقول محذوف. {بِمَا} {الباء} حرف جر وسبب. {ما} مصدرية. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. وجملة {تَكْفُرُونَ} خبر {كان}؛ وجملة {كان} صلة {لما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور {بالباء} تقديره: بسبب كفركم، الجار والمجرور متعلق {بذوقوا}. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}. {وَأَمَّا} {الواو} عاطفة. {أَمَّا} حرف شرط. {الَّذِينَ} مبتدأ. {ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} {الفاء} رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها. {في رحمة الله} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: فكائنون في رحمة الله والجملة الإسمية جواب {أما}، وجملةُ {أما} في محل النصب معطوفة على جملة، {أما} الأولى {هُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ} المذكور بعده. {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة دالةٌ على أَنَّ الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلقَ لها بالجملة قَبلها من حيث الإعراب كما ذكره في "الفتوحات". {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {نَتْلُوهَا}

فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله. {عَلَيْكَ} متعلِّق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من آيات الله، ولكنها حالةٌ سببيةٌ تقديره: حالة كوننا تالِينَ إياها. {بِالْحَقِّ} جار ومجرور حال من فاعل {نَتْلُوهَا} أو مِنْ مفعوله. {وَمَا اللَّهُ} {الواو} استئنافية. {ما} حجازية، أو تميمة. {اللَّهُ} اسمها أو مبتدأ. {يُرِيدُ ظُلْمًا} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {لِلْعَالَمِينَ} {اللام} زائدة زيدت لتقويةِ معنى العامل كاللام في قوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو خبر لِمَا، والجملة الإسمية مستأنفة، ولكنها مرتبطة في المعنى بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. {وَلِلَّهِ} {الواو} استئنافية. {لله} جار ومجرور خبر مقدم. {ما} في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور صلةٌ لـ {ما} أو صفة لها. {وَمَا فِي الْأَرْضِ} {الواو} عاطفة. {ما} معطوفة على {ما} الأولى. {فِي الْأَرْضِ} صلةٌ {لما} أو صفة لها. {وَإِلَى اللَّهِ} {الواو} عاطفة {إلى الله} جار ومجرور متعلق بما بعده. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية المذكورة قبلها، أو مستأنفة. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {خَيْرَ أُمَّةٍ} خبر كان ومضاف إليه، وجملة {كان} مستأنفة {أُخْرِجَتْ} فعلٌ ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {خَيْرَ أُمَّةٍ}؛ والجملة الفعلية صفة لـ {أُمَّةٍ}. {لِلنَّاسِ} متعلق بـ {أُخْرِجَتْ}. {تَأْمُرُونَ} فعل وفاعل {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق به، والجملة في محل النصب خبر ثان لـ {كان}، أو مستأنفة اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} جملة معطوفة على جملة {تأمرون}، وكذلك معطوفة عليها جملة قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} على كونها خبرًا لـ {كان} أو مستأنفة. {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

{وَلَوْ} {الواو} استئنافية. {لو} حرف شرط غير جازم. {آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَكَانَ} اللام رابطة لجواب {لَوْ}. {كان} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيه تقديره: هو يعود على الإيمان. {خَيْرًا} خبر لـ {كان}. {لَهُمْ} متعلق بـ {خَيْرًا} وجملة {كان} جواب {لوَ} لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة لو مستأنفة. {مِنْهُمُ} خبر مقدم. {الْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)}. {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} حرف نصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: {إِلَّا} استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف، والتقدير: لن يضروكم ضررًا إلّا ضررًا يسيرًا، هو الأذى لا نِكايةَ فيه، ولا إِجْحافَ لكم. انتهى. {أَذًى} منصوب على المفعولية المطلقة بـ {يَضُرُّوكُمْ} لأنه مصدر معنوي له. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية، أو عاطفة. {إن} حرف شرط جازم. {يُقَاتِلُوكُمْ} فعل وفاعل ومفعول مجزوم {بإنْ} على كونه فعل شرط لها. {يُوَلُّوكُمُ} فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بـ {أن} على كونه جواب شرط لها {الْأَدْبَارَ} مفعول ثان، وجملة الشرط مستأنفة أو معطوفة على {لَنْ يَضُرُّوكُمْ}. {ثُمَّ} حرف عطف بمعنى {الواو} الاستئنافية. {لا} نافية. {يُنْصَرُونَ} فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. وفي "الفتوحات" قوله: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} مستأنف، ولم يجزم عطفًا على جواب الشرط؛ لأنه يلزم عليه تغيير المعنى؛ وذلك؛ لأنَّ الله أخبر بعدم نصرتهم مطلقًا، ولو عطفناه على جواب الشرط .. للزم تقييده بمقاتلتهم لنا، مع أنهم غير منصورين مطلقًا قاتلوا أو لم يقاتلوا. انتهى. ويصح أن تكون {ثم} للترتيب الذكري. والجملة معطوفة على جملة {إن} الشرطية، لا على الجواب فقط. وقال أبو البقاء: هو كلام مستأنف أستؤنف به ليدل على أنَّ الله لا ينصرهم

قاتلوا، أو لم يقاتلوا انتهى. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}. {ضُرِبَتْ} فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْهِمُ} متعلق به. {الذِّلَّةُ} نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {أَيْنَ} اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بالجواب المحذوف. {مَا} زائدة. {ثُقِفُوا} فعل ونائب فاعل مجزوم بـ {أَيْنَ} على كونه فعلَ شَرْطٍ لها، وجوابها معلوم مما قبلها تقديره أينما ثقفوا ضُرِبَت عليهم الذلة، أو يقال: إنَّ {أَيْنَ} ظرف مجرَّدٌ عن معنى الشرط متعلق بـ {ضُرِبَتْ} فلا جوابَ لها، وجملة {ثُقِفُوا} مضاف إليه لـ {أَيْنَ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال. {بِحَبْلٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {واو} {ثُقِفُوا} تقديره: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلَّا في حالة كونهم مُتمسكين بحبل من الله، وحبل من الناس. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {حَبْل} تقديره: حبل كائن من الله. {وَحَبْلٍ}. معطوف على {حَبْلٍ} {مِنَ النَّاسِ} صفة لحبلٍ الثاني. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}. {وَبَاءُوا} {الواو} عاطفة. {باءوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {ضُرِبَتْ}. {بِغَضَبٍ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {بَاءُوا} والباء للملابسة؛ أى: رجعوا مغضوبًا عليهم، وليس مفعولًا به كمررت بزيد. {مِنَ اللَّهِ} صفة لـ {غَضَبٍ}. {وَضُرِبَتْ} {الواو} عاطفةً. {ضُرِبَتْ} فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْهِمُ} متعلق به {الْمَسْكَنَةُ} نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {أن} حرف نصب وتوكيد و {الهاء} اسمها. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه {يَكْفُرُونَ} فعل وفاعل، والجملة خبر {كان} تقديره: كانوا كافرين، وجملة {كان} في

محل الرفع خبر أنَّ تقديره: بأنهم كافرون، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور {بالباء} تقديره بسبب كفرهم. {بِآيَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}. {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَكْفُرُونَ} على كونها خبرًا لـ {كان}. {بِغَيْرِ حَقٍّ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الضمير في {يَقْتُلُونَ}، والتقدير: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره قتلًا بغير الحق، وعلى كِلَا الوجهين هو توكيد. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {بِمَا} {الباء} حرف جر {ما} مصدرية. {عَصَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء} المتعلقة بخبر محذوف، تقديره: ذلك كائن بسبب عصيانهم، والجملة مستأنفة، ومؤكدة للجملة التي قبلها كما مَر في بحث التفسير {وَكَانُوا} الواو عاطفة {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْتَدُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} معطوفة على جملة {عصوا} على كونها في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء} تقديره: ذلك كائنٌ بسبب عصيانهم واعتدائهم. التصريف ومفردات اللغة {أُمَّةٍ} الأُمة بضم الهمزة: الجماعة دينهم وأمرهم متفق، والطريقة يجمع على أمم. {بِالْمَعْرُوفِ} {عَنِ الْمُنْكَرِ} المعروف: هو ما استحسنه الشرع والعقل. والمنكر: ما استقبحه الشرع، والعقل، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة، والمنكر ما خالفهما أو المعروف الطاعة، والمنكر المعاصي. والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال، والتروك وما عطف عليه خاص. {ابيضت اسودت} ابيض اسود من باب (¬1) إفعل أصله إفعلل، يدل على ذلك قولهم: اسوددت واحمررت، وشرطه: أن يكون للون أو عيب حسي، كاسود واعوجَّ، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

واعْورَّ، وأن لا يكون مضعفًا كأحَمَّ الرجل إذا صار محمومًا ولا معتل لامٍ كألمى الرجل إذا حسنت شفته سمرة، وأن لا يكون للمطاوعة، وندر نحو انقاضَّ الحائط وابهار الليل، واشعار الرجل إذا فرق شعره، وشذ ارعوى؛ لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب، مطاوعًا لرعوته بمعنى كففته، وأما زيادة الألف على افعل بأن يقال: افعال كابياضَّ واسواد، فالأكثر أن يقصد به عروض المعنى إذا جىء بها؛ وقد يكون العكس؛ فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} من ادهام، ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} واحمر خجلًا. وَابْيِضَاضُ الوجوه عبارة عن المسرة، واسودادها عبارة عن المساءة، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {بِالْحَقِّ}، أي: بالأمر الذي له ثبوت وتحقق، ولا مجال فيه للشبهات و {الظلم}: لغة وعرفًا، وضع الشيء في غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} {ضرب} مبني للمفعول، و {الذِّلَّةُ} قائم مقام الفاعل. ومعنى {ضُرِبَتْ} ألزموها، وقضي عليهم بها، والذلة بكسر أوله الصغار، والهوان، والحقارة، والذل بالضم: ضد العز. {الْمَسْكَنَةُ} مفعلة من السكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر. والمسكين مفعيل منه. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} ألف باء منقلبة عن واو لقولهم باء يبوء مثل: قال، يقول. قال عليه السلام: "أَبوءُ بنعمتك" والمصدر البواءُ ومعناه الرجوع. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} وأصل {عَصَوْا} عصيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان هي والواو، فحذفت لكونها أول الساكنين، وبقيت الفتحة تدل عليها. وأصل العصيان: الشدة يقال: اعتصت النواة، إذا اشتدت. {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وأصل {يَعْتَدُونَ} يعتديون ففعل به ما فعل بِـ {يتقون}، من الحذف والإعلال، فوزنه يفتعون. والاعتداء المجاوزة من عدا يعدو، فهو افتعال منه، ولم يذكر متعلق العصيان. والاعتداء ليعم كل ما يعصى، ويعتدى فيه.

وواو {عَصَوْا} واجبة الإدغام، ومثله فقد اهتدوا، وإن تولوا. وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو، فإن الضم يقوم مقام الحاجز بين المثلين؛ فيجب الإظهار نحو {آمَنُوا} {وعملوا} ومثله {الَّذِي يُوَسْوِسُ}. البلاغة {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فيه مجازٌ بالحذف، لأنه حذف من الأفعال الثلاثة المفعول؛ لأن الأصل يدعون الناس، ويأمرونهم وينهونهم، حذفه للإيذان بظهوره، أو للقصد إلى إيجادٍ نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي؛ أي: يفعلون الدعاء إلى الخير. وقوله: يأمرون الخ من عطف الخاص على العام، لإظهار فضلهما على سائر الخيرات. وفي يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه من مباحث المعاني قصر صفة على موصوف، حيث قصر الفلاح عليهم. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيه من أنواع البلاغة: التفصيل بعد الإجمال؛ لأنه تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالًا، وتقديم بيان حال الكفار؛ لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم، مع ما فيه من الجمع بين الإجمال، والتفصيل، والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين، كما بدىء بذلك عند الإجمال. ففي الآية من المحسنات البديعية حسن الابتداءِ، وحسن الاختتام حيث بدأ الآية بالبشرى وختمها كذلك. قال أبو حيان (¬1): تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة: منها: الطباقُ بين كلمتي {تبيض} و {تسود}، وبين {اسْوَدَّتْ} و {ابْيَضَّتْ}، وفي {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، وفي قوله: {بِالْحَقِّ} و {ظُلْمًا}. ومنها: التفصيل في قوله: {فأما} و {أَمَّا}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {أَكَفَرْتُمْ} و {تَكْفُرُونَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: تأكيد المظهر بالمضمر في قوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {رَحْمَةِ اللَّهِ} لأنه أطلق الحال، وأريد المحل أي: ففي الجنة؛ لأنها مكان تنزل الرحمة. ومنها: التكرار في لفظ الله، ومحسنه أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل .. أعادت المظهر لا المُضْمَرَ، لأنَّ في ذكره دلالة على تفخيم الأمر، وتعظيمه، وليس ذلك نظيره. لَا أَرى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ لاتحاد الجملة لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصدًا للتفخيم. ومنها: الإشارة في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}. ومنها: الالتفات في قوله: {نَتْلُوهَا} بالنون لما في إسناد التلاوة للمعظم نفسه من الفخامة والشرف. ومنها: تلوين الخطاب في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}. ومنها: التشبيه والتمثيل في قوله: {تَبْيَضُّ} و {وَتَسْوَدُّ} إذا كان ذلك عبارةً عن الطلاقة، والكآبة. ومنها: الحذف في مواضع. ومنها: الاستعارة التبعية التخييلية في قوله: {فَذُوقُوا}. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {الْعَذَابَ} حيث شبه العذاب بشيء مر يدرك بحاسة الذوق تصورًا بصورة ما يذاق، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الذوق، فإثباته تخييل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}. المناسبة لمَّا وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فيما تقدَّم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال، وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم؛ ذكر هنا أنهم ليسوا بدرجة واحدة، وليسوا جميعًا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصفٌ بحميد الخصال، وجميل الصفات، لأن فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. ثم ذكر تعالى عقاب الكافرين، وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم يوم القيامة شيئًا، وأعقب ذلك بالنهي عن اتخاذ أعداء الدين أولياء، ونبه إلى ما في ذلك من الضرر الجسيم في الدنيا والدين. أسباب النزول قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أحمد، وغيره عن ابن مسعود قال: أخَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العشاءِ، ثم خرج إلى

[113]

المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: "أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحدٌ يذكر الله هذه الساعة غيركم، قال: وأنزل الله هذه الآيات {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} حتى بلغ {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}. هذا، وقد ورد للآية سبب آخر، ففي "مجمع الزوائد" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا، وصدقوا، ورغبوا في الإِسلام، قالت أحبار يهود أهل الكفر: ما آمن بمحمد وتبعه إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا .. ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك من قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} رواه الطبراني، ورجاله ثقات، ويقال: لا مانع من نزول الآية في الجميع، أو أنه تعدَّد سبب نزولها. التفسير وأوجه القراءة 113 - {لَيْسُوا}؛ أي: ليس جميع أهل الكتاب {سَوَاءً}، أي: مستوين، في المساويء والصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، أي؛ فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن. وفي قوله (¬1): {لَيْسُوا سَوَاءً} قولان: أحدهما: إنه كلام تام يوقف عليه، والمعني: أنَّ أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون {لَيْسُوا سَوَاءً}. وقيل: معناه: لا يستوي اليهود، وأمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - القائمة بأمر الله الثابتة على الحق. والقول الثاني: إن قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} متعلق بما بعده، ولا يوقف عليه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} فيه اختصار، وإضمار، والتقدير: ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ، ومنهم أمةٌ مذمومةٌ غير قائمة، فترك ذكر الأمة الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين. ¬

_ (¬1) الخازن.

وخلاصة الكلام: ليس أهل الكتاب متساوين في تلك الصفة القبيحة، بل منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأكيد لتلك أعني قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً}. وبعد أن وصف الفاسقين، وذكر سوء أفعالهم .. وصف المؤمنين، ومدحهم بثمانية أوصاف، كلٌّ منها منقبةٌ ومفخريةٌ، يستحق فاعلها الثواب عليها: الأول منها: ما ذكره بقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}؛ أي: منهم جماعةٌ مستقيمة على الحق متبعة للعدل، لا تظلم أحدًا، ولا تخالف أمر الدين. وكان من تمام الكلام أن يقال: ومنهم: أمة مذمومة كما مر آنفًا، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين، وتستغني به عن ذكر الآخر، كما قال الشاعر: دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنّيْ لِأَمْرِهَا ... مُطِيْعٌ فَمَا أَدْرِيْ أَرُشْدٌ طِلَابُهَا يريد: أم غيٌّ، وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلةٌ لإبهامه، والمراد بهذه الأمة: جماعةٌ من اليهود، أسلموا كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأضرابهم، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس وقال في تفسير الآية: الأمة القائمة: أمة مهتدية قائمةٌ على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وهذه الآية حجة على أن دين الله واحدٌ على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنًا وعمل به مخلصًا، وأمر بمعروفٍ ونهى عن منكر فهو من الصالحين. واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافي ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث، ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصًا فيه يقال: إنه قائم بالسنة عاملٌ بالحديث. والثاني والثالث: ما ذكره بقوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}؛ أي: يقرؤون القرآن ساعات الليل، وهم يصلون التهجد في الليل، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع، والخشوع، ودلَّت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل، وقد جاء في كتاب الله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ

[114]

اللَّيْلَ}. وفي الحديث: "يا عبد الله لا تَكَنُ مثلَ فلان كان يقوم الليل فتركه إلى غير ذلك". 114 - وذكر الرابع والخامس بقوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ أي: يؤمنون إيمان إذعانٍ بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمراتِ ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم لا إيمانًا لا حظَّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود؛ إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر لكنه إيمان هو والعدم سواءٌ، لأنهم يقولون: عزيرُ ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته. ولمَّا كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ، والمعاد، وصفهم الله بقوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم. وذكر السادس بقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي: إنهم بعد أن كمَّلُوا أنفسهم علمًا وعملًا كما تقدم يسعون في تكميل غيرهم، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عمَّا لا ينبغي بالنهي عن المنكر. وفي هذا تعريضٌ باليهود المداهنين الصادين عن سبيل الله. وذكر السابع بقوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}؛ أي: يبادرون فيها، ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علمًا منهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأُ الذين في قلوبهم مرضٌ كما وصف الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} فالمسارعة في الخير ناشئةٌ عن فرط الرغبة فيه؛ لأن من رغب في أمر بادر إليه، وإلى القيام به، وآثر الفور على التراخي، وجاء في الحديث: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك". وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفي ذكرها تعريض باليهود

[115]

الذين يتثاقلون عن ذلك، وعبر بالسرعة، ولم يعبر بالعجلة؛ لأن الأولى: التقدم فيما ينبغي تقديمه وهي محمودةٌ وضدها الإبطاء، والثانية: التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: "العجلة من الشيطان، والتأنِّي من الرحمن" وضدها الأناة، وهي محمودةٌ. وذكر الثامن بقوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: وأولئك المصوفون بالصفات السبعة السابقة، هم من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم؛ فرضيهم ربهم، وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره. والوصف بالصلاح: هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس، وذي الكفل فقال: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}. وقال حكاية عن سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ولأنه ضد الفساد، الذي لا ينبغي في العقائد، والأفعال، فهو حصول ما ينبغي في كل منهما، وذلك منتهى الكمال ورفعة القدر وعلو الشأن. 115 - {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو بالياء في الفعلين؛ لأن الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب؛ فإن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان .. قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا}؛ أي: عبد الله بن سلام وأصحابه {مِنْ خَيْرٍ} أي: إيمان وطاعة، وقيل: من إحسان إلى محمَّد وأصحابه {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} أي: فلن يحرموا ثوابه بل يثابوا عليه، وهذه قراءة ابن عباس. وقرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو بكر بالتاء فيهما، على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي: وما تفعلوا معاشر المؤمنين من خير .. فلن تمنعوا ثوابه وجزاؤه بل تجازُوا عليه. وهذه الجملة جاءت ردًّا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم: أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان، وإشارةً إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى، والدرجات العليا، وفيها تعظيمٌ لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.

[116]

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} فهو يجزي العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم، وما تنطوي عليه سرائرهم، فمن كان إيمانه صحيحًا، واتَّقى الله .. فازَ بالسعادة، وفيه بشارةٌ لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده تعالى إلّا أهل التقوى. وهذه الجملة كالدليل لما قبلها؛ لأن عدم الإثابة المعبَّر عنه بالكفر، إمَّا للسهو والنسيان، واما للجهل، وذلك ممتنع في حقه تعالى؛ لأنه عليم بكل شيء، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة، وكل ذلك محال عليه؛ لأنه خالق جميع الكائنات، وهو القادر على كل شيء. ولما انتفى كل هذا .. كان المنع من الجزاء محالًا. 116 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا بَيَّن فيما سلف أحوال الكافرين، وما يحيق بهم من العقاب وأحوال المؤمنين، وما أعدَّ لهم من الثواب جامعًا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة، والمفاخر التي عددها لهم .. أتبع ذلك بوعيد الكفار، وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذه الحياة الدنيا في لذاتهم وجاههم، وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئًا كزرع أصابته ريح فيها صر فأهلكته فلم يستفد أصحابه منه شيئًا. والمعنى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركي مكة، وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمَّد على الحق .. ما تركه ربه في هذا الفقر الشديد، ويتفاخرون بكثرة الأموال، والأولاد كما حكى الله تعالى عنهم {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لن تدفع عنهم هذه الأموال، والأولاد يوم القيامة شيئًا من عذاب الله، ولن تنفعهم في الآخرة. واقتصر على ذكرهما؛ لأنهما من أعظم النعم ومن كان يرتع في بحبوحة هذه النعم فقلما يوجه نظره إلى طلب الحق، أو يصغي إلى الداعي إليه، ومن ثم تراه يتخبط في ظلام دامس حتى يتردَّى في الهاوية، ويقع في المهالك، ولا ينفعه مال

[117]

ولا ولد يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم يوضع الميزان ويحاسب كل امرىءٍ، على النقير والقطمير {وَأُولَئِكَ} الكفار. المذكورون هم {أَصْحَابُ النَّارِ} وملازموها {هُمْ فِيهَا}؛ أي: في النار {خَالِدُونَ}؛ أي: دائمون لا يخرجون منها ولا يموتون. وقيل: إنما خصَّ الله سبحانه وتعالى الأموال والأولاد بالذكر؛ لأن أنفع الجمادات هو الأموال، وأنفع الحيوانات هو الولد. ثم بين تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما البتة في الآخرة وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى. 117 - وبعد ما بين سبحانه وتعالى: أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئًا ... ذكر أن ما ينفقونه من المال في سبيل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به، وضرب لذلك مثلًا فقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} أي: صفة ما ينفقه الكفار {فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في المفاخر والمكارم، وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس، أو ينفقونه في سبيل الخيرات كبناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل. وقرأ ابن هرمز (¬1) الأعرج {تنْفِقُونَ} بالتاء على معنى: قل لهم قيل (¬2): أراد نفقة أبي سفيان، وأصحابه ببدر، وأحد في معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: أراد نفقة اليهود على علمائهم، ورؤسائهم، وقيل: أراد نفقات جميع الكفار، وصدقاتهم في الدنيا، وقيل: أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى؛ وذلك لأنَّ إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا، أو لمنافع الآخرة، فإن كان لمنافع الدنيا .. لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم، فضلًا عن الكافر، وإن كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق، ويعمل أعمال البر، فإن كان كافرًا .. فإنَّ الكفر محبط لجميع أعمال البر؛ فلا ينتفع بما أنفق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

في الدنيا لأجل الآخرة، وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى؛ فإنه لا ينتفع بما ينفقه في الآخرة. ثم ضرب مثلًا لذلك الإنفاق فقال: {كَمَثَلِ} مصاب {رِيحٍ} شديدٍ {فِيهَا}؛ أي: في تلك الريح {صِرٌّ}؛ أي: حر شديد ويسمى بالسموم أو برد شديدٌ ويسمى بالزمهرير {أَصَابَتْ} تلك الريح {حَرْثَ قَوْمٍ}؛ أي: زرع قوم، وسمي الزرع حرثًا لأنه يحرث عند زرعه {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي؛ خسروا أنفسهم بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى فيه {فَأَهْلَكَتْهُ}؛ أي: فأحرقت تلك الريح الزرع، كذلك الشرك يهلك النفقة كما أهلكت الريح الزرع. ومعنى الآية (¬1): مثل نفقات الكفار في ذهابها، وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، أو نار فأحرقته، فلم ينتفع به أصحابه. وقيل المعنى (¬2): مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات، كبناء الرباطات كمثل من زرع زرعًا، وتوقع منه نفعًا كثيرًا، فأصابته ريح فأحرقته، فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. والخلاصة (¬3): أن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبةً لهم على ذنوب اقترفوها؛ إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن، وربط الأسباب بمسبباتها في عالم الحسِّ أن يوفِّقَ بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط بين الناس، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر، والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهيُّ. ونحن نسمي ما يترتب عليه حدوث الشيء سببًا له وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له، وكل مقصودٌ للفاعل الحكيم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) مراح. (¬3) مراغي.

[118]

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} تعالى بعدم انتفاعهم بنفقاتهم {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ أي: ولكن الكفار المنفقين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال في السبل التي تؤدي إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنه الله تعالى في أعمال الإنسان؛ لأنّ الآية نزلت فيما ينفقه أهل مكة أو ينفقه اليهود في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاومته، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم، ولم يضروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بل كان ذلك سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم. أو المعنى (¬1): وما ظلمهم الله بذهاب منفعة زرعهم ونفقاتهم، ولكن أنفسهم يظلمون بالكفر، ومنع حق الله تعالى من الزرع. وقرىء (¬2) شاذا {وَلَكِنَّ} بالتشديد، واسمها {أَنْفُسَهُمْ} والخبر {يَظْلِمُونَ}، والمعنى: يظلمونها هم، وحسن حذف هذا الضمير وإن كان الحذف في مثله قليلًا كون ذلك فاصلة رأس آية؛ فلو صرح به لزال هذا المعنى، ولا يجوز أن يعتقد أن اسم {لكن} ضمير الشأن، وحذف، و {أَنْفُسَهُمْ} مفعولٌ بـ {يَظْلِمُونَ} لأنَّ حذف هذا الضمير يختص بالشعر ذكره أبو حيان. 118 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم، لما كان بينهم من الرضاع، والحلف ظنًّا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه كما قاله ابن عباس، أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار، ويطلعونهم على الأحوال، فالله تعالى منعهم عن ذلك كما قاله مجاهد. أي: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به {لَا تَتَّخِذُوا} وتجعلوا لأنفسكم {بِطَانَةً}؛ أي: خواصَّ، وأصفياء، وأصدقاء تباطنونهم في الأمور وتطلعونهم على سركم كائنين {مِنْ دُونِكُمْ}؛ أي: من غيركم أي: من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}؛ أي: لا يقصرون لكم ولا يتركون جهدهم، وطاقتهم في مضرتكم، وفسادكم، وعداوتكم؛ أي: ليس عندهم ¬

_ (¬1) تفسير ابن عباس. (¬2) البحر المحيط.

تقصيرٌ في ذلك بل هو شأنهم وديدنهم {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}؛ أي: أحبوا وتمنوا عنتكم ومشقتكم وضرركم في دينكم، ودنياكم أشد الضرر أي؛ فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءَكم في أشد أنواع الضرر {قَدْ بَدَتِ} وظهرت {الْبَغْضَاءُ} والعداوة لكم {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وألسنتهم بالوقيعة في أعراضكم والشتيمة لكم، والتكذيب لنبيكم وكتابكم، والنسبة لكم إلى الحمق والجهل لأنهم لا يتمالكون ضبط أنفسهم مع مبالغتهم في ضبطها، ومع ذلك يتفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغض المسلمين، فهم لا يكتفون ببغضكم، وقرأ عبد الله {قَدْ بَدَا} لأنَّ الفاعل مؤنث مجازًا، أو على معنى البغض {وَمَا تُخْفِي} وتستر وتضمر {صُدُورُهُمْ} وقلوبهم من الحقد والبغض والعداوة والغيظ لكم {أَكْبَرُ}؛ أي: أعظم وأشد مما يظهرونه لكم على ألسنتهم؛ لأنَّ فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلةٌ جدًّا. ثم إنه سبحانه وتعالى امتنَّ عليهم ببيان الآيات، والعلامات الدالة على عداوتهم كما قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ}؛ أي: أوضحنا وأظهرنا لكم العلامات الدالة على عدواتهم وحسدهم لكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وتفهمون تلك العلامات أي: إن كنتم من أهل العقول المدركة لذلك البيان. وذكر (¬1) سبحانه وتعالى في هذه الآية من تلك العلامات أربعًا: الأولى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}؛ أي: لا يقصرون في مضرتكم وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. والثانية: يتمنون ضركم في دينكم، ودنياكم أشد الضرر. والثالثة: يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل. والرابعة: كون ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه. ¬

_ (¬1) المراغي.

[119]

فهذه الأوصاف شروط في النهي عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين فإذا اعتراها تغير وتبدلٌ كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا في صدر الإِسلام أشد الناس عداوةً للذين آمنوا انقلبوا؛ فصاروا عونًا للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونًا للمسلمين على الروم في فتح مصر؛ فلا يمنع حينئذٍ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم وجرى الخلفاء من بعده على ذلك. وقيل: معنى قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء، وتعلمون قدر مواعظ الله، وحسن عواقبها. ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعًا آخرَ من التحذير عن مخالطة الكافرين، واتخاذهم بطانةً، وفيه تنبيهٌ للمسلمين على خطئهم في ذلك، وقد ضمنه أمورًا ثلاثة كل منها يستدعي الكف عن مخالطتهم: 119 - الأول منها: ما ذكره بقوله: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}؛ أي: انتبهوا أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم تحبونهم، وتودونهم بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة، والمصاهرة، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان ومحبة الرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بأن تفشوا إليهم أسراركم {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} بسبب المخالفة في الدين، وبسبب أن الكفر مستقر في باطنهم أي: لا يفشون أسرارهم إليكم. والمعنى (¬1): إنكم يا معشر المؤمنين تحبون هؤلاء - الكفار - الذين هم أشد الناس عداوةً لكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم وتمني عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف توادونهم وتواصلونهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

والثاني منها: ما ذكره بقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}؛ أي: وإنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب سواءٌ منها ما نزل عليكم، وما نزل عليهم فليس في نفوسكم جحدٌ لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاءوا بها حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب، أما هم: فيجحدون بعض الكتب، وينكرون بعض النبيين. وخلاصة الكلام: أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؛ فأنتم أحرى، ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم. قال ابن جرير (¬1): في الآية، إبانةٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ عن حال الفريقين، أعني: المؤمنين، والكافرين، ورحمة أهل الإيمان، ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان، انتهى. وقال قتادة: فوالله إنَّ المؤمن ليحب المنافق، ويأوي إليه ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأَبادَ خضراءه وأفناه وأهلكه. وفي هذا: توبيخٌ للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. والثالث منها: ما ذكره بقوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ}؛ أي: وإذا لقيكم يا معاشر المؤمنين هؤلاء المنافقون من اليهود وغيرهم، واجتمعوا معكم في المجالس ألانوا لكم القول حذرًا على أنفسهم منكم، و {قَالُوا آمَنَّا} وصدقنا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فإن نعته في كتابنا {وَإِذَا خَلَوْا}؛ أي: وإذا خلا بعضهم ببعضٍ، وانفردوا عنكم، ورجعوا، وصاروا في مكان خال، بحيث لا يراهم المؤمنون {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}؛ أي: عضوا الأنامل لأجل الغيظ والغضب عليكم. ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: أكلوا أطراف أصابعهم؛ لأجل شدة غيظهم وغضبهم عليكم. ¬

_ (¬1) طبري.

[120]

والمعنى: وإذا رجع بعضهم إلى بعض أظهروا شدة العداوة على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كنايةً عن الغضب، حتى يقال في الغضبان: إنه يعضُّ يده غيظًا، وإن لم يكن هناك عضٌّ. والعرب تصف المغتاظ، والنادم بعضِّ الأنامل، والبنان، وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلًا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم. {قُلْ} لهم: يا محمَّد {مُوتُوا} ملتبسين {بِغَيْظِكُمْ} وغضبكم، وهذا أمرٌ من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يدعو عليهم بدوام ما يوجب هذا الغيظ، وهو قوة الإِسلام، وأن يدعو عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون، وليس أمرًا بالإقامة على الغيظ؛ فإن الغيظ كفرٌ، والأمر بالكفر غير جائز، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} أنه تعالى أمر رسوله بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظًا بإعزاز الإِسلام، وإذلالهم به كأنه قيل: حدث نفسك بذلك. {إنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: عالمٌ بما في القلوب؛ فيعلم ما تنطوي عليه صدوركم أيها المنافقون من البغضاءِ، والحقدِ، والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعضٍ من تدبير المكائد، ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوي عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازي كلا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر. ومعنى قوله: {بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بالمضمرات ذوات الصدور، وجعلت صاحبة للصدر لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها نحو أصحاب الجنة، وأصحاب النار 120 - {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}؛ أي: إن تصبكم منفعة الدنيا كانتصاركم على أعدائكم المقاومين المعارضين لدعوتكم، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وكصحة البدن، وحصول الخصب، والفوز بالغنيمة {تَسُؤْهُمْ}؛ أي:

تحزنهم تلك الحسنة {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ}؛ أي: مضرة كمرض، وفقر، وانهزام من عدو، وقتل، ونهب، وغارة وحدوث اختلاف بين جماعتكم {يَفْرَحُوا بِهَا}؛ أي: بإصابتها إياكم؛ أي: يسر المنافقون من اليهود، وغيرهم بتلك المصيبة التي أصابتكم، فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم. فالحسنة (¬1) هنا: ما يسر من رخاءٍ، وخصبٍ، ونصرة، وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع، والسيئة ضد ذلك. قال (¬2) قتادة في بيان ذلك: فإذا رأوا من أهل الإِسلام ألفة وجماعةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك، وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإِسلام فرقةً واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف بلاد المسلمين سرهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن، أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله تعالى فيمن مضى منهم، وفيمن بقي إلى يوم القيامة انتهى. {وَإِنْ تَصْبِرُوا} على عداوتهم، وإذايتهم، وقيل: إن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر {وَتَتَّقُوا}؛ أي: تخافوا موالاتهم، وتتوكلوا في أموركم على الله أو تتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم، ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة {لَا يَضُرُّكُمْ} أيها المؤمنون، ولا ينقصكم {كَيْدُهُمْ}؛ أي: كيد الكفار ومكرهم وحيلتهم التي دبروها لأجلكم {شَيْئًا} من الضرر بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ، وحفظه الموعود للصابرين، والمتقين؛ لأنكم قد وفيتم الله بعهد العبودية فهو يفي لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات، والمخافات كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} والكيد: احتيال الشخص ليقع غيره في مكروه. قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك، فاجتهد في اكتساب الفضائل. وقد جرت سنة الله في القرآن أن يذكر الصبر في كل مقامٍ يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده، وعشيره، ومعامله، وقريبه، مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضي بما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به. ولمَّا نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم، من خلطائهم، وعشرائهم، وحلفائهم، لما بدا منهم من البغضاء والحسد، حسن أن يذكرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاءه للسلامة من عواقب كيدهم. وفي الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء؛ فإنَّ الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاءِ شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله؛ إذ من دأب القرآن أن لا يأمر إلا بالمحبة، والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. فإن تعذر تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها .. جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغي، كما فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع بني النضير؛ فإنه حالفهم، ووادَّهم فنكثوا العهد، وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلةٌ لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم. وقرأ الجمهور (¬1) {إِنْ تَمْسَسْكُمْ} بالتاء، وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل؛ لأن تأنيث الحسنة مجازيٌّ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة في رواية عنه: {لَا يَضِرْكُمْ} بفتح الياء وكسر الضاد، وسكون الراء من ضار يَضِير، ويقال: ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضَرَّ. وقرأ الكوفيون، وابن عامر {لا يضُرُّكم} بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للإتْباع من ضر يضر. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه بضم الضاد، وفتح الراء المشددة للتخفيف، وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد. والفتح: هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك بضم الضاد، وكسر الراء المشددة على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أُبي {لا يضرركم} بفك الإدغام، وهي لغة أهل الحجاز: وعليها في الآية {إِنْ تَمْسَسْكُمْ} ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {بِمَا يَعْمَلُونَ} بـ {الياء} باتفاق القراء ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

العشرة؛ أي: بما يعمل المنافقون من عداوتهم ومكرهم، وإذايتهم إياكم {مُحِيطٌ} فيعاقبهم عليه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وهي قراءة شاذة بـ {التاء} الفوقية، والمعنى عليها: إنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى وغيرهما، فيفعل بكم أيها المؤمنون ما أنتم مستحقون له. والمعنى (¬1): إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه، وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعلمه ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلةٍ للوصول إلى أغراضهم، ومآربهم. وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر، والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح. وخلاصة المعنى: أن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا، وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم فثقوا به، وتوكلوا عليه. الإعراب {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}. {لَيْسُوا} فعل ناقص، واسمه {سَوَاءً} خبرها، وجملة {ليس} من اسمها وخبرها مستأنفة. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم. {أُمَّةٌ} مبتدأ مؤخر. {قَائِمَةٌ} صفة له. والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وفي "الفتوحات" قوله (¬2): {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} استئنافٌ مبين لكيفية عدم تساويهم، ومزيلٌ لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} الخ مبين لقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الخ. انتهى. {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) جمل.

{يَتْلُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صفة ثانية لـ {أُمَّةٌ}. {آيَاتِ اللَّهِ} مفعول به، ومضاف إليه. {آنَاءَ اللَّيْلِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَتْلُونَ} {وَهُمْ} {الواو} حالية {هم} مبتدأ، وجملة {يَسْجُدُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {يَتْلُونَ}. {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}. {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ} {وَالْيَوْمِ} معطوف على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ} صفة لليوم. والجملة الفعلية في محل الرفع بدل من جملة {يتلون} على كونها صفة ثانية لـ {أمة}. وقال أبو البقاء: (¬1) إن شئت .. جعلتها حالًا، وإن شئت .. جعلتها مستانفةً انتهى. وقال أبو حيان (¬2): والظاهر في {يُؤْمِنُونَ} أن يكون صفة، أي: تاليةٌ مؤمنةٌ، وجوَّزوا أن تكون الجملة مستأنفةً، أو في موضع الحال من الضمير في {يَسْجُدُونَ}، وأن تكون بدلًا من السجود. قيل: لأنَّ السجود بمعنى الإيمان {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} {الواو} عاطفة {يأمرون} فعل وفاعل {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ} {وَيَنْهَوْنَ} {الواو} عاطفة {ينهون} فعل وفاعل {عَنِ الْمُنْكَرِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ} {وَيُسَارِعُونَ} {الواو} عاطفة. {يسارعون} فعل وفاعل. {فِي الْخَيْرَاتِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ}. {وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية {أولئك} مبتدأ. {مِنَ الصَّالِحِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}. {وَمَا يَفْعَلُوا} {الواو} استئنافية {ما} اسم شرط جازم يجزم فعلين في ¬

_ (¬1) أبو البقاء. (¬2) البحر المحيط.

محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {يفعلوا} فعل وفاعل مجزوم بما على كونه فِعْلَ شرط لها. {مِنْ خَيْرٍ} متعلق بـ {يَفْعَلُوا} أو حال من ما {فَلَنْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ {لَنْ}. {لن}: حرف نفي ونصب. {يُكْفَرُوهُ} فعل مضارع، مغير الصيغة منصوب بـ {لن}، و {الواو} نائب فاعل له، وهو المفعول الأول، و {الهاء} في محل النصب مفعول ثان له؛ لأنه ضُمِّن معنى حُرم فيتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ما الشرطية من فعل شرطها، وجوابها مستأنفة. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية {الله} مبتدأ {عَلِيمٌ} خبره {بِالْمُتَّقِينَ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {الَّذِينَ} في محل النصب اسمها {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {لَن} حرف نفي ونصب. {تُغْنِيَ} فعل مضارع منصوب بـ {لَن} {عَنْهُمُ}: جار ومجرور متعلق به. {أَمْوَالُهُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} الواو عاطفة {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {أَوْلَادُهُمْ} معطوف على {أَمْوَالُهُمْ} {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور حال من {شَيْئًا} لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، فيعرب حالًا {شَيْئًا} مفعول به منصوب بـ {تُغْنِيَ}. {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {وَأُولَئِكَ} {الواو} استئنافية {أولئك أصحاب النار} مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {هُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ} وهو خبر عن المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {أَصْحَابُ النَّارِ}. {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}. {مَثَلُ} مبتدأ، وهو مضاف و {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الجر

مضاف إليه. {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لِـ {ما} أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: ينفقونه {فِي هَذِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {الْحَيَاةِ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عنه. {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ} {كَمَثَلِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة {مثل} مضاف. {رِيحٍ} مضاف إليه {فِيهَا} جار ومجرور خبر مقدم. {صِرٌّ} مبتدأ، والجملة في محل الجر صفة لـ {رِيحٍ}. وفي "الفتوحات" (¬1) ويجوز أن يكون فيها وحده هو الصفة و {صِرٌّ} فاعل به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف الإفراد، وهذا قريب منه انتهى. {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. {أَصَابَتْ} فعل ماض، و {التاء} علامة التأنيث، وفاعله ضمير يعود على {رِيحٍ} والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {رِيحٍ}. {حَرْثَ قَوْمٍ}: مفعول به، ومضاف إليه. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به؛ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} {فَأَهْلَكَتْهُ} الفاء: عاطفة، {أهلكته} فعل ومفعول. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} {الواو} استئنافية. {ما} نافية {ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنْ} الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به مقدم على عامله، ومضاف إليه {يَظْلِمُونَ} فعل وفاعل، وجملة الاستدراك معطوفة على جملة النفي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}. {يا} حرف نداء. {أيُّ} منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم. {ها} حرف تنبيه زِيدَت تعويضًا عمَّا فاتَ {أيُّ} من الإضافة. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع، أو النصب صفة لـ {أيُّ} وجملة النداء مستأنفة ¬

_ (¬1) جمل.

{آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا تَتَّخِذُوا} {لا} ناهية. {تَتَّخِذُوا} فعل وفاعل مجزوم {بلا} الناهية، والجملة، جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بِطَانَةً} مفعول به. {مِنْ دُونِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه صفة أولى لـ {بِطَانَةً} {لَا يَأْلُونَكُمْ} {لا} نافية. {يَأْلُونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول. و {يَألُو} يتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {بِطَانَةً} {خَبَالًا} منصوب على التمييز، أو على نزع الخافض تقديره: {لا يألونكم} في تخبيلكم، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال {وَدُّوا} فعل وفاعل. {مَا عَنِتُّمْ} {مَا} مصدرية. {عَنِتُّمْ} فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ {ما} المصدرية. {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره؛ ودوا عنتكم، وجملة {وَدُّوا} من الفعل والفاعل مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير، في {يَأْلُونَكُمْ}، و {قد} مقدرةٌ معه حينئذٍ. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}. {قَدْ} حرف تحقيق. {بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {يَأْلُونَكُمْ} {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {بَدَتِ} أو حال من {الْبَغْضَاءُ}، تقديره: حالة كون البغضاء ظاهرةً من أفواههم {وَمَا تُخْفِي} {الواو} استئنافية. {ما} موصولة في محل الرفع مبتدأ. {تُخْفِي صُدُورُهُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تخفيه. {أَكْبَرُ} خبر المبتدأ والجملة مستأنفة. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. {قَدْ} حرف تحقيق {بَيَّنَّا} فعل وفاعل {لَكُمُ} جار ومجرور متعلق به {الْآيَاتِ} مفعول به، والجملة مستأنفة. {إِنْ كُنْتُمْ} إن حرف شرط. {كنتم} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها. وجملة {تَعْقِلُونَ} خبر {كان}، وجواب {إنْ} معلوم ممَّا قبلها تقديره: إن كنتم تعقلون فلا توالوهم، وجملة إن الشرطية مستأنفة.

{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}. {ها} حرف تنبيه لتنبيه المؤمنين المخاطبين على خطئهم في موالاة الكفار. {أنتم} مبتدأ. {أُولَاءِ} منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء في محل النصب على المفعولية مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ وإنما حُرِّك فرارًا من التقاء الساكنين، وكانت الحركة كسرةً لأنها الأصل في حركة التخلص، وجملة النداء معترضةٌ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر. {تُحِبُّونَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} الواو حالية {لا} نافية. {يُحِبُّونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الهاء في {تُحِبُّونَهُمْ} {وَتُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {تُحِبُّونَهُمْ} {بِالْكِتَابِ} متعلق بـ {تؤمنون} {كُلِّهِ} توكيد لـ {الكتاب} ومضاف إليه. {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا}. {وَإِذَا لَقُوكُمْ} الواو عاطفة. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {لَقُوكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق بالجواب، وجملة {إذا} من فعل شرطها، وجوابها في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {تحبونهم} على كونها خبر المبتدأ {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}. {وَإِذَا} {الواو} عاطفة {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {خَلَوْا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرطٍ لها. {عَضُّوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {تُحِبُّونَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ {عَلَيْكُمُ} جار ومجرور متعلق بـ {عضوا}. {الْأَنَامِلَ} مفعول به منصوب بـ {عضوا}. {مِنَ الْغَيْظِ} جار ومجرور متعلق بـ {عضوا} أيضًا. وفي "الفتوحات"

قوله {تُحِبُّونَهُمْ} خبر عن المبتدإ، وكذلك قوله {وتؤمنون} الخ. وقوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ} وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا} وقوله: {إن يمسسكم} الخ انتهى شيخنا. {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {مُوتُوا} فعل وفاعل. {بِغَيْظِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل تقديره: ملتبسين بغيظكم، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {عَلِيمٌ} خبرها {بِذَاتِ الصُّدُورِ} جار ومجرور، ومضاف إليها متعلق بعليم، وجملة إن مستأنفة أو مقول القول لـ {قل}. {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}. {إنْ} حرف شرط جازم. {تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {تَسُؤْهُمْ} فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه جواب شرط لها، والفاعل ضمير يعود على حسنة، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {تُحِبُّونَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ. {وَإِنْ تُصِبْكُم} {الواو} عاطفة. {إن} حرف شرط. {تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بـ {إنْ} على كونها فِعْلَ شرط لها. {يَفْرَحُوا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {بِهَا} متعلق به، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَصْبِرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إنْ} على كونه فِعْل شرط لها. {وَتَتَّقُوا} الواو عاطفة {تتقوا} فعل وفاعل معطوف على {تَصْبِرُوا} {لَا يَضُرُّكُمْ} {لا} نافية. {يضركم} فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ {إنْ} على كونه جواب الشرط لها. {كَيْدُهُمْ} فاعل ومضاف إليه {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف

تقديره: ضررًا شيئًا، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} {إنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {مُحِيطٌ} الآتي. {يَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: يعملونه. {مُحِيطٌ} هو خبر إن مرفوع وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لَيْسُوا سَوَاءً} سواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، ويوصف به على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذ ضميرًا، ويرفع الظاهر. ومنه قولهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، برفع العدم على أنه معطوف على الضمير المستكن في سواء، ولا يثنى ولا يجمع، إما لكونه في الأصل مصدرًا، وإما للاستغناء عن تثنيته بتثنية نظيره، وهو سِيٌ بمعنى مثل تقول: ما سيَّان، أي؛ مثلان ويستعمل للواحد، والمثنى، والجمع بلفظ واحد، فيقال: هما سواء وهم سواءٌ. {آنَاءَ اللَّيْلِ} الآناء: الساعات، وفي مفردها: لغاتٌ خمسٌ: إنىً كـ (معىً)، وأنىً كـ (فتىً)، وإنىٌ كـ (نحىٌ)؛ وأنىٌ كـ (ظبيٌ)؛ وإنو كجرو. فالهمزة في آناء منقلبة عن ياء على اللغات الأربعة الأولى كرداء، وعن واوٍ على اللغة الأخيرة نحو كساء، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان كما يؤخذ من "القاموس". {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الأمة الجماعة، ويجمع على أمم. قائمة: أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام أي: استقام {يَتْلُونَ} التلاوة القراءة، وأصلها: الاتباع فكأنها إتباع اللفظ اللفظ. {وَيُسَارِعُونَ} من سارع - من باب فاعل - يسارع مسارعة، ولكن المفاعلة ليست على بابها، بل للمبالغة في معنى الثلاثي. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه؛ لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه والقيام به، والمعنى يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات القاصرة والمتعدية.

{فِيهَا صِرٌّ} الصر البرد الشديد المحرق، قاله ابن عباس، وأصله من الصرير الذي هو الصوت من قولهم: صر الشيء إذا صوت، ويراد به الريح الشديدة الباردة. {بِطَانَةً}: بطانة الرجل، وكذا وليجته من يعرفه أسراره ثقة به، مشبهٌ ببطانة الثوب يقال: بطن فلان من فلان بطونًا، وبطانة إذا كان خاصًّا به داخلًا في أمره. وفي "الفتوحات" بطانة الرجل خاصته الذين يباطنهم في الأمور، ولا يظهر غيرهم عليها مشتقةٌ من البطن انتهى. {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} يألونكم من ألا في الأمر يألو من باب دعا وسما إذا قصر فيه، ويقال: لا آلوك نصحًا أي: لا أمنعك نصحًا، ولا آلوك جهدًا أي لا أنقصك جهدًا، ويقال: آلوت في الأمر إذا قصرت فيه. والخبال والخبل: الفساد الذي يلحق الحيوان، يقال في قوائم الفرس؛ خبل وخبال، أي: فسادٌ من جهة الاضطراب؛ والخبال أيضًا النقصان، ومنه رجلٌ مخبول ومخبلٌ، ومختبلٌ إذا كان ناقصَ العقلِ ويقال: خَبَل من باب ضرب فهو خابل، وخبله بالتشديد فهو مخبل. {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} يقال: ود الشيء إذا أحبه. والعنت المشقة، وشدة الضرر. وقال الراغب: هنا المعاندة والمعانتة متقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة هي: أن يتحرى مع الممانعة المشقة، ويقال: عنت الأمر إذا شق من باب فرح. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} البغضاء مصدر كالسراء، والضراء يقال: منه بغض الرجل، فهو بغيض كالظريف كظرف فهو ظريف. {والأفواه} معروفة، وهو جمع فم، وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على فويه، والنسب إليه فوهي، وهل وزنه فعل بسكون العين، أو فعل بفتحها؟ خلاف للنحويين انتهى. سمين. وفي الفم تسع لغات، ذكرت في بعض كتب النحو {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ} والعض: وضع الأسنان على الشيء بقوة، والفعل منه على فعل بكسر العين، يقال: عضضت بكسر العين في الماضي: أعض بالفتح في المضارع عضًّا وعضيضًا. والعض كله بالضاد إلا في قولهم: عظ الزمان إذا اشتد، وعظت الحرب إذا اشتدت، فإنهما

بالظاء أخت الطاء. والأنامل جمع أنملة، وهي رؤوس الأصابع، وقال ابن عيسى: أصلها النمل المعروف، وهي مشبهة به في الدقة، والتصرف بالحركة ومنه رجل نمل أي: نمام. وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ والغضب {مِنَ الْغَيْظِ} والغيظ: مصدر غاظه يغيظه إذا أغضبه، وفسره الراغب: بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من نوازف دم قلبه. {بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بالخواطر القائمة بالقلب، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال. فذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة الصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها. {كَيْدُهُمْ} الكيد المكر، وهو مصدر: كاده يكيده إذا مكر به، وهو الاحتيال بالباطل. قال ابن قتيبة: وأصله المشقة من قولهم: فلان يكيد بنفسه؛ أي: يعالج مشقات النزع وسكرات الموت. البلاغة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أتى بالجملة الإسمية لتدل على الدوام والاستمرار، كما أتى بالجملة الفعلية في قوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ}، وفي قوله: {يَسْجُدُونَ} للدلالة على التجدد والحدوث. والإشارة بالبعيد في قوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم في الفضل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} فيه تشبيه تمثيلي حيث شبه ما كانوا ينفقونه في المفاخر، وكسب الثناء بالزرع الذي أصابته الريح العاصفة الباردة فدمرته وجعلته حطامًا. {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} فيه استعارة حيث شبه الأصفياء ببطانة الثوب الملتصقة به، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة الأصلية، والجامع شدة الالتصاق على حد: "الناس دثارٌ والأنصار شعارٌ". وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآيات ضروبًا من أنواع الفصاحة والبلاغة: منها: التكرار في قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ} والاكتفاء بذكر بعض الشيء

عن كله إذ كان فيه دلالة على الباقي في {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. ومنها: المقابلة في قوله: {وَيَأْمُرُونَ} {وَيَنْهَوْنَ}، وفي قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} و {الْمُنْكَرِ} ويجوز أن يكون طباقًا معنويًّا، وفي قوله: {حَسَنَةٌ} و {سَيِّئَةٌ} و {تَسُؤْهُمْ} هو {يَفْرَحُوا}. ومنها: الاختصاص في قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}، و {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ}. ومنها: التشبيه في قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ}، و {بِطَانَةً} و {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}، و {تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} و {تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {ظَلَمَهُمُ} و {يَظْلِمُونَ}. ومنها: تسمية الشيء باسم محله في قوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} عبر بها عن الألسنة؛ لأنها محلها. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}. المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى، وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئًا .. ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين، إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم في الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، واتبعه في الانخذال، والرجوع ثلاث مئة رجل من المنافقين، وغيرهم من المؤمنين، ليوقع الفشل بين صفوف المسلمين، ويخذلوهم أمام عدوهم، وما كان من كيد المشركين، وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر - حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم - وإلا تقوى الله ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكرهم أيضًا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم؛ إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدتهم، فأصابوا من

عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج والنصر عليهم مما لا يزال مكتوبًا في صحيفة الدهر مثلًا خالدًا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة. أسباب النزول قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ...} الآية، أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول، والله وليهما، وأخرجه مسلم أيضًا. قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأولى من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا، وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أخرجه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أخرجه مسلم، وأخرجه أيضًا أحمد في مسنده, والترمذي في جامعه. وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأحمد، وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: "اللهم العَن فلانًا، وفلانًا لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. استطراد دعت إليه الحاجة من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها، نزلت في غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الوقعة، ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها ويستيقن من حكمها وأحكامها, ولكن عليك أن تعرف قبل هذا أن قريشًا اغتاظت من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم

للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفع وقد صار النبي - صلى الله عليه وسلم - داعية للدين ورئيسًا لحكومة المدينة وقائدًا لجيشها. هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات؛ بها انتشر الإِسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ, وقد اشترك النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسع منها أشهرها. وقعة بدر كانت قريش ترى أن محمدًا وأصحابه شرذمة من الثوار يجب أن تقتل، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة في المدينة، وهي على طريق التجارة إلى الشام، فجد المسلمون في مهاجمة قوافل مكة، ونالوا أول انتصارٍ لهم في السنة الثانية من الهجرة في غزوة بدر بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، وكانت هذه الوقعة نصرًا مؤزرًا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها. وقعة أحد أحدٌ: جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال. سمي أحدًا لتوحده عن الجبال. ولما خذل المشركون في وقعة بدر، ورجع ففُهم إلى مكة مقهورين أخذ أبو سفيان يؤلب المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش، فاجتمعوا للحرب، وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فيهم سبع مئة دارع، ومعهم مئتا فرس، وقائدهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجه هند بنت عتبة، وكانت جملة النساء اللاتي معهم خمس عشرة امرأة، ومعهن الدفوف يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وكان رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقام في المدينة، وقتالهم بها، ورأى باقي الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج في ألف من الصحابة إلى أن صار بين المدينة وأحدٍ، فانخذل عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلث الناس ونزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الشعب من أحد،

وجعل ظهره إلى الجبل، وكان عدة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع مئة فيهم مئة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، وكان لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع مصعب بن عمير، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بني عبد الدار. ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبي سفيان، ومعها النسوة يضربن بالدفوف وهي تقول: وِيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ... وِيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ ... ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارِ وقاتل حمزة قتالًا شديدًا. ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية لعليّ بن أبي طالب. ولما انهزم المشركون طمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمته. فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمدًا قد قتل، وانكشف المسلمون، وأصاب العدو منهم. وكان يوم البلاء على المسلمين، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلًا وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلًا. ووصل العدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم". وجعل يدعوهم إلى ربهم فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}. ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه - صلى الله عليه وسلم - فسقطت ثنية من ثنياته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون، وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وأصابت طلحة يومئذٍ ضربة شديدة شلت يده منها، وهو يدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجدعن الأنوف، وصلمن الآذان، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تستسغها وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزج الرمح، وصعد الجبل، وصرخ

[121]

بأعلى صوته الحرب سجال يوم بيوم بدر، أعل هبل - صنم في الكعبة - أي؛ ظهر دينك. ولما انصرف أبو سفيان، ومن معه .. نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا له: هو بيننا وبينكم ". ثم سار المشركون إلى مكة، وبحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن فقال: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين منهم". ثم أمر أن يسجى عمه ببردته، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدًا بعد واحدٍ حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وقال: "ادفنوهم حيث صرعوا". إذا علمت ما تقدم .. سهل عليك فهم هذه الآيات، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإِسلام، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين، فقد كانت نبراسًا لهم في كل حروبهم وأعمالهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده. إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار, وأن كل ما حدث فيها، إنما جر إليه الطمع في الغنيمة وجمع حطام الدنيا، وهو ظل زائل، وعرض مفارق. التفسير وأوجه القراءة 121 - {وَ} إذكر يا محمَّد: لأصحابك قصة {إذْ غَدَوْتَ} وخرجت بعد صلاة الجمعة خامس عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة {مِنْ أَهْلِكَ}؛ أي: من منزلك الذي فيه أهلك من المدينة، وهو حجرة عائشة إلى أحد ليتذكروا ما وقع لهم في ذلك اليوم من الأحوال الناشئة من عدم الصبر، فيعلموا أنهم لو لزموا الصبر؛ لا يضرهم كيد الكفرة، وعبر عن الخروج بالغدوِّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه - صلى الله عليه وسلم - خرج بعد صلاة الجمعة؛ لأنه قد يعبر بالغدو عن الخروج من غير نظر إلى أصل معناه، كما يقال: أضحى، وإن لم يكن في وقت الضحى، وفي

[122]

قوله: {مِنْ أَهْلِكَ} منقبةٌ عظيمةٌ لعائشة رضي الله عنها؛ لأنه تعالى نصَّ على أنها من أهله. حالة كونك {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: تقصد أن تبوئهم وتنزلهم وتهىء لهم {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}؛ أي: أماكن ومراكز ومثابت يثبتون فيها لقتال عدوهم المشركين، مراكز للرماة، ومراكز للفرسان، ومراكز لسائر المؤمنين، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالكم؛ أي: لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، وسميع لما تشير به أنت عليهم، {عَلِيمٌ} بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبنية كل قائل، من أخلص منهم في قوله، وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله، وإن كان صوابًا كعبد الله بن أبي، وأصحابه من المنافقين. 122 - {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ}؛ أي: واذكر يا محمَّد أيضًا حين همت وقصدت جماعتان منكم أيها المؤمنون بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، وكانا جناحي عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء، وعن قالون خلافٌ في ذلك {أَنْ تَفْشَلَا}، أي: بأن تضعفا وتجبنا وترجعا عن القتال حين رأوا انخذال عبد الله بن أبي، ومن معه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة مع تسع مئة وخمسين، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا عند جبل أحد انعزل ابن أبي المنافق، مع ثلاثمائة من أصحابه المنافقين، وقال: يا قوم: لأي شيء نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاريُّ وأبو جابر السلمي، وقالا: نسألكم بالله في حفظ نبيكم وأنفسكم أي فإنكم إن رجعتم فاتتكم نصرة نبيكم وفاتتكم وقاية أنفسكم من العذاب لتخلفكم عن نبيكم، فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، فهم الطائفتان باتباع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله، فثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الهم لم يكن عزيمةً ممضاة، ولكنها كانت حديث النفس، وقلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، فإن ساعدها صاحبها ذم، وإن ردها إلى

[123]

الثبات والصبر فلا بأس بما فعل، ومما يدل على أن ذلك الهم لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}؛ أي: ولي الطائفتين أي متولي أمورهما، وعاصمهما عن اتباع تلك الخطوة، وحافظهما عنه لصدق إيمانهما, ولذلك صرف الفشل عنهما، وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع المنافقين، وكانوا نحو ثلث العسكر، بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين، فوثقا به، وتوكلا عليه. وقرأ (¬1) عبد الله {والله وليهم} أعاد الضمير على المعنى، لا على لفظ التثنية كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} و {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: فليعتمدوا عليه وليثقوا به في أمورهم؛ أي: إن المؤمنين ينبغي لهم أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه، بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم، ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدة تحقيقًا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات، وهو الخالق للسبب والمسبب، والموجد للصلة بينهما، فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدد والعُدد والسلاح، وفي سائر عتاد الجيش، ولذا قال سبحانه وتعالى: 123 - {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون {بِبَدْرٍ}؛ أي: في وقعة يوم بدر - موضعٌ بين مكة والمدينة معروف - الذي انبنى فيه الإِسلام وظهر، وقتل فيه صناديد قريش، وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرًا من الهجرة {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}؛ أي: والحال أنكم ذليلون ضعفاء بقلة العدد، والعدد، والسلاح، وقلة المال، وضعف الحال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، فإن المؤمنين كانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا، وما كان فيهم إلا فرس واحد، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مئة فرس مع الأسلحة الكثيرة، والعدة الكاملة، أي: نصركم يوم بدر مع قلتكم وكثرة العدو، ولتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. وأتى بجمع القلة في قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ليدل على أنهم قليلون في ذواتهم، وعددهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[124]

وخلاصة الكلام: أنكم إن تصبروا وتتقوا .. لا يضركم كيدهم شيئًا، وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم، وأنتم يومئذٍ في قلة من العدد، وفي غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم، وعظيم منعتهم، فأنتم اليوم أكثر عددًا منكم يومئذٍ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم، كما نصركم في ذلك اليوم، ولا ضير في الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين، ولا بمستذلين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكونها. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها المؤمنون وخافوه في أمر الحرب بالثبات فيها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم مخالفة أميركم فيها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا نعمته تعالى عليكم ونصرته لكم على أعدائكم، والمعنى: فاتقوا الله ربكم بطاعته، واجتناب محارمه، لتهيؤوا أنفسكم لشكره على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم؛ وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم؛ إذ من لم يروض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى، واتباع الشهوات فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع. 124 - والظرف في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ {نصركم} و {الهمزة} في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} للاستفهام الإنكاري؛ أي: لإنكاره - صلى الله عليه وسلم - عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة. ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر. والمعنى: ولقد نصركم الله ببدر في الوقت الذي تقول فيه للمؤمنين تطمينًا لقلوبهم، وبشارة لهم: ألن يكفيكم ويغنيكم عن مساعدة الغير {أَنْ يُمِدَّكُمْ} ويساعدكم ويعينكم {رَبُّكُمْ} على عدوكم {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} من السماء لنصركم. وذلك القول (¬1) حين أظهروا العجز عن المقاتلة، لما بلغهم أن كرز بن جابر يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الخ. ¬

_ (¬1) جمل.

[125]

أخرج (¬1) ابن أبي شيبة، وابن المنذر: وغيرهما عن الشعبي، أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} فبلغته هزيمة المشركين، فلم يمد أصحابه، ولم يمدوا بالخمسة آلاف. وقرأ (¬2) الحسن {بِثَلَاثَةِءَالَافٍ} يقف على الهاء، وكذلك {بِخَمْسَةِءَالَافٍ} قال ابن عطية: ووجه هذه القراءة ضعيفٌ؛ لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال؛ إذ هما كالاسم الواحد. انتهى. والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاءً في الوصل كما أبدلوها هاءً في الوقف .. وقرىء شاذا {بثلاثة آلافٍ} هو بتسكين التاء في الوصل إجراءً له مجرى الوقف. وقرأ الجمهور {مُنْزَلِينَ} بالتخفيف مبنيًّا للمفعول، وابن عامر بالتشديد مبنيًّا للمفعول أيضًا، والهمزة، والتضعيف للتعدية فهما سيان. وقرأ بن أبي عبلة {منزلين} بتشديد الزاي، وكسرها مبنيًّا للفاعل، وبعض القراء بتخفيفها، وكسرها مبنيًّا للفاعل أيضًا، والمعنى ينزلون النصر. 125 - {بَلَى} إيجابٌ لما بعد لن، أي: بلى يكفيكم الإمداد بهم. ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر، والتقوى حثًّا لهم عليهما، وتقويةً لقلوبهم فقال: {إِنْ تَصْبِرُوا} مع نبيكم على لقاء العدو، ومناهضتهم، {وَتَتَّقُوا} معصية الله، ومخالفة نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَيَأْتُوكُمْ}؛ أي: ويجئكم المشركون {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}؛ أي: من ساعتهم هذه من جهة مكة {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ}؛ أي: ينصركم ربكم على عدوكم في حال إتيانهم من غير تراخٍ، ولا تأخير {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم {مُسَوِّمِينَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو؛ أي: معلِّمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات. ورجح ابن جرير هذه القراءة وقال كثير من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

المفسرين: مرسلين خيلهم في الغارة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ونافع {مسومين} بفتح الواو أي: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب، وأذنابها، أو مجذوذة أذنابها، أو مرسلين. قال ابن جرير (¬1): وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدَّهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله. غير أن في القرآن دلالةٌ على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألفٍ من الملائكة، وذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. أما في أحد: فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينل منهم ما نيل انتهى. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم، ولو نفعًا معنويًّا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس، فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبتها وتقوي عزيمتها. فإن قلت: أي حاجة إلى ذلك العدد الكثير، فإن جبريل وحده، أو أي ملك كافٍ في قتال الكفار؟ ¬

_ (¬1) طبري.

[126]

أجيب: بأن النصر في ذلك ينسب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فلو هلكوا بشيء مما هلك به الأمم السابقة .. لم يكن في ذلك مزيد فخر للمؤمنين، ولا شفاء لغيظهم لكونه خارجًا عن اختيارهم. 126 - {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}، أي: ما جعل الله ذلك الإمداد بالملائكة، أو ما جعل (¬1) الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية. {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ}؛ أي: إلّا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتًا على لقاء العدو أي؛ وما جعل الله ذلك الإمداد إلا ليبشركم به {وَ} إلا {لِتَطْمَئِنَّ} وتثبت {قُلُوبُكُمْ بِهِ}؛ أي: بذلك الإمداد، وتسكن إليه من الخوف الذي طرقها من كثرة عدد عدوكم، وعظيم استعداده لكم. وفي هذا إشارة إلى أن في ذكر الإمداد فائدتين: إحداهما: إدخال السرور في القلوب. والثانية: حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته. معهم فلا يجبنوا عن المحاربة مع العدوّ {وَمَا النَّصْرُ} على الأعداء حاصل من عند أحدٍ غير الله لا من عند الملائكة، ولا من كثرة العدد {إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزِ} أي؛ القوي الذي لا يغالب في أقضيته وأحكامه {الْحَكِيمِ} الذي يعطي النصر لأوليائه، ويبتليهم بجهاد أعدائه، أو الذي يدبر الأمور على خير السنن, وأقوم الوسائل، فيهدي لأسباب النصر الظاهرة، والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء. والمراد (¬2): أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد أن لا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب؛ إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه؛ لأن من لم ينصره الله فهو مخذول، وإن كثرت أنصاره، فإن حصل الإمداد بالملائكة، فليس ذلك إلا جزءًا من أسباب النصر، وهناك أسباب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أخرى كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، والمكامن كما فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق، وأخفاها على العدو، وعسكر في أحسن موضع، وهو الشعب أي: الوادي وجعل ظهره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم. فإن قلت: لم أمد الله المؤمنين يوم بدر بملائكته يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب؟ فالجواب: إن المؤمنين كانوا يوم بدر في قلة وذلةٍ، من الضعف والحاجة؛ فلم يكن لهم إعتمادٌ إلا على الله، وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات، والذكر إذ قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ولم يكن في نفوسهم تطلع إلى شيء سوى النصر، وإقامة الدين، والدفاع عن حوزته، وكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة، والتقوي بالاتصال بها. وروى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو يوم بدر "اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة .. فلن تعبد في الأرض أبدًا" وما زال يستغيث ربه، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه به، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه ينجز لك ما وعدك. وأنزل الله يومئذٍ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} الآية. أمَّا في يوم أحد: فقد كان بعضهم في أول القتال قريبًا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا, ولكن الله ثبتهما، وباشروا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا، وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى، وخالفوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطمعوا في الغنيمة، وتنازعوا في الأمر فقتلوا، وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد في ذلك اليوم.

[127]

وحكمة ما حصل بهم في ذلك اليوم تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ} الآية. وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصائب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم. 127 - واللام في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، أي: وعزتي وجلالي، لقد نصركم الله سبحانه وتعالى، وأعزكم على عدوكم يوم بدر مع قلة عددكم وعددكم بأمداد الملائكة؛ ليقطع، ويهلك طرفًا وجماعة من صناديد الذين كفروا، وأشركوا بالله، ويهدم ركنًا من أركان الشرك، يعني مشركي مكة بقتل سبعين منهم، وأسر سبعين آخرين منهم. وعبر بالطرف؛ لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}؛ أي: أو ليكبت، ويذل، ويخزي الطرف الآخر منهم، والجماعة الباقية منهم، ويغيظهم بالهزيمة {فَيَنْقَلِبُوا}، ويرجعوا إلى مكة حال كونهم {خَائِبِينَ}، أي: غير ظافرين بمرادهم من استئصال المؤمنين والظفر لهم. وقد فعل الله تعالى ذلك بهم في بدر حيث قتل المسلمون من صناديدهم سبعين، وأسروا سبعين، وأعز الله المؤمنين، وأذل الشرك والمشركين. وقرأ الجمهور (¬1): {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} بالتاء، وقرأ لاحق بن حميد {أو يكبدهم} بالدال مكان التاء، والمعنى: أو يصيب الحزن كبدهم. 128 - ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها؛ لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال: {لَيْسَ لَكَ} يا محمَّد {مِنَ الْأَمْرِ}؛ أي: من أمر عبادي وتدبيرهم وحسابهم {شَيْءٌ} بل إنما عليك البلاغ والدعوة لهم إلى توحيدي، والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضي فيهم، وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب ¬

_ (¬1) المراغي.

بالقتل، والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر من العذاب في الآخرة. وروى أحمد ومسلم، عن أنس رضي الله عنه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا، وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. قيل: أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو عليهم بالاستئصال، فنزلت هذه الآية، وذلك لعلمه أن أكثرهم يسلمون. فمعنى الآية: ليس لك مسألة هلاكهم والدعاء عليهم، لأنه تعالى أعلم بمصالحهم، فربما تاب على من يشاء منهم. وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} معطوف على قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} كلامٌ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه كما مر آنفًا. وتقدير الكلام: ولقد نصركم الله أيها المؤمنون في يوم بدر، ليقطع طرفًا من الذين كفروا بالقتل، أو يكبتهم بالهزيمة، أو يتوب عليهم بالإِسلام، إن أسلموا {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} على الكفر إن أصروا؛ فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء، بل الأمر أمري في ذلك كله، وقوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} هو كالتعليل لعذابهم، والمعنى: إنما يعذبهم؛ لأنهم ظالمون أنفسهم بالإصرار على الكفر مستحقون للتعذيب. قال بعض العلماء (¬1): والحكمة في منعه - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء عليهم، ولعنهم أن الله تعالى علم من حال بعض الكفار أنه سيسلم فيتوب عليه، أو سيولد من بعضهم ولد يكون مسلمًا برًّا تقيًّا. فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من الدعاء عليهم؛ لأن دعوته - صلى الله عليه وسلم - مستجابة، فلو دعا عليهم بالهلاك هلكوا جميعًا، لكن اقتضت حكمة الله، وما سبق في علمه إبقائهم ليتوب على بعضهم، وسيخرج من بعضهم ذرية صالحة مؤمنة، ويهلك بعضهم بالقتل والموت. وفي هذا الكلام تأديب من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإعلامٌ له بأن الدعاء على ¬

_ (¬1) البحر المحيط ج 2 ص 52.

[129]

المشركين، ولعنهم مما لم يكن ينبغي منك. إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه، ولا رأيٌ ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكًا مقربًا أو نبيًّا مرسلًا إلا من سخره الله للقيام بشيء من ذلك؛ فيكون خاضعًا لذلك التسخير لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون، ونظام الاجتماع. 129 - {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، أي: جميع ما في السموات، وما في الأرض ملكًا وخلقًا وعبيدًا {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} مغفرته بفضله ورحمته {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} تعذيبه بعدله وتقديم المغفرة على التعذيب للإعلام بأنَّ رحمته تعالى سبقت غضبه {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تاب {رَحِيمٌ} لمن مات على التوبة. قال ابن جرير (¬1): أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضي فيهم بما أحب فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه، من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلًا على عظيم ما يأتون من المآثم انتهى. 130 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما (¬2) نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود، وأمثالهم من المشركين، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله، وطاعته وطاعة رسوله، ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح في وقعة بدر، وبما حدث لهم حين عصوا الله، وخالفوا أمر القائد، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وقعة أحد، وكيف حل بهم من البلاء ونزلت من المصائب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها .. نهاهم هنا عن شر ¬

_ (¬1) الخازن (¬2) الطبري.

عمل من أعمال اليهود، ومن اقتدى بهم من المشركين، وهو الربا مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة، بل السعادة، إنما تكون في تقوى الله، وامتثال أوامره، وفي ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة، وتنفير من البخل، والشح، والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافًا مضاعفة. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم، وذكر الأكل ليس قيدًا بل إنما ذكره لكونه معظم منافعه حالة كون تلك الزيادة أضعافًا مضاعفة، أي؛ زيادات مكررة عامًا بعد عام بسبب تأخير أجل الدين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية، فإن الإِسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته. وذكر الأضعاف (¬1) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل .. زادوا في المال مقدارًا يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدين، فكانوا يفعلون ذلك مرةً بعد مرةٍ، حتى يأخذ المرابي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء. قال ابن جرير (¬2) معنى الآية: لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم، وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم: أن الرجل منهم يكون له على الرجل مالٌ إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له، الذي عليه المال: أخر دينك عني وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة، فنهاهم الله عَزَّ وَجَلَّ في إسلامهم عنه انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

وقال الرازي (¬1): كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل، ولم يكن المديون واجدًا لذلك المال، قال الدائن: زد في المال حتى أزيد لك في الأجل، فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} انتهى. وربا (¬2) الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا: بالربا الفاحش، وهو ربح مركب وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شيءَ منها في العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر، أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل، ولم يقض الدين، وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وهذا هو ربا النسيئة. قال ابن عباس رضي الله عنه إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفًا عندهم انتهى. وعلى الجملة فالربا نوعان: الأول: ربا النسيئة؛ وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه، ويزيده في المال، وكلما آخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدمٌ محتاجٌ، فهو يبذل الزيادة ليفتدي من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك حتى يعلوه الدين، فيستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه في المشقة والضرر. فمن رحمة الله، وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا, ولعن آكله، ومؤكله، وكاتبه، وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجىء مثل هذا الوعيد في كبيرةٍ غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر. والنوع الثاني: ربا الفضل، كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) الرازي.

دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنةً من التمر الردىء مع تراضي المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن، ولا في وعيده، ولكنه ثبت بالسنة، فقد روى ابن عمر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواءٍ، ولا تشفوا بعضه على بعض، إني أخشى عليكم الرماء" الربا. وهذه الآية (¬1): هي أولى الآيات نزولًا في تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولًا. وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش في عصر ليس فيه دولٌ إسلاميةٌ قوية تقيم أحكام الإِسلام، وتستغني عمن يخالفها في أحكامه بل زمام العالم في أيدي أمم ماديةٍ تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيالٌ عليها، فمن جاراها في طرق الكسب - والربا من أهم أركانه - أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدًا لها. أفلا تقضي ضرورةٌ كهذه على الشعوب الإِسلامية التي تتعامل مع الأوربيين كالشعب المصري مثلًا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها؛ وتنميها وحتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها، وهي مادة حياتها؟. وجوابًا عن هذا نقول: إن الحرمات في الإِسلام ضربان: 1 - ضرب محرمٌ لذاته لما فيه من الضرر: ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر، والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة، وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض، ولم يجد من يقرضه إلا بالربا؛ فالإثم على آخذ الربا دون معطيه؛ لأن له فيه ضرورةً. 2 - وضرب محرم لغيره: وهو ربا الافضل؛ لأنه ربما كان سببًا في ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضًا. والمسلم يبحث عن حاله، هل كان مضطرًا إلى الربا أم لا؟. فإن كان ¬

_ (¬1) المراغي.

[131]

مضطرًا حلَّ له تناوله، ويكون مثل أكل الميتة، وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك. إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادةً في مال الرابي؛ فهو في الحقيقة نقصانٌ: لأنَّ الفقراء الذين يأخذ أموالهم بهذا التعامل؛ إذا شاهدوه، يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه عاجلًا أو آجلًا في نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه وغلظ كبده. وقد ورد في الأثر "إنَّ آخذ الربا لا يقبل منه صدقةٌ، ولا جهادٌ ولا حج ولا صلاة". وقرأ ابن كثير، وابن عامر {أضعافًا مضعَّفة} بتشديد العين بلا ألف قبلها. ثم أكد النهي فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله أيها المؤمنون فيما نهيتم عنه من أكل الربا، وغيره فلا تأكلوه، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تنجوا من عذابه وسخطه، وتظفروا بثوابه في الآخرة. لأن الفلاح يتوقف على التقوى، فلو أكل، ولم يتق؛ لم يحصل الفلاح. وفيه دليل على أنَّ أكل الربا من الكبائر، 131 - ولهذا أعقبه بقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)}؛ أي: واخشوا أيها المؤمنون النار الأخروية التي هيئت للكافرين بالتحرز عن متابعتهم، وتعاطي أفعالهم؛ فلا تستحلُّوا شيئًا مما حرم الله، فإن من استحل شيئًا مما حرم الله .. فهو كافر بالإجماع، ويستحق النار بذلك. وفيه (¬1) تنبيه على أن النار بالذات معدة للكفار، وبالعرض للعصاة. قال أبو حنيفة (¬2): هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين، إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، 132 - وقد أمدَّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته، وطاعة رسوله بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}، وامتثلوه فيما يأمركم به، وينهاكم عنه من أخذ الربا وغيره {وَ} أطيعوا {وَالرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، فإن طاعته طاعة الله. قال محمَّد ابن إسحاق (¬3): ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) النسفي.

في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: لكي ترحموا, ولا تعذبوا، إذا أطعتم الله ورسوله فإن طاعة الله مع معصية رسوله ليست بطاعة، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. والمعنى (¬1): وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة كي ترحموا في الدنيا بصلاح حال المجتمع، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم. وقد ورد في الأثر "الراحمون يرحمهم الرحمن" رواه أبو داود، والترمذي. الإعراب {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}. {وَإِذْ} {الواو} استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره؛ واذكر يا محمَّد لأصحابك قصة إذ غدوت. {غَدَوْتَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه {لإِذْ}. {مِنْ أَهْلِكَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {غَدَوْتَ} {تُبَوِّئُ} فعل مضارع، وفاعلمه ضمير يعود على محمَّد {الْمُؤْمِنِينَ} مفعول أول، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {غَدَوْتَ}: وهي حال مقدرة أي: قاصدًا تبويىء المؤمنين. {مَقَاعِدَ} مفعول ثان. {لِلْقِتَالِ}: جار ومجرور صفة لـ {مَقَاعِدَ} أو متعلق بـ {تُبَوِّئُ}. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} الواو استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {سَمِيعٌ} خبر أول. {عَلِيمٌ} خبر ثان، والجملة مستأنفة. {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف بدل من الظرف قبله، وهو المقصود بالسِّياق. {هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لـ ¬

_ (¬1) الخازن.

{طَائِفَتَانِ}. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {تَفْشَلَا}: فعل وفاعل منصوب {بأن} {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بالفشل، والباء متعلق بـ {هَمَّتْ}. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {وَلِيُّهُمَا} خبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. قال أبو حيان (¬1): وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين انتهى. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. {وَعَلَى اللَّهِ} {الواو} استئنافية. {عَلَى اللَّهِ} جار ومجرور متعلق، بـ {يَتَوَكَّلِ} قدم عليه للاهتمام به. {فَلْيَتَوَكَّلِ} {الفاء} زائدة، زيدت لتوهم معنى الشرط. و {اللام} لام الأمر. {يَتَوَكَّلِ} مجزوم بلام الأمر. {الْمُؤْمِنُونَ} فاعل، والجملة مستأنفة. وقال العكبري (¬2): دخلت {الفاء} لمعنى الشرط، والمعنى إن فشلوا فتوكلوا أنتم، وإن صعب الأمر فتوكلوا انتهى. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. و {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {نَصَرَكُمُ اللَّهُ} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {بِبَدْرٍ} الباء حرف جر بمعنى في {بَدْر} مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {نَصَرَ}. {وَأَنْتُمْ} الواو حالية. {أَنْتُمْ} مبتدأ. {أَذِلَّةٌ} خبر، والجملة الإسمية حال من ضمير المخاطبين. {فَاتَّقُوا} {الفاء} عاطفة تفريعية، لكون ما قبلها علةً لما بعدها. {اتَّقُوا اللَّهَ} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {نَصَرَكُمُ} {لَعَلَّكُمْ} {لَعَلَّ} حرف جر، وتعليل بمعنى {كي}. و {الكاف} اسمها. وجملة {تَشْكُرُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره، فاتقوا الله لشكركم إياه. {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

{إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان. {تَقُولُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذْ} إليها، والظرف متعلق بـ {نَصَرَكُمُ}. {لِلْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُ}. {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الخ مقول محكي لـ {تَقُولُ} وإن شئت. قلت: الهمزة للاستفهام التقريري. {لَنْ} حرف نفي ونصب. {يَكْفِيَكُمْ} هو فعل ومفعول به منصوب بـ {لن}. {أَنْ يُمِدَّكُمْ} {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {يُمِدَّكُمْ} فعل مضارع، ومفعول به منصوب {بأن} المصدرية. {رَبُّكُمْ} فاعل، ومضاف إليه، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية تقديره: ألن يكفيكم إمداد ربكم إياكم، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {تَقُولُ} {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُمِدَّكُمْ} {مِنَ الْمَلَائِكَةِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أولى لـ {ثَلَاثَةِ آلَافٍ} تقديره: كائنات {مِنَ الْمَلَائِكَةِ}. {مُنْزَلِينَ} صفة ثانية لـ {ثَلَاثَةِ آلَافٍ}. {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}. {بَلَى} حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ}. {إِنْ} حرف شرط. {تَصْبِرُوا} فعل وفاعل مجزوم {بإِنْ} على كونه جواب الشرط لها. {وَتَتَّقُوا} فعل وفاعل معطوف على {تَصْبِرُوا}. {وَيَأْتُوكُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تَصْبِرُوا}. {مِنْ فَوْرِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {وَيَأْتُوكُمْ}. {هَذَا} صفة لـ {فَوْرِهِمْ} وهو جامد مؤول بمشتق تقديره من وقتهم الحاضر. {يُمْدِدْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم {بإنْ} على كونه جواب الشرط لها. {رَبُّكُمْ} فاعل ومضاف إليه، وجملة {إن} الشرطية من فعل شرطها، وجوابها جملةٌ جوابيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. {بِخَمْسَةِ آلَافٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُمْدِدْكُمْ} {خَمْسَةِ} مضاف. {آلَافٍ} مضاف إليه. {مِنَ الْمَلَائِكَةِ} جار ومجرور صفة أولى لـ {خَمْسَةِ} {مُسَوِّمِينَ} صفة ثانية لها. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {جَعَلَهُ اللَّهُ} فعل، وفاعل، ومفعول أول. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {بُشْرَى} مفعول ثان لـ {جَعَلَ} على أنه بمعنى صير، ويجوز أن يكون مفعولًا له على أن يكون {جَعَلَ} متعديًّا لواحد، كما ذكره العكبري {لَكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {بُشْرَى} أو متعلق بـ {بُشْرَى}، والجملة الفعلية مستأنفة. وعبارة (¬1) "السمين" قوله: {إِلَّا بُشْرَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مفعول لأجله، وهو استثناء مفرغ إذ التقدير، وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروط نصبه موجودةٌ، وهي اتحاد الفاعل والزمان، وكونه مصدرًا سيق للعلة. والثاني: أنه مفعول ثان لجعل على أنه بمعنى صير. والثالث: أنه بدل من {الهاء} في {جَعَلَهُ} قاله الحوفي، وجعل {الهاء} عائدةً على الوعد بالمدد. انتهى. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} فيه (¬2) وجهان: أحدهما: أنه معطوف على {بُشْرَى} هذا إذا جعلنا مفعولًا لأجله، وإنما جر باللام لاختلال شرط من شروط النصب، وهو عدم اتحاد الفعل، فإن فاعل الجعل هو الله تعالى، وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدَّم، والتقديرُ: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنه متعلق بفعل محذوف تقديره؛ وفعل ذلك الإمداد لتطمئن قلوبكم به. وقال الشيخ: و {تَطْمَئِنَّ} منصوب بإضمار أن بعد لام كي فهو من عطف الاسم على توهم موضع آخر. ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: واللام في ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) الجمل.

{وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقة بفعل مضمر يدل عليه {جَعَلَهُ} ومعنى الآية وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم. انتهى، "سمين". وعلى ما قاله ابن عطية: فنقول في إعرابه: {الواو} عاطفة لمحذوف. {لِتَطْمَئِنَّ} اللام حرف جر وتعليل. تطمئن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي. {قُلُوبُكُمْ} فاعل، ومضاف إليه {بِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {تَطْمَئِنَّ}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام المتعلقة بفعل محذوف معطوف على جملة قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} تقديره: وما جعله الله إلا لطمأنينة قلوبكم به {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {النَّصْرُ} مبتدأ. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: وما النصر إلا كائنٌ من عند الله تعالى، والجملة الإسمية مستأنفة. {الْعَزِيزِ} صفة أولى للجلالة. {الْحَكِيمِ} صفة ثانية له. {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}. {لِيَقْطَعَ} {اللام} لام كي {يَقْطَعَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {طَرَفًا} مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام الجار والمجرور متعلق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ} تقديره: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفٍ. {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور صفة لـ {طَرَفًا}. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} معطوف على {لِيَقْطَعَ} وفاعله ضمير يعود على الله. {الهاء} مفعول به. {فَيَنْقَلِبُوا} {الفاء} عاطفة. {يَنْقَلِبُوا} معطوف على {يكبت}. و {الواو} فاعل. {خَائِبِينَ} حال من فاعل {يَنْقَلِبُوا}. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص. {لَكَ} خبرها مقدم. و {شَيْءٌ} اسمها مؤخر. {مِنَ الْأَمْرِ} حال {من شيء} لأنه صفة نكرة قدمت عليها فتعرب حالًا منها، وجملة {لَيْسَ} من اسمها وخبرها جملة معترضة لاعتراضها بين المعطوف

والمعطوف عليه. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} معطوفان على {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} الفاء تعليلية. {إن} حرف نصب. و {الهاء} اسمها. {ظَالِمُونَ} خبرها، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية تقديره: أو لتعذيبهم. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}. {وَلِلَّهِ} {الواو} استئنافية {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم: {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَمَا فِي الْأَرْضِ} الواو عاطفة: {مَا} في محل الرفع معطوفة على {ما} الأولى. {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور صلةٌ لما أو صفة لها. {يَغْفِرُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة مستأنفة. {لِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَغْفِرُ}. {يَشَاءُ} صلة لمن، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء غفرانه. {وَيُعَذِّبُ} {الواو} عاطفة. {يُعَذِّبُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يَغفِرُ}. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يشاء} صلته، والعائد محذوف تقديره: من يشاء تعذيبه. {وَاللَّهُ} الواو استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {غَفُورٌ} خبر أول. {رَحِيمٌ} خبر ثان. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}. {يَا} حرف نداء. {أَيُّ}، منادى نكرة مقصودة. و {الهاء} حرف تنبيه زائد، زيد تعويضًا عمَّا فات {أَيُّ} من الإضافة. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {أَيُّ} وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا تَأْكُلُوا} {لا} ناهية جازمة. {تَأْكُلُوا} فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. {الرِّبَا} مفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {أَضْعَافًا} حال من الربا, ولكن بتأويله بمشتق؛

لأنه مصدر جامد تقديره: حال كونه مضاعفات. {مُضَاعَفَةً} صفة مؤكدة لـ {أَضْعَافًا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الواو عاطفة. {اتَّقُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَأْكُلُوا}. {لَعَلَّكُمْ} لعلَّ حرف نصب وتعليل. و {الكاف} اسمها. وجملة {تُفْلِحُونَ} في محل الرفع خبرها، وجملة {لعلَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره؛ واتقوا الله لأجل قصد فَلاحِكُم. {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)}. {وَاتَّقُوا} {الواو} استئنافية. {اتَّقُوا النَّارَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {الَّتِي} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {النَّارَ}. {أُعِدَّتْ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على النار. {لِلْكَافِرِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {أُعِدَّتْ}، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}. {وَأَطِيعُوا} {الواو} استئنافية {أَطِيعُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {وَالرَّسُولَ}: معطوف على الجلالة {لعل} حرف نصب وتعليل. و {الكاف} اسمها، وجملة {تُرْحَمُونَ} من الفعل المغير، ونائبه في محل الرفع خبر {لعلَّ}، وجملة {لعلَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره، وأطيعوا الله والرسول لطلب رحمتكم. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ غَدَوْتَ} يقال: غدا الرجل (¬1) يغدو من باب سما، أي: خرج غدوةً. والغدوة، والغداة ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس، ويستعمل غدا ناقصًا. بمعنى صار عند بعضهم، فيرفع الاسم وينصب الخبر، وعليه قوله عليه الصلاة والسلام: "لو توكلتم على الله حق توكله .. لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصًا وتروح بطانًا". ¬

_ (¬1) الجمل.

وهذا المعنى الثاني: ممكن هنا، فالمعنى عليه، وإذ غدوت؛ أي صرت تبوىء المؤمنين؛ أي؛ تنزلهم في منازل، وهذا أظهر من المعنى الآخر؛ لأنَّ المذكور في القصة أنه سار من أهله بعد صلاة الجمعة، وبات في شعب أحد، وأصبح ينزل أصحابه في منازل القتال، ويدبرهم أمر الحرب. {تُبَوِّئُ}؛ أي: تهىء وتبوىء وتنزل مضارع بوأَ من باب فعل المضاعف، وأصله من المباءة، وهي المرجع، فالمباءة مكان البوء، والبوء الرجوع، وهو هنا المقرُّ؛ لأنه يبوءُ إليه صاحبه. ويقال: بوأته منزلًا، وبوأت له منزلًا؛ أي؛ أنزله فيه فأصل التبوَّؤ اتخاذ المنزل. {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} جمع مقعد؛ وهو مكان القعود، والمراد: المراكز، والمواطن، والمواقف، وعبر عنها بالمقاعد، إشارةً إلى طلب ثبوتهم فيها، وإن كانوا وقوفًا كثبوت القاعد في مكانه، {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} يقال: هممت بكذا، أهم به، بضم الهاء من باب: رد إذا قصده، وأراد فعله، فالهم حديث النفس، وتوجهها إلى الشيء بلا عزم عليه. وقال أبو حيان: وأوَّل ما يمر الشيء على القلب يسمى خاطرًا، فإذا تردد صار حديث نفس فإذا ترجح فعله صار همًّا، فإذا قوى وأشتد صار عزمًا، فإذا قوى العزم واشتدَّ حصل الفعل أو القول. {أَنْ تَفْشَلَا} يقال فشل يفشل فشلا من باب فرح إذا ضعف وجبن عن الحرب، وقال بعضهم: الفشل في البدن الإعياء وعدم النهوض وفي الحرب الجبن والخور، وفي الرأي العجز والفساد، والفعل منه فشل بكسر العين من باب تعب وتفاشل الماء إذا سأل. {فَلْيَتَوَكَّلِ} التوكل تفعل من وكل فلان أمره إلى فلان إذا فوضه إليه، واعتمد عليه في كفايته، ولم يتوله بنفسه. وقال ابن فارس (¬1): التوكل: إظهار ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

العجز، والاعتماد على غيرك، يقال: فلان وكلةٌ أي: عاجزٌ يكل أمره إلى غيره، وقيل: هو من الوكالة، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقةً بحسن تدبيره. {بَدْرٍ} علم لموضع بين مكة والمدينة، سمي باسم صاحبه بدر بن كلدة، وقيل: غير ذلك {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} جمع ذليل كرغيف، وأرغفة كما قال ابن مالك: في اسْمٍ مُذكَّرٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدّ ... ثَالِثٍ افْعِلَةُ عَنْهُمُ اطَّرَدْ والذليل هو من لا منعة له ولا قوة وقد كانوا قليلي العدة من السلاح والدواب والزاد. {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} من الكفاية، وهي سد الحاجة، وفوقها الغنى {أَنْ يُمِدَّكُمْ} من أمد الرباعي، والإمداد إعطاء الشيء حالًا بعد حال {بَلَى} حرف جواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي، وتفيد إثبات ما بعده {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}؛ أي: من ساعتهم هذه بلا إبطاء ولا تراخٍ، فالفور الحال التي لا بطء فيها, ولا تراخي وأصله (¬1) من فارت القدر إذا اشتدَّ غليانها، وبادر ما فيها إلى الخروج، ويقال: فار غضبه إذا جاش وتحرك، وتقول: خرج من فوره أي، من ساعته لم يلبث. {بِخَمْسَةِ آلَافٍ} الخمسة مرتبة من العدد معروفةٌ، ويشتق منها الفعل، يقال: خمست الأربعة، إذا صيرتهم في خمسة {مُسَوِّمِينَ} بكسر (¬2) الواو من قولهم، سوَّم على القوم إذا أغار عليهم، ففتك بهم، وقيل: من التسويم بمعنى إظهار سيما الشي وعلامته، أي؛ معلمين أنفسهم وخيلهم. {بُشْرَى} اسم مصدر على فعلى لبشر المضاعف كالرجعى بمعنى البشارة، والبشارة إذا أطلقت لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا قيدت به كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}. {طَرَفًا} والطرف جانب الشيء الأخير ثم يستعمل للقطعة من الشيء وإن لم يكن جانبًا أخيرًا، والمعنى هنا أي: طائفةً وقطعةً منهم {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} الكبت: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الهزيمة والإهلاك، وقد يأتي بمعنى الغيظ، والإذلال، أو الوهن، الذي يقع في القلب {خَائِبِينَ} اسم فاعل من خاب خيبة كهاب هيبة، والخيبة عدم الظفر بالمطلوب. البلاغة قال أبو حيان (¬1): وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة والبلاغة: فمنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {مِنْ أَهْلِكَ} فإن الجمهور قالوا: أراد به بيت عائشة. ومنها: الاختصاص في قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وفي قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} و {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} خص نفسه بذلك كقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}. ومنها: التشبيه في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} فأشبه من قتل، وتفرق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه، وانخرم نظامه، وفي قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرجل الساكن الحركة، وفي قوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} شبه رجوعهم بلا ظفر، ولا غنيمة بمن أمل خيرًا من رجل فأمه فأخفق أمله وقصده. ومنها: الطباق في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} لأن النصر إعزازٌ، وهو ضد الذل، وفي قوله: {يَغْفِرُ} و {يُعَذِّبُ} لأن الغفران ترك المؤاخذة، والتعذيب المؤاخذة بالذنب. ومنها: التجوز بإطلاق التثنية على الجمع في قوله: {أَن تَفْشَلَا}، وبإقامة اللام مقام إلى في قوله: {لَيْسَ لَكَ}؛ أي: إليك أو مقام على أي؛ ليس عليك. ومنها: الاعتراض والحذف في مواضع اقتضت ذلك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}. ومنها: تسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: {لَا تَأْكُلُوا} سمي الأخذ أكلًا لأنه يؤول إليه فهو مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يكون. انتهى. وجملة قوله (¬1): وما النصر إلا من عند الله تذييلٌ، أي: كل نصر هو من الله لا من الملائكة. وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا؛ لأنهما أولى بالذكر في هذا المقام؛ لأن العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره كيف يعطاه. {طَرَفًا} والطرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى الناحية، ويخص بالناحية التي هي منتهى المكان كما في قول أبي تمام: كَانَتْ هِيَ الْوَسَط الْمَحْمِيُّ فَاتَّصَلَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفًا فيكون استعارةً لطائفة من المشركين كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}. ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين، والرجلين، والرأس، فيكون هنا مستعارًا لأشراف المشركين وتنوين {طَرَفًا} للتفخيم. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير في علم التفسير.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}. المناسبة لما حث الله تعالى المؤمنين على الصبر والتقوى، ونبهم على إمداد الله لهم بالملائكة في غزوة بدر، أردفه بالأمر بالمسارعة إلى نيل رضوان الله، ثم ذكر بالتفصيل غزوة أحد، وما نال المؤمنين فيها من الهزيمة بعد النصر بسبب مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين أن الابتلاء، سنة الحياة، وأن قتل الأنبياء لا ينبغي أن

يدخل الوهن في قلوب المؤمنين، ثم توالت الآيات الكريمة في بيان الوقائع والعبر من غزوة أحد. قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر في الآيات السابقة قصة أحد، وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر، وما كتب لم فيها من النصر على قلة عددهم، وعددهم ذكرهم هنا بسنن الله في خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولةٍ، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}. وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا، أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله في خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص له الحق؛ فإن الشدائد محك الأخلاق. وفيه هديٌ وإرشادٌ وتسليةٌ للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر في جميع أعمالهم. بين لهم هنا أن سبيل السعادة في الآخرة منوط بالصبر والجهاد في سبيل الله؛ كما أن طريق السعادة في الدنيا يكون بإقامة الحق، وسلوك طريق الإنصاف، والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك. أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ...} الآية، سبب نزولها: ما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[133]

أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس أنَّ رجالًا من الصحابة كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، أو ليت لنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، فنفوز فيه بالشهادة والجنة، أو الحياة والرزق، فأشدهم الله أحدًا، فلم يلبثوا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...} الآية، أخرج ابن المنذر عن عمر قال: تفرقنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فصعدتُ الجبلَ، فسمعتُ يهود تقول: قتل محمد فقلت: لا أسمع أحدًا يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يتراجعون، فنزلت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: لما أصابهم يوم أحدٍ ما أصابهم من القرح، وتداعوا نبيَّ الله قالوا: قد قتل فقال أناسٌ: لو كان نبيًّا ما قتل، وقال أناس: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم، أو تلحقوا به، فأنزل الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...} الآية. وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن ابن أبي نجيح أن رجلًا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه فقال: أشعرت أن محمدًا قد قتل؟ فقال: إن كان محمدٌ قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم فنزلت. وأخرج ابن راهويه في مسنده عن الزهري، أن الشيطان صاح يوم أحد: إنَّ محمدًا قد قتل، قال كعب ابن مالك: أنا أول من عرف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأيت عينيه من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...} الآية. التفسير وأوجه القراء 133 - {وَسَارِعُوا} قرأ الجمهور بالواو عطفًا تفسيريًّا على وأطيعوا الله كمصاحفهم، فإنها ثابتة في مصاحف مكة والعراق، ومصحف عثمان. وقرأ ابن عامر، ونافع، وأبو جعفر {سَارِعُوا} بدون واو كرسم المصحف الشامي، والمدني، على الاستئناف، كأنَّه قيل: كيف نطيعهما؟ فقيل: سارعوا إلى ما يوجب المغفرة، وهو

الطاعة بالإِسلام، والتوبة والإخلاص، وأمال الدوري في قراءة الكسائي {وَسَارِعُوا} لكسرةِ الراء. وقرأ أُبيٌّ وعبدُ الله {وسابقوا} وهي شاذَّةٌ. أي: وسابقوا وبادروا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: إلى ما يوجب (¬1) المغفرة من ربكم، وهي الأعمال الصالحة المأمور بفعلها. قال ابن عباس رضي الله عنهما إلى الإِسلام، ووجهه أنَّ الله تعالى ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه المغفرة العظيمة، وذلك لا يحصل إلا بسبب الإِسلام؛ لأنه يَجُبُّ ما قبله. وعن ابن عباس أيضًا إلى التوبة من الرّبا والذنوب؛ لأنَّ التوبة من الذنوب توجب المغفرة. وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إلى أداء الفرائض لأنَّ اللفظ مطلق فيعم الكل. وروي عن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، أنها التكبيرة الأولى يعني تكبيرة الإحرام، وقيل: إلى الإخلاص في الأعمال، كما قاله عثمان بن عفان؛ لأنَّ المقصود من جميع العبادات هو الإخلاص. وقيل: إلى الهجرة، وقيل: إلى الجهاد، كما قاله الضحاك، ومحمد بن إسحاق. وينبغي (¬2): أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل، لا على التعيين والحصر. {وَجَنَّةٍ}؛ أي: وسارعوا إلى جنة موصوفة بما سيأتي، وأنما فصل بين المغفرة والجنة؛ لأن معنى المغفرة إزالة العقاب، ومعنى الجنة إيصال الثواب، فلا بد للمكلف من تحصيل الأمرين فجمع بينهما للإشعار؛ بأنه لا بدَّ من المسارعة إلى التوبة الموجبة للمغفرة، وذلك بترك المنهيات، ومن المسارعة إلى الأعمال الصالحة المؤدية إلى الجنة. {عَرْضُهَا}؛ أي: عرض تلك الجنة وسعتها {السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}؛ أي: كعرض السموات السبع والأرضين السبع وسعتهما، بمعنى لو جعلت السموات والأرض طبقًا طبقًا، ووصلت تلك الطبقات بعضها ببعض كالثياب، وجعلت طبقًا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

واحدًا .. لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة، فإذا كان عرضها كذلك فكيف بطولها؛ لأن الغالب أنَّ الطول يكون أكثر من العرض. وإنما مثل عرض الجنة بعرض السموات والأرض؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله تعالى فيما يعلمه الناس، وإنما جمعت السموات وأفردت الأرض؛ لأن السموات أنواع قيل: بعضها فضة وبعضها غير ذلك، والأرض نوع واحد. وقال أبو مسلم (¬1): إن العرض هنا ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع؛ أي: ثمنها، لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وإنه لا يساويها شيء وإن عظم {أُعِدَّتْ}؛ أي: هيئت تلك الجنة {لِلْمُتَّقِينَ} الشرك، والمعاصي بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات. وفي الآية دليلٌ على أن الجنة مخلوقةٌ الآن، وأنها خارجةٌ عن هذا العالم؛ إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم، فلا يمكن أن يكون محيطًا بها. ويدل على (¬2) ذلك حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - إن جبريل وميكائيل قالا له: "ارفع رأسك فرفع، فإذا فوقه مثل السحاب، قالا: هذا منزلك قال: فقلت دعاني أدخل منزلي. قالا: إنه بقي لك عمرٌ لم تستكمله، فلو استكملت .. أتيت منزلك". والأدلة الدالة على أنها مخلوقةٌ من الكتاب والسنة كثيرةٌ شائعة خلافًا للمعتزلة. وخلاصة (¬3) المعنى: أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ربكم، ويدخلكم جنةً واسعة المدى، أعدها الله تعالى لمن اتقاه، امتثل أوامره، وترك نواهيه فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن المعاصي والآثام كالربا مثلًا، وتصدقوا على ذوي البؤس والفاقة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) التحرير والتنوير في علم التفسير. (¬3) المراغي.

[134]

رُويَ أنَّ رسول هرقل ملك الروم، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب هرقل، وفيه أنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار"، يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو، والنار في جهة السفل. 134 - ثم وصف الله تعالى المتقين بجملة أوصافٍ كلها مناقب ومفاخر، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} ويصرفون أموالهم في مصارف الخير {فِي} حالة {السَّرَّاءِ} والغنى، والسعة، والفرح، والرخاء {وَ} في حالة {الضَّرَّاءِ} والفقر، والضيق، والحزن، والشدة، فينفقون في كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين لا في حال غنى وفقر، ولا في حال حزن وسرور، ولا في رخاءٍ وشدةٍ، ولا محنةٍ وبلاء، وسواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في جميع الأحوال. وأثر عن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة. وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق". وإنما بدأ الله سبحانه وتعالى وصف المتقين بالإنفاق لأمرين: الأول: أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة؛ إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغني حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده. ومن ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلّا ذم وقبح، ومدحت معه الزكاة والصدقة كما في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. والأمر الثاني: أنَّ الإنفاق في حالي، اليسر والعسر أدل على التقوى, لأن المال عزيز على النفس، فبذله في طرق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله يشق عليها أما في السراء؛ فلما يحدثه في السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع، وبعد الأمل، وأما في الضراء؛ فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا

أن يعطي، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتًا يجد فيه ما ينفقه في سبيل الله، ولو قليلًا. وحب الخير هو الذي يحرك في الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها، ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة وإصلاح الفطر المعوجة. وقد أرشدنا هذا الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمةً في ذاتها مهما ألح عليها الفقر، وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال، ومد الأيدي إلى الناس لطلب الإحسان، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء، لما في ذلك من الذلة والصغار، وهي ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق في قبضة الله، وهو الذي يعطي ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجهًا كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال، والبعد عن ذل السؤال. إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرًا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة في الزراعة، والصناعة، أو في بناء الملاجىء والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت في سائر فنون المدنية، والحضارة. ولذا حث الله تعالى على بذل الخير ولو قليلًا بقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. ومن هذا ترى: أنَّ الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال؛ كما أن الشحَّ به علامة عدم التقوى. والتقوى: هي السبيل الموصل إلى الجنة. فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد، والجماعات، ويكنزون في صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئًا مع هذا الشح البادي على ووجههم؟!. فما هي إلّا حركات وأعمال مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع في نفوسهم إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأيُّ منكر أشد من

الضن بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد؟. ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل؛ لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوي العزة والمكانة بينها. ولكنا صرنا إلى ما ترى عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه التي ابتلوا بها من جهة الأوروبيين من الملاهي العصرية، والملاعب الفاضية، من المنافع الحربية التي ينفقون فيها أموالًا كثيرةً، وملايين عديدةً تشبهًا باليهود والنصارى، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. فصل في ذكر بعض الأحاديث الواردة في الحث على الإنفاق وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق: فلا ينفق إلا سبغت أو وفت على جلده حتى تخفى ثيابه، وتعفو أثره، وأما البخيل: فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها؛ فهو يوسعها فلا تتسع ". "الجنة الدرع من الحديد متفق عليه. وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "السخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنة، قريب من النار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله تعالى من عابدٍ بخيل" أخرجه الترمذي. وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الاخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا. متفق عليه. وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أنفق زوجين في سبيل الله تعالى دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب، أي فل: هلم، فقال أبو بكر رضي الله: عنه يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني

لأرجو أن تكون منهم". متفق عليه. قوله: أي فل: يعني يا فلان، وليس بترخيم والتوى الهلاك: يعني ذاك الذي لا هلاك عليه. وعنه أيضًا رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنفق ينفق عليك". متفق عليه. {وَالْكَاظِمِينَ}؛ أي: الجارعين {الْغَيْظَ} والغضب عند امتلاء نفوسهم منه، والممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، والكافين لها عن الانتقام مع القدرة عليه، ولا يظهرون أثره. والكظم حبس الشيء عند امتلائه، وكظم الغيظ: هو أن يمتليء غيظًا فيرده في جوفه، ولا يظهره بقولٍ ولا فعلٍ، ويصبر عليه ويسكن عنه. ومعنى الآية (¬1): أنهم يكفون غيظهم عن الإمضاء، ويردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم كما في آية أخرى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}. ومن أجاب داعي الغيظ وتوجه بعزيمةٍ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه. وروي عن عائشة رضي الله عنها أن خادمًا لها غاظها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاءً، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاءٍ، ومن جرعة غيظٍ كظمها". وعن سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء". أخرجه الترمذي، وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد ¬

_ (¬1) الخازن.

بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". متفق عليه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنًا، وإيمانًا" وقال (¬1) مقاتل بلغنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية: إنَّ هذه في أمتي لقليل، وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية". وأنشد أبو القاسم بن حبيب: وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقْوَرًا كَاظِمًا ... لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُوْلُ وَتَسْمَعُ فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَصَبُّرُ سَاعَةٍ ... يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإِلَهُ وَيدْفَعُ {وَالْعَافِينَ}؛ أي: التاركين المسامحين الإساءة والمظالم {عَنِ النَّاسِ} الجناة والمسيئين عليهم؛ أي: الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس، ويتركون عقوبة من استحقوا مؤاخذته مع القدرة عليه، وتلك منزلة من ضبط نفسه وملك زمامها قل من يصل إليها، وهي أرقى من كظم الغيظ إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة. وأخرج الطبراني عن أبيٍّ بن كعب أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه". وفي الآية: إيماءٌ إلى حسن موقع عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشادٌ له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين راه: "قد مثل به لأمثلن بسبعين منهم". {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ} ويثيب {الْمُحْسِنِينَ} بالإخلاص، والأعمال الصالحة، وبالإحسان إلى غيرهم على إحسانهم، ومحبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. أي: والله سبحانه وتعالى يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين، ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرًا له على جزيل نعمائه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[135]

أخرج البيهقي: أنَّ جاريةً لعليٍّ بن الحسين رضي الله عنها جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها، فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفا الله عنك، قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى. واعلم: أن الإحسان إلى الغير إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات. وإما بدفع الضرر عنه، فهو إما في الدنيا بأن لا يقابل الإساءة بإساءة أخرى، وهو ما عناه الله بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} وإما في الآخرة بأن يعفو عما له عند الناس من التبعات، والحقوق، وهذا هو المراد بقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى الغير. 135 - {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} هذا (¬1) مبتدأ خبره {أؤُلَئِكَ} وقيل: معطوف على {المتقين} والأول أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول، ملحقون بهم، وهم التوابون. أي: والذين إذا فعلوا وارتبكوا فاحشةً أي: ذنبًا قبيحًا، وهو ما يتعدى أثره إلى الغير كالغيبة ونحوها {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: ارتكبوا ذنبًا يكون مقصورًا عليهم، كشرب الخمر ونحوه، وقيل: المراد بالفاحشة الكبائر وبالظلم الصغائر. وقال ابن عباس (¬2): الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة. {ذَكَرُوا اللَّهَ}؛ أي: ذكروا وعده ووعيده، وأمره ونهيه، بألسنتهم وعظمته وجلاله وعقابه بقلوبهم {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته راجين رحمته علمًا منهم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو، فهو الفعال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع. وقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} جملةٌ معترضة بين ما قبلها وما بعدها، أعني بين جملة {فَاسْتَغْفَرُوا}، وجملة {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} تصويبًا لفعل التائبين، وتطييبًا لقلوبهم، وبشارةً لهم بسعة الرحمة، وقرب المغفرة وإعلاءً لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله، وكرمه، وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عما عنه، وتجاوز عن ذنوبه، وإن جلت، فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم؛ كما أن فيها تحريضًا للعباد على التوبة وحثًّا لهم عليها، وتحذيرًا من اليأس والقنوط. والاستفهام فيه للإنكار، أي: لا يغفر ذنوب التائبين أحدٌ إلا الله. ومعنى: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح؛ لأجل ذنوبهم، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل، ومع الإقلاع عنه في الحال، وهذا هو حقيقة التوبة. فأما الاستغفار باللسان؛ أي: مجرد قول استغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة، ولإظهار انقطاعه إلى الله تعالى. وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا} معطوف على جواب إذا. {وَلَمْ يُصِرُّوا} معطوف على {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: ولم يقيموا, ولم يدوموا {عَلَى مَا فَعَلُوا} وارتكبوا من الفواحش واللمم من غير استغفار منها، ورجوع إلى الله بالتوبة بل أقروا واستغفروا. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار". يريد - صلى الله عليه وسلم - أن الصغيرة مع الإصرار كبيرةٌ. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذه الجملة حال من فاعل {يُصِرُّوا}؛ والحال أنهم يعلمون أن ما فعلوه معصية الله، وأنه منهيٌّ عنه قبيحٌ ورد الوعيد عليه، أو يعلمون أن الله يتوب على من تاب. والفائدة من ذكر هذه الجملة: بيان أنه إذا لم يعلم أنه معصية الله .. يعذر في فعله. والمؤمن المتقي لا يصر على الذنب، وهو يعلم نهي الله عنه، ووعيده عليه

إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة. فالآية: تؤمِىءُ إلى أن المتقين الذين أعدَّ الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب، إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر. ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالةٍ، وبادر إلى التوبة منها، فكانت مذكرة له بضعفه البشري، ودليلًا على أن للغضب عليه سلطانًا تكون دون صغيرةٍ يقترفها مستهينًا بها، مصرا عليها، مستأنسًا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين. وروي أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أوحى إلى موسى عليه السلام: "ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عملٍ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي". وقال عبد الله بن المبارك شعرًا: تَرْجُو اْلنَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِيْنَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ قال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} إلى آخرها. فصلٌ فيما وَرَد في فضل الاستغفار من الأحاديث الصحيحة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إني كنت إذا سمعت حديثًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعني الله منه ما شاء أن ينفعني، وإذا حدَّثني أحد من الصحابة استحلفته، فإذ حلف لي صدقته، وأنه حدثني أبو بكرٍ، وصدق أبو بكر أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد مؤمن أو قال: ما من رجل يذنب ذنبًا فيقوم ويتطهر، ثم يصلي، ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} إلى آخر الآية. أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث قد رواه غير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَزِم الاستغفارَ .. جَعَل الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب". أخرجه أبو داود. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا .. لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم". أخرجه مسلم. وعنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إذا أذنب عبد ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال، تبارك وتعالى: إن عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال: تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب". وفي رواية اعمل ما شئت قد غفرت لك". قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت؛ متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرةً". أخرجه الترمذي. وعنان السماء بفتح العين السحاب، وقيل: ما ظهر لك منها. وقراب الأرض بضم القاف، وروي كسرها، والضم أشهر، وهو ما يقارب ملأها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال: "استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فر من الزحف". أخرجه أبو داود، والترمذي والحاكم، وقال: حديث حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم.

[136]

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل ذنب عسَى أن يغفره الله إلا من مات مشركًا، ومن قتل مؤمنًا متعمدًا". أخرجه أبو داود. انتهى الفصل. 136 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة، والمستغفرون من ذنوبهم {جَزَاؤُهُمْ} على أعمالهم الحسنة {مَغْفِرَةٌ} كائنة {مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَجَنَّاتٌ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها، وقصورها {الْأَنْهَارُ}؛ أي: أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل حالة كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: مقدرين الخلود {فِيهَا}؛ أي: في الجنة دائمين فيها لا يموتون، ولا يخرجون منها {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}؛ أي: وحسن جزاء المطيعين الله بالصفات السابقة، وبالاستغفار من ذنوبهم. والمخصوص بالمدح المغفرة، والجنات. وخلاصة ذلك: نِعْمَ هذا الأجر الذي ذكر من المغفرة، والجنات أجرًا للعاملين تلك الأعمال الصالحة، وللمستغفرين من ذنوبهم. وذكر تعالى (¬1) {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} بـ {واو} العطف هنا، وتركها في العنبكوت لوقوع مدخولها هنا بعد خبرين متعاطفين بالواو، فناسب عطفه بها ربطًا بخلاف ما في العنبكوت؛ إذ لم يقع قبل ذلك إلا خبر واحد كنظيره في الأنفال في قوله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى} ونظير الأول قوله في الحج: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى}؛ وإن كان العطف فيه بالفاء. ولا يلزم (¬2) من إعداد الجنة للمتقين، والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم. والتعبير عن المغفرة، والجنات بالأجر المشعر بأنهما يستحقان في مقابلة العمل، وإن كان بطريق التفضل، لمزيد الترغيب في الطاعات، والزجر عن المعاصي. 137 - {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} وهذا رجوع إلى تفصيل بقية قصة أحد بعد تمهيد مبادئ الرشد، والصلاح وأولها قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} فقوله: {يأَيَهُا ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) كرخي.

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا الرِّبَا} إلى قوله: {قَدْ خَلَتْ} اعتراضٌ في خلال القصة. أيْ: قد (¬1) مضت من قبل زمانكم أيها المؤمنون سنن الله تعالى وعاداته في الأمم الماضية المكذِّبة لرسلهم بإهلاكهم، واستئصالهم لأجل مخالفتهم الرسل، إن لم يتوبوا، وبالمغفرة إن تابوا، فرغب الله تعالى أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في تأمل أحوال هؤلاء الماضين؛ ليصير ذلك داعيًا لهم إلى الإيمان بالله ورسله، والإعراض عن الرياسة في الدنيا، وطلب الجاه. والخلاصة: أن النظر في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين، فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين، فحالكم كحالهم. وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وإرشادٌ لهم إلى أنهم بين عاملي خوف ورجاءٍ، فهي على أنها بشارةٌ لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذ هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم. وعلى الجملة، فالآية خبر وتشريع، وتتضمن وعدًا ووعيدًا وأمرًا ونهيًا. والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن في الأمم، وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها. لذلك لم يلبث أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ثابوا إلى رشدهم يومئذٍ، ورجعوا إلى الدِّفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم، ولم ينالوا ما كانوا يقصدون. وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة في تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده؛ إذ المقول قد ينسى، ويقل الاعتبار به من قبل هذا، أرشدهم إلى الاعتبار، وقياس ما في أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم، ومن ثم قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي، واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب أجله الذي أجلته ¬

_ (¬1) مراح.

لإهلاكهم، فإن أردتم معرفة ذلك فامشوا أيها المؤمنون في نواحي الأرض وأرجائها، ثم انظروا، وتأملوا كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل الذين لم يتوبوا من تكذيبهم. وفي الآية (¬1) دلالةٌ على أهمية علم التاريخ, لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال ابن عرفة: السير في الأرض حسي ومعنوي. والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض، لعجز الإنسان وقصوره. وإنما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب؛ لأن في المخاطبين من كانوا أميين، ولأن المشاهدة تفيد من لم يقرأ، علمًا، وتقوي علم من قرأ التاريخ, أو قص عليه. والمعنى: فسيروا في الأرض، وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم؛ ليحصل لكم العلم الصحيح المبني على المشاهدة وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل في الأمم السالفة وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى. والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها. وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر في كتب التاريخ التي دونها من ساروا في الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون في الأرض بأنفهسم، ويرون الآثار بأعينهم, لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثرٌ في النفس كما قيل: إِنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوْا بَعْدَنَا إلى اْلآثَارِ والحاصل: أنه تعالى رغب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعيًا لهم إلى الإيمان بالله ورسوله، والإعراض عن الدنيا ولذاتها. وفيه أيضًا زجر للكافر عن كفره؛ لأنه إذا تأمل في أحوال الكفار الماضين، وإهلاكهم صار ذلك داعيًا له إلى الإيمان. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير في علم التفسير.

[138]

وفي هذه الآية أيضًا تسليةٌ لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما جرى لهم في غزوة أحد، وحينئذ فلا عجب في أن ينهزم المسلمون في وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه في حفرةٍ. وفيها أيضًا دلالةٌ (¬1) على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى، وزيارة الصالحين، وزيارة الأماكن المعظمة، كما يفعله سياح هذه الأمة. وجواز النظر في كتب المؤرخين, لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم، وما جرى عليهم من المثلات. والأمر في قوله: {فَسِيرُوا} أمر ندب لا وجوب، بل المقصود تعرف أحوال الماضين. وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الاشتغال بعلم التواريخ مندوب ندبًا كفائيًّا، أو عينيًّا كما مرت الإشارة إليه. 138 - {هَذَا} القرآن الذي أنزل عليك يا محمد، وقيل: اسم الإشارة عائد إلى ما تقدم من أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده {بَيَانٌ} وإيضاحٌ لأحكام الدين {لِلنَّاسِ} عامة أي: مبينٌ لهم لأحكام دينهم من الحلال، والحرام، وغيرهما. {وَهُدًى} للمتقين منهم خاصة ورشاد لهم؛ أي: هادٍ لهم من الضلالة إلى طريق الرشاد {وَمَوْعِظَةٌ} ونصيحةٌ {لِلْمُتَّقِينَ} الله خاصة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، أي واعظٌ وزاجرٌ لهم عن المنهيات والمنكرات. وقيل (¬2): في الفرق بين البيان، والهدي، والموعظة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. إن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلةً. والهدي هو: طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ. والموعظة هي: الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين. فالحاصل: أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين، وهو الهدى. والثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين، وهو الموعظة. وإنما خص المتقين بالهدى والموعظة؛ لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[139]

والمعنى: (¬1) أنَّ هذا الذي تقدم بيان للناس كافةً، وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصةً، فالإرشاد عام للناس، وحجة على المؤمن، والكافر التقي منهم والفاجر. وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم: لو كان محمدٌ رسولًا حقًّا لما غلب في وقعة أحدٍ. فهذا الهدي والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هي حاكمةٌ على سائر خلقه. فما من قائدٍ يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وظهورهم، والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضةٌ للإنكسار؛ إذا كر العدو عليه قطع خط الرجعة، ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس كلٌّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة. وأما كونه هدى وموعظةً للمتقين خاصَّةً، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون، ويسيرون على النهج السوي، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها. فالمؤمن حقًّا، هو الذي: يهتدي بهدي الكتاب، ويسترشد بمواعظه كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب، والتنازع مع غيرنا، إلى أن نروض أنفسنا ونعرف عنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا، فنسير على سنن الله في طلبه، وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين. 139 - {وَلَا تَهِنُوا}؛ أي: ولا تضعفوا عن الجهاد مع عدوكم لما أصابكم من الهزيمة يوم أحد {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من الغنائم فيه، ولا على ما أصابكم من القتل، والجراحة، وكان قد قتل منهم يومئذٍ سبعون رجلًا خمسةٌ من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، صاحب راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشماس بن عثمان، وسعدٌ ¬

_ (¬1) المراغي.

مولى عتبة، وباقيهم من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}؛ أي: الغالبون في آخر الأمر بالنصرة لكم دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدَّمار حسب ما شاهدتم من أحوال أسلافهم، أي لكم العاقبة المحمودة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} حقًّا بصدق وعد الله نبيه بالنصر، وهذا إما منصبٌّ بالنهي أو بوعد النصر والغلبة؛ أي: إن كنتم مؤمنين .. فلا تهنوا، ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وقلة المبالاة بالأعداء، أو إن كنتم مؤمنين. فأنتم الأعلون؛ فإن الإيمان يقتضي العلو بلا شكٍّ. والمعنى: ولا تضعفوا عن القتال، وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أحد، ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم، وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون؛ فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين، الذين لا يحيدون عن سنته، بل ينصرون من ينصره، ويقيمون العدل فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي، والانتقام، أو للطمع فيما في أيدي الناس. فهمة الكافر على قدر ما يرمي إليه من غرض خسيسٍ، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمي إلى إقامة صرح العدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ومصدِّقين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع حتى صار ذلك الإيمان وصفًا ثابتًا لكم حاكمًا على نفوسكم وأعمالكم. إنما نهى عن الحزن على ما فات؛ لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئًا من عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مالٍ أو متاع أو صديقٍ تكسبه قوة، وتوجد في نفسه سرورًا. والمراد بالنهي عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفًا. وخلاصة ذلك الأمر: بأخذ الأهبة وإعداد العدة، مع العزيمة الصادقة، والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا، ويستعيضوا مما خسروا.

[140]

وفي قوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} تبشيرٌ لهم بما يقع لهم في المستقبل من النصر، فإن من اخترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقينٍ من العاقبة بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح 140 - {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}؛ أي: إن أصابكم أيها المؤمنون جرح في يوم أحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ}؛ أي: فقد أصاب كفار مكة يوم بدر {قَرْحٌ مِثْلُهُ}، أي: جرح ماثلٌ لما أصابكم في يوم أحد، بل هو أعظم مما أصابكم؛ لأنه أسر منهم سبعون، وقتل سبعون والمسلمون في أحدٍ قتل منهم سبعون، وأسر عشرون، ومع ذلك فلم يضعف ذلك قلوبهم، فأنتم أحق بأن لا تضعافوا. وقيل: إن المعنى إن نالكم يوم أحد قرحٌ وانهزامٌ .. فقد نال كفار مكة في ذلك اليوم، أعني يوم، أحد قرحٌ مماثلٌ لما نالكم، فإن المسلمين نالوا من الكفار قبل أن يخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلوا منهم نيفًا وعشرين رجلًا، منهم صاحب لوائهم، وجرحوا عددًا كثيرًا، وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم أول النهار. والخلاصة: أنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه؛ لأجل أن مسكم قرحٌ، فإن أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا في الحرب، ولم يهنوا فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة وتمسككم بالحق. وقرأ حمزة (¬1) والكسائي، وابن عيَّاش عن عاصم، والأعمش في طريقةٍ {قَرْحٌ} بضم القاف وباقي السبعة بالفتح. والسبعة كلهم على تسكين الراء. قال أبو علي: والفتح أولى انتهى. ولا أولوية إذ كلاهما متواترٌ فهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها. وقرأ أبو السمال، وابن السميقع {قَرْحٌ} بفتح القاف والراء، وهي لغة: كالطرد والطرد والشل والشلل. وقرأ الأعمش {إِنْ يَمْسَسْكُمْ} بالتاء من فوق {قَرْوحٌ} بالجمع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط والبيضاوي.

{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ}؛ أي: أيام الغلبة والظفر والنصر {نُدَاوِلُهَا} ونناقلها، ونحاولها، ونناوبها، ونصرفها من قديم الزمان إلى آخره {بَيْنَ النَّاسِ} على وفق ما أردناه أزلًا تارةً لهؤلاء، وتارةً لهؤلاء، فلا تبقى الناس على حالة واحدةٍ، ولا يدوم (¬1) مسارها ومضارها فيومٌ يحصل فيه السرور للمؤمنين، والغم للأعداء، ويومٌ آخر بالعكس، ولكن العاقبة للمؤمنين، وليس المراد من هذه المداولة أنَّ الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، والأخرى ينصر الكافرين. وذلك؛ لأن نصرة الله منصبٌ شريفٌ، فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارةً يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين، ولو شدَّد المحنة على الكفار في جميع الأوقات .. لحصل العلم الضروري بأن الإيمان حقٌّ، وما سواه باطلٌ، ولو كان كذلك .. لبطل التكليف والثواب، وأيضًا إن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي؛ فيشدد الله المحنة عليه في الدنيا تأديبًا له. وأمَّا تشديد المحنة على الكافر، فإنه غضبٌ من الله عليه، وأيضًا: إن لذات الدنيا وآلامها غير باقية، وإنما السعادات المستمرة في دار الآخرة. ورُوي أنَّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعةٌ، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، وهو أبوه من الرضاع أين ابن أبي قحافة؟ يريد أبا بكر أين ابن الخطاب؛ فقال عمر: هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم، والأيام دولٌ، والحرب سجالٌ، فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال: إن كان الأمر كما تزعمون .. فقد خبنا إذًا وخسرنا. والخلاصة (¬2): أن مداولة الأيام، وأوقات الغلبة، والنصر بين الناس سنةٌ من سنن الله تعالى في المجتمع البشري، فمرةً تكون الدولة، والغلبة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائمًا لمن اتبع الحق. وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح، ورعاها حق رعايتها، ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) المراغي.

كالإتفاق، وعدم التنازع، والثبات، وصحة النظر، وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة، وإعداد ما يستطاع من القوة. فعليكم أيها المؤمنون: أن تقوموا بهذه الأعمال، والأسباب وتحكموها أتم الأحكام حتى تظفروا، وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفًا لعزائمكم؛ فإن الدنيا دولٌ كما قال: فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيوْمٌ نُسَرُّ ومن أمثال العرب: الحرب سجالٌ. وقرىء (¬1) شاذًا {يُدَاوِلُهَا} بالياء، وهو جار على الغيبة قبله وبعده، وقراءة النون فيها التفاتٌ وإخبارٌ بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} معطوف على محذوف تقديره وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة، والباحث في الحكم الإلهية، أنه لا محاباة في هذه المداولة {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ}؛ أي: وليرى الله صبر الذين آمنوا منكم على مناجزة الجهاد وملاقاة الأعداء. قال ابن كثير (¬2): قال ابن عباس في مثل هذا: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. انتهى أو المعنى: وليميِّز الله الذين أخلصوا في إيمانهم من المنافقين إذا أصابتهم المشقة كما وقع في أحد. وقال الشوكانيُّ (¬3): فعلنا فعل من يريد أن يعلم؛ لأنه سبحانه لم يزل عالمًا، أو ليعلم الذين آمنوا بصبرهم علمًا يقع عليه الجزاء والثواب، كما علمه علمًا أزليًّا انتهى. وإنما فسرنا كذلك, لأنَّ الله سبحانه وتعالى علمهم أزلًا فلم يزل عالمًا بهم. {وَيَتَّخِذَ}؛ أي: وليكرم بعضكم باتخاذهم شهداء في سبيل الله، وهم شهداء أحد، وذلك أن قومًا من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو، ويلتمسون فيه الشهادة. والشهداء جمع شهيد، وهو من قتل من المسلمين بسيف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) ابن كثير. (¬3) فتح القدير.

[141]

الكفار في المعركة؛ سمي بذلك لكونه مشهودا له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة. وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} جملةٌ معترضةٌ بين العلل المتعاطفات؛ لتقرير مضمون ما قبلها؛ أي: لبيان أنَّ الشهداء يكونون ممن أخلصوا في إيمانهم، وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه في خلقه. أي: يعاقب المشركين، وإنما يظفرهم في بعض الأحيان استدارجًا لهم وابتلاءً للمؤمنين. والمعنى: إن الله لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم. وفي ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذارٌ للمقصرين بأنه لا يحبهم الله. وتعريضٌ لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد في الأرض؛ والبغي على الناس، وهضم حقوقهم. ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطةٌ، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال. ثم عطف على قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} 141 - قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: وليطهر الذين آمنوا من ذنوبهم، ويصفيهم منها بما يصيبهم في الجهاد إن كانت الغلبة للكافرين على المؤمنين. أي: ونداول تلك الأيام ليميز المؤمنين الصادقين من المنافقين، ويطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرًا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرًا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجربة الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهي التي تمحصها، وتنفي خبثها، وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه. فالمعتقد في دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء، أنه يسهل عليه بذل ماله، ونفسه في سبيل الله؛ ليرفع راية ذلك الدين، ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور له أولًا، أنظروا إلى الذين خالفوا أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وطمعوا في الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار كيف محصهم الله تعالى بتلك الشدائد.

[142]

فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل، والتواكل، ولا لنيل الظفر، ونيل السيادة، بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدًّا في العمل، وأعظمهم تفانيًا، في أداء الواجب إتباعًا للنواميس، والسنن التي وضعها الله في الخليقة. وقد تجلَّى أثر هذا التمحيص في الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففي "غزوة حمراء الأسد" أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد، فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنةٍ، وعزائم صادقةٍ، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرحة، والقلوب المتكسرة. {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}؛ أي: وليهلك الكافرين في الحرب، ويستأصلهم شيئًا فشيئًا، إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين. ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعةٌ، ولا بأسٌ، ولا قلٌّ (¬1)، ولا كثرٌ من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم، لا فائدة فيه، ولا أثر له فالكافرون المبطلون، لا يثبت لهم حالٌ مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل في ينازعهم ويقاوم باطلهم، كما هو مشاهد في عصرنا هذا. لأن الإِسلام راح إلا الاسم، فهذه مصيبةٌ، ما أعظمها، فإنا لله، وإنا إليه راجعون. 142 - وأم في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} منقطعةٌ عند الأكثرين تقدَّر ببل، وهمزة الإنكار، والخطاب فيه للذين انهزموا يوم أحد أي أظننتم (¬2) أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها، والحال أنه لم يجتمع فيكم الجهاد في سبيل الله، والصبر فيه على مشاقه؟ أي: لا تحسبوا دخولها {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. أي؛ والحال: أنه لم ير الله المجاهدين منكم في سبيل الله ¬

_ (¬1) وَقُلُّ الشيء: عُلُوَّهُ وارتفاعه، يقال: قَلَّ الشي يَقِلُّ - من باب ضرب - قِلًّا وقَلًّا إذا علا وكُثْرُ الشيء عظمته. اهـ مؤلفه. (¬2) مراح.

يوم أحد, ولم ير الصابرين على قتال عدوّهم مع نبيهم؛ أي: لا تحسبوا (¬1) أن تدخلوا الجنة بدون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد من جراحٍ، وألم، وكل مكروه، وأريد بحالة نفي علم الله بالذين جاهدوا، والصابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد، والصبر عنهم. لأن الله إذا علم شيئًا فذلك المعلوم محقق الوقوع، فكما كنى بعلم الله عن التحقق في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} كنى بنفي العلم عن نفي وقوع اجتماع الجهاد والصبر فيهم، فكأنه، قال: لا تحسبوا دخول الجنة مع أنكم لم تجاهدوا, ولم تصبروا على شدائد الحرب. وقال الطبريُّ (¬2) المعنى: أظننتم يا معشر أصحاب محمد: أن تنالوا كرامة ربكم، ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدون منكم في سبيل الله، والصابرون عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من ألمٍ ومكروه. انتهى. وفي هذه (¬3) الآية معاتبةٌ لمن انهزم يوم أحد، والمعنى: أم حسبتم أيها المنهزمون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا، وبذلوا مهجهم لربهم عن وجل، وصبروا على ألم الجراح، والضرب، وثبتوا لعدوهم يوم بدر من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم. والخلاصة: لا تحسبوا دخول الجنة والحال أنه لم يقع منكم الجهاد مع الصبر على مكابده، وذلك بعيدٌ، وإنما استبعد هذا؛ لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الوقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه في الدين والدنيا، كان عن البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة، والجنة مع إهمال هذه الطاعة. وجهاد (¬4) النفس على أداء حقوق الله، وحقوق العباد مما يشق عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل، ويسهل عليها أداء تلك الحقوق. وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء في ميدان القتال، وخوض غمار الوغى وأصعب من هذا، وأشق دعوة الأمة إلى خيرٍ لها في دينها ودنياها، أو بث ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير. (¬2) تفسير الطبري. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

[143]

فكرةٍ صالحةٍ تغير بعض أخلاقها، وعاداتها، أو مقاومة بدعةٍ فاشيةٍ بين أفرادها، فإنها تجد مقاومةً من الخاصة بله العامة، فتراهم يرفعون راية العصيان في وجه الداعي، ويشاكسونه بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلًا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم، ويناصرهم في باطلهم. وكثيرًا ما يحدث للداعي التلف والهلاك، أو ثلم العرض أو الإخراج من حظيرة الدين. وقرأ الجمهور (¬1) {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا} بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب، والنخعي بفتحها. وخُرِّج على أنه إتباعٌ لفتحة اللام، أو على إرادة النون الخفيفة، وحذفها كقول الشاعر: لا تُهِيْنَ الفَقِيْرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ ... كَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وقرأ الجمهور {وَيَعْلَمَ} بفتح الميم فقيل: هو مجزومٌ وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ {وَلَمَّا يَعْلَمِ} بفتح الميم على أحد التخريجين السابقين. وقيل: هو منصوب فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو المعية نحو: ما تأتينا وتحدثنا. وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف. وتقرير المذهبين في علم النحو وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، بكسر الميم عطفًا على {وَلَمَّا يَعْلَمِ} المجزوم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو وبن العلاء {وَيَعْلَمَ} برفع الميم، وفي تخريجه وجهان: أظهرهما: أنه مستأنف، أي وهو يعلم الصابرين. وثانيهما: أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا، وأنتم صابرون. قاله الزمخشري. 143 - وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} خوطب به الذين لم يشهدوا بدرًا، وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينالوا كرامة الشهادة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أي: وعزتي وجلالي، لقد كنتم يا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تطلبون الموت بالشهادة في الحرب من قبل أن تشاهدوا أسباب الموت وشدائده من الجهاد، والقتال يوم أحد، أو من قبل أن تلقوا العدو فيه حيث قلتم ليت لنا يومًا كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه من الكرامة، كانوا قد ألحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في الخروج إلى المشركين في أحد، وكان رأيه - صلى الله عليه وسلم - في الإقامة بالمدينة حتى يدخلها عليهم المشركون. ثم ظهر منهم خلاف ذلك. وقراءة الجمهور بكسر اللام {مِنْ قَبْلِ} لأنها معربة لإضافتها إلى {أَنْ} وما في حيزها؛ أي: من قبل لقائه. وقرأ مجاهد بن جبر {مِنْ قَبْلِ} بضم اللام قطعها عن الإضافة كقوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وعلى هذا، فـ {إن} وما في حيزها في محل نصب على أنها بدل اشتمال من الموت أي: تمنون لقاء الموت كقولك رهبت العدو لقاءه. وقرأ الزهري والنخعيُّ {تلاقوه} ومعناه متحدٌ مع معنى تلقوه, لأن لقي يستدعي أن يكون بين اثنين بمادته، وإن لم يكن على المفاعلة. {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: فقد رأيتم الموت وأسبابه وأبصرتموه يوم أحد إن كنتم صادقين في تمنيكم الحرب {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي: والحال أنكم تنظرون، إلى سيوف الكفار، والأعداء حين قتل أمامكم من قتل من إخوانكم فلم انهزمتم منهم، ولم تثبتوا مع نبيّكم؛ وهذه الجملة تأكيدٌ لما قبلها، أي: والحال أنكم بصراء ليس بأعينكم علَّةٌ. وقال الشوكاني: وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة. انتهى. وقرأ طلحة بن مصرف {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} باللام. فمعنى (¬1) قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدتهم، وأسلحتهم، وكرهم وفرهم مشاهدةً لا خفاء فيها، ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق في نفوسكم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[144]

ومعنى تمني الموت: تمني الشهادة في سبيل الله، والقتال لنصرة الحق، ولو ذهبت نفوسكم دونه. وصفوة القول: لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الميدان، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه، لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون به، ومن تمنى الشيء، وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءَه. وفي الآية الكريمة: تنبيهٌ لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس، والتمنّي، والتشهّي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشاقّ، وعدم الثقة منها بما دون الجهاد، والصبر على المكاره في سبيل الحق حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدعي مع الغفلة، أو الجهل بعجزه عنه. وكثيرًا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه، ويفكر في خدمتهما، ويتمنى لو يتاح له أن يساهم في تلك الخدمة بنفسه، أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته، وكابد مشقته. ولكن المؤمن حقًّا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حقٌّ، وذلك يستدعي العمل مهما كان شاقًّا، والجهاد مهما كان عسيرًا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل. وقد كان في الذين خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا في المرتبة العليا من صدق الجهاد، والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلًا؛ لكنه جعل الخطاب عامًّا ليكون الإرشاد والنصح عامًّا للجميع، فيتهم ذوو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير فيزدادوا كمالًا على كمالهم، ويرعوي المقصرون، وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب في تهذيب الأنفس. 144 - وقد ظهر أثر ذلك في نفوس أولئك القوم فيما بعد، ورباهم تربيةً كانت بها

عزائمهم ماضيةً، وهممهم صادقةً فلم يهنوا, ولم يضعفوا, ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور. ثم نزل (¬1) في مقالتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغنا يا نبيَّ الله أنك قتلت فلذلك انهزمنا فقال الله {وَمَا مُحَمَّدٌ} - صلى الله عليه وسلم - {إِلَّا رَسُولٌ}؛ أي: إلا بشر مرسل إلى كافة الناس {قَدْ خَلَتْ} ومضت {مِنْ قَبْلِهِ}، أي من قبل محمد {الرُّسُلُ} عليه وعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم، وسنتهم بعد خلوهم. فعليكم يا أمة محمد أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه؛ لأن المقصود من بعثةِ الرسل تبليغ الرسالة، وإلزام الحجة، لا وجوده وخلوده بين أظهر قومه. ومحمدٌ اسم (¬2) علم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه، وهو الذي كثرت خصاله الحميدة، والمستحق لجميع المحامد المخلوقية؛ لأنه الكامل في نفسه - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: في خلقه وخلقه، فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى، فسمَّاه محمدًا، وأحمد. وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أرْسَلَ عَبْدَهُ ... بِبُرْهَانِهِ وَاللهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ أغَرُّ عَلَيْهِ لِلنَّبُوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللهِ مِنْ نُوْرٍ يَلُوْحُ وَيشْهَدُ وَضَمَّ اْلإِلهُ اْسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ في الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنْ إِسْمِهِ ليُجِلَّهُ ... فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهَذَا محمَّدُ وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". متفق عليه. والعاقب الذي ليس بعده نبيٌّ، وسماه الله رؤوفًا رحيمًا. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا ¬

_ (¬1) تنوير المقياس. (¬2) الخازن.

نفسه أسماءً: فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المقفى، ونبي التوبة، ونبي الرحمة". رواه مسلم. والمقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده. والهمزة في قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ} للاستفهام (¬1) الإنكاري، والفاء للعطف ورتبتها التقديم, لأنها حرف عطف. وإنما قدمت الهمزة, لأن لها صدر الكلام. وقال ابن الخطيب: الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، وتكون الفاء عاطفة، ولو صرح به لقيل أتؤمنون به مدة حياته؛ فإن مات كما مات موسى، وإبراهيم وغيرهما {أَوْ قُتِلَ} كما قتل زكريا، ويحيى {انْقَلَبْتُمْ} ورجعتم {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وأدباركم، وارتددتم راجعين عن دينكم، فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم، والرسول ليس مقصودًا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها. أي: لا ينبغي منكم الارتداد حينئذٍ؛ لأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مبلغ لا معبودٌ، وقد بلَّغكم والمعبود باقٍ، فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه. روي (¬2) أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بحجرٍ فكسر رباعيته، وشج وجه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حتى قتله ابن قميئة، وهو يرى أنه قتل النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال: قد قتلت محمدًا، وصرخ صارخ أن محمدًا قد قتل، فانكفأ الناس، وجعل الرسول عليه السلام يدعو "إليَّ عبادَ الله" فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه، وحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وتفرق الباقون، وقال بعضهم: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وقال ناسٌ من المنافقين: لو كان محمد نبيًّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم، ودينكم الأول، وقال أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت فيها القلوب الحناجر، يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية. (¬2) البيضاوي.

محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إنّي أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه فنزلت {وَمَنْ يَنْقَلِبْ} أي: ومن يرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ}؛ أي: إلى دينه الأول، وهو الشرك {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}؛ أي: فلن ينقص الله رجوعه شيئًا، وإنما يهلك نفسه بإقباله على العذاب، أو المعنى؛ ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئًا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعز دينه، ويجعل كلمته هي العليا، وهو لا محالة منجزٌ وعده، ولا يحول دون ذلك ارتداد الضعفاء، والمنافقين على أعقابهم فهو سيثبت المؤمنين، ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق، والأمر، وهو القادر على كل شيء {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} له نعمه عليهم بالإيمان, والهداية إلى أقوم السبل الثابتين على دين الإِسلام، الذي هو أجل نعمةٍ وأعز معروفٍ كأنس بن النضر وأمثاله، أي: يجازيهم في الدنيا والآخرة بما يستحقون من النصر على أعدائهم، والثواب الجسيم. وفي الآية إرشادٌ إلى أن المصائب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل، فكثيرًا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا. وفيها إيماءٌ إلى أنا لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود العلم بحيث نتركهما عند موته بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته. والخلاصة: أن الله أوجب علينا أن نستضيء بالنور الذي جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، أمَّا ما يصيب جسمه من جرحٍ أو ألمٍ، وما يعرض له من حياةٍ أو موت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشرٌ مثلكم خاضعٌ لسنن الله كخضوعكم. والخلاصة: أن قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يوجب ضعفًا في دينه، لأمرين:

[145]

أحدهما: أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشرٌ كسائر الأنبياءِ، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا. والثاني: أن الحاجة إلى الرسول هي تبليغ الذين، فإذا تَمَّ له ذلك .. فقد حصل الغرض، ولا يلزم من قتله فساد دينه. وفي الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها، ذا صلة بوجود القائد، بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء بل يجب أن تكون المصالح العامة جاريةً على نظام ثابت، لا يزلزله فقد الرؤساء، وعلى هذا تجري الحكومات، والحروب في عصرنا هذا. ومن توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمرٍ عدته، فتوجد لكل عملٍ رجالًا كثيرين حتى إذا فقدت معلمًا أو مرشدًا أو قائدًا أو حكيمًا أو رئيسًا أو زعيمًا وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدِّي لها من الخدمة ما كان يؤدِّيه، وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلٌّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له. وقرأ الجمهور {الرُّسُلُ} في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله. وفي مصحف عبد الله {رسل} بالتنكير، وبها قرأ ابن عباس وقحطان بن عبد الله. وقرأ الجمهور {عَلَى عَقِبَيْهِ} بالتثنية، وقرأ ابن أبي إسحاق على {عَقِبَهِ} بالإفراد. 145 - {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ}؛ أي: وليس من شأن النفوس، ولا من سنة الله فيها {أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: إلّا بأمر الله وقضائه وقدره، وعلمه، وإرادته، ومشيئته التي بها يجري نظام الحياة، وترتبط فيها الأسباب بالمسببات. وذلك أنَّ الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح، فلا يموت أحدٌ إلا بإذن الله تعالى وأمره، {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} منصوب بعامل محذوف تقديره: كتب الله الموت على عباده كتابًا مقرونًا بأجل معين لا يتغير، ومؤقت أبوقت لا يتقدم، ولا يتأخر، فكثيرٌ من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى، فالشجاع المقدام قد يسلم في الحرب، ويقتل الجبان المتخلف،

ويفتك المرض بالشاب القوي، ويترك الضعيف الهزيل وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف فللأعمار آجالٌ، وللآجال أقدارٌ لا تخطوها. والأقدار هي السنن التي عليها تقوم نظم العالم، وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر في الوهن والضعف. وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ؛ لأن فيه آجال جميع الخلق، وفي الآية تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتومًا ومؤقتًا بميقاتٍ، وأن أحدًا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المعارك واقتحم المهالك .. فلا فائدة إذًا للخوف والجبن والحذر. وفي الآية أيضًا إشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مع غلبة العدو له والتفافهم عليه، وإسلام أصحابه له فرصةً للمختلس، فلم يبق سببٌ من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظًا له لم يضره شيء. وفيها أيضًا: إشارةٌ إلى أن قومه قد قصروا في الذَّبِّ عنه {وَمَنْ يُرِدْ} ويقصد بعمله الصالح {ثَوَابَ الدُّنْيَا}، وحظها ومنفعتها {نُؤْتِهِ مِنْهَا}؛ أي: نعطه من الدنيا ما يكون جزاء لعمله مما نشاء أن نعطيه إياه على ما قدرنا له، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد، وطلبوا الغنيمة {وَمَنْ يُرِدْ} ويقصد بعمله الصالح {ثَوَابَ الْآخِرَةِ} ونعيمها {نُؤْتِهِ مِنْهَا} نعطه من حظوظ الآخرة، ونعيمها ما يريد مما نشاء من الأضعاف على حسب ما جرى به الوعد الكريم. نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. واعلم: أن هذه الآية، وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامةٌ في جميع الأعمال؛ وذلك لأنَّ الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد، فإن كان يريد بعمله الدنياء. فليس له جزاء إلا فيها، وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضًا فيها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الأعمالُ بالنياتِ". الحديث متفق عليه. وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: "من كانت نيته طلب الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا، جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب الله له". وذلك (¬1) لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي والقصود، لا ظواهر الأعمال كما في الحديث المذكور، فإن من وضع الجبهة على الأرض مثلًا في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى .. كان ذلك من أعظم دعائم الإِسلام، وإن قصد به عبادة الشمس، كان ذلك من أعظم دعائم الكفر {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}؛ أي: سنثيب الثابتين على شكر نعمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، الذين يعرفون أنعم الله عليهم من القوى، ويصرفونها إلى ما خلقوا لأجله من طاعة الله تعالى، ويستعملوها فيما يرقى بهم إلى مراقي الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس بن النضر، وأمثاله الذين جاهدوا، وصبروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين. وقرأ الجمهور (¬2) {نُؤْتِهِ} الموضعين بالنون، وكذلك قرؤوا {سَنَجْزِي} بالنون أيضًا، وهو إلتفاتٌ إذ هو خروج من غيبةٍ إلى تكلمٍ بنون العظمة، وقرأ الأعمش {يُؤْتِهِ} بالياء فيهما، وفي {سَيجْزِي} وهو على ما سبق من الغيبة. وأدغم (¬3) أبو عمرو وحمزة والكسائي، وابن عامر، بخلاف عنه دال {يُرِدْ} في الثاء والباقون بالإظهار. وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء {نُؤْتِهِ} في الموضعين وصلًا ووقفًا، وقالون وهشامٌ بخلاف عنه بالاختلاس وصلًا، والباقون بالإشباع وصلًا. فأما السكون فقالوا: إنَّ الهاء لما حلت محل ذلك المحذوف أعطيت ما كان تستحقه من السكون، وأما الاختلاس فلأستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حذف لام الكلمة، فإن الأصل نؤتيه فحذفت الياء للجزم، ولم يعتد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

[146]

بهذا العارض فبقيت الهاء على ما كانت عليه، وأما الإشباع فنظرًا إلى اللفظ، لأن الهاء بعد متحرك في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن، وهو الياء التي حذفت للجزم اهـ "سمين". 146 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}؛ أي: وكثيرٌ من نبي قاتل لإعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، والحال أن معه في القتال جماعاتٌ كثيرةٌ من العلماء العاملين، والعُبَّاد الصالحين، فأصابهم من عدوهم قرحٌ {فَمَا وَهَنُوا}؛ أي: جبنوا وفتروا عن الجهاد, لأن الذي أصابهم إنما هو في طاعة الله، وإقامة دينه ونصرة رسوله، {وَمَا ضَعُفُوا}؛ أي: عجزوا عن قتال عدوهم لما أصابهم من جرح أو قتل، حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون في سبيل الله، لا في سبيل نبيّهم علمًا منهم بأن النبي ما هو إلا مبلِّغٌ عن ربِّه، وهادٍ لأمته، {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}. {وَمَا اسْتَكَانُوا}؛ أي: ما ذلوا وما تواضعوا لعدوهم، كما فعلتم أنتم حين قيل قتل نبيكم، وأردتم أن تعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان، ولا ولوا الأدبار، ولكنهم صبروا على أمر ربهم، وطاعة نبيهم، وجهاد عدوهم، إذ هم على يقين من ربهم في أن الجهاد في السبيل التي يرضاها من تقرير العدل في الأرض، وحماية الحق {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} على شدائد التكاليف، ومشاق الجهاد، في طلب الآخرة، أي: يكرمهم ويعظمهم ويثيبهم، ومحبة (¬1) الله تعالى للعبد عبارةٌ عن إرادة إكرامه وإعزازه، وإيصال الثواب له، وإدخاله الجنة مع أوليائه وأصفيائه. والخلاصة (¬2): عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحدٌ وسنته في خلقه واحدةٌ، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربيين. {وَكَأَيِّنْ} عبارة السمين قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} هذه اللفظة قيل: مركبة من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

كاف التشبيه، ومن أيٍّ الاستفهامية، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية، وهي كناية عن عدد مبهم، ومثلها في التركيب، وإفهام التكثير كذا في قولهم: عندي كذا كذا درهمًا، والأصل كاف التشبيه، وذا الذي هو اسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية، وكأين وكذا كلها بمعنى واحدٍ. وهل هذه الكاف الداخلة على أيّ تتعلق بشيء كغيرها من حروف الجر أم لا؟. والصحيح أنها لا تتعلق بشيء, لأنها مع أي صارتا بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ، وهي ككم فلا تتعلق بشيء، ولذلك هجر معناها الأصليُّ، وهو التشبيه. وفي كأيِّن (¬1) خمس لغاتٍ: إحداها: {كَأَيِّنْ} بتشديد الياء والتنوين، وبها قرأ الجماعة إلا ابن كثير. والثانية: {كَائنٌ} بوزن فاعن وبها قرأ ابن كثير، وجماعةٌ، وهي أكثر استعمالًا من كأيِّن وإن كانت تلك الأصل. والثالثة: {كئين} بوزن كريم بياء خفيفة بعد همزة مكسورة، وبها قرأ ابن محيصنٍ، والأشهب العقيليُّ. والرابعة: {كيئن} بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوبة عن القراءة التي قبلها وقرأ بها بعضهم. والخامسة: {كأن} مثل كعن، وبها قرأ ابن محيصن أيضًا. وقرأ الحسن (¬2) {كَىً} بكافٍ بعدها ياءٌ مكسورة منونة. وقرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمرو {قتل} مبنيًّا للمفعول، وقتادة كذلك إلا أنه شدد التاء، وضمير النائب على هذه القراءة يعود على المبتدأ، والجملة خبر المبتدأ، وجملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} من المبتدأ، والخبر في محل النصب حال من ضمير الفعل، و {كثيرٌ} صفة لـ {رِبِّيُّونَ}، والمعنى على هذه القراءة، وكثيرٌ من الأنبياء قتلوا، وبعدهم الذين بقوا من جماعتهم. وقال الحسن البصريُّ، وجماعةٌ من العلماء لم يقتل نبيُّ في حرب قط، ولهذا ضعفت هذه القراءة من جهة المعنى. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط.

[147]

وقرأ باقي السبعة {قَاتَلَ} بوزن فاعل، وهي القراءة المشهورة التي جرينا عليها في تفسيرنا سابقًا. وقرأ الجمهور {رِبِّيُّونَ} بكسر الراء جمع ربِّي، وهو العالم منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييرًا في النسب، نحو: إمسي بالكسر منسوب إلى أمس، وقرأ عليُّ وابن مسعود وابن عباس والحسن {رِبِّيُّونَ} بضم الراء، وهو من تغيير النسب إن قلنا: هو منسوبٌ إلى الرب. وقرأ ابن عباس في رواية قتادة بفتح الراء على الأصل إن قلنا: منسوبٌ إلى الرب، وإلا فمن تغيير النسب إن قلنا: إنه منسوبٌ إلى الربة بمعنى الجماعة. وقرأ الجمهور {وَهَنُوا} بفتح الهاء وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السمال، بكسرها، وهما لغتان، وهن يهن كوعد يعد، ووهن يوهن، كوجل يوجل. وقرأ عكرمة، وأبو السمال أيضًا بإسكان الهاء على تخفيف المكسور، كما قالوا: نعم في نعم، وشهد في شهد، وتميمٌ تسكن عين فعل وقرىء {ضَعُفُوا} بفتح العين وبإسكانها (¬1). 147 - {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ}؛ أي: قول الربيين عند لقاء العدو، واقتحام مضايق الحرب، وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال، أو عند قتل نبيهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا} هذا الدعاء الآتي، وقولهم بالنصب خبرٌ لكان واسمها أن وما بعدها، أي: وما كان قولهم إلا قولهم هذا الدعاء أي هو دأبهم وديدنهم، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ (¬2) ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم على أنه اسم كان والخبر جملة أن وما في حيزها. وقراءة الجمهور أولى, لأنه إذا اجتمع معرفتان: فالأولى أن تجعل الأعرف منهما اسمًا، وأن وما في حيِّزها أعرف قالوا: لأنها تشبه المضمر من حيث إنها تضمر، ولا توصف، ولا يوصف بها. وقولهم: مضاف للمضمر فهو في رتبة العلم، فهو أقل تعريفًا اهـ سمين. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}، أي: صغائرنا وكبائرنا {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}؛ أي: إفراطنا وتجاوزنا الحد في أمر ديننا، بارتكاب الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الجمل.

كل ما يسمى ذنبًا من صغيرة، أو كبيرة والإسراف ما فيه مجاوزةٌ للحدِّ، فهو من عطف الخاص على العام. وإنما أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضمًا لها، واستقصارًا لهم وإسنادًا لما أصابهم إلى أعمالهم. وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في مواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو بإزالة الخوف من القلوب وإزالة الخواطر الفاسدة من الصدور أو ثبتنا على دينك الحق {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} بالمصابرة والمجاهدة تقريبًا له إلى حيز القبول، فإن الدعاء، المقرون بالخضوع الصادر عن ذكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة. والمعنى: لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر منهم قولٌ يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدِّين، وفيه من التعريض للمنهزمين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ما لا يخفى، ذكره، أبو السعود. والخلاصة: أن هؤلاء الربّيين لم يكن لهم من قولٍ عند اشتداد الخطوب، ونزول الكوارث إلا الدعاء، لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم، ما كانوا ألموا به من الذنوب، وتجاوزوا حدود الشرائع، وأن يثبت أقدامهم على الصراط القويم، الذي هداهم إليه حتى لا تزحزحهم الفتن، ولا يعروهم الفشل، والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده. وفي هذا إيماءٌ إلى أن الذنوب والإسراف في الأمور من عوامل الخذلان والطاعة والثبات والاستقامة من باب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزل الأقدام. وفي طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} إعلامٌ بأنهم لا يعولون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله تعالى بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحقِّ.

[148]

148 - {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} قرأ الجحدري {فَآتَاهُمُ} من الإثابة؛ أي: أعطاهم الله تعالى بسبب هذا الدعاءِ جزاء الدنيا بالنصر على الأعداء والظفر بالغنيمة، والسيادة في الأرض، والكرامة، والعزة، وحسن الأحدوثة، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان, وزوال ظلمات الشبهات، وكفارة المعاصي، والسيئات، وإنما سمي ذلك ثوابًا لأنه جزاءٌ على الطاعة وامتثال أوامر الله تعالى. {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ثواب الآخرة الحسن بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه في دار الكرامة، وقد فسر بقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وبقوله: في الحديث: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر في نفوسهم، فارتقت به إلى حظيرة القدس. والمعنى: حكم الله لهم بحصول الجنة، وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم في الآخرة. وإنما خصَّ ثواب الآخرة بالحسن إيذانًا بشرفه وفضله, لأنه غير زائل وثوابٌ لا يشوبه أذى ولا تنغيصٌ، وبأنه المعتدُّ به عند الله تعالى بخلاف ثواب الدنيا؛ فإنه قليلٌ سريع الزوال، وعرضة للأذى والمنغصات وترغيبًا في طلب ما يحصله من العمل الصالح، ومناسبة لآخر الآية. وإنما جمع الله لهم بين الثوابين؛ لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة كما هو شأن المؤمن {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}. وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من عمل لدنياه أضر بآخرته، ومن عمل لآخرته أضر بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوامٍ. وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين في الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشيء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيًا للتقوى ومبعدًا عن رضوان الله تعالى.

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: المعترفين بكونهم مسيئين مقصِّرين، فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين، كأنه تعالى يقول لهم: إذا اعترفتم بإساءتكم وعجزكم .. فأنا أصفكم بالإحسان, وأجعلكم أحباء لنفسي حتى تعلموا أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى رضا الله تعالى، إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز. وقال أبو حيان: وفسَّر المفسرون {الْمُحْسِنِينَ} هنا بأحد معنيين: الأول: من أحسن ما بينه وبين ربه بلزوم طاعته. والثاني: من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب؛ لأنهم هم الذين يقيمون سننه في أرضه، ويظهرون أعمالهم، وأنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضي الله تعالى، فهي من الله ولله. وفي هذا تعليمٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا: عند لقاء العدو، وفيه دقيقةٌ لطيفةٌ، وهي أنهم لمَّا اعترفوا بذنوبهم، وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين. الإعراب {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}. {وَسَارِعُوا} {الواو} استئنافية، أو عاطفة. {سَارِعُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} عطفًا تفسيريًّا {إِلَى} {مَغْفِرَةٍ} جار ومجرور متعلق بـ {سَارِعُوا}. {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {مَغْفِرَةٍ} تقديره: كائنة من ربكم. {وَجَنَّةٍ} معطوف على مغفرة. {عَرْضُهَا} مبتدأ، ومضاف إليه. {السَّمَاوَاتُ} خبر. {وَالْأَرْضُ} معطوف عليه، ولكنه على حذف مضاف تقديره: مثل عرض السموات والأرض، والجملة الإسمية في محل الجر صفة {أُوْلِي} لـ {جَنَّةٍ} {أُعِدَّتْ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {جَنَّةٍ}. {لِلْمُتَّقِينَ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {جَنَّةٍ}. ويجوز (¬1) أن تكون حالًا ¬

_ (¬1) العكبري.

منها؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون مستأنفة. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الجر صفة للمتقين، ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أعني، وأن يكون مرفوعًا بإضمار هم، فيجوز فيه الأوجه الثلاثة. {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فِي السَّرَّاءِ} متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {وَالضَّرَّاءِ} معطوف على {السَّرَّاءِ}. {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. {وَالْكَاظِمِينَ} {الواو} عاطفة. {الْكَاظِمِينَ} معطوف على الموصول مجرور على كونه صفة لـ {الْمُتَّقِينَ}، ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: أمدح، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح يرفع الفاعل، وفاعله مستتر فيه تقديره: هم. {الْغَيْظَ} مفعوله منصوب {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {الواو} عاطفة. {الْعَافِينَ} معطوف على الموصول أيضًا على كونه صفة {لِلْمُتَّقِينَ} ويجوز نصبه بفعل محذوف. {عَنِ النَّاسِ} متعلق به {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {الواو} اعتراضية {اللَّهُ} مبتدأ. {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن الجلالة، والجملة الإسمية معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}. {وَالَّذِينَ} {الواو} عاطفة. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر معطوف على الموصول قبله، فيجوز فيه الأوجه الثلاثة السابقة، الجر على كونه صفة {لِلْمُتَّقِينَ}، والقطع إلى النصب والرفع، ويجوز (¬1) أن يكون قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} مرفوعًا بالابتداء و {أُولَئِكَ} مبتدأ ثان و {جَزَاؤُهُمْ} مبتدأ ثالث ¬

_ (¬1) الفتوحات.

و {مَغْفِرَةٌ} خبر الثالث والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، {إِذَا فَعَلُوا} {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَعَلُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَاحِشَةً} مفعول به. {أَوْ} حرف عطف: {ظَلَمُوا} فعل وفاعل. {أَنْفُسَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة فعلوا على كونها فعل شرط لي {إذا} {ذَكَرُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها صلة الموصول. {فَاسْتَغْفَرُوا} {الفاء} عاطفة. {اسْتَغْفَرُوا} فعل وفاعل، واستغفر يتعدى إلى مفعولين، وكلاهما هنا محذوف تقديره؛ فاستغفروا الله ذنوبهم. {لِذُنُوبِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {اسْتَغْفَرُوا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {ذَكَرُوا} على كونها جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} {الواو} اعتراضية. {مَن} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {مَن} {إِلَّا}، أداة استثناءٍ مفرغ. ولفظ الجلالة {اللَّهُ} بدل من الضمير المستتر في {يَغْفِرُ} والجملة الإسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المتعاطفين أعني: قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا}، وقوله الآتي {وَلَمْ يُصِرُّوا}. {وَلَمْ يُصِرُّوا} {الواو} عاطفة. {لَمْ يُصِرُّوا} جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {فَاسْتَغْفَرُوا} على كونها جواب {إِذَا}. {عَلَى مَا فَعَلُوا} {عَلَى مَا} جار ومجرور متعلق بـ {يُصِرُّوا}. {فَعَلُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة لِما، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: على ما فعلوه. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {الواو} حالية. {هم} مبتدأ. {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل والمفعول محذوف لعلمه تقديره: {يَعْلَمُونَ} المؤاخذة بها أو عفو الله عنها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: وهم عالمون بها، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ضمير {يُصِرُّوا}. {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا

وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}. {أُولَئِكَ} مبتدأ أول. {جَزَاؤُهُمْ} مبتدأ ثان، ومضاف إليه {مَغْفِرَةٌ} خبر للمبتدأ الثاني. {مِنْ رَبِّهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {مَغْفِرَةٌ} والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره مستأنفة، وقد سبق لك قريبًا ما في هذه الجملة من أوجه الإعراب غير ما ذكرناه هنا فراجعه. {وَجَنَّاتٌ} معطوف على مغفرة. {تَجْرِي} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بتجري. {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {جَنَّاتٌ}. {خَالِدِينَ} (¬1) حال من الضمير في {جَزَاؤُهُمْ} لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى يجزيهم الله جنات في حال خلودهم، وتكون حالًا مقدرة، ولا يجوز أن تكون حالًا من {جَنَّاتٌ} في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذ لو كان كذلك .. لبرز الضمير لجريان الصفة على غير من هي له. {فِيهَا} جار ومجرور متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {وَنِعْمَ} {الواو} عاطفة. {نِعْمَ} فعل ماض؛ وهو من أفعال المدح. {أَجْرُ} فاعل. {الْعَامِلِينَ} مضاف إليه، والجملة من الفعل، والفاعل في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا، يسمى المخصوص بالمدح تقديره {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الجنة، والجملة من المبتدأ المحذوف، وخبره في محل الرفع معطوفة على {مَغْفِرَةٌ} على كونها خبرًا للمبتدأ الثاني: تقديره: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم، ومقولٌ في جزائهم نعم أجر العاملين. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}. {قَدْ} حرف تحقيق. {خَلَتْ} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَتْ}. {سُنَنٌ} فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت ¬

_ (¬1) الفتوحات.

عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه قد خلت من قبلكم سننٌ، وشككتم فيها، وأردتم تيقنها، والاعتبار بها .. فأقول لكم: سيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم؛ ويجوز أن تكون الفاء عاطفة. {سِيرُوا} فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {قَدْ خَلَتْ} وعبارة (¬1) الكرخي هنا، ودخلت الفاء لأن المعنى على الشرط؛ أي: إن شككتم فسيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم، وهذا مجازٌ عن إجالة الخاطر. والحاصل: أن المقصود تعرف أحوالهم فإن تيسر بدون السير في الأرض .. كان المقصود حاصلاً انتهت. {فَانْظُرُوا} {الفاء} عاطفة. {انْظُرُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {سِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام عن الحال في محل النصب خبر مقدم لـ {كاَنَ}. {كاَنَ}، فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ} اسمها. {الْمُكَذِّبِينَ} مضاف إليه، وجملة {كاَنَ} في محل النصب مفعول لـ {انْظُرُوا} تقديره: فانظروا حال عاقبة المكذبين. {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}. {هَذَا} مبتدأ. {بَيَانٌ} خبر، والجملة مستأنفة. {لِلنَّاسِ} متعلق بمحذوف صفة لـ {بَيَانٌ} أو متعلق به. {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} معطوفان على {بَيَانٌ} {لِلْمُتَّقِينَ} تنازع فيه كل من {هُدًى} و {مَوْعِظَةٌ} على أنه متعلق بهما، أو صفة لهما. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}. {وَلَا} {الواو} استئنافية. {لَا} ناهية. {تَهِنُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة مستأنفة، وفي "الجمل" قوله: {وَلَا تَهِنُوا} هذا وما عطف عليه معطوفان في المعنى على قوله {فَسِيرُوا} في الأرض الخ. انتهى. وكذلك قوله: {وَلَا تَحْزَنُوا} جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَلَا تَهِنُوا}. {وَأَنْتُمُ} الواو حالية. {أَنْتُمُ} مبتدأ. {الْأَعْلَوْنَ} خبر مرفوع بالواو، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَهِنُوا} أو {تَحْزَنُوا}. {إِنْ كُنْتُمْ} {إن} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ}. {مُؤْمِنِينَ} خبر {كان} وجواب {إنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون لأن الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}. {إن} حرف شرط جازم. {يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بإن الشرطية. {فَقَدْ مَسَّ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بقد. {قَدْ} حرف تحقيق. {مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ} فعل ومفعول وفاعل. {مِثْلُهُ} نعت لقرح ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، وفي "الجمل": قوله (¬1): {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} جواب الشرط محذوف؛ أي: فتأسوا، ومن زعم أن جواب الشرط {فَقَدْ مَسَّ} فهو غالط؛ لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جوابا للشرط، وللنحويين في مثل هذا تأويلٌ، وهو أن يقدروا شيئًا مستقبلًا, لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل، كما مرت الإشارة إليه. اهـ كرخي، وذلك التأويل هو التبيين؛ أي: فقد تبين مس القرح للقوم اهـ سمين. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. {وَتِلْكَ} {الواو} استئنافية. {تِلْكَ}. مبتدأ. {الْأَيَّامُ} بدل أو عطف بيان أو نعت لاسم الإشارة. {نُدَاوِلُهَا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {بَيْنَ النَّاسِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {نُدَاوِلُ}، الجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَلِيَعْلَمَ} {الواو} عاطفة على محذوف تقديره: نداولها بين الناس ليتعظوا، وليعلم الله، وقيل: إن الواو زائدة. {اللام} لام كي. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {الَّذِينَ} مفعول به لأن، {علم} هنا بمعنى عرف، يتعدى إلى مفعول واحد {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، والجملة من الفعل والفاعل، صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولعلم الله {الَّذِينَ آمَنُوا} الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المحذوف المتعلق بقوله {نداولها} تقديره: وتلك الأيام نداولها بين الناس لاتعاظهم، ولعلم الله الذين آمنوا. {وَيَتَّخِذَ} {الواو} عاطفة. {يَتَّخِذَ} فعل مضارع معطوف على قوله: {لِيَعْلَمَ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {مِنْكُمْ} متعلق بـ {يَتَّخِذَ}. على كونه مفعول أول لـ {يَتَّخِذَ} {شُهَدَاءَ} مفعول ثان {لِيَتَّخِذَ} والمعنى ويتخذ بعضكم شهداء {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {الواو} اعتراضية. {الله} مبتدأ. {لا} نافية. {يُحبُّ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {الظَّالِمِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين العلل المتعاطفات. {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}. {وَلِيُمَحِّصَ} {الواو} عاطفة. {لِيُمَحِّصَ} {اللام} لام كي. {يُمَحِّصَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {اللَّهُ} فاعل. {الَّذِينَ} مفعول به. وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، وجملة {يُمَحِّصَ} صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور تقديره: ولتمحيص الله. {الَّذِينَ آمَنُوا} الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}. {وَيَمْحَقَ} معطوف على {يُمَحِّصَ} وفاعله ضمير يعود على الله {الْكَافِرِينَ} مفعول به. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}.

{أَمْ} منقطعة بمعنى بل التي للإضراب الانتقاليِّ، والهمزة التي للاستفهام الإنكاريِّ، والمعنى (¬1): لا تظنوا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة مع السابقين بمجرد الإيمان من غير جهاد، ولا صبر بل مع الجهاد، والصبر، وهو خطاب لأهل أحدٍ حيث أمروا بالقتال مع كونهم جرحى، وشدد عليهم في ذلك، والمقصود من ذلك تعليم من يأتي بعدهم، وإلا فهم قد جاهدوا في الله حق جهاده وصبروا صبرًا جميلًا. {حَسِبْتُمْ} فعل وفاعل. {أنْ} حرف نصب ومصدر. {تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن}، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر سادٍ مسدَّ مفعولي حسب، والتقدير: لا تحسبوا دخولكم الجنة. {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} {الواو} حالية. {لما} حرف نفي وجزم تفيد توقع الجهاد منهم في المستقبل، فلذا عبر بها دون لم. {يَعْلَمِ اللَّهُ} فعل وفاعل مجزوم بـ {لما} وعلامة جزمه سكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل، بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وجملة {يَعْلَمِ} من الفعل والفاعل في محل النصب حال من فاعل {تَدْخُلُوا}. {الَّذِينَ} مفعول به. {جَاهَدُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من فاعل {جَاهَدُوا}. {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} {الواو} عاطفة معية. {يَعْلَم} منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية الواقعة في جواب النفي. {الصَّابِرِينَ}، مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يكن علم الله الذين جاهدوا منكم، وعلمه الصابرين: أي: لا تحسبوا ذلك. {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. و {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} فعل وفاعل ومفعول، ¬

_ (¬1) الصاوي.

والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان} وجملة {كان} من اسمها وخبرها، جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {مِنْ قَبْلِ} جار ومجرور متعلق بـ {تَمَنَّوْنَ}. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {تَلْقَوْهُ} فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل لقائكم إياه. {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} {الفاء} عاطفة. قد حرف تحقيق. {رَأَيْتُمُوهُ} فعل وفاعل ومفعول، لأن {رأى} بصرية، والجملة معطوفة على جملة {تَمَنَّوْنَ}. {وَأَنْتُمْ} {الواو} حالية. {أَنْتُمْ} مبتدأ وجملة {تَنْظُرُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {رَأَيْتُمُوهُ}. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {مُحَمَّدٌ} مبتدأ. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {رَسُولٌ} خبر، والجملة مستأنفة. {قَدْ} حرف تحقيق. {خَلَتْ} فعل وتاء تأنيث. {مِنْ قَبْلِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَتْ} {الرُّسُلُ} فاعل {خَلَتْ}، والجملة الفعلية في محل الرفع صفةٌ لـ {رَسُولٌ}. {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}. {أَفَإِنْ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتؤمنون به مدة حياته؟ {الفاء} عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، {إن} حرف شرط. {مَاتَ} فعل ماضي في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {أَوْ قُتِلَ} فعل ماضي مغير الصيغة معطوف على {مَاتَ} ونائب فاعله ضمير يعود على {مُحَمَّدٌ}. {انْقَلَبْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها. {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {انقلب} أو حال من فاعل {انْقَلَبْتُمْ} أي: راجعين على أعقابكم، كما ذكره العكبري. وجملة {إن} الشرطية من فعل شرطها، وجوابها معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها مستأنفة كما مر آنفًا، وجملة الجواب هي محل الاستفهام الإنكاري، أي: إنكار انقلابهم وارتدادهم

عن الدين، {فالهمزة} داخلة عليها في المعنى، والتقدير: أأنقلبتم على أعقابكم إن مات، أو قتل أي لا ينبغي منكم الانقلاب والارتداد حينئذٍ كما بيناه في بحث التفسير. {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}. {وَمَنْ} {الواو} استئنافية. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ. {يَنْقَلِبْ} فعل مضارع مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، وخبر {من} الشرطية إما جملة الشرط أو الجواب، أو هما معًا. {عَلَى عَقِبَيْهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْقَلِبْ}. {فَلَنْ} {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {لن}. {يَضُرَّ} فعل مضارع منصوب بـ {لَنْ} وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. ولفظ الجلالة {اللَّهَ} مفعول به. {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة أي؛ ضررًا شيئًا. {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {لِنَفْسٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {كَانَ} مقدم على اسمها. {أَن} حرف نصب. {تَمُوتَ} منصوب بـ {أن} وفاعله ضمير يعود على نفس، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية و {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، تقديره؛ وما كان الموت إلا بإذن الله كائنًا لنفس. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَمُوتَ}. {كِتَابًا} منصوب على المفعولية المطلقة بعامل محذوف تقديره: كتب الله الموت على كل نفس {كِتَابًا}. {مُؤَجَّلًا} صفة لـ {كِتَابًا} والجملة المحذوفة مؤكدة لمضمون الجملة المذكورة قبلها. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}.

{وَمَنْ} {الواو} استئنافية. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يُرِدْ} مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {ثَوَابَ الدُّنْيَا} مفعول به، ومضاف إليه. {نُؤْتِهِ} جواب الشرط مجزوم بـ {مَنْ} والهاء مفعول أول. {مِنْهَا} جار ومجرور في محل المفعول الثاني؛ لأنّ أتى هنا بمعنى: أعطى وفاعله ضمير يعود على {اللَّه} وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ} الواو عاطفة. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ} فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {نُؤْتِهِ} جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}. والهاء مفعول أول. {مِنْهَا} في محل المفعول الثاني، وجملة {من} معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} {الواو} استئنافية. {سَنَجْزِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {الشَّاكِرِينَ} مفعول به، والجملة مستأنفة. {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}. {وَكَأَيِّنْ} {الواو} استئنافية. {كَأَيِّنْ} اسم بمعنى كم الخبرية التكثيرية في محل الرفع، مبتدأٌ مبنيٌّ بسكون على النون المدغمة في ميم من لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا لتضمنه معنى رب التكثيرية. {مِنْ} زائدة. {نَبِيٍّ} تمييز له. {قَاتَلَ} فعل ماض، وفعله ضمير يعود على كأيّن، والجملة في محلِّ الرفع خبر المبتدأ والتقدير: وكثير من الأنبياء مقاتل، والجملة الإسمية مستأنفة. {مَعَهُ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم. {رِبِّيُّونَ} مبتدأ مؤخر. {كَثِيرٌ} صفة له، والجملة في محل النصب حال من فاعل قاتل، والتقدير حال كون الربيين معه في القتال. {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. {فَمَا} {الفاء} استئنافية. {ما} نافية. {وَهَنُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {وَهَنُوا}. {أَصَابَهُمْ} فعل ومفعول

والفاعل ضمير يعود على {ما} والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أَصَابَهُمْ}. {وَمَا ضَعُفُوا} {ما} نافية. {ضَعُفُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَهَنُوا}. وكذلك جملة {وَمَا اسْتَكَانُوا} معطوفة على جملة {وَهَنُوا}. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة خبر عن الجلالة، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} نافية. {كَانَ} فعل ماضٍ ناقص. {قَوْلَهُمْ} خبر {كان} مقدم على اسمها، ومضاف إليه. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {قَالُوا} فعل وفاعل في محل النصب بأن المصدرية، وجملة {قال} من الفعل والفاعل، صلة {أن} المصدرية و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كان} والتقدير: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} إلا قولهم هذا الدعاء، وهذا الوجه أولى من عكسه، كما سبق تعليله في بحث التفسير، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة قوله: {فَمَا وَهَنُوا}. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء مقول القول. {اغْفِرْ} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {لَنَا} متعلق به. {ذُنُوبَنَا} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول {وَإِسْرَافَنَا} معطوف على {ذُنُوبَنَا} {فِي أَمْرِنَا} متعلق بـ {إِسْرَافَنَا} {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة معطوفة على جملة {اغْفِرْ} على كونها جواب النداء ومقول القول {وَانْصُرْنَا} فعل ومفعول والفاعل ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {اغْفِرْ} {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} جار ومجرور، وصفة متعلق بـ {انْصُرْنَا}. {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

{فَآتَاهُمُ اللَّهُ} {الفاء} عاطفة سببية. {آتَاهُمُ اللَّهُ} فعل وفاعل ومفعول أول. {ثَوَابَ الدُّنْيَا} مفعول ثان ومضاف إليه؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ لأن هذه الجملة مسببة عن تلك الجملة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} {الواو} عاطفة. {حسن} معطوف على {ثَوَابَ الدُّنْيَا} وهو مضاف. {ثَوَابِ الْآخِرَةِ} مضاف إليه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف كما مر {وَاللَّهُ} مبتدأ {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} جملة فعلية في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَسَارِعُوا} من باب فاعل والمفاعلة ليست على بابه، بل المراد منه أصل الفعل، والمسارعة إلى المغفرة والجنة؛ المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة، كالإقبال على الصدقات، وعمل الخيرات، والتوبة عن الآثام كالربا، ونحوه {عَرْضُهَا} والعرض: السعة بقطع النظر عن مقابل له، فليس العرض في مقابلة الطول، بل المراد به مطلق السعة، والعرب تقول: دعوى عريضة؛ أي: واسعة عظيمة. ولفظ العرض يطلق على هذا المعنى وعلى ما يقابل الطول، وهو أقصر الامتدادين، وكل من الإطلاقين حقيقيٌّ كما ذكره "القاموس". {السَّرَّاءِ} الحالة التي تسر {وَالضَّرَّاءِ} الحالة التي تضر {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، وهو اسم فاعل من كظم من باب: ضرب يقال: كظم القربة أي ملأها وشد رأسها، وكظم الباب سدَّه، وكظم البعير جرته إذا ازدردها وكف عن الاجترار. والكظم الحبس يقال: كظم غيظه إذا حبسه فهو كاظمٌ وكظمه الغيظ، والغم إذا أخذ بنفسه فهو مكظومٌ وكظيم. قال تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} وأخذ فلانٌ بكظم فلان، إذا أخذ بمجرى نفسه. والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حقُّ من حقوقها المادية، كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض، فيزعجها ذلك، ويحفزها على التشفِّي والانتقام. {وَالْعَافِينَ} اسم فاعل من عفا يعفو من باب دعا. والعفو عن الناس: التجاوز عن ذنوبهم، وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك {وَلَمْ يُصِرُّوا} من أصر

الرباعي يصر إصرارًا. والإصرار اعتزام الدوام على الشيء، وترك الإقلاع عنه من صر الدنانير إذا ربط عليها، ومنه صرة الدنانير لما يربط منها ({وَلَا تَهِنُوا} أصل {تَهِنُوا} توهنوا حذفت الواو لوقوعها بين ياءٍ وكسرة في الأصل، ثم أجريت حروف المضارعة مجرى الياء، في ذلك يقال: وهن بالفتح في الماضي يهن بالكسر في المضارع، ونقل أنه يقال: وهن ووهن بضم الهاء وكسرها في الماضي، ووهن يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: وهن زيدٌ إذا ضعف قال تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ووهنته إذا أضعفته. ومنه الحديث: "وهنتهم حمى يثرب"؛ أي: أضعفتهم، والمصدر على الوهن، والوهن بفتح العين وسكونها. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} {الْأَعْلَوْنَ} جمع أعلى، والأصل: أعليون فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة لتدل عليها، وإن شئت قلت: استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان أيضًا، الياء، والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلّا مضمومًا لفظًا أو تقديرًا، وهذا مثال التقدير اهـ سمين. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} داول من باب فاعل، والمداولة المناوبة على الشيء، والمعاودة وتعهده مرةً بعد أخرى، يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه، كأن المفاعلة بمعنى أصل الفعل. وعبارة "الخازن": المداولة نقل الشيء من واحد إلى واحد آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر، والمعنى: إنَّ أيام الدنيا دول بين الناس، يوم لهؤلاء، ويوم لهؤلاء، فكانت الدولة للمسلمين يوم بدر، وللكفار يوم أحد. انتهى. {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} أصل المحص كالفحص في اللغة: التنقية، والإزالة، لكن الفحصُ يقال: في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به. وفي "القاموس": محص الذهب بالنار - من باب منع - أخلصه مما يشوبه، والتمحيص الابتلاء، والاختبار: انتهى. وأصل المحق نقص الشيء قليلًا قليلًا.

{وَمَا اسْتَكَانُوا} أصل هذا الفعل: استكن من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليصنع به ما يريد. والألف تولدت من إشباع الفتحة، وعبارة السمين في هذا الفعل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استفعل من السكون والسكون، الذل وأصله: استكون، فنقلت حركة الواو على الكاف ثم قلبت الواو ألفًا. والثاني: قال الأزهري: وأبو عليّ ألفه: من ياء، والأصل استكين ففعل بالياء ما فعل بالواو. والثالث: قال الفراء: وزنه افتعل من السكون، وإنّما أشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقوله: أَعُوْذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ يريد: العقرب الشائلة. انتهت. البلاغة {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} فيه مجازٌ مرسلٌ؛ لما فيه من إطلاق المسبب، وإرادة السبب، أي: بادروا إلى سببهما، وهو الأعمال الصالحة. {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}؛ أي: كعرضهما، فيه تشبيه بليغ، وهو ما حذفت فيه الأداة ووجه الشبه. {السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فيه من المحسنات البديعية: الطباق {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} والعدول فيه إلى صيغة الفاعل؛ للدلالة على الاستمرار والدوام. وأما الإنفاق، فلما كان أمرًا متجددًا؛ عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} الاستفهام فيه إنكاريٌّ: بمعنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء، والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله. {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ} الإشارة بالبعيد للإشعار ببعد منزلتهم، وعلو طبقتهم في الفضل.

{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ليس المراد خصوص السير، بل المراد استعلام ما وقع للأمم الماضية بسيرٍ أو غيره، بل هو مجازٌ عن إجالة الخاطر في ذلك، ثم التأمل للتسلي والاتعاظ. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، والسر في هذا الالتفات تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ونفي المحبة فيه كنايةٌ عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم. {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} فيه توبيخٌ لهم على أنهم تمنوا الحرب، وتسببوا فيها، ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو توبيخٌ لهم على الشهادة، فإن في تمنيها تمني غلبة الكافرين، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة، وتقييدها بالنظر مزيد مبالغةٍ في مشاهدتهم له. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} القصر فيه قصر قلب، للرد عليهم في اعتقادهم؛ أنه معبودٌ، وهم وإن لم يعتقدوا ذلك حقيقةً لكن نزلوا منزلة من اعتقد ألوهيته لا رسالته؛ حيث رجعوا عن الدين الحق؛ لما سمعوا بقتله فكأنهم اعتقدوه معبودًا، وقد مات فرجعوا عن عبادته. {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وهذا كنايةٌ عن الرجوع للكفر، لا حقيقة الانقلاب على الأعقاب الذي هو السقوط إلى خلف. قال في "تلخيص البيان": هذه استعارةٌ، والمراد به الرجوع عن دينه، فشبه سبحانه الرجوع في الإرتياب بالرجوع على الأعقاب. وقال أبو حيان (¬1): وقد تضمنت هذه الآيات فنونًا من الفصاحة والبديع والبيان: من ذلك: الاعتراض في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وفي قوله: {وَمَن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}، وفي قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. ومنها: تسمية الشيء باسم سببه في قوله: {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. ومنها: التشبيه في قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، وقيل: هذه استعارة. ومنها: الإضافة إلى الأكثر في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وهي معدَّة لهم، ولغيرهم من العصاة. ومنها: الطباق في قوله: {السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}، وفي قوله: {وَلَا تَهِنُوا} و {الْأَعْلَوْنَ}؛ لأن الوهن والعلو ضدان، وفي قوله: {آمَنُوا} و {الظَّالِمِينَ}، لأن الظالمين هم الكافرون، وفي قوله: {آمَنُوا} {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}. ومنها: العامُّ الذي يراد به الخاصُّ في قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يعني: من ظلمهم أو المماليك. ومنها: التكرار في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ} و {ذَكَرُوا اللَّهَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ}، وفي قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ}، وفي قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا}. ومنها: الاختصاص في قوله: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، و {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، و {عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، و {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، و {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، و {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، و {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، و {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَسِيرُوا}، على أنه من سير الفكر لا من سير القدم. و {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} إذ لم تكن من علو المكان، و {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا}، و {وَلِيُمَحِّصَ} و {وَيَمْحَقَ}. ومنها: الإشارة في قوله: {هَذَا بَيَانٌ}، وفي قوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ}. ومنها: إدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، إذا علق عليه النهي.

ومنها: الاستفهام الذي معناه الإنكار في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {انْقَلَبْتُمْ} {وَمَنْ يَنْقَلِبْ}، و {ثَوَابَ الدُّنْيَا} {وَحُسْنَ ثَوَابِ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا}. ومنها: تسمية الشيء باسم سببه في قوله: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}؛ أي: الجهاد في سبيل الله. وفي قوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فيمن فسَّر ذلك بالقلوب؛ لأنَّ ثبات الأقدام متسبَّب عن ثبات القلوب. ومنها: الالتفات في قوله: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} {ويعلم} لاختلاف المتعلَّق، أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} لأنَّ العرف في الموت خلاف العرف في القتل، والمعنى مفارقة الروح الجسد فهو واحد، و {مَنْ} في {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ} الجملتين، وفي قوله: {ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا} في قول من سوى بينهما. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ...} مناسبتها لما قبلها ظاهرةٌ، فإنه سبحانه وتعالى لمَّا رغَّب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان ما لهم من الفضل، وعظيم الأجر، وحسن العاقبة .. نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء عاقبتها في دينهم، ودنياهم،

والخطاب فيها موجهٌ إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين: ارجعوا إلى إخوانكم، ودينكم فإن الكفار لما أرجفوا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر، فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم. فبالجملة لا تزال الآيات الكريمة تنادي بذكر أحداث غزوة أحد، وما فيها من العظات، والعبر فهي تتحدث عن أسباب الهزيمة، وموقف المنافقين الفاضح في تلك الغزوة، وتآمرهم على الدعوة الإسلامية بتثبيط عزائم المؤمنين. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ...} الآية، قال محمد بن كعب القرظي (¬1): لمَّا رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أحد إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} يعني بالنصر، والظفر؛ وذلك أنّ الظفر كان للمسلمين في الابتداء، وقيل: إنَّ الله وعد المؤمنين النصر بأحد فنصرهم، فلما خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبوا الغنيمة هزموا. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم يومئذٍ من أحدٍ إلا يميد تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروى أيضًا عن هشام ابن عروة عن الزبير مثله، وقال: حديث حسن صحيح، وحديث الزبير هذا، أخرجه ابن راهويه ولفظه: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حين اشتدَّ علينا الخوف، وأرسل علينا النوم فما منا أحدٌ إلا وذقنه أو قال: ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا ¬

_ (¬1) الخازن.

[149]

هَاهُنَا} فحفظتها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} إلى قوله: {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب بن قشير قال: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} حتى بلغ {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. التفسير وأوجه القراءة 149 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله، وصدقوا بما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {إِنْ تُطِيعُوا}، وتمتثلوا {الَّذِينَ كَفَرُوا}، وجحدوا، نبوة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمرونكم به، وتقبلوا رأيهم، ونصيحتهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون، حيث قالوا لكم يوم أحد: إرجعوا إلى دين آبائكم، ولو كان محمد نبيًّا .. ما قتل {يَرُدُّوكُمْ}؛ أي: يرجعوكم عما كنتم عليه من الإيمان بالله ورسوله {عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، وأدباركم؛ أي: على ما كنتم عليه أولًا من الكفر والشرك بالله: أي: يحملوكم على الردة بعد الإيمان، والكفر بالله وآياته {فَتَنْقَلِبُوا}؛ أي: ترجعوا {خَاسِرِينَ} في الدنيا والآخرة، وتكونوا مغبونين في الدين والدنيا، أما خسران الدنيا فبخضوعكم لسلطانهم، وذلتكم بين يديهم وحرمانكم من السعادة، والملك والتمكين في الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} فإن أشقَّ الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد إلى العدو، وإظهار الحاجة إليهم. وأما خُسران الآخرة: فبالحرمان من الثواب المؤيد، والوقوع في العذاب المخلد. والمراد بالذين كفروا المنافقون كما تقدم. وقال السديُّ وغيره: المراد بهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه شجرة الكفر، وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ: إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه، وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل: المراد عبد الله بن أبي، وأتباعه من المنافقين؛ لأنهم قالوا: لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا .. ما وقعت له هذه الواقعة، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس: المراد بهم اليهود كعبٌ وأصحابه، والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار.

[150]

150 - و {بَلِ} في قوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} إضرابٌ عن مفهوم الجملة الأولى؛ أي: إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم، ولا ينصروكم بل الله مولاكم، وناصركم، ووليكم، وحافظكم، فاستعينوا به لا غيره. وقرأ (¬1) الحسن بنصب الجلالة على تقدير، بل أطيعوا الله، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي؛ أي: لا تطيعوا الكفار، فتكفروا، بل أطيعوا الله مولاكم {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ النَّاصِرِينَ}؛ أي: أقواهم وأفضلهم؛ فلا يحتاج معه إلى نصرة أحد، ولا إلى ولاية غيره، فاكتفوا به عن ولاية غيره ونصره. وفي هذا دلالةٌ على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب، لأنَّ الله مولاه وناصره، وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}. والمعنى (¬2): لا تفكروا في ولاية أبي سفيان وشيعته، ولا عبدِ الله بن أُبَيٍّ وحزبه، ولا تأبهوا - لا تلتفتوا - لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرًا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها، في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين، ويخذل الكافرين كما قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)}. 151 - ولما انصرف المشركون من أحدٍ .. هموا بالرجوع لاستئصال المسلمين، وخاف المسلمون ذلك، فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم بقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}؛ أي: سنقذف في قلوب كفار مكة الخوف منكم حتى لا يرجعوا إليكم، وذلك أنَّ أبا سفيان، ومن معه ارتحلوا يوم أحد متوجهين إلى مكة، فلما بلغوا بعض الطريق ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد .. تركناهم ارجعوا إليهم فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، يعني الخوف الشديد، حتى رجعوا عما هموا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

به. فعلى هذا القول: يكون الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفار مخصوصًا بيوم أحد. وقيل: إنه عام، وإن كان السبب خاصًّا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". فكأنه قال: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب منكم حتى تقهروهم، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك بفضله وكرمه، حتى صار دين الإسلام ظاهرًا على جميع الأديان والملل كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. وقرأ (¬1) الجمهور {سَنُلْقِى} بالنون، وهو مشعرٌ بعظم ما يلقى إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة. وقرأ أيوب السختياني {سيلقى} بالياء جريًا على الغيبة السابقة في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} وقدم لفظ {فِي قُلُوبِهِمُ} وهو مجرور على المفعول، وهو الرعب للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى. وقرأ ابن عامر، والكسائي {الرعب} بضم العين، والباقين بسكونها فقيل: هما لغتان، وقيل: الأصل السكون، وضم إتباعًا كالصبح والصبح. وقيل: الأصل الضم، وسكن تخفيفًا كالرسل والرسل. والباء في قوله: {بِمَا أَشْرَكُوا} سببية، و {ما} مصدرية؛ أي: سنلقي في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ}؛ أي: آلهةً ومعبودًا لم ينزل الله تعالى بعبادته {سُلْطَانًا}؛ أي: برهانًا، وحجة، وكتابًا، وتسليط النفي على الإنزال، والمقصود نفي السلطان؛ أي: آلهةً لا سلطان في إشراكها، فينزل. وقال الشوكاني (¬2): والنفي: يتوجه إلى القيد، والمقيد؛ أي: لا حجة، ولا إنزال، والمعنى: أنَّ الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل انتهى. وكان (¬3) الإشراك بالله سببًا لإلقاء الرعب؛ لأنهم يكرهون الموت، ويؤثرون الحياة، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة، ولا بثوابٍ فيها، ولا عقابٍ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثرًا في الرغبة في الحياة الدنيا، كما قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح القدير. (¬3) البحر المحيط.

الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وفي قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} دليلٌ على إبطال التقليد؛ إذ لا برهان مع المقلد. والمعنى: أنه سبحانه وتعالى سيحكم في أعدائكم الكافرين سننه، ويلقي في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصنامًا، ومعبوداتٍ لم يقم برهانٌ من عقلٍ، ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدون الوساوس أسبابًا، والهواجس مؤثرات وعللًا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضير. وفي الآية: إيماءٌ إلى بطلان الشرك وسوء أثره في النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب باعتقادِ؛ أن لبعض المخلوقات تأثيرًا غيبيًا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق وأثروا مقارعة الداعي، ومن استجاب له بالسيف بغيًا، وعدوانًا يرتابون فيما هم فيه، ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلىء قلوبهم رعبًا. والخلاصة: أن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون: أن تكون نفوسهم مضطربةً، وقلوبهم ممتلئةً رعبًا وهلعًا منكم، فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم، والالتجاء إليهم. وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا من وقوع الخوف، والهلع في قلوبهم. ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: {وَمَأوَاهُمُ}؛ أي: مسكنهم، ومنزلهم، ومقرهم {النَّارُ} في الآخرة بسبب إشراكهم، {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}، أي: وقبح مسكن الذين ظلموا أنفسهم، بالإشراك، ومقرهم الذي يستقرون به، ويقيمون فيه، والمخصوص بالذم محذوفٌ تقديره: وبئس مثوى الظالمين النار، وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم، رمزٌ إلى خلودهم فيها. فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى: فهو المكان الذي

[152]

يأوي إليه الإنسان. وقدم المأوى على المثوى؛ لأنه على الترتيب الوجودي؛ لأنَّ الإنسان يأوي إلى المكان ثم يثوي فيه. والمعنى: إنَّ مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود، ومعاندة الحق، ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة، وفي التعبير بالمثوى المنبىء عن المكث الطويل دليلٌ على الخلود فيها كما مرَّ آنفًا. 152 - {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد وفى الله سبحانه وتعالى، وحقق يوم أحد ما وعده لكم أيها المؤمنون على لسان رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من النصر على أعدائكم {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ}؛ أي: حين تقتلونهم قتلًا ذريعًا كثيرًا في أوَّل الحرب {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بإرادته وتيسيره ومعونته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدهم النصر يومئذٍ إن انتهوا إلى أمره. وهذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين، قالوا: وعدنا الله بالنصر، والإمداد بالملائكة، فمن أيِّ وجه أُتينا؟ فنزلت إعلامًا أنه تعالى صدقهم الوعد، ونصرهم على أعدائهم أوّلًا، وكان الإمداد مشروطًا بالصبر والتقوى، واتفق من بعضهم من المخالفة ما نصَّ الله تعالى عليه في كتابه هنا. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} وجبنتم عن قتال العدو {وَتَنَازَعْتُمْ}؛ أي: اختلفتم في أمر الحرب بالثبات في المركز وعدمه، {وَعَصَيْتُمْ} أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ولقد صدقكم وعده بالنصر في أول الحرب إلى وقت أن وقع منكم الفشل، والتنازع والعصيان، وإذا مجردةٌ عن معنى الشرط، وقيل: وهو الصحيح فيها معنى الشرط، وجوابها محذوف تقديره: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم في أول الحرب، حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في أمر الحرب، وعصيتم أمر الرسول ابتلاكم الله، وامتحنكم بالهزيمة، ومنعكم النصر {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ} الله سبحانه وتعالى في أول الحرب {مَا تُحِبُّونَ} من الظفر، والغنيمة، وانهزام العدو. والمعنى: صدقكم الله وعده حتى ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا، وقد انهزم المشركون، وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصيتم رسولكم وقائدكم؛

بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه، يحمون ظهور المقاتلة بدفع المشركين بالنبل من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر، والظفر، فصبرتم على الضراء، ولم تصبروا على السراء. وخلاصة القول: إنَّ الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل، والتنازع، وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر لأن الله تعالى: إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة. وفي قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} تنبيهٌ على عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا من عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام، وأذاقهم وبال أمرهم، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ} بجهاده {الدُّنْيَا}، أي: الغنيمة، وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب من أحد، وذهبوا وراء الغنيمة، وكان الرماة أولًا خمسين، ذهب منهم نيف على أربعين للنهب، وعصوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ} بجهاده {الْآخِرَةَ}؛ أي: ثوابها، وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، وهم نحو عشرة قتلوا جميعًا، والذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثون رجلًا، وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين، فقاتل حتى قتل كأنس بن النضر، وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه. وهاتان الجملتان معترضتان بين المعطوف عليه الذي هو جواب إذا المقدر، والمعطوف الذي هو قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}؛ أي: ابتلاكم بالهزيمة، ثم صرفكم، وردكم، وكفكم أيها المؤمنون عن الكفار، وألقى الهزيمة عليكم، وسلط الكفار عليكم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، {لِيَبْتَلِيَكُمْ}؛ أي: ليمتحن صبركم على المصائب، وثباتكم على الإيمان عندها. والخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك؛ أي: ليكون ذلك ابتلاءً واختبارًا

[153]

لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين، والصابرين من الجازعين {وَلَقَدْ عَفَا} الله سبحانه وتعالى {عَنْكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد غفر الله لكم أيها المخالفون أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ارتكبتموه من المخالفة والهزيمة تفضلًا منه لما علم من ندمكم على المخالفة {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {ذُو فَضْلٍ} وطول، وإحسان {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: على أهل الإيمان به، وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصيرٍ يهبط بنفوس بعض، وضعف يلم بآخرين، بل يمحص ما في صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين. 153 - وفي الآية: دليلٌ (¬1) على أنَّ صاحب الكبيرة مؤمنٌ، وأنَّ الله تعالى يعفو بفضله وكرمه إن شاء؛ لأنه سمَّاهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي كبيرةٌ، وعفا عنهم بعد ذلك. والظرف في قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} إما متعلق بصرفكم، وهو أجود من جهة المعنى، أو بعفا، وهو أحسن من جهة القرب أو بعصيتم، أو تنازعتم أو باذكروا محذوفًا؛ أي: ثم صرفكم عنهم حين تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإبعاد في نواحيها، منهزمين منهم هاربين في الجبل، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض. {وَلَا تَلْوُونَ}؛ أي: ولا تلتفتون {عَلَى أَحَدٍ} وراءكم؛ أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض، ولا ينتظره لشدة الدهشة التي عرتكم، والخوف الذي فجأكم {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ}؛ أي: والحال أنَّ الرسول محمدا - صلى الله عليه وسلم - يناديكم من ورائكم و {فِي أُخْرَاكُمْ}؛ أي: في (¬2) ساقتكم أو جماعتكم الآخرى، أي: واقفٌ في آخركم يقول: "إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، أنا رسول الله من كَرَّ - رجع - فله الجنة" وأنتم لا تسمعون، ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوةٌ بالرسول، فتقتدون به في الصبر والثبات. وقرأ الجمهور (¬3) {تُصْعِدُونَ} بضم التاء مضارع أصعد الرباعي، والهمزة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) البحر المحيط.

في أصعد للدخول؛ أي: دخلتم في الصعيد ذهبتم فيه كما تقول: أصبح زيدٌ؛ أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تذهبون في الأرض، وتبين ذلك قراءة أبي {إذ تصعدون في الوادي} وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وقتادة، واليزدي {تَصعَدونَ} من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه. والجمع بين القراءتين: أنهم أوَّلًا أصعدوا في الوادي، فلما ضايقهم العدو صعدوا في الجبل، وهذا على رأي من يفرق بين أصعد وصعد. وقرأ أبو حيوة {تصعدون} من تصعد في السلم، وأصله تتصعدون، فحذفت إحدى التائين على الخلاف في ذلك، أهي تاء المضارعة أم تاء تفعل؟. وقرأ ابن محيصن، وابن كثير في رواية شِبْلٍ {يَصْعَدُون} {ولا يلوون} بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغيبة. وقرأ الجمهور (¬1) {تَلْوُنَ} بفتح التاء، وضم الواو الأولى من لوى الثلاثي، وقرىء {تَلْؤُون} بإبدال الواو الأولى همزةً كراهية اجتماع واوين، وليس بقياس. وقياس هذه الواو المضمومة أن لا تبدل همزةً لأن الضمة فيها عارضةٌ. وقرأ الأعمش وورش عن عاصم {تُلْوون} بضم التاء من أَلْوى الرباعي، وهي لغةٌ ففعل، وأفعل بمعنى. وقرأ الحسن {تَلُوْنَ} بواو واحدةٍ، وخرَّجُوها على أنه أبدل الواو همزة، ثم نقلت حركة الهمزة على اللام، ثم حذفت الهمزة على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء، وظاهر قوله: {عَلَى أَحَدٍ} بفتح الهمزة على قراءة الجمهور العموم، وقيل: المراد به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعبر بأحد عنه تعظيمًا له، وصونًا لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه، قاله ابن عباس، والكلبيُّ، وقرأ حميد بن قيس {على أحد} بضم الهمزة، والحاء، وهو الجبل قاله ابن عطية، والقراءة المشهورة أقوى؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرَّ الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم، إنما كانت وهو يدعوهم انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[154]

{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} عطفٌ (¬1) على صرفكم؛ أي: ثم صرفكم عنهم فجازاكم غمًّا حصل لكم بسبب الانهزام، وقتل الأحباب، وفوت الغنائم بسبب غمٍّ حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب عصيانكم أمره؛ أي: أذاقكم غمًّا بسبب غمٍّ، أذقتموه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب فراركم عنه {لِكَيْ} تتمرنوا على تجرع الغموم وتتعودوا الصبر في الشدائد فـ {لا تحزنوا}؛ أي: لا تتأسفوا فيما بعد {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الظفر والغنيمة {وَلَا} تحزنوا على {مَا أَصَابَكُمْ} ونالكم من القتل والجراح والهزيمة. وقيل: الجار والمجرور متعلِّقٌ بـ {عفا} عنكم، والمعنى: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا ما أصابكم؛ لأن عفوه يذهب كلَّ هم وحزن، وقيل: المعنى: فأثابكم غمًّا متواصلًا أنساكم الحزن على ما فاتكم، ولا ما أصابكم. وقد روي أنهم لما سمعوا بأن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد قتل نسوا ما أصابهم، وما فاتهم. هذا على القول بأنَّ {لا} أصليةٌ. والقول الثاني: أنَّ {لا} زائدة، واللام متعلِّقة بـ {أثابكم} أي: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} وأصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم قال ابن عباس رضي الله عنهما الذي فاتهم الغنيمة، والذي أصابهم القتل والهزيمة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عالم بجميع أعمالكم، ومقاصدكم والدواعي التي حملتكم عليها قادرٌ على مجازاتكم عليها إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، وفي هذه الجملة ترغيبٌ في الطاعة وترهيبٌ عن الإقدام على المعصية. وخصَّ (¬2) العمل بالذكر، وإن كان تعالى خبيرًا بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيَّات تنبيهًا على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها. 154 - {ثُمَّ أَنْزَلَ} الله سبحانه وتعالى وأرسل {عَلَيْكُمْ} يا معشر المسلمين {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} الذي أصابكم بسبب الجراح والقتل والهزيمة {أَمَنَةً}؛ أي: أمنًا من ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

العدو، وطمأنينةً في القلب وقوله: {نُعَاسًا} بدلٌ من {أمنة} بدل كل من كل؛ أي: ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنًا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم، وغلبكم النوم لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح، وما عرض لكم من الضعف. والنوم نعمةٌ كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصائب، وعنايةٌ من الله يخص بها بعض عباده في مثل تلك المحن، ليخفف وقعها على النفوس. ومعنى الآية: امتنان الله علمهم بأمنهم بعد الخوف والغم بحيث صاروا من الأمن ينامون، وذلك أن شديد الخوف والغم لا يكاد ينام. قرأ الجمهور {أَمَنَةً} بفتح الميم على أنه بمعنى الأمن، أو جمع آمنٍ كبارٍ وبررة. وقرأ النخعيُّ، وابن محيصن {أمنةً} بسكون الميم بمعنى الأمن {يَغْشَى}؛ أي: يغطي، ويأخذ ذلك النعاس {طَائِفَةً مِنْكُمْ}؛ أي: جماعة منكم أيها المسلمون، قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامَّةُ الأنصار، الذين كانوا على بصيرةٍ في إيمانهم. قرأ الجمهور {يَغْشَى} بالياء إسنادًا إلى ضمير النعاس، أي: يغشى هو، وقرأ حمزة، والكسائيُّ تغشى بالتاء إسنادًا إلى ضمير، أمنة؛ أي: تغشى هي. روى البخاري عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه ويسقط فآخذه. {وَطَائِفَةٌ}؛ أي: وجماعةٌ من المنافقين كعبد الله بن أبيٍّ، ومعتِّب بن قشير، وأصحابهما {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: قد أوقعتهم نجاة أنفسهم وخلاصها في الهموم فلا ينامون، لأن أسباب الخوف، وهي قصد العدو كانت حاصلةً لهم، والدافع لذلك، وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم؛ لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلذلك عظم الخوف في قلوبهم. وخلاصة هذا: أنَّ المسلمين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين: الأول: فريقٌ ذكروا ما أصابهم، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن

غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنةً حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف. والثاني منهما: فريقٌ أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم؛ إذ الوثوق بوعد الله، ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم؛ لأنهم كانوا مكذِّبين بالرسول في قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحقَّ عليهم ما وصفهم الله به من قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ}، وهذه الجملة حالٌ من ضمير أهمتهم، أي: أهمتهم أنفسهم حالة كونهم يظنون، ويعتقدون في الله سبحانه وتعالى ظنًّا، سيئًا، فاسدًا، وهو عدم نصر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {غَيْرَ} الظن {الْحَقِّ} أي غير الصدق الذي يجب اعتقاده، وهو نصره محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وقوله: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} بدلٌ من غير الحق؛ أي: يظنون في الله ظن أهل الملة الجاهلية؛ إذ كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا .. ما سلط الله عليه الكفار، وهذا ظن فاسدٌ، وقولٌ باطلٌ لا يقوله إلا أهل الجهل، والشرك بالله تعالى، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحدٍ عليه، فإن النبوة خلعةٌ من الله تعالى يشرف بها عبده، وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبدًا بخلعةٍ أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي، كيف يشاء بحكم الإلهية. وجملة قوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} بدلٌ من {يَظُنُّونَ}، والاستفهام فيه للإنكار، ومن زائدة، أي: يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر، والفتح، والظفر الذي وعدنا به محمدٌ نصيبٌ، يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء، قط لأن الله تعالى لا ينصر محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. فهم قد فهموا أنَّ النصر وحقيّة الدِّين متلازمان، فما حدث في ذلك اليوم دليلٌ على أنَّ هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأٌ كبيرٌ، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالًا، ولكن العاقبة للمتقين. ثم أتى بجملةٍ معترضةٍ بين ما قبلها، وما بعدها، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المنافقين {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ}؛ أي: إنَّ النصر، والغلبة، والظفر، والقضاء،

والقدر جميعه {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، وبيده يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف يريد، فكل أمرٍ يقع في العالم فهو بحسب سننه تعالى في الخليقة، ووفق النظام الذي وضعه أولًا، وربط فيه الأسباب بالمسببات، ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد ذلك في قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقوله: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}. وهذه معترضةٌ كما مر آنفًا. وقرأ الجمهور (¬1) {كله} بالنصب تأكيدًا للأمر، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب {كله} بالرفع على أنه مبتدأ، ويجوز أن يعرب توكيدًا للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك، وهو الجرميُّ والزجاج والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كلٍّ انتهى. ولا ترجيح إذ كل من القراءتين متواترٌ، والابتداء بكلٍّ كثيرٌ، في لسان العرب، وجملة قوله: {يُخْفُونَ} حال من ضمير يقولون، أي: يقولون: هل لنا من الأمر شيء حالة كونهم يخفون، ويضمرون {فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}، أي: ما لا يستطيعون إعلانه، وإظهاره لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ويبطنون الإنكار والتكذيب. وجملة قوله: {يَقُولُونَ} مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا لما يخفون واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما الذي يخفونه؛ فأجاب بقوله: يقول هؤلاء المنافقون في أنفسهم أو بعضهم لبعضٍ {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ} والتدبير والرأي والاختيار {شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}؛ أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، وما غلبنا، يعنون أنهم أخرجوا كرهًا، ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا، أو المعنى يقولون: لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا، كما ادَّعى محمد أنَّ الأمر كلَّه لله، ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة. وهذا منهم تقريرٌ لرأيهم، واستدلالٌ عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أنَّ الآجال محدودةٌ، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم ويرد عليهم بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد {لَوْ كُنْتُمْ} ومكثتم {فِي بُيُوتِكُمْ} ومنازلكم ولم تخرجوا من المدينة إلى أحدٍ للقتال كما تقولون {لَبَرَزَ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط ج 3 ص 88.

وظهر وخرج من بينكم {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} في اللوح المحفوظ، وانتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون بسببٍ من الأسباب الداعية إلى البروز والخروج {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وأماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد ومصارعهم ومساقطهم ومقاتلهم التي قدر الله تعالى أنهم يقتلون فيها فتكون لهم مصارع ومضاجع وقتلوا هناك ألبتةً، ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعًا، فإن قضاء الله لا يرد وحكمه لا يعقب. والخلاصة: (¬1) أنَّ الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلًا، وذلك محال فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم، كما قدر ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كلِّه. وقرأ الجمهور {برز} بالفتح والتخفيف ويقرأ بالتشديد على ما لم يسم فاعله؛ أي: أخرجوا بأمر الله تعالى ذكره أبو البقاء. وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} معطوف على علةٍ محذوفةٍ لمعلول محذوف تقديره: فرض الله عليكم القتال، ولم ينصركم يوم أحد وفعل بكم فيه ما فعل لحكمةٍ باهرة، ومصالح جمةٍ، وليبتلى الله سبحانه وتعالى، ويختبر ما في صدوركم من الإخلاص، والنفاق، ويظهر ما فيها من السرائر والاعتقادات، {وَلِيُمَحِّصَ} الله سبحانه وتعالى ويصفي ويطهر {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من وساوس الشيطان، والشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمَنَةِ وصرف العدو عنكم. وخلاصة الكلام هنا: فعل الله سبحانه وتعالى بكم ما أصابكم يوم أحد من القتل والجراح ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما في قلوبهم من الوساوس، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان، وفي المثل المشهور: "لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين". {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} ¬

_ (¬1) المراغي ج 2 ص 105.

[155]

سبحانه وتعالى {بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: عالم بالسرائر والضمائر الخفية التي لا تكاد تفارق الصدور، بل تلازمها وتصاحبها، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وفي هذا ترغيبٌ، وترهيبٌ، وتنبيهٌ، إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن الابتلاء، والامتحان، وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين على الصبر، وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين؛ لأنَّ الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيصٍ، ولا ابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم 155 - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} وأدبروا، وهربوا، وانهزموا، {مِنْكُمْ} أيَّها المسلمون {يَوْمَ الْتَقَى} والتحم، وتقاتل {الْجَمْعَانِ}؛ أي: جمع المسلمين، وجمع الكفار، وهو يوم أحد فهو خطاب لمن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين يوم أحد بأحدٍ، وكان قد انهزم أكثر المسلمين، ولم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة عشر رجلًا، وقيل: أربعة عشر من المهاجرين سبعةٌ ومن الأنصار سبعةٌ، فمن المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم والباقون من الأنصار، وهم سبعة: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصَّمَّةِ، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}؛ أي: إنما أوقعهم الشيطان في الزلل والخطيئة، بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، لا أنه أمرهم بها {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}؛ أي: بسبب بعض ما كسبوا، وعملوا من الذنوب، والعصيان، وهو مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بترك المركز والحرص على الغنيمة. وخلاصة الكلام (¬1): أنَّ الرماة الذين أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ما تركوا هذه المراكز إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، واستجراره لهم بالوسوسة؛ فإن الخطيئة الصغيرة إذا ¬

_ (¬1) المراغي ج 2 ص 106.

ترخص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأولٍ؛ إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعةٌ من هزيمتهم؛ فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة فوات منفعة، ولا وقوعٌ في ضرر، ولكن هذا التأوُّل كان سببًا في كل ما جرى من المصائب التي من أجلها ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعًا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا. وفي هذا إيماءٌ إلى سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر، وأعمالهم وهي أن المصائب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثارٌ طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس، وليست ملكةً ولا عادةً لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه وتعالى بقوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وإليها الإشارة بقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. فهذه المصائب والعقوبات سواء: أكانت في الدنيا أم في الآخرة آثارٌ طبيعيةٌ للأعمال السيئة، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد عفا الله سبحانه وتعالى، وسامح، وتجاوز عن تولي هؤلاء المتولين المنهزمين، وعقوبتهم عليه لتوبتهم واعتذارهم. والمعنى: أنَّ ما صدر منهم من الذنوب في هذا اليوم، يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، ولكن عفا الله عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصًا، وفي هذا دفعٌ لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن تاب يغفر الذنوب جميعًا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والإعتذار {حَلِيمٌ} لا يعاجل عقوبة من عصاه، وهذه الجملة كالعلة للعفو عن هؤلاء المتولِّين، وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ إلا ثلاثة عشر أو أربعة عشر كما مر. وقد بالغ بعض المنهزمين في الفرار حتى إنَّ بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا بعد ثلاثة أيام،

[156]

وبعضهم رجع في ذلك اليوم، واجتمعوا على الجبل. 156 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا بين فيما سبق لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلَّت بهم يوم أحد، كانت بوسواسٍ من الشيطان استزلهم به، فزلوا، حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين، فقال: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تكونوا كالمنافقين الذين كفروا في نفس الأمر، كعبد الله بن أبي وأصحابه، وقالوا في شأن إخوانهم وأصدقائهم في النفاق {إِذَا ضَرَبُوا} وسافروا {فِي} نواحي {الْأَرْضِ} للتجارة، والكسب فماتوا {أَوْ كَانُوا غُزًّى}؛ أي: غزاةً في وطنهم، أو في بلاد أخرى فقتلوا {لَوْ كَانُوا} مقيمين {عِنْدَنَا} في المدينة {مَا مَاتُوا} في سفرهم، {وَمَا قُتِلُوا} في غزواتهم لما تقدم من قول المنافقين (¬1) {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وأخبر الله عنهم أنهم قالوا {لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، وكان قولًا باطلًا، واعتقادًا فاسدًا نهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة، والاعتقاد السيء، وهو أن من سافر في تجارة ونحوها، فمات، أو قاتل، فقتل، لو قعد في بيته لعاش، ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال، وهو معتقدُ الكفار والمنافقين. والمراد (¬2) بالأخوة هنا: أخوة النسب؛ إذ كان قتلى أحدٍ من الأنصار، وأكثرهم من الخزرج، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعةٌ، وقيل: خمسةٌ، ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريبٌ أو بعيدٌ، أو المراد أخوة المعتقد، والنفاق كما مر. وقرأ الجمهور {غُزًّى} بتشديد الزاي، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي، ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيًّا، وعلى حذف التاء، والمراد غزاةً. ¬

_ (¬1) البحر المحيط ج 3 ص 92. (¬2) البحر ج 3 ص 92.

وقرأ الجمهور {وَمَا قُتِلُوا} بتخفيف التاء، وقرأ الحسن بتشديدها للتكثير في المحال، لا بالنسبة إلى محل واحد؛ لأنه لا يمكن التكثير فيه. واللام في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ} لام كي، متعلِّقة بمعلول محذوف دلَّ عليه السياق تقديره: أوقع الله ذلك القول، والمعتقد في قلوبهم ليجعل الله ذلك؛ أي: ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا، ولم يحضروا القتال لعاشوا {حَسْرَةً} وندامةً {فِي قُلُوبِهِمْ}، وحزنًا وغمًّا، وتأسفًا على فوات إخوانهم، والحسرة: الندامة على فوت المحبوب. والمعنى: لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا فيمن ماتوا، أو قتلوا ما قالوا؛ أي: لا تقولوا، ولا تعتقدوا، مقتضى هذا القول المذكور، فالمقصود النَّهْيُ عن هذا القول، واعتقاد مضمونه، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزةٌ عنهم بالعقل الراجح الذي يهدي صاحبه إلى أنَّ الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسَّر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانًا وتسليمًا بكل ما يجري به القضاء. وقوله: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ردٌّ لقولهم: إن القتال يقطع الآجال، فالأمر بيده سبحانه وتعالى، فهو المؤثر وحده في الحياة والموت بمقتضى سننه في أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما؛ فإنَّ الله تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد، وإن كان تحت ظلال النعيم. وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال، عند موته: ما فيَّ موضع شبرٍ إلّا وفيه ضربة سيفٍ أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت كما يموت العير - الحمارُ - فلا نامت أعين الجبناء. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {بَصِيرٌ}؛ أي: مطلع عليه، فلا يخفى عليه شيءٌ مما تكنون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثرٌ في أقوالكم، وأفعالكم، فيجازيكم عليه، فاجعلوا نفوسكم طاهرةً من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار. وفي هذا تهديدٌ للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار في أقوالهم، وأفعالهم،

[157]

وهذا على قراءة التاء في {تَعْمَلُونَ} خطابًا للمؤمنين، وهي قراءة غير ابن كثير، وحمزة، والكسائي. والمعنى: فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل المنافقين في قولهم المذكور؛ لأنَّ مقصدهم تنفير المؤمنين عن الجهاد بقولهم؛ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فإن الله تعالى هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق، وإن أقام ببيته عند أهله، فلا تقولوا أنتم أيها المؤمنون لمن يريد الخروج إلى الجهاد: لا تخرج فتقتل، فلأن يموت في الجهاد فيستوجب الثواب، خيرٌ له من أن يموت في بيته بلا فائدة. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي {يعملون} بالياء على الغيبة على أنه وعيدٌ للمنافقين؛ أي: مطلعٌ على عملهم فيجازيهم عليه. 157 - ثم بشر سبحانه وتعالى من قتل، أو مات في سبيل الله بحسن المآل، فقال: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن قتلتم أيها المؤمنون {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} في سفركم للغزو مع الكفار، أو في بيوتكم، وكنتم مخلصين من النفاق. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف، وقرأ الباقون بضم الميم من مات يموت كقال يقول، والضم أقيس وأشهر، والكسر مستعمل كثيرًا. {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} لذنوبكم {وَرَحْمَةٌ} منه لكم {خير مما تجمعون} بالتاء خطابًا للمؤمنين؛ أي: مما تجمعونه، أنتم، لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيراتٍ، وهذه قراءة الجمهور. وقرأ حفصٌ عن عاصم {يَجْمَعُونَ} بياء الغيبة؛ أي: خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا، وطيباتها مدة أعمارهم. أي: إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال، والمتاع، في هذه الدار الفانية، فإن هذا ظلٌّ زائلٌ، وذاك نعيم خالد. والخلاصة: أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته، خيرٌ له مما يجمع هؤلاء

[158]

الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات. فما أجدّ المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وأن لا يتحسروا على من يقتل منهم، أو يموت في سبيل الله، فإن ما يلقونه بعدهما خيرٌ لهم مما كانوا فيه قبلهما، ثم حثهم على العمل في سبيل الله تعالى؛ لأن المآل إليه فقال. 158 - {وَلَئِنْ مُتُّمْ} في حضرٍ أو سفر، {أَوْ قُتِلْتُمْ} في الجهاد أو غيره {لَإِلَى اللَّهِ} معبودكم الذي توجهتم إليه وبذلتم مهجتكم لوجهه الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب لا إلى غيره، لا محالة {تُحْشَرُونَ} وتجمعون أيها المؤمنون في الحالين، فيوفى جزاءكم، ويعظم ثوابكم، فجميع العالمين يوقفون في عرصة القيامة، وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عباده بالعدل. والمعنى: أنكم بأيّ سببٍ كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون، لا إلى غيره، فيجازي كلًّا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثوابٌ، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانيةٌ، وتلك الحياة الأخرى باقيةٌ، خالدة، فقوله تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} إشارة: إلى من يعبده خوفًا من عقابه، وقوله: {وَرَحْمَةٌ} إشارةٌ إلى من يعبده لطلب ثوابه، وقوله: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} إشارة: إلى من يعبده لمجرد الربوبية، والعبودية، وهذا أعلى المقامات، وأبعد النهايات في العبودية، في علو الدرجة، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله، ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته. قال بعضهم: لَيْسَ قَصْدِيْ مِنَ الْجِنَانِ نَعِيْمَا ... غَيْرَ أَنِّيْ أُرِيْدُهَا لأَرَاكَا

فائدة: وهنا ثلاثة مواضع ذكر الموت فيها، قدَّم الموت في الأول: منها: على القتل، وهو قوله: {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} لمناسبة ما قبله من قوله: {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وقدم القتل على الموت في الثاني منها، وهو قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} لأنه محل تحريض على الجهاد، فقدم الأهم الأشرف، وقدَّم الموت على القتل في الثالث منها، وهو قوله: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} لأنه الأغلب. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)}. {يا} حرف نداء. {أيُّ} منادى نكرة مقصودة. و {الهاء} حرف تنبيه زائدٌ، تعويضًا عمَّا فات {أيُّ} من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ} اسم موصول، في محل النصب صفةٌ لـ {أيُّ}. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إن} حرف شرط جازم. {تُطِيعُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إِن}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب، مفعول به. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {يَرُدُّوكُمْ} فعل، وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه جواب الشرط، وجملة الشرط مع جوابه جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَرُدُّوكُمْ}. {فَتَنْقَلِبُوا} {الفاء} عاطفة. {تنقلبوا} فعل وفاعل معطوف على {يَرُدُّوكُمْ} على كونه جواب الشرط. {خَاسِرِينَ} حال من ضمير الفاعل، أو خبر {انقلب} إن قلنا إنه من أخوات صار. {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}. {بَلِ} حرف إضراب عن محذوف معلوم من السياق، كما مر في بحث التفسير، تقديره: فليسوا أولياء لكم حتى تطيعوهم، بل الله الخ. {اللَّهُ} مبتدأ. {مَوْلَاكُمْ} خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ} {الواو} عاطفة أو

حالية. {هو} مبتدأ. {خَيْرُ النَّاصِرِينَ} خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الإضراب أو حال من الجلالة. {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}. {سَنُلْقِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله} والجملة مستأنفة. {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {سَنُلْقِي}. {كَفَرُوا الرُّعْبَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِمَا أَشْرَكُوا} {الباء} حرف جر وسبب. (ما) مصدرية. {أَشْرَكُوا} فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة صِلةٌ لـ {ما} المصدرية وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ {سَنُلْقِي}. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول لـ {أشركوا}. {لَمْ يُنَزِّلْ} فعل مضارع وجازم، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {بِهِ} متعلق بـ {يُنَزِّلْ} والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. {سُلْطَانًا} مفعول به لـ {يُنَزِّلْ}. {وَمَأوَاهُمُ} {الواو} استئنافية. {مأواهم} مبتدأ، ومضاف إليه. {النَّارُ} خبر، والجملة مستأنفة. {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} {الواو}: عاطفة. {بئس} فعل ماض من أفعال الذم. {مَثْوَى الظَّالِمِينَ} فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: النار، وهو مبتدأٌ خبره جملة {بئس}، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {وَمَأوَاهُمُ النَّارُ} على كونها مستأنفةٌ، وفي المخصوص بالذم، أوجهٌ كثيرةٌ مذكورة في كتب النحو فراجعها إن شئت. {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {صَدَقَكُمُ اللَّهُ} فعل وفاعل، ومفعول أول. {وَعْدَهُ} مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم

مستأنفة. وتعدَّت (¬1) كلمة {صَدَق} هنا إلى اثنين، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر، تقول: صدقت زيدًا الحديث، وصدقت زيدًا في الحديث، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدَّى إلى اثنين، ويجوز أن يتعدّى إلى الثاني بحرف الجر، فيكون من باب استغفر، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} {إِذْ} ظرف لما مضى مبني على السكون والظرف متعلق بـ {صدق}، ويجوز أن يتعلَّق بـ {وعده} كما ذكره أبو البقاء. {تَحُسُّونَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول. {بِإِذْنِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بتحسونهم، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ والتقدير: ولقد صدقكم الله وعده وقت حسكم، وقتلكم إياهم بإذنه. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}. {حَتَّى} حرف جر وغاية بمعنى إلى. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان خافضة لشرطها منصوبة بجوابها. {فَشِلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف الذي سنبينه. {وَتَنَازَعْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {فَشِلْتُمْ}. {فِي الْأَمْرِ} جار ومجرور متعلق بـ {تنازعتم}. {وَعَصَيْتُمْ} فعل وفاعل في محل الخفض معطوفة على جملة {فَشِلْتُمْ} أيضًا. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور، تنازع فيه الأفعال الثلاثة المذكورة قبله. {مَا} مصدرية. {أَرَاكُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الله} ورأى هنا بصرية تعدَّت إلى مفعولين بالهمزة. {مَا تُحِبُّونَ} {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لأرى. {تُحِبُّونَ} فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: من بعد إراءته إياكم ما تحبون، وجواب {إِذَا} محذوف تقديره: منعكم النصر، وانهزمتم، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حتى} بمعنى إلى المتعلِّقة بـ {صدقكم} والتقدير: ولقد صدقكم {وعده} إذ تحسونهم بإذنه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط ج 3 ص 78.

واستمر نصركم إلى منعه تعالى إياكم النصر، وانهزامكم وقت فشلكم، وتنازعكم في الأمر، وعصيانكم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعد إراءته تعالى إياكم ما تحبون من النصر والظفر. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب لا طائل تحتها، فراجع كتب المفسرين إن شئت. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}. {مِنْكُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. {يُرِيدُ الدُّنْيَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد ضمير الفاعل، والجملة من المبتدأ والخبر جملة معترضة، لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَمِنْكُمْ} {الواو} عاطفة. {منكم} جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، وجملة {يُرِيدُ الْآخِرَةَ} صلة الموصول، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} على كونها معترضة لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}. {ثُمَّ} حرف عطف. {صَرَفَكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْهُمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب {إذا} المقدَّر المذكور سابقًا على كونها جملةً جوابيةً لا محل لها من الإعراب {لِيَبْتَلِيَكُمْ} {اللام} حرف جر وتعليل. {يبتلي} فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {والكاف} مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: لابتلائه إياكم الجار والمجرور متعلقٌ بـ {صَرَفَكُمْ}. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {عَفَا} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {الله}. {عَنْكُمْ} متعلق بعفا، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم

المحذوف مستأنفة. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {الله} مبتدأ. {ذُو فَضْلٍ} خبر، ومضاف إليه. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور، متعلق بفضل، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان. {تُصْعِدُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذْ} إليها، والظرف متعلق بـ {صرفكم}، وهو أجود من جهة المعنى، أو بـ {عفا} وهو أحسن بالنظر إلى قربه كما مر في بحث التفسير. {وَلَا تَلْوُونَ} {الواو} عاطفة. {لا} نافية. {تَلْوُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {تُصْعِدُونَ}. {عَلَى أَحَدٍ} جار ومجرور متعلق بـ {تلوون}. {وَالرَّسُولُ} {الواو} واو الحال {الرسول} مبتدأ. {يَدْعُوكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو الجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {تَلْوُونَ}. {فِي أُخْرَاكُمْ} جار ومجرور حال من فاعل {يَدْعُوكُمْ} العائد إلى {الرسول}. {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. {فَأَثَابَكُمْ} {الفاء} عاطفة. {أثابكم} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {غَمًّا} مفعول ثان. {بِغَمٍّ} جار ومجرور متعلق بـ {أثابكم} و {الباء} فيه سببية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {ثم صرفكم}. وقال الزمخشري (¬1): {فَأَثَابَكُمْ} عطف على {صرفكم} انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين، والذي يظهر أنه معطوف على {تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ} لأنه مضارع في معنى الماضي، لأنَّ إذ تصرف المضارع إلى الماضي إذ هي ظرفٌ لما مضى، والمعنى إذ صعدتم، وما لويتم على أحد فأثابكم. {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} {اللام} حرفٌ جر وتعليل. {كي} حرف نصب ومصدر. {لا} نافية ¬

_ (¬1) البحر المحيط ج 3 ص 84.

أو زائدة. {تَحْزَنُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {كي}. {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {تَحْزَنُوا}. {فَاتَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {ما}، وجملة (فات} صلةٌ لـ {ما}، أو صفة لها. {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} {الواو}: عاطفة. {لا} زائدة. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوفة على {مَا} الأولى. {أَصَابَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا}، وجملة أصاب صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، وجملة {تَحْزَنُوا} صلة كي المصدرية، وكي مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المتعلقة بـ {أثابكم} والتقدير: فأثابكم غمًّا بغمٍّ لتمرينكم على تجرع الغموم، وعدم حزنكم فيما بعد على ما فاتكم، ولا ما أصابكم. هذا إن قلنا إنَّ {لا} أصلية نافية، أو المتعلقة بـ {عفا عنكم}، إن قلنا إنَّ {لا} زائدة، والتقدير: ولقد عفا عنكم لحزنكم على ما فاتكم، وما أصابكم. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {الله} مبتدأ. {خَبِيرٌ} خبر، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرٌ}. {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لـ {مَا} أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}. {ثُمَّ} حرف عطف. {أَنْزَلَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {أثابكم}. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {أَمَنَةً} مفعول به لـ {أنزل}. {نُعَاسًا} بدل منه. {يَغْشَى} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {نُعَاسًا} والجملة صفة لـ {نُعَاسًا}. {طَائِفَةً} مفعول {يَغْشَى}. {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لـ {طَائِفَةً}. {وَطَائِفَةٌ} {الواو} استئنافية، أو حالية. {طائفةٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل. {قد} حرف تحقيق. {أَهَمَّتْهُمْ} فعل ومفعول. {أَنْفُسُهُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدإ، والجملة الإسمية مستأنفة. {يَظُنُّونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير {أَهَمَّتْهُمْ}. {بِاللَّهِ} جار ومجرور

متعلق بـ {يَظُنُّونَ} على كونه مفعولًا ثانيًا. {غَيْرَ الْحَقِّ} مفعول أول لـ {يَظُنُّونَ}، ومضاف إليه. {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} مفعول مطلق، ومضاف إليه. {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}. {يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب بدل من {يَظُنُّونَ} بدل كل من كل. {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} مقول محكي لـ {يَقُولُونَ} وإن شئت قلت: {هل}: حرف للاستفهام الإنكاري. {لَنَا} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ الْأَمْرِ} جار ومجرور حال {مِنْ شَيْءٍ} المذكور بعده. {مِنْ شَيْءٍ} {من} زائدة. {شَيْءٍ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. وفي "الفتوحات" قوله {مِنْ شَيْءٍ} إما مبتدأ خبره {لَنَا}، أو فاعل بـ {لَنَا} لاعتماده على الاستفهام و {مِن} عليهما زائدةٌ، و {مِنَ الْأَمْرِ} حال من المبتدأ، لأنه لو تأخر عن شيء .. لكان نعتًا له فيتعلق بمحذوف. {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت {إِنَّ} حرف نصب. {الْأَمْرَ} اسمها. {كُلَّهُ} على قراءة النصب توكيد للأمر، وعلى قراءة الرفع مبتدأ. {لِلَّهِ} جار ومجرور، خبر {إن}، أو خبر المبتدأ وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقولٌ لقل. {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}. {يُخْفُونَ}، فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير {يَقُولُونَ}. {فِي أَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُخْفُونَ}. {مَا لَا يُبْدُونَ} {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {يُخْفُونَ}. {لَا} نافية. {يُبْدُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما لا يبدونه. {لَكَ} جار ومجرور متعلق بـ

{يُبْدُونَ}. {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. {يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، بيّن بها {مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}، وهذا هو الأجود من جعلها بدلًا من {يُخْفُونَ} كما ذكره في "الكشَّاف". {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط غير جازم. {لَنَا} جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها. {مِنَ الْأَمْرِ} جار ومجرور حال من {شيء}، لأنه نعت نكرة قُدِّم عليها، فيعرب حالًا. {شَيْءٌ} اسم {كَانَ} مؤخر، وجملة كان من اسمها وخبرها فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {مَا قُتِلْنَا} {مَا} نافية. {قُتِلْنَا} فعل ماض مغير، ونائب فاعله. {هَاهُنَا} اسم إشارة للمكان القريب في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {قُتِلْنَا}، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقولٌ لـ {يَقُولُونَ}. {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {فِي بُيُوتِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر {كان} أو متعلق بـ {كان} إن قلنا: إنها تامة، وجملة {كان} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَبَرَزَ} {اللام} رابطة لجواب {لو} الشرطية. {برز الذين} فعل وفاعل، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {كُتِبَ} فعل ماضٍ مغير الصيغة. {عَلَيْهِمُ} جار ومجرور متعلق بـ {كُتِبَ}. {الْقَتْلُ} نائب فاعل لـ {كُتِبَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير عليهم. {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يبتلي اللَّه}.

{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} {وَلِيَبْتَلِيَ} {الواو} عاطفة. {ليبتلى} {اللام} حرف جر وتعليل. {يبتلى اللَّه} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول لـ {يبتلي}. {فِي صُدُورِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلةٍ لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {يبتلي اللَّه} صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: ولابتلاء الله ما في صدوركم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المتعلق بمعلول محذوف تقديره: فعل الله بكم ما فعل بكم يوم أحد لحكمة باهرةٍ، ولابتلاء الله ما في صدوركم. {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. {وَلِيُمَحِّصَ} {الواو} عاطفة. {ليمحص} {اللام} حرف جر وتعليل. {يمحِّص} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {فِي قُلُوبِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه صلة لـ {ما} أو صفة لها، وجملة {يمحِّص} صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولتمحيص الله ما. {فِي قُلُوبِكُمْ} الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {الله} مبتدأ. {عَلِيمٌ} خبره. {بِذَاتِ الصُّدُورِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بعليم، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}. {إِنَّ} حرف نصب. {الَّذِينَ} اسمها. {تَوَلَّوْا} فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من فاعل {تَوَلَّوْا} {يَوْمَ} ظرف متعلق بـ {تَوَلَّوْا}. {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {إِنَّمَا} أداة حصر، بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة. {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن} من اسمها وخبرها مستأنفة. {بِبَعْضِ مَا} جار ومجرور،

ومضاف إليه متعلق بـ {استزل}. {كَسَبُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره ببعض ما كسبوه. {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {عَفَا اللَّهُ} فعل وفاعل. {عَنْهُمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} {إن} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها {غَفُورٌ} خبر أول، لـ {إِنَّ}. {حَلِيمٌ} خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}. {يا} حرف نداء. {أي} منادى نكرة مقصودة. {ها} حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {أي} وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَا تَكُونُوا} {لَا} ناهية. {تَكُونُوا} فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {لا} الناهية. {كَالَّذِينَ} جار ومجرور خبر {تَكُونُوا}، وجملة {تَكُونُوا} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَقَالُوا} فعل وفاعل معطوف على {كَفَرُوا}. {لِإِخْوَانِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قالوا}. {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، ولكنها بمعنى إذْ. {ضَرَبُوا} فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، والظرف متعلق بـ {قالوا} والتقدير: وقالوا لإخوانهم وقت ضربهم في الأرض. {أَوْ كَانُوا غُزًّى} {أَوْ} حرف عطف وتفصيل. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {غُزًّى} خبره، وجملة {كَانُوا} في محل الجر معطوفة على جملة {ضَرَبُوا}. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} مقول محكي لـ {قُتِلُوا}. وإن شئت: قلت {لَوْ}

حرف شرط غير جازم. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {عِنْدَنَا} ظرف، ومضاف إليه خبر {كَانُوا}، وجملة {كَانُوا} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلَّ لها من الإعراب. {مَا مَاتُوا} {مَا} نافية. {مَاتُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لـ {قالوا}: وجملة قوله: {وَمَا قُتِلُوا} معطوفة على جملة {مَا مَاتُوا} على كونها جوابًا لـ {لو}. {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {لِيَجْعَلَ اللَّهُ}. {لِيَجْعَلَ} {اللام} حرف جر وعاقبة. {يجعل الله} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرةً، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام العاقبة، تقديره: لجعل الله عاقبة {ذلك حسرة في قلوبهم} الجار والمجرور متعلق بـ {قالوا}؛ أي: قالوا ذلك ليجعل عاقبة أمرهم الحسرة، والندامة. {ذَلِكَ} مفعول أول لجعل؛ لأنه بمعنى صير. {حَسْرَةً} مفعول ثان له. {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يجعل} وهو أبلغ في المعنى، أو صفة لـ {حَسْرَةً} كما في "الفتوحات". {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {الله} مبتدأ. وجملة {يُحْيِي} خبره، والجملة الإسمية مستأنفة. وجملة قوله: {وَيُمِيتُ} معطوفة على جملة {يُحْيِي}. {وَاللَّهُ} {الواو} عاطفة. {الله} مبتدأ. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ} الآتي. {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. {بَصِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}. {وَلَئِنْ} {الواو} استئنافية. {اللام} موطئة للقسم. {إن} حرف شرط. {قُتِلْتُمْ} فعل، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها.

{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قُتِلْتُمْ}. {أَوْ مُتُّمْ} معطوف على {قُتِلْتُمْ}. {لَمَغْفِرَةٌ} {اللام} حرف ابتداء. {مغفرة} مبتدأ. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {مغفرة}. {وَرَحْمَةٌ} معطوف على مغفرة. {خَيْرٌ} خبر المبتدأ. {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}. {يَجْمَعُونَ} فعل، وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يجمعونه، والجملة من المبتدإ والخبر جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وأما جواب الشرط فمحذوف على القاعدة المشهورة عندهم، كما قال ابن مالك: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِماعٍ شَرْطٍ وقَسَم ... جَوَابَ ما أَخَّرَتْ فَهُوَ مُلْتَزمُ وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}. {وَلَئِنْ} {الواو} عاطفة. {اللام} موطئة للقسم. {إن} حرف شرط. {مُتُّمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {أَوْ قُتِلْتُمْ} معطوف على {مُتُّمْ}. {لَإِلَى اللَّهِ} {اللام} رابطة لجواب القسم. {إلى اللَّه} جار ومجرور متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}. {تُحْشَرُونَ} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، وجواب الشرط محذوف معلوم من جواب القسم تقديره: تحشرون إلى الله. وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة القسم الأول. وقال أبو البقاء (¬1) قوله: {لَإِلَى اللَّهِ} {اللام} جواب قسم محذوف، ولدخولها على حرف الجر .. جاز أن يأتي {تُحْشَرُونَ} غير مؤكد بالنون، والأصل: لتحشرن إلى الله. قال أبو حيان (¬2): ولم يؤكد الفعل الواقع جوابًا للقسم المحذوف؛ لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور، ولو تأخَّر .. لكان لتحشرن إليه. قال أبو عليٍّ: الأصل دخول نون التوكيد فرقًا بين لام اليمين، ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) البحر المحيط.

ولام الابتداء. ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام اليمين على الفضلة؛ وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون، وبدخولها على سوف كقوله: {فلسوف تعلمون} وقع الفرق فلم يحتج إلى النون؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل، إلا إذا كان حالًا أما إذا كان مستقبلًا .. فلا. وإنما قُدِّمَ الجار والمجرور اهتمامًا باسم الله تعالى، ولرعاية الفاصلة. التصريف ومفردات اللغة {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} الرُّعب بضمتين، وبإسكان الثاني شدة الخوف التي تملأ القلب، وفي "المصباح". رعبت رعبًا من باب: تفع خفت، ويتعدى بنفسه، وبالهمزة أيضًا يقال: رعبته فهو مرعوب، وأرعبته، والاسم الرعب بالضم، وبضم العين للإتباع، ورعبت الإناء إذا ملأته، ورعبت الحوض ملأته، وسيلٌ راعبٌ؛ أي: ملأ الوادي. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} السلطان (¬1): الحجة والبرهان، ومنه قيل للوالي: سلطان، وقيل: اشتقاق السلطان من السليط، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم، وقيل: السليط: الحديد، والسلاطة: الحدة، والسلاطة من التسليط، وهو القهر والسلطان من ذلك، فالنون زائدةٌ، والسليطة المرأة الصخابة، والسليط الرجل الفصيح اللسان. {مَثْوَى الظَّالِمِينَ} المثوى: مفعلٌ من ثوى يثوي ثويًا إذا أقام، يكون للمصدر، والزمان، والمكان، والثواء الإقامة بالمكان الثابتة، أما المأوى: فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان كما مر في بحث التفسير. {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} الحسُّ: القتل الذريع يقال: حسَّه يحسه من باب: رد حسًّا، إذا قتله قتلًا ذريعًا قال الشاعر: حَسَسْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوْا وَتَبَدَّدُوْا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وجراد محسوسٌ قتله البرد، وسنةٌ حسوس إذا أتت على كل شيء. وفي "المختار" {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي: تستأصلونهم قتلًا، وبابه: ردَّ، فكان القاتل أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه إذا أصاب رأسه. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} في "المصباح" فشل فشلًا، فهو فشلٌ من باب: تعب وهو الجبان الضعيف القلب. {وَتَنَازَعْتُمْ} التنازع الإختلاف، وهو من النزع وهو الجذب يقال: نزع ينزع إذا جذب، وهو متعدٍّ إلى واحد؛ ونازع متعدٍ إلى اثنين وتنازع متعدٍ إلى واحد. قال الشاعر: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال {إِذْ تُصْعِدُونَ} بضم أوله على قراءة الجمهور من أصعد الرباعيّ، يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة، أي: ذهبنا، وبفتحه على قراءة غيرهم من صعد في الجبل إذا رقى. وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحدٍ. {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}؛ أي: لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، يقال: فلانٌ لا يلوي على شيء؛ أي: لا يعطف عليه، ولا يبالي به، وأصل تلوون تلويون استثقلت الحركة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء، ثم ضمت واو عين الكلمة لمناسبة واو الضمير فصار تلوون. {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} يقال: فات الشيء، أعجز إدراكه، وهو متعد، ومصدره فوتٌ وهو قياس فعل المتعدِّي. {نُعَاسًا} النعاس (¬1): النوم الخفيف، يقال: نعس ينعس من باب فتح، ونصر نعاسًا، فهو ناعسٌ، ولا يقال: نعسان. وقال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها، ويقال: نعس الرجل نعسًا إذا أخذته فترةٌ في حواسه، فقارب النوم، فهو ناعسٌ. {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} جمع مضجع، والمضجع: المكان الذي يتكأ فيه للنوم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} والمضاجع المصارع، وهي أماكن القتل، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها. {أَوْ كَانُوا غُزًّى} جمع (¬1) غاز، على حدِّ قوله: وفُعَّلٌ لِفاعِلٍ وفاعِلَهْ ... وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وعَاذِلَهْ ومِثْلُهُ الفُعَّالُ فِيْمَا ذُكِرَا .... وَذَانِ فِيْ المُعَلِّ لامًا نَدَرَا وهو منصوبٌ بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو، وحذفت لالتقاء الساكنين، وأصله غزو تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، ثم حذفت لما ذكر. وفي "السمين" والجمهور على {غزًّا} بالتشديد جمع غازٍ، وقياسه: غزاةٌ كـ: رامٍ، ورماةٍ، وقاضٍ وقضاةٍ، ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح في نحو ضاربٍ، وضُرَّب، وصائمٍ، وصُوُّم. وقرأ الحسن {غُزًا} بالتخفيف، وفيه وجهان أحدهما: أنه خفَّف الزاي كراهية التثقيل في الجمع، والثاني: أن أصله غزاةٌ كقضاةٍ ورماة، ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأنَّ نفس الصيغة دالَّةٌ على الجمع، فالتاء مستغنى عنها. {أَوْ مُتُّمْ} بضم الميم من مات يموت من باب قال يقول، وأصل مات: موت تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا فصار مات. وأصل يموت يموت نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فصار يموت. وأما بكسرها فمن: مات يمات كخاف يخاف، أصله في الماضي موت كخوف، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار مات فهو من باب علم وأصله في المضارع يموت بوزن يعلم نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها، ثم قلبت ألفًا، فصار يمات مثل يخاف، فيقال في الماضي، عن إسناده لتاء الضمير: متم كما يقال: خفتم، وأصله موتم بوزن علمتم، نقلت كسرة الواو إلى الميم بعد سلب حركتها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. وأما {مُتُّمْ} بالضم؛ فلأنَّ فَعَلَ بفتح العين من ذوات الواو، فقياسه إذا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أسند إلى تاء المتكلم، وأخواتها: أن تضم فاؤه، إما من أوَّل وهلة، وإما أن تبدل الفتحة ضمةً، ثم تنقلها إلى الفاء على اختلافٍ بين الصرفيين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة: منها: الطِّباق في لفظ {آمَنُوا}، و {كَفَرُوا}، وكذلك بين {يخفون} و {يبدون}، وبين {فاتكم} و {أصابكم}، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: التشبيه في قوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقرى؛ والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه، ورأس ماله، وبالمنقلب الذي يروح في طريق، ويغدو في أخرى، وفي قوله: {سَنُلْقِي}، وقيل هذا كله استعارة. ومنها: الالتفات (¬1) إلى التكلم في قوله: {سَنُلْقِي} من الغيبة في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه تعالى، وقرأ أيوب السختيانيُّ سيلقي بالغيبة جريًا على الأصل، وقدم المجرور على المفعول به اهتمامًا بذكر المحل قبل ذكر الحال، والإلقاء هنا مجازٌ؛ لأنَّ أصله في الأجرام فاستعير هنا. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} حيث لم يقل، وبئس مثواهم بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ، وللإشعار بأنهم ظالمون لوضعهم الشيء في غير موضعه. ومنها: التفخيم في قوله: {ذُو فَضْلٍ} حيث نكره. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} للتشريف، وللإشعار بعلة الحكم حيث لم يقل عليكم. ومنها: الإبهام (¬2) في قوله: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} فمن قال: هو ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

الرسول أبهمه تعظيمًا لشأنه؛ ولأن التصريح فيه هضمٌ لقدره. ومنها: التجنيس المماثل في {غَمًّا بِغَمٍّ} {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}. ومنها: التفسير بعد الإبهام في قوله: {مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ}. ومنها: الاحتجاج النظريُّ في قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ}، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، ومنه قول الشاعر: جَرَى القَضَاءُ بِمَا فِيْهِ فَإِنْ تَلُمِ ... فَلاَ مَلاَمَ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ ومنها: الاعتراض في {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}. ومنها: الاختصاص في {بِذَاتِ الصُّدُورِ}، وفي {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ومنها: الإشارة في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً}. ومنها: الاستعارة في {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} تشبيهًا (¬1) للمسافر في البرِّ بالسابح الضارب في البحر؛ لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقًّا لها، واستعانةً على قطعها. ومنها: التكرار في {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} وما بعدهما. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تلخيص البيان ص 22.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}. المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لمَّا أرشد (¬1) الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم، ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم .. زاد في الفضل والإحسان إليهم، في هذه الآيات بأن مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد، التي خالف فيها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، وكان من جراء ذلك ما كان من الفشل، وظهور المشركين عليهم، حتى أصيب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع من أصيب، فصبر، وتجلَّدَ، ولان في معاملة أصحابه، وخاطبهم بالرِّفْقِ، ولم ¬

_ (¬1) المراغي.

يعاتبهم اقتداء بكتاب الله تعالى؛ إذ أنزل في هذه الواقعة آيات كثيرةً بيَّن فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين، وعصيانهم، وتقصيرهم حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة. والآيات تتحدَّث عن أخلاق النبوَّةِ، وعن المِنَّةِ العظمى ببعثةِ الرسولِ الرحيم، والقائد الحكيم، وعن بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...} الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها (¬1): من حيث إنها تضمَّنت حكمًا من أحكام الغنائم في الجهاد، وهو من المعاصي المتوعَّد عليها بالنار، كما جاء في قصة مُدْعِمٍ (¬2) فحذَّرهم عن ذلك. قوله تعالى: (¬3) {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمَّا ذكر الفريقين فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجاتٌ عند الله مجملا من غير تفصيل، فصل أحوالهم. وبدأ بالمؤمنين وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليًا لآيات الله، ومبيِّنًا لهم طريق الهدى، ومطهِّرًا لهم من أرجاس الشرك، ومنقذًا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها، وسلَّاهم عمَّا أصابهم يوم أحد من الخِذلان، والقتل، والجراح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة، ثم فصَّل حالَ المنافقين الذين هم أهل السخط بما نصَّ عليه تعالى. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...} الآية، أخرج (¬4) أبو داود والترمذي وحسَّنه، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفةٍ حمراء، فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعلَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) مدعم: اسم عبد للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهبه له رجل من بني جذام يدعى رفاعة بن زيد كما سيأتي بيانه في أحاديث الغلول. اهـ مؤلفه. (¬3) البحر المحيط. (¬4) لباب النقول.

يَغُلَّ ...} إلى آخر الآية. وأخرج (¬1) الطبراني في الكبير بسندٍ رجاله ثقات، عن ابن عباس قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا، فردت، رايته ثم بعث، فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...}. قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما رواه الإِمام أحمد رحمه الله/ ج1 ص 30/) عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام .. فلا تعبد في الأرض أبدًا، قال: فما زال يستغيث ربَّه عَزَّ وَجَلَّ، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبيَّ الله، كفاك مناشدتك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فلما كان يومئذٍ، والتقوا، فهزم الله عَزَّ وَجَلَّ المشركين، فقتل منهم سبعون رجلًا، وأسر منهم سبعون رجلًا، فاستشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ وعليًّا، وعمر رضي الله عنهم فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله: هؤلاء بنو العم، والعشيرة، والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوةً لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترى يا ابن الخطاب؛ قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكنّي أرى أن تمكنني من فلان قريبًا لعمر، فأضرب عنقه، وتمكِّن عليًّا رضي الله عنه عن عقيل، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادَّةٌ للمشركين، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) مسند أحمد.

[159]

هؤلاء صناديدهم، وأئمتهم، وقادتهم، فهوى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما أن كان من الغد، قال عمر رضي الله عنه: غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قاعدٌ، وأبو بكر رضي الله عنه: وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، فإن لم أجد تباكيت لبكائكما، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الذي عرض عليَّ أصحابك من الفداء، لقد عُرِضَ عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرةٍ قريبةٍ، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء ثم أحل لهم الغنائم، فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، هشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} بأخذ الفداء". الحديث رجاله رجال الصحيح، وقد عزاه ابن كثير، والسيوطي لابن أبي حاتم مختصرًا، وإنما سقته بتمامه لما فيه من العبر. التفسير وأوجه القراءة 159 - والباء في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} سببيةٌ، وما زائدة؛ أي: فسبب رحمةٍ عظيمةٍ من الله، لنت وسهلت (¬1) لهم أخلاقك، وكثرت احتمالك إياهم، ولم تسرع إليهم بتعنيف على ما وقع منهم يوم أحد. ومعنى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}: هو توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - للرفق، والتلطُّف بهم، وأنَّ الله تعالى ألقى في قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - داعية الرحمة، واللطف حتى فعل ذلك معهم. وقال (¬2) أبو حيان: متعلَّق الرحمة المؤمنون، فالمعنى فبرحمة من الله عليهم، لِنْتَ لهم، فتكون الرحمة امْتَنَّ بها عليهم؛ أي: سهلت أخلاقك، ولان ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط ج 3 ص 97.

جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك، وعصوك في هذه الواقعة، وذلك برحمة الله إياهم. وقيل: متعلق الرحمة المخاطب - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: برحمة الله إياك، جعلك لين الجانب، موطأ الأكناف، فرحمتهم، ولنت لهم، ولم تؤاخذهم بالعصيان، والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتنانًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والخلاصة: أنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية؛ إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمروا للهزيمة، والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم، وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصك بها؛ إذ أمدَّك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية حتى هانت عليك المصائب، وعلمتك ما لها من المنافع، وحسن العواقب، وقد مدح الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق في مواضع من كتابه، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حِلْمَ أحبَّ إلى الله تعالى من حِلْمِ إمامٍ ورِفْقهِ، ولا جَهْلَ أَبْغَضَ إلى الله من جَهْلِ إمامٍ وخُرْقِهِ". {وَلَوْ كُنْتَ} يا محمَّد {فَظًّا}؛ أي: سيىء اللِّسان بذيّه {غَلِيظَ الْقَلْبِ}، أي: جافيه، وقاسيه {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ أي: ولو لم تكن كذلك، وكنت فظًّا غليظًا {لَانْفَضُّوا}؛ أي: لتفرقوا من عندك، ونفروا عنك، ولم يسكنوا إليك حتى لا يبقى أحدٌ منهم عندك، ولا يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، إذا انفضوا من عندك. وذاك أنَّ المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلّا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريمًا، يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر، والمكرمة، والشفقة. {فَاعْفُ} يا محمَّد {عَنْهُمْ} وسامح لهم ما وقع منهم يوم أحد فيما يختصُّ بك، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}؛ أي: واطلب المغفرة لهم من الله سبحانه وتعالى فيما يختص بحقوق الله تعالى إتمامًا للشفقة عليهم، وإكمالًا للبر لهم، {وَشَاوِرْهُمْ} يا

محمَّد {فِي الْأَمْرِ} الذي يرد (¬1) عليك، أي أمر كان مما يشاور في مثله، أو في أمر الحرب خاصَّةً، كما يفيده السِّياقُ، لما في ذلك من تطييب خواطرهم، واستجلاب مودَّتهم، فإن المشاورة تقتضي شدَّة محبتهم له - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها تدل على رفعة درجتهم، فترك المشاورة معهم إهانة لهم، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما شاور قومٌ قطُّ إلا هدوا لأرشد أمورهم" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورةً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحدٌ بعدك، وقرأ ابن عباس {في بعض الأمر}. فائدة: وللمشاورة فوائد جمة (¬2): منها: أنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة. ومنها: أن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفةٌ، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره، وإن كان عظيمًا. ومنها (¬3): أن الآراء فيها تقلب على وجوهها، ويختار الرأي الصائب من بينها. ومنها: أنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات في الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة. ومنها: أنه قد يعزم الإنسان على أمرٍ فيشاور فيه، فيتبين له الصواب في غيره، فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي ج 2 ص 114. (¬3) النسفي.

ومنها: أنه إذا لم ينجح أمره .. علم أن امتناع النجاح محض قدرٍ، فلم يلم نفسه. وقال بعضهم: يجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا، ومشاورة وجه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وحكى القرطبيُّ عن ابن عطية: أنه لا خلاف في عزل من لا يستشير بأهل العلم، والدِّين. ذكره الشوكاني. وقال بعضهم في مدح المشاورة: وَشَاوِرْ إِذَا شَاوَرْتَ كُلَّ مُهَذَّبٍ ... لَبِيْبٍ أَخِىْ حَزْمٍ لتَرْشَدَ فِيْ الأَمْرِ وَلاَ تَكُ مِمَّنْ يَسْتَبِدُّ بِرَأيِهِ ... فَتَعْجَزَ أوْ لَا تَسْتَرِيْحَ مِنَ الْفِكْرِ ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِعَبْدِهِ ... وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأمْرِ حَتْمًا بِلَا نُكْرِ {فَإِذَا عَزَمْتَ} وجزمت، وصممت نفسك بعد المشاورة على شيء من أمورك، وقصدت إمضاءه {فَتَوَكَّلْ}، واعتمد {عَلَى} معونة {اللَّهِ} سبحانه وتعالى واستعن به في إمضائه لا على المشاورة، والمقصود: أن لا يكون للعبد اعتمادٌ على شيء إلا على الله تعالى، في جميع أموره، فالمشورة لا تنافي التوكل، فإنه ليس التوكل هو إهمال التدبير بالكلية، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو: أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله ومعونته فـ {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ}، ويثيب {الْمُتَوَكِّلِينَ} والمعتمدين عليه في جميع أمورهم الواثقين به، فينصرهم، ويرشدهم إلى ما فيه خيرٌ لهم وصلاحٌ. فالتوكل: هو الاعتماد على الله، والتفويض في الأمور إليه. وقال ذو النون: التوكل: خلع الأرباب، وقطع الأسباب، والصحيح: أن التوكل إنما يكون مع الأخذ في الأسباب، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلًا بالشرع، وفسادًا في العقل. وقرأ الجمهور (¬1) {عَزَمْتَ} على الخطاب كالذي قبله، وقرأ عكرمة، وجابر بن زيد، وأبو نهيك، وجعفر الصادق، {عَزَمْتَ} بضم التاء على أنها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[160]

ضميرٌ لله تعالى، والمعنى: فإذا عزمت لك على شيء؛ أي: أرشدتك إليه، وجعلتك تقصده، فتوكل على الله، ويكون قوله: على الله من باب الالتفات؛ إذ لو جرى على نسق ضم التاء .. لقال فتوكل عليَّ. 160 - {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ}؛ أي: إن يعطكم الله النصر ويعنكم بنصره، ويمنعكم من عدوكم كما نصركم يوم بدر {فَلَا غَالِبَ} وقاهر لكم من الناس؛ أي: فلا أحد يغلبكم، وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته، واعتصم بربه، وقدرته {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} ويترك نصركم، ووكلكم إلى أنفسكم، لمخالفتكم أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل بكم يوم أحد {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ}؛ أي: فمن الذي ينصركم {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد خذلانه إياكم؛ أي: فلا أحد يملك لكم نصرًا، ويدفع عنكم الخذلان فالذي وقع لكم من النصر كما في يوم بدر، أو من الخذلان كما في يوم أحد بمشيئته سبحانه وتعالى، فالأمر كلُّه لله بيده العزَّة، والنصرة، والإذلال، والخذلان. وقرأ الجمهور {يَخْذُلْكُمْ} من خذل الثلاثي، وقرأ عبيد بن عمير {يَخْذُلْكُمْ} من أخذل الرباعي، والهمزة فيه للجعل؛ أي: يجعلكم مخذولين. {وَعَلَى اللَّهِ} القاهر الغالب سبحانه وتعالى لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: فليخصوه بالتوكل؛ لأنه لا ناصر لهم سواه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب"، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، فقام آخر، فقال: يا نبيَّ الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة". رواه الشيخان وأحمد. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لو أنكم تتوكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا". أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. 161 - {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قرأ ابن عباس، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم

بفتح الياء، وضم الغين؛ أي: وما (¬1) كان لنبيٍّ أن يخون؛ أي: ما جاز له أن يخون أمته في شيء من الغنائم؛ لأن النبوة، والخيانة لا يجتمعان؛ لأنَّ منصب النبوة أعظم المناصب، وأشرفها وأعلاها، فلا تليق به الخيانة؛ لأنها في نهاية الدناءة والخسة، والجمع بين الضدين محال، فثبت بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخن أمته في شيء، لا من الغنائم، ولا من الوحي. وقيل: المراد به: الأمة؛ لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلول، والخيانة، فدلَّ ذلك على أن المراد بالغلول غيره. وقيل: اللام فيه منقولة معناه ما كان النبيُّ ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء. وقيل: معناه ما كان لنبي الغلول يعني ما غل نبيٌّ قط، فنفى عن الأنبياء الغلول. وقيل: معناه، وما كان يحل لنبي الغلول، وإذا لم يحل له ... لم يفعله. وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغلول في بعض الروايات، فبين الله تعالى بهذه الآية، أنَّ هذه الخصلة، لا تليق به، ونفى عنه ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}. وقرأ ابن مسعود، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب {يغل} بضم الياء وفتح الغين بالبناء للمفعول، ولها معنيان: أحدهما: أن يكون من الغلول أيضًا، ومعناه: وما كان لنبي أن يخان؛ أي: ما جاز له أن تخونه أمته، لأن الوحي يأتيه حالا فحالًا، فمن خانه .. فربما نزل الوحي فيه، فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا؛ ولأن الخيانة في حقه - صلى الله عليه وسلم - أفحش؛ لأنه أفضل البشر، ولأن المسلمين في ذلك كانوا في غاية الفقر. والثاني: أن يكون من الإغلال، ومعناه: وما كان لنبي أن يخون؛ أي: ينسب إلى الخيانة والغلول، أو ما صحَّ له أن يوجد غالًّا. ومعنى الكلام: أيْ ما كان (¬2) من شأن، أي نبيٍّ، ولا من سيرته أن يغلَّ؛ لأنَّ الله تعالى عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم، ولا يقع منهم؛ لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءةٌ، وخسةٌ. {وَمَنْ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

يَغْلُلْ}؛ أي: ومن يأخذ من الغنيمة خفية، وخيانة {يَأتِ بِمَا غَلَّ}؛ أي: يجىء بالذي غله وأخذه من الغنيمة بعينه يحمله علي عنقه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فضيحةً له على رؤوس الأشهاد، وزيادة له في تعذيبه {ثُمَّ تُوَفَّى}؛ أي: ثم بعد جمع الخلائق في عرصات القيامة، والحال أن الغال فيهم حاملًا بما غل على عنقه، تعطي، وتوفر وتجازى {كُلُّ نَفْسٍ} غالةٍ وغيرها جزاء {مَا كَسَبَتْ} واقترفت من خير أو شر، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أن الخلائق لا يظلمون في جزاء أعمالهم بنقص ثواب عنهم، أو زيادة عقاب عليهم. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الغلول ووعيد الغال والغلول: لغة: أخذ الشيء خفية، والخيانة فيه. وشرعًا: الخيانة في الغنيمة، وبهذا وردت الأحاديث. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره حتى قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمةٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك لا ألفينَّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياحٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاعٌ تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. الرغاء: صوت البعير، والثغاء. صوت الشاة، والرقاع: الثياب، والصامت: الذهب والفضة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر،

[162]

ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهبًا، ولا ورقًا غنمنا المتاع، والطعام، والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي، يعني وادي القرى، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ له وهبه رجلٌ من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي، قام عبدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله، فرمي بسهم فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له، شملته الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا، والذي نفس محمَّد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك، أو شراكين، فقال: أصبتها يوم خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شراكٌ من نارٍ، أو شراكان من نار". متفق عليه. وفي رواية نحوه، وفيه "ومعه عبدٌ يقال له: مدعمٌ أهداه له أحد بني الضبيب، وفيه إذ جاءه سهمٌ عائر. والشراك: سير النعل الذي يكون على ظهر القدم، ومثله شسع النعل، والسهم العائر، هو: السهم الذي لا يدرى من رماه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان على ثِقَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل، يقال له: كركرة، فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلَّها". رواه البخاري. وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفِّي، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله"، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود، لا يساوي درهمين. أخرجه أبو داود، والنسائي. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ غَلَّ فأحرقوا متاعه، واضربوه". أخرجه أبو داود، والترمذي. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر أحرقوا متاع الغال، وضربوه. زاد في رواية، ومنعوه سهمه. أخرجه أبو داود. 162 - وقد أردف الله سبحانه وتعالى توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين

[163]

أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ}؛ أي: أفمن اتبع كتاب الله ورسوله، وسعى في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى بفعل الطاعات، وترك الغلول، وغيره من الفواحش والمنكرات {كَمَنْ} غلَّ و {بَاءَ} ورجع {بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: بغضب شديد كائن من الله سبحانه وتعالى {و} كمن كان {مَأوَاهُ} ومسكنه، ومنزله {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: وقبح وساء المرجع مرجعه. والاستفهام هنا: إنكاري، أي: ليس جزاء من اتقى، وسعى في تحصيل مرضات الله تعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وترك الغلول كجزاء من غل، وارتكب الفواحش والمحرمات، وانتهى أمره إلى سخط الله تعالى، وعظيم غضبه، وكان مأواه الذي يأوي إليه جهنم، ولا مرجع له غيره؛ لأن مأوى الأول الجنة، ومأوى هذا: النار، فيا بونًا بائنًا بين المنزلين. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. 163 - {هُمْ}، أي: الفريقان المذكوران {دَرَجَاتٌ}؛ أي: أصحاب درجات وطبقات، أي: إنَّ كلا ممن اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله أصحاب طبقات ومراتب مختلفة عند الله، ومنازل متفاوتة في حكمه، وبحسب علمه بشؤونهم، وبما يستحقون من الجزاء، فهم مختلفون في درجات الثواب، والعقاب في حكم الله وعلمه باختلاف مراتب الطاعات والمعاصي. والخلاصة: أنَّ الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون في الفضائل، والمعرفة في الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة، أو السيئة، وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضًا من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته إلى الدرك الأسفل. وقرأ الجمهور {دَرَجَاتٌ} بالجمع، فهي مطابقة للفظ هم، وقرأ النخعي {درجةٌ} بالإفراد. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}؛ أي: عالم بأعمالهم، ودرجاتها، فمجازيهم على حسبها.

[164]

164 - وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبلغ وجه، أكد ذلك بهذه الآية {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد منَّ الله سبحانه وتعالى وأنعم {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وأحسن إليهم، وتفضَّل عليهم نعمة عظيمة التي هي بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ} وأرسل إليهم {رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وجنسهم عربيًّا مثلهم، ولد ببلدهم، ونشأ بينهم يفهمون كلامه بسهولة، ويعرفون حاله بالصدق، والأمانة من أول العمر إلى آخره، ولو كان من غير جنسهم بأن كان ملكًا أو جنًّا لم يتأنسوا به، ولو كان من غير نسبهم بأن كان أعجميًّا لم يفهموا كلامه بسهولة. وهو صار شرفًا للعرب، وفخرًا لهم، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركًا فيه اليهود، والنصارى، والعرب، ثم إن اليهود يفتخرون بموسى، والتوراة، والنصارى يفتخرون بعيسى، والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدًا على شرف الجميع، فهذا وجه الفائدة في قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وخص المؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بمبعثه - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان بما جاء به. وقرىء شاذًا (¬1) {لِمَنْ مَنِّ الله على المؤمنين} بمن الجارة، و {منّ} مجرورٌ بها بدل {قد من} والمعنى لمن من الله على المؤمنين منه، أو بعثه إذ بعث فيهم، فحذف المبتدأ لدلالة السياق عليه. وقرأ الجمهور {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} بضم الفاء، جمع نفس، وقرأت فاطمة، وعائشة، والضحاك، وأبو الجوزاء {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} بفتح الفاء من النفاسة، والشيء النفيس. وروي عن أنس رضي الله عنه أنه سمعها كذلك، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى عليُّ عنه عليه السلام "أنا من أنفسكم نسبًا، وحسبًا، وصهرًا، ولا في أبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاحٌ، كلها نكاح والحمد لله". وقال ابن عباس: ما خلق الله نفسًا هي أكرم على الله من محمَّد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أقسم بحياة أحد غيره، فقال: {لعمرك}. والخلاصة: أن هذا الرسول ولد في بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

منه طول حياته، إلا الصدق، والأمانة، والدعوة إلى الله، والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانةٌ وغلولٌ، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأوصافٍ كل منها يقتضي عظيم المنة وجسيم النعمة: الأول: أنه من أنفسهم؛ أي: إنه عربي من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته، والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم. والثاني: أنه {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}؛ أي: يقرأ عليهم كتابه، وقرآنه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية، لم يطرق أسماعهم شيءٌ من الوحي السماوي. والثالث؛ أنه {يزكيهم} ويطهرهم من العقائد الزائغة، ووساوس الوثنية، وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإِسلام كانوا فوضى في أخلاقهم، وعقائدهم، وآدابهم، فكان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ومضار تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها، والالتجاء إليها دفعًا لشرها، وجلبًا لخيرها، وتقربًا إلى خالقها، ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبيد الخرافات يخاف في موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف. والرابع: أنه {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}؛ أي: يعلمهم معاني القرآن وتفسيره {و} يعلمهم {الْحِكْمَةَ}؛ أي: السنة، والحديث، فتعليم الكتاب (¬1) اضطرَّهم إلى تعلم الكتابة، وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم، والعرفان، فقد طلب إليهم كتابة القرآن، واتخذ كتبة للوحي وكتب كتبًا دعا بها الملوك، والرؤساء إلى الإِسلام، في سائر الأقطار، المعروفة، فانتشرت الكتابة بينهم، وعظمت مدينتهم، وامتدت سلطتهم، فملكوا الأمم التي كان لها السلطان، والصولة، والنفوذ في تلك الحقبة. وكذلك علمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء، ومعرفة أسرارها وفقه أحكامها، وبيان ما فيها من المصالح، والحكم، وهداهم إلى طريق ¬

_ (¬1) المراغي.

[165]

الاستدلال، ومعرفة براهينها، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها، والتمسك بأهدابها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. والخلاصة: أن تعليم الكتاب إشارةً إلى معرفة ظواهر الشريعة، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها، وعللها، وبيان منافعها. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ}؛ أي: والحال أنهم كانوا من قبل بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {لَفِي ضَلَالٍ}، وغيٍّ وجهل {مُبِينٍ}: أي: بين واضحٍ بعيدٍ عن الحق، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله، ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام، وهم على ذلك أميون، لا يقرؤون، ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال. وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنةٍ، فكان موقعها أعظم إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهلٍ، وبُعدٍ عن الحق، فكانت أعم نفعًا وأتم وقعًا. وهذا على كون إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، واللام فارقةٌ بين المخففة، والنافية، وهو مذهب سيبويه. وقال الكوفيون: إنها النافية، واللام بمعنى إلا، والمعنى (¬1): وما كانوا من قبل مجىء محمَّد، ونزول القرآن، إلّا في ضلال بيّن، وذلك لأنَّ دين العرب قبل ذلك كان أرذل الأديان، وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق، وهو الغارة والنهب، والقتل، وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لما بعث الله تعالى سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إليهم انتقلوا ببركته من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أحسنها، وصاروا أفضل الأمم في العلم، والزهد والعبادة، وعدم الالتفات إلى الدنيا، وطيباتها، ولا شك أن هذا أعظم المنة. 165 - وبعد أن حكى الله سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلول، والخيانة، ثم برأه منه وبين ما بعث لأجله عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها، وبين خطأهم، وضلالهم في أقوالهم، وأفعالهم فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} الهمزة فيه: ¬

_ (¬1) المراح.

للاستفهام الإنكاري، داخلةٌ على محذوف، والواو عاطفة لـ {قُلْتُمْ} الآتي على ذلك المحذوف ولما حينية متعلقة بـ {قُلْتُمْ}، وجملة {أَصَابَتْكُمْ} مضاف إليه، لـ {لَمَّا} كما سيأتي لك في بحث الإعراب. والمعنى: أنسيتم فضل الله عليكم، ونصره لكم يوم بدر، وقلتم متعجِّبين حين أصابتكم مصيبةٌ يوم أحد قد أصبتم مثليها، وضعفها يوم بدر من المشركين، أنّى هذا؟ أي: أقلتم متعجبين كيف حصل لنا هذا الخذلان من القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، ونحن ننصر دين الإِسلام الحقَّ، وهم ينصرون دين الشرك الباطل فكيف صاروا منصورين علينا، ونحن أحقُّ بالنصر!. والمراد بالمصيبة: ما أصاب المسلمين يوم أحد من ظهور المشركين عليهم، وقتل سبعين منهم. والمراد بمثليها ما أصاب به المسلمون من المشركين يوم بدر بقتل سبعين منهم، وأسر سبعين. أي: لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة؛ فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم في بدر، فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه. فلماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر، فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد، وتسألون عن سببه. وفائدة قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} التنبيه على أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحدٍ، فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة. وقد أجاب الله سبحانه وتعالى عن شبهة تعجبهم بجوابين: أحدهما: قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}، والثاني قوله: {قُلْ} لهم يا محمَّد {هُوَ}؛ أي: إنَّ هذا الخذلان الذي وقع بكم يوم أحد، وتعجبتم منه، وسألتم عن سببه، {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: إنما وقع بشؤم معصيتكم، ومخالفة أنفسكم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة: منها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: المصلحة في البقاء في المدينة، فلا نخرج إلى أحد فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأي ما رآه الرسول، حتى إذا ما دخلها

[166]

المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة، والشوارع، وترميهم النساء، والصبيان بالأحجار من سطوح المنازل. ومنها: أنكم فشلتم وضعفتم في الرأي. ومنها: أنكم تنازعتم، وحصلت بينكم مهاترة (¬1) كلاميةٌ. ومنها: أنكم عصيتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه، لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أرادوا أن يكونوا من ورائكم، ولا شك أن العقوبات آثارٌ لازمةٌ للأعمال، والله إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده (قدير)؛ أي: قادرٌ، فإنه قادر على نصركم، لو ثبتم وصبرتم كما هو قادرٌ على التخلية بينكم وبين عدوكم إذا خالفتم، وعصيتم، وهو سبحانه وتعالى قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمنٌ، ولا كافرٌ، فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله في البشر، لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن. 166 - {وَمَا أَصَابَكُمْ}؛ أي: وكل ما أصابكم، ونالكم أيها المؤمنون من القتل والجراحة والهزيمة {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}؛ أي: يوم تقابل وتقاتل فيه جمع المسلمين، وجمع المشركين، وهو يوم أحد {فَبِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: فهو واقعٌ بكم بإذن الله، وإرادته، وقضائه، السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها، فكل عسكر يخطئ الرأي، ويعصى قائده، ويخلي بين العدو وظهره، يصاب بمثل ما أصبتم به، أو بما هو أشد، وأنكى منه، وفي ذلك تسليةٌ للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل والهزيمة، ولا تقع التسلية إلا إذا علموا أن ذلك واقعًا بقضاء الله تعالى، وقدره، وحينئذٍ يرضون بما قضى الله عليهم. وقوله {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} معطوف (¬2) على قوله {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} عطف مسببٍ على سببٍ. 167 - وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} عطفٌ على ما قبله قيل: أعاد الفعل ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) المراغي.

لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم، وإلى المنافقين واحدًا. والمعنى؛ أي: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فكائنٌ بإذن الله تعالى، وإرادته، وكائن ليظهر الله صبر الذين آمنوا، وصبروا، وثبتوا، ولم يتزلزلوا، وقوة إيمانهم، وليظهر نفاق الذين نافقوا كعبد الله بن أبيٍّ، وأصحابه الذين انخذلوا يوم أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا، كانوا نحوًا من ثلاث مئة رجل {وَقِيلَ لَهُمْ}؛ أي: قال لهم بعض المسلمين قيل: هو عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما {تَعَالَوْا} معنا إلى أحد، و {قَاتِلُوا} معنا المشركين {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر {أَوِ ادْفَعُوا}؛ أي: أو قاتلوا المشركين دفعًا عن أنفسكم، وأهليكم، وأموالكم، وبلدكم إن لم تكونوا مؤمنين؛ أي: كونوا إمَّا من المجاهدين في سبيل الله، أو من الدَّافعين عن الأنفس والأموال والبلاد. والخلاصة: قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا. {قَالُوا}؛ أي: قال المنافقون للمؤمنين {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا}؛ أي: لو نعرف قتالًا، ونحسنه ونقدر عليه {لَاتَّبَعْنَاكُمْ}؛ أي: لذهبنا معكم إلى أحد، وقاتلنا معكم، ولكنا لا نقدر على ذلك، ولا نحسنه. وقيل: معناه لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتالٍ، ولكنه إلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة لعدم القدرة منا ومنكم، على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم، والخروج من المدينة. وقيل: المعنى لو نعلم أنكم تلقون قتالًا في خروجكم .. ما أسلمناكم، بل كنا نتبعكم، لكنا نرى أن الأمر سينتهي بدون قتال، ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الإمارات على أنهم يريدون قتالًا {هُمْ}؛ أي: هؤلاء المنافقون {لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}؛ أي: هم يوم إذ قالوا فيه ما قالوا، وانخذلوا فيه عن المؤمنين أقرب للكفر من قربهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون؛ لأنهم قد بينوا حالهم وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، فإنهم كانوا

[168]

قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم، وما ظهرت منهم أمارةٌ تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين، وأيضًا: قولهم ذلك يدل على كفرهم؛ لأنه إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل واحد منهما كفرٌ. وقيل (¬1): المعنى: أنهم لأهل الكفر يومئذٍ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} جملةٌ مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها؛ أي: يظهرون بألسنتهم الإيمان الذي ليس في قلوبهم، بل الذي في قلوبهم الكفر، والنفاق، هذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين؛ لأن صفة المؤمن المخلص مواطأة القلب اللسان على شيء واحد، وهو التوحيد. وقال ابن عطية: ذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله: يطير بجناحيه. والمعنى: أنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحدٌ منهما: أحدهما: عدم العلم بالقتال. والآخر: الاتباع على تقدير العلم به، وقد كذبوا فيهما، فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع، بل كانوا مصرين على الانخذال عازمين على الارتداد. ثم أكد كفرهم ونفاقهم، وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه تعالى {أَعْلَمُ}؛ أي يعلم {بِمَا يَكْتُمُونَ} من تفاصيل الأحوال ما لا يعلمه غيره من الكفر، والكيد للمسلمين، وتربص الدوائر بهم، فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا والآخرة. والخلاصة: أنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنه سرائرهم، وقلوبهم. 168 - وبعد أن ذكر قولًا قالوه قبل القتال، وبين بطلانه، أردفه قولًا قالوه بعده، وبين فساده وقال: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}؛ أي: هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في هذه الواقعة، يعني من قتل يوم أحد من أقاربهم المؤمنين، أو من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

أمثالهم المنافقين {وَقَعَدُوا}؛ أي: والحال أن المنافقين القائلين قد قعدوا وجلسوا عن الخروج للقتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - {لَوْ أَطَاعُونَا}؛ أي: لو أطاع المقتولون إيانا فيما أمرناهم به من القعود، ووافقونا في ذلك، ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج {مَا قُتِلُوا}؛ أي: لما قتلوا يومئذٍ كما أنا لم نقتل. وقرأ الحسن وهشام: {قُتِّلُوا} بتشديد التاء، وفي هذا إيماءٌ إلى أنهم أمروهم بالانخذال، حين انخذلوا. أخرج ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف رجلٍ وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاث مئة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنعى الله عليهم ذلك بقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} الآية. وقد دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه ردًّا عليهم. {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء المنافقين القائلين ذلك {فَادْرَءُوا}؛ أي: فادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أن القعود ينجي من الموت. يعني أن (¬1) صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علمًا بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز في غيرها، وحينئذٍ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم، فادفعوا عنها إن كنتم صادقين. والخلاصة: أنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغني عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم، فإنه أحرى بكم. والمعنى (¬2): أن القعود غير مغنٍ عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرةٌ، وكما أن القتال يكون سببًا للهلاك، والقعود يكون سببًا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس، فلا تغتروا بما قلتم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

وروي (¬1) أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقًا، من غير قتال، ومن غير خروج، لإظهار كذبهم، والله أعلم. الإعراب {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}. {فَبِمَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت مما سبق لك أنهم يستحقون الملامة، والتعنيف، ولا يستحقون اللين، والسهولة، وأردت بيان سبب لينك لهم فأقول لك: {بما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم}. {الباء} حرف جر. {ما} زائدة. {رَحْمَةٍ} مجرور بـ {الباء} الجار والمجرور متعلق بـ {لِنْتَ}. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةٍ}. {لِنْتَ} فعل وفاعل. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلِّق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. {وَلَوْ} {الواو} عاطفة. {لو} حرف شرط غير جازم. {كُنْتَ} فعل ناقص واسمه. {فَظًّا} خبرٌ أول لـ {كان}. {غَلِيظَ الْقَلْبِ} خبر ثان لها، ومضاف إليه، وجملة {كان} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلَّ لها من الإعراب. {لَانْفَضُّوا} {اللام} رابطةٌ لجواب {لو}. {انفضوا} فعل وفاعل. {مِنْ حَوْلِكَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلِّق به، والجملة الفعلية جواب {لو} لا محل لها من الإعراب وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب معطوفة على جملة {لِنْتَ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. {فَاعْفُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يستحقون الملامة والعتاب، وأردت بيان ما هو الأصلح لهم ¬

_ (¬1) المراح بالنسفي.

فأقول لك: أعف عنهم. {أعف}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {عَنْهُمْ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} جملة فعلية معطوفة على جملة {فَاعْفُ} وكذلك جملة {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} معطوفة عليها على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن المشاورة معهم عزيمةٌ عليك ليقتدي بك، وأردت بيان ما هو اللائق بك بعد المشاورة، والعزم على شيء فأقول لك {إِذَا عَزَمْتَ}. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {عَزَمْتَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلِّق بالجواب، وهو قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} {الفاء}: رابطةٌ لجواب {إِذَا} وجوبًا. {تَوَكَّلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ} اسمها. {يُحِبُّ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْمُتَوَكِّلِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}. {إِنْ} حرف شرط جازم. {يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية {فَلَا غَالِبَ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. {لا} نافية للجنس تعمل عمل {إِنَّ} {غَالِبَ} في محل النصب اسمها. {لَكُمْ} جار ومجرور خبر {لا}، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}.

{وَإِنْ} {الواو} عاطفة. {إِنْ} حرف شرط جازم. {يَخْذُلْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} وفاعله ضمير يعود على الله. {فَمَنْ ذَا الَّذِي} {الفاء} رابطةٌ لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا. {مَنْ ذَا} {مَنْ} اسم استفهام إنكاريٍّ في محل الرفع مبتدأ. {ذَا} اسم إشارة في محل الرفع خبر {مَنْ} {الَّذِي} نعت لـ {ذَا} أو بدل منه، أو عطف بيان. {يَنْصُرُكُمْ} فعل ومفعول مرفوع؛ وفاعله ضمير يعود على الموصول. {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْصُرُ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون من وذا بمنزلة اسم واحد، كما كانت ماذا؛ لأنَّ ما أشدُّ إبهامًا من من إذا كانت مَنْ لمن يعقل. انتهى. والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} على كونها مستأنفة. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. {وَعَلَى} {الواو} استئنافية. {على الله} جار ومجرور متعلق بما بعده. {فَلْيَتَوَكَّلِ} {الفاء} زائدة و {اللام}: حرف طلب وجزم {يتوكل} فعل مضارع مجزوم {باللام}. {الْمُؤْمِنُونَ}: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {لِنَبِيٍّ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها. {أَنْ يَغُلَّ} {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {يَغُلَّ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {نَبِيٍّ} وجملة {يَغُلَّ} صلة {أَنْ}. {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا تقديره؛ وما كان الغلول لائقًا لنبي، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما مَرَّ مرارًا. {يَغْلُلْ} فعل مضارع

مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {يَأتِ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} بحذف حرف العلة على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} وجملة من الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ}. {بِمَا غَلَّ} {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَأتِ}. {غَلَّ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يَأتِ} وجملة {غَلَّ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما غلَّه. {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. {ثُمَّ} حرف عطف. {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط. {مَا كَسَبَتْ} {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان. {كَسَبَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كل نفس، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. {وَهُمْ} {الواو} حالية. {هُمْ} مبتدأ. وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ}؛ لأنها بمعنى الخلائق. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري داخلةٌ على محذوف على مذهب الزمخشري، تقديره: هل عرفت الفرق بين الضالّ، والمهتدي؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {فَمَنِ} {اتَّبَعَ} {الفاء} عاطفة. {مَنِ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة الموصول. {كَمَنْ} جار ومجرور خبر {مَنِ} الموصول، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. وعلى مذهب الجمهور الفاء استئنافية، والجملة مستأنفة. {بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} {بَاءَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، الجملة صلة الموصول. {بِسَخَطٍ} جار ومجرور متعلق بـ {بَاءَ} أو حال

من ضمير الفاعل تقديره: حالة كونه ملتبسًا بسخط من الله. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لسخط. {وَمَأوَاهُ} {الواو} عاطفة. {مَأوَاهُ} مبتدأ، ومضاف إليه. {جَهَنَّمُ} خبر له، والجملة معطوفة على جملة الصلة، عطفًا للجملة الإسمية على الجملة الفعلية؛ أي: وكمن مأواه جهنم فيكون قد وصل الموصول بجملتين: فعلية، واسمية، ويحتمل كونها مستأنفة، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {الواو} استئنافية. {بِئْسَ} فعل ماض من أفعال الذم. {الْمَصِيرُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف، تقديره: هي، يعود على جهنم، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. {هُمْ دَرَجَاتٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف، ومضاف إليه صفة لـ {دَرَجَاتٌ} تقديره: هم أصحاب درجات كائنات عند الله. وقال أبو (¬1) البقاء عند الله ظرف لمعنى درجات، كأنه قال: هم متفاضلون عند الله، ويجوز أن يكون صفة لـ {دَرَجَاتٌ} انتهى. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {بَصِيرٌ} خبر له، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ}. {يَعْمَلُونَ} جملة فعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما يعملونه. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {مَنَّ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة جوابٌ لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {مَنَّ}. {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. {إِذْ} ظرف لما مضى متعلّقٌ بـ {مَنَّ}. {بَعَثَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {فِيهِمْ}: جار ومجرور ¬

_ (¬1) العكبري.

متعلقان بالفعل {بَعَثَ}. {رَسُولًا} مفعول به. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور صفة أولى لـ {رَسُولًا}. {يَتْلُو} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على رسولًا. {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَتْلُو}، وجملة {يَتْلُو} في محل لنصب صفة ثانية لـ {رَسُولًا} تقديرها: رسولًا كائنًا، منهم تاليًا عليهم. {آيَاتِهِ} مفعول به، ومضاف إليه. {وَيُزَكِّيهِمْ} {الواو} عاطفة. {يُزَكِّيهِمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولًا}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة لـ {رَسُولًا}، وكذلك جملة قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} معطوفة على جملة {يَتْلُو} على كونها صفة ثانية وثالثة لـ {رَسُولًا}. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} الواو حالية. {إِنْ} مخففة، من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وإنهم. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلق بـ {كَانُوا}. {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {اللام} لام الابتداء فارقة بين إن المخففة، وإن النافية. {فِي ضَلَالٍ} جار ومجرور خبر {كان}. {مُبِينٍ} صفة لـ {ضَلَالٍ} وجملة {كان} الناقصة في محل الرفع، خبر إن المخففة تقديره: وإنهم لكائنون في ضلال مبين، وجملة {إن} المخففة في محل النصب حال من ضمير المفعول في {يعلمهم}. {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}. {أَوَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، داخلة في التقدير على قوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}. و {الواو} استئنافية على مذهب الجمهور. وقال الزمخشري: {الهمزة} داخلة على محذوف تقديره: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، ونصره لكم فيه. و {الواو} عاطفة لجملة {قُلْتُمْ} على ذلك المحذوف. {لَمَّا} ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ {قُلْتُمْ}. {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {قَدْ أَصَبْتُمْ} قد حرف تحقيق. {أَصَبْتُمْ} فعل وفاعل. {مِثْلَيْهَا} مفعول به ومضاف إليه والجملة في محل الرفع صفة لـ {مُصِيبَةٌ}. {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على مذهب الجمهور، ومعطوفة على محذوف على مذهب الزمخشري كما مرَّ آنفًا. {أَنَّى هَذَا} {أَنَّى} اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. {هَذَا} اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل

النصب مقول لـ {قُلْتُمْ} والمعنى على مذهب الزمخشري: أنسيتم فضل الله عليكم يوم بدر، وقلتم حين أصابتكم يوم أحد مصيبةٌ قد أصبتم مثليها يوم بدر، كيف أصابتنا هذه المصيبة، ومن أين لنا هذا الخذلان، والجملة المحذوفة على مذهبه مستأنفة، كما أن المذكورة مستأنفة على مذهبهم. {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {هُوَ} مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} جار ومجرور، ومضافان إليه خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ}. {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. {مَا} موصولة في محل الرفع مبتدأ. {أَصَابَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا}، الجملة صلة الموصول. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {أَصَابَكُمْ}. {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لشبه المبتدأ بالشرط في الإبهام نحو قولهم: الذي يأتيني فله درهم. {بِإِذْنِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، ولكنه على إضمار تقديره: فهو بإذن الله، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {الواو} عاطفة. {اللام} حرف جر وتعليل. {يعلم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام {كي}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {الْمُؤْمِنِينَ} مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى أظهر يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولعلمه المؤمنين الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} على كونه خبر المبتدأ، تقديره: وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فكائنٌ بإذن الله، وكائنٌ

لإظهاره صبر المؤمنين. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}. {وَلِيَعْلَمَ} {الواو} عاطفة. {اللام} حرف جر وتعليل. {يَعْلَمَ} منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله. {الَّذِينَ} مفعول به ليعلم. {نَافَقُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة يعلم في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره، ولعلمه الذين نافقوا، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ}. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}. {وَقِيلَ} {الواو} عاطفة. {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به. {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} نائب فاعل محكي لقيل، وجملة {وَقِيلَ} معطوفة على جملة {نَافَقُوا} على كونها صلة الموصول، وإن شئت قلت {تَعَالَوْا} فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لِـ {قِيلَ}. وكذلك جملة {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَاتِلُوا}. {أَوِ ادْفَعُوا} {أَوِ} حرف عطف، وتفصيل. {ادْفَعُوا} فعل وفاعل معطوف على {قَاتِلُوا}. وقال أبو حيان (¬1): و {أَو} على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل: يحتمل أن تكون بمعنى الواو، فطلب منهم الشيئين القتال في سبيل الله، والدفع عن الحريم والأهل، والمال، فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن، والمنافق في القتل، والسبي، والنهب. والظاهر أن قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ} كلامٌ مستأنف قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم، وأموالهم، حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال، والجواب، ويحتمل أن يكون قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ} معطوفًا على {نَافَقُوا} فيكون من الصلة انتهى. وفي "الفتوحات": قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا} هذه الجملة (¬2) تحتمل وجهين: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل.

أحدهما: أن تكون استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال، وإما بالدفع؛ أي: تكثير سواد المسلمين. والثاني: أن تكون معطوفة على {نَافَقُوا} فتكون داخلة في حيز الموصول؛ أي: {وَلِيَعْلَمَ} الذين حصل منهم النفاق، والقول المذكور و {تَعَالَوْا} و {قَاتِلُوا} كلاهما قائم مقام الفاعل، لـ {قِيلَ}؛ لأنه هو المقول. قال أبو البقاء: (¬1) وإنما لم يأت بحرف العطف بين {تَعَالَوْا} و {قَاتِلُوا} لأنه أراد أن تكون كل من الجملتين مقصودةً بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصود هو الأمر بالقتال، و {تَعَالَوْا} ذكر ما لو سكت عنه .. لكان في الكلام دليلٌ عليه، وقيل: الأمر الثاني حالٌ انتهى. {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط غير جازم. {نَعْلَمُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنافقين. {قِتَالًا} مفعول به؛ لأن علم بمعنى عرف. {لَاتَّبَعْنَاكُمْ} {اللام} رابطة لجواب لو. {اتَّبَعْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب وجملة لو من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول {قَالُوا}. {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} {هُمْ} مبتدأ. {لِلْكُفْرِ} جار ومجرور متعلِّقٌ بأقرب الآتي. {يَوْمَئِذٍ} ظرف ومضاف إليه متعلِّقٌ بأقرب أيضًا كما ذكره أبو حيان. {أَقْرَبُ} خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. {مِنْهُمْ} جار ومجرور متعلق بأقرب. {لِلْإِيمَانِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَقْرَبُ} أيضًا، و {أَقْرَبُ} تعلقت به هنا أربع ظروفات. فإن قلت: من المعلوم أنه لا يتعلق حرفا جرٍّ متحدان لفظًا ومعنًى بعامل واحد، إلا أن يكون أحدهما معطوفًا على الآخر، أو بدلًا منه؛ فكيف تعلقا هنا بـ {أَقْرَبُ}؟ ¬

_ (¬1) العكبري.

قلتُ: هذا من خواصِّ أفعل التفضيل، فإنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفًا على الآخر، ولا بدلًا منه بخلاف سائر العوامل؛ فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، إلا بالعطف أو على سبيل البدل. وقال أبو البقاء: (¬1) وجاز أن يعمل أقرب فيهما لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل أطيب في قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبًا في الظرفين المقدرين؛ لأن أفعل يدل على معنيين: على أصل، وزيادته، فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر، فتقديره يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان. واللام هنا على بابها، وقيل هي بمعنى إلى. انتهى. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}. {يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {أَقْرَبُ}، أي قربوا إلى الكفر قائلين قاله أبو البقاء. {بِأَفْوَاهِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَقُولُونَ}. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَقُولُونَ}. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَا}. {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر {لَيْسَ}، وجملة {لَيْسَ} صلةٌ لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {لَيْسَ}. {وَاللَّهُ} {الواو} استئنافية. {اللَّهُ} مبتدأ. {أَعْلَمُ} خبر، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}. وجملة {يَكْتُمُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يكتمونه. {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}. {الَّذِينَ} في إعرابه أوجه: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين قالوا، والجملة مستأنفة أو على أنه بدل من الذين نافقوا، أو نعت له، أو على أنه مبتدأ خبره {قُلْ} الآتي، تقديره: الذين قالوا لإخوانهم، قل لهم: فادرؤوا الخ والنصب على الذم، والجر بدلًا من المجرور في {أَفْوَاهِهِمْ} أو ¬

_ (¬1) العكبري.

{قُلُوبِهِمْ}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لِإِخْوَانِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَالُوا}. {وَقَعَدُوا} فعل، وفاعل يجوز أن يكون معطوفًا على {قَالُوا} على كونه صلة الموصول معترضًا بين {قَالُوا} ومعموله، وهو قوله: {لَوْ أَطَاعُونَا}، ويجوز أن يكون حالًا من {قَالُوا} وقد مقدرة، أي: وقد {قَعَدُوا} ومجيء الماضي حالًا مقترنًا بالواو وقد أو بدونهما ثابت في "لسان العرب". {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} مقولٌ. محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت {لو} حرف شرط. {أَطَاعُونَا} فعل وفاعل ومفعول. {مَا} نافية. {قُتِلُوا} فعل مغير ونائب فاعل، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. {قُلْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت .. قلت {فَادْرَءُوا} الفاء رابطة لجواب شرط محذوف معلوم من السياق تقديره: إن كنتم رجالًا دفاعين لأسباب الموت {فَادْرَءُوا} جميع أسبابه عن أنفسكم حتى لا تموتوا. {ادْرَءُوا} فعل وفاعل. {عَنْ أَنْفُسِكُمُ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ادْرَءُوا}. {الْمَوْتَ} مفعول به وجملة {ادْرَءُوا} في محل الجزم على كونها جوابًا لشرط محذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ}. {إِنْ} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {صَادِقِينَ} خبره، وجملة {كان} في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونها فعل شرط لها وجواب {إِنْ} معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم أن التحيل والتحرز ينجي من الموت، {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}، ولن تجدوا إلى ذلك سبلًا، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب، مؤكدةٌ للشرط المحذوف على كونها مقولًا لـ {قُلْ} والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ} من لان يلين لينًا من باب باع، واللين في المعاملة الرفق والتلطف فيها.

{فَظًّا} يقال: فظَّ يَفَظُّ، وَيفِظُّ فظًّا وفظاظةً وفِظاظًا: إذا كان فظًّا، والفظ: الغليظ السيء الخلق، الخشن الكلام، يجمع على فظاظٍ، وفظوظ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} يقال: غلظ وغلظ بالكسر، والضم، والغلظة ضد الرقة فالفظاظة الجفوة في المعاشرة قولًا وفعلًا، والغلظة التكبر ثم تجوز به عن عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب، فغلظ القلب عبارة عن كونه خلق صلبًا لا يلين، ولا يتأثر {لَانْفَضُّوا} الانفضاض التفرق من الأجزاء، وانتشارها يقال: نفض القوم إذا تفرقوا، وهو من باب انفعل الخماسيِّ من مزيد الثلاثي، وبناؤه للمطاوعة يقال: فضضتهم فانفضوا؛ أي: فرقتهم فتفرقوا، وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى (¬1): لو كنت فظًّا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبةً لك واحتشامًا منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم الخ {وَشَاوِرْهُمْ} قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذةً من قول العرب شرت الدابة، وشورتها إذا علمت خبرها، وقيل من قولهم: شرت العسل إذا اجتنيته، واستخرجته، وأخذته من موضعه، وثلاثيه أجوف واوي من باب قال. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على غيرك، والاكتفاء به في فعل ما تحتاج إليه. {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} في "المصباح" خذلته وخذلت عنه من باب قتل، والاسم: الخذلان إذا تركت نصرته وإعانته وتأخرت عنه. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} يقال: غل الشي يغله غلًّا وغلولًا، من باب شد إذا أخذه خفيةً، ودسَّهُ في متاعه، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه: ضم مضارعه. والغل: الأخذ خفية كالسرقة، ثم غلب استعماله في السرقة من المغنم قبل القسمة، ويسمى الغلول أيضًا. {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} السخط بفتحتين: مصدر قياسي لسخط من باب فرح، والسخط بضم فسكون، مصدر سماعيٌّ له، قال ابن مالك: ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وَفَعِلَ اللَّازِمُ بَابُهُ فَعَلْ ... كَفَرَحٍ وَكَجَوَىً وَكَشَلَلْ ثم قال: وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى ... فَبَابُهُ اَلنَّقْلُ كَسُخْطٍ وَرِضَا والسخط على كلا الضبطين الغضب الشديد. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يقال: من يمن بالضم منَّ، ومنيني عليه بكذا إذا أنعم عليه به من غير تعب، فهو من المضاعف، اللازم فقياسه: الكسر فالضم فيه شاذ، ولم يأت فيه إلَّا الضمّ. {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} يقال: درأه يدرؤُهُ بالفتح، من باب منع درءًا، ودرأةً إذا دفعه دفعًا شديدًا، ودرأ السيل عليه اندفع، ودرأ الرجل علينا إذا طرأ فجأة، تدارأ القوم إذا تدافعوا في الخصومة. البلاغة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فيه مجازٌ بالزيادة؛ لأن {مَا} زائدةٌ للتأكيد. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ} {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} فيهما من المحسنات البديعية: المقابلة والالتفات؛ إذ هو خروج من الغيبة إلى الخطاب، وتنويع الكلام؛ لأنه جاء في جواب {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} بصريح النفي العام حيث قال: {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} وفي جواب {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} بالنفي المضمن في الاستفهام حيث قال: فمن ذا الذي ينصركم، وإفادة الحصر في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} بتقديم المعمول على العامل. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} فيه استعارةٌ بديعية، حيث جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئًا، فنكص عن اتباعه، ورجع بدونه. {بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} التنكير فيه للتهويل؛ أي: بسخط عظيم لا يكاد يوصف {هُمْ دَرَجَاتٌ} فيه مجازٌ بالحذف؛ أي: ذَوُو درجات متفاوتةٍ متخالفةٍ. {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} بين الكفر والإيمان الطباق.

{أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} فيه من المحسنات البديعية: جناس الاشتقاق. وقال أبو حيان (¬1): وتضمنت هذه الآيات من صنوف البلاغة والفصاحة: منها: الطباق في قوله: {يَنْصُرْكُمُ} و {يَخْذُلْكُمْ} وفي قوله: {رِضْوَانَ اللَّهِ} و {بِسَخَطٍ}. ومنها: التكرار في قوله: {يَنْصُرْكُمْ} و {يَنْصُرُكُمْ}؛ وفي الجلالة في مواضع. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {يَغُلَّ}، وما {غَلَّ}. ومنها: الاستفهام الذي معناه النفي في قوله: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ} الآية. ومنها: الاختصاص في قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وفي قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ}، وفي {بِمَا يَعْمَلُونَ} خص العمل دون القول؛ لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. ومنها: الطباق في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} الآية، إذ التقدير من الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدر، وفي قوله: {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وفي {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} والقول ظاهر و {يَكْتُمُونَ}، وفي قوله: {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} إذ التقدير حين خرجوا، وقعدوا هم. ومنها: التكرار في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} لاختلاف متعلق العلم. ومنها: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ}. ومنها: الاحتجاج النظري في قوله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}. ومنها: الحذف في عدة مواضع، لا يتم المعنى إلا بتقديرها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} المناسبة لمَّا ذكر (¬1) الله سبحانه وتعالى تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفضٍ إلى القتل، كما حدث يوم أحد، والقتل بغيضٌ إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره، كما يحدث الموت، فمن كتب عليه أن يقتل، لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدر له لا خوف عليه من الجهاد .. ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله، ¬

_ (¬1) المراغي.

فأبان أن المقتولين شهداء أحياءٌ عند ربهم، قد خصَّهم الله بالقرب منه والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق، وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور. وأخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات. قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ..} الآيات، لمَّا كان من فوز المشركين في أُحد ما كان، وأصاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين شيءٌ كثير من الأذى أظهر بعض المنافقين كفرهم، وصاروا يخوفون المؤمنين، ويؤيسونهم من النصر، والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إنَّ محمدًا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارةً عليه، ولو كان رسولًا من عند الله .. ما غلب إلى نحو هذه المقالة، مما ينفر المسلمين من الإِسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسليةً له كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}. قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ ..} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق ما يحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وبذل أنفسهم فيه بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم، شرع هنا يحث على بذل المال في الجهاد، والمال شقيق الروح، فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائلٌ، وأن مدى الحياة قصيرٌ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون، ويبقى الملك لله وحده.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الإِمام أحمد. (ج1 ص 265) حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتهوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم، وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ...}. وأخرج الترمذي وحسَّنه (ج 4 ص 84) عن جابر رضي الله عنه قال: لقيني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا جابر "ما لي أراك منكسرًا" فقلت يا رسول الله: استشهد أبي وترك عيالًا، ودينًا، فقال: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "ما يكلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك، فكلَّمه كفاحًا (¬1) فقال: تمن عليَّ أعطيك قال: يا رب تحييني، فأقتل فيك ثانيةً، قال الرب تعالى علوًّا كبيرًا: إنه قد سبق أنهم لا يرجعون"، قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ...} قال الشوكاني في "تفسيره": وعلى كلِّ حال، فالآية باعتبار عمومها تعم كل شهيد. قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} سبب نزولها: ما روي (¬2) عن ابن عباس قال: لما انصرف أبو سفيان، والمشركون من ¬

_ (¬1) كفاحًا: أي مواجهةً بدون حجاب ولا رسول. (¬2) مجمع الزوائد ولباب النقول.

أحد، وبلغوا الروحاء، قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء (¬1) الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} وذلك أن أبا سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدك موسم بدر، حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان: فرجع، وأما الشجاع: فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه، فلم يجدوا به أحدًا، وتسوقوا، فأنزل الله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} رواه الطبراني. وأخرج (¬2) ابن مردويه عن أبي رافع، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجه عليًّا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابيُّ من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، قالوا {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فنزلت فيهم هذه الآية. وأخرج (¬3) ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف الرعب في قلب أبي سفيان يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبا سفيان، قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع، وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك فندب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لينطلقوا معه، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: "إني ذاهب"، وإن لم يتبعني أحد فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلًا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...} الآية. ¬

_ (¬1) حمراء الأسد: مكان على ثمانية أميال من المدينة المنورة. (¬2) لباب النقول. (¬3) لباب النقول.

[169]

التفسير وأوجه القراءة 169 - {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: ولا تظنن يا محمَّد، أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث، أو يرتابون، فيؤثرون الدنيا على الآخرة، كون الذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء دينه، {أَمْوَاتًا} قد فقدوا الحياة، وصاروا عدمًا لا يحسون، ولا يتنعمون {بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ} في عالم آخر غير هذا العالم هو خيرٌ للشهداء، لما فيه من الكرامة، والشرف مكرمون {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} من نعيم الجنة غدوًّا وعشيًّا، كما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنَّ أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم يرزقون، ويتنعمون من ثمار الجنة يجدون ريحها، وليسوا فيها" وهذه الحياة (¬1) التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة محققة غيبية عنا لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحي. قوله: {يُرْزَقُونَ} تأكيد لكونهم أحياءً، وتحقيق لهذه الحياة. وقرأ الجمهور (¬2) {وَلَا تَحْسَبَنَّ} بالتاء، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل سامع، وقرأ حميد بن قيس، وهشام بخلاف عنه {ولا يحسبن} بالياء؛ أي: لا يحسبن حاسبٌ أيًّا كان. وقد اختلف (¬3) أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية، من هم؛ فقيل: شهداء أحد، وقيل: شهداء بدر، وقيل: شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقرأ الحسن (¬4) وابن عامر {قُتِّلُوا} بالتشديد، وروي عن عاصم {قاتلوا} وقرأ الجمهور {قُتِلُوا} مخففًا، وقرأ الجمهور {بَلْ أَحْيَاءٌ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوت تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة {أَحْيَاءً} بالنصب على تقدير فعل؛ أي: بل أحسبهم أحياءً، كما قاله الزمخشري، وتبعه الزجاج. 170 - قوله: {فَرِحِينَ} حالٌ من الضمير في {يُرْزَقُونَ} و {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[171]

فَضْلِهِ} متعلق بـ {فَرِحِينَ} وقرأ ابن السميفع {فارحين} وهُما لغتان: كالفره، والفاره، والحذر، والحاذر. والمراد {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة، وما صاروا فيه من الحياة، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه وتعالى، والمعنى: مسرورين بما أعطاهم الله تعالى من قربه، ودخول جنته، ورزقهم فيها إلى سائر ما أكرمهم به. ولا تعارض (¬1) بين فرحين، وبين {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} في قصة قارون؛ لأن ذاك بالملاذ الدنيوية، وهذا بالملاذ الأخروية ولذلك جاء {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، وجاء {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. 171 - والمراد بفضل الله شرف الشهادة، والفوز بالحياة الأبدية، والزلفى من الله تعالى، والتمتع بالنعيم المخلد عاجلًا، والواو في قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} عاطفة على قوله: {يُرْزَقُونَ}؛ أي: يرزقون، ويستبشرون، ويسرون (بـ) ما تبين لهم من حسن حال إخوانهم المجاهدين {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} في القتل، والشهادة، ولم يقتلوا إذ ذاك وتركوهم {مِنْ خَلْفِهِمْ} ووراءهم في الدنيا، بل سيلحقون بهم من بعد؛ أي: إنهم بقوا في الدنيا بعدهم، وهم قد تقدموهم يعني من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على منهج الإيمان، والجهاد، فعلموا أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامة مثلهم. وقيل (¬2): المراد بإخوانهم هنا جميع المسلمين الشهداء وغيرهم؛ لأنهم لما عاينوا ثواب الله، وحصل لهم اليقين بحقية دين الإِسلام؛ استبشروا بذلك لجميع أهل الإِسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا أقوى؛ لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله، بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج، وابن فورك. وقوله (¬3): {مِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى أنهم وراءهم، يقتفون أثرهم، ويحذون حذوهم قدمًا بقدمٍ، وفي ذكر حال الشهداء، واستبشارهم بمن خلفهم حث ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

للباقين بعدهم على زيادة الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء، وإصابة فضلهم كما فيه إخمادٌ لحال من يرى نفسه في خير، فيتمنى مثله لإخوانه، في الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمآب. وقوله: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بدلٌ من {الَّذِينَ}؛ أي: يستبشرون بعدم الخوف، والحزن على إخوانهم الذين تركوهم أحياءً، وأنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية، لا يكدرها خوفٌ من وقوع مكروه من أحوالها، ولا حزنٌ من فوات محبوب من نعيمها. والمعنى (¬1): يستبشرون بأن لا خوف من المتخلِّفين على أنفسهم، فهم آمنون، ولا هم يحزنون، فهم فرحون هذا ما أدركه لهم إخوانهم المتقدمون، وليس المراد أنهم؛ أي: المتقدمين لا يخافون على المتخلِّفين كما هو ظاهر. والحاصل (¬2): أن الشهداء المتقدمين: يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانًا وفلانًا في صف المقاتلة مع الكفار، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا؛ أي: يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا، بدوام انتفاء الخوف والحزن، وبلحوقهم بهم؛ لأن الله تعالى بشَّرهم بذلك. والخوف: غم (¬3) يلحق الإنسان بما يتوقعه من السوء، والحزن غمٌّ يلحقه من فوات نافع، وحصول ضار، فمن كانت أعماله مشكورةٌ .. فلا يخاف العاقبة، ومن كان متقلِّبًا في نعمة من الله، وفضل .. فلا يحزن أبدًا. {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} لمَّا (¬4) بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ذكر أنهم أيضًا يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل، فالاستبشار الأول كان لغيرهم، والاستبشار الثاني ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) مراح. (¬3) كرخي. (¬4) الخازن.

لأنفسهم خاصة؛ أي: يفرحون بنعمة من الله؛ أي: بثواب أعمالهم وفضل؛ أي: زيادة عظيمة من الكرامة على ثواب أعمالهم، نظير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وتنكيرها للتعظيم فالنعمة هي الثواب الذي يلقاه العامل جزاءً على عمله، والفضل هو التفضل الذي يمن الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه. {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ويفرحون بأن الله تعالى لا يبطل، ولا يبخس أجر المؤمنين من الشهداء، وغيرهم. قرأ الكسائي (¬1) بكسر الهمزة من {إنَّ} على أنه مستأنف. وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين، ويؤيده قراءة ابن مسعود، ومصحفه {والله لا يضيع أجر المؤمنين} وقرأ باقي السبعة، والجمهور بفتح الهمزة عطفًا على فضل، فهو داخل في جملة ما يستبشرون به، قال (¬2) أبو علي يستبشرون: بتوفير ذلك عليهم، ووصوله إليهم؛ لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم، ولم يبخسوه، ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين؛ لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم، وقد علموا قبل موتهم أنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين، فهم يستبشرون بأنَّ الله ما أضاع أجورهم، حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة، وختم لهم بالنجاة، والفوز، وقد كانوا يخشون على إيمانهم، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة، وما اختصَّهم به من حسن الخاتمة التي تصح معها الأجور، وتضاعف الأعمال استبشروا؛ لأنهم كانوا على وجل من ذلك. انتهى كلامه، وفيه تطويلٌ شبيهٌ بالخطابة. وفي ذلك كله تحريضٌ للمؤمنين على الجهاد، وترغيبٌ لهم في الشهادة، وحث على ازدياد الطاعة، وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

فصلٌ في ذكر الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تضمَّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادًا في سبيلي، وإيمانًا وتصديقًا برسلي، فهو عليَّ ضامن - أي: مضمون - أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجرٍ، أو غنيمةٍ، والذي نفس محمَّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمَّد بيده، لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعةً فأحملهم، ولا يجدون سعةً، ويشق عليهم أن يتخلَّفوا عني، والذي نفسُ محمَّد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لغَدَوْةٌ في سبيل الله، أو رَوْحَةٌ خير من الدنيا وما فيها" متفق عليه. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا، وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا، وما عليها". متفق عليه. وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر" أخرجه أبو داود، والترمذي. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قاتل في سبيل الله فواق ناقةٍ، وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقًا من نفسه، ثم مات أو قتل؛ كان له أجر شهيد، ومن جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبةً .. فإنها تجىء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراج في سبيل الله، فإن عليه

[172]

طابع الشهداء". أخرجه أبو داود، والنسائي، وأخرجه الترمذي مفرقًا في موضعين. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيُّ الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد بنفسه، وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد الله"، وفي رواية: "يتقي الله ويدع الناس من شره". متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا، واحتسابًا، وتصديقًا بوعده .. فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله، في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات". أخرجه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحدٌ يدخل الجنة فيجب أن يرجح إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة"، وفي رواية "لما يرى من فضل الشهادة". متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة". أخرجه الترمذي وللنسائي نحوه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يَشْفَعُ الشهيد في سبعين من أهل بيته". أخرجه أبو داود. 172 - قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مبتدأ خبره، قوله الآتي {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا}؛ أي: هؤلاء المؤمنون الذين أجابوا دعوة الله، ورسوله إياهم للخروج إلى الغزو ثانيًا في اليوم التالي ليوم أحد {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ}، ونالهم {الْقَرْحُ}، والجراح في يوم أحد، ولبوا نداءهما من غير توانٍ ولا تباطؤ. وكان هذا الدعاء في يوم الأحد التالي ليوم أحد الذي هو يوم السبت لست عشرة مضت، أو لثمان

[173]

عشرة خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة، كما في المواهب. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} بإجابة الرسول إلى الخروج للغزو ثانيًا على ما هم عليه من جراح، وآلام أصابتهم يوم أحد {وَاتَّقَوْا} مخالفة الرسول، وعاقبة تقصيرهم، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه {أَجْرٌ عَظِيمٌ}، وثواب جزيل، وهو الجنة على ما أتوا به من جليل الأعمال، وصالح الأفعال. وفي قوله: {مِنْهُمْ} إشارة إلى أن من دعوا لبوا، واستجابوا له ظاهرًا، وباطنًا، ولكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون. روي أن أبا سفيان وأصحابه لمَّا رجعوا من أحد، فبلغوا الروحاء موضع بين مكة والمدينة، ندموا، وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا، من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يرهبهم، ويريهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان، وقال: "لا يَخْرَجُنَّ معنا يومنا إلا من حضر بالأمس"، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع جماعة من أصحابه يوم الأحد اليوم التالي، يوم أُحد حتى بلغوا حمراء الأسد - موضعٌ على ثمانية أميال من المدينة، على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة - وكان بأصحابه الجراح والآلام، فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكة مسرعين، وأقام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة، وقد غاب عنها خمسًا، فنزلت هذه الآية وتسمي هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهي متصلة بغزوة أحد. 173 - وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} منصوب بفعل محذوف تقدير: أمدح المؤمنين الذين قال لهم الناس: أي؛ قال لهؤلاء المؤمنين نعيم ابن مسعود الأشجعي، ومن وافقه، وهم أربعة؛ أي: قالوا للمؤمنين تثبيطًا لهم {إِنَّ النَّاسَ}؛ أي: إن أبا سفيان، وكفار قريش {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}؛ أي: لقتالكم واستئصالكم، أيها المؤمنون في مجنة، وهي سوق بقرب مكة جموعًا كثيرةً، وأعوانًا عديدةً {فَاخْشَوْهُمْ}، أي: فخافوا أيها المؤمنون هؤلاء المجموع، واحذروهم ولا تخرجوا

إليهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، وقلنا لكم ذلك نصيحةً لكم أيها المؤمنون، فإنا رأينا تلك الجنود المجندة لكم. روي عن (¬1) ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان، قال: حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمَّد موعدنا موسم بدر القابل، إن شئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى". فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مِجنَّة من ناحية مر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، فلقي نعيم ابن مسعود، وقد قدم معتمرًا، فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمَّد، ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأةً، فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا الرأي؟ أتوكم في دياركم، وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم المجموع عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأخرجن، ولو وحدي فخرج، ومعه سبعون راكبًا يقولون: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حتى وافى بدرًا الصغرى - بدر الموعد - فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدًا؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجلٍ، فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق". ووافى المسلمون سوق بدرٍ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا، واشتروا أدمًا، وزبيبًا، فربحوا، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى. {فَزَادَهُمْ}؛ أي: فزاد المؤمنين ذلك القول والتثبيط {إِيمَانًا} وتصديقًا ¬

_ (¬1) المراغي.

بوعده، وثقةً به، وقوةً في دينهم، وثبوتًا على نصر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ولم يلتفتوا إلى تخويفهم، بل حدث في قلوبهم عزمٌ وتصميمٌ على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك، وثقل عليهم لما بهم من جراحات عظيمة، وقد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة، وشيء من التداوي، لكن وثوقهم بنصر الله وتغلبهم على عدوهم، أنساهم كل هذه المصاعب، فلبوا الدعوة سراعًا. والخلاصة: أن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله، وعظمته وسلطانه، ويقينهم بوعد الله، ووعيده، وتبع ذلك زيادةٌ في العمل، ودأبٌ على إنفاذ ما طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة إلى ما كاد يكون وراء حدود الإمكان. ونحو هذه الآية قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}. {وقالوا}؛ أي: قال المؤمنون معبرين عن صادق إيمانهم، {حَسْبُنَا اللَّهُ}؛ أي: كافينا ومحسبنا الله، فهو الذي يكفينا ما يهمنا، من أمر هؤلاء الذين جمعوا لنا المجموع العديدة، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه أن ينصرنا على قلتنا، وكثرتهم، أو يلقي في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم، وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، وجيشه، على كثرة عهددهم، وتوافر عُددهم، فولوا مدبرين، وكان النصر في ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين. {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}؛ أي: ونعم وحسن الموكول إليه أمورنا، كلها دينًا، ودنيا، ونصرًا على أعدائنا، والمخصوص بالمدح الله سبحانه وتعالى. وأخرج البخاري عن ابن عباس {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم جموعًا.

[174]

وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل". وأخرج ابن أبي الدنيا، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه، ولحيته، ثم تنفس الصعداء، وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل". وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حسبي الله ونعم الوكيل، أمان كل خائف". 174 - وقوله: {فَانْقَلَبُوا} معطوف على محذوف تقديره: أي: فخرجوا للقاء عدوهم، ولم يلقوا منه كيدًا، ولا همًّا، وانقلبوا؛ أي: رجعوا إلى أهليهم حالة كونهم ملتبسين {بِنِعْمَةٍ} وسلامةٍ وثواب {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {وَفَضْلٍ}؛ أي: وزيادةٍ، وربح في تجارتهم، وهو ما أصابوا في سوق بدر من الربح، وقيل: النعمة منافع الدنيا، والفضل ثواب الآخرة، وحالة كونهم {لَمْ يَمْسَسْهُمْ}؛ أي: لم يصبهم في الذهاب، والإياب {سُوءٌ}؛ أي: قتل ولا جراحٌ من عدوهم. {وَاتَّبَعُوا}؛ أي: وامتثلوا رسول الله في كل ما به أمر ونهى عنه لينالوا {رِضْوَانَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى في كل ما أتوا به من قول أو فعل؛ أي: ليفوزوا برضا الله الذي هو وسيلة النجاة، والسعادة في الدنيا، والآخرة، {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ومَنٍّ جسيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق بالمبادرة إلى الجهاد والجرأة على العدو وحفظهم من كل ما يسوءهم. 175 - وفي هذا إلقاء للحسرة في قلوب المتخلِّفين منهم، وإظهارٌ لخطأ رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ} المخوف المثبط القائل لكم: إن الناس قد جمعوا لكم، وهو نعيم بن مسعود هو {الشَّيْطَانُ} سماه الله شيطانًا؛ لأنه كان تابعًا للشيطان، ولوسوسته {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}؛ أي: يخوفكم أيها المؤمنون عن لقاء أوليائه، ومقاتلتهم، وعن الخروج إليهم؛ أي: ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أيها المؤمنون، عن قتال أوليائه وأنصاره، وأحزابه المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثر، وأولو قوة، وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتجبنوا عن مدافعتهم.

[176]

قرأ ابن عباس وابن مسعود {يخوفكم أولياءَه} وقرأ أبي بن كعب، والنخعي {يخوفكم بأوليائه}. {فَلَا تَخَافُوهُمْ}؛ أي: فلا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تقعدوا عن قتالهم، ولا تجبنوا عنهم، ولا تحفلوا بقولهم {وَخَافُونِ} في مخالفة أمري بالجلوس، فجاهدوا في سبيلي، مع رسولي؛ لأنكم أوليائي، وأنا وليكم وناصركم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين بوعدي لكم النصر، والظفر، أو راسخي الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان، وأوليائه وأثبت أبو عمرو ياء {وَخَافُونِ} وهي ضمير المفعول، والأصل الإثبات، ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون، فتذهب الدلالة على المحذوف. وخلاصة ذلك: أنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شيء، وهو يجير، ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق، واذكروا قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم، فإنه لا يدع لخوف غيره مكانًا في قلوبكم. 176 - ولما نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه وحده تعالى نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر، فقال: {وَلَا يَحْزُنْكَ}؛ أي: لا يهمنك أيها الرسول مسارعة {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} ويبادرون {فِي} نصرة دين {الْكُفْرِ}، والشرك، ومظاهرة أهله على النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: هم كفار قريش، وقيل: هم المنافقون، وقيل: هو عام في جميع الكفار، والمعنى: ولا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم، وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك، ويعلو شأنك فـ {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ}؛ أي: إن هؤلاء المسارعين لن يضروا دين الله ورسوله بهذا الصنيع

{شَيْئًا} من الضرر، وإنما يضرون أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم. قرأ نافع (¬1) {يُحزِنك} بضم الياء وكسر الزاي، من أحزن الرباعي هنا، وفي جميع القرآن حيثما وقع إلا قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} في سورة الأنبياء فقرأه بفتح الياء، وضم الزاي من حزن الثلاثي كباقي القراء في جميع ما في القرآن، فإنهم قرؤوه بفتح الياء وضم الزاي حيثما وقع، وهما لغتان: يقال حزنني الأمر، وأحزنني، والأول أفصح وقرأ ابن محيصن بضم الياء، والزاي من أحزن على النفي. وقرأ (¬2) طلحة بن مصرف النحويُّ {يسرعون} من أسرع الرباعي في جميع القرآن، قال ابن عطية، وقراءة الجمهور أبلغ؛ لأن من يسارع غيره أشد اجتهادًا من الذي يسرع وحده. وفي ضمن قوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} دلالةٌ على أن وبال ذلك عائد عليهم ولا يضرون إلا أنفسم، وفي توجيه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ} تسليةٌ له، وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه، ثم علل هذا النهي، وأكمل التسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدًا بقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ}؛ أي: إنهم لن يضروا أولياء الله، وهم النبي وصحبه شيئًا من الضرر، فعاقبة هذه المسارعة في الكفر، وبالٌ عليهم لا عليك، ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك، فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم من أن يفعلوا ذلك عاجزون، فهم إذًا لا يضرون إلا أنفسهم، وفي جعل مضرتهم؛ أي: المؤمنين مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة في تسليته - صلى الله عليه وسلم -. ثم بين أنهم لا يضرون إلّا أنفسهم فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: إنما سارعوا في الكفر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرإد {أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا}؛ أي: نصيبًا {فِي الْآخِرَةِ}؛ أي: في الجنة؛ فلذلك خذلهم حتى سارعوا في ¬

_ (¬1) مراح وفتح القدير. (¬2) البحر المحيط.

[177]

الكفر، وانهمكوا فيه، وقضى الله بذلك حرمانهم من نعيم الآخرة على وفق ما تقتضيه سنة الله، وإرادته، وفي تعبيره بصيغة الاستقبال دلالةٌ على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر. {وَلَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المسارعين مع حرمانهم من الثواب {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديد في النار بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائدًا عليهم جالبا لهم عدم الحظ في الآخرة، ومصيرهم في العذاب العظيم. 177 - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حكم أولئك المسارعين إلى نصرة الكفر، والدفاع عنه، ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله، والله غالب على أمره، أشار إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان، واستبدله به فقال {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}؛ أي: الذين أخذوا الكفر بدلًا عن الإيمان، رغبة فيما أخذوا وإعراضًا عما تركوا {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} باستبدالهم الكفر عن الإيمان {شَيْئًا} من الضرر، ولن ينقصوه شيئًا باختيارهم الكفر، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم، كما قال: {وَلَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المشترين الكفر بالإيمان في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم وفي هذا الكلام إيماء إلى شيئين: أحدهما: تأكيد عدم إضرارهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وثانيهما: بيان سخافة عقولهم، وغباوة آرائهم إذ هم كفروا أوَّلًا، ثم آمنوا، ثم كفروا، بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شيء مما يحتاج إلى أصالة الرأي، وقوة التدبير. 178 - ثم بين سبحانه وتعالى أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبًّا في الحياة ليس من الخير لهم فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ}؛ أي: ولا يظنن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم بتأخير الأجل، وإطالة أعمارهم {خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملًا صالحًا ينتفعون به في أنفسهم، بتزكيتها، وتطيهرها من شوائب الأدران، وسيء الأخلاق، وينتفع به الناس في تهذيبهم،

وتحسين معاشهم {إِنَّمَا نُمْلِي} ونمهل {لَهُمْ} في أعمارهم ونعطيهم الأموال والأولاد {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وذنبًا وطغيانًا في أنفسهم، وإضلالًا لغيرهم في الدنيا، {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: ذو إهانة، وإذلال لهم يهانون به يومًا فيومًا وساعة بعد ساعة. والخلاصة (¬1): أن هذا الإمهال والتأخر ليس عنايةً من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه في الخلق بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإمهال للكافر علة لغروره، وسببًا لاسترساله في فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكتسبه: العذاب المهين. وفي الآية من العبرة شيئان: أحدهما: أن من شأن الكافر أن يزداد كفرًا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده. وثانيهما: أن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورًا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. قال (¬2) الفخر الرازي: بين الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلِّفين عن القتال، ليس خيرًا من قتل أولئك الذين قتلوا في أحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا، والعقاب الدائم في الآخرة، وقتل أولئك الذين قتلوا في أحد صار وسيلةً إلى الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة، وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل انتهى. وروى (¬3) البغوي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رضي الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفخر الرازي. (¬3) الخازن.

[179]

عنهما قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره، وحسن عمله"، قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره، وساء عمله". قرأ (¬1) ابن كثير، وأبو عمرو في الأربعة {ولا تحسبن الذين كفروا} {ولا ئحسبن الذين يبخلون} {ولا تحسبن الذين يفرحون} {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} بتاء الخطاب، وضم الباء في قوله {تَحْسَبَنَّهُمْ} وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله فلا {تحسبنهم} فإنه بالتاء. وقرأ حمزة كلّها بالتاء، وقرأ (¬2) يحيى بن وثاب {إنما نملي} بكسر النون في الموضعين، وهي قراءة ضعيفة في العربية. وقال أبو حيان: (¬3) قرأ يحيى بن وثاب {ولا يحسبن} بالياء {وإنما نملي} بالكسر انتهى. 179 - قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} كلام مستأنف بين فيه أن الشدائد هي محك صدق الإيمان، والخطاب (¬4) فيه عند جمهور المفسرين للكفار، والمنافقين؛ أي: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر، والنفاق {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمنافقين، والمعنى: أي: ما كان الله سبحانه وتعالى ليترك المؤمنين المخلصين على الحال التي كنتم عليها أيها الناس في غزوة أحد من اختلاط المنافقين بالمخلصين، وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان {حَتَّى يَمِيزَ} ويفرق {الْخَبِيثَ}، والمنافق {مِنَ الطَّيِّبِ}، والمؤمن ويظهر حال كل منهما بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة؛ لأن الشدائد هي التي يتميز قوي الإيمان من ضعيفه وتزيل الالتباس بين الصادقين، والمنافقين فمن كان مؤمنًا ثبت على إيمانه، وتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن كان منافقًا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن، فإن المؤمنين كانوا يفرحون بنصرة الإِسلام وقوته، والمنافقون كانوا يغتمون بذلك. أمَّا تكليف ما لا مشقة فيه، كالصلاة، والصدقة، القليلة، وغيرهما، فيقبلها المنافق كما يقبلها صادق الإيمان لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإِسلام. ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

وفي الشدائد من الفوائد أشياء كثيرة: منها: إتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدي الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين في سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله، وحذره الصادقون. ومنها: أن تَزوَرَ الجماعة حالها إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان، الذين لم تربهم الشدائد. ومنها: أنها تدفع الغرور عن النفس إذ قد يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما في نفسه من ضعف في الاعتقاد والأخلاق حتى تمحصه الشدائد، وتبين له حقيقة أمره. وقرأ الأخوان (¬1): حمزة والكسائي {يميز} من ميز، وباقي السبعة {يَمِيزَ} من ماز، وفي رواية عن ابن كثير {يُمِيْزَ} من أماز، والهمزة ليست للنقل كما أن التضعيف ليس للنقل، بل أفعل، وفعل بمعنى الثلاثي المجرد، كحزن وأحزن وقدر الله وقدَّر. ولمَّا كان يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلةٍ لتمييز المؤمن الصادق من المنافق أن يطلع المؤمنين على الغيب، حتى يعرفوا حقائق أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانًا من أهل الجنة، وفلانًا من أهل النار، أجاب الله تعالى عن هذا فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيُطْلِعَكُمْ} ويظهركم أيها الناس، وقيل: الخطاب فيه لكفار قريش فقط، {عَلَى الْغَيْبِ}، أي: على ما شأنه أن يغيب ويختفي عنكم حتى تميزوا بين الخبيث والطيب، فإن الله سبحانه وتعالى هو المستأثر بعلم الغيب لا يظهر علي غيبه أحدًا {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَجْتَبِي}، ويختار {مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، ويريد إطلاعه على الغيب، فيطلعه على ما يشاء من بعض المغيبات كما وقع لنبينا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من تعيين كثيرٍ من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم من الله له، لا لكونه يعلم الغيب. وقيل (¬1) المعنى. وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. وفي "الفتوحات" قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} الخ هذا استدراكٌ على معنى الكلام، المتقدم؛ لأنه لما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} توهم أنه لا يطلع أحدًا على غيبه لعموم الخطاب، فاستدراك بالرسل إزالةً لذلك الوهم، كأنه قال: إلا الرسل فإنه يطلعهم على الغيب. والحاصل: أنه لم يكن (¬2) من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب؛ إذ لو فعل ذلك .. لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبيّ، الذي تهدي إليه الفطرة، وترشد إليه النبوة. ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس، وبذل المال في سبيل الحق، والخير، كما ابتلي المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلي الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوّهم وابتلوا بظهور العدو عليهم جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالًا شديدًا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير. ولكن الله يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. وفي التعبير بالاجتباء إشارة إلى أنَّ الوقوف على أسرار الغيب منصبٌ جليلٌ تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[180]

وبعد أن رد الله على ما طعن به المنافقون في نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من وقوع الحوادث التي حصلت في أحد، وبين أن فيه كثيرًا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به وبرسله فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}؛ أي: إذا ثبت أنه تعالى يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على بعض المغيبات، ومنهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إذ ثبتت نبوته بإطلاع الله تعالى له على بعض المغيبات، وإخباره لكم بها في غير ما موطنٍ، فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله في كتابه، وقص علينا قصصهم؛ لأنه هو المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه وتعالى، ومعنى الإيمان باللهِ: بأن تقدروه حق قدره، وتعلموا أنه وحده هو العالم بالغيوب، ومعنى الإيمان بالرسل: أن تنزلوهم منازلهم، بأن تعلموا أنهم عبادٌ مجتبون، لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء. قاله الزمخشري. وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعًا، مع أن سوق الكلام في الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للإيماء إلى أن الإيمان به يقتضي الإيمان بهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} بما جاؤوا به من أخبار الغيب {وَتَتَّقُوا} الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {فَلَكُمْ} أيها المؤمنون بما ذكر {أَجْرٌ عَظِيمٌ} وثواب جسيم، لا يستطاع الوصول إلى معرفة قدره. وقيل أن ذكر القرآن الإيمان، إلا قرن به التقوى؛ كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثًّا على عمل البرّ، والرأفة بالفقراء والبائسين، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بهما. 180 - وقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} الموصول فيه فاعل على قراءة الياء التحتانية والمفعول الأول محذوف لدلالة يبخلون عليه، والمعنى: ولا يظنن الذين يبخلون بما أعطاهم الله من فضله، وعطائه، بخلهم إياه هو خيرًا لهم {بَلْ هُوَ}؛ أي: بخلهم إياه {شَرٌّ لَهُمْ} وضررٌ عليهم؛ لأن أموالهم ستزول عنهم، ويبقى عليهم، وبال البخل، والمعنى: لا

يحسبن البخلاء أن جمعهم المال، وبخلهم بإنفاقه ينفعهم بل هو مضرةٌ عليهم في دينهم ودنياهم. وأما على قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية، فالفعل مسند إلى ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - والمفعول الأول محذوف أيضًا، والمعنى: ولا تحسبن يا محمَّد بخل الذين يبخلون هو خيرًا لهم، بل هو شر، وضرر لهم. وحاصل المعنى: ولا يظنن أحدٌ أن بخل الباخلين بما أعطاهم من فضله ونعمه هو خيرًا لهم؛ لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفرانٌ، لا ينبغي أن يصدر من عاقل، وقال القرطبي: والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه، فأما من منع ما لا يجب عليه .. فليس ببخيل. وقال المراغي: والمراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة، وفي الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد، ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزةً أو إنقاذ شخصٍ من مخالب الموت جوعًا. ففي كل من هذه الأحوال يجب بذل المال؛ لأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس. وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات؛ لنستمتع بها، ولأن العقل قاضٍ بأن الله لا يكلف الناس، ببذل كل ما يكسبون، ويبقون عراةً جائعين، ومن ثم قال في حق المؤمنين المهتدين: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبًا في بذل المال بدون تحديد، ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه، وما تحدثه في النفس من بذل الواجب، والزيادة عليه إذا هو تذكر أن في ماله حقًّا للسائل والمحروم. وقرأ حمزة {تحسبن} بالتاء الفوقانية، وقرأ باقي السبعة بالياء كما مرّ. وقرأ الأعمش بإسقاط {هو} من قوله: {هُوَ خَيْرًا}. وقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}، أي: هو شر عظيم لهم، وقد نفى أوَّلًا أن يكون خيرًا، ثم أثبت كونه شرًّا؛ لأن المانع للحق إنما يمنعه؛ لأنه يحسب أن في

منعه خيرًا له لما في بقاء المال، في يده من الانتفاع به، في التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل، والآفات. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إيّاكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا". أخرجه أبو داود. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق"، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تفسير لقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}؛ أي: سيجعل ما بخلوا به من المال طوقًا في أعناقهم، يوم القيامة، ويلزمهم ذنبه، وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلًا، أو المعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا من أموالهم يوم القيامة عقوبةً لهم، فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخًا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنًا ميسورًا، ونظير هذا قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. وقال بعضهم: إن التطويق حقيقي وأنهم يطوقون بطوق يكون سببًا لتعذيبهم؛ فتصير تلك الأموال حيات تلتوي في أعناقهم، فقد روى البخاري، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من آتاه الله مالًا .. فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع - أي: ثعبانًا عظيمًا - له زييبتان - نكتتان سوداوان فوق عيني الحية - فيأخد بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية". وقيل: المراد البخل: بالعلم؛ وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت

محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك الكتمان بخلًا، فحينئذٍ يكون معنى سيطوقون أنَّ الله تعالى يجعل في رقابهم طوقًا من نار، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". والمعنى: أنهم عوقبوا في أفواههم، وألسنتهم بهذا اللجام؛ لأنهم لم ينطقوا بأفواههم، وألسنتهم بما يدل على الحق. {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى وحده، لا لأحد سواه {مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي: جميع ما يتوارث به أهل السموات والأرض، بعضهم من بعض من مال أو غيره، كجاه، وعلم، وقوة، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد واحد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد إلى أن يفنى الوارثون، والموروثون، ويبقى مالك الملك رب العالمين، فما لهؤلاء القوم البخلاء يبخلون بملكه عليه، ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته، وهو لله تعالى لا لهم، وإنما كان عندهم عاريةً مستردةً، والميراث في الأصل هو: ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكًا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله تعالى هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته. وفي الآية إيماء إلى أنَّ كل ما يعطاه الإنسان من مال، وجاه، وقوة، وعلم، فإنه عرض زائل، وصاحبه فان غير باق، فلا ينبغي أن يستبقي الفاني ما هو مثله في الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء في مواضعها، التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة الله في أرضه محسنًا للتصرف فيما استخلف فيه {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} من البخل والسخاء {خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه، أو فيجازيهم عليه، أي: والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوي عليه جوانحكم، فيجازي كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله في تزكية نفسه، أو تدسيسها ونيته في فعله كما في الحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو {يعملون} بالياء على الغيبة جريًا على {يَبْخَلُونَ} و {سَيُطَوَّقُونَ}، وقرأ الباقون بالتاء على الالتفات، فيكون ذلك خطابًا للباخلين.

الإعراب {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}. {وَلَا} {الواو} استئنافية. {لا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ} فعل مضارع في محل الجزم {بلا} الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بـ {نون} التوكيد، و {نون} التوكيد حرف لا محل له من الإعراب مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنت يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة الفعلية مستأنفة. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول أول لـ {تحسبن}. {قُتِلُوا} فعل مغير ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {ـقتلوا}. {أَمْوَاتًا} مفعول ثان لـ {حسب}. {بَلْ أَحْيَاءٌ} {بَلْ} حرف عطف واضراب. {أَحْيَاءٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم أحياء، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يرزقون}. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن يكون خبرًا ثانيًا لـ {أحياء} على قراءة الجمهور. الثاني: أن يكون ظرفًا لـ {إحياء} لأن المعنى يحيون عند ربهم. الثالث: أن يكون ظرفًا لـ {يرزقون}، أي: يقع رزقهم في هذا المكان الشريف. الرابع: أن يكون صفة لـ {أحياء} فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة. الخامس: أن يكون حالًا من الضمير المستكن في {أَحْيَاءٌ}، والمراد بالعندية المجاز عن قربهم بالتكرمة انتهى. {يُرْزَقُونَ} فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {أحياء}، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير، في ¬

_ (¬1) الجمل.

{أَحْيَاءٌ}، أي: يحيون مرزوقين. {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. {فَرِحِينَ} حال من الضمير في {يُرْزَقُونَ}. وفي "الجمل" (¬1) قوله: {فَرِحِينَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن يكون حالًا من الضمير في {أَحْيَاءٌ}. الثاني: أن يكون حالًا من الضمير في الظرف. الثالث: أن يكون حالًا من الضمير في {يُرْزَقُونَ}. الرابع: أنه منصوب على المدح. الخامس: أنه صفة لـ {أحياء} وهذا يختص بقراءة ابن أبي عبلة. {فَرِحِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {فَرِحِينَ}. {آتَاهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: آتاهموه؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى. {مِنْ فَضْلِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير المفعول الثاني المحذوف، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. {وَيَسْتَبْشِرُونَ} الواو عاطفة. {يستبشرون} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على {فَرِحِينَ} على كونها حالًا من ضمير {يُرْزَقُونَ} لأن {فَرِحِينَ} اسم فاعل يشبه الفعل المضارع فيجوز عطف الفعل عليه. {بِالَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {يستبشرون} {لَمْ يَلْحَقُوا} جازم وفعل وفاعل {بِهِمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ خَلْفِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {يَلْحَقُوا} تقديره: حال كونهم ¬

_ (¬1) الجمل.

متخلفين عنهم في الزمان أو متعلق بـ {يلحقوا}. {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} {أن} حرف نصب ومصدر مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره أنه. {لا} نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ} اسمها مرفوع. {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}، تقديره: أنه لا خوف موجودًا عليهم، وجملة لا من اسمها، وخبرها في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من الموصول في قوله {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} بدل اشتمال تقديره، يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بعدم خوفهم. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الواو عاطفة. {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {هُمْ} مبتدأ. {يَحْزَنُونَ} فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع معطوفة على جملة {لا} الأولى على كونها خبرًا؛ لـ {أن} المخففة، والتقدير: يستبشرون بعدم وجود خوفهم، وبعدم حزنهم. {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}. {يَسْتَبْشِرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة مكررة لتأكيد الجملة السابقة. {بِنِعْمَةٍ} جار، ومجرور متعلق بـ {يستبشرون}. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {نعمة} تقديره: بنعمة كائنة من الله. {وَفَضْلٍ} معطوف على {نعمة}. {وَأَنَّ اللَّهَ} الواو عاطفة. {أن} حرف نصب ومصدر. {اللَّهِ} اسمها. {لَا يُضِيعُ} {لا} نافية. {يضيع} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور على كونه معطوفًا على {نعمة} تقديره: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبعدم إضاعة الله أجر المؤمنين. {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل البحر صفة لـ {المؤمنين}، أو في محل النصب على إضمار أعني، أو في محل الرفع على إضمارهم، أو على كونه مبتدأ خبره جملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا}. {اسْتَجَابُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة

الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {استجابوا}. {وَالرَّسُولِ} معطوف على الجلالة. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلق باستجابوا. {مَا} مصدرية. {أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد إصابة القرح إياهم. {لِلَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا. {أَحْسَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْهُمْ} جار ومجرور حال من فاعل {أَحْسَنُوا}. {وَاتَّقَوْا} فعل وفاعل معطوف على {أَحْسَنُوا}. {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} صفة له، والجملة من المبتدأ المؤخر، والخبر المقدم، مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر لقوله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} إن قلنا إنه مبتدأ. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول لفعل محذوف، تقديره: أمدح الذين قال لهم الناس، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمُ} متعلق به. {النَّاسُ} فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير لهم. {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} مقول محكي لـ {قال} وإن شئت قلت {إنَّ} حرف نصب. {النَّاسَ} اسمها. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَمَعُوا} فعل وفاعل. {لَكُمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول لـ {قال}. {فَاخْشَوْهُمْ} {الفاء} عاطفة تفريعية. {اخشوهم} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جيملة {قَدْ جَمَعُوا}. {فَزَادَهُمْ} {الفاء} عاطفة. {زادهم} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره: هو يعود على القول المذكور {إِيمَانًا} مفعول ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} على كونها صلة الموصول. {وَقَالُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: {اللَّهُ} مبتدأ

مؤخر. {حَسْبُنَا} خبر مقدم، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {حَسْبُنَا اللَّهُ} والمخصوص بالمدح محذوف وجوبًا تقديره: هو يعود على {اللَّهُ}. {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. {فَانْقَلَبُوا} {الفاء} عاطفة على محذوف تقديره: وخرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق بدر، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} {انقلبوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. {بِنِعْمَةٍ} جار ومجرور حال من {واو} {انقلبوا} تقديره حالة كونهم ملتبسين بنعمة {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {نعمة}. {وَفَضْلٍ} معطوف على {نعمة}. {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} جازم وفعل، ومفعول، وفاعل والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {انقلبوا} {وَاتَّبَعُوا} الواو عاطفة. {اتبعوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَانْقَلَبُوا} أو في محل النصب حال من فاعل {انقلبوا}. {رِضْوَانَ اللَّهِ} مفعول به، ومضاف إليه. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {ذُو فَضْلٍ} خبر ومضاف إليه. {عَظِيمٍ} صفة لـ {فضل}، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}. {إِنَّمَا} أداة حصر ونفي بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة حرف لا محل له من الإعراب. {ذَلِكُمُ} مبتدأ. {الشَّيْطَانُ} خبره، والجملة مستأنفة. {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} فعل ومفعول ثان، ومضاف إليه، وفاعله ضمير مستتر يعود على اسم الإشارة، أو على الشيطان، والمفعول الأول محذوف، تقديره: يخوفكم أولياءه؛ أي: أصحابه الكفار، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من {الشيطان}، والعامل فيه اسم الإشارة. {فَلَا تَخَافُوهُمْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن ذلك المخوف هو الشيطان، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول: {لا تخافوهم} {لا} ناهية جازمة. {تَخَافُوهُمْ} فعل وفاعل

ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَخَافُونِ} الواو عاطفة. {خافوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل. و {النون} للوقاية، {وياء} المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به. وفي "الفتوحات": هذهِ الياء التي بعد النون اختلف القراء السبعة في إثباتها لفظًا، واتفقوا على حذفها في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وكلها لا ترسم، وجملتها في القرآن اثنان وستون اهـ شيخنا. والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فلا تخافوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {إِنْ كُنْتُمْ} {إن} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها. {مُؤْمِنِينَ} خبر كان، وجواب {إن} محذوف معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم مؤمنين، فخافون، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}. {وَلَا} الواو استئنافية. {لا} نافية. {يَحْزُنْكَ} فعل، ومفعول به. {الَّذِينَ} فاعل، والجملة مستأنفة. {يُسَارِعُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فِي الْكُفْرِ} جار ومجرور متعلق بـ {يسارعون}. {إِنَّهُمْ} {أن} حرف نصب. و {الهاء} اسمها. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول. {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة، أي: ضررًا شيئًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {يُرِيدُ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَلَّا يَجْعَلَ} {أن} حرف نصب ومصدر. {لا} نافية. {يَجْعَلَ} فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {لَهُمْ} جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {جعل}. {حَظًّا} مفعول ثان لـ {جعل}. {فِي الْآخِرَةِ} صفة لـ {حظًّا} أو متعلق بـ {جعل}، وجملة {جعل} صلة أن المصدرية وأن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يريد} تقديره: يريد الله عدم جعل حَظّهم في

الآخرة. {وَلَهُمْ} الواو استئنافية. {وَلَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر، {عَظِيمٌ} صفة له، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}. {إِنَّ} حرف نصب. {الَّذِينَ} اسمها. {اشْتَرَوُا الْكُفْرَ} فعل وفاعل ومفعول. {بِالْإِيمَانِ} متعلق بـ {اشتروا}. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول به. {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة {وَلَهُمْ} الواو استئنافية. {لهم} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة مستأنفة. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}. {وَلَا} {الواو} استئنافية. {لا} ناهية جازمة. {يَحْسَبَنَّ} فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا}، مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، و {نون} التوكيد حرف لا محل له، مبني على الفتح، {الَّذِينَ} فاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَنَّمَا} {أن} حرف نصب ومصدر. {ما} مصدرية، فهي كلمة مستقلة، وكان المناسب أن تكتب مفصولة من {أن} لكن طريقة المصحف كتابتها موصولة. {نُمْلِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم {أن} تقديره أن إملاءنا. {خَيْرٌ} خبر {أن}. {لِأَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بخير، وجملة {أن} من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي {حسب}، تقديره: ولا يحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم، أو ساد مسد المفعول الثاني على قراءة التاء في {تحسبن}، والمفعول الأول {الَّذِينَ كَفَرُوا} والفاعل ضمير المخاطب، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، والتقدير: ولا تحسبن يا محمَّد الذين كفروا خيرية إملائنا لهم. {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} {إن} أداة حصر. {نُمْلِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة

استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما بالهم يحسبون الإملاء خيرًا، فقيل: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}. {لِيَزْدَادُوا} {اللام} لام كي. {يزدادوا} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي والواو فاعل. {إِثْمًا} مفعول به والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة. وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: إنما نملي لهم لإرادة ازديادهم إثمًا، الجار والمجرور متعلق بنملي، {وَلَهُمْ} الواو استئنافية. {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {مُهِينٌ} صفة له والجملة الإسمية مستأنفة. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. {مَا} نافية. {كَانَ اللَّهُ} فعل ناقص واسمه. {لِيَذَرَ} {اللام} حرف جر وجحود. {يذر} فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {الْمُؤْمِنِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما أنتم عليه، وجملة {كَانَ} مستأنفة، وإنما أولنا كذلك، لأن {يذر} فعل جامد، لا مصدر له فأخذنا مصدر ما هو بمعناه، وهو ترك. وفي "الفتوحات" قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} هذه {اللام}: تسمى لام الجحود، وينصب المضارع بعدها بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها، والفرق بينها وبين لام كي أن هذه على المشهور شرطها أن تكون بعد كون منفي بما، إن كان ماضيًا، أو بلم إن كان مضارعًا، وعرفها بعضهم في بيت واحد فقال: وَكُلِّ لاَمٍ قَبْلَهُ مَا كَانَا ... أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجُحُوْدِ بَانَا وفي خبر {كَانَ} في هذا الموضع، وما أشبهه قولان، أحدهما: وهو قول البصريين، أنه محذوف، وأن اللام مقوية لتعدية ذلك الخبر المقدر لضعفه، والتقدير: ما كان الله مريدًا، لأن {يذر}، فأن يذر، هو مفعول مريدًا، والتقدير: ما كان الله مريدًا ترك المؤمنين على ما أنتم عليه. والثاني: قول الكوفيين أن {اللام} زائدة لتأكيد النفي، وأن الفعل بعدها هو خبر {كاَنَ} و {اللام} عندهم هي العاملة النصب في الفعل بنفسها، لا بإضمار أن، والتقدير: عندهم: ما كان

الله يذر المؤمنين. وضعف أبو البقاء مذهب الكوفيين؛ لأن ما بعدها قد انتصب، فإن كان النصب باللام نفسها فليست زائدة، وإن كان النصب بأن فسد المعنى؛ لأن أن وما في حيزها في تأويل مصدر، والخبر في باب كان هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر الذي هو معنى من المعاني صادقًا على اسمها، وهو محال، انتهت بتصرف وزيادة. وقد أشبعنا الكلام في لام الجحود على كلا المذهبين بما لا مزيد عليه في كتابنا "الخريدة البهية في إعراب أمثلة الآجرومية" فراجعه. {عَلَى مَا} جار ومجرور متعلق بـ {يذر} {أَنْتُمْ} مبتدأ {عَلَيْهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {عليه}. {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} {حَتَّى} حرف جر، وغاية. {يَمِيزَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حتى} بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْخَبِيثَ} مفعول به. {مِنَ الطَّيِّبِ} متعلق بـ {يميز}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} بمعنى إلى تقديره: إلى ميزه أو تمييزه الخبيث من الطيب، الجار والمجرور متعلق بـ {يذر}. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}. {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} نافية. {كَانَ اللَّهُ} فعل ناقص واسمه {لِيُطْلِعَكُمْ} {اللام} حرف جر وجحود. {يطلعكم} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَى الْغَيْبِ} متعلق بـ {يطلع}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وما كان الله لإطلاعكم الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ {ـكان} تقديره: وما كان الله مريدًا لإطلاعكم على الغيب، وجملة {كان} معطوفة على جملة قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَلَكِنَّ اللَّهَ} الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك على ما فهم من قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} من أنه لا يطلع أحدًا على الغيب حتى الأنبياء؛ لعموم الخطاب فيه. ولفظ الجلالة اسمها. {يَجْتَبِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {مِنْ رُسُلِهِ} جار

ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يجتبى}. {مَنْ يَشَاءُ} {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به {يَشَاءُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء اجتباءه، وجملة {يَجْتَبِي} في محل الرفع خبر لكن، وجملة لكن معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. {فَآمِنُوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن الله لا يطلع على غيبه إلا من اجتبى من رسله، وأردتم بيان ما الأصلح لكم؛ فأقول {أمنوا}. {أمنوا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلق {بأمنوا}. {وَرُسُلِهِ} معطوف على الجلالة. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} الواو استئنافية. {إن} حرف شرط، {تُؤْمِنُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {ـإِنْ}. {وَتَتَّقُوا} معطوف عليه. {فَلَكُمْ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {لكم} جار ومجرور خبر مقدم. {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم بأن على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}. {وَلَا يَحْسَبَنَّ} الواو استئنافية. {لا} ناهية. {يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَبْخَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يبخلون}. {آتَاهُمُ اللَّهُ} فعل، ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه؛ لأن آتى بمعنى: أعطى يتعدى إلى مفعولين. {مِنْ فَضْلِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف، وجملة {آتى} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط الضمير المحذوف، {هُوَ خَيْرًا} هو ضمير فصل. {خَيْرًا} مفعول ثان لـ {حسب}؛ والمفعول الأول محذوف تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من

فضله بخلهم هو خيرًا لهم. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {خيرًا} هذا على قراءة الياء، وأما على قراءة التاء: فالفاعل ضمير المخاطب يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - {الَّذِينَ} مفعول أول، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: ولا تحسبن يا محمَّد بخل {الَّذِينَ} يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم. فائدة: وكون {هو} هنا ضمير فصل متعين؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مبتدأ، أو بدلًا، أو توكيدًا، والأول منتف لنصب ما بعده، وهو خيرًا، وكذا الثاني؛ لأنه كان يلزم أن يوافق ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه لا هو، وكذا الثالث. اهـ "سمين" {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} {بَلْ} حرف ابتداء وإضراب، {هُوَ} مبتدأ. {شَرٌّ} خبر. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به. {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. {سَيُطَوَّقُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {مَا بَخِلُوا بِهِ} {ما} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {طوق}. {بَخِلُوا} فعل وفاعل. {بِهِ} متعلق، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {يطوقون} {وَلِلَّهِ} الواو استئنافية. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {وَاللَّهُ} الواو استئنافية. {الله} مبتدأ. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {خبير}. {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. {خَبِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {يَسْتَبْشِرُونَ} من باب استفعل من الاستبشار، والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة، وأصله: من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه، وقال ابن عطية: وليس استفعل هنا بمعنى طلب البشارة، وإنما هو بمعنى الفعل

المجرد، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} بمعنى غني، ويقال: بشر الرجل بكسر الشين. فيكون استبشر بمعناه، ولا يتعين هذا المعنى بل يجوز أن يكون مطاوعًا لأفعل، وهو الأظهر، أي: أبشره الله فاستبشر، كقولهم: فأكانه فاستكان، وأراحه فاستراح، وإنما كان هذا الأظهر هنا؛ لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلًا عن غيره، فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك، ولا يلزم هذا المعنى. إذا كان بمعنى المجرد؛ لأنه لا يدل على المطاوعة {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} {استجاب} من باب استفعل الـ {سين} و {التاء} فيه زائدتان، فهو بمعنى {أجابوا} {القرح} بفتح {الفاء}، وسكون {العين} مصدر قرح من باب فتح يقال: قرحه إذا جرحه، قرحًا يجمع على قروح، والقرح أثر السلاح بالبدن، والقرحة بضم أوله، وفتحه مع سكون ثانيه فيهما الجراحة المتقادمة التي اجتمع فيها القيح. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حسب في الأصل مصدر حسبه حسبًا إذا كفاه. فهو مصدر أريد به اسم الفاعل، فهو بمعنى المحسب؛ أي: الكافي، وقال في "الكشاف" والدليل على أنه بمعنى المحسب أنه يوصف به، فتقول: مررت برجل حسبك من رجل، أي: كافيك منه، فتصف به النكرة إذ إضافته غيرُ محضة؛ لكونه بمعنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل، قال الشاعر: فَتَمْلأُ بَيْتَنَا أُقُطًا وَسَمْنَا ... وَحَسْبُكَ مِنْ غِنَىً شِبَعٌ وَرِيُّ والوكيل فعيل، بمعنى مفعول؛ أي: الموكول إليه الأمور؛ أي: نعم الموكول إليه أمورنا، أو الكافي، أو الكافل. {حَظًّا} {الحظ} النصيب: ويستعمل في الخير، والشر، وإذا أطلق يكون للخير {نُمْلِي} الإملاء التأخير، والإمهال. قال القرطبي: والمراد بالإملاء هنا طول العمر، ورغد العيش. وفي "المصباح" أمليت له في الأمر، أخرت، وأمليت للبعير في القيد، أرخيت له، ووسعت {لِيَذَرَ المؤمنينَ} {يذر} فعل جامد، لا يتصرف كيدع استغناء عنه بتصرف مرادفه، وهو يترك، ولم يستعمل منه ماض استغناء عنه بترك، وأصل يذر: يوذر، فحذفت الواو منه من غير موجب تصريفي،

تشبيهًا له بيدع إذ لم تقع الواو في {يذر} بين ياء وكسرة، ولا ما هو في تقدير الكسرة؛ إذ الواو فيه، وقعت بين ياء وفتحة أصلية، بخلاف يدع، فإن الأصل فيه يودع، فحذفت الواو، لوقوعها بين الياء، وبين ما هو في تقدير الكسرة، إذ أصله يودع مثل يوعد، وإنما فتحت الدال منه؛ لأن لامه حرف حلقي، فيفتح له ما قبله، ومثله يطأ، ويسع، ويقع، ونحو ذلك. {حَتَّى يَمِيزَ} يقرأ بالتخفيف من ماز يميز، من باب باع، وبالتشديد من ميز من باب فعل، وهما بمعنى واحد، بمعنى فصل الشيء من الشيء، وقيل: لا يكون ماز إلا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد، فيتميز على معنى يعزل، ذكره أبو حيان، وليس التشديد لتعدي الفعل مثل فرح، وفرحته؛ لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} {اجتبى} من باب افتعل من جبوت الماء أو المال وجبيته، وهما لغتان؛ فـ {الياء} في {يَجْتَبِي} تحتمل أن تكون على أصلها، وأن تكون منقلبة من واوٍ لانكسار ما قبلها. {مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ} أصل {ميراث} موراث فقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، والميراث مصدر ميمي كالميعاد. قال ابن الأنباري: يقال ورث فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركًا فيه، وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} لأنه انفرد بذلك بعد أن كان داود مشاركًا له فيه. البلاغة قال أبو حيان (¬1): وقد تضمنت هذه الآيات فنونًا من البلاغة والبديع: منها: الاختصاص في قوله: {أجر المؤمنين}. ومنها: التكرار في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ} و {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وفي اسمه في عدة مواضع، و {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي ذكر الإملاء. ومنها: الطباق في قوله: {اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} و {لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الاستعارة في {يُسَارِعُونَ} و {اشْتَرَوُا} و {نُمْلِي}، و {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، و {الخبيث} و {الطيب}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {فَآمِنُوا} {وَإِنْ تُؤْمِنُوا}. ومنها: الالتفات في قوله: {أنتم} إن كان خطابًا للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لقال على ما هم عليه، وإن كان خطابًا لغيرهم. كان من تلوين الخطاب، وفي {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيمن قرأ بتاء الخطاب. ومنها: الحذف في مواضع انتهى. قوله (¬1): {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} تعليل للنهي، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم؛ أي: لن يضروا بفعلهم ذلك أولياء الله ألبتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم، وللإيذانِ بأن مضارتَهم بمنزلة مضارته تعالى، وفيه مزيد مبالغة في التسلية. ووصف تعالى (¬2) عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث بـ {عظيم}، و {أليم} و {مهين}، ولكل من هذه الصفات، مناسبة تقتضي ختم الآية بها: أما الأولى: فإن المسارعة في الشيء، والمبادرة في تحصيله، والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه، وأنه من النفاسة، والعظم، بحيث يتسابق فيه، فختمت الآية بعظم الثواب، وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر، إشعارًا بخساسة ما سابقوا فيه. وأما الثانية: فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان، ومن عادة المشتري الاغتباطُ بما اشتراه، والسرورُ به عند كون الصفقة رابحةً، وتألمه عند كونها خاسرة فناسبها وصف العذاب بالأليم. وأما الثالثة: فإنه ذكر الإملاء، وهو الامتاع بالمال، والبنين، والصحة، ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الجمل والبحر المحيط.

وكان هذا الإمتاع سببًا للتعزز، والتمتع، والاستطالة، فختمت الآية بإهانة العذاب لهم، وأنّ ذلك الإملاءَ المنتج عنه في الدنيا التعزز، والاستطالة، مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}. المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة معركة أحد، وما فيها من الأحداث العجيبة، وتناولت تلك الآيات ضمن ما تناولت مكائدَ المنافقين، ودسائسهم، وما انطوت عليه نفوسهم من الكيد للإسلام، والغدر بالمسلمين، وتثبيط عزائمهم عن الجهاد في سبيل الله .. أعقبَ سبحانه وتعالى ذلك بذكر دسائس اليهود، وأساليبهم الخبيثة في مُحاربة الدعوة الإِسلامية، بطريق التشكيك، والبلبلة، والكيد، والدس ليحذر المؤمنين من خطرهم كما حذرهم من المنافقين، والآيات الكريمة، تتحدث عن اليهود، وموقفهم المخزي من الذات الإلهية، واتهامهم لله عَزَّ وَجَلَّ بأشنع الاتهامات بالبخل والفقر، ثم نقضهم للعهود، وقتلهم

للأنبياء، وخيانتهم الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها إلى آخر ما هنالك من جرائمَ وشنائعَ اتصف بها هذا الجنسُ الملعونُ. قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ...} الآيات، مناسبتُها (¬1) لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما سلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرًا من الرسل قبلك، قد كذبوا كما كذبت، ولاَقُوا من أقوامهم من الشدائد مثلَ ما لاقيتَ بل أشد مما لاقيت، فقد قتلوا كثيرًا منهم كيحيى، وزكرياء عليهما السلام .. زاده هنا تسلية، وتعزية أخرى، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب، فلا تضجَرْ ولا تحزَن على ما تَرى منهم، وأنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء، كما تجازى، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء، وحسبهم ما أصيبوا به، وما يُصابون به من الجزاء في الدنيا، وسيوفون الجزاء كاملًا يوم القيامة. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...} الآية، مناسبتها (¬2) لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن اليهود شبهًا، ومطاعنَ في نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأجاب عنها بما علمتَ فيما سلف .. أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم، وغريب أمرهم، وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته، ولا أن يوجهوا شبهًا لدينه ذاك أن اليهود، والنصارى، أمروا بشرح ما في التوراة، والإنجيل، وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق رسالته، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن، والشبه، وكانوا أجدر الناس بدفعها، وأحقهم بتأييده، والذود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به، وتوكيد دعوته فالعقل قاض بأن يظاهروه ودينهم حاكم بأن يؤيدوه، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريًّا، وهل مثل هؤلاء يجدي معهم الحجاج والجدال، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "دخل أبو بكر بيت المدراس، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص فقال له: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيًّا عنا .. ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر فضرب وجهه، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمَّد انظر ما صنع صاحبك بي فقال: "يا أبا بكر ما حملك على ما صنعت"؟ قال يا رسول الله، قال قولًا عظيمًا، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء فجحد فنحاص فأنزل الله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتت اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فقالوا: يا محمَّد افتقر ربك، يسأل عبادهُ، فأنزل الله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ...} الآية. قوله تعالى (¬2): {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ...} الآيةَ، روى ابن أبي حاتم، وابن المنذر بسند حسن، عن ابن عباس، أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر، وفنحاص من قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. وأخرج أبو داود (¬3) رحمه الله (ج 3 ص 114) بسنده إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه - وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم - وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قَدِمَ المدينةَ، وأهلها أخلاط منهم المسلمون، والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) الصحيح المسند.

بالصبر، والعفو، ففيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} الآية. فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أَذَى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بن معاذ أن يبعث رَهْطًا يقتلونه، فبعث محمدَ بن مسلمة، وذَكَر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت يهود، والمشركون، فغدوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: طرق صاحبنا، فقتل، فذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقول، ودعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب بينه، وبينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينهم، وبين المسلمين عامةً صحيفة. الحديث. وقال المنذري (¬1): قوله عن أبيه فيه نظر، فإن أباه عبد الله بن كعب ليست له صحبة، ولا هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، ويكون الحديث على هذا مرسلًا، ويحتمل أن يكون أراد بأبيه جده، وهو كعب بن مالك، فيكون الحديث على هذا مسندًا، إذ قد سمع عبد الرحمن من جده كعب بن مالك، وكعب: هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وقد وَقَع مثل هذا في الأسانيد في غير موضع اهـ من "عون المعبود" بتصرف. قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ...} الآية. سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجالًا من المنافقين على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خِلافَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الحديث، أخرجه مسلم أيضًا. ولها أيضًا سبب آخر، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن أبي مليكة، أن علقمة بن وقاص أخبره، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل ¬

_ (¬1) عون المعبود.

[181]

له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا. لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لك ولهذه الآية، إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود، وسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}. ويُمكن الجمعُ بين الحديثين بأن تكون الآية نزلَتْ في الفريقين معًا، قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" ولو رجح حديث أبي سعيد، لكان أولى، لأن حديث ابن عباس مما أنتقد على الشيخين، كما في مقدمة "الفتح". وأخرج (¬1) عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج، وزيدَ بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان: يا رافع في أيِّ شيء نزلَتْ هذه الآية: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} قال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا، وقالوا: ما حَبَسَنا عنكم إلا شغل، فلوددنا أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان مروان أنكر ذلك، فجَزِعَ رافع من ذلك، وقال لزيد بن ثابت: أنشدك بالله هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا، وبين قول ابن عباس بأَنَّه يمكن أن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا. قال: وحَكَى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن أهلُ الكتاب الأول، والصلاة، والطاعة، ومع ذلك لا يقرون بمحمد، وروى ابن أبي حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحوَ ذلك، ورجحه ابن جرير، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك. انتهى. التفسير وأوجه القراءة 181 - وعزتي، وجلالي {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} وعلم، وأحصى {قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} وهو فنحاص بن عازوراء، كما قاله ابن عباس، والسدي أو حيي بن أخطب، كما قاله ¬

_ (¬1) لباب النقول.

قتادة، أو كعبُ بن الأشرف، كما نقله ابن عساكر {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا عما قالوا {فَقِيرٌ}؛ أي: محتاج إلينا يطلب منا القرض على لسان محمَّد {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} لا نحتاج إلى قرضه، قالوا: هذه المقالة تمويهًا على ضعفائهم؛ لا أنهم يعتقدون ذلك؛ لأنهم أهل الكتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمَّد، فهو فقير، ليشككوا على إخوانهم في دين الإِسلام، والمقصود من هذا تهديد القائلين ما ذكر، وإعلامهم أنهم لا يفوتهم من جزائه شيء {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} من هذه المقالة الشنيعة في صحائف (¬1) الملائكة ليقرأوا ذلك يومَ القيامة، أو سنحفظه، ونثبته في علمنا، لا ننساه ولا نهمله، أو المراد: سنكتب عنهم هذا الجهلَ في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدةَ جهلهم وطعنهم، في نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بكل ما قدروا عليه، وقيل: إن معنى سنكتب: سنوجب عليهم في الآخرة جزاءَ ما قالوه في الدنيا {و} نكتب {قَتْلَهُمُ}؛ أي: قتل آبائهم {الْأَنْبِيَاءَ}، وإنما نُسِبَ القتل إليهم مع أنه لم يقع منهم، ووعدوا العذابَ عليه لرضاهم بصنع آبائهم، والراضي بشيء، ينسب إليه ذلك الشيء، ويعاقب عليه إن كان شرًّا. وإنما (¬2) جعل ذلك القول قرينًا لقتل الأنبياء تنبيهًا على أنه من العظَم، والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء {بِغَيْرِ حَقٍّ} حتى في اعتقادهم كما في نفس الأمر، فكانوا يعتقدون أن قتلهم لا يجوز، ولا يحل، وحينئذ فيناسب شن الغارة عليهم؛ أي: نكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياءَ بغير جرم، أو المعنى: سنحفظ عن الفريقين معًا أقوالهم، وأفعالهم {وَنَقُولُ} معطوف على {سنكتب} أي: نقول لهم عند الموت، أو عند الحشر، أو عند قراءة الكتاب، أو عند الإلقاء في النار؛ أي: ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم، ويحتمل أن يكون هذا القول كنايةً عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: باشروا وادخلوا العذابَ المحرق البالغ النهاية في ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[182]

الحرق، والحريق (¬1) المحرق فهو فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، وقيل: الحريق طبقة من طباق جهنم، وقيل: الحريقُ الملتهبُ من النار، والنار تشمل الملتهبة، وغير الملتهبةِ، والملتهبة: أشدها. وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة. وقرأ الجمهور: {سَنَكْتُبُ} {وَقَتْلَهُمُ} بالنصب و {نقول} بنون المتكلم المعظم، أو تكون للملائكة، وقرأ الحسن، والأعرج، {سيكتب} بالياء على الغيبة، وقرأ حمزة {سيكتب} بالياء مبنيًّا للمفعول، {وقتلهم} بالرفع عطفًا على {ما} إذ هي مرفوعة بـ {سيكتب} و {يقول} بالياء على الغيبة، وقرأ طلحة بن مصرف {سنكتب ما يقولون}. وحكى الداني عنه {ستكتب ما قالوا} بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود {ويقال ذوقوا} ونقلوا عن أبي معاذ النحوي أن في حرف ابن مسعود {سنكتب ما يقولون، ونقول: لهم ذوقوا} 182 - {ذَلِكَ} العذاب المحرق الذي تذوقون حَرارَتَهُ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}؛ أي: بسبب ما اقترفتموه، وعملتموه في الدنيا من الأفعال القبيحة، والأقوال الشنيعة كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر، وفنون الفسق، والعصيان {و} بسبب {أن الله ليس بظلام للعبيد}؛ أي: بذي ظلم لعباده، فيعذبهم بغير ذنب؛ أي: إن ذلك العذاب الذي أصابكم بسبب عملكم، وبسبب كونه تعالى عادلًا في حكمه، وفعله لا يجور، ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين، وإنما أضاف العمل إلى الأيدي؛ لأن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد، وليفيدَ أن ما عذبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به، ولم يباشروه. 183 - والخلاصة (¬2): أن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشيء في غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثيرَ الظلم مبالغًا فيه {الَّذِينَ قَالُوا} إما منصوب على الذم، أو مجرور على أنه نعت {للذين} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

قبله، أي: لقد سمع قول الذين قالوا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَهِدَ إِلَيْنَا}؛ أي: أمرنا في التوراة وأوصانا {أَلَّا نُؤْمِنَ}؛ أي: بأن لا نصدق {لِرَسُولٍ}؛ أي: رسول كان في دعواه الرسالة {حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ}؛ أي: حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، وهي أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية، فتأكله، أي: تحرقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من أعمال البر من نسك، وصدقة، وذبح، وكل عمل صالح. وقرأ عيسى بن عمر {بقربان} بضم الراء قال ابن عطية: إتباعًا لضمة القاف، وليس بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وكانت (¬1) القرابين، والغنائم لا تحل لبني إسرائيل، وكانوا إذا قربوا قربانًا، أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك، وجاءت نار بيضاء من السماء، لا دخان لها، ولها دوي فتأكل ذلك القربان، أو الغنيمة، وتحرقه فيكون ذلك دليلًا، وعلامة على القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله، ولم تنزل نار. والمعنى: لن نؤمن لك يا محمَّد حتى تأتينا بنار تأكل القربان، كما كانت في زمن الأنبياء الأول، فإن جئتنا بها صدقناك في رسالتك. قال ابن عباس (¬2): نزلت هذه الآية في حق كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذ، وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحييّ بن أخطب، وغيرهم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا محمَّد: تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أنزل عليك الكتاب، وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت الآية، لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزةً فهوَ وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفترَياتِ إلا عدمَ الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

[184]

{قُلْ} لهم يا محمَّد موبخًا لهم، ومكذبًا {قَدْ جَاءَكُمْ} وأتاكم يا معشر اليهود {رُسُلٌ} كثير {مِنْ قَبْلِي} كزكريا، ويحيى، وغيرهما {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالعجزات الواضحة الدالة على صدقهم، وبكل ما تقترحونه منهم {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ}؛ أي: وبالقربان الذي تأكله النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في مقالتكم إنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه، فإن زكريا ويحيى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام قد جاؤوكم بما قتلم في معجزات أخرَ، فما بالكم لم تؤمنوا بهم بل اجترأتم على قتلهم، وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد - وبذلك وصفوا في التوراة - قساة القلوب لا تفقهون الحق، ولا تذعنون له، وإنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادًا، بل تعنتًا وعنادًا. وقد نسب هذا الفعل إلى ما كان في عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وقع من أسلافهم؛ لأنهم راضون بما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة في أخلاقها العامة، وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفًا عند العرب، وغيرهم، يلصقون جريمةَ الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها. والخلاصة: أن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه. 184 - {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا محمَّد في أصل النبوة والشريعة بعد أن جئتَهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل مع استنارة الحجة، والدليل {فـ} تسل يا محمَّد على تكذيبك، ولا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويتهم، وعظيم تعنتهم فتلكَ سنة الله في خليقته؛ لأنه {قد كذب رسل من قبلك}؛ أي: كذبتهم أممهم حينما {جَاءُوا} هم {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الواضحات، {و} بـ {الزبر}؛ أي: وبالصحف المشتملة على الترغيب، والترهيب، والزواجرَ، والعظات كصحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما، والزبير: جمع زبور، وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حبسته، وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورًا، لأنه يزبر عن الباطل، ويدعو إلى الحق {و} بـ {الكتاب المنير}؛ أي: المضيء الذي أضاء،

[185]

وأنار سبيل النجاة، وهو التوراة، والزبور، والإنجيل، وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه، وفضله باشتماله على الأحكام. والمعنى: فقد كذب رسل من قبلك جَاءُوا بمثل ما جئت من باهر المعجزات، وهزوا القلوبَ بالزواجر، والعظات، وأناروا بالكتاب سبيلَ النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فصبروا على ما نالهم من الأذى، وما نالهم من السخرية، والاستهزاء، ذلك أسوة بهم. وفي هذا تسلية للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبيان بأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء، فمنهم من يتقبل الحق، ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحقَ، والداعي إليه ويسفه أحلام معتنقيه؛ فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفندوا حجتك، فإن نُفُوسَهم منصرفة عن طلب الحق، وتحري سبل الخير. وقر الجمهور (¬1) {والزبور والكتاب} بغير الباء فيهما، وقرأ ابن عامر، {وبالزبر} بإعادة {الباء} كقراءة ابن عباس، للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات، وكذا هي في مصاحف أهل الشام، وقرأ هشام بخلاف عنه، {وبالكتاب} وإعادة {الباء} وإعادة حرف البحر في المعطوف للتأكيد. 185 - {كُلُّ نَفْسٍ}؛ أي: كل روح من حيوان حاضر في دار التكليف {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: ذائقة موت (¬2) أجسادها إذ النفس بمعنى الروح، لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها؛ لأن الحياة شرط في الذوق، وسائر الإدراكات. وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}؛ أي: حين موت أجسادها، والمعنى كل نفس تذوق طعمَ مفارقة البدن، وتحس به. وقرأ الجمهور (¬3) {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} بالإضافة، وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وابن أبي إسحاق، {ذائقةٌ الموت} بالتنوين، ونصب الموت، وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري {ذائقة} بغير تنوين الموت بالنصب، وخرج على حذف التنوين لالتقاء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

الساكنين، كقراءة من قرأ {هل هو الله أحد الله الصمد} بحذف التنوين من أحد، وقرىء أيضًا شاذًا {ذائقة الموت} على جعل الهاء ضمير {كلٍ} على اللفظ، وهو مبتدأ وخبر كما ذكره أبو البقاء {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ}؛ أي: وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملًا، وافيًا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: يوم قيام الخلق من القبور، وذلك عند النفخة الثانية، وفي ذكر لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبل يوم القيامة، ويؤيده ما أخرجه الترمذي، والطبراني مرفوعًا "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران" {فَمَنْ زُحْزِحَ} وأبعد {عَنِ النَّارِ} يوم القيامة {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}؛ أي: فقد ظفر بالمحبوب، ونجا من المكروه؛ أي: فمن نجا، وخلص من العذاب والنار يوم القيامة، ووصل إلى الثواب والجنة، فقد ظفر بالمقصد الأسنى، والغاية القصوى، التي لا مطلبَ بعدها. وقد روي (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته، وهو يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". رواه وكيع بن الجراح في تفسيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وقد رواه الإِمام أحمد في "مسنده" عن وكيع بسنده. والخلاصة (¬2): أن هناك جنة ونارًا، وإن من الناس من يلقى في هذه، ومنهم من يلقى في تلك، وإن هولَ النار عظيم، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة، كأن كلَّ شخص كان مشرفًا على السقوط فيها؛ لأن أعمالهم سائقةٌ لهم إلى النار؛ لأنها أعمال حيوانية، تسوق إليها، ولا يدخل الجنة أحدٌ إلا إذا زحزح، فالزحزحة عنها فوز عظيم، فأولئك المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية، فأخلصوا في إيمانهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، ولم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه في عمل من أعمالهم. والمعنى: فمن بعد عن النار يومئذ ونحي عنها. فقد فاز؛ أي: ظفر بما يريد، ونجا مما يخاف، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوزَ يقاربه، فان كل ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) المراغي.

فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة، ليس بشيء بالنسبة إليها، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها، ولا نعيم إلا نعيمها، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارض عنا رضًا لا سخط بعده أبدًا، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: وما حياتنا القربى إلى الزوال، أو الدنيئة التي نحن فيها، ونتمتع بلذاتها الحسية من مأكل، ومشرب، أو المعنوية كالجاه والمنصب، والسيادة {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ومواعين الخداع؛ لأنَّ صاحبَها دائمًا مغرور بها، مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها، ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب به، ويشقى لتوهم السعادة فيها. والمتاع: كل ما يتمتع به الإنسان، وينتفع به، ثم يزول، ولا يبقى، والغرور ما يغرُّ الإنسان مما لا يدوم، وقيل: الغرور الباطل الفاني، الذي لا يدوم. ومعنى الآية (¬1) أن منفعةَ الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها، ثم تزول عن قريب، وقيل: هي متاع متروك، يوشك أن يضمحل ويزولَ، فخذوا من هذا المتاع، واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور، لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، وأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع، وبلاغ إلى ما هو خير منها. والخلاصة: أن الدنيا ليست إلا متاعًا من شأنه أن يغرَ الإنسانَ، ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف، والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة. فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه، وإنفاق الوقت فيما لا يفيد إذ ليس للذاتها غاية تنتهي إليها، فلا يبلغ حاجةً منها إلا طلب أخرى. فَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَلاَ انْتَهَى أَرَبٌ إلّا إِلَى أَرَبِ فعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله، أو عمل صالح ينتفع به، وينفع عباده مع إصلاح السريرة، وخلوص النية، وقد قال بعضهم: عليك بنفسك إن لم ¬

_ (¬1) الجمل.

[186]

تشغلها شغلتك. 186 - ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بما سبق آنفًا .. زاد في تسليتهم بهذه الآية فقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وأبان لهم أنه كما لقي هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد، فسيلقون منهم أذى كثيرًا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء في النفس أو في المال. والمقصود من هذا الإخبار: أن يوطنوا أنفسَهم على الصبر، وترك الجزع حتى لا يشق عليهم النبلاء عند نزوله بهم. والمعنى: وعزتي، وجلالي لتمتحنن، ولتختبرن في أموالكم بذهابها بالمهلكات، والآفات، كالغرق، والحرف والبرد، وبالتكاليف كالزكاة، والإنفاق في الجهاد، وبذلِها في جميع وجوه البر، التي ترفع شأنَ الأمة الإِسلامية وتدفع عنها أعداءها، وترد عنها المكارهَ، وتدفع عنها غوائلَ الأمراض والأوبئة، ولتختبرَن في أنفسكم بما يصيبها من البلايَا كالأمراض، والأوجاع، والقتل، والضرب، ومن التكاليف كالصلاة وبذلها في الجهاد في سبيل الله، والصبر فيهما، وبموت من تحب من الأهل، والأصدقاء {وَلَتَسْمَعُنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي لتسمعن أيها المؤمنون {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: من اليهود والنصارى {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ أي: ومن مشركي العرب، والمراد بهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب {أَذًى كَثِيرًا}؛ أي: أنواعًا كثيرةً من الإيذاء كالطعن في أعراضكم، والطعن في الدين الحنيف، والقدح في أحكام الشرع الشريف، وقد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف، وأضرابه من هجاء المؤمنين، وتشبيب (¬1) نسائهم وتحريض المشركين على معاندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك مما لا خير فيه. وفائدة الابتلاء (¬2): تمييز الخبيث من الطيب وفائدة الإخبار كما مر آنفًا، أن ¬

_ (¬1) تشبيب: هو ذكر أوصاف الجمال للنساء بالقصائد والمسجعات، وكان كعب بن الأشرف يفعل ذلك بنساء المؤمنين. (¬2) المراغي.

[187]

نعرف السننَ الإلهيةَ، ونهيىءَ أنفسَنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأةً على غير انتظار يعظم عليه الأمر، ويحيط به الغمُّ حتى كاد ليقتله في بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطَلَع بها وقويَ على حملها. {وَإِنْ تَصْبِرُوا} أيها المؤمنون على ما سيحل ويقع بكم من البلاء في أموالكم، وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب، والمشركين من الأذى {وَتَتَّقُوا} ما يجب اتقاؤه، وتحترزوا عما لا ينبغي كالمداهنة مع الكفار، والسكوت عن إظهار الإنكار {فَإِنَّ ذَلِكَ} الصبرَ والتقوى {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ أي: من معزومات الأمور؛ أي: من الأمور الواجبة التي ينبغي أن يعزمَها ويفعلَها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه، وأمر به، وبالغ فيه، وأوجب، يعني أن ذلك عزمة من عزمات الله، وواجب من واجبات الله التي أوجبها على عباده. 187 - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة إذ أخذ الله العهدَ المؤكدَ باليمين من الذين أوتوا الكتاب؛ أي: من علماء اليهود، والنصارى على لسان أنبيائهم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} بالتاء حكاية لمخاطبتهم؛ أي: لتبينن ذلك الكتاب الذي أوتيتم للناس، ولتظهرن جميع ما فيه من الأحكام، والأخبار التي من جملتها نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - للناس {وَلَا تَكْتُمُونَهُ}؛ أي: والحال أنكم لا تكتمون، ولا تخفون ذلك الكتاب عن الناس، ولا تؤولونه، ولا تلقون الشبه الفاسدة، والتأويلات المزيفة إليهم، وذلك بأن يوضحوا معانيه كما هي، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع اضطراب ولا لبس في فهمه. فإن لم يفعلوا ذلك .. فإما أن يبينوه على غير وجهه، ولا يكون هذا بيانًا، ولا كشفًا لأغراضِه ومقاصده، وأما أن لا يبينوه أصلًا، ويكون هذا كتمانًا له. وتبيين الكتاب على ضربين: الأول: تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه. الثاني: تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم، وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم،

وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة (¬1) فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم، وهي آكد من قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية. {فَنَبَذُوُه}؛ أي: نبذ علماؤهم ذلك الكتابَ، أو الميثاقَ وطرحوه {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}؛ أي: خَلْفَ ظهورهم، فلم يعملوا به، ولم يبالوا به، ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم، لا شيئًا ملقى مرميًّا وراء الظهور، لا ينظر إليه، ولا يفكر في أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئًا، ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمونه إلا أماني يتمنونها، وقراءة يقرؤونها. وإن هذا والله لينطبق على المسلمين اليوم أتمَ الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم، ونهجوا نهجهم حذو القذة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم، فإنهم مع حفظهم لكتابهم، وتلاوتهم إياه في كل مكان في الشوارع، والأسواق، ومجتمعات الأفراح والأحزان، تركوا تبيينه للناس والعمل به، ففقدوا هدايته وعميت عليهم عظاته، وزواجره وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه، وصار القابض على دينه بينهم كالقابض على الجمر، والضمير في قوله: {وَاَشتَرَوْا بِهِ} عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه، ونهوا عن كتمانه؛ أي: وأخذوا بكتمانه {ثَمَنًا قَلِيلًا} وعوضًا يسيرًا من حطام الدنيا، وأغراضها من المآكل والمشارب، والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم، وسفلتهم يعني أخذوا عوضًا منه فائدة دنيويةً حقيرة، فغبنوا في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤسين من حطام الدنيا، ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتابَ، ويحرفونه، لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام، أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء ¬

_ (¬1) الهوادة: الرفق واللين والمحاباة، ومنه قوله: لأبعثن إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة؛ أي: إلى رجل يحابيك الرخصة. اهـ.

[188]

العامة، أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم، وهذا كله أيضًا مما ابتلي به علاء المسلمين الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون. {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}؛ أي: قبح ذلك الثمن شيئًا يشترونه، والمخصوص بالذم ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي علم للناس، وكتم شيئًا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب قلوبهم، أو لجر نفعة، أو لحياء، أو لبخل للعلم، فهو داخل تحت هذا الوعيد. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سئل علمًا يعلمه، فكتمه، ألجم بلجام من نار. أخرجه الترمذي، ولأبي داود "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة. وقال قتادة: طوبى لعالم ناطق، ومستمع واع، هذا علم علمًا فبذله، وهذا سمع خيرًا فقبله ووعاه. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخَذَ على أهل العلم أن يُعلِّموا، وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم، وتلا هذه الآية. وعن الحسن أنه قال: لولا الميثاقُ الذي أخذَه الله تعالى على أهل العلم، ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الفعلين أعني {ليبيننه} {ولا يكتمونه} إسنادًا لأهل الكتاب إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده، فنبذوه. وقرأ باقى السبعة بالتاء للخطاب حكايةً لمخاطبتهم. وقرأ عبد الله {ليبنونه} بغير نون التوكيد، وقرأ ابن عباس {ميثاق النبيين لتبيننه للناس} فيعود الضمير في {فنبذوه} على الناس، إذ يستحيل عوده على النبيين، أي: فنبذه الناس المبين لهم الميثاق. 188 - {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}؛ أي: لا تظنن يا محمَّد أو أيها المخاطب اليهودَ الذين يسرون بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة، وتفسيرها بتفسيرات باطلة {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا}، ويُوصفوا {بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}؛ أي: بقول الناس لهم علماء، وليسوا بأهل علم؛ أي: يحبون أن يصفهم الناس ويمدحوا لهم بما ليس فيهم من الصدق، والعفاف، والفضل، والدين؛ أي: لا تحسبنهم

ناجينَ من العذاب الدنيوي، وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها، وساءت أعمالها، وألفت الفسادَ، والظلمَ وهو ضربان (¬1): الأول: عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري بخذلان أهل الباطل، والإفساد وذهاب استقلالهم، ونصرة أهل الحق عليهم، وتمكينهم من رقابهم، وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد، والعدل مكان الظلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. والضرب الثاني: عذاب يكون سخطًا سماويًّا، كالزلازل، والخسف، والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم، وكذبوهم، وآذوهم عند اشتداد عتوهم، وإيذائهم لرسلهم. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق، وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوا، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك، وسلاه بما أنزل من وعيدهم. وهذا المعنى على قراءة التاء، فالمفعول الأول عليها الموصول، والثاني قوله الآتي: {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. وقرىء بالياء فعلى هذه القراءة يكون الموصول فاعلًا، والمفعول الأول محذوف، وهو فَرحهم، والمفعول الثاني {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. والمعنى: عليها لا يحسبن الفارحون فرحَهم منجيًّا لهم من العذاب وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد للفعل الأول على القراءتين. وقد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل، إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت، وما أشبهها إعلامًا بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدًا إذا جاءك، وكلمك بكذا، وكذا، فلا تظننه صادقًا، فيفيد لا تظنن توكيدًا، وتوضيحًا والفاء زائدة كما في قوله: فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي ¬

_ (¬1) المراغي.

وقوله: {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} مفعول ثان على القراءتين، أي: فلا تظنهم بمنجاة؛ أي: فائزين بالنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل، والأسر، وضرب الجزية، والذلة، والصغار، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع في الآخرة. وناسبَ وصفه بـ {أليم} لأجل فرحهم، ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا. وهذه الآية (¬1) وإن كانت قد نزلت في اليهود، أو المنافقين خاصةً فإن حكمَها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح، ويُنسَب إلى العلم، وليس كذلك، فيفرح به فَرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سَدَاد السيرة، واستقامة الطريقة، والزهد والإقبال على طاعة الله. وفي الحديث الصحيح: "المتشح بما ليس فيه، كلابس ثوبي زور". وقرأ حمزة، وعاصم (¬2)، والكسائي {تَحْسَبَنَّ} {وتحسبنهم} بالتاء الفوقية، وكلاهما إما بفتح الباء، والتقدير: لا تحسبن يا محمَّد، أو أيها المخاطب، وإما بضم الباء، والخطاب للمؤمنين، والمفعول الأول: {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ}، والثاني: {بِمَفَازَةٍ}. وقوله {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد، والفاء مقحمة، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر بالياء التحتية، وكلاهما إما بفتح الباء والفاعل للرسول، وإما بضمها، والفاعل من يتأتى منه الحسبان، أو بفتح الباء في الأول، وضمها في الثاني، وهي قراءة أبي عمرو. والفاعل: هو الموصول، والمفعول الأول محذوف، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معًا اختصارًا لدَلاَلة مفعولي الفعل الثاني عليهما، أي: لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين، أو على أن الفعل الأول مسند للرسول، أو لكل حاسب، ومفعوله الأول الموصول، والثاني محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه، والفعل الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصول، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه - صلى الله عليه وسلم -، ومفعولاه ما بعده. وقرأ النخعي، ومروان بن الحكم، والأعمش {بما آتوا} بالمد، أي: يفرحون بما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المرح.

[189]

أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم {أَتَوْا} بالقصر. وقرأ ابن جبير، والسلمي {بِمَا أَتَوْا} مبنيًّا للمفعول. 189 - {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وتدبيرهما، وخزائنهما فكيف يكون من له ملك السموات والأرض فقيرًا، وفيه تكذيب لمن قال: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} {واللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه، ومنه عقاب هؤلاء الكفرة {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول؛ لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم، وعلى إظهار دينكم ونصركم عليهم. والمعنى: لا تحزنوا (¬1) أيها المؤمنون، ولا تضعفوا، وبينوا الحق، ولا تكتموا منه شيئًا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فإن لله ملك السموات والأرض، يعطي من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم، وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين. وفي هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين، ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم؛ إذ لو كانوا كذلك، ما تركوا العمل بكتابه، وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا. الإعراب {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. {لَقَدْ} اللام موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {سَمِعَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوفة مستأنفةٌ. {قَوْلَ الَّذِينَ} مفعول به ومضاف إليه. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} مقول محكي لـ {قالوا} وإن شئت قلت: {إنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} ¬

_ (¬1) المراغي.

اسمها منصوب {فَقِيرٌ} خبرها مرفوع، والجملة في محل النصب مقول لـ {ـقالوا}. {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {إن}. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}. {سَنَكْتُبُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به. {قالوا} فعل وفاعل، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قالوه، ويصح كون {ما} مصدرية، والمصدر المؤول منها مفعول به لـ {نكتب} تقديره: سنكتب قولهم ذلك. {وَقَتْلَهُمُ} بالنصب معطوف على {ما} أو على المصدر المؤول منها على كونه مفعولًا لـ {نكتب}. وبالرفع معطوف على {ما} أيضًا على كونه نائب فاعل لـ {كتب} على قراءة الياء {قتل} مضاف. والهاء مضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {الْأَنْبِيَاءَ} مفعول المصدر أعني {قتلهم} منصوب به. {بِغَيْرِ حَقٍّ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قتلهم} أو حال منه. {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}. {وَنَقُولُ} {الواو} عاطفة. {نقول} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {نكتب}. {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} مقول محكي لـ {نقول}، وإن شئت قلت {ذُوقُوا}: فعل، وفاعل. {عَذَابَ الْحَرِيقِ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {ـنقول}. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {بِمَا} {الباء} حرف جر وسبب. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل البحر بالباء، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، والجملة الإسمية مستأنفة. {قَدَّمَتْ}: فعل ماض، وتاء تأنيث. {أَيْدِيكُمْ}: فاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما قدمته أيديكم {وَأَنَّ اللَّهَ}: الواو

عاطفة. {أَنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {لَيْسَ}: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. {بِظَلَّامٍ}: {الباء}: زائدة في خبر {لَيْسَ}. {بِظَلَّامٍ} خبر {لَيْسَ}: منصوب بفتحة مقدرة. {لِلْعَبِيدِ} جار ومجرور متعلق {بِظَلَّامٍ} وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر معطوف على {ما} في قوله {بِمَا قَدَّمَتْ} تقديره: ذلك العذاب كائن بسبب الذي قدمته أيديكم، وبسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد. {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ}. {الَّذِينَ} نعت (¬1) للذين في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}. فالسماع مسلط عليه، والتقدير: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ، أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره: أذم الذين قالوا إن الله عهد إلينا إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} إلى قوله {تَأكُلُهُ النَّارُ} مقول محكي لـ {قالوا}. وإن شئت قلت: {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسهما. {عَهِدَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {إِلَيْنَا} جار ومجرور متعلق بـ {عهد}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قالوا}. {أَلَّا نُؤْمِنَ} {أن} حرف نصب ومصدر، ويجوز أن تكتب أن مفصولة وموصولة، ومنهم من يحذفها في الخط اكتفاءً بالتشديد. قاله العكبري. {لا} نافية. {نُؤْمِنَ} منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على الكفار القائلين. {لِرَسُولٍ} جار ومجرور متعلق بـ {ـنُؤمِن} والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: بعدم إيماننا لرسول، والجار المحذوف متعلق بـ {عهد}. {حَتَّى يَأتِيَنَا} {حَتَّى} حرف جر وغاية بمعنى إلى {يأتي} فعل ¬

_ (¬1) الخازن.

مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى. بمعنى: إلى. و {نا} ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {رسول}. {بِقُرْبَانٍ} جار ومجرور متعلق بـ {يأتى}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى}، بمعنى إلى تقديره: إلى إتيانه إيانًا. {بِقُرْبَانٍ} الجار والمجرور متعلق بـ {نؤمن}. {تَأكُلُهُ النَّارُ} فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل البحر، صفة لـ {ـقربان} ولكنها صفة سببية. {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {قَدْ جَاءَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {قَدْ} حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ رُسُلٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل} {مِنْ قَبْلِي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {رسل}. {بِالْبَيِّنَاتِ} جار ومجرور متعلق بـ {جاء}. {وَبِالَّذِي} جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {بِالْبَيِّنَاتِ}. {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره، قلتموه، والخطاب في قوله {قَدْ جَاءَكُمْ} وبقوله: {قُلْتُمْ} وبقوله: {قَتَلْتُمُوهُمْ} وبقوله: {إِنْ كُنْتُمْ} لمن في عصر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان الفعل لأجدادهم، لرضاهم به. {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الفاء زائدة. {لم} {اللام} حرف جر. {م} اسم استفهام في محل الجر باللام مبني، بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة. الجار والمجرور متعلق بما بعده، أعني {قَتَلْتُمُوهُمْ}، {قَتَلْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل}. {إِنْ كُنْتُمْ} إن حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم {بإن} على كونه فعل شرط لها. {صَادِقِينَ} خبر {كان} وجواب {إن} معلوم ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين، فلم قتلتموهم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}.

{فإن} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت لهم يا محمَّد ما أمرتك به، وكذبوك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {إن كذبوك} {إن} حرف شرط جازم. {كَذَّبُوكَ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن على كونه فعلَ شرط لها، وجواب الشرط محذوف جوازًا دل عليه السياق تقديره: فاصبر، وتسل على تكذيبهم إياك، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فَقَدْ كُذِّبَ} {الفاء} تعليلية. {قد} حرف تحقيق. {كُذِّبَ رُسُلٌ} فعل ونائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور صفة لـ {رسل}، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما أمرتك يا محمَّد بالصبر على تكذيبهم لتكذيب رسل من قبلك، وصبرهم على إذاية قومهم. {جَاءُوا} فعل وفاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ} جار ومجرور متعلق بـ {جاؤوا}. {وَالزُّبُرِ} معطوف على البينات. وكذلك {والكتاب} معطوف عليه. {الْمُنِيرِ} صفة للكتاب، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {رُسُلٌ} وصح مجىء الحال منه لتخصصه بالصفة أعني الجار والمجرور، أو في محل الرفع صفة ثانية لـ {رسل}. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}. {كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ، ومضاف إليه. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} خبر ومضاف إليه، وإنما أُنث الخبر لاكتساب المبتدأ التأنيث من المضاف إليه والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} الواو استئنافية. {إنما} ما أداة حصر بمعنى {ما} النافية وإلّا المثبتة، والمعنى: وما توفون أجوركم إلا يوم القيامة. {تُوَفَّوْنَ} فعل مغير، ونائب فاعل. {أُجُورَكُمْ} مفعول ثان، ومضاف إليه، والمفعول الأول جعل نائبًا عن الفاعل، والأصل: وإنما يوفيكم الله. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {توفون}. {فَمَنْ زُحْزِحَ} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن توفية الأجور يوم

القيامة، وأردتم بيان من فاز فيه، ومن لم يفز .. فأقول لكم: من زحزح. {من زحزح} {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. {زُحْزِحَ} فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم، بـ {من} الشرطية، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}. {عَنِ النَّارِ} جار ومجرور متعلق بـ {زحزح}. {وَأُدْخِلَ} {الواو} عاطفة. {أدخل} فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على {زُحْزِحَ} على كونه فعل شرط لمن، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}. {الْجَنَّةَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {أدخل} أو منصوب على التوسع بإسقاط الخافض. {فَقَدْ فَازَ} {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بـ {قد}. {قد} حرف تحقيق. {فَازَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية. {الْحَيَاةُ} مبتدأ. {الدُّنْيَا} صفة له. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} إلا أداة استثناء مفرغ. {مَتَاعُ الْغُرُورِ} خبر، ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. {لَتُبْلَوُنَّ} {اللام} موطئة للقسم. {تبلون} فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وإنما أعرب مع اتصال نون التوكيد به لِعَدَمِ مباشَرَتِها له لفصلها عنه بضمير الفاعل، والواو ضمير لجماعة المذكور المخاطبين في محل الرفع نائب فاعل. و {نون التوكيد} الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وسيأتي الإعلال الجاري فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القمسم المحذوف مستأنفة {فِي أَمْوَالِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تبلون}. {وَأَنْفُسِكُمْ} معطوف على {أَمْوَالِكُمْ}. {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.

{وَلَتَسْمَعُنَّ} {الواو} عاطفة. و {اللام} موطئة للقسم. {تسمعن} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد في محل الرفع فاعل ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، والقسم المحذوف معطوف على جملة القسم المحذوف في قوله: {لَتُبْلَوُنَّ}. {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {تسمعن} {أُوتُوا الْكِتَابَ}. {أُوتُوا} فعل، ونائب فاعل. {الْكِتَابَ} مفعول ثان لـ {أوتوا} لأنه بمعنى أعطوا. {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أوتوا} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلَ لها من الإعراب. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}. {وَمِنَ الَّذِينَ} {الواو} عاطفة. {الَّذِينَ أُوتُوا} جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. {أَشْرَكُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَذًى} مفعول {تسمعن} منصوب بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين {كَثِيرًا} صفة لـ {أذى}. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. {وَإِنْ تَصْبِرُوا} الواو استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَصْبِرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {وَتَتَّقُوا} فعل وفاعل معطوف على {تَصْبِرُوا}. {فَإِنَّ ذَلِكَ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية. {إن} حرف نصب وتوكيد. {ذَلِكَ} في محل النصب اسمها. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} جار ومجرور، ومضاف إليه وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل: فإن ذلك من الأمور المعزومة؛ أي: المفروضة. الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {إن}، وجملة إن في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}.

{وَإِذْ أَخَذَ} الواو استئنافية. {إذ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد قصة إذا أخذ الله. {أَخَذَ اللَّهُ} فعل وفاعل. {مِيثَاقَ الَّذِينَ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والتقدير: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة وقت أخذ الله ميثاق الذين {أُوتُوا الْكِتَابَ}. {أُوتُوا} فعل ونائب فاعل. {الْكِتَابَ} مفعول ثان لـ {أوتوا} والجملة صلة الموصول. {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} {اللام} واقعة في جواب قسم دل عليه أخذ الميثاق؛ لأن الميثاق العهد المؤكد باليمين، تقديره: وعزتي وجلالي لتبيننه للناس. {تبينن} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل؛ لأن أصله لتبينوننه كما سيأتي لك في بحث التصريف إن شاء الله تعالى. و {الهاء} ضمير الغائب في محل النصب مفعول به. {لِلنَّاسِ} جار ومجرور متعلق بـ {تبينن}، والجملة الفعلية جواب للقسم المقدر لا محلَ لها من الإعراب، وجملة القسم المقدر جملة معترضة لا محلَ لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} الواو عاطفة. {لا} نافية. {تَكْتُمُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَتُبَيِّنُنَّهُ} على كونها جوابَ القسم المقدر. {فَنَبَذُوهُ} {الفاء} عاطفة. {نبذوه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ} على كونها مضافًا إليه. {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} {وَرَاءَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {نبذوه}، وهو مضاف. {ظهور} مضاف إليه {ظهور} مضاف. و {الهاء} ضمير الغائبين في محل الجر مضاف إليه. {وَاشْتَرَوْا بِهِ} الواو عاطفة. {وَاشْتَرَوْا} فعل وفاعل. {بِهِ} متعلق به. {ثَمَنًا} مفعول به لـ {اشتروا}. {قَلِيلًا} صفة لـ {ثمنا} والجملة معطوفة على جملة {نبذوه}. {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} {فَبِئْسَ} {الفاء} استئنافية. {بئس} فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه، وجوبًا لشبهه بالمثل تقديره: هو يعود على الثمن القليل. {ما} نكرة موصوفة في محل النصب تمييز لفاعل {بئس}. {يَشْتَرُونَ} فعل وفاعل، والجملة صفة لما، والرابط محذوف، تقديره: فبئس هو أي ذلك

الثمن شيئًا يشترونه. وجملة {بئس} في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا، تقديره: فبئس شيئًا يشترونه، هو، أي: ذلك الثمن، والجملة الإسمية مستأنفة، ويحتمل كون {مَا} مصدرية، وجملة {يَشْتَرُونَ} صلتها، و {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لبئس تقديره: فبئس شراؤهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: شراؤهم هذا. {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}. {لَا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ} فعل مضارع. في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت: يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة الفعلية مستأنفة. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {حسب} والثاني: محذوف دل عليه قوله الآتي {بِمَفَازَةٍ}؛ تقديره: لا تحسبن الذين يفرحون فائزين ناجينَ من العذاب {يَفْرَحُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَفْرَحُونَ}. {أَتَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما أتوه، وفعلوه. {وَيُحِبُّونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَفْرَحُونَ} على كونها صلة الموصول. {أَنْ يُحْمَدُوا} {أن} حرف مصدر. {يُحْمَدُوا} فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة صلة {أن} المصدرية و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويحبون حمد الناس إياهم. {بما} جار ومجرور متعلق بـ {يُحْمَدُوا}. {لَمْ يَفْعَلُوا} فعل وفاعل وجازم، والجملة صلة لـ {ما} أو صلة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: بما لم يفعلوه. {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} {الفاء} زائدة. {لا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّهُمْ} فعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {بِمَفَازَةٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان لـ {حسب} تقديره: فلا تحسبنهم كائنين بمنجى من العذاب، والجملة الفعلية

مؤكدة لجملة حسب الأولى. {مِنَ الْعَذَابِ} جار ومجرور صفة لـ {مفازة}. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {الواو} عاطفة. {لهم} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {تحسبن} الأولى، وهنا أوجه كثيرة من الإعراب، تتعدد بتعدد القراءات، أعرضنا عنها صفحًا؛ لئلا يطول الكلام، وفيما ذكرنا كفاية لمن له عناية. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}. {وَلِلَّهِ} {الواو} استئنافية. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مُلْكُ} مبتدأ مؤخر. {السَّمَاوَاتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات والجملة الإسمية مستأنفة {وَاللَّهُ} الواو عاطفة. {الله} مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} وهو خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} يقال: ذاق الطعام، إذا أدرك طعمه من حلاوة، أو حموضة، أو مرارة. وأصل الذوق: وجود الطعم في الفم، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات. {الْحَرِيقِ} المحرق، فهو فعيل بمعنى: مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، وإضافة العذاب إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع. {بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بذي ظلم، فـ {ظلام} من صيغ النسب على حد قول ابن مالك: ومع فاعل وفعال وفعل ... في نسب أغنى عن اليا فقبل {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} يقال: عهد إليه بكذا، إذا أمره به، وأوصاه إليه. {بِقُرْبَانٍ} و {القربان}: مصدر بمعنى اسم المفعول، وهو ما يتقرب به إلى الله من حيوان، ونقد، وغيرهما. {وَالزُّبُرِ} جمع زبور (¬1) كرسول ورسل، وهو ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الكتاب مأخوذ من الزبر، وهو الكتابة يقال: زبرت بكذا إذا كتبته، فالزبور فعول بمعنى مفعول؛ أي: مزبور بمعنى مكتوب، كالركوب بمعنى المركوب، وقال امرؤ القيس: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... كَخَطِّ زَبُوْرٍ في عَسِيْبٍ يَمَانِ ويقال: زبرته إذا قرأته، وزبرته إذا حسنته، وتزبرته إذا زجرته، وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة. وقيل: أصله (¬1) من الزبر بمعنى الزجر، وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورًا؛ لأنه يزبر أي يزجر عن الباطل ويدعو إلى الحق. وفي المختار الزبرُ الزجرُ والانتهار، وبابه نَصَر والزبرُ أيضًا الكتابة، وبابه ضرب انتهى. {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}؛ أي: الواضح المعنى من أنار الشيء إذا وضح. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} تطلق النفس على الروح، وعلى مجموع الجسد، والروح الذي هو الحيوان، وهذا المعنى الثاني هو الأقرب المتبادر هنا. وفي المختار: النفس الروح، يقال: خرجت نفسه، والنفس الجسد، ويقولون: ثلاثة أنفس فيذكرونه لأنهم يريدون به الإنسان انتهى. وفي المصباح أن النفس تطلق على جملة الحيوان والنفس إن أريد بها الروح تؤنث وإن أريد بها الشخص تذكر انتهى. والموت أمر وجودي يضاد الحياة. {فَمَنْ زُحْزِحَ} الزحزحة الإبعاد والتنحية وهو من ملحق الرباعي على وزن فعلل أصله من الزح وهو الجذب بعجلة {فَقَدْ فَازَ} يقال: فاز فوزًا من باب قال إذا ظفر، والفوز: النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {الْحَيَاةُ} العيش، وهي المعيشة. والمعيشة: كسب الإنسان، وتحصيله ما يعيش به من مطعم ومشرب وملبس وغيرها. {الدُّنْيَا}: بمعنى القربى، وهي صفة مؤنث مذكره أدنى؛ لأنه من دنا يدنو دنوًا فهو أدنى، وهي دنيا بوزن فعلى. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} والمتاع: كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره، وفي "السمين" يجوز أن يكون الغرور فعولًا بمعنى مفعول؛ أي: متاع ¬

_ (¬1) الخازن.

المغرور؛ أي: المخدوع. وأصل الغرور الخِداع انتهى. والغرور في الأصل: إما مصدر غره يغره غرورًا إذا خدعه، وإما جمع غار. {لَتُبْلَوُنَّ} أصله لتبلوونن بواوين أولاهما لام الكلمة؛ لأنه من بلا يبلو من باب غزا، وثانيهما: واو الضمير فحذفت النون الأولى التي هي علامة الرفع، لتوالي الأمثال مع نون التوكيد، وتحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة، وانفتح ما قبلَها، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، الألف وواو الضمير، فحذفت الألف لئلا يلتقيَ ساكنان، وضمت الواو دلالةً على المحذوف، وإن شئت قلت استثقلت الضمة على الواو الأولى، فحذفت فالتقى ساكنان، وهما: الواوان فحذفت الواو الأولى، وحركت الواو الثانية التي هي واو الضمير بحرة مجانسة دلالةً على المحذوف، فعلم من مجموع هذين التصريفين: أن الواوَ المحذوفةَ هي لام الكلمة، وأن هذه الواوَ الموجودةَ هي ضمير الجمع، وهي نائب الفاعل. {وَلَتَسْمَعُنَّ} أصله لتسمعونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الضمير لالتقاء الساكنين مع نون التوكيد {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} والصبر تلقي المكروه بالاحتمال، وكظم النفس عليه مع دفعه بروية، ومقاومة ما يحدث من الجزع، والتقوى الابتعاد عن المعاصي {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مأخوذ من قولهم: عزمت عليك أن تفعل كذا؛ أي: ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: المعزوم عليه بمعنى أنه يجب العزم عليه، والتصميم للقلب عليه، وأصله ثبات في الرأي على الشيء إلى إمضائه {مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الميثاق العهد المؤكد باليمين، وأصله: موثاق قلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة؛ لأنه من وثق يثق وثوقًا وميثاقًا {بِمَفَازَةٍ} المفازة المفعلة من فَازَ بمعنى مكان الفوز؛ أي: النجاة من المكروه، وأصلها مفوزة تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن، فقلبت ألفًا فصار مفازةً. {لله ملك} الملك بضم الميم ما يملكه الإنسان، ويتصرف به، والعظمة، والسلطَة يجمع على أملاك، وملوك.

البلاغة {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} أكدت اليهود الجملة التي نسبوها إلى الله بـ {إن} واسمية الجملة، مبالغةً في نسبة الفقر إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ولم يؤكدوا في الجملة التي نسبوها إلى أنفسهم، كأنهم خرجوا تلك الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد، كان الغنى وصف لازم لهم، لا يمكن فيه نزاع فيحتاج إلى تأكيد، وهذا دليل على تعنتهم وتعمقهم في الكفر والطغيان. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} فيه مجاز عقلي من الإسناد إلى الآمر، لأنه تعالى لا يكتب ذلك بنفسه، بل يأمر الملائكة بالكتابة. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل لعلاقة الجزئية. {تَأكُلُهُ النَّارُ} فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبه الإحراق بالأكل، لأن الأكل إنما يكون في الإنسان والحيوان. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فيه استعارة تبعية؛ لأن حقيقة الذوق ما يكون بحاسة اللسان. {مَتَاعُ الْغُرُورِ} قال الزمخشري: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغر به حتى يشتريه، والشيطان هو المدلس الغرور فهو من باب الاستعارة. {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} فيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأنه شبَّه عدمَ التمسك، والعمل به، بإلقاء شيء مرمي خَلْفَ ظهر الإنسان. وفي "الفتوحات" نَبَذَ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية، وشبه أيضًا أخذ عوض حقير من حطام الدنيا على كتم آيات الله باشتراء ثمنٍ قليلٍ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. وقال أبو حيان (¬1): لقد تضمنت هذه الآياتُ من ضروب الفصاحة والبلاغة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والمحسنات البديعية: منها: التجنيس المغاير في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {قَالُوا}، و {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} و {كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ}. ومنها: الطباق في قوله: {فَقِيرٌ} و {أَغْنِيَاءُ}، و {الْمَوْتِ} و {الْحَيَاةُ} و {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ}. ومنها: الالتفات في قوله: {سَنَكْتُبُ} و {نَقُوْل} و {أجوركم}، إذ تقدمه كل نفس. ومنها: التكرار في لفظ الجلالة، وفي البينات. ومنها: الاستعارة في قوله: {سَنَكْتُبُ} على قول من لم يجعل الكتابة حقيقةً، {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} و {تَأكُلُهُ النَّارُ}، {وذوقوا} {وذائقة}. ومنها: المذهب الكلامي في قوله: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {أيديكم}. ومنها: الإشارة في قوله: {ذلك} والشرط المتجوز فيه. ومنها: الزيادة للتوكيد في قوله: {بالزبر} و {بالكتاب} في قراءة من قرأ كذلك. ومنها: الحذف في مواضع انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه تعالى لما ذكر أنه مالك السموات والأرض، وذكر قدرتَه، ذكرَ أن في خلقهما دلالات واضحةً لذوي العقول. قال الرازي: واعلم أنه لما كان المقصود من هذا الكتاب الكريم جَذبَ القلوب، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الإله الحق، وطال الكلامُ في تقرير الكلام، والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثَارةٍ ¬

_ (¬1) لباب النقول.

القلوب بذكر ما يدلُّ على التوحيد، والألوهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية. وأيضًا في ختم هذه السورة بهذه الآية مناسبة لمبدئها؛ لأنه سبحانه وتعالى لمَّا بَدأَ هذه السورةَ الكريمة بذكر أدلة التوحيد، والألوهية، والنبوة .. خَتَمَها بذكر دلائل الوحدانية، والقدرة ودلائل الخلق، والإيجاد؛ ليستدل منها الإنسان على البعث والنشور، فكان ختامها مسكًا، كابتدائها، فيتأمل الإنسان في كتاب الله المنظور - الكون الفسيح - بعد أن تأمل في كتاب الله المسطور القرآن العظيم. قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)}. مناسبتها لما قبلها: أنه لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في غاية الفقر، والشدة، والكفار كانوا في رخاء ولَيْنِ عيش ذَكر في هذه الآية ما يسليهم، ويصبرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارةَ ما أُوتيَ هؤلاء من حظوظ الدنيا، وذَكَر أنها متاعٌ قليل زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم، قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوالَ الكفار وأحوالَ أهل الكتاب، وأن مصيرهم إلى النار، ذَكَرَ حَالَ من آمن من أهل الكتابِ، وأنَّ مصيرَهم إلى الجنة فقال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهودَ فقالوا بمَ جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا، فدعا ربَّه فنزلت الآية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} والمعنى: تفكروا واعتبروا أيها الناس: فيما خلقته وأنشأته من

السموات، والأرض لمعاشكم، وأرزاقكم. قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ...} الآية (¬1)، سبب نزولها: ما أخرجه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والترمذي والحاكم، وابن أبي حاتم، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله: لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ...} إلى آخر الآية. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما روى النسائي عن أنسٍ قال: لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صلوا عليه، فقالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي، فأنزل الله عز وجل {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...} الآية. وروى ابن جرير نَحوه عن جابر. وفي المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي هذه الآية {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وقيل (¬2): نزلت في أربعين رجلًا من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه الذين آمنوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب، وهذا القول أولى وأشمل. قوله تعالى (¬3): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ...} أخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أما إنه لم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجدَ، يصلون الصلوات في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في "الصحيح" وغيره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[190]

إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". التفسير وأوجه القراءة 190 - {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}؛ أي: إن فيما خلقَ في السموات من الملائكة، والشمس والقمر، والنجوم، والسحاب {و} فيما خلق في {الأرض} من الجبال، والبحور، والشجر، والدواب، هذا إن جعلنا {خَلْقِ} مصدرًا بمعنى اسم المفعول، والمعنى: إن في مخلوقات السموات، والأرض، ويصح إبقاؤه على مصدريته، والمعنى حينئذ: إن في إيجاد السموات والأرض، وإنشائهما على ما هما عليه في ذواتهما، وصفاتهما من إبداع لأحكام، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)} وبالجملة: فَفِيْ كُلِّ شَيءٍ لَه آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ {و} في {اختلاف الليل والنهار} وتعاقبهما في وجه الأرض بكون كل منهما خلفة عن الآخر، بمجيء الليل عقبَ النهار، والنهار عقبَ الليل، فليس أحد يقدر على الإتيان بالليل في النهار، ولا العكس أو في اختلافهما بزيادة أحدهما بقدر ما نَقَصَ من الآخر بحسب اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربًا، وبعدًا {لَآيَاتٍ} واضحةً وبراهينَ قطعيةً ودلالات دالة على وجوده تعالى، وباهر قدرته، ووحدانيته، وعظيم علمه، وسلطانه. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة الخالصة عن شوائب النقص الذين (¬1) خلص عقلهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فيرون أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر؛ لأنَّ جوهرًا ما لا ينفك عن عرض حادثٍ؛ وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، ثم حدوثها يدل على محدثها، وذا قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى، وحسن ¬

_ (¬1) النسفي.

[191]

صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها". 191 - قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} نعت {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ويجوز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب، بتقدير أمدح مثلًا؛ أي: أولو الألباب هم الذين يكررون ذكر الله من التهليل، والتسبيح، والتحميد، مثلًا بألسنتهم، ويستحضرون عظمة الله في قلوبهم، ويتذاكرون حكمته وفضله وجليلَ نعمه في جميع أحوالهم في حال كونهم {قِيَامًا}؛ أي: قائمين {و} في حال كونهم {قعودًا}؛ أي: قاعدين، {و} في حال كونهم مضطجعين {على جنوبهم} جمع جنب ومستلقين على ظهورهم. والخلاصة: أنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته. وفي الحديث "من أحب أن يرتعَ في رياض الجنة، فليكثر ذكرَ الله". وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في كل أحيانه". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترةً، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه من الله ترة". أخرجه أبو داود. والترة: النقص، وقيل: هي هنا: التبعة. وقال (¬1) علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وقتادة: هذا في الصلاة؛ يعني هم الذين يصلون قيامًا، فإن عجزوا فقعودًا، فإن عجزوا .. فعلى جنوبهم، والمعنى: أنهم لا يتركون الصلاةَ في حال من الأحوال، بل يصلون في كل حال، ويدومون عليها. وأخرج البخاري عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي ¬

_ (¬1) الخازن.

بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". وأخرجه الترمذي، وقال فيه: سألته عن صلاة المريض، وذكر نحوه. وذكر الله وحده لا يكفي في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه، وأسرار خليقته، ومن ثمَ قال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معطوف على قوله: {يَذْكُرُونَ}. وأصل الفكر: إعمالُ الخاطر في الشيء، وتردد القلب في ذلك الشيء، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكُّر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب، ولهذا قيل: تفكروا في ألاء الله، ولا تفكروا في ذات الله تعالى، إذ الله منزه أن يوصف بصورة؛ أي: ويتفكرون إستدلالًا، واعتبارًا في بديع صنعهما، وإتقانهما، مع عِظَمِ أجرامهما، وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته، وغرائب مبتدعاته، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، ويعلموا أن لهما خالقًا، قادرًا، مدبرًا، حكيمًا؛ لأن عظم آثاره، وأفعاله، تدل على عظم خالقه سبحانه وتعالى. وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ وإنما ذَكَر (¬1) التفكرَ في خلق الله؛ لورود النهي عن التفكر في الخالق؛ لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته، وصفاته، فقد أخرج الأصبهاني، عن عبد الله بن سلام، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وهم يتفكرون، فقال: "تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق". وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تفكروا في آلاءِ الله، ولا تفكروا في الله تعالى". وقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} هو على تقدير القول؛ أي: يقولُ الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية، والأرضية باطلًا، ولا أبدعته عبثًا سبحانك رَبَّنا، تنزهت عن ¬

_ (¬1) المراغي.

الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكَم جليلةٍ، ومصالحَ عظيمة، والإنسان بعض خلقك، لم يخلق عبثًا، فإن لحقه الفناءُ، وتفرقت منه الأجزاء بعد مفارقة الأرواح للأبدان. فإنما يهلك منه كونه الفاسدَ؛ أي: الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعَكَ، واهتدى، وفريقٌ حقت عليه الضلالة، فالأول يدخل الجنة؛ بصالح أعماله، والآخر يكب في النار، بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات جزاءً وفاقًا. وقيل معناه (¬1): ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلينَ {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {مَا خَلَقْتَ}، وأوجدت {هَذَا} الخلق، وأخرجته إلى الوجود من العدم {بَاطِلًا} وعبثًا ضائعًا بلا حكمة بل خلقتَهُ دليلًا على وحدانيتك، وكمال قدرتك {سُبْحَانَكَ}؛ أي: تنزيهًا لك عن أن تخلق شيئًا عبثًا لغير حكمة، وهو اعتراض، وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء (¬2) دخلت فيه لمعنى الجزاء، تقديره: إذا نزهناك. فقنا عذاب النار؛ لأنه جزاء من عصى، ولم يُطع، والمعنى: فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل، حتى يكون ذلك وقايةً لنا من عذاب النار. والمقصود من قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} تعليم عباده كيفيةَ الدعاء، فمن أراد أن يدعو .. فليقدم الثناء على الله أولًا، ويدل عليه قوله: {سُبْحَانَكَ}، وبعد ذلك الثناء يأتي بالدعاء، ويدل عليه قوله: {فَقِنَا} {عَذَابَ النَّارِ}. واعلم (¬3): أنه تعالى لما حَكَى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله ... وأبدانَهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله؛ ذكَر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهَم عذاب النار؛ لأنه يجوز على الله تعذيبهم؛ لأنه لا يقبحُ من الله شيء أصلًا. واعلم (¬4): أن دلائلَ التوحيد في خلق هذا العالم محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائلُ الأنفس، ولا شك أن دَلائل الآفاق أعظمُ وأعجب، فلو أن الإنسان نظَر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة. رأى في تلك الورقة عرقًا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النسفي. (¬3) مراح. (¬4) مراح.

واحدًا ممتدًا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق، عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصرُ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكمًا بالغة، وأسرارًا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة .. لعجز، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقةَ الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمسِ، والقمر، والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار، والجبال، والمعادن، والنبات والحيوان .. عَرفَ أن تلك الورقةَ بالنسبة إلى هذه الأشياءِ كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير .. عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله .. لم يبقَ معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل من أن يحيط به، وصف الواصفين، ومعارف العارفين، بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكمًا بالغةً، وأسرارًا عظيمةً، ولا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} الخلق العجيب {بَاطِلًا}؛ أي: بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكنَ للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك، وتحرزوا عن معصيتك، ومدارًا لمعايش العباد، ومنارًا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد {سُبْحَانَكَ} وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة، بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض؛ أي: إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة. لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالِقَها ما خلقَها باطلًا، بل خلقها لحكم عجيبةٍ، وأسرار عظيمةٍ، وإن كانت العقول قاصرةً عن معرفتها {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} للإخلال (¬1) بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه، وفائدة هذه الفاء: هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقتَ السموات والأرض، حملهم على الاستعاذة. ثم إنهم بعد أن يدعو ربهم أن يقيهم دخولَ النار يتوجهون إليه قائلين: ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[192]

192 - {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وأهنته بيانًا للسبب الذي حملهم على دعائه، بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار .. فقد أخزاه؛ أي: أذله، وأهانه غايةَ الإذلال، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: الكافرين {مِنْ أَنْصَارٍ} يمنعونهم من عذاب الله تعالى. والظالم: هو الذي يتنكب الطريقَ المستقيم، وقد وصف الله سبحانه وتعالى من يدخل النار بالظلم؛ للدلالة على أن سبب دخوله إياها: هو جوره، وظلمه، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح؛ أي: إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين، ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار، والحكم، فيعلمون أنه لا يمكن أحدًا أن ينتصر عليه، وأن من عاداه. فلا ملجأ له إلا إليه، ويقولون: 193 - {رَبَّنَا}؛ أي: يا مالك أمرنا {إِنَّنَا سَمِعْنَا}، وأصغينا {مُنَادِيًا}؛ أي: نداء مناد {يُنَادِي}، ويدعو {لِلْإِيمَانِ}؛ أي: إلى الإيمان والتوحيد {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ}؛ أي: ينادي بأن آمنوا وصدقوا، ووحدوا بمتولي أموركم، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه {فَآمَنَّا}؛ أي: سمعنا نداءه فأجبناه، وصدقناه، واتبعناه فيما دعانا إليه من التوحيد والطاعة. قال ابن عباس (¬1) وأكثر المفسرين: المنادي هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ويدل على صحة هذا القول. قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} وقوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} قال محمَّد بن كعب القرظي: المنادي هو القرآن، قال: إذ ليس كل أحد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووجه هذا القول أنَّ كل أحد يسمع القرآن، ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به. فقد فاز به، وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد، والهدى، وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها. وفي توطئة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم، وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة، والابتهال إلى من عودهم الإحسانَ والأفضالَ. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ}؛ أي: فاستر لنا {ذُنُوبَنَا} الكبائرَ، أو الماضية، ولا تفضحنا ¬

_ (¬1) الخازن.

[194]

بها {وَكَفِّرْ}؛ أي: وغط وامح بفضلك ورحمتك {عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} الصغائر، أو المستقبلة. وقيل: المراد (¬1) بالأول ما يزول بالتوبة، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة، وقيل: المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصيةً، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك. والظاهر (¬2): عدمُ اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدًا، والتكرير للمبالغة، والتأكيد كما أن معنى الغفر، والتكفير واحد. والغفران: الستر، والتغطية، يقال: رجل مكفر بالسلاح؛ أي: مغطى به، قال لبيد: في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُوْمَ ظَلاَمُهَا وكذلك التكفير معناه الستر، فهما بمعنى واحد، وإنما ذكرَهما للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ في الدعاء، والمبالغةَ فيه مندوب إليه، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}؛ أي: أمتنا مصاحبين وملتبسينَ بأعمال الأبرار والأخيار المتمسكين بالسنة والطريقة المستقيمة من الأنبياء، والمرسلين، والصديقين، والصالحين، حتى نكون في درجاتهم يوم القيامة، أو المعنى: وتوفنا على الإيمان، واجمعنا مع أرواح النبيينَ والصالحين. والحاصل: أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثةَ أشياء: غفرانَ الذنوب المتقدمة، وتكفيرَ السيئات المستقبلة، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار؛ بأن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، كما يقال: فلان في العطاء مع أصحاب الألوف؛ أي: هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفًا، قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} وفي هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله. أحب الله لقاءَه. 194 - {رَبَّنَا وَآتِنَا}؛ أي: أعطنا {مَا وَعَدْتَنَا} من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا، والنعيم في الآخرة جزاءً {عَلَى} تصديق {رُسُلِكَ} واتباعهم، فالجار والمجرور، إمَّا متعلق بوعدتنا؛ أي: وعدتنا على تصديق رسلك، أو متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف مؤكد للعامل، تقديره: وعدتنا وعدًا كائنًا على ألسنة رسلك. ¬

_ (¬1) المرح. (¬2) الشوكاني.

وخلاصة ذلك (¬1): أنهم قالوا: أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق به ذلك، إلى أن تتوفانا مع الأبرار. وفي هذا استشعار بتقصيرهم، وعدم الثقة بثباتهم، إلا بتوفيق الله، ومزيد عنايته. وقرأ الأعمش على {رسْلك} بإسكان السين. {وَلَا تُخْزِنَا}؛ أي: لا تهنا، ولا تفضحنا، ولا تهتك سترنا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بإدخالنا النارَ التي يخزى من دخلها، {إِنَّكَ} يا إلهي {لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}؛ أي: لا تخلف ما وعدتَ به على الإيمان، وصالح العمل، فقد وعدتَ المؤمنين بسيادة الدنيا في قولك: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} وقلت: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ووعدت بسعادة الآخرة، فقلت: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. فإن قلتَ (¬2): كيف سألوا الله إنجازَ ما وَعَد، والله لا يخلف الميعاد؟ قلتُ: معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيقَ فيما يحفظ عليهم أسبابَ إنجاز الميعاد، وقيل: هو من باب اللجاء إلى الله تعالى، والتذلل له، وإظهار الخضوع والعبودية؛ كما أن الأنبياء عليهم الصلاة واللام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذللَ لربهم سبحانه وتعالى، والتضرعَ إليه، واللجاء إليه، الذي هو سيما العبودية. وقيل: معناه ربنا، واجعلنا ممن يستحق ثوابكَ، وتؤتيهم ما وعدتَهم على ألسنة رسلك؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقَهم لتلك الكرامة؛ فسألوه أن يجعلَهم مستحقين لها. وقيل: إنما سألوه تعجيلَ ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صَبْرَ لنا على حلمِك فعجل هلاكهم، وأنصرنا عليهم. قال العلماء (¬3): ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر آيات، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت ذلك في "الصحيحين"، وغيرهما ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل. وفي الآثار عن جعفر الصادق: من حزبه أمرٌ فقال: ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

[195]

أراد، 195 - بهذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}؛ أي: أجاب لهم ربهم سبحانه وتعالى دَعاءهم بـ {أَنِّي لَا أُضِيعُ}، ولا أبطل، ولا أحبط {عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، سواء كان ذلك العامل {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بل أثيبكم على ما فعلتم من الخيرات؛ فلا تفاوت في الإجابة، وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا في التمسك بالسنة والعمل بالطاعة على السواء {بَعْضُكُمْ} أيها المؤمنون والمؤمنات {مِنْ بَعْضٍ}؛ أي: كبعض في الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية؛ لأن تكليفي عام لكل من النوعين. وقيلَ: بعضُكم من بعض في الدين، والنصرة، والموالاة. وقيل: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، فكلكم من آدَمَ وحواء. وهذه الجملة معترضة، بيَّن الله سبحانه وتعالى بها شركةَ النساءَ الرجالَ فيما وعده الله عبادَه العاملين. وقرأ الجمهور (¬1) {أَنِّي} بفتح الهمزة، وإسقاط الباءِ، أي: بأني، وهو مطرد إذا أمن اللبس كما قال ابن مالك: نَقْلًا وَفِيْ أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ ... مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوْا وقرأ أبي {بأنى} بإثبات الباء، وهي للسببية؛ أي: فاستجاب لهم ربهم؛ بسبب أنه لا يضيع عملَ عامل منهم، والمراد بالإضاعة تركُ الإثابة، وقرأ عيسى بن عمر {إنِّي} بكسر الهمزة، فيكون على إضمار القول على قول البصريين، أو على الحكاية بقوله: {فَاسْتَجَابَ} لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين. وقرأ الجمهور {أُضِيعُ} من أضاع الرباعي، وقرأ بعضهم {أُضِيعُ} بالتشديد من ضيع المضعف، والهمزة، والتشديد فيه: للنقل. ويستنبط من هذه الآية أمور كثيرة: منها: أن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلبَ، فقد سألوه غفرانَ الذنوب وتكفيرَ السيئات، والوفاةَ مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفَى جزاءَ ¬

_ (¬1) المراغي.

عمله، وفي ذلك تنبيه على أن العبرةَ في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب إنما تكون لإحسان العمل، والإخلاص فيه. ومنها: أن الذكر والأنثى متساويان عند الله في الجزاء متى تساويَا في العمل، حتى لا يغتر الرجل بقوته، ورياسته على المرأة، فيظن أنه أقربُ إلى الله منها. ومنها: أن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله: بعضكم من بعض، فالرجل مولود من المرأة، والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما في البشرية، ولا تفاضل إلا بالأعمال. ومنها: أنها رفعَتْ قَدْر النساء المسلمات في أنفسهن، وعند الرجال المسلمين. ومنها: أن هذا التشريع قد أصلح معاملةَ الرجل للمرأة، واعترَفَ لها بالكرامة، وأنكرَ تلك المعاملةَ القاسيةَ التي كانت تعاملها بها بعض الأمم، فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضُها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة، ومساواتها للرجل؛ ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإِسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينيةُ، والمدنية يتميز الرجل من المرأة، نعم إن المسلمين قصروا في تعليم النساء، وتربيتهن، لكن هذا لا يصلح حجةً على الدين نفسه. ومنها: أن ما يفضل به الرجالُ النساء من العلم والعقل، وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل في الإرث مثلَ حظ الانثيين؛ لأنه يتحمل نفقة امرأته؛ فلا دخل لشيء منه في التفاضل عند الله بثواب ولا عقاب. ثم فصل الله سبحانه وتعالى العملَ الذي أجمله في قوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} بقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وارتحلوا معه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده من مكة إلى

المدينة، وفارقوا أوطانَهم التي ولدوا فيها طلبًا لرضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}؛ أي: ألجأهم الكفار إلى الخروج من منازلهم التي تربوا فيها {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} وديني، وطاعتي؛ أي: آذاهم وأضرهم المشركون بسبب إيمانهم باللهِ، وعملهم بما شرعه الله تعالى لعباده، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة، فهاجر طائفة إلى الحبشة، وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد هجرته. فلما استقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين {وَقَاتَلُوا} الكفار أعداءَ الله، وجاهدوهم لإعلاء كلمة الله، ونصر دينه مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَقُتِلُوا} بالبناء للمفعول؛ أي: واستشهدوا في جهاد الكفار. وقرأ (¬1) جمهورُ السبعة {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} وقرأ حمزة، والكسائي {وقتلوا وقاتلوا} يبدآنِ بالمبني للمفعول، ثم بالمبني للفاعل فتتخرَج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب، فيكون الثاني وقع أولًا، ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع، فالمعنى قتل بعضهم، وقاتل باقيهم. وقرأ عمر بن عبد العزيز {وقتلوا وقتلوا} ببناء الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وهي قراءة حسنة في المعنى مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار {وقتلوا} بفتح القاف {وقاتلوا} وقرأ طلحة بن مصرف {وقتلوا وقاتلوا} بضم القاف الأولى، وتشديد التاء، وهي في التخريج كالقراءة الأولى. وقرأ أبو رجاء والحسن {وقاتلوا وقتلوا} بتشديد التاء، والبناء للمفعول؛ أي: قطعوا في المعركة. واللام في قوله {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه خبر عن قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا}؛ أي: لأمحون عنهم ذنوبهم، ولأغفرنها لهم؛ أي: وعزتي وجلالي، لأسترن ذنوبَ هؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة بمحض فضلي {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ} وبساتينَ {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ}؛ أي: أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[196]

لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. وقوله {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مصدر مؤكد لمعنى قوله: {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} والمعنى: ولأثيبن هؤلاء المذكورين بالثواب المذكور إثابةً كائنةً من عند الله؛ أي: من فضل الله وإحسانه إليهم، لا وجوبًا عليه {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}؛ أي: الثواب الحسن، والجزاء الموفر، وهي الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعَت، ولا خطرَ على قلب بشر، وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله، وكرمه؛ لأنه جواد كريم. وقد وعد (¬1) الله تعالى هؤلاء الموصوفينَ بالصفات السابقة بأمور ثلاثة: الأول: هو السيئات، وغفران الذنوب، ودل على ذلك بقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} وذلك ما طلبوه بقولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}. الثاني: إعطاء الثواب العظيم، وهو قوله: {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وهذا ما طلبوه بقولهم {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}. والثالث: أن يكون هذا الثواب عظيمًا مقرونًا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وهذا ما طلبوه بقولهم، {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. والمعنى: لأكفرن عنهم سيئاتهم، ولأدخلنهم الجنات، ولأثيبنهم بذلك ثوابًا من الله لا يقدر عليه غيره. ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، والسعة، والتمتع، والتقلب في البلاد في أسفارهم للتجارة، والمكاسب، ونحن في الجهد، والضيق، والفقر، والجوع .. 196 - نزل قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ}، والخطاب فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره من الأمة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن الاغترار بذلك، والمعنى: لا يخدَعَنَك، ولا يغرنك أيها المخاطب {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: تنقلهم وضَرْبهُم في البلاد، وأرجاء الأرض، وأَمْنهم في تقلباتهم للتجارات، وطلب الأرباح، والمكاسب وتَبسُّطهم في المعاش والملاذ. وخلاصة المعنى: لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم {فِي الْبِلَادِ} كيف ¬

_ (¬1) المراغي.

[197]

شاؤوا، وأنتم معاشرَ المؤمنين خائفون محصورون، فإنَّ ذلك لا يبقى إلا مدةً قليلة، ثم ينتقلون إلى أشدِّ العذاب؛ فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله، فهو النعيم الحقيقي الباقي. 197 - وقرأ (¬1) ابن أبي إسحاق، ويعقوب لا يغرنك، ولا يصدنك، ولا يصدنكم، ولا يغرنكم، وشبهه بالنون الخفيفة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} خبر لمحذوف تقديره؛ ذلك التقلب، والتبسط شيء قليل، متعوا به، ومنفعة يسيرة زائلة، لا تدوم لا قدرَ لها في مقابلة ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليم، فلينظر بم يَرجع". رواه مسلم. {ثُمَّ مَأوَاهُمْ}؛ أي: ثم المكان الذي يأوون إليه، وينزلون فيه إنما هو {جَهَنَّمُ}، وعبر بالمأوى إشعارًا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها، وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لم أماكن انتقال من مكان إلى مكان لا قرارَ لهم، ولا خلودَ، ثم المأوى الذي يأوون إليه، ويستقرون فيه هو جهنم {وَبِئْسَ} وقبح {الْمِهَادُ} والفراش لهم، والمخصوص بالذم جهنم 198 - {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} لما تضمن (¬2) ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد، هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلة ما متعوا به؛ لأن ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودل على استقرارهم في النار .. استدركَ بلكن الإخبارَ عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان: أحدهما: مكان استقرار، وهي الجنات. والثاني: ذكر الخلود فيها، وهو الإقامة دائمًا، والتمتع بنعيمها سرمدًا فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود. الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع؛ لأنه آل معنى الجملتين إلى تعذيب الكفار، وإلى تنعيم المتقين فهي واقعة بين الضدين. وقرأ الجمهور {لكن} خفيفةَ النون، وقرأ أبو جعفر بالتشديد، ولم يظهر لها عمل؛ لأن اسمها مبني؛ أي: لكن المؤمنون ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[199]

الذين اتقوا، وخافوا عقاب ربهم بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات، وإن أخذوا في التجارات، والمكاسب لهم جنات وبساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} من الماء، واللبن، والخمر، والعسل حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات أبدًا لا يموتون، ولا يخرجون منها، فلا يضرهم التبسط في الدنيا، إذا كان على الوجه المعروف في الشرع، فذم الدنيا ومعيشتها للكافر خاصة كما قال بعضهم: مَا أَحْسَنَ الدِّيْنَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا ... لاَ بَارَكَ اللهُ فِيْ دُنْيَا بِلاَ دِيْنِ حالة كون تلك الجنات {نُزُلًا}؛ أي: جزاء وثوابًا، وعطاءً، وإكرامًا، واقعًا لهم {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ضيافة معدةً لهم من فضله، وكرمه سبحانه وتعالى. والنزل في الأصل ما يهيأ للضيف النازل من القِرَى والطعام، والشراب النفيس، وفي الآية: إيماء إلى أن النازلينَ فيها ضيوف عند ربهم، يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه، وجوده، وهذه الجنات نعيم جسماني لهم، وهناك نعيم روحاني أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان، وإليه الإشارة بقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى من الكرامة فوق ما تقدم كرؤية الله عز وجل، أو من الثواب الدائم {خَيْرٌ} وأفضل {لِلْأَبْرَارِ}؛ أي: للموحدين مما يتقلب فيه الكفار، والفجار في الدنيا من المتاع القليل السريع الزوال. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو في مشربة، وإنه لعلَى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أُهَبٌ معلقة، فرأيت أثَر الحصير في جنبه، فبكيت فقال: "ما يبكيك"؟ قلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله. فقال: "أمَا ترضَى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة". متفق عليه. وهذا لفظ البخاري. والمشربة الغرفة والعليةُ والمشاربُ العلالي. 199 - {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: وإن من اليهود والنصارى {لَمَنْ يُؤْمِنُ} ويصدق {بـ} وحدانية {الله} تعالى كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشي، وأصحابه {و} يؤمن بـ {ما أنزل إليكم} من القرآن {و} يؤمن بـ {ما أنزل إليهم}

من التوراة، والإنجيل، والزبور حالةَ كونهم {خَاشِعِينَ}؛ أي: متواضعين {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات {لَا يَشْتَرُونَ} أي: لا يأخذون (بـ) كتمان {آيات الله} من أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ونعته من سَفَلتهم {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا؛ كما يفعله غيرهم من أهل الكتاب، يعني لا يغيرون كتبهم، ولا يحرفونها، ولا يكتمون صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأجل الرئاسة، والمآكل، والرشا كما يفعلُه رؤساء اليهود. والحاصلُ (¬1): أنه سبحانه وتعالى لما بين حال المؤمنين، وما أعد لهم من الثواب، وحالَ الكافرين، وما هيأ لهم من العقاب .. ذكر هنا حالَ فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن، وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هديِ الأنبياءِ، وقد وصفهم الله تعالى بصفات كلها تستحق المزيَةَ والشرفَ: الأولى: الإيمان بالله إيمانًا لا تشوبه نزعات الشرك، ولا يفارقه الإذعانُ الباعثُ على العمل، لا كمن قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المؤمنين، وهو ما أوحاه الله تعالى إلى نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم، وهو ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم، والمراد به: الإيمان به إجمالًا وما أرشد إليه القرآن تفصيلًا فلا يضيرُ في ذلك ضياع بعضه، ونسيان بعضه الآخر. الرابعة: الخشوع، وهو الثمرة للإيمان الصحيح؛ فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب، ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشعُ البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج (¬2). ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) تهدج الصوت: تقطُعُه في ارتعاش.

[200]

الخامسة: عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله، وهذا أثر لما قبله. {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات الحميدة المذكورة {لَهُمْ أَجْرُهُمْ}؛ أي: لهم ثواب أعمالهم، وأجر طاعتهم حالَ كونه مدخرًا لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} الذي رباهم بنعمه، وهداهم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ}؛ أي: سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل؛ لكونه عالمًا بجميع الأشياء، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب، فهو يحاسب الناسَ جميعَهم في وقت قصير، فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب في صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة الأفلام التي تعرض فيها الحوادث والوقائع في عصرنا الحاضر، وقد ختم الله سبحانه وتعالى هذه السورةَ بوصية للمؤمنين، إذا عملوا بها كانوا أهلًا لاستجابة الدعاء، وأحق بالنصر في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة فقال: 200 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} على (¬1) شدائد الدنيا وآلامها من مرض، وفقر، وخوف، أو على تكاليف دينكم، وأدائها، وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات {وَصَابِرُوا}؛ أي: تحملوا المكارهَ التي تلحقكم من غيركم، ويدخل في ذلك احتمالُ الأذى من الأهل والجيران، وترك الانتقام ممن يسىء إليكم؛ كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} والعفو عمن ظلمكم كما قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ودفع شبه المبطلين، وحل شكوكهم، والإجابة عن شبههم. {وَرَابِطُوا}؛ أي: اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعدادًا للقتال، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ويدخل في هذا كل ما ولده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات، وقاذفات للقنابل، ودبابات، ومدافع رشاشة، وبنادق، وأساطيل بحرية، ونحو ¬

_ (¬1) المراغي.

ذلك مما صار الآن ضروريًّا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزلَ من السلاح، وإن كان مدججًا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب، والخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية، والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الاستعدادَ المأمور به في الآية لا يتم إلا به. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها". متفق عليه. وعن سلمان الخير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه. جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان". رواه مسلم. وفي سنن أبي داود قال: "كل الميت يختم على عمله، إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتاني القبر". وقيل: المراد بالمرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات" قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". أخرجه مسلم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمره ونهيه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تظفروا السعادةَ الأبديةَ في الدنيا والآخرة، قال (¬1) محمَّد بن كعب القرظي يقول الله عز ¬

_ (¬1) الخازن.

وجل: واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وقال (¬1) بعضهم في معنى هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا على مجاهدة أعدائي، واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي. وقيل: اصبروا على النعماء، وصابروا على البأساء، والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء. وقيل: اصبروا على الدنيا ومحنها، رجاءَ السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة، واتقوا ما يعقبكم الندامةَ لعلكم تفلحون غدًا في دار الكرامة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. ولقد (¬2) أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر التقوى، ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعَرَفَ سنةَ نبيه وسيرة السلف الصالح من الأمة الإِسلامية، ومن فعل كل ما تقدم فصبرَ، وصابَرَ، ورابطَ لحماية الحق، وأهله، ونشَرَ دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه فقد أفلح، وفاز بالسعادة عند ربه. الإعراب {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد. {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا لـ {إنَّ} تقديره: إن آيات دالات على وحدانية الله لكائنة لأولي الألباب في خلق السموات {وَالْأَرْضِ} وجملة {إن} مستأنفة. {وَاخْتِلَافِ} معطوف على {خَلْقِ}، وهو مضاف. {اللَّيْلِ} مضاف إليه. {وَالنَّهَارِ} ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

معطوف على الليل. {لَآيَاتٍ} اللام حرف ابتداء. {آيات} اسم {إنَّ} مؤخر منصوب بالكسرة. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة {لَآيَاتٍ}. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الجر صفة {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. {يَذْكُرُونَ اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {قِيَامًا} حال من فاعل {يذكرون}. {وَقُعُودًا} معطوف عليه. {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} الواو عاطفة. {على جنوبهم} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف معطوف على {قِيَامًا} على كونه حالًا من فاعل {يَذْكُرُونَ}، تقديره: وحالة كونهم مضطجعين على جنوبهم، ففي الآية عطف الحال المؤولة على الحال الصريحة عكسَ قوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}، و {يَتَفَكَّرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على جملة {يَذْكُرُونَ} على كونه صلة الموصول. {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ}، جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يتفكرون}. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إلى قوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} مقول محكي لقول محذوف تقديره: يقولون: ربنا ما خلفت هذا باطلًا، وجملة القول المحذوف حال من فاعل {يتفكرون}، تقديره: ويتفكرون في خلق السموات والأرض حالةَ كونهم قائلينَ ربنا ما خلقت هذا باطلًا. {رَبَّنَا} رب منادى مضاف. {نا} مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف كما سبق آنفًا. {مَا خَلَقْتَ} {ما} نافية. {خَلَقْتَ} فعل وفاعل. {هَذَا} مفعول به {بَاطِلًا} حال من اسم الإشارة، وهو الأحسن في إعرابه، وهي حال لا يستغنى عنها إذ لو حذفت للزم نفي الخلق، وهو لا يصح أو مفعول من أجله؛ أي: ما خلقت هذا للباطل، والعبث، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المذكور. {سُبْحَانَكَ} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: سبحناكَ، ونزهناك عن كل ما لا يليق بك

سبحانك، وجملة التسبيح جملة معترضة بين قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} وبين قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. {فَقِنَا} الفاء حرف عطف وسبب؛ لأن ما بعدها متسبب عن قوله {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}؛ لأن المعنى فحيث وحدناك، ونزهناك عن النقائص فقنا عذاب النار؛ لأن النار جزاء من عَصَى، ولم يوحد. {قنا} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَذَابَ النَّارِ} مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} على كونها مقولًا للقول المحذوف. {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}. {رَبَّنَا} {ربَّ} منادى مضاف و {نا} مضاف إليه. {إِنَّكَ} {إن} حرف نصب وتوكيد. {الكاف} في محل النصب اسمها. {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} من اسم شرط في محل النصب مفعول مقدم لـ {تدخل} وجوبًا لكونه مما يلزم الصدارة. {تُدْخِلِ النَّارَ} فعل ومفعولِ ثان في محل الجزم على كونه فعل شرط لمن، وفاعله ضمير يعود على الله. {فَقَدْ} الفاء رابطة لجواب من وجوبًا لكونه مقرونًا بـ {قد}. {قد} حرف تحقيق. {أَخْزَيْتَهُ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب الشرط لها، وجملة {من} الشرطية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول للقول المحذوف. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواو عاطفة. {ما} نافية. {لِلظَّالِمِينَ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ أَنْصَارٍ} {من} زائدة. {أَنصَارٍ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} على كونها مقولًا للقول المحذوف. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}. {رَبَّنَا} {ربَّ} منادى مضاف و {نا} مضاف إليه. {إِنَّنَا} إن حرف نصب و {نا} اسمها. {سَمِعْنَا} فعل وفاعل. {مُنَادِيًا} مفعول به، وجملة {سَمِعْنَا} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء {يُنَادِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنادي، والجملة في محل النصب صفة {مُنَادِيًا}. {لِلْإِيمَانِ} جار ومجرور

متعلق بـ {ينادى}. {أَنْ آمِنُوا} أن تفسيرية بمعنى؛ أي: {آمِنُوا} فعل وفاعل. {بِرَبِّكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {آمنوا} والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ {ينادى} لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {أن} مصدرية. {آمِنُوا} فعل وفاعل في محل النصب، وجملة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة المتعلقة بـ {ينادي} تقديره. ينادي بطلب إيمانكم. {فَآمَنَّا} الفاء حرف عطف وتعقيب. {آمنا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {سَمِعْنَا} على كونها مقولًا للقول المحذوف. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}. {رَبَّنَا} منادى مضاف ومضاف إليه. {فَاغْفِرْ لَنَا} الفاء حرف عطف وترتيب. {اغفر} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَنَا} متعلق بـ {اغفر} والجملة معطوفة على جملة {أمنا}. {ذُنُوبَنَا} مفعول به، ومضاف إليه {وَكَفِّرْ} فعل دعاء معطوف على {فَاغْفِرْ}. {عَنَّا} متعلق به. {سَيِّئَاتِنَا} مفعول به، ومضاف إليه. {وَتَوَفَّنَا}: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {فاغفر}. {مَعَ الْأَبْرَارِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {توفنا}، أو بمحذوف حال من ضمير المفعول تقديره: حالة كوننا مصاحبينَ للأبرار. {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}. {رَبَّنَا} منادى مضاف ومضاف إليه. {وَآتِنَا} الواو عاطفة {آتنا} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {فَاغْفِرْ}، {مَا وَعَدْتَنَا} {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان {لآتنا} لأنه بمعنى أعطنا. {وَعَدْتَنَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذرف تقديره: وعدتناه. {عَلى رُسُلِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بوعدتنا؛ ولكنه على حذف مضاف تقديره: على ألسنة رسلك كما مر في بحث التفسير. {وَلَا تُخْزِنَا} الواو عاطفة {لا} ناهية.

{تُخْزِنَا} فعل ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {فَاغْفِرْ}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تخزنا}. {إِنَّكَ} {إن} حرف نصب ومصدر و {الكاف} اسمها. {لَا} نافية. {تُخْزِنَا} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْمِيعَادَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها معللة لقوله {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا}. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. {فَاسْتَجَابَ} {الفاء} عاطفة (¬1) إما على مقدر، تقديره: دعوا ربهم بهذا الدعاء، فاستجاب لهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، وإما على قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} {استجاب} فعل ماض. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به. {رَبُّهُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. {أَنِّي} {أن} حرف نصب ومصدر، والياء اسمها. {لَا أُضِيعُ} لا نافية. {أُضِيعُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَمَلَ عَامِلٍ} مفعول به، ومضاف إليه. {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لـ {عامل}، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر {أن}؛ وجملة {أن}. في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: بعدم إضاعة عمل عامل. {مِنْكُمْ} الجار والمجرور متعلق بـ {استجاب} هذا على قراءة فتح الهمزة، وأما على قراءة كسرها، فمقول لقول محذوف تقدير: فاستجاب لهم ربهم بقوله: أني لا أضيع عمل عامل منكم. {مِنْ ذَكَرٍ} جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله {مِنْكُمْ} بدل تفصيل من مجمل بإعادة العامل، أو بدل {من} لفظ {عامل} على جعل {من} زائدة، كأنه قال: لا أضيع عمل ذكر. {أَوْ أُنْثَى} معطوف على ذكر. {بَعْضُكُمْ} مبتدأ، ومضا إليه. {مِنْ بَعْضٍ} جار ومجرور خبر المبتدأ، فالجملة معترضة لاعتراضها بين المجمل أعني قوله: {عَمَلَ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

عَامِلٍ مِنْكُمْ}، وبين ما فصل به عمل العاملين من قوله {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا}. ولذلك قال الزمخشري {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا}، تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم. وقيل (¬1): هي في محل التعليل للتعميم في قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} فكأنه قيل: إنما سوى بين الفريقين في الثواب لاشتراكهم في الأصل، والدين، والمعنى: كما أنكم من أصل واحد، وأن بعضكم مأخوذ من بعض، فكذلك أنتم سواء في ثواب العمل، لا يثاب رجل عامل دونَ امرأة. {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. {فَالَّذِينَ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّي لا أضيع عمل عامل منكم، وأردت بيانَ كيفية عدم الإضاعة، فأقول لك. {الذين} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {هَاجَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَأُخْرِجُوا} فعل ونائب فاعل معطوف على {هَاجَرُوا}. {مِنْ دِيَارِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أخرجوا}. {وَأُوذُوا} فعل ونائب فاعل معطوف على {هَاجَرُوا} أيضًا. {فِي سَبِيلِي} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق {بأوذوا}. {وَقَاتَلُوا} فعل وفاعل معطوف على {هاجروا}. و {وَقُتِلُوا} فعل ونائب فاعل معطوف على {هَاجَرُوا}. {لَأُكَفِّرَنَّ} {اللام} موطئة لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لأكفرن. {لأكفرن} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ونون التوكيد: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْهُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {أكفرن}. {سَيِّئَاتِهِمْ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مفصلة لعملِ العاملين المجمل أولًا. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} {الواو} عاطفة. {لأدخلنهم} {اللام} موطئة للقسم. {أدخلن} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بـ {نون التوكيد}، وفاعله ضمير يعود على الله. و {الهاء} ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول. {جَنَّاتٍ} مفعول ثان، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع معطوفة على جملة القسم في قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ}. {تَجْرِي} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ {جنات} ولكنها سببية. {ثَوَابًا} حال من {جَنَّاتٍ}، ولكنها مؤولة بمشتق تقديره: حالة كونها مثابًا بها، أو حال من ضمير المفعول في قوله: {لأدخلنهم} تقديره، حالة كونهم مثابين. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ {ثَوَابًا}. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {عِنْدَهُ} ظرف، ومضاف إليه خبر مقدم للمبتدأ الثاني. {حُسْنُ الثَّوَابِ} مبتدأ ثان، ومضاف إليه، والتقدير: والله الثواب الحسن كائن عنده، والجملة الإسمية مستأنفة. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {حُسْنُ الثَّوَابِ} الأحسن: أنه فاعل بما تعلق به {عِنْدَهُ}؛ أي: مستقر عنده؛ لأن الظرف قد اعتمد بوقوعه خبرًا، والإخبار بالمفرد أولى. {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)}. {لَا} ناهية. {يغرن} فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب، مبني على الفتح. {الكاف} ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به مبني على الفتح. {تَقَلُّبُ الَّذِينَ} فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا} فعل وفاعل. {فِي الْبِلَادِ} متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ¬

_ (¬1) الجمل.

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}. {مَتَاعٌ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو متاع يعود على تقلبهم. {قَلِيلٌ} صفة لـ {متاع} والجملة مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف، وترتيب مع تراخ. {مَأوَاهُمْ} مبتدأ، ومضاف إليه. {جَهَنَّمُ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الواو استئنافية. {بئس المهاد} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر للمبتدأ المحذوف وجوبًا، الذي هو المخصوص بالذم تقديره، هي يعود على جهنم، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}. {لَكِنِ} حرف استدراك. {الَّذِينَ} مبتدأ. {اتَّقَوْا} فعل وفاعل. {رَبَّهُمْ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {جَنَّاتٌ} مبتدأ ثان مؤخر عن خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره، في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. {تَجْرِي} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {جنات}، ولكنها سببية. {خَالِدِينَ} حال من الضمير في قوله {لَهُمْ}، والعامل فيه معنى الاستقرار. {فِيهَا} متعلق بـ {خالدين}. {نُزُلًا} حال من {جَنَّاتٌ} لتخصصه بالصفة، والمعنى حال كون تلك الجنات ضيافةً وإكرامًا من الله لهم، أعدها كما يعد القرى للضيف إكرامًا له. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ {نزلا}. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {ما} مبتدأ. {عِنْدِ اللَّهِ} ظرف، ومضاف إليه صلة لـ {ما} أو صفة لها. {خَيْرٌ} خبر للمبتدأ. {لِلْأَبْرَارِ} صفة لـ {خير} أو متعلق به، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}. {وَإِنَّ} {الواو} استئنافية. {إنَّ} هو حرف نصب وتوكيد. {مِنْ أَهْلِ

الْكِتَابِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَمَنْ} {اللام} حرف ابتدأ. {مِنْ} اسم موصول في محل النصب، اسم إن مؤخر، والتقدير: وإن من يؤمن بالله .. لكائن من أهل الكتاب، وجملة {إن} مستأنفة. {يُؤْمِنُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {من}، وفيه مراعاة للفظ {من}. {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يؤمن}، والجملة الفعلية صلة الموصول {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما} والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {إِلَيْكُمْ} متعلق بـ {أنزل}. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما} {إِلَيْهِمْ} متعلق به، والجملة صلة الموصول. {خَاشِعِينَ} حال من ضمير {يُؤْمِنُ} في قوله: {لَمَنْ يُؤْمِنُ} وفيه مراعاة لمعنى {من} لأنه راعى معنى {من} في يسبعة مواضع أولها {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} وآخرها {عِنْدَ رَبِّهِمْ} {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {خاشعين} {لَا يَشْتَرُونَ} إلا نافية. {يَشْتَرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثانية من ضمير {يُؤمِنُ}. {بِآيَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يشترون} {ثَمَنًا}: مفعول به لـ {يَشْتَرُونَ}. {قَلِيلًا} صفة لـ {ثَمَنًا}. {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. {أُولَئِكَ} مبتدأ أول {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ الثاني. {أَجْرُهُمْ} مبتدأ ثان مؤخر، ومضاف إليه، والتقدير: أولئك أجرهم كائن لهم، والجملة مستأنفة. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف، ومضاف إليه حال من أجرهم تقديره: حال كونه مدخرًا لهم عند ربهم {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {سَرِيعُ الْحِسَابِ} خبرها، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة بمنزلة التعليل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء. {أي}. منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} صفة {لأي} وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {اصْبِرُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. وكذلك {وَصَابِرُوا} فعل وفاعل معطوف على {اصْبِرُوا}. وكذلك جملة {وَرَابِطُوا} معطوف عليه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اصْبِرُوا}. {لَعَلَّكُمْ} {لعل} حرف نصب وترج وتعليل بمعنى كي. {والكاف} اسمها {تُفْلِحُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة المعللة لجمل الأفعال المذكورة قبلها، والمعنى: اتصفوا بالصبر، وما بعده لطَلب فلا حكم ورجائه والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الخلق: مصدر قياسي لخلق من باب فَعل المفتوح المعدَّى، وهو إما باق على مصدريته، فيكون بمعنى التقدير، والترتيب الدال على النظام، والإتقان، أو بمعنى اسم المفعول؛ أي: مخلوقهما، و {السَّمَاوَاتِ} جمع سماء، وهو ما علاك مما ترى فوقك، والأرض ما تعيش عليه. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} {والألباب}: جمع لب، كأقفال جمع قفل، وهو العقل. {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} {قِيَامًا وَقُعُودًا} جمعان لقائم، وقاعد، وأجيز (¬1) أن يكونا مصدرين، وحينئذ يتأولان على ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا {بَاطِلًا} الباطل: العبث الذي لا فائدة فيه، والشيء الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد: أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ¬

_ (¬1) جمل.

{سُبْحَانَكَ} اسم مصدر لسبح الرباعي، وهو من الأسماء التي تلزم النصب على المصدرية، ومعناه تنزيهًا لك عما لا يليق بك {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} من أخزى الرباعي، من باب: أفعل من مزيد الثلاثي {ذُنُوبَنَا} جمع ذنب، وهو (¬1) التقصير في المعاملة بين العبد وربه {سَيِّئَاتِنَا} جمع سيئة، وهي التقصير في حقوق العباد، ومعاملة الناس بعضهم بعضًا. {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} جمع بار، كصاحب وأصحاب، وهو المحسن في العمل، أو جمع بر أصله برر، ككتف وأكتاف اهـ سمين {لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} {الْمِيعَادَ}: مصدر ميمي، بمعنى الوعد، لا بمعنى المكان، والزمان {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ} {استجاب} من باب: استفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان؛ لأنه بمعنى أجاب الرباعي، ويتعدى بنفسه، وباللام {أُضِيعُ} من أضاع الرباعي، فهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه ضاع من باب باع {ثَوَابًا} الثواب اسم مصدر، لأثاب الرباعي، يقال: أثابه إثابة، وثوابًا، والثواب. هنا بمعنى الإثابة، التي هي المصدر فهو مصدرَ معنوي مؤكد لمعنى لأكفرن، ولأدخلنهم، فمعنى المجموع لأثيبنهم إثابةً، وإن كان في الأصل إسمًا لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى به. {لَا يَغُرَّنَّكَ} من غر الثلاثي المضاعف المعدي يقال: غرني ظاهره؛ أي: قبلته على غفلة عن امتحانه، ويقال في الثوب إذا نشر، ثم أعيد إلى طيه: رددته على غره {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} والتقلب: مصدر لتقلب الخماسي الذي هو من باب تفعل؛ أي: تصرفهم في التجارات، وتنقلهم في البلاد آمنين لطلب المكاسب {مَتَاعٌ} اسم مصدر من أمتع الرباعي؛ أي: ذلك الكسب والربح الحاصل لهم متاع {قَلِيلٌ} وإنما وصفه بالقليل؛ لأنه قصير الأمد {ومأواهم جهنم}، والمأوى اسم مكان من أوى يأوي، من باب رمي يقال: أوى الرجل البيتَ يأوي إواءً ومأوى بالفتح على القياس؛ إذا نزل فيه، والمأوى مكانُ النزول. وجهنم اسم لطبقة من طباق النار يجازي بها الكافرون في الآخرة، {الْمِهَادُ} اسم للمكان ¬

_ (¬1) المراغي.

الموطأ كالفراش والنزلُ بضمتين ما يهيأ للضيف النازل. وفي "السمين": النزاع ما يهيأ للضيف، هذا أصله ثم اتسع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء، وإن لم يكن ضيف، ومنه {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} وفيه قولان: هل هو مصدر، أو جمع نازل. انتهى {لِلْأَبْرَارِ} جمع بار، وهو المتصف بالبر؛ أي: الإحسان كما مر {وَصَابِرُوا}؛ أي: غالبوا أعداءكم بالصبر على شدائد القتال والحرب، وهو من باب: فاعل الرباعي فيدل على المفاعلة {وَرَابِطُوا}؛ أي: أقيموا في الثغور رابطين خُيولَكم حابسينَ لها، مترصدينَ للغزو، فهو من باب: فاعل قال على المفاعلة أيضًا. وأصل (¬1) المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولَهم، وهؤلاء خيولَهم بحيث يكون كل من الخصمين مستعدًا لقتال الآخر، ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركوب مربوط. والتقوى: اسم من اتقى يتقى إتقاء ثلاثيه تقى يتقي، كقضى يقضي، والتقوى أن تقي نفسك وتحفظها من غضب الله وسخطه. والفلاح: اسم مصدر من أفلح، وهو الفوز، والظفر بالبغية المقصودة من العمل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع أنواعًا (¬2): منها: الاختصاص في قوله: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، وفي قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، و {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}، و {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، و {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما لهم، أو وما له، مراعاةً لمعنى {من} أو لفظها. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {أن آمنوا فآمنا}، و {عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}. ومنها: المغايرُ في قوله: {مُنَادِيًا يُنَادِي}. ومنها: الإشارة في قوله: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

ومنها: التنكير للتفخيم في قوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ودخلت اللام في خبر إن لزيادة التأكيد. ومنها: الالتفات إلى التكلم والخطاب في قوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين. ومنها: الطباق في قوله: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} و {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فالسماء جهة العلو، والأرضُ جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة، والنهار: عبارة عن النور، و {قِيَامًا} و {قُعُودًا} و {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. ومنها: الإطناب في قوله: {رَبَّنَا} حيث كرر خمس مرات، والغرض منه: المبالغة في التضرع، وفي {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} إن كان المعنى واحدًا، وفي {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} وفي {ثَوَابًا} و {حُسْنُ الثَّوَابِ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {عَلَى رُسُلِكَ}؛ أي: على ألسنة رسلك، وكذلك في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: قائلين ربنا. والاستعارة بسماع المنادى إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبالاستجابة عن قبول مسألتهم، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازاته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان، وتغير معالمه عن خضوعهم، وتذللهم بين يديه، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته. قيل: ويحتمل أن يكون الحساب أستعير للجزاء كما استعير {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)}؛ لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}. ومنها: الحذف في مواضع. فإن قلت (¬1): ما الفائدة في الجمع بين {مُنَادِيًا} و {يُنَادِي}؟ ¬

_ (¬1) جمل.

قلتُ: أجاب الزمخشري بأنه ذكر النداء مطلقًا، ثم مقيدًا بالإيمان تفخيمًا لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء السائرة، أو لإغاثة الملهوف، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، فإذا قلت ينادي للإيمان فقد رفعت شأنَ المنادي وفخمته {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وأتى هنا بالصلة مستقبلةً، وإن كان ذلك قد مَضَى دلالةً على الاستمرار والدوام (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) هذا آخر ما أوردناه على سورة آل عمران من التفاسير، وفرغنا منه في تاريخ: 26/ 8/ 1408 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.

سورة النساء

سورة النساء (¬1) سورة النساء: مدنية كلها على الصحيح، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء، إلا وأنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بَنَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة في المدينة، في شوال من السنة الأولى من الهجرة. وآياتُها مئة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وكلماتها ثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة، وحروفها ستةَ عشرَ ألف حرف، وثلاثون حرفًا. التسمية: وسميت سورة النساء لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بهن، بدرجة لم توجد في غيرها من السور، ولذلك أطلق عليها سورةُ النساء الكبرى في مقابلة سورة النساء الصغرى التي عرفت في المصحف بسورة الطلاق. مناسبتها: والمناسبة بينها وبين سورة آل عمران من أوجه (¬2): منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة بذلك، وهذا من آكد المناسبات في ترتيب السورة. ومنها: أن في السابقة ذكرَ قصة أحد مستوفاة، وفي هذه ذيل لها، وهو قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فإنه نزل في هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد. ومنها: أنه ذكر في السالفة الغزوة التي بعد أحد، وهي غزوة حمراء الأسد بقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} وأشير إليها هنا في قوله: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} الآية. وقال أبو حيان (¬3): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أحوال ¬

_ (¬1) بدأت تفسير هذه السورة في تاريخ: 28/ 8/ 1408 هـ. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

المشركين، والمنافقين، وأهل الكتاب، والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} على المجازاة، وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق، والتوادد، والتعاطف، وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الإنساني، كان عابدًا لله مفردَه بالتوحيدَ والتقوى، طائعًا له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه، فنادى تعالى دعاءً عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سببًا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم، وأنشأهم من نفس واحدة، ومن كان قادرًا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع، وإعدام هذه الأشكال، والنفع، والضر .. فهو جدير بأن يتقى انتهى. ذكر ما حوته هذه السورة من الموضوعات (¬1) 1 - الأمر بتقوى الله تعالى في السر والعلن. 2 - تذكير المخاطبين بأنهم خلقوا من نفس واحدة. 3 - أحكام القرابة والمصاهرة. 4 - أحكام الأنكحة والمواريث. 5 - أحكام القتال. 6 - الحجاج مع أهل الكتاب. 7 - بعض أخبار المنافقين. 8 - الكلامُ مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات في آخرها. وبالجملة: اشتملت هذه السورة على ذكر حقوق النساءِ والأيتام، وخاصةً اليتيمات اللاتي في حجور الأولياء، والأوصياء، فقررت حقوقَهن في الميراث، ¬

_ (¬1) المراغي.

والكسب، والزواج، واستنقذتهن من أسر الجاهلية، وتقاليدها الظالمة المهينة. وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتَها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها، حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر، والميراث وإحسان العشرة. وتعرضت لأحكام المواريث على الوَجْهِ الدقيق العادلِ الذي يكفل العدالةَ، ويحقق المساواة، وأفصحت عن المحرمات من النساء بالنسب، والرضاع، والمصاهرة. واشتملت على تنظيم العلاقات الزوجية، وبينت أنها ليست علاقةَ جسد، وإنما هي علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاء يوثق المحبةَ، ويديم العشرةَ وبربط القلوبَ. وذكرت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدَتْ إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية عندما يبدأ الشقاقُ، والخلاف بين الزوجين، وبينت معنى قوامة الرجل، وأنها ليست قوامةَ استعباد، وتسخير، وإنما هي قوامة نصح، وتأديب التي تكون بين الراعي ورعيته. ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبينت أن أساس الإحسان التكافل، والتراحم والتناصح، والتسامح، والأمانة، والعدل حتى يكون المجتمع راسخَ البنيان قوي الأركان، ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجيّ الذي يحفظ على الأمة استقرارها، وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء. ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين، والدول الأخرى المحايدة، أو المعادية، واستتبع الأمر بالجهاد جملةً ضخمةً على المنافقين، فهم نابتة السوء، وأصول الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم، كما أومأت إلى خطر أهل الكتاب، وخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.

ثم ختمت السورة ببيان ضلالات النصارى، في أمر المسيح عيسى ابن مريم، حيث غالوا فيه حتى عبدوه، ثم صلبوه؛ أي: جعلوه صليبًا مصورًا معبودًا لهم مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الشافعية عقيدة التوحيد وصدق الله تعالى حيث قال: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. قيل (¬1): وجعل هذا المطلع مطلعًا لسورتين إحداهما: هذه، وهي الرابعة من النصف الأول، والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني، وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. فضلها: وقد ورد (¬2) في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في "مستدركه" عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية، و {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، و {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية. ثم قال: هذا إسناد صحيح، إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، وقد اختلف في ذلك. الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم (¬3): سورة النساء مدنية تحتوي على أربع وعشرين آية منسوخة: الأولى منها: قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} مدنية النساء نسخت بأية المواريث وهي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية 11 مدنية النساء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) الناسخ والمنسوخ.

والثانية منها: قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} الآية 9 النساء نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} الآية 182 مدنية البقرة. والثالثة منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} 10 مدنية النساء، وذلك أنه لما نزلت هذه الآية امتنعوا من أموال اليتامى، وعزلوهم فدخل الضررُ على الأيتام، ثم أَنْزَل (¬1) الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} 220 البقرة. من المخالطة ركوب الدابة، وشرب اللبن فرخص في المخالطة، ولم يرخص في أكل الأموال بالظلم ثم قال عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 6 النساء، فهذه الآية نسخت الأولى، والمعروف هنا: القرض فإذا أيسر رده، فإن مات قبل ذلك. فلا شيءَ عليه. والرابعة منها: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية 15 مدنية النساء. كانت المرأة إذا زنت، وهي محصنة حبست في بيت، فلا تخرج منه حتى تموت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني قد جعل الله لهن السبيلَ الثيبُ بالثيب الرجمُ، والبكر جلد مائة، وتغريب عام" فهذه الآية منسوخة بعضها بالكتاب، بقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 15 مدنية النساء. وبعضها بالسنة، وكني فيها بذكر النساء عن ذكر النساء والرجال. والخامسة منها: قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 16 مدنية النساء. كان البكران إذا زنيا عيرا وشتما فنسخ الله ذلك بالآية التي في سورة النور، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 مدنية النور. ¬

_ (¬1) وفي "الخازن": وقد توهم بعضهم أن قوله: {وإن تخالطوهم} ناسخ لهذه الآية، وهذا غلط ممن توهمه؛ لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلمًا وهذا لا يصير منسوخًا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله {وإن تخالطوهم فإخوانكم} وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو أعظم القرب. اهـ منه.

والسادسة منها: قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} الآية. 17 مدنية النساء، وذلك أن الله تعالى ضمن لأهل التوحيد أن يقبلَ قبل أن يغرغروا، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل من كان قبل الموت" ثم استثنى في الآية بقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، فصارت ناسخة لبعض حكمها لأهل الشرك، ثم قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} إلى آخرها 18 النساء. والسابعة منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} إلى قوله: {بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} 19 النساء، ثم نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} 19 النساء. والثامنة منها: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 22 النساء؛ أي: من أفعالهم فقد عفوت عنه. والتاسعة منها: قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 23 النساء، نسخت بالاستثناء بقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} يعني عفوت عنه. والعاشرة: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 24 مدنية النساء. نسخت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت أحللت هذه المتعةَ، ألا وإن الله ورسوله قد حرمَاها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ووقع ناسخها من القرآن موضعَ ذكر ميراث الزوجة الثمنَ، أو الربعَ فلم يكن لها في ذلك نصيب. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: موضع تحريمها في سورة المؤمنين، وناسخها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 5 مكية المؤمنون، وأجمعوا على أنها ليست بزوجة، ولا ملك اليمين، فنسخها الله بهذه الآية. والحادية عشرة منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية 29 مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى في سورة النور:

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 61 مدنية النور، وكانوا يجتنبونهم في الأكل، فقال تعالى: ليس على من أكل مع الأعرج والمريض حرج، فصارت هذه الآية ناسخة لتلك الآية. الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية 33 مدنية منسوخة، وناسخها قوله تعالى في آخر الأنفال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية 75 مدنية الأنفال. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} الآية 63 مدنية نسخت بآية السيف. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} الآية 64 مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية 80 مدنية التوبة. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} الآية 71 مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 122 مدنية التوبة. السادسة عشرة: قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية 80 مدنية النساء. نسختها آية السيف. السابعة عشرة: قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 81 مدنية النساء. نسخ الإعراض عنهم بآية السيف. الثامنة عشرة: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 90 مدنية النساء. نسخها الله بآية السيف. التاسعة عشرة: قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ} 191 النساء. نسخها الله بآية السيف. العشرون منها: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الآية 92 مدنية

النساء. نسخها الله تعالى بقوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 مدنية التوبة. الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية. 93 مدنية النساء. نسخت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} 48، 116 النساء. وبالآية التي في الفرقان، {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} 68 مدنية. الفرقان. الثانية والعشرون: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 145 النساء. نسخ الله بعضها بالاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا} الآية 146 النساء. الثالثة والعشرون، والرابعة والعشرون. قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} 88 النساء. وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} 84 النساء نسخهما آية السيف، فتكون مع هاتين أربعًا وعشرين آية. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ...} مناسبتها للآية التي في آخر السورة السابقة - أعني قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} - ظاهرةٌ؛ لأن كلا الآيتين آمرة بالتقوى كما سبق. قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...} الآيات، مناسبتها (¬1) لما قبلها: أنه لما وصل الأرحام .. أتبع بالأيتام؛ لأنهم صاروا بحيث لا كافلَ لهم، ففارق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حالهم حال من له رحم. ذكره أبو حيان. وقيل: مناسبتها أنه سبحانه وتعالى لما (¬1) افتتح السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقادَ له من التكاليف؛ ليبتعد عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة .. شرع يذكر أنواعها، وأولها: إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها: حكم ما يحل عدده من الزوجات، ومتى يجب الاقتصار على واحدةٍ، ثم أوجب إيتاء الصداق لهن. قوله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه وتعالى، لما أمر في الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاءِ النساء مهورهن .. أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معًا، وهو أن لا يكون كل منهما سفيهًا مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم، حتى تحسن أحوالهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنه لا ينبغي الإسراف في أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيًّا .. فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرًا .. فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أرباب المروءة. قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها، أنه سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى، وأمر بإعطائهم أموالَهم إذا رشدوا، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجَهن بغير مهر .. ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى، يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وحاز بالغنيمة، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى؛ لأن اليتيم مرهف الحس، يألم للكلمة تهينه، ولا سيما ذكر أبيه، وأمه بسوء، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن، ولا يقهر بالسوء من القول، ثم طلب الإشفاقَ عليهم ومعاملتَهم بالحسنى، فربما يترك الميت ذريةً ضعافًا يود أن غيره ¬

_ (¬1) المراغي.

يعاملهم بمثل هذه المعاملة، وبعد ذلك شدد في الوعيد، ونفر من أكل أموال اليتامى ظلمًا، وجعل أكله كأكل النار. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ...} الآية، سبب نزولها: ما روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجَها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيَها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك، إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طَابَ لهم من النساء سواهن، وإن الناس استفتوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ...} الآية. أخرجه البخاري ومسلم. وأخرج البخاري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. الحديث أخرجه ابن جرير في تفسيره بنحوه، وأخرجه مسلم أيضًا. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ...} سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوح ابنتَه أَخذَ صداقها، دونها، نهاهم الله عن ذلك فأنزل {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ...}. قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} إنها نزلت في مال اليتيم إذا كان ¬

_ (¬1) لباب النقول.

فقيرًا، فإنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف. أخرجه البخاري ومسلم. قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ...} سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) أبو الشيخ، وابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار من المذكور، حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار، يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه خالد، وعرفطة، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال: ما أدري ما أقول: فنزلت {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ ...} الآية. وقال المراغي (¬2): وقد روي في سبب نزول هذه الآية {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ...} أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحلة، وثلاث بنات له منها، فزوى ابنا عمه سويد، وعرفطة ميراثه عنهن، على سنة الجاهلية، فجاءت امرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الفضيخ مسجد بالمدينة كان سكنه أهل الصفة - فشكت إليه أن زوجها أوسًا قد مات وخلف ثلاث بنات، وليس عندها ما تنفق عليهن منه، وقد ترك أبوهن مالًا حسنًا عند ابني عمه لم يعطياها مثله شيئًا، وهن في حجري لا يطعمنَ ولا يسقينَ، فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأُ عدوا نكسب عليها، ولا تكسب، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله جعل لبناته نصيبًا مما ترك، ولم يبين فنزلتْ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إلخ فأعطى زوجتَه الثمن، والبنات الثلثين، والباقي لبني العم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ...} سبب نزولها (¬3) ما روي عن مقاتل بن حيان أن رجلًا من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولي مال يتيم ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي. (¬3) القرطبي.

[1]

صغير، وكان اليتيم ابن أخيه، فأكله فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - افتتح الله سبحانه وتعالى سورةَ النساء بخطاب الناس جميعًا، ودعوتهم إلى تقواه وعبادته وحده منبهًا على قدرته، ووحدانيته، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ أي: يا بني آدم {اتَّقُوا} وخافوا {رَبَّكُمُ}؛ أي: عقاب من رباكم بإحسانه، وتفضل عليكم بجوده بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه في حقه، وحق بعضكم على بعض، والخطاب فيه عام للمكلفين الموجودين، وقت نزول الآية ذكورًا وإناثًا، والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة بدليل خارجي، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب المذكور على الإناث في قوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لاختصاص ذلك بجمع المذكر {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأنشأكم، وأوجدكم بطريق التناسل والتوالد {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم، قرأ الجمهور واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس، وقرأ ابن أبي عبلة {واحد} بغير هاء على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، فالتأنيث باعتبار اللفظ، والتذكير باعتبار المعنى، وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا}؛ أي: من تلك النفس الواحدة التي هي آدم {زَوْجَهَا}؛ أي: أمكم حواء قيل (¬1): هو معطوف على مقدر يدل عليه المقام؛ أي: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولًا، وخلق منها زوجها ثانيًا، وقيل: على خلقكم فيكون الفعل الثاني مع الأول داخلًا في حيز الصلة. وخلقها منه لم يكن بتوليد كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية له، والأختية لنا فيها، فلا يقال: إذا كانت مخلوقةً من آدم، ونحن مخلوقون منه أيضًا تكون نسبتها إليه نسبة الولد، فتكون أختًا لنا لا أمًّا، روي (¬2) أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم عليه السلام، ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو قصير، فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

فقال لها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: لماذا خلقت؟ قالت: خلقت لتسكن إلي؟ فمال إليها، وألفها؛ لأنها خلقت منه. واختلفوا في أي وقت خلقت حواء، فقال كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق: خلقت قبل دخولها الجنة، وقال ابن مسعود، وابن عباس - رضي الله عنهم -: إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها، والله أعلم. {وَبَثَّ مِنْهُمَا}؛ أي: نشر من تلك النفس الواحدة، وزوجها بطريق التوالد؛ أي: أظهر وفرق من آدم وحواء {رِجَالًا كَثِيرًا}، وذكورًا عديدًا، {وَنِسَاءً} كثيرةً، ونشرهم في أقطار الأرض على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء؛ لأن حال الرجال أتم، وأكمل، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الظهور، والاشتهار، وبحال النساء الاختفاء، والخمول، وإنما أمرهم بتقوى خالقهم الذي خلقهم على هذا النظام؛ لأن خلقه تعالى لهم على هذا النمط البديع من أقوى الداعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، ومن أتم الزواجر عن كفران نعمته، وذلك لأنه ينبىء عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم، وعن نعمة كاملة لا يقدر قدرها. فالتقوى نوعان: تقوى في حقه تعالى، وتقوى فيما بينهم من الحقوق، وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} استدعاء للتقوى الأولى، وقوله {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} استدعاء للتقوى الثانية، فالناس جميعًا من أصل واحد، وهم أخوة في الإنسانية، والنسب، ولو أدرك الناس هذا .. لعاشوا في سعادة، وأمان، ولما كان بينهم حروب طاحنة مدمرة تلتهب الأخضر واليابس وتقضي على الكهل والوليد. وقرىء (¬1) {وخالق منها زوجها وباث منهما} على صيغة اسم الفاعل، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو خالق {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}؛ أي: خافوا عقاب الله الذي تتحالفون، وتتناشدون به؛ أي: يناشد، ويسأل بعضكم بعضًا به حيث ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يقول: أسألك باللهِ، وأنشدك بالله؛ أي: أقسم وأحلف عليك به، والتساؤل (¬1) بالله هو كقولك: أسألك باللهِ، وأحلف عليك بالله، واستشفع إليك بالله. وإنما كرر (¬2) الأمر بالتقوى؛ لأجل بيان بعض آخر من موجبات الامتثال؛ لأن سؤال بعضهم لبعض بالله يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وقرأ الجمهور من السبعة {تَسَاءَلُونَ} قرأ أهل الكوفة منهم: بحذف التاء الثانية، تخفيفًا لاجتماع المثلين، وأصله: تتساءلون، وقرأ أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بالتشديد بإدغام التاء الثانية في السين. وقرأ عبد الله {تسألون به} مضارع سأل الثلاثي، وقرىء {تسلون} بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس: معنى تساءلون به؛ أي: تتعاطفون، وقال الضحاك، والربيع، تتعاقدون، وتتعاهدون، وقال الزجاج: تتطلبون به حقوقكم. {و} اتقوا {الأرحام}؛ أي: خافوا عقاب قطيعة مودة الأرحام، فإني قد أوجبت عليكم صلَتَها، فإن قطع الأرحام من أكبر الكبائر وصلتَها باب لكل خير، فتزيد في العمر، وتبارك في الرزق وقطعها سبب لكل ضر، ولذلك وصل تقوى الرحم بتقوى الله، وصلة الرحم تختلف باختلاف الناس، فتارة تكون عادته مع رحمه الصلةَ بالإحسان، وتارةً بالخدمة، وقضاء الحاجة، وتارةً بالمكانية، وتارة بحسن العبارة وغير ذلك، ولا فرق في الرحم؛ أي: القريب بين الوارث وغيره، كالخالة والخال والنعمة وبنتها، والأم والجد والجدة، وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها، ويدل على ذلك أيضًا، الأحاديث الواردة في ذلك، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ سره أن يبسط عليه من رزقه، وينسأ في أثره، فليصل رحمه"، متفق عليه. قوله: يُنسأ في أثره؛ أي: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجمل.

يؤخر له في أجله. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنة قاطع". قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم. متفق عليه. وعن الحسن قال: من سألك بالله .. فأعطه، ومن سألك بالرحم. فأعطه .. وعن ابن عباس قال: الرحم معلقة بالعرش، فإذا أتاها الواصل .. بشت به، وكلمته، وإذا أتاها القاطع .. احتجبت عنه. وقرأ جمهور (¬1) السبعة {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب على أن يكون معطوفًا على لفظ الجلالة؛ أي: اتقوا الله، واتقوا الأرحام فصلوها، ولا تقطعوها، أو معطوفًا على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيدِ وعمرًا. وقرأ حمزة بالجر، وهي قراءة النخعي، وقتادة، والأعمش عطفًا على الضمير المجرور، والمعنى عليه: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام؛ لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم، فيقول: أسألك باللهِ، والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم، وهو ضعيف عند البصريين؛ لأنه كالعطف على بعض الكلمة؛ لأن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة خافض، وإن كان لغةً فصيحةً فهو خلاف الكثير، كما أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله: وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ علَى ... ضَمِيْرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ وَلَيْسَ عِنْدِيْ لاَزِمًا إِذْ قَدْ أَتَى ... فِيْ النَّظْمِ وَالنَثْرِ الصَّحِيْحِ مُثْبَتَا وأشار بالنثر الصحيح إلى الآية، وبالنظم إلى قول الشاعر: فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُوْنَا وَتَشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ وقرأ عبد الله بن يزيد بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: والأرحام كذلك؛ أي: مما يتقى أو يتساءل به {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}: حافظًا مطلعًا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[2]

وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدًا لمجازاتكم على ذلك. والرقيب في صفته هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه، فبين بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أنه يعلم السر وأخفَى، ومن كان كذلك .. فهو جدير بأن يخاف ويتقى. 2 - ثم ذكر تعالى اليتامى فأوصى بهم خيرًا، وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}؛ أي: وأعطوا اليتامى والصغارَ الذين لا أب لهم، أموالهم التي في أيديكم، إذا بلغوا رشداء، والخطاب فيه للأولياءِ، والأوصياء واليتامى الصغار الذين مات آباؤهم، وإن كان لهم أجداد وأمهات. وإطلاق (¬1) اسم اليتامى عليهم عند إعطائهم أموالَهم، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم عنهم بالبلوغ مجاز باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى: المعنى الحقيقي، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة، والكوسة لا دفعها جميعها، وهذه الآية مقيدة بقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ولا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مجوزًا لدفع أموالهم إليهم، حتى يؤنَسَ منهم الرشد. وقال أبو السعود (¬2)؛ أي: لا تتعرضوا لأموال اليتامى بسوءٍ حتى تأتيَهم، وتصلَ سالمةً، سواء أريد باليتامى الصغار، أو ما يعم الصغارَ والكبارَ، {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ}؛ أي: لا تتبدلوا الحرامَ الذي هو مال اليتامى {بِالطَّيِّبِ}؛ أي: بالحلال الذي هو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب، بأن تتركوا أموالكم الطيبَ لكم، وتأكلوا أموالَ اليتامى من الخبيث عليكم لجودتها على أموالكم، واختلفوا (¬3) في هذا التبدل، فقال سعيد بن المسيب، والنخعي، والزهري، والسدي: كان أولياء اليتامى يأخذون الجيدَ من مال اليتيم، ويجعلون مكانَه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة، ويجعل مكانَها الهزيلةَ، ويأخذ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) أبو السعود. (¬3) الخازن.

[3]

الدرهمَ الجيدَ، ويجعل مكانَه الزيف، ويقول: شاة بشاة، ودرهم بدرهم، فذلك تبديلهم فنهوا عنه، وقال عطاء: هو الربح في مال اليتيم، وقيل: هو أكل مال اليتيم عوضًا عن أكل أموالهم فنهوا عنه. وخلاصة ذلك (¬1): واحفظوا أيها الأولياء والأوصياء أموالَ اليتامى، ولا تتعرضوا لها بسوءٍ، وسلموها لهم متى آنستم منهم رشدًا ولا تتمتعوا بأموالهم في المواضع، والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، فإذا فعلتم ذلك .. فقد جعلتم مالَ اليتيم بدلًا من مالكم. {وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ}؛ أي: أموال اليتامى مخلوطةً ومضمومةً {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} حتى لا تفرقوا بين أموالهم وأموالكم في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك قلة مبالاة بما لا يحل، وتسوية بين الحرام والحلال، فإنه لا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم. والمراد بالأكل هنا: سائر التصرفات المهلكة للأموال، وإنما ذكر الأكلَ؛ لأن معظم ما يقع من التصرفات؛ فهو لأجله {إِنَّهُ}؛ أي: إن أكل أموال اليتامى بغير حق {كَانَ} عند الله تعالى {حُوبًا}؛ أي: ذنبًا {كَبِيرًا}؛ أي: عظيمًا، وإثمًا شديدًا. والمعنى (¬2): أن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم، وخطأُ كبير فاجتنبوه. فإن اليتيم ضعيفٌ لا يقدر على حفظ ماله، والدفاع عنه، فهو في حاجة إلى رعاية، وحماية، وظلم الضعيف عند الله عظيم. وقرأ الجمهور (¬3) {حُوبًا} بضم الحاء، وقرأ الحسن {حُوبًا} بفتح الحاء، وهي لغة تميم، وغيرهم وقرأ أبي بن كعب {حُوبًا كَبِيرًا} بالألف، وكلها مصادر كقال قولًا وقالًا. 3 - ثم أرشد تعالى إلى ترك التزوج من اليتيمة إذا لم يعطها مهر أمثالها فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ} يا أولياء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) ابن كثير. (¬3) البحر المحيط.

اليتامى وعلمتم من أنفسكم {أَلَّا تُقْسِطُوا}؛ أي: أن لا تعدلوا {فِي الْيَتَامَى} إذا نكحتموهن {فَانْكِحُوا}؛ أي: فاتركوهن، وتزوجوا {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الأجنبيات؛ أي: فتزوجوا من استطابتها، وأحبتها أنفسكم، ومالت إليها قلوبكم من الأجنبيات، أو فانكحوا ما حل لكم من النساء؛ لأن منهن ما حرم الله تعالى كاللاتي في آية التحريم، وقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} بدل من {ما} في قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} والواو فيه بمعنى، أو التي للتخيير؛ أي: فانكحوا اثنين اثنين من النساء الأجنبيات، أو ثلاثةً ثلاثةً منها، أو أربعةً أربعةً منها، ولا تزيدوا على أربع؛ أي: فيجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسمًا واحدًا من هذه الأقسام بحسب حاله، فإن قدر على نكاح اثنين فاثنتان، وإن قدر على ثلاث فثلاث، وإن قدر على أربع فأربع، لا أنه يضم عددًا منها إلى عدد آخر، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة، وأن الزيادة على أربع من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة، ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة، وأنها حرام ما روي عن الحارث بن قيس أو قيس بن الحارث قال: أسلمت، وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اختر منهن أربعًا". أخرجه أبو داود. وعن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا. أخرجه الترمذي. قال العلماء (¬1): فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر، ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين، وهو قول أكثر العلماء؛ لأنه خطاب لمن ولي وملك، وذلك للأحرار دون العبيد، وقال مالك في إحدى الروايتين عنه، وربيعة: يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة، واستدل بهذه الآية. وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار، ويدل عليه آخر الآية، وهو قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا ¬

_ (¬1) الخازن.

فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والعبد لا يملك شيئًا، فثبت بذلك أن المراد بحكم الآية الأحرار دون العبيد {فَإِنْ خِفْتُمْ}؛ أي: خشيتم، وقيل: علمتم {أَلَّا تَعْدِلُوا} بين الأزواج الأربع أو ما دونها من هذه الأعداد في القسمة، والنفقة {فـ} تزوجوا {واحدة} واقتصروا عليها، ولا تزيدوا {أَوْ} استفرشوا {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وأيديكم من الإماء من غير حصر؛ لأنه لا قسمة لهن عليكم، ولكن لهن حق الكفاية في نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس، والمراد استفراشهن بطريق الملك لا بطريق النكاح، وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرةَ لقبض الأموال، وإقباضها، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب {ذَلِكَ} المذكور من الاقتصار على الواحدة، أو على التسري بالإماء {أَدْنَى}، وأقرب إلى {أَلَّا تَعُولُوا} ولا تميلوا من الحق، ولا تجوروا؛ أي: اختيار الواحدة، أو التسري أقرب من عدم الجور والظلم. والخوف (¬1) من عدم العدل يصدق بالظن والشك في ذلك، فالذي يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يشق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها. والخلاصة: أن البعد من الجور سبب في تشريع الحكم، وفي هذا إيماء إلى اشتراط العدل، ووجوب تحريه، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان، كالتسوية في المسكن، والملبس، ونحو ذلك، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى، فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه، لكنه لا يخصها بشيءٍ دونهن إلا برضاهن، وإذنهن وكان يقول: "اللهم إنّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يريد ميل القلب، وقد استبان لك مما سبق أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق، فهي ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة بإقامة العدل، ¬

_ (¬1) المراغي.

والأمن من الجور. وصفوة القول (¬1): أن تعدد الزوجات يخالف المودة، والرحمة، وسكون النفس إلى المرأة، وهي أركان سعادة الحياة الزوجية؛ فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا لضرورة مع الثقة بما أوجبه الله تعالى من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه، وامرأته وولده وأمته. وأن من يرى الفساد الذي يدب في الأسر التي تتعدد فيها الزوجات .. ليحكم حكمًا قاطعًا؛ بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال، ولا ينتظم له نظام. فإنك ترى إحدى الضرتين تغري ولدها بعداوة إخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وكثيرًا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في الأسرة كلها. وربما جر ذلك إلى السرقة، والزنا، والكذب، والقتل فيقتل الولد والدَه، والوالد ولده، والزوجة زوجَها، والعكس بالعكس كما دونت سجلات المحاكم. فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المقاصد مقدم على جلب المصالح، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار، أنْ ينظروا إلى علاج ذلك، ويضعوا من الزواجر ما يكفل منع هذه المقاصد على قدر المستطاع. مزايا تعدد الزوجات وفوائده عند الحاجة إليه الأصل في السعادة الزوجية: أن يكون للرجل زوج واحدة، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغي أن يربى عليه الناس، ويقنعوا به، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين، أو حاجة الأمة؛ فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) المراغي.

1 - أن يتزوج الرجل امرأةً عاقرًا، وهو يود أن يكون له ولد، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معًا أن تبقى زوجًا له، ويتزوج بغيرها، ولا سيما إذا كان ذَا جاء وثروة كأن يكون ملكًا أو أميرًا. 2 - وأن تكبر المرأة، وتبلغ سن اليأس، ويرى الرجل حاجتَه إلى العقب، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة، وكفاية الأولاد الكثيرين، وتعليمهم. 3 - وأن يرى الرجل أن امرأةً واحدةً لا تكفيه لإحصانه؛ لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء، ومزاجها بعكس هذا، أو يكون زمن حيضها طويلًا، يأخذ جزءًا كبيرًا من الشهر، فهو حينئذ أمامَ أحد أمرين: إما التزوج بثانية، وإما الزنا الذي يضيع الدين، والمال، والصحة، ويكون هذا شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما، كما هو شرط الإباحة في الإِسلام. 4 - وأن تكثر النساء في الأمة كثرةً فاحشة، كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد، فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال فلا وسيلة للمرأة في التكسب في هذه الحال إلا بيع عفافها، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها، وعلى ولد ليس له والد يكفله، ولا سيما عقبَ الولادة ومدة الرضاعة، والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال في المعامل، ومحال التجارة وغيره من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض، والوقوع في الشقاء والبلاء، فهذه مصيبة أي مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. حكمة تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النصيحة في اختيار كل زوجة من زوجاته، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم، وعلم أتباعه احترامَ النساء وإكرام كرائمهن، والعدلَ بينهن. وترك من بعده تسعَ أمهات للمؤمنين، يعلمن نساءَهم الأحكامَ الخاصة بالنساء، ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

مما ينبغي أن يعلمنه منهن لا من الرجال، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء، كما لو ترك التسعَ. وقصارى القول: إنه عليه السلام، ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء، والمترفون من التمتع بالنساء، إذ لو كان قد أراد ذلك لأختارهن من حسان الأبكار، لا من الكهلات الثيبات، كما قال لمن اختار ثيبًا: "هلا بكرًا تلاعبها، وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك". رواه الشيخان. وقرأ الجمهور (¬1): {أَلَّا تُقْسِطُوا} بضم التاء من أقسط الرباعي بمعنى عدل، وقرأ النخعي، وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط الثلاثي، بمعنى جار ويقال: قسط بمعنى أقسط؛ أي: عدل، وقرأ ابن أبي عبلة {من طاب} وقرأ الجمهور {مَا طَابَ} فقيل {ما} بمعنى من، وقيل عبر بـ {ما} عن النساء؛ لأن إناثَ العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقرأ ابن أبي إسحاق، والجحدري، والأعمش {طاب}. بالإمالة، وفي مصحف أبي. {طيب} بالياء، وهو دليل الإمالة وقرأ النخعي، ويحيى بن وثاب {ثلث وربع} بغير ألف، وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر، وابن هرمز {فواحدة} بالرفع، ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: فواحدة كافية وقرأ ابن أبي عبلة {أو من ملكت أيمانكم} وقرأ الجمهور {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}؛ أي: تجوروا من عال الرجل يعول إذا مال، وجار، وقرأ طلحة بن مصرف {أن لا تعيلوا} بفتح التاء؛ أي: لا تفتقروا من العيلة، وقرأ طاووس {أن لا تعيلوا} من أعال الرجل إذا كثر عياله. 4 - ولما أذن الله سبحانه وتعالى في نكاح الأربع، وما دونها أمر الأزواج باجتناب ما كانوا عليه في الجاهلية، قيل: كان الرجل منهم يتزوج بلا مهر، ويقول: أرثك وترثيني، فتقول: نعم، فأمروا بأن يسرعوا إعطاء المهور، فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ}؛ أي: وأعطوا أيها الأزواج النساء اللواتي تعقدون عليهن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{صَدُقَاتِهِنَّ}؛ أي: مهورهن حالة كونها {نِحْلَةً}؛ أي: عطية من الله سبحانه وتعالى فرضها لها بلا مقابلة مال؛ ليكون رمزًا للمودة التي ينبغي أن تكون بينكما، وآية من آيات المحبة، ودليلًا على وثيق الصلة، والرابطة التي تجب أن تكنفكما، وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء، فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل، وملابس، ومصوغات إلى نحو ذلك مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته في الحياة. وسمي (¬1) الصداق نحلة من حيث أنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عوض مالي، وقيل (¬2): معناه: فريضة كما قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، وإنما فسروا النّحلة بالفريضة؛ لأن النحلة في اللغة معناها: الديانة، والملة، والشرعة، والمذهب فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}؛ أي: أعطوهن مهورهن؛ لأنها شريعة، ودين، ومذهب، وما هو كذلك، فهو فريضة {فَإِنْ طِبْنَ} النساء المتزوجات {لَكُمْ} أيها الأزواج {عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ}؛ أي: من الصداق المعين فوهبن لكم شيئًا منه بطيب نفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن؛ أي: فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئًا من الصداق من غير ضرار، ولا خديعة {فَكُلُوهُ}؛ أي: فخذوا ذلك الشيء وتصرفوا فيه، وانتفعوا به، وهو أمر إباحة، وعبر بالأكل؛ لأنه معظم الانتفاع؛ أي: {فَكُلُوهُ} أكلًا {هَنِيئًا}؛ أي: حلالًا لا إثم عليه في الدنيا {مَرِيئًا}؛ أي: طيبًا لا مؤاخذة عليه في الآخرة. ومن ثم (¬3): لا يجوز للرجل أن يأكل شيئًا من مال امرأته، إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، فإذا طلب منها شيئًا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب، فلا يحل له، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى نهى عن أخذ شيء، من المرأة، في طور المفارقة فقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) مراح. (¬3) المراغي.

إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فالتحذير من أخذه في طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة، والإنفاق عليها يكون أشد، وآكد، ولكن حب المال جعل الرجال يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار. وذهب الأوزاعي (¬1) إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد، أو تقم في بيت زوجها سنة، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح، وعبد الملك بن مروان: لها أن ترجع، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، فقد روي عنه أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها، ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك، قال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت. قال الشوكاني (¬2): فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحل للزوج، ولا للولي، وإن كانت قد تلفظت بالهبة، أو النذر، أو نحوهما، وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن، وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن، وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب انتهى. وقرأ الجمهور (¬3): {صَدُقَاتِهِنَّ} بفتح الصاد، وضم الدال جمع صدقة على وزن سمرة، وقرأ قتادة وغيره، بإسكان الدال وضم الصاد جمع صدقة على وزن غرفة، وقرأ مجاهد، وموسى بن الزبير، وابن أبي عبلة، وفياض بن غزوان، وغيرهم: {صدقاتهن} بضمهما، وقرأ النخعي، وابن وثاب: {صدقتهن} بضمهما، وبالإفراد، وهو تثقيل صدقة، كظلمة في ظلمة. وقرأ الحسن، والزهري ويزيد، وكذا حمزة في الوقف {هنيا مريا} بلا همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياءً، وأدغموا فيها ياء المدح، وهمزهما الباقون. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح القدير. (¬3) البحر المحيط.

[5]

5 - ولما أمر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاء النساءِ مهورهن .. أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين جميعًا، وهو: أن لا يكون كل منهما سفيهًا مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تَحسن أحوالُهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنهم لا ينبغي الإسراف في أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيًّا. فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرًا .. فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أهل المروءة، كما مر هذا الكلام بعينه في بحث المناسبة، فقال: {وَلَا تُؤْتُوا}؛ أي: ولا تعطوا أيها الأولياء {السُّفَهَاءَ}؛ أي: الضعفاء العقول المبذرين للأموال بصرفها في غير مصارفها {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَكُمْ قِيَامًا}؛ أي: حياة ومعيشة تنتعشون بها، وتقومون بها، وهذا نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم، فيضيعوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء في قوله: {أَمْوَالَكُمُ}، ولم يقل: أموالهم مع أن الخطاب للأولياء، والمال مال السفهاء الذين في ولايتهم؛ لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم ولينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه، فإضاعته مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي، فكأن ماله عين ماله، وإلى أن الأمة متكافلة في المصالح، فمصلحة كل فرد فيها، كأنها مصلحة للآخرين، والحاصل: أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، والمراد بالسفهاء: الصغار، والبالغون المبذرون من الأولاد، وهذا القول هو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة. وقيل (¬1): المراد بالسفهاء: امرأتك، وابنك السفيه. قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خوله الله لك، وجعله لك معيشةً فتعطيه امرأتَك، وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما بين أيديهم، أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم، ومؤونتهم. ¬

_ (¬1) الخازن والبيضاوي.

وقال الكلبي: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهةٌ مفسدة، وأن ولده سفيهٌ مفسد، لا ينبغي له أن يسلط واحدًا منهما على ماله، فيفسده، وإنما سماهم سفهاء استخفافًا بعقلهم، واستهجانًا لجعلهم قوامًا على أنفسهم، وعلى هذا فالإضافة في قوله {أَمْوَالَكُمُ} على ظاهرها وحقيقتها. ومعنى جعل الأموال قيامًا للناس (¬1): أن بها تقوم وتثبت منافعهم، ومرافقهم، فمنافعُهم الخاصة ومصالحهم العامة، لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالهم في أيدي الراشدين المقتصدين منهم، الذين يحسنون تثميرها، وتوفيرَها، ولا يتجاوزون حدودَ المصلحة في الإنفاق. وفي هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته (¬2)، فإن الأموال إذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين، فات ما كان من تلك المنافع قائمًا، ومن ثم وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وقد ورد في السنة النبوية حث كثير على الاقتصاد من ذلك: ما رواه أحمد عن ابن مسعود "ما عال من اقتصد" وما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم". وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليومَ ما نرى من الإسراف والتبذير، بإنفاق أموالهم في غير مصارفها، من المغنيات، والملاهي، وسائر وجوه المحرمات، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد، وما للتبذير من مضار، انظر إلى ما للمال في هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة على المال، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد، وليس في أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد، وجمع المال، ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) مغبته - بتشديد الباء المفتوحة -: أي عاقبته اهـ م.

القرآن وراء ظهورنا، وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم، وبالغوا في التزهيد، والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدي، مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظةً على ما في أيديهم، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال، وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب في الآخرة، والعمل لها، لكنهم زهدوهم في الدنيا وقطعوهم عن الآخرة، فخسروهما معًا، وما ذاك إلا لجهلهم بهدي الإِسلام، وهو السعي للدنيا، والعمل للآخرة كما ورد في الأثر "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا" وكانوا يقولون: اتجروا، فإنكم في زمان، إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وقرأ الحسن (¬1)، والنخعي {اللاتي جعل الله لكم قيامًا} وهو في المعنى جمع التي، وقرأ الجمهور {الَّتِي} بالإفراد، قال ابن عطية: والأموال جمع لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى كما قال بعضهم: وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ ... الأفْصَحُ الإِفرَادُ فِيهِ يَا فُلُ وقرىء شاذًا {اللواتي}، وهو أيضًا في المعنى جمع التي. وقرأ نافع، وابن عامر {قيمًا} وجمهور السبعة {قِيَامًا} ولما انكسرت القاف في قوام، أبدلوا الواو ياءً. وعبد الله بن عمر {قوامًا} بكسر القاف، والحسن، وعيسى بن عمر {قوامًا} بفتحها، ورويت عن أبي عمرو، وقرىء شاذًا {قومًا} فأما {قيمًا} فمصدر كالقيام، والقوام، قاله الكسائي، والفراء، والأخفش، وليس مقصورًا من قيام، وقيل: هو مقصور منه. قالوا: حذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام. {وَارْزُقُوهُمْ}؛ أي: وأطعموا السفهاء، واليتامى {فِيهَا}؛ أي: من أموالهم التي في أيديكم، وأنفقوا عليهم منها {وَاكْسُوهُمْ}؛ أي: ألبسوهم منها، وإنما قال الله {فِيهَا} ولم يقل: منها. كما هو ظاهر السياق، لئلا يكون ذلك أمرًا بجعل ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[6]

بعض أموالهم رزقًا لهم، بل أمرهم بأن يجعلوا أموالَهم مكانًا لرزقهم، وكسوتهم بأن يتجروا فيها، ويثمروها، فيجعلوا أرزاقَهم من الأرباح لا من أصول المال، فيأكلها الإنفاق. والمعنى: أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال اليتامى والسفهاء، وتثميرها حتى كأنها أموالكم، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتَهم من الطعام، والثياب وغير ذلك. والرزق (¬1) من الله تعالى: هو العطية من غير حد، ولا قطع، ومعنى الرزق من العباد: هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود. والرزق يعم وجوه الإنفاق كلها، كالأكل، والكسوة، والسكن، والزواج، وإنما خص الكسوةَ بالذكر؛ لأن الناس يتساهلون فيها أحيانًا {وَقُولُوا}: أيها الأولياء {لَهُمْ}؛ أي: لليتامى، والسفهاء {قَوْلًا مَعْرُوفًا}؛ أي: جميلًا، حسنًا، شرعًا، وعقلًا وهو كل ما سكنت إليه النفس، واطمأنت به؛ لأن القول الجميل يؤثر في القلب، ويزيل السفَهَ، كأن يقول الولي له: إذا كان صغيرًا المال مالك، وأنا أمين عليه، وخازن له لك، وإذا كبرت ورشدتَ سلمت إليك أموالك، وإذا كان سفيهًا وعظه، ونصحه، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبةَ ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد، وبذا قد تحسن حاله، فربما كان السفه عارضًا لا فطريًّا، فبالنصح والإرشاد، والتأديب يزول ذلك العارض، ويصبح رشيدًا. وأين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم في غيهم، وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد. وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم!. 6 - وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء اليتامى أموالَهم، وكان هذا مجملًا ¬

_ (¬1) الخازن.

ذكر كيفية ذلك الإيتاء، ووقته فقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية (¬1) نزلت في ثابت بن رفاعة، وفي عمه، وذلك أن رفاعة مات، وترك ابنه ثابتًا، وهو صغير فجاء عمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}؛ أي: واختبروا أيها الأولياءُ الصغارَ الذين لا أب لهم قبل البلوغ، في عقولم، وأديانهم، وتصرفهم في أموالهم بما يليق بحالهم، بأن تجربوا ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماكسة فيهما، وولد الزراع بالزراعة، والنفقة على القوام بها، والأنثى فيما يتعلق بالغزل، والقطن، وصون الأطعمة عن الهرة ونحوها، وحفظ متاع البيت، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدة في خبز وماء ولحم ونحوها. قال أبو حنيفة رحمه الله (¬2): تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة؛ لأن قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم، وقال الشافعي: ولا يصح عقد الصبي المميز بل يُمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد .. عقد الولي؛ لأنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر، فثبت عدمُ جواز تصرفه حالَ الصغر {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}؛ أي: اختبروهم في عقولهم، وجربوهم في تصرفاتهم إلى وقت بلوغهم زمن صلاحية النكاح، والزواج، والوطء بأن يبلغ بالاحتلام، أو باستكمال خمس عشرة سنة، عند الشافعي، أو ثماني عشرة سنة عند أبي حنيفة، وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ؛ لأنه يصلح للنكاح عنده، فإذا بلغوا، ووصلوا زمنَ صلاحية النكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ} وعلمتم {مِنْهُمْ}؛ أي: من اليتامى الذين وصلوا زمن النكاح والزواج {رُشْدًا}؛ أي: هداية في التصرفات، وصلاحًا في المعاملات من غير تبذير، وعجز عن خديعة الغير، وقيل: معنى رشدًا؛ أي: عقلًا، وصلاحًا في الدين، وحفظًا للمال، وعلمًا بما يصلحه {فَادْفَعُوا}، وسلموا {إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} التي عندكم من غير تأخير عن وقت البلوغ، وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد بلوغهم، وإيناس الرشد منهم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) مراح.

وقال ابن سيرين (¬1): لا يدفع إليه المال بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضيَ عليه سنة كاملة، وتداوله الفصول الأربع، وظاهر الآية أنه إن لم يونس منه رشد، بقي محجورًا عليه دائمًا، ولا يدفع إليه المال، وبه قال الجمهور. وقال النخعي، وأبو حنيفة: ينتظر به خمس وعشرون سنة، ويدفع إليه ماله، أُونس منه الرشد أو لم يؤنس، وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به، وقالت طائفة: يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان، ويثبت رشدَه عنده. وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك، فقيل: يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بالبلوغ. وقال المراغي (¬2) والمعنى: أيها الأولياء، ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ، وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدًا، فادفعوا إليهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم، ويرى أبو حنيفة دَفعَ مال اليتيم إليه، إذا بلغ خمسًا وعشرين سنةً، وإن لم يرشد. انتهى. وقرأ (¬3) ابن مسعود {فإن أحستم منهم رشدًا} يريد أحسستم فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ، لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة، وحكى غير سيبويه أنها لغة سليم، وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن، وأبو السمال، وعيسى الثقفي {رشدًا} بفتحتين، وقرىء شاذًا {رشدًا} بضمتين، قيل: هما لغتان، وقيل: هو بالضم مصدر رشد، من باب: قعد، وبالفتح مصدر رَشِدَ من باب: طرب، وقراءة الجمهور {رُشْدًا} بضم الراء، وسكون الشين. فصل في بيان البلوغ البلوغ يحصل بأربعة أشياء: اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء، واثنان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

يختصان بالنساءِ. أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساءِ: فأحدهما: السن، فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنةً حكم ببلوغه غلامًا كان أو جاريةً، ويدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني ثم عرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أخرجه الشيخان في "الصحيحين". وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة. والثاني: الاحتلام، وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع؛ فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" أما إنبات الشعر الخشن حول الفرج، فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين، لما روي عن عطية القرظي قال: كنت من سبط قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أثبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت ممن لم ينبت، وهل يكون ذلك علامة على البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يكون بلوغًا كما في أولاد المشركين. والثاني: لا يكون ذلك بلوغًا في حق أولاد المسلمين؛ لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين، والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار، فإنه لا يوقف على مواليدهم، ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغًا في حقهم. وأما الذي يختص بالنساء: فهو الحيض والحبل، فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين، حكم ببلوغِهَا، وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها، قبل الوضع بستة أشهر؛ لأنها أقل مدة الحمل. قيل (¬1): ومن علامات البلوغ الحيض ¬

_ (¬1) صاوي.

كما ذكر، وكبر الثدي للإناث، ونبات العانة، ونتن الإبط، وفرق الأرنبة، وغلظ الحنجرة للذكور، فإذا وجدت تلك العلامات حكم ببلوغه عند مالك، وأما عند الشافعي فلا يحكم بالبلوغ إلا بالاحتلام، أو الحيض، أو كمال خمس عشرة سنة، وما عدا ذلك علامة على البلوغ، ولا يحكم عليه به. {وَلَا تَأكُلُوها}؛ أي: ولا تأكلوا أيها الأولياء، والأوصياء أموالَ اليتامى حالةَ كونكم {إِسْرَافًا}؛ أي: مسرفين، ومجاوزين الحد الشرعي، في الإنفاق، ولو على اليتيم نفسه {و} حالة كونكم {بدارًا}؛ أي: مبادرينَ ومسرعين إلى إنفاقها {أَنْ يَكْبَرُوا}؛ أي: مخافة كبرهم، رشداءَ فيمنعوكم عن ذلك، ويلزمكم تسليمها إليهم، وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى، فينزعوها من أيدينا. ولما كانت هاتان الحالتان الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف من مواطن الضعف التي تعرض للإنسان نهى الله عنهما، ونبه الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم، أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوفَ أخذها عند البلوغ، فقد ذكر الله تعالى حكمه بقوله: {وَمَنْ كَانَ} منكم أيها الأولياء {غَنِيًّا}؛ أي: غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته {فَلْيَسْتَعْفِفْ}؛ أي: فليعف نفسه عن الأكل من ماله، وليتنزه عن أكله، وليقنع بما آتاه الله من الرزق، إشفاقًا على اليتيم، وإبقاءً على ماله، ولا ينقص منه شيئًا قليلًا ولا كثيرًا {وَمَنْ كَانَ} منكم {فَقِيرًا}؛ أي: محتاجًا لا يستغنى عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته في تثميره، وحفظه {فَلْيَأكُلْ} منه {بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا، وعند الناس وهو ما يبيحه الشرع، ولا يستنكره أرباب المروءة، ولا يعدونه خيانةً، وطمعًا، وقيل (¬1): {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بقدر أجرة خدمته لليتيم، وعمله في ماله، وقيل {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بالقرض، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات، ولم يقدر على القضاءِ، فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن ¬

_ (¬1) المراح.

جبير، ومجاهد، وأبي العالية، وهذا القرض في أصول الأموال، أما نحو ألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب، فمباح لنحو الوصي، إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاعات، ومحل ذلك في غير الحاكم، أما هو: فليس له ذلك لعدم اختصاص ولايته بالمحجور عليه، بخلاف غيره، حتى أمينه كما صرح به المحاملي، وله الاستقلال بالأخذ منه من غير مراجعة الحاكم، ومعلوم أنه إذا نقصت أجرة الأب، أو الجد، أو الأم إذا كانت وصية عن نفقتهم، وكانوا فقراء يتمونها من مال محجورهم؛ لأنها إذا وجبت بلا عمل فمعه أولى، ولا يضمن المأخوذَ؛ لأنه بدل عمله. قال ابن جرير: إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالًا للولي؛ فليس له أن يأكل منه شيئًا، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة، كما يستقرض له، وله أن يؤاجر نفسَه لليتيم بأجرة معلومة، إذا كان اليتيم محتاجًا إلى ذلك، كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حالَ غنى، ولا حالَ فقر، وهكذا الحكم في أموال المجانين، والمعاتيه: جمع معتوه ناقص العقل من غير جنون. وقد روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس لي مال وإني ولي يتيم، فقال: "كل (¬1) من مال يتيمك، غير مسرف، ولا متأثل مالًا، ومن غير أن تقي مالك بماله". والحكمة في هذا: أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده، والخير له في تربيته أن يخالط الولي وأهله في المؤاكلة والمعاشرة، فإذا كان الولي غنيًّا لا طمع له في ماله، كانت المخالطة مصلحة لليتيم، وإن كان ينفق فيها شيء من ماله فبقدر حاجته، وإن كان فقيرًا .. فهو لا يستغني عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغني الذي في حجره، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب المال شيئًا، ولا متأثل لنفسه منه عقارًا، ولا مالًا ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

آخر، ولا منفق مالَه في مصالحه ومرافقه كان بعمله هذا آكلًا بالمعروف. {فَإِذَا دَفَعْتُمْ} وسلمتم أيها الأولياء، والأوصياء {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى اليتامى {أَمْوَالَهُمْ} بعد البلوغ، والرشد، {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على استلامهم إياها، منكم بإقباضكم إياهم، وبراءة ذممكم منها كي لا يكون نزاع بينكم، فإنه أنفى للتهمة، وأبعد من الخصومة. وهذا (¬1) الإشهاد واجب عند الشافعية، والمالكية؛ إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم، والتقاضي كما هو مشاهد، وجعله الحنفية مندوبًا، لا واجبًا {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}؛ أي: وكفى الله سبحانه وتعالى محاسبًا، ومجازيًا للمحسنين، والمسيئين، وشاهدًا عليهم، فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب فإنه يحاسبكم على ما تسرون، وما تعلنون، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تتجاوزوا ما حَدَّ لكم. وقد جاء بهذا بعد الأمر بالإشهاد، ليرشدنا إلى أن الإشهاد، وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله، إذا كان الولي خائنًا. فإن الله لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود، والحُكّام، وعلى الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموالَ اليتامى بضروب من الصيانة، والحفظ، فأمر باختبار اليتيم، قبل دفع ماله إليه، ونهى عن أكل شيء منه بطرق الإسراف، ومبادرة كبره، وأمرَ بالإشهاد عليه عند الدفع، ونبه إلى مراقبة الله تعالى في جميع التصرفات الخاصة به. 7 - {لِلرِّجَالِ}؛ أي: للذكور من أولاد الميت، وأقربائه صغارًا أو كبارًا {نَصِيبٌ}؛ أي: حظ {مِمَّا تَرَكَ}؛ أي: من الميراث الذي تركه {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} المتوفون {وَلِلنِّسَاءِ}؛ أي: وللإناث من بنات الميت، وقراباته، {نَصِيبٌ}؛ أي: حظ {مِمَّا تَرَكَ} {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} المتوفون قيل: سبب نزول هذه الآية: خبر أم كحلة زوجة أوس بن ثابت الأنصاري، وقد تقدم في أسباب النزول. ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

قال المروزي (¬1): كان اليونان يعطون جميع المال للبنات؛ لأن الرجال لا يعجز عن الكسب، والمرأة تعجز، وكانت العرب لا يعطون البنات، فرد الله على الفريقين، والمعنى بالرجال المذكور، وبالنساء الإناث، وقال الشوكاني (¬2): لما ذكر الله سبحانه وتعالى حكم أموال اليتامى وصله بأحكام المواريث، وكيفية قسمتها بين الورثة، وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهن في هذا الحكم، وللاعتناء بأمرهن، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، ولم يستفد من الآية الرد عليهم في حرمان الزوجة؛ لأن الزوج ليس والدًا، ولا قريبًا لها، فكأن حكمها أستفيد مما سيأتي، ومن السنة، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص، وقوله {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} أي مما تركوه أي من المال المخلف من الميت {أَوْ كَثُرَ} منه بدل من قوله {مِمَّا تَرَكَ} بإعادة الجار، والضمير في قوله {مِنْهُ} راجع إلى المبدل منه، وأتى بهذا البدل لتحقيقِ أن لكل من الفريقين حقًّا من كل ما جل ودق، ولدفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل، وآلات الحرب للرجال حالة كون نصيب كل من الفريقين {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}؛ أي: حظًّا مقدرًا لهم مقطوعًا بتسليمه إليهم؛ فلا يسقط بإسقاطهم، ففي الآية (¬3) دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض. وقد أجمل الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قدر النصيب المفروض ثُمَّ أنزل قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} فبين ميراث كل فرد، ومعنى الآية (¬4) أنه إذا كان لليتامى مالُ مما تركه لهم الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء لا فرق بين الرجال والنساء، ولا فرق بين كونه كثيرًا أو قليلًا، وأتى بقوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} لبيان أنه حق معين مقطوع به، ليس لأحد أن ينقص منه شيئًا، ولا أن يحابى فيه. 8 - {وَإِذَا حَضَرَ} وجاء {الْقِسْمَةَ}؛ أي: محل قسمة التركة بين الورثة {أُولُو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح القدير. (¬3) البيضاوي. (¬4) المراغي.

الْقُرْبَى}؛ أي: أصحاب قرابة الميت ممن لا يرث، لكونه عاصبًا، محجوبًا كالأخ لأب مع الأخ الشقيق، والعم مع الأب، أو لكونه من ذوي الأرحام، كالخال والخالة، {وَالْيَتَامَى}؛ أي: يتامى المؤمنين الأجانب {وَالْمَسَاكِينُ}؛ أي: مساكين المؤمنين الأجانب {فَارْزُقُوهُمْ}؛ أي: فأعطوا ندبًا أيها الورثة الكاملون هؤلاء الأصناف الثلاثة الحاضرين محل القسمة {مِنْهُ}؛ أي: من المال المقسوم بينكم قبل القسمة شيئًا، ولو قليلًا؛ أي: إذا حضر قسمة التركة أحد من هؤلاء الأصناف الثلاثةِ المذكورينَ فأعطوهم أيها الورثة الكاملون بشيء من الرزق الذي أتاكم من غير كد ولا نصب، فلا ينبغي أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وتتركوهم يذهبون منكسري القلب مضطربي النفس، {وَقُولُوا} أيها الورثة الكاملون مع الإعطاء المذكور {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء الأصناف الحاضرين محل القسمة {قَوْلًا مَعْرُوفًا}؛ أي: قولًا لينًا طيبًا تطيب به نفوسهم عندما يعطون، حتى لا يثقل على أبيِّ النفس منهم ما يأخذ، ويرضي الطامع في أكثر مما أخذ بما أخذ بالتودد، والتلطف في القول، وعدم التغليظ فيه. وقيل: الخطاب في الآية على التوزيع، فالخطاب في الرزق للورثة الكاملين، وفي القول لأولياء الورثة غير الكاملين، والمعنى حينئذ. فارزقوهم أيها الورثة الكاملون من المال المقسوم شيئًا من الرضخ، وقولوا: يا أولياء الورثة غير الكاملين لهؤلاء الأصناف الحاضرين قولًا معروفًا جميلًا كأن يقول الولي لهم: هذا المالُ لهؤلاء الضعفاء، الذين لا يعقلون، وليس لي فيه حق فأعطيكم، ولكن إذا كبروا فيعرفون حقوقكم، فيعطوكم، أو يقول: سأوصيهم ليعطوكم شيئًا إذا كبروا. والسر في إعطائهم شيئًا من التركة: أنه ربما يسري الحسدُ إلى نفوسهم، فينبغي التودد إليهم، واستمالتهم باعطائهم قدرًا من هذا المال هبةً، أو هدية، أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، ليكون في هذا صلة للرحم، وشكر للنعمة. قال سعيد بن جبير: هذا الأمر أعني أمر الإعطاء للوجوب، وقد هجره الناس كما هَجروا العملَ بالاستئذان عند دخول البيوت، والمعتمد أنه ندبُ.

[9]

وقال الحسن، والنخعي، إن الذي أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيانُ المنقولة كالذهب، والفضة، وأما الأرضون، والرقيق، وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئًا، بل يكتفي حينئذ بقول المعروف، أو بإطعام الطعام. 9 - قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} هو خطاب (¬1) مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون له: إن ذريَتك وورثتَك لن يغنوا عنك من عذاب الله شيئًا، فأوص مالَك لفلان، ولفلان، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يَبْقَى من ماله للورثة شيءٌ أصلًا. وحاصل الكلام: أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والمعنى: وليخف الله تعالى الذين يجلسون عند المريض، ويأمرونه بإيصاء كل ماله، وليْتَّقُوا الضياعَ والفقرَ على أولاد ذلك المريض، الذي أمروه بإيصاء كل ماله؛ كما أنهم يخافون الضياع، والفقر على أولاد أنفسهم، لو أوصوا بجميع مالهم، وتركوا من بعد موتهم ذريةً ضِعافًا، وقوله: {ضِعَافًا} بمعنى صغارًا لا يقومون بأمرهم، يقرأ بالتفخيم على الأصل، وبالإمالة لأجل الكسرة، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء؛ لأنه مكسور مقدم، ففيه انحدار، وقوله: {خَافُوا} يقرأ بالتفخيم على الأصل، وبالإمالة؛ لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال، وهو خفت، وهو جواب لو، ومعناها إن. ذكره أبو البقاء. {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: فليخافوا عقابَ الله في أمر ذلك المريض بإيصاء كل ماله، وترك أولاده عالة يتكففون الناسَ {وَلْيَقُولُوا} لذلك المريض {قَوْلًا سَدِيدًا}؛ أي: قولًا عدلًا صوابًا بأن يقولوا له: إنك إن تذَر ورثتَك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، فالقول السديد: هنا أن يأمروه أن يخلفَ ماله لولده، ويتصدق بما دون الثلث، أو الثلث، ويأمروه أن يتخلص من حقوق الله، وحقوق العباد، وأن ¬

_ (¬1) المراح.

يُوصي بالقرب المقربة إلى الله سبحانه وتعالى. قال (¬1) ابن كثير: قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموتُ فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسددَه للصواب، فينظرَ لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته، إذا خشي عليهم الضيعةَ، وهكذا قال مجاهد، وغير واحد، وثبت في "الصحيحين" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال: يا رسول الله، إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي، قال: لا قال: فالشطر، قال: لا. قال: فالثلث. قال: "الثلثُ والثلثُ كثير"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك تذرَ ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس" انتهى. والمعنى (¬2): كما أنكم تكرهون بقاءَ أولادكم في الضعف والجوع من غير مال، فاخشوا الله، ولا تحملوا المريضَ على أن يحرم أولادَه الصغارَ من ماله. وحاصل الكلام: كما أنك لا ترضى مثلَ هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم. قيل: الآية تحتمل أن تكون خطابًا لمن حضر أجله، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية، لئلا تبقى ورثته فقراءَ ضعافًا ضائعينَ بعد موته، والمعنى على هذا القول؛ أي: وليخش الله سبحانه وتعالى في تكثير الوصية: المُوصُونَ الذين يخافون على أولادهم الضياعَ والفقرَ لو تركوهم من خلفهم ذريةً، ضعافًا صغارًا بلا مال، فليتقوا عقابَ الله في حرمانهم، وليقولوا في إيصائهم قولًا سديدًا، بأن اقتصروا في إيصائهم على الثلث، أو نَقَصُوا عنه. وقيل: الآية (¬3) خطاب لأولياء اليتامى، والمعنى: وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره، إذا كان في حجره، والمقصود من الآية: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، سواءً كان ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن.

[10]

وليه أو وصيه، وليفعل به ما يحب أن يفعلَ بأولاده من بعده، {فَلْيَتَّقُوا} عقاِب {اللهَ} في أمر اليتامى {وَلْيَقُولُوا} لهم: {قَوْلًا سَدِيدًا}؛ أي: سهلًا لينًا بأن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة والتأديب، ويخاطبونهم بقولهم: يا ولدي يا بني. وعبارة البيضاوي هنا: قوله تعالى (¬1): {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} الآية. أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم، الضعاف بعد وفاتهم، أو أمر للحاضرين المريضَ عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض، ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم، أو أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى، والمساكين متصورينَ أنهم لو كانوا أولادَهم بقوا خلفهم ضِعَافًا مثلهم هل يجوزون حرمانهم؟ أو أمر للموصين بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية انتهت. فالقول (¬2) السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث، ويترك الباقيَ لولده وورثته، وأن لا يحيف في وصيته، والقول السديد من الأوصياء، وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم، ولا يؤذوهم بقول ولا فعل. وقرأ الزهري والحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر بكسر لام الأمر في {ولِيخش}، وفي {فلِيتقوا}، وفي {ولِيقولوا} وقرأ الجمهور بالإسكان. 10 - {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى}، وينتفعون بها {ظُلْمًا}؛ أي: حالةَ كونهم ظالمينَ، أو على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلًا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك، أو تقديرًا لأجرة العمل {إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي} ملء {بُطُونِهِمْ نَارًا}؛ أي: حرامًا يكون سببًا لعذاب النار. ونبه بقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن {وَسَيَصْلَوْنَ}؛ أي: وسيدخلون يوم القيامة {سَعِيرًا}؛ أي: نارًا متقدة ذات لهب ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

شديد، لا يعرف قدر حرارتها إلا الله تعالى يحترقون فيها. وإنما خص الأكل بالذكر، وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات، وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال؛ لأن الضررَ يحصل بكل ذلك لليتيم، فعبر عن جميع ذلك بالأكل؛ لأنه معظم المقصود، وإنما ذكر البطون للتأكيد؛ فهو كقولك رأيت بعيني، وسمعت بأذني. وروى السدي (¬1): يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة، ولهبُ النار يخرج منْ فيه، ومن مسامعه، وأنفه، وعينيه يعرفه كل من رآه بآكل مال اليتيم. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية: انطلق من كان عنده يتيم فعزلَ طعامَه من طعامه، وشرابَه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكلَه، أو يفسدَ فاشتدَ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. وقرأ الجمهور {وَسَيَصْلَوْنَ} مبنيًّا للفاعل من الثلاثي، من صلي النار يصلاها من باب رضي، والصلي هو التسخن بقرب النار، أو مباشرتها، وقرأ (¬2) ابن عامر، وأبو بكر، وعاصم بضم الياء وفتح اللام مبنيًّا للمفعول من الثلاثي. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد، واللام مشددةً، مبنيًّا للمفعول من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى. وعبر بالصلي بالنار عن العذاب الدائم بها؛ إذ النار لا تذهب ذواتَهم بالكلية، بل كما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية، والسعير: الجمر المشتعل. ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. {يَا} حرف نداء {أي} منادى نكرة مقصودة. {ها} حرف تنبيه زائد، تعويضًا عما فات {أي} من الإضافة. {النَّاسُ} صفة لـ {أي} تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. {اتَّقُوا} فعل وفاعل والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {رَبَّكُمُ} مفعول به، ومضاف إليه. {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {ربكم}. {خَلَقَكُمْ} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة له، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ نَفْسٍ} جار ومجرور متعلق بـ {خلق}. {وَاحِدَةٍ} صفة لـ {نفس}. {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}. {وَخَلَقَ} {الواو} عاطفة. {خلق} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}. {منها} جار ومجرور متعلق بـ {خلق}. {زَوْجَهَا} مفعول به ومضاف إليه. {وَبَثَّ} الواو عاطفة. {بث} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}. {مِنْهُمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بث}. {رِجَالًا} مفعول به. {كَثِيرًا} صفة له {وَنِسَاءً} معطوف على {رِجَالًا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. {وَاتَّقُوا} {الواو} عاطفة. {اتقوا الله} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله {اتقوا ربكم}. {الَّذِي} صفة للجلالة. {تساءلون} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {تساءلون}، وهو العائد على الموصول. {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب معطوف على الجلالة، والمعنى: اتقوا الله بطاعته، واتقوا الأرحامَ التي تساءلون بها بصلتها، فإنها مما أمر الله تعالى أن يوصلَ، وقيل: معطوف على محل الجار والمجرور، في قوله {بِهِ} كقولك مررت بزيد وعمرًا، والمعنى: اتقوا الله الذي تساءلون به، وتتساءلون بالأرحام،

وبالجر عطفًا على الضمير في {بِهِ} كما مر في بحث التفسير. {إِنَّ اللَّهَ} {إن} حرف نصب، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} اسمها، {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {رَقِيبًا}. {رَقِيبًا} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}. {وَآتُوا الْيَتَامَى} فعل وفاعل، ومفعول أول {أَمْوَالَهُمْ} مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} الواو عاطفة. {لا} ناهية. {تَتَبَدَّلُوا} فعل، وفاعل مجزوم. بـ {لا} الناهية. {الْخَبِيثَ} مفعول به. {بِالطَّيِّبِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَآتُوا}. {وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} الواو عاطفة. {لا} ناهية. {تَأكُلُوا} فعل، وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {أَمْوَالَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {آتُوا} {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {أَمْوَالَهُمْ} تقديره: حالة كونها مضافة {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} {إن} حرف نصب وتوكيد. {الهاء} ضمير عائد على المصدر المفهوم من {لا تأكلوا} تقديره: إن أكلها في محل النصب اسمها {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الضمير في {إِنَّهُ}. {حُوبًا} خبرها. {كَبِيرًا} صفته، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. {وَإِنْ خِفْتُمْ} الواو استئنافية. {إن} حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لـ {إنَّ} {أَلَّا تُقْسِطُوا} {أن} حرف نصب ومصدر. {لا} نافية. {تقسطوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن}. {في اليتامى} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وإن خفتم عدم

إقساطكم في اليتامى. {فَانْكِحُوا} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة طلبية. {انكحوا} فعل وفاعل في محل الجزم، بـ {إن} على كونه جواب الشرط. {مَا طَابَ} {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {انكحوا}. {طَابَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {ما} والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {طاب} وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {مِنَ النِّسَاءِ} جار ومجرور حال من فاعل {طَابَ}. {مَثْنَى} حال من {ما} في قوله {مَا طَابَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف منع مع ظهورها التعذر؛ لأنه اسم قصور، ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف: علتان، فرعيتان، معتبرتان، من علل تسع، ترجع إحداهما إلى اللفظ، والأخرى إلى المعنى، وهما العدل، والوصف وهو جامد مؤول بمشتق تقديره، حالة كونه معدودًا باثنين اثنين. {وَثُلَاثَ} {وَرُبَاعَ} معطوفان على {مَثْنَى} معدولان من ثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والأصل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. {فَإِنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم جواز نكاح مثنى وثلاث ورباع، وأردتم بيانَ حكم ما إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن .. فأقول لكم {إن خفتم} {إن} حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {أَلَّا تَعْدِلُوا} أن حرف نصب ومصدر. {لا} نافية. {تعدلوا} فعل وفاعل منصوب بإن، وجملة {أَلَّا تَعْدِلُوا} صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: {فَإِنْ خِفْتُمْ} عدم عدلكم فيما فوق الواحدة {فَوَاحِدَةً} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية المحذوف تقديره: {فانكحوا} واحدة. {واحدة} مفعول لذلك المحذوف، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.

{أَوْ} حرف عطف. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على واحدة، أو منصوب بعامل محذوف تقديره: أو تسروا ما ملكت أيمانكم على حد علفتها تبنًا، وماءَ باردًا. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: أو ما ملكته أيمانكم. {ذَلِكَ} مبتدأ. {أَدْنَى} خبره، والجملة مستأنفة. {أن} حرف مصدر. {لا} نافية. {تَعُولُوا} فعل وفاعل منصوب بأن، وجملة {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإلى محذوفًا، تقديره: ذلك الاقتصار على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم أقرب إلى عدم عولكم وجوركم في الاثنتين، وما فوقهما. {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. {وَآتُوا} {الواو} استئنافية. {آتوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {النِّسَاءَ} مفعول أول. {صَدُقَاتِهِنَّ} مفعول ثان، ومضاف إليه. {نِحْلَةً} حال من صدقاتهن أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مصدر معنوي لـ {آتُوا}. {فَإِنْ طِبْنَ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم وجوب إيتاء الصداق للنساء، وأردتم بيان حكم ما إذا وهبن لكم فأقول لكم: {فَإِنْ طِبْنَ} إن حرف شرط {طِبْنَ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {طبن} {عَنْ شَيْءٍ} جار ومجرور متعلق به. {مِنْهُ} جار ومجرور صفة لـ {شَيْءٍ}. {نَفْسًا} تمييز محول عن فاعل {طِبْنَ} منصوب به. {فَكُلُوهُ} الفاء رابطة الجواب. {كلوه} فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها {هَنِيئًا مَرِيئًا} حالان من ضمير المفعول، أو منصوبان على المفعولية المطلقة تقديره أكلا هنيئًا مريئًا، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. {وَلَا} {الواو} استئنافية {لا} ناهية جازمة. {تُؤْتُوا} فعل وفاعل. {السُّفَهَاءَ} مفعول أول. {أَمْوَالَكُمُ} مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.

{الَّتِي} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {أموالكم}. {جَعَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل. {لَكُمْ} متعلق به. {قِيَامًا} مفعول ثان. لـ {جعل}، والأول محذوف تقديره جعلها الله لكم قيامًا، والجملة صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف. {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}. {وَارْزُقُوهُمْ} {الواو} عاطفة. {ارزقوهم} فعل وفاعل ومفعول. {فِيهَا} جار ومجرور متعلق بـ {ارزقوا} و {في} بمعنى من الابتدائية. {وَاكْسُوهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على {وَلَا تُؤْتُوا}. {وَقُولُوا} الواو عاطفة. {قولوا} فعل وفاعل معطوف على {وَلَا تُؤْتُوا}. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {قولوا}. {قَوْلًا} منصوب على المفعولية المطلقة. {مَعْرُوفًا} صفة لـ {قولا}. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. {وَابْتَلُوا} {الواو} استئنافية. {ابتلوا اليتامى} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {حَتَّى} حرف ابتداء لدخولها على الجملة، فلا عمل لها، وإنما دخلت على الكلام لمعنى الغاية، كما تدخل على المبتدأ، أو حرف جر وغاية لكون ما بعدها غايةً لما قبلها، و {إذا} حينئذ مجردة عن معنى الشرط. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط. {بَلَغُوا النِّكَاحَ} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَإِنْ آنَسْتُمْ} {الفاء} رابطة لجواب إذا لكون الجواب جملة شرطية {إن} حرف شرط {آنَسْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {مِنْهُمْ} متعلق به. {رُشْدًا} مفعول به. {فَادْفَعُوا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. {ادفعوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {إِلَيْهِمْ} متعلق به. {أَمْوَالَهُمْ} مفعول به ومضاف إليه، وجملة إن الشرطية من فعل شرطها وجوابها جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب على القول بأن {حَتَّى} حرف ابتداء، أو في محل الجرب {حتى} على القول بأن {حتى} حرف جر

وغاية، والمعنى على الأول: أعني كونها حرف ابتداء إذا بلغوا النكاحَ راشدينَ، فادفعوا إليهم أموالهم. والمعنى على الثاني: أعني كونها حرف جر وغاية، وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، واستحقاقهم دفع أموالهم بشرط إيناس الرشد. {وَلَا تَأكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}. {وَلَا} {الواو} استئنافية. {لا} ناهية جازمة. {تَأكُلُوهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {إِسْرَافًا وَبِدَارًا} حالان من الفاعل، ولكن بتأويلهما بمشتق؛ أي: حالة كونكم مسرفينَ، ومبادرينَ إلى أكلها، أو مفعولان لأجله؛ أي: لأجل الإسراف، والمبادرة لهم إلى أكلها. {أَنْ يَكْبَرُوا} فعل، وفاعل منصوب {بأن} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر، تقديره: مَخَافة كبرهم، والمصدر المقدر منصوب على المفعولية لأجله، أو الجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعول {وَبِدَارًا} تقديره: ومبادرين كبرهم. {وَمَنْ} الواو استئنافية. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير يعود على {من}. {غَنِيًّا} خبرها. {فَلْيَسْتَعْفِفْ} الفاء رابطة لجواب من الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {من} وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {من} اسم شرط مبتدأ. {كَانَ فَقِيرًا} فعل شرط لها {فَلْيَأكُلْ} في محل الجزم جوابها، والجملة معطوفة على جملة {من} الأولى {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق بـ {يأكل} أو صفة لمصدر محذوف تقديره؛ أي: أكلًا ملتبسًا بالمعروف. {فَإِذَا} {الفاء} استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم وجوبَ الدفع إليهم عند إيناس الرشد منهم، وأردتم بيانَ ما ينبغي لكم عند الدفع فأقول: {إذا دفعتم} إذا ظرف لما يستقبل من الزمان. {دَفَعْتُمْ} فعل وفاعل. {إِلَيْهِمْ} متعلق به. {أَمْوَالَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه،

والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَأَشْهِدُوا} {الفاء} رابطة لجواب {إذا}. {شهدوا} فعل وفاعل جواب {إذا} لا محل له من الإعراب. {عَلَيْهِمْ} متعلق به، وجملة {إذا} مستأنفة، أو في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} الواو استئنافية. {كفى} فعل ماض. {باِللهَ} الباء (¬1) زائدة. ولفظ الجلالة فاعل، ودخلت عليه {الباء}؛ لتدل على معنى الأمر، إذ التقدير اكتف بالله، وقيل: إن الفاعل مضمر، والتقدير: كفى الإكتفاء بالله، فبالله على هذا في موضع نصب مفعولًا به. {حَسِيبًا} حال، وقيل: تمييز، وكفى يتعدى إلى مفعولين، وقد حذفا هنا، والتقدير: كفاك الله شرهم، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ذكره أبو البقاء. {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}. {لِلرِّجَالِ} جار ومجرور خبر مقدم. {نَصِيبٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {نصيب}. {تَرَكَ الْوَالِدَانِ} فعل وفاعل. {وَالْأَقْرَبُونَ} معطوف عليه، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: مما تركه الوالدان. {وَلِلنِّسَاءِ} الواو عاطفة. {للنساء} جار ومجرور خبر مقدم. {نَصِيبٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}. {وَالْأَقْرَبُونَ} صفة لـ {نصيب}. {مِمَّا قَلَّ} جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ} بإعادة الجار، وجملة {قَلَّ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير الفاعل. {والهاء} في {مِنْهُ} عائد إلى {ما} في قوله: {مِمَّا تَرَكَ}، وهذا البدل مقدر أيضًا في الجملة الأولى، أعني قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} محذوف لعلمه من المذكور، ويجوز (¬2) أن يكون الجار والمجرور في قوله: {مِمَّا قَلَّ} حالًا من الضمير ¬

_ (¬1) عكبري. (¬2) عكبري.

المحذوف في {تَرَكَ}؛ أي: وللنساء نصيب مما تركه الوالدان، والأقربون حالة كونه قليلًا. أو كثيرًا، أو مستقرًا مما قلَّ {أَوْ كَثُرَ} معطوف على {مما قلّ} منصوب على المصدرية بعامل محذوف تقديره: نصبهم نصيبًا؛ أي: أعطاهم الأنصباء عطاءً مقدرًا بما لا يزيد، ولا ينقص، وقيل: هو حال مؤكدة، والعامل فيها: معنى الاستقرار في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} وقيل: هو حال من الفاعل في {قَلَّ} {أَوْ كَثُرَ} وقيل: هو مفعول لفعل محذوف تقديره: أوجب لهم نصيبًا، وقيل: هو منصوب على إضمار أعني، ذكره أبو البقاء. {مَفْرُوضًا} صفة لـ {نصيبا}. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}. {وَإِذَا} {الواو} استئنافية. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} فعل ومفعول وفاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، {وَالْيَتَامَى} معطوف على {أُولُو الْقُرْبَى} {وَالْمَسَاكِينُ} معطوف عليه أيضًا {فَارْزُقُوهُمْ} {الفاء} رابطة لجواب {إذا}. {ارزقوهم} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} الشرطية مستأنفة. {مِنْهُ} جار ومجرور متعلق بـ {ارزقوهم}. {وَقُولُوا} فعل وفاعل معطوف على {ارزقوهم} {لَهُمْ} جار ومجرور، متعلق به. {قَوْلًا} منصوب على المصدرية. {مَعْرُوفًا} صفة له. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}. {وَلْيَخْشَ} {الواو} استئنافية. {اللام} حرف أمر وجزم مبني على السكون، تخفيفًا لاتصالها بالواو. {يخشى الذين}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة مستأنفة، ومفعول (¬1) الخشية محذوف تقديره: وليخش الله الذين ¬

_ (¬1) الجمل.

لو تركوا، ويجوز أن تكون المسألة من باب التنازع، فإن قوله: {وَلْيَخْشَ} يطلب الجلالة، وكذلك {فَلْيَتَّقُوا}، ويكون من أعمال الثاني للحذف من الأول. اهـ "سمين". {لَوْ} حرف شرط غير جازم بمعنى {إن}. {تَرَكُوا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مِنْ خَلْفِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تركوا}، ويجوز أن يكون حالًا من {ذُرِّيَّةً} كما ذكره أبو البقاءِ. {ذُرِّيَّةً} مفعول به لـ {تركوا}. {ضِعَافًا} صفة لـ {ذرية}. {خَافُوا} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ} متعلق به، والجملة جواب {لَوْ}. لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} من فعل شرطها، وجوابها صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل في {تَرَكُوا}. {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} {الفاء} عاطفة. و {اللام} لام الأمر، مبني على السكون تخفيفًا لاتصالها بـ {الفاء} {يتقوا الله} فعل وفاعل ومفعود مجزوم بلام الأمر، والجملة معطوفة على جملة {يخش}. {وَلْيَقُولُوا} فعل وفاعل معطوف على {يتقوا}. {قَوْلًا} منصوب على المصدرية. {سَدِيدًا} صفة له. {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}. {إِنَّ} حرف نصب. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب اسم {إِنَّ}. {يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} فعل وفاعل ومفعول، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {ظُلْمًا} مفعول لأجله، وشروط النصب موجودة فيه، أو منصوبُ على الحالية من فاعل {يَأكُلُونَ}، ولكن بتأويله بمشتق تقديره: يأكلونه حالَ كونهم ظَالِمينَ. {إِنَّمَا} أداة حصر. {يَأكُلُونَ} فعل وفاعل. {فِي بُطُونِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يأكلون} أو بمحذوف حال من {نَارًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليه، فانتصب حالًا. {نَارًا} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وفي ذلك (¬1) دلالة على وقوع خبر ¬

_ (¬1) الجمل.

{إن} جملة مصدرةً بـ {إن}، وفي ذلك خلاف، وحسنه هنا وقوع اسم إن موصولًا فطال الكلام بصلة الموصول، فلما تباعد ما بينهما لم يبال بذلك. {وَسَيَصْلَوْنَ} الواو عاطفة. {سيطلون} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَأكُلُونَ}. {سَعِيرًا} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يصلون}، وجاء (¬1) {يَأكُلُونَ} بالمضارع دون سين الاستقبال، {سيصلون} بالسين، فإن كان الأكل للنار حقيقةً فهو مستقبل، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه، وإن كان مجازًا فليس بمستقبل؛ إذ المعنى يأكلون ما يجر إلى النار، ويكون سببًا إلى العذاب بها، ولما كان لفظ {نَارًا} مطلقًا، في قوله: {إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} قيد في قوله: {سَعِيرًا} إذ هو الجمر المتقد. ذكره أبو حيان. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} {النَّاسُ} (¬2) اسم للجنس البشري، وهو الحيوان الناطق، المنتصب القامة، الذي يُطلَق عليه اسم إنسان {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. بحث في حقيقة النفس والروح على اختلاف آراء الناس فيها اختلف المسلمون في حقيقة النفس، أو الروح الذي يحيا به الإنسانُ، وتتحقق به وحدة جنسه على اختلاف أصنافه، وأشهر آرائهم في ذلك الرأي القائل: إنها جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحةً لقبول الآثارِ التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف، وجد الحس والحركةَ الإراديةَ والفكر وغيرها، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وعجزت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدنَ وانفصل إلى عالم الأرواح. ومما يثبت ذلك أن العقلَ، والحفظَ، والتذكر وهي أمور ثابتة قطعًا. ليست ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

من صفات هذا الجسد، فلا بد لها من منشأ وجوديّ عبرَ عنه الأقدمون بالنفس، أو الروح. وما مثلها إلا مثل الكهرباء، فالماديون الذين يقولون: لا روحَ إلا هذه الحياة يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائي، فهو بوضعه الخاص، وبما يودع فيه من المواد تتولد فيه الكهرباء، فإذا زال شيءُ مما أودع فيه أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة، وبزوالها تزول الحياة. والذين يقولون: إن للأرواح استقلالًا عن الجسد يكون مثلُ الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتي إليها من المولد الكهربائي، فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها، وأداوتها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها، حتى تؤدي وظيفتَها، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء، ومن ثم لا تؤدي وظيفتَها الخاصة بها. ذكره المراغي. {وَبَثَّ} بمعنى نشَرَ وفرق، ومنه {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} فهو من المضاعف المتعدي فقياسه ضم عين مضارعه، {وَالْأَرْحَامَ} جمع رحم، والرحم: القرابة، وإنما استعير اسم الرحم للقرابة؛ لأن الأقارب يتراحمون، ويعطف بعضهم على بعض، والرحم في الأصل: مكان يكون فيه الجنين في بطن أمه، ثم أطلق على القرابة. {رَقِيبًا} الرقيب: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: بمعنى المراقب، وهو المشرف من مكان عال، والمرقب مفعل بمعنى المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه، والمراد بالرقيب هنا الحافظ المطلع على الأعمال؛ لأن ذلك من لوازمه. {وَآتُوا الْيَتَامَى} جمع يتيم، لغة من مات أبوه مطلقًا، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، وفي "المصباح" (¬1) يتم ييتم من باب تعب، وضرب يتمًا بضم الياء وفتحها، لكن اليتم في الناس من قبل الأب: فيقال: صغير يتيم، ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

والجمع أيتام، وصغيرة يتيمة، والجمع يتامى، وفي غير الناس من قبل الأم، وأيتمت المرأة أيتامًا، فهي مؤتم، صار أولادها يَتَامَى، فإن مات الأبوان فالصغير لطِيم، وإن ماتت الأم فقط فهو عَجَمي انتهى. {الْخَبِيثَ}: هو مال اليتيم، وإن كان جيدًا، فهو خبيث لكونه حرامًا {بِالطَّيِّبِ} وهو مال الولي، فهو طيب لكونه حلالًا، وإن كان رديئًا {حُوبًا} الحوب الذنب، والإثم فهو مصدر: حاب يحوب حوبًا من باب قال: وفي "المصباح" حاب حوبًا من باب قال: إذا اكتسب الإثم، وبضم الحاء أيضًا. {أَلَّا تُقْسِطُوا} من أقسط الرباعي بمعنى عدل، ومنه قوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وفي "المصباح" قسط يقسط من باب: ضرب قسطًا، وقسوطًا إذا جار، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}، ويأتي بمعنى عدل أيضًا، فهو حينئذ من الأضداد، قاله ابن القطاع. ويقال: أقسط بالألف إذا عدلَ، والاسم منه: القِسط بالكسر، وقرىء هنا بفتح التاء من قسط الثلاثي، إذا جار، فتكون هذه القراءة محمولة على تقدير زيادة لا، كأنه قال: وإن خفتم أن تقسطوا. {مَا طَابَ لَكُمْ}؛ أي: ما مال إليه القلب منهن {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} واعلم (¬1) أن هذه الألفاظَ المعدولةَ فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس، أو يقتصر فيها على السماع؛ قولان. قول البصريين: عدم القياس، وقول الكوفيين، وأبي إسحاق: جوازه، والمسموع من ذلك أحدَ عشرَ لفظًا أحاد، وموحد، وثناء، ومثنى، وثلاث، ومثلث، ورباع، ومربع، ومخمس، وعشار، ومعشر، ولم يسمع خماس، ولا غيره من بقية العقد، واختلفوا أيضًا في صرفها، وعدمه فجمهور النحاة على منعه، وأجاز الفراء صرفَها، وإن كان المنع عنده أولى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} {أَدْنَى} اسم تفضيل من دنا يدنو دنوًا إلى الشيء إذا قرب إليه، ودنا يتعدى بإلى، وباللام وبمن تقول: دنوت إليه، وله، ومنه {تَعُولُوا} من عال يعول من باب: قال إذا مال عن الحق، وجار فيه، والمصدر العول، والعيالة، وعال الحاكم إذا جار. ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ}؛ أي: أعطوا (¬1) من آتى الرباعي إيتاء بمعنى أعطاه، ومنه قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا من أتى بالقصر إتيانًا إذا جاء، {صَدُقات} جمع صدقة بفتح الصاد، وضم الدال اسم للمهر، وله أسماء كثيرة منها صَدَقة بفتحتين، وبفتح فسكون، وصَدَاق بالفتح والكسر {نِحْلَةً} مصدر من غير لفظ الفعل بل من معناه؛ لأن معنى آتوهن بمعنى أنحلوهن، فهو على حد جلست قعودًا وقمت وقوفًا، وفي "المصباح" ونحله بفتحتين نحلًا مثل قفل إذا أعطيته شيئًا من غير عوض عن طيب نفس، ونحلت المرأة مهرها نحلةَ بالكسر أعطيتها {هَنِيئًا مَرِيئًا} الهنيء هو ما يستلذه الآكل، والمريء، ما تُحمَد عاقبته، كأن يسهلَ هضمه، وتحسُنَ تغذيته، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء، وهو ما بين الحلقوم إلى فم المعدة، سمي بذلك لمرور الطعام فيه؛ أي: انسياغه {هَنِيئًا مَرِيئًا} {هَنِيئًا} (¬2) مصدر جاء على وزن فعيل، وهو نعت لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا هنيئًا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهناء، والتقدير: مهنا أو طيبًا ومثله {مَرِيئًا} والمريء، فعيل بمعنى مفعل؛ لأنك تقول: أَمْرَأَني الشيء رباعيًّا إذا لم تستعله مع هَنَاني، فإن قلت هَنَانِي ومَراني لم تأت بالهمزة في مَرَاني؛ لتكون تابعةً لهناني ثلاثيًّا. ذكره أبو البقاء. وقال أبو حيان (¬3): {هَنِيئًا مَرِيئًا} صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، ويقال: هَنَا يهنا بغير همز قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويُوضع في عقره، والمريء ما يساغ في الحلق كما مر آنفًا انتهى. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} وأصل: {تُؤْتُوا} تؤتيوا بوزن تكرموا أستثقلت الضمة على الياء، فحذفت الضمة، فالتقى ساكنان الياء وواو الضمير، فحذفت الياء؛ لئلا يلتقي ساكنان. والسفهاء (¬4) جمع سفيه، وهو المبذر للمال المنفق له فيما لا ينبغي، وأصل السفه الخفة والاضطراب، ومنه قيل: زمان سفيه؛ إذا كان كثير ¬

_ (¬1) كرخي. (¬2) عكبري. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج، ثم استعمل في نقصان العقل، وهو المراد هنا {قِيَامًا}؛ أي: تقوم بها أمور معايشكم، وتمنع عنكم الفقر؛ قال الراغب: القيامُ والقوامُ ما يقوم به الشيء، ويثبت كالعماد، والسناد ما يعمد، ويسند به. و {قِيَامًا} بالياء، والألف مصدر قام، والياء بدل من الواو، وأبدلَت منها لما أعلت في الفعل، وكانت قبلها كسرة {قَوْلًا مَعْرُوفًا}، والقول المعروف هو ما تطيبُ به النفوسُ، وتألفه كإفهام السفيه أنَّ المال مَالُه لا فضلَ لأحد عليه، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}؛ أي: علمتم منهم حسن التصرف في الأموال، وفي "المصباح"، وآنستُ الشيء بالمد، علمته، وآنسته أبصرته. انتهى، وفيه أيضًا الرشد: خلاف العيّ والضلال، وهو إصابةُ الصواب، ورشد رشدًا من باب تعب، ورشد يَرُشُد من باب قتل، فهو راشد، والاسم: الرشاد اهـ. {إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} الإسراف: مجاوزة الحد في التصرف في المال، والبدار المبادرة والمسارعة إلى الشيء، يقال: بادرت إلى الشيء، وبدرت إليه، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين؛ لأن اليتيم مار إلى الكبرَ، والولي مار إلى أخذ ماله فكأنهما يستبقان، ويجوز أن يكون من واحد، وفي "المصباح": كبر الصبي، وغيره يكبر من باب: تعب مكبرًا مثلَ مسجد، وكبرًا وزانَ عِنب، فهو كبير، وجمعه كبار، والأنثى كبيرة {فَلْيَسْتَعْفِفْ}؛ أي: فليعف نفسَه عن مال اليتيم، فـ {السين} و {التاء} فيه زائدتان، والعفة تركُ ما لا ينبغي من الشهوات، وفي "المختار": عفَّ عن الحرام يَعِفُّ بالكسر عِفةً وعَفًّا، وعفا إذا كف عنه، فهو عف، وعفيف، والمرأة عفة، وعفيفة {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}؛ أي: سهمًا مقدرًا مَحْتُومًا لا بد لهم أن يأخذوه {وَلْيَخْشَ} الخشية: الخوف في محل الأمن {قَوْلًا سَدِيدًا} والسديد: العدل، والصواب، والسداد بالكسر: ما يسد به الشيء كالثغر موضع الخوف من العدو، والقارورة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} يقال: صلى اللحم صليًا، إذا شواه، فإذا أراد إحراقه يقال: أصلاه إصلاءً، وصلاه تصليةً وصلى يده بالنار - من باب رضي - أدفأها، واصطلى استدفأ، وفي "المختار" صليت اللحم وغيره؛ من باب: رمَى شويته، ويقال: صليت الرجلَ نارًا؛ أي: أدخلته النار، وجعلته يصلاها. اهـ. والسعير: النار المستعرة المشتعلة، يقال: سَعرت النار، وسعرتُهَا، أوقدتُها.

البلاغة قال أبو حيان (¬1): وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة: منها: الطباق في قوله: {وَاحِدَةٍ} و {زَوْجَهَا} و {غنيًّا} و {فقيرًا} و {قل} {أو كثر} و {رِجَالًا} {وَنِسَاءً} و {الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}. ومنها: التكرار المسمى بالإطناب عندهم في قوله: {اتقوا}، و {خلق}، و {خِفْتُمْ}، و {أَلَّا تُقْسِطُوا}، و {أَلَّا تَعْدِلُوا} منه جهة المعنى و {اليتامى}، و {النساء}، و {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} و {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}، وفي قوله: {وَلْيَخْشَ} و {خافوا} من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين. ومنها: إطلاق اسم المسبب على السبب في قوله: {ولا تأكلوا} لأن الأخذَ سبب للأكل. ومنها: تسمية الشيء باسم ما كان عليه في قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى} سماهم يتامى بعد البلوغ. ومنها: التأكيد بالإتباع في قوله: {هَنِيئًا مَرِيئًا}. ومنها: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه في قوله: {نصيب مما ترك}، و {نارا} على قول من زعم أنها حقيقة كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}؛ أي: عنبًا يؤول إلى خمر. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {فَادْفَعُوا} {فَإِذَا دَفَعْتُمْ} والمغاير في قوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا}. ومنها: الزيادة للزيادة في المعنى في قوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ}. ومنها: إطلاق اسم الكل على البعض في قوله: {الأقربون} إذ المراد أرباب الفرائض. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: إقامة الظرف المكاني مقام الزماني في قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ}؛ أي: من بعد وفاتهم. ومنها: الاختصاص في قوله: {بُطُونِهِمْ} خصها دون غيرها؛ لأنها محل للمأكولات. ومنها: التعريضُ في قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} عرض بذكر البطون لخستهم، وسقوط هممهم، والعرب تذم بذلك قال شاعرهم: دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِيْ ومنها: تأكيد الحقيقة بما يرفع احتمالَ المجاز في قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} رفع المجازَ العارضَ في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} على قول من حمله على الحقيقة، ومَنْ حملَه على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز، ونظيره في كونه رافعًا للمجاز قوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، وقوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والحذف في عدة مواضعَ مثل قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}؛ أي: كثيرًا. ومنها: المقابلة اللطيفة بَيْنَ {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. فائدة: وفي قوله تعالى: {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إشارة إلى ترك المفاخرة، والكبر لتعريفه إياهم، بأنهم من أصل واحد، ودلالة على المعاد؛ لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفينَ من شخص واحد، فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى، و {زَوْجَهَا} هي حواء، وظاهر منها ابتدأ خلق حواء من نفسه، وأنه هو أصلها الذي اخترعت، وأنشئت منه، ويدل عليه الحديث الصحيح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تُقِيمُها كسرتها، وكسرها طلاقها" انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}. المناسبة لما (¬1) بين الله سبحانه وتعالى حُكْمَ الميراث مجملًا في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ذكر هنا تفصيلَ ذلك المجمل فبيَّن أحكامَ المواريث، وفرائضها، لإبطال ما كان عليه العربُ من نظام التوارث في الجاهلية من منع الأنثى، وصغار الأولاد، وتوريث بعض مَنْ حَرَمه الإِسلامُ من الميراث. وقد كانت أسبابُ الإرث في الجاهلية ثلاثةً: الأول: النّسبُ، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيلَ، ويقاتلون ¬

_ (¬1) المراغي.

العدوَّ، ويأخذون الغنائم، وليس للضعيفَيْنِ المرأة والطفل من ذلك شيء. والثاني: التبني فقد كان الرجلُ يتبنَّى ولدَ غيره، فيكون له أحكام الولد في الميراث وغيره. والثالث: الحِلْفُ والعهدُ، فقد كان الرجل يقول لآخرَ: دمي دمك، وهدمي هدمك؛ أي: إذا أهدر دمي أهْدِر دمك، وترثني وأرثك، وتطلَبُ بي وأطلَبُ بك، فإذا فعلًا ذَلك، ومات أحدهما قبل الآخر كان للحيّ ما اشترط من مال الميت. فلما جاء الإِسلام أقرهم على الأول، والثالث دون الثاني، فقال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} والمراد به: التوارث بالنسب، وقال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} والمراد به التوارثُ بالعهد، وقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} والمراد به: التوارث بالتبني، وزاد شيئين آخرين: الأول: الهجرةُ، فكان المهاجر يرثُ من المهاجر، وإن كان أجنبيًّا عنه، إذا كان بينهما مخالطة، وود، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه. والثاني: المؤاخاةُ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤاخي بين كل اثنين من الرجال، وكان ذلك سببًا للتوارث، ثم نسخ التوارثُ بهذين السببين بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء. قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مناسبتها لما قبلها (¬1): لما بين الله سبحانه وتعالى حدوده التي حدها لعباده، قَسَمَ الناس إلى عامل بها، مطيع، وإلى غير عامل بها، عاص، وبدأ بالمطيع؛ لأن الغالبَ على مَنْ كان مؤمنًا بالله تعالى الطاعة، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامةً، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، وبدأ بالمطيع؛ لأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

به، وأن يعتنَى بتقديمه، وحَمَل أوَّلًا على لفظ {من} في قوله: {يُطِعِ} و {يُدْخِلْهُ} فأفرد، ثم حملَ على المعنى في قوله: {خالدين}. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}، مناسبتها لما قبلها: لمَّا ذكر ثَوابَ مراعي الحدود .. ذَكَرَ عقابَ من يتعداها، وغلظ في قسم المعاصي، ولم يكتف بالعصيان بل أكَّدَ ذلك بقوله: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} وناسب الختم بالعذاب المهين؛ لأن العاصيَ المتعدي للحدود؛ برز في صورة من اغترَّ، وتجاسرَ على معصية الله تعالى، وقد تقل المبالاة بالشدائد، ما لم ينضمَّ إليها الهوانُ، ولهذا قالوا: المنية ولا الدنيَّةُ. قيل: وأفرد خالدًا هنا، وجمع في خالدين فيها؛ لأن أهلَ الطاعةِ، أهل الشفاعة، وإذا اشفع في غيره دخلها، والعاصي لا يدخل النار به غيره، فبقي وحيدًا. أسباب النزول قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ...} الآية، سبب (¬1) نزولها: ما أخرجه الأئمة الستة وغيرُهم عن جابر بن عبد الله، قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في بني سلمة، مَاشِيينْ فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقل شيئًا، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رش علي فأفقت، فقلتُ ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. وللآيةِ سببٌ آخر: وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدًا، وأن عمهما أخَذَ مالهما، فلم يَدَعْ لهما مالًا، ولا تنكحَان إلا ولهما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

مالٌ، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآيةَ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما، فقال: أعط بنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمنَ، وما بقي فهو لك، قالوا وهذه أول تركة قسِمَتْ في الإِسلام. وقصة جابر أصح؛ لأنها متفق عليها، وأما قصة بنات سعد بن الربيع ففيها عبدُ الله بن محمَّد بن عقيل، وهو صدوق ضعيفُ الحفظ على أنه لا تنافيَ بين القصتين، فيحتمل أنها نزلت فيهما معًا. قال الحافظ بن حجر في "الفتح": تمسَّك بهذا الحديث الأخير مَنْ قال: إن الآية نَزلت في قصة ابنتي سعد، ولم تنزل في قصة جابر خصوصًا أنَّ جابرًا لم يكن له يومئذ ولد، قال الحافظ: والجواب أنها نزلت في الأمرين معًا، ويحتمل أن يكون: نزولُ أولها في قصة البنتين، وآخرها، وهو قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} في قصة جابر، ويكون مراد جابر بقوله: فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}؛ أي: ذكر الكلالة المتصلُ بهذه الآية، والله أعلم. انتهى. وأقولُ في كلام الحافظ رحمه الله: نظر، فإنَّ قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} في ميراث الإخوة لأم، فالأَوْلى أن يقال: لا مانع من نزول الآية في الأمرين معًا كما قرره هو قبل، والله أعلم. وقد ورد (¬1) في الآية سببُ ثالثٌ: وهو ما أخرجه ابن جرير، عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواريَ ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجلَ منْ ولده إلا من أطاق القتالَ، فمات عبد الرحمن أخو حسَّان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كحلة، وخمسَ بنات، فجاء الورثة يأخذون مالَه، فشكَتْ أمَّ كحلة ذلك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ثم قال في أمّ كحلةَ {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

فصول في فضل علم الفرائض وذكر نبذة من أحكامه وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الكريمة، نقدم فصولًا تتضمن أحكامَ الفرائض، وأصولَ قواعدها. الفصل الأول: في فضله والحث على تعلمه وتعليمه اعلم أن علم الفرائض من أعظم العلوم قدرًا، وأشرفها ذخرًا، وأفضلها ذكرًا، وهي ركن من أركان الشريعة، وفرع من فروعها في الحقيقة، اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها، وتكلموا في فروعها، وأصولها، ويكفي في فضلها أن الله عَزَّ وَجَلَّ تَولَّى قسمتَها بنفسه، وأنزلها في كتابه مبينةً من فوق سمواته، وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تعليمها فيما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموا الفرائضَ والقرآنَ، وعلموا الناسَ، فإني مقبوض" أخرجه الترمذي، وقال: فيه اضطراب، وأخرجه أحمد بن حنبل، وزاد فيه "فإني امرؤ مقبوض" والعلمُ مرفوع، ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يَجدَانِ أحدًا يخبرهما". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموا الفرائض وعلّموها، فإنه نصف العلم، وهو أول علم يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْزَعُ من أمتي". أخرجه ابن ماجه والداقطني. الفصل الثاني: في بيان الورثة وأقسامها إذا مات الميت، وله مال يبدأ بتجهيزه من ماله، ثم تُقضى ديونه، إن كان عليه دين، ثم تنفَّذ وصايَاه، وما فَضَل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته. والوارثون من الرجال عشرة بالاختصار، الابن وابن الابن، وإن سفل، والأب، والجد وإن علا، والأخ سواء كان لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط، وابن الأخ للأب والأم، أو للأب وإن سفل، والعم للأب والأم، أو للأب فقط، وابناهما، وإن سفلوا، والزوج، والمعتق. والوارثات من النساء سبع بالاختصار: البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت من كل الجهات، والزوجة، والمعتقة.

وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير، وهم: الأبوان، والولدان، والزوجان، لأنه ليس بينهم، وبين الميت واسطة. ثم الورثة ثلاثة أصناف: صنف يرث بالفرض فقط، وهم الزوجان، والبنات، والأخوات، والأمهات، والجدات، وأولاد الأم، وصنف يرث بالتعصيب فقط، وهم البنون والإخوة الأشقاء أو لأب وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما الأب والجد، فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد، فإن كان له ابن، ورث الأب بالفرض السدس، وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض، وأخذ الباقيَ بالتعصيب والعصبة: هو من يأخذ جميع المال إذا انفرد، ويأحذ ما فَضَل عن أصحاب الفروض إذا كان معهم. الفصل الثالث: في أسباب الإرث وموانعه وأسباب الإرث ثلاثة: نسب، ونكاح، وولاء، فالنسب القرابةُ يرث بعضهم بعضًا، والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح، والولاء هو أن المعتقَ وعصباته يرثون المعتقَ. والأسباب التي تمنع الإرث أربعة: الأول: اختلاف الدين، فالكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر؛ لما روي عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". أخرجاه في "الصحيحين". فأما الكفار فيرث بعضهم بعضًا مع اختلاف مللهم، وأديانهم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضًا، حتى لا يرث اليهودي من النصراني، ولا النصراني من المجوسي، وإلى هذا ذهب الزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روي عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا توارث بين أهل ملتين". أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: "لا يتوارث أهل ملتين شتى". أخرجه أبو داود، وحمله الآخرون على الإِسلام والكفر؛ لأن الكفر عندهم ملة واحدة، فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى. والثاني: الرق، فإنه يمنع الإرث، لأن الرقيق ملك، ولا ملك له، فلا يرث، ولا يورث. والثالث: القتل، فإنه يمنع الإرث مطلقًا محمدًا كان القتل، أو خطأً؛ لما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القاتل لا يرث". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث لا يصح، والذي العمل عليه عند أهل العلم أن القاتل لا يرث، سواءً كان القتل عمدًا أو خطأً. وقال بعضهم: إذا كان القتل خطأً. فإنه يرث، وهو قول مالك. والرابع: إبهام الموت، وهو أن يخفى موت المتوارثين، وذلك بأن غرقا أو انهدم عليهما بناء، فلم يدر أيهما سبق موته، فلا يرث أحدهما الآخر، بل يكون إرث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقينًا بعد موته من ورثته. الفصل الرابع: في بيان الفروض وأهلها والسهام المقدرة في المواريث المذكورة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس: فالنصف: فرض الزوج عند عدم الولد الوارث، وفرض البنت الواحدة للصلب، أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم، وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم. والربع: فرض الزوج مع الولد، وفرض الزوجة مع عدم الولد. والثمن: فرض الزوجة مع الولد. والثلثان: فرض البنتين فصاعدًا، أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب، وفرض الأختين فصاعدًا للأب والأم، أو للأب.

والثلث: فرض ثلاثة: فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد، ولا اثنان من لإخوة والأخوات إلا في مسألتين: تسمى بالغراوين: إحداهما زوج، وأبوان، والأخرى: زوجة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج، أو الزوجة، وفرض الاثنين فصاعدًا من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء، وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض، وكان الثلث خيرًا له من المقاسمة مع الإخوة. والسدس: فرض سبعة: فرض الأب إذا كان للميت ولد، وفرض الأم إذا كان للميت ولد، أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة، والأخوات، وفرض الجد إذا كان للميت ولد، ومع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض، وكان السدس خيرًا له من المقاسمة مع الإخوة، وفرض الجدة والجدات، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرًا كان أو أنثى، وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكملةَ الثلثين، وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكملةَ الثلثين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المال للولد، والوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فَجَعَلَ للذكر مثل حظ الأثنيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما: السدس، أو الثلث، وجعل للمرأة الثمن، أو الربع، وللزوج الشطر أو الربع، رواه البخاري. الفصل الخامس: في الحجب روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ولَدُ الأبناء بمنزلة الأبناء، إذا لم يكن دونه ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون ويَحجبون كما يَحجبون، ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر، فإن ترك بنتًا، وابن ابن .. كان للبنت النصف، ولابن الابن ما بقي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". ففي هذا الحديث دلالة على أن بعض الورثة يحجب البعض،

والعجيب قسمان: حجبُ نقصان، وحجبُ حرمان: أمَّا الأول: وهو حجب النقصان: فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوجَ من النصف إلى الربع، والزوجةَ من الربع إلى الثمن، والأم من الثلث إلى السدس، وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. وأما الثاني: وهو حجب الحرمان. فهو أن الأم تسقط الجدات، وأولاد الأم، وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة: بالأب، والجد، وإن علا، وبالولد، وولد الابن، وأولاد الأب والأم، وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة: بالأب، والابن، وابن الابن وإن سفلوا، ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي وابن مسعود، وبه قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة، وبالأخ للأب والأم. وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعًا بالجد كما يسقطون بالأب، وهو قول أبي بكر الصديق، وابن عباس، ومعاذ، وأبي الدرداء، وعائشة، وبه قال الحسن، وعطاء، وطاووس، وأبو حنيفة. الفصل السادس: في العصبات والأقرب من العصبات يسقط الأبعدَ منهم، فأقربُهم الابن، ثم ابن الابن، وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد، وإن علا، فإن كان مع الجد أحد من الإخوة، والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث، فإن لم يكن جد فللأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم بنوا الأخوة يقدم أقربهم، سواء كان لأب وأم، أو لأب، فإن استويا في الدرجة، فالذي هو لأب وأم أولى، ثم العم لأب، وأم، ثم لأب ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة، ثم عم الأب، ثم عم الجد على الترتيب السابق في الإخوة، فإن لم يكن أحد من عصبات النسب، وعلى الميت ولاء، فالميراث للمعتق، فإن لم يكن حيًّا فلعصبات المعتق، وأربعة من الذكور يعصبون الإناث: الابن، وابن الابن، والأخ للأب والأم، والأخ للأب، فلو مات عن ابن، وبنت، أو عن أخ، وأخت لأب وأم، أو لأب، يكون المال

[11]

بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يفرض للبنت والأخت وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته الإناث، ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئًا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن، فللبنتين الثلثان، ولا شيءَ لبنت الابن، فإن كان في درجتها ابن ابن، أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأثنيين، والأخت للأب والأم، أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف، والباقي: وهو النصف للأخت، ولو مات عن بنتين، وأخت، كان للبنتين الثلثان، والباقي للأخت. ويدل على ذلك ما روي عن هذيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتت بنت الابن ابن مسعود، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود: لقد ضللت وما أنا من المهتدين، ثم قال: أقضى فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف، ولبنت الابن السدس. تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. أخرجه البخاري. التفسير وأوجه القراءة 11 - {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} وهذا شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} الخ، وإنما بَدَأَ الله سبحانه وتعالى بإرث الأولاد، لأنهم أقرب الورثة إلى الميت، وأكثر بقاء بعد المورث؛ ولأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد من تعلقه بغيره. والخطاب فيه للمؤمنين، وقرأ ابن أبي عبلة، والحسن {يوصيكم} بالتشديد، والوصية ما تعهد به إلى غيرك من العمل، كما تقول: أوصيت المعلم أن يراقب آدابَ الصبي، ويؤدبه على ما يسيء فيه، وهي في الحقيقة: أمر له بعمل ما عهد إليه به. والمعنى: يأمركم الله سبحانه وتعالى {فِي} إرث {أَوْلَادِكُمْ} الوارثين الذكور والإناث كبارًا كانوا أو صغارًا مما تتركونه من أموالكم، بأن يُعْطَى {لِلذَّكَرِ} الواحد منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ أي: قَدْرُ نصيب اثنتين من إناثهم، إذا كانوا ذكورًا وإناثًا، واختير هذا التعبيرُ، ولم يقل: للأنثى نصف حظ الذكر،

إيماء إلى أنَّ إرثَ الأنثى كأنه مقرر معروف، وللذكر مثله مرتين، وإشارةً إلى إبطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من منع توريث النساء. والحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين: أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه، وعلى زوجه فجُعل له سهمان، وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها، فحسب، وإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها، ويدخل في عموم الأولاد: 1 - الكافرُ لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانعٌ من الإرثِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارث أهل ملتين" كما مر. 2 - والقاتل عمدًا لأحد أبويه مثلًا، ويخرج بالسنة والإجماع. 3 - والرقيق، وقد ثبت منعه بالإجماع؛ لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال، فهو ملك لسيده، ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئًا، كنا معطين ذلك للسيد فيكون هو الوارث بالفعل. 4 - والميراث من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد استثني بحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". ولا خلاف في أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده، أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه، قال شاعرهم: بَنُونَا بَنُوْ أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوْهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ فإذا خلف الميت ذكرًا واحدًا وأنثى واحدةً فللذكر سهمان، وللأنثى سهم، وإذا كان الوارث جماعةً من المذكور وجماعةً من الإناث كان لكل ذكر سهمان، ولكل أنثى سهم. وإذا كان مع الأولاد أبوان وأحد الزوجين، فالباقي بعد سهام الأبوين، وأحد الزوجين بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. {فَإِنْ كُنَّ}؛ أي: فإن كانت البنات المتروكات من الأولاد {نِسَاءً}؛ أي: إناثًا خلصا {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}؛ أي: بنتَيْنِ فأكثر مهما بَلَغ عددُهن {فَلَهُنَّ}؛ أي:

فلتلك البنات سواءً كانت ثنتينِ فأكثر {ثُلُثَا مَا تَرَكَ}؛ أي: ثلثا ما ترك والدُهن المتوفَّى أو والدتُهن. وأجمعت (¬1) الأمة على أن للبنتين الثلثين إلا ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ذهبَ إلى ظاهر الآية، وقال الثلثان فرض الثلاث من البنات؛ لأن الله تعالى قال {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين، وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة، وأجيب عنه بأجوبة فيها حجة لمذهب الجمهور كما ذكروها: منها: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير فإن كن نساءً اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان. ومنها: أن الجمع يطلق على ما فوق الواحد؛ لأنَّ العرب تطلق الجمع على الاثنين كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. ومنها: أن لفظةَ فوق صلَةُ هنا، والتقدير: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} اثنتين. {وَإِنْ كَانَتْ} المولودة الوارثةُ بنتًا {وَاحِدَةً}؛ أي: منفردةً ليس معها أخ، ولا أختَ {فَلَهَا النِّصْفُ} مما ترك الوالد الميتُ أو الوالدة، والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث. وخلاصة ذلك: أنه إذا كان الأولاد ذكورًا وإناثًا كان للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كان المولود أنثى واحدةً. كان لها النصفُ، وإن كن ثنتين أو ثلاثًا فصاعدًا. كان لهن الثلثان. وقد عُلم من ذلك أنَّ البنات لا يستغرق فرضهن التركةَ، والولد الذكر إذا انفرد. يأخذ التركة كلَّها، وإذا كان معه أخ له فأكثرُ .. كانت قسمة التركة بينهما، أو بينهم بالمساواة. قرأ الجمهور (¬2) {وَاحِدَةً} بالنصب على أنه خبر {كان}؛ أي: وإن كانت هي؛ أي: البنت فذةً ليس معها أخرى، وقرأ نافع {واحدة} بالرفع على أن كان تامة، {وواحدة} فاعلها، وقرأ السلمي النصف بضم النون، وهي قراءةٌ علي وزيد في جميع القرآن. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

ولما فرغ الله سبحانه وتعالى من ذكر الفروع، ومقدار ما يرثون أخَذَ في ذكر الأصول، ومقدارِ ما يرثون، فقال: {وَلِأَبَوَيْهِ}؛ أي: ولأبوي الميت وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} بدل منه بتكرير العامل، وفائدته (¬1): التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدسَ والتفصيل بعد الإجمال تأكيد، وأبواه هما أبوه وأمه وغلَّب لفظَ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس؛ أي: لكل واحد من الأبوين {السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} الميت على السواء في هذه الفريضة، {إِنْ كَانَ لَهُ}؛ أي: لهذا الميت {وَلَدٌ} ذكر أو أنثى واحد، أو أكثر، والباقي بعد هذا الثلث أعني سدسيهما يقتسمه الأولاد؛ أي: فإن كان مع الأبوين ولد ذكر، فأكثر أو بنتان فأكثر، فلكل واحد من الأب والأم السدس، وإن كان مَعهما بنت .. فلها النصف، وللأم السدس، وللأب السدس بحكم هذه الآية، والسدس الباقي للأب أيضًا بحكم التعصيب. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ}؛ أي: للميت {وَلَدٌ} ولا ولد ولد {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فرضًا لها، والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث، فيأخذ السدسَ بالفريضة، والنصفَ بالتعصيب، وإذا انفرد أخذ كل المال كما هو شأنُ العصبة، وإذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، فللأم ثُلُثُ ما يبقى بعد فرضه، والباقي للأب وتسمى هذه المسألة الغراوين، وقد أشار إليها صاحبُ "الرحبية": وَإِنْ يَكُنْ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَبُ ... فَثُلُثُ الْبَاقِيْ لَهَا مُرَتَّبُ وهَكَذَا مَعْ زَوْجَةٍ فَصَاعِدَا ... فَلاَ تَكُنْ عَنِ الْعُلُوْمِ قَاعِدَا وثلث الباقي في الحقيقة إما ربعٌ أو سدسٌ، وقد انعقد الإجماعُ على ذلك إلا ما شَذَّ عن ابن عباس فإنه قال: يأخذ الزوجُ نصيبه، وتأخذ الأم ثُلُثَ التركة كلَّها، ويأخذ الأب ما بقي، وقال: لا أجدُ في كتاب الله ثلثَ الباقي، والسر في تساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء. ¬

_ (¬1) الخازن.

والحكمة في أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد: أنهما يكونان في الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد، إما لكبرهما، وإما لتموُلهما، وإما لوجود من تَجِبَ عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء، وأما الأولاد فإما أن يكونوا صغارًا لا يقدرون على الكسب، وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجينَ إلى نفقات كثيرة في الحياة، كالزواج، وتربية الأطفال، ونحو ذلك {فَإِنْ كَانَ لَهُ}؛ أي: للميت مع أرث أبويه له {إِخْوَةٌ} اثنان فصاعدًا ذكور أو إناث أشقاء كانوا أو لأب أو لأم وارثين كانوا أو محجوبين بالأب {فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} مما ترك والباقي للأب، ولا شيءُ للإخوة، وأما السدس الذي حجبوها عنه .. فهو للأب عند وجوده، ولهم عند عدمه. والمعنى: أنه إن كان أب وأم وإخوة .. كان نصيبُ الأم السدسَ وحظها الإخوة من الثلث إلى السدس، وصار الأب يأخذ خمسةَ الأسداس كرجل مات عن أبوين وأخوين، فإن للأم السدس والباقي، وهو خمسةُ أسداس للأب، سدس بالفريضة، والباقي بالتعصيب، فكل جمع منهم يحَجب الأم من الثلث إلى السدس، ولا شيء لهم لكونهم محجوبين بالأب. قال صاحبُ "التلمسانية": وَفِيْهِمُ فِيْ الْحَجْبِ أَمْرٌ عَجَبُ ... لِكَوْنِهِمْ قَدْ حَجَبُوْا وَحُجِبُوْا وإنما حجب الإخوة الأمَّ من غير أن يرثوا مع الأب شيئًا؛ معونة للأب؛ لأنه يقوم بشأنهم، وينفق عليهم دون الأم، ولكن هذا يدلُّ على خستهم. وعلم مما ذكر في مسألة الغراوين: أن (¬1) حقوقَ الزوجية في الإرث مقدمة على حقوق الوالدين؛ إذ أنهما يتقاسمان ما بقي بعد أخذ الزوج حصتَه، وسر هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة؛ ذاك أنهما يعيشان مجتمعينِ وجودُ كل منهما متمم لوجود الآخر، حتى كأنه نصف شخصه، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال؛ فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأولَ؛ فإذا لم يجد ¬

_ (¬1) المراغي.

الرجلِ إلا رغيفَين سد رَمَقهُ بِأحَدِهِما، ووجب عليه أن يعطيَ الثانيَ لامرأته لا لأحد أبَويه، ولا لغيرهما من أقَارِبِه. قرأ الجمهور (¬1): {فَلِأُمِّهِ} هنا في الموضعين، وفي قوله: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} في الزخرف، وفي قوله: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} في القصص، وفي قوله: {مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النحل، والزمر، وفي قوله: {فيِ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النور {مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} في النجم بضم الهمزة من أم، وهو الأصل. وقرأ الأخوان - أعني الكسائيَ وحمزة - جميعَ ذلك بكسر الهمزة، وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من أمهات في الأماكن المذكورة، هذا كله في الدرج أما في الابتداء بهمزة الأم والأمهات، فإنه لا خلاف في ضمها، أما وجه قراءة الجمهور، فظاهر؛ لأنه الأصل كما تقدم. وأما قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبة الكسرة، أو الياء، التي قبل الهمزة، فكسرت الهمزة إتباعًا لما قبلها، ولاستثقالهم الخروجَ من كسر أو شبهه إلى ضم، ولذلك إذا ابتدىء بالهمزة ضمَّاها لزوال الكسر، أو الياء، وأما كسرُ حمزةَ الميمَ من أمهات في المواضع المذكورة، فللإتباع، أتبع حركة الميم لحركة الهمزة، فكسرةُ الميم تبع التبع، ولذلك إذا ابتدىءَ بها ضمت الهمزة، وفَتح الميم لما تقدم من زوال موجب ذلك، وكسر همزةِ أم بعد الكسرة، أو الياء، حكاه سيبويه لغةً عن العرب، ونَسَبها الكسائي والفراءُ إلى هوازن، وهذيل اهـ "سمين". وقرأ الحسن (¬2) ونعيم بن ميسرة {السدْس} بسكون الدال، وكذلك قرأ {الثلْث} و {الرْبع} إلى العشر بالسكون، وهيَ لغةُ بني تميم، وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضمًّا، وهي لغة أهل الحجاز، وبني أسد في جميعها. وقد اختلف العلماء في الجد هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الإخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحدٌ من الصحابة في أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر ابن عباس، ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الشوكاني.

وعبد الله بن الزبير، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وغيرهم. وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، وابن مسعود، إلى توريث الجد مع الإخوة للأبوين، أو لأَب، ولا ينقصَ معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس. وأجمع العلماء على أن للجدة السَّدُسَ إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأبَ لا يُسقِطُ الجدةَ أم الأم، واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي. هذه الأنصباء المذكورة إنما تقسم للورثة {مِنْ بَعْدِ} تنفيذ {وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} الميت، وإخراجها من ثلث ما بقي بعد الدين {أَوْ دَيْنٍ}؛ أي: ومن بعد قضاء دين عليه إن كان، وأو هنا لمطلق الجمع بمعنى الواو، لا تفيد ترتيبًا؛ لأن الدين مقدم على الوصية، ولا بد هنا من تقدير محذوف كما يُعلم مما سيأتي، تقديره: حالةَ كونه غير مَضار للورثة بالوصية والدين؛ بأن كان في كل منهما مصلحة، وإنما قدمت الوصية على الدين في الذكر في الآية مع أن الدينَ مقدم عليها في الوفاء، كما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه علي كرم الله وجهه، وأخرجه عنه جماعة قال - أعني عليًّا -: إنكم تقرؤون الوصيةَ قبل الدين، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدين قبل الوصية للاهتمام بها؛ لأنها تؤخذ كالميراث بلا عوض، فيشق على الورثة إخراجها. وأجمعت الأمة على تقديم الدين، والوصية على الإرث لهذه الآية، وإنما قدما على الإرث؛ لأنَّ الدينَ حق على الميت، والوصية حق له، وهما يتقدمان على حق الورثة. وإنما عطف (¬1) الدينَ على الوصية، بـ {أو} دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان في الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين، أو منفردين. والحاصل: (¬2) أن أول ما يخرج من التركة مؤونة تجهيزه، ثم الدين، حتى لو استغرق الدين جميعَ التركة .. لم يكن للورثة فيها حق، فأما إذا لم يكن دين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

أو كان إلا أنه قضي، وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت بوصية أخرجت من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثًا على حكم فرائض الله تعالى. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم {يُوصِي} بفتح الصاد، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بكسر الصاد. ثم أتى بجملة معترضة بين ذكر الوارثين، وأنصبائهم، وبين قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ولا تعلق لمعناها بمعنى الآية للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور فقال: {أَبْنَاؤُكُمْ} أيها المؤمنون {وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ}، ولا تعرفون {أَيُّهُمْ}؛ أي: أي الفريقين {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} وأكثر لكم فائدةً في الدنيا بالإحسان إليكم، وفي الآخرة في الدعاء لكم، والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح، "أو ولد صالح يدعو له"؛ أي: إنكم لا تدرون أي الفريقين أقرب لكم نفعًا هل هم أباؤكم أو أبناؤكم، فمنكم فريق ظان أن ابنَه أنفع له، فيعطيه، فيكون الأب أنفع له في نفس الأمر، ومنكم فريق ظان، ومعتقد أن أباه أنفع له، فيعطيه الميراثَ وحدَه مع كون ابنه في نفس الأمر أنفع له، فلا تتبعوا في قسمة التركة ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء، الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال، والنساء؛ لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به، فهو أعلم منكم بما هو أقرب لكم نفعًا مما تقوم به في الدنيا مصالحكم، وتعظم به في الآخرة أجوركم، روى الطبراني؛ أن أحد المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة ... سأل أن يرفع الآخر إليه، فيرفع بشفاعته. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}؛ أي: فرَضَ الله سبحانه وتعالى ما ذكر من الأحكام {فَرِيضَةً} لا هوادة أي لا مسامحة في وجوب العمل بها، وفي هذا إشارة إلى وجوب الانقياد، لهذه القسمة التي قدرها الشرع، وقضى بها. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح، والرتب {حَكِيمًا} في كل ما قضى وقدر؛ أي: لم يزل متصفًا بذلك. قال ابن عباس (¬1) إن الله ليشفع ¬

_ (¬1) المراح.

[12]

المؤمنين بعضَهم في بعض، فأطوعكم لله تعالى من الأبناءِ، والآباءِ أرفعكم درجةً في الجنة، وإن كان الوالد أرفعَ درجةً في الجنة من ولده، رفع الله إليه ولده بمسألته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجةً في الجنة من والديه، رفع الله إليه والديه، ولذا قال تعالى: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}؛ لأن أحد المتوالدَين لا يعرف أنَّ انْتِفَاعَه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وقيل (¬1): معناه كانَ عليمًا بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيمًا حيث فرض للصغار مع الكبار، ولم يخص الكبارَ بالميراث، كما كانت العرب تفعل. 12 - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى فرائض الأولاد، والوالدين، وقدم الأهمَ منهما من حيث حاجته إلى الأموال المتروكة، وهم الأولاد ذكر هنا فرائض الزوجين، فقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}؛ أي: ولكم أيها المؤمنون نصف ما تركته زوجاتكم من المال {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ}؛ أي: لتلك الزوجات {وَلَدٌ} سواءُ أكان منكم أم من غيركم، ولو من زنا، فإن ولد الزنا ينسب لأمه، وسواء أكان ذكرًا أم أنثى، وسواءٌ أكان واحدًا أم أكثر، وسواء أكان من بطنها، أو صلب بنيها، أو بني بنيها، وباقي التركة لأولادها، ووالديها على ما بينه الله في الآية السالفة، ولا يشترط في الزوجة أن تكون مدخولًا بها، بل يكفي مجرد العقد {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} وارث واحد، أو متعدد {فَلَكُمُ} أيها الأزواج {الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}؛ أي: مما تركته الزوجات من المال، والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوي الفروض والعصبات، أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال، إن لم يكن وارث آخر. واعلم: أنه لما جعل الله سبحانه وتعالى في الموجب النسبي حظ الرجل مثلَ حظ الأنثيين، جعل الله في الموجب السببي للرجل مثلَ حظ الأنثيين {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}؛ أي: هذه الأنصباء إنما تدفع لكم أيها الأزواج في الحالين من بعد تنفيذ وصية يوصين الزوجات بها غير مضارات بها، ¬

_ (¬1) الخازن.

ومن بعد قضاء دين عليهن إن كان؛ إذ لا يأخذ الوارث شيئًا من التركة إلا ما فضل عنهما إن وجدا، أو وجد أحدهما، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}؛ أي: وللزوجات الربع من المال الذي تركتموه أيها الأزواج {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} ذكر، أو أنثى واحد، أو متعدد منهن، أو من غيرهن على التفصيل السابق في أولادهن، فإن كانت واحدةً .. فلها هذا الربع وحدها، وإن كان له زوجان فأكثر .. اشتركتا أو شتركن فيه على طريق التساوي، والباقي يكون لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض، والعصبات، أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلًا {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ} أيها الأزواج {وَلَدٌ} وارث على التفصيل السابق، ولا فرق بين الولد، وولد الابن، وإن سفل في ذلك، وسواء كان الولد للرجل من الزوجة، أو من غيرها {فَلَهُنَّ}؛ أي: لزوجاتكم {الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} من الأموال، والباقي لبقية الورثة. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}؛ أي: هذه الأنصباء: إنما تدفع لأزواجكم من بعد تنفيذ وصية توصون بها، أيها الأزواج، حَالَ كونكم غير مضارينَ بها، وبعد قضاء دين عليكم إذا وجدا، أو وجد أحدهما. وبهذا (¬1) تعلم أن فرَضَ الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما في النسب، ولم يعط الله تعالى للزوجات في الميراث إلا مثل ما أعطى للزوجة الواحدة؛ لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغي أن نسيرَ عليه في الزوجية، أن تكون للرجل امرأة واحدةٌ، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة، فلم يراعها الشارع في الأحكام، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل، والنادرُ لا حكمَ له. وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حكمَ ميراثِ الأولاد، والوالدين، والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرةً شرع يبين من يتصل به بالواسطة، وهو الكلالة فقال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} من أورث صفة رجل؛ أي: إن كان الميت المورث ¬

_ (¬1) المراغي.

{كَلَالَةً} خبر كان، أو يورث خبره و {كَلَالَةً} حال من الضمير فيه؛ أي: مكللا مكتنفا محاطًا بحواشي النسب، متجردًا خاليًا عن أصوله، وفروعه، وذلك بأن كان له أخ أو أخت، وليس له ولد، ولا والد. و {الكلالة} لغةً: الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، وسمي من عدا الوالد، والولد بالكلالة؛ لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان، وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة. ففيها يتفرع بعض من بعض كالشيء الذي يتزايد على نسق واحد، {أَوِ} كانت {امْرَأَةٌ} تورث {كَلَالَةً} {وَلَهُ}؛ أي: لذلك الرجل الموروث {كَلَالَةً} أو للمرأة الموروثة {كَلَالَةً} {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من أم؛ لأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر السورة {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الخ، ويشهد لهذا المعنى قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص {وله أخ أو أخت من أم} وإنما استشهدنا بهذه القراءة مع كونها شاذةً؛ لأنها بمنزلة رواية الآحاد، ورواية الآحاد يستدل بها؛ لأنها منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}؛ أي: فلكل من الأخ، والأخت المذكورين {السُّدُسُ} من غير تفضيل للذكر على الأنثى، لأنه لا تعصيب فيمن أدلوا به، وهي الأم {فَإِنْ كَانُوا}؛ أي: فإن كان من يرث من الإخوة للأم {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}؛ أي: من الواحد {فَهُمْ}؛ أي: الزائدون على الواحد، كيفما كانوا {شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فالذكر والأنثى فيه سواء، والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات. وقرأ (¬1) الجمهور {يُورَثُ} بفتح الراء مبنيا للمفعول من أورثَ مبنيًّا للمفعول، وقرأ الحسن بكسرها مبنيًّا للفاعل من أورث أيضًا، وقرأ أبو رجاء، والحسن أيضًا، والأعمش بكسر الراء وتشديدها من ورث. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا}؛ أي: هذه الأنصباء المذكورة للإخوة من الأم، إنما تدفع لهم من بعد تنفيذ وصية يوصي بها الميت حالةَ كونه غير مدخل بها الضرر على ورثته؛ بأن يوصيَ بأكثر من الثلث، أو يوصي بالثلث لغرض ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تنقيص حقوق الورثة {أَوْ دَيْنٍ}؛ أي: ومن بعد قضاء دين عليه، إن كان حالةَ كونه {غَيْرَ مُضَارٍّ} به؛ أي: غير مدخل الضرر على الورثةِ بذلك الدين؛ بأن يقر على نفسه بدين لا حقيقةَ له لحرمان الورثة. والحاصل (¬1): أن الضرار في الوصية، والدين يقع على وجوه: الأول: أن يوصي بأكثر من الثلث، وهو لا يصح، ولا ينفذ، وعن ابن عباس: إنّ الضِرَارَ فيها من الكبائر. الثاني: أن يوصي بالثلث فما دونه، لا لغرض من القربة، والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة. الثالث: أن يقر بدين لأجنبي يستغرق المالَ كله، أو بعضَه، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة، وكثيرًا ما يفعله المبغضون للورثة، ولا سيما إذا كانوا كلالةً، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد {غَيْرَ مُضَارٍّ} في وصية ميراث الكلالة؛ لأن القصد إلى مضارة الوالدَين، أو الأولاد، وكذا الأزواج نادرٌ. الرابع. أن يقر بأن الدينَ الذي كان له على فلان، قد استوفاه، ووَصَلَ إليه. الخامس: أن يبيع شيئًا بثمن بخس، أو يشتري شيئًا بثمن غال. والمعنى: تدفع الأنصباء لأصحابها بعد إخراج وصية، وقضاء دين لم يحصل بهما ضرر للورثة، وإن حصل الضرر بهما، فلا اعتبار بهما. قال الشوكاني (¬2): فما صَدَرَ من الإقرارات بالديون، أو الوصايا المنهي عنها له، أو التي لا مقصد لصاحِبِهَا إلا المضارةَ لورثته، فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه، وإنما كرر الوصية أربعَ مرات لاختلاف الموصين، فالأول: الأولاد؛ والثاني: الزوجة، والثالث: الزوج، والرابع: الكلالة. قال النخعي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يوص، وقبض أبو بكر، وقد وصى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح القدير.

فإن أوصى الإنسان. فحسن، وإن لم يوص .. فحسن أيضًا، ومن الحسن أن ينظر الإنسان في قدر ما يخلف، ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك، فإن كان ماله قليلًا، وفي الورثة كثرة .. لم يوص، وإن كان في المال كثرة .. أوصى بحسب ماله، وبحسب حاجتهم بعده كثرةً وقلةً، وقد روي عن علي أنه قال: لأن أوصي بالخمس، أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع، أحب إلى من أن أوصي بالثلث. وقرأ ابن كثير (¬1) وابن عامر وعاصم {يُوصَى} بفتح الصاد، وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنه جرى ذكرُ الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله {يُوصِينَ} و {تُوصُونَ} وقرأ الحسن {غير مضار وصية} بالإضافة، وفيه وجهان: أحدهما: تقديره: غير مضار أهل وصية، أو ذي وصية، فحذف المضاف، والثاني تقديره: غير مضار وقتَ وصية، فحذف، وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب من ذلك قولهم: هو فارس حرب؛ أي: فارس في الحرب، ذكره أبو البقاء {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}؛ أي: يوصيكم الله سبحانه وتعالى بذلك، ويأمركم به وصيةً منه عز وجل، فهي جديرة أن يعتنى بها، ويذعن للعمل بموجبها، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما ينفعكم، وبنياتِ الموصين منكم، {حَلِيمٌ} لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه، ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا؛ كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه، فتضاروه في الوصية، كما لا يرضى لكم بحرمان النساءِ، والأطفال من الإرث. وفي هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها، وهو يعلم ما فيها من الخير، والمصلحة لنا، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه، وفرائضه، ونعمل بما ينزلُ علينا من هدايته؛ كما لا ينبغي أن يغر الطامع في الاعتداء، وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب، فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه من الاعتداء، فإنه إمهال يقتضيه الحلم، لا إهمالُ من العجز، وعدم العلم. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[13]

13 - {تِلْكَ} الأحكام المذكورة من شؤون الأيتام، وأحكام الأنكحة، وأحوال المواريث يعني من أول السورة إلى هنا {حُدُودُ اللَّهِ}؛ أي: أحكام الله سبحانه وتعالى التي حدها، وبينها، وشرَعَها لعباده، وسماها حُدَودًا؛ لكونها لا تجوز مجاوزتها، ولا يحل تعديها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويمتثلهما في جميع الأوامر، والنواهي التي منها قسمة المواريث {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عِندَ الأخفش؛ أي: يسكنه بساتينَ {تَجْرِي} وتسيلُ {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت قصورِها، وأشجارِها {الْأَنْهَارُ} من الماء واللبن، والخمر، والعسل {خَالِدِينَ فِيهَا} حالٌ من الهاء في {يُدْخِلْهُ}، وهي عائدة على مَنْ، وهو مفرد في اللفظ جمع في المعنى، فلهذا صح الوجهان؛ أي: حالةَ كونهم مقدرين - الخلود - في تلك الجنات، لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها {وَذَلِكَ}؛ أي: دخولُ الجنة على وجه الخلود هو: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والظفر الجسيم الذي: لا فوزَ وراءه، ولا يذكَرُ بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالأكدار، والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، نُؤَمن بها، ونعتقد أنها أرفع مما نَرى في هذه الدنيا، وليس لنَا أن نبحَثَ عن كيفيتها؛ لأنها من عالم الغيب. واعلم: أن طاعةَ الله هي اتباع ما شرعه من الدين على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وطاعةُ الرسول هي اتباع ما جاءَ به من الدين عن ربه، فطاعته هي بعينها طاعة الله، كما قال في هذه السورة {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه اللهُ بما فيه منافع لنا في الدنيا والآخرة، وإنما ذَكَرَها مع طاعة الله للإشارة إلى أنَّ الإنسان لا يستغني بعقله، وعلمه عن الوحي، وأنه لا بُدّ له من هداية الدين؛ إذ لم يكن العقل وحده في عَصْر في العصور كافيًا لهداية أمة، ولا مرقيًّا لها بدون معرفة الدين، فاتباعُ الرسل، والعملُ بهديهم هو أساس كلّ مدنية، والارتقاء المعنويُّ هو الذي يَبْعَثُ على الارتقاء الماديّ، فالآداب، والفضائل التي هي أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين، ولا يكفي فيها بناؤها على العلم والعقل 14 - {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويخالفهما، ولو في بعض الأوامر؛ بأن لم يرض بما قَسَم الله ورسوله {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}؛ أي: يتجاوز أحكامه التي حدها

لعباده بالجور فيها، ولو في بعض النواهي، فالفرق بين العصيان، والتعدِّي: أن العصيان بترك المأمورات كقسمة المواريث، والتعدِّي بفعل المنهيات كالزنا ونحوه {يُدْخِلْهُ نَارًا} عظيمةً هائلةً حالة كونهِ {خَالِدًا فِيهَا} لا يموتُ، ولا يخرج منها، والمراد بالخلود: طولُ المكث إن مات مسلمًا، وعلى حقيقته إن مات كافرًا {وَلَهُ}؛ أي: لذلك العاصي المتعدي حدودَ الله مع عذاب الحريق الجسماني {عَذَابٌ} شديدٌ روحاني {مُهِينٌ} له أي ذو إهانة وإذلال له، فمعنى المهين: المذل له، وهو عذاب الروح، فللعصاة عذابان عذاب جسماني للبدن العاصي باعتباره، حيوانًا يتألم، وعذاب روحاني باعتباره إنسانًا يشعر بالكرامة، والشرف، ويتألم بالإهانة والخزي. وحكمة الإفراد في جانب العذاب بقوله: خالدًا: الإشارة إلى أنه كما يعذب بالنار، يعذب بالغربة، والوحشة، فإن له من العذاب ما يمنعه من الإنس، فكأنه وحيدٌ لا يجد لذةً الاجتماع بغيره، ولا أنسًا به، وحكمة الجمع في جانب النعيم، بقوله: {خَالِدًا} الإشارة إلى أنه كما ينعم بالجنة ينعم باجتماعه مع أحبائه فيها، ويزورهم، ويزورونه، ويتنعَّمُ بذلك الاجتماع. وقرأ نافع وابن عامر (¬1): {ندخله} بنون العظمة، في الموضعين، والباقون بالياء. واعلم (¬2): أن تعديَ الحدود الموجب للخلود في النار، هو الإصرارُ على الذنب، وعدمُ التوبة عنه، فللمذنب حالتان: الأولى: غلبة الباعث النفسي من الشهوة، أو الغضب على الإنسان حتى يغيبَ عن ذهنه الأمر الإلهي، فهو يقع في الذنب، وقلبه غائب عن الوعيد، لا يتذكره أو يتذكره ضعيفًا كأنه نور ضئيل، يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب، ثم لا يلبث أن يزولَ، أو يختفيَ حتى إذا سكنت الشهوة، أو سكن الغضب، وتذكر النهيَ والوعيدَ ندم، وتاب، ولام نفسَه أشد اللوم، ومثل هذا، جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى في: أوصافهم {وَلَمْ يُصِرُّوا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. الثانية: أن يقدم المرء على الذنب جريئًا عليه، متعمدًا فعلَه، عالمًا بتحريمه مؤثرًا له على الطاعة لا يصرفه عنه تذكر النهي، والوعيد عليه، ومثل هذا أحاطَت به خطيئته، فآثر شهوتَه على طاعة الله ورسوله، فدخل في عموم قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إذ من يصر على المعصية، عامدًا عالمًا بالنهي، والوعيد، لا يكون مؤمنًا بصدق الرسول، ولا مذعنًا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه، والعذاب والنكال بتعدي حدوده، فالإصرار على العصيان، وعدم استشعار الخوف، والندم لا يجتمعان في قلب المؤمن الإيمانَ الصحيحَ المصدِّق بوعد الله، ووعيده. الإعراب {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة {فِي أَوْلَادِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يوصيكم}. {لِلذَّكَرِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِثْلُ}. مبتدأ مؤخر وهو مضاف. {حَظِّ} مضاف إليه وهو مضاف. {الْأُنْثَيَيْنِ} مضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مفعول {يُوصِيكُمُ}. والمعنى: يأمركم الله بإعطاء مثل حظ الأنثيين للذكر الواحد، وقيل: الجملة مستأنفة. {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. {فَإِنْ كُنَّ} {الفاء} عاطفة تفصيلية. {إن} حرف شرط. {كُنَّ} فعل ماض ناقص في محل الجزم، بـ {إن} الشرطية مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع اسم {كان}. {نِسَاءً} خبرها. {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ {نساء} تقديره: كائنات فوق اثنتين، وهذه الصفة (¬1) هي التي تحصل فائدة ¬

_ (¬1) الجمل.

الخبر، ولو اقتصر عليه لم تحصل فائدة. {فَلَهُنَّ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {لهن} جار ومجرور خبر مقدم. {ثُلُثَا} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. {مَا تَرَكَ} {ما} وموصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {تَرَكَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الميت، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تركه، والجملة من المبتدأ والخبر، في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية: معطوفة على جملة قوله: {يُوصِيكُمُ} على كونها مفصلَةً لها مستأنفة. {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}. {وَإِنْ} {الواو} عاطفة. {إن} حرف شرط. {كَانَتْ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط، واسمها ضمير يعود على الوارثة. {وَاحِدَةً} خبرها. {فَلَهَا} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية. {لها} جار ومجرور خبر مقدم. {النِّصْفُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}. {وَلِأَبَوَيْهِ} الواو مستأنفة، أو عاطفة. {لأبويه} جار ومجرور خبر مقدم. {لِكُلِّ} {وَاحِدٍ} جار ومجرور ومضاف إليه بدل من الجار والمجرور قبله، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس. لكان ظاهره اشتراكهما فيه؛ ولأن في الإبدال، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدًا، وتقويةً كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير. {مِنْهُمَا} جار ومجرور صفة لـ {واحد}. {السُّدُسُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} {مِمَّا تَرَكَ} {مِمَّا} جار ومجرور، حال من {السدس} {تَرَكَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الميت، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تركه الميت {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} {إن} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن}. {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم

لـ {كان} {وَلَدٌ} اسمها مؤخر وجواب الشرط معلوم مما قبله تقديره: إن كان له ولد فلأبويه السدس، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن لأبويه السدس إذا كان له ولد، وأردت بيان حكم ما إذا لم يكن له ولد .. فأقول لك {إن} حرف شرط. {لَمْ} حرف جزم. {يَكُنْ} فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم}. {لَهُ} خبر مقدم لـ {يكن}. {وَلَدٌ} اسمها مؤخر، وجملة {يَكُنْ} في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فِعْلَ شرط لها. {وَوَرِثَهُ} الواو عاطفة. {ورثه} فعل ومفعول. {أَبَوَاهُ} فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة الشرط. {فلأمه} الفاء رابطة الجواب. {لأمه} جار ومجرور خبر مقدم. {الثُّلُثُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مقول لجواب إذا المقدرة وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. {فَإِنْ كَانَ} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنهَا أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت فرض الأم مع وجود الولد، وعدمه، وأردت بيان فرضها مع الإخوة .. فأقول لك: {إن} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم. {لَهُ} خبرها مقدم. {إِخْوَةٌ} اسمها مؤخر. {فَلِأُمِّهِ} {الفاء} رابطة الجواب. {لأمه} جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم. {السُّدُسُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفةٌ. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه حال من السدس تقديره: حال كونه مستحقًا من بعد تنفيذ وصية، ويجوز أن يكون الجار والمجرور خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: وإرث مَن ذكر بما ذُكِرَ مستحقٌ من بعد تنفيذ وصية. {يُوصِي بِهَا} {يُوصِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الميت. {بِهَا} جار

ومجرور متعلق بـ {يوصى} والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {وصية} ولكنها سببية. {أَوْ دَيْنٍ} معطوف على {وَصِيَّةٍ}. {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. {آبَاؤُكُمْ} مبتدأ، ومضاف إليه. {وَأَبْنَاؤُكُمْ} معطوف عليه. {لَا تَدْرُونَ} {لا} نافية. {تَدْرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {أَيُّهُمْ} أي اسم استفهام مبتدأ مرفوع. {والهاء} مضاف إليه. {أَقْرَبُ} خبر لـ {أي}. {لَكُمْ} جار مجرور متعلق بـ {أقرب}. {نَفْعًا} تمييز محول عن المبتدأ تقديرهُ: نفع أيهم أقرب، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب سادة مسد مفعولي {تَدْرُونَ}. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} مبتدأ، وقوله: {لَا تَدْرُونَ} وما في حيزه في محل رفع خبر له، و {أيهم} فيه وجهان: أشهرهما عند المعربين: أن يكون {أَيُّهُمْ} مبتدأَ وهو اسم استفهام، و {أَقْرَبُ} خبره، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بـ {تدرون}؛ لأنها من أفعال القلوب فعلقها اسم الاستفهام عن أن تعمل في لفظه؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، والثاني: أنه يجوز أن تكون {أي} اسم موصول بمعنى الذي، و {أَقْرَبُ} خبر مبتدأ محذوف هو عائد على الموصول، وجاز حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع {أي} مطلقًا؛ أي: سواء طالت الصلة أم لم تطل، والتقدير: أيهم هو أقرب، وهذا الموصول وصلته في محل نصب على أنه مفعول به نصبه {تَدْرُونَ}، وإنما بني لوجود شرطي البناء، وهما: أن يضاف {أي} لفظًا، وأن يحذف صدر صلتها، وصارت هذه الآية نظير قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} فصار التقدير: لا تدرون الذي هو أقرب. قال الشيخ: ولم أر من ذكر هذا الوجه منهم، ولا مانع منه، لا من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، فعلى القول الأول: تكون الجملة سادةً مسدَّ ¬

_ (¬1) الجمل.

المفعولين، ولا حاجةَ إلى تقدير حذف، وعلى القول الثاني يكون الموصول في محل نصب مفعولًا أول، ويكون الثاني: محذوفًا، تقديره: لا تدرون الذي هو أقرب لكم نفعًا آباؤكم أو أبناؤكم اهـ "سمين" انتهت. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} {فَرِيضَةً} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف تقديره: فرض الله ذلك التوريث فريضة، والجملة مستأنفة مؤكدة لمضمون ما قبلها. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {فريضة}. {إِنَّ اللَّهَ} {إِنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {كَانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}. {عَلِيمًا} خبر أول لـ {كان}. {حَكِيمًا} خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}. {وَلَكُمْ} الواو استئنافية. {لكم} جار ومجرور خبر مقدم. {نِصْفُ} مبتدأ مؤخر وهو مضاف. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما تركه أزواجكم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. {إِنْ لَمْ يَكُنْ} {إن} حرف شرط. {لَمْ} حرف جزم. {يَكُنْ} فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم}. {لَهُنَّ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {يكن}. {ولد} اسمها مؤخر، وجملة {يَكُنْ} في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} معلوم مما قبله تقديره: إن لم يكن لأزواجكم ولد فلكم نصف ما تركن، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}. {فَإِنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا لم يكن لهن ولد، وأردتم بيانَ حكم ما إذا كان لهن الولد. فأقول لكم. {إن} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {لَهُنَّ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {كان}. {وَلَدٌ} اسمها مؤخر. {فَلَكُمُ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية.

{لكم} جار ومجرور خبر مقدم. {الرُّبُعُ} مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {أن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مقول لجواب، إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال، من {الرُّبُعُ} تقديره: حالَ كون الربع مأخوذًا {مِمَّا تَرَكْنَ}. {تَرَكْنَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تركنه. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {النصف} و {الربع} تقديره: حالةَ كونهما معتبرين مأخوذين مما بقي بعد تنفيذ وصية، وقضاء دين. {يُوصِينَ} فعل وفاعل؛ لأن {النون} فيه ضمير جماعة الإناث. {بِهَا} متعلق به والجملة صفة لـ {وصية} ولكنها سببية. {أَوْ دَيْنٍ} معطوف على {وَصِيَّةٍ}. {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}. {وَلَهُنَّ} {الواو} عاطفة أو استئنافية. {لهن} جار ومجرور خبر مقدم. {الرُّبُعُ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} {مِمَّا} جار ومجرور حال من {الرُّبُعُ}. {تَرَكْتُمْ} فعل وفاعل والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تركتموه. {إِنْ لَمْ يَكُنْ} {إِن} حرف شرط {لَمْ}. حرف جزم {يَكُنْ} مجزوم بـ {لم}. {لَكُمْ} خبر مقدم لـ {يكن}. {وَلَدٌ} اسمها مؤخر، وجملة {يَكُنْ} في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} معلوم مما قبله تقديره: إن لم يكن لكم ولد: فلهن الربع مما تركتموه، وجملة {إن} مستأنفة. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.

{فَإِنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكمَ ما إذا لم يكن ولد، وأردتم بيانَ حكم ما إذا كان لكم ولد .. فأقول لكم: {إِنْ كَانَ} إنْ حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {إن}. {لَكُمْ} جار ومجرور لـ {كان} خبر مقدم على اسمها. {وَلَدٌ} اسمها مؤخر. {فَلَهُنَّ} {الفاء} رابطة. {لهن} جار ومجرور خبر مقدم. {الثُّمُنُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {مِمَّا} جار ومجرور حال من {الثُّمُنُ}. {تَرَكْتُمْ} فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تركتموه. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {الرُّبُعُ} و {الثمن} تقديره: حالة كون كل منهما مستحقًا من بعد تنفيذ وصية، ويجوز أن يكون الجار والمجرور خبرًا لمحذوف تقديره: واستحقاق ما ذكر كائن بعد تنفيذ وصيةٍ كما أشرنا إليه في مبحث التفسير. {تُوصُونَ} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو ضمير المخاطبين في محل الرفع فاعل {بِهَا} متعلق به، والجملة صفة لـ {وصية}. {أَوْ دَيْنٍ} معطوف على {وَصِيَّةٍ}. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {رَجُلٌ} اسمها. {يُورَثُ} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {رَجُلٌ} والجملة الفعلية صفة لـ {رجل}. {كَلَالَةً} خبر {كَانَ}. {وَلَهُ أَخٌ} الواو حالية. {له} خبر مقدم. {أَخٌ} مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة ظاهرة على لغة النقص. {أَوْ أُخْتٌ} معطوف عليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب حال من رجل، وصح مجيء الحال منه، لوصفه بالجملة المذكورة بعده، والمعنى؛ وإن كان رجل

مورث متكللًا؛ أي: خاليًا من ولد، ووالد، والحاصل أن له أخًا فقط، أو أختًا فقط. {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} {الفاء} رابطة الجواب. {لكل} {وَاحِدٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم. {مِنْهُمَا} جار ومجرور صفة لـ {واحد}. {السُّدُسُ} مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها {جوابًا} لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، وفي هذا المقام أوجه كثيرة في إعراب الكلالة أعرضنا عنها صفحًا لئلا يطول الكلام. {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. {فَإِنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره إذا عرفتم حكمَ ما إذا كان له أخ أو أخت، وأردتم بيانَ حكم ما إذا كانوا أكثرَ .. فأقول لكم: {إن} حرف شرط. {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها. {أَكْثَرَ} خبر {كان}. {مِنْ ذَلِكَ} متعلق بـ {أكثر}. {فَهُمْ} {الفاء} رابطة الجواب. {هم شركاء} مبتدأ وخبر. {فِي الثُّلُثِ} متعلق بـ {شركاء} والجملة الإسمية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر لمحذوف تقديره: استحقاقهم ما ذكر من السدس، والثلث كائن من بعد تنفيذ وصية. {يُوصَى} بالبناء للفاعل وفاعله ضمير يعود على المحتضر. {بِهَا} متعلق بـ {يوصى} والجملة صفة لـ {وصية} ولكنها سببية، أو بالبناء للمفعول والجار والمجرور على هذا نائب فاعل قال ابن مالك: وَقَابِلْ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِيْ والجملة صفة حقيقية لـ {وصية} {غَيْرَ مُضَارٍّ} اسم فاعل حال من نائب

فاعل {يُوصَى} على البناء للمفعول، والمعنى حالةَ كون ما ذكر من الوصية، والدين غيرَ مضار بها. {وَصِيَّةً} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف تقديره: يوصيكم الله بقسمة الميراث على الكيفية المبينة لكم، والجملة المحذوفة مستأنفة، أو منصوب على المفعولية المطلقة بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}. {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {وصية}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. {حَلِيمٌ} خبر ثان. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {وَمَنْ} الواو استئنافية. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {يُطِعِ اللَّهَ} فعل ومفعول مجزوم بمن وفاعله ضمير يعود على {من}. {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة. {يُدْخِلْهُ} فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه جوابَ الشرط، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {والهاء} في محل النصب مفعول أول. {جَنَّاتٍ} مفعول ثان. {تَجْرِي} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تجري}. {الْأَنْهَارُ} فاعل والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {جنات}. {خالدين} حال من {هاء} {يدخله} وجمعه نظرًا لمعنى {من}. {فيها} متعلق بـ {خالدين}. {وَذَلِكَ الْفَوْزُ} مبتدأ وخبر. {الْعَظِيمُ} صفة للفوز، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. {يَعْصِ اللَّهَ} فعل ومفعول مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} الواو

عاطفة. {يتعد} معطوف على {يُطِعِ}. {حُدُودَهُ} مفعول به، ومضاف إليه. {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}. {يُدْخِلْهُ} فعل مضارع مجزوم بمن على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {والهاء} مفعول أول. {نَارًا} مفعول ثان، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى. {خَالِدًا} حال من ضمير {يُدْخِلْهُ} وأفرده نظرًا للفظ {من} {فِيهَا} متعلق بـ {خالدًا}. {وَلَهُ} الواو عاطفة. {له} جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {مُهِينٌ} صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة {يُدْخِلْهُ نَارًا}، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} مضارع أوصى الرباعي، من باب: أفعلَ يقال: أوصى الشيء بالشيء، ووصاه به إذا أوصى له به؛ لأن الموصي أوصل خير عُقْبَاهُ بخير دنياه، وأوصى الله بكذا، إذا أَمرَ به، وأوجبه، والمعنى: هنا يأمركم الله سبحانه وتعالى في إرث أولادِكم بأن يُعطَى الذكرُ الواحد مثلَ حظ الأنثيين. {حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الحظ: النصيب من الخير، والفضل، وقد يطلق على النصيب من الشر، واليسر، والسعادة يجمع على حظوظ، وحظاظ، وأحظ يقال حظ يحظ من باب: فتحَ إذا كان ذا حظ .. فهو حظيُّ، وحَظِيظ ومَحْظوظ. {الْأُنْثَيَيْنِ} مثنى الأنثى، والأنثى خلافُ الذكر، يُجمع على إناث، وأناثي، والمؤنث خلاف المذكر مأخوذة من أَنَثَ الحديدُ يَأنُثُ أَنْثًا من باب: نصر إذا لاَنَ، وكان غير شَديدٍ وصلبٍ، وسميت المرأة بأنثى للين بشرتها، وجسمها، ولضعفها خلقةً. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} يقال: فرض الله كذا على عباده، إذا أوجبه عليهم من باب: ضرب، والفريضةُ: الشيءُ الذي أوجبه عليهم، يُجمع على فرائض {لَا تَدْرُونَ} مضارع درى يدري دريًا، ودراية من باب: رمى، وهو من أفعال

القلوب، يتعدى إلى مفعولين قال الشاعر: دَرَيْتَ ألوَفِيَّ العَهْدِ يَا عُرْوَ فَاغْتَبِطْ ... فَإِنَّ اغْتِبَاطًا بَالوَفَاءِ حَمِيْدُ ولكن علقها هنا اسم الاستفهام عن العمل في لفظه، لأن اسمَ الاستفهام لا يعملُ فيه ما قبله، كما هو معلومٌ عندهم. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}، واختلف (¬1) في اشتقاق {الكلالة}، قيل: من الكَلاَل وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بُعْدٍ واعْيَاءٍ قال الأعشى: فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ... وَلاَ وَجِيٍ حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدَا قال الزمخشري: والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو: ذهاب القول من الإعياء، فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد، والوالد؛ لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالَّة ضعيفة انتهى. وقيل: هي مشتقة من تكلله النسب إذا أحاط به، فإذا لم يترك والدًا، ولا ولدًا .. فقد انقطع طرفاه، وهما عمودا نسبه وبقيَ موروثُه لمن يتكلل نسبه أي يحيط به من نواحيه كالإكليل، ومنه روض مكلل بالزهر، وقال الفرزدق: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ ... عَنِ ابْنَي مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وقال الأخفش: الكلالة من لا يرثه أب ولا أم، والذي عليه الجمهور أن الكلالةَ الميت الذي لا والدَ له، ولا مولودَ، وهو قول جمهور أهل اللغة: صاحب "العين"، وأبي منصوب اللغوي، وابن عرفة، وابن الأنباري، والعيني، وأبي عبيدة، وقال الراغب: الكلالَةُ اسم لكل وارث، قال الشاعر: وَالْمَرْءُ يَجْمَعُ لِلْغِنَى ... وَللْكَلاَلَةِ مَا يَسِيْمْ وقال الطبريُّ (¬2) الصواب: أنَّ الكلالَةَ هم الذين يرثون الميتَ مَنْ عدا ولده ووالدَه لصحة خبر جابر، فقلت: يا رسول الله، إنما يرثني كلالةٌ أَفأُوصي بمالي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

كلِّه؟ قال: لا "انتهى". {شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} جمع شريك ككرماء جمع كريم {غَيْرَ مُضَارٍّ} اسم فاعل من ضَار يضار ضرارًا، ومضاررةً من باب فاعل إذا أدخل عليه الضررَ إن بنيَ يوصى للفاعل، واسمُ مفعول إن بني للمفعول كما مرت الإشارة إليه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} حدود الشيء أطرافه التي يمتاز بها من غيره، ومنه حدودُ الدار، سميت بها الشرائع التي أمر الله باتباعها، ونَهَى عن تركها، فمدارُ الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود، ومَدارُ العصيان على اعتدائها. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من أطاع الرباعي، يقال: أطاع الله يُطيع إطاعةً، وطاعة من باب: أعان: إذا امتثل ما أمرَ به، ونُهيَ عنه، وأطاع الرسولَ. إذا تمسَّك ما أتَى به وبيَّن. البلاغة قال أبو حيان (¬1): وقد تضمنت هذه الآيات من أصناف البديع: منها: التفصيلُ في الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} الآية. ومنها: العُدول من صيغة يأمركم الله إلى {يُوصِيكُمُ} لما في الوصية من التأكيد، والحرص على اتباعها. ومنها: الطباقُ في لفظ الذكر والأنثى في قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وفي {من يطع} و {من يعص} وفي {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}. ومنها: إعادة الضمير على غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: {مِمَّا تَرَكَ}؛ أي: ترك الموروث. ومنها: التكرارُ في لفظ {كَانَ}، وفي قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

و {ولد وأبواه} و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} و {وصية من الله إن الله}، وفي {نِصْفُ مَا}، وفي {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: {وَصِيَّةٍ يُوصَى}. ومنها: المبالغةُ في قوله: {عَلِيمٌ حَلِيمٌ}. ومنها: تلوينُ الخطاب في من قرأ {ندخله} بالنون. ومنها: الحذف في مواضع انتهى. فائدة: {أَوْ دَيْنٍ} {أو} هنا (¬1) لإباحة الشيئين قال أبو البقاء: ولا تدل على ترتيب؛ إذ لا فرق بين قولك: جاءني زيد، أو عمرو، وبين قولك: جاءني عمرو، أو زيد؛ لأن أو لأحد الشيئين، والواحد لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قول من قال: التقدير: من بعد دين أو وصية، وإنما يقع الترتيب فيما إذا اجتمعا، فيقدم الدين على الوصية، وقال الزمخشري فإن قلتَ: فما معنى أو؟ قُلْتُ: معناها للإباحة، وإنه إن كان أحدهما، أو كلاهما قُدِّم على قسمة المواريث، كقوله: جالس الحسنَ، أو ابنَ سيرين، فإن قلتَ لم قدمت الوصية على الدين في الذكر، والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لمَّا كانت الوصية مشبهةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَضٍ كان إخراجها مما يشق على الورثة بخلاف الدين، فإن نفوسَهم مطمئنةُ إلى أدائه فلذلك قدمَتْ على الدين حثًّا على وجوبها، والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جِيء بكلمة {أو} للتسوية بينهما في الوجوب اهـ "سمين". والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الجمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ ...} الآية، مناسبةُ (¬1) هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء، فذكر إيتاءَ صدقاتهن، وتوريثهن، وقد كنُ لا يورثنَ في الجاهلية .. ذَكَرَ التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة: هو إحسان إليهن؛ إذ هو نظر في أمر آخرتهن؛ ولئلا يتوهمَ أنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقام عليهن الحدودُ، فيصيرُ ذلك سببًا لوقوعهن في أنواع المفاسد، ولأنه تعالى لمَّا ذكر حدودَه، وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة؛ فكان في مبدأ السورة التحضُّنُ بالتزويج، وإباحةُ ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك، استطردَ بعد ذلك إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حكم مَنْ خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني، وأفردهنَ بالذكر أولًا؛ لأنهن على ما قيل: أدخلُ في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانيًا مع الرجال الزانينَ في قوله: {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فصار ذكر النساء الزواني مرتين: مرةً بالإفراد ومرةً بالشمول. وقال المراغي (¬1): المناسبة في هذه الآية: لمَّا أوصى الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى النساء ومعاشرَتهن، بالمعروف، والمحافظة على أموالهنَ وعدَم أخذ شيء منها إلا إذا طابت أنفسهن بذلك؛ ذكَرَ هنا التشديدَ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وهو في الحقيقة إحسان إليهن، إذ الإحسانُ في الدنيا تارةً يكون بالثواب، وأخرى بالزجر والعقاب لكف العاصي عن العصيان، الذي يوقعه في الدمار والبَوار، ومبنَى الشرائع على العدل، والإنصاف، والابتعاد من طرفي الإفراط والتفريط، ومن أقبح العصيان الزنَا، ولا سيما في النساءِ؛ لأن الفتنةَ، بهن أكثر، والضرر منهن أخطر؛ لما يفضي إليه من توريث أولاد الزنا، وانتسابهم إلى غير آبائهم. قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ...} الآية، مناسبتها (¬2) لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَر أن من تاب وأصلح، تركت عقوبته، وأُزيل الأذى عنه، وأنه هو التواب الذي هو يقبل التوبةَ عن عباده .. ذكَرَ هنا وقت التوبة، وشرط قبولها، ورغبتَه في تعجيلها حتى لا يأتيَ الموت، وهو مصر على الذنب، فلا تنفعه التوبة، وأرشَدَ أولياءَ الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم، وتأديبهم، فأمر هنا بالإعراض عن أذى مَن تاب وأصلح العمل، بعد أَنْ فرض عقوبةَ مرتكبي الفواحش في الآية السالفة، فهذه شرح لذلك الإصلاح في العمل. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ...} الآيات، هذه الآيات مناسبتها لما قبلها: أنه لما نهى الله سبحانه وتعالى فيما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامَى، وأموالِهم .. أعقبَه بالنهي عن الاستنان بسنتهم في النساء، وأموالهن، وقد كانوا يحتقرون النساءَ، ويعدونَهن من قبيل المتاع، حتى كان الأقربون، يرثون زوجةَ من يموتُ منهم، كما يرثون مالَه؛ فحَرَّم الله عليهم هذا العمل. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ...} سبب نزولها (¬1): ما روى البخاري وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم. تزوَّجها، وإن شاؤوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها؛ فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم بسند حسن، عن أبي أُمامة أسعد بن سهل بن حُنيف قال: لمَّا تُوفي أبو قيس بن الأصلت أراد ابنُه أن يتزوَّج امرأتَه، وكان لهم ذلك في الجاهلية؛ فنزلت هذه الآية. وفي "الخازن" (¬2): نزلت هذه الآية في أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية، وفي أول الإِسلام، إذا مات الرجل، وخلَّف امرأةً جاء ابنه من غيرها، أو قَرِيبُه من ذوي عصبته، فألقى ثوبَه على تلك المرأة، أو على خبائها، فصار أحقَ بها من نفسها، ومن غيره، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداقَ الأول، الذي أصدقَها الميتُ، وإن شاء زوَّجها غيَره وأخذ هو صداقها، وإن شاء .. عضلها، ومنعها من الأزواج يُضارُّها بذلك لتفتديَ منه بما ورثت من الميت، أو تموتَ هي فيرثُها، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقيَ عليها وَلِيُّ زوجها ثوبَه .. كانت أحقَّ بنفسها، وكانوا على ذلك حتى توفّي أبو قيس بن الأصلت الأنصاري، وتَركَ امرأتَه كُبيشة بنتَ مَعْنٍ الأنصارية، فقام ابن له من غيرها، يقال له حصنُ: وقيل: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبَه عليها؛ فورث نكاحها، ثم تركها، فلم ينفق عليها يُضَارّها بذلك لتفتدي منه، فأتَتْ كبيشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الخازن.

[15]

فقالت: يا رسول الله: إن أبا قيس تُوفي، وورث نكاحي ابنه، فلا هو ينفق علي، ولا هو يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال: "اقْعُدي في بيتك، حتى يأتي أمر الله فيك"، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} يعني: ميراثَ نكاح النساء، وقيل: معناه أن ترثوا أموالَهن كرهًا، يعني وهن كارهاتُ. التفسير وأوجه القراءة 15 - {و} النسوة {اللاتي} جمع التي في المعنى دون اللفظ؛ أي: والنسوة اللاتي {يَأتِينَ}، ويفعلن {الْفَاحِشَةَ} والزنا حالةَ كونهن كائنات {مِنْ نِسَائِكُمْ}، وأزواجكم المؤمنات المحصنات، وفي التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيقٌ، وهو أنَّ الفاعلَ لها ذهب إليها بنفسه، واختارَها بطبعه، والفاحشةُ: الفعلة القبيحة والمراد بها هنا: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ}؛ أي: فأشهدوا أيها المسلمون على فعلهن الفاحشة؛ أي: على العَورتَينِ {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}؛ أي: أربعة رجال أحرار كائنين منكم أيها المؤمنون، أو المعنى: أطلبوا أربعة رجال منكم يشهدون على زَناهنَ، ويشترط في هذه الشهادة: المذكورة، والعدالة. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعده أنْ لا تُقبل شهادة النساء في الحدود. والحكمة في هذا (¬1): إبعاد النساء عن مواقع الفواحش، والجرائم، والعقاب، والتعذيب رغبةً في أن يكنَّ دائمًا غافلات عن القبائح، لا يفكرنَ فيها، ولا يخضنَ مع أربابها، والظاهر: أنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا، وأن تعمدَ النظر إلى الفرج، لا يقدَحُ في العدالة؛ إذا كان ذلك؛ لأجل الزنا. وقرأ عبد الله {واللاتي يأتين بالفاحشة} {فَإِنْ شَهِدُوا}؛ أي: فإن شهد ¬

_ (¬1) المراغي.

[16]

أربعة رجال منكم على زناهن، برؤية العورتَين يتداخلان كالعُود في المكحلة {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}؛ أي: فاحبسوهن في بيوتكم، وامنعوهن من الخروج منها، حتى لا يَعُدْنَ إلى ارتكابها مرة أخرى؛ لأن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز إلى الرجال، فإذا حُبست في البيت لم تقْدِرُ على الزنا {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ}؛ أي: إلى أن يقبض أرواحهن ملك الموت، ويمتن {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}؛ أي: أو إلى أن يبين الله، ويشرع لهن طريقًا، وحكمًا، وعقوبةً على ارتكابهن الفواحشَ، وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت، حتى تموت، ثم نسخ الحبسُ بالحدود، وجعل لهن سبيلًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا الثيب ترجم، والبكر تجلد، وتنفى". وفي الآية (¬1) إشارة إلى أن منعَ النساء عن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة، أو لمجرد الهَوى والتحكم من الرجال لا يجَوزُ، وكذلك في الآية إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت، وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه حكم كرب لذلك، وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذاتَ يوم، فبقي كذلك فلما سُري عنه قال: "خُذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيبُ بالثيب جلدُ مائة، ورَجْمُ بالحجارة، والبكر بالبكر جلدُ مائة، وتغريب عام". أخرجه مسلم. ومن هذا تعلَمُ أنَّ السبيل كان مجملًا أولًا، فبينه الحديث المذكورُ، وخصص الحديثُ أيضًا، عُمومَ آية الجلد الآتية في سورة النور، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب، وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد صح أن رسول الله رَجَم ماعزًا، وكان قد أُحْصِنُ وسواء في هذا الحكم المسلم، واليهودي؛ لأنه ثَبتَ في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجَم يهوديين زَنَيا، وكانا قد أحصنا. 16 - ثم بين عِقابَ كل من الزانيين البكريَنِ فقال: {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ}؛ أي: والبكران اللذان يفعلان الفاحشةَ ¬

_ (¬1) المراغي.

من أحراركم، ويرتكبان جريمة الزنا، واللواط {فَآذُوهُمَا} بالسب باللسان، والضرب بالنعال بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة رجال منكم، وقيل: بالتهديد والتعيير، كأن يقال: بئس ما فعلتما، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتُما أنفسَكما عن اسم العدالة. وهذا (¬1) العقاب والإيذاء كان أول الإِسلام من قبيل التعزير، وأمره مفوض إلى الأمة في كيفيته، ومقداره، فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها، وجاء الحديث الشريف السابق، بينا مقدارَ هذا الإيذاءِ، وحدداه، وبهما استبان أن عقاب المرأة الثيب، والرجل المتزوج، الرجم بالحجارة حتى يموتا، وعقابَ المرأة البكر، والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة، ونفيُهُ سنةً. وقرأ الجمهور {واللذان} بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير بالتشديد، وقراءة عبد الله {والذين يفعلونه منكم} وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإِمام، ومتدافعة مع ما بعدها؛ إذ هذا جمع وضميرُ جمع، وما بعدهما ضميرُ تثنية، وقرىء {واللذأن} بالهمزة وتشديد النون، وتوجيهُ هذه القراءة: أنه لما شدَّدَ النون التقى ساكنان، ففرَّ القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزةً تشبيهًا لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرئ: {ولا الضألين} {ولا جأن}. ثم بين أنَّ هذا الإيذاءَ، والعقاب: إنما يكون إذا لم يتوبَا، فإن تابا وأصلحا. رفع عنهما ذلك فقال {فَإِنْ تَابَا}؛ أي: فإن تاب الزانيان، ورجعا عن فعل الفاحشةِ بعد زواجر الأذيَّةِ ونَدِمَا على ما فعلا {وَأَصْلَحَا} عملهما فيما بينهما، وبين الله، وغيّرا أحوالَهما كما هو شأن المؤمن، يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة، ويزكيها من أدران المعاصي التي فَرطت منه، ويُقوي داعيةَ الخير حتى تغلب داعية الشر {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}؛ أي: فاتركوا إيذاءَهما، وكفوا الأذى عنهما بالقول والفعل، ثم علل الأمرَ بالإعراض عنهما بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ تَوَّابًا}؛ أي: كثير القبول لتوبة من تاب {رَحِيمًا}؛ أي: كثيرَ الرحمة ¬

_ (¬1) المراغي.

[17]

واسع الغفران، وقيل: {تَوَّابًا}؛ أي: رجاعًا بعباده عن معصيته إلى طاعته، {رَحِيمًا} لهم بترك أذاهم إذا تابوا، وقيل: {التوابُ} هو الذي يعودُ على عبده بفضله، ومغفرته، إذا تاب إليه من ذنبه، {والرحيم} كثير الرحمة والغفران لأرباب العصيان. وهذه الجملةُ جاءت تعليلًا للأمر بالإعراض، والخطابُ هنا لأولي الأمر والحكام، وقد عُلم مما مر أن الإمساك في البيوت والإيذاءَ باللسان قد نسِخَا برجم المحصن وجلد البكر. وقال أبو مسلم الأصفهاني بن بحر، والمرادُ بقوله: {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ} السحاقات وحدُّهن الحبس إلى الموت، أو إلى أن يُسهلَ الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح، والمراد بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ} أهل اللواط، وحَدُّهُمَا الأذى بالقول والفعل، والآية التي في سورة النور في الزانية والزاني، وخالف جمهور المفسرين، وبناه أبو مسلم على أصل له، وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. 17 - {إِنَّمَا التَّوْبَةُ} الواجهب قبولُها {عَلَى اللَّهِ} بمقتضى وعده لعباده، وجوبُ تفضل وإحسان، لا وجوبُ استحقاق وإلزام، كائنة ثابتة {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} ويفعلون {السُّوءَ} والذنب حالةَ كونهم ملتبسين {بِجَهَالَةٍ}، وسفه، فإنَّ ارتكابَ الذنب، ولومع العلم به سفه وتجاهل، أو المعنى: الذين يعملون المعصيةَ مع عدم علمهم بأنها معصية، لكنه يمكنه تحصيل العلم بأنها معصية {ثُمَّ يَتُوبُونَ}، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى {مِنْ قَرِيبٍ}؛ أي: في زمن قريب، والزمنُ القريب: هو الوقت الذي تسكن به ثَورةُ الشهوة، أو تنكسر به حدة الغضب، ويثوب فاعلُ السيئة إلى حلمه، ويرجعُ إليه دينه وعقله، وقيل: هو ما قبل معاينة سبب الموت وأهواله، وهذا القولُ ضعيف كما سيأتي الإشارة إليه قريبًا {فَأُولَئِكَ} الذين فعلوا الذنوبَ بجهالة، وتابوا بعد قريب من الزمن {يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: يقبل توبتَهم؛ لأن الذنوبَ لم ترسخ في نفوسهم، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون.

وخلاصة المعنى: أن التوبةَ التي أوجب الله على نفسه قبولَها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله، ليست إلا لمن يجترحُ السيئةَ بجهالة تلابس نفسَه من سورة غضب أو تغلب شهوة، ثم لا يلبث أن يندم على ما فرط منه، وينيبَ إلى ربه، ويتوبَ ويقلع عن ذنبه. وما رواه أحمد عن ابن عمر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقبل توبةَ العبد ما لم يغرغر"، فالمراد منه: أنه لا ينبغي لأحد أن يَقنط من رحمة الله، وييأس من قبول التوبة ما دام حيًّا، وليس معناه: أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة، فإن هذا مخالف لهدي الدين في مثل قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ولمثل قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}. قوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} السوء: هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلًا سليم الفطرة، وهذا شاملٌ للصغائر والكبائر {والجهالة} الجهل: وتغلُّب السفه على النفس عند ثورة الشهوة، أو سورة الغضب، حتى يذهبَ عنها الحلم، وتنسى الحقَّ، وكل من عصى اللهَ يسمَّى جاهلًا، ويسمَّى فعله جهالةَ كما قال تعالى: إخبارًا عن يوسف عليه السلام {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. وسر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب، والعقاب .. لما أقدم على المعصية؛ إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلًا بحقيقة الوعيد، ومنتظرًا لاحتمال العفو، والمغفرة، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقابَ، وقيل: معنى الجهالة: أن يأتي الإنسانُ بالذنب مع العلم، بأنه ذنب، لكنه يجهل عقوبتَه، وقيل: معنى الجهالة: هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية. {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}؛ أي: يتوبون (¬1) بالإقلاع عن الذنب بزمان قريب، لئلا يعدَّ في زمرة المصرينَ، وقيل: القريب: أن يتوب في صحته قبل مرض موته، وقيل: قبل موته، وقيل: قبل معايَنةِ ملك الموت، ومعايَنةِ أهوال الموت، ¬

_ (¬1) الخازن.

كما مَرَّ، وإنما سميت هذه المدة قريبة؛ لأن كلَّ ما هو آت قريب، وفيه تنبيه على أن عمرَ الإنسان، وإن طال. فهو قليل، وأن الإنسانَ يتوقع في كل ساعة ولحظة نزولَ الموت به، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى يقبل توبةَ العبد ما لم يغرغر". أخرجه الترمذي، وقد مرَّ الحديثُ بتأويله فلا تغفل. الغرغرة: أن يجعلَ المشروب في فم المريض، فيردِّدَه في الحَلْق، ولا يَصِلَ إليه، ولا يَقدِر على بلعه، وذلك عند بلوغ الروح الحلقومَ. وقيل في معنى الآية: إن القريب هو: أن يتوب الإنسانُ قبل أن يحيطَ السوء بحسناته فيحبطَها. والأصح كما قدمنا أن القريبَ أن يتوب بعدما سكنت ثورة الشهوة، وانكسرت حدَّةُ الغضب؛ إذ مَنْ كان قويَّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضبٍ، أو شهوةٍ هفوةً بعد هفوة، ثم لا يلبث أن يبادَر إلى التوبة. وقد قسموا التوابين إلى أقسام وطبقات (¬1) الأول: من هو سليم الفطرة عظيمُ الاستعداد للخير، فهو إذا وقع في خطيئة مرةً كان له منها أكبَرُ عبرة، فيندَمُ بعدها، ويحملُ نفسَه على الفضيلة، ويصرِفُها عن كل رذيلة. الثاني: مَنْ تكون داعية الشهوة أقوى في نفسه، وأرسخَ في قلبه .. فإذا أطاع نفسَه، وارتكب معصيةً. قامتْ الخواطرُ الإلهية تحاربه، وتوبِّخُه حتى تنتصرَ عليه، وتقهرَهُ قهرًا تامًّا، فلا يعودُ بعدَها إلى اجتراح إثم، ولا وقوع ذنب. الثالث: من تقوى نفسُه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم، والفواحش، لا على صِغَارِ الذنوب والآثام، وهنَاكَ تكون الحربُ في نفوسهم سجالًا بينَ ما يلمون به من الصغائر، وبَيْنَ الخواطر الإلهية التي هي جندُ الإيمان. الرابع: من يقع في الذنب، فيتوبُ ويستغفر، ثم يَعْرُض له مرةً أخرى، ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

فيعودُ إليه، ثم يَلوم نفسه، ويندم، ويستغفر وهلم جرًّا، وهؤلاء أدْنَى طبقات التوابين، والنفس الباقية عندهم أرخَصُ من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء؛ لأن لهم زاجرًا من أنفسهم يذكرهم دائمًا بالرجوع إلى الله، عَقِب كل خطيئة، وهكذا تكون الحرب سجالًا بينَهم وبينَ أنفسهم، فإما أن تنتصر دواعي الخير .. فتصحَّ توبتُهم، وإما أن تنكسر أمامَ جند الشهوة .. فتحيطَ بهم خطيئتهم، ويكونوا من المصرينَ الهالكينَ. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بمن يطيع، ويعصي، ويتوب، ويعرض {حَكِيمًا} فيما دبره لخلقه بوضع الأشياء في مواضعها، فيقبلُ توبةَ من أناب إليه، لكنه لا يقبل إلا التوبةَ النصوح، دون حركات اللسان بالاستغفار، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات، والأذكار مع الإصرار على الذنوب، والأوزار، ومن ثمَّ جَمَعَ الله في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل. وقد فعلت الأمم السالفة مثلَ هذا، فاستثقلت التكاليفَ وفسقَت عن أمر ربها، واتبعَتْ هواهَا، وجعلَتْ حظَهَا من الدين مجموعَ حركات لسانيةٍ، وبدنِيَةِ لا تهذَب خُلقًا، ولا تصلح عملًا، ولا تمنع النفسَ من التمتع بشهواتها، وقد اتبع كثير من المسلمين سُنَنَ من قبلهم، وحَذَوا حَذْوَهم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، فكانت الأغاني لهم دثارًا، والملاهي شعارًا فإنا لله وإنا إليه راجعون. 18 - وبعد أن بينَ حالَ من تقبل توبتهمُ ذَكَرَ حالَ أضَدادِهم الذين لا تقبل توبتهم، فقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}؛ أي: وليس قبولُ التوبة واجبًا على الله للذين يفعلون، ويرتكبون الذنوبَ، والمعاصيَ، ويستمرون عليها إلى حضور علامات الموت وقُرْبه {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}؛ أي: فإذا حضر أحدهم أوائلُ الموت، وَرَأى أشراطَها، وأيس من الحياة التي يتمتع بها، {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} إلى طاعة الله، ولذلك لم يُقْبَل إيمانُ فرعون حين أدركَه الغرقُ؛ أي: إن سنةَ الله قد مضَتْ بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكينَ فيها إلى حضور الموت، وصدور ذلك القول منهم؛ لأن هؤلاء قد أحاطَتْ بهم خطيئَاتُهم، ولم تَدَعْ للأعمال الصالحة مكانًا في نفوسهم، فهم

[19]

أصروا عليها إلى أن حضرهم الموت، وَيئِسوا من الحياة التي يتمتعون بها، وحينئذ يقول أحدهم: إني تبتُ الآن، وما هو من التائبين بل من المدعين الكاذبين. والخلاصة: أن التوبةَ لمثل هؤلاء ليست مقبولةً حتمًا، فأمرهم مفوَّضٌ إلى الله تعالى، وهو العليمُ بحالهم، وحديثُ قبول التوبة "ما لم يغرغر" أو تَبلُغ روحه الحلقوم: المرادُ منه حصول التوبة النصوح، بأن يُدركَ المذنبُ قبحَ ما كان قد عمله من السيئات، ويندَمَ على مزاولتها، ويزولَ حبه لها، بحيث لو عاشَ لم يعدْ إليها، وقلَّما يحصل مثل هذا الإدراك للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة، وإنما يَحصل له إدراك العجز عنها، واليأس منها، وكراهةُ ما يتوقعه من قُرْبِ العقاب عليها عندَ الموت. {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}؛ أي: وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب؛ أي: لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، فقد سوى الله بين الذين سوفوا توبتَهم إلى أن حضر الموتُ، وبين الذين ماتوا على الكفر، في أنَّ توبتهم لا تقبل، فكما أن المائتَ على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، كذلك المسوف إلى حضور الموت فكلٌ منهما جَاوَزَ الحد المضروب للتوبة، إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار. {أُولَئِكَ} المذكورون من الفريقين {أَعْتَدْنَا} وهيأنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: مؤلمًا موجعًا في الآخرة؛ أي: هذان الفريقان اللذان استعبدَهما سلطان الشهوة، وخرَجَا عن نهج الفطرة، وهُدى الشريعةِ: أعدَدْنا وهيأنا لهم العذابَ الموجعَ في الآخرةِ، جزاءًا وفاقًا لما اكتسَبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى المماتِ، إذ أنهم أفسدوا قلوبَهم، ودسوا نفوسَهم، فصارت تهبط بهم خَطَايَاهم إلى الدرك الأسفل من النيران، والهَوَان، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامةِ والرضوانِ، وهذه الجملة تأكيدٌ لعدم قبول توبتهم. 19 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله {لَا يَحِلُّ}، ولا يجوز {لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} عَيْنَ النساء وذاتها بنكاحِهن {كَرْهًا} أي مكرهات غيرَ راضيات له إذا

مات أقاربُكم عنهن؛ أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون: أن تسيروا على سنةِ الجاهلية في هضم حقوق النساء، فتجعلوهن ميراثًا لكم، كالأموال، والعبيد، وتتصرفوا فيهن كما تَشاءُون، وهنَّ كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوج امرأةَ من يموت من أقاربه، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء أمسكها ومَنَعَها الزواجَ، كما مر بيان ذلك كله في أسباب النزول. {و} كذلك {لا} يحل لكم أيها المؤمنون أن: {تَعْضُلُوهُنَّ} وتحبسوهن في نكاحكم، وتضيّقوا عليهن بسوء العشرة، حتى أُلْجِئَت إلى الافتداء بمالها {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}؛ أي: لتأخذوا منهن، وتردوا عنهن بعضَ ما أعطيتموهن من المهور بسبب اختلاعهن، ومن باب أولى أَخَذُ الجميع. وقرأ ابن مسعود، {ولا أن تعضلوهن} وهذه القراءة تقوي احتمالَ النصب على احتمال الجزم، وقال ابن عطية: واحتمال النصب أقوى. انتهى؛ أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون إرثُ ذاتِ نساءِ أقاربكم، إذا ماتوا عنهن بتزوجها كُرهًا من غير رِضَاهَا، ولا يحل لكم أيضًا العضل، والتضييق على أزواجكم اللاتي في نكاحكم، ومضارتُهن بسوء العشرة لِيُكْرِهْنَكُم، ويَضْطَرِرْنَ إلى الافتداء منكم بالمال، والصداق الذي أَخَذْنَ منكم أو بالمال الذي وَرِثَتْ من زوجها الأول، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حَسْنُها، ويزوِّجون من لا تعجبهم، أو يمسكونها حتى تفتدِيَ بما كانت وَرِثَتْ من قريب الوارث، أو بما كانت أخذت من صداق ونحوه، أو بكلّ هذا، وربما كلفوها الزيادةَ إن علموا أنها تَسْطِيعها. أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأةَ الشريفةَ فلعلها، ما توافِقُهُ فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها؛ فإذا خَطَبَها خاطبٌ، فإن أعطَتْه وأَرْضَتْهُ أذِنَ لها، وإلا عَضَلها، وكثيرًا ما كانوا يضيّقون عليهن ليفتدِينَ منهم بالمال. وقرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا} بضم الكاف هنا، وكذا في التوبة، وفي الأحقاف، وقرأ عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقون بالفتح، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الفراء:

الكره بالفتح: الإكراه، وبالضم: المشقةُ، فما أُكرِه عليه فهو كَرُه بالفتح، وما كان من قِبَلِ نفسه، فهو كُرْهُ بالضم. {إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء؛ أي: بينها من يدَّعِيها، ويوضحها والباقون بالكسرة؛ أي: بينةٍ في نفسها، ظاهرة من النشوز وشَكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهلِه بالبذاء والسلاطة، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم، وقرأ ابن عباس {مبينة} بكسر الباء وسكون الياء: من أبانَ الشيء فهو مبين؛ أي: لا تعضلوهن في حال من الأحوال، إلا في الحال التي يفعلنَ فيها بالفاحشة، المبينة، الواضحة الظاهرة، الفاضحة دون الظنة والشبهةِ، فإذا نشزن عن طاعتكم وسَاءَتْ عشرتهن، ولم ينفع معهن التأديبُ، أو تبيَّنَ ارتكابهن للزنا، أو السرقة، أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوُتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن، وتضيقوا عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال؛ لأن الفُحْشَ قد أتى من جانبها، فقد عُذِرْتُم حينئذ في طلب الخلع، وإنما اشترِطَ في الفاحشة أن تكونَ مبينةً؛ أي: ظاهرةً فاضحةً لصاحبها؛ لأنه رُبَّما ظلَمَ الرجل المرأةَ بإصابتها الهفوةَ الصغيرةَ، أو بمجرد سوء الظن، والتهمة، فمن الرجال الغَيور السيء الظنّ الذي يؤاخذ بأتفه الأمور، ويعده عظيمًا. وإنما أبيح للرجل أن يضيِّق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة؛ لأنها ربما كَرِهته، ومالَت إلى غيره فتؤذيه بفاحش القول، أو الفعل؛ ليملها، ويسأم معاشرتها؛ فيطلقها؛ فتأخذ ما كان أعطاها، وتتزوج غيره، وتتمتع بمال الأول، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول، فإذا عَلِمَ النساء أن العضلَ والتضييقَ بيد الرجال، ومما أبيح لهم إذا هن آذينَهُم وأهنَّهم؛ فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها، والاحتيالِ بها على أرذلِ أنواعِ الكسب. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: وعاشروا أيها: الأزواج، وساكنوا مع زوجَاتِكم بالوجه المعروف في هذه الشريعة، وبَيْنَ أهلها من حسن المعاشرة؛ أي: وعليكم أيها الأزواجُ أن تحسنوا معاشرةَ نسائِكم فتُخَالطُوهُنَّ بما تألُفُه

طباعهن، ولا يستنكرهُ الشرعُ، ولا العرفُ، ولا تضيقوا عليهن في النفقة، ولا تؤذوهن بقولٍ ولا فعلٍ، ولا تقابلوهنَ بعبُوسٍ الوجه، ولا تقطيب الجَبين، والمعاشرة بالمعروفِ هو: الإنصافُ في الفعل المبيت والنفقة والإجمال في القول، وفي المَثلِ: المرأة تَسْمُنُ مِن أُذنها. وفي كلمة المعاشرة: معنى المشاركة، والمساواة؛ أي: عاشروهنَ بالمعروف. وليعاشِرْنكم كذلك، فيجب أن يكونَ كل من الزوجين مدْعَاةً لسرور الآخر، وسبب هناءته وسعادته في معيشته، ومنزله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي فإن كرهتم أيها الأزواج صحبةَ زوجَاتكِم لعيب في أخلاقِهن أو دَمامةِ في خلقهن مما ليس لهن فيه كسب، أو لتقصير في العمل الواجب عليهنَّ كخِدمةِ البيت، والقيام بشُؤونه مما لا يخلو عن مِثلِه النساء في أعمالهنَ أو لميل منكم إلى غيرهن، فَاصْبِرُوا، ولا تَعْجلُوا بمضارتهن، ولا بمفارقتهن {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} ويؤولَ الأمرُ إلى ما تحبونه من ذهابِ الكراهة وتبدلِها بالمحبة {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ}؛ أي: في ذلك المكروه لكم {خَيْرًا كَثِيرًا}، ونفعًا كبيرًا لكم، فجواب الشرط محذوف، والفاء في عسى معلِّلُة لذلك المحذوف، وعسَى هنَا للتحقق، لا للرجاء، والمعنَى: فإن كرهتموهن .. فاصبرُوا، ولا تفارقُوهن؛ لأنه قد ثبَتَ وحقَّ كراهتكم شيئًا وجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وفي "القاموس" (¬1) عسى للترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه، واجتمَعا في قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية. وللشك واليقين، وقد تشبه بكاد ومن الله للإيجاب انتهى. ومن الخير الكثير: الأولادُ الأَنْجابُ فرُبَّ امرأة يملها زوجها، ويَود فراقَها ثم يجيئه منها مَنْ تقرُّ به عَينه من الأولاد النجباء، فيَعْلَو قَدْرُها عنده بذلك. ومن ذلك أن يصلُحَ حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون من أعظم أسباب ¬

_ (¬1) قاموس.

سعادته، وسروره في انتظام معيشته، وحسن خدمته، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض، أو بالفقر، والعَوَزِ فتكون خَيْرَ سلوى وعون في هذه الأحوال، فيجب على الرجل أن يتذكر مثلَ ذلك كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته في الحال، والاستقبال، وقيل (¬1) أن ترى مُتَعَاشِرَين يرضى كل واحد منهما جميعَ خلق الآخر، ويقال: ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغامض عن الآخر، وفي صحيح مسلم "لا يفرك مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضيَ منها آخر" وأنشدوا في هذا المعنى: وَمَنْ لاَ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيْقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيْهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلاَ يَسْلَمُ لَهُ الْدَّهْرَ صَاحِبُ وقد جاء (¬2) قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} في سِياق حديث النساء دستورًا كاملًا، وحاكمًا عادلًا إذا نحن اتبعناه كان له الأثرُ الصالح في جميع أعمالنا، وهَدَانا إلى الرشد في جميع شؤوننا فكثيرٌ ممَّا يكرهُه الإنسانُ يكون له فيه الخَيْرُ، ومتى جاء ذلك الخير .. ظهرَتْ فائدةُ ذلك الشيء المكروه، والتجارب أصدَقُ شاهد على ذلك، فالقتال لأجل حماية الحقِ والدِّفاع عنه، يكرهه الطبع لما فيه من المشقة، لكن فيه إظهار الحق، ونصرُه ورفعة أهله، وخذلان الباطل وحزبه، على أنَّ الصبرَ على احتمالِ المكروه يمرن النفسَ على احتمال الأذى، ويعودها تحملَ المشاق في جسيم الأمور، وبالجملة: فالإحسان إلى النساء من مكارم الأخلاق، وإن وقعَتْ منهن الإساءَةُ لما في الحديث "يغلبن كريمًا، ويغلبهن لئيم، فأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا، ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا". والخلاصة: أن الإِسلام وصى أهلَه بحسن معاشرة النساء، والصبر عليهن، إذا كَرِهَهُنَّ الأزواجُ رجاءَ أن يكون فيهن خير كثير، ولا يبيحُ عضلَهن افتِدَاؤهن أنفسهن بالمال، إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببًا في مهانة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[20]

الرجل، واحتقاره أو إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، وفيما عدا ذلك يجبُ عليه إذا أراد فراقُها أن يعطَيها جميعَ حقوقها، 20 - وهذا ما أشار إليه بقوله سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ} وقصدتم أيُّها الأزواجُ {اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ}؛ أي: تزوجَ زوجة جديدة ترغبون فيها، وأخذَها {مَكَانَ زَوْجٍ}؛ أي: بدلَ زوجة قديمة كرهتموها، وأردتم تطليقَها لعدم طاقتكم الصبرَ على معاشرتها، وهي لم تأت بفاحشة مبينة، {و} قد {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ}؛ أي: إحدى الزوجات؛ أي: والحال أنكم قد أعطيتم تلك القديمةَ التي تريدون تطليقَا {قِنْطَارًا}؛ أي: مالًا كثيرًا من الصداق {فَلَا تَأخُذُوا مِنْهُ}؛ أي: من ذلك القنطار {شَيْئًا}؛ أي: يسيرًا، ولا كثيرًا، وقرأ أبو السمال (¬1) وأبو جعفر {شَيْئًا} بفتح الياء وتنوينها حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء والمعنى (¬2): وإذا رغبتم أيها الأزواج في استبدال زوجٍ جديدةٍ مكانَ زوج سابقةٍ كرهتموهَا لِعَدَمِ طاقَتِكم الصبرَ على معاشِّرتِها، وهي لم تأت بفاحشة مبينة، وقد آتيتموها المالَ الكثيرَ مقبوضًا، أو ملتزمًا دفعه إليها، فصار دينًا في ذمتكم؛ فلا تأخذوا منه شيئًا، بل عليكم أن تدفعوه لها؛ لأنكم إنما استبدلتم غيرهَا بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذَنْب، ولا جَرِيرة تُبيح أَخْذَ شيء منها، فبأي حق تستحلون ذلك، وهي لم تَطْلُب فِراقَكَم، ولم تُسيء العشرةَ إليكم، فتحملَكم على طلاَقِها. وإرادةُ الاستبدال ليسَتْ شرطًا في عدم حل أخذ شيءٍ من مالها، إذا هو كره عشرتها، وأراد الطلاقَ لكنه ذكر لأنه هو الغالب في مثل هذا الحال، ألا ترى: أنه لو طلقها، وهو لا يريد تزوَّجَ غيرها، بأن أراد الوَحْدةَ وعدمَ التقيد بالنساء، ومؤنتهن، فإنه لا يحل له شيء من مالها. ثم أنكر عليهم هذا الفعلَ، ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال: {أَتَأخُذُونَهُ} استفهام إنكاري فيه معنى التوبيخ؛ أي: هل تأخذون ذلك القنطار منها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[21]

{بُهْتَانًا}؛ أي: حالة كونكم باهتينَ وكاذبينَ عليها برميها بالفاحشة، {وَإِثْمًا مُبِينًا}؛ أي: وحالة كونكم آثمين إثمًا مبينًا؛ أي: ظالمينَ لها ظلمًا، بينًا، ظاهرًا، بأخذ مالها بغير استحقاق له؛ أي: لا تفعلوا ذلك، وقد كان من دَأبهم أنهم إذا أرادوا تطليقَ الزوجة، رَمَوها بفاحشة، حتى تَخافَ وتشتريَ نَفْسَها منه بالمهر الذي دَفَعه إليها، وأصل البهتان (¬1) الكذب الذي يواجهُ به الإنسان صاحبَه على جهة المكابرة، فيبْهَتُ المكذوبُ عليه؛ أي: يتحيَّرُ ثُمَّ سميَ كلُّ باطل يتحيّر من بطلانه بُهْتَانًا. 21 - ثم زاده إنكارًا آخر مبالغةً في التنفير من ذلك فقال: {وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ}؛ أي: وبأي وجه وسبب تأخذُون ذلك القنطار {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}؛ أي: والحال: أنه قد وَصَلَ، وألصقَ بعضكم أيُّها الأزواجُ والزوجات إلى بعض بالجماع الموجب للمهر، واجتمعتم في لحاف واحدٍ، ولاَبَس بعضكم بعضًا ملابسةً يتكوَّنُ منها الولد، فإنها قد بذلَتْ نفسَها لك، وجعلَتْ ذاتَها مَلاذك ومتمتعك، وحصلَت الألفة التامَّةُ بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا، فهذا لا يليق بمَنْ له طَبْعٌ سليم، وذوقٌ مستقيم؛ أي: إنَّ حالَ هؤلاء الذين يستحلون أخذَ مهور النساء إذا أرادوا مُفارقتَهن بالطلاق، لا لذنب جَنيْنَهُ، ولا لإثم اجترحنَه من الإتيان بفاحشة مبينة، أو عدم إقامة حدود الله، وإنما هو الرأي والهَوى، وكراهةُ معاشرَتِهن عجيب أيما عجيب، فكيف يستطيبون ويجُوزون أخذَ ذلك منهن بعد أن تأكَّدَت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوي بين البشر، ولابس كل منهما الآخر حتى صار كل منهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده، فَبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء، ولابسه ملابسةً يتكون منها الولد يقطع تلك الصلة العظيمة، ويطمع في مالها وهي المظلومة الضعيفة، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل، التي هدَى الله إليها البشرَ. وجملة قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} معطوفة على جملة قوله: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}؛ أي: وكيف تأخذونه، والحاصل: أن هؤلاء النساء، يعني زوجاتَهم قد أخذن وجعلن عليكم ميثاقًا، وعهدًا غليظًا؛ أي: شديدًا وعاشرن معكم بذلك العهد. قال ابن عباس، ومجاهد: الميثاق الغليظ: كلمة النكاح المعقودة على الصداق، وهي الكلمة التي تستحلُّ بها الفروجُ، ويدل على ذلك ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وقيل: هو قولُ العاقد عند العقد زوجتكها على ما أخَذَ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، قاله قتادة. وهذا الإسناد (¬1) مجاز عقلي من الإسناد للسبب؛ لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، لكن بولغ فيه حتى جَعَل كأنهن الآخذاتُ له، والمعنى فكيف تأخذونه، والحاصل أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخذ وجعل عليكم أيُّها الأزواج بسببهن ميثاقًا غليظًا، وعهدًا شديدًا على التقوى في حقوقهن حيث قال: على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله في النساء" الحديث. وقيل: الميثاق الغليظُ: المودةُ والرحمةُ المذكورة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فالإسناد على هذا حقيقي، والمعنى حينئذ: فكيف تأخذونه وقد أخذنَ وحَمَلْنَ أزواجكم بسببكم مودةً شديدةً وشفقة عجيبة. فهذه آية من (¬2) آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمدُ عليها المرأَةُ في ترك أبوَيْها، وإخوتها وسائر أهلها، والاتصال برجل غريب عنها تسَاهِمُهُ السرَّاءَ والضراءَ، وتسكن إليه ويَسْكُن إليها، ويكون بينهما من المودة أقوَى مما يكون بين ذوي القربى ثقةً منها بأنَّ صِلَتَها به أقوى من كل صلة، وعيشتَها معه أَهْنَأُ مِن كلِّ عيشة. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

هذه الثقة، وذلك الشعورُ الفطري الذي أودعَ في المرأة وجعلها تحسُّ بصلة لم تَعْهَدْ من قَبْلُ لا تَجِدُ مثلَها لدى أحد من الأهل، وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءَها سعادة في الحياة، هذا هو المركوز في أعماق النفوس، وهذا هو الميثاق الغليظ، فما قيمة مَنْ لا يَفِي بهذا الميثاق، وما هي مَكانتُه من الإنسانية. وقد استدلوا (¬1) بذكر القنطار على جواز التغالي في المهور، وقد روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نهى على المنبر، أن يزاد في الصداق على أربع مائة درهم، ثم نَزلَ فاعترضَتْه امرأةٌ من قريش فقالت: أما سمعْتَ الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فقال: اللهم عَفْوًا كلُّ الناس أَفْقَهُ من عُمَر، ثُمَّ رَجَع فركب المنبرَ، فقال إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربع مائة درهم، فَمَنْ شاء أن يعطِيَ من ماله، فله ما أحبَّ. هذا وإن الشريعة لم تحدِّدْ مقدار الصداق، بل تركَتْ ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر، فكل يعطي بحسب حاله، لكن جاء في السنة: الإرشاد إلى اليسْر في ذلك، وعدم التغالي فيه. فمن ذلك ما رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي عن عائشة إنَّ مِنْ يُمْنِ المرأة تيسيرَ خِطْبَتِهَا، وتَيسِيرَ صداقها. وإن التغالِيَ في المُهور الآن، قد صار من أسباب قلة الزواج، وقلَّةِ الزواج: تُفْضِي إلى كثرة الزنا والفساد، والغَبْنُ أخيرًا على النساء أكثَرُ، وإنّك لَتَرى هذه العادةَ متمكنة لدى بعض الناس، حتى إن وليَّ المرأة؛ ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خيرٌ منه، إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقًا بكرامته، ويزوجها لمن هو دونه دينًا وخُلُقًا ومن لا يَرجُو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثيرَ الذي يراه محققًا لأغراضه، وهكذا تَتَحكم التقاليد والعادات حتى تفسدَ على الناس سعادتَهم، وتقوضَ نَظْمَ بيوتهن، وهم لها منقادون بلاَ تفكير في العواقب، فيا لَها مصيبةً في دِيننا، ودُنيانا، وإنَّا للهِ وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) المراغي.

الإعراب {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}. {وَاللَّاتِي} {الواو} استئنافية. {اللاتي} اسم موصول للجمع المؤنث في محل الرفع، مبتدأ مبني على السكون {يَأتِينَ} فعل وفاعل. {الْفَاحِشَةَ} مفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنْ نِسَائِكُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل {يَأتِينَ} {فَاسْتَشْهِدُوا} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ، جوازًا على رأي الجمهور لشبه المبتدأ بالشرط في كونه موصولًا عامًّا، صلته فعل مستقبل. استشهدوا فعل وفاعل {عَلَيْهِنَّ} متعلق به لـ {أَرْبَعَةً} مفعول به {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لـ {أربعة}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة، ويجوز (¬1) أن يكون الخبر محذوفًا، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي فحذف الخبر، والمضاف إلى المبتدأ، للدلالة عليهما، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا نظير ما فعله سيبويه في نحو {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}؛ أي: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ويكون قوله: {فَاسْتَشْهِدُوا} وقوله {فَاجْلِدُوا} وقوله: {فَاقْطَعُوا} دالًّا على ذلك المحذوف؛ لأنه بيان له اهـ "سمين". {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. {فَإِنْ شَهِدُوا} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلتم ما أمرتكم به من الاستشهاد، وأردتم بيانَ حكم ما إذا أشهدوا .. فأقول لكم. {إن} {شَهِدُوا} {إن} حرف شرط. {شَهِدُوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعلَ شرط لها. {فَأَمْسِكُوهُنَّ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {أمسكوهن} فعل وفاعل ومفعول. {فِي ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

الْبُيُوتِ} جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية من فعل شرطِها وجوابِها في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {حَتَّى} حرف جر وغاية. {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} فعل ومفعول وفاعل منصوب بـ {إن} مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} بمعنى إلى، تقديره. فأمسكوهن في البيوت إلى توفي الموت إياهن، والجار والمجرور متعلق بـ {أمسكوا}. {أَوْ} حرف عطف بمعنى إلى {أو} بمعنى إلا. {يَجْعَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد، {أَوْ} التي بمعنى إلى {أو} بمعنى إلا. {لَهُنَّ} جار ومجرور متعلق بـ {يَجْعَلَ} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {سَبِيلًا} مفعول أول لجَعَل، والجملة الفعلية صلةُ أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، تقديره: فأمسكوهن في البيوت إلى توفي الموت إياهن أو جعل الله لهنَّ سبيلًا. {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}. {وَاللَّذَانِ} {الواو} استئنافية أو عاطفة. {اللذان} اسم موصول للمثنى المذكر في محل الرفع مبتدأ، مبني على {الألف} و {النون} حرف زائد لشبه التثنية، أو مرفوع بـ {الألف} على الخلاف المذكور في محله، هذا على قراءة تخفيف النون على أصل التثنية، ويقرأ (¬1) بتشديدها على أن إحدى النونين، عوض من اللام المحذوفة؛ لأن الأصلَ اللذيان مثل العَمَيَان والشجَيَان، فحذفت الياء؛ لأن الاسمَ مبهمُ، والمبهمات لا تثنى التثنيةَ الصناعيةَ، والحذف مؤذن بأن التثنيةَ هنا مخالفة للقياس، وقيل: حذفت لطول الكلام بالصلة، ذكره أبو البقاء. {يَأتِيَانِهَا} فعل وفاعل ومفعول. {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من ضمير الفاعل، والجملة صلة الموصول. {فَآذُوهُمَا} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ ¬

_ (¬1) عكبري.

جوازًا لما في المبتدأ من العموم. {آذوهما} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والرابط ضميرُ المفعول، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا، أو معطوفة على جملة قوله: {واللاتي} على كونها مستأنفة. {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}. {فَإن} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذَا امتثلتم ما أمرتكم به من الإيذاء لهما، وأردتم بيانَ حكم ما بعد الإيذاء .. فأقول لكم. {إن تابا} {إن} حرف شرط. {تَابَا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعلَ شرط لها. {وَأَصْلَحَا} فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على {تَابَا}. {فَأَعْرِضُوا} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. {أعرضوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابَ الشرط. {عَنْهُمَا} جار ومجرور متعلق به، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {إِنَّ} حرف نصب. {إِنَّ} اسمها. {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الجلالة. {تَوَّابًا} خبر أول لها. {رَحِيمًا} خبر ثان، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إِنَّ} جملة معللة للإعراض في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}. {إِنَّمَا} أداة حصر. {التَّوْبَةُ} مبتدأ. {عَلَى اللَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: إنما التوبة ثابتة، وواجبة على الله وجوبَ تفضل منه، وإنجاز وعد منه لا وجوبَ إلزام، وكلفة عليه، ولكن الكلامُ على حذف مضاف، تقديره: إنما قبول التوبة؛ لأن التوبةَ هنا مصدر لتاب عليه إذا قبل توبته، لا مصدر تاب العبد إلى الله، إذا رجعَ إلى طاعته، والجملة الإسمية مستأنفة، {لِلَّذِينَ} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر، تقديره: إنما التوبة ثابتة، هي على الله حالةَ كونها كائنة للذين يعملون السوء. {يَعْمَلُونَ السُّوءَ} فعل وفاعل ومفعول،

والجملة صلة الموصول. {بِجَهَالَةٍ} جار ومجرور حال من ضمير الفاعل، تقديره: حالةَ كونهم ملتبسين {بجهالة}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، ولكن التراخي المفهوم من {ثم} منفي بقوله: {مِنْ قَرِيبٍ}. {يَتُوبُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَعْمَلُونَ}. {مِنْ قَرِيبٍ} جار ومجرور متعلق بـ {يتوبون} قال أبو حيان (¬1): و {من} في قوله: {مِنْ قَرِيبٍ} تتعلق بـ {يتوبون} وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض؛ أي: بعضَ زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة .. فهو تائب من قريب، والثاني: أن تكون لابتداء الغاية؛ أي: يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهومُ ابتداء الغاية. أنه لو تاب من زمان بعيد .. فإنه يخرج عن من خص بكرامة حتم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بـ {على} بقوله: {عَلَى اللَّهِ} انتهى. {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. {فَأُولَئِكَ} {الفاء} عاطفة تفريعية. {أولئك} مبتدأ. {يَتُوبُ اللَّهُ} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الإسمية معطوفة مفرعة على جملة قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}. {وَكَانَ} الواو استئنافية. {كان الله عليمًا} فعل ناقص، واسمه وخبره. {حَكِيمًا} خبر ثان له، والجملة مستأنفة. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}. {وَلَيْسَتِ} الواو استئنافية. {ليست التوبة} فعل ناقص واسمه. {لِلَّذِينَ} جار ومجرور خبر {ليس} وجملة {ليس} مستأنفة. {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {حَتَّى إِذَا حَضَرَ} {حتى} حرف ابتداء. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {حَضَرَ} فعل ماض. {أَحَدَهُمُ} مفعول به، ومضاف إليه. {الْمَوْتُ} فاعل، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على أحدهم، وجملة {قَالَ} جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها غاية لما قبل {حَتَّى}، والتقدير: وليست التوبة لقوم يعملون السيئات، ويستمرون على ذلك، فإذا حضر أحدهم. قال كيتَ وكيتَ، وهذا (¬1) هو الوجه الحسن، ولا يجوز في {حَتَّى} أن تكون جارةً لـ {إذا}؛ أي: يعملون السيئات إلى وقت حضور الموت من حيث إنها شرطية، والشرط لا يعمل فيه ما قبله، للزومه الصدارةَ، وإذا جعلنا {حتى} جارة تعلقت بـ {يعملون} وأدوات الشرط لا يعملُ فيها ما قبلَها، ولأنَ {إِذَا} لا تتصرف على المشهور، ذكره في "الفتوحات" {إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} مقول محكي لـ {قال} منصوب بفتحة مقدرة، منع من ظهورها اشتغالُ المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت {إن} حرف نصب وتوكيد {والياء} في محل النصب اسمها. {تُبْتُ} فعل وفاعل. {الْآنَ} ظرف للزمن الحاضر في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح لشبهه بالحرف، شبهًا معنويًّا، لتضمنه معنى حرف التعريف، والظرف متعلق بـ {تبت} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}. {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. {وَلَا الَّذِينَ} الواو عاطفة. {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {الَّذِينَ} في محل الجر معطوف على قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}. {يَمُوتُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَهُمْ كُفَّارٌ} الواو حالية. {هُمْ} مبتدأ. {كُفَّارٌ} خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَمُوتُونَ}. {أُولَئِكَ} مبتدأ. {أَعْتَدْنَا} فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {اعتدنا}. {عَذَابًا} مفعول به. {أَلِيمًا} صفة له. ¬

_ (¬1) الجمل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء. {أي} منادى نكرة مقصودة {والهاء} حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع، أو في محل النصب صفة لـ {أي}. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. {لَا يَحِلُّ} {لَا} نافية. {يَحِلُّ} فعل مضارع مرفوع. {لَكُمْ} متعلق به. {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لـ {يحل} تقديره: لا يحل لكم إرث النساء كرهًا، وجملة {لَا يَحِلُّ} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {كَرْهًا} حال من النساء منصوب، ولكنه بعد تأويله بالمشتق تقديره مكرهات. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} الواو عاطفة. {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {تَعْضُلُوهُنَّ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تَرِثُوا} منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مرفوع معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها. على كونه فاعلًا لـ {يحل} تقديره: لا يحل لكم إرث النساء كرهًا ولا عضلهن. {لِتَذْهَبُوا} {اللام} لام كي. {تذهبوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {بِبَعْضِ} {الباء} حرف جر وتعدية. {بعض} مجرور بـ {الباء} الجار والمجرور متعلق بـ {تذهبوا}، وجملة {تذهبوا} صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، الجار والمجرور متعلق بـ {تعضلوا} والتقدير: ولا تعضلوهن لذهابكم، وأخذكم بعض ما آتيتموهن من المهور، {بعض} مضاف. {ما} موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {آتَيْتُمُوهُنَّ} فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ببعض ما آتيتموهن إياه؛ لأن {آتى} هنا بمعنى أعطى، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط الضمير المحذوف الذي هو المفعول الثاني. {إِلَّا أَنْ يَأتِينَ} {إلا} أداة استثناء من أعم الأحوال. {أن} حرف نصب ومصدر. {يَأتِينَ} فعل مضارع في حل النصب بأن المصدرية مبني على السكون لاتصاله {بنون} الإناث، و {نون} الإناث في محل الرفع فاعل

{بِفَاحِشَةٍ} جار ومجرور متعلق به. {مُبَيِّنَةٍ} صفة لـ {فاحشة} والجملة الفعلية صلة أن المصدرية {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: ولا يحل لكم أن تعضلوهن في حال من الأحوال إلا حالَ إتيانهن بفاحشة مبينة. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. {وَعَاشِرُوهُنَّ} {الواو} استئنافية. {عاشروهن} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة. {بِالْمَعْرُوفِ} جار ومجرور متعلق به، أو متعلق بمحذوف حال من فاعل {عاشروا} تقديره: حالةَ كونكم ملتبسينَ بالمعروف. {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصَحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما أمرتكم به من المعاشرة بالمعروف، وأردتم بيانَ حكمِ ما إذا كرهتموهن، فأقول لكم. {إن} حرف شرط. {كَرِهْتُمُوهُنَّ} فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعلَ شرط لها. {فَعَسَى} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة جامدة. {عسى} فعل ماض تام. {أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {عسى} تقديره: فعسى وحق كراهتكم شيئًا. {وَيَجْعَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية؛ لأنه معطوف على {تَكْرَهُوا}. {فيه} جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جعل}. {خَيْرًا} مفعول أول له. {كَثِيرًا} صفة لـ {خَيْرًا} والتقدير: فعسى كراهتكم شيئًا، وجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، وجملة عسى في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط. {أَرَدْتُمُ} فعل

وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها. {اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} مفعول به، ومضاف إليه. {مَكَانَ زَوْجٍ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {استبدال} {وَآتَيْتُمْ} الواو واو الحال. {آتيتم} فعل وفاعل. {إِحْدَاهُنَّ} مفعول أول، ومضاف إليه. {قِنْطَارًا} مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {أَرَدْتُمُ} ولكنه على تقدير قد، كما أشرنا إليه في بحث التفسير. {فَلَا تَأخُذُوا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية جوازًا. {لا} ناهية جازمة. {تَأخُذُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {ـلا} الناهية. {مِنْهُ} متعلق به. {شَيْئًا} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {ـإن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {أَتَأخُذُونَهُ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري التوبيخي. {تأخذونه} فعل وفاعل ومفعول مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية، جملة استفهامية لا محلَّ لها من الإعراب. {بُهْتَانًا} حال من ضمير الفاعل. {وَإِثْمًا} معطوف عليه. {مُبِينًا} صفة لإثم محذوف تقديره: أتأخذونه حالةَ كونكم باهتينَ آثمينَ إثمًا مبينًا، ويجوز نصبهما على المفعول لأجله؛ كما ذكره أبو البقاء. {وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}. {وَكَيْفَ} الواو استئنافية. {كيف} اسم استفهام عن الحال في محل النصب على الحال من فاعل {تأخذون} مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والاستفهام أيضًا للإنكار والتوبيخ. {تَأخُذُونَهُ} فعل وفاعل ومفعول، والمعنى أتأخذونه حالة كونكم ظالمينَ. قال أبو البقاء (¬1): {كيف} في موضع نصب على الحال، والتقدير: أتأخذونه جائرينَ وهذا يتبين لك بجواب {كيف}، فإذا قلت: كيف أخذت مال زيد، كان الجواب حالًا تقديره: أخذته ظالمًا، أو عادلًا، ونحو ذلك، ويكون موضع كيف في الإعراب مثلَ موضع جوابها أبدًا. ¬

_ (¬1) العكبري.

انتهى. والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَقَدْ} {الواو} واو الحال. {قد} حرف تحقيق. {أَفْضَى بَعْضُكُمْ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تأخذون}. {إِلَى بَعْضٍ} جار ومجرور متعلق بـ {أفضى}. {وَأَخَذْنَ} الواو عاطفة. {أخذن} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَفْضَى}. {مِنْكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {أخذن}. {مِيثَاقًا} مفعول به. {غَلِيظًا} صفة له. التصريف ومفردات اللغة {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ} {اللاتي} جمع (¬1) التي بحسب المعنى دون اللفظ؛ كما مر في بحث التفسير، وفيه لغات: اللاتي: بإثبات التاء، والياء، واللات: بحذف الياء، وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي: بالهمزة، والياء. واللاء: بكسر الهمزة، وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع: اللواتي واللوات واللواء والفاحشة الفعلية القبيحة وهي مصدر كالعافية، والعاقبة، وإتيانها فعلها، ومباشرتُها يقال: أتى الفاحشةَ يأتي إتيانًا إذا فعلها وبَاشَرها. {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ} {الذان} (¬2) تثنية الذي وكان القياس: أن يُقال: اللذَيان كرحَيَان. قال سيبويه: حذفت الياء ليُفرقَ بين الأسماء المتمكنة، وبين الأسماء المبهمة، وقال أبو علي: حُذفت الياء، تخفيفًا، وقرأ ابن كثير {اللذان} بتشديد النون، وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى وهي: اللذا بحذف النون {فَآذُوهُمَا} أمر للجماعة من آذى الرباعي، يقال: آذى الرجلَ يؤذيه إيذاءَ أوصلَ إليه الأَذى، ثلاثيه أُذِيَ من باب شَجِيَ، يقال: أذِيَ زيد يأذى أذىً، وأذاةً إذا أصيبَ بأذى، والأذى والأذية والأذاة الضرر اليسير. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} التوبة: مصدر تاب الله عليه توبةً إذا قبلَ توبتَه لا مصدر تاب العبد إلى الله بمعنى رجع إلى طاعته {السُّوءَ} يعم الكفر والمعاصيَ وغيرهما سمي بذلك، لأنه تسوء عاقبته {أَعْتَدْنَا} أصل أعتدنا أعددنا، فأبدلت ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

الدال الأولى تاء {كَرْهًا} الكُره: بفتح الكاف، وضمها مع سكون الراء فيهما مصدران لكره الثلاثي المكسور العين، معناه الإباءُ والمشقُة، وما أكره عليه الإنسان، وقيل: هو بالضم ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح ما أكرهَكَ عليه غيرك، ويقال: شيء كره؛ أي: مكروه، ورجلُ كره؛ أي: متكره، ووجه كره، أي: قبيح، وفعله كَرهًا، أي إكراهًا. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} يقال: عضل من باب نصر، والعضل التضييق، والشدة، ومنه: الداء العضال؛ أي: الشديد الذي لا نجاةَ منه، والفاحشةُ الفعلةُ الشنيعةُ الشديدة القبح كما مر آنفًا. والمبينة الظاهرة الفاضحة {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يقال: عاشرَه معاشرةً وعشرةً وتعاشَروا واعتشَروا عشرةً، والعِشرةُ الصحبةُ، والمخالطة، والمعروف هو مَا تألفه الطباعُ ولا يستنكره الشرعٌ ولا العرفُ ولا المروءةُ {قِنْطَارًا} القنطار: المالُ الكثيرُ، وقد تقدم الكلام عليه في أول سورة آل عمران فراجعه. {بُهْتَانًا} يقال: بهت يبهت وبهتًا وبهتانًا من باب فتح إذا افترى عليه الكذبَ، فهو بهاتُ، وبَهُوت، والبُهتان الكذب الذي يبهِّتُ المكذوبَ عليه، ويسكته متحيِّرًا. {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}؛ أي: وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين، فيلابس كلُّ منهما الآخرَ حتى كأنهما شيء واحد، والإفضاء (¬1) إلى الشيء الوصول إلى فضاء منه؛ أي: سعة غير محصورة، كقولهم: الناس فوضَى فَضَى؛ أي: مختلطون يباشر بعضهم بعضًا، ويقال: أفضى إليه إفضاءً، وهو رباعي من الثلاثي المزيد فيه بحرف، يقال: فضا يفضو فضاءً من باب دعا إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياءٍ أصلها واو، والميثاق الغليظ: العهدُ المؤكدُ الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البيان والبديع: منها: التجوزُ (¬1) باطلاق اسم الكل على البعض في قوله: {يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ} لأن أل في الفاحشة تستغرق كل فاحشةٍ، وليس مرادًا، وإنما أطلق اسمُ الكل على البعض تعظيمًا لقبحة، وفحشه؛ كأنه لا فاحشةَ إلّا هو، فإنَّ كان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكونُ الألفُ واللام فيه للعهد. ومنها: التجوزُ بأن يُرادَ من المطلق بعض مدلوله في قوله: {فَآذُوهُمَا} إذا فسر بالتعيير، أو بالضرب بالنعال، أو الجمع بينهما، وبقوله: {سَبِيلًا} والمراد الجلد، أو رجمُ المحصن، وبقوله {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}: أي: اتركوهما. ومنها: المجاز العقليُّ بإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ}: والمرادُ يتوفاهن اللهُ أو ملائكته، وفي قوله: حَتَّى إذا حضر أحدهم الموت؛ أي: علاماتُه ومقدماتُه. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {فَإِنْ تَابَا} {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا}. ومنها: التجنيسُ المماثل في قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا}. ومنها: التكرار - أي: الإطناب - في اسم الله في مواضع، وفي قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ} {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ}، وفي قوله: {اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}. ومنها: إطلاق المستقبل على الماضي في قوله: {وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ} و {وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ}، و {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} و {ثُمَّ يَتُوبُونَ}. ومنها: الإشارة والإيماء في قوله: {كَرْهًا} فإن تحريمَ الإرث كُرْهًا يوميء إلى جوازه طوعًا، وقد صرح بذلك في قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}. ومنها: الإيماء أيضًا في قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ففيه إشارة إلى أن له أن يَعْضلَها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلَّقُ بها، أو بمالها. ومنها: المبالغةُ في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} عظم الأمر حتى يُنتهى عنه. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} استعار الأخذ للوثوق بالميثاق، والتمسك، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقةً، وفيه أيضًا استعارة لفظ الميثاق للعقد الشرعي، كما قال مجاهد: الميثاقُ الغليظُ: عُقدةُ النكاح، وفي هذا (¬1) الإسناد أيضًا مجاز عقلي؛ لأنَّ الآخِذَ للعهد هو الله؛ أي: وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن، وبسببهن فهو مجازَ عقلي من الإسناد إلى السبب كما مرَّ. ومنها: تسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} سمي تزويجُ النساء أو مَنْعُهن للأزواج إرثًا، لأن ذلكَ سببُ الإرث في الجاهلية. ومنها: الطباق المعنوي في قوله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}: وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. ومنها: الحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ...} مناسبة هاتينَ الآيتين لِمَا قبلهما: أنه لما بين (¬1) الله سبحانه وتعالى، وذَكَرَ في أوائل السورة حكم نكاح اليتامَى، وعددَ مَنْ يحل من النساء، والشرطَ في ذلك، وبيَّن حكم استبدال زوج مكان زوج، وما يجبُ عن لمعروف في معاشرتهن .. أَرْدَف ذلك ببيان ما يحرمُ نكاحه من النساء اللواتي، لا يجوز الزواجُ بهن بسبب القرابة، أو الرضاع، أو المصاهرة، أو بغير ذلك. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ...} الآية، سبب نزولِها: ما أخرجه (¬2) ابن جرير، قال: حَدَّثَني محمَّد بن عبد الله المخرمي قال: حدثنا قراد، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأةَ الأب والجمعَ بين الأختين، قال: فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الطبري.

[22]

وأخرج الطبراني (¬1) أيضًا، وابن أبي حاتم، والفريابي، عن عدى بن ثابت، عن رجل من الأنصار، قال توفي أبو قيس بن الأصلت، وكان من صالحِي الأنصار فَخَطَب ابْنُه قيس امرأتَه، فقالت: إنما أعَدُك ولدًا، وأنت من صالحي قومك، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: ارجعي إلى بيتك، فنزلت هذه الآية: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ...} سبب نزولها (¬2). ما أخرجه ابن جرير، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ما سببها قال: كنا نتحدث أنها نزلت في محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نكح امرأةَ زيد بن حارثة، قال: المشركون في ذلك فنزلت: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ونزلت {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}. التفسيرُ وأوجه القراءة 22 - {وَلَا تَنْكِحُوا}؛ أي: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون {مَا نَكَحَ}، وتزوج {آبَاؤُكُمْ} من نسب أو رضاع، حقيقةً أو بواسطة، فيشمل الأجدادَ، وإن علوا {مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وسَبَقَ منكم في الجاهلية قبل نزول آية التحريم من نكاح زوجات الآباء فإنه معفوٌّ عنه لا مؤاخذةَ عليكم به. والخلاصة: أنكم تستحقُّون العقابَ بنكاح ما نكح آباءكم إلا ما قد سلف، ومَضَى فإنه مفعو عنه، وهذا شروع (¬3) منه في بيان من يحرم نكاحها من النساء، ومن لا يحرم، وإنما خَصَّ هذا النكاحَ بالنهي، ولم ينتظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرّينَ على تعاطيه، وكانَ فاشيًا في الجاهلية، وقد ذَمَّهُ الله أقبحَ ذم، فسماه فاحشةً، وجَعَلَه مبغوضًا أشدَّ البغض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجمهور المفسرين كان أهلُ الجاهلية ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) أبو السعود.

يتزوجون بأزواج آبائهم فنهُوا عن ذلك. ومن المعلوم أنَّ المحومات بالمصاهرة أربعُ: زوجةُ الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنتُ الزوجة، وكلُّها يحصل فيها التحريمُ بمجرد العقد، وإن لم يحصل دخول إلا الربيبةَ، فلا تحرم إلا بشرط الدخول بأمها، وهذا يُستفاد من الآية، فإنها لم تقيد بالدخول إلا في الربيبة على ما سيأتي. واختلفوا في {مَا} في قوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} والظاهر أنها موصولة كما فسَّرْنَا أوَّلًا، والمعنى، ولا تنكحوا المرأةَ التي نَكَحَهَا آباؤكم من النساء، فإنه موجب للعقاب، إلا ما قد مضى قبل نزول آية التحريم، فإنه معفو عنه، وقيل: {ما} مصدرية. والمعنى حينئذٍ: ولا تنكحوا نكاح آبائكم؛ أي: نكاحًا كنكاح آبائكم في البطلان، فإن أنكحتَهم كَانَتْ بِغَيْرِ وليّ وشهود وكانت مؤقَّتة، وعلى سبيل القهر، وهذا الوجه منقول، عن محمَّد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية. وقيل: لا تزوجُوا امرأةً وطِئها أباؤكم بالزنا إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بامرأة، فإنه يجوز للابن تزوجُها كما نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد، وكما قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوَّجَ بمزنِيَّةِ أبيه، لهذه الآية. وقال الشافعي: لا يحرم؛ لأنه لا اعتبار بوطء الزنا {إِنَّهُ}؛ أي: إن نكاح زوجات الآباء وحلائِلهم {كَانَ فَاحِشَةً}؛ أي: قبيحًا من أقبح الفواحش لأنَّ زوجةَ الأب بمنزلة الأم، فكانت مباشرتُها كمباشرة الأم، فهي من أقبح المعاصي، وأفحش الفواحش تمجه الأذواقُ السليمةُ، وتقشعرّ منه العقول الصحيحة، {و} كان {مقتًا}؛ أي: ممقوتًا مبغوضًا عند الله، وعند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم، وأنه لم يَزَلْ في حكم الله تعالى، وعلمه موصوفًا بذلك ما رَخَّص فيه لأُمةٍ من الأمم من لدن آدم، وكانت العربُ تقول لولد الرجل من امرأة أبيه. مقتيّ نُسبة إلى المقت، وهو أشدُّ الغضب، وكان منهم (¬1) الأشعثُ ¬

_ (¬1) الخازن.

[23]

بن قيس، وأبو معيط ابن أبي عمرو بن أمية، {وَسَاءَ} ذلك النكاح، وقَبُحَ {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا، ومَسْلَكًا تَسْلُكه الجاهليةُ، روى (¬1) البغوي بسنده عن البراء بن عازب، قال: مر بي خالي، ومعه لواء فقلت أين تذهَب؟ قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوَّج امرأةَ أبيه آتيهِ برأسه. قيل: مراتب القبح (¬2) ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي، وقد وصف الله تعالى هذا النكاح بكل ذلك، فقوله: {فَاحِشَةً} مرتبة قبحه العقليِّ، وقوله: {وَمَقْتًا} مرتبة قبحه الشرعي، وقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} مرتبة قبحه العادي، وما اجتمعَتْ فيه هذه المراتبُ. فقد بَلغ أَقْصى مراتب القبح. 23 - ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى المحرمات من النساء فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {أُمَّهَاتُكُمْ}؛ أي: نكاحهن، وتلك المحرمات أربعةُ أقسام: القسمُ الأول: المحرماتُ بالنسب، وهي سبع مذكورة، كُلُّها في الآية الأمهاتُ، والبناتُ، والأخواتُ، والعمَّاتُ، والخالات، وبناتُ الأخ، وبنات الأخت. والقسم الثاني: المحرمات بالرضاع، وهي السبع المذكورة في النسب لحديث عائشة رضي الله عنها إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحَرمُ من الرضاع ما يحرم من الولادة". أخرجاه في "الصحيحين". ذَكَر منها في هذه الآية اثنتين: الأمهاتُ من الرضاع، والأخوات من الرضاع. والقسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة، وهي أربعة أصناف: ذكر منها في هذه الآية ثلاثةً: أمهاتُ النساء، والربائبُ، وحلائلُ الأبناءِ، والرابعةُ: منها حلائلُ الآباء، وذكرها في الآية قبل هذه بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}. والقسم الرابع: المحرماتُ بسبب عارض إذا زال السببُ، وهو الجَمْعُ زال التحريمُ، وهي ثلاثة، ذَكَرَ منها في الآية واحدة، وهي الجمعُ بين الأختين، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الرازي.

والجمع بين المرأة وعمتها، والجمع بين المرأة وخالتها. فجملة المحرمات المذكورة إحدى وعشرون، والثانية والعشرون، أزواجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرها في سورة الأحزاب بقوله جلّ وعلا {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}. فجملةُ المحرمات بنصِّ الكتاب خمسةَ عَشَرَ، ذَكَرَ منها أربعةَ عشرَ في هذه الآية، والتي قبلها، وواحدةً في سورة الأحزاب. فقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وهي جمع أم، والأم (¬1) هي كل امرأة رجع نسبك إليها، سواء كانت من جهة الأم، أو من جهة الأب، وسواء كانت بدرجة، وهي الأم حقيقةً أو بدرجات، وهن الجدات، وإن عَلوْنَ فيحرم نكاحُ الأم، وجميع الجدات، وإن لم تكن وارثةً كأم أبي الأم {وَبَنَاتُكُمْ} جمع بنت، وهي كل أنثى رَجَعَ نسَبُها إليكَ بالولادة بدرجة كبنت الصلب، أو بدرجات بإناث خلص، كبنت بنت البنت، وإن سفلت، أو بذكور كبنت ابن الابن، وإن سفل {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع أخت، وهي كل امرأة شاركتك في أصلك، فتدخل فيها الأخوات الأشقاء، والأخوات لأب، والأخوات لأم {وَعَمَّاتُكُمْ} جمع عمة، وهي كل امرأة شاركَتْ أبَاك في أصله، وإن علا، فتدخل فيها جميع أخوات الأب، وأخوات آبائه، وإن علوا، وقد تكون العمة من جهة الأم أيضًا، وهي أخت أبي الأم {وَخَالَاتُكُمْ} جمع خالة، وهي كل امرأة شاركَتْ أمك في أصلها، فيدخل فيها جميع أخوات الأم، وأخوات أمهاتها، وقد تكون الخالةُ من جهة الأب أيضًا، وهي أخت أم الأب {وَبَنَاتُ الْأَخِ}، وهي كل امرأة لأخيك عليها ولادة، ويرجع نسبها إلى الأخ، فيدخل فيها جميعُ بنات أولاد الأخ، وإن سفلنَ {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} وهي كلُّ امرأة لأختك عليها ولادة، ويرجع نسبُها إلى الأخت، فيدخل فيها جميع بنات أولاد الأخت، وإن سفلنَ، فهذه الأصناف السبعة محرمة بالنسب بنص الكتاب، وهي القسمُ الأول من الأقسام الأربعة السابقة. ¬

_ (¬1) الخازن.

والقسم الثاني: المحرماتُ بالرضاع، وهي السبع المذكورة في النسب كما سبق. وذَكَرَ الأولى منها بقوله: {و} حرمت عليكم {أمهاتكم التي أرضعنكم} في الحولين خمسَ رضعاتٍ متفرقات عند الشافعي، وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة ومالك: يحصل التحريمُ بمصة واحدة، وفاقًا للأوزاعي، والثوري، وعبد الله بن المبارك، كما هو مذهب ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب. وأم الرضاع هي (¬1) كل امرأة أرضعَتْك، أو أرضعت من أرضعتك أو أرضعَتْ من ولدك بواسطة، أو بغيرها، أو ولدت مرضعتَك، أو ذا لبنها، وهو الفحلُ بواسطة أو غيرها. وذكَرَ الثانيةَ منها بقوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، وهي كل امرأة أرضعَتْها أمك، أو ارتضعت بلبن أبيك، أو ولدَتْها مرضعتُك أو الفحلُ. وإنما نص الله سبحانه وتعالى على ذكر الأم، والأخت من الرضاع، ليَدُلَّ بذلك على بقية المحرمات من الرضاع، وتنبيهًا على أن الرضاع يجري مجرى النسب في التحريم كما بينته السنة. والثالثة من محرمات الرضاع: العمة، وهي (¬2) أخت الفحل، وأختُ ذكر ولده بواسطة أو بغيرها من نسب أو رضاع. والرابعة منها: الخالة وهي أختُ المرضعة، وأخت أنثى ولدَتْها بواسطة، أو بغيرها من نسب، أو رضاع. والخامسة منها: بنت الرضاع، وهي كل من ارتضعَتْ بلبنك، أو بلبن من ولدته بواسطة أو بغيرها. والسادسة منها: بنت أخ الرضاع، وهي بنت ولد المرضعة، أو الفحل من نسب، أو رضاع، وإن سفلَتْ ومَن ارتضعت بلبن أخيك، وبنتُها بنسب أو رضاع، ¬

_ (¬1) المحلى على المنهاج. (¬2) المحلى على المنهاج.

وإن سفلَتْ. والسابعةَ: بنت أخت الرضاع، وهي بنتُ بنت المرضعة، أو الفحل من نسب أو رضاع، وإن سفلت، ومن ارتضعت أختَك، وبنتُها من نسب أو رضاع، وإن سفلت، وكذا بنت أنثى أرضعَتْها أُمُّك أو ارتضعت بلبن أبيك. وقرأ الجمهور {اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وقرأ عبد الله {اللايَ} بالياء، وقرأ ابن هُرْمُز التي، وقرأ أبو حَيْوة من الرِّضاعة بكسر الراء. فصل في ذكر نبذة من أحكام الرضاع وأحاديثه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة: "إنها لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وإنها ابنةُ أخي من الرضاعة". متفق عليه. فدل الحديث بمنطوقه على حرمة بنت أخ الرضاع، فكُلُّ مَنْ حرُمت بسبب النسب حُرِّمَ نظيرُها بسبب الرضاعة. وإنما سمَّى الله تعالى المرضعات أمهات، لأجل الحرمة، فيحرم عليه نكاحُها، ويحلُّ له النظر إليها، والخلوة بها والسفرُ معها، ولا يترتَّبُ عليه جميعُ أحكام الأمومة من كل وَجه، فَلاَ يتوارثان، ولا تَجِبُ على كل واحد منهما نفقةُ الآخر، وغير ذلك من الأحكام وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين: أحدهما: أن يكونَ إرضاع الصبي في حال الصغر، وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاءَ في الثدي، وكان قبل الفطام". أخرجه الترمذي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا رضاعةَ إلا ما كان في الحولين. أخرجه مالك في الموطأ بأطْوَل من هذا، وأخرجه أبو داود مختصرًا قال: قال عبد الله بن مسعود لا رضاعَ إلا ما شَدَّ اللحم وقال أبو حنيفة: مدة الرضاع

ثلاثون شهرًا لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وحمله الجمهور على أقلِّ مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع؛ لأن مدةَ الحمل داخلة فيه، وأقله ستة أشهر. والشرط الثاني: أن يوجد خمسُ رضعات متفرقات، رويَ ذلك عن عائشة رضي الله عنها وبه قال عبد الله بن الزبير، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرم المصةُ ولا المصَّتَان". أخرجه مسلم. وعن أم الفضل رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرم الإملاجَةُ ولا الإملاجَتَان". أخرجه مسلم أيضًا. وفي رواية: إن رجلًا من بني عامر بن صعصعة قال: يا نبي الله، هل تحرّم الرضعة الواحدة، قال: "لا". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن، عشرُ رضعات معلومات، يُحَرِّمْنَ، ثم نُسخت؛ أي: حكمُها بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ فيما يُقْرأُ من القرآن، أخرج مسلم. يحتمل أنه لم يبلغها نسخ تلاوتها، وأجمعوا على أن هذا لا يُتْلَى فهو ممَّا نسخ تلاوتُه، وبقي حُكْمُه وقد غَلَب على الناس التساهلُ في أمر الرضاعة، فيُرضِعُون الولدَ من امرأة، أو من عدة نسوة، ولا يهتمونَ بمعرفة أولاد المرضعة، وأخواتها، ولا أولاد زوجها من غيرها، وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام، كحرمة النكاح، وحقوق القرابة الجديدة التي جعلَها الشارع كالنسب، فكثيرًا ما يتزوَّج الرجل أختَه، أو عمَّتَه، أو خالتَه من الرضاعة، وهو لا يَدْرِي. والقسمُ الثالث من المحرمات: ما يحرم بالمصاهرة، وهي أربعةُ أصناف، كما سبق: الأولى منها: ما ذكره بقوله: {و} حرمت عليكم {أمهات نسائكم}؛ أي: أمهات حلائلكم من نسب، أو رضاع بواسطة، أم بغير واسطة، سواء دخل بزوجته أم لم يدخل بها، بل يكفي مجرد العقد عليها، وبهذا قال جمهور

الصحابة ومن بعدهم، وعليه المذاهب الأربعة. والثانية منها: ما ذكره بقوله: {و} حُرِّمَت عليكم {وَرَبَائِبُكُمُ}؛ أي: بَنَاتُ نسائكم {اللَّاتِي} ربيتموهن وأدبتموهن {فِي حُجُورِكُمْ}، وبيوتكم حالةَ كونهن كائنات {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}؛ أي: جامعتموهن سواءٌ كانَ بعقد صحيح، أو فاسد يجب لها به الصداقُ، وتجبُ عليها العدةُ وَيلحَقُ به الولدُ. والربائب جمع ربيبة، وهي بنتُ المرأة من رجل آخر، سُمِّيَتْ رَبيبةً لتربيتِها في حجر الرجل، وقوله: دخلتم بهن كنايةٌ عن الجماع، لا نفسُ العقد، فيحرم على الرجل بناتُ امرأته، وبناتُ أولادها، وإن سَفلْنَ من النسب، أو الرضاع بعد الدخول بالزوجة، فلو فارق زوجتَه قبل الدخول بها، أو ماتَتْ قبل دخوله بِهَا جَازَ له أن يتزوَجَ بنتَها، ولا يجوز أن يتزوجَ أمَّهَا؛ لأنَّ الله أطلق تحريمَ الأمهات، وعلَّق تحريمَ البنات بالدخول بالأم، {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}؛ أي؛ بنسائكم، كأن عَقَدَ عليها النكاحَ، وفارقها قبل الدخول، أو ماتَتْ كما مر آنفًا {فَلَا جُنَاحَ}؛ أي: لا حَرَجَ ولا منعَ {عَلَيْكُمْ} في نكاح الربائب بعد طلاق أمها أو موتها. والثالثة منها: ما ذكره بقوله: {و} حرمت عليكم {حلائل أبنائكم}، أي نساءُ أولادِكم {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}؛ أي: من أولاد فِرَاشِكم دُونَ نساء الأولاد الأدعياء الذين تبنيتم، وأمَّا حلائل أبناء الرضاع فعلم تحريمهن بالسنة، وإن كان مقتضَى مفهوم الآية تحليلهن، والحلائلُ جمع حليلة، وهي الزوجةُ، والرجل حليلُ سميا بذلك؛ لأن كلَّ واحد منهما يَحِلُّ لصاحبه، وقيل: لأنَّ كل واحد منهما يَحُلَّ إزارَ صاحبه من الحَلِ بفتح الحاء بمعنى الفكّ. ويدخل في الأبناء أبناءُ الصلب مباشرةً أو بواسطة كابن الابن، وابن البنت، فحلائلُهما تحرم على الجد كما يدخل الابن من الرضاعة، فتحرم حليلته لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". والرابعة: من هذا القسم حلائل الآباءِ، وذكرها بقوله: في الآية السابقة {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}.

والقسم الرابع من المحرمات: ما يحرم بسبب عَارِض، وقد تقدم لك أنه ثلاثة أصناف: ذَكَرَ منها واحد: في هذه الآية بقوله: {و} حرم عليكم {أن تجمعوا بين الأختين}؛ أي: وحرم عليكم أيها المؤمنون الجمع بين الأختين بنسب، أو رضاع في الاستمتاع الذي يراد به الولد، وهو الجماع لا في نفس ملك اليمين، والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين، أو بالنكاح، أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكًا لأحدهما، ومتزوجًا للأخرى، فيحرم عليه أن يَسْتَمْتِعَ بهما، ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه، كأن يعتق المملوكة، أو يهبها. وقال الشافعي: نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز؛ لأنه لم يوجد الجمع. والثانية منها: الجمع بين المرأة وعمتها. والثالثة: الجمع بين المرأة وخالتها. ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها". أخرجاه في "الصحيحين". والعلة في تحريم جمع هؤلاء إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصَله من الرّحم، لِمَا يوجد بينهما بسبب الجمع من التباغض، والتحاسُد، كما هو شأن الضرتَينِ كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنكم إن فعلتم ذلك قَطَعْتمُ أَرْحَامَكم". والضابط لذلك: أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابةٌ لو كانت إحداهما ذكرًا. لحرُمَ عليه بها نكاح الأخرى. {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}؛ أي: لكن ما قد مضى، ووقع منكم من الجمع بينهما قبلَ نزول التحريم، فمغفور لكم، لا تؤاخَذون عليه بعد الإِسلام، وقد كانوا في الجاهلية يجمعون بين الأختين مثلًا كما يدل على ذلك ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمتُ وتحتي أختان، قال: "طَلِّقِ أيتَهما شئتَ".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهلَ الجاهلية كانوا يحرمونَ ما حرم الله إلا امرأةَ الأب والجَمعُ بين الأختين، كما سبق، ثم علَّل الاستثناء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ غَفُورًا} لكم بما وقع منكم في الجاهلية من المحرمات المذكورة {رَحِيمًا} بكم حيث سامَحَ وعَفا لكم ما قد وقع منكم في الجاهلية، فلا يؤاخِذُكم بما سلفَ منكم في زمن الجاهلية، إذا أَنتم عملتم بشريعة الإِسلام، ومِن مغفرته أَنْ يمحوَ من نفوسكم آثارَ الأعمال السيئة، ويغفرَ لكم ذنوبَكم إذا أنبتم إليه، ومن رحمته أنْ شَرَعَ لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحةُ لكم، وتوثيق الروابط بَيْنكم لتتراحَموا، وتتعاوَنُوا على البرّ والتقوى. الإعراب {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}. {وَلَا} الواو استئنافية. {لا} ناهية جازمة {تَنْكِحُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {مَا نَكَحَ} {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره ما نكحه أباؤكم {مِنَ النِّسَاءِ} جار ومجرور، حال من {ما} الموصولة {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} {إلا} أداة استثناء منقطع، ووجه الانقطاع أن المستثنى ماض، والمستثنى منه مستقبل؛ لأن (¬1) النهي للمستقبل، وما سلف ماض، فلا يكون من جنسه، وهو في موضع نصب، ومعنى المنقطع: أنه لا يكون داخلًا في الأول، بل يكون في حكم المستأنف، وتُقدَّرُ إلا فيه بلكن، والتقدير هنا: ولا تتزوجوا مَنْ تزوَّجَه أباؤكم، ولا تطؤوا مَنْ وطئهُ أباؤكم، لكن ما سلف من ذلك فمعفو عنه ذكره أبو البقاء. {مَا قَدْ سَلَفَ} {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. {قَدْ} حرف تحقيق. {سَلَفَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ¬

_ (¬1) العكبري.

{ما}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} {إن} حرف نصب. و {الهاء} اسمها. {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {الهاء} في أنه العائد على نكاح نساء الآباء. {فَاحِشَةً} خبر {كَانَ} وجملة كان في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المعللة للنهي المذكور قبلها {وَسَاءَ} الواو استئنافية، أو عاطفة {ساء} فعل ماض من أفعال الذم وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا مبهم يفسره التمييز المذكور بعده تقديره: هو يعود على {سبيل} نكاح نساء الآباء {سَبِيلًا} تمييز له، وجملة {ساء} في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف الذي هو المخصوص بالذم تقديره: {وَسَاءَ سَبِيلًا} ذلك السبيل، والجملة الإسمية، أو جملةُ {ساء} من الفعل، والفاعل في محل الرفع معطوف على جملة {كَانَ} وقيل (¬1): إن الضمير في {ساء} عائد على ما عاد إليه الضميرُ قبلَ ذلك، و {سَبِيلًا} تمييز منقول من الفاعل والتقدير: ساء سبيله. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}. {حُرِّمَتْ} فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْكُمْ} متعلق به. {أُمَّهَاتُكُمْ} نائب فاعل، ومضاف إليه والجملة مستأنفة {وَبَنَاتُكُمْ} معطوف على {أُمَّهَاتُكُمْ} وكذا قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ}: معطوفات على {أُمَّهَاتُكُمْ}؛ {اللَّاتِي}: صفة {لأمهاتكم}: {أَرْضَعْنَكُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول {وَأَخَوَاتُكُمْ}: معطوف أيضًا على {أمهاتكم} الأولى، جريًا على القاعدة المشهورة عندهم: أنه إذا كثرت ¬

_ (¬1) الجمل.

المعطوفات، وكان العطف بالواو يكون العطف على الأول منها {مِنَ الرَّضَاعَةِ}: جار ومجرور، حال {من أخواتكم} {وَأُمَّهَاتُ}: معطوف أيضًا على {أُمَّهَاتُكُمْ} الأولى، وهو مضاف {نِسَائِكُمْ}: مضاف إليه {وَرَبَائِبُكُمُ}: معطوف على {أُمَّهَاتُكُمْ} أيضًا، ومضاف إليه {اللَّاتِي}: صفة لـ {ربائبكم} {فِي حُجُورِكُمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة الموصول تقديره: اللاتي رُبِّيْنَ في حجوركم {مِنْ نِسَائِكُمُ}: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من {ربائبكم} وإن شئت قلت: حال من الضمير في الجار والمجرور الذي هو صلة تقديره: اللاتي استقَرَرْنَ في حجوركم كائنات من نسائكم {اللَّاتِي}: صفة لـ {نسائكم} المذكور قبله المجرور بـ {من} {دَخَلْتُمْ}: فعل وفاعل {بِهِنَّ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة: صلة الموصول {فَإِنْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم الربائب اللاتي دخلتم بأمهاتهن، وأردتم بيانَ حكم الربائب اللاتي لم تدخلوا بأمهاتهن .. فأقول لكم {إن لم تكونوا} إن حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {تَكُونُوا}؛ فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {لم}. {دَخَلْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِنَّ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {تَكُونُوا} تقديره: فإن لم تكونوا داخلين بهن وجملة {تَكُونُوا}: في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعْلَ شرط لها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}: {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {لا}: نافية تعمل عمل {إن}. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبر {لا} وجملة لا من اسمها وخبرها: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {وَحَلَائِلُ} معطوف على {أُمَّهَاتُكُمْ} الأولى وهو مضاف. {أَبْنَائِكُمُ}: مضاف إليه {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر صفة لأبنائكم {مِنْ أَصْلَابِكُمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه صلة الموصول تقديره: الذين كانوا من أصلابكم {وَأَنْ تَجْمَعُوا}: الواو عاطفة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {تَجْمَعُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على

{أُمَّهَاتُكُمْ} الأولى تقديره: حرمت عليكم أمهاتكم وجمعكم {بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تجمعوا} {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}: {إلَا}: أداة استثناء. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء {قَدْ}: حرف تحقيق. {سَلَفَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والاستثناء منقطع كما مر نظيره {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الجلالة. {غَفُورًا}: خبر أول لها. {رَحِيمًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المعللة للاستثناء. التصريف ومفردات اللغة {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}؛ يقال: سَلَفَ يَسْلُف سلفًا، وسُلوفًا من باب قعد: إذا مضى، وتقدم وسبق يقال سَلَف له عمل صالح إذا تقدم وسَبقَ {فَاحِشَةً}؛ أي: شديدَ القبح {مَقْتًا} مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ممقوتًا مبغوضًا عِندَ ذوي الطباع السليمة، ومن ثَمَّ كانوا يسمونه نكاح المقتِ، ويسمى الولد منه مقيتًا؛ أي: مبغوضًا محتقرًا، فالمقلت: البغض المقرونُ باستحقار حَصَل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. قاله أبو حيان. {وَسَاءَ سَبِيلًا}: ساء من أفعال الذم بمعنى بئس، والمعنى: بئس طريقًا ذلك الطريقُ الذي اعتادوا سلُوكَهُ في الجاهلية، وبئس مَنْ يسلُكَهُ، لم يَزِدْهُ السيرُ فيه إلا قبحًا. {أُمَّهَاتُكُمْ} الأمهات (¬1) جمع أم، فالهاء زائدة في الجمع، فرقا بين العقلاء، وغيرهم. يقالَ في العقلاء: أمهات، وفي غيرهم أمات، وقد يقال: أمات في العقلاء، وأمهات في غيرهم، وقد سمع أمهه في أم بزيادة {الهاء} قبل {هاء} التأنيث، وعلى هذا يجوز أن تكون {أمهات} جمع أمهه المزيد فيها الهاء، والهاء قد أتت زائدة في مواضع {وَبَنَاتُكُمْ} لام (¬2) الكلمة محذوف، ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) العكبري.

ووزنه فعاتكم، والمحذوف واو أو ياء فَأَمْا بنت. فالتاء فيها بدل من اللام المحذوفة، وليسَت تاءَ التأنيث؛ لأن تاءَ التأنيث لا يسكَّن ما قبلها، وتقلب هاءً في الوقف، فبناتُ ليس بجمع بنت، بل جمع بَنَةٍ، وكسرت الباء تنبيهًا على المحذوف هذا عند الفراء، وقال غيره: أصلها الفتح، وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها. وهو بنون، وهو مذهب البصريين {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع (¬1) أخت، فالتاء فيها بدل من الواو؛ لأنها من الأخوة؛ فإن قيل: لم ردَّ المحذوف في أخوات، ولم يردَّ في بناتٍ؟ أجيب: بأنه حمل كل واحد من الجمعَين على مذكره، فمذكرُ بنات لم يَزدَّ فيه المحذوفُ بل جَاءَ نَاقصًا، قالوا: بَنون، وقالوا: في جمع أخ، إخوَةٌ، وإخوانُ فَردَّ المحذوف {وَعَمَّاتُكُمْ}: جمع عمة، والعمة تأنيث العم، وهي أخت الأب {وَخَالَاتُكُمْ}: جمع خالة، والخالة تأنيث الخال، وألفه منقلبة عن واو لقولهم في جمع خال: أخوال، ورجل مخول؛ أي: كريمُ الأخوال {وَرَبَائِبُكُمُ}: جمع ربيبة، والربيبة بنت زوج الرجل من غيره {فِي حُجُورِكُمْ}: جمع (¬2) حِجْرٍ، بفتح الحاء وكسرها، والحجر مقدم ثوب الإنسان، وما بين يديه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ؛ لأن اللابس إنما يحفظ طفلًا، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب، {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ}: جمع (¬3) حليلة، والحليلة: الزوجة، والحليل: الزوج. قال الشاعر: أَغْشَى فَتَاةَ الْحَيِّ عِنْدَ حَلِيْلِهَا ... وَإِذَا غَزَا فِيْ الْجَيْشِ لاَ أغْشَاهَا سميت حليلة؛ لأنها تَحُلُّ مع الزوج حيث حَلَّ، فهي فعيلة، بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وغيره، إلى أنها من لفظ الحلال، فهي حليلة بمعنى مُحلَّله، وقيل: يَحُلُّ كلُّ واحد منهما إزارَ الآخر. {مِنْ أَصْلَابِكُمْ}: جمع صلب، والصلب: الظهر، ويقال: صَلُب صلابةً من باب فَعُل المضموم إذا قوي، واشتدَّ، وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن، له أنَّ ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

الصُّلْبَ، وهو الظهر على وزن قُفْلَ، هو لغة أهل الحجاز، ويقول فيه تميمُ وأسْدَ الصَلَبُ بفتح الصاد واللام. البلاغة وقد تضمنت هاتان الآيتان، أنواعًا من البديع والبيان: منها: الجناس المماثل في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ}. ومنها: المغاير في قوله: {أَرْضَعْنَكُمْ} {مِنَ الرَّضَاعَةِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} لأن إسناد التحريم إلى الذوات لا يَصح، وإنما يتعلَّق بالفعل، فهو على حذف مضاف، والمعنى: حرمت عليكم نكاح أمهاتكم إلخ، وهذا هو الذي يفهم من تحريمهن كما يفهم من تحريم الخمر، تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير، تحريم أكله. ومنها: الاحتراس (¬1) في قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} احترز به من اللاتي ليست في الحجور، ولكنَّ هذا القيدَ خَرَجَ مَخْرَج الغالبِ، فلا مفهومَ له. ومنها: الكناية في قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فهو كناية عن الجماع كقولهم بني عليها، وضرب عليها الحجابَ. ومنها: الطباق اللفظي في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}؛ لأنه نَسَق المحرمات أولًا ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الحمد لله على إفضاله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على حبيبه محمَّد وصحبه، وآله ما تطارَدَ الجَدِيدَان وتطاوَلَ المَدى والزمانُ (¬1). ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من مسوَّدةِ هذا الجزء بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة في شهر ذي القعدة، في اليوم الأول منه يوم الأربعاء وقت الضحوة، على رأس الساعة الرابعة من الطلوع من شهور سنة ثمان وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضلُ الِصلاة وأزكى التحية بتاريخ: 1/ 11/ 1408 هـ / في شهر يونية: 15/ 1988م. وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في التاريخ المذكور في أعلى الصحيفة بيد مؤلفه محمَّد أمين بن عبد الله الأثيوبي الهرري الراجى من ربه سبحانه أن يُعينه على تمامه، وييسَّره عليه، ويوفقه لما هو المعنى عنده، ويجعلَ في عمره البركة إلى إكماله، ويحفظَ عليه سمَعه وبصرَه وفهمَه وعقله وجِسْمه، وجميعَ قواه إلى انتهائه، وينفع به مَنْ شاء من عباده، ويجعله مَرْجِعًا لهم في علوم كتابه وذخيرةً له عند وفوده إلى دار الآخرة، ويجعله خالصًا مخلصًا لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين آمين. تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه منتصف الساعة الأولى من يوم السبت بتاريخ 17/ 12/ 1408 هـ والحمد لله أولًا وآخرًا. تم المجلد الخامس من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن ويليه المجلد السادس وأوله قوله سبحانه وتعالى {والمحصنات من النساء} الجزء الخامس من القرآن الكريم.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَن تأَمَّلَ صَنْعَتِيْ ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السّهوِ بِالْعَفْوِ وَأصْلَحَ مَا أخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ آخر يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا ... كُنْ وَافَيًا لَنَا مُرَادَنَا مِن شَرْحِ أَفْضَلِ الْكِتَابِ ... قَبْلَ حُلُوْلِنَا تَحْتَ التُّرَاب وَأصْلِحْ لَنَا الأَقْوَالَ والأَعْمَالَ ... وَكَمِّلْ لَنَا الْمَقْصُودَ والآمَالَ يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا ... يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا

بِسمِ اللهِ الرَّحَمِن الرَّحِيمِ الحمد لله على إنعامه، والشكرُ له على إحسانه، والصلاة والسلام على نبيه محمَّد وآله، ما سطر المؤلفون أسطار الحكم بمداد الجود والكرم. أما بعد: فلما فرغت بحمد الله من شرح الجزء الرابع من القرآن .. أخذت - بعون الله تعالى - في شرح الجزء الخامس منه فقلت: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}. المناسبة قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ...} إلى آخر الآيتين، مناسبتُهما لما قبلهما: أنهما (¬1) من تتمةِ ما قبلهما من جهة المعنى، فقَدْ ذكَرَ في أولاهما بقية ما ¬

_ (¬1) المراغي.

يحرم من النساء، وحل سِوى من تقدم، ووجوب إعطاء المهور، وذكر في الآية الثانية حكم نكاح الإماء، وحُكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة. لكن من قسموا القرآن ثلاثين جزءًا جعلوهما أولَ الجزء الخامس مراعاهّ للفظِ دون المعنى؛ إذ لو راعوا المعنى .. لجعلُوا أولَ الجزء الخامس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} لأنه كلام مستأنف. أسبابُ النزول قولُه تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} سببُ نزول هذه الآية: ما أخرجه سلم عن أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلَقُوا عدوًّا فقاتَلُوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أَجْلِ أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ أي: فإن لكم حلال إذا انقضَتْ عدتهن. الحديثُ أخرجه الترمذي - وقال: حديث حسن صحيح - وأبو داود والنسائي والإمامُ أحمد وابن جرير. وأخرج الطبراني (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت يوم حنين، لما فتَحَ الله حنينًا .. أصاب المسلمون نساءً من نساء أهل الكتاب لهن أزواجٌ، وكان الرجل إذا أراد أن يأتيَ المرأةَ قالت: إن لي زوجًا، فسُئِلَ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ...} الآيةَ. قولُه تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ...} سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن معمر عن سليمان عن أبيه قال: زعم حضري أنَّ رجالًا كانوا يفوضون المهر ثُمَّ عسى أن تدرك أحدهم العسرةُ، فنزلت: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[24]

التفسير وأوجهُ القراءة 24 - قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} معطوف على قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}؛ أي: وحُرِّم عليكم أيها المؤمنون نكاحُ المتزوجات اللاتي أَحصنَّ أنفسَهن من الزنا بالزواج، أو أزواجَهن من الزنا إن قرئ بكسر الصاد، أو ذاتِ الأزواج اللاتي أَحْصنهن الأزواجُ من الزنا، إنّ قرئ بفتح الصاد حالةَ كونهن من جميع النساء مسلماتٍ كُنّ أو كتابياتٍ. قال الشوكاني (¬1): وقد قرئ المحصنات - بفتح الصاد وكسرها - فالفتح على أن الأزواج حصنوهن، والكسر على أنهن أحصن فروجهن من غير أزواجهن، أو أَحصَن أزواجَهن انتهى. {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم إما بسبي، فإنَّ المسبيَّات حلال لكم بعد ما استبرأتُم أرحامَهن بحيضةٍ، وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، أو بشراءٍ فإنَّها تحل للمشتري بعد الاستبراء ولو كانت مزوَّجة، وينفسخُ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملكِ سيدها الذي زوَّجها. والمعنى: وحُرِّم (¬2) عليكم نكاحُ المتزوجات إلا ما ملكت الأيمان والأيدي بالسبي في حُروب دينية، تدافعون بها عن دينكم، وأزواجُهن كفارٌ في دار الكفر، وقد رأيتُم من المصلحة أن لا تُعاد السبايا إلى أزواجهن، فحينئذ يَنْحَلُّ عَقدُ زوجيَّتهنَّ، وَيكُنَّ حلالًا بالشروط المذكورة في كُتب الفقه. والحكمةُ في حِلّيِّة السبايا: أنه لما كان الغالبُ في الحروب أن يُقْتَل بعضُ أزواجهن، ويفر بعضهم الآخر ولا يعود إلى بلاد المسلمين، وكان من الواجب كفالةُ هؤلاء السبايا بالإِنفاق عليهن، ومنعهن من الفِسق، كان من المصلحة لهن وللمجتمع أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها البحث عن الرزق؛ أَيْ: عن طلب المؤنة، أو بذل العرض، وفي هذا ما لا يخفى من الشقاء على النساء. وقال الحنفية: إن من سبي معها زوجها. لا تَحلُّ لغيره؛ إذ لا بُدَّ من اختلاف الدار بَيْنَ الزوجين، دارِ الإِسلام ودار الحرب. ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) المراغي.

والإِسلام لم يَفرُض السَّبْيَ، ولم يُحْرِّمه؛ لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسِهن في بعض الأحوال، كما إذا استأصلَتْ الحرب جميعَ الرجال مِن قبيلة محدودةِ العدد، فإِنْ رَأَى المسلمون أنَّ من الخير أن تُردَّ السبايا إلى قومهن .. جاز لهم ذلك، عملًا بقاعدةِ "دَرْءُ المفاسد مقدم على جلب المصالح" وإن كانت الحرب لمطامع الدنيا، وحظوظِ المُلُوك .. فلا يباح فيها السبي. والاسترقاقُ (¬1) المعروفُ في هذا العصر في بلاد السودان، وبلادِ الحجاز وغيرِها غير شرعي، وهو محرم لأن أولئك اللواتي تسترققن حرائرُ من بناتِ المسلمين الأحرار، فلا يجوز الاستمتاع بهن بغيرِ عقدِ النكاح، والإِسلامُ بَريء من هذا. وقولُه: {مِنَ النِّسَاءِ} قَيْدٌ جِيءَ به لإفادةِ التعميم، وبيانِ أنَّ المرادَ كلُّ متزوجة لا العفيفات والمسلمات، وقد جاء الإِحصان في القرآن لأربعةِ معان (¬2): 1 - التزوّج كما في هذه الآية. 2 - العفةُ كما في قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. 3 - الحريةُ كما في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}. 4 - الإِسلام كما في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}؛ أي: أسلَمْنَ على قراءة البناء للفاعل. واختلف القراء (¬3) في كلمةِ {المحصنات} سواء كانت معرَّفة بأل أم نكرة، فقرأ الجمهور بفتح الصاد، والكسائي بكسرها في جميع القرآن، إلا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا فيها على الفتح، والمعنى: أحصنهن الأزواجُ بالتزوج؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

أعفوهن عن الوقوع في الحرام، والأولياءُ أعفُّوهن عن الفساد بالتزويج، وهن يحصن أزواجَهن عن الزنا، ويُحصن فروجَهن من غير أزواجهن بعفافهن. {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكد لمضمون قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} منصوب بعامل محذوف؛ تقديره: كَتَب الله عليكم تحريمَ هذه الأنواع المذكورة، كتابًا مؤكَّدًا، وفرضه فرضًا ثابتًا محكمًا لا هَوادَةَ فيه؛ لأنْ مصلحتكم فيه ثابتةً لا يدخلها شك ولا تغيير، أو المعنى: الزموا كتاب الله وحُكْمه المذكور. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع اليماني (¬1): {كتب الله عليكم} على صيغة الفعل الماضي الرافع ما بعده، وروي عن ابن السميقع أيضًا، أنه قرأ: {كتب الله عليكم} جمعًا ورفعًا؛ أي: هذه كتب الله عليكم؛ أي: فرائضه ولازماته. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بالبناء للمفعول، عطفًا على قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}، وقرأ الباقون: {وَأُحِلَّ} بالبناء للفاعل، عطفًا على كتاب الله؛ أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأصناف السابقة، وأحل الله لكم ما وراء ذلكم؛ أي: ما سوى تلك المحرمات السابقة. وظاهر هذه الآية يقتضي (¬2) حل ما سوى المذكورات من المحرمات السابقة، لكن قد دل الدليل من السنة أو الكتاب على تحريم أصناف أخرى سوى ما ذكر، فمن ذلك أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ومن ذلك المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجًا غيره، ومن ذلك نكاح المعتدة، فلا تحل للأزواج حتى تنقضي عدتها، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة، والقادر على طول الحرة لم يجز له أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

يتزوج بالأمة، ومن ذلك أن من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن علي التأبيد، ومن ذلك بيعض أصناف محرمات الرضاع، فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآية، على هذا يكون قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ورد بلفظ العموم، لكن العموم دخله التخصيص، فيكون عامًّا مخصوصًا. وقوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} في محل رفع على البدل من ما على القراءة الأولى بدل اشتمال. والمعنى: وأحل لكم ما سوى المحرمات السابقة أن تبتغوه وتطلبوه؛ أي: أحل لكم ابتغاء ذلك السوى وطلبه بأموالكم التي تدفعونها مهرًا للزوجة، أو ثمنًا للأمة، أو في محل نصب على البدل أيضًا على القراءة الثانية، والمعنى وأحل الله لكم ما سوى تلك المحرمات السابقة، أن تبتغوه بأموالكم؛ أي: أحل لكم ابتغاءَهُ وطلبه بأموالكم المصروفة في المهور، في النكاح وفي الأثمان وفي التسري، حالة كونكم {مُحْصِنِينَ}؛ أي: متعففين أنفسكم من الزنا، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}؛ أي: غير زانين، وهذا تكرير للتأكيد؛ لأن الإحصان لا يجامع السفاح؛ أي: عافين أنفسكم من الزنا، ومانعين لها من الاستمتاع بالمحرم، باستغناء كل منكما بالآخر؛ إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى، والأنثى إلى الاتصال بالرجل، ليزدوجا وينتجا، وإنما اقتصر هنا على غير مسافحين، ولم يقل متخذي أخدان؛ لأنه في الحرائر المسلمات، وهنَّ إلى الخيانة أبعد من بقية النساء، وزاد فيما بعد {مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} لأنه في الإماء، وهن إلى الخيانة أقربُ من الحرائر المسلمات، فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذب أي مذهب، فيتصلُ كل ذكر بأي امرأة، وكل امرأة بأيِّ رجل، إذ لو فعلا ذلك .. لما كان القصد من هذا إلا المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه الفطرة، إيثارًا للذة على المصلحة؛ إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين، حتى تتكون بذلك الأسرة، ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما. فإذا انتفى هذا المقصد .. انحصرت الداعية الفطرية في سفح الماء وصبه، وذلك هو البلاء العام الذي تصطلي بناره الأمة كلها، فإن بعض الدول الأوروبية

التي كثر فيها السفاح، وقلّ النكاح بضعف الدين وقلته، وقف نموها، وقلّ نسلها، وضعفت حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمحالفة بعض الدول الأخرى. وفي الآية: دليل على أن الصداق لا يتقدر بشيء، فيجوز على القليل والكثير، لإطلاق قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}. {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}؛ أي: فأي امرأة انتفعتم بها بالعقد عليها، أو تلذذتم بوطئها من تلك النساء الحلالات لكم، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؛ أي: فأعطوهن مهورهن التي فرضتم لهن {فَرِيضَةً} وقدرتموها لهن تقديرًا، وسميتموها لهن في عقد النكاح، وإنما سمي المهر أجرًا لأنه بدل المنافع، لا بدل الأعيان، كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرًا؛ أي: وأي امرأة من النساء اللواتي أُحلِلْن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر، وهو المهر بعد أن تفرضوه في مقابلة ذلك الانتفاع. وسر هذا: أن الله لما جعل للرجل على المرأة حق القيام، وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه، وحق الاستمتاع بها .. فرض لها في مقابلة ذلك جزاءًا وأجرًا تطيب به نفسها، ويتم به العدل بينها وبين زوجها. والخلاصة: أن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها، فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد، حالة كونه فريضة فرضها الله عليكم، وذلك أن المهر يفرض ويعين في عقد النكاح، ويسمى ذلك إيتاءً وإعطاءً، فيتعين بفرضه في العقد، ويصير في حكم المعطى، وقد جرت العادة أن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول، ولكن لا يجب كله إلا بالدخول، فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله، ومن لم يعط شيئًا قبل الدخول وجب عليه كله بعده، وقيل إن هذه الآية واردة في نكاح المتعة الذي كان في صدر الإِسلام، حيث كان الرجل ينكح المرأة وقتًا معلومًا ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا بثوب أو غيره، ويقضي منها وطره ثم يسرحها. وفي "الخازن": وقال قوم: المراد من حكم هذه الآية نكاح المتعة، وهو أن ينكح امرأةً إلى مدة معلومة بشيء معلوم، فإذا انقضت تلك المدة .. بانت منه من غير طلاق، وتستبرىء رحمها بحيضة. وفي "القرطبي": وقال ابن

العربي: وأما متعة النساء: فهي من غرائب الشريعة؛ لأنها أبيحت في صدر الإِسلام، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القِبْلَة، فإن النسخ طرأ عليها مرتين، ثم استقرت كما سيأتي ذلك كله مع بيان أدلة تحريمها. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ولا حرج ولا منع ولا تضييق عليكم ولا عليهن، {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ}؛ أي: فيما اتفقتم عليه أيها الأزواج والزوجات من النقص في المهر، أو تركه كله، أو الزيادة فيه؛ أي: اتفقتم عليه، {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}، والتقدير أولًا في عقد النكاح: فلا جناح عليكم في الزيادة، ولا عليهن في الحط؛ أي: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها، أو يهب الزوج للمرأة المطلقة قبل الدخول تمام المهر، أو فيما تراضيا عليه من النفقة ونحوها، من غير ذكر المقدار المعين في العقد؛ إذ ليس الغرض من الزوجية إلا أن يكونا في عيشة راضية، يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة والهدوء والطمأنينة، والشارع الحكيم لم يصنع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة، ورقي الشؤون الخاصة والعامة. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَلِيمًا} بمصالح العباد {حَكِيمًا} فيما شرعه لهم، فلا يشرع الأحكامَ إلا على وفق الحكمة، وذلك يوجب التسليم لأوامره، والانقياد لأحكامه، وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحهم ما تمسَّكوا به، ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب، وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهرًا يكافؤها به على قبولها قيامه ورياسته عليها، ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما بالرضا، فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه. ونكاح المتعة: وهو نكاح المرأة إلى أجل معين ليوم أو أسبوع أو شهر، فإذا انقضت تلك المدةُ .. بانت منه بغير طلاق، ويستبرىء رحمها وليس بينهما ميراث. وكان مرخصًا فيه في بدء الإِسلام، وأباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في بعض

[25]

الغزوات؛ لبعدهم عن نسائهم، فرخص فيه مرة أو مرتين خوفًا من الزنا، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين، ثم نهى عنه نهيًا مؤبدًا - كما مر - لأن المتمتع به لا يكون مقصده الإحصانُ، وإنما يكون مقصده المسافحةُ - للأحاديث المصرحة بتحريمه تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة: فمنها: ما أخرجه مسلم عن سَبْرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإنَّ الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء .. فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". ومنها: ما أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية). ولنهي عمر في خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم؛ أي: إنَّ نكاح المتعة حرام. وقال قوم: المراد من حكم الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا يحتاج إليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز المتعة أولًا ثم منع منها، فحرمها فكان قوله منسوخًا بقوله، وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة؛ لأنه تعالى قال فيها: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فدل ذلك على النكاح الصحيح، فليس فيها دلالة على المتعة. 25 - {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ}؛ أي: ومن لم يقدر منكم أيها الأحرار {طَوْلًا}؛ أي: مهرًا يكون له وصلة وسببًا إلى {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}؛ أي: إلى نكاح الحرائر {الْمُؤْمِنَاتِ} بأن لم يجد ما يمهره للحرة، أو وجده ولم ترض به، لعيب في خُلقه أو خَلقه، أو عجزٍ عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحرة، من النفقة وغيرها، فإن لها حقوقًا كثيرة، وليس للأمة مثل هذه الحقوق. {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ أي: فلينكح أمة كائنة من الإماء اللاتي ملكتهن أيمانكم وأيديكم، حالة كونها {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}؛ أي: من إمائكم {الْمُؤْمِنَاتِ}. والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة .. فليتزوج الأمة المؤمنة دون

الكتابية، فلا يجوز نكاحها؛ لأن فيها نقصين: الرق والكفر. وقال الشوكاني: الطَّول: الغنى والسعة، ومعنى الآية: فمن لم يستطع منكم غنىً وسعةً في ماله، يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات .. فلينكح من فتياتكم المؤمنات انتهى. والفتيات جمع فتاة، وهي المرأة الحديثة السنِّ، ويقال للشابة: فتاة، وللغلام فتى، والأمة تسمى فتاة، سواء كانت عجوزًا أو شابة؛ لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير. وعبر عن (¬1) الإماء بالفتيات تكريمًا لهن، وإرشادًا لنا إلى أن لا ننادي بالعبد والأمة، بل بلفظ الفتى والفتاة. وقد روى البخاري قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقولن أحدكم: عبدي أمتي، ولا يقل المملوك: ربي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون والرب هو الله عز وجل". {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منكم {بِإِيمَانِكُمْ}؛ أي: بمراتبكم في الإيمان، وهو العلم بحقيقة الإيمان ودرجة قوته وكماله فرب أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر، فتكون أفضل منهن عند الله تعالى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فاعملوا على الظاهر في الإيمان، فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، والله يتولى السرائر والحقائق. والمعنى: فلا يشترط في نكاحها أن يُعلم إيمانُها علمًا يقينيًّا، فإنَّ ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}؛ أي: أنتم وأرقائكم متناسبون، نسبكم من آدم ودينكم الإِسلام وما أحسن قول عليّ رضي الله عنه: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيْلِ أَكْفَاءُ ... أَبُوْهُمُ آدَمُ وَالأُمُّ حَوَّاءُ والمعنى: كلكم مشتركون في الإيمان، وهو أعظم الفضائل، فإذا حصل الاشتراك في ذلك .. كان التفاوت فيما وراءه غير معتبر، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء" فلا ينبغي أن تعدوا نكاح الأمة عارًا عند الحاجة إليه، وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى قد رفع شأن الفتيات المؤمنات، وساوى بينهن وبين ¬

_ (¬1) المراغي.

الحرائر. {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}؛ أي: فاخطبوهن بإذن سادتهن، واطلبوا منهم نكاحهن، فقد اتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل؛ لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطًا في جواز نكاح الأمة. وقال بعضُ الفقهاء: المرادُ من الأهل من لهم علين ولاية التزويج، ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي، إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم. {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؛ أي: وأعطوهن مهورهن، وأدوها إليهن بإذن أهلهن، أو أدوها إلى مواليهن، وأجمعوا إلا مالكًا على أن المهر للسيد؛ لأنه ملكه، وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن. وقال مالك (¬1): المهر حق للزوجة على الزوج، وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها، وإن كان الرقيق لا يملك شيئًا لنفسه، لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها، ويكون تطييبًا لنفسها في مقابلة رياسة الزوج عليها، وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك، أو يتركه لها لتصلح به شأنها، وهو الأفضل الأكمل. {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف؛ أي: من غير ضرار، ولا مطل ولا نقصان، وقيل: معناه وآتوهن مهور أمثالهن، اللاتي يساوينهن في الحال والحسب. وقوله: {مُحْصَنَاتٍ} حال من مفعول فانكحوهن؛ أي: فانكحوهن حال كونهن محصنات؛ أي: عفائف من الزنا ندبًا بناء (¬2) على المشهور من جواز نكاح الزواني، ولو كن إماء وقيل المعنى: أعطوهن أجورهن حالة كونهن متزوجات لكم، {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}؛ أي: غير مجاهرات بالزنا؛ أي: غير مؤجرة نفسها مع أي رجل أرادها كالمومسات، {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}؛ أي: غير متخذات أخلاء معينين يزنون بهنَّ سرًّا، وهو حال مؤكدة كالذي قبله؛ لأن الإحصان لا يجامع السفاح كما مر. والمسافحون (¬3) هم الزانون المبتذلون، وكذلك المسافحات من الزواني ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) خطيب. (¬3) البحر المحيط.

المبتذلات، اللواتي هن سوق الزنا، ومتخذوا الأخدان هم الزناة المتسترون، الذين يصحبون واحدة واحدة، وكذلك متخذات الأخدان من الزواني المتسترات، اللواتي يصحبن واحدًا واحدًا، ويزنين خفية، وهذان نوعان كانا في الجاهلية، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك وغيرهم. وقد كان الزنا في الجاهلية قسمين: سريًّا وعلنيًّا، فالسري: يكون خاصًّا، فيكون للمرأة خدن يزني بها سرًّا، ولا تبذل نفسها لكل أحد، والعلني: يكون عامًّا، وهو المراد بالسفاح، قاله ابن عباس، وكان البغايا من الإماء ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن، ولا تزال هذه العادة متبعةً إلى الآن في بلاد السودان والحبشة والصومال وغيرها، فتوجد بيوت خاصة لشراب المسكر، وفيها البغاء العلني. وروي عن ابن عباس (¬1): أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر من الزنا، ويقولون: إنه لؤم، ويستحلون ما خفي، ويقولون إنه لا بأس، وقد نزل في تحريم النوعين قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. وهذان النوعان فاشيان في بلاد الإفرنج، والبلاد التي تقلدهم في شرورهم، كمصر والصومال وجيبوتي وبعض بلاد الهند، بل عم الآن كل من النوعين مشارق الأرض ومغاربها، تقليدًا للإفرنج، فيا لها من مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقصارى القول: أن الله فرض في نكاح الإماء مثل ما فرض في نكاح الحرائر، من الإحصان والعفة لكل من الزوجين، لكن جعل الإحصان وعدم السفاح في نكاح الحرائر من قبل الرجال، فقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} لأن الحرائر ولا سيما الأبكار أبعد من الرجال من الفاحشة، وأقل انقيادًا لطاعة الشهوة، على أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوامون عليهن. وجعل قيد الإحصان في جانب الإماء، فاشترط على من يريد أن يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة، مصونة في السر والجهر، فقال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} وذلك أن الزنا كان غالبًا في الجاهلية على الإماء، ¬

_ (¬1) المراغي.

وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن، حتى إن عبد الله بن أبيٍّ كان يكره إماءه على البغاء، بعد أن أسلمن، فنزل في ذلك: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على أنهن لذلهن وضعفهن وكونهن مظنة للانتقال من يد إلى أخرى، لم تمرن نفوسهن على الاختصاص برجل واحد، يرى لهن عليه من الحقوق ما تطمئن به نفوسهن في الحياة الزوجية، التي هي من شؤون الفطرة. {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالبناء للفاعل، ومعناه: حفظن فروجهن، وقيل معناه أسلمن، كما قال عمرو بن مسعود، والشعبي والنخعي والسدي، قالوا: الإحصان هنا (¬1) الإِسلام، والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة، وقد ضعف هذا القول، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت في قوله من فتياتكم المؤمنات، فكيف يقال في المؤمنات فإذا أسلمن، قاله إسماعيل القاضي. وقرأ الباقون بالبناء للمفعول إلا عاصمًا فاختلف فيه ومعناه زُوِّجن. {فَإِنْ أَتَيْنَ}؛ أي: فإن فعلن {بِفَاحِشَةٍ}؛ أي: بالزنا {فَعَلَيْهِنَّ}؛ أي: فعلى الإماء اللاتي زنين {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ أي: نصف ما على الحرائر الأبكار، إذا زنين من العقاب؛ أي: من الجلد، فيجلدن خمسين جلدة، ويجلد العبد للزنا إذا زنى خمسين جلدة، ولا فرق في المملوك بين المتزوج وغير المتزوج، فإنه يجلد خمسين مطلقًا، ولا رجم عليه، هذا قول أكثر العلماء. والمعنى: أنّ الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج .. فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات، وهنَّ الحرائر إذا زنين، وهذا العقاب ما بينه سبحانه وتعالى بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة، وتجلد الحرة مائة، ولا ترجم لأن الرجم لا يتنصف. والحكمة في ذلك: ما قدمناه فيما سلف، وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة، والأمة ضعيفة عن مقاومتها، فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{ذَلِكَ}؛ أي: ذاك الذي ذكرنا لكم، من إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز، {لِمَنْ خَشِيَ} وخاف {الْعَنَتَ مِنْكُمْ}؛ أي: خاف الوقوع في الزنا بسبب العزوبة وشدة الشهوة، والمعنى: ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الغلمة وشدة الشهوة على الزنا، وإنما سمي الزنا بالعنت لما يعقبه من المشقة، وهو الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فأباح الله تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط: عدم القدرة على نكاح الحرة، وخوف العنت، وكون الأمة مؤمنة. {وَأَنْ تَصْبِرُوا} عن فكاح الإماء متعفِّفين، {خَيْرٌ لَكُمْ} من نكاحهن كي لا يكون الولد رقيقًا. والمعنى (¬1): وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن، لما في ذلك من تربية قوة الإرادة، وتنمية ملكة العفة، وتغليب العقل على عاطفة الهوى، ومن عدم تعرض الولد للرق، وخوف فساد أخلاقه، بإرثه منها المهانة والذلة؛ إذ هي بمنزلة المتاع والحيوان، فربما ورث شيئًا من إحساسها ووجدانها وعواطفها الخسيسة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا نكح العبد الحرة .. فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الحر الأمة .. فقد أرق نصفه. ورحم الله القائل: إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيْ مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ ... تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ وسر هذا: ما شرحناه من قبل، من أن معنى الزوجية حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى، وكل منهما نصفها فهما شخصان صورةً واحدةً، اعتبارًا بالإحساس والشعور والوجدان والمودة والرحمة، ومن ثم ساغ أن يطلق على كل منهما لفظ: زوج؛ لاتحاده بالآخر، وإن كان فردًا في ذاته ومستقلًا في شخصه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ}؛ أي: غفار لمن صدرت منه الهفوات، كاحتقار الإماء المؤمنات، والطعن فيهن عند الحديث في نكاحهن، وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف، وسوء الظن بهن، {رَحِيمٌ} بعباده حيث رخص لهم فيما رخص فيه بإباحته لهم نكاح الإماء، وإن كان يؤدي إلى إرقاق الولد، مع أن ¬

_ (¬1) المراغي.

هذا يقتضي المنع لاحتياجهم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة. وهذه الجملة (¬1) كالتوكيد لما تقدم، يعني أنه تعالى كفر لكم، ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه. الإعراب {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. {وَالْمُحْصَنَاتُ}: الواو: عاطفة. {المحصنات}: معطوف على {أُمَّهَاتُكُمْ}، من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} على كونه نائب فاعل لـ {حُرِّمَ}. {مِنَ النِّسَاءِ}: جار ومجرور حال من {المحصنات}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ملكته أيمانكم. {كِتَابَ}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف تقديره: كتب الله ذلك عليكم كتابًا، وهو مضاف. ولفظ الجلالة {اللَّهِ}: مضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بالفعل المحذوف، لا (¬2) بالمصدر المذكور؛ لأن المصدر هنا فضلة، وقيل: هو متعلق بنفس المصدر؛ لأنه نائب عن الفعل، حيث لم يذكر معه، فهو كقولك: مرورًا يزيد؛ أي: أمرر به، والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد مضمون جملة قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}؛ لأنه لمّا قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ...} علم أن ذلك مكتوب، فأكده بهذه الجملة. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. {وَأُحِلَّ}: الواو عاطفة. {أحل}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَكُمْ}: متعلق به. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}. {وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: ظرف ومضاف ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) العكبري.

إليه، والظرف صلة لما، أو صفة لها. {أَنْ تَبْتَغُوا}: فعل وفاعل وناصب، والمصدر المؤول من الجملة مرفوع على كونه بدل اشتمال من ما الموصولة، ومفعول تبتغوا محذوف، تقديره: أن تبتغوه، عائد على ما الموصولة، والتقدير: اْحل لكم ما وراء ذلكم ابتغاؤهُ بأموالكم. {بِأَمْوَالِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَبْتَغُوا}. {مُحْصِنِينَ}: حال من فاعل تبتغوا. {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: حال مؤكدة، ومضاف إليه. {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. {فَمَا}: الفاء: استئنافية. ما: موصولة في محل الرفع مبتدأ. {اسْتَمْتَعْتُمْ}: فعل، وفاعل. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير به. {مِنْهُنَّ} جار ومجرور حال من ضمير به. {فَآتُوهُنَّ}: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. {أتوهن}: فعل، وفاعل، ومفعول أول. {أُجُورَهُنَّ}: مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {فَرِيضَةً}: حال من أجورهن، أو مصدر مؤكد؛ أي: فرض الله ذلك فريضة، أو صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فآتوهن أجورهن إيتاءً مفروضًا. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. {وَلَا جُنَاحَ}: الواو استئنافية. {لَا}: نافية. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْكُمْ}: جار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لا، وجملة لا من اسمها وخبرها: مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. {تَرَاضَيْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به. {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَرَاضَيْتُمْ}. {إِنَّ}: حرف نصب. ولفظ الجلالة {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله.

{عَلِيمًا}: خبر أول لها. {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كان} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}. {وَمَنْ}: الواو: استئنافية. {مَنْ} اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَسْتَطِعْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها، أو صلة الموصول. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَسْتَطِعْ}. {طَوْلًا}: مفعول به. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَنْكِحَ}: منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على من. {الْمُحْصَنَاتِ}: مفعول به. {الْمُؤْمِنَاتِ}: صفة للمحصنات، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام مقدرة، متعلقة بمحذوف صفة {طَوْلًا}، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولًا ومهرًا كائنًا لنكاح المحصنات المؤمنات. {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. {فَمِنْ مَا}: الفاء: رابطة الجواب، أو رابطة الخبر بالمبتدأ. {من ما}: جار ومجرور متعلق بالجواب المحذوف، أو بالخبر المحذوف، تقديره: فلينكح، وجملة {مَنْ} الشرطية مِنْ فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، تقديره: مما ملكته. {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف في ملكته. {الْمُؤْمِنَاتِ}: صفة لفتياتكم. {وَاللَّهُ}: الواو: استنئافية، أو اعتراضية. {اللَّهُ}: مبتدأ. {أَعْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {بِإِيمَانِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأعلم. {بَعْضُكُمْ}: مبتدأ،

ومضاف إليه. {مِنْ بَعْضٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو معترضة. {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}. {فَانْكِحُوهُنَّ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن من لم يستطع طول الحرة ينكح الإماء، وأردتم بيان كيفية نكاحها .. فأقول لكم: انكحوهن وآتوهن. {انكحوهن}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة من محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بانكحوهن. {وَآتُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {أُجُورَهُنَّ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة انكحوهن. {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق بآتوهن، أو حال من أجورهن. {مُحْصَنَاتٍ}: حال من المفعول في فانكحوهن. {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}: حال ثانية مؤكدة للأولى. {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}: الواو عاطفة. لا: زائدة، زيدت لتأكيد نفي {غَيْرَ}. {مُتَّخِذَاتِ}: معطوف على {مُحْصَنَاتٍ}، وهو مضاف. {أَخْدَانٍ}: مضاف إليه. {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} {فَإِذَا أُحْصِنَّ}: الفاء: فاء الفصحية؛ لأنا أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم جواز نكاح الإماء بالشرط المذكور، وأردتم بيان حكم ما إذا أتين بفاحشة .. فأقول لكم: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه. {أُحْصِنَّ}: فعل ونائب فاعل مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. {فَإِنْ أَتَيْنَ}: الفاء: رابطة لجواب إذا الشرطية. {إن}: حرف شرط. {أَتَيْنَ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {بِفَاحِشَةٍ}: متعلق {أَتَيْنَ}.

{فَعَلَيْهِنَّ}: الفاء: رابطة لجواب إن الشرطية. {عليهن}: جار ومجرور خبر مقدم. {نِصْفُ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. {مَا}: في محل الجر، مضاف إليه. {عَلَى الْمُحْصَنَاتِ}: جار ومجرور، صلة لما، أو صفة لها. {مِنَ الْعَذَابِ}: جار ومجرور، حال من الضمير في الجار والمجرور، العامل (¬1) فيها هو العامل في صاحبها، ولا يجوز أن يكون حالًا من ما؛ لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل لفظي، والجملة من المبتدأ والخبر: في محل الجزم جواب إن الشرطية، وجملة إن الشرطية: جواب إذا الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، أو معترضة. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {لِمَنْ}: جار ومجرور خبر له، والجملة مستأنفة. {خَشِيَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على من. {الْعَنَتَ}: مفعول به. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في خشي، والجملة الفعلية صلة من الموصولة، والعائد الضمير المستتر في {خَشِيَ}. {وَأَنْ تَصْبِرُوا}: فعل وفاعل وناصب، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الابتداءِ؛ تقديره: وصبركم. {خَيْرٌ}: خبر له. {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {غَفُورٌ}: خبر أول. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَالْمُحْصَنَاتُ} جمع محصنة بفتح الصاد، يقال: حصنت المرأة - بضم الصاد - حصنًا وحصانة، إذا كانت عفيفة، فهي حاصن، وحاصنة وحَصَان بفتح الصاد، ويقال: أحصنت المرأة إذا تزوجت؛ لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته، وأحصنها أهلها زوجوها. ¬

(¬1) العكبري.

والحاصل: أن الفتح في المحصنات على وجهين: أشهرهما: أنه أُسند الإحصان إلى غيرهن وهو: إما الأزواج أو الأولياء، فإن الزوج يحصن امرأته؛ أي: يعفَّها، والولي يحصنها بالتزويج، والله يحصنها بذلك. والثاني: أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور، يعني أنه اسم فاعل، وإنما شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ: أحصن فهو محصن، وأفلج فهو ملفج، وأسهب فهو مسهب، وأما الكسر فإنه أسند الإحصان إليهن؛ لأنهن يحصن أنفسهن بعفافهن أو يحصن فروجهن بالحفظ، أو يحصن أزواجهن. {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} جمع مسافح، اسم فاعل من سافح من باب فاعل، وأصله من السفح وهو الصب، وإنما سمي الزنا سفاحًا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة، وقضاء الشهوة فقط. {أُجُورَهُنَّ} جمع أجر، وهو في الأصل الجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل، أو منفعة، والمراد به هنا المهر. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الاستطاعة: كون الشيء في طوعك، لا يتعاصى عليك، والطول: الغنى والفضل، من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب، يقال: طال يطول طولًا، في الأفضال والقدرة، وفلان ذو طول؛ أي: ذو قدرة في ماله. والطول بالضم ضد القصر. {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} الأخدان: جمع خدن بكسر أوله وسكون ثانيه، وهو الصاحب، ويطلق على الذكر والأنثى، وهو الصديق للمرأة يزني بها سرًّا، قال أبو زيد: الأخدان الأصدقاء على الفاحشة. وفي "المصباح" و "القاموس" الأخدان: جمع خدن بالكسر، كحمل وأحمال، وعدل وأعدال. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} والعنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي، يقال: عنت عنتًا من باب طرب إذا ارتكب الزنا، وفي "القاموس": والعنت محركًا الفساد، والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان، ولقاء الشدة والزنا والوهن والانكسار واكتساب المآثم، وأعنته غيره، وعنته تعنيتًا إذا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه.

البلاغة وقد تضمنت هاتان الآيتان أنواعًا من البلاغة: منها: التكرار بلفظ المؤمنات في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، وفي قوله: {فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وفي قوله: {فَرِيضَةً} و {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}، وبلفظ: {الْمُحْصَنَاتُ}، في قوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}، وفي قوله: {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. ومنها: الإشارة في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما تقدم من المحرمات، وفي قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} إشارةً إلى تزويج الإماء. ومنها: الاستعارة في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول، وفي قوله: {مُحْصِنِينَ} استعار لفظ الإحصان، وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح، وهو صب الماء في الأنهار والعيون، بتدفق وسرعة. وكذلك: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر: هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله، وفي قوله: {طَوْلًا} استعارهُ للمهر يتوصل به إلى معالي الأمور. ومنها: الطباق في قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}؛ لأن المحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله. ومنها: الاحتراز في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} إذ المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال فاحترز عنه بقوله من النساء. ومنها: الاعتراض بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}. المناسبة قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب .. ذكر هنا عللها وأحكامها، كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل والأسباب؛ ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، وسكون للنفوس لتعلم مغبة (¬2) ما هي مقدمة عليه من الأعمال، وعاقبة ما كلفت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور، عالمة بأن لها فيها سعادةً في دنياها وأخراها، ولا تكون في عماية من أمرها، فتتيه في أودية الضلالة وتسير قدمًا لا إلى غاية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنه تعالى لمَّا بيّن كيفية التصرف في النفوس بالنكاح .. بيَّن كيفية التصرّف في الأوال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المغبة: العاقبة. (¬3) البحر المحيط.

[26]

ملكت بالباطل، والباطل هو: كل طريق لم تُبحه الشريعة فيدخل فيه السرقة، والخيانة والغصب والقمار والملاهي وعقود الربا وأثمان البيوع الفاسدة كما سيأتي. وقال المراغي (¬1): قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء، ثم بيّن وجوب دفع المهور للنساء، وأنكر عليهم أخذها بوجه من الوجوه، ثم ذكر وجوب إعطاء شيءٍ من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة .. ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل في الأموال تطهيرًا للأنفس في جمع المال المحبوب لها. قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر .. ذكر الوعد على اجتناب الكبائر، والظاهر أن الذنوب تنقسم على قسمين؛ إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقيل (¬3): المناسبة أنه لمّا نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن قتل النفس، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات .. نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد من تركها بالمُدخَل الكريم. التفسير وأوجه القراءة 26 - {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} هذه الآيات إلى قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} كأنها واقعة في جواب أسئلة مقدرة (¬4)، تقديرها: ما الحكمة في هذه الأحكام، وما فائدتها للعباد وهل من كان قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها، فلم يبح ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

لهم أن يتزوجوا كل امرأة، وهل كان ما أمرنا الله به أو نهانا عنه تشديدًا علينا أو تخفيفًا عنا؟ واللام (¬1) في قوله: {لِيُبَيِّنَ} زائدة مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله سبحانه وتعالى بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم، ويوضح ما فيه مصالحكم ومنافعكم، وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم. {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: ويريد الله سبحانه وتعالى أن يرشدكم طرائق من تقدمكم، ومناهجهم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم وتقتفوا آثارهم، وتسيروا سيرتهم، فكل ما بيَّن الله تحريمه وتحليله لنا من النساء .. كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل، فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .. فهي متفقة في مراعاة المصالح العامة للبشر. فروح الديانات جميعًا وأساسها توحيد الله تعالى، وعبادته والخضوع له، على صور مختلفة، ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها، وتهذيب الأخلاق لتَبْتَعِدَ عن سيء الأفعال والأقوال، {و} يريد الله سبحانه وتعالى أن {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: أن يرجعكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، ويوفقكم للتوبة عنها، قيل: إن الأحكام قبل البعثة لم تثبت فأين المعصية؟ أجيب: بأن المراد المعصية ولو صورةً، والمعنى: ويريد الله تعالى أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين، راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة؛ إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم، وتقطعون أرحامكم، ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي في الزوجية، من تقوية روابط النسب، وتجديد قرابة الصهر، والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين، والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} ¬

_ (¬1) النسفي.

[27]

بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم {حَكِيمٌ} فيما دبره لهم من أمورهم؛ أي: فبعلمه المحيط بما في الأكوان شرع لكم من الدين ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، وبحكمته لم يكلفكم بما يشق عليكم، وبما فيه الأذى والضرر لكم، وبها يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات 27 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُرِيدُ} بما كلّفكم به من تلك الشرائع {نْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: أن يطهركم من الذنوب ويزكي نفوسكم من الأدناس، قال ابن عباس: معناه: يريد أن يطهركم من كل ما يكرهُ إلى ما يحب ويرضى، وقيل: معناه يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} المحرمة ويستبيحونها ويفعلونها. قيل: هم (¬1) اليهود والنصارى، وقيل: هم اليهود خاصة؛ لأنهم يقولون: إن نكاح بنت الأخ من الأب حلال، وقيل: هم المجوس؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات، وبنات الإخوة، فلما حرمهن الله تعالى .. قالوا: إنكم تحلون بنت الخالة، وبنت العمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت هذه الآية، وقيل: هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم. {أَنْ تَمِيلُوا} وتعدلوا عن الحق، وقصد السبيل {مَيْلًا} بموافقتهم على اتباع الشهوات، واستحلال المحرمات {عَظِيمًا}؛ أي: بينًا بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة، على ندور غير مستحل لها؛ أي: أن تخطئوا خطأً عظيمًا بنكاح الأخوات من الأب ونحوها، لقولهم: إنه حلال في كتابنا، وبمشاركتهم في اتباع الشهوات، فإن الزاني يحب أن يشركه في الزنا غيره، ليفرق اللوم عليه وعلى غيره، ومتبعوا الشهوات هم الذين يدورون مع شهوات أنفسهم، وينهمكون فيها، فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها، فلا يبالون بما قطعوا من حقوق الأرحام، ولا بما أزالوا من مودة القرابة، فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة. وأما الذين يفعلون ما يأمر به الدين: فليس غرضهم إلا امتثال أوامره، لا اتباع شهواتهم، ولا الجري وراء لذاتهم، وقرأ الجمهور أن تميلوا بتاء الخطاب، وقرىء بالياء على الغيبة، فالضمير في {يميلوا} يعود على الذين يتبعون ¬

_ (¬1) الخازن.

[28]

الشهوات. وقرأ الجمهور {ميلًا} بسكون الياء، وقرأ الحسن بفتحها. 28 - {يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أيها الأمة المحمدية، ويسَهل عليكم في جميع أحكام الشرع، كإباحة نكاح الأمة عند الضرورة، ونحوه من سائر الرخص، ولم يثقل التكاليف عليكم، كما ثقلها على بني إسرائيل، كما أخبره في كتابه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وكما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة". {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}؛ أي: خلق الله جنس الإنسان حالة كونه ضعيفًا؛ أي: عاجزًا عن مخالفة هواه، غير قادر على مخالفة دواعيه، حيث لم يصبر عن النساء، وعن اتباع الشهوات، ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات، ولذلك خفف الله تكليفه، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم، فأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا". وقيل: هو ضعيف في أصل الخلقة؛ لأنه خلق من ماء مهين .. وقد رحم الله عباده (¬1)، فلم يحرم عليهم من النساء إلا ما في إباحته مفسدة عظيمة، وضرر كبير، ولا يزال الزنا ينتشر حيث يضعف وازع الدين، ولا يزال الرجال هم المعتدين، فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال، ويحجر الرجل على امرأته ويحجبها، بينما يحتال على امرأة غيره ويخرجها من خِدرها، وإنه لغِرٌّ جاهلٌ، أفيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه، فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوةً لأهل بيته في الفسق والفجور، وفي الحديث: "عفوا تعف نسائكم وبروا آباءكم تبرّكم أبناؤكم" رواه الطبراني من حديث جابر. وقد بلغ الفسق في هذا الزمن حدًّا صار الناس يظنونه من الكياسة، وزالت غيرتهم، وأسلسوا القياد لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن، فوهت الروابط الزوجية، ونخر السوس في سعادة البيوت، ووجدت الرذيلة لها مرتعًا خصيبًا في أجواء الأسر، حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله، وكثرت الأمراض والعلل بشتى مظاهرها. ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

أخرج البيهقي (¬1) في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعد هذه الآيات الثلاث: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} إلى قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، والرابعة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، والخامسة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، والسادسة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}، والسابعة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، والثامنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} .. الآية. وقال الراغب (¬2): ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى، نحو: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ}، أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} وأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه، ويبلغ يها في الآخرة إلى جواره تعالى .. فهو أقوى ما في هذا العالم، ولهذا قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. وقرأ ابن عباس ومجاهد: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} مبنيًّا للفاعل مسندًا إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفًا على الحال. 29 - وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس، إثر بيان المحرمات المتعلقة بالأبضاع، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر؛ لأن معظم المقصود من الأموال الأكل، فالمراد: النهي عن مطلق الأخذ، قيل: ويدخل فيه أكل مال نفسه، وأكل مال غيره، فأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في المعاصي. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدَّقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا تأكلوا أموالكم المتداولة بينكم بالوجه الباطل الممنوع في الشرع؛ أي: بالطريق الذي يخالف الشرع، كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا وشهادة الزور والحلف الكاذب وجحد الحق، ونحو ذلك كالرُشا، والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} منقطع؛ لأن التجارة عن تراضٍ ليست من جنس أكل المال بالباطل، فتكون {إِلَّا} هنا بمعنى: لكن، والمعنى: لكن أكلها بتجارة صادرة عن تراض منكم، وطيب نفس من المتعاقدين جائز لكم. وخص التجارة (¬1) بالذكر دون غيرها كالهبة والصدقة والوصية؛ لأن غالب التصرف في الأموال بها ولأن أسباب الرزق متعلق بها غالبًا، ولأنها أرفق بذوي المروءات، بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {تِجَارَةً} بالنصب على أن {تَكُونَ} ناقصة، واسما ضمير مستتر يعود على (¬2) الأموال، تقديره: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكلها، أو يعود على {تجارة} والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. وقرأ الباقون بالرفع على أن تكون تامة، والمعنى: إلا أن توجد تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكل الأموال المكتسبة بها. واختلف العلماء في التراضي (¬3)، فقالت طائفة: تمامه، أي: تمام البيع وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، كما في الحديث الصحيح: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر" أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال ¬

_ (¬1) كرخي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. فائدة: وفي قوله: {بَيْنَكُمْ} رمز (¬1) إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه إليه، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه، وعبر عنه بالأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها. وأضاف الأموال إلى الجميع، ولم يقل: لا يأكل بعضكم مال بعض، تنبيهًا إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح، كان مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل .. كان كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله، فالحياة قصاص، وإرشادًا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شيء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به، إذ هو كأنما أعطاه شيئًا من ماله، وبهذا قد وضع الإِسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه: منها: أن مال الفرد مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها، فهو يوجب على ذي المال الكثير حقوقًا معينة للمصالح العامة، وعلى ذي المال القليل حقوقًا أخرى للبائسين وذوي الحاجات من سائر أصناف البشر، ويحث على البر والإحسان والصدقات في جميع الأوقات. وبهذا لا يوجد في بلاد الإِسلام مضطر إلى القوت أو عريان، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ لأن الإِسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر، كما فرض في أموالهم حقوقًا للفقراء والمساكين. وكل فرد يقيم في بلادهم يرى أن مال الأمة هو مالُه، فإذا اضطر إليه .. يجده مذخورًا له، كما جُعل المال المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة، حتى لا يمنعه من في قلبه مرض، وحثهم على البذل ¬

_ (¬1) المراغي.

ورغبهم فيه، وذمهم على البخل، ووكل ذلك إلى أنفسهم؛ لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة. ومنها: أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدي أربابه إلا بإذنهم، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة، وتوجد الفوضى في الأموال والضعف والتواني في الأحوال، ويدب الفساد في الأخلاق والآداب. ولو أقام المسلمون معالم دينهم، وعملوا بشرائعه .. لضربوا للناس الأمثال، واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس، ولأقاموا مدنية صحيحة في هذا العصر، يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات، ولا يجعلها تَئِنُ تحت أثقال العوز والحاجة، كما هو حادث الآن من التنافر العام، والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رؤوس الأموال. ومعنى قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ أي: لا تكونوا من ذوي الأطماع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين، إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء. وفي الآية إيماء إلى أنواع شتى من الفوائد: منها: أن مدار حل التجارة على تراضي المتبايعين، فالغش والكذب والتدليس فيها من المحرمات. ومنها: أن جميع ما في الدنيا من التجارة، وما في معناها، من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولا ثبات، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة، التي هي خير وأبقى. ومنها: الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل، فإنَّ تحديد قيمة الشيء، وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلًا، ومن ثم يجري التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر في تزيين سلعته، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع، فكثيرًا ما يشتري الإنسانُ الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه

من موضع آخر بثمن أقلّ، وما نشأ هذا إلّا من خلابة التاجر وكياسته في تجارته، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، فيكون حلالًا، والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة؛ لشدة حاجة الناس إليها، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختيار الأشياء، والتدقيق في المعاملة حفظًا للأموال، حتى لا يذهب شيء منها بالباطل؛ أي: بدون منفعة تقابلها. فإذا ما وجد في التجارة الربح الكثير بلا غشٍ ولا تغرير، بل بتراض من الطرفين .. لم يكن في هذا حرج، ولولا ذلك ما رغب أحد في التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين، على شدة حاجة العمران إليها، وعدم الاستغناء عنها. ولما كان المال عديل الروح، وقد نهينا عن إتلافه بالباطل، كنهينا عن إتلاف النفس؛ لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات؛ لنهب الأموال، وما كان متصلًا بها، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل، من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان، أو المعنى: لا يقتل بعضكم بعضًا، وإنما قال: {أَنْفُسَكُمْ} لأنهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها، وقد جاء في الحديث: "المؤمنون كالنفس الواحدة"؛ ولأن قتل الإنسان لغيره يفضي إلى قتله قصاصًا أو ثأرًا، فكأنه قتل نفسه. وبهذا علمنا القرآن: أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه، وجناية على البشر جميعًا، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدها كنفوسنا، إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى، فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه؛ ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب بالمؤمن .. فعليه أن يصبر ويحتسب، ولا ييأس من الفرج الإلهي، ومن ثَمَّ لا يكثرُ بَخْعُ النفس والانتحار إلا حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد.

[30]

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سبحانه وتعالى كان بكم رحيمًا حيث نهاكم عن كل ما تستوجبون به مشقة؛ أي: إنه سبحانه وتعالى بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل وعن قتلكم أنفسكم كان رحيمًا بكم؛ إذ حفظ دماءكم كما حفظ أموالكم، التي عليها قوام المصالح، واستمرار المنافع، وعلمكم أن تتراحموا وتتوادوا، ويكون كل منكم عونًا للآخر، يحافظ على ماله، ويدافع عن نفسه إذا جد الجد، ودعت الحاجة إلى الدفاع عنه. 30 - {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} المنهي المذكور من أكل الأموال بالباطل، وقتل الأنفس، أو سائر المحرمات المذكورة من أول السورة إلى هنا، {عُدْوَانًا}؛ أي: تعديًا (¬1) وعمدًا لا خطأً، {وَظُلْمًا}؛ أي: بغير حق لا قصاصًا، أو المعنى {عُدْوَانًا}؛ أي: (¬2) تعديًا على الغير، {وَظُلْمًا}؛ أي: لنفسه بتعريضها للعقاب، لا جهلًا ونسيانًا وسفهًا، وقال المراغي (¬3): العدوان هو التعدي على الحق، وهو يتعلق بالقصد، بأن يتعمد الفاعل الفعل، وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل، والظلم يتعلق بالفعل نفسه، بأن لا يتحرى الفاعل عمل ما يحل فيفعل ما لا يحل، والوعيد مقرون بالأمرين معًا، فلا بد من قصد الفاعل العدوان، وأن يكون فعله ظلمًا لاحقًا، فإذا وجد أحدهما دون الآخر .. لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد، فإذا قتل الإنسان رجلًا كان قد قتل أباه أو ابنه .. فهنا قد وجد العدوان ولم يوجد الظلم، وإذا سلب امرؤ مال آخر ظانًّا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه، ثم تبين أن المال ليس ماله، وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله .. فها هنا قد وجد الظلم دون العدوان، وقرىء {عِدوانًا} بالكسر، {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا}؛ أي: فسوف ندخله في الآخرة نارًا هائلة شديدة العذاب، يصلى فيها، عقوبة له على جريمته ومدلول (¬4) {نَارًا} مطلق، والمراد - والله أعلم - تقييدها بوصف الشدة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) بيضاوي جمل. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[31]

وقرأ الجمهور (¬1): {نُصْلِيهِ} بضم النون، وقرأ النخعي والأعمش بفتحها من صلاه الثلاثية، ومنه شاة مصلية، وقرىء أيضًا {نصلّيه} مشددًا، وقرىء {يصليه}، والظاهر أن الفاعل ضمير يعود على الله؛ أي: فسوف يصليه هو؛ أي: الله تعالى، وأجاز الزمخشري: أن يعود الضمير على ذلك، قال: لكونه سببًا للمصلي، وفيه بعد. {وَكَانَ ذَلِكَ} الإصلاء والإدخال في النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}؛ أي: يسيرًا سهلًا هينًا على الله سبحانه وتعالى لا يمنعه منه مانع، ولا يدفعه عنه دافع، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، فلا يغترَّن الظالمون المعتدون بحلمه تعالى عليهم في الدنيا، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه في الآخرة، ولا يكونن كأولئك المشركين الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. 31 - {إِنْ تَجْتَنِبُوا} وتتركوا {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}؛ أي: عظائم ما نهاكم الله عنه من الذنوب، كالشرك والزنا وقتل النفس المحرمة مثلًا، وتفعلوا عزائم ما أمركم الله به، كالصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة والحج، {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ أي: نمحُ عنكم صغائر الذنوب، ونغفرها لكم فلا نؤاخذكم بها، فتصير بمنزلة ما لم يعمل؛ لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وفعل المأمورات، ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها، فمعنى تكفير السيئات: إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، فالمراد بالسيئات هنا الصغائر؛ لأنهم قسموا الذنوب إلى قسمين: صغائر كالنظرة واللمسة والقبلة مثلًا، وكبائر كالزنا والسرقة، وقالوا: أكبر الكبائر الشرك بالله، وأصغر الصغائر حديث النفس. وإنما زدنا في تفسير الآية قيد وتفعلوا عزائم المأمورات؛ لأنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر، بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه"، عن أبي هريرة وأبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر ثم قال: "والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع .. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة، حتى إنها لتصفق"، ثم تلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وقيل: لا يشترط ذلك بل تكفر الصغائر باجتناب الكبائر، فإنَّ اجتناب الكبائر من أعظم الطاعات، وهو المعتمد لظاهر الآية. {وَنُدْخِلْكُمْ} في الآخرة {مُدْخَلًا كَرِيمًا}؛ أي: موضعًا طيبًا ومنزلًا حسنًا، أو ندخلكم مكانًا لكم فيه الكرامة عند ربكم، وهو الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ومعنى كونه كريمًا أنه لا نكد فيه ولا تعب، بل فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها. وقرأ ابن عباس وابن جبير (¬1): {إن تجتنبوا كبير} على الإفراد، وقرأ المفضلُ عن عاصم: {يُكفِّر} {ويدخلكم} بالياء على الغيبة، وقرأ ابن عباس: {من سيئاتكم}، بزيادة (من)، وقرأ نافع: {مُدْخَلًا} هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورُويت عن أبي بكر، وقرأ باقي السبعة بضمها. واعلم: أنه قد اختلف العلماءُ في عدد الكبائر، وتحقيق معناها، فقال ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي عنه أيضًا أنها أربع، فزاد الإشراك بالله، وقال عليٌّ: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذفُ المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرارُ يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول علي في كل واحدة منها أية من كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ...} الآية. والأحاديث الصحيحة (¬2) كما سيأتي مختلفة في عددها، ومجموعها يزيد على سبع، ومن ثم قال ابن عباس: لما قال له رجل: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعين أقرب، وفي رواية عنه: هي إلى سبع مئة أقرب؛ إذ لا صغيرة مع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعوض على النفس، من استشاطة غضب أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكن من دينه، يخاف الله ولا يستحل محارمه، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونًا بالدين، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو إذ ذاك لأَنْ يتوب عليه ويكفر عنه أقربُ، وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر، وعدم المبالاة بنظر الله إليه، ورؤيته إياه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرًا في صورته أو في ضرره يعد كبيرًا من حيث الإصرار والاستهتار، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبة لمن اعتاده، والهمز واللمز، وعيب الناس، والطعن في أعراضهم لمن تعوده، كل ذلك كبيرة ولا شك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة ولم يرد الحصر والتحديد. وأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آيةً، وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة، وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه، وقيل: كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته، إما في الدنيا بالحدود، وإما في الآخرة بالعذاب عليه، وقيل غير ذلك مما لا طائل في ذكره. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الكبائر فمنها: ما روي عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا"، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور"، وكان متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. أخرجاه في "الصحيحين". وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذكر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر

فقال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس"، وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قول الزور" أو قال: "شهادة الزور" متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" متفق عليه. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"، قال: قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وفي رواية, أن أعرابيًّا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس"، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب" رواه البخاري. وعنه - رضي الله عنهما - أن رسول الله قال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه"، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم! يسب الرجل أبا الرجل أو أمه، فيسب أباه أو أمه"، وفي رواية: "من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" وذكر الحديث، متفق عليه. الإعراب {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقرير ما سبق من

الأحكام، وكونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين. {لِيُبَيِّنَ}: اللام لام كي، ولكنها زائدة، زيدت لتأكيد إرادة التبيين. {لِيُبَيِّنَ}: منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد الله تبيينه لكم. {وَيَهْدِيَكُمْ}: الواو: عاطفة. {وَيَهْدِيَكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يُبَيِّنَ} على كونها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد الله بيانه لكم، وهدايته لكم. {سُنَنَ الَّذِينَ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صلة الموصول. {وَيَتُوبَ}: معطوف أيضًا على {يُبَيِّنَ}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، تقديره: وتوبته عليكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}. {اللَّهُ}: الواو عاطفة. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية؛ أعني: جملة يريد الله. {أن}: حرف نصب ومصدر {يَتُوبَ}: منصوب بـ {أن} وفاعله ضمير يعود على {الله}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: والله يريد توبته عليكم. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ}. {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَنْ تَمِيلُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {مَيْلًا}: مفعول مطلق. {عَظِيمًا}: صفة له، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُ}؛ تقديره: ويريد الذين يتبعون الشهوات ميلكم ميلًا عظيمًا.

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ}: حرف مصدر. {يُخَفِّفَ}: منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {عَنْكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد الله تخفيفه عنكم، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ} فعل ونائب فاعل. {ضَعِيفًا}: حال من الإنسان، وهي حال مؤكدة، والجملة مستأنفة، بمنزلة التعليل لقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أيُّ}: منادى نكرة مقصودة. ها: حرف تنبيه زائد زيد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع، أو في النصب صفة له، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا تَأكُلُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {أَمْوَالَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَأكُلُوا}، أو حال من {أَمْوَالَكُمْ}. {بِالْبَاطِلِ}: متعلق بـ {تَأكُلُوا}. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. {أَنْ}: حرف نصب. {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص. {تِجَارَةً}: خبرها منصوب على قراءة النصب، واسمها ضمير يعود على المعاملة مثلًا، وعلى قراءة الرفع فتكون تامة، {تِجَارَةً}: فاعلها، وجملة {تَكُونَ} على كلا الإعرابين: صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف؛ تقديره: لكن كون المعاملة تجارة عن تراض منكم جائز، أو كون تجارة عن تراض منكم جائز، والجملة جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. {عَنْ تَرَاضٍ}: جار ومجرور صفة لـ {تِجَارَةً}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {تَرَاضٍ}، {وَلَا تَقْتُلُوا}: جازم وفعل وفاعل معطوف على جملة {لَا تَأكُلُوا}. {أَنْفُسَكُمْ}:

مفعول به ومضاف إليه. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الجلالة. {بِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {رَحِيمًا}، وهو خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}: الواو استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. {يَفْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {ذَلِكَ}: مفعول به. {عُدْوَانًا}: حال من فاعل يفعل. {وَظُلْمًا}: معطوف عليه، ولكن بعد تأويلهما بمشتق؛ تقديره: ومن يفعل ذلك حالة كونه متعديًا على غيره، وظالمًا لنفسه، أو منصوبان على المفعول لأجله. {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ}: الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقترنًا بـ {سوف}، {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {نُصْلِيهِ}: فعل ومفعول أول. {نَارًا}: مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، ولم يجزم لفظه لاقترانه بحرف التنفيس، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَكَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرًا} وهو خبر كان، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}. {إِنْ تَجْتَنِبُوا}: جازم وفعل وفاعل، مجزوم بحذف النون. {كَبَائِرَ مَا}: مفعول به ومضاف إليه. {تُنْهَوْنَ}: فعل مغير ونائب فاعل. {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد ضمير عنه. {نُكَفِّرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {أَن} على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله،

وجملة {إن} الشرطية: مستأنفة. {عَنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُكَفِّرْ}. {سَيِّئَاتِكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَنُدْخِلْكُمْ}. معطوف على {نُكَفِّرْ} مجزوم على كونه جواب {إن}: الشرطية، و {الكاف}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله. {مُدْخَلًا}: منصوب على الظرفية متعلق بندخل. {كَرِيمًا}: صفة له، ويصح نصبه على المصدرية، والمدخول فيه على هذا محذوف، تقديره: وندخلكم الجنة إدخالًا كريمًا. التصريف ومفردات اللغة {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، السنن جمع سنة، كغرف وغرفة، والسنة: الطريقة، ويقال: تاب إلى الله توبة وتوبًا ومتابًا، من باب قال، إذا رجع من معصيته إلى طاعته، وتاب الله عليه إذا غفر له، ورجع عليه بفضله، والمعنى هنا: ويغفر لكم، ومعناه في الموضع الثاني أعني قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} التوفيق للهداية، والرجوع إلى الطاعة، {الشَّهَوَاتِ}: جمع شهوة، كهفوات جمع هفوة، وهي المستلذات المحرمة، يقال: شها الشيء يشهو من باب دعا، ويقال: شهي يشهى - من باب رضي يرضى - شهوةً إذا أحبه ورغب فيه رغبة شديدة، {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} يقال: مال يميل من - باب باع - ميلًا وتميالًا وميلانًا وميلولةً إلى المكان عدل إليه، أو إلى الشيء، أو إلى الشخص، إذا رغب فيه أو أحبه، ومال عن الطريق إذا حاد عنه، ومال الحاكم في حكمه إذا جار وظلم، ومال الحائط إذا زال عن استوائه، والمراد هنا الميل عن الطريق المستقيم. {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} والضعيف: صفة مشبهة من ضعف يضعف ضعافة وضعافية ضد قوي، وهو من باب فعل المضموم كشرف، يجمع على ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى مؤنثه ضعيفة. {أموالَكم}: جمع مال، والمال هو ما ملكته من جميع الأشياء، وهو عند أهل البادية يطلق على النعم والمواشي كالإبل والغنم، يذكر ويؤنث فيقال: هو المال، وهي المال، سمي به لميل القلب إليه، ويقال: مال يمول مولًا ومؤولًا من باب قال، يقال: مال زيد إذا صار ذا مال أو

كثر ماله، وموَّله إذا صيره ذا مال، {بِالْبَاطِلِ} الباطل: ضد الحق، يجمع على أباطيل، يقال: بطل يبطل - من باب نصر - بطلًا وبطولًا، إذا ذهب خسرًا وضياعًا فهو باطل، وفي "المراغي": الباطل من البطل، والبطلان وهو الضياع والخسار، وفي الشرع: أخذ المال بدون عوض حقيقي يعتد به، ولا رضي ممن يؤخد منه، أو إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع، فيدخل في ذلك الغصب والغش والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضى به العقلاء، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ}: اجتنب من باب افتعل، والاجتناب: ترك الشيء جانبًا، والكبائر جمع كبيرة ككريمة وكرماء، وهي المعصية العظيمة، {سَيِّئَاتِكُمْ} والسيئات: جمع سيئة، وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلًا أو آجلًا، والمراد بها هنا الصغائر، كما هو مذهب الجمهور. {مُدْخَلًا كَرِيمًا}: وفي "السمين": قرأ (¬1) نافع وحده هنا، وفي الحج {مُدْخَلًا} بفتح الميم، والباقون بضمها، ولم يختلفوا في ضم التي في الإسراء كما مرَّ. فأما المضموم الميم فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مصدر، وقد علم أن المصدر الميمي من الرباعي فما فوقه، كاسم المفعول منه، والمدخول فيه على هذا محذوف؛ أي: وندخلكم الجنة إدخالًا كريمًا. والثاني: أنه اسم مكان الدخول. وفي نصبه حينئذ احتمالان: أحدهما: أنه منصوب على الظرف، وهو مذهب سيبويه. والثاني: أنه مفعول به، وهو مذهب الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل، فإن فيه هذين المذهبين، وهذه القراءة واضحة، لأن اسم المصدر والمكان جاريان على فعلهما، وأما قراءة نافع: فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن ¬

_ (¬1) الفتوحات.

المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي، والفعل السابق لهذا كما رأيت رباعي، فقيل: إنه منصوب بفعل مقدر مطاوع لهذا الفعل المذكور، والتقدير: وندخلكم فتدخلون مدخلًا، ومدخلًا منصوب على ما تقدم إما المصدرية وإما المكانية بوجهيها، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، نحو أنبتكم من الأرض نباتًا على إحدى القراءتين انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع (¬1): منها: التكرار في اسم الله وفي قوله: {يُرِيدُ} في أربعة مواضع، وفي قوله: {يَتُوبَ}، {أَنْ يَتُوبَ}. ومنها: إطلاق المستقبل على الماضي في قوله: {يُرِيدُ}، وفي قوله: {لِيُبَيِّنَ}؛ لأن إرادة الله وبيانه قديمان؛ إذ تبيانه في كتبه المنزلة، والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. ومنها: الاستعارة في قوله: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ}، وفي قوله: {أَنْ تَمِيلُوا}؛ لأنه استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام؛ لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: {أَنْ يُخَفِّفَ} لأن التخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف: رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني. وفي قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} جعله ضعيفًا باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله. ومنها: الزيادة في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، قال الزمخشري: تقديره: يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك؛ لتأكيد إضافة الأب كما مر ذلك. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ}؛ لأنه مجاز عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مطلق الأخذ؛ لأن المراد النهي عن مطلق الأخذ، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأن معظم المقصود من الأموال الأكل. ومنها: الحذف في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} لأنه على تقدير إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وتفعلوا الطاعات؛ لأن التكفير ليس مرتبًا على الاجتناب فقط، بل لا بد معه من فعل الطاعات. ومنها: قصد الدلالة على الثبوت في جملة، وعلى التجدد في أخرى، في قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} لأنه جاءت الجملة الأولى اسمية والثانية فعلية، لإظهار تأكيد الجملة الأولى؛ لأنها أدل على الثبوت، ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار، وأما الجملة الثانية: فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد؛ لأن إرادتهم تتجدد في كل وقت. ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} لأن إضافة الأموال إلى المخاطبين معناه أموال بعضكم، كما قال تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها، وتحصيل حطامها .. نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض؛ إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا، وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل، وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن السبب آكد لفظاعته ومشقته، فبدىء به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسمًا لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي، فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة. وقال في "المراغي" (¬2): المناسبة: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن أكل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أموال الناس بالباطل، وعن القتل، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور، وهما من أفعال الجوارح؛ ليصير الظاهر طاهرًا عن المعاصي الوخيمة العاقبة .. نهى عن التمني، وهو التعرض لها بالقلب حسدًا؛ لتطهر أعمالهم الباطنة، فيكون الباطن موافقًا للظاهر، ولأن التمني قد يجر إلى الأكل، والأكل قد يقول إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى .. يوشك أن يقع فيه انتهى. وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...} قال أبو حيان (¬1): مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله .. أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة، من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعن فيه بطلب فرب ساع لقاعد. وقال المراغي: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن تمني أحد ما فضل الله به غيره عليه من المال، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي، وهو وإن كان نهيًا عامًّا، فالسياق يعين المراد منه، وهو المال؛ لأن أكثر التمني يتعلق به، ثم ذكر القاعدة العامة في حيازة الثروة وهي الكسب .. انتقل إلى نوع آخر تأتي به الحيازة وهو الإرث. قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها (¬3): أن الله سبحانه وتعالى لما نهى كلًّا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم، وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبتهم، وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء .. ذكر هنا أسباب التفضيل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ...} سبب نزوله (¬1): ما رواه الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله قوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ...}، وأنزل فيها {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...}. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا نبي الله للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل هكذا، إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله {وَلَا تَتَمَنَّوْا ...} الآية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} الآية أخرج (¬2) أبو داود في سننه من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر فقرأت: {والذين عاقدت أيمانكم} فقالت: لا ولكن {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} وإنما نزلت في أبي بكر وابنه، حين أبى الإِسلام، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم أمره أن يؤتيه نصيبه. قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ...} سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القصاص"، فأنزل الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ...} الآية فرجعت بغير قصاص. وروي أن سعد بن الربيع - كان نقيبًا من نقباء الأنصار - نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد، فلطمها فأنطلق معها أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتقتص منه"، فنزلت {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، فقال: "أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراد الله خير" وأخرج (¬3) ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) لباب النقول.

[32]

ابن جرير من طرق عن الحسن، وفي بعضها أن رجلًا من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما القصاص فنزلت: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، ونزلت: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}. وأخرج نحوه عن ابن جريج والسدي وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله إنه ضربني، فأثر في وجهي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس له ذلك" فأنزل الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ...} الآية، فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا. التفسير وأوجه القراءة 32 - {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: لا تغتبطوا أيها المؤمنون كون ما فضل الله وخص به بعضكم، ورفعه به على بعض آخر من الأمور الدنيوية أو الدينية، كالجاه والمال والعلم والطاعة لأنفسكم، ولا تنافسوا فيه؛ لأن ذلك (¬1) التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قُسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثلما لغيره، وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه. والتمني (¬2): هو التعلق بحصول أمر في المستقبل عكس التلهف؛ لأنه التعلق بحصول أمر في الماضي، فإن تعلق بانتقال ما لغيره له، أو لغيره مع زواله عنه، فهو حسد مذموم، وهو المعني بقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وفي ذلك قال الإِمام أحمد بن حنبل: ألاَ قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِيْ حَاسِدَا ... أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأتَ الأدَبْ ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) صاوي.

أَسَأتَ عَلَى اللهِ في فِعْلِهِ ... كَأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِي ... وَسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيْقَ الطَّلَبْ وإن تعلق بمثل ما لغيره مع بقاء نعمته، فإن كان تقوى أو صلاحًا، أو إنفاق مال في الخير .. فهو مندوب، وهو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الخير، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها الناس" وأما إن تمنى المال لمجرد الغنى .. فهو جائز. قال ابن عباس (¬1): لا يتمنى الرجل مال غيره، ودابته وامرأته ولا شيئًا من الذي ثبت له، كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس، وذلك هو الحسد المذموم؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد، متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وقولوا: اللهم ارزقنا مثله أو خيرًا منه مع التفويض. قيل: نزلت هذ الآية في حق أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال، فنهى الله عن ذلك، وقال: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ}؛ أي: الرجال {عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: النساء، من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بين الله ثواب كل من الرجال والنساء باكتسابهم فقال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}؛ أي: حظ من الثواب والأجر {مِمَّا اكْتَسَبُوا}؛ أي: على ما اكتسبوا، وعملوا من الخيرات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفقة على النساء. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}؛ أي: ثواب {مِمَّا اكْتَسَبْنَ}؛ أي: على ما عملن من الخيرات في بيوتهن، كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن، وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز، وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والارضاع. أي: إن الله (¬2) سبحانه وتعالى كلف كلًّا من الرجال والنساء أعمالًا، فما ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) المراغي.

كان خاصًّا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركم فيه النساءُ، وما كان خاصًّا بالنساء لهن نصيب من أجره، لا يشاركهن فيه الرجال، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر، وقد أراد أن يختص النساء بأعمال البيوت، والرجالُ بالأعمال الشاقة التي في خارجها، ليتقن كل منهما عمله، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص. وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة، والقوة على ما نيط به من عمل، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر، ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية، كالعقل والجمال؛ إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية؛ إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون، ويتمنوا لأنفسهم مثله أو خيرًا منه بالسعي والجد. والخلاصة: أنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار والأفكار إلى ما يقع تحت كسبنا، ولا نوجهها إلى ما ليس في استطاعتنا، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية، فلا تتمنوا شيئًا بغير كسبكم وعملكم، فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه، بالجد والاجتهاد، مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه، إما للجهل به وإما للعجز عنه، فالزارع مثلًا يجتهد في زراعته، ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله تعالى لعمله، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه. روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون والمؤمنات ما احتجتم إليه من حوائج الدين والدنيا، يعطكم {مِن} خزائن {فَضْلِهِ} وإحسانه وإنعامه، فإن خزائنه مملوءة لا تنفذ، ولا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم. قال الفخر الرازي (¬1): قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} تنبيه على أن ¬

_ (¬1) الفخر الرازي.

[33]

الإنسان لا يجوز له أن يعين شيئًا في الطلب والدعاء، ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببًا لصلاحه في دينه ودنياه، على سبيل الإطلاق انتهى. وقد ورد في الحديث (¬1): "لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل: اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سلوا الله من فضله فالله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج". وقرأ ابن كثير والكسائي (¬2): {وسلوا} بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمرًا للمخاطب وقبل السين واو أو فاء، نحو {فسل الذين يقرؤون الكتاب} و {فسلوا أهل الذكر}، وقرأ باقي السبعة بالهمز. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ} - ومنه محل فضله وسؤالكم - {عَلِيمًا}؛ أي: عالمًا به، ولذلك جعل الناس على طبقات، فرفع بعضهم على بعض درجات بحسب مراتب استعدادهم، وتفاوت اجتهادهم في معترك الحياة، ولا يزال العاملون يستزيدونه، ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى، حتى بلغ التفاوت بين الناس في الفضل حدًّا بعيدًا، وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان؛ أي: فإنه (¬3) تعالى هو العالم بما يكون صلاحًا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل، وليحترز في دعائه عن التعيين، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر. 33 - {وَلِكُلٍّ} إنسان {جَعَلْنَا مَوَالِيَ}؛ أي: أولياء وأقارب ورثة يرثون {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}؛ أي: يرثون من المال الذي تركه الوالدان والأقربون إن ماتوا، فيكون الوالدان والأقربون موروثين لا وارثين، وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ مبتدأ خبره {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}؛ أي: والحلفاء الذين عقدتم لهم عقد ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

الحلف والنصرة وصافحت أيمانكم أيمانهم عند العقد، فآتوهم وأعطوهم الآن؛ أي: في صدر الإِسلام نصيبهم وحظهم الذي تعطونهم في الجاهلية وهو السدس، وكان الحليف في الجاهلية يرث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وهذا التفسير مرويٌّ عن ابن عباس. وقيل معنى الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ}؛ أي: ولكل (¬1) من الرجال الذين لهم نصيبٌ مما اكتسبوا، ومن النساء اللاتي لهن نصيب مما اكتسبن جعلنا موالي مما ترك؛ أي: أقارب وأولياء لهم حق الولاية على ما يتركونه من كسبهم ومالهم ويرثونه منهم، ثم بيَّن هؤلاء الموالي فقال: {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ أي: أولئك الموالي الذين يرثون كلًّا من الفريقين هم الوالدان والأقربون والأزواج، الذين عقدت لهم أيمانكم؛ أي: إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة، من الأصول والفروع والحواشي والأزواج الذين عقدت أيمانكم، فإن كلًّا من الزوجين له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون المصافحة باليدين، قاله أبو مسلم الأصفهاني. {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}؛ أي: فأعطوهم هؤلاء الموالي نصيبهم المقدر لهم، ولا تنقصوهم منه شيئًا، وقيل: إن (¬2) لفظة كل واقعة على تركة، ومما ترك بيان لـ (كل)، والمعنى: ولكل تركة كائنة مما ترك الوالدان والأقربون، ومما ترك الزوج والزوجة الذين عقدت أيمانكم جعلنا موالي وورثة متفاوتة في الدرجة، يلونها ويحرزون منها أنصبائهم بحسب استحقاقهم، فالمراد بالذين عقدت أيمانكم الأزواج والزوجات، فالنكاح يسمى عقدًا، وهو قول أبي مسلم الأصفهاني. ويصح (¬3) أن تكون جملة جعلنا موالي صفة لكل، والضمير الراجع إليه محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، والمعنى حينئذ: ولكل قوم جعلناهم وارثًا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين، مما ترك المورثون، فآتوهم نصيبهم من الميراث. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) مراح.

[34]

وقيل: المراد من قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الحلفاء، وبقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة، فقوله: {وَالَّذِينَ} مبتدأ متضمن معنى الشرط، خبره {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، وعلى هذه الوجوه فليست الآية منسوخة، بخلاف ما لو حمل الذين عقدت أيمانكم على الحلفاء في الجاهلية، وقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} على الميراث وهو السدس، فالآية حينئذ منسوخة بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، وكذا لو حمل على مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو على الأبناء الأدعياء. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أعمالكم وغيرها {شَهِيدًا}؛ أي: مطلعًا عالمًا بها، فهو عالم الغيب والشهادة؛ أي: إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم في التركة وغيرها، فلا يطمعنَّ من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئًا، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، كبيرًا أم صغيرًا، وجاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين في نصيب بعض. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بالألف والمفعول محذوف؛ أي: عاقدتهم أيمانكم، وقرىء {عَقَدَت} بغير ألف، والمفعول محذوف أيضًا هو والعائد تقديره: عقدت حلفهم أيمانكم، وروي عن حمزة أنه قرأ: {عقّدت} بتشديد القاف على التكثير؛ أي: والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف. 34 - {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ}، أي: مسلطون {عَلَى} تأديب {النِّسَاءِ} تسليط الولاة على الرعايا {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل، وحسن التدبير ورزانة الرأي، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذِلك خُصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في جميع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك، لكون الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، ومنه زيادة النصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب، فكل هذا يدل على فضل الرجال على ¬

_ (¬1) عكبري وشوكاني.

النساء، {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: وبسبب إنفاقهم عليهن من أموالهم في المهور والنفقات ومؤن النساء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد .. لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" أخرجه الترمذي. أي: إن من (¬1) شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهن؛ لأن ذلك من أخص شؤون الحماية، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن؛ لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن، وسبب هذا: أن الله فضل الرجال على النساء في الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم، فإن في المهور تعويضًا للنساء، ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال، وقبول القيامة عليهن نظير عوض مالي يأخذنه؛ كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. والمراد بالقيام: الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادة الرئيس واختياره؛ إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة في تنفيذ ما يرشد إليه وملاحظة أعماله، ومن ذلك حفظ المنزل، وعدم مفارقته إلا بإذنه، ولو لزيارة القربى وتقدير النفقة فيه، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته، والمرأة هي التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه ويناسب حاله سعة وضيقًا. ولقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها ومختلف شؤونها يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية، وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال، وهي آمنة في سربها، مكفية ما يهمها من أمور أرزاقها. ثم فصل حال النساء في الحياة المنزلية، التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل، فذكر أنها قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فذكر القسم الأول بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ}؛ أي: فالنساء اللاتي يراعين حقوق الله وحقوق العباد، {قَانِتَاتٌ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

مطيعات لله ولأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}؛ أي: حافظات للسر الذي يجري بينهن وبين أزواجهن في الخلوة من الرفث - الجماع - والشؤون الخاصة بالزوجية، لا يطلعن أحدًا على ذلك السر، ولو قريبًا، وبالأولى يحفظن العرض من يد تلمس أو عين تبصر أو أذن تسمع، أو حافظات لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهن عنهن، من حفظ نفوسهن وأموالهم، {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}؛ أي: بسبب تحفيظ الله إياهن ذلك السر، وأمره إياهن بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى، أو حافظات لغيب أزواجهن بحفظ الله لهن ومعونته وتسديده، أو حافظات بما استحفظهن الله من أداء الأمانة إلى أزواجهن، على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة، وقرأ أبو جعفر: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} بنصب الاسم الشريف على حذف المضاف؛ أي: بسبب حفظهن حدود الله وأوامره، وفي الآية: أكبر زجر وعظة لمن تتفكه من النساء بإفشاء الأسرار الزوجية، ولا تحفظ الغيب فيها، وفي الحديث: "إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه". وكذلك: عليهن أن يحفظن أموال الرجال، وما يتصل بها من الضياع، روى ابن جرير والبيهقي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها". وقرأ الآية. وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب، إذ لا يوجد ما يدعو إليه، وإنما سلطانهم على القسم الثاني، الذي ذكره الله تعالى، وذكر حكمه بقوله: {و} النساء {اللاتي تخافون نشوزهن}؛ أي: تظنون عصيانهن لكم وخروجهن عن طاعتكم، برؤية أمارات النشوز عليها، قولًا كأن كانت تلبيه أولًا إذا دعاها، وتخضع له إذا خاطبها، فرفعت عليه صوتها، أو لم تجبه إذا دعاها أو فعلًا كأن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها، فرأى منها خلاف ذلك، أو تعلمون نشوزهن كأن دعاها إلى فراشه فأبت منه بغير عذر، {فَعِظُوهُنَّ}؛ أي: فانصحوا لهن بالترهيب والترغيب، وذكروهن بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخوفوهن عقوبة الله على النشوز، كأن يقول لها: اتقي الله وخافيه، فإن لي عليك حقًّا وارجعي عما

أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك، ونحو ذلك فإن أصرت على ذلك .. هجرها في المضجع، كما قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}؛ أي: وأعرضوا عنهن في المراقد والمفارش، وحولوا عنهن وجوهكم في المضاجع، فلا تدخلوهن تحت اللحاف إذا حققتم منهن النشوز، ولم ينفعهن الوعظ والنصيحة بالقول، فإن أصرف على النشوز بعد الوعظ والهجران .. ضربها ضربًا غير مبرح، كما قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} إن لم ينجح الهجران ضربًا لا يكسر عظمًا، ولا ينهر دمًا، ولا يورث شينًا، والأولى ترك الضرب كما يستفاد من الأحاديث الصحيحة. عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: "قلتُ يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". أخرجه أبو داود، قوله: "ولا تقبح"؛ أي: لا تقل قبحك الله. وعن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها - أو قال يضاجعها - من آخر اليوم" متفق عليه. وعن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، وذكر في الحديث قصة فقال: "ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما من عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا". أخرجه الترمذي، بزيادة قوله: "عوان" جمع عانية؛ أي: أسيرة، شبه المرأة ودخولها تحت أمر زوجها بالأسير، والضرب المبرح: الشديد الشاق. وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته". أخرجه أبو داود. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها .. لعنتها الملائكة حتى تصبح". متفق عليه.

وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فأبت عليه .. إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها". وفي رواية: "إذا باتت مهاجرة فراش زوجها .. لعنتها الملائكة حتى تصبح". وفي أخرى "حتى ترجع". وعن طَلْقِ بن علي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجة، فلتأته وإن كانت على التنور" أخرجه الترمذي. وله عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا". وله عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة". {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ}؛ أي؛ فإن رجعْن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}؛ أي: فلا تطلبوا عليهن طريقًا إلى الضرب والهجران، على سبيل التعنت والإذاية، ولا تتعرضوهن بما وقع من النشوز، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. أو المعنى: فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية .. فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها، فابدؤوا بما بدأ الله به، من الوعظ ثم الهجر ثم الضرب ثم التحكيم، ومتى استقام لكم ظاهر حالها .. فلا تبحثوا عما في سرائرها من الحب والبغض. ثم هدد وخوف من يظلم النساء ويبغي عليهن فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {كَانَ عَلِيًّا}؛ أي: متصفًا بجميع صفات الكمال {كَبِيرًا}؛ أي: متنزهًا عن جميع النقائص، والمعنى: إن الله تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم ما لا تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن ما لا طاقة لهن من المحبة، وأنه تعالى مع ذلك يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند طاعتهن لكم. فكأنه يقول لهم: إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم

عليهن .. عاقبكم، وإن تجاوزتم عن هفواتهن كرمًا .. تجاوز عنكم، وكفر عنكم سيئاتكم. وليس بخاف أن الرجال الذين يستذلون نسائهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم؛ إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه، ولا يكون في نفوسهم شيء من الكرامة ولا من الشمم والإباء، وأمّة تُخرج أبناءً كهؤلاءِ إنما تُربي عبيدًا أذلاء، لا يقومون بنصرتها، ولا يغارون لكرامتها، فما أحراهم بأن يكونوا قطعانًا من الغنم تزدجِرُ من كل راع، وتستجيب لكل ناعق. استدراك في معنى قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ...} الآية: والحاصل: أن اللاتي (¬1) تأنسون منهن الترفع، وتخافون أن لا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه .. فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي: 1 - أن تبدؤوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر في نفوسهن، فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب الله وغضبه، ومنهن من يؤثر في أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا، كشماتة الأعداء، ومنعها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك. وعلى الجملة: فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع في قلب امرأته، فإن لم يجد ذلك .. فله أن يجرب: 2 - الهجر والإعراض في المضجع، ويتحقق ذلك بهجرها في الفراش مع الإعراض والصد، وقد جرت العادة بأن الاجتماع في المضجع يهيج شعور الزوجية، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول ما كان في نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك، فإذا هو فعل ذلك .. دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة، فإن لم يفد ذلك .. فله أن يجرب: ¬

_ (¬1) المراغي.

[35]

3 - الضرب غير المبرح؛ أي: غير المؤذي إيذاء شديدًا كالضرب باليد أو بعصا صغيرة. وقد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستعظمون أن تنشز وتترفع هي عليه، فتجعله وهو الرئيس مرؤوسًا محتقرًا، وتُصر على نشوزها، فلا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، فإن كان قد ثقل ذلك عليهم .. فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نسائهم العالمات المهذبات، بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وملوكهم وأمراؤهم، فهو ضرورة لا يستغنى عنها، ولا سيما في دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر، وكيف يُستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه، إذا فسدت البيئة - الحالة - وغلبت الأخلاق الفاسدة، ولم ير الرجل مناصًا منه، ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به. لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة، أو يزدجرن بالهجر .. وجب الاستغناء عنه؛ إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء، واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بمعروف. والخلاصة: أن الضرب علاج مُرٌّ قد يستغني عنه الخير الكريم، ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء، وعرف كلٌّ ما له من الحقوق، وكان للدين سلطان على النفوس، يجعلها تراقب الله في السر والعلن، وتخشى أمره ونهيه. 35 - ثم بين الطريق السوي الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق، فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} والخطاب فيه لولاة الأمور، وصلحاء الأمة؛ أي: وإن علمتم أيها الولاة، أو أيها المؤمنون شقاقًا، ومخالفة واقعة بين الزوجين، ولم تعلموا من أيهما الشقاق .. {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}؛ أي: فأرسلوا أيها الولاة أو المؤمنون برضى الزوجين - وجوبًا - إلى الزوج رجلًا عَدْلًا عارفًا بالحكم ودقائق الأمور، كائنًا من أقارب الزوج ندبًا؛ لأن الأقارب أعرف

بحاله من الأجانب، وأشد طلبًا للإصلاح بينهما، ولأن قلبه أسكن إليهم إن وجد منهم، إلا فمن الأجانب يستكشف عن حاله ليعلم أهو ظالم أو مظلوم، وأرسلوا إلى الزوجة رجلًا عدلًا عارفًا بالحكم من أقاربها، يستكشف عن حالها؛ ليعلم أهي ظالمة أو مظلومة، ثم بعد استكشاف الحكمين ما عند الزوجين يجتمعان، ويتشاوران فيما هو الأصلح للزوجين من الموافقة إن أمكنت، أو المفارقة إن لم تمكن الموافقة، ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه وتوكل هي حكمها في الاختلاع فيجتهدان، ويأمران الظالم بالرجوع، أو يفرقان إن رأيا في الفراق مصلحة، كما قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا}: إن قصد الحكمان إصلاحًا، وتوفيقًا بين الزوجين، وقطعًا لخصومتهما .. {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}؛ أي: أوقع الله سبحانه وتعالى الموافقة بين الزوجين؛ أي: إن كانت نية الحكمين صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى .. أوقع الله الموافقة بين الزوجين، إما على الاجتماع، أو على الفراق، ببركة نية الحكمين، وسعيهما في الخير، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَلِيمًا} بموافقة الزوجين ومخالفتهما {خَبِيرًا} ببواطن الزوجين، وسرائرهما كظواهرهما، فيعلم كيف يوفق بين المختلفين، ويجمع بين المتفرقين، وفيه وعد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق. وعبارة المراغي في هذه الآية قوله (¬1): {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ...} الآية، هذا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما، فإن قاموا بذلك فذاك، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى في إصلاح ذات بينهما، والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة، وقد يكون بظلم الرجل، إن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب أنواع التأديب التي ذكرت في الآية التي سلفت، وإن كان بالثاني، وخيف من تمادي الرجل في ظلمه، أو عجز عن إنزالها عن نشوزها، وخيف أن يحول ¬

_ (¬1) المراغي.

الشقاق بينهما دون إقامتهما لأركان الزوجية الثلاث، من السكون والمودة والرحمة .. وجب على الزوجين وذوي القربى أن يبعثوا الحكمين، وعليهم أن يوجهوا إرادتهم إلى إصلاح ذات البين، ومتى صدقت الإرادة، وصحت العزيمة. فالله كفيل بالتوفيق بفضله وجوده. وبهذا تعلم شدة عناية الله بأحكام نظام الأسر والبيوت، وكيف لم يذكر مقابل التوفيق وهو التفريق؛ لأنه يبغضه، ولأنه يود أن يشعر المسلمين بأنه لا ينبغي أن يقع. ولكن واأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلًا حتى دب الفساد في البيوت، ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء، ففتك بالأخلاق والآداب وسرى من الوالدين إلى الأولاد، ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة؛ لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده، فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}؛ أي: إنَّ هذه الأحكام التي شرعت لكم كانت من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم، خبير بما يقع بينهم وبأسبابه، ما ظهر منها وما بطن، ولا يخفى عليه شيء من وسائل الأصلاح بينهما. وفي الآية: إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف، وإن ظن أنه مستعص يتعذر علاجه .. فقد يكون في الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة، يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين؛ لقربهما منهما أن يمحصا ما علق من أسبابه بقلوبهما، فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة. ولتعلم - أيها المؤمن - أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر، فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادية ومعنوية، وبها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها، فيحاسبه على فلتات اللسان، وبالظنة والوهم وخفايا خلجات القلب، فيغريهما ذلك بالتنازع في كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما، وما أكثرها وأعسر التوقي منها، وكثيرًا ما يفضي التنازع إلى التقاطع، والعتاب إلى الكره والبغضاء، فعليك أن تكون حكيمًا في معاملة الزوجة، خبيرًا بطباعها، وبهذا تحسن العشرة بينكما، انتهى.

الإعراب {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}. {وَلَا تَتَمَنَّوْا}: الواو عاطفة أو استئنافية. {لا تتمنوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} أو مستأنفة. {مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ}: ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {فَضَّلَ اللَّهُ} فعل وفاعل {بِهِ} متعلق به، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به، {بَعْضَكُمْ}: مفعول {فَضَّلَ} ومضاف إليه. {عَلَى بَعْضٍ}: جار ومجرور متعلق بفضل، {لِلرِّجَالِ} جار ومجرور خبر مقدم، {نَصِيبٌ}: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة، {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبٌ}، {اكْتَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما اكتسبوه. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله؛ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}، {مِمَّا اكْتَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما اكتسبنه، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقدير: حوائجكم. {مِنْ فَضْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باسألوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا}، {إِنَّ} حرف نصب، {اللَّهَ} اسمها، {كاَنَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله، {بِكُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عَلِيمًا}، وهو خبر كان، وجملة كان في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. {وَلِكُلٍّ}: الواو استئنافية {لكل} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والتنوين في {كل} عوض عن كلمة محذوفة، أي: لكل قوم {جعلنا} صفة لقوم، ومفعول {جعلنا} الأول محذوف، أي جعلناهم. {مَوَالِيَ}: مفعول

ثان لـ {جَعَلْنَا}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {مَوَالِيَ}. {تَرَكَ الْوَالِدَانِ}: فعل وفاعل. {وَالْأَقْرَبُونَ}: معطوف على {الْوَالِدَانِ}، الجملة الفعلية صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما تركه الوالدان والأقربون، والتقدير: وجعلنا موالي وأقرباء يرثون مما تركه الوالدان والأقربون لكل إنسان، وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب فلا نطيل الكلام بذكرها. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره عاقدت حلفهم أيمانكم، {فَآتُوهُمْ}: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. {أتوهم}: فعل وفاعل ومفعول أول، {نَصِيبَهُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدًا}، وهو خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. {عَلَى النِّسَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَوَّامُونَ}، {بِمَا}: {الباء} حرف جر. {ما}: مصدرية. {فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، {عَلَى بَعْضٍ}: متعلق بـ {فَضَّلَ}، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره بتفضيل الله بعضهم على بعض، والجار والمجرور متعلق بـ {قَوَّامُونَ}، {وَبِمَا أَنْفَقُوا}: الواو عاطقة، {بِمَا}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ}، {أَنْفَقُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره وبما أنفقوه.

{مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف. {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}. {فَالصَّالِحَاتُ}: {الفاء}: استئنافية بمعنى الواو، {الصالحاتُ}: مبتدأ، {قَانِتَاتٌ}: خبر والجملة مستأنفة، {حَافِظَاتٌ}: خبر ثان، {لِلْغَيْبِ}: متعلق به، {بِمَا}: الباء حرف جر، {ما}: مصدرية، {حَفِظَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، وتقديره: بحفظ الله؛ أي: بتحفيظ الله إياهن، والجار والمجرور متعلق بـ {حافظات}. {وَاللَّاتِي}: الواو عاطفة، {اللاتي}: مبتدأ، {تَخَافُونَ}: فعل وفاعل، {نُشُوزَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، {فَعِظُوهُنَّ}: {الفاء} رابطة الخبر، {عظوهن}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {فَالصَّالِحَاتُ}، {وَاهْجُرُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {فَعِظُوهُنَّ}، وكذلك جملة {وَاهْجُرُوهُنَّ} معطوفة عليها. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ}؛ {الفاء} فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا نشزن، وأردتم بيان حكم ما إذا أطعنكم .. فأقول لكم: {إن} أطعنكم: {إنْ}: حرف شرط، {أَطَعْنَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن}. {فَلَا تَبْغُوا} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية. {لَا}: ناهية جازمة، {تَبْغُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة في محل الجزم على كونها جوابًا لها. {عَلَيْهِنَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَبْغُوا}. {سَبِيلًا}: مفعول به، وجملة إن الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله، {عَلِيًّا}: خبر أول

لها، {كَبِيرًا} خبر ثان، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}. {وَإِنْ}: الواو استئنافية، {إن} حرف شرط، {خِفْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بإن، {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}: مفعول به ومضاف إليه، {فَابْعَثُوا}: الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، {ابعثوا}؛ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة إن الشرطية: مستأنفة. {حَكَمًا}: مفعول به، {مِنْ أَهْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {حَكَمًا}. {وَحَكَمًا} معطوف على {حَكَمًا} الأول، {مِنْ أَهْلِهَا}: صفة لـ {حَكَمًا}. {إِنْ}: حرف شرط، {يُرِيدَا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {إِصْلَاحًا}: مفعول به، {يُوَفِّقِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بإن على كونه جوابًا لها، {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُوَفِّقِ}، وجملة {إن}: الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: {إِنَّ} حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الله، {عَلِيمًا}: خبر أول لكان، {خَبِيرًا} خبر ثان لها، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، {تَتَمَنَّوْا}: مضارع تمنى يتمنى تمنيًّا، من باب تفعل الخماسي، والتمني (¬1): تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون، وبما لا يكون، وقيل التمني: تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون بلا روية، وأكثر التمني ما لا حقيقة له، وقيل: التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وفضله: إحسانه ونعمه المتكاثرة، {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} الموالي من يحق لهم الاستيلاء على التركة، واحده مولى، والمولى: الابن والعم وابن الابن وابن العم وكل قريب وعاصب. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} القوامون: جمع تصحيح لقوام، يقال هذا قيم المرأة وقوامها إذا كان يقوم بأمرها، ويهتم بحفظها، والقوام: هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يقال: فضله على غيره إذا حكم له بالفضل عليه، وصيره أفضل منه، والفضل: الزيادة والدرجة، يجمع على فضول، وما به الفضل قسمان: فطري: وهو قوة مزاج الرجل وكماله في الخلقة، ويتبع ذلك قوة العقل، وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها. وكسبي: وهو قدرته على الكسب والتصرف في الأمور، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل، {قَانِتَاتٌ} جمع قانتة، اسم فاعل من القنوت، وهو السكون والطاعة لله وللأزواج، {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}؛ أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس، ولا يقال إلا في حال الخلوة بالمرأة، كشؤون الجماع والاستمتاع فلا تخبرنه للناس، والغيب: السر يجمع على غياب وغيوب. {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}؛ أي (¬1): تظنون، فالخوف هنا بمعنى الظن، وربما يأتي بمعنى العلم، أصل النشوز الارتفاع إلى الشرور، ونشوز المرأة: بغضها لزوجها، وعصيانها لأمره، ورفع نفسها عليه تكبرًا، وعبارة أبي السعود: النشوز من النشز وهو المرتفع من الأرض، يقال: نشزت الأرض إذا ارتفعت عما حواليها، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}: يقال: هجره يهجره هجرًا وهجرانًا - من باب نصر - إذا صرمه وقطعه، ضد وصله، وهجر الشيء: تركه وأعرض عنه، وهجر زوجه: اعتزل عنها ولم يطلقها، و {المضاجع}: على زنة مفاعل، جمع مضجع - بفتح الجيم - موضع الضجوع، {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}: فيه وجهان (¬2): ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الجمل.

أحدهما: أن الشقاق مضاف إلى بين ومعناها الظرفية، والأصل شقاقًا بينهما، ولكنه اتسع فيه، فأضيف الحدث إلى ظرفه، وظرفيته باقية، نحو {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}. والثاني: أنه خرج عن الظرفية وبقي كسائر الأسماء، كأنه أريد المعاشرة والمصاحبة بين الزوجين، وقال أبو البقاء: البين هنا الوصل الكائن بين الزوجين، وسمي الخلاف شقاقًا؛ لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه، أو لأن كلا منهما صار على شق؛ أي: جانب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من المعاني والبيان والبديع: منها: الإطناب في قوله: {نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} و {نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}، وفي قوله: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مِمَّا اكْتَسَبُوا}؛ لأنه شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب، واشتق من لفظ الاكتساب بمعنى الاستحقاق، اكتسبوا بمعنى استحقوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الكناية في قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فقد كنى بذلك عن الجماع. ومنها: التأكيد بصيغة المبالغة في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ}؛ لأن فعال من صيغ المبالغة، ومجيء الجملة اسمية لإفادة الدوام والاستمرار. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما كان الكلام (¬1) من أول السورة إلى هنا في وصايا عديدة، ونصائح حكيمة، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن، تارة بالموعظة الحسنة، وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عَزَّ وَجَلَّ في كل ذلك .. ناسب بعدها التذكير بحسن معاملة الخالق، بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة، مع قصد التقرب إلى الله تعالى، لا لقصد الفخر والخيلاء؛ لأن ذاك عمل ¬

_ (¬1) المراغي.

من لا يرجو ثواب الله تعالى، ولا يخشى عقابه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى صفات المتكبرين وسوء أحوالهم، وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد .. زاد الأمر توكيدًا وتشديدًا .. فذكر أنه لا يظلم أحدًا من العاملين بوصاياه لا قليلًا وكثيرًا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر والإحسان، وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}. وفي "الفتوحات" قوله (¬1): {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه، ثم وبخ من لم يؤمن ولم ينفق في طاعة الله، وكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات .. أخبر تعالى بصفة عدله، وأنه تعالى لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما وصف الله سبحانه وتعالى الوقوف بين يديه يوم العرض، والأهوال التي تؤدي إلى تمني الكافر العدم، فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم الله حديثًا، وذكر أنه لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان بالله والطاعة لرسوله .. وصف في هذه الآية الوقوف بين يديه في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلي الأعلى بأن لا تكون مشغولة بذكرى غيره، طاهرة من الأنجاس والأخباث؛ لتكون على أتم العدة للوقوف في ذلك الموقف الرهيب، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء. ¬

_ (¬1) الجمل.

أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ...} الآية. وأخرج ابن جرير من طرق ابن إسحاق، عن محمَّد بن أبي محمَّد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالًا من الأنصار، يخالطونهم وينصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} إلى قوله {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي قال: نزلت هذه الآية {وَلَا جُنُبًا} في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. وأخرج بن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحِّل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[36]

وَأَنْتُمْ سُكَارَى ...} الآية كلها. وأخرج الطبراني عن الأسلع قال: "كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرحل له، فقال لي ذات يوم: يا أسلع قم فأرحل، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتاه جبريل بآية الصعيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم يا أسلع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت ثم رحلت له". وأخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب: أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، فأنزل الله قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ ...}. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضًا، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم يناوله، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال (¬1): نال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ...} الآية كلها. التفسير وأوجه القراءة 36 - {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها الناس، بقلوبكم وجوارحكم: أي؛ أطيعوه فيما أمر به ونهى عنه، {وَلَا تُشْرِكُوا} شركًا جليًّا ولا خفيًّا {بِهِ} سبحانه وتعالى، {شَيْئًا} من الأشياء، سواء أكان جمادًا كالصنم، أو حيوانًا حيًّا أو ميتًا، فقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} أمر بالطاعة، وقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ} أمر بالإخلاص في العبادة فالثاني تأسيس لا تأكيد كما قيل. فعبادة الله (¬2): هي الخضوع له، وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، وأمارة ذلك: العمل بما به أمر، وترك ما ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

عنه نهى، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال، فالعبادة هي الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة، يرجى خيرها، ويخشى شرها، وهذه السلطة لا تكون لغير الله تعالى، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها .. كان مشركًا، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه .. فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى. وقيل (¬1): العبودية أربعة أنواع: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. والإشراك بالله ضروب مختلفة (¬2): منها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام، باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله، يقربون المتوسل بهم إليه، ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ومنها: ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}. والخلاصة: وأخلصوا لله في العبادة، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا؛ لأن من عبد مع الله غيره، أو أراد بعمله غير الله .. فقد أشرك به، ولا يكون مخلصًا. وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له: عفير، أو اسمه يعفور، فقال: "يا معاذ، هل تدري ما حق الله ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم؛ فيتكلوا" متفق عليه. إنما قال: لا تبشرهم فيتكلوا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك أصلح لهم، وأحرى أن لا يتكلوا على هذه البشارة، ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة، وبعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له، أعقبه بالوصية بالوالدين، فقال: {و} أحسنوا {بالوالدين إحسانًا} وبرًّا وعطفًا بالقيام بخدمتهما، وبالسعي في تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر الطاقة، وبعدم رفع الصوت عليهما، وعدم تخشين الكلام معهما، وعدم شهر السلاح عليهما، وعدم قتلهما، ولو كانا كافرين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى حنظلة عن قتل أبيه أبي عامر الراهب وكان مشركًا. وعن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك أحد باليمن؟ " فقال أبواي فقال: "أبواك أذنا لك؟ " فقال: لا، فقال: "فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". متفق عليه. وفي رواية قال: "أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك"، قوله: "ثم أباك" فيه حذف تقديره: ثم بر أباك. وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة". وإنما قرن الله سبحانه وتعالى بر الوالدين بعبادته وتوحيده .. لتأكد حقهما على الولد.

والمعنى: أحسنوا بهما، ولا تقصروا في شيء مما يطلبانه؛ لأنهما السبب الظاهر في وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصلت هذه الوصية في سورة الإسراء بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}. والخلاصة: أنَّ العبرة بما في نفس الولد، من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط أن لا يحد الوالدان من حرية الولد واستقلاله في شؤونه الشخصية أو المنزلية، ولا في الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد في شيء من ذلك .. فليس من البر العمل برأيهما اتباعًا لهواهما. {و} أحسنوا وصلوا {بِذِي الْقُرْبَى}؛ أي: أحسنوا إلى صاحب القرابة لكم، وهو ذو رحمه من قبل أَبيه وأمه، كأخ وعم وخال وغيرهم، وكرر الباء إشارة إلى تأكد حق الرحم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره .. فليصل رحمه". متفق عليه. قوله: ينسأ له في أثره يعني: يؤخر له في أجله وعمره، والمعنى: وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله، فصحت عقيدته، وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين .. صلح البيت، وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت .. كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوي القربى الذين ينسبون إليهم .. كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمد يد المعونة لمن هو في حاجة إليها، ممن ذكروا بعد في قوله: {و} أحسنوا إلى {اليتامى} بالرفق بهم، وبمسح رأسهم، وبتربيتهم وحفظ أموالهم. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئًا". أخرجه البخاري.

وإنما أمر بالإحسان إليهم؛ لأن اليتيم قد فقد الناصر المعين وهو الأب مع صغره، وقلما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة، فعلى القادرين أن يعاونوا في تربيته، وإلا كان وجوده جناية وثقلًا على الأمة؛ لجهله وفساد أخلاقه، وكان خطرًا على من يعاشرهم من لداته، وجرثومة فساد بينهم، ومعلوم أن اليتامى جمع يتيم، وهو صغير لا أب له، وإن كان له جد وأم كما سبق في البقرة. {و} أحسنوا إلى {المساكين} بالصدقة، أو بالرد الجميل، وهو جمع مسكين، وهو من التصقت يده بالتراب، فيشمل الفقير، وإنما أمر بالإحسان إليهم؛ لأنه لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم، وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالًا عليه. والمساكين ضربان: مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز، أو نزول آفة سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسد عوزه، ويستعين به على الكسب. ومسكين غير معذور في تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر، فهم أولى بتقويم إعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله"، وأحسبه قال: "وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر". متفق عليه. {و} أحسنوا إلى {الجار ذي القربى}؛ أي: إلى الجار الذي قرب منكم جواره وداره، أو إلى الجار الذي له مع الجوار اتصال بكم في النسب، أوله (¬1) اتصال بكم في الدين، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإِسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق ¬

_ (¬1) الجمل.

الإِسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار فقط، وهو المشرك من أهل الكتاب". رواه البزار وغيره. وقرىء بالنصب (¬1) على الاختصاص تعظيمًا لحقه؛ لأن له ثلاثة حقوق: حق القرابة وحق الجوار وحق الإِسلام، كما قرئ {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} نصبًا على الاختصاص. {و} أحسنوا إلى {الجار الجَنْب}؛ أي: المجانب عنكم، أي البعيد داره عن داركم، أو الذي لا قرابة له منكم، فله حقان: حق الجوار وحق الإِسلام، وقرأ الأعمش والمفضل {والجار الجنب} بفتح الجيم وسكون النون؛ أي: ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمر جنب. ذكره الشوكاني. والجوار (¬2): ضرب من ضروب القرابة، فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر .. فلا خير فيهما لسائر الناس. وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين دارًا، من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور، وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك. وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإِسلام، وزاده الإِسلام تأكيدًا بما جاء في الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة، إلى نحو ذلك. وقد حث الدين على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم، وعن ابن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه". متفق عليه. وعن عائشة مثله. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما بابًا منك". رواه البخاري. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك". أخرجه مسلم. وفي رواية قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". متفق عليه. ولمسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، البوائق: الغوائل والشرور. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا نساء المؤمنات، لا تُحقِّرَنَّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة". متفق عليه. معناه: ولو أن تهدي إليها فرسن شاة: وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير. وعنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه. {و} أحسنوا إلى {الصاحب بالجنب}، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه الرفيق في السفر، والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، فهو إما رفيق في سفر، أو جار ملاصق، أو شريك في تعلم أو حرفة، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس، وقيل: هي المرأة، فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقيل: هو كل من صاحبته وعرفته، ولو وقتًا قصيرًا، فيشمل صاحب الحاجة

الذي يمشي بجانبك، يستشيرك أو يستعين بك. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. {و} أحسنوا إلى {ابن السبيل}؛ أي: إلى المسافر المنقطع عن بلده بالسفر، السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم. والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضًا، وهو أجدر بالعناية من اليتيم، وأحق بالإحسان إليه، وقد عني الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعم ضرهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم؛ لأن الله قد جعل في أموالنا حقًّا معلومًا للسائل والمحروم. وقال الأكثرون: المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه، وتحسن إليه؛ أي: وأحسنوا إلى الضيف بإكرامه، وله ثلاثة أيام حق، وما فوق ذلك صدقة. وعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه". وقال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه، زاد في رواية: "ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"، قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به"، قوله: "جائزته يومه وليلته" الجائزة: العطية؛ أي: يقري الضيف ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل، وقيل: هو أن يكرم الضيف، فإذا سافر .. أعطاه ما يكفيه يومًا وليلة، حتى يصل إلى موضع آخر، وقوله: أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه؛ أي: يوقعه في الإثم؛ لأنه إذا أقام عنده ولم يُقْرِهِ أثم بذلك.

{و} أحسنوا إلى {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم من عبيدكم وإمائكم، ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم، وهو أتم الإحسان وأكمله، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة، أو نجومًا وأقساطًا، وحسن معاملتهم في الخدمة، بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون، ولا يؤذون بقول ولا بفعل. وقيل: الآية (¬1) عامة فتشمل جميع الحيوانات من عبيد وإماء وغيرهم، فالحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، فعبر عنه بـ {ما}، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره. وقد روى الشيخان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده .. فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، وإن كلفتموهم .. فأعينوهم عليه". وقد أكد (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية بهم في مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: الصلاة: وما ملكت أيمانكم"، وقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بهؤلاء، حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم، ويجعلهم كالحيوانات المسخرة، ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال: {إِنَّ اللَّهَ}؛ أي: لا تفتخروا على هؤلاء المذكورين لأن الله سبحانه وتعالى: {لَا يُحِبُّ}؛ أي: يعاقب {مَنْ كَانَ مُخْتَالًا} في مشيته متكبرًا عن أقاربه الفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه لا يحسن عشرتهم، {فَخُورًا} بلسانه على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم والمال وغيرهما، فالمختال (¬3): المتكبر الذي تظهر أثار الكبر في حركاته وأعماله، والفخور المتكبر: الذي تظهر آثار الكبر في أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوًا بنفسه، واحتقارًا لغيره، والمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى؛ لأنه احتقر جميع الحقوق التي ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

أوجبها الله للناس، وأوجبها لنفسه، من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا له. فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام؛ لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه .. خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوي القربى لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه بر ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران. ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب، وجر الذيل بطرًا ومرحًا، قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورًا في غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة. روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس" بطر الحق: رده استخفافًا وترفعًا، وغمص الناس: احتقارهم والازدراء بهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره خيلاء". متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا". متفق عليه. وعنه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجِّل جمته، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة". متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل ممن

[37]

كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء .. خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة". أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم". متفق عليه. الفدادون: هم الفلاحون والحراثون، وأصحاب الإبل والبقر، المتكثرون منها، المتكبرون على الناس بهما. 37 - ثم بين الله سبحانه وتعالى المختال الفخور فقال: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} والأظهر أن الموصول منصوب على الذم، أو مرفوع على الذم، ويجوز أن يكون بدلًا من قوله كان مختالًا، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أحقاء بكل ملامة، أو كافرون، والأوضح من هذه الأوجه كلها أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: هؤلاء المختالون الفخورون هم الذين يبخلون ويمنعون الناس ما منحوا به من المال والعلم، ويأمرون الناس غيرهم بالبخل، والامتناع من أداء ما يجب عليهم أداؤه من المال والعلم، ويحثونهم عليه. روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس: كان جماعة من اليهود يأتون إلى الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ...} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} كما مر في أسباب النزول. والمراد بالبخل في الآية (¬1): البخل بالإحسان، الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام، وإلقاء السلام، والنصح في التعليم، وإنقاذ المشرف على التهلكة. وفي البخل أربع لغات: فتح الباء والخاء، وبها قرأ حمزة والكسائي، ¬

_ (¬1) المراغي.

[38]

وبضمهما وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر، وبفتح الباء مع سكون الخاء وبها قرأ قتادة وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ جمهور الناس. {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ}؛ أي: يخفون ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، {مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه من العلم والمال وسعة الحال، فيشمل اليهود الذين كتموا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما عندهم من العلم، والأغنياء الذين كتموا الغنى، وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال، {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وضع (¬1) الظاهر موضع المضمر، إشعارًا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله سبحانه وتعالى، ومن كان كافرًا لنعمة الله فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. أي وهيَّأنا (¬2) لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابًا يهينهم ويذلهم، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاءًا لهم على ما اقترفوا، وسماهم الله كفارًا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور، لا من المؤمن الشكور. وفي الحديث الذي رواه أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أنعم الله على عبده نعمة .. أحب أن يظهر أثرها عليه". 38 - قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوف على قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، ووجه ذلك (¬3): أن الأولين قد فرّطوا بالبخل، وبأمر الناس به، وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها؛ لمجرد الرياء والسمعة، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك، ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان باللهِ ولا باليوم الآخر. أي: وهم الذين يصرفون أموالهم في غير مصارفها، ليراهم الناس ويمدحوهم، ويقولوا فيهم: ما أسخاهم وما أجودهم، ولا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى، ولا يصدقون بوحدانية الله تعالى، ولا بمجيء المعاد الذي فيه جزاء الأعمال. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه". أخرجه مسلم. الرئاء والرياء والمراءاة سواء، والحاصل: أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وفريق يبذل المال لا شكرًا لله على نعمه، ولا اعترافًا لعباده بحق، بل ينفقونها مرائين الناس؛ أي: يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم، ويحمدوا فعلهم. والكبرياء كما تكون من شىء في نفس الشخص، تكون أيضًا بما يكون له من المال والنسب، والمرائي أقل شرًّا من البخيل؛ إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله في مقابلة ما يبذله لهم من مال، فكأنه رأى لهم عليه حقًّا عوضًا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه، وأما البخيل: فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئًا من الحقوق فهو يكلفهم تعظيمه وأمواله مدخرة في الصناديق. والمرائي بخيل في الحقيقة؛ إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه النفع العام ولا الخاص، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح، وإن كان الإنفاق ضارًّا، كالمساعدة على فسق أو فتنة .. فهو تاجر يشتري تعظيم الناس له، وتسخيرهم للقيام بخدمته. ومعنى قوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ أي: إن المؤمنين المرائين في إنفاقهم يثقون بما عند الناس، من المدح والثناء والتعظيم والإطراء، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه، فالله في نظرهم أهون من الناس، فمثل هؤلاء لا يعدون مؤمنين إيمانًا حقيقيًّا بالله، ولا باليوم الآخر، بل إيمانهم ضرب من التخيل، ليس له ما يؤيده من أثر في القلب، ولا إذعان للنفس فهم لا يعرفون الله، وإنما يسمعون

الناس يقولون قولًا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما في الأرض والسموات، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر، وأن هناك حياة أبدية .. لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة. ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائي: أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل، كأن يقول: إني على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهمًا في مصلحة كذا، فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهمًا. أما الثاني: فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب. فهؤلاء حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}؛ أي: ومن يكن الشيطان معينًا له في هذه الأفعال في الدنيا .. فساء قرينًا؛ أي: فبئس الصاحب له في النار هو، فإن الله تعالى يقرن مع كل كافر شيطانًا في سلسلة في النار؛ أي: إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان، وهو بئس الصاحب والخليل، والمقصد من هذا أن حالهم في الشر كحال الشيطان. وفي الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء في سيرته، وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله، وبيان أنهم شياطين يعِدون الفقر، وينهون عن العرف. أما القرين الصالح: فهو عون على الخير، مرغب فيه، منفر بسيرته ونصحه عن الشر، مبعد عنه، مذكر بالتقصير، مبصر بالعيوب، وكم أصلح القرين الصالح فاسدًا، وكم أفسد قرين السوء صالحًا، وفي "الفتوحات": لما ذكر الأوصاف المتقدمة من البخل، والأمر به، والكتمان والإنفاق رئاء الناس، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر .. ذكر سببها الذي تنشأ عنه وهو مقارنة الشيطان، ومخالطته وملازمته للمتصفين بالأوصاف المتقدمة، كما يؤخذ من "النهر" لأبي حيان.

[39]

39 - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: وما الذي يصيبهم من الضرر {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} ورسوله {و} بمجيء {اليوم الآخر} إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في العمل، {وَأَنْفَقُوا} في الخيرات {مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} تعالى ابتغاء وجه الله، وطلبًا لمرضاته، وإنما (¬1) قدم الإيمان هنا وأخره في الآية الأخرى؛ لأن القصد بذكره إلى التحضيض ههنا والتعليل ثمة. وفي هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم؛ إذ هم لو أخلصوا .. لما فاتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى، فكثيرًا ما يفوت المرائي ما يرمي إليه من التقرب إلى الناس، وامتلاك قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدًا يعرف ما عمل. فجهله جدير بأن يتعجب منه؛ لأنه جهل بالله، وجهل بأحوال الناس، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده .. لكان في هذا سعادته، فالإيمان سلوى من كل فائت، وفقده عرضة لليأس من كل خير، وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه في المصائب الصبر، الذي يخفف وقعها على النفس، وأكثره رحمة الله، التي بها تتحول النقمة إلى نعمة، بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب. وقد يبتلي الله المؤمن ويمتحن صبره، فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها، وقد يأنس بها أحيانًا؛ لعظم رجائه وصبره، وهذا وإن كان نادرًا فهو واقع حاصل، {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِهِمْ} وبأحوالهم المخفية {عَلِيمًا} يعني: لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة، فلا يثيبهم بما ينفقونه رئاء الناس، فينبغي للمؤمن أن يكتفي بعلم الله في إنفاقه، ولا يبالي بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين، ولا يظلمهم من أجرهم شيئًا. وفي هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية في معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضًا، ولكن المسلمين قصروا في اتباع هذه الأوامر، وأعرضوا عن مساعدة ذوي ¬

_ (¬1) الخازن.

[40]

القربى والجيران واليتامى والمساكين. 40 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَظْلِمُ} أحدًا {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}؛ أي: وزن نملة حمراء صغيرة، أي: لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا، ونظم هذا الكلام مع الذي قبله: وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا، فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرة، وقال ابن عباس: الذرة رأس نملة حمراء، وقيل: الذرة كل جزء من أجزاء الهباء، الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأقل الأشياء، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاءه. والخلاصة: أن الظلم لا يقع من الله تعالى؛ لأنه من النقص الذي يتنزه عنه، وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد شرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم، وهي تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر، وأيدها بالوعد والوعيد، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه .. كان هو الظالم لنفسه؛ لأن الله تعالى لا يظلم أحدًا. {وَإِنْ تَكُ}؛ أي: وإن يكن مثقال الذرة {حَسَنَةً} وأنث (¬1) الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث، وحذف النون من غير قياس تخفيفًا وتشبيهًا بحروف العلة، وقرأ نافع وابن كثير {حسنةٌ} بالرفع على أن كان تامة بمعنى وإن حصلت حسنة، والباقون بالنصب. والمعنى: وإن تكن زنة الذرة حسنة، {يُضَاعِفْهَا}؛ أي: يضاعف جزاء تلك الحسنة عشرة أمثالها، أو أضعافًا كثيرة إلى سبع مائة، كما جاء في آية أخرى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يضعِّفْها} بالتشديد من غير ألف، فكلاهما بمعنى واحد. وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة .. ضاعفها الله ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[41]

له إلى سبع مئة، وإلى أجر عظيم. قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر: فيعطى بحسنات قد عمل بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها". رواه مسلم. {وَيُؤْتِ}؛ أي: يعط الله صاحب الحسنة {مِنْ لَدُنْهُ}؛ أي: من عنده تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا} وثوابًا جزيلًا فلا يقدر أحد قدره وهو الجنة. أي: إنه تعالى لواسع فضله، لا يكتفي بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب، بل يزيدهم من فضله، ويعطيهم من لدنه عطاءً كبيرًا، وسمي هذا العطاء أجرًا ولا مقابل له من الأعمال؛ لأنه لما كان تابعًا للأجر على العلم سمي باسمه لمجاورته له، وفي ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم، فلا مطمع للمسيئين فيه، 41 - والفاء في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} فاء الفصيحة، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، أي: إذا كان الله لا يضيع من عمل العالمين مثقال ذرة .. فكيف يكون حال هؤلاء الكفار والمنافقين يوم القيامة، إذا جمعناهم والخلائق، وجئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم؛ أي: نبي يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم، فما من أمة إلا لها بشير ونذير، وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم، لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، ومقابلة عقائدهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم، فمن شهد لهم نبيهم بانهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به .. فهم ناجون، ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاؤوا به .. فأولئك هم الخاسرون، وإن ادعوا اتباعهم والانتماء إليهم. {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}؛ أي: وجئنا بك يا محمَّد حالة كونك ¬

_ (¬1) الخازن.

[42]

شاهدًا على هؤلاء الذين سمعوا القرآن، وخوطبوا به بما علموا؛ أي: شاهدًا على من آمن بالإيمان، وعلى من كفر بالكفر، وعلى من نافق بالنفاق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بسيرته وأخلاقه العالية وسنته المرضية يكون حجة على من تركها، وتساهل في اتباعها، وعلى من تغالى فيها، وابتدع البدع المحدثة من بعده، أو المعنى: وجئنا بك شاهدًا على صدق هؤلاء الأنبياء الذين شهدوا على أممهم لعلمك بعقائدهم، واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل: وجئنا بك مزكيًّا معدلًا لأمتك؛ لأن أمته - صلى الله عليه وسلم - يشهدون للأنبياء على قومهم إذ جحدوا البلاغ. وروى الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: "نعم أحب أن أسمعه من غيري"، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذد الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} قال: "حسبك الآن"، قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. زاد مسلم: (شهيدًا ما دمت فيهم)، أو قال: (ما كنت فيهم)، شك أحد رواته. فانظر أيها الأخ الكريم كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، فبكى لتذكر هذا اليوم، وهل نعتبر كما اعتبر؟ وهل نستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته، ونجتهد في اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن في عهده، وبذا نكون أمة وسطًا لا تفريط عندها في الدين، ولا إفراط لا في الشؤون الجسمية، ولا في الشؤون الروحية، أو نظل في غوايتنا تقليدًا للآباء، فنكون كما قال الكافرون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. 42 - {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: يتمنى الذين كفروا بالله ورسوله {وَعَصَوُا الرَّسُولَ}؛ أي: خالفوا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيما أمر به ونهى عنه، {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}؛ أي: يتمنون لو دفنوا في الأرض، ويهال عليهم التراب، ويسوى عليهم كما يسوى على الموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا هم والأرض سواء، أو لم يخلقوا، وقال

[43]

الكلبي (¬1): يقول الله تعالى للبهائم والوحوش والطيور والسباع: كوني ترابًا، فتسوى بهن الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافر لو يكون ترابًا لعظم هول ذلك اليوم، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}؛ أي: لا يقدرون أن يكتموا ويخفوا عن الله سبحانه وتعالى حديثًا عن عقائدهم وأعمالهم؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم. أي: إنهم (¬2) يريدون الكتمان، أولًا لما علموا أن الله لا يغفر شركًا، فيقولون: ربنا والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء غفران الله لهم، لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان، فلم يستطيعوا الكتمان، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابًا ولم يكتموا الله حديثًا. قرأ نافع وابن عامر (¬3): {تُسَوَّى} بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ حمزة والكسائي: بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون: بضم التاء وتخفيف السين، والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوى بهم؛ أي: أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأض، فساخوا فيها، وقيل: الباء في قوله: {بهم} بمعنى على؛ أي: تسوى عليهم الأرض، وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول؛ أي: لو سوى الله بهم الأرض، فيجعلهم والأرض سواء، حتى لا يبعثوا. 43 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: لا تقيموا الصلاة {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}؛ أي: حال كونكم نشاوى من شرب الشراب {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}؛ أي: إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه، بأن تفيقوا من السكر، {وَلَا} تقيموها حال كونكم {جُنُبًا}؛ أي: متصفين بالجنابة {إِلَّا} حال كونكم {عَابِرِي سَبِيلٍ}؛ أي: مسافرين، وقيل إلا اسم بمعنى (غير) صفة لـ {جُنُبًا}، أي؛ ولا تقيموها حال كونكم جنبًا غير مسافرين، {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} من الجنابة {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} مرضًا يمنع من استعمال الماء، {أَوْ عَلَى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

سَفَرٍ}، أي: متلبسين بسفر طويل أو قصير، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}؛ أي؛ جاء أحدكم موضع قضاء الحاجة، فأحدث بخروج شيء من أحد السبيلين، والمراد به جميع أسباب الحدث الأصغر وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض، وقرأ ابن مسعود من {الغيط}، وخرج على وجهين: أحدهما: أنه مصدر، إذ قالوا: غاط يغيط غيطًا. والثاني: أن أصله فيعل ثم حذف كـ: مَيْتٍ، قاله أبو حيان. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}؛ أي: أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي - رحمه الله تعالى - على أن اللمس ينقض الوضوء، وقيل أو جامعتموهن، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة {لمستم} واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يجب استعماله تتطهرون به للصلاة بعد الطلب، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا}؛ أي؛ فاقصدوا ترابًا {طَيِّبًا}؛ أي: طاهرًا بعد دخول الوقت، فاضربوا به ضربتين، {فَامسَحوا} منه {بوجوهكم} بالضربة الأولى، {وَأَيْدِيكُمْ} بالضربة الثانية، وحذف الممسوح به هنا وأظهره في آية المائدة، في قوله: {منه} فحمل عليه ما هنا، وقد أشرنا له بقولنا منه، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} كالتعليل للترخيص المستفاد مما قبله؛ أي: كان كثير العفو والمحو لذنوب عباده عن صحف الملائكة، غفورًا: أي؛ كثير الغفر والستر لها عن أعين الملائكة، فلا يؤاخذهم بها، فلذلك يسَّر عليكم الأمر ورخص لكم في التيمم. وقال الشوكاني قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}؛ أي؛ عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم، ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم انتهى. واعلم أن الخطاب في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} موجه إلى المسلمين قبل السكر، بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلون، ليحتاطوا فيجتنبوه في أكثر الأوقات، وقد كان هذا تمهيدًا لتحريم السكر تحريمًا باتًّا لا هوادة فيه، إذ من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران، يترك الشرب عامة النهار وأول الليل، لتفرق الصلوات الخمس في هذه المدة، فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من

بعد العشاء إلى السحر، فيقل الشراب لمزاحمة النوم له، وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس، ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل. وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء، فلا يصبحون إلا وقد زال السكر، وصاروا يعلمون ما يقولون، وعبر سبحانه وتعالى بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ولم يقل ولا تقربوا الصلاة سكارى، مع أنه أخصر من الأول؛ لأن بين الأسلوبين فرقًا، الأول يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة، فيفضي إلى أدائها في أثنائه. وخلاصة المعنى عليه: احذروا أن يكون السكر وصفًا لكم عند حضور الصلاة، فتصلوا وأنتم سكارى، فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة، وفيما يقرب منها، والثاني يتضمن النهي عن الصلاة حال السكر فحسب. وأما نهيهم عن الصلاة جنُبًا: فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة؛ لأنها من سنن الفطرة، وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا؛ ولهذا قال جنبًا، ولم يقل وأنتم جنب. {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}؛ أي: ولا تقربوا الصلاة جنبًا في أي حال، إلا حال كونكم عابري سبيل؛ أي: مجتازين الطريق. وقد روي أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرًا إلا فيه، فرخص لهم في ذلك، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسد تلك الأبواب والكوى إلا في آخر عمره الشريف، ولم يستثن إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه، الخوخة: الكوة والباب الصغير. {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}؛ أي لا تقربوا الصلاة جنبًا إلى أن تغتسلوا، إلا فيما رخص لكم فيه من حالة السفر.

وحكمة الاغتسال من الجنابة (¬1): أن الجنابة تحدث تهيجًا في الأعصاب، فيتأثر البدن كله، ويحدث فتور وضعف فيه، يزيله الاغتسال بالماء، ومن ثم ورد: "إنما الماء من الماء" رواه مسلم. والخلاصة: أن الدين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر، كما طلب أن يكون الجسم نظيفًا نشيطًا، وذلك لا يكون إلا لإزالة الجنابة. ولما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها؛ لأنها تذكر المرء وتعده للتقوى، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الحالات، ويتعذر في بعضها الآخر .. رخص سبحانه وتعالى لنا في ترك استعمال الماء، والاستعاضة عنه بالتيمم، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} المراد بالمرض: المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء، كبعض الأمراض الجلدية، والقروح كالحصبة والجدري ونحو ذلك. والسفر يشمل الطويل والقصير، والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر، بخروج شيء من أحد السبيلين القبل والدبر، أو بغيره من سائر أسباب الحدث الأصغر، وملامسة النساء التقاء البشرتين، أو غشيانهن على الخلاف المذكور فيه كما مر. ففي هذه الحالات كلها - المرض، السفر، فقد الماء، عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء، والحدث الأكبر الموجب للغسل - اقصدوا وتحروا صعيدًا طيبًا؛ أي: ترابًا طاهرًا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ثم صلوا. والخلاصة: أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حديثًا أصغر، أو ملامس النساء ولم يجد الماء، فعلى كل هؤلاء التيمم فقط. ¬

_ (¬1) المراغي.

روي أن هذه الآية نزلت في بعض أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقطع عقد لعائشة فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمسه، والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فلما نزلت وصلوا بالتيمم .. جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة، فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية يرحمك الله يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجًا. ثم ذكر (¬1) منشأ السهولة واليسر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} العفو التيسير والسهولة، ومنه قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق"؛ أي: أسقطتها تيسيرًا عليكم، ومن عفوه وتيسيره وتسهيله أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل. وفي ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ في صلاة السكارى، كقولهم: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون" مغفور لهم، لا يؤاخذون عليه، واعلم: أن التيمم من خصائص هذه الأمة، خصها الله تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة، ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء" أخرجه مسلم. فصول في أحكام تتعلق بالآية الفصل الأول منها إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة، ولا حائل بينهما .. انتقض وضوئهما، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وبه قال الزهري، والأوزاعي، والشافعي؛ لما روى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه قال: قُبلة ¬

_ (¬1) المراغي.

الرجل امرأته وجَسُّهَا بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته، أو جسها بيده فعليه الوضوء. أخرجه مالك في "الموطأ"، قال الشافعي: وبلغنا عن ابن مسعود مثله. وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق: إذا كان اللمس بشهوة .. انتقض الوضوء، وإن لم يكن بشهوة .. فلا، ويدل عليه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: ومن هي إلا أنت فضحكت. أخرجه أبو داود. وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت، قال الترمذي: إنه لا يصح إسناده بحال، وسمعت محمَّد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة، وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث، وقال: هو شبه لا شيء، وفيه ضعف من وجه آخر، وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة، إنما هو شيخ مجهول، قال البيهقي: يعرف بعروة المزني. وإنما المحفوظ عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم، كذا رواه الثقات عن عائشة. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض الوضوء باللمس إلا أن يحدث الانتشار، وقال قوم: لا ينتقض بحال، وهو قول ابن عباس، وبه قال الحسن والثوري. واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله، ورجلاي في قِبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). أخرجاه في "الصحيحين". وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها بحائل. الفصل الثاني اختلف قول الشافعي في لمس المحرم، كالأم والبنت والأخت أو أجنبية

صغيرة، فأصح القولين عنه: أنه لا ينتقض الوضوء به، والثاني: أنه ينتقض الوضوء به، ومأخذ القولين عند أصحاب الشافعي التردد بين التعلق بعموم الآية في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، أو النظر إلى المعنى في النقض باللمس، وهو تحرك الشهوة، فإن أخذنا بعموم الآية .. فينتقض الوضوء بلمس المحارم، وإن أخذنا بالمعنى .. فلا ينتقض، وفي الملموس قولان، والملموس هو الذي لا فعل منه في المباشرة رجلًا كان أو امرأة، واللامس هو الفاعل للمس، وإن لم يقصد المباشرة. فأحد القولين: أنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية؛ لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوؤهما معًا. والقول الثاني: أنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". أخرجه مسلم. فلو انتقض وضوؤه - صلى الله عليه وسلم - لقطع الصلاة، ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها، فلا وضوء عليه. الفصل الثالث في الحدث وهو الخارج من السبيلين، عينًا كان كالبول والغائط، أو أثرًا كالريح ونحوها، فإذا حصل شيء من ذلك .. فلا تصح صلاته، ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء؛ لما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدثُ يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. أخرجاه في "الصحيحين". أما خروج النجاسة من غير السبيلين، كالفصد والحجامة والرعاف والقيء

ونحوها: فذهب قوم إلى أنه لا وضوء من خروج هذه الأشياء، يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء وطاووس، والحسن وابن المسيب، وإليه ذهب مالك والشافعي؛ لما روي عن أنس قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه. أخرجه الدارقطني. وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك، منهم سفيان الثوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض، ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ، قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه، أخرجه الترمذي، وقال: هو أصح شيء في هذا الباب. الفصل الرابع من نواقض الوضوء: زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم؛ لما روي عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العين وكاء السه، فمن نام .. فليتوضأ". أخرجه أبو داود وابن ماجه. ويستثنى من ذلك النوم اليسير قاعدًا مفضيًا بمحل الحدث إلى الأرض، ويدل على ذلك ما روي عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الأخيرة، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون. أخرجه أبو داود. وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال، وهو قول أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وإسحاق والمزني، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائمًا أو قاعدًا أو ساجدًا وهو في الصلاة .. فلا وضوء عليه حتى يضطجع، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي، لما روي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على من نام ساجدًا وضوء، حتى يضطجع، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله". أخرجه أحمد ابن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث.

الفصل الخامس من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره، فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أن الشافعي قال: ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف، والرجل والمرأة في ذلك سواء، ويدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مس ذكره .. فلا يصلِّ حتى يتوضأ"، أخرجه الترمذي، وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه. وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". أخرجه ابن ماجه وصححه أحمد وأبو زرعة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أفضى بيده إلى ذكره، وليس دونه ستر .. فقد وجب عليه الوضوء" أخرجه أحمد ابن حنبل. وذهب قوم إلى أن مس الذكر لا يوجب الوضوء، وهو قول علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة، وبه قال الحسن: وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ قال: "هل هو إلا مضغة منه؟ " أو قال: "بضعة منه". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه. وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي، بأن قدومه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في أول الهجرة، وهو يبني المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه من آخرهم إسلامًا وقد روى بانتقاض الوضوء بمس الذكر، فصار حديث أبي هريرة رضي الله عنه ناسخًا لحديث طلق بن علي، وأيضًا فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق، وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث.

الفصل السادس: في التيمم وأركانه التيمم لغة: القصد، ومنه قول بعضهم: تَيَمَّمْتُكُم لَمَّا فَقَدْتُ أُولِيْ النُّهَى ... وَمَنْ فَقَدَ المَاءَ تَيَمَّمَ بِالتُّرْبِ وشرعًا: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشرائط مخصوصة، وأركانه خمسة: الأول: تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين، ويجوز بالرمل إذا كان عليه غبار. الثاني: قصد الصعيد، فلو تعرض لمهب الريح .. لم يكفه، ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز، وإن كان قادرًا فوجهان. الثالث: نقل التراب إلى الوجه واليدين. الرابع: نية استباحة الصلاة، فلو نوى رفع الحدث .. لم يصح، وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل. الخامس: مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب. ولا يصح التيمم لصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه على الوقت، ويجوز أن يصلي به ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبًا ويشترط طلب الماء في السفر؛ بأن يطلبه في رحله وعند رفقته، ان كان في صحراء ولا حائل دون نظره .. نظر حواليه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه .. عدل عنه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، ولا يقال لم يجد إلا لمن طلب، ولا يشترط الطلب عند أبي حنيفة، فإن رأى الماء ولا يقدر عليه؛ لمانع من عدو، أو سبع يمنعه من الذهاب إليه، أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء .. فهو كالعادم، فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه. والله أعلم.

الإعراب {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة مسوقة (¬1) لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقارب ونحوهم، إثر بيان الأحكام المتعلقة بحقوق الأزواج، وصدر بما يتعلق بحقوق الله عَزَّ وَجَلَّ التي هي آكد الحقوق، وأعظمها تنبيهًا، على عظم شأن حقوق الوالدين بنظمهما في سلكها، كما في سائر المواقع. {وَلَا تُشْرِكُوا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تُشْرِكُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاعْبُدُوا}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُشْرِكُوا}، {شَيْئًا}: مفعول به منصوب؛ أي: لا تشركوا به شيئًا من الأشياء صنمًا أو غيره أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: لا تشركوا به شيئًا من الإشراك جليًّا أو خفيًّا. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. {وَبِالْوَالِدَيْنِ}: {الواو}: عاطفة. {بالوالدين}: جار ومجرور متعلق بفعل محذوف معطوف على جملة قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ}، تقديره: وأحسنوا بالوالدين. {إِحْسَانًا}: منصوب على المفعولية المطلقة بذلك المحذوف. {وَبِذِي الْقُرْبَى}: جار ومجرور، ومضاف إليه معطوف على قوله {وَبِالْوَالِدَيْنِ}. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: معطوفان على {ذِي الْقُرْبَى}. {وَالْجَارِ}: {الواو}: عاطفة. {الجار}: معطوف على {ذِي الْقُرْبَى}، صفة لـ {جار}، ومضاف إليه. {وَالْجَارِ}: معطوف على {ذِي الْقُرْبَى}. {الْجُنُبِ}: صفة لجار؛ لأنه مشتق؛ لأنه اسم فاعل. {وَالصَّاحِبِ}: معطوف على {ذي القربى}. {بِالْجَنْبِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {الصاحب}، تقديره حالة كونه ملتبسًا بالجنب؛ أي: بالقرب بجنبه. {وَابْنِ السَّبِيلِ}: معطوف على {ذِي الْقُرْبَى} ومضاف إليه. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر معطوفة على {ذِي الْقُرْبَى}. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما ملكته أيمانكم. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {لَا}: نافية. {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المعللة لمحذوف تقديره: لا تفتخروا على هؤلاء المذكورين لأن الله لا يحب {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على من الموصولة. {مُخْتَالًا}: خبر أول لـ {كَانَ}، {فَخُورًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ}: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والعائد الضمير المستتر في {كَانَ}. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم، عائد على {مَنْ كَانَ مُخْتَالًا}، وجمعه اعتبارًا لمعناه، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب بدل من {مَن} الموصولة، في قوله: {لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. {يَبْخَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَيَأمُرُونَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَبْخَلُونَ}. {بِالْبُخْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَيَأمُرُونَ}. {وَيَكْتُمُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {يَبْخَلُونَ}. {مَا آتَاهُمُ}: {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {وَيَكْتُمُونَ}، {آتَاهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ما آتاهم الله إياه؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. {مِنْ فَضْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {مَا} الموصولة، أو من الضمير المحذوف. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل والجملة

مستأنفة. {لِلْكَافِرِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْتَدْنَا}. {عَذَابًا}: مفعول به. {مُهِينًا}: صفة له. {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. {وَالَّذِينَ}: في محل الرفع معطوف على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}؛ أي: وهم الذين ينفقون، ويجوز (¬1) أن يكون عطفًا على {الكافرين}، بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي. {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير {أَمْوَالَهُمْ}. {رِئَاءَ النَّاسِ}: مفعول لأجله ومضاف إليه، أو حال من فاعل {يُنْفِقُونَ}، بتأويله بمشتق تقديره: ينفقون حالة كونهم مرائين الناس، فـ {رِئَاءَ}: مصدر مضاف إلى المفعول. {وَلَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُنْفِقُونَ}. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {وَلَا بِالْيَوْمِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {الْآخِرِ}: صفة لـ {اليوم}. {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {يَكُنِ الشَّيْطَانُ}: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {من} الشرطية، على كونه فعل الشرط له. {لَهُ}: متعلق بـ {قَرِينًا} وهو خبر {يَكُنِ}. {فَسَاءَ}: الفاء: رابطة لجواب الشرط وجوبًا؛ لكون الجواب جملة جامدية. {سَاءَ}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: هو يعود على {الشَّيْطَانُ}. {قَرِينًا}: تمييز له، والجملة في محل الجزم جواب {منْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية: مستأنفة، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا تقديره: هو؛ أي: الشيطان أو القرين. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}. ¬

_ (¬1) كرخي.

{وَمَاذَا}: {الواو}: استئنافية. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، والجملة مستأنفة. {لَوْ آمَنُوا}: {لَوْ} مصدرية. {آمَنُوا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية صلة {لَوْ} المصدرية، {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بما تعلق به {عَلَيْهِمْ}، تقديره: وما الذي استقر عليهم في إيمانهم باللهِ واليوم الآخر، وفي المقام أوجه أخر من الإعراب فراجعها. {وَأَنْفَقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {وَأَنْفَقُوا}. {رَزَقَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه، وهو العائد على {ما} أو الرابط لها، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِهِمْ}: متعلق بقوله {عَلِيمًا}، وهو خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها، وجملة {لَا يَظْلِمُ}: في محل الرفع خبر {إنْ}، وجملة {إنْ}: مستأنفة. {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: مفعول به، ومضاف إليه. {وَإِنْ تَكُ}: الواو: استئنافية. {إنْ}: حرف شرط جازم. {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {إنْ} الشرطية، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف؛ لأن أصله: وإن تكون، فحذفت الضمة للجازم، والواو لالتقاء الساكنين، والنون للتخفيف، فالحذفان الأولان (¬1) واجبان، والثالث جائز، و {حَسَنَةٌ}: بالرفع فاعلها؛ لأنه من كان التامة؛ أي: وإن تحصل حسنة .. يضاعفها لصاحبها، من عشر إلى سبع مئة ضعف، وفي قراءة النصب {حَسَنَةً} خبر تكون، واسمها ضمير مستتر فيها جوازًا يعود على الذرة؛ أي: وإن تك الذرة حسنة .. يضاعفها، حتى يوافيها صاحبها يوم القيامة وهي كالجبل العظيم. ¬

_ (¬1) الكواكب على المتممة.

{يُضَاعِفْهَا}: فعل ومفعول مجزوم على كونه جواب الشرط، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهَ}، وجملة {إن} الشرطية: مستأنفة، {وَيُؤْتِ}: فعل مضارع معطوف على {يُضَاعِفْهَا}، مجزوم بحذف حرف العلة، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهَ}، والمفعول الأول لآتى محذوف تقديره: ويؤت صاحبها، {مِنْ لَدُنْهُ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُؤْتِ}. {أَجْرًا}: مفعول ثان لآتى، {عَظِيمًا}: صفة لـ {أَجْرًا}. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}. {فَكَيْفَ}: {الفاء}: استئنافية. {كيف}: اسم للاستفهام التوبيخي والتقريعي، في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم أو صنيعهم، والعامل (¬1) في إذا هو هذا المقدر، أو في محل النصب بفعل محذوف، تقديره: فكيف يكونون أو يصنعون، ويجري فيها الوجهان في نصبها: إما النصب على التشبيه بالحال، كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرف، كما هو مذهب الأخفش، وذلك المحذوف هو العامل في إذا أيضًا، وجملة كيف مع العامل المحذوف مستأنفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {جِئْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بالعامل المحذوف في {كيف} كما مر آنفًا؛ أي: فكيف يكونون وقت مجيئنا. {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جِئْنَا}، أو حال (¬2) من {شهيد} على قول من أجاز تقديم حال المجرور عليه. {بِشَهِيدٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جِئْنَا}، {وَجِئْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {جِئْنَا} الأول. {بِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {جِئْنَا}. {عَلَى هَؤُلَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهِيدًا}، وهو حال من الكاف في {بِكَ}. {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) العكبري.

{يَوْمَئِذٍ} {يوم}: منصوب على الظرفية وهو مضاف. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين؛ لالتقائها ساكنة مع التنوين، والظرف متعلق بـ {يَوَدُّ}. {يَوَدُّ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَعَصَوُا الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {كَفَرُوا}. {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}: {لَوْ}: مصدرية. {تُسَوَّى ... الْأَرْضُ}: فعل ونائب فاعل، {بِهِمُ}: متعلق بـ {تُسَوَّى}، والجملة الفعلية صلة {لَوْ} المصدرية، {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يَوَدُّ}، تقديره: يودون تسوية الأرض بهم. {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {حَدِيثًا}: مفعول ثان، والجملة إما معطوفة على جملة {يَوَدُّ} أو مستأنفة، والتقدير: وهم لا يكتمون الله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} {يَا أَيُّهَا}: جملة ندائية مستأنفة. {الَّذِينَ}: في محل الرفع صفة لـ {أي}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء. {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}: مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل {تَقْرَبُوا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَعْلَمُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، تقديره: إلى علمكم ما تقولون، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقْرَبُوا}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {تَعْلَمُوا}، {تَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تقولونه. {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}. {وَلَا جُنُبًا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {جُنُبًا}: حال من فاعل {تَقْرَبُوا}، فهو معطوف على جملة قوله {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، فكأنه قيل: لا تقربوا

الصلاة سكارى ولا جنبًا، وهو السر (¬1) في إعادة لا ليفيد النهي عن كل. {إِلَّا}: اسم بمعنى غير صفة لـ {جُنُبًا}، ولكن نقل إعرابها إلى ما بعدها؛ لكونها على صورة الحرف. {عَابِرِي}: صفة لـ {جُنُبًا}، منصوب بالياء وهو مضاف. {سَبِيلٍ}: مضاف إليه، والتقدير: لا تقربوا الصلاة جنبًا غير عابري سبيل؛ أي: غير مسافرين؛ أي: حالة كونكم جنبًا مقيمين غير معذورين، وقيل: إنه منصوب على الحال، فهو استثناء مفرغ، والعامل فيها فعل النهي، والتقدير: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا في حال السفر. {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن المضمرة، والمصدر المؤول من أن المقدرة وما بعدها مجرور بـ {حَتَّى}، وهي متعلقة بـ {تَقْرَبُوا}، والتقدير: ولا تقربوا الصلاة جنبًا إلى اغتسالكم إلا عابري سبيل. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف جزم. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إنْ}، {مَرْضَى}: خبر كان. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}: جار ومجرور في محل النصب معطوف على خبر كان، والتقدير: وإن كنتم مرضى أو متلبسين بسفر. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} معطوف على {كُنْتُمْ}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدٌ}. {مِنَ الْغَائِطِ}: متعلق بـ {جَاءَ}. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم معطوف على {كُنْتُمْ}. {فَلَمْ}: {الفاء}: عاطفة. {لم}: حرف نفي وجزم. {تَجِدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، {مَاءً}: مفعول به، ووجد هنا بمعنى وجدان الضالة، فيتعدى لواحد، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، معطوفة على قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، على كونها فعل شرط لها. {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}. {فَتَيَمَّمُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب ¬

_ (¬1) كرخي.

جملة طلبية. {تَيَمَّمُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل. {صَعِيدًا}: مفعول به. {طَيِّبًا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية: مستأنفة كما أشرنا إليه سابقًا. {فَامْسَحُوا}: {الفاء}: عاطفة. {أمسحوا}: فعل وفاعل، في محل الجزم معطوف على {تَيَمَّمُوا}، على كونها جواب الشرط. {بِوُجُوهِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {امسحوا}. {وَأَيْدِيكُمْ}: معطوف على {وجوهِكم}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}. {عَفُوًّا}: خبر أول لـ {كَانَ}، {غَفُورًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} من اسمها وخبرها: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المتعلقة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما يسر عليكم، ورخص لكم في التيمم؛ لكونه عفوًا غفورًا. التصريف ومفردات اللغة {ذِي الْقُرْبَى}، {الْقُرْبَى}: مؤنث الأقرب، كالفضلى مؤنث الأفضل، وهو من قرُب من باب فعل المضموم، ومعناه الجار القريب الجوار أو النسب، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: {الْجُنُبِ}: بضمتين صفة يستوي فيه المفرد والمثنى، والمجموع مذكرًا كان أو مؤنثًا، ومعناه: والجار البعيد القرابة أو الجوار، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: {الْجُنُبِ}: بالفتح والسكون الناحية والجانب، {مُخْتَالًا فَخُورًا} المختال: اسم فاعل من اختال يختال، إذا تكبر وأعجب بنفسه، وألفه منقلبة عن ياء؛ لأنه من خال يخيل، وفي "المصباح": وسميت الخيل خيلًا لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحًا، ومنه يقال اختال الرجل وبه خيلاء، وهو الكبر والإعجاب انتهى. {فَخُورًا}: صيغة مبالغة من الفخر، وهو عد مناقب الإنسان ومحاسنه، وفي "المصباح": أيضًا فخرت به فخرًا من باب نفع، وافتخر به مثله، والاسم الفخار، وهو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب، وغير ذلك، إما في المتكلم أو في آبائه انتهى. فالمختال: ذو الخيلاء والكبر، يأنف من أقاربه

وجيرانه وأصحابه ومماليكه، أو لا يلتفت إليهم، والفخور الذي يعدد محاسنه من العلم والمال والجاه تعاظمًا وتكبرًا، {مُهِينًا}؛ أي: ذا الإهانة والذلة اسم فاعل من أهان الرباعي. {فَسَاءَ قَرِينًا}: القرين: المصاحب الملازم، وهو فعيل بمعنى مفاعل، كالخليط والجليس، والقرين أيضًا الحبل؛ لأنه يقرن به بين البعيرين، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: ظلم من باب ضرب، يتعدى لمفعول واحد، وذلك الواحد محذوف تقديره: لا يظلم أحدًا، وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي: ظلمًا وزن ذرة، كما تقول: لا أظلم قليلًا ولا كثيرًا، وقيل: ضمن معنى ما يتعدى لاثنين، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان، والأول محذوف كما قدرنا، والتقدير: لا ينقص أحدًا مثقال ذرة من الخير أو الشر، كما ذكره أبو حيان، والمثقال، أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام، ومن ثم قالوا: إنها النملة، أو رأسها أو الخردلة أو الهباء ما يظهر من نور الشمس الداخل من الكوة، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أدخل يده في التراب، ثم نفخ فيه، فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}: السكارى - بفتح السين وضمها - جمع سكران، مؤنثه سكرى، ويقال في لغة بني أسد: سكرانة، وفعله سكر من باب طرب، والسكر لغة: السد، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر؛ لأنه يسد ما بين المرء وعقله، وأكثر ما يقال السكر، لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك؛ لإزالته بالغضب، ونحوه من عشق وغيره، والسكر - بفتح السين وسكون الكاف - حبس الماء، وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر - بفتحهما - فما يسكر به من المشروب، ومنه قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}. {وَلَا جُنُبًا}: الجنب يطلق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، كما مر آنفًا؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، ويقال رجل جنب، ورجلان جنب، ورجال جنب، وامرأة جنب، وامرأتان جنب،

ونساء جنب، قاله الكرخي، ومثله أبو حيان، وهو المشهور في اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن، وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون، فقالوا: قوم جنبون، وجمع تسكير فقالوا: قوم أجناب، وأما تثنيته فقالوا: جنبان. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}: الغائط - بزنة فاعل - المنحفض من الأرض كالوادي، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة، للستر والاستخفاء عن الناس، ثم عبر به عن نفس الحدث، كناية للاستحياء عن ذكره، وفرقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: غاط في الأرض إذا ذهب وأبعد، إلى مكان لا يراه إلا من وقف عليه، وتغوط إذا أحدث. وقرأ ابن مسعود: {من الغيط} وفيه قولان: أحدهما: وإليه ذهب ابن جني، أنه مخفف من فيعل، كهين وميت في هين وميت. الثاني: أنه مصدر على وزن فعل يقال غاط يغيط غيطًا، وغاط يغوط غوطًا، وقال أبو البقاء: هو مصدر تغوط، فكان القياس غوطًا، فقلبت الواو ياء، وإن سكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، كأنه لم يطلع على أن فيه لغة أخرى من ذوات الياء حتى ادعى ذلك. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع (¬1): منها: التجوز بطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى، في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ} أطلق الظلم على انتقاص الأجر، من حيث إن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم. ومنها: التنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الإبهام في قوله: {يُضَاعِفْهَا}؛ إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر. ومنها: السؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع أو تقريره لنفسه في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا}. ومنها: العدول من بناء إلى بناء لمعنىً في قوله: {بِشَهِيدٍ}، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {بِشَهِيدٍ}، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. ومنها: التجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في قوله: {مِنَ الْغَائِطِ}. ومنها: الكناية في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. ومنها: التقديم والتأخير في قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا}. ومنها: الحذف في عدة مواضع مثل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}؛ أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، ذكره أبو حيان في "البحر المحيط". ومنها: التعريض في قوله: {مُخْتَالًا فَخُورًا} عرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس وإهانتهم. ومنها: الإطناب في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ}، {وَبِذِي الْقُرْبَى} حيث كرر الباء، بخلاف نظيره في سورة البقرة فإنه لم يكرر فيه الباء، وفائدة إعادتها ثانيًا التأكيد؛ لأن (¬1) هذه الآية في حق هذه الأمة، فالاعتناء بها أكثر، وإعادة الباء تدل على زيادة التأكيد، فناسب ذلك هنا، بخلاف آية البقرة؛ فإنها في حق بني إسرائيل، والمراد بهذه الجملة الأمر بالإحسان، وإن كانت خبرية، كقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}. اهـ "سمين". ومنها: التغليب في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، حيث عبر بما دون ¬

_ (¬1) الجمل.

{من}؛ لأنها لغير العاقل، نظرًا لجانب الكثرة؛ لأن المملوك يشمل جميع الحيوانات من عبيد وإماء وغيرهم، فالحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، وأمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}؛ لأن مقتضى السياق أن يقال وأعتدنا لهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، إشعارًا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافرًا بنعمته فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء، فتلخص أن الكافرين هنا بمعنى الجاحدين. ومنها: التكرار في قوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} حيث كرر {لا}، وكذلك الباء إشعارًا (¬1) بأن الإيمان بكل منهما منتف على حدته، فلو قلت: لا أضرب زيدًا وعمرًا .. احتمل نفي الضرب عن المجموع، ولا يلزم منه نفي الضرب عن كل واحد على انفراده، واحتمل نفيه عن كل واحد بانفراده، وإن قلت: ولا عمرًا .. تعين هذا الثاني. ومنها: تغليب الخطاب على الغيبة في قوله: {فَتَيَمَّمُوا} لأن الضمير فيه عائد لكل من تقدم، من مريض ومسافر ومتغوط ولامس أو ملامس، وفيه تغليب للخطاب على الغيبة، وذلك أنه تقدم غيبة في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}. وخطاب في: {كُنْتُمْ} و {لمستم}، فغلب الخطاب في قوله {كُنْتُمْ} وما بعده عليه، وما أحسن ما أتى به هنا بالغيبة لأنه كناية عما يستحيا منه، فلم يخاطبهم به، وهذا من محاسن الكلام، ومثله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الجمل.

[44]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}. المناسبة 44 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما ذكر شيئًا من أحوال الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله تعالى حديثًا وجاءت هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة، وذكر أحوالهم في الدنيا، وما هم عليه من معاداة المؤمنين، وكيف يعاملون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي يأتي شهيدًا عليهم وعلى غيرهم، ولما كان اليهود أشد إنكارًا للحق، وأبعد من قبول الخير، وكان قد تقدم أيضًا: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ...}، وهم أشد الناس تحليا بهذين الوصفين .. أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا ...} الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان، وقرن بالوعيد البالغ على تركه؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...} الآية، وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله تعالى لا ينفع. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه سبحانه وتعالى لما هدد اليهود على الكفر، وتوعدهم عليه بأشد الوعيد، كطمس الوجوه، والرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} .. ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله تعالى قد يغفرها، ويتجاوز عن زلاتها. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬3) في الآية السالفة: أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريق نأى وأعرض عن اتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم .. فَصَّل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين، وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمَّد حتى نفقهك، ثم طعن في الإِسلام دعابة، فأنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤساء من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسيد، فقال لهم: "يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق"، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمَّد، فأنزل الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ...} الآية. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني، عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: "وما دينه؟ "، قال: يصلي ويوحد الله، قال: "استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه"، فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: وجدته شحيحًا على دينه، فنزلت {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ...} الآية. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة .. قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنوبر - الرجل الفرد الضعيف الذليل بلا أهل وعقب وناصر - المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه، فنزلت فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} وأنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}. وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلَّام بن الحقيق، وأبا رافع، والربيع بن أبي الحقيق، وأبا عمارة، وهوذة بن قيس، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمَّد، فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {مُلْكًا عَظِيمًا}. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمَّد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا، فأنزل الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ...} الآية. وأخرج ابن سعد عن عمر مولى عمرة نحوه بأبسط منه. التفسير وأوجه القراءة بعد (¬1) أن ذكر الله سبحانه وتعالى في سابق الآيات كثيرًا من الأحكام الشرعية، ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب .. انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم، الذين تركوا أحكام دينهم، وحرفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم، كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا .. أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك ¬

_ (¬1) المراغي.

أحكام دينه في الدنيا والآخرة، والمؤمنون بالله حقًّا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصل لهم إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب. وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط، كبعض اليهود الذين يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين، والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله تعالى، فأرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغني عنهم شيئًا إذا لم يطهروا القلوب، حتى ينالوا مرضاته، ويكونوا أهلًا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} كلام مستأنف (¬1)، مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم، والتحذير من موالاتهم، والخطاب فيه لكل من تتأتى منه الرؤية من المؤمنين، وتوجيهه إليه - صلى الله عليه وسلم - هنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها، والرؤية هنا بصرية؛ أي: ألم تنظر أيها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين أعطوا حظًّا يسيرًا من علم التوراة، والمراد بهم أحبار اليهود حال كونهم {يَشْتَرُونَ}؛ أي: يختارون لأنفسهم {الضَّلَالَةَ} وهي البقاء على اليهودية - على الهدى بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه هو النبي العربي المبشر به في "التوراة" و"الإنجيل"، أو يؤثرون تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - على تصديقه؛ ليأخذوا الرشا على ذلك، وتحصل لهم الرياسة كما قاله الزجاج، وإنما ذكر بلفظ الشراء لأنه استبدال شيء بشيء {و} حالة كونهم {وَيُرِيدُونَ}، ويقصدون بما فعلوا من الكتمان، {أَنْ تَضِلُّوا} أيها المؤمنون، وتخطئوا {السَّبِيلَ}؛ أي: طريق الحق ودينه الذي لا طريق سواه، كما هم ظنوا، فتكونوا مثلهم، فهم ¬

_ (¬1) الفتوحات.

دائبون على الكيد لكم، ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا؛ أي: ويتوصلون إلى إضلال المؤمنين، والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الإسلام؛ أي: لم يكفهم (¬1) أن ضلوا في أنفسهم، حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق؛ لأنهم علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل، فكرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحقِّ، فأرادوا أن تضلوا كما ضلوا هم، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وقرأ النخعي: {وتريدون} بالمثناة الفوقية، قيل معناه: وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل؛ أي: تدعون الصواب في اجتنابهم، وتحسبونهم غير أعداء الله، وقرىء: {أن يضلوا} بالياء وفتح الضاد وكسرها. والتعبير (¬2) بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ "القرآن"، ولم يكتبوا منه نسخًا متعددة في العصر الأول كما فعلنا، حتى إذا ما فقد بعضها، قام مقامه بعض آخر، بل كان عند اليهود نسخةٌ من التوراة، هي التي كبتها موسى عليه السلام ففقدت، ويؤيد هذا قوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. والخلاصة: أنهم لم يأخذوا الكتاب كله، بل تركوا كثيرًا من أحكامه لم يعملوا بها، وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا، وكانوا يفعلون ذلك، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرًا من الأحكام والرسوم الدينية، فتمسكوا بها، وهي ليست من التوراة، ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام فالذي لم يعملوا به من التوراة قسمان: أحدهما: ما أضاعوه ونسوه. وثانيهما: ما حفظوا حكمه، وتركوا العمل به، وهو كثير أيضًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[45]

45 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منكم {بِأَعْدَائِكُمْ}؛ أي: بمن هم أعداؤكم، فأنتم تظنون في المنافقين أنهم منكم، وما هم منكم، فهم يكيدون لكم في الخفاء، ويغشونكم في الجهر، فيبرزون لكم الخديعة في معرض النصيحة، ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة، والله أعلم بما في قلوبهم من العدواة والبغضاء، فهو تعالى يعلمكم ما هم عليه، ويخبركم به، وقد أخبركم بعداوتهم لكم، وما يريدون لكم؛ لتكونوا على حذر منهم، ومن مخالطتهم، أو هو أعلم بحالهم ومآل أمرهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ}؛ أي: وكفاكم الله سبحانه وتعالى عن غيره من جهة كونه {وَلِيًّا} لكم؛ أي: متوليًا لأموركم، ومتصرفًا فيها، ومن كان الله وليه فلا يضره أحد. {وَكَفَى بِاللَّهِ}؛ أي: وكفاكم الله سبحانه وتعالى عن غيره من جهة كونه {نَصِيرًا}؛ أي: ناصرًا لكم على أعدائكم، فهو تعالى ينصركم عليهم في كل موطن، فثقوا بولايته ونصرته. أي: فهو (¬1) يسبحانه وتعالى الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم، بتوفيقكم لصالح العمل، والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل، التي تؤدي إلى القوة، فلا تطلبوا الولاية من غيره، ولا النصرة من سواه، وعليكم باتباع السنن التي وضعها في هذه الحياة، ومنها: عدم الاستعانة بالأعداء، الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم. 46 - وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى، وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ} جملتان معترضتان بين البيان والمبين، ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى، فقال: من الذين هادوا ورجعوا عن عبادة العجل قوم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} المذكورة في التوراة {عَنْ مَوَاضِعِهِ}؛ أي: عن مواضع تلك الكلم؛ أي: يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعها وهيأتها، التي ذكرها الله تعالى فيها، كتحريفهم في نعت ¬

_ (¬1) المراغي.

النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمر ربعة، فوضعوا مكانه آدم طوال، وتحريفهم الرجم فوضعوا بدله الجلد. وقرىء: {يحرفون الكِلْم} بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف الكَلِمْ. وقرأ النخعي، وأبو رجاء: {يحرفون الكلام} وذكر الضمير في مواضعه مع عوده إلى الكلم، حملًا على معنى الكلم؛ لأنها جنس، قاله: العكبري. فالتحريف يطلق على معنيين (¬1): أحدهما: تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له، كما يؤولون البشارات التي وردت في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤولون ما ورد في المسيح، ويحملونه على شخص آخر، ولا يزالون ينتظرونه إلى اليوم. وثانيهما: أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر، وقد حصل هذا في كتب اليهود، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل، وكذلك ما وقع في كلام غيره من أنبيائهم، واعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة، بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها، فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين. {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول هؤلاء اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا}؛ أي: خالفنا غيرك، وذلك أنهم كانوا إذا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر .. قالوا في الظاهر: سمعنا قولك، وعصينا غيرك، وأما في الباطن: سمعنا قولك وخالفنا أمرك، وقيل إنهم كانوا يظهرون هذا القول عنادًا واستخفافًا، وقد روي عن مجاهد أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، وكذلك كانوا يقولون له: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}؛ أي: ويقولون في أثناء مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة كلامًا ذا وجهين، محتملًا للخير والمدح وللشر والذم، فأما معناه في المدح فإنهم يقولون: واسمع منا كلامنا حالة كونك غير مسمع منا مكروهًا لا يوافقك، ¬

_ (¬1) المراغي.

وأما معناه في الذم: فإنهم يقولون: واسمع منا كلامنا حالة كونك غير مسمع كلامًا أصلًا لصمم أو موت، وهو دعاء منهم عليه بالموت، أو بذهاب سمعه، أو غير مسمع جوابًا يوافقك فكأنك ما أسمعت شيئًا؛ أي: يخاطبون النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء به، مظهرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - إرادة المعنى الأول؛ أعني: الخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأخير؛ أعني: الشر والدعاء عليه. وكذلك كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء خطابهم له: {وَرَاعِنَا} وهي كلمة ذات وجهين، محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا، وأنصت لحديثنا وتفهم، أخذًا من المراعاة بمعنى المحافظة، وللشر إذا حملت على السب بالرعونة والحمق، بمعنى اشملنا وأفدنا رعونتك وحمقك، أو حملت على أنهم يريدون أنك يا محمَّد ترعى أغنامًا لنا، بمعنى كن راعيًا أغنامنا. {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}؛ أي: يقولون ذلك في مخاطبتهم له - صلى الله عليه وسلم - ليًّا وفتلًا وصرفًا بألسنتهم عن الحق، الذي هو أطعنا واسمع وانظرنا إلى الباطل، الذي هو عصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا وطعنًا في الدين؛ أي: يقولون ذلك طعنًا في دين الإِسلام، بقولهم لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيًّا لعرف ذلك، فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم، وما في قلوبهم من العداوة والبغضاء؛ أي: يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه، وللقدح في دين الإِسلام بالاستهزاء والسخرية، أو المعنى: هم (¬1) يلوون ألسنتهم فيجعلونها في الظاهر راعنا، وبلَيِّ اللسان وإمالته - راعينا - قصدًا منهم للسباب والشتم والسخرية، أو جعله راعيًا من رعاة الغنم، أو من الرعونة، أو من تحريف اللسان وليِّه في خطابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحيته بقولهم: السام - الموت - عليكم، يوهمون بفتل اللسان وليه أنهم يقولون له: السلام عليكم، وقد ثبت هذا في صحيح الأحاديث، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن علم منهم ذلك كان يجيبهم بقوله: وعليكم؛ أي: الموت على كل أحد منكم. قال ابن عطية (¬2): وهذا اللي باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

الآن في بني إسرائيل، ويحفظ في عصرنا أمثلة إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى. وهو يحكى عن يهود الأندلس، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين، مما ظاهره التوقير ويريدون التحقير. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا} باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه: {سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك، بدل قولهم سمعنا وعصينا، لعلمهم بصدقك، ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك، وكذلك لو قالوا {وَاسْمَعْ} منا ما نقول {وَانْظُرْنَا}؛ أي: انظر إلينا أو أمهلنا وانتظرنا بمعنى أفهمنا، ولا تعجل علينا حتى نفهم عنك ما تقول، بدل قولهم: واسمع غير مسمع وراعنا، {لَكَانَ} قولهم هذا {خَيْرًا لَهُمْ} من ذلك السابق عند الله يسبحانه وتعالى، {وَأَقْوَمَ}؛ أي: أصوب وأعدل مما قالوه، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة، وقال أبو حيان: والحاصل أنهم لو تبدلوا بالعصيان الطاعة، ومن الطاعة الإيمان بك، واقتصروا على لفظ اسمع، وتبدلوا براعنا قولهم وانظرنا، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد، والموهمة إلى ما أمروا به، لكان؛ أي: ذلك القول خيرًا لهم عند الله تعالى وأقوم؛ أي: أعدل وأصوب، وقرأ أبي: {وَأنْظِرْنَا} من الإنظار وهو الإمهال، {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: خذلهم وطردهم وأبعدهم عن الرحمة والطاعة والهدى، {بِكُفْرِهِمْ}، أي: بسبب كفرهم باللهِ وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك القول وبغيره؛ إذ مضت سنة الله في البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروي والأدب في الخطاب، ويجعله بعيدًا من الخير والرحمة، فلا يمتُّ - يصل - إليهما بسبب، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب. {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: فهم (¬1) لا يؤمنون إلا إيمانًا قليلًا غير نافع لهم لا يعتد به، فهو لا يصلح عملًا، ولا يطهر نفسًا، ولا يرقي عقلًا، ولو كان ¬

_ (¬1) المراغي.

[47]

إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانًا كاملًا .. لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقًا لما معهم من الكتاب، وبين لهم ما نسوا منه، وما حرفوا فيه، كما جاء بمكارم الأخلاق، والسنن الكاملة في الاجتماع والتشريع، ولو اتبعوه .. كانوا على الهدى والرشاد، وعلى الحق والسداد، وقيل (¬1): المعنى لا يؤمنون إلا زمانًا قليلًا وهو زمان الاحتضار، فلا ينفعهم الإيمان وقتئذ، وبعضهم جعل قليلًا مستثنى من الهاء في لعنهم؛ أي: إلا نفرًا قليلًا، فلا يلعنهم الله لأنهم لم يفعلوا ذلك، بل كانوا مؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه. 47 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: يا أيها اليهود والنصارى، الذين أعطوا "التوراة" و"الإنجيل" {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا}؛ أي: صدقوا واتبعو "القرآن"، الذي نزلنا على عبدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، حالة كون "القرآن" المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}؛ أي: موافقًا "للتوراة" و"الإنجيل" اللذين معكم، في الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالابتعاد عن الشرك، وفي القصص والمواعيد، والأمر بالعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وتلك هي أصول الدين وأركانه، والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف في التفاصيل، وطرق حمل الناس عليها، وهدايتهم بها، وترقيتهم في معارج الفلاح، بحسب السنن التي وضعها الله تعالى في ارتقاء البشر، بتعاقب الأجيال واختلاف الأزمان. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا}؛ أي: من قبل أن نمحو تخطيط صورها، من عين وحاجب وأنف وفم، وقرأ الجمهور: {نَطْمِسَ} بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء: بضمها وهما لغتان، {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}؛ أي: فنجعلها على هيئة أقفائها؛ أي: آمنوا من قبل أن يحل بكم العقاب، من طمس الوجوه، والرد على الأدبار، أو من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم، التي توجهتم إليها من كيد الإِسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء، بإظهار الإِسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم ¬

_ (¬1) المراح.

[48]

عند نزول الآية شيء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة. وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيًّا؛ فقال: نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام، وهي بلادهم التي جاءوا منها. وخلاصة المعنى: آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل، بما نبصِّر المؤمنين شؤونكم، ونغريهم عليكم، فتردوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى ما ليس بخير لكم. وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} فيه التفات؛ لأن الضمير فيه عائد على أهل الكتاب، والمعنى: يا أهل الكتاب آمنوا من قبل أن نلعنكم ونخذلكم بالمسخ والطرد عن رحمة الله، {كَمَا لَعَنَّا} وخذلنا وطردنا {أَصْحَابَ السَّبْتِ} الذين اعتدوا بصيد السمك في يوم السبت، بمسخهم قردة وخنازير وطردهم عن رحمة الله تعالى، وقال ابن عطية: المراد بأصحاب السبت أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد، وكانت لعنتهم أن مُسخوا خنازير وقردة انتهى. والخلاصة: آمنوا بما نزلنا على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من قبل أن تقعوا في الخيبة والخذلان، وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم، وإجلائكم من دياركم، كما حدث لطائفة منكم، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها، ثم هددهم وتوعدهم بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: قضاؤه بإيقاع شيء ما، كالعذاب واللعنة، أو المغفرة والرحمة، {مَفْعُولًا}؛ أي: نافذًا لا محالة، وهذا إخبار عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين، أنه تعالى مهما أخبرهم بإنزال العذاب على الكفار فعل ذلك لا محالة. والخلاصة: أنه يقول لهم: أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم، فإنه نافذ لا محالة، لا رادَّ لحكمه، ولا ناقض لأمره، فلا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، 48 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}؛ أي: لا يغفر الإشراك والكفر به، سواء كان إشراك الربوبية، أو إشراك الألوهية أي: لا يغفر الإشراك لمن

اتصف به، ومات عليه بلا توبة ولا إيمان، وفي الآية كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه. واعلم (¬1): أن الشرك باللهِ ضربان: 1 - شرك في الألوهية، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى. 2 - شرك في الربوبية، وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحي، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخاذهم أربابًا، بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام. وقد سرى الشرك في الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة، وفي الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين، وكأنه يقول لهم: لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله تعالى بحال. والحكمة في عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس، وتطهير الأرواح، وترقية العقول، والشرك ينافي كل هذا؛ لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول، ومنه تتولد سائر الرذائل، التي تفسد الأفراد والجماعات. وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر، أو لشيء من الأشياء السماوية أو الأرضية، ويكون حرًّا كريمًا، لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات. والخلاصة: أن أرواح الموحدين تكون راقية، لا تهبط بها الذنوب إلى ¬

_ (¬1) المراغي.

[49]

الحضيض الذي تهوي إليه أرواح المشركين، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات .. فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله، ومهما أذنب الموحدون .. فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، إذ خيرهم يغلب شرهم، ولا يبعد بهم الأمد وهم في غفلة عن ربهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}، فهم يسرعون إلى التوبة، ويتبعون السيئة بالحسنة، حتى يذهب أثرها من النفس، وذلك هو غفرانها. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ أي: ويغفر سبحانه وتعالى ما دون ذلك الإشراك المذكور في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة، عملية كانت أو قولية، تفضلًا منه وإحسانًا {لِمَنْ يَشَاءُ} المغفرة له من عباده الذين أذنبوا ذنبًا دون الشرك، ومشيئة الله سبحانه وتعالى تكون على وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته في خليقته، وقد جرت سنته بأن لا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ولا يتبعها بالحسنات، التي تزيل آثارها من نفس فاعلها. وقصارى ذلك: أن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتمًا في الدنيا والآخرة، وما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفوس، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيء في النفوس قويًّا، ومنه ما يكون ضعيفًا، يغفر بالتأثير بصالح العمل. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ}؛ أي: ومن يجعل لغير الله شركة مع الله سبحانه وتعالى، قيوم السموات والأرض، سواء أكانت الشركة بالإيجاد، أو بالتحليل والتحريم، {فَقَدِ افْتَرَى} واختلق وفعل {إِثْمًا عَظِيمًا}؛ أي: إثما كبيرًا عظيم الضرر غير مغفور إن مات عليه، تُستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بأن لا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران. 49 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: ألم تنظر إليهم يا محمَّد، أو أيها المخاطب استفهام تعجيب؛ أي: إيقاع المخاطب وحمله على التعجب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان، والمراد بهم اليهود والنصارى، الذي يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه؛ أي: انظر واعجب يا محمَّد، أو أيها المخاطب من حال اليهود والنصارى، الذين يمدحون أنفسهم؛ أي:

تعجب من ادعائهم أنهم أزكياء بررة عند الله تعالى، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب، أو من تكفير ذنوبهم، مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفيه تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله، ويدخل في الآية كل من زكى نفسه، ووصفها بزيادة العمل والطاعة والتقوى، قال الشوكاني: واختلف (¬1) المفسرون في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن وقتادة: هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وقال الضحاك: هو قولهم: لا ذنوب لنا، ونحن كالأطفال، وقيل: هو قولهم: إن أباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم. واعلم (¬2): أن تزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة، بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام، التي تعوقها عن الخير، وهذه التزكية محمودة وهي التي عناها الله سبحانه وتعالى بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}. وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقًّا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثار هذه السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح، وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم دعواهم الزكاة والطهارة بقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} إضراب عن محذوف تقديره: لا عبرة بتزكيتهم أنفسهم، بأن يقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم لا يعذبون في النار؛ لأنهم شعب الله المختار، وبتفاخرهم بنسبهم ودينهم، {بَلِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُزَكِّي} ويطهر من الذنوب والرذائل من يشاء تطهيره من عباده، من أيِّ شعب كان، ومن أيِّ قبيلة كانت، فيهديهم إلى صحيح ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) المراغي.

العقائد، وفاضل الآداب، وصالح الأعمال، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} معطوف على محذوف، تقديره: فهؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم ادعاءً، ولا يظلمون وينقصون شيئًا من الجزاء على أعمالهم السيئة؛ أي: لا يظلمون في ذلك العقاب فتيلًا؛ أي: أدنى ظلم وأصغره، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب به المثل في القلة والحقارة، والفتيل في الأصل: الشيء المفتول، وسمي ما في شق النواة بذلك لكونه على هيأته، وقيل: الفتيل: ما تفتله بين أصابعك من وسخ وغيره، ويضرب به المثل في الشيء الحقير الذي لا قيمة له، وقد ضربت العرب المثل في القلة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة وهي: الفتيل المذكور، والنقير وهو: النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو: القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة مذكورة في القرآن، والرابع: اليعروف وهو: ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما. اهـ. "سمين" فخذلانهم في الدنيا بالعبودية لغيرهم، وفي الآخرة بالعذاب والحرمان، من النعيم المقيم والثواب الجسيم، وما كان ذلك بظلم من الله سبحانه وتعالى لهم، بل كان بنقصان درجات أعمالهم وعجزها عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح. وقيل: الضمير (¬1) في {يظلمون} راجع إلى {من} في: {مَنْ يَشَاءُ} باعتبار معناها، والتقدير: يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلًا، ولكن لا يساعده مقام الوعيد. وفي الآية موضعان من العبرة (¬2): الأول: أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو كان مشركًا؛ لأن لعمله أثرًا في نفسه يكون مناط الجزاء، فيخفف عذابه عن عذاب غيره، كما ورد في الأحاديث إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائي ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) المراغي.

[50]

بكرمه، وأبو طالب بكفالته النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصره إياه، وأبو لهب لعتقه جاريته ثويبة حين بشرته بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن يحذر المسلمون الغررو بدينهم، كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول، واحتقار من عداهم من المشركين، وأن يعلموا أن الله لا يحابي في نظم الخليقة أحدًا، لا مسلمًا ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شج رأسه، وكسرت سنه، وردي في حفرة، من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد، وعدم مخالفته، وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته في الأمم، وأن يتركوا وساوس الدجالين المخرفين، الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدي كتابهم، ويشغلونهم بما لم ينزل الله به عليهم سلطانًا، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم .. إلا بتركهم لهدي دينهم، واتباعهم لأولئك الدجالين المخرفين، الذين جعلوا ما ليس من الدين دينًا لهم من العقائد الزائغة والمذاهب الفاسدة والطرائق المخترعة، كما هو كثير في بعض شعوب المسلمين، الذين أذلهم الاستئمار، وشتتهم الكفار؛ لتهاونهم في دينهم، وتساهلهم في عبادة ربهم. وقرأ الجمهور (¬1): {أَلَمْ تَرَ} بفتح الراء، وقرأ السلمي بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف، وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل، وقرأ الجمهور: {وَلَا يُظْلَمُونَ} بالياء، وقرأت طائفة: {ولا تظلمون} بتاء الخطاب. 50 - ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة، فقال: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}؛ أي: انظر يا محمَّد، أو أيها المخاطب، متعجبًا إلى حال هؤلاء اليهود، كيف يختلقون على الله الكذب، وينسبونه إليه في قولهم: نحن بررة أزكياء عند الله، ونحن أبناء الله وأحباؤه، وإن الله سبحانه يعاملهم معاملة خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده، {وَكَفَى بِهِ}؛ أي: وكفى هذا الافتراء والكذب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[51]

عليه سبحانه وتعالى من جهة كونه: {إِثْمًا مُبِينًا}؛ أي: ذنبًا ظاهرًا، يستحقون به العقوبة الشديدة، والعذاب الأليم الدائم. أي: إن تزكية النفس والغرور بالدين والجنس مما يبطىء النفس عن نافع العمل، الذي يثاب عليه الناس، وكفى به إثمًا ظاهرًا؛ لأنه لا أثر له من حق، ولا سمة عليه من صواب، فالله لا يعامل شعبًا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها في الخليقة، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل، وكفى بذلك شرًّا مستطيرًا، ويدخل في مفهوم هذه الآية ما وقع في بعض بلدان المسلمين، لبعض أولاد العلماء والصالحين، الذين يتساهلون في دينهم، ويستخدمون الناس، فلا يصلّون الصلوات الخمس، ويفعلون المحرّمات، ويقولون للعوام: نحن سادة أبناء سادة، وأولياء أبناء أولياء، تطوى لنا الأرض، ونصلي في مكة، ويختلطون مع الأجانب، ويذكرون أذكارًا شيطانية، ويخبرون عن المغيبات، ويذبحون أموال الناس للجن، ويأخذونها منهم غصبًا، فما هؤلاء إلا طواغيت ومردة، فهم أشد ضررًا على المسلمين من اليهود والنصارى، فيا لها مصيبة ابتلي بها المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. 51 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} هذا تعجيب من حالهم، بعد التعجيب الأول، وأجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في اليهود، وسبب نزولها كما مر (¬1): أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجماعة معهما، جاؤوا مكة يحالفون قريشًا على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمَّد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلًا أم محمَّد، فقال كعب: ماذا يقول محمَّد؟ قالوا: يأمرنا بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني، وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلًا، قاله ابن عباس. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[52]

أي: ألم تنظر يا محمَّد - أو أيها المخاطب - متعجبًا إلى حال هؤلاء اليهود، الذين أعطوا حظًّا قليلًا من علم "التوراة"، يؤمنون ويسجدون للجبت، والأصنام والطاغوت والشيطان، الجبت: اسم للأصنام، والطاغوت: شياطين الأصنام، ولكل صنم شيطان يعبر فيها ويكلم الناس، فيغترُّون بذلك، وقيل الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر، وقيل غير ذلك. والخلاصة: ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، كيف حرموا هدايته، وهداية العقل والفطرة، وآمنوا بالدجل والخرافات، وصدقوا بالأصنام والأوثان، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم، والمعترفين بحقية كتبهم، {وَيَقُولُونَ}؛ أي: يقول هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ أي: اليهود، {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بالله وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: في حق الذين كفروا وشأنهم، يعني كفار مكة {هَؤُلَاءِ}؛ أي: كفار مكة أبو سفيان وأصحابه؛ أي: أنتم يا هؤلاء {أَهْدَى}؛ أي: أصوب دينًا وأقوم طريقًا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أنتم أهدى من محمَّد وأصحابه، وذكرهم بلفظ الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى، تعريفًا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح. أي: يقولون: إن المشركين أرشد طريقة في الدين من المؤمنين، الذين اتبعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، 52 - ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم، فقال: {أُولَئِكَ} القائلون: إن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى، هم {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} تعالى؛ أي: طردهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: ومن يطرده الله تعالى، ويبعده عن رحمته، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}؛ أي: لن تجد له أيها المخاطب ناصرًا ينصره ويدفع عنه العذاب في الدنيا والآخرة، فهو تأكيد لما قبله. والخلاصة: أولئك القائلون هم (¬1) الذين اقتضت سنن الله في خلقه أن ¬

_ (¬1) المراغي.

[53]

يكونوا بعيدين عن رحمته، مطرودين من فضله وجوده، ومن يبعده الله تعالى من رحمته فلن ينصره أحد من دونه، إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى في خليقته، وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت؛ إذ هم قد جاوزوا سنن الفطرة، واتبعوا الخرافات والأوهام؛ لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. 53 - ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين، إلى توبيخهم على البخل والأثرة، وطمعهم في أن يعود إليهم الملك في آخر الزمان، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم، ويدعو إلى دينهم، فقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)} وخصت هذه الأشياء الحقيرة المذكورة بقوله: فتيلًا في قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، وهنا بقوله: {نقيرًا} لوفاق النظير من الفواصل، ذكره أبو حيان. و {أم} في قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ} بمعنى بل التي للاضراب الإبطالي، وهمزة الإنكار؛ لأن الكلام إنكار على اليهود، وإبطال لقولهم: نحن أولى بالملك والنبوة، فكيف نتبع العرب، وتكذيب لهم في زعمهم أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، فيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم، و {إذًا} في قوله: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ} حرف جواب وجزاء لشرط مقدر، ورُفع الفعل بعدها، وإن كان مرجوحًا عند النحاة، لأن القراءة سنة متبعة، والفاء: للسببية الجزائية لذلك الشرط المحذوف. وقرىء - شاذًا على الأرجح -: بحذف النون، فقوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ}؛ أي: بل ألهم نصيب من الملك، يعني ليس لليهود ملك، ولو كان لهم ملك .. إذًا لم يؤتوا أحدًا شيئًا لشدة حرصهم وبخلهم؛ أي: إنهم لا حظ لهم من الملك، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم، وإيمانهم بالجبت والطاغوت. والمعنى (¬1): ليس لهم من الملك شيء البتة، ولو كان لليهود نصيب منه، فيتسبب عن ذلك أنهم لا يعطون واحدًا من الناس قدر ما يملأ النقير، وهو النقرة ¬

_ (¬1) مراح.

[54]

التي على ظهر النواة، التي تنبت منها النخلة، وهذا بيان لعدم استحقاقهم له، بل لاستحقاهم الحرمان منه؛ بسبب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئًا من ذلك .. لما أعطوا الناس من أقل القليل، ومن حق من أوتي الملك أن يؤثر الغير بشيء منه، فالله تعالى وصفهم في هذه الآية بالبخل، ووصفهم بالجهل في الآية المتقدمة، ووصفهم بالحسد في الآية الآتية، وهذه الخصال كلها مذمومة، فكيف يدعون الملك وهي حاصلة فيهم. والخلاصة (¬1): أن اليهود ذوو أثرة وشح، يشق عليهم أن ينتفع بهم غير اليهودي، فإذا صار لهم ملك .. حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، ومن كانت هذه حاله حرص أشد الحرص على أن لا يظهر نبي من العرب، يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله .. فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة، ولا يعطونهم منها نقيرًا، ولكن هل يعود الملك كما يريدون، ليس في الآية ما يثبت ذلك، ولا ما ينفيه، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل. وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس {فإذًا لا يؤتوا} بحذف النون على إعمال إذًا. 54 - ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وأم هنا بمعنى همزة الإنكار، وبل التي للإضراب الانتقالي (¬2)؛ لأنه انتقل من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها؛ أي: بل أتريد اليهود أن يحسدوا الناس؛ أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على ما آتاهم الله تعالى؛ أي: على العطاء الذي أعطاهم إياه من النبوة والكتاب، وازدياد العز والنصر يومًا فيومًا، وكثرة النساء له - صلى الله عليه وسلم -، وكانت له يومئذ تسع نسوة، فقالت اليهود: لو كان محمد نبيًّا .. لشغله أمر النبوة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الجمل.

عن الاهتمام بأمر النساء، حالة كون ذلك العطاء {مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه سبحانه وتعالى، وقوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} تعليل للإنكار المفهوم من الاستفهام المضمن للهمزة المقدرة؛ أي لا ينبغي لهم الحسد لمحمد وأصحابه، فإن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان؛ لأنا قد آتينا وأعطينا من قبل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - آل إبراهيم، الذين هم أنبياء أسلافهم، وأبناء أعمام لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ أي: النبوة؛ أي: أعطينا بعض آل إبراهيم الكتاب والنبوة، كموسى وعيسى وداود عليهم السلام، {وَآتَيْنَاهُمْ}؛ أي: وأعطينا بعضهم الآخر {مُلْكًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره مع النبوة، كداود وسليمان ويوسف عليهم السلام، فكان لداود مئة امرأة مهرية، ولسليمان سبع مئة سرية، وثلاث مئة امرأة مهرية، وهؤلاء الثلاثة كانوا في بني إسرائيل، ولم يشغلهم أمر النبوة عن أمر الملك والنساء، فهم يعلمون بما آتيناهم، فلم يحسدوهم، وليس ما آتينا محمدًا وأصحابه ببدع حتى يحسدوهم على ذلك، فلأي شيء يخصصون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحسد، دون غيره ممن أنعم الله عليهم من آل إبراهيم؟ والخلاصة: أنهم إن يحسدوه على ما أوتي .. فقد أخطؤوا؛ إذ ليس هذا ببدع منا؛ لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم، والعرب منهم فإنهم من ذرية إسماعيل ولده، فلم لم تعجبوا مما أوتي آل إبراهيم، وتعجبون مما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ ولم لا يكون مستبعدًا في حق هؤلاء، وكان مستبعدًا في حق محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟ وقوله: {مُلْكًا} قال الرازي: الملك إما ظاهرًا وباطنًا وهو: ملك الأنبياء، وإما ظاهرًا فقط وهو: ملك السلاطين، وإما باطنًا فقط وهو: ملك العلماء، والثلاثة كلها موجودة في بني إسرائيل. وفي الآية (¬1) رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآية بالمدينة، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدًا رويدًا. والحاصل: أن اليهود إما مغرورون مخدوعون، يظنون أن فضل الله لا ¬

_ (¬1) المراغي.

[55]

يعدوهم ورحمته تضيق بغيرهم، وإما حاسبون أن ملك الكون في أيديهم، فهم لا يعطون أحدًا منه ولو حقيرًا كالنقير، وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك، الذي ظهرت مبادؤه ومقدماته، 55 - {فَمِنْهُمْ}؛ أي: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم {مَنْ آمَنَ}، وصدق {بِهِ}؛ أي: بما أوتي آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}؛ أي: من أعرض عن الإيمان بما أوتي آل إبراهيم، وكفر به، وأنت يا محمَّد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم الحاسدون، فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، وهذا تسلية من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليكون أشد صبرًا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وعكرمة وابن يعمر والجحدري: {ومنهم من صُد عنه} بضم الصاد مبنيًّا للمفعول، وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوفي: بكسر الصاد مبنيًّا للمفعول، والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول، فتقول: حُب زيد بضم الحاء، وحِب بكسرها، ويجوز الإشمام فيه أيضًا، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ}؛ أي: وكفى هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين عذاب جهنم، من جهة كونها {سَعِيرًا}؛ أي: نارًا مسعرة متقدمة عليهم في الآخرة. والمعنى: إن نصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا .. فكفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى؛ لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزين لهم الشيطان، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم في دار الشقاء والنكال، وهي جهنم وبئس القرار. 56 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من آياتي الدالة على توحيدي، وصدق رسولي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} وندخلهم {نَارًا} مسعرة تشويهم، وتحرق أجسامهم، حتى تفقدها الحس والإدراك. وقرأ حميد: {نَصليهم} بفتح النون من صليت، وقرأ سلام ويعقوب: {نصليهُم} بضم الهاء، {كُلَّمَا نَضِجَتْ} واحترقت {جُلُودُهُمْ} وأجسامهم وفقدت التماسك الحيوي وبعدت عن الحس والحياة، {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}؛ أي:

بدلناهم جلودًا أخرى جديدة حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب، بأن يجعل النضيج غير النضيج، فالذات واحدة، والمتبدل هو الصفة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" متفق عليه. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضرس الكافر - أو قال: ناب الكافر - مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام"، رواه مسلم. ثم بين السبب في التبدل فقال: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}؛ أي: لكي يجدوا ألم العذاب، ويدوم لهم ذوق العذاب؛ لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الألم في الجلد. وفي التعبير بـ {يذوقوا} إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق، لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق. قال الدكتور عبد العزيز (¬1) بن إسماعيل باشا رحمه الله تعالى في كتابه "الإِسلام والطب الحديث": والحكمة في تبديل جلود الكفار أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية: فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألمًا شديدًا، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة؛ لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألمًا كثيرًا، فالله تعالى يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب .. نجدده كي يستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان، وكان الله عزيزًا حكيمًا انتهى. ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَزِيزًا}؛ أي: قادرًا غالبًا لا يمتنع عليه شيء مما يريده مما توعد به أو وعد، {حَكِيمًا}؛ أي: لا يفعل إلا الصواب، فيعاقب من يعاقبه على وفق حكمته، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات، فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره، ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

فيبطل اطرادها، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببًا للعذاب كما تقدم في الآية .. جعل الإيمان والعمل الصالح سببًا للنعيم، وذلك ما بينه بقوله: 57 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: امتثلوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات. {سَنُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: تسيل من تحت أشجارها، وبين قصورها {الْأَنْهَارُ} من الماء، واللبن والخمر والعسل، حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود في تلك الجنات {أَبَدًا}؛ أي: مدة لا نهاية لها ولا انقضاء؛ لأن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار، وإنما عبر هنا بالسين في قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ}، وفي الكفار بسوف في قوله: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} .. إشعارًا بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به، وهذا الكلام راجع إلى قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} لف ونشر مشوش على حد قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} على عادته تعالى من ذكر الوعيد مع الوعد وعكسه. والمعنى: أن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم، وقدموا من عمل صالح؛ لأن الإيمان وحده لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه، والشعور بهيبته وجلاله، {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}؛ أي: لهم في تلك الجنات أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية، كالحيض والنفاس مثلًا، ومن العيوب الخلقية، فليس فيهن ما يوحشهم منهن، ولا ما يكدر صفوهم، وبذا تكمل سعادتهم، ويتم سرورهم في تلك الحياة، التي لا نعرف كنهها، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}؛ أي: ظلًّا كثيفًا كنينًا، لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم، ولا تنسخه شمس، أو المعنى: ونجعلهم في مكان لا حر فيه ولا قر، وفي ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع لهم برغد العيش، وكمال الرفاهية، فإن قلت (¬1): إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها، فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ ¬

_ (¬1) الخازن.

قلتُ: إنما خاطبهم بما يعقلون ويعرفون؛ وذلك لأن بلاد العرب في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة واللذاذة، فهو كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، ويقال: إن أوقات الجنة كلها سواء اعتدالًا لا حر فيها ولا برد. وقرأ النخعي (¬1) وابن وثاب: {سيدخلهم} بالياء، وكذا {ويدخلهم ظلًّا} فمن قرأ بالنون وهم الجمهور .. لاحظ قوله في وعيد الكفار: {سوف نصليهم}، ومن قرأ بالياء .. لاحظ قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، فأجراه على الغيبة. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التعجبي، {لم ترَ} فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، أو على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأى هنا بصرية، تتعدى إلى مفعول واحد، وذلك الواحد عدت إليه بـ {إِلَى} لأنها ضمنت معنى النظر، والجملة مستأنفة. {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول {تَرَ} متعلق به. {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل، {نَصِيبًا}: مفعول ثان، والجملة صلة الموصول، {مِنَ الْكِتَابِ}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبًا}، {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من ضمير {أُوتُوا}، أو من الموصول. {وَيُرِيدُونَ}؛ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَشْتَرُونَ}. {أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُونَ}؛ أي: ويريدون ضلالتكم السبيل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين البيان الذي هو قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، وبين المبين الذين هو قوله: {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}. {بِأَعْدَائِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {وَكَفَى}: الواو عاطفة، {كفى بالله} فعل وفاعل والباء زائدة. {وَلِيًّا}: منصوب على التمييز أو حال، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ} على كونها معترضة. {وَكَفَى}: الواو عاطفة. {كفى بالله}: فعل وفاعل. {نَصِيرًا}: تمييز أو حال، والجملة معطوفة على كونها معترضة. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم لمبتدأ محذوف، تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. {هَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}: فعل وفاعل ومفعول، {عَنْ مَوَاضِعِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُحَرِّفُونَ}، والجملة صفة لمبتدأ محذوف، تقديره: قوم محرفون الكلم عن مواضعه كائن من الذين هادوا، والجملة في محل الجر بدل من قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}، وقوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا}: مقول محكي لـ {يقولون} منصوب به، وإن شئت قلت: {سَمِعْنَا}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول لـ {يقولون}، وكذلك جملة: {وَعَصَيْنَا}: معطوف عليه، {وَاسْمَعْ}: الواو عاطفة. {اسمع}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {سَمِعْنَا}، {غَيْرَ مُسْمَعٍ}: حال ومضاف إليه، أعني: حالًا من فاعل {اسمع}، ومفعول {اسمع}، محذوف تقديره: اسمع منا كلامنا، وكذلك المفعول الثاني لـ {اسمع} محذوف تقديره: غير مسمع مكروهًا، {وَرَاعِنَا}: الواو عاطفة. {راعنا}: فعل أمر ومفعول به

مجزوم بحذف حرف العلة؛ لأنه من راعى يراعي مراعاة بمعنى راقبه وحفظه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {سَمِعْنَا}. {لَيًّا}: مفعول لأجله لـ {يقولون}، أو منصوب على الحالية من فاعل {يقولون}، ولكن بعد تأويله بمشتق تقديره: حالة كونكم لاوين ألسنتكم، {بِأَلْسِنَتِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {لَيًّا}، {وَطَعْنًا}: معطوف على {لَيًّا}. {فِي الدِّينِ}: متعلق بـ {طَعْنًا}. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لو} حرف شرط غير جازم، {أَنَّهُمْ}: {أنَّ} حرف نصب ومصدر، والهاء اسمها. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {أن} تقديره: قائلون، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف هو فعل الشرط لـ {لو}، تقديره: ولو ثبت قولهم؛ لأن {لو} الشرطية لا يليها إلا الفعل. {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {سَمِعْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، وكذلك جملة {وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا}: معطوفات على {سَمِعْنَا}، {لَكَانَ}: اللام رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية. {كان}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القول الثاني، {خَيْرًا}: خبر كان، وجملة كان جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة، {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرًا}، {وَأَقْوَمَ}: معطوف على {خَيْرًا}. {وَلَكِنْ}: {الواو}: استئنافية، {لكن} حرف استدراك، {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، {بِكُفْرِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {لعن}، {فَلَا}: {الفاء} حرف عطف وتفريع؛ لكون ما قبلها علة لما بعدها، {لا} نافية، {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {لَعَنَهُمُ}، على كونها جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، {إِلَّا}: أداة استثناء، {قَلِيلًا}:

مستثنى من واو {يُؤْمِنُونَ} منصوب، وعلى اعتبار قول البعض: (قليلًا منهم): جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلًا}، وفي هذا (¬1) الوجه أنه كان المختار حينئذ الرفع على حد قول ابن مالك: ما استثنَتِ (إلّا) مَعْ تَمَامٍ يَنتَصبْ ... وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ انتُخِبْ إِتْباعُ مَا اتَّصَلَ وَانصِبْ ما انْقَطَعْ ... وَعَنْ تَمِيْمٍ فِيْهِ إِبْدَالٌ وَقَعْ وبعضهم جعله مستثنى من ضمير {لَعَنَهُمُ}، وبعضهم جعله صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا إيمانًا قليلًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء؛ أي: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي} وجملة النداء مستأنفة، {أُوتُوا الْكِتَابَ}: فعل مغير ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول، {آمِنُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {آمِنُوا}، {نَزَّلْنَا}: فعل وفاعل والمفعول محذوف تقديره نزلناه، وهو العائد على ما الموصولة، والجملة صلة لما أو صفة لها، {مُصَدِّقًا}: حال من ما الموصولة أو من الضمير المحذوف، {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقًا}، {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لما أو صفة لها، {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمِنُوا}، {أَنْ نَطْمِسَ}: ناصب وفعل مضارع منصوب وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {وُجُوهًا}: مفعول به والجملة الفعلية في تأويل مصدر مضاف إليه لـ {قَبْلِ}، تقديره آمنوا من قبل طمسنا وجوهًا منكم، {فَنَرُدَّهَا}: الفاء عاطفة، {نردها} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {نَطْمِسَ}، تقديره فردّنا إياها، {عَلَى أَدْبَارِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نرد}، {أَوْ نَلْعَنَهُمْ}: فعل ¬

_ (¬1) الجمل.

ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {نَطْمِسَ}، {كَمَا}: {الكاف} حرف جر، {ما} مصدرية. {لَعَنَّا}: فعل وفاعل، {أَصْحَابَ السَّبْتِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كلعننا أصحاب السبت، الجار والمجرور متعلق بـ {نلعن}، {وَكَانَ}: الواو استئنافية، {كان أمر الله}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، {مَفْعُولًا}: خبرها والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}. {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {لَا}: نافية، {يَغْفِرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {أَنْ يُشْرَكَ}: ناصب وفعل مغير، {بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن الله لا يغفر الإشراك به. {وَيَغْفِرُ}: الواو استئنافية، {يَغْفِرُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة مستأنفة، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَغْفِرُ}، {دُونَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة لـ {ما} أو صفة لها، {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يغفر}، {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والمفعول محذوف، تقديره لمن يشاء غفرانه، والجملة صلة من الوصولة. {وَمَنْ}: الواو استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُشْرِكْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بالله}: جار ومجرور متعلق بـ {يُشْرِكْ}، {فَقَدِ}: الفاء رابطة لجواب {مَنْ} وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بـ {قد}، {قد} حرف تحقيق. {افْتَرَى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {إِثْمًا}: مفعول

{افْتَرَى}، {عَظِيمًا}: صفة له. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)}. {أَلَمْ}: الهمزة للاستفهام التعجبي. {لم تر}: فعل مضارع وجازم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة مستأنفة، {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَرَ}، {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {بَلِ} حرف للإضراب الإبطالي، أضرب به على محذوف تقديره ولا عبرة بتزكيتهم أنفسهم بل الله يزكي من يشاء، {اللَّهُ}: مبتدأ، {يُزَكِّي}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}: والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على ذلك المحذوف، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والمفعول محذوف تقديره من يشاء تزكيته، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {وَلَا}: الواو عاطفة أو استئنافية، {لا} نافية. {يُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل، {فَتِيلًا}: مفعول ثان أو صفة لمصدر محذوف تقديره: ظلمًا قدر فتيل، والجملة الفعلية إما معطوفة على محذوف تقديره: فيعاقبون ولا يظلمون فتيلًا أو مستأنفة. {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)}. {انْظُرْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة، {كَيْفَ}: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب بـ {يَفْتَرُونَ}، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، ونصبه إما على التشبيه بالحال كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرف كما هو مذهب الأخفش، {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول {انْظُرْ}، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَفْتَرُونَ}، {الْكَذِبَ}: مفعول {يَفْتَرُونَ}، {وَكَفَى بِهِ}: فعل وفاعل، والباء زائدة والجملة مستأنفة، {إِثْمًا}: منصوب على التمييز أو على الحال، {مُبِينًا}: صفة له. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ

كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}. {أَلَمْ تَرَ}: الهمزة للاستفهام التعجبي، {لم تر}: جازم وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو على المخاطب، والجملة جملة إنشائية مستأنفة. {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَرَ}، {أُوتُوا نَصِيبًا}: فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول، {مِنَ الْكِتَابِ}: صفة لـ {نَصِيبًا}. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من واو {أُوتُوا}، {بِالْجِبْتِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {وَالطَّاغُوتِ}: معطوف على الجبت. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ}، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {يَقُولُونَ}، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}: مقول محكي لـ {يقولون}، وإن شئت قلت: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول يقولون، {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَهْدَى}، {آمَنُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، {سَبِيلًا}: تمييز محول عن المبتدأ أعني هؤلاء منصوب باسم التفضيل أعني {أَهْدَى}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة، {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول. {وَمَن} {الواو}: استئنافية. {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما، {يَلْعَنِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بمن على كونه فعل الشرط لها، والمفعول محذوف تقديره يلعنه، {فَلَنْ} الفاء رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بـ {لن} {لن تجد} فعل وناصب وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على المخاطب، والجملة في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {لَهُ}: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {تَجِدَ}، {نَصِيرًا}: مفعول أول له.

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى همزة الإنكار وبل التي للإضراب الإبطالي أو الانتقالي، لا في الكلام من الانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم، إلى ذمهم بادعائهم نصيبًا من الملك، وبخلهم المفرط وشحهم البالغ، {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {نَصِيبٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة (¬1) على محذوف، تقديره: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك؟ فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا، {مِنَ الْمُلْكِ}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبٌ}، {فَإِذًا} {الفاء} عاطفة سببية، {إِذًا}: حرف جواب ملغاة هنا غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، {لَا}: نافية، {يُؤْتُونَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {نَقِيرًا}: مفعول ثان. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية؛ أعني قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ}، وإن شئت قلت: {الفاء}: رابطة الجواب لشرط محذوف تقديره: إن كان لهم نصيب من الملك .. فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، {إذًا}: حرف نصب وجواب، {لا}: نافية، {يُؤْتُونَ}: فعل مضارع منصوب بـ {إذًا}، وعلامة نصبه حذف النون الثابتة تبعًا للقراءة؛ لأن القراءة سنة متبعة، بدليل حذفها في القراءة الشاذة، و {الواو} فاعل، وجملة الشرط المقدر مستأنفة. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}. {أَمْ}: منقطعة أيضًا، بمعنى همزة الإنكار وبل التي للإضراب الانتقالي، {يَحْسُدُونَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَحْسُدُونَ}، {آتَاهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره إياه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {مِنْ فَضْلِهِ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف. {فَقَد}: {الفاء} تعليلية. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{قد}: حرف تحقيق، {آتَيْنَا}: فعل وفاعل، {آلَ إِبْرَاهِيمَ}: مفعول أول ومضاف إليه، {الْكِتَابَ}: مفعول ثان، {وَالْحِكْمَةَ}: معطوف على {الْكِتَابَ}، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية، تقديره: ولا ينبغي لهم الحسد؛ لأنا قد آتينا آل إبراهيم فلم يحسدوهم، فلم حسدوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {وَآتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {مُلْكًا}: مفعول ثان، {عَظِيمًا}: صفة له، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْنَا} الأول. {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}. {فَمِنْهُمْ}: {الفاء} حرف عطف وتفريع وفي الفتوحات قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} تفريع (¬1)، على أصل القصة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} انتهى. ويصح أن يقال: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أمرنا لهم بالإيمان بما نزلنا، وأردت بيان حالهم بعد ذلك .. فأقول لك: {مِنْهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، {ءَامَنَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، {وَمِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {من} الأولى، {صَدَّ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول، {عَنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {صَدَّ}، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ}: فعل وفاعل والباء زائدة، {سَعِيرًا}: تمييز أو حال والجملة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}. ¬

_ (¬1) الجمل.

{إِنَّ}: حرف نصب، {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا}، {سَوْفَ}: حرف تنفيس، {نُصْلِيهِمْ}: فعل ومفعول أول، {نَارًا}: مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلق بالجواب، {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، {بَدَّلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {جُلُودًا}: مفعول ثان، {غَيْرَهَا}: {غير} صفة لـ {جُلُودًا}؛ لأنه بمعنى المغايرة، و {الهاء}: مضاف إليه، والجملة الفعلية جواب {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّمَا} مستأنفة، {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، تقديره لذوقهم العذاب، الجار والمجرور متعلق بـ {بَدَّلْنَاهُمْ}. {إِنَّ}؛ حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {عَزِيزًا}: خبر أول لها، {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}، {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ}: فعل ومفعولان وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {سَنُدْخِلُهُمْ}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ} ولكنها سببية. {خَالِدِينَ}: حال من ضمير المفعول في {سَنُدْخِلُهُمْ}، {فِيهَا}: جار

ومجرور متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {أَبَدًا} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {خَالِدِينَ}، و {أَبَدًا}، ظرف مستغرق للزمان المستقبل إلى ما لا نهاية له، فليس المراد بالخلود طول المكث. {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {فِيهَا}: جار ومجرور حال من {أَزْوَاجٌ}، وجوز مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها. {أَزْوَاجٌ}: مبتدأ مؤخر، {مُطَهَّرَةٌ}: صفة لـ {أَزْوَاجٌ}، والجملة الإسمية في محل النصب حال ثانية من ضمير {سَنُدْخِلُهُمْ}، أو صفة ثانية لـ {جَنَّاتٍ}، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، {ظَلِيلًا}: صفة مؤكدة لـ {ظَلِيلًا}، كـ: ليلٍ أليل ويوم أيوم وداهية دهياء، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {سَنُدْخِلُهُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}: النصيب الحصة من الشيء والحظ، يقال: هذا نصيبي؛ أي: حظي، كأنه الشيء الذي رفع لك وأهدف لك، ويقال: ضرب فلان بنصيب؛ أي: فاز، ومنه اليانصيب عند المولدين، يجمع على أنصبة وأنصباء ونصب ذكره في "المنجد"، {راعنا}: إما بمعنى أرقبنا وانظرنا نكلمك، من راعى يراعي مراعاة، بمعنى راقبه وحفظه، وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا، من الرعونة: وهي الحمق وقلة العقل، {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ}؛ أي: فتلًا بها، وصرفًا للكلام عن ظاهره إلى نسبة السب إليه. وأصل ليًّا: لويًا من لوى يلوي لويًا، كـ: رمى يرمي رميًا، فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء في الياء، فصار ليًّا مثل طي؛ لأنه مصدر طوى يطوي، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ}: وصيغة التفضيل في خيرًا وأقوم إما على بابها، واعتبار (¬1) أصل ¬

_ (¬1) أبو السعود.

الفعل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم، أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا}: أصل الطمس (¬1) هو الآثار وإزالة الأعلام بمحوها أو بإخفائها، كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق إما بأن تنقل حجارتها وإما بأن تسفوها الرياح، ومنه الطمس على الأموال في قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: أزلها وأهلكها والطمس على الأعين في قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} إما بإزالة نورها، وإما بمحو حدقتها، وفعله من باب فعل المفتوح، وفي مضارعه وجهان: الضم يقال: طمس يطمس طمسًا وطموسًا من باب نصر، والكسر: طمس يطمِس طمسًا من باب ضرب، والوجه (¬2): تارة يراد به الوجه المعروف، وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد، كما قال تعالى: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}، وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}، وقال: {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، والأدبار: جمع دبر وهو الخلف والقفا. {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} يقال: افترى فلان الكذب - من باب افتعل - إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع، يقال: فرى عليه الكذب - من باب رمى - فريًا وفرية إذا اختلقه عليه من عند نفسه، قال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب؛ أي: عن الخيرات التي يثاب المرء عليها، وقد يطلق الإثم على ما كان ضارًّا انتهى. {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}: من زكَّى الرباعي مزيد زكى بمعنى طهر ونما، يقال: زكى نفسه يزكي تزكية إذا مدحها، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} والظلم النقص، والفتيل ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، كما يضرب بمثقال ذرة، فهو فعيل بمعنى مفعول. {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الجبت أصله الجبس (¬3)، وهو: الرديء الذي لا خير فيه، ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدجل، والطاغوت: ما تكون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

عبادته والإيمان به سببًا للطغيان والخروج من الحق، من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهو يتبع. {نَقِيرًا}: والنقير: النقرة التي في ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، يضرب بها المثل في الشيء الحقير التافه، كما يضرب المثل بالقطمير، وهو: القشرة الرقيقة التي تكون على النواة بينها وبين التمرة. {يَحْسُدُونَ} يقال: حسد فلان فلانًا - من باب نصر - إذا تمنى زوال نعمته عنه، فالحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها، {النَّاسَ}: والناس هنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه. {مِنْ فَضْلِهِ}: والفضل: النبوة والكرامة في الدين والدنيا، {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: الكتاب: العلم بظاهر الشريعة، والحكمة: العلم بالأسرار المودعة فيها، {مَنْ صَدَّ عَنْهُ} يقال: صد عن الشيء إذا أعرض عنه، وهو من المضاعف اللازم، الذي جاء بالوجهين في مضارعه: الكسر على القياس، والضم على الشذوذ، كما قال ابن مالك في "لامية الأفعال": قَسَّتْ كذا وَعِ وَجْهَيْ صَدَّ أثَّ وخَرْ ... رَ الصَّلْدُ حَدَّتْ وثرَّتْ جَدَّ مَنْ عَمِلا يقال: صد عن الشيء يصد بالكسر على القياس، ويصد بالضم على الشذوذ صدودًا، إذا أعرض عنه، كما بسطنا الكلام عليه في شرحنا "مناهل الرجال على لامية الأفعال"، {سَعِيرًا}: فعيل بمعنى مفعلة؛ أي: مسعرة، يقال: نار مسعرة؛ أي: موقدة، ويقال: أوقدت النار وأسعرتها إذا صيرتها موقدة. {كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} جمع آية، والمراد بالآيات (¬1): الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق، ومن أجلها القرآن؛ لأنه أول الدلائل، وأظهر الآيات وأوضحها، والكفر بها يعم إنكارها، والغفلة عن النظر فيها، وإلقاء الشبهات والشكوك، مع العلم بصحتها عنادًا وحسدًا {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} من أصلاه بالنار إصلاء إذا شواه بها، يقال: شاة مصلية؛ أي: مشوية، فهو بضم النون من باب ¬

_ (¬1) المراغي.

أفعل الرباعي، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}؛ أي: احترقت وتهرأت وتلاشت، من قولهم: نضج الثمر واللحم - من باب فرح - نضجًا، إذا أدركا وطاب أكلهما، فهو ناضج ونضيج، واستنضج الكراع؛ أي: يد الشاة إذا طبخه، {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} يقال: ذاق الشيء يذوق - من باب قال - إذا أدركه بحاسة الذوق، والمعنى هنا؛ أي: ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كما تقول للعزيز: أعزك الله؛ أي: أدام لك العز وزادك فيه، {كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} العزيز فعيل بمعنى فاعل، وهو القادر الغالب على أمره، لا يعجزه عنه شيء، والحكيم هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب، {مُطَهَّرَةٌ}: اسم مفعول لمؤنث، من طهر المضعف؛ أي: منقاة من العيوب والأدناس الحسية والمعنوية، {ظِلًّا ظَلِيلًا}: وصف الظل بالظليل للمبالغة والتأكيد في المعنى، كقولهم ليل أليل ويوم أيوم؛ أي: ظلًّا وارفًا لا يصيب صاحبه حرٌّ ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس، وقد يعبر بالظل عن العز والمنعة والرفاهية، فيقال: السلطان ظل الله في أرضه، ولما كانت بلاد العرب غاية في الحرارة .. كان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة، وكان ذلك عندهم رمزًا للنعيم المقيم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (¬1): منها: الاستفهام الذي يراد به التعجب في قوله: {أَلَمْ تَرَ} في الموضعين. ومنها: التعجب بلفظ الأمر في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} إذا فسر بالرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من باب ذكر الخاص باسم العام إشارة إلى أنه جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين، على حد قول القائل: أنت الناس كل الناس أيها الرجل، وقول الآخر: وَلَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَن يَجْمَعَ الْعَالَمِ فِيْ وَاحَدٍ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الخطاب العام الذي أريد به الخاص في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} وهو دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابن صوريا، وكعبًا وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. ومنها: الاستعارة في قوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ} وفي قوله: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب، وفي قوله: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ}؛ لأن أصل اللَّيِّ فتل الحبل، فاستعير الكلام الذي قصد به غير ظاهره، وفي قوله: {نَطْمِسَ وُجُوهًا} وهو عبارة عن مسخ الوجوه تشبيهًا بالصحيفة المطموسة التي عميت سطورها وأشكلت حروفها. ومنها: الطباق في قوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، والوجه ضد القفا، وفي قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وفي قوله: {مَنْ آمَنَ} و {مَنْ صَدَّ} وهذا طباق معنوي. ومنها: الاستطراد في قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}. ومنها: التكرار في قوله: {يَغْفِرُ}، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: {آتينا} {وآتيناهم}، وفي قوله: {فَمِنْهُم} {وَمِنْهُم}، وفي قوله: {جُلُودُهُمْ} {وجلودا}، وفي: {سَنُدْخِلُهُمْ} {وَنُدْخِلُهُمْ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا}، وفي قوله: {لَا يَغْفِرُ} {وَيَغْفِرُ}، وفي قوله: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ}، وفي قوله: {لَا يُؤْتُونَ} {مَا آتَاهُمُ} {آتَيْنَا} {وَآتَيْنَاهُمْ}، وفي قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} {وآمنوا أهدى}. ومنها: تلوين الخطاب في قوله: {يَفْتَرُونَ} أقام المضارع مقام الماض، إعلامًا أنهم مستمرون على ذلك. ومنها: الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ}، وفي: {أم يحسدون}. ومنها: الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ}.

ومنها: التقسيم في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}. ومنها: التعريض في قوله: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} عرض بشدة بخلهم. ومنها: إقامة المنكَّر مقام المعرَّف لملاحظة الشيوع والكثرة في قوله: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}. ومنها: الاختصاص في قوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا}. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ}. ومنها: الإطناب في مواضع. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه (¬1) لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكان من أجلِّ تلك الأعمال أداء ¬

_ (¬1) المراغي.

الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس لا جرم .. أمر بهما في هذه الآية. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه الآية لما قبلها هو: أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات .. نبه على هذين العملين الشريفين، اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة: فأحدهما: ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة، التي عرضت على السموات والأرض، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. والثاني: ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره .. أمر بأداء الأمانة أولًا، ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق انتهى. وفي "الفتوحات" قوله تعالى (¬2): {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} خطاب للمكلفين قاطبة، وهذه الآية مناسبة ومرتبطة بقوله سابقًا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ...} إلخ، وذلك أن اليهود كانوا يعرفون الحق وأوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة في "التوراة"، وهي أمانة عندهم، ومع ذلك كتموها وأنكروها، وقالوا لأهل مكة أنتم أهدى سبيلًا من محمَّد وأصحابه، فلما خانوا في هذه الأمانة الخاصة .. أمر الله تعالى عموم المكلفين بأداء جميع الأمانات بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ ...} إلخ، تأمل انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل .. أمر الرعية بطاعتهم. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل.

أوجب في الآية السالفة على جميع المؤمنين طاعة الله وطاعة الرسول .. ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول، ولا يرضون بحكمه، بل يريدون حكم غيره. وعبارة أبي حيان (¬1): مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر .. ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال من يدعي الإيمان، ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت، ويترك الرسول انتهت. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما (¬2): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أوجب فيما سلف طاعة الله وطاعة الرسول، وشنَّع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول، وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت .. ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة، وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان؛ لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه .. ذكر هنا قصور كثير من الناس في ذلك؛ لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم. قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: لما أمر الله سبحانه وتعالى فيما سلف بطاعته وطاعة الرسول، ثم شنع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت، وصدوا عن الرسول، ثم رغب في تلك الطاعة بقوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} .. حيث على الطاعة، وشوق إليها بذكر مزاياها، وبيان حسن عواقبها، وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم، وأرفع ما تشرئب إليه الأعناق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما رواه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة .. دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: "أرني المفتاح" مفتاح الكعبة - فأتاه به، فلما بسط يده إليه .. قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هات المفتاح يا عثمان"، فقال: هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} حتى فرغ من الآية، وفي رواية زيادة: وأسلم عثمان، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم". وقيل (¬2): نزلت عامة، وهو مروي عن أبي وابن عباس والحسن وقتادة. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية الحديث، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه. وقد أخرج ابن جرير (¬3): أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرًا فأجار عمار رجلًا بغير أمره، فتخاصما فنزلت الآية. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البحر المحيط. (¬3) لباب النقول.

يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ...} إلى قوله: {إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت، ومتعب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدَّعون الإِسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي؛ لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، واتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة فنزلت. قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراج الحرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: ما حسبت هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...}. وأخرج الطبراني في "الكبير"، والحميدي في "مسنده" عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: خاصم الزبير رجلًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى للزبير فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته، فنزلت: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ...} الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ ...} الآية، قال: أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا، فقال: ردنا إلى عمر، فقال: أكذاك قال؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فاقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملًا على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر، فأنزل الله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ...} الآية، وهذا مرسل غريب في إسناده ابن لهيعة. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: لما نزلت: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...} الآية، افتخر ثابت بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}. قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ...} الآية، سبب نزولها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك لأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك .. عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال أصحاب (¬1) محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: يا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[58]

رسول الله، ما ينبغي أن نفارقك فإنك لو قدْ مِتَّ لرفعت فوقنا، ولم نرك، فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ...} الآية. وأخرج عن عكرمة قال: أتى فتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت معي في الجنة إن شاء الله" وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع وقتادة والسدي. التفسير وأوجه القراءة 58 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {يَأمُرُكُمْ} أيها المكلفون، {أَنْ تُؤَدُّوا} وتسلموا {الْأَمَانَاتِ} التي إئتمنتم عليها {إِلَى أَهْلِهَا} ومستحقيها، وتردوها إليهم فورًا، لما حكى الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا .. أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات؛ لأن الآية وإن نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة كما مر، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقرىء: {أن تؤدوا الأمانة} بالإفراد، كما ذكره أبو حيان. والأمانة على ثلاثة أنواع (¬1): الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به، والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وقد ورد في الأثر: "إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل". والثاني: أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها، وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك، مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام. ويدخل في ذلك عدل الأمراء مع الرعية، وعدل العلماء مع العوام، ¬

_ (¬1) المراغي.

بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغبهم في الخير والإحسان، وعدل الرجل مع زوجه بأن لا يفشي أحد الزوجين سرًّا للآخر، ولا سيما السر الذي يختص بهما، ولا يطلع عليه عادة غيرهما. والثالث: أمانة الإنسان مع نفسه؛ بأن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته، وما يعرف من الأطباء، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما في أوقات انتشار الأمراض والأوبئة. فكل هذه الأنواع داخلة في الأمانة التي أمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها. وروى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قلما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". {و} إن الله سبحانه وتعالى يأمركم {إذا حكمتم بين الناس} إذا أردتم الحكم بين الناس {أن تحكموا} بينهم {بالعدل}؛ أي: بالحكم الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". أخرجه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم عنده مجلسًا، إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر". أخرجه الترمذي. والحكم بين الناس له طرق منها: الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة. والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور:

الأول: فَهْم الدعوى من الدعي، والجواب من المدعى عليه؛ ليعرف موضع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين. والثاني: خلو الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين. والثالث: معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله تعالى؛ ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة. والرابع: تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام. وقد أمر المسلمون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، وقال تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى}، ثم بَيَّن حسن العدل وأداء الأمانة، فقال: {إن الله} سبحانه وتعالى {نعما يعظكم به}؛ أي: نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس؛ إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور بكسر النون إتباعًا لحركة العين؛ لأن أصله: نعم على وزن شهد، وقرأ بعض القراء بفتح النون على الأصل، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وسكون العين. {إنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {كاَنَ سميعًا} لكل المسموعات، يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل، {بَصِيرًا} لكل المبصرات، يبصركم إذا أديتم الأمانة، فيجازيكم على ما يصدر منكم. والمعنى: فعليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات، فإذا حكمتم بالعدل .. فهو سميع لذلك الحكم، وإن أديتم الأمانة .. فهو بصير بذلك، فيجازيكم على كل الأفعال والأقوال، وفي هذا وعد عظيم للمطيع ووعيد شديد للعاصي. وإلى ذلك الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك" متفق عليه. وفيه أيضًا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة؛ لأنه قد فوض إليهم النظر في مصالح العباد، وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بأداء

[59]

الأمانات إلى أهلها، وبالحكم بين الناس بالعدل، مخاطبًا بذلك جميع الأمة، 59 - أمر بطاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَطِيعُوا اللَّهَ} واعملوا بكتابه فيما أمر به ونهى عنه، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - واعملوا بسنته، فقد جرت سنة الله تعالى بأن يبلغ عنه شرعه رسل منا تكفل بعصمتهم، وأوجب علينا طاعتهم، {و} أطيعوا {أولي الأمر}؛ أي: أصحاب أمر الأمة ومتولي شؤونهم بالأمر والنهي لهم حالة كونهم كائنين {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، وهم (¬1) الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا أمناء، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله، التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني: فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد، بل إنما يؤخذ عن الله ورسوله فحسب، وليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه، فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع، وكانوا مختارين في ذلك، غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه .. فطاعتهم واجبة، كما فعل عمر - رضي الله عنه - حين استشار أهل الرأي من الصحابة في اتخاذ الديوان الذي أنشأه، وفي غيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الأمر من الصحابة، ولم تكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعترض عليه أحد من علمائهم في ذلك. وقال الشوكاني (¬2): وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه، ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعتني فقد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح القدير.

أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني". متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله .. فلا سمع ولا طاعة". متفق عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله" رواه البخاري. وقال العلماء (¬1): طاعة الإِمام واجبة على الرعية ما دام على الحق، فإذا زال عن الكتاب والسنة .. فلا طاعة له، وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ}؛ أي: فإن اختلفتم (¬2) أيها المجتهدون {فِي شَيْءٍ} من أمور دينكم، غير مذكور حكمه في الكتاب والسنة والإجماع {فَرُدُّوهُ}؛ أي: فأرجعوا ذلك الشيء {إِلَى} كتاب {اللَّهِ} تعالى، {و} إلى {الرَّسُولِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، في حياته وإلى سنته المأثورة عنه بعد وفاته. أي: فقيسوا ذلك الشيء المتنازع فيه على واقعة منصوص عليها في الكتاب والسنة، تشبهه في الصدرة، أي: في هيئة الصدور والوقوع والصفة، ويؤيد هذا (¬3) المعنى الخبر والأثر: أما الخبر: فهو أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قُبلة الصائم فقال - صلى الله عليه وسلم - "أرأيت لو تمضمضت"، والمعنى: أخبرني هل تبطل المضمضة الصوم أم لا؟، أي: فكما أن المضمضة مقدمة للأكل، فكذا القبلة مقدمة للجماع، فإذا كانت المضمضة لا تفسد الصوم .. فكذلك القبلة، ولما سألته - صلى الله عليه وسلم - الخثعمية عن الحج عن أبيها .. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه .. هل يجزئ ذلك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح. (¬3) المرح.

عنه"؟ قالت: نعم قال:" فدين الله أحق بالقضاء". وأما الأثر: فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك. فدل مجموع ما ذكر على أن قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ} أمر برد الشيء المتنازع فيه إلى شبيهه، وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله تعالى: قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء: قياس الطرد. وفي هذه الآية (¬1): إشارة إلى أدلة الفقه الأربعة، فقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ} إشارة إلي الكتاب. وقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إشارة إلى السنة. وقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} إشارة إلى الإجماع. وقوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ......} إلخ إشارة إلى القياس. وعبارة المراغي هنا قوله (¬2): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ أي: فإذا لم يوجد نص على الحكم في الكتاب ولا في السنة .. ينظر أولو الأمر فيه؛ لأنهم هم الذين يوثق بهم، فإذا اتفقوا وأجمعوا .. وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا .. وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة، فما كان موافقًا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به، وما كان مخالفًا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه، وبذا يزول التنازع وتجتمع الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس، والأول هو الإجماع الذي يعتد به. ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين في الحكومة الإِسلامية، وهي أربعة: الأصل الأول: القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله تعالى. والأصل الثاني: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل بها طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والأصل الثالث: إجماع أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد، الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع ¬

_ (¬1) صاوي. (¬2) المراغي.

والزراع ورؤساء العمال والأحزاب ومديري الصحف ورؤساء تحريرها، وطاعتهم هي طاعة أولي الأمر. والأصل الرابع: عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة، وذلك قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فهذه الأربعة الأصول هي مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة، ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن، ويجب على الحكام الحكم بما يقرونه، وبذلك تكون الدولة الإِسلامية مؤلفة من جماعتين: الأولى: الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن الهيئة التشريعية. والجماعة الثانية: جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون الهيئة التنفيذية. وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرًّا وجهرًا، وهي بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر؛ لأنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى، أو حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها، الذين وثقت بإخلاصهم، وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها. وقوله: {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} شرط جوابه محذوف معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم أيها المؤمنون تصدقون بوحدانية الله وبمجيء اليوم الآخر .. فردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله، بعرضه على الكتاب والسنة، فإن المؤمن لا يقدم شيئًا على حكم الله، كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا، وفي هذا دليل على أن من لم يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه .. فإنه لا يكون مؤمنًا حقًّا. وفي "الخازن" قال العلماء: في الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب طاعة الله وطاعة رسوله ومتابعة السنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون مؤمنًا بالله واليوم الآخر انتهى. {ذَلِكَ}؛ أي: رد الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله {خَيْرٌ} لكم من

[60]

التنازع والقول بالرأي، بالنظر إلى مصالحكم الدينية والدنيوية {وَأَحْسَنُ} لكم {تَأوِيلًا}؛ أي: مالًا وعاقبة ومرجعًا وأجرًا في الآخرة؛ لأنه أقوى الأسس في حكومتكم، والله أعلم منكم بما هو الخير لكم، ومن ثم لم يشرع لكم في كتابه وعلى لسان رسوله إلا ما فيه مصالحكم ومنافعكم، وما هو أحسن عاقبة؛ لما فيه من قطع عرق التنازع وسد ذرائع الفتن. 60 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجيب للمخاطب؛ أي: ألم تنظر يا محمد أو أيها المخاطب {إِلَى} عجيب أمر هؤلاء {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}؛ أي: يدعون ويقولون بأفواههم قولًا كذبًا؛ لأن الزعم مطية الكذب، {أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من "القرآن" {و} بـ {مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} على الأنبياء من "التوراة" و"الإنجيل"، ومع ذلك الزعم {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا} ويترافعوا {إِلَى الطَّاغُوتِ}؛ أي: إلى الشخص الكثير الطغيان، الذي هو أبو برزة الأسلمي، أو كعب بن الأشرف، على الخلاف في سبب نزولها طلبًا للحكم منه {و} الحال أنهم {قد أمروا} في "القرآن" {أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}؛ أي: بالطاغوت قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال أيضًا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. والمعنى: انظر أيها المخاطب إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بك وبمن قبلك من الرسل، ويأتون بما ينافي الإيمان، إذ الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضي العمل بما شرعه الله تعالى على ألسنة أولئك الرسل، وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ في نفس مدعيه، فكيف إذا عمل بضد ما شرعه الله، فهؤلاء المنافقون إذا هربوا من التحاكم إليك، وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال، من أولئك الكهنة والمشعوذين (¬1)، سواء أكان أبا برزة الأسلمي أم كعب بن الأشرف .. فحالهم هذا دليل على أن الإيمان ليس له أثر في نفوسهم، بل هي كلمات يقولونها بأفواههم، لا تعبر عما تلجلج ¬

_ (¬1) المشعوذين: من الشعوذة، وهي خفة في اليد وأعمال كالسحر، تري الشيء للعين على غير ما هو عليه اهـ.

[61]

في صدورهم، وكيف يزعمون بالإيمان بك، وكتابك المنزل عليك يأمرهم بالكفر بالجبت والطاغوت في آيات كثيرة كما مرت، وهم يتحاكمون إليه؟ فألسنتهم تدعي الإيمان باللهِ وبما أنزله على رسله، وأفعالهم تدل على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه. ويدخل في هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدجالين، كالعرافين وأصحاب المندل (¬1) والرمل من أولياء الشياطين المخرفين الضالين المضلين. وفي الآية إيماء إلى أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. فهو خارج من الإِسلام، سواء رده من جهة الشك، أو من جهة التمرد والعناد. وقرأ الجمهور: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ} مبنيًّا للمفعول. وقرىء مبنيًّا للفاعل فيهما، وقرأ عباس بن الفضل {أنْ يَكْفُرُوا بِهِا} بهاء التأنيث على أن الطاغوت جمع، كقوله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ} عطف (¬2) على يريدون، داخل في حكم التعجيب؛ أي: ويريد الشيطان {أَنْ يُضِلَّهُمْ} ويبعدهم عن طريق الحق والهدى {ضَلَالًا بَعِيدًا}؛ أي: إضلالًا بالغًا النهاية، وأن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه. والخلاصة: أن الواجب على المسلمين أن لا يقبلوا قول أحد، ولا يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأي أولي الأمر؛ لأنه أقرب إلى المصلحة. 61 - قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} الآية، تكملة (¬3) لمادة التعجيب، ببيان ¬

_ (¬1) المندل: عند أصحاب التعزيم نوع من الرقى، وهو أن يخط المعزم دائرة على الأرض يجلسون داخلها إذا أرادوا دعوة الأرواح واستعلامها أمرًا من الأمور، سموا أصحاب المندل لتبخيرهم المندل الذي هو نوع من الطيب الهندي عند إحضارهم الأرواح الذين هم نوع من الجن اهـ. (¬2) أبو السعود. (¬3) أبو السعود.

[62]

إعراضهم صريحًا عن التحاكم إلى كتاب الله ورسوله، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت؛ أي: وإذا قيل لأولئك الزاعمين للإيمان الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت {تَعَالَوْا} وأقبلوا {إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في "القرآن" لنعمل به، ونحكمه فيما بيننا {وَإِلَى الرَّسُولِ} محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ليحكم بيننا بما أراه الله تعالى {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}؛ أي: رأيت يا محمد هؤلاء المنافقين الزاعمين للإيمان، وأبصرتهم حال كونهم يعرضون عن حكمك إعراضًا كليًّا متعمدًا منهم، فذكر المصدر للتأكيد، وهذه الآية مؤكدة لما دلت عليه الآية التي قبلها، من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء؛ لأن حكم الرسول لا يكون إلا حقًّا متى بينت الدعوى على وجهها، وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ، بجهل القاضي بالحكم، أو بجهل تطبيقه على الدعوى، وهي أيضًا دالة على أن من أعرض عن حكم الله متعمدًا ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقًا لا يعتقد ما يزعمه من الإيمان، ولا ما يدعيه من الإِسلام. وقرأ الحسن {تعالوا} بضم اللام على أنه حذف منه لام الفعل اعتباطًا بل تخفيفًا، ثم ضم اللام لمناسبة واو الضمير بناء على أن أصله {تعاليوا} من تعاليت، والوجه فتح اللام كقراءة الجمهور. 62 - والاستفام في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} للتعجب؛ أي: فكيف حال هؤلاء المنافقين، أو كيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة من مصائب الدنيا والآخرة، ووقعت عليهم بلية وعقوبة لا يقدرون على دفعها، وقيل المصيبة: هي قتل عمر ذلك المنافق، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: بسبب ما عملته واقترفته أيديهم من الإعراض عن حكمك والتحاكم إلى غيرك، وأطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله، وتبين أن عملهم يكذب دعواهم الإيمان، {ثُمَّ} اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشف عنهم ما نزل بهم من المصيبة، و {جَاءُوكَ} معتذرين عن صدودهم حالة كونهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: يقسمون باسم الله تعالى، قائلين والله {إنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}؛ أي: ما قصدنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحسانًا وإصلاحًا في معاملتنا، لا إساءة بك، وإلا توفيقًا بين الخصمين وقطعًا للمنازعة بينهما، لا مخالفة لك في

[63]

حكمك، وقيل: جاء (¬1) أولياء المنافق الذي قتله عمر، يطلبون عمر بدمه، وقد أهدره الله تعالى، يحلفون بالله كذبًا للاعتذار قائلين ما أراد صاحبنا المقتول بالتحاكم إلى عمر إلا أن يصلح، ويجعل الاتفاق بينه وبين خصمه، ويأمر كل واحد من الخصمين بتقريب مراده إلى مراد صاحبه، حتى يحصل بينهما الموافقة، وما خطر ببالنا أنه يقتل صاحبنا، وأنت يا رسول الله لا تحكم إلا الحق المر، ولا يقدر أحد على رفع الصوت عندك، وفي الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا، وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون حين لا يقبل منهم الاعتذار. 63 - {أُولَئِكَ} المنافقون الموصوفون بالصفات السابقة، هم {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق والغيظ والعداوة، وهذا الكلام من الأسلوب الذي يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، مسرة أو حزن، فيقول الرجل لمن يحبه، ويحفظ وده: الله يعلم ما في نفسي لك؛ أي: إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى، ويقول في العدو الماكر المخادع: الله يعلم ما في قلبه؛ أي: إن ما في قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدًّا كبيرًا لا يعلمه إلا علام الغيوب. فالمعنى هنا: إنَّ ما في قلوبهم من الكفر والحقد والكيد، وتربص الدوائر بالمؤمنين، بلغ من الفظاعة مقدارًا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تُقبل (¬2) عليهم بالبشاشة والتكريم؛ إذ هذا يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما في قلوبهم، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم .. ظنوا الظنون، وقالوا: لعله عرف ما في نفوسنا، لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا، وقيل (¬3): معنى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}؛ أي: لا تقبل منهم ذلك العذر والحلف، ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فإن من هتك ستر عدوه .. فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

فيزداد الشر، وإذا تركه على حاله .. بقي في وجل فيقل الشر {وَعِظْهُمْ}؛ أي: وازجرهم عن النفاق والكيد والحسد والكذب، وخوفهم بعذاب الآخرة، وانصح لهم، وذكرهم بالخير على وجه ترق له قلوبهم، ويبعثهم على التأمل فيما يُلقى إليهم من العظات والزواجر، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: خاليًا بهم ليس معهم غيرهم؛ لأن النصيحة على الملأ تقريع، وفي الخلوة محض المنفعة. وعبارة في" الجمل" {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: في حق أنفسهم الخبيثة، وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله تعالى، أو في أنفسهم حال كونك خاليًا بهم، ليس معهم غيرهم مسارًا بالنصيحة؛ لأنها في السر أنفع {قَوْلًا بَلِيغًا}؛ أي: مؤثرًا في أنفسهم واصلًا إلى كنه المراد، مطابقًا لما سيق له من المقصود، يغتمون به اغتمامًا، ويستشعرون منه الخوف، وهو التخويف بعذاب الدنيا، بأن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله الذي لا يخفى عليه السر والنجوى، وإنه لا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم؛ لأنكم أظهرتم الإيمان، فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة .. ظهر لكل الناس بقاءكم على الكفر، وحينئذ يلزمكم السيف، وتسفك دماؤكم، وتسبى نساؤكم وذراريكم، وتسلب أموالكم. وفي الآية شهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدرة على بليغ الكلام، وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه؛ لأن لكل مقام مقالًا، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في مواضعه، وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}. قال القاضي عياض في كتابه " الشفاء" في وصف بلاغته - صلى الله عليه وسلم -: أما فصاحة اللسان وبلاغة القول: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمحل الأرفع، والموضع الذي لا يجهل، قد أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمداني، وطهفة النهدي، والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندي، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن انتهى.

[64]

64 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ}؛ أي: وما أرسلنا رسولًا من الرسل قط {إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: ليتبع بأمر الله الناس باتباعه، ويقتدى به فيما أمر به ونهى عنه، فما نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن الله، فمن خرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم .. خرج عن حكمنا وسنتنا، وارتكب الآثام، فسنتنا في هذا الرسول كسنتنا في الرسل قبله، وجيء بقوله: {بِإِذْنِ اللَّه} لبيان أن الطاعة الذاتية لا تكون إلا لله رب العالمين، لكنه قد أمر أن تطاع رسله، فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه؛ لأن الله أذن في ذلك وأمر به قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وقيل: معنى بإذن الله، بعلم الله وقضائه؛ أي: طاعته تكون بإذن الله؛ لأنه أذن فيه، فتكون طاعة الرسول طاعة الله تعالى، ومعصيته معصية الله. والمعنى: وما (¬1) أرسلنا من رسول الله فرضت طاعته على من أرسلته إليهم، وأنت يا محمَّد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلوا إليهم، ففيه توبيخ وتقريع للمنافقين، الذين تركوا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضوا بحكم الطاغوت. وهذه الآية (¬2) دالة على أنه لا رسول الله ومعه شريعة ليكون مطاعًا في تلك الشريعة، ومتبوعًا فيها، ودالة على أن الأنبياء معصومون عن المعاصي والذنوب، ودالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى. {وَلَوْ أَنَّهُمْ}؛ أي: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت وأعرضوا عن حكمك {إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالتحاكم إلى الطاغوت .. {جَاءُوكَ} يا محمَّد تائبين، من ذلك الذنب الذي هو النفاق، والتحاكم إلى الطاغوت، متنصلين مما ارتكبوا من المخالفة، {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ}؛ أي: طلبوا من الله سبحانه وتعالى مغفرته لهم ذلك الذنب بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد حكمك والتحاكم إلى غيرك، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي وطلب لهم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله تعالى مغفرة ذنوبهم المذكورة، أو المعنى: سامح لهم الرسول ما فرطوا في حقه، فالسين والتاء فيه زائدتان؛ أي: سامحهم وعفا عنهم، وطلب لهم المغفرة؛ لأنه تعلق بهم حقان: حق لله، وحق لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، {لَوَجَدُوا اللَّهَ}؛ أي: لصادفوا الله سبحانه وتعالى حالة كونه {تَوَّابًا}؛ أي: قابلًا لتوبتهم {رَحِيمًا}؛ أَي: متفضلًا عليهم بالرحمة والغفران، يعني لو أنهم تابوا من ذنوبهم ونفاقهم، واستغفرت لهم .. لعلموا أن الله يتوب عليهم، ويتجاوز عنهم ويرحمهم. والمعنى: ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم، ورغبوا عن حكمك إلى حكم الظاغوت .. جاؤوك فاسغفروا الله من ذنبهم، وندموا على ما فرط منهم، وتابوا توبة نصوحًا، ودعا لهم الرسول بالمغفرة لتقبل الله توبتهم، وغمرهم بإحسانه، فرحمته وسعت كل شيء. وإنما قرن (¬1) استغفار الرسول باستغفارهم؛ لأن ذنبهم لم يكن ظلمًا لأنفسهم فحسب، بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث أنهم أعرضوا عن حكمه، وهو صاحب الحق في الحكم وحده، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم؛ لأنهم اعتدوا على حقه، وليدعو لهم بالمغفرة إذ أعرضوا عن حكمه، وإنما التفت (¬2) عن الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} ولم يقل: واستغفر لهم؛ لأن القياس يقتضي هذا، لقوله أولًا جاؤوك تفخيمًا لشأنه، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب، وإن عظم جرمه، ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب، وأنهم إذا جاؤوه .. فقد جاؤوا من خصه الله تعالى برسالته، وأكرمه بوحيه، وجعله سفيرًا بينه وبين خلقه. وفي الآية (¬3): إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتمًا إذا استكملت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي.

[65]

شرائطها، ومنها: أن تكون عقب الذنب مباشرة، وقد سمى الله ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي: إفسادًا لها لأن الرسول هو الهادي إلى مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وهذا الظلم شامل للاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار لا يكون مقبولًا إلا إذا ناجي العبد ربه عازمًا على اجتناب الذنب، وعدم العودة إليه، مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. أما الاستغفار باللسان عقب الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارًا معتدًا به عند الله إذ لا بد أن يشعر القلب أولًا بألم المعصية، وسوء مغبتها - عاقبتها - وبالحاجة إلى التزكي من دنسها، مع العزم القوي على اجتناب هذا الدنس، ومتى أخلص الداعي .. أجاب الله دعاءه بإعطائه ما طلب، أو بغيره من الأجر والثواب. 65 - و {لَا} في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ} زائدة زيدت لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: {لئلا يعلم}؛ لتأكيد وجوب العلم، أو مفيدة لنفي أمر سبق، والتقدير: ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، فوربك؛ أي: فأقسمت لك بربك يا محمد، لا يؤمن هؤلاء المنافقون إيمانًا صحيحًا {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}؛ أي: حتى يجعلوك حاكمًا بينهم {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: فيما اختلط والتبس وأشكل، ووقع بينهم من المخاصمات والمنازعات، فتقضي بينهم فيها {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: لا يحسوا في قلوبهم {حَرَجًا}؛ أي: ضيقًا وشكًا {مِمَّا قَضَيْتَ} وحكمت به، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؛ أي: وينقادوا لك بظواهرهم انقيادًا تامًّا، بحيث لا يخالفونك في شيء ما. وقرأ أبو السمال: {فيما شجر} بسكون الجيم تخفيفًا فرارًا من ثقل توالي الحركات، والمعنى: أنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا مستوجبًا للفوز بالثواب والنجاة من العذاب، وهو إيمانُ الانقيادِ ظاهرًا وباطنًا، إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال: الأولى: أن يحكموا الرسول في القضايا التي يشتجرون يختصمون فيها، ولا يتبين لهم وجه الحق فيها.

[66]

والثانية: أن لا يجدوا حرجًا وضيقًا فيما يحكم به؛ أي: أن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه فيما شجر بينهم، بلا امتعاض من قبوله والعمل به؛ إذ المؤمن الكامل ينشرح صدره لحكم الرسول لأول وهلة؛ لأنه الحق، وأن الخير والسعادة في الإذعان له. والثالثة: الانقياد والتسليم لذلك الحكم، فكثيرًا ما يعرف الشخص أن الحكم حق، لكنه يتمرد عن قبوله عنادًا أو يتردد في ذلك. ويستفاد من هذه الآية شيئان: الأول: عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها، لا بحسب الواقع في نفسه إذ الحكم في شريعته على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق مسلم .. فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأي، أعن وحي هو، أم عن رأي، فإن كان عن وحي .. أطاعوا وسلموا، وإن كان عن رأي .. ذكروا ما عندهم، وربما يرجع إليهم كما حدث يوم أحد. والثاني: أنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا يعتد به إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم، مذعنين في بواطنهم بصدق الرسول في كل ما جاء به من أمور الدين. ومن أمارة ذلك: أن يحكموه فيما شجر من خلاف، وأن لا يجدوا ضيقًا وحرجًا في حكمه؛ إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع، وأن ينقادوا انقيادًا كاملًا بلا تمرد ولا عناد في قبوله، كما مر جميع ذلك كله آنفًا. 66 - {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} وفرضنا وأوجبنا {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على هؤلاء المنافقين {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} بأن يقتل كل واحد نفسه، أو يقتل بعضهم بعضًا {أَوِ} أن {اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} بالهجرة إلى دار أخرى، توبة من نفاقهم، كما كتبنا على بني إسرائيل القتل والخروج من مصر، {مَا فَعَلُوهُ}؛ أي: ما فعل هؤلاء المنافقون القتل والخروج المكتوب عليهم، {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} فإن القليل منهم يفعل ذلك

المكتوب رياء وسمعة. ومعنى الآية (¬1)؛ أنه تعالى لو فرض عليهم أن يقتلوا أنفسهم، إما بأن يقتل كل واحد نفسه، أو بقتل بعضهم بعضًا، أو أن يخرجوا من ديارهم بالهجرة إلى دار أخرى، كما فرض ذلك على بني إسرائيل، حين استتيبوا من عبادة العجل .. لم يطع منهم إلا القليل. بين الله (¬2) سبحانه وتعالى في هذه الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع الله في كل ما يأمر به، في السهل والصعب، والمحبوب والمكروه، ولو كان ذلك بقتل النفس، والخروج من الديار، الجسم دار الروح والوطن دار الجسم، أما المنافق فيعبد الله على ما يوافق هواه وشهواته، فإن أصابه خير .. اطمأن به ورضي، وإن ناله أذى .. أنقلب على وجهه، وارتد على عقبه، وباء بالخسران في الدنيا والآخرة. قرأ أبو عمرو (¬3) بكسر نون {أن} وضم واو {أَو}، وكسرهما حمزة وعاصم، وضمهما باقي السبعة، وأما ضم النون وكسر الواو فلم يقرأ به أحد، فالكسر على أصل التقاء الساكنين، والضم للاتباع للثالث؛ إذ هو مضموم ضمة لازمة، وإنما فرق أبو عمرو لأن الواو أخت الضمة. اهـ "سمين". وقرأ الجمهور: {إِلَّا قَلِيلٌ} بالرفع على البدل من الواو في فعلوه، وهو المختار؛ لأنه استثناء من كلام تام غير موجب، وقرأ أبي وابن وأبي إسحاق وابن عامر وعيسى بن عمر {إِلَّا قَلِيلا} بالنصب على الاستثناء بعد النفي، وهو مرجوح. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} ويكلفون به؛ أي: ولو أن هؤلاء المنافقين فعلوا ما أمروا به، وتركوا ما نهوا عنه .. {لَكَانَ} ذلك الفعل والترك {خَيْرًا لَهُمْ}؛ أي: أنفع لهم في الدنيا والآخرة {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} لإقدامهم على الحق، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الجمل.

[67]

وأكثر تصديقًا وتحقيقًا لإيمانهم، وإنما سمى (¬1) الله سبحانه وتعالى ذلك التكليف وعظًا؛ لأن أوامر الله تعالى وتكاليفه مقرونة بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، وما كان كذلك يسمى وعظًا، وإنما كان فعل ذلك أشد تثبيتًا لهم على إيمانهم؛ إذ الأعمال هي التي تطبع الأخلاق والفضائل في نفس العامل، وتبدد الأوهام والمخاوف من نفسه، فبذل المال - مثلًا - آية من آيات الإيمان، وقربة من أعظم القرب، فمن فعله .. كان مؤمنًا إيمانًا صادقًا، ومن آمن بذلك ولم يفعله .. كان علمه بمنافعه ومزاياه له وللأمة والدين علمًا ناقصًا، فكلما دعى الداعي إلى البذل .. طاف به طائف البخل والإمساك، وعرض له شح الفقر والإملاق، أو نقصان المال عن مال بعض الأقران، لكنه إذا اعتدل البذل صار السخاء خلقًا له وسجية، وقلما امتنع من فعله حين تدعو الحاجة إليه، إذ الطاعة تدعو إلى مثلها فالمرء يطلب الخير أولًا، حتى إذا حصله .. طلب أن يكون الحاصل ثابتًا قويًّا. 67 - {و} لو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم، وامتثلوا ما أمروا به، وأخلصوا العمل .. {إِذًا لَآتَيْنَاهُمْ}؛ أي: إذا لأعطيناهم من عندنا {أجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: ثوابًا جسيمًا وافرًا في الجنة، وكيف لا يكون عظيمًا وقد وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" و {وَإِذًا} واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه في الحل، وسيأتي بيانه في الإعراب، 68 - {وَلَهَدَيْنَاهُم}؛ أي: ولأرشدناهم {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}؛ أي: طريقًا قويمًا موصلًا لهم إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، كما ذكر ذلك سبحانه في الآية التالية، وهو دين الإِسلام. وقيل: معنى صراطًا مستقيمًا؛ أي: طريقًا (¬2) من عرصة القيامة إلى الجنة فحمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى؛ لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الأجر، والدين الحق مقدم على الأجر، والطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إثما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر. 69 - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من بقية الرسل؛ أي: ومن يمتثل الله سبحانه وتعالى ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمرا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

به، واجتناب ما نهيا عنه {فَأُولَئِكَ} المطيعون لهما، كائنون في الجنة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} في الدنيا بالهداية والتوفيق؛ أي: يكون هذا المطيع يوم القيامة مرافقًا لأقرب عباد الله وأرفعهم درجات عنده، وهم الأصناف الأربعة الذين ذكرهم الله تعالى في الآية، وهم صفوة الله من عباده، وقد وجدوا في كل أمة، ومن أطاع الله ورسوله من هذه الأمة .. كان منهم، وحشر يوم القيامة معهم. وقوله {مِنَ النَّبِيِّينَ} والمرسلين .. إلخ بيان للذين أنعم الله عليهم، وفي الآية سلوك التدلي، فإن منزلة كل واحد من الأصناف الأربعة أعلى من منزلة من بعده، {وَالصِّدِّيقِينَ}؛ أي: السابقين إلى تصديق الرسل، فصاروا في ذلك قدوة لسائر الناس، وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سموا بذلك لمبالغتهم في الصدق والتصديق {وَالشُّهَدَاءِ} أي: القتلى في سبيل الله تعالى، أو الذين (¬1) يشهدون بصحة دين الله تعالى، تارة بالحجة والبيان، وتارة أخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وأما كون الإنسان مقتول الكافر .. فليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله، {وَالصَّالِحِينَ} غير الأصناف الثلاثة السابقة؛ لأن الأصناف الثلاثة صالحون أيضًا، وهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، وقيل: الصارفون (¬2) أعمارهم في طاعة الله، وأموالهم في مرضاته، وكل من كان اعتقاده صوبًا وعمله غير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق، وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد يكون الصالح غير موصوف بكونه قائمًا بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدًا كان صالحًا، ولا عكس فالشهيد أشرف أنواع الصالحين، ثم الشهيد قد يكون صديقًا وقد لا، ومعنى الصديق: هو الذي كان أسبق إيمانًا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقًا كان شهيدًا، ولا عكس، فثبت أن أفضل الخلق الأنبياء، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الصلاح. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

[70]

{وَحَسُنَ أُولَئِكَ}؛ أي: وحسن كل واحد من الأصناف الأربعة من جهة كونه {رَفِيقًا} في الجنة، بأن يستمتع فيها المطيع برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم، والمخصوص بالمدح هؤلاء المذكورون من الأصناف الأربعة، وفي هذه الجملة معنى التعجب، كأنه قال: وما أحسن أولئك رفيقًا في الجنة. 70 - {ذَلِكَ} المذكور الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم، ومن مرافقة هؤلاء المنعم عليهم، هو {الْفَضْلُ} والعطاء {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، تفضل به على من أطاع الله ورسوله، لا أنهم نالوه بطاعتهم؛ أي: إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل، فإن السمُّوَ إلى إحدى تلك المنازل في الدنيا، ومرافقة أهلها في الآخرة، هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة، وبه يتفاضل الناس، فيفضل بعضهم بعضًا، {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}؛ أي: وكفى باللهِ سبحانه وتعالى من جهة كونه عليمًا بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء، ومن لا يصلح، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقرأ الجمهور (¬1): {وَحَسُنَ} بضم السين وهي الأصل ولغة الحجاز، وقرأ أبو السمال: {وحسْن} بسكون السين وهي لغة بعض بني قيس. الإعراب {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {يَأمُرُكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على: {اللَّهَ}، والجملة الفعلية خبر {إن}، وجملة: {إنَّ} مستأنفة استئنافًا نحويًّا، {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول، {إِلَى أَهْلِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

في تأويل مصدر منصوب (¬1) على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {يَأمُرُكُمْ}، تقديره: يأمركم تأدية الأمانات، أو منصوب بنزع الخافض، تقديره يأمركم بتأدية الأمانات؛ لأن حذفه مع أن وأن مطرد، كما قال ابن مالك: نَقْلًا وَفِيَ أنَّ وَأنْ يَطَّرِدُ ... مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُوْا {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجردة عن معنى الشرط، {حَكَمْتُمْ}: فعل وفاعل، {بَيْنَ النَّاسِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {حَكَمْتُمْ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، تقديره: وقت حكمكم بين الناس، والظرف متعلق بـ {تَحْكُمُوا} الآتي على مذهب الكوفيين المجيزين تقديم معمول الصلة على حرف مصدري، ويقال على مذهب البصريين المانعين ذلك إن المعمول هنا ظرف، والظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، {أَنْ تَحْكُمُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {بِالْعَدْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَحْكُمُوا}، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية {أن}: مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من قوله: {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {يَأمُرُكُمْ}، أو منصوبًا بنزع الخافض، والتقدير: إن الله يأمركم تأدية الأمانات إلى أهلها وحكمكم بالعدل وقت حكمكم بين الناس، وفصل (¬2) هنا بين حرف العطف والمعطوف بـ {إذا}، وقد جوزه بعضهم، وجعله مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} وخص هذا أبو علي الفارسي بالشعر وليس بصواب. {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}. {إِنَّ}: حرف نصب، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} اسمها، {نِعِمَّا}: {نِعْمَ} فعل ماض من أفعال المدح، {ما} موصولة في محل الرفع فاعل، {يَعِظُكُمُ}: فعل ¬

_ (¬1) صاوي. (¬2) البحر المحيط.

ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِهِ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة ما الموصولة، والعائد ضمير به، والتقدير: إن الله نعم الشيء الذي يعظكم به، ويجوز أن تكون {ما} نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز، ويكون فاعل {نعم} مستترًا فيه وجوبًا تقديره: نعم الشيء شيئًا يعظكم به، وجملة {يَعِظُكُمُ} على هذا الوجه: صفة لـ {ما}؛ لأنها نكرة موصوفة، وقد ذكر القولين ابن مالك بقوله: وَ {مَا} مُمَيَّزٌ وَقِيلَ فَاعِلُ ... فِيْ نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُوْلُ الْفَاضِلُ والمخصوص بالمدح محذوف وجوبًا تقديره: تأدية الأمانات والحكم بالعدل وجملة نعم في محل الرفع خبر {إنْ} وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}، {سَمِيعًا}: خبر أول لها. {بَصِيرًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء. {أي} منادى نكرة مقصودة، و {ها} حرف تنبيه زائد، زيد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}: وجملة النداء مستأنفة، {ءَامَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {أَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، وكذلك {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَطِيعُوا اللَّهَ}، {وَأُولِي}: معطوف على {الرَّسُولَ}، {الْأَمْرِ}: مضاف إليه، {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من {أولي الأمر}. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا}. {فَإن}: {الفاء} استئنافية بمعنى الواو، {إن} حرف شرط، {تَنَازَعْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، {فِي شَيْءٍ}: جار ومجرور

متعلق به، {فَرُدُّوهُ} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، {ردوه} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه جواب شرط لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ردوه}. {وَالرَّسُولِ}: معطوف على الجلالة. {إنْ}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن}، {تُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق به، {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: معطوف على الجلالة، وجملة {تُؤْمِنُونَ} في محل النصب خبر كان، وجواب إن الشرطية محذوف معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم تؤمنون بالله فردوه إلى الله ورسوله، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {ذَلِكَ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَأَحْسَنُ}: معطوف على {خَيْرٌ}، {تَأوِيلًا}: منصوب على التمييز. {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التعجبي، {لم}: حرف نفي وجزم، {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو إلى المخاطب، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَرَ}، {يَزْعُمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَنَّهُمْ}: {أن}: حرف نصب، و {الهاء}: ضمير الغائبين في محل النصب اسمها، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ءَامَنُوا}، {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لما أو صفة لها، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: اسم موصول في محل الجر معطوفة على ما الأولى، {أُنزِل}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، {مِن قَبْلِك}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أُنزِل}، وجمله {أُنْزِلَ} صلة لما أو صفة لها. {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}.

{يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من {الَّذِينَ} أو من واو {يَزْعُمُونَ}، {أَنْ يَتَحَاكَمُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون تحاكمهم إلى الطاغوت. {إِلَى الطَّاغُوتِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَحَاكَمُوا}، {وَقَدْ}: الواو حالية، {قد}: حرف تحقيق، {أُمِرُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَتَحَاكَمُوا}، {أَنْ يَكْفُرُوا}: ناصب وفعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق بـ {يَكْفُرُوا}، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب، على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {أُمِرُوا}، تقديره: وقد أمروا كفرهم به، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يُرِيدُون}، {أَنْ يُضِلَّهُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، {ضَلَالًا}: مفعول مطلق، {بَعِيدًا}: صفة له، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يريد}، تقديره: ويريد الشيطان إضلالهم ضلالًا بعيدًا. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق به، {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}: نائب فاعل محكي، وجملة قيل في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وإن شئت قلت: {تَعَالَوْا}: فعل وفاعل، {إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَعَالَوْا}، {وَإِلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، وجملة {تَعَالَوْا} في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {رَأَيْتَ}: فعل وفاعل، {الْمُنَافِقِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب إذا، وجملة إذا مستأنفة، {يَصُدُّونَ}: فعل وفاعل، {عَنْكَ}: متعلق به، ومفعوله محذوف تقديره: غيرهم، {صُدُودًا}: منصوب على المصدرية، وجملة {يَصُدُّونَ} في

محل النصب حال من {الْمُنَافِقِينَ}، على القول بأن رأى بصرية، أما على القول بأن رأى علمية، فجملة {يَصُدُّونَ} في محل النصب مفعول ثان لرأى. {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}. {فَكَيْفَ}: {الفاء} استئنافية، {كيف}: اسم استفهام في محل النصب على التشبيه بالمفعول به بفعل محذوف، تقديره: فكيف يصنعون، ويجوز جعل {كيف} خبرًا مقدمًا لمبتدأ محذوف تقديره: فكيف صنعهم، {إِذَا}: ظرف مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة، {أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَصَابَتْهُمْ}، والباء للسبب، {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم، {ثُمَّ}: حرف عطف، {جَاءُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {أَصَابَتْهُمْ}، {يَحْلِفُونَ}: فعل وفاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {جَاءُوكَ}، {إِنْ}: نافية. {رَدْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {إِحْسَانًا}: مفعول به، {وَتَوْفِيقًا}: معطوف عليه، وجملة {أَرَدْنَا} من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، كما قاله أبو حيان في "النهر". {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {يَعْلَمُ اللَّه}: فعل وفاعل، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {فِي قُلُوبِهِم}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لما، أو صفة لها، وجملة {يَعْلَمُ اللَّه} صلة الموصول، {فَأَعْرِضْ}: {الفاء}: رابطة الجواب بشرط محذوف، تقديره: إذا

كان حالهم كذلك فأعرض عنهم، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة، {أَعْرِضْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ هـ، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب للشرط المحذوف، {وَعِظْهُمْ}: معطوف على أعرض عنهم، وكذا قوله: {وَقُلْ لَهُمْ}: معطوف عليه، {فِي أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ ـ {قُلْ}، وقيل: يتعلق بـ {بَلِيغًا}، {قَوْلًا}: منصوب على المصدرية، {بَلِيغًا} صفة له. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ}: زائدة، {رَسُولٍ}: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {لِيُطَاعَ}: {اللام} لام كي، {يطاع}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ونائب فاعله ضمير يعود على الرسول، {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ـ {يطاع}، أو حال من الضمير في {يطاع}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، تقديره: إلا لإطاعة الناس له، الجار والمجرور متعلق بـ ـ {أَرْسَلْنَا}. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. {وَلَوْ}: {الواو} استئنافية، {لو}: شرطية، {أَنَّهُمْ} {أنَّ}: حرف نصب، {والهاء}: اسمها، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والظرف متعلق بـ {جَاءُوكَ} الآتي، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {جَاءُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر {أنَّ}، تقديره: ولو أنهم جاؤوا إياك وقت ظلمهم أنفسهم، وجملة {أنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف فعل شرط لـ {لو}، تقديره: ولو

ثبت مجيؤهم إياك وقت ظلمهم أنفسهم، {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ}: {الفاء} عاطفة، {استغفروا الله} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {جَاءُوكَ}، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}: فعل وفاعل وجار ومجرور متعلق بـ {استغفر}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {فَاسْتَغفَرُوا}، {لَوَجَدُوا اللَّهَ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية، {وجدوا الله} فعل وفاعل ومفعول أول، {تَوَّابًا}: مفعول ثان، {رَحِيمًا}: صفة له، أو عطف بيان منه، أو حال من الضمير المستتر في {تَوَّابًا}، وقيل: إن وجد متعد لواحد، و {تَوَّابًا}: حال من الجلالة، و {رحيمًا}: صفة له، أو بدل منه، وجملة {وَجَدُوا} جواب {لو} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}. {فَلَا} {الفاء}: استئنافية، {لَا}: زائدة، زيدت لتأكيد معنى القسم. {وَرَبِّكَ} {الواو}: حرف جر وقسم، {ربك} {رب}: مقسم به مجرور بواو القسم، {والكاف} مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: فأقسم لك بربك يا محمَّد، {لَا} نافية، {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، وفي {لا} هنا أربعة أقوال، ذكرها في "الفتوحات" لا نطيل الكلام بذكرها، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يُحَكِّمُوكَ}: فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى}، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، تقديره: إلى تحكيمهم إياك، الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤمِنُونَ}، {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُحَكِّمُوكَ}، {شَجَرَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {ما}، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {شَجَرَ}، والجملة الفعلية صلة لما أو صفة لها، {ثُمَّ}: حرف عطف، {لَا}: نافية، {يَجِدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يُحَكِّمُوكَ}، {فِي أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَجِدُوا}، تعلق الظرف بالفعل، ويجوز أن يكون حالًا من {حَرَجًا}،

{حَرَجًا}: مفعول به لـ {وجد}، إن قلنا: إنها متعدية إلى واحد، أما إذا كانت متعدية لاثنين. فالجار والمجرور {فِي أَنْفُسِهِمْ} أحد المفعولين لها، {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {حَرَجًا}، {قَضَيْتَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما قضيت به، ويصح أن تكون ما مصدرية، {وَيُسَلِّمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يُحَكِّمُوكَ}، {تَسْلِيمًا}: منصوب على المصدرية. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لو}: شرطية، {أَنَّا}: أنَّ حرف نصب، {نا}: اسمها، {كَتَبْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، وجملة {كَتَبْنَا} في محل الرفع خبر {أَن}، تقديره: ولو أنا كاتبون عليهم، وجملة {أَن} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل شرط محذوف، تقديره: ولو ثبتت كتابتنا عليهم، {أَنِ}، حرف نصب ومصدر، {اقْتُلُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَن}، {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {كَتَبْنَا}، تقديره: ولو أنا كتبنا عليهم قتلهم أنفسهم، ويجوز أن تكون أن مفسرة، لأنَّ {كَتَبْنَا} قريب من معنى أمرنا أو قلنا، {أَوِ}، حرف عطف، {اخْرُجُوا}: فعل فاعل في محل النصب معطوف على {اقْتُلُوا}، {مِنْ دِيَارِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اخْرُجُوا}، {مَا}: نافية رابطة لجواب {لَوْ}، {فَعَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيل}: بالرفع بدل من واو {فَعَلُوهُ}: بدل بعض من كل، وهو الراجح من نصبه على الاستثناء؛ لأن الاستثناء من كلام تام غير موجب، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلٌ}، وهو الرابط بين البدل والمبدل منه. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.

{وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لو}: حرف شرط، {أَنَّهُمْ}: {أنَّ} حرف نصب، {والهاء}: اسمها، {فَعَلُوا}: فعل وفاعل، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {يُوعَظُونَ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل، {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {يُوعَظُونَ} صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}، وجملة {فَعَلُوا} أو في محل الرفع خبر {أنَّ}، وجملة {أنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، فعل شرط لـ {لو}، تقديره: ولو ثبت فعلهم ما يوعظون به، {لَكَانَ}: اللام رابطة لجواب {لو}، {كان}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على المصدر المفهوم من {فَعَلُوا}، تقديره: هو؛ أي: لكان فعلهم ما يوعظون به، {خَيْرًا}: خبر {كَان}، {لَهُمْ} متعلق بـ {خَيْرًا}، {وَأَشَدَّ}: معطوف على {خَيْرًا}، {تَثْبِيتًا}: منصوب على التمييز، وجملة {كان} من اسمها وخبرها جواب {لو}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها، مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}. {وَإِذًا}: {الواو}: عاطفة، {إِذًا}: حرف نصب وجواب وجزاء، وهي ملغاة هنا عن عمل النصب، {لَآتَيْنَاهُمْ} {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {آتيناهم}: فعل وفاعل ومفعول أول، {مِنْ لَدُنَّا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {آتينا}، {أَجْرًا}: مفعول ثان، {عَظِيمًا}: صفة له، وجملة {لَآتَيْنَاهُمْ} معطوفة على جملة {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} على كونها جوابًا لـ {لو} الشرطية. {وَلَهَدَيْنَاهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {هَدَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {صِرَاطًا}: مفعول ثان، {مُسْتَقِيمًا}: صفة لـ {صِرَاطًا}، وجملة {لَهَدَيْنَاهُمْ} معطوفة على جملة {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} على كونها جوابًا لـ {لو}. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}.

{وَمَن}: {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُطِعِ}: فعل مضارع مجزوم بمن على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {اللَّه}: مفعول به، {وَالرَّسُولَ}: معطوف على الجلالة، {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {أولئك}: مبتدأ، {مَعَ الَّذِينَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: كائن مع الذين، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {مَنْ}، على كونها جواب الشرط لها، وجملة من الشرطية مستأنفة، {أَنْعَمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}، جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمَ}، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير {علَيْهِمْ}، {مِنَ النَّبِيِّينَ}: جار ومجرور حال من {الَّذِينَ}، أو من الضمير في {عَلَيْهِمْ}، {وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}: معطوفات على {النَّبِيِّينَ}، {وَحَسُنَ}: {الواو}؛ استئنافية، حسن: فعل ماض من أفعال المدح، {أُولَئِكَ}: فاعل، {رَفِيقًا}: تمييز أو حال، والجملة مستأنفة. {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {الْفَضْلُ}: خبر، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {الْفَضْلُ}، والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون {ذَلِكَ} مبتدأ، و {الفضلُ}: صفة له، {مِنَ اللَّهِ}: خبرًا، والجملة مستأنفة، {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل، {عَلِيمًا}: تمييز، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} هو مضارع أدى تأدية، من باب فعَّل المضعف، وهو هنا بمعنى أصل الفعل، والأمانات جمع أمانة، وهي مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: الشيء الذي يحفظ ليؤدى إلى صاحبه، ويسمى من يحفظها ويؤديا حفيظًا وأمينًا ووفيًّا، ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنًا، {بِالْعَدْلِ} العدل: مصدر لعدل من باب ضرب، وهو لغة: إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه،

وشرعًا: فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا الحكم بالرأي المجرد، {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ}: نِعْمَ بكسر النون إتباعًا لكسرة العين، وأصل النون مفتوحة، وأصل العين مكسورة، فأصله نَعِمَ بوزن عَلِمَ، ثم كسرت النون إتباعًا لكسرة العين. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} تنازع من باب تفاعل، والتنازع: التجاذب، والمنازعة: المجاذبة، والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد الاختلاف والمجادلة، {وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا} التأويل: مصدر أول - من باب فعل - تأويلًا، إذا فسر وبين، ولكن هنا بمعنى المآل والعاقبة، لا بمعنى التفسير والتبيين فله إطلاقان. {يَزْعُمُون} مضارع زعم، من باب نصر، والزعم بتثليث الزاي في أصل اللغة القول، حقًّا كان أو باطلًا، ثم كثر استعماله في الكذب، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، وقد جاء في القرآن ذم القائلين به، كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}. {إِلَى الطَّاغُوتِ} الطاغوت: الكاهن والشيطان والصنم وكل رئيس في الضلالة، يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، {ضَلَالًا بَعِيدًا}: ليس مصدرًا جاريًا على يضلهم، ويحتمل أن يكون جعل مكان الإضلال، فوضع أحد المصدرين موضع الآخر، ويحتمل أن يكون مصدرًا لثلاثي محذوف، تقديره: فيضلون ضلالًا بعيدًا، {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}: يقال: صد عن الشيء يصد - من بابي ضرب ونصر - صدًّا وصدودًا، إذا أعرض عنه، وهو من المضاعف اللازم الذي جاء بالوجهين: الكسر على القياس، والضم على الشذوذ، لا من صد الذي هو المضاعف المعدى، فإنه بالضم على القياس لا غير، ومعناه المنع، يقال صده عن كذا إذا منعه وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فالصدود: مصدر سماعي له، وقياسه صد، على وزن فعل بسكون العين؛ لأنه من فعل المفتوح.

{إِلَّا إِحْسَانًا}؛ أي: في المعاملة بين الخصوم، وهو مصدر أحسن الرباعي، من باب أكرم، {وَتَوْفِيقًا}؛ أي: بينهم وبين خصومهم بالصلح والتوفيق، مصدر لوفق المضعف، والوفاق والوفق ضد المخالفة، {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: في الأمر الذي أشكل، والتبس عليهم، واختلطت واختلفت فيه آراؤهم، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه واختلاطها وتداخل بعضها في بعض، ومنه قول طرفة: وَهُمُ الْحُكَّامُ أَرْبَابُ الْهُدَى وَسُعَاةُ النَّاسِ في الأمْرِ الشَّجَرْ أي: المختلف، ومنه تشاجر الرماح؛ أي: اختلافها، يقال: شجر الأمر يشجر شجورًا وشجرًا - من باب قعد - إذا التبس، وشاجر الرجل غيره في الأمر إذا نازعه فيه، وتشاجروا إذا تنازعوا، وخشبات الهودج يقال لها: شجار، لتداخل بعضها في بعض، {حَرَجًا} الحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج، وقيل: الحرج الإثم، {تَسْلِيمًا}: مصدر مؤكد لعامله. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبديع (¬1): منها: دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ومنها: الإشارة في قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا}، وفي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، وفي قوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، وفي قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، وفي قوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ}. ومنها: الاستفهام المراد به التعجب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يَزْعُمُونَ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}، وفي قوله: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} وفي قوله: {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}، وفي قوله: {ويسلموا تسليمًا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام، وفي قوله: {ضَلَالًا بَعِيدًا} استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب؛ لدوام القلوب عليها، وفي قوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض، استعارة المحسوس للمعقول، وفي قوله: {أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس، للمناسبة التي بينهما وهو الضيق. ومنها: التتميم وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكنًا وبيانًا للمعنى المراد، وهو في قوله: {قَوْلًا بَلِيغًا}؛ أي: يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغًا في زجرهم. ومنها: زيادة الحرف لزيادة المعنى في قوله: {مِنْ رَسُولٍ} أتت {مِنْ} لإفادة الاستغراق، إذ لو لم تدخل هي في الكلام لأوهم الواحد. ومنها: التكرار في قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}، {أَنْفُسِهِمْ}، وفي قوله: {أَنْفُسَهُمْ}، وفي لفظ الجلالة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ}، وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}، وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}. ومنها: التوكيد بالمصدر في قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ومنها: التقسيم البليغ في قوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ} للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به، والإشعار بعلة الحكم.

ومنها (¬1): الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} حيث لم يقل: واستغفرت لهم، بل قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} تفخيمًا لشأنه، حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته، فهو على أسلوب حكم الأمير بكذا، مكان حكمت بكذا، ووجه التفخيم فيه أن شأن الرسول أن يستغفر لمن عظم ذنبه. ومنها: إيراد الأمر بصورة الأخبار، وتصديره بإنَّ المفيدة للتحقيق في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال. ومنها: الإطناب في مواضع. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الجمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)} مناسبة هذه الآية لما قبلها هو (¬1): أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله تعالى .. أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة، فقال: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}، فعلمهم مباشرة الحروب، ولما تقدم ذكر المنافقين .. ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم، وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى أولًا باسم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم. وقال المراغي: مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1)؛ يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين أولًا في هذه السورة كثيرًا من الأمور الدينية، من عبادته تعالى وعدم الشرك به، والمدنية كمعاملة ذوي القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث .. بين هنا في هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء انتهى. قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما بين حال ضعفاء الإيمان، الذين يبطئون عن القتال في سبيله .. دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم، ذنب القعود عن القتال، وأمر به إيثارًا لما عند الله من الأجر والثواب على ما في الدنيا من نعيم زائل وعرض يفنى. قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنه لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أولًا بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانيًا بقوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ثم ثالثًا على طريق الحث والحض بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ} .. أخبر في هذه الآية بالتقسيم، أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهم بذلك، ويشجعهم ويحرضهم، وأن من قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب؛ لأن الله هو وليه وناصره، ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب، والطاغوت هنا الشيطان؛ لقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر، أولًا بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له، وذكر حال المبطئين الذين ضعفت قلوبهم، وأمرهم بالقتال في سبيله، وفي سبيل إنقاذ المستضعفين .. ذكر هنا أن الإِسلام كلفهم ترك ما كانوا عليه في الجاهلية، من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة، ولا سيما بين قبيلتي الأوس والخزرج، فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجيء الإِسلام، وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم، وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة، حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية، وحل محلها شرف العواطف الإنسانية، إلى أن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإِسلام، ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين، وأحبوا فتنتهم في دينهم، وردهم إلى ما كانوا عليه، ففرضه عليهم، فكرهه المنافقون والضعفاء، فنعى ذلك عليهم، ووبخهم أشد التوبيخ، وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه .. وجب امتثال أمر الله فلما كعَّ - جبن - عنه بعضهم .. قال تعالى: ألا تعجب يا محمَّد من ناس طلبوا القتال، فأمروا بالموادعة، فلما كتب عليهم .. فَرقَ فريق وجزع، ذكره في "البحر المحيط" انتهى. أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ....} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه النسائي (ج6/ ص 3) قال: أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أنبأنا أبي، قال الحسين بن واقد: عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عبد الرحمن بن عوف الزهري ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسائي.

[71]

وأصحابًا له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا .. صرنا أذلة، فقال: "إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال، فكفوا"، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} .. الحديث أخرجه الحاكم أيضًا، وقال: رجاله رجال الصحيح. التفسير وأوجه القراءة 71 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، {خُذُوا} أسلحتكم، والزموا {حِذْرَكُمْ}؛ أي: احترازكم واحتراسكم من عدوكم، ولا تمكنوه من أنفسكم، واستعدوا لاتقاء شره وحربه، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته، وإذا كان لكم أعداء كثيرون .. فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا عليكم، واعملوا بتلك الوسائل. ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه وبلاده، وأسلحته واستعمالها، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وبالجملة: يجب اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك، حتى لا يهاجمكم على غرة، أو يهددكم في دياركم، ويأخذ أراضيكم، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد إخلالهم بشروط المعاهدة في صلح الحديبية .. استعدو لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له، وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح. وما رواه الحاكم عن عائشة: "لا يغني حذر من قدر" لا يناقض أخذ

الحذر، فلا يعارض هذه الآية؛ لأن الأمر بالحذر داخل في القدر، فالأمر به لندفع عنا شرَّ الأعداء، لا لندفع القدر ونبطله؛ إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده. {فَانْفِرُوا}؛ أي: فاخرجوا لقتال عدوكم، وانهضوا لمقاومته، {ثُبَاتٍ}؛ أي: جماعات بعد جماعات، سرية بعد سرية، {أَوِ انْفِرُوا}: واخرجوا إلى لقائه كلكم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين كوكبة واحدة، والتخيير فيه لولاة الأمور بحسب اجتهادهم، والمراد بادروا كيفما أمكن؛ أي: فانفروا جماعة إثر جماعة، بأن تكونوا فصائل وفرقا إذا كان الجيش كبيرًا، أو موقع العدو يستدعي ذلك، أو تنفر الأمة كلها جميعًا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو. والخلاصة: أنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو. وامتثال هذا الأمر يقتضي أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد، بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب، ويتمرن عليها، وأن تقتني السلاح الذي تحتاج إليه في هذا النضال، وتتعلم كيفية استعماله في كل زمان بما يناسبه. وبهذا تعلم أن الحكومة الإِسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها، لا أن تبقى عالة على غيرها وعلى الأمة أن تساعدها عليه، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه، بعكس ما نراه الآن من تراخي الأمم الإِسلامية وضعفها وتوانيها في ذلك، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها، واجتاحتها من أطرافها، واجتثت كثيرًا من أراضيها وأقاليمها، واستأمرت عليها واستعبدتها، وضربت عليها الخراج والجزية، كالشعوب الأرومية الإِسلامية في شرق أفريقيا، استعبدها استئمار الحبوش، فعلى الأمة الإِسلامية التي استعبدها الاستئمار أن يتوبوا إلى ربهم، ويتمسكوا بدينهم، ويعضوا عليه بالنواجذ، ويتوسلوا إلى ربهم بصالح أعمالهم، ويسألوا الله النصر على أعدائهم الشيوعية، ويستغيثوا بالأمم الإِسلامية التي تجاورهم، وأن يأخذوا أهبة الحرب وسلاحها، ويتعلموا

[72]

استعمالها، كهولًا وشبانًا وغلمانًا، بدل ما استغرقوا أعمارهم في آلة الحراثة والزراعه كابرًا عن كابر، أفلا تنتبهون أيتها الأمة المستأمرة من سِنة الغفلة والعبودية. أفلا تعلمون أنتم في الحياة البرزخية والحياة البهيمية، بل حياتها أحسن من حياتكم؛ لأنها محبوبة محترمة عند صاحبها، فيا مصيبة عليكم ما أعظمها وما أقبحها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد شدد دين الإِسلام الحنيف أيما تشديد في هذا الأمر، أعني الاستعداد للعدو، فجاء مثل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى. 72 - والخطاب في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر الشامل للمنافقين وضعفاء الإيمان؛ أي: وإن من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {لَمَنْ} وعزتي وجلالي {لَيُبَطِّئَنَّ}؛ أي: ليتثاقلنَّ ويتأخرنَّ عن الجهاد، ويتخلَّفنَّ عن القتال معكم، وهم المنافقون وضعفاء الإيمان، فالمنافقون يرغبون عن الحرب؛ لأنهم لا يحبون أن يبقى الإِسلام وأهله، ولا أن يدافعوا عنه ويحموا بيضته، فهم يبطئون عن القتال، ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورًا وخوفًا من صليل السيوف ومن الكر والفر ومقابلة العدو وهو شاكي السلاح، ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ} أيها المؤمنون المجاهدون، ونزلت بكم {مُصِيبَةٌ}؛ أي: واقعة من قتل أو هزيمة أو جهد عيش، {قَال} ذلك المبطىء فرحًا بما فعل حامدًا رأيه شاكرًا ربه: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} بالقعود وأكرمني بالسلامة، {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}؛ أي: حاضرًا معهم في المعركة، فيصيبني مثل ما أصابهم من المصائب والشدة. وقرأ الجمهور (¬1): {لَيُبَطِّئَنَّ} بالتشديد، وقرأ مجاهد {ليبطئن} بالتخفيف، والقرآتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازمًا؛ لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[73]

بَطُؤَ، ويحتمل أن يكون متعديًّا بالهمزة أو التضعيف من بطا، فعلى اللزوم المعنى: أنه يتثاقل ويتثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدي يكون: قد ثبط غيره عن الخروج، وأشار له بالقعود، وعلى التعدي أكثر المفسرين. 73 - {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن حصل لكم أيها المجاهدون فضل، ونعمة من الله سبحانه وتعالى، كفتح وغنيمة، فظفرتم بالعدو، وفتحتم البلاد، فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى .. {لَيَقُولَنَّ} ذلك المبطىء والمنافق: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون {وَبَيْنَهُ}؛ أي: وبين ذلك المبطىء {مَوَدَّةٌ}؛ أي: محبة وصلة في الدين ومعرفة في الصحبة ولا مخالطة أصلًا، وجملة التشبيه معترضة بين الفعل الذي هو {لَيَقُولَن} وبين مفعوله الذي هو قوله: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ}؛ أي: ليقولن قول حاسد نادم: يا هؤلاء أتمنى كوني غازيًا معهم، {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}؛ أي: فأصيب غنائم كثيرة معهم، وآخذ حظًّا وافرًا من السبايا، والغرض من جملة التشبيه التعجب (¬1) كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق، كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبين المنافق صلة في الدين، ومعرفة في الصحبة، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير {ليقولن}؛ أي: ليقولن مشبَّهًا بمن لا معرفة بينكم وبينه، وقيل: هي داخلة في المقول؛ أي: ليقولن المثبط للمثبطين من المنافقين وضعفة المؤمنين، كأن لم تكن بينكم وبين محمد معرفة في الصحبة، حيث لم يستصحبكم في الغزو، حتى تفوزوا بما فاز محمد: يا ليتني كنت معهم، وغرض المثبط حينئذ إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ونسبة (¬2) إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى، دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيلية، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} وتقديم الشرطية الأولى على الثانية لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) كرخي.

[74]

وقرأ الجمهور (¬1): {لَيَقُولَنَّ} بفتح اللام، وقرأ الحسن {ليقولن} بضم اللام، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من، وقرأ ابن كثير وحفص {كأن لم تكن} بتاء التأنيث، والباقون بالياء، وقرأ الحسن ويزيد النحوي {فأفوزُ} برفع الزاي عطفًا على كنت، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني، أو على الاستئناف؛ أي: فأنا أفوز، وقرأ الجمهور بنصب الزاي وهو جواب التمني، 74 - والفاء في قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} رابطة (¬2) الجواب بشرط مقدر، تقديره: إن لم يقاتل في سبيل الله هؤلاء المثبطون المنافقون .. فليقاتل في سبيل الله، فليجاهد لإعلاء كلمة الله تعالى المؤمنون المخلصون {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}؛ أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا ولذاتها بالآخرة، ويبذلون أرواحهم لله تعالى، ويجعلون الآخرة وثوابها ثمنًا لها وعوضًا منها. ثم رغب في القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ}؛ أي: في طاعته ويجاهد لإعلاء كلمة الله، لا للحمية والمفاخرة {فـ} يظفر به عدوه و {يقتل} شهيدًا {أَوْ} يظفر هو بعدوه، و {يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ}؛ أي: نعطيه في كلا الحالين {أَجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: ثوابًا جسيمًا من عندنا في الآخرة، خالدًا مخلدًا في دار الجزاء والنعيم المقيم، وإذا كان الأجر حاصلًا له على كلا التقديرين .. لم يكن عمل أشرف من الجهاد، ونبه بقوله {فَيُقتَل} أو يغلب على أن المجاهد ينبغي له أن يثبت في المعركة، حتى يكرم نفسه بالشهادة، أو يعز الدين بالظفر والغلبة، وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة". متفق عليه وهذا لفظ مسلم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[75]

وقرأ الجمهور (¬1): {فَلْيُقَاتِلْ} بسكون، لام الأمر، وقرأت فرقة بكسرها على الأصل، وقرأ الجمهور: {فَيُقتَلْ} مبنيًّا للمفعول، وقرأ محارب بن دثار: {فيقتل} على بناء الفعل للفاعل، وأدغم باء يغلب في الفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه، وأظهرها باقي السبعة، وقرأ الجمهور: {نُؤْتِيهِ} بالنون، وقرأ الأعش وطلحة بن مصرف {يؤتيه} بالياء. 75 - ثم زاد ترغيبًا فيه فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والاستفهام فيه للتحريض والأمر بالجهاد؛ أي: وأيُّ عذر ثبت لكم أيها المؤمنون يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله مع المشركين، لتقيموا التوحيد مقام الشرك وتحلوا الخير محل الشر، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة، {و} أي شيء منعكم أن تقاتلوا في تخليص {الْمُسْتَضْعَفِينَ}؛ أي: في فك الضعفاء إخوانكم في الدين من أيدي المشركين حالة كونهم {مِنَ الرِّجَالِ} الضعفاء {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}؛ أي: الصبيان، وقيل المراد بالولدان العبيد والإماء، والمراد بالمستضعفين جماعة من المسلمين الذين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة، وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم فيقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين"، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان، {الَّذِينَ يَقُولُونَ}؛ أي: وفي تخليص المستضعفين الذين فقدوا النصير والمعين، وتقطعت بهم أسباب الرجاء، فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرج كربهم، ويخرجهم من تلك القرية - مكة - لظلم أهلها لهم، ويسخر لهم بعنايته من يتولى أمرهم، وينصرهم على من ظلمهم، فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم، ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط، وهي رابطة الإيمان، فهي أقوى من رابطة الأنساب والأوطان، فقالوا في دعوتهم واستغاثتهم: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {أَخْرِجْنَا}؛ أي: حولنا وانقلنا {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وهذه البلدة يعنون مكة {اَلظالمِ أهلُهَا}؛ أي: التي اتصف أهلها وساكنوها بالظلم؛ لأنهم كانوا مشركين، وكانوا يؤذون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[76]

المسلمين أشد الإيذاء، ويوصلون إليهم أنواع المكاره والتعذيب، وما أحد من المسلمين فيها قدر على الهجرة؛ لأنهم يصدونهم عنها، ويعذبون مريديها عذابًا شديدًا، {وَاجْعَلْ لَنَا} يا إلهنا {مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: من عندك {وَلِيًّا} من المسلمين يتولى أمورنا، ويقوم بمصالحنا، ويحفظ علينا ديننا {وَاجْعَلْ لَنَا} يا خالقنا {مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}؛ أي: ناصرًا من المؤمنين ينصرنا على أعدائنا، وقد استجاب الله دعاءهم فيسر لبعضهم الخروج، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة، وولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد، وكان ابن ثماني عشرة سنة، فكان ينصر المظلومين على الظالمين، وينصف الضعيف من القوي، والذليل من العزيز، وكان الولي (¬1) هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنصير عتاب بن أسيد. 76 - وما شُرع القتال إلا لعدم حرية الدين، وظلم المشركين للمسلمين، فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررًا، والأمور بمقاصدها وغاياتها، كما قال تشجيعًا للمجاهدين وترغيبًا لهم في الجهاد. {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا كلام مستأنف، سيق لترغيب المؤمنين في الجهاد؛ أي: إنما يقاتل الذين آمنوا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} والشيطان؛ أي: إنما يقاتل الذين كفروا لنصرة دين الشيطان وكلمة الباطل، واتباعًا لوسوسته وتزيينه الكفر، فلو ترك المؤمنون القتال .. لغلب الطغيان وعم الفساد، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}. ثم حث مرة أخرى على القتال، وبين لهم ضعف عدوهم فقال: {فَقَاتِلُوا} أيها المؤمنون وأولياء الرحمن {أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} وأصحابه الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه الباطل، وأن في الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفًا لهم أيما شرف، {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} ومكره للمؤمنين {كانَ ضَعِيفًا} بالنسبة إلى مكر الله سبحانه وتعالى للكافرين، فالنصر والظفر لأوليائه، والهزيمة والخذلان للكافرين، فلا تخافوا أولياء الشيطان وخافون إن كنتم مؤمنين. ¬

_ (¬1) المراح.

[77]

ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر، وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر، وأما الملوك والجبابرة، فإذا ماتوا انقرض أثرهم، ولا يبقى في الدنيا رسمهم. وقد جرت سنة الله أن الحق يعلو، والباطل يسفل، وأن الذي يبقى هو الأصلح والأمثل، فالذين يقاتلون في سبيل الله يطلبون ما تقتضيه سنة العمران، والذين يقاتلون في سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء في الأرض بغير الحق، وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم، وسنن العمران تأبى ذلك، فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء إلا لنومة أهل الحقّ عن حقهم، فإذا هم أفاقوا من غفوتهم .. تغلب الحق على الباطل، ورده خاسئًا محسورًا. على أن الذين يقاتلون في تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد، ويكونون أجدر بالثبات والصبر، وفي ذلك من القوة ما ليس في كثرة العدد والعدد. وهذا في الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة، ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية، تقيم القرآن، وتحوط الدين وأهله بما أوجبه الله من إعداد العدة للحرب .. لاتخذها أهل المدنية قدوة لهم وإماما في أعمالهم، وما كانت الحمية والعصبية والوطنية ديدنًا لهم، فهم في أمد بعيد من النصر على أعدائهم، فيا مصيبة ابتلي المسلمون بها الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون. 77 - وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} استفهام (¬1) تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إحجامهم عن القتال، مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حرصًا عليه، بحيث كانوا يباشرونه كما ينبىء عنه الأمر بكف الأيدي، فإن ذلك مشعر بكونهم بصدد بسطها إلى العدو، والخطاب (¬2) فيه ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراح.

لجماعة من المسلمين، منهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وقدامة بن مظعون الجمحي، ومقداد بن الأسواد الكندي، وطلحة بن عبيد الله التيمي، كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة يلقون من المشركين أذى شديدًا، فيشكون ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: إئذن لنا في قتالهم، ويقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كفوا أيديكم عن القتل والضرب والاعتداء على الناس، فإني لم أؤمر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة الصلاة، والخشوع لله، وإيتاء الزكاة، التي تمكن الإيمان في القلوب، وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد، فلما هاجروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وأمروا بقتالهم في وقعة بدر .. كرهه بعضهم، لا شكًّا في الدين، بل نفورًا عن الإخطار بالأرواح، وخوفًا من الموت بموجب الجبلة البشرية، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ}؛ أي: فرض {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}؛ أي: الجهاد في سبيل الله، في السنة الثانية من الهجرة، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ أي: إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد {يَخْشَوْنَ النَّاسَ}؛ أي: يخافون الكفار أن يقتلوهم، {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}؛ أي: كخوفهم من الله تعالى؛ أي: كما يخافون أن ينزل عليهم بأسه، وإذا للمفاجأة جواب لما؛ أي: فلما كتب عليهم القتال .. فاجأ كَتب القتال خشيتهم من الناس، {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}؛ أي: بل يخافون من الناس خشية وخوفًا أشد وأقوى وأكثر من خشيتهم من الله تعالى، لما كان من طبع البشر من الجبن لا للاعتقاد، ثم تابوا وأهل الإيمان يتفاضلون فيه، {وَقَالُوا} خوفًا من الموت، لا لكراهتهم أمر الله بالقتال، وهذا عطف على جواب لما، وهو إذا الفجائية وما في حيزها، {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ} وفرضت {عَلَيْنَا الْقِتَالَ} والجهاد في هذا الوقت {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؛ أي: هلا أخرتنا إلى أجل قريب ومدة قريبة، حتى نموت بآجالنا، ولا نقتل فيفرح بنا الأعداء، وذكر في حرف ابن مسعود: لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل فتسر بذلك الأعداء، ذكره أبو حيان في "البحر" وهذا القول استزادة في مدة الكف، ويجوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم، من غير أن يتفوهوا به صريحًا، وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم شبهتهم فقال: {قَلَّ} لهم يا محمد جوابًا لهذا السؤال عن حكمة فرض القتال

[78]

عليهم، من غير توبيخ؛ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبًا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي، {مَتَاعُ الدُّنْيَا}؛ أي: منفعة الدنيا ولذاتها {قَلِيلٌ} لأنه سريع الزوال، ووشيك الانصرام، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل {وَالْآخِرَةُ}؛ أي: ثوابها الباقي وجزاؤها، لا سيما المنوط بالقتال، {خَيْرٌ} من ذلك المتاع الفاني، {لِمَنِ اتَّقَى} الله تعالى، وامتثل أوامره، واجتنب الكفر والفواحش؛ لأن نعم الأخرة كثيرة، ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب، ويقينية بخلاف نعم الدنيا؛ فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني، ومشوبة بالمكاره، {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ أي: ولا تنقصون من أجور أعمالكم أدنى شيء، ولو كان قدر فتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. قال في "التسهيل": إن الآية في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمرو به .. كرهوه، لا شكًّا في دينهم، ولكن خوفًا من الموت، كما مر هذا القول، وقيل: الآية في المنافقين، وهو أليق بسياق الكلام، واختار القرطبي وأبو حيان هذا القول وهو الأرجح، قال في "البحر": الظاهر أن القائلين هذا هم منافقون؛ لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}، وهذا لا يصدر إلا من منافق انتهى. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير (¬1): {وَلَا يُظْلَمُونَ} بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات، ثم رغبهم في القتال، 78 - وبين لهم أن الموت مصير كل شيء، فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا}؛ أي: في أي مكان وجدتم وحصلتم فيه، سواء كان برًّا أو بحرًا، سفرًا أو حضرًا {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}؛ أي: يأخذكم الموت الذي تكرهون لأجله القتال، زعمًا منكم أنه من محله، ويقع بكم لا محالة، {وَلَوْ كُنْتُمْ} متحصنين منه {فِي بُرُوجٍ} وحصون {مُشَيَّدَةٍ}؛ أي: مطولة مرتفعة قوية بالجص والنورة، فلا تخشوا القتال لأجله، ولا تتمتوا هذا التأخير الذي سألتم؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لأنه لا فائدة فيه؛ لأنه لا منجا ولا ملجأ من الموت، سواء أكان بقتل أم بغيره، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة، وقال زهير: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولَوَ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ وقرأ طلحة بن سليمان (¬1): {يدركُكُم} برفع الكافين، وخرجه أبو الفتح على حذف فاء الجواب؛ أي: فيدرككم الموت، أو على أنه كلام مستأنف، وأينما متصل بلا تظلمون، وهي قراءة ضعيفة. والخلاصة (¬2): أن الموت أمر محتم لا مهرب منه، فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان، ولو تحصنتم في شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة، أو في القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند، وإذا كان الموت لا مفر منه، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى ولا يصاب بالأذى، وقد يموت المعتصم في البروج والحصون، وهو في غضارة العيش .. فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون، ولماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم، ولماذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو، حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة، ولماذا تكرهون القتال وتجبنون، وتخافون الناس وتتمنون البقاء، أليس هذا بضعف في الدين، وركة في العقل، وخورًا في العزيمة، تؤاخذون بها، وتقوم عليكم بها الحجة. ثم ذكر سبحانه وتعالى شأنًا آخر من شؤونهم، أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب، فقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ}؛ أي: اليهود والمنافقين {حَسَنَةٌ}؛ أي: خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار، {يَقُولُوا هَذِهِ} الحسنة {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} تعالى، قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان .. أمسك الله عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم، فعند ¬

_ (¬1) البحر المحيط والبيضاوي. (¬2) المراغي.

هذا قالوا: ما رأينا أعظم شؤمًا من هذا الرجل، نقصت ثمارنا ومزارعنا، وغلت أسعارنا منذ قدم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}؛ أي: جدوبة وشدة وغلاء سعر .. {يَقُولوُا}؛ أي: يقول اليهود والمنافقون {هَذِهِ} السيئة {مِنْ عِنْدِكَ}؛ أي: هذه من شؤم محمَّد وأصحابه؛ أي: وإن تصبهم نعمة .. نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية .. أضافوها إليك، كما حكى الله عن قوم موسى بقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيئةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، وعن قوم صالح بقوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}، وهذا زعم باطل منهم، فكل من النعمة والبلية من عند الله تعالى، خلقًا وإيجادًا، يقع في ملكه بحسب السنن التي وضعها، والأسباب والمسببات التي أوجدها، {قُلْ} أجبهم يا محمد ردًّا لزعمهم الباطل، وإرشادًا لهم إلى الحق: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ أي: كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقًا وإيجادًا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلًا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي عقوبة له، {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ}؛ أي: وإذا كان الأمر كذلك .. فأي شيء حصل لهؤلاء اليهود والمنافقين؛ وماذا دهاهم في عقولهم حالة كونهم {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}. أي: لا يقربون أن يفهموا حديثًا من الأحاديث أصلًا، فقالوا ما قالوه، إذ لو فهموا شيئًا من ذلك .. لفهموا أن الكل من عند الله تعالى، فالنعمة منه تعالى بطريق التفضل، والبلية منه تعالى بطريق العقوبة على ذنوب العباد، عدلًا منه تعالى، والاستفهام هنا تعجبي مضمن معنى الإنكار. وإذا (¬1) كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث .. فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه، في الإخبار عن نظم الاجتماع، وارتباط الأسباب بالمسببات، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل، وخصهم به من جميل الرعاية، فتلك الحكم العالية لا تُنال إلا بفضل الروية، ¬

_ (¬1) المراغي.

[79]

وطول الأناة والتدبير، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم .. لا يقول إن السيئة تقع بشؤم أحد، بل ينسب كل شيء إلى سببه. وفي الآية إيماء إلى أن حصيف الرأي يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر، إذ من قنع بذلك .. بقي في عماية، ويظل طول دهره غِرًّا جاهلًا بما يحيط به من نظم هذا العالم. ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله (¬1): {فما}، ووقف الباقون على {اللام} في قوله: {فمال} إتباعًا للخط، ولا ينبغي تعمد ذلك، لأن الوقف على {فما} فيه قطع عن الخبر، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس. 79 - والخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ} للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المراد غيره؛ أي: أيُّ شيء أصابك وأتاك أيها الإنسان {مِنْ حَسَنَةٍ}؛ أي: من نعمة من النعم التي أنعم الله بها عليك {فـ} هي أتت {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى بالذات تفضلًا وإحسانًا منه، من غير استيجاب لها من قبلك، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ}؛ أي: وأيُّ شيء أصابك وأتاك من بلية من البلايا {فَمِنْ نَفْسِكَ}؛ أي: فتلك السيئة أتت من نفسك، بسبب اقترافك المعاصي الموجبة لها، وإن كان الخلق من الله، وعن عائشة - رضي الله عنها -: "ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر". وحاصل المعنى (¬2): أن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهي من فضل الله وجوده، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من مواد الغذاء، وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء، وكل سيئة تصيبك فهي من نفسك، فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل، واختيار في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

درء المفاسد، وجلب المنافع، وترجيح لبعض المقاصد على بعض، قد تخطيء في معرفة ما يسوء وما ينفع؛ لأنك لا تضبط إرادتك وهواك، ولا تحيط علمًا بالسنن والأسباب، فأنت ترجح بعضًا على بعض، إما بالهوى، أو قبل أن تحيط خبرًا بمعرفة النافع والضار، فتقع فيما يسوء. وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وأن عصيانه مما يجلب النقم، وطاعته إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية، واستدراجات الطاغوتية، وكرامات الشيطانية، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية. وفي مصحف ابن مسعود (¬1): {فمن نفسك وإنما قضيتها عليك}، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود: {وأنا كتبتها}، وروي أن ابن مسعود وأبيًّا قرأ: {وأنا قدرتها عليك}، وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، وقرأت عائشة رضي الله عنها: {فمَن نفسُك} بفتح الميم ورفع السين، فـ {مَن} استفهام معناه الإنكار؛ أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل، المعنى: ما للنفس في الشيء فعل. فائدة: فإن قلت (¬2) إن قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يعارض قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الواقع ردًّا لقول المشركين {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ...} الآية؟ فالجواب: أن قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إيجادًا وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}؛ أي: من كسبك، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. والحاصل: أنك إذا نظرت إلى الفاعل الحقيقي .. فالكل منه، وإذا نظرت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

إلى الأسباب .. فما هي إلا من شؤم ذنب نفسك، يوصله إليك بسبب مجازاة وعقوبة لا من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال (¬1) بعض أهل العلم: والفرق بين {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} و {مِنَ آللهِ} أن من عند الله أعم، يقال: فيما كان برضاه وبسخطه وفيما يحصل وقد أمر به أو نهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت .. فمن الله، وإن أخطأت .. فمن الشيطان انتهى. وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ} يا محمَّد {لِلنَّاسِ}؛ أي: إلى الناس كافة حالة كونك {رَسُولًا}؛ أي: مرسلًا إليهم بشريعتنا، بيان لجلالة منصبه ومكانته عند الله تعالى، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه بناء على جهلهم بشأنه الجليل؛ أي: ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت، وليس لك دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات؛ لأنك لم ترسل إلا للتبليغ والهداية، لا للتصرف في نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة تصيبهم بشؤمك محض خرافة، لا مستند لها من عقل أو نقل، ومخالف لما بينه الله تعالى من وظيفة الرسل. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}؛ أي: وكفى الله سبحانه وتعالى شهيدًا على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله تعالى، أو كفى الله شهيدًا على أنك أرسلت للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، لا مسيطرًا ولا جبارًا، ولا مغيرًا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فلا ينبغي لأحد من الناس، عربهم وعجمهم أن يخرج عن طاعتك واتباعك. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تنبيه زائد، {الَّذِينَ}: في محل الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {خُذُوا}: فعل وفاعل والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {حِذْرَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {فَانْفِرُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {انْفِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {خُذُوا}. {ثُبَاتٍ}: حال من واو {انْفِرُوا} ولكن في تأويل مشتق، تقديره: حالة كونكم متفرفين، {أَوِ}: حرف عطف، {انْفِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {انْفِرُوا} الأول، {جَمِيعًا}: حال من واو {انْفِرُوا}، ولكن بعد تأويله بمشتق، تقديره: حالة كونكم مجتمعين، والمعنى: بادروا إلى الخروج للقتال كيفما أمكن. {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}. {وَإِنَّ}: {الواو}: استئنافية، {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد، {مِنْكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}، {لَمَنْ} {اللام}: حرف ابتداء، من: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب اسم إن مؤخر عن خبرها، تقديره: وإن من ليبطئن لكائن منكم، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {لَيُبَطِّئَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم، {يُبَطِّئَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {من}، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وإن الذي أقسم والله ليبطئن لكائن منكم، وجملة القسم وجوابه صلة {مَن} إن قلنا {مَن} موصولة، أو صفة لها إن قلنا نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {لَيُبَطِّئَنَّ} وبذلك (¬1) علم أن جملة القسم مع جوابها خبرية مؤكدة بالقسم، فلا يمتنع وقوعها صلة للموصول، أو صفة للموصوف، والإنشائية إنما هي جملة القسم، أعني: أقسم بالله، كما ذكره الشيخ سعد الدين، واللام في {لَمَنْ} لام ابتداء، دخلت على اسم {إن}؛ لوقوع الخبر فاصلًا. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}. {فَإِنْ} {الفاء}: حرف عطف وتفصيل، {إن}: حرف شرط، {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {إن}، على كونه فعل شرط لها، {قَال}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إن} على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من يبطئن، وجملة {إن} الشرطية مع جوابها معطوفة على جملة قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} مفصلة لها، {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ...} إلى أخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {قَدْ}: حرف تحقيق، {أَنْعَمَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {عَلَيَّ} جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمَ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب مبني على السكون، والظرف متعلق بـ {أَنْعَمَ}، {لَمْ أَكُنْ}: جازم وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على المبطىء، {مَعَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدًا}: وهو خبر {أَكُنْ}، وجملة الكون في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}. {وَلَئِنْ} {الواو}: عاطفة، {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {أَصَابَكُمْ فَضْلٌ} فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {فَضْلٌ}، {لَيَقُولَنَّ} {اللام}: لام القسم مؤكدة للَّام الأولى، {يقولنّ}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على المبطىء، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: ولئن أصابكم فضل من الله .. يقول: يا ليتني كنت معهم، وإنما جعلنا المذكور جواب القسم، وجعلنا جواب الشرط محذوفًا جريًا على القاعدة إنه إذا اجتمع شرط وقسم متواليان، ولم يتقدم عليهما ذو خبر .. جعل المذكور جواب المتقدم منهما، وقدر جواب المتأخر منهما، كما قال ابن مالك:

وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ وَإِنْ تَوَالَيَا وَقَبْلُ ذُوْ خَبَرْ ... فَالشَّرْطَ رَجِّحْ مُطْلَقًا بِلاَ حَذَرْ {كَأَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا تقديره: كأنه، {لمْ}: حرف نفي وجزم، {تَكُنْ}: مجزوم بـ {لَم}، وقرىء بالتاء نظرًا للفظ المودة، وبالياء؛ لأن المودة والود بمعنى واحد، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه خبر لـ {تَكُنْ} ومقدم على اسمها، {وَبَيْنَه}: معطوف على {بَيْنَكُمْ}، والضمير فيه عائد على المبطىء، وجملة تكن في محل الرفع خبر {كَأَنْ}، وجملة {كَأَنْ} من اسمها وخبرها: جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القول ومقوله، والتقدير: يقول يا ليتني، وقيل: ليس بمعترض بل هو محكي بالقول؛ أي: يقول كأن لم تكن، وحينئذ فالضمير في {بَيْنَكُمْ} عائد على المنافقين، وفي {بَيْنَهُ} عائد على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل جملة {كَأَنْ} حال من ضمير الفاعل في: {لَيَقُولَنَّ}، {مَوَدَّةٌ}: اسم {تَكُنْ} مؤخر. {يَا لَيْتَنِي} {يَا}: حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا قوم، وجملة النداء في محل النصب مقول القول، {لَيْتَنِي} {ليت}: حرف تمني ونصب، و {الياء}: اسمها، {كُنتُ}: فعل ناقص واسمه، {مَعَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر كان، وجملة كان في محل الرفع خبر ليت، وجملة ليت في محل النصب مقول القول، {فَأَفُوز}: الفاء عاطفة سببية، {أفوز}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على المبطىء، {فَوْزًا} منصوب على المفعولية المطلقة، {عَظِيمًا}: صفة لـ {فَوْزًا}، وجملة {أفوزَ}: صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: أتمنى كوني معهم ففوزي فوزًا عظيمًا، وقرىء {فأفوزُ} بالرفع على الاستئناف على تقدير: فأنا أفوز. {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}. {فَلْيُقَاتِلْ} {الفاء}: رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن بطأ وتأخر

هؤلاء عن القتال .. فليقاتل في سبيل الله، و {اللام}: حرف طلب وجزم، {يقاتل}: مجزوم باللام، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يقاتل}، {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر، في محل الرفع فاعل، والجملة في محل الجزم جواب للشرط المقدر، وجملة الشرط المقدر مستأنفة، {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، {الدُّنْيَا} صفة للحياة، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يَشْرُونَ}. {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. {وَمَنْ يُقَاتِلْ} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب أو هما، {يُقَاتِلْ}: فعل شرط مجزوم بـ {من} وفاعله ضمير يعود على {من}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُقَاتِلْ}، {فَيُقْتَلْ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {يُقْتَلْ}: فعل مضارع مغير الصيغة معطوف على {يُقاتل} مجزوم بـ {من}، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}، {أَوْ}: حرف عطف وتنويع، {يَغْلِبْ}: فعل مضارع مبني للفاعل معطوف على {يُقْتَلْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {فَسَوْفَ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لاقتران الجواب بحرف التنفيس. {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. {نُؤْتِيهِ}: فعل مضارع ومفعول أول مرفوع لعدم صلاحية لفظه للجواب لاقترانه بحرف التنفيس، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {أجرًا}: مفعول ثان، {عَظِيمًا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية: مستأنفة. {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والتقدير: أي شيء ثابت لكم، {لَا} نافية، {تُقَاتِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير المخاطبين، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر، والتقدير: أيُّ شيء مستقر لكم حالة

كونكم غير مقاتلين، وفي "الفتوحات" وجملة قوله: {لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيها وجهان. أظهرهما: أنها في محل نصب على الحال؛ أي: ما لكم غير مقاتلين، أنكر عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة، وقد صرح بالحال بعد مثل هذا التركيب في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وقالوا في مثل هذه الحال: إنها حال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم بدونها، وفيه نظر، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر، كقولك مالك ضاحكًا. والوجه الثاني: أن الأصل: وما لكم في أن لا تقاتلوا، فحذفت {في} فبقي أن لا تقاتلوا، فجرى الخلاف المشهور، ثم حذفت أن الناصبة، فارتفع الفعل بعدها، كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. اهـ. "سمين". {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}: معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ} ولكنه على تقدير مضاف تقديره: وفي تخليص المستضعفين من أيدي الكفار، {مِنَ الرِّجَالِ}: جار ومجرور حال من {الْمُسْتَضْعَفِينَ}، {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}: معطوفان على {الرِّجَالِ}. {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}. {الَّذِينَ}: صفة لـ {المستضعفين}، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا ...} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {يَقُولُونَ} وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف وجملة النداء مقول القول، {أَخْرِجْنَا}: فعل وفاعل والجملة جواب النداء على كونها مقول القول، {مِنْ هَذِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَخْرِجْنَا}، {الْقَرْيَةِ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، {الظَّالِمِ}: صفة للقرية، {أَهْلُهَا}: مرفوع به على الفاعلية، وأل في {الظَّالِمِ}: موصولة بمعنى: التي ظلم أهلها، فالظالم موافق للقرية إعرابًا ولما بعده معنى؛ لأنه نعت سببي. {وَاجْعَلْ}: فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله، وهو معطوف على

{أَخْرِجْنَا}. {لَنَا}: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {جعل}، {مِنْ لَدُنْكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {وَلِيًّا}، لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا، {وَلِيًّا}: مفعول ثان لجعل، {وَاجْعَلْ}: معطوف على {أَخْرِجْنَا}. {لَنَا}: في محل النصب مفعول أول، {مِنْ لَدُنْكَ}: حال من {نَصِيرًا} وهو مفعول ثان لجعل. {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ، {آمَنُوا}: صلته، {يُقَاتِلُونَ}: خبره والجملة الإسمية مستأنفة، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُقَاتِلُونَ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {كَفَرُوا}: صلته، {يُقَاتِلُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُقَاتِلُونَ}. {فَقَاتِلُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره إذا عرفتم أن الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ... إلخ، وأردتم بيان ما هو لازم لكم .. فأقول لكم: {قاتلوا}: فعل وفاعل. {أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذًا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ}: ناصب ومنصوب ومضاف إليه، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على كيد الشيطان، {ضَعِيفًا}: خبر {كاَن}، وجملة {كاَنَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التعجبي، {لم}: حرف جزم، {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة، {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَرَ}، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق، {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ...} إلى قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ}: نائب فاعل محكي، وجملة {قِيلَ}: صلة الموصول، والعائد

ضمير لهم، وإن شئت قلت: {كُفُّوا}: فعل وفاعل، {يْدِيَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على {كُفُّوا}، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {كُفُّوا}. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}. {فَلَمَّا} {الفاء}: استئنافية، {لما}: حرف شرط غير جازم، {كُتِب}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَيْهِمُ}: متعلق به، {الْقِتَالُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {إِذَا}: حرف مفاجأة رابطة لجواب {لما} لا محل لها من الإعراب على الأصح، كما هو مذكور في كتب النحو، {فَرِيقٌ}: مبتدأ، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة له، وهو المسوغ للابتداء، {يَخْشَوْنَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} مستأنفة {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لمصدر محذوف، تقديره: يخشون الناس خشية كائنة كخشية الله، وإضافة خشية إلى لفظ الجلالة من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ أي: كخشيتهم الله، {أَوْ}: حرف عطف بمعنى بل، {أَشَدَّ}، معطوف على {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، {خَشْيَةً}: تمييز له، أو {أَشَدَّ}: معطوف على محل الجار والمجرور في {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}، و {خَشْيَةً}: تمييز له، أو {أَشَدَّ}: منصوب على الحال من {خَشْيَةً} المذكور بعده؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، و {خَشْيَةً}: معطوف على محل الجار والمجرور في: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}، والتقدير: يخشون الناس كخشية الله بل خشية أشد من خشية الله، {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَخْشَوْنَ}. {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}، {لِمَ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَتَبْتَ} وهو فعل وفاعل، {عَلَيْنَا}: جار ومجرور

متعلق بـ {كَتَبْتَ} أيضًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالوا}. {الْقِتَالَ}: مفعول به لـ {كَتَبْتَ}. {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلَّا. {أَخَّرْتَنَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {أَخَّرْتَنَا}، {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَتَاعُ الدُّنْيَا}: إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَتَاعُ الدُّنْيَا}: مبتدأ ومضاف إليه. {قَلِيلٌ}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَلِيلٌ}، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، {لِمَنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}، {اتَّقَى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول والعائد ضمير الفاعل، {وَلَا}: {الواو} عاطفة، {لَا}: نافية، {تُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل، {فَتِيلًا}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: تجزون فيها؛ أي: في الآخرة ولا تظلمون فتيلًا، والجملة المحذوفة مع المعطوفة عليها في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. {أَيْنَمَا}: {أَيْنَ}: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية. {ما}: زائدة، والظرف متعلق بـ {تَكُونُوا}، {تَكُونُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {أَيْنَمَا}، على كونه فعل شرط لها، وكان هنا تامة، {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {أَيْنَمَا} على كونه جوابًا لها، وجملة {أَيْنَمَا}: مستأنفة. {وَلَوْ}: الواو عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بمحذوف خبر كان، وجملة كان فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجواب {لَوْ} معلوم مما قبله، تقديره: ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت، وجملة {لَوْ}

معطوفة على جملة محذوفة مثلها، تقديرها: لو لم تكونوا في بروج مشيدة لأدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ... إلخ. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط جازم. {تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {يَقُولُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مقول محكى وإن شئت قلت: {هَذِهِ}: مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُوا}. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. {وَإنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {تصبهم سيئة}: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {إن}، {يَقُولوُا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {كُلٌّ}: مبتدأ، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}. {فَمَا}: {الفاء} استئنافية، {ما}: اسم استفهام تعجبي في محل الرفع مبتدأ. {اللام}: حرف جر، وفصلت عن المجرور بها تبعًا لخط المصحف العثماني، وفي غير المصحف متصلة بمجرورها وجوبًا صناعيًّا. {هَؤُلَاءِ}: في محل الجر بها، {الْقَوْمِ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، الجار والمجرور في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو معترضة بين البيان والمبين، {لَا}: نافية. {يَكَادُونَ}: فعل ناقص واسمه. {يَفْقَهُونَ}: فعل وفاعل، {حَدِيثًا}: مفعول به، وجملة {يَفْقَهُونَ} في محل النصب خبر {يَكَادُونَ}، وجملة

{يَكَادُونَ} في محل النصب حال من اسم الإشارة، والعامل فيها ما في الظرف من معنى الاستقرار، والمعنى: وحيث كان الأمر كذلك فأيُّ شيء حصل لهم حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثًا. ويصح (¬1) أن تكون جملة {لَا يَكَادُونَ}: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال نشأ عن الاستفهام، كأنه قيل: ما بالهم وماذا يصنعون حتى يتعجب منه أو يسأل عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثًا من الأحاديث، فيقولون ما يقولون، إذ لو فهموا شيئًا من ذلك لفهموا هذا النص، وما في معناه، وما هو أوضح منه من النصوص الناطقة من أن الكل من عند الله تعالى، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان، والبلية منه بطريق العقوبة على ذنوب العباد. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}. {مَا}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما. {أَصَابَ}: فعل ومفعول، في محل الجزم بـ {مَا} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، {من حَسَنَةٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {أَصَابَكَ}. {فَمِنَ اللَّهِ} الله: {الفاء}: رابطة لجواب {ما} الشرطية، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو كائن من الله، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {مَا}، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة، وقال أبو البقاء (¬2): ولا يصح أن تكون {مَا} هنا موصولة؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون المصيب لهم ماضيًا مخصصًا، والمعنى على العموم، والشرط أشبه وأوفق، والتقدير: فهو من الله، والمراد بالأية الخصب والجدب، ولذلك لم يقل أصابت انتهى. {وَمَاَ}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: اسم شرط، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب الجار والمجرور الآتي. {أَصَابَك}: فعل ومفعول، في محل الجزم بـ {مَا}، وفاعله ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري.

ضمير يعود على {مَا}، أو يقال: الجملة صلة الموصول إن قلنا {مَا} موصولة. {مِنْ سَيِّئَةٍ}: حال من فاعل {أَصَابَكَ}، {فَمِنْ نَفْسِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ إن قلنا {ما}: موصولة، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فهي كائنة من نفسك، والجملة في محل الجزم جواب {مَنْ} الشرطية، إن قلنا إنها شرطية، وجملة {ما} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ}. {أَرْسَلْنَاك}: {الواو}: استئنافية، {أَرْسَلْنَاك}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {رَسُولًا}: حال مؤكدة من كاف {أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: ذا رسالة، ويجوز أن يكون مصدرًا؛ أي إرسالًا. {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل. {شَهِيدًا}: حال من الجلالة والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {وَأَرْسَلْنَاكَ}. التصريف ومفردات اللغة {خُذُوا حِذْرَكُمْ} الحذر بكسر أوله وسكون ثانيه، والحذر بفتحتين كالمثل والمثل، كلاهما مصدر معناهما واحد: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، والتحفظ والتيقظ، وفي الكلام مبالغة، كأنه جعل الحذر آلة يقي بها نفسه، وقيل هو ما يحذر به من السلاح والخدم. {فَانْفِرُوا} النفر: الانزعاج والفزع من الشيء، وفي "المصباح،: نفر نفرًا من باب ضرب في اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، ونفر نفورًا من باب قعد لغة، وقرىء بمصدرها في قوله تعالى: {إِلَّا نُفُورًا} والنفير مثل النفور والاسم النفر بفتحتين انتهى. {ثُبَاتٍ} جمع ثبة: وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة إلى المئة، والسرية الجماعة أقلها مئة وغايتها أربع مئة، والمنسر من أربع مئة إلى ثمان مئة، والجيش من ثمان مئة إلى أربعة آلاف، والجحفل ما زاد على ذلك، وفي "السمين": {ثُبَاتٍ} جمع ثبة، ووزنها في الأصل فعلة كحطمة، فحذفوا لامها، وعوضوا عنها تاء التأنيث، وهل عينها واو ثبوة أو ياء ثبية؟ هناك قولان:

حجة القول الأول: أنها مشتقة من ثَبَا يَثْبُو، كحلا يحلو؛ أي: اجتمع. وحجة الثاني: أنها مشتقة من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، كأنك جمعت محاسنه، ويجمع بالألف والتاء، وبالواو والنون، ويجوز في فائها حين جمع على ثبين الضم والكسر، وتصغيره ثبيوة على اللغة الأولى، كما تقول في سه سييهة، وعلى اللغة الثانية. ثبية. {لَيُبَطِّئَنَّ} يقال: أبطأ وبطأ بمعنى؛ أي: تأخر وتثاقل، والثلاثي منه من باب قرب، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير، وقد يستعمل أبطأ وبطأ بالتشديد متعديين، وعليه فالمفعول هنا محذوف؛ أي: ليبطئن غيره؛ أي: يثبطه ويجبنه عن القتال، ويقال أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ. {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} سبيل الله هي تأييد الحق، والانتصار له بإعلاء كلمة الدين، ونشر دعوته، ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا، أو أغاروا على أرضنا، أو نهبوا أموالنا، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس. {يَشْرُونَ}: يبيعون، كما جاء في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}، {وَالْوِلْدَانِ}: جمع وليد، وهو الصبي الصغير، وفي "السمين" الولدان: جمع وليد، وقيل جمع ولد، والمراد بهم الصبيان، وقيل الأرقاء، يقال للعبد وليد، وللأمة وليدة، فغُلِّب المذكر على المؤنث لاندراجه فيه. {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}: البروج المشيدة - واحدها برج - القصور العالية المطلية بالشيد، وهو الجص، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند، وفي "أبي السعود": {ولَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}؛ أي: في حصون رفيعة أو قصور محصنة، وقال السدي وقتادة: بروج السماء، ويقال شاد البناء وأشاده وشيده؛ أي: رفعه، وشيد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجبس، وفي "المصباح": الشيد الجص، وشدت البيت أشيده - من باب باع - بنيته بالشيد، فهو مشيد، وشيدته تشييدًا إذا طولته ورفعته. {حَسَنَةٌ}؛ أي: شيء يحسن عند صاحبه كالرضا، والخصب والظفر بالغنيمة. {سَيِّئَةٌ} هي ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل. {يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} يفهمون كلامًا يوعظون به.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع. فمنها: التجنيس المغاير في قوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}، وفي قوله: {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}. ومنها: إسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في: {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}، و {أَصَابَكُمْ فَضْلٌ}. ومنها: جعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}. ومنها: الاعتراض على قول الجمهور في قوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}، وفي قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، لما يناله من النعيم في الآخرة وفي {سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي قوله: {سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} استعار الطريق للاتباع وللمخالفة، وفي: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال. ومنها: الاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ}. ومنها: الاستفهام الذي معناه التعجب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا}. ومنها: التجوز بقي التي للوعاء عن دخولهم في الجهاد. ومنها: الالتفات في قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في قراءة النون. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: التكرار في قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي قوله: {اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ}، و {يُقَاتِلُونَ}، و {الشَّيْطَانُ}، و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ}، و {مَا أَصَابَكَ}، وفي اسم {الله}. ومنها: الطباق اللفظي في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} و {الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: المعنوي في قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} طاعته، وفي قوله: {فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} معصيته. ومنها: الاختصاص في قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، وفي {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}. ومنها: التجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}، وفي {وَإِنْ تُصِبْهُمْ}، وفي قوله: {مَا أَصَابَكَ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}. ومنها: إيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في قوله: {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ}. ومنها: المقابلة في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}. المناسبة قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) فيما تقدم بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول، وبين جزاء المطيع، وأحوال الناس في هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، ثم أمر بالقتال، وبين مراتب الناس في الامتثال له .. أعاد هنا الأمر بالطاعة، وبين أنها أولًا وبالذات لله تعالى ولغيره بالتبع، وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين. قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أن الموت يدرك كل أحد، ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول، وخلافها بالفعل، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول عليه السلام من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال .. عاد إلى أمر القتال، وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلك الأول. قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) نبيه عليه السلام أن يحرض المؤمنين على الجهاد، وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى .. بين في هذه الآية أنهم حين أطاعوك، ولبوا دعوتك، أصابهم من هذه الطاعة خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبًا تستحق عليه الأجر؛ لأنك قد بذلت الجهد في ترغيبهم فيه، بجعل نفسك شفيعًا ونصيرًا لهم في الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة. قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها ظاهرة: وهي أنه تعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيبًا .. أردفه بالإعلام بوحدانية الله تعالى، والحشر والبعث من القبور للحساب، ذكره أبو حيان في "البحر". أسباب النزول قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني فقد أحب الله"، فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربًّا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه مسلم (¬3) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) لباب النقول.

[80]

عنهما قال: لما اعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه .. قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، قال عمر: لأعلمن ذلك اليوم، فذكر الحديث، وفيه - بعد استئذانه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أطلقتهن يا رسول الله؟ قال: "لا"، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد، والناس ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فأنزل وأخبرهم أنك لم تطلقهن، قال: "نعم إن شئت"، فذكر الحديث، وفيه: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، ونزلت الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وكنت أنا استنبطت ذلك، وأنزل الله تعالى آية التخيير. قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ...} الآية، نزلت هذه الآية (¬1) في مواعدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أحد، وذلك في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد .. دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الخروج، فكرهه بعضهم فأنزل تعالى هذه الآية: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني لا تدع جهاد العدو، والانتصار للمستضعفين من المؤمنين، لا تكلف إلا نفسك. التفسير وأوجه القراءة 80 - {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ويوافقه فيما أمر به، ونهى عنه {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الآمر والناهي في الحقيقة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مبلغ للأمر والنهي، فليست الطاعة له بالذات، وإنما هي لمن بلغ عنه، إذ قد جرت سنته سبحانه وتعالى أن لا يأمر الناس، ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم، يفهمون عنهم ما يوحيه تعالى إليهم ليبلغوه عنه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وهذه الآية تدل على أن كل تكليف كلف ¬

_ (¬1) الخازن.

الله تعالى به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن، ولم يكن ذلك التكليف مبينًا في القرآن، لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول عليه السلام، وإذا كان الأمر كذلك لزم القوم بأن طاعة الرسول عليه السلام عين طاعة الله تعالى، وروى مقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى"، فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك، قد نهى أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فالمؤمن (¬1) حقًّا لا يكون خاضعًا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه، والخروج عن ذلك شرك وهو نوعان: الأول: أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية، ومن ثم ترجو نفعها، وتخاف ضرها، وتدعوها وتذل لها، وذلك هو الشرك في الألوهية. الثاني: أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم، كما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .. بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون، وذلك هو الشرك في الربوبية. ذاك أن المؤمن يجب أن يكون أعز الناس نفسًا، وأعظمهم كرامة، فلا يرضى أن يستعبده سلطان ظالم، ولا حاكم مستعبد، إذ يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون لله تعالى، يخضعون لأمره، وأن ذلك منتهى سعادتهم في الدارين. هذا كله فيما يبلغه عن ربه، أما ما يقوله الرسول عليه السلام من تلقاء نفسه، وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل - تلقيحه بطلع الذكر - ونحوه، مما يسميه العلماء أمر إرشاد .. فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله تعالى؛ لأنه ليس دينًا ولا شرعًا عنه تعالى، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراغي.

[81]

بكيل الطعام، كالقمح وغيره من الحبوب، عند طحنه وعند عجنه، وهو من التدبير والاقتصاد في البيوت، وأكثر المسلمين أهملوه إلا من تعود منهم التدبير وحسن التقدير في المنازل، وكذلك أمر بأكل الزيت والادِّهان به. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا شكوا في الأمر أمن عند الله هو، أم من رأي الرسول واجتهاده، وكان لهم في ذلك رأي آخر .. سألوه فإن أجابهم بأنه من الله تعالى أطاعوه بلا تردد، وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم، وربما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رأيه إلى رأيهم، كما فعل في بدر وأحد، وجواب الشرط في قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى} وأعرض عن طاعتك يا محمد التي هي طاعة الله تعالى محذوف، تقديره: فأعرض عنه، ولا تهتم به، ولا تحزن عليه، وليس لك أن تكرهه عليها. وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تعليل لذلك المحذوف؛ أي: لأنَّا ما أرسلناك حفيظًا، تحفظ الناس عن المعاصي، ومسيطرًا ورقيبًا عليهم، ترقب أفعالهم وأقوالهم، فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار، وإنما أرسلناك مبشرًا ونذيرًا، فعليك البلاغ وعلينا الحساب، قال المفسرون: وكان هذا قبل أن يؤمر بالجهاد ثم نسخ ذلك بآية السيف. 81 - وفي هذه الجملة تسلية له - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم عن الإيمان. {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول المنافقون - الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية - إذا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر .. أمرك يا محمد، {طَاعَةٌ}؛ أي: مطاع مقبول عندنا، أو أمرنا طاعه، وشأننا طاعة لك؛ أي: إطاعة لك إظهارًا لكمال الانقياد والخضوع، {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ}؛ أي: فإذا خرجوا من المكان الذين يكونون معك فيه إلى البراز والفضاء وهم منصرفون إلى بيوتهم .. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}؛ أي: دبر جماعة منهم ليلًا قولًا غير الذي قالوا لك وأظهروه عندك نهارًا من الطاعة والسمع، وتكلموا فيما بينهم بعصيانك وتوافقوا عليه، وقيل: الضمير في تقول يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: غير الذي تقوله يا محمد، وقرأ يحيى بن يعمر {يقول} بالياء ويحتمل أن يعود الضمير على الرسول عليه السلام، فيكون التفاتًا من الخطاب في: {مِنْ عِنْدِكَ} إلى الغيبة، {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَكْتُبُ}

[82]

ويبين لك يا محمَّد في كتابه {مَا يُبَيِّتُونَ} ويدبرون لك ليلًا، ويفضحهم بمثل هذه الآيات فيطلعك على أسرارهم، أو يثبت ذلك في صحائف أعمالهم، ليجازوا عليه، وفي هذا من التهديد الشديد ما لا يحفى. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} يا محمد، ولا تهتم بما يبيتون، ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يعلنوا، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: واعتمد على الله تعالى، وفوض الأمر إليه، وثق به في جميع أمورك، فإن الله تعالى يكفيك شرهم، وينتقم لك منهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ} سبحانه وتعالى من جهة كونه {وَكِيلًا}؛ أي: مفوضًا إليه، لمن توكل عليه فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم، وعالم بمقدار ما يستحقون منه، لا يعجزه منه شيء، 82 - {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؛ أي: أيعرضون عن القرآن، فلا يتأملون فيه، ليعلموا كونه من عند الله تعالى، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الناطق بنفاقهم، وأصل (¬1) التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرًا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه، والهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف كما قدرنا، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أجهل هؤلاء المنافقون حقيقة الرسالة، وكنه هذه الهداية، فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها، ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم، وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة، فهو إذ صدق في الأخبار عما يبيتون في أنفسهم من القول، يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم، والوبال والنكال في عاقبتهم. وقرأ الجمهور {يَتَدَبَّرُونَ} بياء وتاء بعدها على الأصل، وقرأ ابن محيص بإدغام التاء على الدال. {وَلَوْ كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} تعالى بل كان من عندك كما يزعمون .. {لَوَجَدُوا فِيهِ}؛ أي: في هذا القرآن {اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، وتناقضًا جمًّا، من حيث (¬2) التوحيد والتشريك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

والتحليل والتحريم، أو تفاوتًا من حيث البلاغة، فكان بعضه بالغًا حد الإعجاز، وبعضه قاصرًا عنه، يمكن معارضته، أو من حيث المعاني، فكان بعضه إخبارًا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارًا مخالفًا للمخبر عنه، وبعضه دالًا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالًا على معنى فاسد غير ملتئم، وأما تعلق الملاحدة بآيات يدعون فيها اختلافًا كثيرًا من نحو قوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}، {كَأَنَّهَا جَانٌّ}، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)}، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} فقد تقصى أهل الحق، وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى. والمعنى (¬1): أنهم لو تدبروه حق تدبره .. لوجدوه مؤتلفًا غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني، بالغًا في البلاغة إلى أعلى درجاتها. والخلاصة (¬2): أن تدبر القرآن، وتأمل ما امتاز به، هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يرشد إلى كونه من عند الله، وإلى وجوب الاهتداء به، وإلى أنه معقول في نفسه موافق للفطرة، ملائم للمصلحة وفيه سعادة الخلق في الدنيا والآخرة. ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به في كل زمان .. لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة في معايشهم على سواهم، فإن قلت: إن قوله: {اخْتِلَافًا كَثِيرًا} يدل بمفهومه على أن في القرآن اختلافًا قليلًا، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة مع أن لا اختلاف فيه أصلًا .. قلت: بأن التقييد بالكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة؛ أي: لو كان من عند غير الله تعالى لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا فضلًا عن القليل، لكنه من عند الله تعالى فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل. واعلم: أنه يدل على كون القرآن من عند الله سبحانه وتعالى لا من عند غيره أمور كثيرة: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الأول: أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت في شيء منها. الثاني: أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يقف على تاريخه، وعن الآتي، فوقع كما أنبأ به، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر، كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفًا لما تقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ما يقوله لها، فتقبله في حضرته، وترفضه في غيبته. الثالث: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله في سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام، مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات البليغة، تنويعًا للعبرة وتلوينًا للموعظة، واتفاق كل ذلك وتوافقه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض. الرابع: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل، مع عدم الاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك. الخامس: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول، وألوان العبر في أنواع المخلوقات في الأرض أو في السموات، فقد تكلم على الخلق والتكوين، ووصف جميع الكائنات، كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات، وما فيها من الحكم والآيات، وكان في كل ذلك يؤيد بعضه بعضًا، لا تفاوت فيه ولا اختلاف بين معانيه. السادس: أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة، وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل، وكان في كل ذلك جاريًا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، مع الالتئمام بين الآيات الكثيرة، وهو غاية الغايات في ذلك عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب. هذا بالإضافة إلى أنه نزل منجمًا بحسب الوقائع والأحوال، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظًا، وقد جرت العادة بأن من يأتي بكلام من عنده في مناسبات مختلفة لا

[83]

يتذكر جميع ما سبق له في السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقًا للأول، مع أن بعض الآيات كان ينزل في أيام المحن والكروب، وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام، إلى أن كرَّ الغداة ومرّ العشي لا يزيده إلا جدة، ولا يزيد أحكامه إلا ثباتًا ورسوخًا، وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف، ونمت أحوال العمران .. زاد إيمان الناس به، إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم، وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشؤون الكون. 83 - {وَإِذَا جَاءَهُمْ}؛ أي: وإذا جاء ضعفة المؤمنين الذين لا خبرة لهم بالشؤون العامة، وقيل: الضمير يعود إلى المنافقين {أَمْرٌ} من أمور المسلمين، وشأن من شؤونهم، سواء كان ذلك الأمر {مِنَ الْأَمْنِ} والبشارة والخير، كفتح وغنيمة {أو} كان {مِّنَ الْخَوْفِ} والحزن والشر، كقتل وهزيمة .. {أَذَاعُوا بِهِ}؛ أي: أفشى هؤلاء الضعفة أو المنافقون ذلك الأمر والخبر، وأشاعوه بين الناس، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث البعوث والسرايا، فإذا غَلبوا أو غُلبوا .. بادر هؤلاء الضعفة أو المنافقون يستخبرون عن حالهم، ثم يشيعونه، ويتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيضعفون به قلوب المؤمنين، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ويستفاد من الآية: أنه لا ينبغي للعامة الذين لا خبرة لهم بالشؤون العامة أن تشيع أخبار الحرب وأسرارها، ولا أن تخوض في السياسة العامة للدولة؛ لأن ذلك مضرة لها، ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة، وعلاقاتها مع غيرها من الأمم، بالإضافة إلى أن في ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة، وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة، وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين. ثم بين ما ينبغي أن يفعل في مثل هذه الحال، فقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ}؛ أي: ولو رد هؤلاء المذيعون من ضعفة الإيمان أو المنافقين هذا الخبر الذي تحدثوا به من الأمن أو الخوف، وفوضوا الكلام في الأمور العامة {إِلَى الرَّسُولِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الإِمام الأعظم، والقالد العام في الحرب {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ}؛ أي: وإلى

أصحاب الرأي والعقل من أهل الحل والعقد ورجال الشورى {مِنْهُمْ}؛ أي: من المؤمنين من كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم يتحدثوا به، حتى يكون هؤلاء هم الذين يظهرونه .. {لَعَلِمَهُ}؛ أي: لعلم حقيقة ذلك الخبر هؤلاء {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونه} ويذيعونه بين الناس من أولئك الضعفة أو المنافقين الذين يبغون ويطلبون علم ذلك الخبر {مِنْهُمْ}؛ أي: من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أولي الأمر؛ أي: ولو أن هؤلاء الضعفاء أو المنافقين المذيعين، ردوا أمر الأمن أو الخوف وخبره إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى أولي الأمر منهم، بأن سكتوا عن إذاعته، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر .. لعلمه هؤلاء الضعفة أو المنافقون المذيعون من جهة الرسول ومن جهة أولي الأمر؛ أي: لوجدوا علم حقيقة ذلك الخبر عندهم؛ لأنهم هم الذين يعرفون مثل ذلك الخبر، ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض، ولا ينبغي أن تذيعه العامة لما في ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات، وقرأ أبو السمال {لعلمه} بسكون اللام، فيخرج على لغة تميم؛ لأن تسكين عين علم قياس مطرد عندهم. ثم امتن الله سبحانه وتعالى على صادقي الإيمان من عباده فقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وإحسانه {عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون بالإِسلام والتوفيق والهداية، {وَرَحْمَتُهُ} لكم ببعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وإنزال القرآن .. {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} وكفرتم بالله تعالى {إِلَّا قَلِيلًا} منكم، فإن (¬1) ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعدم إنزال القرآن، ما كان يتبع الشيطان، وما كان يكفر بالله، وهم مثل قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهم. وخلاصة المعنى: أي (¬2) ولولا فضل الله تعالى عليكم ورحمته بكم، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا، ورد الأمور العامة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أولي الأمر منكم .. لاتبعتم وسوسة الشيطان فيما يأمركم به ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[84]

من الفواحش، كما اتبعته تلك الطائفة، التي تقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -: طاعة لك، وتبيت غير ذلك، والتي تذيع أمر الأمن والخوف، وتفسد على الأمة سياستها، ولأخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون، ولم تهتدوا إلى الصواب إلا قليلًا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان، وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، فهي كقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}. 84 - والفاء في قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أردت يا محمد الفوز والظفر على الأعداء .. فقاتل في سبيل الله؛ أي: جاهد في طاعة الله تعالى لإعلاء كلمته امتثالًا لأمره، وأنت {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}؛ أي: لا تكلف إلا أفعال نفسك، ولا تطالب إلا بها دون أفعال الذين قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}، والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فمن أطاع الله تعالى لا يضيره عصيان من عصاه، والمعنى: قاتل في سبيل الله ولا تنظر لكسلهم، حال كونك غير مكلف إلا نفسك، فلا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم عن القتال، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحرب لا يتغير وجهه أبدًا، بل كان يبتسم إذ ذاك، ولا يكترث بملاقاة الأعداء، وكان من خصائصه إذا بدأ بالحرب لا يرجع حتى يحكم الله تعالى بينه وبين عدوه. وقرأ الجمهور (¬1): {لَا تُكَلَّفُ} على صيغة الخبر مبنيًّا للمفعول، والجملة في موضع الحال أو مستأنفة، وقرىء: {لا نكلف} بالنون وكسر اللام، ويحتمل وجهي الإعراب الحال والاستئناف، وقرأ عبد الله بن عمر {لا تكلف} بالتاء وفتح اللام والجزم على جواب الأمر. {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: وحث يا محمد المؤمنين على الخروج معك للقتال، بذلًا للنصيحة لهم، ورغبهم في الثواب عليه، بذكر الآيات الواردة في فضل الجهاد، فإن تخلفوا بعد ذلك .. فلا يضرونك، وإنما وبالهم على أنفسهم؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[85]

فإنهم آثمون بالتخلف؛ لأن القتال كان مفروضًا عليهم إذ ذاك، فإن فرضه في السنة الثانية، وهذه القضية في السنة الرابعة، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد .. دعا الناس إلى الخروج، فكرهه بعضهم، فنزلت هذه الآية. وفي الآية إيماء إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كلف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم، وإن كان وحده، كما أنه تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطي من الشجاعة ما لم يعطَ أحد من العالمين، وفي سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعًا، بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وحين قاتلوه قاتلهم، وقد انهزم عنه أصحابه في أحد، فبقي ثابتًا كالجبل لا يتزلزل. {عَسَى اللَّهُ}؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى {أَنْ يَكُفَّ} ويمنع ويصرف عنك {بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: شدتهم وصولتهم وشوكتهم، وقد فعل ذلك بإلقاء الرعب في قلب أبي سفيان حين تخلف عن الخروج إلى الموعد، {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَشَدُّ بَأسًا}؛ أي: أقوى أخذًا وصولة وسلطة، من الذين كفروا، {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}؛ أي: أشد عقوبة وتعذيبًا منهم. والمعنى: لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم، ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل بتحريضه، فإن الله تعالى الذي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنصر أشد منهم بأسًا، وأشد منهم تنكيلًا، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين، ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه، وأعدوا العدة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل. 85 - {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً}؛ أي: من يشفع بين الناس شفاعة موافقة للشرع {يَكُنْ لَهُ}؛ أي: لذلك الشافع {نَصِيبٌ} وحظ من الأجر {مِنْهَا}؛ أي: بسببها، وقد بين النصيب في حديث: "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب .. استجيب له، وقال الملك: ولك مثل ذلك". {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً}؛ أي: مخالفة للشرع {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}؛ أي: نصيب من الوزر بسببها.

والغرض من هذه الآية (¬1): بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حرّضهم على الجهاد .. فقد استحق بذلك التحريض أجرًا عظيمًا، ولو لم يقبلوا أمره - صلى الله عليه وسلم - .. لم يرجع إليه من عصيانهم شيء من الوزر، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة، ولم يرغبهم في المعصية البتة، فحقًّا يرجع إليه من طاعتهم أجر، ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر؛ فإن الشفاعة هي التوسط بالقول في وصول شخص إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو إلى خلاص من مضرة، كذلك من الشفع كان المشفوع له كان فردًا فجعله الشفيع شفعًا. وقال المراغي قوله تعالى: {منْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}؛ أي: من (¬2) يجعل نفسه شفيعًا وزوجًا لك، ويناصرك في القتال، وقد أمرت به وحدك .. يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا، عندما ينتصر الحق على الباطل، بما يناله من الثواب في الآخرة في جميع الحالات، سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدرك. ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده، {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}؛ أي: ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه، أو يخذل المؤمنين عن قتاله .. يكن له نصيب من سوء العاقبة، بما يناله من الخذلان في الدنيا، والعقاب في الآخرة، وهذه هي الشفاعة السيئة؛ لأنها إعانة على السيئات، وسمى هذا النصيب كفلًا؛ لأنه نصيب مكفول للشافع إذ هو أثر عمله، أو محدود لأنه على قدره. والخلاصة: أن من ينضم إلى غيره معينًا له في فعل حسن .. يكن له منه نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينًا له في فعل سيء .. ينله منه سوء وشدة. ويدخل في الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وهي قسمان: حسنة وسيئة، فالحسنة: أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم، أو جر منفعة إلى مستحق ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[86]

والسيئة: أن يشفع في إسقاط حد أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة في عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل، ولأجل هذا قال العلماء: الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة فيما كرهه أو حرمه. وفي الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له، أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة. أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات؛ لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداده، ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية في كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسري من الدولة إلى الأمة، فيعم فيها الفساد، ويختل نظام الأعمال. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}؛ أي: قادرًا على إيصال الجزاء إلى الشافع، مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، وحافظًا للأشياء، شاهدًا عليها، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو باطل، فيجازي كلًّا بما علم منه. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كان مقتدرًا على كل شيء، فلا يعجزه أن يعطي الشافع نصيبًا وكفلًا من شفاعته، على قدرها في النفع والضر، ويجازي كلًّا بما يستحق؛ لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالأسباب. 86 - وبعد أن علَّم الله سبحانه وتعالى المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة، وهي من أسباب التواصل بين الناس .. علمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم؛ ليؤدبهم بأدب دينه، ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد، فقال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}؛ أي: وإذا حياكم أحد بتحية، بأن قال لكم: السلام عليكم، أو قال: السلام عليكم ورحمة الله .. {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}؛ أي: فأجيبوه بتحية أحسن وأكمل وأزيد من تحية المسلِّم عليكم، إذا كان المسلِّم من أهل الإِسلام، بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، أو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويقال: لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام: وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو

الوارد في التشهد، فالأحسن هو أن المسلِّم إذا قال السلام عليك .. زيد في جوابه الرحمة، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء .. زيد في جوابه البركة، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء .. أعيدت في الجواب، وجواب السلام إكرام للمسلِّم، وتركه إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام، وإذا استقبلك واحد فقل: سلام عليكم، واقصد الرجل والملكين، فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك، ومن سلم الملك عليه .. فقد سلم من عذاب الله تعالى. {أَوْ رُدُّوهَا}؛ أي: أجيبوها بمثلها، بأن تقولوا: وعليكم السلام في المثال الأول، أو وعليكم السلام ورحمة الله في المثال الثاني، فمعنى رد السلام جوابه بمثله؛ لأن المجيب يرد قول المسلِّم، وفيه حذف مضاف؛ أي: ردوا مثلها، والتسليم سنة، والرد على الفور فريضة، والأحسن أفضل. وقد يكون (¬1) حسن الجواب بمعناه، أو كيفية أدائه، وإن كان بمثل لفظ المبتدأ بالتحية، أو مساويه في الألفاظ أو أخصر منه، فمن قال لك: السلام عليك بصوت خافت، يشعر بقلة العناية، فقلت له: وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية، أو بزيادة الإقبال والتكريم .. كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها. والخلاصة: أن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما: ردها بعينها. وأعلاهما: الجواب عنها بأحسن منها، والمجيب مخير بينهما. والتحية (¬2): تفعلة من حيَّا، وأصلها من الحياة، ثم جُعل السلام تحية؛ لكونه خارجًا عن حصول الحياة، وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة، والتحية أن يقال: حياك الله؛ أي: جعل الله لك حياة، وذلك إخبار، ثم جُعل دعاء، وهذه اللفظة كانت العرب تقولها، فلما جاء الإِسلام .. بدل ذلك بالسلام، وهو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

المراد به بالآية، يعني إذا سلم عليكم المسلِّم .. فأجيبوه بأحسن مما سلم به عليكم، وإنما اختير لفظ السلام على لفظة حياك الله؛ لأنه أتم وأحسن وأكمل، لأن معنى السلام السلامة من الآفات، فإذا دعا الإنسان بطول الحياة بغير سلامة .. كانت حياته مذمومة منغصة، وإذا كان في حياته سليمًا .. كان أتم وأكمل، فلهذا السبب اختير لفظ السلام، ومن المطلوب المصافحة؛ لما ورد أنها تذهب الغل من القلوب، وأما تقبيل اليد فهو مكروه، إلا لمن ترجى بركته كشيخ أو والد، وأما المعانقة فمكروهة إلا لتشوق كقدوم من سفر ونحوه، ذكره الصاوي. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}؛ أي (¬1): محاسبًا لكم على كل أعمالكم، وكافيًا في إيصال جزاء أعمالكم إليكم، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف، وهذا يدل على شدة الاعتناء بحفظ الدماء؛ أي: إنه (¬2) تعالى رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية، ويحاسبكم على ذلك، وفي هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس، ووجوب رد التحية على من يسلم علينا ويحيينا، والمعنى: أنه تعالى على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه مجازٍ. ذكر نبذة من أحكام السلام فصل في فضل السلام والحث عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإِسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". متفق عليه. قوله: أي الإِسلام خير معناه: أي خصال الإِسلام خير. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم .. أفشوا السلام بينكم". أخرجه مسلم. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نفشي السلام، أخرجه ابن ماجه. فصل في أحكام تتعلق بالسلام وفيه مسائل المسألة الأولى: في كيفية السلام وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام .. قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك به، فإنها تحيتك، وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله". متفق عليه، قال العلماء: يستحب لمن يبتدىء بالسلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع، وإن كان المسلم عليه واحدًا، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم، ليحصل الارتباط بين الجملتين. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس فقال: عشرون، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس، فقال: ثلاثون" أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. وقيل إذا قال المسلم: السلام عليكم .. يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، فيزيده ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله .. يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيزيده وبركاته، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. يرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه.

وروي أن رجلًا سلم على ابن عباس فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئًا، فقال ابن عباس: إن السلام انتهى إلى البركة، ويستحب للمسلِّم أن يرفع صوته بالسلام، ليسمع المسلَّم عليه، فيجيبه، ويشترط أن يكون الرد على الفور، فإن أخره ثم رد .. لم يعد جوابًا وكان آثمًا بترك الرد. المسألة الثانية: في حكم السلام الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب، وهو سنة على الكفاية، فإن كانوا جماعة، فسلم واحد منهم .. كفى عن جميعهم، ولو سلم كلهم .. كان أفضل وأكمل. قال القاضي حسين من أصحاب الشافعي: ليس لنا سنة على الكفاية إلا هذا، وفيه نظر؛ لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضًا كالسلام، ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد .. وجب عليه أن يسلم على الحاضرين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفشوا السلام"، والأمر للوجوب، أو يكون ذلك سنة مؤكدة؛ لأن السلام من شعار أهل الإِسلام، فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه. أما الرد على المسلّم: فقد أجمع العلماء على وجوبه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}؛ والأمر للوجوب؛ لأن في ترك الرد إهانة للمسلِّم، فيجب ترك الإهانة، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا .. وجب عليه الرد، وإذا كانوا جماعة .. كان رد السلام في حقهم فرض كفاية، فلو رد واحد منهم .. سقط فرض الرد عن الباقين، وإن تركوه كلهم .. أثموا. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم". أخرجه أبو داود. المسألة الثالثة: في آداب السلام السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير". متفق عليه.

وفي رواية للبخاري قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير، وإذا تلاقى رجلان. . فالمبتدىء بالسلام هو الأفضل، لما روي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أولى الناس باللهِ عز وجل من بدأهم بالسلام". أخرجه أبو داود والترمذي، ولفظه قال: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام، قال: " أولاهما باللهِ". قال الترمذي: حديث حسن. ويُستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة، والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم؛ لما روي عن أنس رضي الله عنه: أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. أخرجاه في "الصحيحين". وفي رواية لأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم". وأما السلام على النساء: فإن كن جمعًا جالسات في مسجد أو موضع .. فيستحب أن يسلم عليهن، إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة، لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت: "مر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة فسلم علينا". أخرجه أبو داود. وفي رواية للترمذي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر في المسجد يومًا وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم". قال الترمذي حديث حسن. وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية، فإن كانت جميلة .. فلا يسلم عليها، ولو سلم .. فلا ترد هي عليه؛ لأنه لم يستحق الرد، وإن كانت عجوزًا، لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة .. سلم عليها، وترد هي عليه، وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام، فيسلم بعضهن على بعض. المسألة الرابعة: في الأحوال التي يكره فيها السلام فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك، لا يسلم عليه، فلو سلم .. فلا يستحق المسلِّم جوابًا، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنما: أن رجلًا مر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه. أخرجه مسلم. قال الترمذي: إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول. ويكره التسليم على من في

الحمام، وقيل إن كانوا متزرين بالمآزر سلم عليهم إلا فلا. ويكره التسليم على النائم والناعس والمصلي والمؤذن والتالي في حال الصلاة والأذان والتلاوة، ويكره الابتداء بالسلام في حال الخطبة؛ لأن الجالسين مأمورون بالإنصات للخطبة، ويكره أن يبدأ المبتدع بالتسليم عليه، وكذلك المعلن بفسق، وكذلك الظلمة ونحوهم، فلا يسلم على هؤلاء. المسألة الخامسة: في حكم السلام على أهل الذمة اليهود والنصارى واختلف العلماء فيه: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وقال بعضهم: إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". أخرجه مسلم. وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه، ويقول: عليك، بغير واو العطف، لما روي عن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا أتى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال: السام - الموت - عليكم، فرد عليه القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تدرون ما قال"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم يا نبي الله، قال: "لا ولكنه قال كذا وكذا، ردوه عليَّ"، فردوه، فقال: "قلت: السام عليكم"، قال: نعم يا نبي الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب .. فقولوا عليك؛ أي: عليك ما قلت". أخرجه الترمذي. فلو أتى بواو العطف وميم الجمع، فقال: وعليكم .. جاز؛ لأنَّا نجاب عليهم في الدعاء، ولا يجابون علينا، ويدل على ذلك ما روي عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر عليه ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: "وعليكم "، فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا، قال: "بلى قد سمعت فرددت عليهم، وإنا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا". أخرجه مسلم. وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى .. يسلم عليهم؛ ويقصد بتسليمه المسلمين، لما روي عن أسامة بن زيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم. أخرجه الترمذي.

[87]

87 - وبعد أن حث رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد، وأمر المسلمين بمشاركته فيه، وأمرهم بإظهار المودة وقت السلام .. بين أنهم مجزيون على كل هذا في يوم لا ريب فيه فقال: {اللَّهُ}: مبتدأ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: خبر، وهذه الآية نزلت في منكري البعث؛ أي: الإله المعبود بحق سبحانه وتعالى مخبر عنه بعدم وجود إله معه، قال (¬1) بعضهم: كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم .. فاقبلوا سلامه، وأكرموه بناء على الظاهر، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو، وإنما ينكشف بواطن الخلق للخالق في يوم القيامة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ أي: والله ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، {لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ أي: لا شك في يوم القيامة أنه كائن، والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} إنكاري؛ أي: لا أحد أصدق منه سبحانه وتعالى في إخباره ووعده ووعيده؛ لاستحالة الكذب عليه تعالى؛ لقبحه لكونه إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقًا، وأن الكذب والخلف في قوله تعالى محال، وأن القيامة كائنة لا شك فيها ولا ريب؛ إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات، كما قال تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص في العلم أو الغرض أو الحاجة؛ لأنه تعالى غني عن العالمين، أما كلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل، وقد دل الدليل على أن القرآن كلام الله، فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين، واعلم أن هذه الآية جمعت (¬2) التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة، وهما الركنان الأساسيان للدين، وقد أرسل الرسل جميعًا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما، وتأييدهما بصالح الأعمال والقرآن، قد يصرح بهما تارة معًا، وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام، إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها، ولا سيما أحكام القتال، الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته، وتأمين دعاته وأهله. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

والمعنى: الله لا إله إلا هو فلا تقصروا في عبادته، والخضوع لأمره ونهيه، فإن في ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم، وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر، بل من دونهم من المعبودات، التي ذل لها المشركون، وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة، وهو يوم لا ريب فيه، ولا فيما يكون فيه من الجزاء عن الأعمال. وقرأ حمزة (¬1) والكسائي {أصدق} بإشمام الصاد زايًا، وكذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها قال نحو {يصدقون} و {تصدية} وأما إبدالها زايًا محضة في ذلك فهي لغة كلب وأنشدوا: يَزِيْدُ زَادَ اللهُ فِيْ خَيْرَاتِهِ ... حَامِيْ الذِّمَارِ عِنْدَ مَزْدُوْقَاتِهِ يريد عند مصدوقاته. الإعراب {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة أو هما، {يُطِعِ الرَّسُولَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {من}، {فَقَدْ} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {قد}، {قد}: حرف تحقيق، {أَطَاعَ اللَّهَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، وجملة {مَنْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وَمَنْ تَوَلَّى}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب كما مر آنفًا. {تَوَلَّى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {فَمَا} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {ما}، لأنه من المواضع السبعة المجموعة في قول بعضهم: إِسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدِ ... وَبِمَا وَلَنْ وَبِقَدْ وَبِالتَّنْفِيْسِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{ما}: نافية، {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {من} على كونه جوابًا لها، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {حَفِيظًا}: حال من كاف المخاطب، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}. {وَيَقُولُونَ}: {الواو}: استئنافية، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {طَاعَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمرك، أو أمرنا طاعة، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: منا طاعة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {فَإذَا} {الفاء} عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {بَرَزُوا}: فعل وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة إذا على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {مِنْ عِنْدِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {بَرَزُوا}، {بَيَّتَ طَائِفَةٌ}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {طائفةٌ}، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {يقولون} {غَيْرَ الَّذِي}: مفعول به ومضاف إليه. {تَقُولُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {طَائِفَةٌ}، والجملة صلة الموصول. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ، {يَكْتُبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {يُبَيِّتُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يبيتونه. {فَأَعْرِضْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: أعرض. {أعرض}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {عَنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {وَتَوَكَّلْ}: {الواو}: عاطفة

{توكل}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة {أعرض}. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {توكل}، {وَكَفَى بِاللَّهِ}: {الواو}: استئنافية. {كفى بالله}: فعل وفاعل. {وَكِيلًا}: حال أو تمييز، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}. {أَفَلَا} {الهمزة}: داخلة على محذوف، تقديره: أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرون فيه، {الفاء}: عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، {لا}: نافية. {يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لوْ}: حرف شرط غير جازم. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {القرآن}، {مِنْ عِندِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {كان}، تقديره: كائنًا، {مِنْ}: حرف جر. {عِنْدِ}: مضاف. {غَيْرِ}: مضاف إليه. ولفظ الجلالة {اللَّهِ}: مضاف إليه، وجملة {كان} فعل شرط لـ {لو}، لا محل لها من الإعراب، {لَوَجَدُوا}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {وجدوا}: فعل وفاعل، {فِيهِ}: متعلق بـ {وجدوا}، {اخْتِلَافًا}: مفعول به، {كَثِيرًا}: صفته، والجملة الفعلية جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَهُمْ أَمْرٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة {إذا} إليها، والظرف متعلق بالجواب. {مِنَ الْأَمْنِ}: جار ومجرور صفة لـ {أَمْرٌ}، {أَوِ الْخَوْفِ}: معطوف على {الْأَمْنِ}. {أَذَاعُوا}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق به، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا أو نحويًّا.

{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية أو عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط، {رَدُّوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {إِلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور متعلق به، {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من {أُولِي الْأَمْرِ}، {لَعَلِمَهُ} {اللام} رابطة لجواب {لو}، {علمه} فعل ومفعول، {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {إذا}. {يَسْتَنْبِطُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من {الَّذِينَ}، أو من الضمير في {يَسْتَنْبِطُونَهُ} {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية. {لولا}: حرف دال على امتناع شيء لوجود غيره. {فَضْلُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {فَضْلُ اللَّهِ}، {وَرَحْمَتُهُ}: معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ}، والخبر محذوف وجوبًا؛ لقيام الجواب مقامه، تقديره: موجودان، والجملة الإسمية شرط لـ {لولا} لا محل لها من الإعراب. {لَاتَّبَعْتُمُ} {اللام}: رابطة لجواب {لولا}. {اتبعتم}: فعل وفاعل. {الشَّيْطَانَ}: مفعول به. {إِلَّا}: أداة استثناء. {قَلِيلًا}: مستثنى من فاعل {اتَّبَعْتُمُ} والجملة الفعلية جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مستأنفة. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}. {فَقَاتِلْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أردت يا محمد الفوز والظفر على الأعداء .. فقاتل. {قاتل}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قاتل} والجملة الفعلية جواب لـ {إذا} المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {لَا}: نافية، {تُكَلَّفُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير

يعود على محمد، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {نَفْسَكَ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {فَقَاتِلْ}؛ أي: فقاتل حال كونك غير مكلف إلا نفسك وحدها، وقيل مستأنفة، أخبره تعالى أنه لا يكلفه غير نفسه. {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}: {الواو}: عاطفة. {حرض المؤمنين}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة {قاتل}. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}. {عَسَى}: من أفعال الرَّجاء ترفع الاسم وتنصب الخبر. {اللَّهُ}: اسمها. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَكُفَّ}: فعل مضارع منصوب، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {بَأسَ الَّذِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة {يَكُفَّ} من الفعل والفاعل صلة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ {عَسَى}، ولكنه على حذف مضاف إما قبل الاسم تقديره: عسى أمر الله كف بأس الذين كفروا، أو قبل الخبر تقديره: عسى الله ذا كف بأس الذين كفروا، والكثير في كلامهم اقتران خبر {عَسَى} بـ {أن} المصدرية، كما قال ابن مالك: كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ ... غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ وَكَوْنُهُ بِدُوْنِ أَنْ بَعْدَ عَسَى ... نَزْرٌ وَكَادَ الأمْرُ فِيْهِ عُكِسَا واستشكل (¬1) على هذه القاعدة المطردة في {عَسَى} بأن {أن} المصدرية تؤول بالمصدر، فيكون التقدير في الآية: عسى الله كف بأس الذين كفروا، والمصدر اسم المعنى، فلا يخبر به عن الذات، وأجيب عنه: بأنه على حذف مضاف إما قبل الاسم أو قبل الخبر، كما مر بيانه آنفًا، {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية. {اللَّهُ}: مبتدأ، {أَشَدُّ}: خبره. {بَأسًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة مستأنفة، {وَأَشَدُّ}: معطوف على {وَأَشَدُّ} {تَنْكِيلًا}: تمييز. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}. ¬

_ (¬1) حاشية الحمدون على الألفية.

{مَّنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. {يَشْفَعْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل الشرط، وفاعله ضمير يعود على {مَّنْ}. {شَفَاعَةً}: مفعول به، {حَسَنَةً}: صفة له، {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص، مجزوم بـ {من} على كونه جوابًا لها، {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {يَكُنْ}، {نَصِيبٌ}: اسمها مؤخر، {مِنْهَا}: جار ومجرور صفة لـ {نَصِيبٌ} و {مَنْ} فيه بمعنى الباء السببية، وجملة {مَنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر إما جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَشْفَعْ}: مجزوم بـ {مَن} وفاعله ضمير يعود على {مَن}، {شَفَعَة}: مفعول به. {سَيِّئَةً}: صفة لـ {شَفَاعَةً}. {يَكُنْ}: جواب الشرط. {لَهُ}: خبر {يَكُنْ} مقدم على اسمها. {كِفْلٌ}: اسمها مؤخر. {مِنْهَا}: صفة لـ {كِفْلٌ} وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَكَانَ}: {الواو}: استئنافية. {كان الله}: فعل ناقص واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ـ {مُقِيتًا}، {مُقِيتًا}: خبر {كان} وجملة {كان}: مستأنفة. {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {حُيِّيتُمْ}: فعل ونائب فاعل، {بِتَحِيَّةٍ}: متعلق بها، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، والظرف متعلق بالجواب، {فَحَيُّوا}: الفاء رابطة لجواب {إذا}، {حيوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، {بِأَحْسَنَ}: متعلق بـ {حيوا}، {مِنْهَا}: متعلق بـ {أَحْسَنَ}، {أَوْ}: حرف عطف وتنويع، {رُدُّوهَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {حيوا}، {إنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كاَنَ}: فعل

ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {اَللهَ}، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {حَسِيبًا}، {حَسِيبًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَان} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، {لَا}: نافية تعمل عمل إن، {إِلَه} في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف تقديره: موجود، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا}: في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره مستأنفة. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {يَجْمَعَنَّكُمْ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، و {نون التوكيد} حرف لا محل له من الإعراب، و {الكاف} مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة (¬1) القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو خبر ثان للمبتدأ، أو هي الخبر و {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} اعتراض اهـ. أبو السعود. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يجمعنكم}. {لَا}: نافية تعمل عمل إن، {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر {لا} وجملة {لَا رَيْبَ} في محل النصب حال من يوم القيامة، ويجوز أن تكون صفة لمصدر محذوف؛ أي: جمعًا لا ريب فيه، والهاء تعود على الجمع. {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {مَن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَصدَقُ} خبره، والجملة مستأنفة، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَصْدَقُ}، {حَدِيثًا}: تمييز محول عن المبتدأ. التصريف ومفردات اللغة {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} الطاعة اسم مصدر لأطاع الرباعي، يقال: أطاع يطيع ¬

_ (¬1) الفتوحات.

إطاعة وطاعة، والطاعة: الموافقة وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} يقال: بيت يبيت تبييتًا، من باب فعل المضعف، قال (¬1) الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس: كل أمر قضي بليل قيل: قد بيت، وقال الزجاج: كل أمر مكر فيه، أو خيض بليل، فقد بيت، وقال الشاعر: أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوْا ... وَكَانُوْا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ وقيل: التبييت التبديل بلغة طيء قال شاعرهم: وَتَبِيْتُ قَوْلِي عِنْدَ اْلْمَلـ ... يْكِ قَاتَلَكَ اللهُ عَبْدًا كَفُوْرَا {فَلَا يَتَدَبَّرُونَ} مضارع تدبر - من باب تفعل الخماسي - يتدبر تدبرًا، وتدبر الشيء تأمله والنظر في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تفكر ونظر، والدبر: المال الكثير، سمي بذلك؛ لأنه يبقى للأعقاب وللأدبار، قاله الزجاج وغيره. {أَذَاعُوا بِهِ} يقال: أذاع الشر، وأذاع به، إذا نشره وأشاعه بين الناس وأظهره لهم، فالإذاعة: إظهار الشيء وإفشاؤه، يقال: ذاع يذيع من باب باع وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباب، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرد، قال أبو الأسود: أَذَاعُوْا بِهِ فيْ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءِ نَارٍ أُوْقِدَتْ بِثُقُوْبِ وقال أبو البقاء (¬2): الألف في أذاعوا بدل من الياء، يقال ذاع الأمر يذيع، والباء زائدة؛ أي: أذاعوه، وقيل: حمل على معنى تحدثوا به، انتهى. {وَلَوْ رَدُّوهُ} يقال: رد الشيء إلى الشيء ردًّا وردودًا إذا أرجعه وأعاده إليه، {يَسْتَنْبِطُونَهُ} والاستنباط: استخراج ما كان مستترًا عن الأبصار، والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، والإنباط والاستنباط إخراجه، والنبط: الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، التحريض: الحث على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العكبري.

الشيء بتزيينه وتسهيل الأمر فيه، قال الراغب: كأنه في الأصل إزالة الحرض بضمتين وسكون ثانية؛ أي: الأشنان، والحرض في الأصل ما لا يعتد به، ولا خير فيه، ولذلك يقال للمشرف على الهلاك حرض، قال تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا}، {بأسًا} والبأس: القوة، وفي "المصباح" وهو ذو بأس؛ أي: شدة وقوة. {تَنْكِيلًا} التنكيل بوزن تفعيل، مصدر نكل المضعف من النكل وهو: القيد، ثم استعمل في كل عذاب، وفي "المصباح": نكل به ينكل - من باب قتل - نكلة قبيحة إذا أصابه بنازلة، ونكل به بالتشديد مبالغة، والاسم النكال، انتهى. قال أبو حيان (¬1): التنكيل الأخذ بأنواع العذاب وتنزيله على المعذب، وكأنه مأخوذ من النكل: وهو القيد. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} قال الراغب: الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر، ناصرًا له وسائلًا عنه، {نَصِيبٌ}؛ أي: حظ، {كِفْلٌ}؛ أي: حظ، ولكن النصيب في الخبر أكثر استعمالًا، والكفل في الشر أكثر منه في الخير، ولقلة استعمال النصيب في الشر وكثرة استعمال الكفل فيه غاير بينهما في الآية الكريمة، حيث أتى بالكفل مع السيئة وبالنصيب مع الحسنة، {مُقِيتًا}؛ أي: مقتدرًا أو حافظًا أو شاهدًا، قال الراغب: وحقيقته قائمًا عليه يحفظه ويعينه، وقال النحاس: هو مشتق من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف، يقال: قاته يقوته إذا أطعمه قوته، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته، وفي "المختار": أقات على الشيء إذا اقتدر عليه، {بِتَحِيَّةٍ} التحية مصدر حياه، إذا قال له: حياك الله، وأصله تحيية بوزن تفعلة كترضية وتسمية وتنمية، فأدغموا الياء في الياء بعد نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء، وهي في الأصل الدعاء بالحياة، ثم صار اسمًا لكل دعاء وثناء، كقولهم أنعم صباحًا، وأنعم مساء، وعم صباحًا وعم مساء، وجعل الشارع تحية المسلمين السلام عليكم، إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان. {فَحَيُّوا} أصله حييوا، استثقلت الضمة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

على الياء، فحذفت الضمة، فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء وضم ما قبل الواو لمناسبتها، {حسيبا} الحسيب: المحاسب، فهو فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس بمعنى المجالس، وقد يراد به المكافىء والكافي، من قولهم حسبك كذا إذا كان يكفيك. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البيان والبديع (¬1): منها: الالتفات في قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ}. ومنها: التكرار في قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وفي قوله: {بَيَّتَ} و {يُبَيِّتُونَ}، وفي اسم الله في مواضع، و {أَشَدّ}، وفي قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {يُطِعِ} و {أَطَاعَ}، وفي {بَيَّتَ} و {يُبَيِّتُونَ}، وفي قوله: {حُيِّيتُمْ} {فَحَيُّوا}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {وَتَوَكَّلْ} و {وَكِيلًا}، و {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً}، و {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}. ومنها: الاستفهام المراد به الإنكار في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ}. ومنها: الطباق في قوله: {مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}، وفي قوله: {شَفَاعَةً حَسَنَةً} و {شَفَاعَةً سَيِّئَةً}. ومنها: التوجيه في قوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}. ومنها: الاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: خطاب العين والمراد به الغير في قوله: {فَقَاتِلْ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي قوله: {أَنْ يَكُفَّ بَأسَ}. ومنها: أفعل في غير المفاضلة في قوله: {أَشَدُّ}. ومنها: إطلاق كل على بعض في قوله: {بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى. ومنها: الحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}. المناسبة قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما ذكر أحكام القتال، وختمها ببيان أنه لا إله غيره يُخشى ضرره، أو يُرجى خيره، فتترك هذه الأحكام لأجله .. ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد في أمر المنافقين، وتقسيمهم فئتين، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية، فيجب أن تقطعوا بكفرهم، وتقاتلوهم حيثما وجدوا. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ...} الآيات، ¬

_ (¬1) المراغي.

مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما بين أحكام قتال المنافقين، الذين يظهرون الإِسلام خداعًا، ويسرون الكفر، ويساعدون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم، ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونًا لأعدائهم عليهم .. ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين، وما يقع منهم من ذلك عمدًا أو خطأ. قال أبو حيان: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار .. ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة، ومنها: أن يظن رجلًا حربيًّا فيقتله وهو مسلم، انتهى. أسباب النزول قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}. وأخرج (¬3) سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: "من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني"، فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس .. قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج .. أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال: ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا ابن عبادة منافق، وتحب المنافقين، فقام محمَّد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس فإن فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...} الآية. وأخرج (¬4) أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: أن قومًا من العرب أتوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول. (¬3) لباب النقول. (¬4) لباب النقول.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة وحُمَّاها فأركسوا، وخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم، قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...} الآية، في إسناده تدليس وانقطاع. وروى (¬1) ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في قوم أظهروا الإِسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية. قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم (¬2) وابن مردويه عن الحسن: أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحد وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك .. أسلموا ودخلوا في الإِسلام، وإن لم يسلموا .. لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد خالد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد"، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف، وأخرج أيضًا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[88]

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فنزلت {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ...} الآية، فقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: قم فحرر. قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير من طريق بن جريج عن عكرمة: أن رجلًا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، ولحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإِسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أؤمنه في حل ولا حرم، فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 88 - {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ}؛ أي: فأيُّ شيء ثبت لكم يا معشر المؤمنين حتى تفرقتم في شأن المنافقين، وصرتم في أمرهم {فِئَتَيْنِ}؛ أي: فرقتين، فرقة ترى أنهم يعدون من الأولياء، ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة والكفر، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة، {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم وصرفهم وردهم عن الحق الذي أنتم عليه من الإيمان والجهاد في سبيل الله، {بِمَا كَسَبُوا}؛ أي: بسبب ما اقترفوا من أعمال الشرك والنفاق، واجترحوا من المعاصي، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء، بل نظرة العداوة والبغضاء، ويتربصون بكم الدوائر، {أَتُرِيدُونَ} أيها المؤمنون {أَنْ تَهْدُوا} وترشدوا إلى طريق الحق {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}؛ أي: من أراد الله تعالى إضلاله وغوايته؛ أي: أتقولون هؤلاء مهتدون والله تعالى أضلهم، وهذا خطاب للفئة التي دافع عن المنافقين، والمراد بالهداية المنفية خلق الهداية في الخلق، وأما الهداية بمعنى الإرشاد والتبيين فهي للرسل، والاستفهام في الموضعين للإنكار مع

[89]

التوبيخ؛ أي: لا ينبغي لكم أن تختلفوا في قتلهم، ولا ينبغي لكم أن تعدوهم في المهتدين، والتوبيخ للفريق القائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقتلهم؛ أي: ينبغي لكم أن تجتمعوا على قتلهم لظهور كفرهم. وقرأ عبد الله (¬1): {ركسهم} ثلاثيًّا، وقرىء: {ركَّسهم} بالتشديد، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: ومن يرد الله سبحانه وتعالى إضلاله عن طريق الحق {فَلَنْ تَجِدَ} يا محمَّد أو أيها المخاطب {لَهُ}؛ أي: لذلك الضال الذي أضله الله تعالى {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا تهديه فيها إلى الحق. والمعنى: ومن (¬2) تقضي سننه تعالى في خلقه أن يكون ضالًا عن طريق الحق .. فلن تجد له سبيلًا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلًا واحدة هي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلًا كثيرة، عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلًا بَعُدَ عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط في الأرض خطًّا فجعله مثالًا لسبيل الله تعالى، وخط على جانبيه خطوطًا لسبل الشيطان، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقي مع الخط الأول. وسبيل الفطرة تقتضي أن يعرض الإنسان جميع أعماله على ميزان الشرع وسنن العقل، ويتبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلًا وآجلًا، وفيه كماله الإنساني، وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور بالطواغيت، وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق الحق، والنظر في النفع والضر والحق والباطل، وشبهته في ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره، ولو كانوا لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يجول في صدور أولئك المنافقين من أماني فقال: 89 - {وَدُّوا لَوْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا}؛ أي: تمنى هؤلاء المنافقون كفركم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن كفرًا مثل كفرهم بهما، {فَتَكُونُونَ} أنتم وهم {سَوَاءً}؛ أي: مستوين في الكفر؛ أي: إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم، وتحذوا حذوهم، حتى يقضى على الإِسلام الذي أنتم عليه، وهذا منتهى ما يكون من الغلو والتمادي في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم. ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا جواب شرط محذوف، تقديره: إذا كان حال هؤلاء المنافقين ما ذُكر من ودادة كفركم، وطمعهم فيه .. فلا تجعلوا لكم منهم أولياء وأنصارًا يساعدونكم على المشركين، حتى يؤمنوا ويهاجروا من أوطانهم ويقاتلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله تعالى، والمراد بالهجرة هنا الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتال في سبيل الله تعالى، مخلصين صابرين محتسبين، وإنما قيد الهجرة بكونها في سبيل الله تعالى، لإخراج الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإِسلام لغرض من أغراض الدنيا كامرأة ينكحها أو دنيا يصيبها، فإن المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى. واعلم أن الهجرة ثلاثة أقسام (¬1): هجرة المومنين في أول الاسلام: وهي المذكورة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ونحوهما من الآيات. وهجرة المنافقين: وهي خروج الشخص مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صابرًا محتسبًا لأغراض الدنيا، وهي المرادة هنا. وهجرة عن جميع المعاصي: وهي المرادة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". ¬

_ (¬1) خطيب.

[90]

والمعنى: إذا كانت هذه حالهم .. فلا تتخذوا منهم أنصارًا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم في سائر شؤونكم، فإن الصادقين في إيمانهم لا يدعون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عرضة للخطر، ولا يتركوا الهجرة إلا إذا عجزوا عنها، وإذًا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه. {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى، والمراد بها القتال مع المسلمين مع الإخلاص والنصح؛ أي: فإن أعرضوا عن الهجرة، وأقاموا على ما هم عليه من النفاق، من غير هجرة، ومن غير صدق ونصح مع المسلمين، ولزموا مواضعهم في خارج المدينة .. {فَخُذُوهُمْ} بالأسر إذا قدرتم عليهم {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ أي: أينما وجدتموهم في الحل أو في الحرم، فإن حكمهم حكم سائر المشركين قتلًا وأسرًا، وهذا مشكل من حيث إن المنافقين ينطقون بالشهادتين، ومن نطق بهما لا يجوز أسره ولا قتله إلا أن يحمل هذا على قوم من المنافقين ارتدوا وصرحوا بالكفر. {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ} في هذه الحالة {وَلِيًّا} يتولى شيئًا من مهام أموركم {وَلَا نَصِيرًا} ينصركم على أعدائكم، فإنهم أعداء، وقد استثنى الله سبحانه منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين: 90 - أحدهما: ما ذكره بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وهذا مستثثى من الأخذ والقتل فقط، وأما الموالاة فحرام مطلقًا، لا تجوز بحال، وعبارة الكرخي: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ} استثناء من ضمير المفعول في: {فَاقْتُلُوهُمْ} لا من قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا} وإن كان أقرب مذكور، لأن اتخاذ الولي منهم حرام بلا استثناء، بخلاف قتلهم، انتهت. أي: فخذوهم واقتلوهم إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين، فيدخلون في عهدهم، ويرضون بحكمهم، فيمتنع قتلهم مثلهم، لأنهم صاروا في أمانكم بواسطة التجائهم إلى المعاهدين، والمعنى: أن من دخل في عهد من كان داخلًا في عهدكم فهم أيضًا داخلون في عهدكم فلا يجوز أخذهم ولا قتلهم. وثانيهما: ما ذكره بقوله تعالى: {أَوْ} إلا الذين {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}؛ أي: أو إلا الذين جاؤوكم، وأتوكم حالة كونهم قد ضاقت صدورهم، وخافت قلوبهم عن قتالكم، وعن قتال قومهم، فلا تنشرح

صدورهم لأحد الأمرين، والمعنى: أنهم جاؤوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم، ولا يقاتلون قومهم معهم، بل يكونون على الحياد، فهم لا يقاتلون المسلمين مع قومهم حفظًا للعهد، ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين لأنهم أقاربهم. والحاصل: أنه سبحانه وتعالى استثنى من المأمور بقتلهم فريقين: أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، فريق الإِسلام وفريق قومهم، وقبول معذرة الفريقين موافق لما يبنى عليه الإِسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا}. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى تسليطهم عليكم وقتالهم لكم {لَسَلَّطَهُمْ}؛ أي: لسلط هؤلاء المعاهدين من الفريقين {عَلَيْكُمْ} ببسط صدورهم، وتقوية قلوبهم، وإزالة الرعب عنها، {فَلَقَاتَلُوكُمْ} ولم يكفوا عنكم، وهذا في الحقيقة جواب {لو}، وما قبله توطئة له، وهذه اللام هي اللام التي في قوله تعالى: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} وأعيدت تأكيدًا، ولكنه لم يشأ فألقى في قلوبهم الرعب، وقرأ الجمهور (¬1): {فَلَقَاتَلُوكُمْ} بألف المفاعلة وقرأ مجاهد وطائفة: {فلقتلوكم} على وزن ضربوكم، وقرأ الحسن والجحدري {فلقتلوكم} بالتشديد، والمعنى: أن ضيق صدوركم عن قتالكم إنما هو بقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، ولو قوى قلوبهم على قتال المسلمين .. لتسلطوا عليهم، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى منَّ على المسلمين بكف بأس المعاهدين، فالله سبحانه بنظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد والجماعات جعل الناس في ذلك العصر أصنافًا ثلاثةً: 1 - سليمو الفطرة الذين حصفت (¬2) آراؤهم، فسارعوا إلى الإيمان، واستنارا بنور الإِسلام. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) يقال: حَصُف حصافة - من باب ظرف - إذا كان جيد الرأي محكم العقل فهو حصيف.

[91]

2 - المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد، لا مع المشركين ولا مع المؤمنين. 3 - الموغلون في الضلال والشرك، والمحافظون على القديم وهم المحاربون. {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ}؛ أي: فإن ترك هؤلاء المعاهدون من الفريقين إياكم، وابتعدوا عن قتالكم، ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} مع قومهم {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}؛ أي: الصلح والأمان، وأعطوا لكم زمام أمرهم بالانقياد للصلح والأمان، وقرأ الجحدري {السلم} بسكون اللام، وقرأ الحسن: بكسر السين وسكون اللام، {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}؛ أي: ما جعل لكم سبيلًا وطريقًا تسلكونها للاعتداء عليهم بالأسر والقتل، إذ من قواعد ديننا أن لا نعتدي إلا على من يعتدي علينا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال بعض المفسرين (¬1): هذا منسوخ بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقال بعضهم: هي غير منسوخة؛ لأنا إذا حملناها على المعاهدين، فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة؟ ثم بين تعالى جماعة آخرين وبالغ في ذمهم فقال: 91 - {سَتَجِدُونَ} أيها المؤمنون عن قريب قومًا {آخَرِينَ} من المنافقين غير من سبق {يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ}؛ أي: يأمنوا من قتالكم بإظهار الإِسلام عندكم {وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ}؛ أي: من بأس قومهم بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم، {كُلَّ مَا رُدُّوا}؛ أي: كلما دعوا {إِلَى الْفِتْنَةِ}؛ أي: إلى الشرك وعداوة المؤمنين .. {أُرْكِسُوا فِيهَا}؛ أي: قلبوا في الفتنة أقبح قلب، وكبوا فيها على وجوههم أشد انكباب، وأوقعوا فيها أبلغ إيقاع، وكانوا فيها شرًّا من كل عدو شرير، وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعدواة المسلمين؛ لأن من وقع ¬

_ (¬1) الخازن.

[92]

في شيء منكوسًا يتعذر خروجه منه، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين، إما بإظهار الإِسلام، وإما بالعهد على السلم وترك القتال، ثم يفتنهم المشركون؛ أي: يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين، فيرتكسون ويتحولون شرَّ التحول معهم، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة، فهم مردوا على النفاق، وهم (¬1) قوم من أسد وغطفان، كانوا مقيمين حول المدينة، فإذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا وقالوا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا على دينكم ليأمنوا من قتال المسلمين، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا من قومهم، حتى كان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت، فيقول: آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء. وقرأ ابن وثاب والأعمش: {ردوا} بكسر الراء لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء، وقرأ عبد الله: {ركسوا} بضم الراء من غير ألف مخففًا، وقال ابن جني عنه: بشد الكاف. وقد بين الله تعالى حكمهم بقوله {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ}؛ أي: فإن لم يتركوا قتالكم، {و} لم {يلقوا إليكم السلم}؛ أي: لم يطلبوا منكم الصلح، {و} لم {يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}؛ أي: في أي محل وجدتموهم فيه من حل أو حرم، فلا علاج لهم غير ذلك، كما ثبت بالتجارب والاختبار، {وَأُولَئِكُمْ} الموصوفون بهذه الصفة {جَعَلْنَا لَكُمْ} أيها المؤمنون {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على جواز قتلهم {سُلْطَانًا مُبِينًا}؛ أي: حجة واضحة وبرهانًا ظاهرًا، وهي ظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإِسلام، أو جعلنا لكم عليهم تسلطًا ظاهرًا، حيث أذنَّا لكم في أخذهم وقتلهم، 92 - {وَمَا كَانَ} ينبغي، {لِمُؤْمِنٍ} ولا يليق به ولا يصح {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} بغير حق {إِلَّا خَطَأً}؛ أي: إلا حالة كونه مخطئًا في قتله؛ أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم في إباحة دمه، فحينئذ لا يليق بمؤمن قتل مؤمن في حال من الأحوال، إلا في حالة كونه ملتبسًا بخطأ، بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه، أو ملتبسًا بشبه عمد كان ضربه بما لا يقتل غالبًا، كالعصا ¬

_ (¬1) المراح.

الخفيفة والصفع واللطم، والمراد بالخطأ هنا: ما يشمل شبه العمد، فيقال حينئذ في ضبطه وتعريفه: هو ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو إلى الشخص، أو ما لا يقصد به زهوق الروح غالبًا. والمعنى: ليس (¬1) من شأن المؤمن ولا من خُلقه أن يقتل أحدًا من المؤمنين، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدًا، لكنه قد يفعل ذلك خطأ، ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه، وهي حقوق لله تعالى وحقوق للعباد، ومن الثانية القصاص، لما في ذلك من الزجر من القتل، ولما في تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء، ومن استهزأ بها .. كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة، وهدم ركنًا من أركان الإيمان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل: أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان، إذ من شأنهما أن يعاقب الله تعالى عليهما، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه أن لا يؤاخذنا عليهما بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا} كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسي، وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها، ولكن ورد في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وضع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان، والأمر يكرهون عليه". رواه ابن ماجه. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} بأن قصد رمي صيد أو غرض فأصاب مؤمنًا، أو قصد رمي المشرك فأصاب مسلمًا، أو ظن الشخص مشركًا فقتله فبان مسلمًا، أو قتله شبه عمد، ويسمى عمد خطأ، وخطأ عمد، كأن ضربه بما لا يقتل عادة، كأن صفعه باليد، أو ضربه بعصا فمات، ولم يقصد قتله. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ أي: فالواجب عليه عتق نسمة من أهل الإيمان؛ لأنه لما أعدم نفسًا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسًا، ¬

_ (¬1) المراغي.

والعتق كالإيجاد من العدم، {و} عليه من الجزاء مع عتق الرقبة {دية مسلمة}؛ أي: مدفوعة {إِلَى أَهْلِهِ}؛ أي: إلى أهل المقتول وورثته {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}؛ أي: إلا أن يعفوا أهل المقتول عن تلك الدية، ويسقطوها باختيارهم؛ لأنها إنما وجبت تطييبًا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضًا عما فاتهم من المنفعة بقتله، فإذا هم عفوا .. فقد طابت نفوسهم، وانتفى المحذور، وكانوا هم ذوي الفضل على القاتل، وقد سمى الله تعالى هذا العفو تصدقًا، ترغيبًا فيه وحثًّا عليه وتنبيهًا على فضله، وفي الحديث: "كل معروف صدقة" وبينت السنة أنها مئة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وكذا بنات لبون، وبنو لبون، وحقاق، وجذاع، وأنها على عاقلة القاتل، وهم عصبته، إلا الأصل والفرع، موزعة عليهم في ثلاث سنين: على الغني منهم نصف دينار، والمتوسط ربعٌ كل سنة، والحكمة في ذلك تقرير التضامن بين الأقربين، فإن لم يقوا .. فمن بيت المال - الوزارة المالية - فإن تعذر .. فعلى الجاني، وتجزىء قيمة الإبل إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق، ودية المرأة نصف دية الرجل؛ لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابًا جاء فيه: "إن من اعتبط - قتل بغير سبب شرعي - مؤمنًا، قتلًا عن بينة، فإنه قود؛ أي: قصاص يقتل به إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية، مئة من الإبل، ثم قال: وعلى أهل الذهب ألف دينار". وفي هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها، إذا كانت هي رأس أموالهم، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل. فالدية ضابطها هو المال الواجب بالجناية على الحر في النفس، أو فيما دونها، ويعطى إلى ورثة المقتول، عوضًا عن دمه. وقرأ الجمهور (¬1): {يَصَّدَّقُوا} وأصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو {تصدقوا} بالتاء على الخطاب، وقرىء: {تصدقوا} بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة، وفي حرف أبي وعبد الله: {يتصدقوا} بالياء والتاء. {فَإِنْ كَانَ} المقتول خطأ {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}؛ أي: من سكان دار الحرب، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعد أن فارقهم لمهم من المهمات، {وَهُوَ}؛ أي: المقتول {مُؤْمِنٌ} ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنًا، كالحارث بن يزيد كان من قريش، وهم أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه؛ لأن قد قتله عياش حين خروجه مهاجرًا، وهو لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ أي: فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو عتق نسمة من أهل الإيمان فقط، وأما الدية فلا تجب، إذ لا وراثة بين المقتول وأهله؛ لأنهم أعداء يحاربون المسلمين، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات. {وَإِنْ كَانَ} المقتول خطأ {مِنْ قَوْمٍ} كفرة {بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون {وَبَيْنَهُمْ}؛ أي: وبين أولئك الكفرة {مِيثَاقٌ}؛ أي: عهد مؤقت أو مؤبد على ترك القتال بينهم، كما هو حال الدول في العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر على أن لا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوًّا، {فَدِيَةٌ}؛ أي: فالواجب على قاتله دية {مُسَلَّمَةٌ}؛ أي: مؤداة {إلَى أَهْلِهِ}؛ أي: إلى أهل المقتول الكفار المعاهدين. وقرأ الحسن (¬1): {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن} بزيادة: وهو مؤمن، وبه قال مالك، وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين، لاختلاف الرواية في ذلك، روى أحمد والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عقل - دية - الكافر نصف دية المسلم"، وروي عن أحمد: أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ديته كدية المسلم إن قتل عمدًا، وإلا فنصف ديته، وذهب الزهري وأبو حنيفة: إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية في أهل الميثاق، وهم المعاهدون وأهل الذمة، وذهب الشافعي: إلى أن دية الكافر ثلث دية المسلم إن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسيًّا أو كتابيًّا لا تحل مناكحته، وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف الفقهاء فيها كما سيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. {و} على القاتل أيضًا {تحرير رقبة مؤمنة} أي: عتق نفس متصفة بالإيمان ولو صغيرًا لحق الله تعالى، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} رقبة يعتقها في الكفارة، بأن لم يجد مالًا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق، أو لم يجد رقيقًا، {فـ} عليه {صيام شهرين} قمريين بدلًا عن عتق الرقبة {مُتَتَابِعَيْنِ}؛ أي: متواليين وجوبًا بحيث لا يفصل يومين منهما إفطار في النهار بغير عذر شرعي، فإن أفطر يومًا بغير عذر شرعي، استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن، أما الإفطار بعذر كحيض ونفاس فلا يضر، ولو كان كثيرًا، {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}؛ أي: شرع الله سبحانه وتعالى ذلك التكفير توبة على القاتل خطأ، وتجاوزًا عن تقصيره في ترك الاحتياط، حيث لم يبحث عن المقتول وحاله، وحيث لم يجتهد حتى لا يخطيء، لأنه لو بالغ في الاحتياط .. لم يصدر منه ذلك الفعل الخطأ، {وَكاَنَ الَّلهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بأحوال النفوس وما يطهرها، {حَكِيمًا} فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة. فائدة: حاصل (¬1) ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام؛ لأن المقتول إما مؤمن أو كافر معاهد، والأول إما أن تكون ورثته مسلمين أو حربيين، فالمؤمن الذي ورثته مسلمون فيه الدية والكفارة، وكذا الكافر المُؤمَّنُ، أما المؤمن الذي ورثته كفار حربيون ففيه الكفارة فقط. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل المسألة الأولى: في بيان صفة القتل قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ. أما العمد المحض: فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبًا، فقتل به، ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية حالة مغلظة في مال القاتل. وأما شبه العمد: فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبًا مثل أن ضربه بعصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير فمات، فلا قصاص عليه، وتجب عليه دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. وأما الخطأ المحض: فهو أن لا يقصد قتله، بل قصد شيئًا آخر فأصابه، فمات منه، فلا قصاص عليه، وتجب فيه دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. ومن صور قتل الخطأ أيضًا: أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلمًا، أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركًا، بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم، فبان مسلمًا، فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد. المسألة الثانية: في حكم الديات فدية الحر المسلم مئة من الإبل، فإذا عدمت الإبل .. فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول، وفي قول بدل مقدر، وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، ويدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، فكانت كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا، فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة، قال: وترك دية أهل الكتاب، فلم يرفعها فيما رفع من الدية، أخرجه أبو داود.

وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، وهو قول عروة بن الزبير، والحسن البصري، وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنها مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. ودية المرأة نصف دية الذكر الحر، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيًّا، وإن كان مجوسيًّا فخمس الثلث ثمان مئة درهم، وهو قول سعيد بن المسيب وإليه ذهب الشافعي. وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال قوم: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك وأحمد، والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دية المعاهد نصف دية الحر". أخرجه أبو داود. وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى" أخرجه النسائي. فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف، ثم رفعت زمن عمر دية المسلم ولم ترفع دية الذمي، فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين. والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهذا قول عمرو بن زيد بن ثابت، وبه قال عطاء، وإليه ذهب الشافعي، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم"، وذلك لتشديد العقل. أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -

يوم الفتح فقال: "ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مئة من الإبل، أربعون ثنية إلى بازل (¬1) عامها كلهن خلفة". وفي رواية أخرى: "ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مئة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه النسائي. وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهذا قول الزهري وربيعة، وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي. وأما دية الخطأ فمخففة، وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة، وبه قال مالك والشافعي، وأبدل قوم أبناء اللبون بأبناء المخاص يروون ذلك عن ابن مسعود، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي. والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم العصبات من المذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبها على العاقلة. ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه، فلا نطيل الكلام بها، ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل. والله أعلم. المسألة الثالثة: في حكم الكفارة الكفارة: إعتاق رقبة مؤمنة، وتجب في مال القاتل، سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، فمن لم يجد الرقبة .. فعليه صيام شهرين متتابعين، فالقاتل إن كان واجدًا لرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود الثمن، فاضلًا عن نفقته ونفقة عياله، وحاجته من مسكن ونحوه .. فعليه ¬

_ (¬1) قوله بازل: يقال بزل ناب البعير يبزل بزولًا - من باب قعد - إذا طلع، وهو وهي بازل اهـ.

[93]

الإعتاق، ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم، فإن عجز عن الرقبة، أو عن تحصيل ثمنها .. فعليه صوم شهرين متتابعين، فإن أفطر يومًا متعمدًا في خلال الشهرين، أو نسي النية، أو نوى صومًا آخر .. وجب عليه استئناف الشهرين، وإن أفطر يومًا بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التتابع؟ اختلف العلماء فيه: فمنهم من قال: ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين، وهو قول النخعي، وأظهر قولي الشافعي؛ لأنه أفطر مختارًا. ومنهم من قال: لا ينقطع التتابع، وعليه أن يبني، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي. ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض، ولا ينقطع، فإذا طهرت .. بنت؛ لأنه أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، ولا يمكن الاحتراز عنه. فإن عجز عن الصوم، فهل ينتقل عنه إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكينًا؟ .. فيه قولان: أحدهما: أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار. والثاني: لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلًا، فقال: فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، فنص على الصوم، وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم. 93 - ثم بين الله سبحانه وتعالى حكم القتل العمد وعقوبته الشديدة، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ} شخصًا {مُؤْمِنًا} بالله ورسوله، حالة كون القاتل {مُتَعَمِّدًا}؛ أي: قاصدًا قتله بما يقتل غالبًا كالسيف مثلًا، عالمًا بكونه مؤمنًا ولو ظنًّا {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}؛ أي: فجزاء ذلك القاتل وعقوبته جهنم؛ أي: فجزاؤه وعقوبته على قتله أن يدخل جهنم حالة كونه {خَالِدًا فِيهَا}؛ أي: حالة كونه ماكثًا في جهنم مكثًا مؤبدًا إن استحل قتله، أو ماكثًا مكثًا طويلًا إن لم يستحل {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}؛ أي: وسخط الله سبحانه وتعالى على ذلك القاتل سخطًا شديدًا، يستلزم الانتقام منه، {وَلَعَنَهُ}؛ أي: وطرده الله تعالى من رحمته، وأبعده عنها في الدنيا والآخرة، {وَأَعَدَّ لَهُ}؛ أي: وهيأ الله تعالى لذلك القاتل في جهنم {عَذَابًا عَظِيمًا}؛ أي: تعذيبًا شديدًا لا يقادر قدره إلا الله تعالى، جزاء على عمله الشنيع.

وللعلماء في توبة قاتل المؤمن عمدًا آراء ثلاثة: 1 - يرى ابن عباس وفريق من السلف: أن قاتل المؤمن عمدًا لا تقبل له توبة، وهو خالد في النار أبدًا، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا". وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى"، وروي عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن .. لأدخلهم الله تعالى النار". وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن .. لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر". وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلًا زانيًا تقبل توبته، ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر إذا هو كان متبعًا لهواه بالكفر، وما يتبعه، ولم يكن ظهر له صدق النبوة، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحًا كان جديرًا بالعفو، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل، فلا عذر له، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير، فكيف يعود بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون، ويكون بأسهم بينهم شديدًا. وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين، وانفصمت عروة الوفاق بينهم، إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض، ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله، وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة .. فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، إذ هؤلاء تجرؤوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة في قلوبهم.

قال في "الكشاف": هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم، وخطب جليل، ومن ثم روي عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدًا غير مقبولة، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية، ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث التي تقدم ذكرها، وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مُناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، {فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} انتهى. 2 - فريق آخر يرى: أن المراد بالخلود المكث الطويل، لا الدوام؛ لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما في الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه ذلك، كما جاء في قوله جل ذكره: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجز كل سيئة بمثلها، لعارضه قوله جل شأنه: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ومن ثم روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا أنه قال: "هو جزاؤه إن جازاه"، وبهذا قال جمع من العلماء، وقالوا: هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب، وهو إن لم يجازه .. لم يكن كذابًا، وقد روح عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضًا، وقال في الآية: هي جزاؤه، فإن شاء .. عذبه، وإن شاء .. غفر له. 3 - ويري فريق ثالث: أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل، وحكمه مما لا شك فيه جواب المبتدأ: حكمه، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدًا مستحلًا في الآية؛ أي: ومن يقتل مؤمنًا، متعمدًا لقتله، مستحلًا له .. فجزاؤهُ جهنم خالدًا فيها أبدًا. الإعراب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}. {فَمَا}: {الفاء}: استئنافية، {ما}: اسم استفهام إنكار في محل الرفع مبتدأ، {لَكُم}: جار ومجرور خبره، تقديره: فأي شيء ثابت لكم، والجملة

مستأنفة، {فِي الْمُنَافِقِينَ}: متعلق بصار المحذوف، {فِئَتَيْنِ}: خبر لصار المحذوف، تقديره: فما لكم صرتم فئتين في المنافقين، وجملة صار المحذوفة حال من ضمير {لَكُمْ}، والتقدير: فأي شيء ثبت لكم حال كونكم صائرين فرقتين في المنافقين. وفي "السمين": {فَمَا لَكُمْ} (¬1): مبتدأ وخبر، و {فِي الْمُنَافِقِينَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو {لَكُمْ}؛ أي: أي شيء كائن لكم، أو مستقر لكم في أمر المنافقين. والثاني: أنه متعلق بمعنى {فِئَتَيْنِ}، فإنه في قوة مالكم تفترقون في أمور المنافقين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من {فِئَتَيْنِ}؛ لأنه في الأصل صفة لها، تقديره: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها .. انتصبت حالًا. وفي {فِئَتَيْنِ} وجهان: أحدهما: أنه حال من الكاف والميم في {لَكُمْ}، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به {لَكُمْ}، ومثله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} وقد تقدم أن هذه الحال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم بدونها، وهذا مذهب البصريين في كل ما جاء من هذه التراكيب. والثاني: وهو مذهب الكوفيين: أنه نصب على أنه خبر كان مضمرة، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، انتهى. {وَاللَّهُ}: {الواو}: حالية أو استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ. {أَرْكَسَهُمْ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {الْمُنَافِقِينَ}، أو مستأنفة، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أركس}، {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما كسبوه، {أَتُرِيدُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {تريدون}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَنْ تَهْدُوا}: ناصب وفعل وفاعل والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أتريدون هداية، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَهْدُوا}، {أَضَلَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: من أضله الله، {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {من} على كون فعل شرط لها، {فَلَنْ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {لن}، {لن تجد}: ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أي مخاطب. {لَهُ}: جار ومجرور، في محل المفعول الأول لـ {تَجِدَ}، {سَبِيلًا}: مفعول ثان لـ {تَجِدَ}، وجملة {تَجِدَ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: مستأنفة. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}. {وَدُّوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {لَوْ}: مصدرية، {تَكْفُرُونَ} فعل وفاعل، وجملة {لَوْ} المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ودوا كفركم أيها المؤمنون، {كَمَا} {الكاف} حرف جر، {ما}: مصدرية، {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف}، تقديره: ككفرهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: ودوا كفركم كفرًا كائنًا ككفرهم. {فَتَكُونُونَ} {الفاء} عاطفة، {تكونوا}: فعل ناقص واسمه، {سَوَاءً}: خبره، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر عن الذات باسم المعنى، فهو في تأويل مستوين، وجملة {تكونون} في محل النصب معطوفة على جملة

{تَكْفُرُونَ}، والتقدير: ودوا كفركم ككفرهم فكونكم أنتم وهم مستوين في الشرك، {فَلَا}: {الفاء} فاء الفصحية؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا كان حالهم ما ذكر .. فأقول لكم لا تتخذوا منهم أولياء، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة، ويصح كون {الفاء} حرف عطف وتفريع على قوله: {وَدُّوا}. {لا}: ناهية جازمة. {تَتَّخِذُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا}، وهو من أخوات ظن تنصب مفعولين، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، أو معطوفة على جملة {وَدُّوا}، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يُهَاجِرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد {حَتَّى}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {تَتَّخِذُوا}، والتقدير: فلا تتخذوا منهم أولياء إلى مهاجرتهم في سبيل الله، {فَإِنْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا هاجروا، وأردتم بيان حكم ما إذا تولوا .. فأقول لكم، {إن}: حرف شرط، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَخُذُوهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {خُذُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن}، على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة متسأنفة، {وَاقْتُلُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {خُذُوهُمْ}، {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية مبني على الضم، والظرف تنازع فيه كل من الفعلين قبله أعني {خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}، {وَجَدْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَلَا تَتَّخِذُوا}: جازم وفعل وفاعل، في محل الجزم معطوف على خذوهم، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولًا أول لاتخذ. {وَلِيًّا}: مفعول ثان له. {وَلَا نَصِيرًا} معطوف على {وَلِيًّا}. {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ}.

{إِلَّا}: أداة استثناء. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب على الاستثناء من هاء {خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}، {يَصِلُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {إِلَى قَوْمٍ}: متعلق بـ {يَصِلُونَ}، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، {وَبَيْنَهُمْ}: معطوف على {بَيْنَكُمْ} والظرفان متعلقان بمحذوف خبر مقدم لقوله: {مِيثَاقٌ}: وهو مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ}، {أَوْ جَاءُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {يَصِلُونَ} على كونه صلة الموصول. {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ}. {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من فاعل {جَاءُوكُمْ} ولكنها على تقدير قد، وقيل (¬1): لا حاجة إلى تقديرها؛ لأنه قد جاء الماضي حالًا بغير تقديرها كثيرًا، فإن لم تقدر قد .. فهو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر. اهـ. "كرخي". وفي "السمين": وإذا وقعت الحال فعلًا ماضيًا .. ففيها خلاف هل يحتاج إلى اقترانه بقد أم لا، والراجح عدم الاحتياج لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تقدر قد قبل {حَصِرَتْ} انتهى. {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ (حَصِرَتْ} تقديره: حصرت صدورهم عن قتالهم إياكم. {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}. {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}:فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، معطوف علي {يُقَاتِلُوكُمْ} {وَلَوْ}. {الواو} استئنافية، {وَلَوْ}:حرف شرط، {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَسَلَّطَهُمْ}: {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ}. {سلطهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود ¬

_ (¬1) الفتوحات.

على {اللَّهُ}، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلقان بظرف محذوف {فَلَقَاتَلُوكُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، و {اللام}: رابطة لجواب {لو} لعطفه على الجواب، {قاتلوكم}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {لَسَلَّطَهُمْ}، وفي "الجمل": هذا (¬1) هو جواب {لو} في الحقيقة، وما قبله توطئة له، وهذه اللام هي اللام التي في قوله: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ}، وأعيدت توكيدًا. وفي "أبي السعود"، واللام جواب {لو} على التكرير، أو على الإبدال. {فَإِنِ} {الفاء}: تفريعية. {إن} حرف شرط، {اعْتَزَلُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {لم يقاتلوكم}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} معطوف على {اعْتَزَلُوكُمْ}، {وَأَلْقَوْا}: فعل وفاعل، في محل الجزم معطوف على {اعتَزَلُوكُمْ}، {إِلَيْكُمُ}: متعلق بـ {وَأَلْقَوْا}، {السَّلَمَ}: مفعول به، {فَمَا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية، لاقترانه بـ {ما} النافية، {ما}: نافية، {جَعَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مفرعة على قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}. {لَكُمْ}: متعلق بـ {جَعَلَ} وهو في محل المفعول الأول لـ {جَعَلَ}، {عَلَيْهِمْ}: حال من {سَبِيلًا}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها. {سَبِيلًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ}. {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}. {سَتَجِدُونَ}: فعل وفاعل، {آخَرِينَ}: مفعول أول، {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ثان لوجد، وجملة وجد مستأنفة، {أَنْ يَأمَنُوكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل، وجملة {أَنْ} مع صلتها: في تأويل مصدر ¬

_ (¬1) الفتوحات.

منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُونَ} تقديره: يريدون أمنهم إياكم، {وَيَأمَنُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يَأمَنُوكُمْ}، {قَوْمَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والتقدير: وأمنهم قومهم، {كُلَّ مَا} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب، {رُدُّوا}: فعل ونائب فاعل، {إِلَى الْفِتْنَةِ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {أُرْكِسُوا}: فعل ونائب فاعل. {فِيهَا}: متعلق به، والجملة جواب {كُلَمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَمَاَ} مستأنفة، {فَإِن} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حالهم هذه وأردتم بيان ما تفعلون بهم .. فأقول لكم: {إن لم يعتزلوكم} {إن}: حرف شرط جازم، {لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {وَيُلْقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يعتزلوكم} مجزوم بـ {لَم}، {إليكم}: متعلق بـ {يلقوا}. {السلم}: مفعول به، {وَيَكُفُّوا}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {يَعْتَزِلُوكُ}، {أَيْدِيَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {فَخُذُوهُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {خذوهم}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَاقْتُلُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {خذوهم}، {حَيْثُ}: ظرف مكان تنازع فيه {خذوهم واقتلوهم}، {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}، {وَأُولَئِكُمْ} {الواو}: استئنافية، {وَأُولَئِكُمْ}: مبتدأ {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل، {لَكُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {جَعَلْنَا}، {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور حال من {سُلْطَانًا}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها، {سُلْطَانًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا}، {مُبِينًا}: صفة {سُلْطَانًا}، وجملة جعل من الفعل والفاعل: في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الإسمية مستأنفة.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، {لِمُؤْمِنٍ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها، {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مؤمن}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {خَطَأً}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره: إلا قتلًا خطأً، أو منصوب على الحال من فاعل {يَقْتُلَ}، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، والتقدير: وما كان قتل مؤمن مؤمنًا جائزًا له إلا قتلًا خطأً، أو إلا حالة كونه مخطئًا. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}. {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {قَتَلَ مُؤْمِنًا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {خَطَأً}: منصوب على المفعولية المطلقة، {فَتَحْرِيرُ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {تحرير}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه تحرير رقبة، {رَقَبَةٍ}: مضاف إليه، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {وَدِيَةٌ}: معطوف على {تحرير}. {مُسَلَّمَةٌ}: صفة لـ {دية}، {إِلَى أَهْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُسَلَّمَةٌ}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {أَنْ يَصَّدَّقُوا}: ناصب وفعل وفاعل، في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء من عام الأحوال، تقديره: ودية مسلمة إلى أهله في جميع الأحوال إلا حال تصدقهم وعفوهم عنها، وإن شئت قلت: {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {أَهْلِهِ}، والتقدير: ودية مسلمة إلى أهله إلا حالة كونهم متصدقين وعافين عنها، تأمل.

{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. {فَإن}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع على محذوف تقديره: هذا الحكم إذا كان المقتول منكم. {إن}: حرف شرط جازم، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن}، واسمها ضمير يعود على المقتول، {مِنْ قَوْمٍ}: جار ومجرور خبر {كاَنَ}، {عَدُوٍّ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، {لَكُمْ}: صفة {عَدُوّ}، وقيل (¬1): يتعلق به؛ لأن عدوًّا في معنى معاد، وفعول يعمل عمل فاعل، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من اسم {كَانَ}، {فَتَحْرِيرُ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {تحرير رقبة}: مبتدأ ومضاف إليه، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ}، والخبر محذوف، تقديره: فتحرير رقبة مؤمنة واجب عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة ومفرعة على الجملة المحذوفة التي قدرناها آنفًا. {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إن}: حرف شرط، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المقتول، {مِنْ قَوْمٍ}: جار ومجرور خبر {كَانَ}، {بَيْنَكُمْ}: خبر مقدم، {وَبَيْنَهُمْ} معطوف عليه، {مِيثَاقٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ}، {فَدِيَةٌ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {وَدِيَةٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، {مُسَلَّمَةٌ}: صفة لـ {وَدِيَةٌ}، {إِلَى أَهْلِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {مُسَلَّمَةٌ}، والخبر محذوف جوازًا تقديره: واجبة عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَإن ¬

_ (¬1) العكبري.

كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} على كونها معطوفة على جملة محذوفة قدرناها سابقًا، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: معطوف على {دية}، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ}. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. {فَمَن}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع على محذوف، تقديره: هذا الحكم في حق من وجد الرقبة. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما، {لَمْ يَجِدْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على {من} ومفعوله محذوف تقديره: فمن لم يجد الرقبة، وهو متعد إلى واحد؛ لأنه من وجدان الضالة، لا بمعنى علم، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَصِيَامُ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {صيام}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه صيام وهو مضاف. {شَهْرَيْنِ}: مضاف إليه، {مُتَتَابِعَيْنِ}: صفة لـ {شَهْرَيْنِ}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: معطوفة مفرعة على ذلك المحذوف. {تَوْبَةً}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: تاب الله عليكم توبة منه، حيث نقلكم من الأثقل الذي هو الإعتاق إلى الأخف الذي هو الصيام، والجملة المحذوفة مستأنفة. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {تَوْبَةً}. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {عَلِيمًا}: خبر أول لها. {حَكِيمًا}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}. {وَمَن}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَقْتُل}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مُؤْمِنًا}: مفعول به، {مُتَعَمِّدًا}: حال من فاعل {يَقْتُلْ}، {فَجَزَاؤُهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {جَزَاؤُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه،

{جَهَنَّمُ}: خبر، {خَالِدًا}: حال من ضمير {جزاؤه}، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدًا}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}. {وَغَضِبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة (¬1) على مقدر تدل عليه الجملة الشرطية دلالة واضحة، تقديره: حكم الله أن جزاءه ذلك وغضب عليه. {وَلَعَنَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجمل معطوفة على جمل {غضب}. {وَأَعَدَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللهُ}، {لَهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {غضب}، {عَذَابًا}: مفعول به. {عَظِيمًا}: صفة له. التصريف ومفردات اللغة {فِئَتَيْنِ}: تثنية فئة، والفئة الجماعة. {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ}: من أركس الرباعي إركاسًا، والإركاس (¬2) الرد والرجع، قيل: من آخره على أوله، والركس: بكسر أوله وسكون ثانيه الرجيع والروثة، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الروثة: "هذا ركس" وقال أمية بن أبي الصلت: فَأُرْكِسُوْا فِيْ حَمِيْمِ النَّارِ إِنَّهُمُ ... كَانُوْا عُصَاةً وَقَالُوْا الإِفْكَ والزَّوْرَا والركس (¬3): بوزن النصر إرجاع الشيء منكوسًا على رأسه، إن كان له رأس، أو متحولًا عن حال إلى أردأ منها، كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث، والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين. وحكى الكسائي والنضر بن شميل (¬4): ركس وأركس بمعنى واحد؛ أي: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

رجعهم، ويقال: ركس مشددًا بمعنى أركس، وارتكس هو؛ أي: ارتجع، وقيل: أركسه إذا أوبقه، قال الشاعر: بِشُؤمِكَ أَرْكَسْتَنِي في الْخَنَا ... وَأَرْمَيْتَنِيْ بِضُرُوْبِ الْعَنَا وقيل: أضلهم، وقال الآخر: وَأَرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيْقِ الْهُدَى ... وَصَيَّرْتَنِي مَثَلًا لِلْعِدَا وقيل: بمعنى نكسه، قاله الزجاج: رُكِسُوْا فِيْ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوْهَا فِتَنْ وفي "المصباح": ركست الشيء ركسًا - من باب قتل - قلبته، ورددت أوله على آخره، وعن الكسائي وغيره: الركس والنكس قلب الشيء على رأسه، أوردُّ أوله على آخره، وقال الراغب: معناهما الرد والنكس أبلغ؛ لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس ما جعل رجيعًا بعد أن كان طعامًا. اهـ. {حَصِرَتْ صُدُورُهُم}: وفي "المصباح" (¬1): حصر الصدر حصرًا - من باب تعب - إذا ضاق، وحصر القارئ إذا منع من القراءة، فهو حصير، والحصور الذي لا يشتهي النساء، وحصير الأرض وجهها، والحصير أيضًا الحبس، والحصير البادية، وجمعها حُصر، مثل بريد وبُرد، وتأنيثها بالهاء عامي. {فَإنِ اعْتَزَلُوكم}: من باب افتعل الخماسي بمعنى ابتعد، وهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه عزل: بمعنى بعد وانفصل عن القوم، {سَبِيلًا}: السبيل الطريق، والمراد بها هنا طريق النجاة، {وَلِيًّا}: الولى النصير والمعين. {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}: الدية (¬2) ما غرِّم في القتل من المال، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير، ولها في الشرع أحكام ومقادير سبق ذكر شيء منها، وأصلها مصدر أطلق على المال المأخوذ في القتل، ولذلك قال: {مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} والفعل لا يسلم بل الأعيان، تقول في تصريفه: ودى يدي وديًا ودية، ¬

_ (¬1) المصباح المنير. (¬2) البحر المحيط.

كما تقول: وشى يشي وشيًا وشية، ونظيره من صحيح اللام زنة وعدة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعًا (¬1): منها: الاستفهام بمعنى الإنكار في قوله: {لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ}، وفي قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا}. ومنها: الطباق في قوله: {أن تَهدُوا مَن أَضَل اَللهُ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا}، وفي قوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ}، وفي قوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}، وفي قوله: {أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ}، وفي قوله: {خَطَأً} و {خَطَأً}. ومنها: الاستعارة في قوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ}، وفي قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، وفي قوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}، وقوله {سَبِيلًا}، وقوله {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ...} الآية. ومنها: الاعتراض في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ}. ومنها: التكرار في مواضع. ومنها: التقسيم في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ...} إلى آخره. ومنها: الحذف في مواضع. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: عتق نسمة مملوكة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة (¬1): وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنًا متعمدًا، وأنه مأواه جهنم، وذكر غضب الله عليه ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له .. أمر المؤمنين بالتثبت والتبين، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان، وأن لا يسفكوا دمًا حرامًا بتأويل ضعيف، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدًا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه، ولما كان خفاء ذلك منوطًا بالأسفار والغزوات .. قال: إذا ضربتم في الأرض، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإِسلام في السفر وفي الحضر. وقال المراغي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فتبَينُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا على سبيل الخطأ، وأن من قتل مؤمنًا متعمدًا فلا جزاء له إلا جهنم خالدًا فيها أبدًا .. أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين، حين انتشر الإِسلام ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين، أو ممن يميل إلى الإِسلام، ويتحينون الفرص للاتصال بأهله، فأعلمهم أن لا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرًا، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإِسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين، وأن لا يحملوا مثل هذا على الخداع، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألم بها، وإن لم يكن قد تمكن فيها، ومن ثم أمر بالتثبت، ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإِسلام ولو بإلقاء تحيته، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا، وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه، ولا يبني الظن على ميله وهواه، بل عليه أن يقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه انتهى. قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما رغب المؤمنين في قتال - في سبيل الله - أعداءِ الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدًا بغير تأويل وبتأويل، فنهى أن يُقْدِم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإِسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك .. ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد، وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنًا خطأ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل، فيتقاعد عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه، بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم دفعًا لهذه الشبهة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما (¬1) عاتب الله سبحانه وتعالى المؤمنين على ما صدر منهم، من قتل من تكلم بالشهادة .. ذكر هنا فضيلة الجهاد، وأن من نصب نفسه له .. فقد فاز فوزًا عظيمًا، فعليه أن يحترز من الوقوع في الهفوات التي تخل بهذا المنصب العظيم، انتهت. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد .. أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد، وسكن في بلاد الكفر، وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السالفة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عجز .. ذكر هنا حال قوم أخلدوا إلى السكون، وقعدوا عن نصرة الدين، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر، حيث غلبهم الكافرون، ومنعوهم من إقامة الحق، وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين؛ لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذي يعتزون بهم، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء في الحق، لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين. وظلمهم لأنفسهم هو بتركهم العمل بالحق خوفًا من الأذى، وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين، وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر، بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمدارة المبطلين، وذلك عذر لا يعتد به، إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ...} الآية، في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة (¬2): ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

منها: ما أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوق غنمًا له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية. ومنها: ما أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرناه الخبر .. نزل فينا القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} الآية. وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم .. وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف لك بلا إله إلا الله غدًا". وأنزل الله هذه الآية. وقيل غير ذلك. ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها على أصحاب كل واقعة، فيرون أنهم سبب نزولها. قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا، فجاءه بكتف فكتبها، وشكى ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. وقد روي (¬1): أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، والربيع وهلال بن أمية من بني واقف، حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه (¬1) البخاري عن ابن عباس أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}. وأخرجه بن مردويه وسمى منهم في روايته: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكهة بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة وغيرهم، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس (¬2) قال إن سبب نزول هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} أن قومًا من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإِسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي منهم بمكة، وأنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ...} الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل. قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية، روى (¬3) ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} الآية، وهو بمكة حين بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسلميها، فقال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة، وكان شيخًا كبيرًا فمات بالتنعيم - موضع قرب المدينة - ولما ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) المراغي.

[94]

أدركه الموت .. أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك - صلى الله عليه وسلم -، أبايعك على ما بايع عليه رسولك - صلى الله عليه وسلم -، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا لبنيه: مات بالمدينة، فنزلت هذه الآية، وروي غير ذلك في سبب نزولها. التفسير وأوجه القراءة 94 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا}؛ أي: يا أيها الذين صدقوا الله تعالى وصدقوا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي، {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: إذا سافرتم وسرتم لجهاد أعداء الله تعالى وأعدائكم لإعلاء كلمته ورفعة دينه، {فَتَبَيَّنُوا}؛ أي: اطلبوا البيان والتحقق واليقين، وتأنوا في قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أمسلم هو أم كافر، ولا تعجلوا في قتل أحد إلا إذا علمتم يقينًا أنه حرب لكم ولله تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرأ (¬1) حمزة والكسائي هنا في الموضعين وفي الحجرات {فتثبتوا} بالثاء المثلثة؛ أي: اطلبوا التثبت والباقون: {فَتَبَيَّنُوا}، وكلاهما تفعَّل بمعنى استفعل التي للطلب؛ أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا عليه من غير رويّة وإيضاح. والمراد في الآية: فتأنوا واتركوا العجلة واحتاطوا {وَلَا تَقُولُوا} أيها المؤمنون المجاهدون بغير تأمل وتبين {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ}؛ أي: لمن حياكم بتحية الإِسلام السلام عليكم ورحمة الله، أو لمن ألقى إليكم الاستسلام والانقياد بقول: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، الذي هو أمارة على الإِسلام، ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم {لَسْتَ مُؤْمِنًا}؛ أي: إنك لست بمؤمن حقًّا، وإنما تقوله تقية وخوفًا من السيف، فتقتلوه حالة كونكم {تَبْتَغُونَ} وتطلبون بقتله {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ومتاعها من الغنائم، قاصدين ماله الذي هو سريع النفاذ والزوال {فَعِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}؛ أي: أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد، وثواب جسيم، فاطلبوها عنده تعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يغنمكموها، فتغنيكم عن قتل أمثاله لماله. وقرأ (¬1) عاصم وأبو عمرو وابن كثير والكسائي وحفص {السَّلَامَ} بألف، قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الانقياد، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير من بعض طرقه، وجبلة عن المفضل عن عاصم بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام، وقرأ أبان بن زيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام وهو الانقياد والطاعة، وقرأ الجحدري بفتح السين وسكون اللام، وقرأ أبو جعفر {مؤمنًا} بفتح الميم؛ أي: لا نؤمنك في نفسك، وهي قراءة علي وابن عباس وعكرمة وأبي العالية ويحيى بن يعمر، ومعنى قراءة الجمهور: ليس لإيمانك حقيقة إنك أسلمت خوفًا من القتل، {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل هذا الرجل الذي ألقى إليكم السلام، فقلتم له لست مؤمنًا فقتلتموه، {كُنتُم} أنتم {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: في أول إسلامكم لا يظهر للناس منكم إلا مثل ما ظهر منه لكم من تحية الإِسلام ونحوها، يعني (¬2) من قبل أن يعز الله تعالى دينه كنتم تستخفون أنتم بدينكم، كما استخفى هذا الذي قتلتموه بدينه من قومه حذرًا على نفسه منهم، وقيل: معناه كذلك كنتم تأمنون في قومكم بهذه الكلمة، فلا تحقّروا من قالها ولا تقتلوه، وقيل معناه: كذلك كنتم من قبل مشركين. {فَمَنَّ اللَّهُ} وتفضل {عَلَيْكُمْ} بالإِسلام والهداية، فلا تقتلوا من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل معناه: منَّ عليكم بإعلان الإِسلام بعد الاختفاء، وقيل منَّ عليكم بالتوبة، وقيل قبل منكم تلك الكلمة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم؛ أي: إنكم أول ما دخلتم في الإِسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة، من غير نظر إلى معرفة أن ما في القلب موافق لما في اللسان، ومن الله تعالى عليكم بذلك، فعليكم أن تعملوا مع الداخلين في الإِسلام كما عمل معكم، وأن تعتبروا بظاهر القول، ولا تقولوا إن إقدامه على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف، {فَتَبَيَّنُوا}؛ أي: فكونوا على بيان ويقين من الأمر الذي تقدمون عليه، ولا تأخذوا بالظن، بل تدبروا ليظهر لكم أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

الإيمان المعتبر في حقن الدماء والأموال يكفي فيه ظاهر الحال، كما كفى معكم من قبل. والمعنى: إذا كان الأمر كذلك .. فتبينوا، وقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال من غير وقوف على تواطىء الظاهر والباطن، وفي إعادة التبين مرة أخرى المبالغة في التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ} أزلًا وأبدًا {بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرة والباطنة {خَبِيرًا}؛ أي: عالمًا فيجازيكم بحسبها إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلا تتهاونوا في القتل، واحتاطوا فيه. وقرأ الجمهور (¬1): {إِنَّ} بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرىء بفتحها، على أن تكون معمولة لقوله: {فَتَبَيَّنُوا}؛ أي: أنه تعالى (¬2) خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء من البواعث التي حفزتكم على الفعل، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو تعالى يجازيكم على ذلك، فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو تعالى يثيبكم على ذلك، وفي هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع في مثل هذا الخطأ، وكذلك فيه إرشاد إلى أن لا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بمجرد المخالفة لنا في رأي أو عقيدة، فإنَّ مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافًا، وعلينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإِسلام منع قتل من يلقي السلم، ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق، إما على النصر وإما على ترك القتال، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال؛ وليكون لمحض رفع العدوان والبغي، وتقرير الحق والإصلاح. وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال، وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء، ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[95]

95 - {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلًا بها وحرصًا عليها، وبأنفسهم إيثارًا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار، الذين هم غير أصحاب الضرر والعذر من مرض أو عاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها، وفي معناه العجز عن الأهبة؛ أي: لا يكون القاعدون الموصوفون بما ذكر مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤنة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق، ومنع تعدي حرب الطاغوت؛ لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد، والقاعدون لا يأخذون حذرهم ولا يعدون عدتهم للدفاع، ويكونون عرضة لتعدي غيرهم عليهم، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}؛ أي: بغلبة أهل الطاغوت عليها، ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلًا إلا مع القدرة. أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه، فحينئذ فالقاعدون أولو الضرر يساوون المجاهدين؛ لأن العذر أقعدهم عن الجهاد، روى مسلم عن جابر قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة رجالًا، ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وروى البخاري عن أنس قال: رجعنا من تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أقوامًا خَلفنا، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا .. إلا وهم معنا، حبسهم العذر". وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} بالرفع بدل من القاعدون، ونافع وابن عامر والكسائي والباقون: بالنصب على الحال من {القاعدون}، والأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين. ثم بين (¬1) ما أجمله أولًا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}؛ أي: إن الله سبحانه ¬

_ (¬1) المراغي.

[96]

وتعالى رفع المجاهدين على القاعدين بغير عذر درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها، وهي ما خولهم الله تعالى عاجلًا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}؛ أي: ووعد الله تعالى كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزًا منه، مع تمني القدرة عليه، المثوبة الحسنى: وهي الجنة، فكل منهما كامل الإيمان، مخلص لله تعالى في العمل. وقيل المعنى: وفضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله {عَلَى الْقَاعِدِينَ} أولي الضرر {دَرَجَةً}؛ أي: فضيلة واحدة في الآخرة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية، وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد، فنزلوا عن المجاهدين درجة، قال ابن عباس: أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر، {وَكُلًّا} من المجاهدين والقاعدين مطلقًا {وَعَدَ اللَّهُ} لهم {الْحُسْنَى}؛ أي: الجنة بإيمانهم {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} في سبيل الله تعالى {عَلَى الْقَاعِدِينَ} الذين لا عذر لهم ولا ضرر {أَجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: ثوابًا جزيلًا وأجرًا وافرًا، 96 - ثم فسر ذلك الأجر العظيم فقال: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} سبحانه وتعالى، وانتصاب أجرًا عظيمًا بنزع الخافض، أو على التمييز، ودرجات بدل منه، بدل كل من كل، {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} معطوفان على درجات؛ أي: وفضل الله سبحانه وتعالى المجاهدين في سبيل الله تعالى على القاعدين بلا عذر بأجر عظيم، وثواب وافر، بدرجات منه وبمغفرة ورحمة منه تعالى؛ أي: فضلهم عليهم بدرجات ومنازل بعضها فوق بعض، من منازل الكرامة، وبمغفرة للذنوب، وبرحمة لهم بنعيم الجنة. والمراد بهذه الدرجات (¬1) هي ما ادخره الله تعالى لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها، كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا، من قوة الإيمان بالله تعالى، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة، والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي المغفرة لما يفرط منهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[97]

من الذنوب التي لا تكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، والرحمة هي ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه، وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، قالوا: أو لا نبشر الناس بقولك، فقال: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله .. فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". فإن قلت (¬1): قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة، وذكر في هذه الآية درجات، فما وجه الحكمة في ذلك؟ قلتُ: أما الدرجة الأولى: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر، وأما الثانية: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر، فُضِّلوا عليهم بدرجات كثيرة، وقيل: يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم في الدنيا، والدرجات درجات الجنة ومنازلها، كما في الحديث والله أعلم. {وَكاَنَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا} لذنوب عباده المؤمنين {رَّحِيمًا} بهم، يتفضل عليهم برحمته ومغفرته، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي .. ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته .. غفرت له ورحمته" أخرجه النسائي. 97 - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ}؛ أي: تتوفاهم {الْمَلَائِكَةُ} وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم، والمراد بالملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار والمنافقين، وقيل: أراد به ¬

_ (¬1) الخازن.

ملك الموت وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم، كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع. وقرأ إبراهيم (¬1): {توفاهم} بضم التاء، مضارع وفيت، والمعنى: أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها؛ أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وقرىء توفتهم بتاء التأنيث على أنه فعل ماض، حالة كونهم {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بترك الهجرة، واختيارهم مجاورة الكفرة في دار الذل والظلم، الموجبة للإخلال في أمور الدين، حيث لا حرية لهم في أمورهم الدينية، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده، وقد {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة لهم حين القبض موبخين {فِيمَ كُنْتُمْ}؛ أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؛ أي: أكنتم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أم كنتم مشركين، أو أكنتم في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو في حرب أعدائه؛ أي: إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والحال أن الملائكة تقول للمتوفين بعد قبض أرواحهم توبيخًا لهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؛ أي: إنهم لم يكونوا في شيء منه، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، {قَالُوا}؛ أي: قال المتوفون للملائكة معتذرين اعتذارًا غير صحيح: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ}؛ أي: كنا مقهورين في أرض مكة، في أيدي الكفار، فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فـ {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة لهم توبيخًا مع ضرب وجوههم وأدبارهم: {لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة الدين، وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن، ولا هو من خصاله؛ أي: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد، التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار مع القدرة على الهجرة، فلكم مالهم، وقال ابن عباس: أي: ألم تكن المدينة آمنة فتهاجروا إليها، {فَأُولَئِكَ} المتوفون الذين تقول الملائكة لهم ما ذكر {مَأوَاهُمْ} ومنزلهم في الآخرة {جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر، لتركهم الفريضة؛ أي: إن أولئك الذين فصلت حالهم الفظيعة نسكنهم في الآخرة جهنم؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[98]

لتركهم ما كان مفروضًا عليهم، إذ كانت الهجرة واجبة في صدر الإِسلام، فـ {مَأوَاهُمْ}: مبتدأ، و {جَهَنَّمُ}: خبره، والجملة خبر لـ {أولَئِكَ}، وهذه الجملة خبر إن، وقوله: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} حال من الملائكة على تقدير قد، كما أشرنا إليه آنفًا، أو هو الخبر، والعائد منه محذوف؛ أي: قالوا لهم: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}؛ أي: وقبحت جهنم مصيرًا لهم؛ لأن كل ما فيها يسوؤهم. وفي هذا (¬1) إيماء إلى الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب، لبعض الأسباب، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة. وجبت عليه الهجرة، أما المقيم في دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه، وأقام أحكامه بلا نكير، فلا يجب عليه أن يهاجر، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز الآن، كما أن الإقامة فيها ربما كانت سببًا من أسباب ظهور محاسن الإِسلام وإقبال الناس عليه. 98 - ثم استثنى أهل العذر ومن علم ضعفه منهم فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}؛ أي: فأولئك المذكورون مأواهم جهنم، إلا الذين صدقوا في استضعافهم {مِنَ الرِّجَالِ} العجزة والزمنى، كعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام {وَالنِّسَاءِ} كأم الفضل لبابة أم عبد الله بن عباس، {وَالْوِلْدَانِ} كعبد الله المذكور وغيره، فإنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين في مكة، وإنما (¬2) ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في شأن الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفًا، وقيل أراد بالولدان المراهقين والمماليك حالة كونهم {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}؛ أي: لا يقدرون على حيلة الخروج، ولا على نفقته، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر، يمنعهم من تلك المهاجرة، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}؛ أي: لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون من يدلهم على الطريق. واستطاعة (¬3) الحيلة: وجدان أسباب الهجرة، وما تتوقف عليه من مركوب وزاد. واهتداء السبيل: معرفة الطريق بنفسه أو بدليل، 99 - {فَأُولَئِكَ} المستضعفون الذين لم يهاجروا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

[100]

للعجز وتقطع الأسباب {عَسَى اللَّهُ}؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى {أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الكفر {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَفُوًّا}؛ أي: كثير العفو والمحو للذنوب عن صحف الملائكة فلا يؤاخذ بها، {غَفُورًا}؛ أي: كثير الغفر والستر لها عن أعين الملائكة، فلا يفضح صاحبها في الآخرة. 100 - ثم رغب الله سبحانه وتعالى في أمر الهجرة، ونشط المستضعفين، لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا في خياله، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له، وأن عسرها إلى يسر، فقال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ}؛ أي: ومن يرتحل من بلده الأصيلة إلى بلد آخر {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعته وطلب رضاه، لا لدنيا يصيبها، ولا لامرأة ينكحها مثلًا، {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يجد في الأرض التي هاجر إليها {مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} في المعيشة؛ أي: يجد في تلك الأرض من الخير والنعمة ما يكون سببًا لرغم أنوف أعدائه، الذين كانوا معه في بلدته الأصيلة، وذلك لأن من ارتحل إلى بلدة أجنبية وتحول إليها، فإذا استقام أمره في تلك البلدة، وتمكن فيها، ووصل خيره إلى أهل بلدته الأولى، خجلوا من سوء معاملتهم معه، وندموا عليه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك. وقرأ (¬1) الجراح ونبيح والحسن بن عمران: {مرغما} على وزن مفعل كمذهب، قال ابن جني: هو على حذف الزوائد من راغم، وفي هذا وعد للمهاجرين في سبيله بتسهيل سبل العيش لهم، وإرغامهم أعداءهم، والظفر بهم، وبعد أن وعد سبحانه من هاجر في سبيل الله تعالى بالظفر بما يحب من وجدان السبل ميسورة أمامه، ومن سعة العيش .. وعد من يموت في الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم، الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله تعالى، ونصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وإقامة سننه بعد وفاته، وكان مستحقًا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة بابه، ولو لم يصب تعبًا ولا مشقة؛ فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه، كما في الحديث: "إنما الأعمال ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فقال: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ} ويرتحل منه حالة كونه {مُهَاجِرًا} ومتحولًا {إِلَى} محل فيه رضا {اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}؛ أي: يأته الموت ويأخذه قبل أن يصل إلى المقصد، وإن كان خارج بابه {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: فقد وجب أجر هجرته عند الله تعالى، بإيجابه على نفسه بمقتضى وعده وتفضله وكرمه، لا بحكم الاستحقاق، الذي لو لم يفعل لخرج عن الألوهية. وفي إبهام هذا الأجر وجعله حقًّا واجبًا عليه تعالى إيذان بعظم قدره، وتأكيد ثبوته ووجوبه، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئًا، إذ لا سلطان فوق سلطانه {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا} لما كان منه من القعود إلى وقت الخروج، {رَحِيمًا} بإكمال أجر الهجرة له، فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها .. كتب الله تعالى له ثوابًا كاملًا. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف (¬1): {ثم يدركه} برفع الكاف، قال ابن جني: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم وفاعله، وخرج على وجه آخر وهو أن رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ونبيح والجراح: {ثم يدركه} بنصب الكاف، وذلك على إضمار أن المصدرية، قال ابن جني: هذا ليس بالسهل، إنما بابه الشعر لا القرآن، ولك أن تقول: أجري {ثم} مجرى الواو والفاء، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أن بعدهما، بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في {ثم} إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {يَا أَيُّهَا}: حرف نداء {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صلة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {ءَآمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {ضَرَبْتُمْ}: فعل وفاعل، {في سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، والجمله الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، {فَتَبَيَّنُوا}: الفاء رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {تبينوا}: فعل وفاعل، مجزوم بحذف النون، والجملة جواب وإذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا تَقُولُوا} جازم وفعل وفاعل، معطوف على {تَبَيَّنُوا} على كونها جواب {إذا}، {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُوا}، {أَلْقَى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول، {إِلَيْكُمُ}: متعلق بـ {أَلْقَى}، {السَّلَامَ}: مفعول {أَلْقَى}، {لَسْتَ مُؤْمِنًا}: مقول لـ {تَقُولُوا} محكي، وإن شئت قلت: {لَسْتَ}: فعل ناقص واسمه، {مُؤْمِنًا}: خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ {تَقُولُوا}، {تَبْتَغُونَ}: فعل وفاعل، {عَرَضَ الْحَيَاةِ} مفعول به ومضاف إليه، {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ} والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {تَقُولُوا}. {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}. {فَعِنْدَ اللَّهِ} {الفاء}: تعليلية، {عند الله}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر مقدم، {مَغَانِمُ}: مبتدأ مؤخر، {كَثِيرَةٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بـ {الفاء} التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما نهيتكم عن القول المذكور، وابتغاء عرض الدنيا، لكون مغانم كثيرة عند الله تعالى، {كَذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم على كان واسمها، {كُنتُم}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر كان، والتقدير: كنتم كائنين كذلك الرجل حالة كونكم كائنين من قبل، وجملة كان مستأنفة، {فَمَنَّ اللَّهُ}

{الفاء}: عاطفة، {منَّ الله}: فعل وفاعل، معطوف على كان، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {منَّ}، {فَتَبَيَّنُوا}: {الفاء}: رابطة الجواب لشرط مقدر، تقديره: إذا كان حالكم كحاله فتبينوا، {تبينوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا المقدرة، لا محل لها من الإعراب، {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرًا}، {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: تعملونه، {خَبِيرًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ}: ناف وفعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: حال من {الْقَاعِدُونَ}. {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}: بالرفع بدل من {الْقَاعِدُونَ}. وهو أرجح؛ لأن الكلام منفي، والبدل معه أرجح من النصب كما تقرر في كتب النحو، وقيل إنه بالرفع صفة لـ {الْقَاعِدُونَ}، وبالنصب على الاستثناء من {الْقَاعِدُونَ}، أو على الحال، وبالجر صفة لـ {الْمُؤْمِنِينَ}. {وَالْمُجَاهِدُونَ}: معطوف على {الْقَاعِدُونَ}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {الْمُجَاهِدُونَ}. {بِأَمْوَالِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق أيضًا بـ {المجاهدون}. {وَأَنْفُسِهِمْ}: معطوف على {أموالهم}. {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان عدم الاستواء المفهوم من الجملة التي قبلها. {بِأَمْوَالِهِمْ}: متعلق بـ {فَضَّلَ}. {وَأَنْفُسِهِمْ}؛ معطوف على أموالهم. {عَلَى الْقَاعِدِينَ}: متعلق أيضًا بـ {فَضَّلَ}. {دَرَجَةً}: منصوب على التمييز، أو بنزع الخافض؛ أي: بدرجة واحدة، أو على المصدرية؛ أي: فضلهم تفضيلة، وقيل غير ذلك. {وَكُلًّا}: مفعول أول لـ {وَعَدَ} مقدم عليه لإفادة الحصر {وَعَدَ} {اللَّهُ}: فعل وفاعل، {الْحُسْنَى}: مفعول ثان له، والجملة معطوفة على جملة {فَضَّلَ}. {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {فَضَّلَ}

الأول. {عَلَى الْقَاعِدِينَ} متعلق بـ {فَضَّلَ}. {أَجْرًا}: منصوب (¬1) على التمييز، وقيل على المصدرية؛ لأن {فَضَّلَ} بمعنى أجر، والتقدير: أجرهم أجرًا، وقيل: مفعول لـ {فَضَّلَ} لتضمنه معنى الإعطاء، وقيل منصوب بنزع الخافض، وقيل: على الحال من درجات مقدم عليها، {عَظِيمًا}. {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}. {دَرَجَاتٍ}: بدل من {أَجْرًا}. {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {دَرَجَاتٍ}. {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً}: معطوفان على {دَرَجَاتٍ}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول، ويجوز (¬2) أن يكون {تَوَفَّاهُمُ} فعلًا ماضيًا، وإنما لم تلحق علامة التأنيث للفصل، ولأن التأنيث مجازي، ويدل على كونه فعلًا ماضيًا قراءة {توفتهم} بتاء التأنيث، ويجوز أن يكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين، والأصل: تتوفاهم، {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}: حال من ضمير {تَوَفَّاهُمُ}، والإضافة فيه غير محضة، إذ الأصل ظالمين أنفسهم، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة حال من {الْمَلَائِكَةُ}، ولكنها على تقدير قد؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم. {فِيمَ كُنْتُمْ}: مقول محكي لـ {قَالُوَا}، وإن شئت قلت: {في}: حرف جر، {م}: اسم استفهام في محل الجرب {في} مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، كما قال ابن مالك: وَمَا فِيْ الاسْتِفْهَامِ إِنْ جَرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا وَأوْلهَا الْهَا إنْ تَقِفْ الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا لكان، {كُنْتُمْ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات.

فعل ناقص واسمه، والتقدير: في أي شيء كائنين كنتم، وجملة كان في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والضمير عائد على المتوفين، والجملة الفعلية جواب الاستفهام لا محل لها من الإعراب. {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِين}: فعل ناقص واسمه وخبره. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {مُسْتَضْعَفِينَ}، وجملة كان في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والضمير عائد إلى {الْمَلَائِكَةُ}، والجملة في محل النصب معطوفة بعاطف مقدر على جملة قوله: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {أَلَمْ تَكُنْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، {لم}: حرف جزم، {تَكُنْ}: مجزوم بـ {لم}. {أَرْضُ اللَّهِ}: اسمها ومضاف إليه. {وَاسِعَةً}: خبرها. {فَتُهَاجِرُوا} {الفاء}: عاطفة سببية، {تهاجروا}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام، والواو ضمير متصل فاعل، والجملة من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ألم يثبت كون أرض الله واسعة فمهاجرتكم فيها، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فِيهَا} متعلق بـ {تهاجروا}. {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: رابطة لخبر {إِنَّ} باسمها، لما في الاسم من العموم، {أولئك} في محل الرفع مبتدأ أول، {مَأوَاهُمْ}: مبتدأ ثان ومضاف إليه، {جَهَنَّمُ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الرفع خبر لـ {إنَّ} في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {وَسَاءَتْ} {الواو}: استئنافية، {ساءت}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: هي، يعود إلى جهنم، {مَصِيرًا}: تمييزه والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: هي، وجملة {ساءت} مستأنفة، مسوقة لبيان الذم والقبح. {إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}.

{إِلَّا}: أداة استثناء، {الْمُسْتَضْعَفِينَ}: مستثنى من الضمير في {مَأوَاهُمْ}، كأنه قيل فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا يكون الاستثناء متصلًا، وقيل إن المستثنى منه إما كفار أو عصاة بالتخلف قادرون على الهجرة، فلم يندرج فيهم المستضعفون، فيكون الاستثناء منقطعًا، {مِنَ الرِّجَالِ}: جار ومجرور صفة لـ {الْمُسْتَضْعَفِينَ}. {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}: معطوفان على {الرِّجَالِ}. {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في {الْمُسْتَضْعَفِينَ}. {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}: جملة فعلية معطوفة على جملة {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} من عطف الخاص على العام؛ لأنه من جملة الحيلة. {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: تعليلية، {أولَئِكَ}: مبتدأ. {عَسَى}: من أفعال الرَّجاء تنصب الاسم وترفع الخبر. {اللَّهُ}: اسمها. {أَنْ}. حرف نصب، {يَعْفُوَ}: فعل مضارع منصوب، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ {عَسَى}، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر باسم المعنى عن الذات، تقديره: عسى الله عفوًا عنهم، أو ذا العفو عنهم، وجملة {عَسَى} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل، المدلول عليها بالفاء التعليلية، والتقدير: وإنما استثنيناهم لتحقيق الله وإثباته العفو عنهم. {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {غَفُورًا}: خبر ثان له، وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}. {وَمَن}: {الواو} استئنافية، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يُهَاجِرْ}: فعل شرط مجزوم بـ {من}، وفاعله يعود على {من}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، {يَجِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {مُرَاغَمًا}:

مفعول {يَجِدْ}. {كَثِيرًا}: صفة لـ {مُرَاغَمًا}. {وَسَعَةً}: معطوف على {مُرَاغَمًا}، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. {وَمَن}: {الواو}: عاطفة، {مَن}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يَخْرُجْ}: فعل شرط مجزوم بـ {مَن}، وفاعله ضمير يعود على {من}، {مِنْ بَيْتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَخْرُجْ}، {مُهَاجِرًا} حال من فاعل {يَخْرُجْ}، {إِلَى اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يَخْرُجْ}، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على لفظ الجلالة، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {مَن} الشرطية، على كونه معطوفًا على فعل الشرط، وتقدم لك بيان وجه رفعه ونصبه في مبحث القراءة، فلا عود ولا إعادة، {فَقَدْ}: {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {قد}، {وَقَعَ أَجْرُهُ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب الشرط لها، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {وَقَعَ}، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: فعل ناقص واسمه وخبره: {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يقال: ضرب في الأرض إذا سافر فيها، والضرب في الأرض السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد؛ لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته. {فَتَبَيَّنُوا} تبين من باب تفعل الخماسي الذي هو من مزيد الثلاثي، وفي قراءة {فتثبتوا} بالثاء المثلثة، وهو من باب تفعل أيضًا، وفي "السمين": وتفعل هنا على كلا القراءتين بمعنى استفعل الدال على الطلب؛ أي: اطلبوا التثبت أو البيان. اهـ.

{لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} ألقى هنا ماض اللفظ إلا أنه بمعنى المستقبل؛ أي: لمن يلقي؛ لأن النهي لا يكون عما وقع وانقضى، والماضي إذا وقع صلة .. صلح للمضي والاستقبال. اهـ. "سمين". السلاَم بالأَلِفِ التحية، وقيل الاستسلام والانقياد، والسَلْم بفتح السين وسكون اللام الانقياد فقط، وكذا بالكسر والسكون، والمعنى: انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم، {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر، {الدُّنْيَا} صفة مؤنث على وزن فعلى، مذكره الأدنى؛ أي: الحياة القريبة الزوال، أو الدنيئة الخسيسة لكثرة ما يكدرها، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} المغانم جمع مغنم - مفعل - من غنم الثلاثي، يصلح للزمان والمكان والمصدر، ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر؛ أي: المغنوم، وهو: ما يأخذه الرجل من مال العدو وفي الغزو قهرًا، نحو قولهم هذا ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الضرر يجمع على أضرار، ضد النفع والشدة والضيق وسوء الحال، والنقصان يدخل في الشيء، يقال: ضره يضره ضرًّا وضررا، من باب شد، فهو من المضاعف المعدى، {دَرَجَةً} الدرجة تجمع على درجات الطبقة والرتبة والمنزلة، {أَجْرًا} مصدر أجره أجرًا؛ إذا أعطاه الأجر: وهو ما يعطى في مقابلة العمل الصالح. {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} الحيلة: هي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي، يجمع على حيل، كفيلة تجمع على فيل {مُرَاغَمًا كَثِيرًا}؛ أي: متحولًا (¬1) ينتقل إليه، فهو اسم مكان، وهو بمعنى المهاجر؛ أي: المكان الذي يهاجر إليه وعبر عنه بالمراغم؛ للإشعار بأنَّ المهاجر يرغم أنف قومه؛ أي: يذلهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام بفتح الراء، وهو التراب اهـ أبو السعود". وقال أبو حيان: المراغم (¬2) مكان المراغمة: وهي أن يرغم كل واحد من المتنازعين، بحصوله في منعة منه أنف صاحبه، بأن يغلب على مراده، يقال: ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط.

راغمت فلانًا إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك انتهى. وفي "المصباح": الرغام (¬1) - بالفتح -: التراب، ورغم أنفه رغمًا من باب قتل كناية عن الذل، كأنَّه لصق بالرغام هوانًا، ويتعدى بالألف فيقال: أرغم الله أنفه، وفعلته على رغم أنفه بالفتح والضم؛ أي: على كره منه، وأرغمته غاضبته، وهذا ترغيم له؛ أي: إذلال له، وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء، ولا يراد أعيانها، بل وضعوها لمعان غير معاني الأسماء الظاهرة، ولا حظ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدمي وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال وعدم الاحتفال انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع (¬2): منها: الاستعارة في قوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي قوله: {لَا يَسْتَوِي} عبر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة، وفي قوله: {درجة} حقيقتها في المكان، فعبر به عن المعنى، اقتضى التفضيل، وفي قوله: {يُدْرِكْهُ} استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي قوله: {فَقَدْ وَقَعَ} استعار الوقوع الذي هو من صفات الأجرام؛ لثبوت الأجر. ومنها: التكرار في اسم الله تعالى، و {فَتَبَيَّنُوا} و {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {مَغْفِرَةً} و {غَفُورًا}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} و {عَفُوًّا} وفي قوله: {يُهَاجِرْ} و {مُهَاجِرًا}. ¬

_ (¬1) المصباح المنير. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: إطلاق الجمع على الواحد في قوله: {تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} على قول من قال: إنه ملك الموت وحده. ومنها: الاستفهام المراد به التوبيخ في قوله: {فِيمَ كُنْتُمْ}، وفي قوله: {أَلَمْ تَكُنْ}. ومنا: الإشارة في قوله: {كَذَلِك} وفي: {فَأُولَئِكَ}. ومنها: السؤال والجواب في قوله: {فِيمَ كُنتُمْ} وما بعدها. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لمَّا (¬1) كان الكلام في سابق الآيات في الجهاد والحث عليه؛ لإقامة الدين وحفظه، وإيجاب الهجرة لأجل ذلك، ¬

_ (¬1) المراغي.

وتوبيخ من لم يهاجر من أرض، لا يقدر على إقامة دينه فيها، والجهاد يستلزم السفر .. ذكر هنا أحكام من سافر للجهاد، أو هاجر في سبيل الله تعالى، إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، فبين أنه يجوز له أن يقصر منها، وأن يصلي جماعتها بالطريقة التي ذكرت في الآية الثانية من هذه الآيات. قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا كان (¬1) الكلام فيما سلف في شأن الحرب وما يقع فيها، وبيان كيفية الصلاة في أثنائها وما يلاحظ فيها إذا كان العدو متأهبًا للحرب، من اليقظة وأخذ الحذر، وحمل السلاح في أثنائها، وبين في أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم، وتربصهم غفلتهم، وإهمالهم ليوقعوا بهم .. نهى هنا عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم؛ لأن ما في القتال من الألم والمشقة يستوي فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء في ربه ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر والمعونة، ويعتقد أنَّه قادر على إنجاز وعده، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه في سبيله، وقوة الرجاء تخفف الآلام وتنسيه التعب والنصب. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لمَّا (¬2) حذر المؤمنين من المنافقين أعداء الحق، وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الدين والحق، ويهلكوا أهله .. أمرهم هنا أن يقوا بحفظ الحق، وأن لا يحابوا فيه أحدًا. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنَّه لما صرح بأحوال المنافقين، واتصل بذلك أمرُ المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية .. رجع إلى أحوال المنافقين؛ فإنَّهم خانوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما ينبغي، فأطلعه الله تعالى على ذلك، وأمره أن لا يلتفت إليهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير عن علي قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إنَّا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. ثم انقطع الوحي، فلمَّا كان بعد ذلك بحول .. غزا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} إلى قوله تعالى: {عَذَابًا مُهِينًا} فنزلت صلاة الخوف. وأخرج أحمد والحاكم وصححه البيهقي في "الدلائل" عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} فحضرت، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوا السلاح، قال: فصففنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا .. الحديث، وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس. قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ...} الآية، أخرج البخاري عن ابن عباس قال نزلت {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} في عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي (¬2) ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

والحاكم وغيرهما، عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق - بشر وبشير ومبشر - وكان بشير رجلًا منافقًا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ينحله بعض العرب يقول: قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإِسلام، وكان الناس إنَّما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملًا من الدرمك - الدقيق الأبيض - فجعله في مشربة له فيها سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي إنَّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار، وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، فقال: بنو أبيرق ونحن نسأل في الدار، والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق، والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، فأتيته فقلت: أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأمَّا الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سأنظر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلًا منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَد إلى أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا تثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} بني أبيرق {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ}؛ أي: مما قلت لقتادة إلى قوله: {عَظِيمًا} فلما نزل القرآن أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة، ولحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد، فأنزل الله عز وجل: {وَمَن

[101]

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ...} إلى قوله: {ضَلَالًا بَعِيدًا}. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على عُليَّة رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها، وأخذ طعامًا له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فدعا بشيرًا فسأله، فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلًا من أهل الدار ذا حسب ونسب، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ...} الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه .. هرب إلى مكة مرتدًا، فنزل على سلافة بنت سعد، فجعل يقع في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المسلمين فنزل فيه: {وَمَن يشَاقِقِ اَلرَّسُولَ ...} الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة. التفسير وأوجه القراءة 101 - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} وسافرتم أيها المؤمنون للغزو أو للتجارة أو غيرهما {فِي} بعض نواحي {الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} لا حرج ولا إثم في {أنْ تَقْصُرُوا} وتنقصوا، وتتركوا ركعتين {مِنَ} عدد ركعات {الصَّلَاة} الرباعية التي تصلونها في الحضر، بأن تصلوا الظهر والعصر والعشاء ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ} وخشيتم {أَنْ يَفْتِنَكُمُ}؛ أي: أن يقصدكم {الَّذِينَ كَفَرُوا} بفتنة وأذية، من قتل أو جرح أو أخذ في حال إتمامكم الصلاة، وذكر الخوف ليس للشرط والقيد، وإنَّما هو لبيان الواقع، حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو؛ لكثرة المشركين وقتئذ، ويؤيده حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} وقد أمن؟ فقال: عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم وأصحاب السنن. قال ابن كثير: وأمَّا قوله (¬1): {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد يكون هذا خرج ¬

_ (¬1) ابن كثير.

مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإِسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} وكقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} .. الآية. وقد تقرر بالسنة المطهرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر مع الأمن، ففي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم -: "سافر بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله عز وجل، فكان يصلي ركعتين" فالقصر (¬1) مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - من القصر مع الأمن فحينئذ فالقصر في السفر رخصة، سواء وجد خوف أم لا، ويدل على أن قيد الخوف لا مفهوم له قراءة أبي: {أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا} بسقوط: {إنْ خفتم} والمعنى على هذه القراءة: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وقرأ (¬2) الزهري {تقصِّروا} مشددًا، وقرأ ابن عباس {أن تقصروا رباعيا} وبه قرأ الضبي عن رجاله، وقرأ أبي وعبد الله: {أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم} بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى؛ أي: مخافة أن يفتنكم، كما مر آنفًا. ويؤخذ من قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أنَّه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي؛ لأن {لَّا جُنَاحَ} يستعمل في موضع التخفيف والرخصة، لا في موضع العزيمة، بخلاف أبي حنيفة فإن القصر واجب عنده. {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} أي: ظاهري العداوة، فتحرزوا عنهم؛ أي: إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين، وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة قصدوا إتلافكم إن قدروا، فإنْ طالت صلاتكم .. فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فلأجل هذا رخصت لكم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

في قصر الصلاة، لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلًا، وإنَّما قال: {عَدُوًّا} ولم يقل: أعداء؛ لأنه يستوي فيه الواحد والجمع. فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل المسألة الأولى في حكم القصر: قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة، وإنَّما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر، فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أخرجاه في "الصحيحين". وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر، ولكن القصر أفضل، يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وهو رواية عن مالك أيضًا، ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قصر وأتمّ. وعن عائشة أنَّها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة .. قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت، قال: "أحسنت يا عائشة، وما عاب علي. أخرجه النسائي، وظاهر القرآن يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. ولفظة {لَّا جُنَاحٌ} إنَّما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتمًا كما مر، وأجيب عن حديث عائشة (فرض الله الصلاة ركعتين) بأن معناه: فرضت ركعتين أولًا، وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها، وثبت جواز الإتمام بدليل آخر، فوجب المصير إليه، ليمكن الجمع بين دلائل الشرع.

المسألة الثانية: اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين، هل هي مقصورة أم غير مقصورة؟ فذهب قوم إلى أنَّها غير مقصورة؛ وإنَّما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر، يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله، وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدى وأبو حنيفة، فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية: هو تخفيف ركوعها وسجودها، ولكن يعارض هذا المعنى لفظة {مِنَ} في الآية أعني قوله: {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} لأن لفظة {مِنَ} للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض ركعات الصلاة، وذهب قوم إلى أنَّها مقصورة وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. المسألة الثالثة: ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور إلى أنَّه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، أو سفر طاعة كطلب العلم، ولا يجوز القصر في سفر المعصية، كسفر ناشزة وآبق وقاطع طريق، وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز ذلك. المسألة الرابعة: اختلف العلماء في مسافة القصر، فقال داود الظاهري وأهل الظاهر: يجوز القصر في قصير السفر وطويله، ويروى ذلك عن أنس أيضًا، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة. وأما عامة أهل العلم فإنَّهم لا يجوِّزون القصر في السفر القصير، واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر، فقال الأوزاعي: مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في رمضان في مسيرة أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، وقدر هذه المسافة المرحوم أحمد الحسيني بك في كتابه "دليل المسافر" بنحو (89 ك م)، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، فإنهما قالا: مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي فقال: مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخًا، كل فرسخ ثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرين إصبعًا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة: لا قصر في

[102]

أقل من ثلاثة أيام. 102 - ثم شرع الله سبحانه وتعالى في بيان كيفية صلاة الخوف فقال: {وَإِذَا كُنْتَ} يا محمد {فِيهِمْ}؛ أي: في جماعتك من المؤمنين في حالة خوفهم من الأعداء {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}؛ أي: فأردت أن تقيم الصلاة إمامًا لهم، فاجعلهم طائفتين {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}؛ أي: فلتقف فرقة واحدة من الفرقتين منهم وراءك ليصلوا {مَعَكَ} الركعة الأولى من الثنائية، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوا المصلين معك، خوفًا من هجوم العدو على المصلين، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، {فلتقم} بكسر اللام، {وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}؛ أي: وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، ولا يدعوها وقت الصلاة، فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط، وأمنع للعدو من الإقدام عليهم {فَإِذَا سَجَدُوا}؛ أي: فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة {فَلْيَكُونُوا}؛ أي: فليكن الذي يحرسونكم {مِنْ وَرَائِكُمْ}؛ أي: من خلفكم؛ أي: من خلف المصلين معك، إذ أحوج ما يكون المصلي للحراسة حين السجود؛ لأنَّه لا يرى من يهم به، ويجب حينئذ أن يكون الحارسون مستعدين للقيام مقام المصلين، ليصلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعة الثانية، كما صلت الفرقة الأولى الركعة الأولى معه، أو المعنى: {فَإِذَا سَجَدُوا}؛ أي: فإذا سجد المصلون معك وأتموا صلاتهم بعد نية المفارقة .. {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}؛ أي: فلينصرفوا إلى مصاف أصحابهم بإزاء العدو للحراسة من ورائكم، ثم يبقى الإِمام قائمًا في الركعة الثانية {وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى}؛ أي: ولتجيء الطائفة الأخرى الذين {لَمْ يُصَلُّوا} معك في الركعة الأولى لاشتغالهم بالحراسة. وقرأ أبو حيوة: {وليأت} بالياء التحتانية على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو في إدغام التاء في الطاء. {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} في الركعة الثانية كما صلت الطائفة الأولى معك الركعة الأولى، ثم يجلس الإِمام منتظرًا لهم في التشهد إلى أن يصلوا ركعة ثانية، ثم يسلم الإِمام بهم {وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ}؛ أي: ولتأخذ هذه الطائفة الثانية حذرهم واحتياطهم للعدو، وانتباههم وتيقظهم له {وَأَسْلِحَتَهُمْ} معهم في الصلاة، كما فعل الذين من قبلهم، وإنَّما أمر بالحذر هنا؛

لأن العدو لم يتنبه للمسلمين في أول الصلاة، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة والنزال، فإذا قاموا للركعة الثانية .. ظهر للكفار كونهم في الصلاة، فحينئذ ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فخص الله تعالى هذه الطائفة بزيادة الحذر من الكفار. والمعنى: وليكونوا حذرين من عدوهم، متسلحين لقتالهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة بقوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل عليكم {لَوْ تَغْفُلُونَ} وتنشغلون وتعرضون {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} التي تقاتلونهم بها {و} عن {أمتعتكم} التي بها بلاغكم وحياتكم في سفركم، بأن تشغلكم صلاتكم عنها. وقرىء: {وأمتعاتكم} وهو شاذ، إذ هو جمع الجمع {فَيَمِيلُونَ} حينئذ {عَلَيْكُمْ مَيْلَةً}؛ أي: يهجمون ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرة، فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا نهبه، فلا تغفلوا عنهم. والمعنى: تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم، فيشدون عليكم شدة واحدة، ويأخذونكم بالدفعة، وهذا بيان ما لأجله أمروا بأخذ السلاح، {وَلَا جُنَاحَ}؛ أي: ولا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ}؛ أي: إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه، فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربَّما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ {أَوْ} إن {كُنْتُمْ مَرْضَى} بالجراح أو بغير الجراح من العلل في {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} على الأرض، وتتركوا حملها رخصة لكم في وضعها، إذا ثقل عليكم حملها بسبب مطر أو مرض؛ لأن السلاح يثقل على المريض، ويفسد في المطر، والمعنى: لا وزر عليكم في وضع الأسلحة، وترك حملها إنْ تعذر عليكم حملها، إما لثقلها بسبب مطر أو مرض، أو لإيذاء من في الجنب {و} لكن {خذوا حذركم}؛ أي: احترازكم من عدوكم وراقبوه ولا تغفلوا عنه؛ أي: ولكن يجب عليكم في جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم، ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم

وأمتعتكم؛ فإن عدوكم لا يغفل عنكم، ولا يرحمكم، والضرورات تقدر بقدرها. وهذه الآية تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء، والاحتراز عن الوباء، وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبًا والله أعلم، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {أَعَدَّ} وهيأ {لِلْكَافِرِينَ} باللهِ تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - {عَذَابًا مُهِينًا}؛ أي: ذا إهانة وإذلال لهم في الدنيا، بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب، كي يحل بهم عذابه تعالى بأيديكم بالقتل والأسر والنهب، فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين، وانتصارهم عليهم، إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به، ويؤيده قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}. فصل في كيفية صلاة الخوف واعلم: أنه دلت (¬1) هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه، ولا كيفية إتمامهم، وإنَّما جاء ذلك في السنة، ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار؛ لأنَّها مبينة ما أجمل القرآن: الكيفية الأولى: صلت طائفة معه وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم، ويذهبوا وجاه العدو، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولًا، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانت بذات الرقاع. الكيفية الثانية: كالأولى إلا أنَّه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه، وهذه مروية في ذات الرقاع أيضًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الكيفية الثالثة: صف العسكر خلفه صفين، ثم كبر وكبروا جميعًا، وركعوا معه، ورفعوا من الركوع جميعًا، ثم سجد هو بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا .. سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصافِّ المتقدمين، وتأخر المتقدمون إلى مصافِّ المتأخرين، ثم ركعوا معه جميعًا، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه، فلما صلى .. سجد الآخرون، ثم سلم بهم جميعًا، وهذه صلاته بعسفان، والعدو في قبلته. الكيفية الرابعة: مثل هذه إلا أنَّه ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين. الكيفية الخامسة: صلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم قضى بهؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة في حين واحد. الكيفية السادسة: يصلي بطائفة ركعة، ثم ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى، فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا .. ساروا تجاه العدو، وقضت الأخرى. الكيفية السابعة: صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئًا زائدًا على ركعة واحدة. الكيفية الثامنة: صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، فكانت له أربع ولكل رجل ركعتان. الكيفية التاسعة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة، إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه بازاء العدو وتأتي الأولى، فتؤدي الركعة بغير قراءة، وتتم صلاتها، ثم تحرس، وتأتي الأخرى، فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها، وكذا في المغرب، إلا أنَّه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. الكيفية العاشرة: قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى القبلة فكبرت الطائفتان معه، ثم ركع وركع معه اللذين معه، وسجدوا كذلك،

[103]

ثم قام، فسارت التي معه إلى إزاء العدو، وأقبلت التي كانت بإزاء العدو، فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى، وركعوا معه وسجدوا معه، ثم أقبلت التي بإزاء العدو، فركعوا وسجدوا وهو قاعد، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعًا، وهذه كانت في غزوة نجد. الكيفية الحادية عشرة: صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم ركعتين وسلم، وهذه كانت ببطن نخل. واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله: إنه ما صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مرتين، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة، وذكر ابن عباس: أنَّه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف، وقال أبو بكر بن العربي: روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه صلى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة؛ أي: كيفية. وقال ابن حنبل: لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث صحيح، فعلى أي حديث صليت أجزأ، وكذا قال الطبري. ذكره أبو حيان في "البحر". 103 - {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}؛ أي: فإذا أديتم صلاة الخوف على هذه الكيفية وفرغتم منها {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}؛ أي: فداوموا على ذكر الله تعالى في أنفسكم، بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا، وقيل الثواب في الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء حالة كونكم {قِيَامًا وَقُعُودًا}؛ أي: قائمين وقاعدين {و} مضطجعين {على جنوبكم}؛ أي: داوموا على ذكره تعالى في كل حال تكونون عليها، من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، فذكر الله تعالى مما يقوي القلوب، ويعلي الهمم، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة، ومشاقها سهلة، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر، كما قال تعالى في سورة الأنفال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. والخلاصة: أننا إذا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب، كما يدل على ذلك السياق .. فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم؛ لأن المؤمنين في جهاد مستمر وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون

الأهواء، ومن ثم أمرهم الله تعالى بالذكر في كثير من الآي، كقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} لما في ذلك من تربية النفس وصفاء الروح، وتذكر جلال الله وعظمته، وأن كل شيء هين في سبيله، وابتغاء مرضاته. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر فإنَّ الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}؛ أي: بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. اهـ. {فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ}؛ أي: فإذا سكنت قلوبكم من الخوف، وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: فأدوا الصلاة المفروضة بتعديل أركانها، ومراعاة شرائطها، ولا تقصروا من هيآتها المعهودة، كما أذن لكم في حال الحرب. وقيل معنى الآية (¬1): فإذا أردتم أداء الصلاة .. فصلوا قيامًا حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودًا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالمراماة، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا زال الخوف عنكم بانقضاء الحرب .. فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال، وهذا ظاهر على مذهب الشافعي من إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة إذا حضر وقتها، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء. وقال ابن عباس: أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف .. فصلوا لله قيامًا للصحيح، وقعودًا للمريض، وعلى الجُنوب للجريح والمريض، فإذا ذهب منكم الخوف، ورجعتم إلى منازلكم .. فأتموا الصلاة أربعًا. ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف، ولو مع ¬

_ (¬1) المراح.

[104]

القصر منها، فقال {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ} في حكم الله تعالى {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}؛ أي: فرضًا مؤكدًا عليهم في أوقات محدودة، لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان، فأداؤها في أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة. والحكمة في توقيتها في تلك الأوقات المعلومة: أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس، إلى ما في هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإِسلامية بأن تلتزم أداء أعمالها في أوقات معينة، مع عدم الهوادة فيها، ومن قصر فيها في تلك الأوقات الخمسة في اليوم والليلة .. فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق في بحار الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يكتفي بهذا القدر القليل من ذكر الله تعالى ومناجاته، بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد. والخلاصة: أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة؛ لتكون مذكرة للمؤمن بربه في الأوقات المختلفة، لئلا تحمله الغفلة على الشر، أو التقصير في الخير، ولمن يريد الكمال في النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله. 104 - {وَلَا تَهِنُوا}؛ أي: ولا تضعفوا أيها المؤمنون، {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}؛ أي: في طلب القوم الكفار الذين ناصبوكم وظاهروكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة، مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وهذا في معنى الأمر بالهجوم عليهم؛ أي: لا تعجزوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال، نزلت (¬1) هذه الآية في شأن بدر الصغرى، وذلك لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه، فشكوا الجراحات حين رجعوا من أحد. وسر هذا: أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته، وتعلو همته، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب .. فإنه يكون خاثر العزيمة ضعيف القوة، {إِنْ تَكُونُوا} أيها المؤمنون {تَألَمُونَ}؛ أي: إن كنتم تتوجعون بالجراح {فَإِنَّهُمْ}؛ ¬

_ (¬1) المراح.

أي: فإن الأعداء {يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ}؛ أي: يتوجعون بالجراح كما تتوجعون أنتم، فحصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم، فلم يكن خوف الألم مانعًا لهم من قتالكم، فكيف يكون مانعًا لكم من قتالهم؛ أي: إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله، فهم بشر مثلكم، وهم مع هذا يصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر، وبين سبب هذا بقوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}؛ أي: وأنتم ترجون من الله ثوابه، وتخافون عذابه؛ لأنكم تعبدون الله تعالى والمشركون يعبدون الأصنام، فلا يصح منهم أن يرجوا منها ثوابًا، أو يخافوا منها عقابًا، فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب، وأصبر عليها، أو المعنى (¬1): {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل، والنعم المقيم في الآخرة، كما أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين، النصر أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه، ودافعتم عن حماه، وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرَّجاء والأمل، ويضاعفان العزيمة، ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات، أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة، يغلب عليه الجزع والفتور، فإن تساويتم في الآلام فقد فضلتموهم في الثقة بحسن العاقبة، فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة، فإن أنفسكم قوية؛ لأنها ترى الموت مغنمًا، وهم يرونه مغرمًا، وقرأ الحسن (¬2): {تَهِنُوا} بفتح الهاء، وهي لغة، فتحت الهاء كما فتحت قال يدع، لأجل حرف الحلق. وقرأ عبيد بن عمير: {ولا تهانوا} من الإهانة، وقرأ الأعرج: {أن تكونوا تألمون} بفتح الهمزة على المفعول من أجله، وقرأ ابن المسيفع {تِئْلمون} بكسر التاء، وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر: {تسئلمون} بكسر تاء المضارعة في الموضعين ويائها وهي لغة. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بنياتكم {حَكِيمًا} فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئًا إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم، وقد ثبت في واسع علمه ومضت به سننه أن العاقة للمتقين، والنصرة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[105]

لهم على الكافزين، ما داموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل، من الأخذ بالأسباب وكثرة العَدَد والعُدَد، فإذا هم فعلوا ذلك .. كانوا أشد منهم قتالًا، وأحسن منهم نظامًا، وبذا يفوزون بالمطلوب، وبحسن العاقبة، 105 - {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ}؛ أي: هذا القرآن حالة كونه متلبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بتحقيق الحق وبيانه، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}؛ أي: لأجل أن تحكم بين الناس {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: بما أعلمك الله تعالى به في هذا الكتاب من الأحكام وأوحى به إليك، {وَلَا تَكُن} يا محمد {لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}؛ أي: لا تكن مدافعًا ومخاصمًا عن الخائنين، تجادل وتدافع عنهم، والمراد بهم طعمة بن أبيرق وجماعته، بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، كما أخرجه الترمذي من حديث قتادة بن النعمان؛ أي: لا تكن مخاصمًا لمن كان بريئًا من الذنب والسرقة، وهو اليهودي زيد بن سمين، لأجل الدفع عن الخائنين، وهم طعمة وقومه، اعتمادًا على شهادتهم بالزور بأن اليهودي هو السارق لا هم. وخلاصة ذلك: أن عليك أن لا تتهاون في تحري الحق اغترارًا بلحن الخائنين، وقوة جدلهم في الخصومة، لئلا تكون خصيمًا لهم، وتقع في ورطة الدفاع عنهم، ويؤيد هذا حديث أم سلمة: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا .. فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار". 106 - {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، مما هممت به من القضاء على اليهودي بقطع يده، تعويلًا على شهادتهم الكاذبة، أو المعنى: واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم، بالميل إلى من تراه ألحن بحجته، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينًا للظن به، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبًا يوجب الاستغفار، وإن لم يكن متعمدًا للزيغ عن العدل والتحيز للخصم، وفي هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى، حتى كان مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه، كما أن فيه إيماء إلى أن

[107]

القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل عليه أن يساوي بين المتخاصمين في كل شيء، ثم رغبهم في المغفرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: مبالغًا في المغفرة والرحمة لمن استغفره واسترحمه. 107 - {وَلَا تُجَادِلْ}؛ أي: لا تخاصم يا محمد ولا تدافع {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: يخونون أنفسهم بالمعاصي. وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم؛ لأن ضررها عائد إليهم، وهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقًا. ووجه هذا الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعدل الناس وأكملهم، مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة في كثير من الحكام. وخلاصة المعنى: لا تدافع عن هؤلاء الخونة، ولا تساعدهم عند التخاصم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى يبغض و {لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}؛ أي: كثير الخيانة {أَثِيمًا}؛ أي: كثير الإثم فإن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة، وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع السرقة عنه، ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطالها وإظهار كذبه .. فهو كافر، والمراد بعدم الحب البغض والسخط؛ أي: إن الله تعالى يبغض من اعتاد الخيانة، وألفت نفسه اجتراح السيئات، وضربت عليها، ولم يعد للعقاب الإلهي الرهبة والخشية، التي ينبغي أن يفكر مثله فيها، وإنما يحب الله سبحانه وتعالى أهل الأمانة والاستقامة، 108 - ثم بين أحوال الخائنين ونعى عليهم أفعالهم فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}؛ أي: يستترون من الناس حياء وخوفًا من ضررهم، {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: لا يستترون من الله، أو لا يستحيون منه تعالى، {وَهُوَ مَعَهُمْ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى مع أولئك الخائنين بعلمه ورؤيته وقدرته، {إِذْ يُبَيِّتُونَ}؛ أي: إذ يدبرون في الليل بينهم، {مَا لَا يَرْضَى} الله سبحانه، ولا يحبه {مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: من الرأي الذي أداروه بينهم، وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم: نرفع الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يسمع قول طعمة، ويقبل يمينه على أنه لم يسرق؛ لأنه مسلم، ولا يقبل قول اليهودي؛ لأنه كافر، فلم يرض الله ذلك منهم، فأطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - على سرهم، وما هموا به وسمى تدبيرهم تبييتًا؛ لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل، وسماه قولًا؛ لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم.

[109]

وحاصل المعنى: أن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام، إما حياء، وإما خوفًا من ضررهم، ولا يستترون من الله، ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب، ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة، أو جهالة عارضة لا تدوم، فمن يعلم أن الله يراه في حنادس الظلمات .. لا بد أن يترك الذنب والخيانة، حياء منه تعالى، وخوفًا من عقابه، وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلًا ما لا يرضى من القول، تبرئة لأنفسهم، ورمي غيرهم بجريمتهم. ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال: {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}؛ أي: حافظًا لأعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه، 109 - ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} ها حرف تنبيه، والخطاب فيه لقوم من المؤمنين، كانوا يذبون عن طعمة وقومه؛ أي: انتبهوا يا هؤلاء القوم الذي يذبون ويدافعون عن طعمة وقومه، أنتم {جَادَلْتُمْ} وخاصمتم {عَنْهُمْ}؛ أي: عن القوم الخائنين طعمة وقومه، وحاولتم تبرئتهم، وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: {عنه} بالإفراد؛ أي: عن طعمة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عند تعذيبهم بذنوبهم يوم الخصم، والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم، وأحوالهم وأحوال الخلق كافة، {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}؛ أي: مجادلًا ومخاصمًا، والوكيل في الأصل القائم بتدبير الأمور، والمعنى: من ذا الذي يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه، والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ؛ أي: فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم، ولا أن يكون وكيلًا بالخصومة لهم، فيدافع عنهم العذاب، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك، ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه أن يظفر به في الآخرة {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. وفي الآية (¬1): إيماء إلى أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن ¬

_ (¬1) المراغي.

[110]

يأخذ به، إذا علم أنه حكم له بغير حقه، كما أن فيها توبيخًا وتقريعًا لأولئك الذين أرادوا مساعدة أبيرق على اليهودي. 110 - ثم رغِّب في التوبة من الذنوب وحثَّ عليها فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا}؛ أي: قبيحًا يسوء ويحزن به غيره، كما فعل طعمة من سرقة الدرع لقتادة، ومن رمي اليهودي بالسرقة، {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بفعل معصية تختص به، كالحلف الكاذب {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} من ذلك السوء والظلم بالتوبة الصادقة، {يَجِدِ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا}؛ أي: غفارًا لذنوبه {رَحِيمًا}؛ أي: متفضلًا عليه بالعفو والمغفرة حيث قبل توبته، وهذه (¬1) الآية دلت على أن التوبة مقبولة من جميع الذنوب، سواء كانت كفرًا أو قتلًا عمدًا أو غصبًا للأموال؛ لأن السوء وظلم النفس يعم الكل، والمراد بوجدان الله غفورًا رحيمًا هو: أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه، بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة، التي تطهر النفس، وتزيل الدرن عنها. وفي ذلك ترغيب وحث لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار، كما أن فيها بيانًا للمخرج من الذنب بعد وقوعه، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما، وهما أسس الشرائع، 111 - ثم حذر من فعل الذنوب والآثام، وذكر عظيم ضررها فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا}؛ أي: يعمل ذنبًا {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} فلا يتعدى ضرره إلى غيره، فليتحرز عن إقبال نفسه للعقاب عاجلًا وآجلًا، والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الله تعالى بذلك، وهذا إجمال بعد تفصيل، والمعنى (¬2): ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به .. فإنما كسبه وبال على نفسه، وضرر لا نفع له فيه، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام في الدنيا والآخرة، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم العادل، كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات، ومن خزي في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون ¬

_ (¬1) كرخي. (¬2) المراغي.

[112]

إلا من أتى الله بقلب سليم، {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة {حَكِيمًا} تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب، وأن لا يحمل نفسًا وازرة وزر نفس أخرى، أو المعنى: إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابًا يضر المتجاوز لها، فهو إذًا يضر نفسه، ولا يضر الله شيئًا. 112 - {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً}؛ أي: ومن يكسب ذنبًا خطأ بلا تعمد أو صغيرة أو قاصرة على الفاعل، أو ما لا ينبغي فعله بالعمد أو بالخطأ، أو ذنبًا بينه وبين الله تعالى، يعني يمينه الكاذبة. وقرأ معاذ بن جبل: {ومن يكسب} بكسر الكاف وتشديد السين، وأصله يكتسب. وقرأ الزهري {خطية} بالتشديد، {أَوْ إِثْمًا}؛ أي: كبيرة، أو ما يتعدى إلى الغير، كالظلم والقتل، أو ما يحصل بالعمد، أو ذنبًا بينه وبين الناس، يعني سرقته ورميه اليهودي، {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ}؛ أي: يقذف بذلك الذنب شخصًا {بَرِيئًا} منه كما فعل طعمة حين رمى اليهودي بالسرقة ولم يسرق. فإن قلت (¬1): الخطيئة والإثم شيئان، فكيف وحد الضمير في قوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ}؟. قلت: معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئًا، وقيل: معناه ثم يرم بهما، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، وقيل: إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده؛ لأنه أقرب مذكور، وقيل: إن الضمير يعود إلى الكسب، ومعناه: ثم يرم بما كسب بريئًا؛ أي: ومن يكسب خطيئة أو إثمًا، ثم يبرىء نفسه منه، وينسبه إلى شخص بريء منه، ويزعم أنه هو الذي كسبه .. {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}؛ أي: فقد كلف نفسه يحمل وزر البهتان والكذب العظيم، وحمل وزر الذنب المبين الظاهر بافترائه على البريء، واتهامه إياه؛ أي: فقد (¬2) أوجب على نفسه عقوبة بهتان عظيم، وعقوبة ذنب بين، فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر، وهو بريء منه، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

[113]

فصاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم، ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله: {بُهْتَانًا} إشارة إلى الذم العظيم في الدنيا، وقوله: {وَإِثْمًا مُبِينًا} إشارة إلى العقاب الشديد في الآخرة، ولما (¬1) كانت الذنوب لازمة لفاعلها .. كانت كالثقل الذي يحمل، فعبر عنه باحتمل، ومثله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين، وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت به الشريعة. 113 - وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم، ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن الحق .. بيَّن فضله ونعمته عليه، فقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى وإحسانه {عَلَيْكَ} يا محمد بالنبوة، والتأييد بالعصمة {وَرَحْمَتُهُ} لك ببيان حقيقة الواقع وما هم عليه بالوحي، {لَهَمَّتْ} وقصدت {طَائِفَةٌ}؛ أي: جماعة {مِنْهُمْ}؛ أي: من الخائنين قوم طعمة {أنْ يُضِلُّوكَ}؛ أي: أن يخطئوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، ويوقعوك في الحكم الباطل، وذلك لأن قوم طعمة قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ولكنه قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به، جاءك الوحي ببيان الحق، وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: ما يضلون أحدًا إلا أنفسهم بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان؛ لأن وبال ذلك عائد عليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ} يا محمد {مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه سبحانه وتعالى هو عاصمك من الناس، فإنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل .. فأنت ما وقعت فيه؛ لأنك عملت بالظاهر، ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، {وَأَنْزَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ}؛ أي: القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، {و} أوحى إليك ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{الحكمة}؛ أي: السنة؛ أي: فكيف يضلونك وقد أنزل الله تعالى إليك الكتاب والحكمة، وقيل: الحكمة فقه مقاصد الدين وأسراره، ووجه موافقتها للفطرة، وانطباقها على سنن الاجتماع البشري ومصالح الناس في كل زمان ومكان {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من أمور الدين، وأسرار الكتاب والحكمة، وأخبار الأولين، وحيل المنافقين {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، واختصك بنعم كثيرة، ومزايا لا تدخل تحت حصر، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرًا له، كما يجب على أمتك مثل ذلك؛ ليكونوا خير أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم في جميع الخيرات. وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف المناقب والفضائل، مع أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل. الإعراب {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {ضَرَبْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، على كونه فعل شرط لها، {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق به، {فَلَيْسَ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، لكون الجواب جملة جامدية، {ليس}: فعل ماض ناقص، {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {ليس}. {جُنَاحٌ}: اسم {ليس} مؤخر، وجملة {ليس} من اسمها وخبرها جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إذا} مستأنفة، {أَنْ تَقْصُرُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {مِنَ} زائدة على مذهب الأخفش. {الصَّلَاةِ}: مفعول به، و {من}: تبعيضية على مذهب الجمهور من عدم زيادتها في الإثبات، متعلقة بـ {تَقْصُرُوا}، وصفة لمحذوف عند سيبويه؛ أي شيئًا من الصلاة، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فليس عليكم جناح في قصر الصلاة. {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}.

{إِنْ خِفْتُمْ}: حرف شرط وفعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} معلوم مما قبلها، تقديره: فليس عليكم جناح في قصر الصلاة، وجملة {إِنْ} الشرطية قيد لا مفهوم لها، ومستأنفة لا محل لها. {أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ} ناصب وفعل ومفعول وفاعل، وجملة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن خفتم فتنة الذين كفروا إياكم، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ الْكَافِرِينَ} حرف نصب واسمها، {كَانُوا} خبرها. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بكان أو حال من {عَدُوًّا} وهو خبر كان، {مُبِينًا}: صفة {عَدُوًّا}، وجملة كان في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}. {وَإِذَا} {الواو} استئنافية، {وَإِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، {فِيهِمْ}: خبره، وجملة كان في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، {فَأَقَمْتَ}: عاطف وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة كان، {لَهُمُ}: متعلق بـ {أقمت}، {الصَّلَاةَ}: مفعول به، {فَلْتَقُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {لتقم طائفة}: جازم وفعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة {طَائِفَةٌ}، {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه حال من {طَائِفَةٌ} لوصفه بالجار والمجرور، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، {وَلْيَأخُذُوا}: جازم وفعل وفاعل، {أسْلِحَتَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {فَلْتَقُمْ} على كونها جواب {إِذَا}، {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {سَجَدُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا}، {فَلْيَكُونُوا}: الفاء: رابطة لجواب {إِذَا}، {يَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ وَرَائِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر كان، وجملة كان جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة

{إذا} معطوفة على جملة قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}، {وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ}: جازم وفعل وفاعل، {أُخْرَى}: صفة لـ {طَائِفَةٌ}، والجملة معطوفة على جملة {فَلْيَكُونُوا}، {لَمْ يُصَلُّوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة صفة ثانية لـ {طَائِفَةٌ} أو حال منها؛ لأنها تخصصت بالصفة، {فَلْيُصَلُّوا}: عاطف وجازم، وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلْتَأتِ}، {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه حال من فاعل {يُصَلُّوا}، {وَلْيَأخُذُوا}: جازم وفعل وفاعل معطوف على {فَلْيُصَلُّوا}، {حِذْرَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {وَأَسْلِحَتَهُمْ}: معطوف على {حِذْرَهُمْ}. {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}. {وَدَّ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {لَوْ}: حرف مصدر {تَغْفُلُونَ}: فعل وفاعل، {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَغْفُلُونَ}، {وَأَمْتِعَتِكُمْ}: معطوف على {أَسْلِحَتِكُمْ}، والجملة الفعلية صلة {لَوْ} المصدرية، {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ود الذين كفروا غفلتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم، {فَيَمِيلُونَ}: عاطف وفعل وفاعل، {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، {مَيْلَةً}: مفعول مطلق، {وَاحِدَةً}: صفة لـ {مَيْلَةً} والجملة الفعلية معطوفة على جملة {تَغْفُلُونَ} على كونها صلة لـ {لَوْ}: المصدرية، والتقدير: ود الذين كفروا غفلتكم عن أسلحتكم فميلهم عليكم، {وَلَا}: {الواو}: استئنافية، {لا}: نافية، {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها، {عَلَيْكُمْ}؛ خبرها، والجملة مستأنفة. {إِن}: حرف شرط، {كاَنَ}: فعل ناقص، {بِكُمْ}: جار ومجرور، خبر {كَانَ} مقدم على اسمها، {أَذًى}: اسم {كاَنَ}، {مِنْ مَطَرٍ}: صفة لـ {أَذًى}، والتقدير: إن كان أذى من مطر واقعًا بكم، وجملة {كان} في محل الجزم فعل شرط لـ {إن}، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن كان بكم أذى من مطر فلا جناح عليكم، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة، {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى}،

فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على قوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ}، {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في وضعكم أسلحتكم، والجار المحذوف حال من الضمير المستكن في خبر {لا}، أو خبر ثان لـ {لَا}، والتقدير: لا جناح كائن هو عليكم حالة كونه في وضعكم أسلحتكم، {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمها، {أَعَدْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اَللهَ}، {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {أَعَدَّ} أو حال من {عَذَابًا}، {عَذَابًا}: مفعول {أَعَدَّ}، {مُهِينًا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}. {فَإذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كيفية صلاة الخوف، وأردتم بيان ما هو أصلح لكم بعد الفراغ من الصلاة .. فأقول لكم، {إذا قضيتم}: {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، {فَاذْكُرُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {اذكروا الله} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {قِيَامًا} حال من فاعل {اذكروا}، {وَقُعُودًا}: معطوف عليه، {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}: متعلق بمحذوف معطوف على {قِيَامًا} على كونه حالًا من فاعل {ذكروا} تقديره: ومضطجعين على جنوبكم، {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت على شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما تشتغلون بعد قضاء الصلاة وانتهائها، وأردتم بيان ما هو لازم لكم بعد الاطمئنان، وزوال الخوف عنكم .. فأقول لكم، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {اطْمَأنَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في

محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، {فَأَقِيمُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {أقيموا}: فعل وفاعل، {الصَّلَاةَ}: مفعول به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّ الصَّلَاةَ}: ناصب واسمه، {كَانَتْ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على {الصَّلَاةَ}، {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: حال من {كِتَابًا}، {كِتَابًا}: خبر كان، {مَوْقُوتًا}: صفة لـ {كتابا} وجملة كان في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية، {وَلَا تَهِنُوا}: جازم وفعل وفاعل والجملة مستأنفة، {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَهِنُوا}، {إن}: حرف شرط، {تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه: مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {تَألَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر كان، {فَإِنَّهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} وجوبًا، {إنهم} ناصب واسمه، وجملة {يَألَمُونَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معللة للنهي السابق قبلها، أعني قوله: {وَلَا تَهِنُوا}، {كَمَا} {الكاف}: حرف جر، {ما}: مصدرية، {تَألَمُونَ}: فعل وفاعل، صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كإيلامكم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: فإنهم يألمون، إيلامًا كائنًا كإيلامكم. {وَتَرْجُونَ}: فعل وفاعل {مِنَ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {كَمَا تَألَمُونَ} {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {ترجون}، {لَا يَرْجُونَ}: فعل وفاعل، صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا يرجونه، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {عَلِيمًا}: خبر أول لها، {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كان} من اسمها وخبرها مستأنفة.

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتَابَ}: مفعول به، {بِالْحَقِّ}: حال من الكتاب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة، {لِتَحْكُمَ}: {اللام}: لام كي، {تحكم}: منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بَيْنَ النَّاسِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تحكم}، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تحكم} أيضًا، وجملة {تحكم} صفة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: لحكمك بين الناس، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، {أَرَاكَ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: أراكه الله، وهو العائد على {ما} الموصولة والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، {وَلَا تَكُن}: جازم وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على محمد، {لِلْخَائِنِينَ}: متعلق بـ {خَصِيمًا}، {خَصِيمًا}: خبر {تَكُنْ}، وجملة {تَكُنْ} مستأنفة. {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ}: فعل ومفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: ذنبك، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {لا تكن}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}، {غَفُورًا}: خبر أول لـ {كَانَ}، {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}. {وَلَا تُجَادِلْ}: جازم وفعل، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {عَنِ الَّذِينَ}: متعلق به، {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب ومنصوب، {لَا}: نافية، {يُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجر معللة للنهي السابق

قبلها، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَن}، {خَوَّانًا}: خبر {كاَنَ}، {أَثِيمًا}: صفة له، أو خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} صلة الموصول. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}. {يَسْتَخْفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنَ النَّاسِ}: متعلق به، {وَلَا يَسْتَخْفُونَ}: ناف وفعل وفاعل، معطوف على {يَسْتَخْفُونَ}، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق به، {وَهُوَ}: مبتدأ، {مَعَهُمْ}: خبره، والجملة حال من لفظ الجلالة، {إِذ}: ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {يُبيتُونَ}: فعل وفاعل، مضاف إليه لـ {إذ} {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول لـ {يُبَيِّتُونَ}، {لَا}: نافية، {يَرْضَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والمفعول محذوف، تقديره: يرضاه، وهو العائد على {مَا} الموصولة، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {مِنَ الْقَوْلِ}: حال من الضمير المحذوف، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {بِمَا يَعْمَلُونَ}: متعلق بـ {مُحِيطًا} وهو خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} هو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}. {هَا أَنْتُمْ}: {ها}: حرف تنبيه، {أنتم}: مبتدأ، {هَؤُلَاءِ}: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء معترضة، لاعتراضها بين المبتدأ والخبر، {جَادَلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {جَادَلْتُمْ}، {فِي الْحَيَاةِ}: متعلق بـ {جَادَلْتُمْ} أيضًا، {الدُّنْيَا} صفة للحياة، {فَمَن} {الفاء}: عاطفة، {من} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {يُجَادِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {من}، {اللَّهَ}: مفعول به، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {يُجَادِلُ}، والجملة الفعلية

خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ} على كونها مستأنفة، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يُجَادِلُ}، {أَم}: منقطعة تعطف جملة على جملة، {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على {مَنْ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {وَكِيلًا} وهو خبر {يَكُونُ}، وجملة {يَكُونُ} في محل الرفع خبر {مَنْ}، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ}. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}. {وَمَن}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَعْمَلْ سُوءًا}: فعل ومفعول، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}: فعل ومفعول، معطوف على {يَعْمَلْ}، وفاعله ضمير يعود على {من}، {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ}: فعل ومفعول أول، معطوف على {يَظْلِمْ} أو على {يَعْمَلْ}، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ذنبه، {يَجِدِ اللَّهَ}: فعل ومفعول أول، مجزوم بـ {من} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {من}، {غَفُورا}: مفعول ثان، {رَحِيمًا}: صفة لـ {غَفُورًا}، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {يَكْسِبْ إِثْمًا}: فعل ومفعول، مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}، {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {من}، {إنما} أداة حصر، {يَكْسِبُهُ}: فعل ومفعول، {عَلَى نَفْسِهِ} جار ومجرور متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة

على جملة {من} الأولى، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {عَلِيمًا}: خبر أول لها، {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}. {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً}: جازم ومجزوم ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {من}، {أَوْ إِثْمًا}: معطوف على {خَطِيئَةً}، {ثُمَّ يَرْمِ}: معطوف على {يَكْسِبْ}، مجزوم بحذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {من}، {بِهِ} متعلق بـ {يرم}، {بَرِيئًا}: مفعول به، {فَقَدِ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} وجوبًا، {قد}: حرف تحقيق، {احْتَمَلَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {بُهْتَانًا}: مفعول به، {وَإِثْمًا}: معطوف عليه، {مُبِينًا}: صفة له، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من}، ولى. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}. {ولولا} {الواو}: استئنافية، {لولا}: حرف امتناع لوجود، {فَضْلُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {وَرَحْمَتُهُ}: معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ}، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا؛ لقيام جواب {لولا} مقامه، تقديره: موجودان، {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ}: {اللام}: رابطة لجواب {لولا} {همت طائفة}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {طَائِفَةٌ}، والجملة الفعلية جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مع جوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا، والمعنى: انتفى ضلالك الذي هموا به لوجود فضل الله عليك بالعصمة والحفظ، {أَنْ يُضِلُّوكَ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة

المتعلقة بـ {همت} تقديره: لهمت طائفة منهم بإضلالهم إياك، {وَمَا}: الواو استئنافية، {ما}: نافية، {يُضِلُّونَ}: فعل وفاعل، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {يَضُرُّونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا يضلون}، {مِن} زائدة، {شَيْءٍ}: منصوب على المفعولية، بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف جر زائد؛ أي: ما يضرونك شيئًا من الضرر لا قليلًا ولا كثيرًا، {وَأَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتَابَ}: مفعول به، {وَالْحِكْمَةَ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَعَلَّمَكَ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {أنزل}، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {علم}، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {تَكُن}: فعل ناقص مجزوم بـ {لَمْ}، واسمه ضمير يعود على محمد، {تَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: ما لم تكن تعلمه، وهو بمعنى عرف يتعدى إلى مفعول واحد، وجملة {تَعْلَمُ} في محل النصب خبر {تَكُن}، وجملة {تَكُن} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {فَضْلُ اللَّهِ} أو حال منه، {عَظِيمًا}: خبر {كان}، وجملة {كان} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}: يقال قصرت الشيء من باب نصر، إذا جعلته قصيرًا بحذف بعض أجزائه، فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف، والقصير ضد الطويل، والقصر بالفتح من القصر - كعنب - ضد الطول، و {الجناح}: التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه - أضلاعه - لثقل حمله، {عَدُوًّا مُبِينًا}: في "المصباح" قال في "مختصر العين" يقع العدو بلفظ واحد على الواحد المذكر والمؤنث والمجموع انتهى، {وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}:

والأسلحة جمع سلاح، وهو كل ما يتحصن الإنسان ويدافع به عن نفسه في الحرب، ويقاتل به، من سيف وخنجر ورمح ومسدس وبندقية، ومن جميع أسلحة العصر الحاضر، وقال الليث: يقال للسيف وَحْدَه سلاح، وللعصا وَحْدَها سلاح، وقال ابن دريد: يقال سلاح على وزن حمار، وسلح على وزن ضلع، وسلح على وزن صرد، وسلحان على وزن سلطان، ويقال: رجل سالح إذا كان معه سلاح، والسلح نبت إذا رعته الإبل .. سمنت وغزر لبنها، وما يلقيه البعير من جوفه يقال له: سُلاح بوزن غُلام، ثم عبر به عن كل عذرة. {وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ} والحذر بفتحتين وبكسر فسكون التحرز والاحتياط، يقال: حذر حذرًا وحذرًا من باب تعب. {وَأَمْتِعَتِكُمْ}: جمع متاع، وجمع الجمع أماتع وأماتيع، والمتاع كل ما ينتفع به من عروض الدنيا كثيرها وقليلها، سوى الفضة والذهب، وكل ما يلبسه الإنسان ويبسطه، وما ينتفع به انتفاعًا قليلًا غير باق بل ينقضي عن قريب، يقال: إنما الحياة الدنيا متاع؛ أي: بلغة يتبلغ به لا بقاء له. {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى}: جمع مريض، كقتلى جمع قتيل، وجرحى جمع جريح. {عَذَابًا مُهِينًا}: اسم فاعل من أهان يهين إهانة - نظير أعان - إذا أذله، فهو مهين وذاك مهان. {قِيَامًا وَقُعُودًا} جمع قائم وقاعد، {فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ}: الهمزة فيه أصلية، ووزن الكلمة افعلل، والمصدر الطمأنينة كالقشعريرة، والاطمئنان كالاقشعرار، والطمأنينة سكون النفس من الخوف، وأما قولهم طامن رأسه فأصل آخر. {مَوْقُوتًا}: مفعول من وقت بالتخفيف، كمضروب من ضرب، ولم يقل موقوتة بالتاء مراعاة لكتابًا، فإنه في الأصل مصدر. {وَلَا تَهِنُوا}: يقال وهن يهن من باب وعد، وهنا يقال وهنه إذا أضعفه، ووَهُنَ يَوْهُن وهنًا بإسكان العين، ووهنًا بالتحريك، من باب فعل المضموم، إذا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن، ويقال: وَهِنَ يَهِن بكسر العين في الماضي والمضارع وَهْنًا ووَهَنًا، ووَهِنَ ويَوْهَن على وزن وَجِلَ يَوْجَل، وهنا بالتحريك بمعنى: وهن بضم العين. {إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ}: ويقرأ {تيلمون} بكسر التاء وقلب

الهمزة ياء، وهي لغة تميم. {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}: الهمزة (¬1) ههنا معدية، والفعل من رأيت الشيء إذا ذهبت إليه، وهو من الرأي، وهو متعد إلى مفعول واحد، وبعد الهمزة يتعدى إلى مفعولين، أحدهما الكاف، والآخر محذوف؛ أي: أراكه، وقيل المعنى: علمك، وهو متعد إلى مفعولين، وهو قبل التشديد متعد إلى واحد، كقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ}، {لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}: فعيل بمعنى مفاعل؛ أي: مخاصمًا لهم واللام على بابها؛ أي: لأجل الخائنين، وقيل: هي بمعنى عن وليس بشيء، لصحة المعنى بدون ذلك، ومفعول {خَصِيمًا} محذوف، تقديره: خصيمًا البرىء، {وَلَا تُجَادِلْ}: المجادلة أشد المخاصمة، {خَوَّانًا أَثِيمًا}: هما صيغتا مبالغة؛ أي: كثير الخيانة والإثم {وَكِيلًا} الوكيل هو الذي يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} استفعل من الاستغفار، والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى، مع الشعور بقبح الذنب والتوبة منه، {وَمَنْ يَكْسِبْ}: الكسب هو ما يجر منفعة أو يدفع مضرة، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ}: ولولا ضابطها هي كلمة موضوعة للدلالة على امتناع وجود مضمون الجواب لوجود مضمون الشرط. البلاغة وتضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (¬2): منها: الاستعارة في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} و {فَيَمِيلُونَ} استعار الميل للحرب. ومنها: التكرار في قوله: {جُنَاحَ} {وَلَا جُنَاحَ} لاختلاف متعلقهما، وفي قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ} {وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ} وفي الحذر والأسلحة، و {الصَّلَاةَ}، و {تَألَمُونَ}، وفي اسم {اللَّهِ}. ومنها: التجنيس المغاير في قوله: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً} وفي قوله: {كَفَرُوا ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) البحر المحيط.

إِنَّ الْكَافِرِينَ} و {تختانون} و {خَوَّانًا} و {يَسْتَغْفِرِ} و {غَفُورًا}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {فَأَقَمْتَ} {فَلْتَقُمْ}، وفي قوله: {لَمْ يُصَلُّوا} {فَلْيُصَلُّوا}، وفي قوله: {يَسْتَخْفُونَ} {وَلَا يَسْتَخْفُونَ}، وفي قوله: {جَادَلْتُمْ} {فَمَن يُجَادِل}، وفي قوله: {يَكْسِبْ} و {يَكْسِبْ}، وفي قوله: {يُضِلُّوكَ} {وَمَا يُضِلُّونَ}، وفي قوله: {وَعَلَّمَكَ} و {تَعْلَمُ}. ومنها: العام يراد به الخاص في قوله {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة؛ لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى. وإذا كانت أن للعهد .. فليس من باب العام المراد به الخاص؛ لأن أن للعموم وأل للعهد، فهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين .. فليس موضوعًا للآخر. ومنها: الإبهام في قوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، وفي قوله: {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. ومنها: خطاب عين ويراد به غيره في قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} فإنه - صلى الله عليه وسلم - محروس بالعصمة عن أن يخاصم عن المبطلين. ومنها: التتميم في قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} للإنكار عليهم، والتغليظ لقبح فعلهم؛ لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده، وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة. ومنها: إطلاق وصف الإجرام على المعاني في قوله: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا}. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}. المناسبة قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها ظاهرة؛ لأنه لا يزال الحديث (¬1) في الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بني جلدته. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...} إلي قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ¬

_ (¬1) المراغي.

أنزل قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} في شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع، ورميه اليهودي بسرقته، وأنزل أيضًا قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ...} إلخ، في ارتداده عن الدين، ولحوقه بالمشركين .. ذكر هنا أنه لو لم يرتد لم يكن محرومًا من رحمة الله، ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب، فإن كل ذنب يجوز أن يغفره الله للناس إلا ذنب الشرك، فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته. قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} هو الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما بين في الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم، ويدخل في تلك الأماني ما كان يمنيه أهل الكتاب، من الغرور بدينهم، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص، ويقولون إنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم .. حذرنا هنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما دل على ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ ...} ... الآية، فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمن أنزلت هذه الموعظة، ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان. أسباب النزول قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ...} الآية، روي في سبب نزولها (¬2): أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره، وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة .. ارتد وذهب إلى مكة، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة، فتهدم الجدار عليه ومات، فنزلت هذه الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[114]

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما روي (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن شيخًا من العرب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك باللهِ شيئًا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليًّا، ولم أواقع المعاصي جراءة على الله تعالى، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب مستغفر، فما ترى حالي عند الله تعالى، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: إنا لا نبعث، فأنزل الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}. وأخرج ابن جرير عن مسروق قال (¬3): تفاخر النصارى وأهل الإِسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}. وأخرج نحوه عن قتادة والضحاك والسدي وأبي صالح، ولفظهم: تفاخر أهل الأديان، وفي لفظ: جلس ناس من اليهود، وناس من النصارى، وناس من المسلمين، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت. وأخرج أيضًا عن مسروق قال: لما نزلت {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} .. قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. التفسير وأوجه القراءة 114 - {لَا خَيْرَ}: ولا ثواب، {فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}؛ أي: في كثير من نجوى الناس بعضهم لبعض ومحادثتهم معًا، أو لا خير في نجوى أولئك الذين ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) لباب النقول. (¬3) لباب النقول.

يسرون الحديث من غيرهم، من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته، والنجوى هي المحادثة من بعض القوم لبعض، اثنين فما فوق، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ...} الآية، فهي ضد السر، وهو محادثة الإنسان نفسه. {إِلَّا}: في نجوى {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} واجبة أو مندوبة، {أَو} نجوى من أمر بـ {مَعْرُوفٍ} وهو كل (¬1) ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل، فينتظم فيه أصناف الجميل، وفنون أعمال البر، كالكلمة الطيبة، وإغاثة الملهوف، والقرض، وإعانة المحتاج، فهو أعم من الصدقة، فيكون قوله: {أَوْ إِصْلَاحٍ} من عطف الخاص على العام. {أَوْ} نجوى من أمر بـ {إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} عند وقوع المشاحنة والمعاداة بينهم، من غير مجاوزة حدود الشرع في ذلك. والحكمة في تخصيص هذه الثلاثة بالذكر (¬2): أن عمل الخير المتعدي للناس، إما إيصال منفعة، أو دفع مضرة، المنفعة إما جسمانية وإليها الإشارة بقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}، وإما روحانية وإليها الإشارة بقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ}، ودفع المضرة أشير إليه بقوله: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وإنما قال (¬3): {فِي كَثِير} لأن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة، كالزراعة والتجارة مثلًا، فلا توصف بالشر، ولا مقصودة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هي النجوى في شؤون الناس، ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هي جماع الخير للناس. والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. والسر في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير، والتحدث به في الملأ، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر والنجوى، وفي الأثر: "الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس". وقد استثنى الله سبحانه وتعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها أمورًا ثلاثة؛ لأن خيريتها أو ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) أبو السعود. (¬3) المراغي.

كمالها تتوقف على الكتمان، وجعل التعاون عليها سرًّا والحديث فيها نجوى. فالصدقة وهي من الخير قد يؤذي إظهارها المتصدَّق عليه، ويضع من كرامته، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتاءه إياها جهرًا، ولو مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى. وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس، فكثيرًا ما يستاء منه المأمور به، ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهامًا له بالتقصير أو الجهل، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، ومثله الإصلاح بين الناس، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالَب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس .. لا يستجيب ولا يقبل، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس، وعلمه بأنه كان بسعي وتواطؤ. أخرج البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم"، فقال: بلى يا رسول الله، قال: "تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا"، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، وأن فساد ذات البين هي الحالقة" أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين". وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم". رواه البخاري. وعن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين"، أو قال: بين

الناس، فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا" متفق عليه، زاد مسلم في رواية له قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس، إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل زوجته، وحديث المرأة زوجها. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} المذكور من الأمور الثلاثة: الصدقة والمعروف والإصلاح؛ أي: فعل واحدًا من هذه الثلاثة أو كلها؛ لأنه لما ذكر أولًا أن الخير في مَنْ أمر .. ذكر هنا ثواب من فعل، ويحتمل كون المعنى: ومن يفعل ذلك المذكور من الأمر بواحد من هذه الثلاثة فكأنه قال: ومن يأمر بذلك المذكور {ابتغاء مرضاة الله}؛ أي: لأجل طلب رضوان الله سبحانه وتعالى، لا لغرض دنيوي، كالرياء والسمعة والمحمدة .. {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ}؛ أي: فسوف يعطي الله سبحانه وتعالى ذلك الفاعل في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} وثوابًا جسيمًا وأجرًا جزيلًا، جزاء على عمله ذلك، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية القلب عن داعية الالتفات إلى غرض سوى رضوان الله تعالى. والخلاصة: أن ابتغاء مرضاة الله تعالى إنما يكون بالإخلاص، وعدم إرادة السمعة والرياء، كما يفعل المتأخرون من الأغنياء والدول، خصوصًا في هذا العصر الفاسد أهله، تصدقنا كذا وكذا، ومنحنا كذا وكذا، وساعدنا كذا وكذا، وبنينا المساجد والقناطر كذا وكذا، وأنفقنا في كذا من الخيرات ملايين كذا وكذا، فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون، لا مرضاة الله تعالى، ولذلك يشق عليهم أن يكون عملهم خفيًّا، وأن يخلصوا في الحديث عنه نجيًّا؛ لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم، ليتعلق الرجاء فيهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة (¬1): {يؤتيه} بالياء، والباقون بالنون، على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ} فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الغائب، ومن قرأ بالياء .. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[115]

لاحظ الاسم الغائب في قوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}. 115 - وبعد أن وعد الله سبحانه وتعالى بالجزاء الحسن لمن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى، أوعد الذين يتناجون بالشر، ويبيتون ما يكيدون به للناس فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يخالفه بارتداده عن الإِسلام، وإظهار عداوته له، كطعمة بن أبيرق، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}؛ أي: من بعد ما ظهرت له الهداية على لسان الرسول، وقامت عليه الحجة {وَيَتَّبِعْ} سبيلًا {غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: غير سبيل الموحدين .. {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}؛ أي: نجعله واليًا لما تولى من الضلال، ومباشرًا له، ونخلي بينه وبين ما اختاره، ونتركه وما اختاره لنفسه في الدنيا، ونكله إلى ما توكل إليه، {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}؛ أي: وندخله في الآخرة نار جهنم فيحترق فيها، {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}؛ أي: قبحت جهنم مرجعًا له، والمخصوص بالذم هي. وقرىء (¬1): {ونصله} بفتح النون، من صلاه، وقرأ ابن أبي عبلة: {يوله} و {يصله} بالياء فيهما، جريًا على قوله: {فسوف يؤتيه} بالياء، وفي هاء {نُوَلِّهِ} و {نصله} الإشباع والاختلاس والإسكان. وفي هذه الآية (¬2): بيان لسنة الله في عمل الإنسان، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها؛ أي: يجعله واليًا لها، وسائرًا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختاره لنفسه، بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله، أو فيهما معًا، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب؛ لأنه استحب العمى على الهدى، وعاند الحق، واتبع الهوى، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر، وقد اشترط في هذا الوعيد أن يتبين له الهدى، أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه، وهم أصناف: فمنهم: من نظر في الدليل ولم يظهر له الحق، وبقي متوجهًا إلى طلبه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[116]

بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص، وهذا معذور غير مؤاخذ، ومنهم: من لم تبلغه الدعوة الإِسلامية، أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوروبا في العصر الحاضر، وحال هؤلاء كحال من سبقهم، ومنهم: من اتبع الهدى تقليدًا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله، وهذا لم يتبين له الهدى، ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه أهله ورؤساؤه من البدع والضلالات والخرافات. 116 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}؛ أي: لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه، إذا مات على الشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ أي: وإنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين، ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح، وضلال العقول، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وأثامه، والعروج بها إلى جوار ربها، إذ أنها تكون موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل، والله لا يقبل إلا ما كان خالصًا له. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} سبحانه وتعالى شيئًا فيدعوه معه، ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه وحده، ملاحظًا أنه يقربه إليه زلفى .. {فَقَدْ ضَلَّ} عن القصد، وبعد عن سبيل الرشد {ضَلَالًا بَعِيدًا} في سبيل الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل، ويكدر صفاء الروح، ويجعله يخضع لعبد مثله، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه، ويكون عبدًا للخرافات والأوهام، أما من لم يشرك بالله .. لم يكن ضلاله بعيدًا، فلا يصير محرومًا عن الرحمة. وخلاصة ما تقدم (¬1): 1 - أن الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقوى أنواع الشرك؛ لأنه يكون باعتقاد ناشيء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها. 2 - أن الجزاء في الآخرة يكون تابعًا لما تكون عليه النفس في الدنيا، من سلامة العقيدة، ومقدار درجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات، أو فساد ¬

_ (¬1) المراغي.

[117]

الفطرة، وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة التي يلازمها فعل السيئات. 3 - أن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات، أخسها الشرك، وأعلاها التوحيد، ولكل منهم صفات تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك، ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين .. لكان ذلك نقضًا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير. واعلم: أنه قد تقدم نص هذه الآية بعينها في غرض آخر من هذه السورة، وأعادها هنا مرة أخرى للتأكيد، ولتكون راسخة في نفوس السامعين، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها في نفوس السامعين في كل سياق يقصد فيه توجيها إليها، وإعدادها لقبولها، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية، فالذين عرفوا سنن الاجتماع، وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم، يكررون في خطبهم ومقالاتهم أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها في الصحف والكتب، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه .. أثر فيه، إلا أن (¬1) آخر ما تقدم: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، وآخر هذه: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، ختمت كل آية بما يناسبها، فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد أشركوا باللهِ، مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله، والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراءً واختلاقًا مبالغًا في العظم والجرأة على الله، وهذه الآية في ناس مشركين، ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم الهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد، فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالًا يستبعد وقوعه، أو يبعد عنه الصواب، ولذلك جاء بعده: 117 - {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} وجاء بعد تلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد بهم اليهود، وإن كان اللفظ عامًّا، ولما كان الشرك أعظم ¬

_ (¬1) النهر.

الكبائر .. كان الضلال الناشىء عنه بعيدًا عن الصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالًا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق؛ لأن له رأس مال يرجع إليه وهو التوحيد، بخلاف المشرك، ولذلك قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} وناسب هنا أيضًا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله، ذكره أبو حيان في "النهر". ثم بين الله تعالى كون الشرك ضلالًا بعيدًا فقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا}؛ أي: ما يعبد هؤلاء المشركون (¬1) من أهل مكة وغيرهم إلا أوثانًا يسمونها باسم الإناث، كقولهم: اللات والعزى ومناة، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز، ومناة تأنيث المنان، أو لأنهم يزينونها على هيئات النسوان. أو المعنى (¬2): هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتًا، فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها، كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب أو إلا إناثًا كاللات والعزى، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان. وقرأ أبو رجاء (¬3): {إن تدعون} بالتاء على الخطاب، ورويت عن عاصم. وفي مصحف عائشة - رضي الله عنها -: {إلا أوثانًا} جمع وثن وهو الصنم، وقرأ بذلك أبو السوار والهنائي، وقرأ الحسن: {إلا أنثى} على التوحيد، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة والحسن وعطاء وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القاريء: {أُنثًا} جمع أنيث كغرير وغرر، والأنيث: المخنث الضعيف من الرجال، وقرأ سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: {إلا وثنًا} بفتح الواو والثاء من غير همزة، وقرأ ابن المسيب ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء: {إلا أنثًا} يريدون وَثَنًا، وقرأ أبو أيوب السجستاني: {إلا وثنًا} بضم الواو والثاء من غير همزة كشُقُق، وقرأت فرقة: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[118]

{إِلَّا إِنَاثًا} بسكون المثلثة، وأصله وثنًا، فاجتمع في هذا اللفظ ثمان قراءات {إِنَاثًا} و {أنْثَى} و {أنَثًا} و {أوثانًا} و {وَثَنًا} و {أثَنًا} و {أُثُنًا}. {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}؛ أي: وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانًا، شديد التمرد والبعد عن طاعة الله، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، وأغراهم بها، فكانت طاعتهم له في ذلك عبادةً له، 118 - {لَعَنَهُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: طرده الله عن كل خير، وأبعده عن رحمته وفضله، فإنه داعية كل شر وباطل في نفس الإنسان، بما يوسوس في صدره ويعده ويمنيه {وَقَالَ}؛ أي: الشيطان عندما لعنه الله تعالى: وعزتك {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}؛ أي: لأجعلن لنفسي من عبادك حظًّا مقدرًا معينًا، وهم الذين يتبعون خطوات الشيطان ويقبلون وساوسه، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كل ألف واحد لله، وسائره للناس ولإبليس". وقيل: النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها، أو الرياء في العبادة، لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، وقد جاء في القرآن والحديث ما يدل على هذا. والخلاصة: أن الشيطان خلق متمردًا على الحق، بعيدًا من الخير، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم. 119 - {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن طريق الهدى، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ}؛ أي: ولألقين في قلوبهم الأماني الكاذبة، وهي تورث شيئين: الحرص والأمل، وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، ويلازمان للإنسان، وفي الحديث: "يهرم ابن آدم ويشبُّ معه اثنان: الحرص والأمل". فالحرص يستلزم ركوب الأهوال، فإذا اشتد حرصه على الشيء .. فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله .. نسي الآخرة، وصار غريقًا في الدنيا، فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤئر فيه الوعظ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. وقيل: إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة،

وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى، وتمنيته لهم تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة، والتسويف بالتوبة والعمل الصالح. والخلاصة: أن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه: إضلال العباد، وشغلهم بالأماني الباطلة، كرحمة الله للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، وتزيين لذات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها. {وَلأمُرَنَّهُمْ} بالتبتيك؛ أي: شق آذان الناقة {فَلَيُبَتِّكُنَّ}؛ أي: فليقطعن {آذَانَ الْأَنْعَامِ} ويشقونها بموجب أمري لهم، والمراد به: ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم، كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقًّا واسعًا، ويتركون الحمل عليها إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرًا، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم، {وَلأمُرَنَّهُمْ} بتغيير خلق الله، {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} صورة أو صفة، بموجب أمري لهم، كخصاء العبيد، وفقء العيون، وقطع الآذان، والوشم والوشر، ووصل الشعر، فإن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا .. عوَّروا عين فحلها، ويدخل في هذه الآية التخنث والسحاقات، لأن التخنث عبارة عن تشبه الذكر بالأنثى، والسحق عبارة عن تشبه المرأة بالذكر، وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقًا، لكن الفقهاء رخصوا في البهائم للحاجة، فيجوز في المأكول الصغير، ويحرم في غيره، وأما خصاء بني آدم فحرام. وقال الشوكاني (¬1): واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو، فقالت طائفة: هو الخصاء، وفقء الأعين، وقطع الآذان، وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو: أن الله سبحانه وتعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير، تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، حملًا شموليًّا أو بدليًّا، انتهى. ¬

_ (¬1) فتح القدير.

[120]

وعلى هذا القول الأخير فالمراد (¬1) بخلْق الله دينَه لأنه دين الفطرة، وهي الخلقة قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: إنه يراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه، من الميل إلى النظر والاستدلال، وطلب الحق، وتربيتها، وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله قد أحسن كل شيء خلقه، وهؤلاء يفسدون ما خلق الله، ويطمسون عقول الناس. والخلاصة: أن الدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس، بل هو ما أودعه في فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله، وهو ما أشار إليه في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة". ومن أهم أسس هذا الدين: فطرية العبودية للسلطة الغيبية، التي تنتهي إليها الأسباب، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول، وقرأ أبو عمرو (¬2): {ولأمرنهم} بغير ألف كذا قاله ابن عطية، وقرأ أبي: {وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم} وتكون جملًا مقولة، لا مقسمًا عليها. {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: ومن يجعل الشيطان المطرود وليًّا وناصرًا له متوليًّا عليه، أو يجعله ربًّا يطيعه من دون الله، ويتبع وسوسته وإغواءه، وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله .. {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}؛ أي: خسرانًا ظاهرًا في الدنيا والآخرة، بتضييع رأس ماله وهو الدين الفطري، وذلك لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة، وطاعة الشيطان تفيد المنافع القليلة المنقطعة، ويعقبها العذاب الأليم؛ إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات يتخبط في عمله على غير هدى، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميز بها من بين أصناف الحيوان، 120 - {يَعِدُهُمْ}؛ أي: يعد الشيطان الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[121]

من أموالهم في سبيل الله، ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفد أو تقل، ويصبحون فقراء أذلاء، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالقمار، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت {وَيُمَنِّيهِمْ}؛ أي: يلقي في قلوبهم أنه ستطول أعمارهم، وينالون من الدنيا آمالهم ومقاصدهم، ويوقع في قلوبهم أن الدنيا دول، فربما تيسرت لهم كما تيسرت لغيرهم، ويعدهم أيضًا بأن لا قيامة ولا جزاء، فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية. ويدخل في وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس، وهم قرناء السوء، الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي، ويمدونهم في الطغيان، وينشرون مذاهبهم الفاسدة، وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}؛ أي: وما يعدهم الشيطان إلا باطلًا يغترون به، ولا يملكون منه ما يحبون، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء، وهي مشتملة على كثير من الآلام والمضار، فالزاني أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات، بينما هو في الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية، تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى وخيمة العواقب، إلى عذاب أخروي لا يعلم كنهه إلا من أحاط بكل شيء علمًا. وقرأ الأعمش: {وما يعدهم} بسكون الدال، خفف لتوالي الحركات. 121 - وبعد أن بين حال أولياء الشيطان .. ذكر عاقبتهم فقال: {أُولَئِكَ} الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه {مَأوَاهُمْ}؛ أي: مسكنهم ومنازلهم في الآخرة ومرجعهم ومصيرهم {جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا}؛ أي: عن جهنم {مَحِيصًا}؛ أي: معدلًا ومهربًا يفرون إليه، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها، ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم. 122 - ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان وأولياءه، ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: وامتثلوا المأمورات واجتنبوا المنهيات {سَنُدْخِلُهُمْ} يوم القيامة {جَنَّاتٍ}؛

[123]

أي: بساتين {تَجْرِي}؛ أي: تسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} من الماء واللبن والخمر والعسل، حالة كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: ماكثين {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات {أَبَدًا}؛ أي: أمدًا لا نهاية له ولا انقضاء، لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز العظيم لمن سمت نفسه عن دنس الشرك، فلم تجعل للهِ أندادًا، ولم تحط بها الخطيئة في صباحها ومسائها، في غدوها ورواحها، وقرىء: {سيدخلهم} بالياء. ولما ذكر أن وعد الشيطان هو غرور باطل .. ذكر أن هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه فقال: {وَعْدَ اللَّهِ}؛ أي: وعدهم الله تعالى بذلك الإدخال وعدًا لا خلف فيه، وحق ذلك الإدخال، {حَقًّا} فالأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}؛ أي: لا أحد أصدق من الله قولًا فيما وعده لعباده الصالحين، وهذا توكيد ثالث، وفائدة هذه التوكيدات: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة، وترغيب العباد في تحصيل ما وعده الله تعالى. والمعنى: ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق، فهو القادر على أن يعطي ما وعد بفضله وجوده وواسع كرمه ورحمته، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور، إذ هو عاجز عن الوفاء، فهو يدلي إلى أوليائه بباطله، فحقه أن لا يستجاب له أمر ولا نهي، ولا تتبع له نصيحة، فوساوسه أباطيل وسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. 123 - {لَيْسَ} الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله تعالى: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} حاصلًا {بِأَمَانِيِّكُمْ}؛ أي: بتمنياتكم يا معشر المؤمنين أن يغفر لكم وإن ارتكبتم الكبائر؛ أي: فإنكم تمنيتم أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان {وَلَا} حاصلًا بـ {أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: بتمنيات اليهود والنصارى، فإنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فلا يعذبنا، وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو أو الرحمة من يشاء؛ أي: ليس يستحق

ذلك الثواب بالأماني، وإنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح. أو المعنى: ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به حاصلًا بأن يقول القائل منهم إن ديني أفضل وأكمل، بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل، لا على التمني والغرور، فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطًا بالأماني في الدين، فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج: {بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} بتخفيف الياء ساكنة، جمعًا على فعالل، كما يقال: قراقر وقراقير في جمع قرقور - بوزن عصفور -: السفينة الطويلة. ثم أكد ذلك وبينه بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا}: ويرتكب ذنبًا أيَّ ذنب كان، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا {يُجْزَ بِهِ}؛ أي: يجازى بذلك الذنب الذي ارتكبه، فالمؤمن يجزى عند عدم التوبة، إما في الدنيا بالمصيبة، أو بعد الموت قبل دخول الجنة، أو بإحباط ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، والكافر يجزى بالمحن والبلاء في الدنيا وفي الآخرة دائمًا، فعلى الصادق في دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله، ويجعل ذلك المعيار في سعادته، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل، ولا أن ذلك الرسول أفضل. وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} شق ذلك على المسلمين، وبلغت منهم مبلغًا شديدًا، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها"، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، ومن ثم يرى عامة العلماء الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا. {وَلَا يَجِدْ} الذي يعمل السوء، ويستحق العقاب عليه {لَهُ}؛ أي: لنفسه {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {وَلِيًّا} غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، {وَلَا نَصِيرًا} ينصره، وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم، ولا

[124]

من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابًا من دون الله، فكل تلك الأماني تكون أضغاث أحلام، وإنما يكون المدار في ذلك على الإيمان والأعمال، وأما شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة فإنما تكون بإذن الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك .. فلا وليَّ لأحد ولا نصير لأحد إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور: {وَلَا يَجِدْ} بالجزم عطفًا على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر: {وَلَا يَجِدْ} بالرفع على الاستئناف. 124 - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ}؛ أي: بعضها (¬1)، حالة كونه {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} أو خنثى، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}؛ أي: وحالة كونه مؤمنًا، فالحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الثانية لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح، {فَأُولَئِكَ} العاملون المتصفون بالإيمان {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} جزاءً على عملهم الصالح، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}؛ أي: ولا ينقصون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئًا قليلًا ولا كثيرًا، ولو قدر نقرة النواة. ويستفاد من الآية: أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة، وأما النعم التي يعطاها المؤمن في الدنيا من عافية ورزق وغير ذلك، فليست جزاء لأعماله الصالحة، بل تكفل الله بها لكل حي في الدنيا مسلمًا أو كافرًا، وإذا لم (¬2) ينقص ثواب المطيع، فلأن لا يزاد عقاب العاصي أولى وأحرى، كيف لا والمجازي أرحم الراحمين، وهو السر في الاقتصار على ذكره عقيب الثواب. ومعنى الآية: أي ومن (¬3) يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس، في أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية، سواء كان العامل ذكرًا أو أنثى، وهو مطمئن القلب بالإيمان .. فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة، بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم، ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئًا، ولو حقيرًا كالنقير. ¬

_ (¬1) الشوكاني والمراح. (¬2) أبو السعود. (¬3) المراغي.

[125]

وفي هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأماني التي يأوي إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين، الذين يظنون أن الله يحابي من يسمي نفسه مسلمًا، ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب، فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم، وحرموا الاهتداء بهديه، هم في ضلال مبين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر: {يدخلون} بضم حرف المضارعة مبنيًّا للمفعول هنا، وفي مريم، وفي أولى غافر، وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكر في ثانية غافر، وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر، وقرأ الباقون بفتحها مبنيا للفاعل. 125 - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان .. أردف ذلك بذكر درجات الكمال فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا}؛ أي: لا أحد أحسن دينًا وطريقة {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ}؛ أي: نفسه {لِلَّهِ} وعبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء؛ أي: ممن عرف ربه بقلبه، وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه، وجعل قلبه خالصًا لله وحده، فلا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابًا من الوسطاء والشفعاء، ولا يرى في الوجود إلا هو، ويعتقد أنه سبحانه وتعالى ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئًا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها، وهي السنن والأسباب التي سنها في الخلائق، {وَهُوَ مُحْسِنٌ}؛ أي: والحال أنه آت بالحسنات تارك للسيئات؛ أي: والحال أنه مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص محسن للعمل، مُتَحَلٍّ بأحسن الأخلاق والفضائل. وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه؛ لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس، من إقبال وإعراض وسرور وكآبة، وما فيه هو الذي يدل على ما في السريرة، {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} معطوف على أسلم، وقوله: {حَنِيفًا} إما حال من إبراهيم. والمعنى: أي واتبع ذلك المسلم الذي أسلم وجه لله، إبراهيم الخليل عليه السلام في دينه وملته الحنيفية، حالة كون إبراهيم حنيفًا، ومائلًا عن الوثنية وأهلها، ومتبرئًا مما كان عليه أبوه وقومه، إلى الدين الحق، والصراط المستقيم

الذي هو عبادة الله وحده، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} إما حال من المتبع، والمعنى: حالة كون ذلك المتبع مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، الذي هو ملة إبراهيم. قال ابن عباس (¬1): ومن دين إبراهيم عليه السلام الصلاة إلى الكعبة، والطواف، ومناسك الحج، والختان ونحو ذلك. فإن قلت: ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام، وعلى هذا لم يكن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - شرع يستقل به، وليس الأمر كذلك فما الجواب؟. قلت: إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - وملته، مع زيادات كثيرة حسنة خص الله بها محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فمن اتبع ملة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. فقد اتبع ملة إبراهيم؛ لأنها داخلة في ملة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشرع إبراهيم داخل في شرع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قال تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} لأن إبراهيم عليه السلام كان يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ولهذا خصه بالذكر؛ لأنه كان مقبولًا عند جميع الأمم، فإنَّ العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه، وكذا اليهود والنصارى، وإذا ثبت هذا، وأن شرعه كان مقبولًا عند الأمم، وأن شرع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وملته هو شرع إبراهيم وملته .. لزم الخلق عمومًا الدخول في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقبول شرعه وملته. {وَاتَّخَذَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}؛ أي: صفيًّا بالرسالة والنبوة، محبًّا له خالص الحب؛ أي: اصطفاه الله سبحانه وتعالى من أهل أرضه بالنبوة والرسالة، لإقامة دينه، وتوحيده في بلاد غلبت عليها الوثنية، وأفسد الشرك عقول أهلها، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلًا وصفيًّا، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرًا أن تُتبع ملته وتؤتسى طريقته. ¬

_ (¬1) الخازن.

[126]

والخلاصة: أنه مَنَّ عليه بسلامة الفطرة، وقوة العقل، وصفاء الروح، وكمال المعرفة، وفنائه في التوحيد. وإنما سمي (¬1) إبراهيم خليلًا لأنه انقطع إلى الله في كل حال، وقيل: لأنه وإلى في الله وعادى في الله، وقيل: لأنه تخلق بأخلاق حسنة وخلال كريمة، وقيل: الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل، وسمي إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل، وأُنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّيْ ... وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيْلُ خَلِيْلاَ ومعنى خلة العبد لربه: جعل فقره وفاقته وحاجته إلى الله تعالى، ومعنى خلة الله للعبد: هي تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وستر خلله ونصره والثناء عليه، فقد أثنى الله عَزَّ وَجَلَّ على إبراهيم عليه السلام، وجعله إمامًا للناس يقتدى به. 126 - ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى، لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا وعبيدًا؛ أي: إن كل ما في السموات والأرض ملك له ومن خلقه، مهما اختلفت صفات المخلوقات .. فجميعها مملوكة عابدة له، خاضعة لأمره، يصطفي من يشاء منها بما شاء من كرمه وجوده، لا اعتراض عليه {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ}: من أهل السموات والأرض وغيرهما {مُحِيطًا} إحاطة قهر وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، وإحاطة وجود؛ لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها، ولا هي ابتدعت نفسها، بل وجودها مستمد من ذلك الوجود الأعلى، فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود، فوجب أن يخلص له الخلق، ويتوجه إليه العباد، فهذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها؛ أي: أحاط علمه بكل شيء، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد: ¬

_ (¬1) الخازن.

منها: بيان الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له، والتوجه إليه في كل حال؛ لأنه هو المالك لكل شيء، وغيره لا يملك لنفسه شيئًا. ومنها: نفي ما يتوهم في اتخاذ إبراهيم خليلًا من أن هناك شيئًا من المقاربة في حقيقة الذات والصفات. ومنها: التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها، إذ من له ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا فهو أكرم من وعد، وفي "الفتوحات": وهذه الجملة مستأنفة، مقررة لوجوب طاعة الله تعالى، وقيل: لبيان أن اتخاذه لإبراهيم خليلًا ليس لاحتياجه إلى ذلك، كما هو شأن الآدميين، وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرج إبراهيم عن رتبة العبودية، وقيل: لبيان أن اصطفائه إبراهيم للخلة بمحض مشيئته تعالى اهـ. فصل وقد اتخذ الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي .. لاتخذت أبا بكر خليلًا". وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا" لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا" أخرجه مسلم، فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - خليل الله وحبيبه، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"ألا وأنا حبيب الله ولا فخر" أخرجه الترمذي بأطول منه. الإعراب {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}. {لَا}: نافية عاملة عمل إن، {خَيْرَ}: في محل النصب اسمها، {فِي

كَثِيرٍ}: جار ومجرور خبر {لا}، والجملة مستأنفة، {مِنْ نَجْوَاهُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {كَثِيرٍ}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، ولكنه على حذف مضاف تقديره: إلا نجوى من أمر، أو في محل الجهر بدل من {نَجْوَاهُمْ}، {أَمَرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِصَدَقَةٍ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ}: معطوفان على {صدقة}، {بَيْنَ النَّاسِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {إِصْلَاحٍ}، {وَمَنْ} {الواو} استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَفْعَلْ ذَلِكَ}: فعل ومفعول، مجزوم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {ابْتِغَاءَ}: مفعول لأجله مضاف، {مَرْضَاتِ}: مضاف إليه، وهو مضاف، ولفظ الجلالة {اللَّهِ}: مضاف إليه، {فَسَوْفَ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة تسويفية، {سوف}: حرف تنفيس، {نُؤْتِيهِ}: فعل مضارع، ومفعول أول، {أَجْرًا}: مفعول ثان، {عَظِيمًا}: صفة لـ {أَجْرًا} وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجزم جواب {مَنْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {من يشاقق الرسول}: جازم ومجزوم ومفعول، و {مَنْ}: في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُشَاقِقِ}، {مَا}: مصدرية، {تَبَيَّنَ}: فعل ماض، {لَهُ}: متعلق به، {الْهُدَى}: فاعل، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبين الهدى له، {وَيَتَّبِعْ}: معطوف على {يُشَاقِقِ}، وفاعله ضمير يعود على {مِنْ}، {غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {نُوَلِّهِ}: فعل ومفعول أول، مجزوم بـ {من}

على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى أو مستأنفة، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لولى، {تَوَلَّى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، ومفعوله محذوف تقديره تولاه، وهو العائد على {مَا}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {ونصله}: فعل ومفعول أول، معطوف على {نُوَله}، وفاعله ضمير يعود على الله، {جَهَنَّم}: مفعول ثان، {وَسَاءت}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير يعود على {جَهَنَّمَ}، {مَصِيَرًا}: تمييز، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}. {إنَّ الله}: ناصب واسمه، {لَا يَغْفِرُ}: ناف وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يشُرَكَ}: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ {أنْ}، {بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: لا يغفر الإشراك به، {وَيَغفِرُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {لَا يَغْفِرُ}، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {دون ذلك}: ظرف ومضاف إليه، والظرف صل لـ {ما} أو صفة لها، {لِمَن}: جار ومجرور متعلق بـ {يَغْفِرُ}، {يشاء}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، ومفعوله محذوف، تقديره: لمن يشاء غفران ذنوبه، والجملة صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يُشرِك}: فعل شرط، وفاعله ضمير يعود على {من}، {بالله}: متعلق به، {فَقَدْ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {قد}: حرف تحقيق، {ضَلَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على

{مَنْ}، {ضَلَالًا}: منصوب على المصدرية، {بَعِيدًا}: صفة له، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}. {إِنْ}: نافية، {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَدْعُونَ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {إِنَاثًا}: مفعول به، والجملة مستأنفة، {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إِنْ}: نافية، {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {شَيْطَانًا}: مفعول به، {مَرِيدًا}: صفة له. {لَعَنَهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {شَيْطَانًا}، {وَقَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة {لَعَنَهُ اللَّهُ}، {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ} مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {لَأَتَّخِذَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم، {أتَّخِذَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، {مِنْ عِبَادِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أتَّخِذَنَّ} أو حال من {نَصِيبًا}، {نَصِيبًا}: مفعول به، {مَفْرُوضًا}: صفة له، والجملة الفعلية مع القسم المحذوف في محل النصب مقول القول. {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}. {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة، {اللام}: موطئة للقسم، {أضلن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، و {الهاء}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة مع القسم المحذوف في محل النصب معطوفة على

جملة قوله: {لَأَتَّخِذَنَّ}، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة، {لَأُمَنِّيَنَّهُمْ}: لام قسم وفعل ومفعول ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة {لَأَتَّخِذَنَّ}، {وَلَآمُرَنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة، {لَآمُرَنَّهُمْ}: لام قسم وفعل ومفعول ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة مع القسم المحذوف معطوفة على جملة {لَأَتَّخِذَنَّ}، {فَلَيُبَتِّكُنَّ} {الفاء}: عاطفة، و {اللام}: زائدة زيدت لتأكيد القسم المذكور قبله، {يبتكن}: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {آمرن} على كونها جوابًا للقسم المحذوف، وأصله: والله لآمرنهم فيبتكونن، {آذَانَ الْأَنْعَامِ} مفعول به ومضاف إليه وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ} مع القسم المحذوف معطوف على قوله: {لَأَتَّخِذَنَّ} {فَلَيُغَيِّرُنَّ} {الفاء}: عاطفة، و {اللام}: زائدة زيدت لتأكيد القسم المذكور قبله، {يغيرن}: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والأصل: ولآمرنهم بالتغيير فيغيرونن، والجملة معطوفة على جملة {آمرنهم}، {خَلْقَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {يَتَّخِذِ}: فعل شرط مجزوم بـ {مَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {الشَّيْطَانَ}: مفعول أول، {وَلِيًّا}: مفعول ثان، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {وَلِيًّا}، {فَقَدْ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، {قَدْ} حرف تحقيق، {خَسِرَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {خُسْرَانًا}: مفعول مطلق، {مُبِينًا}: صفة لـ {خُسْرَانًا}، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)}. {يَعِدُهُمْ}: فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: يعدهم

طول العمر، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، والجملة مستأنفة، {وَيُمَنِّيهِمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ويمنيهم نيل الآمال، والجملة معطوفة على جملة {يَعِدُهُمُ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {مَا}: نافية، {يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {غُرُورًا}: مفعول ثان لـ {يَعِدُ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يَعِدُهُمُ}. {أُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول، {مَأوَاهُمْ}: مبتدأ ثان ومضاف إليه، {جَهَنَّمُ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة، {وَلَا} {الواو} عاطفة. {لا}: نافية، {يَجِدُونَ}: فعل وفاعل، {عَنْهَا}: حال من {مَحِيصًا}: وهو مفعول به لوجد، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة المبتدأ الثاني، على كونها خبرأ للمبتدأ الأول، أو معطوفة على جملة {أُولَئِكَ}. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} و {سَنُدْخِلُهُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، {جَنَّاتٍ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَجْرِي}، {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ}، {خَالِدِينَ}: حال من هاء {سَنُدْخِلُهُمْ}، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {وَعْدَ اللَّهِ}: مصدر مؤكد لمضمون جملة قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ} منصوب بفعل محذوف، تقديره: وعدهم الله ذلك الإدخال وعدًا؛ لأن قوله:

{سَنُدْخِلُهُمْ} بمنزلة وعدهم، {حَقًّا}: حال من المصدر المذكور قبله، أو منصوب بفعل محذوف، تقديره: حق ذلك حقًّا، {وَمَنْ أَصْدَقُ}: مبتدأ وخبر، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَصْدَقُ}، {قِيلًا}: تمييز محول عن المبتدأ، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقض، واسمه ضمير يعود على المفهوم من المقام، تقديره: ليس الأمر من الثواب والفضل، {بِأَمَانِيِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، تقديره: ليس الأمر منوطا بأمانيكم، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة، {وَلَا أَمَانِيِّ}: معطوف على {أمانيكم} وهو مضاف، {أَهْلِ الْكِتَابِ}: مضاف إليه، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يَعْمَلْ}: فعل شرط مجزوم بـ {مَنْ} وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {سُوءًا}: مفعول به، {يُجْزَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {مَنْ} على كونه جواب الشرط، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {وَلَا يَجِدْ}: معطوف على {يُجْزَ} مجزوم بـ {مَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {لَهُ}: متعلق به، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من {وَلِيًّا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {وَلِيًّا}: مفعول {يَجِدْ}، {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف عليه. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يَعْمَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ}، {مِنَ الصَّالِحَاتِ}: متعلق به، {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}: جار ومجرور حال من فاعل {يَعْمَلْ}، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة حال أيضًا من فاعل {يَعْمَلْ}، {فَأُولَئِكَ}

{الفاء} رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا {أُولَئِكَ}: مبتدأ {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى، {وَلَا يُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل {نَقِيرًا}: مفعول ثان، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَدْخُلُونَ}. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}. {وَمَنْ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر، {دِينًا}: تمييز محول عن المبتدأ، والجملة مستأنفة، {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَحْسَنُ} {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}: فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {من} والجملة صلة الموصول، {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَسْلَمَ}، {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل {أَسْلَمَ}، {وَاتَّبَعَ} معطوف على {أَسْلَمَ}، وفاعله ضمير يعود على {من}، {مِلَّةَ}: مفعول به، وهو مضاف، {إِبْرَاهِيمَ}: مضاف إليه، {حَنِيفًا}: حال من فاعل {اتبع}، أو حال من إبراهيم المضاف إليه لوجود شرطه، كما قال ابن مالك: وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ ... إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ أَوْ كَانَ جُزْءَ مَالَهُ أُضِيْفَا ... أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيْفَا فإن الملة لا تفارق الشخص، فهي كجزئه من هذه الجهة، ومتى كان المضاف جزءًا أو كالجزء من المضاف. صار كأنه صاحب الحال، فيصح توجه عامله للحال، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {خَلِيلًا}: مفعول ثان، أو حال من إبراهيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}. {وَلِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَا} الموصولة، والجملة

الإسمية مستأنفة، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُحِيطًا}: وهو خبر {كان} وجملة {كان} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}: النجوى (¬1) مصدر كالدعوى، يقال نجوت الرجل أنجوه نجوى، من باب دعا، إذا ناجيته، قال الواحدي: ولا تكون النجوى إلا بين اثنين، وقال الزجاج: النجوى ما انفرد به الجماعة، أو الاثنان سرًّا كان أو ظاهرًا انتهى. وقال ابن عطية: النجوى المسارة بالحديث، وتطلق النجوى على القوم المتناجين؛ أي: المتسارين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر، وقال الكرماني: النجوى جمع نجي، كقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}، {أَوْ مَعْرُوفٍ} المعروف هو ما تعرفه النفوس وتقره، وتتلقاه بالقبول. {ابْتِغَاءَ} مصدر ابتغى الخماسي من باب افتعل، ثلاثية بغى - من باب رمى - يبغى بغاء، بضم أوله، وبغيًا وبغية إذا طلب الشيء، {مَرْضَاتِ} مصدر ميمي بمعنى الرضوان؛ لأنه على وزن مفعلة، فأصله مرضوة فألفه بدل من الواو، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} شاقق من باب فاعل، والمشاقة المعاداة والمخالفة، مأخوذة من الشق، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر، وإنما جاز إظهار القاف الأولى هنا؛ لأن الثانية سكنت بالجزم، وحركتها عارضة لالتقاء الساكنين. {مَرِيدًا} المَريدُ العاتي المتمرد، من مَرُدَ - من باب ظرف - إذا عتا وتجبر، والمرِّيد - بوزن السكِّيت - الشديد المرادة والعتو، قال الأزهري: يقال مرد الرجل إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد، ويقال مرد الرجل إذا عتا وعلا في الحذاقة وتجرد للشر والغواية، قال ابن عيسى: وأصله التملس يقال شجرة مرداء؛ أي: ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملس، لا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{فَلَيُبَتِّكُنَّ} من البتك وهو الشق والقطع، ومنه سيف باتك؛ أي: قاطع، يقال بتك يبتك - من بابي ضرب ونصر - بتكًا إذا شقه أو قطعه، وبتَّك بالتشديد للتكثير، كما في الآية. والبِتَكُ بكسر أوله وفتح ثانيه بوزن عنب القطع من الشيء واحدها بتكة، بفتح أوله وسكون ثانيه قال الشاعر: حَتَى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيْدِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِيْ كَفِّهِ مِنْ رِيْشِهَا بِتَكُ {مَحِيصًا}، المحيص مفعل من حاص يحيص - من باب باع - حيصًا وحيوصًا ومحاصًا ومحيصًا، وحيصانًا بفتح الياء إذا حاد وعدل عنه، أو زاغ بنفور، ومنه فحاصوا حيصة حمر الوحش، ومنه قول الشاعر: وَلَمْ نَدْرِ أَنَّ حِصْنًا مِنَ الْمَوْتِ حِيْصَةٌ ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ وَالْمَدَا مُتَطَاوِلُ ويقال ما منه محيص؛ أي: محيد ومهرب، والمحاص مثل المحيص قال الشاعر: تَحِيْص مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِدًا ... مَا لِلرِّجَالِ عَنِ الْمَنُوْنِ مَحَاصُ وفي المثل: وقعوا في حيص بيص، وحاص باص إذا وقع في أمر لا يقدر على التخلص منه، ويقال حاص يحوص - من باب قال - حوصًا وحياصًا إذا نفر وزايل المكان الذي فيه، والحوص في العين ضيق مؤخرها. {قِيلًا} القيل مصدر كالقول والقال، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران، ونصبه هنا على التمييز كما مر. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الأماني واحدها أمنية، وهي الصورة التي تحصل في النفس من تمني الشيء وتقديره، وكثيرًا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له، ومن ثم يعبرون به عن الكذب، كما قال عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، {حَنِيفًا} الحنيف فعيل بمعنى فاعل، فالحنيف المائل عن الزيغ والضلال إلى الحق والعدل. {خَلِيلًا} الخليل فعيل من الخلة بفتح الخاء، وهي الفقر والفاقة؛ لأنه جعل فقره وحاجته إلى الله، أو من الخلة بضم الخاء وهي المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها، أو من الخَلَل، قال ثعلب: إنما

سمي الخليل خليلًا؛ لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللًا إلا ملأته وأنشد قول بشار: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّيْ ... وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيْلُ خَلِيْلَا وخليل إما فعيل بمعنى فاعل، كالعليم بمعنى العالم، وإما بمعنى مفعول، كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوبًا للَّه ومحبًّا له. {مُحِيطًا} اسم فاعل من أحاط الرباعي يحيط إحاطة، كأعان يعين إعانة؛ أي: عالمًا بكل شيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها قليلها وكثيرها. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع (¬1): منها: التجنيس المغاير في قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا}، وفي قوله: {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا}، وفي قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} و {وَهُوَ مُحْسِنٌ}. ومنها: التكرار في قوله: {لَا يَغْفِرُ} و {يَغْفِرُ}، وفي قوله: {يُشْرِكْ} {وَمَنْ يُشْرِكْ}، وفي {لآمرنهم}، وفي: اسم الشيطان، وفي قوله: {يَعِدُهُمُ} و {ما يعدهم}، وفي الجلالة، في مواضع، وفي قوله: {بِأَمَانِيِّكُمْ} {وَلَا أَمَانِيِّ}، وفي قوله: {مَنْ يَعْمَلْ}، وفي {إِبْرَاهِيمَ}. ومنها: الطباق المعنوي في قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ}، و {الْهُدَى}، وفي قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، و {لِمَنْ يَشَاءُ} يعني المؤمن، وفي قوله: {سُوءًا} و {الصَّالِحَاتِ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ} وفي قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} و {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وفي قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: المقابلة في قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. ومنها: التأكيد بالمصدر في قوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَجْهَهُ لِلَّهِ}، عبر به عن القصد أو الجهة، وفي قوله: {مُحِيطًا} عبر به عن العلم بالشيء، من جميع جهاته. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}. المناسبة قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها ظاهرة بالنظر (¬1) إلى ما كانت عليه العرب من تربيع كلامها، أنها تكون في أمر ثم تخرج منه إلى شيء، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولًا، وهكذا كتاب الله سبحانه وتعالى، يبين فيه أحكام تكليفه، ثم يعقب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ثم يعقب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ذلك بذكر المخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله، ثم يعود لتبيين ما تعلق بتلك الأحكام السابقة، وقد عرض هنا في هذه السورة أن بدأ بأحكام النساء والمواريث وذكر اليتامى، ثم ثانيًا بذكر شيء من ذلك في هذه الآية، ثم أخيرًا بذكر شيء من المواريث أيضًا، ولما كانت النساء مطروحًا أمرهن عند العرب في الميراث وغيره، وكذلك اليتامى .. أكد الحديث فيهن مرارًا ليرجعوا عن أحكام الجاهلية. وعبارة المراغي هنا: لما كان الكلام (¬1) أول السورة في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} إلى هنا في أحكام عامة في أسس الدين وأصوله، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال .. عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء، لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين المرأة واليتيم، وجعلت للنساء حقوقًا مؤكدة في المهر والإرث، وحرمت ظلمهن، وأباحت تعدد الزوجات، وحددت العدد الذي يحل منهن حين عدم الخوف من الظلم، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن يقع الاشتباه في حقيقة العدل الواجب بين النساء، هل يدخل العدل في الحب أو في لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة، والتبسط في الاستمتاع بها، أو لا؟ وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب في نكاحها؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدي منه؟ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) وتعالى لما أمر أولًا بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين .. بين هنا أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد؛ لأن كل ما في السموات والأرض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

ملكه، فهو مستغن عنهم، وقادر على تثبيتهم على طاعته فيما شرعه لخيرهم ومصلحتهم، بل ليزدادوا بتدبرها إيمانًا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة .. أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى، وفي الشهادة حقوق لله، أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا، وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة .. بين أن كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه ذكر في هذه السورة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم، وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله، وذكر قصة بن أبيرق، واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل، وندب للمصالحة .. أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأتى بصيغة المبالغة في {قَوَّامِينَ} حتى لا يكون منهم جور ما. وقيل: المناسبة أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) بالقسط في اليتامى والنساء، في سياق الاستفتاء فيهن؛ لأن حقهن آكد، وضعفهن معهود .. عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس؛ لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام لا يتم إلا به، وبما فيه من الشهادة لله بالحق، ولو على النفس والوالدين والأقربين، وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره؛ لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوي القربى؛ لأنه يعتز بهم، كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفهن وعدم الاعتزاز بهن. قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة لله .. بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية، فأمر بها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية، قالت (¬1): هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها، قد شركته في مالها حتى في المذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلًا فيشركه في مالها، فيعضلها، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: كان لجابر بنت عم دميمة، ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا يُنكِحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه. قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري (ج 9/ ص 334) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك. الحديث رواه مسلم (ج 8/ ص 157). وقد أخرج أبو داود والترمذي والطيالسي، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي وابن جرير: أنها نزلت في شأن سودة، أخرجه الترمذي والطيالسي وابن جرير من حديث ابن عباس، وأخرجه أبو داود والحاكم وابن جرير أيضًا من حديث عائشة، ولفظ أبي داود: قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان كل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك منها، قالت: تقول في ذلك أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ وفي أشباهها، أراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[127]

وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي عن رافع بن خديج أنه كان تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثر البكر عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير .. قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأمر، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني أصبر على الأثرة، ثم آثر عليها فلم تصبر على الأثرة، فطلقها الأخرى، وآثر عليها الشابة، قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله قد أنزل فيه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}. وأخرج الحاكم (¬1) عن عائشة قال: نزلت هذه الآية: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} في رجل كانت تحته امرأة قد ولدت له أولادًا، فأراد أن يستبدل بها، فراضته على أن تقر عنده ولا يقسم لها. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: جاءت امرأة حين نزلت هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ...} قالت: إني أريد أن تقسم لي من نفقتك، وقد كانت رضيت أن يدعها فلا يطلقها ولا يأتيها، فأنزل الله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختصم إليه رجلان غني وفقير، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير. التفسير وأوجه القراءة 127 - {وَيَسْتَفْتُونَكَ}؛ أي: يستخبرك ويسألك يا محمد جماعة من الصحابة ما أشكل عليهم {فِي} شؤون {النِّسَاءِ} وحقوقهن، ويطلبونك ببيان ما غمض وخفي عليهم من أحكامهن، من جهة حقوقهن المالية والزوجية، كالعدل في المعاشرة ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

وحين الفرقة والنشوز، والاستفتاء طلب الفتوى، وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه، قال المفسرون: والذي استفتوه فيه هو ميراث النساء والصغار، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد، فلما نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .. قالوا: يا رسول الله كيف ترث المرأة والصغير، وكيف نعطي المال من لا يركب فرسًا، ولا يحمل سلاحًا، ولا يقاتل عدوًّا؟ فأجابهم بهذه الآية فقال: {قُلِ} لهم يا محمَّد في جواب استفتائهم {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُفْتِيكُمْ}؛ أي: يبين لكم ما أشكل عليكم {فِيهِنَّ}؛ أي: في حقوقهن وشؤونهن من الميراث والمعاشرة وغير ذلك، بما يوحيه إليك من الأحكام المبينة في الأحاديث، وبما سيأتي من الآيات الكريمة المتعلقة بشؤون النساء، {و} يبين لكم أيضًا {ما يتلى} ويقرأ {عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {فِي الْكِتَابِ}؛ أي: في القرآن مما نزل في أول هذه السورة {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}؛ أي: في بيان حقوق اليتامى من النساء، وقرىء (¬1) {في يتامى النساء} بيائين والأصل أيامى النساء، فأبدلت الهمزة ياء، كما قالوا: فلان ابن أعصر ويعصر، {اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}؛ أي: اللاتي لا تعطونهن ما وجب لهن من الميراث أو الصداق، وذلك لأنهم يورثون الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار، فإنهم لا يعطونهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديهم لولايتهم عليهن، {وَتَرْغَبُونَ}؛ أي: تطمعون في {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وتتزوجوهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن، أو ترغبون وتعرضون عن أن تنكحوهن وتتروجوهن لدمامتهن، وتمسكوهن رغبة في مالهن، فلا تنكحوهن ولا تُنكحوهن غيركم حتى يبقى مالهن في أيديكم، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة .. تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة .. عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها، والمراد بالذي يتلى في يتامى النساء هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ..} الآية، وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} معطوف على يتامى النساء؛ أي: ويبين لكم ما يتلى ¬

_ (¬1) العكبري.

ويقرأ عليكم أيضًا في شأن المستضعفين من الولدان والصغار، الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث، وقد كانوا يورثون الرجال دون الأطفال والنساء، والمراد بالذي يتلى في حق المستضعفين قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، وقوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} معطوف أيضًا على يتامى النساء؛ أي: ويبين لكم ما يتلى ويقرأ عليكم أيضًا في أن تقوموا لليتامى بالقسط؛ أي: يتلى عليكم في طلب قيامكم بالقسط والعدل في شؤون اليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين، بأن تهتموا بهم اهتمامًا خاصًّا، وتعتنوا بشأنهم، ويجري العدل في معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه، ولا خيرة في شأنه، والمراد بالذي يتلى في {أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} قوله تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}. والخلاصة: أن الذي يتلى في الضعيفين - المرأة واليتيم - هو ما تقدم في أول السورة، وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها، ثم يعملوا بها، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم، وتؤنبهم على اتباع شهواتهم. واعلم: أن المفهوم من الآية كون المفتي اثنين: أحدهما: الله سبحانه وتعالى، يفتي ويبين بما يوحي إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الواردة في حقوق النساء واليتامى وشؤونهن، وبما سيأتي من الآيات الكريمة، كالآية التالية لهذه الآية من قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا}، وغيرها من الآيات المتعلقة بشؤون النساء. والثاني: الكتاب يفتي ويبين بما يتلى منه في أول هذه السورة من الآيات النازلة في شؤونهن، والله أعلم بمعنى كتابه، فتأمل، وفيه مزيد اعتناء بتلك الفتوى. ثم رغبهم في العمل بما فيه فائدة لليتامى، وحبب إليهم النصفة فقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ}؛ أي: وما تفعلوا من الخير أو الشر ففيه اكتفاء لليتامى، {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ بِهِ}؛ أي: بذلك الخير المفعول {عَلِيمًا} لا يعزب عن علمه شيء، ولا يضيع عنده شيء، فيجازيكم عليه، وهذا وعد لمن آثر الخير لهم.

[128]

128 - {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ}؛ أي: وإن خافت وتوقعت امرأة وزوجة {مِنْ بَعْلِهَا} وزوجها {نُشُوزًا}؛ أي: ترفعًا عليها بما لاح لها من قرائن وأمارات، بأن منعها نفسه ونفقتها، والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك، {أَوْ إِعْرَاضًا} عنها بوجهه، بأن قلل من محادثتها ومؤانستها، لبعض أسباب من طعن في سن، أو دمامة، أو شيء في الأخلاق والخلق، أو ملال لها، أو طموح إلى غيرها، أو نحو ذلك. ولكن الواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض، فربما كان الذي شغله من مسامرتها والرغبة في مباعلتها عوارض من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية، وهي أسباب خارجية لا دخل لها فيها، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها، وحينئذ عليها أن تعذره وتصبر على ما لا تحب من ذلك، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}؛ أي: فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة حنيئذ في {أَنْ يُصْلِحَا} ويتوافقا فيما {بَيْنَهُمَا} ويفعلا {صُلْحًا}؛ أي: أمرًا فيه صلاح وموافقة لهما عليه، كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة، أو المبيت معها، أو بحقها كله فيهما، أو في أحدهما لتبقى في عصمته مكرمة، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق، أو بكل ذلك ليطلقها كما جاء في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها، لاعتقادها أن الخير لها في ذلك؛ بلا ظلم ولا إهانة. وقد روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت له: لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلى، فأقرها على ما طلبت بعد ما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك، وأنزلت الآية فيه. وهذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء، مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة، وقرأ الكوفيون (¬1): {يُصْلِحَا} من أصلح الرباعي على وزن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أكرم، وقرأ باقي السبعة: {يُصْلِحَا} وأصله يتصالحا وأدغمت التاء في الصاد، وقرأ عبيدة السلماني {يصالحا} من المفاعلة، وقرأ الأعمش: {أن أصالحا}، وهي قراءة ابن مسعود جعل ماضيًا، وأصله تصالح على وزن تفاعل، فأدغم التاء في الصاد، واجتلبت همزة الوصل، والصلح ليس مصدرًا لشيء من هذه الأفعال التي قرئت، فإن كان اسما لما يصلح به كالعطاء من أعطى .. فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجر؛ أي: يصلح؛ أي: بشيء يصطلحان عليه، ويجوز أن يكون مصدرًا لهذه الأفعال على حذف الزوائد. {وَالصُّلْحُ}؛ أي: والمسامحة والمصالحة على شيء مما سبق ذكره {خَيْرٌ} من سوء العشرة وكثرة الخصومة، أو خير من التسريح والفراق؛ لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط، وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق، وعروض الخلاف بين الزوجين، وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها، وأفعل التفضيل في قوله: {خَيْرٌ} ليس على بابه. وأجمل ما جاء في الإِسلام لمنع الخلاف بين الزوجين هو المساواة بينهما في كل شيء، إلا القيام برياسة الأسرة، لأنه أقوى من المرأة بدنًا وعقلًا، وأقدر على الكسب، وعليه النفقة كما جاء في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف، وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع، {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}؛ أي: جعلت الأنفس عرضة وهدفًا للشح والبخل، وجعل الشح حاضرًا لها لا يغيب عنها، ولا ينفك عنها أبدًا، والفعل فيه مبني للمفعول، والمعنى: أحضر الله الأنفس الشح؛ أي: جبلها عليه، فمتى تعلقت الأنفس بشيء منه .. فلا ترجع عنه إلا بمشقة، يعني: أن أنفسهما بل أنفس كل إنسان طبعت وجبلت على البخل بما يلزمها، أو بما يحسن فعله من الخيرات، فإذا عرض لها داع من دواعي البذل .. ألم بها الشح والبخل، ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، والرجال حريصون على أموالهم أيضًا، فينبغي أن يكون التسامح بينهما كاملًا؛ إذ هما قد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بذلك الميثاق العظيم، وأفضى بعضهما إلى بعض،

[129]

وقرأ العدوي (¬1): {الشح} بكسر الشين، وهي لغة. ثم رغب في بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع، فقال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} أيها الأزواج العشرة مع نسائكم، وإن كرهتموهن، بأن تسووا بين الشابة والعجوز في القسم والنفقة، {وَتَتَّقُوا} ما يؤدي إلى الأذى والخصومة من الجور والميل، وتجتنبوا أسباب النشوز والإعراض، وما يترتب عليهما من الشقاق .. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه يجازيكم على ذلك الإحسان والتقوى، ويثيبكم عليهما، لأنه تعالى: {كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسان وغيره {خَبِيرًا}؛ أي: عالمًا لا يخفى عليه شيء منه، فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى، وكان عمران بن حطان الخارجي من أُدم الناس، وامرأته من أجملهن، فأجالت في وجهه نظرها، ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لَكِ؟ فقالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين. 129 - ثم بين أن العدل بين النساء في الميل القلبي في حكم المستحيل، فعلى الرجل أن يفعل جهد المستطاع، فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا}؛ أي: ولن تقدروا أيها الأزواج على {أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}؛ أي: على العدل والتسوية بين الزوجات في الحب وميل القلب، {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وجهدتم وتحريتم وبالغتم، وكلفتم أنفسكم على التسوية بينهن في الحب والميل القلبي، حتى لا يقع ميل إلى إحداها بلا زيادة ولا نقص، ولو قدرتم لما قدرتم على إرضائها به، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم، وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون، بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء، ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولهذا خفف الله ذلك عنكم، وبين أن العدل الكامل غير مستطاع، ولا يتعلق به تكليف {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}؛ أي: وإذا كان ذلك غير مستطاع لكم، فعليكم أن لا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن في القسم والنفقة، وتعرضوا عن الأخرى {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}؛ أي: فتتركوا التي أعرضتم عنها فتجعلوها كأنها ليست ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالمتزوجة ولا بالمطلقة، لا أيِّمًا ولا ذات بعل، كالشيء المعلق، لا هو في السماء ولا هو على الأرض، بل هو في تعب، وقيل معناه: كالمسجونة، لا هي مخلصة فتتزوج، ولا هي ذات بعل فيحسن إليها، فإن الذي يُغفر لكم من الميل ويسامَح لكم هو ما لا يدخل تحت اختياركم، ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال، أما ما يقع تحت اختياركم، فعليكم أن تقوموا به إذ لا هوادة فيه. والمعنى (¬1): أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي؛ لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل في القول والفعل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما .. جاء يوم القيامة وشقه ساقط" أخرجه الترمذي. وعند أبي داود: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما .. جاء يوم القيامة وشقه مائل". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل، فيقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يعني: القلب، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقرأ أبي (¬2): {فتذروها كالمسجونة}، وقرأ عبد الله: {فتذروها كأنها معلقة}. {وَإِنْ تُصْلِحُوا} في معاملة النساء {وَتَتَّقُوا} ظلمهن، وتفضيل بعضهن على بعض، فيما يدخل في اختياركم كالقسم والنفقة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: فإن الله تعالى يغفر لكم ما دون ذلك، مما لا يدخل في اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك، أو المعنى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا} ما مضى من ميلكم، وتتداركوه بالتوبة {وَتَتَّقُوا} في المستقبل عن مثله .. غفر الله لكم ذلك، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} فيغفر ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض، ويتفضل عليكم برحمته. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[130]

وفي الآية عظة وعبرة لمن يتأمل من عباد الشهوات، الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية، دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، ولا يلاحظون أمر النسل وصلاح الذرية، هؤلاء السفهاء الذواقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا، ولا باعث لهم إلا حب التنقل، والملل من السابقة، ولا يخطر لهم أمر العدل في بال، عليهم أن يتقوا الله تعالى، ويفكروا في ميثاق الزوجية، وفي حقوقها المؤكدة، وفي عاقبة نسلهم، وشؤون ذريتهم، وفي حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء، وفي حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات. 130 - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق، فقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا}؛ أي: وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان أن لا يقيما حدود الله، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها، وأراد أن يتزوج غيرها، أو كان عنده زوجتان ولم يقدر على العدل بينهما .. {يُغْنِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {كُلًّا} منهما عن صاحبه {مِنْ سَعَتِهِ}؛ أي: بسعة فضله، ووافر إحسانه وجوده، فقد يسخر للمرأة رجلًا خيرًا منه، كما يهيء له امرأة أخرى، تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده، ويكون عيشه أهنأ من عيشه الأول بفضله تعالى، ولن يكون كل منهما جديرًا بعناية الله تعالى وإغنائه عن الآخر إلا إذا التزما حدود الله، بأن اجتهدا في الوفاق والصلح، وظهر لهما بعد التفكير والتروي في الأسباب أنه غير مستطاع، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجي واختلاق الأكاذيب، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها، أو يترفع عليها، بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة .. رأى فيها أفضل صفات الزوجية، وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف، أو يسرحها بإحسان، ولا

[131]

يلجؤه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله، {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَاسِعًا} في العلم والقدرة والرحمة والفضل والجود {حَكِيمًا}؛ أي: متقنًا في أفعاله وأحكامه التي شرعها لعباده وفق مصالحهم. فصل فيما يتعلق بهذه الآيات من الأحكام واعلم أن الرجل إذا كان تحته امرأتان فأكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم .. عصى الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك، وعليه القضاء للمظلومة، والتسوية في البيتوتة واجب، أما في الجماع فلا، لأن ذلك يدور على النشاط وميل القلب، وليس ذلك إليه، ولو كان في نكاحه حرة وأمة .. قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة. وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده .. فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال، إن كانت الجديدة بكرًا، وإن كانت ثيبًا .. خصها بثلاث ليال، ثم إنه يستأنف القسم بينها وبينهن، ويسوي بينهن كلهن، ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات، ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا وقسم، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجاه في "الصحيحين". وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض أزواجه، بشرط أن يقرع بينهن، ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. أخرجه البخاري مع زيادة فيه. وإذا أراد الرجل سفر نُقلَةٍ .. وجب عليه أخذ نسائه معه. 131 - {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: له جميع ما فيهما من المخلوقات خلقًا وعبودية وملكًا، فهو مدبر الأكوان، فلا يتعذر عليه

الإغناء بعد الفقر، ولا الإيناس بعد الوحشة، إلى نحو هذا مما ينبىء بعظيم القدرة، وكمال الجود والإحسان، فهذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أمرنا الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، وغيرهم من سالف الأمم، فيما أنزلناه عليهم من الكتب {و} أمرنا {إِيَّاكُمْ} يا أهل القرآن، في كتابكم المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أمرناهم وإياكم جميعًا بـ {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} وخافوا عقابه بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فبتقوى الله تعالى ترقى معارفكم، وتزكوا نفوسكم، وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية، {و} قلنا لهم ولكم: {إِنْ تَكْفُرُوا} نِعَمَ الله عليكم، وتجحدوا فضله وإحسانه لكم .. {فَإِنَّ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى جميع المخلوقات لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد وصاكم وإياهم بهما؛ لرحمته لكم، لا لحاجته إليكم؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عنكم؛ لأن له تعالى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من المخلوقات والخزائن. وفائدة (¬1) هذا التكرير التأكيد، ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غني عن خلقه، ثم زاد ما سلف توكيدًا فقال: {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَنِيًّا} عن خلقه، وعن عباداتهم، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، {حَمِيدًا} في ذاته وصفاته وأفعاله؛ أي: مستحقًا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منكم فهو لا يحتاج إلى شكركم، لتكميل نفسه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم .. ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم .. ما نقص ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته .. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[132]

البحر، يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا .. فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك .. فلا يلومن إلا نفسه". رواه مسلم. 132 - ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى، لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقًا وملكًا، يتصرف فيهما كيفما شاء، إيجادًا وإعدامًا وإحياء وإماتة {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}؛ أي: وكفى به سبحانه وتعالى قيمًا وكفيلًا يوكل به، ويفوض إليه أمر العباد في أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم، 133 - {إِنْ يَشَأ}؛ أي: إن يرد الله سبحانه وتعالى إعدامكم واستئصالكم .. {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}؛ أي: يستأصلكم ويعدمكم بالمرة أيها المشركون من الأرض {وَيَأتِ بِآخَرِينَ}؛ أي: ويوجد قومًا آخرين من الإنس، أو من غيره، موحدين له، يحلون محلكم في الحكم والتصرف، فهو قادر على ذلك؛ لأن كل ما في السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه. والمعنى: إن يشاء إفناءكم بالكلية وإيجاد قوم آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه يفنكم بالمرة ويوجد مكانكم قومًا خيرًا منكم وأطوع لله تعالى. والخلاصة: أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه، لا لعجز عن ذلك تعالى الله علوًّا كبيرًا. وفي هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقاومون دعوته، وتنبيه للناس إلى التأمل في سنن الله تعالى التي جرت في حياة الأمم وموتها، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة .. وقعت لا محالة. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى ذَلِكَ}؛ أي: على إهلاككم وإذهابكم من الأرض وإخلاف غيركم مكانكم {قَدِيرًا}؛ أي: قادرًا إذ بيده ملكوت كل شيء، لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك، 134 - {مَنْ كَانَ} منكم أيها الناس {يُرِيدُ} ويقصد بسعيه وجهاده في حياته {ثَوَابَ الدُّنْيَا} ونعيمها ومتاعها بالمال والجاه ونحوهما، فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين من الله تعالى {فَعِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}؛ أي: بيده ثوابهما، فلا يضيع نفسه بالاقتصار على الثواب

[135]

الفاني، فإن العاقل يطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك، ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع. والمعنى: فعند الله تعالى ثواب الدارين جميعًا، بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس، فعليكم أن تطلبوهما معًا، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى، وتتركوا أعلاهما وهو ما يبقى، مع أن الجمع بينهما هين ميسور لكم، وهو تحت قدرتكم وسلطانكم، فمن خطل الرأي أن تتركوا ذلك، وترغبوا عنه، بل عليكم أن تقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. والخلاصة: أن من أراد بعمله الدنيا .. آتاه الله منها ما أراد، وصرف عنه من شرها ما أراد، وليس له ثواب في الآخرة يجزى به، ومن أراد بعمله وجه الله وثواب الآخرة .. فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، يؤتيه من الدنيا ما قدر له، ويجزيه في الآخرة خير الجزاء ذكره في "الخازن". وفي الآية (¬1) إيماء إلى أن الدين يهدي أهله إلى السعادتين، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته، وفي الآية أيضًا (¬2) تعريض بالكفار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث، وكانوا يقولون: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، وظاهر (¬3) الآية العموم، وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين، {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَمِيعًا} لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم {بَصِيرًا} بجميع أمورهم في سائر حالاتهم، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال، وبذلك تزكو نفوسهم، وتقف عند حدود الفضيلة، التي بها تستقيم أمورهم في دنياهم، ويستعدون لحياة أبدية في آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم. 135 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {كُونُوا قَوَّامِينَ}؛ أي: مبالغين في القيام {بِالْقِسْطِ} والعدل وإثباته، ومديمين القيام، فمن عدل مرة أو مرتين. لا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الواحدي. (¬3) الشوكاني.

يكون في الحقيقة قوامًا؛ أي: فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم، راسخةً في نفوسكم، والعدل كما يكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان، أو يحكمه الناس فيما بينهم، يكون في العمل، كالقيام بما يجب بين الزوجات والأولاد من النصفة والمساواة بينهم، ولو سار المسلمون على هدى القرآن .. لكانوا أعدل الأمم، وأقومهم بالقسط وقد كانوا كذلك ردحًا طويلًا من الدهر، حين كانوا مهتدين بهديه، ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم، وسلكوا مسالك اليهود والنصارى، فصارت تضرب بهم الأمثال في ظلم حكامهم وسوء أحوالهم، وكانوا {شُهَدَاءَ} بالحق مخلصين {لِلَّهِ} بأن تتحروا الحق الذي يرضاه ويأمر به، من غير مراعاة أحد ولا محاباته، {وَلَوْ} كانت الشهادة {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فاشهدوا عليها، بأن تقروا بالحق ولا تكتموه، فإن من أقر على نفسه بحق .. فقد شهد عليها، لأن الشهادة إظهار الحق {أَوِ} كانت الشهادة على {الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} لكم؛ أي: ولو كانت الشهادة على والديكم، أو على أقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوانكم، إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوي الرحم أن يعاونوا على ما ليس بحق لهم، بالإعراض عن الشهادة عليهم أوليها والتحريف فيها، بل البر والصلة في الحق والمعروف، والشهادة على الوالدين بأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب برهما، وكونهما أحب الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين؛ لأنهم مظنة المودة والتعصب. وليس من شك في أن الحياة قصاص، فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس، يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة من أسباب فشو الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها، {إِنْ يَكُنْ} المشهود عليه من الوالدين والأقربين وغيرهم وهم الأجانب {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} وسواء كان المشهود له غنيًّا أو فقيرًا، فلا تمتنعوا من الشهادة عليهما، طلبًا لرضى الغني، أو ترحمًا على الفقير، {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} منكم؛ أي: فإن الله سبحانه وتعالى أولى وأحق برعاية مصالحهما، وإصلاح شؤونهما منكم؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا .. فليشهد عليه، فالله أولى وأقرب بجنس الغني والفقير منكم، وشرعه

أحق أن يتبع فيهما، فحذار أن تحابوا غنيًّا طمعًا في بره، ولا خوفًا من أذاه وشره، ولا فقيرًا عطفًا عليه، وشفقةً به، فمرضاة كل منهما ليست خيرًا لكم ولا لهما من مرضاة الله، ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما، ولولا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه .. لما شرع ذلك ولا أوجبه. وقرأ عبد الله: {إن يكن غني أو فقير} على أن كان تامة، وفي قراءة أبي: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِم} فالضمير عليها عائد على الأغنياء والفقراء، فالمراد حينئذ بالغني والفقير الجنس، {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} والشهوات إرادة {أَنْ تَعْدِلُوا} عن الحق وتميلوا عنه، وتجوروا فيه، فهو حينئذ من العدول بمعنى الميل عن الحق، أو المعنى: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، فهو حينئذ من العدل ضد الجور، والمعنى على الأول: فلا تتبعوا الهوى والتشهي لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل إذ في الهوى الزلل، {وَإِنْ تَلْوُوا} قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي: بإسكان اللام وبعدها واوان، الأولى مضمومة والثانية ساكنة، من اللي، والمعنى على هذه القراءة: وإن تلفوا ألسنتكم عن الشهادة بالحق إلى الباطل، وتحرفوها عنه بأن شهدتم بالباطل على خلاف ما يعلم من الدعوى، {أَوْ تُعْرِضُوا} وتمتنعوا عن أداء الشهادة بالكلية، وتنكروها من أصلها، فالعطف مغاير، خلافًا لمن قال بالترادف، فالمراد من اللّيّ هنا: أداء الشهادة على غير وجهها الذي تستحق الشهادة أن تكون عليه. ومن الإعراض: أن لا يقوم بها أصلًا بوجه ما. والحاصل: أن اللفظين يختلفان باختلاف المتعلق، وقيل: إن الليَّ مثل الإعراض في المعنى، قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ}؛ أي: أعرضوا. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}؛ أي: فإن الله تعالى خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه قصدكم، فهو مجازيكم بما تعملون، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسىء المعرض بإساءته. وعبر (¬1) بالخبير ولم يعبر بالعليم؛ لأن الخبرة: العلم بدقائق الأمور ¬

_ (¬1) المراغي.

[136]

وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال، حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه، ويلتمس المعاذير في كتمان الشهادة أو تحريفها، فليتدبر المسلمون ذلك، و {ليعلموا} بهدي كتابهم، ويقيموا الشهادة، ففي ذلك فلاحهم في دينهم ودنياهم، وقرأ حمزة وابن عامر: {وَإِنْ تَلْوُوا} بلام مضمومة وواو واحدة ساكنة من الولاية، والمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها أو تعرضوا عن أدائها .. فإن الله كان بما تعملون خبيرًا. وقيل (¬1): الخطاب على كلا القراءتين للحاكم، والمعنى على القراءة الأولى: وإن تلووا أيها الحكام؛ أي: تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر، أو تعرضوا عنه بالكلية. وعلى القراءة الثانية: وإن تلوا أيها الحكام أمور المسلمين وتضيعوهم، أو تعرضوا عنهم بالكلية. 136 - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب (¬2) لكافة المسلمين، وذكر ذلك عقب الأمر بالعدل؛ لأنه لا يكون عدل إلا بعد الاتصاف بالإيمان، فهو من ذكر السبب بعد المسبب، وقوله فيما يأتي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ...} إلخ، بيان للطريق التي تفسد الإيمان، وهي الردة لتجتنب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {آمِنُوا بِاللَّهِ}؛ أي: داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان بالله، وازدادوا فيه طمأنينة ويقينًا، {و} آمنوا بـ {رسوله} محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه {و} آمنوا بـ {الكتاب الذي نزل} الله سبحانه وتعالى بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة؛ لأن صيغة التفعيل تفيد التكرير كما قاله الزمشخري، {عَلَى رَسُولِهِ} محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، بالعمل بما فيه من الأوامر والنواهي وهو القرآن الكريم {و} آمنوا بـ {الكتاب الذي أنزل من قبل}؛ أي: وبجنس الكتب التي أنزل الله تعالى من قبل القرآن على الرسل السالفة من قبل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود وغيرها؛ أي: آمنوا بأنها حقة منزلة من عند الله تعالى، فإنه سبحانه وتعالى لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى، وقرأ (¬3) ابن كثير وأبو ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف. (¬2) الفتوحات. (¬3) البحر المحيط.

عمرو وابن عامر: {نزل} و {أنزل} بالضم مبينًا للمفعول، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما مبينًا للفاعل. وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر، توعد من كفر بذلك فقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ} ويجحد {بـ} وجود {اللَّهِ} سبحانه وتعالي {و} بوجود {وَمَلَائِكَتِهِ وَ} بإنزال {كُتُبِهِ} السماوية، وقرىء: {وكتابه}، {و} بإرسال {رُسُلِهِ وَ} بمجيء {الْيَوْمِ الْآخِرِ} مع ما فيه من الحساب والميزان والجزاء والجنة والنار؛ أي: من يكفر بواحد من هذه المذكورات، وهذه كلها أسس الإيمان وأركانه .. {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ عن صراط الحق، الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم، {ضَلَالًا بَعِيدًا} بحيث يعسر العود من الضلال إلى سواء الطريق. ومن فرق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى .. فلا يعتد بإيمانه؛ لأنه إما يتبع الهوى، أو يقلد عن جهل وعمى، ذلك أن سر الرسالة هي الهداية، ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض، فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل .. كان كفره بها دليلًا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانًا صحيحًا مبنيًّا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية. وإنما ذكر (¬1) الرسول فيما سبق؛ لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا؛ لذكر الكتب جملة .. فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله. الإعراب {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{وَيَسْتَفْتُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، {فِي النِّسَاءِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ، {يُفْتِيكُمْ}: فعل ومفعول، {فِيهِنَّ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلِ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع معطوفة على الضمير المستتر في {يُفْتِيكُمْ} على كونه فاعلًا لـ {يُفْتِيكُمْ}، وسوغ العطف عليه جريان الجار والمجرور مجرى التأكيد، {يُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {يُتْلَى}، {فِي الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُتْلَى}، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {يُتْلَى}، {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما (¬1) تتعلق به الجار والمجرور قبله، لأن معناهما مختلف، فالأولى ظرف، والثانية بمعنى الباء؛ أي: بسبب اليتامى، كما تقول جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد، وقيل: الثانية بدل من الأولى، ويجوز أن تكون الثانية تتعلق بـ {الْكِتَابِ}؛ أي: ما كتب في حكم اليتامى، ويجوز أن تكون الأولى ظرفًا والثانية حالًا فتتعلق بمحذوف ذكره أبو البقاء، والإضافة {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} على معنى من أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، {اللَّاتِي}: صفة لليتامى، {لَا}: نافية، {تُؤْتُونَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لآتى؛ لأنه بمعنى أعطى، {كُتِبَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، {لَهُنَّ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {وَتَرْغَبُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {لَا تُؤْتُونَهُنَّ} على كونه صلة الموصول، عطف جملة مثبتة على جملة منفية؛ أي: لا تؤتونهن واللاتي ترغبون ¬

_ (¬1) العكبري.

أو تنكحونهن، كقولك: جاء الذي لا يبخل ويكرم الضيفان، {أَنْ}: حرف مصدر، {تَنْكِحُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ لأن حذف الجار مع أنَّ وأن مطرد، تقديره: وترغبون في نكاحهن، والجار المحذوف متعلق بـ {تَرْغَبُونَ}، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}: معطوف على يتامى النساء، {مِنَ الْوِلْدَانِ}: جار ومجرور حال من {الْمُسْتَضْعَفِينَ}، {وَأَنْ} الواو: عاطفة، {أَنْ تَقُومُوا}: ناصب وفعل وفاعل، {لِلْيَتَامَى}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُومُوا}، {بِالْقِسْطِ}: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على {يَتَامَى النِّسَاءِ}، تقديره: وما يتلى عليكم في قيامكم لليتامى بالقسط، {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {مَا}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم، {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {مَا} على كونه فعل شرط لها، {مِنْ خَيْرٍ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف، {فَإِنَّ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَا} الشرطية، {إِنَّ} حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِهِ}: متعلق بـ {عَلِيمًا}، {عَلِيمًا}: خبر {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية: مستأنفة. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}. {وَإِنِ} {الواو}: استئنافية، {إِنِ}: حرف شرط، {امْرَأَةٌ}: فاعل بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وإن خافت امرأة خافت من بعلها نشوزًا، {خَافَتْ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إِنِ} على كونه فعل شرط لها، {امْرَأَةٌ}: فاعل، {خَافَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {امْرَأَةٌ}، والجملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب، {مِنْ بَعْلِهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَافَتْ}، {نُشُوزًا}: مفعول به، {أَوْ إِعْرَاضًا}: معطوف عليه. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

{فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {إِنِ} الشرطية، {لا}: نافية، {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها، {عَلَيْهِمَا}: جار ومجرور خبر {لا}، تقديره: فلا جناح كائن عليهما، وجملة {لا}: في محل الجزم بـ {إِنِ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنِ} الشرطية: مستأنفة، {أَنْ يُصْلِحَا}: ناصب وفعل وفاعل، {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {صُلْحًا}؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، {صُلْحًا}: منصوب على المصدرية، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فلا جناح عليهما في صلحهما بينهما، والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا}، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة معترضة، لاعتراضها بين جملتي الشرط، كالتي بعدها، {وَأُحْضِرَتِ}: فعل ماض مغير الصيغة، {الْأَنْفُسُ}: نائب فاعل، وهو المفعول الأول لـ {أُحْضِرَ}، {الشُّحَّ}: مفعول ثان، والجملة مستأنفة، {وَإِنْ تُحْسِنُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {إِنِ} الشرطية على كونه فعل لها، {وَتَتَّقُوا}: فعل وفاعل، معطوف عليه، {فَإِنَّ}: {الفاء} رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا، {إِنَّ} حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِمَا تَعْمَلُونَ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرًا}، {خَبِيرًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الجزم جواب {إِنْ} الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)}. {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا}: فعل وفاعل وناصب، والجملة مستأنفة، {أَنْ تَعْدِلُوا}: فعل وفاعل وناصب، {بَيْنَ النِّسَاءِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تعدلوا}، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ولن تستطيعوا العدل بين النساء، {وَلَوْ}: {الواو}: اعتراضية، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {حَرَصْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة

فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب، وجواب {لو} معلوم مما قبله، تقديره: ولو حرصتم فلن تستطيعوا، وجملة {لو}؛ جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، {فَلَا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا}: ناهية، {تَمِيلُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا}، {كُلَّ الْمَيْلِ}: منصوب على المصدرية؛ لأن {كُلَّ} لها حكم ما تضاف إليه، فإن أضيفت إلى المصدر .. كانت مصدرًا، وإن أضيفت إلى ظرف .. كانت ظرفًا، ذكره أبو البقاء العكبري. {فَتَذَرُوهَا}: {الفاء}: عاطفة سببية، {تَذَرُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ولن تستطيعوا العدل بين النساء، فلا يكن منكم ميل كل الميل، فتركها كالمعلقة. {كَالْمُعَلَّقَةِ}: جار ومجرور حال من الهاء في {تَذَرُوهَا}، وإن شئت قلت: {الكاف}: اسم بمعنى مثل في محل النصب مفعول ثان لـ {تذر}؛ لأنها بمعنى ترك، فترك يتعدى إلى مفعولين، {وَإِنْ تُصْلِحُوا}: فعل وفاعل وجازم، مجزوم على كونه فعل الشرط، {وَتَتَّقُوا}: معطوف عليه، {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية، {إِنَّ} حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {غَفُورًا}: خبر أول لها، {رَحِيمًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: في محل الجزم جواب {إِنْ} الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}. {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا}: فعل وفاعل، مجزوم على كونه فعل الشرط، {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا}: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم على كونه جواب الشرط، وجملة {إِنْ} الشرطية: مستأنفة. {مِنْ سَعَتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُغْنِ}، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {وَاسِعًا}: خبر أول لها، {حَكِيمًا}: خبر ثان

لها، وجملة {كَانَ}: مستأنفة معللة لمضمون الجملة التي قبلها. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)}. {وَلِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة معللة لقوله: {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوفة على: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {وَصَّيْنَا}: فعل وفاعل، {الَّذِينَ}: في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل، {الْكِتَابَ}: مفعول ثان؛ لأن أتى بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين، الأول منهما نائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أُوتُوا}، {وَإِيَّاكُمْ}: في محل النصب معطوف على الموصول، {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول وناصب، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله، {وَإِنْ تَكْفُرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية، {إِنَّ} حرف نصب، {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ} على اسمها. {مَا}: موصولة في محل النصب اسم {إِنَّ} مؤخر، {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوفة على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية: معطوفة على جملة القسم أو مستأنفة، {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}: فعل ناقص واسمها وخبرها، والجملة مستأنفة. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا

النَّاسُ وَيَأتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}. {وَلِلَّهِ}: خبر مقدم، {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف عليه، والجملة الإسمية مستأنفة {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل، {وَكِيلًا}: تمييز، والجملة مستأنفة. {إِنْ يَشَأ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}، {يُذْهِبْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}، وجملة {إن} الشرطية: مستأنفة، {أَيُّهَا}: {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء و {ها}: حرف تنبيه زائد، {النَّاسُ}: صفة لـ {أيُّ} تابع للفظه، وجملة النداء جملة معترضة؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، {وَيَأتِ}: معطوف على {يُذْهِبْكُمْ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}، {بِآخَرِينَ}: متعلق به، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {عَلَى ذَلِكَ}: متعلق بـ {قَدِيرًا}، {قَدِيرًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَنْ}، {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {ثَوَابُ الدُّنْيَا}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {يُرِيدُ} في محل النصب خبر {كَانَ}، {فَعِنْدَ اللَّهِ}: {الفاء}: رابطة الجواب، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم، {ثَوَابُ الدُّنْيَا}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب {مَنْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {سَمِيعًا}: خبر أول لها، {بَصِيرًا}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ

وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}. {يَا أَيُّهَا}: {يَا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أيُّ}، وجملة النداء مستأنفة، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {كُونُوا}: فعل أمر ناقص، والواو: اسمها، {قَوَّامِينَ}: خبرها، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {بِالْقِسْطِ}: متعلق بـ {قَوَّامِينَ}، {شُهَدَاءَ}: خبر ثان لـ {كُونُوا}، {لِلَّهِ}: متعلق به {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر لكان المحذوفة مع اسمها، تقديرها: ولو كانت الشهادة كائنة على أنفسكم، وجواب {لو} محذوف، تقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها، وجملة {لو}: مستأنفة، {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}: معطوفان على {أَنْفُسِكُمْ}. {إِنْ}: حرف شرط، {يَكُنْ}: فعل ناقص مجزوم بـ {إن}، واسمها محذوف جوازًا، تقديره: إن يكن المشهود عليه، {غَنِيًّا}: خبرها، {أَوْ فَقِيرًا}: معطوف عليه، {فَاللَّهُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {اللَّهُ}: مبتدأ، {أَوْلَى}: خبره، {بِهِمَا}: متعلق بـ {أَوْلَى}، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: مستأنفة. {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. {فَلَا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا}: ناهية، {تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {الْهَوَى}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} على كونها جواب النداء، {أَنْ تَعْدِلُوا}: فعل وفاعل وناصب، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: فلا تتبعوا الهوى كراهية العدل بين الناس. {وَإِنْ تَلْوُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية، {أَوْ تُعْرِضُوا}: معطوف عليه، {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة الجواب بالشرط، {إِنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِمَا تَعْمَلُونَ}: متعلق بـ {خَبِيرًا}: وهو

خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}. {يَا أَيُّهَا}: {يَا}: حرف نداء، {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أيُّ}، وجملة النداء مستأنفة، {آمَنُوا}: فعل ماض وفاعل، والجملة صلة الموصول، {آمِنُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة جواب النداء، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {آمِنُوا}، {وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ}: معطوفان على لفظ الجلالة، {الَّذِينَ}: صفة للكتاب، {نَزَّلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والكتاب الذي نزله على رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، {عَلَى رَسُولِهِ}: متعلقان بـ {نَزَّلَ} {وَالْكِتَابِ}: معطوف على الجلالة أيضًا، {الَّذِي}: صفة لـ {الْكِتَابِ}، {أَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والكتاب الذي أنزله من قبل، {وَمَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَكْفُرْ}: فعل شرط مجزوم بها، {بِاللَّهِ}: متعلق به، {وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ}: معطوفات على الجلالة، {الْآخِرِ}: صفة لـ {اليوم}، {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ {قد}، {قد}: حرف تحقيق، {ضَلَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {ضَلَالًا}: منصوب على المصدرية، {بَعِيدًا}: صفة له، وجملة {مَنْ} الشرطية: مستأنفة لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {وَيَسْتَفْتُونَكَ}: من باب استفعل السداسي وبناؤه للطلب، يقال استفتى

يستفتي استفتاء، والاستفتاء طلب الإفتاء، ويقال: أفتاه يفتيه إفتاء وفتوىً وفتيًا، وأفتيت فلانًا في رؤياه عبرتها له، ومعنى الإفتاء: إظهار المشكل على السائل، وأصله من الفتى وهو الرجل الشاب الذي قوي وكمل. فالمعنى كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى، والاستفتاء ليس في ذوات النساء، وإنما هو عن شيء من أحكامهن، ولم يبين، فهو مجمل، ومعنى {يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} يبين لكم حال ما سألتم عنه، وحكمه ذكره أبو حيان في "البحر"، وفي "المصباح" (¬1): والفتوى بالواو وفتح الفاء وبالياء فتضم، وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم، واستفتيته سألته أن يفتي، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل: وقيل يجوز الفتح للتخفيف. {وَأَنْ تَقُومُوا}؛ أي: تعنوا عناية خاصة، {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ}؛ أي: توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه، أو ظهور بعض أماراته، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظن حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم، {نُشُوزًا}؛ أي؛ ترفعًا وتكبرًا، قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة: استعصت على بعلها، ونشز بعلها إذا ضربها وجفاها، {أَوْ إِعْرَاضًا}؛ أي: ميلًا وانحرافًا، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز: التباعد، والإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها. {الشُّحَّ} قال ابن فارس (¬2): الشح البخل مع الحرص، ويقال: تشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما، وهو بضم الشين وكسرها، وقال ابن عطية: الشح الضبط على المعتقدات والإرادة، ففي الهمم والأموال، ونحو ذلك مما أفرط فيه، وفيه بعض المذمة، وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل، وهو رذيلة، لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث: قيل: يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: "نعم"، وأما الشح ففي كل أحد، ويدل عليه: {وَأُحْضِرَتِ ¬

_ (¬1) المصباح المنير. (¬2) البحر المحيط.

الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}، ومن يوق نفسه أثبت لكل نفس شحًّا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح"، ولم يرد به واحدًا بعينه، وليس يحمد أن يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل، {وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، وفي "المصباح" حرص عليه حرصًا - من باب ضرب - إذا اجتهد، والاسم الحرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحرص حرصًا - من باب تعب لغة - إذا رغبت رغبة مذمومة، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} تذر هي من الأفعال التي ليس لها التصرف التام، بل لها المضارع والأمر، كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} فليس لها ماض، ولا اسم فاعل ولا مفعول، وهو بمعنى الترك، المعلقة: هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} جمع قوام صيغة مبالغة؛ أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم مثلًا، وفي "المصباح" قسط قسطًا - من باب ضرب - وقسوطًا: جارَ، وعدلَ أيضًا، فهو من الأضداد، قاله ابن القطاع، وأقسط بالألف عدل، والاسم القسط بالكسر. اهـ. {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} جمع شهيد، أو شاهد على غير قياس. {وَإِنْ تَلْوُوا} بواوين (¬1)، أصله تلويون بوزن تضربون، نقلت ضمة الياء إلى ما قبلها وهو الواو بعد سلب حركتها، فسكنت الياء ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وحذفت نون الرفع للجازم؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وهذه الياء التي حذفت هي لام الكلمة، فصار {تَلْوُوا} بوزن تفعوا، وعلى القراءة الثانية: {تلوا} فعل به ما تقدم ثم نقلت ضمة هذه الواو التي هي عين الكلمة إلى الساكن قبلها، وهو اللام التي هي فاء الكلمة، فسكنت الواو ثم حذفت، فصار {تلوا} بوزن تفوا، إلا أن فيه حينئذ إجحافًا بالكلمة إذ لم يبق منها إلا فاءها. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنونًا (¬2): منها: التجنيس المغاير في قوله: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}، وفي قوله: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}، وفي قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا}. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} و {يُفْتِيكُمْ}، وفي قوله: {صُلْحًا} و {وَالصُّلْحُ}. ومنها: التكرار في لفظ {النِّسَاءِ}، وفي لفظ {يَتَامَى} و {الْيَتَامَى}، و {رَسُولِهِ}، ولفظ {الْكِتَابِ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَالْمُعَلَّقَةِ}. ومنها: اللفظ المحتمل للضدين في قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {نُشُوزًا}، وفي قوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}، لأن الشح لما كان غير مفارق للأنفس ولا متباعد عنها .. كان كأنه أحضرها، وحمل على ملازمتها، فاستعار الإحضار للملازمة، وفي قوله: {فَلَا تَمِيلُوا}، وفي قوله: {قَوَّامِينَ} وفي قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. ومنها: الاختصاص في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} خص العمل. ومنها: الحذف في مواضع. ومنها: الطباق بين {غَنِيًّا} و {فَقِيرًا}. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {آمِنُوا} و {آمَنُوا} لتغيير الشكل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما أمر الله سبحانه وتعالى أولًا بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين، ثم عمم الأمر بالقسط بين الناس، الذي أساسه الإيمان الصادق .. ذكر في هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد، آمنوا في الظاهر نفاقًا، وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم، ولم يجعل فيها مكانًا للاستعداد للفهم، ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، إذ هم لم يفقهوا حقيقة الإيمان، ولا ذاقوا حلاوته، ولا أشربت قلوبهم حبه، ولا عرفوا فضائله ومناقبه، ثم أوعد بعدئذٍ المنافقين بالعذاب الأليم، وذكر أنهم أنصار الكافرين

[137]

على المؤمنين، فلا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء، ولا أن يبتغوا عندهم جاهًا ولا منزلة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذم المنافقين بأنهم مذبذبون، لا يستقر لهم قرار، فهم تارة مع المؤمنين، وأخرى مع الكافرين .. حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم، وأن يوالي بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة، إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنهم؛ لأنه كان له عندهم أهل ومال. التفسير وأوجه القراءة 137 - قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قيل نزلت هذه الآية في اليهود، وهو قول قتادة، وأختاره الطبري، والمعنى: إنَّ الذين آمنوا بموسى، {ثُمَّ كَفَرُوا} بعبادة العجل، {ثُمَّ آمَنُوا} بعد رجوع موسى إليهم من المناجاة، {ثُمَّ كَفَرُوا} بعيسى، {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل نزلت في المنافقين، آمنوا بألسنتهم ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا وثم ماتوا على الكفر، ويؤيد هذا القول قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ}، قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في البر والبحر، وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد إلى الإيمان، ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات على الكفر، فإنه لا توبة له بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجًا ولا مخرجًا ولا طريقًا إلى الهدى {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيَغْفِرَ لَهُمْ}؛ أي: ليسامح لهم ولا ليعفو عنهم، {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا إلى الجنة، وذلك لأن من تكرر منه الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمنًا بالله إيمانًا كاملًا صحيحًا، لأن يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر، ويثبتوا قلوبهم على الإيمان؛ لأن قلوبهم قد تعودت الكفر، وتمرنت على الردة، وكان الإيمان عندهم أهون شيء وأدونه، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم

[138]

يقبل منهم ولم يغفر لهم. والمعنى: أنَّ هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر ثم من كفر إلى إيمان وهكذا، إنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان، وفقه مزاياه وفضائله، ومثلهم لا يرجى لهم بحسب سنن الله في خليقته أن يهتدوا إلى الخير، ولا أن يسترشدوا إلى نافع، ولا أن يسلكوا سبيل الله، فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته، ورضوانه ومغفرته وإحسانه؛ لأن أرواحهم قد دنست، وقلوبهم قد عميت، فلم تكن محلًا للمغفرة، ولا للرجاء في ثواب، والله أرحم الراحمين واسع المغفرة، لم يكن ليحرم أحدًا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة وإنما مشيئته مقترنة بحكمته، وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرًا في نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد .. حجب عن عقله نور الدليل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان .. حرم من أسباب الغفران التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} ولا شك أن المغفرة وهي محو أثر الذنب من العبد إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح، الذي يزيل ما علق في النفس من تلك الآثام، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. 138 - {بَشِّرِ}؛ أي: أخبر يا محمَّد {الْمُنَافِقِينَ}، وأنذرهم {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: مؤلمًا، البشارة لا تستعمل غالبًا إلا في سارِّ الأخبار، إذ هي مأخوذة من انبساط بشرة الوجه، فاستعمالها في الأخبار السيئة يكون من باب التهكم والتوبيخ؛ أي: بشر المنافقين بالعذاب المؤلم، الذي لا يقدر قدره ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب، 139 - ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب لهم الذم فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}؛ أي: هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون ويجعلون الكافرين المجاهرين بالكفر المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارًا لأنفسهم {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حال من فاعل {يَتَّخِذُونَ}؛ أي: يتخذون الكفرة أنصارًا حالة كونهم متجاوزين في اتخاذهم اتخاذ المؤمنين؛ أي: قاصرين في الموالاة والمناصرة على الكافرين، معرضين عن موالاة المؤمنين، وتاركين لها، ويمالؤون

الكافرين عليهم، اعتقادًا منهم أن أمر محمَّد لا يتم، وأن الدولة والغلبة للكافرين، وأن العزة لهم، {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}؛ أي: أيطلبون بموالاة الكفار الغلبة والقوة عندهم، والاستفهام إنكاري؛ أي: لا عزة للكفار، فكيف تبتغي عندهم العزة، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ} والغلبة والقوة كائنة هي {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، حالة كونها {جَمِيعًا}؛ أي: في الدنيا والآخرة، يؤتيها من يشاء، فعليهم أن يطلبوها من الله تعالى بصادق إيمانهم، واتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه، وبينوا لهم أسبابها، وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه، وساروا على سننه، ونهجوا نهجه، فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم .. ذلوا وخضعوا لأعدائهم، وصار منهم منافقون، يوالون الكافرين، يبتغون عندهم عزة وشرفًا، وما هم لها بمدركين، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله تعالى. وبعدئذ نهى المؤمنين أن يجلسوا مع من ينتقص الدين، ويزدري بأحكامه فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ} الله سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمْ} يا معشر المؤمنين {فِي الْكِتَابِ}؛ أي: في القرآن في سورة الأنعام في مكة {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}؛ أي: أنزل عليكم أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورًا بها ومستهزأ بها؛ أي: سمعتم القرآن يكفر به الكافرون، ويستهزىء به المستهزؤون .. {فَلَا تَقْعُدُوا}؛ أي: فلا تجلسوا {مَعَهُمْ}؛ أي: مع الكافرين الذين يستهزؤون، ويسخرون بالقرآن {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}؛ أي: حتى يشرعوا ويشتغلوا بحديث في غير القرآن، ويتركوا الخوض فيه {إِنَّكُمْ} أيها المؤمنون {إِذًا}؛ أي: إذا قعدتم معهم، واستمعتم حديثهم في استهزاء القرآن {مِثْلُهُمْ}؛ أي: مثل الكافرين في الاستهزاء والكفر به؛ أي: تكونون شركاء لهم في الكفر، لأنكم رضيتم به، ووافقتموهم عليه. قال البيضاوي: إذا هنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل، وإفراد {مِثْلُهُمْ} لأنه كالمصدر، أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع انتهى. وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي غير داخلة تحت التنزيل. وقرىء شاذًا: {مِثْلُهُمْ} بالفتح، وهو مبني لإضافته إلى المبهم، كما بني في قوله: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}، ويذكر في موضعه إن شاء الله

تعالى، وقيل نصب على الظرف كما قيل في بيت الفرزدق: وإِذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ أي: إنكم في مثل حالهم، ذكره أبو البقاء، والمعنى: إنكم مشاركون لهم في الإثم قال بعضهم: وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيْحِ ... كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ فَإِنَّكَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقَبِيْحِ ... شَرِيْكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ والمراد بالذي نزله في الكتاب هو قوله تعالى في سورة الأنعام المكية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين، وهم يخوضون في الكفر، وذم الإِسلام والاستهزاء بالقرآن، ولا يستطيعون الإنكار عليهم، لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم وعدم الجلوس معهم في هذه الحال. ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم، ويستمعون إليهم، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. والخلاصة: أنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات في موضع السخرية والاحتقار .. فابتعدوا عنهم، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر. وفي الآية (¬1) دليل على وجوب اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء للأدلة الشرعية والأحكام الدينية، كما يقع ذلك كثيرًا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي .. سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسًا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف ¬

_ (¬1) الشوكاني.

مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل واجتهاده الذي هو عن المنهج مائل مقدمًا على كتاب الله وسنة رسوله، فهذه مصيبة يا لها مصيبة، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية (¬1) إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع في الإثم، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس، وقد وقع في هذا المنكر كثير من المسلمين، فإنهم يرون الملحدين في البلاد يخوضون في آيات الله ويستهزؤون بالدين، وهم يسكتون عن ذلك، ولا يبدون إنكارًا ولا اشمئزازًا ولا صدًّا ولا إعراضًا. قال بعض أهل العلم (¬2): هذه الآية تدل على أن من رضي بالكفر .. فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه، وخالط أهله، وإن لم يباشر .. كان في الإثم بمنزلة المباشر، أما إذا كان ساخطًا لقولهم وفعلهم، وإنما جلس على سبيل التقية والخوف، فالأمر ليس كذلك، فالمنافقون الذين كانوا يجالسون اليهود ويطعنون في الرسول والقرآن مع اليهود هم كافرون مثل أولئك اليهود، أما المسلمون الذين كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن. . فإنهم باقون على الإيمان؛ لأنهم إنما يجالسون الكفار للضرورة والتقية منهم، وأما المنافقون في المدينة فلا ضرورة لهم إلى الجلوس مع اليهود. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ}؛ أي: منافقي أهل المدينة، عبد الله بن أبي وأصحابه وغيرهم، {وَالْكَافِرِينَ}؛ أي: كفار أهل مكة أبي جهل وأصحابه، وكفار أهل المدينة كعب بن الأشرف وغيرهم، {فِي} نار {جَهَنَّمَ} وقعرها حالة كونهم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين فيها؛ أي: فكما أنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات الله تعالى .. فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد للكفار والمنافقين، وهذه الجملة (¬3) ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) أبو السعود.

[140]

تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب. 140 - وقرأ الجمهور (¬1): {وَقَدْ نَزَّلَ} مشددًا مبنيا للمفعول، وقرأ عاصم: {نَزَّلَ} مشددًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وحميد: {نزَل} مخففًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ النخعي: {أنزل} بالهمزة مبنيًّا للمفعول، ومحل {أَنْ} رفع أو نصب، على حسب العامل فنصب على قراءة عاصم، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين، وهي مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. 141 - ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} بدل من: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ} أو صفة للمنافقين والكافرين؛ أي: الذين ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر؛ أي: إن هؤلاء المنافقين ينتظرون أمرهم وما يحدث لكم من كسر أو نصر وشر أو خير، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون {فَتْحٌ} ونصر {مِنَ اللَّهِ} تعالى على الكافرين وظفر وغنيمة {قَالُوا}؛ أي: قال المنافقون للمؤمنين: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أيها المؤمنون في الدين والجهاد، والاستفهام فيه وفيما بعده تقريري؛ أي؛ لتقرير ما بعد النفي على حد: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ}؛ أي: كنا معكم واستحوذنا عليكم ومنعناكم، فأعطونا من الغنيمة؛ أي: فإن نصركم الله وفتح عليكم .. ادعوا أنهم كانوا معكم، فيستحقون مشاركتكم في النعمة وإعطاءهم من الغنيمة، وإنما سمى (¬2) ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا تعظيمًا لشأن المسلمين، وتحقيرًا لحظ الكافرين لتضمن الأول نصرة دين الله وإعلاء كلمته، ولهذا أضاف الفتح إليه تعالى، وحظ الكافرين في ظفر دنيوي سريع الزوال {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}؛ أي: حظ من الظفر عليكم {قَالُوا}؛ أي: قال المنافقون للكافرين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ألم نغلب عليكم، ونتمكن من قتلكم وأسركم، وأبقينا عليكم ورحمناكم، فرجعتم سالمين غانمين {و} ألم {نمنعكم من المؤمنين}؛ أي: ألم نحمكم ونمنع المؤمنين من قتلكم وأسركم وظفرهم عليكم بتخذيلهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) كرخي.

والتواني في الحرب معهم، وإلقاء الكلام الذي تضعف به عزائمهم عن قتالكم، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم، وإلا لكنتم نهبة للنوائب، فاعرفوا لنا هذا الفضل، وهاتوا لنا نصيبًا مما أصبتم. وقرأ أبي: {ومنعناكم من المؤمنين} وهذا معطوف على معنى مقدر، لأن المعنى: أما استحوذنا عليكم ومنعناكم، كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا} إذا المعنى: أما شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك، والجمهور على جزم {ونمنع} عطفًا على ما قبله، وقرأ ابن أبي: بنصب العين وهي ظاهرة، فإنه على إضمار أن بعد الواو المعية الواقعة في جواب الاستفهام، وقيل المعنى: إن (¬1) أولئك الكفار قد هموا بالدخول في الإِسلام، والمنافقون حذروهم عن ذلك، وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمَّد، وسيقوى أمركم، فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين .. قال المنافقون للكفار: ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإِسلام ومنعناكم منه، وقلنا لكم سيضعف أمر محمَّد، ويقوى أمركم، فلما شاهدتم صدق قولنا .. فادفعوا إلينا نصيبًا مما أصبتم وغنمتم منهم. والسر (¬2) في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح، وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب، كما مر الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائمًا، وأن الباطل ينهزم أمامه، مهما كان له أول أمره من صولة ودولة، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل، ولكن تنتهي بغلبة الحق عليه كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ما دام أهله متبعين لسنة الله، بأخذ الأهبة وإعداد العدة، كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}. وإنما غلب المسلمون في هذه العصور على أمرهم، وفتح الكافرون بلادهم، التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم؛ لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة، فأنشؤوا البوارج (¬3) ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البوارج - جمع بارجة -: وهي السفينة الكبيرة للقتال.

والمدافع والدبابات المدرعة والغواصات المهلكة والطائرات المنقضة، إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك في البر والبحر والجو، ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية ميكانيكية أو رياضية. {فَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون الصادقون، وبين المنافقين الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حكمًا يليق بشأن كل من الثواب والعقاب، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، أما في الدنيا فأنتم وهم سواء في عصمة الأنفس والأموال، كما جاء في الحديث: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". والحاصل: أن المنافقين (¬1) يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله تعالى، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإِسلام، من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه، فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به، ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها، وهذا مما ابتلي به المسلمون كثيرًا في عصرنا هذا، الذي تذهب فيه النحاس، وتنحس فيه الذهب وَعُدَّ العلم فيه جهلًا والجهل علمًا، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}؛ أي: غلبة وسلطة ما داموا مستمسكين بدينهم؛ أي: إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه، قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين، من أخذ الأهبة وإعداد العدة .. لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غُلب المسلمون على أمرهم .. إلا بتركهم هدي كتابهم، وتركهم أوامر دينهم وراءهم ظهريًّا، فذلوا بعد عزة، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم، ودخلوا عليهم في عقر دارهم، وامتلكوا بلادهم، واقتسموا أراضيهم، وضربوا عليهم الجزية، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[142]

واستعبدوهم بالأعمال الشاقة، كما استعبدت الفراعنة بني إسرائيل، كما هو مشاهد في شرقي أفريقيا في الشعوب الأرميا وأشباهها. 142 - {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} هذا كلام مستأنف (¬1)، يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، ومعنى مخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر، ومعنى كون الله خادعهم أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإِسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل؛ أي: إن المنافقين يخادعون رسول الله، فيظهرون له الإيمان ليدفعوا عنهم أحكام الإِسلام الدنيوية من قتلهم، ويبطنون الكفر، ونسب ذلك إلى الله من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة الله به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وفي جعل ذلك خداعًا لله تنبيه إلى شيئين: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون الله، وعظم شأن المقصود بالخداع وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن معاملته بذلك كمعاملة الله به. وسمي المنافق منافقًا أخذًا من: نافقاء اليربوع، وهو جحره، فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر، وجحر اليربوع يسمى: النافقاء والسامياء والدامياء، فالسامياء: هو الجحر الذي تلد فيه الأنثى، والدامياء: هو الذي يكون فيه الذكر، والنافقاء: هو الذي يكونان فيه "كرخي" اهـ. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَادِعُهُمْ}؛ أي: مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، ونظيره: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وإنما جعل كذلك؛ لأنه قد استعمل في المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب، أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قلتُ: هذا إذا كان الخداع صفة لمخلوق، والمذهب الأسلم الذي نلقى الله عليه إثبات صفة الخداع لله تعالى؛ لأنه وصف نفسه به، فيجب علينا أن نصفه بما وصف به نفسه، فنقول الخداع صفة ثابتة لله تعالى، لا نكيفه ولا نمثله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي: {خادعهم} بإسكان العين على التخفيف واستثقال الخروج من كسر إلى ضم. وخلاصة المعنى (¬1): أنه عبر عن سنة الله عاقبة أمرهم في العاجل والآجل، من حيث إنها جاءت على غير ما يحبون، بلفظ مأخوذ من المخادعة، إذ أنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق يضلون فيه، وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة، فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة الله لهم، إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقي الخزي في الدنيا، والنكال في الآخرة، وهكذا حال المنافقين في كل أمة وملة، يخادعون ويكذبون ويكيدون ويغشون، ويتولون أعداء أمتهم، يبتغون بذلك يدًا عندهم يمتون - يتقربون - بها إليهم، إذا دالت دولتهم، وكتب التاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار، ويكثر عددهم في الأمم في أطوار الضعف وقوة الأعداء، إذ هم طلاب منافع، يلتمسونها من كل فج، ويسلكون لها كل طريق، ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: خداعه تعالى لهم: أن يعطيهم نورًا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط .. انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}. {وَإِذَا قَامُوا} معطوف على خبر إن، أخبر عنهم بهذه الصفات الذميمة؛ أي: وإذا قام المنافقون إلى الصلاة {قَامُوَا} إليها حالة كونهم {كُسَالَى} عنها؛ أي: متكاسلين متباطئين متثاقلين، ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل، ولا نشاط ¬

_ (¬1) المراغي.

[143]

يدفعهم على فعل؛ لأنهم لا يرجون ثوابًا في الآخرة، ولا يخشون عقابًا، إذ لا إيمان لهم وإنما يخشون الناس، فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين .. تركوها، وإذا كانوا معهم .. سايروهم بالقيام بها، ومن كانت هذه حاله .. وقع عمله على وجه الكسل والفتور وقرأ الجمهور (¬1): {كُسَالَى} بضم الكاف، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ الأعرج: {كسالى} بفتح الكاف، وهي لغة تميم وأسد، وقرأ ابن السميقع: {كسلى} على وزن فعلى، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد، على مراعاة الجماعة كقراءة: {وترى الناس سكرى}، {يُرَاءُونَ النَّاسَ} بها؛ أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، وأن يراهم المؤمنون مسلمين فيعدوهم منهم، وقرىء (¬2): {يرءون} بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو، ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق، إلا أنه قال: قرأ {يرءونهم} بهمزة مشددة، مثل يرعُّونهم؛ أي: يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كذلك. {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: لا يصلون إلا قليلًا بمرأى من الناس، وإذا لم يكن معهم أحد .. لم يصلوا، وإذا كانوا مع الناس .. راؤوهم وصلوا معهم، ولا يذكرون الله إلا باللسان، وسميت الصلاة ذكرًا لاشتمالها عليه، حالة كونهم 143 - {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: مضطربين مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية {لَا} هم منسوبين {إِلَى هَؤُلَاءِ} المؤمنين لإسرارهم الكفر {وَلَا} هم منسوبين {إِلَى هَؤُلَاءِ} الكافرين لإظهارهم الإيمان، والمعنى: ذبذبهم وقلقلهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، يترددون بينهما متحيرين، لا يخلصون إلى أحد الفريقين؛ لأنهم طلاب منافع، ولا يدرون لمن تكون له العاقبة، فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما .. ادعوا أنهم منه، كما بين ذلك فيما سلف، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: يخذله ويسلبه التوفيق {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا يوصله إلى الحق؛ أي: ومن قضت سنته أن يكون ضالًا عن الحق، موغلًا في الباطل بما قدم من عمل، وتخلق به من خلق .. فلن تجد له سبيلًا للهداية باجتهادك والمبالغة في إقناعه بالحجة والدليل، فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[144]

وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد (¬1): {مذبذبين} بكسر الذال الثانية، جعلاه اسم فاعل؛ أي: مذبذِبين أنفسهم، أو دينهم، أو بمعنى متذبذبين، كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى واحد، وقرأ أبي {متذبذبين} اسم فاعل من تذبذب؛ أي: اضطرب، وكذا في مصحف عبد الله، وقرأ الحسن: {مذبذبين} بفتح الميم والذالين، قال ابن عطية: وهي قراءة مردودة انتهى، والحسن البصري من أفصح الناس، يحتج بكلامه، فلا ينبغي أن ترد قراءته ولها وجه في العربية، وهو أنه أتبع حركة الميم حركة الذال، وقرأ أبو جعفر: {مدبدبين} بالدال غير معجمة، كان المعنى أخذتهم تارة بدبة وتارة في دبة، فليسوا ماضين على دبة واحدة، والدبة الطريقة. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة". متفق عليه. قوله كمثل الشاة العائرة - بالعين المهملة - ومعناه: المتحيرة المترددة، لا تدري لأي الغنمين تتبع، ومعنى تعير تتردد وتذهب يمينًا وشمالًا مرة إلى هذه ومرة إلى هذه، لا تدري إلى أين تذهب، وهذا مثل المنافق مرة مع المؤمنين ومرة مع الكافرين، أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين. 144 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ وبرسوله سرًّا وعلانية {لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ}؛ أي: المجاهرين بالكفر {أَوْلِيَاءَ}؛ أي: أنصارا وأصدقاء {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين، كما فعل المنافقون، {أَتُرِيدُونَ} يا معشر المؤمنين المخلصين {أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ} باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين {سُلْطَانًا مُبِينًا}؛ أي: حجة واضحة على استحقاقكم العذاب؛ إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين، فإن عملًا كهذا لا يصدر إلا من منافق، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ، والمراد (¬2) بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل، بما يكون فيه ضرر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[145]

للمسلمين، وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أما استخدام الذميين منهم في الحكومة الإِسلامية فليس بمحظور، والصحابة رضوان الله عليهم استخدموهم في الدواوين الأميرية، وأبو إسحاق الصابي جُعل وزيرًا في الدولة العباسية، والمعنى (¬1): أتريدون أيها المتخذون الكفار أولياء أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة، باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا بذلك النار. 145 - ثم بيَّن مقر النار مِنَ المنافقين فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}؛ أي: في الطبقة السفلى من النار، وهي الهاوية لغلظ كفرهم وكثرة غوائلهم، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى كلها باسم الطبقة العليا أعاذنا الله من عذابها. سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة، وقيل الدرك بيت مقفل عليهم، تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، وقيل: هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار، وإنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم شر أهلها، إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، ونفوسهم أحط النفوس، ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها، أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره من صنم أو وثن، يتخذونه شفيعًا عنده ووسيطًا بينهم وبينه، وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبدين والأمراء الظالمين. {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ}؛ أي: ولن تجد يا محمَّد لهؤلاء المنافقين {نَصِيرًا}؛ أي: ناصرًا ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم، وينقذهم من ذلك العذاب، أو يخففه عنهم، فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها. وقرأ الحرميان (¬2): نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو وابن عامر: {في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[146]

الدرك} بفتح الراء، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بسكونها، واختلف عن عاصم، وروى الأعمش والبرجمي الفتح، وغيرهما الإسكان، وقال أبو علي: وهما لغتان كالشمْع والشمَع، 146 - ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من المنافقين الذين استحقوا الدرك الأسفل من النار فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} عن النفاق {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: تمسكوا بدين الله وكتابه، ووثقوا بوعده {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} وعملهم وعبادتهم {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، وأرادوا به وجه الله تعالى، ولم يريدوا رياء ولا سمعة، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان, ولما (¬1) كان المنافق متصفًا بنقائض هذه الأوصاف من الكفر، وفساد الأعمال، والموالاة للكافرين، والاعتراز بهم، والمراءاة للمؤمنين .. شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف، وهي التوبة من النفاق، وهو الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى، ثم فصل ما أجمل فيها، وهو الإصلاح للعمل المستقبل المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل، وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله، وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها، أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين فقال: {فَأُولَئِكَ} التائبون الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من المنافقين كائنون {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين، الذين لم يصدر منهم نفاق أصلًا منذ آمنوا؛ أي: فأولئك مصحبون بالمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة، وفي الدرجات العالية من الجنة؛ لأنهم آمنوا كإيمانهم، وعملوا كعملهم، فيجزون جزاءهم، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ولا من المؤمنين، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين، تنفيرًا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق، وتعظيما لحال من كان ملتبسا بها، ومعنى مع المؤمنين رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين كما مر آنفا. والخلاصة (¬2): أن هذا الجزاء الشديد - الذي أعده الله للمنافقين - لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر، وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[147]

1 - اجتهادهم في صالح الأعمال التي تغسل أدران النفاق، بأن يلتزموا الصدق في القول والعمل، مع الأمانة والوفاء بالوعد، ويخلصوا النصح لله ورسوله، ويقيموا الصلاة مع الخشوع والخضوع، ومراقبة الله في السر والعلن. 2 - اعتصامهم باللهِ، بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة الله مع التمسك بكتابه، والتخلق بآدابه، والاعتبار بمواعظه، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}. 3 - إخلاصهم لله بأن يدعوه وحده، ولا يدعوا من دونه أحدًا لكشف ضر، ولا لجلب نفع، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصًا له وحده، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} وكما جاء في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى ويعطي {الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وثوابا جزيلًا في الآخرة، ودرجات عالية في الجنة، لا يقدر قدره، كما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. فائدة: وحذفت (¬1) الياء من {يُؤْتِ} في الخط مع عدم الجازم كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} و {سَنَدْعُ اَلزَبَايَةَ (18)} و {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعًا للخط الكريم، إلا يعقوب: فإنه يقف بالياء نظرًا إلى الأصل، وروي ذلك عن الكسائي وحمزة. 147 - ثم بين أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم الله عليهم فقال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي؛ أي: لا يعذبكم إن حصل منكم الشكر والإيمان, والمعنى: أي منفعة له في عذابكم إن ¬

_ (¬1) الشوكاني والسمين.

شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه، فهل (¬1) يعذبكم الله لأجل التشفي من الغيظ أم لطلب النفع أم لدفع التفسير، كما هو شأن الملوك، وكل ذلك محال في حقه تعالى، وإنما التعذيب أمر يقتضيه كفركم، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب، وتقديم الشكر على الإيمان لأن الإنسان إذا نظر في نفسه .. رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها، فيشكر شكرًا مجملًا، ثم إذا تيمم النظر في معرفة المنعم .. آمن به، ثم شكر شكرًا مفصلًا، فكان ذلك الشكر المجمل مقدمًا على الإيمان. والخلاصة: أنه تعالى لا يعذب أحدًا من خلقه انتقامًا منه، ولا طلبًا لنفع،، ولا دفعًا لمضرة؛ لأنه تعالى غني عن كل أحد، منزه عن جلب منفعة له، وعن دفع مضرة عنه، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان، لكنهم استعملوها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها, لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف، كما كفروا بخالق هذه القوى، فاتخذوا له شركاء، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء، حتى فسدت فطرتهم، ودنست أرواحهم، ولو آمنوا وشكروا .. لطهرت أرواحهم، وظهرت آثار ذلك في عقولهم، وسائر أعمالهم التي تصلحهم في معاشهم ومعادهم، واستحقوا بذلك رضوان الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ} {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {شَاكِرًا}؛ أي: قابلًا لأعمالكم مثيبًا عليها، موفيًّا أجوركم، وأتى (¬2) في صفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة؛ ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل وينميه {عَلِيمًا} بشكركم وإيمانكم، فيجازيكم، وفي قوله: {عَلِيمًا} تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}. {إِنَّ}: حرف نصب، {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها، {آمَنُوا}: فعل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

وفاعل، والجملة صلة الموصول، {ثُمَّ كَفَرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {آمَنُوا}، {ثُمَّ آمَنُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {كَفَرُوا}، {ثُمَّ كَفَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} الثاني، {ثُمَّ ازْدَادُوا} فعل وفاعل، معطوف على {كَفَرُوا} الأخير، {كُفْرًا}: مفعول به لـ {ازْدَادُوا}، وإنما عطفنا كلًّا من المعطوفات على ما قبله جريًا على القاعدة: أن المعطوفان إذا كثرت، وكان العطف بمرتب .. يعطف كل على ما قبله، وإن كان العطف بواو .. كان العطف على الأول دائمًا، ذكره الشيخ الحامدي على "شرح الكفراوي". {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}. {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَكُنِ}: مجزوم بـ {لَمْ}، وهو من الأفعال الناقصة، {اللَّهُ}: اسمها، {لِيَغْفِرَ} {اللام}: حرف جر وجحود، {يغفر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {لَهُمْ}: متعلق بـ {يغفر} ومفعول {يغفر} محذوف، تقديره: كفرهم، وجملة {يغفر} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لم يكن الله لغفرانهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا لـ {يكن} تقديره: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، هذا على مذهب البصريين وهو الراجح، وجملة {يَكُنِ} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ} {الواو}: عاطفة، {لا}: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، {اللام} حرف جر وجحود، {يهدي} منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، و {الهاء}: ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول، {سَبِيلًا}: مفعول ثان، وجملة {يهدي} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، والتقدير: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، ولا مريدًا لهدايتهم سبيلًا. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -،

والجملة مستأنفة، {بِأَنَّ} {الباء}: حرف جر، {أن}: حرف نصب ومصدر، {لَهُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم لـ {أنَّ}، {عَذَابًا}: اسمها مؤخر، {أَلِيمًا}: صفة له، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: يكون عذاب أليم لهم، الجار والمجرور متعلق بـ {بَشِّرِ}. {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {الْمُنَافِقِينَ}، {يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {يَتَّخِذُونَ}، تقديره: يتخذون الكافرين أنصارًا حالة كونهم متجاوزين في اتخاذهم اتخاذ المؤمنين، {أَيَبْتَغُونَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {يبتغون}: فعل وفاعل، والجملة جملة استفهامية إنشائية لا محل لها من الإعراب، {عِنْدَهُمُ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يبتغون}، {الْعِزَّةَ}: مفعول به، {فَإِنَّ} {الفاء}: تعليلية، {إن}: حرف نصب، {الْعِزَّةَ}: اسمها، {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر {إن}، {جَمِيعًا}: حال من الضمير المستكن في {لِلَّهِ} لاعتماده على المبتدأ، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، مفهوم من الاستفهام الإنكاري، تقديره: لا ينبغي ابتغاء العزة عند غير الله تعالى، لكون العزة لله سبحانه وتعالى جميعًا وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} دخلت {الفاء} لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: إن تبتغوا من هؤلاء عزة اهـ "سمين". وعبارة أبي السعود: وهذه الجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم، وخيبة رجائهم، فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ...} يقتضي ¬

_ (¬1) الجمل.

بطلان الاعتزاز بغيره سبحانه جل وعلا، واستحالة الانتفاع به، وقيل: هي جواب شرط محذوف، كأنه قيل: إن تبتغوا عندهم عزة فإن العزة لله جميعًا اهـ. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}. {وَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {قد}: حرف تحقيق، {نَزَّلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة مستأنفة، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {نَزَّلَ}، وكذا {فِي الْكِتَابِ} متعلق بـ {نَزَّلَ}، {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: أنه، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {سَمِعْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {آيَاتِ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، {يُكْفَرُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {بِهَا}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل أصله: يكفر بها أحد، فحذف الفاعل، وأقيم الجار والمجرور مقامه، والجملة في محل النصب حال من {آيَاتِ اللَّهِ}، {وَيُسْتَهْزَأُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {بِهَا}: نائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يُكْفَرُ بِهَا}، على كونها حالًا من {آيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: حالة كونها مكفورًا بها ومستهزءًا بها، {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {إذَا} وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، {لا}: ناهية، {تَقْعُدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {مَعَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَقْعُدُوا}، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية على قراءة {نَزَّلَ} بالبناء للفاعل، أو مرفوع على النيابة عن الفاعل على قراءة البناء للمفعول، تقديره: على القراءة الأولى: وقد نزل عليكم في الكتاب عدم قعودكم مع الكفار والمنافقين وقت سماعكم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يَخُوضُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد

{حَتَّى} الجارة، {فِي حَدِيثٍ}: جار ومجرور متعلق به، {غَيْرِهِ}: صفة لـ {حَدِيثٍ} علي تأويله بمشتق؛ أي: مغاير إياه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، بمعنى إلى، تقديره: إلى خوضهم في حديث غيره، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقْعُدُوا} {إِنَّكُمْ} {إن}: حرف نصب، و {الكاف} اسمها، {إِذًا}: هاهنا (¬1) ملغاة، لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل، {مِثْلُهُمْ}: خبر {إِنَّ} ومضاف إليه، وجملة {إن} في محل الجر مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله. {إنَّ}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {جَامِعُ}: خبرها، {الْمُنَافِقِينَ}: مضاف إليه، {وَالْكَافِرِينَ}: معطوف على {الْمُنَافِقِينَ}، {فِي جَهَنَّمَ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَامِعُ}، {جَمِيعًا}: حال من {الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ} وجملة {إنَّ} في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها؛ أي (¬2): معللة لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلومه من شركتهم لهم في العذاب. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}. {الَّذِينَ}: في محل النصب بدل من قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ}، والمعنى: بشر الذين يتربصون بكم، {يَتَرَبَّصُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {بِكُمْ}: متعلق به، {فَإِنْ} {الفاء}: تفصيلية، {إن} حرف شرط، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كان}، {فَتْحٌ}: اسم {كَانَ} مؤخر، {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {فَتْحٌ}؛ أي: فإن كان فتح من الله كائنا لكم، {قَالُوا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية جملة مفصلة لجملة الصلة لا محل لها من الإعراب، {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت {أَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام التقريري، {لم}: حرف نفي وجزم، {نَكُنْ}: فعل ناقص مجزوم بـ {لم} ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) أبو السعود.

واسمها ضمير يعود على {الْمُنَافِقِينَ}. {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {نَكُنْ} تقديره: ألم نكن كائنين معكم، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إن}: حرف شرط، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {لِلْكَافِرِينَ}: جار ومجروو خبر مقدم لـ {كان}، {نَصِيبٌ}: اسم {كَانَ} مؤخر، {قَالُوا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} التي قبلها. {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم} حرف جزم، {نَسْتَحْوِذْ}: فعل مضارع مجزوم لـ {لم} وفاعله ضمير يعود على {الْمُنَافِقِينَ}، {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول، {وَنَمْنَعْكُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {نَسْتَحْوِذْ}، وفاعله ضمير يعود على {الْمُنَافِقِينَ}، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق به، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} {الفاء}: استئنافية، {الله}: مبتدأ، وجملة {يَحْكُمُ} خبره، والجملة الإسمية مستأنفة، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَحْكُمُ}، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: متعلق أيضا بـ {يَحْكُمُ}، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ}، {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {يَجْعَلَ}، {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق أيضًا بـ {يَجْعَلَ} أو حال من {سَبِيلًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا {سَبِيلًا}: مفعول به. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ}: ناصب واسمه، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول،

والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يُخَادِعُونَ} أو من مفعوله. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قَامُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {إِلَى الصَّلَاةِ}: متعلقان بـ {قَامُوا} الأولى. {قَامُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، {كُسَالَى}: حال من فاعل {قَامُوا}، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع معطوفة على خبر {إنَّ} أخبر عنهم بهذه الصفات الذميمة، {يُرَاءُونَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في {كُسَالَى}، أو بدل من {كُسَالَى}، كما قاله أبو البقاء، وفيه نظر لأن الثاني ليس كلا للأول ولا بعضه، ولا مشتملًا عليه، أو الجملة مستأنفة، {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يُرَاءُونَ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {قَلِيلًا}: نعت لمصدر محذوف، تقديره: إلا ذكرًا قليلًا. {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}. {مُذَبْذَبِينَ}: حال من فاعل {يُرَاءُونَ}، أو منصوب على الذم، {بَيْنَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {مُذَبْذَبِينَ}، {لَا}: نافية، {إِلَى هَؤُلَاءِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في {مُذَبْذَبِينَ}، تقديره: حالة كونهم لا منسوبين إلى هؤلاء المؤمنين، ولا منسوبين على هؤلاء الكافرين، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: نافية، {إِلَى هَؤُلَاءِ} معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {فَلَن} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبا، {لن}: حرف نصب، {تَجِدَ}: منصوب بـ {لن}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، {لَهُ}: متعلق به، {سَبِيلًا}: مفعول به؛ لأنه

من وجدان الضالة، فله مفعول واحد لا من وجد بمعنى علم، وجملة {تَجِدَ} في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}. {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ آمَنُوا}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة، {لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}: ناف وفعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {تَتَّخِذُوا}. {أَتُرِيدُونَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {تريدون}: فعل وفاعل، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، {أَنْ تَجْعَلُوا} ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أتريدون جعلكم لله سلطانا مبينا عليكم، {لِلَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَجْعَلُوا}، {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور حال من {سُلْطَانًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {سُلْطَانًا}: مفعول به، {مُبِينًا} صفة له. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}. {إِنَّ}: حرف نصب، {الْمُنَافِقِينَ}: اسمها، {فِي الدَّرْكِ} جار ومجرور خبر {إِنَّ}، {الْأَسْفَلِ}: صفة لـ {الدَّرْكِ}، {مِنَ النَّارِ}: جار ومجرور حال من {الدَّرْكِ}، والعامل فيه معنى الاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المخبر عنه، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَلَنْ} {الواو}: عاطفة، {لن}: حرف نفي ونصب، {تَجِدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن}، {لَهُمْ}: متعلق به أو حال من {نَصِيرًا}، {نَصِيرًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على خبر {إن}. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. {إِلَّا}: أداة استثناء، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب على

الاستثناء من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ}، أو من الضمير المجرور في {لَهُمْ}، {تَابُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا}: معطوفان على {تَابُوا}، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {اعتصموا}، {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {تَابُوا}، {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أخلصوا}، {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: تعليلية لأن الفاء بعد الاستثناء تكون للتعليل غالبًا، {أولئك}: مبتدأ، {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}: ظرف ومضاف إليه، خبر المبتدأ، تقديره: فأولئك كائنون مع المؤمنين، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المعللة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما استثنينا هؤلاء لكونهم مع المؤمنين، والجملة المحذوفة مستأنفة، {وَسَوْفَ} {الواو}: استئنافية، {سوف}: حرف تنفيس، {يُؤْتِ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، وحذفت الياء في خط المصحف العثماني تبعًا للفظ، {اللَّهُ} فاعل، أو الجملة مستأنفة، {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول أول، {أَجْرًا}: مفعول ثان لأتى لأن أتى هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين، {عَظِيمًا}: صفة لـ {أَجْرًا}. {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}. {مَا}: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم وجوبا لكونه مما يلزم الصدارة، {يَفْعَلُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والاستفهام هنا للإنكار بمعنى النفي، كما مر في بحث التفسير؛ أَي: لا يفعل الله عذابكم، {بِعَذَابِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَفْعَلُ}، {إن}: حرف شرط، {شَكَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {وَآمَنْتُمْ}: معطوف عليه، وجواب {إن} معلوم مما قبلها، تقديره: إن شكرتم وآمنتم لا يعذبكم الله، والجملة مستأنفة {وَكاَنَ اللهُ} {الواو}: استئنافية، {كان اللهُ}: فعل ناقص واسمها، {شَاكِرًا}: خبر أول لها، {عَلِيمًا}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

التصريف ومفردات اللغة {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} ازداد بمعنى زاد، لازما ومتعديًا، يقال ازداد الشيء إذا طلب منه الزيادة، أصله ازتيد على وزن افتعل، قلبت تاء الافتعال دالًا فصار ازديد، فيقال تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار ازداد. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} العزة والعز بكسر أولهما مصدران لعزه يعزه عزًّا وعزة إذا غلبه، والعزة الغلبة والقوة. {حَتَّى يَخُوضُوا} يقال خاض خوضًا من باب قال، والخوض (¬1) الاقتحام في الشيء، تقول خصت الماء خوضًا وخياضًا، وخضت الغمرات اقتحمتها، وخاضه بالسيف حرك سيفه في المضروب، وتخاوضوا في الحديث إذا تفاوضوا فيه، والمخاضة موضع الخوض، والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة، واختاض بمعنى خاض، وتخوض إذا تكلف الخوض. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} في "المصباح" يقال: تربصت الأمر تربصًا انتظرته، والربصة وزان الغرفة، اسم منه وتربصت الأمر بفلان انتظرت وقوعه به، {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} وقولهم نستحوذ واستحوذ مما شذ قياسًا، وفصح استعمالًا؛ لأن من حقه نقل حركة حرف علته إلى الساكن قبلها، وقلبها ألفًا، كاستقام، واستعان، واستبان، وبابه، والاستحواذ: التغلب على الشيء والاستيلاء عليه، ومنه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}، يقال: حاذ وأحاذ بمعنى والمصدر الحوذ. {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته، إذا غلبته وكنت أخدع منه، {كسالى} بضم الكاف على قراءة الجمهور جمع كسلان، كسكارى جمع سكران، والضم لغة أهل الحجاز، وفعلان (¬2) هذا يجمع على فعالى كهذا، وعلى فعالى كغضبان وغضابى، والكسل الفتور عن الشيء والتواني فيه، وهو ضد النشاط، وأكسل إذا جامع وفتر ولم ينزل، وقال بعضهم في ذم الفلاسفة: وَمَا انْتَسَبُوْا إِلَى الإِسْلاَمِ إلا ... لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لاَ تُسَالاَ فَيَأَتُوْنَ الْمَنَاكِرَ في نَشَاطٍ ... وَيَأتُوْنَ الصَّلاَةَ وَهُمْ كُسَالَى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النهر.

{يُرَاءُونَ النَّاسَ} وأصل يراؤون يُرائِيُون، فأُعل كنظائره، والجمهور على أن يراؤون من المفاعلة، قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى: وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: أن المرائي يريهم عمله، وهم يرونه إستحسانه. {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} جمع مذبذب اسم مفعول من ذبذب، وفي "المصباح" ذبذبه ذبذبة إذا تركه حيران مترددًا، وفي "أبي السعود": حقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى، وعبارة البيضاوي: والمعنى مرددين بين الإيمان والكفر، من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطربًا، وأصل الذب بمعنى الطرد، وقرىء بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم، أو يذبذبون كقولهم: صلصل بمعنى تصلصل، وزلزل بمعنى تزلزل، وفي "الشوكاني": الذبذبة الاضطراب، يقال ذبذبه فتذبذب ومنه قول النابغة: أَلَمْ ترَ أَنَّ اللهَ أعْطَاكَ سُوْرَةً ... تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُوْنَهَا يَتذَبْذَبُ قال ابن جني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال اهـ. وقرىء: بالدال المهملة بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة، وهي الطريقة، ومنه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: اتبعوا دبة قريش؛ أي: طريقتهم اهـ "زكريا". {سُلْطَانًا مُبِينًا} السلطان يذكر ويؤنث، فتذكيره باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحجة، إلا أن التأنيث أكثر عند الفصحاء، وقال الفراء: التذكير أشهر، وهي لغة القرآن. {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} قرأ الكوفيون بخلاف من عاصم: الدرك بسكون الراء، والباقون بفتحها، وفي ذلك قولان: أحدهما: أن الدَّرْك والدَّرَك لغتان بمعنى واحد، كالشَّمْع والشَّمَع، والغَّدْر والغدر. والثاني: أن الدرك بالفتح جمع دركة، على حد بقر وبقرة، والدرك مأخوذ من المداركة وهي المتابعة، والدركات بالكاف منازل أهل النار، والدرجات

بالجيم منازل أهل الجنة، وسميت طبقات النار دركات لأن بعضها مدارك لبعض؛ أي: متابعه، فالدرك ما كان إلى أسفل، والدرج ما كان إلى فوق. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة (¬1): فمنها: الجناس المغاير في قوله: {يُخَادِعُونَ} و {خَادِعُهُمْ}، وفي قوله: {شَكَرْتُمْ} و {شَاكِرًا}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {جَامِعُ} و {جَمِيعًا}، وفي قوله: {كَفَرُوا} و {كَفَرُوا}، وفي {وَإِذَا قَامُوا} و {قَامُوا}. ومنها: التكرار في قوله: {ءَامَنوُا ثُمَّ كَفَرُوا}، وفي قوله: {المُنَافِقِينَ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {ازْدَادُواْ كُفْرًا}، وفي قوله: {لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}، وفي قوله: {يَتَرَبَّصُونَ}، وفي قوله: {فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ}، وفي قوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ}، وفي قوله: {سَبِيلًا}، وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. ومنها: الطباق في قوله: {الْكَافِرِينَ} و {الْمُؤْمِنِينَ}. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} حيث استعمل لفظ البشارة مكان الإنذار تهكمًا. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} والغرض منه التقريع والتوبيخ. ومنها: الالتفات في قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} إذا كان الخطاب للمنافقين. ومنها: التكرار أيضًا في: اسم الله، وفي قوله: {هَؤُلَاءِ} و {هَؤُلَاءِ}، وفي قوله: {الْكَافِرِينَ} و {الْكَافِرِينَ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {إِلَى الصَّلَاةِ}، وفي قوله: {الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الإشارة في مواضع. ومنها: الاستعارة في: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} استعار اسم الخداع للمجازاة، وفي {سَبِيلًا}، وفي {سُلْطَانًا} لقيام الحجة، والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا للالتجاء. ومنها: الحذف في مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بمعنى كلامه وبمراده به. * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى لي من تفسير الجزء الخامس من القرآن الكريم، فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تنسيقه، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشة، ومداد كلماته صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السادس في اليوم الرابع والعشرين قبيل المغرب من شهر الله المحرم المبارك، من سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، بحارة الرشد من المسفلة من مكة المكرمة، زادها الله شرفًا، وختم عمرنا فيها، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين. تم بعون الله تعالى المجلد السادس من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد السابع، وأوله قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} رقم (148) من الآيات سورة النساء. وما أحسن قول العلامة الحريري في ملحمة الأعراب: وَإِنْ تَجِدْ عَيبًا فَسُدَّ اَلْخَلَلاَ ... فَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلَا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ وإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلاَ ... وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ وَلِبَنِي سَبْعٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ ... مَعْذِرَةٌ مَقْبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ آخرُ جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ ... وَقَابَلَ مَا فِيهَا مِنَ السَّهْوِ بالْعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَستَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ آخرُ الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ فَاصْبِرْ وَإِنْ طَالَتِ اللَّيَالِي ... فَرُبَّمَا أمْكَنَ الْحَزُوْنُ (¬1) وُرُبَّمَا نِيْلَ بِاصطِبَارِ ... مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ تَكُوْن ¬

_ (¬1) الحزون - بفتح الحاء المهملة وضم الزاي -: الشاة السيئة الخلق اهـ. قاموس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، سيدنا محمَّد من القرآنُ مِنْ خُلُقِهِ وحالِه. قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}.

المناسبة قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين وفضحهم في الآيات السابقة .. ذكر هنا أنه لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حقِّ منْ زاد ضرره وعظم خطره، فلا عجيب أن يكشف الله عن المنافقين الستر. ثم تحدث عن اليهود، وعدد بعض جرائمهم الشنيعة، كطلبهم رؤية الله جهرةً، وعبادتهم للعجل، وادعائهم صلب المسيح، واتهامهم مريم البتول بالفاحشة، إلى غير ما هناك من قبائح وجرائم شنيعة. وعبارة المراغي هنا قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين كثيرًا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم وحذر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم - كما قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول، وإبداء الخير وإخفائه؛ حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقًّا على الإطلاق، فيفشوا ذلك، وفي هذا من الضرر ما سنذكره. وفي "الجمل": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن ما تقدم فيه ذكر قبائح المنافقين وإيذائهم للمؤمنين، فالمؤمنون مظلومون، فيجوز لهم ذكر سوئهم جهرًا، وأيضًا تناسب قوله شاكرًا، أي: سواء كان سرًّا أو جهرًا، وهذا ضده. انتهى. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين .. سوغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة، وقال عليه السلام: "اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس" انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة .. أخذ في الكلام على اليهود والنصارى وجعل كفرهم ببعض الرسل كفرًا بجميع الرسل، وكفرهم بالرسل كفرًا بالله. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) بين في سابق الآيات حال الذين يكافرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب .. بين في هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين. أسباب النزول قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ...} الآية، سبب نزولها: أن رجلًا استضاف قومًا فلم يحسنوا ضيافته، فلما خرج .. تكلم فيهم جهرًا بسوء. وقيل: إن سبب نزولها أن رجلًا نال من أبي بكر رضي الله عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر، فسكت عنه مرارًا، ثم رد عليه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، شتمني فلم تقل شيئًا، حتى إذا رددت عليه قمت؟! فقال له: "إن ملكًا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه .. ذهب الملك وجاء الشيطان، فقمت" فنزلت الآية. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من أهل الكتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح حتى نصدقك، فأنزل اللهُ عزَّ وجل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} إلى قوله: {بُهْتَانًا عَظِيمًا} فجثا رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[148]

ولا على أحد شيئًا، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} الآية. ورُوي: أن كعبًا وأصحابه وفنحاص قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ رسولًا من عند الله .. فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما جاء موسى بالألواح. التفسير أوجه القراءة 148 - {لَا يُحِبُّ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ولا يرضى من أحد {الْجَهْرَ} والإظهار أو الإسرار {بِالسُّوءِ} والقبيح حالة كونه كائنًا {مِنَ اَلقَوْلِ} أو الفعل، والجهر ليس بقيد، وكذا القول ليس بقيد. ومعنى حب الله لشيء: هو الرضا به والإثابة عليه، والجهر يقابل السر والإخفاء. والسوء من القول: هو ما يسوء من يقال فيه، كذكر عيوبه ومساويه التي تؤذي كرامته؛ أي: لا يحبُّ الله رفع الصوت بالسوء؛ أي: بأحوال الناس المكتومة؛ كغيبة ونميمة، فإن العاقل من اشتغل بعيوبه. والمعنى: أنه تعالى لا يحبّ من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات؛ لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي من أهمها: 1 - أنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء. 2 - وأنه يؤثر في نفوس السَّامعين تأثيرًا ضارًّا بهم، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدي بعضهم ببعض، فمن رأى إنسانًا يسب آخر لضغائن بينه وبينه أو لكراهته إياه .. قلده في ذلك ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد، أو من طبقة دون طبقته؛ إذ عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخاصّة لا تلبث أن تصل إلى العامّة وتفشو بينهم، ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة .. يجترىء على ارتكابهما إذا علم أن له سلفًا وقدوةً فيهما، فسماع السّوء كعمل السوء، فذاك يؤثر في نفس السامع، وهذا يؤثر في نفس الرائي والناظر، وأقل هذه الأضرار: أنه يضعف في النفس استقباحه واستبشاعه، خصوصًا إذا تكرر السماع أو النظر. وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام في القلوب، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.

والخلاصة: أن اللهَ لا يحبُّ الجهر بالسُّوء من القول، ولا الإسرار به؛ إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، لكنَّه خص الجهر هنا بالذكر؛ لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق، والجهر بالسوء أشد ضررًا من الإسرار به؛ لأن ضرره وفساده يفشو في جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات. {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قيل: الاستثناء فيه متصل، والمعنى عليه: لا يحبّ الله (¬1) تعالى أن يجهر أحد بالسّوء كائنًا من القول إلا جهر من ظلم فهو غير مَسْخوطٍ عليه عنده تعالى، وذلك بأن يقول: سرق فلان مالي، أو غصبني، أو سبني، أو قذفني، ويدعو عليه دعاء جائزًا؛ بأن يكون بقدر ظلمه، فلا يدعو عليه بخراب دياره لأجل أخذ ماله منه، ولا يسب والده وإن كان هو فعل ذلك، ولا يدعو عليه لأجل ذلك بالهلاك، بل يقول: اللهمَّ خلص حقي منه، أو اللهمَّ جازه أو كافئه، ولا يجوز أن يدعو عليه بسوء الخاتمة أو الفتنة في الدين. وقيل: (¬2) الاستثناء فيه منقطع، والمعنى عليه: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، أي: لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحًا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم .. فلا حرج عليه في ذلك؛ فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظّلم، ولا أن يخضعوا للضيم، بل يحب لهم العزة والإباء، فها هنا تعارضت مفسدتان: مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوه والتمادي فيه، وذاك مما يؤدي إلى هلاك الأمم وخراب العمران، وكانت ثانيهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدر بقدرها. وإذًا: فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى في الجهر في السوء بما لا دخل له في دفع الظلم، وفي الحديث: "إن لصاحب الحق مقالًا". رواه الإِمام أحمد. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[149]

وقرأ الجمهور (¬1): {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} مبنيًّا للمفعول، وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن جبير وعطاء بن السائب والضحاك وزيد بن أسلم وابن أبي إسحاق ومسلم بن يسار والحسن وابن المسيب وقتادة وأبو رجاء: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} مبنيًّا للفاعل، وعلى هذه (¬2) القراءة فالاستثناء منقطع؛ أي: إلا من ظَلَم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب اللهُ أن يَجهر أحد بالسوء من القول، لكن مَنْ ظَلَمَ .. فإنه يجهر بالسوء ظلمًا وعدوانًا وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَمِيعًا} لِمَا يجهر به من السّوء، فلا يفوته قولٌ من أقوال مَنْ يجهر بالسوء {عَلِيمًا} بما يسر به منه، فلا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه؛ إذ لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه اللهُ لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه .. فإنه لا يؤاخذه، بل ربما أثابه على ذلك؛ لإراحة الناس من شر فاعله، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزداد فيه ضراوة وإصرارًا. وقيل: سميعًا لكلام المظلوم، عليمًا بالظالم. وقيل: سميعًا بشكوى المظلوم، عليمًا بعقبى الظالم، أو عليمًا بما في قلب المظلوم، فليتقِ الله ولا يقل إلّا الحق. وهذه الجملة خبر، ومعناه: التهديد والتحذير 149 - {إِنْ تُبْدُوا} وتظهروا {خَيْرًا}؛ أي: عمل بر وخير؛ كالصلاة والصيام والصدقة مثلًا {أَوْ تُخْفُوهُ}؛ أي: تخفوا الخير. وتعملوه سرًّا {أَوْ تَعْفُوا} وتسامحوا {عَنْ سُوءٍ}؛ أي: عن مظلمة لكم المؤاخذة عليها؛ أي: تسامحوا عن ظلم من ظلمكم وهذا هو المقصود من الكلام (¬3). وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة له، ولذلك رتب عليه قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} وهذا تعليل لجواب الشرط المحذوف، تقديره: فهو أولى لكم من تركه؛ أي: فالعفو عن السوء أولى وأصلح لكم من ترك العفو؛ فإن الله سبحانه وتعالى {كَانَ عَفُوًّا}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البيضاوي.

[150]

كثير (¬1) العفو عن ذنوب المذنبين مع قدرته على الانتقام منهم، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى يعف عنكم يوم القيامة, لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم، كما قاله الحسن: {قَدِيرًا}؛ أي: أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو ذنوب من ظلمك، كما قاله الكلبي. وقيل: المعنى: إن الله كان عفوًا لمن عفا، وهو: المظلوم، قديرًا على إيصال الثواب إليه وعقوبة الظالم، وقيل: (¬2) المراد بالخير: المال. والمعنى: إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهرًا أو تخفوها فتعطوها سرًّا، أو تعفوا عن مظلمة .. فإن الله كان عفوًا لمن عفا، قديرًا على إيصال الثواب إليه. وبالجملة فهو حث للمظلوم على عفو ما رُخص له في الانتصار منه، حثًّا له على مكارم الأخلاق. والخلاصة: أن فاعلي الخير سرًّا وجهرًا والعافين عمن يسيء إليهم .. يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم، والله من شأنه العفو، وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل. واعلم: أن جميع مواضع الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين (¬3): أحدهما: صدق النية مع الحق. والثاني: التخلق مع الخلق. فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضًا، وهما: إيصال نفعٍ إليهم في السّر والعلانية، وهو المشار إليه بقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ}. ودفع ضرر عنهم، وهو المشار إليه بقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} فدخل في هذين القسمين جميعُ أنواع الخير وأعمالِ البر. 150 - ولما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين .. ذكر الكفار من أهل الكتاب، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن والمراح.

[151]

وهم اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله تعالى، وينبغي حمل معنى الآية على هذا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - صراحة المستلزم كفرهم به كفرهم {بِاللَّهِ} تعالى {و} بجميع {رسله} تعالى (¬1)، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعًا؛ فإن أهلَ الكتاب لم يكفروا باللهِ ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض .. كان ذلك كفرًا بالله وبجميع الرسل، ومعنى قوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ} الإيمان بـ {الله و} بين الإيمان بـ {رسله}؛ لأنهم كفروا بالرسل، بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقًا بين الله وبين رسله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} الرسل {وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} الرسل وهم اليهود، آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى، وكفروا بمحمد {وَيُرِيدُونَ}؛ أي: يقصدون بقولهم ذلك {أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: أن يجعلوا بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل {سَبِيلًا}؛ أي: دينًا متوسطًا بينهما، وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض، والحال أنه لا واسطة بين الإيمان والكفر؛ إذ الحق لا يختلف، فإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يتم إلا بالإيمان برسله، وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلًا أو إجمالًا، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال، كما قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} 151 - فالإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى قوله نؤمن ونكفر {أُولَئِكَ} المفرقون بين الله وبين رسله {هُمُ الْكَافِرُونَ}؛ أي: هم الذين كفروا كفرًا {حَقًّا}؛ أي: ثابتًا يقينًا لا شك فيه؛ لأن الله تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فمن كفر بواحد منهم .. فقد كفر بالكل وبالله تعالى، وإنما قال (¬2) حقًّا، توكيدًا لكفرهم؛ لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم، وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم. {وَأَعْتَدْنَا}؛ أي: هيأنا {لِلْكَافِرِينَ} اليهود والنصارى وغيرهم {عَذَابًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[152]

مُهِينًا}؛ أي: ذا إهانة وإذلال لهم يهانون به في الآخرة جزاءً على كفرهم. والخلاصة (¬1): أن الكافرين بالرسل فريقان: فريق: لا يؤمن بأحد منهم؛ لإنكارهم النبوة وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله تعالى، وأكثر الملحدين والشوعيين في هذا العصر من ذلك الفريق. وفريق آخر: يؤمن ببعض الرسل دون بعض، كقول اليهود: نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين؛ لأن النسخ عندهم من المستحيل، وكقول النصارى: نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد، وكل من الفريقين مستحقون للعذاب، ولا عبرة بما يدعونه إيمانًا. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}، أي: وأعددنا لكل كافرٍ، سواء أكان منهم أم من غيرهم عذابًا فيه ذل وإهانة لهم؛ جزاء كفرِهِم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة، ذاك أن من آمن بالله ولم يؤمن بوحيه إلى رسله .. لا يكون إيمانه صحيحًا، ولا يهتدي إلى ما يجب عليه من الشكر، ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ومن ثم ترى أمثال هؤلاء ماديين، لا تهمهم إلا شهواتهم، كما أن من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض، كأهل الكتاب .. لا يعتد بإيمانه؛ لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم، ومن فهم هذا حق الفهم .. علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها في محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر، مع أنه نشأ بين قوم أميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب. 152 - وبعد أن ذكر حال الفريقين السابق ذكرهما ذكر حال فريق ثالث فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}؛ أي: والذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوة جميع أنبيائه، وأن جميع ما جاؤوا به من عند الله حق وصدق {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}؛ أي: من الرسل بالإيمان به، بل آمنوا بجميعهم، وهم المؤمنون، وإنما ¬

_ (¬1) المراغي.

جاز دخولما {بَيْن} على {أحدٍ}؛ لأنه عام في الواحد المذكَّر والمؤنَّث وتثنيتهما وجمعهما {أُوْلَئِكَ} المذكورون من المؤمنين بالله وبجميع الرسل {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} الله تعالى؛ أي: سوف يعطيهم الله سبحانه وتعالى في الآخرة أجورهم الوافرة وثوابهم الكامل على الإيمان بالله وبرسله. وقرأ عاصم في رواية حفص (¬1) {يُؤْتِيهِمْ} بالياء؛ ليعود الضمير على اسم الله قبله. وقرأ الباقون، {نؤتيهم} بالنون على الالتفات، ومقابله: وأعتدنا والقراءتان متواترتان، فلا أولوية لإحداهما على الأخرى، خلافًا لمن توهمه. {وَكاَنَ اَللهُ} سبحانه تعالى {غَفُورًا} لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربِّه أحدًا، ولم يفرِّق بين أحد من رسله {رحِيمًا} به، يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلًا منه ورحمة. والخلاصة: والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم علمًا منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله تعالى، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد، ومثل الكتب التي جاؤوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها, فكل وال منهم إنما ينافذ أوامر السلطان، وكل قانون يعمل به؛ لأنه منه، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به، وأولئك يؤتينهم الله أجورَهم بحسب حالهم في العمل؛ لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح؛ إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح. ولم يقل في هؤلاء أنهم هم المؤمنون حقًّا كما في {أُوْلَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًا} لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح، فيغتر بذلك ويترك العمل النافع، وهذا مما يتلاءم مع نصوص الدين، فقد وصف الله تعالى المؤمنين حقًّا بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[153]

153 - {يَسْئَلُكَ} يا محمد {أَهْلُ اَلْكِتَابِ}؛ أي: أحبار اليهود، ككعب بن الأشراف وأصحابه؛ {أَن تُنَزِّلَ} قرأ الجمهور بالتشديد، وبالتخفيف قرأ مكي وأبو عمرو، أي: أن تنزل {عَلَيهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} جملةً كما نزِّلت التوراة جملة، فقد قالوا: إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إلينا، ولا تستغرب يا محمد ذلك ولا تنكره ولا تعجب منه {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ}؛ أي: لأنهم قد طلبوا من موسى شيئًا أغرب مما طلبوه منك وأعجب من ذلك {فَقَالُوا} لموسى: إن كنت نبيًّا فـ {أرَنَا اَللهَ جَهْرَةً}؛ أي: عيانًا رؤية منكشفة بينة؛ أي: أظهره لنا ننظره بأعيننا ونشاهده، أي: لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم ولا تنكره؛ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد، ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل بالله؛ إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار, وأما سؤال إنزال الكتاب .. فهو دليل إما على العناد؛ لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزًا، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة، وأيًّا ما كان السؤال فلا فائدة في إجابتهم إلى ما طلبوا؛ لأن سؤالهم سؤال تعنت وعناد واقتراح لا سؤال استرشاد وانقياد، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. وقرأ الحسن شذوذًا {أكثر} بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور. ففيه (¬1) تسليه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتوبيخ وتقريع لليهود؛ حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤال تعنت، والمعنى لا تعظمن عليك يا محمد مسألتهم ذلك؛ فإنهم من فرط جهلهم واجترائهم على الله لو أتيتهم بكتاب من السماء لما آمنوا بك. وإنما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجد هذا السؤال من آبائهم الذين كانوا في زمن موسى؛ لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في العنت. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}؛ أي: فأحرقتهم النار التي جاءت من السماء فماتوا. وقرأ السلمي والنَّخعي (¬2): {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وقراءة الجمهور {الصَّاعِقَةُ}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[154]

{بِظُلْمِهِمْ}، أي: تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل وقوعه شرعًا في ذلك الوقت، وهو رؤية الله جهرة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة؛ فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطًا بينًا، ولو طلبوا أمرًا جائزًا .. لما سموا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى، فلم يسمه ظالمًا ولا رماه بالصاعقة {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} معطوف على محذوف، تقديره: فأحييناهم بعد موتهم بالصاعقة، ثم بعد إحيائهم اتخذوا العجل الذي صاغه موسى السامري إلهًا، وعبدوه {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} والمعجزات على يد موسى عليه السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها {فَعَفَوْنَا} وسامحنا لهم {عَنْ ذَلِكَ} الذنب العظيم حين تابوا، وتركنا عبدة العجل فلم نستأصلهم. والمقصود من هذا (¬1): تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - , والمعنى: أنَّ هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمَّد أن تنزل عليهم كتابًا من السماء إنما يطلبونه عنادًا ولجاجًا، فإني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية، ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد، وعبدوا العجل، وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد. وفي قوله: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} استدعاء إلى التوبة. والمعنى: أنَّ أولئك الذين أجرموا لما تابوا .. عفونا عنهم، فتوبوا أنتم نعف عنكم {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}؛ أي: وأعطينا موسى قهرًا ظاهرًا وتسلطًا بيِّنًا عليهم، فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل، فبادروا إلى الامتثال، فقتل منهم سبعون ألفًا في يوم واحد، وفي هذا بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستغلب عليهم آخرًا وتقهرهم. 154 - ثم حكى الله تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم، وقد تقدم بعضها في سورة البقرة، فقال: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ}؛ أي: قلعنا ورفعنا وحبسنا ¬

_ (¬1) الخازن.

فوق رؤوسهم {الطُّورَ}؛ أي: الجبل المسمى بالطور، وهو جبل معروف هناك، وفي (¬1) الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم، وهو طور سيناء، وليس هو المرفوع علي بني إسرائيل؛ لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة ديار مصر، وهم ناهضون مع موسى عليه السلام، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة. {بِمِيثَاقِهِمْ}، أي: بسبب أخذ الميثاق وجعل العهد عليهم على أن يأخذوا جميع ما أنزل عليهم بقوة ويعملوا به مخلصين حين امتنعوا من قبول شريعة التوراة، فرفع الله عليهم الطور ليخافوا فقبلوها، وأعطوا العهد والميثاق على أَن لا يرجعوا عنها. {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان موسى أو على لسان يوشع عليهما السلام: {ادْخُلُوا الْبَابَ}؛ أي: باب هذه القرية، وهي قرية بيت المقدس، أو أريحا حالة كونكم {سُجَّدًا} أي: ركعًا خاضعين مطأطئين الرؤوس مائلي الأعناق ذلة وانكسارًا لعظمته؛ أي: وقلنا لهم على لسان يوشع: ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار، فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم {وَقُلْنَا لَهُمْ} قيل: على لسان داود عليه السلام: {لَا تَعْدُوا}؛ أي: لا تجاوزوا حدود الله {فِي} يوم {السَّبْتِ} إلى ما لا يحل لكم فيه؛ أي: لا تظلموا باصطياد الحيتان فيه، وذلك أنهم نهوا عن أن يصطادوا السمك في يوم السبت، فاعتدوا واصطادوا فيه، فمسخوا قردة وخنازير، وقيل: المراد به: النهي عن العمل والكسب في يوم السبت. وقرأ ورش (¬2): {لا تعدوا} بفتح العين وتشديد الدال، على أن الأصل: لا تعتدوا، فألقيت حركة التاء على العين وأدغمت التاء في الدال، وقرأ قالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال، والنص بالإسكان، وأصله أيضًا: لا تعتدوا وقرأ الباقون من العشرة {لا تعْدوا} بإسكان العين وتخفيف الدال من عدى يعد، وقال تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} وقرأ الأعمش والأخفش {لا تعتدوا} من اعتدى الخماسي. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} الميثاق الغليظ: العهد المؤكَّد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[155]

باليمين؛ أي: وأخذنا منهم عهدا مؤكدًا شديدًا بأن يعملوا بما أمرهم الله به، وأن ينتهوا عما نهاهم الله عنه. 155 - ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق، وهو قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ما (¬1): مزيدة للتأكيد، والباء: سببية متعلقة بلعنا المحذوف، ويجوز أن تتعلق بـ {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} فيكون التحريم بسبب النقض، وما عطف عليه إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ}؛ أي: لعنَّا أهلَ الكتاب وفعلنا بهم ما فعلنا من لَعْن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال بسبب نقضهم للميثاق الذي واثقهم الله به، فأحلوا ما حرمه الله، وحرموا ما أحله الله {و} لعناهم بـ {كفرهم} وجحودهم {بِآيَاتِ اللَّهِ} وحججه الدالة على صدق أنبيائه {و} لعناهم بـ {قتلهم الأنبياء} الذين أرسلوا لهدايتهم بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم؛ كزكريا ويحيى عليهما السلام {بِغَيْرِ حَقٍّ}، أي: بغير استحقاق لذلك القتل، حتى في زعمهم {و} لعنَاهم بـ {قولهم} للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: جمع أغلف، كحمر وأحمر، أي: مغطاة مغشاة، أي: عليها أغطية، وغشاوة، فهي لا تفقه ما تقول، ومحجوبة عليها حجاب لا يصل إليها شيء من الذكر والوعظ ولا يؤثر فيها، وقيل: جمع غلاف، أي: قلوبنا أوعية للعلم، فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه، فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أظهر القراء لام بل في {بَلْ طَبَعَ}؛ إلا الكسائي، فأدغم من غير خلاف، وعن حمزة خلاف؛ أي: ليس الأمر كما قالوا: بل ختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فغشيت وغطيت بغطاء معنوي، فلا تعي وعظًا؛ مجازاة على كفرهم، أو جعلها الله كالسكة المطبوعة - الدراهم مثلًا - في قساوتها، وجعلها بوضع خاص لا تقْبل غيرَه؛ أي: ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي، وما له من الأثر القبيح في أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنّهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا {فَلَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: أهل الكتاب {إِلَّا} إيمانًا {قَلِيلًا} لا يعتد به، وهو ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[156]

إيمانهم بنبيهم وكتابهم فقط؛ لأنه تفريق بين الله ورسله، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، أو لا يؤمنون إلا فريقًا قليلًا منهم؛ كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: لا يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا. 156 - {وَبِكُفْرِهِمْ}؛ أي: وطبع اللهُ على قلوبهم بكفرهم بعيسى عليه السلام؛ لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب، وهو (¬1) معطوف على {بكفرهم}؛ لأنه من أسباب الطبع، أو معطوف على قوله: {فَبِمَا} نقضهم ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله، ويكون تكرير ذلك الكفر إيذانًا بتكرر كفرهم، فإنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {و} طبع الله على قلوبهم بـ {قولهم} وافترائهم {عَلَى مَرْيَمَ} بنت عمران أم عيسى عليهما السلام {بُهْتَانًا عَظِيمًا}؛ أي: كذبًا شنيعًا يبهت من يقال فيه، أي: يدهشه ويحيره، لبعده وغرابته. والمراد به هنا: رميها بالفاحشة، حيث رموها بيوسف النجار، وكان من الصالحين بعدما ظهر منها من الكرامات الدالة على براءتها من كل عيب؛ فإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات، وعيسى تكلم حال كونه طفلًا منفصلًا عن أمه، والمعنى: إن الله تعالى طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إيّاها بالكذب العظيم، وأي بهتان أعظم من البهتان الذي تُبهتُ به العذراء التقية. 157 - والخلاصة: أن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله {و} طبع عليها بـ {قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وصلبناه. {رَسُولَ اللَّهِ}؛ أي: في زعم عيسى نفسه، فإن وصفهم له بوصف الرسالة استهزاء به، أو أن الله وضع الذكرَ الحسن بقوله: {رَسُولَ اللَّهِ} مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم، فإنهم قالوا: هو ساحر ابن ساحرة، أو إنَّ {رَسُولَ اللَّهِ} وصفٌ له من عند الله تعالى مدحًا له، وتنزيهًا له عن مقالتهم التي لا تليق بها. أي: وطبع على قلوبهم بسبب قولهم هذا القول المؤذِن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله، وذكروه بوصف الرسالة تهكمًا واستهزاء بدعوته بناء على أنه إنما ادعى النبوة ¬

_ (¬1) البيضاوي.

والرسالة فيهم لا ألوهية كما ادعت النصارى، ثم قال تعالى إبطالًا وردًّا لدعواهم قتله وصلبه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}؛ أي: ادعوا قتله وصلبه، والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}؛ أي: ألقي شبه عيسى على غيره حتى قتِل وصلب، فظنّوا أنّهم قتلوا عيسى وصلبوه، وهم إنما قتلوا غيره وصلبوه، قيل: ألقي شبه عيسى على ططيانوس، فقتلوه بدل عيسى. قال أبو حيان: لم نعلم كيفية القتل، ولا من ألقي عليه الشبه، ولم يصح بذلك حديث. روى (¬1) النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رهطًا من اليهود سبوه وأمه، فدعا عليهم، فمسخهم اللهُ قردةً وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء. اهـ خطيب. وفي القرطبي في آل عمران قال الضحاك: لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة، وهم: اثنا عشر رجلًا، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويُقْتَل ويكون معي في الجنة؟ فقال رجل: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعته من صوف وعمامته من صوف وناوله عكازه، وألقى اللهُ عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة الطعام والمشرب، فصار مع الملائكة اهـ. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}؛ أي: في شأن عيسى {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ}؛ أي: لفي تردد من قتله، وذلك أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به .. كان الشبه ألقي على وجهه فقط، ولم يلق على سائر جسده شبه جسد عيسى فلما قتلوه .. نظروا إليه فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: هذا عيسى، وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا، فليس هذا المقتول بعيسى. وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ {مَا لَهُمْ}؛ أي: ما لليهود {بِهِ}؛ أي: بقتله {مِنْ عِلْمٍ}؛ أي: من يقين، أقتل أم لم يقتل؟ {إلا اتباع الظن} استثناء منقطع؛ أي: ما لهم ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[158]

في قتله علمٌ حقيقي، ولكنهم يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه بسبب إلقاء الشبه عليه. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}؛ أي: وما قتلوا عيسى بن مريم، وهم متيقنون أنه هو بعينه، إذ لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة؛ إذ الجند الذي أخذوه للقتل ما كانوا يعرفون شخص عيسى معرفة يقينية، بل أخذوا الذي ألقي عليه شبهه ظنًّا منهم أنه هو المسيح. والخلاصة: أن روايات المسلمين جميعًا متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدي قتله، فقتلوا آخر ظنًّا منهم أنَّه هو. 158 - {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}؛ أي: بل رفع الله سبحانه وتعالى عيسى بن مريم بروحه وجسده إلى موضع لا يجري فيه حكمُ غيرِ الله تعالى ولا يصل إليه حكم آدمي، وذلك الموضع هو السماء الثالثة كما في حديث "الجامع الصغير": "آدم في السماء الدنيا تعرض عليه أعمال ذريته، ويوسف في السماء الثانية، وابنا الخالة يحيى وعيسى في السماء الثالثة .. إلخ" وفي بعض كتب المعاريج أنه في السماء الثانية. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزًا} في ملكه {حَكِيمًا} في صنعه، فرَفْعُ عيسى بروحه وجسده من الأرض إلى السماء لا صعوبة فيه بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى عزيزٌ يغلب ولا يغلب، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين، وبحكمته جازى كل عامل بعمله، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض ويوفيهم جزاءهم يوم القيامة - {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. 159 - {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: وما أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى {إِلَّا} والله {لَيُؤْمِنَنَّ} ذلك الكتابي {بِهِ}؛ أي: بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ}؛ أي: قبل موت ذلك الكتابي، قبل أن تزهق روحه، حين عاين ملائكة الموت، فلا ينفعه إيمانهُ وقتئذ؛ لانقطاع التكليف. والمعنى: وإن كان أحد من أهل الكتاب عندما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمور الدين، فيؤمن بعيسى إيمانًا حقًّا لا زيغ فيه ولا ضلال، فاليهودي يعلم أنه رسولٌ صادقٌ في رسالته

ليس بالكذَّاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسولُه وليس بإله، وليس هو بابن الله. وفائدة إخبارهم بذلك: بيان أنه لا ينفعهم حينئذ إيمانهم، فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطروا إليه مع عدم الجدوى والفائدة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} عيسى عليه السلام {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أهل الكتاب {شَهِيدًا} فيشهد على اليهود: أنهم كذبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى: أنهم أشركوا به، وكل نبي شاهد على أمته، كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، وقد ورد في الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة، فيبشرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته. روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر - حضره الموت - بشر بعذاب الله وعقوبته". وروى ابن مردويه عن ابن عباس: "ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار" وهذا يؤيد ما روي عن ابن عباس في تفسير الآية: من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح مع الإنكار الشديد والتقبيح. فصل في بيان الخلاف الجاري في مرجع الضمير في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} واعلم: أنه اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع (¬1): فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الضمير يرجع إلى الكتابي، والمعنى على هذا القول: وما من أحد من أهل الكتاب إلا آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي، ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه، سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل ¬

_ (¬1) الخازن.

له: أرأيت إن ضربت عنقه؟ قال: يتلجلج به لسانه. وقال شهر بن حوشب: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره، وقالوا: يا عدو الله، أتاك عيسى نبيًّا فكذَّبت به! فيقول: آمنت أنه عبد الله ورسولُه، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيًّا فزعمت أنه الله وابن الله! فيقول: آمنت أنه عبدُ الله، فأهل الكتابين يؤمنون به، ولكن حيث لا ينافعهم ذلك الإيمان. وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى عليه السلام، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، والمعنى على هذا: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلا آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدةً وهي ملة الإِسلام. قال عطاء: إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهوديٌّ ولا نصراني ولا أحدٌ يعبد غير الله إلا آمن بعيسى وأنه عبد الله وكلمته، ويدل على صحة هذا القول: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مقسطًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". متفق عليه. زاد في رواية "حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية. وفي رواية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لينزلنَّ فيكم ابن مريم حَكَمًا عادِلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها؛ وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد". أخرجاه في "الصحيحين". ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة، ويحكم بشريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا ينزل نبيًّا برسالة مستقلةٍ وشريعة ناسخة، بل يكونُ حاكمًا من حكام هذه الأمة وإمامًا من أئمتهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيكسر الصليب" يعني: يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى، وكذلك قتله الخنزير، وقوله:

"ويضع الجزية" يعني: لا يقبلها ممن بذلها من اليهود والنصارى، ولا يقبل من أحد إلا الإِسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال: هذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه، ولم يجز قتله ولا إجباره على الإِسلام؟ والجواب: إنَّ هذا الحكم ليس مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسخه، وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام، بل الناسخ لهذا الحكم هو نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه هو المبين للنسخ، أو أنّ عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. قال - - الزجاج: هذا القول بعيد - يعني قول من قال: إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان - قال: لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} قال: والذين يبقون يومئذ، يعني: عند نزوله شرذمة قليلة منهم. وأجاب أصحاب هذا القول - يعني الذين يقولون: إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان - بأن هذا على العموم، ولكنَّ المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به. ويكون معنى الآية: وما من أحد من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلا آمن بعيسى عند نزوله من السماء، وصحَّح الطبري هذا القول. وقال عكرمة في معنى الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل موت الكتابي، فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند الحشرجة، حتى لا ينفعه إيمانه، والله أعلم. الإعراب {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}. {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ} ناف وفعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة

{بِالسُّوءِ}: جار ومجرور متعلق بالجهر. {مِنَ الْقَوْلِ}: جار ومجرور حال من السوء. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، والاستثناء منقطع؛ أي: لا يحبّ الله الجهر بالسوء من أحد، لكن من ظُلم فله الجهر، وقيل: متصل، ولكنّه على حذف مضاف؛ أي: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم. {ظُلِمَ}: فعل ماضٍ مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على من، والجملة صلة الموصول. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {سَمِيعًا}: خبر أول له. {عَلِيمًا}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة للوعد والوعيد. {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}. {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا}: جازم وفعل وفاعل ومفعول. {أَوْ تُخْفُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم معطوف على تبدوا. {أَوْ تَعْفُوا}: فعل وفاعل مجزوم معطوف على تبدوا أيضًا. {عَنْ سُوءٍ}: جار ومجرور متعلق بتعفوا، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}: تعليل لجواب الشرط المحذوف، وتقديره فهو أي العفو أولى لكم من تركه، فإن الله كان عفوًّا قديرًا. {فَإِنَّ اللَّهَ} (الفاء): تعليلية، (إن): حرف نصب، {اَللهَ}: اسمها، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، واسمها، ضمير يعود على الله. {عَفُوًّا}: خبر أول لها. {قَدِيرًا}: خبر ثان لها، وجملة كان: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}. {إِنَّ} حرف نصب. {الَّذِينَ} في محل النصب اسمها، {يَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بيكفرون، {وَرُسُلِهِ} معطوف على لفظ الجلالة {وَيُرِيدُونَ}: فعل وفاعل معطوف على يكفرون {أَنْ يُفَرِّقُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويريدون تفريقهم {بَيْنَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُفَرِّقُوا}. {وَرُسُلِهِ}: معطوف على الجلالة.

{وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على صلة الموصول {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {نُؤْمِنُ}: فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير يعود على الذين كفروا. {بِبَعْضٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول، {وَنَكْفُرُ}: (الواو) عاطفة، (نكفر): فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكافرين، {بِبَعْضٍ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة نؤمن. {وَيُرِيدُونَ}: فعل وفاعل. والجملة معطوفة على جملة الصلة. {أَنْ يَتَّخِذُوا}: ناصب وفعل وفاعل {بَيْنَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بيتخذوا على كونه مفعولًا أول له. {سَبِيلًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليريدون، والتقدير: ويريدون اتخاذهم سبيلًا بين ذلك. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْكَافِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة. {حَقًّا}: نعت لمصدر محذوف تقديره: هم الكافرون كفرًا حقًّا، والعامل فيه: اسم الفاعل، أعني: لفظ الكافرون. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق به {عَذَابًا}: مفعول به. {مُهِينًا}: صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِاللَّهِ}: متعلق بآمنوا. {وَرُسُلِهِ}: معطوف على لفظ الجلالة، {وَلَمْ يُفَرِّقُوا}: جازم وفعل وفاعل، معطوف على آمنوا. {بَيْنَ أَحَدٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بيفرقوا. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لأحد {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان، {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {يُؤْتِيهِمْ}: فعل ومفعول أول {أُجُورَهُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول،

والجملة من المبتدأ الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أو مستأنفة. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {غَفُورًا}: خبر أول لكان. {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة كان مستأنفة. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ}: فعل ومفعول أول وفاعل ومضاف إليه. {أَنْ}: حرف نصب. {تُنَزِّلَ}: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على محمد. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {كِتَابًا}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولا ثانيًا لسأل، تقديره: يسألك أهل الكتاب تنزيلك عليهم كتابًا من السماء، وجملة سأل مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور صفة لكتابًا، أو متعلق بتنزل. {فَقَدْ}: {الفاء} حرف تعليل وعطف على محذوف، تقديره: ولا تستغرب يا محمَّد سؤالهم لك ولا تستعظمه؛ لأنهم قد سألوا موسى أعجب وأغرب من ذلك، قد: حرف تحقيق، {سَأَلُوا}: فعل وفاعل، {مُوسَى}: مفعول أول، {أَكْبَرَ}: مفعول ثان، {مِنْ ذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق بأكبر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة والجملة المحذوفة مستأنفة. {فَقَالُوا}: الفاء حرف عطف وتفسير {قالوا} فعل وفاعل والجملة جملة مفسرة معطوفة على جملة سألوا. {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}: مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: {أَرِنَا اللَّهَ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، {جَهْرَةً}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنها نوع من مطلق الرؤية فيلاقي عامله في الفعل كما في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} الفاء: حرف عطفه وتفريع، أخذتهم الصاعقة: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قالوا. {بِظُلْمِهِمْ} الباء: حرف جر وسبب، ظلم: مجرور بها، والهاء: مضاف إليه الجار والمجرور متعلق بأخذتهم {ثُمَّ} للترتيب الذكرى، أي: الأخباري،

{اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل، {الْعِجْلَ}: مفعول أول له، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلهًا، كما أشرنا إليه في بحث التفسير، والجملة معطوفة على جملة قالوا، {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق باتخذوا، {مَا}: مصدرية، {جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة ففي تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، والتقدير: من بعد مجيء البينات إياهم. {فَعَفَوْنَا}: فعل وفاعل {عَنْ ذَلِكَ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة اتخذوا. {وَآتَيْنَا}: فعل وفاعل. {مُوسَى}: مفعول أول. {سُلْطَانًا}: مفعول ثان. {مُبِينًا}: صفة له، والجملة معطوفة على جملة عفونا. {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}. {وَرَفَعْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على آتينا. {فَوْقَهُمُ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق برفعنا، ويجوز أن يكون حالًا من الطّور. {الطُّورَ}: مفعول به. {بِمِيثَاقِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق برفعنا. {وَقُلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة رفعنا. {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق برفعنا. {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: {ادْخُلُوا الْبَابَ}: فعل وفاعل ومفعول، {سُجَّدًا}: حال من فاعل ادخلوا، والجملة في محل النصب مقول لقلنا. {وَقُلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على رفعنا أيضًا. {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق بقلنا. {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: {لَا تَعْدُوا} جازم وفعل وفاعل، {فِي السَّبْتِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَأَخَذْنَا}: فعل وفاعل معطوف على رفعنا. {مِنْهُمْ}: متعلق به. {مِيثَاقًا}: مفعول به، {غَلِيظًا}: صفة له. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}. {فَبِمَا} {الفاء}: استئنافية بمعنى الواو، الباء: حرف جر وسبب، {ما}: زائدة، {نَقْضِهِمْ}: مجرور بالباء ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف،

تقديره: ولعناهم بسبب نقضهم. {مِيثَاقَهُمْ}: ميثاق مفعول النقض ومضاف إليه. {وَكُفْرِهِمْ}: معطوف على نقضهم. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بكفرهم. {وَقَتْلِهِمُ}: معطوف أيضًا على نقضهم. {الْأَنْبِيَاءَ}: مفعول القتل. {بِغَيْرِ حَقٍّ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: قتلًا كائنًا بغير حق. {وَقَوْلِهِمْ}: معطوف على نقضهم. {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: مقول محكي لقولهم، وإن شئت قلت: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب إبطالي، {طَبَعَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بطبع، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: ليس الأمر كما قالوا من قولهم: قلوبنا غلف بل طبع الله عليها. {فَلَا}: الفاء: عاطفة تفريعية، لا: نافية. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة طبع. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلًا. {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}. {وَبِكُفْرِهِمْ}: معطوف على قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} وكرَّر الباء للفصل بينه وبين المعطوف عليه بأجنبي وهو قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ...} إلخ. {وَقَوْلِهِمْ}: معطوف على كفرهم. {عَلَى مَرْيَمَ}: متعلق بقولهم، أو حال من بهتانا. {بُهْتَانًا}: مفعول مطلق لقولهم؛ لأنه ضرب منه فهو كقولهم: قعد القرفصاء. {عَظِيمًا}: صفة بهتانًا. {وَقَوْلِهِمْ}: معطوف على كفرهم. {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}: مقول محكي لقولهم، وإن شئت قلت: {إنَّ} حرف نصب، ونا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها، {قَتَلْنَا}: فعل وفاعل، {الْمَسِيحَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول، {عِيسَى}: بدل من المسيح، أو عطف بيان منه، {ابْنَ}: صفة لعيسى وهو مضاف، {مَرْيَمَ}: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، {رَسُولَ اللَّهِ}: بدل ثان من المسيح، أو عطف بيان منه، وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه. {وَمَا}: الواو: حالية،

{ما}: نافية، {قَتَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من ضمير قولهم، {وَمَا صَلَبُوهُ}: ناف وفعل وفاعل ومفعول معطوف على ما قتلوه. {وَلَكِنْ}: {الواو}: استئنافية، {لكن}: حرف استدراك، {شُبِّهَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، {لَهُمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب الفاعل، أو متعلق بشبه، ونائب الفاعل ضمير يعود على المقتول والمصلوب، والجملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}. {وَإِنَّ} الواو: استئنافية، {إنَّ}: حرف نصب، {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها، {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق به. {لَفِي شَكٍّ} {اللام}: لام الابتداء، {في شك}: جار ومجرور خبر إن، {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لشك، وجملة إنَّ: مستأنفة. {مَا}: نافية. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {بِهِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر، والعامل فيه الاستقرارُ المقدر، {مِنْ عِلْمٍ} {من}: زائدة، {علم}: مبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجر صفة ثانية لشك، أي غير معلوم. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يجوز في {علم} وجهان: أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية، والعامل أحد الجارين إما لهم، وإما به، وإذا جُعل أحدهما رافعًا له تعلق الآخر بما تعلق به الرافع من الاستقرار المقدر، ومِن: زائدة لوجود شرطي الزيادة. والوجه الثاني: أن يكون مبتدأً زِيدت فيه {مِنْ} أيضًا، وفي الخبر احتمالان أحدهما: أن يكون {لَهُمْ} فيكون به إما حالًا من الضمير المستكن في الخبر والعامل فيها الاستقرار المقدر، وإما حالًا من علم، وإن كان نكرة؛ ¬

_ (¬1) الجمل.

لتقدمها ولاعتماده على نفي. والاحتمال الثاني: أن يكون {به} هو الخبر. {ولهم} متعلق بالاستقرار كما تقدم، وهذه الجملة المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: الجر على أنها صفة ثانية لشك؛ أي: غير معلوم. الثاني: النصب على الحال من شك، وجاز ذلك وإن كان نكرة؛ لتخصيصه بالوصف بقوله منه. الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، وهو بعيد اهـ "سمين". {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، {اتِّبَاعَ}: منصوب على الاستثناء. {الظَّنِّ}: مضاف إليه. {وَمَا} الواو: عاطفة، {مَا}: نافية، {قَتَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول. {يَقِينًا}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: وما قتلوه قتلًا يقينًا، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} علي كونها صفة لشك. {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}. {بَلْ}: بل: حرف عطف وإضراب. {رَفَعَهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، {إِلَيْهِ}: متعلق برفع، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: ليس الأمر كما قالوا من قولهم: إنا قتلنا المسيح، بل رفعه الله إليه {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {عَزِيزًا}: خبر أول لكان. {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ} (الواو): استئنافية، (إن): نافية، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: جار ومجرور مضاف إليه صفة لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: وما أحد كائن من أهل الكتاب {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {لَيُؤْمِنَنَّ}: اللام موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله ليؤمنن، {يؤمنن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يؤمنن}، {قَبْلَ مَوْتِهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يؤمنن}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه

في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بشهيدًا، أو بيكون. {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على عيسى. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بشهيدًا. {شَهِيدًا}: خبر يكون، وجملة يكون مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ}: يحبُّ بضم أوله، من أحب الرباعي، وهو بمعنى حبه، وهو أكثر استعمالًا من حب الثلاثي، فهو محب وذاك محب ومحبوب، وأما ثلاثيه فمن المضاعف المعدّى الذي انفرد بالكسر الشاذ، ولم يسمع فيه الضم وكان قياسه ضمَّ عين المضارع، ولكنه لم يسمع على ما قاله ابن مالك في لامية الأفعال: فَذُوْ التَعَدِّيْ بِكَسْرِ حَبَّهُ وَعِ ذَا ... وَجْهَيْنِ هَرَّ وَشَذَّ عَلَّهُ عَلَلاَ وعبارة "مناهل الرجال" هنا يقال: حبه يحبه، بفتح الياء وكسر الحاء حبًّا وحبًّا، لغة في أحبه يحبه بضم الياء وكسر الحاء، وقد تبع الناظم وابنه في ذلك الجوهري، لكن قال أبو حيان: إنه سمع فيه الضم أيضًا، فيكون فيه وجهان، فعليه ليس في المضاعف المعدَّى كسرٌ فقط أصلًا. انتهت. ومعنى حب الله للشيء هو: الرضا به والإثابة عليه كما مر، وعدمُ حبه للشيء: السخط عليه والعقاب به. {الْجَهْرَ}: ضد السر والإخفاء، يقال: جهر الأمر وبالأمر يجهر - من باب نصر - جهرًا وجهارًا وجهرةً إذا أعلنه، وجهر بالقول يجهر - من باب فتح - جهرًا وجهارًا إذا رفع به صوته، وجهر الصوت إذا رفعه. {بِالسُّوءِ} - بضم أوَّله: اسم مصدر من ساءه الأمر يسوءه سوءًا وسواء وسواءة، من باب قال إذا أحزنه أو فعل به ما يكرهه، يجمع على أسواء. وكل آفة الشر والفساد. {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} من أبدى الرباعي، يقال: أبدى الشيء إذا

أظهره، ومن أخفى الرّباعي، يقال: أخفى الشيء إذا أسره وستره من غيره. {وَأَعْتَدْنَا}: أصله أعددنا، قلبت الدال الأولى تاء، فهو من باب أفعل الرباعي، وليست التاء تاء الافتعال كما مر. {سُلْطَانًا}: مصدر بمعنى التسلط، وفي "المختار": والسلاطة: القهر، يقال: سلط ككرم وسمع، وسلاطة وسلوطة بالضم، وقد سلطه الله تسليطًا فتسلط عليهم، والسلطان: الوالي، والسلطان أيضًا: الحجة والبرهان، ولا يثنى ولا يجمع؛ لأن مجراه مجرى المصدر. انتهى. {سُجَّدًا}: جمع ساجد، كعادل وعدل، وراكع وركع، قال ابن مالك: وفُعَلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ ... وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا}: من عدا (¬1) يعدو - من باب غزا يغزو - وأصله: تعدووا، الواو الأولى المضمومة لام الكلمة استثقلت الضمة عليها فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فوزنه: تعفوا، وقرأ ورش: {لَا تَعْدُوا} بفتح العين وتشديد الدال، على أن الأصل: لا تعتدوا، وتصريفه على هذه القراءة: أنه نُقلت فتحة التاء إلى العين الساكنة قبلها ثم قلبت التاء دالًا وأدغمت في الدَّال بعدها كما مر في بحث القراءة والمعنى: أنهم نهوا عن الاعتداء في السبت بصيد السمك، فخالف بعضهم واصطاد، وامتنع بعضهم من غير نهي للآخرين، وامتنع بعضهم مع نهي من اصطاد، فحل بمن اصطاد العذاب ونجا من نهى، وسيأتي بسط ذلك في سورة الأعراف. {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: جمع أغلف، كحمر جمع أحمر، ويصح أن يكون جمع غلاف، ككتاب وكتب، وسكن للتخفيف. {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا}: يقال: طبع الشيء يطبع - من باب فتح - طبعًا، إذا صوره بصورة ما، وطبع عليه إذا ختم عليه، ويقال: طبع الله على قلبه، أي: ختم وغطى، فلا يعي ولا يوفق، وطبع الدرهم إذا نقشه وسكه، وطبع السيف إذا عمله وصاغه، وطبع الله الخلق خلقهم. {وَمَا صَلَبُوهُ}: يقال: صلبه يصلبه صلبًا، - من بابي نصر وضرب - إذا جعله ¬

_ (¬1) الفتوحات.

مصلوبًا، أي: معلقًا بعد القتل على خشبة قائمة مثلًا. البلاغة وتضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبديع (¬1): فمنها: التكرار في قوله: {وَيُرِيدُونَ} و {وَيُرِيدُونَ}، وفي قوله: {أَهْلُ الْكِتَابِ} و {كِتَابًا}، وفي قوله: {بِمِيثَاقِهِمْ} و {مِيثَاقًا}. ومنا: الطباق بين {تُبْدُوا} {أَوْ تُخْفُوهُ}، وفي قوله: {نُؤْمِنُ} {وَنَكْفُرُ}. ومنها: الاختصاص في قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ}. ومنها: الإشارة في مواضع. ومنها: الاستعارة في قوله: {أَنْ يُفَرِّقُوا} {وَلَمْ يُفَرِّقُوا}، وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني، وفي قوله: {سُلْطَانًا} استعير للحجة، وفي قوله: {غُلْفٌ} استعار الغلاف بمعنى الغطاء؛ لعدم الفهم والإدراك؛ أي: لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، و {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا}. ومنها: زيادة الحرف لمعنى التأكيد في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}. ومنها: إسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}، و {جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وإلى الراضي به في قوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ}، وفي قوله: {قَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}، وفي قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ}. ومنها: حصن النسق في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}، والمعاطيف عليه؛ حيث نسقت بالواو التي تدل على الجمع فقط، وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة، فشرّك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء. ومنها: إطلاق اسم الكل على البعض في قوله: {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} وهو القرآن والإنجيل، ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما، وفي قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ولم يقلْ ذلك إلا بعضهم. ومنها: التعريض والتهكم في قوله: {قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} إذا قلنا: إنه عن كلامهم، قالوه على سبيل التهكم والاستهزاء؛ لأنهم لا يؤمنون برسالته. ومنها: الاعتراض في قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ردًّا لمزاعمهم الفاسدة. ومنها: التوجيه في قوله: {غُلْفٌ} من احتمال المصدر جمع غلاف، أو جمع أغلف. ومنها: عود الضمير علي غير مذكور في قوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} على من جعلهما لغير عيسى. ومنها: النقل من صيغة فاعل إلى صيغة فعيل في قوله: {شَهِيدًا}. ومنها: الالتفات في قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ والأصل: سيؤتيهم، وتنكير الأجر للتفخيم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ} حيث أطلق الكل وأريد البعض. ومنها: الحذف في مواضع. ومنها (¬1): الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} لغرض ذمهم وتذكيرًا لوصفهم، أو المراد جمع الكافرين. ومنها: التأكيد في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}؛ لأن قوله حقًّا مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. ومنها: التوطئة في قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} قد ذكر ¬

_ (¬1) الفتوحات.

في حيّز الشرط ثلاثة أشياء، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، إنما يظهر كونه جزاءً للثالث، فيكونُ المقصودُ مِنَ الكلام الثالث، والأوَّلان إنما ذكرا توطئة له، كما أشار إليه "البيضاوي"، ونصُّه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا}. طاعة وبرًّا {أَوْ تُخْفُوهُ} أي: تفعلوه سرًّا {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}. لكم المؤاخذة عليه، وهو المقصود. وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة له، ولذلك رتب عليه قوله {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}. المناسبة قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فضائح اليهود وقبيح أعمالهم .. ذكر هنا تشديده عليهم في الدّنيا والآخرة، أما في الدنيا: فتحريم طيبات كانت محللة لهم، وأما في الآخرة: فبما بينه الله بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ثم بين أن فريقًا آمنوا إيمانًا صادقًا، وعملوا الصالحات، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة. قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...} ¬

_ (¬1) المراغي.

الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما فرغ من الكلام على أهل الكتاب .. فإنه ذكر (¬1) عنهم أولًا أنهم يفرقون بين الله ورسله، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ثم انتقل إلى ذكر شيء من عنادهم وإعناتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، وبين أنه لا غرابة في ذلك؛ فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمه، ومحاولتهم قتله وصلبه، وفي كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم، ولولا ذلك .. لما شاغبوك، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك، وختم هنا الكلام في محاجتهم ببيان أن الوحي جنس واحد، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحًا .. لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) أزال في الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة في نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله .. أنْذَرَ في هذه الآيات من يصر منهم على الكفر ويستمر على الإعراض والظلم، وبين لهم سوء العاقبة. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ...} الآية، سبب نزولها: ما روى (¬3) ابن إسحاق عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، فأنزل هذه الآية. قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "إني أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ ...} الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[160]

التفسير وأوجه القراءة 160 - {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}: فالباء للسببية، والتنوين للتنكير والتعظيم؛ أي: فبسبب ظلم عظيم واقع من الذين رجعوا وتابوا عن عبادة العجل. {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الذين هادوا {طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}؛ أي؛ مستلذات كانت محللة لهم قبل ظلمهم، لا بسبب شيء آخر، كما زعموا أنها كانت محرمة على مَنْ قبلهم، فإن اليهود كانوا كلّما فعلوا معصية من المعاصي يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة لهم. يعني: ما حرمنا عليهم الطيبات التي كانت حلالًا لهم إلا بظلم عظيم ارتكبوه، وذلك الظلم هو: ما ذكره من نقضهم الميثاق، وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة، مثل قولهم: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، وكقولهم: أرنا الله جهرة، وكعبادتهم العجل، فبسبب هذه الأمور حرَّم الله عليهم طيباتٍ كانت حلالًا لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، وكانوا كما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات، وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب، ويقولون: لسنا بأول من حُرِّمت عليه، بل كانت محرَّمة على نوح وإبراهيم، فكذبهم اللهُ تعالى في مواضع كثيرة؛ كقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}. أما الطيبات التي حرَّمها الله تعالى عليهم: فهي ما بُيِّن في قوله جل ذكره في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية، وقد أبهمها الله تعالى هنا؛ لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة، لا بيانها في نفسها، كما أبهم الظلم الذي كان سببًا في العقوبة؛ ليعلم أن أي نوع منه يكون سببًا للعقاب في الدنيا والآخرة، والعقاب: إما دنيوي: كالتكاليف الشاقة زمن التشريع، والجزاء الوارد في الكتب على الجرائم، كالحدود والتعزيرات، وما اقتضته السنن التي سنها الله تعالى في نظم الاجتماع، من كون الظلم سببًا لضعف الأمم، وفساد عمرانها، واستيلاء الأمم الأخرى عليها. وإما أخروي: هو ما بينه في الكتاب الكريم من العذاب في النار، ثم بين

[161]

هذا الظلم وفصله بعد ذكره أولًا إجمالًا؛ ليكون أوقع في النفس وأبلغ في الموعظة، فقال: {وَبِصَدِّهِمْ}؛ أي: وحرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم بسبب صدهم ومنعهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ودينه {كَثِيرًا}؛ أي: ناسًا كثيرًا، أو صدًّا كثيرًا، أو زمانًا كثيرًا، والأول أولى، والصد والصدود: المنع، وهو يشمل صدَّهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى، ويعاندونه مرارًا، وصدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة، أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وإنما أعيدت الباء في قوله (¬1): {وَبِصَدِّهِمْ} ولم تُعَدْ في قوله: {وَأَخْذِهِمُ} وما بعده؛ لأنه قد فصَل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولًا للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه، وهو {حَرَّمْنَا} وما تعلق به، فلما بعد المعطوف من المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولًا للمعطوف عليه .. أعيدت الباء لذلك، وأما ما بعده فلم يفصل فيه إلا بما هو معمول للمعطوف عليه، وهو الربا. 161 - {وَ} حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم بسبب {أَخْذِهِمُ} وأكلهم {الرِّبَا} والزيادة في المعاملات {وَ} الحال أنهم {قَدْ نُهُوا عَنْهُ}؛ أي: عن معاملة الربا مطلقًا على ألسنة أنبيائهم، والتوراةُ (¬2) التي بأيديهم إنما تصرحُ بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب، وهي محرَّفة، أما النسخة التي كتبها موسى .. فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى، وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقًا، فلم يقيدوه بشعب إسرائيل، كقول داود في "المزمور الخامس عشر من الزبور": فضته لا يعطيها بالربا, ولا يأخذ الرشوة من البريء {وَ} حرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم بسبب {أَكْلِهِمْ} وأخذهم {أَمْوَالَ النَّاسِ} {بِـ} الوجه {الْبَاطِلِ}؛ أي: بطريق الرشوة والخيانة وسائر الوجوه المحرمة مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتد به. ونحو هذه الآية قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} والسحت: الكسب الحرام، فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: هي من عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[162]

وفي ذكر هذه الآية امتنان على هذه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرّم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبةً لهم بذنوبهم، فهذه الأربعة هي الذنوب التي اقترفوها، والجرائم التي ارتكبوها، وشدد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة، أما التشديد في الدنيا .. فهو ما تقدم من تحريم الطيبات عليهم، وأما التشديد عليهم في الآخرة .. فقد بين جزاءهم عليها في الآخرة، فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ}؛ أي: وأعددنا وهيأنا للذين كفروا برسل الله، وجحدوا ما جاؤوا به، وأصروا على الكفر {مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل الكتاب دون من آمن منهم {عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: عذابًا مؤلمًا في نار جهنم خالدين فيها أبدًا. قال المفسرون (¬1): إنّما قال: منهم؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى علم أنَّ قومًا منهم سيؤمنون، فيأمَنون من العذاب، 162 - وبعد أن بيَّن الله تعالى في هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم، وأطلق القولَ في ذلك، وكان هذا مما يوهم أنَّه شامل لكل أفرادهم .. جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم، فقال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ}؛ أي: لكن المتمكنون في علم التوراة من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه {وَالْمُؤْمِنُونَ}: منهم، ومن المهاجرين والأنصار وسائر أمتك {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}: يا محمَّد، وهو القرآن {وَ} يؤمنون بـ {بما أنزل من قبلك} على سائر الأنبياء من الكتب السماوية؛ أي: لكنْ أهل العلم الصحيح بالدين منهم، المستبصرون فيه، غير التابعين للظنّ، الذين لا يشترون به ثمنًا قليلًا من المال والجاه، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل .. يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى، وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل، ولا يفرِّقون بين الله ورسله بهوىً ولا عصبية، روى ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، حين فارقوا يهود وأسلموا. ¬

_ (¬1) الخازن.

{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ}؛ أي: وامتدح المقيمين الصلاة الذين يُؤدّونها على وجه الكمال، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيصان؛ إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال إلإيمان، واطمئنان النفس به. وقوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: مبتدأ، خبرُه محذوف، تقديره؛ أي: والمؤتون الزكاة المفروضة في مصارفها، والمؤمنون بوحدانية الله ومجيء اليوم الآخر، مع ما فيه من الحساب والجزاء، مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع؛ إذ إقامتها تستدعي إيتاء الزكاة، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الشرع .. لا يمنع الزكاة؛ إذ هي مما تزكي النفس، وتعلي الهمة، وتهون على النفس المال - قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} الآية. {أُولَئِكَ}: الموصوفون بالصفات السابقة {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: سنعطيهم في الآخرة على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره: ثوابًا جزيلًا لا يدرك وصفه إلا علام الغيوب، وهو الجنة. قال أبو حيان (¬1): وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر {يُؤْمِنُونَ} لا غير؛ لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة، ومن جعل الخبر جملة قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} فقوله ضعيف. وانتصب {الْمُقِيمِينَ} على المدح، وارتفع {وَالْمُؤْتُونَ} هو أيضًا على إضمار (وهم) على سبيل القطع إلى الرفع، ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله؛ لأن النعت إذا انقطع في شيء منه .. لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فأكثر الوصف؛ بأن جعل في جمل. وقرأ ابن جبير (¬2)، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعاصم عن الأعمش، ويونس وهارون عن أبي عمرو: {وَالْمُقِيمِون} - بالرفع - نسقًا على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء، وروى أنها كذلك في مصحف أُبيٍّ، وقيل: بل هي فيه {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ}، كمصحف عثمان. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[163]

وقرأ حمزة {سيؤتيهم} - بالياء - عودًا على قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وقرأ باقي السبعة على الالتفات، ومناسبة {وَأَعْتَدْنَا}. 163 - {إِنَّا} قد {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد هذا القرآن {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد نوح، والكاف في قوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا} نعت لمصدر محذوف؛ أي: أوحينا إليك إيحاءً مثل إيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر قال قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مئة وثلاثة عشر، جم غفير"، والمعنى: إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم، والله لم يُنَزِّل على أحد منهم كتابًا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد؛ لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وليس بالأمر المشاهد الحسي. وقيل: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} فهي (¬1) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابًا من السماء جملةً واحدة، والمعنى: أنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح، وبجميع المذكورين في هذه الآية، وهم اثنا عشر نبيًّا، وأن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء، وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك، وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتابًا جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى، فكما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحًا في ثبوته .. فكذلك لا يكون إنزال الكتاب على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مفرقًا قادحًا في نبوته , بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم. قال المفسرون (¬2): وإنما بدأ الله عَزَّ وَجَلَّ بذكر نوح عليه السلام؛ لأنه أول نبي بعث بشريعة وتكليف، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عُذِّبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام، وكان أطول الأنبياء عمرًا، عاش ألف سنة، ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف. (¬2) الخازن.

لم تنقص قوّته، ولم يُنسب، ولم تنقص له سن، وصبر على أذى قومه طول عمره. ثم ذكر الله تعالى الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر؛ لشرفهم وفضلهم فقال: {وَ} كما {أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} بن آزر {وَ} أوحينا بعد إبراهيم إلى {إِسْمَاعِيلَ} بن إبراهيم، فمات بمكة {وَ} إلى {إِسْحَاقَ} بن إبراهيم فمات بالشام {وَ} إلى {يَعْقُوبَ} وهو إسرائيل بن إسحاق {وَ} إلى {الْأَسْبَاطِ}؛ أي: أولاد يعقوب الأثني عشر، فمنهم يوسف نبي رسول باتفاق، وفي البقية خلاف {وَ} أوحينا إلى {عِيسَى} بن مريم، وقدَّم (¬1) عيسى على أيوب ومن بعده - مع كونهم في زمان قبل زمانه - ردًّا على اليهود الذين كفروا به، وأيضًا قالوا {وَ} ليست إلا لمطلق الجمع. {وَ} إلى {أَيُّوبَ} بن أموص {وَ} إلى {يُونُسَ} بن متَّى. قرأ الجمهور (¬2): {يونس} بياء ونون مضمومتين بلا همز، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ نافع في رواية بن جمّاز عنه {يُونِسَ}، بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب، وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وهي لغة لبعض عقيل، وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون. {وَ} إلى {سُلَيْمَانَ} بن داود {وَ} كما {آتَيْنَا}: وأعطينا أيّاه {دَاوُودَ} بن أيشا {زَبُورًا} - بفتح الزاي - بوزن رسول، وقرأ حمزة زُبورًا بالضم، وهو جمع زبر، بمعنى: مزبور؛ أي: مكتوب، كفلس وفلوس، وهو: اسم للكتاب الذي أنزل عليه، وهو مئة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، بل فيها تسبيح وتقديس وتحميد وثناء على الله عَزَّ وَجَلَّ ومواعظ، وقد أفرد بالذكر، أعني: داود؛ لأن له شأنًا خاصًّا عند أهل الكتاب من حسن الصوت واجتماع الطيور عليه. قال بعض العلماء (¬3): وإنما لم يذكر موسى في هذه الآية؛ لأنَّ الله أنزل عليه التوراة جملةً واحدة، وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنّه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

[164]

لم ينزِّل على أحد منهم كتابًا جملة واحدة، فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام 164 - {وَ} كما أرسلنا {رُسُلًا} آخرين غير هؤلاء {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} يا محمَّد {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل تنزيل هذه السورة، وهم الذين ذكرت أسماؤهم في السور المكية، كقوله في سورة الأنعام - في سياق الكلام عن إبراهيم -: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)} {وَ} كما أرسلنا {رُسُلًا} آخرين غير هؤلاء المذكورين {لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} يا محمَّد، كالذين (¬1) أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك، كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وأروميا. وإنّما لم يقص الله علينا خبرهم؛ لأن القصد من القصم: العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، - كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، وقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} - وكل هذا يَثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل. فائدة: في أن إرسال الرسل عام في كل الأمم الأبيض والأحمر والأسود، وعلينا أنْ نعلم أن الله تعالى قد أرسل رسلًا في كل الأمم الأبيض والأحمر والأسود، فكانت رحمته بهم عامة، لا مختصة بشعب وجنس معين، كما يزعم أهل الكتاب، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}. وهذه حقيقة دلَّ عليها الدّين السماوي، ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من حقائق جلاها للناظرين بجميل بيانه، ¬

_ (¬1) المراغي بزيادة.

واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها، وما كان العقل وحده يكشف عنها، لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم. والخلاصة (¬1): أنَّا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوحٍ، ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده، وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما أتينا داود زبورًا، وأرسلنا رسلًا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلًا آخرين لم نقصصهم عليك، من غير تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال، فما للكفرة يسألونك شيئًا لم يعْطه أحد من هؤلاء الرسل عيهم السلام؟! وقرأ أُبي {رسل} بالرفع في الموضعين على الابتداء، وسوغ الابتداء بالنكرة: وقوعه في معرض التفصيل، كما في قول الشاعر: فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرّ {وَكَلَّمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مُوسَى} بن عمران عليه السلام {تَكْلِيمًا}؛ أي: خاطبه مخاطبةً بلا واسطة ملك؛ أي: كلَّمه (¬2) تكليمًا خاصًّا له، ميزه عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين، وليس لنا أنْ نخوض في معرفة حقيقته؛ لأنَّا لم نكن من أهله، على أنَّا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضًا، وكيف تنقل ذرات الهواء الأصوات إلى الآذان؟ فضلًا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري. والوحي إلى الأنبياء يُسمَّى تكليمًا، والتكليم لهم يسمى وحيًا، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}. والحكمة في الحجاب: الاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد، تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة، كما كان شأن موسى إذ رأى النار في الشجرة. والرسول الذي يرسله الله فيوحي بإذنه ما يشاء هو: ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين. والمعنى (¬3): أنه تعالى بعث هؤلاء الأنبياء والرسل، وخص موسى عليه ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[165]

السلام بالتكليم معه، ولا يلزم من تخصيص موسى بهذا التشريف الطعن في نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، فكذلك لا يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة الطعنُ فيمن أنزلَ اللهُ عليه الكتابَ مفرّقًا، وقد فضل الله نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بإعطائه مثل ما أعطي كلُّ واحد منهم. وقرأ إبراهيم بن وثاب {وَكَلَّمَ اللَّهَ} بنصب الجلالة، على أنَّ موسى هو المكلِّم. 165 - {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}؛ أي: أرسلنا رسلًا قد قصصنا بعضهم عليك، ولم نقصص بعضًا آخر، ليكونوا مبشرين مَنْ آمن وعمل صالحًا بالثواب العظيم، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ}؛ أي: معذرة يعتذرون بها في ترك التوحيد والعمل الصالح {بَعْدَ} إرسال {الرُّسُلِ} إليهم، وإنزال الكتب عليهم؛ إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا ويعتذروا - إذا هم أجرموا أو كفروا - بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. وسمِّيت (¬1) المعذرة حجةً - مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة - تنبيهًا على أنَّ هذه المعذرة مقبولةٌ لديه تفضلًا منه ورحمة، والمعنى: لئلا يحتج الناس يوم القيامة على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا: لم لم ترسل إلينا رسولًا، ولم لم تنزل إلينا كتابًا فنتبع الرسل ونجب دعوتَك؟. والخلاصة (¬2): أنَّ من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل، عندما يُحاسبهم الله ويقضي بعقابهم، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا في الآخرة على عذابهم فيها، وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم، والدين وضعٌ إلهي لا يستقل العقل بالوصول إليه، ولا يعرف إلا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[166]

بالوحي، وهو موافق لسنن الفطرة في تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولا يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزًا} لا يغالب في أمر يريده، ومن عزته: أن لا يجيب المتعنت إلى مطلوبه {حَكِيمًا} في جميع أفعاله. وحكمته تقضي هذا الامتناع عن الإجابة؛ لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصروا على لجاجهم، كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا، ومن حكمته أيضًا: اختلاف الكتب والشرائع، فإن اختلافها في كيفية النزول وتغايرها في بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي يدور عليها ذلك التكليف، فكلَّفهم الله تعالى بما يليق بشأنهم وحالهم. 166 - وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} استدراك على ما عدم من السياق من إنكارهم نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وعدم شهادتهم بها، وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به، لكنَّهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان, فسألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدًا له، فكأنَّه تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بها, لكن الله يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك، البالغ في فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان القرآن معجزًا. وإظهار المعجزة على يد من يدِّعي الرسالة .. شهادة له بكونه صادقًا في دعواه، فقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ}؛ أي: يشهد لك بالنبوة ويبينها بهذا القرآن الذي أنزله إليك. وقرأ السلمي والجرَّاح الحكمي: {لَكِنِ اللَّهُ} بالتشديد، ونصب الجلالة، وقرأ الحسن: {بِمَا أُنْزَلَ إِلَيْكَ} مبنيًّا للمفعول. ثم أكد هذه الشهادة، فقال: {أَنْزَلَهُ}؛ أي: أنزل الله تعالى هذا القرآن حالة كونه متلبسًا {بِعِلْمِهِ} سبحانه وتعالى، بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال؛ أي: فإنَّه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك، بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية

والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل، وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به، وأنَّه وحي من عنده، وقيل: معناه: أنزله وهو عالم بأنك أهلٌ لإنزاله عليك، وأنك مبلغُه إلى عبادِه، وقيل: معناه: أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك. وقرأ السلميّ: {نزَّله} مشدّدًا، وقال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي: أنزله من علمه. وقال ابن جريج: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. والخلاصة (¬1): كان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيِّه: إنَّ جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرّك بشيء, فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحي، وأنت على يقين منه، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر، فكان بذلك مثبتًا لكونه أنزل عليك من لدنه، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح، والنصر لمن اتبعك، والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران. {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} بذلك أيضًا؛ لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين، وهو منهم، كما يؤيدك بجند منهم يثبتونك ويثبتون المؤمنين في القتال، كما في غزوة بدر. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}. وإنّما تعرَف (¬2) شهادةُ الملائكة له - صلى الله عليه وسلم - بصدقه فيما يدعيه من النبوة والرسالة؛ لأن ظهور المعجز على يده - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة، وإذا شهد الله بذلك فقد شهدت الملائكة بذلك بلا شك؛ لأنَّه ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه تعالى بالقول. والمعنى: يا محمَّد، إنْ كذبك هؤلاء اليهود .. فلا تبال بهم، فإنَّ الله تعالى - وهو إله العالمين - يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السبع والعرش والكرسي يصدقونك في ذلك، ومن صدقه الله والملائكة أجمعون .. لم يلتفت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[167]

إلى تكذيب أخس الناس {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على ما شهد به لك من صدق نبوتك، وإن لم يشهد به غيرُه؛ حيث نصب الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق، وقوله الحق، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن شهادة أهل الكتاب له، فإن الله يشهدُ وملائكته كذلك. 167 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما أنزله الله تعالى عليه وشهد به، وهو القرآن {وَصَدُّوا} غيرهم ومنعوا {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن دين الإِسلام من أراد سلوكه، بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وهم اليهود؛ حيث قالوا: ما نعرف صفة محمَّد في كتابنا، وقالوا: لو كان رسولًا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء، وقالوا: إنَّ الله ذكر في التوراة أنَّ شريعة موسى لا تنسخ إلى يوم القيامة، وقالوا: إنّ الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود. {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا}: عن الحق والصواب؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأن المضلّ يكون أغرق في الضلال وأبعد في الانقطاع عنه؛ ولأنَّ أشد الناس ضلالًا من كان ضالًا، ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم يبذل غاية ما في وسعه في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهو قد سار في سبيل الشيطان وبعد عن سبيل الله، فلم يعد يفقه أنَّها هي الموصلة إلى خير العاقبة. وقرأ عكرمة وابن هرمز: {وَصُدُّوا} بضم الصاد، قيل: وهي في اليهود. 168 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بما أنزل إليك {وَظَلَمُوا} أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم وكتمان نعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصدهم عن الصراط المستقيم وماتوا على الشرك {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}؛ أي: لم يكن من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء؛ لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم، وأثرا في نفوسهم، وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرىء قبيح الأفعال، وتهوى شر الخلال والأعمال، ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضاد ذلك من إيمان صحيح وعمل صالح يزكي النفوس مما ران عليها، ويطهرها وينشئها نشأة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب، ومن ثم قال تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ

[169]

طَرِيقًا}؛ أي: وليس من شأنه أن يهدي أمثالهم طريقًا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم 169 - {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ}: فهي الطريق التي ينتهي إليها من دنس نفسه بالكفر والظلم، وأوغل في السير فيها طول عمره، واستمرأ الشرور والمفاسد، حتى هوت به إلى وادٍ سحيقٍ، يعني: يهديهم إلى طريق تؤدي إلى جهنم، وهي اليهودية، لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك، فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظارٌ لإبطال نظام العالم، ونقض لسنن الله وحكمته في خلق الإنسان، وما أجود قولَ الشاعر: ترْجُوْ النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِيْنَةَ لاَ تَجْرِيْ عَلَى الْيَبَسِ حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود والدوام في جهنم {أَبَدًا}؛ أي: مدةً لا نهاية لها ولا انقضاء، أي: يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدًا، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها أبدَ الآبدين، وإنما قال: {أَبَدًا} بعد {خَالِدِينَ}؛ لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل. فائدة: والفرق بين الخلود والأبد: أن الخلود: بقاء الشيء مدةً طويلة على حال واحدة، لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء، والأبد: الزمن الممتد الذي لا نهاية له ولا انقضاء، يقال: تأبد الشيء إذا بقي أبدًا، وأبد بالمكان - من باب تعب - أبودًا إذا أقام به ولم يبرحه. {وَكَانَ ذَلِكَ}؛ أي: تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {يَسِيرًا}؛ أي: هينًا سهلًا على الله دون غيره؛ لأنه مقتضى حكمته وسننه، وليس بالعزيز على قدرته؛ لأنه لا يصعب عليه شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} وفي هذا تحقير لأمرهم، وبيان بأن الله تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي بشأنهم. 170 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم، وقيل: هو خطاب لمشركي مكة {قَدْ

جَاءَكُمُ} هذا {الرَّسُولُ} الكريم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حالة كونه متلبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالقرآن المنزل عليه، أو حالة كونه متكلمًا بالدعوة إلى توحيد الله وعبادته والإعراض عن غيره {مِنْ} عند {رَبِّكُمْ} وخالقكم الذي يستحق منكم العبادة {فَآمِنُوا} وصدقوا بجميع ما جاء به من عند ربكم .. يكن الإيمان به {خَيْرًا لَكُمْ} وأحمد عاقبة مما أنتم عليه من الكفر والإشراك؛ لأن الإيمان يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية. وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأن الكفر ليس خيرٌ أصلًا {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: وإن تستمروا على كفركم بالله وبالرسول .. فإن الله سبحانه وتعالى غني عن إيمانكم، ولا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم، فإن له ما في السموات وما في الأرض ملكًا وخلقًا، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعًا أو كرهًا، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه في الأكوان، وهي عامة في جميع الخلق، سواء منهم العاقل وغيره، وعبادة الاختيار: خاصة بالمؤمنين الأخيار، والملائكة الأبرار، ومن كان كذلك فهو قادر على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم، أو فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه، أو فمن كان كذلك لم يكن محتاجًا إلى شيء، ففي هذه الجملة وعيدٌ لهم مع إيضاح وجه البرهان، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان؛ لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء {حَكِيمًا} لا يضيع عمل عامل منهم، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمحسن والمسيء، أي: وكان شأنهُ تعالى العلم المحيط، والحكمة البالغة الكاملة في جميع أفعاله وأحكامه، فهو لا يخفى عليه أمركم في إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم، ومن حكمته: أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات؛ فإنه لم يخلقكم عبثًا، ولم يترككم سدى، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى وآثر الآخرة على الدنيا، وويل لمن أعرض عن ذكر ربِّه، وأعرض عن أمره ونهيه، وحالف الشيطان وحزبه.

الإعراب {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}. {فَبِظُلْمٍ}: (الفاء): زائدة، كما قاله أبو البقاء. و (الباء): سببية. {ظُلْمٍ}: مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بحرمنا الآتي. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لظلم. {هَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {حَرَّمْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بحرمنا. {طَيِّبَاتٍ}: مفعول به. {أُحِلَّتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على طيبات. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بأحلت، والجملة الفعلية صفة لطيبات. {وَبِصَدِّهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه معطوف على قوله: {فَبِظُلْمٍ}. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بصدهم. {كَثِيرًا}: مفعول به لصدهم؛ لأنه من إضافة المصدر إلى فاعله، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: صدًّا كثيرًا، أو لزمان محذوف، تقديره: زمانًا كثيرًا. {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}. {وَأَخْذِهِمُ}: معطوف على صدهم، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {الرِّبَا}: مفعوله منصوب بفتحة مقدرة. {وَقَدْ}: (الواو): حالية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {نُهُوا}: فعل ونائب فاعل. {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من ضمير أخذهم. {وَأَكْلِهِمْ}: معطوف على {صدهم} وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {أَمْوَالَ النَّاسِ}: مفعول به لأكلهم، وهو مضاف. {النَّاسِ}: مضاف إليه. {بِالْبَاطِلِ}: جار ومجرور متعلق بأكلهم على أنَّ الباء سببية، أو حال من ضمير أكلهم على أنَّ الباء للملابسة، أي: حالة كونهم متلبسين بالباطل. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على حرَّمنا. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق به. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من الكافرين، أو صفة له. {عَذَابًا}: مفعول به. {أَلِيمًا}: صفة له.

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. {لَكِنِ}: حرف استدراك. {الرَّاسِخُونَ}: مبتدأ. {فِي الْعِلْمِ}: متعلق به. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في {الرَّاسِخُونَ}، {وَالْمُؤْمِنُونَ}: معطوف على {الرَّاسِخُونَ}. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبرُ المبتدأ، والجملة الإسمية جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بيؤمنون. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما. {إِلَيْكَ}: متعلق بأنزل، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها. {وَمَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر معطوفة على (ما) الأولى. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه، والجملة صلة لما، أو صفة لها. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجوور، ومضاف إليه متعلق بأنزل. {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}. {وَالْمُقِيمِينَ}: الواو: استئنافية. {الْمُقِيمِينَ}: منصوب على المدح بفعل محذوف، تقديره: أمدح المقيمين. {الصَّلَاةَ}: مفعول المقيمين، والجملة المحذوفة مستأنفة. {وَالْمُؤْتُونَ}: مبتدأ. {الزَّكَاةَ}: مفعوله. {وَالْمُؤْمِنُونَ}: معطوف على المؤتون. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {الْمُؤْمِنُونَ}. {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة. {الْآخِرِ}: صفة لليوم، وخبر المبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة في استحقاق الفضل والمدح، والجملة مستأنفة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {سَنُؤْتِيهِمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. {أَجْرًا}: مفعول ثان. {عَظِيمًا}: صفة له، والجملة الفعلية خبر المبدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهذا الإعراب الذي ذكرناه أرجح الأعاريب كما أشرنا إليه في بحث التفسير نقلًا عن أبي حيان. {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}. {إِنَّا}: حرف نصب. و (نا): اسمها. {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة. {إِلَيْكَ}: متعلق بأوحينا.

{كَمَا}: (الكاف): حرف جر. (ما): مصدرية. {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَى نُوحٍ}: جار ومجرور متعلق بأوحينا. {وَالنَّبِيِّينَ}: معطوف على نوح. {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة للنبيين، أو حال منه، أو متعلق بالنبيين. وقال أبو البقاء (¬1): ولا يجوز أن يكون حالًا من النبيين؛ لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالًا للجثث، ويجوز أن يتعلق {مِنْ} بالنبيين، وجملة {أَوْحَيْنَا} صلة (ما) المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: إنّا أوحينا إليك إيحاء كائنًا كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}. {وَأَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَوْحَيْنَا} الأولى، على كونها صلة لما المصدرية. {إِلَى إِبْرَاهِيمَ}: جار ومجرور متعلق بأوحينا. {وَإِسْمَاعِيلَ}: معطوف على إبراهيم. {وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: معطوفان أيضًا على إبراهيم. {وَالْأَسْبَاطِ}: معطوف على إبراهيم، وكذا قوله: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ}: معطوفات على إبراهيم جريًا على القاعدة: أن المعطوفات إذا كثرت - وكان العطف بالواو - يكون على الأول. {وَآتَيْنَا}: فعل وفاعل. {دَاوُودَ}: مفعول أول. {زَبُورًا}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {وَأَوْحَيْنَا}. {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}. {وَرُسُلًا}: مفعول لفعل محذوف، تقديره: وأرسلنا رسلًا، والجملة المحذوفة معطوفة على {أوحينا}، وهو (¬2) الدَّال على هذا المحذوف بالالتزام، فإنَّ الإيحاء يلزمه الإرسال أو يدل عليه رسلًا {قَدْ}: حرف تحقيق. {قَصَصْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة رسلًا. {عَلَيْكَ}: متعلق ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) الجمل.

بقصصنا. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بقصصنا أيضًا. {وَرُسُلًا}: معطوف على رسلًا. {لَمْ نَقْصُصْهُمْ}: جازم، وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صفة رسلًا. {عَلَيْكَ}: متعلق بنقصصهم. {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول. {تَكْلِيمًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة مستأنفة. {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}. {رُسُلًا}: مفعول لفعل محذوف، تقديره: أرسلنا رسلًا، والجملة مستأنفة. {مُبَشِّرِينَ}: صفة. {وَمُنْذِرِينَ}: معطوف على مبشرين. {لِئَلَّا}: (اللام): حرف جر وتعليل، (أنْ): حرف نصب ومصدر، (لا): نافية. {يَكُونَ}: فعل ناقص منصوب بأن. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور خبر مقدم ليكون. {عَلَى اللَّهِ}: حال من حجة. {حُجَّةٌ}: اسم يكون مؤخر عن خبرها. {بَعْدَ الرُّسُلِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بحجة، أو صفة لها، وجملة يكون صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا المحذوف، والتقدير: وأرسلنا رسلًا مبشرين ومنذرين؛ لإعدام كون حجة للناس على الله بعد الرسل. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه {عَزِيزًا}: خبر أول لها. {حَكِيمًا}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة. {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}. {لَكِنِ}: حرف استدراك. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَشْهَدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية: جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بيشهد. {أَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما أنزله إليك. {أَنْزَلَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِعِلْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير {أَنْزَلَهُ}، والتقدير: أنزله حالة كونه معلومًا له تعالى، أو

حال من فاعل {أَنْزَلَهُ}، تقديره: أنزله حالة كونه متلبسًا بعلمه، وجملة أنزله جملة مفسرة لما قبلها, لا محل لها من الإعراب. {وَالْمَلَائِكَةُ}: مبتدأ، وجملة {يَشْهَدُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الاستدراكية على كونها لا محل لها من الإعراب. {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل، والباء زائدة. {شَهِيدًا}: تمييز، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَصَدُّوا}: فعل وفاعل معطوف على كفروا. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بصدوا. {قَدْ}: حرف تحقيق. {ضَلُّوا}: فعل وفاعل. {ضَلَالًا}: مفعول مطلق. {بَعِيدًا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَظَلَمُوا}: فعل وفاعل معطوف على كفروا. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَكُنِ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، مجزوم بلم. {لِيَغْفِرَ}: اللام: حرف جر وجحود. {يَغْفِرَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بيغفر، وجملة يغفر في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: لم يكن الله لغفرانهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا ليكن، تقديره: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، وجملة يكن من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر إن، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا}: (الواو): عاطفة. (لا): زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {لِيَهْدِيَهُمْ}: (اللام): حرف جر وجحود. (يهدي): منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. و (الهاء): ضمير الغائبين في محل النصب مفعول

أول ليهدي. {طَرِيقًا}: مفعول ثان له، وجملة يهدي صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام المتعلقة بخبر يكن المحذوف، وتقديره: لم يكن الله سبحانه وتعالى مريدًا لغفرانهم، ولا مريدًا لهدايتهم طريقًا. وقد أطلنا البحث عن لام الجحود في كتابنا "الخريدة البهية في إعراب أمثلة الآجرومية" فراجعه إنّ شئت. {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {طَرِيقَ}: منصوب على الاستثناء، استثناء متصلًّا؛ لأنه من جنس الأول؛ لأن الأول في معنى العموم؛ لوقوعه في سياق النفي، {طَرِيقَ}: مضاف. {جَهَنَّمَ} مضاف إليه. {خَالِدِينَ}: حال مقدرة من مفعول يهديهم. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بخالدين {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية متعلق بخالدين. {وَكَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بيسيرًا. {يَسِيرًا}: خبر كان، وجملة كان من أسمها وخبرها مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}. {يَا أَيُّهَا}: حرف نداء (أي): منادى نكرة مقصودة، (ها): حرف تنبيه زائد. {النَّاسُ}: صفة لأيّ، تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمُ الرَّسُولُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور حال من الوصول، أو متعلق بجاء. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجروو ومضاف إليه، حال من الحال - أعني بالحق -، أي: حالة كون ذلك الحق كائنًا من ربكم، أو متعلق بجاء، كما قاله أبو البقاء. {فَآمِنُوا}: (الفاء): عاطفة سببية، كما في "الجمل". {فَآمِنُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَدْ جَاءَكُمُ} على كونها جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {خَيْرًا}: خبر ليكن المحذوفة مع اسمها. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بخيرًا، أو صفة له، وجملة يكن المحذوفة جواب لشرط مقدر,

تقديره: إن آمنتم يكن الإيمان خيرٌ لكم مما أنتم عليه، وجملة؛ الشرط المحذوف مع جوابه مستأنفة، {وَإِنْ تَكْفُرُوا}: جازم وفعل وفاعل، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا يضرّه كفركم، وجملة إن الشرطية مع جوابها المحذوف مستأنفة. {فَإِنَّ}: (الفاء): تعليلية كما في "الجمل"، (إن): حرف نصب. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم لها. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب اسمها مؤخر. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة (ما)، أو صفة لها، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السموات، وجملة إن من اسمها وخبرها: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بجواب الشرط المحذوف. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {عَلِيمًا}: خبر أول له {حَكِيمًا}: خبر ثان له، والجمله مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} {الرَّاسِخُونَ}: جمع راسخ، والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب، الثابت فيه، من الرسوخ، وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام: أن ترسخ الخيل، أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر: لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أبَتْ آياتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: من أوحى الرباعي، يقال: أوحى يوحي إيحاء ووحيًا، والوحي: اسم مصدر لأوحى، والوحي لغةً (¬1): الإيماء والإشارة، كما في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. والإلهامُ الذي يقع في النفس، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وما يكون غريزة دائمة، كما قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} والإعلام في خفاء، بأن تعلم إنسانًا بأمر تخفيه على غيره، كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

ووحي الله إلى أنبيائه: عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة، أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه، أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام: بأن الإلهام وجدانٌ تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور. {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}: والزبور (¬1): - بفتح الزاي - وهي قراءة الجمهور، بمعنى: المزبور، أي: المكتوب، كالرسول والحلوب والركوب، بمعنى: المرسل والمحلوب والمركوب، من الزبر، أي: الكتابة - وبضمها - وهي قراءة حمزة، جمع زبر، كفلس وفلوس، والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة: التوثيق، يقال: بئر مزبورة، أي: مطوية بالحجارة، وسمِّيَ كتاب داود زبورًا - بضم الزاي -؛ لقوة الوثيقة به، وفي "الفتوحات": والزبور: جمع زبر، والزبير (¬2) - بالفتح - مصدر لزبر - من بابي ضرب ونصر، بمعنى: كتب أو جمع زبر بالكسر - مثل: حمل وحمول، وقدر وقدور كما في "الشهاب". وفي "المختار". والزبير - بالكسر -: الكتاب، والجمع زبور، كقدر وقدور، ومنه قراءة بعضهم {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زُبورًا} اهـ. {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}: تكليمًا: مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز، قال الفراء: العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإن أوكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (¬3): ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الجمل. (¬3) البحر المحيط.

فمن ذلك: الطباق في قوله: {حَرَّمْنَا} و {أُحِلَّتْ}، وفي قوله: {فَآمِنُوا} {وَإِنْ تَكْفُرُوا}. ومنها: التكرار في قوله: {وَأَوْحَيْنَا}، وفي قوله: {رُسُلًا}، وفي قوله: {يَشْهَدُ} و {يَشْهَدُونَ}، وفي قوله: {كَفَرُوا}، وفي اسم الله. ومنها: تخصيص بعض الأنبياء بالذكر في قوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الخ؛ للتشريف وإظهار فضل المذكورين، وفيه تشبيه يسمى مرسلًا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {الرَّاسِخُونَ}، وهي في الأجرام، استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه، وفي قوله: {سَبِيلِ اللَّهِ} و {يَشْهَدُ} و {طَرِيقًا}. ومنها: الحذف في عدة مواضع. ومنها: الالتفات في قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}، والأصل: سيؤتيهم، وتنكير الأجر؛ للتفخيم. ومنها: تقديم السبب على المسبّب في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} تنبيهًا على فحش الظلم، وتقبيحًا له، وتحذيرًا منه. ومنها: الإشارة إلى أوصاف متعددة في قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ}. ومنها: للتأكيد بالمصدر في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، دلالة على وقوع الفعل على حقيقته، لا على مجازه، وهذا هو الغالب في كلامهم، وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز إلا أنه قليل، فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري: بَكَى الْخَزُّ مِنْ عَوْفٍ وَأنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيْجًا مِنْ جُذَامِ اَلْمَطَارِفِ

وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلانًا، بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولًا، فلمّا قال: تكليمًا .. لم يكنْ إلا كلامًا مسموعًا من الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا (¬1) فرغ من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وهم قد غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به .. ذكر هنا محاجة النصارى خاصة، ودحض شبهاتهم، وهم قد غلوا في تعظيم عيسى وتقديسه، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (¬2) لمّا حاجّ أهل الزيغ والضلال جميعًا، فحاجّ النصارى في الآية السابقة، وحاج اليهود في الآية التي قبلها، وحاجّ المنافقين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

والمشركين أثناء السورة، وفي سور كثيرة غيرها، وأقام الحجة عليهم جميعًا، وظهرت نبوةُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ظهورَ الشمس في رابعة النهار .. نادى الناس كافةً، ودعاهم إلى اتّباع برهانه، والاهتداء بنوره. قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ...} الآية, مناسبتها لآخر السورة: أنَّ الله سبحانه وتعالى (¬1) لما تكلم في أول السورة في أحكام الأموال من الإرث وغيره .. ختم آخرها بهذه الآية؛ ليتشاكل المبدأ والمقطع، والوسط مشتملٌ على المناظرة مع فرق المخالفين للدين، وكثيرًا ما يقع ذلك في السور. ورُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّه قال في خطبته: ألا إنَّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام. أسباب النزول قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه مسلم عن محمَّد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صب علي من وضوئه، فأفقت وقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئًا، حتى نزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود، وابن ماجه، وأحمد، والطيالسي، وابن الجارود، وأبو نعيم. وروى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال (¬2): نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب، وهو يسير خلفه، فلما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[171]

استخلف عمر .. سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدثك يومئذ! فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله. قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول سورة النساء، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال المسائل عليها؛ ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها. التفسير وأوجه القراءة 171 - وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} عام أريد به خاص؛ أي: يا أهل الإنجيل، وهم النصارى، وقيل: المراد بهم الفريقان، فغلو اليهود: بتنقيص عيسى؛ حيث قالوا: إنه ابن زانية، وغلو النصارى: بالمبالغة في تعظيمة؛ حيث قالوا: إنه شريك الله أو ابنه {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}؛ أي: لا تتجاوزوا في دينكم الحدود التي حددها الله لكم، ولا تبالغوا في تعظيم عيسى؛ حيث وصفتموه بأنه ابن الله، أو شريكه، فإنَّ الزيادة في الدين ليس بحق، كالنقص فيه {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ولا تعتقدوا فيه {إِلَّا} القول والاعتقاد {الْحَقَّ} والصواب الثابت بنص دينيّ متواترًا، أو برهان عقلي قاطع، ومن تنزيهه تعالى عن الشريك والولد؛ أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه تعالى به من الاتّحاد والحلول في بدن الإنسان أو روحه، واتخاذ الزوجة والولد، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الزوجة والولد شيء من الأدلة المذكورة، فإنّ (¬1) نصارى أهل نجران أربع فرق: ملكانية: وهم الذين قالوا: عيسى والرب شريكان، ومرقوسية: وهم الذين قالوا: عيسى ثالث ثلاثة، ومار يعقوبية: وهم الذين قالوا: عيسى هو الله، ونسطورية: وهم الذين قالوا: عيسى ابن الله، فأنزل الله فيهم هذه الآيات. ¬

_ (¬1) مراح.

{إِنَّمَا الْمَسِيحُ} مبتدأ، و {عِيسَى} بدل منه، أو عطف بيان له، و {ابْنُ مَرْيَمَ} صفة لعيسى {رَسُولُ اللَّهِ} خبر المبتدأ؛ أي: إنما المسيح عيسى ابن مريم هو رسول الله تعالى إلى بني إسرائيل، لا شريكه ولا ابنه، وقد أمرهم بأنْ يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئًا، وزهدهم في الدّنيا، وحثهم على التقوى، وبشرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وأرشدهم إلى الاعتدال في كل شيء، فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان. وقرأ جعفر بن محمَّد {إنما المسيح} على وزن السكيت. {وَكَلِمَتُهُ}؛ أي: ومكون بكلمة الله سبحانه وتعالى وأمره الذي هو "كن"، من غير واسطة أب، ولا نطفة، {أَلْقَاهَا}؛ أي: أوصلها {إِلَى مَرْيَمَ}؛ أي: أوصل تلك الكلمة إلى مريم بنفخ جبريل في حبيب درعها، فوصل النفخ إلى فرجها، فحملت به. {وَرُوحٌ}: صادر {مِنْهُ} سبحانه وتعالى، ومكون بأمره تعالى جبريل بالنفخ في جيبها, ولذلك نسبت إليه تعالى، وإنّما سمِّي روحًا؛ لأنّه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل، والريح يخرج من الروح. وهذه الإضافة للتفضيل والتشريف، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى لما أرسل إلى مريم الروح الأمين جبريل .. بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلامًا زكيًّا، فاستنكرت ذلك؛ إذ هي عذراء لم تتزوج، فقال لها: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فكلمة "كن": هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده، وهو أيضًا مؤيد بروح منه، كما قال تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}، وكما قال تعالى في صفات المؤمنين: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}. وآية الله في خلق عيسى بكلمته وجعله بشرًا سويًّا بما نفخ فيه من روحه .. كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، فخلقهما كان بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}. وزعم بعض النصارى: أن كلمة {مِنْهُ} تدل على أن عيسى جزء من الله، بمعنى أنه ابنه، فقد نقل بعض المفسرين: أن طبيبًا حاذقًا نصرانيًّا جاء للرشيد، فناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم، فقال:

إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ له الواقدي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فلئن صح ما تقول .. لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءًا منه تبارك وتعالى، فأفحم النصراني وأسلم، ففرح بذلك الرشيد، ووصل الواقدي بصلة عظيمة. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل". متفق عليه. {فَآمِنُوا} يا أهل الكتاب {بِاللَّهِ} إيمانًا يليق به، وهو أنه واحد أحد، تنزه عن صفات الحوادث، وأنَّ كل ما في الكون مخلوق له، وهو الخالق له، وأن الأرض في مجموع ملكه أقل من حبَّة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها {و} آمنوا بـ {رسله} تعالى كلهم إيمانًا يليق بشأنهم، وهو أنهم عبيد له، خصهم بضروب من التكريم والتعظيم، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحي، ليعلموا الناس كيف يوحدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه {وَلَا تَقُولُوا} أيها النصارى: الآلهة {ثَلَاثَةٌ} الأب والابن وروح القدس، وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح، وقيل: يعنون بالثلاثة: الثلاثة الأقانيم؛ أي: الأشخاص، فيجعلونه سبحانه وتعالى جوهرًا واحدًا، وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم: أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، فيقولون: الله ثلاثة أقانيم، كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، وربّما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فإنّ في هذا تركًا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء، واتباعًا لعقيدة الوثنيين، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول، ولا يقبله أولوا الألباب. {انْتَهُوا}؛ أي: امتنعوا وانزجروا عن مقالتكم بالتثليث .. يكن الانتهاء عن القول بالتثليث {خَيْرًا لَكُمْ} من القول به، أو المعنى: انتهوا عن التثليث،

وقولوا قولًا آخر خيرًا لكم منه، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاؤوا بتوحيد الله وتنزيهه. {إِنَّمَا اللَّهُ}؛ أي: ما المستحق للعبادة من جميع المخلوقات إلا {إِلَهٌ وَاحِدٌ} بالذات، منفرد في ألوهيته، منزه عن التعدد، فليس له أجزاء، ولا أقانيم، ولا هو مركب، ولا متحد بشيء من المخلوقات {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}؛ أي: أسبحه تسبيحًا من أن يكون له ولد، أو سبحوه تسبيحًا من ذلك، تقدس الله سبحانه وتعالى على أن يكون له ولد، كما قلتم في المسيح: إنه ابنه، إنه هو عينه، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدًا؛ لأن الولد جزء من الأب، وتعالى الله عن التجزئة، وعن صفات الحدوث، والتعبير (¬1) بالولد دون الابن - الذي يعبرون به في كلامهم - لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ .. فلا بد أن يكون ولدًا؛ أي: مولودًا من تلقيح أبيه لأمه، وهذا محال على الله تعالى، وإن أرادوا الابن المجازي لا الحقيقي .. فلا خصوصية لعيسى في ذلك؛ لأنه قد أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار. وقرأ الحسن: {إن يكون له ولد} - بكسر الهمزة، وضم النون من يكون - على أن: إنْ نافية؛ أي: ما يكون له ولد، فيفيد الكلام التنزيه عن التثليث والإخبار بانتفاء الولد، فالكلام جملتان، وفي قراءة الجمهور جملة واحدة. {لَهُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وعبيدًا، فمن كان مالكهما وما فيهما .. كان مالكًا لعيسى ومريم، وإذا كانا مملوكين له فكيف يتوهم كونهما له ولدًا وزوجة؟ أي: إنه سبحانه وتعالى ليس له ولد يصح أن يسمى ابنًا له حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا، والمسيح من جملتها، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}. ولا فرق في هذا بين الملائكة والنبيين، وبين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أم كالملائكة وآدم، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى، ومن خلقه من الزوجين الذكر والأنثى، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده، ¬

_ (¬1) المراغي.

[172]

وهو يتصرف فيهم كما يشاء. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}؛ أي: كفى به حافظًا ووكيلًا، إذا وكلوا أمورهم إليه، تأكل الخلائق أمورهم إليه، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فهو تعالى غني عن الولد، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه في حياته، ويقوم مقامه بعد وفاته، والله تعالى منزه عن كل ذلك. وفي "الفتوحات" قوله: {وكفى به وكيلًا}؛ أي: مستقلًا بتدبير خلقه، فلا حاجة له إلى ولد يعينه انتهى. 172 - {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ}؛ أي: لن يأنف، ولن يتكبر، ولن يرتفع المسيح بن مريم عن أن يكون عبدًا لله تعالى؛ أي: مقرًّا بالعبودية لله، مستمرًا على عبادته وطاعته؛ لعلمه بعظمة الله تعالى وما يجب له من العبودية والشكر، وروي أن وفد نجران قالوا: يا محمَّد، إنك تعيب صاحبنا، فتقول: إنه عبد لله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبدًا لله" قالوا: بلى، فنزلت: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ}. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {عبيدًا لله} بصيغة التصغير {وَلَا} يستنكف {الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} عند الله تعالى، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش؛ أي: لن يترفعوا عن أن يكونوا عبادًا لله تعالى، وذكر الملائكة استطراد؛ لأنه لما ذكر شأن عيسى عليه السلام للرد على النصارى .. ذكر الملائكة للرد على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله، ومحله في سورة الزخرف عند قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} إلخ. {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ} ويترفع {عَنْ عِبَادَتِهِ} وطاعته تعالى أنفة وكبرًا، فيرى أنه لا يليق به ذلك {وَيَسْتَكْبِرْ} عن الإيمان به والخضوع والتذلل له {فَسـ} ـيجزيه أقبح الجزاء وأشد العذاب في الآخرة، إذ {يحشرهم إليه جميعًا}؛ أي: إذ يحشر الناس إليه جميعًا للجزاء، المستنكفين منهم والمستكبرين وغيرهم في صعيد واحد، فيحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[173]

فلا بدَّ من هذا التقدير؛ إذ الحشر عام للمؤمنين والكافرين كما يدل عليه التفصيل الآتي بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى أن قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}، فقد حذف من الإجمال ما أثبت في التفصيل. وقرأ الحسن بالنون بدل الياء في {فَسَيَحْشُرُهُمْ}. 173 - وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} بيان لحال الفريق المطوي ذكره في الإجمال، قدم على بيان حال مقابله؛ إظهارًا لفضله ومسارعة إلى بيان كون حشره أيضًا معتبرًا في الإجمال، كما قدرناه سابقًا؛ أي: فأما الذين أمنوا باللهِ ورسله، وعملوا الصالحات والمأمورات، واجتنبوا المنهيات {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من غير أن ينقص منها شيئًا أصلًا؛ أي: سيعطيهم أجورهم وافيةً كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح في النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه على أجور أعمالهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}؛ أي: أنفوا وترفعوا عن عبادته تعالى {وَاسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تكبروا عن الإيمان به تعالى {فَيُعَذِّبُهُمْ} في الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا}؛ "أي: مؤلمًا يستحقونه بحسب سنته أيضًا، بسبب استنكافهم واستكبارهم، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئًا؛ لأن رحمته سبقت غضبه، فهو يجازي المحسن بالعدل والفضل، ويجازي المسىء على إساءته بالعدل {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: ولا يجد المستنكفون لأنفسمهم من غير الله تعالى {وَلِيًّا} يلي أمورهم ويدبر مصالحهم {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم ويحفظهم من بأسه تعالى، ويرفع عنهم العذاب وينجيهم منه؛ إذ لا عاصم اليوم من أمر الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. 174 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لكافّة المكلَّفين {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ}؛ أي: رسول {مِنْ رَبِّكُمْ} وهو: محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سماه برهانًا؛ لأن وظيفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل. أي: قد جاءكم من قبل ربكم برهانٌ جلي يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم في حاجة إليه من أمر دينكم، مؤيد

بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية ودعوته التشريعية، فإن أميًّا لم يتعلم في مدرسة ولم يعن في طفولته بما كان يسمى عند قومه علمًا، كالشعر والنسب وأيام العرب، بل ترك ولدان المشركين وشأنهم، ولم يحضر سمار قومه ولا معاهد لهوهم، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي - في أول نشأته - ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق، لهو برهان على عناية الله به وتأييده إياه بوحيه وهديه. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} بواسطة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {نُورًا مُبِينًا}؛ أي: نورًا نيرًا في نفسه منورًا لغيره، وهو القرآن، وسماه نورًا؛ لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب؛ أي: وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابًا، هو كالنور في الهداية للناس مبينًا لكل ما أنزل لبيانه، من توحيد الله وربوبيته، وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل، وكان كلٌّ منهم يدعو أمته إليه، ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته، ثم لم يلبثوا أن يشوهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس، وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم، أو من أجناس أخرى. ولما تغلغلت الوثنية في جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها .. أنزل الله تعالى لهداية البشر هذا النور المبين، وهو القرآن، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال، وذكر شيء من القصص؛ لكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين، وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك. هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية .. لم يكن معهودًا مثله من الحكماء، ولا من الأنبياء، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}. والخلاصة: أن محمدًا النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - كان برهانًا على حقية دينه، وكتابه

[175]

القرآن أنزل من العلم الإلهي، ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وأنزل مبينًا لجميع الناس ما هم في حاجة إليه في معاشهم ومعادهم؛ ليتدبروا آياته ويسعدوا به في حياتهم الدنيا، وينالوا به الخير في العقبى، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر 175 - {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ}: في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وأحكامه {وَاعْتَصَمُوا}؛ أي: وتمسكوا بدينه، والتجؤوا إليه تعالى في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزغات الشيطان {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} وهي الجنة ونعيمها {و} في {فضل} وكرم منه وإحسان زائد، كالنظر إلى وجهه الكريم، والتعظيم وغير ذلك من مواهب الجنة. والاعتصام: التمسك بما يعصم ويحفظ؛ أي: فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن - فيدخلهم الله في رحمة خاصة منه، لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم، ولكنه يخص من يشاء بما شاء من أنواعهما، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرحمة: الجنة، والفضل: ما يتفضل به عليهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وهو: الإِسلام والطاعة والسعادة الروحانية، والجار والمجرور في محل نصب حال من صراطًا، والضمير المجرور عائد على الله، بتقدير مضاف؛ أي: إلى ثوابه؛ أي: ويهديهم طريقًا قويمًا، وهدايةً خاصة تبلغهم السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة، وفي الآخرة بالجنة والرضوان، وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم، واتباع سنة سيد المرسلين، والمراد: أنه يوفّقهم ويثبتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم. وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين؛ للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغي أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتم بشأنه. 176 - {يَسْتَفْتُونَكَ}؛ أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد عن كيفية إرث مال من ليس له ولد ولا والد، تقدم لك في مبحث أسباب النزول: أنها نزلت في جابر بن عبد الله، له تسع أخوات، وليس له ولد ولا والد، وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة، فسألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وختم الله سبحانه وتعالى هذه السورة بذكر الأموال، كما أنّه افتتحها بذلك؛ لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام.

وجملة ما في هذه السورة من آيات المواريث ثلاثة: الأولى: في بيان إرث الأصول والفروع. والثانية: في بيان إرث الزوجين والأخوة والأخوات من الأم. والثالثة: هي هذه، في إرث الأخوة والأخوات الأشقاء، أو لأب. وأما أولو الأرحام فمذكورون في آخر الأنفال، والمستفتي عن الكلالة هو جابر، لما عاده النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فقال: يا رسول الله، إني كلالة، فكيف أصنع في مالي؟ كما مر. {قُلِ} لهم يا محمَّد {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُفْتِيكُمْ} ويجيبكم {فِي} بيان إرث {الْكَلَالَةِ} ويبين لكم كيفية إرث مال من مات وليس له أصل ولا فرع وارثان، والكلالة: اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث .. فهو من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الموروث .. فهو الذي مات ولا يرثه أحد من الوالدين، ولا أحد من الأولاد، والجواب هو ما ذكره بقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ومات، جملة (¬1) مستأنفة في جواب سؤال أخذ من يستفتونك، كأنه قيل: وما الذي يفتى به وما الحكم؟ فالوقف على الكلالة {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، أي: ولا والد، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر؛ لأنَّ المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الأب .. فقد تبين بالسنة، كما ثبت في "الصحيح" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، والأب أولى من الأخ". {وَلَهُ أُخْتٌ} شقيقة، أو لأب {فَلَهَا}؛ أي: فللأخت {نِصْفُ مَا تَرَكَ} بالفرض، والباقي للعصبة. والمعنى: إن مات امرؤ غير ذي ولد ووالد، وله أخت شقيقة، أو من الأب .. فللأخت نصف ما ترك بالفرض، والباقي للعصبة إن كان، أو لها بالرد إن لم يكن له عصبة، فإن كان له ولد ذكر، أو والد .. فلا شيء لها {وَهُوَ}؛ أي: المرءُ الكلالة {يَرِثُهَا}؛ أي: يرث أخته، جميع ما تركت إن فرض موتها ¬

_ (¬1) الفتوحات.

مع بقائه {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ذكر، ولا أنثى، أو والد يحجبه عن إرثها، فإن كان لها ولد ذكر .. فلا شيء له، أو أنثى .. فله ما فضل عن نصيبها, ولو كانت الأخت أو الأخ من أم .. ففرضه السدس، كما تقدم أول السورة. وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب؛ لأن الأخ ليس صاحب فرض معين، بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض، وعند وجهود أحد منهم يرث هو معه كلالةً جميع ما بقي {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}؛ أي: فإن كانت الأختان اثنتين فصاعدًا دلَّ (¬1) على ذلك قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} وقال "البيضاوي": الضمير (¬2) لمن يرث بالأخوة، وتثنيته محمولة على المعنى، وفائدة الإخبار عنه باثنتين: التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما، والمعنى: فإن كان من يرث بالأخوة شقيقتين، أو من أب .. فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة، وكذا إن كن أكثر من اثنتين كأخوات جابر - فقد كن سبعًا أو تسعًا - والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض، كالزوجة، وإلا أخذ كل ذي فرض فرضه أولًا. {وَإِنْ كَانُوا}؛ أي: وإن كان من يرثون بالأخوة كلالة {إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً}؛ أي: إخوة مختلطة رجالًا أشقاء، أو من أب، ونساء شقيقات، أو لأب {فَلِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ أي: مثل نصيب الانثيين يقتسمون التركة على طريقة التعصيب، كما هي القاعدة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة، إلا أولاد الأم، فإنهم شركاء في ثلث أمهم؛ لحلولهم محلها, ولولا ذلك لم يرثوا؛ إذ هم ليسوا من عصبة الميت. وقرأ ابن أبي عبلة (¬3): {فإن للذكر مثل حظ الأثنين}. {يُبَيِّنُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَكُمْ} أيها المؤمنون أحكام دينكم من قسمة المواريث وغيرها كراهية {أَنْ تَضِلُّوا} وتخطئوا فيها، وقرأ (¬4) الكوفي والفراء والكسائي وتبعهم الزجاج: {لأن لا تضلوا} وهي قراءة تفسيرية. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} من مصالح العباد في المبدأ والمعاد، وفيما كلّفهم به من الأحكام ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوى. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

{عَلِيمٌ}؛ أي: عالم؛ لأنّ علمه محيط بكل شيء، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، فهو لم يشرع لكم من من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم، وذلك شأنه في جميع أفعاله وأحكامه فكلها موافقة للحكمة، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة. وقال أبو عبد الله الرازي (¬1): في هذه السورة لطيفة عجيبة، وهي: أن أولها مشتمل على كمال تنزه الله سبحانه وتعالى وسعة قدرته، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والألوهية، والجلال والعزّة، وبهما يجب أن يكون العبد منقادًا للتكاليف. الإعراب {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تَغْلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. {فِي دِينِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بتغلوا، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا تَقُولُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَغْلُوا}. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بتقولوا. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْحَقَّ}: مفعول به لتقولوا؛ لأنه يمعنى لا تذكروا ولا تعتقدوا، ويجوز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، أي: إلا القول الحق. {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْمَسِيحُ}: مبتدأ. {عِيسَى}: بدل منه، أو عطف بيان منه. {ابْنُ} صفة لعيسى، وهو مضاف. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه. {رَسُولُ اللَّهِ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَكَلِمَتُهُ}: معطوف على {رَسُولُ اللَّهِ} {أَلْقَاهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب ¬

_ (¬1) الفخر الرازي.

حال من كلمته، وقد مقدرة معه، أو حال من الضمير المجرور في كلمته. {إِلَى مَرْيَمَ}: جار ومجرور متعلق بألقى. {وَرُوحٌ}: معطوف على {رَسُولُ اللَّهِ} {مِنْهُ}: جار ومجرور، صفة لـ {رُوحٌ}. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. {فَآمِنُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، وتقديره: إذا عرفتم أن عيسى رسول الله وروح منه وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: آمنوا. {آمنوا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {وَرُسُلِهِ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا تَقُولُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {آمِنُوا}. {ثَلَاثَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الآلهة ثلاثة، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول {تقولوا}. {انْتَهُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة بعاطف مقدَّر على جملة {وَلَا تَقُولُوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {خَيْرًا لَكُمْ}: خبر ليكن المحذوفة مع اسمها، تقديره: يكن الانتهاء خيرًا {لَكُمْ} متعلق بخيرًا، أو صفة له، وجملة يكن المحذوفة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {إِنَّمَا}: أداة حصر. {اللَّهُ}: مبتدأ. {إِلَهٌ}: خبر. {وَاحِدٌ}: صفة له مؤكدة، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. {سُبْحَانَهُ} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه تسبيحًا، أو سبحوه تسبيحًا، وهو مضاف، وضمير الجلالة مضاف إليه، وجملة {سُبْحَانَهُ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {أَنْ يَكُونَ}: ناصب وفعل ناقص. {لَهُ}: خبر مقدم ليكون. {وَلَدٌ}: اسم يكون مؤخر، وجملة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: سبحانه عن كون ولد له، الجار والمجرور متعلق بسبحانه. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَا}:

موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لما، أو صفة لها {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على ما في السموات {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل {وَكِيلًا}: تمييز، والجملة مستأنفة، أو معطوفة. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ}: حرف نصب. {يَكُونَ}: فعل ناقص منصوب، واسمه ضمير يعود على المسيح. {عَبْدًا}: خبر يكون. {لِلَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {عَبْدًا}. {وَلَا الْمَلَائِكَةُ}: معطوف على المسيح. {الْمُقَرَّبُونَ}: صفة للملائكة، وجملة يكون صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: عن كونه عبدًا لله، ولا الملائكة المقربون عن كونهم عبيدًا لله، الجار والمجرور متعلق بـ {يَسْتَنْكِفْ}. {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}. {وَمَنْ} {الواو}: إستئنافية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. {يَسْتَنْكِفْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ}، فاعله ضمير يعود على مَن. {عَنْ عِبَادَتِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَسْتَنْكِفْ}. {وَيَسْتَكْبِرْ}: معطوف على يستنكف. {فَسَيَحْشُرُهُمْ}: الفاء: رابطة لجواب مَنْ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بحرف التنفيس. {سيحشرهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَيْهِ} متعلق بيحشر. {جَمِيعًا}: حال من ضمير يحشرهم، والجملة الفعلية في محل الجزم بمَنْ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة مَنْ الشرطية مستأنفة. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى سيحشرهم إليه جميعًا، وأردت بيان

جزائهم .. فأقول لك. {أَمَّا الَّذِينَ}: أما: حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ}: في محل الرفع مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على آمنوا. {فَيُوَفِّيهِمْ}: الفاء: رابطة لجواب أما واقعة في غيرها، لأن موضعها موضع أما. {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}، فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر جواب أما، لا محل لها من الإعراب، وجملة أما مِنْ فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، لا محل لها من الإعراب. {وَيَزِيدُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة يوفيهم على كونها خبر المبتدأ. {مِنْ فَضْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَزِيدُهُمْ}. {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}. {وَأَمَّا}: (الواو): عاطفة. (أما): حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {اسْتَنْكَفُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول {وَاسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على استنكفوا. {فَيُعَذِّبُهُمْ}: (الفاء): رابطة الجواب أما. {يُعَذِّبُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {عَذَابًا}: مفعول مطلق {أَلِيمًا}: صفة {عَذَابًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب أما، لا محل لها من الإعراب، وجملة أما معطوفة على جملة أما الأولى. {وَلَا يَجِدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة يعذبهم. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَجِدُونَ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من وليًّا. {وَلِيًّا}: مفعول به. {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف على وليًّا. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}. {يَاأَيُّهَا}: {يَا}: حرف نداء، {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة. {النَّاسُ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ}: فعل

ومفعول. {بُرْهَانٌ}: فاعل. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لبرهان، أو متعلق بجاء، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة جاءكم. {إِلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأنزلنا. {نُورًا}: مفعول به. {مُبِينًا}: صفة لـ {نُورًا}. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}. {فَأَمَّا}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه قد جاءكم برهان من ربكم، وأنزل إليكم نورًا مبينًا، وأردتم بيان عاقبة من آمن به وعاقبة من لم يؤمن به .. فأقول لكم. {أَمَّا الَّذِينَ}: (أما): حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {بِاللَّهِ}: متعلق بآمنوا. {وَاعْتَصَمُوا}: فعل وفاعل، معطوف على آمنوا. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق باعتصموا. {فَسَيُدْخِلُهُمْ}: (الفاء): رابطة لجواب أما. {سَيُدْخِلُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {فِي رَحْمَةٍ}: جار ومجرور متعلق به. {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لرحمة. {وَفَضْلٍ}: معطوف على رحمة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر جواب أما، لا محل لها من الإعراب، وجملة أما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَيَهْدِيهِمْ}: فعل ومفعول أول معطوف على سيدخلهم، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَيْهِ}: متعلق بيهديهم. {صِرَاطًا}: مفعول ثان ليهديهم. {مُسْتَقِيمًا}: صفة {صِرَاطًا}. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. {يَسْتَفْتُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .. إلى آخر الآية: مقول محكي لقل، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ. {يُفْتِيكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قُلِ}. {فِي الْكَلَالَةِ}:

جار ومجرور متعلق بيفتيكم على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريين، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني، فقال: يفتيكم فيها في الكلالة، وله نظائر في القرآن {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. {إِنِ}: حرف شرط. {امْرُؤٌ}: فاعل بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: إن هلك امرؤ هلك. {هَلَكَ}: فعل ماض في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها. {امْرُؤٌ}: فاعل. {هَلَكَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرؤ، والجملة الفعلية مفسرة لذلك المحذوف لا محل لها من الإعراب. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {وَلَدٌ}: اسمها مؤخر. وجملة (¬1) {لَيْسَ} في محل الرفع صفة لـ {امْرُؤٌ}، تقديره: إن هلك امرؤ غيرُ ذي ولد، وليست الجملة في محل النصب على الحال كما قاله صاحب "الكشاف" وأبو البقاء؛ لأن ذا الحال نكرة غير موصوفة، فإنَّ {هَلَكَ} مفسِّرٌ للفعل المحذوف لا صفة، قاله الطيبي، وهو ظاهر؛ لأن أصل صاحب الحال التعريف؛ لأنه محكوم عليه بالحال، وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة؛ لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبًا. {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}. {وَلَهُ أُخْتٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ليس {فَلَهَا} (الفاء): رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {لَهَا}: جار ومجرور خبر مقدم. {نِصْفُ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. {مَا}: إما موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {تَرَكَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرئ، وجملة ترك صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: نصف ما تركه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إِنْ}، على كونها جوابًا لها، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا؛ لأنها واقعة في جواب ¬

_ (¬1) الفتوحات.

سؤال مقدر مأخوذ من يستفتونك، كأنه قيل: وما الذي يفتى به وما الحكم؟ فالوقف على الكلالة كما مر. {وَهُوَ}: الواو: استئنافية. هو: مبتدأ. {يَرِثُهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على امرئ، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجمدة مستأنفة. {إِنْ}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {يَكُنْ}: فعل ناقص مجزوم بلم. {لَهَا}: جار ومجرور خبر مقدم ليكن. {وَلَدٌ}: اسمها مؤخر، وجواب إن معلوم مما قبله، تقديره: إن لم يكن لها ولد .. فهو يرثها، والجملة مستأنفة. {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}. {فَإِنْ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حكم ما إذا كانت الأخت واحدة، وأردت بيان حكم ما إذا كانتا اثنتين .. فأقول لك. {إن كانتا اثنتين}: {إن}: حرف شرط. {كَانَتَا}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط. {اثْنَتَيْنِ}: خبر كان. {فَلَهُمَا}: الفاء: رابطة لجواب إن الشرطية. {لَهُمَا}: خبر مقدم. {الثُّلُثَانِ} مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم بإن، على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِمَّا}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. {تَرَكَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرئ، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط: الضمير المحذوف، تقديره: مما تركه. {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}. {وَإِنْ كَانُوا}: جازم وفعل ناقص واسمه. {إِخْوَةً}: خبر كان. {رِجَالًا}: بدل من إخوة. {وَنِسَاءً}: معطوف على رجالًا. {فَلِلذَّكَرِ}: (الفاء): رابطة لجواب (إن) الشرطية. {للذكر}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِثْلُ}؛ مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. {حَظِّ}: مضاف إليه، وهو مضاف. {الْأُنْثَيَيْنِ}: مضاف إليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا

لها، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة {أَنْ تَضِلُّوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدَّر إليه، تقديره: كراهية ضلالكم عن طريق العدل والحق، والمصدر المقدَّر منصوب بـ {يُبَيِّنُ}، على كونه مفعولًا لأجله، وهو متوفر الشروط المعتبرة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عَلِيمٌ}: وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}: من غلا يغلو، كدعا يدعو، أصله: لا تغلووا، بوزن: لا تفعلوا، بواوين أولاهما مضمومة، ويقال فيه: استثقلت الضمة على الواو، ثمَّ حذفت، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الواو الأولى - وهي لام الكلمة -، فصار: لا تغلوا، بوزن: لا تفعلوا، يقال: غلا الشيء يغلو غلوًّا وغلاء، إذا جاوز الحد، والغلو: مجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر .. إذا صار غاليًا، وغلوة السهم. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ}: استنكف - من باب: استفعل السداسي - وهو من مزيد الثلاثي بثلاثة أحرف، وسئل (¬1) أبو العباس عن الاستنكاف؟ فقال: هو من النكف، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، والنكف: أن يقال له سوء، واستنكف: دفع ذلك السوء، انتهى. وفي "المصباح": نكفت من الشيء نكفًا - من باب: تعب - ونكفت أنكف - من باب: قتل - لغة فيه. واستنكف: إذا امتنع أنفة واستكبارًا، انتهى. وفي "البيضاوي": والاستكبار دون الاستنكاف، ولذا عطف عليه فيما بعد، وإنما يستعمل الاستنكاف حيث لا استحقاق، بخلاف الاستكبار؛ فإنه قد يكون باستحقاق، انتهى. وقيل: (¬2) الاستنكاف: الامتناع عن الشيء أنفة وكبرًا، والاستكبار: أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه، غرورًا وإعجابًا بها، وفي "الفتوحات": الاستنكاف: الأنفة والترفع، من نكفت الدمع إذا نحيته على وجهك بالأصبع، والمعنى هنا: لن يأنف عيسى، ولن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

يترفع، ولن يتكبر عن أن يكون عبدًا لله تعالى. {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ}: البرهان: الحجة، يجمع على براهين، يقال: برهن الشيء وعليه عنه: إذا أقام عليه الحجة وأوضحه {وَاعْتَصَمُوا بِهِ}: يقال: اعتصم به - من باب: افتعل - إذا أمسكة بيده، واعتصم بالله: إذا امتنع بلطفه من المعصية، واعتصم بالله من الشر والمكروه: التجأ به ولاذ وامتنع. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع: فمنها: (¬1) الاستعارة في قوله: {لَا تَغْلُوا}: والغلو: حقيقة في ارتفاع السعر، وفي قوله: {وَكِيلًا}: استعير لإحاطة علم الله بهم. وفي قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} استعير للمجازاة. ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} و {يُفْتِيكُمْ}. ومنها: التفصيل في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا}. ومنها: الحذف في عدة مواضع. ومنها: ذكر (¬2) العام وإرادة الخاص في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، فالكتاب عام أريد به الخاص، وهو الإنجيل، وكذلك أهل الكتاب المراد بهم حينئذ النصارى، فكل منهما عام أريد به خاص، وذلك لأن ما بعده يدل على ذلك، وهو قوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}، وهي قولة النصارى، وقيل: المراد بهم الفريقان، فغلو اليهود: بتنقيص عيسى؛ حيث قالوا: إنه ابن زانية، وغلو النصارى: بالمبالغة في تعظيمه؛ حيث قالوا: إنه إله أو ابن إله. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ}، وهو من نوع قصر موصوف على صفة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل.

ومنها: الإضافة للتشريف والتكريم في قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}. ومنها: التنكير للتعظيم والتفخيم في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ}، بمعنى: أنه روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة. ومنها: المشاكلة بين المبدأ والختام في قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ}. والله سبحانه وتعالى أعلم (¬1) * * * ¬

_ (¬1) وقد تم بعون الله وفضله تفسير سورة النساء في تاريخ: 9/ 2/ 1409 هـ.

سورة المائدة

سورة المائدة سورة المائدة مدنية، إلا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة، فقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته، وقال: "يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولًا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها"، وإنما قال فيها ذلك - مع كون كل القرآن كذلك - .. لزيادة الاعتناء بها، وإلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}، فإنها نزلت بمكة عام الفتح. والمشهور أن المدني: ما نزل بعد الهجرة، سواء نزل بالمدينة أو بمكة أو في سفر. وتسمَّى سورة المائدة، وسورة العقود، وسورة المنقذة. وسميت سورة المائدة؛ لورود ذكر المائدة فيها، حيث طلب الحواريون من عيسى عليه السلام آية تدل على صدق نبوته، وتكونُ لهم عيدًا، وقصتها أعجب ما ذكر فيها؛ لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم من الله العلي العظيم. وآياتها مئة وعشرون في العد الكوفي، ومئة وثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومئة وثلاثة وعشرون في العد البصري. فضلها: ومما يدل على فضلها: ما رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (¬1) (أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها). أخرجه أحمد. وروى البغوي بسنده عن ميسرة قال: إن الله تعالى أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكمًا لم ينزلها في غيرها، وهي قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}، ¬

_ (¬1) الخازن.

{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وتمام بيان الطهر في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، و {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. المناسبة: ومناسبة افتتاحها لما قبلها (¬1): هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وإفتاءهم فيها، وذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال .. بين في هذه السورة أحكامًا كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل، وقد ذكرناها آنفًا. وقال المراغي: وجه التناسب بينها وبين ما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أنّ سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنًا، فالصريح: عقود الأنكحة، والصداق، والحلف، والمعاهدة، والأمان. والضمني: عقود الوصية، والوديعة، والوكالة، والإجارة. 2 - أنّ سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرمتها ألبتة، فكانت متممة لشيء مما قبلها. 3 - أنَّ معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى، مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين، وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء، وأطيل به في آخرها. ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة: أن الأولى بدئت بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المكي، والثانية بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ}، وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة المائدة (¬3) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الناسخ والمنسوخ لمحمد بن حزم.

تحتوي على تسع آيات منسوخة: الآية الأولى منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} إلى قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (2 مدينة)، ثم نسخت بآية السيف. الآية الثانية قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}، نزلت في اليهود، ثم نسخت بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، (29) التوبة. الآية الثالثة قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (33 المائدة)، نسخت بالاستثناء منها فيما بعدها، بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}، فصارت ناسخة لها. والآية الرابعة قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية (42 المائدة) نسخت بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الآية (49 المائدة). والآية الخامسة قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} الآية (99 المائدة) نسخها آية السيف. والآية السادسة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية (105 المائدة) نسخ آخرها أولها والناسخ منها قوله تعالى: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والهدى ها هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في كتاب الله آية جمعت الناسخ والمنسوخ إلا هذه. والآية السابعة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية (106 المائدة) أجاز الله تعالى شهادة الذميين على صفة في السفر ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2/ الطلاق مدنية) وبطلت شهادة أهل الذمة في السفر والحضر. والآية الثامنة قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} الآية (107 المائدة) نسخها الآية التي في الطلاق وهي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

مِنْكُمْ} الآية (2 مدنية الطلاق). والآية التاسعة قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}، أي: على حقيقتها إلى قوله {أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وباقي الآية محكمة، نسخ ذلك من الآية بشهادة أهل الإسلام. انتهى. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}. المناسبة قد مر لك قريبًا بيان وجه التناسب بين هذه السورة وبين السورة التي قبلها بأتم بيان، فراجعه. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير عن عكرمة قال: قدم الحطم بن هند - واسمه شريح بن هند بن ضبعة البكري - المدينة في عير له، يحمل طعامًا، فباعه، ثم دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه وأسلم، فلمّا ولى خارجًا .. نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لمن عنده: "لقد دخل علي بوجه وولى بقفا غادر"، فلمّا قدم اليمامة .. ارتد عن ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

الإسلام، وخرج في عير له يحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره، فأنزل الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ ...} الآية، فانتهى القوم، وأخرج عن السدي نحوه. قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: نصدُّ هؤلاء كما صدوا أصحابنا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن مسنده في كتاب "الصحابة" من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: تحريم الميتة، فأكفأت القدر. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَوْفُوا} وأتموا {بِالْعُقُودِ} والعهود المؤكدة التي بينكم وبين الله تعالى، أو بينكم وبين أنفسكم أو بينكم وبين الناس؛ أي: أوفوا ما عقده الله وجعله عليكم، وألزمه إياكم من التكاليف والأحكام الدينية، كالمأمورات: فوفاؤها فعلها، والمنهيات: فوفاؤها اجتنابها، وكالمعاملات الجارية بينهم، من بيع وشراء ونكاح وطلاق: فوفاؤها العمل بموجبها، وكالنذور التي ألزمها الشخص نفسه: فوفاؤها الإتيان بما نذره على نفسه. وقال الراغب (¬1): العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين ¬

_ (¬1) المراغي.

العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد منها .. إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله في الإنسان، ويتوصل إليه ببديهة العقل، أو بأدنى نظر، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. وإما أن يوجبه الشرع، وهو ما دلَّنا عليه كتابُ الله تعالى وسنةُ رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأساس العقود في الإسلام هو هذه الجملة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}؛ أي: إنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله، ما لم يحرم حلالًا، أو يحلل حرامًا، كالعقد على أكل شيء من أموال الناس بالباطل؛ كالربا، والميسر والقمار، والرشوة، ونحو ذلك. قيل (¬1): المراد بالعقود: هي التي عقدها الله تعالى على عباده، وألزمهم بها من الأحكام، وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعًا، ولا وجه لتخصيص بعضهما دون بعض. قال الزجاج المعنى: أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضًا على بعض، انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به هو ما وافق الكتاب والسنة، فإن خالفهما .. فهو ردٌّ لا يجب الوفاء به، ولا يحل. والخلاصة: يا معشر المؤمنين ائتوا بالعقود والتكاليف التي ألزمها اللهُ تعالى إياكم بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وائتوا بموجب العقود الجارية بينكم من المعاملات، من بيع وإجارة مثلًا، وبموجب العقود التي جرت بينكم وبين أنفسكم من النذور، والعتاق، والطلاق. ثم شرع يفصِّل تلك الأحكام التي أمر بالإيفاء بها، وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم، فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} بعد تذكيتها {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الثلاثة، الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}؛ أي: إلا ما سيتلى عليكم تحريمه في هذه السورة، بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلخ؛ أي: أحل الله سبحانه ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وتعالى لكم أيها المؤمنون أكل البهيمة من الأنعام الثلاثة، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام بعد تذكيتها، وألحق بها بعض الوحوش والطيور بالسنة، كالظباء، وبقر الوحش، وحماره، والضب، والحمام، ونحوها إلا ما حرِّم أكله عليكم فيما سيتلى عليكم في الآية الثالثة من هذه السورة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: حال من الكاف في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ}؛ أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير على الصيد الذي حرّمه الله عليكم؛ أي: غير مجوزين للاصطياد في الإحرام باعتقاد حله، أو بفعله. ومعنى عدم إحلالهم له، تقرير حرمته عملًا واعتقادًا؛ أي: لا تجعلوه حلالًا عملًا واعتقادًا باصطياده، أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج، أو العمرة، أو كليهما، أو داخلون في أرض الحرم، فلا يحل الصيد لمن كان في أرض الحرم، ولو لم يكن محرمًا، ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم، بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله، كالتلبية. والمعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا إن كانت الأنعام ميتةً، أو موقوذةً، أو مترديةً، أو نطيحةً، أو افترسها السبع، أو ذُبحت على غير اسم الله، فهي محرمة، وإلا أن تحلوا الصيد في حال إحرامكم، أو في حال كونكم في الحرم؛ فإنه لا يحل لكم ذلك. والخلاصة: أحلت لكم هذه الأشياء غير على الاصطياد، ولا أكل الصيد في الإحرام. وقرأ الجمهور {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة {غيرُ} بالرفع، ويخرج على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وأنتم غير على الصيد. وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثَّاب {حرم} بسكون الراء، وهي لغة تميمية، يقولون في رسل: رسل، وفي كتب: كتب ونحو ذلك. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَحْكُمُ} ويقضي {مَا يُرِيدُ} ويشاء في عباده؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، كما

[2]

شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه، فأوفوا بعقوده وعهوده، ولا تنكثوها ولا تنقضوها، فهو مالك الكل، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه. 2 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}؛ أي: معالم دين الله وأحكامه؛ أي: لا تتهاونوا مأمورات الشرع، ولا منهياته، ولا تنتهكوا حرمتها بترك المأمورات وفعل المنهيات، بل احترموا شعائر الله وأحكامه، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، وهذا عام، وذكر ما بعده من المعطوفات من ذكر الخاص بعد العام. وقيل: {شَعَائِرَ اللَّهِ} ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال؛ كمناسك الحج، وسائر فرائض دينه من حلال وحرام، وحدود حدها لكم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالًا لكم، تتصرفون فيها كما تشاؤون، بل اعملوا بما بيَّنه لكم، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها، وتصدوا الناس عن الحج في أشهر الحج. وقيل: {الشعائر}: الهدايا المشعرة؛ أي: المعلمة، وأشعارها: أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة، حتى يسيل دمه، فيكون ذلك علامة على أنه هدي، وهو سنة في الإبل والبقر، دون الغنم. والمعنى: لا تحلوا أخذ الهدايا المشعرة بسرقة أو غصب أو نهب من صاحبها. وقال أبو حيان {الشعائر}: هي جميع ما حرمه الله تعالى مطلقًا، سواء كان في الإحرام أو في غيره، والمعطوفات الأربعة بعده مندرجة في عموم قوله: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}، فكان ذلك تخصيصًا بعد تعميم. والمعنى: لا تحلوا محرمات الله تعالى فعلًا واعتقادًا، بأن ترتكبوها وتعتقدوا حلها. {وَلَا} تحلوا {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ورجب، ولا تنتهكوا حرمتها؛ بأن تقاتلوا فيها أعداءكم من المشركين، كما رُوي عن ابن عباس وقتادة.

{وَلَا}، تحلوا {الْهَدْيَ}: الذي يهدى به إلى البيت الحرام من الأنعام أو غيرها، للتوسعة على من هناك من عاكفٍ وبادٍ؛ تقربًا إلى الله تعالى؛ وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه غصبًا وذبحه، أو سرقته أو حبسه عند من أخذه. {وَلَا} تحلوا {الْقَلَائِدَ}؛ أي: ذوات القلائد من الهدي؛ أي: ولا تحلوا الهدايا ذوات القلائد، وكأنه قال: لا تحلوا الهدي مقلدًا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر؛ لأنه أكرم الهدي وأشرفه، والقلائد: جمع قلادة، وهي ما يعلق في عنق البعير ونحوه من حبل أو غعل؛ إشعارًا بأنها هدي. {وَلَا} تحلوا {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}، أي: ولا تحلوا قتال قوم قاصدين البيت الحرام لزيارته بحج أو عمرة، فتصدوهم عن ذلك بأي وجه كان. وقرأ عبد الله وأصحابه {ولا آمي البيت الحرام} بالإضافة. وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} حال من الضمير المستكن في آمّين؛ أي: حالة كون الآمّين يطلبون ربحًا وزيادة من ربهم بالتجارة المباحة، أو المعنى: طالبين ثوبًا من ربهم ورضوانًا منه بالحج أو العمرة، يحول (¬1) بينهم وبين عقوبته في الدنيا؛ لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم، وهذا على قراءة الجمهور بالياء .. كلام مع المشركين، كما روي عن قتادة أنه قال: هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم، وفي رواية أخرى عنه: والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجل لهم العقوبة. وقرأ حميد بن قيس والأعرج (¬2): {تبتغون} بالتاء، خطابًا للمؤمنين، والمعنى: على الخطاب: إن المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم، وصدهم عن المسجد الحرام، امتثالًا لأمر الله تعالى وابتغاء مرضاته، إذ أمر تعالى بقتال المشركين وقتلهم، وسبي ذراريّهم، وأخذ أموالهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش {ورضوانًا} بضم الراء، وتقدم في آل عمران .. أنها قراءة أبي بكر عن عاصم، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة، فعنه فيه خلاف. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وفي، "الخازن": فصل: اختلف (¬1) علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال قوم: هذه الآية منسوخة إلى هنا؛ أي: إلى قوله: {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}؛ وذلك لأنّ قوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام وفي الحرم، وذلك منسوخ بقوله تعالى: (4) {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وقولُه: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} يقتضي حرمة منع المشركين عن البيت الحرام، وذلك منسوخ بقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فلا يجوز أن يحج مشرك، ولا يأمن بالهدي والقلائد كافر، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأكثر المفسرين. وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم. والظاهر: ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية؛ لإجماع العلماء على أن الله - عز وجل - قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها، وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء شجر الحرم لم يكن ذلك أمانًا له من القتل، إذا لم يكن قد تقدم له عقد ذمة أو أمان، وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، والله تعالى أعلم، انتهى. ثم صرح بما فهم من قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فقال. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ}؛ أي: وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة، أو من أرض الحرم {فَاصْطَادُوا} الصيد الذي حُرِّمَ عليكم بالإحرام؛ أي: في غير الحرم إن شئتم؛ لأنّه إنما حُرِّم عليكم الصيد في أرض الحرم، وفي حال الإحرام فقط، وقد زال شبب حرمته، والأمر (¬2) فيه أمر إباحة؛ لأنّه ليس واجبًا على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد، نظير قوله تعالى؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} معناه: أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

وقرىء (¬1): {وإذا أحللتم} وهي لغة في حل، يقال: أحل من إحرامه، كما يقال: حلَّ من إحرامه. وقرأ (¬2) أبو واقد، والجراح، ونبيح، والحسن بن عمران: {فاصطادوا} - بكسر الفاء -، قال الزمخشري: قيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداءِ بها. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}؛ أي: لا يحملنكم بغض قوم وعدواتهم لكم؛ أي: شدة بغضكم لقوم من أهل مكة بسبب {أَنْ صَدُّوكُمْ} ومنعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: عن العمرة عامَ الحديبية على {أَنْ تَعْتَدُوا} وتبغوا عليهم؛ أي: لا يحملنكم بغضكم قومًا لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام على ظلمكم واعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي من البغض. والمعنى: ولا (¬3) يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم؛ لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، وقد كان المشركون صدوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية، فنهى المؤمنين أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع، وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة؛ لأجل اعتدائهم السابق. وقرأ الجمهور: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} - بتشديد النون -. قرأ الحسن (¬4)، وإبراهيم، وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: {يجرمنْكم} بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة. وقرأ النحويان (¬5)، وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: {شنآن}: بفتح النون. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر: (شنْآن) بسكونها، والأظهر في الفتح: أن يكون مصدرًا، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان - بفتح العين -، وجوّزوا أن يكون وصفًا، وأما مجيء المصدر على فعْلان - بفتح الفاء، وسكون العين - .. فقليل. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير {إن صدوكم} بكسرة الهمزة، على أنها شرطية، ويؤيدها قراءة ابن مسعود {إن صدوكم} وأنكر ابن جرير والنحاس ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط. (¬5) أبو عمرو والكسائي.

وغيرُهما قراءة كسر إن، وقالوا: إنما صد المشركون الرسول والمؤمنين عام الحديبية، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، والحديبية سنة ست، فالصد قبل نزول الآية. والكسر يقتضي أن يكون بعد؛ ولأن مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم؛ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جدًّا؛ فإنها قراءة متواترة؛ إذ هي في السبعة، والمعنى معها صحيح، والتقدير: إن وقع صد في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية، وهذا النهي تشريع في المستقبل، وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعًا عليه، بل ذكر اليزيدي: أنها نزلت قبل أن يصدوهم، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحًا. وقرأ باقي السبعة: بفتح الهمزة، جعلوه تعليلًا للشنآن، وهي قراءة واضحة؛ أي: شنئان قوم من أجل أن صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام. والاعتداء: الانتقام منهم، بإلحاق المكروه بهم. {وَتَعَاوَنُوا} أيها المؤمنون {عَلَى الْبِرِّ}؛ أي: على فعل المأمورات {و} على {التقوى}؛ أي: وعلى اجتناب المنهيات. وقيل: تعاونوا على البر والتقوى؛ أي: على العفو والإغضاء (¬1)، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى؛ أي: ليعن بعضكم بعضًا على ما يكسب البر والتقوى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ}؛ أي: على ترك المأمورات {وَالْعُدْوَانِ}؛ أي: على فعل المحظورات؛ أي: ولا يعن بعضكم بعضًا على الإثم والعدوان، وقيل: ولا تعاونوا على الانتقام والتشفي، والبر (¬2): فعل المأمور، والتقوى: ترك المحظور، والإثم: ترك المأمور، والعدوان: فعل المحظور. وقال المراغي: البر: التوسع في فعل الخير، والتقوى: اتقاء ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه، والإثم: كل ذنب ومعصية، والعدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة، والخروج عن العدل فيها، وفي الحديث: "البر: حسن الخلق، والإثم: ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس". رواه مسلم وأصحاب السنن. وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني: أنه قال: أتيت ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) النحويان هما أبو عمرو والكسائي.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "جئت تسأل عن البر والإثم" قلت: نعم - وكان قد جاء لأجل ذلك - فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في نفسه وأجابه، فقال: "استفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". والأمر بالتعاون (¬1) على البر والتقوى .. من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن؛ إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضًا على كل ما ينفع الناس، أفرادًا وجماعات، في دينهم ودنياهم، وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم. وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد، كما تفعله الجماعات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيًا لهم عن غيره، ولكن لما نكثوا ذلك العد .. صاروا في حاجة إلى تأليف هذه الجماعات؛ لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب التعاون على البر والتقوى. وقلما ترى أحدًا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذًا كان مرتبطًا بعهد معك لغرض معين، ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبًا. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، ولا تستحلوا شيئًا من محارمه {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْعِقَابِ} والانتقام لمن خالف أمره، ففيه وعيد شديد وتهديد عظيم. والمعنى: واتقوا الله بالسير على سننه التي بيّنها لكم في كتابه وفي نظم خلقه، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه في خلقه؛ إذ لا محاباة ولا هوادة في عقابه، فهو لم يأمر بشيء إلا إذا كان نافعًا، ولم ينه عن شيء إلا إذا كان ضارًّا وكذلك بعدم مراعاة السنن؛ لأن لذلك تأثيرًا في خلق الإنسان وعقائده وأعماله، وكل ذلك مما يوقعه في الغواية، وينتهي به إلى سوء العاقبة، وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة، كما جاء في بعض ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

الآيات التصريح بذلك، وفي بعضها التصريح بأحدهما، كقوله في عذاب الأمم في الدنيا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}. 3 - ثم شرع الله سبحانه وتعالى في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وهي عشرة أنواع: الأول: ما ذكره بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}؛ أي: حرم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة .. إلا ميتة السمك والجراد؛ فإنهما مستثنيان بالحديث، والميتة: هي التي زالت حياتها بغير ذكاة شرعية، سواء مات حتف أنفه، أو ذبحه مجوسي أو وثني مثلًا، وكان أهل الجاهلية يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! واعلم أن تحريم الميتة .. موافقٌ لما في العقول؛ لأن الدم جوهر لطيف جدًّا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه .. احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. والحكمة في تحريم الميتة: 1 - استقذار الطباع السليمة لها. 2 - أنّ في أكلها مهانة تنافي عزة النفس وكرامتها. 3 - والضرر الذي ينشأ من أكلها، سواء كانت قد ماتت بمرض، أو شدة ضعف، أو بغير ذلك. 4 - وتعويد المسلم أن لا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه. والثاني: ما ذكره بقوله: {وَالدَّمُ}؛ أي: وحرم عليكم أكل الدم، المراد به: الدم المسفوح؛ أي: السائل المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، خلاف المتجمد طبيعة؛ كالطحال، والكبد، فإنهما خصِّصَا بالحديث، وكالدم الذي يتخلل اللحم عادة؛ فإنه لا يسمَّى مسفوحًا، وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف. وحكمه تحريم الدم: الضرر والاستقذار أيضًا، أما الضرر؛ فلأنه عسر

الهضم جد العسر، ويحمل كثيرًا من المواد العفنة التي تنحل من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه، واستعاضت عنها بمواد جديدة من الدم، وقد يكون جراثيم بعض الأمراض المعدية، وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم، ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلي اللبن قبل شربه؛ لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية. والثالث: ما ذكره بقوله: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}؛ أي: وحرم عليكم أكل لحم الخنزير، والمراد به: جميع أجزائه وأعضائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه المقصود بالأكل. والحكمة في تحريم لحم الخنزير (¬1): الضرر والاستقذار؛ لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره .. فقد أثبته الطب الحديث؛ إذ أثبت أنه له ضررًا يأتي من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية، كالدودة الوحيدة، ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية، وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضمًا؛ لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وأن المواد الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام، فيعسر هضم المواد الزلالية، وتتعب معدة آكله، ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء، فقذف هذه المواد الخبيثة .. خف ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلًا وشربًا وتدخينًا، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره .. لما أمكن الناس أن يأكلوه، ولا سيما أهل البلاد الحارة. قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءًا من جوهر المغتذي، فلا بدَّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلًا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم، ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان؛ لئلا يتكيف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير .. أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات ¬

_ (¬1) المراغي.

وأورثهم عدم المغيرة، فإنَّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي هي له ولا يتعرض له؛ لعدم المغيرة. وأما الشاة .. فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان - بسبب أكل لحمها - كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. والرابع: ما ذكره بقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ أي: وحرم (¬1) عليكم ما ذكر على ذبحه غير اسم الله تعالى، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية، بقوله: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، والمعنى: {وَمَا أُهِلَّ}؛ أي: رفع الصوت {لِغَيْرِ اللَّهِ}؛ أي: بغير اسم الله {بِهِ}؛ أي: عند ذبحه، فاللّام بمعنى الباء، والباء بمعنى عند، والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل فلان بالحج .. إذا رفع صوته بالتلبية له: "لبيك اللهم لبيك"، واستهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، والمراد به: ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيمًا دينيًّا، ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم: باسم اللات، أو باسم العزى، وحكمة التحريم في هذا: أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره. ويدخل في ذلك: ما ذكر عند ذبحه اسم نبي، أو ولي كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم، وساروا على نهجهم باعًا فباعًا، وذراعًا فذراعًا. والخامس: ما ذكره بقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}؛ أي: التي (¬2) ماتت بانعصار الحلق وانحباس النفس فيها، فالمنخنقة على وجوه: منها: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها، ومنها: ما يخنق بحبل الصائد، ومنها: ما يدخل رأسها بين عودين من شجرة فتختنق، فتموت. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

وقد روى ابن جرير في تفسيرها أقوالًا (¬1): فعن السدي: أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك في التي تختنق فتموت، وفي رواية عن الضحاك: هي الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال: وأول هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي التي تختنق، إما في وثاقها، أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت. وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه، من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله، فهي داخلة في الميتة، وإنما خصها بالذكر؛ لأن بعض العرب في الجاهلية يأكلونها، ولئلا يشتبه الأمر فيها على بعض الناس، بأن لموتها سببًا معروفًا، والعبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان، لأجل الأكل حتى يكون واثقًا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها. والسادس منها: ما ذكره بقوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ}؛ أي: وحرم عليكم أكل الموقوذة - من الوقذ - وهي شدة الضرب، ويقال: شاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هنا: هي المضروبة بخشبة، أو عصا، أو حجر، أو بكل ما لا حد له، حتى تموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية. والوقذ يحرم في الإسلام (¬2)؛ لأنه تعذيب للحيوان، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم وأصحاب السنن. ولما كان الوقذ محرمًا حرم ما قتل به، وهي تدخل في عموم الميتة أيضًا على الوجه الذي ذكرنا؛ فإنها لم تذك تذكية شرعية، ويدخل في الموقوذة: ما رمي بالبندق - وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها - لما رُوي (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف - الرمي بالحصى - والخذف لكل يابس غير محدد، سواء رمى باليد، أو بالمخذفة، أو بالمقلاع. وقال: "إنه يفقأ العين ولا ينكأ العدو، ولا يحرز صيدًا" ففي هذا الحديث نص على العلة، وهو أنه تعذيب ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) المراغي.

للحيوان، وليس سببًا مطردًا ولا غالبًا للقتل. أما بندق الرصاص المستعمل الآن وما في حكمه، كالمسدس .. فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به. قال ابن (¬1) عبد البر: واختلف العلماء قديمًا وحديثًا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض - ويعني بالبندق: قوس البندقة، وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا الذي رأسها محدد - قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ .. لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما رُوي عن ابن عمر، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي: في المعراض كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن عمر، ومكحول .. لا يرون به بأسًا، قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك في نافع قال: والأصل في هذا الباب - والذي عليه العمل، وفي الحجة - حديث عدي بن حاتم، وفيه "ما أصاب بعرضة فلا تأكل، فإنه وقيذ" انتهى. قلت: والحديث في "الصحيحين" وغيرها عن عدي قال: قلت: يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله". فقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق، ولا ما صدم، فلا بدَّ من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذًا. وأما البنادق المعروفة الآن - وهي بنادق الحديد التي تحمل فيها البارود والرصاص ويُرمى بها - فلم يتكلم عليها أهل العلم؛ لتأخر حدوثها؛ فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المئة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيًّا؟ والذي يظهر لي .. أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "إذا رميت ¬

_ (¬1) الشوكاني.

بالمعراض فخرق فكله" فاعتبر الخرق في تحليل الصيد، ذكره الشوكاني. وهذه الأنواع الستة السابقة (¬1) من أقسام الميتة، وذكرها بعدها .. من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وإنما ذكرت بخصوصها للردّ على أهل الجاهلية؛ حيث كانوا يأكلونها ويستحلونها. والسابع منها: ما ذكره بقوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}؛ أي: الساقطة من علو إلى أسفل فماتت، من غير فرق بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها، وسواء تردت بنفسها، أو رداها غيرها، والتردي: مأخوذ من الردى، وهو الهلاك، وهي في حكم الميتة؛ لأنه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها، ولا قصد به إلى أكلها، ويدخل (¬2) فيها: ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض، فإنه يحرم أكله؛ لأنه لم يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم؟ ولو رمى صيدًا في الهواء بسهم فأصابه، فإن سقط على الأرض ومات .. حلَّ؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات .. لم يحل؛ لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء، فيحل كيفما وقع؛ لأن الذبح قد حصل قبل التردية. والثامن منها: ما ذكره بقوله: {وَالنَّطِيحَةُ}؛ أي: وحرم عليكم أكل النطيحة، وهي: البهيمة التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النطاح، من غير أن يكون للإنسان عمل في إماتتها. وقرأ أبو عبد الله وأبو ميسرة: {والمنطوحة}. والتاسع منها: ما ذكره بقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}؛ أي: وحرم عليكم أكل ما أكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله السبع؛ أي: ما افترسه السبع ليأكله، ولو كان من جوارح السباع فمات بسبب افتراسه، سواء أكل منه أم لم يأكل، وأكله منه ليس بشرط في التحريم؛ إذ يكفي فرسه إياه وقتله في تحريمه، ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) المراح.

وكان العرب في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنّه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعد أكله ذلة ومهانة، وإن كانوا لا يخشون منه ضررًا. والسبع: اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه؛ كالأسد، والذئب، والنمر، والفهد، ونحوها. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، والفياض، وطلحة بن سليمان (¬1): {السبع} بسكون الباء، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ عبد الله: (وأكيلة السبع) وقرأ ابن عباس أيضًا: {وأكيل السبع} وهما بمعنى مأكول السبع، وقال ابن حيان: وذكر هذه المحرمات .. هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله: (4) {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وبهذا صار المستثنى والمستثنى منه معلومين. {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}؛ أي: إلا ما أدركتموه من هذه الخمسة الأخيرة - التي أولها المنخنقة - وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح، فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله، وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية، من الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أكل السبع، وذلك هو: ما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة. وخلاصة المعنى: ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفي في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة، بأن يطرف بعينه، أو يضرب بذنبه، وقد قال علي - رضي الله عنه -: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدًا أو رجلًا .. فكلها. وإن لم يكن فيه حياة مستقرة .. فلا يحل بتذكيته؛ لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق، وأكل السبع وغيرهما. والعاشر منها: ما ذكره بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}؛ أي: وحرم عليكم أكل ما ذبح لأجل تعظيم النصب، فـ {على} بمعنى اللام التعليلية، كما قاله ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قطرب، والنُّصب: واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة، عددها ثلاث مئة وستون حجرًا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويعدون ذلك قربة، ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب ... هو من جنس ما أهل لغير الله، فهو داخل فيه من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر مع دخوله فيه؛ لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها. وقيل: ليس هذا داخلًا فيما سبق؛ إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم، وهذا فيما قصد بذبحه تعظيم الصنم من غير ذكر لاسم الصنم. قال ابن جريج (¬1): كانت العرب تذبح بمكة وتنضح الدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. وخلاصة ما تقدم (¬2)؛ أن الله تعالى أحل أكل بهيمة الأنعام ولسائر الطيبات من الحيوان، ما دب منها على الأرض، وما طار في الهواء، وما سبح في البحر، لم يحرم إلا الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله تعالى. وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله، وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول: لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكنَّ الفارق بينهما: ما في هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطًا بإتمام موته، والإجاز عليه بفعله هو؛ ليذكر اسم الله عليه، فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وفريسة السبع، إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وظلم الحيوان، وذلك محرم شرعًا. وقرأ الجمهور (¬1): {النُّصُبِ} - بضمتين - وقرأ طلحة بن مصرف: بضم النون وإسكان الصاد، وقرأ عيسى بن عمر: بفتحتين، ورُوي عنه كالجمهور، وقرأ الحسن: بفتح النون وإسكان الصاد. ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملًا آخر من أعمالهم وخرافاتهم، فقال: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}؛ أي: وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرًا أو غزوًا أو تجارةً أو نكاحًا أو أمرًا آخر من معاظم الأمور .. ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: خال عن الكتابة، فإن خرج الأمر .. أقدم على الفعل، وإن خرج النهي .. أمسك، وإن خرج الغفل .. أعاد العمل مرة أخرى. والاستقسام (¬2): هو طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم له بواسطة الأزلام، والأزلام: جمع زلم، وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره، وكانت الأزلام ثلاثة، مكتوب على أحدها الأمر، وعلى الآخر النهي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أراد أحدهم أمرًا من معاظم الأمور .. أجال - حرك - هذه الأزلام، فإن خرج الأمر .. مضى لما أراد، وإن خرج النهي .. أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل .. أعاد الاستقسام كما مر آنفًا؛ أي: وحرم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام، كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، وحكمة هذا التحريم: أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمَّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أبطل ذلك دين العقل والبصيرة، كما أبطل التطير والكهانة والعيافة (¬1) والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أنَّ فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم: أمرني ربي اللهَ - عز وجل -، وجهلًا وشركًا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبًا لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى به. وقد استن بعض جهال المسلمين بسنة مشركي الجاهلية، أو بما يشبهها، فتراهم يستقسمون بالسبح وغيرها، ويسمون ذلك استخارة، أو فألًا، فيقتطعون طائفة من حب السبحة ويحركونها حبة بعد أخرى يقولون: افعل على واحدة، لا تفعل على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها. ومنهم من يستقسم، أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم، فيصبغون عملهم بصيغة الدين، ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد في هذا نص يجوز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذه البدع مستحسنة، وتأولوا لها اسم الفأل الحسن، ورووا في ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن عائشة - رضي الله عنها - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل الحسن)، وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث. والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن، وحرموه على أنفسهم، واكتفوا من الإيمان به، والتعظيم له بالاستقسام به، كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد، أو جام (فنجان)، وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن السلف الصالح. وأعجب من ذلك جعل بعض الدّجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة، وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان. الاستخارة التي وردت بها السنة: هي التوجه إلى الله تعالى، والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما ¬

_ (¬1) العيافة: التفاؤل أو التشاؤم بطيران الطير اهـ. م ج.

تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير في الإقدام أو في الترك، فإذا شرح الله صدره لشيء أمضاه. وقد روى الشيخان وأصحاب السنن وأحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك ... " الحديث. والقرعة تشبه هذا، بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعًا؛ كالقسمة بين اثنين؛ إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما، بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعَمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}: الإشارة راجعة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، وهذا أصح. والفسق: الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر؛ أي: ذلكم الاستقسام بالأزلام، أو جميع المحرمات السابقة فسق، وخروج عن الطاعة والإيمان، ورغبة في الشرك والمعاصي؛ لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام. وروى (¬1) البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره ... لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة"، وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله سبحانه وتعالى. وقال قوم آخرون: إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام، ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقًا؛ أي: شركًا وجهالةً، وهذا القول أقرب وأولى، كما قاله الفخر الرازي. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم ¬

_ (¬1) المراح.

عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة، وكان يوم جمعة، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما ذكر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورًا تامًّا لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم، أو الخوف من عاقبة أمرهم؛ أي: هذا اليوم انقطع رجاء كفار مكة من إبطال أمر دينكم، ورجوعكم إلى دينهم عبادة الأوثان {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}؛ أي: فلا تخافوا المشركين في اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتكم إياهم في الشرائع والأديان؛ فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة، والقوة الظاهرة، وصاروا مقهورين لكم، ذليلين عندكم. {وَاخْشَوْنِ} في عبادة الأوثان، وتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أخلصوا الخشيه لي وحدي في ترك اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه. وإجمال المعنى: اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه، لما شاهدوا من فضل الله عليكم؛ إذ وفى بوعده، وأظهره على الدين كله، فإذًا لا ينبغي لكم خشية غيري. وقرأ أبو جعفر (¬1): {ييس} من غير همز، ورويت عن أبي عمرو {واخشون} (¬2) بسقوط الياء وصلًا ووقفًا، بخلاف {واخشوني} السابقة في البقرة، فإنها بثبوت الياء وصلًا ووقفًا اتفاقًا، وبخلاف الآتية في هذه السورة، فإنه يجوز في يائها الثبوت والحذف على الخلاف اهـ شيخنا. {الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، وهو يوم عرفة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} أيها المؤمنون {دِينَكُمْ} الذي هو دين الإسلام بالنصر والإظهار على الأديان كلها، والحكم ببقائه إلى يوم القيامة، أو أكملت لكم دينكم بالفرائض والسنن والحدود، والأحكام، والحلال والحرام، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، ولا شيء من الأحكام، فلا ينافي نزول آية موعظة بعدها، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيْهِ إِلَى اللهِ} الآية. {وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيْنًا}؛ أي: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. وفي الآية (¬1) بشارات ثلاث، فسرها السلف بما سنذكره بعد، رُوي عن ابن عباس أنه قال: لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - واقفًا بعرفات .. نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}؛ أي: حلالكم وحرامكم، فلا ينزل بعده حلال ولا حرام، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}؛ أي: منتي فلم يحج معكم مشرك {وَرَضِيْتُ}؛ أي: اخترت {لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وقد مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية واحدًا وثمانين يومًا، ثم قبضه الله إليه. وقال صاحب "الكشاف" (¬2): {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم، ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها، وبأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان {وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم أنه هو الدين المرضي عندي. وعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤنها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا! قال فأي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات، في يوم الجمعة، أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. متفق عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس، لم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده. {فَمَنِ اضْطُرَّ}؛ أي: ألجىء واحتاج حاجة شديدة إلى تناول وأكل شيء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الكشاف.

من هذه المحرمات السابقة من الميتة وما بعدها {فِي مَخْمَصَةٍ}؛ أي: بسبب مجاعة يُخاف معها الموت لو ترك الأكل منها فأكل منها وهو لا يجد غيرها حالة كونه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ}؛ أي: غير متعمد {لِإِثْمٍ} بأن يأكلها فوق الشبع، كما قاله أهل العراق، أو بأن يكون عاصيًا بسفره، كما قاله أهل الحجاز {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أكل شيئًا من تلك المحرمات عندما اضطر إليه {رَحِيمٌ} بعباده، حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله. وفي "الفتوحات": هذه الآية من تمام ما تقدَّم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، ومتصلة بها، والمعنى: أن المحرمات وإنْ كانت محرمة إلا أنَّها قد تحل في حالة الاضطرار إليها، ومن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إلى هنا .. اعتراض وقع بين الكلامين، والغرض تأكيد ما تقدم ذكره في معنى التحريم؛ لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، والنعمة الكاملة، والإسلام الذي هو المرضي عند الله تعالى، ومعنى الآية: فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر، فأكل في مجاعة لا يجد فيها غيره، وهو غير مائل إليه لذاته، ولا جائر فيه، متجاوز قدر الضرورة .. فإنَّ الله غفور لمثله، لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه. وقرأ ابن محيصن: (فمن اطر) بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ الجمهور {مُتَجَانِفٍ} بألف من تجانف - من باب: تفاعل -. وقرأ أبو عبد الرحمن، والنخعي، وابن وثاب شذوذًا: (متجنف) بدون ألف من تجنف - من باب: تفعل -. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}. {يَا أَيُّهَا}: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجمة صلة الموصول. {أَوْفُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء،

لا محل لها من الإعراب. {بِالْعُقُودِ}: جار ومجرور متعلق بأوفوا. {أُحِلَّتْ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، وهو من إضافة الجنس إلى أخص منه، أو هي بمعنى من؛ لأن البهيمة أعم، فأضيف إلى أخص، كثوب خز، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء متصل. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء من بهيمة الأنعام، والتقدير (¬1): أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا الميتة، وما أهل لغير الله، وغيرهما مما ذكر في الآية الثالثة من السورة. {يُتْلَى} فعل مغير الصيغة {عَلَيْكُمْ} متعلقان به {غَيْرَ}: حال من الضمير المجرور في عليكم، أو لكم، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في {أَوْفُوا}، {غَيْرَ}: مضاف. {مُحِلِّي}: مضاف إليه، وهو مضاف. {الصَّيْدِ}: مضاف إليه، وحذفت النون للإضافة، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله. {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة حال من الضمير المستكن في {مُحِلِّي الصَّيْدِ}؛ لأنه جمع محل اسم فاعل، وهو يتحمل الضمير. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {يَحْكُمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {يُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يريده. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}. {يَا أَيُّهَا}: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا}: ناهية. {تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، مجزوم بلا الناهية، والجملة ¬

_ (¬1) العكبري.

جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَلَا الشَّهْر}: معطوف على شعائر. {الْحَرَامَ}: صفة للشهر، وكذلك قوله: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ} معطوفات على شعائر {الْبَيْتَ}: مفعول به لآمين، لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره: ولا قومًا آمين هم البيت {الْحَرَامَ} صفة للبيت {يَبْتَغُونَ فَضْلًا}: فعل وفاعل ومفعول {مِنْ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور صفة لفضلًا، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في آمين؛ أي: حال كون الآمين مبتغين فضلًا من ربهم، ولا يجوز (¬1) أن تكون هذه الجملة صفة لآمين؛ لأن اسم الفاعل متى وصف قل عمله على الصحيح. {وَرِضْوَانًا}: معطوف على فضلًا. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}. وَإِذَا: (الواو): استئنافية. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. {حَلَلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، {فَاصْطَادُوا}: (الفاء): رابطة لجواب إذا. اصطادوا: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. {وَلَا}: (الواو): استئنافية. (لا): ناهية. {يَجْرِمَنَّكُمْ}: فعل ومفعول أول، أو مفعول به. {شَنَآنُ قَوْمٍ}: فاعل ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {صَدُّوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية مع صلتها .. في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ {شَنَآنُ}، تقديره: شنآن قوم لأجل صدهم إياكم. {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: جار ومجرور وصفة متعلق بصدوكم. {أَنْ تَعْتَدُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، وجملة أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا ليجرمنكم، والتقدير: ولا يجرمنكم ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{شَنَآنُ} قوم اعتداءكم عليهم: إن قلنا: إنَّ جرم يتعدى إلى مفعولين، أو مجرور بعلى: إن قلنا إنَّ جرم يتعدى إلى مفعول واحد، تقديره: ولا يحملنكم شنآن قوم على اعتدائكم عليهم. {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. {وَتَعَاوَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}، أو مستأنفة. {عَلَى الْبِرِّ}: متعلق بـ {تعاونوا}. {وَالتَّقْوَى}: معطوف على {الْبِرِّ}. {وَلَا تَعَاوَنُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَتَعَاوَنُوا}. {عَلَى الْإِثْمِ}: متعلق بلا تعاونوا. {وَالْعُدْوَانِ}: معطوف على الإثم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {إنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبر {إِنَّ} ومضاف إليه، وجملة {إنِّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}: فعل مغيّر الصيغة ونائب فاعل وجار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتفصيل ما أجمل في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} {وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}: معطوفان على الميتة {وَمَا} (الواو): عاطفة. (ما): موصولة، أو موصوفة في محل الرفع معطوف على الميتة {أُهِلَّ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {لِغَيْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأهل. {بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لأهل، والباء فيه بمعنى في، ولكنّه على حذف مضاف، أي: وما رفع الصوت لغير الله في ذبحه، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، وكذا قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ}: معطوفات على الميتة {وَمَا}: (ما): في محل الرفع معطوف على الميتة. {أَكَلَ السَّبُعُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لا، والعائد أو الرابط محذوف،

تقديره: وما أكله السبع. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء من الخمسة الأخيرة. {ذَكَّيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: إلا ما ذكيتموه {وَمَا}: (ما): موصولة، أو موصوفة معطوفة على الميتة. {ذُبِحَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ذبح، {عَلَى النُّصُبِ}: متعلق بـ {ذبح}، وعلى فيه بمعنى اللام. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}: ناصب وفعل وفاعل وجار ومجرور متعلق به، والجملة في تأويل مصدر معطوف على الميتة، والتقدير: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بيئس المذكور بعده {يَئِسَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ دِينِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيئس. {فَلَا}: الفاء: حرف عطف وتفريع. لا: ناهية. {تَخْشَوْهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة مفرعة على جملة يئس. {وَاخْشَوْنِ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}، و (النون): نون الوقاية، و {ياء} المتكلم المحذوفة: اجتزء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به؛ لأن أصله: واخشوني. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. {الْيَوْمَ} منصوب على الظرفية، متعلق بما بعده. {أَكْمَلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأكملت. {دِينَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَأَتْمَمْتُ}: فعل وفاعل معطوف على أكملت. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بأتممت. {نِعْمَتِي}: مفعول به ومضاف إليه. {وَرَضِيتُ}: فعل وفاعل معطوف على {أَكْمَلْتُ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق برضيت. {الْإِسْلَامَ}: مفعول به. {دِينًا}: تمييز محوّل عن المفعول منصوب.

{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {فَمَنِ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حرمة هذه المذكورات في حالة الاختيار، وأردت بيان حكم من اضطر إلى أكلها .. فأقول لك. (من): اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما. {اضْطُرَّ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على مَنْ. {فِي مَخْمَصَةٍ}: جار ومجرور متعلق باضطر. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ}: منصوب على الحالية. {لِإِثْمٍ}: متعلق بمتجانف. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية. {إن}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة الإسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. التصريف ومفردات اللغة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: يقال في ثلاثيه: وفى يفي وفاء، وفي رباعية: أوفى يوفي إيفاء، والوفاء والإيفاء: كل منهما الإتيان بالشيء وافيًا لا نقص فيه، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}، والمراد بالوفاء: القيام بموجب العقد، والعقود: جمع عقد، وهو في الأصل: ضد الحل، ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض، ويستعمل في الأجسام الصلبة؛ كعقد الحبل، وعقد البناء، ويقال: عقد اليمين، وعقد البناء؛ أي: أبرمه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ}، والمراد بالعقود هنا: ما يعم جميع ما ألزمه الله عباده وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينًا، بأن يحمل الأمر على معنى يعم الوجوب والندب. {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}: والبهيمة: ما لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير. وقال الزمخشري: البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر. انتهى. وقال ابن عطية: البهيمة في كلام العرب: ما أبهم

من جهة نقص النطق والفهم انتهى. وقال في "القاموس": البهيمة: كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء، أو كل حي لا يميز. وما (¬1) كان على - فعيل أو فعيلة - وعينه حرف حلق اسمًا كان، أو صفة .. فإنه يجوز كسر أوله إتباعًا لحركة عينه، وهي لغة بني تميم، تقول: رئي، وبهيمة، وسعيد، وصغير، وبحيرة، وبخيل. والأنعام: جمع نعم، وهي البقر والإبل والغنم. {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: و {الصيد}: مصدر صاد يصيد ويصاد، ويطلق على المصيد، وقال داود بن علي الأصبهاني: {الصيد}: ما كان ممتنعًا، ولم يكن له مالك، وكان حلالًا أكله، وكأنّه فسر الصيد الشرعي. و {الحرم} - بضمتين -: جمع حرام، وهو المحرم بالحجّ أو العمرة، فهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. {شَعَائِرَ اللَّهِ}: جمع شعيرة، وهي معالم دينه، وغلب في مناسك الحج. {وَلَا الْهَدْيَ}: الهدي: ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ليذبح هناك، وهو من النسك. {وَلَا القلائدَ}: جمع قلادة، وهو ما يعلق في العنق، وكانوا يقلدون الإبل من الهدي بنعل، أو حبل، أو لحاء شجر؛ ليعرف ولا يتعرض له أحد، وكان الحرمي ربَّما قلّد ركابه بلحا شجر الحرم، فيعتصم بذلك من السوء. {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: جمع الآم، والآم: المقاصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته؛ أي: قاصدين {فَضْلًا}؛ أي: ربحًا في التجارة. {وَرِضْوَانًا}؛ أي: رضًا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}: يقال: جرمة على كذا: حمله عليه وجعله يجرمه؛ أي: يكسبه ويفعله، وقال أبو عبيدة والفراء: جرمه: كسبه، فلان جريمة أهله؛ أي: كاسبهم، والجارم: الكاسب، وأجرم فلان: اكتسب الإثم، وقال الكسائي: جرم وأجرم؛ أي: كسب غيره، وجرم يجرم جرمًا: إذا قطع، وأصل الجرم: قطع الثمرة من الشجرة، وجرم بمعنى حق؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرم أن لهم النار؛ أي: لقد حق، {الشنآن}: البغض مطلقًا، أو الذي يصحبه التقزز من المبغوض، وهو (¬2) أحد مصادر شنىء، يقال: شنىء يشنأ - من باب: علم - شنأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

وشنآنًا - مثلثي الشين -، فهذه ستة، وشناء، وشناءة، وشناء، وشناءة، ومشناءة، ومشنئة، ومشنئة، وشنانًا، وشنانًا، فهذه ستة عشر مصدرًا، وهي أكثر ما حفظ للفعل. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر - على فعلان - بفتح العين .. لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء، كالشنآن. وفي "الفتوحات" (¬1): الشنآن: مأخوذ من شنيء المعتدي، كعلم، يقال: شنئت الرجل أشنأه: إذا أبغضته، وهذا المصدر سماعي مخالف للقياس من وجهين: تعدي فعله، وكسر عينه؛ لأنه لا ينقاس إلا مفتوحُها اللازم، كما قال في "الخلاصة": وَفَعَلَ اللَّازِمُ مِثْلُ قَعَدَا ... لَهُ فُعُوْلٌ بِاطِّرَادٍ كَغدَا إلى أن قال: وَالثَّانِي لِلَّذِيْ اقْتَضَى تَقَلُّبَا {وَالدَّمُ}: أصله: دمي، حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية. {وَالْمَوْقُوذَةُ}: في "المختار": وقذه: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت - وبابه وعد -، وشاة موقوذة: قتلت بالخشب. {وَالنَّطِيحَةُ}: هي التي ينطحها غيرُها فتموت بالنطح، وهي - فعيلة بمعنى مفعولة - صفة جرت مجرى الأسماء، فوليت العوامل، ولذلك ثبت فيها الهاء وفي "القاموس": نطحه كمنعه وضربه إذا أصابه بقرنه اهـ. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}: السبع: اسم جنس يطلق على كل ذي ناب وظفر من الحيوان؛ كالأسد، والنمر، والدب، والذئب، والثعلب، والضبع، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع، قال الشاعر: وَسِبَاعُ الطَّيرِ تَغْدُوْ بِطَانَا ... تَتَخَطَّاهُمْ فَمَا تَسْتَقِلّ ومن العرب من يخص السبع بالأسد، وسكون الباء: لغة نجدية، وسمع فتحها، ولعل ذلك لغة {عَلَى النُّصُبِ}: جمع نصاب، ككتب جمع كتاب، وسُمِّي الصنم نصابًا؛ لأنه ينصب ويرفع ليعظم ويعبد {بِالْأَزْلَامِ}؛ أي: القداح، واحدها ¬

_ (¬1) الفتوحات.

زلم وزلم - بضم الزاي، وفتحها -، وهي: السهام. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: اليأس: قطع الرجاء، يقال: (¬1) يئس الرجل منه ييأس - بالفتح - على القياس، وييئس - بالكسر - على الشذوذ، يأسًا ويئاسة: إذا قنط منه وانقطع رجاؤه، كما قال ابن مالك في لامية الأفعال. وَجْهَانِ فِيْهِ مِنَ احْسِبْ مَعْ وَغِرْتَ وَحِرْ ... تَ انْعِمْ بَئِسْتَ يَئِسْتَ أَوْلهِ يَبِسْ وَهِلاَ {فِي مَخْمَصَةٍ}: المخمصة: المجاعة التي تخمص فيها البطون؛ أي: تضمر، والخمص: ضمور البطن، والخلقة منه حسنة في النساء، ومنه يقال: خمصانة، وبطن خميص، ومنه: أخمص القدم، ويستعمل كثيرًا في الجوع. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ}: وفي، المصباح: جنف جنفًا - من باب: تعب - ظلم، وأجنف - بالألف - مثله. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والبيان والبديع: منها: الاستعارة في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}؛ حيث استعار الإتيان بالشيء غير ناقص - ككيل الطعام - للقيام بموجب تلك العقود مثلًا، الوفاء بالمأمورات: فعلها، والوفاء بالمنهيات: تركها. ومنها: التشبيه: حيث شبه الإلزام والالتزام الجاريين بين الله وبين العباد بربط حبل بحبل؛ لأنَّ العقود حقيقة في الربوط. ومنها: الاستعارة في قوله: {لَا تحلوا شعائر الله}: حيث استعار الحل - الذي هو حقيقة في الأجسام - لانتهاك حرماتها، وحيث استعار الإعلام للمتعبدات التي تَعبد الله بها العباد من الحلال والحرام. ومنها: المقابلة في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. ¬

_ (¬1) مناهل الرجال على اللامية.

ومنها: إضافة الأعم إلى الأخص في قوله: {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}؛ لأنَّ المراد القتال فيه، ففيه إطلاق المحل وإرادة الحال. وفي قوله: {وَلَا الْقَلَائِدَ}؛ لأنّ المراد به الهدايا المقلدات، ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل، عكس ما قبله. ومنها: التعميم ثم التخصيص في قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}، وما بعده من المعطوفات؛ لأنها داخلة في شعائر الله. ومنها: الحذف في مواضع، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}؛ أي: أكلها. ومنها: الإسناد إلى السبب في قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}؛ لأنّ البغض يكون سببًا في الاعتداء. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}. المناسبة قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة الخبائث التي حرمت عليهم .. أردف هنا بذكر الطيبات التي أحلت لهم؛ لإكمال دينهم بذكر الحلال والحرام. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما افتتح السورة بالأمر بإيفاء العهود، وَذَكَرَ تحليلًا وتحريمًا في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسيمة ومهماتها للإنسان، وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض .. استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربّه سبحانه وتعالى. ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تكمن إلا بالطهارة .. بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنّما هي بالقيام .. عبر بلفظ {إِذَا قُمْتُمْ}؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وعبارة المراغي هنا (¬2): واعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له بالعهد الأول، وبيَّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة في الطعام والنكاح .. طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬3) طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات .. ذكرنا بعهده وميثاقه علينا، وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم به مخلصين. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬4) أمر عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم، وتحريم ما يضرّهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

من الطعام إلا في حال الضرورة، ثم ذكر حل طعام أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم .. ذكر هنا ما ينبغي أن يكون من معاملتهم مع من سواهم، سواء أكانوا أعداء أم أولياء، ثم ذكر وعده لعباده الذين عملوا الصالحات، ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات، وختمها بذكر المنة الشاملة والنعمة الكاملة، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم، وكانوا على وشك الإيقاع بهم، ولكن رحمهم، وكبت أعداءكم وردهم صاغرين، ليكون الشكر أتم، والوفاء ألزم. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها (¬1): لما ذكر تعالى أوامر ونواهي .. ذكر وعد من اتبع أوامره واجتنب نواهيه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر ما لِمَنْ آمن .. ذكر ما لِمَنْ كفر. أسباب النزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه (¬2) الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذن عليه، فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب، فقال: قد أذنا لك، قال: "أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب" فنظروا، فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع: "لا تدع كلبًا بالمدينة إلا قتلته" فأتاه الناس، فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ...} الآية. وروى ابن جرير عن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن أبي خيثمة، وعويمر بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلتْ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول.

أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}. قال ابن الجوزي (¬1): وأخرج الحاكم في "صحيحه" حديث أبي رافع، قال البغوي: فلما نزلتْ هذه الآية .. أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين - وهو زيد بن الخيل الذي سمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير - قالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت هذه الآية، قال البغوي: وهذا القول أصح في سبب نزولها. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري من طريق مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش .. انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم {فَتَيَمَّمُوا}، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، وفي رواية فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والحديث أخرجه البخاري في مواضع، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والحاكم، وابن جرير. ¬

_ (¬1) الخازن.

وروى الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا .. خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي، حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: بنيَّة في كل تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ} الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال (¬1): الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة، أو بني النضير، وذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر عثمان وعليًّا دخلوا عليهم - وقد كانوا عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الدِّيات - فطلب منهم مالًا قرضًا لدية رجلين مسلمين، أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همو بالفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه، فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه - صلى الله عليه وسلم - بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، فقام في الحال مع أصحابه، وخرجوا إلى المدينة. والثاني: عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب، وهم بنو ثعلبة وبنو محارب، أرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في غزوته، فأرسلوا إليه أعرابيًّا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل منزلًا، وتفرق عنه أصحابه يستظلون في شجر العضاه، وعلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشجرة، فجاء أعرابي وسل سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله" - قالها ثلاثًا -، فأسقطه جبريل من يده، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "من يمنعك مني"؟ فقال: لا أحد، ثم صاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، فأخبرهم، ولم يعاقبه. وفي رواية: أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن ¬

_ (¬1) المراح.

[4]

محمدًا رسول الله. وعلى هذين القولين فالمراد من قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك .. لكان من أعظم المحن. والثالث: أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وهي السابعة من مغازيه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلمَّا صلوا .. ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم، وقالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم، فقيل لهم: إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة، فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة الخوف. التفسير وأوجه القراءة 4 - وقوله: {يَسْأَلُونَكَ}: شروع منه في بيان ما أحله الله لهم، بعد بيان ما حرمه عليهم؛ أي: يسألك المؤمنون يا محمد {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}؛ أي: أي شيء أحل لهم؟ أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالًا، ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم؟ والسائلون هم: عاصم بن عدي، وسعد بن أبي خيثمة، وعويمر بن ساعدة، كذا قاله عكرمة كما مر في مبحث أسباب النزول، أي: يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام؛ {قُلْ} لهم يا محمد في الجواب {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}؛ أي: أحل الله سبحانه وتعالى لكم أيها المكلفون المستلذات والمشتهيات التي تستطيبها النفوس السليمة الفطرة، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها، فتأكلها باشتهاء واستلذاذ مما لم يرد بتحريمه نص من كتاب، أو سنة، وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى بها غذءًا صالحًا، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضرّه غالبًا، فما حرّمه الله تعالى في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة للفطرة المعتدلة، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها، وما ماثلها من فرائس السباع، والمترديات،

والنطائح، والدم المسفوح، وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهماكه في أكل القاذورات. والخلاصة: أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاقب {و} أحل لكم أيضًا {ما علمتم من الجوارح}؛ أي: صيد ما علمتموه من الكواسب، وسُمِّيت جوارح؛ لأنها تجرح الصيد؛ أي: من الحيوان الذي يكسب لكم بالاصطياد من سباع البهائم والطير؛ كالكلب، والباز، حال كونكم {مُكَلِّبِينَ}؛ أي: معلّمين الجوارح كيفية الاصطياد، جمع مكلب، والمكلب: معلم الكلاب لكيفية الاصطياد، ويقرأ {مكلبين} - بالتشديد والتخفيف - يقال: كلبت الكلب وأكلبته فتكالب، أي: علمته فتعلم الاصطياد، ذكره أبو البقاء، وحالة كونكم {تُعَلِّمُونَهُنَّ}؛ أي: تعلمون تلك الجوارح الاصطياد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ} من طرق التعليم، ومن الحيل في الاصطياد، والجملة الفعلية حال ثانية من ضمير علمتم، والمقصود من التكرار: المبالغة في اشتراط التعليم، وأن يكون من يعلم الجوارح نحريرًا في علمه، موصوفًا بالتأديب. قال أبو حيان (¬1): وأقصى غاية التعليم: أن يشلى فيستشلى، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وقوله: {مُكَلِّبِينَ}؛ أي: معلمين، حال مؤكدة لعلمتم، وفائدة هذه الحال - وإن كانت مؤكدة فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم مؤتمرًا بالتعليم، حاذقًا فيه، موصوفًا به، واشتقت هذه الحال من الكلب، وإن كانت جاءت غايةً في الجوارح على سبيل التغليب؛ لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه؛ لكثرة ذلك في جنسه. وقرأ ابن عباس وابن الحنفية (¬2): {وما عُلِّمتم} مبنيًّا للمفعول، أي: من أمر الجوارح والصيد بها، وقرأ أيضًا: {مُكْلِبين} من أكلب. وفعل وأفعل قد يشتركان، وظاهر قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} حصول التعليم من غير اعتبار عدد، وكان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

أبو حنيفة لا يجد في ذلك عددًا، وقال أصحابنا: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات .. فقد حصل له التعليم، وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة .. فقد صار معلَّمًا. وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}؛ أي: إن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم، إنّما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكرًا، بحيث قبلتم العلم، فكذلك الجوارح، يصير لها إدراك ما وشعور بحيث يقبلن الائتمار والانزجار، وفي قوله: {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان، ومفعول علم وتعلمونهن الثاني محذوف، تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم، لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله؛ لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم، والدليل على ذلك الخطاب في {عَلَيْكُمْ} في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وغير المعلم إنما يمسك لنفسه، وقوله: {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}؛ أي: من الأدب الذي أدبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر .. فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. انتهى. والفاء في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} تفريعية (¬1)؛ لأنّ الجماة مفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، و {مِنْ} في قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} للتبعيض؛ لأنّ بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد، والعظم، والفرث، وما أكل الكلب منه؛ أي: كلوا بعض ما أمسكنه لكم، وهو الذي لم يأكلن منه. أي: فكلوا (¬2) من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم؛ أي: تصيده لأجلكم، فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه، فإنْ أكلت منه .. فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور؛ لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السالفة. {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}؛ أي: سموا الله على ما علمتم من الجوارح عند إرساله إلى الصيد؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أي: قولوا: بسم الله عنده، وإن نسيتم .. فلا حرج عليكم، فعلى هذا (¬1) يكون الضمير في عليه عائدًا إلى {ما علمتم من الجوارح}؛ أي: سموا الله عليه عند إرساله، وفي: الضمير عائد إلى ما أمسكن عليكم، والمعنى: سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وقيل: يحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الأكل، يعني: واذكروا اسم الله عليه عند الأكل، وسيأتي بيان هذه في سورة الأنعام عند قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إن شاء الله تعالى. والتسمية واجبة عند أبي حنيفة ومستحبه عند الشافعي. وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه، وإن خالط كلابًا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وفي رواية: "فإنك لا تدري أيها قتل"، وسألته عن صيد المعراض فقال: "إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل". متفق عليه. وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله إنَّا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب: فإن وجدتم غيرها .. فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها .. فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل". أخرجه أبو داود بسند جيد. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ولا تقدموا على مخالفته، فتأكلوا من صيد الجوارح الغير المعلمة، أو مما تمسك عليكم من ¬

_ (¬1) الخازن.

[5]

صيدها، وأمسكنه على نفسها، أو تطعموا ما لم يسم اسم الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان، فإن الله تعالى قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه أيما اجتناب {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} عندما يحاسب عباده يوم القيامة، وأعلموا أن الله تعالى لا يضيع شيئًا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها، وتجازون بها في الدنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد، فما أجدر حسابه أن يكون سريعًا، ففيه تخويف لمن خالف أمره، وفعل ما نهاه عنه. وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة، وشدد في التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك .. 5 - بين حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، لأنَّهم لما كانوا في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين، كان هذا مظنة التشديد في مؤاكلتهم ومناكحتهم؛ كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب، ونكاح نسائهم، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين في ذلك، بل تحل لنا مؤاكلتهم، ونكاح نسائهم فقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}؛ أي: الآن أحل لكم المستلذات المشتهيات لأهل المروء والأخلاق الجميلة على سبيل التفصيل، بعد أن كان حلالًا لكم بالإجمال، وصار حكمها مستقرًّا ثابتًا. وعبارة الخازن: وإنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد، كأنَّه قال: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية، أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم أنه تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة .. فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات، وقيل: ليس المراد باليوم يومًا معينًا.

وفي "تنوير المقباس": {الْيَوْمَ}؛ أي: يوم الحج {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}؛ أي: المذبوحات من الحلال {وَطَعَامُ الَّذِينَ}؛ أي: ذبائح الذين {أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: أعطوا الكتاب التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى {حِلٌّ لَكُمْ}؛ أي: حلال لكم ما كان حلالًا بالملة، فيحل لنا أكل ذبائح من تمسكوا بالتوراة والإنجيل إذ حلت المناكحة بيننا وبينهم، فحل الذبيحة تابع لحل المناكحة دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان. والمراد بالطعام هنا الذبائح؛ لأن غيرها حلال بأصله، كالحبوب والثمار والفاكهة والخبز وما لا يحتاج إلى ذكاة، فإنه لا اختلاف في حلها باختلاف حال مالكها ومباشرها، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى كما مر آنفًا. وفي هذه الآية: دليل (¬1) على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي في ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول، وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاووس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأمَّا مع عدم العلم فقد حكى الطبري، وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله - صلى الله عليه وسلم - من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية، وهو في "الصحيح"، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر، وعلم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في "الصحيح" أيضًا، وغير ذلك، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وأمَّا المجوس: فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك. {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}؛ أي: وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه. وفائدة (¬1) ذكر ذلك: بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، وليس كذلك إباحة المناكحة، فذكره للتمييز بين النوعين، وقال الشوكاني: وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر العفائف من المؤمنات إذا أعطيتموهن مهورهن، وإنما خص المحصنات بالذكر - وهن الحرائر أو العفائف - ليحث المؤمنين على تخيير النساء، ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين، لا لنفي نكاح من عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق عند توفر الشرائط، وكذا نكاح غير العفيفات إذا تابت وحسنت توبتها. روى (¬2) طارق بن شهاب أن رجلًا أراد أن يزوج أخته فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت، فأتى عمر، فذكر ذلك له منها فقال: أليس قد ثابت؟ قال: بلى. قال: فزوجها. وقرأ الشعبي: بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدًا لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من الذين أعطوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؛ أي: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتهم مهورهن، وتقييد الحل بإيتاء المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه في الحل، والتقييد بالحرائر لإخراج الإماء الكتابيات لأنه لا يجوز نكاحها إلا عند أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وعبارة المراح هنا: وتقييد (¬1) الإحلال بإعطاء المهور يدل على تأكد وجوبها، وعلى أن الأكمل بيانها لا هو شرط لصحة العقد، إذ لا تتوقف على دفع المهر، ولا على التزامه. ومن تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها .. كان في صورة الزاني، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات، انتهت، حالة كونكم {مُحْصِنِينَ}؛ أي: مريدين للتزوج والإعفاف لهن ولكم {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}؛ أي: غير معلنين ومجاهرين بالزنا بهن {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}؛ أي: ولا مسرين بالزنا بمن لها حليل، أو متخذي صواحب تسرون بالزنا بهن؛ أي: ولا جاعلي صواحب منهن تزنون بهن سرًّا. وعبارة الخازن هنا: يعني ولا منفردين ببغيّ واحدة قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده، فقد حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا، واتخاذ الصديق وهو الخدن، وأحله على جهة الإحصان، وهو التزوج بعقد صحيح. والمحصنون الأعفاء عن الزنا، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة، مجاهرين بها، والمتخذوا الأخدان: الذين يأتونا سرًّا بالاختصاص بخدن من الأخدان، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة؛ أي: هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلًا، أو التزمتم بها حال كونكم أعفاء عن الزنا جهرًا وسرًّا، إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنًا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر، يجعله في حصن يمنعه من الفاحشة على أي وجه كانت، فلا يزني جهرة ولا سرًّا باتخاذ صاحبة خاصة به، ولا تكون المرأة كذلك. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ}؛ أي: ومن يجحد وينكر ما أمر الله به من توحيده، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند الله تعالى {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}؛ أي: فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا، وخاب وخسر في الدنيا والآخرة، قيل في معنى الآية: ومن ينكر بشرائع الإسلام وتكاليفه التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها .. فقد حبط عمله ¬

_ (¬1) المراح.

[6]

الصالح الذي عمله قبل ذلك، وبطل ثوابه، سواء عاد إلى الإسلام أم لا، وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح، وهو إيمان الإذعان والعمل. روى ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله - عز وجل -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} .. الآية. فأحل الله تزوجهن على علم. انتهى. والمقصود من الآية: تعظيم شأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، والتغليظ على من خالف ذلك. وقرأ ابن السميقع {حبَط} بفتح الباء. {وَهُوَ}؛ أي: ذلك الكافر {فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: من المغبونين بذهاب الجنة ودخول النار إذا مات على ذلك الكفر، ولم يعد إلى الإيمان بذلك قبل الموت، وهذا الشرط لا بد منه؛ لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت .. قبلت توبته وصح إيمانه. 6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة تعبيرًا بالمسبب الذي هو القيام عن السبب الذي هو الإرادة على حد قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}؛ أي: إذا أردت قراءته، وجمور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثًا؛ أي: إذا أردتم فعل الصلاة والقيام إليها وأنتم محدثون .. فاغسلوا وجوهكم ... إلخ، رفعًا للحديث الأصغر، وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول. فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله؟ فقال: "عمدًا فعلته يا عمر". وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث. وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضؤون لكل صلاة، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة غالبًا،

وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك. ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة، وهو الأفضل، وإنما يجب على من أحدث، وآخر الآية يدل على ذلك فإنَّه ذكر الحديثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما، فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى. والخلاصة: أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة. وفروض الوضوء المذكورة في هذه الآية أربعة: الأول: غسل الوجه، وذكره سبحانه وتعالى بقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}؛ أي: أمروا (¬1) الماء عليها، ولا حاجة إلى الدلك خلافًا لمالك. والغَسل بالفتح: إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه: جمع وجه وحده: من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللَّحْيَيْن طولًا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضًا؛ لأنَّه مأخوذ من المواجهة الحاصلة بما ذكر، فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين، والشارب والعنفقة، وإنْ كانت كثة، وأما اللحية: فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها .. لا يجب غسل ما تحتها، ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة؛ والخفيفة هي ما ترى بشرتها من خلالها في مجلس التخاطب، والكثة بخلافها. واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية (¬2)، وحجته أن الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويًّا، ولما روي في "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى". والوضوء من الأعمال، ويجب أن يكون منويًّا، وإنَّما قلنا: إن الوضوء مأمور به، وإنَّه من أعمال الدين؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والإخلاص عبارة عن النية ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

الخالصة، ومتى كانت النية الخالصة معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبرًا. واستدل أبو حنيفة على عدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية، قال: إن النية ليست شرطًا لصحة الوضوء؛ لأنَّ الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية، ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وأجيب عنه بأنا إنَّما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والفرض الثاني من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: غسل اليدين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {و} اغسلوا {أيديكم إلى المرافق} والأيدي جمع يد، وحدها في الوضوء: من رؤوس الأصابع إلى المرفق. والمرفق بكسر أوله هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد؛ أي: مجتمع الذراع والعضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل، وحجتهم أن كلمة {إلى} هنا بمعنى (مع) نظير قوله تعالى: {وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}؛ أي: مع أموالكم. ويعضده من السنة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه توضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. ونقل عن مالك والشعبي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري: أنَّه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل، واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك وقد سئل عن قول الله عز وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فقال: الذي أمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما. وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجًا عنه كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}؛ ولأن الحد لا يدخل في المحدود، فوجب أن

لا يجب غسل المرفقين في الوضوء. وأجيب عنها بأنَّ الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، كما في هذه الآية؛ لأنَّ المرفق من جنس اليد، وإذا لم يكن من جنس المحدود .. لم يدخل فيه، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لأنَّ النهار من غير جنس الليل، فلا يدخل فيه. والثالث من فروض الوضوء المذكورة في القرآن: مسح الرأس، وذكره بقوله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جمع رأس والرأس معروف. وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي: يكفي أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة. وقال مالك: يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره. وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربعه؛ لأن المسح إنَّما يكون باليد وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب، وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه. والمراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس، فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما يروى عن الصغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) متفق عليه. وقدرت الناصية بربع رأس. والفرض الرابع من الفروض المذكورة في القرآن: غسل الرجلين، وذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {و} اغسلوا {أرجلكم إلى الكعبين} أي مع الكعبين. والكعبان: ها العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين ويؤيده عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة. قد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا لم يغسل عقبة فقال: "ويل للأعقاب من النار". وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا،

ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الرجلين، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين، وقال الحافظ ابن حجر: قد صرّح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه. والخلاصة: أن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة، المتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة. وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه (¬1): {وأرجلِكم} بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه والكسائي ويعقوب: {وأرجلَكم} بالنصب. أما على قراءة الجر فهو إما معطوف على الرؤوس، فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك من الأرجل، وإنَّما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها؛ لأنها موضع صب الماء كثيرًا، والمراد غسلها، أو مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ فعل محذوف، تقديره: وافعلوا بأرجلكم غسلًا، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنَّه منصوب في المعنى، عطفًا على المغسول؛ لأنَّ الجر بالجوار لا يرتكب إلا عند أمن اللبس، وهنا لا يؤمن اللبس، وأيضًا شرطه أن يكون بدون عاطف، والعاطف هنا موجود. وأمَّا على قراءة النصب فهو إمَّا معطوف على الرؤوس؛ لأنه منصوب المحل، والعطف على المحل جائز كالعطف على اللفظ كما هو مشهور عند النحاة، وإمّا معطوف على وجوهكم، فظهر لنا أن العامل في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} أحد شيئين، إمَّا قوله: {وَامْسَحُوا}. وإمَّا قوله: {فَاغْسِلُوا} ولكن الأولى إعمال الأقرب منهما، حتى إن ¬

_ (¬1) المراح.

بعضهم لا يجوز أن يكون العامل {فَاغْسِلُوا} لما يلزم عليه من الفصل بين المتعاطفين بجملة مبينة حكمًا مستقلًا ليس فيها تأكيد للأول، وليست هي اعتراضية، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} هو قوله: {وَامْسَحُوا} فتدل هذه الآية على وجوب مسح الأرجل، لكن وردت أحاديث صحيحة كثيرة بإيجاب غسل الرجل، وهو مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب الرجوع إليه، ويقرأ في الشذوذ بالرفع على الابتداء؛ أي: وأرجلكم مغسولة أو كذلك. فصل قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة، وهي: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء، فصارت فرضًا خامسًا، وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله تعالى في هذه الآية، فيغسل وجهه أولًا، ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، فصار الترتيب فرضًا سادسًا. وذهب أبو حنيفة إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب، واحتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية، وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، ثم بمسح الرأس، ثم بغسل الرجلين، فوجب أن يقع الفعل مرتبًا كما أمر الله تعالى، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حجة الوداع "أبدأ بما بدأ الله به". وهذا الحديث وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة، فإنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء ما وردت إلا مرتبة، كما ورد في نص الآية، ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسًا أو غير مرتب، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما أمر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب، واحتج أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضًا وذلك: أن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص، وذلك غير جائز. وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ إلا

مرتبًا كما ذكر، وبيان الكتاب إنَّما يؤخذ من السنة. فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه .. غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه. زاد في رواية بعد قوله "فأقبل بيديه وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". وعن عبد خير قال: أتانا علي كرم الله وجهه - وقد صلى - فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى! ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثًا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا، فمضمض ونثر من كف يأخذ منه، ثم غسل وجهه ثلاثًا، وغسل يده اليمنى ثلاثًا، وغسل الشمال ثلاثًا، ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمين ثلاثًا، ورجله الشمال ثلاثًا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو هذا. أخرجه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ (فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثلاثًا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو قال: ظلم وأساء). أخرجه أبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه

ظاهرهما وباطنهما). أخرجه الترمذي وصححه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا لم يغسل عقبه فقال: "ويل للأعقاب من النار". متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلًا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ارجع وأحسن وضوءك"؟ قال: فرجع فتوضأ ثم صلى. أخرجه مسلم. وعن خالد رضي الله عنه عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها فأدركنا - وقد أرهقتنا الصلاة - ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادانا بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين أو ثلاثًا. متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة. أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين. أخرجه أبو داود والترمذي وقال: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثًا. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كان علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يحدث الناس، فأدركت من قوله: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة فقلت ما أجود هذا، فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إنِّي قد رأيتك جئت آنفًا؟ قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن

محمدًا عبده ورسوله, إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه .. خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء, فإذا غسل يديه .. خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه .. خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب". أخرجه مسلم. وعن نعيم بن عبد الله بن المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". متفق عليه. وفي رواية قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد, ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد, ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ, وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء, فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله". وفي راوية لمسلم قال: سمعت خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ على طهر .. كتب الله له به عشر حسنات". أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أبو داود وابن ماجه. {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا}؛ أي: أصحاب جنابة وحدث أكبر؛ أي: وإنْ أصابتكم جنابة إمَّا بخروج المني، على أي صفة كان من احتلام أو غيره، أو بالتقاء

الختانين، وإن لم يكن معه إنزال، فختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وشفرا المرأة محيطان بثلاثة أشياء، ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر، ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر، وهي مخرج البول لا غير، وموضع ختانها وهو ثقبة البول، وهناك جلدة قائمة مثل عرف الديك، وقطع هذه الجلدة هو ختانها، فإذا غابت الحشفة .. حاذى ختانها ختانه، وهذا هو معنى التقاء الختانين. أي: وإن كنتم أيها المؤمنون مصابين بالجنابة المذكورة وأردتم القيام إلى الصلاة {فَاطَّهَّرُوا}؛ أي: تطهروا من الجنابة بغسل البدن كله قبل الدخول في الصلاة التي أردتم القيام إليها، والمرأة كالرجل في ذلك كله. وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده). وقرأ الجمهور: {فَاطَّهَّرُوا}. تشديد الطاء والهاء المفتوحتين وأصله تطهروا فأدغمت التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل، وقرىء: {فاطهروا} بسكون الطاء والهاء مكسورة من اطهر رباعيًّا؛ أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة للتعدية. ولما بين الله سبحانه وتعالى وجوب الطهارتين: الوضوء والغسل، وكان المسلم لا بد له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك في اليوم، ولا بد له من الغسل في كل أسبوع مرة أو أكثر غالبًا .. بين الرخصة في تركهما عند المشقة أو العجز؛ لأن الدين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}؛ أي: وإنْ كنتم مرضى مرضًا يضره الماء أو يشق فيه استعمال الماء جلديًّا كان كالجدري والجرب وغيرهما من القروح والجراح أو غير جلدي كالباطني {أَوْ} مستقرين {عَلَى سَفَرٍ} طويلًا أو قصيرًا، طاعة أو غيرها، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل {أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}؛ أي: المكان المنخفض الذي تقضى فيه حاجة الإنسان، التي لا بد منها، ويراد به شرعًا قضاء الحاجة من بول أو غائط؛ أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها، كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بذكر أو غيره، المراد

بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر، والموجب للوضوء يسمى الأصغر {فَلَمْ تَجِدُوا} يا معشر المسافرين والمحدثين حدثًا أصغر أو أكبر {مَاءً} بعد طلبه {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}؛ أي: فاقصدوا ترابًا طاهرًا {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} بالضربة الأولى {وَأَيْدِيكُمْ} بالضربة الثانية {مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الصعيد. وقد تقدم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء وعلى التيمم وعلى الصعيد، ووجه التكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة، ومن في قوله: {مِنْهُ} لابتداء الغاية، وقيل للتبعيض وفي قوله: {مِنْهُ} دليل على أنَّه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون فيما شرعه لكم في هذه الآية، وفي غيرها {مِنْ حَرَجٍ}؛ أي: حرجًا ما وضيقًا؛ أي: أدنى ضيق وأقل مشقة بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء؛ لأنَّه تعالى غني عنكم، رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والصلاح لكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ} الله سبحانه وتعالى {لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة، فتكونوا أنظف الناس أبدانًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصحهم أجسادًا، وأرقاهم أرواحًا. وقيل المعنى (¬1): ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى؛ لأنَّ الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة - وكانت طاهرة - لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة، فلمَّا انقاد لهذا التكليف .. كان ذلك الانقياد محض إظهار العبودية، فأزال هذا الانقياد عن قلبه آثار التمرد، فكان ذلك طهارة للقلوب والأبدان، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فيجمع (¬2) لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد. والصلاة تطهر الروح وتزكي النفس، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعود المصلي مراقبة ربه في السر والعلن، وخشيته حين الإساءة، والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

التي جعلها الله شرطًا للدخول في الصلاة، ومقدمة لها، تطهر البدن وتنشطه، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها، فما أجل نعم الله على عباده! وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه! ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أو المعنى {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ببيان كيفية الطهارة، وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا، وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، أو بالترخيص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض، فتستدلوا بذلك على أنَّه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة، بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: وعدكم ذلك لكي تديموا شكره على نعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية. فصل في ذكر الحكمة في شرع الوضوء والغسل للوضوء والغسل فوائد أهمها (¬1): 1 - أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطًا وهمة، ويزيل ما يعرص للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث، أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها، ويعطيها حقها من الخشوع؛ ومراقبة الله تعالى، إذ المشاهد أنَّه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسيمة غايتها، بالوقاع أو الإنزال، حصل تهيج عصبي كبير، يعقبه فتور شديد، بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله. 2 - أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم ترى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية في المبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادًا؛ وأقلهم أمراضًا؛ لأنَّ دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفي الأسباب التي تولد جراثيم - أصول - الأمراض عند الناس. ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

3 - تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيشون معهم، إذ من كان نظيف البدن والثياب .. كان جديرًا بحضور كل مجتمع، ولقاء أشراف الناس وفضلائهم، ومن كان وسخًا قذرًا فإنَّه يكون محتقرًا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلًا لأن يحضر مجالسهم، ويشعر في نفسه الضعة والهوان. ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة، لأنّه يوم يجتمع فيه الناس في المساجد لعبادة الله تعالى. روى مالك والشافعي وأحمد والبخارى ومسلم من طرق عدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، أي: بالغ ومكلف. 7 - وبعد أن بين سبحانه وتعالى هذه الأحكام، وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام، ذكرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} التي هي نعمة الإِسلام؛ أي: وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارًا متباغضين، فأصبحتم بهداية الدين إخوانًا متحابين. وقيل المعنى؛ أي: تأملوا في جنس نعمة الله تعالى عليكم، وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات، والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله، فمتى كانت النعمة على هذا الوجه .. كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}؛ أي: وتذكروا العهد الذي عاهدكم به على لسان رسوله حين بايعتم رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، المحبوب والمكروه والعسر واليسر، حين قلتم له: سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك فيه، فلا نعصيك في معروف، وكل ما جئتنا به فهو معروف. مثل مبايعته - صلى الله عليه وسلم - مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة، ومبايعته - صلى الله عليه وسلم - عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما. وكل نبي بعث في قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة، وقبول الدعوة والدخول في الدين، يعد قبولًا لهذا العهد، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابًا لنا، كما عده السلف من الصحابة خطابًا لهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها المؤمنون في نسيان

[8]

نعمته، ونقض ميثاقه، فلا تنقضوا عهده، ولا تخالفوا ما أمركم به، وما نهاكم عنه، سواء أكان في هذه الآيات أم في غيرها. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بخطرات القلوب فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق، من نية الوفاء به، أو عدم الوفاء، وما تنطوي عليه السرائر، من الإخلاص أو الرياء، فلا تعزموا بقلوبكم على نقض تلك العهود؛ فإنَّه إنْ خطر ببالكم فالله يعلم ذلك، وكفى بالله مجازيًا. 8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}؛ أي: كونوا مبالغين في القيام بالحق والعدل في أنفسكم، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخلصين {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى في كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق ابتغاء مرضاة الله تعالى من غير اعتداء على أحد {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}؛ أي: شاهدين بالعدل والحق والصدق بلا محاباة لمشهود له، ولا لمشهود عليه، لأجل قرابة أو مال أو جاء، ولا تركه لفقر أو مسكنة أو عداوة، فالعدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة لأي سبب .. زالت الثقة من الناس، وانتشرت المفاسد، وتقطعت روابط المجتمع، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منه إلى العدل، فيذيقوهم الوبال والنكال، وتلك سنة الله في حاضر الأمم وغابرها، ولكن الناس لا يعتبرون، والشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو عن إظهار الحاكم الحق بالحكم به، أو إظهاره بالإقرار به لصاحبه، والتكاليف محصورة في نوعين: تعظيم أمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله. فقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}. إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله وقوله: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}؛ أي: لا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ}؛ أي: شدة بغضكم لقوم مشركين {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}؛ أي: على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل فعله، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم، أو المعنى: ولا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم، وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم، وإن أساؤوا عليكم، ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لهم على ترك العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا

[9]

هم أصحاب حق، أو الحكم لهم بذلك؛ لأنَّ الله تعالى أمر جميع الخلق بأنْ لا يعاملوا أحدًا إلا على سبيل الإنصاف، وترك الاعتساف، فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة، ويجعله فوق الأهواء، وحظوظ النفس، وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما {اعْدِلُوا}؛ أي: افعلوا العدل، والحق أيها المؤمنون في عدوكم ووليكم {هُوَ}؛ أي: العدل المدلول عليه بقوله: اعدلوا {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؛ أي: إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى، أو إلى الاتقاء من عذاب الله تعالى، أو إلى التقوى التي أمرتم بها غير مرة. وهذه (¬1) الجملة مؤكدة للجملة السالفة، كرره للعناية بأمر العدل، وأنَّه فريضة لا هوادة فيها؛ لأنّه أقرب لتقوى الله تعالى، والبعد عن سخطه، وتركه من أكبر المعاصي، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوض نظم المجتمعات وتقطع الروابط بين الأفراد، وتجعل بأسهم شديدًا. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى فيما أمركم به ونهاكم عنه {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم، فيجازيكم عليها. والمعنى: واتقوا سخطه وعقابه؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، ظاهرها وباطنها، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل، وقد مضت سنته في خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل في الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد، وفي الآخرة الخزي يوم الحساب. 9 - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بالعدل والتقوى وبشرهم بأن يكون {لَهُمْ} في الآخرة {مَغْفِرَةٌ}؛ أي: ستر لذنوبهم ومحو لسيئاتهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}؛ أي: ثواب جسيم هو الجنة والرضوان منه تعالى، وهذه الجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لسؤال مقدر، فكأنه قيل وأي شيء وعدهم؟ فقال المجيب لهم: مغفرة وأجر عظيم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

فالإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة، فيغلب عليها حب الحق والخير، وتكون أهلًا للوصول إلى عالم القدس والطهر، والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح، فضلًا من الله ورحمة من لدنه. 10 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا بوحدانية الله تعالى وبرسالة رسله، ونقضوا عهوده ومواثيقه. والكفر هنا هو الكفر بالله ورسله، لا فرق في ذلك بين الكفر بالجميع وبين الكفر بالبعض {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} القرآنية، وبما جاءت به الرسل من عنده تعالى {أُولَئِكَ} الكافرون المكذبون {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ أي: ملازموها ومصاحبوها أبدًا لا يفارقونها. وهذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار؛ لأنَّ المصاحبة تقتضي الملازمة، كما يقال: فلان صاحبُ فلان، يعني ملازم له، وهذه الجملة مستأنفة، أتى بها جمعًا بين الترغيب والترهيب، إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار. وآيات الله قسمان: آياته المنزلة على رسله وآياته التي أقامها في الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}؛ أي: أنَّ هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب في نار عظيمة، أعدَّها الله تعالى لمن كفر وكذب بآياته؛ لأن نفوسم قد فسدت، وسوء حالهم قد ران على قلوبهم فأصبحوا صمًّا عميًا لا يبصرون. 11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه {اذْكُرُوا}؛ أي: تذكروا {نِعْمَتَ اللَّهِ}؛ أي: إنعامه تعالى عليكم، بدفع بأس العدو عنكم بالشكر عليها {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ}؛ أي: إذ قصد قوم من الكفار {أَنْ يَبْسُطُوا} ويمدوا {إِلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {يْدِيَهُمْ} بالقتل والبطش والإهلاك، يقال: بسط إليه يده، إذا بطش به، وبسط إليه لسانه، إذا شتمه، ومعنى بسط اليد مدها إلى المبطوش به {فَكَفَّ} الله سبحانه وتعالى {أَيْدِيَهُمْ} وصرفهم {عَنْكُمْ} وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم من الضرر. روي من طرق متعددة أن الآية نزلت في رجل من قبيلة هم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أرسله قومه لذلك، وكان

بيده سيف وليس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سلاح، وكان منفردًا. وفي رواية أخرى: إن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علقه في شجرة وقت الراحة، فأخذه الرجل، وجعل يهزه ويهم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم سقط في يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد، ثم صاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، فأخبرهم، وأبى أن يعاقبه، كما مر ذلك كله في أسباب النزول. وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنَّه لو حصل ذلك .. لكان من المحن الكبرى التي تصحب المسلمين. وقيل: إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإِسلام، وعظمة شوكة المسلمين، فبعد أنْ كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم، بدل الحال غير الحال، وأصبحوا أعزة بعد الذلة، وغالبين بعد أن كانوا مقهورين، فهو سبحانه وتعالى يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها، سواء في ذلك حادثة المحاربي وأمثالها؛ لأن حفظه أولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدوها لمن بعدهم قولًا وعملًا. ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه في التأسي بالسلف في القيام بما جاء به الدين، من الحق والعدل والبر، ومعنى قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}؛ أي: شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء، من قتل ونهب، فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم، فلم يستطيعوا تنفيذ ما هموا به {وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه؛ أي: كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحدًا في إقامة طاعات الله تعالى {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم: دينهم ودنياهم، فإنَّه تعالى الكافي لإيصال الخير ودفع الشر. والمعنى: واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بمن يكون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه، والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره، وتسوء عاقبته، لا على

أوليائكم وحلفائكم؛ لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب، ويجيبون داعي اليأس إذا اشتد اليأس، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم، ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا هم أن ييأس .. تذكر أن الله تعالى وليه، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته ويفر منه اليأس فينصره الله، ويخذل أعداءه، كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم، وقلتهم وفقرهم وتألب (¬1) الناس كلهم عليهم. الإعراب {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة. {مَاذَا}: (ما): اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. (ذا): اسم الموصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مفعول ثان لِـ {يَسْأَلُونَكَ} {أحل}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ هـ، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}: فعل ونائب فاعل. {لَكُمُ}: متعلق بـ هـ، والجملة في محل النصب مقول القول {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع معطوف على {الطَّيِّبَاتُ} ولكنه على حذف مضاف كما مر في بحث التفسير تقديره: وصيد ما علمتم. {عَلَّمْتُمْ}: فعل وفاعل ومفعولاه محذوف تقديره: وما علمتموه الاصطياد. {مِنَ الْجَوَارِحِ}: جار ومجرور حال من المفعول الأول الذي هو الضمير المحذوف تقديره: وما علمتموه حالة كونه كائنًا من الجوارح؛ أي: من الحيوان الكاسب لكم، وجملة (علم) صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف. ¬

_ (¬1) يقال: تألب الناس على كذا إذا تجمعوا واتفقوا عليه اهـ م.

وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} في (ما) هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف؛ أي: ما علمتموه، ومحلها الرفع عطفًا على مرفوع ما لم يسم فاعله؛ أي: وأحل لكم صيد أو أخذ ما علمتم، فلا بدّ من تقدير هذا المضاف. والثاني: أنها شرطية، فمحلها رفع بالابتداء والجواب قوله: {فَكُلُوا} وإنَّما دخلت الفاء لكون الجواب جملة طلبية. والثالث: أنَّها موصولة أيضًا، ومحلها الرفع بالابتداء، والخبر قوله: {فَكُلُوا} وإنَّما دخلت الفاء تشبيهًا للموصول باسم الشرط وقوله: {مِنَ الْجَوَارِحِ} في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: الموصول، وهو ما، والثاني: أنَّه الهاء العائد على ما الموصولة، وهو في المعنى كالأول، قال الشيخ: وفائدة هذه الحال وإنْ كانت مؤكدة لقوله: {عَلَّمْتُمْ} فكان يستغنى عنها الإشارة إلى أن يكون المعلم ماهرًا في التعليم حاذقًا. اهـ. "سمين". {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. {مُكَلِّبِينَ}: حال من التاء في علمتم، ومفعولاه محذوفان تقديرهما: مكلبين إياهن الاصطياد؛ أي: معلمين {تُعَلِّمُونَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول {مِمَّا}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لتعلمون، ومن فيه تبعيضية {عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: علمكم الله إياه، وجملة {عَلَّمَكُمُ}: صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، وجملة {تُعَلِّمُونَهُنَّ}: في محل النصب حال ثانية من فاعل علمتم. وفي "الفتوحات" قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} في هذه الجملة أربعة أوجه (¬2): أحدها: أنَّها جملة مستأنفة. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الجمل.

الثاني: أنها جملة في محل نصب على أنها حال ثانية من فاعل علمتم، ومنع أبو البقاء ذلك لأنَّه لا يجيز للعامل الواحد أن يعمل في حالين. الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في مكلبين فتكون حالًا من حال، وتسمى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة؛ لأن معناها مفهوم من علمتم ومن مكلبين. الرابع: أن تكون جملة معترضة، وهذا على جعل ما شرطية أو موصولة خبرها {فَكُلُوا} فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه، أو بين المبتدأ وخبره. اهـ "سمين" انتهت. {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}. {فَكُلُوا} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه أحل لكم صيد ما علمتم وأردتم بيان كيفية الانتفاع به، وكيفية أكله .. فأقول لكم كلوا، {كلوا}: فعل وفاعل. {مِمَّا}: جار ومجرور في محل النصب مفعول به لِـ {كلوا} و (من) فيه تبعيضية. {أَمْسَكْنَ}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أمسكنه. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ هـ، وجملة أمسكن صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، وجملة (كلوا): في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وكون الفاء فصيحة إنَّما يتمشى على القول بأن ما علمتم معطوف على الطيبات، لا على الوجهين الأخيرين من الأوجه الثلاثة المذكورة فيه. {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ اذكروا، والجملة معطوفة على جملة {كلوا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على كلوا. {إنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها {سَرِيعُ الْحِسَابِ} خبر إنَّ ومضاف إليه، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ما بعده {أُحِلَّ}: فعل

ماضٍ مغير الصيغة. {لَكُمُ}: متعلق بـ {أُحِلَّ} {الطَّيِّبَاتُ}: نائب فاعل لـ {أُحِلَّ}: والجملة الفعلية مستأنفة {وَطَعَامُ}: (الواو): عاطفة. {طعام}: مبتدأ {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان لـ {أُوتُوا} لأنَّه بمعنى أعطوا. {حِلٌّ} خبر المبتدأ. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون {طعام} معطوفًا على {الطَّيِّبَاتُ} و {أُحِلَّ لَكُمُ}: خبر مبتدأ محذوف {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَالْمُحْصَنَاتُ} الواو عاطفة. {المحصنات}: معطوف على {الطَّيِّبَاتُ} ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره: والمحصنات من المؤمنات حل لكم أيضًا، وحل مصدر بمعنى الحلال، فلا يثنى ولا يجمع. {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ}: جار ومجرور حال من الضمير في المحصنات، أو من نفس المحصنات إذا عطفتها على الطيبات {وَالْمُحْصَنَاتُ} الواو: عاطفة. {المحصنات}: إما معطوف على الطيبات، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: حل لكم. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور حال من الضمير في المحصنات، أو حال من نفس المحصنات إذا عطفناه على الطيبات. {أُوتُوا الْكِتَابَ}: فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُوتُوا}. {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {أُحِلَّ} أو بحل المحذوف. {آتَيْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {أُجُورَهُنَّ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {مُحْصِنِينَ}: حال من الضمير المرفوع في {آتَيْتُمُوهُنَّ} فيكون العامل آتيتم، ويجوز أن يكون العامل {أُحِلَّ}: أو (حل) المحذوف، ذكره أبو البقاء. {غَيْرَ}: صفة لمحصنين. {مُسَافِحِينَ}: مضاف إليه، أو حال من الضمير المستكن في {مُحْصِنِينَ}، أو حال من فاعل {آتَيْتُمُوهُنَّ} على أنه حال ثانية منه، وذلك عند من يجوز ذلك {وَلَا}: (الواو):

عاطفة. (لا): زائدة زيدت لتأكيد النفي المفهوم من غير. {مُتَّخِذِي}: معطوف على {مُسَافِحِينَ} مجرور بالياء وهو مضاف {أَخْدَانٍ}: مضاف إليه. {وَمَن}: (الواو): استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَكْفُرْ}: فعل مضارع مجزوم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. {بِالْإِيمَانِ}: متعلق به. {فَقَدْ}: (الفاء): رابطة لجواب من وجوبًا لاقترانه بقد. {قد}: حرف تحقيق. {حَبِطَ عَمَلُهُ}: فعل وفاعل ومضاف إليه في محل الجزم بمن على كونه جواب الشرط لها، وجملة من الشرطية مستأنفة {وَهُوَ}: مبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الخبر الآتي {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. وفي "الفتوحات" قوله: {وَهُوَ}: مبتدأ وقوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: خبر وقوله: {فِي الْآخِرَةِ}: متعلق بما تعلق به الخبر لا به، إذ معمول الصلة لا يتقدم عليها اهـ. وفي "الكرخي": الظاهر أن الخبر قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} فيتعلق قوله: {فِي الْآخِرَةِ} بما تعلق به هذا الخبر، وهو الكون المطلق، ولا يجوز أن يكون {فِي الْآخِرَةِ} هو الخبر، و {مِنَ الْخَاسِرِينَ} متعلقًا بما تعلق به الخبر؛ لأنه لا فائدة في ذلك. اهـ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. {يَا أَيُّهَا} (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات، (أي): من الإضافة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي، تابع للفظه، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قُمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {إِلَى الصَّلَاةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قُمْتُمْ}. {فَاغْسِلُوا}: الفاء رابطة لجواب إذا. {اغسلوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وُجُوهَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَأَيْدِيَكُمْ}: معطوف على وجوهكم. {إِلَى الْمَرَافِقِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اغسلوا}. وقال العكبري: ويجوز أن يتعلق بمحذوف

حال من أيديكم تقديره: حالة كونها مضافة إلى المرافق. {وَامْسَحُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اغسلوا}. {بِرُءُوسِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {امسحوا}. {وَأَرْجُلَكُمْ}: بالنصب معطوف على {وُجُوهَكُمْ}؛ أي: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. وبالجر لفظًا على الجوار معطوف على {وُجُوهَكُمْ} أيضًا، فتقول في إعرابه: أرجلكم معطوف على وجوهكم، وللمعطوف حكم المعطوف عليه تبعه بالنصب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الجوار؛ أي: اشتغال المحل بحركة سببها مجاورة المجرور ويقرأ في الشذوذ بالرفع على الابتداء؛ أي: وأرجلكم مغسولة، أو كذلك، ذكره أبو البقاء. {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اغسلوا} أو {مسحوا} أو حال من {أرجلكم}. {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. {وَإِنْ كُنْتُمْ} جازم وفعل ناقص واسمه. {جُنُبًا} خبر كان {فَاطَّهَّرُوا}: (الفاء): رابطة الجواب. {اطهروا}: فعل وفاعل في محل الجزم جواب إنْ الشرطية، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ كُنْتُمْ}: جازم وفعل ناقص واسمه {مَرْضَى}: خبره {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف معطوف على خبر كان تقديره: أو مستقرين على سفر {أوْ جَاءَ أَحَدٌ}: فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} على كونها فعل شرط لإن {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لأحد {مِنَ الْغَائِطِ}: جار ومجرور متعلق بجاء {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}. {فَلَمْ}: (الفاء): عاطفة. {لم}: حرف جزم. {تَجِدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلم. {مَاءً}: مفعول به؛ لأنَّ وجد لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد؛ لأنَّه من وجدان الضالة، والجملة في محل الجزم، معطوفة على جملة الشرط، لكنه قيد في غير المرض وهو الثلاثة بعده، وأمَّا المرض .. فيتيمم معه ولو مع وجود الماء {فَتَيَمَّمُوا}: (الفاء): رابطة لجواب الشرط. {تيمموا}: فعل وفاعل. {صَعِيدًا}: مفعول به. {طَيِّبًا}: صفة له، والجملة في محل الجزم جواب لإنْ الشرطية، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة.

{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}. {فَامْسَحُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة تيمموا على كونها جواب الشرط {بِوُجُوهِكُمْ}: جار ومجرور. ومضاف إليه متعلق بـ {امسحوا} {وَأَيْدِيكُمْ} معطوف على {وُجُوهِكُمْ} {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {امسحوا}. {مَا}: نافية. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِيَجْعَلَ}: اللام حرف جر وتعليل. {يجعل}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {عليكم}: متعلق به. {مِنْ}: زائدة. {حَرَجٍ}: مفعول به لجعل؛ لأنه يتعدى إلى مفعول واحد؛ لأنه بمعنى أوجد، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، ومفعول {يُرِيدُ} محذوف تقديره: ما يريد الله الرخصة في التيمم لجعله حرجًا عليكم، واللام متعلقة بـ {يُرِيدُ} وقيل: اللام زائدة، وجملة أن المصدرية مفعول {يُرِيدُ} تقديره: ما يريد الله برخصة التيمم جعل حرج عليكم. {وَلَكِنْ}: (الواو): عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {يُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {الله}، ومفعول {يُرِيدُ} محذوف تقديره: ولكن يريد الرخصة في التيمم ليطهركم، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ}. {لِيُطَهِّرَكُمْ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يطهر}: منصوب بـ {أنْ} مضمرة، وفاعله ضمير يعود على {الله}. و {الكاف}: مفعوله، وجملة (أنْ) المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام وهي متعلقة بـ {يُرِيدُ}؛ والتقدير: ولكن يريد الرخصة في التيمم لتطهيره إياكم، وقيل: اللام زائدة كما تقدم والتقدير: ولكن يريد تطهيره إياكم. {وَلِيُتِمَّ}: (الواو): عاطفة. (اللام): حرف جر وتعليل. {يتم}: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {نِعْمَتَهُ}: مفعول به ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {يتم}: وجملة أنْ المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ} والتقدير: على الوجه الأول؛ ولكن يريد الرخصة في التيمم لتطهيره إياكم ولإتمام نعمته عليكم،

وعلى الوجه الثاني: ولكن يريد تطهيره إياكم وإتمام نعمته عليكم {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف ترجّ ونصب. و (الكاف): اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ}: في محل الرفع خبر لعل، والتقدير: لعلكم شاكرون، وجملة لعل مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}. {وَاذْكُرُوا}: (الواو): استئنافية. {ذكروا}: فعل وفاعل. {نِعْمَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بنعمة الله، والجملة مستأنفة {وَمِيثَاقَهُ}: معطوف على نعمة الله {الَّذِي}: صفة للميثاق {وَاثَقَكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {بِهِ} متعلق بواثق، والجملة الفعلية صلة الموصول والعائد ضمير به {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {وَاثَقَكُمْ} {قُلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذْ} {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: مقول محكي وإن شئت قلت {سَمِعْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْتُمْ}. {وَأَطَعْنَا}: معطوف على {سَمِعْنَا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اذكروا} {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها {عَلِيمٌ}: خبرها {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بعليم، وجملة إن مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}. {يَا أَيُّهَا} (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة له الموصول. {كُونُوا}: فعل ناقص واسمه. {قَوَّامِينَ}: خبره. {لِلَّهِ}: متعلق بقوامين. {شُهَدَاءَ}: خبر ثان لكونوا، وجملة كونوا جواب النداء. {بِالْقِسْطِ}: جار ومجرور متعلق بشهداء. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} (الواو): عاطفة. {لا}: ناهية. {يجرمن}: فعل مضارع في محل الجزم بلا الناهية مبني

على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والكاف مفعول به. {شَنَآنُ قَوْمٍ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {كُونُوا}: على كونها جواب النداء {عَلَى}: حرف جر {أَلَّا}: {أن}: حرف نصب ومصدر، {لا}: نافية. {تَعْدِلُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، وجملة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بعلى تقديره: على عدم العدل، الجار والمجرور متعلق بـ {يَجْرِمَنَّكُمْ}. {اعْدِلُوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {هُوَ أَقْرَبُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {لِلتَّقْوَى}: متعلق بـ {أَقْرَبُ}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها {خَبِيرٌ}: خبرها {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بخيبر {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يعملونه، وجملة إنَّ مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: وعد الله الذين آمنوا المغفرة والأجر العظيم، والجملة الفعلية مستأنفة {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على آمنوا {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ مؤخر {وَأَجْرٌ}: معطوف عليه {عَظِيمٌ}: صفة لأجر، والجملة الإسمية مستأنفة استغنى بها عن ذكر المفعول الثاني لوعد لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَكَذَّبُوا}: معطوف على {كَفَرُوا}. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كذبوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان {أَصْحَابُ}: خبر للمبتدأ الثاني {الْجَحِيمِ}: مضاف إليه والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: {يَا}: حرف نداء، {أيها} منادى. {الَّذِينَ}: صفة لأي. {آمَنُوا}: صلة، والجملة مستأنفة. {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {نِعْمَتَ اللَّهِ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {نِعْمَتَ اللَّهِ}: {هَمَّ قَوْمٌ} فعل وفاعل مضاف إليه لـ {إِذْ} {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول وجار ومجرور في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {هَمَّ} {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {الله}: (الفاء): تفريعية عاطفة على {هم} {عَنْكُمْ} متعلق بكف {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {وَعَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: وهو فعل وفاعل، و (الفاء): زائدة، والجملة معطوفة على جملة {وَاتَّقُوا اللَّهَ}. التصريف ومفردات اللغة {الطَّيِّبَاتُ}: جمع طيبة وطيب والطيب ضد الخبيث، وهو صفة مشبهة من طاب يطيب من باب باع طيبًا وطابًا وطيبة وتطيابًا إذا لذّ وحلا وحسن وجاد، فالطيبات المستلذات. {مِنَ الْجَوَارِحِ}: الجوارح الكواسب من سباع البهائم، والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، وهي جمع جارحة، والهاء فيها للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف ذكره أبو البقاء، وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبًا، أو لأنها تكتسب، يقال: امرأة لا جارح لها؛ أي: لا كاسب، ومنه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}؛ أي: ما كسبتم، ويقال: جرح واجترح بمعنى اكتسب {مُكَلِّبِينَ}: جمع مكلب بالتشديد من التكليب، وهو تعليم الكلاب وإضراؤها، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقًا. وقال أبو حيان: المكلب بالتشديد معلم الكلاب ومضربها على الصيد، وبالتخفيف صاحب الكلاب، وقال الزجاج: رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب {وَالْمُحْصَنَاتُ}: جمع محصنة يقال: أحصنت المرأة إذا عفت، فهي

محصنة، بفتح الصاد؛ أي: عفيفة، وأحصنت المرأة إذا تزوجت؛ لأن زواجها قد أحصنها، فهي محصنة بفتح الصاد؛ أي: متزوجة وأحصن الرجل إذا تزوج، فهو محصن إذا تزوج، وأحصن المرأة إذا زوجها. قيل: المراد بالمحصنات هنا الحرائر، وقيل: العفيفات عن الزنا {أُجُورَهُنَّ}؛ أي: مهورهن جمع أجر كفلس وفلوس {مُحْصِنِينَ}: المراد بهم الأعفاء عن الزنا {مُسَافِحِينَ}: مجاهرين بالزنا، ويقال: سافحا وتسافحا، إذا زنيا وفجرا، فهو مسافح؛ أي: مجاهر بالزنا. {مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}؛ أي: مسرين بالزنا، والأخدان: جمع خدن بكسر أوله، والخدن الصديق، يطلق على الذكر والأنثى، وفي "المصباح" الخدن: الصديق في السر، والجمع: أخدان مثل حمل وأحمال انتهى. {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الغسل (¬1) في اللغة إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها، قاله بعضهم وقال آخرون: هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب: فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا والوجوه جمع وجه، وهو ما تحصل به المواجهة عن الرأس {وَأَيْدِيَكُمْ} جمع يد، أصله يدي؛ بدليل جمعه على الأيدي حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية {إِلَى الْمَرَافِقِ}: جمع مرفق، والمرفق المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر {وَأَرْجُلَكُمْ}: جمع رجل والرجل معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} تثنية كعب، والكعب (¬2) العظم الناتىء في وجه القدم، حيث يجتمع شراك النعل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} لجنب صفة يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، فاطهروا بتشديد الطاء والهاء أصله تطهروا من باب تفعل الخماسي، فأدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل فصار اطهروا كما مر في مبحث القراءة {مَرْضَى}: جمع مريض كجرحى جمع جريح وقتلى جمع قتيل {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}: يقال: غاط الحفرة يغوط غوطًا، من باب قال إذا حفرها، وغاط في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

المكان إذا دخل فيه، ويقال: غوط البئر إذا حفرها فأبعد قعرها، وتغوط إذا قضى الحاجة، والغائط المطمئن من الأرض وموضع قضاء الحاجة؛ لأن الرجل إذا أراد التبرز كان يرتاد غائطًا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، والغائط أيضًا العذرة. {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}: جمع قوام مبالغة قائم، والقوام بالشيء هو القائم به حق القيام {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}؛ أي: شهداء بالعدل جمع شهيد، ككرماء جمع كريم، وشرفاء، جمع شريف. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، وفي لفظ الجلالة في قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وفي قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ}، {وَطَعَامُكُمْ}، وفي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ}، ولفظ اليوم في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وفي قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}؛ أي: صيد ما علمتم، وفائدته: دفع توهم أن مصيد الجارحة ليس من الطيبات. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، وفي قوله: {عَلَّمْتُمْ} و {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. ومنها: الطباق المعنوي في قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. ومنها: التأكيد في قوله: {مُكَلِّبِينَ}؛ لأن مكلبين بمعنى معلمين مؤكد لعلمتم. ومنها: الاعتراض في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} قد اعترض بها بين الشرط وجوابه، أو بين المبتدأ والخبر على جعل ما في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} شرطية أو موصولة خبرها {فَكُلُوا}.

ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ}؛ أي: بعض ما أمسكن فمن تبعيضية، وإلا فلا يجوز أكل دمه وفرثه. ومنها: إقامة المسبب مقام السبب في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}؛ أي: أردتم القيام إليها، وذلك أنَّ القيام متسبب عن الإرادة، والإرادة سببه. ومنها: الحذف في عدة مواضع كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}؛ لأنه على تقدير: وإذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم ... إلخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الميثاق الذي أخذه على المؤمنين في قوله: {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ}. ثم ذكر وعده إياهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ثم أمرهم بذكر نعمته عليهم إذ كف أيدي الكفار عنهم .. ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم، ووعده لهم بتكفير السيئات، وإدخالهم الجنة، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكرنا (¬1) الله سبحانه وتعالى بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، بين لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا بضروب الذلة والمسكنة، وفي الآخرة بالخزي والعذاب، لنعتبر بحالهم، ونبتعد أن نكون على مثالهم، وليشرح لنا العلة في كفرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسبب تصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) بين أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، كما أخذه على هذه الأمة، وأنهم نقضوا العهد والميثاق وتركوا ما أمروا به، وأنهم أضاعوا حظًّا عظيمًا مما أوحاه إليهم، ولم يقيموا ما حفظوا منه .. دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالكتاب الذي جاء به، وهذا البيان من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة في تضاعيفه. قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬3) أقام الحجة على أهل الكتاب عامة .. بين ما كفرت به النصارى خاصة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[12]

أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} ... الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: إنَّ (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه اليهود يسألونه عن الرجم؟ فقال: "أيكم أعلم"؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور والمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل - الرعدة -؟ فقال: إنَّه لما كثر فينا جلدنا مئة، وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعمان بن قصي وبحر بن عمر وشاس بن عدي، فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته وعذابه، فقالوا: تخوفنا به يا محمَّد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه فأنزل الله فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ...} الآية. وروي عنه قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود إلى الإِسلام، ورغبهم فيه، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذ: ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده، فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 12 - {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جعل الله سبحانه وتعالى العهد المؤكد باليمين على بني إسرائيل، بواسطة موسى عليه ¬

_ (¬1) لباب النقول.

السلام، على أن لا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به شيئًا، وعلى أن يعملوا بجميع ما في التوراة، وفيها شريعتهم التي اختارها لهم {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ}؛ أي: اخترنا منهم على لسان موسى عليه السلام {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}؛ أي: رئيسًا بعدد أسباطهم، من كل سبط نقيب، وأرسلنا هؤلاء النقباء إلى الجبارين ليتجسسوا عن أحوالهم. روي أنه لما نجا بنو إسرائيل واستقروا بمصر بعد هلاك فرعون .. أمرهم الله سبحانه وتعالى بالسير إلى بيت المقدس، وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني جعلتها لكم وطنًا ودار هجرة، فأخرجوا إليها وجاهدوا من كان فيها من الجبابرة، وإني ناصركم، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبًا يكون كفيلًا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل له به النقباء، وسار بهم، فلما دنا من الأرض المقدسة، بعث النقباء يتجسسون الأخبار، فرأوا أجسامًا قوية، وأجرامًا كبيرًا، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا، وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك، فنكثوا الميثاق إلا نقيبين - كالبًا ويوشع - وهما اللذان قال الله فيهما: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ اَلَذِينَ يَخَافُونَ} الآية وسيأتي الكلام في ذلك بعد. {وَقَالَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى للنقباء على لسان موسى عليه السلام حين ذهبوا للتجسس {إِنِّي مَعَكُمْ} بالنصر والعون والحفظ من الجبابرة. وقيل (¬1) هو خطاب لعامة بني إسرائيل، والقول الأول أولى؛ لأنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور، فكان عوده إلى النقباء أولى. ومعنى كونه معهم، أنَّه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق، وهو راءٍ لأفعالهم، سميع لأقوالهم، عليم بضمائرهم، وقادر على مجازاتهم. ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطبًا لعامة بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام وعزتي وجلالي {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} وأديتم {الصَّلَاةَ} المفروضة عليكم على وجهها {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ}؛ أي: وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم. {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} الذين أرسلتهم إليكم بعد موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الخازن.

[13]

وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - مع كونهما من الفروع المرتبة عليه - لما أنهم كانوا معترفين بوجوبهما مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام اهـ "كرخي". وقرأ الحسن: {برسلي} بسكون السين في جميع القرآن. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}؛ أي: نصرتموهم بالسيف على الأعداء، معظمين لهم، بأن تدافعوا أعداءهم عنهم. وقرأ عاصم الجحدري: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}. خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح: {وتعزروه} بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ومصدره: العَزْر. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي: قرضًا مخلصًا لوجه الله تعالى، والمراد بهذا الإقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيهًا على شرفها وفضلها؛ أي: وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة، فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغني ملىء وفي، لا يضيع عليه بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه، وهذه الجمل كلها شرطية، فالشرط مركب من خمسة أمور وهي قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وجواب الشرط قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن فعلتم هذه المذكورات كلها .. لأزيلن عنكم بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم في نفوسكم، فلا يبقى فيها رجس، ولا خبث يقتضي العقاب، فإنَّ الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؛ أي: ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرًا من الشرك، وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ}؛ أي: فمن جحد منكم شيئًا مما أمرتكم به، فتركه، أو عمل شيئًا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق بالوفاء لي بطاعتي واجتنابه معصيتي {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: الطريق الواضح المستوي المستقيم، الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه، وتزكية نفسه، ويجعله أهلًا لجوار ربه في تلك الجنات. 13 - ثم بين أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}؛ أي: فبسبب نقضهم ورميهم وغدرهم الميثاق الذي أخذ عليهم بتكذيب الرسل، وقتل الأنبياء، وكتمان صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك الميثاق

الإيمان بمن يرسل إليهم من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم {لَعَنَّاهُمْ} وطردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}؛ أي: جافية منصرفة عن الانقياد للدلائل، وقيل: يابسة غليظة لا تلين لقبول الحق، وقيل منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب، وقسوة القلب غلظه وصلابته. وقرأ الجمهور من السبعة (¬1): {قَاسِيَةً} اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ عبد الله وحمزة الكسائي: {قَاسِيَةً} بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعلية للمبالغة، كشاهد وشهيد، وقيل معنى قسية على هذه القراءة رديئة يابسة. وقرأ الهيصم بن شراخ {قسية} بضم القاف وتشديد الياء كجي، وقرىء بكسر القاف إتباعًا؛ أي: (¬2) استحقوا مقتًا وغضبًا وبعدًا من ألطافنا، فإن نقض الميثاق أفسد قطرتهم، ودنس نفوسهم، وقسى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم لإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، وحاولوا قتله، وافتخروا بذلك، فبكل ذلك بعدوا عن رحمة الله تعالى، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر في النفوس آثارًا سيئة، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعي القوانين الصحية، فهو لا شك سيصاد بالأمراض والأسقام، ولا يلومن حينئذ إلا نفسه إذ كان هو السبب في ذلك بإهماله رعاية نفسه حالة كونهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}؛ أي: يغيرون كلام الله الذي أنزل في التوراة وحكمه الذي شرع لهم فيها {عَنْ مَوَاضِعِهِ}؛ أي: عن حاله التي نزلت عليها؛ أي: يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم، بدلوها لرؤسائهم بالتحميم - وهو تسويد الوجه بالفحم - وغيروا أيضًا نعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - التي نزلت في التوراة تلبيسًا على سفلتهم؛ أي: أزالوا صفته المكتوبة في التوراة، وكتبوا مكانها صفة أخرى، فغيروا المعنى والألفاظ، فتحريف الكلم عن مواضعه يكون إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، وإمَّا بتحريف المعاني، يحمل الألفاظ على غير ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وضعت له، وكل منهما قد وقع في التوراة وغيرها من كتبهم، كما هو معلوم واضح لمن اطلع على التوراة. وقرأ الجمهور: {الْكَلِمَ} بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي: {الكلام} بالألف وقرأ أبو رجاء {الكلم} بكسر الكاف وسكون اللام. وهذه الجملة (¬1) وما بعدها جاءت بيانًا لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى، وتغيير وحيه {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: تركوا بعضًا مما أمروا به في كتابهم، وهو الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا (¬2) أيضًا من قسوة قلوبهم، وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه. وتركوه، وهذا الحظ هو من الميثاق المأخوذ عليهم {وَلَا تَزَالُ} يا محمَّد {تَطَّلِعُ} وتقف وتظهر {عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: على خيانة من اليهود، فالخائنة مصدر بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة، والخاطئة بمعنى الخطيئة، ويدل على ذلك قراءة الأعمش: {على خيانة} أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة، كرواية؛ أي: خائن أو صفة لمؤنث؛ أي: قرية خائنة أو فعلة أو نفس خائنة. أي: إنك يا محمَّد لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظنن أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فهم قوم لا وفاء لهم، ولا أمان، فمن نقض عهد الله وميثاقه .. فكيف يرجى منه وفاء؟! وكيف تكون منه أمانة؟! فهذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على ما كان أسلافهم من خيانة الرسل، وقتلهم الأنبياء، فهم لا يزالون يخونونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالفتك منك وأن يسموك، وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} استثناء من الضمير في منهم، وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله، فلا تظنن بهم سوءًا ولا تخف منهم خيانة ولا خديعة، أو هم الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه. {فَاعْفُ عَنْهُمْ}؛ أي: سامح عما فرطوا في حقك ولا تعاقبهم {وَاصْفَحْ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

أي: أعرض عن زلاتهم ولا تلتفت إليها ما داموا باقين على العهد. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ} ويثيب {الْمُحْسِنِينَ} إلى الناس بالعفو والصفح عن زلاتهم وهفواتهم. قيل: (¬1) هذا منسوخ بآية السيف، وقيل: خاص بالمعاهدين؛ أي: فاعف (¬2) عما فرط من هؤلاء القليل، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه، وهذا رأي أبي مسلم. وقال غيره: فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح، إلى من أساء إليه إيثارًا للإحسان والفضل على ما يقتضيه العدل. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغب - عند ما دخل المدينة - في مصالحة اليهود وموادعتهم، فعقد معهم العهد على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه، ولا يمالئوا عليه عدوًّا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فنقضوا العهد، وهموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحل له قتالهم، ولكنه رجح السلم على الحرب، واكتفى بطردهم من جواره، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدته بها بعد ذلك .. ضربت عنقه فأقاموا يتجهزون أيامًا، ثم ثبط عزيمتهم عبد الله بن أبي، وأرسل إليهم أن لا تخافوا، إن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وكان رئيسهم المطاع حيي بن أخطب شديد العدواة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي زين لهم قتله والغدر له، فركن إلى قول ابن أبيّ، وبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك. فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يريدون الحرب، فخرج هو والمسلمون للقائهم، يحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[14]

يرمونهم بالنبل والحجارة، ولما اشتد عليهم الحصار، ورأوا أن لا سبيل لهم إلى المقاومة، رضوا بالخروج سالمين، وعلموا أن وعد ابن أبيّ كان هو الغدر والخيانة بعينها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قادرًا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم، ولكنه اختار العفو والإحسان، واختار إبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها، وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح، ورحلوا إلى خيبر، وهذه الآية نزلت بعد هذا كله، لأنها من آخر ما نزل، ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب. 14 - {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} وعهدهم وكتبنا عليهم في الإنجيل اتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان صفته، وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئًا، كما أخدنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود، وإنما قال (¬1) تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}. ولم يقل من النصارى؛ لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم ادعاء لنصر دين الله؛ حيث قالوا لعيسى: نحن أنصار الله، لا أن الله تعالى سماهم به {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: تركوا نصيبًا عظيمًا مما أمروا به في الإنجيل، وهو الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وخص هذا (¬2) الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله تعالى به؛ لأن هذا هو المعظم والمهم {فَأَغْرَيْنَا}؛ أي: ألقينا وأوقعنا {بَيْنَهُمُ}؛ أي: بين فرق النصارى، النسطورية، واليعقوبية، والملكانية، كل فرقة منهم تعادي الأخرى، وقيل: الضمير يعود إلى اليهود والنصارى؛ أي: أوقعنا بين اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي، فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضًا ويكفر بعضهم بعضًا. {الْعَدَاوَةَ} بالقتل والأسر {وَالْبَغْضَاءَ}؛ أي: البغض في القلب {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببًا في تفرقهم في الدين، واتباع أهوائهم، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى في هذه الحياة. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[15]

{وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ}؛ أي: سوف يخبرهم الله سبحانه وتعالى في الآخرة عند الحساب {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}؛ أي: بما كانوا صنعوا في الدنيا، من نقض للميثاق، ونكث للعهد، وتبديل للكتاب، وتحريف للأوامر والنواهي، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون، ليعلموا أنه حكم عدل، لا يظلم مثقال ذرة، وفي هذا وعيد شديد لهم. 15 - وبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: أن النصارى نسوا حظًّا مما ذكروا به، كما نسي اليهود، وسر هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته، وكان الذين اتبعوه من العامة، وأمثلهم حواريه وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في مطاردتهم في كل مكان، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة، وعلم تدون ما حفظوه من الإنجيل. ثم دعاهم إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين حالة كونه {يُبَيِّنُ} ويظهر ويوضح {لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ} ـنه وتكتمونه {مِنَ} الأحكام والبشارات المذكورة في {الْكِتَابِ}؛ أي: في التوراة كنعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآية الرجم، وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل {وَيَعْفُو} ويسامح {عَنْ كَثِيرٍ} مما كنتم تكتمونه؛ أي: لا يظهره إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره، ولا يخبركم بكتمانكم إياه، ولا يفضح بذلك إبقاء عليكم. وقيل: المعنى يعفو عن كثير منكم، فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم. وأكثر (¬1) نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود؛ لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره، وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم -: لأن في إعلامه بما يخفون من كتابهم - وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القراء - دلالة على أنَّه إنَّما يعلمه الله تعالى. والمعنى (¬2): يا أهل الكتاب إنَّا أرسلنا إليكم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وخاتم النبيين، يبين لكم كثيرًا من الأحكام التي كنتم تخفونها، وقد أنزلها عليكم في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

كتابكم كحكم رجم الزاني، وهو ما حفظتموه من أحكام التوراة لكنكم لم تلتزموا العمل به، وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقسم عليه، وناشده الله فاعترف به، وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبشارات به، وحرفوها بالحمل على معانٍ أخرى، إلى (¬1) ما أضاعوه من كتبهم ونسوه، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة، وأظهره الرسول لهم، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى، إذ هم يعلمون أنه نبيّ أميّ لم يطلع على شيء من كتبهم، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا البيان من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ومعجزات القرآن التي لا ينبغي أن يمتري أحد فيها، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا يخفونه، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه، وإنَّما لم يظهره .. لأنَّه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه، فيكون ذلك داعيًا إلى ترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا، ومن شأن علماء السوء في كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم، وكاشفًا عن سوء حالهم، أو يحرفوه بحمله على غير ظاهر معناه {قَدْ جَاءَكُمْ} أيها الناس {مِنَ} عند {اللَّهِ} سبحانه وتعالى {نُورٌ}؛ أي: رسول، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسمي بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئًا من المبصرات، كذلك لولا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب، ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضهما أو نسيانه، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر، بإخفاء شيء منه، أو تحريفه، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون {وَكِتَابٌ مُبِينٌ}؛ أي: مظهر للحق من الباطل، وهو القرآن, وهو بين في نفسه مبين لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم {يَهْدِي} ويرشد {بِهِ}؛ أي: بذلك الكتاب، فالضمير راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور، لكونهما كالشيء الواحد {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}؛ ¬

_ (¬1) إلى ما أضاعوه: إلى هنا بمعنى مع كما يوجد ذلك كثيرًا في الكتاب.

[16]

16 - أي: من كان همه من الدين ابتغاء رضوان الله تعالى، لا تقرير ما ألفه، ونشأ عليه، وأخذه من أسلافه، مع ترك النظر والاستدلال، أو المعنى من سبق في علمه أنه يتبع وإلا فمن اتبع فلا معنى لهدايته {سُبُلَ السَّلَامِ}؛ أي: إلى طرق السلامة من العذاب والمخاوف الموصلة إلى دار السلام، وهو دين الإِسلام، وهذا منصوب بنزع الخافض، كما قدرناه؛ لأن يهدي إلى الثاني بإلى أو باللام {وَيُخْرِجُهُمْ}؛ أي: ويخرج الله سبحانه وتعالى المتبعين رضوانه، فالضمير عائد إلى من، والجمع باعتبار المعنى، كما أن الإفراد في اتبع باعتبار اللفظ {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ أي: من ظلمات فنون الكفر {إِلَى النُّورِ}؛ أي إلى نور الإيمان وقوله: {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بتوفيقه أو بإرادته، متعلق باتبع، ولا يجوز (¬1) أن يتعلق بيهدي، ولا بيخرج، إذ لا معنى له حينئذ، فدلت الآية على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك، وقيل ما يتعلق بيخرج؛ أي: يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه؛ أي: بإرادته بالجري على سننه تعالى في تأثير الأعمال الصالحة، والعقائد الصحيحة في النفوس وإصلاحها إياها {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: يثبتهم (¬2) على ذلك الدين الحق بعد إجابة دعوة الرسول، وهو دين (¬3) الله وتوحيده، وقيل طريق الجنة، وقيل طريق الحق، والظاهر أنَّ هذه الجمل كلها متقاربة المعنى، وكررت للتأكيد، والفعل فيها مسند إليه تعالى، وإنَّما سمى الدين الحق صراطًا مستقيمًا؛ لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته. أمَّا الباطل فمتعدد الطرق، وكلها معوجة ملتوية، وفي "الفتوحات": {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤد إليه لا محالة، وهذه الهداية غير الهداية إلى سبل السلام، وإنَّما عطفت عليها تنزيلًا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}. أبو السعود. انتهت وقد ذكر سبحانه (¬4) للكتاب ثلاث فوائد: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[17]

1 - أن المتبع لما يرضي الله بالإيمان بهذا الكتاب يهتدي إلى الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة، من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك، فيقوم في الدنيا بحقوق الله والحقوق الواجبة عليه لنفسه - روحية كانت أو جسدية - وللناس ويكون في الآخرة منعمًا نعيمًا روحيًّا وجسديًّا. وخلاصة ذلك: أنَّه يتبع دينًا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنَّه دين الإخلاص والعدل والمساواة. 2 - أنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرًّا كريمًا بين يدي الخلق، خاضعًا للخالق وحده. 3 - أنه يهدي إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب (¬1): {به الله}، بضم الهاء حيث وقع. وقرأ الحسن وابن شهاب: {سبل} ساكنة الباء. 17 - وعزتي وجلالي: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} لا غيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): هؤلاء نصارى نجران، فإنهم قالوا هذه المقالة، وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى؛ لأنَّهم يقولون في المسيح: إنَّه هو الله. تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وإنَّما قالوا هذه المقالة الخبيثة لأنهم يقولون بالحلول، وأن الله قد حل في بدن عيسى، فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم .. حكم الله عليهم بالكفر، وقيل: لم يصرح به أحد منهم، ولكن مذهبهم يؤدي إليه، حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة؛ أي: بأنَّه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. ثم ذكر الله تعالى ما يدل على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

فساد مذهبهم فقال: {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء النصارى الذين يقولون هذه المقالة الشنيعة {فَمَنْ يَمْلِكُ} ويقدر أن يدفع {مِنَ} أمر {اللَّهِ} تعالى {شَيْئًا إِنْ أَرَادَ} الله تعالى {أَنْ يُهْلِكَ} ويبيد ويعدم {الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} مريم بنت عمران اللذين اتخذتموهما إلهين، وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله، ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهًا كما تزعم النصارى .. لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقل حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها. وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض، لكون الدفع عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدّر على الدفع عنها، أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته، وأنَّه إذا أراد شيئًا، كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه؛ أي: قل يا محمَّد لهؤلاء النصارى: من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعًا إن أراد أن يهلكهم ويبديهم ويعدمهم. والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع مضمن معنى الإنكار؛ أي. لا أحد يملك ذلك، ولو كان المسيح إلهًا لقدر على ذلك. وخلاصة هذا: أن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعًا. لا يستطيع أحد أن يرد إرادته؛ لأنّه هو مالك الملك الذي يصرفه بمقتضى مشيئته وإرادته، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره .. فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء، فعيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلا يكون خالقًا. ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وسلطنتهما وتصرفهما {و} ملك {ما بينهما}؛ أي: بين السموات والأرض وما فيهما قاطبة، فهو صاحب الملك المطلق، والتصرف في السموات والأرض وما بينهما؛ أي: بين العالمين العلوي والسفلي بالنسبة إليكم، وإنَّما قال: وما بينهما ولم يقل: وما بينهن .. لأنه أراد

[18]

ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء، فإنَّهما ملكه، وأهلهما عبيده، وعيسى وأمه من جملة عبيده. ثم دفع شبهة تحوك في صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال: {يَخْلُقُ} ويوجد سبحانه وتعالى {مَا يَشَاءُ} خلقه ويريد على أي هيئة شاء، ومن أيّ أصل شاء، وعلى أي شكل شاء؛ أي: إن تلك الشبهة التي عرضت لكم، وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله هو أنَّه خلق على غير السنة العامة، وأنه عمل أعمالًا عجيبة لا تصدر من عامة البشر، فالله له ملك السموات والأرض، يخلق الخلق على مقتضى مشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط كعيسى عليه السلام، وقد يخلق بعضها من ذكر فقط كحواء من آدم، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى كسائر الناس وعامة الحيوان، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات، وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضًا، فيجب أن ينسب الكل إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده. وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض، ولا على ألوهية لبعضها، ولا على حلول الإله الخالق فيها، فسنة الله في خلق المسيح ومزاياه، لا تدل على كونه إلهًا وربًّا؛ لأن هذه المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق، ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقًا {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر فبقدرته يخلق ما يشاء، على أي شكل شاء، ومن أي أصل شاء، ومن غير أصل، ولا يستصعب عليه شيء. والخلاصة: أن كل من تعلقت به مشيئته تعالى ينفذ بقدرته، وإنَّما يعد بعضه غريبًا بالنسبة إلى علم البشر الناقص، لا بالنسبة إليه تعالى، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون من علم كسبي يجهله غيرهم، أو عن تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير. 18 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لعائن الله عليهم: نحن أبناء الله وأحباءه، أثبتت لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالوا: عزير ابن الله {و} قالت {النصارى نحن أبناء الله

وأحباؤه} أثبتت لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا: المسيح ابن الله. وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة، والأمانيّ العاطلة. فأمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم فقال: {قُلْ} يا محمَّد إلزامًا وتبكيتًا إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ} الله سبحانه وتعالى {بِذُنُوبِكُمْ} في الدنيا كما ترون من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر، ولبلدكم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملككم من الأرض، والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذًا أبناء الله ولا أحباؤه {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}؛ أي: من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه لا يحابي أحدًا {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاء}؛ أي: يغفر له ممن يعلم أنَّه مستحق للمغفرة، وهم الذين آمنوا بالله تعالى وبرسله وتابوا من الكفر واليهودية والنصرانية {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أن يعذبه ممن يعلم أنَّه مستحق للعذاب، وهم الذين كفروا بالله وبرسله، وماتوا على اليهودية والنصرانية، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فكل هذا لا يجزيكم فتيلًا ولا قطميرًا، وإنَّما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح، وصالح الأعمال، فالجزاء إنَّما يكون عليها لا على الأسماء والألقاب والأنساب {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات، فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه {وَإِلَيْهِ الْمَصِير}؛ أي: الرجوع بالحشر والمعاد؛ أي: تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة؛ أي: إنَّه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى علمه، وحكمته وعدله وفضله، وجميع المخلوقات عبيد له، لا أبناء ولا بنات {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. وختمها بقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أنَّه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة، وأنَّهم عندما يصيرون إليه يعلمون أنَّهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء وأحباء يحابون. وقد كان اليهود يعتقدون أنَّهم شعب الله الخاص، ميزهم عن سائر البشر، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم، وإنْ كان أصح منهم إيمانًا وأصلح أعمالًا، ولا ينبغي أن يتبعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لأنه عربي لا إسرائيلي، والفاضل لا يتبع المفضول، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد

[19]

لأبنائه الأعزاء، والنصارى قد زادوا غرورًا، فهم قد ادعوا أن المسيح فداهم بنفسه، وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي، ويخاطبون الله تعالى بلقب الأب. وقد جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - غرور اليهود جهادًا عظيمًا، ولم يجد ذلك فيهم شيئًا، فرفضوا دعوته، وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة لله، وبه تنال تزكية النفس، وإصلاحها كما جاهد صلف خبث النصارى وكبرهم، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادًا وظلمًا وعدوانًا بشهادة المؤرخين، ومع كل هذا يدعون أنَّهم أبناء الله وأحباؤه، وأنَّهم ليسوا في حاجة إلى إصلاح دينهم، ولا دنياهم، كما فعل اليهود مثل ذلك. والخلاصة: أن هذه الآيات تبين لنا سنة الله في البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب، 19 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي بشرتم به في كتبكم، وأخبركم به أنبياؤكم حالة كونه {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}؛ أي: في زمن انقطاع من الرسل وطول عهد بالوحي، جميع ما تحتاجون إليه من أمور دينكم ودنياكم، من عقائد أفسدتها عليكم نزعات الوثنية، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم في الأمور المادية والروحية، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع. وقد أرسل صلوات الله عليه، وقد فشا التغيير والتحريف في الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها، وطول زمانها، فاختلط فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرًا ظاهرًا في إعراض الخلق عن العبادات، إذ لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنَّه لا بدّ من عبادتك، ولكن كيف نعبدك؛ فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}؛ أي: إنَّما أرسلنا إليكم رسولنا في زمن فترة الرسل، وانقطاع الوحي، كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، ولا نذير ينذرنا بسوء العاقبة للمفسدين والضالين؛ أي: أرسلناه كراهية أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم {فـ} ـلا تعتذروا لأنَّه {قد جاءكم بشير ونذير} يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية، وأنها منوطة

بالإيمان والأعمال، وأن الله لا يحابي أحدًا {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْء} أراده {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، ومن دلائل قدرته نصر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاء كلمته في الدنيا، وفي ذلك رمز لكم - إن كنتم من ذوي الأحلام - إلى ما يكون له من المنزلة في الدار الآخرة. فائدة: وقد اختلفوا (¬1) في مقدار هذه الفترة كم هي؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه: كانت ست مئة، ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة خمس مئة وستون سنة. وقال معمر عن بعض أصحابه: خمس مئة وأربعون سنة. وقال الضحاك: أربع مئة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع مئة وثلاث وثلاثون سنة، والمشهور هو القول الأول وهو أنها ست مئة سنة. ومنهم عن يقول ست مئة وعشرون سنة، ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ست مئة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية. وبين كل مئة سنة شمسية، وبين القمرية نحو من ثلاث سنين. وكانت هذه الفترة بين عيسى بن مريم وبين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي". وفي هذا رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره. وفي هامش "ابن كثير": التحقيق الموافق للحساب الفلكي أن الهجرة النبوية كانت سنة ست مئة واثنين وعشرين لميلاد عيسى. والبعثة كانت قبل الهجرة بعشر سنين، باعتبار التبليغ، فهذا قريب ما اعتمده المؤلف انتهى. ومدة ما بين موسى وعيسى ألف سنة، لكنها ليست فترة لبعثة كثيرين من الأنبياء بينهما، وكانوا ألف نبي على ما قيل، ويتعبدون بشريعة موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى، على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه. ¬

_ (¬1) ابن كثير.

والمقصود من الآية (¬1): أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، وطموس عن السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلًا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين. الإعراب {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}. {وَلَقَدْ}: (الواو): استئنافية. {لقد}: اللام موطئة لقسم محذوف. {قد}: حرف تحقيق. {أَخَذَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {وَبَعَثْنَا}؛ (الواو): عاطفة. {بعثنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها جواب القسم. {مِنْهُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {بعثنا} أو حال من {اثْنَيْ عَشَرَ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، كما ذكره أبو البقاء. {اثْنَيْ عَشَرَ}: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز. {أثني}: مفعول به لـ {بعثنا}: منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بالمثنى، الذي رفعه بالألف ونصبه وجره بالياء، وحذفت النون لشبه الإضافة، أو لشبه التركيب على ما قيل {عَشَر}: جزء المفعول في محل النصب مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، لتضمنه معنى حرف العطف، وإنَّما حرك ليعلم أنَّ له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة طلبًا للخفة لشبه التركيب لثقله {نَقِيبًا} تمييز منصوب. {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ¬

_ (¬1) ابن كثير.

وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}. {وَقَالَ}: (الواو): عاطفة، {قال الله}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لقد أخذ الله} على كونها جواب قسم لا محل لها من الإعراب. {إِنِّي مَعَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: {إِنِّ}: حرف نصب، و (الياء): ضمير المتكلم اسمها. {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر إن تقديره: إني كائن معكم بالحفظ والمعونة، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قال}. {لَئِنْ}: (اللام): موطئة للقسم. {إنْ}: حرف شرط جازم. {أَقَمْتُمُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها. {الصَّلَاةَ}: مفعول به. {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم، معطوفة على جملة {أَقَمْتُمُ} على كونها فعل شرط لـ {إن}. {وَآمَنْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {أَقَمْتُمُ}. {بِرُسُلِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {آمنتم}. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَقَمْتُمُ}. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ}. {قَرْضًا}: مفعول مطلق لـ {أقرضتم}. {حَسَنًا} صفة لـ {قَرْضًا}. وقال أبو البقاء (¬1): {قَرْضًا}: يجوز أن يكون مصدرًا محذوفَ الزوائد، والعامل فيه {أقرضتم}؛ أي: إقراضًا، ويجوز أن يكون {قَرْضًا} بمعنى مقرضًا، فيكون مفعولًا به انتهى. {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. {لَأُكَفِّرَنَّ}: اللام: زائدة، زيدت لتأكيد لام القسم المذكورة سابقًا. {أكفرن} فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول قال، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إنْ أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة .. أكفر ¬

_ (¬1) العكبري.

عنكم سيئاتكم، وإنَّما جعلنا المذكور جواب القسم، وقلنا: جواب الشرط محذوف .. جريًا على القاعدة المشهورة عندهم: أنَّه إذا اجتمع شرط وقسم وذكر الجواب بعدهما .. كان الجواب للمتقدم منهما، ويقدر مثله للمتأخر منهما، كما قال ابن مالك في "الخلاصة": وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ {عَنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {لَأُكَفِّرَنَّ}. {سَيِّئَاتِكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ}: فعل ومفعول أول معطوف على قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ}: وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {جَنَّاتٍ}: مفعول ثانٍ لأدخل، أو منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بأدخل {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لجنات. {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. {فَمَنْ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وآمن، وأردتم بيان حكم من كفر بعد ذلك .. فأقول لكم. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما. {كَفَرَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بَعْدَ ذَلِكَ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرَ}. {فَقَدْ}: الفاء: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بقد. {قد}: حرف تحقيق. {ضَلَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {من}. {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.

{فَبِمَا} (الفاء): استئنافية. (الباء): حرف جر وسبب. {ما}: زائدة. {نَقْضِهِمْ}: مجرور بالباء ومضاف إليه، متعلق بـ {لَعَنَّاهُمْ}: وهو مصدر مضاف إلى الفاعل. {مِيثَاقَهُمْ}: مفعول المصدر، ومضاف إليه. {لَعَنَّاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية مستأنفة {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {لَعَنَّاهُمْ}. {قُلُوبَهُمْ}: مفعول أول، ومضاف إليه. {قَاسِيَةً}: مفعول ثان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}: فعل وفاعل ومفعول {عَنْ مَوَاضِعِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُحَرِّفُونَ}، والجملة مستأنفة، قال أبو البقاء: ويجوز أن تكون (¬1) حالًا من المفعول في {لَعَنَّاهُمْ} وأن تكون حالًا من الضمير في {قاسيةً}، ولا يجوز أن يكون حالًا من القلوب؛ لأنَّ الضمير في {يحرفون} لا يرجع إلى القلوب، ويضعف أن يجعل حالًا من الهاء والميم في {قُلُوبَهُم} انتهى. {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. {وَنَسُوا}: (الواو): عاطفة. {نسوا}: فعل وفاعل. {حَظًّا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يُحَرِّفُونَ}. {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {حَظًّا}. {ذُكِّرُوا}: فعل ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. {وَلَا}: (الواو): استئنافية. {لا}: نافية. {تَزَالُ}: فعل مضارع مرفوع - هي فعل من الأفعال الناقصة - واسمه ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب. {تَطَّلِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَلَى خَائِنَةٍ}: جار ومجرور، متعلق به. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {خَائِنَةٍ}، وجملة {تَطَّلِعُ} في محل النصب خبر زال تقديره: ولا تزال يا محمَّد مطلعًا على خائنة منهم، وجملة زال مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء. {قَلِيلًا}: منصوب على الاستثناء، والمستثنى منه ضمير منهم {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلًا}. ¬

_ (¬1) العكبري.

{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. {فَاعْفُ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أخلاقهم الشنيعة، من التحريف والنسيان والخيانة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، وما هو الأنفع لهم .. فأقول لك: اعف. {اعف}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {وَاصْفَحْ}: فعل أمر معطوف على {فَاعْفُ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. {وَمِنَ الَّذِينَ}: (الواو): استئنافية. {من الذين}: جار ومجرور متعلق بـ {أَخَذْنَا} الآتي على كونه مفعولًا أول. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجله صلة الموصول. {إِنَّا نَصَارَى}: ناصب واسمه وخبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَخَذْنَا} فعل وفاعل. {مِيثَاقَهُمْ}: مفعول ثان لـ {أَخَذْنَا} والتقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنَّا نصارى ميثاقهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} والتقدير: ولقد أخذ الله الميثاق على اليهود فنقضوه، وأخذه على النصارى فنقضوه. {فَنَسُوا حَظًّا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَخَذْنَا}. {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {حَظًّا}. {ذُكِّرُوا} فعل ونائب فاعل {بِهِ}: جار ومجرور، تعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها. {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.

{فَأَغْرَيْنَا}: (الفاء): عاطفة. {أغرينا}: فعل وفاعل. {بَيْنَهُمُ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق به. {الْعَدَاوَةَ}: مفعول به. {وَالْبَغْضَاءَ}: معطوف عليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَنَسُوا}. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أغرينا}. {وَسَوْفَ}: (الواو): استئنافية. {سوف}: حرف تنفيس. {يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول. وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمُ} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يَصْنَعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يصنعونه. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ}: فعل ومفعول به. {رَسُولُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {يُبَيِّنُ}: فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير يعود على {الرسول}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {كَثِيرًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {رَسُولُنَا}. {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {تُخْفُونَ}: فعل وفاعل. {مِنَ الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق به، أو حال من الضمير المحذوف، أو من {ما}، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تخفونه. {وَيَعْفُو}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرسول. {عَنْ كَثِيرٍ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {يُبَيِّنُ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ}: فعل ومفعول. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به. {نُورٌ}: فاعل. {وَكِتَابٌ}:

معطوف عليه. {مُبِينٌ}: صفة لـ {كتاب} والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة (¬1) لبيان أنَّ فائدة مجيء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه، بل له منافع لا تحصى. اهـ. "أبو السعود". {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}. {يَهْدِي}: فعل مضارع. {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق به. {اللَّهُ}: فاعل. {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {يَهْدِي}. {اتَّبَعَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {مَنِ}. {رِضْوَانَهُ}: مفعول {اتَّبَعَ} وهو مضاف. والهاء مضاف إليه، وجملة {اتَّبَعَ}: صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {سُبُلَ السَّلَامِ}: مفعول ثانٍ لـ {يَهْدِي} أو بدل من {رِضْوَانَهُ} وجملة {يَهْدِي}: من الفعل والفاعل في محل النصب بدل من جملة {يُبَيِّنُ} على كونها حالًا من {رَسُولُنَا} ويجوز (¬2) أن تكون حالًا من الضمير في {يُبَيِّنُ}، ويجوز أن تكون صفة لـ {نُورٌ} أو لـ {كتاب} والهاء في {بِهِ} تعود على من سواء جعل {يَهْدِي} حالًا منه، أو صفة له، فلذلك أفرد، ذكره أبو البقاء. {وَيُخْرِجُهُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} وضمير المفعول في {يخرجهم} عائد إلى {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}، وجمعه باعتبار المعنى، كما أفرده في {اتَّبَعَ} نظرًا للفظ. {مِنَ الظُّلُمَاتِ}: متعلق بـ {يخرج}. وكذا قوله: {إِلَى النُّورِ} متعلق به. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اتَّبَعَ}: أو بـ {يخرجهم} كما مرت الإشارة إليه في مبحث التفسير. {وَيَهْدِيهِمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَى صِرَاطٍ}: جار ومجرور متعلق به. {مُسْتَقِيمٍ}: صفة لصراط، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري.

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. {لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {كَفَرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه مستأنفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْمَسِيحُ}: خبر {إنَّ}. {ابْنُ}: صفة لـ {الْمَسِيحُ}. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} إلى قوله {جَمِيعًا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَمَنْ} (¬1): الفاء عاطفة على محذوف تقديره: قل كذبوا فمن يملك من الله شيئًا، أوليس الأمر كذلك. {مَن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {يَمْلِكُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَمْلِكُ}. وقال أبو البقاء: إنَّه حال من شيئًا من حيث إنَّه كان صفة في الأصل للنكرة، تقدم علمها فانتصب حالًا. انتهى. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {مَن} الاستفهامية، وجملة {مَن} الاستفهامية في محل النصب معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها سابقًا على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {شَيْئًا} مفعول به {إنْ}: حرف شرط. {أَرَادَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بأن الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {أَنْ يُهْلِكَ}: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {الْمَسِيحَ}: مفعول به. {ابْنَ}: صفة لـ {الْمَسِيحَ}. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه وجملة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{يُهْلِكَ}: مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إنْ أراد إهلاك المسيح ابن مريم، وجواب {إِنْ} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إنْ أراد أن يهلك المسيح .. فمن يقدر أن يدفعه عنه، وجملة إنْ الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَأُمَّهُ}: معطوف على {الْمَسِيحَ}. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {الْمَسِيحَ}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة الموصول. {جَمِيعًا}: حال من {المسيح وأمه ومن في الأرض}. ويجوز (¬1) أن يكون حالًا من {من} وحدها {ومن} ههنا عام، سبقه خاص من جنسه هو {المسيح وأمه}. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}. {وَلِلَّهِ}: (الواو): استئنافية. {لله}: جار ومجرور خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة الإسمية مستأنفة. {وَمَا}: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {ما} أو صفة لها {يَخْلُقُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {الله} والجملة (¬2) مستأنفة {مَا يَشَاءُ} ما موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَخْلُقُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاؤه. {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {يَخْلُقُ} على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}. ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) العكبري.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا وقوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {نَحْنُ}: مبتدأ. {أَبْنَاءُ اللَّهِ}: خبر ومضاف إليه. {وَأَحِبَّاؤُهُ} معطوف على {أبناؤه}، والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}: إلى آخر الآية مقول محكي لقل، وإنْ شئت قلت: {فَلِمَ}: الفاء رابطة الجواب بالشرط المحذوف جوازًا تقديره: إنْ كنتم كما زعمتم .. فلم يعذبكم بذنوبكم. (اللام): حرف جر. {م}: اسم استفهام في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {يُعَذِّبُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {بِذُنُوبِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يعذب} وجملة {يُعَذِّبُكُمْ} في محل الجزم على كونها جوابًا للشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مع جوابه في محل النصب مقول {قُلْ}. {بَلْ}: حرف ابتداء. {أَنْتُمْ بَشَرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِمَّنْ}: جار ومجرور صفة لـ {بَشَرٌ}. أي: بل أنتم بشر كائنون من جملة من خلقهم. {خَلَقَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَنْ}: الموصولة، والعائد ضمير المفعول المحذوف تقديره: ممن خلقهم {يَغْفِرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {لِمَن}: جار ومجرور متعلق بـ {يَغْفِرُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء المغفرة له. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة معطوفة على جملة {يَغْفِرُ}. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَمَا بَيْنَهُمَا} معطوف على السموات أيضًا. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} أو مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}.

{يَا أَهْلَ الكتاب}: منادى مضاف، والجملة مستأنفة {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ}: فعل ومفعول {رَسُولُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {يُبَيِّنُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولُنَا}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب حال من {رَسُولُنَا}. {عَلَى فَتْرَةٍ} (¬1): جار ومجرور متعلق بـ {جَاءَكُمْ} على الظرفية؛ أي: جاءكم حين فتور من الرسل، وانقطاع من الوحي، أو متعلق بمحذوف حال من ضمير {يُبَيِّنُ} أو من ضمير {لَكُمْ}، أي يبين لكم ما ذكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوج ما كنتم إلى البيان. {مِنَ الرُّسُلِ} جار ومجرور صفة لفترة؛ أي: كائنة من الرسل، مبتدأة من جهتهم {أَنْ تَقُولُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المعلل لقوله {يُبَيِّنُ}، والمعنى يبين لكم كراهية قولكم عند تعذيبكم {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} وهو مقول محكي لـ {تَقُولُوا}، وإن شئت قلت: {مَا}: نافية {جَاءَنَا}: فعل ومفعول. {مِنْ}: زائدة. {بَشِيرٍ}: فاعل. {وَلَا نَذِير}: معطوف على بشير، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {تقولوا}. {فَقَدْ}: (الفاء): تعليلية لمعلول محذوف تقديره: فلا يكون لكم عذر يوم القيامة فتعتذروا؛ لأنَّه قد جاءكم بشير ونذير، والجملة المحذوفة مستأنفة. وما في "الشوكاني" هنا من أن الفاء فصيحة غير صواب، لأنَّه لا ينطبق عليها ضابط الفصيحة، {قد}: حرف تحقيق، {جَاءَكُمْ بَشِيرٌ}: فعل ومفعول وفاعل. {وَنَذِيرٌ}: معطوف على {بَشِيرٌ} والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة تقديره: فلا يكون لكم اعتذار يوم القيامة؛ لمجيء بشير ونذير لكم في الدنيا. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ¬

_ (¬1) الجمل.

التصريف ومفردات اللغة {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}: نقيب القوم: من ينقب عن أحوالهم، ويبحث عن شؤونهم، ونقب عليهم نقابة إذا صار عليهم نقيبًا؛ أي: يفتش عن أحوالهم وأسرارهم. والنقيب: فعيل بمعنى فاعل، مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ}، وسمي بذلك؛ لأنه يفتش عن أحوال القوم وأسرارهم كما مر آنفًا، وقيل: هو بمعنى مفعول، كأن القوم اختاروه على علم منهم وتفتيش عن أحواله، والظاهر أن النقيب فعيل للمبالغة، كعليم وخبير. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}: عزر (¬1) الرجل، قال يونس بن حبيب: أثنى عليه بخير، وقال أبو عبيدة: عظمه، وقال الفراء: رده عن الظلم، ومنه التعزير؛ لأنه يمنع من معاودة القبيح. وفي "المختار": التعزير التوقير والتعظيم وفي "القاموس": التعزير: ضربٌ دون الحد، وهو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم، وضد الإهانة كالعزر والتقوية والنصر اهـ. {قَرْضًا حَسَنًا} يجوز أن يكون مصدرًا محذوف الزوائد وعامله {أَقْرَضْتُمُ}؛ أي: إقراضًا، ويجوز أن يكون بمعنى المقرض، فيكون مفعولًا به، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: وسطه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السبيل المستوي {لَعَنَّاهُمْ}؛ أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. {قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}: اسم فاعل من: قسا يقسو قسوة، فياؤه بدل واو، فأصله قاسوة؛ لأنه من القسوة. ويقرأ: قسية على وزن فعيلة، قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء، وفعيلة هنا بمعنى؛ فاعلة، ومعنى قاسية يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}: والتحريف إمالة الشيء، عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب {تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} يقال: طلع الشيء إذا برز وظهر، واطلع افتعل منه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{خَائِنَةٍ} فيها ثلاثة أوجه (¬1): أحدها: أنها اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية ونسابة؛ أي: على شخص خائن. والثاني: أن التاء للتأنيث، وأنث على معنى طائفة، أو نفس أو فعلة خائنة. والثالث: أنها مصدر كالعافية والعاقبة، ويؤيد هذا الوجه قراءة الأعمش {على خيانة}، وأصل خائنة خاونة فأعلَّ إعلال قائمة اهـ "سمين". {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وفي "المختار": والنصير الناصر، وجمعه أنصار، كشريف وأشراف، وجمع الناصر نصر كصاحب وصحب. والنصارى: جمع نصران ونصرانة، كالندامى جمع ندمان وندمانة، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب ونصره تنصيرًا جعله نصرانيًّا. وفي الحديث: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" اهـ. وفي "المصباح": ورجل نصارني بفتح النون، وامرأة نصرانية، ويقال: إنه نسبة إلى قرية اسمها نصرى، ولهذا قيل في الواحد نصرى على القياس والنصارى جمعه، مثل مهرى ومهارى، ثم أطلق النصراني على كل من تعبد بهذا الدين. اهـ. {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} من (¬2) أغراه بكذا؛ أي: ألزمه إياه، وأصله من الغراء بفتح الغين وكسرها، وهو ما يلصق به الورق أو الجلد ولامه واو. والأصل فأغرونا، وإنَّما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة، ومنه قولهم بيت مغروٌّ؛ أي: معمول بالغراء ويقال غرى بالشيء، يغرى غراءً وغرى لصق به، وأغرى فلان زيدًا بعمرو ولعه به، وأغريت الكلب بالصيد أشليته، وقال النضر: أغرى بينهم: هيّج. وفي "المصباح": غرى بالشيء غرىً - من باب تعب - أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل، وأغريته به إغراء فأغري به بالبناء للمفعول، والاسم الغراء الفتح والمد، والغراء مثل كتاب ما يلصق معمول من الجلود، وقد يعمل من السمك والغرا - مثل العصا - لغة فيه، وغروت الجلد أغروه من باب عدا؛ ألصقته ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الفتوحات.

بالغراء، وقوس مغروةٌ وأغريت بين القوم مثل أفسدت وزنًا، ومعنى: وغروت غروًا - من باب قتل - عجبت ولا غرو؛ أي: لا عجب. {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} والملك (¬1) والمِلك: الضبط. والحفظ والقدرة من قولهم: ملكت على فلان أمره؛ أي: قدرت عليه؛ أي: فمن يقدر؛ أي: يمنع. {عَلَى فَتْرَةٍ}: والفترة أصلها السكون، يقال: فتر الشيء إذا سكن، وقيل: هي الانقطاع. قاله أبو علي الفأرسي وغيره، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف؛ أي: منقطعة عن حدة النظر، والمعنى: أنه انقطع الرسل قبل بعثه - صلى الله عليه وسلم - مدةً من الزمان، والهاء (¬2) فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع: فمنها: الالتفات في قوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}. ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم، ومقتضى الظاهر أن يقول: وبعث الله، وإنَّما التفت اعتناء بشأنه. ومنها: المجاز المرسل في {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}، بإسناد الفعل إلى الآمر مثل قولهم: بنى الأمير المدينة. ومنها: إطلاق المشترك وإرادة أحد معانيه في قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}؛ لأنَّ المراد به هنا: النصر. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ} شبه الإنفاق في سبيل الله لوجه الله بالقرض على سبيل المجاز؛ لأنَّه إذا أعطى المستحق ماله لوجه الله تعالى، فكأنه أقرضه إياه. والاستعارة في قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} استعار الظلمات للكفر، والنور للإيمان على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: الالتفات في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى خطاب الفريقين. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَنَسُوا حَظًّا}؛ لأن النسيان مجاز عن الترك من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. ومنها: الكناية في قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ}؛ لأنه كناية عن إيقاع العداوة بينهم، والتعبير بالإغراء أبلغ، كأن العداوة لاصقة بهم كالغراء اللاصق بالجلد. ومنها: القصر في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. وذلك أن الخبر إذا عرف بالألف واللام .. أفاد القصر، سواء كان التعريف فيه عهديًّا أو جنسيًّا، فإذا ضم معه ضمير الفصل .. ضاعف تأكيد معنى القصر، فإذا صدرت الجملة بإنّ .. بلغ الكمال في التحقيق. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}:. ومنها: التكرار في قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}، وفي قوله: {يَهْدِي بِهِ}. و {يهديهم}. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[20]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم، من البشارات، وأخبار الغيب، وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم، وإبطال غرورهم، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرًا وعنادًا .. بين هنا تمرد أسلاف اليهود على موسى عليه السلام وعصيانهم إياه، مع تذكيره إياهم نعم الله تعالى وتعداده لما هو العظيم منها، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى، ليعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن مكابرتهم للحق من أخلاقهم توارثوها من أسلافهم، وتأصلت في طباعهم، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك، وصدوا عن هديك. وفي هذا من تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم، وسنن الاجتماع البشري. التفسير وأوجه القراءة 20 - قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} جملة مستأنفة لبيان ما فعلوا بعد أخذ

الميثاق؛ أي: واذكر يا محمَّد لبني إسرائيل المعاصرين لك وسائر من تبلغهم دعوتك قصة حين قال موسى لقومه، بعد أن أنقذهم الله تعالى من ظلم فرعون وقومه، وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} باللسان والجنان، واشكروه على ذلك بالطاعة له؛ لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. قال الطبري: هذا تعريف من الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بتمادي هؤلاء اليهود في الغيّ وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم، وتتابع أياديه وآلائه لديهم، سلى بذلك نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات الله عز وجل. وقرأ ابن محيصن (¬1): {يا قوم} بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير، وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ: {قل رب أحكم بالحق} - بالضم - وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم، وما ذكره الشوكاني هنا من تقديره بـ: يا أيها القوم اذكروا، غير صواب؛ لأنه يشعر بأنه نكرة مقصودة. وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم، وحصرها في ثلاثة أشياء: الأول: وهو أرفعها قدرًا وأعلاها ذكرًا ما ذكره بقوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ}؛ يعني: أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم، وبما أنعم به عليهم فقال: يا قومي اذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين جعل فيكم أنبياء؛ لأنه لم يبعث في أمة من الأمم ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل، ومنهم أولاد يعقوب؛ فإنهم كانوا أنبياء على قول الأكثرين. والمعروف عند أهل الكتاب (¬2) أن المراد بالنبوة الإخبار ببعض الأمور ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[21]

الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما في التوراة ويعملون بها، حتى المسيح عليه السلام. وأيضًا فإن الله تعالى أعلم موسى أنَّه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء، فكان هذا شرفًا عظيمًا لهم، ونعمة ظاهرة عليهم. والثاني: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}؛ أي: واذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين جعلكم ملوكًا وأحرارًا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدًا في أيدي القبط. والمراد من الملك هنا: الحرية في تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم. وفي هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى، ويؤيد هذا: ما رواه أبو سعيد الخدري، مرفوعًا "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملِكًا". وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم: "من كان له بيت وخادم .. فهو ملك ولا شك أن من كان متمتعًا بمثل هذا .. كان متمتعًا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف في سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدومًا مع عشيرته، هانئًا في معيشته، مالكًا لمسكنه: هذا ملك أو ملك زمانه، يريدون أنه يعيش عيشة الملوك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، ومن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ .. فهو ملك. والثالث: ما ذكره بقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}؛ أي: ويا قوم اذكروا إنعام الله تعالى عليكم حين أعطاكم ما لم يعطِ أحدًا من العالمين، من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وإيراث أموالهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وتظليل الغمام؛ فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل، أو عالمي زمانهم، وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك، فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم، وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأظل فوقهم الغمام، إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم، 21 - وبعد أن ذكرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم، أمرهم بمجاهدة العدوّ، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا

الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}؛ أي: المطهرة (¬1) من الوثنية والشرك لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد، وجعلها مسكنًا لهم وللمؤمنين، وإنَّما سميت مطهرة؛ لسكنى الأنبياء المطهرين فيها، فشرفت وطهرت بهم، فالظرف طاب بالمظروف، إنْ قلت: إنَّ الجبارين كانوا فيها، وهم غير مطهرين؛ أجيب بأنَّ الخير يغلب الشر، والنور يغلب الظلمة. وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل: إنَّ الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات، وبعضهم يسمي القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية، والباقي باسم فلسطين أو بلاد المقدس، أو الأرض المقدسة، أو أرض الميعاد؛ لأنَّ الله تعالى وعد بها ذرية إبراهيم، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب. وقيل: معنى المقدسة المباركة؛ لكثرة خيراتها ونباتها وأشجارها {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: التي قسمها وقدرها لكم في سابق علمه، وجعلها مسكنًا لكم. فإنْ (¬2) قلت كيف الجمع بين الكتابة التي تفيد تحتم الدخول وبين قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}؟. قلت: إنَّ المراد بالكتب الأمر بالدخول، أو بأن معنى قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: قدرها لكم في اللوح المحفوظ إنْ لم تقع منكم مخالفة، وقد وقعت فحرمت عليهم أربعين سنة، فهو قضاء معلق. وقيل معنى: (¬3) {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: وهبها الله لكم ميراثًا من أبيكم إبراهيم عليه السلام. روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله سبحانه وتعالى له: "انظر فما أدركه بصرك .. فهو مقدس وهو ميراث لذريتك" وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض الموعد. قال ابن عباس: الأرض هي الطور وما حوله. وقرأ ابن محيصن هنا وفي جميع القرآن: {يا قومُ} مضموم الميم ويروى قراءة عن ابن كثير، ووجهها أنها لغة في المضاف لياء المتكلم كقراءة: {قال رب احكم بالحق}. وقرأ ابن السميقع: {يا قومي ادخلوا} بفتح الياء؛ لأنَّه منادى مضاف لياء المتكلم، قال ابن مالك: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) صاوى. (¬3) المراح.

وَاجْعَلْ مُنَادَى صَحَّ أَنْ يُضَفْ لِيَا ... كَعَبْدِ عَبْدِيْ عبد عَبْدَا عَبْدِيَا فقول موسى عليه السلام (¬1): كتب الله لكم، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أنَّ المراد أنَّها تكون لها ملكًا لهم، لا يزاحمهم فيها أحد؛ لأن هذا مخالف للواقع، ولن يخلف الله وعده، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنَّه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح. ونص هذا الوعد في سفر التكوين من التوراة: أنَّه لما مرّ إبراهيم بأرض الكنعانيين .. ظهر له الربّ وقال: لنسلك أعطيت هذه الأرض. وجاء فيه أيضًا: في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أعطيت هذه من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر فرات. {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}؛ أي: لا تنكصوا ولا ترجعوا إلى خلفكم وعلى أعقابكم؛ أي: إلى مصر خوف العدوّ، وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنًا وفشلًا {فَتَنْقَلِبُوا} وتصيروا بسبب ذلك {خَاسِرِينَ} لخيري الدنيا والآخرة؛ لأن الفرار من الزحف من الكبائر، فإنهم لما سمعوا أخبار الجبارين قالوا: نجعل لنا رئيسًا ينصرف بنا إلى مصر، وصاروا يبكون ويقولون: يا ليتنا متنا بمصر. والمعنى: أي لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية، والفساد في الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء؛ فإنَّ في هذا الرجوع خسرانًا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها، وقد جاء في بعض أوصافها: "أنها تفيض لبنًا وعسلًا" وتعاقبون بالتيه أربعين سنة، ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم. ثم بعث موسي عليه السلام اثني عشر نقيبًا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض، فلما دخلوا تلك البلاد .. رأوا أجسامًا عظيمة هائلة، ثم انصرفوا إلى ¬

_ (¬1) المراغي.

[22]

موسى فأخبروه بالواقعة، فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه، فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم، وهما يوشع وكالب؛ فإنها سهلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم، وقلوب القوم الذين فيها ضعيفة، وإن كانت أجسامهم عظيمة. وأما العشرة من النقباء .. فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس، حتى أظهروا الامتناع من غزوهم، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر ولا يدخلنا الله بأرضهم، فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم 22 - {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا}؛ أي: قال قوم موسى له: إن في الأرض المقدسة {قَوْمًا جَبَّارِينَ}؛ أي: عاتين متغلبين لا طاقة لنا بهم، ولا قوة لنا بقتالهم، وسمي أولئك القوم جبارين لشدة بطشهم، عظم خلقهم، وكانوا ذوي أجسام عظيمة، وأشكالٍ هائلة، وهم العمالقة بقية قوم عاد. وقيل: من الروم من ولد عيص بن إسحاق. وقرأ ابن السميقع: {قالوا يا موسى فيها قوم جبارون}. {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا}؛ أي: لن ندخل أرض الجبارين التي أمرهم الله بدخولها؛ وهي الأرض المقدسة {حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}؛ أي: حتى يخرج الجبارون من الأرض المقدسة، من غير صنع منا، فإنَّه لا طاقة لنا بإخراجهم منا، وإنَّما قالوا ذلك .. استبعادًا لخروج الجبارين منها، كقوله: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} {فَإِنْ يخرُجُوا مِنها} بسبب ليس منا {فَإنَّا داخلون} فيها. والخلاصة (¬1): أنَّ موسى لما قرب بقومه حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة .. أمرهم بدخلوها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها، وأنهم لما غلب عليهم الضعف والذل، واضطهاد المصريين لهم، وظلمهم إياهم .. أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم، وقوة أهل تلك البلاد، وحاولوا الرجوع إلى مصر، وقالوا لموسى: إنَّا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها، وقولهم {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} تأكيد لما فهم مما قبله، مشعر بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه، وفي إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف، وخور ¬

_ (¬1) المراغي.

[23]

العزيمة، وعلى أنَّهم لا يريدون أن يأخذوا شيئًا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية، ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم، ولا أن يجلبوا لها الخير، بل يريدون أن يعيشوا بالخوارق والآيات ما داموا في هذه الحياة. ولا شك أن أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال وتحيا حياة العز والكرامة وتكون ذات تصرف مطلق في شؤونها ومن ثم لم تقم لها دولة بعد {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. 23 - {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى في مخالفة أمره ونهيه ويراقبونه {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالهداية والثقة بعون الله، والاعتماد على نصرة الله، والأشهر عند المفسرين أن الرجلين يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف عليه السلام، وهو ابن أخت موسى، ونبىء بعد موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة، فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم، فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن، بحيث امتنعوا عن القتال، فإذا فسرنا الرجلين بيوشع وكالب .. يستفاد من الكلام: أن مع موسى أقوامًا يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وقوته، وهذان منهم، أو المعنى: من الذين يخافون العدوّ، لكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات. وقيل (¬1): هما رجلان من الجبابرة أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا، واجتمعا مع موسى، فحينئذ فالموصول واقع على الجبابرة، والواو في يخافون على بني إسرائيل، والعائد محذوف، والتقدير: قال رجلان من الجبارين الذين يخافهم بنو إسرائيل، أنعم الله عليهما بالإيمان مع موسى، ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد: {يخافون} بضم الياء على صيغة المبني للمجهول؛ أي: الذين يخافهم بنو إسرائيل، وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب. ومعنى يخافون؛ أي: يهابون ويوقرون، ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف؛ أي: يخيفون بأوامر الله ونواهيه، وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحًا لهم كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}. ذكره أبو حيان في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[24]

"البحر". {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ}؛ أي: على الجبارين {الْبَابَ}؛ أي: باب بلدهم؛ أي: باغتوهم وضاغطوهم في المضيق، وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالًا. وفي قراءة عبد الله: {أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب}. وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريبًا من المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ}؛ أي: باب بلدهم {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} من غير حاجة إلى القتال، فإنا شاهدنا أن قلوبهم ضعيفة، وإنْ كانت أجسامهم عظيمة؛ وإنَّما جزم هذان الرجلان بالغلبة؛ لأنَّهما كانا جازمين بنبوة موسى، فلما أخبرهم موسى بأن الله تعالى أمرهم بالدخول في تلك الأرض، وكتبها لهم قطعا بأن النصرة لهم، والغلبة حاصلة في جهتهم {وَعَلَى اللَّهِ} لا على غيره {فَتَوَكَّلُوا} في حصول هذا النصر لكم بعد ترتيب الأسباب، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بصحة نبوة موسى، ومقرين بوجود الإله القادر، مصدقين لوعده. والمعنى: أي (¬1) ادخلوا عليهم باب المدينة، فإذا فعلتم ذلك .. نصركم الله، وأيدكم بروح من عنده، بعد أن تعلموا ما في طاقتكم من طاعة ربكم، الذي تثقون به فيما لا يصل إليه كسبكم، إن كنتم مؤمنين بأن وعد الله حق، وأنَّه قادر على الوفاء به؛ وإنَّما جزم الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا .. ثقة بنبوة موسى، وهو قد أخبرهم بأنَّ الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدوّ. 24 - {قَالُوا}؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا}؛ أي: أرض الجبارين {أَبَدًا}؛ أي: مدة حياتنا {مَا دَامُوا فِيهَا}؛ أي: ما دام الجبارون مقيمين في أرضهم، وكان هذا القول منهم فشلًا وجبنًا، أو عنادًا وجرأة على الله وعلى رسوله {فَاذْهَبْ أَنْتَ} يا موسى {وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} هم قالوا هذه المقالة جهلًا باللهِ عَزَّ وَجَلَّ وبصفاته، وكفرًا بما يجب له، أو استهانة بالله ورسوله، وقلة ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم، وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل، وسألوا بها رؤية الله جهرة، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم. وقيل (¬1): أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد. وقيل: أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى بسنة، وكان موسى يطيعه {إنَّا هاهنَا قَعِدُون}؛ أي: لا نبرح قاعدين في هذا المكان، لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل: أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر. والخلاصة (¬2): أنَّهم أصروا على العناد والتمرد، ولم تغن عنهم عظات الرجلين شيئًا، فأكدوا لموسى أنَّهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون؛ لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال، إذ ليسوا من أهله، فإنْ صحت عزيمتك على ذلك .. فاذهب أنت ربك الذي أمرك بذلك، فقاتلا الجبارين، وأخرجاهم من هذه الأرض، وإنَّا ها هنا قاعدون منتظرون. وهذا القول الذي صدر منهم يدل علي منتهى الجفاء والبعد عن الأدب، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل، وكان دأبهم الشغب مع أنبيائهم، وقتلوا كثيرًا منهم، كأشعيا وزكريا، وقص القرآن كثيرًا من فساد طباعهم، وقسوتهم وغلظهم. 25 - {قالَ} موسى عليه السلام لما رأى منهم عنادًا وتمردًا على طريق الحزن والشكوى إلى الله تعالى، معتذرًا من فسق قومه عن أمره الذي يبلغه عنه {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ} أمر أحد أحمله على طاعتك {إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} وقرأ الحسن بفتح الياء فيهما؛ أي: إلا أمر نفسي وأمر أخي، ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره والمحبوب والمكروه. وفي هذا إيماء إلى أنَّه لم يكن موقنًا بثبات يوشع وكالب، ورغبتهما في الطاعة، إذ أمر الله بدخول أرض الجبارين، والتصدي لقتالهم، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير .. ربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل {فَاَفْرق ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[26]

بَيْنَنا} يعني نفسه وأخاه هارون؛ أي فافصل بيننا {وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: الخارجين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا وبينهم، فتحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، فقد صرنا خصمًا لهم، وصاروا خصمًا لنا، والغرض منه الدعاء عليهم. وقيل: إنَّ المعنى: أنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم .. فلا تعاقبنا معهم في الدنيا، وإنَّما قال ذلك تقليلًا لمن يوافقه، ويجوز أن يكون المعنى: إلا نفسي ومن يؤاخيني في الدين، فعلى هذا الاحتمال يدخل الرجلان في قوله: {وأخي}. وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود: {فافرِق} بكسر الراء، وقال الراجز: يَا رَبُّ فَافْرِقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وقرأ ابن السميقع: {ففرق}. 26 - {قَالَ} الله سبحانه وتعالى لموسى مجيبًا دعوته: يا موسى {فَإِنَّهَا}؛ أي: فإن الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}؛ أي: ممنوع عليهم الدخول فيها أبدًا حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم. والمراد بالتحريم: تحريم منع وفعل، لا تحريم تعبد وتكليف، فلا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم، نظير قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}، وكون التحريم مؤبدًا إنْ قلنا إن الكلام تم عند قوله. {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} ظرف لقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يسيرون في البرية مدة أربعين سنة، تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم. وقيل: معناه أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم يدخلونها وتفتح لهم، وعلى هذا القول فأربعين سنة ظرف لقوله: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} فلما (¬1) انقضت مدة أربعين سنة .. خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدسة فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلمَّا تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال: إنَّك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ، فحبسها الله تعالى ¬

_ (¬1) ابن كثير.

حتى فتحها، وأمر الله يوشع بن نون: أن يأمر بني إسرائيل - حين يدخلون بيت المقدس - أن يدخلوا بها سجدًا، وهم يقولون حطة؛ أي: حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على استاههم وهم يقولون حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في البقرة. وقوله تعالى: {فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تسلية لموسى عليه السلام عنهم لما ندم على الدعاء عليهم، وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم؛ أي؛ لا تحزن يا موسى على هلاكهم وعقوبتهم؛ لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة، فهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهي، وقيل: الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد بالفاسقين معاصروه؛ أي: هذه فعال أسلافهم، فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك، وردهم عليك؛ فإنَّها سجية خبيثة موروثة عندهم. فائدة: واختلف المفسرون في مقدار الأرض التي تاهوا فيها (¬1)، فقيل: مقدار ستة فراسخ، وقيل: ستة فراسخ في اثني عشر فرسخًا، وقيل: تسع فراسخ في ثلاثين فرسخًا، وكان القوم ست مئة ألف مقاتل، وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع، فإذا أمسوا .. إذ هم في الموضع الذي رحلوا منه، وكان ذلك التيه عقوبة لبني إسرائيل، ما خلا موسى وهارون ويوشع وغالب؛ فإن الله تعالى سهله عليهم، وأعانهم عليه، كما سهل على إبراهيم النار وجعلها بردًا وسلامًا. فإنْ قلت: (¬2) كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم، في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة، بحيث لم يخرج منه أحد؟. قلت: هذا من باب خوارق العادات، وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة؛ فإن الله على كل شيء قدير. وقيل: إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد .. زال هذا الإشكال لاحتمال أن الله ما حرم عليهم الخروج من تلك الأرض، بل أمرهم بالمكث فيها أربعين سنة في المشقة والمحنة، جزاءً لهم على سوء صنيعهم، ومخالفتهم أمر الله، ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

موسى عليه السلام حالهم، فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، فينشأ الناشىء منهم، فتكون معه على مقداره وهيئته، وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر أبيض من جبل الطور، فكان إذا نزل ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عين، وأرسل الله عليهم الغمام يظللهم في التيه، ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، ولم يدخل أريحاء ممن قال: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا}. واختلفوا في أنَّ موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه. فقيل: إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعًا. وإن (¬1) في هذا العقاب الإلهي لعبرة لأولي الألباب، يستفيدون منها، أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستعباد تذهب أخلاقها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتأنس بالمهانة، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعًا خلقية لها، كما رأينا ذلك في بعض الشعوب التي أخذها الاستئمار، كشعوب الأروميا في شرقي أفريقيا، وغيرهم ممن أخذهم واستعبدهم الاستئمار، فإذا خرجوا من بيئتهم، ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد .. حنوا إلى ما كانوا فيه أولًا، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه، وهذا شأن البشر في جميع ما يألفون، ويجرون عليه من خير وشرّ. وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدًا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبيَّن لهم أنَّه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرًا يشق عليهم، يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، وحين غاب عنهم موسى عليه السلام لمناجاة ربه، اتخذوا لهم عجلًا من حليهم وعبدوه، وكان يعلم أن نفوسهم ميتة، لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين وأن وعده تعالى لأجدادهم إنَّما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي ¬

_ (¬1) المراغي.

نشأ في الوثنية، ونشأ بعده جيل جديد يعيش في حرية البداوة وعدل الشريعة. وعلى هذه السنة العادلة أمر الله بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله، لكنهم أبوا واستكبروا، فأخذهم بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قومًا آخرين، جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته في الاجتماع. قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام فأما هارون (¬1): فإنه كان أكبر من موسى بسنة، قال السدي: أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون، فأتِ به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا بشجرة لم يرَ مثلها. وإذا بيت مبني وفيه سرير عليه فراش، وفيه رائحة طيبة، فلما رأى هارون ذلك البيت أعجبه وقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نمْ، قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ، قال: لا تخف إنِّي أكفيك رب هذا الييت فنم، قال: يا موسى فنم أنت معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموتُ، فلما وجد مسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قبض هارون، ورفع البيت والسرير إلى السماء - وهارون عليه - وذهبت الشجرة، فرجع موسى إلى بني إسرائيل وليس هارون معه، فقال بنو إسرائيل: حسد موسى هارون فقتله لحبنا إياه، قال موسى: ويحكم إن هارون كان أخي، أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه، قام موسي، فصلى ركعتين، ثم دعا الله عز وجل، فنزل السرير - وعليه هارون - فنظروا إليه وهو بين السماء والأرض فصدقوه، ثم رفع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صعد موسى وهارون عليهما السلام إلى الجبل، فمات هارون وبقي موسى، فقال بنو إسرإئيل لموسى: أنت قتلته، وآذوه، فأمر الله الملائكة، فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة، فصدقت بنو إسرائيل أنه مات، وبرأ الله موسى مما قالوه، ثم ¬

_ (¬1) الخازن.

إن الملائكة حملوه ودفنوه، ولم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم، فجعله أصم أبكم. وأما وفاة موسى عليه السلام، فقال ابن إسحاق: كان صفي الله موسى عليه السلام قد كره الموت وأعظمه، فأراد الله تعالى أن يحبب إليه الموت، فنبأ يوشع بن نون، فكان موسى يغدو ويروح إليه ويقول له: يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع: يا نبى الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك، حتى كنت أنت تبتدىء به، وتذكره لي، ولا يذكر له شيئًا؟ فلما رأى موسى ذلك، كره الحياة وأحب الموت. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟ فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده من شعرة سنة، قال: أي رب ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلو كنت ثَم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر". متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: جاء ملك الموت إلى موسى، فقال: أحب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها. ثم ذكر معنى ما تقدم. قال النواوي: قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكره تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقأ عين ملك الموت؟ وأجاب عنه العلماء بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون الله قد أذن لموسى في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء، ويمتحنهم بما أراد. والثاني: أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله تعالى، وظن أنَّه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقأ عينه، لا أنه قصدها بالفقأ، وتؤيده رواية صكّه، وهذا جواب الإِمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، قالوا: وليس في الحديث تصريح

بأنه قصد فقأ عينه. فإنْ قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيًا بأنه ملك الموت؟ فالجواب: أنَّه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت، فاستسلم له بخلاف المرة الأولى. وأما سؤال موسى الإدناء من الأرض المقدسة؛ فلشرفها وفضلها، وفضل من بها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم. وفيه دليل على استحباب الدفن في المواضع الفاضلة، والمواطن المباركة، والقرب من مدافن الصالحين. قال بعض العلماء: وإنَّما سأل موسى الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس؛ لأنَّه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم فيفتتن به الناس كما مر، والله أعلم. قال وهب بن منبه: خرج موسى لبعض حاجته، فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرًا لم ير شيئًا أحسن منه، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد كريم على ربه، فقال: إن هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط؟ فقالت الملائكة: يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك، فنزل واضطجع وتوجه إلى ربه عز وجل، ثم تنفس أسهل تنفس، فقبض الله روحه، ثم سوت الملائكة عليه التراب. وقيل: إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه، وكان عمر موسى عليه السلام مئة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام .. انقضت الأربعون سنة، وبعث الله يوشع إلى بني إسرائيل، فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبارين، فصدقوه وتابعوه، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء - وهي مدينة الجبارين - ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر. فلما كان في السابع نفخوا في القرون، وضجوا في الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة، فدخلوها وقاتلوا الجبارين وهزموهم، وهجموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل من الجبابرة بضربونها حتى يقطعونها، وكان القتال والفتح يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال: اللهم اردد علي الشمس، وقال للشمس: إنك في طاعة الله، وأنَّا في طاعة الله، وسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقف، حتى

ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت، ورد الله عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين، وتتبع ملوك الشام، فاستباح منهم أحدًا وثلاثين ملكًا، حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت كلها لبني إسرائيل وفرق عماله نواحيها، وجمع الغنائم، فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولًا فليبايعني من كل قبيلة رجل ففعلوا، فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس ثور من ذهب، مكلل بالياقوت والجوهر، قد غلّه رجل منهم، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان. وفي الحديث الصحيح ما يدل على صحة هذا، وهو ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها، ولا أحد بني بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا رجل اشترى غنمًا، أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنَّك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها، فلم تطعهما، فقال: إنَّ فيكم غلولًا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها". زاد في رواية فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا. أخرجه البخاري ومسلم. الإعراب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ}. {وَإِذْ} (الواو): استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمَّد وقت قول موسى لقومه، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {لِقَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {خَاسِرِينَ} مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ} يا:

حرف نداء. {قوم}: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحه مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتعال المحل بحركة المناسبة {قوم} مضاف. وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه مبنية على السكون، هذا على قراءة الجمهور بكسر الميم. وقرىء بضم الميم وإعرابه على هذه القراءة {يا}: حرف نداء. {قومُ}: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة المقلوبة ضمة تشبيهًا له بالنكرة المقصودة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة {قوم} مضاف، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة المقلوبة ضمة في محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. وهذه اللغة أعني - لغة الضم - هى اللغة السادسة من اللغات الست الجارية في المنادى الصحيح الآخر، المضاف إلى ياء المتكلم، سواء كان لفظ أب أو أم أو غيرهما، كما بينتها بيانًا شافيًا في رسالتي المسماة بـ "هدية أولي العلم والإنصاف، في إعراب المنادى المضاف" المطبوعة مع "الباكورة" الموضوعة على "الآجرومية" ولم يذكر هذه اللغة ابن مالك في "ألفيته" حيث قال: وَاجْعَلْ مُنَادَى صَحَّ أَنْ يُضَفْ لِيَا ... كَعَبْدِ عَبْدِيْ عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}. {اذْكُرُوا}: فعل وفاعل. {نِعْمَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في على النصب مقول القول على كونها جواب النداء، {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ} أو حال منها {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ}. {جَعَلَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {فِيكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {جَعَلَ} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {أَنْبِيَاءَ}: مفعول أول له، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذ. {وَجَعَلَكُمْ}: فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {مُلُوكًا}: مفعول ثانٍ لجعل،

وجملة {جَعَلَ}: في محل الجر معطوفة على جملة {جَعَلَ} الأول. {وَآتَاكُمْ}: فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثانٍ لآتى، وجملة آتى في محل الجرّ معطوفة على جملة {جَعَلَ} الأول. {لَمْ يُؤْتِ} جازم وفعل، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والمفعول الأول محذوف تقديره ما لم يؤته وهو العائد على {مَا}. {أَحَدًا} مفعول ثانٍ {مِنَ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدًا}، وجملة آتى صلة لما أو صفة لها {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {ادْخُلُوا الْأَرْضَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول القول مع كونها جواب النداء. {الْمُقَدَّسَةَ} صفة أولى لـ {الْأَرْضَ}. {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب صفة ثانية لـ {الْأَرْضَ}. {كَتَبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {لَكُمْ} متعلق بـ {كَتَبَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: كتبها الله لكم، {وَلَا تَرْتَدُّوا} جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {ادْخُلُوا}. على كونها جواب النداء {عَلَى أَدْبَارِكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَرْتَدُّوا}، أو حال من فاعله تقديره: ولا ترتدوا حال كونكم منقلبين على أدباركم {فَتَنْقَلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بحذف النون على كونه معطوفًا على {تَرْتَدُّوا}، أو منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي {خَاسِرِينَ} حال من فاعل تنقلبوا. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {يَا مُوسَى} إلى قوله: {دَاخِلُونَ} مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {يَا مُوسَى} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {قَوْمًا}: اسمها مؤخر. {جَبَّارِينَ} صفة {قَوْمًا}، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {وإنَّا} الواو: عاطفة. {إِنَّا} {إنَّ}: حرف نصب. ونا: اسمها. {لَنْ نَدْخُلَهَا} ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على قوم موسى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ،

وجملة {إنَّ} في محل النصب معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى، على كونها مقول القول. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَخْرُجُواْ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى إلى. {مِنْهَا} متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أنْ} المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، بمعنى إلى تقديره: إلى خروجهم منها، الجار والمجرور، متعلق بـ {نَدْخُلَهَا}. {فَإِنَّا دَاخِلُونَ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت عدم دخولنا إلى خروجهم، وأردت بيان حكم ما إذا خرجوا منها .. فأقول لك. {إنْ}: حرف شرط. {يَخْرُجُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها. {مِنْهَا} متعلق بـ {يَخْرُجُوا}. {فَإِنَّا} الفاء: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا. {إِنَّا}: {إنَّ}: حرف نصب. و (نا): ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {دَاخِلُونَ}: خبر إنَّ مرفوع بالواو، وجملة {إنَّ} في محل الجزم على كونها جوابًا لها، وجملة {إنَّ}: الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}. {قَالَ رَجُلَانِ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {رَجُلَانِ} {يَخَافُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {أَنْعَمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {عَلَيْهِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَنْعَمَ} وجملة {أَنْعَمَ اللَّهُ} في محل الرفع صفة ثانية لـ {رَجُلَانِ}، {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} إلى قوله {مُؤْمِنِينَ} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَلَيْهِمُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {ادْخُلُوا}. {الْبَابَ}: مفعول به. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ}: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم قولنا: ادخلوا عليهم الباب، وأردتم بيان ما يترتب على الدخول .. فأقول لكم. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمنة معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية،

والظرف متعلق بالجواب الآتي. {دَخَلْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا}. {فَإِنَّكُمْ} (الفاء): رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {إن}: حرف نصب. (الكاف): ضمير المخاطبين في محل النصب اسمها {غَالِبُونَ}: خبر إنَّ، وجملة إنَّ جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}: (الواو): استئنافية. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {توكلوا}. {فَتَوَكَّلُوا}: (الفاء): زائدة. {توكلوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {إِن}: حرف شرط جازم {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {مُؤْمِنِينَ}: خبر كان، وجواب {إِن} الشرطية محذوف معلوم مما قبلها تقديره: إنْ كنتم مؤمنين .. فتوكلوا على الله، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا مُوسَى} إلى قوله: {قَاعِدُونَ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإنْ شئت قلت: {يَا مُوسَى}: منادى مفرد علم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا} ناصب واسمه. {لَنْ نَدْخُلَهَا}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم موسى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول. {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {نَدْخُلَهَا}. {مَّا}. مصدرية ظرفية. {دَامُوا}: فعل ناقص واسمه. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر دام، وجملة دام صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامهم فيها وهذا الظرف المقدر (¬1) بدل من {أَبَدًا} بدل بعض من كل لأنَّ الأبد يعم الزمن المستقبل كله، ودوام الجبارين فيها بعضه، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وظاهر عبارة الزمخشري يحتمل أن يكون بدل كل من كل، أو عطف بيان، والعطف قد يقع في النكرتين، على خلاف فيه تقدم. اهـ. "سمين". {فَاذْهَبْ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {اذهب}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على موسى {أَنْتَ} تأكيد لضمير الفاعل المستتر {وَرَبُّكَ} معطوف على ضمير الفاعل المستتر في {اذهب} والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} على كونها مقول {قَالُوا}. وفي "الفتوحات" قوله: {وَرَبُّكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مرفوع عطفًا على العامل المستتر في {اذهب} وجاز ذلك للتأكيد بالضمير على حد قوله: وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنْفَصِلْ الثاني: أنَّه مرفوع بفعل محذوف؛ أي: وليذهب ربك، ويكون من عطف الجمل، وقد تقدم لي نقل هذا القول، والرد عليه، ومخالفته لنص سيبويه عند قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}. الثالث: أنه مبتدأ والخير محذوف، والواو واو الحال. والرابع: أن الواو للعطف، وما بعدها مبتدأ محذوف الخبر أيضًا، ولا محل لهذه الجملة عن الإعراب لكونها دعاء والتقدير: وربك يعينك. اهـ. "سمين". {فَقَاتِلَا} الفاء: عاطفة. {قاتلا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَاذْهَبْ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه {هَاهُنَا} ها: حرف تنبيه. هنا: ظرف مكان في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلق بـ {قَاعِدُونَ}. {قَاعِدُونَ} خبر إنَّ، وجملة إن مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.

{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ} إلى {الْفَاسِقِينَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإنْ شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي} ناصب واسمه {لَاَ}: نافية. {أَمْلِكُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {موسى}، والجملة جواب النداء في محل خبر {إنّ} إنّ وأسمها وخبرها في محل نصب مقول {قَالَ}. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {نَفْسِي}: مفعول به ومضاف إليه. {وَأَخِي} معطوف على {نَفْسِي} {فَافْرُقْ}: (الفاء): حرف عطف وتقريع. {افرق}: فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مفرعة معطوفة على جملة {لَا أَمْلِكُ}. {بَيْنَنَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {افرق}. {وَبَيْنَ الْقَوْمِ}: ظرف ومضاف إليه معطوف على {بَيْنَنَا}. {الْفَاسِقِينَ} صفة للقوم. {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {فَإِنَّهَا}: (الفاء): استئنافية. (إنَّ): حرف نصب. و (الهاء): اسمها. {مُحَرَّمَةٌ}: خبرها. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {مُحَرَّمَةٌ}، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول (قال). {أَرْبَعِينَ} منصوب على الظرفية الزمانية وعلامة نصبه الياء. {سَنَةً} تمييز لـ {أَرْبَعِينَ}، والظرف متعلق بـ {مُحَرَّمَةٌ}. {يَتِيهُونَ}: فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور في {عَلَيْهِمْ}. وفي "الفتوحات" قوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} ظرف لقوله: {يَتِيهُونَ} فيكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، أو هو ظرف لـ {مُحَرَّمَةٌ} فيكون التحريم مقيدًا بهذه المدة. والأول: تفسير كثير من السلف. وأمَّا الوجه الثاني: فيدل عليه ما روي أنَّ موسى عليه السلام سار بعده بمن بقي منهم، ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله، ثم قبض. اهـ

"كرخي". {فَلَا تَأسَ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {لا} ناهية جازمة. {تَأسَ}: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة - وهو الألف - والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على موسى والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة (إنَّ) في محل النصب على كونها مقول {قَالَ}. {عَلَى الْقَوْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأسَ}. {الْفَاسِقِينَ} صفة لـ {الْقَوْمِ}. التصريف ومفردات اللغة {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} الملوك: جمع مَلِك بفتح أوله وكسر ثانيه، والملك صاحب الملك، وصاحب الأمر، وصاحب السلطة على أمة أو قبيلة أو بلاد. ومعنى كونهم ملوكًا: أنَّهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون. {عَلَى أَدْبَارِكُمْ} والأدبار جمع دبر بفتح أوله وسكون ثانيه، والدبر خلف الشيء ووراءه، تقول: جعل كلامي دبر أذنيه؛ أي: تغافل عنه ولم يلتفت إليه. والمعنى هنا: لا ترجعوا وراءكم هاربين من الأعداء {قَوْمًا جَبَّارِينَ} جمع سلامة لجبار قال (¬1) الزجاج: الجبار من الآدميين العاثي، وهو البالغ النهاية في الفساد أو الكفر، أو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار، وهو الإكراه؛ فإنَّه يجبر غيره على ما يريده، يقال: أجبره إذا أكرهه، وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا: المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعًا بحق أو باطل. قال الفراء: لم أسمع فعالًا من أفعل إلا في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. وقال أبو حيان: والجبار فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختار، والجبارة النخلة الطويلة العالية التي لا تنال بيد، واسم الجنس جبار. والمراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام، طوال متعاظمون، قيل: هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل: هم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وقيل: هم من الروم، ويقال: إنَّ منهم عوج بن عنق المشهور المفرط، وما ذكره بعض المفسرين هنا والقصاصون في ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قصة عوج بن عنق من الأكاذيب الباطلة، والخرافات الفاشية، مما ينبغي أن يجرد الكتاب منها، وأن نضرب عنها صفحًا. {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} من التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال: منه تاه يتيه تيهًا، من باب باع، أو تاه يتوه توهًا من باب قال: إذا تحير في أمره. والأرض (¬1) التوهاء: التي لا يهتدى فيها وأرض تيه، وقال ابن عطية: التيه لذهاب في الأرض إلى غير مقصود. {فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} والأسى (¬2): الحزن، يقال: أسى من باب جوى بكسر العين، يأسى أسى بفتحها، ولام الكلمة يحتمل أن تكون من واو، وهو الظاهر لقولهم: رجل أسوان بزنة سكران؛ أي: كثير الحزن، ويقال في تثنيته: أسوان، ويحتمل أن تكون من ياء، فقد حكى رجل أسيان؛ أي: كثير الحزن، فتثنيته على هذا أسيان. اهـ "سمين". وفي "المصباح" أسي أسى من باب تعب إذا حزن، فهو أسود مثل حزين، وأسوت بين القوم أصلحت، وآسيته بنفسي بالمد سويته، ويجوز إبدال الهمزة واوًا في لغة اليمن فيقال: وسيته انتهى. وفي "المختار" وأسا على مصيبته من باب عدا؛ أي: حزن، وقد أسى له؛ أي: حزن له انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}، وفي قوله: {الْفَاسِقِينَ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {مُّلُوكًا}؛ لأن المعنى: جعلكم كالملوك في الاستقلال بأمر أنفسكم. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} لأنه كناية عن الهرب، وفي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل.

قوله: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} لأنه كناية عدم التقدم للحرب، وفي قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}؛ لأنه كناية عن الفصل والحكم بينهم. ومنها: التنبيه والإشارة في قوله: {هَاهُنَا}. ومنها: الاعتراض في قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}؛ لأنها جملة اعتراضية لبيان فضل الله على عباده الصالحين. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}؛ لأن المحرم عليهم دخولُ الأرض المقدسة لا ذاتها. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ لأنه بمعنى قدَّر الله لكم. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا}، وفي قوله: {فَإِنَّا دَاخِلُونَ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}، وفي قوله: {فَإِنْ يَخْرُجُوا}. ومنها: التأكيد في قوله: {مَا دَامُوا فِيهَا}؛ لأنه مؤكِّد لقوله: {أَبَدًا}؛ لأنه على تقدير الظرف؛ لأن المعنى: لن ندخُلَها أبدًا مدَّة دوامهم فيها. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1)، هي: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تمرد بني إسرائيل وعصيانهم أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين .. ذكر قصة ابني آدم وعيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاصٍ لله تعالى، وأنهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة، والعتو، وقوة النفس، وعدم المبالاة، بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها؛ بحيث كان أول من سن القتل، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه، ومن حيث المعصية بهما. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) حسد اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البراهين الدالة على صدقه، وكثرة الآيات المثبتة لنبوته، حتى هم قوم منهم أنْ يبسطوا أيديهم لقتله، وقتل كبار أصحابه؛ كما ذكر ذلك في قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} .. ذكر هنا قصة ابني آدم بيانًا لكون الحسد - الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحملهم على عداوته - عريقًا في الآدميين وأثرًا من أثار سلفهم، كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر. فلا تعجب من حالهم بعد هذا؛ فإن لهم أشباهًا ونظائر في البشر كابني آدم، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء، وقتل الأخ أخاه، وبذر تلك البذور السيئة في بني آدم إلى قيام الساعة. قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة (¬2)؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فسادٍ في الأرض .. أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل؛ فإن بعض ما يكون فسادًا في الأرض لا يوجب القتل، ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أهل الإِسلام. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين فظاعة جرم القتل، وشدد في تبعة القاتل، فذكر أن من قتل نفسًا بغير حق فكأنَّما قتل الناس جميعًا .. ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض؛ حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدًا منهم له، وغرورًا بدينهم، واعتقادًا منهم أنَّهم أبناء الله وأحباؤه .. أمر المؤمنين بأنْ يتقوه، ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح، ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب، ثم أكد ذلك فبين أنَّ الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما، فمن لم ينلهما لاقى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه. وقال أبو حيان: (¬2) مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا من العقوبات الأربع، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة .. أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه؛ فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعذاب المعد للمحاربين. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا إليه من الفلاح .. شرح حال الكفار، وعاقبة كفرهم، وما أعد لهم من العذاب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[27]

أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ...} الآيتين، وقد ذهب أكثر الأئمة (¬1) إلى أنَّ الآيتين نزلتا في عكل وعرينة؛ فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحابُ السنن عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكلموا بالإِسلام، فاستوخموا المدينة - وجدوها رديئة المناخ - فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذود - بضع من الإبل - وراعٍ، وأمرهم أنْ يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم - كحلوها بمسامير الحديد المحماة - وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، زاد البخاري: أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس نقال: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك (كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة). وروى أبو داودَ والنسائي عن أبي الزناد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله تعالى في ذلك فأنزل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 27 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واقرأ يا محمَّد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} عليه السلام؛ أي: خبر ولدي آدم من صلبه على الراجح عند المفسرين قابيل وهو أكبرهما وهابيل وهو أصغرهما تلاوةً متلبسة {بِالْحَقِّ} والصدق، مظهرة وكاشفة له، ومبينة لغرائز البشر وطبائعهم، وهي أنَّهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضي إلى التحاسد، والبغي، والقتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله في عقاب البغاة من الأفراد والجماعات، ويفقهوا أن بغي اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم في شيء، وإنَّما ذاك للحسد ¬

_ (¬1) المراغي.

والبغضاء، فما مثلهم إلا مثل ابني آدم؛ إذ حسد شرهما خيرهما، فبغى عليه فقتله، وكان مآله ما بينه الله سبحانه وتعالى في الآيات بعد. وهذه القصة دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلمَّا كانت نعم الله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم النعم، كان أهل الكتاب استخرجوا أنواع المكر في حقه - صلى الله عليه وسلم - حسدًا منهم، فكان ذكر هذه القصة تسلية من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {إِذْ قَرَّبَا}؛ أي: واتل عليهم قصتهما ليعتبروا بها حين قرب وقدم كل منهما إلى الله سبحانه وتعالى {قُرْبَانًا} وصدقة؛ بأمر أبيهما - وهو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة .. {فَتُقُبِّلَ} القربان {مِنْ أَحَدِهِمَا} وهو هابيل أصغرهما؛ أي: تقبل الله منه قربانه لتقواه، وإخلاصه، وطيب نفسه به {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ} القربان {مِنَ الْآخَرِ} وهو قابيل أكبرهما أي لم يتقبل الله منه قربانه لعدم التقوى والإخلاص. ولم يبين الله سبحانه لنا كيف علمًا أنَّه تقبل من أحدهما دون الآخر، وربَّما كان ذلك بوحي من الله تعالى لأبيهما آدم عليه السلام. روي (¬1) عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما: أنَّ أحدهما كان صاحب حرث وزرع فقرب شر ما عنده وأردأه، غير طيبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم وقرب أكرم غنمه، وأسمنها وأحسنها، طيبة به نفسه، كما روي عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله، ولا تأكل غير المقبول، وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق. والقرابين عند اليهود أنواع: منها المحرقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب، ومنها التقدمات من الدقيق والزيت والألبان، ومنها ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى، والقربان عند النصارى: ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر، فيتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة، والقربان عند المسلمين: اسم لذبائح النسك كالأضاحي وغيرها. فأضمر الذي لم يتقبل منه القربان - وهو قابيل - لأخيه هابيل الحسد إلى أن ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

أتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب، فأتى قابيل لهابيل وهو في غنمه وقال؛ أي: قابيل لهابيل: والله لأقتلنك يا هابيل؛ أي: إن الذي لم يتقبل منه توعد أخاه وحلف ليقتلنه، فقال هابيل: ولم تقتلني؟ قال قابيل: لأن الله تقبل قربانك ورد قرباني، وتريد أن تنكح أختي الجميلة وأنكح أختك الدميمة، فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي. وقرأ زيد بن علي: {لأقتلنْك} بالنون الخفيفة. فأجابه الآخر الذي هو هابيل أحسن جواب {فقال}: وما ذنبي الذي حملك على قتلي؟ فإن عدم قبول قربانك لعدم إخلاصك وتقواك لأنَّه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى القرابين، وسائر الأعمال الصالحة {مِنَ الْمُتَّقِينَ}؛ أي ممن يتصف بتقوى الله، والخوف من عقابه باجتنابه الشرك، وسائر المعاصي كالرياء، والشح، واتباع الأهواء. وخلاصة جوابه: إني لم أذنب إليك ذنبًا تقتلني به، فإن كان الله لم يتقبل قربانك .. فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك؛ فإن الله إنما يتقبل من المتقين فاحمل نفسك على تقوى الله، والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك. قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وفي الحديث: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب". وفي هذا من العبرة ما كان ينبغي أن يتعظ يه المراؤون الذين يبتغون بما يتصدقون به الصيت - الذكر الحسن - واجتلاب الثناء من الناس، وحسن الأحدوثة. 28 - ثم بين الله سبحانه وتعالى ما يجب للناس من احترام الدماء، وحفظ الأنفس، ولا سيما بين الأخوة فقال إخبارًا عن هابيل: والله {لَئِنْ بَسَطْتَ} ومددت {إلى يدك لـ} ـكي {تقتلني} وتباشر قتلي حسبما أوعدتني {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ} وماد {يَدِيَ إِلَيْكَ} يا قابيل {لـ} ـكي {أقتلك} وأباشر قتلك؛ أي: إن مددت يدك لتقتلني، فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسئة مثلها، فذاك لا يتفق مع شمائلي، وصفاتي، وأخلاقي؛ إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافي تقوى الله تعالى والخوف من عذابه. ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} سبحانه وتعالى وأخشى {رَبَّ الْعَالَمِينَ} ومالك المخلوقات أن

[29]

يعاقبني إن بسطت يدي إليك لأقتلك؛ أي: إنِّي أخاف الله، وأخشى أن يراني باسطًا يدي إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق، وهو رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه، ويربيهم بفضله، وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية، ولا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية، وليس في الكلام ما يدل على عدم الدفاع ألبتة؛ ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل، وقد روى الشيخان وأحمد وغيرهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فقتل أحدهما صاحبه .. فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه". 29 - ثم قفى على عظته البالغة، ونصائحه النافعة، بالتذكير بعذاب الآخرة من قبل أنَّ الوعظ لا يؤثر في كل نفس فقال: {إِنِّي أُرِيدُ} وأقصد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها. وقرىء: {أني أريد} كما هو صح - بفتح الهمزة - بمعنى كيف أريد. {أَنْ تَبُوءَ} وترجع يا قابيل {بِإِثْمِي}؛ أي: بإثم قتلك إياي {وَإِثْمِكَ} الذي كان مثل قبل قتلي؛ أي: وإثمك الخاص بك، الذي كان من أثاره عدم قبول قربانك. وروي هذا عن ابن عباس. وقيل: (¬1) إن المراد أنَّ القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله، إنْ كان له آثام؛ لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئًا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه، فيعطي المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إنْ كانت له حسنات توازي ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إنْ كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار. {فَتَكُونَ}؛ أي: فتصير سبب ما حملت من الإثمين {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} وأهلها في الآخرة جزاء ظلمك {وَذَلِكَ}؛ أي: عذاب النار {جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: عقاب من تعدى، وعصى أمر الله بقتل أخيه، وبسائر المعاصي. وقيل: ¬

_ (¬1) المراغي.

[30]

المعنى وكينونتك (¬1) من أصحاب النار جزاؤك؛ لأنّك من جنس الظالمين؛ لانَّك ظالم في قتلي. وقد سلك في عظته وجوهًا تأخذ بمجامع اللب، ويرعوي لها فؤاد المنصف، فقد تبرأ من كونه سببًا في حرمانه من تقبل القربان؛ لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى، ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الده، ثم إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه، وإثم من اعتدى عليه، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنَّها مثوى الظالمين؛ ثم أبان (¬2) سبحانه وتعالى أنَّ المواعظ لم تجد فيه فتيلًا ولا قطميرًا، فماذا تغني الزواجر والعظات في نفس الحاسد الظالم؟ فقال: 30 - {فَطَوَّعَتْ} وزينت {لَهُ}؛ أي: لقابيل {نَفْسُهُ} الأمارة بالسوء، وسهلت عليه {قَتْلَ أَخِيهِ} هابيل {فَقَتَلَهُ}؛ أي: أنَّه كان يهاب قتل أخيه، وتجبن فطرته دونه، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر في العاقبة، والمشاهد بالاختبار من أحوال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفًا، أو عدة صوارف تنهاه عن القتل، حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك فحينئذ يقتل إنْ قدر. قال ابن جريج (¬3): لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدرِ كيف يقتله، فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرًا، فوضع رأسه على حجر، ثم رضخه بحجر آخر، وقابيل ينظر إليه، فعلم منه القتل، فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر، وقيل: بل اغتاله وهو نائم فقتله. واختلف في موضع قتله، فقال ابن عباس .. على جبل نور وقيل: على عقبة حراء، وقيل: بالبصرة عند مسجدها الأعظم، وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة، ولكن هذا الكلام كله من الإسرائيليات التي لا مستند لها يوثق به. وقد تكلم (¬4) المفسرون في أشياء من كيفية قتله، وعمره حين قتل، ولهم في ذلك اختلاف، ولم تتعرض الآية لشيء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[31]

من ذلك. وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد: {فطاوعته} على أن فاعل بمعنى فعل، {فَأَصْبَحَ}؛ أي: صار قابيل بقتل أخيه هابيل {مِنَ الْخَاسِرِينَ} دينًا ودنيا؛ لأنه أسخط والديه، وبقي مذمومًا إلى يوم القيامة؛ ولأن له عقابًا عظيمًا في الآخرة؛ أي: كان من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا قد قتل أبو الناس به، وهو الأخ المتقي الصالح، وخسر في الآخرة؛ لأنَّه لم يصر أهلًا لنعيمها الذي أعد للمتقين. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنَّه أول من سن القتل". متفق عليه. 31 - قال أصحاب الأخبار (¬1): لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء - الفضاء الذي لا يستتر فيه شيء - ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض، فقصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يومًا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سنة حتى أروح وأنتن، فأراد الله أن يري قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة، ثم ألقاه فيها، وواراه بالتراب، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى وهيج وأظهر له {غُرَابًا يَبْحَثُ} ويحفر {فِي الْأَرْضِ} حفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه، ثم ألقاه فيها، وأثار التراب عليه، فتعلم قابيل ذلك من الغراب، واللام في قوله: {لِيُرِيَهُ} إمَّا (¬2) متعلقة بـ {بعث} حتمًا والضمير المستكن فيه عائد إلى الله تعالى؛ أي: بعث الله سبحانه وتعالى الغراب ليري الله سبحانه القاتل قابيل {كَيْفَ يُوَارِي} ويستر ذلك القاتل {سَوْءَةَ أَخِيهِ}؛ أي: جيفة أخيه المقتول، أو متعلقة بـ {يبحث}، أو بـ {بعث}، والضمير راجع للغراب؛ أي: غرابًا يبحث في الأرض ليري ذلك الغراب القاتل كيف يواري سوأة أخيه، و {كيف} حال من ضمير يواري العائد ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

إلى قابيل، كالضميرين البارزين، وهو معمول ليواري، وجملة الاستفهام معلقة للرؤية البصرية، أو العرفانية المتعدية لمفعول واحد قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين، وحينئذ فـ {كيف} في محل المفعول الثاني سادة مسده، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. وفي الآية إيماء إلى أنَّ الإنسان قد يستفيد من تجارب ما سواه، ولمَّا كان (¬1) الإنسان في أعماله موكولًا إلى كسبه واختياره، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم، لم يعرف القاتل كيف يواري جثة أخيه المقتول الذي يسؤوه أن يراها بارزة للعيان، وفي ذلك دلالة على أن الإنسان في نشأته الأولى كان ساذجًا قليل المعرفة، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل، كان يستفيد من كل شيء علمًا، واختبارًا، وتنمية لمعارفه وعلومه، وقد أعلمنا الله سبحانه وتعالى أنَّ القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب، فإنَّه تعالى بعث غرابًا إلى ذلك المكان الذي هو فيه، فبحث في الأرض؛ أي: حفر برجليه فيها يفتش عن شيء كالطعام ونحوه، فأحدث حفرة في الأرض، فلما رآها القاتل - وقد كان متحيرًا في مواراة أخيه - زالت الحيرة عنه، واهتدى إلى دفنه في حفرة مثلها. وقوله: {لِيُرِيَهُ}؛ أي: أنَّه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن، وحين رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض تعلم منه سنة الدفن، وظهر له جهله، وضعفه، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيًا عنه: {قَالَ}: قابيل {يَا وَيْلَتَا}؛ أي: يا هلكتى أحضري إلي لأتعجب منك، فهذا أوانك - وهي كلمة جزع (¬2) وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم - والويل والويلة الهلكة والاستفهام في قوله: {أَعَجَزْتُ} استفهام (¬3) تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب؛ أي: يا ويلتى هل ضعفت {أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} الذي وارى الغراب الآخر {فَأُوَارِيَ} وأستر {سَوْءَةَ أَخِي}؛ أي: جيفته وعورته عن الأعين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) أبو السعود.

{فَأَصْبَحَ} قابيل {مِنَ النَّادِمِينَ} على حمله لهابيل على ظهره سنة؛ لأنَّه لم يعلم الدفن إلّا من الغراب، وعلى قتله؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله، ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب، لا لكونه معصية، وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء؛ أي: الفضاء، فلما رأى أنَّ الغراب دفن غرابًا ميتًا .. ندم على قساوة قلبه، وقال: هذا أخي لحمه مختلط بلحمي، ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب، ولم تظهر مني على أخي .. كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة، فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا ينفعه ذلك الندم. وقيل: قبل (¬1) هذه الجملة جملة محذوفة تقديرها: فوارى سوأة أخيه، ذكره أبو حيان. والمعنى: قال القاتل (¬2): وافضيحتي أقبلي فقد آن الأوان لمجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علمًا وتصرفًا، والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئًا، ثم يتبين له خطأ فعله، وسوء عاقبته، والندم الذي يكون توبةً هو ما يصدر من الشخص خوفًا من الله تعالى، وحسرة على تعدي حدوده، وهو الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الندم توبة". رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي. فصل في ذكر قصة القربان وسببه وقصة قتل قابيل هابيل ذكر أهل العلم بالأخبار والسير: أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلامًا وجارية، فكان جميع ما ولدته أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، أولهم قابيل وتوأمته إقليما، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث، ثم بارك الله تعالى في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفًا. واختلفوا في مولد قابيل وهابيل، فقال بعضهم: غشى أدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمئة سنة، فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن، ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن. وقال محمَّد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

كان يغشى حواء في الجنة قبل أنْ يصيب الخطيئة، فحملت بقابيل وأخته، فلم تجد عليهما وحمًا، ولا وصبًا، ولا طلقًا، ولم تر دمًا وقت الولادة، فلما هبطا إلى الأرض تغشاها، فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم، والوصب، والطلق، والدم، وكان إذا كبر أولاده .. زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى، وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه؛ لأنَّه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم، فكبر قابيل وأخوه هابيل، وكان بينهما سنتان، فلمَّا بلغوا أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل، ويزوج هابيل إقليما أخت قابيل، وكانت إقليما أحسن وأجمل من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: هي أختي وأنا أحق بها، ونحن من أولاد الجنة، وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم: إنَّها لا تحل لك، فأبى أن يقبل ذلك، وقال: إن الله لم يأمرك بهذا، وإنما هو من رأيك، فقال لهما آدم: قربا لله قربانًا، فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها - وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها، وإنْ لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع - فخرجا من عند آدم ليقربا بالقربان، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب صبرة من طعام رديء، وأضمر في نفسه لا أبالي أتقبل مني أم لا، لا ليتزوج أختي أحد غيري، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقربه، وأضمر في نفسه رضي الله، فوضعا قربانهما على جبل، ثم دعا آدم، فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، وقيل: بل رفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره. اهـ "خازن" مع بعض زيادات من "القرطبي". قال المطلب بن عبد الله بن حنطب (¬1): لما قتل ابن آدم أخاه .. رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام، وشربت دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيبًا، فقال الله تعالى: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: أين دمه إن قتلته؟ فحرم ¬

_ (¬1) الخازن.

الله على الأرض من يومئذ أن تشرب دمًا بعده أبدًا. ويروى عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل، كان آدم بمكة لزيارة البيت، وكان أولاده بالهند، فاشتاك الشجر - أي ظهر له شوك - وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأغبرت الأرض، فقال: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند عند أولاده، فوجد قابيل قد قتل أخاه هابيل. وقيل: لما رجع آدم من مكة سأل قابيل عن أخيه؟ فقال: ما كنت عليه وكيلًا، فقال: بل قتلته، ولذلك اسود جلدك. وقيل: أن آدم مكث بعد قتل هابيل مئة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر فقال: تَغَيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِيْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحِ ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من قال: إن آدم قال شعرًا فقد كذب، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء كلهم سواء، ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم، وهو سرياني، فلما قال آدم مرثيته، قال لشيث: يا بني أنت وصي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرثى عليه، فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، وهو أول من خط العربية، وكان يقول الشعر، فنظر في المرثية، فرد المقدم إلى المؤخر، والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرًا، وزاد فيه أبياتًا منها: وَمَا لِيْ لاَ أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ ... وَهَابِيْلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيْحُ أَرَى طُوْلَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا ... فَهَلْ أَنَا مِنْ حَيَاتِي مُسْتَرِيْحُ قال الزمخشري: ويروى أنَّه رثاه بشعر، وهو كذب بحت. وقال الإِمام الفخر الرازي: ولقد صدق صاحب "الكشاف" فيما قال. قال أهل الأخبار: فلما مضى من عمر آدم مئة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة - ولدت له حواء شيئًا - وتفسيره هبة الله - يعني أنَّه خلف عن هابيل، وعلمه الله ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الخالق في كل ساعة، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده، وأما قابيل فقيل له: اذهب طريدًا شريدًا فزعًا

مرعوبًا، لا تأمن من تراه، فأخذ بيد أخته إقليما، وهرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، وقال له: إنَّما أكلت قربان هابيل لأنَّه كان يعبدها، فانصب أنت نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت النار، فهو أول من عبد النار، وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة، فأقبل ابن لقابيل أعمى، ومعه ابنه، فقال ابن الأعمى لأبيه: هذا أبوك قابيل، فرماه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك قابيل! فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات، فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي. فلما مات قابيل عقلت إحدى رجليه بفخذه، وعلق بها، فهو معلق بها إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث دارت، وعليه حظيرة من نار في الصيف، وحظيرة من ثلج في الشتاء، فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة. قالوا: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من الطبول، والزمور، والعيدان، والطنابير، وانهمكوا في اللهو، وشرب الخمر، وعبادة النار، والفواحش، حتى أغرقهم الله تعالى جميعًا بالطوفان في زمن نوح عليه السلام، فلم يبق من ذرية قابيل أحد، وأبقى ذرية شيث ونسله إلى يوم القيامة. اهـ. من "الخازن". وهذا كله من الإسرائيليات التي لا أصل لها ننقلها ولا نصدقها ولا نكذبها، ولكن يستأنس بها. وقرأ الجمهور (¬1): {يَا وَيْلَتَا} - بألف بعد التاء وهي بدل من ياء المتكلم - وأصله: يا ويلتي بالياء، وهي قراءة الحسن، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتي. وقرأ الجمهور: {أَعَجَزْتُ} بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن وفياض بن غزوان وطلحة وسليمان بن علي بكسرها، وهي لغة شاذة؛ وإنما مشهور الكسر في قولهم: عجزت المرأة؛ إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور: {فَأُوَارِيَ} بنصب الياء عطفًا على قوله: أن أكون؛ كأنه قال: أعجزت أنْ أواري سوأة أخي. وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان: {فأواريْ} بسكون الياء. فالأولى أن يكون على ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[32]

القطع؛ أي: فأنا أواري سوأة أخي، فيكون أواري مرفوعًا. وقرأ الزهري: {سَوَةَ أَخِي} بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الواو، ولا يجوز قلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ لأن الحركة عارضة، كهي في سمول لغة في سموءل. وقرأ أبو حفص: {سوة أخي} بقلب الهمزة واوًا وإدغام الواو فيه، كما قالوا في شيء: شيّ، وفي سيئة: سيَّة. قال الشاعر: وَإِنْ رَأَوْا سَيَّةً طَارُوُا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّي وَمَا عَلِمُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا 32 - وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} الجمهور على أنَّه متعلق بقوله كتبنا الآتي، فحينئذ هو كلام مستأنف لا يوقف عليه، فالوقف على قوله: {مِنَ النَّادِمِينَ} تام؛ أي: (¬1) من أجل ذلك المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، وهي حصول خسارة الدين، والدنيا، وحصول الندم، والحسرة، والحزن في القلب. ويروى عن نافع أنَّه كان يقف على اسم الإشارة، ويجعله من تمام الكلام الأول، وحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله، واسم الإشارة عائد على {قتل قابيل هابيل}. والمعنى: فأصبح قابيل من النادمين من أجل قتله هابيل وعدم موارته له التراب. وقرأ ابن القعقاع: {مِن اجل ذلك} بكسر الهمزة وحذفها، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها، كما قرأ ورش {منَ اجل} بحذفها وفتحها ونقل الحركة إلى النون، وقرأ الجمهور بفتح الهمزة، والمعنى على مذهب الجمهور: من أجل جناية قابيل على هابيل، وبسبب جريمته ومعصيته {كَتَبْنَا}؛ أي: أوجبنا وفرضنا في التوراة {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن والحال {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا} واحدة من بني آدم {بِغَيْرِ نَفْسٍ}؛ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أو بغير فساد يوجب إهدار الدم، من كفر أو زنا أو قطع طريق. والمعنى (¬2): أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين، وخص بني ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

إسرائيل بالذكر - وإنْ كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النقس، وكان القصاص فيهم - لأن السياق في تعداد جناياتهم؛ ولأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس، ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء، وقتلهم للأنبياء، وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به - أعني كتبنا - يفيد القصر؛ أي: من أجل ذلك لا من أجل غيره، ومن لابتداء الغاية. وقرأ الجمهور: {فَسَادٍ} بالجر عطفًا على نفس. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدل عليه أول الكلام، أو أحدث فسادًا في الأرض وفي هذا ضعف. ومعنى قراءة الجمهور: أن من قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض. وقد تقرر أن كل حكم مشروط بتحقق أحد شيئين، فنقيضه مشروط بانتفائهما معًا، وكل حكم مشروط بتحققهما معًا فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه، وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو؟ فقيل: هو الشرك، وقيل: قطع الطريق، وظاهر النظم القرآني أنَّه هو كل ما يصدق عليه أنَّه فساد في الأرض، فيشمل الشرك، وقطع الطريق، وسفك الدماء، وهتك الحرم، ونهب الأموال، والبغي على عباد الله بغير حق، وهدم البنيان، وقطع الأشجار، وتغوير الأنهار، إلى غير ذلك. {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} في تعظيم (¬1) أمر القتل العمد العدوان، وكما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم مستشبع عند كل أحد .. فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظمًا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}. والمعنى: يقتل بها كما لو قتلهم جميعًا، ويصلى النار كما يصلاها لو قتلهم {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: ومن خلص نفسًا واحدة من المهلكات كالحرق، والغرق، والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين، أو تسبب في بقائها بعفو، أو منع عن قتلها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} يعني: أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعًا، وقيل: (¬2) معناه من استحل قتل مسلم بغير ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

حقه .. فكأنما استحل قتل الناس جميعًا؛ لأنَّهم لا يسلمون منه، ومن تورع عن قتل مسلم .. فكأنَّما تورع عن قتل جميع الناس فقد سلموا منه. وخلاصة معنى قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا} إلخ؛ أي. (¬1) أنَّه بسبب هذا الجرم الفظيع، والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلمًا وعدوانًا، فرضنا على بني إسرائيل أنَّه من قتل نفسًا؛ أي: بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. {أَوْ} قتل نفسًا بغير سبب {فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يسلب الأمن والطمأنينة، كالحرق، وإهلاك الحرث والنسل، كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس، ونهب الأموال، أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى، من يفعل شيئًا من ذلك .. فكأنما قتل الناس جميعًا؛ إذ الواحد يماثل النوع، فمن استحل دمه بغير وجه حق .. استحل دم كل واحد كذلك لأنَّه مثله، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان، وتفخيم شأنه؛ أي: فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم .. فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظمًا وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية. وقرىء: {مِنْ أَجْلِ} بحذف الهمزة وإلقاء فتحتها على النون. وقريء {مِنْ أَجْلِ} بكسر الهمزة وهي لغة فيه كما مرّ. {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؛ أي: ومن كان سببًا في حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه .. فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأنَّ الباعث له على الإنقاذ - وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية، والوقوف عند حدود الشرع - دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك .. لا يدخر وسعًا، ولا يني في ذلك. وفي الآية إرشاد إلى ما يجب عن وحدة البشر، وحرص كل منهم على حياة الجميع، والابتعاد عن ضرر كل فرد، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع، ¬

_ (¬1) المراغي.

والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له في الشرع قيام بحق الجميع، وكثيرًا ما يشير القرآن إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها، حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين إلى المتأخرين، ويشير إلى أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم. ثم ذكر أن بني إسرائيل غلاظ القلوب، مسرفون في القتل وفي غيره، مع كثرة مجيء الرسل إليهم فقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جاءت بني إسرائيل {رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، المؤكدة لوجوب مراعاته، والمحافظة عليه، وببيان الأحكام والشرائع التي كتبنا عليهم، فلم تغن عن الكثير منهم شيئًا، إذ لم تهذب نفوسهم، ولم تطهر أخلاقهم، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم في أمر القتل يسرفون فيه وفي سائر ضروب البغي والعدوان، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: ثمَّ إنَّ كثيرًا من بني إسرائيل {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعد مجيء الرسل، وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}؛ أي: لمجاوزون حد الحق، ومبالغون في إكثار القتل، لا يبالون بعظمته؛ فإنهم كانوا أشدّ الناس جراءةً على القتل، حتى كانوا يقتلون الأنبياء. وإنَّما (¬1) قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} .. لأنّه تعالى علم أنَّ منهم من يؤمن بالله ورسوله وهم قليل منهم، وعبارة "البيضاوي" هنا: أي (¬2) بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة، تأكيدًا للأمر، وتجديدًا للعهد، كي يتحاموا عنها، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل، ولا يبالون به، وبهذا اتصلت الآية بما قبلها، والإسراف التباعد عن حدّ الاعتدال في الأمر. والعبرة في قصة ابني آدم: أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر، ولا يزال هو أسّ المفاسد في المجتمع، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبًا، أو جنسًا، أو دينًا، فيبغي عليه ولو بما فيه ضرر له وللمحسود. والأمة التي تنشر بين أفرادها هذه الرذيلة، فلما تنجح وتتوجه همم أبنائها إلى ما يرقي شأنهم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي.

[33]

بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم في سائر مرافق الحياة، فيصبحون عبيدًا بعد أن كانوا سادة، وأذلاء بعد أن كانوا في عزة وبلهنية من العيش، كما رأينا وجربنا ذلك في بعض الشعوب الذين عليهم الاستئمار كشعوب الأروميا في شرقي أفريقيا. 33 - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: إنَّما (¬1) جزاء الذين يخالفون أحكام الله، وأحكام رسوله، أو إنَّما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله، وهم المسلمون {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}؛ أي: يعملون في الأرض عمل فساد، أو يسرعون في الأرض مفسدين بالمعاصي من القتل، وأخذ المال {أَنْ يُقَتَّلُوا} واحدًا بعد واحد إن قتلوا {أَوْ يُصَلَّبُوا} ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياءً، ثم يطعن بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين القتل وأخذ المال، وعبارة "المنهاج" في باب قاطع الطريق: فإن قتل وأخذ مالًا .. قتل ثمَّ صلب مكتفًا معترضًا على نحو خشبة ثلاثة أيام بلياليها وجوبًا، ثم ينزل إن لم يخف تغيره قبلها، وإلا أنزل وقت التغير، وقيل: يبقى وجوبًا حتى يتهرى ويسيل صديده تغليظًا عليه. وفي قول: يصلب حيًّا قليلًا، ثم ينزل فيقتل، والمراد بالقليل: أدنى زمن ينزجر به غيره عرفًا، انتهى مع بعض زيادات للرملي، و {أو} (¬2) لتقسيم عقوباتهم تقسيمًا موزعًا على جناياتهم. قال ابن جريج: {أو} في جميع القرآن للتخيير إلا في هذه الآية. قال الشافعي رحمه الله: وبه أقول. اهـ. "كرخي". {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} بمفصل الكف {وَأَرْجُلُهُمْ} بمفصل القدم، حال كونها {مِنْ خِلَافٍ}؛ أي: مختلفة في القطع بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، والتشديد في {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ}: قراءة الجمهور، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن، ذكره أبو حيان في "البحر" {أَوْ يُنْفَوْا}؛ أي: يطردوا ويخرجوا {مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: من أرضهم التي يريدون الإقامة بها إلى مسافة قصر فما فوقها؛ لأنَّ المقصود من النفي ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) جمل.

الوحشة، والبعد عن الأهل والوطن. والظاهر أنَّ نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها. فإذا عين الإِمام جهة فليس للمنفي طلب غيرها؛ أي: ينفوا من الأرض إن أخافوا السبل، فالقتل (¬1) لمن قتل فقط، والصلب لمن قتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، قاله ابن عباس وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة (¬2): النفي من الأرض هو الحبس، وهو أختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيًّا من الأرض لأنَّه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحدًا من أحبابه، فصار منفيًّا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. قال الشاعر وهو مسجون: خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأَمْوَاتِ فِيْهَا وَلَا الأَحْيَا إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا وَتُعْجِبُنَا الرُّؤيَا يَحُلُّ حَدِيْثَنَا ... إِذَا نَحْنُ أَصْبَحْنَا الْحَدِيْثَ عَنِ الرُّؤْيَا وقال الشافعي: هذا النفي محمول على وجهين: الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال .. فالإمام إنْ أخذهم أقام عليهم الحدّ، وإنْ لم يأخذهم طلبهم أبدًا، فكونهم خائفين من الإِمام هاربين من بلد هو المراد من النفي. والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة، ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين، ويخيفون المسلمين، ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال .. فإن الإِمام يأخذهم، ويعزرهم، ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير. وقد جعل الله (¬3) سبحانه وتعالى هذا النوع من العدوان محاربة الله ورسوله؛ لأنَّه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق، كما قال تعالى في المصرّين على أكل ¬

_ (¬1) جلالين. (¬2) المراح (¬3) المراغي.

الربا: {فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة .. يعدوا حاربين لله والرسول، ويجب على الإِمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك، كما فعل أبو بكر بمانعي الزكاة حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله تعالى، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه، ويكف عنه، وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}؛ أي: يسعون فيها سعي فساد؛ أي: مفسدين لما صلح من أمور الناس في نظم الاجتماع وأسباب المعاش. وجمهور العلماء على أن الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، كما تدل على ذلك حادثة العرنيين الذين خدعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بإظهار الإِسلام، حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل، والسلب .. عادوا إلى قومهم، وأظهروا شركهم معهم، وقد عاقبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل عقوبتهم عملًا بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط: الأول: أن يكون معهم سلاح، وإلا كانوا غير محاربين. الثاني: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق. الثالث: أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال، فإن أخذوه خفية .. فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا .. فهم منتبهون لا قطع عليهم، وكذا إن خرج الواحد والإثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئًا؛ لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم .. فهم قطاع طريق. والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة: إما القتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وفوض لأولي الأمر الاجتهاد في تقدير العقوبة بقدر الجريمة. والحكمة في عدم التعيين والتفصيل: أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، وضررها يختلف كذلك، فمنها القتل، ومنها السلب، ومنها هتك الأعراض، ومنها إهلاك الحرث والنسل؛ أي: قطع الشجر، وقلع الزرع، وقتل المواشي، والدواب، أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إنْ جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو

يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إنْ اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق. وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل، ويجوز لولي الأمر العفو وترك القصاص، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتمًا لا هوادة فيه، ولا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به قطع اليمنى في غير قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال .. جمع في حقهم بين القتل والصلب؛ لأن بقاءهم مصلوبين في ممر الطرق يكون سببًا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجزًا لغيرهم عن الإقدام على مثل هذه المعصية، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة، وهي النفي من الأرض. ثم بين آثار هذه العقوبة في الدنيا والآخرة فقال: {ذَلِكَ} الجزاء المذكور فيهم من القطع، والقتل، والصلب، والنفي. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}؛ أي: ذل وهوان وفضيحة للمحاربين المذكورين في الدنيا بين الناس ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديد هو عذاب النار، وبقدر تأثير إفسادهم في تدنيس نفوسهم، وتدسيتها، وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام. واستحقاق الأمرين إنما هو للكافر (¬1)، وأما المسلم: فإنَّه إذا أقيم عليه الحد في الدنيا .. سقطت عنه عقوبة الآخرة، فالآية محمولة على الكافر، أو إن فيها تقديرًا في قوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إلخ؛ أي: إذا لم تقم عليه الحدود المذكورة؛ لأنَّ (¬2) المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا .. كانت عقوبته كفارة له، وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة، إنْ شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، هذا مذهب أهل السنة. ففي (¬3) "صحيح ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الخازن. (¬3) ابن كثير.

[34]

مسلم" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء: أنْ لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه؛ أي: يقذف بعضنا بعضًا، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله .. فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه). وعن عليّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أذنب ذنبًا في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. 34 - ثم استثنى ممن يستحق العقوبة من تاب فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ورجعوا من شركهم وحربهم لله ورسوله، ومن السعي في الأرض بالفساد {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أيها الولاة بالأخذ لهم، فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة. {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {غَفُورٌ} لهم لما فرط منهم من الشرك وغيره {رَحِيمٌ} بهم بقبول توبتهم. والمعنى: (¬1) لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعثوا في الأرض فسادًا إلا من تابوا إلى الله، وأنابوا إليه من قبل أن يتمكن منهم الحاكم، ويقدر على عقوبتهم، فإن توبتهم حينئذ - وهم في قوة ومنعة - جديرة بأن تكون توبة خالصة لله، صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب، والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله، وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا، وإذًا فهم قد تركوا الإفساد، ومحاربة الله ورسوله، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، بل يصير أمرهم لمغفرة الله ورحمته كما قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم، وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب في الدنيا والآخرة، ¬

_ (¬1) المراغي.

[35]

ولكن تبقى حقوق العباد، فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها، ولمن قتل منهم أحدًا أن يطالبوه بدمه، وهم مخيرون بين القصاص والديه والعفو، فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب، ولم يثبت أن أحدًا تقاص التائب حقًّا ولم يسمع له الحاكم. وإذًا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها، فإذا رأى ولي الأمر إسقاط حق مالي عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة .. وجب أن يضمنه من بيت المال "وزارة المالية". والخلاصة: أن هاتين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين في الأرض، الذين يعملون أعمالًا مخلة بالأمن على الأنفس، والأموال، والأعراض في بلاد الإِسلام، معتصمين في ذلك بقوتهم، مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم، وهو أن يطاردهم الحكام ويتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم .. عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها، ومراعاة المصلحة العامة، ومن تاب قبل القدرة عليه .. لا يعاقب بما هنا من العقوبات حكمه حكم سائر المسلمين. والظاهر (¬1) من الاستثناء المذكور في الآية عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق: هو القول الأولى، وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه قيد {قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} 35 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {اتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله وسخطه بترك المنهيات {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}؛ أي: واطلبوا الوسيلة، والقرب إليه، واسحقاق مثوبته، ومرضاته بفعل المأمورات {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ}؛ أي: في سبيل عبوديته، وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته؛ أي: جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها، وحملها ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[36]

على النصفة والعدل في جميع الأحوال، وجاهدوا أعدائي، وأعداكم، وأتعبوا أنفسكم في قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وتظفرون بنيل مرضاته، وبالفوز بكراماته؛ أي: افعلوا كل هذا المذكور، رجاء الفوز والفلاح والسعادة في المعاش والمعاد والخلود في جنات النعيم. واعلم أنَّ (¬1) مجامع التكليف محصورة في نوعين: أحدهما: ترك المنهيات، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} وثانيهما: فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والمراد بطلب الوسيلة والقرب إليه تعالى هو تحصيل مرضاته، وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وكان الانقياد لذلك عن أشق الأشياء على النفس، وأشدها ثقلًا على الطبع، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة .. أردف ذلك التكليف بقوله: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ}؛ أي: بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة. ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبده لا لغرض سوى الله، وهو المشار إليه بقوله: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} ومنهم من يعبده للثواب مثلًا، وهو المشار إليه بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: تفوزون بالمحبوب، وتخلصون من المكروه، 36 - ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: إن الذين جحدوا ربوبية ربهم، وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وماتوا وهم على هذه الحال قبل التوبة {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}؛ أي: لو ثبت أن لكل واحد منهم ما في الأرض من أصناف أموالها، وذخائرها وسائر منافعها جيعًا {وَمِثْلَهُ مَعَهُ}؛ أي: وضعفه معه {لِيَفْتَدُوا بِهِ}؛ أي: ليجعلوا كلًّا منهما فدية لأنفسهم {من عذاب يوم القيامة}؛ أي: من تعذيب الله إياهم على تركهم أمره، وعبادتهم غيره، فافتدوا بذلك كله من العذاب الواقع يوم القيامة؛ {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}؛ أي: ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضًا ¬

_ (¬1) المراح.

[37]

من عذابهم وعقابهم، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تبارك وتعالى: لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة، فأبيت إلا الشرك". هذا لفظ مسلم، وفي رواية للبخاري قال: "يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد كنت سألت ما هو أيسر من ذلك؛ أن لا تشرك بي". متفق عليه. ووحد (¬1) الضمير في {به} وإن كان قد تقدم شيئان: معطوف عليه ومعطوف، وهو ما في الأرض ومثله معه؛ إما لغرض تلازمهما، فأجرى مجرى الواحد كما قالوا: رب يوم وليلة مر بي، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنَّه قال: ليفتدوا بذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في {ومثله} بمعنى مع فيوحد المرجوع إليه. وقرأ الجمهور: {مَا تُقُبِّلَ} مبينًا للمفعول، وقرأ يزيد بن قطيب: {مَا تُقُبِّلَ} مبينًا للفاعل؛ أي: ما تقبل الله منهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: بل هو معذبهم عذابًا موجعًا مؤلمًا لهم؛ لأنَّ سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما تكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. وهذا هو الفارق بين الإِسلام وغيره من الأديان، فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة في النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة. 37 - فهذه الجملة الأخيرة تصريح بعدم قبول الفداء، وتصوير للزوم العذاب، فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه. ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ}؛ أي: يتمنون الخروج من النار دار العذاب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والشقاء بعد دخولهم فيها، ويقصدونه بقلوبهم إذا رفعهم لهب النار إلى فوق. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوة النار ودفعها لهم، ولكن لا يقدرون ذلك. وقرأ الجمهور (¬1) {أَنْ يَخْرُجُوا} مبينًا للفاعل، ويناسبه: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}. وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو واقد: {أَنْ يَخْرُجُوا} مبنيًّا للمفعول، ويضعف هذه القراءة وما هم بخارجين من النار. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} ألبتة، وإنَّما قال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} بدل وما يخرجون للمبالغة {وَلَهُمْ}؛ أي: للكافرين خاصة دون عصاة المؤمنين {عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي: دائم، ثابت، لا يزول عنهم، ولا ينقطع ولا ينتقل أبدًا، تارة بالبرد، وتارة بالحر، وتارة بغيرهما. الإعراب {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}. {وَاتْلُ}: (الواو): عاطفة أو استئنافية. {اتل}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة - وهي الواو - وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على الجملة المقدرة في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ...} إلخ، يعني: اذكر يا محمَّد لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم، أو الجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {اتل}. {نَبَأَ}: مفعول به، وهو مضاف. {ابْنَيْ}: مضاف إليه وهو مضاف. {آدَمَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنَّه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والعجمية. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور (¬2) متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره: واتل عليهم تلاوةً متلبسة بالحق والصدق، حسبما تقرر في كتب الأولين. وفي "السمين" قوله: {بِالْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه (¬3): أحدها: أنَّه حال من فاعل {اتل} ذلك حال كونك متلبسًا بالحق؛ أي: بالصدق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) أبو السعود. (¬3) السمين.

الثاني: أنَّه حال من المفعول - وهو {نَبَأَ}؛ أي: اتل نبأهما متلبسًا بالحق والصدق، موافقًا لما في كتب الأولين، لتقوم عليهم الحجة برسالتك. الثالث: أنَّه صفة لمصدر {اتل}؛ أي: اتل ذلك تلاوةً متلبسةً بالحق والصدق، وكان هذا الوجه هو اختيار الزمخشري؛ لأنَّه بدأ به، وعلى كل من الأوجه الثلاثة: فالباء للمصاحبة وهي متعلقة بمحذوف. اهـ. {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}. {إِذْ}: ظرف لم مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا، والظرف متعلق بـ {نَبَأَ}؛ أي اتل نبأهما وقصتهما الواقع في ذلك الوقت. {قَرَّبَا} فعل وفاعل. {قُرْبَانًا}: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فتقبل}: {الفاء}): عاطفة. {تقبل}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {قُرْبَانًا}. {مِنْ أَحَدِهِمَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تقبل} وتفعل هنا بمعنى الثلاثي المجرد، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة {قَرَّبَا}. {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ}: الواو عاطفة. {لم يتقبل}: جازم ومجزوم، ونائب فاعله ضمير يعود على القربان. {مِنَ الْآخَرِ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على {الْآخَرِ} والجملة مستأنفة. {لَأَقْتُلَنَّكَ} مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: (اللام): موطئة للقسم. {أقتلن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الفتح. و (الكاف): ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الْآخَرِ}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدِهِمَا} والجملة

مستأنفة. {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}: مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {إِنَّمَا} أداة حصر. {يَتَقَبَّلُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {مِنَ الْمُتَّقِينَ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}. وقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} إلى قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}: مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {لَئِنْ}: (اللام): موطئة لقسم محذوف. {إن}: حرف شرط جازم. {بَسَطْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {إِلَيَّ} {إلى}: حرف جر مبني بسكون على الألف المنقلبة ياء مدغمة في ياء المتكلم. وياء المتكلم في محل الجر بـ {إلى} مبني على الفتح، الجار والمجرور متعلق بـ {بَسَطْتَ} {يَدَكَ} مفعول به ومضاف إليه. {لِتَقْتُلَنِي}: (اللام): حرف جر وتعليل. {تقتل}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على {الْآخَرِ} والنون: نون الوقاية والياء: ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لقتلك إياي، الجار والمجرور متعلق بـ {بَسَطْتَ}. {مَا}: حجازية تعمل عمل ليس. {أَنَا} في محل الرفع اسمها. {بِبَاسِطٍ}: خبرها، والباء: زائدة في خبر {مَا} الحجازية، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله: ضمير يعود على {أَنَا}. {يَدِيَ}: مفعول {باسط} ومضاف إليه. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق {بِبَاسِطٍ} وجملة {مَا} الحجازية جواب القسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم تقديره: إن بسطت إلى يدك لتقتلني .. فما أبسط يدي إليك لأقتلك، جريًا على القاعدة المقررة عند النحاة، من أنَّه إذا اجتمع شرط وقسم .. كان المذكور جوابًا للسابق منهما، إلا فيما استثني عندهم كما مر لك ذكره مرارًا. {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. {إِنِّي}: {أَنْ} حرف نصب. و (الياء): اسمها. {أَخَافُ اللَّهَ} فعل

ومفعول. {رَبَّ الْعَالَمِينَ}: صفة للجلالة ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على المتكلم، أعني: هابيل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن: في محل الجر بلام التعليل المقدرة معللة لما قبلها. {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)}. {إِنِّي} حرف نصب. والياء اسمها. {أُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلم، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها في محل الجر، معطوفة على جملة إن الأولى على كونها تعليلًا ثانيًا لما قبلها. وقال أبو السعود: وإنَّما لم يعطف على التعليل قبله .. تنبيهًا على كفاية كل منهما في العلية. انتهى. {أَنْ تَبُوءَ} ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير المخاطب أعني قابيل. {بِإِثْمِي}: جار ومجرور ومضاف، متعلق بـ {تَبُوءَ}. {وَإِثْمِكَ}: معطوف عليه، وجملة {تَبُوءَ}: صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إنِّي أريد بوءك بإثمي وإثمك، {فَتَكُونَ}: معطوف على {تَبُوءَ} منصوب، واسمها ضمير يعود على المخاطب. {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {تكون}. {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}. {فَطَوَّعَتْ}: (الفاء): عاطفة. {طوعت}: فعل ماضٍ. {لَهُ} متعلق به، {نَفْسُهُ}: فاعل ومضاف إليه. {قَتْلَ أَخِيهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}. {فَقَتَلَهُ}: (الفاء): عاطفة تفريعية. {قتله}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة معطوفة على جملة {طوعت}. {فَأَصْبَحَ}: (الفاء): عاطفة تفريعية. {أصبح}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القاتل. {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: جار ومجرور خبر {أصبح} وجملة {أصبح}: معطوفة على جملة قوله: {فَقَتَلَهُ}.

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}. {فَبَعَثَ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنَّه قتل أخاه، وأردت بيان ما فعله بجيفة أخيه .. فأقول لك: {بعث الله غرابًا}: {بعث الله}: فعل وفاعل. {غُرَابًا}: مفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يَبْحَثُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْغُرَابِ}، والجملة صفة لـ {غُرَابًا}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْحَثُ}. {لِيُرِيَهُ} اللام حرف جر وتعليل. {يريه}: فعل ومفعول أول منصوب بأنْ مضمرة جوازًا بعد لام كي: لأنّه من أرى، بمعنى عرف يتعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {اللَّهُ} إن قلنا اللام متعلقة بـ {بعث}، أو على الغراب إن قلنا هي متعلقة بـ {يَبْحَثُ}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {يُوَارِي} مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. {يُوَارِي}: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على القاتل أعني قابيل. {سَوْءَةَ أَخِيهِ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {يُوَارِي}: في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لأرى؛ لأنَّها معلقة عنها باسم الاستفهام، وجملة يرى من الفعل والفاعل: صلة أنْ المضمرة، أنْ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور إما متعلق بـ {بعث} تقديره: فبعث الله غرابًا، لإراءة الله إياه كيفية مواراة سوأة أخيه، أو متعلق بـ {يَبْحَثُ} تقديره: غرابًا يبحث في الأرض لإراءة الغراب إياه كيفية مواراة سوأة أخيه. وفي "الفتوحات" قوله: {لِيُرِيَهُ} إما متعلق بـ {بعث}، فالضمير المستتر في الفعل عائد على {اللَّهُ} أو متعلق بـ {يَبْحَثُ} فالضمير عائد على الغراب. وفي "السمين" قوله: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} هذه اللام يجوز فيها وجهان: أحدهما: أنَّها متعلقة بـ {يَبْحَثُ}؛ أي: ينبش ويثير التراب للإراءة. والثاني: أنَّها متعلقة بـ {بعث}، وكيف معمولة لـ {يُوَارِي}، وجملة الاستفهام معلقة للرؤية البصرية، فهي في محل المفعول الثاني سادة مسده؛ لأنَّ رأى البصرية قبل تعديتها بالهمزة متعدية لواحد، فاكتسبت بالهمزة مفعولًا آخر،

وتقدم نظيرتها في قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}. اهـ. {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة مستأنفة. {يَا وَيْلَتَا}: إلى قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإنْ شئت قلت: {يَا وَيْلَتَا}: {يا}: حرف نداء. {ويلتى}: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحة لمناسبة الألف، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، ويلة: مضاف. و (ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف): في محل الجر مضاف إليه، مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا، وجملة النداء: في محل النصب مقول. {قَالَ}. وفي هذا المقام بحث نفيس ذكرته في رسالتي "هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف". {أَعَجَزْتُ}: (الهمزة): للاستفهام التعجبي. {عجزت}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنْ أَكُونَ}: ناصب وفعل ناقص واسمه ضمير المتكلم يعود على القاتل، {مِثْلَ هَذَا}: خبر أكون ومضاف إليه. {الْغُرَابِ}: بدل من اسم الإشارة، وجملة {أَنْ}: المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أعجزت كوني مثل هذا الغراب. {فَأُوَارِيَ}: (الفاء): عاطفة، {أُوَارِيَ}؛ معطوف على {أَكُونَ} وفاعله ضمير يعود على القاتل، والجملة معطوفة على جملة {أَكُونَ}. {سَوْءَةَ أَخِي}: مفعول به ومضاف إليه، {فَأَصْبَحَ} (الفاء): عاطفة. {أصبح}: فعل ماضٍ ناقص واسمه ضمير يعود على القاتل. {مِنَ النَّادِمِينَ}: جار ومجرور خبر {أصبح} والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}. {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَتَبْنَا} وتقديمه

عليه لإفادة الحصر، و {كَتَبْنَا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَتَبْنَا}. {أَنَّهُ}: أنَّ حرف نصب ومصدر. والهاء: ضمير الشأن في محل النصب اسمها. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب أو الشرط أو هما. {قَتَلَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {نَفْسًا}: مفعول به. {بِغَيْرِ نَفْسٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَتَلَ}، أو حال من الضمير في {قَتَلَ} كما ذكره أبو البقاء؛ أي: مَنْ قتل نفسًا ظالمًا، {أَوْ فَسَادٍ}: معطوف على نفس، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بفساد؛ لأنَّه بمعنى إفساد، أو صفة له. {فَكَأَنَّمَا}: الفاء: رابطة لجواب من الشرطية. {كأنَّ}: حرف تشبيه ملغاة لا عمل لها. {ما}: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {قَتَلَ النَّاسَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، {جَمِيعًا}: حال من {النَّاسَ}، أو تأكيد له، وجملة من الشرطية في محل الرفع خبر أنَّ، وجملة أنَّ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {كَتَبْنَا} تقديره: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل كون من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد .. مثل من قتل الناس جميعًا في هتك حرمة الدماء. {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}. {وَمَنْ أَحْيَاهَا} (الواو): عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {أَحْيَاهَا}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {من}: وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {من} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {جَمِيعًا}: حال من الناس، أو تأكيد له، وجملة {مَنْ}: الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَلَقَدْ}: (الواو): استئنافية. اللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {جَاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول. {رُسُلُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة

القسم المحذوف مستأنفة. {بِالْبَيِّنَاتِ}: جار ومجرور حال من {الرسل}؛ أي: حالة كونهم متلبسين بالبينات {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {إِنَّ كَثِيرًا}: ناصب واسمه. {مِنْهُمْ} جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمسرفون الآتي، وكذلك يتعلق به الجار والمجرور في قوله: {فِي الْأَرْضِ}. وكون (¬1) لام الابتداء، لا يعمل ما بعدهما فيما قبلها، محله إذا كانت اللام في محلها فإن زحلقت إلى الخبر عمل ما بعدها فيما قبلها كما هنا. {لَمُسْرِفُونَ}: اللام: لام الابتداء، زحلقت إلى الخبر. {مسرفون}: خبر إنَّ، وجملة إنَّ معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} على كونه جوابًا لقسم محذوف. {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {جَزَاءُ الَّذِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {يُحَارِبُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَيَسْعَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُحَارِبُونَ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {وَيَسْعَوْنَ}. {فَسَادًا}: مفعول من أجله. وفي "الفتوحات" وفي نصب {فَسَادًا} ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه مفعول من أجله؛ أي: يحاربون ويسعون لأجل الإفساد، وشرط النصب موجود. والثاني: أنَّه مصدر واقع موقع الحال؛ أي: ويسعون في الأرض مفسدين أو ذوي فساد، أو جعلوا نفس الفساد مبالغة. والثالث: أنَّه منصوب على المصدر؛ أي: أنَّه نوع من العامل قبله، لأنَّ يسعون معناه في الحقيقة يفسدون فسادًا، وفسادًا اسم مصدر قائم الإفساد، والتقدير: يفسدون في الأرض بسعيهم فسادًا. انتهت. ¬

_ (¬1) الجمل.

{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}. {أَنْ يُقَتَّلُوا}: ناصب وفعل ونائب فاعل، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية تقديره: إنَّما جزاء الذين يحاربون الله تقتيلهم، والجملة الإسمية مستأنفة {أَوْ يُصَلَّبُوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {يُقَتَّلُوا}. {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ}: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه معطوف على {يُقَتَّلُوا}. {وَأَرْجُلُهُمْ}: معطوف على {أَيْدِيهِمْ}، {مِنْ خِلَافٍ}: جار ومجرور حال من الأيدي والأرجل؛ أي: حالة كونها مختلفة في القطع بمعنى أنَّه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى {أَوْ يُنْفَوْا}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل معطوف على {يُقَتَّلُوا}. {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق به، وأو في جميع الأمثلة للتقسيم والتنويع؛ أي: تقسيم عقوبتهم تقسيمًا موزعًا على حالتهم وجناياتهم. {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. {ذَلِكَ} مبتدأ أول. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {خِزْيٌ}: مبتدأ ثانٍ مؤخر. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور صفة لـ {خِزْيٌ} والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مع خبرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. وفي "الفتوحات" وفي قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون {لَهُمْ} خبرًا مقدمًا و {خِزْيٌ}: مبتدأ مؤخرًا. {فِي الدُّنْيَا} صفة له، فيتعلق بمحذوف. والثاني: أن يكون {خِزْيٌ} خبرًا لـ {ذَلِكَ} و {لَهُمْ} متعلق بمحذوف على أنَّه حال من {خِزْيٌ}؛ لأنَّه في الأصل صفة له، فلما قدم عليه .. انتصب حالًا. والثالث: أنْ يكون {لَهُمْ}: خبرًا لذلك و {خِزْيٌ}: فاعل ورفع الجار هنا الفاعل لما اعتمد على المبتدأ. اهـ. "سمين". {وَلَهُمْ}: (الواو): عاطفة.

{لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور حال من {عَذَابٌ}؛ لأنَّه صفة نكرة قدمت عليها. {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ}: صفة له، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ}، {تَابُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَابُوا} قبل مضاف. {أَنْ تَقْدِرُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل قدرتكم، {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقْدِرُوا}. {فَاعْلَمُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصح عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم هذا الاستثناء وأردتم بيان سعة رحمة الله وغفرانه .. فأقول لكم، {اعلموا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذًا المقدرة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ} خبر أول لـ {أَنَّ}. {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ لها، وجملة أنَّ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: فاعلموا كون الله تعالى غفورًا رحيمًا. وفي "الفتوحات" قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فيه وجهان: أحدهما: إنَّه منصوب على الاستثناء من المحاربين. والثاني: أنَّه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، والعائد محذوف؛ أي: غفور لهم، ذكر هذا الثاني أبو البقاء، وحينئذ يكون الاستثناء منقطعًا بمعنى: لكن التائبون يغفر لهم. اهـ. "سمين". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء. {أي} منادى نكرة مقصودة. {ها}:

حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {وَابْتَغُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اتَّقُوا اللَّهَ}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَابْتَغُوا}. وفي "الفتوحات" في {إِلَيْهِ} وجهان: أحدهما: أنَّه متعلق بالفعل قبله. والثاني: أنَّه متعلق بنفس الوسيلة. قال أبو البقاء: لأنَّها بمعنى المتوسل به، فلذلك عملت فيما قبلها يعني: أنَّها ليست بمصدر، حتى يمتنع أنْ يتقدم معمولها عليها، ويجوز أنْ يكون حالًا؛ أي: وابتغوا الوسيلة كائنة إليه، {الْوَسِيلَةَ} مفعول به {وَجَاهِدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اتَّقُوا اللَّهَ}. {فِي سَبِيلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {وَجَاهِدُوا}. {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف ترج ونصب بمعنى كي، و (الكاف): اسمها. وجملة {تُفْلِحُونَ}: خبرها، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. {إِنَّ الَّذِينَ} إنَّ: حرف نصب. واسم الموصول في محل النصب اسمها {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {أَنَّ}: حرف نصب مقدر. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، لـ {أَنَّ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسم {أَنَّ} مؤخر عن خبرها. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {جَمِيعًا} توكيد لاسم {أَنَّ} أو حال منه. {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {وَمِثْلَهُ} {مثل}: معطوف على اسم أنَّ وهو ما الموصولة، وقيل: إنَّه منصوب على أنَّه مفعول معه وهو رأي الزمخشري وهو مضاف، و (الهاء): مضاف

إليه. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {مثله} وجملة {أنَّ}: من اسمها وخبرها في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف بعد لو الشرطية؛ لأنَّ لو الشرطية لا تدخل إلا على الفعل والتقدير: إنَّ الذين كفروا لو ثبت كون ما في الأرض جميعًا ومثله معه لهم {لِيَفْتَدُوا بِهِ} (اللام): لام كي. {يَفْتَدُوا}: فعل وفاعل منصوب بأنْ مضمرة بعد لام كي. {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {يفتدوا}، وضميره عائد على ما الموصولة، وجيء بالضمير مفردًا وإن تقدمه شيئان وهما: {مَا فِي الْأَرْضِ} و {وَمِثْلَهُ}، إما لتلازمهما، فهما في حكم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثاني لدلالة ما في الأول عليه كقوله: وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيْبُ أي: لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، بأن يؤول المرجع المتعدد بالمذكور كما مر بعض ذلك في بحث التفسير ذكره في "الفتوحات". وجملة أنْ المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لافتدائهم به أنفسهم من عذاب يوم القيامة، الجار والمجرور، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر أن وهو لهم {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يفتدوا} أيضًا. {مَا}: نافية رابطة لجواب {لَو} وجاء على الأكثر من كون الجواب المنفي بغير لام. {تُقُبِّلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة بمعنى قبل، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}: الموصولة ومثله. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر إنَّ في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} والتقدير: إنَّ الذين كفروا غير مقبول منهم فداؤهم لو ثبت كون ما في الأرض جميعًا ومثله معه لهم فافتداؤهم به، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة {وَلَهُمْ} (الواو): عاطفة. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة له، والجملة معطوفة على جملة {لَوْ} الشرطية على كونها خبرًا لـ {أَنَّ}. {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}.

{يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَنْ يَخْرُجُوا}: ناصب وفعل وفاعل، وجملة أنْ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريدون خروجهم من النار {مِنَ النَّارِ} جار ومجرور، متعلق بـ {يَخْرُجُوا}. {وَمَا}: {الواو}): عاطفة. {ما}: حجازية. {هُمْ}: ضمير الغائبين في محل الرفع اسمها. {بِخَارِجِينَ} خبرها و {الباء} فيه زائدة. {مِنْهَا}: جار ومجرور متعلق {بِخَارِجِينَ} والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ}. {وَلَهُمْ} {الواو}: عاطفة. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {مُقِيمٌ}: صفة له، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. التصريف ومفردات اللغة {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} اتل فعل أمر من تلا يتلو تلاوة، يقال: تلا الكتاب إذا قرأه، والتلاوة: القراءة، ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى، والنبأ: الخبر الذي يهتم به لفائدة ومنفعة عظيمة، سمي به لأنَّه يأتي من مكان إلى آخر، ويجمع على أنباء {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} والقربان فيه احتمالان (¬1): أحدهما: وبه قال الزمخشري: أنَّه اسم لما يتقرب به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غير ذلك، يقال: قرب صدقة وتقرب بها. والاحتمال الثاني: أنْ يكون مصدرًا في الأصل، ثم أطلق على الشيء المتقرب به كقولهم: نسج اليمن وضرب الأمير، ويؤيد ذلك أنَّه لم يثن مع أن الموضع موضع تثنية لأن كلًّا من قابيل وهابيل له قربان يخصه، والأصل إذ قربا قربانين، وإنَّما لم يثن؛ لأنَّه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره {لَئِنْ بَسَطْتَ} يقال: بسط اليد إليه يبسط من باب نصر بسطًا إذا مدها إليه ليقتله {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} يقال: باء يبوء بوءًا من باب قال: إذا رجع ويقال: باء بالحق، أو بالذنب، إذا أقر به، وباء فلان بفلان بواء، إذا قتل به وصار دمه بدمه، وفي ¬

_ (¬1) الجمل.

النهاية لابن الأثير: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي؛ أي: التزم وأقر. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فطوعت؛ أي: فشجعت وزينت. قرأ الجمهور (¬1): طوعت بتشديد الواو، ويقرأ شاذًّا: {طَوَّعَتْ} بوزن فاعل بالألف والتخفيف كما مر، وهما لغتان، والمعنى زينت، وقال: (طاوعت) تتعدى بغير لام، وهذا خطأ؛ لأن التي تتعدى بغير اللام تتعدى إلى مفعول واحد، وقد عداه ها هنا إلى قتل أخيه، وقيل: التقدير: طاوعته نفسه على قتل أخيه، فزاد اللام وحذف على، ذكره أبو البقاء. {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} الغراب (¬2) طائر معروف، ويجمع في القلة على أغربة، وفي الكثرة على غربان وغراب اسم جنس، وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء .. فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنَّه مشتق، إلا أن ذلك قليل جدًّا، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو: تراب وحجر وماء، ويمكن أن يكون غراب مأخوذًا من الاغتراب، فإن العرب تتشاءم به، وتزعم أنَّه دال على الفراق {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} البحث في الأرض .. نبش التراب وإثارته. {لِيُرِيَهُ} من أرى الرباعي التي هي مزيد رأى به. معنى: عرف المتعدية لواحد، فتتعدى بالهمزة لاثنين: الأول: الضمير البارز، والثاني: جملة كيف {يُوَارِي} يقال: وارى الشيء يواري مواراة، من باب فاعل إذا أخفاه، والسوأة ما يسوء ظهوره، والعورة والسوأة يجوز تخفيف همزتها بإلقاء حركتها على الواو، فتبقى سوأة أخيه، ولا تقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ لأن حركتها عارضة، ذكره أبو البقاء. {وَيْلَتَا} الويل حلول الشر، والويلة: الفضيحة والبلية والهلكة؛ أي: وافضيحتاه، وهي كلمة جزع وتحسر، والألف فيه بدل من ياء المتكلم {أَعَجَزْتُ} من باب فعل المفتوح، وهي اللغة الفاشية، وحكى الكسائي فيه: فعل بكسر العين والعجز: عدم الإطاقة {مِنَ النَّادِمِينَ} من الندم: وهو التحسر والتلهف، يقال: ندم يندم، من باب فرح إذا تحسر. ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) البحر المحيط.

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} والأجل في الأصل (¬1): الجناية، يقال: أجل عليهم شرًّا؛ أي: جنى عليهم جناية، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل سبب. وعبارة الشوكاني: أي من أجل ذلك القاتل وجريرته، وبسبب معصيته، وقال الزجاج: أي: من جنايته، قال: يقال: أجل الرجل على أهله شرًّا بأجل أجلًا، إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذًا انتهت. والإسراف البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة. {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من حارب من باب فاعل الرباعي يحارب محاربة، والمحاربة من الحرب ضد السلم، والسلم السلامة من الأذى، والضرر والأفة والأمن على النفس والمال، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، وحربية الرجل: ماله الذي يعيش به، والفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون صالحًا نافعًا .. يقال: إنّه فسد، ومن كان سببًا لفساد شيء يقال إنَّه أفسده، فإزالة الأمن من الأنفس أو الأموال أو الأعراض، ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك .. إفساد في الأرض {أَنْ يُقَتَّلُوا} والتقتيل المبالغة في القتل بكونه حتمًا لا هوادة فيه، ولا عفو من ولي الدم {أَوْ يُصَلَّبُوا} والتصليب المبالغة في الصلب، أو تكرار الصلب، كما قال الشافعي: يصلب بعد القتل ثلاثة أيام؛ بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه: إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} والنفي من الأرض: النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإِسلام إذا كانوا مسلمين؛ فإن كانوا كفارًا .. جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإِسلام، أو بعض بلاد الكفار {لَهُمْ خِزْيٌ} الخزي: الذل والفضيحة، يقال: أخزاه الله، إذا فضحه وأذله {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا}؛ أي: من قبل التمكن من عقابهم. {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} اتقاء الله: هو اتقاء سخطه وعقابه ¬

_ (¬1) المراغي.

بعدم مخالفة دينه وشرعه، يقال: اتقى عن الشيء، إذا جعل لنفسه وقايةً عنه، وهو من افتعل الخماسي، أصله اتقوا، يقال: اتقى اتقاء إذا صار تقيًّا، وابتغاء الوسيلة: طلب الوصول والقرب إليه تعالى بما يرضيه من العمل الصالح. والوسيلة (¬1) الواسلة إلى ما يتقرب منه، يقال: وسله وتوسل إليه، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وقال لبيد: أَرَى النَّاسَ لاَ يَدْرُوْنَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... أَلاَ كُلُّ ذِيْ لُبٍّ إِلَى الله وَاسِلُ وأنشد الطبري: إِذَا غَفِلَ الْوَاشُوْنْ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَابِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ وفي "المصباح": وسلت إلى الله بالعمل أسل من باب وعد، رغبت وتقربت، ومنه اشتقاق الوسيلة وهي: ما يتقرب به إلى الشيء، والجمع الوسائل، والوسيل: قيل: جميع وسيلة، وقيل: لغة فيها، وتوسل إلى ربه توسيلة إذا تقرب إليه بعمل. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: منها: الطباق بين كلمة {قَتَلَ} و {أَحْيَا} وهو من المحسنات البديعية، وكذلك بين {يعذب} و {يغفر}. ومنها: الحذف في قوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ}؛ لأنّه على حذف مضاف؛ أي: يحاربون أولياء الله لأن الله تعالى لا يحارب ولا يغالب، فالكلام على سبيل المجاز. ومنها: الإبهام في قوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ}. ومنها: التعريض بعدم تقوى القاتل في قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَتُقُبِّلَ}، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ}. ¬

_ (¬1) الكشاف 1/ 488.

ومنها: الجناس المغاير في قوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ}، وفي قوله: {قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}. ومنها: التشبيه في قوله: {مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ}. ومنها: القصر في قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا} لأنَّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر على تفسير الجمهور. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا}، {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ}. ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} لأنه استعار الإحياء للاستبقاء؛ لأنَّ المراد استبقاءها وعدم التعرض لقتلها، وإحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} الآية. قال الزمخشري (¬1): هذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه من الوجوه. ومنها: طباق السلب في قوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ} {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ}. ومنها: التقسيم في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {كَتَبْنَا}؛ أي: أمرنا بكتابته في الكتب المنزلة، ففيه نسبة الفعل إلى الآمر. ومنها: تنزيل غير العاقل منزلة العاقل في قوله: {يَا وَيْلَتَا} لأنَّ أصل النداء أنْ يكونَ للعاقل حقيقة، وقد ينادى ما لا يعقل مجازًا. ومنها: الاهتمام في قوله: {سَوْءَةَ أَخِيهِ}؛ لأنَّ المراد بسوأة أخيه جسده، فإنَّه مما يستقبح بعد موته، وخصت السوأة بالذكر للاهتمام بها, ولأن سترها ¬

_ (¬1) الكشاف (1/ 488).

آكد. وفيه أيضًا مجاز مرسل بإطلاق اسم البعض على الكل. ومنها: الإتيان بضمير الشأن في قوله: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا} المنبىء (¬1) عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان، عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقرير ما بعده في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من الأول إلا شأن مبهم له خطر، فبقى الذهن مترقيًا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده فضل تمكن؛ فكأنّه قيل: إن الشأن الخطر هذا. اهـ. "أبو السعود". والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الجمل.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}. المناسبة قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها (¬1): أنّه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة، ثم ذكر حال الكفار .. ذكر حكم السرقة؛ لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره، وهو أيضًا حرابة من حيث المعنى؛ لأنَّ فيه سعيًا بالفساد، إلا أن تلك على سبيل الشوكة والظهور، والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر. وعبارة المراغي هنا: لما بين الله (¬2) سبحانه وتعالى عقاب المحاربين الذين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

يفسدون في الأرض، ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله، وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان, وتتهذب بها النفوس، حتى تنفر من الحرام، وتبتعد عن المعاصي .. ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية، وجمع في هذه الآيات بين الوازع الداخلي: وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي: وهو الخوف من العقاب والنكال. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} مناسبتها لما قبلها (¬1): أنّه تعالى لما ذكر تصرفه في أحكام السراق، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم .. نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه فيه، فيعذب من يشاء عذابه، وهم المخالفون لأوامره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنَّهم يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا .. أمره تعالى أنْ لا يحزن، ولا يهتم بأمر المنافقين وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به، وبمن معه الدوائر، ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض، ونصب المحاربة لله ولرسوله، وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ...} الآية. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه مسلم عن البراء بن عازب قال: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ " قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم فقال: "أنشدك باللهِ الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟؟ قال: لا والله لولا أنَّك نشدتني لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا زنى الشريف .. تركناه، وإذا زنا الضعيف .. أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه" فأمر به فرجم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول: ائتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإنْ أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وللآيات سبب آخر أيضًا: وهو ما أخرجه أبو داود بسند رجاله رجال "الصحيح" (ج 4/ ص 286) عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير .. قتل به، وإذا قتل رجل من النضير .. يودي بمئة وسق من التمر، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتوه فنزلت {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى (ج 2/ ص 61) وقد يمكن أنه قد اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كلّه. والله أعلم.

[38]

التفسير وأوجه القراءة 38 - قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} شروع (¬1) في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، ولما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال .. صرح بالسارقة، مع أنَّ المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال، وقدم السارق هنا والزانية في آية النور لأن الرجال إلى السرقة أميل، والنساء إلى الزنا أميل؛ أي: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيها الولاة والحكام يده من الكف إلى الرسغ؛ لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن، وقطعت اليد لأنها آلة السرقة، ولم تقطع آلة الزنا تفاديًا عن قطع النسل، والتي تقطع أولًا هي اليمنى؛ لأنَّ التناول غالبًا يكون بها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. وكما يدل عليه قراءة ابن مسعود الشاذة: (وَالسَّارِقُون وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أيمانهم). والسرقة: أخذ الشيء في خفية عن الأعين، وإنَّما سُمِّيَ السارق سارقًا .. لأنَّه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء، ومنه: استرق السمع مستخفيًا. والقطع معناه: الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أنَّ موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب. وقد اختلف الأئمة في المقدار الذي يوجب قطع اليد في السرقة (¬2)، فروي عن الحسن البصري، وداود الظاهري أنَّه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث "لعنَ الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" رواه الشيخان عن أبي هريرة، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أنَّ القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار - ربع مثقال من الذهب - أو ثلاثة دراهم من الفضة، لحديث عائشة "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع يد السارق في ربع دينار ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

فصاعدًا" رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، ولحديث ابن عمر في "الصحيحين" "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن - ترس - ثمنه ثلاثة دراهم"، وقالت الحنفية: إنَّ القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها، ولا بدّ أن يكون محفوظًا في حرز، وإلا فلا قطع، كما سيأتي في المسائل الآتية. وتثبت السرقة بالإقرار أو بالبينة، ويسقط الحدّ بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام. وعبارة "زاد المسير": ولا يقطع إلا بشهادة عدلين، أو بإقراره مرتين. وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يثبت بمرة، ويجتمع القطع والغرم موسرًا كان أو معسرًا. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فإنْ كانت العين باقية .. أخذها ربها، وإنْ كانت مستهلكة .. فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إنْ كان موسرًا، ولا شيء عليه إنْ كان معسرًا. انتهت. وقرأ (¬1) الجمهور: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصريين: أنَّ السارق والسارقة مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم؛ أي: حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، ويكن قوله: {فاقْطَعُوا} بيانًا لذلك الحكم المقدر، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّه هو المقصود؛ ولو لم يؤت بالفاء .. لتوهم أنَّه أجنبي، والكلام على هذا جملتان، الأولى: خبرية، والثانية: إنشائية. والثاني وهو مذهب الأخفش، ونقل عن المبرد وجماعة كثيرة أنَّه مبتدأ أيضًا، والخبر: الجملة الإنشائية من قوله: {فَاقْطَعُوا}. وإنما دخلت الفاء في الخبر لأنه يشبه الشرط في العموم، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها، وهي في قوة قولك: والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا، وأجاز الزمخشري الوجهين. اهـ. "سمين". وقرأ عبد الله (¬2): (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) وقرأ عيسى بن ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

عمر وإبراهيم وابن أبي عبلة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالنصب على الاشتغال وهي قراءة أيضًا. وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} مفعولان لأجله معلّلان للقطع؛ أي: اقطعوا أيديهما مجازاة لهما على عملهما وكسبهما السيء، وتنكيلًا ومنعًا لغيرهما عن السرقة، ولا عبرة أعظم من قطع اليد، الذي يفضح صاحبه طول حياته، ويسمه بميسم العار والخزي، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فالأرواح كثيرًا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السراق وحاولوا منعهم من أخذها {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} أي غالب في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي، فلا معقب لحكمه لأنَّه القاهر على كل شيء {حَكِيمٌ} في صنعه وشرائعه وتكاليفه، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد، وكأنَّه يقول: شددوا على السراق فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلًا رجلًا. وقيل: معنى {حَكِيمٌ}؛ أي: يضع الشيء في محله، فلا يحكم بقطع يده ظلمًا؛ لأنَّ السارق لما خان هان، ولهذا أورد بعض اليهود على القاضي عبد الوهاب البغدادي سؤالًا حيث قال شعر: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِيْنَ عَسْجَدٌ وُديَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ في رُبْعِ دِيْنَارِ فأجابه القاضي رضي الله عنه بقوله: عِزُّ الأمَانَةِ أَغْلاَهَا وَأرْخَصَها ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِيْ فصل في بيان الأحكام المتعلقة بالآية وفيه خمس مسائل المسألة الأولى: اقتضت هذه الآية وجوب القطع على كل سارق، وقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السرقة. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتشفع في حد من حدود الله! "، ثم قام فخطب ثم قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف .. تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف ..

أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها". متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نراك تبلغ به هذا؟ قال: "لو كانت فاطمة لقطعتها" أخرجه النسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يدة، ويسرق الحبل فتقطع يده". متفق عليه. قال الأعمش: يرون أنه بيض الحديد، وإنَّ من الحبال ما يساوي دراهم. أما السارق الذي يجب عليه القطع .. فهو البالغ العاقل، العالم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإِسلام ولا يعلم أنَّ السرقة حرام فلا قطع عليه. المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّه ربع دينار، فإن سرق ربع دينار، أو متاعًا قيمته ربع دينار .. يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل له: ما روي عن عائشة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" أخرجاه في "الصحيحين". وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنَّه ثلاثة دراهم أو قيمتها؛ لما روي عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أخرجه الجماعة. والمجن: الترس. ويروى: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن قدر النصاب الذي تقطع فيه اليد خمسة دراهم، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية: (قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أخرجه النسائي، وقال: الرواية الأولى أصح. وذهب قوم إلى أنَّه قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ويروى ذلك عن ابن مسعود، وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة

دراهم". أخرجه أبو داود. فإذا سرق نصابًا من المال من حرزٍ لا شبهة له فيه .. قطعت يده اليمنى من الكوع، ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب. وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن: القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير، وكذا الحرز غير معتبر أيضًا عندهم، وإليه ذهب داود الظاهري، واحتجوا بعموم الآية، فإن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يتناول القليل والكثير، وسواء من حرز أو غير حرز. المسألة الثالثة في الحرز: الحرز: هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم فيها، فكل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة .. فإنَّه ليس بحرز، إلا أن يكون عنده من يحفظه. أما نباش القبور فإنَّه يقطع، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئًا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له، أو حيوان في برية ولا راعٍ له، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت .. فلا قطع عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: "من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وزاد فيه "ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة"، قوله: غير متخذ خبنة - الخبنة بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة ثم نون - وهو ما يحمله الإنسان في حضنه، وقيل: هو ما يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله، والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة. وروى مالك في "الموطأ"، عن أبي حسين المكي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل، فإذا أواه المراح أو الجرين ..

فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" هكذا رواه مالك منقطعًا، وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص. قوله: "ولا في حريسة الجبل" من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها يقال: حرس يحرس حرسًا، إذا سرق، ومنهم من يجعلها المحروسة. ومعنى الحديث: أنَّه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع؛ لأنه ليس بحرز، وقيل: حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها، والمراح - بضم الميم - هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" أخرجه الترمذي والنسائي. المسألة الرابعة: إذا سرق مالًا له فيه شبهة، كالولد يسرق من مال والده، أو الوالد يسرق من مال ابنه، أو العبد يسرق من مال سيده، أو الشريك يسرق من مال شريكه .. فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها, ولا هو إذا سرق من مال زوجته. وقال مالك: يقطعان، ذكره أبو حيان في "البحر". المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة .. قطعت يده اليمنى من الكوع، وإذا سرق ثانية .. قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة، فذهب أكثرهم إلى أنَّه تقطع يده اليسرى، فإن سرق مرة رابعة .. قطعت رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعد ذلك .. يعزر ويحبس حتى تظهر توبته. يروى هذا عن أبي بكر، وهو قول قتادة، وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" ذكره البغوي بغير سند. وذهب قوم إلى أنه إنْ سرق بعدما قطعت يده ورجله .. فلا قطع عليه بل يحبس. وروي عن علي أنه قال: إني أستحيي أن لا أدع له يدًا يستنجي بها, ولا رجلًا يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.

[39]

39 - {فَمَنْ تَابَ} من السراق إلى الله تعالى، ورجع عن السرقة {مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} لنفسه بعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس {وَأَصْلَحَ} نفسه وزكاها بأعمال البر. قال أبو حيان: وظاهر الآية أنَّه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إذا ضم إلى ذلك الإصلاح، وهو: التنصل من التبعات بردها إن أمكن، وإلا فبالاستحلال منها، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها، انتهى. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَتُوبُ عَلَيْهِ}؛ أي: يقبل توبته تفضلًا منه وإحسانًا لا وجوبًا عليه، ويرجع إليه بالرضا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} كان منه قبل التوبة {رَحِيمٌ} لمن تاب. فصل وهذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله؛ فأما القطع: فلا يسقط عنه بالتوبة عند أكثر العلماء؛ لأن الحد جزاء على الجناية، ولا بد من التوبة بعد القطع، وتوبته: الندم على ما مضى، والعزم على تركه في المستقبل، وإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيًا، وإلا فدفع قيمته إن قدر. وعن أبي أمية المخزومي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بلص قد اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما إخالك سرقت"، فقال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استغفر الله وتب إليه" فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم تب عليه"، أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه. وإذا قطع السارق .. يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم. وقال الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه، فلو كان المسروق باقيًا عنده .. يجب عليه أن يرده إلى صاحبه وتقطع يده؛ لأنَّ القطع حق الله، والغرم حق الآدمي، فلا يسقط أحدهما بالآخر، والله أعلم. 40 - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ} يا محمَّد أو يا مخاطَب {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي سلطنتهما وتدبيرهما وتصرفهما، يدبر الأمر فيهما بحكمته وعدله ورحمته وفضله، يعني أنَّ الله تعالى

[41]

مدبر أمر ما في السموات والأرض ومصرفه، وخالق من فيهما ومالكه، لا يمتنع عليه شيء مما أراده فيهما؛ لأن ذلك كله في ملكه وإليه أمره. ومن حكمته أنّه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقًا، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنَّه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء، ويرحمهم إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا عملهم و {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} تعذيبه من العصاة تربية له، وتأمينًا لعباده من شره وأذاه. {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} المغفرة له من التائبين برحمته وفضله، ترغيبًا لهم في تزكية أنفسهم. قال ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما: يعذب من يشاء على الصغيرة، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة، وقيل: يعذب من يشاء على معصيته وكفره بالقتل والقطع وغير ذلك في الدنيا، ويغفر لمن يشاء بالتوبة عليه، فينقذه من الهلكة والعذاب، وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنَّه في مقابلة قطع السرقة على التوبة. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ أي: قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه، وعلى غفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه؛ لأنَّ الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه، فلا يعجزه شيء في تدبير ملكه. 41 - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} خاطب الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} في مواضع كثيرة من القرآن، وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا في موضعين، هما: في سورة المائدة في هذا الموضع، وموضع آخر بعده وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم: يا رسول الله، وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه؛ يا محمَّد، حتى أنزل الله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فكفوا عن ندائه باسمه. والحاصل: أن نداءه بيا أيها النبي وبيا أيها الرسول نداء تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ} {يَا نُوحُ اهْبِطْ} {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ}، {يا عِيسَى إِنِّي ¬

_ (¬1) الخازن.

[42]

مُتَوَفِّيكَ}، {يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وقوله: {لَا يَحْزُنْكَ} قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي رباعيًّا، والباقون بفتح الياء وضم الزاي ثلاثيًّا، وقوله: {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} هكذا قراءة الجمهور بالألف من سارع، وقرأ السلمي يسرعون بغير ألف من أسرع، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة والمراد هنا: وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ (في) على لفظ (إلى) للدلالة على استقرارهم فيه؛ أي: لا تهتم أيها الرسول ولا تبال بمسارعة هؤلاء المنافقين الذين يبادرون في إظهار الكفر، وموالاة أعداء المؤمنين عندما يرون الفرصة سانحة؛ فالله يكفيك شرهم، ويقيك ضرهم، وينصرك عليهم، وعلى من شايعهم وناصرهم. والمراد بالنهي عن الحزن هو أمر طبيعي، وليس للإنسان فيه اختيار النهي عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصائب، وتعظيم شأنها، وبذا يتجدد الألم، ويبعد أمد السلوى. ثم بين أن أولئك المسارعين في الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا} فـ (مِن) فيه بيانية للمسارعين والباء في قوله: {بِأَفْوَاهِهِمْ} متعلقة بقالوا، لا بآمنا، وهؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} هم المنافقون وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} يعني اليهود، معطوف على {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} وهو تمام الكلام، يعني أنَّ المسارعين في الفكر هم طائفة من المنافقين، وطائفة من اليهود. والمعنى: لا يحزنك يا محمَّد الذين يسارعون في الكفر حالة كونهم من المنافقين الذين أذاعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وحالة كونهم من الذين هادوا؛ أي: من اليهود. 42 - وقوله: {سَمَّاعُونَ} راجع للفريقين، أو إلى المسارعين، واللام في قوله: {لِلْكَذِبِ} للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وسماعون خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم؛ أي: كل من الفريقين من المنافقين واليهود سماعون؛ أي: كثيروا الاستماع، سماع قبول للكذب الذي يقوله ويفتريه رؤوسائهم وأحبارهم في نعوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر: {لِلْكِذْبِ} بكسر الكاف وسكون الذال، وقرأ زيد بن علي أيضًا: "الكُذُب" بضم الكاف والذال، وجمع كذوب كصبور وصبر؛ أي: سماعون لكذب الكذب {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ

{يَأتُوكَ}؛ أي: هم سماعون أيضًا لكلامك يا محمَّد؛ لأجل إخباره ونقله لقوم آخرين من اليهود، لا يأتونك تكبرًا وبغضًا؛ لأنهم لتكبرهم وبغضهم لك لا يقربون مجلسك ولا يحضرونه، وهم يهود خيبر، زنى فيهم محصنان فكرهوا رجمهما، فبعثوا قريظة ليسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكمهما، وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمهما؛ أي: إنَّ (¬1) هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان: سماع الكذب من أحبارهم، ونقله إلى عوامهم، وسماع الحق منك ونقله لأحبارهم ليحرفوه فقوله {لِقَوْمٍ}؛ أي: لأجل قوم لا يأتونك؛ أي: فيكونون وسائط بينك وبين قوم آخرين، والوسائط هم قريظة، والقوم الآخرون هم يهود خيبر. وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} صفة ثالثة لقوم؛ أي: يسماعون لكلامك لنقله إلى قوم يحرفون ويزيلون ويغيرون ويبدلون كلم التوراة وأحكامها المذكورة فيها. {مِنْ بَعْدِ} أن وضعها الله تعالى وأثبتها فيها عن {مَوَاضِعِهِ}؛ أي: عن مواضع تلك الكلم، فالضمير عائد على لفظ الكلم؛ أي: يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه، إما تحريفًا لفظيًّا بإبدال كلمة بكلمة، كما في نعوت محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو بإخفائه وكتمانه، كالبشارة بظهوره، ونصره بالرعب، وآية الرجم أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه، وإما تحريفًا معنويًّا يحمل اللفظ على غير ما وضع له، وقرىء {الكلم} بكسر الكاف وسكون اللام {يَقُولُونَ}؛ أي: يقول هؤلاء المحرفون - وهم يهود خيبر - لمن أرسلوهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم، وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما، وهم بنو قريظة {إِنْ أُوتِيتُمْ} وأعطيتم {هَذَا} الجلد الذي طلبناه من محمَّد {فَخُذُوهُ}؛ أي: فاقبلوه منه؛ أي: يقول المرسلون - وهم يهود خيبر - لمن أرسلوهم - وهم قريظة - إن أعطاكم محمَّد رخصة بالجلد عوضًا عن الرجم .. فخذوها وارضوا به. {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ}؛ أي: وإن لم تعطوا هذا الجلد، بأن أفتاكم الرجم {فَاحْذَرُوا} أن تقبلوه، وابتعدوا منه؛ أي: وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك، ولا ترضوا به. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {فِتْنَتَهُ} وغوايته وضلاله وكفره {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}؛ أي: فلن تستطيع له أن تدفع عنه شيئًا من أمر الله الذي حكم عليه، وأراد به الذي هو الكفر والضلال؛ أي (¬1): ومن يرد الله تعالى أن يختبرهُ في دينه، فيظهر الاختبار كفره وضلاله .. فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئًا من الهداية والرشد؛ فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم، فهم يقبلون الكذب دون الحق، وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم إتباعًا لأهوائهم ومرضاة لرؤسائهم وذوي الجاه منهم، فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان, فإنَّك لا تملك لأحد نفعًا، وإنَّما عليك البلاغ والبيان، ولا تخف عاقبة نفاقهم، فإنَّما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان, ولهم الخزي والهوان. والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ}، {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: أولئك المنافقون واليهود هم {الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}؛ أي: لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق، وخبث الضلالة؛ لإنهماكهم فيهما، كما طهر قلوب المؤمنين؛ أي (¬2): إنَّ أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ، هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق؛ لأن إرادته إنَّما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة في نفوس البشر من أنَّها إذا دأبت على الباطل، ومرنت على الكيد والشر، وألفت الخلاف والضر، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها .. فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية، فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهير قلوبهم، وإلا كان ذلك خلافًا لما اقتضته سننه، وتبديلًا لنظمه في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

{لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المنافقين واليهود {خِزْيٌ}؛ أي: ذل بالفضيحة للمنافقين، وبظهور نفاقهم بين المسلمين، وخوفهم من قتل المسلمين إياهم، وبالجزية والافتضاح لليهود بظهور كذبهم في كتمان التوراة {وَلَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المنافقين واليهود {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديد، وهو الخلود في النار، وصفه بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه، أو لهما؛ أي: فخزي المنافقين في الدنيا هتك أستارهم بإطلاع الرسول على كذبهم، وخوفهم من القتل، وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نصوص كتابهم في إيجاب الرجم، وعلو الحق على باطلهم، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم، ولا يغني عنهم الانتساب إلى نبي لم يتبعوه، ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبي لم يتبعوه، وعذابهم في الآخرة نجزم بحصوله، ولا نعلم مقدار كنهه، وحقيقة أمره. قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} كرره (¬1) تأكيدًا لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده وهو: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو من أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقًا؛ أي: سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}؛ أي: الحرام الذي (¬2) يصل إليهم من الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وعسيب الفحل، وثمن الدم، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، وأجرة النائحة والمغنية، وأجرة مصور التماثيل، وثمن النرد وآلات اللهو، وثمن الصور الحيوانية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب (¬3): {السُّحُتِ} بضمتين. وقرأ باقي العشرة بإسكان الحاء، وزيد بن علي وخارجة بن مصعب، عن نافع بفتح ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

السين وإسكان الحاء، وقرىء بفتحتين، وقرأ عبيد بن عمير أيضًا بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين، اسم المسحوت: كالدهن والرعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول، كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلبًا للخفة. قيل: نزلت (¬1) في حكام اليهود، مثل كعب بن الأشرف ونظرائه، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم. قال الحسن: كان الحاكم منهم إذا أتاهم أحدهم برشوة .. جعلها في كمه، ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي: السحت. وأصل السحت الاستئصال، يقال: سحته إذا استأصله، وسميت الرشوة في الحكم سحتًا؛ لأنها تستأصل دين المرتشي، والسحت كله حرام، تحمل عليه شدة الشره، وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة، ولا لآخذه مروءة، ويكون في حصوله عار، بحيث يخفيه لا محالة، ومعلوم أن حال الرشوة كذلك، فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم". أخرجه الترمذي. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال الحسن: إنّما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلًا، أو يبطل عنك حقًّا. وقال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليرد بها حقًّا، أو يدفع بها ظلمًا فأهدى بها إليه فقبل .. فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال: الأخذ على الحكم كفر، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. {فَإِنْ جَاءُوكَ} يا محمَّد؛ أي: جاءك اليهود متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}؛ أي: فأنت (¬2) مخير بين ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

الحكم بينهم، والإعراض عنهم، وتركهم إلى رؤسائهم، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون يرجحون في كل حال ما يرونه من المصلحة، وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا؛ لأن من أخذت منهم الجزية .. تجري عليه أحكام الإِسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في الخمر والخنزير فإنَّهم يقرون عليه، ولكن لا يظهرونه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين، فإنَّهم نهوا عنه ويقام عليهم حدّه. فصل اختلف علماء التفسير في حكم هذه الآية على قولين: أحدهما: أنَّها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كان مخيرًا، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فلزمه الحكم بينهم وزال التخيير، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي. والثاني: أنَّها محكمة، والحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم .. فإن شاؤوا حكموا بينهم، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد ابن حنبل، وهو الصحيح لأنّه لا منافاة بين الآيتين. أمَّا قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ففيه التخيير بين الحكم والإعراض. وأمَّا قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ففيه بيان كيفية الحكم إذا حكم بينهم. قال الإِمام فخر الدين الرازي (¬1): ومذهب الشافعي أنَّه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه؛ لأنَّ في إمضاء حكم الإِسلام عليهم إذلالًا وصَغارًا لهم، فأمَّا المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد ¬

_ (¬1) الفخر الرازي.

[43]

إلى مدة .. فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهذا التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين. ولو ترافع إلينا ذميان في شرب الخمر .. لم نحدهما وإن رضيا بحكمنا؛ لأنهما لا يعتقدان تحريمها، وأمَّا إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم الحكم بينهم إجماعًا، لا يختلف القول فيه؛ لأنَّه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة، وكذا الذمي مع المعاهدين، انتهى بزيادة بعض الحروف. {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ}؛ أي: وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم {فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} من الضرر، فالله حافظك من ضررهم؛ أي: لأنهم إنَّما يتحاكمون إليك لطلب الأخف، فإذا أعرضت عنهم، وأبيت عن الحكم بينهم .. شق عليهم إعراضك عنهم، وصاروا أعداء لك، فلا تضرك عداوتهم لك، فإن الله تعالى يعصمك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ}، أي: وإن اخترت الحكم بينهم {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإِسلام {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ أي: يثيب العادلين في الحكم. 43 - والاستفهام في قوله {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} إلخ، إستفهام تعجيب من الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من تحكيمهم إياه، مع أنهم لا يؤمنون به وبكتابه، والحال أن الحكم منصوص عليه في التوراة التي يدعون الإيمان بها، وتنبيه على أنَّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنَّما طلبوا به ما هو أهون عليهم لكان لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم، ثم يعرضون عن حكمه - صلى الله عليه وسلم - الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، والرضا بحكمه - صلى الله عليه وسلم - فقوله: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} حال من فاعل يحكمونك وقوله: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} حال من التوراة وقوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} معطوف على يحكمونك. والمعنى: واعجب يا محمَّد من تحكيمهم إياك في حد الزنا، والحال أن عندهم التوراة كتابهم حالة كون التوراة موصوفة بكون حكم الله بالرجم في الزنا موجودًا فيها، ثم اعجب من توليهم وإعراضهم عن حكمك من بعد تحكيمهم

إياك، ورضاهم بحكمك. فائدة: والاستفهام التعجبي ضابطه هو إيقاع (¬1) المخاطب في العجب؛ أي: التعجب. والتعجب هنا من وجهين: الأول: قوله: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ ...} إلخ. والثاني: قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ ...} إلخ كما أشرنا إليه في التفسير؛ أي: وكيف (¬2) يحكمونك في قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة، وهي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها. وخلاصة ذلك أن أمرهم لمن أعجب العجب، وما سبب ذلك إلا أنَّهم ليسوا بمؤمنين بالتوراة إيمانًا صحيحًا، ولا هم مؤمنين بك، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره، إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضًا، أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك {مَا أُولَئِكَ} البعداء من الله تعالى يعني اليهود {بِالْمُؤْمِنِينَ} بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها لإعراضهم عنها أولًا، وعما يوافقها ثانيًا، أو بك ولا بها، وإن طلبوا الحكم منك لأنَّهم لا يعتقدون صحة حكمك، وذلك دليل على أنَّه لا إيمان لهم بشيء، وأنَّ مقصودهم تحصيل منافع الدنيا، وأغراضهم الفاسدة، دون اتباع الحق. الإعراب {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}. {وَالسَّارِقُ} مبتدأ. {وَالسَّارِقَةُ}: معطوف عليه، وفي الخبر وجهان: أحدهما: وعليه سيبويه أنّه محذوف تقديره: حكم السارق والسارقة فيما ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) المراغي.

يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم، ويكون قوله: {فَاقْطَعُوا} بيانًا لذلك الحكم المقدر، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها, ولذلك أتي بها فيه لأنَّه هو المقصود، ولو لم يؤتِ بالفاء لتوهم أنَّه أجنبي، والكلام على هذا جملتان: الأولى: اسمية خبرية، والثانية: فعلية إنشائية. وثانيهما: وعليه الأخفش وجماعة من النحاة: أن الخبر الجملة الإنشائية من قوله: {فَاقْطَعُوا} وإنَّما دخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ باسم الشرط في العموم، إذ الألف واللام فيه موصولة، بمعنى الذي والتي، والصفة صلتها، فهي في قوة قولك: والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا أيديهما، والجملة من المبتدأ والخبر على كلا الوجهين مستأنفة كما سبق، ذلك كله في بحث التفسير. {أَيْدِيَهُمَا}: مفعول به ومضاف إليه. {جَزَاءً}: مفعول لأجله منصوب، بـ {اقْطَعُوا} فالجزاء علة للأمر بالقطع، أو منصوب على المصدرية بفعل محذوف تقديره: جازاهما الله جزاء على ما كسباه والجملة المحذوفة معللة للقطع أيضًا، كما ذكره أبو البقاء. {بِمَا}: الباء: حرف جر بمعنى على. {مَا}: موصولة أو مصدرية. {كَسَبَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: على الذي كسباه من السرقة، أو صلة (ما) المصدرية تقديره: على كسبهما، والجار والمجرور على كلا الوجهين متعلق بـ {جَزَاءً}. {نَكَالًا}: مفعول لأجله منصوب (¬1) بـ {جَزَاءً} فالنكال علة للجزاء، فتكون العلة معللة بشيء آخر، فتكون كالحال المتداخلة، كما تقوله: ضربته تأديبًا له، إحسانًا إليه، فالتأديب علة للضرب، والإحسان علة للتأديب. اهـ. "سمين". {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {نَكَالًا}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {عَزِيزٌ} خبر أول. {حَكِيمٌ} خبر ثان، والجملة مستأنفة. {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حكم السارق والسارقة، وأردت بيان حكم من تاب بعد سرقته .. فأقول لك. {من تاب}: من اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {تَابَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ (من) على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على مَنْ. {مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَابَ}. {وَأَصْلَحَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ (من) معطوف على {تَابَ}: وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها منصوب. {يَتُوبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتُوبُ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {مِنْ} على كونها جواب شرط لها، وجملة {مِنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مسأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {غَفُورٌ} خبر أول له. {رَحِيمٌ} خبر ثانٍ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {أَلَمْ تَعْلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري. وما ذكر الشوكاني في أن الاستفهام للإنكار غير صواب. {لَمْ} حرف نفي وجزم. {تَعْلَمْ}: فعل مضارع مجزوم، بـ {لَمْ} وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعول علم تقديره: ألم تعلم كون ملك السماوات والأرض له تعالى. {يُعَذِّبُ} فعل مضارع والفاعل يعود على الله. {مَنْ} اسم موصول في محل نصب مفعول به {يَشَاءُ} مضارع صلة

الموصول {وَيَغْفِرُ} معطوفة على {يُعَذِّبُ} {لِمَنْ} جار ومجرور متعلقان بـ {يَغْفِرُ} {يَشَاءُ} مضارع والفاعل يعود على الله، والجملة صلة الموصول {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}. {يَا أَيُّهَا} (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد. {الرَّسُولُ}: صفة لـ (أي)، وجملة النداء مستأنفة. {لَا يَحْزُنْكَ}: جازم وفعل ومفعول. {الَّذِينَ} فاعل، والجملة الفعلية جواب النداء. {يُسَارِعُونَ}: فعل وفاعل. {فِي الْكُفْرِ} متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور حال من الضمير في {يُسَارِعُونَ} أو من {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بِأَفْوَاهِهِمْ}: جار. ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قَالُوا}؛ أي: قالوا بأفواههم: آمنا. {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}: جازم وفعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من ضمير {قَالُوا}. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا}، {هَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم؛ أي: كل من الفريقين: اليهود والمنافقين قوم سماعون، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة، قوله: {لِلْكَذِبِ} فيه وجهان (¬1): أحدهما: اللام زائدة، تقديره: سماعون للكذب. والثاني: ليست زائدة، فهي متعلقة بـ {سَمَّاعُونَ}، والمفعول محذوف تقديره ¬

_ (¬1) العكبري.

سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم فيها. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}. {سَمَّاعُونَ} خبر ثان للمبتدأ المقدر سابقًا، وقيل توكيد لفظي للأول وتكرير له. {لِقَوْمٍ} متعلق به؛ أي: لأجل قوم، ويجوز أن تتعلق اللام في {لِقَوْمٍ} بالكذب سماعون الثاني: مكرر والتقدير: ليكذبوا لقوم آخرين. {آخَرِينَ} صفة أول {لِقَوْمٍ}. {لَمْ يَأتُوكَ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة ثانية {لِقَوْمٍ}. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثالثة {لِقَوْمٍ} أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم يحرفون الكلم، أو في محل النصب حال من فاعل {لَمْ يَأتُوكَ}. {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر صفة رابعة {لِقَوْمٍ}، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون، أو في محل النصب حال من فاعل {يُحَرِّفُونَ}. {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {إِنْ} حرف شرط جازم. {أُوتِيتُمْ}: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. هذا في محل النصب مفعول ثان. لـ {أُوتِيتُمْ} والأول كان نائب فاعل له. {فَخُذُوهُ} الفاء: رابطة لجواب (إنْ) الشرطية وجوبًا. {خُذُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول القول. {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} الواو: عاطفة. {إِنْ} حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {تُؤْتَوْهُ}: فعل ونائب فاعل ومفعول ثان مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَاحْذَرُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {احْذَرُوا} فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونها جوابًا

لها، وجملة {إِنْ} الشرطية: في محل النصب معطوفة عل جملة {إِنْ} الأولى على كونها مقولًا لـ {يَقُولُونَ}. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {يُرِدِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها. {فِتْنَتَهُ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَلَنْ} (الفاء) رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بلن. {لن}: حرف نصب. {تَمْلِكَ} منصوب بـ {لن}، وفاعله ضمير يعود على محمد. {لَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمْلِكَ}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمْلِكَ} أيضًا، أو حال من {شَيْئًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. {شَيْئًا} مفعول به أو منصوب على المصدرية، وجملة {تَمْلِكَ} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مِنَ} الشرطية مستأنفة. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}. {أُولَئِكَ} مبتدأ {الَّذِينَ}: خبر والجملة مستأنفة {لَمْ يُرِدِ اللَّهُ} جازم وفعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد الضمير في {قُلُوبَهُمْ} {أَنْ} حرف نصب. {يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}: فعل ومفعول به ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: لم يرد الله تطهير قلوبهم. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار المتعلق به الخبر. {خِزْيٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة (¬1) استئنافًا بيانيًّا لجواب سؤال ناشئ من تفصيل أفعالهم وأحوالهم الموجبة للعقاب، كأنَّه قيل: فما لهم من العقوبة؟ فقيل: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

خِزيٌ} إلخ. {وَلَهُمْ} الواو: عاطفة. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور، متعلق بالاستقرار المتعلق به الخبر. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} صفة له، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}. {سَمَّاعُونَ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم سماعون، والجملة مستأنفة كرره للتأكيد وتوطئة لما بعده. {لِلْكَذِبِ} متعلق به. {أَكَّالُونَ}: خبر لمبتدإ محذوف. {لِلسُّحْتِ}: متعلق به، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على الجملة التي قبلها. {فَإِنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم الخبيثة وأردت بيان حكم ما إذا تحاكموا إليك .. فأقول لك. {إن جاءوك} إن حرف شرط. {جَاءُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإنْ على كونه فعل شرط لها. {فَاحْكُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا. {احْكُمْ}: فعل أمر في محل الجزم (بإنْ) على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {احْكُمْ}. {أَوْ} حرف عطف وتخيير {أَعْرِضْ}: فعل أمر في محل الجزم معطوف على {احْكُمْ}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَنْهُمْ}: جار ومجرور، متعلق به، وجملة {إِنْ} الشرطية: في محل النصب قول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا}. {وَإِنْ}: (الواو): عاطفة. {إن}: حرف شرط. {تُعْرِضْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {فَلَنْ}: الفاء: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ (لن). {لن}: حرف نصب. {يَضُرُّوكَ}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ (لن). {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: شيئًا من الضرر,

والجملة الفعلية في محل الجزم بإنْ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. {وَإِنْ}: (الواو): عاطفة. {إن}: حرف شرط. {حَكَمْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَاحْكُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إِنَّ} الشرطية. {احْكُمْ}: فعل أمر في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بَيْنَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {احْكُمْ}. {بِالْقِسْطِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {احْكُمْ} تقديره: حالة كونك متلبسًا بالقسط، وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ}. {وَكَيْفَ}: (الواو): استئنافية. {كيف} اسم استفهام في محل النصب حال من فاعل {يُحَكِّمُونَكَ} مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. {يُحَكِّمُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة. {وَعِنْدَهُمُ} الواو: واو الحال. {عندهم}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {التَّوْرَاةُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يُحَكِّمُونَكَ}. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر مقدم. {حُكْمُ اللَّهِ} مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من التوراة، والعامل فيها ما في (عند) من معنى الفعل. {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يَتَوَلَّوْنَ}: فعل وفاعل. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَتَوَلَّوْنَ}، والجملة معطوفة على جملة

{يُحَكِّمُونَكَ} {وَمَا}: (الواو): استئنافية. {مَا} حجازية تعمل عمل ليس. {أُولَئِكَ} في محل الرفع اسمها. {بِالْمُؤْمِنِينَ} خبر {مَا} والباء زائدة والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}: {السارق}: اسم فاعل من سرق يسرق من باب ضرب سرقًا بفتح الراء وسرقًا بكسرها، وسرقة بفتحها وسرقة بكسرها وسرقانًا، يقال: سرقه الشيء، وسرق منه الشيء، إذا أخذه منه خفية وبحيلة. وقال (¬1) الجوهري: السرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقًا، وسرقة، وهو: أخذ الشيء في خفية عن الأعين، ومنه استرق السمع ومسارقة النظر. {وَالسَّارِقُ} اسم فاعل لمذكر يجمع على سرقة ككامل وكملة، وعلى سراق كعاذل وعذال، وعلى سارقون. {وَالسَّارِقَةُ}: اسم فاعل لمؤنث يجمع على سوارق وسارقات. وقال ابن عرفة (¬2): السارق عند العرب: من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}: يقال قطع الشيء يقطع، من باب فتح قطعًا ومقطعًا وتقطاعًا إذا جزه وأبانه وفصله، والقطع معناه: الإزالة والإبانة. والأيدي جمع يد برد اللام المحذوف في المفرد اعتباطًا؛ أي: لغير علة تصريفية، وجمعه هنا فرارًا من كراهة الجمع بين تثنيتين، لو قال فاقطعوا يديهما، واليد: الجارحة المعروفة، واختلفوا في محل قطعها كما بيناه في بحث التفسير. {جَزَاءً} مصدر معنوي لاقطعوا؛ فهو منصوب به؛ لملاقته له في المعنى، أو منصوب بمحذوف يلاقيه في اللفظ تقديره: فجازوهما جزاء {نَكَالًا} اسم مصدر لنكل من باب فعل المضاعف ينكل تنكيلًا ونكالًا، ككلم يكلم تكليمًا وكلامًا. وفي "المصباح": نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة إذا أصابه بنازلة، ¬

_ (¬1) الصحاح. (¬2) البحر المحيط.

ونكل به بالتشديد مبالغة، والاسم النكال. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ} والحزن: ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب، ويقال: حزن يحزن حزنًا من باب نصر ضد سره، وحزن يحزن حزنًا من باب فرح له، وعليه ضد سر وفرح، فهو حزين، وأحزن الرجل إذا حزنه. قال الشوكاني (¬1): الحزن والحزن: خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يقال: سارع (¬2) إلى الشيء إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه، وأسرع فيه إذا أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا كان الكفار داخلين في ظرف الكفر محيطًا بهم سرادقه، فالمفاعلة في سارع ليست على بابه، فهو بمعنى أسرع {سَمَّاعُونَ} جمع سماع من صيغ المبالغة على زنة فعال معدول عن سامعون وكذلك {أَكَّالُونَ} جمع أكال مبالغة آكل {لِلسُّحْتِ} السحت والسحت بسكون الحاء وضمها: الحرام وكل ما خبث من المكاسب وحرم، فلزم منه العار، وقبح الذكر، كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة في الحكم، سمي بذلك لأنه يسحت البركة؛ أي: يذهبها، أو لأنه يسحت عمر صاجه، ويقال؛ سحته الله؛ أي: أهلكه، ويقال: أسحته إذا استأصله. وفي "المختار": وسحته من باب قطع وأسحته استأصله، وقرىء بهما في قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}؛ أي: يستأصلكم ويهلككم، ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع، ويقال: فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أحدًا إلا خائفًا، وهو راجع لمعنى الهلاك، ويقال للحالق اسحت؛ أي: استأصل، وسمى الحرام سحتًا لأنَّه يسحت الطاعات؛ أي: يذهبها ويستأصلها. ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) المراغي.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: منها: العموم في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}؛ لأن أن فيهما موصولة فتعم؛ لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت. ومنها: المجاز المرسل بإطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {أَيْدِيَهُمَا} لأنَّ المقطوع الكف لا كل اليد. ومنها: وضع الجمع موضع المثنى؛ لأنَّ المقطوع يمينهما؛ لأنّه ليس في الإنسان إلا بيمين واحدة، وما هذا سبيله يجعل فيه الجمع مكان الاثنين كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. ومنها: الخطاب بلفظ الرسالة للتشريف والتفخيم في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}. ومنها: إيثار كلمة {فِي} الدالة على الظرفية على كلمة {إلى} الأصلية في تعدية مادة سارع في قوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يفارقونه، وإنَّما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه إلى بعض آخر. ومنها: التفصيل في قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا}، و {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} ومنها: المبالغة في قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}، و {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. ومنها: التكرار في قوله: {سَمَّاعُونَ}، وفي قوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا}، و {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} لزيادة التأكيد والتقرير. ومنها: تنكير {خِزْيٌ} للتفخيم والتهويل. ومنها: الطباق بين كلمتي {الدُّنْيَا} و {الْآخِرَةِ}. ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} لأنَّه تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تحكيمهم إياه، وهم لا يؤمنون به وبكتابه.

ومنها: الإشارة بالبعيد في قوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} للإيذان ببعد درجتهم في العتو والمكابرة. ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ}، وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ} فهما راجعان لقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} على خلاف الترتيب السابق. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر عجيب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه، وطلبهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهوائهم، وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون .. ذكر هنا أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبني إسرائيل، ثم أعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، ¬

_ (¬1) المراغي.

وفي ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ولم يتهدوا بهديه، وأن إيثار أهل الكتاب أهوائهم على هدى دينهم هو الذي أعمى لهم عن نور القرآن والاهتداء به. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنَّه تعالى لما ذكر أنَّه بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم، وغرته اليهود .. ذكر هنا أنَّه بين في التوراة أن النفس بالنفس وغيرته اليهود أيضًا، ففضلوا بني النضير علي بني قريظة، وخصوا إيجاب القود علي بني قريظة دون بني النضير. قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنَّه لما ذكر تعالى أنَّ التوراة يحكم بها النبيون .. ذكر هنا أنَّه قفاهم بعيسى ابن مريم تنبيهًا على أنَّه من جملة الأنبياء، وتنويهًا وتنزيهًا له عما تدعيه اليهود فيه، وأنَّه من جملة مصدقي التوراة. قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أن الله سبحانه وتعالى لما بين إنزال التوراة ثم الإنجيل علي بني إسرائيل، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور، وما ألزمهم به من إقامتهما، وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما .. ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومنزلته من الكتب قبله، وأنَّ الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر. وعبارة أبي حيان (¬4) قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ...} الآية، مناسبتها لما قبها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنَّه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراكهم كلهم في أنَّها أنزلت على موسى، فترك ذكره للعلم بذكر، ثم ذكر عيسى وأنَّه أتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنَّه من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوته وإذا أنكرته أنكرت كتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه .. ذكر هنا إنزال القرآن على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الكتاب ومن أنزله عليه مقررًا لنبوته وكتابه؛ لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه، وجاء هنا ذكر المنزل عليه بكاف الخطاب لأنّه أنص على المقصود، وكثيرًا ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنَّه لا يلتبس ألبتة. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ...} الآية، قال المفسرون (¬1): سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الزانيين وقد سبق. قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): أنَّ جماعة من اليهود - منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس - قال بعضهم لبعض .. اذهبوا بنا إلى محمَّد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمَّد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن تبعناك اتبعك اليهود، وإنَّ بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك، فتقفي لنا عليهم ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية. قال القاضي أيو يعلى: وليست هذه الآية تكرارًا لما تقدم، وإنما نزلتا في شيئين مختلفين، أحدهما: في شأن الرجم، والآخر في التسوية في الديات حين تحاكموا إليه. قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية، سبب نزولها (¬3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير وقالوا: يا محمَّد ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) زاد المسير. (¬3) زاد المسير.

[44]

هؤلاء إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتلوا منا قتيلًا .. أعطونا سبعين وسقًا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدًا .. أخذوا منا مئة وأربعين وسقًا، وإن قتلنا منهم رجلًا قتلوا به رجلين، وإن قتلنا امرأة .. قتلوا بها رجلًا، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم". فقال بنو النضير: والله لا نرض بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأول، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكمًا لم يأمر الله به وهم أهل كتاب الله كما تفعل الجاهلية؟ التفسير وأوجه القراءة 44 - {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} على موسى عليه السلام {فِيهَا هُدًى}؛ أي: بيان (¬1) للأحكام والشرائع والتكاليف {وَنُورٌ}؛ أي: بيان للتوحيد والعقائد والنبوة والمعاد. وعبارة المراغي هنا: أي إنَّا (¬2) أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، وعلى نور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال أمر دينهم ودنياهم {يَحْكُمُ بِهَا}؛ أي: بالتوراة. {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}؛ أي: انقاد، والحكم بالتوراة، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام. وقيل: بينهما ألف نبي، وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها، ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها، ويحرموا حرامها {لِلَّذِينَ هَادُوا} متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها فيما بين اليهود؛ أي: يحكمون لهم وعليهم وبهم. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

وعبارة المراغي (¬1): أي أنزلناها قانونًا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين، موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا؛ أي: لليهود خاصة لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها. انتهت. وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي (¬2): يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنَّما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، ولأنَّه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلًا لأكثر الأنبياء. وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى؛ لأنَّ بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فرد الله عليهم بذلك؛ أي: فإنَّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين؛ أي: منقادين لتكاليف الله تعالى، وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة، واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإِسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام. وقال ابن عباس: {لِلَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: تابوا من الكفر ورجعوا عن عبادة العجل، وقال الزجاج (¬3): ويحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى: إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا {وَالرَّبَّانِيُّونَ}؛ أي: ويحكم بأحكام التوراة الربانيون؛ أي: العلماء المجتهدون الذين انسلخوا من الدنيا، وزهدوا فيها، واشتغلوا بتربية الناس بالدين والعلم {وَالْأَحْبَارُ}؛ أي: ويحكم بها الأحبار؛ أي: العلماء الذين حبروا وستروا الجهل والضلال بعلمهم وصلاحهم، والتزموا طريقة النبيين، وجانبوا دين اليهود، فالمراد بالربانيين الزهاد، وبالأحبار العلماء. وعن ابن عباس: الربانيون الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، والأحبار هم الفقهاء وسائر علمائهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) زاد المسير.

من ولد هارون؛ أي: ويحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم، أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: يحكمون بها بسبب ما أودعوه وأعطوه من علم كتاب الله تعالى وهو التوراة، وائتمنوا عليه، وطلب منهم أنبيائهم حفظه بالعمل به، والحكم به بين الشعوب، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخب بني إسرائيل، بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها، فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل، وذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها. ويروى عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أنا رباني هذه الأمة. وأطلق لقب حبر الأمة على ابن عباس رضي الله عنهما، وأطلق لقب الرباني على عليّ المرتضى رضي الله عنه. وقال ابن جرير: الربانيون (¬1) جمع رباني، وهم العلماء، الحكماء، والبصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم، والأحبار جمع حبر: وهو العالم المحكم للشيء انتهى. وقال ابن الجوزي (¬2): وهل بين الربانيين والأحبار سرق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا فرق، والكل علماء هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة والزجاج. والثاني: قد روي عن مجاهد أنَّه قال: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار، وقال السدي: الربانيون العلماء والأحبار القراء. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود. وقال الشوكاني: قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: (الباء): سببية (¬3) {اسْتُحْفِظُوا}: أمروا بالحفظ؛ أي: أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم؛ أي: يحكمون بها بسبب هذا ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) زاد المسير. (¬3) فتح القدير.

الاستحفاظ. انتهى. {وَكَانُوا عَلَيْهِ} أي: على الكتاب {شُهَدَاءَ}؛ أي: كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق، وأنَّه من عند الله، فحقًّا كانوا يمضون أحكام التوراة، ويحفظونه عن التحريف والتغيير. وعبارة المراغي: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}؛ أي: وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعًا للهوى، أو خوفًا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعًا في صلاتهم إذا هم حابوهم، ومما كتموه صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله في الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بني إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيهم فقال: {فَلَا تَخْشَوُا} يا رؤساء اليهود. {النَّاسَ}؛ أي: ملوككم وأشرافكم في الحكم عليهم بكتابي {وَاخْشَوْنِ}؛ أي: وخافوا عقابي في كتمان كتابي؛ أي: إياكم وأن تحرفوا كتابي أيها اليهود للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: وإذا كان حال أسلافكم وسيرتهم كما ذكر أيها اليهود المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد أو طمعًا في منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار, واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي. {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي}؛ أي: ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا؛ أي: لا تأخذوا بكتمانها عرضًا قليلًا من الدنيا؛ أي: كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف من الناس .. فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه، وأخذ الرشوة، فإن كل متاع الدنيا قليل، وما عند الله خير وأبقى.

والمعنى: ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها رجاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه، أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم عن الاهتداء بآيات الله، وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}؛ أي: وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه، وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة، وفي بعضهم بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع في الحكم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره، وقضوا به. وعبارة، "المراح" هنا: قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بين الله تعالى في التوراة من نعت محمَّد، وآية الرجم .. فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله، منكرًا له بقلبه، وجاحدًا له بلسانه .. فقد كفر. أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنَّه حكم بضده .. فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى. انتهت. وخلاصة المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينًا به منكرًا له .. كان كافرًا لجحوده به، واستخفافه بأمره، وإنما ذكر (¬1) الكفر هنا لأنَّه يناسب المقام؛ لأنَّه جاء عقب قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} وهذا كفر، فناسب ذكر الكفر هنا، والإشارة بقوله {أُولَئِكَ} إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: {هُمُ الْكَافِرُونَ}. فصل واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث فيه (¬2)، وهي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. فقال ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الخازن.

جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار، ومن غير حكم الله من اليهود؛ لأنَّ المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال: إنَّه كافر، وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب. قال: أنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها أخرجه مسلم. وعن ابن عباس قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ} هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصةً قريظة والنضير، أخرجه أبو داود. وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله .. فهو كافر ظالم فاسق. وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله، جاحدًا به .. فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به .. فهو ظالم فاسق. وهذا قول ابن عباس أيضًا، واختيار الزجاج لأنَّه قال: من زعم أن حكمًا من أحكام الله تعالى التي أتت بها الأنبياء باطل .. فهو كافر. وقال طاووس: قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال: به كفر وليس بكفر، ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روي عن عطاء قال: هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود، وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله تعالى .. فقد كفر وظلم وفسق، وإليه ذهب السدي؛ لأنه ظاهر الخطاب. وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانًا محمدًا وحكم بغيره، وأما من خفي عليه النص، أو أخطأ في التأويل .. فلا يدخل في هذا الوعيد. وقال الرازي نقلًا عن عكرمة: إنَّ الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله إنَّما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أمَّا من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنّه أتى بما يضاده .. فهو حاكم بما أنزل الله ولكنَّه تارك له، فلا يدخل تحت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إلخ، ليس في الإِسلام منها شيء، هي من الكفار. وعن الشعبي أنَّه قال: الثلاث الآيات التي في

[45]

المائدة أولها في هذه الأمة، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده. 45 - {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا}؛ أي: فرضنا علي بني إسرائيل في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ} الجانية مقتولة {بِالنَّفْسِ} المجني عليها فمدخول الباء هو المجنيّ عليه في هذا وما عطف عليه {وَالْعَيْنَ} مفقوءة {بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ} مجدوعة {بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ} مقطوعة {بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ} مقلوعة {بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ} والمراد بها ما يشمل الأطراف {قِصَاصٌ}؛ أي: ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة؛ أي: يقتص فيها إذا أمكن فيها القصاص كالشفتين والأنثيين واليدين والقدمين واللسان والذكر ونحو ذلك. أمَّا ما لا يمكن فيه القصاص، كرض في لحم أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف .. ففيه أرش وحكومة. والحكومة (¬1): جزء من دية النفس نسبته إليها كنسبة ما نقص من قيمة المجني عليه بفرضه رقيقًا، فلو كانت قيمته بلا جناية عشرة وبها تسعة .. فالحكومة عشر الدية, وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا. وفي هذه الآية توبيخ لليهود، وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة، ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. وظاهر النظم القرآني (¬2): أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك .. أنَّها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها .. فإنّها تجدع أنف الجاني بها, والأذن إذا قطعت جميعها .. فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السنن. فأمَّا إذا كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو يبعض الأذن .. فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص، وقد اختلف في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدوّن في كتب الفروع. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الشوكاني.

والظاهر في قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} أنَّه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنَّه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعضها على بعض، وإليه ذهب أكثر أهل العلم، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة .. فما يليها. وقرأ (¬1) نافع وعاصم وحمزة وخلف ويعقوب والأعمش بنصب {وَالْعَيْنَ} وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل إن النصب، وخبر إن هو المجرور، وخبر والجروح قصاص، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب، {والعين} {والأنف} {والأذن} {والسن}، ورفع {والجروح} على أثر الجروح مبتدأ خبره قصاص، فتكون عاطفة جملة على جملة، وفيما قبله عاطفة مفرد على مفرد، وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفًا على المحل؛ لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. وقرأ أُبيّ بنصب النفس والأربعة بعدها، وقرأ {وأن الجروح قصاص} بزيادة أن الخفيفة، ورفع الجروح، ويتعين في هذه أن تكون أن مخففة من الثقيلة لا تفسيرية. وقرأ نافع {والأذن بالأذْن} بإسكان الذال معرفًا ومنكرًا، ومثنى حيث وقع، وقرأ الباقون بالضم، فقيل: هما لغتان كالنكر والنكر، وقيل: الإسكان هو الأصل وإنما ضم اتباعًا. وقيل: التحريك هو الأصل وإنما سكن تخفيفًا. {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ}؛ أي: فمن تصدق بما يثبت له من حق القصاص، وعفا عن الجاني، {فَهُوَ}؛ أي: فهذا التصدق {كَفَّارَةٌ لَهُ}؛ أي: لذلك المتصدق يكفر الله به ذنوبه، ويعفو عنه كما عما عن أخيه بقدر ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وفي هاء {له} (¬2) قولان: أحدهما: أن الهاء في {له} كناية عن المجروح أو وليّ المقتول، وذلك أن المجروح إذا تصدق بالقصاص .. كان ذلك كفارة لذنوبه، وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن، يدل له ما روى عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول: "ما من رجل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

يصاب بشيء من جسده فيتصدق به .. إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة". أخرجه الترمذي. وعن أنس قال: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو) أخرجه أبو داود والنسائي. وعن عبد الله بن عمر: تهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به. وروى عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تصدق من جسده، بشيء .. كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه". والقول الثاني: في أن الضمير في قوله له يعود إلى الجارح أو القاتل، يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني .. كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل، كما أن القصاص كفارة، وأمَّا أجر العافي فعلى الله تعالى. قال ابن القيم: والتحقيق أن القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله تعالى، وتوبة نصوحًا .. سقط حق الله تعالى بالتوبة، وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده، ويصلح بينه وبينه انتهى. ولو سلم القاتل نفسه اختيارًا من غير ندم وتوبة، أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرهًا .. سقط حق الوارث فقط، وبقي حق الله تعالى؛ لأنه لا يسقط إلا بالتوبة، وبقي أيضًا حق المقتول، ويطالبه به في الآخرة لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبًا، ولم يصل منه للمقتول شيء. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} تعالى في القصاص، وفي غيره، نزلت (¬1) هذه الآية حين اصطلحوا على أنْ لا يقتل الشريف بالوضيع ولا الرجل بالمرأة {فَأُولَئِكَ} الممتنعون عن حكم الله {هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم، حيث لم يحكموا بما أنزل الله تعالى، الضارون لها بالعقوبة المؤبدة؛ أي: إن (¬2) كل من أعرض عما أنزل من القصاص المبني على قاعدة المساواة بين الناس، وحكم بغيره .. فهو من الظالمين، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر، وغمص حق المفضل عليه وظلمه. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[46]

والإتيان (¬1) بضمير الفصل مع اسم الإشارة، وتعريف الخبر يستفاد منه أن هذا الظلم المصادر مهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية، وناسب ذكر الظلم هنا لأنه جاء عقب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجرح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص والتسوية، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين النضير وقريظة. ذكره أبو حيان. 46 - قوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} شروع (¬2) في بيان أحكام الإنجيل إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على أنزلنا التوراة في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ}؛ أي: وأتبعنا على آثار النبييين الذين يحكمون بالتوراة وبعثنا عقبهم بعيسى ابن مريم حالة كون عيسى {مُصَدِّقًا} وموافقًا بقوله وفعله {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: لما قبل عيسى مما أتى به موسى {مِنَ التَّوْرَاةِ} في التوحيد وبعض الشرائع، ومعنى كون عيسى مصدقًا للتوراة أنه أقرّ بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى، وأقر بأنه كان حقًّا، وجب العمل به قبل ورود النسخ والمعنى؛ أي: (¬3) وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعًا طريقهم، جاريًا على هديهم، مصدقًا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله، فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة، وقد نقلوا عنه في أناجيلهم أنه قال: "ما جئت لأنقض الناموس" شريعة التوراة "وإنَّما جئت لأتمم"، أي: لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ، ولكن النصارى نسخوها وترهوا العمل بها إتباعًا لبولس - رئيسهم - وقوله: {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: أعطينا عيسى {الْإِنْجِيلَ} بكسر الهمزة وقرىء شاذًا بفتحها معطوف على قفينا وقوله: {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} حال من الإنجيل؛ أي: وأعطيناه الإنجيل حالة كون الإنجيل مشتملًا على الهدى، ومنقذًا من الجهالة والضلالة، لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد، والتنزيه المنافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل، وعلى براءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة، وعلى المعاد، ومشتملًا على النور والبيان الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه؛ لأنه بيان للأحكام الشرعية، ولتفاصيل التكاليف. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) أبو السعود. (¬3) المراغي.

[47]

والخلاصة: حالة كون الإنجيل هاديًا إلى التوحيد، ونورًا وبيانًا للأحكام المشروعة لهم، والمراد بالهدى التوحيد، وبالنور الأحكام، فالعطف مغاير (و) حالة كون الإنجيل {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: لما قبل الإنجيل {مِنَ التَّوْرَاةِ} وهنا المنصوب معطوف على محل فيه هدى ونور على كونه حالًا من الإنجيل .. فليس بتكرار للأول؛ لأن في الأول: الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة، وفي الثاني: الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة فظهر الفرق بين اللفظين، وأنَّه ليس بتكرار، فالإنجيل مشتمل على النص بتصديق التوراة زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعمله. والمعنى: أي حال كونه موافقًا لما في التوراة من أصول الدين، ومن بعض الشرائع، أو معترفًا بأنها من عند الله وإن نسخت أحكامها؛ لأن الله سبحانه وتعالى كلف أمة كل عصر بأحكام تناسبها، فالنسخ في الأحكام الفرعية لا الأصول كالتوحيد فلا نسخ فيه، بل ما كان عليه آدم من التوحيد هو ما عليه باقي الأنبياء {وَ} حالة كون الإنجيل {هُدًى} للناس؛ أي: سبب أهتداء لهم لاشتماله على البشارة بمبعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فهو سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فهذه المسألة أشد المسائل احتياجًا إلى البيان، فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك، فظهر مما ذكرنا لك الفرق بين هدى وهدى مرتين {و} حالة كون الإنجيل {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي؛ واعظًا لهم لاشتماله على النصائح والزواجر والمواعيظ البليغة، والأمثال والحكم النافعة، وإنَّما خص الموعظة بالمتقين؛ لأنهم الذين ينتفعون بها. والحكمة (¬1) في زيادة الموعظة في الإنجيل دون التوراة لأن التوراة كان فيها الأحكام الشرعية فقط، وإنما المواعظ كانت في الألواح وقد تكسرت، وأما الإنجيل فهو مشتمل على الأحكام والمواعظ جميعًا. وقرأ الضحاك: {وهدى وموعظة للمتقين} بالرفع، أي: وهو هدى وموعظة. 47 - وقرأ الجمهور بالنصب كما تقدم تقريره {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ} قرأ الجمهور بالأم الأمر ساكنة، وجزم الفعل بعدها، وبالواو حينئذ عاطفة، والجملة مقول لقول ¬

_ (¬1) صاوي.

محذوف معطوف على آتينا، والمعنى: وآتينا عيسى بن مريم الإنجيل وأمرناه ومن تبعه بالحكم {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}؛ أي: في الإنجيل من الأحكام، فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة، أو المعنى (¬1): وليحكم أهل الإنجيل، بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأحكام التي لم تنسخ بالقرآن، فإن الحكم بالأحكام المنسوخة ليس حكمًا بما أنزل الله فيه بل هو تعطيل له، إذ هو شاهد بنسخها؛ لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من {يحكم} وكسر اللام، على أن اللام لام كي، والواو حينئذ للاستئناف، والسلام متعلقة بمحذوف والتقدير: وآتيناه الإنجيل ليحكم هو ومن تبعه بما أنزل فيه من الأحكام في زمانهم. وقرأ أبي (¬2): {وأن ليحكم} بزيادة أن قبل لام كي، ونصب الفعل بعدها، فأن زائدة، فاللام متعلقة بمحذوف تقديره: وآتيناه الإنجيل ليحكم هو ومن تبعه بما أنزل الله فيه كما مرّ آنفًا. وقرىء (¬3) أيضًا: {وأن ليحكم} بجزم الفعل على أن موصولة بالأمر كقولك: أمرتك بأن قم؛ أي: وأمرنا بأن ليحكم. قال أهل المعاني (¬4): قوله: {وَلْيَحْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارًا عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول؛ لأن ما قبله من قوله: (وكتبنا) (وقفينا) يدل عليه، وحذف القول كثير. والوجه الثاني: أن يكون قوله (ليحكم) ابتداءً واستئنافًا، وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم وهو الإنجيل. فإن قلت: فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) بيضاوي. (¬4) الخازن.

[48]

قلت: إنَّ المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ذكره في الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود، فإذا آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. فقد حكموا بما في الإنجيل. وعبارة المراغي: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ}؛ أي: (¬1) وقلنا لهم: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام، والمراد: وأمرناهم بالعمل به، فهو كقوله في أهل التوراة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا}، وخلاصة ذلك زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في الكتب المنزلة من عنده تعالى {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: المتمردون الخارجون عن الإيمان إنْ كان مستهينًا، وعن طاعة الله إنْ كان لاتباع الشهوات. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلًا بشرع مأمورًا بالعمل بما فيه من الأحكام، قلت أو كثرت، لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك حديث البخاري "أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها، وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا ... " الحديث. وناسب (¬2) هنا ذكر الفسق؛ لأنه خروج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: {وَلْيَحْكُمْ} وهو أمركما قال تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}؛ أي: خرج عن طاعة أمره تعالى، فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين. 48 - وفي الحقيقة (¬3): الفسق يرجع للظلم؛ لأنّه مخالفة الأمر، فتعبيره بالظلم أولًا، وبالفسق ثانيًا، تفنن. قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} معطوف على قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} وما عطف عليه؛ أي: وأنزلنا إليك يا محمَّد الكتاب؛ أي: القرآن حالة كونه متلبسًا {بِالْحَقِّ} والصدق والعدل، فالجار والمجرور في محل الحال من الكتاب، أو من فاعل أنزلنا، أو من الكاف في إليك، وحالة كونك {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: لما تقدمه {مِنَ الْكِتَابِ}؛ أي: من (¬4) الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله تعالى على عبده ورسوله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) صاوي. (¬4) ابن كثير.

محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)}. وفي "الفتوحات" قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من الكتاب؛ أي: حال كونه مصدقًا لما تقدمه، إما من حيث أنّه نازل حسبما نعت فيه، أو من حيث إنّه موافق له في القصص والمواعيد، والدعوة إلى الحق والعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي والفواحش. وأمَّا ما يترائى من مخالفته في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار .. فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة لها من حيث إنَّ لكل من تلك الأحكام حق الإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي يدور عليها أمر الشريعة، وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقًا من غير تعرض لبقائها وزوالها، بل نقول: هو ناطق بزوالها، مع أن الناطق بصحة ما ينسخها نطق بنسخها وزوالها. اهـ. "أبو السعود". وقوله: {مَا يُتْلَى} معطوف على مصدقًا؛ أي: وأنزلنا (¬1) عليك هذا القرآن حالة كونه أمينًا وشاهدًا وحاكمًا على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب الكريم الذي أنزله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - آخر الكتب وخاتمها، وأشملها وأعظمها، وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها، وتكفل الله تعالى بحفظه بنفسه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} لأن هذا القرآن هو الذي لا ينسخ، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف، وإذا كان كذلك .. كانت شهادة القرآن على سائر الكتب بالصدق باقية. وقرأ ابن محيصن ومجاهد (¬2): {وَمُهَيْمِنًا} بفتح الميم الثانية على صيغة اسم المفعول؛ أي: مؤتمنًا ومحفوظًا عليه، فإنه يصان من التحريف والتبديل، والحافظ هو الله تعالى، ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه، عائد على الكتاب الثاني وفي قراءة اسم المفعول، عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) البحر المحيط.

الأول لأنه معطوف على مصدقًا، والمعطوف على الحال حال. {فَاحْكُمْ} يا محمَّد {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: بالقرآن والرجم الذي أنزل الله تعالى إليك لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه {وَلَا تَتَّبِعْ} يا محمد {أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: أهواء أهل الكتاب وشهواتهم التي هي الجلد والتحميم في الزاني المحصن، التي طلبوها منك حالة كونك معرضًا ومنحرفًا {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} الذي هو الرجم في المحصن، وفيه (¬1) النهي له - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن أهل كل ملة من أهل الملل يهوون أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم، وإن كان باطلًا منسوخًا أو محرفًا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله تعالى. والفاء في قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} فاء الفصيحة، والمعنى: وإذا (¬2) كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية وهو أنه رقيب وشهيد .. فاحكم بين أهل الكتاب بما أتزل الله إليك فيه من الأحكام دون ما أنزله إليهم، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}؛ أي: ولا تتبع ما يريدون، وهو الحكم بما يسهل عليهم، ويخفُّ احتماله، مائلًا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فاللام متعلقة بجعلنا، ومنكم صفة لكل، ولا يضر الفصل بينهما بالعامل، والمعنى: لكل أمة كائنة منكم يا أيها الأمم الثلاثة، أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمَّد، جعلنا؛ أي: عينًا ووضعنا شرعة ومنهاجًا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تخطىء شرعتها التي عينت لها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتهم التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم - شرعتهم الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون في عصر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من سائر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

المخلوقات إلى يقوم القيامة فشرعتكم القرآن ليس إلا، فآمنوا به آمنوا بما فيه، فالشرعة وكذا الشريعة: الأحكام المشروعة الي شرعها الله تعالى لعباده ليتعبدوا بهما ربهم، والمنهاج: الطريق الواضح الذي يؤدي إلى الشريعة، وقيل: الشرعة الأحكام المشروعة في العبادات والمعاملات من الأركان والشروط وغيرها، والمنهاج الفرائض والسنن والمعاملة التي لها أحكام مشروعة وشرائط مخصوصة، وقيل: هما بمعنى، والتكرار للتأكيد، والمراد بهما الدين. وقال قتادة: شرعة ومنهاجًا؛ أي: سبيلًا وسنة، فالسنن مختلفة للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة يحل الله عَزَّ وَجَلَّ فيها ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام. وروي عن قتادة أنَّه قال: الدين واحد الشريعة مختلفة. قال علي بن أبي طالب: الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، ولكل قوم شريعة ومنهاج. انتهى. وقرأ النخعي وابن وثاب: {شرعة} بفتح الشين. فائدة: قال العلماء (¬1): وردت آيات دالة على عدم التباين بين طرق الأنبياء، منها قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ومنها قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ووردت آيات دالة على حصول التباين بينها، منها هذه الآية وهي قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وطريق الجمع بين هذه الآيات: أن كل آية دلت على عدم التباين، فهي محمولة على أصول الدين من الإيمان باللهِ، وملائكه، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله، فلم يختلفوا فيه، وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينها .. فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما شاء، فهذا هو طريق الجمع بين الآيات، والله أعلم بأسرار كتابه. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ومن هذا يفهم أن الشريعة (¬1): هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل، وينسخ اللاحق منها السابق، وأن الدين: هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء، وهذا العرف البخاري الآن، إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام. والخلاصة: أنَّ الشريعة اسم للأحكام العملية وأنَّها أخص من كلمة الدين، وتدخل في مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعمله، ويخضع له ويتوجه إليه مبتغيًا مرضاته وثوابه بإذنه. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة، ورسول واحد، وكتاب واحد، ومنهاج واحد، تسيرون عليه، وتعملون به بأنَّه يخلقكم على استعداد واحد، وأخلاق واحدة، وطور واحد، في معيشتكم، فتصلح لكم شريعة واحدة في كل الأزمان فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين، كالطير أو كالنحل .. {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار، من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل؛ أي: لفعل ذلك، إذ هو داخل تحت قدرته لا يستعصي عليه {ولكن} لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة، بل شاء الله أن يجعلكم أمة مختلفة في الشرائع {لِيَبْلُوَكُمْ} ويختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} وأعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة، هل تعملون بها منقادين لله تعالى، معتقدين أنَّ اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم، أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟ ومعنى {فِي مَا آتَاكُمْ}؛ أي: فيما (¬2) أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأزمان والرسل، هل تعملون بذلك وتذعنون له، أو تتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى وتشترون الضلالة بالهدى؟ وفيه دليل على أن اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[49]

والامتحان، لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. ثم بين أنَّ الشرائع إنَّما وضعت للاستباق إلى الخير، لتجازى كل نفس بما عملت، فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فالخطاب فيه لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع لابتلائكم .. فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله زلفى، وسارعوا إلى ما هو خير لكم في دينكم ودنياكم، انتهازًا للفرصة وإحرازًا للفضل والسبق {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} وإنكم {إِلَى اللهِ} دون غيره {جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: ترجعون إليه كلكم في الحياة الثانية {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم عند الحساب {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}؛ أي: بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه في الدنيا وفي أمور الدين، ويجازي المحسن على قدر إحسانه، والمسيء بإسائته، فاجعلوا الشرائع سببًا للتنافس في الخيرات، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات، والأثرة والتقدم بالوطن والجنسيات، لا بالعلم والتقوى والفضائل الدينيات. وهذه الجملة كالعلة لما قبلها. 49 - قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معطوف على الكتاب؛ أي: وأنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه، وقد استدل بهذا على نسخ التخيير المتقدم في قوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}؛ أي: إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله وأنزلنا إليك فيه {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} من القصاص {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: شهواتهم بالاستماع لهم، وقبول كلامهم، ولو لمصلحة في ذلك، كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإِسلام، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل، أي: ولا تتبع أهوائهم في عدم قتل الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة. قال العلماء (¬1): ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم، وإنَّما أنزلت في حكمين مختلفين: أمَّا الآية الأولى: فنزلت في رجم المحصن، وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين ¬

_ (¬1) الخازن.

تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم. {وَاحْذَرْهُمْ}؛ أي: واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاؤوا إليك من {أَنْ يَفْتِنُوكَ} ويصرفوك وينزلوك ويصدوك بمكرهم وكيدهم {عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} في كتابه، فيحملوك على ترك العمل به لتحكم بغيره، ويردوك إلى أهوائهم. أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهب وابنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك .. اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأنَّ بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك وأنزل الله عزّ وجل فيهم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} كما مرّ ذلك في أسباب النزول، يريد أن الحكمة في إنزال هذه الآية: إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما فعل، والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله، وعدم الانخداع لليهود. فقوله: {أَنْ يَفْتِنُوكَ} بدل اشتمال من المفعول؛ أي: واحذرهم فتنتهم، أو مضاف إليه لمفعول من أجله محذوف؛ أي: احذرهم مخافة أنْ يفتنوك؛ أي: يصرفوك عن الحق، ويلقوك في الباطل كما سيأتي في بحث الإعراب {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله بعد تحاكمهم إليك وأرادوا غيره {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ}؛ أي: فاعلم يا محمد ما سبب ذاك إلا لأن الله يريد {أَنْ يُصِيبَهُمْ} ويعذبهم في الحياة الدنما قبل الآخرة {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} وهو ذنب التولي والإعراض عما جئت به؛ لأنَّ استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهوائهم، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل الله إليك، كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل، فقد أجلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني النضير عنها وقتل بني قريظة. وإنَّما خص بعض الذنوب؛ لأن الله جازاهم في الدنيا على بعض ذنوبهم

[50]

بالقتل والسبي والجلاء، وأخر مجازاتهم على باقي ذنوبهم إلى الآخرة {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} يعني: اليهود وغيرهم، لأنَّهم ردوا حكم الله تعالى {لَفَاسِقُونَ}؛ أي: خارجون عن دائرة الطاعات، ومعادن السعادات، يعني: متمردون في الكفر، مصرون عليه، خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله تعالى لعباده. وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدى والدين، وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه، 50 - والاستفهام في قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره، أي: أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك، ويتولون عنه فيبغون عنك حكم الجاهلية المبني على التحيز والهوى لجانب دون آخر، وترجيح القوي على الضعيف؟ والمعنى: لا يبغون حكم الجاهلية منك على سبيل الظفر به لعصمتك. روي: أن بني النضير تحاكموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خصومة كانت بينهم وبين بني قريظة، وطلب بعضهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفي دية النضيري لمكان القوة والضعف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "القتلى بواء" سواء، فقال بنو قريظة: لا نرضى ذلك، فنزلت الآية. وخلاصة ذلك: توبيخهم، والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجيء به محض الجهل وصريح الهوى. وقرأ الجمهور (¬1) {أفحكم} بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي وابن وثاب وأبو رجاء والأعرج: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} برفع الميم على الابتداء، والظاهر أن الخبر هو قوله: {يبغون} وحسن حذف الضمير قليلًا في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقرأ قتادة: {أبحكم الجاهلية} بالباء الجارة بدل الفاء، وقرأ قتادة والأعمش أيضًا: {أفحكم} بفتح الحاء والكاف والميم، وهو جنس لا يراد به واحد، كأنه قيل: أحكام الجاهلية يبغون؛ أي: أفيطلبون حاكمًا كحكام الجاهلية، وهي: إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام، وإما أهل الجاهلية، وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يأخذون الحلوان - وهي رشا الكهان - ويحكمون لهم بحسبه، وبحسب الشهوات أرادوا بسفههم أنْ يكون خاتم النبيين حكمًا كأولئك الحكام. وقرأ الجمهور: {يَبْغُونَ} بالياء على نسق الغيبة المتقدمة، وقرأ ابن عامر: {تبغون} بالتاء على الخطاب، وفيه مواجهتهم بالإنكار والردع والزجر، وليس ذلك في الغيبة فهذه حكمة الالتفات، والخطاب ليهود قريظة والنضير، والمعنى: قل لهم يا محمد: أفحكم الجاهلية تبغون. والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للإنكار أيضًا؛ أي: لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين، لا عند أهل الجهل والأهواء؛ أي: لا أحد (¬1) أحسن حكمًا من حكم الله عند قوم يوقنون بدينه، ويذعنون لشرعه؛ لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق من الحاكم، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية. والخلاصة: أن مما ينبغي التعجب منه من أحوالهم، أنَّهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ويؤثرونه على حكم الله العادل، وفي الأول: تفضيل القوي على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته، وفي الثاني: العدل الذي يستقيم به أمر الخلق وبه ينتشر الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس، ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير، واللام في (¬2) قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان كما في قوله تعالى: {هَيتَ لَكَ} وقولهم: سقيًا لك، فيتعلق بمحذوف تقديره؛ أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أنْ لا أحسن حكمًا من الله تعالى، وقيل: بمعنى عند كما أشرنا إليه في الحل. الإعراب {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}. {إِنَّا}: (إن): حرف نصب. و (نا) ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إنَّ) مستأنفة. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر مقدم. {هُدًى}: مبتدأ مؤخر. {وَنُورٌ}: معطوف عليه، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {التَّوْرَاةَ}. {يَحْكُمُ}: فعل مضارع. {بِهَا}: متعلق به. {النَّبِيُّونَ}: فاعل، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور في {فِيهَا}: أو مستأنفة (¬1) مبينة لرفعة رتبتها وسمو طبقتها، وقد جوز كونها حالًا من {التَّوْرَاةَ} فتكون حالًا مقدرة. {الَّذِينَ} صفة لـ {النَّبِيُّونَ}. {أَسْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {يحكم}. {هَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}: معطوفان على {النَّبِيُّونَ}. {بِمَا}: (الباء): حرف جر. (ما): اسم موصول في محل الجر بالباء، الجار (¬2) والمجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {يَحْكُمُ بِهَا}: وقد أعاد الجار لطول الكلام، وهو جائز أيضًا، وإن لم يطل، وقيل: متعلق بفعل محذوف عامل في {وَالرَّبَّانِيُّونَ} تقديره: يحكم الربانيون والأحبار بما استحفظوا، وقيل: الجار والمجرور في محل النصب مفعول به لـ {يَحْكُمُ} تقديره: يحكمون بسبب استحفاظهم ذلك. {اسْتُحْفِظُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما استحفظوه. {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من الضمير المحذوف أو من (ما). {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}: (الواو): عاطفة، {وَكَانُوا} فعل ناقص واسمه. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {شُهَدَاءَ}. {شُهَدَاءَ}: خبر كانوا، وجملة {كانوا}: معطوفة على جملة {اسْتُحْفِظُوا} على كونها صلة (لما). {فَلَا تَخْشَوُا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أيها اليهود ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري.

المعاصرين المحمد - صلى الله عليه وسلم - حال أسلافكم، وصلاح أحوالهم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم. فأقول {لا تخشوا الناس}: لا: ناهية جازمة. {تَخْشَوُا}؛ فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {النَّاسَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَاخْشَوْنِ}: (الواو): عاطفة. {اخشوا}: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسر نون الوقاية في حل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {فَلَا تَخْشَوُا} {ولا تشتروا}: الواو: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تشتروا}: فعل وفاعل مجرور بلام الناهية. {بِآيَاتِي}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {لِلَّذِينَ}، {ثَمَنًا}: مفعول به. {قَلِيلًا}: صفة له، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ}. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}: الواو: استئنافية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما. {لَمْ يَحْكُم}: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لهاء {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَحْكُمْ}. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره بما أنزل الله. {فَأُولَئِكَ}: (الفاء): رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لكن الجواب جملة اسمية. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْكَافِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، والجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. {وَكَتَبْنَا}: (الواو) عاطفة. {كَتَبْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {كتبنا}. {فِيها} متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَا}. {أَن}: حرف نصب. {النَّفْسَ}: اسمها. {بِالنَّفْسِ}: جار ومجرور {أَنَّ}: تقديره أنَّ النفس القاتلة مقتولة بالنفس المقتولة، جملة

{أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: كتبنا عليهم قتل النفس بالنفس أو أخذ النفس بالنفس {وَالْعَيْنَ} بالنصب معطوف على {النَّفْسَ} كونه اسم {أَنَّ} {بِالْعَيْنِ}: جار ومجرور بمحذوف خبر {أَنَّ} تقديره: وأن العين مفقوءة بالعين وكذلك قوله: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} المنصوب منها معطوف على اسم {أَنَّ} وخبر أن في كلها المجرور منها. {قِصَاصٌ} خبر لـ {وَالْجُرُوحَ}؛ أي: وأن الجروح قصاص؛ لكنه على حذف مضاف إما من الأول تقديره: وأن حكم الجروح قصاص، وإما من الثاني تقديره: وأن الجروح ذات قصاص، وهذا على قراءة نافع وحمزة وعاصم بنصب المعاطيف كلها، على التشريك في عمل {أَن} النصب، وخبر {أَن} هو المجرور منها، وخبر {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، فيكون من عطف المفردات، عطفنا الاسم على الاسم والخبر على الخبر، كقولك: إن زيدًا قائم وعمرًا منطلق، عطفت عمرًا على زيد، ومنطلقًا على قائم. أما قراءة (¬1) الكسائي برفع {والعين} وما بعدها .. فوجهها أبو علي الفارسي بوجهين: أحدهما: أنْ تكون (الواو): عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات، بمعنى أن قوله: {وَالْعَيْنَ}: مبتدأ و {بِالْعَيْنِ}: خبره، وكذا ما بعده، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: {وَكَتَبْنَا} وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، (فالواو) ليست مشركة للجملة مع ما قبلها، لا في اللفظ ولا في المعنى. الوجه الثاني: من توجيهي الفارسي: أن تكون (الواو) عاطفة جملة إسمية على الجملة من قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وأما قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيا عدا {الْجُرُوحَ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات بتصرف.

فإنَّهم يرفعونه، فالمنصوب فيها كما تقدم في قراءة نافع. وأمَّا {الجروح قصاص} ففيه ثلاثة أوجه: الوجهان المذكوران في قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحهما. والوجه الثالث: أنه مبتدأ، وخبره قصاص، يعني أنَّه ابتداء تشريع وتعريف وحكم جديد. {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {فَمَنْ}: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حكم ما إذا اقتص من أن النفس مأخوذة بالنفس، والعين مأخوذة بالعين، وأردت بيان أجر من عما عنه .. فأقول لك. (من): اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {تَصَدَّقَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَصَدَّقَ}. {فَهُوَ}: (الفاء): رابطة لجواب من الشرطية. {هُوَ}: مبتدأ. {كَفَّارَةٌ}: خبره. {لَهُ}: جار ومجرور صفة لـ {كَفَّارَةٌ} أو متعلق به، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}: (الواو): استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {لَمْ يَحْكُمْ}: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على {من} والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَحْكُمْ}. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها، والعائد محذوف تقديره: بما أنزل الله. {فَأُولَئِكَ} (الفاء): رابطة {أولئك} مبتدأ. {هم}: ضمير منفصل. {الظَّالِمُونَ}: خبر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جواب شرط لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}.

{وَقَفَّيْنَا}: (الواو): عاطفة. {قفينا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ}. {عَلَى آثَارِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَفَّيْنَا}. {بِعِيسَى}: جار ومجرور متعلق بقفينا أيضًا. {ابنِ}: صفة لـ {عيسى}. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه. {مُصَدِّقًا}: حال من {عِيسَى}. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ومُصَدِّقًا}. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة {لِمَا} أو صفة لها. {مِنَ التَّوْرَاةِ}: جار ومجرور حال من ما الموصولة، أو من الضمير المستقر في الظرف. {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. {وَآتَيْنَاهُ}: الواو عاطفة. {آتيناه الإنجيل}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {قفينا}. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {هُدًى}: مبتدأ مؤخر. {وَنُورٌ}: معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال من {الْإِنْجِيلَ}. وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} حال من {الْإِنْجِيلَ} و {هُدًى} فاعل به؛ لأنَّه اعتمد بوقوعه حالًا، وأعربه أبو البقاء مبتدأ وخبرًا، والجملة حال، والأول أحسن؛ لأنَّ الحال بالمفرد أولى، وأيضًا يدل على عطف {وَمُصَدِّقًا} المفرد عليه، وعطف المفرد على المفرد الصريح، أولى من عطفه على المؤول اهـ "كرخي". {وَمُصَدِّقًا}: حال ثانية من {الْإِنْجِيلَ} فهي حال مؤكدة؛ لأنَّ الكتب الإلهية يصدق بعضها بعضًا، وقيل: حال من {عيسى} أيضًا. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقًا}. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه صلة {لِمَا}. {مِنَ التَّوْرَاةِ}: حال من (ما) أو من الضمير المستقر في الظرف {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً} حالان من {الْإِنْجِيلِ} أيضًا، ويجوز (¬2) {أن} يكون من {عيسى}؛ أي: هاديًا وواعظًا، أو ذا هدى وذا موعظة، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي: قفينا للهدى، أو آتيناه الإنجيل للهدى. وقد قرئ في الشاذ بالرفع؛ أي: وفي الإنجيل هدى وموعظة، وكرر الهدى توكيدًا. ذكره أبو البقاء. {لِلْمُتَّقِينَ}: جار ومجرور ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) العكبري.

تنازع منه كل من {وَهُدًى} {وَمَوْعِظَةً} على كونه متعلقًا بهما، أو صفة لهما. {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}. {وَلْيَحْكُمْ}: (الواو): استئنافية أو عاطفة. {اللام} لام الأمر مبنى على السكون لوقوعه إثر عاطف. {يَحْكُمْ}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {أَهْلُ الْإِنْجِيلِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، أو مقول لقول محذوف معطوف على {آتَيْنَا} تقديره: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وقرىء بكسر اللام وفتح الميم على أنَّها لام كي، والجملة حينئذٍ معطوفة على محذوف تقديره: وقفينا بعيسى ابن مريم الإنجيل ليؤمنوا، وليحكم أهل الإنجيل، أو مستأنفة والتقدير: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق {يَحْكُمْ}. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزل الله. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {وَمَن} (الواو): استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب. {لَمْ يَحْكُمْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَحْكُمْ} {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أنزله الله. {فَأُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْفَاسِقُونَ}: خبر، والجملة في محل الجزم جواب من الشرطية، وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {الْكِتَابَ}: مفعول به، والجملة معطوفة (¬1) على قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} وما عطف عليه. {بِالْحَقّ}: ¬

_ (¬1) أبو السعود.

جار ومجرور حال {مِنَ الْكِتَابِ} أو من فاعل {وَأَنْزَلْنَا} أو من الكاف في {إِلَيْكَ} وعلى كل فالباء للملابسة أو المصاحبة. {مُصَدِّقًا}: حال من الكتاب. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقًا}. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه صلة {لِمَا}. {مِنَ الْكِتَابِ}: حال من (ما) أو من الضمير المستقر في الظرف. {وَمُهَيْمِنًا}: معطوف على {مُصَدِّقًا} على كونه حالًا من {الْكِتَابِ} الأول. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَمُهَيْمِنًا}. {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. {فَاحْكُمْ}: (الفاء): فاء الصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت منزلة القرآن من الكتب الإلهية، وأنه رقيب ومهمين عليها .. فأقول لك: احكم بينهم بما أنزل الله، ويصح كون الفاء عاطفة تفريعية على قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}. {احكم}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {احْكُمْ}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {احكم} {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزله الله تعالى. {وَلَا}: (الواو): عاطفة. لا: ناهية جازمة. {تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَاحْكُمْ} {عَمَّا}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف من فاعل {تَتَّبِعْ} تقديره: حالة كونك عادلًا لا عما جاءك، وفي "السمين" قوله: {عَمَّا جَاءَكَ} فيه وجهان: أحدهما: به قال أبو البقاء أنَّه حال؛ أي: عادلًا عما جاءك، وهذا فيه نظر من حيث إن عن حرف جر ناقص لا يقع خبرًا عن جثة، فكذلك لا يقع حالًا عنها، وحرف الجر الناقص، إنما يتعلق يكون مطلق، لا يكون مقيد؛ لأن المقيد لا يجوز حذفه. والثاني: أن عن علي بابها من المجاوزة لكن بتضمين {تَتَّبِعْ} معنى تزحزح وتنحرف؛ أي: لا تنحرف متبعًا، اهـ. {جَاءَك}: فعل ومفعول وفاعله

ضمير يعود على (ما) والجملة صلة لـ {ما} الموصولة. {مِنَ الْحَقِّ}: جار ومجرور حال من الضمير في {جَاءَكَ} أو من (ما) الموصولة، ويجوز أن تكون بيانية متعلقة بـ {جاء}. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. {لِكُلٍّ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}. {جعلنا}: فعل وفاعل. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لكل، ولا يضر فصل {جَعَلْنَا} بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {شِرْعَةً}: مفعول به. {وَمِنْهَاجًا}: معطوف عليه، والمعنى: لكل أمة كائنة منكم أيها الأمم السابقة، والآتية جعلنا شرعة ومنهاجًا، ويجوز أن يكون جعل متعديًا إلى اثنين بجعله بمعنى صيرنا، فيكون لكل مفعولًا ثانيًا مقدمًا وشرعة مفعولًا أولًا مؤخرًا. {وَلَوْ}: (الواو): استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {جعلكم أمة}: فعل ومفعولان. {وَاحِدَةً} صفة لـ {أُمَّةً} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة جواب لولا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. {وَلَكِنْ}: (الواو): استئنافية. {لكن}: حرف استدراك. {لِيَبْلُوَكُمْ} اللام لام كي. {يبلوكم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية صلة أنْ المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: ولكن فرقكم وجعلكم أممًا مختلفة ليبلوكم، ويختبركم فيما آتاكم ليظهر المطيع من العاصي، والجملة المحذوفة مستأنفة؛ أو استدراكية لا محل لها من

الإعراب. {فِي مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يبلوكم}. {آتَاكُمْ}: فعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: فيما آتاكموه، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة صلة لما أو صفة لها {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (الفاء): فاء الفصيحة لانَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن مشيئة الله افتراقكم لاختباركم وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم استبقوا الخيرات. {استبقوا}: فعل وفاعل. {الْخَيْرَاتِ}: مفعول به أو منصوب بنزع الخافض، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه {جَمِيعًا} حال من ضمير المخاطبين ولا يقال: هو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز؛ لأنَّه يقال: المضاف مقتض للعمل في المضاف إليه قال ابن مالك: وَلا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ ... إلّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ والجملة الإسمية مستأنفة. {فَيُنَبِّئُكُمْ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {ينبئكم}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة الفعلية مفرعة معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ينبئكم} {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه {فِيهِ} متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ} وجملة {تَخْتَلِفُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. {وَأَنِ}: (الواو): عاطفة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {احْكُمْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أن} المصدرية مبنى على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {احْكُمْ}، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه معطوفًا على {الْكِتَابِ} والتقدير: وأنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم. بما أنزل الله. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {احْكُمْ}. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أنزله الله {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} جازم وفعل، ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل

النصب معطوفة على جملة قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ}. {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. {وَاحْذَرْهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {وَأَنِ احْكُمْ}. {أَنْ يَفْتِنُوك}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلًا من ضمير احذرهم بدل اشتمال، تقديره: واحذرهم فتنتهم إياك، أو على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على تقدير مضاف ققديره: واحذرهم مخافة فتنتهم إياك. {عَنْ بَعْضِ مَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَفْتِنُوكَ}. {أَنْزَلَ اللَّه}: فعل وفاعل. {إِلَيْك}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: أنزله الله إليك. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}. {فَإِنْ}: (الفاء): فاء الفصيحة لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما أنزلنا إليك، وما أمرناك به، وأردت بيان حالهم وشأنهم فيما إذا تولوا عن حكمك .. فأقول لك: {إِنْ تَوَلَّوْا}: {إن}: حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {فَاعْلَمْ}: الفاء: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. {اعْلَمْ}: فعل أمر في محل الجزم بإن على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {أَنَّمَا}: أداة حصر أو تقول: {أن}: النصب و (ما) كافة. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعولي اعلم. {أَنْ يُصِيبَهُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يصيب} وجملة {يصيب}: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إصابته إياهم ببعض ذنوبهم. {وَإِنَّ}: (الواو): عاطفة. {إن}: حرف نصب {كَثِيرًا} اسمها. {مِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {لَفَاسِقُونَ}: اللام

حرف ابتداء. {فاسقون}: خبر {إن}: وجملة إن في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ}. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أيعرضون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. (والفاء): عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف. {حكم الجاهلية}: مفعول مقدم ومضاف إليه. {يَبْغُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ أَحْسَنُ}: (الواو): استئنافية. {من} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَحْسَنُ}: خبره. {مِنَ اللَّه}: جار ومجرور متعلق بـ {أَحْسَنُ}، والجملة الإسمية مستأنفة {حُكْمًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، وأصله وحكم من أحسن من حكم الله. {لِقَوْمٍ}: {اللام}: حرف جر بمعنى عند. {قوم}: مجرور باللام الجار والمجرور متعلق بـ {أَحْسَنُ}. {يُوقِنُونَ} هو: فعل وفاعل والجملة في محل الجرّ صفة {لِقَوْمٍ}. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ ...} الآية، التوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى والذيت هادوا هم اليهود {وَالرَّبَّانِيُّونَ} هو المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الخلق {وَالْأَحْبَارُ} جمع حبر بسكر الحاء؛ وهو العالم {شُهَدَاءَ} جمع شهيد ككرماء جمع كريم. {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ} أصله تخشيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف ثم حركت الواو بالحركة المجانسة لها {وَقَفَّيْنَا} من قفى يقفي تقفية، وهو من قفا يقفو إذا تبع قفاه؛ أي: أرسلناه عقبهم، والتضعيف فيه ليس للتعدية؛ لأن قفا متعد لواحد قبل التضعيف. قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وتقول العرب: قفى فلان إثر

فلان إذا تبعه، فلو كان التضعيف للتعدية إلى اثنين .. لكان التركيب: وقفيناهم عيسى ابن مريم، فهم مفعول ثانٍ وعيسى مفعول أول ولكنه ضمن معنى جئنا به على آثارهم وأقفائهم فعدي بالباء {مهيمنًا} المهيمن الرقيب وقيل: الغالب المرتفع، وقيل: الحافظ، وقيل: الشاهد، ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا ... وَالحَقُّ يَعْرِفَهُ ذَوُوُ الألْبَابِ يريد أنَّه شاهد ومصدق لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا فيه، هل هو أصل بنفسه؟؛ أي: إنَّه ليس مبدلًا من شيء، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن، كبيطر يبيطر فهو مبيطر، وقال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء: هرقت، وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي. وقال الجوهري: هو من أمن غيره من الخوف وأصله: أأمن فهو مؤأمن بهمزتين، قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما، فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء، كما قالوا: هراقه وأراقه، يقال: هيمن على الشيء يهمين، إذا كان له حافظًا، فهو له مهيمن، كذا عن أبي عبيد. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: في "المصباح": الشرعة بالكسر الدين، والشرع والشريعة ومثله مأخوذ من الشريعة وهي مورد الناس للاستسقاء سميت بذلك لوضوحها وظهورها وجمعها شرائع، وشرع الله لنا كذا يشرعه إذا أظهره وأوضحه، والمشرعة بفتح الميم والراء شريعة لما قال الأزهري: ولا تسميها العرب مشرعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له كماء الأنهار، ويكون ظاهرًا، أيضًا، ولا يستقى منه برشاء، فإن كان من ماء الأمطار .. فهو الكرع بفتحتين، والناس في هذا الأمر شرع بفتحتين، وتسكن الراء للتخفيف؛ أي: سواء انتهى. وقوله: {منهاجًا}: في "المختار": النهج بوزن الفلس، والمنهج بوزن المذهب، والمنهاج: الطريق الواضح، ونهج الطريق أبانه، ونهجه أيضًا سلكه، وبابهما قطع، والنهج بفتحتين تتابع النفس وبابه طرب. انتهى. وفي "المصباح": النهج مثل فلس، الطريق الواضح، والمنهج والمنهاج مثله، ونهج الطريق ينهج

بفتحتين نهوجًا إذا وضح واستبان، وأنهج بالألف مثله ونهجته وأنهجته أوضحته يستعملان لازمين ومتعدين. انتهى. {أُمَّةً وَاحِدَةً} الأمة الجماعة المتفقة على دين واحد {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ}؛ أي: ليختبركم من بلا يبلو بلوى من باب دعا، والابتلاء: الاختبار {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}؛ أي: ابتدروا وسارعوا إليها، وهو من باب افتعل الخماسي، والسين فيه فاء الكلمة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والييان: فمنها: التكرار في قوله: {وَأَنْزَلْنَا}، وفي قوله: {أَنْزَلَ اللَّهُ}، وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. ومنها: التنزل من الأعلى إلى الأدنى في الوصف في قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فإن النبوة أعظم من الإِسلام قطعًا فوصفهم بالإِسلام ليس للتخصيص ولا للتوضيح بل لتنويه شأن الصفة فإن إبراز وصف في معرض مدح العظماء، منبىء عن عظم قدر الوصف لا محالة كما في وصف الأنبياء بالصلاح، ووصف الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف. ومنها: الاختصاص في قوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا} فإن اللام لبيان اختصاص الحكم بهم، سواء كان لهم أم عليهم. ومنها: توسيط المحكوم لهم بين المعطوفين في قوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا} إيذانًا بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب عنهم في ذلك. ومنها: المقابلة في قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وما بعده. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}.

كان يغشى حواء في الجنة قبل أنْ يصيب الخطيئة، فحملت بقابيل وأخته، فلم تجد عليهما وحمًا، ولا وصبًا، ولا طلقًا، ولم تر دمًا وقت الولادة، فلما هبطا إلى الأرض تغشاها، فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم، والوصب، والطلق، والدم، وكان إذا كبر أولاده .. زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى، وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه؛ لأنَّه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم، فكبر قابيل وأخوه هابيل، وكان بينهما سنتان، فلمَّا بلغوا أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل، ويزوج هابيل إقليما أخت قابيل، وكانت إقليما أحسن وأجمل من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: هي أختي وأنا أحق بها، ونحن من أولاد الجنة، وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم: إنَّها لا تحل لك، فأبى أن يقبل ذلك، وقال: إن الله لم يأمرك بهذا، وإنما هو من رأيك، فقال لهما آدم: قربا لله قربانًا، فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها - وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها، وإنْ لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع - فخرجا من عند آدم ليقربا بالقربان، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب صبرة من طعام رديء، وأضمر في نفسه لا أبالي أتقبل مني أم لا، لا ليتزوج أختي أحد غيري، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقربه، وأضمر في نفسه رضا الله، فوضعا قربانهما على جبل، ثم دعا آدم، فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، وقيل: بل رفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام, قاله سعيد بن جبير وغيره. اهـ "خازن" مع بعض زيادات من "القرطبي". قال المطلب بن عبد الله بن حنطب (¬1): لما قتل ابن آدم أخاه .. رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام، وشربت دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيبًا، فقال الله تعالى: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: أين دمه إن قتلته؟ فحرم ¬

_ (¬1) الخازن.

الله على الأرض من يومئذ أن تشرب دمًا بعده أبدًا. ويروى عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل، كان آدم بمكة لزيارة البيت، وكان أولاده بالهند، فاشتاك الشجر - أي ظهر له شوك - وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأغبرات الأرض، فقال: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند عند أولاده، فوجد قابيل قد قتل أخاه هابيل. وقيل: لما رجع آدم من مكة سأل قابيل عن أخيه؟ فقال: ما كنت عليه وكيلًا، فقال: بل قتلته، ولذلك اسود جلدك. وقيل: أن آدم مكث بعد قتل هابيل مئة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر فقال: تَغَيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِيْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحِ ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من قال إن آدم قال شعرًا فقد كذب، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء كلهم سواء، ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم، وهو سرياني، فلمَّا قال آدم مرثيَّته، قال لشيث: يا بني أنت وصي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرثى عليه، فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، وهو أولى من خط العربية، وكان يقول الشعر، فنظر في المرثية، فرد المقدم إلى المؤخر، والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرًا، وزاد فيه أبياتًا منها: وَمَا لِيْ لاَ أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ ... وَهَابِيْلٌ تَضمَّنَهُ الضَّرِيْحُ أَرَى طُوْلَ الحياة عَلَيَّ غَمًّا ... فهل أنا من حياتي مُسترِيْحُ قال الزمخشري: ويروى أنَّه رثاه بشعر، وهو كذب بحت. وقال الإمام الفخر الرازي: ولقد صدق صاحب "الكشاف" فيما قال. قال أهل الأخبار: فلما مضى من عمر آدم مئة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة - ولدت له حواء شيئًا. - وتفسيره هبة الله - يعني أنَّه خلف من هابيل، وعلمه الله ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الخالق في كل ساعة، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده، وأما قابيل فقيل له: اذهب طريدًا شريدًا فزعًا

لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أنَّ من تولى الكافرين من دون الله يعد منهم، وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتوليهم إياهم، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق .. بين هنا حقيقة دغمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل، فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم، ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق، فالله إنَّما يقيم دينه بصادقي الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخًا في الحق، وقوةً على إقامته، ويحبونه، فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وولد. وخبر الغيب أنَّه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإِسلام جهرًا ولا يضره ذلك؛ لأن الله تعالى يسخر من ينصره ويحفظه. قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى (¬2) في الآيات السابقة عن موالاة الكافرين .. أمر هنا في هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم، وهم الله ورسوله والمؤمنون. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه، وبين العلة في ذلك، فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض، ولا يوالي المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر .. أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهي وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. أسباب النزول قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬3) ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

مردويه والبيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي بن سلول، فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، وفيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. قال ابن كثير: واختلف المفسرون (¬1) في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي أنَّها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أُحد: أما أنا فإنِّي ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه، وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر وحدث حادث، وقال الآخر: أمَّا أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصَّر معه فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ...} الآيات. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه؛ أي: إنه الذبح. رواه ابن جرير، وقيل غير ذلك. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا}. إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}. وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} قال: ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الشوكاني.

[51]

كان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة .. قالت اليهود والنصارى: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعوا وسجدرا، استهزأوا بهم وضحكوا منهم، فنزلت، هذه الآية. وأخرج ابن (¬1) إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر عن اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: "أومن باللهِ وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"، فلمَّا ذكر عيسى .. جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} إلى قوله: {فَاسِقُونَ}. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} الآية. قال: أناس عن ليهود كانوا يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاءهم به وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر، فكانوا يدخلون بذلك، ويخرجون به من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. التفسير وأوجه القراءة 51 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَتَّخِذُوا} وتجعلوا {الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} وغيرهم من سائر الكفار {أَوْلِيَاءَ}؛ أي: أصدقاء وأنصارًا وأعوانًا على أهل الإيمان بالله ورسوله؛ أي: لا يتخذ أحد منكم أحدًا منهم وليًّا. قال ابن جرير (¬2): إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أن من اتخذهم نصيرًا أو حليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله .. فهو منهم في التحزب على الله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الطبري.

ورسوله والمؤمنين، وأنَّ الله ورسوله بريئان منه، إلى أن قال: غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى جزعًا على نفسه من دوائر الدهر؛ لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك. اهـ. ثم ذكر علة هذا النهي فقال: {بَعْضُهُم}؛ أي: بعض كل فريق من ذينك الفريقين {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} آخر من فريقه، لا من الفريق الآخر، لما هو معلوم من أنَّ الفريقين بينهما غاية العداوة، وإنما أوثر الإجمال تعويلًا على ظهور المراد، لوضوح انتفاء الموالاة بين الفريقين رأسًا، ومن ضرورة موالاة بعضهم لبعض اجتماع الكل على مضارتكم، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة؟ وقيل: المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى، وتعاضدها، وتناصرها على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين، ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أنَّ هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم، فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: ومن يتولهم منكم إلخ؛ أي: إنَّ اليهود بعضهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، ولم يكن للمؤمنين منهم ولي ولا نصير، إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان، فصار الجميع حربًا للرسول ومن معه من المؤمنين، ثم توعد من يفعل ذلك فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} يا معشر المؤمنين؛ أي: ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين - وهم أعداء لكم - {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإنَّ ذلك المتولي في الحقيقة {مِنْهُمْ} لا منكم؛ لأنه معهم عليكم، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق، والمعنى: فإنَّه من جملتهم وفي عدادهم؛ وهو وعيد شديد، فإنَّ المعصية الموجبة للكفر هي الي قد بلغت إلى غاية ليس ورائها غاية. قال ابن جرير (¬1): فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين .. فهو من أهل دينهم فإنَّه لا يتولى متول أحدًا إلا وهو راضٍ به وبدينه وما هو عليه؛ وإذا رضيه ورضي دينه .. فقد عادى من خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه انتهى. ¬

_ (¬1) الطبري.

[52]

ومن هذا (¬1) تعلم أنَّه إذا وقعت الموالاة والمخالفة والمناصرة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية .. لا تدخل في النهي الذي في الآية، كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لاتفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها .. فمثل هذا لا يكون محظورًا، ثم ذكر العلة والسبب في الوعيد السابق فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بموالاة الكفار؛ أي: إن من يوالي أعداء المؤمنين وينصرهم، أو يستنصر بهم .. فهو ظالم بوضعه الولاية في غير موضعها، والله لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق، وهذه الجملة تعليل للجملة التي قبلها؛ أي: إن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين. روي (¬2) عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب إن لي كاتبًا نصرانيًّا، فقال مالك: قاتلك الله؟ ألا اتخذت حنيفًا، أما سمعت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}. قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام. والمعنى: اجعله في ظنك أنه قد مات فما تعمل بعد موته؛ أي: فاعمله الان ميتًا واستغن عنه بغيره من المسلمين. 52 - ثم أخبر أن فريقًا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال: {فَتَرَى} يا محمد {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: شك ونفاق؛ أي: فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم بمرض النفاق كعبد الله بن أبيّ وأضرابه {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}؛ أي: يبادرون في مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم، لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار، فكانوا يغشونهم ويقرضونهم ويعينونهم على مهماتهم، ويخالطونهم لأجل ذلك. وقرأ إبراهيم بن وثاب في: {فيرى} بالياء من تحت، فقيل: الفاعل ضمير يعود على الله، وقيل: كل من تصح منه الرؤيا، وقيل: هو الموصول، ومفعوله يسارعون على حذف أن المصدرية؛ أي: فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أنْ يسارعوا فيهم فلما حذفت أنْ .. ارتفع الفعل، وقرأ قتادة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

والأعمش: {يسرعون} بغير ألف من أسرع. {يقولون}؛ أي: يقول المنافقون معتذرين عنها إلى المؤمنين؛ إنما نخالط اليهود لأنَّا {نَخْشَى} ونخاف خوفًا شديدًا في المستقبل {أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وتدور علينا حادثة من حوادث الدهر، ويقع علينا مكروه، وتصيبنا مصيبة من مصائب الدهر، كالهزيمة في الحروب، والقحط والجدب، فنحتاج إلى نصرتهم وإقراضهم لنا، فعلينا أن نتخذ لنا أيادي عندهم في السراء نتشفع بها إذا مستنا الضراء. قال ابن عباس: معناه: نخشى أن لا يتم أمر محمد، فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد نتشفع، وقيل: الدائرة في المكروه كالجدب والقحط، والدولة في المحبوب. وخلاصة ذلك: أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين علي المؤمنين فيحل بهم العقاب لأنهم في شك من نصر الله لنبيّه، وإظهار دينه على الدين كله، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها، وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدًا عند دولة قوية، يلجأ إليها إذا أصابته دائرة، فتغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة وضعف استقلالها في بلادها بعملهم ولله الأمر من قبل ومن بعد، ثم رد على هؤلاء المنافقين، وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال: {فَعَسَى اللَّهُ}؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى {أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ} والنصر لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه، وإظهار دينه على الأديان كلها، وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى، وقد فعل الله ذلك بمنه وكرمه، فأظهر دينه ونصر عبده {أَوْ} يأتي بـ {أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} سبحانه وتعالى في هؤلاء المنافقين، كفضيحتهم أو إيقاع العقاب بهم {فَيُصْبِحُوا}؛ أي: فيصبح هؤلاء المنافقين ويصيروا {عَلَى مَا أَسَرُّوا} وأضمروه وكتموه {فِي أَنْفُسِهِمْ} وقلوبهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين، وتوقع الدوائر عليهم فضلًا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم {نَادِمِينَ} خاسرين، وعسى في كلامه تعالى للتحقق؛ لأن الكريم إذا أطمع في خير .. فعله، وهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له. والفتح إمَّا فتح مكة الذي كان به ظهور الإِسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله، وإما فتح بلاد اليهود في الحجاز كخبير وفدك وغيرهما، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم وإخراجهم من

[53]

حصونهم وصياصيهم، وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب، كبني قريظة، وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم، كبني النضير وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين، ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم. وقرأ ابن الزبير {فنصبح الفساق} جعل الفساق مكان الضمير، قال ابن عطية: وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره. انتهى. 53 - {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: يقول بعض المؤمنين لبعض في الوقت الذي أظهر الله تعالى نفاق المنافقين متعجبين من حال المنافقين {أهَؤُلَاءِ} المنافقون الذين فضحهم الله تعالى الآن هم {الَّذِينَ أَقْسَمُوا} وحلفوا لنا {بِاللَّهِ} تعالى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وأغلظها وأشدها وأوكدها بتعداد أسماء الله تعالى فيها، وجمع صفاته فيها قائلين {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}؛ أي: نحن معكم يا معشر المؤمنين في الدين والمناصرة، ونحن معاضدوكم وناصروكم على أعدائكم اليهود، فلما حل بهم ما حل .. أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال في سورة التوبة: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}؛ أي: فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإِسلام تقية، والاستفهام هنا للتعجب. وذلك أنَّ (¬1) المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى، ويقولون إنَّ المنافقين حلفوا باللهِ جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا، والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم، فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (¬2): {ويقول الذين أمنوا} بالرفع مع إثبات الواو كما في مصاحف أهل العراق على الاستئناف. وقرأ نافع وابن كثير ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

وابن عامر بالرفع مع حذف الواو، كما في مصاحف أهل الحجاز والشام على أن الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا في جواب سؤال نشأ من قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ} كأن القائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ؟ فقيل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ...} إلخ. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالنصب مع الواو عطفًا على يصبحوا لا على يأتي: لأنَّ ذلك القول إنَّما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط، والمعنى: يقول المؤمنون مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم عند مشاهدتهم لانعكاس رجائهم تعريضًا بالمخاطبين: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: غاية إيمانهم {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أيها اليهود بالمعونة، فإن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} أو المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض، مشيرين للمنافقين، متعجبين من حالهم، مستعظمين بما من الله عليهم من إخلاص الإيمان عند مشاهدتهم لإظهارهم الميل إلى موالاة اليهود والنصارى: إنهم كانوا يقسمون لنا بالله جهد أيمانهم إنهم معنا في ديننا في السر ومن أنصارنا، فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا، محبين للاختلاط بهم، والاعتضاد بهم، وهذا المعنى كما سبق في حلنا أولًا أنسب لقراءة الرفع مع إثبات الواو على الاستئناف، أما المعنى الأول أعني: قول المؤمنين مخاطبين لليهود، فهو أنسب لقراءة النصب، ولقراءة الرفع مع حذف الواو، ولقراءة الرفع مع الواو بجعل الواو عاطفة جملة على جملة، والله أعلم بمراده. وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}؛ أي: بطلت أعمال المنافقين، هو من تمام (¬1) قول المؤمنين، أو جملة مستأنفة والقائل هو الله سبحانه، والأعمال هي التي عملوها في الموالاة، أو كل عمل يعملونه؛ أي: ويقول المؤمنون: ضاعت أعمالهم التي يتكفلونها نفاقًا، كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا، لأجل ما أظهروا من النفاق، وموالاة اليهود {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} في الدنيا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[54]

بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم، وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم، أو المعنى (¬1): ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة، لا إيمانًا وعقيدة إن قلنا هو من قول الله عَزَّ وَجَلَّ شهادة لهم بحبوط الأعمال لهم وتعجيبًا من سوء حالهم {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة. فائدة: وروى أرباب السير (¬2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة .. صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه أحدًا ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره، وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه من الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو قريظة العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربًا عليه كاليهود. 54 - ولما نهى (¬3) الله سبحانه وتعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أنها مستدعية للارتداد .. شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَنْ يَرْتَدَّ} ويرجح. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: {مَنْ يَرْتَدَّ} بدالين مفكوكًا وهي لغة الحجاز، ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) الجمل.

والباقون بواحدة مشددة، وهي لغة تميم. {مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الحق الذي هو عليه وهو دين الإِسلام فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر بعد الإيمان، فيختار إما اليهودية أو النصرانية، أو غيرهما من أصناف الكفر {فـ} لن يضر الله شيئًا، وإنَّما ضر نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإِسلام لأنه {سوف يأتي الله} سبحانه وتعالى، ويجيء في المستقبل بدل المرتدين عن دينهم {بِقَوْمٍ} موصوفين بصفات ستة: الأول والثاني منها: ما ذكره بقوله: {يُحِبُّهُمْ} الله سبحانه وتعالى؛ أي: يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى محبة الله إياهم: إنعامه عليهم، وتوفيقه إياهم وهدايته إياهم إلى طاعته، والعمل بما يرضى به عنهم {وَيُحِبُّونَهُ}؛ أي: يحبون الله تعالى ويطعيونه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومعنى محبتهم لله تعالى: المسارعة إلى طاعته وتقديم خدمته على كل شيء، وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته، وأن يتحبب إليه بما يوجب له الزلفى لديه، جعلنا ممن يحبهم ويحبونه بمنه وكرمه، ولما كانت محبتهم لله ناشئة عن محبة الله إياهم .. قدم محبة الله على مجتهم، والأقرب أن الآية عامة لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان على قدمهم إلى يوم القيامة بقرينة التسويف. والثالث منها: ما ذكره بقوله: {أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: مشفقين عليهم، عاطفين لهم، أرقاء، رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين، متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول كما سيأتي في مبحث الصرف. وقرىء شاذًا {أذلة} وهو اسم، كذا {أعزةً} نصبًا على الحال من النكرة أعني: {بِقَوْمٍ}؛ لأنها قربت من المعرفة بوصافها. والرابع منها: ما ذكره بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ أي: أشداء أقوياء، غلظاء على أعدائهم الكافرين. وقرأ عبيد الله: {غلظاء على الكافرين} مكان أعزة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني أهل رقة على أهل دينهم {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: تراهم كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.

والخامس منها.: ما ذكره بقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: يقاتلون أعداء الله؛ لإعلاء كلمته، وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصل إلى مرضاته تعالى، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين. والسادس منها: ما ذكره بقوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}؛ أي: لا يخافون عذل عاذل في نصرهم الدين بخلاف المنافقين، فإنهم كانوا يراقبون الكفار، ويخالفون لومهم، فبين تعالى في هذه الآية: أن من كان قويًّا في الدين، فإنَّه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم، وهذه صفة المؤمنين المخلصين. وقال ابن كثير: أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل. وروى الإِمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أمرني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن كنز من تحت العرش". أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 159) وسنده حسن. وعن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم. والحاصل أنهم يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون، لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزدراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوي، ومناقبهم مثالب حسدًا وبغضًا وكراهة للحق وأهله. {ذَلِكَ} المذكور عن الأوصاف الستة التي وصف بها القوم من المحبة الذلة والعزة وعن بعدها؛ لأن ذلك يشار به إلى المفرد والمثنى والمجموع كما

تقدم مع زيادة في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}. {فَضْلُ اللَّهِ} إحسانه وكرامته {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ أي: يعطيه ويكرم به من يشاء كرامته من عباده {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَاسِعٌ} الفضل كثير العطايا {عَلِيمٌ} بمن يستحقه ومن هو أهل لها. تتمة فيما يتعلق بالآية: روى ابن جرير عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية. وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - .. ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد، أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس أهل مسجد جواثي قالوا - أي المرتدون - نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا .. أعطوها وزادوها، فقال: لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالًا مما فرض الله ووسوله .. لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدوا عن الإِسلام، ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - الزكاة - صغرة: واحدهم صاغر، وهو المهيمن الذليل، أقمياء: واحدهم قميء، وهو الذليل الضعيف، فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون من مال لهم فهو لهم حلال، انتهى. وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم: أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله قتادة والضحاك، ورجح ابن جرير: أن الآية نزلت في قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية قال: "هم قوم أبي موسى" وإنْ لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر؛ لأن الله وعد بأن يأتي بخير عن المرتدين بدلًا منهم، ولم يقل أنَّهم يقاتلون المرتدين، ويكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا، ولو غير المرتدين. وقد ارتد كثير من القبائل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم:

1 - بنو مدلج، ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهنًا تنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وأخرج عمال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فسر به المسلمون وقبض عليه السلام من الغد. 2 - بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد تنبأ مسليمة، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وأن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون، فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد {فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} وكان ذلك سنة عشر، وحاربه أبو بكر، وقتله وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس. 3 - بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه. وارتدت سبع في عهد أبي بكر وهم: 1 - فزارة، قوم عيينة بن حصن. 2 - غطفان، قوم قرة بن سلمة القشيري. 3 - بنو سليم، قوم الفجاءة بن عبد ياليل. 4 - بنو يربوع، قوم مالك بن نويرة. 5 - بعض بني تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، ولها قصص طويل في التاريخ، وصح أنَّها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها. 6 - كندة، قوم الأشعث بن قيس.

[55]

7 - بنو بكر بن وائل بالبحرين، قوم الحطم بن زيد، وقد كفى الله المؤمنين شرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه، وارتدت واحدة في عهد عمر رضي الله عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم، تنصر جبلة ولحق بالشام ومات مرتدًا. ويروى أن عمر رضي الله عنه: كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابًا جاء فيه: إن جبلة ورد إلى في سراة قومه فأسلم، فأكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، فاستعدى الفزاري على جبلة إلي فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقلت: شملك وإياه الإِسلام، فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلمَّا كان من الليل ركب مع بني عمه، ولحق بالشام مرتدًا. وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد: تَنَصَّرْتُ بَعْدَ الحَقِّ عَارًا لِلَطْمَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيْهَا لَوْ صَبَرْتُ ضَرَرْ فَأَدْرَكَنِيْ مِنْهَا لِجَاجٌ حَمِيَّةً ... فَبِعْتُ لَهَا الْعَيْنَ الصَّحِيْحَةَ بِالعَوَرْ فَيَا لَيْتَ أمِّي لمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِيْ ... صَبَرْتُ عَلَى القَوْلِ الذِيْ قَالَهُ عُمَرْ وهؤلاء المرتدون لم يقاتلهم أحد، فإنَّ أبا بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار. قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ أي (¬1): ذلك الذي تقدم من الصفات فضل الله يعطيه من يشاء من عباده، وبه يمتازون عن غيرهم، وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام في خلقه، فجعل من الناس الكسب والعمل نفسيًّا كان أو بدنيًّا، ومنه سبحانه وتعالى آلات الكسب والقوى ما بين بدنية وعقلية، حسية ومعنوية، كما أنَّ منه التوفيق والهداية واللطف والمعونة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} فضله {عَلِيمٌ} بمن يستحقه، فعلينا أن لا نغفل عن فضله ومنته، ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له، والإنابة إليه، والإخبات والعبادة له. 55 - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} لما نهى عن موالاة الكفرة .. ذكر عقيبه من هو حقيق بها، وإنَّما قال وليكم الله، ولم يقل أوليائكم ¬

_ (¬1) المراغي.

[56]

للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين على التبع، لو قيل إنَّما أولياءكم الله ورسوله والذين آمنوا .. لم يكن في الكلام أصل وتبع؛ أي: لا ولي يلي أموركم أيها المؤمنون، ولا حافظ لكم ولا ناصر ينصركم على أعدائكم إلا الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنون الصادقون الذين اتصفوا بهذه الصفات التالية المذكورة قريبًا. وفي هذا تعريض للمنافقين في توليهم الكفار دون الله تعالى، ولما كانت كلمة الذين آمنوا تشمل كل من أسلم ولو ظاهرًا .. بين المراد منها بقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} بدل من الذين آمنوا، ويجوز رفعه على القطع، أو نصبه على المدح {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يؤدونها لمستحقيها وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله، والمراد بالركوع الخشوع والخضوع؛ أي: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون. وقيل: هو حال من فاعل الزكاة والمراد بالركوع هو المعنى المذكور؛ أي: يضعون الزكاة فيها مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم. قال في "الأساس": العرب تسمي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعًا، وقال أبو مسلم: المراد بالركوع الخضوع. والمعنى؛ أي: أنَّ المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم، هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة، ويعطون الزكاة مستحقيها، وهم خاضعون لأوامر الله مع طيب نفس وهدوء قلب، لا خوفًا ولا رياء ولا سمعة، دون المنافقين الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ويأتون بصورة الصلاة لا بروحها ومعناها المقصود منها، فإذا هم قاموا إلى الصلاة .. قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. قال ابن الجوزي: فأما اتخاذهم الدين هزوًا ولعبًا .. فهو إظهارهم الإِسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين 56 - {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ} بالإيمان به والتوكل عليه {وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} بنصرهم والاستنصار لهم .. فإنَّهم هم الغالبون على أعدائهم؛ لأنهم حزب الله، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} وجنده وأنصاره {هُمُ الْغَالِبُونَ} على أعدائهم بالحجة، فإنَّها مستمرة أبدًا، إما بالصولة والدولة، ققد يغلبون كما وقع ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، والحزب

[57]

في اللغة: أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه؛ أي: أهمه. والمعنى: أي إذا كان الله وليكم وناصركم، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته .. فأنتم بذلك حزب الله والله ناصركم، ومن يتول الله بالإيمان به والتوكل عليه، ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم والاستنصار لهم دون أعدائهم .. فإنهم الغالبون، ولا يغلب من يتولاهم؛ لأنهم حزب الله الذي له الغلبة والقهر. 57 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَتَّخِذُوا}؛ أي: لا تجعلوا {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} وجعلوا {دِينَكُمْ} دين الإِسلام الذي هو أفضل الأديان وناسخها {هُزُوًا}؛ أي: سخرية {وَلَعِبًا} أي ضحكًا، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان للموصول السابق؛ أي: من اليهود والنصارى الذين أعطوا الكتاب {مِنْ قَبْلِكُمْ} أيها المؤمنون {وَالْكُفَّار} بالنصب عطف على الذين اتخذوا، أو بالجر عطف على الذين أوتوا الكتاب، والمراد بهم المشركون عبدة الأوثان، وإنَّما فصل بين أهل الكتاب والكفار - وإنْ كان أهل الكتاب من الكفار؛ لأن كفر المشركين من عبدة الأوثان أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب - لأن أهل الكتاب لهم أساس، وإن حرفوا وبدلوا {أَوْلِيَاءَ}؛ أي: أصدقاء وأنصارًا لكم؛ لأن اللائق باتخاذهم دينكم هزوًا ولعبًا أن يقابل بالبغضاء والمنابذة والمجانبة، فاتخاذكم مع ذلك أولياء وأنصارًا كالأمر الخارج عن المعقول، والمرءوة إن كنتم تعقلون، وهذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزوًا ولعبًا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين، وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإِسلام والبيان بقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى آخره، لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة، التي هي الباعثة على النهي. والمعنى (¬1): يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث رسولنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبل ¬

_ (¬1) المراغي.

نزول كتابنا أولياء وأنصارًا وحلفاء، فإنَّهم لا يألونكم خبالًا، وإن أظهروا لكم مودة وصداقة، ذلك لأنَّهم اتخذوا هذا الدين هزوًا ولعبًا، فكان أحدهم يظهر الإيمان للمؤمنين وهو على كفره مقيم، وبعد اليسير من الزمن يظهر الكفر بلسانه بعد أن كان يبدي الإيمان قولًا، وهو مستبطن للكفر تلاعبًا بالدين واستهزاء به، كما قال تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. وكذلك نهى الله عن موالاة جميع المشركين؛ لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا تكون قوة لهم وإقرارًا على شركهم الذي جاء الإِسلام لمحوه من جزيرة العرب. وقد نهج الإِسلام من أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركي العرب، فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم، وشرع قبول الجزية منهم، وإقرارهم على دينهم، وخصهم هنا بلقب أهل الكتاب، ولقب المشركين بالكفار، وفي آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا، لانَّهم لوثنيتهم عريقون في الشرك، والكفر أصلًا فيه. أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضًا وليس من أصل دينهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: وخافوا عقاب الله أيها المؤمنون في موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، حتى لا يضيع الغرض منها، وتكون وهنا لكم، ونصرًا لهم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: إن كنتم صادقي الإيمان، تحفظون كرامته، وتجتنبون مهانته، وتصدقون بالجزاء والوعيد على معصيته ومخالفته تعالى. والمعنى: واتقوا الله في موالاتهم إن كنتم مؤمنين حقًّا، فإن تقوى الله هي الحاملة على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب (¬1): {والكفار} بالجر على تقدير: من أي ومن الكفار، وقرأ الباقون بالنصب على معنى لا تتخذوا الكفار أولياء، وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو، وإعراب الجر والنصب واضح، وقرأ أبي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[58]

{ومن الكفار} بزيادة {من} وقراءة عبد الله: {ومن الذين أشركوا}. 58 - {وَإِذَا نَادَيْتُمْ} وأذنتم للإقبال {إِلَى الصَّلَاةِ} المفروضة {اتَّخَذُوهَا}؛ أي: اتخذوا صلاتكم {هُزُوًا وَلَعِبًا}؛ أي: لاعتقادهم أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا: إنها لعب، والهزء السخرية، واللعب الأخذ في غير طريق، ذكره أبو حيان في "البحر"، وقيل: الضمير يعود للمناداة المدلول عليه بناديتم، ومعنى اتخاذهم الصلاة والمناداة هزوًا ولعبًا: تضاحكهم منها، وتغامزهم، والمعنى: وإذا أذن مؤذنكم داعيًا إلى الصلاة .. سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين، واتخذوها هزوًا ولعبًا، وروى (¬1) الطبراني: أن نصرانيًّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام، فتطاير شررها في البيت فأحرقته وأهله، وقيل: كان المنافقون من اليهود يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرًا للناس عنها، وقيل: إنَّ الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الأذان دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا محمد لقد ابتدعت شيئًا لم يسمع بمثله فيما مضى، فإن كنت نبيًّا .. فقد خالفت الأنبياء قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العير، فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر! فأنزل الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية وأنزل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية. قيل (¬2): وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في الجمعة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} .. فهو خاص بنداء الجمعة، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجبًا أو غير واجب، وفي ألفاظه، وهو مبسوط في مواطنه. {ذَلِكَ}؛ أي: الاستهزاء المذكور {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: لا يفهمون ما لهم في إجابة الصلاة وما عليهم في استهزائهم بها، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[59]

لأنهم لو كان لهم عقل كامل .. لعلموا أن خدمة الخالق المنعم بغاية التعظيم لا تكون مهزؤًا بها، فإنَّه أحسن أعمال العباد، وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام يعني: أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم. وخلاصة المعنى: أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية: إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان، وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل .. لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندي، ويدعو إلى الصلاة له، والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثر في النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة في إرسال الشرائع، ويؤمن بالله العلي الكبير. 59 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا دينك هزوًا ولعبًا والاستفهام في قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} إنكاري تهكمي؛ أي: هل تكرهون منا أو تعيبون علينا من شيء {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} وحده {و} بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القران الكريم {و} بـ {ما أنزل من قبل} على رسله سبحانه وتعالى من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب الإلهية، وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب، والمعنى: هل تجدون علينا عيبًا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل؟ وهذا ليس مما ينكر أو ينقسم منه، وهذا كما قال بعضهم: وَلا عَيبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتَائِبِ يعني: أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك، وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم، والحاصل: أن هذا ديننا الحق، وطريقنا المستقيم، فلم تنقمونه علينا وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} عطف (¬1) على المجرور؛ أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله، وما أنزل، وبأن أكثركم فاسقون، والمعنى: أعاديتمونا لأنَّا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك؛ أي: وما تكرهون من ¬

_ (¬1) النسفي.

أوصافنا إلا إيماننا بما ذكر واعتقادنا بأن أكثركم خارجون من الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن مستلزم بالكفر بما يصدقه بلا شك، ويجوز (¬1) أن تكون الواو بمعنى مع، أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان باللهِ وبما ذكر معه، مع أن أكثركم فاسقون. وعبارة (¬2) الخازن: يعني إنَّما كرهتم إيماننا ونقمتوه علينا، مع علمكم بأنا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة، وأخذ الأموال بالباطل، وإنما قال: أكثركم، لأن الله علم أن من أهل الكتاب من يؤمن باللهِ وبرسوله. وعبارة المراغي هنا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ...} الآية؛ أي: قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى هل من شيء تعيبونه علينا، وتكرهوننا لأجله إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده، وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبلي على رسله لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة. والخلاصة: أنَّه ما عندنا سوى ذلك، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه، بل يمدح صاحبه ويكرم، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم وفي قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} إشارة إلى أن الحكم بالفسق عليهم ليس على العموم بل على الأكثر فقط؛ لأنَّه قد كان في أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإِسلام عندما عرفوا حقيقة أمره، وتجلى لهم صدق الداعي إليه. وقرأ الجمهور (¬3): {تَنْقِمُونَ} بكسر القاف، والماضي نَقَم بفتحها، في التي ذكرها ثعلب في الفصيح، ونقم بالكسر ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[60]

وغيره. وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة، وأبو البرهشيم. وقرأ الجمهور: {أُنْزِل} في الموضعين مبنيًّا للمفعول، وقرأه فيهما أبو نهيك مبنيًّا للفاعل، وقرأ نعيم بن ميسرة: {وإن أكثركم فاسقون} بكسر الهمزة على الاستئناف، وهو واضح، المعنى بمعنى أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم. وقرأ الجمهور بفتح همزة أن على أنها في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف، أو في موضع نصب عطافًا على أن آمنا، إلا أنَّه حذف مضاف تقديره: واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون، أو في موضع جر عطفًا على علة محذوفة، والتقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وكثرة فسقكم، 60 - ثم رد على الاستفهام التهكمي باستفهام تهكمي مثله فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: قل لهم يا محمد هل أخبركم أيها المستهزئون بديننا وأذاننا {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: بمن هو شر وأقبح مثوبة وجزاء عند الله تعالى من ذلك القوم الذين اتخذتم دينهم وأذانهم هزوًا ولعبًا يعني: المؤمنين، واستعمال المثوبة في الجزاء الحسن، أكثر من استعمالها في الجزاء السيء كما هنا، وقيل إن استعمالها في الجزاء السيء من باب التهكم والإزدراء كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذا السؤال يستدعي سؤالًا منهم عن ذلك الذي هو شر، فكأنهم سألوه وقالوا من هو؟ فأجابهم بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}؛ أي: الذي هو شر من ذلك القوم الذين اتخذتم دينهم هزوًا ولعبًا من لعنه الله سبحانه، وطرده وأبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ}؛ أي: وانتقم منه؛ لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة، أو سخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ}؛ أي: مسخ بعضهم قردة، وهم أصحاب السبت في زمن داود، وهم اليهود. {و} مسخ بعضهم {الخنازير} وهم كفار أهل مائدة عيسى، بعد أكلهم من المائدة، وقيل (¬1): كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة، ¬

_ (¬1) البيضاوي.

ومشايخهم خنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}؛ أي: وأطاع الشيطان في وسوسته وتزينه لهم الكفر والمعاصي التي منها عبادة العجل، وعبارة الواحدي هنا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: أخبركم {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ}؛ أي: بشر من المسلمين الذين طعنتم عليهم {مَثُوبَةً}؛ أي: جزاء وثوابًا {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}؛ أي: هو من لعنه الله؛ أي: أبعده عن رحمته انتهت. والمعنى: قل (¬1) هل أنبئكم بشر من أهل ذلك الذين مثوبة؟ فإن قلت هذا يقتضي أن الموصوفين بذلك .. محكوم عليهم بالشر لأنَّه تعالى قال {بشر من ذلك}، ومعلوم أنَّ الأمر ليس كذلك فما جوابه؟. قلت: جوابه أنَّ الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم، فإنَّ اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر، فقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك. وفي قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} انتقال (¬2) بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر إلى ما هو أشد منه تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، ذلك هو التذكير بسوء حال أبائهم من أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم وتمردهم، بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت. أمَّا اللعن فقد ذكر في عدة مواضع من القران الكريم مع بيان أسبابه، والغضب الإلهي يستلزم اللعنة، واللعنة تلزمه، إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه. وأمَّا جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم في سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} وسيأتي في سورة الأعراف {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة، وانقرضوا لأن الممسوخ لا يكون له نسل، ونقل ابن جرير عن مجاهد، أنَّه قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كما ضرب المثل بقوله: {كَمَثَلِ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}. وقرأ النخعي وابن وثاب (¬1): {أنبئكم} من أنبأ وقرأ الجمهور: {أنبئكم} من نبأ وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران: {مثوبة} كمعورة بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو والجمهور {مثوبة} كمعونة. وقرأ أبي وعبد الله: {من غضب عليهم وجعلهم قردة وخنازير} وجعل هنا بمعنى سير. فائدة: قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فيه عشرون (¬2) قراءة كلها شاذة إلا اثنتين، فهما سبعيتان كما سيأتي بيانهما: 1 - قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عاصم وابن عامر ونافع والكسائي: {وَعَبَد} بفتح العين والباء والدال ونصب تاء {الطَّاغُوتَ}. وفيها وجهان أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت. 2 - وقرأ حمزة: {وعَبُدَ الطاغوت} بفتح العين والدال وضم الباء وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل، وقال الزجاج وجهها أن الاسم بني على فعل كما تقول: علم زيد ورجل حذر؛ أي: مبالغ في الحذر، فالمعنى: جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. فهاتان القِراءاتان سبعيتان. 3 - وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: {وعبدوا} بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع {الطاغوت} بالنصب. 4 - وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة {وعبد} بفتح العين والباء والدال إلا أنهما كسر التاء {الطاغوت} قال الفراء: أرادا عبدة فحذفا الهاء. 5 - وقرأ أنس بن مالك: {وعبيد} بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء {الطاغوت}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

6 - وقرأ أيوب والأعمش {وعبد} بضم العين وفتح الباء والدال مع تشديد الباء وكسر تاء {الطاغوت}. 7 - وقرأ أبو هريرة وأبو رجاء وابن السميقع {وعابد} بألف مع كسر الباء وفتح الدال ومع كسر تاء {الطاغوت}. 8 - وقرأ أبو العالية ويحيى ابن وثاب {وعبد} بضم العين والياء وفتح الدال من كسر تاء {الطاغوت}، قال الزجاج: وهو جمع عبيد وعبد، مثل رغيف ورغف، وسرير وسرر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت. 9 - وقرأ أبو عمران الجوني ومورق العجلي والنخعي: {وعبد} بضم العين وكسر الباء مخففة وفتح الدال مع ضم تاء {الطاغوت}. 10 - وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعكرمة {وعبد} بفتح العين والدال وتشديد الباء مع نصب التاء {الطاغوت}. 11 - وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو نهيك {وعبد} بفتح العين والدال وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء {الطاغوت}. 12 - وقرأ قتادة وهذيل بن شرحبيل: {وعبدة} بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال {الطواغيت} بألف وواو وياء بعد الغين على الجمع. 13 - وقرأ الضحاك وعمرو بن دينار: {وعبد} بضم العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء وكسر تاء {الطاغوت}. 14 - وقرأ سعيد بن جبير والشعبي: {وعبدة} مثل حمزة إلا أنهما رفعا تاء {الطاغوت}. 15 - وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري: {وعبد} بفتح العين وضم الباء والدال مع كسر تاء {الطاغوت}. 16 - وقرأ أبو الأشهب العطاردي: {وعبد} بضم العين وسكون الباء وفتح الدال مع كسر تاء {الطاغوت}.

[61]

17 - وقرأ أبو السماك {وعبدة} بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة من كسر تاء {الطاغوت}. 18 - وقرأ معاذ القارئ: {وعابد} مثل قراءة أبي هريرة، إلا أنه ضم لدال. 19 - وقرأ أبو حيوة: {وعباد} بتشديد الباء وبألف بعدها مع ضم العين فتح الدال. 20 - وقرأ ابن حذلم وعمرو بن فائد {وعباد} مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وهذه القراءة كلها شاذة إلا الأوليين كما مر. وقد سبق ذكر الطاغوت في سورة البقرة، وفي المراد به ما هنا قولان، أحدهما: الأصنام والثاني: الشيطان، ذكره ابن الجوزي في تفسيره. {أُولَئِكَ} الملعونون الممسوخون {شَرٌّ مَكَانًا}؛ أي: أقبح مكانًا ومستقرًا من المؤمنين في الآخرة لأنَّ مكانهم سقر، ولا مكان أشدّ شرًّا منه، أو المعنى: أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير، العابدون الطاغوت شر مكانًا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذميمة {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}؛ أي: أكثرهم ضلالًا عن الطريق المستقيم وقصده ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ومثلًا هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة. قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟!. قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود، وقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير، فسكتوا ونكسوا رؤوسهم افتضاحًا وفيهم يقول الشاعر: فلَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُوْدِ ... إِنَّ اليَهُوْدَ إِخْوَةُ القُرُوْدِ 61 - ثم بيّن حال المنافقين منهم فقال: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ}؛ أي: وإذا جاءكم أيها المؤمنون المنافقون من اليهود {قَالُوَا} للرسول ولكم إننا {آمَنَّا} بالرسول وما

[62]

أنزل عليه {و} الحال أنهم {قد دخلوا} عليكم متلبسين {بِالْكُفْرِ} الضلال مقيمين عليه {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} متلبسين {بِهِ}؛ أي: بالكفر والنفاق أيضًا، فحالهم عند خروجهم كحالهم عند دخولهم، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق، ولكنهم قوم دأبهم الخداع والنفاق كما جاء في سورة البقرة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. يعني: إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان، فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج. {والله} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ}؛ أي: عالم {بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَـ} ـه ويخفونه في قلوبهم حين دخولهم من قصد تسقط الأخبار، والتوسل إلى ذلك النفاق والخداع، وحين خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم كما علمت مما سلف عندقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}. وفي قوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول، واحتيج إليه لمجيئه على خلاف المعروف؛ لأنَّ من كان يجالس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة، ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثر في القلوب ويلين قاسيها .. يرجع عن سوء عقيدته، وتصفو نفسه من كدوراتها؛ إلا إذا كان متعنتًا مخادعًا، فإن الذكرى لا تنفعه والعظات والزواجر لا تؤثر فيه. وقد كان الرجل يجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد قتله حتى إذا رآه سمع كلامه .. انجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق، وآمن به وأحبه، وما شذ هؤلاء إلا لسوء نيتهم وفساد طويتهم، وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجه هممهم إلى الكيد والخداع، فلم يكن لديهم عقول تعي وتفقه مغزى الحكم والآداب. 62 - {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: وترى يا محمد كثيرًا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوًا ولعبًا {يُسَارِعُونَ} ويبادرون {فِي الْإِثْمِ} والشرك والمعاصي {وَالْعُدْوَانِ} أي الظلم والتعدي على الناس وتجاوز الحدود التي ضربها الله للناس

[63]

{و} في {أكلهم} وأخذهم {السُّحْتَ} والحرام، كالرشا وكل ما يعود على فاعله بالضرر في الدين والدنيا، فهم غارقون في الإثم والعدوان، فكلما قدروا عليهما ابتدروهما ولم يتأخروا عن ارتكابهما، ثم بالغ في قبح هذه الأعمال فقال وعزتي وجلالي: {لَبِئْسَ} وقبح {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: لبئس شيئًا كانوا يعملونه عملهم هذا؛ أي: وعزتي وجلالي ما أقبح هذا العمل الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد الأخلاق، ويدنس النفوس، ويقوض نظم المجتمع، وويل للأمة التي يعيش فيها أمثال هؤلاء، فهلا نهاهم علماؤهم وزهادهم وعبادهم عن أفعالهم بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر قبل أن يستفحل ويتفاقم الشر ويعم الضرّ وإلى هذا أشار بقوله: 63 - {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} وكلمة لولا حرف تحضيض وتوبيخ لعلمائهم وعبادهم على تركهم النهي عن المنكر؛ أي: هلا يمنعهم الربانيون؛ أي: السياسيون الذين هم أئمتهم في التربية والسياسة أو العباد {وَالْأَحْبَارُ}؛ أي: العلماء في الدين؛ أي: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي عبادهم وعلماؤهم {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ}؛ أي: الشرك والكذب {و} عن {أكلهم} وأخذهم {السُّحْتَ} والحرام والله {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقبح شيئًا كان الربانيون والأحبار يصنعونه من الرضى بهذه الأوزار والخطايا، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما. روي عن ابن عباس أنَّه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، يريد ابن عباس أنها حجة على العلماء، إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثان التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع، فحق على العلماء والحاكم أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود، ساسة وعلماء ومر بين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى. فقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أبلغ من قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأن (¬1) العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه ¬

_ (¬1) الشوكاني.

صاحبه، ولهذا تقول العرب: سيف صنيع، إذا جود عامله عمله، فالصنع هو العمل الجيد، لا مطلق العمل فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي، فجعل جزم العاملين ذنبًا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبًا راسخًا، ولذلك ذم بهذا خواصهم، ولأن ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية؛ لأن النفس تلتذ بها؛ لأنها مرض الروح وهو صعب شديد ولا يكاد يزول، ولا كذلك ترك الإنكار عليها فيدخل في هذا الذم كل من كان قادرًا على النهي عن المنكر من العلماء وغيرهم، وتركه وقال ابن المبارك: وَهَل أفْسَدَ الدِّيْنَ إِلَّا المُلُوْ ... كَ وَأَحْبَارُ سُوْءٍ وَرُهْبَانُهَا وقيل: غاير في العبارة بين المقامين لتفنن الفصاحة، ولترك تكرار اللفظ. فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم، ويفرجوا لها عن قلوبهم، فإنّها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم، بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها، لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هم أشد حالًا وأعظم وبالًا من العصاة، فرحم الله عالمًا قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو أعظم ما افترضه الله عليه، وأوجب ما أوجب عليه، النهوض به، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ومن العلماء العاملين الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، الذين لا يخافون فيك لومة لائم، وصل وسلم اللهم على من أرسلته رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا تَتَّخِذُوا}:

فعل وفاعل مجزوم بـ {لا}: الناهية. {الْيَهُودَ}: مفعول أول. {وَالنَّصَارَى}: معطوف عليه. {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بَعْضُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} (الواو): استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَتَوَلَّهُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {من} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {يتول}. {فَإِنَّهُ}: الفاء: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. {إنَّ}: حرف نصب. {الهاء}: اسمها. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر {إنَّ} وجملة إنَّ في محل الجزم بـ (من) على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا}: نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الظَّالِمِينَ}: صفة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إن}، وجملة {إن} جملة تعليلية سيقت لتعليل كون من يواليهم منهم؛ أي: لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم، فيقعون في الكفر والضلال. كما ذكره أبو السعود. {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}. {فَتَرَى}: (الفاء) (¬1): إمَّا للسببية المحضة، أي: بسبب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} المتصفين بما ذكر ترى الذين .. إلخ. أو للعطف على قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} ... إلخ من حيث المعنى اهـ. كرخي. {ترى}: فعل مضارع وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة أو معطوفة على {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {فِي قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية صلة الموصول. {يُسَارِعُونَ}: فعل ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وفاعل. {فِيهِمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الموصول. وقيل: تر علمية، وجملة {يُسَارِعُونَ} في محل النصب مفعول ثانٍ، والأول أنسب بظهور نفاقهم. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير {يُسَارِعُونَ}. {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} مقول محكي لـ {يَقُولُونَ} وإنْ شئت قلت: {نَخْشَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المنافقين المرضى، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}: ناصب وفعل، ومفعول وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {نَخْشَى} تقديره: نخشى إصابة الدائرة إيانا. {فَعَسَى اللَّهُ} الفاء: استئنافية. {عسى}: فعل ماض من أفعال الرجاء ترفع الاسم وتنصب الخبر، و {عسى} وإن كانت في أصلها للترجي إلّا أنَّها في كلام الله للتحقيق؛ لأن كلامه موافق لعلمه، وهو لا يتخلف. {اللَّهُ}: اسمها. {أَنْ يَأتِيَ}: ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {بِالْفَتْحِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {أَمْرٍ} تقديره: أو أمر كائن من عنده، وجملة {يَأتِيَ} صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ {عسى} ولكنَّه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر باسم المعنى عن الذات تقديره: عسى الله آتيًا بالفتح أو أمر من عنده أو ذا إتيانًا بالفتح، وجملة عسى مستأنفة. {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} معطوفة {بِالْفَتْحِ} {فَيُصْبِحُوا}: (الفاء): عاطفة. {يصبحوا}: فعل ناقص واسمه معطوف على {يَأتِيَ}: فهو داخل معه في حيز خبر عسى، وإنْ لم يكن فيه ضمير يعود على اسمها. فإن: فاء السببية مغنية عن ذلك، لأنها تجعل الجملتين كجملة واحدة، ذكره أبو السعود. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {نَادِمِينَ}. {أَسَرُّوا}: فعل وفاعل. {فِي أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَسَرُّوا} وجملة {أَسَرُّوا} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد. أو الرابط محذوف تقديره: أسروه. {نَادِمِينَ}: خبر أصبح منصوب بها، وجملة أصبح في تأويل مصدر معطوف على مصدر {يَأتِيَ} على كونه خبرًا لعسى، ولكنه في تأويل مشتق تقديره: فعسى الله آتيًا بالفتح، فمصبحين نادمين على ما أسروا في أنفسهم.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}. {وَيَقُولُ}: (الواو): استئنافية. {يَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَهَؤُلَاءِ}: إلى قوله: {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَهَؤُلَاءِ}: (الهمزة): للاستفهام التعجبي. {هؤلاء}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقول}. {أَقْسَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَقْسَمُوا}. {جَهْدَ}: منصوب على المصدرية؛ أي: أقسموا إقسام اجتهاد اليمين، أو منصوب على الحالية؛ أي: مجتهدين في أيمانهم ذكره أبو السعود وهو مضاف. {أَيْمَانِهِمْ}: مضاف إليه. {إِنَّهُمْ} (إن): حرف نصب. والهاء اسمها. {لَمَعَكُمْ}: (اللام): حرف ابتداء. {معكم}: ظرف ومضاف إليه خبر إنَّ، وجملة (إنَّ): جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنَّها تفسير وحكاية المعنى {أَقْسَمُوا} لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، لأنَّها من كلام الرب. {فَأَصْبَحُوا}. (الفاء): عاطفة تفريعية. {أَصْبَحُوا}: فعل ناقص واسمه. {خَاسِرِينَ}: خبر أصبح والجملة معطوفة على جملة {حَبِطَتْ}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ}. {يَاأَيُّهَا}: (يا): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة. (ها): حرف تنبيه زائد، زيدت تعويضًا عما فات، أي: من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي. {آمَنُوا}. فعل وفاعل صلة الموصول. {مَنْ يَرْتَدَّ}: من اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَرْتَدَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} وعلامة جزمه سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وكانت فتحة للخفة، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَرْتَدَّ}. {عَنْ دِينِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق

بـ {يَرْتَدَّ}. {فَسَوْفَ} (الفاء): رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة تسويفية. {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {يَأْتِي اللَّهُ}: فعل وفاعل. {بِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {يُحِبُّهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} {وَيُحِبُّونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُحِبُّهُمْ}. {أَذِلَّةٍ} صفة ثانية لـ {قوم} {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور متعلق به. {أَعِزَّةٍ} صفة ثالثة لـ {قَوْمٍ} {عَلَى الْكَافِرِينَ} متعلق به. {يُجَاهِدُونَ} فعل وفاعل. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به؛ والجملة في محل الجر صفة رابعة لـ {قوم} أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في {أَعِزَّةٍ} أو مستأنفة {وَلَا يَخَافُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُجَاهِدُونَ}. {لَوْمَةَ لَائِمٍ}: مفعول به ومضاف إليه {ذَلِكَ} مبتدأ {فَضْلُ اللَّهِ} خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {يُؤْتِيهِ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لأتى لأنه بمعنى أعطى والجملة الفعلية في محل النصب حال من الجلالة، وجملة {يَشَاءُ} صلة من الموصول، والعائد ضمير محذوف تقديره: من يشاؤه. {وَاللَّهُ} مبتدأ {وَاسِعٌ} خبر أول {عَلِيمٌ} خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {وَلِيُّكُمُ}: مبتدأ ومضاف إليه. {اللَّهُ} خبر. {وَرَسُولُهُ}: معطوف عليه. وكذلك {وَالَّذِينَ} معطوف عليه. {آمَنُوا} صلة الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ

رَاكِعُونَ}. قال الزمخشري (¬1): {الَّذِينَ} بدل من {الذين آمنوا} بدل كل من كل، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، وإنما لم يجعل صفة لـ {الذين آمنوا} لأنَّ الوصف بالموصول على خلاف الأصل؛ لأنَّه يؤول بمشتق، وأيضًا لأن {الذين آمنوا} وصف، والوصف لا يوصف إلا إذا جرى مجرى الاسم كالمؤمن مثلًا بخلاف الذين آمنوا، فإنه في معنى الحدوث، ألا ترى أنَّه جعل الذي يوسوس صفة للخناس؛ لأنَّه ليس في معنى الحدوث اهـ. كرخي و"سمين". {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على جملة {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}. {وَهُمْ رَاكِعُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل الفعلين؛ أي: يعملون ما ذكروهم خاشعون، متواضعون، أو حال من فاعل الفعل الأول؛ أي: يصلون الصلاة وهم راكعون. {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}. {وَمَن}: (الواو): استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَتَوَلَّ اللَّهَ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {من} وفاعله ضمير يعود على {من}. {وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ}: معطوفان على الجلالة، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ}: (الفاء): رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. {إنَّ}: حرف نصب. {حِزْبَ اللَّهِ}: اسمها ومضاف إليه. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْغَالِبُونَ}: خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ (أي). {آمَنُوا}: صلته. {لَا تَتَّخِذُوا}: جازم وفعل وفاعل والجملة جواب النداء ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {تَتَّخِذُوا}. {اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا}: فعل وفاعل ومفعولان {وَلَعِبًا} معطوف على {هُزُوًا} وجملة {اتَّخَذُوا} صلة الموصول الثاني {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور حال من فاعل {اتَّخَذُوا} {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان لـ {أُوتُوا} لأنَّ أتى بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين، والجملة صلة للموصول المجرور بـ (من). {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُوتُوا}. {وَالْكُفَّارَ} بالنصب عطف على {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} وبالجر عطف على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} كما مر في بحث التفسير {أَوْلِيَاءَ} مفعول ثانٍ لقوله: {لَا تَتَّخِذُوا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تَتَّخِذُوا} على كونها جواب النداء. (إن): حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ}. {مُؤْمِنِينَ}: خبر كان، وجواب إنْ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين .. فاتقوا الله، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}. {وَإِذَا}: (الواو): عاطفة، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. {نَادَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. {إِلَى الصَّلَاة}: جار ومجرور متعلق بـ {نَادَيْتُمْ}. {اتَّخَذُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول أول. {هُزُوًا}: مفعول ثان. {وَلَعِبًا}: معطوف عليه، والجملة جواب (إذا) لا محل لها من الإعراب، وجملة (إذا) من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: {اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} على كونها صلة الموصول والتقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، والذين إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ} (الباء): حرف جر، (أنَّ): حرف نصب، والهاء: اسمها. {قَوْمٌ}: خبرها، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ} صفة لقوم، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء والتقدير: بسبب كونهم قومًا لا يعقلون، والجار والمجرور خبر لذلك؛ أي: ذلك كائن بسبب عدم عقلهم. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}.

{قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإنْ شئت قلت: (يا): حرف نداء. {أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي. {تَنْقِمُونَ}: فعل وفاعل. {مِنَّا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ}: حرف مصدر ونصب. {آمَنَّا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله. {وَمَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على لفظ الجلالة. {أُنزِلَ}: فعل ماضي مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على (ما). {إِلَيْنَا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَمَا أُنْزِلَ}: معطوف أيضًا على الجلالة. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق به. {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ}: (الواو): عاطفة، {أَنَّ أَكْثَرَكُمْ}: ناصب واسمه. {فَاسِقُونَ}: خبر أن في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول من أن أمنا, ولكنه على تقدير مضاف والتقدير: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا إيماننا بما ذكر، واعتقاد كون أكثركم فاسقين؛ أي: اعتقادنا كون أكثركم فاسقين. {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإنْ شئت قلت: {هَلْ}: حرف للاستفهام التهكمي. {أُنَبِّئُكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بِشَرٍّ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لنبأ، وهو هنا يتعدى إلى مفعولين فقط؛ لأنه بمعنى عرف. {مِنْ ذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق {بِشَرٍّ}. {مَثُوبَةً}: تمييز لشر منصوب به، والظاهر (¬1) أنَّه من تمييز النسبة للمفرد؛ لأن ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الشر واقع على الأشخاص، والمثوبة هي الجزاء. فلا يفسر أشر بها، وكان أصل التركيب: هل أنبئكم من قبح مثوبته؛ أي: جزائه، وجملة {أُنَبِّئُكُمْ} من الفعل والفاعل في محل النصب جزء المقول. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه صفة لـ {مَثُوبَةً}. {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}: من اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول القول لـ {قُلْ}. {لَعَنَهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة من الموصولة. {وَغَضِبَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على {لَعَنَهُ}. {وَجَعَلَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {مِنْهُمُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {لَعَنَهُ اللَّهُ}. {الْقِرَدَةَ}: مفعول (جعل). {وَالْخَنَازِيرَ} معطوف على {الْقِرَدَةَ}. {وَعَبَدَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على (مَن). {الطَّاغُوتَ}: مفعول (عبد) والجملة معطوفة على جملة {لَعَنَهُ اللَّهُ} على كونها صلة الموصول، وراعى في ضمير {لَعَنَهُ} {وَغَضِبَ عَلَيْهِ}. (وَعَبَدَ) على قراءته فعلًا ماضيًا لفظ (مَن) وفي ضمير {جعل} {منهُمُ} راعى معناها. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {شَرٌّ} خبر. {مَكَانًا}: تمييز {شَرٌّ} تمييز (¬1) نسبة؛ أي: أولئك قبح مكانهم على حد قوله: وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَي انْصِبَنْ بِأفْعَلاَ ... مُفَضِّلًا كَأنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ} إن قلنا إنَّه من كلام محمَّد، أو مستأنفة، إن قلنا إنَّه من كلام الله تعالى، {وَأَضَلُّ} معطوف على {شَرٌّ}. {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {وَأَضَلُّ}. {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}. {وَإِذَا}: (الواو): استئنافية. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة (إذا) إليها، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

على كونها فعل شرط لها. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة (إذا) مستأنفة. {آمَنَّا}: مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت: {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَقَدْ دَخَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا} أو {آمَنَّا}. {بِالْكُفْرِ}: جار ومجرور حال من فاعل {دَخَلُوا}؛ أي: وقد دخلوا حالة كونهم متلبسين بالكفر. {وَهُمْ}: مبتدأ وجملة {قَدْ خَرَجُوا}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة (قد دخلوا): على كونها حالًا من فاعل {قَالُوا}. {بِهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {خَرَجُوا}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {أعْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَكْتُمُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما كانوا يكتمونه. {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}. {وَتَرَى}: (الواو): استئنافية، (ترى): فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {كَثِيرًا}: مفعول به لـ (ترى)؛ لأنَّ ترى هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية مستأنفة. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {يُسَارِعُونَ}: فعل وفاعل. {فِي الْإِثْمِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {كَثِيرًا} أو صفة ثانية له، ومفعول ثان لـ (ترى) إن قلنا إنها علمية، والأول أنسب بالمقام كما في "الجمل". {وَالْعُدْوَانِ}: معطوف على {الْإِثْمِ}. وكذا قوله: {وَأَكْلِهِمُ} معطوف على {الْإِثْمِ} وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. {السُّحْتَ}: مفعوله. {لَبِئْسَ} (اللام): موطئة للقسم. (بئس): فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: هو، يفسره التمييز المذكور بعده. {مَا}: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة كان صفة لما والرابط محذوف تقديره: يعملونه، والتقدير: لبئس هو؛ أي: عملهم من جهة كونه شيئًا

يعلمونه، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: عملهم هذا، ويجوز أن تكون ما فاعل بئس وهي اسم معرفة، والجملة بعدها صفة لمخصوص محذوف والتقدير: بئس الشيء شيء كانوا يعملونه، كما قال ابن مالك: وَ (مَا) مُمَيَّزٌ وَقِيْلَ فَاعِلُ ... في نَحْوِ: نِعْمَ مَا يَقُوْلُ الْفَاضِلُ وجملة (بئس) جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب. {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}. {لَوْلَا}: حرف تخضيض وتوبيخ. {يَنْهَاهُمُ}: فعل ومفعول {الرَّبَّانِيُّونَ}: فاعل. {وَالْأَحْبَارُ}: معطوف عليه والجملة الفعلية مستأنفة. {عَنْ قَوْلِهِم}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْهَاهُمُ}، وهو مصدر مضاف إلى فاعله. {الْإِثْمَ}: مفعوله. {وَأَكْلِهِمُ}: معطوف على {قَوْلِهِمُ} وهو أيضًا مصدر مضاف إلى فاعله. {السُّحْتَ} مفعوله. {لَبِئْسَ}: (اللام): موطئة للقسم. (بئس): فعل ماض. {مَا}: اسم معرفة في محل الرفع فاعل، وجملة {كَانُوا يَصْنَعُونَ}: صفة لمخصوص محذوف أيضًا، والتقدير: لبئس الشيء شيئًا شيء كانوا يصنعونه. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. الأولياء جمع ولي، كأصفياء جمع صفي في الولاية، والمراد بالولاية هنا ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين، ومن ضرورة موالاة بعضهم لبعض اجتماع الكل على مضارتكم، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة. {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} والدائرة ما يدور به الزمان من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وقال ابن حيان: الدائرة واحدة الدوائر وهي: صروف الدهر ودوله ونوازله، وقال الشاعر: وَيعْلَمُ أَنَ الدَّائِرَاتِ تَدُوْرُ انتهى.

وفرق الراغب بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط ثم عبر بها عن الحادثة، وإنَّما تقال في المكروه، والدولة في المحبوب. انتهى. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وجهد الأيمان أغلظها، وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال؛ أي: مجتهدين في إقسامهم، أو على المفعولية المطلقة؛ أي: أقسموا إقسام اجتهاد اليمين {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}؛ أي: بطلت أعمالهم التي كانوا مكلفين بها، وعملوا بها في أعين الناس، كالصلاة، والصيام، والجهاد معكم، فخسروا أجرها وثوابها، يقال: حبط العمل من باب فرح إذا بطل {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جمع ذليل كأدلة جمع دليل، بمعنى متواضعين من التذلل بمعنى التواضع لا جمع ذلول {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} جمع عزيز بمعنى متغلبين عليهم {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}؛ أي: عذل عاذل، وفي "المختار": اللوم العذل، تقول: لامه على كذا من باب قال لومًا ولومة إذا عدَّله، واللائمة الملامة {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} والحزب في اللغة: أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه؛ أي: أهمه. {هُزُوًا وَلَعِبًا} يقال: هزىء بفلان ومنه هَزْءًا وهُزْءًا وهُزُءًا إذا سخر به، والهزؤ أيضًا ما يهزء منه، يقال: هو هزءة بين الناس؛ أي: يهزأون ويسخرون منه، واللعب معروف وهو مصدر على غير قياس، وفعله لعب يلعب {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} والنداء الدعاء برفع الصوت، وناداه مناداة ونداء إذا صاح به، وتنادوا؛ أي: نادى بعضهم بعضًا وتنادوا؛ أي: جلسوا في النادي. {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} وفي نقم لغتان: الفصحى وهي التي حكاها ثعلب في فصيحه، نقم بفتح القاف ينقم بكسرها، والأخرى: نقم بكسر القاف ينقم بفتحها، قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضًا، يقال: نقمت إذا كرهته، وانتقم منه إذا عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع نقمات مثل كلمة وكلمات، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون، والجمع نقم مثل نعمة ونعم. {مَثُوبَةً} المثوبة بسكون الثاء المثلثة مع فتح الميم والواو، والمثوبة بضم الثاء مع سكون الواو الجزاء على الأعمال خيرها وشرها، وأكثر استعماله في الخير من ثاب إذا رجع {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} القردة جمع قرد بكسر أوله وسكون

ثانيه، ويجمع القرد أيضًا على أقراد وقرود وقردة بفتح القاف وكسر الراء، والأنثى قردة بكسر أوله وسكون ثانيه، وتجمع على قرد كقربة على قرب. والقرد حيوان خبيث يضحك ويطرب وسريع الفهم والتعلم، ويعرف عند العامة بالسعدان، والعامة تستعمل القرد بمعنى الشيطان، فتقول: فلان كالقرد، وفي استنكار يا قرد. والخنازير جمع خنزير وهو حيوان معروف {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} بفتحات في عبد بصيغة الماضي ونصب الطاغوت على المفعولية في قراءة غير حمزة من السبعة، وقرأ حمزة بضم باء عبد وإضافته إلى الطاغوت عطفًا على القردة؛ أي: وجعل عبد الطاغوت؛ أي: عبادها، وهو اسم جمع لعبد لا جمع له بل جمعه أعبد، كما قال ابن مالك: لِفَعَلَ اسْمًا صَحَّ عَيْنًا أَفْعَلُ ... وَلِلرُّبَاعِيِّ اسْمًا أيْضًا يُجْعَلُ {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} شر اسم تفضيل أصله أشرر بوزن أفعل حذفت همزته تخفيفًا لكثرة الاستعمال. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: منها: الإجمال الذي أريد به التفصيل في قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}؛ لأن المعنى: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض, لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى، ولا النصارى أولياء اليهود لما بينهم من المعاداة، وإنَّما أوثر الإجمال تعويلًا على ظهور المراد لوضوح انتفاء الموالاة بين الفريقين رأسًا. ومنها: التأكيد بقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، لأنها جملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي، ولتأكيد إيجاب الاجتناب المستفاد من النهي. ومنها: المبالغة في الزجر في قوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} لأن المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، استعير هنا لما في قلوبهم من الجهل وسوء العقيدة، وعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك من فنون الكفر المؤدية إلى الهلاك الروحاني.

ومنها: التنكير في قوله: {مَرَضٌ} للدلالة على كونه نوعًا مبهمًا غير ما يتعارفه الناس من الأمراض. ومنها: الكناية في قوله: {يُسَارِعُونَ}. لأن المسارعة حقيقة في الأجسام، وهي هنا كناية عن تنقل قلوبهم من بعض مراتب رغبة موالاتهم إلى بعض آخر. ومنها: الاستعارة في قوله: {دَائِرَةٌ} لأنها حقيقة في الشيء الذي يحيط بغيره، استعيرت لما يقع بهم من مصائب الدهر. ومنها: التقسيم في قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وفي قوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأن فيه معنى التعجب إن كان من كلام المؤمنين، كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم، أو فيه تعجيب للسامعين من حبوط أعمالهم إن كان من كلام الله تعالى. ومنها: المقابلة في قوله: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. ومنها: الطباق بين لفظي: {أَذِلَّةٍ} و {أَعِزَّةٍ} في قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لأنه من المحسنات البديعية. ومنها: التعريض في قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فإن فيه تعريضًا بذم المنافقين فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يكادون يعملون شيئًا يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وفي تنكير لومة ولائم مبالغة لا تخفى, لأن اللومة المرة من اللوم. ومنها: دفع الإيهام في قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لأنه لما قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أوهم أنهم أذلاء محقرون مهانون، فدفع ذلك الإيهام بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ أي: متغلبين عليهم. ومنها: الوصف بالجملة الفعلية في جانب المحبة في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لإفادة التجدد والحدوث, لأن الفعل يدل عليهما، وهو مناسب بالمقام, لأن

محبتهم لله تعالى تجدد طاعته وعبادته كل وقت، ومحبة الله إياهم تجدد ثوابه وإنعامه عليهم كل وقت. ومنها: الوصف بالاسم الدال على المبالغة في جانب التواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين دلالة على ثبوت ذلك واستقراره، فإنه عريق فيهم. ومنها التهييج في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس في قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} إلخ فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبًا للإنكار والنقمة، مع أن الأمر بالعكس. ومنها: الاستفهام التهكمي في: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} وفي قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} حيث استعملت المثوبة في العقوبة. ومنها: المشاكلة في قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} لأنه في مشاكلة قولهم: لا نعلم دينًا شرًّا من دينكم. ومنها: التخضيض والتوبيخ في قوله: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}؛ لأنَّه تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، وتوبيخ لهم على تركهم النهي, لأن لولا إذا دخلت على الماض أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض كما ذكره "البيضاوي". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع في الأفراد والجماعات، فأصبحوا قومًا أنانيين، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أي صورة كان، وبأي وجه جمع، وقد أثر هذا في أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم .. ذكر هنا أفظع مخازيهم، وأقبحها بجرأتهم على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته وإنكارهم جميع أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم جرمهم، توبيخًا لهم وتعريفًا

لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قديم جهلهم، واحتجاجًا له بأنه مبعوث ورسول إذ أخبر بخفي علومهم، ومكنون أخبارهم التي لا يعلمها إلا أحبارهم دون غيرهم من اليهود. أسباب النزول قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. الآية. وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه قال: نزلت آية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: في فنحاص رأس يهود بني قينقاع. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني" فأنزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال: كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي؟ فنزلت: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأخرج رأسه من القبة فقال: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". وأخرج الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن يحرسه فلما نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فترك الحرس, وأخرج أيضًا عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل حتى نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فترك الحرس. وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا إذا أصبحنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر .. تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت الشجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه وقال: يا محمَّد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله يمنعني منك، ضع السيف"، فوضعه ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[64]

فنزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني أنمار .. نزل ذات الرقيع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد أدلى رجليه فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمدًا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه .. قتلته، فأتاه فقال له: يا محمَّد أعطني سفيك، فأعطاه إياه فرعدت يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حال الله بينك وبيني ما تريد" فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية. قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ...} الآية، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، فقالوا: يا محمَّد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا؟ قال: "بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس" قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فأعنا على الهدى والحق، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} الآية. التفسير وأوجه القراءة 64 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}؛ أي: مقبوضة عن العطاء، بخيلة عن أن تنفق. واليد (¬1) عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالى: {وَخُذ بِيَدِكَ ضِغثًا} وعلى النعمة، ومنه قولهم كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وعلى التأييد ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يد الله مع القاضي حين يقضي"، وتطلق على معانٍ أخر. وهذه الآية على طريق التمثيل كقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} والعرب تطلق غل اليد على البخل، وبسطها على الجود مجازًا ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف ومنه قول الشاعر: كَانَتْ خُرَاسَانُ أرْضًا إِذْ يَزِيْدُ بِهَا ... وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوْحُ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أناملُهُ ... كَأنَّمَا وَجْهُهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوْحُ فمراد اليهود بقولهم هذا عليهم لعائن الله تعالى: إن الله بخيل، قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: إن الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالًا، فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكذبوا به، ضيق الله عليهم المعيشة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء: يد الله مغلولة. وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال النباش بن قيس: يد الله مغلولة؛ أي: قال (¬1) هذا الكلام بعض منهم ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفرادها، وكونها كالشخص الواحد، وأن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها، وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قال أو فعله سلفهم منذ قرون. ولا عجب في صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم، فإنا نرى من المسلمين في عصرنا هذا مثله في الشكوى من الله عَزَّ وَجَلَّ والاعتراض عليه عند الضيق، وفي إبان المصائب، فأجاب الله سبحانه وتعالى ودعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: ربطت أيديهم إلى الأعناق بالأغلال بالأسر في الدنيا وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم {وَلُعِنُوا}؛ أي: وطردوا من رحمة الله تعالى وعذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار (بـ) سبب (ما قالوا)؛ أي: بسبب قولهم يد الله مغلولة. أو المعنى (¬2): أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله تعالى. قال الزجاج: رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء، وأيديهم هي المغلولة الممسوكة، وقيل: هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعوا عليهم فقال: غلت أيديهم؛ أي: في نار جهنم، فعلى هذا هو من الغل حقيقة؛ أي: شدت أيديهم إلى أعناقهم، وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول، ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا بسبب ما قالوا، فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير، وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية، وفي الآخرة لهم عذاب النار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وعبارة المراغي هنا {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدي عن العطاء، والإمساك عن الإنفاق في سبيل البر والخير، وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئًا إلا إذا كان يرى أن له من وراثه ربحًا، كما دعا عليهم بالطرد، والبعد من رحمته، وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين. ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم ما قالوه، وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء، وأن كل ما في العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال: {بَلْ يَدَاهُ} سبحانه وتعالى {مَبْسُوطَتَانِ} لا مقبوضتان {يُنْفِقُ} ويعطي {كَيْفَ يَشَاءُ} ويريد من بسط وتضييق لمن يشاء؛ أي: بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع وتقتير الرزق على بعض العباد، لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق، فإن شاء وسع وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة، لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى، وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين, لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه، كما قال الأعشى يمدح جوادًا: يَدَاكَ يَدَا جُوْدٍ فَكَفٌّ مُفِيْدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بالزَّاد تُنْفِقُ وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام، والتقدير: ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل، بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال، فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود.

فصل: في يد الله سبحانه وتعالى وأما الكلام في اليد: فقد اختلف العلماء في معناها على قولين: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين وهو الذي نلقى عليه الرب جل جلاله، أن يد الله صفة من صفات ذاته، كالسمع والبصر والوجه، فيجب علينا الإيمان بها، والإذعان والتسليم بها، ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة، بلا كيف ولا تشبيه، ولا تعطيل. قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين". والقول الثاني: قول أهل التأويل، فإنهم قالوا: اليد تذكر في اللغة على وجوه: 1 - الجارحة وهي معلومة. 2 - النعمة، يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها. 3 - القدرة، قال الله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} فسروه بذوي القوى والعقول، ويقال: لا يد لك بهذا الأمر، والمعنى: سلب كمال القدرة. 4 - الملك يقال: هذه الضيعة في يد فلان؛ أي: في ملكه، ومنه قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}؛ أي: يملك ذلك، أما الجارحة .. فمنتفية في صفة الله عَزَّ وَجَلَّ , لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض، تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علوًّا كبيرًا، فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة، وأما سائر المعاني التي فسرت بها اليد .. فحاصلة, لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة، وعن الملك، وعن النعمة، وهاهنا إشكالان: أحدهما: أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة .. فقدرة الله واحدة، ونص القرآن وكذا الحديث السابق آنفًا ناطق بإثبات اليدين للرحمن في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.

والإشكال الثاني: أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد، ونعم الله تعالى غير محصورة ولا معدودة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. وأيضًا أن الله تعالى أخبر أنه خلق آدم بيديه، ولو كان معنى خلقه لآدم بيديه وخلقه بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم, لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته، وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه، فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} دون خلقه .. علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره. ونقل الإِمام الفخر الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولًا: إن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة، من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء، قال: والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم، واصطفائه له، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة .. امتنع كون آدم مصطفى بذلك, لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة، يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء، هذا آخر كلامه، فثبت بهذا البيان قول من قال: إن اليد صفة ثابتة لله تعالى، تليق بجلاله وأنها ليست بجارحة كما تقول المجسمة تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، ولا بقدرة ولا نعمة ولا ملك كما يقول المؤولون والله سبحانه وتعالى أعلم بكنه ذاته وصفاته {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}؛ يعني: أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار، فيوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء، لا اعتراض عليه في ملكه، ولا فيما يفعله، وهذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله {يُنْفِقُ} من الإعراب، إذ هي جملة مستأنفة كما سيأتي في مبحث الإعراب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأى لا تفيضها نفقة سخاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنَّه لم ينقص ما بيده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان, يرفع ويخفض"، متفق عليه. وهذا الحديث أيضًا أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.

وقرأ أبو السمال بسكون العين في قوله (¬1): {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} كما قال في عصر عصرون، وقال الشاعر: لَوْ عَصرْنَا مِنْهُ البَا ... نَ وَالْمِسْكَ انْعَصَرْ ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين، فحسن التخفيف، وقرأ عبد الله: (بسيطتان)، يقال: يد بسيطة مطلقة بالمعروف، وفي مصحف عبد الله: (بسطان). يقال: يده بسط بالمعروف، وهو على فعل، كما تقول ناقة صرح، ومشيه سجح. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي ليزيدن كثيرًا من اليهود والنصارى {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة {طُغْيَانًا}؛ أي: تماديًا على الطغيان والضلال {وَكُفْرًا}؛ أي: ثباتًا على الكفر والشرك، والمراد بالكثير منهم علماؤهم ورؤوساؤهم، وإنما قيد بالكثير لأن منهم من آمن، ومن لا يزداد إلا طغيانًا، وهذا الإعلام بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بفرط عتوهم؛ أي: ليزيدن طغيانًا إلى طغيانهم، وكفرًا إلى كفرهم بما يسمعون من القرآن، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء,؛ لأنهم كلما نزلت آية من القرآن كفروا بها، فازدادوا شدة في كفرهم وطغيانًا مع طغيانهم. والمعنى (¬2): أنَّ هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك، ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم، هو من أعظم الأدلة على نبوتك، وكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك، إذ لولا النبوة والوحي ما علمت من هذا شيئًا، فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب، ولا تعرف الحاضر من مكرهم الخفي وكيدهم السري، لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك الإيمان, ولم يقربه إلا قليلًا منهم، ووالله ليزيدن ذلك كثيرًا منهم طغيانًا في بغضك، وعدواتك، وكفرًا بما جئت به. وقال قتادة: حملهم حسد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بمحمد ودينه. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ}؛ أي: ألقينا وأوقعنا بين اليهود والنصارى، أو بين كل فريق من اليهود والنصارى {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}؛ أي: الشحناء. قال أبو حيان: العداوة أخص من البغضاء, لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو، انتهى {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فهي لا تنقطع أبدًا واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية، ولهم النفوذ والتأثير في السياسة وسائر شؤون الاجتماع، مبغوضون لجماهير النصارى، وقيل: ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أَقوالهم، فإن اليهود فرق، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مرجئة، وبعضهم مشبهة، وكذا النصارى فرق، كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والماردانية. فإن قلت: فهذا (¬1) المعنى أيضًا حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيبًا على اليهود والنصارى حتى يذموا به؟. قلت: هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة والتابعين. أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلًا بينهم، فحسن جعل ذلك عيبًا على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا} وأشعلوا {نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وأخمدها سبحانه وتعالى؛ أي: كلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين .. خذلهم الله تعالى، وهم إما يخيبوا في سعيهم، ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين. يعني كلما (¬2) أفسد اليهود وخالفوا حكم الله .. يبعث الله عليهم من يهلكهم، أفسدوا أولًا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم أفسدوا فبعث الله ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

طيطوس الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس، ثم أفسدوا وقالوا: يد الله مغلولة، فبعث الله عليهم المسلمين، فلا تزال اليهود في ذلة أبدًا. وقال مجاهد: معنى الآية كلما مكروا مكرًا في حرب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. أطفأه الله تعالى. وقال السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. فرقه الله تعالى، وكلما أوقدوا نارًا في حرب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أطفأ الله وأخمد نارهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقهرهم ونصر نبيه ودينه. وقيل: المراد بالنار هنا الغضب؛ أي: كلما أثاروا في أنفسهم غضبًا أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم، والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم. والمعروف (¬1) في كتب السير أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يؤوي أعداءهم ويساعدهم، ككعب بن الأشرف، وما سبب ذلك إلا الحسدُ والعصبية، وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإِسلام، لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها في بلاد الحجاز، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه، والدليل على ذلك: أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين في الشام والأندلس، لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقُوطُ. وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية، وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز، كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب ميلًا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم، وزال عنهم ظلم الروم، مع كونهم من أهل دينهم، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون في العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}؛ أي: سعي فساد؛ أي: يجتهدون ويفعلون في الأرض فعل فساد؛ أي: يجتهدون في الكيد والمكر للإسلام وأهله، وإثارة الفتنة بينهم وفي تعويق الناس عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وليس يقدرون على غير ذلك؛ أي: إن ما يأتونه من عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب، لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشؤون العمران والاجتماع، بل ¬

_ (¬1) المراغي.

[65]

كانوا يقصدون السعي في الأرض للفساد، ويحاولون الكيد للمؤمنين، ومنع اجتماع كلمة العرب، ويودون أن لا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان، ولا من الوثنية إلى التوحيد حسدًا لهم، وحبًّا في دوام امتيازهم عنهم {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} في الأرض بل يبغضهم ويعاقبهم، ومن ثم لا ينجح سعيهم ولا يصلح عملهم لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى في صلاح الناس وعمران البلاد. ومن ثم أبطل سبحانه وتعالى كل ما كاده أولئك القوم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والعرب والإِسلام، وأصلح بالإِسلام ما كانوا خربوه من البلاد، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل، وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم وسلط الله عليهم غيرهم. قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها، 65 - وهم أبغض خلق الله إليه ثم ندمهم على سوء أعمالهم فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {آمَنُوا} باللهِ وبرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به {وَاتَّقَوْا} ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم، أو اجتنبوا من اليهودية والنصرانية {لَكَفَّرْنَا} وسترنا {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} وذنوبهم التي اقترفوها وعملوها قبل الإِسلام، ومحوناها عنهم ولم نفضحهم بها, لأن الإِسلام يجب ما قبله، {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}؛ أي: ولأدخلناهم مع سائر المسلمين في الآخرة بساتين يتنعمون بها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالكتابي لا يدخل الجنة ولا يرفع عنه العقاب ما لم يسلم، والإِسلام يجبّ ما قبله كما مرّ آنفًا. وفي ذلك إعلام (¬1) من الله سبحانه وتعالى بعظم معاصي اليهود والنصارى، وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمته، وفتحه باب التوبة لكل عاصٍ، وإن عظمت معاصيه، وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى، وإخبارها بأن الإيمان لا ينجي إلا إذا شفع وقرن بالتقوى، ومن ثم قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب. 66 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ}؛ أي: أن أهل الكتاب {أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} يعني (¬2): أقاموا أحكامهما، بإذاعة ما فيهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود، والتصديق ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

بمحمد - صلى الله عليه وسلم - , لأن نعته وصفته موجودان فيهما، فإن قلت: كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نسخًا وبدلًا؟ قلت: إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته، وهذا غير منسوخ .. لأنه موافق لما في القرآن؛ أي: ولو أنهم أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين بنور التوحيد المبشرين بالنبي، الذي يأتي من أبناء إسماعيل، والذي قال فيه عيسى عليه السلام: إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شيء (و) أقاموا (ما أنزل إليهم من ربهم) على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم، وقيل المراد (¬1) به: كتب أنبيائهم القديمة، مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء، وزبور داود، وفي هذه الكتب أيضًا ذكر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}؛ أي: لوسع الله عليهم رزقهم، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وهذه الجملة كناية عن المبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقًا وتحتًا. والمعنى: لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، قيل هذا في أهل الكتاب القائلين يد الله مغلولة، الذين ضيق عليهم عقوبة لهم، فلا يرد كون كثير من المتقين العاملين في غاية الضيق، فالتوسع والتضييق ليسا من الإكرام والإهانة، قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} إلى قوله: {كَلَّا}؛ أي: إن الله يجعل ضيق الرزق كسعته نعمة في بعض عباده، ونقمة على آخرين، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة، اهـ كرخي. وفي هذا تنبيه إلى ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا من قصور من فيض الله وعظيم عطائه، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد، فالدين عندهم إنَّما كان أماني يتمنونها، وبدعًا وتقاليد يتوارثونها، فهم بين غلوّ وتقصير، وإفراط وتفريط، ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية في أفعالهم وأقوالهم فقال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}؛ أي: من أهل الكتاب جماعة مستقيمة معتدلة في أمر دينها والعمل به من غير غلو ولا تقصير، ¬

_ (¬1) الخازن.

لا تفرط ولا تهمل، وأصله من القصد, لأنَّ من عرف مقصودًا طلبه من غير اعوجاج عنه. وهذه الجملة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة أو البعض منهم دون البعض؟ ذكره الشوكاني. والمراد بالأمة المقتصدة من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى وسلمان وأصحابه {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم، مثل كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأبي ياسر وسائر رؤوساء اليهود {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بئس ما يعملونه من إقامتهم على كفرهم، وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم! وهو المعاندة وتحريف الحق، والإعراض عنه والإفراط في العداوة وكتمان صفة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، واجتراح المعاصي ويزعم النصارى منهم أن المسيح ابن الله ويكذبون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ويكذب اليهود بعيسى وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عيسى وسائر الأنبياء والمرسلين. والمعتدلون لا تخلو منهم أمة، لكنهم يكثرون من طور صلاح الأمة وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحلالها, ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها، وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها، وهؤلاء المعتدلون هم السابقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في مختلف العصور، ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب والمحبين للعلوم والفنون. روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن يرفع العلم" قلت: كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبنائنا؟ فقال: "ثكلتك أمك يا ابن نفير إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر الله ثم قرأ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} الآية". وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فقال: "وذلك عند ذهاب العلم" قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن

[67]

ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبنائهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أوليست هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء". ومغزى هذا: أن العبرة في الأديان هو العمل بها، والاهتداء بهديها، وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم. وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}. وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية. 67 - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} الكريم والنبي الحليم محمد - صلى الله عليه وسلم - {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}؛ أي: أوصل إلى الخلق جميع ما أنزل إليك {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: من مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك مجاهرًا به، ولا تخش في ذلك أحدًا، ولا أن ينالك من ذلك مكروه أبدًا، ولا تترك شيئًا مما أنزل إليك من ربك ثم أكد ما سلف بقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ}؛ أي: وإن لم تفعل ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك، بأن أخفيت شيئًا من ذلك في وقت من الأوقات أو كتمته، ولو إلى حين خوفًا من الأذى بالقول أو بالفعل {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؛ أي: رسالة ربك؛ أي: فحسبك جرمًا أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم كما قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}. قال ابن عباس (¬1) رضي الله تعالى عنهما: يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك .. لم تبلغ رسالتي، يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك إبلاغ البعض .. كان كمن لم يبلغ شيئًا مما أنزل الله إليه، وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتم شيئًا مما أوحي إليه. روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت: من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئًا مما أنزل إليه .. فقد كذب ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أخرجاه في ¬

_ (¬1) الخازن.

"الصحيحين" بزيادة فيه. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (رسالاته) على الجمع، وقرأ باقي السبعة على التوحيد. والحكمة (¬1) في التصريح بالأمر بالتبليغ وتأكيده بجعل كتمان بعضه كتمان كله، مع العلم بأن الرسل صلوات الله عليهم معصومون من كتمان شيء مما أمرهم الله بتبليغه، وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ، الحكمة في ذلك بالنظر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شيء عن وقته على سبيل الاجتهاد، ولولا هذا النص .. لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحي إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله. والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأي والفهم. ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحي غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم، لا يتفق مع الدين في شيء ولا يعول على ما رووه من الأخبار الضعيفة والأحاديث الموضوعة في هذا الباب، والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن وبينه، ولم يخص أحدًا بشيء من علم الدين، وأنَّه لا امتياز لأحد عن أحد في علم الدين إلا بفهم القرآن فهمًا يتوسل إليه بعلم السنة، وآثار علماء الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار في الصدر الأول، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها، ومعرفة علوم الكون، وشؤون البشر، وسنن الله في الخلق. روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: "كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ...} الآية. قال: فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب ¬

_ (¬1) المراغي.

والحجارة ويقولون: كذاب صابىء، فعرض علي عارض فقلت: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك"، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْصِمُكَ}؛ أي يحفظك يا محمَّد {مِنَ النَّاسِ}؛ أي: من فتك الكفار وقتلهم إياك، فلا يصلون إليك. مأخوذ من عصام القربة وهو ما توكأ به؛ أي: يربط به فمها من سير جلد أو خيط. والمراد بالناس الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم وفساد عقائدهم وأعمالهم، والنعي عليهم وعلى سلفهم، وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه - صلى الله عليه وسلم - بالقول أو بالفعل، وائتمروا به بعد موت أبي طالب وقرروا قتله في دار الندوة، ولكن الله عصمه منهم وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة. وإن قلت (¬1): أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد - وقد أوذي بضروب من الأذى - فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟. قلت: المراد منه أنَّه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل، ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنَّه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة فعلق بها سيفه، ونمنا معه نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتًا فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، ثلاثًا ولم يعاقبه وجلس. وفي رواية أخرى قال جابر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل من المشركين - وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة - فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، فتهدده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الشيخان في "الصحيحين"، وزاد البخاري ¬

_ (¬1) الخازن.

[68]

في رواية له إن اسم ذلك الرجل كورث بن الحارث. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة ليلة فقال: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة"، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح، فقال: "من هذا"؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما جاء بك"؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نام، متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس ليلًا حتى نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة، فقال: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. وقيل (¬1): وفي الجواب عن هذا: إن هذه الآية نزلت بعد ما شجّ رأسه في يوم أحد, لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولًا. وقد وضعت هذه الآية - وهي مكية - في سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدني، لتدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عرضةً لإيذائهم أيضًا، وأن الله تعالى عصمه من كيدهم، ولتذكر بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى لا يهدي أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون، بل يكونون خائبين، وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الله لا يرشد من كذبك وأعرض عنك. وقال ابن جرير الطبري معناه: أن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به. وقال أبو حيان: معناه إنَّما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه .. لا يهتدي أبدًا، فيكون خاصًّا. قال ابن عطية: وإما على العموم، على أن لا هداية في الكفر ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره. 68 - {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربك {يَا أَهْلَ ¬

_ (¬1) الخازن.

الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسي والنبيين، وفيه تحقير وتقليل لما هم عليه {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} وتتبعوهما فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص والعمل الصالح، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل، الذي سماه المسيح: روح الحق، وتعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه (و) حتى تقيموا (ما أنزل إليكم من ربكم) على لسان محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن المجيد، فهو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين بحسب سنن الله في الكون، فإن إقامة الكتابين لا تصح بدون إقامته {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل الكتاب أو جميع الكفار {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وهو القرآن {طُغْيَانًا}؛ أي: ضلالًا إلى ضلالهم، أو تماديًا في الجحود {وَكُفْرًا} إلى كفرهم، أو ثباتًا على الكفر، وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها. والمعنى: وعزتي وجلالي إن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين المنزل على محمَّد خاتم النبيين إلا غلوا في تكذيبهم، وكفرًا على كفرهم, لأنهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف، بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان، إذ كانوا على تقاليد وثنية، وأعمال وعادات سخيفة، فلم يكن لهم من الدين الذي يدينون به ما يقريهم إلى فهم حقيقة الإِسلام، ليعلموا أن دين الله واحد، وأن ما سبق بدء، وهذا إتمام، أما غير الكثير - وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد - فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة، فيعلمون أنَّه الحق من ربهم، وأنَّ من أنزل عليه هو النبي المبشر في كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان، واطمئنان النفس بما لديها من العلم والعرفان {فَلَا تَأسَ} ولا تحزن يا محمَّد {عَلَى} عدم إيمان {الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}؛ أي: دع عنك التأسف على هؤلاء، فإن ضرر ذلك راجع إليهم، ونازل بهم، وفي المتبعين من المؤمنين غنى لك عنهم. قال الراغب: الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم، والمعنى؛ أي: فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنَّ ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين، وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمني قومك، ومن مؤمني أهل

[69]

الكتاب، كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم. والعبرة للمسلم من هذه الآية: أن يعلم أنه لا يكون شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيم القرآن، وما أنزل إليه من ربه فيه، ويهتدي بهديه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فحجة الله على عباده واحدة، فإذا كان الله لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله تعالى .. فإنَّه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا حتى نقيم حدوده، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والناس عن مثل هذا غافلون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، ويحسبون أنهم على شيء {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. 69 - وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ. جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين المخلصين، والمراد (¬1) بالمؤمنين هنا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، أو ما يعم المخلصين وغيرهم من المنافقين {وَالَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: دخلوا في دين اليهود {وَالصَّابِئُونَ} مبتدأ، والنصارى معطوف عليه، والخبر محذوف تقديره: كائنان كذلك، وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك وقرأ (¬2) عثمان وأبي وعائشة وابن جبير الجحدري (والصابئين) بالنصب، وبها قرأ ابن كثير. وقرأ الحسن والزهري: (والصابيون) بكسر الباء وضم الياء، وهو من تخفيف الهمزة كقراءة (يستهزيون) وقرىء: (والصابُون). بإبدال الهمزة ألفًا وحذفها وقرأ القراء السبعة {وَالصَّابِئُونَ} بالرفع، وعليه مصاحف الأمصار والجمهور {مَنْ آمَنَ} من هؤلاء المذكورين {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا}؛ أي: خالصًا فيما بينه وبين ربه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من أهوال يوم القيامة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا من ورائهم من لذات الدنيا وعيشها. والخلاصة: أن الذين صدقوا الله ورسوله، والذين دخلوا اليهودية، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

والصابئين الذين يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، وهم فرقة من النصارى سموا صابئين لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، بمعنى خرجوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا ما جاءت به الرسل من عند الله، وقيل: هم فرقة أقدم من النصارى، كانوا يعبدون الكواكب السبعة، وقيل: كانوا يعبدون الملائكة - والذين دخلوا النصرانية من أخلص منهم الإيمان بما ذكر، دوامًا وثباتًا كما في المؤمنين المخلصين، أو إيجادًا وإنشاءً كما هو حال المنافقين وغيرهم من الطوائف الأخرى، فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا ورائهم من لذات الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه. وفي الآية: إيماء إلى أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، لا الوسائل منه ولا المقاصد، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها, ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها, ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، وهم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون إلا قليلًا منهم عذبوا على توحيد الله ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان، كما أن فيها ترغيبًا لمن عدا من ذكروا في الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك. فإن قلت (¬1): قد قال الله تعالى في أول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال في آخر الآية: {مَنْ آمَنَ} فما فائدة هذا التكرار؟ قلت: فائدته أنَّ المنافقين كانوا يظهرون الإِسلام ويزعمون أنهم مؤمنون، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: بألسنتهم لا بقلوبهم ثم قال: {مَنْ آمَنَ} يعني من ثبت على إيمانه، ورجع عن نفاقه منهم. وقيل: فيه فائدة أخرى وهي: أن الأيمان يدخل تحته أقسام كثيرة، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، ففائدة التكرار التنبيه على أن أشرف أقسام الإيمان هذان القسمان. ¬

_ (¬1) الخازن.

[70]

70 - قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} كلام مستأنف لبيان بعض أفعالهم الخبيثة؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أخذنا العهد المؤكد باليمين من بني إسرائيل في التوراة على أن يقروا بالتوحيد، ويعملوا سائر الأحكام المكتوبة عليهم في التوراة {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} ذوي عدد كثير ليقرروهم على مراعاة حقوق الميثاق، ويعرفوهم بالشرائع وينذروهم. وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} جملة (1) شرطية وقعت جوابًا لسؤال مقدر ناشىء من الإخبار بإرسال الرسل، كأنه قيل: ماذا فعلوا بالرسل؟ وجواب {كُلَّمَا} محذوف والتقدير: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي من الشرائع ومشاق التكليف. . عصوه وعادوه وقوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} جملة (2) مستأنفة أيضًا واقعة في جواب سؤال مقدر ناشىء عن الجواب الأول، كأنه قيل: كيف فعلوا بتلك الرسل؟ فقيل: فريقًا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بشيء من المضار، بل اكتفوا فيهم بالتكذيب، كعيسى وموسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، وفريقًا آخر منهم لم يكتفوا فيهم بالتكذيب، بل قتلوهم، كزكريا، ويحيى عليهما السلام، وقصدوا أيضًا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر (3) التكذيب بلفظ الماضي إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام، فإنهم كذبوه في كل مقام، وتمردوا على أوامره، لأنَّه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكرياء ويحيى وعيسى عليهم السلام، لكون ذلك الزمان قريبًا، فكان كالحاضر، ومحافظة للفاصلة، والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ عليهم العهد في التوراة بتوحيده، واتباع الأحكام التي شرعها لهدي خلقه، وتحليهم بحلى الفضائل ومكارم الأخلاق، وقد نقضوا هذا الميثاق كما تقدم في أول السورة، وعاملوا الرسل تلك المعاملة، وهو أنه كلما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين، إما بالتكذيب المستلزم للأعراض والعصيان،

[71]

وإما القتل وسفك الدماء. وخلاصة ذلك: أنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبًا، وأشدها عتوًا وضلالًا، حتى لم يكن يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريًا لهم بزيادة الكفر والتكذيب، وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار. 71 - ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فاتال: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الفتنة الاختبار بشدائد الأمور على ما فعلوه من المعاصي، كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب؛ أي: وظن بنو إسرائيل ظنًّا قويًّا تمكن من نفوسهم، وأيقنوا أنَّه لا تقع لهم فتنة من الله بسبب ما فعلوه من الفساد من قتل الأنبياء وتكذيبهم، أو حسبوا أن لا يوجد بهم بلاء وعذاب من الله بقتل الأنبياء وتكذيبهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه ويعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم، يجب عليهم تكذيبه وقتله، لأنَّهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهما العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {تَكَونُ} بالرفع على أن أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وحسب بمعنى علم، لأن أن معناها التحقيق، وتكون تامة كما أشرنا إليه في الحل بقولنا: إنه لا تقع فتنةً. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بنصب نون {تَكُونَ} على أنَّ أنْ هي الناصبة، وحَسِبَ بمعنى الظَّنّ كما أشرنا إليه بقولنا. وحسبوا أن لا يوجد. ثم بين نتائج ذلك الظن والحسبان فقال: {فَعَمُوا} عن إبصار الهدى، وعن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه، مصدقًا لذلك {وَصَمُّوا} عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل، وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها، ونقضوا الميثاق، وخرجوا عن هدي الدين، وظلموا أنفسهم، واتبعوا أهواءهم، وساروا في غيّهم، وانهمكوا في ضلالهم، وخالفوا أحكام التوراة، فقتلوا شعياء، وحبسوا أرمياء،

عليهما السلام، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار، فجاس البابليون بختنصر وأعوانه خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى، ونهبوا أموالهم، وسبوا أولادهم ونساءهم، وسلبوهم أموالهم وثلوا عروش ملكهم، وقتلوا منهم أربعين ألفًا ممن يقرأ التوراة، وذهبوا بالبقية إلى أرضهم بابل، فبقوا هناك دهرًا طويلًا على أقصى الذل، إلى أن أحدثوا توبة صحيحة {ثُمَّ} رحمهم الله تعالى فتابوا و {تَابَ اللَّهُ} تعالى {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على بني إسرائيل حين تابوا وأقلعوا عن الفساد، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره؛ ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم، ورجع من تفرق في الأقطار، فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا أولًا. {ثُمَّ عَمُوا} عن إبصار الحق {وَصَمُّوا} عن سماعه مرة أخرى، وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض، وقتلوا الأنبياء بغير حق، فقتلوا زكريا ويحيى، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس، ثم الروم، فأزالوا ملكهم واستقلالهم، ففعلوا بهم ما فعلوا. وفي قوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأقل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا فساد ومن ثُمّ قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. وقرأ (¬1) النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد في (عموا وصموا) وتخفيف الميم من عموا، إجراءًا لهما مجرى زكم الرجل ونحوه من الأفعال المبنية للمفعول لفظًا لا معنى، أو على أنَّ المعنى: إنَّ الله عماهم وصمهم؛ أي: رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل، واللغة الفاشية أعمى وأصم ذكره "البيضاوي". وقرأ ابن أبي عبلة: (كثيرًا منهم) بالنصب، وقرأ الجمهور بالرفع على أنَّه بدل من فاعل (عموا وصموا). ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به، وتأليب القبائل والشعوب المختلفة، لتكون يدًا واحدة للفتك به، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى، فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى، ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل، وينكل بهم أشد النكال، ويذيقهم أنواع الوبال. وفي هذه (¬1) الجملة تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير إذ تقدم قبله فعموا، والتعبير بصيغة المضارع في {يَعْمَلُونَ} لحكاية الحال الماضية، ولرعاية الفواصل؛ أي: والله بصير بما عملوا. الإعراب {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}: (الواو): استئنافية، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول قال. {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب. {وَلُعِنُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملت {غُلَّتْ} أو مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ (لعنوا). {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما قالوه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، والتقدير: ولعنوا بقولهم المذكور. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على مقدر يقتضيه المقام تقديره: ليس الأمر كما قالوا بل يداه مبسوطتان، وهو في غاية الجود. {يُنْفِقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم شرط غير جازم, لأنَّ شرط الجزم بها عند الكوفيين اتصال ما بها في محل النصب على ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التشبيه بالمفعول به مبني على الفتح. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} ومفعول المشيئة محذوف تقديره، كيف يشاء أن ينفق، وجواب الشرط محذوف أيضًا تقديره: كيف يشاء أن ينفق ينفق، وجملة الشرط مستأنفة وعبارة "الفتوحات" هنا قوله: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} في (¬1) هذه الجملة وجهان: أحدهما: وهو الظاهر أنه لا محل لها من الإعراب؛ لأنَّها مستأنفة. والثاني: أنَّها في محل رفع؛ لأنَّها خبر ثانٍ ليداه، و {كَيْفَ} في مثل هذا التركيب شرطية، نحو كيف تكون .. أكون، ومفعول المشيئة محذوف، وكذلك جواب الشرط أيضًا محذوف، مدلول عليه بالفعل المتقدم على {كَيْفَ}. والمعنى: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، نظير قوله: ويبسطه في السماء كيف يشاء أن يبسطه يبسط، فحذف مفعول يشاء، وهو أن وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول يشاء ويريد، لا يذكران إلا لغرابتهما, ولا جائز أن يكون ينفق المتقدم عاملًا في كيف؛ لأنَّ لها صدر الكلام، وماله صدر الكلام لا يعمل فيه إلا حرف الجر أو المضاف. اهـ. "سمين". {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}. {وَلَيَزِيدَنَّ}: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب. {كَثِيرًا}: مفعول أول. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل. {أُنْزِلَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} وكذلك متعلق به الجار والمجرور في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} وجملة {أُنْزِلَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {طُغْيَانًا} مفعول ثان (ليزيدن). {وَكُفْرًا}: معطوف عليه، وجملة (يزيدن) جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة. ¬

_ (¬1) الجمل.

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}. {وَأَلْقَيْنَا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {بَيْنَهُمُ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {وَأَلْقَيْنَا}. {الْعَدَاوَةَ}: مفعول به. {وَالْبَغْضَاءَ}: معطوف عليه. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}؛ أي: حالة كونهما مستمرين إلى يوم القيامة. {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {أَوْقَدُوا نَارًا}: فعل وفاعل ومفعول. {لِلْحَرْبِ}: صفة لـ {نَارًا} أو متعلق بـ {أَوْقَدُوا}، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما لا محل لها من الإعراب. {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب (كلما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (كلما): من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {وَيَسْعَوْنَ} فعل وفاعل {فِي الْأَرْضِ} متعلق به {فَسَادًا} إما مفعول لأجله؛ أي: لأجل الإفساد، أو مفعول مطلق؛ أي: سعي فساد أو حال؛ أي: يسعون مفسدين والجملة الفعلية مستأنفة. {وَاللَّهُ} مبتدأ وجملة {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} خبره، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}. {وَلَوْ}: (الواو): استئنافية. (لو): حرف شرط غير جازم. {أنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {أَهْلَ الْكِتَابِ}: اسمها ومضاف إليه. {آمَنُوا}: فعل وفاعل. {وَاتَّقَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} وجملة {آمَنُوا}: في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أن أهل الكتاب مؤمنون ومتقون، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إيمان أهل الكتاب واتقاؤهم لله، وجملة الفعل المحذوف مع فاعله فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. {لَكَفَّرْنَا}: (اللام): رابطة لجواب (لو). (كفرنا): فعل وفاعل. {عَنْهُمْ} متعلق به. {سَيِّئَاتِهِمْ}: مفعول به مضاف إليه، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) الشرطية مستأنفة. {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ}:

الواو عاطفة. (أدخلناهم): فعل وفاعل ومفعول أول. {جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، وجملة (أدخلناهم): معطوفة على جملة (كفرنا) على كونها جوابًا لـ (لو) الشرطية، لا محل لها من الإعراب. {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}. {وَلَوْ}: (الواو): استئنافية أو عاطفة. (لو): حرف شرط. {أَنَّهُمْ} (أنَّ): حرف نصب، والهاء: في محل النصب اسمها. {أَقَامُوا}: فعل وفاعل. {التَّوْرَاةَ}: مفعول به. {وَالْإِنْجِيلَ}: معطوف عليه. {وَمَا} الواو: عاطفة. (ما): موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على {التَّوْرَاةَ}. {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (ما). {إِلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من (ما) الموصولة، أو من الضمير في {أُنْزِلَ} وجملة (أُنزِلَ) صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة {أَقَامُوا}: في محل الرفع خبر أن تقديره: ولو أنَّهم مقيمون التوراة وما عطف عليه، وجملة (أنَّ) في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: ولو ثبت إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم، وجملة الفعل المحذوف فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب. {لَأَكَلُوا} (اللام): رابطة لجواب (لو). (أكلوا): فعل وفاعل، والجملة جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة (لو) من فعل شرطها وجوابها مستأنفة، أو معطوفة على جملة (لو) الأولى. {مِنْ فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ (أكلوا) أو صفة لمحذوف مفعول {لَأَكَلُوا} تقديره: لأكلوا رزقًا كائنًا من فوقهم، أو مأخوذًا من فوقهم. ذكره أبو البقاء. {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {أُمَّة}: مبتدأ مؤخر. {مُقْتَصِدَةٌ}: صفة لـ {أُمَّةٌ}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَكَثِيرٌ}: مبتدأ. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة له. {سَاءَ}: فعل ماض بمعنى بئس من أفعال الذم. {مَا}: موصولة في محل الرفع فاعل. وجملة

{يَعْمَلُونَ}: صلة لما والعائد محذوف تقديره: ما يعملونه، وجملة {سَاءَ}: من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر المبتدأ، ويجوز أن تكون {مَا}: مصدرية والتقدير: ساء عملهم؛ والجملة الإسمية معطوفة على جملة {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}. قال أبو حيان (¬1): واختار الزمخشري في ساء: أن تكون التي لا تتصرف، فإنَّ فيه التعجب، كأنّه قيل: ما أسوأ عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه، واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة، تقول: ساء الأمر يسوء، وأجاز أن تكون غير المتصرفة، فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله: {سَاءَ مَثَلًا}: فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول؛ أي: ساء ما يعملون بالمؤمنين وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز؛ أي: ساء عملًا ما يعملون. انتهى. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}. {يَا أَيُّهَا}: (ياء): حرف نداء. (أي): منادى نكرة مقصودة، (ها): حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الرَّسُولُ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {بَلِّغْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {بَلِّغْ}. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّكَ}: حال من {مَا} أو من نائب فاعل {أُنْزِلَ} وجملة {أُنْزِلَ}: صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ}: (الواو): استئنافية. (إن): حرف شرط جازم. {لَم}: حرف جزم. {تَفْعَلْ}: مجزوم بلم وفاعل وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ومفعول تفعل محذوف تقديره: وإن لم تفعل ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك .. فما بلغت رسالته، والجملة الفعلية في محل الجزم {بإن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَمَا}: (الفاء): رابطة لجواب (إن) الشرطية وجوبًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{ما}: نافية. {بَلَّغْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {رِسَالَتَهُ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة (إن) الشرطية مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَعْصِمُكَ} خبره. {مِنَ النَّاسِ}: متعلق به، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا}. نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْقَوْمَ} مفعول به. {الْكَافِرِينَ}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ}: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإنْ شئت قلت: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَسْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى شَيْءٍ}: جار ومجرور خبر ليس، وجملة ليس جواب النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى: إلى، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى إقامة التوراة، الجار والمجرور متعلق بليس. {وَالْإِنْجِيلَ}: معطوف على {التَّوْرَاةَ} {وَمَا أُنْزِلَ}: معطوف على التوراة أيضًا. {إِلَيْكُمْ} متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّكُمْ}: متعلق بـ {أُنْزِلَ} أو حال من (ما) أو من ضمير {أُنْزِلَ}. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. {وَلَيَزِيدَنَّ}: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. (يزيدن): فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {كَثِيرًا}: مفعول أول. {مِنْهُمْ}: صفة له. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع

فاعل (يزيدن). {أُنزِلَ}: صلة لما أو صفة لها. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {مِنْ رَبِّكَ}: حال من {مَا} أو من ضمير {أُنْزِلَ} {طُغْيَانًا} مفعول ثانٍ {وَكُفْرًا} معطوف عليه، وجملة (يزيدن) جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة، {فَلَا تَأسَ} (الفاء) فاء الفصيحة، لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنَّه يزيد ما أنزل إليك من ربك كثيرًا منهم طغيانًا وكفرًا، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك. (لا تأس): (لا): ناهية وجازمة. {تَأسَ}: فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {عَلَى الْقَوْمِ} متعلق به {الْكَافِرِينَ} صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها. {آمَنُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ}: في محل النصب معطوف على {الَّذِينَ} الأول. {هَادُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَالصَّابِئُونَ} مبتدأ. {وَالنَّصَارَى}: معطوف عليه، والخبر محذوف تقديره: كائنان كهؤلاء المذكورين قبلهم، والجملة الإسمية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين اسم (إن) وخبرها، أو بين البدل والمبدل منه. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب بدل من اسم {إنَّ} وما عطف عليه بدل بعض من كل، والرابط محذوف وتقديره: من آمن منهم. {آمَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول، {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَ}. {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة. {الْآخِرِ}: صفة لـ {وَالْيَوْمِ}. {وَعَمِلَ}: معطوف على {آمَنَ}. {صَالِحًا}: مفعول به لـ {وَعَمِلَ} أو مفعول مطلق له. {فَلَا خَوْفٌ} (الفاء): رابطة لخبر إنَّ باسمها, لما في اسمها من العموم. (لا): نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ}: اسمها مرفوع. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق

بمحذوف خبر (لا) تقديره: فلا خوف كائنًا عليهم. {وَلَا هُمْ} (الواو): عاطفة. (لا): نافية ملغاة. (هُمْ): مبتدأ. وجملة {يَحْزَنُونَ}: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {فَلَا خَوْفٌ} على كونها خبرًا لـ {إِنَّ} وجملة (إنَّ) من اسمها وخبرها مستأنفة. وفي المقام تسعة أوجه من الإعراب ذكرها "السمين"، فلتراجعه إن شئت منها {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}: خبر {إِنَّ} فيه محذوف معلوم مما بعده تقديره: إنَّ الذين آمنوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَالَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ. {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى}: معطوفان عليه. {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}: بدل من المبتدأت الثلاث. {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: خبر للمبتدأت الثلاث، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {إِنَّ}. {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}. {لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم، (قد): حرف تحقيق. {أَخَذْنَا}: فعل وفاعل. {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَأَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَخَذْنَا}. {إِلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق به. {رُسُلًا}: مفعول (أرسلنا). {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب. {جَاءَهُمْ رَسُولٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا} وجواب {كُلَّمَا} محذوف جوازًا دل عليه ما بعده تقديره: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم .. عصوه وعادوه، وجملة {كُلَّمَا} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب صفة لـ {رُسُلًا} والرابط ضمير منهم الذي قدرناه. {بِمَا}: جار ومجرور صفة لـ {رَسُولٌ} تقديره: رسول متلبس بما. {لَا}: نافية. {تَهْوَى} فعل مضارع. {أَنْفُسُهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لا تهواه أنفسهم. {فَرِيقًا}: مفعول مقدم جوازًا لـ {كَذَّبُوا}. {كَذَّبُوا}: فعل

وفاعل، والجملة من الفعل والفاعل مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ فأجاب بقوله: فريقًا كذبوا. {وَفَرِيقًا}: مفعول مقدم ليقتلون. {يَقْتُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَرِيقًا كَذَّبُوا}. ونص عبارة أبي السعود هنا (¬1): {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ}: جملة شرطية مستأنفة، وقعت جوابًا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق، وإرسال الرسل، وجواب الشرط محذوف كأنَّه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟. فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي والفساد - من الأحكام الحقة والشرائع .. عصوه وعادوه. وقوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}: جواب مستأنف عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال، كأنَّه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقًا منهم كذبوا من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخر من المضار، وفريقًا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم، بل قتلوهم أيضًا. اهـ. {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}. {وَحَسِبُوا} (الواو): استئنافية، (حسبوا): فعل وفاعل. {أَلَّا} (أن): مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وحسبوا أنَّه لا تكون فتنة، إنْ كان حسب بمعنى علم، أو مصدرية ناصبة للمضارع، إنْ كان حسب بمعنى ظن، (لا): نافية. {تَكُونَ}: فعل مضارع تام بمعنى تقع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم على التقدير الأول، ومنصوب بأن المصدرية على التقدير الثاني. {فِتْنَةٌ}: فاعل، وجملة (لا تكون) من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر (إن) المخففة، وجملة (إنْ) المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب على التقدير الأول؛ أي: وعلموا عدم. وقوع فتنة، وجملة (حسبوا) من الفعل والفاعل مستأنفة، وكذلك على التقدير الثاني تكون جملة (لا تكون فتنة) صلة ¬

_ (¬1) أبو السعود.

(أنْ) المصدرية (أن) مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي (حسبوا)؛ أي: وظنوا عدم وقوع فتنة. فائدة: وحاصل (¬1) استعمال (أن): أنها إن وقعت بعد مادة العلم وما في معناه كاليقين .. تعليق الرفع بعدها, وتعين أنها مخففة من الثقيلة، وإن وقعت بعد مادة غيره مما لا يحتمله كالشك والظن .. تعين النصب بعدها، وتعين أنها المصدرية، وإن وقعت بعد ما يحتمل العلم وغيره كالحسبان كما هنا .. جاز فيما بعدها الوجهان, فالرفع على جعل الحسبان بمعنى العلم، والنصب على جعله بمعنى الظن. وعبارة السمين هنا: والحاصل: أنَّه متى وقعت أن بعد علم .. وجب أن تكون المخففة، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلم ولا شك .. وجب أن تكون الناصبة، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك .. جاز فيه وجهان باعتبارين، إن جعلناه يقينًا .. جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها، وإنْ جعلناه شكًّا .. جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها. والآية الكريمة من هذا الباب، وأن مع صلتها على كلا التقديرين المخففة الناصبة سادة مسد المفعولين عند جمهور البصريين, وسادة مسد الأول فقط عند أبي الحسن. والثاني محذوف والتقدير: حسبوا عدم الفتنة كائنًا أو حاصلًا. وحكى بعض النحويين أنَّه ينبغي لمن رفع أن يفصل أن من لا في الكتابة, لأن هناك الضمير فاصلة في المعنى، ومن نصب لم يفصل لعدم الحائل بينهما. {فَعَمُوا} الفاء: حرف عطف وتعقيب. {عَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جمله (حسبوا). {وَصَمُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {عَمُوا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، وعطف بثم الدالة على التراخي دلالة على أنهم تمادوا في الضلال إلى وقت التوبة. {تَابَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {عَمُوا} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخي {عَمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} {وَصَمُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {عَمُوا}. {كَثِيرٌ}: بدل من الواو في {عَمُوا وَصَمُّوا} بدل بعض من كل. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِير}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وفي "الكرخي": وهذا الإبدال في غاية البلاغة، فإنه لما قال: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} .. أوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} علم أن هذا الحكم حاصل للكثير منهم لا للكل. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بَصِيرٌ}: خبره. {بِمَا يَعْمَلُونَ}: جار ومجرور وصلة الموصول متعلق ببصير والجملة الإسمية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} اليد مؤنثة أصله يَدْيٌ حذفت لامه اعتباطًا؛ أي: من غير صلة تصريفية طلبًا للتخفيف بدليل جمعه على الأيدى. {مَغْلُولَةٌ}: اسم مفعول غله يغله، من باب شد إذا وضع في يده أو عنقه الغلّ، والغل بضم الغين طوق من حديد أو جامد يجعل في اليد أو في العنق، يجمع على أغلال وغلول، وكونها مغلولة كناية عن كونها محبوسة مقبوضة ممسوكة عن البذل والرزق والعطاء، فنسبوا إلى الله البخل والقبض تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فمراد اليهود لعنة الله عليهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: أن الله تعالى بخيل، فأجابهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: دعاء عليهم بالبخل؛ أي: أمسكت وانقبضت عن العطاء {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يقال: بسط اليد يبسط بسطًا، من باب نصر إذا مدها, وبسط السيف إذا سله، وبسط الثوب نشره، ويده بسط بضم أوله وسكون ثانيه وبسط بضمهما ويد مبسوطة؛ أي: مفتوحة مطلقة، وبسط اليد هنا كناية عن كثرة العطاء والبذل والإحسان. {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} والطغيان مصدر طغا الكافر يطغى، من باب سعى يسعى، أو طغي يطغى، من باب رضي يرضى إذا غلا في الكفر. والطغيان الغلو والتمرد في الكفر والغي والضلال، والعامة تقول طغاه الشيطان، أي: صرفه عن طريق الخير، وطغا الرجل إذا أسرف في الظلم والمعاصي. ويقال: كفر الرجل بالخلق يكفر من باب نصر، كَفْرًا كُفْرًا وكُفورًا وكُفرانًا إذا نفاه وعطَّله، وكفر نعم الله وبنعم الله إذا جحدها وتناساها، وذلك ضد الشكر فعطف الكفر على الطغيان من عطف العام على الخاص, لأن الطغيان الغلو في الكفر.

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}؛ أي: أوقعنا بينهم العداوة، والعداوة: الخصومة والمباعدة، والعدو: الخصم، وهو ضد الصديق، وهو من يفرح لحزنك ويحزن لفرحك، ويقال: عدا عليه يعدو من باب دعا، عَدْوًا وعُدْوانًا وعداوة إذا ظلمه، والبغضاء وكذا البَغاضةُ البُغْضُ الشديد، والبغض ضد الحب. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ} والحرب ضد السلم فهي تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب، ولو بغير قتل وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل، والكثير من الحرب التأنيث. وفي "المختار" الحرب مؤنثة وقد تذكر {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ} يقال: أقام الشيء إقامة وقامة إذا أدامه، وأقام بالمكان دام فيه واتخذه وطنًا، وأقام الحق إذا أظهره، وإقامة التوراة العمل بما فيها على أتم الوجوه، سواء في ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان، وعمل الجوارح والقوى البدنية {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}؛ أي: لوسع الله عليهم موارد الرزق. {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}: والمقتصدة المعتدلة في أمر الدين، فلا تغلوا بالإفراط، ولا تهملوا بالتقصير. وفي "الفتوحات" قوله: مقتصدة؛ أي: عادلة لا غالية ولا مقصرة، فالاقتصاد في الشيء هو الاعتدال فيه، وقوله: {مُقْتَصِدَةٌ} اسم فاعل من اقتصد الخماسي، يقال: اقتصد في الأمر ضد أفرط، وفي النفقة توسط بين الإفراط والتقتير، واقتصد في أمره استقام {فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يقال: أسى يأسى أسًا من باب رضي يرضى إذا حزن، فهو آس وأسيان، وهي آسية وأسيانة {وَالصَّابِئُونَ} جمع صابىء يقال: صبؤ يصبؤ من باب فعل المضموم، صبأ وصبؤًا إذا خرج عن دين إلى دين آخر، أو تدين بدين الصابئين فهو صابىء، يجمع على صائبين وصابئة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مَغْلُولَةٌ} لأنه استعار الغل للبخل، فاشتق من الغل بمعنى البخل مغلولة بمعنى بخيلة على طريقة الاستعارة

التصريحية التبعية, لأنها جرت في المشتقات بعد جريانها في المصادر، وفي قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. لأنه استعار البسط للجود، فاشتق من البسط بمعنى الجود، مبسوطتان بمعنى منفقتان. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}. و {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} , لأن اليد لما كانت آلة لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه .. أسندوا البخل والجود إليها مجازًا، إسنادًا للشيء إلى سببه. وقال أبو حيان (¬1): والذي يظهر أن قولهم {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} استعارة عن إمساك الإحسان الصادر عن المقهور، على الإمساك، ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة، ولا يغل إلا المقهور فجاء قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء بغل الأيدي، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضرر ينزل بهم. ومنها: المقابلة في قوله: {غُلَّتْ} فإنَّه في مقابلة ما تضمنه قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. وليست هذه المقابلة بدعا منهم فقد قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} لعائن الله عليهم وعلى سائر الكفرة. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} لأنَّ الإلقاء حقيقة في الأجسام، وفي قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ}، استعير فيه إيقاد النار الحسية لاختلاط الحرب, لأن الحرب لا نار لها، وإنَّما شبهت بالنار؛ لأنَّها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها، وفي قوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}. لأنَّه استعارة لإلقاء الرعب في قلوبهم. وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين، والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، ومنها الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. لإفادة العموم. وفي قوله {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر. ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ}. ليعم سائر الكتب الإلهية. ومنها: الاستعارة في قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} لأنه (¬1) استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت، حكاه الطبري والزجاج. ومنها: المقابلة في قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} لأنَّ المراد بالأمة الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ}. ومنها: التشريف في قوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}: لأنَّه ناداه بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني. ومنها: التحقير في قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} لأنَّ في هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه. ومنها: التلطف في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} لأنَّه أضاف الاسم الجليل إليهم تلطفًا معهم في الدعوة. ومنها: الإجمال الذي يقصد به التفصيل في قوله حتى {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ}. إلخ لأنه جمع في الضمير، والمقصود منه التفصيل؛ أي: حتى يقيم أهل التوراة، وأهل الإنجيل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. عبر بصيغة المضارع بدل الماضي بما عملوا لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها الفظيعة ومراعاة لرؤوس الآيات. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}. المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، وبعث فيهم رسلًا، وبين عتوهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم مع أنبيائهم، وعدد قبائح اليهود ومخازيهم .. شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة، وآرائهم الزائفة، ثم ذكر أن المسيح يكذبهم في ذلك فحكى عنه، ثمَّ رد عليهم ما قالوه بلا روية ولا فكر ولا بصيرة حيث قال: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}. ثمَّ توعدهم على مقالة التثليث حيث قال: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. ثم تعجب من إصرارهم

[72]

على التثليث بعد ما ظهرت البينات حيث قال: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ}. ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل حيث قال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وأقام الدليل على ذلك، ثم أبطل مقالة النصارى في عيسى عليه السلام بالحجة والدليل حيث قال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}. قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لمَّا بين غلوهم وضلالهم وإضلالهم .. ذكر أسباب ذلك، وأرشد إلى ما أخذهم به، ثم بين سبحانه أسباب استمرارهم على العصيان وتعدي الحدود حيث قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}. قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...}. الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر لنبيه أحوال أسلافهم .. ذكر له هنا أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم. التفسير وأوجه القراءة 72 - ولما حكى الله سبحانه وتعالى عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق، وقتلهم للأنبياء، وتكذيبهم الرسل، وغير ذلك .. شرع في الإخبار عن كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد، فقال تعالى: وعزتي وجلالي {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} واعتقدوا {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} والمسيح هو الله، وهذا قول اليعقوبية والملكانية من النصارى, لأنَّهم يقولون: إن مريم ولدت إلهًا، ولأنهم يقولون: إن الإله جل وعلا حلَّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، فصار عيسى إلهًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا: لقد كفروا وضلوا ضلالًا بعيدًا؛ إذا هم في إطرائه ومدحه غلوا أشد من غُلُوّ اليهود في الكفر به وتحقيره وقولهم عليه وعلى أمه الصديقة بهتانًا عظيمًا، وقد صارت هذه المقالة أعني مقالة الاتحاد هي المقالة الشائعة عندهم، ومن عدل عنها عد مارقًا من الدين.

{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} عيسى؛ أي: قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، والحال إنَّه قد قال لهم عيسى ابن مريم عند مبعثه إليهم {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}؛ أي: وحّدوه بالعبادة؛ أي: قال لهم ضد ما يقولون، فقد أمرهم بعابدة الله وحده معترفًا بأنه ربه وربهم، ودعا بني إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة الله وحده، ولا يزال هذا الأمر محفوظًا في الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه، فدين المسيح مبني على التوحيد المحض، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله. وفي هذه المقالة تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى، ذلك لأن عيسى عليه السلام لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية والإقرار لله بالربوبية، وأن دلائل الحدوث ظاهرة عليه. وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ الشأن والحال {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} ويمت عليه؛ أي: إنَّ كل من يشرك باللهِ شيئًا من المخلوق من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك، فيجعله ندًّا له أو متحدًا به أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر، أو يزعم أنه يقربه إليه زلفى، فيتخذه شفيعًا ليؤثر في إرادته تعالى وعلمه، ويحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}؛ أي: فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب له النار، وحرم عليه دخول الجنة في سابق علمه، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله {وَمَأوَاهُ} ومسكنه في الآخرة {النَّارُ} الهائلة أعاذنا الله تعالى منها؛ أي: فلا مأوى له إلا النار التي هي دار العذاب والذل والهوان. والظاهر (¬1): أن هذه الجملة من كلام المسيح، فهو داخل تحت القول، وفيه أعظم ردع منه عن عبادته، إذ أخبر أنَّه من عبد غير الله منعه دار من أفرده بالعبادة، وجعل مأواه النار {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وقيل: هي من كلام الله تعالى مستأنف أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد. وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حرم على النار من قال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[73]

لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله". {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} لأنفسهم بشركهم بالله {مِنْ أَنْصَارٍ} أي ناصر ينصرهم ويمنعهم من دخول عذاب الله، ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} إما من كلام الله تعالى، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى، وتقولهم عليه فلا ناصر لهم على ذلك، وإمَّا من كلام عيسى. والظاهر (¬1) أنه من كلام عيسى، أخبرهم أنَّه من تجاوز الحد، ووضع الشيء في غير موضعه: فلا ناصر له ولا مساعد فيما افترى وتقول، وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقه من دعوى أنَّه إله وأنه ظلم، إذ جعلوا ما هو مستحيل في العقل واجبًا وقوعه، أو فلا ناصر له ولا منجي له من عذاب الله تعالى في الآخرة، ذكره أبو حيان. وصيغة الجمع في قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ}، للإشعار بأنَّ نصرة الواحد غير محتاج إلى التعرض لنفيه لشدة ظهوره، وإنما ينفى بالتعرض لنفي نصرة الجمع، والمراد بالظالمين هنا المشركون، بقرينة ما قبله، إذ الظالمون من المسلمين لهم ناصر وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - لشفاعته لهم يوم القيامة. انتهى "كرخي". 73 - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}؛ أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى أحد آلهة ثلاثة، وهذا قول المرقوسية والنسطورية من النصاوى. وفي تفسير قولهم هذا طريقان: أحدهما: وهو قول أكثر المفسرين: أنهم أرادوا بهذه المقالة أن الله تعالى ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، وأن الألوهية مشتركة بينهم، وأن كل واحد منهم إله. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى للمسيح: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}. ففي قوله: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}: حذف تقديره: إن الله أحد آلهة ثلاثة، أو واحد من ثلاثة آلهة، قال الواحدي: ولا يكفر من قال: إن الله ثالث ثلاثة، ولم يرد به أنه ثالث آلهة ثلاثة، لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، ويدل عليه قوله تعالى في سورة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ...} الآية. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". والطريق الثاني: ما حكاه المتكلمون عن النصارى: أنَّهم يقولون: إنَّ الإله جوهر واحد مركب من ثلاثة أقانيم - أجزاء - أب وابن وروح قدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن واختلاط الماء بالخمر، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد، وهذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدًا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فسادًا ولا أظهر بطلانًا ولا أقبح لفظًا من مقالة النصارى: الله ثالث ثلاثة، عليهم لعائن الله تعالى، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، ولا يجوز النصب، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة. واعلم: أن النصارى أخذت عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين، ليست في أصل دينهم، ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم ما قالوه بلا روية ولا فكر ولا بصيرة فقال: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ}؛ أي: وما من إله في الوجود {إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: إلا إله موصوف بالوحدانية في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا، يعني: إنَّه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية - لا ثاني له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا صاحبة له - إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الإله الذي لا تركيب في ذاته ولا في صفاته، فليس ثم تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أجناس وأنواع، ولا تعدد جزئيات وأجزاء، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة والحال أنه لا إله موجود إلا الله. ثم توعدهم على هذه المقالة فقال: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا}؛ أي: لم ينته النصارى {عَمَّا يَقُولُونَ}؛ أي: عن هذه المقالة الخبيثة، يعني مقالة التثليث، ويتركوه ويعتصموا بعروة التوحيد، ويعتقدوه، وعزتي وجلالي {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط والخازن.

[74]

كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: ليصيبن الذين أقاموا وداموا على هذا القول الخبيث، وعلى هذا الدين الذي ليس بمرضي عذاب وجيع في الآخرة، وإنَّما قال تعالى {مِنْهُمْ} لعلمه السابق أن من النصارى من سيؤمن ويخلص ويترك هذا القول ويعلم أنه فاسق، وإنَّما (¬1) أظهر في موضع الإضمار لأن الأصل ليمسنهم، تكريرًا للشهادة على كفرهم في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ} وتنبيهًا على أن العذاب على من دام على الكفر ولم ينقلع عنه. وفي الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب وأناب إلى الله تعالى، ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها. وقال ابن جرير: والمعنى ليمسن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وكل كافر يسلك سبيلهم عذاب أليم. 74 - ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات، وقامت عليهم الحجج المبطلة له، والنذر بالعذاب المرتب عليه، وندب سائرهم إلى التوبة من هذه المقالة الخبيثة فقال: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} والاستفهام فيه استفهام تعجيب وتوبيخ، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيسمعون هذه الشهادات المكررة، والتشديدات المقررة، ويثبتون على الكفر، فلا يتوبون ويرجعون إلى توحيد الله وطاعاته، ويستغفرونه عما وقع لهم من تلك العقائد الزائغة، والأقاويل الباطلة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى غفور لمن تاب وآمن، رحيم لمن مات على التوبة. والمعنى (¬2): أيسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد، واستغفار الله عما فرط منهم، والحال أن ربهم واسع الرحمة، عظيم المغفرة، يقبل التوبة من عباده، ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات. 75 - ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} كلام (¬1) مستأنف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولًا إلى أشرف مما لهما من نعوت الكمال التي بها صارا من جملة أكمل أفراد الجنس، وآخرًا إلى الوصف المشترك بينهما، وبين جميع أفراد البشر، بل أفراد الحيوان استنزالًا لهم بطريق التدريج من رتبة الإصرار على ما تقولوا عليهما، وإرشادًا لهم إلى التوبة والاستغفار؛ أي: هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها {قَدْ خَلَتْ} ومضت {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وذهبت وفنيت، فليس بإله، كما أن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة، وقد أتى عيسى بالمعجزات الدالة على صدقه، كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم. أي: ما هو (¬2) إلا رسول من جنس الرسل الذين مضوا من قبله، جاء بالآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فليس بإله كالرسل الخالية قبله، فإنهم لم يكونوا آلهة، فإن كان الله قد أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يد عيسى عليه السلام .. فقد فلق البحر، وأحيا العصا، وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام، وهو أعجب منه، وإن كان الله خلقه من غير أب .. فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب منه. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}؛ أي. وما أمه إلا صديقة؛ أي: تلازم الصدق أو تصدق الأنبياء وتبالغ في بعدها عن المعاصي، وفي إقامة مراسم العبودية، فما هى إلا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، ويبالغن في الاتصاف به، فما رتبه عيسى إلا رتبة نبي وما رتبة أمه إلا رتبة صحابي، فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواص الناس، فإن أعظم صفات عيسي عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية، وذلك لا يستلزم لهما الألوهية، أما حقيقتهما النوعية والجنسية .. فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما {كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ} ويشربان الشراب كسائر أفراد البشر، ليقيما بنيتهما، ويمدا حياتهما، لئلا ينحل بدنهما ويهلكا، وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضلات من البول والغائط، فلا يمكن أن يكون كل منهما ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراح.

[76]

إلهًا خالقًا، ولا ربًّا معبودًا، وبالجملة: فإنَّ فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه. ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه، ويحتقر جنسه، ويرفع بعض المخلوقات المساوية له في الماهية، وبعض المشخصات الممتازة بميزات عرضية، فيجعل نفسه عبدًا لها ويسمّيها آلهة أو أربابًا. قال أبو حيان: وهذه (¬1) الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب. وبعد أن بين حالهما بيانًا لا يحوم حوله شائبة من الريب .. تعجب من حال من يدعى لهما الربوبية، ولا يرعوي عن غيه وضلاله، ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن - ضعيف - الرأي والخطأ فقال: {اْنظُرْ} يا محمد متعجبًا أو أيها السامع نظرة عقل أو فكر {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ}؛ أي: كيف نبين لهؤلاء النصارى (الآيات)؛ أي: الدلائل والبراهين البالغة أقصى الغايات في الوضوح على بطلان ما يدعون في أمر المسيح وأمه {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: أي: ثمّ انظر بعد النظر الأول كيف يصرفون عن تلك الآيات، ويعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم، وصارت أفئدتهم هواءًا؛ أي: كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها، فالله بين لهم الآيات بيانًا عجبًا، وإعراضهم عنها أعجب منها. والاستفهام في الموضعين للتعجب، وفي تكرير (¬2) الأمر بقوله: {انْظُرْ}، {ثُمَّ انْظُرْ}. دلالة على الاهتمام بالنظر، وأيضًا فقد اختلف متعلق النظرين، فإن الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات وبياناها بحيث إنَّه لا شك فيها ولا ريب، والأمر الثاني بالنظر في كونهم صرفوا عن تدبرها والإيمان بها، أو بكونهم قلبوا عما أريد بهم. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله: {ثُمَّ انْظُرْ}؟ قلت: معناه ما بين التعجبين، يعني أنَّه من باب التراخي في الترتب؛ لا في الأزمنة ونحوها. 76 - {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أمر له - صلى الله عليه وسلم - بإلزامهم وتبكيتهم بعد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

تعجبه من أحوالهم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء النصارى وأمثالهم، ممن عبدوا غير الله تعالى: أتعبدون من دون الله؛ أي: متجاوزين عبادته وحده {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} تخشونه أن يعاقبكم به إذا أنتم تركتم؛ أي: ما لا يقدر أن يضركم إن تركتم عبادته {وَلَا} يملك لكم {نَفْعًا} ترجون أن يجازيكم به إذا عبدتموه؛ أي: وما لا يقدر أنْ ينفعكم إنْ عبدتموه، وهو عيسى عليه السلام، يعني (¬1): لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا يقدر أنْ ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به، من صحة الأبدان، وسعة الأرزاق، فإنَّ الضار والنافع هو الله تعالى، لا من تعبدون من دونه، ومن لا يقدر على النفع والضر لا يكون إلهًا، وما (¬2) يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى، فكأنه لا يملك منه شيئًا. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرًّا ولا نفعًا، وصفة الرب أن يكون قادرًا على كل شيء، لا يخرج مقدور عن قدرته، وفي هذا إيماء (¬3) إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل، فإن اليهود - وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء - لم يقدر على الإضرار بهم، وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلهًا؟. وإنَّما قال: (ما)، ولم يقل: (من) نظرًا إلى ما هو عليه في ذاته من النوع الإنساني، توطئة لنفي القدرة عنه رأسًا، وتنبيهًا على أنَّه من هذا الجنس، ومن كان له حقيقة يقبل المجانسة والمشاركة فبمعزلٍ عن الألوهية. وقيل: عبر بـ (ما) تنبيهًا على أول أحواله، إذ مرت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهًا. وإنَّما قدم التفسير .. لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم وكفركم ومقالتكم في عيسى {الْعَلِيمُ} بضمائركم وعقيدتكم في عيسى فيجازيكم عليها، ولا يخفى ما في هذه الجملة من التهديد، وهي (¬4) متعلقة بـ {أَتَعْبُدُونَ}؛ أي: أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولونه، ويعلم ما تعتقدونه. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي. (¬4) النسفي.

[77]

77 - ولما كان قول النصارى في المسيح من أشد أنواع الغلو في الدين بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب أن يكون لهم من التعظيم، وكان إيذاء اليهود له وسعيهم في قتله من الغلو في الجمود على تقاليد الدين التي ابتدعوها، واتباع أهوائهم بلا علم، وكان هذا الغلو هو الذي دعاهم إلى قتل زكريا ويحيى .. قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لأهل الكتاب المعاصرين لك {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: يا معشر اليهود والنصارى {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}؛ أي: لا تخرجوا عن الحد في عيسى غلوًّا {غَيْرَ الْحَقِّ}؛ أي: خروجًا باطلًا غير الحق بالإفراط والتفريط فيه، ولا تجاوزوا عن الحد اللائق به، وهو كونه عبد الله ورسوله، فالغلو مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط في الحق، وذلك أن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، فمجاوزة الحد والتقصير مذمومان في الدين، فإنَّ الغلو في الدين نوعان: غلو حق: وهو أن يجتهد في تحصيل حججه وتقريرها، كما يفعله الأصوليون والمتكلمون أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل: وهو أن يتكلف في تقرير الشبه، ويتجاوز الحق، ويعرض عن الأدلة، وذلك يكون بالإفراط أو التفريط، فغلو النصارى بالإفراط في رفع عيسى وتعظيمه، فقالوا: إنه إله، وغلو اليهود بالتقصير في حقه والمبالغة في حطه، فقالوا: إنه ابن زنا، وإنه كذاب، وكلا الغلوين مذموم. أي: قل لهم يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا في دينكم واعتقادكم في عيسى عليه السلام الحد الذي حده الله فيه، ولا تخرجوه عن القدر الذي أعطاه الله إياه، وهو كونه عبد الله ورسوله تجاوزًا باطلًا غير الحق بالإفراط والتفريط فيه {وَ} قل يا محمد أيضًا لليهود والنصارى المعاصرين لك {لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ}؛ أي: لا تقتفوا مذاهب قوم من رؤساء أسلافكم {قَدْ ضَلُّوا} عن التوراة والإنجيل {مِن قَبْلِ}؛ أي: من قبلكم، أو من قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا عن شريعتهم قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} من سفلتهم الذين تابعوهم على بدعهم وضلالهم {وَضَلُّوا} بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}؛ أي: عن قصد الطريق قويمه الذي هو الإِسلام حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه، فالمراد بالضلال الأول ضلالهم عن التوراة والإنجيل، وبالثاني: ضلالهم عن القرآن. قال القرطبي: وتكرير ضلوا

[78]

للإشارة إلى أنهم ضلوا من قبل، وضلوا من بعد، والمراد الأسلاف الذي سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى انتهى. والخلاصة (¬1): أن الله سبحانه وتعالى نهى أهل الكتاب الذين كانوا في عصر التنزيل عن الغلو الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالهم، إذ هم قد اتبعوا أهوائهم، وتركوا سنن الرسل والنبيين والصالحين من قبلهم؛ لأن كل أولئك كانوا موحدين، وكانوا ينكرون الشرك والغلو في الدين، فعقيدة التثليث وتلك الشعائر الكنسية مستحدثة من بعدهم، كشرع عبادات لم يأذن بها الله، وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات، بل حرمها القسيسون والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم مبالغة في التنسك والزهد، أو رياء وسمعة، وجعلوا الأنبياء والصالحين أربابًا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية، ولذا جعلوهم آلهةً يعبدون من دون الله أو مع الله. كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرًا ممن اتبعهم فيه، وسيكون لسبب شقائهم وعذابهم في الآخرة إنْ لم يرجعوا عنه، وينيبوا إلى الله منه. 78 - وبعد أن بين الله ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: لعن الله تعالى اليهود في الزبور والنصارى في الإنجيل {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} بأن دعوا عليهم، فاليهود (¬2) لعنوا على لسان داود، والنصارى لعنوا على لسان عيسى، والفريقان من بني إسرائيل، وهم أصحاب السبت وأصحاب المائدة. أمَّا أصحاب السبت فهم قوم داود، وذلك أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان .. دعا عليهم داود عليه السلام وقال: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخهم الله قردة. أما أصحاب المائدة، فإنَّهم لما أكلوا من المائدة وادخروا, ولم يؤمنوا .. قال عيسى عليه السلام: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابًا لم تعذبه أحدًا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي، وستأتي قصتهم إن شاء الله تعالى {ذَلِكَ} اللعن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[79]

الفظيع {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}؛ أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله تعالى وبسبب اعتدائهم، ومجاوزتهم الحد وتماديهم في العصيان ومبالغتهم فيه. 79 - ثم فسر الاعتداء والمعصية فقال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ}؛ أي: كان بنوا إسرائيل لا ينهى بعضهم بعضًا {عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}؛ أي: أرادوا فعله، وقيل: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، ولا عن الإصرار عليه، والمعنى (¬1) أي: كانوا لا يمتنعون عن معاودة منكر فعلوه، ولا يتركونه، ولا يصدر من بعضهم نهي لبعض عن منكر أرادوا فعله. روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رضي عمل قوم .. فهو منهم، ومن كثر سواد قوم .. فهو منهم". وفي أبي السعود: وليس (¬2) المراد بالتناهي أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يفعله من المنكر، كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل، بل المراد مجرد صدور النهي من أشخاص متعددة، من غير اعتبار أنْ يكون كل واحد منهم ناهيًا ومنهيًّا، كما في تراؤوا الهلال. انتهى. وعزتي وجلالي {لَبِئْسَ} وقبح {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} من ارتكاب المعاصي والعدوان، والمخصوص بالذم فعلهم هذا، وهو الإصرار على منكر فعلوه وترك النهي عنه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول ما دخل النقص علي بني إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه - لتعطفنه وتردنه - على الحق أطرًا - عطفًا وردًّا - ولتقسرنه على الحق قسرا". زاد في رواية: "أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم". أخرجه أبو داود. والقسر: القهر والإجبار. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإِسلامية، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) أبو السعود.

[80]

وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكًا لفاعل المعصية، ومستحقًا لغضب الله وانتقامه، كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه وتعالى مسخ من لم يشاركهم في الفعل، ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين، فصاروا جميعًا قردة وخنازير. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}. أخرجه الترمذي عنه فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئًا فقال: - لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا". قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب. قوله: أكيله وشريبه وقعيده هو المؤاكل والمشارب والمقاعد، فعيل بمعنى فاعل. وقوله: لتأطرنه، الإطراء: العطف، يعني لتعطفنه ولتردنه إلى الحق الذي خالفه، والقسر: القهر على الشيء. كما مرّ آنفًا. وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفس محمد بيده ليخرجن ناسٌ من أمتي من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون". والآثار في هذا الباب كثيرة، وفيها وعيد عظيم على ترك التناهي {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا ولا نرعوي عن غيّنا، ولا نتبع أوامر شرعنا. 80 - وبعد أن ذكر الله تعالى لنبيه أحوال أسلافهم، ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم فقال: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: تبصر يا محمد كثيرًا من أهل الكتاب، ككعب بن الأشرف وأصحابه {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: يوالون ويصادقون كفار أهل مكة، أبا سفيان وأصحابه، بغضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين؛ أي: فإن كعبًا وأضرابه خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: ترى أيها الرسول الكريم كثيرًا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك، ويحالفونهم عليك ويحرضونهم على قتالك، وأنت

[81]

تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه، وتشهد لهم بصدق الرسالة، وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول، ولا يعبدون إلهًا واحدًا، ولولا اتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم .. ما فعلوا ذلك، ولا خطر هذا بخاطرهم، وما استحبوا العمى على الهدى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. وقد روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لم يتم لهم ما أرادوا إذ لم يلبوا لهم دعوة، ولا استجابوا لهم كلمة. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لبئس وقبح العمل الذي قدمته أنفسهم الخبيثة زادًا لآخرتهم من موالاتهم لعبدة الأوثان، والمخصوص بالذم {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ} وغضب {عَلَيْهِمْ}؛ أي: موجب سخط الله عليهم، وهو العمل الذي هو موالاة عبدة الأوثان {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}؛ أي: وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة المخصوص بالذم، فالقدير: سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب. والمعنى؛ أي: بئس شيئًا قدموه لأنفسهم في آخرتهم الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه، وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفًا ويخلدون في النار أبدًا، فالنجاة منه إنَّما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه، وشديد غضبه. 81 - {وَلَوْ كَانُوا}؛ أي: ولو كان أهل الكتاب الذين يوالون المشركين {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ}؛ أي: نبيهم الذي أرسل إليهم وهو موسى عليه السلام {وما أُنزِلَ إليهم} من التوراة كما يدعون {مَا اتَّخَذُوهُمْ}؛ أي: ما اتخذ اليهود المشركين عبدة الأوثان {أَوْلِيَاءَ} وأصدقاء؛ لأن تحريم اتخاذ المشركين أولياء متأكد في التوراة في شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك .. ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى واتباعه، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيلها بأي طريق قدروا عليها. قال أبو السعود: وبيان الملازمة أن الإيمان بما ذكر وازع عن توليهم قطعًا. والمعنى؛ أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون

الكافرين من مشركي العرب يؤمنون بالنبي الذي يدعون اتباعه - وهو موسى عليه السلام، وما أنزل إليه من الهدى والبينات - لما اتخذوا أولئك الكافرين ممن يعبدون الأوثان والأصنام أولياء وأنصارًا، إذا .. كانت العقيدة الدينية تصدهم عن ذلك، وتدفع عنهم هذه الأصار والآثام التي يقترفونها. والخلاصة: أن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله، والتعاون على حربه وإبطال دعوته، والتنكيل بمن آمن به. ويروى عن مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون؛ أي: إن أولئك المنافقين كفار، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل إليه من القرآن كما يدعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتوليهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقًا، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعًا لاشتراكهم في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. وقد بين أسباب هذه الإلفة والعلة الجامعة بينهم فقال: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ}؛ أي: ولكن كثيرًا من إليه {فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما القليل منهم فقد آمن وإنما قال كثيرًا لأنه علم أن منهم من سيؤمن من مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. والمعنى؛ أي: ولكن كثيرًا منهم متمردون في النفاق, خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إذ لا عبرة بالقليل في سيرة الأمة وأعمالها. الإعراب {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. {لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كَفَرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا} وإنْ شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْمَسِيحُ}: خبر {إِنَّ}. {ابْنُ}: صفة لـ {الْمَسِيحُ}. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. {وَقَالَ} (الواو): عاطفة أو استئنافية. {قَالَ الْمَسِيحُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {لَقَدْ كَفَرَ}. {بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} منادى مضاف، وجمله النداء في محل النصب مقول {قَالَ} {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {رَبِّي}: بدل من الجلالة. {وَرَبَّكُمْ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {إِنَّهُ} إن حرف نصب. والهاء في محل النصب اسمها. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما. {يُشْرِكْ}: فعل شرط مجزوم بمن وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُشْرِكْ}. {فَقَدْ} (الفاء): رابطة لجواب الشرط وجوبًا لاقترانه بـ (قد). {قَدْ}. حرف تحقيق. {حَرَّمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابًا لها. {عَلَيْهِ}. جار ومجرور متعلق بـ {حَرَّمَ} ـ {الْجَنَّةَ} مفعول به. {وَمَأْوَاهُ النَّار}. مبتدأ وخبر, والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة {الْجَنَّةَ} على كونها جوابًا لـ {مَنْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: الواو: عاطفة أو استئنافية. ما حجازية أو تميمية. {لِلظَّالِمِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {ما} أو للمبتدأ. {مِنْ} زائدة {أَنْصَارٍ}: اسم ما مؤخر أو مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قَالَ} إنْ قلنا

إنَّه من تمام كلام عيسى أو مستأنفة. الإعراب {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}. {لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كَفَرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} مقول محكي لـ {قَالُوا} وَإنْ شئت قلت {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {ثَالِثُ}: خبرها. {ثَلَاثَةٍ} مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا}: (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {مِنْ}: زائدة. {إِلَهٍ}: مبتدأ، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: وما إله كائن للخلق. {إِلَّا} أداة استثناء. {إِلَهٌ} بدل من {إِلَهٍ} تابع لمحله. {وَاحِدٌ}: صفة لـ {إِلَهٌ}. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ بالجر في غير القرآن، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {وَإِنْ} (الواو): استئنافية. {إن}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {يَنْتَهُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَنْتَهُوا}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: عما يقولونه {لَيَمَسَّنَّ} (اللام): موطئة لقسم محذوف. {يمسن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في موضع الحال إمَّا {من} الذين أو من ضمير الفاعل في {كَفَرُوا} وجرى الزمخشري على أنها بيانية. {عَذَابٌ}: فاعل {أَلِيمٌ} صفة لـ {عَذَابٌ} والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، والقدير: والله إن لم ينتهوا ليمسن الذين كفروا يمسهم عذاب أليم، وجاء هذا على القاعدة المقررة عندهم، وهي: إنَّه إذا اجتمع

شرط وقسم .. أجيب سابقهما ما لم يسبقهما ذو خبر، وقد يجاب الشرط مطلقًا كما قال ابن مالك في "الخلاصة": وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ وِإنْ تَوَالَيَا وَقَبْلُ ذُوْ خَبَرْ ... فَالشَّرْطَ رَجِّحْ مُطْلَقًا بِلا حَذَرْ وَرُبَّمَا رُجِّحَ بَعْدَ قَسَمِ ... شَرْطٌ بِلا ذِيْ خَبَرٍ مُقَدَّمِ فإن قلت: السابق هنا الشرط، والقسم مقدر فيمكن تقديره متأخرًا. قلت: إنَّه لو قصد تأخر القسم في التقدير لأجيب الشرط، فلما أجيب القسم .. علم أنَّه مقدر التقديم. {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)}. {أَفَلَا}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: ألا ينتهون عن تلك العقائد الباطلة. (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. {لَا}: نافية. {يَتُوبُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بالنون، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتُوبُونَ}. {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {وَاللَّهُ}: (الواو): واو الحال. {اللهُ}: مبتدأ. {غَفُورٌ}: خبر أول. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة في محل النصب حال من مفعول {يَسْتَغْفِرُونَهُ}. {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأكُلَانِ الطَّعَامَ}. {مَا}: نافية. {الْمَسِيحُ}: مبتدأ. {ابنُ}: صفة لـ {المسيح}. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {رَسُولٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ}: فعل ماضٍ. {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَتْ}. {الرُّسُلُ}: فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {رَسُولٌ}، ولكنها سببية. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: مبتدأ وخبر،

والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {كَانَا}: فعل ناقص واسمه. {يَأكُلَانِ الطَّعَامَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر {كَانَا} تقديره: كانا آكلين الطعام، وجملة كان من اسمها وخبرها مستأنفة لا محل لها من الإعراب كما قاله أبو البقاء. {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}. {انْظُر} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة {كَيْفَ} للاستفهام التعجبي في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه {نُبَيِّنُ}، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام {نُبَيِّنُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق به {الْآيَاتِ} مفعول به، وهذه الجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول لـ {انْظُرْ}، و {كَيْفَ} معلقة له عن العمل في لفظه. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {انْظُر}: فعل وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {انْظُر} الأولى، ورتب بينهما بـ {ثُمَّ} لتراخي ما بين العجبين، وكأنه (¬1) أثبت العجب من توضيح الآيات، وتبيينها ثم ينظر إلى حال من بينت له، فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها؛ لأنَّه يلزم من تبيينها تبينها لهم، والرجوع إليها، فكونهم أفكوا عنها أعجب. {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ما بعده. {يُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مفعول به لـ {انْظُرْ} معلقة عنها باسم الاستفهام. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. {أَتَعْبُدُونَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التوبيخي. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَعْبُدُونَ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {لَا}: نافية. {يَمْلِكُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {لَكُمْ}: جار ومجرور تعلق بـ {يَمْلِكُ}. {ضَرًّا} مفعول {يَمْلِكُ} {وَلَا نَفْعًا}: معطوف على {ضَرًّا} وجملة {يَمْلِكُ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد ضمير الفاعل. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {هُوَ}: ضمير فصل أو بدل من المبتدأ. {السَّمِيعُ}: خبر أول. {الْعَلِيمُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قُلْ} أو في (¬1) محل النصب على الحال من فاعل {أَتَعْبُدُونَ}؛ أي: أتعبدون غير الله، والحال أن الله هو المستحق للعبادة لأنَّه يسمع كل شيء ويعلمه، وإليه يشير كلام الزمخشري؛ فإنه قال: والله هو السميع العلم متعلق بـ {أَتَعْبُدُونَ}؛ أي: أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون وما تعتقدون، أتعبدون العاجز وهو السميع العليم؟ انتهى. والرابط بين الحال وصاحبها الواو، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؟ فإنَّ السميع يسمع ما يشتكى إليه من الضر وطلب النفع، ويعلم مواقعهما كيف يكونان. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت {يا}: حرف نداء. {أَهْلَ الْكِتَابِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَا}: ناهية. {تَغْلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {فِي دِينِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَغْلُوا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء {غَيْرَ الْحَقّ} صفة لمصدر ¬

_ (¬1) الفتوحات.

محذوف؛ أي: غلوا غير الحق؛ لأنَّ غلا من الأفعال اللازمة. ويجوز (¬1) أن يكون حالًا من ضمير الفاعل؛ أي: لا تغلوا مجاوزين الحق، قاله أبو البقاء {وَلَا تَتَّبِعُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَتَّبِعُوا}. {أَهْوَاءَ قَوْمٍ} مفعول به ومضاف إليه {قَدْ ضَلُّوا} فعل وفاعل والجملة في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} {مِنْ}: حرف جر. {قَبْلُ}: ظرف زمان في محل الجر بـ {مِنْ} لشبهة بالحرف شبهًا افتقاريًّا، لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف تقديره: قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجار والمجرور متعلق بـ {ضَلُّوا}. {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {ضلوا} على كونها صفة لـ {قَوْمٍ} وكذلك جملة قوله: {وَضَلُّوا} معطوف على جملة ضلوا {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بضلوا الأخير، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: عن السبيل السوي. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}. {لُعِنَ الَّذِينَ}: فعل ونائب فاعل والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، في محل النصب حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} أو من ضمير الفاعل في {كَفَرُوا}. {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {لُعِنَ}. {وَعِيسَى} معطوف على {دَاوُودَ}. {ابْنِ مَرْيَمَ}: صفة لـ {عيسى}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِمَا}: {الباء}): حرف جر وسبب. و {مَا}: مصدرية. {عَصَوْا}: فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية. {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بعصيانهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك اللعن المذكور كائن بسبب عصيانهم، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يعتدون}: في محل النصب خبر كان ¬

_ (¬1) العكبري.

تقديره: وكانوا معتدين، وجملة {كان}: معطوفة على جملة {عَصَوْا}: على كونها صلة {ما}: المصدرية، والتقدير: ذلك كائن بسبب عصيانهم وكونهم معتدين، وقيل: جملة كانوا مستأنفة كما يدل عليه ما بعده. {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {لَا يَتَنَاهَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان مستأنفة. {عَنْ مُنْكَرٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَنَاهَوْنَ}. {فَعَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ {مُنْكَرٍ}. {لَبِئْسَ} (اللام): موطئة للقسم. {بِئْسَ}: فعل ماض من أفعال الذم. {مَا}: موصولة في محل الرفع فاعل. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَفْعَلُونَ} خبر {كَانُوا} وجملة {كَانُوا} صلة لما الموصولة، وجملة {بِئْسَ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فعلهم هذا الذي هو ترك النهي عن المنكر. {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. {تَرَى كَثِيرًا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة {كَثِيرًا} والجملة الفعلية مستأنفة {يَتَوَلَّوْنَ} فعل وفاعل {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به، وجملة {يَتَوَلَّوْنَ} في محل النصب حال من {كَثِيرًا} لتخصصه بالصفة، أو في محل النصب مفعول ثان لـ {تَرَى} إن قلنا إنَّها علمية، والأول أنسب {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}. {لَبِئْسَ}: (اللام): موطئة للقسم. {بِئْسَ}: فعل ماض من أفعال الذم. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل. {قَدَّمَتْ} فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَنْفُسُهُمْ}: فاعل قدم، وجملة قدم صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما قدمته لهم أنفسهم، وجملة بئس جواب القسم لا محل لها من

الإعراب {أَنْ} حرف نصب ومصدر {سَخِطَ}: فعل ماض في حل النصب بأنْ مبني على الفتح {اللَّهُ} فاعل {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {سَخِطَ} وجملة {سَخِطَ} في تأويل مصدر مرفوع خبر لمبتدأ محذوف؛ لأنَّه مخصوص بالذم تقديره: هو سخط الله عليهم ولكنه على حذف مضاف تقديره: لبئس العمل الذي قدمته لهم أنفسهم. هو موجب سخط الله عليهم وهو موالاتهم لكفار مكة {وَفِي الْعَذَابِ} متعلق بـ {خَالِدُونَ} {هُمْ} مبتدأ {خَالِدُونَ} خبر والجملة من المبتدأ، والخبر معطوفة على جملة {أَنْ سَخِطَ} على كونها مخصوصًا بالذم والتقدير: والمخصوص بالذم سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}. {وَلَوْ}: (الواو): استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بالنون. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به. {وَالنَّبِيِّ}: معطوف على الجلالة. {وَمَا} ما موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على الجلالة أيضًا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} وجملة {أُنْزِلَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {يُؤْمِنُونَ} من الفعل والفاعل في محل النصب خبر كان، وجملة {كان}: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا اتخذوهُم} {مَا}: نافية. {اتَّخَذُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان وجملة {اتخذ}: جواب (لو) لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} مستأنفة. {وَلَكِنَّ} (الواو): استئنافية. {لكن}: حرف نصب. {كَثِيرًا}: اسمها. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}. {فَاسِقُونَ}: خبر {لكن} وجملة {لكن} مستأنفة استدراكية لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {وَمَأوَاهُ النَّارُ} المأوى اسم مكان من أوى الرجل البيت، يأوي من باب رمى، إواء ومأوى بالفتح على القياس إذا نزل فيه؛ لأنّه معتل اللام فقياس

مصدره، وظرفه جميعًا بالفتح. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والأنصار جمع ناصر، والنسبة إليه أنصاري، والناصر المعين لك على دفع ضد، أو عدوّ {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} والراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة، ولهذا يضاف إلى ما بعده ولا يجوز فيه التنوين كما قاله الزجاج وغيره، وإنَّما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو: ثالث اثنين، ورابع ثلاثة؛ أي: جاعل اثنين ثلاثة، وجاعل ثلاثة أربعةً. {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يقال: مسه الشيطان بنصب أو عذاب يمسه ومسيسًا ومسيسي إذا أصابه به، فهو من المضاعف المعدى، فقياسه ضم عين مضارعه، ولكن فتح هنا لأن ما قبل نون التوكيد لا ينون إلا مفتوحًا. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} يقال: خلا الشيء يخلو خلوًا وخلاء، إذا مضى، يقال: فعلته لخمس خلون من الشهر؛ أي: مضين. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}؛ أي: وما (¬1) أمه إلا صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها. قال أبو حيان (¬2): هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنَّه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه كسكيت وسكير وشريب وطبيخ، من سكت وسكر وشرب وطبخ، ولا يعمل ما كان مبنيًّا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيدًا، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق، ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق، وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء انتهى. {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يقال: أفك الرجل يؤفك، إذا ضعف عقله الأفيك والمأفوك عاجز الرأي. قال أبو (¬3) حيان: الأفك بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه إذا قلبه وصرفه ومنه: {أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}. ويقال: يؤفك عنه من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

أفك. قال عروة بن أذينة: إِنْ كُنْتُ عَنْ أحْسَنِ الْمُرُوْءَةِ مَأْ ... فُوْكًا فَفِيْ آخَريْنَ قَدْ أُفِكُوْا قال أبو زيد: المأفوك المأفون، وهو الضعيف العقل، وقال أبو عبيدة: رجل مأفوك لا يصيب خيرًا، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى، والمؤتفكات أيضًا الرياح التي تختلف مهابها. {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} مأخوذ من غلا الرجل في الدين يغلو غلوًا، من باب غدًا إذا شدد وتصلب فيه حتى جاوز الحد، أصله: لا تغلووا بواوين أولاهما مضمومة وهي لام الكلمة وثانيتهما واو الضمير، استثقلت الضمة على الواو ثم حذفت، فالتقى ساكنان فحذفت واو لام الكلمة فصار لا تغلوا بوزن تفعلوا، فالغلو الإفراط وتجاوز الحد، بالزيادة في الدين أو التفريط فيه بالنقض عنه. {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} والأهواء (¬1) جمع هوى، وهو ما تدعو شهوة النفس إليه. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه. وقال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه يقال: فلان يهوى الخير، إلا أنه يقال: فلان يحب الخير ويريده. فالأهواء: الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة {سَوَاءِ السَّبِيلِ} السواء في الأصل الوسط، ولكن المراد به هنا الدين الحق، والسواء أيضًا المثل، يقال في المثنى: هما في هذا الأمر سواء، وإن شت قلت: سواءان، وفي الجمع هم سواء، أو هم أسواء، ويقال أيضًا في الجمع على غير قياس: هم سواس وسواسية وسواسوة؛ أي: متساويان ومستاوون. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} واللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته، والمراد باللسان (¬2) الجارحة لا اللغة كذا قاله الشيخ، يعني: إن الناطق بلعن هؤلاء لسان هذين النبيين وجاء قوله: {عَلَى لِسَانِ} بالإفراد دون التثنية والجمع، فلم يقل على لساني بالتثنية لقاعدة كلية وهي أن كل جزئين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا إلى كليهما من غير تفريق .. جاز ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

فيهما ثلاثة أوجه لفظ الجمع، وهو المختار، ويليه التثنية عند بعضهم، وعند بعضهم الإفراد مقدم على التثنية، فيقال: قطعت رؤوس الكبشين، وإن شئت قلت: قطعتُ رأسي الكبشين، وإن شئت قلت: رأس الكبشين، ومنه فقد صغت قلوبكما، وفي النفس من كون المراد باللسان الجارحة شيء، ويؤيد ذلك ما مال له الزمخشري، فإنَّه قال: نزل الله لعنهم في الزبور على لسان داود، وفي الإنجيل على لسان عيسى، وقوة هذا تأبى كونه للجارحة، ثم إني رأيت للواحديّ ذَكَر عن المفسرين قولين، ورجح ما قلته. اهـ. "سمين". {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} أصله عصيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف، فصار عصوا لأنّه من عصى سيده يعصى من باب رمى عصيًا، ومعصية إذا خرج في طاعته، وخالف أمره وعانده فهو عاص. {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ظاهره (¬1) أن التفاعل بمعنى الاشتراك، أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد .. ينبغي أن يستتر بها وفي الحديث من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهارًا وتواطئوا على عدم الإنكار .. كان ذلك تحريضًا على فعلها"، ومسببًا مثيرًا لإفشائها وكثرتها. وقيل: التفاعل هنا بمعنى الافتعال، يقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف، والمعنى كانوا لا يمتنعون عن منكر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}. لأنَّ التحريم هنا مستعمل في المنع مجازًا، لانقطاع التكليف في دار الاخرة. وفيه أيضًا إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة. ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أَنْصَارٍ} للتسجيل (¬1) عليهم بوصف الظلم. ومنها: التكرار في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر. ومنها: الإظهار أيضًا في مقام الإضمار في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ الأصل أن يقال: ليمسنهم أظهره لتكرير الشهادة عليهم بالكفر. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ} استدعاء لهم إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر. ومنها: الحصر في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}. ومنها: القصر في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. ومنها: التكرار في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ}. {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. قال أبو السعود: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ولفظ: ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت؛ أي: إن بيانًا للآيات أمر بديع بالغ أقصى الغايات من الوضوح والتحقيق، وإعراضم عنها أعجب وأبدع. ومنها: الطباق في قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}. ومنها: التفصيل في النهي في قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}. {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ}. ومنها: التنكير في قوله: {قَوْمٍ} تحقيرًا لهم. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا}. ومتها: التعجيب في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فإن فيه تعجيبًا من سوء فعلهم مؤكدًا ذلك بالقسم. ومنها: الحذف في عدة مواضع. ¬

_ (¬1) أبو السعود.

ومنها: الزيادة أيضًا في بعض المواضع كزيادة من في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}. والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). * * * ولقد أجاد من قال هذا البيت: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ ... وَلَكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا شعر آخر أَيُّها الْمُبْتَلَى بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ ... فَإِنَّ لَكَ عَوْرَةٌ أسْوَأُ الْعَوْرَاتِ لا تَنْظُرْ كِتَابَتِيْ بِعَيْنِ التَّنْقِيْصِ ... فَإِنَّهَا غَالِيَةٌ عَنِ التَّرْخِيْصِ ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى لي من تفسير الجزء السادس من القرآن الكريم، فالحمد لله على توفيقه والشكر له على تيسيره، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين، ويمالىء ما في السموات والأرضين، عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه، ومداد كلماته، وصلاة وسلامًا دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السابع في الليلة الحادية والعشرين منتصف الليل، من شهر الله المبارك الجمادى الأخيرة، من شهور سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية بحارة الرشد من المسفلة من مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، وختم عمرنا فيها - صلى الله عليه وسلم - من لا نبي من بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وجنده والحمد لله رب العالمين. آمين. تمّ بعون الله تعالى المجلد السابع من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد الثامن وأوله قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} آية رقم: 82 من آيات سورة المائدة.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ جَنَى اللهُ خَيْرًا تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ آخرُ نَسْأَلُكَ يَا مُسَبِّبَ الأَسْبَابِ ... تَيْسِيْرَ الأمُوْرِ يَا رَب الأرْبَابِ في تَفْسِيْرِنا أَفْضَلَ الْكِتَابِ ... كِتَابَكَ يَا فَاتِحَ ألأَبْوَابِ آخرُ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحَا ... لأجْلِ كَوْنِ فَهمِهِ قَبِيْحَا أيُّهَا الْمُبْتَلَى بِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ ... فَإِنَّ لَكَ عَوْرَةٌ أَسْوَأُ اْلْعَوْرَاتِ لا تَنْظُرْ كِتَابَتِيْ بِعَيْنِ التَّنْقِيْصِ ... فَإِنَّهَا غَالِيَةٌ عَنِ اْلتَّرْخِيْصِ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ صَافِيْ الْعَسَلْ ... وَاخْتَارَ بِنَفْسِهِ شَوْيَ الْبَصَلْ لأَجْلِ مَرَضِهِ الْعُضَالِ ... قَدْ أعْيَا الأطِبَّةَ الْفِضَالِ مِنْ حَسَدٍ وَكِبْرٍ وَعَجْبِ ... وَغِلٍّ وحِقْدٍ أيَّ ذَنْبِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على الرسول الكريم المرتضى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الفصل والقضا. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء السادس من القرآن .. قصدت أن أشرع في تفسير الجزء السابع منه مستعينًا بعون الملك الجواد، مستمدًا منه التوفيق والسداد لأقوم الطريق والرشاد فقلت: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}.

المناسبة قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما حاج أهل الكتاب، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإِسلامي هزوًا ولعبًا، وأن اليهود منهم قالوا: يد الله مغلولة، وأنهم قتلوا رسلهم تارة، وكذبوهم أخرى، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة، فمنهم من قال: المسيح ابن الله، ومنهم من قال: إن الله ثالث ثلاثة، وقد عابهم على ذلك، وكرَّ عليهم بالحجة إثر الحجة لتنفيذ ما كانوا يعتقدون .. ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين، ومحبتهم لهم، ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) مدح النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين، وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانًا .. ظن المؤمنون أن في هذا ترغيبًا في الرهبانية، وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقربهم إلى الله، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء، إما دائمًا كامتناع من الزواج، وإما في أوقات معينة، كأنواع الصيام التي ابتدعوها، فأزال الله هذا الظن، وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهي الصريح. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي (¬3): أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانًا، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها وأوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل .. بيّن تعالى أن الإِسلام لا رهبانية فيه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمّا أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، وأنال الطيب، فمَن رغب عن سنتي فليس مني" وأكل - صلى الله عليه وسلم - الدجاج والفالوذج، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وكان يعجبه الحلوى والعسل. انتهى. قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن تحريم الطيبات، وعن الإعداء فيها، وتجاوز الحدود؛ لأن قومًا من المسلمين تنسكوا وحرموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربًا إلى الله تعالى .. سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها، فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابًا لهم عما سألوا. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه كتابًا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلًا من خيار أصحابه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا، فنزلت فيهم الآية. وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه بأبسط منه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا ...} الآية، روى الترمذي وغيره عن ابن عباس: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت ¬

_ (¬1) لباب النقول.

اللحم .. انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. وأخرج ابن جرير (¬1)، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني". وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح (¬2)، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل، وصيام النهار فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. فلما نزلت .. بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن لأنفسكم حقًّا، وإن لأعينكم حقًّا، وإن لأهلكم حقًّا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا من ترك سنتنا"، فقالوا: اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول. وروى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفه انتظارًا، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي؟ هو حرام علي، فقالت امرأته: هو عليَّ حرام، فقال الضيف: هو عليَّ حرام، فلما رأى ذلك .. وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الذي كان منهم، ثم أنزل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المسوح - جمع مسح بكسر فسكون -: هو كساء من شعر يلبسه الرهبان.

[82]

الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ...} الآية، سبب (¬1) نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ...} قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية. رواه العوفي عن ابن عباس. التفسير وأوجه القراءة 82 - وعزتي وجلالي {لَتَجِدَنَّ} يا محمد {أَشَدَّ النَّاسِ} وأكثرهم وأبلغهم، والناس هنا: الكفار؛ أي: ولتجدن أشد الكفار {عَدَاوَةً} وبُغضًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به {الْيَهُودَ} يعني: يهود بني قريظة والنضير وفدك وخيبر وغيرهم من سائر يهود الحجاز؛ لشدة شكيمتهم - إبائهم وأنفتهم من الحق - وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا همَّا بقتله". وقد قال بعضهم: مذهب اليهود: أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال، أو بالسرقة، أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى: فليس مذهبهم ذلك، بل الإيذاء حرام في دينهم. وذكر الله تعالى فيما سيأتي آنفًا أن النصارى ألين عريكة - أسهل خلقًا - من اليهود، وأقرب إلى المسلمين منهم. {وَ} لتجدن أيضًا أشدهم عداوة للذين آمنوا {الَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ أي: المشركين من أهل مكة عبدة الأوثان، الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله، وأشد ما لاقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما مكة وما قرب منها، وقد كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة ¬

_ (¬1) زاد المسير.

للمؤمنين، كالكبر والعتو، والبغي وغلبة الحياة المادية، والأثرة والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحمية القوية، ولكن مشركي العرب - على جاهليتهم - كانوا أرق من الحهود قلوبًا، وأعظم سخاءً وإيثارًا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالًا في الرأي. وقدَّم سبحانه ذكر اليهود؛ للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به فضلًا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء، وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل، ولم يكن ميلهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس قبل هذه الواقعة العصرية إلا ميلًا وراء مصلحتهم الخاصة؛ إذ هم تفيؤوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى في تلك البلاد. و {لتَجِدَنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي لتجدن يا محمد {أَقْرَبَهُمْ}؛ أي: أقرب الناس {مَوَدَّةً}؛ أي: محبة وميلًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك وصدقوك {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}؛ أي: أنصار دين الله، وموادون لأهل الحق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة؛ بحماية المهاجرين الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإِسلام من مكة إلى الحبشة خوفًا عليهم من مشركيها، الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم. ولما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب .. كان النصارى منهم أحسنهم ردًّا، فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإِسلام، فلم يستطع لجمودهم على التقليد، فاكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًّا - وإن لم يكن أكثر منه ميلًا إلى الإِسلام - وأرسل للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا .. هرعوا إلى الدخول في الدين أفواجًا، وكان القبط أسرع إليه قبولًا. والخلاصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإِسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإِسلام، فما كان توقفه إلا ضنًّا بملكه، وأن النجاشي - أصحمة ملك الحبشة - قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا, ولكن الإِسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم في تلك البلاد كما فعلوا في مصر والشام.

قلتُ: هذا في الزمان الأول، وإلا فالآن المسلمون في الحبشة ثمانون في المئة، حتى تداول فيها سبعون أميرًا من أمراء السلمين قبل أن يأخذها استئمار الأمحار بمساعدة الأوروبيين لهم على محاربة المسلمين. وإنما أسند (¬1) تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود؛ للإشعار بقرب مودتهم، حيث يدَّعون أنهم أنصار الله، وأَوِدَّاءُ أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإِسلام، فتسميتهم نصارى ليست حقيقة، بخلاف تسمية اليهود يهودًا فإنها حقيقة، سواء سموا بذلك لكونهم أولاد ابن يعقوب: يهودا، أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل، أو لترجيعهم في دراستهم إن قلنا: من تهود بمعنى: رجع ومطّط في الدراسة، ولكن ما رأينا في كتب اللغة: تهود بمعنى: تحرك في الدراسة، كما قاله أبو العلاء المعري. فإن قلت: كافر (¬2) النصارى أشد من كفر اليهود؛ لأن النصارى ينازعون في الألوهية، فيدعون لله ولدًا، واليهود إنما ينازعون في النبوة، فينكرون نبوة بعض الأنبياء، فلِمَ ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلتُ: هذا مدح في مقابلة ذم، وليس مدحًا على الإطلاق، وأيضًا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم، لا في شدة الكفر وضعفه، وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين، ومذهب النصارى أن الأذى حرام، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى كما مر آنفًا. وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد، وطلب الرياسة، ومن كان كذلك .. كان شديد العداوة لغيره، وأما النصارى: فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذاتها، وترك طلب الرياسة، ومن كان كذلك .. فإنه لا يحسد أحدًا، ولا يعاديه، بل يكون ألين عريكة - أخلاقًا - في طلب الحق، فلهذا قال: {ذَلِكَ}؛ أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ}؛ أي: بسبب أن منهم {قِسِّيسِين}؛ أي: علماء {وَرُهْبَانًا}؛ أي: عبادًا، أصحاب صوامع {وَأَنَّهُمْ لَا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات.

[83]

يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: لا يتكبرون عن قَبول الحق إذا فهموه، كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة؛ يعني: لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق. والمعنى: أن السبب (¬1) في هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني، ويهذبون أخلاقهم، ويربون فيهم الآداب والفضائل، ورهبانًا يعودونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها، ويكبرون في نفوسهم الخوف من الله تعالى، والانقطاع لعبادته، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق؛ إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، فكل أولئك يؤثر في جمهور الأمة وسوادها الأعظم، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعًا واختيارًا، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارًا .. أسروا الكيد، وأضمروا المكر؛ لأن الشريعة اليهودية تولد في نفوسهم العصبية الجنسية، والحمية القومية؛ لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك. 83 - {وَإِذَا سَمِعُوا}؛ أي: وإذا سمع أولئك الذين قالوا: إنا نصارى {مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وهو القرآن {تَرَى أَعْيُنَهُمْ}؛ أي: تبصر أيها المخاطب الحاضر عندهم أعين أولئك السامعين {تَفِيضُ} وتسيل {مِنَ الدَّمْعِ} وهو ماء العين؛ أي: تمتلىء من الدمع حتى يسيل ويتدفق من جوانبها لكثرته. وقرىء: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ} بالبناء للمجهول. {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ}؛ أي: لأجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القران، ولم يمنعهم من قبوله ما يمنع غيرهم من عتو واستكبار، أو مما عرفوا في كتابهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا}؛ أي: ترى أعينهم تفيض من الدمع حالة كونهم يقولون: ربنا ويا مالك ¬

_ (¬1) المراغي.

[84]

أمرنا آمنا، وصدقنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبمن أنزلته عليه، وشهدنا أنه حق {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: من الذين شهدوا بأنه حق، أو بنبوته، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة؛ أي: فاكتبنا مع الذين يشهدون بحقية نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابك. والمعنى (¬1): يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله تعالى، والخضوع له بأن يتقبله منهم، ويكتبهم مع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس؛ لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الكريم الذي يكمل به الدين، ويتم به التشريع العام، يكون متبعوه شهداء على الناس، ويكونون حجة على المشركين والمبطلين، كما جاء في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. 84 - ثم زادوا كلامهم توكيدًا فقالوا: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ} والاستفهام فيه استفهام استبعاد وإنكار؛ أي: وأيُّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}؛ أي: وإننا لنطمع ونرجو بذلك الإيمان أن يدخلنا ربنا ويكتبنا مَعَ القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة, والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم، وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد في الأرض، وعتو كبير في جاهليتهم. والخلاصة: أنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته، فوجب علينا الجري على سننه واتباع نهجه وطريقه. 85 - ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب {بِمَا قَالُوا}؛ أي: بسبب ما قالوا ونطقت به ألسنتهم من ¬

_ (¬1) المراغي.

[86]

قولهم: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، معبرًا عما في قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد. وقرأ الحسن (¬1): {فآتاهم} من الإيتاء بمعنى: الإعطاء، لا من الإثابة، والإثابة أبلغ من الإعطاء؛ لأنه يلزم أن يكون عن عمل، بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل، ولذلك جاء أخيرًا {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} نبَّه على أن تلك الإثابة هي جزاء، والجزاء لا يكون إلا عن عمل. {جَنَّاتٍ} وحدائق في دار النعيم {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها الوارفة الظلال، وفي قصورها الرفيعة {الْأَنْهَارُ} الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود فيها أبدًا، فلا يسلبها منهم أحد، ولا هم يرغبون عنها {وَذَلِكَ} الجزاء المذكور من الجنات الموصوفة {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: جزاء الذين أخلصوا عقائدهم، وأحسنوا أعمالهم، وعلينا أن نقف في وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القران الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعدوا ذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهي لا يمكن أن يعبِّر عنه الكلام، ولا يحيط به الوصف، فنحن في عالم يخالف ذلك العالم في أوصافه وخواصه، مهما أكثرنا من الوصف فلا نصل إلى شيء مما أعده الله لهم هناك: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. 86 - وبعد أن بيَّن سبحانه ما أعد لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم .. ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب؛ جريًا على سنة القرآن في الجمع بين الوعد والوعيد، قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} القرانية {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ أي: أصحاب النار الشديدة الحرارة وسكانها المقيمون فيها, لا يبرحون عنها أبد الآبدين، والجحيم والجاحم ما اشتد حره من النار. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فصل في ذكر قصة الهجرة الأولى، وسبب نزول هذه الآية قال ابن عباس (¬1) - رضي الله عنهما - وغيره من المفسرين في قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إن قريشًا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم، فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، ومنع الله رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزل بأصحابه، ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين، ولم يؤمر بعد بالجهاد .. أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: "إن بها ملكًا صالحًا لا يظلم، ولا يظلم عنه أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا، فخرج إليها أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة سرًّا، وهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، فخرجوا إلى البحر، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الهجرة الأولى. ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون، فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلًا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك .. وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته؛ ليردوهم إليهم، فدخل إليه عمرو وقال له: أيها الملك، إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، وزعم أنه نبي، وإنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، وأن قومهم يسألونك أن تردوهم إليهم، فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم، فأحضروا، فلما أتوا ¬

_ (¬1) الخازن.

باب النجاشي قالوا: يستأذن أولياء الله، فقال: ائذنوا لهم فمرحبًا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه .. سلَّموا، فقال الرهط من المشركين: أيها الملك، ألا ترى أنا قد صدَقناك، إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها، فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول: هو عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروح منه، ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم: إنها العذراء البتول، قال: فأخذ النجاشي عودًا من الأرض وقال: واللهِ ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود، فكره المشركون قوله، وتغيرت وجوههم، فقال: هل تعرفون شيئًا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرؤوا، فقرأ جعفر سورة مريم، وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ...} إلى آخر الآيتين، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - يعني: إنكم آمنون - فرجع عمرو وأصحابه خائبين، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وعلا أمره، وقهر أعداءه، وذلك في سنة ست من الهجرة. وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضميري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي جارية - يقال لها: أبرهة - إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله قد خطبها، فسُرَّت بذلك، وأعطت الجارية أوضاحًا (¬1) كانت لها، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها، فأنكحها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على صداق مبلغه أربع مئة دينار، وكان الخاطب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة، فلما جاءَتها بالدنانير .. وهبتها منه خمسين دينارًا، فلم تأخذها، وقالت: إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئًا، وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وآمنت به، وحاجتي إليك أن تقرئيه منى ¬

_ (¬1) أوضاحًا: حُلِيًّا من الذهب.

السلام، قالت: نعم، فقالت: قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراه عندها فلا ينكره. قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاصر خيبر، فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي، وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها السلام، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} يعني: أبا سفيان، وذلك بتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة، ولما بلغ أبا سفيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة .. قال: ذلك الفحل لا يجدع أنفه. وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه أزهى في ستين رجلًا من أصحابه، وكتب إليه: (يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صدقًا مصدقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرًا، وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت، والسلام عليك يا رسول الله). فركبوا في سفينة في أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر .. غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، ووافى مع جعفر سبعون رجلًا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلًا من الحبشة، وثمانية من الشام، فقرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة يس إلى آخرها، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله هذه الآية فيهم، وهي قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} يعني: وقد النجاشي الذين قدموا مع جعفر، وهم السبعون، وكانوا من أصحاب الصوامع. وقيل: نزلت في ثمانين رجلًا: أربعين من نصارى نجران من بني الحارث بن كعب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية روميين من أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .. آمنوا به، وصدقوه، فأثنى الله

[87]

عليهم بقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} يعني: لا يستعظمون عن الإيمان والإذعان للحق، والله سبحانه وتعالى أعلم. 87 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تُحَرِّمُوا} على أنفسكم {طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: مستلذات ما أحل الله لكم من المأكل والمشارب والملابس والمناكح، ولا تمنعوا أنفسكم من التمتع بالمستلذات كمنعها من الحرام، أو لا تقولوا: حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدًا منكم وتقشفًا {وَلَا تَعْتَدُوا}؛ أي: ولا تجاوزوا الحد في الانتفاع بالطيبات بالإسراف فيها، أو لا تجاوزا الطيبات إلى الخبائث المحرمة، والطيبات: الأشياء التي تستلذها النفوس، وتميل إليها القلوب؛ أي (¬1): لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات، بأن تتركوا التمتع بها عمدًا تنسكًا وتقربًا إلى الله تعالى، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد؛ بأن تزيدوا على الشبع والري، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم في الحياة، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم، ولبني وطنكم، هذه الآية بمعنى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. والخلاصة: أن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وهو الخبائث. وقيل المعنى (¬2): لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله الله .. فقد كفر، أما ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إلى الله، والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير .. ففضيلة لا منع منها، بل مأمور بها. قال ابن جرير (¬3) الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني.

أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح؛ ولذلك ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون؛ إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان ذلك كذلك .. تبين خطأ من آثَر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرًا من عارض الحاجة إلى النساء. قال: فإن ظن ظانٌّ أن الفضل في غير الذي قلنا؛ لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأً، وذلك أنَّ الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببًا إلى طاعته. قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا}؛ أي: لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم؛ أي: لا تترخصوا فتحللوا حرامًا، كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ من حرم على نفسه شيئًا مما أحله الله له .. فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة. ثم علل النهي عن الاعتداء بما ينفر منه فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ أي: لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه بتحريم طيباته التي أحلها، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر، أو بالتزام، وكل منهما غير جائز. والالتزام (¬1) قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد ¬

_ (¬1) المراغي.

[88]

يكون ناشئًا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد، كمن يحلف بالله أو بالطلاق أن لا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات، أو يقول: إن فعل كذا .. فهو بريء من الإِسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك، وكل هذا منهي عنه شرعًا، ولا يحرم على أحد شيء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، ولا كفارة في يمين يحلفه الحالف في نحو ذلك عند الشافعي. وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس هو من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب خصوصًا النصارى، فإنهم قد شددوا على أنفسهم، وحرَّموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة في الزهد، ولما جاء الإِسلام وأرسل الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خير خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر في دنياهم وآخرتهم .. أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه، والروح حقها، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد، فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإِسلامية أمة وسطًا تشهد على جميع الأمم، وتكون حجة عليها يوم القيامة. والحكمة في ذلك النهي: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يستعمل عباده نعمه فيما خلقت لأجله، ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم، فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه، أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} وورد في الأثر: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا". 88 - {وَكُلُوا} أيها المؤمنون {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} تعالى وأعطاكم حالة كونه {حَلَالًا} في نفسه لا من المحرمات، كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ونحو ذلك، وحالة كونه {طَيِّبًا} في كسبه وتناوله؛ بأن لا يكون رِبًا ولا سحتًا ولا سرقة ولا غصبًا مثلًا، مع كونه مستلذًا غير مستقذرٍ لذاته أو لطارئ يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه. والأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأنه أغلب الانتفاع بالرزق من حلال غير

مسكر ولا ضار، ومن كل طيب غير مستقذر في ذاته أو لطارئ عليه. والخلاصة: (¬1) أنه ينبغي للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شاكرًا له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثمٌ يجنيه على نفسه في الدنيا، ويستحق به عقاب الآخرة؛ لزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده، كإضاعة حقوق امرأته وعياله. والتحريم والتحليل تشريع، وهو من حقوق الله، فمن انتحله لنفسه كان مدعيًا الربوبية أو كالمدعي لها، وعن الحسن البصري: إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ما عاب الله قومًا وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قومًا زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج - حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل - ويقول: لا أؤدي شكره، قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم، قال: إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثرُ من نعمته عليه في الفالوذج. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}؛ أي: وخافوا عقاب الله الذي آمنتم به في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتنتوا عليه في تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم؛ إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه .. كان من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرَّض معدته وأمعائه للتخمة .. كان من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدَّين أو أكل أموال الناس بالباطل .. فهو من المسرفين، والله يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقيل: المعنى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فتقوى الله لا تتوقف على الرهبانية كما كان في الأمم السابقة. والخلاصة: أن هدي القرآن في الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة ¬

_ (¬1) المراغي.

[89]

المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال، والاعتدال: هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فكثير من الناس يحيدون عنه، ويميلون في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، ويكونون كالأنعام بل أضل؛ لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء: إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم، وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير، إما اضطرارًا لبؤسهم وعدمهم، وإما اختيارًا كالزهاد والمتقشفين. وسبيل الاعتدال لسبيل شاقة على النفوس، عسرة على سالكها، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه. والمعروف من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أنه كان يأكل ما وجده، فتارة يأكل أطيب الطعام؛ كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه؛ كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، وحينًا يجوع، وأخرى يشبع)، فكان في كل ذلك قدوةً للموسر والمعسر، وما كان يهمه أمر الطعام، لكنه كان يعني بأمر الشراب، ففي حديث عائشة: (كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلو البارد) أخرجه الترمذي. قال المحدثون: ويدخل في ذلك: الماء القراح، والماء المحلى بالعسل، أو نقيع التمر أو الزبيب. واعلم: أن في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}؛ تأكيدًا (¬1) للوصية بما أمر الله تعالى به وزاد التأكيد بقوله: {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}؛ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر الله به وعما نهى عنه، وفي الآية: دليل على أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد تكفل برزق كل أحد من عباده، فإنه تعالى لو لم يتكفل بذلك .. لما قال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ}، وإذا تكفل برزق العبد .. وجب أن لا يبالغ في الطلب والحرص على الدنيا، وأن يعول على ما وعده الله تعالى وتكفل به، فإنه تعالى أكرم من أن يخلف الوعد. 89 - قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} هذا كلام (¬2) مرتب على قوله: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}؛ لأن بعض الصحابة حلف على الترهب لظنِّ أنه قربة، فلما نزلت هذه الآية - أعني: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} - شكوا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الصاوي.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اليمين، فنزلت هذه الآية - أعني آية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} - أي: لا يطالبكم الله بكفارة ولا عقوبة في الملغى الكائن من أيمانكم؛ أي: الذي لم يقصد، بل سبق إليه اللسان، فـ {فِي} بمعنى: من، أو متعلقة بـ {يُؤَاخِذ}؛ أي: لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو الذي لم يقصد. واللغو (¬1): اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة، فلما نزلت تلك الآية .. قالوا: فكيف أيماننا؟ فنزلت هذه الآية، وقال الشافعي: هي ما يجري على اللسان بلا قصد، وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. وقد ذهب (¬2) الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا واللهِ، وبلى واللهِ في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسَّر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن. وفي الآية: دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها، ولا تجب فيها كفارة. والخلاصة (¬3): لا يؤاخذكم الله تعالى ولا يطالبكم في الدنيا ولا في الآخرة بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد، كما يقول الرجل في كلامه بدون قصد: لا واللهِ، وبلى واللهِ، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة في الدنيا، ولا عقوبة في الآخرة {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الله سبحانه وتعالى ويطالبكم؛ إما بالكفارة في الدنيا، أو بالعقوبة في الآخرة {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}؛ أي: بحنث ما تعمدتم وقصدتم به اليمين. وفي الآية حذف؛ إما من الأول كما قدرناه، أو من الآخر؛ تقديره: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة؛ لأنه كان معلومًا عندهم. فاليمين المعقدّة (¬4): من عقد القلب وصممه، ليفعلن أو لا يفعلن في ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

المستقبل؛ أي: ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدّة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها، وأما اليمين الغموس: فهي يمين مكر وخديعة وكذب، قد باء الحالف بإثمها, وليست بمعقودة، ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور. وقال الشافعي: هي يمين معقودة؛ لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله. والراجح: الأول، وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة، ولا يدل شيء منها على الغموس، بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر، بل في أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية، واليمين المنعقدة؛ إما بالله أو بأسمائه أو بصفاته. وقرأ (¬1) نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بتشديد القاف، قال أبو عمرو: معناها: وكدتم. وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم بتخفيفها، قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بألف بين العين والقاف. وقرأ الأعمش: {بما عقدت الأيمان} جعل الفعل للأيمان، فالتشديد؛ إما للتكثير بالنسبة إلى الجمع، وإما لكونه بمعنى المجرد نحو: قدَر وقدَّر، والتخفيف هو الأصل، وبالألف بمعنى المجرد نحو: جاوزت الشيء وجزته وقاطعته وقطعته؛ أي: هجرته. وعبارة أبو البقاء هنا: قوله: {عقدتم} يقرأ بتخفيف القاف، وهو الأصل، وعقد اليمين هو قصد الالتزام بها. ويقرأ بتشديدها، وذلك لتوكيد اليمين كقوله: واللهِ الذي لا إله إلا هو، ونحوه. وقيل: التشديد يدل على تأكيد العزم بالالتزام بها. وقيل: إنما شدد لكثرة الحالفين وكثرة الأيمان. وقيل: التشديد عوض من الألف في عاقد، ولا يجوز أن يكون التشديد لتكرير اليمين؛ لأن الكفارة تجب وإن لم تكرر. ويقرأ: {عاقد} بالألف وهي بمعنى: عقدتم، كقولك: قاطعته وقطعته من الهجران، انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والمعنى: أي ولكن يؤاخذكم بما صممتم وعزمتم عليه من الأيمان وقصدتموه إذا أنتم حنثتم فيه، وهذه المؤاخذة بينها الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ} الخ، والكفارة الفعلية التي من شأنها أن تكفر الخطيئة؛ أي: تسترها؛ أي: فكفارة حنث الأيمان المعقودة ونقضها، أو فكفارة معقود الأيمان إذا حنثتم؛ أي: فالذي يكفر عقد اليمين إذا نقض، أو إذا أريد نقضه بالحنث به .. هو إحدى الخصال الثلاث الآتية على سبيل التخيير: 1 - إما {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، أو فقراء، لكل مسكين مدّ عند الشافعية، ونصف صاع عند الحنفية؛ أي: تمليك عشرة مساكين، ولا (¬1) يتعين كونهم من فقراء بلد الحالف، والمساكين أعم من أن يكونوا ذكورًا أو إناثًا أو من الصنفين. والظاهر اشتراط تعدد الأشخاص، فلو أطعم مسكينًا واحدًا كفارة عشرة أيام .. لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة يجزئ. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} أيها الناس {أَهْلِيكُمْ}؛ أي: من أقصد ما تطعمونهم وأغلبه من غالب قوت بلد الحالف؛ أي: محل الحنث، لا من أعلاه ولا أدناه؛ أي: إطعام وجبة واحدة - الوجبة: الأكلة الواحدة في اليوم - لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم في بيوتكم، لا من أردئه وأخسه الذي يتقشفون به تارة، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى؛ كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف، فمن كان طعام أهله خبز البر، وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها .. فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم؛ ليعود إليها نشاطها، والأعلى مجزىء على كل حال؛ لأنه من الوسط وزيادة، والثريد بالمرق، وقليل من اللحم أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس، من أوسط الطعام في مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة في العصر الأول، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام كما مر آنفًا. 2 - {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}؛ أي: كسوة عشرة مساكين، قرأ الجمهور (¬2): {أَوْ ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير.

كِسْوَتُهُمْ} بكسر الكاف وسكون السين. وقرأ النخعي وابن المسيب وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} بضم الكاف وسكون السين، وهما لغتان مثل: أسوة وإسوة، وقدوة وقِدوة. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية ومعاذ بن الحارث القارئ وأبو نهيك: {أو كإسوتهم} بكاف الجر الداخلة على إسوة؛ أي: قرؤوا بفتح الكاف وكسر الهمزة وكسر التاء والهاء. وقرأ محمد ابن السميقع اليماني، وأبو عمران الجوزي مثلهم إلا أنهما فتحا الهمزة. قال ابن الجوزي: ولا أرى هذه القراءة جائزة؛ لأنها تسقط أصلًا من أصول الكفارة. والكسوة تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، فيجزىء في مصر القميص الطويل الذي يسمى بـ"الجلابية" مع السراويل أو بدونه، وهذا يساوي الإزار والرداء، أو العباءة في العصر الأول، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة، ولا ما يلبس في الرجلين من الأحذية والجوارب، ولا نحو منديل أو منشفة. 3 - {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ أي: أو إعتاق رقيق، وغلب استعمال الرقبة في المملوك والأسير، وقد يعبر عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}، ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، فيجزىء عتق الكافرة عند أبي حنيفة، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها؛ حملًا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. قال أبو حيان (¬1): وقد أجمع العلماء على أن الحانث مخيَّر بين الإطعام والكسوة والعتق، وهي مخالفة لسواد المصحف، وقدم (¬2) الإطعام على غيره؛ لأنه أسهل؛ لكون الطعام أعم وجودًا، ولأن الإطعام أفضل عن الإعتاق على ما قيل؛ لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، أما العبد: فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} واحدًا من هذه الخصال الثلاثة المتقدمة {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}؛ أي: فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات، فإن عجز عن ذلك لمرض ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

مثلًا .. صام عند القدرة، فإن لم يقدر لكونه دنفًا - أي ملازم المرض - يرجى له عفو الله ورحمته إذا صحت نيته وصدقت عزيمته. والاستطاعة أن يجد ذلك القدر الذي يكفر به فاضلًا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو. وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت آية الكفارة .. قال حذيفة: يا رسول الله، نحن بالخيار؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت بالخيار، إن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد ... فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فلو كان ماله في غير بلده، ووجد من يسلفه .. لم ينتقل إلى الصوم، أو لم يجد من يسلفه فقيل: لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم، وهو الظاهر؛ لأنه غير واجد الآن. وقيل: ينتظر، والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته، وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو، فهو واجد، وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك. وقال مالك: إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب .. فهو غير واجد. وقرأ (¬1) أُبي وعبد الله والنخعي: {أيام متتابعات}، واتفقوا على أن العتق أفضل، ثم الكسوة، ثم الإطعام. وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم. وإذا حنث العبد .. فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غيره. وحكى ابن نافع عن مالك: لا يكفر بالعتق؛ لأنه لا يكون له ولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، والصوم أصوب. {ذَلِك} المذكور من الخصال الأربعة من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز عن غيره {كَفَّارَةُ} إثم حنث {أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} باللهِ أو بأحد أسمائه أو صفاته، وحنثتم أو أردتم الحنث باليمين؛ لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين، إنما تجب بالحنث بعد اليمين. وفيه إشارة إلى أن تقديم الكفارة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

على اليمين لا يجوز، بل بعد اليمين، وقبل الحنث إذا أراد الحنث كما تقدم. {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}؛ أي: قللوا أيمانكم ولا تبذلوها في أتفه الأمور وأحقرها، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلًا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}، أو إذا حلفتم .. فلا تنسوا ما حلفتم عليه، أو لا تحنثوا فيها ما استطعتم إلا لضرورة تعرض أو مصلحة تجعل الحنث راجحًا أو بأن تكفروها إذا حنثتم {كَذَلِك}؛ أي: كما بين لكم كفارة أيمانكم إذا حنثتم. {يُبَيِّنُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَكُمْ} أيها المؤمنون {آيَاتِهِ}؛ أي: أعلام شريعته, وأحكام دينه، وجميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه التي أنعم بها عليكم التي من أجلها: بيان آياته وأحكام شريعته. وهنا فصلان مهمان: الفصل الأول في بيان حكم الآية، وفيه مسائل المسألة الأولى: في بيان الكفارة، وهي أربعة أنواع: النوع الأول من الكفارة: الإطعام، فيجب إطعام عشرة مساكين، واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين. فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد، وكذلك سائر الكفارات، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، وعطاء، والحسن، وإليه ذهب مالك والشافعي. ويروى عن عمر وعلي وعائشة: أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر، وهو نصف صاع، وبه قال أهل العراق. وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة فنصف صاع، وإن أطعم من غيرها فصاع، وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال أحمد بن حنبل: يطعم لكل مسكين مد من البر، أو نصف صاع من غيرها؛ مثل التمر والشعير. ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين، فلو عشاهم وغداهم .. لم يجزه. وقال أبو حنيفة: يجزيه ذلك، ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. ولا إخراج

الدقيق والخبر في الكفارة، بل يجب إخراج الحب، وجوزه أبو حنيفة. ولا يجوز صرف الكل إلى مسكين واحد في عشرة أيام. النوع الثاني من الكفارات: الكسوة، واختلف العلماء في قدرها، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبًا واحدًا مما يقع عليه اسم الكسوة، إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء أو نحو ذلك، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن ومجاهد وعطاء وطاووس، إليه ذهب الشافعي. وقال مالك: يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة، فيكسو الرجل ثوبًا، والمرأة ثوبين: درعًا وخمارًا. وقال أحمد: للرجل ثوبٌ، وللمرأة ثوبان: درع وخمارٌ، وهو أدنى ما يجزئ في الصلاة. وقال ابن عمر: يجب قميص وإزار ورداء. وقال أبو موسى الأشعري: يجب ثوبان، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين. وقال إبراهيم النخعي: يجب ثوب جامع كالملحفة. النوع الثالث من الكفارات: العتق، فيجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذلك يجب في جميع الكفارات. وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل، فإن الله قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل. ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإجماع، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتبًا، أو أم ولد، أو عبدًا اشتراه بشرط العتق، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه، فكل هؤلاء لا يجزئ في إعتاق الكفارة، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتَب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئًا. وجوزوا عتق القريب في الكفارة، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل، فلا يجزئ مقطوع اليد والرجل، ولا الأعمى، ولا الزَّمِن، ولا المجنون المطبق. ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف؛ لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل. وعند أبي حنيفة: كل عيب يفوت جنسًا من المنفعة يمنع الجواز، فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين، ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة. النوع الرابع من الكفارات: الصوم، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يعني

الكفارة السابقة {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيامٍ} يعني: فإذا عجز من لزمته كفارة اليمين عن الإطعام أو الكسوة أو العتق .. وجب عليه صيام ثلاثة أيام. قال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته، وفضل ما يطعم عشرة مساكين .. لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر .. جاز له الصيام. وقال أبو حنيفة: يجوز له الصيام إذا لم يكن عنده من المال ما تجب فيه الزكاة، فجعل من لا زكاة عليه عادمًا. وقال الحسن: إذا لم يجد درهمين صام. وقال سعيد بن جبير: ثلاثة دراهم. واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين: أحدهما: أنه يجب التتابع فيه قياسًا على كفارة الظهار والقتل، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد وطاووس وعطاء وقتادة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، واحد قولي الشافعي. والقول الثاني: لا يجب التتابع في كفارة اليمين، فإن شاء تابع، وإن شاء فرَق، والتتابع أفضل، وبه قال الحسن ومالك، وهذا القول الثاني للشافعي. المسألة الثانية: كلمة: {أو} في الآية للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وإن شاء أعتق، فبأيها أخذ المكفر .. فقد أصاب وخرج عن العهدة. المسألة الثالثة: لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج، فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني .. لا يجزيه، وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة، واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز. المسألة الرابعة: اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث، فذهب قوم إلى جوازه؛ لما روي عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين، فرأى خيرًا منها .. فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير" أخرجه الترمذي. وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "يا

عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنها إن أتتك عن مسألة .. وكلت إليها، وإن أتتك من غير مسألة .. أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها .. فأتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك" متفق عليه. وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - وعامة الفقهاء، وبه قال الحسن وابن سيرين، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي إلا أن الشافعي قال: إن كَفَّر بالصوم قبل الحنث لا يجوز؛ لأنه بدني، إنما يجوز بالطعام أو الكسوة أو العتق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، والله أعلم. الفصل الثاني: في مسائل يجملك معرفتها تكملة لدينك المسألة الأولى: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا لا يحلف إلا بالله" رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر. ورويا أيضًا عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا .. فليحلف بالله، أو ليصمت!. وروى البخاري وأحمد عن ابن عمر قال: "كان أكثر ما يحلف به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ومقلب القلوب". والمحرم أن يحلف بغير الله حلفًا يلتزم به ما حلف عليه، والبر به فعلًا أو تركًا؛ لأن الشارع جعل هذا خاصًّا بالحلف بالله وأسمائه وصفاته، أما ما يجيء لتأكيد الكلام، ويجري على ألسنة الناس دون قصد لليمين .. فلا يدخل في باب النهي؛ نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق"، ويدخل في النهي: الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا. المسألة الثانية: يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله؛ لما رواه أحمد والشيخان في "الصحيحين": عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها .. فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك"، وفي لفظ عن أبي داود والنسائي: "فكفر عن يمينك، ثم ائتِ الذي هو خير"، ودلَّ اختلاف الرواية في تقديم الأمر بالكفارة، أو تأخيره

على جواز الأمرين. والحلف باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أقسام: 1 - حلف على فعل واجب، أو ترك حرام، وهذا تأكيد لما كلف الله به، فيحرم الحنث، ويكون الإثم مضاعفًا. 2 - حلف على ترك واجب أو فعل حرام، ويجب في هذا الحنث؛ لأن اليمين معصية، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما، أو منع ذي حق حقه الواجب له، والحلف على ترك المباح؛ كالطيب من الطعام، فإن في ذلك تشريعًا بتحريم ما أحل الله، كما فعلت الجاهلية في تحريم بعض الطيبات. 3 - حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، وهذا طاعة يندب له الوفاء به، ويكره الحنث، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي في هذه الصحفة (¬1) مثلًا، كما فعل عبد الله بن رواحة في تحريمه الطعام على نفسه، ثم أكله منه لأجل الضيف. فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارًا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي، هو عليَّ حرام، فقالت امرأته: هو عليَّ حرام، وقال الضيف: هو عليَّ حرام، فلما رأى ذلك .. وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد أصبت"، فأنزل الله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. المسألة الثالثة: الأيمان ثلاثة: 1 - ما ليس من أيمان المسلمين، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم، وهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها نهي تحريم لما تقدم من الأحاديث. ¬

_ (¬1) الصحفة: قصعة الطعام.

2 - يمين بالله تعالى، كقوله: والله لأفعلن كذا، وهذه منعقدة فيها الكفارة عند الحنث. 3 - أيمان في معنى الحلف بالله؛ يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق، كقوله: إن فعلت كذا .. فعليَّ صيام شهر، أو الحج إلى بيت الله، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته .. فنسائي طوالق، أو عبيدي أحرار، أو كل ما أملكه صدقة، أو نحو ذلك، والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة - وعليه يدل الكتاب والسنة - أنه يجزئه كفارة اليمين في جميع ذلك كما قال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، وثبت في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا .. فليأتِ الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه". المسألة الرابعة: الأيمان مبنية على العرف والنية، لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع، فمن حلف لا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا .. لا يحنث - وإن سماه الله لحمًا طريًّا - إلا إن نواه، أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قومه، كما أن من يحلف غيره يمينًا على شيء، فالعبرة بنية المحلِّف لا الحالف، فقد روى مسلم وابن ماجه: "اليمين على نية المستحلف". واليمين الغموس التي يهضم بها الحق، أو يقصد بها الخيانة والغش، لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة، قال تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين صبرٍ، وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم .. لقي الله وهو عليه غضبان" رواه البخاري ومسلم. الإعراب {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}. {لَتَجِدَنَّ} اللام موطئة للقسم، {تجدن}: فعل مضارع مبني على الفتح؛

لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على المخاطب، والجملة جواب لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {أَشَدَّ}: مفعول أول لتجد. {النَّاسِ}: مضاف إليه. {عَدَاوَةً}: تمييز منصوب بـ {أَشَدَّ}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَدَاوَةً}، ولما كان فرعًا في العمل عن الفعل .. قرن معموله باللام، ولا يضر في عملها كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنية عليها، ويجوز أن يكون {لِلَّذِينَ} صفة لـ {عَدَاوَةً} فيتعلق بمحذوف. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الْيَهُودَ}: مفعول ثانٍ لوجد. {وَالَّذِينَ}: في محل النصب معطوف على {الْيَهُودَ} على كونه مفعولًا ثانيًا لوجد. {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}. {وَلَتَجِدَنَّ} {الواو} عاطفة، اللام موطئة للقسم. {تجدن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة القسم الأول. {أَقْرَبَهُمْ}: مفعول أول، ومضاف إليه. {مَوَدَّةً}: تمييز، والعامل فيه اسم التفضيل. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {مَوَدَّةً}، أو صفة لها، أو متعلق بـ {أقرب}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {تجدن}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّا نَصَارَى} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: إن: حرف نصب وتوكيد، نا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {نَصَارَى}: خبرها، وجملة إنَّ في محل النصب مقول {قَالُوا}. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ} الباء حرف جر وسبب، {أنَّ} حرف نصب ومصدر. {مِنْهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {أنَّ} {قِسِّيسِينَ}: اسمها مؤخر. {وَرُهْبَانًا}: معطوف عليه، وجملة {أنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كونهم قسيسين ورهبانًا، الجار والمجرور متعلق

بواجب الحذف لوقوعه خبرًا تقديره: ذلك كائن بسبب كونهم قسيسين ورهبانًا، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَأَنَّهُمْ}: الواو عاطفة. {أن}: حرف نصب، والهاء: اسمها، وجملة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من جملة {أن} الأولى تقديره: ذلك كائن بسبب كونهم قسيسين ورهبانًا، وعدم استكبارهم. {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ}. {وَإِذَا} {الواو} هو استئنافية أو عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {سَمِعُوا}: فعل وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {سَمِعُوا}، وسمع هنا لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد باتفاق النحاة؛ لأنه دخل على ما يسمع. {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، {إِلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها. {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}. {تَرَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على: محمد، أو على المخاطب. {أَعْيُنَهُمْ}: مفعول به لـ {تَرَى} هو، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة {تَرَى} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة لفظًا، وإن تعلق بما قبله في المعنى، ولذلك جعله (¬1) بعضهم أول الربع، أو في محل الرفع معطوفة على خبر {أن} الثانية تقديره: ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون، وأن أعينهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن. {تَفِيضُ}: فعل مضارع وفاعل ضمير يعود على {أَعْيُنَهُمْ}. {مِنَ الدَّمْعِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَفِيضُ}، أو حال من فاعل {تَفِيضُ}، والتقدير: حالة كونها مملوءة من الدمع. ¬

_ (¬1) الجمل.

{مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَفِيضُ}. {عَرَفُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما عرفوه. {مِنَ الْحَقِّ}: جار ومجرور حال من العائد المحذوف. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير الفاعل في {عَرَفُوا}. {رَبَّنَا آمَنَّا} إلى قوله: {مَعَ الشَّاهِدِينَ} مقول محكي، وإنْ شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {فَاكْتُبْنَا}: الفاء حرف عطف وتفريع. {اكتبنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا} على كونها مقول القول. {مَعَ الشَّاهِدِينَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اكتبنا}. {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}. {وَمَا لَنَا} الواو استئنافية. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {لَنَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف وجوبًا لوقوعه خبرًا تقديره: وأي شيء مستقر لنا، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول. {لَا}: نافية. {نُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُؤْمِنُ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في {لَنَا}، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور في {لَنَا}، والتقدير: أي شيء استقر لنا حالة كوننا غير مؤمنين. {وَمَا}: الواو عاطفة. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوفة على الجلالة. {جَاءَنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. {مِنَ الْحَقِّ}: جار ومجرور حال من فاعل {جَاءَنَا}. {وَنَطْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على {نُؤْمِنُ} على أنها منفية كنفي {نُؤْمِنُ}، والتقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع،

فيكون في ذلك الإنكار؛ لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان، والطمع في الدخول مع الصالحين. ويجوز (¬1) أن يكون التقدير: ونحن نطمع، فتكون الجملة حالًا من ضمير الفاعل في {نُؤْمِنُ}. {أَن يُدْخِلَنَا}: ناصب وفعل ومفعول. {رَبُّنَا}: فاعل. {مَعَ الْقَوْمِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يُدْخِلَنَا}. {الصَّالِحِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ {نطمع}، والتقدير: ونطمع في إدخال ربنا إيانا مع القوم الصالحين. {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}. {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت قولهم المذكور، وأردت بيان جزاء قولهم المذكور .. فأقول لك: أثابهم الله. {أثابهم الله}: فعل ومفعول أول وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِمَا قَالُوا} الباء حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {أثاب}، والتقدير: فأثابهم الله بقولهم ذلك. {جَنَّاتٍ}: مفعول ثان لـ {أثاب}. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ}: ولكنها صفة سببية. {خَالِدِينَ}؛ حال من ضمير {أثابهم}. {فِيهَا} متعلق به. {وَذَلِكَ}: مبتدأ. {جَزَاءُ} وخبر {الْمُحْسِنِينَ}: مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. ¬

_ (¬1) أبو البقاء.

{وَكَذَّبُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كَفَرُوا}. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كذبوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثانٍ. {أَصْحَابُ}: خبر للمبتدأ الثاني. {الْجَحِيمِ}: مضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا}: حرف نداء. أيُّ: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. {الذِينَ}: في محل الرفع صفة لأي. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لا}: ناهية جازمة. {تُحَرِّمُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {طَيِّبَاتِ}: مفعول به وهو مضاف. {مَا}: مضاف إليه. {أَحَلَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف والتقدير: طيبات ما أحله الله لكم. {وَلَا تَعْتَدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {لَا تُحَرِّمُوا}. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللهَ}: اسمها. {لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}. {وَكُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَا تُحَرِّمُوا} على كونها جواب النداء. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {كلوا}. {رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما رزقكم الله إياه، وهو العائد على {ما}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} و، أو صفة لها. {حَلَالًا}: مفعول {كلوا}، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: كلوا أكلًا حلالًا. {طَيِّبًا}: صفة لـ {حَلَالًا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة

{كلوا}. {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب صفة للجلالة. {أَنْتُمْ} مبتدأ. {بِهِ} متعلق بـ {مُؤْمِنُونَ}. {مُؤْمِنُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير {بِهِ}. {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}. {لَا}: نافية. {يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِاللَّغْو}: جار ومجرور متعلق بـ {يؤاخذ}. {فِي أَيْمَانِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {اللغو} تقديره: حالة كونه واقعًا في أيمانكم، أو متعلق (¬1) {بِاللَّغْوِ}؛ لأنك تقول: لغا في يمينه، وهذا مصدر بالألف يعمل، ولكن معدى بحرف الجر، أو متعلق بـ {يُؤَاخِذُكُمُ}. {وَلَكِنْ}: الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {يُؤَاخِذُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {لَا يُؤَاخِذُكُمُ}. {بِمَا}: الباء حرف جر {ما}: مصدرية. {عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة {ما} المصدرية تقديره: بتعقيدكم الأيمان أو بعقدكم الأيمان، الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤَاخِذُكُمْ}، أو {ما} موصول اسمي، والعائد محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم عليه الأيمان إذا حنثتم. {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. {فَكَفَّارَتُهُ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الله يؤاخذ بالأيمان المعقودة، وأردت بيان كفارتها .. فأقول لك {كفارته}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِطْعَامُ عَشَرَةِ}: خبر ومضاف إليه وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ لأنه في تأويل حرف مصدري، وفعل مبني للفاعل؛ أي: فكفارته أن يطعم الحانث عشرة مساكين، {عَشَرَةِ}: مضاف. {مَسَاكِينَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لأنه على صيغة منتهى ¬

_ (¬1) العكبري.

المجموع. {مِنْ أَوْسَطِ}: جار ومجرور متعلق بـ {إِطْعَامُ}، أو صفة (¬1) لمفعول محذوف تقديره: أن يطعم الحانث عشرة مساكين طعامًا، أو قوتًا من أوسط؛ أي: متوسطًا كما ذكره أبو البقاء. وفي "الفتوحات": قوله: {مِنْ أَوْسَطِ} في (¬2) محل نصب مفعول ثانٍ لـ {إِطْعَامُ}، والأول {عَشَرَةِ}؛ أي: أن تطعموا عشرة مساكين إطعامًا من أوسط ما تطعمون. {أَوْسَطِ}: مضاف. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {تُطْعِمُونَ}: فعل وفاعل، والمفعول الثاني له محذوف تقديره: من أوسط ما تطعمونه، وهو العائد على {مَا}، والجملة الفعلية صلة {مَا} الموصولة. {أَهْلِيكُمْ}: مفعول أول لـ {تُطْعِمُونَ}، ومضاف إليه منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه جمع سلامة لأهل لم يستوف الشروط؛ لأنه اسم جنس، فليس بعلم ولا صفة، والذي حسَّن (¬3) إلحاقه بجمع المذكر السالم: أنه كثيرًا ما يستعمل استعمال مستحق لكذا في قولهم: هو أهل لكذا؛ أي: مستحق له، فأشبه الصفات، فجمع جمعها، قال تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وقال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}. {أَو}: حرف عطف وتخيير. {كِسْوَتُهُمْ} معطوف على إطعام ومضاف إليه. وقرىء شاذًا: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فالكاف اسم بمعنى: مثل في محل الرفع معطوف على {إِطْعَامُ}؛ أي: أو مثل إسوة أهليكم في الكسوة. {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: معطوف أيضًا على {إِطْعَامُ}، وهو مصدر مضاف إلى المفعول أيضًا؛ لأنه في تقدير: أو أن يحرر الحانث رقبة؛ أي: نسمة. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}. {فَمَن} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الواجب في كفارته واحد من هذه الثلاثة المذكورة إذا وجدها كلًّا أو بعضًا، وأردت بيان حكم ما إذا لم يجد واحدًا منها .. فأقول لك: {من لم يجد}. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) الجمل. (¬3) الفتوحات.

الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {لَمْ}: حرف جزم. {يَجِدْ}: مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها، وهو من وجدان الضالة يتعدى إلى مفعول واحد محذوف تقديره: فمن لم يجد واحدًا من هذه الثلاثة. {فَصِيَامُ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {صيام}: مبتدأ وهو مضاف. {ثَلَاثَةِ}: مضاف إليه وهو مضاف. {أَيَّامٍ}: مضاف إليه، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: فصيام ثلاثة أيام واجب عليه في كفارته، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية الزمانية. {حَلَفْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها تقديره: وقت حلفكم وحنثكم، والظرف متعلق بـ {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}. {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره بيانًا كائنًا كذلك؛ أي: مثل بيان كفارة الأيمان، وذلك المصدر المحذوف مفعول مطلق لـ {يُبَيِّنُ} منصوب به. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به. {آيَاتِهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: لعل حرف نصب وترج بمعنى كي التعليلية، والكاف اسمها. وجملة {تَشْكُرُونَ} في محل الرفع خبرها، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والتقدير: يبين الله لكم آياته لكي تشكروا نعمه التي من أجلِّها بيان هذه الأحكام، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَلَتَجِدَنَّ}: من وجد بمعنى: علم يتعدى إلى مفعولين، وهو من المثال

الواوي، وهو ما كانت فاؤه واوًا. {أَشَدَّ النَّاسِ}: وهو اسم تفضيل من شدَّ الثلاثي أصله: أشدد نظير أفضل، وكذلك {أَقْرَبَهُمْ}: اسم تفضيل من قرب {عَدَاوَةً}: العداوة: البغضاء يظهر أثرها في القول والفعل {مَوَدَّةً}: والمودة محبةٌ يظهر أثرها في القول والعمل {النَّاسِ}: هم يهود الحجاز، ومشركو العرب، ونصارى الحبشة في عصر التنزيل {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا}: والقسيسين (¬1): جمع قسيس على وزن: فعيل، مثال مبالغة كصدّيق، وهو هنا رئيس النصارى وعالمهم، وأصله من: تقسس الشيء إذا تتبعه وتطلبه بالليل، يقال: تقسست أصواتهم؛ أي: تتبعتها بالليل، ويقال لرئيس النصارى: قس وقسيس، وللدليل بالليل: قسقاس وقسقس، قاله الراغب. وقال غيره: القس - بفتح القاف - تتبع الشيء، قال رؤبة: أَصْبَحْنَ عَنْ قِسِّ الأَذَى غَوَافِلاَ ... يَمْشِيْنَ هَوْنًا حُرَّدًا بَهَالِلاَ ومنه سمي عالم النصارى قسيسًا لتتبعه العلم، ويقال: قس الأثر وقصه بالصاد أيضًا، ويقال: قس وقس - بفتح القاف وكسرها - وقسيس، وزعم ابن عطية أنه أعجمي معرب. وفي "المراغي": والقسيسون: واحدهم قسيس، وقسّوس: واحدهم قس، وهو الرئيس الديني فوق الشماس، ودون الأسقف، والأصل في القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم؛ لأنهم رعاة ومفتون، انتهى. وقال أبو حيان: القس: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه: قسوس، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدين، وكذلك القسيس فعّيل، كالشرّيب، وجمع القسيس بالواو والنون، وجمع أيضًا على قساوسة، قال أمية بن أبي الصلت: لَوْ كَانَ مُنْقَلَبٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ... يُحْيِيْهِمُ اللهُ في أَيْدِيْهِمُ الزُّبُرُ قال الفراء: هو مثل مهالبة، كثرت السينات فيه، فأبدلوا إحداهن واوًا، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

يعني: أن قياسه قساسة. انتهى. وقال عروة ابن الزبير (¬1): ضيعت النصارى الإنجيل وما فيه، وبقي منهم رجل يقال له: قسيس، يعني بقي على دينه، لم يبدله، فمن بقي على دينه وهديه .. قيل له: قسيس، فعلى هذا القس والقسيس مما اتفق فيه اللغتان. قلتُ: وهذا يقوي قول ابن عطية، ولم ينقل أهل اللغة في هذا اللفظ القُس بضم القاف لا مصدرًا ولا وصفًا؛ فأما قس بن ساعدة الإيادي: فهو علم، فيجوز أن يكون مما غير عن طريق العلمية، ويكون أصله قس أو قس بالفتح أو بالكسر كما نقله ابن عطية. وقُس بن ساعدة كان أعلم أهل زمانه، وهو الذي قال فيه عليه السلام: "يُبعث أمةً واحدةً". اهـ "سمين". {وَالرُّهْبَانِ} واحدهم (¬2): راهب، وهو المتبتل المنقطع في دير أو صومعة للعبادة، وحرمان النفس من التنعم بالزوج والولد، ولذات الطعام والزينة، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العبَّاد والعلماء. وقال (¬3) الشوكاني: والرهبان: جمع راهب، كركبان وراكب، والفعل: رَهِب الله يرهبه إذا خافه، والرهبانية والترهب: التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء: ويجمع رهبان إذا كان للمفرد على رهابين كقربان وقرابين. وقد قال جرير في الجمع: رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكَ تَرَهَّبُوْا وقال الشاعر في استعمال رهبان مفردًا: لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانُ دَيْرٍ في الْجَبَل ... لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَنَزَل {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ أي: تمتلىء دمعًا فتفيض بتدفق من جوانبها لكثرته؛ لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، وجعل الأعين تفيض، والفائض إنما هو الدمع؛ قصدًا للمبالغة، كقولهم: دمعت عينه، قال امرئ القيس: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمَلِي {وَنَطْمَعُ}: الطمع قريب من الرجاء، يقال منه: طمع - من باب سمع - يطمع طمعًا وطماعةً وطماعيةً. {فَأَثَابَهُمُ} يقال: أثابه على كذا إثابةً إذا جازاه وكافأه عليه، والإثابة المجازاة {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: الجحيم مأخوذ من قولهم: جحم فلان النار، إذا شدد إيقادها يجحَم جحمًا من باب فتح، ويقال لعين الأسد: جحمة لشدة اتقادها، قال الشاعر: وَالْحَرْبُ لاَ تُبْقِيْ لِجَا ... حِمِهَا التَّحَيُّلَ وَالمِزَاحْ {بِاللَّغْوِ}: اللغو: مصدر لغا يلغو لغوًا، يقال: لغا بكذا إذا تكلم باللغو، واللغو: ما لا يعتد به من كلام أو غيره، يقال: تكلم باللغو واشتغل باللغو؛ أي: بما لا يعتد به، واللغو في اليمين: قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا واللهِ وبلى واللهِ. {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}؛ أي: بما صممتم وعزمتم عليه منها وقصدتموه، ومنه قول الفرزدق: وَلَسْتَ بِمَأخُوْذٍ بِلَغْوٍ تَقُوْلُهُ ... إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ وأصل العقد نقيض الحل، والعقد على ضربين: حِسيّ كعقد الحبل، وحُكْميّ كعقد البيع واليمين والعهد، قال الشاعر: قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوْا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوْا العِنَاجَ وَشَدُّوْا فَوْقَهُ الْكَرَبَا فعقد اليمين: توكيدها بالقصد والغرض الصحيح، وتعقيدها: المبالغة في توكيدها {فكفارته}: وأصل الكفارة من الكفر، وهو الستر والتغطية، ثم صارت في اصطلاح الشرع اسمًا لأعمال كفَّرتْ بعض الذنوب والمؤاخذات؛ أي: تغطيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به المرء لا في الدنيا ولا في الآخرة. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ}: والأوسط: الأغلب من الطعام في البيوت، لا الدون الذي يتقشف به أحيانًا، ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانًا أخرى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ أي: إعتاق نسمة مملوكة، والتحرير: الإخراج من الرق، ويستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود بعمل عن عمله، وترك إنزال الضرر به، ومنه قول الفرزدق:

أَبَنِيْ غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةِ بْنِ جَعَالِ أي: حررتكم من الهجاء الذي كان سيضع منكم، ويضر بأحسابكم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بالقسم ونون التوكيد في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ}. ومنها: الطباق بين لفظي: {عَدَاوَةً} و {مَوَدَّةً}، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ أي: تمتلىء من الدمع، فاستعير الفيض الذي هو الانصباب للامتلاء مبالغة، ثم اشتق من الفيض بمعنى الامتلاء، تفيض بمعنى تمتلىء على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: عتق إنسان. وخص الرقبة بالذكر من بين أجزاء الإنسان؛ لأن الرقبة غالبًا محل للتوثق والاستمساك. ومنها: الاستعارة في قوله: {عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}؛ لأن العقد نقيض الحل، حقيقة في الأجسام كالحبل، مجاز في المعاني. ومنها: إطلاق الخاص وإرادة العام في قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا}؛ لأن المراد مطلق الانتفاع بالرزق أكلًا أو شربًا أو لبسًا أو غير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر من بين أنواع الانتفاعات؛ لأنه أغلب الانتفاع بالرزق. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ. . .} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما نهى فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات، وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب، وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر .. بيّن هنا أنهما غير داخلين فيما يحل، بل هما مما يحرم. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} الآية، قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما أمر الله تعالى بأكل ما رزقهم حلالًا طيبًا، ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه، وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر، وكانوا يقولون: الخمر تطرد الهموم، وتنشط النفس، وتشجع الجبان، وتبعث على المكارم، والميسر يحصل به تنمية المال، ولذة الغلبة .. بيّن تعالى تحريم الخمر والميسر؛ لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة، ففي الخمر إذهاب العقل، وإتلاف المال، ولذلك ذمَّ بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها، وجعل ترك ذلك مدحًا فقال: أَخِيْ ثِقَةٍ لاَ تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكِ الْمَالَ نَائِلُهْ وتنشأ عنها مفاسد أُخر من قتل النفس، وشدة البغضاء، وارتكاب المعاصي، والميسر فيه أخذ المال بالباطل، انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن تحريم ما أحل من الطيبات، ثم استثنى الخمر والميسر .. استثنى هنا مما يحل الصيد في حال الإحرام، وأوجب جزاء على من قتله، وبيَّن أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حين ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم، فيتمكنون من صيده أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات، وأخرج من ذلك الخمر والميسر، وهما حرامان دائمًا .. أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال، وهو: الصيد، وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه، ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة، انتهى. قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ...} الآية، مناسبة (¬1) ¬

_ (¬1) المراغي.

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى في الآية السالفة المُحْرِمَ عن الاصطياد .. بيّن هنا أن البيت الحرام كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة. قال أبو حيان (¬1): قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة: وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع، وذكر تعظيم الكعبة بقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قيامًا للناس؛ أي: ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى، وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة، ولا يخافون نارًا؛ إذ لم يكن لهم ما يمنعهم من أذى بعضهم، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك، هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قيامًا للناس، فكانوا لا يهيجون أحدًا في الشهر الحرام، ولا من ساق الهدي؛ لأنه يعلم أنه لم يجىء لحرب، ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة، فتقلد من لحى الشجر، ولا من قضى نسكه، فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة" فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء، ورجع عن رسالة قريش. انتهى. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أرشدنا إلى بعض آيات علمه في خلقه التي جعل بها البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد .. نبهنا في هذه الآية إلى أن العلم بكل شيء لا يمكن أن يترك الناس سدى، فهو لم يخلقهم عبثًا، ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا أن يسوّي بين الطيِّب والخبيث، فيجعل البر كالفاجر، والمصلح كالمفسد، بل لا بد من الجزاء بالحق، لذلك جاءت هذه الآيات ترغيبًا لعباده وترهيبًا لهم ووعدًا ووعيدًا. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما حذر عن المعصية، ورغب في التوبة بقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية وأتبعه في التكليف بقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}، ثم بالترغيب في الطاعة، والتنفير عن المعصية بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} .. أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة، والتنفير عن المعصية فقال: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ...} الآية، أو يقال: لما بين أن عقابه شديد لمن عصى، وأنه غفور رحيم لمن أطاع .. بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي، وإن كان من العصاة والكفار كثرة، فلا يمنعه كثرتهم من عقابهم، ذكره أبو حيان في "البحر". أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما رواه أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهما: فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر ...} الآية، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثمٌ كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشد منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، ثم نزلت آية أشد من ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على سرفهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

_ (¬1) لباب النقول.

جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ...} إلى آخر الآية. وروى النسائي والبيهقي عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا، فلما أن ثمل القوم .. عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: واللهِ لو كان بي رؤوفًا رحيمًا .. ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...} الآية. فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان قُتل يوم بدر، وفي بطن فلان قُتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية. قوله تعالى (¬1): {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمت قال: فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فجَرَت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ...} الآية. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الواحدي والأصبهاني في "الترغيب" عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر تحريم الخمر، فقام أعرابي فقال: إني كنت رجلًا كانت هذه تجارتي فاعتبقت منها مالًا، فهل ينفع ذلك المال إن عملت بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا يقبل إلا الطيب، فأنزل الله تعالى تصديقًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ...} الآية. وفي "مسند" أحمد، و"مسند" أبي داود والترمذي: أن عمر كان يدعو الله تعالى: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فلما نزلت آية البقرة .. قرأها عليه ¬

_ (¬1) لباب النقول.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فظل على دعائه، وكذلك لمَّا نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة .. دُعي فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: انتهينا، انتهينا. وروي في سبب هذه الآيات: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: فيَّ نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا، فأتاه ناس، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر - وذلك قبل تحريمها - فتفاخروا، فقالت الأنصار: الأنصار خير، وقالت قريش: قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور - فك رأس جزور - فضرب على أنس ففزره، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ذلك فنزلت. والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج: أن الناس كانوا مغرمين بحبها، كلفين بها، فلو حرمت في أول الإسلام .. لكان تحريمها صارفًا لكثير من المدمنين لها عن الإِسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولًا في سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد، فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة؛ إذ نهى عن القرب من الصلاة في حال السكر، فلم يبقَ لمن يصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء، وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الصبح لمن لا عمل له، فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنًا قويَ فيه الدين، وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريمًا باتًا لا هوادة فيه. روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} شربها قوم لقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وتركها قوم لقوله: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}، منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي في النساء {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، فتركها قوم، وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل حتى نزلت الآية التي في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...} هو الآية. قال عمر: أَقُرِنْتِ بالميسر والأنصاب

[90]

والأزلام؟ بعدًا لكِ وسحقًا، فتركها الناس، ووقع في صدور أناس منها، وقالوا: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول: إن في نفسي شيئًا، فيقول صاحبه: لعلك تذكر الخمر، فيقول: نعم، فيقول: إنَّ في نفسي مثل ما في نفسك، حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه، فقالوا: كيف نتكلم ورسول الله شاهد - حاضر - وخافوا أن ينزل فيهم - أي قرآن - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أعدوا له حجة، فقالوا: أرأيت حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، أليسوا في الجنة؟ قال: بلى، قالوا: أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر، فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه، فقال: "قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم"، فأنزل الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}، فقالوا: انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 90 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله وما أنزل إليه {إِنَّمَا الْخَمْرُ}؛ أي: إن الخمر التي تشربونها {وَالْمَيْسِر} الذي تتياسرونه وتلعبون به {وَالْأَنْصَابُ} التي تذبحون عندها {وَالْأَزْلَامُ}؛ أي: القداح التي تستقسمون بها {رِجْسٌ}؛ أي: قذر تعاف منه العقول السليمة، وإثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وتحسينه وتزيينه لكم، وقيل: هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه، فاقتدى به بنو آدم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم {فَاجْتَنِبُوهُ}؛ أي: فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه، وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بينكم، فجملة الترجي علة لما قبلها؛ أي: فاجتنبوا هذا المذكور لكي تنجوا من العذاب، وتدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس. والخمر: عصير العنب إذا اختمر؛ أي: صار خمرًا. والمراد هنا: كل

[91]

شراب مسكر؛ لأن الخمر هنا كل ما خامر العقل وغطاه، وقد صح من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شراب أسكر فهو حرام" أخرجاه في "الصحيحين". وزاد الترمذي وأبو داود: "ما أسكر الفَرَقُ منه فملءُ الكف منه حرام". الفَرَق بالتحريك: إناء يسع ستة عشر رطلًا. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر .. لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب .. تاب الله عليه، فإن عاد .. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب .. تاب الله عليه، فإن عاد .. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب .. تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة .. لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب .. لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال"، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما نهر الخبال؟ قال: صديد أهل النار. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وأخرجه النسائي. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه". أخرجه أبو داود. والميسر: القمار، والقمار كل لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئًا سواء كان بالورق، أو بغيره كالقداح. وسُمي القمار - أي: اللعب - ميسرًا؛ لأن فيه أخذ المال بيسر، ويطلق الميسر أيضًا على الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، وذلك أنهم كانوا ينحرون الجزور ويقسمونها ثمانية وعشرين قسمًا أو عشرة أقسام، ثم يضربون بالقداح، وفيها الرابح والغفل، فمن خرج له قدح رابح .. فاز وأخذ نصيبه من الجزور، ومن خرج له الغفل .. غرم ثمنها. والأنصاب: الحجارة التي كانوا يذبحون قرابينهم عندها ويعبدونها ويتقربون إليها، سُميت الأصنام بذلك؛ لأنها تنصب وترفع للعبادة. والأزلام: قداح؛ أي: قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم. 91 - وبعد أن أمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر .. ذكر أن فيهما مفسدتين:

إحداهما: دنيوية، وثانيتهما: دينية، وقد أشار إليهما بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} ويقصد {أَن يُوقِعَ} ويوجد {بَيْنَكُمُ} أيها المؤمنون {الْعَدَاوَةَ} والإيذاء {وَالْبَغْضَاءَ}؛ أي: الشحناء {فِي الْخَمْرِ}؛ أي: بسبب تزيين شرب الخمر لكم إذا صرتم نشاوى، كما فعل الأنصاري الذي شج رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل؛ لأنها تزيل عقل شاربها، فيتكلم بالفحش، وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة، وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها {و} بسبب تزيين {الميسر} واللعب بالقمار لكم إذا ذهب ما لكم. وقال (¬1) قتادة: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيُقمَر - يغلب - فيقعد حزينًا سليبًا ينظر إلى ماله في يد غيره، فيورثه ذلك العداوة والبغضاء، فنهى عن ذلك، فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا، وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين، وهي ما ذكرها الله تعالى بقوله: {و} يريد أن {يصدكم} ويمنعكم ويصرفكم {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وطاعته {وَعَنِ الصَّلَاةِ} أفردها بالذكر مع دخولها في ذكر الله تعظيمًا لها، وإظهارًا لشرفها؛ لأن شرب الخمر يورث اللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت فيها .. غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الشخص إذا كان غالبًا في القمار .. صار استغراقه في لذة الغلبة مانعًا من أن يخطر بباله شيء سواه. فإن قلتَ (¬2): لِمَ جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى، ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية؟ قلتُ: لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار، وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر في الآية الأولى؛ لتأكيد تحريم الخمر والميسر، فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم .. أفردهما بالذكر في الآية الثانية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

والمعنى: أن (¬1) الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم تزكية لنفوسكم وتطهيرًا لقلوبكم. أما كون الخمر سببًا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم: فلأن شارب الخمر يسكر، فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولي عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، فكثيرًا ما يجتمع الشَرَبَة على مائدة الشراب، فيثير السكر كثيرًا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب، والسلب والفسق والفجور، وإفشاء الأسرار، وهتك الأستار، وخيانة الحكومات والأوطان. وأما الميسر: فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين، ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرًا ما يفرط المقامر في حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد، والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين فيه إجحاف بأرباب الأموال؛ لأن من صار مغلوبًا في القمار مرة .. دعاه ذلك إلى اللجاج والتمادي فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرًا مسكينًا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين. وأما صدُّ الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو مفسدتهما الدينية: فذلك أظهر من كونهما مثارًا للعداوة والبغضاء، وهما مفسدتهما الاجتماعية؛ لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار، تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله تعالى الذي هو روح الدين، وعن الصلاة التي هي عماد ¬

_ (¬1) المراغي.

الدين؛ إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثني عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم الصلاة التي هي ذكر الله، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة .. لم تصح له، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح، ويخشى الخسارة، فلا يتوجه همُّه إلى ذكر الله، ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها. وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق في دار المقامر، أو تحل المصائب بالأهل والولد، ويستغاث به فلا يغيث، بل يمضي في لعبه، والنوادر في ذلك كثيرة على أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها، فإنه لا يؤدي منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران، إذ إنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة. ولما بين الله سبحانه وتعالى علة تحريم الخمر والميسر وحكمته .. أكد ذلك التحريم فقال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ومنزجرون عن إتيانهما، والاستفهام فيه استفهام تهديدي بمعنى الأمر، وهو أبلغ من الأمر صريحًا، فكأنه قيل: قد بينت لكم ما في هذه الأمور من أنواع الصوارف والموانع والقبائح، فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف، أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا ولم تزجروا؟ والخلاصة: قد بينتُ لكم مفاسد الخمر والميسر، فهل تنتهون عنهما، أم أنتم مقيمون عليهما كأنكم لم توعظوا بهذه المواعظ؟ وقد أكد (¬1) الله سبحانه وتعالى تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد: منها: أنه سماهما رجسًا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "الخمر أمُّ الخبائث". ومنها: أنه قرنهما بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات ¬

_ (¬1) المراغي.

[92]

الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مدمن الخمر كعابد وثن". ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان؛ لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن. ومنها: جعل اجتنابهما سبيلًا للفلاح والفوز بالنجاة. ومنها: أنه جعلهما مثارًا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرًا من المعاصي في الأموال والأعراض والأنفس. ومنها: أنه جعلهما صادين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده. وفي هذه الآية (¬1): دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلًا عن جعله شرابًا يشرب. وقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعًا لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمرًا. وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر .. دلت أيضًا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام، 92 - ثم أكد الله سبحانه وتعالى هذا التحريم بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات؛ كالأنصاب والأزلام ونحوهما. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيما بيَّنه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". {وَاحْذَرُوا}، عن مخالفتهما في التكاليف؛ أي: واحترزوا واجتنبوا مخالفة الله، ومخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمركم به ونهاكم عنه، أو المعنى: واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة في الدينا، وعذاب في الآخرة، فإنه سبحانه لم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم في دنياكم وآخرتكم، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[93]

أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} وأعرضتم عن اتباع أمرهما ونهيهما {فَاعْلَمُوا} أن الحجة قد قامت عليكم، وانقطعت بكم الأعذار، واستوجبتم السخط، واستحققتم العقاب؛ لأنه {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم - {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: التبليغ من الله إليكم البلاغ المبين؛ أي: الواضح بلغة تعلمونها، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ كمال الخروج، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب؛ أي: فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوليكم، فإنما عليه البلاغ، وقد أدى ما عليه، وإنما ضررتم به أنفسكم، وفي هذا تهديد أكيد، ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه. 93 - ولما قال ناس من الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حرمت الخمر والميسر: كيف حال إخواننا الذين ماتوا، وهم يشربون الخمر، ويلعبون بالميسر .. أنزل الله فيهم قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله وبالقران {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحة فيما بينهم وبين ربهم؛ سواء كانوا من الأحياء أو الأموات {جُنَاحٌ}؛ أي: إثم ومؤاخذة {فِيمَا طَعِمُوا}؛ أي: فيما أكلوا من مال الميسر، أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما وتحريم غيرهما مما لم يكن محرمًا أولًا ثم حُرِّم. {إِذَا مَا اتَّقَوْا}؛ أي: إذا امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه {وَآمَنُوا} بما كان قد نزل من الأحكام {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما {ثُمَّ اتَّقَوْا} ما حرم عليهم بعد ذلك عند العلم به {وَآمَنُوا} بما نزل فيه وفي غيره {ثُمَّ اتَّقَوْا}؛ أي: استمروا على التقوى بامتثال جميع المأمورات واجتناب جميع المنهيات {وَأَحْسَنُوا}؛ صالح أعمالهم، فأتوا بها على وجه الكمال، وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات، وأخلصوها لله تعالى {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} لأعمالهم، والمخلصين لها لوجهه؛ أي: يثيبهم على إخلاصهم، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. والخلاصة: أن مَن صحَّ إيمانه، وصلح عمله، وعمل في كل حين نصوص

الدين، وما أداه إليه اجتهاده، واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان .. فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرمًا عليه بحسب اعتقاده، دون تزكية نفسه وتطهير قلبه. وقال الصاوي: والحاصل (¬1) أنه كرر سبحانه وتعالى قوله: {اتَّقَوْا} ثلاثًا، فقيل: الأول: محمول على مبدأ العمر، والثاني: على وسطه، والثالث: على آخره. وقيل: الأول: اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر، والثاني: الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والثالث: بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات. وقيل: الأول: تقوى العبد بينه وبين ربه، والثاني: تقوى العبد بينه وبين نفسه، والثالث: تقوى العبد بينه وبين الناس؛ لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعًا فيما بينه وبين ربه، مجاهدًا فيما بينه وبين نفسه، محافظًا على حقوق العباد. انتهى. تتمة: اختلف (¬2) العلماء في شرب الخمر والنجاسات عند الضرورة. وأصح الآراء في ذلك: أنه يجوز بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرمات من طعام وشراب بدليل قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} كمن غُص بلقمة فكاد يختنق، فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر، وكمن أصابته نوبة ألم في القلب كادت تقضي عليه، وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف باسم: كونياك، فقد يرى الطبيب أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة. أما التداوي بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب، كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس: فذلك منهي عنه للحديث: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر - وكان ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي بتصرف في بعض المواضع.

يصنعها - فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وقوله: "ولكنه داء" هذا هو رأي الأطباء؛ إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمٌّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها في كل عام عدد لا يحصى من الناس في البلاد التي ابتليت بها، والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوي يؤثر سمها في أعصابهم بكثرة التعاطي، فتصير مطلوبة عندهم لذاتها، فيضرهم سُمُّها، فعلى المسلم الصادق الإيمان أن لا يغترَّ برأي بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوي لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة. وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب على استبشاعهم لها، واعتقادهم ضررها، ومخالفتهم أوامر دينهم، لكن الذي يسهل عليهم ذلك: ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك في الشراب، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر، فلا ينبغي تركه مع ما فيه من لذة النشوة، والذهول عن هموم الدنيا وآلامها، إلى ما في ذلك من مجاملة الإخوان، لكنهم مخدوعون؛ إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف في السكر حتى فسدت صحته ومروءته، وضاعت ثروته، هل كنت حين بدأت تنوي الإسراف والإدمان؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل في فترات متطاولة من الزمن، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوي، ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلًا. وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهاتٌ فيقول: إن الخمر المتخذة من العنب هي المحرمة لذاتها، وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلًا، لكنهم واهمون فيما فهموا؛ إذ جاء في الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه مسلم من حديث ابن عمر. وآخر تَعِلَّة (¬1) لهم: الغرور بكرم الله وعفوه، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة، ولا سيما ما يسمونه بالمكفرات، أو على الشفاعات. وهذا ¬

_ (¬1) التَعِلَّة - بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد اللام -: ما يتعلل به اهـ.

الجهل والغرور يصبح عقيدة في نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبي نواس في قوله: تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ المَعَاصِي ... فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُوْرًا وقوله: وَرَجَوْتُ عَفْوَ اللهِ مُعْتَمِدًا علَى ... خَيْرِ الأَنَامِ مُحَمَّدِ المَبْعُوْثِ ولو صح أمثال هذا الهذيان .. لكان الدين لغوًا وعبثًا، ولكان المسلم يضرب بأوامر دينه عرض الحائط انتظارًا لشفاعة ترجى، أو عفو ربما أتيح له من فضل ربه، وكان التقي والفاجر سواء. وقد ثبت في صحيح الأحاديث: أنه كان يؤتى بالشارب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضرب بالأيدي والجريد وبالثيات والنعال. وفي حديث أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين) قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر .. استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر. وفي "الصحيحين" عن علي - رضي الله عنه -: ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت وأجد في نفس شيئًا إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وَدَيته - أي: دفعت ديته - وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنّه. وفي "صحيح مسلم": أن عثمان أتى بالوليد، وقد صلى الصبح ركعتين، وقال: أزيدكم، وشهد عليه الشهود أنه شرب الخمر، فأمر بجلده، وعلي - رضي الله عنه - يعد حتى بلغ الأربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلي - يريد الأربعين -. وقوله: وكلٌّ سنة؛ أي: أنه جرى العمل به فعلًا، ولا يعارض ذلك قوله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسن حد الخمر؛ لأن ضربه أربعين مرة واحدة لا يعد سنة محدودة له؛ لأنه قد خالف ذلك في بعض الأحيان، لكنه صار سنة بجري أبي بكر عليه. والخلاصة: أن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه، وأن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادًا من الخلفاء، فاختار أبو بكر الأربعين، وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد

[94]

عبد الرحمن بن عوف بتشبيهه بحد قذف المحصنات. وقد روى الدارقطني عن علي - رضي الله عنه - قال: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. 94 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: وعزتي وجلالي لأختبرنكم في حال إحرامكم بالحج أو العمرة {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ}؛ أي: بإرسال شيء من الصيد البري المأكول عليكم {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}؛ أي: يسهل عليكم أخذ صغاره بأيديكم؛ كالطيور، وطعن كباره برماحكم كالوحوش. قال ابن عطية: والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر؛ لأنها أعظم تصرفًا في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر؛ لأنها أعظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن الصيد للآخذ لا للمثير؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئًا. انتهى. وقال الصاوي: وهذا الابتلاء نظير ابتلاء الله قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت، ولكن الله حفظ هذه الأمة المحمدية من الوقوع فيما يخالف أمر ربهم، فتم لها السعد والعزُّ في الدنيا والآخرة، وأما أُمة موسى، فتعدوا واصطادوا: فمسخوا قردة وخنازير. انتهى. ووجه الابتلاء في ذلك (¬1): أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه في الأسفار الطويلة؛ كالسفر إلى الجهات النائية، وأن سهولة تناوله تغري به؛ إذ ترك ما لا ينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله، كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة. قال البيضاوي (¬2): نزلت في عام الحديبية، ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم وهم محرمون، والتقليل والتحقير في {بِشَيْءٍ} للتنبيه على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام، كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال، فمن لم يثبت عنده .. كيف يثبت عند ما هو أشد منه. وقرأ النخعي وابن وثاب: {يناله} بالياء التحتانية. والجملة من قوله: {تَنَالُهُ} في موضع الصفة لقوله: {بِشَيْءٍ}، أو في موضع الحال منه؛ لأنه قد وصف. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ}؛ أي: يختبركم الله سبحانه وتعالى بالصيد في حال إحرامكم ليعلم الله تعالى علم ظهور للعباد {مَنْ يَخَافُهُ}؛ أي؛ من يخاف الله تعالى، ولم يره ويمتثل أمره ونهيه؛ لقوة إيمانه حالة كونه ملتبسًا {بِالْغَيْبِ} عن الله تعالى؛ أي: غير راء له تعالى، أو المعنى: من يخاف الله تعالى حالة كونه ملابسًا بالغيب عن الناس غير مرئي لهم، ولا خائف من إنكارهم .. فيترك أخذ شيء من الصيد، ويختار خشن العيش على لذة اللحم خوفًا من الله تعالى، وطاعة له في خفيته، وعلى هذين المعنيين يكون الجار والمجرور في قوله: {بِالْغَيْبِ} حال من ضمير الفاعل في {يخاف}، ويحتمل أن يكون حالًا من ضمير المفعول العائد على الله تعالى. والمعنى: ليعلم الله من يخافه حالة كون الله ملتبسًا بالغيب عنه؛ أي: غير مرئي له. وقال (¬1) أبو حيان: ومعنى {لِيَعْلَمَ}؛ ليتميز من يخاف عقاب الله تعالى، وهو غائب منتظر في الآخرة، فيترك الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه، قاله الزمخشري. وقيل المعنى: ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب؛ أي: في السر حيث لا يراه أحد من الناس، فالخائف لا يصيد، وغير الخائف يصيد. وقال ابن عطية: والظاهر أن المعنى: بالغيب من الناس؛ أي: في الخلوة، مَنْ خاف الله .. انتهى عن الصيد من ذات نفسه. وقال الطبري: معناه في الدنيا، حيث لا يرى العبد ربه، فهو غائب. والمعنى: يختبركم الله تعالى بالصيد ليظهر من يخافه لقوة إيمانه، ويميزه عمن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه. والخلاصة (¬2): أنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[95]

يعلم الشيء وإن كان هو عالمًا به تربيةً لكم، وتزكية لنفوسكم، وتطهيرًا لها. وقرأ الزهري: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} من أعلم الرباعي، وقال ابن عطية: أي ليعلم عباده. انتهى. فيكون من: أعلم المنقولة من عَلِم المتعدية إلى واحد تعدي عرف، فحذف المفعول الأول، وهو: عباده؛ لدلالة المعنى عليه، وبقي المفعول الثاني، وهو: من يخافه. {فَمَنِ اعْتَدَى} بأخذ شيء من ذلك الصيد {بَعْدَ ذَلِكَ} البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله {فَلَهُ}؛ أي: فلذلك المعتدي بالاصطياد {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم شديد في الآخرة؛ إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم له إذا هو أخذ شيئًا من الصيد بمرأى منهم ومسمع، كما هو دأب المنافقين الذين يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. 95 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا الله ورسوله {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}؛ أي: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بإتلاف ولا اصطياد، والحال أنكم محرمون بالحج أو العمرة، أو داخلون في الحرم المكي. نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام. وفي معناه: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم؛ لأنه يقال: رجل حرام، وامرأة حرام، والجمع: حُرُم، ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم، وأحرم أيضًا إذا عقد الإحرام، فلا يجوز قتل الصيد للمحرم، ولا في الحرم. نزلت (¬1) هذه الآية في أبي اليسر، شد على حمار وحش فقتله وهو محرم، ثم صار هذا الحكم عامًّا، فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرمًا، ولا في الحرم، ومقتول المحرم من الصيد ميتة، وإن ذبحه بقطع حلقومه ومريئه، وذلك لأن المحرم ممنوع من ذبحه لمعنى فيه؛ كذبح المجوسي. والمراد بالصيد: كل حيوان متوحش مأكول اللحم، وهذا قول الشافعي. وقال (¬2) أبو حنيفة: هو كل حيوان ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

متوحش، سواء كان مأكولًا، أم لم يكن مأكولًا، فيجب عنده الضمان على من قتل سبعًا أو نمرًا أو نحو ذلك، واستثنى الشارع خمس فواسق، فأجاز قتلهن مطلقًا. وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه. وفي رواية: "خمس لا جناح على مَنْ قتلهن في الحرم والإحرام". وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه. ولمسلم "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" وذكر نحوه. وفي رواية النسائي قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والغراب الأبقع، والكلب العقور" قال ابن عيينة: الكلب العقور: كل سبع ضارٍ يعقر، وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه، قال: لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية، وبعضها هوام قاتلة، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام، وإنما هو حيوان مستخبث اللحم، وتحريم الأكل يجمع الكل، فاعتبره ورتب عليه الحكم. وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث، وقاسوا عليها الذئب، فلم يوجبوا فيه كفارة. وألحق (¬1) مالك بالكلب العقور: الذئب، والسبع، والنمر، والفهد؛ لأنها أشد منه ضررًا. والظاهر أن المراد بالصيد الذي نهت عنه الآية: هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء في قتل الأهلي ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات، ومنها الفواسق المذكورة في الحديث. {وَمَنْ قَتَلَهُ}؛ أي: ومن قتل الصيد أو أتلف جزءًا منه {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون حالة كونه {مُتَعَمِّدًا}؛ أي: قاصدًا (¬2) لقتله، ذاكرًا لإحرامه، عالمًا أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسيًا لإحرامه، أو رمى صيدًا وهو يظن أنه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

ليس بصيد .. فهو مخطئ، وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ في جزاء الإتلافات؛ لأن مورد الآية فيمن تعمد. فقد روي: أنه عنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحشي، فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم، فنزلت الآية؛ ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ. وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ}؛ أي: فعليه (¬1) ضمان شبه ما قتله من الصيد حالة كون ذلك المثل {مِنَ النَّعَمِ}؛ أي: من الإبل والبقر والغنم؛ أي: ومن قتل شيئًا من الصيد وهو محرم قاصدًا قتله .. فعليه جزاءٌ من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته وخلقته إن وجد ذلك المثل. فقد روى الدارقطني عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الضبع إذا أصابه المحرم كبشٌ، وفي الظبي شاةٌ، وفي الأرنب عناقٌ - الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة - وفي اليربوع جفرة - الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر - ". وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم .. ففيه جزاءٌ كبش مسن، وتؤكل". وإن لم يوجد المماثل من النعم، فقيمته حيث صيد، أو في أقرب الأماكن إليه. قال القاضي أبو يعلى (¬2): والصيد الذي يجب الجزاء بقتله ما كان مأكول اللحم؛ كالغزال وحمار الوحش والنعامة ونحو ذلك، أو كان متولدًا من حيوان يؤكل لحمه؛ كالسبع فإنه متولد من الضبع والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها فلا جزاء على قاتلها، سواء ابتدأَ قتلها، أو عَدَت عليه فقتلها دفعًا عن نفسه؛ لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز للمحرم قتل الحية والعقرب والفويسقة والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام .. مثله، وفيما لا مثل له .. قيمته، وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

وحمل المثل على القيمة. وظاهر الآية يرد ما قال، ولأن (¬1) الصحابة حملوا الآية على المثل في الصورة والخلقة والصغر والعظم، فحكموا في بلدان شتى وأزمان مختلفة بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وهي لا تساوي بدنة، وحكموا في حمار الوحش ببقرة، وهو لا يساوي بقرة وكذا في الضبع بكبش، فدل ذلك على أنهم إنما نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهًا من حيث الخلقة، فحكموا به، ولم يعتبروا القيمة، فيجب في الظبي شاة، وفي الأرنب سخل، وفي الضب سخلة، وفي اليربوع جفرة، ويجب في الحمامة وكل ما عب وهدر كالفواخت والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواه من الطير ففيه القيمة في المكان الذي أصيب فيه، وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرامٌ بالإجماع لنفس الآية، وأكل المحرم مما صاده الحلال جائز؛ لما روي: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي). وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (¬2): {فَجَزَاءٌ} بالتنوين {مِثْلُ} بالرفع، فارتفاع جزاء على أنه مبتدأ خبر محذوف تقديره: فعليه جزاء، ومثل صفة له؛ أي: فعليه جزاء مماثل ما قتل. وقرأ باقي السبعة: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فيكون {مثل} مقحمًا، والتقدير: فجزاء ما قتل. وقيل: من إضافة المصدر إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي: {فجزاءٌ} بالرفع والتنوين {مِثْلَ مَا قَتَلَ} بالنصب. وقرأ محمد بن مقاتل {فجزاءً مثلَ ما قتل} بنصب جزاء ومثل، والتقدير: فليُخرج جزاءً مثلَ ما قتل، و {مثل} صفة لـ {جزاء}. وقرأ الحسن: {من النعْم} بسكون العين تخفيفًا. فائدة: والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أنه لو صاد الحلال بالحل، ثم ذبحه في الحرم، فلا ضمان، وهو حلال، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء، ذكره أبو حيان في "البحر". ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

{يَحْكُمُ بِهِ}؛ أي: حالة كون ذلك الجزاء المماثل يحكم به؛ أي: يحكم بمماثلته {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: صاحبا عدالة منكم أيها المؤمنون؛ أي: رجلان صالحان من أهل دينكم، فقيهان فطنان في باب الشبه عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من النعم، فيحكمان به، ووجه الحاجة إلى حكم العدلين: أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة. قال ميمون بن مهران (¬1): جاء أعرابي إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر - رضي الله عنه - أُبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: وما أنكرت من ذلك، قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء .. أمرناك به. وعن قبيصة بن جابر: أنه حين كان محرمًا ضرب ظبيًا فمات، فسأل عمر بن الخطاب - وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف - فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، قال: فاذهب فأهدِ شاة، قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي، وقلت له: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: ففاجأني عمر، وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم، وتسفِّه الحَكَم؟! قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف. وقرأ جعفر بن محمد (¬2): {يحكم به ذو عدل} بالإفراد، والمراد به: الجنس كما تكون من محمولة على المعنى فتقديره على هذا: فريق ذو عدل، أو حاكم ذو عدل؛ لأن عدلًا هنا مصدر غير وصف، ذكره أبو البقاء. وقوله: {هَدْيًا} حال من ضمير {بِهِ} و {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صفة لـ {هَدْيًا}؛ أي: يحكم به؛ أي: بذلك المثل ذوا عدل منكم حالة كون ذلك المثل هديًا بالغ الكعبة؛ أي: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط والعكبري.

مساقًا إلى أرض الحرم ليذبح فيه ويتصدق به على مساكين الحرم. وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة، والمراد بالكعبة هنا: كل الحرم؛ لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيًا لها، وإنما يقع في الحرم، وهو المراد بالبلوغ، فيذبح المثل في الحرم كدم الهدي، ويتصدق به على مساكين الحرم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يتعين الذبح في الحرم، وأما التصدق به: فحيث شئتَ إذا وصل الهدي إلى الكعبة. والمعنى: إن ذلك الجزاء يكون هديًا يصل إلى الكعبة، ويذبح في جوارها، حيث تؤدى المناسك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. قال أبو حيان (¬1): والحرم كله منحر لهذا الهدي، فما وقف به بعرفة من هدي الجزاء ينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل به من الحل، ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغًا لكعبة. وقرأ الأعرج: {هِديًّا} بكسر الدال وتشديد الياء. انتهى. وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ} معطوف على {جزاء}، وقوله: {طَعَامُ} - بالرفع - بدل من {كَفَّارَةٌ}، أو عطف بيان لها، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي طعام. وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ}؛ أي: قدر أمداد ذلك الطعام. {عَدْلُ}: معطوف على {طَعَامُ}، وقوله: {صِيَامًا} تمييز لـ {عَدْلُ ذَلِكَ}، والمعنى: فمن قتل الصيد منكم متعمدًا، وهو محرم .. فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم، أو كفارة هي إطعام مساكين بقيمة ذلك المثل، لكل مسكين مدٌّ عند الشافعي، ونصف صاع عند أبي حنيفة من غالب قوت البلد، أو كفارة هي صيام أيام تعادل وتساوي عدد أمداد ذلك الطعام الذي هو قيمة المثل عند الشافعي، أو يصوم يومًا بدل نصف صاع عند أبي حنيفة، فيختار الجاني بين هذه الخصال الثلاثة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فصل ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة (¬1): {أَوْ} في هذه الآية للتخيير. وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة: إنها للترتيب، وهما روايتان عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الشافعي: إذا قتل صيدًا له مِثْل .. فهو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قَوَّم المثل دراهم، والدراهم طعامًا، ثم يتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يومًا، فأي ذلك فعل .. أجزأه موسرًا كان أو معسرًا، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع يومًا. وعن أحمد روايتان كالقولين، وأصل هذه المسألة: أن الصوم مقدَّر بطعام اليوم، فعند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع، وله أن يصوم حيث شاء؛ لأنه لا نفع فيه للمساكين. وذهب جمهور الفقهاء (¬2): إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء. وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة: التخيير إلى الحكمين؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، ومن قال: إن كلمة {أَو} للترتيب قال: إن لم يجد الهدي اشترى طعامًا وتصدق به، فإن كان معسرًا صام. وقال مالك: إن لم يخرج المثل من النعم .. يقوِّم الصيد، ثم يجعل القيمة طعامًا، فيتصدق به أو يصوم. وقال أبو حنيفة: لا يجب المثل من النعم، بل يقوَّم الصيد، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم، وإن شاء إلى الطعام، فيتصدق به، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يومًا. واختلفوا في موضع التقويم، فقال جمهور الفقهاء: يقوَّم في المكان الذي قتل فيه الصيد. وقال الشعبي: يقوَّم بمكة بثمن مكة؛ لأنه يصرف بها. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد .. فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيًا أو نحوه .. فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد .. فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد .. فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلًا - من بقر الوحش - فعليه بقرة، فإن لم يجدها .. صام عشرين يومًا، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك .. فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد .. أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد .. صام ثلاثين يومًا، والطعام مد مد يشبعهم. وقال مالك: بوجوب الشاة في خصوص حمام مكة ويمامها تعبدًا، فإن لم يكن .. فصيام عشرة أيام من غير تقويم ولا حكم، وحمام غيرها وسائر الطيور ليس فيه إلا قيمته طعامًا، أو عدله صيامًا، ذكره الصاوي. وقرأ نافع وابن عامر (¬1): {كفارة طعام مساكين} بالإضافة، والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ إذ الكفارة تكون كفارة هدي، وكفارة طعام، وكفارة صيام. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع {طعام}. وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا {مسكين} على أنه اسم جنس. وقرأ الجمهور {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها. وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق ب محذوف تقديره: أوجبنا عليه ذلك الجزاء بأقسامه الثلاثة ليذوق وبال أمره؛ أي: جزاء ذنبه الصادر منه، وعقوبة هتكه لحرمة الإحرام؛ إما بدفع الغرم، وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه، والوبال في الأصل: الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره، وإنما سمَّى الله ذلك الجزاء وبالًا؛ لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس؛ لأن فيه تنقيصًا للمال، وهو ثقيل على النفس، وكذا الصوم أيضًا ثقيل على النفس؛ لأن فيه إنهاك البدن. والمعنى (¬2): أن الله سبحانه وتعالى أوجب على قاتل الصيد في الإحرام أو في الحرم أحد هذه الأشياء الثلاثة التي كل واحد منها ثقيل على النفس، حتى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

يحترز عن قتل الصيد في الحرم، أو في حال الإحرام. {عَفَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى وسامح لكم {عَمَّا سَلَفَ} وسبق منكم قبل هذا النهي والتحريم من قتل الصيد في الإحرام أو في الحرم {وَمَنْ عَادَ} ورجع إلى قتل الصيد بعد هذا النهي والتحريم، أو المعنى: ومن قتل الصيد وهو محرم بعد ورود هذا النهي وهو عالم بهذا النهي {فـ} ـإنه {ينتقم الله منه}؛ أي: يعاقبه في الاخرة عقوبة شديدة مع لزوم الكفارة له في الدنيا. وقال ابن كثير (¬1): ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد .. وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد. وحكى علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: مَن قتل شيئًا من الصيد خطأً وهو محرم .. يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدًا .. يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله - عز وجل -. انتهى. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب على أمره فلا يغلبه العاصي {ذُو انْتِقَامٍ}؛ أي: صاحب عقوبة شديدة لمن عصاه. وقال ابن جرير (¬2): في قوله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} يقول الله جلَّ ذكره: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله: {ذُو انْتِقَامٍ} يعني: أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه. والآية صريحة (¬3): في أنَّ الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر .. استحق صاحبه الجزاء في الدنيا، والعقاب في الآخرة. ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الطبري. (¬3) المراغي.

[96]

مسألة: فإن قلتَ (¬1): إن العفو فرع المعصية، وهي تحصل باشتغال المحرم بقتل الصيد بعد نزول آية التحريم، فما معنى العفو عن قتل الصيد قبل تحريمه المفهوم من قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}؟ قلتُ: إن المراد بالعفو هنا مجرد عدم المؤاخذة على ما سلف، فلا يرد السؤال المذكور، أفاده الكرخي، 96 - والخطاب في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} إما لكل مسلم أو للمحرمين خاصة؛ أي: أحل لكم أيها الناس صيد جميع المياه العذبة والملحة بحرًا كان أو نهرًا أو غديرًا؛ أي: اصطياد صيد الماء والانتفاع به بأكله، واصطياده لأجل عظامه وأسنانه، وأحل لكم طعام البحر؛ أي: أكله، فالصيد هو ما صيد بالحيلة حال حياته ثم مات. والطعام ما يوجد مما لفظه البحر، أو نضب عنه الماء، ويحصل من غير معالجة في أخذه. والمعنى: وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات، وما قذفه البحر ميتًا، وروي هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر وقتادة. والخلاصة: أن المراد بطعامه عندهم: ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة في اصطياده؛ كالذي يطفو على وجهه، والذي يقذف به إلى الساحل، والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر، ولا فرق بين حيه وميته. فصل في حيوان الماء واعلم: أن (¬2) جملة حيوان الماء على قسمين: سمك وغير سمك. فأمَّا السمك: فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب، فيحل أكله. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يموت بسبب. وما عدا السمك فقسمان: قسم يعيش في البر والبحر؛ كالضفدع والسرطان والتمساح والسلحفاة، فلا يحل أكلها. وقال سفيان: أرجو أن لا يكون بالسرطان ¬

_ (¬1) الفتوحات بتصرف. (¬2) الخازن والمراح.

بأس. وقال الشافعي: السمكة الطافية في البحر حلال، والسمكة عنده كل ما لا يعيش إلا في الماء، ولو كان على صورة غير المأكول من حيوان البر؛ كالآدمي والكلب والخنزير، فهذا كله حلال عنده، وحجته الخبر السابق وهذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم من بني مدلج كانوا أهل صيد البحر، سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طعام البحر، وعما حسر البحر عنه. ومعنى قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ}؛ أي: ما حسر عنه البحر وألقاه. وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح؛ لأن التمساح يفترس ويأكل الناس. وقال ابن أبي ليلى ومالك: يباح كل ما في البحر. وذهب جماعة إلى أن ما له نظير يؤكل من حيوان البر يؤكل مثل: بقر الماء ونحوه، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل: كلب الماء وخنزيره. واختلفوا (¬1) في الجراد فقيل: هو من صيد البحر، فيحل أكله للمحرم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر، وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام، فإن أصاب جرادة فعليه صدقة. قال عمر: في الجرادة تمرة، وعنه وعن ابن عباس رضي الله عنهم: قبضة من طعام. وكذلك طير الماء، فهو من صيد البر أيضًا. {مَتَاعًا لَكُمْ} أيها المقيمون {وَلِلسَّيَّارَةِ}؛ أي: وللمسافرين منكم؛ أي: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأكله متاعًا لكم؛ أي: تمتيعًا ومنفعة لمن كان منكم مقيمًا في بلده، يستمتع بأكله طريًّا، وينتفع به، ومنفعة ومتعة للسائرين والمسافرين منكم من أرض إلى أرض، يجعلونه قديدًا، ويتزودونه في سفرهم مليحًا للأكل، أو للبيع كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أيها المحرمون {صَيْدُ الْبَرِّ}؛ أي: أكل ما يصاد في البر، وهو كل ما لا يعيش إلا في البر {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}؛ أي: مدة كونكم محرمين بحج أو عمرة. وظاهره تحريم صيده على المحرم، ولو كان الصائد حلالًا، وإليه ذهب الجمهور إذا كان الصائد صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث الآتية. وقيل: إنه يحل له مطلقًا، وإليه ذهب ¬

_ (¬1) الخازن.

جماعة. وقيل: يحرم عليه مطلقًا، وإليه ذهب آخرون. وقد بسطنا الكلام على هذا الاختلاف في الفصل الآتي مع ذكر حجة كل واحد منهم. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة (¬1): أحدها: في أول السورة، وهو قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. والثاني: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. والثالث: هذه الآية: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم. وقرأ ابن عباس: {وَحُرِّمَ} مبنيًّا للفاعل و {صَيْدُ} بالنصب {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بفتح الحاء والراء. وقرأ يحيى: {مَا دُمْتُمْ} بكسر الدال، وهو لغة يقال: دام يدام كخاف يخاف. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله {الَّذِي إِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُحْشَرُونَ}؛ أي: تجمعون وترجعون إليه للمجازاة، لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالتجاء إلى ذلك الغير، فلا غير يلتجأ إليه، بل الأمر محصور فيه تعالى. والمعنى (¬2): واخشوا الله تعالى، واحذروا عقابه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وإصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم، وفي نحو ذلك، فإن إليه مصيركم ومرجعكم، فيعاقبكم بمعصيتكم، ويثيبكم على طاعتكم، ولا يخفى ما فيه من التشديد والمبالغة في التحذير من عقابه. فصل وقد اختلف العلماء: هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره؟ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[97]

فذهب قوم: إلى أنه لا يحل ذلك بحال، يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول طاووس، وإليه ذهب الثوري، واحتجوا على ذلك: بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا - وهو بالأبواء أو بودان - فرده عليه - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة .. قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرُم". أخرجاه في "الصحيحين". وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه، ولا صيد له، ولا دلَّ عليه بإشارته، ولا أعان عليه، وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، ويدل عليه: ما روي عن أبي قتادة الأنصاري قال: كنت جالسًا مع رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزل في طريق مكة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلًا، فلم يؤذنوا لي، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: لا والله، لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت، فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكُّوا في أكلهم إياه وهم حرم، فَرُحْنَا وخبأت العضد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك فقال: "هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكل منها، وهو محرم. وزاد في رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله"، وفي رواية: "هو حلال فكلوه"، وفي رواية: قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها، قالوا: لا، قال: كلوا ما بقي من لحمها" أخرجاه في "الصحيحين". وأجاب أصحاب هذا المذهب من حديث الصعب بن جثامة: بأنه إنما ردَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله، والله أعلم. 97 - {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وسميت الكعبة كعبة لتربيعها؛ أي: لكونها مربعة من التكعيب بمعنى: التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة.

وقيل: سميت كعبة لارتفاعها وبروزها، وكل بارز كعبٌ مستديرًا كان أو غير مستدير، ومنه: كَعْب القدم، وكعوب القنا، وكعب ثدي المرأة، وسمي بيتًا؛ لأن له سقوفًا وجدارًا، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حرامًا؛ لتحريم الله تعالى إياه وتعظيمه وتشريفه بأداء المناسك فيه، وبعدم تنفير صيده، وعدم قطع شجره وخلاه. والمراد بالبيت الحرام: جميع الحرم؛ لما صح من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة فقال: "إن هذا البلد حرَّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه" متفق عليه. و {البيت الحرام} بدل من {الكعبة} أو عطف بيان منه؛ أي: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الكعبة التي هي بيت الله الحرام {قِيَامًا لِلنَّاسِ}؛ أي: أمنًا وسببًا لحصول مصالح الناس ومنافعهم في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم. أمَّا في أمر الدين: فإنه بها يقوم الحج وتتم المناسك، وضوعفت الحسنات فيها، وأما في أمر الدنيا: فإن مكة بلدة لا ضرع فيها، ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاج إليه أهلها، فجعل الله الكعبة معظمة في قلوب الناس يرغب الناس جميعًا في زيارتها والسفر إليها من كل فج عميقٍ لأداء المناسك، وللتجارة، فصار ذلك سببًا في إسباغ النعم على أهل مكة إجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم .. لم يتعرض له، ولو جنى أعظم الجنايات كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} فصار أهل مكة آمنين على أنفسهم وأموالهم، كما أنهم صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته، والسادة المعظمين إلى يوم القيامة. وأما في أمر آخرتهم: فإن البيت جُعل لقيام المناسك عنده، وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابًا لعلو الدرجات، وتكفير الخطيئات، وزيادة الكرامات والمثوبات، فلما كانت الكعبة الشريفة سببًا لحصول هذه الأشياء .. كانت سببًا لقيام الناس.

وقرأ ابن عامر (¬1): {قِيَما} بغير ألف بوزن عِنَب، فإن كان أصله {قِيَامًا} بالألف، وحذفت فقيل: حكم هذا أن يجيء في الشعر، وإن كان مصدرًا على فِعَل .. كان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض. وقرأ الجحدري: {قيما} - بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة - وهو كسيد: اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان. {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ}؛ أي: وكذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأشهر الحرم قيامًا للناس، والمراد بالشهر الحرام: الجنس، فيشمل الأشهر الأربعة: ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب؛ أي: سببًا لحصول مصالحهم وأمنًا في معاشهم وحياتهم؛ لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضًا، ويغير بعضهم على بعض في سائر الأشهر حتى إذا استهل الشهر الحرام .. زال الخوف، وقدروا على الأسفار والتجارات، وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولولاه لتفانوا من الجوع والشدة {و} كذلك جعل الله سبحانه وتعالى {الهدي} سببًا لقيام الناس ومصالحهم، وهو ما يهدى إلى الحرم ويذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكينه، فيكون ذلك نسكًا للمُهدي وقوامًا لمعيشة الفقراء {و} كذلك جعل الله سبحانه وتعالى {القلائد} قيامًا للناس، وسببًا لمصالحهم، وهي ما يتخذ من لحاء شجر الحرم، فيعلق في عنق الإبل مثلًا؛ ليعلم أنه هدي للحرم، أو يعلّقه الشخص في عنقه؛ ليأمن من العدو؛ إذ أن من قصد البيت في الشهر الحرام .. لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام، ومعه هدي، وقلده، وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم .. لم يتعرض له أحد؛ لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه .. صار آمنًا من جميع الآفات والمخاوف. ولما (¬2) كانت الكعبة موضعًا مخصوصًا لا يصل إليه كل خائف .. جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قيامًا للناس كالكعبة {ذَلَكَ} الجعل المذكور ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[98]

والتدبير اللطيف {لِتَعْلَمُوا}؛ أي: لأجل أن تتفكروا فيه أيها المؤمنون وتعلموا {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض الدينية والدنيوية، يعني: أنه تعالى علم في الأزل بمصالح العباد وما يحتاجون إليه، فجعل الكعبة البيت الحرام، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد يأمنون بها؛ لأنه يعلم مصالح العباد كما يعلم تفاصيل ما في السموات وما في الأرض. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعميم بعد تخصيص؛ أي: وكيف لا يعلم ذلك، وأن علمه محيط بكل شيء فلا تخفى عليه خافية. والخلاصة (¬1): أن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلًا على أنه سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية، وقد عجزت جميع الأمم في القديم والحديث عن تأمين الناس في قطر من الأقطار في زمنٍ معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان. 98 - {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}؛ أي: اعلموا أن ربكم الله الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو محصيها عليكم شديد العقاب والعذاب لمن دنس نفسه بالشرك والفسوق والعصيان. {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ}؛ أي: غفار لمن أناب إليه وتاب عن معاصيه {رَحِيمٌ} لمن أطاعه وحافظ على طاعته، فلا يؤاخذه بما فرط منه قبل الإيمان، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة وأصلح عمله، بل يستر ذنبه ويمحوه، فلا يبقى له أثر مع إيمانه وعمله الصالح، كما يستر الماء القليل القذر بما يغمره من الماء النقي الكثير، وفي تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماءٌ إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه، كما ورد في صحيح الحديث، ومن ثم ¬

_ (¬1) المراغي.

[99]

يغفر كثيرًا لمن ظلم نفسه. قال تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. 99 - وبعد أن أبان الله سبحانه وتعالى أن الجزاء بيد الله العليم بكل شيء .. ذكر وظيفة الرسول، وهو توصيل الأحكام إلى أمته فقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ} محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وكذا سائر رسل الله تعالى صلوات الله عليهم أجمعين؛ أي: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدي عذاب شديد، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم. {إِلَّا الْبَلَاغُ}؛ أي: إلا أن يؤدي الرسالة إليكم ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا، والعاصي التارك للعمل بها، كما قال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} وتظهرون من الأعمال الحسنة والسيئة {وَمَا تَكْتُمُونَ}؛ أي: وما تخفون في قلوبكم من الإيمان والنفاق والشرك، فيجازيكم عليها؛ إذ لا يغيب عنه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، فخليق بكم أن تتقوني ولا تعصوا أمري، وفي هذه الجملة وعد ووعيد. وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر الله ويعصيه، كما أن فيه إبطالًا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة، والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها. والخلاصة (¬1): أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين الله وشرعه، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسؤولون عند الله تعالى، والله الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة في الأرض والسموات، ويكون جزاؤه حقًّا وعدلًا، ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليهم وفضله، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم، وخافوا منها عليها. وما ورد من الشفاعة في الآخرة فهو دعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - يستجيبه الله، فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء في كتابه دون أن يكون مؤثرًا في علم الله ولا في إرادته، فالحادث لا يؤثر في القديم. 100 - وبعد أن بين الله تعالى أن الجزاء منوط بالأعمال .. أراد أن يبين ما يتعلق ¬

_ (¬1) المراغي.

به الجزاء من صفات الأعمال، والعاملين لها، وأرشد إلى أن هناك حقيقتين مختلفتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء، فقال: {قُل} يا محمَّد مخاطبًا أمتك {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}؛ أي: لا يستوي الرديء والجيد من الأشياء والأعمال والأموال، فلا يتساوى الضار والنافع، ولا الفاسد ولا الصالح، ولا الحرام والحلال، ولا الظالم والعادل، ولا المسلم والكافر، فلكل منها حكم يليق به عند الله الذي يضع كل شيء في موضعه بحسب علمه؛ أي: لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله وعند الناس: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} وأحبك وسرك أيها المخاطب {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} من الناس، أو من الأموال المحرمة؛ لسهولة تناولها والتوسع في التمتع بها؛ كأكل الربا والرشوة والخيانة. والمراد (¬1): نفي الاستواء في كل الأحوال ولو في حال كون الخبيث معجبًا للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم؛ لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته. والواو إما للحال، أو للعطف على مقدَّر؛ أي: لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك: أحسن إلى فلان، وإن أساء إليك؛ أي: أحسن إليه إن لم يسىء إليك، وإن أساء إليك. وجواب {لو} محذوف؛ أي: ولو أعجبك كثرة فلا يستويان. الخلاصة: أنهما لا يستويان لا في أنفسهما، ولا عند الله، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك، فصرت بعيدًا عن إدراك تلك الحقيقة؛ وهي: أن القليل من الحلال خير من كثير من الحرام حسن عاقبة في الدنيا والآخرة، ألا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه، ولا يفيد فائدته، بل ربما يضر ويؤذي صاحبه، فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين، وجماعة قليلة من ذوي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

البصيرة والرأي تأتي من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة، فالعبرة بالصفة لا بالعدد، والكثرة لا تكون خيرًا إلا بعد التساوي في الصفات الفاضلة. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله تعالى فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تعدلوا من الطيب إلى الخبيث من الأعمال والأموال ظاهرًا وباطنًا {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: يا أصحاب العقول الكاملة السليمة الخالصة من الأمراض التي تدنسها {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تظفروا بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة. والمعنى: فاتقوا الله يا أرباب العقول الراجحة، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان، فتغتروا بكثرة المال الخبيث، وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فتقوى الله هي التي تجعلكم من الطيبين، وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيري الدنيا والآخرة. وخصَّ أولي الألباب بالاعتبار؛ لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها. أمَّا الأغرار الغافلون: فلا يفيدهم وعظ واعظ، ولا تذكير مذكر، فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم، ولا بما يسمعون بآذانهم، كما يُشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتي العلم والخلق، وورثها من كانوا أقل منهم رجالًا ومالًا؛ إذ كانوا أفضل منهم أخلاقًا وأعمالًا. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أيّ} منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأيُّ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {إِنَّمَا}: أداة حصر بمعنى ما النافية

وإلا المثبتة. {الْخَمْرُ}: مبتدأ. {وَالْمَيْسِرُ}: معطوفة عليه، وكذلك {وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ}: معطوفان على {الْخَمْرُ}. {رِجْسٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {رِجْسٌ}. {فَاجْتَنِبُوه}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، وأردتم ما هو الواجب عليكم .. فأقول لكم: اجتنبوه. {اجتنبوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {لَعَلَّكُمْ}: لعل: حرف ترج ونصب، والكاف ضمير المخاطبين في محل النصب اسمها. {تُفْلِحُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر {يُرِيدُ الشَّيْطَانُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُوقِعَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}. {بَيْنَكُمُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُوقِعَ}. {الْعَدَاوَةَ}: مفعول به. {وَالْبَغْضَاءَ}: معطوف عليه. {في}: حرف جر وسبب. {الْخَمْرِ}: مجرور به. {وَالْمَيْسِرِ}: معطوف عليه، والجار والمجرور متعلق بـ {يُوقِعَ}، وجملة يوقع صلة {أَن} المصدرية، {وأَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يريد} تقديره: إنما يريد الشيطان إيقاعه العداوة والبغضاء بينكم بسبب الخمر والميسر. {وَيَصُدَّكُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يُوقِعَ}، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يصدكم}. {وَعَنِ الصَّلَاةِ}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله. {فَهَل}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن الشيطان يريد أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء

بسبب الخمر والميسر، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: هل أنتم منتهون؛ أي: انتهوا عن الخمر والميسر. {هل}: حرف للاستفهام الاستخباري الذي هو بمعنى الأمر مبني على السكون. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {مُنْتَهُونَ} خبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة الاستفهام من حيث ما تضمنته من الأمر، والتقدير: انتهوا عن الخمر والميسر، وأطيعوا الله بالانتهاء عنهما {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}. {وَاحْذَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}، ومفعوله محذوف تقديره: واحذروا المعاصي كلها. {فَإِن} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر، تقديره: إذا عرفتم وجوب طاعة الله تعالى، وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأردتم بيان حكم ما إذا خالفتم الله والرسول .. فأقول لكم: {إن}: حرف شرط {تَوَلَّيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَاعْلَمُوا}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. {اعلموا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وفي "الفتوحات": جواب الشرط محذوف تقديره: فجزائكم علينا، والمذكور دال على الجواب لا جواب. {أَنَّمَا}: أن حرف نصب ومصدر. ما: كافة. {عَلَى رَسُولِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ}: صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر صلة {أن]، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: فاعلموا كون البلاغ المبين على رسولنا لا غير.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {جُنَاحٌ}: اسم {لَيسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة. {فِيمَا}: في حرف جر وسبب. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ {في}، الجار والمجرور صفة لـ {جُنَاحٌ}، أو متعلق بـ {جُنَاحٌ} أو بـ {لَيْسَ}، أو متعلق بما تعلق به الخبر. {طَعِمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: فيما طعموه من الخمر والميسر. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مَا}: زائدة. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. {وَآمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} معطوفة على جملة {وَآمَنُوا}. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَآمَنُوا} أيضًا، والظرف متعلق بالجواب المحذوف المعلوم من السياق تقديره: لا يأثمون ولا يؤاخذون وقت اتقائهم، وجملة {إِذَا} مستأنفة، ويجوز أن تكون {إذَا} ظرفًا مجردًا عن الشرط، وأن تكون شرطية وجوابها محذوف كما قدرنا آنفًا. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل معطوف على قوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا}. {وَآمَنُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اتَّقَوْا} الذي قبله. {ثُمَّ اتَّقَوْا}: معطوف على قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا}. {وَأَحْسَنُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اتَّقَوْا} قبله. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} خبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أيُّ} منادى نكرة مقصودة، {ها} حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة

لـ {أيُ} {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {لَيَبْلُوَنَّكُمُ}: اللام: موطئة للقسم. {يبلونكم}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب. {اللَّهُ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بِشَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يبلون}. {مِنَ الصَّيْدِ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {شَيْءٍ} تقديره: بشيء كائن من الصيد. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ}: فعل ومفعول وفاعل. {وَرِمَاحُكُمْ}: معطوف على {أَيْدِيكُمْ}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {شيء}، أو في محل النصب حال من {شيء} لتخصصه بالصفة. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ}: اللام: حرف جر وتعليل. {يعلم الله}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يعلم}؛ لأنه بمعنى عرف. {يَخَافُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {بِالْغَيْبِ}: جار ومجرور حال من ضمير الفاعل في {يخاف}؛ أي: يخاف الله حالة كونه غائبًا عن الله، ومعنى كون العبد غائبًا عن الله: أنه لم يرَ الله تعالى، أو حال من ضمير المفعول؛ أي: من يخاف الله حالة كونه تعالى ملتبسًا بالغيب عن العبد؛ أي: غير مرئي له، وجملة {يخاف} من الفعل والفاعل صلة {مَن} الموصول، وجملة {يعلم} من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لعلم الله علم ظهور للخلق من يخافه بالغيب، الجار والمجرور متعلق بـ {يبلون}. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {فَمَن} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ابتلاء الله لكم بالصيد ليعلم الله من يخافه بالغيب، وأردتم بيان حكم من اعتدى على الصيد بعد النهي المفهوم من هذا الابتلاء .. فأقول لكم: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما {اعْتَدَى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله

ضمير يعود على {من}. {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {اعْتَدَى}. {فَلَهُ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {له} هو جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أيُّ}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأي {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. {لَا}: ناهية جازمة. {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَنْتُمْ}: مبتدأ. {حُرُمٌ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَقْتُلُوا}. {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. {وَمَن} الواو: استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {قَتَلَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنكمُ}: جار ومجرور حال من فاعل {قَتَلَهُ}؛ أي: كائنًا منكم، وقوله متعمدًا حال أيضًا من فاعل {قَتَلَ} فعلى رأي مَنْ يجوِّز تعدد الحال، يجوز ذلك هنا، ومن منع يقول: إن {مِنكمُ} للبيان متعلق بـ {قَتَلَ} حتى لا تتعدد الحال. {فَجَزَاءٌ} الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {جزاء}: مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فعليه جزاء، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {مِثْلُ} بالرفع صفة لـ {جزاء}؛ لأنه بمعنى: مماثل، أو بدل منه. ويقرأ على المشهور بإضافة {جزاء} إلى المثل، وإعراب الجزاء يكون على ما تقدم، {مِثْلُ} في هذه القراءة

مقحم كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}، {مِثْلُ} مضاف. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل الجر مضاف إليه. {قَتَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مِنَ}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: قتله. {مِنَ النَّعَمِ}: جار ومجرور حال من {مِثْلُ}، أو صفة له. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}. {يَحْكُمُ}: فعل مضارع. {بِهِ}: متعلق به. {ذَوَا}: فاعل مرفوع بالألف؛ لأنه من المثنى. {عَدْلٍ}: مضاف إليه. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {ذَوَا}؛ أي: كائنان منكم، وجملة {يَحْكُمُ} في محل الرفع صفة لـ {جزاء} إذا نونته، وأما على الإضافة فهو في موضع الحال، والعامل فيه معنى الاستقرار المقدَّر في الخبر المحذوف {هَدْيًا}: حال من {جزاء} على كل من القراءتين، أو من ضمير به، أو منصوب على المصدرية؛ أي: يهديه هديًا، أو منصوب على التمييز. {بَالِغَ الْكَعْبَةِ}: صفة لـ {هَدْيًا}، وإن أضيف إلى ما بعده؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفًا. {أَوْ كَفَّارَةٌ}: معطوف على {جزاء}؛ أي: أو عليه كفارة إذا لم يجد المثل. {طَعَامُ}: بدل من {كَفَّارَةٌ}، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي طعام، ويقرأ بالإضافة، والإضافة فيه لتبيين المضاف {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ}: معطوف على {جزاء}؛ أي: أو عليه عدل ذلك {صِيَامًا}: تمييز لـ {عَدْلُ} كقولهم على التمرة مثلها زبدًا؛ لأن المعنى: أو قدر ذلك صيامًا. {لِيَذُوقَ} اللام لام كي. {يذوق}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على قاتل الصيد عمدًا. {وَبَالَ أَمْرِهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لذوقه وبال أمره؛ أي: جزاء ذنبه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أوجبنا عليه ذلك الجزاء لذوقه وبال أمره. {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

{عَفَا اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَفَا}. {سَلَفَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {ما}. {وَمَنْ}: الواو: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {عَادَ}: في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ}: الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية جوازًا. {ينتقم الله}: فعل وفاعل والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، ولم يجزم لفظه مشاكلة لفعل الشرط، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}. {مِنْهُ} جار ومجرور متعلق بـ {يَنْتَقِمُ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {عَزِيزٌ} خبر. {ذُو}: صفة لـ {عَزِيزٌ} مرفوع بالواو. {انْتِقَامٍ}: مضاف إليه. {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. {أُحِلَّ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَكُمْ}: متعلق به. {صَيْدُ الْبَحْرِ}: نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَطَعَامُهُ}: معطوف على {صَيْدُ الْبَحْرِ}. {مَتَاعًا}: مفعول لأجله؛ أي: أحل لكم صيد البحر وطعامه تمتيعًا لكم؛ أي: لأجل تمتعكم وانتفاعكم، وقيل: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف تقديره: متعكم الله بذلك تمتيعًا. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {مَتَاعًا}؛ لأنه اسم مصدر لمتَّعَ المضعف. {وَلِلسَّيَّارَةِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَحُرِّمَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {صَيْدُ الْبَرِّ}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر}. {مَا}: مصدرية ظرفية. {دُمْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {حُرُمًا}: خبره وجملة دام من اسمها وخبرها صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامكم محرمين، والظرف المقدر متعلق بـ {حرم}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ

وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}. {اتَّقُوا اللهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب صفة للجلالة. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}. {تُحْشَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير إليه. {جَعَلَ الله}: فعل وفاعل. {الْكَعْبَةَ}: مفعول أول. {الْبَيْتَ}: بدل من {الْكَعْبَةَ}، أو عطف بيان منه. {الْحَرَامَ}: صفة لـ {الْبَيْتَ}. {قِيَامًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ} إن كان جعل بمعنى: صيّر، وإن كان جعل بمعنى: خلق .. فقيامًا حال من {الْكَعْبَة}. {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قِيَامًا}. {وَالشَّهْرَ}: معطوف على {الْكَعْبَة}. {الْحَرَامَ}: صفة لـ {الشهر} {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}: معطوفان أيضًا على {الْكَعْبَة}، فالمفعول الثاني، أو الحال محذوف لفهم المعنى؛ أي: جعل الله أيضًا الشهر الحرام والهدي والقلائد قيامًا. اهـ "سمين". {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {لِتَعْلَمُوا}: اللام: حرف جر وتعليل. {تعلموا}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن لعلمكم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، والجملة الإسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. وفي "السمين": {ذَلِكَ} فيه ثلاثة أوجه من الإعراب: أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: ذلك الحكم هو الحق لا غيره.

والثالث: أنه منصوب بفعل مقدَّر يدل عليه السياق؛ أي: شرع الله ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلق لام العلة به. {أَنَّ}: حرف نصب. {اللهَ}: اسمها، وجملة {يَعْلَمُ} خبرها، وجملة {أَنَّ} وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لتعلموا؛ لأن علم هنا بمعنى: عرف يتعدى لمفعول واحد تقديره: لتعلموا علم الله ما في السموات وما في الأرض. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {في السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَمَا في الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا في السَّمَاوَاتِ}. {وَأَنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر أن مرفوع، وجملة أن في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من أنَّ الأولى تقديره: ذلك لتعلموا علم الله ما في السموات، وما في الأرض، وعلمه بكل شيء. {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}. {اعْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبر {أَنّ}، ومضاف إليه وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {اعْلَمُوا} تقديره: اعلموا كون الله شديد العقاب، وجملة قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من جملة {أَنَّ} الأولى تقديره: اعلموا كون الله شديد العقاب، وكونه غفورًا رحيمًا. {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}. {مَا}: نافية. {عَلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. وفي "الفتوحات": وفي رفعه وجهان: أحدهما: أنه فاعل بالجار قبله لاعتماده على النفي؛ أي: ما استقر على الرسول الله البلاغ.

الثاني: أنه مبتدأ: وخبره الجار قبله، وعلى كل من التقديرين فالاستثناء مفرغ. اهـ "سمين". {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {تُبْدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تبدونه. {وَمَا تَكتُمُونَ}: معطوف على {مَا تُبْدُونَ}، وجملة {يَعْلَمُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قُل}، وإنْ شئت قلتَ: {لَا}: نافية. {يَسْتَوِي الْخَبِيثُ}: فعل وفاعل. {وَالطَّيِّبُ}: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَلَوْ} الواو: عاطفة. {لو}: حرف شرط غير جازم. {أَعْجَبَكَ}: فعل ومفعول. {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}: فاعل ومضاف إليه، وجواب {لو} محذوف معلوم مما قبلها تقديره: ولو أعجبك كثرة الخبيث لا يستوي الخبيث والطيب، وجملة {لو} معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك، وكلتا الجملتين في موضع الحال من فاعل {لَا يَسْتَوِي} تقديره: قل لا يستوي الخبيث والطيب حالة كون كثرة الخبيث غير معجبة لك ومعجبة لك. {فَاتَّقُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم عدم استواء الخبيث والطيب - ولو كثر الخبيث - وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم: اتقوا الله يا أولي الألباب. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}: منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. {لَعَلَّكُمْ}: {ولعل}: حرف ترج وتعليل، والكاف: اسمها، وجملة {تُفْلِحُونَ}: خبرها، وجملة {لعل} مسوقة لتعليل ما قبلها في محل الجر بلام التعليل

المقدرة، والتقدير: فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه لرجاء فَلاحِكُمْ. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}: الخمر لغة: ما اتخذ من عصير العنب، وشرعًا: كل شراب مسكر وإن اتخذ من غير العنب، وسمي خمرًا؛ لأنه يخامر العقل؛ أي: يستره ويغطيه. والميسر لغة: القمار؛ أي: اللعب بالقداح؛ أي: بالملاهي؛ كالطاب والمنقلة والطاولة والعود، وشرعًا: كل لعب تردد بين غُنْم وغُرْم، سواء كان بالملاهي أو بغيرها. {وَالْأَنْصَابُ}: جمع نَصَب بفتحتين؛ كجمل وأجمال، أو جمع نُصُب بضمتين؛ كعنق وأعناق، سميت الأصنام بذلك؛ لأنها تنصب للعبادة {وَالْأَزْلَامُ}: جمع زلَم بضم الزاي وفتحها مع فتح اللام فيهما، وهي القداح؛ أي: قِطَع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم كما مرَّ. {رِجْسٌ}: قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل قبيح، ويقال للعذرة والأقذار: رجس؛ لأنها قذارة ونجاسة. وفي "القاموس": رجس كفرح، ورَجُس ككرم إذا عمل عملًا قبيحًا، والرجس المستقذر حسًّا أو معنى، يقال: رجل رجس، ورجال أرجاس. والرجس على أوجه: إما من جهة الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع؛ كالخمر والميسر، وإما من كل ذلك كالميتة؛ لأنها تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا، وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة صوت الرعد. وفرّق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس، فجعل الرجس: الشر، والرجز: العذاب، والركس: العورة والنتن. اهـ. {الْعَدَاوَةَ}: تجاوز الحق إلى الإيذاء {فِيمَا طَعِمُوا}: يقال: طعم الشيء يطعمه - من باب علم - إذا أكله، ثم استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب، ومن الأول قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}؛ أي: أكلتم، ومن الثاني قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، أي: لم يذق طعم مائه. {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ}: من بَلاَ يبلو من باب غزا يغزوا فهو

ناقص واوي، اتصل به نون التوكيد الثقيلة؛ أي: ليعاملنكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء، وإن كان علام الغيوب، والمراد بالصيد هنا: المأكول البري الوحشي، وإلا فالصيد يطلق على المأكول وعلى غير المأكول، قال الشاعر: صَيْدُ الْمُلُوْكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبُ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطَالُ والصيد في الأصل؛ مصدر صاد يصيد صيدًا من باب باع، وهو ها هنا بمعنى اسم المفعول؛ أي: المصيد، وسمي صيدًا ومصيدًا لمآله إلى ذلك، وتوافر الدواعي إلى صيده، فكأنه لما أعد للصيد .. صار كأنه مصيد {بِالْغَيْبِ}: وهو مصدر في موضع فاعل، ذكره أبو البقاء. {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: جمع حرام، يطلق على الذكر والأنثى، يقال: هو رجل حرام وامرأة حرام؛ أي: محرمة بحج أو عمرة، ويقع أيضًا على المحرم وإن كان في الحل، وعلى من في الحرم وإن كان حلالًا، وهما سيان في النهي عن قتل الصيد. {مِنَ النَّعَم}: والنعم: اسم جنس يجمع على أنعام، وهي في العرف الإبل والبقر والغنم {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ}: العدل بالفتح (¬1): المعادل للشيء والمساوي له مما يدرك بالعقل، وبالكسر: المساوي له مما يدرك بالحس {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}: والوبال في اللغة (¬2): الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره، يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وإنما سمى الله ذلك وبالًا؛ لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لما فيه من تنقيص المال وثقل الصوم على النفس كما مر. وفي "السمين": وقال الراغب: الوابل المطر الثقيل القطر، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره وبال، قال تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِمْ}، ويقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل يخاف وباله قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}. وقال غيره: والوبال في اللغة: ثقل الشيء في المكروه، يقال: مرعى وبيل إذا كان يستوخم، وماء وبيل إذا كان لا يستمرأ، واستوبلتُ الأرضَ؛ كرهتها خوفًا من وبالها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} والمراد بالبحر هنا: الماء الكثير الذي يوجد فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها، لا خصوص البحر المعروف. وصيد البحر: ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة، وطعامه ما قذف به إلى ساحله. {مَتَاعًا} اسم مصدر لمتع المضعف، يقال: متَّع يمتع تمتيعًا ومتاعًا فهو بمعنى: التمتيع. والسيارة: جماعة المسافرين يتزودون منه، وهي مؤنث سيَّار، وهي القافلة، وأصلها: القوم يسيرون، تجمع على سيارات. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: والكعبة لغة: كل بيت مربع، وسميت الكعبة كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكتب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب: كعب الرجل الذي هو عند ملتقى الساق والقدم، والكعبة: كل بيت على هيئتها في التربيع، وبها سميت الكعبة، وذو الكعاب بيت كان في الجاهلية لبني ربيعة، وامرأة كاعب إذا تكعب ثدياها. {قِيَامًا لِلنَّاسِ}: والقيام مصدر كالصيام، ويقال: هذا قيام له وقوام له، وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس بمصدر، بل هو اسم كالسواك، فلذلك صحت الواو: قال الشاعر: قِوَامُ دُنْيَا وَقِيَامُ دِيْنِ وإذا لحقته تاء التأنيث .. لزمت الياء، قالوا: القيامة، ذكره أبو حيان في "البحر". وأصل قيامًا: قوامًا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار: قيامًا، ثم كسرت القاف لمناسبة الياء. {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}: البلاغ اسم مصدر لبلغ تبليغًا قائم مقام المصدر. ويحتمل (¬1) أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد، فمعنى البلاغ: التبليغ، وقيل: البلاغ والبلوغ مصدران لبلغ الثلاثي، وإذا كان مصدرًا لبلغ بمعنى: وصل فبلاغ الشرائع إلى المرسل إليهم؛ أي: وصولها إليها مستلزم لتبليغ من أرسل إليهم بها، فعبَّر باللازم عن الملزوم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، وفي قوله: {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، وفي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وفي قوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وفي قوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} و {اتَّقَوْا}. ومنها: جمع (¬1) مؤكدات كثيرة في تحريم الخمر: منها: تصدير الجملة بـ {إنما}، ومنها: أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنها: أنه جعلهما رجسًا كما قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}. ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت. ومنها: أنه أمر بالاجتناب. ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحًا .. كان الارتكاب خيبة ومحقةً. ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والميسر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات. ومنها: الاستفهام الذي أريد به الأمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}؛ لأن الاستفهام عقب ذكر هذه المعايب أبلغ من الأمر بتركها، كأنه قيل: قد بينت لكم المعايب، فهل تنتهون عنها مع هذا، أم أنتم مقيمون عليها كأنكم لم توعظوا؟ ومنها: عطف الخاص على العام في عطف {وَالْقَلَائِدَ} على {الْهَدْيَ} لإفادة أن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. ومنها: الطباق بين {الْخَبِيثُ} و {الطَّيِّبُ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وفي قوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}، وهما من المحسنات البديعية. ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}؛ لأن الذوق حقيقة في المذوقات، واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} من إسناد ما للفاعل إلى المفعول كعيشة راضية. ومنها: بيان الواقع في قوله: {مُتَعَمِّدًا}؛ لأنه قيد به لبيان الواقع وقت نزول الآية؛ لأنها نزلت في أبي اليسر؛ حيث قتل حمار وحش وهو محرم عمدًا، فالقيد فيه ليس لإخراج الخطأ؛ لأن الخطأ حكمه كحكم العمد في وجوب الجزاء. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، وفي قوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ لأنه مجاز عن التبليغ، فعبر باللازم الذي هو البلاغ والوصول عن الملزوم الذي هو التبليغ والتوصيل. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: هو أنه تعالى لما قال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} .. صار كأنه قيل: ما بلغه الرسول فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم، قاله أبو عبد الله الرازي. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة، وبيان شرع الله ودينه فحسب، وبذا تَبْرأُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

ذِمَّته .. ناسب أن يصرح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي كمل به الإِسلام، وأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال؛ لئلا يكون ذلك سببًا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فيسرع إليها الفسوق عن أمر ربها. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه .. منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية، هل تلحق بأحكام الكعبة .. بين تعالى أنه لم يشرع شيئًا منها، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع .. عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع. وقال المراغي: مناسبتها لما قبلها: لما (¬2) نهى الله في الآية السابقة عن تحريم ما أحل الله بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكًا وتعبدًا مع اعتقاد إباحته في نفسه، وعن الاعتداء فيه، ونهى أن يكون المؤمن سببًا لتحريم شيء لم يكن الله قد حرمه، أو شرع حكم لم يكن الله قد شرعه؛ بأن يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شيء مما سكت الله عنه عفوًا وفضلًا .. ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم، وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم، وما قلد فيه بعضهم بعضًا على جهلهم، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...} الآية، قال أبو حيان: ذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنه لما بين أنواع التكاليف، ثم قيل: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا ....} الآية، كان المعنى: إنَّ هؤلاء الجهال - مع ما تقدم من المبالغة في الإعذار والإنذار، والترغيب والترهيب - لم ينتفعوا بشيء منه، بل بقوا مصرين على جهلهم، فلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، فإن ذلك لا يضركم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما ذكر في الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت، وأنه لا بد من الحساب والجزاء يوم القيامة .. أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت، وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه لما ذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} كان في ذلك تنفير عن أهل الضلال، واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم، أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، سبب نزولها: ما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا"، قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم، لهم حنين، فقال رجل - عبد الله بن حذافة -: مَنْ أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. أخرجه البخاري/ ج 9 ص 349/ الحديث أخرجه مسلم والترمذي وأحمد وابن جرير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. أخرجه البخاري/ ج 9 ص 352/ وابن أبي حاتم وابن جرير. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[101]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج" فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: "أما إني لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم"، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ...} الآية. أخرجه الطبري بسند رجاله رجال الصحيح. فهذه ثلاثة أسباب قال الحافظ في "الفتح" / ج 9 ص 351/: لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها، والله أعلم. وقال في/ ج 9 ص 352/: والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل؛ إما على سبيل الاستهزاء والامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة، لكن الأول - عبد الله بن حذافة - لم يسأل استهزاءً. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سبب نزولها: ما أخرجه البخاري/ ج 6 ص 339/ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته .. فقدوا جامًا - الإناء - من فضة، مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الحديث أخرجه الترمذي/ ج 4 ص 101/ وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه أبو داود/ ج 3 ص 337/، وابن جرير/ ج 7 ص 115/، والبيهقي/ ج 10 ص 165/. التفسير وأوجه القراءة 101 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَسْأَلُوا} ولا تبحثوا {عَنْ} أحكام {أَشْيَاءَ} من أمور الدين ودقائق تكاليفها، أو عن حقائق أشياء من

الأمور الغيبية والأسرار الخفية {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ}؛ أي: إن يظهر لكم حكمها أو يبين لكم حقيقتها {تَسُؤْكُمْ}؛ أي: تحزنكم وتغمكم بشدة تكاليفها وكثرتها، كسؤالهم عن الحج هل هو واجب في العمر مرة أو كل عام مرة؟ أو تسؤكم بظهور حقائق تفضح أهلها؛ كسؤال رجل عن أبيه بعد موته أين هو؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه في النار". {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا}؛ أي: وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}؛ أي: حين يمكن تنزيل القرآن في شأنها، أو في حكمها، وهو زمان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - {تُبْدَ لَكُمْ}؛ أي: فإن الله يبديها ويظهرها لكم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وعبارة الشوكاني هنا قوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}؛ أي (¬1): لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها، ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم فقوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} في محل جر صفة لأشياء؛ أي: لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم؛ أي: ظهرت وكلفتم بها .. ساءتكم؛ نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سببًا لإيجابه على السائل وعلى غيره. وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} هذه الجملة من جملة صفة أشياء، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم، ونزول الوحي عليه {تُبْدَ لَكُمْ}؛ أي: تظهر لكم بما يجيب به لكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ينزل به الوحي، فيكون ذلك سببًا للتكاليف الشاقة، وإيجاب ما لم يكن واجبًا، وتحريم ما لم يكن محرمًا، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال. انتهت. قال الحافظ ابن كثير (¬2): أي لا تستأنفوا السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جرمًا من سأل ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) ابن كثير.

عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته"، لكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها .. بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. وخلاصة ذلك (¬1): تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حال واحدة، وهي: أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال، وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورًا لا مراء فيه، كما في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. وقال الزمخشري (¬2): أي لا تكثروا مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها .. تغمكم وتشق عليكم، وتندموا على السؤال عنها. انتهى. وقال ابن عباس في تفسير الآية (¬3): لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم؛ إما لتكليف شرعي يلزمكم، وإما لخبر يسوءكم، مثل الذي قال: أين أبي؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربكم بأمر، فحينئذ إن سألتم عن بيانه بُيّن لكم وأُبدي. انتهى. وعبارة "المراح" هنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}؛ أي (¬4): إن تظهر لكم تلك الأشياء .. تحزنكم، والمعنى: اتركوا الأمور على ظواهرها، ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم، وما بلغه الرسول إليكم فكونوا منقادين له، وما لم يبلغه إليكم فلا تسألوا عنه، فإن خضتم فيما لا يكلف عليكم، فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض ما يشق عليكم. {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}؛ أي: وإن تسألوا عن أشياء مست حاجتكم إلى التفسير في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ينزل جبريل بالقرآن ويظهرها حينئذ، فالسؤال على قسمين: سؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه، فهذا السؤال منهي عنه بقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الكشاف. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراح.

لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وسؤال عن شيء نزل به القرآن، لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي، فهاهنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فالضمير في {عَنهَا} يرجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}. فالمراد بالإنسان آدم عليه السلام، والمراد بالضمير ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين. انتهت. فائدة: قال الإِمام الشاطبي (¬1): الإكثار من الأسئلة مذموم، ولها مواضع نذكر منها عشرة: أولها: السؤال عما لا ينفع في الدين؛ كسؤال بعضهم: مَنْ أبي؟ ثانيها: أن يسأل ما يزيد عن الحاجة؛ كسؤال الرجل عن الحج كل عام. ثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في وقت، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذروني ما تركتكم". رابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات. خامسها: أن يسأل عن علة الحكم في التعبدات؛ كالسؤال عن قضاء الصوم للحائض دون الصلاة. سادسها: أن يبلغ بالسؤال حد التكلف والتعمق؛ كسؤال بني إسرائيل عن البقرة، وما هي، وما لونها؟ سابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: أعراقيٌّ أنت؟ ثامنها: السؤال عن المتشابهات، ومن ذلك سؤال مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم ... إلخ. ¬

_ (¬1) محاسن التنزيل للقاسمي.

تاسعها: السؤال عما حصل بين السلف، وقد قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا ألطخ بها لساني. عاشرها: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، ففي الحديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". وقرأ الجمهور (¬1): {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} بالتاء مبنيًّا للمفعول. وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيًّا للفاعل. وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل، وضم الدال {يسؤكم} بالياء فيهما مضمومة في الأول، ومفتوحة في الثاني. وقال ابن عطية: إن يبدها الله تعالى. وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}؛ إما جملة مستأنفة مسوقة لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المسألة، بل لأنها معصية في نفسها، مستتبعة للمؤاخذة؛ لأنها تغضب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والضمير في قوله: {عَنْهَا} راجع للمسائل، والمعنى: عما الله عن مسائلكم التي كانت قبل النهي التي لا ضرورة إليها، وتجاوز عن عقوبتكم عليها في الآخرة لسعة رحمته ومغفرته وعظيم حلمه، فلا تعودوا إليها، فتكون هذه الجملة كقوله في الآية الأخرى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}، وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، أو تكون في محل الجر صفة ثالثة لـ {أَشْيَاءَ}، والضمير في {عَنْهَا} على هذا يعود على {أَشْيَاءَ}، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء قد عفا الله عنها؛ أي: تركها ولم يذكرها في كتابه بشيء من التكليف؛ فاسكتوا عنها كما سكت الله عنها، ولا تبحثوا عنها، ومما (¬2) يؤيد هذا المعنى حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، وحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا". هذان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[102]

الحديثان أخرجهما في "جامع الأصول" ولم يعزهما إلى الكتب الستة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن تاب منكم {حَلِيمٌ} عن جهالتكم، فلا يعاقبكم إلا بعد الإنذار. 102 - {قَدْ سَأَلَهَا}؛ أي: قد سأل هذه المسائل؛ أي: عن أمثال هذه المسائل {قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: قوم من الأمم الماضية أنبياءهم {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}؛ أي: ثم صاروا بعد إبدائها وإعطائها كافرين وساترين لها، ومكذبين بها، وتاركين العمل بها، فأُهلكوا بسببها، فإن (¬1) من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة .. لم يعملوا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر ربهم، وألقوا شرعهم ورائهم ظهريًّا استثقالًا للعمل به، وأدى ذلك؛ إما إلى استنكاره، وإما إلى جحود كونه من عند الله، وسواء أكان هذا أم ذاك، فهو كفران به. انظر إلى قوم صالح عليه السلام، سألوا الناقة ثم عقروها، فأصبحوا بها كافرين، فاستحقوا الهلاك في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وإلى قوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة، فكان هذا السؤال وبالًا عليهم، وإلى قوم عيسى عليه السلام سألوا نزول المائدة عليهم، ثم كذبوا بها، وقال مقاتل (¬2): كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها .. تركوا قولهم، ولم يصدقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين، كأنه تعالى يقول (¬3): إن أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم .. كفروا به، فلا تسألوا أنتم شيئًا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك. ولا بد (¬4) من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا؛ لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا .. قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "قاتلهم الله، ألا فاسألوا، فإنما شفاء العيِّ السؤال". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) زاد المسير. (¬4) الشوكاني.

[103]

وقرأ الجمهور (¬1): {سَأَلَهَا} بفتح السين والهمزة، وقرأ النخعي: بكسر السين من غير همز يعني: بالكسر والإمالة، وجعل الفعل من مادة: سين، وواو ولام، لا من مادة: سين وهمزة ولام، وهما لغتان ذكرهما سيبويه، ومن كلام العرب: هما يتساولان بالواو، وإمالة النخعي: سأل، مثل إمالة حمزة: خاف. 103 - {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} هذا كلام مستأنف يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، و {من}: زائدة في المفعول؛ أي: ما بحر الله بحيرة، ولا شق أذنها {وَلَا} سيب الله {سَائِبَةٍ} ولا أعتقها لآلهتهم {وَلَا} وصل الله {وَصِيلَةٍ} ولا جعلها متروكة بلا ذبح {وَلَا} سيب الله {حَامٍ}، ولا حفظ ظهره من الركوب، ولا من الحمل عليه؛ أي: ما شرع الله ذلك لهم، ولا أمر به، وما جعله دينًا لهم. فالبحيرة: هي الناقة التي يبحرون أذنها؛ أي: يشقونها شقًّا واسعًا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن، وكان الخامس أنثى، كما روي عن ابن عباس، وقيل: هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكَر، فتشق أذنها ولا تذبح ولا تركب ولا تحلب، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، بل تترك لآلهتهم. والسائبة: هي الناقة تسيب وتنذر لآلهتهم، وكان الرجل إذا شفي من مرض، أو قدم من سفر .. سيَّب ناقة أو بعيرًا بنذرها لآلهتهم، فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجز وبرها، ولا يحلب لبنها إلا لضيف، وتكون كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. والوصيلة: الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرًا .. كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى .. كانت لهم، وإن ولدت ذكرًا وأنثى .. قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فيترك مع أخته، فلا يذبحان حتى يموتا، فإذا ماتا .. اشترك في أكلهما الرجال والنساء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[104]

والحامي: هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن إذا ركب ولد ولده يقولون: حَمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع من ماء ومرعى إلى أن يموت، فحينئذ تأكله الرجال والنساء. {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إن رؤساءهم كعمرو بن لحي وأصحابه {يَفْتَرُونَ} ويختلقون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وينسبونه إليه، ويقولون: أمرنا الله بهذا. وأول من سن لأهل الشرك تلك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله - دين الحق دين إبراهيم وإسماعيل، وأضاف إلى الله أنه هو الذي حرم ما حرموا، وأحل ما أحلوا افتراءً على الله الكذب واختلافًا عليه - هو عمرو بن لحي الخزاعي، فهو الذي غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي، ونصب الأوثان لأهل مكة. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكتم بن الجون: "يا أكتم، عرضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجرُّ قصبه في النار - القصب: المِعَى وجمعه الأقصاب - فما رأيت رجلًا أشبه برجل منك به، ولا به منك، فقال أكتم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين الله دين إبراهيم وإسماعيل". {وَأَكْثَرُهُمْ} وهم الأتباع {لَا يَعْقِلُونَ} أن ذلك افتراء باطل افتراه رؤساءهم على الله كذبًا، وأن ذلك من أعمال الكفر، بل يظنون أنهم يتقربون به إلى الله ولو بالوساطة؛ لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب، ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ليست إلا وسطاء بينهم وبين الله بزعمهم، تشفع لهم عنده، وتقربهم إليه زلفى. 104 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: للذين كفروا أو لأكثرهم الذين هم الأتباع {تَعَالَوْا}؛ أي: هلموا وأقبلوا {إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين {وَإِلَى الرَّسُولِ} محمَّد - صلى الله عليه وسلم - المبلِّغ لها، والمبيِّن لمجملها فاتبعوهما فيها {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ أي: أجابوا من يدعوهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول بقولهم: حسبنا وكافينا عن ذلك ما وجدنا عليه آبائنا

[105]

ورأيناهم يعملون به، ونحن لهم تبع، وهم لنا أئمة وقادة. فردَّ الله عليهم قولهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، داخلة على محذوف؛ أي: أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا من الشرائع ولا يهتدون سبيلًا إلى المصالح، سواء أكانت دينية أو دنيوية، ولا يعرف ما يكفي الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميَّز به بين الحق والباطل، فأولئك قوم أميون يتخبطون في ظلمات من الوثنية، وخرافات من معتقدات الجاهلية، فمن وأدِ البنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض، ومن قتال تشتجر فيه الرماح إلى عداوة وبغضاء تملأ السهول والبطاح، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن في الشَّعوذة وضروب السحر والكهانة، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. 105 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: الزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة الضلال والمعاصي والإصرار على الذنوب، وانظروا فيما يقربها من ربها ويخلعها من عقابه {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلّ}؛ أي: لا يضركم ضلال من ضل من أهل الكتاب والمشركين وسائر الكفار والفساق {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} للحق أنتم في أنفسكم، وفي حق غيركم؛ بأن يعظ بعضكم بعضًا، ويرغب بعضكم بعضًا في الخيرات، وينفره من القبائح والسيئات. وهذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الشوكاني (¬1): وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية .. فليس بمهتدٍ، وقد قال الله تعالى: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبًا مضيقًا متحتمًا، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن ¬

_ (¬1) فتح القدير.

المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررًا يسوغ له معه الترك؛ أي: فيحرم عليه ذلك حينئذ إذا أدَّى إلى الوقوع في التهلكة. فصل في ذكر نبذة مما يتعلق بالآية فإن قلت (¬1): هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قلتُ: لا يدل على ذلك، والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عَزَّ وَجَلَّ لا يكون مؤاخذًا بذنوب أصحاب المعاصي، فأمَّا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. ولا تضعونها موضعها، ولا تدرون ما هي، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا ظالمًا، فلم يأخذوا على يديه .. أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود، وزاد فيه: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيِّروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب". وقال قوم في معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. وقال ابن مسعود: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم، فإن رُدَّ عليكم فعليكم أنفسكم. وعن أبي أمية الشيباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: آية آية؟ قلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى ¬

_ (¬1) الخازن.

مُتَّبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجابُ كل ذي رأي رأيَه .. فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم"، وفي رواية: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: "لا، بل أجر خمسين منكم" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وقيل في معنى الآية: إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه .. لا يضره من ضل، وقيل في معنى الآية: لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم، وقال الحسن: لم يكن مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله. وقال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق، وهو العمل بطاعة الله، وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه. واعلم: أن كلًّا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها. ولقد أجاد من قال: يَا أيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيْمُ لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ وقال آخر أيضًا: أَتَنْهَى النَّاسَ وَلاَ تَنْتَهِي ... مَتَى تَلْحَقُ الْقَوْمَ يَا أَكْوَعُ فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى ... تَسُنُّ الْحَدِيْدَ وَلاَ تَقْطَعُ وقال الآخر:

وَغَيْرُ تَقَيٍّ يَأمُرُ النَّاسَ بالتُّقَى ... طَبِيْبٌ يُدَاوِيْ النَّاسَ وَهْوَ مَرِيْضُ وقال الآخر: فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرُ ... بِهِ تُلْفِ مَنْ إِيَّاهُ تَأمُرُ آتِيَا فائدة: واعلم أنه يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إذا كان جاهلًا بذلك، فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكرًا، والمنكر معروفًا، والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه .. لم يجب عليه، كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}. والخلاصة: أن العلماء من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديًا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره؛ بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وأن ذلك فرض لا هوادة فيه، ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الزمان فسادًا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادًا يؤدي إلى إيذاء الواعظ المرشد؛ بأن يعلم أو يظن ظنًّا قويًّا بأن لا فائدة من نصحه، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ويحرم عليه ذلك إذا أدَّى إلى الوقوع في التهلكة. وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ (¬1): {عليكم أنفسُكم} بالرفع، وهي قراءة شاذة تخرَّج على وجهين: أحدهما: يرتفع على أنه مبتدأ، و {عليكم} في موضع الخبر، والمعنى: على الإغراء. والوجه الثاني: أن يكون توكيدًا للضمير المستكن في {عَليْكُمْ}، ولم يؤكد بمضمر متصل؛ إذ قد جاء ذلك قليلًا، ويكون مفعول عليكم محذوفًا لدلالة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[106]

المعنى عليه والتقدير: عليكم أنفسكم هدايتكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وقرأ الجمهور: {لَا يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد والراء وتشديدها، قال الزمخشري: وفيه وجهان: أن يكون خبرًا مرفوعًا، وأن يكون جوابًا للأمر الذي دل عليه اسم الفعل مجزومًا، وإنما ضُمت الراء؛ إتباعًا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة، والأصل: لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيًا. انتهى. وقرأ الحسن: بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير، وهي لغات. {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}؛ أي: رجوعكم ورجوع من ضلَّ عما اهتديتم إليه يوم القيامة، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان. {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم عند الحساب {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الخير والشر، فيجازيكم عليه، وفي هذه الجملة تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة. 106 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا الله ورسوله وما أنزل عليه {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} لما بين الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بمصالح الدين .. شرع يبين ما يتعلق بمصالح الدنيا إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يضبط مصالح دينه ودنياه؛ لأنه مكلف بحفظهما؛ أي: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، شهادة بينكم؛ أي: الشهادة المشروعة لكم إذا حضر أحدكم الموت؛ أي: قارب أحدكم على الموت بأن ظهرت عليه أمارات وقوع الموت، وأراد أن يوصي، وأراد أن يُشهد {حِينَ الْوَصِيَّةِ} على وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: هي شهادة اثنين من رجالكم أيها المؤمنون من ذوي العدل والاستقامة يشهدهما الموصي على وصيته، سواء كان في حضر أو سفر، وقوله: {مِنْكُمْ}؛ أي: من المؤمنين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: فنزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته، وأردتم الإيصاء، علم الله سبحانه وتعالى أن من الناس من يسافر، فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، ويحضره

الموت، فلا يجد من يشهده على وصيته من المسلمين، فقال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فالذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما؛ أي: فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر، وشهادة غير المسلمين لا تجوز إلا في السفر عند فقد المسلمين. وعبارة "الخطيب": المعنى: إن المحتضر إذا أراد الوصية .. ينبغي له أن يشهد على وصيته عدلين من أهل دينه إن وجدا، فإن لم يجدهما .. فليشهد آخرين من غيرهم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا الشهادة المشروعة بينكم إذا حضر أحدكم أمارات الموت، وأراد الوصية والإشهاد عليها، هي شهادة عدلين منكم مطلقًا؛ أي: سواء كان في حضر أو سفر، وجد غير المسلمين أم لا، أو شهادة اثنين من غير أهل دينكم إن كنتم مسافرين فأصابتكم أمارات الموت، ولم يكن عند المحتضر واحد من المسلمين. وعبارة "القرطبي" هنا: قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} في الكلام حذف تقديره: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم، وذهب الاثنان إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي: تستوثقوا منهما. انتهت. وقرأ الجمهور: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} بالرفع وإضافة شهادة إلى {بَيْنِكُمْ}، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج: {شهادة بينكم} برفع شهادة وتنوينه، وقرأ السلمي والحسن أيضًا: {شهادةً} بالنصب والتنوين، وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و {بَيْنِكُمْ} على هاتين القراءتين منصوب على الظرف. وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} صفة لـ {آخَرَانِ}، وجملة قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} معترضة بين الصفة والموصوف؛ أي: أو شهادة آخرين من غير المسلمين توقفونهما من بعد صلاة العصر في المسجد الجامع عند المنبر؛ أي: توقفون أيها الحكام الشاهدين من غير المسلمين من بعد

صلاة العصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلَّف عديًّا وتميمًا بعدها، ولأن العمل قد جرى عليه، فكان التحليف في ذلك الوقت هو المعروف، ولأنه هو الوقت الذي يقعد فيه الحكام للفصل بين الناس في المظالم والدعاوي؛ إذ يكون الناس قد فرغوا من معظم أعمال النهار، فيجتمعوا وقتئذ، ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأن جميع الملل يعظمون هذا الوقت ويجتنبون فيه من الحلف الكاذب، وقيل: أي صلاة كانت، وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران كما في "القرطبي". {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}؛ أي: فيحلف الشاهدان من غير المسلمين باسم الله؛ أي: فتستحلفونهما أيها الحكام على أنهما ما كذبا في شهادتهما ولا خانا في الوصية. {إِنِ ارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتم أيها الورثة أعني: ورثة الموصي الميت في السفر في صدقهما، واتهمتموهما بالخيانة في الوصية، ورفعتموهما إلى الحكام، أما الأمين: فيصدق بلا يمين. ويقولان في حلفهما والله: {لَا نَشْتَرِي بِهِ}؛ أي: بالقسم بالله {ثَمَنًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}؛ أي: ولو كان المقسم له أو المشهود له صاحب قرابة لنا، فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العَرَض الدنيوي، ولا القرابة، ونظير هذه الآية قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}. والخلاصة: أنه يقول الحالف: إنه يشهد لله بالقسط، ولا يصده عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه، ولا مراعاة قريب له إن فرض أنَّ في إقراره وقسمه نفعًا له؛ أي: ولو اجتمعت هاتان الفائدتان. {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}؛ أي: ويقولان في يمينهما أيضًا: ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله، وأمران تقام له كما قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه: {شهادةً اللهَ} بنصبهما وتنوين شهادة، وانتصبا بـ {نَكْتُمُ} والتقدير: ولا نكتم الله شهادة. وعبارة "زاد المسير": وقرأ سعيد بن جبير: {ولا نكتم شهادةً} بالتنوين. {الله} بقطع الهمزة وقصرها وكسر الهاء ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب وعكرمة:

[107]

{شهادة} بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني: {شهادة} بالتنوين، وإسكانِها في الوصل، {الله} بقطع الهمزة، وقصرها مفتوحة الهاء. وقرأ الشعبي وابن السميقع: {شهادة} بالتنوين وإسكانها في الوصل {الله} بقطع الهمزة ومدها وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية وعمرو بن دينار مثله إلا أنهما نصبا الهاء. انتهت. {إِنَّا إِذًا}؛ أي: إنا إذا فعلنا ذلك الكذب، واشترينا بالقسم ثمنًا من الدنيا، أو راعينا به قريبًا؛ بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسنا، أو لذوي قرابتنا، أو كتمنا شهادة الله كلًّا أو بعضًا. {لَّمِنَ اَلأَثِمِينَ}؛ أي: لَكُنَّا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه. وقرأ الأعمش وابن محيصن: {لملاثمين} بإدغام نون {من} في لام {الآثمين} بعد حذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام. 107 - {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}؛ أي: فإن اطلع بعد التحليف؛ أي: عشر أهل الميت أو من يلي أمره على أن الشاهدين من غير المسلمين الحالفين استحقا إثمًا؛ أي: استوجبا إثمًا؛ إما بكذب في الشهادة، أو اليمين، أو بكتمان شيء من التركة في حال ائتمانهما عليها، أو كتمانٍ في الشهادة {فَآخَرَانِ}؛ أي: فالواجب أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}؛ أي: مقام الشاهدين الكاذبين في حلفهما {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ}؛ أي: حالة كونهما من الورثة الذين استحق لهم المال، فعليهم بمعنى: لهم اللذان هما {الْأَوْلَيَانِ}؛ أي: الأقربان إلى الميت الأحقان بإرثه؛ أي: فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين، وليكونا من أولى من يستحق الميراث؛ أي: هذان الرجلان الوارثان القائمان مقام الخائنين ينبغي أن يكونا هما الأولَيَيْنِ بالميت؛ أي: الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع، وهذا المعنى على قراءة {استُحق} بالبناء للمفعول، فعلى هذه القراءة يكون {الْأَوْلَيَانِ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هما الأوليان كأنه قيل: من هما؟ فقيل: هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في يقومان أو من {آخران}، ويحتمل كون على في {عَلَيْهِمُ} على بابها، فتكون نائب فاعل لـ {اسْتَحَقَّ}؛ أي: من الورثة الذين استحق

عليهم الإثم؛ أي: جني عليهم بالخيانة في مالهم، هم أهل الميت وعشيرته، والمعنى (¬1) على قراءة البناء للفاعل: من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما ويختاروهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين؛ لكونهما الأقربين إلى الميت. فـ {الْأَوْلَيَانِ}: فاعل {اسْتَحَقَّ}، ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقرأ الجمهور: {اسْتَحَقَّ} بالبناء للفاعل {الْأَوْلَيَانِ}: فاعل مرفوع تثنية الأوْلى. وقرأ حمزة وأبو بكر: {اسْتُحِقَّ} مبنيًّا للمفعول؛ وقرأ الحسن: {استحق} مبنيًّا للفاعل، {الأولان}: مرفوع تثنية أوَّل، وقرأ بان سيرين: {الأوليان} تثنية الأوْلى. قوله: {فيقسمان بالله} عطف على {يقومان}؛ أي: فيحلفان بالله {لَشَهَادَتُنَا}؛ أي: ليميننا، فالمرد بالشهادة هنا اليمين كما في قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}؛ أي: فيحلفان بالله بقولهما: والله لأيماننا على أنهما كاذبان خائنان في وصية ميتنا {أَحَقُّ} وأصدق {مِنْ شَهَادَتِهِمَا}؛ أي: أيمانهما على أنهما صادقان فيما ادعيا {وَمَا اعْتَدَيْنَا} عليهما بتهمة باطلة؛ أي: ما تجاوزنا الحق في أيماننا {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: ويقولان في يمينهما: إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين .. لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه. وعبارة (¬2) "المراح": {فَيُقْسِمَانِ}؛ أي: هذان الآخران {بِاللَّهِ} بقولهما {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}؛ أي: والله ليمين المسلمين أصدق وأحق بالقبول من يمين النصرانيين {وَمَا اعْتَدَيْنَا}؛ أي: ما تجاوزنا الحق فيما ادعيا، وفي طلب المال، وفي نسبتهما إلى الخيانة {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: إنا اعتدينا في ذلك .. كنا من الظاليمن أنفسهم بإقبالها لسخط تعالى وعذابه. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[108]

واتفق المفسرون (¬1) على أن سبب نزول هذه الآيات: أن تميم بن أوس الداري، وعدي بن بداء - وكانا نصرانيين - ومعهما بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص - وكان مسلمًا مهاجرًا - خرجوا إلى الشام للتجارة، فلما قدموا الشام .. مرض بديل، فكتب كتابًا فيه نسخة جميع ما معه، وألقاه فيما بين الأقمشة، ولم يخبر صاحبيه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات بُديل، فأخذا من متاعه إناءً من فضة فيه ثلاث مئة مثقال منقوشًا بالذهب، ولما رجعا دفعا باقي المتاع إلى أهله، ففتشوا، فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم وعدي: أين الإناء؟ فقالا: لا ندري، والذي دفع إلينا دفعناه إليكم، فرفعوا الواقعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، ولما نزلت هذه الآية صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، ودعا تميمًا وعدَّيًّا، فاستحلفهما عند المنبر، ولما حلفا خلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهما، ولما طالت المدة أُظهر الإناء، فبلغ ذلك بني سهم، فطالبوهما، فقالا: كنا قد اشتريناه منه، فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئًا، فقلتما: لا؟ فقالا: لم يكن عندنا بيّنة فكرهنا أن نقر لكم، فكتمنا لذلك، فرفعوا القصة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى قوله: {فَإِنْ عُثِرَ ...} الآية، فقام عمرو بن العاص والمطلب ابن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله بعد العصر، فدفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإناء إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله تعالى. 108 - {ذَلِكَ} الحكم الذي بيناه وشرعناه في هذه القصة من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس، ويشهد بعد الصلاة، ويقسم الأيمان المغلظة {أَدْنَى}؛ أي: أدنى الطرق وأقربها إلى {أَنْ يَأتُوا}؛ أي: إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية {بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}؛ أي: على الوجه الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا خيانة فيها خوفًا من العذاب الأخروي، والأنسب بالمقام في قوله: {أَنْ يَأتُوا} وبقوله الآتي: {أَوْ يَخَافُوا} تثنية ¬

_ (¬1) المراح.

الضمير، وإنما جمع؛ لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من سائر الناس. وفي "الخازن": أن يأتي الوصيان وسائر الناس. وقوله: {أَوْ يَخَافُوا} معطوف في المعنى على محذوف تقديره: ذلك أدنى وأقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها لأجل أن يخافوا من عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة فيها {أَوْ} لأجل أن {يَخَافُوا} الافتضاح على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة، فينزجروا عن الخيانة المؤدية إلى ذلك إن لم يخافوا من عذاب الآخرة، وذلك بـ {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على الورثة {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: بعد أيمان الشهود الخائنين في الوصية، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا، فأي الخوفين وقع حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها. والغرض من هذا الكلام (¬1): بيان المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه. والمعنى: ذلك (¬2) الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس، ويشهد بعد الصلاة، ويقسم الأيمان المغلظة أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير تعظيمًا لله، ورهبة من عذابه، ورغبة في ثوابه، أو خوفًا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم، فتكون مبطلة لها؛ إذ من لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه .. يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس. والحاصل (¬3): أن الشاهدين أو الوصيين، إذا علما أنهما إن لم يصدقا .. يتوجه اليمين على الورثة، فيحلفون، فينتزعون من الشاهدين ما أخذاه، ويفتضحان بظهور كذبهما .. حملهما ذلك على أحد أمرين: إما الصدق في الشهادة، والحلف من أول الأمر، وإما ترك الحلف الكاذب، فيظهر كذبهم ونكولهم، فبأحد الأمرين يحصل المقصود؛ لأنهم إذا صدقوا ولم يخونوا .. ¬

_ (¬1) الشوكاني بتصرف. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

فالأمر ظاهر، وإن خانوا وامتنعوا من الحلف خوفًا من الفضيحة .. حلف الورثة وانتزعوا ما خان به الشهود، فتأمل. وعبارة ابن الجوزي (¬1) هنا: قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى}؛ أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على وجهها؛ أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت وتكرر بعد أيمانهم، فيحلفون على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك. انتهت. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تخونوا مَنْ ائتمنكم {وَاسْمَعُوا} ما يقال لكم وما توعظون به سمعَ إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: فإن لم تتقوا ولم تسمعوا .. كنتم قومًا فاسقين خارجين عن أمر الله وطاعته، مطرودين من هدايته، مستحقين لعقابه؛ لأن الله تعالى لا يرشد القوم العاصين الكافرين الكاذبين إلى دينه وحجته، أو إلى طريق الجنة. فائدة: وقد استنبط (¬2) العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكامًا نذكر أهمها فيما يلي: 1 - الحث على الوصية وعدم التهاون في أمرها في سفر أو حضر. 2 - الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء في تنفيذها. 3 - بيان أن الأصل في الشاهدين عليها أن يكونا مسلمين موثوقًا بعدالتهما. 4 - بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع؛ لأن مقصد الشارع منه إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال أن لا يترك ألبتة. 5 - شرعية اختيار الأوقات التي تؤثِّر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبروا فيها. 6 - التغليظ على الحالف بصيغة اليمين، بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي.

رادعًا للحالف عن الكذب. 7 - أن الأصل في أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدَّقة مقبولة، ومن ثَمَّ شرط في تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما. 8 - شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكَّام والخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، وقد حتمته القوانين الوضعية الآن؛ لكثرة ما يقع من شهادة الزور. 9 - شرعية ردِّ اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصمًا له. 10 - إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة في أمر يتعلق بالتركة .. فأولاهم بذلك أقربُهم إليه. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. {يَا أَيُّهَا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لأيُّ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا}: ناهية جازمة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {عَنْ أَشْيَاءَ}: جار ومجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف علة واحدة تقوم مقام علتين ترجع إحداهما إلى اللفظ، والأخرى إلى المعنى، وهي ألف التأنيث الممدودة، فلزومها لبناء ما هي فيه بمنزلة علة ترجع إلى اللفظ، ودلالتها على التأنيث بمنزلة علة ترجع إلى المعنى، الجار والمجرور متعلق بـ {تَسْأَلُوا}. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {تُبْدَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بحذف حرف العلة، ونائب فاعله ضمير يعود على {أَشْيَاءَ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُبْدَ}. {تَسُؤْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله

ضمير يعود على {أَشْيَاءَ}، وجملة {إن} الشرطية في محل الجر صفة لـ {أَشْيَاءَ}. {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. {وَإِنْ تَسْأَلُوا} الواو: عاطفة. {إِنْ تَسْأَلُوا}: جازم وفعل وفاعل، وعلامة جزمه حذف النون. {عنهَا}: جار ومجرور متعلق به. {حِينَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {تَسْأَلُوا}. {يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ}. {تُبْدَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {أَشيَاءَ}. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق به، وجملة {وإن} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الجر معطوفة على جملة {وإن} الأولى على كونها صفة لـ {أَشْيَاءَ}. {عَفَا اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {أَشْيَاءَ}. {عَنْهَا}: متعلق به. {اللَّهُ}: مبتدأ {غَفُورٌ}: خبر أول. {حَلِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {سَأَلَهَا}: فعل ومفعول. {قَوْمٌ}: فاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {سأل}. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون صفة لـ {قَوْمٍ}، ولا حالًا منه؛ لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالًا منها، ولا خبرًا عنها. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {أَصْبَحُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهَا}: الباء حرف جر وسبب، الهاء ضمير المؤنثة في محل الجر بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {أَصْبَحُوا}، أو بـ {كَافِرِينَ}. {كَافِرِينَ}: خبر {أَصْبَحُوا}، وجملة {أَصْبَحُوا} معطوفة على جملة قوله: {قَدْ سَأَلَهَا}. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. {مَا}: نافية. {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة وجعل هنا

بمعنى: سمَّى يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف تقديره: ما جعل الله الحيوان {مِنْ بَحِيرَةٍ ...} إلخ. {مِن}: زائدة. {بَحِيرَةٍ}: مفعول ثانٍ منصوب بفتحة مقدرة؛ أي: ما سمى الله الحيوان بحيرة {وَلَا سَائِبَةٍ}: معطوف على {بَحِيرَةٍ}، منصوب بفتحة مقدرة منع من طهورها اشتغال المحل بحركة حرف جر زائد، وكذا تقول في: {وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}، ولكن تقول في {حَامٍ} منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف جر زائد مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص كقاضٍ؛ لأن أصله: ولا من حامي، استثقلت الكسرة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، فصار: ولا حامٍ؛ كقاضٍ. {وَلَكِنَّ}: الواو: عاطفة. {لكن}: حرف نصب واستدراك. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب اسمها. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَفْتَرُونَ}. {الْكَذِبَ}: مفعوله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}. {وَأَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {يَفْتَرُونَ}. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. {وَإِذَا} الواو: استئنافية. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {تَعَالَوْا}: وما بعده إلى قوله: {قَالُوا} نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، وإن شئت قلتَ: {تَعَالَوْا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {إِلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَعَالَوْا}. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إلى ما أنزله الله. {وَإِلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {قَالُوا}:

فعل وفاعل، والجملة جواب (إذا) لا محل لها، وجملة (إذا) أو فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: مقول محكي لـ {قالُوَا}، وإن شئت قلت: {حَسْبُنَا}: مبتدأ ومضاف إليه، (مَا) موصولة أو موصوفة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول (قَالُوا). (وَجَدْنَا): فعل وفاعل، ووجد (¬1) هذا: إما بمعنى علم، فيتعدى إلى مفعولين، فيكون (عَليه) في محل المفعول الثاني. (ءَابَآءَنَا): مفعول أول له، ويجوز أو يكون وجدنا بمعنى: صادفنا، فيتعدى إلى مفعول واحد بنفسه، وفي (عَليه) على هذا الاحتمال وجهان: أحدهما: هي متعلقة بالفعل، معدية له؛ كما تتعدى ضربت زيدًا بالسوط. والثاني: أو تكون حالًا أو الآباء، ذكره أبي البقاء، وجملة (وَجَدْنَا) صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير (عَليهِ). {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. {أَوَلَوْ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري والتعجبي، داخلة على محذوف تقديره: أحَسْبُهُم ذلك؛ أي: كافيهم ذلك. حسبهم مبتدأ، ذلك خبره، والجملة الإسمية جملة إنشائية لا محل لها أو الإعراب. (ولو) الواو: حالية. (لو): حرف شرط غير جازم. (كاَنَءَابَآؤُهُم): فعل ناقص واسمه، وجملة (لَا يَعلَمُونَ شَيْئًا) في محل النصب خبر (كاَنَ). وجملة (وَلَا يهتَدُونَ) معطوفة على جملة (لَا يعلَمُونَ)، وجملة (كاَنَ) من اسمها وخبرها فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب، وجواب (لو) محذوف دل عليه ما قبلها تقديره: ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون، يقولون: حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا. وجملة (لو) الشرطية في محل النصب حال من (ءَابَآؤُهُم) المقدر، والتقدير: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا حالة كون آبائهم جهلةً ضالين، لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون؟ وعبارة أبي السعود (¬2) قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} قيل: الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب؛ أي: أحسبهم ذلك ولو كان ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) أبو السعود.

آباؤهم جهلة ضالين. وقيل: للعطف على شرطية أخرى مقدرة قبلها، وهو الأظهر، والتقدير: أحسبهم ذلك، أو أيقولون هذا القول ولو لم يكن آباؤهم لا يعلمون شيئًا أو الدين، ولا يهتدون للصواب، ولو كانوا لا يعلمون .. إلخ؟ وكلتاهما في موضع الحال؛ أي: حسبهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروضة، وقد حذفت الأولى حذفًا مطَّردًا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة. انتهت. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا}: حرف نداء {أي} منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {عَلَيْكُمْ}: اسم فعل أمر بمعنى: الزموا مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنتم. {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول به لاسم الفعل، ومضاف إليه، وجملة اسم الفعل جواب النداء لا محل لها من الإعراب. و {عَلَيْكُمْ} اسم فعل أمر منقول أو الجار والمجرور قال على الإغراء، كما قال ابن مالك: وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْكَا ... وَهكَذَا دُوْنَكَ مَعْ إِلَيكَا يعني: أن من أسماء فعل الأمر ما هو منقول أو حرف جر، أو ظرف نحو: عليك زيدًا؛ أي: الزمه، وإليك؛ أي: تنح، ودونك زيدًا؛ أي: خذه، ومكانك؛ أي: اثبت، وأمامك؛ أي: تقدَّم. {لَا}: نافية. {يَضُرُّكُمْ}: فعل ومفعول. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة {ضَلَّ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل أو الزمان مجرد عن معنى الشرط. {اهْتَدَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بـ {يَضُرُّكُمْ}. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة. {جَمِيعًا}: حال من ضمير

المخاطبين، وصح مجيء الحال من المضاف إليه؛ لصحة عمل المضاف فيها وفي صاحبها؛ لكونه مما يشبه الفعل، كما قال ابن مالك: وَلاَ تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ ... إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيْفَا ... أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيْفَا {فَيُنَبِّئُكُمْ}: الفاء: حرف عطف وتفريع. {ينبئكم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية المذكورة قبلها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ينبئكم}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كنتم تعملونه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: سبق إعرابه غير ما مرةٍ. {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، والظرف متعلق بـ {شَهَادَةُ}. {حِينَ الْوَصِيَّةِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف بدل من {إِذَا} بدل كل من كل {اثْنَانِ}: خبر المبتدأ، ولكنه على حذف مضاف تقديره: شهادة بينكم حين الوصية شهادة اثنين منكم؛ لتحصل المطابقة بين المبتدأ والخبر، وذلك لأن الشهادة لا تكون هي الاثنان؛ إذ الجنة لا تكون خبرًا عن المصادر، فأضمر مصدر يكون خبرًا عن مصدر. {ذَوَا عَدْلٍ}: صفة أولى لـ {اثْنَانِ}، ومضاف إليه مرفوع بالألف. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة ثانية لـ {اثْنَانِ}. {أَوْ آخَرَانِ}: معطوف على {اثْنَانِ}. {مِنْ غَيْرِكُمْ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {آخَرَانِ}، والجملة من المبتدأ والخبر جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ

فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {أَنْتُمْ}: فاعل بفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده تقديره: إن ضربتم، فلما حذف الفعل .. انفصل الضمير. فقوله: {ضَرَبْتُمْ} جملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بفعل الشرط المحذوف. {فَأَصَابَتْكُمْ}: الفاء: عاطفة. {أصابتكم}: فعل ومفعول في محل الجزم معطوف على {ضَرَبْتُمْ} المحذوف على كونه فعل شرط، لـ {إِنْ} الشرطية. {مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}: فاعل ومضاف إليه، وجواب الشرط محذوف جوازًا لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: إن سافرتم في الأرض فقاربكم الأجل حينئذ، وما معكم أحد من أهل الإِسلام .. فليشهد آخران من غيركم، وجملة {إِنْ} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الموصوف وهو {آخَرَانِ}، وبين صفته وهي قوله {تَحْبِسُونَهُمَا}. {تَحْبِسُونَهُمَا}: فعل وفاعل ومفعول به {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَحْبِسُونَهُمَا}، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {آخَرَانِ}، ولكنها صفة سببية. {فَيُقْسِمَانِ}: الفاء: عاطفة. {يقسمان}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يقسمان}، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} على كونها صفة ثانية لـ {آخَرَانِ}. {إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ}. {إِنِ}: حرف شرط. {ارْتَبْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنِ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره: إن ارتابهما الوارث منكم بخيانة أو أخذ شيء من التركة .. فاحبسوهما، وحلفوهما من بعد الصلاة، وهذا الشرط وجوابه المحذوف جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وهو قوله: {فَيُقْسِمَانِ}؛ لأنه قائم مقام القسم، وبين جوابه وهو قوله: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا}. {لَا}: نافية. {نَشْتَرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {آخَرَانِ}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق

به. {ثَمَنًا}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب {يقسمان} لا محل لها من الإعراب؛ لأنه يقوم مقام اليمين كما مر آنفًا. {وَلَوْ}: الواو: اعتراضية. {لَوْ} حرف شرط. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على المشهود له. {ذَا قُرْبَى}: خبر {كَانَ}، ومضاف إليه منصوب بالألف، وجواب {لَوْ} محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه تقديره: ولو كان المشهود له ذا قربى .. لا نشتري به ثمنًا، وجملة {لَوْ} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف عليه؛ وهو قوله: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا}، وبين المعطوف، وهو قوله: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}: الواو: عاطفة. {لا}: نافية. {نَكْتُمُ}. فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {آخَرَانِ}. {شَهَادَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {لَا نَشْتَرِي} على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {إِنَّا}: {إن}: حرف نصب وتوكيد، {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {إِذًا}: حرف جواب زائد لتأكيد معنى الكلام لا عمل لها؛ لعدم دخولها على الفعل. {لَمِنَ الْآثِمِينَ} اللام: حرف ابتداء. {مِنَ الآثمين}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {إن} تقديره: إنا لكائنون من الآثمين إن كتمنا شهادة الله تعالى، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}. {فَإِنْ عُثِرَ}: {الفاء}: استئنافية. {إن}: حرف شرط جازم. {عُثِرَ}: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {عَلَى}: حرف جر. {أَنَّهُمَا}: {أنَّ}: حرف نصب ومصدر، والهاء: ضمير المثنى الغائب في محل النصب اسمها. {اسْتَحَقَّا}: فعل وفاعل. {إِثْمًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ} تقديره: على أنهما مستحقان إثمًا، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر مجرور بعلى تقديره: فإن عثر على استحقاقهما إثمًا، الجار والمجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {عُثِرَ}. {فَآخَرَانِ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة

اسمية. {آخَرَانِ}: مبتدأ مرفوع بالألف، وسوغ الابتداء دخول فاء الجزاء عليه، وأيضًا وصفه بالجار والمجرور في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ}، ولا يضر الفصل بين الصفة وموصوفها بالخبر؛ لأنه ليس أجنبيًّا. {يَقُومَانِ}: فعل وفاعل. {مَقَامَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَقُومَانِ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: فشاهدان آخران قائمان مقام الخائنين، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {آخَرَانِ} الواقع مبتدأ، ويصح كونه حالًا من ضمير {يَقُومَانِ} كما مرَّ في مبحث التفسير. {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، الجار والمجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {اسْتَحَقَّ}، والتقدير: فآخران كائنان من الورثة الذين استُحِقَّ، وجُنِيَ عليهم بالخيانة في مالهم يقومان مقام الخائنين. {الْأَوْلَيَانِ}: بدل من {آخَرَانِ} الواقع مبتدأ، أو عطف بيان منه مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى الأولى بمعنى: الأقربان من الميت الموصي، وعلى قراءة: {اسْتَحَقَّ} بالبناء للفاعل، فـ {الْأَوْلَيَانِ} فاعل {اسْتَحَقَّ}، والتقدير: فآخران كائنان من الورثة الذين استحق المتقدم عليهم الأوليان منهم بالميت في إظهار كذب الخائنين يقومان مقام الخائنين في الشهادة واليمين لإظهار كذبهما. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}. {فَيُقْسِمَانِ}: الفاء: عاطفة. {يقسمان}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَقُومَانِ} على كونها خبر المبتدأ. {بِاللهِ}: جار ومجرور متعلق به. {لَشَهَادَتُنَا}: اللام: موطئة للقسم. {شهادتنا}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَحَقُّ}: خبر المبتدأ. {مِنْ شَهَادَتِهِمَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَحَقُّ}، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَمَا}: الواو: عاطفة. {ما}: نافية. {اعْتَدَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {إِنَّا}: {إن}: حرف نصب، {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها.

{إِذًا}: حرف جواب زائد لتأكيد معنى الكلام، ولذلك لم تدخل على الفعل. {لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: اللام: حرف ابتداء. {من الظالمين}: جار ومجرور خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}. {ذَلِكَ أَدْنَى}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر {يَأتُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية. {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ذلك أدنى وأقرب إلى إتيانهم بالشهادة على وجهها. {بِالشَّهَادَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَأتُوا}. {عَلَى وَجْهِهَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الشهادة. {أَوْ يَخَافُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَأتُوا}. {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ}: ناصب وفعل مغيَّر ونائب فاعل، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أو يخافوا ردَّ أيمان. {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متلعق بـ {تُرَدَّ}، أو صفة لـ {أَيْمَانٌ}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَاسْمَعُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَاتَّقُوا}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {لَا}: نافية. {يَهْدِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الْفَاسِقِينَ} صفة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. وقال بعضهم: هذه الآيات الثلاث في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها، من أصعب آي القرآن وأشكلها. وقال السخاوي: ولم أرَ أحدًا من العلماء تخلَّص كلامه فيها من أولها إلى آخرها، ونحن نريد إن شاء الله تعالى أن نضع عليها رسالة صغيرة في بيان معانيها وإعرابها وقراءتها بأوضح ما يمكن في بيانها، بعد ما فرغنا من هذا الشرح إن شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك اختصرنا الكلام هنا في بيان ما يتعلق بها، وبالله التوفيق والهداية إلى أقوم الطريق.

التصريف ومفردات اللغة {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}: الأصل (¬1) في أشياء على مذهب الخليل وسيبويه: شيئاء بوزن: لفعاء بهمزتين بينهما ألف، وهي فعلاء من لفظ شَيء، وهمزتها الثانية للتأنيث، وهي اسم جمع، كطرفاء وحلفاء، ولأجل همزة التأنيث لم تنصرف، ثم إن الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قدمت، فجعلت قبل الشين كراهية الهمزتين بينهما ألف، خصوصًا بعد الياء، فصار وزنها لفعاء، وهذا قول صحيح لا يرد عليه إشكال. ومذهب غيرهما: أنها جمع، واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم: هو جمع شيء من غير تغيير؛ كبيت وأبيات، وهو غلط؛ لأن مثل هذا الجمع الذي كان على وزن أفعال ينصرف، وأشياء لا تنصرف لأجل ألف التأنيث، ولو كان وزنه أفعالًا لانصرفَ، ولم يسمع أشياء منصرفة ألبتة. وقال الكسائي: لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول: أشياوان كما تقول: حمراوان. وذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء، قال الفراء: شيء مخفف من شيء كما قالوا: أهوناء في جمع هين مخفف من هين. وقال الأخفش: ليس مخففًا من شيء، بل هو فعل جمع على أفعلاء، فاجتمع في هذين القولين همزتان: لام الكلمة وهمزة التأنيث، فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافًا. وذهب قوم إلى أنَّ وزن شيء في الأصل شييىء، كصديق وأصدقاء، ثم حذفت الهمزة الأولى، وفتحت ياء المد؛ لكون ما بعدها ألفًا. قال: ووزنها في هذا القول: أفياء، وفي القول الذي قبله: أفلاء، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالًا مذكور في علم التصريف. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}: البحيرة فعلية بمعنى: مفعولة، فدخول تاء التأنيث عليها لا يقاس، ولكن لما جرت مجرى الأسماء الجوامد .. أنثت، واشتقاقها من البحر، والبحر: السعة، ومنه: بحر الماء لسعته. ¬

_ (¬1) البحر المحيط والعكبري.

{وَلَا سَائِبَةٍ}: والسائبة هنا فيها قولان: أحدهما: أنها اسم فاعل على بابه من ساب الماء يسيب - كباع يبيع - إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء، وسابت الحية، وهو مطاوع سيبته، يقال: سيبته فساب وانساب. والثاني: أنها اسم فاعل بمعنى مفعول نحو قولهم: عيشة راضية؛ أي: مرضية، ومجىء فاعل بمعنى مفعول قليل جدًّا، نحو: ماء دافق اهـ "سمين". {وَلَا وَصِيلَةٍ}: الوصيلة فعلية بمعنى: فاعلة؛ لأنها إذا كانت من الإبل .. هي الناقة تبكر فتلد أنثى، ثم تثنّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذَكَر، فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. {وَلَا حَامٍ}: والحامي اسم فاعل من حمى يحمي، كرمى يرمي، فهو حام؛ لأنه حمى ظهره من الركوب والحمل. وقال بعضهم: هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن فيقولون: قد حمى ظهره فيتركونه كالسائبة. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: {تَعَالَوْا}: فعل أمر بمعنى أقبلوا، مبني على حذف النون، وأصله: تعالوون، تحركت الواو الأولى، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار: تعالاون، فالتقى ساكنان: الألف والواو، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، وحذفت النون للبناء؛ لأن فعل الأمر مبني على ما يجزم به مضارعه، وهو بفتح اللام لكل مخاطب، ولو كان أنثى قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ}. {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}: الشهادة مصدر: شهد يشهد شهادة من باب علم، والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} يقال: ضرب في الأرض إذا سافر فيها {تَحْبِسُونَهُمَا}؛ أي: تمسكونهما وتمنعونهما من الانطلاق والهرب، والحبس مصدر حبس يحبس حبسًا من باب ضرب، والحبس: المنع من التصرف، يقال: حبست أحبس وأحبست فرسًا في سبيل الله، فهو محبس وحبيس إذا وقفته للغزو. {إِنِ ارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتم في صدقهما فيما يقران به {فَإِنْ عُثِر}؛ أي: اطلع، يقال: عثر على الرجل يعثر عثورًا من باب دخل ونصر، والعثور على الشيء: الاطلاع عليه من

غير سبق طالب له، يقال (¬1): عثر على الرجل: اطلع عليه، مشتق من العشرة التي هي الوقوع، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به .. اطلع عليه ونظر ما هو، فلذلك قيل: لكل من اطلع على أمر كان خفيًّا عليه قد عثر عليه، ويقال: قد عثر عليه، وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه، ومنه: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: أطلعنا، وأعثره عليه وقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك. وقال الليث: عثر يعثر عثورًا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره، وعثر عثرة إذا وقع وسقط على شيء. قال أبو البقاء: العثور: مصدر عثر على الشيء إذا اطلع عليه، وأما مصدر عثر في مشيه ومنطقه ورأيه، فالعثار. انتهى. {الْأَوْلَيَانِ}: تثنية أولى بمعنى: أقرب، فقلبت الألف ياءً على حد قول ابن مالك: آخِرَ مَقْصُوْرٍ تُثَنِّي اجْعَلْهُ يَا ... إِنْ كَانَ عَنْ ثَلاَثَةٍ مُرْتَقِيَا البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {لَا تَسْأَلُوا} {وَإِنْ تَسْأَلُوا}، وفي: {تُبْدَ لَكُمْ}. ومنها: الاستخدام في قوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} وهو ذكر الشيء بمعنى وإعادة الضمير إليه بمعنى آخر، وهو من المحسنات البديعية؛ لأن الضمير في قوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} عائد إلى الأشياء التي مست الحاجة إلى السؤال عنها، والمراد بالأشياء المنهي عن السؤال عنها: الأشياء التي لم يكن لهم حاجة إلى السؤال عنها؛ كقول بعضهم: من أبي؟ أين ضالتي؟ ومنها: التفنن في قوله: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} حيث قال هنا: {مَا وَجَدْنَا}، وفي البقرة: {مَا أَلْفَيْنَا}، وقال هنا: {لَا يَعْلَمُونَ}، وهناك {لَا يَعْقِلُونَ}؛ للتفنن: وهو ذكر نوعين من الكلام؛ لثقل تكرار أحدهما على اللسان، وهو من المحسنات البديعية أيضًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا}. ومنها: إطلاق الجملة الخبرية مرادًا بها معنى الطلبية في قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ}؛ لأنها بمعنى: فليشهد اثنان منكم. ومنها: التجوز بإضافة {شَهَادَةُ} إلى {بَيْنِكُمْ}؛ لأن حق الشهادة أن تضاف إلى المشهود به، كأن يقال: شهادة الحقوق؛ أي: الشهادة بها، فاتسع فيها، وأضيفت إلى البين؛ إما باعتبار جريانها بينهم، أو باعتبار تعلقها بما يجري بينهم من الخصومات. ومنها: الاعتراض بـ {إِذَا حَضَرَ} بين المبتدأ والخبر. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}؛ لأنه مجاز عن حضور أسبابه ومقدماته. ومنها: الالتفات في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنه لو جرى على لفظ: إذا حضر أحدكم الموت .. لكان الترتيب هكذا: إن هو ضرب في الأرض .. فأصابته. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}. ومنها: التجوز بالجمع عن المثنى في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا}؛ لأن المقام لتثنية الضمير، وإنما جمع؛ لأن المراد ما يعمُّ الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[109]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}. المناسبة قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ...} هو مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر بالحكم في شاهدي الوصية، وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة .. ذكَّر بهذا اليوم المهول المخوف، وهو يوم القيامة، فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة، ولمن لم يتقِ الله ولم يسمع. التفسير وأوجه القراءة 109 - {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}؛ أي: واذكر يا محمَّد لأمتك قصة يومٍ يجمعُ الله سبحانه وتعالى المرلسلين والمرسل إليهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة. {فَيَقُولُ} الله سبحانه وتعالى للرسل؛ مشيرًا إلى خروجهم من عهدة الرسالة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[110]

وتوبيخًا لأممهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ}؛ أي: أيَّ إجابة أجابكم بها أممكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي، أهي إجابة قبول وإذعان، أو إجابة رد وإنكار؟ {قَالُوا}؛ أي: قال الرسل تفويضًا للأمر إلى العدل الحكيم العالم، وعلمًا منهم أن الأدب في السكوت والتفويض، وأنَّ قولهم لا يفيد خيرًا ولا يدفع شرًّا: {لَا عِلْمَ لَنَا}؛ أي؛ لا علم لنا كعلمك فيهم؛ لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا لنا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ، ولأن الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، وهو معتبر في الدنيا؛ لأن الأحكام في الدنيا مبنية على الظن، وأما الأحكام في الآخرة: فهي مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور، ولا عبرة بالظن في القيامة، فلهذا السبب قالوا: لا علم لنا {إِنَّكَ أَنْتَ} يا إلهنا {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؛ أي: عالم الغيب والشهادة؛ أي: فإنك تعلم ما أجابوا وأظهروا لنا، وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم، وقيل: معناه: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من العلوم، وإن الذي سألتنا عنه ليس بخاف عليك؛ لأنك أنت علام الغيوب؛ أي: العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها بالنسبة إلى غيرك، ليس يخفى عليك خافية. وقيل: المعنى: لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة. وقيل: المعنى: لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة (¬1): {ماذا أجبتم} مبنيًّا للفاعل. وقرأ: {عَلَّامُ} بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ} بتقدير الخبر لـ {إنَّ}؛ أي: إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة من العلم وغيره، ونصب {عَلَّامُ}؛ إما على الاختصاص، أو على النداء. وقرأ حمزة وأبو بكر: {الغيوب} بكسر الغين حيث وقع، كأن من قال ذلك من العرب .. قد استثقل توالي ضمتين مع الياء، ففر إلى حركة مغايرة للضمة، مناسبة لمجاورة الياء وهي الكسرة. 110 - و {إِذْ} في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ}، وهو ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تخصيص (¬1) بعد التعميم، وتخصيص عيسى من بين الرسل؛ لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطًا وتفريطًا؛ هذه تجعله إلهًا، وهذه تجعله كاذبًا. وقيل: هو منصوب باذكر. و {قَالَ} (¬2) هنا بمعنى المضارع؛ لأن هذا القول يقع يوم القيامة مقدمة لقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وعبارة (¬3) "البيضاوي" هنا: {إِذْ قَالَ اللَّهُ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ}، والماضي بمعنى الآتي على حد، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} في أن الماضي أقيم مقام المضارع، وفي أن إذ واقعة موقع إذا التي للمستقبل لتحقق الوقوع، فكأنه واقع، أو نصب بإضمار اذكر. انتهت؛ أي: اذكر يا محمد لأمتك قصة إذ يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم يوم القيامة {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}؛ أي: تذكر إنعامي عليك بما سيأتي {و} إنعامي {عَلَى وَالِدَتِكَ} وأمك مريم إذ أنبتها نباتًا حسنًا، وطهرتها واصطفيتها على نساء العالمين، ورزقتها من حيث لا تحتسب. ذكَّره (¬4) سبحانه وتعالى نعمتهُ عليه وعلى أمه مع كونه ذاكرًا لها عالمًا بتفضل الله سبحانه بها؛ لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله تعالى به من الكرامة، وميزهما به من علو المقام، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله تعالى، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه، ليس لهما من الأمر شيء، وليس المراد بأمره بالذكر يومئذ - أي: يوم القيامة - تكليفه شكرها، والقيام بواجبها؛ إذ ليس هناك تكليف، بل المراد توبيخ الكفرة المختلفين في شأنه وشأن أمه إفراطًا وتفريطًا. انتهى "أبو السعود". وقوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: ظرف للنعمة؛ لأنها بمعنى المصدر؛ أي: اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي إياك بروح القدس؛ أي: بجبريل الأمين؛ أي: إذ قويتك وأعنتك بروح القدس؛ أي: بجبريل المطهر من أوصام الآثام حين لقنك وأعانك في تكليم الناس في المهد، وثبتك في إقامة الحجة عليهم في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الجمل. (¬3) البيضاوي. (¬4) الشوكاني.

الكهولة، فكان جبريل يسير معه حيث سار، يعينه على الحوادث التي تقع، ويلهمه المعارف والعلوم. وعبارة "الخازن" هنا: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني: بجبريل عليه السلام؛ لأن القدس هو الله تعالى؛ لأنه مصدر بمعنى: المقدس؛ أي: المطهر عن النقائص، وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم، كإضافة بيت الله وناقة الله. وقيل: أراد بروح القدس الروح المطهرة؛ لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية، فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية، ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية، فخصَّ الله عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرقة، وقد عدد عليه من النعم سبعًا: إذ أيدتك، وإذ علمتك، وإذ تخلق، وإذ تبرىء، وإذ تخرج الموتى، وإذ كففت، وإذ أوحيت. وقرأ الجمهور: {أَيَّدْتُكَ} بتشديد الياء من باب فعَّل المضعف. وقرأ مجاهد وابن محيصن: {آيدتك} فوزن هذه القراءة يحتاج في معرفته إلى نقل مضارعه من كلام العرب، فإن كان يؤايد .. فوزنه: فاعل، وإن كان يؤيد .. فهو أفعل، وجملة قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ} مبينة لمعنى التأييد، و {فِي الْمَهْدِ} في محل النصب على الحال؛ أي: تكلم الناس حالة كونك طفلًا صغيرًا في الحجر والسرير بقولك: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، الآية {و} حالة كونك {كَهْلًا}؛ أي: في زمن الكهولة؛ الزمن بين الثلاثين والأربعين؛ أي: تكلم الناس حال كونك صبيًّا وكهلًا، لا يتفاوت كلامك في الحالتين، مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتًا بينًا، وهذه معجزة عظيمة، وخاصة شريفة ليست لأحد قبله. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): أرسل الله عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاثين سنة، فمكث في رسالته ثلاثين شهرًا، ثم رفعه الله إليه، فذكر تكليمه في حال الكهولة لبيان أن كلامه في تينك الحالين كان على نسق واحد بديع، صادر عن كمال العقل والتدبير، ذكره "أبو السعود". والمعنى: اذكر يا محمد لأمتك ¬

_ (¬1) الخازن.

قصة إذ يقول الله سبحانه يوم القيامة لعيسى ابن مريم: اذكر (¬1) بقلبك أو بلسانك إنعامي عليك وعلى والدتك حين تأييدي إياك بروح القدس، وتكليمك الناس في المهد بما يبرِّىء أمك من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبًا له، وذلك قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}، وكهلًا حين بعثت فيهم رسولًا؛ تقيم عليهم الحجة في ما ضلوا به عن الصراط المستقيم. وفائدة هذا القصص: تنبيه النصارى الذين كانوا عمر التنزيل إلى قبح مقالتهم، وسوء معتقدهم؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورًا على الأنبياء، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال الله وكبريائه؛ إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد. وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} معطوف على قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ}؛ أي: واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي إياك {الْكِتَابَ}؛ أي: الكتابة والخط، أو المراد (¬2): جنس الكتاب، فيكون ذكر التوراة والإنجيل من ذكر الخاص بعد العام، وتخصيصهما بالذكر؛ لمزيد اختصاصه بهما، أما التوراة: فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال، كما هو مصرَّح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل: فلكونه نازلًا عليه من عند الله سبحانه وتعالى {و} علمتك {الْحِكْمَةَ}؛ أي: الفهم والاطلاع على أسرار العلوم النظرية والعملية {و} علمتك {التَّوْرَاةَ} التي أنزلتها على موسى {وَالْإِنْجِيلَ} الذي أنزلته عليك. وذِكر الكِتابين (¬3)؛ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم السلام، فإن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار ربانيًّا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء. {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي}؛ أي: واذكر نعمتي عليك؛ إذ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

تجعل قطعة من الطين والتراب المندّى مثل هيئة الطير وصورتها في شكلها، ومقادير أعضائها بإذني وأمري وتيسيري لك {فَتَنْفُخُ فِيهَا}؛ أي: في تلك القطعة المصورة من ريح فمك، فتكون تلك القطعة المصورة {طَيْرًا}؛ أي: حيوانًا طائرًا مثل الخفاش {بِإِذْنِي}؛ أي: بتكويني وتخليقي. وإنما قال (¬1) هنا: {فِيهَا}، وفي سورة آل عمران: {فيه}؛ لأن الضمير في قوله: {فِيهَا} يعود إلى الهيئة المصورة بجعلها مصدرًا بمعنى اسم المفعول؛ كالخلق؛ وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة، إنما يكون في المهيأ ذي الهيئة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الطير؛ لأنها مؤنثة قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّات} وأما الضمير المذكور في آل عمران في قوله: {فيه}، فيعود إلى الكاف يعني: في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير، وإنما كرر قوله: {بِإِذْنِي}؛ تأكيدًا لكون ذلك الخلق واقعًا بقدرة الله تعالى وتخليقه، لا بقدرة عيسى عليه السلام وتخليقه؛ لأن المخلوق لا يخلق شيئًا، إنما خالق الأشياء كلها هو الله تعالى لا خالق لها سواه، وإنما كان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى عليه السلام أكرمه الله تعالى بها. وقرأ ابن عباس (¬2): {فتنفخها فتكون}، وقرأ الجمهور: {فَتكُونُ} بالتاء من فوق، وقرأ عيسى ابن عمر: {فيها فيكون} بالياء من تحت. وقرأ (¬3) نافع ويعقوب: {طائرًا}، ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر. {و} اذكر نعمتي عليك إذ {تُبْرِئُ} وتشفي {الْأَكْمَهَ}، أي: الأعمى المطموس البصر الذي ولد كذلك {و} تبرىء {الْأَبْرَصَ}؛ أي: صاحب البرص، وهو داء معروف يبيض منه الجلد. {بِإِذْنِي} لك، وتسهيله عليك، وتيسيره لك {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} من قبورهم أحياء {بِإِذْنِي}؛ أي: بفعلي ذلك عند دعائك وقولك للميت: أخرج بإذن الله من قبرك، فيكون ذلك آية لك عظيمة. وتكرير {بِإِذْنِي} في المواضع الأربعة؛ للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي.

ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه كما مرَّ. وإنما قال في آل عمران (¬1): {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين، وقال هنا: {بِإِذْنِي} أربع مرات عقيب أربع جمل؛ لأن ما هنا موضع ذكر النعمة والامتنان بها، فناسب الإسهاب والإطناب، وما هناك موضع إخبار لبني إسرائيل، فناسب الإيجاز. وقوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ} معطوف على {وَإِذْ تُخْرِجُ}؛ أي: واذكر نعمتي عليك حين كففت ودفعت وصرفت {بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ}؛ أي: اليهود حين أرادوا قتلك، فلم يتمكنوا منه، وقوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ظرف لـ {كَفَفْتُ}؛ أي: إذ جئتهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقك؛ أي: بما ذكر هنا، وما لم يذكر؛ كالإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك من معجزاته، فـ (ال) فيه للجنس، وذلك أن عيسى عليه السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة .. قصد اليهود قتله، فخلصه منهم ورفعه إلى السماء. {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود، ولم يؤمنوا بهذه المعجزات: {إِنْ هَذَا}؛ أي: ما هذا الذي جاء به عيسى من المعجزات {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: بين واضح. وقرأ حمزة والكسائي هنا، وفي هود، والصف، ويونس (¬2): {ساحر} بالألف، والإشارة حينئذ إلى عيسى؛ أي: ما هذا الرجل وهو عيسى عليه السلام إلا ساحر ظاهر. وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس فقط بالألف. وقرأ باقي السبعة: {سِحْر} بكسر السين وسكون الحاء؛ أي: ما هذا الذي جاء به عيسى من الخوارق إلا سحر مبين، أو ما هذا؛ أي: عيسى إلا سحر مبين، وهذا على سبيل المبالغة؛ أو على حذف مضاف. والخلاصة (¬3): أنهم لا يعتدون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح والبحر المحيط. (¬3) المراغي.

[111]

العادات، ولا يؤمنون به، وإن جاء بآيات أخرى؛ إذ لم يكن طعنهم لشبهات تتصل بها، بل كان عنادًا ومكابرةً، ومن ثَمَّ ادعوا أن السحر صنعته، والتمويه وقلب الحقائق دأبه وعادته. 111 - وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} معطوف على ما قبله؛ أي: واذكر نعمتي عليك حين أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم، وقذفت في قلوبهم، وقد كذبك جمهور بني إسرائيل، وجعلتهم أنصارًا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك. فالوحي بمعنى الإلهام، وقيل: أمرتهم على ألسنة الرسل من قبلك {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي}؛ أي: أن صدقوا بوحدانيتي في الألوهية، وصدقوا برسالة رسولي عيسى عليه السلام، والحواريون: هم أصحاب عيسى وخواصه {قَالُوا آمَنَّا}: جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا قالوا؟ فقال: قالوا آمنا؛ أي: قال الحواريون للرب جل جلاله، أو لعيسى: آمنا وصدقنا بوحدانيته تعالى، وبرسالة رسوله عيسى عليه السلام {وَاشْهَدْ} أنت يا رب أو يا عيسى {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}؛ أي: مخلصون في إيماننا، فأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون؛ أي: مخلصون في إيمانهم، مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه، وإنما قدم (¬1) ذكر الإيمان على الإِسلام؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب، والإِسلام والانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. قال أبو حيان في "البحر": وتقدم نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أنه هناك قال: {آمَنَّا بِاللَّهِ}؛ لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} وهنا قال: {آمَنَّا}، فلم يقيد بلفظ الجلالة؛ إذ قد تقدم {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وقال هناك: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا}، وهنا قال: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا}، وهذا هو الأصل؛ إذ {أن} محذوف منه النون لاجتماع الأمثال انتهى. 112 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى كلامًا منقطعًا عما قبله؛ ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من ¬

_ (¬1) الخازن.

نعم الله عليه، فقال: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة حين قال الحواريون لعيسى عليه السلام. {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}؛ أي: هل يرضى ربك ويختار {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: أن يهبط لنا من السماء خوانًا وطبقًا عليها طعام، فنأكل منه إذا نحن سألناه، أو سألته لنا ذلك؟ قرأ الجمهور: {يَسْتَطِيعُ} بالياء على الغيبة، ورفع {رَبُّكَ}؛ أي: هل يفعل ربك ذلك إن سألته لنا أو سألناه نحن؟ قال ابن الأنباري: ولا (¬1) يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في قدرة الله، وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنه يريد: هل يسهل عليك ذلك؟ وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إياه، وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم، فرد عليهم عيسى بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ} أن تنسبوه إلى عجز، والأول أصح. وفسر (¬2) بعضهم الاستطاعة بمعنى: القدرة، وقالوا: إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان، وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة: الأول: أن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان، لا للشك في قدرة الله على ذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب. الثاني: أنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية؛ أي: هل ينافي الحكمة الإلهية أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع، وإن كان مما تتعلق به القدرة؛ كعقاب المحسن على إحسانه، وإثابة الظالم على ظلمه. الثالث: أن المراد: هل تستطيع سؤال ربك؟ وقرأ الكسائي (¬3): {تستطيع} بتاء الخطاب لعيسى، و {رَبُّكَ} بالنصب على التعظيم، بإدغام اللام في التاء، وبه قرأ علي وابن عباس، وسعيد بن جبير، ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[113]

ومجاهد وعائشة، والمعنى عليها: هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك؟ ولا إشكال على هذه القراءة. {قَالَ} لهم عيسى ابن مريم {اتَّقُوا اللَّهَ} أن تسألوه شيئًا لم تسأله الأمم من قبلكم، وقيل: المعنى: خافوا عقاب الله في أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى؛ لئلا تكود فتنة لكم، فإنَّ من شأن المؤمن الصادق أن لا يجرب ربه باقتراح الآيات. وقيل: المعنى: اتقوا الله، وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك. وقيل: المعنى: اتقوا الله في اقتراح معجزة لم يسبق لها مثال بعد تقدم معجزات كثيرة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بكمال قدرته تعالى، وبصحة نبوتي، أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإِسلام .. فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات. وقيل: أمرهم بالتقوى؛ ليصير ذلك ذريعة لحصول المسؤول، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} انتهى "أبو السعود". 113 - {قَالُوا}؛ أي: قال الحواريون {نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا} هذا بيان للمسبب الحامل لهم على السؤال؛ أي: لسنا نريد بسؤال المائدة إزالة شبهتنا في قدرته تعالى على تنزيلها، أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى، بل سبب سؤالنا أنا نريد أن نأكل من تلك المائدة أكل تبرك. وقيل: أكل حاجة وتمتع. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}؛ أي: تسكن قلوبنا، وتستيقن بكمال قدرة الله تعالى؛ لأنا - وإن علمنا قدرة الله بالدليل - إذا شاهدنا نزول المائدة .. ازداد اليقين، وقويت الطمأنينة بأنك مرسل إلينا من عنده تعالى، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه. وقال (¬1) ابن عباس: قال لهم عيسى: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم لا تسألونه شيئًا إلا أعطاكم إياه، فصاموا، ثم سألوا المائدة. {وَنَعْلَمَ} علمًا يقينيًّا {أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}؛ أي: نعلم أنك قد صدقتنا في دعوى النبوة، وفي أن الله يجيب دعوتنا، وفي قولك (¬2): أنا إذا صمنا ثلاثين يومًا .. لا نسأل الله ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراح.

[114]

تعالى شيئًا إلا أعطانا إياه. {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، أو من سائر الناس، وهذه المعجزة سماوية، وهي أعظم وأعجب، فإذا شاهدناها .. كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل؛ ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينًا، ويؤمن بسببها كفارهم، أو نكون من الشاهدين لله بكمال القدرة، ولك بالنبوة بسبب مشاهدتها. والحاصل: أنهم قالوا: نطلبها لفوائد: 1 - أننا نريد أن نأكل منها؛ لأننا محتاجون إلى الطعام، فإن الجوع قد غلبنا، ولا نجد طعامًا آخر. 2 - أننا إذا شاهدنا نزولها .. ازداد اليقين وقويت الطمأنينة؛ إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك، وعلم النظر والاستدلال. 3 - أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل الذين لم يحضروها، أو من الشاهدين لله بكمال القدرة، ولك بالرسالة، وبذا يؤمن المستعد للإيمان، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا. وقرأ ابن جبير (¬1): {وَنَعْلَمَ} بضم النون مبنيًّا للمفعول، وهكذا في كتاب "التحرير والتحبير"، وفي كتاب "ابن عطية" وقرأ سعيد بن جبير: {ويُعلَم} بالياء المضمومة، والضمير عائد على القلوب، وفي كتاب الزمخشري: {ويعلم} بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمش: {وتعلم} بالتاء؛ أي: وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور {وَنَكُونَ} بالنون، وفي كتاب "التحرير والتحبير" وقرأ سنان وعيسى: {وتكون عليها} بالتاء الفوقانية. 114 - {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}؛ أي: لما رأى عيسى ابن مريم أن لهم غرضًا صحيحًا في ذلك السؤال .. قام واغتسل ولبس المسح (¬2) وصلى ركعتين، فطأطأ رأسه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المسح - بكسر الميم وسكون السين -: البلاسي بكسر الباء، يجمع على أمساح، والبلاس: ثوب من الشعر غليظ اهـ "تاج العروس".

وغض بصره، وقال: {اللَّهُمَّ} يا {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {أَنْزِلْ عَلَيْنَا} معشر المؤمنين {مَائِدَةً}؛ أي: خوانًا عليه طعام {مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا}؛ أي: نتخذ يوم نزولها عيدًا نعظمه ونصلي فيه، وقوله: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من {لَنَا} بإعادة الجار؛ أي: يكون يوم نزولها عيدًا لأهل زماننا، ولمن يجيء بعدنا لكي نعبدك فيه، فنزلت في يوم الأحد، فاتخذه النصارى عيدًا لهم {و} هو تكون {آيَةً} صادرة {مِنْكَ} لنا دالة على وحدانيتك وكمال قدرتك، وصحة نبوة رسولك عيسى عليه السلام {وَارْزُقْنَا}؛ أي: وأعطنا هذه المائدة المطلوبة لنا، أو ارزقنا رزقًا نستعين به على عبادتك. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأفضل المعطين، بل لا رازق في الحقيقة غيرك، ولا معطي سواك. والمعنى: أن (¬1) عيسى عليه السلام لما علم صحة قصدهم، وأنهم لا يريدون تعجيزه، ولا اقتراح آية .. دعا الله بهذا الدعاء، وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو ذلك من صفات الكمال، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام؛ أي: يا الله، يا مالك أمرنا، ومتولي تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم، وتتغذى بها أبدانهم، وتكون عيدًا خاصًّا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا، بأول من آمن منا، وآخر من آمن، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتي وصدق نبوتي، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا، فأنت خير الرازقين، ترزق من تشاء بغير حساب، ومن محاسن هذا الدعاء: أنه أخَّر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية بعكس ما فعله الحواريون؛ إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى. وقرأ الجمهور (¬2): {تَكُونُ لَنَا} على أن الجملة صفة لـ {مَائِدَةً}. وقرأ عبد الله والأعمش: {يكن} بالجزم على جواب الأمر، والمعنى: يكن يوم نزولها عيدًا وهو يوم الأحد، ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيدًا كما مرَّ. وقيل: العيد: السرور والفرح، ولذلك يقال: يوم عيد، فالمعنى: يكون لنا سرورًا وفرحًا. وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري: {لأُولانا وأُخرانا} أنَّثوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[115]

على معنى الأمة والجماعة. وقرأ ابن السميقع وابن محيصن والضحاك: {وأنه منك} بفتح الهمزة وبنون مشددة، والضمير في {وأنه} إما للعيد أو الإنزال. 115 - فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاء عيسى عليه السلام فـ {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا}؛ أي: المائدة المطلوبة لكم {عَلَيْكُمْ} أيها الحواريون، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: {مُنَزِّلُهَا} مشددأ، وقرأ باقي السبعة مخففًا، والأعمش وطلحة بن مصرف: {إني سأنزلها} بسين الاستقبال؛ أي: وعد الله تعالى عيسى عليه السلام بإنزال المائدة مرة أو مرارًا، لكنه رتب شرطًا على هذا الوعد فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ}؛ أي: بعد نزولها {مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا}؛ أي: تعذيبًا، كالسلام بمعنى التسليم، والضمير (¬1) في {لَا أُعَذِّبُهُ}، للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به .. لم يكن بد من الباء؛ أي: إني أعذب من يكفر تعذيبًا لا أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}؛ أي: من عالمي زمانهم، أو العالمين مطلقًا، فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة، فمسخوا خنازير، فلم يعذب بمثل ذلك غيرهم، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره. والخلاصة (¬2): أن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك .. فإني أعذبه عذابًا شديدًا لا أعذب مثله أحدًا من سائر كفار العالمين؛ لأن عقاب المخطىء أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر في نفسه، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وأيُّ شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى، ثم يقترح آية خاصة تشترك في العلم بها حواسه جميعًا ويتنفع بها في دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه، ويكون من الكافرين؟! وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء، فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا؛ كما كان ينزل المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) النفسي. (¬2) المراغي.

فائدة في المائدة: وروي عن سلمان (¬1) الفارسي: أنَّ عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء .. لبس صوفًا، ثم قال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا} الخ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها، حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام، وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم: ليقم أحسنكم عملًا يكشف عنها، ويذكر اسم الله عليها، ويأكل منها، فقال شمعون رأس الحواريين: أنتَ أولى بذلك، فقام عيسى، وتوضأ، وصلى، وبكى، ثم كشف المنديل، وقال: باسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسمًا، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من الألوان ما خلا الكرَّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله من طعام الدنيا هذا، أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما، ولكنه شيء خلقه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا .. يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقال الحواريون: لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال: يا سمكة احيي بإذن الله، فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية، ثم طارت المائدة، ثم عصوا وقالوا بعد النزول والأكل: هذا سحر مبين، فمسخ الله منهم ثلاث مئة وثلاثين رجلًا، باتوا ليلتهم مع نسائهم، ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات، ويأكلون العذرة في الحشوش، ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام .. بكت وجعلت تطيف به، وجعل يدعوهم بأسمائهم واحدًا بعد واحد، فيبكون ويشيرون برؤوسهم، ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا. والله أعلم. الإعراب {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}. ¬

_ (¬1) الخازن والمراح.

{يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف جوازًا تقديره: اذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {فَيَقُولُ}: الفاء: عاطفة. {يقول}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {يَجْمَعُ}. {مَاذَا أُجِبْتُمْ} مقول محكي لـ {يقول}، وإن شئت قلت: {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول ثان لـ {أُجِبْتُمْ} مقدم عليه وجوبًا؛ لكونه مما يلزم الصدارة. {أُجِبْتُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يقول}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَا عِلْمَ لَنَا} آخر الآية: مقول لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {عِلْمَ}: في محل النصب اسمها. {لَنَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لَا} تقديره: لا علم موجود لنا، وجملة {لَا} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّكَ}: وإن: حرف نصب، والكاف: في محل النصب اسمها. {أَنْتَ}: ضمير رفع منفصل مستعار لضمير النصب في محل النصب توكيد لاسم {إن}. {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: خبر {إن}، ومضاف إليه، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}، مسوقة لتعليل ما قبلها، وفي "الفتوحات" (¬1): قوله: {إنَّكَ أَنْتَ}: {أَنْتَ} يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون توكيدًا لاسم {إن}، فيكون منصوب المحل، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده، والجملة خبر {إن}، وأن يكون فصلًا، وفيه الخلاف المشهور؛ هل له محل من الإعراب، أم لا؟ وإذا قيل: إن له محلًا من الإعراب، فهل يعرف بإعراب ما قبله كقول الفراء، فيكون في محل نصب، أو بإعراب ما بعده، فيكون في محل رفع، كقول الكسائي؟ {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، ولكن بمعنى إذا التي للاستقبال متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. {قَالَ}: فعل ماضٍ بمعنى المضارع؛ لأن هذا القول ¬

_ (¬1) الجمل.

يقع يوم القيامة مقدمة لقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}. {اللَّهُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {يَا} حرف نداء. {عِيسَى}: منادى مفرد العلم في محل النصب مبني بضم مقدر منع من ظهوره التعذر. {ابْنَ}: صفة له تابع لمحله منصوب. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه. وإذا كان (¬1) المنادى علمًا مفردًا ظاهر الضم موصوفًا بابن متصلٍ مضافٍ إلى عَلَمٍ .. جاز فتحه إتباعًا لفتحة ابن، وضمه على البناء الأصلي فيه، هذا على مذهب الجمهور. وأجاز الفراء، وتبعه أبو البقاء فيما لا يظهر فيه الضم - كما هنا - تقدير ضم البناء، وفتح الإتباع لابن، كما قال ابن مالك: وَنَحْوِ زَيْدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ ... نَحْوِ أَزَيْدُ بْنَ سَعِيْدٍ لاَتَهِنْ ويجوز أن يكون المنادى في هذا التركيب منصوبًا؛ لأنه في نية الإضافة، ويكون الابن مقحمًا للتوكيد. قال التبريزي: الأظهر عندي أن موضع عيسى نصب؛ لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى. وكل ما كان مثل هذا التركيب .. جاز فيه الوجهان: نحو يا زيد بن عمرو، وأنشد النحويون: يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُوْدْ ... أَنْتَ الْجَوادَ بْنُ الْجَوَادِ بْنِ الْجُوْد وإذا فتحت آخر المنادى في هذا التركيب .. تكون الفتحة حركة إتباع لحركة نون ابن، ولم يعتد بسكون باء ابن؛ لأن الساكن حاجز غير حصين، وسيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الصرف قاعدة مفيدة في مثل هذا المنادى على سبيل الاستطراد، وجملة النداء في الآية في محل النصب مقول {قَالَ}. {اذْكُرْ نِعْمَتِي}: فعل ومفعول ومضاف إليه وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نِعْمَتِي}؛ لأنه مصدر بمعنى إنعامي. {وَعَلَى وَالِدَتِكَ}: معطوف على {عَلَيْكَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {نِعْمَتِي}. {أَيَّدْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {إِذْ} إليها. {بِرُوحِ الْقُدُسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَيَّدْتُكَ}. {تُكَلِّمُ النَّاسَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة في محل النصب حال من الكاف في {أَيَّدْتُكَ}. {فِي الْمَهْدِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تُكَلِّمُ}. {وَكَهْلًا}: الواو: عاطفة. {كَهْلًا}: معطوف على محل الجار والمجرور قبله على كونه حالًا من فاعل {تُكَلِّمُ}، والتقدير: تكلم الناس حالة كونك صغيرًا في زمن المهد، وكبيرًا في زمن الكهولة. {وَإِذْ}: والظرف معطوف على الظرف في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} هو على كونه متعلقًا بـ {نِعْمَتِي}. {عَلَّمْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول {الْكِتَابَ}: مفعول ثان لـ {عَلَّمْتُكَ}. {وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: معطوفات على {الْكِتَابَ}، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {إذ} إليها. {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى معطوف على {إِذْ أَيَّدْتُكَ}. {تَخْلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذ}. {مِنَ الطِّينِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَخْلُقُ}، أو حال من هيئة الطير على قول من أجاز تقديم حال المجرور عليه، كما ذكره أبو البقاء. {كَهَيْئَةِ}: الكاف: اسم بمعنى مثل في محل النصب مفعول {تَخْلُقُ} مبني على الفتح، وهو مضاف. {هيئة}: مضاف إليه، وهو مضاف. {الطَّيْرِ}: مضاف إليه. {بِإِذْنِي}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَخْلُقُ}. {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}. {فَتَنْفُخُ} هو الفاء: عاطفة. {تنفخ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على

عيسى. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تنفخ}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {تَخْلُقُ}. {فَتَكُونُ}: الفاء: عاطفة. وتكون: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على الهيئة. {طَيْرًا}: خبرها. {بِإِذْنِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، تنازع فيه كل من {تنفخ} و {تَكُونُ}. {وَتُبْرِئُ}: الواو: عاطفة {تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}: فعل ومفعول. {وَالْأَبْرَصَ}: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على {عيسى}. {بِإِذْنِي}: متعلق بـ {تُبْرِئُ}، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {تَخْلُقُ}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى معطوف على قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ}. {تُخْرِجُ الْمَوْتَى}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {بِإِذْنِي}: متعلق بـ {تُخْرِجُ}. {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى معطوف على قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ}. {كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجر مضاف إليه. لـ {إِذْ}. {عَنْكَ}: متعلق بـ {كَفَفْتُ}. {إذ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {كَفَفْتُ}. {جِئْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جِئْتَهُمْ}. {فَقَالَ}: الفاء: عاطفة {قال الذين}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {جِئْتَهُمْ}. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {كَفَرُوا}. {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} مقول محكي لـ {قالوا} وإن شئت قلت: {إِن} نافية تعمل عمل ليس، ولكن بطل عملها لانتقاض نفيها بـ {إِلَّا}. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {سِحْرٌ}: خبر. {مُبِينٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قالوا}. {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.

{وَإِذْ} الواو: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى معطوف على {إِذْ أَيَّدْتُكَ}. {أَوْحَيْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِلَى الْحَوَارِيِّينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْحَيْتُ}. {أَن}: مفسرة بمعنى أي التفسيرية؛ لوقوعها بعد ما في معنى القول دون حروفه، ويصح كونها مصدرية بتكلف، وتكون في موضع نصب بـ {أَوْحَيْتُ}؛ أي: أوحيت إليهم الأمر بالإيمان، كما ذكره أبو البقاء. {آمِنُوا}: فعل وفاعل، والجملة مفسرة لـ {أَوْحَيْتُ} لا محل لها من الإعراب. {بِي}: جار ومجرور متعلق بـ {آمِنُوا}. {وَبِرَسُولِي}: معطوف عليه. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَاشْهَدْ}: الواو: عاطفة. {اشْهَدْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الرب، أو على {عِيسَى}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {آمَنَّا}. {بِأَنَّنَا}: الباء: حرف جر، {أن}: حرف نصب، ونا: اسمها. {مُسْلِمُونَ}: خبرها، والجملة في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بكوننا مسلمين، الجار والمجرور متعلق بـ {اشْهَدْ}. {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق باذكر المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {يَا عِيسَى} إلى آخره مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلتَ: {يَا عِيسَى}: منادى مفرد علم. {ابْنَ}: صفة له، أو عطف بيان، أو بدل منه. {مَرْيَمَ} مضاف إليه لـ {ابْنَ}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {هَلْ} للاستفهام الاستخباري. {يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الاستفهامية جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَن}: حرف نصب. {يُنَزِّلَ}: منصوب به، وفاعله ضمير يعود على الرب. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {مَائِدَةً}: مفعول به. {مِنَ السَّمَاءِ} صفة لها، أو متعلق بـ {يُنَزِّلَ}، وجملة

{يُنَزِّلَ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يستطيع} تقديره: هل يستطيع ربك تنزيل مائدة من السماء علينا. {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. {قَالَ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، والجملة مستأنفة. {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلتَ: {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {مُؤْمِنِينَ}: خبر {كان}، وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين .. فاتقوا الله، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، {نُرِيدُ أَنْ نَأكُلَ} إلى قوله: {مِنَ الشَّاهِدِينَ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {نُرِيدُ} فعل، والفاعل ضمير مستتر يعود على الحواريين {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {نَأكُلَ} فعل مضارع منصوب بها، وفاعله ضمير يعود على الحواريين، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: نريد أكلنا منها، وجملة {نُرِيدُ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِنْهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {نَأكُلَ}. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}: فعل وفاعل معطوف على {نَأكُلَ مِنْهَا}. {وَنَعْلَمَ} معطوف أيضًا على {نَأكُلَ}، وفاعله ضمير يعود على {الْحَوَارِيُّونَ} {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: أنه. {قَدْ}: حرف تحقيق. {صَدَقْتَنَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أن} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم؛ تقديره: ونعلم صدقك إيانا حقًّا. فائدة: وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف؛ فإن كان ماضيًا .. فصل بينهما بـ {قَدْ} نحو قوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا}، وإن كان

مضارعًا .. فصل بينهما بحرت تنفيس كقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}، ولا يقع بغير فصل، قيل: إلا قليلًا، وقيل: إلا ضرورة، ذكره أبو حيان. {وَنَكُونَ}: فعل مضارع معطوف على {نَأكُلَ}، واسمها ضمير مستتر فيه يعود على الحواريين {عَلَيْهَا} متعلق بـ {الشَّاهِدِينَ}. {مِنَ الشَّاهِدِينَ}: جار ومجرور خبر {نكون}. {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. {قَالَ عِيسَى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {ابْنُ مَرْيَمَ} صفة لـ {عِيسَى}، أو عطف بيان {اللَّهُمَّ رَبَّنَا ...} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {اللَّهُمَّ}: منادى مفرد علم في محل النصب على النداء مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا لتضمنه معنى حرف الخطاب، وإنما حرك؛ ليعلم أن له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة جبرًا لما فاته من الإعراب، والميم المشددة عوض عن حرف النداء مبني على الفتح، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {رَبَّنَا} نداء ثانٍ. {أَنْزِلْ}: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق به. {مَائِدَةً}: مفعول به. {مِنَ السَّمَاءِ}: صفة أولى لـ {مَائِدَةً}، أو متعلق بـ {أَنْزِلْ}، وجملة {أَنْزِلْ} من الفعل والفاعل جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَائِدَةً}. {لَنَا}: جار ومجرور حال من {عِيدًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {عِيدًا}: خبر {تَكُونُ}. {لِأَوَّلِنَا}: جار ومجرور بدل من {لَنَا} بدل تفصيل من مجمل. {وَآخِرِنَا} معطوف على {أولنا}، وجملة {تَكُونُ} من اسمها وخبرها، في محل النصب صفة ثانية لـ {مَائِدَةً}. {وآيةً}: معطوف على {عِيدًا}. {مِنْكَ}: جار ومجرور صفة لـ {آية}. {وَارْزُقْنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزِلْ} على كونها جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَنتَ}: مبتدأ {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خبر مضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا

مِنَ الْعَالَمِينَ}. {قَالَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب. {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {إنّ} حرف نصب، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {مُنَزِّلُهَا} خبر {إنّ} ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَمَنْ}: الفاء: عاطفة. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو جملة الشرط، أو هما. {يَكْفُرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود {من}. {بَعْدُ}: ظرف زمان في محل النصب على الظرفية مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف تقديره: بعد تنزيلها، وإنما حرك؛ ليعلم أن له أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَكْفُرْ}. {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ}: الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {إن}: حرف نصب، والياء اسمها. {أُعَذِّبُهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَذَابًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة إن في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {لَا أُعَذِّبُهُ}: {لَا}: نافية. {أُعَذِّبُهُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللهُ}، والهاء: ضمير عائد على المصدر في محل النصب على المفعولية المطلقة. {أَحَدًا}: مفعول به. {مِنَ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدًا}، وجملة: {لَا أُعَذِّبُهُ} في محل النصب صفة لـ {عَذَابًا}. التصريف ومفردات اللغة {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} قال الخطابي (¬1): العلَّام بمنزلة العلم، وبناء فعَّال بناء التكثير. فأما الغيوب: فجمع غيب: وهو ما غاب عنك. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

{نِعْمَتِي} وقال الحسن: المراد بذكر النعمة الشكر، فأما النعمة: فلفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع، ولكن هنا مصدر بمعنى الإنعام. {إِذْ أَيَّدْتُكَ}: قويتك، مأخوذ من الأيد، وهو القوة، يقال: آد يئيد أيدًا وآدًا إذا اشتد وقوي وصلب، وأيد تأييدًا - من باب فعَّل المضعف - فهو مؤيد، وذاك مؤيد، وآيَد مؤايدة، فهو مؤيد وذاك مؤيد - من باب أفعل الرباعي - إذا قواه وأثبته، وتأيد - من باب تفعل - إذا تقوى، والإياد: ما أيد به الشيء ويقال: إيادا الجيش: جناحاه؛ أي: ميمنته وميسرته، والجبل الحصين، والأيد: القوي. {فِي الْمَهْدِ}: والمهد: الموضع يهيأ ويوطأ للصبي، يجمع على مهود كفلس وفلوس، ومعنى: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}؛ أي: صغيرًا في المهد {وَكَهْلًا}؛ أي: كبيرًا في زمن الكهولة. وحكى (¬1) ثابت بن أبي ثابت: أن الكهل ابن أربعين إلى الخمسين، وقال غيره: ابن ثلاث وثلاثين. {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الطير: اسم جنس لطائر، وقال الخليل: الأكمهُ الذي يولد أعمى، وقد يقال لمن تذهب عينه بعد ما كان يبصر. {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} تقدم (¬2) الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، وابن: صفة لعيسى، نصب لأنه مضاف، وهنا قاعدة كلية مفيدة؛ وذلك أن المنادى المفرد المعرفة الظاهر الضمة إذا وصف بابن أو ابنة، ووقع الابن أو الابنة بين علمين، أو اسمين متفقين في اللفظ، ولم يفصل بين الابن وبين موصوفه بشيء .. تثبت له أحكام، منها: أنه يجوز إتباع المنادى المضموم لحركة نون ابن، فيفتح نحو: يا زيد ابن عمر، ويا هندَ ابنة بكر. بفتح الدال من: زيد وهند، وضمها، فلو كانت الضمة مقدرة مثل ما نحن فيه .. فإن الضمة مقدرة على ألف عيسى، فهل يقدر بنائها على الفتح إتباعًا كما في الضمة الظاهرة؟ فيه خلاف، والجمهور على عدم جوازه؛ إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقود في الضمة المقتدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدر مجرى ¬

_ (¬1) إعراب النحاس. (¬2) الفتوحات.

الظاهر، وتبعه أبو البقاء، فإنه قال: يجوز أن تكون على الألف من عيسى فتحة؛ لأنه قد وصف بابن، وهو بين علمين، وأن تكون فيها ضمة، وهو مثل قولك: يا زيد بن عمرو، بفتح الدال وضمها، وهذا الذي قاله غير بعيد. اهـ "سمين". {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} الوحي في اللغة: الإشارة السريعة الخفية، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، والمراد به (¬1) هنا: ما يلقيه الله في نفوس الأحياء من الإلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}، وهكذا ألقى الله في قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام. {مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} المائدة (¬2): الخوان عليه طعام، فإن لم يكن عليه طعام .. فليس بمائدة، هذا هو المشهور، إلا أن الراكب قال: المائدة: الطبق الذي عليه الطعام، وتقال أيضًا للطعام، إلا أن هذا مخالف لما عليه المعظم، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه الطعام، وإلا فهو خوان، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب، ولا يقال: قلم إلا وهو مبري، وإلا فهو أنبوب. واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجاج: هو من ماد يميد - من باب باع - إذا تحرك، ومنه قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، ومنه: ميد البحر، وهو ما يصيب راكبه، فكأنها تميد بما عليها من طعام، قال: وهي فاعلة على الأصل. وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة، مشتقة من ماده بمعنى: أعطاه، وامتاده بمعنى: استعطاه، فهي بمعنى: مفعولة كعيشة راضية، وأصلها أنها ميد بها صاحبها؛ أي: أعطيها. والعرب تقول: مادني فلان يميدني: أحسن إلي وأعطاني، وقال أبو بكر الأنباري: سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء، من قول العرب: ماد فلان فلانًا إذا أحسن إليه اهـ "سمين". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

{تَكُونُ لَنَا عِيدًا} والعيد (¬1) مشتق من العود؛ لأنه يعود كل سنة، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي، وقال ابن الأنباري: النحويون يقولون: يوم العيد؛ لأنه يعود بالفرح والسرور، وعيد الفرح لا يعود بالفرح والحزن، وكل ما عاد إليك في وقت فهو عيد. وقال الراغب: العيد حالة تعاود الإنسان، والعائدة كل نفع يرجع إلى الإنسان بشيء، ومنه: العود للبعير المسن؛ إما لمعاودة السير والعمل، فهو بمعنى فاعل، وإما لمعاودة السنين إياه ومرورها عليه، فهو بمعنى: مفعول، وصغّروه على: عييد، وكسروه على: أعياد، وكان القياس: عويد؛ لزوال موجب قلب الواو ياء؛ لأنها إنما قلبت لسكونها بعد كسرة؛ كميزان، وإنما فعلوا ذلك فرقًا بينه وبين عود الخشب. اهـ "سمين". {عَذَابًا} في "السمين" (¬2): عذابًا: اسم مصدر بمعنى التعذيب، أو مصدر على حذف الزوائد، نحو: عطاء ونبات لأعطى وأنبت، وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين، والهاء في لا أعذبه عائدة على عذاب الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب، والتقدير: فإني أعذبه تعذيبًا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أحدًا. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ}؛ لأن فيه توبيخًا للكفار. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. ومنها: التجوز في التعبير عما في المستقبل بلفظ الماضي في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ}؛ لأن هذا القول يقع يوم القيامة إشعارًا بتحقق الوقوع، فأقام الماضي مقام المضارع، و {إذ} مقام إذا التي للمستقبل، فأصل العبارة: إذ يقول الله. ومنها: التخصيص في قوله: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} بعد التعميم في قوله: {فيقول مَاذَا أُجِبْتُمْ} فتخصيص عيسى من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود ¬

_ (¬1) السمين. (¬2) الجمل.

والنصارى فيه إفراطًا وتفريطًا، هذه تجعله إلهًا، وهذه تجعله كاذبًا كما سبق. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، وفي قوله: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ}، وقوله: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ}، وما عطف عليه؛ لأنه تفصيل لقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي}، وفي قوله: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}؛ لأنه تفصيل لقوله: {لَنَا}. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} إشعارًا بمزيد اختصاصه بهما. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ}؛ لأنه بمعنى تصور، وفي قوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى}؛ لأنه بمعنى تحيي. ومنها: التشبيه في قوله: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}. ومنها: التكرار في قوله: {بِإِذْنِي}؛ حيث كرره في أربعة مواضع للإشعار بأن ذلك كله من جهة الله تعالى ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله تعالى. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}؛ لأن حق المقام أن يقول: إذ قالوا، لتقدم المرجع. ومنها: الحذف في مواضع. ومنها: الإطناب في قوله: {بِإِذْنِي}؛ لأنه جاء به أربع مرات عقيب أربع جمل؛ لأن المقام مقام ذكر النعمة والامتنان بها، فناسبه الإسهاب، بخلاف ما مرَّ في آل عمران؛ لأن ما هناك موضع إخبار لبني إسرائيل، فناسبه الإيجاز. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[116]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120). المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه كان الكلام (¬1) قبل هذه الآيات في تعداد النعم التي أنعم الله بها سبحانه على عيسى، وفي إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله، وفي طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء، ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم، وإخبار الله تعالى بأنه أجابهم، ثم لم يزل الكلام في هذه الآيات مع عيسى أيضًا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخًا وتقريعًا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده، وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله تعالى بما ينجي الإنسان من عذاب يوم القيامة مع بيان أن ما في السموات والأرض كله مملوك له، وفي قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته، وهو القادر على كل شيء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع. التفسير وأوجه القراءة 116 - {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ}: معطوف على قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} عطف قصة على قصة، {وَإِذْ} هو بمعنى: إذا التي للمستقبل؛ لأن {إِذْ} قد تجيء بمعنى: إذا، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} يعني: إذا فزعوا، وقول أبي النجم: ¬

_ (¬1) المراغي.

ثُمَّ جَزَاكَ اللهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في السَّمَوَاتِ الْعُلَى و {قال} بمعنى: يقول؛ لأن هذا القول إنما يكون في يوم القيامة، وإنما عبر بالماضي لما مر من الدلالة على التحقيق والوقوع، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لأمتك قصة إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى ابن مريم - توبيخًا للكفرة وتبكيتًا لهم بإقراره عليه السلام بالعبودية على رؤوس الأشهاد، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل -: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ}؛ أي: هل قلت للناس في الدنيا. {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}، والله ثالثهما؛ أي: اجعلوني وأمي مريم معبودين لكم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: متجاوزين عبادة الله تعالى، وتاركين عبادته، والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه السلام من النصارى؛ لأن عيسى عليه السلام لم يقل هذه المقالة. فإن قلتَ (¬1): إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها، فما وجه هذا السؤال مع علم الله بأنه لم يقله؟ قلتُ: وجه هذا السؤال: إثبات الحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه، وأنه أمرهم به، فهو كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا، وهو يعلم أنه لم يفعله، وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل، فنفى عيسى عليه السلام عن نفسه هذه المقالة، وقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}، فاعترف بالعبودية، وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت النصارى فيه. فإن قلتَ: إن النصارى لم يقولوا بإلهيَّة مريم، فكيف يقول اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قلت: إن النصارى لما ادعت في عيسى عليه السلام أنه إله، ورأوا أن مريم ولدته .. لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية. ومعنى قوله (¬2): {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة، وذلك يكون؛ إما باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى، وهو الشرك؛ إذ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

عبادة الشريك المتخذ هي غير عبادة الله تعالى خالق السموات والأرض، سواء اعتقد أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالًا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب، أو بالوساطة عند الله؛ أي: بِمَالَه من التأثير والكرامة على النفع والضر، وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وقَلَّ أن يوجد من المشركين من يتخذ إلهًا غير الله متجاوزًا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فالإيمان الفطري الذي غرس في نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادًا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره .. فبإقدار الله إياه، وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يعظمون من خلقه تارة أخرى؛ كالشمس والنجوم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانًا إليهما معًا، فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات. والخلاصة: أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره، سواء أكانت خالصة لذلك الغير، أو شركة بينه وبين غيره، وقد نعى الله تعالى عليهم اتخاذ المسيح إلهًا في مواضع عديدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، أنكرت عبادتها فرقة إصلاح المسيحية التي جاءت بعد الإِسلام بزمن طويل. وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة؛ إما بنفسها أو بواسطة ابنها، ويسمونها: والدة الإله.

والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هي وابنها إلهين - والاتخاذ غير التسمية - فيصدق بالعبادة وهي واقعة حتمًا. {قَالَ} عيسى عليه السلام، وقد ارتعدت مفاصله، وارتعش جسمه من سماع هذا الخطاب؛ أعني قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: قال مجيبًا لله سبحانه وتعالى هذا الخطاب {سُبْحَانَكَ} من أن يكون لك شريك؛ أي: تنزيهًا لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب؛ إذ لا شبهة في ألوهيتك وأنت منزه عن الشرك فضلًا أن يتخذ إلهان دونك، والمعنى: أنزهك يا إلهي تنزيهًا لائقًا بك عن أن يكون معك إله آخر، فضلًا عن أن أقول ذلك، وبهذا أثبت له التنزيه عن المشاركة في الذات والصفات. ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق، فقال: {مَا يَكُونُ لِي}؛ أي: ما ينبغي لي {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}؛ أي: أن أقول قولًا لا يحق لي أن أقوله؛ أي: كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل له، ولست أستحق العبادة حتى أدعو الناس إليها؛ أي: ليس من شأني ولا مما يصح أن يقع مني أن أقول قولًا لا حق لي أن أقوله؛ لأنك أيدتني بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل. وهو بتنزيهه الله أولًا أثبت أن ذلك القول الذي نُسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق، وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله، وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه - وهو عصمته عليه السلام - إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ}؛ أي: إن صح أني قلته لهم فيما مضى {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وهذا مبالغة في الأدب في إظهار الذل في حضرة ذي الجلال، وتفويض الأمور بالكلية إلى الكبير المتعالي. والمعنى: إني لا أحتاج إلى الاعتذار؛ لأنك تعلم أني لم أقله، ولو قلته .. لعلمته لأنك {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}؛ أي: ذاتي {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}؛ أي: ذاتك، فنفس (¬1) الشيء: ذاته وهويته، والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وقيل: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}؛ أي: ما كان مني لهم من الأمر والنهي {وَلَا أَعْلَمُ مَا ¬

_ (¬1) النسفي.

[117]

فِي نَفْسِكَ}؛ أي: ما كان منك لهم من الخذلان، وقيل: تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه، ولا أعلم حقيقة ذاتك ولا ما احتوت عليه من صفات الكمال. واعلم: أنهم اختلفوا في إطلاق النفس على الله تعالى، فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة؛ إذ ورد إطلاقها في غير المشاكلة قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ذكره الصاوي. والمعنى: أن ذلك القول إن كان قد صدر مني .. فقد علمته؛ إذ علمك واسع محيط بكل شيء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه مني غيري، كما أني لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لم ترشدني إليها بالكسب والاستدلال، لكني أعلم ما تظهره لي بالوحي بواسطة ملائكتك المقربين إليك {إِنَّكَ} يا إلهي {أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؛ أي: إنك أنت العالم بالخفايا عن العباد؛ لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحي والإلهام. فقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬1) يدل بمنطوقه على أنه تعالى يعلم الغيب، فيكون مقررًا لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، ويدل بمفهومه على أنه لا يعلم الغيب غيره، فيكون مقررًا لقوله: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ودل بتصدير الجملة بـ {إنّ}، وتوسط ضمير الفصل، وبناء المبالغة، والجمع المعرف باللام أن شيئًا لا يعزب عن علمه ألبتة كما هو مقرر في محله. 117 - وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك .. بيَّن حقيقة ما قاله لقومه؛ إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفي ضده، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}؛ أي: ما قلت لهم إلا قولًا أمرتني به. وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} عطف (¬2) بيان للضمير في {بِهِ}، أو بدل منه، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البيضاوي.

[118]

مطلقًا، فيلزم منه بقاء الموصول بلا عائد، أو خبر محذوف، أو مفعوله، مثل: هو، أو أعني، وقيل (¬1): {أن} مفسرة للهاء الراجع للقول المأمور به، والمعنى: ما قلت لهم في الدنيا إلا قولًا أمرتني به، وذلك القول هو أن أقول لهم: اعبدوا الله ربي وربكم؛ أي: وحدوه ولا تشركوا به شيئًا. والخلاصة: أني ما قلت لهم في شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادًا وتبليغًا لهم بأنك ربي وربهم، وأنني عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم. {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}؛ أي: وكنت قائمًا عليهم مراقبًا لهم أراقبهم وأمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهدًا لأحوالهم من كفر وإيمان، أشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأُقر الحق وأُنكر الباطل {مَا دُمْتُ فِيهِمْ}؛ أي: مدة دوامي ووجودي بينهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}؛ أي: رفعتني من بينهم إلى السماء، فالمراد: وفاة الرفع لا وفاة الموت، وقال الحسن: الوفاة: وفاة الموت، ووفاة النوم، ووفاة الرفع. {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: كنت أنت الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} دوني؛ لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شيء؛ إذ لا يخفى عليك شيء، فالرقيب: الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، والشهيد: العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، وفي هذا إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما عرّفه بقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه. وقد تقدَّم في هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}. 118 - ثم فوَّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ}؛ أي: إن ¬

_ (¬1) المراح.

تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة وماتوا على كفرهم {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} لا يقدرون على دفع ضُر نزل بهم، ولا جلب نفع لأنفسهم، وأنت العادل فيهم؛ لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}؛ أي: لمن تاب عن كفره منهم، ومات على الإيمان، فإن ذلك بفضلك ورحمتك {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يغالب في الانتقام ممن يريد الانتقام منه، لا يمتنع عليه ما يريده {الْحَكِيمُ} في أفعاله كلها الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يُستطعف السيد لعبده، ولهذا لم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، ذكره "الشوكاني". والمعنى: إن تعذب من أرسلتني إليهم فبلغتُهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك، فضلَّ منهم من ضل، وقالوا ما لم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك .. فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العلم بالمؤمن المخلص في إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك، أو بمن أطاعك وبمن عصاك، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، وإن تغفر .. فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم في تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل في موضعه. وخلاصة المعنى: أنك إن تعذب .. فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر .. فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب .. فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة .. فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته؛ لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يُمنع، وأنت الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه، فلا يمكن أحدًا غيرك أن يرجعك عنه. ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئًا من الشفاعة

[119]

لقومه، ومما يؤيد هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآية، وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}، فرفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم أمتي أمتي"، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل وسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال - وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: {الْحَكِيمُ} قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم". وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قام بهذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ...} الآية، حتى أصبح، يركع بها ويسجد، فسأله أبو ذر عن ذلك فقال: "إني سألت ربي الشفاعة فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئًا". فهذه الأحاديث صريحة في أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك بالله شيئًا. 119 - قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ ...} كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يسأل الله الرسل عليهم السلام؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: هذا اليوم - يعني: يوم القيامة - هو {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}؛ أي: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في الدنيا في إيمانهم، وفي شهاداتهم وفي سائر أقوالهم وأحوالهم. والمعنى: إن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة؛ لأنه يوم الإثابة والجزاء، وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة، والمراد بالصادقين: النبيون والمؤمنون؛ لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة.

قال (¬1) قتادة: متكلمان لا يخطئان يوم القيامة: عيسى عليه السلام؛ لأنه يقوم فيقول: ما قص الله عنه {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} الآية، فكان صادقًا في الدنيا والآخرة فينفعه صدقه، وأما المتكلم الآخر فإبليس، فإنه يقوم ويقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} الآية، فصدق عدو الله فيما قال، ولم ينفعه صدقه انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {هَذَا يَوْمُ} بالرفع على أن {هَذَا} مبتدأ و {يَوْمُ} خبره، والجملة محكية بـ {قال}، وهي في موضع المفعول به لـ {قال}. وقرأ نافع: {هذا يومَ} - بفتح الميم - وخرجه الكوفيون على أنه مبني خبر لـ {هذا}، وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنيًّا في بناء الظرف المضاف إلى الجملة، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى. وعند البصريين هو معرب لا مبني، منصوب على أنه ظرف لـ {قال}. وقرأ الأعمش: {يومًا ينفع} - بالتنوين - كقوله: {واتقوا يوما لا تجزئ}. وقرأ الحسن بن عياش الشامي: {هذا يومٌ} بالرفع والتنوين. وقرأ الجمهور {صدقُهم} بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم، ثم بين الله تعالى ذلك النفع بذكر ما لهم من الثواب على صدقهم فقال: {لَهُمْ}؛ أي: للصادقين في الآخرة على صدقهم في الدنيا {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؛ أي: بساتين تسيل من تحت أشجارها الأنهار الأربعة {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: حالة كونهم مقدرين الخلود والمكث الطويل في تلك الجنات {أبدًا}؛ أي: مدة لا نهاية لها ولا انقضاء، وتقدم لك الفرق بين الخلود والأبد فلا عود ولا إعادة. {رَضِيَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَنْهُمْ}؛ أي: عن الصادقين في الآخرة بما عملوه في الدنيا من الطاعات الخالصة، ومعنى رضا الرب سبحانه عن عبده: قبول عمله منه وإثابته عليه. {وَرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: ورضي الصادقون عن الله سبحانه وتعالى بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، وهذا المذكور هو غاية السعادة الأبدية؛ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[120]

إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه، كما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. والإشارة بـ {ذَلِكَ} في قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدًا ورضوان الله عنهم والفوز والظفر بالمطلوب على أتم الأحوال. وقيل (¬1): الإشارة إلى رضوان الله؛ أي: ذلك الرضوان هو الفوز العظيم، فالجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف لا، والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق، وأيُّ مناسبة بينهما؟ والمعنى: ذلك الفوز العظيم؛ أي: ذلك (¬2) الذي ذكر من النعيمين الجسماني والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ النهاية؛ لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه، كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}. 120 - وبعد أن بيَّن ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق .. بيَّن عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره تعالى فقال: {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: سلطنة السموات السبع والأرضين السبعة {وَمَا فِيهِنَّ}؛ أي: وسلطنة ما في السموات والأرض فاحمدوا الذي خلق السموات والأرض {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر؛ أي: أن كل ما سوى الله تعالى من الكائنات والأجساد والأرواح ممكن لذاته، موجود بإيجاده تعالى، وإذا كان الله موجودًا .. كان مالكًا له، وإذا كان مالكًا له .. كان له تعالى أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف أراد، فصح التكليف على أي وجه أراده تعالى، وكان الله مالك الملك، فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع موضعه شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبطل قول اليهود بعدم نسخ شرع موسى، ثم إن مريم وعيسى داخلان فيما سوى الله، فهما كائنان بتكوين الله تعالى، فثبت كونهما ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

عبدين لله مخلوقين له، فظهر بهذا التقرير: أن هذه الآية برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت عليها هذه السورة. وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، هذا (¬1) تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في حق المسيح وأمه؛ أي: له تعالى خاصة ملك السموات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم، يتصرف فيها كيف يشاء إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً وأمرًا ونهيًا من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك. اهـ "أبو السعود". وأتى (¬2) بـ {ما} دون {من} تغليبًا لغير العقلاء على العقلاء؛ لأن غير العقلاء هم الأكثر المناسب لمقام إظهار العظمة والكبرياء، وكون الكل في ملكوته وتحت قدرته لا يصلح شيء منها للألوهية سواه، فيكون تنبيهًا على قصورهم عن رتبة الربوبية انتهى "كرخي". والحاصل (¬3): أن الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وفي قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى، إذ الملك والقدرة له وحده، فلا ينبغي لأحد أن يتكل على شفاعتهما. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه، والمنزلة الرفيعة من بين عباده. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}. خاتمة: في بيان بعض ما تضمنته هذه السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية: ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة: 1 - بيان أن الله أكمل لعباده هذا الدين الذي ارتضى لهم، وأن دين الله واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم، وأن هذا الدين مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد، والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله الله، وأن أصول الدين الإلهي على ألسنة الرسل كلهم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أيِّ ملة كاليهود والنصارى، والصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. 2 - بيان عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمره بالتبليغ العام، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط، ومن حجج رسالته أنه بيَّن لأهل الكتاب كثيرًا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعًا لأهوائهم، وأن هذا الرسول قد عصمه الله وحفظه من أن يضره أحذ أو يصده عن تبليغ رسالة ربه، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة التكاليف. 3 - بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفرادًا وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية، فهو لا يضرهم لا في دنيا ولا دين، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها في جميع المعاملات الدنيوية، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم، والتعاون على البر والتقوى كتأليف الجماعات العلمية والخيرية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين، وبيان أن ذلك من آيات النفاق. 4 - تفصيل أحكام الطعام حلالِه وحرامه، وبيان أن التحريم منه؛ إما ذاتي كالميتة وما في معناها، وإما لسبب ديني كالذي يذبح للأصنام، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات. 5 - تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار وما في حكمه؛

كالمضاربات في البورصة (¬1). 6 - وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل، والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب ذلك في سائر الأحكام. 7 - بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع في ذلك اليوم هو الصدق، وكان مسك ختامها ذكر الجزاء في الآخرة بما يناسب أحكامها كلها. وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن جبير بن نفير قال: حججت، فدخلت على عائشة فقالت: يا جبير تقرأ المائدة، قلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. الإعراب {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة، أو استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكره، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}، أو مستأنفة. {قَالَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى قوله: {سُبْحَانَكَ} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {يَا عِيسَى}: منادى مفرد العلم. {ابْنَ}: صفة له. {مَرْيَمَ}: مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَأَنْتَ}: الهمزة للاستفهام التوبيخي. {أنت}: مبتدأ. {قُلْتَ}: فعل وفاعل. {لِلنَّاسِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل ¬

_ (¬1) البورصة: مجتمع التجار وعملاء المصارف والسماسرة للمضاربة بالأموال. إيطالية، عربيها: المثابة اهـ "منجد".

النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مقول محكي لـ {قُلْتَ}، وإن شئت قلت: {اتَّخِذُونِي}: فعل وفاعل ومفعول أول. {وَأُمِّيَ}: معطوف على ياء المتكلم {إِلَهَيْنِ}: مفعول ثان لـ {اتخذوا}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل {اتخذوا} تقديره: حال كونكم متجاوزين الله، أو بمحذوف صفة لإلهين تقديره: إلهين كائنين من دون الله، وجملة اتخذوني في محل النصب مقول {قُلْتَ}. {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {عيسى}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {سُبْحَانَكَ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: أسبحك سبحانًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مفعول {قَالَ}. {مَا}: نافية. {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص. {لِي}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {يَكُونُ}. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {أَقُولَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على عيسى، وجملة {أَقُولَ} صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {يَكُونُ} تقديره: ما يكون قول ما ليس لي بحق كائنًا لي، وجملة {يَكُونُ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {أَقُولَ}؛ لأنه بمعنى: اذكر. {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص واسمها ضمير يعود على {مَا} {لِي}: جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: أي، فاللام فيه للتبيين كـ (لام): سَقْيًا لك. {بِحَقٍّ}: جار ومجرور خبر {لَيْسَ}، والتقدير: ما ليس كائنًا بحق لي؛ أي: بلائق بي، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ {ما} هو، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {لَيْسَ}. وقال أبو البقاء (¬1): اسم {لَيْسَ} ضمير مستتر فيها، وخبرها {لِي} وهو {بِحَقٍّ} في موضع الحال من الضمير في الجار، ويجوز أن يكون {بِحَقٍّ} مفعولًا به تقديره: ما ليس يثبت لي بسبب ¬

_ (¬1) العكبري.

حق، فالباء تتعلق بالفعل المحذوف لا بنفس الجار؛ لأن المعاني لا تعمل في المفعول به، ويجوز أن يجعل {بِحَقٍّ} خبر {لَيْسَ} و {لِي} تبيين كما في قولهم: سقيًا لك ورعيًا، ويجوز أن يكون {بِحَقٍّ} خبر {لَيْسَ} و {لِي} صفة {بِحَقٍّ} قدِّم عليه فصار حالًا، وهذا يخرَّج على قول من أجاز تقديم حال المجرور عليه انتهى. وقيل (¬1): إن {لِي} متعلقة بنفس {حق}؛ لأن الباء زائدة و {حق} بمعنى: مستحق؛ أي: ما ليس مستحقًا لي {إِنْ} حرف شرط جازم. {كُنْتُ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن}. {قُلْتُهُ}: فعل وفاعل ومفعول؛ لأنه بمعنى: ذكرته، وجملة {قُلْتُهُ} في محل النصب خبر كان تقديره: إن كنت قائلًا إياه، أي: ذاكرًا إياه {فَقَدْ}: الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا لاقترانها بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {عَلِمْتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، وليست (¬2) علم هنا عرفانية؛ لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل، فهي هنا على بابها، ومفعولها الثاني محذوف تقديره: فقد علمته واقعًا مني، وجملة علمته في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. {تَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل النصب مقول القول. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {تَعْلَمُ}، والثاني محذوف تقديره: منطويًا وثابتًا. {فِي نَفْسِي}: جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَلَا}: الواو: عاطفة. {لَا}: نافية {أَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {عيسى}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تَعْلَمُ}. {مَا} موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ {أَعْلَمُ}؛ لأن علم هنا بمعنى: عرف {فِي نَفْسِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {إِنَّكَ} {إن}؛ حرف نصب، والكاف: اسمها. و {أَنْتَ}: تأكيد. {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: خبرها ومضاف إليه، وجملة ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الصاوي بتصرف.

{إن} في محل النصب مقول القول. {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}. {مَا}: نافية. {قُلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {قُلْتُ}؛ لأنه بمعنى: ذكرت. {أَمَرْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أمر}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. فائدة: حيث (¬1) وقعت ما قبل ليس، أو لم، أو: لا، أو: بعد إلا، فهي موصولة نحو: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، {مَا لَا تَعْلَمُونَ}، {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية نحو: قل كما قال زيد، وحيث وقعت بعد الباء. فإنها تحتملهما نحو: {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وحيث وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر .. احتملت الموصولية والاستفهامية نحو: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، وحيث وقعت في القرآن قبل إلا .. فهي نافية، إلا في ثلاثة عشر موضعًا: {مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأتِينَ}، {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} إلا موضعي هود من قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فهي فيهما مصدرية {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأكُلُونَ}، {يَأكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}، حيث كان قاله في "الإتقان" اهـ "كرخي". {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{أَنِ}: مصدرية. {اعْبُدُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية، فعل أمر مبني على حذف النون. {اللَّهَ}: مفعول به منصوب على التعظيم. {رَبِّي}: بدل من الجلالة ومضاف إليه. {وَرَبَّكُمْ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو؛ أي: الذي أمرتني به عبادتهم الله ربي وربهم، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قال}. {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. {وَكُنْتُ}: فعل ناقص واسمه {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهِيدًا}. {شَهِيدًا}: خبر {كان}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} على كونها مقول القول، أو في محل النصب حال من فاعل {قُلْتُ}. {مَا}: مصدرية ظرفية. {دُمْتُ}: فعل ناقص واسمه. {فِيهِمْ}: جار ومجرور خبر دام، وجملة دام صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه تقديره: مدة دوامي فيهم، والظرف المقدر متعلق بـ {كان}. {فَلَمَّا}: الفاء: عاطفة. {مَّا}: حرف شرط غير جازم. {تَوَفَّيْتَنِي}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول، والجملة الفعلية فعل شرط {لما} لا محل لها من الإعراب. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه. {أَنْتَ}: تأكيد لاسم {كان}. {الرَّقِيبَ}: خبر {كان}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {الرَّقِيبَ}، وجملة {كان} جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على جملة قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} على كونها مقولًا لـ {قال}. {وَأَنْتَ}: مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {شَهِيدٌ}. {شَهِيدٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من تاء {كُنْتَ}. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}. {إِنْ}: حرف شرط. {تُعَذِّبْهُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية،

وفاعله ضمير يعود على الله. {فَإِنَّهُمْ}: الفاء: رابطة لجواب {إنّ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {إنّ}: حرف نصب، والهاء اسمها. {عِبَادُكَ}: خبرها ومضاف إليه، وجملة {إنّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قال}. {وَإِنْ}: الواو: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {تَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {فَإِنَّكَ}: الفاء رابطة لجواب {إنّ} الشرطية. {إن}: حرف نصب، والكاف: اسمها. {أَنْتَ}: تأكيد للكاف. {الْعَزِيزُ}: خبر أول لـ {إنّ}. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إن} في محل الجزم: بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنّ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إِنْ} الأولى على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}. {قَالَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {هَذَا}: مبتدأ. {يَوْمُ}: خبر مرفوع؛ لأنه مضاف إلى معرب فبقي على حقه من الإعراب. ويقرأ بالنصب، ويقال في إعرابه: {يومَ}: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: هذا واقع يوم ينفع هذا على مذهب البصريين وعند الكوفيين {يومَ} في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا؛ لافتقاره إلى الجملة المضاف إليها، وعندهم يجوز بناؤه، وإن أضيف إلى فعل معرب، وأما عند البصريين فلا يبنى إلا إذا أضيف إلى فعل مبني. {يَنْفَعُ} فعل مضارع. {الصَّادِقِينَ}: مفعول به. {صِدْقُهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}.

{لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {جَنَّاتٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مسوقة لبيان النفع المذكور، كأنه قيل: ما لهم من النعيم؟ فقال: لهم جنات. {تَجري}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {جَنَّات}، ولكنها سببية. {خَالِدِينَ}: حال من ضمير {لَهُمْ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {رَضِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَرَضُوا}: فعل وفاعل. {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {رَضِيَ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {الْفَوْزُ}: خبر. {الْعَظِيمُ}: صفة لـ {فوز}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة الإسمية مستأنفة. {وَمَا}: موصولة أو موصوفة في محل الجر معطوف على {السَّمَاوَاتِ} وهو مبتدأ {فِيهِنَّ}: جار ومجرور متعلقان بخبر محذوف تقديره: كائن {وَهُوَ}: مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}: اتخذ (¬1) من باب افتعل ثلاثيه: تُخِذ يتخذ من باب علم يعلم بمعنى: أخذ، فأدغمت إحدى التائين في الأخرى. قال ابن الأثير: وليس من الأخذ في شيء، فإن الافتعال من الأخذ ائتخذ؛ لأن فاءه همزة، والهمزة لا تدغم في التاء خلافًا لقول الجوهري: الاتخاذ افتعال من الأخذ إلا ¬

_ (¬1) القاموس المحيط.

أنه أُدغم بعد تليين الهمزة وإبدال الياء تاء، ثم لما كثر استعماله بلفظ الأفتعال .. توهموا أصالة التاء، فبنوا منه فعل يفعل، وأهل العربية على خلافه. {قَالَ سُبْحَانَكَ} وسبحان مصدر لسبح سبحانًا كغفر غفرانًا، ولا يكاد يستعمل إلا مضافًا منصوبًا بإضمار فعله كمعاذ الله، وتصدير الكلام به اعتذار عما نسبت النصارى إليه، والمعنى: تنزيهًا لك عن أن يكون معك إله سواك. {مَا دُمْتُ فِيهِمْ}: دمت بوزن قلت؛ لأنه من دام يدوم، فهو أجوف واوي كقال، أصله: دوم من باب فعل المفتوح تحركت (¬1) الواو وانفتح ما قبلها فقلت ألفًا، فصار: دام كقال، فلما اتصل بتاء الضمير .. سكن آخر الفعل، فالتقى ساكنان؛ وهما الألف المنقلبة عن عين الكلمة وآخر الفعل، فحذفت الألف للتخلص من التقاء الساكنين، فصار: دمت، فجهل وزنه هل هو من باب فعل المفتوح أو المكسور أو المضموم؟ وجهل عينه هل هي واو أو ياء قبل انقلابها ألفًا؟ فروعي جانب التنبيه على العين المحذوفة، فأعطي حركة مجانسة لعينه، فصار: دمت بضم الدال، فعرف أن عينه واو من هذا الضم؛ لأنه حركة مجانسة للواو ويعرف كونه من باب فعل المفتوح من مصدره واسم فاعله؛ لأنه يقال فيه: دوام ودائم كما قال ابن مالك في لامية الأفعال: وَانْقُلْ لِفَاءِ الثلاَثِيِّ شَكْلَ عَيْنٍ إِذَا اعـ ... ـتلَّتْ وَكَانَ بِتَا الإِضْمَارِ مُتَّصِلًا أَوْ نُوْنِهِ وإِذَا فَتْحًا يَكُوْنُ فَعَنْـ ... ـهُ اعْتَضْ مُجَانِسَ تِلْكَ الْعَيْنِ مُنْتَقِلاَ ويقال فيه: دام يدام كخاف يخاف، فحينئذ يقرأ بكسر الدال؛ لأنه من باب فعِل المكسور، فتكون حركته حركة نقل كخفت لا حركة مجانسة كقلت. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} توفي من باب تفعل الخماسي، ويستعمل التوفي في أخذ الشيء وافيًا؛ أي: كاملًا، والموت نوع منه قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وليس المراد هنا الموت، بل المراد الرفع إلى السماء. {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} والرقيب فعيل بمعنى فاعل؛ أي: المراقب الحافظ ¬

_ (¬1) مناهل الرجال على لامية الأفعال بتصرف.

لهم، وكذا {شَهِيدٌ} بمعنى شاهد. {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هما (¬1) فعيل بمعنى فاعل، وفيهما من المبالغة ما ليس فيه، والحكمة لغة: الإتقان والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه: حكمة الدابة، والحكيم: صفة ذات إن فسر بذي الحكمة، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته اهـ "سمين". {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}: {رَضِيَ} من باب فعل المكسور رضًا بكسر أوله مصدر سماعي له، والقياس فتح أوله، ولكنه لم يسمع كما قال ابن مالك في خلاصته: وَمَا أَتَى مُخَالِفًا لِمَا مَضَى ... فَبَابُهُ النَّقْلُ كَسُخْطٍ وَرِضَا والاسم منه: الرضاء ممدودًا، وأصل رضوا: رضيوا استثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركته فالتقى ساكنان وهما: الياء والواو، ثم حذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، فصار: رضوا بوزن فعوا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التجوز في استعمال: {إذ} بمعنى: إذا، والماضي بعده بمعنى المستقبل في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ}؛ لأن هذا القول إنما يقع في يوم القيامة. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ}؛ لأنه توبيخ لقومه وتبكيت لهم على رؤس الأشهاد. ومنها: المشاكلة والمقابلة في قوله: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}؛ لأنه أتى بقوله: {مَا فِي نَفْسِكَ} على جهة المقابلة والمشاكلة لقوله: {مَا فِي نَفْسِي} فهو كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وكقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}. ومنها: جمع المؤكَّدات في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؛ لأنه أكد هذه ¬

_ (¬1) الفتوحات ج1 ص 40.

الجملة بـ {إنّ}، والضمير المنفصل، وصيغة المبالغة، والجمع مع أل الاستغراقية. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، وفي قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. ومنها: التكرار في قوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. وفي قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ}. ومنها: الطباق في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ}، وقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}. ومنها: الحصر في قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، وفي قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: المجاز اللغوي في قوله: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} لما فيه من الإسناد إلى السبب. ومنها: الحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى لي في تفسير سورة المائدة، فالحمد لله على أفضاله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وصحبه وآله سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - زبدة أرساله ما تطارد الجديدان، وتطاول المدى والأوان. وكان الفراغ من مسودة هذه السورة في تاريخ: 19/ 8/ 1409 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية يوم الأحد قبيل الظهر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

سورة الأنعام

سورة الأنعام سورة الأنعام مكية إلا ست آيات أو ثماني آيات أو تسع آيات، فإنها مدنيات: 20/ 23/ 91/ 93/ 114/ 141/ 151/ 152/ 153/، وهي وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الثلاث آيات. وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} إلى آخر الآيتين، وذكر مقاتل نحو هذا، وزاد آيتين وهما: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} الآية، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} الآية، فجملتها ثمان آيات. وقد روى كثير من المحدثين من غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة إلا هذه الآيات. وهي مئة وخمس وستون آية: (165)، وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة: (3052)، وعدد حروفها اثنا عشر ألفًا وأربع مئة واثنان وعشرون حرفًا: (12422). وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. مناسبة هذه السورة لما قبلها: الناظر (¬1) في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة؛ ليكون ذلك أعون على التلاوة، وأسهل في الحفظ، فالناس يبدؤون بقراءته من أوله، فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئتين، فالمثاني، فالمفصل أنفى للمَلَل، وأدعى للنشاط، ويبدؤون بحفظه من آخره؛ لأنه أسهل على الأطفال، ولأنه قد روعي ¬

_ (¬1) المراغي.

التناسب في معاني السور مع التناسب في مقدار الطول والقصر. ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة: 1 - أن معظم سورة المائدة في محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام في محاجة المشركين والملحدة. 2 - أن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت في المائدة بالتفصيل وهي قد نزلت أخيرًا. 3 - أن هذه افتتحت بالحمد، وتلك اختتمت بفصل القضاء، وبينهما تلازم كما قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. التسمية: وسميت سورة الأنعام؛ لورود ذكر الأنعام فيها: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا}، ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين تقربًا بها إلى أصنامهم مذكورة فيها. ومن خصائصها: ما أخرجه (¬1) أبو عبيد وابن المنذر والطبري وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة، وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء: نزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد". وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم". وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في "معجمه" والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام .. سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق. وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في "تاريخه" عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمسًا خمسًا، ومن حفظه خمسًا خمسًا لم ينسه إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكًا حتى أدوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله. وأخرج السلفي بسند واهٍ عن ابن عباس مرفوعًا: من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} .. نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئًا من الشر .. ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجابًا، فإذا كان يوم القيامة .. قال الله تعالى: "أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي، واشرب من الكوثر، واغتسل من السلسلبيل، وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام .. وكل الله به سبعين ملكًا يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة". وفي فضائل هذه السورة: روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة: قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة؛ لأنها في معنى واحد من الحجة، وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى

المتكلمون أصول الدين. انتهى من "الشوكاني". تنبيه (¬1): قال بعض العلماء: اختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة: أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. والثاني: أنه شيعها سبعون ألفًا من الملائكة، والسبب في ذلك: أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "الناسخ والمنسوخ من القرآن": سورة الأنعام تحتوي على أربع عشرة آية منسوخة: أولاهن: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} الآية (15) مكية فهي منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية (2) مدنية من سورة الفتح. والثانية والثالثة: قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية (68/ 89) مكية نسخت بقوله تعالى في سورة النساء: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الآية (140) مدنية. والرابعة: قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} الآية (70) مكية يعني به اليهود والنصارى، نسخت بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية (29) من سورة التوبة. والخامسة: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} الآية (91) مكية نسخت بآية السيف. والسادسة: قوله تعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) الخطيب.

بِحَفِيظٍ} الآية (104) مكية نسخت بآية السيف. والسابعة: قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الآية (106) مكية نسخت بآية السيف. والثامنة: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} الآية (107) مكية، نسخت بآية السيف. والتاسعة: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية (108) مكية، نسخت بآية السيف. والعاشرة والحادية عشرة: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} الآية (112/ 137) مكية، نسخت بآية السيف. والثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} الآية (121) مكية، نسخت بقوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني: الذبائح آية (5). والثالثة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} آية (135) مكية نسخت بآية السيف. والرابعة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} آية (159) مكية نسخت بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}. المناسبة مناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة (¬1): أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله، وجرت تلك المحاورة، وذكر ثواب ما للصادقين، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وأنه قادر على كل شيء .. ذكر بأن الحمد المستغرق جميع المحامد له، فلا يمكن أن يوجد معه شريك في الإلهية فيحمد، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية كون ملك السموات والأرض وما فيهن له بوصف خلق السموات والأرض؛ لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه، ولما قدم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك، وذَكَر الصادقين وجزاءهم .. أعقب خلق السموات والأرض بجعل الظلمات والنور، فكان ذلك مناسبًا للكافر والصادق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما أرشد في الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك، وإلى دلائل البعث، وأنها على شدة وضوحها لم تمنع المشركين من الشك والريب، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما في السموات والأرض، فلا ينبغي أن يشرك به غيره فيهما، ولكن المشركين جهلوا ذلك، وجوزوا أن يكون غير الرب إلهًا، بل عبدوا معه آلهة أخرى. ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق، ولفت - صرف ووجَّه - أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم. قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما أرشد في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشًا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتمكنهم في مكة وهي أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب .. ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول، وبها تم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف مقترحاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء، وكان قلب الرسول يضيق بها ذرعًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[1]

عند سماعه إياها .. ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزء والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسول، فإن كثيرًا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت، بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة، وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا في الأرض ليروا كيف كان عاقبة المكذبين لأنبيائه. أسباب النزول وأما الأسباب: فلم يكن لهذه الآيات سبب لنزولها؛ لأنها إنما نزلت لتعليم العباد كيف يحمدونه فكأنه قال: قولوا يا عبادي عند حمدي وثنائي: الحمد لله. وقال أهل المعاني: لفظه خبر، ومعناه أمر، والمعنى: احمدوا الله سبحانه وتعالى لذاته، وعلى نعمه. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: جنس الحمد بأنواعه، وكل الشكر على نعمه مستحق لله {الَّذِي} خلقكم أيها الناس من نفس واحدة و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: أوجد وأبدع السموات السبع والأرضين السبعة على غير مثال، فهو سبحانه وتعالى هو المستحق عليكم الحمد والشكر على نعمه، لا ما تعبدون من دونه وتجعلونه شريكًا له من خلقه. والمراد بالسموات والأرض: العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا، وهذا العالم السفلي الذي نعيش فيه. وإنما قدم (¬1) السموات على الأرض لشرفها؛ لأنها متعبد الملائكة، ولم تقع فيها معصية، والأرض وإن كان فيها الأنبياء، لكنها احتوت على الأشرار والمفسدين، ولتقدم وجودها على وجود الأرض كما قاله القاضي. ومراده أن السموات على هذه الهيئة مقدمة على الأرض الكائنة على هذه الهيئة الموجودة؛ لأنه تعالى قال في سورة النازعات: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)}، فإنه صريح في أن بسط الأرض ¬

_ (¬1) الفتوحات.

مؤخر عن تسوية السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه في تلك السورة. اهـ "كرخي". ولا منافاة بين آية فُصِّلَت وبين آية النازعات فإن الأرض خلقت أولًا كرة ثم خلقت السموات من دخان كما دلت عليه آية فُصلت، ثم بنى السماء ورفعها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها. وإنما جمع السموات وأفرد الأرض؛ لاختلاف أجناسها، فإن الأولى على ما قيل من موج مكفوف، والثانية من مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، والأرض وإن كانت سبعًا أيضًا إلا أنها من جنس واحد، واختلف هل الأرض واحدة؟ وهو الصحيح، فالتعدد باعتبار أقطارها، وقيل: طباق كالسماء، وأما السماء: فهي طباق باتفاق ذكره "الصاوي"، ولكن هذا كله إسرائيليات لا مستند له. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بالحمد لنفسه تعليمًا لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال، وإعلامًا بأنه المستحق لجميع المحامد، فلا ندّ له ولا شريك ولا نظير ولا مثيل. ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المفضل عليكم بصنوف الإنعام والإكرام، الذي أوجد وأنشأ وأبدع خلق السموات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة بما يدهش العقول والأفكار تذكرة وذكرى لأولي الأبصار. والحمد (¬1): هو الثناء الحسن والذكر الجميل، والفرق بينه وبين المدح: أن المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يكون للعاقل ولغير العاقل، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، والياقوت على نهاية صفائه وصقالته. والحمد لا يكون إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان، والحمد أعم من الشكر؛ لأن الحمد تعظيم المنعم لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلًا إليك أو إلى غيرك، والشكر: تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك، والمقصود من الآية: ذكر الدلالة على وجود الصانع. ¬

_ (¬1) المراح.

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}؛ أي: والذي أوجد وأنشأ الظلمات والنور الحسيين والمعنويين، كظلمة الليل ونور النهار وظلمة الكفر ونور الإيمان. واختلف (¬1) العلماء في المراد منهما: فمن قائل: إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار، وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وفي ذلك ردٌّ على المجوس - الثنوية - الذين زعموا أن للعالم ربين، أحدهما: النور، وهو الخالق للخير، والثاني: الظلمة، وهو الخالق للشر. ومن قائل: إن المراد منهما الكفر والإيمان، وروي هذا عن ابن عباس. والفرق (¬2) بين الخلق والجعل: أن كلًّا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام له، كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضًا كما في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} الآية. وإنما جمع الظلمات دون النور؛ لكثرة محالها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحاسة البصر وإن حمل النور على الإِسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق .. فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير. وفي "البيضاوي" (¬3): وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، وفي "شيخ الإِسلام " قوله: لكثرة أسبابها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور، فإنه من جنس واحد وهو النار، ولا ترد الأجرام النيرة كالكواكب؛ لأن مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إن الكواكب أجرام نورية نارية، وإن الشهب تنفصل من نار الكواكب، فصح أن النور من جنس النار. اهـ. وإنما قدم الظلمات على النور؛ لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها. {ثُمَّ} بعد قيام هذه الأدلة {الَّذِينَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الفتوحات.

كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} وجحدوا به {يَعْدِلُونَ}؛ أي: يميلون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام والأحجار، فهو من العدول (¬1) بمعنى الميل، ولا مفعول له حينئذ. والجار والمجرور في قوله: {بِرَبِّهِمْ} متعلق بـ {كَفَرُوا}، ويجوز أن يتعلق بـ {يَعْدِلُونَ}، وقدم عليه للفاصلة، وفي {الباء} حينئذ احتمالان: أحدهما: أن تكون بمعنى: {عن} وبعدلون من العدول أيضًا؛ أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية، ويعدلون من العدل بمعنى التسوية بين الشيئين، والمعنى: ثم الذين كفروا يسوون بربهم غيره من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفًا. اهـ "سمين". وعبارة "المراح" هنا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}؛ أي (¬2): يشركون به غيره، وهذه الجملة إما معطوفة على قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، والباء متعلقة بـ {كَفَرُوا}، فيكون {يَعْدِلُونَ} من العدول بمعنى الميل، ولا مفعول له، والمعنى: إن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه؛ لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته، أو متعلقة بـ {يَعْدِلُونَ}، وهو من العدل، ويوضع الرب موضع الضمير العائد إليه تعالى، والمعنى: إنه مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته، وباعتبار شؤونه العظيمة الخاصة، ثم هؤلاء الكفرة يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد، وإما معطوفة على قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}، والباء متعلقة بـ {يَعْدِلُونَ} وقدمت لأجل الفاصلة، وهي إما بمعنى: عن، ويعدلون من العدول، والمعنى: إن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم الذين كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره، أو للتعدية و {يَعْدِلُونَ} من العدل، وهو التسوية، والمعنى: أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إنهم يعدلون به جمادًا لا يقدر على شيء أصلًا، فيكون المفعول ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

[2]

محذوفًا، وكلمة {ثُمَّ} لاستبعاد الشرك بعد وضوح آيات قدرته تعالى. والمعنى: ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم، فيساوون به أصنامًا نحتوها بأيديهم، وأوهامًا ولدوها بخيالهم، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم. قال (¬1) ابن عطية: والآية دالة على قبح فعل الكافرين؛ لأن المعنى أن خلقه السموات والأرض والظلمات والنور وغيرها قد تقرر، وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم؟ فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك، ثم تشتمني؟ أي: بعد وضوح هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو .. لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ {ثُمَّ} انتهى. وعبارة "الفتوحات" هنا: و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد: استبعاد أن يعدلوا به غيره مع ما أوضح من الدلالات. وقال الزمخشري: فإن قلتَ: فما معنى: {ثُمَّ} هنا؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به مع وضوح آيات قدرته، وكذلك: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد أن يمتروا بعد ما ثبت أنه يحييهم ويميتهم ويبعثهم اهـ "سمين" انتهت. 2 - وبعد أن وصف الخالق سبحانه وتعالى نفسه بما دل على توحيده واستحقاقه .. انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، مذكرًا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال و {هُوَ}؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة أيها المشركون، الإله {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}؛ أي: خلق آباكم آدم من طين؛ أي: من تراب مخلوط بالماء؛ أي: من جميع أنواعه الأحمر والأبيض والأسود فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، وعجن طينته بالماء العذب والملح والمر، فلذلك اختلفت أخلاقهم؛ أي: أخذ قبضة من جميع أنواع التراب وعجنها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بجميع أنواع المياه، فاختلاف الألوان لاختلاف ألوان تلك القبضة، واختلاف الأخلاق لاختلاف أنواع تلك المياه، وعلى هذا فالكلام على حذف مضاف كما قدرنا. وقيل: لا حذف، بل (¬1) كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فإنَّ بنيته مكونة من الغذاء، ومن ذلك البويضات التي في الأنثى، والحيوان المنوي الذي في الذكر، فكلها مكونة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات، فالمرجع إلى النبات، والنبات إلى الطين، فثبت (¬2) أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من طين. وقال المهدوي: إن الإنسان مخلوق ابتداءً من طين؛ لخبر: "ما من مولود يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته". وأيًّا ما كان الإنسان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى، فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط، كما على إحياء ما قارنها مدةً أظهرُ قدرة. {ثُمَّ} بعد خلقكم من طين {قَضَى}؛ أي: كتب وقدر وحدد لكم {أَجَلًا}؛ أي: مدة معينة من وقت الولادة إلى وقت الموت لجلوسكم في الدنيا، وتسمى تلك المدة العمر؛ أي: خصص الله موت كل أحد بوقت معين، وذلك التخصيص تعلق مشيئته تعالى بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت {وَأَجَلٌ مُسَمًّى}؛ أي: حد معين ووقت معلوم من موتكم إلى بعثكم، وتسمى تلك المدة مدة البرزخ مكتوبة {عِنْدَهُ} سبحانه وتعالى (¬3). ويروى عن ابن عباس أنه قال: لكل أحد أجلان: أجل من وقت الولادة إلى وقت الموت، وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان الإنسان تقيًّا وَصُولًا للرحم .. زيد له من أَجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجرًا قاطعًا للرحم .. نقص من أجل العمر، وزِيد في أجل البعث، وذلك قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}. والآية (¬4) ترشد إلى أنه تعالى قضى لعباده أجلين: أجلًا لحياة كل فرد منهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

[3]

ينتهي بموته، وأجلًا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء مدة الدنيا. ومعنى كونه مسمى عنده: أنه لا يعلمه غيره؛ لأنه لم يُطلع أحدًا على يوم القيامة لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، والمراد بقوله: {عِنْدَهُ}: في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره {ثُمَّ} بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة {أَنْتُمْ} أيها المشركون {تَمْتَرُونَ}؛ أي: تشكون في البعث، وتكذبون به بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم من طين، ومن قدر على الابتداء .. فهو أقدر على الإعادة، وهذا (¬1) استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم، ومحييهم إلى آجالهم، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء .. كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا، فالآية الأولى دليل التوحيد، والثانية دليل البعث، ويؤخذ منه صحة الحشر والنشر. 3 - والضمير في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} مبتدأ، ولفظ الجلالة خبره، والجار والمجرور متعلق بلفظ الجلالة؛ لأنه بمعنى المعبود، والضمير عائد الإله الموصوف بالصفات السابقة، وهي: خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق الناس من طين إلى آخرها، فكان في الإخبار بذلك فائدة، وهذا ما عليه الجمهور. والمعنى: {وَهُوَ}؛ أي: خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور إلخ {اللَّهُ}؛ أي: المعبود المستحق للعبادة {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}، والمتصرف فيهما لا غير، وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} في القلوب من الدواعي والصوارف {وَجَهْرَكُمْ} في الجوارح من الأعمال، خبر بعد خبر جيء به تقريرًا وتوكيدًا لما قبله؛ لأن الذي يستوي في علمه السر والجهر هو الله وحده، والمراد بالسر: ما يخفيه الإنسان في ضميره، فهو من أعمال القلوب وبالجهر ما يظهره الإنسان فهو من أعمال الجوارح. والمعنى: إن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}؛ أي: مكتسبكم؛ أي: ما تستحقون على فعلكم من الثواب والعقاب. بقي في الآية سؤال (¬2)، وهو أن الكسب، إما أن يكون من أعمال القلوب، ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

[4]

وهو المسمى بالسر، أو من أعمال الجوارح، وهو المسمى بالجهر، فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني: السر والجهر، فقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} يقتضي عطف الشيء على نفسه، وذلك غير جائز، فما معنى ذلك؟ وأجيب عنه: بأنه يجب حمل قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب. والحاصل فيه: أنه محمول على المكتسب كما فسرناه آنفًا، كذلك فهو نظير قولهم: هذا المال كسب فلان؛ أي: مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه، ذكره الإِمام فخر الدين الرازي. 4 - قوله: {وَمَا تَأتِيهِمْ} يعني: أهل مكة، كلام مستأنف وارد لبيان كفرهم بآيات الله تعالى، وإعراضهم عنها بالكلية بعد ما بين في الآية الأولى إشراكهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد، وفي الآية الثانية امتراءهم في البعث، وإعراضهم عن بعض آياته، و {ما}: نافية، وصيغة المضارع لحكاية الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجددي. و {من} في قوله: {مِنْ آيَةٍ} زائدة في الفاعل؛ لاستغراق الجنس، ومعنى زيادتها: أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل لقوله: {تَأتِيهِمْ}، وفي قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} تبعيضية صفة لـ {آيَةٍ}؛ أي: وما يظهر لأهل مكة دليل من الأدلة التي يجب النظر فيها، والاستدلال والاعتبار بها من الآيات التكوينية كالسموات والأرض والظلمات والنور، أو ما يظهر لهم معجزة من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانشقاق القمر، أو ما تنزل عليهم آية من آيات القرآن {إِلَّا كَانُوا}؛ أي: كان أهل مكة {عَنْهَا}؛ أي: عن النظر فيها أو عن تصديقها أو عن سماعها وقبولها {مُعْرِضِينَ}؛ أي: تاركين للنظر فيها ومكذبين بها، لا يلتفتون إليها ولا يرفعون بها رأسًا لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب. قيل: الآية هنا: العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية. وقيل: الرسالة. وقيل: المعجز الخارق. وقيل: القرآن، ومعنى: {عَنْهَا}؛ أي: عن قبولها أو سماعها والإعراض ضد الإقبال كما أشرنا إلى هذه الأقوال في الحل.

[5]

وتضمنت (¬1) هذه الآية مذمة هؤلاء الذين كفروا بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، 5 - ولما تقدم الكلام أولًا في التوحيد، وثانيًا في المعاد، وثالثًا في تقرير هذين المطلوبين .. ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة، وبيَّن فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل، ويدل ذلك على أن التقليد باطل، وأن التأمل في الدلائل واجب، ولذلك ذموا بإعراضهم عن "الدلائل" فقال: {فَقَدْ كَذَّبُوا}؛ أي: فقد كذب أهل مكة {بِالْحَقِّ} الذي هو تلك الآية السابقة بتفصيلها {لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: حين جاءهم وأتاهم ذلك الحق؛ أي: فقد كذب أهل مكة بالمعجزات كانشقاق القمر بمكة وانفلاقه فلقتين، فذهبت فلقة وبقيت فلقة، أو بالقرآن، أو بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وظاهر (¬2) قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} أن الفاء للتعقيب، وأن إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب {فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ}؛ أي: يأتي أهل مكة {أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: أخبار (¬3) عاقبة الشيء الذي كانوا به يستسخرون، وهو القرآن، أو محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن {مَا} عبارة عن ذلك الشيء، أبهمه تهويلًا للأمر وتعظيمًا له؛ أي: سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزؤوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، أو المعنى: سوف يأتيهم أخبار عاقبة كونهم مستهزئين بذلك الحق يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب على أن {مَا} مصدرية. والأنباء (¬4): جمع نبأ، وهو الخبر العظيم المزعج، وجمعه إشارة إلى تكرر الجزاء لهم في الدنيا ويوم القيامة. والخلاصة: فسوف يأتيهم جزاء استهزاء الذي كانوا يستهزئون به في العاجل بالقتل والأسر، والآجل بالعذاب الدائم في النار، وهذه الجملة معطوفة على محذوف تقديره: فقد كذبوا بالحق لما جاءهم واستهزئوا به، فسوف يأتيهم إلخ. ولما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم .. أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني بتصرف. (¬4) الصاوي.

[6]

6 - فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} ويروا هنا بمعنى: يعلموا؛ لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة، والهمزة فيه للاستفهام التقريري، لا للإنكار كما قاله الشوكاني؛ لأن الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، فلا يدخل على حرف النفي، ونظير ما هنا قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، وكم خبرية بمعنى: عدد كثير؛ أي: ألم يعلم هؤلاء الكفار المعرضون عن آياتنا المكذبون لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني: أهل مكة؛ أي: لم يعلموا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء، كم من قرن أهلكنا من قبلهم؛ أي: أهلكنا من قبل زمان أهل مكة كثيرًا من الأمم السالفة قرنًا بعد قرن؛ بسبب تكذيبهم الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم. والقرن (¬1): يطلق على أهل كل عصر سموا بذلك؛ لاقترانهم، وقيل: القرن مدة من الزمان، وهي: ستون عامًا أو سبعون أو ثمانون أو مئة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف؛ أي: من أهل قرن. وقوله: {مَكَّنَّاهُمْ}؛ أي: القرن، وجمع الضمير باعتبار كون القرن جمعًا في المعنى، وجملة {مَكَّنَّاهُمْ}، والجملتان بعدها نعوت لـ {قَرْنٍ}؛ أي: قرنًا موصوفًا بالصفات الثلاث، وقيل: مستأنفة؛ أي: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون الموصوفين بكونهم {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} يا أهل مكة؛ أي: أعطينا أولئك القرون والجماعة من البسطة في الأجساد والامتداد في الأعمار والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا ما لم نعطكم يا أهل مكة، ومع ذلك فقد أهلكناهم بذنوبهم، ولم ينفعهم ولم يدفع عنهم التمكين وما بعده من الصفات عذاب الله حين جاءهم، فيخاف على أهل مكة أن ينزل بهم الهلاك مثل ما نزل بمن قبلهم مع أن من قبلهم كانوا أعظم شأنًا منهم، لكن لما كذبوا الرسل .. استحقوا الهلاك، فكذلك أهل مكة، إن استمروا على تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - يخشى عليهم الهلاك مثلهم. وفي قوله: {لَكُمْ} التفات إلى الخطاب عن الغيبة التي في ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قوله: {أَلَمْ يَرَوْا} والمعنى: ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرًا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم. ثم ذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم، وخصب تربتها، فقال: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ}؛ أي: أنزلنا المطر {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أولئك القرون حالة كونه {مِدْرَارًا}؛ أي: كثيرًا متتابعًا كلما احتاجوا إليه، وهذه الجملة والتي بعدها معطوفتان على جملة {مَكَّنَّاهُمْ} كما مرَّ؛ أي: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من القرون الموصوفين بكونهم مكناهم في الأرض، وبكونهم أرسلنا السماء عليهم مدرارًا {و} بكونهم {جَعَلْنَا الْأَنْهَارَ} والمياه {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ}؛ أي: تسيل من تحت بساتينهم وزروعهم فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}؛ أي: فأهلكنا أولئك القرون {بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: بتكذيبهم الأنبياء، وبكونهم باعوا الدين بالدنيا؛ أي: أهلكنا (¬1) كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب، فما أغنت عنهم تلك العدد والأسياب، فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب. والخلاصة: أن من مضى من قبلكم من الأمم أعطيناهم القوة الشديدة في الجسم، والسعة في الأموال والأولاد، ومع ذلك فلم ينفعهم من ذلك شيء، فلا تأمنوا سطوتي بالأولى منهم، قال الشاعر: لاَ يَأمَنُ الدَّهْرَ ذُو بَغْيٍ وَلَوْ مَلِكَا ... جُنُوْدُهُ ضَاقَ عَنْهُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار. وأما قوله تعالى: {وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْنًا آخَرِينَ}؛ أي: قومًا آخرين بدلًا من الهالكين يعمرون البلاد، ويكونون أجدر ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بشكران النعمة، فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه، وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة، فلم ينقص من ملكه شيئًا، بل كلما أهلك أمة .. أنشأ بدلها أخرى، فإنه تعالى يهلك من يشاء، ويوجد من يشاء. وإنما قال هنا: قرنًا بالإفراد، وفي موضع آخر قرونًا بالجمع، للتفنن؛ لأن المعنى واحد؛ لأنه أفرد هنا نظرًا للجنس، وجمع في موضع آخر نظرًا للمعنى. اهـ "أبو السعود". وفي هذه (¬1) الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية، فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة الرزق وكثرة الأتباع .. أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا، فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددًا وعددًا؟ وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فكأنه قال: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه، ذكره الحافظ ابن كثير. والذنوب (¬2) التي تدعو إلى الهلاك ضربان: 1 - معاندة الرسل والاستكبار، والعتو والتكذيب. 2 - كفران النعم بالبطر وغمط الحق، وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، كما جاء في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}. وفي هذه الآية ردٌّ على كفار مكة، وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقرهم، كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم في صفاتهم، وإن كانوا من أبناء جنسهم، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير كبير في النفوس تخفف من غلواء الناس، وتقلل من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[7]

بطشهم وعتوهم، وفي المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك. ولما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يَعْجب مِن كُفْر قومه به، وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وإظهار إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك، ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال في سورة هود {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} .. بيَّن الله سبحانه وتعالى أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم؛ ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة .. فإنها لا تجدي إلا عند من كان مستعدًا لها، وزالت عنه موانع الكبر والعناد، فقال: 7 - {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} يا محمد {كِتَابًا} من السماء دفعة واحدة مجموعًا {فِي قِرْطَاسٍ}؛ أي: في أوراق مجمعة {فَـ} ـرأوه نازلًا فيها بأعينهم و {لَمَسُوهُ}؛ أي: لمسوا ذلك الكتاب والقرطاس عند وصوله إلى الأرض {بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منهم {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن في نفسه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابًا ولمسناه بأيدينا، وما ثَمَّ كتاب نزل، ولا قرطاس رُئي، ولا لُمس، وتلك مقالة أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. والمعنى (¬1): لم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه، وإنما قال: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}؛ لأن اللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها من الخداع؛ لأن البصر يخدع بالتخيل، وقال في سورة الحجر: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ - حبست ومنعت - أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}. والحاصل: أن (¬2) علة تكذيبهم بالحق هي إعراضهم عن الآيات، وإقفال باب النظر والاستدلال - لإخفاء الآيات في أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها. 8 - {وَقَالُوا}؛ أي: وقال كفار مكة {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}؛ أي: هلا أنزل على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

محمد ملك نراه يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة والرسالة، ويشهد له بما يقول حتى نؤمن به ونتبعه كقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} والمعنى: إن منكري النبوات يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولًا .. لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدًا من الملائكة؛ لأن علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين: الأول: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا}؛ أي: لو أنزلنا ملكًا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم {لَقُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: لفرغ من إهلاكهم؛ أي: لأهلكناهم؛ إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له؛ لأن مثل هذه الآية البينة - وهي نزول الملك على تلك الصفة - إذا لم يقع الإيمان بعدها .. فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة {ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}؛ أي: لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له طرفة عين، وكلمة: {ثُمَّ} للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر؛ لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق. وقيل: إن المعنى: أن الله سبحانه لو أنزل ملكًا مشاهدًا .. لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإمَّا أن يراه على صورته الأصلية، أو على صورة البشر، فإن رآه على صورته الأصلية .. لم يبق الآدمي حيًّا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى جبريل على صورته الأصلية .. غشي عليه، وإنَّ جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط وخصم داود وغير أولئك، وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟ وأيضًا إذا رآه .. يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، فيجب إهلاكهم، وذلك مخل بصحة التكليف، وإن رآه على صورة البشر .. فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكًا، أو بشرًا، وأيضًا إن إنزال الملك يقوي الشبهات؛ لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا: هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم .. لفعلنا مثل ما فعلته.

[9]

9 - والوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ}؛ أي: ولو جعلنا الرسول {مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: لجعلنا الملك {رَجُلًا}؛ أي: على صورة الرجل؛ لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها، ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته. {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}؛ أي (¬1): ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي؟ فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان؛ لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان .. قالوا: هذا إنسان مثلكم وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج: المعنى: للبسنا عليهم؛ أي: على رؤوسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينكم وبينه فرق، فيلبسون عليهم بهذا، ويشككونهم، فأعلم الله عَزَّ وَجَلَّ أنه لو نزل ملكًا في صورة رجل .. لوجدوا سبيلًا إلى اللبس كما يفعلون. وفي "تنوير المقباس": {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الملائكة {مَا يَلْبِسُونَ}؛ أي: مثل {مَا يَلْبِسُونَ}؛ من الثياب، ويقال: وللبسنا عليهم؛ أي: خلطنا عليهم صورة الملك {مَا يَلْبِسُونَ}؛ أي: كما يخلطون على أنفسهم صفة محمد ونعته انتهى. والحاصل (¬2): أنه كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن مختلفة: 1 - أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرًا يرونه ويسمعون كلامه، وإلى هذا أشار بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}. 2 - أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم، والاقتراح الأول مبني على اعتقاد أنَّ أرقى البشر عقلًا وأخلاقًا وآدابًا - وهم الرسل عليهم السلام - ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلًا بين الله وبين عباده؛ لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ ¬

_ (¬1) الواحدي. (¬2) المراغي.

أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)}. وقد ردَّ الله الاقتراحين من وجهين: 1 - {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}؛ أي: ولو أنزلنا ملكًا كما اقترحوا .. لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلًا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم، قال ابن عباس: ولو أتاهم ملك في صورته .. لأهلكناهم، ثم لا يؤخرون. 2 - {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}؛ أي: ولو جعل الرسول ملكًا .. لجعل متمثلًا في صورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن ربه، ولو جعله ملكًا في صورة بشر .. لاعتقدوا أنه بشر؛ لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرًا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكًا وهم قد كانوا في غنى عن ذلك، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم في المشكلات بسوء صنيعهم، ثم يحارون في المخلص منها. وذكر البخاري (¬1) في تفسير قضاء الأمر عدة وجوه: 1 - أن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية، ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم الله عذاب الاستئصال، والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. 2 - أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية .. لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. 3 - أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة، يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف. ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

4 - أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعًا .. دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعي الإهلاك وعدم النظرة. وقرأ ابن محيصن (¬1): {وَلَلَبَسْنَا} بلام واحدة، والزهري: {وَلَلَبَسْنَا} بتشديد الباء. 10 - ثم قال سبحانه وتعالى مؤنسًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومسليًا له. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد استسخر واستحقر برسل أولي شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين في زمان قبل زمانك؛ أي: استهزأ بهم قومهم كما استهزأ بك قومك أهل مكة. {فَحَاقَ}؛ أي: أحاط ونزل وحل {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}؛ أي: بالكفار الذين سخروا من أولئك الرسل {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: العذاب الذي كانوا يستهزئون به وينكرونه حينما أخبرتهم به الرسل؛ لأن الكفار كانوا يستهزئون بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أخبر (¬2) رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن الكفار قد استهزؤا برسل كرام قبلك، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)} فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم، بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك، وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم. وفي الآية وجوه من العبر: 1 - تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - سنن الله في الأمم مع رسلهم. 2 - تسلية له عن إيذاء قومه له. 3 - بشارة له بحسن العاقبة، وما سيكون له من الغلبة والسلطان، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال، وقد أهلكهم الله تعالى، وامتن على نبيه بذلك في سورة الحجر: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} والمشهور أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا كلهم يوم أحد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وخلاصة المعنى. هوّن عليك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فيَّ وفي طاعتي، وامضِ لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم .. نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم، ونعجل النقمة لهم وتحل بهم المثلات. وقال أبو حيان (¬1): هذه الآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كان يلقى من قومه، وإشارة له بالتأسي بمن سبق من الرسل، وهو نظير: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}؛ لأن ما كان مشتركًا من الشدائد أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد، وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى. وقالت الخنساء: وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِيْنَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِيْ وَمَا يُبْكُوْنَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَسُلِّيْ النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّيْ قال بعض المولدين: وَلاَ بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلى ذِيْ مُرُءَةٍ ... يُوَاسِيْكَ أَوْ يُسْلِيْكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب، ولا يتسلون بذلك .. نفى تعالى ذلك عنهم فقال: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} انتهى بتصرف. وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال (¬2) {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} على أصل التقاء الساكنين، وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعًا ومراعاة لضم التاء؛ إذ الحاجز بينهما ساكن، وهو حاجز غير حصين. ولما (¬3) كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة الله المطردة فيهم قد يكون موضعًا للريبة والشك لدى المخاطبين بذلك؛ إذ هم أمة أميّة لم تدرس الكتب والتواريخ، ولم تجالس العلماء فتعرف الأخبار بهلاك من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[11]

أهلك بذنوبهم .. أمر الله تعالى نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم، وهو السير في الأرض، والنظر فيما حلَّ بالمكذبين ليعتبروا بذلك، فللرؤية من الاعتبار ما لا يكون في السماع كما قال بعض العصريين: لَطَائِفُ مَعْنَىً في الْعِيَانِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِتُدْرَكَ إلا بِالتَّزَاوُرِ وَاللِّقَا 11 - فقال {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المستهزئين من قومك {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها، ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها، بل سيروا في نواحي الأرض لتعرفوا صحة ما أخبرتكم به من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة قيل: المراد بالسير: سير الأفكار، وقيل: سير الأقدام {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فالنظر على القول الأول: نظر فكرة وعبرة، وهو بالبصيرة لا بالبصر، وعلى القول الثاني نظر العين والبصر، والمعنى على الأول: ثم تفكروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال، وعلى الثاني: ثم انظروا بأعينكم إلى آثار الأمم الخالية والقرون الماضية السالفة، فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار، فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار، والمعنى (¬1): قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعد ما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة .. فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون. وفي "الفتوحات" (¬2) قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا}؛ أي: تفكروا وكلمة {ثُمَّ} إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتم إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم، فالتراخي المفاد بـ {ثُمَّ} من حيث أن انتهاء السير بعيد عن ابتدائه، وإما لإظهار ما بين وجوب السير ووجوب النظر من التفاوت، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الجمل.

إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله: ({فَانْظُرُوا} في آية آخرى بخلاف وجوب النظر فإنه ذاتي مقصود في نفسه. انتهى. وقال النسفي: والفرق بين (¬1) {فَاَنظُرُوا} وبين {ثُمَّ انْظُرُوا} أن النظر جعل مسببًا عن السير في {فَانْظُرُوا}، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. ومعنى {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ {ثُمَّ} لتباعد ما بين الواجب والمباح انتهى. قال أبو حيان (¬2): والظاهر أن السير المأمور به هو الانتقال من مكان إلى مكان، وإن النظر المأمور به هو نظر العين، وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم، كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود وقال قوم الأرض هنا عام؛ لأن في كل قطر منها آثار الهالكين وعبرًا للناظرين. والخلاصة (¬3): قل يا محمد لأولئك المكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به: سيروا في الأرض كما هو دأبكم وعادتكم، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم، ثم انظروا في أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج الله عليكم، واحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم. الإعراب {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}. {الْحَمْدُ}: مبتدأ. {لِلَّهِ}: خبره، والجملة مستأنفة. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة. {خَلَقَ}: فعل ماضٍ. {السَّمَاوَاتِ}: مفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه، والفاعل ضمير يعود على الموصول، ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وهي صلة حقيقية لرفعها ضمير الموصول {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ}: فعل ومفعول. {وَالنُّورَ}: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على الموصول أيضًا، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَ} على كونها صلة الموصول. {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، ولكن المراد منها استبعاد أن يعدلوا به غيره مع ما أوضح من الدلالات؛ أي: استبعاد لما صنعوه من العدل مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر واتخاذ شريك له. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِرَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَعْدِلُونَ}، وتقديمه على عامله للاهتمام به ولرعاية الفواصل. {يَعْدِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {خَلَقَكُمْ}: فعل ومفعول {مِنْ طِينٍ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، وأتى بكلمة {ثُمَّ} لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت {قَضَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {أَجَلًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {خَلَقَكُمْ} على كونها صلة الموصول. {وَأَجَلٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده {مُسَمًّى}: صفة له {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، ولكن المراد منها استبعاد صدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه. {أَنْتُمْ}: مبتدأ، وجملة {تَمْتَرُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة

قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} على كونها مستأنفة. {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}. {وَهُوَ} الواو: عاطفة. {هُوَ} مبتدأ. {اللَّهُ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور متعلق بلفظ الجلالة بتأويله؛ لأنه بمعنى المعبود. {وَفِي الْأَرْضِ}: معطوف على الجار والمجرور {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {سِرَّكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَجَهْرَكُمْ}: معطوف على {سِرَّكُمْ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ {هُوَ}، أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في المعبود الذي هو بمعنى الجلالة. {وَيَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل الرفع، أو في محل النصب معطوفة على جملة {يَعْلَمُ} الأول. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ {يَعْلَمُ}؛ لأنه بمعنى: عرف. {تَكْسِبُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تكسبونه. {وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}. {وَمَا} الواو: استئنافية. {ما}: نافية. {تَأتِيهِمْ}: فعل ومفعول به. {مِنْ آيَةٍ}: {مِنْ}: زائدة. {آيَةٍ}: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {آيَةٍ}، والتقدير: وما تأتيهم آية كائنة من آيات ربهم. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ.؛ {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {عَنْهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُعْرِضِينَ} قدم عليه لرعاية الفاصلة. {مُعْرِضِينَ}: خبر {كَانُوا}، وجملة كان في محل النصب حال من ضمير {تَأتِيهِمْ}، والتقدير: وما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا حالة كونهم معرضين عنها. فائدة: واعلم (¬1) أن الفعل الماضي لا يقع بعد {إِلَّا} إلا بأحد شرطين: إما وقوعه بعد فعل كهذه الآية الكريمة، أو اقترانه بـ {قد} نحو: ما زيد إلا قد قام. ¬

_ (¬1) الجمل.

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}. {فَقَدْ} الفاء: حرف عطف وتعقيب. {قد}: حرف تحقيق. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى: حين في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الحق، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}، والتقدير: فقد كذبوا بالحق حين مجيئه إياهم. {فَسَوْفَ}: الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فقد كذبوا بالحق لما جاءهم واستهزؤوا به، وذلك المحذوف معطوف على جملة {كَذَّبُوا}. {سوف}: حرف تنفيس واستقبال. {يَأتِيهِمْ}: فعل ومفعول. {أَنْبَاءُ} فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف، {أَنْبَاءُ} مضاف. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ} {يَسْتَهْزِئُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}، ويصح أن تكون {مَا} مصدرية، والضمير حينئذ يعود على الحق لا على {مَا}؛ لأنها حينئذ حرف، فالضمير لا يعود إليها، قاله ابن عطية بخلاف الأخفش. {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري مبنية على الفتح. فائدة: والاستفهام التقريري: هو (¬1) حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، وهو هنا: لم، والهمزة خرجت عن الاستفهام إليه، ولا يجاب إلا ¬

_ (¬1) الحامدي على الآجرومية.

ببلى نظير قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} اهـ "قليوبي على الآجرومية". وما في "الشوكاني" هنا من أن الاستفهام للإنكار غير صواب. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَرَوْا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، والواو فاعل، وهي إما بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو أولى، أو علمية فتتعدى إلى مفعولين .. {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب معفول مقدم وجوبًا لـ {أَهْلَكْنَا}، وهي معلقة ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَهْلَكْنَا}. {مِنْ}: زائدة. {قَرْنٍ} تمييز لـ {كم} مجرور بـ {مِن} الزائدة، وجملة {أَهْلَكْنَا} في محل النصب سادة مسد مفعول رأى البصرية، أو مسد مفعولي رأى العلمية، وجملة {يَرَوْا} من الفعل والفاعل جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {مَكَّنَّاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة في محل الجر صفة لـ {قَرْنٍ}، ولكنها سببية. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مكنا}. {مَا لَمْ نُمَكِّنْ} {مَا}: نكرة موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {مَكَّنَّاهُمْ}؛ لأن مكنا بمعنى: أعطينا، فيتعدى إلى مفعولين. {لَمْ نُمَكِّنْ}: فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ {مكنا}، ومفعوله الأول محذوف تقديره: ما لم نمكنه لكم، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {ما} الموصوفة، والتقدير: مكناهم وأعطيناهم في الأرض شيئًا لم نمكنه ولم نعطه لكم. وفي "الفتوحات" قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في (¬1) {مَا} هو هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لمصدر محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكن لكم، والعائد محذوف؛ أي: الذي لم نمكنه لكم. والثاني: أن تكون مفعولًا بها، لكن على المعنى؛ لأن معنى {مَكَّنَّاهُمْ}: أعطيناهم ما لم نعطكم، ذكره أبو البقاء، قال الشيخ: هذا تضمين، والتضمين لا يقاس. ¬

_ (¬1) الجمل.

الثالث: أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها، والعائد محذوف؛ أي: شيئًا لم نمكنه لكم، ذكره أبو البقاء أيضًا. قال الشيخ: وهذا أقرب إلى الصواب اهـ "سمين". {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {مِدْرَارًا}: حال من {السَّمَاءَ}، والجملة في محل النصب أو الجر معطوفة على جملة {مَكَّنَّاهُمْ}. {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {مَكَّنَّاهُمْ}. {تَجْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْأَنْهَارَ}. {مِنْ تَحْتِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَجْرِي}، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ {جعلنا} إن جعلنا (¬1) جعل تصييرية، وإن جعلناها اتخاذية .. كانت حالًا من {الْأَنْهَارَ}. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}: الفاء: عاطفة. {أهلكنا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {مَكَّنَّاهُمْ}: عطف مسبب على سبب. {بِذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أهلكنا}. {وَأَنْشَأنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أنشأنا}. {قَرْنًا}: مفعول به لـ {أَنْشَأنَا}. {آخَرِينَ} صفة لـ {قَرْنًا}؛ لأنه اسم جمع كقوم ورهط، فلذلك اعتبر معناه في صفته. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. {وَلَوْ} الواو: استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {نَزَّلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْكَ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {كِتَابًا} مفعول {نَزَّلْنَا}. {فِي قِرْطَاسٍ}: متعلق بـ {كِتَابًا}؛ لأنه مصدر ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بمعنى اسم المفعول أو نعت له. {فَلَمَسُوهُ}: الفاء: عاطفة. {لمسوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {نَزَّلْنَا}. {بِأَيْدِيهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {لمسوه}. {لَقَالَ} اللام رابطة لجواب {لو} الشرطية. {قال}: فعل ماض. {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {إِنْ} نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {سِحْرٌ} خبر. {مُبِينٌ}: صفة له، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قال}. {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)}. {وَقَالُوا} الواو: استئنافية. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بفرط تعنتهم وتصلبهم في كفرهم. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْلَا}: حرف تحضيض. {أُنزِلَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {مَلَكٌ}: نائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}. {وَلَو}: الواو: عاطفة أو استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط. {أَنْزَلْنَا مَلَكًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَقُضِيَ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}. {قضي الأمر}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب {لو} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على جملة {قالوا} أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {لَا}: نافية. {يُنْظَرُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {قُضِيَ}. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}. {وَلَوْ} الواو: عاطفة أو استئنافية. {لو}: حرف شرط. {جَعَلْنَاهُ مَلَكًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة فعل شرط لـ {لو}. {لَجَعَلْنَاهُ}: لـ {اللام}: رابطة لجواب {لو}. {جعلناه رجلًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب {لو}، وجملة {لو} معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة. {وَلَلَبَسْنَا}:

الواو: عاطفة، واللام: رابطة لجواب {لو} مؤكدة للام الأولى، وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاء بما في المعطوف عليه. {لبسنا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الجواب. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول "لبسنا". {يَلْبِسُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يلبسونه. وفي "الفتوحات": قوله: {مَا يَلْبِسُونَ} في {مَا} هذه قولان: أحدهما: أنها موصولة بمعنى: الذي؛ أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء، وتكون {مَا} حينئذ مفعولًا بها. الثاني: أنها مصدرية؛ أي: وللبسنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويشكلونهم. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)}. {وَلَقَدِ}: الواو: استئنافية، اللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {اسْتُهْزِئَ}: فعل ماض مغير الصيغة {بِرُسُلٍ}: جار ومجرور نائب فاعل {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور صفة {رسل}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والجملة القسمية مع جوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. {فَحَاقَ}: الفاء: عاطفة. {حاق}: فعل ماض. {بِالَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به. {سَخِرُوا}: فعل وفاعل. {مِنْهُمْ}: متعلق به، وجملة {سَخِرُوا} صلة الموصول. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل {حاق}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضميره {بِهِ}. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت:

{سِيرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق به. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {انْظُرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {سِيرُوا}. {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب خبر مقدم لـ {كَانَ}. {كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، ولم يؤنث {كَانَ} مع كون اسمها مؤنثًا؛ لأن تأنيثه غير حقيقي، أو لأنه بمعنى: المآل والمنتهى، فهو في معنى المذكر، وجملة {كَانَ} من اسمها وخبرها في محل النصب مفعول {انْظُرُوا}. التصريف ومفردات اللغة {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: الحمد لغة: الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ظاهرًا وباطنًا، فخرج بقولهم على جهة التعظيم نحو قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} فإنه كان على جهة التهكم، لا على جهة التعظيم. واصطلاحًا: فعل ينبىء عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا. {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} والجعل: هو الإنشاء والإبداع كالخلق، وذكره بعد الخلق للتفنن؛ لأنه هنا بمعنى: خلق. و {الظُّلُمَاتِ}: جمع ظلمة، والظلمة: هي الحال التي يكون عليها مكان لا نور فيه، والنور ضدها، وهو قسمان: حسي: وهو ما يدرك بالبصر كنور الشمس والقمر، ومعنوي: وهو ما يدرك بالبصيرة كنور الإيمان والعلم. {يَعْدِلُونَ}: يقال: عدل به غيره إذا جعله مساويًا له في العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع، فهو من العدل بمعنى التسوية بين الشيئين، ويصح أن يكون من العدول بمعنى: الميل، بمعنى: يميلون عن عبادته إلى عبادة غيره. {مِنْ طِينٍ}: والطين: التراب المندى يقال (¬1) منه: طان الكتان يطينه وطنه يا هذا، فهو من باب باع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: قضى بمعنى: كتب وقدر كما مر، والأجل: هو المدة المضروبة للشيء؛ أي: المقدار المحدود له من الزمان. {تَمْتَرُونَ} من الامتراء بمعنى: الشك، لا من المماراة بمعنى الجدال. {وَمَا تَأتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}: الآيات (¬1) هنا: آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان، والمثبتة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. {مُعْرِضِينَ}: اسم فاعل من الإعراض وهو التولي عن الشيء والإدبار عنه. {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ}: والحق هو دين الله الذي جاء به خاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - من عقائد صحيحة ومعاملات شرعية وآداب كريمة. {أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: الأنباء: المراد بها (¬2) في القرآن: وعد الله بنصر رسله وإظهار دينه ووعيده لأعدائه بخذلانهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة، وهو جمع: نبأ؛ كأسباب جمع سبب، والنبأ: ما يعظم وقعه من الأخبار. {مِنْ قَرْنٍ}: والقرن من الناس: القوم المقترنون في زمن واحد، وجمعه: قرون، وقد جاء في القرآن مفردًا وجمعًا. وقيل: القرن: القوم المجتمعون في زمن قلت السنون أو كثرت، لقوله عليه السلام: "خير القرون قرني" يعني: أصحابه، وقال قس بن ساعدة: في الذَّاهِبِيْنِ الأوَّليْنَ ... مِنَ الْقُرُوْنِ لَنَا بَصَائِرْ وقال آخر: إِذَا ذَهَبَ الْقَوْمُ الَّذِيْ كُنْتَ فِيْهِمُ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَوْمٍ فَأَنْتَ غَرِيْبُ سموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض، فهو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهًا له. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

{مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} يقال: مكنه في الأرض أو في الشيء جعله متمكنًا من التصرف فيه، ومكن له: أعطاه أسباب التمكن في الأرض، وقال أبو عبيدة: مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان بمعنىً، نحو نصحته ونصحت له كذا قاله أبو علي والجرجاني. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا}: السماء: المطر، والمدرار: الغزير. وقال أبو حيان: المدرار (¬1): المتتابع، يقال: مطر مدرار وعطاء مدرار، وهو في المطر أكثر، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة، كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه. {وَأَنْشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}: الإنشاء: الخلق والإحداث من غير سبب، وكل من ابتدأ شيئًا فقد أنشأه، والنشء: الأحداث واحدهم ناشئ كخادم وخدم. {قَرْنًا آخَرِينَ}: صفة لقرنًا؛ لأنه اسم جمع كقوم ورهط فجمع الصفة اعتبارًا لمعناه. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ}: الكتاب: الصحيفة المكتوبة ومجموعة الصحف في غرض واحد، والقرطاس - مثلث القاف -: اسم (¬2) لما يكتب عليه من رق أو ورق أو غير ذلك قال زهير: لَهَا أَخَادِيْدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِهَا ... كَمَا تَرَدَّدَ فِيْ قِرْطَاسِهِ الْقَلَمُ ولا يسمى قرطاسًا إلا إذا كان مكتوبًا، وإن لم يكن مكتوبًا فهو طرس وكاغد وورق، وكسر القاف أكثر استعمالًا وأشهر من ضمها، وهو اسمٌ أعجمي يجمع على قراطيس. {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} اللمس كالمس: إدراك الشيء بظاهر البشرة، وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، ويقال: لمسه والتمسه وتلمسه، ومنه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}. {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: خداع وتمويه يُري ما لا حقيقة له في صورة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الحقائق. {لَقُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: لتم أمر هلاكهم {لَا يُنْظَرُونَ} من الإنظار بمعنى: الإمهال؛ أي: لا يمهلون. {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ}: اللبس: الستر والتغطية، يقال: لبس الثوب يلبسه بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المضارع من باب سمع إذا استتر به، ولبسه في عنقه، ولبَس الحق بالباطل يلبِسه بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المضارع من باب ضرب إذا ستره به؛ أي: جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره؛ أي: جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه، ولبست الأمر على القوم ألبسه من باب ضرب إذا شبهته وجعلته مشكلًا عليهم، وأصله: الستر بالثوب. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ}: من الهزؤ - بضمتين أو بضم وسكون، والاستهزاء (¬1): السخرية، والاستهزاء بالشخص: احتقاره وعدم الاهتمام بأمره. {فَحَاقَ}: يقال: حاق به المكروه يحيق من باب باع حيقً وحيوقًا وحيقانًا إذا نزل به وأحاط عليه فلم يكن له منه مخلص. وفي "الفتوحات": {فَحَاقَ} ألفه منقلبة عن ياء، بدليل قولهم، في المضارع: يحيق كباع يبيع، والمصدر: حيق وحوق وحيقان كالغليان والنزوان. انتهت. {بِالَّذِينَ سَخِرُوا} يقال: سخر منه إذا هَزَأ به، والسخري (¬2) والاستهزاء والتهكم معناها متقارب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الحصر في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ لأن لام الجنس (¬3) إذا دخلت على المبتدأ تفيد حصره في الخبر كما قال علي الأجهوري: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات القيومية.

مُبَتَدَأٌ بِلاَمِ جِنْسٍ عُرِّفَا ... مُنْحَصِرٌ فِيْ مُخْبَرٍ بِهِ وَفَا وَإِنْ عَرَا عَنْهَا وَعُرِّفَ الْخَبَرْ ... بِاللَّامِ مُطْلَقًا فَبِالْعَكْس اسْتَقَرّ والمعنى: لا يستحق الحمد والثناء إلا الله تعالى. ومنها: الطباق في قوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، وفي قوله: {سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}. ومنها: رعاية الفاصلة بتقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَمَا تَأتِيهِمْ}؛ لأن الإتيان بصيغة المضارع دون الماضي لحكاية الحال الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجددي. ومنها: التفخيم في قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}؛ لأن في إضافة آيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضمير: {هم} تفخيمًا لشأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقها. ومنها: الالتفات من خطابهم بقوله: {خَلَقَكُمْ} إلى الغيبة في قوله: {وَمَا تَأتِيهِمْ}. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} إلى الخطاب في قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}؛ لأنه خطاب لأهل مكة؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: ما لم نمكن لهم. فائدة: والالتفات (¬1) له فوائد، منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، وهذه فائدته العامة، ويختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه هنا حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة. اهـ "كرخي". ¬

_ (¬1) الجمل.

ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ}؛ إذ الأصل: فقد كذبوا بها؛ أي: بالآية؛ لأن المراد بالحق نفس الآية، وفي قوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ لأن فيه إظهارًا في مقام الإضمار شهادة عليهم بالكفر؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: لقالوا. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {مِنْ قَرْنٍ}؛ أي: أهل قرن، وفي قوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا}؛ أي: المطر، عبر عنه بالسماء؛ لأنه ينزل من السماء فهو مجاز. ومنها: تنكير رسل في قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ} للتفخيم والتكثير. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. فائدة: ومن الأمور الاتفاقية في القرآن خمس سور منه بدئت بالحمد لله، وخمس منها ختمت به، فالخمس التي بدئت بالحمدلة: سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، وسورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وسورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}، وسورة سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وسورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. والخمس التي ختمت بها سورة الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}، وسورة النمل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، وسورة الصافات: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}، وسورة الزمر: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وسورة الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه (¬1) الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تصرفه فيمن أهلكهم بذنوبهم .. أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بسؤالهم ذلك، فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى، فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير، ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك. قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ...} مناسبتها لما قبلها: أن الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

سبحانه وتعالى لما ذكر أنه موجد العالم، المتصرف فيهم بما يريد، ودل ذلك على نفاذ قدرته .. أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق. قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أن له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض .. ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار، وأن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية، وقدم المكان؛ لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان. قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما قدم أنه خلق السموات والأرض، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان .. أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم؛ أي: من هذه صفاته هو الذي يتخذ وليًّا وناصرًا ومعينًا، لا الآلهة التي لكم؛ إذ هي لا تنفع ولا تضر؛ لأنها بين جماد أو حيوان مقهور. قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ...} مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء .. ذكر قهره وغلبته، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم، بل يقسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى. وعبارة "المراغي " هنا: قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر (¬1) سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث والجزاء، ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة، وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتثبيتًا لقلبه، وإعانةً له على المضي في تبليغ رسالته .. ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر - أسلوب ¬

_ (¬1) المراغي بتصرف.

[12]

السؤال والجواب - بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة تفننًا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد .. كان لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم، وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول أو عمي عليه أسلوبه .. رأى في الدليل الثاني ما ينير له طريق المطلوب، أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤنة البحث في الدليل الأول، فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت، أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين، والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم، ويكثرون البراهين على المطلوب الواحد، ليكون ذلك أدعى إلى الإقناع، وأقرب إلى الاقتناع انتهت. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ...} مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما بيَّن في الآية السابقة أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كافية في تحققها .. ذكر هنا كذبهم في ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبنائهم. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقردم بن كعب، ومجزىء بن عمرو، فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيره؟ فقال: "لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو" فأنزل الله في قولهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 12 - {قُل} يا محمد لهؤلاء المكذبين لرسالتك العادلين بربهم المعرضين عن دعوتك، يعني: كفار مكة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا وعبيدًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

وتصرفًا؛ أي: من الذي كانت له هذه المخلوقات علويها وسفليها، وقد كانت العرب تؤمن بأن الله خالق السموات والأرض، وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله}، والمقصود من السؤال: التبكيت والتوبيخ، فإن أجابوك .. فذاك وإلا فـ {قُل} لهم يا محمد إن ذلك كله {لِلَّهِ} فإنه لا جواب غيره؛ أي: فأخبرهم أن ذلك لله الذي قهر كل شيء، وملك كل شيء، واستعبد كل شيء، لا للأصنام التي تعبدونها أنتم، فإنها أموات لا تملك شيئًا ولا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، وإنما أمره بالجواب عقب السؤال .. ليكون أبلغ في التأكيد، وآكد في الحجة. وعبارة "المراغي" هنا قوله: {قُلِ لِلَّهِ} هذا تقرير للجواب نيابة عنهم، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى، ولا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئًا آخر إليه. وإتيان السائل بالجواب يحسن إذا كان ما يأتي به هو عين ما يعتقده المسؤول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازمًا لما يعرفه ويعتقده انتهت. ولما بين الله تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته .. أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم، فقال تعالى: {كَتَبَ} الله سبحانه وتعالى وأوجب {عَلَى نَفْسِهِ}؛ أي: على ذاته العلية إيجاب الفضل والكرم، وإيجاب إنجاز الوعد {الرَّحْمَةَ} والإحسان إلى خلقه؛ إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن لا يعجل بالعقوبة لمن استحقها، بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب إليه، فالمراد بإيجابها على نفسه أنه وعد ذلك وعدًا مؤكدًا منجزًا لا محالة؛ إذ لا يجب على الله شيء لعباده، والمراد بالرحمة: ما يعم الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، والإمهال على الكفار. فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لما خلق الله الخلق .. كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي". متفق عليه.

وفي "البخاري": "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش". وفي رواية لهما: "إن الله لما خلق الخلق - وعند مسلم: لما قضى الله الخلق - كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده - زاد البخاري: على العرش، ثم اتفقا -: إن رحمتي تغلب غضبي". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "جعل الله الرحمة مئه جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" متفق عليه. زاد البخاري في رواية له: "ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة .. لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب .. لم يأمن من العذاب"، ولمسلم "إن لله مئه رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مئه رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة .. أكملها بهذه الرحمة" رواه مسلم. وعن عمر رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا واللهِ، وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها". متفق عليه. و {اللام} في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} لام قسم، وجملة القسم مستأنفة مسوقة للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، فلا تعلق لها بما قبلها من حيث الإعراب، وإن تعلقت به من حيث المعنى؛ أي: وعزتي وجلالي ليجمعنكم الله سبحانه وتعالى في القبور محشورين إلى يوم القيامة الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه، فيجازيكم على شرككم وسائر

معاصيكم، أو المعنى: ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة؛ لأن الجمع إنما يكون إلى المكان لا إلى الزمان. والحاصل: أن الله (¬1) الذي تقرون معنى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه؛ إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه للحساب والجزاء على الأعمال، إذ إنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفوس إلا به، فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن خوفًا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها. ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل .. كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنه، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه، وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}. وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضًا، فما مثله إلا مثل الحكومة العادلة تبيِّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة، وما تكافىء به من يصدق في خدمتها ويرقى إلى سماء العزة والكرامة. وقد سبق حديث الشيخين وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لما خلق الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" والمراد بالسبق هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا فيه. والخلاصة: أنه لما قال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ذلك أنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد في الأرض، واختلت نظم الاجتماع، وأكل القوي ¬

_ (¬1) المراغي.

الضعيف، ولا وازع ولا زاجر، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة. وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في محل النصب على الذم، أو في محل الرفع على الابتداء، والخبر قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والفاء (¬1) فيه للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل وإتباع الحواس والوهم، والانهماك في التقليد، وإغفال النظر .. أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان. فإن قيل (¬2): ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر بالعكس. أجيب: بأن سبق القضاء بالخسران والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم أصلًا. اهـ "كرخي"؛ أي: فمعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: قضى عليهم بالخسران، فصح السبب في قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. ومعنى خسران الأنفس: إفساد فطرتها، وعدم اهتدائها بما منحها الله تعالى من أسباب الهدايات، فالمقلدون خسروا أنفسهم باتخاذهم الأصنام، وعرضوها لسخط الله تعالى وأليم عذابه؛ لأنهم حرموها استعمال نعمتي العقل والعلم، فكانوا كمن خسر شيئًا من متاع الدنيا، وأصل الخسار: الغبن، يقال: خسر الرجل إذا غبن في بيعه. والمعنى على النصب؛ أي: أخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ من بين من يجمعون إلى يوم القيامة؛ إذ هم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة، فهم قلما ينظرون ويستدلون، وإن هم فعلوا ذلك .. قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين. والمعنى على الرفع: الذين سبق عليهم خسران أنفسهم في علم الله تعالى، فهم لا يؤمنون في الدنيا لسبق الخسران عليهم في علمه. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الفتوحات.

[13]

والخلاصة (¬1): أن الفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين .. فقد خسر نفسه، فردًا كان أو أمة، فما بال من خسرهما معًا؟ 13 - {وَلَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَا سَكَنَ}؛ أي: حل واستقر ووجد {في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إن قلنا: إنه من السكنى بمعنى: الحلول والاستقرار في المكان، أو: له سبحانه وتعالى ما سكن وتحرك في جميع الأزمان، إن قلنا: إنه من السكون ضد الحركة، وقال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار وينتشر بالليل، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار. فإن قيل (¬2): لِمَ خصَّ السكون بالذِّكر دون الحركة؟ فعن ابن العربي ثلاثة أوجه: أحدها: أن السكون أعم وجودًا من الحركة؛ لأن الساكن من المخلوقات أكثر عددًا من المتحرك. والثاني: أن كل متحرك قد يسكن وليس كل ساكن يتحرك. والثالث: أن في الآية إضمارًا، والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد، فيكون من باب الاكتفاء. والمعنى: لله ما في السموات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، وخص هذا بالذكر وإن كان داخلًا في عموم ما في السموات والأرض تنبيهًا إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا، ولا سيما إذا حسن الليل وهدأ الخلق. وقال ابن جرير (¬3): كل ما طلعت عليه الشمس وغربت، فهو من ساكن الليل والنهار، فيكون المراد منه: جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر، وهذا يفيد الحصر، والمعنى: إن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير بزيادة. (¬3) الخازن.

[14]

وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه في الخلق دقيقه وجليله كما هو شأن الربوبية الكاملة .. ذكر أنه هو السميع العلم، فقال: {وَهُوَ} سبحانه تعالى {السَّمِيعُ} لأقوالهم وأصواتهم {الْعَلِيمُ} بسرائرهم وأحوالهم؛ أي: وهو سبحانه وتعالي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع، فمهما يكن خفيًّا عن غيره .. فهو يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، والمحيط علمه بكل شيء {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)}. والخلاصة: أنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داعٍ، ولا يعزب عن علمه حاجة محتاجٍ حتى يخبره بها الأولياء، أو يقنعه بها الشفعاء؟! 14 - وبعد هذا القول الذي أمر فيه رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شيء والمدبر لكل شيء إذ هو سميع لكل شيء، ولا يعزب عن علمه شيء أمره هنا بقول آخر لازم لما سبق، وهو وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {أَغَيْرَ اللهِ} سبحانه وتعالى {أَتَّخِذُ} وأجعل {وَلِيًّا} ومعبودًا لنفسي ومتوليًا لأموري؛ أي: لا أتخذ غير الله تعالى وليًّا لنفسي كما اتخذتموهم أولياء لأنفسكم. والاستفهام فيه إنكاري بمعنى النفي، قال لهم ذلك لما دعوه إلى عباده الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليًّا لا لاتخاذ الولي مطلقًا .. دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل، والمراد بالولي هنا: المعبود؛ أي: كيف اتخذ غير الله معبودًا؟ ذكره "الشوكاني". والمعنى (¬1): قل لهم: لا أطلب من غيره تعالى نفعًا ولا ضرًّا، لا فعلًا ولا منعًا، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، أما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم بعضًا فيما هو من كسبهم العادي: فلا يدخل في عموم الإنكار الذي يفهم من الآية، فقد أثنى الله على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض. وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون ¬

_ (¬1) المراغي.

معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله يتوجهون إليهم بالدعاء، ويستغيثون بهم، ويستشفعون بهم عند الله في قضاء حاجاتهم من نصر على عدو، وشفاء من مرض وسعة في رزق إلى نحو ذلك. وهذا بلا شك عبادة لغير الله وشرك بالله؟ لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله، ويلزم هذا أن إرادة الله ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعًا لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليًّا وشفيعًا. وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بدل من (¬1) الله أو صفة له، وقد تعرف بالإضافة؛ لأنه بمعنى الماضي بدليل قراءة {فطر} بصيغة الفعل الماضي فاتفقت الصفة والموصوف في التعريف؛ أي: موجد السموات والأرض ومنشئهما على غير مثال سبق. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: ابتدعتها. وقد كانت المادة التي خلقت منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها، وفصل منها أجرام السموات والأرض، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} وفي ذلك تعريض بأن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغي أن لا يتوجه إلى غيره بالدعاء، ولا يستعان بسواه في كل ما وراء الأسباب. وقرأ الجمهور (¬2): {فَاطِرِ} بالجر على أنه بدل من الجلالة، أو صفة له كما مر. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضمار: هو. وقرىء شاذًا بالنصب، والأحسن أن يكون نصبه على المدح. وقرأ الزهري: {فطر} على صيغة الفعل الماضي. وقد أكد ما تقدم وزاده تثبيتًا بقوله: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {يُطْعِمُ} ويرزق {وَلَا يُطْعَمُ} ولا يُرزق كقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

والمعنى (¬1): إن المنافع كلها من عند الله تعالى، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات؛ لأن الحاجة إليه أمس، كما خص الربا بالأكل، وإن كان المقصود الانتفاع بالربا. والحاصل: أنه (¬2) يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه؛ لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه أيًّا كان نوعها. وفي هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام، ولا حياة لهم بدونه، وأن الله هو الذي خلق لهم الطعام، فهم عاجزون عن خلقه وعاجزون عن البقاء بدونه، فأحرى بهم؛ أي: لا يتخذوا أولياء مع الغني الرزاق الفعال لما يريد. وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان؛ لأنها أضعف من البشر؛ إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد، والإنسان على جميع أنواع الحيوان. وقرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأول، وضمها وفتح العين في الثاني؛ أي: يرزق ولا يرزق كما فسرناه كذلك أولًا. وقرأ (¬3) مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو في رواية عنه: {ولا يطعم} بفتح الياء والعين في الثاني، والمعنى: أنه تعالى منزه عن الأكل، ولا يشبه المخلوقين. وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة: {ولا يطعم} بضم الياء وكسر العين مثل الأول، فالضمير في {وهو يطعم} عائد على الله، وفي {ولا يطعم} عائد على {الولي}. وروى ابن المأمون عن يعقوب: {وهو يطعم ولا يطعم} علي بناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، فالضمير لغير الله. وقرأ الأشهب، {وهو يطعم ولا يطعم} علي بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم غيره ولا يستطعم لنفسه، وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى: استطعمت. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى على هذه القراءة: {وهو يطعم} تارة {ولا يطعم} أخرى على حسب المصالح. وقرىء (¬4) بفتح الياء والعين في الأول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

[15]

وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الولي المذكور. وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل، وهو أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته: تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث البلاغة، ذكره أبو حيان في "البحر". {قُلْ} يا محمد لكفار قومك {إِنِّي أُمِرْتُ} من جناب الله تعالى {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} من هذه الأمة؛ أي: استسلم لأمر الله وانقاد إلى طاعته {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: وقيل لي: ولا تكونن يا محمد من المشركين بالله تعالى في أمر من الأمور، والمعنى: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك؛ أي: قل (¬1) لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده، وعدم اتخاذ غيره وليًّا: إني أمرت من ربي الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه، وانقاد لديه من هذه الأمة التي بعثت فيها، فلا أدعو إلى شيء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه. {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: وقيل لي بعد إسلام الوجه له: لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى. 15 - وبعد أن أمره بهذا القول المبين لأساس الدِّين، وبين أنه مأمورًا به كغيره .. أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهي السالفين، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى عبادة غيري: إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم، ونهاني عن عبادة شيء سواه، و {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} وخالفت {رَبِّي} فيما أمرني به ونهاني عنه فعبدت شيئًا سواه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: عذابًا عظيمًا شديدًا في يوم عظيم شديد هوله وهو يوم القيامة؛ أي: إني (¬2) أخاف عذاب يوم عظيم - وهو يوم القيامة - إن عصيت ربي، فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به، محذوف الجواب كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

[16]

والخلاصة: قل لهم يا محمد: إنْ فُرض وقوع العصيان مني .. فإنني أخاف أن يصيبني عذاب ذلك اليوم العظيم - وهو يوم القيامة - الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون. وفي الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيمًا، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، بل الأمر يومئذ لله، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه ظنًّا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه، وإذا كان خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من العذاب على المعصية منتفيًا لوجود العصمة .. فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له في جميع الأحوال. 16 - {مَنْ يُصْرَفْ} العذاب ويدفع {عَنْهُ يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم العذاب العظيم، وهو يوم القيامة؛ أي: من يصرف الله سبحانه وتعالى عنه العذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ}؛ أي: قد أنجاه الله مما يخاف، وأكرمه بما يحب، وأدخله الجنة دار كرامته. والإشارة في قوله: {ذلك} إلى الصرف، أو إلى الرحمة؛ أي: ذلك الصرف أو الرحمة {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}؛ أي: الفلاح العظيم والنجاة الظاهرة، يعني: أن صرف العذاب وحصول الرحمة هو النجاة والفلاح المبين، وإنما ذكر الرحمة بعد صرف العذاب، لئلا يتوهم أن الحاصل له صرف العذاب فقط، بل حصلت له الرحمة مع صرف العذاب عنه. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم (¬1): {من يصرف} مبنيًّا للفاعل فـ {من} مفعول مقدم، والضمير في {يصرف} عائد على الله، ويؤيده قراءة أُبي: {من يصرف الله}. وقرأ باقي السبعة: {مَنْ يُصْرَفْ} مبنيًّا للمفعول، ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز. والمعنى: أنه من يدفع الله عنه العذاب في ذلك اليوم .. فقد رحمه؛ إذ أنجاه من الهول الأكبر، ومن نجا منه .. فقد دخل الجنة، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم في دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه. واعلم: أن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين: ¬

_ (¬1) البحر المحيط والبيضاوي.

[17]

أحدهما: سلبي، وهو النجاة من العذاب، والثاني: إيجابي، وهو الظفر بالنعيم المقيم في الجنة. 17 - وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم المقيم من رحمته في الآخرة .. بيَّن أن الأمر كذلك في الدنيا، وأن التصرف فيها له تعالى وحده، فقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ}؛ أي: وإن يصبك الله تعالى ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك، والضر: اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه: {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}؛ أي: فلا رافع له عنك إلا هو وحده؛ أي: وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة الله .. فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو سبحانه وتعالى دون الأولياء الذين يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك بكشفه، وهو سبحانه وتعالى؛ إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله، وإما أن يكشفه بغير عمل منك، بل بلطفه وكرمه، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حد لها. فائدة: فالضر (¬1) إما في النفس كقلة العلم والفضل والعفة، وإما في البدن كعدم جارحة ونقص ومرض، وإما في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه. اهـ "كرخي". {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}؛ أي: وإن يصبك الله سبحانه وتعالى أيها الإنسان بخير ويعطكه؛ كصحة وغنى وقوة وجاه، والخير: اسم جامع لما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ أي: فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائك إياه، وهو القدير على كل شيء، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسِّك بخير ولا ضر. وعبارة "الخازن" هنا: وهذه الآية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: لا تتخذ وليًّا سوى الله؛ لأنه هو القادر على أن يمسك بضر، وهو القادر على دفعه عنك، وهو القادر على إيصال الخير إليك، وأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فاتخذه وليًّا وناصرًا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[18]

ومعينًا، وهذا الخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو عام لكل أحد، والمعنى: وإن يمسسك الله بضر أيها الإنسان .. فلا كاشف لذلك الضر إلا هو، وإن يمسسك بخير أيها الإنسان .. فهو على كل شيء قدير من دفع الضر وإيصال الخير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال لي: "يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنْ اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" أخرجه الترمذي، زاد فيه رزين "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"، وفيه: "وإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا واعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين". قال ابن الأثير: وقد جاء نحو هذا أو مثله بطوله في "مسند" أحمد بن حنبل انتهت. فعلى (¬1) المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يطلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر، وصرف عذاب، أو إيجاد خير، ومنح ثواب إلا من الله تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا. وهذا الطلب من الله؛ إما بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته في الخلق، ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل؛ وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب إلى ذلك كتابه الكريم، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. 18 - وبعد أن أثبت سبحانه وتعالى لنفسه كمال القدرة .. أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده، والاستعلاء عليهم مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور؛ ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء .. فقد ضل ضلالًا بعيدًا فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}؛ أي (¬2): الغالب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[19]

لعباده، العالي فوقهم، القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر والقهار معناه: الذي يدبر خلقه بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه، فلا يستطيع أحد من خلقه ردَّ تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره، وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى؛ لأنه القادر، والقاهر: الذي لا يعجزه شيء أراده. ومعنى فوق عباده هنا: أن قهره قد استعلى على خلقه، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه، ولا ينفك عنه، فكل من قهر شيئًا فهو مستعلٍ عليه بالقهر والغلبة. وقال "الشوكاني": ومعنى: {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته؛ أي: بالمنزلة والرفعة، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو: منع غيره عن بلوغ المراد. انتهى. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَكِيمُ} في أمره وتدبيره عباده {الْخَبِيرُ}؛ أي: العالم بأعمالهم وما يصلحهم. وخلاصة المعنى: أنه تعالى هو الغالب لعباده العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه، وهو الحكيم في تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها؛ ولا تخفى عليه خوافي الأمور ولا يقع في تدبيره خلل ولا في حكمته دخل. 19 - وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله، وشهادة رسوله له، فقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}. روى ابن عباس: أن رؤساء أهل مكة قالوا: يا محمد، ما وجد الله غيرك رسولًا، وما ترى أحدًا يصدقك، وقد سألنا اليهود والنصارى عنك، فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة، فأرنا من يشهد لك بالنبوة؟ فأنزل الله قوله هذا: {قُلْ} لهم يا محمد {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}؛ أي: قل لهؤلاء المشركين من قومك الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك أيُّ شهيد أكبر شهادة وأعظمها وأجدر أن تكون شهادته أصحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الشهداء

وأصدقهم وأعظمهم شهادة هو: الله سبحانه وتعالى، فقال {قُلْ} لهم يا محمد إن لم يجيبوا لك {الله} سبحانه وتعالى أكبر شهادة؛ لأنه لا جواب غيره؛ أي: أحب لهم بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالحق، وعليكم بالباطل الذي تقولونه. والمراد (¬1) بشهادة الله: إظهار المعجزة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن حقيقة الشهادة ما بُيِّن به المدعى، وهو كما يكون بالقول يكون بالفعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال، فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال، وإن المعجزة نازلة منزلة قوله تعالى صدق عبدي في كل ما يبلغ عني انتهى "كرخي". والحاصل (¬2): أنهم طلبوا شاهدًا مقبول القول يشهد له بالنبوة، فبين الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، ثم بيَّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} فهو بمنزلة التعليل لما قبله؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يشهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن، وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته، فكان معجزًا، وإذا كان معجزًا .. كان نزوله عليَّ شهادة من الله تعالى بأني رسوله، وهو المراد بقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يعني: أوحي إليَّ هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل ولأبشركم، فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه، أو اقتصر على الإنذار؛ لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهًا. وقوله: {وَمَنْ بَلَغَ} في محل النصب معطوف على الكاف في {لِأُنْذِرَكُمْ}؛ أي: ولأنذر به من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم من الإنس والجن، فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نذير له. قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه. وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية .. كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل. وعن ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الخازن.

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا .. فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فربَّ مبلغ أوعى له من سامع" أخرجه الترمذي، وله عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم أخرجه أبو داود موقوفًا، وقالت فرقة: الفاعل ببلغ عائد على {من} لا على القرآن، والمفعول محذوف والتقدير: ومن بلغ الحلم. وشهادة (¬1) الله بين الرسول وقومه ضربان: شهادته برسالة الرسول، وشهادته بصدق ما جاء به. والأول أنواع ثلاثة: 1 - إخباره بها في كتابه بنحو قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}، وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. 2 - تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم. 3 - وشهادة كتبه السابقة له، وبشارة الرسل السابقين به، ولا تزال هذه الشهادة في كتب اليهود والنصارى. والثاني ثلاثة أنواع أيضًا: 1 - شهادة كتبه بذلك كقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو ¬

_ (¬1) المراغي.

الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}. 2 - ما أقامه من الآيات في الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال. 3 - ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس. والخلاصة: أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان اللذين أودعهما في نفس الإنسان. وقرأ الجمهور (¬1): {وَأُوحِيَ} مبنيًّا للمفعول، {الْقُرْآنُ} هو مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري: {وأوحي} مبنيًّا للفاعل، و {القرآن} منصوب به. والمعنى (¬2): أوحى الله سبحانه وتعالى إليَّ هذا القرآنَ الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه؛ أي: كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامة. والاستفهام في قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} للتوبيخ والتقريع لهم والإنكار عليهم على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل، أو بقلب الثانية؛ أي: لا تنبغي ولا تصح منكم هذه الشهادة؛ لأن المعبود واحد لا تعدد فيه. وأما من قرأ على الخبر .. فقد حقق عليهم شركهم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري: هل إنكم أيها المشركون لتشهدون وتثبتون وتعتقدون وتقرون {أَنَّ مَعَ} سبحانه وتعالى {آلِهَةً أُخْرَى} يعني: الأصنام، إن كان الخطاب لأهل مكة، فإنهم أصحاب أوثان، وإن كان لجميع المشركين، فالآلهة كل ما عبد من دون الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي، وإنما قال: {أُخْرَى} بتأنيث الصفة وإفرادها؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة، كما قال بعضهم: وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ ... الأَفْصَحُ الإِفْرَادُ فِيْهِ يَا فُلُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[20]

نظير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} ولم يقل: الأول، ولا الأولين. {قُل} لهم يا محمد {لَا أَشْهَدُ} بما تشهدون به من أن مع الله آلهة أخرى، بل أجحد ذلك وأنكر {قُلْ} لهم {إِنَّمَا هُوَ}؛ أي: ما المستحق العبادة مني ومنكم إلا {إِلَهٌ وَاحِدٌ} ومعبود منفرد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له، وبذلك أشهد لا بما شهدتم، بل أتبرأ من ذلك، وكرر: {قُلْ} تأكيدًا للكلام. {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} به؛ أي: وأنا بريء من كل شيء تعبدونه سوى الله تعالى، وهذه الجملة كالتوكيد لما قبلها. وفي هذه (¬1) الآية دليل على إثبات التوحيد لله عز وجل وإبطال كل معبود سواه؛ لأن كلمة: {إِنَّمَا} تفيد الحصر، ولفظة الواحد صريح في التوحيد، ونفي الشريك، فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك، والتبرؤ من كل معبود سوى الله تعالى. قال العلماء: يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. ونص (¬2) الشافعي على استحباب ضمِّ التبرؤ إلى الشهادة؛ لأن الله تعالى لما صرح بالتوحيد .. قال: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. 20 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}؛ أي: الذين أعطيناهم الكتب السالفة، وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَعْرِفُونَهُ}؛ أي: يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من جهة الكتابين بصفته المذكورة فيهما {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بصفاتهم، فإنهم كذبوا في قولهم: إنا لا نعرف محمدًا في كتابنا. وذلك أن كفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، وأنكروا معرفته .. بين الله عز وجل أن شهادته كافية على صحة نبوته، وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه، وأنهم كذبوا في قولهم: إنهم لا يعرفونه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة، وأسلم عبد الله بن سلام .. قال له عمر بن الخطاب: إن الله عز وجل أنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بمكة {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

[21]

عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مني بابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ قال: أشهد أنه رسول الله حقًّا ولا أدري ما يصنع النساء. {الَّذِينَ خَسِرُوا} وغبنوا {أَنْفُسَهُمْ} وأوبقوها وأهلكوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من جميع المشركين وكفار أهل الكتاب، والموصول مبتدأ خبره قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ودخلت الفاء عليه لشبه المبتدأ بالشرط في العموم؛ أي: فهم يؤثرون مالهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم، علمًا منهم بأنهم إذا آمنوا .. سلبوا الرياسة، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين في سائر الأحكام والمعاملات. وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون تابعًا ومرؤوسًا، ويكون مثله مثل بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وغيرهما من فقراء المسلمين. فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم، لا لفقدان العلم والمعرفة؛ لأن الله أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة. ومعنى (¬1) هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين: أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلًا في الجنة، ومنزلًا في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله سبحانه وتعالى للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار. 21 - وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - خسران للنفس .. ذكر أن الافتراء على الله ظلم لها {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} للإنكار بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا وأكثر عنادًا وأخطأ فعلًا وأعظم كفرًا {مِمَّنِ افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللهِ} سبحانه وتعالى {كَذِبًا} كمن زعم أن له ولدًا أو شريكًا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتخذ وليًّا له يقربه إليه زلفى ويشفع للناس عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه {أَوْ} ممن {كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} سبحانه وتعالى المنزلة كالقرآن، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله. وفي "الفتوحات" قوله: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} هم مشركو العرب، ¬

_ (¬1) المراح.

[22]

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} هم أهل الكتابين الذين أنكروا معرفته، وكذبوا قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}. وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح، وصاحبه يعد مفتريًا ظالمًا .. فما حال من جمع بينهما فكذب على الله، وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة. ثم بيَّن سبحانه وتعالى عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم، فقال: {إِنَّهُ} أي إن الشأن والحال {لَا يُفْلِحُ} ولا يظفر {الظَّالِمُونَ} عامة؛ أي: إن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله تعالى، ولا بالفوز بنعيم الجنة بمعنى: أنهم لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمطلوب، فكيف تكون عاقبة من افترى على الله الكذب وكذب بآياته، فكان أظلم الظالمين. والخلاصة: أنه لا ينجح القائلون على الله الكذب، والمفترون على الله الباطل، كقول كفار مكة: هذه الأصنام شركاء لله، والله أمرنا بعبادتها، وقولهم: إن الملائكة بنات الله، وقولهم: أمرنا الله بتحريم البحائر والسوائب، وكقول اليهود والنصارى: حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ، ولا يجيء بعدهما نبي، وكقول المشركين: القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة. 22 - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن المفترين على الله الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا، فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}؛ أي: واذكر لهم يا محمد قصة يوم نحشر ونجمع العابدين والمعبودين جميعًا وسائر الناس على اختلاف درجاتهم في ظلم أنفسهم وظلم غيرها، وهو يوم القيامة. {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} خاصة على رؤوس الأشهاد للتوبيخ وهم أشدهم ظلمًا {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ} في الدنيا {تَزْعُمُونَ} وتظنون أنها أولياؤكم من دون الله تعالى، تستعينون بهم كما يستعان به، ويدعون كما يدعى، وأنهم يقربونكم إليه زلفى، ويشفعون لكم عنده، فأين ضلوا عنكم، فلا يرون معكم كما جاء في آية أخرى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. ولعله (¬1) يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[23]

التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل أنهم يشاهدونهم، ولكن لما لم ينفعوهم .. فكأنهم غيب عنهم. وقال ابن (¬1) عباس: وكل زعم في كتاب الله، فهو كذب. وعطف (¬2) بـ {ثم} الدالة على التراخي نظرًا للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخٍ على حسب طول ذلك اليوم. وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ} بالنون فيهما. وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء. وقرأ أبو هريرة: {نَحْشُرُهُمْ} بكسر الشين. 23 - ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك، فقال: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}، والفتنة هنا: الشرك، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم وشركهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا}؛ أي: إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة بقولهم {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى لأهل التوحيد، فيقول بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد، فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر. وظاهر (¬3) الآيات يدل على أنهم كانوا ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهمًا منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء في هذه الآية، ويعترفون به في بعض آخر كما جاء في قوله: {هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}، وفي قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا}؛ لأن معناهما متعارضان، فقال: أما قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: تعالوا لنجحد إشراكنا فـ {قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، وذلك قوله تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا}. قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة العربية، لا يعرفه إلا من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[24]

وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بيَّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم وشركهم الذي لزموه طول أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به، وقالوا: إنه دين آبائنا، لم تكن إلا جحوده، والتبرؤ منه، والحلف على عدم التدين به، ونظير هذا في اللغة أنك ترى إنسانًا يحب شخصًا غاويًا مذموم الطريقة، فإذا وقع في هلكة بسببه .. تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك - عاقبة محبتك - لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته انتهى. وعلى هذا فالفتنة: هي شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس، ويكون في الكلام تقدير مضاف هو كلمة: عاقبة كما قدمنا ذلك. وقيل (¬1): المراد بالفتنة هنا: جوابهم؛ أي: لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبرؤ، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذبًا. وقرأ الجمهور (¬2): {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي بالياء: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ}. وقرأ أبي وابن مسعود والأعمش: {وما كان فتنتهم}. وقرأ طلحة وابن مطرف: {ثم ما كان}. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص: {فِتْنَتُهُمْ} بالرفع. وقرأت فرقة: {ثم لم يكن} بالياء، و {فتنتهم} بالرفع، وإعراب هذه القراءات واضح، والبخاري منها على الأشهر قراءة: {ثم لم يكن فتنتهم} بالياء بالنصب؛ لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر، وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف .. فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم، وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} وفي قوله: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا}. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: {وَاللهِ رَبِّنَا} برفع الاسمين، قال ابن عطية: وهذا على التقديم والتأخير؛ أي: قالوا: ما كنا مشركين، والله ربنا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: {ربَّنا} بنصبه على النداء، أو المدح، والباقون بالكسر. 24 - {انْظُرْ} يا محمد؛ أي: فكر وتأمل بعين البصيرة إلى حال هؤلاء المشركين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

{كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الكذب الصريح بإنكار صدور الإشراك منهم في الدنيا؛ حيث قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين {وَضَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: وانظر أيضًا كيف ضل وغاب عنهم {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: يختلقون ويكذبون بألوهيته وشفاعته لهم من شركائهم وأصنامهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم، وهذا على جعل {مَا} موصولًا اسميًّا واقعة على الآلهة. ويحتمل أن تكون مصدرية، والمعنى عليه: انظر يا محمد كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر منهم في الدنيا من الإشراك، وكيف ضل وذهب عنهم افتراؤهم، وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله حتى نفوا صدوره منهم بتاتًا، وتبرؤوا منه غاية البراءة؟ وهذا تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة. وقال (¬1) مجاهد: إذا جمع الله الخلائق، ورأى المشركون سعة رحمة الله تعالى، وشفاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد، فهذا قال الله لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ قالوا: واللهِ ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم. فإن قلت (¬2): كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلتُ: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشًا، ألا تراهم يقولون: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا .. فإنا ظالمون، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. الإعراب {قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقله في البحر عن "الزمخشري" في الكشاف، ثم إنه قد وقع خلل طباعي في عزو الحواشي في هذه القطعة، وأصلحناه قدر الطاقة]

يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {قُلْ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {لِمَنْ}: {اللام} حرف جر. {من}: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف وجوبًا خبر مقدم لـ {مَا} الموصولة. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {في السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر لمحذوف تقديره: هو الله، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {كَتَبَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى نَفْسِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَتَبَ}. {الرَّحْمَةَ}: مفعول به لـ {كَتَبَ}، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب حال من الجلالة. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}: {اللام} موطئة للقسم. {يجمعن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والكاف: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول به. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيجمع، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. وقيل (¬1): موضعه نصب بدلًا من {الرَّحْمَةَ}. {لَا}: نافية تعمل عمل إن. {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل النصب حال من {يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول. {خَسِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَهُمْ}: الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط، {هم}: مبتدأ ثانٍ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ الثاني، ¬

_ (¬1) العكبري.

والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}. {وَلَهُ} الواو: استئنافية. {له}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة وفي (¬1) "السمين ": قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} جملة اسمية فيها قولان: أظهرهما: أنها مستأنفة إخبارًا بذلك، والثاني: أنها في محل النصب معطوفة على قوله: {لله}؛ أي: على الجملة المحكية بـ {قل}؛ أي: قل: هو لله، وقيل: له ما سكن. {سَكَنَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {في اللَّيْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {سَكَنَ}. {وَالنَّهَارِ}: معطوف على الليل، {وَهُوَ} مبتدأ. {السَّمِيعُ} خبر أول. {الْعَلِيمُ}: خبر ثانٍ، أو صفة لـ {السَّمِيعُ}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة. {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {أَغَيْرَ اللهِ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري حقها أن تدخل على اتخذ، ولكن (¬2) لما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليًّا، لا لاتخاذ الولي مطلقًا .. دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل، والمراد بالولي هنا: المعبود؛ أي: كيف اتخذ غير الله معبودًا. {غير الله}: مفعول أول ومضاف إليه. {أَتَّخِذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَلِيًّا}: مفعول ثانٍ له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. ويجوز (¬3) أن يكون اتخذ متعديًا إلى واحد، وهو: وليًّا، و {غير الله} صفة له قدمت عليه فصارت حالًا، ولا يجوز ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني. (¬3) العكبري.

أن تكون غير هنا استثناء. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ}: بدل من الجلالة ومضاف إليه، أو صفة له، وقد تعرف بالإضافة؛ لأنه بمعنى الماضي. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَهُوَ} مبتدأ. {يُطْعِمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في مجل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَا يُطْعَمُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يُطْعِمُ}. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي أُمِرْتُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت {إِنِّي}: حرف نصب، والياء اسمها. {أُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ} تقديره: إني مأمور بأن أكون، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قُل}. {أنْ أَكُونَ}: ناصب وفعل مضارع، واسمه ضمير يعود على محمد. {أَوَّلَ مَنْ}: خبر {أَكُونَ}، ومضاف إليه، وجملة {أَنْ أَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة تقديره: قل إني أمرت بكوني أول من أسلم. {أَسْلَمَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَلَا}: الواو: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور خبر {تَكُونَنَّ}، وجملة {تَكُونَنَّ} في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {أَنْ أَكُونَ}، والتقدير: إني مأمور بكوني أول من أسلم، وبعدم كوني من المشركين. وفي "الفتوحات": قوله: {وَلَا تَكُونَنَّ} معطوف على {أُمِرْتُ} بتقدير عامل؛ أي: وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، والمعني: إني أمرت بما ذكر، ونهيت عن الإشراك. اهـ شيخنا. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي

أَخَافُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت {إنّ}: حرف نصب، والياء اسمها. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنْ} وجملة {إِنْ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {إِنْ} حرف شرط. {عَصَيْتُ رَبِّي}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن عصيت ربي .. أخاف عذاب يوم عظيم، وجملة {إِنْ} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل الذي هو أخاف ومفعوله الذي هو عذاب يوم عظيم. {عَذَابَ} مفعول {أَخَافُ}، وهو مضاف. و {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {عَظِيمٍ}: صفة لـ {يَوْمٍ}. {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما {يُصْرَفْ}: فعل مضارع مجهول أو معلوم، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على العذاب، أو فاعله ضمير يعود على الله؛ أي: أيُّ شخص يصرف العذاب عنه، أو: أيَّ شخص يصرف الله العذاب عنه {عَنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُصْرَفْ}. وكذا الظرف في قوله: {يَوْمَئِذٍ} متعلق به. {فَقَدْ}: الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكونه مقرونًا بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {رَحِمَهُ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَذَلِكَ}: مبتدأ. {الْفَوْزُ}: خبره. {الْمُبِينُ}: صفة لـ {الْفَوْزُ}، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {من} الشرطية على كونها مستأنفة. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية. {إن}: حرف شرط. {يَمْسَسْكَ الله}: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {بِضُرٍّ}:

جار ومجرور متعلق به. {فَلَا}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل إن. {كَاشِفَ}: في محل النصب اسمها. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: فلا كاشف له موجود. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لا} تقديره: فلا كاشف له موجود هو إلا هو سبحانه وتعالى. وفي "الفتوحات": قوله: {إِلَّا هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من محل {لا كاشف}، فإن محله الرفع على الابتداء. والثاني: أنه بدل من الضمير المستكن في الخبر اهـ "كرخي". وجملة {لا} النافية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ}: الواو: عاطفة {يَمْسَسْكَ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِخَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق به. {فَهُوَ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية. {هو}: مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. وفي "الفتوحات" قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} جوابه محذوف تقديره: فلا راد له غيره كما في آية يونس: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}، وقوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لكل من الجوابين المذكور في الشرطية الأولى، والمحذوف في الثانية. اهـ. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}. {وَهُوَ الْقَاهِرُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {فَوْقَ عِبَادِهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف إما متعلق بـ {الْقَاهِرُ}، أو متعلق بمحذوف خبر ثانٍ لـ {وَهُوَ}، أو حال من الضمير في {الْقَاهِرُ}، والتقدير: وهو القاهر حالة كونه مستعليًا أو غالبًا فوق عباده {وَهُوَ الْحَكِيمُ}: مبتدأ وخبر أول {الْخَبِيرُ} خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {أَيُّ}: اسم استفهام مبتدأ مرفوع. و {شَيْءٍ}: مضاف إليه لـ {أَيُّ} {أَكْبَرُ}: خبر المبتدأ. {شَهَادَةً}: تمييز محول عن المبتدأ، والأصل: شهادة أي شيء أكبر، أو: أي شيء شهادته أكبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ شَهِيدٌ} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} مقول محكي لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: الله أكبر شهادة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلِ}. {شَهِيدٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو شهيد، والجملة في محل النصب مقول لي {قُلِ}. {بَيْنِي}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدٌ}. {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف على {بَيْنِي}. {وَأُوحِيَ}: الواو: عاطفة {أوحي}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {إِلَيَّ}: جار ومجرور متعلق به. {هَذَا الْقُرْآنُ}: نائب فاعل لـ {أوحي} وبدل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {لِأُنْذِرَكُمْ}: اللام: لام كي. {أنذركم} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنذر}. {وَمَنْ}: الواو: عاطفة. {من}: اسم موصول في محل النصب معطوف على الكاف في {أنذركم}. {بَلَغَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على القرآن، والعائد محذوف تقديره: ومن بلغه القرآن، وجملة {بَلَغَ} صلة {من} الموصولة، وجملة {أنذر} من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإنذاري إياكم به، والجار والمجرور متعلق بـ {أوحى}. وفي "الفتوحات" قوله: {وَمَنْ بَلَغَ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في محل نصب عطفًا على المنصوب في {لِأُنْذِرَكُمْ} وتكون {من} موصولة، والعائد عليها من صلتها محذوف؛ أي: ولأنذر الذي بلغه القرآن.

والثاني: أن في {بَلَغَ} ضميرًا مرفوعًا يعود على {من}، ويكون المفعول محذوفًا وهو منصوب المحل أيضًا عطفًا على مفعول {لِأُنْذِرَكُمْ}، والتقدير: ولأنذر الذي بلغ الحلم، والعائد هنا مستقر في الفعل. والثالث: أن {من} مرفوعة المحل عطفًا على الضمير المرفوع في {لِأُنْذِرَكُمْ}، وجاز ذلك؛ لأن الفصل بالمفعول، والجار والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن. اهـ "سمين". {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}. {أَئِنَّكُمْ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري كما سبق في بحث التفسير. {إنكم}: ناصب ومنصوب. {لَتَشْهَدُونَ}: اللام: لام الابتداء المؤكدة زحلقت إلى خبر {إن} {تشهدون}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} التقدير: أئنكم لشاهدون، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قل}. {أَنَّ}: حرف نصب. {مَعَ اللهِ}: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم لـ {أن}. {آلِهَةً}: اسم {أَنَّ} مؤخر عن الخبر. {أُخْرَى}: صفة لـ {آلِهَةً}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {لَتَشْهَدُونَ}؛ أي: لتشهدون كون آلهة أخرى مع الله. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لا أَشْهَدُ}: مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {أَشْهَدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قل}. {قُل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر. {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَهٌ}: خبره. {وَاحِدٌ}: صفة لـ {إله}، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَإِنَّنِي}: الواو: عاطفة. {إن}: حرف نصب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {بَرِيءٌ}: خبر {إن}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَرِيءٌ}. {تُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} المصدرية أو الموصولة، والعائد حينئذ

محذوف تقديره: مما تشركونه، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} على كونها مقولا لـ {قل}. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة الموصول. {يَعْرِفُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {كَمَا}: الكاف: حرف جر وتنبيه. {ما}: مصدرية. {يَعْرِفُونَ}: فعل وفاعل {أَبْنَاءَهُمُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كمعرفتهم أبناءهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: معرفة كائنة كمعرفتهم أبناءهم. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {فَهُمْ}: الفاء: رابطة الخبر لشبه المبتدأ بالشرط. {هم}: مبتدأ ثان. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}. {وَمَنْ} الواو: استئنافية. {من}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. {افْتَرَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {عَلَى اللهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {افْتَرَى}. {كَذِبًا}: مفعول {افْتَرَى}. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {كَذَّب}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة معطوفة على جملة {افْتَرَى}. {بِآيَاتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبَ}. {إِنَّهُ}: ناصب ومنصوب. {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} من اسمها وخبرها مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. {وَيَوْمَ}: الواو: استئنافية. {يوم}: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف جوازًا تقديره: واذكر لهم يا محمد قصة يوم نحشرهم. {نَحْشُرُهُمْ}: فعل ومفعول. {جَمِيعًا}: حال من ضمير {نَحْشُرُهُمْ}، أو توكيد له عند من يقول التأكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}؛ {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {نَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة نحشرهم. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَقُولُ}، {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: مقول محكي لـ {نقول}، وإن شئت قلت: {أَيْنَ}: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. {شُرَكَاؤُكُمُ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {نَقُولُ}. {لِلَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {شُرَكَاؤُكُمُ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {تَزْعُمُونَ}: فعل، وفاعله ومفعولاه محذوفان تقديرهما: تزعمونهم شركائكم، وجملة {تَزْعُمُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف من {تَزْعُمُونَ}. {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {لَمْ}: حرف جزم. {تَكُنْ}: فعل ناقص مجزوم بـ {لَمْ}. {فِتْنَتُهُمْ}: اسمها ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ قَالُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه اسمًا لـ {تَكُنْ} تقديره: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم وشركهم إلا قولهم: واللهِ ربنا، وجملة {لَمْ تَكُنْ} معطوفة على جملة قوله {ثم نقول}، {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: مقول محكي لـ {قالوا} وإن شئت قلت: {وَاللهِ}: الواو: حرف جر وقسم. {اللهِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نقسم والله، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قَالُوا}. {رَبِّنَا}: بدل من الجلالة أو عطف بيان منه. {مَا}: نافية. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {مُشْرِكِينَ}: خبر كان،

وجملة كان في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب القسم. {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. {انْظُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {كَذَبُوا} والعامل فيه {كَذَبُوا} وصاحب الحال الواو في {كَذَبُوا} أي: جاحدين كذبوا على أنفسهم {كَذَبُوا}: فعل وفاعل. {عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَبُوا}، وجملة {كَذَبُوا} في محل النصب على أنها مفعول لـ {انْظُرْ}، وكيف علقته عن العمل في لفظه. {وَضَلَّ}: فعل ماضٍ. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {مَا}: موصولة أو مصدرية في محل الرفع فاعل لـ {ضل}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يفترونه، أو صلة لما المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر على الفاعلية تقديره: وضل عنهم افتراؤهم، وجملة {ضل} معطوفة على جملة {كَذَبُوا}. وفي "الفتوحات": قوله: {وَضَلَّ} يجوز أن يكون نسقًا على كذبوا، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئناف إخبار، فلا يدخل في حيز المنظور إليه، وقوله: {مَا كَانُوا} يجوز في {مَا} أن تكون مصدرية؛ أي: وضل عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية، ويجوز أن تكون موصولة اسمية؛ أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه اهـ "سمين". التصريف ومفردات اللغة {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: يقال: كتب على نفسه يكتب من باب نصر؛ أي: أوجب إيجاب فضل وكرم، لا إيجاب لزوم، وقيل: كتب هنا بمعنى: وعد فضلًا وكرمًا، وقيل: بمعنى: سطر وخط؛ أي: أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: الرحمة: إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم، وقيل: الرحمة لمن آمن وصدق الرسل. {وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال السدي: سكن هنا من السكنى يقال: سكن في المكان يسكن من باب دخل سكنى إذا حل واستقر فيه، ولم يذكر الزمخشري

غيره، قال: وتعديه بفي كما في قوله: {وَسَكَنْتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم} وقيل: هو من السكون المقابل للحركة، وعلى هذا ففي المقام حذف؛ أي: وله ما سكن وتحرك، وحذف مقابله للاكتفاء كما في قوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد، واقتصر على ذكر السكون؛ لأن كل متحرك قد يسكن، ولأنه أكثر وجودًا. {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}: الولي: الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وفي "المصباح" (¬1): فطر الله الخلق فطرًا من باب قتل: خلقهم، والاسم: الفطرة اهـ. وفي "السمين": والفطر: الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال، ومنه: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: موجدهما على غير مثال يحتذى. وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنشأتها وابتدأتها، ويقال: فطرت كذا وفطر هو فطورًا، وانفطر انفطارًا، وفطرت الشاة: حلبتها بإصبعين، وفطرت العجين: خبزته من وقته. وفي "الكرخي": والفطير ضد الخمر، وهو العجين الذي لم يختمر، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير، ويقال: إياك والرأي الفطير، ويقال: عندي خبز خمير وخبز فطير. اهـ. وأصل الفطر: الشق، ومنه: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}، ويقال: فطر ناب البعير، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، وقوله: {يتفطرن منه}. {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}؛ أي: هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. {يُصْرَفْ عَنْهُ}: يبعد عنه، ويقال: صرف الله عنه الأذى من باب ضرب إذا أبعده ونجاه عنه. {فَقَدْ رَحِمَهُ}؛ أي: بإنجائه من الهول الأكبر. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ}: المس أعم من اللمس، وحقيقة المس تلاقي جسمين يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب إذا أصابه ونزل به، والضر: الألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. {فَلَا كَاشِفَ لَهُ} يقال: كشف التفسير إذا أزاله، وكشفَتْ عن ساقيها: ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أزالت ما يسترهما. والخير (¬1): ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة، والنفع: اللذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما، والشر: ما لا منفعة فيه ألبتة، أو ما كان ضره أكبر من نفعه، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} من القهر، والقهر: الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار؛ أي: فالقهر؛ إما أن يراد به الغلبة، أو التذليل، وما هنا من الأول، وكذا قوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ومن الثاني قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)}. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} وشهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان. {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: مأخوذ من الإنذار، والإنذار: التخويف، واكتفى به عن ذكر البشارة لمناسبته للمقام؛ أي: لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن، ووصل إليه من الأسود والأحمر، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة مما تشركون به؛ أي: من الأصنام. {آلِهَةً أُخْرَى} {أُخْرَى} صفة لآلهة، وصفه بالصفة المفردة. ولم يقل: آلهة أُخر بالجمع ليطابق الوصف موصوفه في الجمعية؛ لأن الآلهة مما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة كما سبق، ولما كانت الآلهة حجارةً وخشبًا .. أجريت هذا المجرى. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من آتى الرباعي فهو بمعنى: أعطى، فيتعدى إلى مفعولين. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ الجمهور بضم الشين من {نَحْشُرُهُمْ}، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع من بابي: ضرب وقتل. ¬

_ (¬1) المراغي.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}، وفي قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}، وفي قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} إذا قلنا كتب بمعنى: أوجب؛ لأنه استعار الكتابة بمعنى: الخط والتسطير للكتابة بمعنى: الإلزام والإيجاب بجامع الإثبات في كل. ومنها: الاكتفاء في قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ} إذا قلنا من السكون ضد التحرك، والاكتفاء: ذكر أحد متقابلين وحذف الآخر لعلمه من المذكور، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: المبالغة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ لأنه بمعنى: أهلكوا، فالخسران حقيقة في البيوع. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}؛ أي: لا ينبغي لي ولا يمكن مني أن أعبد غيره. ومنها: تجنيس (¬1) التشكيل في قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}، وضابطه: أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته: تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى. ومنها: الاعتراض في قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لاعتراض الجملة الشرطية بين الفعل ومفعوله اللذين هما: {أَخَافُ} و {عَذَابَ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ}، وقوله: {وَإِنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}. ومنها: الطباق في قوله: {بِضُرٍّ}. وفي قوله: {بِخَيْرٍ}. ومنها: التعليق بأمر مستحيل في قوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي}؛ لأن العصيان ممتنع في حقه - صلى الله عليه وسلم - لعصمته. وقال (¬1) أبو عبد الله الرازي: نظير هذه الآية قولك: إن كانت الخمسة زوجًا كانت منقسمة إلى متساويتين. ومنها: الحصر في قوله: {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}، وفيه الحذف أيضًا تقديره: فلا كاشف له عنك إلا هو. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ}. ومنها: الجناس المغاير والمماثل في قوله: {أَكْبَرُ شَهَادَةً}، وفي قوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ}، وفي قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ}، وفي قوله: {قُلْ لَا أَشْهَدُ}، وفيه أيضًا الجمع بين الأسئلة والأجوبة، والجناس المغاير في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ}، وفي قوله: {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ}. ومنها: الحصر في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا}. ومنها: القسم في قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. ومنها: الحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بين أحوال الكفار في الآخرة، وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله، وأخرى يعترفون بها، وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء .. ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدي معهم شيئًا؛ إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها في حكم المستحيل. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بيَّن في الآيات السابقة حال طائفة من المشركين تلقي السمع مصغية للقرآن، لكن لا يدخل القلب شيء مما تسمع؛ لما عليه من أكنة التقليد والاستنكار لكل شيء جديد، فهم يستمعون ولا يسمعون .. بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة، وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل، ويكونوا من المؤمنين حقًّا، ثم كذبهم فيما يقولون، وأنهم لو ردوا .. لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغًا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية الأهوال. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) ذكر في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء .. بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق، وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلًا بينها وبين الآخرة، وموازنًا بين حاليهما لدى المتقين والعاصين. قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ: وقالوا، نحو: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} إلى نحو ذلك، وتلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ: قل، نحو: {قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعد هذا الحجاج كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحزنه مما يقولون في نبوته، وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرًا منهم كذبوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...} الآية، سبب (¬1) نزولها: ما رواه أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حضر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، والحارث بن عامر، وأبو جهل في جمع كثير من قريش، واستمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة، ما يقول محمد، فقال: والذي جعلها - الكعبة - بيته ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك شفتيه، ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، يحدث قريشًا بما يستملحونه، قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقًّا، فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وقال: الموت أهون من هذا، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآيات. قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ...} الآية، سبب (¬2) نزولها: ما رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتباعد عما جاء به، وكان يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون أن يفعلوا السوء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو طالب شعرًا: وَاللهِ لَنْ يَصِلُوْا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِيْ التُّرَابِ دَفِيْنَا فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُوْنَا وَدَعَوْتَنِيْ وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِيْ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْنَا وَعَرَضْتَ دِيْنًا لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا ¬

_ (¬1) المراغي والبحر المحيط. (¬2) لباب النقول مع زيادة من البحر المحيط.

[25]

لَوْلا الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِيْ سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيْنَا وأخرج (¬1) ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال قال: نزلت في عمومة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر. قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ...} الآية، روى الترمذي والحاكم عن علي أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وإنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}. وروى ابن جرير عن السدي أن الأخنس بن شريق، وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل: واللهِ إن محمدًا لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ...} الآية، سبب (¬2) نزولها: ما رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الحارث بن عامر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قريش، فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ...}. التفسير وأوجه القراءة 25 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن أولئك الكافرين من أهل مكة {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}؛ أي: فريق يستمع إليك يا محمد إذا أنت تلوت القرآن داعيًا إلى توحيد الله مبشرًا ومنذرًا {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}؛ أي: والحال أنا قد جعلنا على قلوب هؤلاء المستمعين أغطية تمنعهم عن أن يفقهوه ويفهموه؛ أي: تحولهم دون فقهه وفهمه. {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}؛ أي: وقد جعلنا أيضًا في آذانهم وأسماعهم وقرًا؛ أي: ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) زاد المسير.

ثقلًا وصممًا يمنعهم عن سماعه، ويحولهم دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد، وذلك كما مرَّ في أسباب النزول: أنه اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبي ابنا خلف، والحارث بن عامر يستمعون القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة، ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك ويقول أساطير الأولين. وفي هذا (¬1) الكلام تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره، كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء، فلا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهمٍ وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصمم، فسمعها وعدمه سواء. بيان هذا: أن الله سبحانه وتعالى جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعًا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم ليميز الحق من الباطل، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره، ولا يراه جديرًا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدةٍ أو رأي ليختار أقربهما إلى الصحة، وأجدرهما بالصدق، وأكثرهما هداية ورشادًا، وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة في الدنيا والآخرة. وقال (¬2) ابن عطية: وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير، كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله. وقرأ الجمهور: {وَقْرًا} بفتح الواو وسكون القاف. وقرأ طلحة بن مصرف: {وقرًا} بكسر الواو وسكون القاف، كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقِّرت بالصمم، كما تُوقَّر الدابة من الحمل. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ}؛ أي: وإن يرى هؤلاء المشركون كل آية من الآيات، وعلامة من العلامات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك، كانشقاق القمر، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

ونبع الماء من بين أصابعك، وحنين الجذع، وتصيير الطعام القليل كثيرًا {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}؛ أي: لا يصدقوا بتلك الآيات أنها من الله تعالى، بل يقولون: إنها سحر ولا يفعلون بموجبها من الإيمان بك؛ إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها؛ لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ، فحظهم كحظ الصم من سماع أصوات البشر، وكلمة: {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ} ابتدائية بمعنى الفاء، وإن لم يقع بعدها مبتدأ؛ لأن حتى الابتدائية هي الداخلة على الجمل التي يبتدأ بها، وإن لم يقع بعدها مبتدأ في الظاهر. وقوله: {يُجَادِلُونَكَ} حال من الواو في {جَاءُوكَ}، وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} جواب إذا، وهو العامل فيها؛ أي: فإذا جاءك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة حال كونهم مجادلين ومنازعين ومنكرين لك في دعوتك إلى التوحيد .. قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: ما هذا الذي يقرؤه محمد ويتلوه إلا أكاذيب الأولين وخرافاتهم، فليست من عند الله تعالى. والمعنى (¬1): أنهم بلغوا من الكفر والعناد، أنهم إذا جاؤوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون: إن هذا إلا أساطير الأولين. وقال أبو (¬2) حيان: وحتى إذا وقعت بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء، ويحتمل أن تكون بمعنى: إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاءوك يجادلونك .. يقول الذين كفروا، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ أي: منعناهم من فهم القرآن وتدبره إلى أن يقولوا: إن هذا إلا أساطير الأولين في وقت مجيئهم مجادليك؛ لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين المعنيين يستخرج جميع ما في القرآن من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا} انتهى. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[26]

ذاك (¬1) أنهم لم يعقلوا مما في القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات، فلا علم فيها، ولا فائدة منها، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جميلة لا يستنبط منها علمًا، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيًا، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة - السينما - مفسرة بلغةٍ هو لا يعرفها، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت. فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها .. لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعبر ومواعظ ونذر تبيِّن سنن الله تعالى في خلقه مع الأقوام الذين كذبوا وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال، 26 - ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال، بل تعدوه إلى الإضلال، وساروا قدمًا، فقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ}؛ أي: وأولئك المشركون المعاندون للنبي - صلى الله عليه وسلم - الجاحدون لنبوته لا يقنعون بتكذيبهم له، وعده حديث خرافة، بل ينهون الناس عن استماعه؛ لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}؛ أي: ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارًا لاشمئزازهم ونفورهم منه، وتأكيدًا لنهيهم فيكونون ناهين منتهين، يعني: أن كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن الاجتماع به وينهونهم عن استماع القرآن، وكانوا هم كذلك، أو المعنى: ينهون عن التعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينأون عنه، فلا يؤمنون به كأبي طالب. ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم، فقال: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ}؛ أي: وما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} بإقبالها لأشد العذاب {وَمَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: وما يعلمون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يفعلون من الكفر والمعصية. والخلاصة (¬2): وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه، وهو عذاب الضلال والإضلال، وما يشعرون بذلك، بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب، فقد هلك جميع الذين أصروا على عداوته - صلى الله عليه وسلم - بعضهم في نِقمَ خاصة، وبعضهم في وقعة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[27]

بدر وغيرها من الغزوات، ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة، واللفظ يشملهما معًا. وقرأ (¬1) الحسن: {وينون} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون، وهو تسهيل قياسي. 27 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}؛ أي: ولو تبصر يا محمد أو أيها السامع ما يحل بهؤلاء الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك من الفزع والهول والشدة والندم على كفرهم، والحسرة على ما فرط منهم في جنب الله حين وقفوا وعرضوا على النار الأخروي؛ أي: حين تعرضهم ملائكة العذاب من أرض الموقف على النار .. لرأيت أمرًا عجيبًا، وموقفًا فظيعًا، فجواب لو محذوف كما قدرنا، و {تَرَى} بصرية تتعدى إلى مفعول واحد كما قدرنا أيضًا؛ أي: لو رأيت ما يحل بهم في تلك الحالة .. لرأيت ما لا يحيط به الوصف، ولا يقدر على التعبير عنه اللسان، ولا يبلغ تصويره البيان، ولو أؤتِيَ المتكلم بلاغة سحبان. ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ، فقال: {فَقَالُوا} معطوف على {وُقِفُوا}؛ أي: فيقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار {يَا لَيْتَنَا}؛ أي: يا قومنا نتمنى أن {نُرَدُّ} ونرجع إلى الدنيا حتى نتوب إلى الله، ونعمل صالحًا، {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته، وصدق رسله {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من المصدقين به وبرسله، ومن المتبعين لأمره ونهيه. والخلاصة: أنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم .. تمنوا الردَّ إلى الدنيا ليسعوا في إزالة ذلك التقصير، ويتركوا التكذيب بالآيات، ويعملوا صالح العمل، وتمني هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم أنه محال، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر؛ لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون. وقرأ (¬2) الجمهور: {وُقِفُوا} مبنيًّا للمفعول، ومعناه عند الجمهور: حبسوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[28]

على النار، ووقف في هذه القراءة متعد، ومصدره: الوقف، وقد سمع في المتعدي: أوقف، وهي لغة قليلة، وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي {وُقِفُوا} مبنيًّا للفاعل من وقف اللازم، ومصدره: الوقوف، والمعنى (¬1): على هذه القراءة؛ أي: ولو تراهم حين يكونون في جوف النار، وتكون النار محيطةً بهم ويكونون غائصين فيها مقدار عذابها .. لرأيت منظرًا هائلًا، وحالًا فظيعًا، وإنما صح على هذا التقدير أن يقال: وقفوا على النار؛ لأنها دركات وطبقات بعضها فوق بعض، فيصح هناك معنى الاستعلاء. وقرأ (¬2) الكسائي وابن كثير وأبو عمرو وشعبة وأهل المدينة برفع الأفعال الثلاثة: {نُرَدُّ}، {وَلَا نُكَذِّبَ} و {نكونُ}. والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني؛ أي: تمنوا الرد وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. وقرأ حفص وحمزة بنصب: {نُكَذِّبَ} {وَنَكُونَ} بإضمار: أن بعد الواو على جواب التمني. واختار سيبويه الأقطع في {وَلَا نُكَذِّبَ} ويكون غير داخل في التمني، والتقدير: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب؛ أي: لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال: وهو مثل دعني ولا أعود؛ أي: لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني، واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}؛ لأن الكذب لا يكون في التمني. وقرأ ابن عامر: {ونكونَ} بالنصب، وأدخل الفعلين الأولين في التمني. وقرأ أبي: {ولا نكذب بآيات ربنا أبدا}. وقرأ هو وابن مسعود: {ياليتنا نرد فلا نكذب} بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو. 28 - ثم بيَّن أن (¬3) هذا التمني لم يكن لتغيير حالهم، بل لأنه بدا لهم ما كان خفيًّا عنهم، فقال: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات، ونزل بهم عقابه، فتبرموا وتضجروا وتمنوا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

الخلاص منه بالرد إلى الدنيا، وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال؛ لأنه ينقذه من الآلام، لا لأنه محبوب في نفسه، ولا مرجو لذاته؛ بيان هذا: أنه إذا جاء ذلك اليوم الذي تبتلى فيه السرائر، وتنكشف فيه جميع الحقائق، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية في كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كما تتمثل الوقائع مصورة في آلة الصور المتحركة - فلم السينما - فكل أحد يظهر له في الآخرة ما كان خافيًا عليه من خير في نفسه وشر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}؛ أي: فهي لا تخفى على أنفسكم فضلًا عن خفائها على ربكم. والخلاصة: أنه تعالى بين لنا أن تمني أولئك الكفار لما تمنوا به، لا يدل على تبدل حقيقتهم، بل بدا لهم ما كان خافيًا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} فتمنوا الخروج مما حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغير، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال. وعبارة "الشوكاني" هنا: قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} هذا (¬1) إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق؛ أي: لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد، بل هو لسبب آخر: وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون؛ أي: يجحدون من الشرك، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة، وقيل: بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة، كما قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}، وقال المبرد: {وَبَدَا لَهُمْ} هو جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه، وهو مثل القول الأول، وقيل: المعنى: أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث ¬

_ (¬1) فتح القدير.

[29]

والقيامة. ثم بيَّن أنهم كاذبون في هذا الندم، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا حسبما تمنوا {لَعَادُوا}؛ أي: لرجعوا {لـ} فعل {ما نهوا عنه} من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي، فإن ذلك من أنفسهم ثابت فيها؛ لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا، ولا سوء ما رأوا، كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله تعالى ثم عاند {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، ولو شاهدوا ما شاهدوا؛ أي: لأن دينهم الكذب؛ لأن قضاء الله جرى عليهم في الأزل بالشرك، وقيل: المعنى: وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان؛ أي: لكاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله، فلو ردوا إلى الدنيا لرُد المعاند المستكبر منهم مشتملًا بكبره وعناده، والمنافق مرتدًا بمكره ونفاقه، والشهواني ملوثًا بشهواته القابضة على زمامه. وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم في الدنيا من الآيات والعبر، فهم يكابرون فيها أنفسهم، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم، ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء، فيظهران الندم على ما فرط منهما، ويتوبان ويعزمان على أن لا يعود إلى مثل ما عملا، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعًا لما اعتادا وألفا، وترجيحًا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة؟ وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش: {ولو ردوا} بكسر على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء؛ لأن الأصل: رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء. وجملة قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} معترضة (¬1) بين المعطوف وهو: {وَقَالُوا} وبين المعطوف عليه، وهو {لَعَادُوا}؛ أي: لعادوا إلى ما نهوا عنه. 29 - {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}؛ أي: ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت، وهذا من شدة تمردهم وعنادهم؛ حيث يقولون هذه المقالة ¬

_ (¬1) فتح القدير.

[30]

على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث، ويجوز أن تكون جملة {وَقَالُوا} مستأنفة؛ أي: وقال كفار مكة {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}؛ أي: ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد أن فارقنا هذه الحياة، وليس لنا بعد هذه الحياة ثواب ولا عقاب. 30 - {وَلَوْ تَرَى} وتبصر يا محمَّد {إِذْ وُقِفُوا} وحبسوا {عَلَى رَبِّهِمْ}؛ أي: عند ربهم لأجل السؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب .. لرأيت أمرًا فظيعًا، أو المعنى: وقفوا على جزاء ربهم؛ أي: على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين، وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخرة، والمعنى: ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة في الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، ويمسكونهم إلى أن يحكم الله فيهم بما يشاء .. لأفظعك أمرهم، واستبشعت منظرهم، ورأيت ما لا يحيط به وصف، وجعلهم موقوفين على ربهم؛ لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب إمتثالًا لأمر الله فيهم، كما قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} يكون أمرهم مقصورًا عليه تعالى، لا يتصرف فيهم غيره، كما قال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؛ أي: يقول لهم ربهم حينئذ: أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب لا باطل كما تزعمون، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. {قَالُوا} جوابًا للرب جل جلاله {بَلَى} هو حق لا يحوم حوله الباطل، أقسمنا لك {وَرَبِّنَا} وهذا إقرار مؤكد باليمين؛ لانجلاء الأمر غاية الانجلاء، وهم يطمعون في نفع ذلك الإقرار، وينكرون الإشراك فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ}؛ أي: يقول لهم الرب سبحانه وتعالى: إذا كان الأمر كما اعترفتم .. فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون. {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كفركم وجحدكم في الدنيا بالبعث بعد الموت الذي دأبتم عليه، واتخذتموه شعارًا لكم لا تتركونه. وعبَّر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة إلى أنهم يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به. 31 - {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}؛ أي: قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا

بما وعد الله به من البعث والقيامة ولقاء الله كلَّ ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان في الدنيا، كرضا الله وشكره حين النعمة والعزاء وقت المصيبة، ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير والثواب الجسيم، والرضوان الأكبر، والنعيم المقيم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب. وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية، ويفضي إلى الشرور والآثام، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة .. يجعل همَّ الكافرين محصورًا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية، كالجاه والرياسة والعلو في الأرض - ولو بالباطل - ومن كانوا كذلك .. كانوا شرًّا من الشياطين، يكيد بعضهم لبعض، ويفترس بعضهم بعضًا، لا يصدهم عن الشر إلا العجز، ولا تحكم بينهم إلا القوة. وشاهِدنا على ذلك أنَّ أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوضون صروح المدنية بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم، وبكل ما أوتوا من فن واختراع، ويهلكون الحرث والنسل، ويخربون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم عاطفة رحمة ولا رحمة، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر وما فيه من الحساب والجزاء .. لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن. {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}؛ أي: كذبوا بلقاء الله إلى أن جاءتهم الساعة والقيامة مباغتةً مفاجئةً لهم من غير شعور منهم لها، وقد ورد في الكتاب والسنة أنَّ الله تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة، فلا يعلم أحد متى يكون مجيئها، وفي أي وقت يكون حصولها. {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}؛ أي: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وأصروا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيتهم - وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة، ومقدمات القيامة - مفاجئةً لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها، ولا يعدون العدة لمجيئها .. قالوا: يا حسرتنا على تفريطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها؛ أي: أصروا على التكذيب حتى قالوا وقت مجيء الساعة لهم بغتةً: يا ندامتنا على تفريطنا وتقصيرنا في تحصيل الزاد للساعة في الدنيا، هذا أوانك فاحضري إلينا لنتعجب منك. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ}؛

[32]

أي: والحال أنهم يحملون {أَوْزَارَهُمْ} وذنوبهم وخطاياهم {عَلَى ظُهُورِهِمْ} وعواتقهم؛ أي: يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم، فلا تفارقهم ذنوبهم، وخص الظهر بالذكر؛ لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه غيره من الأعضاء، كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدم في قوله: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِم}؛ لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها، وفي ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورًا على الحسرة والندامة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمُّل الأوزار الثقال، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات. وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح، يحمله صاحبها يوم القيامة، والصالحة بصورة رجل حسن، يحمل صاحبها يوم القيامة. والخلاصة: أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم، وقد بيَّن الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون ويتكلمون بذلك المقال، فقال: {أَلَا}؛ أي: انتبهوا واعرفوا ما سأذكره لكم وهو قوله: {سَاءَ} وقبح {مَا يَزِرُونَ} ويحملون على ظهورهم يوم القيامة؛ أي: ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها وما أقبحها، والمخصوص بالذم ذنوبهم. 32 - {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار فيها أنه لا حياة غيرها {إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فهي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة، كعب الأطفال، وعمل له فائدة عاجلة سلبية؛ كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ومن ثمَّ قال بعض الحكماء: إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة للآلام، فلذة الطعام في إزالة ألم الجوع، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته، ولذة شرب الماء هي إزالة العطش، وهكذا، أو المعنى: وما الأشغال التي تشغلك في الحياة الدنيا عن خدمة الله وطاعته {إِلَّا لَعِبٌ}؛ أي: عمل لا فائدة ولا عاقبة له؛ كعب الأطفال {وَلَهْوٌ}؛ أي: عمل فائدته عاجلة لا آجلة، وليس المراد أن

مطلق الحياة لعب ولهو، بل ما قرب منها إلى الله .. فهو مزرعة للآخرة، فليست من أشغال الدنيا، وما أبعد منها عنه .. فهو حسرة وندامة، واللعب: هو كل ما يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو: صرفها عن الجد إلى الهزل، وقيل: المعنى أي: وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عما تنتفع به، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل. وفي الآية وجه آخر، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل قصير الأجل، لا ينبغي أن يغتر العاقل به، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدم إليه من أصناف اللعب، أو أن زمن الطفولة قصير، كله غفلة، أو كلهو المهموم في قصر مدته على كونه غير مقصود لذاته، والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}. واللام في قوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} لام (¬1) قسم؛ أي: وعزتي وجلالي للدار التي هي محل الحياة الأخرى، وهي الجنة - جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهله - {خَيْرٌ}، وأفضل {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ويجتنبون الكفر والمعاصي لخلو لذاتها من المضار والآلام، وسلامتها من التقضِّي والانصرام من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظَّ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو في كونه دفعًا لألم الهم والكدر. والخلاصة: أن نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا، كما قال الشاعر: لِلَّهِ أَيَّامُ نَجْدٍ وَالنَّعِيْمُ بِهَا ... قَدْ كَانَ دَارًا لَنَا أَكْرِمْ بِهِ دَارَا فالبدني منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته وفي دوامه وثباته، وفي كونه إيجابيًّا لا سلبيًّا، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، بخلاف نعيم الدنيا؛ لأن لذاتها يشوبها مكدرات، وسرورها يعقبه غم وحزن كما قال الشاعر: أشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ زَوَالا ¬

_ (¬1) الخازن.

[33]

والروحاني منه كلقاء الله ورضوانه وكمال معرفته، يجل عنه الوصف والتحديد، ولا شبيه له في نعيم الدنيا. وقرأ (¬1) ابن عامر وحده: {ولدار الآخرة} بالإضافة، فقيل: من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كمسجد الجامع، وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه؛ أي: ولدار الآخرة. وقراءة ابن عامر موافقة لمصحفه، فإنها رسمت في مصاحف الشاميين بلام واحدة، واختارها بعضهم لموافقتها لما أجمع عليه في يوسف: {وَلَدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ}، وفي مصاحف الناس بلامين. وقرأ باقي السبعة: {وللدار الآخرة} بتعريف الدار بأل ورفع الآخرة نعتًا لها. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: قل لهم: أتغفلون أيها المخاطبون المنكرون للبعث عن هذا المذكور، فلا تعقلون وتفهمون أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأنها فانية، والآخرة باقية، وأنتم ترون من يموت، ومن تنوبه النوائب وتفجعه الفواجع؟ ففي ذلك مزدجر عن الركون إليها، واستبعاد النفوس لها، ودليل على أن لها مدبِّرًا يلزم الخلق عبادته وعدم إشراك غيره معه في ذلك التدبير والنظام، وإخلاص العبادة والطاعة له. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (¬2): {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بالتاء، خطابًا لمن كان في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من منكري البعث كما فسرنا. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة؛ أي: أيغفل الذين يتقون، فلا يعقلون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار، فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم، فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك. 33 - وقوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له. والضمير في {إِنَّهُ} للشأن والحال، والجملة بعده مفسرة له، وما ذكره "الشوكاني" وغيره هنا من أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

{قَدْ} للتكثير غير ظاهر كما ذكره أبو حيان؛ لأن علمه تعالى لا يمكن فيه التكثير والزيادة. والظاهر أن يقال: إنها هنا للتحقيق والتوكيد، نظير قوله تعالى: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، وقوله الشاعر: وَقَدْ تُدْرِكُ الإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأَرْضِ سَبْعِيْنَ وَادِيَا أي: حقًّا علمنا يا محمد أنه ليحزنك ويهمك القول الذي يقولونه لك في الظاهر في طعنك وتكذيب نبوتك، ورد دعوتك إلى التوحيد، وتنفير العرب عنك من قولهم: إنك ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. قال ابن كثير (¬1): يقول تعالى مسليًّا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه: قد أحطنا علمًا بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم، كما جاء في قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وفي قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. قرأ (¬2) نافع: {ليُحزنك} بضم الياء وكسر الزاي من أحزن الرباعي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن الثلاثي. ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل، فقال: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}؛ أي: فلا تحزن لما يقولون فيك وفي دينك في الظاهر؛ لأنهم لا يكذبونك في السر، فإنهم قد علموا صدقك. {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآنية والإعجازية {يَجْحَدُونَ} ـها ويعاندونها، ويدفعونها بصدودهم عنها وتنفير الناس عنها بعد معرفة حقيقتها. وفي قوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} وضع الظاهر موضع المضمر. وقرأ علي ونافع والكسائي (¬3): {يكذبونك} بسكون الكاف من أكذب الرباعي؛ أي: لا يجدونك كاذبًا؛ لأنهم يعرفون صدقك وأمانتك. وقرأ باقي السبعة وابن عباس: {يُكَذِّبُونَكَ} بفتح الكاف وتشديد الذال من كذب المضعف؛ ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

أي: لا ينسبونك إلى الكذب بالاعتقاد واللسان. فقيل: هما بمعنى واحد نحو: كثر وأكثر، وقيل: بينهما فرق كما فسرنا. حكى الكسائي أن العرب تقول: كذَّبت الرجل إذا نسبت إليه الكذب، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه. والمعنى (¬1): أنهم يقولون في كل معجزة: إنها سحر، وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق، أو المعنى: أن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني؛ لأنك رسولي؛ كقول السيد لعبده وقد أهانه بعض الناس: أيها العبد، إنه ما أهانك، وإنما أهانني، والمقصود تعظيم الشأن لا نفي الإهانة عن العبد، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}. روى سفيان الثوري عن علي قال: قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وروي أن الحارث بن عامر من قريش قال: يا محمد، واللهِ ما كذبتنا قط، ولكنا إن اتبعناك .. نتخطف من أرضنا، فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. والخلاصة (¬2): أنهم لا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى افتراء الكذب، ولا يجدونه كاذبًا في خبر يخبر به؛ بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع، وإنما يدعون أن ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذبٌ غير مطابق للواقع، ولا يقتضي ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له، وذكر الرازي في نفي التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه: 1 - أنهم ما كانوا يكذبونه في السر، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية، ويجحدون القرآن والنبوة. 2 - أنهم لا يقولون له: إنك كذاب؛ لأنهم جربوه الدهر الطويل، فلم يكذب فيه قط، ولكن جحدوا صحة النبوة والرسالة، واعتقدوا أنه تخيل أنه نبي، وصدق ما تخيله فدعا إليه. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[34]

3 - أنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه .. كان تكذيبهم تكذيبًا لآيات الله المؤيدة له، أو تكذيبًا له سبحانه وتعالى، فكأن الله قال له: إن القوم ما كذبوك، ولكن كذبوني، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدِّق له بتأييده على حد: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}. 4 - أن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقًا، ويقولون في كل معجزة إنها سحر، فكأن الخلاصة أنهم لا يكذبونك على التعيين، ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل. 34 - ثم لفت وصرف نظر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يقتدي بالرسل قبله في الصبر على التكذيب، فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كذب الرسل الذين من قبلك - كنوح ومن بعده - قومهم، كما كذبك قومك {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا}؛ أي: فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بإهلاك قومهم فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا .. تظفر على أعدائك كما ظفروا، بل أنت أولى بالتزام الصبر؛ لأنك مبعوث إلى جميع العالمين. وقرأ (¬1) الجمهور: {وَأُوذُوا} بواو بعد الهمزة من آذى يؤذي رباعيًّا. وقرأ ابن عامر في رواية شاذة: {وأذوا} من غير واو بعد الهمزة، وهو من أذيت الرجل ثلاثيًّا لا من آذيت رباعيًّا. اهـ "سمين". وفي الآية تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد تسلية، وإرشاد إلى سننه تعالى في الرسل والأمم، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، وفي قوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}. وقد دلت التجارب على أن التأسي يهون المصاب، ويفيد شيئًا من السلوى، ومن هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة؛ لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له - صلى الله عليه وسلم - من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وفي الآية بشارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤكدة للتسلية بأن الله تعالى سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة، كما أنَّ فيها إيماءً إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر .. كان حقيقًا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر. والمعنى: أن (¬1) هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك، فاقتد بهم، ولا تحزن، واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا، حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، فإنا لا نخلف الميعاد، ولكل أجل كتاب {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}؛ أي: لا مغير ولا ناقض لحكمه وقضائه تعالى، وقد حكم الله سبحانه وتعالى بنصر الأنبياء في نحو قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}؛ أي: فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه، بل وعده كائن، وأنت منصور على المكذبين ظاهر عليهم، وقد كان ذلك فللَّه الحمد. والحاصل: أن كلمات الله لا يمكن أن يبدلها مبدل، فنصر الرسل حتم لا بد منه، والتبديل: جعل شيء بدلًا من شيء آخر، وتبديل الكلمات والأقوال نوعان: 1 - تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول، وكلمة مكان أخرى، ومن هذا قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}. 2 - تبديل مدلولها ومضمونها، كمنع نفاذ الوعد والوعيد، أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق، وهذا الأخير هو المراد هنا. ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}؛ أي: وعزتي وجلالي قد جاءك يا محمد من خبر المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[35]

في القرآن ما فيه كفاية وتأس لك بهم، كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم. فقد روي أن سورة الأنعام نزلت بين سورة الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل. وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك، كعاقبة المكذبين للرسل، فيرجعون إليك، ويدخلون في الدين الذي أنت تدعوهم إليه طوعًا أو كرهًا. وكما وعد الله رسله بالنصر .. وعد المؤمنين به في نحو قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)}، وفي قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فما بالنا نرى كثيرًا ممن يدَّعون الإيمان في هذا الزمان غير منصورين، فلا بد إذًا من أن يكونوا في إيمانهم غير صادقين، ولأهوائهم متبعين، ولسنته في أسباب جاهلين، فالله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرى الحق والعدل في حربه، لا الظالم الباغي من خلقه، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه، كما جاء في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. 35 - {وَإِنْ كَانَ} الشأن {كَبُرَ} وشق وعظم {عَلَيْكَ} يا محمد {إِعْرَاضُهُمْ} وإبائهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه. {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} وقدرت {أَنْ تَبْتَغِيَ} وتطلب {نَفَقًا} ومنفذًا وسربًا {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أن تتخذ منفذًا تنفذ به إلى جوف الأرض، والنفق: سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر. وقرأ نبيح الغنوي: {أن تبتغي نافقاء} والنافقاء ممدودًا: هو أحد مخارج جحر اليربوع. {أَوْ} تبتغي {سُلَّمًا} ومصعدًا ترتقي به {فِي السَّمَاءِ فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ومعجزة من جنس ما اقترحوه وطلبوه منك من تحت الأرض، أو من فوق السماء .. فأفعل ذلك، ولكنك لا تستطيع ذلك، فدع الحزن: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}.

والمعنى: وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم، فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقًا تطلبه في الأرض، فتذهب في أعماقها، أو سلمًا في جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك .. فأت بما يدخل تحت طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض، أو تنزيل كتاب تحمله من السماء، وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)} إلى قوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}؛ أي: وليس ذلك في قدرة البشر، وإن كان رسولًا فالرسل لا يقدرون على شيء مما يعجز عنه البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الخالق. وخلاصة ذلك: أنك لن تستطيع الإتيان بشيء من تلك الآيات، ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك؛ لعلمه أنه لن يكون سببًا لما تحبه من هدايتهم. والمقصود من هذا الكلام: أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر، وهذا دليل على مبالغة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء .. لفعل رجاءً لإيمانهم. ثم أكد عدم إيمانهم، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى {لَجَمَعَهُمْ}؛ أي: لجمع هؤلاء المكذبين لك {عَلَى الْهُدَى} جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك، ولله الحكمة البالغة؛ أي: ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه؛ إما بأن يجعل الإيمان ضروريًّا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت، وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار. {فَلَا تَكُونَنَّ} يا محمَّد {مِنَ الْجَاهِلِينَ}؛ أي: إذا عرفت سننه تعالى في خلق

الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله .. فلا تكونن من الجاهلين لسننه في ذلك، فتتمنى ما تراه حسنًا نافعًا، وإن كان حصوله ممتنعًا؛ لكونه مخالفًا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية. فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك، هو صنيع أهل الجهل، ولست منهم، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة، فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها .. لكان إيمانهم بها اضطرارًا، أو المعنى: ولا تجزع على إعراضهم عنك، ولا يشتد تحزنك على تكذيبهم بك، فإن فعلت ذلك .. فتقارب حالك من حال الجاهلين الذين لا صبر لهم. وخلاصة ذلك: لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شؤونه تعالى في خلقه. الإعراب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}. {وَمِنْهُمْ} الواو: استئنافية. {منهم}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة. {يَسْتَمِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، ووحد الضمير في الفعل حملًا على لفظ {مَنْ} وما جاء منه على لفظ الجمع فعلى معنى {مَنْ} نحو: {مَّن يَسْتَمِعُونَ} و {مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ}، والجملة صلة الموصول. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {وَجَعَلْنَا}: الواو: عاطفة. {جعلنا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية المذكورة قبلها، أو مستأنفة مسوقة للإخبار بما تضمنته من الختم على قلوبهم وسمعهم، وجعلنا بمعنى: صيرنا يتعدى إلى مفعولين. {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف مفعول ثانٍ لـ {جعلنا}. {أَكِنَّةً}: مفعول أول لـ {جعلنا}، والتقدير: وجعلنا أكنة مستقرة على قلوبهم. {أَنْ يَفْقَهُوهُ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المنصوب على كونه

مفعولًا لأجله تقديره: وجعلنا على قلوبهم أكنة كراهية فقههم إياه. {وَفِي آذَانِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على قوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {جعلنا}. {وَقْرًا}: معطوف على {أَكِنَّةً} على كونه مفعولًا أولًا لـ {جعلنا}، ولا يعد الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف فصلًا، والتقدير: وجعلنا وقرًا مستقرًا في آذانهم. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية. {إن}: حرف شرط. (يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية. {كُلَّ آيَةٍ}: مفعول به ومضاف إليه، ورأى بصرية تتعدى لمفعول واحد {لَا}: نافية. {يُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {بِهَا}: جار ومجرور متعلقان بالفعل {يُؤْمِنُوا} {حَتَّى}: ابتدائية تبتدأ بعدها الجمل، أو غائية لا عمل لها. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {يُجَادِلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل {جَاءُوكَ}. {يَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: مقول محكي لـ {يقول}، وإن شئت قلت: {إنْ} نافية لا عمل لها لانتقاض نفيها بـ {إلا}. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر واستثناء لا عمل لها. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. {وَهُمْ} الواو: حالية. {هم}: مبتدأ. {يَنهَوْنَ}: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: ينهون الناس. {عَنْهُ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من الفاعل

في قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. {وَيَنْأَوْنَ}: فعل وفاعل. {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَنْهَوْنَ}. {وَإِنْ يُهْلِكُونَ}: الواو: عاطفة على محذوف. {إن}: نافية لا عمل لها. {يُهْلِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: وهم ينهون عنه وينأون عنه؛ أي: عن الرسول، أو القرآن قاصدين تخلي الناس عن الرسول فيلهلكونه، وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم، ذكره أبو حيان. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {وَمَا يَشْعُرُونَ}: الواو: حالية. {ما}: نافية. {يَشْعُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يُهْلِكُونَ}. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَلَوْ} الواو: استئنافية. {لو} حرف شرط غير جازم. {تَرَى}: فعل مضارع، وهي بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب، ومفعول ترى محذوف تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا على النار، وجواب {لو} محذوف أيضًا تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا على النار .. لرأيت أمرًا عجيبًا، وشأنًا فظيعًا، وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، وعبر بـ {إذ} عما في المستقبل إشعارًا بتحقق وقوعه، والظرف متعلق بـ {ترى}. {وُقِفُوا}: فعل ونائب فاعل. {عَلَى النَّارِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {فَقَالُوا}: {الفاء}: عاطفة. {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وُقِفُوا}: {يَا لَيْتَنَا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا قومنا ليتنا، أو {يا}: حرف تنبيه، فلا حذف. {ليتنا}: {ليت}: حرف تمنٍ ونصب، ونا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {نُرَدُّ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير المتكلمين، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {ليت}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول {قالوا}. {وَلَا نُكَذِّبَ}: الواو: عاطفة. {لا}: نافية. {نُكَذِّبَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد الواو العاطفة، وفاعله ضمير المتكلمين.

{بِآيَاتِ رَبِّنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نكذب}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيَّد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: يا قومنا نتمنى ردنا إلى الدنيا، وعدم تكذيبنا بآيات ربنا. {وَنَكُونَ}: فعل مضارع ناقص معطوف على {نُكَذِّبَ} منصوب بأن مضمرة، واسمها ضمير المتكلمين. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور خبر {نكون}، والجملة معطوفة على جملة {نُكَذِبَ} على كونها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد تقديره: يا قومنا نتمنى ردنا إلى الدنيا، وعدم تكذيبنا بآيات ربنا، وكوننا من المؤمنين. هذا على قراءة النصب في الفعلين، وأما على قراءة رفعهما {وَلَا نُكَذِّبَ}: الواو: حالية، وجملة {نكذِّبُ} في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا، والجملة الإسمية في محل النصب حال من نائب فاعل {نُرَدُّ}، وجملة {نكون} في محل الرفع معطوفة على جملة {نكذِّبُ} على كونها خبر المبتدأ المحذوف، والجملة الإسمية في محل النصب حال من نائب فاعل {نُرَدُّ}، والتقدير: يا ليتنا نرد غير مكذبين، وكائنين من المؤمنين، فيكون تمني الرد مقيدًا بهاتين الحالتين، فيكون الفعلان داخلين في المتمنى، ويحتمل كون الرفع في الفعلين بالعطف على الفعل قبلهما، وهو {نُرَدُّ}، ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء: الرد إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين. {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب عما يدل عليه التمني من رغبتهم في الإيمان؛ أي: ليس الأمر كما يدل عليه تمنيهم من خلوص رغبتهم في الإيمان، بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل من الشرك؛ لأنهم قالوا أولًا: والله ربنا ما كنا مشركين. {بَدَا}: فعل ماضٍ. {لهَمُ}: جار ومجرور متعلق به. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل {بَدَا}، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها سابقًا بقولنا: ليس الأمر كما يدل عليه تمنيهم على كونها مستأنفة. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يُخْفُونَ}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {يُخْفُونَ} في محل النصب خبر {كان}،

وجملة {كان} من اسمها وخبرها صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يخفونه من قبل. {وَلَوْ رُدُّوا}: الواو: عاطفة. {لو}: حرف شرط. {رُدُّوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَعَادُوا}: اللام: رابطة لجواب {لو}. {عادوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عادوا}. {نُهُوا}: فعل ونائب فاعل. {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {عَنْهُ}. {وَإِنَّهُمْ}: الواو: استئنافية أو اعتراضية. {إنّ}: حرف نصب، والهاء في محل النصب اسمها. {لَكَاذِبُونَ}: اللام: حرف ابتداء زحلقت عن محلها. {كاذبون}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة، أو معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو {وَقَالُوا}، والمعطوف عليه الذي هو، قوله: {لَعَادُوا}. {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. {وَقَالُوا} الواو: استئنافية أو عاطفة. {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {لَعَادُوا} على كونها جوابًا لـ {لو}. {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنْ}: نافية. {هِىَ}: مبتدأ. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {حَيَاتُنَا}: خبر ومضاف إليه. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {حياتنا}، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قالوا}. {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: نافية حجازية تعمل عمل ليس. {نَحْنُ} في محل الرفع اسمها. {بِمَبْعُوثِينَ}: الباء: زائدة في خبر {ما}. {مبعوثين}: خبرها منصوب، وعلامة نصبه الياء المقدرة الممنوع ظهورها بالياء المجلوبة لأجل حرف جر زائد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا} على كونها مقولًا لـ {قالوا}. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ

بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}. {وَلَوْ} الواو: استئنافية. {لو}: حرف شرط. {تَرَى}: فعل مضارع، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد وهو محذوف تقديره: ولو ترى حالهم إذ وقفوا، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، وجواب {لو} محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة {لو} مع جوابها المحذوف مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {إذْ}: ظرف لما مضى من الزمان بحسب الأصل، ولكنها مضمنة هنا معنى الاستقبال في محل النصب على الظرفية، مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ {ترى}. {وُقِفُوا}: فعل ونائب فاعل. {عَلَى رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {وقفوا}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، أو حال من ربهم. وفي "الفتوحات": في (¬1) هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها استئنافية في جواب سؤال مقدر تقديره: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ قال: قال لهم: أليس هذا بالحق؟ والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحب الحال ربهم، كأنه قيل: وقفوا عليه قائلًا لهم أليس هذا بالحق؟ اهـ "سمين". {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. {ليس} هو: فعل ماض ناقص. {هَذَا} في محل الرفع اسمها. {بِالْحَقِّ} الباء: زائدة في خبر {ليس}. {الحق}: خبرها، وجملة {ليس} في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالوُا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {بَلَى وَرَبِّنَا} مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {بَلَى}: حرف جواب لإثبات النفي المفهوم من السؤال. {وَرَبِّنَا}: الواو: حرف جر وقسم. {ربنا}: مقسم به ومضاف إليه مجرور بواو القسم، الجار والمجرور ¬

_ (¬1) الفتوحات.

متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم وربنا، والجملة القسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَذُوقُوا}: الفاء: حرف موضوع للدلالة (¬1) على ترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا. {ذوقوا}: فعل وفاعل. {الْعَذَابَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {بِمَا} الباء: حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكفُرُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: فذوقوا العذاب بسبب كفركم في الدنيا، الجار والمجرور متعلق بـ {ذوقوا}، ويصح أن تكون {ما} موصولًا اسميًّا عائده محذوف تقديره: فذوقوا العذاب بسبب شرككم الذي كنتم تكفرون به في بعض المواقف بقولكم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَسِرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِلِقَاءِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {بَغْتَةً}: منصوب على الحالية من الساعة، ولكن على تأويله بالمشتق تقديره: مباغتة ومفاجئة لهم. وفي "الفتوحات" قوله: {بَغْتَةً} في نصبها أربعة أوجه: أحدها: أنها مصدر في موضع الحال من فاعل {جَاءَتْهُمُ}؛ أي: مباغتة، أو من مفعوله؛ أي: مبغوتين. ¬

_ (¬1) الجمل.

الثاني: أنها مصدر معنوي لـ {جَاءَتْهُمُ}؛ لأن معنى جاءتهم: بغتتهم بغتة، فهو كقولهم: أتيته ركضًا. الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف من لفظها؛ أي: تبغتهم بغتة. الرابع: بفعل من غير لفظها؛ أي: أتتهم بغتة انتهى. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حتى} الغائية تقديره: استمروا على التكذيب إلى قولهم: يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة وقت مجيئها إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {كذبوا}. {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}: مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء. {حسرتنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {عَلَى}: حرف جر. {مَا فَرَّطْنَا}: {مَا}: مصدرية. {فَرَّطْنَا}: فعل وفاعل. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرَّطْنَا}، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {على} تقديره: على تفريطنا فيها، الجار والمجرور متعلق بـ {حسرتنا}؛ لأنه في الأصل مصدر لفرَّط المضعف، والتفريط: التقصير مع القدرة على تركه. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. {وَهُمْ}: الواو: حالية. {هم}: مبتدأ. {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا}؛ أي: قالوا يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم. {عَلَى ظُهُورِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَحْمِلُونَ}. {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه. {سَاءَ}: فعل ماض من أفعال الذم. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل، وجملة {يَزِرُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ساء الذي يزرونه، أو ساء شيء يزرونه، ويصح أن تكون {مَا} مصدرية، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، وهي مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية تقديره؛ ألا ساء وزرهم، والمخصوص بالذم حملهم ذلك.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. {وَمَا} الواو: استئنافية. {ما}: نافية. {الْحَيَاةُ}: مبتدأ. {الدُّنْيَا}: صفة لها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لَعِبٌ}: خبر المبتدأ {وَلَهْوٌ}: معطوف عليه، والجملة مستأنفة. {وَلَلدَّارُ}: الواو: استئنافية. اللام: موطئة لقسم محذوف. {الدار}: مبتدأ. {الْآخِرَةُ}: صفة الدار؛ لأنه في الأصل صفة بمعنى المتأخرة. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {لِلَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}. {يَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، و {خَيْرٌ} أفعل التفضيل، وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبرًا، والتقدير: خير من الحياة الدنيا. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: الهمزة، للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: أتغفلون عن خيرية الدار الآخرة من الدنيا، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {لا}: نافية. {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، والمحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {نَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {إِنَّهُ}: {إنّ} حرف نصب وتوكيد، وكسرت همزتها لدخول اللام المعلقة لنعلم عن العمل في خبرها قال ابن مالك: وَكَسَرُوْا مِنْ بَعْدِ فِعْلٍ عُلِّقَا ... بِاللَّامِ كَاعْلَمْ إِنَهُ لَذُوْ تُقَى والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها. {لَيَحْزُنُكَ}: {اللام}: حرف ابتداء زحلقت للخبر؛ لئلا يتوالى حرفا تأكيد. {يحزنك}: فعل ومفعول. {الَّذِي}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} من اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي {نَعْلَمُ}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يقولونه. {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. {فَإِنَّهُمْ} الفاء: تعليلية. {إنّ}: حرف نصب، والهاء: اسمها {لَا}:

نافية. {يُكَذِّبُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل محذوف معلوم من السياق تقديره: لا تحزن لتكذيبهم إياك في الظاهر؛ لأنهم لا يكذبونك في السر. {وَلَكِنَّ}: الواو: عاطفة. {لكن}: حرف نصب واستدراك. {الظَّالِمِينَ}: اسمها منصوب بالياء. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يجحدون}، وجملة {يَجْحَدُونَ} في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {إن}. {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}. {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية. اللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كُذِّبَتْ رُسُلٌ}: فعل ونائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كذبت}، ولا يجوز أن يكون صفة لـ {رُسُلٌ}؛ لأنه زمان، والجثة لا توصف بالزمان ذكره أبو البقاء، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {فَصَبَرُوا}: الفاء: عاطفة. {صبروا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {كُذِّبَتْ} على كونها جواب قسم لا محل لها من الإعراب. {عَلَى}: حرف جر. {مَا}: مصدرية. {كُذِّبُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {على}، والجار والمجرور متعلق بـ {صبروا}، والتقدير: فصبروا على تكذيب الكافرين إياهم. {وَأُوذُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ}؛ أي: كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {صبروا}؛ أي: فصبروا إلى إتيان نصرنا إياهم. {وَلَا مُبَدِّلَ}: الواو: استئنافية. {لا}: نافية. {مُبَدِّلَ}: في محل النصب اسمها. {لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُبَدِّلَ}، وخبر {لا} محذوف تقديره: ولا مبدل لكلمات الله موجود، وجملة {لا} مستأنفة. {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية،

واللام موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {جَاءَكَ}: فعل ومفعول. {مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاء}، وفاعل {جاء} محذوف تقديره: ولقد جاءك من نبأ المرسلين ما فيه كفاية، كما سبق في مبحث التفسير، ويحتمل كون الفاعل من نبأ المرسلين على جعل {مِن} زائدة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ}. {وَإِنْ}: الواو: استئنافية. {إن}: حرف شرط. {كاَنَ}: فعل ماضٍ، شأنية في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، واسمها ضمير الشأن. {كَبُرَ}: فعل ماض، {عَلَيْكَ}: متعلق به. {إِعْرَاضُهُمْ}: فاعل، ومضاف إليه وجملة {كَبُرَ} في محل النصب خبر {كاَنَ} مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن، ولا حاجة إلى تقدير: قد، وقيل: اسم كان {إِعْرَاضُهُمْ}، و {كَبُرَ} جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لـ {كان} مقدم على اسمها؛ لأنها فعل رافع لضمير مستتر كما هو المشهور. اهـ "أبو السعود"، والإتيان بلفظ {كاَنَ} مع استقامة المعنى بدونها ليبقى الشرط على مضيه، ولا تقلبه إن للاستقبال؛ لأن {كَانَ} لقوة دلالتها على المضي لا تقلبها كلمة {إن} إلى الاستقبال بخلاف سائر الأفعال. اهـ "كرخي". {فَإِنِ}: الفاء: رابطة الجواب جوازًا. {إن}: حرف شرط. {اسْتَطَعْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الثانية محذوف تقديره: فافعل ذلك، وجملة {إن} الثانية مع جوابها المحذوف جواب لـ {إن} الأولى وجملة {إن} الأولى مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {أَنْ تَبْتَغِيَ}: {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَبْتَغِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على محمد {نَفَقًا}: مفعول به. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صفة لـ {نَفَقًا}، أو متعلق بـ {تَبْتَغِيَ}، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فإن استطعت ابتغاء نفق في الأرض أو سلم في السماء. {أَوْ سُلَّمًا}: معطوف على نفقًا. {فِي السَّمَاءِ}: صفة لـ {سُلَّمًا}، أو متعلق بـ {تَبْتَغِيَ}.

{فَتَأتِيَهُمْ بِآيَةٍ}: الفاء: عاطفة {تأتي}: فعل مضارع معطوف على {تَبْتَغِيَ} والهاء: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِآيَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {تأتي}. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. {وَلَوْ}: الواو: استئنافية. {لو}: حرف شرط. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو}، {لَجَمَعَهُمْ}: اللام رابطة لجواب {لو}. {جمعهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. {عَلَى الْهُدَى}: جار ومجرور متعلق بـ {جمع}. {فَلَا تَكُونَنَّ}: الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سننه تعالى في خلق الإنسان، وأنه لا تبديل لخلق الله، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك {لا تكونن} {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ {لا} مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير مستتر فيها تقديره: أنت يعود على محمد {مِنَ الْجَاهِلِينَ}: جار ومجرور، وخبر {تَكُونَنَّ}، وجملة {تَكُونَنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} جمع كنان، كأزمة جمع زمام، وأعنة جمع عنان، وفي "المصباح": كننته أكنه من باب ردَّ سترته في كنه بالكسر، وهو: السترة، وأكننته: أخفيته. وقال أبو زيد: الثلاثي والرباعي لغتان في الستر، وفي الإخفاء جميعًا واكتن الشيء واستكن: استتر، والكنان: الغطاء وزنًا، ومعنى، والجمع: أكنة مثل: أغطية انتهى. وقال بعضهم: الكنُّ بالكسر ما يحفظ فيه الشيء، وبالفتح: المصدر، يقال: كننته كنًّا؛ أي: جعلته في كن، ويجمع على أكنان، قال تعالى: {مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}، والكنان: الغطاء الساتر والوعاء الجامع قال الشاعر:

إِذَا مَا انْتَضَوْهَا في الْوَغَى مِنْ أَكِنَّةٍ ... حَسِبْتَ بُرُوْقَ الْغَيْثِ هَاجَتْ غُيُوْمُهَا والفعل من هذه المادة يستعمل ثلاثيًّا ورباعيًّا يقال: كننت الشيء كنًّا وأكننته إكنانًا إلا أن الراغب فرَّق بين فعل وأفعل، فقال: وخصَّ كننت بما يستر من بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} وأكننت بما يستر في النفس قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} قلت: ويشهد لما قاله قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)}، وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}، وكنا يجمع على أكنة في القلة والكثرة لتضعيفه اهـ "سمين". {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} في "المصباح": الوقر بالكسر: حمل البغل والحمار، ويستعمل في البعير، وأوقر بعيره بالألف، وقرت الأذن توقر من باب تعب ووقرت تقر من باب وعد: ثقل سمعها، ووقرها الله وقرًا من باب وعد، يستعمل لازمًا ومتعديًا، والوقار: الحمل والرزانة، وهو مصدر وقر بالضم مثل: جمل جمالًا، ويقال أيضًا: وقر يقر من باب وعد فهو وقور مثل رسول، والمرأة وقور أيضًا فعول بمعنى فاعل، مثل صبور وشكور، والوقار: العظمة أيضًا والوقر بالفتح الثقل في السمع. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} والآية: العلامة الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وفي "المختار": والأساطير: الأباطيل، والواحد: أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر انتهى. وفي "السمين": وأساطير فيه أقوال: أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختلف في ذلك المقدر فقيل: أسطورة، وقيل: أسطور، وقيل: أسطار، وقيل: أسطير، وقال بعضهم: بل لُفظ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمع جمع، فأساطير جمع: أسطار، وأسطار جمع: سطر بفتح الطاء، وأما سطر بسكونها فجمعه في القلة على أسطر، وفي الكثرة على سطور، كفلس وأفلس وفلوس، وبقية الأقوال ليس بشيء، فلا نطيل الكلام بذكرها، فراجعها في "الفتوحات".

ومعنى الأساطير: الأحاديث الباطلة والخرافات والترهات. {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أصله: ينهيون، استثقلت الضمة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان وهما: الياء والواو، ثم حذفت الياء فصار: ينهون. {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وفي "المصباح": نأى نأيًا من باب سعى يتعدى بنفسه وبالحرف، وهو الأكثر، فيقال: نأيته ونأيت عنه، ويتعدى بالهمزة إلى الثاني فيقال: أنأيته عنه انتهى. والنأي عنه يشمل الإعراض عن سماعه، والإعراض عن هدايته، وأصله: ينأيون كينهيون فعل به ما فيه فعل آنفًا. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} ووقف يتعدى، ولا يتعدى، وفرقت العرب بينهما بالمصدر، فمصدر اللازم على فعول، ومصدر المتعدي على فعل، ولا يقال: أوقفت، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في شيء من كلام العرب: أوقفت فلانًا إلا أني لو رأيت رجلًا واقفًا فقلت له: ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنًا، وإنما كان حسنًا؛ لأن تعدي الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحك وأضحكته أنا، ولكن سمع غيره في وقف المتعدي أوقفته اهـ "سمين". ويقال: وقف الرجل على الأرض وقوفًا إذا قام، ووقف المال على كذا وقفًا إذا حبسه عليه، وجعل منفعته له، كوقف العقار على الفقراء. {إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}: والساعة في اللغة: الزمن القصير المعين، ثم أطلق على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة، ويخرب العالم وما يتبع ذلك من البعث والحساب، سُمي بذلك لسرعة الحساب فيه، كأنه ساعة، والألف واللام في الساعة للغلبة كالنجم والثريا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة. والبغتة: الفجأة، يقال: بغته بغتة إذا هجم عليه من غير شعور، والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ له، وجعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به، ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه: بغتة. {يَا حَسْرَتَنَا} والحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، وشدة التلهف والتألم عليه، كأن المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكب.

{عَلَى مَا فَرَّطْنَا} التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله، والتقصير ممن قدر على الجد والتشمير من الفرط، وهو السبق، ومنه الفارط والفرط، وهو الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} جمع وزر بكسر أوله كحمل وأحمال وعدل وأعدال، والوزر في الأصل: الحمل الثقيل، ومنه وزره بزنة وعده: حمله على ظهره ووزرته حملته شيئًا ثقيلًا ووزير الملك من هذا؛ لأنه يتحمل أعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته وحشمه، ومنه: أوزار الحرب لسلاحها وآلها، ثم أطلق في الدين على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل الظهر. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} واللعب: الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدًا صحيحًا من تحصيل منفعة، أو دفع مضرة، كأفعال الصبيان التي يتلذذون بها، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وقد يسمى كل ما به استمتاع لهوًا، ويقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوًا وتلهيت به إذا تشاغلت وغفلت به عن غيره. {لَيَحْزُنُكَ} الحزن: ألم يحل بالنفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه، ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسي كما قالت الخنساء: وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِيْنَ حَوْلِيْ ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِيْ وَمَا يَبْكُوْنَ مِثْلَ أَخِيْ وَلَكِنْ ... أُسَلِّيْ النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّيْ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يقال: كذبه إذا رماه بالكذب والجحود، والجحد: نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه، ويقال: جحده حقه وبحقه. {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} وكلمات الله هي وعده ووعيده، ومن ذلك وعده للرسل بالنصر، ووعيده لأعدائهم بالغلب والخذلان، كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. {مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} النبأ: الخبر ذو الشأن العظيم يجمع على: أنباء كسبب وأسباب. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} يقال: كبر على فلان الأمر إذا عظم عنده وشق

عليه وقعه، والإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارًا له. {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} استطاع من باب استغفل السداسي كاستعان واستقام يقال: استطعت الشيء إذا صار في طوعك منقادًا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله. {أَنْ تَبْتَغِيَ} ابتغى من باب افتعل الخماسي، والابتغاء: طلب ما في طلبه كلفة ومشقة من البغي، وهو تجاوز الحد، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله تعالى، وهو غاية الكمال، وفي الشر كابتغاء الفتنة، وهو غاية الضلال. {نَفَقًا} والنفق: السرب في الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج، وفي "السمين" النفق: السرب النافذ في الأرض، وأصله في حجرة اليربوع، ومنه: النافقاء والقاصعاء انتهى. {أَوْ سُلَّمًا} والسلم: المصعد والمرقاة، وقيل: الدرج، وقيل: السبب تقول العرب: اتخذني سلمًا لحاجتك؛ أي: سببًا، وهو مشتق من السلامة؛ لأنه هو الذي يسلمك إلى مصعدك وتذكيره أفصح من تأنيثه. {بِآيَةٍ} الآية: المعجزة {مِنَ الْجَاهِلِينَ} جمع: جاهل من الجهل، والجهل هنا ضد العلم، وليس كل جهل عيبًا؛ لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علمًا، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه، ثم بجهل ما ينبغي له، ويعدله كمالًا إذا لم يكن معذورًا في جهله. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية أو التمثيلية في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}؛ لأن الظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة؛ بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعها. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لتسجيل الكفر عليهم، وفي قوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} لتسجيل الظلم عليهم.

ومنها: الالتفات في قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ}؛ لأن فيه التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة، فإن قوله: {جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: جناس التصريف في قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وهو (¬1) أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف، {فينهون} انفردت بالهاء، {وينأون} انفردت بالهمزة، ومنه: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} و {يفرحون} و {يمرحون}، "والخيل معقود في نواصيها الخير"، وفي كتاب "التحبير" سماه تجنيس التحريف، وهو أن يكون الحرف فرقًا بين الكلمتين، وأنشد عليه قوله: إِنْ لَمْ أَشِنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً ... لَهَّابَ مَالٍ أَوَ ذَهَّابَ نُفُوْسِ وذكر غيره أن تجنيس التحريف هو أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، كقول بعض العرب وقد مات له ولد: اللهم إني مسلم ومسلم. ومنها: إبراز الآتي بصورة الماضي في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} إشعارًا بتحقق الوقوع. ومنها: الإتيان بضمير مبهم يفسره خبره في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}؛ إذ لا يعلم ما يراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها لفظًا ورتبة اهـ "سمين". ومنها: تأكيد الجواب بالقسم في قوله: {بَلَى وَرَبِّنَا}؛ أكدوا اعترافهم باليمين إظهارًا لكمال يقينهم بحقيته، وإيذانًا بصدور ذلك عنهم للرغبة والنشاط .. ومنها: التهكم في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}؛ لأنه شبه من استعاض الكفر عن الإيمان بمن خسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله. ومنها: الإضافة للتفخيم والتعظيم لشأن المضاف في قوله: {بِلِقَاءِ اللَّهِ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أي: جزائه تعظيمًا لشأن الجزاء، وهو نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقى الله وهو عليه غضبان"؛ أي: لقي جزاءه. ومنها: تعريف العهد في قوله: {إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} بدون تقدم ذكر لها لشهرتها واستقرارها في النفوس. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَا حَسْرَتَنَا} تنزيلًا لها منزلة العاقل؛ لأنه لا ينادى حقيقة إلا العاقل. ومنها: تصدير الجملة الحالية بالضمير في قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}؛ لأنه أبلغ في النسبة؛ إذ صار صاحب الحال مذكورًا مرتين من حيث المعنى. ومنها: الاستعارة في قوله: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ}؛ لأنه شبه ما يجدونه من المشقة والآلام بسبب ذنوبهم يحمل الوزر الثقيل؛ أي: الحمل الثقيل. ومنها: الجناس المغاير بين قوله: {أَوْزَارَهُمْ}، وقوله: {يَزِرُونَ}. ومنها: الطباق في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، وقوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ}. ومنها: القصر في مواضع كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وقوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}، وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، وقوله: {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}؛ إذ قبله بآيات الله، فلو جاء على طبق ذلك لقيل: حتى أتاهم نصره. وفائدة هذا الالتفات: إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المشعر بالعظمة. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}؛ حيث أكدت الصيغة بإن وباللام وباسمية الجملة، للتنبيه على أن الكذب كان طبيعتهم. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} حيث جعل الدنيا نفس اللعب واللهو مبالغة، كقول الخنساء:

فَإِنَّمَا هِي إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ومنها: التفخيم والتكثير بتنوين رسل في قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ}. ومنها: تصدير الجملة بالقسم لتأكيد التسلية في قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ}؛ لأن عموم البلوى مما يهون أمرها بعض تهوين. ومنها: الحذف في عدة مواضع. فائدة: قال الإِمام فخر الدين الرازي: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يقتضي (¬1) له جوابًا، وقد حذف تفخيمًا للأمر وتعظيمًا للشأن، وأشباهه كثير في القرآن والشعر، وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك لو قلت لغلامك: واللهِ لئن قمت إليك، وسكت عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر، وعظم خوفه؛ لأنه لم يدر أيَّ الأقسام تبغي، ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك، فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئًا غير الضرب، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرًا في حصول الخوف. وقال (¬2) أبو حيان: وجواب {لو} محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره: لرأيت أمرًا شنيعًا وهولًا عظيمًا، وحذف جواب {لو} لدلالة الكلام عليه جائز، فيصح، ومنه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية، وقول الشاعر: وَجَدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُوْلُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا أي: لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) التفسير الكبير للرازي. (¬2) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ .....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما بين في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إلجاءً بالآيات التي تقسرهم على ذلك، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين في الاستعداد، مختارين في تصرفاتهم وأعمالهم، ومنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى .. ذكر هنا أن ¬

_ (¬1) المراغي.

الأولين هم الذين ينظرون في الآيات، ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين فيما سلف أنه قادر على أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها، ولا ينزلها للتشهي والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الظالمين المكذبين .. ذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير في الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته، فلو كان في إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين .. لفعلها، ولامتنع أن يبخل بها، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شيء من الحيوان بمنافعها ومصالحها. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بيَّن فيما سلف للمشركين أن علمه محيط بحسب في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان مشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميِّز به بين ما ينفعها ويضرها .. أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يوجه إليهم هذا السؤال، مذكرًا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عزَّ اسمه، ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد .. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان، وما وضعوا رمزًا له من ملك أو إنسان. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ...} الآية، مناسبة (¬2) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما هددهم في الآيات السالفة بإتيان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

[36]

العذاب أو الساعة .. هددهم هنا بأخذ سمعهم وأبصارهم، والختم على قلوبهم، ولما كان هذا التهديد أخف من التهديد السابق .. لم يؤكد هنا بحرف الخطاب، واكتفى بخطاب الضمير فقال: {أَرَأَيْتُمْ} بلا كاف، ولما كان السابق أعظم من هذا .. أكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقال: {أَرَأَيْتَكُمْ}، وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى، وأنه المتصرف في العالم، الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئًا. التفسير وأوجه القراءة 36 - {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - دعوته إلى الإيمان والتوحيد {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}؛ أي: المؤمنون الذين يسمعون كلام الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سماع تفهم وتدبر، فيعقلون الآيات، ويذعنون لما عرفوا بها من الحق، لسلامة فطرتهم، وصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم دون الذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، كالمقلدين الذين لا يفكرون في الأشياء بعقولهم، ودون الذين قالوا: سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين، فهؤلاء من موتى القلوب، وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون، لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة، وفي آذانهم من الوقر. {وَالْمَوْتَى}؛ أي: الكفار الذين هم كموتى الأجساد الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاءً، ولا يفقهون قولًا؛ إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله تعالى، ولا يعتبرون بآياته، ولا يتذكرون فينزجرون عن تكذيب رسل الله {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}؛ أي: يترك أمرهم في الدنيا إلى أن يبعثهم الله تعالى من قبورهم مع سائر الناس {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}؛ أي: ثم إلى موقف حسابه يرجعون، ويحشرون إليه للمجازاة، فحينئذ يسمعون فينالون ما يستحقون على كفرهم وسيىء أعمالهم، وأما قبل ذلك .. فلا يسمعون فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد. وفي "الفتوحات" قوله: {وَالْمَوْتَى} إلخ مقابل لقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} إلخ كأنه قال: والذين لا يستجيبون ولا يسمعون يبعثهم الله اهـ "خازن".

[37]

وقرىء (¬1): {ثُمَّ إِلَيْهِ يَرجعون} بفتح الياء وكسر الجيم من رجع اللازم. 37 - ثم ذكر شيئًا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم، فقاِل: {وَقَالُوا}؛ أي: وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم، ويعاندون رسوله إليهم، يعني: من رؤساء مكة، كالحارث بن عامر وأصحابه، وأبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، وأمية، وأبي بن خلف، والنضر بن الحارث. {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: هلا أنزل على محمد آية ومعجزة من ربه دالة على نبوته من الآيات التي اقترحناها عليه، وجعلناها شرطًا لإيماننا به، كجعل الصفا ذهبًا، وتوسيع أرض مكة، وتفجير الأنهار خلالها، أو من المعجزات التي أعطيها الأنبياء من قبله، كفلق البحر وإظلال الجبل، وإحياء الموتى، وإنزال الملائكة، وقلب العصا حية. {قُلْ} لهم يا محمَّد {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}؛ أي: على تنزيل آية مما اقترحوا؛ أي: على أن يوجد خوارق للعادة كما طلبوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها، فقد مضت سنة الله تعالى بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببًا للهداية في أمة من الأمم، بل كانت سببًا في عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال، وتنزيل الآية لا يكون خيرًا لهم، بل هو شر لهم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} شيئًا من حكم الله تعالى في أفعاله، ولا من سننه في خلقه؛ أي: لا يدرون (¬2) أن في تنزيلها قلعًا لأساس التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار، وأن الله تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة، فلم يؤمنوا عند ظهورها .. لاستحقوا عذاب الاستئصال، ولم يبق لهم عذر ولا علة، كما هو سنة الله، فاقتضت رحمة الله بهم صونهم عن هذا البلاء، فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم، وإن لم يعلموا كيفية هذه الرحمة. والخلاصة: أن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول، لا أنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه، يرشد إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[38]

ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)}. 38 - وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} كلام (¬1) مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره؛ ليكون كالدليل على أنه قادر على تنزيل الآية، وإنما لم ينزلها محافظة على الحكم البالغة؛ أي: وما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض {وَلَا} من {طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} في أي ناحية من نواحي الأرض {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}؛ أي: إلا جماعات أمثالكم، خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم، داخلة تحت علمه وتدبيره وتقديره وإحاطته بكل شيء. قال (¬2) العلماء: ما خلق الله عَزَّ وَجَلَّ في الأرض لا يخرج عن هاتين الحالتين؛ إما أن يدب على الأرض أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير؛ لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء، وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء، وإن كان ما في السماء مخلوقًا له؛ لأن الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد، وإنما ذكر الجناح في قوله: {بِجَنَاحَيْهِ} للتوكيد كقولك: كتبت بيدي، ونظرت بعيني. {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال مجاهد؛ أي: إلا أصناف مصنفه تعرف بأسمائها، يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم، كما يقال: الإنس والناس، ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم .. لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فإن قلت: ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا، وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا، فما وجه هذه المماثلة؟. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الخازن.

قلتُ: اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة، فقيل: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبحه وتصلي له، كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلون له، وقيل: إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عَزَّ وَجَلَّ، وقيل: إنها يفهم بعضها عن بعض، ويألف بعضها بعضًا، كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضًا ويفهم بعضهم عن بعض، وقيل: أمثالكم في طلب الرزق، وتوقي المهالك، ومعرفة الذكر والأنثى، وقيل: أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب، حتى يقتص للجماء من القرناء، وقال سفيان بن عيينة؛ أي: ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائنًا ما كان. وعبارة "المراغي" هنا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إلخ؛ أي: لا يوجد (¬1) نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض، ولا نوع من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس، وقد أثبت الإحصائيون الباحثون في طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها، أن النمل مثلًا يغزو بعضه بعضًا، وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخره في حمل قوته وبناء قراه إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه. وخص دواب الأرض بالذكر؛ لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا بوجودها في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها، فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمريخ فيه ماء ونبات، فلا بد أن يكون أنواع من الحيوان، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان، منها ما يرى على سطحه بالمرقب - التلسكوب - من جداول منظمة، وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك. ¬

_ (¬1) المراغي.

وهذه (¬1) الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث في طباع الأحياء لنزداد علمًا بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته فيها إيمانًا وحكمة وكمالًا وعلمًا، ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا بما فضلهم الله به على الحيوان، فكانوا أضلَّ من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه. {مَا فَرَّطْنَا}؛ أي: ما تركنا وما أهملنا {فِي الْكِتَابِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ من الشيطان، ومن تغيير شيء منه {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيئًا من الكائنات، ما كان منها وما سيكون بحسب السنن الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى أثبت فيه جميع الحوادث، وهو خلق من عالم الغيب، وقيل: المراد بالكتاب هنا: علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتًا لا ينسى. قال الحافظ ابن كثير: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: الجميع علمهم عند الله تعالى لا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه، سواء كان بريًّا أو بحريًّا، كقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}؛ أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها، وحاصر لحركاتها وسكناتها. انتهى. وقيل: هو القرآن؛ أي: ما تركنا شيئًا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه، فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه، وحكمها، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للإنسان. {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: ما تركنا في القرآن شيئًا من الأشياء المهمة من أمور الدين؛ إما (¬2) تفصيلًا، أو إجمالًا، ومثله قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل حكم سنه الرسول لأمته فقد ذكره الله سبحانه وتعالى في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

كتابه العزيز بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، وبقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؛ أي (¬1): إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام، فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر، وإن القرآن دلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة. كان ذلك في الحقيقة موجودًا في القرآن. روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه، فقرأت امرأة جميع القرآن، فأتته فقالت: يا ابن أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وإن مما أتانا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله الواشمة والمستوشمة". وذُكر أن الشافعي كان جالسًا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور، فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا من كتاب الله، فقال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقال عمر رضي الله عنه للمحرم الذي قتل الزنبور: لا شيء عليك. وروي أن أبا العسيف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقضِ بيننا بكتاب الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عين كتاب الله؛ لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب. {ثُمَّ} بعد انقضاء مدة الدنيا {إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}؛ أي: إلى موقف حسابهم يجمعون؛ أي: يبعث الخلائق والأمم المذكورة من الإنس والدواب والطيور، ويساقون إلى موقف حسابهم حالة كونهم محشورين ومجموعين في صعيد واحد للمجازاة، وفيه ¬

_ (¬1) المراح.

[39]

دلالة على أن البهائم تحشر كما يحشر بنو آدم. وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء منهم: أبو ذر، وأبو هريرة، والحسن وغيرهم، وذهب ابن عباس إلى أن حشرها: موتها، وبه قال الضحاك. والأول أرجح لهذه الآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه "يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولقول الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} قال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى بعد توفير القصاص عليها يجعلها ترابًا، وعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة وصححه. وقرأ (¬1) ابن أبي عبلة {وَلَا طَائِرٌ} بالرفع عطفًا على موضع {دَابَّةٍ}، وقرأ الأعرج وعلقمة: {مَا فَرَّطْنَا} بتخفيف الراء، والمعنى واحد. 39 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة الدالة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحودٍ واستكبارٍ، أو تكذيب جحود على تقليد الأباء {صُمٌّ} آذانهم، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول {بكم}؛ أي: خرس ألسنتهم، لا ينطقون بما عرفوا من الحق تائهون {فِي الظُّلُمَاتِ}؛ أي: في ظلمات الكفر والجهل والحيرة، لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم، وهم يتخبطون في تلك الظلمات الحالكة: ظلمة الوثنية، وظلمة تقليد الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية. والمعنى: هم كائنون في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات، وضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار؛ لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال. ثم بين سبحانه وتعالى أن الأمر بيده، ما شاء يفعل، فقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: من تعلقت مشيئته تعالى بإضلاله {يُضْلِلْهُ} عن طريق الهدى، كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى، وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه في البشر أن يُعرِض المستكبر عن دعوة من يراه دونه - وإن ظهر له أنه الحق - وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[40]

بطلانها وإثبات خلافها ما دام مغرورًا بها مكبرًا لمن جرى من الإباء عليها، والمعنى: ومن يشاء الله إضلاله .. يخلق الله الضلال فيه ويمته على الكفر، فيضل يوم القيامة عن طريق الجنة، وعن وجدان الثواب. {وَمَنْ يَشَأْ} هدايته {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه؛ بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله استعمالًا يعرف به الحق، ويعرف به الخير، ويعمل به بحسب سننه تعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية. والمعنى: ومن يشأ أن يجعله على طريق يرضاه وهو الإِسلام .. يجعله عليه، ويهده إليه، ويمته عليه، فلا يضل من مشى إليه، ولا يزل من ثبت قدمه عليه، 40 - والاستفهام في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} استفهام (¬1) تعجيب، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب. وقال الكرماني (¬2): {أَرَأَيْتَكُمْ} كلمة استفهام وتعجب، وليس لها نظير؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين العادلين بالله الأوثان والأصنام على سبيل التخويف والتوبيخ: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} في الدنيا كالذي نزل بمن قبلكم من الأمم الذين كذبوا بالرسل، فقد هلك بعضهم بريح عاتية، وبعض آخر بالصاعقة، أو بمياه الطوفان المغرقة {أَوْ أَتَتْكُمُ} وجاءتكم {السَّاعَةُ} والقيامة بأهوالها وخزيها ونكالها، وبعثتم لموقف الحساب {أَغَيْرَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى في هذه الأحوال {تَدْعُونَ} وتستغيثون لكشف ما نزل بكم من النبلاء، أم إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، فأخبروني: أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين؟. والخلاصة: قل (¬3) يا أكرم الخلق لكفار مكة: يا أهل مكة، أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا؛ كالغرق أو الخسف أو المسخ أو نحو ذلك، أو أتاكم العذاب عند قيام الساعة، أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء، أو ترجعون ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[41]

فيه إلى الله تعالى إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة، فأجيبوا سؤالي؟ أو المعنى: إن كنتم قومًا صادقين .. فأخبروني أإلهًا غير الله تدعون إلخ. 41 - ثم أجاب عن ذلك بقوله: {بَلْ إِيَّاهُ} سبحانه وتعالى {تَدْعُونَ} وتستغيثون {فَيَكْشِفُ} ويزيل {مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}؛ أي: إنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فيكشف التفسير الذي من أجله دعوتم بمحض مشيئته {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}؛ أي: وتتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع. أي: ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والأندادَ إن أتاكم عذاب الله، أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيء غير الله من وثن أو صنم إذا اشتد بكم الهول، بل تدعونه وحده، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون دون كل شيء غيره، فيفرج عنكم ويزيل البلاء عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه إن شاء ذلك؛ لأنه وحده القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء دون ما تدعونه إلهًا من صنم أو وثن؛ لأن الفزع إليه تعالى عند الشدائد مما ركز في فطرة البشر، تنبعث إليه بذاتها، كما تنبعث إلى الماء عند العطش، فلا يذهب به ما يتلقَّى بالتعليم الباطل من مسائل الدين، فهم به يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذونه من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم، كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويحبونهم كحب الله، وما منشأ ذلك التقديس إلا اعتقاد القدرة على النفع والضر من غير طريق الأسباب المعروفة، لكنهم عند الشدائد وتراكم الأهوال والكروب ينسونهم، ويدعون الله وحده، ولهذا الحب والتعظيم ثلاث درجات: 1 - أعرقها في الجهل: أن يعتقد المرء في شيء من المخلوقات أنه إله ينفع ويضر بذاته، فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه. 2 - المرتبة الوسطى: أن يعتقد أن الإله قد حل في بعض المخلوقات واتحد بها، كما تحل الروح في البدن وتدبره، فيكونان شيئًا واحدًا. 3 - أضعف درجاته: أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء القادر على كل شيء المتصرف في كل شيء، ولكن له وسطاء بينه وبين عباده يقربونهم

[42]

إليه زلفى، ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطي ويمنع، ويضر ينفع، وهذه هي الدرجة التي كان عليها مشركو قريش، فقد حكى الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. والتوحيد الخالص هو: الإيمان بأن الله يفعل ما يشاء، ويختار، وأن جميع الخلائق مسخرون لإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئًا إلا في دائرة الأسباب التي شرعها لعباده، وأن الوساطة بينه وبين عباده محصورة في تبليغ الرسول رسالته إليهم دون تصرفه فيهم، وأن شفاعة الآخرة لله وحده، يأذن بها إن شاء لمن شاء ممن ارتضى، يرشد إلى ذلك قوله تعالى لخاتم رسله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، وقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وقوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}. وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن تلك الوساطة الشركية تنسى عند اشتداد الكروب والأهوال فقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)}، وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}. 42 - ثم بين سبحانه وتعالى أن من سننه أخذ عباده بالشدائد لعلهم يرعوون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا رسلًا إلى أمم كثيرة كائنة في زمان قبل زمانك، فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا، فلم يستجيبوا لهم وخالفوهم. {فَأَخَذْنَاهُمْ} أخذ ابتلاء واختبار، وعاقبناهم {بِالْبَأْسَاءِ}؛ أي: بشدة الفقر والخوف من بعضهم {وَالضَّرَّاءِ}؛ أي: بالأمراض والأوجاع {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}؛ أي: لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتذلل، ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم؛ أي: ليكون ذلك مفيدًا لهم لأن سنتنا قد جرت بأنهم في مثل هذه الحال يتضرعون ويجأرون بالدعاء إلى ربهم، فالشدائد تربي النفوس وتهذب الأخلاق، فترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم، فأخلق بها أن ترجع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر، بل من دونهم من الأصنام والأوثان. ولكن كثيرًا من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيرها بأس، ولا يحولها بؤس، فلا تجدي معهم

[43]

العبر والمواعظ، ولا تؤثر فيهم صروف الدهر وغيره، ومنهم أولئك الأمم الذين أرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، 43 - ومن ثَمَّ قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} إلى آخر ما سيأتي. وفي هذه الآية تسلية للرسول (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، وأن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا .. لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافًا، وأشد شكيمةً، وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ خاطبهم تعالى بقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} الآية، وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى. وكلمة {لولا} في قوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وإزعاج؛ أي: فهلا تضرعوا وتذللوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وعذابنا؛ أي: حين جاءتهم مقدمات العذاب وبوادره، وحذروا عواقبه وأواخره لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم. {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم وخذلانهم، فكانت الحجارة أو أشد قسوة، فلم تؤثر فيهم النذر. وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراك وقع بين الضدين؛ أي: فلم يتضرعوا إليه تعالى برقة القلب والخضوع، ولكن ظهر منهم نقيضه، حيث قست قلوبهم؛ أي: استمرت على ما هي عليه من القساوة، أو ازدادت قساوة اهـ "أبو السعود". فهذا من أحسن مواقع الاستدراك اهـ شيخنا. انتهت. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي؛ أي: فلم يؤمنوا حين جاءهم بأسنا وعذابنا ووسوس إليهم بأن يثبتوا على ما كان عليه أباؤهم، ولا ينقادوا إلى رجال منهم ضعاف الأحلام، سفهاء العقول، لا ميزة لهم عليهم بعقل راجح ولا فكر ثاقب، وقال لهم: إن حال الدنيا هكذا تكون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[44]

شدة ثم نعمة، فلم يخطروا ببالهم أن ما أصابهم من الشدائد، ما أصابهم إلا لأجل عملهم الفاسد. 44 - ثم ذكر ما حل بهم من الوبال والنكال بعد أن ابتلاهم بالحسنات، فقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: فلما (¬1) أعرضوا عما أنذرهم به رسلهم، وتركوا الاهتداء به، وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، وأصروا على كفرهم وعنادهم، وجمدوا على تقليد من قبلهم .. بلوناهم بالحسنات، و {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: بسطنا عليهم أنواع الرزق، ورخاء العيش وصحة الأجسام، والأمن على الأنفس والأرواح استدراجًا لهم، فلم تربِّهم تلك النعم، ولا شكروا الله على ما أنعم، بل أفادتهم النعمة بطرًا وكبرًا، كما أفادتهم الشدائد عتوًا وقسوة. والمعنى (¬2): فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس .. استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات. والخلاصة (¬3): أنه تعالى سلط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا، فلما لم تجد معهم شيئًا .. نقلهم إلى حال هي ضدها، ففتح عليهم أبواب الخيرات، وسهل لهم سبل الرزق والرخاء، فلم ينتفعوا أيضًا. وما مثل هذا إلا مثل الأب المشفق على ولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى طلبًا لصلاحه واستقامة حاله، وإرجاعًا له عن غيه وطغيانه. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا}؛ أي: حتى إذا اطمأنوا بما فتح لهم من الخيرات، وظنوا أن الذي أوتوا إنما هو باستحقاقهم، ولم يزدهم ذلك إلا بطرًا وغرورًا بأن ظنوا أن الذي نزل بهم من الشدائد ليس على سبيل الانتقام من الله {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}؛ أي: أنزلنا بهم عذابنا فجأة ليكون لهم أشد وقعًا وأكثر تحسرًا؛ أي: أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كونهم مبغوتين، إذ فاجأهم على غرة من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[45]

غير سبق أمارات ولا إمهال للاستعداد أو للهرب {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}؛ أي: آيسون من النجاة، متحزنون غاية الحزن، منقطع رجاؤهم من كل خير. وفي الآية إيماء إلى أن البأساء والضراء وما يقابلها من السراء والنعماء مما يتهذَّب به من وفقهم الله للهداية، وألهمهم الرشاد والاختبار أكبر شاهد على صدق هذه القضية، فالشدائد مصلحة للفساد، مهذِّبة للنفوس، والمؤمن أجدر الناس بالاستفادة من الحوادث. روى مسلم عن صهيب مرفوعًا: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". وروى أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب .. فإنما هو استدراج" ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية. 45 - {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: استؤصل آخر القوم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكهم بالكلية حتى لم يبق منه أحد؛ أي: فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك، وأعمالهم الخبيثة بالكلية أصلًا وفرعًا بسبب ظلمهم بإقامة المعاصي مقام الطاعات. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: والثناء الكامل، والشكر التام لله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر، وتحقيق ما وعدهم به من إهلاك المشركين وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة، نعمةٌ جليلة مستحقة للحمد. قال الصاوي: هذا حمد من الله لنفسه على هلاك الكفار ونصر الرسل، وفيه تعليم المؤمنين أنهم يشكرون الله على ذلك إذ هو نعمة عظيمة انتهى. والخلاصة: أن في الضراء والسراء للمتقين عبرة ونعمة ظاهرة أو باطنة. وقرأ (¬1) ابن عامر: {فتَّحنا} بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل. وقرأ عكرمة: {فقَطع دابر} بفتح القاف والطاء والراء؛ أي: فقطع الله، وهو التفات إذ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[46]

فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب. وفي هذه الجملة إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وإيماء إلى وجوب ذكره في عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل، كما قال تعالى في وصف عباده المتقين: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. 46 - {قُلْ} يا محمد لكفار مكة {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}؛ أي: أخبروني إن أزال الله سمعكم وأبصاركم، فأصمكم وأعماكم، وطبع على قلوبكم، وأزال عقولكم حتى لا تعرفوا شيئًا، يعني: أذهب عنكم هذه الأعضاء أصلًا {مَنْ إِلَهٌ}؛ أي: أيُّ فرد من الآلهة الثابتة بزعمكم {غَيْرُ اللَّهِ} تعالى {يَأْتِيكُمْ بِهِ}؛ أي: بما أخذ عنكم من هذه الأعضاء ويردها لكم، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: ليس لكم إله يردها لكم، وإنما أفرد السمع وجمع ما بعده؛ لأن السمع مصدر لا يثنى ولا يجمع، بخلاف ما بعده. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت به من التوحيد والهدى: أخبروني ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم مع الله، وترجون شفاعتهم إن أصمكم الله تعالى، فذهب بسمعكم وأعماكم، فذهب بأبصاركم وختم على قلوبكم، وطبع عليها فأصبحتم لا تسمعون قولًا، ولا تبصرون طريقًا، ولا تعقلون نفعًا ولا ضرًّا، ولا تدركون حقًّا ولا باطلًا؛ {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} بما ذكر مما أخذه الله منكم؛ أي: لا إله غيره يقدر على إتيانكم بما سلب، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك، وإذا كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون، فلماذا تدعونهم؟ وما الدعاء إلا عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله القادر. {انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ نُصَرِّفُ} لهم ونكرر عليهم {الْآيَاتِ} الدالة على وحدانيتنا، ونتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ونجعلها على وجوه شتى متغيرة من نوع إلى نوع آخر، فتارة بترتيب المقدمات العقلية، وتارة بطريق الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ليعتبروا ويتذكروا، فينيبوا ويرجعوا إلى ربهم، فكل واحد يقوي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب {ثُمَّ هُمْ}؛ أي: كفار مكة بعد تصريف الآيات

[47]

وتكريرها عليهم {يَصْدِفُونَ} ويعرضون عن تلك الآيات، ويتجنبون عن التأمل والتفكر فيها، ويلقونها وراء ظهورهم، و {ثُمَّ} لاستبعاد إعراضهم عنها بعد ذكرها على الوجوه المختلفة، والغرض من هذه الجملة: تعجيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة. وروى أبو قرة إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع (¬1): {به انظر} بضم الهاء، وهي قراءة الأعرج. وقرأ الجمهور بكسر هاء {بِهِ} في {بِهِ انْظُرْ}. وقرأ بعض القراء: {كيف نصرف} من صرف الثلاثي. 47 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {أَرَأَيْتَكُمْ}؛ أي: أخبروني يا أهل مكة عن شأنكم {إِنْ أَتَاكُمْ} وجاءكم {عَذَابُ اللَّهِ} الذي مضت سنة الله في الأولين بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين {بَغْتَةً} وفجأة؛ أي: مباغتًا ومفاجئًا لكم، فأخذكم على غرة لم تتقدمه أمارات تشعركم بقرب نزوله بكم {أَوْ جَهْرَةً}؛ أي: أو أتاكم مجاهرًا ومعاينًا لكم وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه بحيث ترون مبادئه ومقدماته بأبصاركم {هَلْ يُهْلَكُ} حينئذ {إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}؛ أي: هل يهلك الله به إلا القوم الظالمين منكم، الذين أصروا على الشرك والعناد والجحود، إذ قد مضت سنته تعالى في مثل هذا العذاب أن ينجي منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين. والاستفهام هنا إنكاري. والخلاصة: أنه لا يهلك بهذا العذاب غيركم لظلمكم أنفسكم وجنايتكم عليها بما اخترتم لها من الشرك والفجور، وعبادة من لا يستحق العبادة، وترك عبادة من هو بها حقيق وجدير. فإن قلت: إن المصيبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح، فلِمَ خص الكافر هنا بالهلاك؟ قلتُ: الجواب: إن هلاك الكفار سخط وغضب، وهلاك المؤمن إثابة ورفع درجات، فلا يسمى في الحقيقة هلاكًا. وقرأ ابن محيصن (¬2): {هل يهلك} مبنيًّا للفاعل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) البحر المحيط.

[48]

48 - ثم بين وظيفة الرسل، فقال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا} حالة كونهم {مُبَشِّرِينَ} من آمن بهم بالجنة {وَمُنْذِرِينَ} من كفر بالعذاب، ولا قدرة لهم على إظهار المعجزات، بل ذلك مفوض إلى مشيئة الله تعالى؛ أي: وما نرسل المرسلين إلا ببشارة أهل الطاعة بالفوز بالجنة جزاء وفاقًا على طاعتهم، وبإنذار من أصر على الشرك والإفساد في الأرض بالعذاب؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حييَّ عن بينة. {فَمَنْ آمَنَ} وصدق من أرسلناه إليه من رسلنا {وَأَصْلَحَ}؛ أي: أصلح اعتقاده وعمله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب الدنيا الذي ينزل بالمكذبين الجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده الله تعالى للكافرين {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم من كل فزع وهول، كما قال سبحانه: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}، وكذلك هم لا يحزنون في الدنيا كحزن المشركين في شدته وطول مدته، فإذا عرض لهم الحزن بسبب صحيح؛ لموت ولد أو قريب، أو فقد مال أو قلة نصير، يكون حزنهم مقرونًا بالصبر وحسن الأسوة، فلا يضرهم في أنفسهم ولا في أبدانهم، ولا يغير شيئًا من أخلاقهم وعاداتهم، فالإيمان يعصمهم من عنت البأساء وبطر النعماء، مسترشدين بنحو قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)}. 49 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} التي أرسلنا بها رسلنا، ويبلغونها إلى الأمم {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ}؛ أي: يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانًا عند الجحود والعناد، وفي الآخرة على سبيل الدوام والاطراد {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}؛ أي: بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعتنا جزاء كفرهم وإفسادهم وخروجهم عن أمر الله وطاعته، وارتكابهم مناهيه ومحارمه، وهذه الجملة مقابل لقوله: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} فكأنه قال: ومن لم يؤمن يمسهم العذاب.

وقرأ علقمة (¬1): {نمسهم العذاب} بالنون المضمومة من أمس الرباعي، وأدغم الأعمش: {العذاب بما} كأبي عمرو. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: {يفسقون} بكسر السين. الإعراب {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. {إِنَّمَا} أداة حصر. {يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَسْمَعُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَالْمَوْتَى}: مبتدأ {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} على كونها مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُرْجَعُونَ}. {يُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} على كونها خبر المبتدأ. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب تركتها خوف الإطالة. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)}. {وَقَالُوا} الواو: استئنافية. {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {لَوْلَا}: حرف تحضيض. {نُزِّلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {آيَةٌ}: نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ {آيَةٌ}، أو متعلق بـ {نُزِّلَ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{اللَّهَ}: اسمها. {قَادِرٌ}: خبرها، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {عَلَى} حرف جر. {أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره: على تنزيله آية، الجار والمجرور متعلق بـ {قَادِرٌ}. {وَلَكِنَّ} الواو: استئنافية. {لكن}: حرف نصب واستدراك. {أَكْثَرَهُمْ}: اسمها ومضاف إليه. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} مستأنفة. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}. {وَمَا} الواو: استئنافية. ما: نافية. {مِنْ}: زائدة. {دَابَّةٍ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة دخول {مِنْ} الاستغراقية عليه، أو وصفه بما بعده. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صفة لـ {دَابَّةٍ}. {وَلَا طَائِر}: معطوف على {دَابَّةٍ} تابع للفظه، وقرىء بالرفع تبعًا لمحله. {يَطِيرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {طَائِرٍ}، والجملة صلة له. {بِجَنَاحَيْهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَطِيرُ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أُمَمٌ}: خبر المبتدأ. {أَمْثَالُكُمْ}: صفة لـ {أُمَمٌ}، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}. {مَا}: نافية. {فَرَّطْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {فِي الْكِتَابِ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرَّطْنَا}. {مِنْ}: زائدة. {شَيْءٍ}: مفعول {فَرَّطْنَا} على تضمينه معنى ما أغفلنا، وما تركنا في الكتاب شيئًا يحتاج إليه من دلائل الإلهية؛ لأن فرطنا لا يتعدى إلا بواسطة حرف الجر إذا كان على معناه الأصلي، كما ذكره أبو حيان في "البحر". {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {إِلَى رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُحْشَرُونَ}. {يُحْشَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مَا فَرَّطْنَا}. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ}. {وَالَّذِينَ} الواو: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق

بـ {كَذَّبُوا}. {صُمٌّ}: خبر المبتدأ. {وَبُكْمٌ}: معطوف عليه، والجملة الإسمية مستأنفة. {فِي الظُّلُمَاتِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ثانٍ للمبتدأ تقديره: ضالون في الظلمات، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم كائنون في الظلمات. {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَشَإِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: إضلاله. {يُضْلِلْهُ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {من} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {وَمَن} الواو: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَشَأْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: هدايته. {يَجْعَلْهُ}: فعل ومفعول أول مجزوم بـ {من} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَى صِرَاطٍ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني. {مُسْتَقِيمٍ}: صفة لـ {صِرَاطٍ}، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَرَأَيْتَكُمْ} إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَرَأَيْتَكُمْ} الهمزة للاستفهام التعجبي. {رأيت}: فعل وفاعل، وحد الفعل رأى، والتاء ضمير المخاطبين في محل الرفع فاعل مبني على الفتح، والكاف: حرف قال على خطاب الجماعة مبني على الضم، والميم علامة الجمع، والمفعول (¬1) ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الأول لـ {رأيت}، والجملة الاستفهامية التي سدت مسد المفعول الثاني لها محذوفان، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام، هل تنفعكم؟ أو: اتخاذكم غير الله إلهًا هل يكشف ضركم؟ ونحو ذلك، فعبادتكم أو اتخاذكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادة مسد الثاني، والمعنى: أخبروني عن حال عبادتكم الأصنام، هل تنفعكم إن أتاكم عذاب الله أم لا؟ وجملة {أَرَأَيْتَكُمْ} في محل النصب مقول لـ {قل}. {إِنْ}: حرف شرط. {أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ}: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية معطوف على {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ}، وجواب الشرط محذوف دل عليه الاستفهام في قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}، والتقدير: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة .. دعوتم الله تعالى لا غيره، والجملة الشرطية في محل النصب مقول لـ {قل}. {أَغَيْرَ اللَّهِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري. {غَيْرَ اللَّهِ}: مفعول مقدم لـ {تَدْعُونَ}. ولفظ الجلالة مضاف إليه. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}؛ أي: قل لهم: لا تدعون غير الله حينئذ. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {صَادِقِينَ}: خبر كان، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صادقين في أن غير الله ينفع .. فادعوه، والجملة الشرطية في محل النصب مقول القول. {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}. {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي عن النفي الذي علم من الاستفهام. {إِيَّاهُ}: ضمير نصب في محل النصب مفعول مقدم. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {فَيَكْشِفُ}: الفاء: حرف عطف وسبب. {يكشف}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تَدْعُونَ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {يكشف}. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {إِلَيْهِ}. {إن} حرف شرط. {شَاءَ}: فعل شرط في محل الجزم بـ {إن}، وفاعله ضمير يعود على الله، وجواب الشرط

محذوف تقديره: إن شاء يكشف، والجملة الشرطية في محل النصب مقول القول {وَتَنْسَوْنَ}: فعل وفاعل {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول. {تُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تشركونه، وجملة {تنسون} معطوفة على جملة قوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} على كونها مقولًا لـ {قل}. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {لقد} اللام موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: وأقسم والله لقد أرسلنا، وجملة القسم المحذوف مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {إِلَى أُمَمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {أُمَمٍ}. {فَأَخَذْنَاهُمْ} {الفاء}: عاطفة. {أخذناهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا} على كونها جواب القسم. {بِالْبَأْسَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أخذنا}. {وَالضَّرَّاءِ}: معطوف على {بِالْبَأْسَاءِ}. {لَعَلَّهُمْ}: لعل: حرف ترج ونصب، والهاء: اسمها، وجملة {يَتَضَرَّعُونَ} خبر لعل، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}. {فَلَوْلَا}: {الفاء}: استئنافية. {لو}: حرف تحضيض. {إذْ} ظرف لما مضى. {جَاءَهُم}: فعل ومفعول. {بَأْسُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {تَضَرَّعُوا} فصل به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز. {تَضَرَّعُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، والتقدير: فلولا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا. {وَلَكِنْ} الواو: عاطفة {لكن}: حرف استدراك. {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}. {وَزَيَّنَ}: فعل ماض. {لَهُمُ}: متعلق به. {الشَّيْطَانُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَسَتْ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول

به لـ {زين}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر {كَانُوا}، وجملة كان صلة لـ {ما}، أو صف لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: استئنافية. {لما}: حرف شرط غير جازم. {نَسُوا}: فعل وفاعل. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. {ذُكِّرُوا}: فعل ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}، وجملة {نَسُوا} فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب. {فَتَحْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}: مفعول به ومضاف إليه، وجملة {فَتَحْنَا} جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} مستأنفة. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. {حَتَّى}: حرف ابتداء لدخولها على الجملة، وحرف غاية؛ لكون ما بعدها غاية لما قبلها. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمَّن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَرِحُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {إذا} في محل الخفض بها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به. {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أوتوه. {أَخَذْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {بَغْتَةً}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: أخذ بغتة، أو حال من الفاعل؛ أي: أخذناهم باغتين، أو من المفعول؛ أي: مبغوتين، والجملة الفعلية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} في محل الجر بـ {حَتَّى} على كونها غاية لما قبلها، والتقدير: فتحنا عليهم أبواب كل شيء إلى أخذنا إياهم وقت فرحهم بما أوتوا. {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة {إذا}: حرف فجأة. {هُم}: مبتدأ. {مُبْلِسُونَ}: خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {أَخَذْنَاهُمْ} على كونها جوابًا لـ {إذا} لا محل لها من الإعراب وقال أبو البقاء: {إذا} هنا

للمفاجأة، وهي ظرف مكان، وهي مبتدأ {مُبْلِسُونَ}: خبره، وهو العامل في {إذا}. {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}. {فَقُطِعَ} {الفاء}: عاطفة. {قطع دابر}: فعل ونائب فاعل. {الْقَوْمِ}: مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أخذنا}. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: صفة للجلالة، والجملة الإسمية مستأنفة. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} إلى قوله: {انْظُرْ كَيْفَ} مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والميم علامة جمع المخاطبين، والمفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذهما الله، والجملة الاستفهامية الآتية في موضع المفعول الثاني، والجملة الفعلية، في محل النصب مقول لـ {قل}، ولم يؤتَ (¬1) هنا بكاف الخطاب وأتى به هناك؛ لأن التهديد هناك أعظم، فناسب التأكيد بالإتيان بكاف الخطاب، ولما لم يؤت بالكاف .. وجب ثبوت علامة الجمع في التاء؛ لئلا يلتبس، ولو جيء معها بالكاف لاستغني بها. {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ}: حرف شرط وفعل وفاعل ومفعول. {وَأَبْصَارَكُمْ}: معطوف على {سَمْعَكُمْ}. {وَخَتَمَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم معطوف على {أَخَذَ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى قُلُوبِكُمْ}: متعلق به، وجواب الشرط محذوف تقديره: أغير الله يأتيكم به، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {إِلَهٌ}: خبره. {غَيْرُ اللَّهِ} صفة أولى لـ {إِلَهٌ}. {يَأْتِيكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {إِلَهٌ}، ¬

_ (¬1) الجمل.

والجملة صفة ثانية لـ {إِلَهٌ}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يأتي}، والجملة الاستفهامية في محل النصب واقعة موضع المفعول الثاني لرأيت، كما مرَّ. {انْظُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال، والعامل فيه {نُصَرِّفُ} أو منصوب على التشبيه بالظرف، وهي معلقة لـ {انْظُرْ} فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر. {نُصَرِّفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْآيَاتِ}: مفعول به، وجملة {نُصَرِّفُ} في محل النصب مفعول {انْظُرْ} معلقة عنها باسم الاستفهام. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَصْدِفُونَ} خبره، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {نُصَرِّفُ}. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَرَأَيْتَكُمْ}: الهمزة للاستفهام التعجبي. {رأيت}: فعل وفاعل، والكاف: حرف خطاب، والميم: علامة الجمع، والمفعول الأول لها محذوف تقديره: أخبروني حالكم وشأنكم إن أتاكم عذاب الله، والمفعول الثاني جملة الاستفهام الآتية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قل}. {إِنْ}: حرف شرط. {أَتَاكُمْ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إِنْ}. {عَذَابُ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً}: حالان من {عَذَابُ اللَّهِ}؛ أي: مباغتًا أو مجاهرًا، أو منصوبان على المفعولية المطلقة، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذاب الله ما يهلك إلا القوم الظالمون، وجملة الشرط في محل النصب مقول لـ {قل}. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري. {يُهْلَكُ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْقَوْمُ}: فاعل. {الظَّالِمُونَ}: صفته، وجملة الاستفهام في محل النصب مقول لـ {قل}. {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}.

{وَمَا} (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {نُرْسِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْمُرْسَلِينَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مُبَشِّرِينَ}: حال من {الْمُرْسَلِينَ}. {وَمُنْذِرِينَ}: معطوف عليه {فَمَنْ آمَنَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ثمرة إرسال المرسلين، وأردت بيان حال من آمن بهم أو كفر .. فأقول لك: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ}: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {ءَامَنَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَأَصْلَحَ}: في محل الجزم معطوف على {آمَنَ}، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَلَا}: الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ}: اسمها مرفوع. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: فلا خوف كائنًا عليهم، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا}: الواو: عاطفة. {لا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}. {وَالَّذِينَ}: (الواو): عاطفة. {الذين}: مبتدأ. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {بِمَا}: الباء: حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْسُقُونَ} خبر كان، وجملة كان صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها ذهب تأويل مصدر

مجرور بالباء تقديره: بسبب فسقهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يمسهم}. وعبارة "الجمل" هنا: قوله: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} يجوز في {من} أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، وعلى كلا التقديرين فمحلها رفع بالابتداء، والخبر: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، فإن كانت شرطية .. فالفاء في جواب الشرط، وإن كانت موصولة .. فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محل الجملتين الجزم، وعلى الثاني لا محل للأولى؛ لأنها صلة الموصول، ومحل الثانية الرفع على الخبرية، وحمل على اللفظ فأفرد في: {ءَامَنَ}، وعلى المعنى فجمع في: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ويقوي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} اهـ "سمين" انتهت. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يستجيب من استجاب، من باب استفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان ليستا للطلب، فهو بمعنى: يجيب، يقال: أجاب (¬1) الدعوة إذا أتى ما دعى إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي، واستجاب له واستجاب دعاءه إذا لباه، وقام بما دعاه إليه. والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة في المواضع التي تدل على حصول المسؤول كله بالفعل دفعة واحدة، واستعمل أفعال الاستجابة في المواضع المفيدة لحصول المسؤول بالتهيؤ والاستعداد، كقوله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} إذ الآية نزلت في وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، فالمراد: أنهم تهيؤوا للقتال، أو الأفعال المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج، كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين، ثم بباقي أعماله بالتدريج. والاستجابة من الله يعبَّر بها في الأمور التي تقع في المستقبل، ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج، كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة، وتكفير السيئات، وإيتاء ما وعد المؤمنين في الآخرة كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ ¬

_ (¬1) المراغي.

مِنْكُمْ} الآية. والسمع والسماع يطلق على إدراك الصوت، وعلى فهم ما يسمع من الكلام - وهو ثمرة السمع - وعلى قَبول ما يفهم والعمل به، وهذا ثمرة الثمرة. والموتى: جمع ميت كقتيل جمع قتلى، والمراد بالموتى هنا: الكفار الراسخون في الكفر، المطبوع على قلوبهم، الميؤوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعي. {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} من بعث يبعث من باب فتح، والبعث لغة: إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثت البعير؛ أي: أثرته من مبركه وسيرته إلى المرعى ونحوه. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لولا: كلمة تحضيض تفيد الحث على حصول ما بعدها؛ لأن التحضيض معناه الطلب بحث وإزعاج، والآية المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} والدابة: كل ما يدب على الأرض من الحيوان، مأخوذة من دب يدب بالكسر - من باب ضرب - دبًّا ودبيبًا إذا مشى مشيًا فيه تقارب خطو، والدبيب: المشي الخفيف، وكل ماشٍ على الأرض دابة، وقولهم: أكذب من دب ودرج؛ أي: أكذب الأحياء والأموات. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، وجمعه: طير، كراكبٍ وركب. والجناح (¬1): أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله: الميل إلى ناحية من النواحي، وإنما قيد بجناحيه لدفع الإيهام؛ لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير، كقولهم: طر في حاجتي؛ أي: أسرع فيها، وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين. وقيل: ذكر الجناحين. للتأكيد كضرب بيده، وأبصر بعينه، ونحو ذلك. والأمم: جمع أمة، وهي كل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

جماعة يجمعهم أمر واحد، كدين واحد أو زمان واحد، أو مكان واحد، أو صفات وأفعال واحدة أمثالكم جمع مثل، كأحمال وحمل، والمثل بمعنى: المثيل؛ أي: الشبيه. {مَا فَرَّطْنَا} فرط من باب فعَّل المضعف، والتفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت يقال: فرطه وفرط فيه إذا ضيعه وقصر فيه. {فِي الْكِتَابِ} الكتاب هنا: هو اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن. والحشر: هو الجمع والسوق. {صُمٌّ وَبُكْمٌ} جمع: أصم وأبكم، كغر وأغر، وحمر وأحمر. {فِي الظُّلُمَاتِ}: هو عبارة عن العمى، كما في قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، والمراد (¬1) به: بيان كمال عراقتهم في الجهل بسوء الحال، فإن الأصم الأبكم إذا كان بصيرًا ربما يفهم شيئًا بإشارة غيره، وإن لم يفهمه بعبارته، وكذا ربما يفهم ما في ضميره بإشارته وإن كان عاجزًا عن العبارة، وأما إذا كان مع ذلك أعمى، أو كان في الظلمات، فينسد عليه باب الفهم والتفهيم بالكلية. اهـ "أبو السعود". {أَرَأَيْتَكُمْ} بمعنى: أخبروني، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يذكر بعده غريب عجيب، تقوم به الحجة على المخالف. {فَيَكْشِفُ}؛ أي: فيزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء، من كشف الشيء عن الشيء يكشف - من باب ضرب - إذا أزاله عنه {فَأَخَذْنَاهُمْ}؛ أي: عاقبناهم بالبأساء والضراء. وفي "المصباح": يقال: أخذه الله إذا أهلكه وأخذه بذنبه: عاقبه عليه، وآخذه بالمد كذلك انتهى. {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل، كأحمر وحمراء، كما هو القياس، فإنه لا يقال: أضرر ولا: أبأس صفةً، بل للتفضيل. والبأساء: تطلق على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة في الحرب، والعذاب الشديد، ¬

_ (¬1) الجمل.

والقوة والشجاعة، والضراء: من الضر ضد النفع. {تَضَرَّعُوا} من باب تفعل الخماسي يقال: تضرع إليه إذا أظهر الضراعة والخضوع له بتكلف، والتضرع تفعل من الضراعة، وهي الذلة والهيئة المنبئة عن الانقياد إلى الطاعة، يقال: ضرع يضرع ضراعة من باب فتح، فهو ضارع وضرع، قال الشاعر: لِيُبْكَ يَزِيْدٌ ضَارعٌ لِخُصُوْمَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيْحُ الطَّوَائِحُ أي: ذليل ضعيف، وللسهولة والتذلل المفهومة من هذه المادة اشتقوا منها للثدي اسمًا، فقالوا له: ضرع. {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: صلبت وغلظت عن قبول الحق من القسوة؛ لأنه من قسا يقسو من باب دعا يدعو، فهو ناقص واوي أصله: قسوت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف، فصار: قست بوزن فَعَت {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} والأخذ بالبأساء والضراء: إنزالهما بهم فجأة. {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} جمع: مبلس، وهو اليائس المنقطع رجاؤه من الإبلاس، وهو الحزن الحاصل من شدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، لشدة يأسه من رحمة الله. وفي "المختار": أبلس من رحمة الله؛ أي: يئس، والإبلاس أيضًا الانكسار والحزن، يقال: أبلس فلان إذا سكت غمًّا. اهـ. فمبلسون بمعنى: متحسرون يائسون من النجاة. {دَابِرُ الْقَوْمِ}؛ أي: آخرهم الذي يكون في أدبارهم، وقطع دابرهم؛ أي: هلكوا واستئصلوا بالعقاب، ولم يبق منهم أحد. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يقال: صرف الشيء إذا كرره على وجوه مختلفة، ومنه تصريف الرياح {يَصْدِفُونَ}؛ أي: يعرضون عن ذلك، يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفًا وصدوفًا، وصادفته: لقيته عن إعراض عن جهته. وفي "المختار": صدف عنه: أعرض عنه، وبابه: ضرب وجلس، وأصدفه عن كذا: إذا أماله عنه. اهـ.

{بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} والمراد (¬1) بالبغتة: العذاب الذي يأتيهم فجأة من غير سبق علامة، والمراد بالجهر: العذاب الذي يأتيهم مع سبق علامة تدل عليه. {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}؛ أي: بلحوق العذاب. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ أي: بفوات الثواب. {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} والمس: اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوء غالبًا، من ضر وشر وكبر ونصب وعذاب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}؛ لأنه شبه الكفار بالموتى بجامع عدم العقل في كلٍ، واستعير اسم المشبه به وهو الموتى للمشبه وهو الكفار، على طريقة الاستعارة التصريحية. وقال أبو حيان (¬2): وتشبيه الكافر بالميت من حيث إن الميت جسده خالٍ من الروح، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله دفنه تحت التراب، والكافر روحه خالية عن العقل، فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفته لأمره، وعدم قبوله لمعجزات الرسل، وإذا كانت روحه خالية من العقل .. كان مجنونًا، فأحسن أحواله أن يقيد؛ أي: يحبس، فالعقل بالنسبة إلى الروح، كالروح بالنسبة إلى الجسد. انتهى. ومنها: التجريد في قوله: {وَلَا طَائِرٍ}؛ لأن الطائر يندرج في الدابة. فذكر (¬3) الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم، وذكر بعض من كل، فصار من باب التجريد. ومنها: التأكيد بقوله: {بِجَنَاحَيْهِ} لدفع توهم المجاز في طائر مع كون ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

جناحيه ترشيحًا له؛ لأن الطائر قد يستعمل مجازًا للعمل، كما في قوله تعالى: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ}؛ أي: كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام، فحذفت منه الأداة ووجهه الشبه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فِي الظُّلُمَاتِ}؛ لأنه شبه كفرهم وجهلهم وضلالتهم بالظلمات الحسية، بجامع عدم الاهتداء في كل إلى المقصود، وفي قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ لأنه شبه الأسباب التي هيأها الله لهم، المقتضية لبسط الرزق عليهم بالأبواب، بجامع الوصول إلى المقصود في كل على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: الإبهام في قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه. ومنها: القصر في قوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ}؛ أي: لا تدعون غيره لكشف الضر، فهو قصر صفة على موصوف. ومنها: التكرار في قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، وفي قوله: {تَضَرَّعُوا}. ومنها: الكناية في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ}؛ لأنه كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما (¬1) كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين، وأصول العقائد، وهي توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب .. ذكر هنا وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة، وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرًا وتأكيدًا وبيانًا وتفصيلًا. قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا ...} الآية، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته استمالةً لكبراء المتكبرين من قومه، وطمعًا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته، كما اقترحه بعض المشركين .. أمر بأن يلقى الذين يدخلون في الإِسلام آنًا بعد آنٍ عن بينة وبرهان بالتحية والسلام والتبشير برحمة الله ومغفرته، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين؛ إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإِسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآية مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أنه يفصِّل الآيات ليظهر الحق، وليستبين سبيل المجرمين .. ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم، وهو عبادة غير الله، وأن هذه العبادة إنما هي بمحض الهوى والتقليد، لا بسبيل الحجة والبرهان، فهي جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم، ويركبونها، ثم يعبدونها. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ...} سبب نزولها: ما (¬2) رواه ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا، وعبد الله بن مسعود، وأربعة، قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اطردهم، فإنا نستحيي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا ...} إلى قوله: {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} سبب نزولها: ما روى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده خباب بن الأرت، وصهيب، وبلال، وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك، وهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ لو طردت هؤلاء .. تبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} إلى قوله: {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عنبسة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء العبيد .. كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، فكلم أبو طالب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فأنزل الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وكانوا بلالًا، وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصالحًا مولى أسيد، وابن مسعود، والمقداد بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وأشباههم، فأقبل عمر، فاعتذر من مقالته، فنزل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فوجدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم، فأتوه فخلوا به، فقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك .. فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا .. فاقعد معهم إن شئت، قال: "نعم"، فنزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ...} الآية، ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فنزلت: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا، فما رد عليهم شيئًا، فأنزل الله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ

[50]

يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية. التفسير وأوجه القراءة 50 - {قُلْ} يا أيها الرسول الذي بعث، كما بعث غيره من الرسل مبشرًا من أجاب دعوته بحسن الثواب، ومنذرًا من لم يقبلها بسوء العقاب لهؤلاء المكذبين لك بغير علم، يميزون به بين شؤون الألوهية وحقيقة النبوة، فيقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أنه ليس في مقدور البشر، فهم إما أن يقولوه تعجيزًا، وإما أن يظنوا أن الإنسان لا يكون رسولًا إلا إذا خرج من حقيقة البشرية، وصار قادرًا على ما لا يقدر عليه البشر، وعالمًا بكل ما يعجز عنه علم البشر. {لَا أَقُولُ لَكُمْ} أيها المشركون من أهل مكة {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}؛ أي: مفاتيح الأمكنة التي يحفظ فيها أرزاق الله، أتصرف في ما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشؤون المخلوقات، فكل هذا لله وحده، يتصرف فيه بما يشاء، فيعطي لعباده من خزائنه بحسب ما أوتي كل منهم من الاستعداد في دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك إلى ما لم يؤته، ولم يصل إليه استعداده، والمعنى: ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون؛ لأنهم كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت رسولًا من الله تعالى، فاطلب لنا منه أن يوسع عيشنا، ويغني فقرنا، فأخبر أن ذلك بيد الله تعالى لا بيدي. فالتصرف المطلق إنما هو لله القادر على كل شيء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول المبلغ عنه أمر الدين قادرًا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف في المخلوقات بالأسباب، فضلًا عن التصرف بغير سبب مما طلبه المشركون منه، وجعلوه شرطًا للإيمان به، كتفجير الينابيع والأنهار في أرض مكة، وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفًا، والإتيان بالله والملائكة قبيلًا. {وَلَا} أقول لكم: إني {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل، وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، فأجابهم بقوله: {ولا أعلم الغيب} فأخبركم بما تريدون.

فصل في بحث الغيب والغيب (¬1) ما غيب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، وهو قسمان: 1 - غيب حقيقي، وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. 2 - غيب إضافي، وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض، كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره لا يعلمه البشر. أمّا يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها، فليس بداخل في عموم الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب ضروب: 1 - ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فعلماء الرياضة يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بألوف الأعوام. 2 - ما هو عملي كالبرق الأثيري [التلغراف اللاسلكي] الذي يعلم به المرء ما يقع في أقاصي البلاد من وراء البحار، وبينه وبينها ألوف الأميال. 3 - ما هو إدراكات نفسية خفية تصل إلى مرتبة العلم، كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع هواجس تلوح للنفس، ولا يجزم بها الإنسان إلا بعد وقوعها. فإن قلت (¬2): إن الله تعالى أثبت علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام، كقوله في سورة الجن: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، فكيف أمره هنا أن يتنصل من ادعاء علم الغيب؟ قلتُ: إن إظهار شيء خاص من عالم الغيب على يدي الرسل، لا يجعل ذلك داخلًا في علومهم الكسبية، فإن الوحي ضرب من العلم الضروري، يجده النبي في نفسه حينما يظهره الله عليه، فهذا حبس عنه .. لم يكن له قدرة ولا وسيلة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

كسبية للوصول إليه. يؤيد ذلك ما جاء في فترات الوحي في السيرة النبوية، وقد يكون توجّه قلب الرسول إلى الله تعالى في بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحي في الحكم الذي طلب من ربه بيانه. يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}. والخلاصة: أن الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم المكتسبة، كذلك لم يعطوا التصرف في خزائن ملك الله تعالى، فلم يمكّنهم ما لم يمكِّن من أسبابه حتى يكون من كسبهم وعملهم، ولا هو أعطاهم ذلك على سبيل الخصوصية. ونفي ادعاء الرسول من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية، أو ادعاء شيء من صفات الإله القادر على كل شيء، العلم بكل شيء، ويتضمن جهل المشركين حقيقةَ الألوهية وحقيقة الرسالة، فقد اقترحوا عليه من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، وطلبوا منه الإخبار بما يكون في الزمان المستقبل ولا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفةً له كسائر الصفات، فقد سألوه عن وقت الساعة، وعن وقت نزول العذاب بهم، وعن وقت نصر الله تعالى له عليهم. وإذا علمت أن الأنبياء لم يؤتوا ذلك .. فأحر بمن دونهم منزلة عند الله تعالى من القديسين والأولياء المقربين أن لا يكون لهم ذلك، فادعاؤه لهم جهل عظيم وإثم كبير، ولا ينبغي التحدث به لا بين العامة ولا بين الخاصة، كما يجب محوه من الأذهان لدى الجاهلين سنن الله في الأكوان. {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر، وأقدر على ترك الأكل والشرب والنكاح، وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج النساء؟ ثم أمره أن يبيِّن وظيفة الرسول، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد: {إِنْ أَتَّبِعُ}؛ أي: ما أَتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه {إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}؛ أي: إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ، وتنزيله الذي ينزله عليَّ، فامضي لوحيه وأعمل بأمره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة على صحة ما أقول، وليس ذلك بالمنكر في عقولكم، ولا بالمستحيل وجوده، فما وجه إنكاركم لذلك؟ ثم وبخهم على ضلالهم وعنادهم، فأمر رسوله أن يبيِّن لهم أن الضال

[51]

والمهتدي لا يستويان، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}؛ أي: هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم - الذي دعوتكم إليه - فلم يميز بين التوحيد والشرك، ولا بين صفات الله وصفات البشر، وذو البصيرة المهتدي إليه، المستقيم في سيره عليه بالحجة والبرهان، حتى صار ذلك في مرآة قلبه أوضح مما ترى العينان وتسمع الآذان؟. والخلاصة: أنهما لا يستويان، كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان. {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} الهمزة فيه داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تسمعون الحق فلا تتفكرون فيما أذكر لكم من الحجج، وتتأملون فيه، فتعلموا صحة ما أقول لكم وأدعوكم إليه، وتميزوا بين ضلال الشرك وهداية الإِسلام، وتعقلوا ما في القرآن من ضروب الهداية والعرفان بذلك الأسلوب الرائع الذي لم تعهدوه من قبل، فهل يكون ذلك في مقدوري، وقد لبثت فيكم عمرًا من قبل عاطلًا من هذه المعرفة، وتلك البلاغة الساحرة، وذلك البيان الخلاب؟ 51 - وبعد أن أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته أمره بإنذار من يخشون الحساب والجزاء، فقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ}؛ أي: وخوف يا محمد بما يوحى إليك من القرآن وغيره المؤمنين بالله تعالى {الَّذِينَ يَخَافُونَ} ويخشون {أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} ويرجعوا إليه للمحاسبة والمجازاة، ويخافون أهوال الحشر وشدة الحساب، وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على الله في ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} يوم لا ولي ينصر، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة الله تعالى. قال (¬1) ابن عباس: المراد بـ {الَّذِينَ يَخَافُونَ}: المؤمنون؛ لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال، وقيل معنى: {يَخَافُونَ}: يعلمون، والمراد ¬

_ (¬1) الخازن.

بهم: كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي، وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم، وإن كان إنذاره - صلى الله عليه وسلم - لجميع الخلائق؛ لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر. وقيل: المراد بهم: الكفار؛ لأنهم لا يعتقدون صحته، ولذلك قال: يخافون أن يحشروا إلى ربهم، وجملة قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: من دون الله تعالى {وَلِيٌّ}؛ أي: قريب ينفعهم {وَلَا شَفِيعٌ} يشفع لهم، في محل النصب حال من ضمير {يُحْشَرُوا}؛ أي (¬1): أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم، ولا ناصر يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم من دون الله تعالى، وفيه ردٌّ على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون. ثم إن (¬2) فسرنا {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أن المراد بهم: الكفار، فلا إشكال عليه، لقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وإن فسرناهم بالمؤمنين .. ففيه إشكال؛ لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - للمذنبين من أمته، وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض. والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، لقوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وإذا كانت الشفاعة بإذن الله .. صح قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} يعني: حتى يأذن الله لهم في الشفاعة، فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ أي: بإقلاعهم عما هم فيه، وعمل الطاعات متعلق بأنذر؛ أي: خوفهم لكي يتقوا المعاصي، ويكون لهم عونًا في الطاعة، فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتقوا الله اهتداءً بهديك، وخوفًا من إنذارك، ويتحروا ما يؤدِّي إلى مرضاته ولا يصدهم عن ذلك إتكال على الأولياء، ولا اعتماد على الشفعاء علمًا منهم أن الشفاعة لله جميعًا: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[52]

لأنفسهم، لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم، أو شفاعة الشافعين لهم، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة في الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح، والأخلاق الكريمة، والأعمال الصالحة، لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها. والآية بمعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}. 52 - ثم نهى رسوله أن يطيع المترفين من كفار قريش في شأن المؤمنين المستضعفين، فقال: {وَلَا تَطْرُدِ}؛ أي: ولا تبعد يا محمد عن حضرتك هؤلاء المؤمنين الموحدين، {الَّذِينَ يَدْعُونَ} ويعبدون {رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}؛ أي: أول النهار وآخره، أو المراد: عامة الأوقات، إذ يقال: هو يفعل كذا صباحًا ومساء إذا كان مداومًا عليه، والدعاء إما العبادة مطلقًا، وقيل: المحافظة على صلاة الجماعة، وقيل: الذكر وقراءة القرآن، وقيل: المراد الدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر. والمعنى: ولا تطرد يا محمد الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس، أو يذكرون ربهم طرفي النهار حالة كونهم {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}؛ أي: يقصدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه؛ أي: مخلصين في ذلك، وقيد الدعاء بالإخلاص تنبيهًا على أنه ملاك الأمر. وقال أبو حيان: معنى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: يخلصون نياتهم له في عبادتهم، ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه انتهى. والمذهب الأسلم الذي عليه السلف: ترك الوجه على ظاهره بلا تأويل؛ لأن الوجه صفة ثابتة لله تعالى نعتقدها ونثبتها لله تعالى بلا تكيف ولا تمثيل ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السميع البصير}. وقرأ الجمهور (¬1): {بالغداوة}، وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي: {بالغدوة}. وروي عن أبي عبد الرحمن أيضًا: {بالغدو} بغير هاء. وقرأ ابن أبي عبلة: {بالغدوات والعشيات} بالألف فيهما على الجمع. وقوله: {مَا عَلَيْكَ} يا محمد {مِنْ حِسَابِهِمْ}؛ أي: من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب منك ذلك {مِنْ شَيْءٍ}، بل حسابهم على أنفسهم، ما عليك منه شيء {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على هؤلاء الذين قصدت طردهم {مِنْ شَيْءٍ}، بل حساب أعمالك على نفسك لا عليهم، فعلام تطردهم؟ كلام معترض بين النهي وجوابه الآتي بقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي في قوله: {مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وهو من تمام الاعتراض؛ أي (¬1): إذا كان الأمر كذلك .. فأقبل عليهم، وجالسهم، ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، و {من} في قوله. {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ} للبيان، والثانية للتأكيد، وكذا في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. والمعنى (¬2): أي ما عليك يا محمد شيء من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، كما أنه ليس عليهم شيء من أمر حسابك على أعمالك، حتى يكون هذا أو ذاك في طردك إياهم بإساءتهم في عملهم، أو في محاسبتك على عملك، فإن الطرد جزاء، والجزاء إنما يكون على سيىء الأعمال، ولا يثبت ذلك إلا بالحساب، والمؤمنون ليسوا بعبيد للرسل، ولا أعمالهم الدينية لهم، بل هي لله تعالى، يريدون بها وجهه لا وجوه الرسل، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم، والرسل هداة مرشدون لا أرباب مسيطرون: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}. وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية .. فأجدر بالناس أن لا يكون لهم هذا الحق على أنبيائهم. والظاهر أن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الضمائر كلها عائدة على {الَّذِينَ يَدْعُونَ} كما بينا في الحل، وقيل: الضمائر في {مِنْ حِسَابِهِمْ}، وفي {عَلَيْهِمْ} عائدة على المشركين. قال الزمخشري: والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم حتى يهمَّك إيمانهم، ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، ذكره أبو حيان. وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جواب للنهي كما مرَّ أعني: قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}؛ أي: لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي .. فتكون بطردك إياهم في زمرة الظالمين؛ أي: من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه معدودًا من جنسهم؛ لأن الطرد لا يكون حقًّا إلا على الإساءة في الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم وجزائهم عليها, ولست أنت بصاحب هذا الحق حتى تجري فيه على صراط العدل، فإن عملهم هو عبادة الله وحده، فحسابهم وجزاؤهم عليه كما قال نوح عليه السلام: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)}. والخلاصة (¬1): أن هذه الآية الكريمة أفادت أربعة أشياء: 1 - أن الرسول لا يملك التصرف في الكون. 2 - أنه لا يعلم الغيب. 3 - أنه ليس بملك. 4 - أنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم. وعبارة "المراح" هنا: قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}: الآية، معناه (¬2): ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء، فتملهم وتبعدهم، ولا من حساب رزقك عليهم شيء، وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى، فدعهم يكونوا عندك، ولا تطردهم فتكون من الظالمين لنفسك بهذا الطرد، ولهم لأنهم استحقوا مزيد التقريب، وقيل: إن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء، وقالوا: يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك، وقبلوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[53]

دينك؛ لأنهم يجدون عندك بهذا السبب مأكولًا وملبوسًا، وإلا فهم فارغون عن دينك، فقال الله تعالى: إن كان الأمر كما يقولون .. فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله .. فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم. فائدة: واحتج (¬1) الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، فقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما همَّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف .. عاتبه الله تعالى على ذلك ونهاه عن طردهم، وذلك يقدح في العصمة لقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. والجواب عن هذا الاحتجاج أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما طردهم ولا هم بطردهم لأجل الاستخفاف بهم، والاستنكاف من فقرهم، وإنما كان هذا الهم لمصلحة، وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإِسلام، فكان ترجيح هذا الجانب أولى عنده، وهو اجتهاد منه، فأعلمه الله تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى من الهمِّ بطردهم، فقربهم وأدناهم منه. وأما قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فإن الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، فيكون المعنى: إن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب، فلاتهم بطردهم عنك، فتضع الشيء في غير موضعه، فهو من باب ترك الأفضل والأولى، لا من باب ترك الواجبات، والله أعلم. 53 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: ومثل ذلك الفتون المتقدم {فَتَنَّا}؛ أي: ابتلينا {بَعْضَهُمْ}؛ أي: بعض الناس؛ أي: الأغنياء الكفار {بِبَعْضٍ} منهم؛ أي: بالفقراء المسلمين؛ أي: ابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، والوضيع بالشريف، فكل أحد مبتلى بضده، فأولئك الكفار الرؤساء والأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين إلى الإِسلام مسارعين إلى قبوله، فقالوا: لو دخلنا في الإِسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين، وأن نعترف لهم بالتبعية، فامتنعوا من الدخول في الإِسلام لذلك، واعترضوا على الله في جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين، وأما فقراء ¬

_ (¬1) الخازن.

الصحابة .. فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار؟ وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة محبوبة لذاتها موزعة على الخلق، فلا تجتمع في إنسان واحد ألبتة، فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفات الكمال. {لِيَقُولُوا}؛ أي: لتكون عاقبة أمرهم أن يقول المفتونون من الأقوياء والأغنياء والشرفاء في شأن الضعفاء والفقراء من المؤمنين {أَهَؤُلَاءِ} الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: أنعم الله عليهم بهذه النعمة العظيمة التي هي نعمة الإِسلام ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخصهم بها {مِنْ بَيْنِنَا}؛ أي: دوننا، أو من جملتنا، أو مجموعنا، ونحن الأكابر والرؤساء، وهم المساكين والضعفاء؟ والاستفهام فيه للإنكار بأن يخص الله تعالى هؤلاء الفقراء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، فكأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. والخلاصة (¬1): أن ذلك لن يكون لأنهم هم المفضلون عند الله تعالى بما آتاهم من غنى وثروة وجاه وقوة، فلو كان هذا الدين خيرًا .. لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء كما أعطاهم من قبل الجاه والثروة. وقد حكى الله عنهم مثل هذا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}. ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم مقالتهم الدالة على العتو والاستكبار بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} لنعمه - فيوفقهم ويهديهم - من الكافرين لها، فيخذلهم ويحرمهم منها حتى تستبعدوا إنعامه عليهم؛ أي: إن المستحق لمن الله وزيادة نعمه إنما هو من يقدِّرها قدرها، ويعرف حق المنعم بها، فيشكره عليها، لا من سبق الإنعام عليه فكفر وبطر وعتا واستكبر. والاستفهام في {أَلَيْسَ} للتقرير؛ أي: إنه تعالى كذلك، وبهذا مضت سنة الله في عباده، ولولا هذا لكانت النعم خالدة لا تنزع ممن أوتيها - وإن كفر بها - وهل فتن أولئك الكبراء إلا بما حصل لهم من الغنى والقوة، فظنوا جهلًا منهم بسنة الله في أمثالهم أنه تعالى ما ¬

_ (¬1) المراغي.

[54]

أعطاهم ذلك إلا تكريمًا لذواتهم، وتفضيلًا لهم على غيرهم. وفي (¬1) هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، وفي التوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله. وفي الآية إيماء إلى أن ما اغتروا به من النعم لن يدوم، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد أن تنعكس الحال، فيُسلب الأقوياء ما أعطوا من قوة ومال، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين، فيكونوا هم الأئمة الوارثين، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}. وكذلك (¬2) فيها إشارة إلى أن تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودًا ناشئًا عن الكبر والعلو في الأرض، لا عن حجة ولا عن شبهة، وإلى أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم. 54 - {وَإِذَا جَاءَكَ} يا محمد القوم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا}؛ أي: يصدقون بكتابنا وحججنا، ويقرون بذلك قولًا وعملًا سائلين عن ذنوبهم التي فرطت منهم، هل لهم منها توبة {فـ} ـلا تؤيسهم منها و {قل سلام عليكم}؛ أي: أمان الله تعالى لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها، وهؤلاء هم القوم الذين نهاه الله عن طردهم، وهم المستضعفون من المؤمنين. ثم ذكر العلة في هذا، فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}؛ أي: قل لهم تبشيرًا لهم بسعة رحمته تعالى، وبنيل المطالب: أوجب ربكم سبحانه وتعالى على ذاته المقدسة تفضلًا منه وإحسانًا الرحمة لخلقه والإحسان إليهم، فإن فيما سخر للبشر من أسباب المعيشة المادية، وفيما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية، وتربية عباده بها في حياتهم الجسدية والروحية؛ لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ثم بيَّن أصلًا من أصول الدين في هذه الرحمة للمؤمنين، فقال: {أَنَّهُ مَنْ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا}؛ أي: ومن سعة رحمته تعالى أنه - أي: إن الشأن - من عمل وارتكب منكم أيها المؤمنون سوءًا؛ أي: عملًا تسوء عاقبته للضرر الذي حرمه الله لأجله حالة كونه ملتبسًا {بِجَهَالَةٍ} دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد حمله على السب والضرب، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك العرض {ثُمَّ تَابَ} ورجع عن ذلك السوء {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: بعد أن عمله شاعرًا بقبحه نادمًا عليه خائفًا من عاقبته {وَأَصْلَحَ} عمله بأن أتبع ذلك العمل السيء بعمل يضاده ويذهب أثره من قلبه حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها وتصير أهلًا للقرب من ربها {فَأَنَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن تاب {رَحِيمٌ} بقبول توبته؛ أي: فشأنه تعالى في معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة، فيغفر له ما تاب عنه، ويتغمده برحمته وإحسانه. وقد بيَّن سبحانه في هذه الآية من أنواع الرحمة المكتوبة لعباده ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحي، وهو حكم من يعمل السوء بجهالة من عباده المؤمنين، وبقية أنواعها يمكن أن يستدل عليها بالنظر في الأنفس والآفاق، وأمَر نبيه بتبليغها لمن يدخلون في الدين؛ ليهتدوا بها، حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته، فيحملهم الغرور على التفريط في جنب الله، والغفلة عن تزكية أنفسهم، وحتى يبادروا إلى تطهيرها من إفساد الذنوب خوف أن تحيط بها خطيئتها: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}. وقرأ عاصم وابن عامر (¬1): {أنه} بفتح الهمزتين، فالأولى: بدل من الرحمة، والثانية: خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأمره أنه؛ أي: إن الله غفور رحيم له. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: عليه أنه من عمل. وقرأ ابن كثير والأخوان - الكسائي وحمزة - وأبو عمرو بكسر الهمزة فيهما، الأولى: على جهة الضر للرحمة، والثانية: في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين، وكسر الثانية على وجهها أيضًا. وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية، حكاها الزهراوي عن الأعرج، وحكى سيبويه عنه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[55]

مثل قراءة نافع، وقال الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع. 55 - ثم بين سبحانه وتعالى أنه فصل الحقائق للمؤمنين؛ ليبتعدوا عن سلوك سبيل المجرمين، فقال: {وَكَذَلِكَ}؛ أي: وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك. {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}؛ أي: نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل، وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} معطوف على محذوف تقديره؛ أي: وكذلك نفصل الآيات ليظهر الحق، فيعمل به، ولتستبين وتتضح سبيل المجرمين؛ أي: طريق المشركين فتجتنب، فطريق الهدى واضحة، وطريق الضلال واضحة؛ لما في الحديث "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، ونهارها كليلها, لا يضل عنها إلا هالك". وقرأ (¬1) ابن كثير وحفص والعربيان - أبو عمرو وابن عامر -: {وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء {سَبِيلُ} بالرفع. وقرأ أبو بكر والأخوان - الكسائي وحمزة -: وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان في هاتين القراءتين لازم. وقرأ نافع {وَلِتَسْتَبِينَ} بتاء الخطاب {سَبِيلَ} بالنصب، فاستبان هنا متعدية. فقيل: الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل له ظاهرًا، والمراد: أمته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان استبانها، والمعنى: ولتبين يا محمد، أو يا مخاطب للناس سبيل المجرمين. فالحاصل (¬2): أن القراءات ثلاث سبعية، فمتى قرئ الفعل بالفوقانية جاز في {سَبِيلُ} النصب والرفع، والتاء مختلفة المعنى؛ لأنها في حالة النصب حرف خطاب، وفي حالة الرفع للتأنيث، ومتى قرئ بالتحتانية .. تعين الرفع في سبيل؛ وذلك لأن السبيل يذكر ويؤنث، فتأنيث الفعل بناء على تأنيثه، وتذكيره بناء على تذكيره. 56 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الداعين لك إلى الإشراك {إِنِّي نُهِيتُ} وزجرت وصرفت بما نصب لي ربي من الأدلة، وأنزل علي من الآيات في أمر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

التوحيد {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: عن عبادة الأصنام التي تعبدوها أنتم من دون الله، وتستغيثون بها عند الشدائد، التي لا علم لها ولا عقل؛ لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى، وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى. ثم أمره أن يبين لهم أن هذه العبادة مبنية على الرأي والهوى، وهي ضلال وغي فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} في عبادة الأصنام وطرد الفقراء؛ أي: ما (¬1) تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله، ولما كانت أصنامهم مختلفة .. كان لكل عابد صنم هوى يخصه، فلذلك جمع، وأهواؤكم عام، وغالب ما يستعمل في غير الخير، ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق، وهي أعم من الجملة السابقة، وأنص على مخالفتهم وفي قوله: {أَهْوَاءَكُمْ} تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال، وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل، كما قال ابن دريد: وَآفَةُ الْعَقْلِ الهَوَى فَمَنْ عَلاَ ... عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَد نَجَا ذكره أبو حيان؛ أي: لا أجري على طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى في عبادة الأحجار التي تنحتونها بأيديكم، ولا أوافقكم على ما تدعونني إليه لا في هذه العبادة، ولا في غيرها من الأعمال؛ لأنها مؤسسة على الهوى وليست على شيء من الحق والهدى. وكرر الأمر بالقول مع قرب العهد اعتناءً بالمأمور به، أو إيذانًا باختلاف القولين من حيث إن الأولى حكاية لما هو من جهته تعالى، وهي النهي، والثاني: حكاية لما هو من جهته عليه السلام، وهو الانتهاء عما ذكر من عبادة ما يعبدونه ذكره "أبو السعود". {قَدْ ضَلَلْتُ} عن الهدى {إِذًا}؛ أي: إن اتبعت أهواءكم {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}؛ أي: وما أنا في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم؛ أي: فإن فعلت ذلك .. فقد تركت محجة الحق، وسرت على غير هدى، فصرت ضالًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[57]

مثلكم، وخرجت عن عداد المهتدين، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء. وقرأ (¬1) السلمي وابن وثاب وطلحة: {ضلِلت} بكسر فتحة اللام، وهي لغة، وفي "التحرير": قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا، وفي السجدة في {أئذا صللنا} بالصاد غير معجمة، ويقال: صل اللحم أنتن، ويروى: ضللنا؛ أي: دفنا في الضلة، وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب "الشواذ" له، ذكره أبو حيان في "البحر". 57 - ثم أمره أن يقول لهم: إني على هدى من ربي فيما أتبعه، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {إِنِّي} فيما أخالفكم فيه من التوحيد {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}؛ أي: على بيان قد بينه لي ربي، وبرهان قد وضح لي من ربي بالوحي والعقل؛ إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها {و} قد {كذبتم به}؛ أي؛ والحال أنكم قد كذبتم به؛ أي: بالقرآن الذي هو بينتي من ربي، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد، والتقليد: براءة من الاستدلال، ورضىً بجهل الآباء والأجداد. وفي هذا حجة دامغة وبينة ناصعة على ما قبله من نفي عبادته - صلى الله عليه وسلم - للذين يدعونهم من دون الله تعالى. وفي "الفتوحات": والضمير (¬2) في {بِهِ} يجوز أن يعود على {رَبِّي}؛ أي: وكذبتم بربي حيث أشركتم به، وهو الظاهر. وقيل: على القرآن؛ لأنه كالمذكور. وقيل: على {بَيِّنَةٍ}؛ لأنها بمعنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة لا للتأنيث، فمعناها على أمر بين من ربي، والمعنى: وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي - وهو القرآن - والمعجزات الباهرات، والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك. وبعد أن بين تكذيبهم به .. أردفه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال، وهي: أن الله سبحانه وتعالى أنذرهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الجمل.

[58]

عذابًا يحل بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم، وقد استعجلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ فكان عدم وقوعه شبهة لهم على عدم صدق القرآن؛ إذ هم يجهلون سنة الله في شؤون الإنسان، فأمر الله نبيه أن يقول لهم: 58 - {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}؛ أي: ليس الأمر الذي تستعجلون بوقوعه من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر، ولم أقل لكم: إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به، وتعدون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه. وقيل (¬1): سبب نزول هذه الآية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، وكان النضر بن الحارث وأصحابه يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ بطريق الاستهزاء، أو بطريق الإلزام على زعمهم، فقال تعالى: قل لهم يا محمد: ليس ما تستعجلون به من العذاب الموعود في القرآن، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه. ثم أكد ما سبق بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}؛ أي: ما الحكم والتصرف في هذا الذي تستعجلونه من العذاب، وفي غيره من شؤون الخلق إلا لله وحده سبحانه وتعالى، وله في ذلك سنن حكيمة تجري عليها أفعاله وأحكامه، فلا يتقدم شيء منها على ميقاته ولا يتأخر عنه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}. ثم بين سبحانه وتعالى أن كل ما قصه على رسوله أو قضاه فهو حق لا شبهة فيه، فقال: {يَقُصُّ} بالصاد المهملة المشددة؛ أي: يقص الله سبحانه وتعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويخبر له القصص {الْحَقَّ} والخبر الصادق في وعده ووعيده وجميع أخباره. وقرىء بسكون القاف وكسر الضاد المعجمة - كما سيأتي - بغير ياء؛ لسقوطها في اللفظ؛ أي: يقضي الله سبحانه ويحكم بين عباده القضاء الحق، أو يصنع الحق؛ لأن كل شيء صنعه الله تعالى فهو حق. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}؛ أي: أفضل الفاصلين الذين يفصلون بين الحق والباطل، أو هو أعدل الحاكمين في كل أمر، فهو لا يقع في حكمه وقضائه حيف وميل إلى أحد المتخاصمين، وهو النافذ حكمه في كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء، وفي ¬

_ (¬1) المراح.

مصحف عبد الله: {وهو أسرع الفاصلين}. وقرأ (¬1) ابن عباس وابن كثير ونافع وعاصم: {يقص الحق} بالصاد المشددة من القصص، والمعنى: إن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: {يقض الحق} من القضاء، والمعنى: يقضي القضاء الحق. ولم (¬2) يُرسم {يقض} إلا بضاد؛ كأن الياء حذفت خطًّا كما حذفت لفظًا لالتقاء الساكنين، كما حذفت في قوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}، وكما حذفت الواو من قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لما تقدم. {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: {لَّوْ أَنَّ عِندِى} وبيدي وقدرتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}؛ أي: أمر ما تطلبون عجلته ووقوعه حالًا من نزول العذاب الموعود بكم؛ بأن يكون أمره مفوضًا إليَّ من الله تعالى: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}؛ أي: لانفصل وانقطع النزاع بيني وبينكم، ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب، فأهلكتكم عاجلًا غضبًا لربي، واقتصاصًا من تكذيبكم، ولتخلصت منكم سريعًا لصدكم عن تبليغ دعوة ربي وصدكم الناس عني، وقد وعدني ربي بنصر المؤمنين المصلحين، وخذلان الكافرين المفسدين، ولم أمهلكم ساعة، ولكن الله حليم ذو أناةٍ، لا يعجل بالعقوبة. فائدة: والفرق بين الاستعجال والإسراع: أن الاستعجال: المطالبة بالشيء قبل وقته، فلذلك كان العجلة مذمومة. والإسراع، تقديم الشيء، في وقته، فلذلك كانت السرعة محمودة. والخلاصة: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب: لو أن عندي ما تستعجلون به .. لم أمهلكم ساعة، ولكن الله حليم لا يعجل بالعقوبة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} الذين لا رجاء في رجوعهم ¬

_ (¬1) زاد المسير والبحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل، ومن ثمَّ لم يجعل أمر عقابهم إليَّ، بل جعله عنده، ووقت له ميقاتًا هو أعلم به ترونه بعيدًا ويراه قريبًا: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}. وقيل: أعلم بما يستحقون به من العذاب، والوقت الذي يستحقونه فيه، وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجًا لهم وإعذارًا إليهم. الإعراب {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} إلى قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {أَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أقول}، وجملة {لَا أَقُولُ} في محل النصب مقول لـ {قل}. {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: مقول محكي لـ {أَقُولُ}، وإن شئت قلت: {عِنْدِي}: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم. {خَزَائِنُ اللَّهِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {أقول}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {أَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {الْغَيْبَ}: مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى: عرف يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقولًا لـ {أَقُولُ}. {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {أَقُولُ}: فعل مضارع. {لَكُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {لَا أَقُولُ} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} على كونها مقولًا لـ {قل}. {إِنِّي مَلَكٌ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {أَقُولُ} {إن}: نافية. {أَتَّبِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء

مفرغ. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {أَتَّبِعُ}. {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُوحَى}، وجملة {يُوحَى} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ}: للاستفهام الإنكاري. {يَسْتَوِي الْأَعْمَى}: فعل وفاعل. {وَالْبَصِيرُ}: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}: الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: ألا تسمعون. الفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {لا}: نافية. {تَتَفَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}. {وَأَنْذِرْ}: {الواو}: استئنافية. {أنذر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنذر}. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب مفعول به {يَخَافُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {أَنْ يُحْشَرُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {إِلَى رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يخافون حشرهم إلى ربهم. {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {وَلِيٌّ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر. {وَلَا شَفِيعٌ}: معطوف عليه، {ولا}: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها، وجملة {لَيْسَ} من اسمها وخبرها في محل النصب حال من ضمير {يُحْشَرُوا} تقديره: يخافون حشرهم حال كونهم عادمين وليًّا يواليهم، وشفيعًا

يشفع لهم من دون الله تعالى. {لَعَلَّهُمْ}: لعل: حرف ترجٍ ونصب بمعنى كي التعليلية، والهاء: اسمها، وجملة {يَتَّقُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بـ {أنذر}؛ أي: وأنذرهم به لكي يتقوا الشرك والمعاصي. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية. {لا}: ناهية جازمة {تَطْرُدِ الَّذِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه. {بِالْغَدَاةِ}: جار ومجرور متعلق به. {وَالْعَشِيِّ}: معطوف على {الغداة}، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {يَدْعُونَ} تقديره: يدعونه تعالى مخلصين له فيه. {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. {مَا}: نافية. {عَلَيْكَ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ حِسَابِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه في محل النصب حال من {شَيْءٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فانتصب حالًا منها، فصاحب الحال من {شَيْءٍ}، والعامل فيها الاستقرار في عليك. {مِنْ}: زائدة. {شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما شيء من حسابهم كائن عليك، والجملة من المبتدأ والخبر معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين النهي في قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وبين جوابه الآتي في قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {مِنْ حِسَابِكَ}: جار ومجرور بيان مقدم لشيء، فهو صفة له لا حال منه؛ لما يلزم عليه من تقدم الحال على عاملها وصاحبها، وهو ممتنع على الأصح، أو حال منه على القول الضعيف نظير ما تقدم. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها

معترضة، لا محل لها من الإعراب. {فَتَطْرُدَهُمْ}: الفاء: عاطفة سببية. {تطردهم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لم يكن شيء من حسابهم عليك، ولا شيء من حسابك عليهم فطردك إياهم. {فَتَكُونَ}: الفاء: عاطفة سببية. {تكون}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة وجوبًا الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الظَّالِمِينَ}: جار ومجرور خبر {تكون}، وجملة {تكون} من اسمها وخبرها صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن طردك الذين يدعون ربهم، فكونك من الظالمين. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}. {وَكَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية. {كذلك}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {فَتَنَّا}: فعل وفاعل. {بَعْضَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بِبَعْضٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَتَنَّا}، والتقدير: وفتنا بعضهم ببعض فتونًا مثل ذلك الفتون المذكور، والجملة الفعلية مستأنفة. {لِيَقُولُوا}: اللام: لام كي وجر. {يَقُولُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}: مقول محكي لـ {يقولوا}، وجملة القول من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقولهم أهؤلاء إلخ، الجار والمجرور متعلق بـ {فَتَنَّا}، وإن شئت قلت: {أَهَؤُلَاءِ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري. {هؤلاء} في محل النصب مفعول لفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده تقديره: أفضل الله هؤلاء من بيننا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ {يقولوا}. {مَنَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به.

{مِنْ بَيْنِنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مِنْ}، ويجوز أن يكون حالًا من ضمير {عَلَيْهِمْ}، وجملة {من} من الفعل والفاعل جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن يكون {هؤلاء} مبتدأ، وجملة {مَنَّ اللَّهُ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {يقولوا}: {أَلَيْسَ اللَّهُ}: الهمزة: للاستفهام التقريري. {لَيْسَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِأَعْلَمَ}: خبر {لَيسَ}، والباء: زائدة في خبرها. {بِالشَّاكِرِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أعلم}، وجملة {لَيْسَ} جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَكَ الَّذِينَ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {فَقُلْ}: الفاء: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {سَلَامٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه دعاء. {عَلَيْكُمْ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول لـ {قل}. {كَتَبَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {عَلَى نَفْسِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَتَبَ}. {الرَّحْمَةَ}: مفعول به لـ {كَتبَ}. {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {أَنَّهُ}: حرف نصب، والهاء: ضمير الشأن اسمها {مَنْ}: اسم شرط أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما.

{عَمِلَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من}، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {عَمِلَ}. {سُوءًا}: مفعول به. {بِجَهَالَةٍ}: جار ومجرور حال ثانية من فاعل {عَمِلَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {تَابَ}: فعل ماض في محل الجزم معطوف على عمل، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تاب}. {وَأَصْلَحَ} في محل الجزم معطوف على {تَابَ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {فَأَنَّهُ}: الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {أن}: حرف نصب، والهاء: اسمها {غَفُورٌ}: خبر أول لها {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ لها، وجملة {أن} المصدرية من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: فالغفران والرحمة حاصلان له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل الرفع خبر {أن} المفتوحة، وجملة {أن} المفتوحة في محل النصب بدل من {الرَّحْمَةَ} بدل الشيء من الشيء، والتقدير: كتب ربكم على نفسه الرحمة كتب حصول الغفران والرحمة لمن عمل سوءًا بجهالة إلخ. هذا على قراءة الفتح في الهمزتين، وأما على قراءة الكسر في الهمزتين فكسر الأولى على الاستئناف على أن الكلام تم قبلها، وكسر الثانية أيضًا على الاستئناف بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبرًا لـ {من} الموصولة، أو جوابًا لها إن كانت شرطًا. قال أبو علي (¬1): من كسر ألف {أَنَّهُ} جعله تفسيرًا للرحمة، ومن كسر ألف {فَأَنَّهُ غَفُورٌ}، فلأن ما بعد الفاء حكمه للابتداء، ومن فتح ألف {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ} جعل أنَّ بدلًا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم أنه من عمل، ومن فتحها بعد الفاء .. أضمر خبرًا تقديره: فله أنه غفور رحيم، والمعنى: فله غفرانه انتهى. وهنا أوجه كثيرة من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها، ومن أرادها .. فليراجع كتب القوم. {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

{وَكَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية. {كذلك}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونفصل الآيات تفصيلًا مثل التفصيل السابق من أول السورة إلى هنا، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَلِتَسْتَبِينَ} {الواو}: عاطفة على محذوف تقديره: ونفصل الآيات كذلك ليظهر الحق. {تستبين}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإظهار الحق، ولإبانة سبيل المجرمين، الجار والمجرور متعلق بـ {نفصل}. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي نُهِيتُ} إلى {قُل} الآتي مقول محكي لـ {قل} منصوب به، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب واسمه. {نُهِيتُ}: فعل مغير، ونائب فاعله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: قل لهم: إني نهيت عن عبادة الأصنام الذين تدعونهم من دون الله تعالى: {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تدعونهم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل {تَدْعُونَ} تقديره: حال كونكم مجاوزين الله تعالى، أو من الضمير المحذوف من {تَدْعُونَ}. {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} نافٍ وفعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل}. {قَدْ ضَلَلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء، ملغاة لا عمل لها؛ لعدم

الفعل بعدها. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {أَنَا}: مبتدأ. {مِنَ الْمُهْتَدِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة: {ضَلَلْتُ} على كونها مقول القول. {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إن}: حرف نصب، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {عَلَى بَيِّنَةٍ}: جار ومجرور خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قل}. {مِنْ رَبِّي}: جار ومجرور صفة لـ {بَيِّنَةٍ}. {وَكَذَّبْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة على كونها مقول القول، أو في محل النصب حال من {بَيِّنَةٍ}، ولكن بتقدير: قد. {مَا}: نافية. {عِنْدِي}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {مَا}: موصولة أو موصوفة مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {تَسْتَعْجِلُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}. {إِنِ}: نافية. {الْحُكْمُ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول. {يَقُصُّ الْحَقَّ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول القول، وفي قراءة {يقض} بالضاد المعجمة تقول في إعرابه {يقض}: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين المحذوفة خطًّا تبعًا للخط لما في اللفظ، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء. {وَهُوَ}: مبتدأ. {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على كونها مقولًا لـ {قل}. {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

بِالظَّالِمِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لَوْ أَنَّ عِنْدِي} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قل}، وإن شئت قلت: {لَوْ}: حرف شرط. {أَنَّ}: حرف نصب. {عِنْدِى}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم لـ {أن}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسم {أَنَّ} مؤخر، وجملة {تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون ما تستعجلون به عندي، والجملة من الفعل المقدر وفاعله فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَقُضِيَ}: اللام: رابطة لجواب {لَوْ}. {قضى الأمر}: فعل ونائب فاعل. {بَيْنِي}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {قضي}. {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف على {بَيْنِي}، والجملة من الفعل المغير ونائب فاعله جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لـ {قل}. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر. {بِالظَّالِمِينَ}: متعلق بـ {أَعلَمُ}، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قل}. التصريف ومفردات اللغة {خَزَائِنُ اللَّهِ} والخزائن جمع: خزانة أو خزينة، والخزانة ما يحفظ فيها الشيء الذي يراد حفظه، ومنع التصرف فيه مخافة أن ينال، ومنه (¬1) حديث: "فإنما يتخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته"، وهي بفتح الخاء. قال الشاعر: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ ... فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سوَاهُ بِخَزَّانِ وفي "المختار": يقال: خزن المال إذا جعله في الخزانة واختزنه أيضًا، وخزن السر: إذا كتمه واختزنه أيضًا، وبابهما نصر، والمخزن أيضًا ما يخزن فيه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الشيء انتهى. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} والغيب: ما غيب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب علمه كما مرَّ. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} والأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي: {وَأَنْذِرْ بِهِ}: والإنذار: العظة والتخويف. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الطرد (¬1): الإبعاد بإهانة، وبابه: نصر، والطريد المطرود، وبنو مطرود وبنو طرَّاد فخذان من إياد. {بِالْغَدَاةِ} الغداة والغدوة، كالبكرة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أصلها: غدوة، فقلبت الواو ألفًا لتحركها بحسب الأصل، وانفتاح ما قبلها بحسب الآن، وهي نكرة، ويقرأ: {بالغدوة} بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها، وأكثر ما تستعمل معرفة علمًا، وقد عرفها هنا بالألف واللام. {وَالْعَشِيِّ} آخر النهار، أو من (¬2) المغرب إلى العشاء، فقيل: هو مفرد، وقيل: هو جمع عشية. {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا} يقال: فتن الذهب يفتن - من باب ضرب - فتنة ومفتونًا: إذا أدخله النار لينظر ما جودته، والفتنة: الاختبار والامتحان، والمعنى هنا: ابتلينا واختبرنا {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} {مَنَّ} - مِن باب شد - أي: أنعم الله عليهم بنعم كثيرة. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} السلام والسلامة: البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام من أسمائه تعالى، يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من عجز ونقص وفناء، واستعمل السلام في التحية بمعنى السلامة من كل ما يسوء، وبمعنى: تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله من المسلم، فهو دليل المودة والصفاء، وهو تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جلَّ وعلا وملائكته الكرام، ويحيي بها بعضهم بعضًا. {كَتَبَ}؛ أي: أوجب وفرض وألزم. {بِجَهَالَةٍ} والجهالة: السفه والخفة التي تقابل الحكمة والروية. {وَلِتَسْتَبِينَ}؛ أي: تتضح وتظهر يقال: استبنت الشيء وتبينته؛ أي: عرفته بينًا واضحًا. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} النهي: الزجر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

عن الشيء بالقول نحو: اجتنب قول الزور، والكف عنه بالفعل، كما قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}. {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الدعاء: النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضر، ولا يكون عبادةً إلا إذا كان فيما وراء الأسباب العادية التي سخرها الله للعباد، وينالونها بكسبهم واجتهادهم وتعاونهم عليها. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} ضللت بفتح اللام، وهي لغة أهل الحجاز، وهي الفصحى، وهي قراءة الجمهور. وقرىء بكسرها، وهي لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف كما مر، قال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} قال: فهذه - يعني المفتوحة - لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول: ضللت أضل انتهى. {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} والبينة: كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية أو الآيات الحسية، ومن ذلك تسمية الشهادة بيّنة، ويجوز أن تكون التاء في بينة للمبالغة كما مر، والمعنى: على أمر بيِّن، فلما نفى أن يكون متبعًا للهوى .. نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ} والقصص: ذكر الخبر أو تتبع الأثر، من قص الحديث، أو من قص الأثر؛ أي: تتبعه، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، وعلى هذه القراءة، فالحق مفعول به اهـ "سمين". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، وفي قوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، وفي قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ}، وقوله: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ}، وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}. ومنها: الاستعارة في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}؛ لأنه استعارة عن الكافر والمؤمن.

ومنها: التتميم في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه إنما ذكر لمجرد تتميم الفائدة وتأكيدها، وإلا فالكلام قد تمَّ بدونه. ومنها: ما يسميه أهل البديع ردَّ الصدر على العجز في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} كقولهم عادات السادات، سادات العادات. وقال الزمخشري (¬1) بعد كلام قدمه في معنى التفسير: فإن قلت: أما كفى قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} حتى ضم إليه قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، ومؤداهما واحد، وهو المعنى بقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولا يستقبل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعًا، كأنه قيل: لا يؤاخذ كل واحد لا أنت ولا هم بحساب صاحبه. انتهى. ومنها: التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ}، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}. ومنها: التأكيد في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}؛ لأنها مؤكدة لقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} واختار في التأكيد بالإسمية لتدل على الدوام والاستمرار. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} إشعارًا بوصفهم بالظلم، وحق الكلام أن يقال: والله أعلم بكم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. المناسبة قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه من عذاب الله تعجيزًا أو تهكمًا ليس عنده، وإنما هو عند الله تعالى، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شيء أجلًا وموعدًا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله .. ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده، وأن التصرف في الخلق بيده، وأنه ¬

_ (¬1) المراغي.

هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله، ولا من سواهم في ذلك. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وقال: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} بعد قوله: {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} .. انتقل من خاص إلى عام، وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار ...} الآية، مناسبة (¬2) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات .. ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيهًا على ما تختص به الإلهية، وذكر شيئًا محسوسًا قاهرًا للأنام، وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار، وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...} الآية، مناسبة (¬3) هذه الآية لما قبلها: لما أبان الله سبحانه وتعالى لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم .. ذكرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، ونهاية الرحمة والفضل والإحسان. قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬4): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكَّر المشركين ببعض آياته في أنفسهم، وبمننه عليهم بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم؛ إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام .. ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أنَّ عاقبة كفران النعم أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلِّغًا لا خالقًا للإيمان، وأحالهم في ظهور ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

[59]

صدق أنبائه وأخباره على الزمان .. بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ ...} الآيات، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ...} الآية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف"، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال بعض الناس: "لا يكون هذا أبدًا أن يقتل بعضنا بعضًا، ونحن مسلمون"، فنزلت: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}. التفسير وأوجه القراءة 59 - {وَعِنْدَهُ} سبحانه وتعالى خاصة {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}؛ أي: مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن؛ أي: له سبحانه وتعالى علم الأمور المغيبة المخفية عن غيره، من الأرزاق والأمطار والآجال والعذاب والثواب والحساب والجزاء وغيرها. وقرىء: {مفاتيح} بالياء. {لَا يَعْلَمُهَا}؛ أي: لا يعلم تلك الأمور المغيبة ولا يحيط بها {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، وهذه الجملة الفعلية مؤكدة لمضمون الجملة التي قبلها، ويندرج تحت مضمون هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب اندراجًا أوليًّا، كما يدل عليه السياق، فهو سبحانه وتعالى الذي يحيط بها، وسواه جاهل بذاته، لا يعلم منها شيئًا إلا بإعلامه عَزَّ وَجَلَّ، فعلينا أن نفوِّض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، وأن نجزم بأنه لا يُخلف وعده رسله، وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

روى البخاري (¬1) عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفاتيح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ". وما حكاه الله تعالى عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب، كما قال تعالى في سورة الجن: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، وجاء في معنى الآية: قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}. وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض". وفي (¬2) هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإِسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى كاهنًا أو منجمًا .. فقد كفر بما أنزل الله على محمد". {وَيَعْلَمُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي الْبَرِّ} من النبات والدواب {و} ما في {البحر} من الحيوان والجواهر وغيرهما. وإنما (¬3) قدم ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال والحيوان والنبات والمعادن. وإنما أخر البحر في الذكر؛ لأن إحاطة العقل بأحواله أقل، لكن الحس يدل على أن عجائب البحر أكثر، وأجناس المخلوقات فيه أعجب، وأن طول البحر وعرضه أعظم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

وقال مجاهد (¬1): البر: المفاوز والقفار، والبحر: المدن والقرى فيه والأمصار، لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه. وقال جمهور المفسرين: هما البر والبحر المعروفان؛ لأن جميع الأرض إما بر، وإما بحر، وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه. والمعنى: أي: وعنده سبحانه وتعالى علم ما لم يغب عنكم؛ لأن ما فيهما ظاهر للعين، يعلمه العباد، وعلمه تعالى بما فيهما علم مشاهدة مقابل لعلم الغيب. والخلاصة: أن عنده تعالى علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه، وعنده علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شيء منه، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ}؛ أي: وما تسقط ورقة واحدة من أوراق الشجر أو النجم، ولا تبقى عليه في الصحارى والبراري، أو في الأمصار والقرى {إِلَّا يَعْلَمُهَا}؛ أي: إلا والحال أنه سبحانه وتعالى عليم بالساقطة منها والباقية، ويعلم زمان سقوطها، ومكانه، وعدد الساقطة والباقية وأحوالها قبل السقوط وبعده. {وَلَا} من {حَبَّةٍ} ملقاة {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} وبطونها لتنبت، قيل: هي الحبة المعروفة تلقى في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي في الصخرة التي تحت الأرضين السبع. {وَلَا} من {رَطْبٍ}، وهو كل ما ينبت، وقيل: الحي {وَلَا} من {يَابِسٍ} وهو كل ما لا ينبت، وقيل: الميت، وقيل: هما عبارة عن كل شيء؛ لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة {إِلَّا} هو {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: إلا كان كل ما ذكر ثابتًا مكتوبًا في كتاب مبين؛ أي: موضح مبين مقدارها ووقتها ومكانها، وهو اللوح المحفوظ. فإن قلت (¬2): إن جميع هذه المذكورات داخلة تحت قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فلِمَ أفردها بالذكر؟ قلتُ: ذكرها من قبيل التفصيل بعد الإجمال، وقد ذكر البر والبحر لما فيهما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

من العجائب، ثم الورقة؛ لأنها يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها إلا الله، ثم ذكر ما هو أضعف من الورقة، وهو الحبة، ثم ذكر مثالًا يجمع الكل، وهو الرطب واليابس، فذكر هذه الأشياء، وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى، فصارت الأمثال منبهة على عظمة عظيمة، وقدرة عالية، وعلم واسع، فسبحان العلم الخبير. وعبارة "المراغي" هنا: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: وما (¬1) تسقط من حبَّة بفعل الإنسان باختياره، كالحب الذي يلقيه الزراع في بطون الأرض يسترونه بالتراب، فيحجب عن ضوء النهار، أو تذهب به النمل في قراها وحجورها، أو بغير فعل الإنسان؛ كالذي يسقط من النبات في الشقوق والأخاديد، وما يسقط من الثمار رطبًا ويابسًا إلا وهو في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه، وكتب عدده، والوقت الذي يوجد فيه، والذي يفنى فيه، وجعل الكتاب مبينًا؛ لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم عليه، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، واختار الرازي أن الكتاب المبين: علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره. واتفق (¬2) علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر في نحو ما تقدم من الآيات والأحاديث باللوح المحفوظ، وهو شيء أخبر الله به، وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود، وأن الله قد حفظ كتابه فيه، وأما دعوى أنه جرم مخصوص في سماء معينة .. فمما لم يثبت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر، فلا ينبغي أن يدخل في باب العقائد لدى المؤمنين. وروي عن الحسن: أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب. وزاد بعضهم حكمتين أخريين: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[60]

1 - اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية. 2 - عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة "جف القلم بما أنت لاق". وقرأ (¬1) ابن السميقع: {مفاتيح} بالياء، وروي عن بعضهم: {مفتاح الغيب} على الإفراد. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع: {ولا رطبٌ ولا يابسٌ} بالرفع فيهما، والأولى أن يكونا معطوفين على موضع {مِنْ وَرَقَةٍ}، ويحتمل الرفع على الابتداء، وخبره {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. 60 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} وينيمكم {بِاللَّيْلِ} ويراقبكم فيه، استعير (¬2) التوفي من الموت للنوم؛ لما بينهما من المشاركة في إزالة الإحساس والتمييز، فإن أصل التوفي: قبض الشيء بتمامه. وعبارة "زادة على البيضاوي" نصها: وعلى (¬3) ما ذكره المصنف ليس في ابن آدم إلا روح واحدة، يكون لابن آدم بحسبها ثلاثة أحوال: حالة يقظة، وحالة نوم، وحالة موت، فباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان وباطنه تعلقًا كاملًا تثبت له حالة اليقظة، وباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان فقط تثبت له حالة النوم، وباعتبار انقطاع تعلقها عن الظاهر والباطن تثبت له حالة الموت. فعلى هذا: معنى {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}؛ أي: يقطع أرواحكم عن التعلق ببواطنكم؛ أي: يقطع تعلقها بالباطن، ومعنى {يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}؛ أي: يرد تعلقها بالباطن. وقيل: معنى {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}؛ أي: يقبض أرواحكم عند النوم، وهذا مبني على أن في الجسد روحين: روح الحياة: وهي لا تخرج إلا بالموت، وروح التمييز: وهي تخرج بالنوم، فتفارق الجسد، فتطوف بالعالم وترى المنامات، ثم ترجع إلى الجسد عند تيقظه، وسيأتي بسط هذه المسألة وإيضاحها في سورة الزمر إن شاء الله تعالى. واقتصر هنا على الليل، وإن كان ذلك يقع في النهار؛ لأن الغالب أن يكون النوم فيه. {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}؛ أي: ويعلم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) زاده.

جميع ما كسبتم وعملتم في النهار؛ أي: يعلم جميع ما كسبتم حين اليقظة، ويكون معظم ذلك في النهار سواء أكان خيرًا أم شرًّا. وفي "الفتوحات": والتقييد (¬1) بالظرفين جري على الغالب، إذ الغالب أن النوم في الليل والكسب في النهار، وخصَّ النهار بالذكر دون الليل؛ لأن الكسب فيه أكثر؛ لأنه زمن حركة الإنسان، والليل زمن سكونه. اهـ "كرخي". {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}؛ أي: يوقظكم في النهار، عطف على {يَتَوَفَّاكُمْ}، وتوسيط (¬2) الفعل بينهما لبيان ما في بعثهم من عظم الإحسان إليهم بالتنبيه على ما يكسبونه من السيئات. قال البيضاوي: أطلق البعث ترشيحًا للتوفي؛ أي: لما استعير التوفي من الموت للنوم .. كان البعث الذي هو في الحقيقة الإحياء بعد الموت ترشيحًا؛ لأنه أمر يلائم المستعار منه. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير هو الذي يتوفاكم بالليل، ثم يبعثكم بالنهار، ويعلم ما جرحتم فيه. {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى}؛ أي: يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم ومناجاة إلهكم وخالقكم؛ لأجل أن يقضي أجلًا مسمى؛ أي: لأجل أن يستوفي ويستكمل المتيقظ آخر أجله وعمره المعين له في علمه تعالى، فإن لأعماركم آجالًا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها. ومعنى الآية: أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك، ولكن ليقضى أجل مسمى؛ أي: معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق {ثُمَّ} بعد انقضاء آجالكم وموتكم {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى، لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت {ثُمَّ} بعد بعثكم وحشركم {يُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في حياتكم الدنيا، ويجازيكم بذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. والقادر (¬3) على البعث مِن تَوفي النوم قادرٌ على البعث من توفي الموت، وفي ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركوا مكة من وعيد الله لهم، ووعده لرسله ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) أبو السعود. (¬3) المراغي.

[61]

بالنصر عليهم، وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا، فمن لم يدركه العذاب الأول .. لم يفلت من الثاني. وقال أبو حيان (¬1): ولما ذكر تعالى النوم واليقظة .. كان ذلك تنبيهًا على الموت والبعث، وأن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد، فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي. وقرأ طلحة وأبو رجاء: {ليقضي أجلًا مسمى} ببناء الفعل للفاعل، ونصب {أجلًا}؛ أي: ليتم الله تعالى آجالهم، كقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ}. وفي قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره تعالى أو ضميرهم. 61 - وبعد أن أبان الله سبحانه وتعالى أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء .. ذكر قهره لعباده، وإرسال الحفظة بإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم، فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْقَاهِرُ}؛ أي: الغالب المتصرف في خلقه بما يشاء في أمورهم إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيبًا إلى غير ذلك، العالي بقدرته وسلطانه {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية تليق بجلاله لا نكيفها ولا نمثلها، بل نؤمن بها, ولا نعطلها ولا نؤولها، بل نمرها على ظاهرها كما جاءت، كما هو مذهب السلف الأسلم الأعلم في آيات الصفات وأحاديثها؛ أي: وهو سبحانه وتعالى القاهر المستحق منكم العبادة، لا المقهورون من الأوثان والأصنام المغلوبون على أمرهم. ومعنى القاهر: الغالب لغيره المذلل له، والله تعالى هو القاهر لخلقه، وقهر كل شيء بضده، فقهر الحياة بالموت، والإيجاد بالإعدام، والغنى بالفقر، والنور بالظلمة. {وَيُرْسِلُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمْ} أيها العباد ويوكل بكم {حَفَظَةً}؛ أي: ملائكة يحفظون أعمالكم ويكتبونها في صحائف تقرأ عليكم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. يعني: أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم لمراقبتهم، وإحصاء أعمالهم وكتابتها، وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهي المرادة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بقوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}، وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}، ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها, ولا نتحكم فيها بآرائنا. وما (¬1) مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل مراقبة رجال البوليس السري في حكومات العصر الحديث. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في الآية: الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم، يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} لم يغنِ الحرس عنهم شيئًا، وفي معنى الآية قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". والحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد .. كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على عمل الصالحات، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء .. ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في المغفرة والرحمة، فلا يكون لديه من الخشية والحياء ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم، كما قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً ¬

_ (¬1) المراغي.

إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}. وقوله: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} غاية لمحذوف تقديره: وهو الذي يرسل عليكم حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا جاء أحدكم أسباب الموت ومقدماته، وانتهى عمله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}؛ أي: قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولون ذلك بأمره، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}. روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس: أنه سُئل عن ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال: هو الذي يلي أمر الأرواح، وله أعوان على ذلك، وقرأ هذه الآية، ثم قال: غير أن ملك الموت هو الرئيس. وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة: أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان، ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي: أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه، ويدفعها إلى الأعوان، فإن كان الميت مؤمنًا .. دفعها إلى ملائكة الرحمة، وإن كان كافرًا .. دفعها إلى ملائكة العذاب؛ أي: وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم الله بأمره، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته. فإن قلت: جاء إسناد التوفي إلى الله تعالى في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وإسناده إلى ملك الموت في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وإسناده إلى الرسل في قوله هنا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟. قلتُ: وجه الجمع بين هذه الآيات: أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد .. أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم .. تولى قبضها ملك الموت بنفسه، فحصل الجمع بين الآيات. وقيل: المراد من قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}: ملك الموت وحده، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له.

[62]

وقرأ حمزة (¬1): {توفاه} بألف ممالة، وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع، ومن قرأ: {تَوَفَّتْهُ} أنث على معنى الجماعة. ويحتمل أن يكون مضارعًا، وأصله: تتوفاه، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة. وقرأ الأعمش: {يتوفاه} بزيادة ياء المضارعة على التذكير. {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن هؤلاء الرسل {لَا يُفَرِّطُونَ}؛ أي: لا يقصرون فيما أمروا به من قبض روح الميت، ولا يؤخرونه طرفة عين. وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد: {لا يُفْرِطون} بالتخفيف؛ أي: لا يجاوزون الحد فيما أمروا به بزيادة أو نقصان. 62 - وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} معطوف على {تَوَفَّتْهُ}. وقرىء: {رِدوا} بكسر الراء بنقل حركة الدال المدغمة إلى الراء؛ أي: ثم بعد قبض الملائكة أرواحهم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل بالبعث من القبور والحشر إلى موقف الحساب إلى حكم الله وقضائه وجزائه الذي هو {مَوْلَاهُمُ} ومالك أمورهم، الذي هو {الْحَقِّ} الذي لا يقضي إلا بالعدل ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم. وفي الآية (¬2) إيماء إلى أن ردهم إليه حتم؛ لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم، ويحكم بينهم بالحق وأما تولي بعض العباد أمورَ بعضٍ بملك الرقبه أو ملك التصرف والسياسة، فمنه ما هو باطل من كل وجه، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوف لا ثبات له ولا بقاء، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا، وبقي المولى الحق وحده. فإن قلت: ما الحكمة في إفراد الضمير في قوله: {تَوَفَّتْهُ} العائد إلى {أَحَدَكُمُ} الذي هو بمعنى: البشر والخلق، وفي جمعه في قوله: {ثُمَّ رُدُّوا} بواو الجمع؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[63]

قلتُ: السر في الإفراد أولًا، والجمع ثانيًا: وقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع، ذكره "أبو السعود". وكلمة {أَلَا} في قوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} حرف تنبيه واستفتاح؛ أي: انتبهوا أيها العباد واعلموا أن له سبحانه وتعالى وحده القضاء الحق في ذلك اليوم لا لغيره، لا بحسب الظاهر ولا بحسب الحقيقة، بخلاف الدنيا؛ فإنه وإن لم يكن حاكم في الحقيقة غيره تعالى، لكن فيها بحسب الظاهر حكام متعددة. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}؛ أي: أسرع من يحاسب؛ لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد، وسرعة حسابه أنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، ولا يشغله شأن عن شأن. والخلاصة؛ أنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها. وقرأ الحسن والأعمش: {الحقَ} بالنصب في قوله: {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} على إضمار فعل؛ أي: أعني أو أمدح، أو على أنه صفة مصدر محذوف تقديره: ثم ردوا إلى الله مولاهم الردَّ الحق. 63 - {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع في الآفاق من آيات التوحيد توبيخًا وتقريرًا لهم بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ}؛ أي: من (¬1) ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق {وَ} من ذا الذي ينجيكم من ظلمات {الْبَحْرِ} إذا ركبتم فيه، فأخطأتم الطريق، وأظلمت عليكم السبل، فلم تهتدوا. وقيل: ظلمات البر والبحر: مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال. وقيل: العمل على الحقيقة أولى، فظلمات البر: هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح، فيحصل من ذلك الخوف الشديد؛ لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمات البحر: ما اجتمع فيه من ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة الرياح العاصفة، والأمواج الهائلة، فيحصل من ذلك أيضًا ¬

_ (¬1) الخازن.

الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك. والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ، كما مرت الإشارة إليه، فالمقصود: أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد، وهو المراد من قوله: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}؛ أي: من إله غير الله ينجيكم ويكشف عنكم تلك الكروب حالة كونكم تدعونه سبحانه وتعالى عند نزولها بكم تضرعًا وجهرًا، وتدعونه خفية وسرًّا، وتخلصون له الدعاء في الحالتين، وتنسون ما تشركون، يعني: إذا اشتد بكم الأمر .. تخلصون له الدعاء تضرعًا منكم إليه واستكانة جهرًا وخفية، يعني: جهرًا حالًا، وسرًّا حالًا، حالة كونكم قائلين في الدعاء ومقسمين له فيه، والله ربنا {لَئِنْ أَنْجَانَا} الله من هذه الظلمات، وخلصنا من الهلاك {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} له على هذه النعمة، نعمة الإنجاء؛ أي: لنكونن من المتصفين بالشكر، المخلصين له بالعبادة دون من نشركه معه في عبادته، والشكر: هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها. وقرأ (¬1) الكوفيون: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد فيهما. وقرأ حميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهما. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - بالتشديد في {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} والتخفيف في {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ} جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف كقوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ}. وقرأ (¬2) أبو بكر عن عاصم: {خفية} بكسر الخاء وسكون الفاء. وقرأ الباقون بضمها وسكون الفاء، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف. وقرأ الأعمش: {وخيفة} بكسر الخاء فبعده الياء الساكنة من الخوف؛ أي: مستكينًا أو دعاء خوف. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {لَئِنْ أَنْجَانَا} بالغيبة. وقرأ الباقون: {لئن أنجيتنا} بالخطاب. والآية تدل (¬3) على أن الإنسان يأتي عند حصول الشدائد بأمور. أحدها: الدعاء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

[64]

وثانيها: التضرع. وثالثها: الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: {وَخُفْيَةً}. ورابعها: الالتزام عند الشدائد بالشكر، وهو المراد من قوله: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. 64 - ثم بين أنهم يحنثون في أيمانهم بعد النجاة، ويشركون بربهم سواه، فقال: {قُلِ} لهم يا محمَّد {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا}؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى وحده ينجيكم من ظلمات البر والبحر وشدائدهما المرة بعد المرة، ويكشفها عنكم {وَ} ينجيكم {مِنْ كُلِّ كَرْبٍ} وغمٍّ سوى ذلك {ثُمَّ أَنْتُمْ} يا أهل مكة بعدما تشاهدون هذه النعم الجليلة {تُشْرِكُونَ} بعبادته تعالى غيره الذي عرفتم أنه لا يضر ولا ينفع ولا تفون بعهدكم. والخلاصة (¬1)؛ أنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ في هذه الحالة إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضله، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص في جميع الأحوال والأوقات، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب، ويعود إلى الشرك في العبادة، ولا يوفي بالعهد. وفي الآية تنبيه إلى أن من أشرك في عبادته تعالى غيره، فكأنه لم يعبده رأسًا، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة 65 - {قُلِ} هو يا محمَّد لقومك الذين يشركون مع الله سواه، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم: إن الله سبحانه وتعالى {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ} ويرسل {عَلَيْكُمْ عَذَابًا} تجهلون حقيقته، فيصب عليكم {مِنْ فَوْقِكُمْ} كالمطر كما فعل بقوم نوح، والحجارة كما رمي أصحاب اللَّيل وقوم لوط، والصيحة؛ أي: الصرخة التي صرخها جبريل على ثمود قوم صالح، والربح كما في قوم هود. {أَوْ} يثيره {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالرجفة، وغرق فرعون، وخسف قارون {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} ويخلط أمركم خلط اضطراب واختلاف لا خلط اتفاق، فيجعلكم {شِيَعًا} وفرقًا مختلفين على أهواء ¬

_ (¬1) المراغي.

شتى، كل فرقة تشايع وتتبع إمامًا في الدين، أو تتعصب لملك أو رئيس، فإذا كنتم مختلفين .. قاتل بعضكم بعضًا {وَيُذِيقَ} الله {بَعْضَكُمْ} بسبب تلك المخالفة {بَأْسَ بَعْضٍ} آخر وضرره، فيقتل بعضكم بيد بعض. وقرأ أبو عبد الله المدني: {يلبسكم} بضم الياء من اللبس، استعارة من اللباس؛ أي: يلبسكم الفتنة حالة كونكم شيعًا. وقرأ الأعمش: {ونذيق} بالنون، وهي نون عظمة الواحد، وهي التفات فائدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة. فصل في الأحاديث المناسبة للآية وعن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} .. قال: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} .. قال: "هذا أهون - أو - هذا أيسر" أخرجه البخاري، وإنما كان هذا أهون؛ لأن المستعاذ مما قبله هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه أقبل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية .. دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف إلينا فقال: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي: أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت ربي: أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي: أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها" أخرجه مسلم. وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة، فأطالها، فقالوا: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها، قال: "أجل، إنها صلاة رغبة ورغبة، إني سألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته: أن لا يهلك أمتي بسَنَة، فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوًا من

[66]

غيرهم، فأعطانيها، وسألته: أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها" أخرجه الترمذي. ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات، فقال: {انْظُرْ} يا محمَّد وتأمل بعين بصيرتك {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}؛ أي: كيف نبين دلائلنا وحججنا لهؤلاء المكذبين {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}؛ أي: يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عماهم عليه من الكفر والتكذيب؛ أي: انظر كيف نصرف الآيات ونكررها مغيَّرة من حال إلى حال، لكي يقفوا على جلية الأمر، فيرجعوا عما هم عليه من العناد. والمعني (¬1): تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول، كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتَّى، منها ما طريقه الحس، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما سبيله علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق، ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضي إلى الاعتبار والعمل بها. وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك: تصريف الآيات، واختلاف الحجج والبينات. وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام. 66 - ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته، فقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ}؛ أي: وكذب بالقرآن قومك يا محمَّد على ما صرفنا فيه من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان؛ إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان. {وَهُوَ الْحَقُّ}؛ أي: والحال أنه كتاب حق صادق فيما نطق به، ثابت لا شك فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقرأ ابن أبي عبلة: {وكذبت به قومك} بالتاء، كما قال {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}. وقيل (¬2): الضمير في: {بِهِ} يرجع إلى العذاب، وهو الحق، يعني: أنه نازل بهم إن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم. وقيل: الضمير يرجع إلى تصريف الآيات، وهو الحق؛ لأنهم كذبوا كونها من عند الله. ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل له في جبرهم على الإيمان به، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[67]

فقال: {قُلْ} لهم يا محمَّد {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، أبشركم وأنذركم، ولم أعط القدرة على التصرف في عباده حتى أجبركم على الإيمان جبرًا، وأكرهكم عليه إكراهًا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. وقيل (¬1): المعنى: قل يا محمَّد لهؤلاء المكذبين: لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق، بل إنما أنا منذر، والله هو المجازي لكم على أعمالكم، وقيل: معناه: إني إنما أدعوكم إلى الله وإلى الإيمان به، ولم أومر بحربكم؛ فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية السيف. 67 - ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال: {لِكُلِّ نَبَإٍ}؛ أي: لكل شيء {مُسْتَقَرٌّ}؛ أي: وقت يقع فيه، والنبأ الشيء الذي ينبأ عنه ويخبر به. وقيل: المعنى: لكل عمل جزاء. وقيل (¬2): المعنى: لكل خبر يخبره الله مستقر؛ أي: وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير، وكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} صحة هذا الخبر عند وقوعه؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، والمعنى: لكل شيء ينبأ عنه ويخبر به مستقر؛ أي: وقت تستقر وتظهر فيه حقيقته، ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابي من وعد ووعيد، ومن ذلك: ما وعد به الرسول من نصره عليهم، وما أوعد به أعدائه من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}. 68 - {وَإِذَا رَأَيْتَ} هو يا محمَّد أو أيها المخاطب هؤلاء المشركين {الَّذِينَ يَخُوضُونَ} ويشرعون وينهمكون {فِي آيَاتِنَا} القرآنية بالكفر والتكذيب والاستهزاء {فَأَعْرِضْ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الواحدي.

عَنْهُمْ}؛ أي: فصد عنهم بوجهك، وقم ولا تقعد معهم {حَتَّى يَخُوضُوا} ويشرعوا {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}؛ أي: حديث غير التكذيب والاستهزاء بآياتنا، ويصح عود الضمير على الآيات نظرًا لمعناها؛ لأنها بمعنى الحديث والقول، ذكره أبو البقاء. قال المراغي: والمخاطب (¬1) بالآية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنون في كل زمان؛ أي: وإذا رأيت أيها الرسول، أو أيها المؤمن، الذين يخوضون في آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين .. فصد عنهم بوجهك، وقم ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها من جانب الكفار، أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء؛ وتأييدًا لما استحدثوا من مذاهب وأراء، وتفنيدًا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء، وإذا خاضوا في غير ذلك .. فلا ضير في القعود معهم. وسِرُّ (¬2) هذا النهي: أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم في التمادي فيما هم فيه، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه، والمشاركة في ذلك كفر ظاهر لا يرتكبه إلا كافر مجاهر، أو منافق مراء، كما أنَّ في التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنةً في الدين، لا تنقص عن الأولى ضررًا، فإن أربابها تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ومن ثم حذر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع. ومن الناس من يحرفون آيات الله على مواضعها بهواهم؛ ليكفروا بها مسلمًا، أو يضلِّلوا بها مهتديًا، بغيًا عليه وحسدًا له. وفي (¬3) هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها .. علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقدًا أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل، وأنكر المنكر. {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}؛ أي: وإن أنساك الشيطان بوسوسته نهينا إياك عن مجالسة الخائضين في آيات الله بعد تذكرك أولًا، وقعدت معهم وهم على تلك الحال، ثم ذكرت بعد ذلك .. {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى}؛ أي: بعد تذكرك النهي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلًا من الإيمان بها والاهتداء بهديها؛ أي: فقم عنهم ولا تجلس معهم بعد ذلك. وإنما (¬1) أبرزهم ظاهرين تسجيلًا عليهم بصفة الظلم، وإلا فحق العبارة أن يقال: فلا تقعد معهم. وجاء في الشرط الأول بـ {إِذَا}؛ لأن خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني بـ {إن}؛ لأن إنساء الشيطان له ليس أمرًا محققًا، بل قد يقع وقد لا يقع، وهو معصوم منه، ولم يجىء مصدر على فعلى إلا ذكرى اهـ "سمين". والخطاب (¬2) في قوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمراد غيره، أو هو للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالذات، ولغيره بالتبع، كما هو الشأن في أحكام التشريع غير الخاصة به - صلى الله عليه وسلم -. ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف في جوازه، قال تعالى لخاتم أنبيائه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وثبت وقوعه من موسى عليه السلام: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}، ولكن الله عصمهم من نسيان ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[69]

شيء مما أمرهم بتبليغه. وثبت في "الصحيحين" و"السنن" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سها في الصلاة، وقال: "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت .. فذكِّروني". وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل في مفهوم قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}. ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان؛ لكونه ضارًا ومفوتًا لبعض المنافع، أو لكونه حصل بوسوسته، ولو بشغل القلب ببعض المباحات، فلا يعد من سلطان الشيطان على الناس، واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله تعالى عن عباده المخلصين بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}. وقرأ (¬1) ابن عامر: {ينسينك} مشددًا عدّاه بالتضعيف، وعدّاه غيره بالهمزة. 69 - وروي عن ابن عباس: أنه لما قال المسلمون: إن قمنا كلما خاضوا لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف بالبيت .. نزل قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك والمعاصي {مِنْ حِسَابِهِمْ}؛ أي: من حساب الخائضين وعقوبتهم {مِنْ شَيْءٍ}، فـ {مِنْ} زائدة؛ أي: ليس على الذين آمنوا واتقوا شيء من حساب الخائضين في آيات الله، فلا يحاسبون على خوضهم فيها، وعلى غيره من أعمالهم السيئة التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم، وأعرضوا عنهم كما أمروا. {وَلَكِنْ ذِكْرَى}؛ أي: ولكن عليكم أيها المتقون أن تذكروهم ذكرى، وتعظوهم عظة إذا سمعتموهم يخوضون، بأن تقوموا عنهم، وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ أي: لعلهم يتجنبون الخوض في الآيات حياءً منكم، ورغبة في مجالستكم، قاله مقاتل. أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[70]

لعلهم يتقون الوعيد بتذكيركم إياهم. فصل قال (¬1) سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا}، وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها؛ لأنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ؛ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره. وقيل: إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة، فلا تكون منسوخة. 70 - وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات الله هزوا .. أمره بترك المستهزئين بدينهم، الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}؛ أي (¬2): واترك يا محمَّد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا وجعلوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه - وهو دين الإِسلام - لعبًا ولهوًا، وذلك حيث سَخِروا به واستهزؤوا به. وقيل: إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعبًا ولهوًا. وقيل: إن الكفار إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه. وقيل: إن الله جعل لكل قوم عيدًا، فاتخذ كل قوم دينهم - يعني: عيدهم - لعبًا ولهوًا، يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين، فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيرًا وفعل الخير فيه، مثل عيد الفطر، وعيد النحر، ويوم الجمعة. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} يعني: أنهم اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا، وغلب حبها على قلوبهم، فأعرضوا عن دين الحق، واتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا. وقال الرازي: لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين، واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا. انتهى. ومعنى الآية: وذر يا محمَّد الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، واتركهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم. والمراد بتركهم: ترك معاشرتهم ومخالطتهم، لا ترك الإنذار والتخويف. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

وعبارة "المراغي" هنا (¬1) أي: ودَعْ أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين، الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، وغرتهم الحياة الدنيا الفانية، فآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات عما جاءهم من الحق مؤيدًا بالحجج والآيات، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها، ونحو الآية قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. واتخاذهم دينهم لعبًا ولهوًا؛ أنهم لما عملوا ما لا يزكي نفوسهم، ولا يطهر قلوبهم، ولا يهذب أخلاقهم، ولا يقع على وجه يرضي الله سبحانه، ولا يعد للقائه في دار الكرامة .. أضاعوا الوقت فيما لا يفيد، وهذا هو اللعب، أو شغلوا عن شؤونهم وهمومهم الأخروية وهذا هو اللهو. وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير بالقرآن، وتبليغ الرسالة، فقال: {وَذَكِّرْ بِهِ}؛ أي: وذكر يا محمَّد بالقرآن وعظ به هؤلاء المشركين وغيرهم مخافة {أَنْ تُبْسَلَ} وتحبس {نَفْسٌ} في جهنم وتهلك فيها {بِمَا كَسَبَتْ}؛ أي: بسبب ما كسبت وعملت من الشرك والمعاصي، والضمير في قوله: {بِهِ} يعود على القرآن المعلوم من السياق؛ لأنه هو الذكر، بُعث به الرسول المذكر. والمعنى (¬2): وذكرهم بالقرآن ومواعظه، وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جهنم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا، وتحرم الثواب في الآخرة ثم وصف النفس المبسلة، وعلل إبسالها، فقال: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: ليس لتلك النفس التي هلكت من دون الله {وَلِيٌّ}؛ أي: ليس لها ولي يلي أمرها، وناصر ينصرها غير الله تعالى {وَلَا شَفِيعٌ} يشفع لها في الآخرة عند الله إلا بإذنه، كما قال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

ثم أرشد إلى أنه لا ينفع في الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء، فقال: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}؛ أي: وإن تفد تلك النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء وتعطه {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}؛ أي: لا يقبل ذلك العدل والفداء منها، والمراد: أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل، وهذا كقوله في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}. والخلاصة (¬1): أن النفس المبسلة تمنع في ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة، فلا ولي ولا حميم ولا شفيع ولا فداء إلى نحو أولئك، مما ربما نفع في مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع. وفي هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية، وهو رجاء النجاة في الآخرة، كما هو الحال في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى، أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى، وتقرير لأصل ديني، وهو أن لا نجاة في الآخرة ولا رضوان من الله ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به، وعمل صالح يزكي النفس ويطهرها؛ أما من دس نفسه، وأبسله كسبه للسيئات والخطايا، واتخذ دين الله هزوًا ولعبًا، وغرته الحياة الدنيا، فلا تنفعه شفاعة، ولا تقبل منه فدية. ثم بيَّن أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم، فقال: {أُولَئِكَ} المتخذون دينهم لعبًا ولهوًا المغترون بالحياة الدنيا هم {الَّذِينَ أُبْسِلُوا} وحرموا الثواب، وأسلموا للعذاب، وحبسوا عن دار السعادة {بِمَا كَسَبُوا}؛ أي: بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة، ويصدهم عن العقائد الزائغة. ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أُبسلوا، فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المتخذين دينهم لعبًا ولهوًا {شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}؛ أي: من ماء حار مغلي ¬

_ (¬1) المراغي.

بالغ النهاية في شدة الحرارة، يستردد ويتجرجر في بطونهم، وتتقطع به أمعائهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كفرهم المستمر في الدنيا الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه، وهذه الجملة تأكيد وتفصيل لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}. والخلاصة (¬1): أن رسوخهم في الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير. وفي ذلك عبرة لمن يفقه القرآن، ولا يغتر بلقب الإِسلام، ويعلم أنَّ المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنة الرسول طريقه، لا من اغتر بالأماني والأوهام، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين والأولياء والناصرين. الإعراب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. {وَعِنْدَهُ} {الواو}: استئنافية. {وَعِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَا}: نافية. {يَعْلَمُهَا}: فعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الظرف؛ لوقوعه خبرًا. {وَيَعْلَمُ} {الواو}: عاطفة. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها، مسوقة لبيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات {فِي الْبَرِّ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما. {وَالْبَحْرِ}: عطف على البر. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ¬

_ (¬1) المراغي.

إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {تَسْقُطُ}: فعل مضارع. {مِنْ}: زائدة. {وَرَقَةٍ}: فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {يَعْلَمُهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {وَرَقَةٍ}، وجاءت (¬1) الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتقدير: وما تسقط من ورقة إلا عالمًا بها؛ لأنه مسقطها بإرادته. {وَلَا}: (الواو): عاطفة، {لَا}: نافية. {حَبَّةٍ}: معطوف على {وَرَقَةٍ}. {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ {حَبَّةٍ}. {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} معطوفان أيضًا على {وَرَقَةٍ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: جار ومجرور وصفة، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: إلا هو كائن في كتاب مبين، وجملة الاستثناء في محل النصب بدل من جملة الاستثناء في قوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} بدل كل من كل؛ أي: وما تسقط من ورقة، ولا توجد حبَّة وما بعدها إلا هو في كتاب مبين. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {يَتَوَفَّاكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بِاللَّيْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَوَفَّاكُمْ}. {وَيَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {جَرَحْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما جرحتموه. {بِالنَّهَارِ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَرَحْتُمْ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب وتراخ. {يَبْعَثُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {يَتَوَفَّاكُمْ} على كونها صلة الموصول ¬

_ (¬1) الفتوحات.

لا محل لها من الإعراب. {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {لِيُقْضَى أَجَلٌ}: فعل ونائب فاعل. {مُسَمًّى}: صفة له، والفعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، واللام متعلقة بـ {يَبْعَثُكُمْ}، والتقدير: ثم يبعثكم فيه لقضاء أجل مسمى. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يُنَبِّئُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَبِّئُكُمْ} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَعْمَلُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}. {وَهُوَ} {الواو}: استئنافية. {وَهُوَ الْقَاهِرُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {فَوْقَ عِبَادِهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {الْقَاهِرُ}، أو حال من الضمير المستتر في {الْقَاهِرُ} تقديره: حال كونه مستعليًا فوق عباده. {وَيُرْسِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {حَفَظَةً}: مفعول به، والجملة معطوفة على اسم الفاعل على كونها صلة لأل الموصولة، والتقدير: وهو الذي يقهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة. وفي "الفتوحات": قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} فيه ثلاثة أوجه (¬1): أحدها: أنه عطف على اسم الفاعل الواقع صلة لـ {أل}؛ لأنه في معنى ¬

_ (¬1) الجمل.

يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده، ويرسل، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله. والثاني: أنها جملة فعلية عطفت على جملة اسمية، وهي قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ}. الثالث: أنها معطوفة على الصلة، و {مَا} عطف عليها، وهو قوله: {يَتَوَفَّاكُمْ} و {يَعْلَمُ}، وما بعده؛ أي: وهو الذي يتوفاكم، ويرسل عليكم حفظة. اهـ "سمين". {حَتَّى}: ابتدائية لدخولها على الجملة، غائية لكون ما بعدها غاية لما قبلها. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُفَرِّطُونَ}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {رُسُلُنَا}؛ أو مستأنفة مسوقة للإخبار عنهم بهذه الصفة. اهـ "كرخي". وفي "الفتوحات": قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ} حتى (¬1) هذه هي التي يبتدأ بها الكلام، وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها، كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة تحفظ أعمالكم مدة حياتكم، حتى إذا انتهت مدة حياة أحدكم كائنًا ما كان، وجاءه أسباب الموت ومباديه .. توفته رسلنا. اهـ "أبو السعود". {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {رُدُّوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} على كونها جواب {إِذَا}. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به. {مَوْلَاهُمُ}: صفة أولى للجلالة. {الْحَقِّ}: صفة ثانية له. {أَلَا}: حرف استفتاح. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْحُكْمُ}: مبتدأ مؤخر، ¬

_ (¬1) الجمل.

والجملة مستأنفة. {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الضمير المجرور باللام، والعامل في الحال الاستقرار الذي تعلق به الظرف. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {يُنَجِّيكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مِنْ}، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُنَجِّيكُمْ}. {وَالْبَحْرِ}: معطوف على {الْبَرِّ}. {تَدْعُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من مفعول {يُنَجِّيكُمْ}. {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}: حالان من فاعل {تَدْعُونَهُ}. ولكن بعد تأويلهما بالمشتق؛ أي: تدعونه حال كونكم متضرعين ومخفين. {لَئِنْ أَنْجَانَا}: اللام موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {أَنْجَانَا}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ هَذِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْجَانَا}. {لَنَكُونَنَّ} اللام: رابطة لجواب القسم. {نَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على المتكلمين. {مِنَ الشَّاكِرِينَ}: جار ومجرور خبر {نكون}، وجملة {نكون} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه تقديره: إن أنجانا .. نكون من الشاكرين، وقد اجتمع هنا شرط وقسم، فحذف جواب المؤخر منهما، وهو الشرط على القاعدة، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف منصوب على الحال من فاعل {تَدْعُونَهُ} تقديره: تدعونه قائلين: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين. {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}.

{قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ}: إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ. {يُنَجِّيكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلِ}. {مِنْهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَجِّيكُمْ}. {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، معطوف على الجار والمجرور قبله. {ثُمَّ}: حرف عطف. {أَنْتُمْ} مبتدأ. وجملة {تُشْرِكُونَ} خبره، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ} على كونها مقولا لـ {قُلِ}. {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {هُوَ الْقَادِرُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت {هُوَ}: مبتدأ. {الْقَادِرُ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول القول لـ {قُلْ}. {عَلَى}: حرف جر. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَبْعَثَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْعَثَ}، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره: على بعثه عليكم عذابًا من فوقكم، الجار والمجرور متعلق بـ {الْقَادِرُ}. {عَذَابًا}: مفعول به. {مِنْ فَوْقِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {عَذَابًا}. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، معطوف على الجار والمجرور قبله. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَبْعَثَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {شِيَعًا}: حال من مفعول {يَلْبِسَكُمْ}، ولكن في تأويل متفرقين. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ}: فعل ومفعول أول معطوف على {يَلْبِسَكُمْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {بَأْسَ بَعْضٍ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. {انْظُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه

{نُصَرِّفُ}، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام. {نُصَرِّفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {الْآيَاتِ}: مفعول به، وهذه الجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول لـ {انْظُرْ}، و {كَيْفَ} معلقة له عن العمل في لفظه. {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترجٍ وتعليل ونصب، والهاء: اسمها، وجملة {يَفْقَهُونَ} في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها، والمعنى: انظر يا محمَّد كيف نصرف لهم الآيات لكي يفقهوا ويفهموا ويتدبروا تلك الآيات. {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. {وَكَذَّبَ} {الواو}: استئنافية. {كَذَّبَ}: فعل ماض. {بِهِ}: متعلق به. {قَوْمُكَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ الْحَقُّ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير به؛ أي: كذبوا به حال كونه حقًّا، وهو أعظم في القبح، أو الجملة مستأنفة. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {لَسْتُ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {وَكِيلٍ}. {بِوَكِيلٍ}: خبر {ليس}، والباء زائدة، وجملة {ليس} في محل النصب مقول لـ {قل}. {لِكُلِّ نَبَإٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {مُسْتَقَرٌّ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل وحرف تنفيس، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية التي قبلها. {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {رَأَيْتَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر

في محل النصب مفعول به لـ {رأى}؛ لأن رأى بصرية يتعدى لمفعول واحد. {يَخُوضُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {فِي آيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَخُوضُونَ}. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الفاء: رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. {أَعْرِضْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إِذَا} مع جوابها مستأنفة. {حَتَّى يَخُوضُوا}: فعل وفاعل وناصب، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى: إلى تقديره: إلى خوضهم في حديث غيره، الجار والمجرور متعلق بـ {أَعْرِضْ}. {فِي حَدِيثٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَخُوضُوا}. {غَيْرِهِ}: صفة ومضاف إليه مجرور؛ لأنه بمعنى مغاير. {وَإِمَّا}: {الواو}: عاطفة. {إِمَّا}: حرف شرط، وما: زائدة. {يُنْسِيَنَّكَ}: ينسين: فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة، حرف لا محل لها من الإعراب، والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به. {الشَّيْطَانُ}: فاعل. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية؛ لكون الجواب جملة طلبية. {لا}: ناهية جازمة. {تَقْعُدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بَعْدَ الذِّكْرَى}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَقْعُدْ}. {مَعَ الْقَوْمِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَقْعُدْ} أيضًا. {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}، وجملة {تَقْعُدْ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إذا} الشرطية. {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {يَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ حِسَابِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قَدمت عليها. {مِنْ

شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر، و {مِنْ}: زائدة، والجملة الإسمية مستأنفة. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {ذِكْرَى}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: ولكن ذكروهم ذكرى، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. {لَعَلَّهُمْ}: لعل: حرف نصب وتعليل، والهاء: اسمها، وجملة {يَتَّقُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}. {وَذَرِ} {الواو}: استئنافية. {ذَرِ}: فعل أمر مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب على المفعولية. {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل. {دِينَهُمْ}: مفعول أول لها. {لَعِبًا}: مفعول ثان. {وَلَهْوًا}: معطوف عليه، والجملة صلة الموصول. {وَغَرَّتْهُمُ}: فعل ومفعول. {اتَّخَذُوا}: فاعل. {دِينَهُمْ}: صفة لها، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {وَذَكِّرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بِهِ}: متعلق بـ {ذكر}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تُبْسَلَ نَفْسٌ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المنصوب على كونه مفعولا لأجله، تقديره: وذكر به مخافة إبسال نفس. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تُبْسَلَ}. {كَسَبَتْ}: فعل ماض، وتاء تأنيث، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسٌ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبته. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {لَهَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من {وَلِيٌّ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {وَلِيٌّ}: اسم ليس مؤخر. {وَلَا شَفِيعٌ}: معطوف عليه، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة، أو حال من {نَفْسٌ} أو صفة لها، كما

ذكره "أبو السعود". {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف شرط. {تَعْدِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ}، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسٌ}. {كُلَّ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {عَدْلٍ}: مضاف إليه. {لَا}: نافية. {يُؤْخَذْ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {كُلَّ عَدْلٍ}. {مِنْهَا}: متعلق به، وجملة {لَا يُؤْخَذْ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {أُبْسِلُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أُبْسِلُوا}. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبوه. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {شَرَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ حَمِيمٍ} صفة لـ {شَرَابٌ}، والجملة الإسمية في محل الرفع خبر ثان لأولئك، أو في محل النصب حال من ضمير {أُبْسِلُوا}، أو من الموصول، أو مستأنفة. {وَعَذَابٌ}: معطوف على {شَرَابٌ}. {أَلِيمٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}. {بِمَا كَانُوا}: الباء: حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْفُرُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} من اسمها وخبرها صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كفرهم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} المفاتح: جمع مفتح - بفتح الميم وكسر التاء - بمعنى: المخزن، فيكون اسم مكان، والمخزن - بفتح الميم وكسر الزاي -: المكان الذي يخزن فيه الجواهر النفيسة وغيرها، أو جمع مفتح بكسر الميم وفتح التاء، والمفتح: هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، فيكون اسم الآلة، ففي

الكلام استعارة كما سيأتي في مبحثها. وفي "السمين": في المفاتح ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أنه جمع مفتح بكسر الميم، والقصر مع فتح التاء، وهو الآلة التي يفتح بها، كمنبر ومنابر. والثاني: أنه جمع مفتح بفتح الميم وكسر التاء، كمسجد، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس بقوله: هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضًا إلا أن هذا فيه ضعف من حيث إنه كان ينبغي أن تقلب ألف المفرد ياء، فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نقل في جمع مصباح مصابيح، وفي جمع محراب محاريب، وهذا كما أتوا في جمع ما لا مدّ في مفرده، كقولهم: دراهم وصياريف في جمع: درهم وصيرف، فزادوا في هذا ونقصوا في ذلك. وقد قرئ {مفاتيح} كما مرَّ، وهي تؤيِّد أن مفاتح جمع: مفتاح، وإنما حذفت مدته، وجوز الواحدي أن يكون مفاتح جمع: مفتح - بفتح الميم والتاء - كمذهب على أنه مصدر، فعلى هذا مفاتح جمع: مفتح بمعنى: الفتح، ويكون المعنى: وعنده فتوح الغيب؛ أي: هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده. اهـ. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والبحر (¬2): كل مكان واسعٍ حاوٍ للكثير من الماء، والبر: ما يقابله. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} والسقوط: الوقوع من علو، والورقة واحدة الورق من النبات والكاغد، وهي معروفة، والرطب واليابس معروفان، يقال: رطب فهو رطيب، ورطب ويبس فهو يابس ويبيس، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} التوفي: أخذ الشيء وافيًا؛ أي: تامًّا كاملًا، ويقابله التوفية وهو إعطاء الشيء تامًّا كاملًا، ويقال: وفاه حقه فتوفاه منه، قال تعالى: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، ويقال: توفاه واستوفاه: أحصى عدده، ثم أطلق التوفي على الموت؛ لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذًا تامًّا، وأطلق على النوم كما في الآية، وفي آية الزمر. {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} والجرح: يطلق على العمل والكسب بالجوارح، وعلى التأثير الدامي من السلاح، وما في معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش، وتسمى الخيل والأنعام المنتجة جوارح أيضًا؛ لأن نتاجها كسبها، والجرح كالكسب، يطلق على الخير والشر، والاجتراح فعل الشر خاصة في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وفي "المصباح": وجرح من باب نفع، واجترح عمل بيده واكتسب، ومنه قيل لكواسب الطير والسباع: جوارح جمع: جارحة؛ لأنها تكسب بيدها. {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ}؛ أي: يوقظكم من النوم، وعرَّفوا النوم: بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهرًا عليه، تمنع حواسه الحركة، وعقله الإدراك. {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} والحفظة: جمع: حافظ، مثل: كتبة وكاتب، وهو جمع (¬1) منقاس لفاعل وصفًا مذكرًا صحيح اللام عاقلًا، وقلَّ فيما لا يعقل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة": وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ والمراد بالحفظة هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ}. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والظلمات جمع: ظلمة، وهي عدم الضوء، وهي (¬2) ضربان: ظلمات حسية؛ كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية؛ كظلمة الجهل بالمسالك والطرق، وظلمة فقد الأعلام والمنار، وظلمة الشدائد والأخطار؛ كالعواصف والأعاصير وهياج البحار إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس، وتدهش العقول. قال الزجاج: تقول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

العرب لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب؛ أي: أنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وفي المثل؛ أي: رأى الكواكب ظهرًا؛ أي: أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارًا. {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} التضرع: تفعل من الضراعة، وهو المبالغة في الضراعة، وهي الذل والخضوع، والمراد منه هنا: ما كان صادرًا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري المطوي في أنفس البشر. والخفية - بضم الخاء وكسرها -: الخفاء والاستتار. والدعاء قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء، وقد يكون بالإسرار هربًا من الرياء، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعًا صوته متضرعًا مبتهلًا، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصًا ومحتسبًا، ويتحرى أن لا تسمعه أذن، ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل المسؤول. والخفية - بضم الخاء وكسرها - كما مرَّ: اسم مصدر من أخفى الشيء يخفي إخفاء وخفية إذا ستره. وقرأ الأعمش: {خِيفة} كما مرَّ بكسر الخاء وتقديم الياء الساكنة على الفاء، وهي من الخوف، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها. {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} والكرب: الغم الشديد، يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب قال عنترة: وَمَكْرُوْبٍ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}؛ أي: يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إتفاق، فيجعلكم فرقًا مختلفة لا فرقة واحدة. ومعنى خلطهم (¬1): إنشاب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، كقول الشاعر: وَكَتِيْبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيْبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِيْ فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُوْرَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وَآخَرَ مُسْنَدِ والشيع جمع: شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واحد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وفي "الفتوحات" (¬1): والشيع جمع: شيعة، كسدرة وسدر، والشيعة من يتقوَّى به الإنسان، والجمع: شيع كما تقدم وأشياع، كذا قاله الراغب، والظاهر أن أشياعًا جمع: شيع كعنب وأعناب وضلع وأضلاع، وشيع جمع: شيعة، فهو جمع الجمع اهـ "سمين". وفي "القاموس": وشيعة (¬2) الرجل - بالكسر -: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولَّى عليًّا وأهل بيته، حتى صار اسمًا لهم خاصَّةً، والجمع: أشياع وشيع؛ كعنب. انتهى. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} وهذا هو ما عليه الناس اليوم من الاختلافات وسفك بعضهم دماء بعض، والبأس: العذاب الشديد، كما في "المصباح". {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}؛ أي: نحولها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرًا للمعنى: وتقريبًا إلى الفهم. {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الفقه: فهم الشيء بدليله وعلته المفضي إلى الاعتبار والعمل به. {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} والوكيل: هو الذي توكل إليه الأمور. {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} والنبأ: الشيء الذي ينبأ عنه، والمستقر: يصح كونه مصدرًا، واسم مكان أو زمان؛ أي: استقرار أو مكانه أو زمانه. {الَّذِينَ يَخُوضُونَ} الخوض (¬3)، في اللغة: هو الشروع في الماء والعبور فيه، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه، يقال: تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث. {وَلَكِنْ ذِكْرَى} والذكرى مصدر: ذكر يذكر ذكرى، جاء على وزن: فعلى، وألفه للتأنيث، ولم يجىء مصدر على فعلى غيره. {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} أصل (¬4) البسل في اللغة: التحريم والمنع، ومنه: هذا عليك بسل؛ أي: حرام ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) القاموس المحيط. (¬3) الخازن. (¬4) الفتوحات.

ممنوع اهـ "خازن". وعبارة "أبي السعود": وأصل البسل والإبسال: المن, ومنه: أسد باسل؛ لأن فريسته لا تفلت منه، أو لأنه ممتنع، والباسل: الشجاع؛ لامتناعه من قرنه، وهذا بسيل عليك؛ أي: حرام ممنوع اهـ. وفي "المختار": وأبسله: أسلمه، فهو بسيل، وقوله تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} قال أبو عبيدة: أن تسلم، والمستبسل: الذي يوطّن نفسه على الموت أو الضرب، وقد استبسل؛ أي: استقتل، وهو أن يطرح نفسه في الحرب ويريد أن يقتل أو يقتل لا محالة، وفسر هنا: بالحبس في النار، وبالحرمان من الثواب وبالفضيحة. قال أبو حيان: الإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ويقال: أبسلت ولدي: أرهنته قال الشاعر: وَإِبْسَالي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعُوْنَاه وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ بعوناه: جنيناه، والبعو: الجناية. انتهى. {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}؛ أي: تفتد بكل فداء كما عبر به "الخازن"، وعدل بهذا المعنى من باب ضرب. وفي "المصباح": يقال: عدلت هذا بهذا عدلًا من باب ضرب إذا جعلته مثله قائمًا مقامه، والعدل أيضًا: الفدية، قال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}. اهـ. وفي "البيضاوي": والعدل: الفدية؛ لأنها تعادل المفدى، و {كُلَّ} نصب على المصدر. {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} وشراب (¬1): فعال بمعنى: مفعول، وفعال بمعنى: مفعول؛ كطعام بمعنى: مطعوم لا ينقاس، لا يقال: أكال بمعنى مأكول، وضراب ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بمعنى: مضروب، والحميم: الماء الشديد الحرارة، وأليم: شديد الألم، فكلاهما صيغة مبالغة على وزن فعيل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}؛ لأنه استعار المفاتح للأمور الغيبية، كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات، قال الزمخشري: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المغلقة بالأقفال، فهو سبحانه العالم بالمغيبات وحده، وفي قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}، فإنه استعار التوفي من الموت للنوم؛ لأن التوفي حقيقة في الموت لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز. ومنها: الترشيح في قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} وهو ذكر ما يلائم المستعار منه. قال القاضي: أطلق البعث ترشيحًا للتوفي؛ أي: لما استعير التوفي من الموت للنوم .. كان البعث - الذي هو في الحقيقة الإحياء بعد الموت - ترشيحًا؛ لأنه أمر يلائم المستعار منه اهـ "كرخي". ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؛ لأنه استعار الظلمات المعطلة لحاسة البصر للشدائد الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول، وفي قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}؛ لأن الذوق حقيقة في المذوقات. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}؛ لأن الخوض حقيقة في الانغماس في الماء، فاستعير للأخذ في الحديث والشروع فيه على وجه اللعب واللهو، وقيل: الخوض كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها. ومنها: الحصر في مواضع، كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}؛ لأن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد حصره في الخبر، وكقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ}، وقوله:

{ألَا لَهُ الْحُكْمُ}. ومنها: الطباق في قوله: {مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ}، وقوله: {وَلَا حَبَّةٍ}، وقوله: {رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ}، وقوله: {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وقوله: {فوق وتحت}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} للتسجيل عليهم بقبح ما ارتكبوا؛ حيث وضعوا التكذيب والاستهزاء مكان التصديق والتعظيم، وحق العبارة أن يقال: فلا تقعد معهم كما مر. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} من إسناد ما للسبب إلى المسبب؛ لأن المراد بالإسناد أسباب الموت ومقدماته. ومنها: الاستفتاح والتنبيه في قوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ}. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر جزاء الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، بأنه لا ولي لهم ولا شفيع من دون الله، وأنهم مبسلون في عذاب جهنم، ولهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون .. أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم هذه المقالة؛ أي: كيف ندعوا من دون الله أصنامًا لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن أردنا منها نفعًا، ولا نخشى ضرها بوجه من الوجوه،

ومن كان هكذا .. فلا يستحق العبادة توبيخًا لهم وإنكارًا عليهم عبادتها. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه يحشر إلى جزائه العالم، وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم .. ذكر مبتدأ وجود العالم وخلقه له بالحق؛ أي: بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل؛ أي: لم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا، بل صدرا عن حكمة وصواب، وليستدل بهما على وجود الصانع؛ إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث، لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه جلَّ وعلا. قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ...} الآية، مناسبة هذه الجملة لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء، وتضمن البعث إفنائهم قبل ذلك .. ناسب ذكر الوصف بالحكيم، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة .. ناسب ذكر الوصف بالخبير، إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} .. ناسب ذكر هذه الآية هنا، وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه؛ إذ هو جدهم الأعلى، فذكِّروا بأن إنكار هذا النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها، وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد، وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليه السلام. أسباب النزول قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ...} الآية، سبب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[71]

نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن عبيد الله بن زجر عن بكر بن سوادة قال: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلًا، ثم حمل، فقتل رجلًا آخر، ثم حمل فقتل آخر، ثم قال: أينفعني الإِسلام بعد هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فضرب فرسه فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه، فقتل رجلًا ثم آخر، ثم قتل. قال فيرون: إن هذه الآية نزلت فيه. {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 71 - {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء المشركين الذين يدعونك إلى دين آبائهم {أَنَدْعُو}؛ أي: نعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين عبادة الله الضار النافع {مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}؛ أي: الأصنام التي لا تنفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناها, ولا تضرنا إن تركنا عبادتها، وأدنى مراتب المعبودية: القدرة على ذلك؛ أي: لا ينبغي لنا ولا يمكن منا أن نعبد غير الله سبحانه وتعالى بعد أن هدانا الله تعالى إلى الإِسلام والتوحيد، والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ {و} هل {نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}؛ أي: وهل نرجع وراءنا وخلفنا إلى الشرك {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} وأرشدنا إلى دينه وأكرمنا به، لا نرجع إلى الشرك، ويقال لكل (¬2) من أعرض عن الحق إلى الباطل: أنه رجع إلى خلف، ورجع على عقيبه؛ لأن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا تكامل حصل له العلم، فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى .. فكأنه رجع إلى أول مرة. والمعنى (¬3): قل يا محمَّد للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعوا من دون الله تعالى حجرًا أو شجرًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده التفسير والنفع، والحياة والموت؟ إن كنتم تعقلون .. فتميزون بين الخير والشر، ولا شك أن خدمة من يرتجى نفعه ويرهب ضره أحق وأولى من خدمة ما لا يرجى منه شيء منهما، وهل نرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

إلى الإِسلام والتوحيد؟ والخلاصة: أن ذلك لا ينبغي لنا ولا يقع منا للأسباب الآتية: 1 - أن هذا تحول وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء، ويمنح الخير إن شاء إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر. 2 - أنه رد على الأعقاب، وتقهقر إلى الوراء. 3 - أن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}. ثم ضرب مثلًا يصوِّر المرتد في أقبح حالة كانت تتخيلها العرب، فقال: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أنرد على أعقابنا ونرجع إلى الشرك حالة كوننا مشبهين بالشخص الذي استهوته واختطفته وأضلته الشياطين والغيلان ومردة الجن عن الطريق الموصل إلى المقصد، واستتبعته وألقته في الهوية والبراري والصحارى من الأرض حالة كونه {حَيْرَانَ}؛ أي: متحيرًا في شأنه لا يدري أين يذهب، لضلاله عن الطريق {لَهُ}؛ أي: لذلك المستهوى الضال عن الطريق {أَصْحَابٌ} ورفقة {يَدْعُونَهُ} وينادونه ليردوه {إِلَى الْهُدَى}؛ أي: إلى الطريق الذي أخطأ عنه قائلين في ندائهم: {ائْتِنَا} وجئنا وأقبل إلينا، فإن الطريق ها هنا، فلا يسمعهم ولا يجيبهم، فيهلك في الصحارى؛ أي: لا ينبغي لنا أن نكون مثل ذلك المستهوى الضال عن الطريق. والمعنى؛ أي: أنرد على أعقابنا، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى ويضل في الأرض حيران تائهًا، له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه، ويقولون له: ائتنا. وخلاصة المثل (¬1): أن من يرتد مشركًا بعد الإيمان .. كمن جعله العشق أو ¬

_ (¬1) المراغي.

الجنون هائمًا على وجهه ضالًا في الفلوات حيران لا يهتدي، تاركًا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه: عد إلينا وارجع، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة. قال صاحب "الكشاف": وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان وتختطفه، والغيلان تستولي عليه، كما قال تعالى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. قال ابن عباس (¬1): مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه، فيصبح وقد ألقته في مهمهٍ ومهلكة، فهو حائر في تلك المهامه. وحمل الزمخشري {اسْتَهْوَتْهُ} على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل؛ كأنه قيل: كالذي أمالته الشيطان عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر، وحمله غيره كأبي عليّ على أنه من الهُويُّ بمعنى: السقوط؛ أي: ألقته في هوة ووهدة، ويكون استفعل بمعنى: أفعل، نحو استزل وأزل. وقرأ السلمي والأعمش وطلحة (¬2): {استهوته الشيطان} بالتاء، وإفراد الشيطان. وقال الكسائي: إنها كذلك في مصحف ابن مسعود انتهى. والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعًا. وقرأ الحسن: {الشياطون}، وتقدم، وقد لحن في ذلك، وقد قيل: هو شاذ قبيح، وفي مصحف عبد الله: {أتينا} فعلًا ماضيًا لا أمرًا، فـ {إِلَى الْهُدَى} متعلق به. ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه، لا فيما يدعونه إليه، فقال: {قُلْ} لهم يا محمَّد {إِنَّ هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إن (¬3) طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم {هُوَ الْهُدَى} والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام؛ لأن ما وراءه ضلال، ففيه زجر عن عبادتها، كأنه يقول: لا نفعل ذلك، فإن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره، والمعنى: قل لهم يا محمَّد: إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته هو الهدى الحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

[72]

ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعًا لما ألفيتم عليه آبائكم. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: وقيل لهم يا محمَّد: وأمرنا بأن نسلم ونخلص العبادة لله سبحانه وتعالى مالك العالمين، فأسلمنا لأنه هو الذي يستحق العبادة منا لا غيره، 72 - والآمر هو الله سبحانه وتعالى {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ}؛ أي: واتقوا رب العالمين؛ أي: وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى الله؛ لأن فيهما ما يقرب إليه، والمعنى: وأمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة وبالتقوى. وإقامة (¬1) الصلاة: الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله، وهي: أن تزكِّي النفس بمناجاة الله وذكره، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والتقوى: اتقاء ما يترتب عليه مخالفة دين الله وشرعه. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي إِلَيْهِ}؛ أي: إلى لقائه {تُحْشَرُونَ} وتجمعون؛ أي: وهو سبحانه وتعالى الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، فليس من العقل ولا من الحكمة أن يعبد أو يخاف أو يرجى غيره تعالى. 73 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد على غير مثال سابق {السَّمَاوَاتِ} السبع وما فيها {وَالْأَرْضَ} وما فيها خلقًا ملتبسًا {بِالْحَقِّ} والحكمة، وهو أنه على وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته البالغة، ولم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا، فهو لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما كسبت، ونحو هذه الآية قوله تعالى في سورة آل عمران: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}. وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ظرف لقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ}؛ أي: وقوله سبحانه وتعالى هو الحق الواقع الذي لا شك فيه حين يقول للشيء الذي أراد إيجاده: كن؛ أي: اخرج من العدم، فيكون؛ أي: فيوجد ذلك الشيء الذي ¬

_ (¬1) المراغي.

تعلقت إرادته بإيجاده، وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه، فلا مرد لأمره، ولا تخلف لقضائه وحكمه، ومن كان أمره التكويني مطاعًا .. يكون أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج في النفس ولا ضيق منه، فالخلق حق، والأمر حق: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}. والمراد من هذا الأمر (¬1): التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات، وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة، بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلًا. والمراد بالقول كلمة: {كُنْ} تمثيل؛ لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنًا من زمن النطق بـ {كُنْ}. {وَلَهُ} سبحانه وتعالى خاصة {الْمُلْكُ} والسلطنة {يَوْمَ يُنْفَخُ} وينادى {فِي الصُّورِ} لبعث الخلائق، وهو يوم القيامة؛ أي: وله سبحانه وتعالى الملك يوم الحشر يوم يبعث من في القبور، وينفخ في الصور، والأمر حينئذ لله وحده، ولا تملك نفس لنفس شيئًا من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق أن يدعو سواه، ويتخذ له إلهًا غير الله، ويرد على عقبيه ويرجع إلى أسوأ حاليه؟! وإنما أخبر (¬2) سبحانه وتعالى عن ملكه يومئذ، وإن كان الملك له تعالى خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا منازع له يومئذ يدِّعي الملك، وأنه المنفرد بالملك يومئذ، وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم، واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، وأنه لا منازع له فيه، وعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور. واختلفت (¬3) العلماء في {الصُّورِ} المذكور في الآية، فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه، وهو لغة أهل اليمن. قال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق، ويدل على ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن.

صحة هذا القول: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه". أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ"، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟ وكيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا"، وربما قال: "توكلنا على الله" أخرجه الترمذي. وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعنى النفخ فيها إحياؤها بنفخ الروح فيها، وهذا قول الحسن ومقاتل. والقول الأول أصح؛ لما تقدم في الحديث، ولقوله تعالى في آية أخرى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}، ولإجماع أهل السنة على أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين: نفخة الصعق، ونفخة البعث للحساب. وقرأ الحسن (¬1): {الصور} بتحريك الواو، وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض، ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة؛ كثومة وثوم. وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو: {ننفخ} بنون العظمة. وهو سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: عالم ما غاب عن عباده وما يشاهدونه ويعلمونه، فلا يغيب عن علمه شيء. قال الحسن: الغيب: ما غاب عنكم مما لم تروه، والشهادة: ما قد رأيتم من خلقه. وقال ابن عباس: الغيب والشهادة: السر والعلانية: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَكِيمُ} في جميع أفعاله وتدبير خلقه {الْخَبِيرُ} بكل ما يفعلونه من خير وشر. والمعنى (¬2): أن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، والذي قوله الحق تكوينًا وتكليفًا، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق: هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[74]

وخفاياها, ولا يشذ عن علمه شيء منها، فلا ينبغي لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، وقال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}. وقرأ الأعمش (¬1): {عالمِ} بالخفض، ووُجِّه على أنه بدل من الضمير في: {له}، أو من {رب العالمين} أو نعت للضمير في {له}، والأجود الأول؛ لبعد المبدل منه في الثاني، وكون الضمير الغائب يوصف إنما أجازه الكسائي وحده، وليس مذهب الجمهور. 74 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ}؛ أي: واذكر يا محمَّد لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم - إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم - قصص جدهم إبراهيم الخليل الذي يعظمونه ويدَّعون اتباع ملته، حين جادل قومه وراجعهم في بطلان ما كانوا يعملون؛ إذ قال لأبيه آزر منكرًا عليه وعلي قومه، وعائبًا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا أبتِ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} تعبدها وتجعلها معبودًا لك من دون الله الذي خلقك وخلقها، فهو المستحق للعبادة دونها والأصنام: جمع صنم، وهو ما صوِّر على هيئة الإنسان، وعبد من دون الله، سواء كان من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك، ذكره "الصاوي". {إِنِّي أَرَاكَ} يا أبتِ {وَقَوْمَكَ} الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك {فِي ضَلَالٍ} وخطأ عن الصراط المستقيم. {مُبِينٍ}؛ أي: واضح ذلك الضلال لا شبهة فيه للهدى، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها بأيديكم من الحجارة، أو تقطعونها من الخشب، أو تصنعونها من المعادن، فأنتم أرفع منها قدرًا وأعز جانبًا، ولم تكن آلهة بذاتها، بل باتخاذكم إياها آلهة، ولا يليق بالعاقل أن يعبد ما هو مساوٍ له في الخلق، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه، ومحتاج إلى الغني القادر، ولا يقدر على شيء لا نفع ولا ضر، ولا إعطاء ولا منع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقرأ الجمهور: {ءَازَرَ} بفتح الراء. وقرأ أبي وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء، وكونه علمًا، ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء، وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذًا. وفي مصحف أبي: {يا آزر} - بحرف النداء - {اتخذت أصنامًا} بالفعل الماضي. فيحتمل العلمية والصفة. وقرأ ابن عباس أيضًا: {أأزرًا تتخذ أصنامًا} بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكون الزاي ونصب الراء منونة، وحذف همزة الاستفهام من {أتتخذ}. قال ابن عطية: المعنى: أعضدًا وقوة ومظاهرة على الله تتخذ، وهو من قوله: {اشدد به أزرى}. وقال الزمخشري: هو اسم صنم، ومعناه: أتعبد أزرًا على الإنكار، ثم قال: أتتخذ أصنامًا آلهةً؛ تبيينًا لذلك وتقريرًا، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنه كالبيان له. وقرأ ابن عباس أيضًا وأبو إسماعيل الشامي: {أإزرًا} بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام {تتخذ}. قال ابن عطية: ومعناها: إنها مبدلة من واو، كوسادة وإسادة، كأنه قال: أوزرًا ومأثمًا تتخذ أصنامًا، ونصبه على هذا بفعل محذوف. وقرأ الأعمش: {إزرا تتخذ} بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها، وبغير همزة استفهام في {تتخذ} , وذكره أبو حيان في "البحر". واختلف (¬1) العلماء في لفظ {ءَازَرَ} فقال محمَّد بن إسحاق والكلبي والضحاك: آزر: اسم أبي إبراهيم، وهو تارح، ضبطه بعضهم بالحاء المهملة، وبعضهم بالخاء المعجمة، فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارح، مثل يعقوب وإسرائيل: اسمان لرجل واحد، فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي: آزر، وتارح لقب له، أو بالعكس، والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح؛ ليعرف بذلك، وكان آزر أبو إبراهيم من كوثى، وهي قرية من سواد الكوفة. وقال سليمان التيمي: آزر: سب وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج. وقيل: الشيخ الهرم، وهو بالفارسية، وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظًا قليلة فارسية، وقيل: هو المخطىء، فكأن إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر: اسم صنم كان والد ¬

_ (¬1) الخازن.

[75]

إبراهيم يعبده، وإنما سماه بهذا الاسم؛ لأن من عبد شيئًا أو أحبه .. جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسمًا له، فهو كقوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}. وقيل: معناه: وإذ قال إبراهيم لأبيه يا عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والصحيح هو الأول: أن آزر اسم لأبي إبراهيم؛ لأن الله تعالى سماه به، وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح، ففيه نظر؛ لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم. وقد أخرج البخاري في "أفراده" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة .. " الحديث، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: آزر أيضًا، ولم يقل: أباه تارح، فثبت بهذا أن اسمه الأصلي آزر لا تارح، والله أعلم. وقيل: كان آزر من أهل حران، وهو تارخ بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، ذكره أبو حيان في "البحر". وإبراهيم اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح، وهو العاشر من أولاد سام كما في سفر التكوين من التوراة، ولد في بلدة: أور؛ أي: النور، من بلاد الكلدان، وهي المعروفة الآن باسم: أورفا في ولاية حلب كما يرجح ذلك المؤرخون. ومعنى إبراهيم: أبو الجمهور العظيم؛ أي: أبو الأمة، وهو تبشير من الله له بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام. وقد أثبت علماء الآثار (¬1) أن عرب الجزيرة سكنوا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر، وغلبت لغتهم فيهما، ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابي الذي كان معاصرًا لإبراهيم عليه السلام عربي، وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية في الوادي الذي بنيت فيه مكة، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك، والله أعلم. 75 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، وهو أنهم ¬

_ (¬1) المراغي.

كانوا في ضلال مبين في عبادتهم للأصنام والأوثان {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض؛ أي: خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع، فأريناه تلك الكواكب التي تدور في أفلاكها على وضع لا تعدوه، وأريناه الأرض وما في طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان في معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه، وجلينا له بواطن أمورها وظواهرها، مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شيء. والمعنى (¬1): وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام .. نريه ملكوت السموات والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ}؛ لأنه سبحانه وتعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم، فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض، فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى، والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة، كالرهبوت والرغبوت والرحموت: من الرهبة والرغبة والرحمة. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض، وذلك أنه أقيم على صخرة، وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب، وحتى رأى مكانه في الجنة، فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} يعني: أريناه مكانه في الجنة، وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين، ورأى ما فيها من العجائب. وقرأ (¬2) أبو السمال: {مَلْكُوتَ} - بسكون اللام -: وهي لغة بمعنى: الملك. وقرأ عكرمة: {ملكوث} بالثاء المثلثة. وقال: {ملكوثا} باليونانية والقبطية. وقال النخعي: هي {ملكوثا} بالعبرانية. وقرىء: {وكذلك ترى} التاء من فوق {إبراهيم ملكوت} - برفع التاء -؛ أي: تبصره دلائل الربوبية. وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} معطوف على محذوف معلوم من السياق تقديره: وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليقيم بها الحجة على ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[76]

المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الموقنين؛ أي: من زمرة الراسخين في الإيقان، البالغين عين اليقين. وقيل: الواو زائدة، ومتعلق {الْمُوقِنِينَ} محذوف تقديره: من الموقنين بوحدانية الله وقدرته، وقيل: بنبوته ورسالته. واليقين وكذا الإيقان: عبارة (¬1) عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة؛ لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت .. صارت سببًا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب، وزالت الشبهة عند ذلك. 76 - ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض، فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}؛ أي: إنه سبحانه وتعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض .. كان من أول أمره في ذلك أنه لما جن وأظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من عالم الأرض .. نظر في ملكوت السموات فـ {رَأَى كَوْكَبًا} عظيمًا ممتازًا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه، وهو كوكب: المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والرومان، وهو في السماء السادسة. وقيل: هو الزهرة، وهي في السماء الثالثة، وبالجملة فالكوكب من السبعة السيارة المجموعة في قول بعضهم: زُحَلٌ شَرَى مَرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارَا وكان قوم إبراهيم أئمتهم في هذه العبادة، وهم لهم مقتدون، فلما رآه {قَالَ} إبراهيم {هَذَا} الكوكب {رَبِّي} ومعبودي في زعمكم؛ أي: قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدًا للإنكار عليهم، فحكى مقالتهم أولًا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها، فأوهمهم أولًا أنه موافق لهم على زعمهم ثم كر عليه بالنقض بانيًا دليله على الحس والعقل {فَلَمَّا أَفَلَ} وغاب وغرب هذا الكوكب واحتجب عنه {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}؛ أي: لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان، المتغيرين من حال إلى حال، المحتجبين ¬

_ (¬1) الخازن.

[77]

بالأستار؛ أي: لا أحب (¬1) ربًّا يغيب ويحتجب؛ إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقده، فما بالك بحب العبادة له الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله؛ لأنه قد هدت إليه الفطرة، وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغي أن يكون إلا للرب الحاضر القريب السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته: وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ والباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}، وقد جاء في الحديث في وصف الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". والخلاصة: أن في هذا تعريضًا بجهل قومه في عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدري شيئًا من أمر عبادتهم، وهذا قريب من قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}. وإنما احتج (¬2) إبراهيم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؛ لأن الاحتجاج بالأفول أظهر؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب، وجاء بلفظ {الْآفِلِينَ}؛ ليدل على أن ثَمَّ آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول، فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث. 77 - {فَلَمَّا رَأَى} إبراهيم {الْقَمَرَ} حال كونه {بَازِغًا}؛ أي: طالعًا من وراء الأفق أول طلوعه {قَالَ} إبراهيم {هَذَا} القمر الطالع {رَبِّي}؛ أي: معبودي على طريق الحكاية لما كانوا يقولون؛ تمهيدًا لإبطاله كما علمت فيما سلف، والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب في ليلة، ورأى القمر في الليلة التالية {فَلَمَّا أَفَلَ} القمر وغاب، كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرًا وأسطع نورًا وأقوى منه ضياء {قَالَ} إبراهيم مسمعًا من حوله من قومه: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي}؛ أي: لئن لم يثبتني ربي على الهداية ويوفقني للحجة، وليس المراد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[78]

أنه لم يكن مهتديًا؛ لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة. وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى. {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} الذين أخطؤوا الحق في ذلك، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله، واتبعوا أهواءهم، ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه وتعالى. وفي هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه، وإرشاد إلى توقف الهداية على الوحي الإلهي، 78 - وقد انتقل في المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم، والتصريح بأنهم على شرك بيِّن بعد أن تبلج الحق وظهر غاية الظهور، وذلك قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ} حالة كونها {بَازِغَةً}؛ أي: طالعة من وراء الأفق {قَالَ} إبراهيم مشيرًا إليها {هَذَا} الطالع، أو هذا الذي أرى الآن هو {رَبِّي}؛ أي: معبودي، وإنما قال هذا ولم يقل هذه مع كون الشمس مؤنثة، قيل: نظرًا لكونها بمعنى: الطالع كما أشرنا إليه في الحل، أو نظرًا لكون الخبر مذكرًا، أو لأن تأنيثها غير حقيقي {هَذَا} الطالع الآن {أَكْبَرُ} من الكوكب والقمر قدرًا، وأعظم ضياء ونورًا، فهو أجدر منهما بالربوبية، وفي هذا مبالغة في المجاراة لهم، وتمهيد لإقامة الحجة عليهم، واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه. {فَلَمَّا أَفَلَتْ} الشمس وغابت كما أفل غيرها من الكوكب والقمر، واحتجب ضوؤها المشرق، وكانت الوحشة بذلك أشدَّ من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر .. صرح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم، و {قَالَ} متبرئًا من شرك قومه {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث. والخلاصة: أنه حاور وداور وتلطف في القول، وأرخى لخصمه العنان حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجهٍ وأحسن طريق متبرئًا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابًا وآلهةً مع الله، 79 - وبعد أن تبرأ من شركهم .. قفى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}؛ أي: إني جعلت توجهي في عبادتي، أو قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عَزَّ وَجَلَّ، وذكر الوجه؛

لأنه العضو الذي يعرف به الشخص، أو لأنه يطلق على الشخص كله {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: للإله الذي خلق السموات والأرض، وأكمل خلقهن أطوارًا في ستة أيام، فهو خالق هذه الكواكب النيرات، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من المعادن والنباتات حالة كوني {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة التي هي الشرك والخرافات إلى الدين الحق الذي هو التوحيد والإخلاص لله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بالله شيئًا من المخلوقات، وفي معنى الآية قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. وإسلام (¬1) الوجه له تعالى: توجه القلب إليه، وعبر عنه به؛ لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال أو الإعراض، والسرور أو الكآبة إلى نحو أولئك، وتوجيهه له: جعله يتوجه إليه وحده في طلب حاجته، وإخلاص عبوديته إذ هو المستحق للعبادة القادر على الأجر والثواب. ومراد إبراهيم أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وغيرها، فتوجهه وإسلامه خالص لا يشوبه شرك ولا رياء، وما هو من المشركين به، الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل. وظاهر ما حكاه الله عن إبراهيم عليه السلام أن قومه يتخذون الأصنام آلهة لا أربابًا، ويتخذون الكواكب أربابًا آلهة، والإله هو المعبود، وكل من عبد شيئًا .. فقد اتخذه إلهًا، والرب هو السيد المالك المربي المدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء، وفي كل زمن، وعلى كل حال، وملك غيره ناقص موقوت، فهو المعبود بحق، والعبادة: هي التوجه بالدعاء والتعظيم القولي أو الفعلي إلى ذي السلطان الأعلى، خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه. والأصل (¬2) في اختراع عبادة غير الله تعالى من حجر أو شجر أو شمس أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

قمر أمران: 1 - أن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق، ليس خاضعًا لسنن الله في الأسباب والمسببات. 2 - اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق، تشفع عنده، وتقرب إليه كل من توجه إليها، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل؛ لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤاله، وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها، وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة، ومن ثمَّ كانوا يقولون في طوافهم بالبيت الحرام: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما مَلك. وكان قوم إبراهيم عليه السلام قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة، إذ إنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم، ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم وضرهم، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتي في حججهم في سورة الشعراء، ومن ثَمَّ اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابًا مدبرين، لكنهم اتخذوا (¬1) الكواكب أربابًا لما لها من التأثير السببي في الأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس، والقمر يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام، وينصر جندهم ويخذل عدوهم، ويعتقدون أنَّ مرداخ - وهو المشتري - شيخ الأرباب، ورب العدل والأحكام، وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن رنكال - وهو المريخ - رب الصيد وسلطان الحرب، وأن عشتار - وهو الزهرة - ربة الغبطة والسرور والسعادة، وتمثل بصورة امرأة عارية، وأن - نيو - وهو عطارد - رب العلم والحكمة. وجاء إبراهيم بحجته البالغة، فحصر العبادة في فاطر السموات والأرض ¬

_ (¬1) المراغي.

[80]

وحده دون غيره من الوسائل، فقال في تماثيلهم: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. 80 - {وَحَاجَّهُ}؛ أي: حاج إبراهيم عليه السلام وجادله {قَوْمُهُ} وخاصموه ونازعوه في أمر التوحيد، فهو إذ أبان لهم بطلان عبادة الأصنام، وربوبية الكواكب، وأثبت لهم وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده، حاجوه وخاصموه ببيان أوهامهم في شركهم، إذ قالوا: إن اتخاذ الآلهة لا ينافي الإيمان بالله الفاطر للسموات والأرض؛ لأنهم شفعاء عنده، ولما لم يجد ذلك معه .. خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا: إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم، وليس للمقلد أن يحتج، ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، وكثيرًا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة؛ إذ يومض في قلبه نورها، ثم يعود إلى سابق وهمه خائفًا مما لا يخاف، راجيًا ما لا يرجى. {قَالَ} إبراهيم {أَتُحَاجُّونِّي} وتجادلوني {في} شأن {اللهِ} وما يجب في الإيمان به؛ أي: أتخاصمونني في كونه لا شريك له ولا ند ولا ضد، والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: لا تخاصموني ولا ينبغي لكم ذلك {و} الحال أنه سبحانه وتعالى {قد هداني} وأرشدني إلى توحيده، وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية، والمعنى: وقد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص، وبما بصرني به من الحجة التي أقمتها عليكم، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم. وقرأ (¬1) نافع وابن عامر بخلاف عن هشام: {أَتُحَاجُّوني} بتخفيف النون، وأصله بنونين الأولى علامة الرفع، والثانية نون الوقاية، والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو. وقرأ باقي السبعة: بتشديد النون أصله: أتحاجونني، فأدغم فرارًا من ثقل توالي مثلين متحركين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}؛ أي: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون الله سوءًا ينالني في نفسي، ذلك أني أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع. قال هذا الكلام لهم لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه؛ أي: إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع. والضمير في: {بِهِ} يجوز أن يعود على الله؛ أي: الذي تشركونه بالله، وأن يعود على {مَا} الموصولة؛ أي: الذي تشركون به الله تعالى {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}؛ أي: لا (¬1) أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها، فإنه لا محالة كما شاء ربي، فإن شاء أن يسقط عليَّ صنم يشجُّني، أو كسف من شهب الكواكب يقتلني، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكواكب، ولا بقدرته ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته، ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الله الجارية إلا بما يثبت في علمه الأزلي. وحاصل المعنى (¬2): وحاجه قومه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك، ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليدًا، وبالتخويف مما يعبدونه من الأصنام، كقول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده، ورفض ما سواه، وأنه لا يخاف من آلهتهم. ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله، فقال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}؛ أي: أحاط ربي بكل شيء علمًا، فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} داخلة على محذوف وهي للاستفهام التقريري والتوبيخي، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضري ولا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[81]

على إيصال النفع إليكم، فالسلطة العليا له تعالى وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئًا من النفع أو التفسير .. فلا يكون ذلك داعيًا لرفعها عن رتبة المخلوقات، وجعلها أربابًا ومعبودات، وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه؛ لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، ويهدي إليه الوجدان. 81 - وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم، بل يخاف الله وحده .. تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخاف، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه، وقال {وَكَيْفَ أَخَافُ} وأرهب {مَا أَشْرَكْتُمْ} ـوه بربكم من خلقه، فجعلتموه ندًّا له ينفع ويضر {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ}؛ أي: والحال أنكم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}؛ أي: حجة بينة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكًا في الخلق والتدبير، أو في الوساطة والشفاعة، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى. والمعنى (¬1): وكيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله، وهو الضار النافع الخالق الرازق، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصًا ولا متحولًا، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم والتعجب من فساد عقولهم، حيث خوفوه خشبًا وحجرًا لا ينفع ولا يضر، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله، وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله. و {مَا} في قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} مفعول أشركتم؛ أي: ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بعبادتها عليكم سلطانًا شركاء لله، أو المعنى: إن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له، ولا أنزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة، وجعلوها شركاء لله سبحانه وتعالى؟! والخلاصة (¬2): أن ما يدعى لصحة هذا الخوف باطل، وأنه عليه السلام لم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

يجد لهذا الخوف وجهًا، فلا يخاف الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدعى لهما. وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} مذكور على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان، والتقليد ليس بعذر، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة، والله لم ينزل بما ادعيتموه سلطانًا؛ لأنه باطل، فلا سلطان عليه ولا دليل. والاستفهام في قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} استفهام استخبار وتقرير؛ أي: فأي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته. والمراد بالفريقين: فريق الموحدين: الذين يعبدون الله وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره، وفريق المشركين: الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب، فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر؛ كالشمس والقمر والكواكب والملائكة، ونكتة التعبير بـ {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} دون أن يقول: فأينا أحق بالأمن: الإشارة إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، لا خاصة به وبهم، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله، وإن كان قد علم قطعًا أنه هو الآمن لا هم، كما قال الشاعر: فَلَئِنْ لَقِيْتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّيْ وَأَيُّكَ فَارِسُ الأَحْزَابِ أي: أينا، ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر .. فأخبروني بذاك وبيِّنوه بالأدلة. وفي هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق، أو السكوت على الحمق والجهل. والمعنى: أي (¬1) إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات .. فكيف تخوفوني بها، وكيف ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[82]

أخافها، وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه؟ وبعد هذا فأخبروني؛ أي: الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف إن كنتم تعلمون بحقيقة الحال، وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة؟ 82 - ثم بين سبحانه وتعالى الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ أي: إن الذين آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شيئًا ولم يلبسوا؛ أي: لم يخلطوا إيمانهم بظلم؛ أي: بشرك، ولم ينافقوا في إيمانهم {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {لَهُمُ الْأَمْنُ} يوم القيامة من عذاب النار دون غيرهم {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} في الدنيا إلى سبيل الرشاد والصواب ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل. والمراد (¬1) بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه بالله ويخلطه به: هو الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه، أو من دونه، فيعظم كتعظيمه، ويحبه كحبه للاعتقاد أنَّ له نفعًا أو ضرًّا بذاته أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضار أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام. يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية .. شق ذلك على المسلمين، وقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس ذلك الذي تعنون، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. والمراد بالأمن: الأمن من عذاب الله الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته. وقرأ مجاهد (¬2): {ولم يلبسوا إيمانهم بشرك}، ولعل ذلك تفسير معنى؛ إذ هي قراءة تخالف السواد. وقرأ عكرمة: {ولم يلبسوا} بضم الياء. 83 - {وَتِلْكَ} الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...} إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} المثبتة للحق، المزيفة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

للباطل، هي {حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: هي الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناه إياها؛ إما بوحي، أو إلهام حجة. {عَلَى قَوْمِهِ} ليلزمهم ويقنعهم بها {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة، أو بما هو أعم من ذلك؛ أي: إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها، فالعلم درجة كمال، والحكمة درجة كمال، وقوة المعارضة في الحجاج درجة كمال، والسيادة والحكم بالحق كذلك، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات؛ لأنها تشمل عليها وتزيد. والله يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقي درجته، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه، ويؤتي صاحب الدرجة الوهبية: النبوة ما لم يؤتِ غيره من أهل المناقب: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه {حَكِيمٌ} فيما دبره لعباده من الرفع والخفض {عَلِيمٌ} بشؤونهم من استحقاق الرفع وعدمه وسيريك ذلك عيانًا في سيرتك مع قومك، كما أراكه بيانًا فيما حدث عن إبراهيم مع قومه، وتأس في نفسك وقومك المكذبين بأبيك، واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر. ويحتمل (¬1) أن يكون المراد بالخطاب إبراهيم، فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب. الإعراب {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ في الْأَرْضِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ} إلى قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت الهمزة للاستفهام الإنكاري. {نَدْعُو}: فعل وفاعل، والجملة في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

محل النصب مقول {قُلْ}. {مِنْ دُونِ اللهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نَدْعُو}. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {نَدْعُو}. {لَا} نافية {يَنْفَعُنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة {ما} أو صفة لها. {وَلَا يَضُرُّنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة معطوفة على جملة {يَنْفَعُنَا}. {وَنُرَدُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود علي المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {نَدْعُو}. {عَلَى أَعْقَابِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نُرَدُّ}، أو حال من ضمير {نُرَدُّ}؛ أي: منقلبين على أعقابنا. {بَعْدَ}: منصوب على الظرفية. {إِذْ}: حرف بمعنى أن المصدرية لا محل لها من الإعراب. {هَدَانَا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة {بَعْدَ} إليه تقديره: بعد هداية الله إيانا، والظرف متعلق بـ {نُرَدُّ}. وعبارة "الجمل" هنا: قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} (¬1) {إِذْ}: ظرفية؛ أي: بعد وقت هدانا الله؛ أي: بعد وقت هداية الله لنا، أو بمعنى أن المصدرية، وهو ظاهر اهـ شيخنا. {كَالَّذِي}: جار ومجرور حال من فاعل {نُرَدُّ}؛ أي: نرد على أعقابنا مشبهين بالذي استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف تقديره: نرد ردًّا، مثل: رد الذي استهوته الشياطين. {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول. {في الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اسْتَهْوَتْهُ}. {حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}. {حَيْرَانَ}: حال من ضمير {اسْتَهْوَتْهُ}. وعبارة "الجمل" هنا قوله: {في الْأَرْضِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه متعلق بقوله {اسْتَهْوَتْهُ}. الثاني: أنه حال من مفعول {اسْتَهْوَتْهُ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الثالث: أنه حال من {حَيْرَانَ}. الرابع: أنه حال من الضمير المستكن في {حَيْرَانَ}، و {حَيْرَانَ} إما حال من هاء {اسْتَهْوَتْهُ}، وإما من {الذي}، وإما من الضمير المستكن في الظرف. انتهت {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {أَصْحَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب صفة لـ {حَيْرَانَ}. {يَدْعُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول. {إِلَى الْهُدَى}: متعلق به، والجملة صفة لـ {أَصْحَابٌ}. {ائْتِنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل {يَدْعُونَهُ}؛ أي: يدعونه قائلين ائتنا. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنَّ هُدَى اللهِ} إلى قوله: {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب. {هُدَى اللهِ}: اسم {إِنَّ}: ومضاف إليه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْهُدَى}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَأُمِرْنَا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {لِنُسْلِمَ}: اللام: حرف جر بمعنى الباء. {نُسْلِمَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نُسْلِمَ}، وجملة {نُسْلِمَ} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام التي بمعنى الباء المتعلقة بـ {أُمِرْنَا}، والتقدير: وأمرنا بالإِسلام لرب العالمين. {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، معطوف على {نُسْلِمَ}؛ أي: وأمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة. {وَاتَّقُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: وأمرنا بالإِسلام لرب العالمين. وبإقامة الصلاة، وبتقوى الله تعالى. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}. وجملة {تُحْشَرُونَ} صلة الموصول، والجملة الإسمية مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر به من الأمور الثلاثة، كما ذكره "أبو السعود".

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور حال من فاعل {خَلَقَ} تقديره: حالة كونه ملتبسًا بالحق والحكمة. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {الْحَقُّ} الآتي. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {كُنْ}: مقول محكي لـ {يَقُولُ}، وإن شئت قلت: {كُنْ}: فعل أمر من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على شيء مخلوق، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فَيَكُونُ} الفاء: حرف عطف وتعقيب. {يَكُونُ}: فعل مضارع من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على شيء مخلوق، والجملة معطوفة على جملة {يَقُولُ} على كونها مضافًا إليه لـ {يَوْمَ}. {قَوْلُهُ الْحَقُّ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، والتقدير: قوله الحق يوم يقول كن فيكون؛ أي: واقع لا محالة. {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}. {وَلَهُ الْمُلْكُ}: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {الْمُلْكُ}؛ أي: يملك الأمور يوم. {يُنْفَخُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {في الصُّورِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُنْفَخُ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {عَالِمُ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم، والجملة مستأنفة {عَالِمُ}: مضاف. {الْغَيْبِ}: مضاف إليه. {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف على {الْغَيْبِ}. {وَهُوَ}: مبتدأ. {الْحَكِيمُ}: خبر أول. {الْخَبِيرُ}: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ}.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}. {وَإِذْ}: {الواو}: استئنافية. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمَّد لقومك قصة إذ قال إبراهيم، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لِأَبِيهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {آزَرَ}: بدل من أبيه، أو عطف بيان له، مجرور وعلامة جره الفتحة، والمانع له من الصرف العلمية والعجمية. {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التوبيخي. {تَتَّخِذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {آزَرَ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَصْنَامًا}: مفعول أول لـ {تَتَّخِذُ}. {آلِهَةً}: مفعول ثانٍ له. {إِنِّي}: حرف نصب، والياء اسمها. {أَرَاكَ} أرى: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول أرى إن قلنا: إنها بصرية، ومفعول أول لها إن قلنا: إنها علمية. {وَقَوْمَكَ}: معطوف على الكاف. {في ضَلَالٍ مُبِينٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {أرى} إن قلنا: إنها بصرية، أو في محل المفعول الثاني إن قلنا: إنها علمية، وجملة {أرى} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة للإنكار والتوبيخ قبلها. {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}. {وَكَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: إراءة مثل إراءته ضلال أبيه وقومه. {نُرِي}: فعل مضارع لأرى الرباعي، من رأى البصرية تتعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {إِبْرَاهِيمَ}: مفعول أول. {مَلَكُوتَ}: مفعول ثانٍ، وهو مضاف. {السَّمَاوَاتِ}: مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف عليه. {وَلِيَكُونَ}: {الواو}: عاطفة على محذوف تقديره: ليستدل به على قومه. {ليكون}: اللام لام كي {يكون}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، واسمه

ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {مِنَ الْمُوقِنِينَ}: خبر {يَكُونَ}، وجملة {يَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولكونه من الموقنين، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المحذوف تقديره: ونرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، إراءة مثل ذلك لاستدلاله على قومه، ولكونه من الموقنين. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة تفصيلية. {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم. {جَنَّ}: فعل ماض. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {اللَّيْلُ}: فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {ما} لا محل لها من الإعراب. {رَأَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {كَوْكَبًا}: مفعول به لرأى لأنها بصرية، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ} عطف مفصل على مجمل. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة معطوفة على جملة رأى كوكبًا بعاطف مقدر أو مستأنفة. {هَذَا رَبِّي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة. {لَمَّا}: حرف شرط. {أَفَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {كوكب}، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {لَمَّا} الأولى. {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {أُحِبُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {الْآفِلِينَ}: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي}. {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة. {لَمَّا}: حرف شرط. {رَأَى الْقَمَرَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {بَازِغًا}: حال من {الْقَمَرَ}؛ لأن رأى

بصرية، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {لَمَّا} الأولى. {هَذَا رَبِّي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}. {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة. {لَمَّا}: حرف شرط. {أَفَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {الْقَمَرَ}، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا}. {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {لَئِنْ لَمْ} اللام: موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط جازم. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَهْدِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. {فِي}: النون نون الوقاية، والياء: مفعول به. {رَبِّي}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {لَأَكُونَنَّ}: اللام: رابطة لجواب القسم. {أَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، واسمها ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {مِنَ الْقَوْمِ}: جار ومجرور خبر {أكُونَنَّ}. {الضَّالِّينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}، وجملة {أكُونَنَّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم على القاعدة المطردة من أن المذكور يكون جواب ما قدم من الشرط والقسم، تقديره: إن لم يهدني ربي أكن من القوم الضالين، وجملة القسم وجوابه في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}. {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة، {لَمَّا}: حرف شرط. {رَأَى الشَّمْسَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {بَازِغَةً} حال من {الشَّمْسَ}، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على

{إِبْرَاهِيمَ}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {لَمَّا} الأولى. {هَذَا رَبِّي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. وكذا جملة قوله: {هَذَا أَكْبَرُ} مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. {فَلَمَّا}: الفاء: عاطفة، {لَمَّا}: حرف شرط. {أَفَلَتْ}: فعل ماضٍ، والتاء علامة التأنيث، وفاعله ضمير {الشَّمْسَ}، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي}. {يَا قَوْمِ} إلى آخره مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ}: {يَا}: حرف نداء. {قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: {إن} حرف نصب، والياء اسمها. {بَرِيءٌ}: خبرها، وجملة {إن} جواب النداء على كونها مقول القول لـ {قَالَ}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَرِيءٌ}، وجملة {تُشْرِكُونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تشركونه بالله. {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. {إِنِّي} إنّ: حرف نصب، والياء اسمها. {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِلَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {وَجَّهْتُ}. {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول. {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {حَنِيفًا}: حال من فاعل {وَجَّهْتُ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {أَنَا}: مبتدأ. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: خبر، والجملة معطوفة على جملة {وَجَّهْتُ}. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي في اللهِ}. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {قَالَ}: فعل

ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة مستأنفة. {أَتُحَاجُّونِّي} إلى آخره مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. {تُحَاجُّونِّي}: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المدغمة في نون الوقاية على قراءة التشديد، أو المحذوفة على قراءة التخفيف، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به. {في اللهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول. {وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}. {وَقَدْ}: {الواو}: واو الحال. {قَدْ}: حرف تحقيق. {هَدَانِ}: هدى: فعل ماضٍ، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من ياء {تُحَاجُّونِّي}؛ أي: أتجادلوني في الله حال كوني مهتديًا من عنده، أو حال من لفظ الجلالة؛ أي: أتخاصموني فيه حال كونه هاديًا لي، فحجتكم داحضة لا تجدي شيئًا. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية. {لَا}: نافية. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {وَقَدْ هَدَانِ} على كونها حالًا من الياء، أو مستأنفة. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. {تُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تشركونه به. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {يَشَاءَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}. {رَبِّي}: فاعل ومضاف إليه. {شَيْئًا}: مفعول به، وجملة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف، والمستثنى منه محذوف أيضًا تقديره: ولا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات؛ لأنها لا تضر ولا تنفع إلا وقت مشيئة ربي إصابةً لي بشيء من المكروه أو المحبوب، فيصيبني من جهتها، فيكون الاستثناء من عموم الأزمان، ويصح أن يكون من

عموم الأحوال، والتقدير: ولا أخاف ما تشركون به في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. {وَسِعَ رَبِّي}: فعل وفاعل. {كُلَّ شَيْءٍ} مفعول به ومضاف إليه. {عِلْمًا}: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: وسع علمه كل شيء كـ {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل الاستثناء؛ أي: لأنه أحاط بكل شيء علمًا. {أَفَلَا}: الهمزة للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {لا}: نافية. {تَتَذَكَّرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها إنشائية لا محل لها من الإعراب، ولكنها في محل النصب مقول {قَالَ}، والتقدير: أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع، فلا تتذكرون أنها غير قادرة على شيء ما. {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}. {وَكَيْفَ} {الواو}: استئنافية. {كَيْفَ}: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب على الحال مبني على الفتح، والعامل فيه {أَخَافُ}. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {أَشْرَكْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما أشركتموه بالله. {وَلَا}: {الواو}: حالية. {لا}: نافية. {تَخَافُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {أَخَافُ}، والتقدير: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رابط يعود على ذي الحال. لا يضر ذلك؛ لأن الواو نفسها رابطة. اهـ "سمين". {أَنَّكُمْ} {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر، والكاف اسمها. {أَشْرَكْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِاللهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ} تقديره: أنكم مشركون بالله، وجملة {أَنَّ} في

تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا تخافون إشراككم بالله. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ}: {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به. {لَمْ}: حرف جزم. {يُنَزِّلْ}: مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِهِ} متعلق بـ {يُنَزِّلْ}، وكذا {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {سُلْطَانًا}: مفعول به، وجملة {يُنَزِّلْ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {بِهِ}. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. {فَأَيُّ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم معبودي ومعبودكم، وأردتم بيان حالي وحالكم .. فأقول لكم {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}: {أَيُّ} اسم استفهام مبتدأ مرفوع. {الْفَرِيقَيْنِ}: مضاف إليه. {أَحَقُّ}: خبر. {بِالْأَمْنِ}: متعلق به، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ} خبر كان وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار .. فأخبروني أيُّ هذين الفريقين أحق بالأمن؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {وَلَمْ يَلْبِسُوا}: جازم وفعل وفاعل، معطوف على {آمَنُوا}. {إِيمَانَهُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه. {بِظُلْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَلْبِسُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثانٍ. {لَهُمُ}: جار ومجرور خبر مقدم {الْأَمْنُ} مبتدأ ثالث، والجملة من المبتدأ الثالث وخبره خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: مبتدأ وخبر، معطوف على جملة قوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} على كونه خبرًا للمبتدأ الثاني. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}.

{وَتِلْكَ} {الواو}: استئنافية. {تِلْكَ}: مبتدأ. {حُجَّتُنَا}: خبر المبتدأ. وجملة {آتَيْنَاهَا} خبر ثانٍ، أو في محل النصب حال من {حُجَّتُنَا}، والعامل فيها معنى الإشارة، والجملة الإسمية مستأنفة. {إِبْرَاهِيمَ}: مفعول ثانٍ لـ {آتَيْنَا}؛ لأنه بمعنى: أعطينا. {عَلَى قَوْمِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حُجَّتُنَا}. {نَرْفَعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل {آتَيْنَاهَا}. {دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} - بالإضافة -: مفعول به، وهو مضاف، و {مَنْ} الموصولة: في محل الجر مضاف إليه. وبالتنوين: {دَرَجَاتٍ}: مفعول فيه، أو مفعول ثانٍ على تضمين نرفع بمعنى: نعطي، و {مَنْ} الموصولة: مفعول به. {نَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: نشاءه. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {رَبَّكَ}: اسمها ومضاف إليه. {حَكِيمٌ}: خبر أول؛ لأن {عَلِيمٌ} خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} الأعقاب جمع: عقب، وهو مؤخر الرجل، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدة: نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه، ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم. {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}؛ أي: ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، ومنه قولهم: حسن فلان؛ أي: مسته الجن، فذهبت بعقله، وكانوا يقولون: إن الجن تظهر لهم في المهامه، وتتلون لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلب من يراها، فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون هي التي يسمونها: الغيلان والأغوال والسعالي. وقوله: {حَيْرَانَ}؛ أي: تائهًا ضالًا عن الجادة، لا يدري ما يصنع؟ وهو وصف مذكر مؤنثه حيرى؛ كسكران وسكرى، فلذلك منع من الصرف، ويقال: حار يحار حيرة وحيرورة إذا تردد.

{يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ} والصور في اللغة: القرن، وهو هنا شيء من خلق الله على صورة القرن المستطيل، وفيه جميع الأرواح، وفيه ثقب بعددها، فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبة، ووصلت لجسدها، فتحله الحياة. اهـ "سمين". وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها، فجعلوا منها أبواقًا ينفخون فيها، لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع، ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب. {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا} والأصنام: جمع صنم، وهو والتمثال والوثن بمعنى واحد، وهو الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان. اهـ "خازن". {في ضَلَالٍ} والضلال: العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي والمعنوي. {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ} وملك الله وملكوته: سلطانه وعظمته، والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرهبة والرغبة والرحمة، كما مرَّ. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} يقال (¬1): جن عليه الليل وأجن بمعنى: أظلم، فيستعمل قاصرًا، وجنه وأجنه الليل، فيستعمل متعديًا، فهذا مما اتفق فعل وأفعل لزومًا وتعديًا إلا أن الأجود في الاستعمال: جن عليه الليل وأجنه الليل، فيكون الثلاثي لازمًا، والرباعي متعديًا. اهـ "سمين". {رَأَى كَوْكَبًا} والكوكب والكوكبة واحد الكواكب، وهي: النجوم {فَلَمَّا أَفَلَ} في "المصباح": أفل (¬2) الشيء أفلًا وأفولًا من بأبي ضرب وقعد: غاب، ومنه: أفل فلان عن البلد إذا غاب عنها، والأفيل: الفصيل وزنًا ومعنى، والجمع: إفال بالكسر. وقال الفارابي: الإفال: بنات المخاض فما فوقها، وقال أبو زيد: الأفيل: الفتى من الإبل. وقال الأصمعي: ابن تسعة أشهر أو ثمانية. وقال ابن فارس: جمع الأفيل: إفال، والإفال: صغار الغنم، والأفول: غيبوبة الشيء بعد ظهوره. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المصباح المنير.

قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} القمر معروف، سمي بذلك لبياضه، والأقمر: الأبيض، وليلة قمراء: مضيئة، قاله ابن قتيبة. وبزوغ القمر: ابتداء طلوعه، يقال: بزغ بفتح الزاي يبزغ بضمها، واستعمل قاصرًا ومتعديًا يقال: بزغ البيطار الدابة؛ أي: أسال دمها، فبزغ هو؛ أي: سال، ثم قيل لكل طلوع: بزوغ، ومنه: بزغ ناب الصبي والبعير تشبيهًا بذلك اهـ "سمين". وفي "المصباح": بزغ البيطار والحاجم بزغًا من باب قتل: شرط، وأسال الدم، وبزغ ناب البعير بزوغًا: إذا طلع، وبزغت الشمس: طلعت فهي بازغة. اهـ. {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} وجه من باب فعل المضعف، وتوجيه الوجه لله تعالى تركه يتوجه إليه وحده في طلب حاجته وإخلاص عبوديته. {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق {حَنِيفًا} الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق الذي هو التوحيد. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} حاج من باب فاعل الرباعي المزيد بالألف بين الفاء والعين، يدل على المفاعلة، والمحاجة المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد، وتارةً على ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه، أو ردِّ دعوى خصمه، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى قسمين: إلى حجة دامغة يثبت بها الحق، وإلى حجة داحضة يموه بها الباطل، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهةً. {أَتُحَاجُّونِّي} بتشديد الجيم والنون أصله: أتحاججونني بوزن تضاربونني بجيمين، فأدغمت الجيم الأولى في الثانية، وكذا النون: أدغمت الأولى في الثانية على قراءة التشديد، وأما على قراءة التخفيف، فاختلفوا في المحذوفة من النونين، فقال سيبويه وغيره من البصريين: المحذوفة الأولى التي هي نون الرفع؛ لأنها نائبة عن الضمة، وهي قد تحذف تخفيفًا كما في قراءة أبي عمرو: {ينصركم} و {يأمركم} و {يشعركم} فكذا ما ناب عنها. وقال الفراء ومن وافقه: المحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية؛ لأن الثقل إنما حصل بها، ولأن الأولى دالة على الإعراب، فبقاؤها أولى، وبرهن كل على مختاره بما

يطول بنا الكلام في ذكره، أفاده في "الفتوحات" وإنما اختاروا (¬1) التخفيف في قراءة من خففها فرارًا من اجتماع مشددين في كلمة واحدة، وهما: الجيم والنون. وقال أبو عبيدة (¬2): وإنما كره التثقيل من كرهه للجمع بين ساكنين، وهما: الواو والنون، فحذفوها. قال أبو جعفر: والقول في هذا قول سيبويه، ولا ينكر الجمع بين ساكنين إذا كان الأول حرف مد ولين، والثاني مدغمًا كما هنا. {وَقَدْ هَدَانِ} بحذف الياء؛ لأن الكسرة تدل عليها، والنون عوض منها إذا حذفتها، وإثباتها حسن. {سُلْطَانًا} السلطان: الحجة والبرهان. {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لم يلبسوا: لم يخلطوا، والظلم هنا: هو الشرك في العقيدة أو العبادة؛ كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه، أو من دونه، والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق في قوله: {يَنْفَعُنَا} و {يَضُرُّنَا}، و {الْغَيْبِ} و {الشَّهَادَةِ}. ومنها: التقبيح والتشنيع في قوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الأمر وتشنيعه؛ لأنها المشية الدنية. ومنها: التشبيه في قوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}. ومنها: التكرار في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} مع ما قبله. ومنها: التخصيص بعد التعميم في قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} بعد قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} اهتمامًا بشأن الصلاة. ومنها: التكرار في قوله: {فَلَمَّا رَأَى}، وفي قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ}، وفي قوله: {هَذَا رَبِّي}، وفي قوله: {بَازِغًا}. ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) إعراب النحاس.

ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَفَلَ} و {الْآفِلِينَ}. ومنها: الطباق في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}، وبين الكوكب والقمر والشمس. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: أريناه. ومنها: التعريض في قوله: {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}؛ لأن فيه تعريضًا بضلال قومه. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي}، وفي قوله: {أَشْرَكْتُمْ} و {تُشْرِكُونَ}، وفي {أَخَافُ} و {وَلَا تَخَافُونَ}. والتكرار في: {أَشْرَكْتُمْ}. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}. ومنها: الإشارة في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}؛ لأنه استعارة عن الرجوع إلى الشرك. ومنها: الحصر في قوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}. المناسبة قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله في التوحيد، وعدَّد وجوه نعمه وإحسانه إليه .. ذكر هنا أنه جعله عزيزًا في ¬

_ (¬1) المراغي.

الدنيا؛ إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته، وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) عدد نعمه على إبراهيم، فذكر إيتاءه الحجة على قومه، وأشار إلى رفع درجاته .. ذكر هنا ما مَنَّ به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل، ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق، قيل: لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، ولم يخرج من صلب إسماعيل نبي إلا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكره في هذا المقام؛ لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله، بأن جدهم إبراهيم لما كان موحدًا لله متبرئًا من الشرك .. رزقه الله تعالى أولادًا ملوكًا وأنبياء انتهت. قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه فضلهم واجتباهم وهداهم .. ذكر هنا ما فضلوا به. قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما (¬3) ذكر وقرَّر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئًا، وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره .. أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬4) بين أن القرآن كتاب من عند الله تعالى، وردَّ على الذين أنكروا إنزاله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر - بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى - وهو بشر - .. أردف ذلك بوعيد من كذب على الله وادَّعى النبوة والرسالة، أو ادَّعى أنه قادر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذلك أن من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأنَّ القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به .. فأكمل الناس إيمانًا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء - وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يعرض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} الآية سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين" - وكان حبرًا سمينًا - فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟ فقال: واللهِ ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمع قومه تلك المقالة .. قالوا: ويلك! ما هذا الذي بلغنا عنك، أليس الله أنزل التوراة على موسى؟ فلِمَ قلت هذا؟! قال: أغضبني محمَّد فقلته، فقالوا: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق، فعزلوه من الحبرية وعن رياستهم لأجل هذا الكلام، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} الآية، مرسل. وأخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: ما أنزل الله من السماء كتابًا، فأنزلت هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} نزل في مسيلمة. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيملي عليه عزيز حكيم، ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[84]

فيكتب غفور رحيم، ثم يقرأ عليه فيقول: نعم، سواء، فرجع عن الإِسلام ولحق بقريش، ثم رجع بعد ذلك إلى الإِسلام، فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران. وأخرج عن السدي نحوه، وزاد: قال: إن كان محمَّد يوحى إليه .. فقد أوحي إلي، وإن كان الله ينزله على محمَّد .. فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمَّد: سميعًا عليمًا، فقلت أنا: عليمًا حكيمًا. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير وغيره عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} إلى قوله: {شُرَكَاءُ}. التفسير وأوجه القراءة 84 - قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} معطوف على قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} عطف فعلية على اسمية؛ أي: ووهبنا لإبراهيم إسحاق ابنه لصلبه من سارة نبيًّا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب بن إسحاق نبيًّا منجبًا للأنبياء والمرسلين، جزاءًا على الاحتجاج في الدين، وبذل النفس فيه. {كُلًّا هَدَيْنَا}؛ أي: وهدينا كلًّا من إسحاق ويعقوب ووفقناه طريق الحق والرشاد، كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة المعارضة والحجة. وإنما (¬2) ذكر إسحاق دون إسماعيل؛ لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل، ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون: إنَّ معنى {إِسْحَاقَ}: الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مئة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعًا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومئة سنة. {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل إبراهيم؛ أي: وهدينا جده نوحًا الذي هو آدم الثاني إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته، فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

إلى طريق الرشاد، وقال: {مِنْ قَبْلُ} تنبيهًا على قدمه، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس. والمراد بذلك أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب؛ إذ قد رزقه الله أولادًا مثل إسحاق ويعقوب، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين، كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء، والمقصود من تلاوة هذه النعم على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - تشريفه؛ لأن شرف الوالد يسري إلى الولد. وفي ذكر نوح (¬1) لطيفة، وهي أن نوحًا عليه السلام عُبدت الأصنام في زمانه، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام، ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته، ورفض تلك الأصنام، وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، وكان إبراهيم عُبدت الأصنام في زمانه، ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها، فذكر الله تعالى نوحًا وأنه هداه كما هدى إبراهيم. والضمير في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} اختلفوا في مرجعه، قيل: يرجع إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، وهو اختيار جمهور المفسرين؛ لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولأن الله ذكر في جملة هذه الذرية لوطًا وهو ابن أخي إبراهيم، ولم يكن من ذريته، فثبت بهذا أن الضمير يرجع إلى نوح، وقيل: يعود إلى إبراهيم؛ لأن الكلام في شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من الفضائل، وإنما ذكر نوحًا؛ لأنه جده، فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه. قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب؛ لأن لوطًا ابن أخِ إبراهيم، والعرب تجعل العم أبًا، فكأنه من ذريته. وقال أبو سليمان الدمشقي: ووهبنا له لوطًا في المعاضدة والنصرة انتهى. وقال الزجاج: كلا القولين جائز؛ لأن ذكرهما جميعًا قد جرى؛ أي: وهدينا من ذرية إبراهيم {دَاوُودَ} بن إيشا، وكان ممن أتاه الله الملك والنبوة. {و} هدينا {سُلَيْمَانَ} بن داود، وكان أيضًا ممن أوتي الملك والنبوة وقرنهما؛ لأنهما أبٌ وابن، ولأنهما ملكان نبيان، وقدم داود لتقدمه في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[85]

الزمان، ولكونه صاحب كتاب، ولكونه أصلًا لسليمان وهو فرعه {و} هدينا {أَيُّوبَ} بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم {و} هدينا {يوسف} بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وكان ممن أوتي الملك والنبوة، وقرن (¬1) بينه وبين أيوب؛ لاشتراكهما في الامتحان: أيوب بالبلاء في جسده، ونبذ قومه له، ويوسف بالبلاء بالسجن، وبغربته، وفي مآلهما بالسلامة والعاقبة، وقدم أيوب؛ لأنه أعظم في الامتحان. قال الفراء: يوسف - بضم السين من غير همز - لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤسف بالهمز، وبعض العرب يقول: يوسف - بكسر السين -، وبعض بني عقيل: يوسَف بفتح السين، ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير". {و} هدينا {مُوسَى} بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب {و} هدينا {هَارُونَ} بن عمران أخا موسى، وكان أكبر منه بسنة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه بإيتائه الحجة الدامغة، وهبة الأولاد الأخيار .. نجزي من كان محسنًا في عبادتنا، مراقبًا في أعماله لنا على إحسانه، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك". 85 - {و} هدينا {زَكَرِيَّا} بن آذن بن بركيا {و} هدينا {يَحْيَى} بن زكريا {و} هدينا {عِيسَى} بن مريم بنت عمران {و} هدينا {إِلْيَاسَ} بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. وهذا هو الصحيح في نسبه، وقرن بين (¬2) هؤلاء الأربعة لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وبدأ بزكريا ويحيى؛ لسبقهما في الزمان، وقدم زكريا، لأنه والد يحيى، فهو أصل ويحيى فرع. وقرن عيسى وإلياس؛ لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد على ما قيل في إلياس، وقدم عيسى؛ لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة {كُلٌّ} من هؤلاء الأنبياء المذكورين سابقًا من إبراهيم إلى هنا {مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: من الكاملين في الصلاح، وهو الإتيان بما ينبغي، والتحرز عما لا ينبغي. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[86]

وتقدم خلاف القراء في زكريا مدًّا وقصرًا. وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة {إِلْيَاسَ}. 86 - {و} هدينا {إِسْمَاعِيلَ} بن إبراهيم الخليل من هاجر، وهو أكبر ولده، وقيل: هو نبي من بني إسرائيل، كان زمان طالوت، وهو المعني بقوله إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، والقول الأول هو المشهور الصحيح، وإنما أخر ذكره إلى هنا؛ لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد، فلهذا السبب أخر إسماعيل إلى هنا {و} هدينا {الْيَسَعَ} بن أخطوب بن العجوز، وقال زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون. وجمهور القراء يقرؤون: {الْيَسَعَ} بلام واحدة مخففًا، كأن أل أدخلت على مضارع: وسع، منهم ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة والكسائي هاهنا، وفي ص: {والليسع} على وزن فيعل نحو الضيغم. {و} هدينا {يُونُسَ} بن متى، وهي أمه، ويقال فيه: يونس بضم النون، وفتحها، وكسرها، وكذلك سين يوسف بالتثليث كما تقدم. وبفتح نون: {يونَس}، وسين {يوسَف} قرأ الحسن وطلحة ويحيى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن، ذكره أبو حيان في "البحر". {و} هدينا {لُوطًا} بن هاران أخي إبراهيم {وَكُلًّا} من هؤلاء الأنبياء المذكورين {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} بالنبوة والرسالة، فهم يفضلون على الملائكة والأولياء وجميع الصالحين. وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، لعموم لفظ العالمين ما سوى الله تعالى، فيندرج في العموم الملائكة. وإنما جمع هؤلاء الأربعة؛ لأنه لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع. واعلم (¬1) أن الله تعالى خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل، فمنهم أصول الأنبياء، وإليهم يرجع حسبهم جميعًا، وهم: نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب. ثم المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق بعد النبوة ستة: الأولى: مرتبة الملك والسلطان والقدرة، ذكر فيها: داود وسليمان. ¬

_ (¬1) البحر المحيط والمراح.

[87]

والثانية: مرتبة البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وذكر فيها: أيوب. والثالثة: مرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك، وذكر فيها: يوسف. والرابعة: مرتبة قوة البراهين وكثرة المعجزات والقتال والصولة، وذكر فيها: موسى وهارون. والخامسة: مرتبة الزهد الشديد، والانقطاع عن الناس للعبادة، وترك مخالطتهم، وذكر فيها: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس. والسادسة: مرتبة عدم الاتباع، وذكر فيها: إسماعيل واليسع ويونس ولوطًا. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ثمانية عشر نبيًّا لم يرتبهم بحسب أزمانهم، ولا بحسب فضلهم؛ لأن الكتاب أنزل ذكرى وموعظة للناس، لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها. فائدة في أعمار الأنبياء وعاش آدم (¬1) تسع مئة وستين سنة. ومكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. وعاش إبراهيم مئة وخمسًا وسبعين سنة. وعاش ولده إسماعيل مئة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة. وعاش أخوه إسحاق مئة وثمانين سنة، وولد بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة. وعاش يعقوب بن إسحاق مئة وسبعًا وأربعين سنة. وعاش يوسف بن يعقوب مئة وعشرين سنة. وعاش موسى مئة وعشرين سنة. وعاش داود مئة سنة. وعاش ولده سليمان نيفًا وخمسين سنة. وعاش أيوب ثلاثًا وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين. انتهى من "التحبير في علم التفسير" للجلال السيوطي: بتصرف. 87 - وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} إما عطف (¬2) على {كُلًّا} فالعامل فيه {فَضَّلْنَا}، و {مِنْ} تبعضية؛ أي: وفضلنا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، ¬

_ (¬1) التحبير في علم التفسير. (¬2) المراح.

[88]

أو على {نُوحًا}، فالعامل فيه {هَدَيْنَا}، و {مِنْ} ابتدائية، والمفعول محذوف؛ أي: وهدينا بالنبوة والإِسلام من آبائهم جماعات كثيرة: آدم وشيثًا وإدريسَ وهودًا وصالحًا، ومن ذرياتهم جماعات كثيرة: أولاد يعقوب، ومن إخوانهم جماعات كثيرة: إخوة يوسف، لا كلهم؛ إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدي ابنه، أو أبيه أو أخيه، ألا ترى إلى أبي إبراهيم، وابن نوح، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)}. قوله: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} عطف على (¬1) {فَضَّلْنَا}، وتكرير الهداية في قوله: {وَهَدَيْنَاهُمْ} إلخ لتكرير التأكيد وتمهيدًا لبيان ما هدوا إليه، يقال (¬2): اجتبى فلان فلانًا لنفسه إذا اختاره واصطفاه، ومعنى اجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بفيض إلهي يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه، كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء. والمعنى: أي وفضلنا كلًّا من الأنبياء المذكورين على العالمين واجتبيناهم؛ أي: اصطفيناهم بالنبوة والرسالة واخترناهم بالقرب إلينا وهديناهم؛ أي: أرشدناهم {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى دين الحق القويم الذي لا عوج فيه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك. 88 - {ذَلِكَ} الهدى الذي هدي به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل، فوفقوا به لإصابة الدين الحق الذي به رضا ربهم، وشرف الدنيا وكرامة الآخرة هو {هُدَى اللَّهِ} الخاص وتوفيقه ولطفه الذي {يَهْدِي بِهِ} ويوفق به {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} حتى ينيب إلى طاعته، ويخلص العمل له، ويقر بالتوحيد، ويرفض الأوثان والأصنام. والهداية ضربان: ضرب ليس لصاحبه سعي فيه، ولا هو مما ينال بالكسب، وهو النبوة، وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}، ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراغي.

[89]

وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهي والتوفيق لنيل المراد. ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد، فقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا}؛ أي: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء المهديون بربهم مع الله سبحانه وتعالى إلهًا آخر، فعبدوا معه غيره {لَحَبِطَ} وبطل {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: أجر أعمالهم التي كانوا يعملونها؛ أي: لبطل عنهم مع فضلهم وعلو درجاتهم أعمالهم المرضية، وعبادتهم الصالحة، فكيف بمن عداهم، والمقصود من هذا الكلام: تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك إذ توحيد الله تعالى هو المزكي للأنفس، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدنس لها، والمفسد لفطرتها، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به. 89 - {أُولَئِكَ} الأنبياء الثمانية عشر المذكورون بأسمائهم هم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} وأعطيناهم {الْكِتَابَ}؛ أي: فهمًا تامًّا لما في الكتاب، وعلمًا محيطًا بأسراره. فالمراد بإيتاء الكتاب لكل منهم: تفهيم ما فيه أعم من أن يكون ذلك بالإنزال عليه ابتداءً، أو بوراثته ممن قبله، ذكره "أبو السعود" بالمعنى. والمراد بالكتاب: ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى، وزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى {و} آتيناهم {الْحُكْمَ}؛ أي: العلم والفقه في الدين، فإن الله تعالى جعلهم حكامًا على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر {وَالنُّبُوَّةَ} فيقدرون بها على التصرف في ظواهرهم كالسلاطين، وفي بواطنهم وأرواحهم كالعلماء، وكل نبي من الأنبياء آتاه الله العلم الصحيح والفقه في أمور الدين وشؤون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به، سواء أنزله عليه، أم أنزله على غيره، واختص بعضهم بإتائه الحكم صبيًّا؛ كيحيى وعيسى؛ أي: بإعطائه ملكة الحكم الصحيح في الأمور. وأما (¬1) الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات، فلم يعطه إلا بعض الأنبياء، وتكون هذه العطايا الثلاث أعني: الكتاب والحكم والنبوة مرتبة بحسب ¬

_ (¬1) المراغي.

درجات الخصوصية، فبعض النبيين أعطي الثلاث؛ كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}، فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه. وقال حكاية عن موسى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وقال عز اسمه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}. وقال في داود وسليمان معًا: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. ومنهم من أوتي الحكم والنبوة، كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط. والخلاصة: أن كل من أوتي الكتاب .. أوتي الحكم والنبوة، وكل من أوتي الحكم ممن ذكر .. كان نبيًّا، وما كان نبي منهم كان حاكمًا ولا صاحب كتاب منزل. وهذه هي مراتب الفضل بينهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا}؛ أي: بهذه الثلاث: الكتاب والحكم والنبوة، أو بآيات القرآن {هَؤُلَاءِ} المشركون من أهل مكة وغيرهم {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا}؛ أي: برعايتها؛ أي: وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها، وتولي نصر الداعي إليها. {قَوْمًا} كرامًا {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}؛ أي: ليسوا بكافرين بها، فمنهم من آمن بها، ومنهم من سيؤمن بها عند ما يدعى إليها. فالباء (¬1) في قوله: {لَيْسُوا بِهَا} صلة وفي {بِكَافِرِينَ} لتأكيد النفي. وعبارة "الجمل": قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}؛ أي: في وقت من الأوقات، بل هم مستمرون على الإيمان بها، فإن الجملة الإسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت كذلك السلبية تفيد دوام النفي بمعونة المقام، لا نفي الدوام كما حقق في مقامه. اهـ "أبو السعود" انتهت. أخرج ابن (¬2) جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} يعني: أهل مكة: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني: أهل المدينة والأنصار. اهـ. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

[90]

والذي عليه المعول أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها، وكانوا بعد الهجرة في المقدمة في كل عمل وجهاد، ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات؛ لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ومن ثَمَّ قال: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين. وفي الآية (¬1) دليل على أن الله سبحانه وتعالى ينصر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويقوي دينه، ويجعله غالبًا على الأديان كلها، وقد جعل ذلك: فهو إخبار عن الغيب. 90 - {أُولَئِكَ} الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات السابقة، والذين وصفهم الله تعالى بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة هم {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بالأخلاق الحسنة هداية كاملة {فَبِهُدَاهُمُ}؛ أي: فبهدى هؤلاء المذكورين من الأنبياء وبأخلاقهم الشريفة دون ما يخالفه من أعمال غيرهم {اقْتَدِهْ}؛ أي: اتبع أيها الرسول فيما يناله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة، وإقامة الدين والصبر على التكذيب والجحود، وإيذاء أهل العناد ومقلدي الآباء والأجداد، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال؛ كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}. والخلاصة (¬2): أن الله سبحانه وتعالى أمره بالاقتداء بهم في الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء، والعفو عنهم، وقد كان مهتديًا بهداهم كلهم، فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم؛ لأنه اقتدى بها كلها، فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقًا فيهم مع ما أوتيه دونهم، ومن ثَمَّ شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

عَظِيمٍ (4)}، وكذلك فضائله الموهوبة هي فيه أظهر وأعظم، فبعثته عامة للناس أسودهم وأحمرهم، وبه ختمت النبوة والرسالة، وكمال الأشياء في خواتيمها صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وبهذه (¬1) الآية استدل بعض العلماء على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين، وذلك لأن جميع الصفات الحميدة كانت متفرقة فيهم، فيلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - حصلها ومتى كان الأمر كذلك .. وجب أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم بكليتهم، فكان نوح صاحب تحمل الأذى من قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة في الله تعالى؛ وكان إسحاق ويعقوب صاحبي صبر على البلاء والمحن، وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، وكان أيوب صاحب صبر على النبلاء، وكان يوسف جامعًا بين الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق، وكان يونس صاحب تضرع، وكان سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - جامعًا لجميع هذه الأخلاق الحميدة كلها، فكان أفضلهم ورئيسهم. تنبيه: ذكر بعض العلماء أن الأنبياء المرسلين الذين ذكروا في القرآن، ويجب الإيمان بهم تفصيلًا خمسة وعشرون، هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في هذه الآيات، والسبعة الآخرون هم: آدم - أبو البشر - وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وخاتم الجميع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين. وليس (¬2) في القرآن نص قطعي صريح في رسالة آدم عليه السلام، بل مفهوم قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} أن نوحًا أول نبي مرسل أوحى إليه رسالته وشرعه، وكذلك حديث الشفاعة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا، فيقول لهم آدم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصابه، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

فيستحي من ربه عَزَّ وَجَلَّ، ولكن ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله إلى الأرض، فيأتون نوحًا ... " إلخ. والخلاصة: أن الآية تدل على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام، ويرى بعض العلماء أن آدم كان على هدى من ربه ربى عليه أولاده، وبشرهم بالثواب وأندرهم بالعقاب. وهذه هداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلغوها أقوامهم، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها، فإن طرق الهداية متعددة، وقد تكون هي هداية الفطرة. ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم، فأعرضوا عما دعوا إليه، وهذه هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها: رسولًا، دون الأولى. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأهل حرميهما وأبو عمرو (¬1): {اقْتَدِهْ} بالهاء ساكنة وصلًا ووقفًا، وهي هاء السكت أجروها وصلًا مجراها وقفًا وقرأ الأخوان حمزة والكسائي بحذفها وصلًا، وإثباتها وقفًا، وهذا هو القياس. وقرأ هشام: {اقْتَدِهْ} باختلاس الكسر في الهاء وصلًا وسكونها وقفًا. وقرأ ابن ذكوان: بكسرها ووصلها يياء وصلًا، وسكونها وقفًا، ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت، وتغليط ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه، وتأويلها على أنها هاء السكت ضعيف. {قُلْ} يا محمَّد لجميع من بعثت إليه من أهل مكة وغيرهم {لَا أَسْأَلُكُمْ} ولا أطلب منكم {عَلَيْهِ}؛ أي: على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكركم به، أو على تبليغ الرسالة أو على التوحيد {أَجْرًا} وجعلًا من مال ولا غيره من المنافع من جهتكم، كما أن جميع من قبلي من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرًا على التبليغ والهدى، وقد تكرر هذا الأمر له - صلى الله عليه وسلم - في سور متعددة، كقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قيل (¬2): لما أمره الله تعالى بالاقتداء بالنبيين، وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[91]

وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم، فقال: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}. {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما القرآن {إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} كافة؛ أي: ما هو إلا تذكير وموعظة وإرشاد للعالمين كافة، لا لكم خاصة. وفي هذا تصريح بعموم رسالته وبعثته - صلى الله عليه وسلم - للناس جميعًا أسودهم وأحمرهم، إنسهم وجنهم. 91 - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؛ أي: وما عرفت الله سبحانه وتعالى اليهود وقومك المشركون حق معرفته، وما عظموه حق عظمته؛ أي: العظمة اللائقة به المستحقة له. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: ما عظموا الله حق عظمته. وقال أبو العالية: ما وصفوا الله حق صفته. وقال الأخفش: ما عرفوا الله حق معرفته {إِذْ قَالُوا}؛ أي: إذ قالت اليهود لك يا محمَّد حين خاصموك {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: من كتاب، وذلك أن اليهود أنكروا إنزال الله من السماء كتابًا إنكارًا للقرآن. أي: ما عرفوه (¬1) حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب، فإن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة، أو بتكليمه إياهم بدون واسطة، وهم قد أنكروا الوحي، وجهلوا فضل البشر، وقالوا: ما أنزل الله على أحد منهم شيئًا. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: {وَمَا قَدَّرُوا} بالتشديد {حَقَّ قَدْرِهِ} بفتح الدال. ومن عرف حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة، وعلمه المحيط بكل شيء، ونظر في آياته في الأنفس والآفاق، وعلم أنه أحسن كل شيء خلقه، وخلق الإنسان مستعدًا للصعود إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله أثرًا لعلومه، وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية .. علم أنَّ الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله ¬

_ (¬1) المراغي.

لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين، فإن إرسالهم وإنزال الوحي عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنساني في حياته الجسمانية والروحية، فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب، ويزول الخلاف والشقاق بين الناس، ويعيشون في وفاق ووئام (¬1) علمًا منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم وتحاسبهم على النقير والقطمير في ذلك اليوم العبوس القمطرير، وتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب. ثم لقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - الرد على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش إثر بيان كون ذلك من شؤونه تعالى، ومن مقتضى نظام حياة البشر، وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، فقد أرسلوا إلى المدينة وفدًا، زعيماه: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط؛ ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمَّد وصفته؛ لأنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء. فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه، فأنكروا معرفته، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجًا ملزمًا ودافعًا لإنكارهم، فقال: {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء اليهود والمشركين من قومك الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} على سبيل التوبيخ والقريع والتبكيت {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}، أي: من أنزل التوراة التي أنزلت على موسى بن عمران؟ وفي هذا الاستفهام توبيخ لليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر حال كون ذلك الكتاب المنزل على موسى {نُورًا} أي: ضياء من ظلمة الضلالة {وَهُدًى لِلنَّاسِ}؛ أي: هاديًا للناس، ومفرقًا بين الحق والباطل من دينهم، وذلك قبل أن تبدل وتغير، حال كونكم {تَجْعَلُونَهُ}؛ أي: تجعلون ذلك الكتاب {قَرَاطِيسَ}؛ أي: أوراقًا مفرقة في دفاتر كثيرة {تُبْدُونَهَا}؛ أي: تظهرون تلك القراطيس المكتوبة؛ أي: يظهرون ما وافق هواهم منها {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} من تلك القراطيس مما لا يوافق هواهم؛ كنعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) الوئام: بالهمزة بعد الواو كالوفاق وزنا ومعنى، وفي المثل: لولا الوئام لهلك الأنام؛ أي: لولا الموافقة بينهم اهـ مختار.

وآية الرجم. والمعنى (¬1): يضعون الكتاب في ورقات مفرقة، فجعلوه أجزاء نحو نيف وثمانين جزءًا، وفعلوا ذلك ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه، فيجعلون ما يريدون إخفاءه على حدة ليتمكنوا من إخفائه. قال أبو حيان: إن كان (¬2) المنكرون بني إسرائيل .. فالاحتجاج عليهم واضح؛ لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى، وإن كانوا العرب .. فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، وكانوا يقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم انتهى. وقرأ الجمهور بالتاء الفوقانية في الأفعال الثلاثة: {تبدون}، {تخفون}، {تجعلون}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الثلاثة. فأما (¬3) الغيبة .. فللحمل على ما تقدم من الغيبة في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} إلخ. وعلى هذا فيكون في قوله: {وَعُلِّمْتُمْ} تأويلان: أحدهما: أنه خطاب لهم أيضًا، وإنما جاء به على طريقة الالتفات. والثاني: أنه خطاب للمؤمنين من قريش اعترض به بين الأمر بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ}، وبين قوله: {قُلِ اللَّهُ}. وأما قراءة تاء الخطاب .. ففيها مناسبة لقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} ورجحها مكي وجماعة، لذلك قال: وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه. وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ} يحتمل أن يكون مستأنفًا مقررًا لما قبله، وأن يكون حالًا؛ أي: قل لهم: من أنزل الكتاب الذي جاء به، والحال أنكم قد علمتم أيها اليهود من ذلك الكتاب الذي أنزل على موسى من أمور دينكم ودنياكم {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} من قبل إنزال ذلك الكتاب من الأحكام والحدود، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

[92]

والحلال والحرام، ونعت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصفته، فإن أجابوك وقالوا: الله أنزله .. فذاك، وإلا فـ {قُلِ} لهم {اللَّهُ} سبحانه وتعالى أنزله على موسى لا جواب غيره {ثُمَّ} بعد هذا الجواب {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ}؛ أي: اتركهم يا محمَّد في باطلهم الذي يخوضون فيه، وينهمكون فيه حال كونهم {يَلْعَبُونَ}؛ أي: يستهزئون ويسخرون من الحق الذي جئت به، ويصنعون مثل صنع الصبيان الذين يلعبون حتى يأتي أمر الله فيهم. والمعنى (¬1): قل لهم أيها الرسول: الله أنزله على موسى، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان فيما يخوضون فيه من باطلهم، وكفرهم بآيات الله حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان. وفي أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماءٌ إلى أنهم لا ينكرونه لما في ذلك من المكابرة، وما في الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق. 92 - وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى .. بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَهَذَا} القرآن الذي يقرؤه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {كِتَابٌ} عظيم {أَنْزَلْنَاهُ} على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي على لسان جبريل، كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى {مُبَارَكٌ}؛ أي: كثير الخير دائم البركة والمنفعة، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية. وهذا من جملة الرد عليهم في قولهم (¬2): {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أخبرهم بأن الله أنزل التوراة على موسى وعقبه بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} يعني: على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء. {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب الإلهية؛ أي: موافق لما في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية في التوحيد، وتنزيه الله عما لا يليق به، وفي الدلالة على البشارة والنذارة. وقوله: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} معطوف على معنى ما قبله؛ أي: أنزلناه للبركة والتصديق، ولتنذر به أم القرى، أو على معلوم من السياق تقديره: أنزلناه لتبشر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

به من آمن به؛ أي: ولتخوف به عذاب الله وبأسه أهل أم القرى؛ أي: أهل مكة إن لم يؤمنوا به، وخص أم القرى وهي مكة؛ لكونها أعظم القرى والبلدان شأنًا، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، فالإنذار لأهلها مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض. وسميت مكة أم القرى؛ لاجتماع الخلق إليها في حجهم، كما يجتمع الأولاد إلى الأم، فيحصل لهم الحج الذي هو أصول العبادة، والتجارة التي هي أصول أسباب المعيشة {وَمَنْ حَوْلَهَا}؛ أي: ولتنذر به من حول أم القرى من سائر أهل الأرض مشارقها ومغاربها. وقد ثبت عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة، كقوله تعالى في هذه السورة: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}؛ أي: وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته، وقوله في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}، وقوله في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ويصدقون {بِالْآخِرَةِ}؛ أي: بقيام الساعة والمعاد إلى الله، ويصدقون بالثواب والعقاب، والمجازاة على الأعمال {يُؤْمِنُونَ بِهِ}؛ أي: يؤمنون بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ويقرون به، سواء كان من أهل الكتاب، أم من غيرهم إذا بلغتهم دعوته؛ لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا في الفيافي والقفار، وضلوا الطريق، حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخرّيت العالم بخفاياها والخبير بذرعها ومسالكها، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته وسلكوا سبيله، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين، وأما الذين ينكرون البعث والجزاء .. فلا حاجة لهم إلى هدايته. وفي هذا (¬1) تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا البعث والجزاء .. امتنعوا عن قبول هذا الدين، وأنكروا نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

[93]

يؤمنون بهذا الكتاب، والحال أنهم يحافظون ويداومون على صلاتهم، فيؤدونها في أوقاتها، ويقيمون أركانها وآدابها، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات؛ لأنها عماد الدين ورأس العبادات بعد الإيمان بالله، فلم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}؛ أي: صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة متعمدًا .. فقد كفر". ولأن المحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة، وترك الفحشاء وجميع المحرمات، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهواتها. وقرأ الجمهور (¬1): {عَلَى صَلَاتِهِمْ} بالإفراد، والمراد به الجنس، وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر: {صلواتهم} بالجمع، ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمَّد بن إبراهيم البغدادي في كتاب "الروضة" من تأليفه، وقال: تفرد بذلك عن جميع الناس. 93 - والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} للإنكار بمعنى النفي. وهذه (¬2) الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتاب على رسله؛ أي: كيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد أشد ظلمًا، وأعظم جرمًا ممن اختلق على الله كذبًا. وكذب على الله في شيء من الأشياء، كالذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، أو جعل لله شريكًا أو ولدًا أو صاحبة. {أَوْ} ممن {قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} من الله شيء {و} الحال أنه {لم يوح إليه شيء} من الله، كمسيلمة الكذاب الذي ادَّعى النبوة باليمامة، والأسود العنسي الذي ادَّعى النبوة باليمن، وطليحة الأسدي الذي ادَّعى النبوة في بني أسد، ونحوهم من كل من ادعى ذلك، أو يدعيه في أي زمان كان. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إليك؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

أي: ومن أظلم ممن ادَّعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله، كمن قال من المشركين: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}، فقد أُثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول: إن القرآن أساطير الأولين، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله. ثم ذكر سبحانه وتعالى وعيده للظالمين لشدة جرمهم، وعظيم ذنبهم، فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}؛ أي: ولو تبصر يا محمَّد، أو أيها المخاطب، إذ يكون الظالمون سواءٌ كانوا ممن ذكر في الآية، أو من غيرهم {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} وسكراته، وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم، كما تحيط غمرات الماء الغرقى، وجواب {لو} محذوف تقديره: لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه، ولا قدرة للبيان على تجلي كنهه وحقيقته {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}؛ أي والحال أن ملائكة الموت باسطوا أيديهم ومادوها إليهم؛ لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب، كما قال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}. ثم حكى سبحانه وتعالى أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد، وخلصوها من هذه الآلام، أو أخرجوها من أبدانكم لنقبضها. قال صاحب "الكشاف": هذا (¬1) تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح، يبسط يده إلى من له عليه الحق ليعنف عليه في المطالبة، ولا يمهله، ويقول له: أخرج ما لي عليك الساعة، ولا أريم - لا أبرح - مكاني حتى أنزعه من أحداقك. انتهى. ويرى بعضهم أنه لا داعي للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل، فربما تمثل الملائكة للبشر بمثل صورهم، وتخاطبهم بمثل كلامهم، فهي إذًا ممكنة على الحقيقة، فلا معدل عنها. وحالة كون الملائكة قائلين لهم وقت الموت: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}؛ أي: في هذا اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم، تجزون وتلقون عذاب الذل والخزي والإهانة جزاء ظلمكم لأنفسكم. ¬

_ (¬1) الكشاف.

[94]

وقرأ عبد الله وعكرمة: {عذاب الهوان} بالألف وفتح الهاء. {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ}؛ أي: بسبب قولكم مفترين على الله غير الحق، كقول بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر: أنه أوحي إليه، ولم يوح إليه شيء، وإنكار طائفة منهم لما وصف الله به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات. {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: وبسبب كونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله تعالى احتقارًا لمن أكرمه الله بإظهارها على يديه ولسانه. ومعنى الآية: ولو ترى (¬1) يا محمَّد الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت في الدنيا، والملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم، قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد، وخلصوها من هذه الآلام، هذا الوقت تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد بسبب الافتراء على الله، والتكبر عن آيات الله .. لرأيت أمرًا فظيعًا، أو المعنى: ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى أنواع الشدائد والتعذيبات في الآخرة، فأدخلوا جهنم، والملائكة باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب مبكتين لهم، قائلين: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد، هذا الوقت تجزون العذاب المشتمل على الإهانة بسبب كونكم قائلين قولًا غير الحق، وكونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله .. لرأيت أمرًا عظيمًا. 94 - ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم ملائكة العذاب، فقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جئتمونا أيها الظالمون وحدانًا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان، مجردين من الخدم والأملاك والأموال. وقرىء (¬2): {فراد} بوزن ثلاث غير مصروف. وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: {فرادًا} بالتنوين، وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما: {فردى} مثل: سَكْرى كقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}. {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}؛ أي: كما أخرجناكم أول مرة من بطون أمهاتكم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

حفاة عراة غلفًا، ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله في آية أخرى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ لأن المراد: لا يكلمهم تكليم إكرام ورضاء. {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} وأعطيناكم في الدنيا من الأهل والأولاد والأموال {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}؛ أي: في الدنيا، وما نرى معكم شيئًا منه؛ أي: إن ما كان شاغلًا لكم عن الإيمان بالرسل، والاهتداء بما جاءوا به من الأهالي والأولاد والأموال والخدم والحشم والأثاث والرياشي لا ينفعكم اليوم، كما كنتم تتوهمون، فهو لم يغن عنكم شيئًا، ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة. {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ}؛ أي: وما رأينا وأبصرنا معكم {شُفَعَاءَكُمُ} من الملائكة والصالحين من البشر، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم معكم {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} وظننتم {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} مع الله، وقد زعمتم في الدنيا أنهم شركاء لله، تدعونهم ليشفعوا لكم عنده، ويقربونكم إليه زلفى بتأثيرهم في إرادته، وحملهم إياه على ما لم تتعلق به إرادته في الأزل. وفي هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية، وهما: الفداء، والشفاعة. وعزتي وجلالي {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}؛ أي: لقد انقطع اليوم ما كان بينكم أنتم وشركائكم في الدنيا، من صلات النسب والملك والولاء والصداقة {و} لقد {ضَلَّ} وغاب {عَنْكُمْ} أيها الظالمون {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وتظنون في الدنيا من شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء، وأوهام الفداء، وقد علمتم الآن بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم. والخلاصة: أن آمالكم قد خابت في كل ما تزعمون وتتوهمون، فلا فداء ولا شفاعة، ولا ما يغنى عنكم من عذاب الله من شيء. وقرأ جمهور السبعة (¬1): {بَيْنَكُمْ}: بالرفع على أنه اتسع في الظرف، وأسند الفعل إليه، فصار اسمًا، كما استعملوه اسمًا في قوله: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}، وكما حكى سيبويه: هو أحمر بين العينين، ورجحه الفارسي، أو على ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أنه أريد بالبين: الوصل؛ أي: لقد تقطع وصلكم، قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي. فالبين: اسم يستعمل للوصل والفراق، فهو مشترك بينهما، كالجون للأسود والأبيض. وقرأ نافع والكسائي وحفص: {بَيْنَكُمْ} بفتح النون، وخرجه الأخفش على أنه فاعل، ولكنه مبني على الفتح حملًا على أكثر أحوال هذا الظرف، وقد يقال: لإضافته إلى مبني كقوله: {ومِنَّادُونَ ذلك} وخرجه غيره على أنه منصوب على الظرف، وفاعل {تَقَطَّعَ} التقطع. وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش: {ما بينكم}، والمعنى: تلف وذهب ما بينكم وبين ما كنتم تزعمون، على إسناد الفعل إلى الذي بينكم. فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة، فقال: "أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلًا. {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} " متفق عليه. وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يحشر الناس حفاة عراة غرلًا" قالت عائشة: فقلت: الرجال والنساء جميعًا، ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذلك". متفق عليه. وروى الطبري بسنده عن عائشة: أنها قرأت قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض". الإعراب {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}.

{وَوَهَبْنَا}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق بـ {وَهَبْنَا}. {إِسْحَاقَ}: مفعول به لـ {وَهَبْنَا}. {وَيَعْقُوبَ}: معطوف عليه، ولم ينونا؛ لأنهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة. فائدة: وجميع أسماء النبيين أعجمية ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة إلا سبعة مجموعة في قول بعضهم: أَلَا إِنَّ أَسْمَاءَ النَّبِيِّيْنَ سَبْعَةٌ ... لَهَا الصَّرْفُ فِيْ إِعْرَابِ مَنْ يَتَنَشَّدُ فَشِيْثٌ وَنُوْحٌ ثُمَّ هُوْدٌ وَصَالِحٌ ... شُعَيْبٌ وَلُوْطٌ وَالنَّبِيُّ مُحَمَّدُ فهذه السبعة مصروفة؛ لأن أربعة منها عربية: وهم محمد، وصالح، وشعيب، وهود. وثلاثة منها أعجمية، ولكنها صرفت لخفتها بسكون الوسط، وهم: نوح، ولوط، وشيث صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} عطف فعلية على اسمية. {كُلًّا}: مفعول مقدم لـ {هَدَيْنَا}. {هَدَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَنُوحًا}: مفعول مقدم لـ {هَدَيْنَا}. {هَدَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {هَدَيْنَا} الأولى. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من {نُوحًا}. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}: جار ومجرور حال من {دَاوُودَ} وما بعده تقديره: حالة كونهم كائنين من ذريته. وقوله: {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} معطوفات على {نُوحًا}، {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونجزي المحسنين على إحسانهم جزاءًا مثل جزائنا لإبراهيم، والجملة مستأنفة. {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}. {وَزَكَرِيَّا} {الواو}: عاطفة. {زكريا ويحيى وعيسى وإلياس}: معطوفات على {دَاوُودَ}. {كُلٌّ}: مبتدأ. {مِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ،

والجملة مستأنفة. {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا}: معطوفات أيضًا على {دَاوُودَ}. {وَكُلًّا}: {الواو} استئنافية {كُلًّا} مفعول مقدم. {فَضَّلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَى الْعَالَمِينَ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}. {وَمِنْ آبَائِهِمْ}: جار ومجرور في محل النصب معطوف على {كُلًّا}، فالعامل فيه {فَضَّلْنَا}، أو معطوف على {نُوحًا} فالعامل فيه {هَدَيْنَا}، والتقدير: وفضلنا كلًّا منهم، وبعض أبائهم، {وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}: معطوفان على {آبَائِهِمْ}. {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {فَضَّلْنَا}، وكذلك {وَهَدَيْنَاهُمْ} جملة معطوفة على جملة {فَضَّلْنَا}. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور وصفة، متعلق بـ {هَدَيْنَاهُمْ}. {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَهْدِي}، والجملة الفعلية في محل (¬1) النصب حال من الهدى، والعامل فيه: الإشارة، ويجوز أن يكون حالًا من اسم الله تعالى، وبجوز أن يكون {هُدَى اللَّهِ} بدلًا من {ذَلِكَ}، و {يَهْدِي بِهِ} الخبر، ذكره أبو البقاء. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه}. {مِنْ عِبَادِهِ}: جار ومجرور حال من {مَنْ}، أو من العائد المحذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاء هدايته من عباده. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط. {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَحَبِطَ}: ¬

_ (¬1) العكبري.

اللام: رابطة لجواب {لَوْ}. {حَبِطَ}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع فاعل. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْمَلُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، وجملة {حَبِطَ} جواب {لو} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبر، والجملة مستأنفة. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}: معطوفان على {الْكِتَابَ}. {فَإِنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن هؤلاء آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، وأردت بيان ما إذا كفر بها .. فأقول لك: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا}: {إن}: حرف شرط. {يَكْفُرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية. {بِهَا}: جار ومجرور متعلق به. {هَؤُلَاءِ}: فاعل. {فَقَدْ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ {قَدْ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {وَكَّلْنَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {بِهَا} متعلق بـ {وَكَّلْنَا}. {قَوْمًا}: مفعول به، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لَيْسُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهَا}، متعلق بـ {كَافِرِينَ}. {بِكَافِرِينَ}: خبر ليس، والباء فيه زائدة، وجملة {ليس} في محل النصب صفة لـ {قَوْمًا}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبر، والجملة مستأنفة. {هَدَى اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هداهم الله.

{فَبِهُدَاهُمُ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن أولئك هم الذين هداهم الله، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}: {بِهُدَاهُمُ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اقْتَدِهْ}. {اقْتَدِهْ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والهاء: حرف سكت مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا. بيانيًّا. {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لَا أَسْأَلُكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور حال من {أَجْرًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {أَجْرًا}: مفعول ثانٍ لـ {سأل}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنْ} نافية {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {ذِكْرَى}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {لِلْعَالَمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {ذِكْرَى}. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {قَدَرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {حَقَّ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {قَدْرِهِ}. مضاف إليه، والأصل: قدره الحق، ثم أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما ذكره "أبو السعود". {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذْ} إليها، والظرف متعلق بـ {قَدَرُوا}، والتقدير: وما قدروا الله حق قدره وقت قولهم. {مَا}: نافية. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَى بَشَرٍ}: متعلق به. {مِنْ شَيْءٍ}: مفعول {أَنْزَلَ}، و {مِنْ}: زائدة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}.

{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام الإخباري في محل الرفع مبتدأ. {أَنْزَلَ الْكِتَابَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة الفعلية خبر {مَنْ} الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {الَّذِي} في محل النصب صفة لـ {الْكِتَابَ}. {جَاءَ}: فعل ماض. {بِهِ}: متعلق به. {مُوسَى}: فاعل، والجملة صلة الموصول. {نُورًا}: حال من ضميره {بِهِ}، فالعامل فيه {جَاءَ}، أو من {الْكِتَابَ}، والعامل فيه: {أَنْزَلَ}. {وَهُدًى}: معطوف على {نُورًا}. {لِلنَّاسِ} صفة لـ {هُدًى}. {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}: فعل وفاعل ومفعول. {قَرَاطِيسَ}: منصوب بنزع الخافض؛ أي: في قراطيس وأوراق، والجملة في محل النصب حال من ضمير {بِهِ}، أو من {الْكِتَابَ}. {تُبْدُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة لـ {قَرَاطِيسَ}. {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}. {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تبدون}، والرابط محذوف تقديره: وتخفون كثيرًا منها، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَعُلِّمْتُمْ}: فعل ونائب فاعل. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ثان لـ {عُلِّمْتُمْ}، وجملة {عُلِّمْتُمْ} في محل النصب حال من فاعل {تَجْعَلُونَهُ}. {لَمْ تَعْلَمُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير المفعول المحذوف تقديره: وعلمتم ما لم تعلموه. {أَنْتُمْ} تأكيد لضمير الفاعل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة": وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنَفَصِلْ

{وَلَا آبَاؤُكُمْ}: معطوف على ضمير الفاعل. {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ}: مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: الله أنزله، أو فاعل بفعل محذوف تقديره: أنزله الله، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلِ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {ذَرْهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {فِي خَوْضِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {ذَرْهُمْ}. وجملة {يَلْعَبُونَ} في محل النصب حال من ضمير المفعول في {ذَرْهُمْ} وعبارة "الفتوحات": قوله: {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يجوز أن يكون {فِي خَوْضِهِمْ} متعلقًا بـ {ذَرْهُمْ}، وأن يتعلق بـ {يَلْعَبُونَ}، وأن يكون حالًا من مفعول {ذَرْهُمْ}، وأن يكون حالًا من فاعل {يَلْعَبُونَ}، فهذه أربعة أوجه انتهت. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}. {وَهَذَا كِتَابٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة أولى لـ {كِتَابٌ}. {مُبَارَكٌ} صفة ثانية له. {مُصَدِّقُ}: صفة ثالثة له، وهو مضاف {الَّذِي} مضاف إليه. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة الموصول. تنبيه: قوله: {أَنْزَلْنَاهُ ...} إلخ صفات لـ {كِتَابٌ}، وقدّم وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} قالوا: لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال؛ إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك، ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية؛ لأن الإنزال يتجدد وقتًا فوقتًا، والثانية اسمًا صريحًا؛ لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار، وهو مقصود هنا؛ أي: ذو بركة ثابتة مستقرة اهـ "سمين". {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

{وَلِتُنْذِرَ} {الواو}: عاطفة. {لِتُنْذِرَ} اللام لام كي. {تُنْذِرَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. {أُمَّ الْقُرَى}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولإنذارك أم القرى، الجار والمجرور معطوف على جار ومجرور معلوم من معنى ما قبله على كونه متعلقًا. بـ {أنزلناه} تقديره: وهذا كتاب أنزلناه للبركة، ولإنذارك أم القرى. {وَمَنْ حَوْلَهَا}: {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {أُمَّ الْقُرَى}. {حَوْلَهَا}: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة {مَنْ} الموصولة. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَهُمْ}: مبتدأ. {عَلَى صَلَاتِهِمْ}: متعلق بـ {يُحَافِظُونَ} المذكور بعده. وجملة {يُحَافِظُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {يُؤْمِنُونَ}. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {من}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {مِمَّنِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أظلم}. {افْتَرَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {افْتَرَى}. {كَذِباً}: مفعول به. {أَوْ} حرف عطف. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة معطوفة على جملة {افْتَرَى}. {أُوحِيَ} فعل ماضٍ مغير الصيغة. {إِلَيَّ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَمْ}: {الواو}: حالية. {لَمْ}: حرف جزم. {يُوحَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {لَمْ}. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {شَيْءٌ}: نائب فاعل لـ {يُوحَ}، وجملة {يُوحَ} في محل النصب حال من فاعل {قَالَ}. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}.

{وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {من افترى}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَن}، والجملة صلة {مَن} الموصولة. {سَأُنْزِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مِثْلَ}: مفعول به، وهو مضاف. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل الجر مضاف إليه، {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مثل ما أنزله الله، {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {تَرَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان. {الظَّالِمُونَ}: مبتدأ. {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذِ}، والظرف متعلق بـ {تَرَى} على كونه مفعولًا به لـ {تَرَى}، والتقدير: ولو ترى وقت كون الظالمين في غمرات الموت، وجواب {لو} محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}. {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في قوله {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}. و {أَيْدِيهِمْ} خفض لفظًا، وموضعه نصب، وإنما سقطت النون للإضافة. {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من الضمير في {بَاسِطُو}، والتقدير: والملائكة باسطوا أيديهم حالة كونهم قائلين للظالمين: أخرجوا أنفسكم. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {تُجْزَوْنَ} المذكور بعده. {تُجْزَوْنَ}: فعل ونائب فاعل. {عَذَابَ الْهُونِ}: مفعول ثانٍ لـ {تُجْزَوْنَ}، والأول قام مقام الفاعل، والجملة الفعلية مقول للقول المحذوف. {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}. {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب {ما}: مصدرية. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص

واسمه. {تَقُولُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُونَ}. {غَيْرَ الْحَقِّ}: مفعول به. لـ {تَقُولُونَ}؛ لأنه بمعنى: تذكرون، وجملة {تَقُولُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كونكم قائلين غير الحق، الجار والمجرور متعلق بـ {تُجْزَوْنَ}. {وَكُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {عَنْ آيَاتِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَسْتَكْبِرُونَ}. وجملة {تَسْتَكْبِرُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} معطوفة على جملة {كان} الأولى على كونها صلة لـ {ما} المصدرية؛ أي: وبسبب كونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله تعالى. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، اللام موطئة للقسم، قد: حرف تحقيق. {جِئْتُمُونَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {فُرَادَى}: حال من فاعل {جِئْتُمُونَا}، ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث المقصورة كأسارى. {كَمَا} الكاف: حرف جر وتشبيه، ما: مصدرية. {خَلَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {أَوَّلَ مَرَّةٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {خَلَقْنَاكُمْ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كخلقنا إياكم أول مرة الجار والمجرور حال من فاعل جئتمونا والتقدير ولقد جئتمونا فرادى مشبهة حالكم حال خَلْقنا إياكم أول مرة. {وَتَرَكْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {جِئْتُمُونَا} على تقدير: قد، أو مستأنفة {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {تَرَكْتُمْ}. {خَوَّلْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما} وأو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما خولناكموه. {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَرَكْتُمْ}. {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}.

{وَمَا} {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {نَرَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {مَعَكُمْ} متعلق بـ {نَرَى}. {شُفَعَاءَكُمُ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَتَرَكْتُمْ}. {الَّذِينَ}: اسم موصول صفة لـ {شُفَعَاءَكُمُ} {زَعَمْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {فِيكُمْ}: متعلق بخبر {أن} المذكور بعده {شُرَكَاءُ}: خبر {أن} مرفوع، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم تقديره: زعمتم كونهم شركاء فيكم. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. {لَقَدْ} اللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {تَقَطَّعَ}: فعل ماضٍ. {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بفاعل محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال بينكم، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. وعبارة "السمين" (¬1) هنا: قوله: {بَيْنَكُمْ} قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه: {بَيْنَكُمْ} نصبًا، والباقون: {بَيْنَكُمْ} رفعًا. فأما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه: أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال، والاتصال وإن لم يكن مذكورًا حتى يعود عليه ضمير، لكنه تقدم ما يدل عليه، وهو لفظ: شركاء، فإن الشركة تشعر بالاتصال، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم، فانتصب {بَيْنَكُمْ} على الظرفية. الثاني: أن الفاعل هو {بَيْنَكُمْ}، وإنما بقي على حاله منصوبًا حملًا له على أغلب أحواله، وهو مذهب الأخفش، وقد يقال: لإضافته إلى مبنى. الثالث: قال الزمخشري: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} معناه: لقد وقع التقطع بينكم، كما تقول جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بين الشيئين على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وأما القراءة الثانية ففيها وجهان. أحدهما: أن {بين} اسم غير ظرف، وإنما معناها الوصل؛ أي: لقد تقطع وصلكم. الثاني: أن هذا كلام محمول على معناه؛ إذ المعنى: لقد تفرق جمعكم وتشتت، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب انتهت مع بعض تصرف. وقال الزجاج: والرفع أجود، والمعنى لقد تقطع وصلكم. {وَضَلَّ} {الواو}: عاطفة. {ضَلَّ}: فعل ماض. {عَنْكُمْ}: متعلق به. {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل الرفع فاعل {ضَلَّ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {تَقَطَّعَ} على كونها جوابًا لقسم محذوف. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {تَزْعُمُونَ}: فعل وفاعل، ومفعولا {تَزْعُمُونَ} محذوفان، التقدير: تزعمونهم شفعاء، حذفا للدلالة عليهما، كما قال الشاعر: تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبِ أي: وتحسبه عارًا، وجملة {تَزْعُمُونَ} خبر {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من {تَزْعُمُونَ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة قوله: {وَالْيَسَعَ} وتقدم لك أن الجمهور قرؤوا: {الْيَسَعَ} بلام واحدة ساكنة وفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي: {الليسع} بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان: أحدهما: أنه منقول من فعل مضارع، والأصل: يوسع بكسر السين، ثم حذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة، ثم فتحت السين بعد حذف الواو؛ لأجل حرف الحلق وهو العين، مثل: يهب ويقع ويدع ويلغ، ثم سمى به مجردًا عن الضمير، وزيدت فيه الألف واللام شذوذًا كاليزيد في قوله:

رَأَيْتُ الْوَلِيْدَ بْنَ الْيَزِيْدِ مُبَارَكًا ... شَدِيْدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلاَفَةِ كَاهِلُهْ ولزمت فيه كما لزمت في الآية، وقيل: الألف واللام فيه للتعريف، كأنه قدر تنكيره. والثاني: أنه اسم أعجمي لا اشتقاق له، وأما قراءة الأخوين، فأصله: ليسع كضيغم وصيرف، وهو اسم أعجمي، ودخول الألف واللام فيه على الوجهين المتقدمين، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، فقال: سمعنا اسم هذا النبي في جميع الأحاديث اليسع، ولم يسمّه أحد منهم الليسع، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه، وإنما آثر الرواة هذه اللفظة لخفتها, لا لعدم صحة الأخرى. وقال الفراء: قراءة التشديد أشبه بأسماء العجم. وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات، وكذلك في سين يوسف اهـ "سمين". {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} والاجتباء: الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار، مشتق من جبيت الماء في الحوض: جمعته فيه، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصيتك. {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} بها السكت، وهي حرف يجتلب للاستراحة عند الوقف، فثبوتها وقفًا لا إشكال فيه، وأما ثبوتها وصلًا فإجراء ومعاملة له مجرى الوقف، كما قال في "الخلاصة": وَقِفْ بِهَا الْسَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلّ ... بِحَذْفِ آخِرٍ كَأَعْطِ مَنْ سَأَلْ ثم قال: وَرُبَّمَا أُعْطِيَ لَفْظُ الْوَصْلِ مَا ... لِلْوَقْفِ نَثْرًا وَفَشَا مُنْتَظِمَا والاقتداء: طلب موافقة الغير في فعله، فمعنى فبهداهم اقتداه؛ أي: ائتم بهم في التوحيد والصبر، دون الفروع المختلفة باختلاف الشرائع، ودون المنسوخة، فإنها بعد النسخ لا تتبع، ويقال: اقتدى به إذا اتبعه وجعله قدوة له؛ أي: متبعًا. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى} هو مصدر ذكر يذكر ذكرى على وزن فعلى بكسر الفاء،

ولم يأتِ مصدر على وزن فعلى بكسر الفاء إلا ذكرى كما مرَّ. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يقال: قدر يقدر من باب نصر ينصر، وأصل القدر: السبر والحزر، يقال: قدر الشيء إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء، وقدر الشيء ومقداره: مقياسه الذي يعرف به، ويقال: قدره يقدره إذا قاسه، والقدر والقدرة والمقدار: القوة أيضًا، والقدر: الغنى واليسار والشرف. {يَلْعَبُونَ} وفي "القاموس": لعب كسمع لعبًا بكسر العين ضد جد، فاللعب يشمل الهزل والسخرية والاستهزاء. {قَرَاطِيسَ} جمع قرطاس، كمصابيح جمع مصباح، وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما. {مُبَارَكٌ} اسم مفعول من بارك؛ لأن الله سبحانه وتعالى بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى {أُمَّ الْقُرَى} وأم القرى: مكة، وسميت بذلك؛ لأنها قبلة أهل القرى، أو لأنهم يعظمونها كالأم، أو لأن فيها أول بيت للناس. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} الافتراء: اختلاق الكذب، وافتراء الكذب على الله: الاختلاق عليه، والحكاية عنه ما لم يقله، أو اتخاذ الأنداد والشركاء. {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} والغمرات: جمع غمرة، وهي: الشدة الفظيعة، وأصلها: من غمره الماء إذا ستره؛ كأنها تستر بغمها من تنزل به اهـ "سمين". وفي "المختار": وقد غمره الماء؛ أي: علاه، وبابه نصر، والغمرة: الشدة، والجمع: غمر بفت الميم كنوبة ونوب، وغمرات الموت: شدائده. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} واليوم: الزمن المحدود، والمراد به هنا: يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء. والهُون - بالضم - والهوان الذل، ومنه قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} والهون - بالفتح -:

اللين والرفق، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}. وأضاف (¬1) العذاب إلى الهون إيذانًا بأنه متمكن فيه، وذلك لأنه ليس كل عذاب يكون فيه هون؛ لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب كضرب الوالد ولده، ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وذلك أن الأصل العذاب الهون، وصفه به مبالغة، ثم أضافه إليه حد الإضافة في قولهم: بقلة الحمقاء، ونحوه، ويدل على أنّ الهون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك اهـ "سمين". {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} واختلف (¬2) الناس في {فُرَادَى} هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده. فقال الفراء: فرادى جمع فرد بفتح الراء، وفريد وفرد بسكونها وفردان، فجوز أن يكون جمعًا لهذه الأشياء. وقال ابن قتيبة: هو جمع فردان كسكران وسكارى، وعجلان وعجالى. وقال قوم: هو جمع فريد كرديف وردافى، وأسير وأسارى، قاله الراغب. وقيل: هو اسم جمع؛ لأن فردًا لا يجمع على فرادى. وقول من قال إنه جمع له، فإنما يريد في المعنى، ومعنى فرادى: فردًا فردًا اهـ "سمين". وفي "البيضاوي": وفرادى جمع فرد، والألف للتأنيث ككسالى. وقرىء فرادًا بالتنوين، كغراب وفراد بلا تنوين، كثلاث، وفردى كسكرى اهـ. فهذه أربع قراءات: الأولى: هي المتواترة، والثلاثة بعدها شواذ، كما في "السمين". ويقال (¬3): رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لهما أخ، وفرد الرجل يفرد فرودًا إذا تفرد، فهو فارد. قوله: {خَوَّلْنَاكُمْ}؛ أي: أعطيناكم، يقال (¬4): خوله: أعطاه وملكه، وأصله: تمليك الخول كما تقول: مولته إذا ملكته المال، والترك وراء الظهر يراد ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

به: عدم الانتفاع بالشيء. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} البين: الفراق، قيل: يطلق على الوصل فيكون مشتركًا. قال الشاعر: فَوَاللهِ لَوْلاَ الْبَيْنُ لَمْ يَكُنِ الْهَوَى ... وَلَوْلَا الْهَوَى مَا حَنَّ للْبَيْنِ آلِفُهْ وهو هنا مصدر بأن يبين بينًا بمعنى: البعد، ويطلق على الضدين، كالبعد والقرب والوصل والانقطاع، والمراد به هنا: الوصل؛ أي: الاتصال؛ أي: العلقة والارتباط، ويضاف البين إلى المثنى كقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وإلى الجمع كقوله: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر كقوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}. قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ومرة في الأصل: مصدر لمر يمر مرة، ثم اتسع فيها، فصارت زمانًا. قال أبو البقاء: وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل. وقال الشيخ: وانتصب أول مرة على الظرف؛ أي: أول زمان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الوصل والفصل في أسماء الأنبياء عليهم السلام. ومنها: التكرار في قوله: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا}، وفي: {أُنزِلَ}، وفي {يُؤمِنونَ} وفي {كُنتُمْ}. ومنها: الطباق في قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}، وفي قوله: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا}، وفي قوله: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ}، وفي قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، وفي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وفي قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}،

وفي قوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. ومنها: القصر في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}؛ لأن تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر، وفي قوله: {إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {هَدَى اللَّهُ}. ومنها: المبالغة في النفي في قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} لأن فيه مبالغة في إنكار نزول شيء من الوحي على أحد من الرسل بزيادة {مِنْ} الاستغراقية. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}. ومنها: التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، وفي قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}؛ لأن فيه استعارة لفظ الأم لمكة المكرمة؛ حيث شبهت بالوالدة، فاستعير لها لفظ الأم على طريقة الاستعارة التصريحية الترشحية؛ لأنها أصل المدن والقرى، ولفظ القرى ترشيح، وفي قوله: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}؛ لأن الغمرة حقيقة في ستر الماء لمن دخل فيه، فاستعيرت لشدائد الموت. قال (¬1) الشريف الرضي: هذه استعارة عجيبة حيث شبه سبحانه ما يعتورهم من كرب الموت وغصصه بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه، وسميت غمرة؛ لأنها تغمر قلب الإنسان. ومنها: الكناية في قوله: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}؛ لأن الترك وراء الظهر كناية عن عدم الانتفاع بالشيء. ومنها: الزيادة والحذف في مواضع عديدة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تلخيص البيان.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم الكلام (¬1) على تقرير التوحيد وتقرير النبوة .. أردفه بذكر الدلائل الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيهًا بذلك ¬

_ (¬1) الخازن.

على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك .. كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وتعريفًا منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه. وعبارة "المراغي" هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى بعد أن (¬1) أثبت أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث، وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول .. عاد هنا وفصَّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه، وحكمه في الإحياء والإماتة، والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السموات، وإبداعه في شؤون النبات. قوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما استدل (¬2) على باهر حكمته وقدرته بدلالة أحوال النبات والحيوان، وذلك من الأحوال الأرضية .. استدل أيضًا على ذلك بالأحوال الفلكية؛ لأن فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى؛ لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعًا في النفوس من الأحوال الأرضية. قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬3) ذكر البراهين الدالة على تفرده بالخلق والتدبير في عالم السموات والأرض .. ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات. وقال أبو حيان (¬4): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته، وامتنانه على عالم الإنسان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين أن في ذلك آيات لقوم يعلمون، ولقوم يفقهون، ولقوم يؤمنون .. ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته، ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات. قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام (¬1) الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده، وكمال قدرته وعلمه .. عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة، وتبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوامر ربه، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد، وما يقوله المشركون في المبلغ لها، وأعلم سبحانه سنته فيهم وفي أمثالهم، وما يجب على الرسول معهم، وما ينفى عنه. قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬2) رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وبيَّن أن من مقتضى سنته في البشر أن لا يتفقوا على دين واحد لاختلاف استعدادهم، وتفاوتهم في درجات الفهم والفكر، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فينبغي أن لا يضيقوا ذرعًا بما يرون وما يشاهدون من الإزدراء بهم، والطعن في دينهم، فإن الله هو الذي منحهم هذه الحرية، ولم يجبرهم على الإيمان .. نهى المؤمنين هنا عن سب آلهة المشركين؛ لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول، ثم ذكر طلب بعضهم للآيات؛ لأن القرآن ليس من جنس المعجزات، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به، وحلفوا على ذلك، وأكدوه بكل يمين محرجة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): لما نزلت {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} .. قال المشركون: يا محمد، لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت .. قالت قريش: انطلقوا، فلندخلن على هذا الرجل، فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه ويحميه، فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلًا منهم يقال له المطلب، فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك، يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا، فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى الهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا, ولندعه وإلهه، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه، فقال له: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يريدون"؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها .. ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج؟ قال أبو جهل: وأبيك: لنعطينكها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها، قال: "يا عم ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الخازن.

[95]

ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بها، فوضعوها في يدي .. ما قلت غيرها" فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ومن يأمرك، فأنزل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله قريشًا، فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب به الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم الناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ " قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبًا قال: "فإن فعلت تصدقوني"؟ قالوا: نعم والله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فجاء جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهبًا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} إلى قوله: {يَجْهَلُونَ}. التفسير وأوجه القراءة 95 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {فَالِقُ الْحَبِّ}؛ أي: سياق جميع الحبوب من الحنطة والشعير والذرة وغيرها، من الأورق الخضر {و} فالق {النَّوَى} وشاقها، وهي التي في داخل الثمار عن الشجر الأخضر، فإذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر عليها مدة .. أظهر الله تعالى في تلك الحبة أو النواة من أعلاها شقًّا، ومن أسفلها شقًّا آخر، فيخرج من الحبة ورق أخضر، ومن النواة شجرة صاعدة في الهواء، ويخرج منها عروق هابطة في الأرض، وقيل: معنى فالق الحب والنوى: شاقهما الشق الذي فيهما من أصل الخلقة، وقيل: معنى فالق الحب والنوى: خالقهما. والنوى: جمع نواة، يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ والمنغا وغيرها. وهذه الجملة شروع منه سبحانه وتعالى في تعداد عجائب صنعه، وذكر ما تعجز آلهتهم عن أدنى شيء منه. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[96]

وقرأ عبد الله (¬1): {فلق الحب} بصيغة الفعل الماضي. وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ}؛ أي: الحيوان {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ}؛ أي: من النطفة والبيضة وهي ميتة، في محل الرفع خبر بعد خبر، لـ {إنّ} و، وقوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ}؛ أي: مخرج النطفة والبيضة وهي ميتة {مِنَ الْحَيِّ}؛ أي: من الحيوان، معطوف على (¬2) قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} عطف جملة اسمية على جملة فعلية، ولا مانع من ذلك. وقيل: معطوف على {فَالِقُ} على تقدير أن جملة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} مفسرة لما قبلها، والأول أولى. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النطفة بشرًا حيًّا، ومن البيضة أفراخًا حية، ومن الحب اليابس نباتًا غضًّا، ومن الكافر مؤمنًا، ومن العاصي مطيعًا، وبالعكس. {ذَلِكُمُ} الصانع هذا الصنع العجيب المذكور سابقًا من شق الحب والنوى بقدرته الباهرة هو {اللَّهُ}؛ أي: المعبود الحق المستجمع لكل كمال، والمفضل بكل إفضال، والمستحق لكل حمد وإجلال. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي: فكيف تصرفون عن عبادته وتوحيده والإيمان بالبعث إلى عبادة غيره، واتخاذ شريك معه، وإنكار البعث مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته. والمعنى: ذلكم المتصف (¬3) بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شيء، المستحق للعبادة وحده، لا شريك له، فكيف تصرفون عن عبادته، وتشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك؛ كفلق نواة وحبة، وإيجاد نخلة وسنبلة؟ 96 - {فَالِقُ} ظلمة الليل وكاشفها ومزيلها بضوء {الْإِصْبَاحِ} ونور النهار. والمراد بظلمة الليل: الغبش الذي يلي الإصباح المستطيل الكاذب. والإصباح بمعنى: الصبح، فالصبح والإصباح والصباح بمعنى واحد، وهو أول النهار، وذلك (¬4) لأن الأفق من الجانب الغربي والشمالي والجنوبي مملوء من الظلمة، ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه. وقيل: المعنى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) المراح.

خالق الإصباح من الفلق بمعنى الخلق يعني: أن الله سبحانه وتعالى مبدي ضوء الإصباح وخالقه ومنوره. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء (¬1): {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} بفتح الهمزة. وقرأ الجمهور بكسرها، وهو على قراءة الفتح جمع: صبح، وعلى قراءة الكسر مصدر: أصبح. وقرأت فرقة بنصب: {الإصباحَ} وحذف تنوين {فالق}، وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله: وَلاَ ذَاكِرَ الله إلا قَلِيْلًا حذف التنوين لالتقاء الساكنين، والمبرد يجوزه في الكلام. وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو حيوة: {فلق الإصباح} بفعل ماضٍ، وهمزة مكسورة. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}؛ أي: وجعل سبحانه وتعالى الليل وقت سكون وراحة وطمأنينة للخلق؛ لأن الناس يسكنون فيه عن الحركة في معاشهم، ويستريحون من التعب والنصب الحاصل لهم بشغل النهار. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي على صيغة الماضي، والباقون على صيغة اسم الفاعل. وقرأ يعقوب ساكنًا. {و} جعل سبحانه وتعالى {الشمس والقمر} جاريين بـ {حُسْبَانًا}؛ أي: بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص؛ أي: قدر (¬2) الله تعالى حركة الشمس بمقدار معين من السرعة والبطء، بحيث تتم الدورة في سنة، وقدَّر حركة القمر بحيث تتم الدورة في شهر، وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة، وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات وأمور الحرث والنسل، والمعنى: جعلهما علامتي حساب وعد للأوقات، تتعلق بهما مصالح العباد، تحسب بهما الأوقات التي تتعلق بها العبادات والمعاملات، وسيَّرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص، ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه. وقرأ الجمهور بنصب {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على إضمار فعل؛ أي: وجعل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[97]

الشمس والقمر كما مر في حلنا. وقرأ أبو حيوة بجر {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} عطفًا على الليل على قراءة من قرأ: {وجاعل الليل} وقرىء (¬1) شاذًا: {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} برفعهما على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: مجعولان حسبانًا، أو محسوبان حسبانًا. وقوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى (¬2) جعلهما حسبانًا؛ أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ}؛ أي: تدبير الإله الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص {الْعَلِيمِ} بتدبيرهما، والأنفع من التداوير الممكنة لهما. وعبارة أبي حيان: {ذَلِكَ}؛ أي: ذلك الجعل أو ذلك الفلق والجعل، أو {ذَلِكَ} إشارة إلى جميع الأخبار من قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ} إلى آخرها {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب الذي كل شيء من هذه في تسخيره وقهره. {الْعَلِيمِ} الذي لا يعزب عنه شيء من هذه الأحوال، ولا من غيرها؛ أي (¬3): حصول هذه الأحوال لا يمكن إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وبعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، فليس حصول حركات أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة بالطبع، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. 97 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الَّذِي جَعَلَ} وخلق {لَكُمُ} أيها الناس {النُّجُومَ} والكواكب {لِتَهْتَدُوا بِهَا}؛ أي: للاهتداء بها {فِي ظُلُمَاتِ} الليل عند المسير في {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه، فامتن الله على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق، والجهات التي تقصد، والقبلة في البر والبحر؛ إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة، كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها، والمعنى: وهو الذي خلق لكم النجوم لاهتدائكم بها في مشتبهات الطرق إذا سافرتم في بر أو بحر، ولاستدلالكم بها على معرفة القبلة، وعلى معرفة أوقات الصلاة. والمراد بالنجوم هنا: ما عدا الشمس والقمر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراح.

[98]

من النيرات؛ لأنه الظاهر من سياق الكلام، ولأنه المعهود في الاهتداء، وهذه إحدى منافع النجوم التي خلقها الله لها. ومنها: ما ذكره الله في قوله: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)}، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}. ومنها: جَعْلها زينة للسماء، ومن زعم غير هذه الفوائد .. فقد أعظم على الله الفرية. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ أي: قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لقوم يعلمون؛ أي: يتأملون فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب؛ أي: فإن هذه النجوم كما يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر، فكذلك يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه. وكانت العرب في أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم، فتحفظ أوقات السنة بالأنواء، وهي نجوم منازل القمر في مطالعها ومغاربها، وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين: 1 - معرفة الوقت من الليل، أو من السنة. 2 - معرفة المسالك والطرق والجهات. والمراد بالظلمات: ظلمة الليل، وظلمة الأرض، أو الماء، وظلمة الخطأ والضلال. وحاصل المعنى: والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة في البر والبحر إذا ضللتم الطريق، أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلًا، فيها تستدلون على الطرق فتسلكونها، وتنجون من الخطأ والضلال في البر والبحر. 98 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} وأوجدكم وخلقكم مع كثرتكم واختلاف ألسنتكم وألوانكم {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد، وهو آدم عليه السلام، وفي إنشاء البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته، وفي التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر، وأن يكون هذا التفرق إلى

شعوب وقبائل مدعاةً إلى التآلف، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}؛ أي: ولكم موضع استقرار في الأصلاب، وموضع استيداع في الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأن النطفة تتوالد في الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع، كما قال الشاعر: وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَللآبَاءِ أَبْنَاءُ فالمستقر على هذا التفسير: صلب الأب، والمستودع: رحم الأم, لأن (¬1) النطفة حصلت في صلب الأب قبل حصولها في رحم الأم، فحصول النطفة في الرحم من فعل الرجل مشبه بالوديعة، وحصولها في الصلب لا من جهة الغير. وقال أبو مسلم الأصبهاني: إن تقدير الآية: هو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم ذكر ومنكم أنثى، وإنما عبر عن الذكر بالمستقر؛ لأن النطفة إنما تنشأ في صلبه وتستقر فيه، وإنما عبر عن الأنثى بالمستودع؛ لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة. وقرأ (¬2) ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي: بكسر القاف على صيغة اسم الفاعل، والباقون: بفتحها. وأما {مستودع} فهو بفتح الدال لا غير، وهما مرفوعان على أنهما مبتدان، وخبرهما محذوف، والتقدير على القراءة الأولى - أعني قراءة الكسر -: فمنكم مستقر على ظهر الأرض، وعلى القراءة الثانية - أعني قراءة الفتح -: فلكم مستقر على ظهرها؛ أي: موضع قرار، ومنكم مستودع في الرحم، أو في باطن الأرض، أو في الصلب. وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع في الأرض. وقيل: المستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب. وقيل: المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق. وقيل: الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث، ومما يدل على تفسير المستقر ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[99]

بالكون على الأرض قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}؛ أي: قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا من تفاصيل خلق البشر {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}؛ أي: يدققون النظر ويتأملون فيها، فإن إنشاء البشر من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف صنعة، وإن الاستدلال بالأنفس أدق من الاستدلال بالنجوم في الآفاق لظهورها. وعبارة "المراغي" هنا: قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}؛ أي (¬1): إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا في الخلق مفصلة وموضحة لقدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويفهمون المراد منه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه. وعبر هنا بالفقه، وفيما قبلها بالعلم؛ لأن استخراج الحكم من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات، وفطنة في استخراج دقائق الحكم. أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر والتأمل في العبرة منها، وكذلك جميع المظاهر الفلكية. ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين، وهي إنزال الماء من السماء، وجعله سببًا للنبات، فقال: 99 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب {مَاءً}؛ أي: مطرًا؛ أي: وهو الله الذي خلق هذه الأجسام في السماء، ثم ينزلها إلى السحاب، ثم من السحاب إلى الأرض {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}؛ أي: بسبب هذا الماء {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: نبات كل صنف من أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره اختلافًا متفاوتًا في مراتب الزيادة والنقصان، سواء كان من النجم، أو من الشجر، كما قال تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}. {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ}؛ أي: من النبات {خَضِرًا}؛ أي: زرعًا، والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولًا في القمح والشعير والذرة والأرز، ويكون السنبل في أعلاه؛ أي: فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئًا غضًّا أخضر، ¬

_ (¬1) المراغي.

وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، كساق النجم وأغصان الشجر. {نُخْرِجُ مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الخضر؛ أي: من هذا الأخضر المتشعب النبات آنًا بعد آن. {حَبًّا مُتَرَاكِبًا} بعضه فوق بعض في سنبلة واحدة، وهذا الخارج هو السنبل، مثل سنبل الشعير والقمح والذرة وسائر الحبوب. وقرأ الأعمش وابن محيصن: {يخرج منه حب متراكب} على أنه مرفوع بـ {ـيخرج}، و {متراكب} في رفعه ونصبه صفة له. وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له، وهو ما عدا الشجر. وفي تقديم الزرع على النخل دليل على أفضلية الزرع على الشجر، ولأن حاجة الناس إليه أكثر؛ لأنه القوت المألوف. ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر، فقال: {وَمِنَ النَّخْلِ} خبر مقدم {مِنْ طَلْعِهَا} بدل منه {قِنْوَانٌ} مبتدأ مؤخر {دَانِيَةٌ} صفة له؛ أي: وأخرجنا من النخل نخلًا من طلعها قنوان دانية؛ أي: عنقود وعذوق قريبة يناله القاعد والقائم؛ لانحنائها بثقل حملها، أو لقصر ساقها، وفيه اكتفاء؛ أي: وغير دانية لطولها، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وإنما اقتصر على ذكرها دون مقابلها لدلالتها عليه، وزيادة النعمة فيها بقربها إلى المجتني، ففيها سهولة التناول دون البعيدة لاحتياجها إلى كلفة. والطلع: أول ما يبدو ويطلع ويظهر من زهر النخل قبل أن ينشق عنه غلافه. والقنوان: واحدها: قنو، والقنو: العذق الذي يكون فيه التمر، وهو من النخل كالعنقود من العنب، والسنبلة من القمح. وذكر الطلع مع النخل؛ لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام. وقرأ الجمهور (¬1): {قِنْوَانٌ} بكسر القاف. وقرأ الأعمش والخفاف عن أبي عمر والأعرج في رواية: بضمها، ورواه السلمي عن علي بن أبي طالب. وقرأ الأعرج في رواية, وهارون عن أبي عمر: {وقنوان} بفتح القاف. وخرجه أبو الفتح على أنه اسم جمع على فعلان؛ لأن فعلانًا ليس من أبنية جمع التكسير. وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} بالنصب بكسر التاء على قراءة الجمهور معطوف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

على {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} من عطف الخاص على العام لشرفه، ولما جرد النخل .. جردت جنات الأعناب لشرفهما؛ أي: وأخرجنا بالماء بساتين كائنة من أعناب. وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} بالرفع، وهي قراءة علي بن أبي طالب. وقدره أبو البقاء: ومن الكرم {جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} نظرًا لقوله أولًا: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}. وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} معطوفان على نبات كل شيء؛ أي: وأخرجنا بذلك الماء شجر الزيتون وشجر الرمان حالة كون كل واحد منهما {مُشْتَبِهًا}؛ أي: يشبه (¬1) بعضه بعضًا في بعض أوصافه {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}؛ أي: ولا يشبه بعضه بعضًا في البعض الآخر. وقيل: إن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن، وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم. وقال قتادة: مشتبهًا ورقها مختلفًا ثمرها؛ لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان. وقيل: هما منصوبان على الاختصاص، وإنما خصهما بالذكر لقرب منابتهما من العرب؛ أي (¬2): وأخص من نبات كل شيء: الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبهًا في بعض الصفات وغير مشتبه في بعض آخر، فإنها أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر، وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنها الحلو، والحامض، والمرُّ، وكل ذلك دال على قدرة الصانع وحكمة المبدع جلَّ شأنه. واعلم (¬3): أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع، وإنما قدم الزرع على سائر الأشجار؛ لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفواكه؛ وإنما قدم النخلة على غيرها؛ لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء، وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار، وإنما ذكر العنب عقب النخلة؛ لأنها من أشرف أنواع الفواكه، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من المنافع أيضًا؛ لأنه فاكهة ودواء. وقرأ الجمهور: {مُشْتَبِهًا}، وقرىء شاذًا: {مُشْتَبِهًا}، وهما بمعنى واحد، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

كاختصم وتخاصم، واشترك وتشارك، واستوى وتساوى، ونحوها مما اشترك فيه باب الافتعال والتفاعل. {انْظُرُوا} أيها المخاطبون نظر اعتبار واستبصار {إِلَى ثَمَرِهِ}؛ أي: إلى ثمر كل واحد مما ذكر {إِذَا أَثْمَرَ}؛ أي: إذا أخرج ثمره أول ظهوره، وكيف يخرج ضئيلًا لا يكاد ينتفع به {وَ} انظروا إلى {يَنْعِهِ}؛ أي: وإلى نضجه وإدراكه، وكيف أنه يصير ضخمًا ذا نفع عظيم ولذة كاملة، ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين يستبين لكم لطف الله وتدبيره وحكمته في تقديره، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده؛ أي: انظروا أيها المخاطبون إلى حال هذه الثمار من ابتداء خروجها وظهورها إلى انتهاء كبرها ونضجها، كيف تتنقل من حال إلى حال في اللون والرائحة، والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مرًّا وبعضه مالحًا لا ينتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلوًا طيبًا نافعًا مستساغ المذاق، فسبحان القادر الخلاق. والحاصل: انظروا نظر استدلال واعتبار كيف أخرج الله تعالى هذه الثمرة الرطبة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة، فإنه مما يدل على قدرته الباهرة وحكمته الظاهرة. وقرأ ابن وثاب ومجاهد وحمزة والكسائي (¬1): {إلى ثُمره} بضم الثاء والميم، جمع ثمرة كخشبة وخشب، وأكمة وأكم. وقرأت فرقة بضم الثاء وإسكان الميم طلبًا للخفة، كما تقول في الكتب: كتب. وقرأ باقي السبعة بفتح الثاء والميم، وهو اسم جنس، كشجرة وشجر. والثمر جنى الشجر وما يطلع منه. وقرأ الجمهور (¬2): {وَيَنْعِهِ} بفتح الياء وسكون النون. وقرأ قتادة والضحاك وابن محيصن بضم الياء وسكون النون. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني {ويانعه} اسم فاعل من ينع، ونسبها الزمخشري إلى ابن محيصن. {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ}؛ أي: إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[100]

والأشكال والألوان {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلائل باهرة على قدرة الله تعالى ووحدانيته {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون بوجود الله تعالى ووحدانيته، وإن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم، وناسب ختم هذه الآية بقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} كون ما تقدم دالًّا على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة، فلا بدَّ لها من مدبر مع أنها نابتة من أرض واحدة، وتسقى بماء واحد ذكره في "الجمل". والمعنى (¬1): إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته لمن هو مؤمن بالفعل، ولمن هو مستعد للإيمان. أما غيرهم .. فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر، ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهي النظام، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات، ولا يبحثون عن كون انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دالًّا على كمال الحكمة، وعلى أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة. 100 - {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالتهم؛ أي: وجعل هؤلاء المشركون الجن شركاء لله سبحانه وتعالى {وَخَلَقَهُمْ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الجن، أو قد خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض في صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقًا، ولا يصل به إلى درجة أن يكون إلهًا وربًّا. وفي المراد (¬2) من الجن هنا أقوال، فقال قتادة: إنهم الملائكة، فقد عبدوهم، وقال الحسن: إنهم الشياطين، فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي. وقيل: إبليس، فقد عبده أقوام وسموه ربًّا، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

وروي عن ابن عباس أنه قال: إنها نزلت في الزنادقة الذين يقولون: إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور، رجح الرازي هذا الرأي قال: إن المراد من الزنادقة: المجوس الذين قالوا: إن كل خير في العالم، فهو من يزدان - النور - وكل شر فهو من أهرمن؛ أي: إبليس. وقرأ (¬1) الجمهور: بنصب {الْجِنَّ}، وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أول لـ {جَعَلُوا}، وجعلوا بمعنى: صيروا، و {شُرَكَاءَ}: مفعول ثانٍ، و {لِلَّهِ} متعلق بـ {شُرَكَاءَ}. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب: {الْجِنَّ} بالرفع على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه شركاء؟ فقيل لهم: هم الجن، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه، والانتقاص جعلوه شريكًا لله. وقرأ شعيب بن أبي حمزة: {الْجِنَّ} بخفض النون، ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضًا، وحمل على الإضافة التي للتبيين، ولا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله، وهذا معنى لا يظهر. وقرأ (¬2) يحيى بن يعمر {وَخَلَقَهُمْ} بإسكان اللام، وكذا في مصحف عبد الله، والظاهر أنه عطف على الجن؛ أي: وجعلوا الذي ينحتونه أصنافًا شركاء لله، كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى: المخلوق، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: وقرىء: {وَخَلَقَهُمْ}؛ أي: اختلاقهم الإفك يعني: وجعلوا لله خلقهم؛ حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: والله أمرنا بها. انتهى. والخلق هنا: مصدر بمعنى: الاختلاق. {وَخَرَقُوا لَهُ}؛ أي: خرق هؤلاء المشركون واختلقوا وكذبوا، وجعلوا لله سبحانه وتعالى {بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بغير علم؛ أي: بجهل وضلالة؛ أي: واختلقوا له تعالى بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم؛ أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميًا بقول عن جهالة وغباوة من غير فكر وروية، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[101]

بمقام الألوهية؛ حيث قال مشركو العرب: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فلو عرفوا أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته .. لامتنعوا أن يثبتوا له تعالى البنين والبنات؛ فإن الولد قال على كونه منفصلًا من جزء من أجزاء الوالد، وذلك إنما يكون في مركب يمكن انفصال بعض أجزائه، وذلك في حق الفرد الواجب الوجود لذاته محال، فمن عرف حقيقة الإله استحال أن يقول: له تعالى ولد. وقرأ (¬1) نافع: {وخرقوا} بتشديد الراء وبالقاف، وباقي السبعة بتخفيفها، وقرأ ابن عمر وابن عباس {وحرفوا} بالحاء المهملة والفاء، وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس بمعنى؛ وزوروا له أولادًا؛ لأن المزور محرف مغير للحق إلى الباطل. {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما لا يليق به من سمات الحدوث، ونزه الله تعالى ذاته بنفسه عن كل ما لا يليق به {وَتَعَالَى}؛ أي: تقدس وترفع {عَمَّا يَصِفُونَ}؛ أي: عن الباطل الذي يصفونه به، وعما يقوله المشركون في حقه من أن له شريكًا وولدًا. فالتسبيح (¬2) يرجع إلى ذات المسبح، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له تعالى، سواء سبحه تعالى مسبح أم لا، فكأنه قال هنا: نزهت ذاتي عن كل ما لا يليق بي، وترفعت صفاتي عن ما لا يليق بها، وهو سبحانه وتعالى 101 - {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: خالق السموات والأرض وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق، فهو الخالق المبدع. وقرأ المنصور {بَدِيعُ} بالجر، ردًّا على قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ}، أو على {سُبْحَانَهُ}. وقرأ صالح الشامي {بَدِيعُ} بالنصب على المدح، ذكره أبو حيان. والاستفهام في قوله {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} للإنكار والاستبعاد، وجملة قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} حالية؛ أي: كيف يكون له سبحانه وتعالى ولد، والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها، والولد لا يوجد إلا كذلك؛ لأنه إذا لم تكن صاحبه .. استحال وجود الولد، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرضية صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها، وصدور تسبب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

كالتوالد ونحوه بحسب سننه في الخلق. وقرأ النخعي: {ولم يكن} بالياء، ووجه على أن فيه ضميرًا يعود على الله، أو على أن فيه ضمير الشأن، وجملة: {لَهُ صَاحِبَةٌ} على هذين الوجهين في موضع نصب خبر يكن، أو على ارتفاع {صاحبة} بـ {يكن}، وذُكِّر للفصل بين الفعل والفاعل كقوله: وَلَدَ الأُخَيِطلَ أُمُّ سُوْءْ وحضر للقاضي امرأة ذكره أبو حيان في "البحر". وجملة قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} مقررة لإنكار نفي الولد، ودليل بعد دليل على ذلك؛ أي: وهو سبحانه وتعالى خلق كل شيء من الكائنات خلقًا وأوجده إيجادًا، ولم يلده ولادة كما زعمتم، فما افتريتم واخترعتم من الولد، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه. يعني (¬1): إن الصاحبة والولد في جملة من خلق؛ لأنه خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟ وإذا نسب الولد والصاحبة إليه .. فقد جعل له مثل، والله تعالى منزه عن المثلية، وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من المعلومات {عَلِيمٌ} لا تخفى عليه من مخلوقاته شيء؛ أي: إن علمه سبحانه وتعالى بكل شيء ذاتي له، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء، ولو كان له ولد .. لكان هو أعلم به، ولهدى العقول إليه بآيات الوحي ودلائله، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبًا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلي. والخلاصة (¬2): أنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه: 1 - أن من مبدعاته السموات والأرضين، وهي مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها. 2 - أن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة لشيء. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي والبيضاوي.

[102]

3 - أن الولد كفء للوالد، والله لا كفء له؛ لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه، ولأن علمه ذاتي ولا كذلك غيره. والإشارة في قوله: 102 - {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} إلى الموصوف بما تقدم من خلق السموات والأرض وإبداعهما، ومن أنه بكل شيء عليم، ومن أنه خلق كل شيء، فإذا (¬1) كانت هذه الصفات ملاحظة في اسم الإشارة .. حصل التكرار في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إذ يصير المعنى: الذي خلق كل شيء، خالق كل شيء ويجاب بأن قوله فيما سبق، وخلق كل شيء؛ أي: في الماضي، كما تنبىء عنه صيغة الماضي، وبأن قوله هنا: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: مما سيكون، فلا تكرار، وهكذا أجاب أبو السعود، فاسم الإشارة: مبتدأ، واسم الجلالة: خبر أول، وربكم: خبر ثانٍ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر ثالث، و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} خبر رابع، والخطاب في قوله: {ذَلِكُمُ} موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة؛ أي: ذلكم الموصوف بالصفات السابقة أيها المشركون من أنه خلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سبق، وأنه بكل شيء عليم هو المعبود بحق في الوجود، ربكم ومالككم، المستحق منكم العبادة، لا من تدعون من دونه من الأصنام؛ لأنها جمادات لا تخلق ولا تضر ولا تنفع ولا تعلم، والله تعالى هو الخالق الضار النافع، لا معبود بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى، خالق كل شيء ما كان وما يكون، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه، فكيف يعبد من هو مثله ويتخذه إلهًا. والفاء (¬2) في قوله: {فَاعْبُدُوهُ} لمجرد السببية من غير عطف، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر، وعكسه؛ أي: هو حكم ترتب على تلك الأوصاف، وهي علل مناسبة، فحيث وجدت وجد، وحيث فقدت فقد، وبما تقرر علم أنَّ فائدة ذكر خالق كل شيء في الآية بعد قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} جعله توطئة لقوله تعالى: {فَاعْبُدُوهُ}، وأما قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فإنما ذكر استدلالًا على نفي الولد اهـ "كرخي". ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

[103]

أي: فبسبب كونه موصوفًا بالأوصاف السابقة ومستجمعا لها، وحدوه بالعبادة، ولا تشركوا به شيئًا من مخلوقاته، يعني: من كانت هذه صفاته .. فهو الحقيق بالعبادة فاعبدوه، ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء {وَهُوَ} سبحانه وتعالى مع تلك الصفات الجليلة الشأن {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من المخلوقات {وَكِيلٌ}؛ أي: رقيب على أعمالهم حافظ لها، فيجازيهم عليها، فيجب على كل مكلف أن يعلم أنه لا حافظ إلا الله، ولا مصلح للمهمات إلا الله، فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه، ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه تعالى، ويقال: أي: كفيل بأرزاق خلقه. وقيل: معناه موكول إليه جميع الأمور، متول عليها، يدبر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية. والخلاصة (¬1): أنه لا حافظ إلا الله، ولا قاضي للحاجات إلا هو، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه، ولا نلجأ في المهمات إلا إليه سبحانه وتعالى. 103 - {لَا تُدْرِكُهُ} سبحانه وتعالى ولا تراه {الْأَبْصَارُ} جمع بصر، وهو حاسة النظر، أي القوة الباصرة، وقد يقال: للعين من حيث إنها محلها، أي محلُّ الحاسة، أي لا تراه أبصار الخلائق في الدنيا، وبهذا يعلم أنه لا تنافي بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب" فالمؤمنون يرونه في الآخرة لهذه الأحاديث، ولقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. وأما الكافرون .. فهم يومئذ محجوبون عن ربهم، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}. وقيل: معناه لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف بها كنهه وحقيقته عَزَّ وَجَلَّ، وعلى هذا القول يكون نفي الإدراك على عمومه، فلا يحيط به بصر أحد لا في ¬

_ (¬1) المراغي.

الدنيا ولا في الآخرة، لعدم انحصاره في بصرهم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. فصل في البحث عن رؤية الله سبحانه وتعالى وفي "الخازن" قال (¬1): جمهور المفسرين معنى الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، والأبصار ترى الباري سبحانه وتعالى ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به. وقال سعيد بن المسيب في تفسير قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا تحيط به الأبصار. وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقد تمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع، وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وقالوا: إن الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه، وإن رؤيته مستحيلة عقلًا؛ لأن الله أخبر أن الأبصار لا تدركه، إدراك البصر عبارة عن الرؤية، إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري، ورأيته ببصري، فثبت بذلك أن قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} بمعنى: لا تراه الأبصار، وهذا يفيد العموم. ومذهب أهل السنة: أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، وإن رؤيته غير مستحيلة عقلًا. واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتاب والسنة والإجماع من الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة، قال الله تعالى: {وجوه يومئذ إلى ربها ناظرة} ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه في الآخرة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}؛ أي: يرى الأبصار ويحيط بها، ويبلغ كنهها, لا تخفى عليه منها خافية، وخص (¬2) الأبصار بالذكر ليجانس ما قبله، وإلا فهو يدرك الأبصار وغيرها من الأشياء. وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي: لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما السبب الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[104]

أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. انتهى. فاعلم أن خلقًا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به، وهو اللطيف الخبير. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {اللَّطِيفُ}؛ أي: الخفي عن إدراك الأبصار له من اللطف بمعنى خفاء الإدراك، فيكون راجعًا لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}؛ أي: فيلطف عن أن تدركه الأبصار بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته. {الْخَبِيرُ}؛ أي: العالم بدقائق الأشياء ولطائفها، فلا يعزب عن إدراكه شيء، فيكون راجعًا لقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. والخلاصة: أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار، ولكنه خبير بكل لطيف، وهو يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار. 104 - {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} هذا الكلام وارد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله آخره: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}؛ أي: قد جاءكم وأتاكم أيها الناس في هذه الآيات البينات بصائر كائنات من ربكم وخالقكم؛ أي: قد جاءتكم الحجج الكونية والبراهين العقلية في هذا القرآن، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم، وأكمل مشاعركم، وقواكم، كما ربى أرواحكم وهذب نفوسكم، ومحص بها عقولكم حتى تصل إلى منتهى ما تسموا إليه النفوس البشرية من الكمال. والمراد بالبصائر هنا: الآيات الواردة في هذه السورة، أو القرآن بجملته، فلما كانت هذه الآيات والحجج والبراهين أسبابًا لحصول البصائر .. سميت بصائر. {فَمَنْ أَبْصَرَ}؛ أي: فمن عرف تلك الآيات وأبصر بها الحق وآمن وعمل صالحًا، ثم اهتدى {فَلِنَفْسِهِ}؛ أي: فلنفسه أبصر واهتدى، وقدم الخير، وبلغ السعادة؛ أي: فمنفعة إبصاره لنفسه؛ لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار. {وَمَنْ عَمِيَ} عن تلك البصائر وكفر بها، وضل عن الحق وأعرض عن سبيله، وأصر على ضلاله تقليدًا لآبائه وأجداده {فَعَلَيْهَا}؛ أي: فعلى نفسه عمي وجنى وأضر بها؛ أي: فمضرة ضلاله وكفره على نفسه، وكان وبال ذلك

[105]

العمى عليه؛ لأن الله تعالى غنى عن خلقه. ونحو الآية قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}؛ أي: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم من أرسلت به إليكم، والله هو الحفيظ عليكم، ولا يخفى عليه شيء ما أعمالكم، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علي إلا البلاغ. وقيل: معناه: لا أقدر أن أدفع عنكم ما يريده الله بكم. وقيل: معناه: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهذا كان قبل الأمر بقتال المشركين، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية السيف، وعلى القولين الأولين ليست منسوخة، والله أعلم بمراده. 105 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: ومثل تصريفنا الآيات في غير هذه السورة {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} في هذه السورة؛ أي: ونبين دلائل قدرتنا ووحدانيتنا من الآيات التكوينية والبراهين العقلية في هذه السورة تبيينًا مثل تبييننا إياها في غير هذه السورة. وقوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} معطوف على محذوف تقديره: وكذلك نصرف الآيات ونبينها ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام، وليقول الجاحدون المعاندون من المشركين في عاقبة أمرهم قد درست هذا القرآن من قبل، وتعلمت من أهل الكتاب، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت، وقد قالوا هذا إفكًا وزورًا، فزعموا أنه تعلَّم من غلام رومي كان يصنع السيوف بمكة، وكان يختلف إليه كثيرًا، وذلك ما عناه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة، وليقولوا درست، وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى قوم آخرون بالإعراض عنها، فمن عمل بها .. سعد، ومن قال: درست .. شقي، ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير". واللام في قوله: {وَلِيَقُولُوا} لام العاقبة، وضابطها هي التي تدخل على شيء ليس مقصودًا من أصل الفعل، ولا حاملًا عليه، وفي قوله:

{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لام كي، وهي لام العلة، وضابطها: هي التي كان ما بعدها علة لما قبلها، والضمير فيه للآيات بتأويلها بالقرآن؛ أي: وكذلك نصرف الآيات ليهتدوا بها, وليقولوا درست، ولنبين تلك الآيات التي هي القرآن لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد. والحاصل: أن لتصريف الآيات ثلاث فوائد: 1 - أن يهتدي بها المستعدون للإيمان. 2 - وأن يقول الجاحدون: درست. 3 - وأن نبينها لقوم يعلمون. والحاصل: أنه علل تبيين الآيات بعلل ثلاث: أولاها محذوفة، واللام في الأولى والأخيرة لام العلة حقيقة بخلافها في الثانية، فهي لام العاقبة كما مرَّ آنفًا. والخلاصة: أن الذين يقولون للرسول إنك درست هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله تعالى على ضروب مختلفة، ولم يفقهوا سرها وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا، وأما الذين يعلمون مدلولاتها وحسن عاقبة الاهتداء بها .. فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن، وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان. فصل وفي {دَرَسْتَ} قراءات (¬1)، قرأ أبو عمرو وابن كثير: {دَارَسْتَ} بألف بين الدال والراء وسكون السين وفتح التاء، كفاعلت، وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة، والمعنى عليها: دارست يا محمد أهل الكتاب ودارسوك؛ أي: ذاكرتهم وذاكروك. وقرأ ابن عامر ويعقوب وجماعة من غير السبعة: {دَرَسْتَ} بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف، كخرجت ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير والشوكاني.

مسندًا إلى ضمير الغائبة، وهي قراءة الحسن، والمعنى عليها: قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وتكررت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم. وقرأ باقي السبعة، وهم عاصم وحمزة والكسائي: {دَرَسْتَ} كضربت، والمعنى عليها: درست يا محمد في الكتب القديمة، وتعلمت من أبي فكيهة وجبر ويسار، وسنبين هذا إن شاء الله تعالى عند قوله: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} في سورة النحل، وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: {دُرِست} بضم الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يسر، ومعناها قرئت. وقرأ أبي بن كعب: {دَرُسَتْ} بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء. قال الزجاج: وهي بمعنى: درست بفتحات؛ أي: انمحت ومضت، إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة. وقرأ معاذ القارئ وأبو العالية ومورق: {دُرِّسْت} بضم الدال وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن عباس وأبي والأعمش: {دَرَس} بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء؛ أي: قرأ محمد. وروى عصمة عن الأعمش: {دارس} بألف. وروي عن الحسن: {درسن} مبنيًّا إلى المفعول، مسندًا إلى النون؛ أي: درست الآيات، وكذا هي في مصاحف عبد الله. وقرأت فرقة: {درسن} بتشديد الراء مبالغة في درسن. وقرىء: {دارسات}؛ أي: هي قديمات، أو ذات درس كعيشة راضية. وقرىء: {درست} بالتشديد والخطاب؛ أي: درست الكتب القديمة. وقرىء: {درست} مشددًا مبنيًّا للمفعول المخاطب. وقرىء: {دورست} بالتخفيف والواو مبنيًّا للمفعول، والواو مبدلة من الألف في دارست. وقرأت فرقة: {دارست}؛ أي: دارستك الجماعة الذين تتعلم منهم، وجاز الإضمار لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم، ويجوز أن يكون الفعل للآيات وهو لأهلها؛ أي: دارس أهل الآيات، فهذه خمس عشرة قراءة في هذه الكلمة. وقرأت طائفة منهم المبرد: {وليقولوا} بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والتهديد؛ أي: وليقولوا ما شاءوا، فإن الحق بين. وقرأ الجمهور بكسرها، وقالوا: هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها، والفعل منصوب بأن المضمرة، وهي لام كي.

[106]

تتمة: في معنى: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي (¬1): وليقول بعضهم: ذاكرت يا محمد أهل الأخبار الماضية، فيزداد كفرًا على كفر. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر آيات القرآن نجمًا نجمًا، والكفار كانوا يقولون: إن محمدًا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يتفكر فيها، ويصلحها آية فآية، ثم يظهرها, ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء .. فلم لم يأت بهذا القرآن دفعة واحدة، كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة؛ أي: فإن تكرير هذه الآيات حالًا بعد حال هي التي أوقعت الشك للقوم في أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين. وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان: فريق فسدت فطرتهم، ولم يبقَ لديهم استعداد لهديه، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار، وفريق آخر اهتدى به، وعمل بما فيه .. أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه بالبيان له، والعمل به، فقال: 106 - {اتَّبِعْ} يا محمد {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: ما أنزل إليك من ربك؛ أي: ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، وهو القرآن، فاعمل به وبلغه إلى عبادي، ولا تلتفت إلى قول من يقول: دارست أو درست، ولا تتبع أهوائهم. وفي قوله: {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} تعزية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإزالة الحزن الذي حصل له بسبب قولهم: درست. ونبه (¬2) بقوله سبحانه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} على أنه سبحانه وتعالى واحد فرد صمد لا شريك له، وإذا كان كذلك .. فإنه تجب طاعته ولا يجوز تركها بسبب جهل الجاهلين، وزيغ الزائعين. وهذه الجملة معترضة لا محل لها من الإعراب، أكد بها إيجاب اتباع الوحي، أو حال مؤكدة من {رَبِّكَ}. {وَأَعْرِضْ} يا محمد {عَنِ} استهزاء {الْمُشْرِكِينَ} وشركهم الذين يستهزئون بك، ولا تبال بهم واتركهم ولا تقاتلهم في الحال حتى يأتيك الأمر بقتالهم، فيكون الأمر بالإعراض منسوخًا بآية السيف على هذا المعنى، أو ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[107]

المعنى: اتركهم في الحال لا على الدوام، فيكون غير منسوخ. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) اتبع ما أوحي إليك لتزكي نفسك، وتكون إمامًا لأبناء جنسك، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلمه ويأتمر بما يُؤمر به، ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحي، هو المعبود الواحد الذي لا شريك له، المجازي على الأعمال التي لا تقبل شفاعة ولا فداء. ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك ولا مثل قولهم: درست؛ لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال، ولا بالانكباب على خرافات الأعمال، ثم هون عليه أمر الإعراض عنهم فقال: 107 - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى توحيدهم وعدم إشراكهم لـ {مَا أَشْرَكُوا} بأن يخلق البشر كلهم مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والطاعة والفسق، مضت سنته بأن يكونوا مختارين في أعمالهم وفي كسبهم لعلومهم وأعمالهم، وجعل منها الخير والشر، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرًا. والمعنى (¬2): لا تلتفت يا محمد إلى سفاهات هؤلاء المشركين الذين قالوا لك: إنما جمعت هذا القرآن من مذاكرة الناس، ولا يثقلن عليك شركهم، فإنا لو أردنا إزالة الشرك عنهم .. لقدرنا, ولكنا تركناهم مع كفرهم، فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم. {وَمَا جَعَلْنَاكَ} يا محمَّد {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على هؤلاء المشركين {حَفِيظًا}؛ أي: رقيبًا، ولا حافظًا من جهتنا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: وما أنت بحافظ ولا قيم عليهم من جهتم تقوم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[108]

بأرزاقهم وتتولى أمورهم وتتصرف فيها. والمعنى (¬1): أنك لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب، وإنما بعثت مبلغًا، فلا تهتم بشركهم، فإن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى. والخلاصة (¬2): أنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي، بل أنت بشير ونذير، والله هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم. 108 - {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: ولا تشتموا أيها المؤمنون الأصنام التي كان المشركون يعبدونها ويدعونها من دون الله تعالى لجلب نفع لهم، أو دفع ضر عنهم بوساطتها وشفاعتها لهم عند الله تعالى {فَيَسُبُّوا اللَّهَ}؛ أي: فيتسبب عن ذلك سب المشركين لله تعالى {عَدْوًا}؛ أي: ظلمًا ملتبسًا {بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ أي: بجهل بالله تعالى ليغيظوا المؤمنين، ولينتصروا لآلهتهم لشدة غيظهم لأجلها، فيخرجوا عن حال الاعتدال إلى ما ينافي العقل، كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف، فإنه قد يلفظ بما يؤدي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك. والمعنى: ولا تسبوا الأصنام التي كان المشركون يدعونها من دون الله، فيسبوا الله للظلم بغير علم بما يجب في حقه عليهم؛ لأنهم جهلة بالله تعالى؛ لأن بعضم كان يقول بالدهر ونفي الصانع. قال (¬3) قتادة: كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عَزَّ وَجَلَّ انتهى. وإنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان مباحًا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد، وهو سب الله وسب رسوله، فظاهر الآية كان نهيًا عن سب الأصنام، وحقيقتها النهي عن سب الله تعالى؛ لأنه سبب لذلك، وفي ذلك دلالة على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة .. وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

وقيل معنى الآية (¬1): ولا تسبوا أيها المؤمنون من يعبدون الأصنام من حيث عبادتهم لآلهتهم، كأن تقولوا: تبًّا لكم ولما تعبدون من الأصنام مثلًا، فيسبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجاوزًا عن الحق إلى الباطل بجهالة منهم بما يجب عليهم، فإن الصحابة متى شتموهم .. كانوا يشتمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى؛ لأن الكفار كانوا مقرين بالله تعالى، وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى. تنبيه: وفي هذه الآية دليل (¬2) على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به، بل كان واجبًا عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه، وفعلوا غيره من المنكرات عنادًا للحق، وبغضًا لأتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه وتعالى، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة، وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق .. وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة .. قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين، المتهاونون بالشرائع، وهم شر من الزنادقة؛ لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإِسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرًا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سد الذرائع، وقطع التطرق إلى الشبه. وقرأ (¬3) الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

{عُدُوًّا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهو مصدر لعدا؛ لأنه يقال: عدا يعدو وعَدْوًا وعدوانًا وعُدُوًا، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ غيرهم بفتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو. ومعنى القراءتين واحد؛ أي: ظلمًا وعدوانًا. وقرأ بعض المكيين - وعينه الزمخشري، فقال: عن ابن كثير -: بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو؛ أي: أعداء، وهو منصوب على الحال المؤكدة، وعدو يخبر به عن الجمع كما قال تعالى: {هُمُ العَدُوُّ} ومعنى بغير علم: على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به، وهو بيان لمعنى الاعتداء. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم كافرهم ومؤمنهم {عَمَلَهُمْ} من كفر وإيمان وشر وخير {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر، والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان: هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء {ثُمّ} بعد موتهم {إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} بالبعث للمجازاة {فَيُنَبِّئُهُمْ}؛ أي: يخبرهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا من الطاعات والمعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم. والخلاصة (¬1): أن سننا في أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه، سواء كان مما عليه أباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم، وسواء أكان ذلك عن تقليد وجهل، أم عن بينة وعلم. ومن هذا يعلم أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه، لا أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينًا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها تزيينًا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، وإلا كان الإيمان والكفر، والخير والشر من الغرائر الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل، وإنزال الكتب لأجله، وكان عمل الرسل ¬

_ (¬1) المراغي.

[109]

والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملًا لا فائدة فيه. والخلاصة: أن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن الله جل شأنه، سواء في ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: ثم إلى ربهم ومالك أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث لا إلى غيره؛ إذ لا رب سواه، فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، ويجزيهم عليه ما يستحقون، وهو تعالى بهم عليم. 109 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الإيمان وأشدها مبالغة، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف، وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيمًا ... أقسموا بالله تعالى، والمعنى: حلفوا غاية حلفهم وأوكده {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} من الآيات الكونية مما اقترحوه كقلب الصفا ذهبًا. {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}؛ أي: بتلك الآية بأنها من عند الله تعالى، وأنك رسول من لدنه. وفي هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد؛ إذ هم لم يعدوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات، ومن ثم اقترحوا غيرها، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم في طلب المعجزات وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات. وقرأ طلحة بن مصرف: {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} مبنيًّا للمفعول وبالنون الخفيفة. {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّمَا الْآيَاتُ} والمعجزات التي من جنسها ما اقترحتموه {عِنْدَ اللَّهِ} وحده، فهو القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها في يشاء ويمنعها في يشاء بحكمته وقضائه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فلا يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب. روي أن قريشًا اقترحوا بعض آيات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن فعلت بعض ما تقولون .. أتصدقونني"؟ فقالوا: نعم، وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن، فسأل المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلها طمعًا في إيمانهم، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء، فنزلت الآية: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ}؛ أي: وما يعلمكم أيها المؤمنون الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته في ذلك. والاستفهام فيه إنكاري

بمعنى النفي، وفي الكلام حذف أيضًا؛ أي: وأي شيء يدريكم ويعلمكم أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون، والمعنى: أنه ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب، وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية. وقرأ قوم بسكون ضمة الراء في (¬1): {يُشْعِرْكُمْ}، وقرىء باختلاسها. وأما الخطاب، فقال مجاهد وابن زيد: هو للكفار. وقال الفراء وغيره: المخاطب بها المؤمنون. وقرأ أبو عمرو وابن كثير والعليمي والأعشى عن أبي بكر وعاصم في رواية داود الإيادي: أنها بكسر الهمزة. وقرأ باقي السبعة بفتحها. وقرأ ابن عامر وحمزة: {لا تؤمنون} بتاء الخطاب. وقرأ باقي السبعة بياء الغيبة. فيتحصل من هذا المذكور أربع قراءات: الأولى: كسر الهمزة والياء، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر - بخلاف عنه في كسر الهمزة - وهذه قراءة واضحة، أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ألبتة على تقدير مجيء الآية، وتم الكلام عند قوله: {يُشْعِرُكُمْ}، ومتعلق {يُشْعِرُكُمْ} محذوف؛ أي: وما يشعركم ما يكون، فإن كان الخطاب للكفار .. كان التقدير: وما يشعركم ما يكون منكم، ثم أخبر على جهة الالتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات. وإن كان الخطاب للمؤمنين .. كان التقدير: وما يشعركم أيها المؤمنون ما يكون منهم، ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم. القراءة الثانية: كسر الهمزة والتاء، وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب في هذه القراءة للكفار، كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم، ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جدًّا أن يكون الخطاب في: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين، وفي: {لا تؤمنون} للكفار. والقراءة الثالثة: فتح الهمزة والياء، وهي قراءة نافع والكسائي وحفص ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[110]

فالظاهر أنَّ الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم، أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تدرون ذلك، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنون مجيئها، فقال: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى: إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون. القراءة الرابعة: فتح الهمزة والتاء، وهي قراءة ابن عامر وحمزة، والظاهر أنه خطاب للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة {لاَ}؛ أي: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت، كما أقسمتم عليه انتهى. من "البحر المحيط" بالتقاط واختصار. 110 - وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} في هذه (¬1) الجملة وجهان: أحدهما: أنها وما عطف عليها من قوله: {وَنَذَرُهُمْ} عطف على {يُؤْمِنُونَ} داخل في حكم {وَمَا يُشْعِرُكُمْ}؛ أي: وما يشعركم أيها المؤمنون أنا نقلب أفئدتهم وقلوبهم ونحولها ونصرفها عن إدراك الحق، فلا يفهمونه {و} أنا نقلب {أَبْصَارَهُمْ} عن اجتلاء الحق ورؤيته، فلا يبصرونه، فلا يؤمنون بالآية التي اقترحوها إذا جاءت {كمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ} أي: كما لم يؤمنوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات {أول مرة}؛ أي: قبل نزول مقترحهم من الآيات السابقة على اقتراحهم، كانشقاق القمر؛ أي: كما لم يؤمنوا بما قبل ذلك من الآيات التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل انشقاق القمر وغير ذلك من الآيات الباهرات، وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات، وقيل: في الكلام حذف تقديره: فلا يؤمنون به ثاني مرة، كما لم يؤمنوا به أول مرة، وتقليب الأفئدة والأبصار الطبع والختم عليها. {و} ما يشعركم أنَّا {نَذَرُهُمْ} ونتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} وضلالهم حالة كونهم {يَعْمَهُونَ} ويترددون في الطغيان متحيرين، والعمه: التردد في الأمر من الحيرة فيه، والطغيان: تجاوز ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الحد؛ أي: إنا ندعهم يتجاوزون الحد في الكفر والعصيان، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات محدثين أنفسهم: أهذا هو الحق المبين، أم السحر الذي يخدع عيون الناظرين؟ وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين، أو المكابرة والجدل كبرًا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم؟ وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكيمة في ربط المسببات بأسبابها، فرسوخهم في الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان، هو سبب تقليب القلوب والأبصار؛ أي: الختم عليها، فلا تفقه ولا تبصر. والوجه الثاني من الوجهين: أن جملة قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. قال الصاوي: قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} استئناف مسوق لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله سبحانه وتعالى لا غيره، فمن أراد له الهدى حوّل قلبه له، ومن أراد شقاوته حول قلبه لها انتهى. وفي الآية (¬1) دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها ويزيغ ما أراد منها، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فمعنى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} نزيغها عن الإيمان, ونقلب أبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة الصواب، وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنون بها، كما لم يؤمنوا بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فعلى هذا يكون الضمير في: {بِهِ} عائدًا على الإيمان بالقرآن، وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها. قوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}؛ أي: ونترك هؤلاء المشركين الذين سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون في تمردهم على الله واعتدائهم عليه يترددون لا يهتدون إلى الحق. وقرأ (¬2) النخعي: {ويقلب} و {يذرهم} بالياء فيهما، والفاعل ضمير الله. وقرأ أيضًا فيما روي عنه مغير الصيغة: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} بالرفع فيهما على البناء للمفعول، {ويذرهم} بالياء وسكون الراء، وافقه على {ويذرهم} ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

الأعمش والهمداني. وقال الزمخشري: وقرأ الأعمش: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} على البناء للمفعول. الإعراب {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {فَالِقُ الْحَبِّ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَالنَّوَى}: معطوف على {الْحَبِّ}. {يُخْرِجُ الْحَيَّ}: فعل ومفعول. {مِنَ الْمَيِّتِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على {فَالِقُ الْحَبِّ} على كونها خبرًا لـ {إن} أو مستأنفة. {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ}: معطوف على {يُخْرِجُ} إن قلنا: إن جملته خبر ثان لـ {إن}، ومعطوف على {فَالِقُ} إن قلنا: إن جملة {يُخْرِجُ} مستأنفة، فهي معترضة حينئذ. {مِنَ الْحَيِّ} متعلق بـ {مُخْرِجُ}. {ذَلِكُمُ اللَّهُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن ذلك الصانع هو المستحق بالعبادة والألوهية، وأردتم بيان ما يستحقه حالكم من التعجب .. فأقول لكم: {أنى}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل النصب مفعول مقدم لـ {تُؤْفَكُونَ}. {تُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويصح أن تكون الفاء استئنافية. {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}. {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: خبر رابع لـ {أن}، ومضاف إليه. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع معطوفة على {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} على كونها خبر لـ {أن}. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: معطوفان على {اللَّيْلَ}. {حُسْبَانًا}: معطوف على {سَكَنًا}، ففيه العطف على معمولي عامل

واحد. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {تَقْدِيرُ}: خبر. {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه {الْعَلِيمِ}: صفة له، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول. {لَكُمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ}؛ لأن {جَعَلَ} بمعنى: خلق يتعدى لمفعول واحد. {لِتَهْتَدُوا}: اللام: لام كي. {تَهْتَدُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {بِهَا}: متعلق به. {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تهتدوا}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لاهتدائكم بها في ظلمات البر والبحر، والجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ}، فإن قيل: كيف يتعلق حرفا جر متحدان في اللفظ والمعنى بعامل واحد فالجواب: أن الثاني بدل من الأول بدل اشتمال بإعادة العامل. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنافة. {لِقَوْمٍ}: متعلق بـ {فَصَّلْنَا}، وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْشَأَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول. {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {أنشأ}. {فَمُسْتَقَرٌّ}: الفاء: عاطفة تفصيلية. {مستقر}: مبتدأ خبره محذوف تقديره: فمستقر كائن لكم على قراءة فتح القاف، وعلى قراءة كسرها: فمنكم مستقر، والجملة معطوفة على الجملة الإسمية، أعني: جملة قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} على كونها تفصيلًا لها. {وَمُسْتَوْدَعٌ}: مبتدأ خبره محذوف أيضًا تقديره: ومستودع لكم، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ}. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.

{لِقَوْمٍ}: متعلق به. {يَفْقَهُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْزَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {مَاءً}: مفعول به لـ {أَنْزَلَ}. {فَأَخْرَجْنَا}: الفاء: حرف عطف وترتيب. {أَخْرَجْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلَ}. {بِهِ}: متعلق بـ {أَخْرَجْنَا}. {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَأَخْرَجْنَا}: الفاء: حرف عطف وترتيب. {أخرجنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أخرجنا}؛ لأن العاطف هنا مرتب. {مِنْهُ} متعلق بـ {أخرجنا}. {خَضِرًا} مفعول {أخرجنا}. {نُخْرِجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْهُ}: متعلق به. {حَبًّا} مفعول به لـ {نُخْرِجُ}. {مُتَرَاكِبًا}: صفة {حَبًّا}، وجملة {نُخْرِجُ} في محل النصب صفة {خَضِرًا}، ولكنها سببية. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}. {وَمِنَ النَّخْلِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ طَلْعِهَا}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله بدل بعض من كل. {قِنْوَانٌ}: مبتدأ مؤخر. {دَانِيَةٌ}: صفة له، والجملة الإسمية معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو جنات، والمعطوف عليه الذي هو نبات كل شيء. {وَجَنَّاتٍ}: معطوف على {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} منصوب بالكسرة. {مِنْ أَعْنَابٍ}: جار ومجرور صفة لـ {جَنَّاتٍ}. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} معطوفان على {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} جريًا على القاعدة المشهورة عندهم، من أنه إذا تكررت المعطوفات، وكان العطف بالواو .. يكون على الأول، ولو كثرت المعطوفات، وإن كان العطف بمرتب .. يكون الكل معطوفًا على ما قبله كما مر قريبًا في {أخرجنا}، كما ذكرناه في "الباكورة الجنية على متن الأجرومية" نقلًا

عن الحامدي. {مُشْتَبِهًا}: حال من {الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}؛ أي: حالة كونهما مشتبهًا ورقهما، وقيل: حال من {الرُّمَّانَ} فقط. {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}: معطوف على مشتبهًا؛ أي: حالة كونهما غير متشابه ثمرهما. {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. {انْظُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة متسأنفة. {إِلَى ثَمَرِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {انْظُرُوا}. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {أَثْمَرَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على كل ما ذكر من الأشجار، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بـ {انْظُرُوا}، والتقدير: انظروا إلى ثمره وقت إثماره. {وَيَنْعِهِ}: معطوف على {ثَمَرِهِ} مجرور بـ {إِلَى}؛ أي: وانظروا إلى ينعه إذا أدرك .. تروا أمرًا عجيبًا دالًّا على باهر قدرته. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إن}. {لَآيَاتٍ}: اللام: حرف ابتداء. {آيَاتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر: {لِقَوْمٍ} جار ومجرور صفة لـ {آيات}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {لِقَوْمٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}. {وَجَعَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: متعلق بـ {شُرَكَاءَ}. {شُرَكَاءَ}: مفعول ثان لـ {جعل}. {الْجِنَّ}: مفعول أول، والتقدير: وجعلوا الجن شركاء لله. {وَخَلَقَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من الجلالة على تقدير: قد. {وَخَرَقُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَجَعَلُوا}. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {خرقوا}. {بَنِينَ}: مفعول به. {وَبَنَاتٍ}: معطوف عليه. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {وَخَرَقُوا}؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بجهالة وغير علم. {سُبْحَانَهُ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: سبح نفسه بذاته تسبيحًا، ونزهه تنزيهًا من كل ما لا يليق به، والجملة

مستأنفة. {وَتَعَالَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {سُبْحَانَهُ}. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تعالى}. {يَصِفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يصفونه به. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وهو تعالى بديع السموات. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة. {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل النصب على التشبيه بالحال، أو بالظرف، والعامل فيه {يَكُونُ}. {يَكُونُ}: فعل مضارع تام. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق به. {وَلَدٌ}: فاعل، والجملة مستأنفة، وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، فلا نطيل الكلام بإيرادها. {وَلَمْ}: {الواو}: حالية. {لَمْ}: حرف جزم. {تَكُنْ}: فعل مضارع تام مجزوم بـ {لم}. {لَهُ}: متعلق به {صَاحِبَةٌ}: فاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير {لَهُ}. {وَخَلَقَ} {الواو} استئنافية. {خَلَقَ} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ}: مبتدأ {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {عَلِيمٌ} {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ}. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}. {ذَلِكُمُ اللَّهُ}: مبتدأ وخبر أول، والجملة مستأنفة. {رَبُّكُمْ}: خبر ثانٍ {لَا}: نافية. {إِلَهَ} في محل النصب اسم {لَا}، وخبر {لا} محذوف تقديره: موجود، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر ثالث. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ} في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لا} المحذوف. {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: خبر رابع ومضاف إليه. {فَاعْبُدُوهُ}: الفاء:

سببية كما في "الجمل". {اعْبُدُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم كونه خالق كل شيء، وأردتم بيان ما يلزمكم .. فأقول لكم: اعبدوه، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هو}: مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {وَكِيلٌ}. {وَكِيلٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ} كما في "الجمل". {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَهُوَ}: مبتدأ. {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}. {وَهُوَ}: مبتدأ. {اللَّطِيفُ}: خبر أول. {الْخَبِيرُ}: خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على جملة {لَا تُدْرِكُهُ}. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {جاء}، أو صفة لـ {بَصَائِرُ}. {فَمَن}: الفاء: عاطفة تفصيلة. {من}: اسم شرط، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {أَبْصَرَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَلِنَفْسِهِ}: الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {لنفسه}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فإبصاره كائن لنفسه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {قَدْ جَاءَكُمْ} على كونها مفصلة لها {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط في

محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {عَمِيَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَعَلَيْهَا}: الفاء: رابطة الجواب. {عَلَيْهَا}: جار ومجزور خبر مبتدأ محذوف تقديره: فعماه عليها، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَمَا أَنَا}: {ما}: حجازية. {أنَا}: في محل الرفع اسمها {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {حَفِيظٍ}. {بِحَفِيظٍ}: خبر {ما} الحجازية، وجملة {ما} الحجازية معطوفة على جملة {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ}. {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}. {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كذلك}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف منصوب بـ {نُصَرِّفُ}. {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، والتقدير: ونصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفًا مثل تصريفنا في هذه السورة. {وَلِيَقُولُوا} الواو: عاطفة. اللام: حرف جر وعاقبة. {يقولوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. {دَرَسْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول، وجملة {يقولوا} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولقولهم درست، الجار والمجرور معطوف على جار ومجرور محذوف تقديره: وكذلك نصرف الآيات لاهتداء المهتدين، ولقوله الجاحدين بها في عاقبة أمرهم: درست. {وَلِنُبَيِّنَهُ}: (الواو): عاطفة. {لنبينه} اللام لام كي. {نبينه} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله. {لِقَوْمٍ}: متعلق به. وجملة {يَعْلَمُونَ}: صفة لـ {قوم}، وجملة {نبين} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: ولتبييننا إياه لقوم يعلمون، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَلِيَقُولُوا}. {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)}. {اتَّبِعْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.

{مَا}؛ موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول به {أُوحِيَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أوحي} أيضًا، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. {وَأَعْرِضْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ}. {عَنِ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أعرض}. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عدم إشراكهم، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {وَمَا جَعَلْنَاكَ}: نافٍ وفعل وفاعل ومفعول أول. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {حَفِيظًا}. {حَفِيظًا}: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {لو}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {أَنْتَ}: مبتدأ. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {وكيل}. {بِوَكِيلٍ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ ...} إلخ مؤكدة لها؛ لأنها عينها. {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونهم: {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من ضمير العائد المحذوف، أو من الموصول. {فَيَسُبُّوا اللَّهَ}: الفاء: عاطفة سببية. {يسبوا الله}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. {عَدْوًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، والتقدير: سبًّا عدوًا، أو على الحالية، أو على كونه مفعولًا لأجله. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور حال مؤكدة من فاعل {يَدْعُونَ}؛ أي: حالة كونهم متعادين ملتبسين بغير علم، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع

صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن سبكم آلهتهم، فسبهم الله عدوًا بغير علم. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف منصوب بـ {زَيَّنَّا}. {زَيَّنَّا}: فعل وفاعل. {لِكُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {زَيَّنَّا}. {عَمَلَهُمْ}: مفعول {زَيَّنَّا} والتقدير: زينا لكل أمة من الأمم عملهم تزيينا مثل تزيينا لهؤلاء المشكرين شركهم، والجملة مستأنفة. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخٍ. {إِلَى رَبِّهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُهُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على جملة {زَيَّنَّا}. {فَيُنَبِّئُهُمْ}: الفاء: عاطفة. {يُنَبِّئُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ}: {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمْ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يعملونه. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}. {وَأَقْسَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: مفعول مطلق ومضاف إليه. {لَئِنْ}: اللام: موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط جازم. {جَاءَتْهُمْ آيَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {لَيُؤْمِنُنَّ} اللام واقعة في جواب القسم مؤكدة للأولى. {يُؤْمِنُنَّ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {بِهَا}: جار ومجرور متعلق به، وجواب {إن} الشرطية معلوم من جواب القسم تقديره: إن جاءتهم آية يؤمنون بها، وإنما جعلنا المذكور جواب القسم لسبقه على الشرط كما هو القاعدة المقررة عندهم، وجملة {إن} الشرطية معترضة لا محل لها من

الإعراب لاعتراضها بين القسم وجوابه، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا الْآيَاتُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْآيَاتُ}: مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {يُشْعِرُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {ما} الاستفهامية، والجملة الإسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا الْآيَاتُ}. {أَنَّهَا}: {أن}: حرف نصب ومصدر، الهاء: اسمها. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْآيَات}، والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا} هو من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد المفعول الثاني لـ {يُشْعِرُكُمْ}، والتقدير: وما يشعركم إيمانهم وعدم إيمانهم وقت مجيء تلك الآيات؛ أي: لا تدرون ذلك، هذا على قراءة الفتح لـ {أن}، وأما على قراءة الكسر: فهي مستأنفة، وفي المقام أوجه من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها. {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}. {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}: فعل ومفعول. {وَأَبْصَارَهُمْ}: معطوف على {أَفْئِدَتَهُمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {لَا يُؤمِنُون} على كونها معمولة لـ {يُشْعِرُكُمْ}؛ أي: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم أو مستأنفة. {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا}: الكاف: حرف جر. {ما}: مصدرية. {لَمْ} حرف جزم. {يُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق

بـ {يُؤْمِنُوا}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم تقليبًا مثل عدم إيمانهم به أول مرة. {أَوَّلَ مَرَّةٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَمْ يُؤْمِنُوا}. {وَنَذَرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}. {فِي طُغْيَانِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نذرهم}، أو متعلق بـ {يعمهون}. وجملة {يَعْمَهُونَ} في محل النصب حال من مفعول {نذرهم} أو من ضمير {طُغْيَانِهِمْ}، أو في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {نذر}؛ لأن الترك بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} يجوز أن تكون الإضافة محضة على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأن ذلك قد كان، ويدل عليه قراءة عبد الله {إن الله فلق الحب والنوى} فعلًا ماضيًا. ويجوز أن تكون الإضافة غير محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، وذلك على حكاية الحال، فيكون الحب مجرور اللفظ منصوب المحل، والفلق، وكذا الفرق والفتق: هو شق الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضه عن بعض. والحب: هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير. والنوى: واحدها نواة، وهي ما يكون في داخل التمر والزبيب. {والإصباح} - بكسر الهمزة -: مصدر أصبح الرجل إصباحًا إذا دخل في الصباح، وفي "المصباح": الصبح: الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا خلاف المساء، وأصبحنا: دخلنا في الصباح اهـ. وفي "السمين": الجمهور على كسر الهمزة، وهو المصدر، يقال: أصبح يصبح إصباحًا. وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإصباح واحد، وهو أول النهار. وقيل: الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل: هو إضاءة الفجر، نقل ذلك عن مجاهد. والظاهر أن الإصباح في الأصل مصدر سمي به الصبح. وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر:

{الأصباح} بفتح الهمزة، وهو جمع: صبح نحو: قفل وأقفال، وبرد وأبراد. اهـ. {سَكَنًا} السكن: السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت، وزمان كالليل، وما يسكن الإنسان ويطمئن إليه استئناسًا به من زوج أو حبيب. وفي "المصباح": والسكن: ما يسكن إليه من أهل ومال وغير ذلك، وهو مصدر سكنت إلى الشيء من باب طلب. {حُسْبَانًا} والحسبان - بضم الحاء -: مصدر حسب كالحسبان بالكسر، فكل من مضموم الحاء ومكسورها مصدر حسب كالحساب، فلهذا الفعل ثلاثة مصادر. وفي "المصباح": حسبت المال حسبًا من باب قتل أحصيته عددًا، وفي المصدر أيضًا حسبة بالكسر، وحسبانًا بالضم، وحسبت زيدًا قائمًا أحسبه من باب تعب في لغة جميع العرب إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس حسبانًا بالكسر بمعنى ظننت اهـ. والحساب: استعمال العدد في الأشياء والأوقات. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} والمستقر: موضع القرار والإقامة، يقال: قر في مكانه واستقر، فمن كسر القاف .. قال: المستقر بمعنى القار، ومن فتحها .. جعله مكان استقرار. وأما المستودع: فيجوز أن يكون اسمًا للإنسان استودع ذلك المكان، وذلك على قراءة الكسر، ويجوز أن يكون المكان نفسه؛ أي: المستودع فيه؛ أي: موضع الوديعة، والوديعة: هي ما يتركه المرء عند غيره ليأخذه بعد، ولكن المستودع هنا بفتح الدال لا غير، لكن على قراءة الكسر في مستقر يكون معنى مستودع شيء مودوع، وهو النطفة في الصلب. وعلى قراءة الفتح يكون معنى مستودع مكان استيداع، وهو الصلب نفسه ذكره في "الفتوحات". {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وأصل ماء: ماه، والهاء خفية، والألف كذلك، فأبدل من الهاء همزة؛ لأن الهمزة جلدة، فأصله: موه، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها .. قلبت ألفًا، فصار: ماء، ذكره العلامة النحاس في "إعراب القرآن".

{خَضِرًا}: اسم فاعل من خضر من باب فعل المكسور العين، يقال: خضر الشيء فهو خضر وأخضر كعور فهو عور وأعور، فخضر وأخضر بمعنى، والخضر من النبات: الغض الناضر الطري. {مُتَرَاكِبًا} المتراكب: ما تراكب حبه بعضه فوق بعض. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} والنخل والنخيل: واحدهما نخلة، والنخل: شجر التمر، وفي "الفتوحات": النخل: اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} والطلع: أول ما يخرج منها قبل انشقاق الكيزان، فيقال له في هذه الحالة طلع، فإذا انشقت عنه الكيزان سمي عذقًا، وهو القنو. والقنوان: جمع تكسير، مفرده: قنو كصنو وصنوان، وهذا الجمع يلتبس بالمثنى حالة الوقف، فإذا قلت: عندي قنوان، وسكنت النون .. لا يدرى أنه مثنى أو جمع، ويمتازان بتحريك النون، فنون المثنى مكسورة دائمًا، ونون هذا الجمع تتوارد عليها الحركات الثلاث بحسب الإعراب، ويمتازان أيضًا في النسب، فإذا نسبت إلى المثنى رددته إلى المفرد، فقلت: قنوي، وإذا نسبت إلى الجمع .. أبقيته على حاله؛ لأنه جمع تكسير فقلت: قنواني، ويمتازان أيضًا في الإضافة، فنون المثنى تسقط لها بخلاف نون الجمع التكسير، فتقول في المثنى: هذان قنواك، وفي الجمع: هذه قنوانك، ويقال مثل هذا في صنوان مثنى وجمعًا. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} وقال الزجاج: قرن الزيتون بالرمان؛ لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر: بُوْرِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيْبُ كَمَا بُوْ ... رِكَ نَضْجُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُوْنْ {وَيَنْعِهِ} والينع: مصدر ينع بكسر النون يينع بفتحها، فهي مكسورة في الماضي مفتوحة في المضارع، ويصح العكس، والمصدر على كل حال: ينع بوزن منع، والينع بالفتح والضم مصدر ينعت الثمرة إذا نضجت، والفتح لغة أهل الحجاز، والضم لغة أهل نجد، ويقال؛ والمعنى؛ انظروا إلى ثمره إذا أثمر رقيقًا مستدقًا، وإلى ينعه ونضجه حين يينع ويبدو صلاحه وينضج .. وفي "المختار":

ينع الثمر إذا نضج، وبابه ضرب وجلس وقطع وخضع انتهى. {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} يقال: خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها إذا ابتدعها كذبًا. وقال الراغب الخرق: قطع الشيء على سبيل الفساد، قال تعالى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} والخلق فعل الشيء بتدبير ورفق، والبدع بكسر أوله والبديع: الشيء الذي يكون أولًا، ومنه: البدعة في الدين. وقال الراغب: الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء، والبديع من أسمائه تعالى. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} البصائر: جمع بصيرة، ولها عدة معان: منها: عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة باليقين، والعبرة، والشاهد المثبت للأمر، والحجة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، والمراد بها هذا: الآيات الواردة في هذه السورة، أو القرآن بجملته. وفي "القاموس": البصر محركًا: حس العين، والجمع أبصار مثل سبب وأسباب، ومن القلب: نظره وخاطره، والبصير: المبصر - والجمع بصراء - والعالم، وبالهاء: عقيدة القلب والفطنة والحجة اهـ. {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}؛ أي: نأتي بها متواترة حالًا بعد حال مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه. {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} يقال: درس الشيء يدرس أو باب نصر إذا عفا وزال، فهو دارس ودرسته الريح وغيرها، ودرس اللابس الثوب درسًا إذا أخلقه وأبلاه، فهو دريس، ودرسوا القمح إذا داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه، ودرس الناقة إذا راضها، ودرس الكتاب والعلم يدرسه درسًا ودراسة ومدارسة؛ أي: ذلله بكثرة القراءة حتى خف وسهل عليه حفظه أو ذلك، والمعنى العام للدرس: تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به، أو يصل إلى الغاية منه. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: حلفوا, وسُمي الحلف قسمًا؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب، والجهد بفتح الجيم: المشقة، وبضمها؛ الطاقة، ومنهم أو يجعلهما بمعنى واحد، وانتصب {جهد} على النيابة عن المصدر المنصوب. بـ {أقسموا}، أي: أقسموا جهد إقساماتهم، والأيمان

بمعنى: الإقسامات كما تقول: ضربت مسند الضربات. {يَعْمَهُونَ} وفي "المصباح": عمه في طغيانه عمهًا من باب تعب إذا تردد متحيرًا مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه وأعمه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ}، وفي قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}، وفي قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا}، وفي قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ}. ومنها: الالتفات في قوله: {فَأَخْرَجْنَا} الغيبة إلى التكلم، وكان قياس ما قبله: فأخرج به، والنكتة في هذا الالتفات الاعتناء بشأن المخرج، والإشارة إلى أن نعمه عظيمة. ومنها: الطباق بين لفظ {الْحَيِّ} و {الْمَيِّتِ}، وبين: {الشمس} و {القمر} , وبين: {الْبَرِّ} و {البحر}، وبين لفظ: {أَبْصَرَ} و {عَمي}. ومنها: من المحسنات البديعية ما يسمى: رد العجر على الصدر في قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي بمعنى النفي في قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي: لا وجه لصرفكم عن الإيمان بعد قيام البرهان. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} لمزيد الشرف؛ لأنهما من أعظم النعم. ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ {يُخْرِجُ} و {مخرج}، وبين لفظ: {بَصَائِرُ} و {أَبْصَرَ}.

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} من باب الإطلاق اسم السبب على المسبب؛ أي: حجج وبراهين؛ لأن البصائر جمع بصيرة، والبصيرة: هي النور الذي تبصر به النفس؛ أي: الروح، كما أو البصر هو النور الذي تبصر به العين، فأطلق البصائر التي هي الأنوار القلبية التي هي السبب في إدراك الحجج والبراهين على تلك الحجج التي تسبب عنها، والعلاقة السببية. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؛ أي: لا تدركه الأبصار: لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار, لأنه الخبير، فيكون اللطيف مستعارًا أو مقابل الكشيف، وهو الذي لا يدرك بالحاسة، ولا ينطبع فيها. انتهى من "البيضاوي". ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ومن عَمي}؛ لأنه استعار العمى للضلال، وإنما عبر عن الضلال بالعمى تقبيحًا له وتنفيرًا عنه. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه وتعالى من تفسير الجزء السابع من القرآن الكريم، فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تيسيره حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين، ويملأ ما في السموات والأرضين عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد الثامن في اليوم الخامس منتصف النهار من شهر الله المبارك ذي الحجة من شهور سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية بحارة الرشدة من المسفلة من مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، وختم عمرنا فيها، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، سيدنا محمَّد وآله وصحبه وجنده، والحمد لله رب العالمين آمين. =

ولقد أجاد من قال: وَلِبَنِيْ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ ... مَعْذِرَةٌ مَقْبُوْلَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ وَإنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ ... وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ أَلْحَمْدُ لِلَّهِ مُسَبِّبِ الأسْبَابِ ... عَلَى مَا وَفَّقَنَا بِشَرْحِ الْكِتَابِ شَرْحًا يُسَمَّى حَدَائِقَ الرَّوْحَانِ ... مُشْتَمِلًا عَلَى عُلُوْمِ الْقُرْآنِ ¬

_ = تم تصحيح هذه النسخة من هذا المجلد الثامن بيد مؤلفه في آخر الساعة الأولى من يوم الإثنين اليوم الخامس عشر من شهر الربيع الثاني من شهور سنة ألف وأربع مئة وعشرة 1410 هـ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين. تم بعون الله سبحانه وتعالى المجلد الثامن من تفسير "حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن"، ويليه المجلد التاسع، وأوله قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} آية رقم: 111 من آيات سورة الأنعام.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ جَزَى الله خَيْرًا مَن تَأَمَّلَ صَنْعَتِي ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَستَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ وَلبَنِيْ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ ... مَعْذِرَةٌ مَقبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ آخرُ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحًا ... لأجْلِ كَوْنِ فَهْمهِ قَبِيْحَا وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ صَافِيْ الْعَسَلْ ... وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ شَوْيَّ البَصَلْ لأَجْلِ مَرَضِهِ الْعُضَالِ ... قَدْ أَعْيَا الأَطِبَّةَ الْفُضَّالِ مِنْ حَسَدٍ وَكِبْرٍ وَعُجْبِ ... وِغِلَّ وَحِقدٍ أيَّ ذنْبِ

[استهلال:] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على إفضاله والشكر له على نواله والصلاة والسلام على نبينه محمد صلى الله عليه وسلم وآله. أما بعد: فإني لما فرغت من شرح الجزء السابع من القرآن الكريم بتوفيقه وتيسيره .. أردت أن أشرع في شرح الجزء الثامن منه بعون الله وفضله، فقلت مستمدا منه تعالى: قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما

قبلها: أن الله - سبحانه وتعالى - لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث، واقتراح المشركين بعض الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم .. ذكر هنا أن رؤية المعجزات لن تفيد من عميت بصيرته، وأنه لو أتاهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى يكلموهم، وحشر السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول .. ما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن؛ لتعرقهم وتأصلهم في الضلال. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بين في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنّا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله: {وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} فأفاد أن سننه فيهم وفي أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود وحملوها على أنها؛ إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين .. ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك، وفصل الإجمال الماضي في قوله: {وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} فأيأس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ولو جاءهم بكل آية وأتى لهم بكل دليل. انتهت. قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬2) في سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم كاذبون في أيمانهم، وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وأن دأبهم صرف الناس عن اتباع الحق، وتزيين الباطل فيغتر من لا يؤمن بالآخرة، ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه .. ذكر هنا الآية الكبرى؛ وهي القرآن الكريم، فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم من جميع ما اقترحوه، وهو الذي يجب الرجوع إليه في أمر الرسالة واتباع حكمه فيها دون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أولئك الضالين المبطلين من شياطين الإنس والجن. قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أجاب عن شبهات الكفار، وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .. ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال؛ لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله، فلا ينبغي الركون إليهم والعمل بآرائهم. وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ضلّالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم، ثم أردف ذلك ببيان مسألة هامة لها خطر، وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله تعالى. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تضمنت (¬2) الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وكانوا يسمون في كثير مما يذبحونه اسم آلهتهم .. أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله تعالى لا غيره من آلهتهم أمر إباحة، وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لا ما مات حتف أنفه. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ...} الآية، سبب نزولها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3) أنه قال: المستهزؤون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، ثم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح وزاد المسير.

إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة، وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا؛ أي: كفيلا على صحة ما تدعيه، فنزلت هذه الآية، وقال ابن الجوزي: رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى؛ ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية. ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ...} الآية، سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): أن الله تعالى لما حرم الميتة قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم - يريدون الميتة - فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال السيوطي: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬3): ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. وأخرج (¬4) أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ} قالوا: ما ذبح الله لا ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) زاد المسير. (¬3) لباب النقول. (¬4) لباب النقول.

[111]

تأكلون وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ..} أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقولوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب؛ يعني الميتة، فهو حرام؟! فنزلت هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ} قال: الشياطين من فارس، وأولياؤهم قريش. التفسير وأوجه القراءة 111 - {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ}؛ أي: أنزلنا على هؤلاء المشركين الْمَلائِكَةَ كما طلبوا في قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة، وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} من القبور كما طلبوا في قولهم: {فَأْتُوا بِآبائِنا} بأن نحييهم لهم، ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة بأن أقروا بأن محمدا رسول الله، والقرآن كلام الله تعالى. {وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ}؛ أي وجمعنا على هؤلاء المستهزئين زيادة على ما اقترحوه {كُلَّ شَيْءٍ} من أصناف المخلوقات كالسباع والطيور حالة كونهم {قُبُلًا}؛ أي: كفلا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم مقرين له، أو المعنى: وجمعنا عليهم كلّ شيء من المخلوقات قبلا؛ أي: فوجا فوجا، وجماعة جماعة، وصنفا صنفا، أو المعنى: وحشرنا عليهم قبلا؛ أي: مقابلة ومعاينة {ما كانُوا}؛ أي: ما كان هؤلاء المشركون {لِيُؤْمِنُوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} إيمانهم؛ أي: ولو أظهر الله سبحانه وتعالى جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار، فإنهم لا يؤمنون في حال من الأحوال الداعية إلى الايمان إلا في حال مشيئة الله تعالى لإيمانهم {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر المؤمنين {يَجْهَلُونَ} عدم إيمانهم؛ أي: أن الكفار لو أوتوا بكل آية .. لم يؤمنوا، ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات؛ لجهلهم عدم مشيئة الله تعالى لإيمانهم، فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون؛ ولذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحوا الآيات ما اقترحوا ظنا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان، ولا تغير

طباع البشر في اختيار ما يترجح لدى كل منهم بحسب ما يؤدي إليه فكره وعقله، ولو شاء الله لخلق الايمان في قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار، وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل، كما أنه لو شاء جعل الآيات مغيرة لطبائع البشر، وملزمة لهم أن يؤمنوا، فيكون الإيمان إلجاء وقسرا لا اختيارا وكسبا، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. وقيل: الضمير في {أَكْثَرَهُمْ} عائد على الكفار، والمعنى: ولكن أكثر الكفار يجهلون (¬1) جهلا يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب، أو يجهلون (¬2) أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة، أو يجهلون أن كلا من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره. وقال الزمخشري: يجهلون، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات. وقرأ نافع وابن عامر (¬3): {قُبُلًا} - بكسر القاف وفتح الباء - ومعناه: مقابلة؛ أي: عيانا ومشاهدة. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد ونصبه على الحال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {قُبُلًا} - بضم القاف والباء - فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد: جمع قبيل، وهو النوع؛ أي: نوعا نوعا، وصنفا صنفا. وقال الفراء والزجاج: جمع قبيل بمعنى كفيل؛ أي: كفلا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد. وقيل: قبلا بمعنى قبلا؛ أي: مقابلة ومواجهة، ومنه قولهم: أتيتك قبلا لا دبرا؛ أي: من قبل وجهك. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة: {قُبُلًا} - بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم -. وقرأ أبي والأعمش {قبيلا} - بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها - وانتصابه في هذه القراءة على الحال. وقرأ ابن مصرف بفتح القاف وسكون الباء. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[112]

112 - ثم أراد الله سبحانه وتعالى بعد ما تقدم تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن سنته في الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس، فقال: وَ {كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} استئناف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يشاهده من عدواة قريش وما بنوه عليها من الأقاويل الباطلة ببيان أن ذلك ليس مختصا بك، بل هو أمر ابتلي به كل من سبقك من الأنبياء فصبروا، ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده. ذكره أبو السعود؛ أي: وكما جعلنا هؤلاء المستهزئين ومن نحا نحوهم أعداء لك .. جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوا قبلك {عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}؛ أي: أعداءهم شياطين الإنس والجن ومردتهم، والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء .. ابتلينا من قبلك بالأعداء من الإنس والجن؛ ليعظم الأجر والثواب عند الصبر على الأذى، فلك أسوة بهم ولست منفردا بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء. وقال الزجاج: عدوا بمعنى (¬1): أعداء. قال تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}، وقال الشاعر: إذا أنا لم أنفع صديقي بودّه ... فإنّ عدوّي لم يضرّهم بغضي و {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} منصوب (¬2) على البدل من {عَدُوًّا} ومفسر له، ويجوز أن يكون: عَدُوًّا منصوبا على أنه مفعول ثان قدم مسارعة إلى بيان العداوة، والمعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لكل نبي. وفي: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مردة الإنس والجن. قاله الحسن وقتادة. والثاني: أن شياطين الإنس الذين مع الإنس، وشياطين الجن الذين مع الجن. قاله عكرمة والسدي. والثالث: أن شياطين الإنس والجن كفارهم. قاله مجاهد وذكره ابن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

الجوزي في «تفسيره». وقرأ الأعمش شاذا (¬1): {الجن والإنس} بتقديم الجن. ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء (¬2): أن سنة الله قد جرت بأن يكون الشرير الذي لا ينقاد للحق كبرا وعنادا، أو جمودا على ما تعود، عدوا للداعي إليه من الأنبياء وورثتهم وناشري دعوتهم، وهكذا الحال في كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر في الأمور الدينية أو الاجتماعية، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد، وتكون العاقبة انتصار الحق، وبقاء الأمثل الأصلح، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدون، وليس العمل للآخرة إلا كذلك {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}. ثم بين الله سبحانه وتعالى بعدئذ أن من أثر عداوة هؤلاء الشياطين للأنبياء مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها، فقال: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}؛ أي: حالة كون تلك الشياطين يوحي بعضهم؛ أي: يلقي بعضهم ويسر ويناجي إلى بعض آخر، ويعلمه؛ أي: يلقي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول؛ أي: مزخرفه ومزينه ومحسنه ظاهرا مع بطلان باطنه غرورا؛ أي: ليغروا ويفتنوا بذلك المزخرف المؤمنين والصالحين عن دينهم وعبادتهم وطاعتهم أمر ربهم، يعني (¬3): أن الشياطين يغرون بذلك الكذب المزخرف غرورا، وذلك أنّ الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم، ويغرونهم بها غرورا. قال مقاتل (¬4): وكّلّ إبليس بالإنس شياطين يضلونهم، فإذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن .. قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه ذهب إلى متمرد من الإنس، هو شيطان الإنس، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن. (¬4) زاد المسير.

فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن؛ لأني إذا تعوذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عيانا، ذكره ابن الجوزي. وقال ابن عباس: الجن هم أولاد الجان، وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس، وهم لا يموتون إلا مع إبليس، والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال: الكهنة هم شياطين الإنس انتهى من «الشوكاني». {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ} يا محمد إيمانهم، أو عدم تزيين الشياطين زخرف القول {ما فَعَلُوهُ}؛ أي: ما فعل الكفار معاداتك ومعاداة الأنبياء قبلك، أو ما فعل الشياطين إيحاء زخرف القول غرورا. وقال أبو حيان (¬1)؛ أي: ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها انتهى. {فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} عليك وعلى الله، فإن الله تعالى يجزيهم وينصرك ويخزيهم و {ما}: إما مصدرية، والتقدير: اتركهم وافتراءهم عليك وعلى الله وإما موصولة؛ أي: اتركهم والذي يفترونه، يعني (¬2): فخلهم يا محمد وما زين لهم إبليس وغرهم به من الكفر والمعاصي، فإني من ورائهم. وعبارة المراح: أي اترك يا محمد هؤلاء الكفرة المستهزئين وافتراءهم بأنواع المكايد، فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة. قال ابن الجوزي؛ أي (¬3): فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف، انتهى. وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}. وعبارة «المراغي» هنا: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}؛ أي (¬4): يلقي بعضهم إلى بعض القول المموه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغروا غيرهم ويخدعوه، ويميلوه إلى ما يريدون. وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للإنسان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) زاد المسير. (¬4) المراغي.

[113]

الأول وزوجه الكريم - آدم وحواء - فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها كما قال: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي، فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية، ويمنونهم بعفو الله ورحمته، وشفاعة أنبيائه وأوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله: تكثّر ما استطعت من الخطايا ... فإنك واجد ربا غفورا {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ}؛ أي: ولو شاء ربك أن لا يفعلوا هذا الغرور .. ما فعلوا، ولكنه لم يشأ أن يغير خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم، بل شاء أن يكون الإنس والجن على استعداد لقبول الحق والباطل والخير والشر، وأن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)}. {فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} من الكذب ويخترعون من الإفك صرفا للناس عن سبيل الحق، وسعيا في إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد، وامض لشأنك كما أمرت، فعليك البلاغ وعلينا الحساب والجزاء، وسترى سنتنا فيهم وفي أمثالهم، وقد أراه عاقبة أمرهم، فأهلك المستهزئين بالقرآن، ونصره على أعدائه المشركين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} انتهت. 113 - واللام في قوله: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} لام كي معطوفة على مقدر معلوم من السياق على كونها علة ليوحي؛ أي: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموه من القول؛ ليغروا به المؤمنين من أتباع الأنبياء، فيفتنوهم عن دينهم {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ}؛ أي: ولكي تميل إلى هذا المزخرف {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: قلوب الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؛ لأنه الموافق لأهوائهم؛ إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، فيعلمون بطلانها، فلا تغرهم تلك الزخارف، ولا تعجبهم تلك الأباطيل. {وَلِيَرْضَوْهُ}؛ أي: وليرضى الذين لا يؤمنون بالآخرة ذلك المزخرف لأنفسهم ويحبوه لهم بعد الإصغاء إليه بلا بحث ولا تمحيص فيه. {وَلِيَقْتَرِفُوا}؛ أي:

[114]

وليكتسبوا بسبب ارتضائهم له وغرورهم {ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ}؛ أي: ما هم مكتسبون له من الآثام، فيعاقبوا عليها. وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله (¬1): {ولتصغي} - بكسر الغين - من أصغى الرباعي. وقرأ الحسن بسكون اللام في الأفعال الثلاثة، وقيل عنه بالسكون في: {لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} وبالكسر في: {وَلِتَصْغى}. وقال أبو عمرو الداني: قراءة الحسن إنما هي: {ولتصغي} - بكسر الغين - انتهى. وخرّج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي، وهي لام كي في الثلاثة، وهي معطوفة على {غُرُورًا}، وسكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس. قاله أبو الفتح. وقال غيره: هي لام الأمر في الثلاثة، ويبعد ذلك في {ولتصغي} - بإثبات الياء - وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام كما في قراءة قنبل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} على أنه يحتمل التأويل. وقيل هي في {وَلِتَصْغى} لام كي سكنت شذوذا، وفي: {لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} لام الأمر مضمنا التهديد والوعيد كقوله: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ}. 114 - والاستفهام في قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} للإنكار، والفاء عاطفة على فعل مقدر، والكلام على إرادة القول، والتقدر: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أأضل وأميل إلى زخارف الشياطين فـ {أَبْتَغِي} وأطلب {حَكَمًا}؛ أي: حاكما {غير الله} يحكم بيني وبينكم {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ}؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون حالة كون ذلك الكتاب {مُفَصَّلًا}؛ أي: مبينا فيه الحق والباطل، فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم؛ أي: لا أبتغي حكما غير الله نزلت حين قال مشركوا قريش للرسول صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، والحكم (¬2) والحاكم معناهما عند أهل اللغة واحد، لكن بعض ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم؛ لأن الحكم لا يحكم إلا بالحق، والحاكم قد يجور، ولأن الحكم من تكرر منه الحكم، والحاكم يصدق بمرة. والمعنى: ليس (¬1) لي أن أتعدى حكم الله تعالى، ولا أن أتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل من حكمه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم .. هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند الله لا من عنده، كما جاء في قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: جاوزت الأربعين، ولم يصدر عني مثله في علومه، ولا في إخباره الغيب، ولا في فصاحته وبلاغته. والخلاصة: أنكم تتحكمون في طلب المعجزات؛ لأن الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد حصل بوجهين: 1 - أنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة بأسلوب عجز الخلق عن معارضته، فيكون هذا دليلا على أن الله تعالى قد حكم بنبوته. 2 - ما سيذكره بعد من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم حق، وأن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى، ثم ذكر ما يؤكد ما سبق، فقال: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ}؛ أي: وأهل الكتاب الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل والزبور {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ}؛ أي: أن هذا القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} حالة كونه متلبسا {بِالْحَقِّ} والصدق الذي لا شك فيه ولا شبهة، والمراد بهم علماء أهل الكتاب، فهو عام بمعنى الخصوص. قرأ ابن عباس وابن عامر وحفص (¬2): {مُنَزَّلٌ} - بتشديد الزاي - والباقون بسكون النون. {فَلا تَكُونَنَّ} يا محمد، أو أيها المخاطب {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}؛ أي: من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق، وأنه منزل من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[115]

عند الله - سبحانه وتعالى، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم؛ أي: إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا، وكذبوا به .. فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى .. يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحي الذي نزل على أنبيائهم، وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله مع أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم في عصر التنزيل، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب، فآمنوا وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا، فباء بالخسران المبين. والخطاب في قوله (¬1): {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} إما للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره على سبيل التعريض كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإما له صلى الله عليه وسلم، والمراد النهي له عن الشك في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فهو من باب التهييج والإلهاب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط، أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ}. 115 - {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} لما (¬2) قدم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث، والطعن على مخالفي ذلك، وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص .. ناسب ذكر هذه الآيات هنا؛ أي: تمت أقضيته ونفذت أقداره. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والمعنى: إن الله قد أتم وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل. وقال قتادة: كلماته القرآن؛ أي: تم وعده لأوليائه بنصرهم، ووعيده لأعدائه بخذلانهم. وقال الزمخشري: في كل ما أخبره به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع (¬3): {كلمات} بالجمع هنا، وفي يونس في الموضعين، وفي المؤمن. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

{كَلِمَةُ} بالإفراد في جميع ذلك. وقد ذكرت العرب الكلمة وأرادت بها الكثرة، يقولون: قال قس في كلمته؛ أي: في خطبته، وزهير في كلمته؛ أي: في قصيدته. فمن قرأ بالإفراد .. قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة، ومن قرأ بالجمع .. قال: لأن الله تعالى قال في سياق الآية: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}، فوجب الجمع في اللفظ الأول إتباعا للثاني، وترسم بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع وقراءة الإفراد، وكذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا وإفرادا، فإنه يكتب بالتاء المجرورة على كل من القراءتين باتفاق المصاحف إلا موضعين من ذلك، فقد اختلف فيهما المصاحف: أحدهما: في يونس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}. وثانيهما: في غافر في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فاختلفت فيهما المصاحف، فبعضها بالتاء المجرورة، وبعضها بالتاء المربوطة. وقوله: {صِدْقًا وَعَدْلًا} تمييز لـ {كَلِمَةُ}؛ أي: تمت كلمات ربك وأقضيته من جهة الصدق فيما وعد وأوعد، ومن جهة العدل فيما أمر ونهى، أو المعنى: تمت كلمات ربك وقرآنه من جهة الصدق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية، وعما هو كائن إلى قيام الساعة، ومن جهة العدل في أحكامه من الأمر والنهي والحلال والحرام، وسائر الأحكام. ويصح كون {صِدْقًا وَعَدْلًا} حالا من (الكلمة)؛ أي: حالة كونها صادقة فيما أخبرت، وعادلة فيما أمرت ونهت، ويصح كونهما حالا من {رَبِّكَ}؛ أي: حالة كونه صادقا فيما وعد وأوعد، وعادلا فيما أمر ونهى. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}؛ أي: لا مغير لأقضيته، ولا راد لأحكامه وأقداره، ولا خلف لمواعيده، أو لا مبدل لكلمات القرآن، فلا يلحقها تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ؛ أي: لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق منه وأعدل، ولا بما هو مثله، ولا يقدر المفترون على الزيادة فيه والنقصان منه لا في اللفظ ولا في المعنى، وفي هذا ضمان من الله تعالى لحفظ القرآن كقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}. وفي «الخازن» لما وصفها بالتمام، وهو في

[116]

كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص والتغيير، قال: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} انتهى. وفي حرف أبي: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ}. ومعنى الآية: وتمت (¬1) كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك، كما تمت في الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)} وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا، وقد يزادون على ذلك فضلا من الله ورحمة، والمراد بالخبر لازمه، وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه، وإيئاس للطامعين من المسلمين في إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة. وخلاصة المعنى: كما أنّ سنتي قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن .. تمت كلمتي بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}؛ أي: إن كلمة الله في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها؛ لأن كلمات الله لا مبدل لها، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها، وتمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا، أو الوعيد وعدا، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو المتوعّد بالعقاب إلى غيرهما، أو يحول دون وقوعهما. والخلاصة: أنه لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيؤه، وكونه على ما أخبر جلّ شأنه {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {السَّمِيعُ} لتلك الأقوال الخادعة عنه {الْعَلِيمُ} بما في قلوبهم من المقاصد والمكايد، والنيات، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات، فيجازيهم عليها، أو المعنى: السميع لتضرع أوليائه ولقول أعدائه، العليم بما في قلوب الفريقين. 116 - {وَإِنْ تُطِعْ}؛ أي: وإن توافق يا محمد {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

[117]

الكفار من الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل، وإبطال الحق. قيل: والمراد بأكثر أهل الأرض رؤساء مكة، والمراد بالأرض خصوص مكة. {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: يصرفوك عن الطريق الموصول إلى الله؛ أي: وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله وأودعه في كلماته المنزلة عليك يضلوك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة، ثم أكد ما سبق بقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}؛ أي: ما يتبع كفار أهل الأرض في إثبات مذهبهم، وتأسيس عقائدهم كتحليل الميتة وتحريم السائبة {إِلَّا الظَّنَّ}؛ أي: إلا ظن أن آباءهم كانوا على الحق، فهم على آثارهم مقتدون {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}؛ أي: وما هم إلا يكذبون، وهذا تأكيد لما قبله، فإن رؤساء أهل مكة منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وجليس بن ورقاء الخزاعي قالوا للمؤمنين: إن ما ذبح الله خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم؛ أي: أن هؤلاء لا يتبعون في عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم وما هم إلا يخرصون في ترجيح بعض منها على بعض كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبون إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونحو ذلك، وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي في الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، واتباعهم للخرص والظن، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء. 117 - وهذا من علم الغيب الذي أوتيه هذا النبي الأمي، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النزر اليسير من شؤون الأمم المجاورة لبلاد العرب، ثم أعقبه تأكيدا آخر زيادة في التحذير فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} الذي رباك يا محمد، وعلمك بما أنزله إليك، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق {هُوَ أَعْلَمُ} منك ومن سائر عباده {مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ}؛ أي: بمن يضل عن سبيله القويم

[118]

{وَهُوَ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} السالكين صراطه المستقيم، ففوض أمرهم إلى خالقهم، فهو العليم بالضال والمهتدي، ويجازي كلا بما يليق بعمله. وقرأ الحسن وأحمد بن أبي شريح: {يضل} - بضم الياء - وفاعل {يضل} ضمير {مَنْ}، ومفعوله محذوف؛ أي: من يضل الناس، أو ضمير الله على معنى يجده ضالا، أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد؛ لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما. ذكره أبو حيان في «البحر». 118 - وبعد أن أبان لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلون من أطاعهم؛ لأنهم ضالون خراصون، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين .. أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين من قومهم، ومن غيرهم في مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهذا كلام متفرع من النهي عن اتباع المضلين، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم، فقال الله للمسلمين: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}؛ أي: إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وهو المذكى ببسم الله خاصة، دون غيره مما ذكر عليه اسم غيره فقط، أو مع اسمه تعالى، أو مات حتف أنفه {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ} التي جاءتكم بالهدى والعلم {مُؤْمِنِينَ} وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين. فصل وقد كان مشركوا العرب وغيرهم من أرباب الملل يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم عند ذبحها، وهذا شرك بالله؛ لأنه عبادة يقصد بها غيره تعالى سواء سموه إلها أو معبودا، أو لم يسموه. 119 - {وَما لَكُمْ}؛ أي: وأي سبب حاصل لكم أيها المؤمنين في: {أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} عند الذبح وأن تأكلوا من غيره؛ أي: وأي غرض لكم في

الامتناع من أكله؟ وهو استفهام يتضمن الإنكار على من امتنع من ذلك؛ أي: لا شيء يمنعكم من ذلك، وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره؛ أي: ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك؟ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى قد بين لكم ما حرم عليكم بقوله سبحانه وتعالى في هذه السورة فيما سيأتي: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ومعنى {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ أي: ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم. فهذا وإن كان متأخرا في التلاوة، فلا يمتنع أن يكون هو المراد؛ لأن التأخر في هذا قليل، وأيضا التأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول. أو بين لكم بقوله تعالى في أول سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية؛ لأن الله تعالى علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول. {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}؛ أي: إلا ما دعتكم الضرورة والمشقة وأحوجتكم إلى أكله بسبب شدة المجاعة مما حرم عليكم عند الاختيار؛ فهو حلال لكم لأجل الضرورة بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم، فحينئذ يزول التحريم، والقاعدة الشرعية: (الضرورات تبيح المحظورات)، والقاعدة الأخرى: (الضرورة تقدر بقدرها) فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة، ويتقي به الهلاك لا أكثر منه. وقرأ العربيان (¬1) - أبو عمرو وابن عامر - وابن كثير: ببناء {فصل} و {حرم} للمفعول مع التشديد. وقرأ نافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الفعل الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وقرأ عطية العوفي: {فصل} - بالتخفيف مع البناء للفاعل -؛ أي: أبان وأظهر. ¬

_ (¬1) المراح والشوكاني.

[120]

{وَإِنَّ كَثِيرًا} من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم: أتأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما يذبحه الله تعالى؟ {لَيُضِلُّونَ} أنفسهم وأتباعهم {بِأَهْوائِهِمْ} الزائفة وشهواتهم الفاسدة جهلا {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان على ما فيه، يجادلون اعتداء وخلافا لأمر الله تعالى ونهيه، وطاعة للشياطين كعمرو بن لحي فمن دونه؛ لأنه أول من بحر البحائر، وسيب السوائب، وأباح الميتة، وغيّر دين إبراهيم - عليه السلام -. تتمة: وأصل (¬1) عبادة الأوثان أنه كان في القوم الذين أرسل إليهم نوح - عليه السلام - رجال صالحون، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها، لكنهم حفظوا تكريمها والتبرك بها تدينا وتوسلا إلى الله، فكان ذلك عبادة لها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬2): {لَيُضِلُّونَ} - بفتح الياء هنا - وفي يونس: {رَبَّنا لِيُضِلُّوا} وفي إبراهيم: {أَنْدادًا لِيُضِلُّوا}، وفي الحج: {ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ}، وفي لقمان: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وفي الزمر: {أَنْدادًا لِيُضِلَّ} وضمها الكوفوين في الستة، ووافقهم الصاحبان نافع وابن عامر إلا في يونس وهنا ففتح. {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد الذي أرشدك وهداك {هُوَ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منك ومن سائر خلقه {بِالْمُعْتَدِينَ}؛ أي: بالمجاوزين الحد في التحليل والتحريم الذين يتجاوزون ما أحله الله إلى ما حرمه عليهم، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها، وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى. وفي الآية إيماء إلى تحريم القول في الدين بالتقليد؛ لأن ذلك من اتباع الأهواء بغير علم؛ إذ المقلد غير عالم بما قلد فيه. 120 - ثم أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

فقال: {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ}؛ أي: واتركوا أيها الناس ظاهر الإثم وعلنه، وباطن الإثم وسره خوفا من عقاب الله تعالى وامتثالا لنهيه. والإثم لغة: ما قبح، وشرعا: ما حرمه الله تعالى ومنعه، والله سبحانه وتعالى لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد، في أنفسهم أو في أموالهم أو في عقولهم أو في أعراضهم أو في دينهم، أو ضارا بالجماعات في مصالحهم السياسية أو الاجتماعية، والظاهر من الإثم ما كان يظهر؛ وهو ما تعلق بأفعال الجوارح، والباطن ما كان لا يظهر؛ وهو ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والعجب، وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس، ومنه الاعتداء في أكل المحرم الذي يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله - سبحانه وتعالى -: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وهذه (¬1) الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة في تحريم الآثام، ومن ثم قال ابن الأنباري: المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا، تريد ما أخذت منه شيئا بوجه من الوجوه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} في الدنيا، أي: يعملون نوعا من أنواع الآثام الظاهرة أو الباطنة {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ}؛ أي: بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام إن لم يتوبوا، وأراد الله عقابهم، وهذا مخصوص بما إذا لم يتب كما قيدنا. أما إذا تاب المذنب من ذنبه توبة صحيحة لم يعاقب. وزاد (¬2) أهل السنة في ذلك، فقالوا: المذنب إذا لم يتب .. فهو في خطر مشيئة الله تعالى إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، وبالجملة فلا يخفى ما في الآية من الوعيد والتهديد للعصاة، أي سيلقون جزاء إثمهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة، أما الذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم في قلوبهم بما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[121]

يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} وبذلك تعود نفوسهم زكية، وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لماما. واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة؛ أي: أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على ما فات تمحو آثار الذنب الماضي، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}. 121 - ثم صرح سبحانه وتعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} لشدة العناية؛ لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال: {وَلا تَأْكُلُوا} أيها المؤمنون {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}؛ أي: مما مات حتف أنفه، ولا مما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}؛ أي: وإن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه بغير ضرورة لفسق وخروج عما يحل، أو إن ما ذكر عليه اسم غير الله لفسق ومعصية كما جاء في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وجوز ابن عطية أن يعود الضمير على المصدر المنفي الذي تضمنه قوله: {لَمْ يُذْكَرِ} كأنه قيل: وإن ترك الذكر لفسق؛ أي: لمعصية وكفر، وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، وتضمنت معنى التعليل، فكأنه قيل: لفسقه. فصل اختلف العلماء في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها (¬1)، فذهب قوم إلى تحريمها سواء تركها عامدا أو ناسيا، وهو قول ابن سيرين والشعبي، ونقله الإمام فخر الدين الرازي عن مالك. ونقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام، احتجوا في ذلك بظاهر هذه الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة: إن ترك التسمية عامدا لا تحل، وإن تركها ناسيا تحل. وقال الشافعي: تحل الذبيحة مطلقا سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا، ¬

_ (¬1) الخازن.

ونقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومالك في رواية عنه. ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين فيما إذا ترك التسمية عامدا، وإن تركها ناسيا .. حلت، فمن أباح أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها قال: المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم الأصنام؛ بدليل أنه سبحانه وتعالى في سياق الآية: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره. وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح. وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق، واحتجوا في إباحتها أيضا بما روى البخاري في «صحيحه» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله، إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمات، فما ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا». قالوا: لو كانت التسمية شرطا للإباحة .. لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح. وقال الشافعي: أول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة؛ وهي قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .. علمنا أن المراد من هذا العموم هو الخصوص. والفسق: ذكر اسم غير الله في الذبح كما قال في آخر السورة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فصار هذا الفسق الذي أهل لغير الله به مفسرا لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وإذا كان كذلك كان قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} مخصوصا بما أهل لغير الله به، والله أعلم. {وَإِنَّ الشَّياطِينَ}؛ أي: وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا {لَيُوحُونَ}؛ أي: ليوسوسون {إِلى أَوْلِيائِهِمْ} من المشركين، ويلقون إليهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلوكم به من الشبهات {لِيُجادِلُوكُمْ}؛ أي: ليجادل أولئك الأولياء إياكم أيها المؤمنون بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم، وتتركون ما قتله الله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ أي: وإن وافقتم أيها المؤمنون أولئك الأولياء في أكل الميتة وما حرم الله عليكم {إِنَّكُمْ}

إذا {لَمُشْرِكُونَ} مثلهم. قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله؛ فهو مشرك، وإنما سمي مشركا؛ لأنه أثبت حاكما غير الله - عز وجل -، ومن كان كذلك فهو مشرك انتهى. قال عكرمة: وإن الشياطين؛ يعني: مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش زخرف القول؛ ليصل ممن أكل الميتة إلى نبي الله وأصحابه ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس، فكتبوا إلى قريش، وكانت بينهم مكاتبة إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال، وما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله هذه الآية. وما يذبح (¬1) عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله؛ لأنه مما أهل به لغير الله، وقال بعض الشافعية: هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه؛ فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، وهذا هو الراجح الذي عليه المعول. الإعراب {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط جازم. {أَنَّنا} {أن}: حرف نصب. و {نا}: اسمها. {نَزَّلْنا}: فعل وفاعل. {إِلَيْهِمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْمَلائِكَةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} تقديره: ولو أننا منزلون، وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بفعل محذوف تقديره: ولو ثبت تنزيلنا إليهم الملائكة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ}. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع ¬

_ (¬1) المراغي.

بفعل محذوف معطوفة على جملة {أن}. {وَحَشَرْنا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع بفعل محذوف معطوفة على جملة {أَنَّنا}. {قُبُلًا}: حال من {كُلَّ شَيْءٍ}؛ لأنه تخصص بالإضافة، ولكنه في تأويل مشتق تقديره: حالة كونهم معاينين ومشافهين للكفار، والتقدير: ولو ثبت تنزيلنا إليهم الملائكة وتكليم الموتى إياهم وحشرنا كل شيء عليهم. {ما}: نافية {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {لِيُؤْمِنُوا} (اللام): حرف جر وجحود. {يؤمنوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كان} تقديره: ما كانوا أهلا للإيمان، وجملة {كان} من اسمها وخبرها جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا}: أداة استثناء من عام الأحوال. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَشاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف إليه تقديره: ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم. {وَلكِنَّ} (الواو): عاطفة. {لكِنَّ}: حرف نصب. {أَكْثَرَهُمْ}: اسمها، وجملة {يَجْهَلُونَ} خبر {لكِنَّ}، وجملة {لكِنَّ} معطوفة على جملة {لَوْ} الشرطية. {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)}. {وَكَذلِكَ} (الواو): استئنافية. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وجعلا مثل جعلنا لك عدوا من هؤلاء المشركين. {جَعَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِكُلِّ نَبِيٍّ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ {جعل}. {عَدُوًّا}: مفعول أول له. {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} بدل من {عَدُوًّا}، والتقدير: وكذلك جعلنا عدوا شياطين الإنس والجن لكل نبي. وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي {شَياطِينَ} مفعولا أول، والثاني {عَدُوًّا}،

و {لِكُلِّ نَبِيٍّ} حالا من {عَدُوًّا} لأنه صفته في الأصل، أو متعلق بالجعل قبله، والتقدير: وجعلنا شياطين الإنس والجن عدوا لكل نبي جعلا مثل جعلنا هؤلاء عدوا لك، فاصبر كما صبروا. {يُوحِي بَعْضُهُمْ}: فعل وفاعل. {إِلى بَعْضٍ}: متعلق به. {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} مفعول به. {غُرُورًا}: مفعول لأجله، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {شَياطِينَ الْإِنْسِ}. {وَلَوْ}: (الواو): استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط. {شاءَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {ما}: نافية. {فَعَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {فَذَرْهُمْ} (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه لو شاء ربك ما فعلوه، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك {ذرهم وما يفترون}: {ذرهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَما}: (الواو): عاطفة، أو واو المعية. {ما}: موصولة، أو نكرة موصوفة في محل النصب معطوفة على الهاء في {ذرهم}، أو في محل النصب على أنه مفعول معه، أو مصدرية. {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} إن قلنا موصولة اسمية، أو صفة لـ {ما} إن قلنا {ما} نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وذرهم والذين يفترونه، أو شيئا يفترونه، أو صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على الهاء، أو منصوب على أنه مفعول معه، والتقدير: فذرهم وافتراءهم، أو مع افترائهم، وجملة (ذرهم) من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}. {وَلِتَصْغى} (الواو): عاطفة. {لِتَصْغى} (اللام): حرف جر وتعليل، {تصغى}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ}: فاعل ومضاف إليه. {لا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، وجملة {تصغى} صلة أن

المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولصغي أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، الجار والمجرور معطوف على {غُرُورًا}، وما بينهما اعتراض، والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول للغرور ولصغي أفئدة الذين يؤمنون بالآخرة، ولكن لما كان المفعول الأول مستكملا لشروط النصب نصب، وهذا فات فيه شرط النصب، وهو صريح المصدرية واتحاد الفاعل، فإن فاعل الوحي بعضهم، وفاعل الإصغاء الأفئدة، فلذا وصل الفعل بحرف العلة. {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ}. {وَلِيَرْضَوْهُ} (الواو): عاطفة. (اللام): حرف جر وتعليل، {يرضوه}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولرضاهم إياه، الجار والمجرور معطوف على {غُرُورًا}. {وَلِيَقْتَرِفُوا}: (الواو): عاطفة، (اللام): حرف جر وتعليل، {يقترفوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولاقترافهم ما هم مقترفون، الجار والمجرور معطوف على {غُرُورًا}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {هُمْ مُقْتَرِفُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما هم مقترفونه. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا}. {أَفَغَيْرَ} (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أأميل إلى زخارف الشياطين. (الفاء): عاطفة. {غير الله}: مفعول به لـ {أَبْتَغِي} مقدم عليه. {أَبْتَغِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. حَكَمًا حال من {غير}، أو تمييز له، وجملة {أَبْتَغِي} معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الجلالة مؤكدة لإنكار ابتغاء غيره تعالى حكما؛ لأن {غير} هنا بمعنى مغاير، فيصح عمله في المضاف إليه. {أَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة صلة الموصول. {إِلَيْكُمُ}: متعلق بأنزل.

{الْكِتابَ}: مفعول به. {مُفَصَّلًا}: حال من {الْكِتابَ}. {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {آتَيْناهُمُ الْكِتابَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول. {يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَنَّهُ}: (أن): حرف نصب ومصدر، و (الهاء): اسمها. {مُنَزَّلٌ}: خبرها. {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور متعلق به. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في {مُنَزَّلٌ}، وجملة (أن) في تأويل مصدر سد مسد مفعولي علم. {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حال أهل الكتاب، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: (لا تكونن): (لا): ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {صِدْقًا وَعَدْلًا}: حالان من كلمة {رَبِّكَ}، أو تمييزان لها. {لا}: نافية تعمل عمل إن. {مُبَدِّلَ}: في محل النصب اسمها. {لِكَلِماتِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُبَدِّلَ}، وخبر {لا} محذوف تقديره: لا مبدل لكلماته موجود، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل النصب حال من فاعل {تَمَّتْ} على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط، أو مستأنفة. ذكره «أبو السعود». {وَهُوَ السَّمِيعُ}: مبتدأ وخبر أول. {الْعَلِيمُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}.

{وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. {إِنْ}: حرف شرط. {تُطِعْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد. {أَكْثَرَ}: مفعول به وهو مضاف. و {مَنْ} الموصولة في محل الجر مضاف إليه {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور صلة {مَنْ} الموصولة. {يُضِلُّوكَ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} على كونه جوابا لها، وعلامة جزمه حذف النون. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به وجملة {إِنْ} الشرطية، مستأنفة. {إِنْ يَتَّبِعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الظَّنَّ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ} الواو: عاطفة. {إِنْ}: نافية. {هُمْ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، وجملة {يَخْرُصُونَ} في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية المنفية معطوفة على الجملة الفعلية المنفية المذكورة فيها. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {رَبَّكَ}: اسمها ومضاف إليه. {هُوَ} ضمير فصل أو مبتدأ. {أَعْلَمُ}: خبر {إِنَّ}، أو خبر المبتدأ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مقررة لمضمون الجملة الشرطية وما بعدها ومؤكدة لما تفيده من التحذير كما في «أبي السعود». {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب بفعل محذوف دل عليه {أَعْلَمُ} تقديره: إن ربك هو أعلم يعلم من يضل، والجملة المحذوفة في محل الرفع بدل من {أَعْلَمُ}. {يَضِلُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {عَنْ سَبِيلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَضِلُّ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. و {هُوَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ}. بِالْمُهْتَدِينَ: متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}. {فَكُلُوا} {الفاء}: عاطفة على ما تقدم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل: اتبعوا ما أمركم الله به من أكل المذكى دون الميتة، {كلوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {كلوا}.

{ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ}: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {ذُكِرَ}، والجملة الفعلية لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير عليه. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {بِآياتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُؤْمِنِينَ}. {مُؤْمِنِينَ}: خبر {كان}، وجواب {إِنْ} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم بآياته مؤمنين .. فكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}. {وَما} {الواو}: استئنافية {ما}: استفهامية للاستفهام الإنكاري التوبيخي في محل الرفع مبتدأ. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {أَلَّا}: {أن}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية. {تَأْكُلُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن}، مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: وأي غرض لكم في عدم أكلكم مما ذكر اسم الله عليه والجار المحذوف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأْكُلُوا}. {ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ}: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها. {وَقَدْ فَصَّلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل النصب حال من الجلالة. {لَكُمْ}: متعلق بـ {فَصَّلَ}. (ما): موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {حَرَّمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما حرمه عليكم. {إلَّا}: أداة استثناء. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء، والظاهر أنه استثناء متصل؛ لأنه من جنس المستثنى منه. {اضْطُرِرْتُمْ}: فعل ونائب فاعل. {إِلَيْهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {إِلَيْهِ}.

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}. {وَإِنَّ} {الواو}: استئنافية. {إِنَّ}: حرف نصب. {كَثِيرًا}: اسمها. {لَيُضِلُّونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {يضلون}: فعل وفاعل. {بِأَهْوائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يضلون}، ومفعول {يضلون} محذوف على قراءة ضم الياء تقديره: ليضلون الناس، وقراءة الفتح لا تحتاج إلى حذف، فرجحها بعضهم بهذا الاعتبار. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {يضلون} تقديره: ملتبسين بغير علم، وجملة {يضلون} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {أَعْلَمُ}: خبر {إِنَّ}. {بِالْمُعْتَدِينَ}: متعلق به، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}. {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ} فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه. {وَباطِنَهُ}: معطوف على {ظاهِرَ الْإِثْمِ}، والجملة مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب اسمها. {يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. {سَيُجْزَوْنَ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {يجزون}: كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَقْتَرِفُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يقترفونه. {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (21)}. {وَلا} {الواو}: استئنافية. {لا}: ناهية وجازمة. {تَأْكُلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق

بـ {تَأْكُلُوا}. {لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}: جازم وفعل مغير ونائب فاعل ومضاف إليه. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {يُذْكَرِ} وهو العائد على {ما}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَإِنَّهُ}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، أو حالية، {إن}: حرف نصب، {الهاء}: اسمها. لَفِسْقٌ: {اللام}: حرف ابتداء. {فسق}: خبر {إن}، وجملة {إن} إما مستأنفة، أو معطوفة على قوله: {وَلا تَأْكُلُوا} على مذهب سيبويه، أو حال من {ما} الموصولة في قوله: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}؛ أي: ولا تأكلوه والحال إنه لفسق. {وَإِنَّ الشَّياطِينَ:} ناصب واسمه. {لَيُوحُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {يوحون}: فعل وفاعل. {إِلى أَوْلِيائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يوحون}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {لِيُجادِلُوكُمْ}: {اللام}: لام كي، {يجادلوكم}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لمجادلتهم إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ {يوحون}. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ: {الواو}: استئنافية. {إِنَّ} حرف شرط {أَطَعْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إِنَّ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وقبل {إِنَّ} الشرطية لام القسم مقدرة تقديره: {ولئن أطعتموهم}. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {لَمُشْرِكُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {مشركون}: خبر {إن}، وجملة {إن} من اسمها وخبرها جواب القسم الذي قدرناه آنفا، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده، وجاز الحذف؛ لأن فعل الشرط ماض كما ذكره السمين، والتقدير: وإن أطعتموهم فأنتم مشركون. التصريف ومفردات اللغة قوله: {قُبُلًا}؛ أي: كفلا وضمنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، جمع قبيل بمعنى كفيل، مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب، ونصيب ونصب، أو جمع قبيل بمعنى جماعة جماعة، أو صنفا صنفا كل صنف على حدة، والمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء فوجا فوجا، ونوعا نوعا من سائر المخلوقات.

{عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} والعدو ضد الصديق؛ وهو من يفرح لحزنك ويحزن لفرحك، ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والأنثى، قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77)}؛ أي: أعداء، وقال ابن عباس كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ} والإيحاء: الإعلام بالشيء من طريق خفي سريع كالإيماء، والزخرف: الزينة كالأزهار للرياض، والذهب للنساء، وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام. قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: كل ما حسنته وزينته وهو باطل؛ فهو زخرف انتهى. والغرور: الخداع بالباطل. {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يقال: صغوت (¬1) كدعوت، وصغيت كرميت، وصغيت - بكسر الغين - كرضيت، فمصدر الأول: صغوا، والثاني: صغا، والثالث: صغا ومضارعها يصغى - بفتح الغين - وهي لازمة، وأصغى مثلها لازم، ويأتي متعديا بكون الهمزة فيه للنقل. قال الشاعر في اللازم: ترى السّفيه به عن كلّ محكمة ... زيغ وفيه إلى التّشبيه إصغاء وقال في المتعدي: أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا ... صماخها بدخيس الذّوق مستور وأصله: الميل. يقال: صغت النجوم إذا مالت للغروب، وفي الحديث: فأصغى لها الإناء. قاله أبو حيان، ويقال: صغي (¬2) إليه كرضي يصغى: مال، ومثله أصغى، ويقال: صغى فلان وصغوه معك؛ أي: ميله وهواه، كما يقال: ضلعه معك. وفي «المختار» صغا إذا مال، وبابه عدا وسما ورمى وصدى صغوا وصغيا أيضا، قلت: ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}، وقوله تعالى: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وأصغى إليه مال بسمعه ونحوه، وأصغى الإناء أماله، انتهى. {وَلِيَقْتَرِفُوا} يقال: اقترف المال اكتسبه، والذنب اجترحه، وأكثر (¬3) ما يكون ¬

_ (¬1) البحر المحيط بزيادة. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

في الشر والذنوب، ويقال: خرج يقترف لأهله؛ أي: يكتسب لهم، وقارف فلان الأمر؛ أي: واقعه، وقرفه بكذا رماه بريبة، واقترف كذبا، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} والحكم: من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه {مُفَصَّلًا}؛ أي: مبينا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام إلى غير ذلك من الأحكام {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}؛ أي: المترددين الشاكين. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} والكلمة هنا: إما القرآن أو القضاء كما مر، وتمام الشيء كما قال الراغب: انتهاؤه إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه، وتمامها هنا أنها كافية وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدق: يكون في الإخبار، - ومنها المواعيد - والعدل: يكون في الأحكام، والتبديل: التغيير بالبدل. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يقال: خرص يخرص - من باب نصر - إذا حزر وقال بغير تيقين ولا علم ومنه: خرص بمعنى كذب وافترى خرصا وخروصا، وقال الأزهري: وأصله التظني فيما لا يستيقن، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين منه، والمعنى؛ أي: وما هم إلا يحدسون ويقدرون، وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض .. فالعلم الحقيقي هو عند الله تعالى، فاتبع ما أمرك به، ودع عنك طاعة غيره وهو العالم بمن يضل عن سبيله ومن يهتدي إليه. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ...} إلخ. قال بعض أهل العلم (¬1): إن أعلم في الموضعين بمعنى يعلم. قال: ومنه قول حاتم الطائي: فحالفت طيّء من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنّا لهم خولا والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائبا عنه، وقيل: إن أفعل التفضيل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

على بابه، والنصب بفعل مقدر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل التفضيل؛ أي: إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله، وهو ضعيف، وقيل: في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بمن يضل. قاله بعض البصريين، وقيل: في محل جر بإضافة أفضل التفضيل إليها. والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ} وفيه أيضا التعرض لوصف الربوبية تلطفا في التسلية. ومنها: الترقي في قوله: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا}. قال أبو حيان (¬1): وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة؛ لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الفعل، فكان كل واحد منها مسبب عما قبله. ومنها: التهديد والوعيد في قوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا} على حد قوله {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ}. ومنها: الإبهام في قوله: {ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ} لإفادة التعظيم والتبشيع لما يعملون نظير قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ}. ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الامتراء إن كان الخطاب له. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} اعتناء بشأنها، وحق العبارة لا مبدل لها لتقدم المرجع. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} لأن المراد علماء أهل الكتاب، وفي قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لأن المراد بالأكثر رؤساء مكة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وبالأرض أرض مكة. ومنها: التأكيد في قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} لأنه تأكيد للنفي المذكور قبله. ومنها: الطباق بين لفظ: {مَنْ يَضِلُّ} ولفظ بِالْمُهْتَدِينَ في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}، وبين لفظ {ظاهِرَ} ولفظ: {باطن} في قوله: {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}؛ أي: تم كلامه ووحيه حيث أطلق الجزء وأراد الكل. ومنها: المقابلة بين قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وبين قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} تأكيدا بالمفهوم من الأول. ومنها: الزيادة في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}. المناسبة قوله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) ¬

_ (¬1) المراغي.

أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن والحدس، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين منهم العاشين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضروهم ويحملوهم على اقتراف الآثام، ويحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره، والتوسل به إليه وهو عبادة له .. ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم، مع ذكر السبب في استحسان الكافرين لأعمالهم؛ وهو تزيين الشيطان لهم ما يعملون، ومن ثم انغمسوا في ظلمات لا خلاص لهم منها، وأصبحوا في حيرة وتردد على الدوام. قوله تعالى: {وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .. ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان، وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) ما أعده من العذاب للمجرمين، وما أعده من الثواب والنعيم في دار السلام للمؤمنين إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه .. أردف ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون في يومه من الحساب، وإقامة الحجة على الكفار وسنة الله في إهلاك الأمم. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا .. أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره سبحانه وتعالى وقضائه. قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ...} الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما كان الكلام في الآيات السالفة في تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة، فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين، وأن سنة الله في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى .. ذكر هنا وعيد الآخرة، وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه وتعالى، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غني عن العالمين، بل لأنه مقتضى الحق والعدل المقرونين بالرحمة والفضل. أسباب النزول قوله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ ...} الآية، سبب نزولها على القول بأنها في أبي جهل وحمزة: أن أبا جهل رمى (¬1) النبي صلى الله عليه وسلم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس، وحمزة لم يكن إذ ذاك، فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل، وجعل يضربه بالقوى، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى ألا ترى ما جاء به، سفه عقولنا، وسب آلهتنا، وخالف آباءنا! فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولا؟ تعبدون الحجارة من دون الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم حمزة يومئذ، فنزلت هذه الآية. والقول الثاني؛ وهو قول الحسن في آخرين: أن هذه الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر، وهذا هو الصحيح؛ لأن المعنى إذا كان حاصلا في الكل دخل فيه كل أحد. وأخرج ابن المنذر (¬2)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[122]

ضلالتهما، فأحيا الله تعالى عمر بالإسلام وأعزه، وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: «اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب». قوله تعالى: {وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها على ما قيل: أن (¬1) الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسي رهان .. قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 122 - والهمزة في قوله: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا} للاستفهام الإنكاري داخلة على جملة إسمية محذوفة، والواو عاطفة ما بعدها على تلك المحذوفة، والتقدير: أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما يوحون إليهم من زخرف القول الذي غروهم به، ومن كان ميتا؛ أي: ضالا كافرا {فَأَحْيَيْناهُ}؛ أي: فهديناه {وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا}؛ أي: دينا وإيمانا {يَمْشِي بِهِ} آمنا {فِي النَّاسِ} من جهتهم {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ}؛ أي: كمن هو في ظلمات الكفر والضلال {لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها}؛ أي: ليس بمؤمن أبدا؛ أي: لا يستويان؛ أي: لا يستوي المؤمن والكافر، فلفظة المثل زائدة كما أشرنا إليه في الحل؛ لأن المثل معناه الصفة، والمستقر في الظلمات ذواتهم لا صفاتهم، كما زيدت في قوله تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}: وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: ويحتمل كونها أصلية. والمعنى عليه: أيستوي المؤمن والكافر ومن كان ميتا بالكفر والجهل، فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس على بصيرة من أمر دينه ¬

_ (¬1) الخازن.

وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر؛ وهو ليس بخارج منها؛ لأنه يبقى متحيرا لا يهتدي إلى وجه صلاحه، فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة، وكذلك الخابط في ظلمات الجهل والتقليد، وفساد الفطرة ليس بخارج منها؛ لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه، فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفاش بالنظر إلى النور الحسي، وإنما فسرنا الحياة في الآية بالهداية؛ لأنه كثيرا ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور وإنّ امرءا لم يحي بالعلم ميّت ... فليس له حتّى النّشور نشور والخلاصة (¬1): أنه ينبغي للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته، وأن يكون القدوة والأسوة للناس في الفضائل والخيرات، والحجة على فضل دينه على سائر الأديان، وإنما قال: {فِي النَّاسِ} إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس، فذكر أن منفعة المؤمن ليست قاصرة على نفسه، وهذا (¬2) مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر، فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها ليس بخارج منها، فيكون متحيرا على الدوام. ووجه (¬3) المناسبة في ضرب المثلين هنا ما تقدم في أول السورة {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}. {كَذلِكَ}؛ أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم {زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ} والمشركين {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} من الشرك والمعاصي وعبادة الأصنام؛ أي (¬4): حسّنّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدرا من الله وحكمة بالغة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أي: مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله حياة عالية، وتزيين ظلمات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) ابن كثير. (¬4) ابن كثير.

[123]

الضلال والكفر لموتى القلوب .. قد زين للكافرين وحسن ما كانوا يعملون من الآثام، كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله تعالى، وتحريم ما لم يحرمه الله، وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها. وقرأ الجمهور (¬1): {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا} - بفتح الواو بعد الهمزة - وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها. وقرأ طلحة: أفمن بالفاء بدل الواو. 123 - {كَذلِكَ}؛ أي: وكما جعلنا في مكة صناديدها رؤساء ليمكروا فيها {جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} من سائر القرى والعواصم {أَكابِرَ مُجْرِمِيها}؛ أي: جعلنا مجرميها وفساقها أكابر ورؤساء فيها، {أَكابِرَ} مفعول ثان، و {مُجْرِمِيها} مفعول أول، والظرف لغو متعلق بنفس الفعل قبله؛ أي: جعلنا في كل بلدة فساقها عظماء ورؤساء. وقيل: إن قوله: {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعول ثان مقدم، و {أَكابِرَ} مفعول أول مؤخر، وهو مضاف لمجرميها، فيصير المعنى: وكذلك جعلنا عظماء المجرمين كائنين في كل قرية. وقرأ ابن مسلم: {أَكابِرَ مُجْرِمِيها} وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد، كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} ذكره أبو حيان في «البحر». {لِيَمْكُرُوا فِيها}، أي: ليفعلوا المكر فيها، وهذا (¬2) دليل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، وإنما جعل المجرمين أكابر؛ لأنهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الباطل على الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رياستهم، وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فساقهم أكابرهم. وقال مجاهد: كان يجلس على كل طريق من طرق مكة أربعة أنفار يصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون لكل من يقدم: هو كذاب ساحر كاهن. فكان هذا مكرهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

وحاصل الكلام (¬1): أن سنة الله تعالى في المجتمع البشري قد قضت أن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم، وهكذا كان الحال في أكثر أكابر الأمم والشعوب، ولا سيما في العصور التي تكثر فيها المطامع، ويعظم فيها حب الرياسة والكبرياء، فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم، وتعزيزا لنفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول. والمراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح، ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم، وكان أكثر أكابر مكة كذلك، وتخصيص الأكابر بذلك؛ لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم. {وَما يَمْكُرُونَ}؛ أي: وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم، ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم {إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: وما يحيق شر مكرهم إلا بهم {وَما يَشْعُرُونَ}؛ أي: وما يعلمون بذلك أصلا، بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم. وهكذا شأن (¬2) من يعادون الحق والعدل، ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد؛ لأن سنة الله قد جرت بأن عاقبة المكر السيء تحيق بأهله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبما ثبت في القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين، ومن علو الحق على الباطل، ومن هلاك القرى الظالمة، وبما أيده الاختبار، ودلت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضي ببقاء الأمثل والأصلح {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة الله في الأولين، فقال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}؛ أي: فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[124]

حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم .. لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله في خلقه، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما في الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك. وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمي أهل مكة، وفيها وعد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. 124 - {وَإِذا جاءَتْهُمْ}؛ أي: وإذا جاءت مشركي العرب كالوليد بن المغيرة وعبد ياليل وأبي مسعود الثقفي {آيَةٌ} من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتخبرهم بصنيعهم {قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ}؛ أي: قالوا: لن نصدقك {حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل، فيخبرنا أنك رسول الله، وأنك صادق. قال تعالى ردا عليهم: {اللَّهِ} سبحانه وتعالى: {أَعْلَمُ}؛ أي: عالم {حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}؛ أي: الموضع الذي يجعل فيه رسالته؛ أي: أعلم من يليق برسالته؛ أي: بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف، وهذا (¬1) المعنى قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس. [معنى آخر للآية:] وقيل معنى الآية: وإذا جاءتهم آية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم .. قالوا: لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى: إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة، فيشرفه بها ويعلم من لا يستحقها، وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها، خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر. [معنى آخر للآية أيضا:] وقيل المعنى (¬2): وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى .. قالوا: لن نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى. وقال ابن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

كثير: أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، بمعنى قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ...} الآية. وخلاصة ذلك: أنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم، وقد رد عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}؛ أي: هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، وهذا كقوله حكاية عنهم: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ...} الآية، يريدون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجل في أعينهم من القريتين مكة والطائف، ذلك أنهم جازاهم الله تعالى بما يستحقون، كانوا يزدرون الرسول صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى: {وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)} وهم مع ذلك كانوا يعترفون بشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، وكانوا يسمونه بالأمين، فكان ينبغي أن يكون في ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة وبكل ما فيه الكرامة، ولكن الحسد والبغي والتقليد كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال، وعمل هاتيك الأفعال في عداوته ومعاندته. والخلاصة: أن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه لا يناله أحد بكسب، ولا يصل إليه بسبب ولا نسب، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة وطهارة القلب وحب الخير والحق، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم. وقرأ حفص وابن كثير: رِسالَتَهُ بالإفراد، والباقون على الجمع. فائدة: ويستجاب (¬1) الدعاء بين هاتين الجلالتين وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما ووجد بخط بعض الفضلاء؛ وهو «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره، ومن الذي سألك فلم تعطه، ومن الذي استعان بك فلم ¬

_ (¬1) المراح.

تعنه، ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه بك أستغيث أغثني يا مغيث واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين». ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}؛ أي: سيصيب الذين أشركوا بقولهم: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ومكروا بك {صَغارٌ}؛ أي: ذل وهوان وحقارة في الدنيا {عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: ثابت لهم في حكم الله تعالى بالقتل والأسر {وَعَذابٌ شَدِيدٌ} بالنار في الآخرة {بِما كانُوا يَمْكُرُونَ}؛ أي: بسبب مكرهم بقولهم ذلك، وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم له وطلبهم ما لا يستحقون. وقال اسماعيل الضرير (¬1): في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: صغار وعذاب شديد عند الله في الآخرة انتهى. أي: سيصيب (¬2) المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء في كل شعب دب فيه الفساد عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة. ومعنى كونه من عند الله: أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق .. يقال: إنه من عند الله، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق في دار الدنيا كما قال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)}. وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد، وعذاب الأفراد لا يطرد، وإن كانوا من المجرمين الماكرين، وقد عذب الله في الدنيا أكابر مجرمي أهل مكة الذين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[125]

تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له، فقتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغار والهوان بالباقين. 125 - ثم أردف ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للإيمان، فقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ}؛ أي: فمن يرد الله سبحانه وتعالى هدايته للحق ويرشده لدينه {يَشْرَحْ صَدْرَهُ}؛ أي: يوسع قلبه {لِلْإِسْلامِ} حتى يقبله بصدر منشرح منبسط له. ومعنى الآية (¬1): فمن يرد الله تعالى أن يهديه للإيمان بالله وبرسوله وبما جاء به من عنده .. يوفقه له ويشرح صدره لقبوله ويهونه عليه، ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه، فيضيء به ويتسع له صدره. والخلاصة (¬2): فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبوله دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة والهادي إلى طريق الحق والرشاد .. وجد لذلك في نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور، فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه، وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته، ويذعن له قلبه بما يرى من ساطع النور الذي يستضيء به لبه، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه. ولما نزلت هذه الآية (¬3) .. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر، فقال: «هو نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح»، فقالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «نعم، الإنابة إلى الدار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت». وأسند الطبري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} قال: «إذا دخل النور القلب .. انفسح وانشرح». قالوا: فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت». {وَمَنْ يُرِدْ} الله سبحانه وتعالى {أَنْ يُضِلَّهُ}؛ أي: إضلاله وشقاوته {يَجْعَلْ صَدْرَهُ} وقلبه {ضَيِّقًا} عن قبول الإسلام غير متسع له {حَرَجًا}؛ أي: شديد الضيق لا يتسع لشيء من الهدي، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان فهو بمعنى الضيق مع المبالغة كرره تأكيدا، وحسن ذلك اختلاف اللفظ {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ}؛ أي: كأنما يتكلف صدره الصعود في السماء، ويحاول الطلوع إليها، ويزاول أمرا غير ممكن. قال ابن جرير: وهذا (¬1) مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه، أي: أن (¬2) من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب .. يجد في صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد، والنظر في الآفاق والأنفس لما استحوذ على قلبه من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه، فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه، ويشعر بالعجز عن احتمالها، ويكون مثله مثل من صعد في الطبقات العليا في جو السماء إذ يشعر بضيق شديد في التنفس، وكلما صعد في الجو أكثر شعر بضيق أشد، حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء، ولم يستطع سبيلا إلى البقاء، فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا. وخلاصة ذلك: أن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعي إلى الحق، وقد ألف الباطل وركن إليه بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك، وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه، وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل. سبحانك ربي، نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرّها البشر، ولم يفقه ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) المراغي.

معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، وتقّدم فنّ الطيران، الآن علم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء في كتابك، ودل على صحة ما ثبت في علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوي في مختلف طبقات الهواء، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة في الهواء من الطبقات التي هي أسفل منها، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق في التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس؛ ليساعدهم على السير في تلك الطبقات. وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا؛ لأنهم لم يهتدوا لسرها، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم، فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم: الدين والعلم صنوان لا عدوان، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفي أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين. وخلاصة معنى الآية (¬1): فمن يرد الله أن يهديه قوّى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان؛ بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح، فعظمت النفرة عنه، فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا، كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه، ولا يقدر على ذلك، أو المعنى: كان قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام. وقرأ ابن كثير (¬2): {ضَيِّقًا} - بالتخفيف - مثل هين ولين، وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: {حَرِجًا} - بكسر الراء - ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني وابن الجوزي.

[126]

ومعناه الضيق، فيكون تأكيدا لما قبله، وقرأ الباقون: {حرجا} - بفتح الراء - جمع حرجة، وهي شدة الضيق. وقرأ ابن كثير: كأنما يصعد - بالتخفيف من الصعود - وقرأ النخعي: {يصّاعد} - بتشديد الصاد مع الألف - وأصله يتصاعد، وقرأ الباقون: {يَصَّعَّدُ} - بالتشديد بدون ألف - وأصله يتصعد. وقرأ ابن مسعود وطلحة: {تصعد} - بتاء من غير ألف - وقرأ أبي بن كعب: {يتصاعد} بتاء وألف. {كَذلِكَ}؛ أي: كما جعل الله سبحانه وتعالى صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا بالإسلام {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ}؛ أي: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة {عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} بآيات الله ويعرضون عن الإيمان بها، أو يسلط الله الشيطان عليهم، فيظهر أثر ذلك في تصرفاتهم وأعمالهم، فيكون غالبا قبيحا سيئا في ذاته، أو فيما بعث عليه من قصد ونية؛ لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصد عنه ويطهر الأنفس منه. 126 - {وَهذا} الإسلام الذي يشرح له صدر من أراد هدايته هو {صِراطُ رَبِّكَ} الذي بعثك به، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة والبينات الظاهرة حالة كونه {مُسْتَقِيمًا} في نظر العقول الراجحة والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء، بل هو السبيل السوي وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد، وخروج عن الجادة التي يؤيدها العقل، وتستند إلى النقل، كما قال عليّ - كرم الله وجهه - في نعت القرآن: هو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ}؛ أي: قد فسرنا آيات القرآن وأوضحناها، وبيناها بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والحلال والحرام، والأمر والنهي وغير ذلك {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}؛ أي: لقوم يتذكرون بها ويتعظون بما فيها من المواعظ والعبر، فيؤمنون بها فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا في الإيمان كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح؛ وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وخصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها، وفيه إدغام التاء في الأصل في الذال.

[127]

127 - {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء القوم المتذكرين {دارُ} الله {السَّلامِ} سبحانه وتعالى؛ أي: المنزه عن جميع النقائص؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى، وهي الجنة أضافها إلى نفسه تعظيما، أو دار السلامة من كل آفة وكدر ومكروه؛ أي: السلامة الدائمة التي تنقطع، سميت الجنة بذلك؛ لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة؛ لأن السلام بمعنى السلامة نظير الضلال والضلالة، أو دار السلام بمعنى التحية؛ لقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ}، {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا (26)} حالة كونها مدخرة لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني أن الجنة معدة مهيأة لهم عند ربهم حتى يوصلهم إليها {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {وَلِيُّهُمْ}؛ أي: متكفل لهم بجميع مصالحهم في الدين والدنيا {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبب أعمالهم الصالحة، أو متولي أمورهم بالتوفيق والهداية في الدنيا، وبالجزاء والجنة في الآخرة، أو محبهم أو ناصرهم على أعدائهم بسبب أعمالهم الصالحة. 128 - والظرف في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} متعلق بقول مقدر بعده، تقديره: ويوم نحشر الخلائق جَمِيعًا من الأولين والآخرين في عرصات القيامة، نقول للجن: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} وهذا أولى من تقدير: أذكر؛ لخروجه حينئذ عن الظرفية، كما قاله أبو حيان في «البحر». وقرأ حفص بالياء في {يَحْشُرُهُمْ}؛ أي: ويوم يحشر الله سبحانه وتعالى الخلائق جميعا، وهو يوم القيامة يقول للجن: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} وباقي السبعة بالنون، وهذا النداء نداء شهرة وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد؛ أي: يا جماعة الجن {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}؛ أي: قد أكثرتم الاستمتاع والانتفاع، والتلذذ بالإنس بطاعتهم لكم ودخولهم فيما تريدون منهم. وقيل المعنى: أكثرتم الإغواء والإضلال من الإنس حتى صاروا في حكم الأتباع لكم {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ}؛ أي: أولياء الجن وأصحابهم الذين هم {مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {اسْتَمْتَعَ} وانتفع {بَعْضُنا} معاشر الجن والإنس {بِبَعْضٍ} آخر؛ أي: انتفع الجن بالإنس وانتفع الإنس بالجن؛ أي: انتفع كل من الجنسين بالآخر؛ أي: وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى: ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها، وبما كان لنا في طاعتهم ووسوستهم من اللذة في اتباع الهوى

والانغماس في اللذات. قال الحسن البصري: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس انتهى. قال الكلبي (¬1): فأما استمتاع الإنس بالجن: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر، فنزل بأرض قفراء، وخاف على نفسه من الجن .. قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم، وأما استمتاع الجن بالإنس: فهو أنهم قالوا: سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم. وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، وتزيينهم الأمور التي كانوا يهوونها وتسهيل سبلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس للجن فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي، وقيل غير ذلك. وقيل: إن قوله: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} هو من كلام الإنس خاصة؛ لأن استمتاع الجن بالإنس، وبالعكس أمر نادر لا يكاد يظهر، أما استمتاع الإنس بعضهم ببعض فهو ظاهر، فوجب الكلام عليهم. {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا}؛ أي: أدركنا ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا، وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل، وقرىء: {آجالنا} - على الجمع الذي على التذكير والإفراد - قال أبو علي: هو جنس أوقع (الذي) موقع (التي)، انتهى. ذكره أبو حيان في «البحر». ومقصدهم (¬2) من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط في الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الجن، وحكاه في آي أخرى، فقال - سبحانه - في الفريقين: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وكما ذكر في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض، وحكى في إبراهيم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[129]

أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس، وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا. {قالَ} الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجن والإنس ردا عليهم {النَّارُ} الأخروية {مَثْواكُمْ}؛ أي: منزلكم وموضع إقامتكم ومقركم فيها ومصيركم إليها حالة كونكم {خالِدِينَ فِيها}؛ أي: في النار؛ أي: مقيمين فيها إقامة خلود أبدا {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى من الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير، فيشتد البرد عليهم فيه، فيطلبون الرد إلى الجحيم كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}. {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {حَكِيمٌ} في صنعه وتدبيره، فيضع كل شيء في محله اللائق به، وقيل: حكيم فيما يفعله من ثواب الطائع وعقاب العاصي، وفي سائر وجوه المجازاة {عَلِيمٌ} بخلقه، فيجازي كلا بعمله، أو عليم بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون، كأنه قال: إنما حكمت لهؤلاء الكفار بالخلود في النار؛ لعلمي بأنهم يستحقون ذلك. 129 - {وَكَذلِكَ}؛ أي: وكما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} آخر منهم؛ أي: نسلط بعض الظالمين بالكفر والمعاصي، أي: نسلط ونؤمر بعضهم على بعض {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: بسبب ما يعملونه من الكفر والمعاصي، أو بسبب كسبهم وعملهم المعاصي. والضمير في {كانُوا} عائد على البعض الثاني كما في «الجمل». والمعنى: كما متعنا الإنس والجن بعضهم ببعض نسلط بعض الظالمين بعضهم على بعض بسبب كسبهم من المعاصي، فيؤخذ الظالم بالظالم لما في الحديث. «ينتقم الله من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من كليهما»، وفي الحديث أيضا «كما تكونوا يولّ عليكم» ومن هذا المعنى قول الشاعر: وما من يد إلا يد الله فوقها ... وما من ظالم إلا سيبتلى بأظلم وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى إذا أراد بقوم

خيرا ولى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم. أي: ومثل (¬1) ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولي بعض الظالمين لأنفسهم وللناس بعضهم على بعض آخر بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم. روي عن قتادة أنه قال في تفسير الآية: إنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن من أين كان وحيثما كان، والكافر ولي الكافر من أين كان وحيثما كان، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولعمري لو عملت بطاعة الله، ولم تعرف أهل طاعة الله .. ما ضرك ذلك، ولو عملت بمعصية الله وتوليت أهل طاعة الله .. ما نفعك ذلك شيئا، انتهى. وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم، انتهى. ذاك أن الملوك يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة في الأنعام السائمة، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم، فيقلدوهم وهم جمهور الأمة في سيء أعمالهم، فيغلب الفساد على الصلاح، ويفسقون عن أمر الله فيهلكون، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم، وتشل عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16)}. أما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأي فيها، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاؤون، بل يكونون تحت مراقبة أولي الأمر فيها، وقد (¬2) وضع الإسلام هذا الدستور، فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد، وأمر الرسول بالمشاورة وسار على هذا النهج، وجعلت الولاية العامة - الخلافة - بالانتخاب. واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته، وجروا على سنته، فقال الخليفة الأول ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي.

[130]

أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له: أما بعد: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني. وقال الخليفة الثاني على المنبر: من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومه. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة: أمري لأمركم تبع. وقوله: {الظَّالِمِينَ} يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم؛ إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشاكله في أخلاقه وأعماله، وينصره على من يخالفه. 130 - ثم أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال يخطر بالبال، وهو: ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة؟ فأجاب بأنهم يسألون، فقال: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وهذا شروع (¬1) في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين بما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ معشر الجن بإغواء الإنس وإضلالهم إياهم؛ أي: ويوم نحشرهم جميعا نقول توبيخا لهم وتقريرا: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل من مجموعكم؛ أي: من بعضكم؛ وهو الإنس، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. والصحيح (¬2) أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة، وقد قام الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل للإنس والجن كافة، والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه تعالى أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق .. فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة. وقد زعم (¬3) قوم أن الله أرسل للجن رسولا منهم يسمى يوسف. وقرأ الأعرج: {ألم تأتكم} على تأنيث لفظ رسل بالتاء. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم، كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراح. (¬3) الجمل.

منهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى} فهذا ظاهر في أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك، ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله، ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ والتقرير يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي؛ أي: يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي المبينة لأصول الإيمان، وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا}؛ أي: ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا؛ وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أنواع العقوبات الهائلة، ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل: {قالُوا} أي: قال كفار الجن والإنس {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا}؛ أي: شهدنا واعترفنا وأقررنا بإتيان الرسل إيانا، وبإنذارهم لنا، وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب، وفي هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعوا منهم. وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفي موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم، وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا، ونحو الآية: {قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا}؛ أي: غرتهم وخدعتهم عن الآخرة زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وقلدهم في ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر. وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل، حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوي المال والنسب مهما اجترحوا من الموبقات، وأبسلوا من المكارم والخيرات.

[131]

{وَ} بعد أن قامت عليهم الحجة {شَهِدُوا} في الآخرة {عَلى أَنْفُسِهِمْ} بـ {أَنَّهُمْ كانُوا} في الدنيا {كافِرِينَ} بتلك الآيات والنذر التي جاءت بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب، ولا تنفعهم المكابرة. والكفر بالرسل ضربان: كفر بتكذيبهم بالقول، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن الله في ترتيب الأعمال على الطباع والأخلاق. 131 - {ذلِكَ} المذكور من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله لإصلاح حال الأفراد والجماعات في شؤونهم الدنيوية والأخروية، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء بسبب {أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ}؛ أي بسبب أن الله سبحانه وتعالى لم يكن من سننه في تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبي الرسل بسبب ظلم من يظلم منهم {وَأَهْلُها غافِلُونَ}؛ أي: والحال أنهم غافلون إن لم يرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم، وينذرهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده؛ إذ من حكمة الله تعالى في الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها. والخلاصة (¬1): أن الله تعالى لا يظلم أحدا من خلقه، بل هم الذين يظلمون أنفسهم، وأن الإهانة والتعذيب تربية لهم، وتأديب وزجر لغيرهم، وأن هذا العقاب للأمم منه ما هو في الدنيا ومنه ما هو في الآخرة، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاؤوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل. وهلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق، ويقطع روابط المجتمع، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[132]

وقيل المعنى (¬1): ما كان الله سبحانه وتعالى مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه وتعالى يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء، وقيل: المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}. {وَلِكُلٍّ} من (¬2) المكلفين من الجن والإنس مؤمنهم وكافرهم {دَرَجاتٌ} متفاوتة ومراتب مختلفة {مِمَّا عَمِلُوا}؛ أي: من جزاء أعمالهم خيرا أو شرا، فيجازيهم بأعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض، أو بنسبة عمل كل عامل، فيكون هو في درجة، فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل. والمعنى (¬3): ولكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات؛ أي: منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وإنما سميت درجات؛ لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج، وهذا إنما يكون في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من هو أعظم ثوابا، ومنهم من هو أشد عقابا، وهو قول جمهور المفسرين. وقيل: إن قوله تعالى: 132 - {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} مختص بأهل الطاعة؛ لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم {وَما رَبُّكَ} يا محمد {بِغافِلٍ}؛ أي: بساه {عَمَّا يَعْمَلُونَ}؛ أي: عما يعمل المكلفون من الثقلين من أعمال الخير أو الشر. والغفلة (¬4) ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. وقرأ ابن عامر: {تعملون} - بالتاء الفوقية - وقرأ الباقون بالتحتية؛ أي: فكل (¬5) عملهم يعلمه ربهم، وهو محصيه عليهم ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها، ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه. وفي الآية: إيماء إلى أن مناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراغي.

[133]

فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه، فجازاه الله أحسن الجزاء، وإن شاء تنكّب عن جادة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهريا، وسار في غلواء الضلال، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. 133 - {وَرَبُّكَ} يا محمد هو {الْغَنِيُّ} الكامل الغنى عن خلقه لا يحتاج إليهم، ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم فهو {ذُو الرَّحْمَةِ} الشاملة التي وسعت كل شيء إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده، فلا يكون غناه عنهم مانعا من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول. ويقال في الخلق: هذا غني إذا كان واجدا لأهم تلك الأسباب التي هي من فيض مولاه، وهو مع ذلك محتاج إلى غيره. انظر إلى الغني ذي المال الكثير، تراه محتاجا إلى كثير من الناس، من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شيء، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}. {إِنْ يَشَأْ} - سبحانه وتعالى - إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستئصالكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك واستخلاف غيركم بعدكم {يُذْهِبْكُمْ} بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} من الأقوام، فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم، وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم {كَما أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: كما قدر على إنشأكم {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وقد صدق وعده، فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا، وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم، ولم يلبث كفرهم أن زال بالتأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا، وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم، وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى في حروبهم وفتوحهم،

[134]

وشهد لهم بذلك أعداؤهم، حتى قال مؤرخو الإفرنج: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. وقرأ زيد بن ثابت: {ذَرِّية} - بفتح الذال - وكذا في آل عمران، وأبان بن عثمان: {ذَرِية} - بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة - وعنه {ذَرْية} على وزن ضَرْبة. 134 - وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة، فقال: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ} ـه من جزاء الآخرة بعد البعث {لَآتٍ} لا محالة ولا مرد له، فإن الله لا يخلف الميعاد {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الله بهرب ولا منع مما يريد، ولا فائتين عما هو نازل بكم وواقع عليكم، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم، وهذا دليل قد ذكره الله تعالى في كتابه مرات كثيرة، وقد أنار العلم في هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء. 135 - ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {يا قَوْمِ اعْمَلُوا} واثبتوا {عَلى مَكانَتِكُمْ} وطريقتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم {إِنِّي عامِلٌ} وثابت على مكانتي وطريقتي التي رباني ربي عليها وهداني إليها، وأقامني عليها من الإسلام والمصابرة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بعد حين {مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ}؛ أي: من تكون له العاقبة المحمودة التي يحمد عليها صاحبها في هذه الدار؛ أي: من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض ومن له الدرجات العلى في الآخرة. وفي «الفتوحات» العاقبة المحمودة: هي الاستراحة واطمئنان الخاطر، وهذه حاصلة في الدار الآخرة التي هي الجنة، فحصلت المغايرة بين الظرف والمظروف، انتهت. ويحتمل أن يراد بعاقبة الدار مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب. وفي قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم، وإن عاقبة الدار الحسنى هي له صلى الله عليه وسلم. قرأ أبو بكر: {على مكاناتكم} - على الجمع حيث وقع - فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع، ومن أفرد فعلى الجنس.

وقرأ حمزة والكسائي: {من يكون} - بالتحتية - وقرأ الباقون {تَكُونُ} بالفوقية. قال صاحب «الكشاف»: {اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} تحتمل وجهين: اعلموا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل: إذا أمر أن يثبت على حال: على مكانك يا فلان؛ أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إني عامل على مكانتي التي أنا عليها، والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، انتهى. والضمير في قوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} للشأن؛ أي: إن الشأن لا يفوز من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم؛ لكونهم المتصفين بالظلم، أي: لا يفوزون بفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق الله وحقوق أنفسهم، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل الله وحزبهم المفلحين من المؤمنين، انظر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به، ثم من سائر مشركي العرب، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب، فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس .. لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز، وانحصر الفوز في الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام، ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال تعالى: {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}. الإعراب {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. {أَوَ} (الهمزة): داخلة على محذوف تقديره أأنتم مثلهم، و {الواو}: عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع

مبتدأ. {كانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَنْ}. {مَيْتًا}: خبرها، وجملة {كانَ} صلة {مَنْ} الموصولة. {فَأَحْيَيْناهُ} (الفاء): عاطفة، {أحييناه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {كانَ}. {وَجَعَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أحيينا}. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق به، لأن {جعل} بمعنى خلق. {نُورًا}: مفعول {جعل}. {يَمْشِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِهِ}: متعلق بـ {يَمْشِي}. {فِي النَّاسِ}: جار ومجرور متعلق به أيضا، وجملة {يَمْشِي} في محل النصب صفة لـ {نُورًا}. {كَمَنْ}: جار ومجرور في محل الرفع خبر {مَنْ} الموصولة في قوله: {أَوَمَنْ كانَ} والجملة من المبتدأ والخبر معطوفة على الجملة المحذوفة. {مَثَلُهُ} مبتدأ ومضاف إليه. {فِي الظُّلُماتِ}: جار ومجرور خبره، والجملة صلة الموصول. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على مَنْ. {بِخارِجٍ}: خبرها، و (الباء): زائدة. {مِنْها}: متعلق بـ (خارج)، وجملة {لَيْسَ} في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا أعني قوله: {فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ} تقديره: تزيينا مثل تزيين الإيمان للمؤمنين. {كَذلِكَ}: جار ومجرور في محل نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل أعمال الكافرين مزينة لهم {زُيِّنَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {لِلْكافِرِينَ}: جار ومجرور متعلق به. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع نائب فاعل لـ {زُيِّنَ}. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، وجملة {زُيِّنَ} من الفعل المغير ونائب فاعله مستأنفة. {وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ}. {وَكَذلِكَ} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة. {وكَذلِكَ} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل صناديد مكة أكابر فيها. {جَعَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {زُيِّنَ}. {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ}: متعلق بـ {جَعَلْنا}. {أَكابِرَ}: مفعول ثان. {مُجْرِمِيها} مفعول أول لـ {جعل} منصوب بالياء، وقيل في

إعرابه غير ذلك كما مر في بحث التفسير. {لِيَمْكُرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {فِيها}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لمكرهم فيها، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنا}. {وَما}: {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية: {يَمْكُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِأَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَمْكُرُونَ}. {وَما يَشْعُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الضمير في {يَمْكُرُونَ}. {وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جاءَتْهُمْ آيَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذا}: على كونها فعل شرط لها. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة. {لَنْ نُؤْمِنَ} إلى قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {لَنْ}: حرف نصب. {نُؤْمِنَ}: منصوب بـ {لَنْ}، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب مقول لـ {قالُوا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {نُؤْتى}: فعل مضارع مغير الصغية منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: لن نؤمن إلى إيتائنا مثل ما أوتي رسل الله، الجار والمجرور متعلق بـ {نُؤْمِنَ}. مِثْلَ: مفعول ثان لـ {نُؤْتى}؛ لأنه بمعنى أعطى، والأول كان نائب فاعل لها. {مِثْلَ}: مضاف. {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. {أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}: فعل ونائب فاعل ومضاف إليه، والمفعول الثاني لأتى محذوف تقديره: مثل ما أوتيه رسل الله، وهو العائد على {ما} الموصولة، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {اللَّهُ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {حَيْثُ}: في محل النصب مفعول به لفعل محذوف دل عليه {أَعْلَمُ} تقديره: يعلم حيث يجعل رسالته، والجملة المحذوفة في محل الرفع بدل من {أَعْلَمُ}

على كونها خبر المبتدأ، وإنما قدرنا العامل لـ {حَيْثُ}؛ لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به الصريح. {يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ}: فعل ومفعول. {أَجْرَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {صَغارٌ}: فاعل (يصيب)، وجملة (يصيب) مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه صفة لـ صَغارٌ، أو متعلق به أو بـ (يصيب). وَعَذابٌ: معطوف على صَغارٌ. شَدِيدٌ: صفة لـ عَذابٌ. بِما: (الباء): حرف جر، {ما}: مصدرية. كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة يَمْكُرُونَ في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}، صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (الباء) تقديره: بسبب مكرهم، الجار والمجرور متعلق بـ (يصيب). {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)}. {فَمَنْ} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن من كان ميتا فأحييناه ليس كمن مثله في الظلمات، وأردت بيان علامة هداية الله وعلامة إضلاله .. فأقول لك: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُرِدِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {أَنْ يَهْدِيَهُ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فمن يرد الله هدايته. {يَشْرَحْ صَدْرَهُ}: فعل ومفعول مجزوم بـ (من) الشرطية على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {لِلْإِسْلامِ}: متعلق بـ {يَشْرَحْ}، وجملة (من) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو} عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو

هما. {يُرِدِ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {أَنْ يُضِلَّهُ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ومن يرد إضلاله. {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا}: فعل ومفعولان مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابا لها. {حَرَجًا}: صفة {ضَيِّقًا}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {من} الأولى. {كَأَنَّما} {كأن}: حرف نصب وتشبيه، ولكن بطل عملها لدخول {ما} الكافة عليه. {ما} كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {يَصَّعَّدُ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على من يرد إضلاله. {فِي السَّماءِ}: متعلق بـ {يَصَّعَّدُ}، وجملة التشبيه إما مستأنفة، أو في محل النصب حال من الضمير المستتر في {ضَيِّقًا}. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: جعلا مثل جعل صدر من يرد إضلاله ضيقا. {يَجْعَلُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الرِّجْسَ}: مفعول أول. {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني إن كان جعل بمعنى يصير، والتقدير: يصير الله الرجس مستعليا عليهم محيطا بهم، ومتعلق به إن كان بمعنى يلقي؛ لأنه يتعدى حينئذ إلى مفعول واحد، والمعنى كذلك يلقي الله العذاب على الذين لا يؤمنون. وجملة {لا يُؤْمِنُونَ}: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}. {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {مُسْتَقِيمًا}: حال من {صِراطُ}، والعامل فيه اسم الإشارة باعتبار ما فيه من معنى الفعل، فإنه في معنى أشير، فهو على حد قول ابن مالك: وعامل ضمّن معنى الفعل لا ... حروفه مؤخّرا لن يعملا وهي حال مؤكدة لصاحبها لا مبينة؛ لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيما. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {لِقَوْمٍ}: متعلق بـ {فَصَّلْنَا}، وجملة {يَذَّكَّرُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}.

{لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {دارُ السَّلامِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافا بيانيا لا محل لها من الإعراب لوقوعها في جواب سؤال مقدر، كأن سائلا سأل عما أعد لهم؛ فقيل له ذلك، وفي «الفتوحات» يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، ويحتمل أن تكون حالا من فاعل {يَذَّكَّرُونَ}، ويحتمل أن تكون وصفا لقوم، وعلى هذين الوجهين؛ فيجوز أن يكون الحال، أو الوصف الجار والمجرور فقط، ويرتفع {دارُ السَّلامِ} بالفاعلية، وهذا عندهم أولى، لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة، والأصل في الوصف والحال والخبر الإفراد فما قرب إليه أولى. {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه حال من {دارُ}، والعامل فيها الاستقرار في {لَهُمْ} انتهت. {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {بِما}: (الباء): حرف جر وسبب، {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء الجار والمجرور متعلق بـ وَلِيُّهُمْ. كانُوا: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يعملونه. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية. {يَحْشُرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {جَمِيعًا}: حال من الهاء، أو توكيد لها، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، والظرف متعلق بقول محذوف تقديره: ويوم يحشرهم جميعا يقول الله سبحانه وتعالى توبيخا لهم: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ ...} إلخ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول للقول المحذوف. {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ}: فعل وفاعل. {مِنَ الْإِنْسِ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب النداء. {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا}. {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {مِنَ الْإِنْسِ}: جار ومجرور حال من {أَوْلِياؤُهُمْ}. {رَبَّنَا ...} إلخ مقول محكي

لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء مقول {قالَ}. {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {بِبَعْضٍ} متعلق بـ {اسْتَمْتَعَ}، والجملة الفعلية جواب النداء. {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَمْتَعَ}. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {أَجَلَنَا}. {أَجَّلْتَ}: فعل وفاعل. {لَنا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أجلته لنا. {قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {النَّارُ مَثْواكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {النَّارُ مَثْواكُمْ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {خالِدِينَ}: حال من الكاف في {مَثْواكُمْ}، والعامل فيه فعل مقدر إن جعل (مثوى) اسم مكان؛ لأنه لا يعمل، أو هو نفسه إن جعل مصدرا بمعنى الإقامة، وعلى الثاني يكون في الكلام حذف مضاف ليصح الإخبار؛ أي: ذات إقامتكم، وتكون الكاف فاعلا بالمصدر ذكره في «الفتوحات». {فِيها}: متعلق بـ {خالِدِينَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة بمعنى الزمن في محل النصب على الاستثناء. {شاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما شاءه الله تعالى، والمستثنى منه محذوف تقديره: خالدين فيها في كل زمان إلا الزمن الذي شاء الله عدم خلودهم ومكثهم فيها، أو إلا زمنا شاء الله عدم مكثهم فيها. {إِنَّ}: حرف نصب. {رَبَّكَ}: اسمها. {حَكِيمٌ}: خبر أول لها. {عَلِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)}. {وَكَذلِكَ} {الواو}: استئنافية. {كَذلِكَ}: صفة لمصدر محذوف تقديره: تولية مثل تمتيعنا الجن والإنس بعضهم ببعض. {نُوَلِّي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة متسأنفة. {بَعْضَ الظَّالِمِينَ}: مفعول أول ومضاف

إليه. {بَعْضًا}: مفعول ثان. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {نُوَلِّي}: {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ}: في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يكسبونه. {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا}. {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} منادى مضاف. {وَالْإِنْسِ}: معطوف على {الْجِنِّ}، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ويوم يحشرهم جميعا يقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} (الهمزة): للاستفهام التقريري التوبيخي، {لَمْ}: حرف جزم. (يأت): فعل مضارع مجزوم بـ لَمْ، و (الكاف): مفعول به. {رُسُلٌ} فاعل. {مِنْكُمْ} صفة لـ {رُسُلٌ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف. {يَقُصُّونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {آياتِي} مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ {رُسُلٌ}، أو في محل النصب حال من ضمير {مِنْكُمْ} كما ذكره أبو البقاء؛ أي: من الضمير المستتر في الجار والمجرور. {وَيُنْذِرُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {لِقاءَ يَوْمِكُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {هذا}: بدل من يَوْمِكُمْ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {يَقُصُّونَ}. {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك التوبيخ؟ فقيل: قالوا: {شَهِدْنا ...} الخ. {شَهِدْنا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {عَلى أَنْفُسِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِدْنا}. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ}: فعل ومفعول وفاعل. {الدُّنْيا}: صفة لـ {الْحَياةُ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {قالُوا}، أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المعطوف الذي هو {وَشَهِدُوا}، والمعطوف عليه الذي هو {قالُوا}. {وَشَهِدُوا}: فعل وفاعل. {عَلى أَنْفُسِهِمْ}:

متعلق به، والجملة معطوفة على {قالُوا}. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {كافِرِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وشهدوا على أنفسهم كونهم كافرين. {ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)}. {ذلِكَ}: مبتدأ. {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: أنه. {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ}: جازم وفعل ناقص واسمه. {مُهْلِكَ الْقُرى}: خبر كان ومضاف إليه. {بِظُلْمٍ} جار ومجرور حال من {رَبُّكَ}؛ أي: حالة كونه متلبسا بظلم، أو حال من الضمير في {مُهْلِكَ}، أو حال من {الْقُرى}؛ أي: متلبسة بذنوبها، أو متعلق بـ {مُهْلِكَ}، وجملة {يَكُنْ} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة تقديره: ذلك بسبب انتفاء كون ربك مهلك القرى. {بِظُلْمٍ}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك كائن بسبب كون ربك الخ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَأَهْلُها غافِلُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من {الْقُرى}. {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}. {وَلِكُلٍّ}: جار ومجرور خبر مقدم. {دَرَجاتٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {دَرَجاتٌ}؛ أي: درجات كائنة مما عملوا. {عَمِلُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما عملوه. {وَما}: {الواو} استئنافية أو عاطفة {ما}: حجازية. {رَبُّكَ}: اسمها. {بِغافِلٍ}: خبرها و (الباء): زائدة. {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {بِغافِلٍ}. {يَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يعملونه، وجملة {ما} الحجازية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ}. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ}.

{وَرَبُّكَ}: مبتدأ. {الْغَنِيُّ}: خبر أول. {ذُو الرَّحْمَةِ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة، ويجوز أن يكون {رَبُّكَ}: مبتدأ. {الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}: وصفان له، {إِنْ يَشَأْ} وما بعده هو الخبر كما ذكره الكرخي. إِنْ: حرف شرط جازم. {يَشَأْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {يُذْهِبْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة إِنْ الشرطية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر {رَبُّكَ} {وَيَسْتَخْلِفْ}: فعل مضارع معطوف على (يذهب)، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ بَعْدِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَسْتَخْلِفْ} {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول يستخلف. {يَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة. لـ {ما}، أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاؤه. {كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}. {كَما} (الكاف): حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية. {أَنْشَأَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أنشأ}. {آخَرِينَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كإنشائه إياكم من ذرية قوم آخرين، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ويستخلف من بعدكم، وينشىء إنشاء كإنشائه إياكم من ذرية قوم آخرين؛ لأن استخلف هنا بمعنى: أنشأ وأوجد. {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب اسم {إِنَّ}. {تُوعَدُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إن ما توعدونه. {لَآتٍ}: {اللام}: حرف ابتداء، {آت}: خبر {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص نظير قاض

وداع، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. وما: {الواو}: عاطفة. {ما}: حجازية. {أَنْتُمْ}: في محل الرفع اسمها. {بِمُعْجِزِينَ}: خبرها، والباء زائدة، وجملة {ما} الحجازية معطوفة على جملة {إِنَّ}. {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. يا قَوْمِ اعْمَلُوا إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {اعْمَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {عَلى مَكانَتِكُمْ}: جار ومجرور حال من واو {اعْمَلُوا}، أو متعلق به. {إِنِّي}: {إن}: حرف نصب، و (الياء): اسمها. {عامِلٌ}: خبرها، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء. {فَسَوْفَ}: (الفاء): تعليلية، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأوردتم بيان من له العاقبة .. فأقول لكم، {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد؛ لتأكيد مضمون الجملة، {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، وهي عرفانية تتعدى لمفعول واحد. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية معللة لما قبلها، أو في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص. {لَهُ}: خبرها مقدم على اسمها. {عاقِبَةُ الدَّارِ}: اسمها مؤخر، وجملة {تَكُونُ} صلة الموصولة، والتقدير: فسوف تعلمون الفريق الذي له عاقبة الدار. إِنَّهُ {إن}: حرف نصب، والهاء ضمير الشأن في محل النصب اسمها، وجملة {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} في محل الرفع خبرها، وجملة {إن} مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: وما عاقبتهم. التصريف ومفردات اللغة {كَمَنْ مَثَلُهُ} المثل: الصفة والنعت، والظلمات جمع ظلمة؛ وهي ضد النور، وجمعها هنا؛ لأن المراد بها ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة كما مر.

{فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها} أكابر جمع أكبر، أو كبير غير منصرف؛ لأنه على زنة مفاعل، والمجرمون فاعلوا الإجرام، والإجرام هو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال. والقرية (¬1): البلد الجامع للناس - العاصمة في عرف هذا العصر - وقد تطلق بمعنى الشعب أو الأمة، ويراد فيها البلد في إصطلاح هذا العصر، فيقولون: ثروة البلد مصلحة البلد، ويريدون الأمة. {لِيَمْكُرُوا فِيها} المكر: صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة في الفعل، أو الخلابة في القول، وقال أبو عبيدة (¬2): المكر الخديعة، والحيلة، والفجور والغدر والخلاف. {صَغارٌ}: الصّغار (¬3) والصّغر - بفتحتين -: الذلّ والهوان، جزاء الكفر والطغيان، والصغار: قلة في الأمور المعنوية، والصغر: - بزنة عنب - قلة في الأمور الحسية، والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنية، يقال فيه (¬4): صغر ككرم كما في «القاموس» وصغر كتعب كما في «المصباح» والمصدر صغر كعنب، وصغر كقفل، وصغار كسحاب، والصغر ضد الكبر، يقال فيه: صغر - بالضم - فهو صغير، وصغر كفرح صغرا كعنب، وصغرا كشجر، وصغرانا كعثمان. {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} يقال (¬5): شرح الله صدره فانشرح؛ أي: وسعه لقبول الإيمان والخير فوسع، وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر .. مال بطبعه إليه، وقويت رغبته فيه، فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر، وقيل: الشرح: الفتح والبيان، يقال: شرح الله لفلان أمره إذا أوضحه وأظهره، وشرح المسألة إذا كانت مشكلة وأوضحها وبينها، فقد ثبت أن للشرح معنيين: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراغي. (¬4) الفتوحات. (¬5) الفتوحات.

أحدهما: الفتح ومنه يقال: شرح الكافر بالكفر صدرا؛ أي: فتحه لقبوله، ومنه قوله تعالى: {وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} يعني فتحه ووسعه لقبوله. والثاني: أن الشرح نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد، فيعرف بذلك النور الحق فيقبله، وينشرح صدره له ذكره في «الفتوحات». {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} والضيق بالتشديد والتخفيف لغتان فيه كهين وهين ضد الواسع، وقيل: المخفف مصدر ضاق يضيق ضيقا كقوله تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} يقال: ضاق يضيق ضيقا، وضيقا - بفتح الضاد وكسرها - ففي جعله مصدرا يجيء فيه الأوجه الثلاثة: في المصدر الواقع وصفا لجثة نحو رجل عدل، وهي حذف مضاف، أو المبالغة، أو وقوعه موقع اسم الفاعل؛ أي: يجعل صدره ذا ضيق، أو ضائقا، أو نفس الضيق مبالغة. وقولنا فيه بالتخفيف؛ أي: تخفيف الياء بحذف الياء الثانية التي هي عين الكلمة، فيصير وزنه فيلا بوزن ضربا، وقولنا بالتشديد؛ أي: تشديد الياء، ووزنه فيعل كهين وميت، وفي «السمين» وإذا قلنا: إنه مخفف من المشدد، فهل المحذوف الياء الأولى أو الثانية؟ فيه خلاف. حرجا وحرجا - بفتح الراء وكسرها - هو المتزايد في الضيق؛ أي: شديد الضيق، فهو أخص من الأول، فكل حرج ضيق من غير عكس، وعلى هذا فالمكسور والمفتوح بمعنى واحد مأخوذ من الحرجة؛ وهي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث يصعب الدخول فيه. روي (¬1) أن عمر - رضي الله عنهه - سأل أعرابيا من بني مدلج عن الحرجة، فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. {الرِّجْسَ} كل ما يستقذر حسا أو عقلا أو شرعا، أو هو ما لا خير فيه، أو ¬

_ (¬1) المراغي.

اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. {صِراطُ رَبِّكَ}؛ أي: طريقه الذي ارتضاه وسنته التي اقضتها حكمته، والمستقيم ما لا إعوجاج فيه ولا زيغ. {دارُ السَّلامِ} هي الجنة، أو هي دار السلامة من المنغصات والكروب. {وَلِيُّهُمْ}؛ أي: متولي أمورهم وكافيهم كل ما يهمهم. {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} المعشر والنفر والقوم والرهط الجمع من الرجال فحسب، ولا واحد لها من لفظها. وقال الليث: المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين، ومعشر الكافرين، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية، ويجمع (¬1) على معاشر كما ورد: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»، وقال الأفوه: فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا {اسْتَكْثَرْتُمْ} يقال: استكثر من الشيء إذا أخذ الكثير منه يقال: استكثر من الطعام أكل كثيرا، وهو من استفعل، ثلاثيه كثر. وقال ابن (¬2) عباس ومجاهد وقتادة: أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم. {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ} وأولياؤهم هم الذين تولوهم؛ أي: أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام. {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا} استمتع من باب استفعل ثلاثيه متع، والاستمتاع بالشيء جعله متاعا، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا، وإن كان قليلا. {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا}؛ أي: وصلنا يوم البعث والجزاء. {النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها} المثوى مكان الثواء؛ أي: الإقامة والسكنى، أو مصدر ميمي بمعنى الثواء والإقامة، والخلود المكث الطويل غير المؤقت بوقت {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} وفي «المصباح» وقصصت الخبر قصا من باب رد حدثته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

على وجهه، والاسم القصص - بفتحتين - انتهى. فهو من المضاعف المعدى، فقياسه ضم عين مضارعه. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}؛ أي: يهلككم من أذهب الرباعي بمعنى أهلك وأعدم. {يَسْتَخْلِفْ}؛ أي: ينشيىء الذرية والنسل من استخلف بمعنى يخلف، فالسين والتاء زائدتان. {بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: جاعلي من طلبكم عاجزا غير قادر على إدراككم. {عَلى مَكانَتِكُمْ} المكانة الحالة التي هم عليها، واختلف في ميم مكان ومكانة، فقيل هي أصلية، وهما من مكن يمكن من باب كرم يقال: مكن مكانة عند الأمير ارتفع وصار ذا منزلة، وقيل: هي زائدة، وهما من الكون، فالمعنى على الأول: اعملوا على ممكنتكم من أمركم وأقصى استطاعتكم، فالمكانة مصدر، وعلى الثاني: اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، وعلى هذا تكون الميم زائدة، فيكون كل من المكان والمكانة مفعلا ومفعلة من الكون. {مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} والدار هي الدنيا، والمراد بالعاقبة عاقبة الخير إذ لا اعتداد بعاقبة الشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها، وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن العاقبة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا}؛ لأنه استعار الموت للكفر، فاشتق منه ميتا بمعنى كافرا، وفي قوله: {فَأَحْيَيْناهُ}؛ لأنه استعار الحياة للإيمان، وفي قوله: {نُورًا}؛ لأنه استعار النور للهداية، وفي قوله: {فِي الظُّلُماتِ}؛ لأنه استعار الظلمة للضلال. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا}.

ومنها: الطباق بين قوله: {مَيْتًا} وقوله: {فَأَحْيَيْناهُ}، وبين قوله: {نُورًا} وقوله: {فِي الظُّلُماتِ}. ومنها: التكرار في قوله: {كَذلِكَ زُيِّنَ}، وقوله: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ}. ومنها: المقابلة في قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}. ومنها: الكناية في قوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}؛ لأن الشرح كناية عن قبول النفس للحق والهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: الطباق بين لفظي: الشرح والضيق. ومنها: التأكيد في قوله: {حَرَجًا} لأنه تأكيد لـ {ضَيِّقًا}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ}؛ لأنه شبه حال من جعل الله صدره ضيقا حرجا عن الإيمان بحال من يكلف نفسه بالصعود إلى السماء المظلمة، أو إلى مكان مرتفع وعر كالعقبة. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ}؛ لأنه استعار الصراط بمعنى الطريق لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: الإضافة للتشريف، في قوله: {لَهُمْ دارُ السَّلامِ} إذا كان السلام من أسمائه تعالى. ومنها: الظرفية المجازية في قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} الدالة على شرف الرتبة في المنزلة. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}؛ أي: أفرطتم في إغواء وإضلال الإنس، وفي قوله: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ}؛ أي: استمتع

بعض الإنس ببعض الجن، وبعض الجن ببعض الإنس. ومنها: تعريف الطرفين لإفادة الحصر في قوله: {النَّارُ مَثْواكُمْ}. ومنها: الاستفهام التقريري التوبيخي في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}. ومنها: تعويض التنوين عن المحذوف في قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ}؛ أي لكل العاملين. ومنها: دخول إن واللام على الجملة الاسمية للتأكيد، في قوله: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ}؛ لأن المخاطبين منكرون للبعث، فلذا أكد الخبر بمؤكدين. ومنها: الجناس المغاير بين {اعْمَلُوا} و {عامِلٌ} في قوله: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ}. ومنها: التهديد والوعيد (¬1) في قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} كقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} وقوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} وقال الشاعر: إذا ما التقينا والتقى الرّسل بيننا ... فسوف ترى يا عمرو ما الله صانع وقال آخر: ستعلم ليلى أيّ دين تداينت ... وأيّ غريم للتّقاضي غريمها ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}. المناسبة قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح (¬1) طريقة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مشركي العرب في إنكارهم البعث .. ذكر أنواعا من جهالاتهم تنبيها على ضعف عقولهم، وفي قوله: {مِمَّا ذَرَأَ} أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود، وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيبا، والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلا أن تخلق شيئا أو تنميه. وعبارة «المراغي» هنا: بعد أن (¬1) حاجّ الله سبحانه وتعالى المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين، وكان آخرها البعث والجزاء .. ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام، والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية، والخرافات الوثنية، انتهت. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله .. أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافا، فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا، واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين. وعبارة «المراغي» هنا: علمت (¬3) فيما سلف أن أصول الدين التي عني الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة هي التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر، وقد بالغ سبحانه وتعالى في تقرير هذه الأصول، وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة في التحليل والتحريم تنبيها على ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من اتباع آرائهم والسير على أهوائهم. قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (¬4) سبحانه وتعالى لما أمر بالأكل من ثماره، وبإيتاء حقه .. نهى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[136]

عن مجاوزة الحد، فقال: {وَلا تُسْرِفُوا} وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها للزكاة، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا، وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال، فيبقى هو وعياله كلا على الناس. أسباب النزول قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} إلى قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} أخرج (¬1) ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في هذه الآية أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة. قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أخرج ابن أبي شيبة (¬2)، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي العالية قال: ما كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة، ثم إنهم تباذروا وأسرفوا، فأنزل الله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وأخرج ابن جرير (¬3) وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلا، فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى، وليس له ثمرة، فأنزل الله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن إسرافا، ولو أنفقت صاعا في معصية الله كان إسرافا. التفسير وأوجه القراءة 136 - {وَجَعَلُوا}؛ أي: وعين شركاء مكة وغيرهم {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى: {مِمَّا ذَرَأَ}؛ أي: مما خلق الله سبحانه وتعالى وحده {مِنَ الْحَرْثِ}؛ أي: من حبوب الزرع وكذا من ثمار الأشجار {وَ} من نتاج {الْأَنْعامِ} وهي الإبل والبقر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) لباب النقول والشوكاني.

والغنم، ومن سائر أموالهم {نَصِيبًا}؛ أي: حظا وقسما معينا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وجعلوا نصيبا من ذلك لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام ينفقونه على سدنتها، وفي قرابين يذبحون عندها، دل (¬1) على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد، وهو قوله: {هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا}. {فَقالُوا} في النصيب الأول {هذا لِلَّهِ}؛ أي: نتقرب به إليه {بِزَعْمِهِمْ}؛ أي: بكذبهم وافترائهم على الله تعالى متعلق بـ {قالوا}، وإنما نسبوا (¬2) للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله؛ لأن هذا الجعل لم يأمرهم الله به، فهو مجرد اختراع منهم {وَ} قالوا في النصيب الثاني {هذا لِشُرَكائِنا}؛ أي: لمعبوداتنا نتقرب به إليها. ومعنى قوله: {بِزَعْمِهِمْ}؛ أي: بقولهم الذي لا بينة لهم عليه، ولا هدي من الله إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه، وأن يكون بإذنه لأنه دين والدين لله ومن الله وحده، فهذا زعم مخترع لا دين مشترع، فيكون باطلا. وقد روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب الهتهم لسدنتها وقرابينها، وما ينفق على معابدها، ثم (¬3) إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم، فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها، فلم يصرفوه للمساكين، بل يصرفونه للسدنة، وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم، ولم يأكلوا منه، وإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله، ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها، وإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء مما جعلوه للأصنام في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير. وقرأ الكسائي ويحيى بن وثاب والسلمي والأعمش (¬4): {بزعمهم}: - بضم الزاي - وهي لغة بني أسد، وقرأ الباقون بفتحها؛ وهي لغة أهل الحجاز وهما ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) بيضاوي. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط والشوكاني.

[137]

مصدران. وقيل: الفتح في المصدر، والضم في الاسم، وقرأ ابن أبي عبلة: بفتح الزاي والعين فيهما، والكسر لغة لبعض قيس وتميم، ولم يقرأ به. {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ}؛ أي: فيما عينوه لشركائهم وآلهتهم {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}؛ أي: لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها {وَما كانَ لِلَّهِ}؛ أي: وما عينوه وجعلوه له - سبحانه وتعالى - {فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ}؛ أي: يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها للتقرب به إليها {ساءَ ما يَحْكُمُونَ}؛ أي: قبح الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه، أو قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شيء على الخالق القادر على كل شيء، وبعملهم شيئا لم يشرعه الله. وللقبح وجوه متعددة منها: 1 - أنه اعتداء على الله بالتشريع، وهو لم يأذن لهم فيه. 2 - الشرك في عبادته تعالى، ولا ينبغي أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه. 3 - ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم. 4 - أن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع. 137 - ثم ذكر سبحانه وتعالى من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال: {وَكَذلِكَ}؛ أي: ومثل تزيين قسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله وآلهتهم، وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ} بوأد إناثهم ونحر ذكورهم {شُرَكاؤُهُمْ}؛ أي: أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة؛ أي: زين لكثير من المشركين شركاؤهم - سدنة الآلهة وخدمها - أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التنزيين وجوها مختلفة منها: 1 - اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله:

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وأشاء إلى الثاني بقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}. 2 - اتقاء العار بوأد البنات؛ أي: بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكن سببا للعار أو السباء، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن في الشرف. 3 - التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، فقد كان الرجل في الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما .. لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب في قصص طويل أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنا ابن الذبيحين». وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس - كالسدنة - أو شياطين الجن شركاء، وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء؛ لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم، ولا يكون ذلك إلا لله سماهم شركاء كما قال: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وقرأ الجمهور (¬1): {زَيَّنَ} - مبنيا للفاعل - و {قَتْلَ} - نصبا على المفعولية - و {أَوْلادِهِمْ} - خفضا بالإضافة - و {شُرَكاؤُهُمْ} - رفعا على الفاعل - والمعنى؛ أي: وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم، فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي، وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور .. لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله. وقرأ ابن عامر وحده: {زين} - مبنيا للمفعول - و {قتل} - رفعا على النيابة عن الفاعل - و {أولادهم} - نصبا على المفعولية - و {شركائهم} - خفضا على إضافة المصدر إلى فاعله - والمعنى؛ أي: وزين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. وهذه القراءة متواترة صحيحة، ولا عبرة بقول ابن عطية: وهذه قراءة ضعيفة في لسان العرب، فقد قرأ ابن عامر على أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة المخزومي، وقرأ أيضا على ¬

_ (¬1) المراح.

عثمان، وولد هو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأت فرقة (¬1)، منهم السلمي والحسن وأبو عبيد الملك - قاضي الجند وصاحب ابن عامر -: {زين} - مبنيا للمفعول - و {قتل} مرفوعا مضافا إلى {أولادهم}، {شُرَكاؤُهُمْ} مرفوعا على إضمار فعل؛ أي: زينه شركاؤهم هكذا أخرجه سيبويه. أو فاعلا بالمصدر؛ أي: قتل أولادهم شركاؤهم هكذا خرجه قطرب. فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما كان كذلك في القراءة الأولى، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون، ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين، وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت فرقة من أهل الشام، ورويت عن ابن عامر: {زين} - بكسر الزاي وسكون الياء - على أنه فعل ماض مبني للمفعول على وزن قيل وبيع و {قتل} مرفوع على ما لم يسم فاعله و {أولادهم} بالنصب، و {شركائهم} بالخفض غاية ما في هذه القراءة أنه من زان الثلاثي، وبني للمفعول فأعل كبيع، فهي جارية على القراءة الأولى من الفصل بالمفعول. ثم ذكر سبحانه وتعالى علة تزيين المنكرات لهم فقال: {لِيُرْدُوهُمْ}؛ أي: أنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم ويهلكوهم بالإغواء والإضلال {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}؛ أي: وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام، ويفسدوا عليهم فطرتهم، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية، فينحر الوالد ولده، ويدفن بنته الضعيفة بيده، وهي حية؛ أي: زينوا لهم ليضلوهم وليدخلوا عليهم الشك في دينهم. والدين (¬2) الذي لبّسوه وخلطوه عليهم هو ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه، فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[138]

وقرأ النخعي (¬1): {وَلِيَلْبِسُوا} - بفتح الياء - قال أبو الفتح استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة، واللام متعلقة بـ {زَيَّنَ}، فهي على حقيقة التعليل إن كان التزيين من الشياطين، وعلى معنى الصيرورة إن كان من السدنة. {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى عدم قتلهم أولادهم {ما فَعَلُوهُ}؛ أي: ما فعل كثير من المشركين قتل الأولاد بدفن البنات في حياتها، وبنحر الأولاد الذكور للأصنام {فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ}؛ أي: إذا عرفت يا محمد ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: اتركهم وافتراءهم وكذبهم في قولهم: إن الله يأمرهم بقتل أولادهم، أو فذرهم وما يختلقون من الإفك على الله والأحكام التي يشرعونها، وهو أمر تهديد ووعيد؛ أي (¬2): ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة، فلا يؤثر فيه إغواء، ولا تجدي فيهم وسوسة لفعل، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء، وما يشاهدون من المحسوسات، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله، ومن ثم يؤثر في نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة، والناس يتفاوتون في هذا جدّ التفاوت، فلا يمكن أن يكونوا على رأي واحد، أو دين واحد، فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع وما يفترون من عقائد، وعليك بما أمرت به من التبليغ والله هو الذي يتولى أمرهم، وله سنن في هداية خلقه لا تتبدل، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل، ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال: 138 - {وَقالُوا}؛ أي: وقال المشركون الذين قسموا نصيب آلهتهم أقساما ثلاثة: {هذِهِ}؛ أي: القرابين التي جعلناها للآلهة {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ}؛ أي: زروع {حِجْرٌ}؛ أي: محرمة {لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ}؛ أي: لا يأكل هذه الأنعام والحرث إلا خدمة الأوثان والرجال دون النساء {بِزَعْمِهِمْ}؛ أي: قالوا ما ذكر متلبسين بكذبهم، ومن غير حجة {وَ} هذه {أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

ركوبها والحمل عليها، وهي البحائر والسوائب والحوامي والوصائل {وَ} هذه {أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} إذا ركبت أو حملت أو ذبحت، ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله تعالى {افْتِراءً} وكذبا {عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى حيث قالوا: إن الله تعالى أمرنا بهذا التقسيم، وهذا إما مفعول له، وعامله: {قالُوا}، أو حال من ضميره، أو مصدر مؤكد له؛ لأن قولهم ذلك هو الافتراء {سَيَجْزِيهِمْ} الله سبحانه وتعالى ويعاقبهم {بِما كانُوا يَفْتَرُونَ} ـه ويختلقون عليه؛ أي: أن الله سيكافؤهم بسبب تقولهم عليه وكذبهم، وقرأ أبان بن عثمان: {نعم} على الإفراد. وقرأ الجمهور: {حِجْرٌ} - بكسر الحاء وسكون الجيم -. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم، وقال القرطبي قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وسكون الجيم، وعن الحسن أيضا: {حجر} - بضم الحاء -. وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم. وقال هارون كان الحسن يضم الحاء من {حجر} حيث وقع إلا {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} فيكسرها. وقرأ أبي وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمة وعمرو بن دينار والأعمش: {حرج} - بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها - وحرج على القلب معناه: معنى حجر، أو من الحرج، وهو التضييق. ذكره أبو حيان في «البحر». أي: أنهم (¬1) لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزروعهم أقساما ثلاثة: 1 - أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم، وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها، ويقولون: هي حجر؛ أي: محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم، وقوله: {لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ}؛ أي: لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء، وقوله: {بِزَعْمِهِمْ}؛ أي: بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان. 2 - أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها. قال السدي: هي البحيرة وما ذكر معها في قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ ...} الآية. ¬

_ (¬1) المراغي.

[139]

3 - أنعام لا يذكورن اسم الله عليها في الذبح، بل يهلون بها لآلهتهم وحدها، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها، ولا يلبون على ظهرها {افْتِراءً عَلَيْهِ}؛ أي: أنهم قسموا هذا التقسيم، وجعلوه من أحكام الدين، ونسبوه إلى الله افتراء عليه، واختلاقا له، والله منه بريء فهو لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}. {سَيَجْزِيهِمْ} الجزاء (¬1) الذي يستحقونه، وينكل بهم شر النكال {بِما كانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: بسبب هذا الافتراء القبيح، 139 - ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم في التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم وقلة عقلهم فقال: {وَقالُوا}؛ أي: وقال مشركوا مكة وغيرهم: {ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ}؛ أي: ما ولد من هذه البحائر والسوائب حيا {خالِصَةٌ لِذُكُورِنا}؛ أي: حلال لذكورنا خاصة، والهاء في {خالِصَةٌ} للمبالغة في الخلوص {وَمُحَرَّمٌ عَلى} جنس {أَزْواجِنا} وهي الإناث، فيدخل فيه البنات والأخوات ونحوهن {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ}؛ أي: ذكورهم وإناثهم {فِيهِ شُرَكاءُ}؛ أي: وإن يكن الذي في بطون الأنعام ميتة .. فهم فيه؛ أي: في الذي في البطون شركاء يأكل منه الذكور والإناث؛ أي: وما ولد منها ميتا أكله الرجال والنساء جميعا {سَيَجْزِيهِمْ} الله سبحانه وتعالى {وَصْفَهُمْ} لما في بطونها بالتحليل والتحريم والتخصيص والاشتراك من قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}؛ أي: سيوصل الله لهم جزاء ذنوبهم وهو وصفهم له بالتحليل والتحريم، فالواصف بذلك أولا عمرو بن لحي، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، وكان يعلمهم تحريم الأنعام {إِنَّهُ} تعالى {حَكِيمٌ} في صنعه {عَلِيمٌ} بخلقه، وهذه الجملة تعليل لمجازاته إياهم؛ أي: فمن أجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم. قوله: {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ}؛ المراد (¬2) بالأنعام هنا البحائر؛ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

أي: المشقوقة الآذان، والسوائب التي تسيب وتترك للآلهة، فلا يتعرض لها أحد، وكانوا يجعلون لبنها للذكور، ويحرمونه على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا كان ميتة اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج. قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}؛ أي: سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم؛ لأن حكمته تعالى في الخلق وعلمه بشؤونهم جعلت عقابهم عين ما يقضيه وصفهم ونعتهم الروحي؛ إذ لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين سواء أكان في أعلى عليين، أم في أسفل سافلين. والخلاصة: أن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل، وقيل: المعنى سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ...} الآية. وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة (¬1): {خالص} - بالرفع بغير تاء - وهو خبر {ما}؛ و {لِذُكُورِنا} متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني: {خالصا} - بالنصب بغير تاء - وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة، أو على الحال من {ما} على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا نحو: (زيد قائما في الدار) وخبر {ما} على هذه القراءة هو {لِذُكُورِنا}. وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضا: {خالصة} - بالنصب - وإعرابها كإعراب خالصا بالنصب، وخرج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضا وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري: {خالصه} بالإضافة إلى الضمير، وهو بدل من {ما}، أو مبتدأ خبره ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[140]

{لِذُكُورِنا}، والجملة خبر {ما}. وقرأ الجمهور: {خالِصَةٌ} - بالرفع بالتاء - وقرأ أبو بكر (¬1): {وإن تكن} - بتاء التأنيث - {مَيْتَةً} بالنصب؛ أي: وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرأ ابن كثير: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} - بالتذكير وبالرفع - على أنه من كان التامة، وقال الزمخشري: وقرأ أهل مكة: وإن تكن ميتة - بالتأنيث والرفع - انتهى. فإن عنى ابن كثير فهو وهم، وإن عنى غيره من أهل مكة، فيمكن أن يكون نقلا صحيحا، وهذه القراءة التي عزاها لأهل مكة هي قراءة ابن عامر. وقرأ باقي السبعة: {وَإِنْ يَكُنْ} - بالتذكير - {مَيْتَةً} - بالنصب - على تقدير: وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرأ يزيد: {ميّتة} - بالتشديد -، وقرأ عبد الله: {فهم فيه سواء}. 140 - {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} بالوأد للبنات وبالنحر للذكور؛ أي: قد خسروا في الدنيا باعتبار السعي في نقص عددهم، وإزالة ما أنعم الله به عليهم، وفي الآخرة باستحقاق العذاب الأليم، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لقد خسروا في الدنيا والآخرة {سَفَهًا}؛ أي: قتلوهم لأجل السفه والحمق، وقلة العقل {بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ أي: بغير حجة ولا إذن من الله، وهم ربيعة ومضر، وأمثالهم من العرب، وبنو كنانة لا يفعلون ذلك. وسبب هذا الخسران؛ لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد، فإذا سعى في إبطاله استحق الذم العظيم في الدنيا؛ لأن الناس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه، والعقاب العظيم في الآخرة وسببه خفة العقل؛ لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر، والقتل أعظم ضررا منه، والقتل ناجز، والفقر موهوم، وهذه السفاهة إنما نشأت من الجهل الذي هو أعظم المنكرات. وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام، ومنهما ابن كثير وابن عامر: {قتّلوا} - بالتشديد -. وقرأ اليماني: {سفهاء} - بصيغة الجمع -. {وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ} تعالى من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب، وهو معطوف على {قَتَلُوا}، فهو صلة ثانية {افْتِراءً} وكذبا {عَلَى اللَّهِ} تعالى بنسبة ذلك إليه تعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{قَدْ ضَلُّوا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ضلوا وأخطؤوا بهذه الافعال عن الصراط المستقيم {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} إلى الحق بعد ضلالهم، فعلم أن فائدته بعد قوله: {قَدْ ضَلُّوا} أنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى، كما ذكره الكرخي، فإن تحريم الحلال من أعظم أنواع الحماقة؛ لأنه يمنع نفسه تلك المنافع، ويستحق بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العقاب، أو أن الجرأة بالافتراء أعظم الذنوب، وهم قد ضلوا عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا، ولم يحصل لهم الاهتداء قط. والحاصل (¬1): أن الله سبحانه وتعالى أنكر على مشركي العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم، وحكم فيهم حكما عدلا وهما: 1 - قتل أولادهم ووأد بناتهم، وبذلك خسروا خسرانا مبينا، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة، والبر والصلة، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها، واستبدال القسوة والغلظة بها إلى نحو أولئك من مساوي الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا، وبها يحل العقاب في الآخرة. 2 - تحريم ما رزقهم الله من الطيبات، وإيضاح هذا: أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على من فعل هذين الجرمين بالخسران والسفاهة، وعدم العلم والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء. أما الخسران: فلأن الولد نعمة من الله على العبد، فإذا سعى العبد في زوالها .. فقد خسر خسرانا عظيما؛ إذ هو قد استحق الذم في الدنيا، وقال الناس فيه: إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه، والعقاب في الآخرة؛ لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس إليه محبة. وأما السفاهة: وهي اضطراب النفس وحماقتها، فلأنه أقدم على ضرر محقق، وهو القتل خوفا من ضرر موهوم، وهو الفقر كما مر. ¬

_ (¬1) المراغي.

[141]

وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح، فذلك من أقبح القبائح والمنكرات، وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرب به إليه، وهو جرأة عليه، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأما الضلال المبين فلأنهم لم يهتدوا إلى مصالح الدين، ولا منافع الدنيا، وأما عدم الاهتداء إلى شيء من الحق والصواب فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل، ولا بهدي الشرع في منافع الدنيا وسعادة الآخرة. وفائدة قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط، والإنسان أحيانا قد يضل ثم يهتدي، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمئة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا} إلى قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه. 141 - {وَهُوَ} - سبحانه وتعالى - ربكم {الَّذِي أَنْشَأَ} وأوجد وابتدع لكم {جَنَّاتٍ} وبساتين من الكروم {مَعْرُوشاتٍ}؛ أي: مسموكات مرفوعات على العرش والسرير {وَ} جنات {غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ}؛ أي: متروكات على وجه الأرض لم تعرش، يقال: عرشت الكرم إذا جعلت لها دعائم وسمكا تعطف عليه القطبان، واختلفوا في معنى قوله: {مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} على أربعة (¬1) أقوال: أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرش كالكرم والقرع والبطيخ، وغير معروشات ما قام على ساق كالنخل والزرع وسائر الأشجار. والثاني: أن المعروشات ما أنبته الناس، وغير معروشات ما خرج في ¬

_ (¬1) زاد المسير.

البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس. والثالث: أن المعروشات وغير المعروشات الكرم منه ما عرش ومنه ما لم يعرش. قاله الضحاك. والرابع: أن المعروشات الكروم التي قد عرش عنبها، وغير المعروشات سائر الشجر التي لا تعرش. قاله أبو عبيدة. {وَ} أنشأ {النَّخْلَ وَالزَّرْعَ} عطف على {جَنَّاتٍ} وإنما (¬1) أفردهما مع أنهما داخلان في الجنات؛ لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات، والمراد بـ {الزَّرْعَ} جميع الحبوب التي يقتات بها، وتدخر حالة كون كل من النخل والزرع {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}؛ أي: مختلف المأكول منهما، وهو ثمرهما في الهيئة والطعم، واللون والرائحة، والجودة والرداءة، وهو حال مقدرة؛ لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا، أو متفقا، وهو مثل قولهم، مررت برجل معه صقر صائدا به غدا؛ أي: مقدرا للصيد به غدا. {وَالنَّخْلَ} (¬2) وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة، ولا سيما للعرب، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، ومن أيسرها تناولا في السفر والحضر، ولا يحتاج إلى طبخ ولا إلى معالجة، ونواه علف لرواحلهم، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ في الماء قليلا إلى ما في خوصه وليفه من الفوائد والمنافع، وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا، وأشبهه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه. {وَالزَّرْعَ} وهو النبات الذي يكون بحرث الناس يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير، وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي التي عليها المعول في الاقتيات. ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) المراغي.

{وَهو} سبحانه وتعالى الذي أنشأ، وخلق لكم {الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}؛ أي: شجرهما معطوف على {جَنَّاتٍ} حالة كون كل منهما {مُتَشابِهًا} ورقهما {وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} ثمرها في الجنس والطعم، أو يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم، ولا يتشابه بعضها {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم: {من ثُمُره} وقرأ الباقون بفتحهما؛ أي: كلوا أيها العباد من ثمر كل منهما، أو من ثمر ذلك المذكور كله {إِذا أَثْمَرَ}، وإن لم يدرك ويينع؛ أي: كلوا من ثمره إذا حصل منه ثمر، وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد، والأمر فيه أمر إباحة. لما ذكر (¬1) الله سبحانه وتعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع من الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي، وهو الانتفاع، فقال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} وهذا أمر إباحة كما مر آنفا، وتمسك بهذا بعضهم، فقال: الأمر قد يرد إلى غير الوجوب؛ لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحرج، وقال بعضهم: المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق؛ لأنه تعالى لما أوجب الزكاة في الحبوب والثمار .. كان يحتمل أن يحرم على المالك أن يأكل منها شيئا قبل إخراج الواجب فيها لمكان شركة الفقراء والمساكين معه، فأباح الله أن يأكل قبل إخراجه؛ لأن رعاية حق النفس مقدمة على رعاية حق الغير، وقيل: إنما قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} بصيغة الأمر، ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء التي أنعم الله بها على عباده هو الأكل. وخلاصة ما سلف (¬2): أنه سبحانه وتعالى بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم .. أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم؛ لأن التحريم حق لله الخالق للعباد للأقوات جميعا، فمن ادعاه لنفسه .. فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، كما أن من أذعن لتحريم غير الله .. فقد أشركه معه سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

والتحريم الذي لا يكون إلا لله هو تحريم التشريع إما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك، فلا شرك، فإذا منع الطبيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز مثلا؛ لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما، لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك، بل الله هو الذي حرم كل ضار، والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزروع؛ لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا، بل تحريما ما دام السبب، والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد، وليس له أن يحرم بمحض إرادته، وإذا هو أخطأ في اجتهاده .. وجب على الأمة الإنكار عليه، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق. وفائدة قوله (¬1): {إِذا أَثْمَرَ} بيان أن أول وقت الإباحة الأكل هو وقت الإثمار، وليس بلازم أن يدرك ويينع، فالكرم ينتفع بثمره حصرما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يطحن ويؤكل خبزا، أو يطبخ، أو يعمل حلوى على أشكال شتى. {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ}؛ أي (¬2): وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده وجذاذه وقطعه جملة، ويدخل في الحصاد جني العنب وصرم النخل. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب (¬3): {حَصادِهِ}؛ أي: يوم جذاذه وقطعه - بفتح الحاء - وهي لغة أهل نجد وتميم، وقرأ باقي السبعة بكسرها، وهي لغة أهل الحجاز. ذكره الفراء؛ أي (¬4): اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف، والأمر بإيتائها يوم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراح.

الحصاد؛ لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء، وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية. والمعنى (¬1): آتوا وأعطوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية، وفائدة ذكر الحصاد الإشعار والتنبيه على أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه، وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه، وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كلها، كما قاله أبو حنيفة، ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير، فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة. فإن قلت (¬2): على هذا التفسير إشكال؛ وهو أن فرض الزكاة كان بالمدينة، وهذه السورة مكية، فكيف يمكن حمل قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} على الزكاة المفروضة؟ قلت: ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة أن هذه الآية نزلت بالمدينة، فعلى هذا القول تكون الآية محكمة نزلت في حكم الزكاة. وإن قلنا: إن هذه الآية مكية تكون منسوخة بآية الزكاة؛ لأنه قد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن، وقيل في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} إنه حق سوى الزكاة فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والثمر، وهذا قول علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد، قال إبراهيم: هو الضغث، وقال الربيع: هو لقاط السنبل، وقال مجاهد: كانوا يجيئون بالعذق عند الصرام، فيأكل منه من مر، وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل .. يجيئون بالعذق عند الصرام، فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين، فيضربه بعصاه، فما سقط منه أكله، فعلى هذا القول هل هذا الأمر أمر وجوب أو استحباب وندب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه أمر وجوب، فيكون منسوخا بآية الزكاة، وبقوله صلى الله عليه وسلم في ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[142]

حديث الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع». والقول الثاني: أنه أمر ندب واستحباب، فتكون الآية محكمة، وقال سعيد بن جبير كان هذا حقا يؤمر بإخراجه في ابتداء الإسلام، ثم صار منسوخا بإيجاب العشر، ولقول ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن، واختار هذا القول الطبري وصححه، واختار الواحدي والرازي القول الأول وصححاه. {وَلا تُسْرِفُوا}؛ أي: لا تجاوزوا أيها المؤمنون الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة، أو تعطوا كله، وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمس مئة نخلة فجذها، ثم قسمها في يوم واحد، ولم يرجع منها إلى منزله بشيء، فأنزل هذه الآية: {وَلا تُسْرِفُوا} وقد جاء في الخبر «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول»، أو المعنى: كلوا مما رزقكم من غير إسراف في الأكل كما قال في آية أخرى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. والإسراف مجاوزة الحد، والحد الذي ينهى الله سبحانه عن مجاوزته؛ إما شرعي: كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام، وإما فطري طبيعي: وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: المجاوزين الحد الذي شرعه في كل شيء، ففيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء؛ لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار. 142 - {وَ} هو - سبحانه وتعالى - الذي أنشأ وخلق لكم {مِنَ الْأَنْعامِ} الثلاثة الإبل والبقر والغنم {حَمُولَةً}؛ أي: ما يحمل الأثقال. وقرأ عكرمة وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: {حُمولة} - بضم الحاء -. {وَفَرْشًا}؛ أي: ما يفرش للذبح، أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش، أو المعنى: هو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة؛ أي: كبارا منها تصلح للحمل كالإبل {وَفَرْشًا}؛ أي: صغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: كلوا بعض ما رزقكم الله، وهو

[143]

ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام، أو كلوا من هذه الأنعام وغيرها، وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ}؛ أي: ولا تسلكوا السبل التي يسوّلها لكم الشيطان بتحريم الحرث والأنعام، فتحرموا ما لم يحرمه الله تعالى، فإن ذلك إغواء وإضلال منه، والله المبدع قد أباحها لكم، فليس لغيره أن يحرم أو يحلل، ولا يتعبدكم به، ويقال: لمن اتبع آخر وبالغ في التأسي به: اتبع خطواته، ولا شك أن تحريم ما أحل الله من أقبح المبالغات في اتباع إغواء الشيطان؛ لأنه اتباع له في حرمان النفس من الطيبات لا في الاستمتاع باللذات كما هو أكثر غوايته. ثم علل النهي عن اتباعه بقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر العداوة، فقد أخرج آدم من الجنة، وقال: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا، أو استقبالا، ويأمركم بالافتراء على الله بغير علم، كما قال تعالى: {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}. 143 - وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام؛ إما حمولة وإما فرش .. فصلها وقسمها إلى ثمانية أزواج، فإن الحمولة؛ إما إبل، وإما بقر، والفراش؛ إما ضأن، وإما معز، وكل من الأقسام الأربعة؛ إما ذكر، وإما أنثى، وكل هذا الإيضاح المحال التي تقولوها على الله تعالى بالتحريم والتحليل، ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة، فقال: وهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}؛ أي: ثمانية أصناف من الأنعام أنشأ لكم {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ}؛ أي: زوجين الكبش والنعجة، وقدم الضأن على المعز؛ لغلاء ثمنه، وطيب لحمه، وعظم الانتفاع بصوفه، والضأن ذوات الصوف من الغنم، والمعز ذوات الشعر منها. وقرأ طلحة بن مصرف والحسن وعيسى بن عمر: {من الضأَن} - بفتح الهمزة - وقرأ أبان بن عثمان: {اثنان} - بالرفع على الابتداء والخبر مقدم - {وَ} أنشأ لكم {مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}؛ أي: زوجين التيس والعنز. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو: {من المعَز} - بفتح العين - وقرأ باقي السبعة بسكونها، وقرأ أبي: {ومن المعزي}.

[144]

وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش فـ {قُلْ} لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا وإنكارا عليهم {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ}؛ أي: هل حرم الله سبحانه وتعالى الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين؟ {أَمِ} حرم {الْأُنْثَيَيْنِ} النعجة والعنز (أم) حرم {ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ أي: ما حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى؟ أي: قل لهم إن كان حرم الذكور .. فكل ذكر حرام، وإن كان حرم الإناث .. فكل أنثى حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني؛ من الضأن والمعز .. فكل مولود حرام ذكرا كان أو أنثى، وكلها مولود، فيستلزم أن كلها حرام، فمن أين أخذتم تحريم البحائر والسوائب مثلا، وتحليل غيرها. وقوله: {آلذَّكَرَيْنِ} فيه قراءتان لا غير، مد الهمزة مدا لازما بقدر ثلاث ألفات، وتسهيل الهمزة الثانية على حد قوله في «الخلاصة»: وايمن همز أل كذا ويبدل ... مدّا في الاستفهام أو يسهّل {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ}؛ أي: أخبروني ببينة وحجة تدل على ذلك من كتاب الله، أو خبر من أنبيائه {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في دعوى التحريم، والمراد من هذا التبكيت لهم، وإلزام الحجة؛ لأنه يعلم أنه لا علم عندهم وَأنشأ لكم 144 - {مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ}؛ أي: زوجين الجمل والناقة {وَ} أنشأ لكم {مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}؛ أي: زوجين الثور والبقرة فـ {قُلْ} لهم يا محمد تبكيتا وتقريعا لهم {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ}؛ أي: هل حرم الله سبحانه وتعالى الذكرين الجمل والثور؟ {أَمِ} {الْأُنْثَيَيْنِ} منهما الناقة والبقرة؟ (أم) حرم {ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ أي: ما حملته إناث النوعين يعني من الإبل والبقر ذكرا كان أو أنثى؟ وخلاصة ذلك: أن المشركين في الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك بأن لكل من الضأن والمعز، والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر .. وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى .. وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث .. وجب تحريم الأولاد كلها؛ لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.

وقصارى (¬1) ذلك: أنه تعالى ما حرم عليهم من هذه الأنواع الأربعة، وأنهم كاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة في الرد عليهم، ثم زاد في الإنكار والتهكم بهم، فقال: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا}؛ أي: هل (¬2) شاهدتم الله حرم هذا عليكم ووصاكم به؟ لا؛ أي: لم تكونوا شهداء، فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تنبئون هذه الأحكام، وتنسبونها إلى الله تعالى. و {أَمِ} (¬3) هنا منقطعة بمعنى {بل}، وهمزة الإنكار، و {بل} للانتقال من توبيخهم بنفي العلم عنهم المستفاد من قوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إذ هو أمر تعجيز؛ أي: لا علم لكم بذلك إلى توبيخهم بنفي حضورهم وقت إيصائهم بالتحريم؛ أي: أعندكم (¬4) علم يؤثر عن أحد من رسله، فتنبئوني به، أم شاهدتم ربكم، فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة؛ كلا ما حصل هذا ولا ذاك، فما هو إلا محض افتراء على الله يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله: إن الله حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}. والخلاصة: أنكم إذا لم تؤمنوا بنبي .. فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم، وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام. وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان .. أثبت أنه افتراء على الله لإضلال عباده، وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره، ويجني سوء عاقبته، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والاستفهام للإنكار؛ أي: لا أحد أشد ظلما ممن اختلق على الله كذبا بنسبة التحريم إليه {لِيُضِلَّ النَّاسَ} عن دين الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ولا حجة حال (¬5) من فاعل {يضل}؛ أي: ليضل الناس حال كونه متلبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه، أو حال من فاعل {افْتَرى}؛ أي: افترى على الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) الفتوحات. (¬4) المراغي. (¬5) المراح.

تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى؛ أي: فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم، فما ظنك بمن افترى عليه تعالى؛ وهو يعلم أنه لم يصدر عنه. أي: لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل تام. والخلاصة: أن في ذلك تسجيل الغباوة عليهم، وعمى البصيرة باتباعهم محض التقليد من غير عقل ولا هوى، فإن عملهم ليس له إثارة من علم ولا قصد إلى شيء من الهدى إلى حق أو خير {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لا يَهْدِي}؛ أي: لا يوفق للرشاد {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: لا يهدي أولئك المشركين؛ أي: لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان؛ أي: لا يهدي من افترى عليه الكذب، وقال عليه الزور والبهتان، ولا يهديه إلى الحق والعدل، لا من طريق الوحي، ولا من طريق العلم، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب، وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، وهؤلاء كعمرو بن لحي وأضرابه. وقد وجد في البشر (¬1)؛ ناس فكروا وبحثوا فيما يجب عليهم لله من الشكر والعبادة، واتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه عقولهم، وأخطؤوا في بعض، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل كما فعل قصي؛ إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاج، ورفادتهم، وإطعامهم، وسن الشورى في مهام الأمور. الإعراب {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا}. {وَجَعَلُوا} {الواو}: استئنافية. {جَعَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ¬

_ (¬1) المراغي.

{لِلَّهِ} جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ {جعل}. {مِمَّا} جار ومجرور حال من {نَصِيبًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {ذَرَأَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما ذرأه. {مِنَ الْحَرْثِ}: جار ومجرور حال من العائد المحذوف، أو من {ما}. وَالْأَنْعامِ: معطوف عليه. نَصِيبًا: مفعول أول لـ {جعل}، ويحتمل كون (¬1) {جعل} متعديا إلى واحد بمعنى عينوا وميزوا نصيبا، وكل من الظرفين متعلق بـ {جَعَلُوا}، أو الثاني بدل من الأول. فَقالُوا: {الفاء}: حرف عطف وتفصيل، {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جَعَلُوا. {هذا لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {بِزَعْمِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {فَقالُوا}. {وَهذا لِشُرَكائِنا}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {هذا لِلَّهِ}. {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}. {فَما} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوه في التقسيم، وأردت بيان عاقبة كل من النصيبين .. فأقول لك: {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. {كانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {ما}. {لِشُرَكائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر {كانَ}، وجملة {كانَ} صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {فَلا}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ جوازا لما في المبتدأ من العموم، {لا}: نافية. {يَصِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {ما}. إِلَى {اللَّهِ}: متعلق بـ {يَصِلُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا واقعا في سؤال مقدر كأنه قيل: ما عاقبة النصيبين؟. {وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَما} {الواو}: عاطفة. {ما}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول. {كانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {ما}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {كانَ} صلة لـ {ما}. {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ، {هو}: مبتدأ ثان، وجملة {يَصِلُ} خبره. {إِلى شُرَكائِهِمْ} متعلق بـ {يَصِلُ}، وجملة المبتدأ الثاني خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ} على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. {ساءَ}: فعل ماض من أفعال الذم. {ما}: موصولة في محل الرفع فاعل، وجملة {يَحْكُمُونَ} صلتها، والعائد محذوف تقديره: ما يحكمونه، وجملة ساءَ في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبا هو المخصوص بالذم تقديره: ساء ما يحكمون حكمهم. وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ. وَكَذلِكَ {الواو}: استئنافية. كَذلِكَ: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وتزييننا مثل تزيين قسمة القرابين بين الله وآلهتهم. زَيَّنَ: فعل ماض. لِكَثِيرٍ: متعلق به. مِنَ الْمُشْرِكِينَ: صفة لـ (لكثير). قَتْلَ أَوْلادِهِمْ: مفعول به ومضاف إليه. شُرَكاؤُهُمْ: فاعل ومضاف إليه، والتقدير: وزين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم تزيينا مثل تزيين قسمة القرابين بين الله وآلهتهم، والجملة الفعلية مستأنفة. لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ. لِيُرْدُوهُمْ {اللام}: لام كي، (يردوهم): فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإردائهم إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ زَيَّنَ. وَلِيَلْبِسُوا {الواو}: عاطفة، {اللام}: لام كي، (يلبسوا): فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {دِينَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وللبسهم عليهم دينهم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور

قبله، فعلل التزيين بشيئين بالإرداء وبالتخليط، وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {شاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل والمفعول محذوف تقديره: عدم فعلهم، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}. {ما}: نافية. {فَعَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب الشرط لـ {لَوْ}، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {فَذَرْهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن تزيينهم بمشيئة الله تعالى، وأردت بيان ما هو المطلوب لك .. فأقول لك، {ذرهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: مصدرية، أو موصولة في محل النصب معطوف على ضمير المفعول. {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على ضمير المفعول تقديره: فذرهم وافتراءهم، أو صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: فذرهم والذي يفترونه، وجملة {ذرهم}: من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)}. {وَقالُوا} {الواو}: استئنافية. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {هذِهِ أَنْعامٌ} إلى قوله: {افْتِراءً عَلَيْهِ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {هذِهِ أَنْعامٌ}: مبتدأ وخبر. {وَحَرْثٌ}: معطوف على {أَنْعامٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {حِجْرٌ}: صفة أولى لـ {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ}؛ لأنه مصدر على فعل يوصف به المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث كذبح بمعنى: مذبوح كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. {لا يَطْعَمُها}: فعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مَنْ}: اسم موصول

في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ}. {نَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين؛ أعني المشركين، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من نشأه. {بِزَعْمِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {قالُوا}: تقديره: قالوا ذلك حالة كونهم متلبسين بزعمهم الباطل وكذبهم الفاسد، والمقول (¬1) الجمل الثلاث الأولى {هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ ...} إلخ، الثانية {وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} الخ باعتبار أنه خبر لمبتدأ محذوف، والثالث {وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} باعتبار المذكور. {وَأَنْعامٌ}: معطوف على {أَنْعامٌ} الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أنعام الخ. {حُرِّمَتْ ظُهُورُها:} فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ {أَنْعامٌ}. {وَأَنْعامٌ}: معطوف على {أَنْعامٌ} الأولى، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه أنعام؛ لأن العطف بالواو. {لا يَذْكُرُونَ}: فعل وفاعل. {اسْمَ اللَّهِ}: مفعول ومضاف إليه. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {يَذْكُرُونَ}، والجملة الفعلية صفة لـ {أَنْعامٌ}، لكنه (¬2) غير واقع في كلامهم المحكي كنظائره، بل مسوق من جهته تعالى تعيينا للموصوف، وتمييزا له عن غيره. {افْتِراءً}: مفعول لأجله منصوب بـ قالُوا. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {افْتِراءً}. {سَيَجْزِيهِمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {سَيَجْزِيهِمْ}. {كانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يفترونه. {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا}. {وَقالُوا} {الواو}: عاطفة. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قالُوا} الأولى. {ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ} إلى قوله: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {ما}: موصولة في محل الرفع ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) أبو السعود.

مبتدأ. {فِي بُطُونِ هذِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ {ما}. {الْأَنْعامِ} بدل من الإشارة. {خالِصَةٌ}: خبر المبتدأ، والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كعلامة ونسابة كما سيأتي في مبحث الصرف إن شاء الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قالُوا. {لِذُكُورِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خالِصَةٌ}. {وَمُحَرَّمٌ}: معطوف على {خالِصَةٌ}. {عَلى أَزْواجِنا} متعلق به. {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {إِنْ}، واسمها ضمير يعود على {ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ}. {مَيْتَةً}: خبر {يَكُنْ}. {فَهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية، {هم}: مبتدأ. {فِيهِ}: متعلق بـ {شُرَكاءُ}. {شُرَكاءُ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب {إِنْ} الشرطية وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {سَيَجْزِيهِمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله {وَصْفَهُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنَّهُ}: {إن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها. {حَكِيمٌ}: خبر أول لها. {عَلِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)}. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {سَفَهًا}، مفعول لأجله منصوب بـ {قَتَلُوا}. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {قَتَلُوا}؛ أي: حالة كونهم متلبسين بغير علم. {وَحَرَّمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قَتَلُوا}. {ما}: موصولة في محل النصب مفعول به. {رَزَقَهُمُ اللَّهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إياه. {افْتِراءً}: مفعول لأجله منصوب بـ حَرَّمُوا. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {افْتِراءً}.

{قَدْ}: حرف تحقيق. {ضَلُّوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مؤكدة لما قبلها. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {كانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه. {مُهْتَدِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كانُوا} معطوفة على جملة {قَدْ ضَلُّوا}. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْشَأَ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {جَنَّاتٍ}: مفعول به منصوب بالكسرة. {مَعْرُوشاتٍ}: صفة له. {وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ}: معطوف على {مَعْرُوشاتٍ}. {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ}: معطوفان على {جَنَّاتٍ} عطف خاص على عام. {مُخْتَلِفًا}: حال من {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ}. {أُكُلُهُ}: فاعل {مُخْتَلِفًا}؛ أي: حالة كون كل منهما مختلفا ثمره المأكول منه. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}: معطوفان على {جَنَّاتٍ}. {مُتَشابِهًا}: حال من {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}. {وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ}: معطوف عليه؛ أي: حالة كل من الزيتون والرمان متشابها ورقهما، وغير متشابه ثمرهما. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. {كُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ ثَمَرِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كُلُوا}. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَثْمَرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على جميع ما ذكر، والجملة في محل الخفض بـ {إِذا} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إِذا} معلوم مما قبله تقديره: إذا أثمر فكلوه، وجملة إِذا معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَآتُوا حَقَّهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {كُلُوا}. {يَوْمَ حَصادِهِ}: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني متعلق بـ {آتُوا}، لأنه بمعنى أعطوا. {وَلا تُسْرِفُوا}: فعل وفاعل معطوف

على {كُلُوا}. {إِنَّهُ}: {إن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها، وجملة {لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} خبرها، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}. {وَمِنَ} {الواو}: عاطفة. {مِنَ الْأَنْعامِ}: جار ومجرور حال من {حَمُولَةً} وما بعده، {حَمُولَةً}: معطوف على {جَنَّاتٍ}. {وَفَرْشًا}: معطوف على {حَمُولَةً}؛ أي: وأنشأ لكم حمولة وفرشا من الأنعام. {كُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق به. {رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه، وهو العائد على {ما} الموصولة، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَلا تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كُلُوا}. {خُطُواتِ الشَّيْطانِ}: مفعول به ومضاف إليه. {إِنَّهُ}: {إنّ}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها. {لَكُمْ}: متعلق بـ {عَدُوٌّ}. عَدُوٌّ: خبر {إن}. {مُبِينٌ}: صفة {عَدُوٌّ}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)}. {ثَمانِيَةَ}: معطوف بعاطف مقدر على {جَنَّاتٍ}؛ أي: وأنشأ لكم جنات معروشات، وثمانية أزواج. {أَزْواجٍ}: مضاف إليه {مِنَ الضَّأْنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْشَأَ} محذوفا. {اثْنَيْنِ}: منصوبا بـ {أَنْشَأَ} المحذوف، أو بدل من {ثَمانِيَةَ} بدل تفصيل من مجمل. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}: معطوف على قوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {آلذَّكَرَيْنِ} إلى قوله: {نَبِّئُونِي} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {آلذَّكَرَيْنِ}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي، (الذكرين): مفعول مقدم منصوب بـ {حَرَّمَ}، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {أَمِ}: حرف عطف. {الْأُنْثَيَيْنِ}: معطوف على {الذكرين}.

{أَمَّا}: {أم}: حرف عطف مبني بسكون على الميم المدغمة ميم {ما}، {ما}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {الذكرين}. {اشْتَمَلَتْ}: فعل ماض. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. {نَبِّئُونِي}: فعل وفاعل ومفعول، والنون للوقاية. {بِعِلْمٍ}: متعلق به، والجملة معترضة لاعتراضها بين التفاصيل المذكورة قبلها والتي بعدها على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. {صادِقِينَ}: خبرها منصوب، وجواب {إِنْ} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم صادقين نبئوني بعلم، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}. {وَمِنَ الْإِبِلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْشَأَ}: محذوفا. {اثْنَيْنِ}: مفعول به لـ {أَنْشَأَ} المحذوف تقديره: وأنشأ لكم من الإبل اثنين، والجملة الحذوفة معطوفة على جملة قوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} على كونها تفصيلا لـ {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}. {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}: معطوف على قوله: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي، {الذكرين}: مفعول مقدم لـ {حَرَّمَ}. {حَرَّمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {أَمِ} حرف عطف. {الْأُنْثَيَيْنِ}: معطوف على {الذكرين}. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا}. {أَمَّا}: {أم}: حرف عطف، {ما}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {الذكرين}. {اشْتَمَلَتْ}: فعل ماض. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة. {أَمِ}: منقطعة بمعنى همزة الإنكار وبل الانتقالية؛ لدخولها على الجملة المستقلة؛ أي:

المنقطعة عما قبلها؛ أي: بل أكنتم. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {شُهَداءَ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {شُهَداءَ}. {وَصَّاكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {بِهذا}: متعلق بـ {وَصَّاكُمُ}. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. {فَمَنْ} {الفاء}: استئنافية، {من}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. {افْتَرى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به. {كَذِبًا}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة {من} الموصولة. {لِيُضِلَّ النَّاسَ}: {اللام}: لام كي. {يضل الناس}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {من افترى}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإضلاله الناس، الجار والمجرور متعلق بـ {افْتَرى}. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {افْتَرى}؛ أي: افترى على الله كذبا حالة كونه متلبسا بغير علم، أو متعلق بـ {يضل}. {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهُ}: اسمها. لا: نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. التصريف ومفردات اللغة {مِمَّا ذَرَأَ} يقال: ذرأ الله الخلق يذرأ - من باب فتح - ذرأ؛ أي خلقهم على وجه الابتداع والاختراع. {نَصِيبًا} {النصيب}: الحظ والقسم، والجزء من الشيء.

{هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} وفي «المصباح» (¬1): زعم زعما من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات فتح الزاي لأهل الحجاز، وضمها لبني أسد، وكسرها لبعض قيس، ويطلق الزعم بمعنى القول، ومنه زعمت الحنفية، وزعم سيبويه؛ أي: قال، وعليه قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ}؛ أي: قلت؛ أي: كما أخبرت، ويطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}. قال الأزهري: أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب. قال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا، أو فيه ارتياب. وقال ابن القوطبة: زعم زعما إذا قال خبرا لا يدري أحقا هو أو باطلا. قال الخطابي: ولهذا قيل: زعم مطية الكذب، وزعم غير مزعم، قال غير مقول صالح، وادعى ما لا يمكن اه. وفي «السمين» {بِزَعْمِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بـ {قالوا}؛ أي: قالوا ذلك القول بزعم لا بيقين واستبصار. والثاني: قيل: هو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به قوله {لِلَّهِ}. وقرأ العامة بفتح الزاي هنا وفيما يأتي، وهذه لغة أهل الحجاز؛ وهي الفصحى. وقرأ الكسائي: {بِزَعْمِهِمْ} بالضم، وهي لغة بني أسد، وهل المضموم والمفتوح بمعنى واحد أو المفتوح مصدر والمضموم اسم؟ خلاف مشهور. وفي لغة لبعض قيس وبني تميم كسر الزاي، ولم يقرأ بهذه اللغة فيما علمت اهـ. {لِيُرْدُوهُمْ}؛ أي: يهلكوهم بالإغواء من أردى الرباعي {وَلِيَلْبِسُوا}؛ أي: يخلطوا قرأ (¬2) الجمهور بكسر الباء من لبست عليه الأمر ألبسه - بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع - من باب ضرب إذا أدخلت عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقرأ النخعي: {وَلِيَلْبِسُوا}. - بفتح الباء - فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: لبست عليه الأمر - بفتح الباء وكسرها - ألبسه وألبسه، والصحيح ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

أن لبس - بالكسر - بمعنى لبس الثياب، وبالفتح بمعنى الخلط. {حِجْرٌ} - بكسر الحاء وسكون الجيم - فعل بمعنى مفعول؛ أي: محجور ممنوع كذبح وطحن بمعنى مذبوح ومطحون يستوي فيه الواحد والكثير والمذكر والمؤنث؛ لأن أصله المصدر، ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث. قال ابن مالك في لامية الأفعال: من ذي الثّلاثة بالمفعول متّزنا ... وما أتى كفعيل فهو قد عدلا به عن الأصل واستغنوا بنحو نجا ... والنّسي عن وزن مفعول وما عملا وقال شارحها في «مناهل الرجال»: وقد يرد لفظ المصدر بمعنى المفعول كاللفظ والصيد والخلق بمعنى الملفوظ والمصيد والمخلوق؛ لأن إطلاق المصدر بمعنى المفعول مجازا كثير مطرد، انتهى. {خالِصَةٌ لِذُكُورِنا} و {{الهاء}} (¬1) في {خالِصَةٌ} للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام، ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الرد بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة و {ما} عبارة عنها، فيكون تأنيث {خالِصَةٌ} باعتبار معنى {ما} وتذكير {مُحَرَّمٌ} باعتبار لفظها. وقرأ الأعمش: {خالص} قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدم عنه. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} الإنشاء (¬2): إيجاد الأحياء وتربيتها، وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر والجنات والبساتين والكروم الملتفة الأشجار؛ لأنها تجن الأرض وتسترها، والمعروشات: المحمولات على العرائش؛ وهي الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب. وأصل العرش في اللغة (¬3): شيء مسقف يجعل عليه الكرم، وجمعه عروش يقال: عرشت الكرم أعرشه عرشا - من بابي ضرب ونصر - ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف، واعترش العنب العريش إذا علاه وركبه، وغير المعروشات ما لم يعرش منها. والمراد أن الجنات نوعان: معروشات كالكروم، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره. {يَوْمَ حَصادِهِ}؛ أي: يوم جذاذه وقطعه. قال سيبويه (¬1): جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه: فعال؛ يعني: أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر، فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، والحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحصاد والحصاد اه. {وَلا تُسْرِفُوا} من الإسراف؛ وهو تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان، وإن كان في الإنفاق أشهر. وقيل السرف: تجاوز ما حد لك، وسرف المال إنفاقه في غير منفعة، ولهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله؛ فهو سرف، وإن كان قليلا. {الضَّأْنِ} قيل: جمع ضائن للذكر وضائنة للأنثى؛ وقيل: اسم جمع وكذا يقال في المعز سكنت عينه أو فتحت. وفي «المصباح» المعز اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة شاة وهي مؤنثة، وتفتح العين وتسكن، وجمع الساكن أمعز ومعيز مثل عبد وأعبد وعبيد، والمعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث، ولهذا تنون في النكرة، وتصغر على معيز، ولو كانت الألف للتأنيث .. لم تحذف، والذكر ماعز، والأنثى ماعزة اه، وفيه أيضا والعنز الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول. {حَمُولَةً وَفَرْشًا} والحمولة الكبير من الإبل، والبقر الذي يحمل عليه الناس الأثقال، والفرش ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر، أو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره كما مر. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{خُطُواتِ الشَّيْطانِ} والخطوات واحدها خطوة - بالضم - وهي المسافة التي بين القدمين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: التقسيم في قوله تعالى: {فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا} وفي قوله: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الخ. {وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.} ومنها: التكرار في قوله تعالى: {لِلَّهِ} وقوله: {لِشُرَكائِنا}. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} لأنه استعار اللبس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنها لبسوها كالثياب، وصارت محيطة بهم. ومنها: الطباق في قوله تعالى: {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ} لأن الأنعام حيوان، والحرث جماد، وبين قوله: {لِذُكُورِنا وأَزْواجِنا}؛ أي: إناثنا، وبين قوله: {مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ}، وبين قوله: {مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ}، وبين قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} لأن الحمولة الكبار الصالحة للحمل، والفرش الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} لأن الخطوة ما بين القدمين استعارها لتسويل الشيطان ووسوسته، وهي أبلغ (¬1) عبارة في التحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه. ومنها: الجناس المغاير في قوله تعالى: {افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ}، وفي قوله: {مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ}، وفي قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. ¬

_ (¬1) تلخيص البيان.

ومنها: المقابلة في قوله تعالى: {مِنَ الضَّأْنِ .. وَمِنَ الْمَعْزِ .. وَمِنَ الْإِبِلِ .. وَمِنَ الْبَقَرِ}. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى: {وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ} أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار؛ لإظهار كمال عتوهم وضلالهم أفاده أبو السعود. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} لأن المقصود إنكار أن الله حرمها. ومنها: الاعتراض في قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ}، وقوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} لأنه اعترض بهما بين المعدودات وقعت تفصيلا لثمانية أزواج. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله .. أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه، لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله تعالى. وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه في ذلك .. فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام والحرث .. أردف ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ...} الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه سبحانه وتعالى لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي .. أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء، كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها من الآية قبل. قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان (¬3) الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفي دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل، وإنكارهم للبعث، وفي بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام .. ذكر هنا شبهة مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها وردّ عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها. قوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬4): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما حرموه افتراء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[145]

عليه، ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان .. ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها، وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها. وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لعباده جميع ما حرم عليهم من الطعام، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم، ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربهم وافترائهم عليه .. ذكر في هذه الآيات أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل، وأنواع البر. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه عبد بن حميد عن طاوس (¬1) قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء، ويستحلون أشياء، فنزلت: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 145 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين المفترين على الله الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم، وقل لغيرهم من الناس {لا أَجِدُ} ولا أعلم ولا أرى {فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ}؛ أي: فيما أوحاه إلي ربي. وروي عن ابن عامر: {في ما أَوْحَى} - بفتح الهمزة والحاء - جعله فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. ذكره أبو حيان في «البحر»؛ أي: فيما أوحاه إلي ربي في القرآن فلا ينافي تحريم ما أوحى إليه في غير القرآن، كذي الناب وذي المخلب من الطيور طعاما. {مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ}؛ أي: على آكل يريد أن يأكله وفي قوله: {يَطْعَمُهُ}: زيادة تأكيد وتقرير لما قبله. ذكره الشوكاني. وقال أبو بكر الرازي في قوله: {عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} دلالة على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها، وإن لم يتناول الجلد المدبوغ، ولا القرن، ولا العظم، ولا الظلف، ولا الريش ونحوها ¬

_ (¬1) المراغي.

انتهى. {إِلَّا أَنْ يَكُونَ} ذلك الطعام {مَيْتَةً} لم تذك ذكاة شرعية، وذلك شامل لما مات حتف أنفه، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها مما سبق ذكره في المائدة. وقرىء: {يطّعمه} - بالتشديد وكسر العين - والأصل يتطعمه، فأبدلت التاء بطاء، وأدغمت فيها الأولى. ذكره أبو البقاء. وقرأ (¬1) ابن كثير وحمزة: {تكون} - بالتأنيث - {مَيْتَةً} بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر: {تكون} - بالتأنيث - {ميتة} - بالرفع - على معنى: إلا أن توجد ميتة، أو إلا أن تكون هناك ميتة. وقرأ الباقون {يَكُونَ} - بالتذكير - {مَيْتَةً} - بالنصب -؛ أي: إلا {أن يكون} ذلك المحرم ميتة. وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على {أَنْ يَكُونَ} الواقعة مستثناة؛ أي: إلا وجود ميتة. وعلى قراءة غيره يكون معطوفا على قوله: {مَيْتَةً}. {أَوْ} إلا أن يكون ذلك المحرم {دَمًا مَسْفُوحًا}؛ أي: سائلا كالدم الذي يجري من المذبوح، أو من الحي حال حياته، وغير (¬2) المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعذ الذبح، ومنه الكبد والطحال. وفي الحديث: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد، ودمان: الكبد والطحال». وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم. وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا، وقيل لأبي مجلز (¬3): القدر تعلوها الحمرة من الدم، فقال: إنما حرم الله تعالى المسفوح، وقالت نحوه عائشة رضي الله عنها، وعليه إجماع العلماء. وقال أبو بكر الرازي، وفي قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس انتهى. {أَوْ} إلا أن يكون ذلك المحرم {لَحْمَ خِنزِيرٍ} وتخصيص (¬4) اللحم بالذكر؛ للتنبيه على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير، وإن كان سائره مشاركا له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجسا، أو لإطلاق الأكثر على كله، أو ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

الأصل على التابع؛ لأن الشحم وغيره يتبع اللحم، وقال الشوكاني: وظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، انتهى. {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإن كل ما ذكر من الميتة وما بعدها. وأفرد الضمير؛ لأن العطف بأو {رِجْسٌ}؛ أي: نجس أو خبيث مخبث تعافه الطباع السليمة، وهو ضار بالأبدان الصحيحة. وقال الشوكاني: والضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد إلى اللحم أو الخنزير، انتهى؛ أي: قذر لتعوده أكل النجاسة، أو خبيث مخبث {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} معطوف على المنصوب قبله، وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ذكر للتعليل، {أَوْ} كان ذلك المحرم {فِسْقًا}؛ أي: ذبحا خارجا عن الحلال لكونه أهل به؛ أي: ذبح به لغير الله بأن ذبح على اسم الأصنام مثلا، وهو كل ما يتقرب به إلى غير الله سبحانه وتعالى تعبدا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه. قال أبو حيان (¬1): وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة، وجاءت هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوفا بقوله: {مَسْفُوحًا}، والفسق موصوفا بقوله: {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وفي تينك السورتين معرفة؛ لأن هذه السورة مكية؛ فعلق بالتنكير، وتينك السورتان مدنيتان؛ فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة انتهى. فصل (¬2) وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيها، ونلخص من ذلك شيئا، فنقول: أما الحمر الأهلية: فذهب الشعبي وابن جبير إلى أنه يجوز أكلها، وإن تحريم الرسول لها إنما كان لعلة، وأما لحوم الخيل: فاختلف السلف فيها، وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو يوسف ومحمد بن الحسن. وعن أبي حنيفة: الكراهة، فقيل: كراهة تنزيه، وقيل: كراهة تحريم؛ وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عتيبة وأبي عبيد وأبي بكر الأصم. وقال به من التابعين مجاهد، ومن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الصحابة ابن عباس، وروي عنه خلافه، وقد صنف في حكم لحومل الخيل جزءا قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه الله قرأناه عليه، وأجمعوا على تحريم البغال، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي: إلى جواز أكله، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجّن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: لا يحل أكل ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير، وقال مالك: لا يؤكل سباع الوحش ولا البر وحشيا كان أو أهليا، ولا الثعلب ولا الضبع، ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ما يأكل الجيفة وما لا يأكل، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم، وقال الشافعي: ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد والذئب والنمر، وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل، ويؤكل الثعلب والضبع، وكره أبو حنيفة الغراب الأبقع، لا الغراب الزرعي، والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر، وكره أبو حنيفة الضّبّ. وقال مالك والشافعي: لا بأس به. والجمهور: على أنه لا يؤكل الهر الإنسي، وعن مالك: جواز أكله إنسيا كان أو وحشيا. وعن بعض السلف جواز أكله إنسيه. وقال ابن أبي ليلى: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت. وقال الليث: لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجين ودود التمر ونحوه، وكذا قال ابن قاسم عن مالك في القنفذ. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تؤكل الفأرة. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل اليربوع، وقال الشافعي: يؤكل. وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة. وقال مالك والليث: لا بأس بأكلها. وقال صاحب «التحرير والتحبير»: وأما المخدرات كالبنج والسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة .. فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم، وهي عندي إلى التحريم أقرب؛ لأنه إن كانت مسكرة فهي محرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبقوله: «كل مسكر

[146]

حرام». وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام. وقد نقل ابن بخسيشوع في كتابه: إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داء، وذكر منها أنه يصفر الجلد، ويسود الأسنان، ويجعل فيها الحفر، ويثقب الكبد ويحميها، ويفسد العقل ويضعف البصر، ويحدث الغم ويذهب الشجاعة، والبنج والسيكران كالورق في الضرر. وأما المرقدات كالزعفران والمازريون .. فالقدر المضر منها حرام. وقال جمهور الأطباء: إذا استعمل من الزعفران كثير .. قتل فرحا، انتهى وفيه بعض تلخيص. {فَمَنِ اضْطُرَّ}؛ أي: فمن دفعته ودعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حالة كونه {غَيْرَ باغٍ} على مضطر مثله تارك لمواساته {وَلا عادٍ}؛ أي: متجاوز قدر حاجة في تناوله، وهو القدر الذي يسد الرمق {فَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {غَفُورٌ} له، فلا يؤاخذه بالأكل من تلك المحرمات {رَحِيمٌ} له حيث رخص له في الأكل من تلك المحرمات. ولما (¬1) كان صدر هذه الآية مفتتحا بخطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ لا أَجِدُ} اختتم الآية بالخطاب له صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَإِنَّ رَبَّكَ} ليدل على اعتنائه تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما. 146 - {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا} ورجعوا عن عبادة العجل خاصة لا على غيرهم من الأولين والآخرين {حَرَّمْنا كُلَّ} حيوان {ذِي ظُفُرٍ}؛ أي: صاحب ظفر وهو كل ما ليس منفرج الأصابع مشقوفها من البهائم والطير كالإبل والنعام والإوز والبط، كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد، فهذا (¬2) رد عليهم في قولهم: لسنا أول من حرمت عليهم، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا. وقرأ أبي والحسن والأعرج: {ظُفْر} - بسكون الفاء -، والحسن وأبو السمال - قعنب -: {ظِفْر} بسكونها وكسر الظاء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) أبو السعود.

{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} الخالصة التي تؤخذ بسهولة، وهي ثروبهما جمع ثرب؛ وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والكلى {إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما}؛ أي: إلا الشحم الذي حملته ظهورهما {أَوِ الْحَوايا} أو إلا الشحم الذي حملته المباعر والمصارين وعلقت بها {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}؛ أي: أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية، فإنه متصل بالعصعص، وهذا إنما يكون في الضأن، فتلخص: إن الذي حرم عليهم من البقر والغنم شحومهما الخالصة، وهي شحوم الكرشي والكلى، وإن ما عدا ذلك حلال لهم. والحاصل: أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه، وكل شيء منه، ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنزع بسهولة لعدم اختلاطهما بعظم ولا لحم، ولم يحرم عليهم منهما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. والسبب (¬1) في تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب، كما ذكر ذلك في الفصل الثالث من سفر اللاويين من التوراة، في قرابين السلامة من البقر والغنم: (كل الشحم للرب فريضة في أجيالكم في جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئا من الشحم والدم). {ذلِكَ} التحريم {جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ}؛ أي: جعلناه عقوبة وجزاء لهم على بغيهم وظلمهم؛ وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، وليس ذلك التحريم لخبث ذاته، فكانوا (¬2) كلما ارتكبوا معصية من هذه المعاصي .. عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك، ويدعون أنها محرمة على الأمم قبلهم. ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، وكان مظنة تكذيب المشركين له؛ لأنهم لا يؤمنون بالوحي، ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم .. أكده فقال: {وَإِنَّا لَصادِقُونَ}؛ أي: وإنا لصادقون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) أبو السعود.

[147]

في هذه الأخبار عن التحريم وعلته؛ لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، ولأن الكذب محال علينا؛ لأنه نقص، فلا يصدر عنا، 147 - والمكذبون في قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} إما اليهود، والمعنى عليه: فإن كذبك يا محمد اليهود، وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله {فَقُلْ} لهم في الجواب {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ}؛ أي: فأجبهم بما يدحض ويبطل هذه الشبهة بأن رحمة الله واسعة حقا {وَ} لكن {لا} يقتضي ذلك أن {يُرَدُّ بَأْسُهُ} ويمنع عقابه {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم؛ لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة في الأمم، وإن لم يطرد في الأفراد. وإما المشركون، والمعنى عليه: فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله تعالى بتحريم ما حرموا على أنفسهم كما أن فيه إطماعا لهم في رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات. 148 - {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ أي: سيقول لك يا محمد هؤلاء المشركون عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح {لَوْ شاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى أن لا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر، وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم، وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا لـ {ما أَشْرَكْنا} نحن {وَلا} أشرك {آباؤُنا} من قبلنا {وَ}: لو شاء الله أن {لا} نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لـ {حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ} ولكنه تعالى شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء؛ ليقربونا إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، فحرمناها، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها. وقد رد عليهم شبهتهم، فقال: {كَذلِكَ}؛ أي: ومثل ذلك التكذيب

الذي صدر من مشركي مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} لرسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم. والرسل صلوات الله وسلامه عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا، وأيدهم الله تعالى بباهر الآيات، ولكن المكذبين لم ينظروا نظرة إنصاف، بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم {حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا} وعذابنا، وأهلكناهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر. ولو كانت مشيئة الله تعالى لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها، وأمره بها .. لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم .. لما استحقوا العقاب عليها، ولما قال: إنه أخذهم بذنوبهم وأهلكهم بظلمهم وكفرهم، ونحو ذلك مما جاء في كثير من الآيات. فقوله: {حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا} برهان دال على صدق الرسل في دعواهم، وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم، وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون، فقال: {هَلْ عِنْدَكُمْ بما تقولون مِنْ عِلْمٍ} تعتمدون عليه وتحتجون به {فَتُخْرِجُوهُ}؛ أي: فتخرجوا ذلك العلم وتظهروه {لَنا} لنفهمه، ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية، والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم، ونتبين منها الراجح والمرجوح، وفي هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ والتهكم ما لا يخفى، وهو بمعنى الإنكار؛ أي: ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ما تتبعون في دعاواكم إلا الظن الكاذب الفاسد، وما أنتم إلا تكذبون. وقرأ النخعي وابن وثاب: {إن يتبعون} - بالياء - قال ابن عطية: وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله: {وَإِنْ أَنْتُمْ}؛ لأنه يكون من باب الالتفات. ذكره أبو حيان في «البحر». ثم أردف ذلك ببيان حقيقة حالهم، فقال: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}؛ أي:

[149]

ما تبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}؛ أي: وما أنتم في ذلك إلا تكذبون على الله تعالى؛ أي: أنكم لستم على شيء من العلم، بل ما تتبعون في عقائدكم وآرائكم في الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم. 149 - وبعد أن نفى عنهم درجات العلم .. أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين إن لم تكن لكم حجة {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ}؛ أي: الواضحة التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها؛ وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم في أمر دينكم .. فإن لله وحده أعلى درجات العلم، وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد، وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة، وسننه في الاجتماع البشري، ولا يهتدي بهذه الآيات إلا المستعد للهداية المحب للحق الحريص على طلبه الذي يستمع القول فيتبع أحسنه دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها، وحسدا للمبلغ الذي جاء بها وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء {فَلَوْ شاءَ} سبحانه وتعالى هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة {لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} ولكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض. أو المعنى: ولو شاء سبحانه وتعالى أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها؛ وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال .. لهداكم أجمعين، فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه. وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء هدايته لهداه: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)}. ونحو هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا} وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} وقوله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

[150]

الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. 150 - وبعد أن نفى عنهم العلم، وسجل عليهم اتباع الخرص والكذب ليظهر لهم أنهم ليسوا على شيء يعتد به من العلم .. أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب مشركي قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء في إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادعوه من المحرمات، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين {هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ}؛ أي: أحضروا شهداءكم وقدوتكم {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} ويخبرون عن مشاهدة وعيان {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {حَرَّمَ} عليكم {هذا} الذي حرمتموه على أنفسكم وزعمتم أن الله تعالى حرمه علينا. والخلاصة: عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدعون {فَإِنْ شَهِدُوا} بعد حضورهم بأن الله حرم ذلك {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}؛ أي فلا تصدقهم فيما يقولون، بل بين لهم فساده؛ لأن السكوت قد يشعر بالرضا. أي: فإن فرض إحضار هؤلاء الشهداء .. فلا تصدقهم، ولا تقبل لهم شهادة، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ} هؤلاء {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} المنزلة وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية في الأنفس والآفاق؛ أي: إن وقع منهم شهادة، فإنما هي باتباع الهوى، فلا تتبع أنت أهواءهم فهم كذبوا القرآن {وَلا أهواء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: ولا أهواء الذين هم مع جهلهم واتباعهم للأهواء لا يصدقون بالبعث بعد الموت حتى يحملهم الإيمان به على سماع الدليل والحجة إذا ذكروا بها {وَ} لا أهواء الذين {هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}؛ أي: يشركون بربهم، ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه في جلب الخير والنفع ودفع الضر إما استقلالا، وإما بحمله الرب على ذلك، وتأثيره في فعله وإرادته. 151 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس {تَعالَوْا} وأقبلوا إليّ أيها القوم {أَتْلُ} وأقرأ لكم {ما حَرَّمَ

رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فيما أوحاه إليّ؛ وهو سبحانه وتعالى وحده الذي له حق التحريم والتشريع، وأنا مبلغ بإذنه، وقد أرسلني بذلك. وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم؛ لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة؛ وهو الشرك بالله سواء أكان باتخاذ الأنداد له، أو الشفعاء المؤثرين في إرادته، أو بما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون في التشريع، فيحللون ويحرمون. وجملة ما تلاه عليهم عشرة بالإجمال: الأول منها: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} سبحانه وتعالى {شَيْئًا} من الأشياء، وإن عظمت في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو في القدر كالملائكة والنبيين والصالحين، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله مسخرة له بقدرته وإرادته {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا} ومن الشرك أيضا أن يريد بعبادته رياء أو سمعة، ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم، ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم. والثاني: ما ذكره بقوله: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}؛ أي: وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام، وقد جاء في القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهي عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين. وكفى (¬1) دلالة على عظم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته، وجعله ثانيها في الوصايا، وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في سورة لقمان في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} وما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». ¬

_ (¬1) المراغي.

والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة، لا احترام الخوف والرهبة؛ لأن في ذلك مفسدة كبيرة في تربية الأولاد في الصغر، وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم، وليس لهما أن يتحكما في شؤونهم الخاصة بهم لا سيما تزويجهم بمن يكرهون، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع، أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك. وإنما (¬1) ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين؛ لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة الله؛ لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئا، ثم بعد نعمة الله نعمة الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، ولما لهما عليه من حق التربية والنفقة والحفظ من المهالك في حال صغره. والثالث: ما ذكره بقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}؛ أي: وأن لا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر حل ونزل ووقع بكم؛ لأنهم كانوا يئدون البنات لخوف الفقر {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}؛ أي: فإن الله سبحانه وتعالى يرزقكم وإياهم؛ أي: يرزق أولادكم تبعا لكم، وجاء في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}. وسر اختلاف الأسلوبين (¬2)، وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا: أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع، والفقر المتوقع، فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق، لا كما يتوهم بعضهم، فيزهد في العمل بشبهة كفالته تعالى لزرقهم. وقيل اختلاف أسلوب الآيتين للتفنن، وعبارة الصاوي هنا: وإنما قال هنا: {إِمْلاقٍ} وقال في الإسراء: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}؛ لأن ما هنا في الفقر الحاصل بالفعل، وما في الإسراء في الفقر المتوقع، فهو خطاب للأغنياء، وقدم هنا خطاب الآباء، وهناك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

ضمير الأولاد، فقيل: تفننا، وقيل: قدم هنا خطاب الآباء تعجيلا لبشارة الآباء الفقراء بأنهم في ضمان الله، وقدم هناك ضمير الأولاد لتطمئن الآباء بضمان رزق الأولاد، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد، وإن كانوا متلبسين بالفقر، والأخرى النهي عن قتلهم وإن كانوا موسرين، ولكن يخافون وقوع الفقر، انتهت. الرابع: ما ذكره بقوله {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ}؛ أي: ولا تقربوا كبائر الذنوب، وهي كل ما عظم قبحه منها سواء كان من الأفعال كالزنا، أو من الأقوال كقذف المحصنات الغافلات، وقوله: {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} بدل من {الْفَواحِشَ} بدل تفصيل من مجمل، أو بدل اشتمال؛ أي: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش للناس كالزنا والقذف، وما بطن منها واستتر عن الناس كالسرقة. وقيل (¬1): الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد والتفكير في تدبير المكايد الضارة، وأنواع الشرور والمآثم. وقيل: المراد بالفواحش هنا الزنا، وقوله: {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} علانيته وسره؛ أي (¬2): ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم، وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وإنما جمع الفواحش بمعنى الزنا للنهي عن أنواعها، ولذلك ذكر ما أبدل منها. وقد روي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية؛ أي: في هذه الآية وما أشبهها. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: ما ظهر منها: ظلم الناس، وما بطن منها: الزنا والسرقة؛ أي: لأن الناس يأتونهما في الخفاء. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» رواه البخاري ومسلم. وفي قوله: {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} دقيقة، وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر، ولم يحترز منها في الباطن .. دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم، ومن كان كذلك استحق العقاب، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا لأجل خوف الله تعالى وتعظيما لأمره استوجب رضوان الله تعالى. والخامس منها: ما ذكره بقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ}؛ أي: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام، أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان، وقد جاء في الحديث «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله .. فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا» وقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ}؛ أي: إلا قتلا متلبسا بالحق؛ فإنه مباح، إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» متفق عليه. وإنما (¬1) أفرد قتل النفس بالذكر مع دخوله في جملة الفواحش تعظيما لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر، وقيل: إنما أفرده بالذكر؛ لأنه تعالى أراد أن يستثني منه، ولا يمكن الاستثناء من جملة الفواحش إلا بإفراده بالذكر {ذلِكُمْ} التكاليف الخمسة من الأوامر والنواهي {وَصَّاكُمْ بِهِ}؛ أي: أمركم به ربكم أمرا مؤكدا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا. والوصية (¬2) في الأصل أن يعهد إلى إنسان بعمل خير، أو ترك شر، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره؛ أي: أنه سبحانه وتعالى وصاكم بذلك ليعدكم، لأن تعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل. وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[152]

لا تعقل له فائدة ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة مصلحة. 152 - والسادس: ما ذكره بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه، أو وصيه إلا بالفعلة التي هي أحسن من غيرها في حفظ ماله وتثميره، ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته، وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده. قال مجاهد: هي التجارة فيه. وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئا، هذا إذا كان القيم بالمال غنيا غير محتاج، فلو كان الوصي فقيرا .. فله أن يأكل بالمعروف، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عنه، فإن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنة التأويل، فيبتعد عنه المتقي ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال لا تضر به، أو يرجح نفعها على ضررها كأن يأكل من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح، ولولاه ما ربح. {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}؛ أي: احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغه رشيدا، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله، فأما (¬1) الأشد: فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال. والمراد بالأشد في هذه الآية: هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته سالكا مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية. والمعنى: احفظوا مال اليتيم، ولا تسمحوا له بتبذير شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ رشيدا فسلموه إليه. والخلاصة: أن المراد النهي عن كل تعد على مال اليتيم، وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا؛ إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل الخبرة بشؤون المعاش يخدع كثيرا في المعاملات. ¬

_ (¬1) الخازن.

وقد كان الناس في الجاهلية لا يحترمون إلا القوة ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع في الوصية بالضعيفين المرأة واليتيم. وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم (¬1)، وظهور الرشد في المعاملات المالية بالاختبار، كما سلف في سورة النساء من قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى} الآية. والقوة التي يحفظ بها المرء ماله في هذا العصر هي إتزان الفكر والرشد العقلي والأخلاقي بكثرة المران والتجارب في المعاملات، لكثرة الفسق والحيل، ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين، ويزينون لهم الإسراف في اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل، ويفقهون تكاليف الحياة، ويهتمون فيها بأمر النسل. والسابع: ما ذكره بقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}؛ أي: أتموا الكيل بالكميال {وَ} الوزن بـ {الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل والحق من غير نقصان من المعطي، ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق. والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}. والخلاصة: أن الإيفاء بالكيل والميزان يكون من الجانبين حين البيع وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه، وقوله: {بِالْقِسْطِ} يدل على تحري العدل في الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها}؛ أي: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشتري الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها ¬

_ (¬1) المراغي.

بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء، بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا. والقاعدة الشرعية: أن التكليف إنما يكون بما في وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها .. لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم، وقلت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها، وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طففوا الكيل والميزان، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم كقوم شعيب. وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب عليه السلام: ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم». والثامن: ما ذكره بقوله: {وَإِذا قُلْتُمْ} في الحكم أو الشهادة أو غيرهما {فَاعْدِلُوا}؛ أي: فاصدقوا {وَلَوْ كانَ} المقول له أو عليه {ذا قُرْبى}؛ أي: صاحب قرابة منكم. والمعنى (¬1): وعليكم أن تعدلوا في القول إذ قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم؛ إذا بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين في العمران، وأساس في الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون في الأفعال كالوزن والكيل .. يكون في الأقوال، ونحو الآية قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ}. والتاسع: ما ذكره بقوله {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}؛ أي: وأتموا عهد الله، وهو شامل بما عهد الله تعالى إلى عباده ووصاهم به، وأوجبه عليهم، وبما أوجبه ¬

_ (¬1) المراغي.

الإنسان على نفسه كنذر ونحوه، وبما عاهده الناس بعضهم بعضا. فمن آمن برسول من رسل الله تعالى .. فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} الآية. وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة في المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». {ذلِكُمْ} التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية {وَصَّاكُمْ بِهِ}؛ أي: أمركم ربكم به أمرا مؤكدا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ أي: لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمركم به. والتذكر (¬1) يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء في القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى: {وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)}. والخلاصة (¬2): أن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به في مثل قوله: {وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه. ولما كانت (¬3) التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى أمورا ظاهرة يجب تعقلها وتفهمها .. ختمت بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولما كانت التكاليف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[153]

الأربعة المذكورة في الآية الأخيرة أمورا غامضة لا بد فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال .. ختمت بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وجملة ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء: خمسة بصيغ النهي، وأربعة بصيغ الأمر، وتؤول الأوامر بالنهي؛ لأجل التناسب، وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. وقرأ حفص وحمزة والكسائي (¬1): {تذكّرون} حيث وقع بتخفيف الذال حذف التاء؛ إذ أصله: تتذكرون، وفي المحذوف خلاف، أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل؟ وقرأ باقي السبعة: {تذّكرون} - بتشديد الذال - أدغم تاء تفعّل في الذال. 153 - والعاشر: ما ذكره بقوله: {وَأَنَّ هذا} الذي (¬2) وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو. {صِراطِي}؛ أي: طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي حالة كونه {مُسْتَقِيمًا}؛ أي: قويما مستويا لا اعوجاج فيه {فَاتَّبِعُوهُ}؛ أي: فاسلكوه واعملوا بمقتضاه من تحريم وتحليل، وأمر ونهي وإباحة {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}؛ أي: ولا تسلكوا الطرق المختلفة، والأهواء المضلة، والبدع الرديئة. وقيل: السبل المختلفة مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ}؛ أي: فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة {عَنْ سَبِيلِهِ}؛ أي: عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده. وقرأ الجمهور: {فَتَفَرَّقَ} بتاء خفيفة، وقرأ البزي {فتّفرّق}: بتشديدها. فمن خفف حذف إحدى التائين، ومن شدد أدغم وقيل: معنى الآية؛ أي: وإن (¬3) هذا القرآن الذي أدعوكم إليه، وأدعوكم به إلى ما يحييكم هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله، ونيل سعادة الدنيا والآخرة حال كونه مستقيما لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه؛ فاتبعوه وحده؛ ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه - وهي كثيرة - فتتفرق بكم عن سبيله بحيث يذهب كل منهم في سبيل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

ضلالة ينتهي بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. والخلاصة: أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه؛ فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج، وترجحون الهدى على الضلال. وقيل (¬1): إن الله تعالى لما بين في الآيتين المتقدمتين ما وصاه به مفصّلا .. أجمله في هذه الآية إجمالا يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه، ويدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة، وكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام؛ وهو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، وأمرهم باتباع جملته وتفصيله. وأخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: «وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وإنما جعل الصراط المستقيم واحدا (¬2)، والسبل المخالفة متعددة؛ لأن الحق واحد، والباطل وهو ما خالفه كثير، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية، محرفة أو منسوخة. ونهى عن التفرق في صراط الحق، وسبيله؛ لأن التفرق في الدين الواحد، وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه، ويتعصبون له ويخطّئون من خالفه، ويرمون أتباعه بالجهل والضلال سبب لإضاعته؛ إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيه، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص، والحق لا يكون وقفا على عالم معين، ولا على أتباعه، بل كل باحث يخطئ ويصيب، وذلك ما دل عليه العقل، وأثبته الكتاب والسنة والإجماع. ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق .. كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات. وقرأ حمزة والكسائي: {وإن هذا} - بكسر الهمزة على الاستئناف - والتقدير: وإن الذي ذكر في هذه الآيات صِراطِي {فَاتَّبِعُوهُ} جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق بالفتح والتخفيف على أنها مخففة، واسمها ضمير الشأن. وقرأ الباقون بالفتح مشددة بتقدير اللام على أنه علة مقدمة لقوله: {فَاتَّبِعُوهُ}. وقرأ ابن عامر: {صراطي} - بفتح الياء -. وقرأ الأعمش: {وهذا صراطي}: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {وهذا صراط ربكم} وفي مصحف أبي: {وهذا صراط ربك}. {ذلِكُمْ} الاتباع للصراط المستقيم {وَصَّاكُمْ بِهِ}؛ أي: أمركم ربكم في الكتاب {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: لكي تتقوا وتجتنبوا الطرق المختلفة والسبل المضلة. والتقوى: (¬1) اسم لكل ما يتقى به من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه، وقد ذكرت في القرآن في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج، وتفسر في كل موضع بما يناسبه. والمعنى: ذلكم الاتباع لصراط الحق المستقيم، والاجتناب عن سبل الضلالات والأباطيل وصاكم ربكم به؛ ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردي في الدنيا والآخرة، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة. وقال الرازي (¬2): ختمت الآية الأولى بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والثانية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك، وقتل الأولاد، وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها، فنهاهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفخر الرازي.

سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم، وإيفاء الكيل والميزان، والعدل في القول، والوفاء بالعهد؛ فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان. وقال أبو حيان (¬1) ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد مر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق. ختم الآية الثالثة بالتقوى لتي هي اتقاء النار؛ إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، وحصل على السعادة السرمدية. فصل وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات: منها: ما أخرجه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه .. فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {تَتَّقُونَ}. ومنها: ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟» ثم تلا: «{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى ثلاث آيات ثم قال: «فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه». ومنها: ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال: قال الربيع بن خيثم: أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى الله عليه وسلم بخاتمه؟ قلت: نعم، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...} إلى آخر الآيات. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإعراب {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ} إلى قوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لا} نافية. {أَجِدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فِي ما}: جار ومجرور متعلق بـ {أَجِدُ}. {أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {إِلَيَّ}: جار ومجرور متعلق به. {مُحَرَّمًا}: مفعول به لـ {أَجِدُ}؛ لأنه يتعدى إلى واحد؛ لأنه من وجد الضالة. {عَلى طاعِمٍ}: متعلق بـ {مُحَرَّمًا}. {يَطْعَمُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {طاعِمٍ}، والجملة في محل الجر صفة لـ {طاعِمٍ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {أَنْ يَكُونَ}: ناصب ومنصوب. {مَيْتَةً}: بالنصب خبر {يَكُونَ}، واسمها ضمير يعود على الشيء المحرم، والجملة في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقدير: إلا كونه ميتة، والمصدر المؤول ليس مقصود في المعنى، والمعنى: لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم إلا ميتة. {أَوْ دَمًا}: معطوف على {مَيْتَةً}. {مَسْفُوحًا}: صفة له. {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}: معطوف على {دَمًا}. {فَإِنَّهُ}: {الفاء}: تعليلية، {إنّ}: حرف نصب، و {الهاء} اسمها. {رِجْسٌ}: خبرها، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما حرم ذلك المذكور لكونه رجسا ونجسا. {أَوْ فِسْقًا}: معطوف على {لَحْمَ خِنزِيرٍ}. {أُهِلَّ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِغَيْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أُهِلَّ}. {بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {أُهِلَّ}، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {فِسْقًا} تقديره: أو فسقا مهلا به لغير الله. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}. {فَمَنِ اضْطُرَّ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط

مقدر تقديره: إذا عرفت حرمة هذه المذكورات، وأردت بيان حكم ما إذا اضطر إليها .. فأقول لك، {من اضطر}: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {اضْطُرَّ}: فعل ماض مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ {من} الشرطية، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}. {غَيْرَ}: منصوب على الحالية من ضمير {اضْطُرَّ}. {باغٍ}: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة. {وَلا عادٍ}: معطوف على {باغٍ} مجرور بكسرة مقدرة، وجواب الشرط محذوف تقديره: فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر، فأكل منه .. فلا مؤاخذة عليه. {فَإِنَّ} {الفاء}: تعليلية، {إن}: حرف نصب. {رَبَّكَ}: اسمها. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ} خبر ثان، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلة، والتقدير: فلا مؤاخذة عليه؛ لأن ربك غفور له رحيم به. {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما}. {وَعَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَرَّمْنا}: الآتي. {هادُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {حَرَّمْنا}: فعل وفاعل. {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ}: متعلق بـ {حَرَّمْنا} الآتي. {حَرَّمْنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {حَرَّمْنا} الأولى. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {حَرَّمْنا}. {شُحُومَهُما}: مفعول به ومضاف إليه. {إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. {حَمَلَتْ ظُهُورُهُما}: فعل وفاعل صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما حملته ظهورهما. {أَوِ الْحَوايا}: معطوف على {ظُهُورُهُما}: مرفوع على الفاعلية بضمة مقدرة تقديره: {أو} ما حملته الحوايا. {أَوِ}: حرف عطف بمعنى الواو كسابقتها. {ما}: موصولة، أو

موصوفة في محل النصب على الاستثناء معطوف على {ما حَمَلَتْ}. {اخْتَلَطَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {بِعَظْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَطَ}. {ذلِكَ}: اسم إشارة في محل الرفع مبتدأ. {جَزَيْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والعائد محذوف تقديره: جزيناهم به. {بِبَغْيِهِمْ} {الباء}: حرف جر وسبب، {بغيهم}: مجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جزينا}، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِنَّا}: {إن}: حرف نصب، و {نا} اسمها. {لَصادِقُونَ}: خبرها، وجملة {إن} معطوفة على جملة قوله: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ} على كونها مستأنفة. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا أخبرتهم تحريم ما ذكر، وأردت بيان حكم ما إذا كذبوك .. فأقول لك، {إن كذبوك} {إن}: حرف شرط جازم. {كَذَّبُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن}. فَقُلْ: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبا، {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قل} وإن شئت قلت: {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قل}. {واسِعَةٍ}: صفة لـ {رَحْمَةٍ}. {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {عَنِ الْقَوْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُرَدُّ}. {الْمُجْرِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ}. {سَيَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {أَشْرَكُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَوْ شاءَ} إلى آخره مقول محكي لقالوا، وإن شئت

قلت: {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {شاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}. {ما}: نافية. {أَشْرَكْنا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لَوْ}، وجملة {لَوْ} في محل النصب مقول قالوا. {وَلا} {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {آباؤُنا}: معطوف على {نا}، وجاز العطف لوجود الفصل بـ {لا}. {وَلا حَرَّمْنا}: معطوف على {أَشْرَكْنا}. {مِنْ شَيْءٍ}: {مِنْ}: زائدة في المفعول {شَيْءٍ}؛ أي: ولا حرمنا شيئا. {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {كَذَّبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، والتقدير: كذب الذين من قبلهم تكذيبا مثل ذلك التكذيب لك في أن الله منع من الشرك، ولم يحرم ما حرموه المدلول عليه بقولهم: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ...} الخ، والجملة الفعلية مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {ذاقُوا بَأْسَنا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: إلى ذوقهم بأسنا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: واستمروا على التكذيب إلى ذوقهم بأسنا. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هَلْ عِنْدَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري. {عِنْدَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {مِنْ}: زائدة. {عِلْمٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فَتُخْرِجُوهُ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {تخرجوه}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام. {لَنا}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: هل ثبوت علم عندكم فإخراجكم إياه لنا؟. {إِنْ}: نافية. {تَتَّبِعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الظَّنَّ}: مفعول به. {وَإِنْ}:

{الواو}: عاطفة. {إِنْ}: نافية. {أَنْتُمْ} مبتدأ {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، وجملة {تَخْرُصُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {الفاء}: استئنافية أو رابطة لجواب شرط مقدر تقديره: إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة، {لله}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْحُجَّةُ}: مبتدأ مؤخر. {الْبالِغَةُ}: صفة لـ {الْحُجَّةُ}، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل الجزم بإن المقدرة على كونها جوابا لها. {فَلَوْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لو}: حرف شرط. {شاءَ}: فعل ماض، وفاعله يعود على {الله}، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: هدايتكم. {لَهَداكُمْ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {هداكم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {أَجْمَعِينَ}: توكيد لضمير المفعول، والجملة جواب {لو}، وجملة {لو} الشرطية معطوفة مفرعة على جملة إن المقدرة على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ} إلى قوله: {فَإِنْ شَهِدُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلُمَّ} اسم فعل أمر بمعنى أحضروا مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنتم. {شُهَداءَكُمُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {الَّذِينَ}: في محل النصب صفة للشهداء، وجملة {يَشْهَدُونَ} صلة الموصول. {أَنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {حَرَّمَ هذا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}،

وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعول شهد تقديره: الذين يشهدون تحريم الله هذا. {فَإِنْ شَهِدُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان حكم ما إذا شهدوا .. فأقول لك: {إن شهدوا}: {إن} حرف شرط. {شَهِدُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَلا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبا، {لا}: ناهية جازمة. {تَشْهَدْ}: مجزوم بـ {لا}، وفاعله ضمير يعود على محمد. {مَعَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية. {تَتَّبِعْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {فَلا تَشْهَدْ} على كونها جوابا لـ {إن} الشرطية. {أَهْواءَ الَّذِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {لا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَهُمْ}: مبتدأ. {بِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {يَعْدِلُونَ}. وجملة {يَعْدِلُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {لا يُؤْمِنُونَ} على كونها صلة الموصول الثاني. {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {تَعالَوْا} فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {أَتْلُ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الواو، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول. {ما} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {أَتْلُ}. {حَرَّمَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط

محذوف تقديره: ما حرمه ربكم. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {حَرَّمَ} لسبقه على مذهب البصريين، أو بـ {أَتْلُ} لقربه على مذهب الكوفيين. {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. {أَلَّا} {أن}: مصدرية. {لا}: زائدة. {تُشْرِكُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به. {شَيْئًا}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلا من {ما} في قوله: {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ}، والتقدير: تعالوا أتل عليكم ما حرمه ربكم وأتل عليكم تحريم إشراككم به شيئا، ويصح أن تكون {لا}: نافية، و {أن} مصدرية، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف تقديره: وذلك المتلو عدم إشراككم بالله شيئا، ويصح أن تكون {أن} تفسيرية، وجملة: {لا تشركوا} مفسرة لجملة {أتل عليكم}، وفي المقام أوجه متلاطمة من الإعراب لا نطيل الكلام بذكرها. {وَبِالْوالِدَيْنِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: وأحسنوا بالوالدين. {إِحْسانًا}: مفعول مطلق لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {أَلَّا تُشْرِكُوا}، والتقدير: ومن ذلك المتلو أن تحسنوا بالوالدين إحسانا. {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. {مِنْ إِمْلاقٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ}. {نَحْنُ}: ضمير المتكلم المعظم نفسه في محل الرفع مبتدأ. {نَرْزُقُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {وَإِيَّاهُمْ}: معطوف على الكاف، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المتعاطفين مسوقة لتعليل النهي قبلها. {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}. {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: {أَلَّا

تُشْرِكُوا}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من {الْفَواحِشَ} بدل تفصيل من مجمل. {ظَهَرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {ما}. {مِنْها}: متعلق بـ {ظَهَرَ} وهو الرابط بين البدل والمبدل منه، وجملة {ظَهَرَ} صلة {ما}، أو صفة لها. {وَما بَطَنَ}: معطوف على {ما ظَهَرَ}. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَلَّا تُشْرِكُوا}. {الَّتِي} صفة لـ {النَّفْسَ}. {حَرَّمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: التي حرم الله تعالى قتلها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور صفة للمفعول المطلق المحذوف تقديره: لا تقتلوا إلا القتل الملتبس بالحق. {ذلِكُمْ}: مبتدأ. {وَصَّاكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَعْقِلُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مسوقة لتعليل الوصية لا محل لها من الإعراب. {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ}. {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة على {أَلَّا تُشْرِكُوا}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِالَّتِي}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقْرَبُوا}. {هِيَ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَبْلُغَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا، وفاعله ضمير يعود على {الْيَتِيمِ}. {أَشُدَّهُ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق تقديره: احفظوا ماله إلى بلوغه أشده؛ أي: حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموه إليه. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَالْمِيزانَ}: معطوف على {الْكَيْلَ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَلَّا تُشْرِكُوا}. {بِالْقِسْطِ}: جار

ومجرور حال من فاعل {أَوْفُوا}؛ أي وأوفوا الكيل والميزان حالة كونكم مقسطين؛ أي: متلبسين بالقسط والعدل. {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. {لا}: نافية. {نُكَلِّفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {نَفْسًا}: مفعول به، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا}: أداة استثناء. وُسْعَها: منصوب على الاستثناء. {وَإِذا} {الواو}: عاطفة. {إِذا}: ظرف لما يستقبل. {قُلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذا}، والظرف متعلق بالجواب. {فَاعْدِلُوا}: {الفاء}: رابطة، {اعدلوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا، وجملة إِذا معطوفة على جملة قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. {وَلَوْ كانَ}: {الواو} اعتراضية. {لَوْ}: حرف شرط. {كانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيها يعود إلى معلوم من السياق تقديره: ولو كان المقول له أو عليه. {ذا قُرْبى}: خبر {كانَ} منصوب بالألف، وجواب {لَوْ} معلوم مما قبلها تقديره: ولو كان المقول له ذا قربى فاعدلوا، وجملة {لَوْ} معترضة. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَوْفُوا}. {أَوْفُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. {ذلِكُمْ}: مبتدأ. وجملة {وَصَّاكُمْ بِهِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب ومنصوب، وجملة {تَذَكَّرُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}. {وَأَنَّ} {الواو}: استئنافية. {أَنَّ}: حرف نصب. {هذا}: في محل النصب اسمها. {صِراطِي}: خبرها. {مُسْتَقِيمًا}: حال مؤكدة من صِراطِي، والعامل فيها اسم الاشارة، وجملة {أَنَّ}: من اسمها وخبرها في تأويل مصدر

مجرور بلام التعليل المقدرة، الجار والمجرور متعلق بـ {اتبعوه}؛ أي: واتبعوا هذا المذكور في الآيتين، أو في جميع هذه السورة لكونه صراطي مستقيما. {فَاتَّبِعُوهُ}: {الفاء}: زائدة. {اتبعوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَاتَّبِعُوهُ}. {فَتَفَرَّقَ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {تفرق}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: هي يعود على {السُّبُلَ}. {بِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تفرق} على كونه مفعولا به. {عَنْ سَبِيلِهِ}: متعلق بـ {تفرق} أيضا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها تقديره: لا يكن منكم تتبع السبل فتفرقها بكم عن سبيله. {ذلِكُمْ}: مبتدأ، وجملة {وَصَّاكُمْ بِهِ} خبره، والجملة مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب ومنصوب، وجملة {تَتَّقُونَ} خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {عَلى طاعِمٍ} اسم من طعم الثلاثي من باب سمع؛ أي: على آكل أي كان من الذكور أو من الإناث، فهذا (¬1) رد لقولهم: {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ...} الخ. وقوله: {يَطْعَمُهُ} من باب فهم، اهـ «مختار». {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} المسفوح: المصبوب السائل كالدم الذي يجري من المذبوح من سفح يسفح - من باب فتح - سفحا وسفوحا، يقال: سفح الدم أو الدمع سفكه وأراقه وصبه. والسفح (¬2): الصب، وقيل: السيلان، وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصرا ومتعديا، يقال: سفح زيد دمعه ودمه؛ أي: أهراقه وسفحه؛ إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر، ففي المتعدي يقال: سفح، ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الفتوحات.

وفي اللازم يقال: سفوح، ومن المتعدي قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} فإن اسم المفعول التام لا يبني إلا من متعد، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة: أقول ودمعي واكف عند رسمها ... عليك سلام الله لله والدّمع يسفح {اضْطُرَّ}؛ أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء معه {غَيْرَ باغٍ} أصله باغي استثقلت الكسرة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، فصار باغ بوزن قاض، ولم يحذف التنوين لما في حذفه من إجحاف كلمة مستقلة، وكذا يقال في عاد، والمعنى: فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر .. فأكله غير باغ خارج على المسلمين، ولا عاد متعد عليهم بقطع الطريق. {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وفي الظفر لغات خمس أعلاها: ظفر - بضم الظاء والفاء - وهي قراءة العامة. وظفر: - بسكون العين وهي تخفيف لمضمومها -، وبها قرأ الحسن في رواية، وقرأ أبي بن كعب والأعرج: {ظِفِرٍ} - بكسر الظاء والفاء - ونسبها الواحدي لأبي السمال، وقراءة {ظَفْرٍ} - بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف لمكسروها - ونسبها الناس للحسن أيضا قراءة، واللغة الخامسة أظفور، ولم يقرأ بها فيما علمت، وجمع الثلاثي أظفار، وجمع أظفور أظافير - وهو القياس - وأظافر من غير مد، وليس بقياس، اه «سمين». {أَوِ الْحَوايا}: إما جمع (¬1) حاوياء، كقاصعاء وقواصع، أو جمع حاوية، كزاوية وزوايا، أو جمع حوية كهدية وهدايا، ففي مفرده أقوال ثلاثة، وقال الفارسي: يصح أن يكون جمعا لكل من الثلاثة، فإن كان مفردها حاوية أو حاوياء .. فوزنها فواعل كضوارب كزاوية وزوايا وقاصعاء وقواصع، والأصل حواوي كضوارب، قلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة، ثم قلبت الهمزة ياء، فاستثقلت الكسرة على الياء، فقلبت فتحة، فتحرك حرف العلة وهي الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحة، فقلبت ألفا فصارت حوايا ففيه أربعة أعمال، وإن شئت ¬

_ (¬1) الفتوحات.

قلت: قلبت الواو همزة مفتوحة، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا فصارت همزة مفتوحة بين ألفين يشابهانها، فقلبت الهمزة ياء، ففيه ثلاثة أعمال، واختلف أهل التصريف في ذلك، وإن قلنا: إن مفردها حوية فوزنها فعائل كطرائق، والأصل: حوائي فقلبت الهمزة ياء مكسورة، ثم فتحت تلك الياء، ثم قلبت الياء الثانية التي هي لام الكلمة ألفا، فصار حوايا، ففيه ثلاثة أعمال، فاللفظ متحد والعمل مختلف. اه «سمين». {هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ} {هَلُمَّ} (¬1) هنا اسم فعل بمعنى أحضروا، و {شُهَداءَكُمُ}: مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عمل مسماه من تعد ولزوم. واعلم أن هلم فيها لغتان: لغة الحجازيين ولغة التميميين، فأما لغة الحجاز: فإنها فيها بصيغة واحدة سواء أسندت لمفرد أم مثنى أم مجموع، مذكر أو مؤنث نحو: هلم يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيرها، والتزمت العرب على هذه اللغة فتح الميم وهي حركة بناء بنيت على الفتح تخفيفا. وأما لغة تميم: وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تلحق سائر الأفعال، فيقال: هلما هلموا هلمي هلمت. وقال الفراء: يقال: هلمين يا نسوة، وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرف هذا قول الجمهور، وقد خالف بعضهم في فعليتها على هذه اللغة وليس بشيء، والتزمت العرب فيها أيضا على لغة تميم فتح الميم إذا كانت مسندة لضمير الواحد المذكر، ولم يجيزوا فيها ما أجازوه في رد وشد من الضم والكسر اه، «سمين». {مِنْ إِمْلاقٍ} والإملاق الفقر في قول ابن عباس، وقيل: الجوع بلغة لخم، وقيل: الإسراف، يقال: أملق إذا أسرف في نفسه. قاله محمد بن نعيم اليزيدي، وقيل: الإنفاق، يقال: أملق ماله إذا أنفقه. قال المنذر بن سعيد: والإملاق الإفساد أيضا. قاله شمر. قال: وأملق يكون قاصرا ومتعديا، يقال: أملق الرجل ¬

_ (¬1) الجمل.

إذا افتقر؛ فهذا قاصر، وأملق ما عنده الدهر؛ أي: أفسده، اه «سمين». وفي «المصباح» أملق إملاقا افتقر واحتاج، وملقت الثوب ملقا - من باب قتل - غسلته وملقته ملقا، وملقت له: توددت له - من باب تعب - وتملقت له كذلك اه. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} هما (¬1) الآلة التي يكال بها ويوزن وأصل الكيل مصدر، ثم أطلق على الآلة والميزان، في الأصل مفعال من الوزن، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس، وأصل ميزان موازن ففعل به ما فعل بميقات؛ أعني: قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة، فصار ميزان. {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} والأشد قيل: هم اسم مفرد لفظا ومعنى، وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: هو جمع، وعلى هذا فمفرده شدة كنعمة وأنعم. وقيل: شد كفلس وأفلس وكلب وأكلب، أو شد كضر وأضرر، أقول: ثلاثة في مفرده، وأصله من شد النهار إذا ارتفع، وقال سيبويه: واحده شدة، قال الجوهري: وهو حسن في المعنى؛ لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المغاير بين {طاعِمٍ} و {يَطْعَمُهُ}، وبين {شُهَداءَكُمُ} و {يَشْهَدُونَ}. ومنها: القصر في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا}. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}؛ لأنه (¬2) استعار الظفر للحافر على ما قاله القتبي. ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: الإضافة لتأكيد التخصيص في قوله تعالى: {شُحُومَهُما} لأنه لو أتى في الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لكان كافيا في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم، ولكنه أضاف لتأكيد التخصيص. ومنها: المبالغة في قوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لأنهما من صيغ المبالغة؛ أي: مبالغ في المغفرة والرحمة. ومنها: التعريض في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} لأنه يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم الله علينا، وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم. ومنها: الإتيان في مقول قل، أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا: بالجملة الفعلية، فناسبت الأبلغية في الله تعالى بالرحمة الواسعة، وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت اسمية، فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين، وباب الرحمة واسع فلا تعادل، ذكره أبو حيان في «البحر». ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله تعالى: {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}؛ لأن حق العبارة ولا يردّ بأسه عنكم ويحتمل كون الكلام على عمومه. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}؛ لأن المعنى: فلا تصدقهم، فإن تصديقهم في الشهادة الباطلة بمنزلة الشهادة لذلك الباطل، فأطلق اسم الشهادة على التصديق على سبيل الاستعارة التصريحية، ثم اشتق منه قوله: {فَلا تَشْهَدْ} فيكون (¬1) استعارة تبعية، وقيل: هو مجاز مرسل من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشهادة من لوازم التسليم، وقيل: هو كناية، وقيل: مشاكلة. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} اعتناء بشأنه؛ لأن الفواحش يندرح فيها قتل النفس، فجرد منها هذا ¬

_ (¬1) زاده.

استعظاما له وتهويلا، ولأنه قد استثنى منه في قوله تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ}: ولو لم يذكر هذا الخاص، لم يصح الاستثناء من عموم الفواحش، فلو قيل في غير القرآن: لا تقربوا الفواحش إلا بالحق لم يكن شيئا. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} لأنه استعار السبل للبدع والضلالات والمذاهب المنحرفة. ومنها: التنكير في قوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا} لإفادة العموم والشمول. ومنها: الإضافة في قوله تعالى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ للتشريف والتعظيم. ومنها: التكرار في قوله تعالى: {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} تأكيدا لشأن التوصية. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي} فشبه الدين القويم بالصراط بمعنى: الطريق بجامع أن كلا يوصل للمقصود، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: الاستعارة في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} فشبه الأديان الباطلة بالطرق المعوجة بجامع أن كلا يوصل صاحبه إلى المهالك، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية، ذكره الصاوي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}. المناسبة قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (¬1) ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين، ودحض شبهات المعاندين، وأردف ذلك بذكر الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات .. نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية، أو إلى وجوب اتباعه وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح ¬

_ (¬1) المراغي.

لهم عذرا عند الله تعالى، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب، وعرفوا بالسماع خبره. قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر وإزاحة للعلة، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب .. أردف ذلك ببيان أنه لا أمل في إيمانهم البتة، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه في مستقبل أمرهم، وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله وسلامه عليه. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما وصى (¬2) هذه الأمة على لسان رسوله باتباع صراطه المستقيم، ونهى عن اتباع غيره من السبل، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم .. أردف ذلك بتذكير هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام، فيضيع الحق وتنفصم عرى الوحدة، وتصبح بعد أخوة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم. قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في السورة أصول الإيمان وأقام عليها البراهين، وفند ما يورده الكفار من الشبهات، ثم ذكر في الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها .. بين هنا الجزاء العام في الآخرة على الحسنات؛ وهي الإيمان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[154]

والأعمال الصالحة، وعلى السيئات؛ وهي الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...} الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لآخر السورة: لما (¬1) كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين، مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم .. جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل، وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه. ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين. التفسير وأوجه القراءة 154 - و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ للترتيب} الذكري؛ أي: للترتيب في الذكر والإخبار، لا في الزمان؛ لأن إيتاء موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن، والمعنى: ثم بعد ما أخبرتكم الوصايا المتقدمة .. أخبركم بأنا أعطينا موسى التوراة، أو يقال: إن {ثُمَّ} هنا بمعنى الواو الاستئنافية؛ أي: وأعطينا موسى التوراة {تَمامًا}؛ أي: لأجل إتمام نعمتنا وكرامتنا {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} وآمن بها من بني إسرائيل وأحسن العمل بأحكامها، يدل على هذا المعنى قراءة عبد الله: على الذين أحسنوا. وقرأ يحيى بن يعمر بالرفع، وخرج على حذف المبتدأ؛ أي: على الذي هو أحسن دينا، كقراءة من قرأ {مثلا ما بعوضة} - بالرفع - {وَتَفْصِيلًا} وبيانا لهم لكل شيء يحتاج إليه في الدين، فيدخل في ¬

_ (¬1) المراغي.

ذلك بيان نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ودينه {وَهُدىً}؛ أي: وهداية لهم من الضلالة {وَرَحْمَةً}؛ أي: أمانا لهم من العذاب بإنزالها لمن آمن بها {لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر من الصفات لكي يؤمنون ويصدقون بلقاء ربهم بالبعث من القبور، ويفوزون بالإيمان بها السعادة الأبدية في دار الكرامة السرمدية التي أعدها الله سبحانه وتعالى لمن آمن بوحيه وتمسك بشريعته. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر عن القرآن بقوله: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} .. أردف بمدح التوراة كما جاء مثل هذا في قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا}، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ} ثم قال: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ} الآية. وقد تكرر في الكتاب الكريم قرنه بالتوراة؛ لما بينهما من التشابه، فكل منهما شريعة كاملة؛ والإنجيل والزبور ليسا كذلك، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة، إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة، ولهم رسول يسمى موسى، وأنهم أهل علم، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتي اليهود التوراة، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا به، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأي. وهذه الوصايا العشر التي في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات في السور المدنية، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، لكن وصايا القرآن أجمع للمعاني، فهي تبلغ العشرات إذا فصلت. وهذه الوصايا وما أشبهها هي أصول الأديان على ألسنة الرسل يرشد إلى ذلك قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ

[155]

إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى} وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق، والتباعد عن الفواحش والمنكرات. وقد يكون معنى الآية (¬1): {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء الناس: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به، وهو كذا وكذا، ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب إلى آخره {تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}؛ أي: آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به كما جاء في قوله: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا} وقوله: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} أو المعنى: آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: مفصلا لكل شيء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها، مدنية أو حربية أو جنائية، وهذا كقوله في صفة القرآن: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}. {وَهُدىً وَرَحْمَةً}؛ أي: ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به، فينجيه الله من الضلال وعمى الحيرة {لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر؛ ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله تعالى، وموضع الفوز في دار الكرامة تلك الدار التي أعدها الله لمن اهتدى بوحيه. 155 - وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم، فقال: {وَهذا} القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه {كِتابٌ} عظيم شأنه {أَنْزَلْناهُ} على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الروح الأمين، كما أنزلنا الكتاب على موسى {مُبارَكٌ}؛ أي: كثير الخير دينا ودنيا جامع لأسباب الهداية الدائمة، وجاء بأكثر مما في كتاب موسى من تفصيل لهدى البشر في معاشهم ومعادهم {فَاتَّبِعُوهُ}؛ أي: فاتبعوا يا أهل مكة ما هداكم إليه {وَاتَّقُوا} ما نهاكم عنه وحذركموه {لَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) المراغي.

[156]

تُرْحَمُونَ}؛ أي: لتكون رحمته مرجوة لكم في الدنيا والآخرة إن قبلتموه ولم تخالفوه. والمعنى (¬1): هذا القرآن العظيم كتاب أنزلناه من اللوح المحفوظ ليلة القدر إلى سماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل مفرقا على حسب الوقائع مبارك كثير الخير والمنافع في الدنيا بالشفاء به، والأمن من الخسف والمسخ والضلال، وفي الآخرة بتلقي السؤال عن صاحبه وشهادته له وكونه ظلّة على رأسه في حر الموقف والرقي إلى الدرجات العلا. وقال التبريزي (¬2): في الكلام إشارة، وهو وصف الله التوراة بالتمام، والتمام يؤذن بالانصرام، قال الشاعر: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ فنسخها الله بالقرآن ودينها بالإسلام، ووصف القرآن بأنه مبارك في مواضع كثيرة، والمبارك هو الثابت الدائم في ازدياد، وذلك مشعر ببقائه ودوامه. 156 - وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ} الْكِتابُ علة لمعلول محذوف تقديره: وأنزلنا إليكم يا أهل مكة هذا القرآن المرشد إلى توحيد الله وطريق طاعته وتزكية النفوس من أدران الشرك بلغتكم كراهية {أَنْ تَقُولُوا} يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم ما جاءنا كتاب نفهمه بلغتنا {إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ}؛ أي: التوراة والإنجيل {عَلى طائِفَتَيْنِ}؛ أي: فريقين {مِنْ قَبْلِنا} وهما اليهود والنصارى {وَإِنْ كُنَّا}؛ أي: وقد كنا، وقيل: وإنه كنا {عَنْ} معرفة ما في كتبهم وفهم {دِراسَتِهِمْ} وقراءتهم للكتاب الذي أنزل عليهم {لَغافِلِينَ}؛ أي: لجاهلين لا ندري ولا نعلم ما هي؛ لعدم فهمنا ما يقولون، لأنها بلغة غير لغتنا، ولأنهم أهله دوننا، ولأنا لم نؤمر بما فيه، ولغلبة الأمية علينا. والمراد بهذه الآية: إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن بلغتهم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) البحر المحيط.

[157]

على اليهود والنصارى، ولا نعلم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم. والمعنى (¬1): وأنزلنا هذا القرآن بلغتكم يا أهل مكة كراهية أن تقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلغتهما، فلم نفهم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم كي لا يعتذروا عند المجازاة على شركهم وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن محيصن (¬2): {أن يقولوا} - بياء الغيبة - يعني: كفار قريش. 157 - {أَوْ} كراهية أن {تَقُولُوا} يوم القيامة {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ}؛ أي: لو أننا أنزل علينا الكتاب بلغتنا كما أنزل على اليهود والنصارى بلغتهم العبرانية أو السريانية، فأمرنا بما فيه ونهينا عما نهى عنه، وبين لنا خطأ ما نحن فيه {لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ}؛ أي: أصوب دينا من اليهود والنصارى، وأطوع للحق الذي هو المقصد الأقصى والطريق المستقيم، وأسرع إجابة لأمر الرسول لجودة أذهاننا ومزيد ذكائنا، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مثل هذا في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}؛ أي: من إحدى الأمم المجاورة لهم من أهل الكتاب. فرد الله تعالى عليهم بجواب قاطع لكل تعلّة، دافع لكل اعتذار، فقال: {فَقَدْ جاءَكُمْ} يا أهل مكة من الله سبحانه وتعالى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: {بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: قرآن عظيم فيه بيان للحلال من الحرام {وَهُدىً} لما في القلوب من الضلالة {وَرَحْمَةٌ}؛ أي: نعمة من الله لعباده الذي يتبعونه ويقتفون ما فيه؛ أي: لا تعتذروا بذلك، فقد جاءكم من ربكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين في العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشؤون الاجتماع، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته إذ يجذب ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير للشارح. (¬2) البحر المحيط.

ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتم تفصيل، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه؛ وهو رحمة عامة لمن يستضيؤون بنوره وتنفذ فيهم شريعته؛ إذ هم يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا في عقائدهم وعباداتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات، وبعد أن بين عظم قدر هذا الكتاب .. بين سوء عاقبة من كذب به، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ} والفاء فيه فاء الفصحية؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة والرحمة الشاملة .. فأقول لك: لا أظلم، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: فلا أحد أشد ظلما {مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ} القرآنية ولم يؤمن بها {وَصَدَفَ}؛ أي: أعرض بنفسه {عَنْها}؛ أي: عن تلك الآيات؛ أي: عن العمل بما فيها من الأوامر والنواهي. وقيل المعنى: كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها؛ أي: صرف الناس ومنعهم عن الإيمان بها، فجمع بين الضلال بالتكذيب، والإضلال بصرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمي قريش بمكة، فقد كانوا يصدفون العرب ويمنعونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن، فينجذبوا إلى الإيمان، ونحو الآية قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}. وقرأ ابن وثاب وابن أبي عبلة: {ممن كَذَبَ} بتخفيف الذال. {سَنَجْزِي الَّذِينَ}؛ أي: سنعاقب الذين {يَصْدِفُونَ} ويعرضون {عَنْ آياتِنا} الواضحة وحججنا الساطعة {سُوءَ الْعَذابِ}؛ أي: شديد العذاب {بِما كانُوا يَصْدِفُونَ}؛ أي: بسبب إعراضهم عن آياتنا وتكذيبهم لرسلنا، والإضافة في سوء العذاب من إضافة الصفة إلى الموضوف؛ أي: العذاب السيء أو المعنى (¬1): سنجزي الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يتجرؤون عليه من الصدف عنها؛ إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين الهداية. وقرأت فرقة: {يَصْدِفُونَ}: بضم الدال. ¬

_ (¬1) المراغي.

[158]

ونحو الآية قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)}؛ أي: زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله، فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق. 158 - والاستفهام في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} إنكاري بمعنى النفي؛ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون من أهل مكة وغيرهم {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}؛ أي: ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم من عزرائيل وأعوانه، أو ملائكة العذاب. وقرأ الكسائي وحمزة: {إلا أن يأتيهم} - بالياء - أَوْ إلا أن {يَأْتِيَ رَبُّكَ} يا محمد يوم القيامة للحكم (¬1) وفصل القضاء بين الخلائق إتيانا يليق به لا نكيفه ولا نمثله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} كما جاء في آية أخرى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}. وقيل المراد بإتيان الله إتيان ما وعد به من النصر لأوليائه، وأوعد به أعداءه من العذاب في الدنيا كما جاء في قوله: {فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. وقيل أو يأتي أمر ربك بإهلاك {أَوْ} إلا أن {يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ}؛ أي: بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة، وهي عشرة (¬2)، وهي العلامات الكبرى، وهي الدجال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر. وتقدير الآية (¬3): أنهم لا يؤمنون بك يا محمد إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاثة، فإذا جاءتهم إحداها آمنوا، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم. والخلاصة (¬4): أنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة: مجيء الملائكة، أو مجيء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا} وقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}، أو مجيء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا} ونحو ذلك من ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير. (¬2) المراح. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم. وفي الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله وعدم اعتدادهم بها، وأنه لا أمل في إيمانهم البتة. {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} الموجبة للإيمان الاضطراري من الآيات التي اقترحوها، أو ما هو أعم من ذلك، فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل: هي الآيات العظام التي تدل على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا، وتبس الجبال بسا، ويبطل هذ النظام الشمسي بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا كما في حديث «الصحيحين». والظرف متعلق بقوله: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا}؛ أي: نفسا كافرة، أو مؤمنة عاصية {إِيمانُها} وقتئذ {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل ذلك {أَوْ} نفسا لم تكن {كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا}؛ أي: عملا صالحا من قبل ظهور تلك الآيات؛ أي: لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيء تلك الآيات لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال. قال ابن كثير: إذا (¬1) أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك .. فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ .. لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث. وقرأ ابن عمر وابن الزبير وابن سيرين وأبو العالية (¬2): {يوم تأتي} - بالفوقية - مثل: {تلتقطه بعض السيارة} قال المبرد التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل، ومنه قول جرير: لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشّع وقرأ ابن سيرين: {لا تنفع نفسا} - بالفوقية -. قال أبو حاتم: ذكروا أنها غلط منه، وقال الزمخشري: أنث الفعل؛ لكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه. وقرأ زهير القروي: {يوم يأتي} - بالرفع - والخبر {لا يَنْفَعُ} ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

والعائد محذوف؛ أي: فيه. {قُلِ} لهم يا محمد {انْتَظِرُوا} أيها المعاندون ما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام، أو انتظروا ما وعدتم به من مجيء إحدى هذه الآيات {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} معكم وعد ربنا لنا ووعيده لكم، أو منتظرون ما أوعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة، وقيل المعنى: قل لهم يا محمد انتظروا هلاكي إنا منتظرون هلاككم، ونحو الآية قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)} وقال ابن كثير: هذا تهديد شديد للكافرين، ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك، وهو كقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}. فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} قال جمهور المفسرين (¬1): هو طلوع الشمس من مغربها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». أخرجه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} قال: «طلوع الشمس من مغربها». أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها .. تاب الله عليه». أخرجه مسلم. وعن صفوان بن غسان المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب من قبل المغرب، مسيرة عرضه - أو قال: يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة، خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة، لا يغلق حتى ¬

_ (¬1) الخازن.

تطلع الشمس منه». أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها» وفي رواية: «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا» متفق عليه. وعن حذيفة بن أسد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: «ما تذكرون» قلنا: الساعة، فقال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات»، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، وثلاث خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم». أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخويصة أحدكم، وأمر العامة». أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا». أخرجه مسلم. وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال: تصبحون والشمس والقمر من ههنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين، زاد في رواية عنه: فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا، وبسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها لا ينكر الناس منها شيئا حتى

تنتهي، فتخر ساجدة في مستقرها تحت العرش، فيقال لها: اطلعي من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي يوم ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذلك يوم لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا». وبسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمار، فنظر إلى الشمس حيث غربت فقال: «إنها تغرب في عين حمئة، تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها، فإذا أراد أن يطلعها من مغربها .. حبسها، فتقول: يا رب إن مسيري بعيد، فيقول لها: اطلعي من حيث غربت، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل». وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية من العشيات، فقال لهم: «عباد الله توبوا إلى الله قبل أن يأتيكم بعذاب، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب، فإذا فعلت حبست التوبة وطوي العمل»، فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال، فيستيقظ الذين يخشون ربهم، فيصلون له، ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض، ثم يأتون مضاجعهم فينامون، حتى إذا استيقظوا والليل مكانه، فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم، فإذا أصبحوا فطال عليهم .. رأت أعينهم طلوع الشمس، فبينما هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب، فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل». قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا ينفع مشركا إيمانه عند الآيات، وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرا قبل ذلك. وقال ابن الجوزي: قيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها: أن الملاحدة والمنجمين زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله تعالى قدرته، فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، فيتحقق عجزهم. وقيل: بل ذلك بعض الآيات الثلاث: الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها.

يروى عن ابن مسعود أنه قال: التوبة معروضة على ابن آدم، إن شاء قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة، أو طلوع الشمس من مغربها، أو يأجوج ومأجوج. ويروى عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات .. طرحت التوبة، وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. ويروى عن أبي هريرة في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} قال: هي مجموع الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض. وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلوع الشمس من مغربها. قال الضحاك (¬1): من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه .. قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل من قبل ذلك، فأما من آمن من شرك، أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية .. فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل الله عذابا على أمة .. فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وفي كتاب «الإشاعة في أشراط الساعة» ما نصه (¬2): ومن الأشراط العظام طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض، وهذان أيهما سبق الآخر .. فالآخر على أثره، فإن طلعت الشمس قبل .. خرجت الدابة ضحى يومها أو قريبا من ذلك. وإن خرجت الدابة قبل طلعت الشمس من الغد. وروى أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في هذه الأمة قردة وخنازير، وتطوى الدواوين، وتجف الأقلام، لا يزاد في حسنة، ولا ينقص من سيئة، ولا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا». ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله تعالى غاية لتوبة عباده فتستأذن الشمس من أين تطلع، ويستأذن القمر من حيث يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحسبان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن، فينادي بعضهم بعضا، فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، ثم يرسل الله جبرائيل إلى الشمس والقمر، فيقول: إن الرب تعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما، فتطلعا منه لا ضوء لكما عندنا ولا نور، فتبكي الشمس وكذا القمر من خوف يوم القيامة وخوف الموت، فترجع الشمس والقمر، فيطلعان من مغربهما، فبينما الناس كذلك يتضرعون إلى الله عز وجل، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد: ألا إن باب التوبة قد أغلق، والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما، فينظر الناس إليهما، وإذا هما أسودان كالعكمين لا ضوء لهما ولا نور، فذلك قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (9). والعكم - بالكسر - الغرارة؛ أي: كالغرارتين العظيمتين، ومنه يقال لمن يشد الغرائر على الجمل: العكام، فيرتفعان مثل البعيرين المقرنين ينازع كل منهما صاحبه استباقا، ويتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها؛ فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب لهم عبادة، وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب عليهم حسرة، فإذا بلغت الشمس والقمر وسط السماء جاءهما جبريل، فأخذ بقرونهما، فردهما إلى المغرب، فيغربهما في باب التوبة، ثم يرد المصراعين، فيلتئم ما بينهما ويصيران كأنهما لم يكن صدع قط ولا خلل، فإذا أغلق باب التوبة .. لم يقبل لعبد بعد ذلك توبة ولم تنفعه حسنة يعملها بعد ذلك إلا ما كان قبل ذلك يحب أن يفعله قبل ذلك، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري لهم قبل ذلك، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها ...} الآية. قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال: «يا عمر، خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب، فهو من أبواب الجنة، مصراعان من

ذهب مكللان بالدر والجواهر، ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب». قال أبي بن كعب رضي الله عنه يا رسول الله، فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك، وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: «لا يا أبي، إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس بعد ذلك فيلحون على الدنيا ويعمرونها، ويجرون فيها الأنهار، ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مئة وعشرين سنة، السنة منها بقدر شهر، والشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم، واليوم بقدر ساعة». وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تقوم الساعة حتى تعبد العرب ما كان يعبد آباؤها عشرين ومئة عام بعد نزول عيسى ابن مريم وبعد الدجال اه. ويستمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود الموت فيهم، ويسرع فلا يبقى مؤمن، ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد، وأفضلهم من يقول: لو تنحيت عن الطريق .. لكان أحسن، فيكونون على مثل ذلك حتى لا يولد لأحد من نكاح، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة، ويكون كلهم أولاد زنا، شرار الخلق عليهم تقوم الساعة. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا طلعت الشمس من مغربها .. خر إبليس ساجدا ينادي ويجهر: إلهي مرني أسجد لمن شئت، فتجتمع إليه زبانيته، فيقولون: يا سيدنا ما هذا التضرع!؟ فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم، وهذا هو الوقت المعلوم انتهى.

[159]

159 - {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ}؛ أي: إن الذين فرقوا وبددوا وشتتوا دينهم بأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال ابن عباس (¬1): هم اليهود والنصارى فرقوا دين إبراهيم الحنيف إذ تفرقوا فرقا، وكفر بعضهم بعضا، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. وقال الحسن: هم جميع المشركين؛ لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا: إنهم بنات الله، وبعضهم عبدوا الكواكب، فكان هذا تفريق دينهم اه. وقال أبو هريرة في هذه الآية: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وروي ذلك مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، وليسوا منك؛ هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة» أسنده الطبري. ولا مانع من الجمع بين الآراء (¬2)، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم، وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)} ثم بين أن رسوله بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كما فعل أهل الكتاب، فهو يحذر من صنيعهم، وينهى عن سلوك طريقهم، فمن اتبع سنتهم في هذا التفريق .. فالرسول بريء منه كما هو بريء من أولئك المفرقين من سالفي الأمم، فعلى (¬3) هذا يكون المراد من هذه الآية: الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين، ولا يبتدعوا البدع المضلة. وفي حديث رواه أبو داود والترمذي: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

وقرأ حمزة والكسائي (¬1): {فارقوا دينهم} هنا وفي الروم بألف وهي قراءة علي بن أبي طالب؛ أي: تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ باقي السبعة: {فَرَّقُوا} بالتشديد. وقرأ إبراهيم النخعي والأعمش وأبو صالح: {فرقوا} بتخفيف الراء. {وَكانُوا شِيَعًا}؛ أي: أحزابا وفرقا مختلفة في الضلالة، كل فرقة تشيع وتتبع إماما لها {لَسْتَ} يا محمد {مِنْهُمْ}؛ أي: من تفرقهم، أو من السؤال عن سبب تفرقهم، والبحث عن موجب تحزبهم {فِي شَيْءٍ} من الأشياء، فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به، إنما عليك البلاغ وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا»؛ أي: نحن براء منه؛ أي: أنت بريء منهم وهم بريئون منك، وهذا على أن المراد من الآية: أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة. وأما على القول بأن المراد من الآية: اليهود والنصارى والكفار، فمعناه لست من قتالهم في شيء، ولست مأمورا بقتالهم، فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السيف. {إِنَّما أَمْرُهُمْ}؛ أي: جزاؤهم وعقابهم مفوض {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: أنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم، والتفريق له بما اقتضت به سنة الله تعالى من ضعف المتفرقين، وفشل المتنازعين، وتسليط الأقوياء عليهم، وإذاقة بعضهم بأس بعض، كما بين ذلك سبحانه بقوله: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا}. {ثُمَّ} بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في الدنيا يبعثهم يوم القيامة فـ {يُنَبِّئُهُمْ} ويخبرهم عند الحساب {بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} في الدنيا من الاختلاف والتفرق اتباعا للأهواء، ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء في النار وبئس القرار. والخلاصة (¬2): أن المراد بـ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا؛ هم أهل الكتاب، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم؛ ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة .. فالرسول منه بريء؛ إذ ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم، بل إذا اتصف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

المسلمون بمثل ما اتصفوا به .. كان حكمهم كحكمهم؛ لأن الله لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات، والتفرق في الدين؛ لأنهم مسلمون، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين، وخروجا من سنن المهتدين. ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق في هذه الأمة في دينها وتبعة ضعفها في دنياها ترجع إلى أمور: منها: التنازع على الملك، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا. ومنها: العصبية الجنسية والنعرة القومية في كل شعب وقبيل؛ إذ شمخ كل شعب بأنفه، وأبى أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة وأرفعها محتدا، فأنى له أن ينقاد لسواه. ومنها: عصبية المذاهب والآراء في أصول الدين وفروعه، فأرباب المذاهب من الشيعة ذموا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية، ورجال الحديث تكلموا في أهل القياس. ومنها: القول في الدين بالرأي، فإن كثيرا ممن يركن إليهم في الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة، والتفقه في فهم الكتاب، فإذا عرضت له حادثة، ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة .. أفتى فيها بالرأي، وقد يكون مصادما للدليل النقلي، أو لفتاوى الصحابة والتابعين إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشؤون المعيشة وأحوال الاجتماع، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة في الأزمنة المتعاقبة. ومنها: دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له، ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين، واتخذوها مرجعا في استنباط بعض الأحكام، والدين منها براء. وعن معاوية رضي الله عنه قال (¬1): قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إن ¬

_ (¬1) الخازن.

[160]

من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» زاد في رواية: «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخلته». أخرجه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي». أخرجه الترمذي. قال الخطابي: في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين؛ إذ جعلهم من أمته. 160 - {مَنْ جاءَ} ربه يوم القيامة {بـ} الخصلة {الحسنة} والأعمال الصالحة من خصال الطاعات التي فعلها، وقلبه مطمئن بالإيمان {فَلَهُ}؛ أي: فلذلك العامل عنده تعالى {عَشْرُ} حسنات {أَمْثالِها}؛ أي: جوزي عليها بعشر حسنات أمثالها فضلا من الله سبحانه وتعالى وكرما منه، وهذا استئناف لبيان قدر جزاء العاملين، والتقييد بالعشرة؛ لأنه أقل مراتب التضعيف، وإلا فقد جاء الوعد به إلى سبعين، وإلى سبع مئة، وإلى أنه بغير حساب، إذ قد وعد بالمضاعفة دون قيد في قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} ووعد بمضاعفة كثيرة في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً} ووعد بالمضاعفة إلى سبع مئة ضعف في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)}. وفي هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين في الصفات النفسية كالإخلاص في النية، والاحتساب عند الله، والإخفاء سترا على المعطي، وتباعدا من الشهرة، والإبداء لحسن القدوة، وتحري المنافع والمصالح، وما

يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء، وحب الشهرة الباطلة، والمن والأذى. والحاصل: أن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده .. لا تكون حاله كمن يبذله طيبة به نفسه، مسرورة بتوفيق الله تعالى على عمل الخير، ونيل ثواب الآخرة، واعلم أن المضاعفة تابعة للإخلاص، فكل من عظم إخلاصه .. كانت مضاعفة حسناته أكثر {وَمَنْ جاءَ} ربه يوم القيامة {بـ} الخصلة {السيئة} والأعمال القبيحة {فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها} من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات، كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب .. فعلينا أن نقول: يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب. أما إذا تاب، أو غلبت حسناته سيئاته، أو تغمده برحمته وتفضل عليه بمغفرته .. فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحا لا يبقى معه ريب لمرتاب. {وَهُمْ}؛ أي: عاملوا الحسنات وعاملوا السيئات {لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب حسنات المحسنين، ولا بزيادة عقوبات المسيئين، فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمجازاة بالمثل في السيئات من باب العدل. أي: أن كلا الفريقين فاعلي الحسنات، وفاعلي السيئات لا يظلم يوم الجزاء، لا من الله - لأنه منزه عن الظلم عقلا ونقلا، فقد روى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إنه قال: «يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» الحديث - ولا من غيره؛ إذ لا سلطان لأحد من خلقه، ولا كسب في ذلك اليوم يمكنه من الظلم، كما يفعل الأقوياء الأشرار في الدنيا بالضعفاء. فصل في الأحاديث المناسبة للآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة

[161]

يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى» متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا .. لقيته بمثلها مغفرة». أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: «وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي .. فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة، فلم يعملها .. فاكتبوها له حسنة، فإن عملها .. فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة». متفق عليه. هذا لفظ البخاري. وفي لفظ مسلم عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة .. فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها .. فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة .. فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها .. فأنا أكتبها له بمثلها»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت الملائكة: رب ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: أرقبوه، فإن عملها .. فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها .. فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرّاي» (¬1) زاد الترمذي: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}. وقرأ الحسن وابن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث (¬2): {عشرٌ} - بالتنوين - {أمثالُها} بالرفع على أنه صفة لـ {عشر}. 161 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين لك من قومك ومن سائر البشر {إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي}؛ أي: إن ربي الذي رباني بالوحي هداني وأرشدني بما أوحاه إلي بفضله {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وطريق قويم لا عوج فيه ولا انحراف، ولا اشتباه ¬

_ (¬1) من جرّاي: خوفا منّي. (¬2) البحر المحيط.

يهدي سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه، فتقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وعرفني {دِينًا قِيَمًا}؛ أي: دينا صادقا ثابتا قويما مصلحا يستقيم به أمور الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (¬1): {قيّما} بوزن سيد - بفتح القاف وكسر الياء المشددة -: فيعل من قام؛ كسيد من ساد، وهو أبلغ من قائم. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {قِيَمًا} - بكسر القاف وتخفيف الياء - وهو مصدر كالصغر والكبر، والحول والشبع وصف به مبالغة؛ أي: دينا ذا قيم؛ أي: صدق، وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: قوما كما قالوا: عوض وحول، ولكنه شذّ عن القياس. الزموا {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}؛ أي: دينه وشريعته وما أوحي به إليه من الحنيفية السمحة حالة كون إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلا من الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم {وَ} حالة كون إبراهيم أيضا {ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بالله يا معشر قريش؛ أي إنه منزه من الشرك وما عليه المبطلون وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين: إنهم على ملة إبراهيم، وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولليهود الذين يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى القائلين: إن عيسى ابن الله، وهذا كقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125)}. وهذا الدين هو دين الإخلاص لله وحده، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله، وقرره في جميع كتبه، وجعله ملة إبراهيم؛ لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركوا العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكانت قريش ومن لف لفها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادعوا اتباعه واتباع موسى وعيسى ¬

_ (¬1) زاد المسير.

[162]

عليهما السلام، كما قال: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}. 162 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {إِنَّ صَلاتِي} المفروضة علي وعلى أمتي التي أعبد بها ربي، وكذا الصلاة المستحبة؛ لأن المراد بالصلاة ما يشمل المفروض منها والمستحب {وَنُسُكِي}؛ أي: جميع أنواع عبادتي من صوم وحج وزكاة وغيرها من سائر العبادات، فعطفه على ما قبله على هذا التفسير من عطف العام على الخاص، أو حجي وعمرتي. وكثر استعماله في عبادة الحج، أو ذبيحتي التي أذبح بها في الحج، أو في غيره؛ أي: إن صلاتي ونسكي مخلصان لله لا شركة لغيره فيهما {وَ} إن {مَحْيايَ}؛ أي: حياتي، أو ما أوتيته في حياتي من العمل الصالح والنعم {وَمَماتِي}؛ أي: وفاتي، أو ما أموت عليه من الإيمان، وقيل: معناه أن طاعتي في حياتي لله، وجزائي بعد مماتي من الله؛ أي: كلاهما منسوبان {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا {رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ أي: معبود العالمين وخالقهم ومالكهم. وحاصل هذا الكلام (¬1): أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يبين للمشركين ويخبرهم أن صلاته ونسكه وسائر عبادته وحياته وموته كلها مخلصة لله، وواقعة بخلق الله وقضائه وقدره، فهو مخالف لهم في عبادة الأصنام وذبحهم لها {لا شَرِيكَ لَهُ} سبحانه وتعالى في شيء من ذلك من الصلاة والنسك، والمحيا والممات في الخلق والتقدير. وقرأ الحسن وأبو حيوة (¬2): {نسكي} بإسكان السين، وقرأ الباقون بضمها، وقرأ نافع: {محياي}: بسكون الياء، وقرأ الباقون بفتحها؛ لئلا يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه؛ - أي: السكون - أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه؛ لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة. قال أبو حيان: وما روي عن نافع من سكون يا المتكلم في {محياي} هو جمع بين ساكنين أجري الوصل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

[163]

فيه مجرى الوقف، والأحسن في العربية الفتح. قال أبو علي: هي شاذة في القياس؛ لأنها جمعت بين ساكنين، وشاذة في الاستعمال. وروى أبو خالد عن نافع {ومحياي} - بكسر الياء -، وقرأ ابن إسحاق وعيسى بن عمرو الجحدري: {ومحيي} - من غير ألف - على لغة هذيل؛ وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر: سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع وقرأ عيسى بن عمر: {صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي} - بفتح الياء -، وروي ذلك عن عاصم. 163 - {لا شَرِيكَ لَهُ} سبحانه وتعالى في شيء من ذلك من الصلاة والنسك والمحيا والممات، ولا شريك له في الخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه {وَ} قل لهم يا محمد {بِذلِكَ} التوحيد أو الإخلاص {أُمِرْتُ}؛ أي: أمرني ربي {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي سابق على إسلام أمته؛ لأنهم منه يأخذون شريعته. قاله قتادة؛ أي: وأنا أول من أقر بالوحدانية، وأذعن وخضع لله سبحانه وتعالى، وأخلص في التوحيد والعبادة لله من هذه الأمة، وقيل معناه: وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره تعالى. والمراد (¬1) من كون محياه ومماته لله تعالى أنه قد وجه وجهه، وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته، وبذلها في سبيله، فيموت على ذلك كما يعيش، والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين، فينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، فيتحرى الخير والصلاح، والإصلاح في كل عمل من أعماله، ويطلب الكمال في ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضي ربه، ولا يحرص على الحياة لذاتها، فلا يرهب الموت فيمتنع من الجهاد في سبيل الله، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل، فيأخذ على أيدي أهل الجور، ¬

_ (¬1) المراغي.

[164]

ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأفرد (¬1) الصلاة بالذكر مع دخولها في النسك؛ لأن روحها - وهو الدعاء، وتعظيم المعبود، وتوجيه القلب إليه والخوف منه - مما يقع فيه الشرك. والخلاصة: أنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين، أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه .. كان مشركّا، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. ومعنى {لا شَرِيكَ لَهُ}؛ أي: لا شريك له في ألوهيته، فيستحق أن يشركه في العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير في عبادته، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به، وترك ما نهى عنه. وفي هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد في العقيدة، 164 - ثم انتقل إلى برهانه الأعلى، وهو توحيد الربوبية بما أمره به، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين توبيخا لهم وإنكارا عليهم {أَغَيْرَ اللَّهِ} الذي خلق الخلق ورباهم {أَبْغِي} وأطلب {رَبًّا} آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إلى لينفعني، أو يمنع الضر عني، أو ليقربني إليه زلفى؛ أي: هل أطلب ربا ومالكا وإلها غير الله سبحانه وتعالى أعبده وأتخذه إلها ومعبودا؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى رب كل شيء مما عبد، ومما لم يعبد، ومالكه وخالقه، فكيف يليق بي أن أتخذ إلها غير الله؟ فهو الذي خلق الملائكة والمسيح، والشمس والقمر، والكواكب والأصنام، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)} وإذا كان هو الخالق والمدبر، فكيف أسفه نفسي، وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخالق الخلق أجمعين. والمعنى: أي (¬2) لا أطلب إلها غيره ولا أتوكل إلا عليه، فهو رب كل شيء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الجمل.

ومليكه وخالقه، فكيف يكون المملوك شريكا لمالكه {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}؛ أي: ولا تحمل نفس ذنبا {إِلَّا} كان {عَلَيْها} جزاؤه لا على غيرها {وَلا تَزِرُ}؛ أي: ولا تعمل كل نفس {وازِرَةٌ}؛ أي: آثمة؛ أي: ولا غير وازرة أيضا {وِزْرَ أُخْرى}؛ أي: ذنب نفس أخرى؛ أي: فلا تحمل آثمة ولا طائعة ذنب غيرها، وإنما (¬1) قيد في الآية بالوازرة موافقة لسبب النزول، وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، وهو وازر وآثم إثما كبيرا. وفي الآية رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة والأولى حمل الآية على ظاهرها؛ أعني: العموم، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة، ونحو ذلك .. فيكون في حكم المخصص بهذا العموم، ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ذكره الشوكاني. والخلاصة: أن الدين أرشدنا أن نجري على ما أودعته الفطرة في النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، والعمل يؤثر في النفس التأثير الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير الذي يدسيها ويفسدها إن كان سيئا، والجزاء مبني على هذا التأثير، فلا ينتفع أحد، ولا يتضرر بعمل غيره. ومن كان قدوة صالحة في عمل، أو معلما له .. فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل، أو دالا عليه ومغريا به .. فإن عليه مثل إثم من فعله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان ¬

_ (¬1) الفتوحات.

عليه وزرها، ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». رواه مسلم. وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء في سورة النجم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39)}. وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح في المجتمع البشري، وهادمة لأسس الوثنية، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، وهي وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا بلا كسب ولا سعي من طريق الأسباب التي جرت بها سنته في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم، وترك عقابهم عليها، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة، وإنقاذهم من عذابها. ومما ينتفع به المرء من عمل غيره - لأنه في الحقيقة كأنه عمله، إذ كان سببا فيه - دعاء أولاده وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه، كما ورد في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة. ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب، وصح في السنة أن ولد الرجل من كسبه. {ثُمَّ} بعد اختلافكم في الدنيا في الأديان والملل {إِلى رَبِّكُمْ} لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم يوم القيامة للمجازاة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم ويعلمكم {بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا من الأديان والملل، فيثيب المسلمين ويعذب الكافرين؛ أي: ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين،

[165]

ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه، ونحو الآية قوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. 165 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي جَعَلَكُمْ} يا أمة محمد {خَلائِفَ} في {الْأَرْضِ} عن الأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم عن بعض. وقال الطبري: أي (¬1) استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها أو (¬2) إنكم خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها، على أن الخطاب عام للنوع الإنساني {وَ} هو الذي {رَفَعَ بَعْضَكُمْ}؛ أي: الحسن والغني والشريف والعالم والقوي مثلا {فَوْقَ بَعْضٍ} آخر؛ أي: فوق القبيح والفقير والوضيع والجاهل والضعيف مثلا {دَرَجاتٍ}؛ أي: في الجمال والمال، والشرف والعلم والقوة مثلا. وقال ابن كثير: أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق، والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك، انتهى. وقال في «الخازن» والمعنى: خالف بين أحوال عباده، فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز عن التسوية، أو الجهل، أو البخل، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان كما ذكره بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ كان}؛ أي: ليختبركم {فِي ما آتاكُمْ}؛ أي: فيما أعطاكم من نعمة المال والجاه والقوة، هل تشكرون عليها فلكم الثواب والزيادة، أو تكفرون فلكم العقاب والحرمان، ولينظر كيف يصنع الشريف بالوضيع، والغني بالفقير، والمالك بالمملوك، وليختبر الفقير والوضيع والمملوك هل يصبرون أم لا؟ {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {سَرِيعُ الْعِقابِ} لمن عصاه وكفر بنعمته، ووصف العقاب بالسرعة؛ لأن ما هو آت قريب، أو سريع عند إرادته تعالى، والمعنى: سريع العقاب إذا جاء وقته فلا يرد، كيف قال: سَرِيعُ الْعِقابِ مع أنه حليم، والحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه وَإِنَّهُ سبحانه وتعالى {لَغَفُورٌ} لمن آمن به {رَحِيمٌ} لمن قام بشكرها. ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) البيضاوي.

والمعنى: أنه سبحانه (¬1) وتعالى سريع العقاب لمن كفر به، أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكب عن سنته، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون في الدنيا من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال، أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية، وهذا مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم، وأكثريّ في ذنوب الأفراد، ومطرد في الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها. وهو (¬2) سبحانه وتعالى على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين غفور للتوابين، رحيم بالمؤمنين المحسنين؛ إذ سبقت رحمته غضبه، ووسعت كل شيء، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها وقد يغفرها لمن تاب منها، كما قال: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)}. ولما (¬3) كان الابتلاء يظهر به المسيء والمحسن، والطائع والعاصي .. ذكر هذين الوصفين وختم بهما. ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد .. بدأ قوله: {سَرِيعُ الْعِقابِ} يعني لمن كفر ما أعطاه الله تعالى، وسرعة عقابه إن كان في الدنيا فالسرعة ظاهرة، وإن كان في الآخرة فوصفه بالسرعة لتحققه؛ إذ كل ما هو آت قريب، ولما كانت جهة الرحمة أرجى .. أكد ذلك بدخول اللام في الخبر، ويكون الوصفان بنيا بناء مبالغة، ولم يأت في جهة العقاب بوصفه بذلك، فلم يقل: إن ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة. فائدة: في خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من العقائد والأحكام (¬4): أولا: العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات الله بذكر أفعاله وسننه في الخلق، وآياته في الأنفس والآفاق، وتأثير العقائد في الأعمال مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل، أو ورودها جوابا بعد سؤال، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

وفي أثناء ذلك يرد شبهات المشركين، ويهدم هياكل الشرك ويقوض أركانه. ثانيا: الرسالة والوحي، وتفنيد شبهات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى؛ وهي القرآن المشتمل على الأدلة العقلية، والبراهين العلمية، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل، ويستبعدون إنزال الوحي عليهم. ثالثا: البعث والجزاء والوعد والوعيد، بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين، والجنة والنار، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن، ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان، ويسمعون أصواتهم وعزفهم، وأنهم يلقون الشعر في هواجس الشعراء. رابعا: أصول الدين ووصاياه الجامعة في الفضائل والآداب ، والنهي عن الرذائل، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية: 1 - أن دين الله واحد ، فتفريقه بالمذاهب والأهواء، وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدي الرسول الذي جاء به، وموجب لبراءته من فاعليه. 2 - أن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية، وإن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها في الأنفس، وإن الجزاء على السيئة بمثلها، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة، وجزاء السيئات على الإنسان وحده، وجزاء الحسنات له وحده، فلا يحمل أحد وزر غيره. 3 - أن الناس عاملون بالاختيار والإرادة ولكنهم خاضعون للسنن والأقدار، فلا جبر ولا اضطرار، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه؛ إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير: أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجري عليه. 4 - أن لله سننا في حياة الأمم وموتها، وسعادتها وشقائها ، وإهلاكها

بمعاندة الرسل، والظلم والفساد في الأرض، وتربيتها بالنعم تارة، وبالنقم أخرى. 5 - أن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق الله تعالى، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع الله .. فقد افترى إثما عظيما. 6 - الأمر بالسير في الأرض ، وقد تكرر ذلك في الكتاب الكريم للنظر في أحوال الأمم، وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل. 7 - الترغيب في معرفة ما في الكون ، والإرشاد إلى معرفد سنن الله فيه، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته. 8 - أن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح موجبة لمغفرة الذنوب. 9 - استيلاء الناس بعضهم ببعض؛ ليتنافسوا في العلوم والأعمال النافعة ، وإعلاء كلمة الحق والدين، ورفعة شأنه وإعزاز أهله. الإعراب {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف بمعنى الواو. {آتَيْنا}: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا. {مُوسَى}: مفعول أول. {الْكِتابَ}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، {تَمامًا}: مفعول لأجله؛ أي: لأجل إتمام النعمة. {عَلَى الَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمامًا}. {أَحْسَنَ}: فعل، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {وَتَفْصِيلًا}: معطوف على {تَمامًا}. {لِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَفْصِيلًا}. {وَهُدىً وَرَحْمَةً}: معطوفان عليه أيضا؛ أي: لأجل الهداية والرحمة للذي أحسن وآمن به. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه. {بِلِقاءِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق

بـ {يُؤْمِنُونَ}. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}. {وَهذا كِتابٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْزَلْناهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع صفة أولى لـ {كِتابٌ}. {مُبارَكٌ}: صفة ثانية. وفي «الفتوحات» (¬1): يجوز أن يكون {كِتابٌ} و {أَنْزَلْناهُ} و {مُبارَكٌ} أخبارا عن اسم الإشارة عند من يجيز تعدد الخبر مطلقا، أو بالتأويل عند من لم يجوز ذلك، ويجوز أن يكون {أَنْزَلْناهُ} و {مُبارَكٌ} وصفين لـ {كِتابٌ} عند من يجيز تقديم الوصف غير الصريح على الوصف الصريح اه «سمين». {فَاتَّبِعُوهُ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {اتبعوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ}. {وَاتَّقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اتبعوه}. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تُرْحَمُونَ} خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوق لتعليل ما قبلها. {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156)}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَقُولُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ}، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة مصدر مقدر معلل لفعل محذوف جوازا تقديره: وأنزلنا عليكم هذا القرآن كراهية قولكم يوم القيامة، والجملة المحذوفة المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا. {إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر ونفي. {أُنْزِلَ الْكِتابُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {تَقُولُوا}. {عَلى طائِفَتَيْنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ قَبْلِنا}: جار ومجرور ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ومضاف إليه صفة لـ {طائِفَتَيْنِ}. {وَإِنْ كُنَّا}: {الواو}: عاطفة. {أَنْ}: مخففة من الثقيلة ولكنهما مهملة لا عمل لها. فلا يقدر لها اسم وهي هنا بمعنى قد التي للتحقيق وفي «السمين» {وَإِنْ كُنَّا}: {إنْ}: مخففة من الثقيلة عند البصريين، وهي هنا مهملة، ولذلك وليتها الجملة الفعلية، انتهى. وقال أبو حيان: إن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها، ووليها الناسخ .. فهي مهملة انتهى. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه {عَنْ دِراسَتِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقوله: {لَغافِلِينَ}. {لَغافِلِينَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {غافلين}: خبر كان، وجملة كان واسمها في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ} على كونها مقولا لـ {تَقُولُوا}. {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ}. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {تَقُولُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَقُولُوا} السابق منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {تَقُولُوا} السابق على كونها في تأويل مصدر ومجرور بإضافة المصدر المقدر تقديره: أو كراهية قولكم يوم القيامة. {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ} مقول محكي لـ {تَقُولُوا}، وإن شئت قلت: {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {أَنَّا}: ناصب واسمه. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {الْكِتابُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلا لفعل محذوف تقديره: لو ثبت إنزال الكتاب علينا، والجملة المحذوفة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَكُنَّا}: {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية، {كنا}: فعل ناقص واسمه. {أَهْدى}: خبره. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَهْدى}، وجملة كان الناقصة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول لـ {تَقُولُوا}. {فَقَدْ}: {الفاء} (¬1): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

صدقتم فيما تظنون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب .. فأقول لكم: قد حصل ما فرضتم وجاءكم بينة من ربكم، وإن شئت قلت: {الفاء}: تعليلية لمحذوف تقديره: لا تعتذروا بذلك، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، {قد}: حرف تحقيق. {جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {بَيِّنَةٌ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَهُدىً وَرَحْمَةً}: معطوفان على {بَيِّنَةٌ}. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ}. {فَمَنْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {من}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. {كَذَّبَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {بِآياتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبَ}. {وَصَدَفَ}: فعل ماض معطوف على {كَذَّبَ}. {عَنْها}: متعلق بـ {صَدَفَ}. {سَنَجْزِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: في محل النصب مفعول أول مبني على الفتح على الأصح، وقيل: مبني على الياء، وقيل: منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم على لغة هذيل أو عقيل نحو قول الشاعر: نحن اللّذون صبّحوا الصّباحا ... يوم النّخيل غارة ملحاحا {يَصْدِفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {عَنْ آياتِنا}: متعلق {يَصْدِفُونَ}. {سُوءَ الْعَذابِ}: مفعول ثان لـ {يَصْدِفُونَ}. بِما: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية. {كانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه، وجملة {يَصْدِفُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {ما}

المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بصدفهم، الجار والمجرور متعلق بقوله: {سَنَجْزِي}، والمعنى: سنجزيهم بسبب صدفهم وإعراضهم عن آياتنا سوء العذاب. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ}. {هَلْ}: للاستفهام الإنكاري. {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}: ناصب وفعل ومفعول وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: هل ينظرون إلا إتيان الملائكة. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}. وكذلك جملة قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} معطوفة عليها، والتقدير: ما ينتظرون إلا إتيان الملائكة إياهم، أو إتيان ربك، أو إتيان بعض آيات ربك. {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بقوله: {لا يَنْفَعُ} الآتي، وهو مضاف. {يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَمْ}: حرف جزم. {تَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لَمْ}، واسمها ضمير يعود على {نَفْسًا}. {آمَنَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسًا}، وجملة {آمَنَتْ} في محل النصب خبر {تَكُنْ}، وجملة {تَكُنْ} في محل النصب صفة {نَفْسًا} تقديره: نفسا عادمة إيمانها من قبل، ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف؛ لضرورة اتصال الفاعل بضمير المفعول؛ لامتناع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَتْ}. {أَوْ كَسَبَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسًا}. {فِي إِيمانِها}: جار ومجرور متعلق بـ {كَسَبَتْ}. {خَيْرًا}: مفعول به، وجملة {كَسَبَتْ}: من الفعل والفاعل في محل النصب معطوفة على جملة {آمَنَتْ} على كونها خبرا لـ {تَكُنْ} تقديره: لم تكن

مؤمنة من قبل، أو كاسبة في إيمانها خيرا. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {انْتَظِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قُلِ. إِنَّا: {إن}: حرف نصب وتوكيد مبني بفتحة مقدرة على النون المدغمة في نون {نا} منع من ظهورها السكون العارض للإدغام. {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {مُنْتَظِرُونَ}: خبرها مرفوع بالواو، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلِ}. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها. {فَرَّقُوا دِينَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {وَكانُوا شِيَعًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كان} معطوفة على جملة {فَرَّقُوا} على كونها صلة الموصول. {لَسْتَ}: فعل ناقص واسمه. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {ليس} تقديره: كائنا منهم. {فِي شَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله، والمعنى: لست مستقرا منهم في شيء؛ أي: من تفريقهم، ويجوز أن يكون فِي شَيْءٍ هو الخبر، ومِنْهُمْ: حال مقدمة عليه، وذلك على حذف مضاف، والمعنى: لست كائنا في شيء كائن من تفرقهم، فلما قدمت الصفة نصبت حالا انتهى من «السمين»، وجملة {ليس} في محل الرفع خبر {إِنَّ}: تقديره: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا عادم أنت كونك منهم في شيء، ولكنه خبر سببي، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {إِنَّما}: أداة حصر ونفي. {أَمْرُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ تقديره: إنما أمرهم مفوض إلى الله والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل الرفع معطوفة بعاطف مقدر على جملة {ليس} على كونها خبر {إِنَّ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ. {يُنَبِّئُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ}. بِما: {الباء}: حرف جر، {ما}: مصدرية أو موصولة. {كانُوا}: فعل ناقص

واسمه، وجملة {يَفْعَلُونَ} في محل النصب خبر {كانُوا}، وجملة كانُوا صلة {ما} المصدرية تقديره: بفعلهم، أو صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كانوا يفعلونه، والجار والمجرور على كلا التقديرين متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمْ}، ويحتمل كون الباء زائدة، وما بعدها في محل المفعول الثاني لـ {نبأ}. {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {جاءَ}: فعل ماض في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِالْحَسَنَةِ}: متعلق به. {فَلَهُ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبا، {له}: خبر مقدم. {عَشْرُ أَمْثالِها}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {جاءَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِالسَّيِّئَةِ}: متعلق به. {فَلا}: {الفاء}: رابطة الجواب جوازا مشاكلة للجملة السابقة، {لا}: نافية. {يُجْزى}: فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {مِثْلَها}: مفعول ثان لـ {يُجْزى} ومضاف إليه والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابا لها وإنما لم يجزم لفظه مشاكلة مع فعل الشرط وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. وَهُمْ: {الواو}: واو الحال. {هُمْ}: مبتدأ. لا: نافية {يُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير في {يُجْزى}، وجمع الضمير هنا اعتبارا لمعنى {مَنْ}. {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّنِي}: ناصب واسمه ونون وقاية؛ لأنها تقي الحرف المبني على الفتح من الكسرة. {هَدانِي رَبِّي}: فعل ومفعول وفاعل ونون وقاية. {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور صفة متعلق بـ {هَدانِي رَبِّي} على كونه مفعولا ثانيا لها، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلْ}. {دِينًا}: بدل من محل {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} على كونه مفعولا ثانيا لـ {هَدانِي رَبِّي}؛ لأن المعنى: هداني ربي صراطا مستقيما دينا قيما، وهدى يتعدى تارة بإلى كما هنا، وتارة بنفسه كما في قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} وقيل: إنه منصوب على المصدرية المعنوية؛ أي: هداني هداية دين قيم، أو على إضمار عرفني دينا قيما، أو الزموا دينا قيما. {قِيَمًا} صفة لـ {دِينًا}. {مِلَّةَ}: عطف بيان لـ {دِينًا}، أو بدل منه، أو على إضمار أعني. {إِبْراهِيمَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعجمة. {حَنِيفًا}: حال من {إِبْراهِيمَ}. وَما {الواو}: عاطفة. ما: نافية. {كانَ}: فعل ماض، واسمه ضمير يعود على {إِبْراهِيمَ}. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور خبر {كانَ}، والجمل في محل النصب معطوفة على {حَنِيفًا} على كونها حالا من {إِبْراهِيمَ} تقديره: وحالة كونه عادما كونه من المشركين. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة القول الأول. {إِنَّ صَلاتِي} إلى آخر الآيتين مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {صَلاتِي}: اسم {إِنَّ} ومضاف إليه. {وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي}: معطوفات على {صَلاتِي}: جريا على القاعدة المشهورة عند النحاة: إن المعطوفات إذا كثرت، وكان العاطف غير مرتب كالواو .. ويكون العطف على الأول، وإلا فكل على ما قبله. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر {إِنَّ}. {رَبِّ الْعالَمِينَ}: صفة للجلالة ومضاف إليه،

وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {لا}: نافية. {شَرِيكَ}: في محل النصب اسمها. {لَهُ}: جار ومجرور خبر {لا} تقديره: لا شريك موجود له، وجملة {لا} في محل النصب حال من الجلالة تقديره: حالة كونه عادم الشريك له في ذلك. {وَبِذلِكَ}: جار ومجرور متعلق بقوله: {أُمِرْتُ}. {أُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ صَلاتِي} على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من التاء في {أُمِرْتُ}. {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَغَيْرَ اللَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {غَيْرَ اللَّهِ}: مفعول مقدم ومضاف إليه. {أَبْغِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {رَبًّا}: منصوب على التمييز كما صرح به القرطبي، والكرخي، أو على الحال كما في «الجمل». {وَهُوَ}: {الواو}: واو الحال. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع مبتدأ. {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة تقديره: هل أطلب ربا غير الله حالة كونه رب كل شيء وخالقه، فهو كافيّ وحسبي. {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {عَلَيْها}: جار ومجرور متعلق بـ {تَكْسِبُ}، ويحتمل كونه حالا من المفعول المحذوف تقديره: ولا تكسب كل نفس الذنب إلا حالة كون ذنبها مكتوبا عليها. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ}: فعل وفاعل. {وِزْرَ أُخْرى}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}، أو مستأنفة. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ. {إِلى رَبِّكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها. {فَيُنَبِّئُكُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {ينبئكم}: فعل ومفعول،

وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} لأن العاطف هنا مرتب. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {ينبئكم}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. فِيهِ: متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ}. {تَخْتَلِفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كان} تقديره: بما كنتم مختلفين فيه، وجملة {كان} من اسمها وخبرها صلة لـ {ما}، أو وصفة لها. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ}: فعل ومفعولان ومضاف إليه، والإضافة فيه على معنى في، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {جَعَلَكُمْ} على كونها صلة الموصول. {فَوْقَ بَعْضٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {رَفَعَ}. {دَرَجاتٍ}: تمييز محول عن المفعول منصوب بـ {رَفَعَ}؛ لأن الأصل: ورفع درجات بعضكم فوق بعض. {لِيَبْلُوَكُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يبلوكم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لبلائه إياكم؛ أي: لابتلائه إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ {رَفَعَ}. فِي {ما}: جار ومجرور متعلق بـ {يبلوكم}. {آتاكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاكم إياه، وهو العائد على {ما} الموصولة، أو الموصوفة، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {سَرِيعُ الْعِقابِ}: خبر {إِنَّ} ومضاف إليه، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لَغَفُورٌ}: {اللام}: لام ابتداء، {غفور}، خبر أول لـ {إنّ}. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة {إنّ} الأولى على كونها مستأنفة، والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تماما اسم مصدر لأتم الرباعي، أو مصدر له على حذف الزوائد؛ أي: إتماما لنعمتنا على الذي أحسن العمل بما في ذلك الكتاب بالقيام به. {وَصَدَفَ عَنْها} صدف هنا لازم بمعنى أعرض عنها، ويحتمل كونه متعديا. ولذا قال أبو السعود: {وَصَدَفَ}؛ أي: صرف الناس عنها. وفي «القاموس»: وصدف عنه يصدف - من باب ضرب - أعرض، وصدف فلانا صرفه كأصدفه اه. وفي «المختار»: صدف عنه أعرض - وبابه ضرب وجلس - وأصدفه عن كذا: أماله عنه اه. {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} والأمثال جمع مثل، وهو مذكر، فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة المشهورة عندهم: إن المعدود إذا كان مذكرا تؤنث الآحاد من أسماء العدد، وبالعكس؛ لأنها تجري على خلاف القياس مطلقا ركبت أم لا، إلا لفظ العشرة في حالة التركيب كما قال ابن مالك في «الخلاصة»: ثلاثة بالتّاء قل للعشره ... في عدّ ما آحاده مذكّره فالجواب: إن الكلام على حذف موصوف تقديره: عشر حسنات أمثالها، فالحسنات مؤنث، فناسب تذكير العدد. وفي «السمين» إنما ذكر اسم العدد هنا مع أن المعدود مذكر لأوجه: منها: أن الإضافة لها تأثير، فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث، فأعطي حكم المؤنث في سقوط التاء من عدده، ولذلك يؤنث فعله حالة إضافته لمؤنث نحو: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}. ومنها: أن هذا المذكر عبارة عن مؤنث فروعي المراد منه دون اللفظ. ومنها: أنه روعي الموصوف المحذوف، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، وترك العدد على حاله، ومثله مررت بثلاثة نسابات، ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاة للموصوف

المحذوف؛ إذ الأصل: بثلاثة رجال نسابات. وقال أبو عليّ: اجتمع هنا أمران كل منهما يوجب التأنيث، فلما اجتمعا قوي التأنيث: أحدهما: أن الأمثال في المعنى حسنات، فجاز التأنيث. والآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنث وإن كان مذكرا. اه. {قِيَمًا} - بكسر (¬1) القاف وفتح الياء - على قراءة ابن عامر وعاصم والأخوين كما مر على أنه مصدر نعت به، وكان قياسه قوما بالواو كعوض؛ لأنه من قام يقوم، فأعل لإعلال فعله. وقرىء: {قيما} - بتشديد الياء - على وزن فيّعل كسيد من ساد يسود، وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة، والمستقيم أبلغ منه باعتبار الصيغة. {حَنِيفًا} الأصل (¬2) في الحنيف: المائل عن الضلالة إلى الاستقامة، والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم. اه «خازن». وفي «القاموس»: الحنيف كأمير: الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه، وكل من حج، أو كان على دين إبراهيم عليه السلام. وتحنف إذا عمل عمل الحنيفية، أو اختتن، أو اعتزل عبادة الأوثان، واحتنف إليه: مال. اه. وفي «المختار»: الحنيف المسلم، وتحنف الرجل إذا عمل عمل الحنيفية، ويقال احتنف؛ أي: اعتزل الأصنام وتعبد اه. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ} أصل (¬3) الوزر الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} وهو هنا الذنب كما في قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ}. قال الأخفش: يقال: وزر يوزر كوجل يوجل، ووزر يزر كوعد يعد وزرا، ويجوز فيه إزرا بقلب الواو همزة، يقال: وزره يزره؛ أي: حمله يحمله. {خَلائِفَ الْأَرْضِ} الخلائف جمع خليفة كصحيفة وصحائف، فهذا من قبيل قول ابن مالك: ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني بزيادة.

والمد زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد والخليف: هو من يخلف من كان قبله في مكان أو عمل أو ملك. وفي «القرطبي»: والخلائف جميع خليفة ككرائم جمع كريمة، وكل من جاء بعد من مضى؛ فهو خليفة اه. وفي «المصباح»: والخليفة: أصله خليف بغير هاء؛ لأنه بمعنى الفاعل دخلته الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة، ويكون وصفا للرجل خاصة، ويقال: خليفة آخر بالتذكير، ومنهم من يقول: خليفة أخرى بالتأنيث، ويجمع باعتبار أصله على خلفاء مثل شرفاء، وباعتبار اللفظ على خلائف اه. {لِيَبْلُوَكُمْ} والابتلاء الاختبار والامتحان، يقال: بلا يبلو بلاء وبلوى من باب عدا، يقال: بلاه بلوى وبلاء جربه واختبره، وبلاه الله يبلوه بلاء - بالمد - إذا اختبره، وهو يكون بالخير والشر، اه «مختار». البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا}، {أَوْ تَقُولُوا} وفي: {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} وفي: {يَصْدِفُونَ} وفي: {يَأْتِيَ} وفي: {جاءَ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله تعالى: {لَكُنَّا أَهْدى} {وَهُدىً} وفي قوله: {وَصَدَفَ} {ويَصْدِفُونَ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}. ومنها: الطباق بين قوله: {بِالْحَسَنَةِ} وقوله: {بِالسَّيِّئَةِ}، وبين: {وَمَحْيايَ} {وَمَماتِي}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} استعار التفريق الذي هو حقيقة في الأجسام لاختلافهم في الآراء، ثم اشتق منه فرقوا بمعنى: اختلفوا على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: {هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} لأن الصراط حقيقة في الطريق الحسي استعارة للدين.

ومنها: التعريض في قوله: {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لأنه عرض بشركهم. ومنها: عطف العام على الخاص، في قوله: {خَلَقَ} إذا فسرنا النسك بالعبادة الشاملة للصلاة. ومنها: الاستفهام الإنكاري في عدة مواضع كقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ} وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا}. ومنها: التهديد والوعيد في قوله: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}، وفيه أيضا الجناس المغاير. ومنها: ما هو المعروف باللف عند البيانيين في قوله: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} وأصل الكلام فيه يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لفّ الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا بلاغة وإعجازا واختصارا، أفاده صاحب «الانتصاف» حاشية «الكشاف». ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {وِزْرَ أُخْرى} لأنه ليس هناك في الحقيقة أحمال على الظهور، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب. ذكره الشريف الرضي. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا} وحق العبارة يصدفون عنها لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم. ومنها: زيادة التأكيد باللام، في قوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ترجيحا لجانب الغفران على سرعة العقاب. وعبارة «الفتوحات» هنا: باللام في الجملة الثانية فقط، وقال في الأعراف باللام المؤكدة في الجملتين؛ لأن ما هنا وقع بعد قوله: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ...} الخ، وبعد قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ} فأتى باللام المؤكدة في الجملة الثانية فقط ترجيحا للغفران على سرعة العقاب، وما هناك وقع بعد قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ

ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ} وقوله: {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} فأتى باللام في الجملة الأولى لمناسبة ما قبلها، وفي الثانية تبعا للام في الأولى، اه «كرخي». ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الأنعام بمنه وكرمه وتوفيقه في تاريخ: 19/ 1/ 1410 هـ.

سورة الأعراف

سورة الأعراف وهي مكية كلها إلا خمس آيات، أو ثماني آيات؛ فهي مدنية. وروي (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكية إلا خمس آيات أولها: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ} إلى قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} وبه قال قتادة. وقال مقاتل: ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى قول: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}. وعدد آياتها مئتان وست آيات أو خمس، وعدد كلماتها ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمس وعشرون كلمة، وعدد حروفها أربعة عشر ألف حرف وعشرة أحرف؛ وهي أطول السور المكية، وسميت هذه السورة بالأعراف؛ لذكر لفظ الأعراف فيها من باب تسمية الشيء بجزئه. وقد روي (¬2): أنها نزلت قبل سورة الأنعام، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان؛ وهو أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها. المناسبة: ومناسبة ذكرها بعد سورة الأنعام؛ لأن هذه (¬3) كالشرح والبيان لما أوجز في سورة الأنعام، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقصص الرسل قبله، وأحوال أقوامهم، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} وعلى بيان القرون كما قال: {كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم، وجاءت هذه مفصلة لذلك، فبسطت فيها قصة آدم، وفصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

الناسخ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ»: سورة الأعراف كلها محكمة إلا آيتين: أولاهما: قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ} الآية (180). نسخت بآية السيف. ثانيتهما: قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)} الآية (199). وهذه الآية من عجيب المنسوخ؛ لأن أولها منسوخ، وآخرها منسوخ، وأوسطها محكم قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} يعني: الفضل من أموالهم (¬1) والأمر بالمعروف محكم، وتفسيره معروف، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}: منسوخ بآية السيف انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة السابقة: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) في السورة السابقة {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} واستطرد منه لما بعده إلى قوله في آخر السورة: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية .. ذكر ما يكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي بقوله: {المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وذكر الأمر باتباعه بقوله: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} كما أمر به في قوله: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} وهذا وجه المناسبة بين آخر الأولى وأول الثانية. وأما وجه المناسبة بين جملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

السورتين؛ فقد تقدم بيانه آنفا. قوله تعالى: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول .. أمر الأمة باتباعه، وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4)} ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرهبان، والكهان والأحبار، والنار والكواكب وغير ذلك. قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الايمان، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وأن لا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع .. أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك، ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه، والتذكير بما حلّ بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين، وإصرارهم على أباطيل أوليائهم. قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬2) الرسل في الآية السالفة بالتبليغ، وأمر الأمم بالقبول والمتابعة، وذكرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا .. قفى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة، وأنه في ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله. قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬3) فيما سلف أن واضع الدين هو الله سبحانه وتعالى، فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء، وقفى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} وذكر عذاب الآخرة بقوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} وبقوله: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[1]

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ..} أردف ذلك بذكر نعمه على عباده بتمكينهم في الأرض، وخلق أنواع المعايش فيها مع بيان أن كثرة النعم توجب عليهم الطاعة له. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) عباده في الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين لهم في الأرض، وخلق أنواع المعايش لهم فيها .. قفى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنساني مستعدا للكمال، وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه. قال أبو حيان: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما قدم (¬2) ما يدل على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاص، فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه، والعاصي بضده .. أخذ ينبه على أن هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجود، فامتثل من امتثل، وامتنع من امتنع، وأنه تعالى أمر آدم ونهى، فحكى عنه ما يأتي خبره، فنبه أولا على موضع الاعتبار، وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكنة من بدائع الصانع. التفسير وأوجه القراءة 1 - {المص} (1) هذه حروف تكتب بصورة كلمة ذوات الأربعة الأحرف، لكنّا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف، فنقول: ألف لام ميم صاد، وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه .. تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء، فكأنه أداة استفتاح بمنزلة (ألا) و (ها) التنبيه. وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب هي التي نزلت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحي، وما نزل منها بالمدينة كالزهراوين البقرة وآل عمران؛ فالدعوة فيها موجهة إلى أهل الكتاب، وهكذا الحال في بعض السور كمريم والعنكبوت والروم وص ون، فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوة والكتاب كالفتنة في الدين بإيذاء الضعفاء؛ لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة، والإنباء بقصص فارس والروم، ونصر الله للمؤمنين على المشركين، وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويرى بعض العلماء أنها أسماء للسور والأسماء المرتجلة لا تعلل، كما يرى آخرون أن الحكمة في ذكرها بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الأحرف المفردة التي يتألف منها الكلام العربي، ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ليؤديهم النظر إلى أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام خالق القوى والقدر. وروي (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه: أنا الله أفصّل، وعنه: أنا الله أعلم وأفصّل، وعنه: أن {المص (1)} قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: {المص (1)} اسم من أسماء القرآن. وقال الحسن: هو اسم للسورة. وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور. وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والصاد مفتاح اسمه صادق وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، وهي سره في كتابه العزيز؛ وهذا القول هو الأصح الأسلم. وقيل: هي حروف اسمه الأعظم. وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده، وقد بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة. قال أبو حيان (¬2): وهذه الأقوال في الحروف المقطعة، لولا أن المفسرين شحنوا بها كتبهم خلفا عن سلف .. ضربنا عن ذكرها صفحا، فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية، وأصحاب الألغاز والرموز. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[2]

2 - {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}؛ أي: هذا القرآن كتاب أنزل إليك من عند ربك يا محمد، ووصفه بالإنزال من عنده تعالى دال على عظم قدره وقدر من أنزل إليه؛ أي: هذا القدر الذي (¬1) كان قد نزل منه وقت نزول هذه الآية كتاب أنزل؛ أي: أنزل الله تعالى إليك يا محمد {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ} وقلبك {حَرَجٌ} وضيق {مِنْهُ}؛ أي: من تبليغه خوفا من تكذيب قومك؛ أي: لا يضيق (¬2) صدرك من الإنذار به وإبلاغه من أمرت بإبلاغه إليهم، واصبر لأمري فيما حملتك من عبء النبوة كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الله معك. وقد كلف صلى الله عليه وسلم هداية الثقلين، وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة والطعن والإعراض، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال في سورة الحجر: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97)} وقال في سورة النحل: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} وقال في سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}. ويراد بالنهي عن مثل هذا الأمر الطبيعي الاجتهاد في مقاومته، والتسلي عنه بوعد الله، والتأسي بمن سبقه من الرسل أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} متعلق بـ {أُنْزِلَ}؛ أي: أنزل إليك ذلك الكتاب لتنذر وتخوف به الكافرين من عذاب الله تعالى {وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ولتذكر وتعظ به المؤمنين به. وقال «الخازن»: وهذا من المؤخر الذي معناه التقدير، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه، والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان، سواء أكانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا. ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير. (¬2) المراغي.

[3]

والخلاصة (¬1): أنه أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان ذكرى نافعة مؤثرة. 3 - قل يا محمد لهؤلاء المشركين، أو للناس كافة: {اتَّبِعُوا} أيها الناس {ما أُنْزِلَ}؛ أي: الوحي الذي أنزل {إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} الذي فيه الهدى والنور والبيان بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ وهو القرآن وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل لهم أيها الرسول: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وخالقكم ومدبر أموركم، فهو وحده الذي له الحق في شرع الدين لكم، وفرض العبادات عليكم، وتحليل ما ينفعكم، وتحريم ما يضركم؛ إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم {وَلا تَتَّبِعُوا}؛ أي: ولا تتخذوا {مِنْ دُونِهِ} تعالى؛ أي: غيره {أَوْلِياءَ} تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعونه لكم من الشياطين والكهان، والرهبان والأحبار، وقال «الخازن»: ولا تتخذوا (¬2) الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك أولياء، فتتبعوهم، والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن، فيأمروكم بعبادة الأصنام، واتباع البدع والأهواء الفاسدة، انتهى. وفي «البيضاوي»: وقيل: الضمير في {مِنْ دُونِهِ} لما أنزل؛ أي: {وَلا تَتَّبِعُوا} من دون دين الله دين أولياء انتهى. والمعنى: أي ولا تتخذوا من أنفسكم، ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم أولياء تولونهم أموركم، وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد، والابتداع في الدين، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم منكم، فيجب عليكم تقليدهم، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم، وتقصدونهم في جلب النفع لكم، أو رفع الضر عنكم زاعمين أنهم يقربونكم إلى الله زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة. والخلاصة: أن الله وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير والخلق والتشريع، وله وحده الخلق والأمر، وبيده النفع والضر. وقرأ الجحدري: {ابتغوا ما أنزل إليكم} من الابتغاء. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار: {ولا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[4]

تبتغوا} من الابتغاء أيضا. {قَلِيلًا ما}؛ أي: تذكرا قليلا؛ أي: قلة أو زمانا قليلا؛ أي: قلة {تَذَكَّرُونَ}؛ أي: تتعظون أيها المشركون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. والمعنى (¬1): أنتم ما تتعظون بقليل ولا كثير، والمراد: نفي التذكر من أصله، لا إثبات القليل منه. وفي هذا إيماء إلى النهي عن طاعة الخلق في أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه، كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم، وزادوا على الوحي من العبادات، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فكل من أطاع أحدا في حكم شرعي لم ينزله الله .. فقد اتخذه ربا. واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على رسوله؛ لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته، وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقد صح الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» رواه مسلم (2362) عن رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل - تلقيح النخلة بطلع الذكر -. وقرأ حفص وحمزة والكسائي (¬2): {تَذَكَّرُونَ} - بتاء واحدة وتخفيف الذال -. وقرأ ابن عامر {يتذكرون} - بالياء والتاء وتخفيف الذال -. وقرأ باقي السبعة: {تذّكّرون} بتاء الخطاب وتشديد الذال. وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتائين. وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال. 4 - {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ}؛ أي: وكثير من أهل قرية وبلدة {أَهْلَكْناها}؛ أي: أردنا إهلاك أهلها لما كذبوا رسلنا {فَجاءَها}؛ أي: فجاء أهلها {بَأْسُنا}؛ أي: عذابنا {بَياتًا}؛ أي: حالة كونهم بائتين واقعين في الليل كقوم لوط {أَوْ هُمْ قائِلُونَ}؛ أي: أو حالة كونهم قائلين؛ أي: مستريحين أو نائمين وقت الظهيرة كقوم ¬

_ (¬1) تنوير المقياس. (¬2) البحر المحيط.

[5]

شعيب، مأخوذ من القيلولة؛ وهي استراحة وسط النهار، وإن لم يكن معها نوم. قال أبو حيان (¬1): وخص مجيء البأس بهذين الوقتين؛ لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة، فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع؛ لأنه على حين غفلة من المهلكين من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب بهم، وفيه وعيد وتخويف للكفار، فكأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا نزل دفعة واحدة، فلا تغتروا بأحوالكم فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالي، ولا خدع الأيام، ولا يغتر بالرخاء فيعده علامة على أنه مستحق له، فهو مظنة الدوام. وفي ذلك (¬2): تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. {فَما كانَ دَعْواهُمْ}؛ أي: دعاءهم وتضرعهم واستغاثتهم، أو ما كان قولهم: {إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا}؛ أي: حين جاءهم عذابنا، ورأوا أمارته في الدنيا إلا أن قالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي: مشركين؛ أي: ما كان قولهم وقتئذ إلا اعترافهم بظلمهم تحصرا وندامة، وهيهات أن ينفع الندم. 5 - أي: فما كان دعاءهم ربهم واستغاثتهم به حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهدوا ببطلانه تحسرا وندامة، وطمعا في الخلاص، ولكن أنى ينفع الندم، وقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة. وفي الآية من العبرة أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله في الدنيا .. يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب، وقلما يشعر المرء بعقاب في الدنيا على الذنوب؛ لأنه يأتي على التراخي غالبا، فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي، وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وقلما يعرفها غير الأطباء، ومن ثم لا يشعر بها السكارى، وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغشيان يسهل عليهم احتماله، وترجيح لذة النشوة عليه إلى أنه لو علمها بعد، فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة في السكر حتى تحمله على التوبة إذ داء الخمّار يزمن، وحب السكر يضعف الإرادة. وعقاب الأفراد على الذنوب في الدنيا لا يطرد في الأمم، فعقابها في الدنيا على ما تجترح حتم لا شبهة فيه، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون في الأفراد، ويختلف باختلاف أحوال الأمة في القوة والضعف، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان، وعدمت الثقة بين أفرادها، واختلّ نظام الأمن فيها، وكثر فيها الفسق والفجور .. تسوء حالها، وتنحل قواها، وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها، وتضعف منعتها، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى، ولا يزال أمرها يأخذ في التدهور - السقوط في مهواة التسفل - والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر، ويمتص ثروتها، ويجعل أهلها أذلة مستضعفين، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. وربما عمّها الجهل، وران على قلوبها الفساد، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل، واقترفت من إثم، فترضى باستذلال الغاصب واستعباده واستئماره، كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب، كما هو مشاهد في بعض شعوب إفريقيا، وإذا أرادت لها علاجا، وتمنت لها دواء من دائها الدوي، وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية .. لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم، والتوبة الصادقة، والعمل الطيب الذي تصلح به القلوب، وتستقيم الأمور، وهاكم ما قاله العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث، وعم الجدب: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة. وفي هذا عبرة أيما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها، وخوت صروح عظمتها، وقد كانت أجدر بهدى القرآن، ولكن أنى لها بذلك، وقد هجره

[6]

الخاصة، وتبعهم العامة؛ إذ جهلوا أحكامه وحكمه حتى لقد بلغ الأمر بنابتتها، ألا ترى سببا لركود ريحها إلا اتباع القرآن، والعمل بهذا الدين: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. 6 - {فـ} وعزتي وجلالي {لَنَسْئَلَنَّ} الأمم {الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}؛ أي: الأمم التي أرسلت إليهم الرسل جميعا في موقف الحساب يوم القيامة توبيخا وتقريعا لهم هل بلغت الرسل إليكم أوامري، وماذا أجبتم، وماذا عملتم من إيمان وكفر؟ ولا (¬1) معارضة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام، وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)} وقوله: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لأن ليوم القيامة مواقف متعددة، والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض. {وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}؛ أي: الرسل عن إبلاغ تكاليفي إلى الأمم تأنيسا واستشهادا لهم. قال ابن عباس: معناه نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلغوه، والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم كما مر. 7 - {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على المرسلين والأمم حين سكتوا بما عملوا في الدنيا {بِعِلْمٍ}؛ أي: فلنخبرنهم حين سكتوا عن الجواب بما فعلوا في الدنيا إخبارا ناشئا عن علم ويقين. أي: فلنقصن على الرسل، وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، وقد روي عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما يعملون. {وَما كُنَّا غائِبِينَ} عن إبلاغ الرسل، وعما أجابت به أممهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم؛ أي: وما كنا غائبين عنهم في وقت من الأوقات، ولا حال من الأحوال، بل كنا معهم نسمع ما يقولون، ونبصر ما يعملون، ونحيط ¬

_ (¬1) المراغي.

علما بما يسرون وما يعلنون كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}. وقال ابن كثير: يخبر (¬1) تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا، وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير؛ لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، انتهى. وقال أبو حيان: والمعنى: نسرد عليهم أعمالهم قصة قصة بعلم منا لذلك، واطلاع عليه، وما كنا غائبين عن شيء منه، بل علمنا محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها، وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع، حيث يقرون بالظلم، وتشهد عليهم أنبياؤهم، ويقص عليهم أعمالهم انتهى. وفي هذا إيماء إلى أن السؤال لم يكن للاستعلام والاستبانة لشيء مجهول عنه تعالى، بل للإعلام والإخبار بما حدث منهم توبيخا لهم، وتأنيبا على إهمالهم. وهذا القصص (¬2) هو الذي يكون به الحساب، ويتلوه الجزاء، وقد دل عليه الكتاب الكريم في مواضع عدة، ودلت عليه السنة، فمن ذلك ما رواه ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع يسأل عن الناس، والرجل راع يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده». وما رواه المقدام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه راية يحملها، ويتبعونه فيسأل عنهم ويسألون عنه». وما رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمي مرفوعا «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه». وروى الحاكم وابن ماجه حديث شداد بن أوس مرفوعا «الكيس من دان - حاسب - نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني». ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) المراغي.

[8]

8 - {وَالْوَزْنُ}؛ أي: وزن (¬1) الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، أو وزن صحائف الأعمال، أو وزن فاعليها ثلاثة أقوال: والأول هو الراجح، والوزن: هو عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالميزان، وهو مبتدأ خبره {يَوْمَئِذٍ}، وقوله: {الْحَقُّ} صفة للوزن؛ أي: والوزن العدل السوي واقع يومئذ؛ أي: يوم إذ يسأل الله تعالى الرسل وأممهم؛ وهو يوم القيامة {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ويصح أن يكون الظرف صفة له، والخبر الحق؛ أي: والوزن (¬2) الواقع في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم، ويقص عليهم كل ما كان منهم هو الحق؛ أي الذي تعرف به حقائق الأمور وما يستحقه كل أحد من ثواب وعقاب. فإن قلت: أليس (¬3) الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟. قلت: فيه حكم كثيرة: منها: إظهار العدل، وأن الله تعالى لا يظلم عباده. ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة. ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة، ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، ثم في صحائف الملائكة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه تعالى. {فَمَنْ ثَقُلَتْ} ورجحت {مَوازِينُهُ}؛ أي: حسناته على سيئاته؛ فهو (¬4) جمع موزون، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات والحسنات، أو المعنى: فمن رجحت وثقلت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات؛ أي: ثقلت كفة اليمين بسبب قوة الإيمان وكثرة الحسنات على كفة الشمال؛ فهو جمع ميزان، فجمعه حينئذ ¬

_ (¬1) مدارك التنزيل. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن. (¬4) البيضاوي.

[9]

للتعظيم {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي (¬1): الناجون غدا من عذاب الله، والفائزون بجزيل ثوابه. أي: فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرت الحسنات .. فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب، والحائزون للنعيم في دار الثواب 9 - {وَمَنْ خَفَّتْ} ونقصت {مَوازِينُهُ}؛ أي: حسناته، أو موازين أعماله الحسنة بسبب الكفر وكثرة المعاصي {فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا} وغبنوا {أَنْفُسَهُمْ} وحرموها سعادتها، وحظوظها من جزيل ثواب الله تعالى وكرامته {بـ} سبب {ما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ}؛ أي: يجحدون؛ أي: بسبب كفرهم وجحودهم، وتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن؛ وهم الكفار، يعني (¬2): سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرون بها. والمعنى: ومن خفت موازين أعماله بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن، أو بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات .. فأولئك الموصوفون بخفة الموازين هم الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا؛ إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي، وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم. والخلاصة (¬3): أن المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، فمن مات مؤمنا فهو مفلح، وإن عذب على بعض ذنوبه بمقدارها، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم في خسران عظيم، وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أصحاب الأعراف، وسيأتي ذكرهم بعد. والحكمة في وضع ذلك الميزان (¬4): أن يظهر ذلك الرجحان لأهل الموقف، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله، وكمال درجته لأهل الموقف، فإن كان ظهور الرجحان في طرف السيئات، فيزداد حزنه وخوفه في الموقف. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) المراح.

ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان، فبعضهم قال: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات. وآخرون قالوا: بل يظهر رجحان في الكفة. قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، وكفار، ومخلّطون وهم الذين يأتون الكبائر: فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا، بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر، وتثقل الكفة النيرة، ويؤمر بهم إلى الجنة، ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته. وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة، ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة، فيأمر الله تعالى بهم إلى النار، ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره. وأما الذين خلطوا: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل، فإن كانت الحسنات أثقل، ولو بصوأبة دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل ولو بصوأبة دخل النار إلا أن يعفو الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف. هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كان عليه تبعات، وكانت له حسنات كثيرة جدا، فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه، ثم يعذب على الجميع. قال أبو إسحاق الزجاج (¬1): أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال. وقال القرطبي: التي توزن هي الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، والحق أن التي توزن هي الأعمال. فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار». قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته قال: أولئك أصحاب الأعراف. والذي (¬1) عليه المعول في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة؛ فهو حق لا ريب فيه، فنؤمن به ولا نحكم رأينا في كيفيته، فنؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال، والإيمان، والأخلاق، ولا نبحث عن صورته وكيفيته. 10 - {وَ} عزتي وجلالي {لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ} يا بني آدم {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا، وأقدرناكم على الصرف فيها بالزراعة والغراس والبناء. وقال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها، والتصرف فيها {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها}؛ أي: في الأرض {مَعايِشَ} جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها؛ أي: جعلنا لكم فيها أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم مما تأكلون وتشربون وتلبسون {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} الله تعالى؛ أي: تشكرون شكرا قليلا؛ أي: قلة على هذا الفضل والإنعام بالتمكين والجعل المذكورين. وقرأ الجمهور (¬2): {مَعايِشَ} - بالياء - وهو القياس؛ لأن الياء في المفرد هي أصل لا زائدة، فتهمز، وإنما تهمز الزائدة نحو صحائف في صحيفة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية: {معائش} - بالهمز - وليس بالقياس، لكنهم رووه وهم ثقات، فوجب قبوله، وشذ هذا الهمز كما شذ في منائر جمع منارة، وأصلها منورة، وكان القياس مناور. والمعنى (¬3): وعزتي وجلالي لقد جعلنا لكم يا بني آدم في الأرض أوطانا تتبؤونها وتستقرون فيها، وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة مني عليكم، وإحسانا مني إليكم، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية من نبات وأنعام، وطير وسمك، ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

من جهة إلى أخرى، تتقدم بتقدم العلم والاختراع من طيارات وسيارات، وقطر برية، وبواخر وسفن بحرية، وسبل متعددة لمداواة المرضى بالعقاقير المختلفة على يد نطس الأطباء إلى نحو ذلك، وكل ذلك يقتضي منكم الشكر الكثير، ولكن الشكر من العباد قليل كما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} ومن ثم عقب هذا بقوله: {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ}؛ أي: وأنتم قليلوا الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم لا كثيروه كثرة تناسب كثرة الانتفاع بها، فقد عبدتم سواي واتخذتم الأولياء والشفعاء من دوني. وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها، ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها، فهذه النعم المعيشة ما خلقت إلا لحفظ الحياة الروحية التي بها تزكو النفس، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم، والسعادة المستقرة إلى غير نهاية. وبالجملة: فنعم الله على الإنسان كثيرة، فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر، وبعضهم يكون قليل الشكر. 11 - وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ...} إلخ. تذكير (¬1) لنعمة عظيمة على آدم سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم كافة؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا أباكم آدم، وأوجدناه من العدم حين كان طينا غير مصور {ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ}؛ أي: ثم بعد خلقه صورناه حين كان بشرا بتخطيطه وشق حواسه، فالكلام على حذف مضاف كما قدرناه، فالخطاب لبني آدم، والمراد أبوهم، فهو من باب الخطاب لشخص مرادا به غيره. وقيل: الخطاب لآدم، فكأنه قال: ولقد خلقناك يا آدم، ثم صورناك، وإنما خاطبه بصيغة الجمع، وهو واحد تعظيما له، ولأنه أصل الجميع. والمعنى: ولقد خلقنا مادة هذا النوع الإنساني من الصلصال والحماء المسنون؛ أي: من الماء والطين اللازب، فمنه خلق الإنسان الأول، ثم جعلنا ¬

_ (¬1) أبو السعود.

[12]

من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، وقد يكون المعنى: إنا قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه، ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه. {ثُمَّ} بعد إكمال خلقه وتصويره {قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}؛ أي: أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريما له ولذريته سجود تحية وإكرام بالانحناء. فالمراد (¬1) به السجود اللغوي، وهو الانحناء، وقيل: إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله، وآدم قبلة كالكعبة {فَسَجَدُوا}؛ أي: سجد الملائكة بعد الأمر؛ أي: سجد جميعهم لآدم، وذلك قبل دخول الجنة {إِلَّا إِبْلِيسَ} أبا الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم، فغلّبوا عليه في قوله: {لِلْمَلائِكَةِ ...} الخ، وقيل: هو أبو الشياطين فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد؛ أي: سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وامتنع من السجود له تكبرا وعنادا، فالاستثناء منقطع {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} له؛ أي: ممن سجدوا له. والمعنى: وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا، وصار مستعدا لأن يكون خليفة في الأرض، وعلمناه الأسماء كلها .. قلنا لجماعة الملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}؛ أي: سجد الملائكة جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، وهو من الجن لا منهم، وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم، لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده. 12 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى توبيخا للّعين {ما مَنَعَكَ} يا إبليس {أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بالسجود لآدم مع الملائكة؛ أي: أيّ شيء منعك من السجود لآدم حين أمرتك بالسجود له؟ فعلى (¬2) هذا التأويل تكون {لا} زائدة في قوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ}؛ أي: أقسم زيدت لتأكيد معنى النفي في منعك بدليل قوله في سورة ص: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} بحذفها، وهو الأصل؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، فيصير المعنى؛ أي شيء منعك من امتثال أمري، ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الخازن.

فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين؟ وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج. وقد تكون {لا} غير زائدة، والمنع بمعنى الحمل والاضطرار، وعليه فالمعنى: ما حملك واضطرك ودعاك إلى أن لا تسجد. وخلاصة ذلك: أي شيء عرض لك، فحملك على أن لا تكون مع الملائكة في امتثال أمري؟ وقال ابن (¬1) كثير: واختار ابن جرير أن {مَنَعَكَ} مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك، وهذا القول قوي حسن، لأنه (¬2) لا يجوز أن يقال: إن كلمة من كتاب الله تعالى زائدة أو لا معنى لها. {قالَ} اللعين الخبيث مجيبا للمولى عما سأله عنه {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}؛ أي: إنما لم أسجد لآدم؛ لأني أنا خير وأفضل من آدم وأشرف منه، فكيف يسجد الفاضل ويعظم المفضول ولو أمره ربه؟ وإنما (¬3) قال في الجواب: أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا؛ لأنّ في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله، ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ}؛ أي: وإنما كنت خيرا منه؛ لأنني خلقتني من نار نورانية، فهي أغلب أجزائي {وَخَلَقْتَهُ}؛ أي: وخلقت آدم {مِنْ طِينٍ} ظلماني، وهو أغلب أجزائه، فالنار أفضل من الطين؛ لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة، مجاورة لجواهر السموات، والطين مظلم سفلي كثيف بعيد عن مجاورة السموات، والمخلوق من الأفضل أفضل. وقد أخطأ إبليس اللعين طريق الصواب، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه، والنار خفيفة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، وهو سبب للحياة من إنبات النبات، وهي سبب لهلاك الأشياء، وهو سبب جمع الأشياء، وهي سبب تفريقها، ولولا سبق شقاوته ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

وصدق كلمة الله عليه .. لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري، ومع ذلك سجدوا طاعة لربهم. ولا شك (¬1) أن في جوابه هذا ضروبا من الجهالة، وأنواعا من الفسوق والعصيان، تتجلى وتتضح لك فيما يلي: 1 - اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه. 2 - احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لأمر ربه يعلم أن لله الحجة البالغة والحكمة الكاملة فيما يفعل، ويأمر وينهى. 3 - أنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له، وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق، وترفع عن مرتبة العبودية، والمرؤوس في الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه .. صار الأمر فوضى، والعاقبة وخيمة. فلا يصح عمل، ولا يتم الفوز والنجاج. وقد روى أبو نعيم في «الحلية» عن جعفر الصادق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم. قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين». قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قربه الله يوم القيامة بإبليس. 4 - استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء، ولا تثبت بالبرهان إلى أن كثيرا من المواد النفسية خسيسة الأصل، ألا ترى أن أصل المسك الدم؛ وهو أطيب الطيب إلى أن الملائكة خلقوا من النور، وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم. 5 - أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي في هذه الأرض إما من الطين مباشرة، أو بالواسطة، وهي خير ما فيها، وليس للنار شيء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها. ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

6 - أنه قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة لربهم، وكل ما قدمنا مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار بين الله وإبليس، ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان؛ إذ جعل الملائكة - وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم - مسخرين لآدم وذريته، وجعل هذا النوع الإنساني مستعدا للانتفاع بالأرض كلها بعلمه بسنن الله فيها وعمله بهذه السنن، فالانتفاع بمائها وهوائها، ومعادنها ونباتها وحيوانها، وكهربائها ونورها، وبذلك ظهرت حكمة الله وآياته فيها كما اصطفى بعض أفراده، وخصهم بوحيه ورسالته، وجعلهم مبشرين بدينه وهديه، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوا له، وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله تعالى، وإقامة سننه في صلاح الخلق، وبين روح الجن الذي يغلب على شرارهم - وهم الشياطين - التمرد والعصيان، كما أنه آتى الإنسان إرادة واختيارا وإن شاء صعد إلى أفق الملائكة، وإن أراد هبط إلى أفق الشيطان. فائدة: قال هنا (¬1): {ما مَنَعَكَ} وفي سورة الحجر: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} وفي سورة ص: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ..} الآية. اختلاف العبارات عند الحكاية: دل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاث معاص: مخالفة الأمر، ومفارقة الجماعة، والاستكبار مع تحقير آدم. وقد وبخ على كل واحدة منها، لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه: اكتفاء بما ذكر في موطن آخر، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة والإسراء والكهف وطه اهـ «أبو السعود» انتهت. 13 - {قالَ} المولى سبحانه وتعالى للعين عليه لعائن الله {فَاهْبِطْ مِنْها}؛ أي (¬2): بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي اهبط وانزل من الجنة، وقيل: من ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) ابن كثير.

[14]

السموات إلى الأرض. والهبوط (¬1): الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهر والهوان والاستخفاف {فَما يَكُونُ لَكَ}؛ أي: فما ينبغي لك ويليق بك {أَنْ تَتَكَبَّرَ} وتتعظم وتعصي {فِيها}؛ أي: في الجنة، أو في السموات، فإنها (¬2) مكان الخاشع والمطيع، وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة، وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه؛ لتكبره لا لمجرد عصيانه. وقال الخازن: يعني: فليس لك أن تتكبر في الجنة عن أمري وطاعتي؛ لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة، أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل، فأما غير الجنة والسماء .. فقد يسكنها المتكبر عن طاعة الله تعالى، وهم الكفار الساكنون في الأرض. وجملة قوله: {فَاخْرُجْ} لتأكيد الأمر بالهبوط. وجملة قوله: {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} تعليل للأمر بالخروج؛ أي: فاخرج يا إبليس من الجنة، أو من السموات إنك يا لعين من الصاغرين؛ أي: من المهانين الذليلين بالعقوبة. وقال النسفي: أي (¬3) من أهل الصغار والهوان على الله، وعلى أوليائه يذمك كل إنسان، ويلعنك كل لسان؛ لتكبرك، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار، وهكذا كل من تردى برداء الاستكبار .. عوقب بلبس رداء الهوان والصغار، ومن لبس رداء التواضع .. ألبسه الله رداء الترفع. وفي الحديث: «من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله». 14 - {قالَ} اللعين عند أمر المولى له بالخروج {أَنْظِرْنِي}؛ أي: أجلني وأمهلني وأخرني، فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}؛ أي: قال رب أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته من قبورهم، فأكون أنا وذريتي أحياء ما داموا أحياء، وأشهد انقراضهم وبعثهم، وهو يوم النفخة الثانية عند قيام الساعة، ولا موت حينئذ؛ لأن الموت قد تم عند النفخة الأولى، فغرضه الفرار من الموت، والنجاة من ذوق مرارته، فطلب البقاء والخلود، فلم يجب إلى ما سأل، بل غاية ما أمهله الله تعالى إلى النفخة الأولى 15 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى في جواب سؤاله: {إِنَّكَ} يا إبليس {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}؛ أي: من المؤجلين والمؤخرين ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) النسفي.

[16]

والممهلين إلى يوم النفخة الأولى حين يموت الخلائق كلهم بدليل قوله تعالى في سورة الحجر: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} وهو وقت النفخة الأولى، والموت حينئذ ممكن فيموت كغيره. والخلاصة: أن إبليس يموت عقب النخفة الأولى التي يتلوها خراب هذه الأرض كما قال في سورة الحاقة: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)} ولا يبقى إلى يوم البعث. 16 - {قالَ} إبليس اللعين {فَبِما أَغْوَيْتَنِي} وأضللتني؛ أي: فبسبب إغوائك وإضلالك إياي يا رب؛ لأجل آدم وذريته أقسم لك بقولي: {لَأَقْعُدَنَّ}؛ أي: لأجلسن مترصدا {لَهُمْ}؛ أي: لآدم وذريته {صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ أي: على طريقك الحق الموصل لهم إلى الجنة مترصدا لهم كما يقعد القطاع على الطريق انتهابا للمارة. قال في «الجمل»: فغرض (¬1) إبليس اللعين بهذا أخذ ثأره منهم؛ لأنه لما طرد ومقت بسببهم على ما تقدم .. أحب أن ينتقم منهم أخذا بالثأر. وفي «السمين»: والمعنى: فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في غوايتهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم. والمعنى: فبسبب إغوائك إياي لأجلهم؛ لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فأصدنهم عنه وأقطعنه عليهم بأن أزين لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلوا عنه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: 17 - {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: لأشككنهم (¬2) في الآخرة بأن لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار {وَمِنْ خَلْفِهِمْ؛} أي: لأرغبنهم في الدنيا، وأزيننها لهم بأنها لا تفنى، وآمرنهم بالجمع لها، والمنع والبخل والفساد {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ}؛ أي: ولأشبّهنّ عليهم أمر دينهم وأمنعنهم من الحسنات {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ}؛ أي: ولأزينن لهم المعاصي، وآمرنهم بالسيئات، قال الطبري: معناه: لآتينهم (¬3) من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدنهم عن الحق، وأحسنن لهم الباطل. قال ابن عباس: ولا ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) تنوير المقباس. (¬3) ابن جرير.

[18]

يستطيع أن يأتيهم من فوقهم؛ لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. وقال النسفي: ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم؛ لمكان الرحمة والسجدة وَلا تَجِدُ يا رب {أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر بني آدم {شاكِرِينَ} لك على نعمك التي أنعمت بها عليهم في عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفي كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك، وقد قال إبليس ذلك عن ظن، فأصاب لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}. وقيل: رآه في اللوح المحفوظ، وقيل: سمعه من الملائكة، وقيل: معنى {شاكِرِينَ} مطيعين لك، أو مؤمنين بك. قال أبو حيان (¬1): والظاهر أن إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له، والجد في إضلاله من كل وجه يمكن، ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدو غالبا ذكرها، لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة، وإنما خص بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان؛ لأنهما أغلب ما يجيء العدو منهما، فينال فرصته وقدم بين الأيدي على الخلف؛ لأنها الجهة التي تدل على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه، والخلف من جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القرن بمن يغتاله، ويتطلب غرته وغفلته، وخص الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدل على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقدمت الأيمان على الشمائل؛ لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدو، وبالأيمان البطش والدفع، فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالإيمان انتهى. 18 - {قالَ} سبحانه وتعالى لإبليس اللعين حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، وذلك بسبب مخالفته وعصيانه {اخْرُجْ} يا إبليس {مِنْها}؛ أي: من الجنة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أو من السموات، فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة حالة كونك {مَذْؤُمًا}؛ أي: مذموما مبغوضا معيبا مهانا عند كل أحد. وفي «ابن كثير» قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحدا انتهى. وحالة كونك {مَدْحُورًا}؛ أي: مطرودا مبعدا من رحمتي، والأمر بالخروج هنا تأكيد لقوله سابقا: {فَاهْبِطْ مِنْها} وتوطئة لما بعده وعزتي وجلالي {لَمَنْ تَبِعَكَ} وأطاعك يا إبليس {مِنْهُمْ}؛ أي؛ من بني آدم ومن الجن، فاللام موطئة للقسم، واللام في قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} للقسم أيضا مؤكدة للّام الأولى؛ أي: والله لأملان وادي جهنم {مِنْكُمْ}؛ أي: منك ومنهم، فغلب ضمير الحاضر؛ لأنه رئيسهم، وقوله: {أَجْمَعِينَ} تأكيد لضمير المخاطبين، فهذا وعيد بالعذاب لكل من أطاع الشيطان، وترك طاعة الرحمن. والمعنى: أقسم أن من يتبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفجور، ويصدق ظنك عليه .. ليكونن معك في جهنم دار العذاب، ولأملأنها منك، وممن تبعك منهم أجمعين. وفي قوله: {مِنْهُمْ} إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم، فإن بعض من يتبعه في بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر الله لهم، ويعفو عنهم، ونحو الآية قول في سورة ص: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}. وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش (¬1): {مذوما} - بضم الذال من غير همز - فتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما - وهو الأظهر -: أن تكون من ذأم المهموز سهل، وحذفها وألقى حركتها على الذال. والثاني: أن يكون من ذام يذيم - كباع يبيع - فأبدل الياء بواو كما قالوا: في مكيل مكول. وقرأ الجمهور: {لَمَنْ تَبِعَكَ} - بفتح اللام - والظاهر أنها اللام الموطئة للقسم، و {من} شرطية في موضع رفع على الابتداء، وجواب الشرط ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

محذوف يدل عليه جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة، ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء، و {من} موصولة، و {لَأَمْلَأَنَّ} جواب قسم محذوف بعد {من تبعك} وذلك القسم المحذوف، وجوابه في موضع رفع خبر {من} الموصولة. وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم {لمن تبعك منهم} - بكسر اللام - واختلفوا في تخريجها، فقال ابن عطية: المعنى: لأجل من تبعك منهم لأملأن انتهى. وقال الزمخشري: بمعنى: لمن تبعك منهم الوعيد، وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} على أن {لَأَمْلَأَنَّ} في محل الابتداء، {لَمَنْ تَبِعَكَ} خبره، وهذا خطأ. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي: اللام متعلقة بالذأم والدحر، ومعناه: أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك. ذكر ذلك في كتاب «اللوامح في شواذ القراءات». الإعراب {المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}. {المص} (1): تقدم لك في نظيره من الحروف المقطعة أنه لا يوصف بإعراب ولا بناء؛ لأن الحكم على الكلمة بالإعراب، أو البناء فرع عن إدراك المعنى، وليس معناه معلوما لنا هذا على القول بأنه مما استأثر الله بعلمه، وأما على القول بأنه اسم للسورة؛ فهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا المص، أو مبتدأ خبره: {كِتابٌ أُنْزِلَ} إلى آخر السورة، والجملة الاسمية مستأنفة، وعلى القول الأول {كِتابٌ} خبر لمبتدأ محذوف جوازا تقديره: هذا القرآن كتاب أنزل إليك، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {كِتابٌ}، والجملة الفعلية صفة لـ {كِتابٌ}. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {فَلا يَكُنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت يا محمد أن هذا القرآن كتاب أنزل إليك للإنذار به وللتذكير، وأردت بيان ما هو الأرشد والأصلح لك .. فأقول لك: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} لأنه لا بد من تبليغه، {لا}: ناهية جازمة.

{يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لا} الناهية. {فِي صَدْرِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم لـ {يَكُنْ}. {حَرَجٌ}: اسمها مؤخر. {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {حَرَجٌ}، والتقدير: فلا يكن حرج كائن منه كائنا في صدرك، وجملة {يَكُنْ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة معترضة بين الجار والمجرور ومتعلقه لا محل لها من الإعراب. {لِتُنْذِرَ}: {اللام}: لام كي، {تنذر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تنذر}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام المتعلقة بـ {أُنْزِلَ} تقديره: أنزل إليك لإنذارك به {وَذِكْرى}: معطوف على المصدر المؤول من أن المصدرية، وفعلها مجرور بالكسرة المقدرة للتعذر تقديره: أنزل إليك للإنذار به وللتذكير، ويجوز (¬1) أن يكون مرفوعا عطفا على {كِتابٌ}؛ أي: هذا كتاب وذكرى، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ذكرى للمؤمنين، وأن يكون منصوبا بفعل من لفظه تقديره: وتذكر به ذكرى؛ أي: تذكرة. {لِلْمُؤْمِنِينَ} {اللام}: إما زائدة في المفعول به تقوية له؛ لأن العامل فرع، والتقدير: وتذكر المؤمنين، وإما متعلقة بمحذوف صفة لـ {ذِكْرى} كما في «السمين»، {المؤمنين}: مجرور باللام. {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3)}. {اتَّبِعُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {إِلَيْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {أُنْزِلَ} أيضا، وتكون {مِنْ} لابتداء الغاية المجازية، أو متعلق بمحذوف حال؛ إما من الموصول، أو من عائده القائم مقام الفاعل. {وَلا تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا}: ¬

_ (¬1) عمدة المعربين للشارح.

الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: {اتَّبِعُوا}. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {لا تَتَّبِعُوا}، أو متعلق بمحذوف حال من {أَوْلِياءَ} لأنه صفة نكرة قدمت عليه، وإليه ميل الزمخشري، لأنه قال في «تفسيره» أي: لا تتولوا من دونه أحدا من شياطين الإنس والجن؛ ليحملوكم على الأهواء والبدع. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف، أي: تذكرا قليلا تذكرون، أو صفة لظرف زمان محذوف أيضا؛ أي: زمانا قليلا تذكرون، فالمصدر، أو الظرف منصوب بالفعل بعده. و {ما}: زائدة زيدت لتأكيد القلة. {تَذَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل {وَلا تَتَّبِعُوا}؛ أي: ولا تتبعوا من دونه أولياء حالة كونكم متذكرين قليلا؛ أي: غير متذكرين أصلا. {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)}. {وَكَمْ} {الواو}: استئنافية. {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير، ولم ترد في القرآن إلا خبرية في محل النصب مفعول مقدم وجوبا؛ لكونه مما يلزم الصدارة حملا على الاستفهامية لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعدها تقديره: وكم من قرية أهلكنا أهلكناها، أو في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون لشبهها بالحرف شبها معنويا؛ لشبهها برب التكثيرية، أو لشبهها بالحرف شبها وضعيا. {مِنْ}: زائدة. {قَرْيَةٍ}: تمييز لـ {كَمْ} منصوب بها، وعلامة نصبه فتحة مقدرة. {أَهْلَكْناها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو جملة مفسرة للفعل المحذوف، والجملة الاسمية أو الفعلية المحذوفة مستأنفة. {فَجاءَها}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب، {جاءها} فعل ومفعول. {بَأْسُنا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أَهْلَكْناها}. {بَياتًا}: حال من مفعول {جاء}، ولكنه بعد تأويله بمشتق تقديره: حال كونهم بائتين. {أَوْ}: حرف عطف وتنويع. {هُمْ قائِلُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على بياتا على كونها حالا من مفعول {جاء} تقديره: أو حالة كونهم قائلين. {فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)}.

{فَما}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب، {ما}: نافية. {كانَ}: فعل ماض ناقص. {دَعْواهُمْ}: اسم {كانَ} ومضاف إليه. {إِذْ}: ظرف زمان بمعنى حين مجرد عن معنى المضي في محل النصب على الظرفية مبني على السكون. {جاءَهُمْ بَأْسُنا}: فعل ومفعول وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، والظرف متعلق بـ {دَعْواهُمْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {قالُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {كانَ} تقديره: فما كان دعواهم وقت مجيء بأسنا إياهم إلا قولهم: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، وجملة {كانَ} من اسمها وخبرها معطوفة على جملة قوله: {جاءَهُمْ بَأْسُنا}. {إِنَّا} {إن}: حرف نصب، {نا}: اسمها. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {ظالِمِينَ}: خبرها، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن} تقديره: إنا ظالمون، وجملة {إن}: من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قالُوا}. {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)}. {فَلَنَسْئَلَنَّ}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية في الذكر حسب ترتيبها عليها في الوجود انتهى. «أبو السعود»، {اللام}: موطئة لقسم محذوف جوازا تقديره: فأقسم بعزتي وجلالي، {نسألن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه معطوفة على الجملة التي قبلها. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول أول لسأل مبني على الفتح والمفعول الثاني محذوف تقديره عما أجابوا الرسل. {أُرْسِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {إِلَيْهِمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة صلة الموصول. {وَلَنَسْئَلَنَّ}: {الواو}: عاطفة، {اللام}: موطئة لقسم محذوف،

{نسألن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْمُرْسَلِينَ}: مفعول أول لسأل، والثاني محذوف تقديره: عما أجيبوا، والجملة الفعلية جواب القسم وجملة القسم معطوفة على جملة القسم المذكورة قبلها. {فَلَنَقُصَّنَّ}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب. {اللام} موطئة للقسم. {نقصن}: فعل مضارع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب القسم، وجملة القسم المحذوف معطوفة على جملة القسم المذكورة قبلها. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {نقصن}. {بِعِلْمٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {نقصن} تقديره: حالة كوننا متلبسين بعلم {وَما} {الواو}: واو الحال. {ما}: نافية. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {غائِبِينَ}: خبره، وجملة {كان} في محل النصب حال ثانية من فاعل {نقصن}. {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}. {وَالْوَزْنُ}: {الواو} استنافية. {الْوَزْنُ}: مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ} {يوم}: منصوب على الظرفية الزمانية، وهو مضاف، {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والظرف متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرا تقديره: والوزن كائن، أو مستقر يومئذ؛ أي: يومئذ يسأل الرسل والمرسل إليهم، فحذفت الجملة المضاف إليها إذ وعوض عنها التنوين هذا مذهب الجمهور خلافا للأخفش. وفي {الْحَقُّ} على هذا الوجه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نعت للوزن؛ أي: الوزن الحق كائن في ذلك اليوم. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه جواب سؤال مقدر من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق لا الباطل. والثالث: أنه بدل من الضمير المستكن في الظرف، وهو غريب ذكره المكي، ويصح أن يكون خبر المبتدأ {الْحَقُّ}، و {يَوْمَئِذٍ} متعلق بـ {الْوَزْنُ}. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

{فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الوزن يومئذ الحق، وأردت بيان أحوال الخلائق .. فأقول لك: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَأُولئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة اسمية، {أولئك}: مبتدأ. هُمُ: ضمير فصل. {الْمُفْلِحُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما. {خَفَّتْ مَوازِينُهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ مَنْ على كونها فعل شرط لها. {فَأُولئِكَ}: {الفاء}: رابطة، {أولئك}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {بِما}: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَظْلِمُونَ}، وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ {خَسِرُوا}، والتقدير: فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب: ظلمهم لآياتنا. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {مَكَّنَّاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا

محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه مستأنفة. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مَكَّنَّاكُمْ}. {وَجَعَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {مَكَّنَّاكُمْ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلْنا}، وكذا قوله فِيها متعلق به. {مَعايِشَ}: مفعول به لـ {جَعَلْنا}؛ لأنه بمعنى خلقنا، فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف منصوب بـ {تَشْكُرُونَ}. {ما}: زائدة زيدت لتأكيد القلة. {تَشْكُرُونَ}: فعل وفاعل؛ أي: تشكرون شكرا قليلا؛ أي: قلة، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المخاطبين، والتقدير: وجعلنا لكم فيها معايش حال كونكم شاكرين شكرا قليلا. {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {اللام}: موطئة لقسم، {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: أقسم بعزتي وجلالي لقد خلقناكم، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {صَوَّرْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقْناكُمْ} على كونها جوابا للقسم. {ثُمَّ}: حرف عطف. {قُلْنا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {صَوَّرْناكُمْ}. {لِلْمَلائِكَةِ}: متعلق بـ {قُلْنا}. {اسْجُدُوا لِآدَمَ}: مقول محكي لـ {قُلْنا}، وإن شئت قلت {اسْجُدُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْنا}. لِآدَمَ: جار ومجرور متعلق بـ {اسْجُدُوا}. {فَسَجَدُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب. {سجدوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قُلْنا}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {إِبْلِيسَ} مستثنى منقطع منصوب بـ {إِلَّا}. {لَمْ}: حرف جزم. {يَكُنْ}: فعل ناقص مجزوم بـ {لَمْ}، واسمه ضمير يعود على {إِبْلِيسَ}. {مِنَ السَّاجِدِينَ}: خبر {يَكُنْ}، وجملة {يَكُنْ} من اسمها وخبرها في محل النصب حال من {إِبْلِيسَ} تقديره: حالة كونه ممتنعا من السجود، كما قاله أبو البقاء، وقيل: هذه الجملة مستأنفة؛ لأنها جواب سؤال مقدر.

{قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {ما مَنَعَكَ} إلى قوله: قالَ {أَنَا خَيْرٌ} مقول محكي، وإن شئت قلت: ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، والاستفهام فيه للتوبيخ. {مَنَعَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: هو يعود على ما، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أي شيء مانع إياك، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}. {أَلَّا} {أن}: مصدرية. {لا}: زائدة زيدت لتأكيد معنى النفي في {مَنَعَكَ}. {تَسْجُدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}. وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ما منعك من سجودك. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {تَسْجُدَ}. {أَمَرْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ إِذْ {،} والتقدير: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {أَنَا خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر. {مِنْهُ} متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قالَ}. {خَلَقْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ نارٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا. {وَخَلَقْتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقْتَنِي}. {مِنْ طِينٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خلق}. {قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَاهْبِطْ مِنْها} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {الفاء}: سببية، {اهبط}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}. {مِنْها}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، وقال النسفي: والفاء في قوله:

{فَاهْبِطْ} جواب لقوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}؛ أي: إن كنت تتكبر فاهبط انتهى. {فَما}: {الفاء}: عاطفة تعليلية، {ما}: نافية. {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص. {لَكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {يَكُونُ}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَتَكَبَّرَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}. فِيها متعلق بـ {تَتَكَبَّرَ}، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {يَكُونُ} مؤخرا، والتقدير: فما يكون تكبرك فيها كائنا لك، ولائقا بك، وجملة {يَكُونُ} في محل النصب معطوفة على جملة {فَاهْبِطْ} على كونها مقولا لـ {قال}. {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}. {فَاخْرُجْ} {الفاء}: عاطفة تفريعية، {اخرج}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة قوله: {فَما يَكُونُ لَكَ} مؤكدة لجملة قوله: {فَاهْبِطْ إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {مِنَ الصَّاغِرِينَ}: جار ومجرور خبر {إنّ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ} مسوقة لتعليل الخروج. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة. {أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {أَنْظِرْنِي}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {إِلى يَوْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْظِرْنِي}، وجملة {يُبْعَثُونَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمِ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}: مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}: جار ومجرور خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة. {فَبِما أَغْوَيْتَنِي} إلى قوله: {شاكِرِينَ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {فَبِما}:

{الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا حكمت علي يا رب بالغيّ والصّغار .. فأقول لك: {بما أغويتني}: {الباء}: حرف جر وقسم، أو حرف جر وسبب كما أشار إليه الزمخشري، {ما}: مصدرية. {أَغْوَيْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية، والجملة الفعلية مع {ما} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بباء القسم، أو بباء السبب، وعلى كلا الوجهين فهي متعلقة بفعل قسم محذوف جوازا تقديره: فأقسم بإغوائك إياي، أو أقسم بسبب إغوائك إياي. {لَأَقْعُدَنَ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أقعدن}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالَ}. {لَهُمْ}: متعلقان بـ {لَأَقْعُدَنَّ}. {صِراطَكَ}: منصوب على المفعولية، أو منصوب بنزع الخافض تقديره: على صراطك {الْمُسْتَقِيمَ}: صفة لـ {صراط}. {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {لَآتِيَنَّهُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم أيضا، {آتينهم}: فعل ومفعول ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَأَقْعُدَنَّ} على كونها جوابا لقسم محذوف. {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {آتين}. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، وكرر حرف الجر إشارة إلى أن كل جهة من الجهتين مقصودة استقلالا. {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}. {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ}، أو {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، وكرر الجار هنا أيضا إشارة إلى استقلال كل من الجهتين بالقصد، وإنما (¬1) عدّى الفعل إلى الأولين بـ {مِنْ} الابتدائية؛ لأنه منهما متوجه إليهم، وعدى إلى ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الأخيرين بحرف المجاوزة؛ لأن الآتي منهما كالمنحرف المار على عرضهم، انتهى «أبو السعود»، وإشارة إلى نوع تباعد منه في الجهتين الأخيرتين، لقعود ملك اليمين، وملك اليسار فيهما، وهو ينفر من الملائكة، اه شيخنا. {وَلا تَجِدُ}: ناف وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {لَأَقْعُدَنَّ ...} إلخ. فتكون من جملة المقسم عليه، ويكون اللعين قد أقسم على جملتين مثبتتين، وأخرى منفية. {أَكْثَرَهُمْ}: مفعول وجد إن كان وجد من الوجدان بمعنى اللقاء والمصادفة. {شاكِرِينَ}: حال من الضمير، والمعنى: ولا تصادف أكثرهم ولا تلاقيهم حالة كونهم شاكرين، ويحتمل كون وجد من أفعال اليقين، {وأَكْثَرَهُمْ}: مفعول أول، {شاكِرِينَ}: مفعول ثان. {قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {اخْرُجْ}: منها إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {اخْرُجْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {مِنْها}: متعلق بـ {اخْرُجْ}. {مَذْؤُمًا}: حال أولى من فاعل {اخْرُجْ}. {مَدْحُورًا}: حال ثانية منه عند من يجوز تعدد الحال لذي حال واحد، وأما عند من لا يجوزه فـ {مَدْحُورًا}: صفة لـ {مَذْؤُمًا}. {لَمَنْ} {اللام}: موطئة للقسم المحذوف تقديره: والله لمن تبعك. فائدة: سميت (¬1) لام القسم موطئة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم المحذوف؛ أي: مهدته له، وتسمى أيضا المؤذنة؛ لأنها تؤذن بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها، لا على الشرط. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {تَبِعَكَ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {من} الشرطية على ¬

_ (¬1) الفتوحات.

كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَبِعَكَ}. {لَأَمْلَأَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم أيضا مؤكدة للأولى، {أملأن}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنا يعود على الله سبحانه، والجملة من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده تقديره: لمن تبعك أعذبه، وهذا الوجه أظهر في الإعراب كما قاله «الجمل». والوجه الثاني أن اللام في قوله {لَمَنْ تَبِعَكَ}: لام الابتداء، و {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، و {تَبِعَكَ}: صلتها. و {مِنْهُمْ}: حال من فاعل {تَبِعَكَ}، وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ}: جواب قسم محذوف بعد قوله: {مِنْهُمْ}، وذلك القسم المحذوف وجوابه في محل الرفع خبر المبتدأ الذي هو {من} الموصولة، والتقدير: للذي تبعك منهم، والله لأملأن جهنم منكم، فإن قلت (¬1): أين العائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ؟. قلت: هو متضمن في قوله: {مِنْكُمْ} لأنه لما اجتمع ضميران غيبة وخطاب .. غلب الخطاب كما تقدم. {جَهَنَّمَ}: منصوب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بـ {أملأن}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أملأن}. {أَجْمَعِينَ}: توكيد لضمير المخاطبين مجرور بالياء؛ لأنه جمع مذكر سالم. التصريف ومفردات اللغة {حَرَجٌ} مِنْهُ الحرج: الضيق من عاقبة المخالفة. {وَذِكْرى} والذكرى: التذكر النافع والموعظة المؤثرة، وهو اسم مصدر لذكر يذكر تذكرة وذكرى. {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} وولاية (¬2) الله لعباده تولي أمورهم فيما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم، وشرعه لهم عبادته، وبيان الحلال والحرام. {قَلِيلًا ما} {ما}: حرف زائد يؤكد به معنى القلة. {تَذَكَّرُونَ} أصله ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

تتذكرون بتاءين أولاهما تاء المضارعة، والثانية تاء المطاوعة، فحذفت إحداهما على الخلاف في المحذوفة منهما. {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ} {كم}: اسم يفيد التكثير، وهي خبرية: هنا، وكذا في جميع القرآن حيثما وقعت، وكم في كلام العرب قسمان: خبرية: وهي التي بمعنى عدد كثير، واستفهامية: وهي التي تكون بمعنى أي عدد، وهي اسم (¬1) بسيط لا مركب من كاف التشبيه، وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجر عليها، وسكنت كما قالوا: لم؛ تركيبا لا ينفك، كما ركبت في كأين مع أي، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مجرورا وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو. والقرية تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا، وتطلق على كل منهما كما جاء في قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: أهل القرية، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم، وأن يراد بها المكان؛ لأنه يهلك كما يهلك أهله. {بَأْسُنا} البأس العذاب. {بَياتًا} والبيات: الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرة، وهو في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة. قال الليث: البيتوتة دخولك في الليل، فقوله: بياتا؛ أي: بائتين. {أَوْ هُمْ قائِلُونَ} والقائلون: هم الذين يستريحون، أو ينامون وسط النهار؛ أي: حين القائلة، وقال الليث: القيلولة نوم نصف النهار؛ وهي القائلة، وقال الأزهري: القيلولة الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن نوم. وقال الفراء: يقال: قال يقيل قيلا - كباع يبيع بيعا - وقائلة وقيلولة إذا استراح نصف النهار، فألفه منقلبة عن ياء بخلاف قال من القول، فهي منقلبة عن واو. {فَما كانَ دَعْواهُمْ} والدعوى: ما يدعيه الإنسان، وتطلق على القول أيضا. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جعلنا لكم (¬2) فيها أمكنة تتبوؤنها، وتتمكنون من الإقامة فيها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ} بالياء (¬1) باتفاق السبعة، وإن قرىء شاذا بالهمزة، وليس كصحائف؛ لأن المد فيه زائد؛ لأنه من صحف بخلاف معيشة، فإن المد فيها أصلي؛ لأنه من عاش يعيش عيشا ومعاشا وعيشة ومعيشة ومعيشا. قال رؤبة: إليك أشكو شدّة المعيش ... وجهد أيّام نتفن ريشي فأصل معيشة معيشة كمكرمة، أو معيشة كمنزلة، أو معيشة كمتربة، فالياء فيه أصلية على كل حال، وقد قال في «الخلاصة»: والمد زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالفلائد وياء معيشة عين الكلمة، ثم إنه على الوجه الأول قلبت ضمة الياء كسرة، ثم نقلت للعين، وعلى الثاني نقلت كسرة الياء إلى العين، والوجه الثالث لا صحة له في التصريف. اه من «السمين». وفي «المصباح»: عاش يعيش عيشا - من باب سار - صار ذا حياة، فهو عائش، والأنثى عائشة، وعيّاش أيضا مبالغة، والمعيش والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعبش به، والجمع معايش هذا على قول الجمهور أنه من عاش، فالميم زائدة، ووزن معايش مفاعل، فلا يهمز، وبه قرأ السبعة، وقيل: إنه من معش، فالميم أصلية، ووزن معيش ومعيشة فعيل وفعيلة، ووزن معائش فعائل، فيهمز كصحائف، وبه قرأ أبو جعفر المدني والأعرج. اه. وفي «القاموس»: العيش الحياة، يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشة وعيشة - بالكسر - وعيشوشة، والعيش أيضا الطعام وما يعاش به والخبز، والمعيشة أيضا ما يتعيش به من المطعم والمشرب، وما تكون به الحياة، وما يعاش به وفيه، والجمع معايش، والمتعيش من له بلغة من العيش. اه. {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ} الخلق: التقدير (¬2)، يقال: خلق الخياط الثوب إذا قدره قبل قطعه، وخلق الله الخلق أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة. ¬

_ (¬1) الفتوحات البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{إِلَّا إِبْلِيسَ} مأخوذ من أبلس إبلاسا بمعنى أيس؛ لأنه آيس من رحمة الله تعالى. {فَاهْبِطْ مِنْها} والهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها؛ فهو إما حسي، وإما معنوي. {أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها} والتكبر جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه. {مِنَ الصَّاغِرِينَ} والصغار: الذلة والهوان {أَنْظِرْنِي}: يقال: أنظره إذا أمهله وأخره. {فَبِما أَغْوَيْتَنِي}: والإغواء: الإيقاع في الغواية، وهي ضد الرشاد، يقال: غوى يغوي - من باب رمى - غيا وغواية إذا فسد عليه أمره، وفسد هو في نفسه، ومنه غوى الفصيل إذا أكثر من شرب لبن أمه حتى فسد جوفها، وأشرف على الهلاك، وقيل: أصله الهلاك، ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} الشمائل (¬1): جمع شمال، وهو جمع كثرة، وجمعه في القلة على أشمل. قال الشاعر: يأتي لها من أيمن وأشمل وشمال يطلق على اليد اليسرى، وعلى ناحيتها، والشمائل أيضا جمع شمال؛ وهي الريح، والشمائل أيضا: الأخلاق. يقال: هو حسن الشمائل. {مَذْؤُمًا} بالهمز (¬2): اسم مفعول من ذأمه يذأمه ذأما - كقطعه يقطعه قطعا - إذا عابه ومقته، وفي «المختار»: الذأم: العيب يهمز ولا يهمز، يقال: ذأمه - من باب قطع - إذا عابه وحقره، فهو مذؤوم. اه. وفيه مقته إذا أبغضه من باب نصر، فهو مقيت، ويجوز (¬3) إبدال الهمزة ألفا. قال الشاعر: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلمّا انجلت قطّعت نفسي أذيمها وفي المثل: لن يعدم الحسناء ذأما، وقيل: أردت أن تذيمه فمدحته، وقال الليث: ذأمته حقرته، وقال ابن الأنباري وابن قتيبة: ذأمه ذمه وعابه. {مَدْحُورًا} يقال: دحره إذا أبعده وأقصاه، ودحر الجند العدو إذا طرده ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) البحر المحيط.

وأبعده. قال الشاعر: دحرت بني الحصيب إلى قديد ... وقد كانوا ذوي أشر وفخر يقال: دحره يدحره دحرا ودحورا - من باب خضع - ومنه: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا}. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} لما فيه من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن المراد النهي عن أسباب الحرج. قال أبو السعود: توجيه (¬1) النهي إلى الحرج مع أن المراد نهيه صلى الله عليه وسلم عنه؛ إما للمبالغة في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن وقوع مثل الحرج منه، فإن النهي لو وجه له لأوهم إمكان صدور المنهي عنه منه، وإما للمبالغة في النهي، فإن وقوع الحرج في صدره سبب لاتصافه به، والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني، ونفي له من أصله بالمرة، فالمراد نهيه عما يورث الحرج انتهى. ومنها: المجاز المرسل أيضا في قوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها}: لما فيه من إطلاق المحل وإرادة الحال؛ أي: وكم من أهل قرية أهلكناهم. ومنها: الاعتراض بين الجار ومتعلقه، في قوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}، لأنه معترض بين قوله: {أُنْزِلَ} وبين قوله: {لِتُنْذِرَ}. ومنها: التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين، في قوله: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} لمزيد اللطف بهم وترغيبهم في امتثال الأمر. ومنها: الطباق بين قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ}، وبين قوله: {بَياتًا} وقوله: {أَوْ هُمْ قائِلُونَ}؛ لأن البيات معناه ليلا، وقائلون معناه نهارا وقت الظهيرة. ¬

_ (¬1) أبو السعود.

ومنها: المجاز بالحذف قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ}؛ أي: خلقنا أباكم آدم، وصورنا أباكم. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن الصراط حقيقة في الطريق الحسي، فاستعارة لطريق الهداية الموصل إلى جنات النعيم. ومنها: المقابلة بين قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ} وقوله: {وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، وبين قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} وقوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، وبين قوله: {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ} وقوله: {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ}. ومنها: تغليب الحاضر على الغائب في قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ} لأن فيه تغليب الحاضر الذي هو إبليس على الغائب، وهو الناس. ومنها: التكرار في قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ}، وقوله: {وَلَنَسْئَلَنَ}، وفي قوله: {مَوازِينُهُ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {اسْجُدُوا} {فَسَجَدُوا} ومنها: المغاير في قوله: {فَسَجَدُوا} وقوله: {مِنَ السَّاجِدِينَ}، وفي قوله: {أَنْظِرْنِي} وقوله: {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. ومنها: المقابلة في قوله: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}. المناسبة قوله تعالى: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لا يزال (¬1) الحديث متصلا في الكلام في النشأة الأولى للبشر، وفي شياطين الجن، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم، وفي ذلك امتنان عليهم، وذكر لكرامة أبيهم. قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ ...} الآية، مناسبة ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أنزل له ولبنيه كل ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم كاللباس الذي يستترون به عوراتهم، ويتخذونه للزينة واللباس الذي يستعملون في الحرب كالمغافر والجواشن ونحوها، .. فعليكم أن تشكروه سبحانه وتعالى على هذه المنن العظام، وتعبدوه وحده لا شريك له. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): هو أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قصة آدم، وفيها ستر السوءات، وجعل له في الأرض مستقرا ومتاعا .. ذكر ما امتن به على بنيه، وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوءات، والرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم. قوله تعالى: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله تعالى، لما (¬3) بين أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم .. ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم؛ وهو الطاعة لهم في أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح. التفسير وأوجه القراءة 19 - وقوله: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ} معطوف على قوله: {ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} عطف قصة على قصة؛ أي: وقلنا يا آدم اسكن أنت {وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}؛ أي: انزل أنت وزوجك حواء في الجنة، وهذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة، أو من السماء، أو من بين الملائكة، وقيل: معطوف (¬4) على {اخْرُجْ}؛ أي: وقلنا يا إبليس اخرج منها مذؤوما مدحورا، ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، ومعنى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراح.

اسكن؛ أي: اتخذ أنت وزوجك حواء الجنة مسكنا لكما؛ أي: محل سكون وإقامة لكما. وتخصيص (¬1) الخطاب في قوله: {وَيا آدَمُ} به للإيذان بأصالته في تلقي الوحي، وتعاطي المأمور به، وتعميمه في قوله: {فَكُلا} وفي وقوله: {وَلا تَقْرَبا} للإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به، وتجنب المنهى عنه، فحواء مساوية له فيما ذكر بخلاف السكنى؛ فإنها تابعة له فيها. وفي «شرح المواهب» للزرقاني ما نصه (¬2): واختلفوا في أن حواء خلقت في الجنة، فقال ابن إسحاق: خلقت قبل دخول آدم الجنة؛ لقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، وقيل: خلقت في الجنة بعد دخول آدم الجنة؛ لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر؛ ليسكن إليها، ويأنس بها. قاله ابن عباس، وينسب لأكثر المفسرين، وعلى هذا قيل: قال الله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} بعد خلقها، وهما في الجنة، وقيل: قبل خلقها، وتوجه الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله تعالى. اه. وقال المراغي: الجنة هي (¬3) التي خلق فيها آدم لا جنة الجزاء، فآدم خلق من الأرض في الأرض. وقد (¬4) تكررت هذه القصة في سبعة مواضع من الكتاب العزيز، ولم يرد في موضع منها أن الله رفعه إلى الجنة التي هي دار الجزاء، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال، ويرده أنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولا تكليف في دار الجزاء، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس، ولا نوم في الجنة، ولا خروج بعد الدخول، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج. والآية تدل على أن آدم كان له زوج في الجنة، وفي التوراة: أن الله ألقى على آدم سباتا، فانتزع في أثنائه ضلعا من أضلاعه، فخلق منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأة؛ لأنها من امرىء أخذت وليس في القرآن ما يدل على هذا، وما ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

روي من ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، وما روي في «الصحيحين» عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو من باب التمثيل على حد قوله: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} والدليل على ذلك قوله بعد: «فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا». فإنه لا شك أن المراد منه: لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة في المعاملة انتهى. {فَكُلا}؛ أنتما يا آدم وحواء من ثمار الجنة {مِنْ حَيْثُ شِئْتُما}؛ أي: من أي مكان أردتما الأكل منه، وفي أي وقت شئتما {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} من حيث الأكل منهما {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم الضارين لها بتعريضها للعقوبة؛ أي: فتصيرا من الضارين لها. والنهي عن القرب إلى الشيء أبلغ أثرا من النهي عن الشيء نفسه؛ إذ أنه يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به، كما جاء في الحديث: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه». وقد أبهم سبحانه وتعالى هذه الشجرة، ولو كان في تعيينها خير لنا لعينها، وقد علل القرآن النهي عنها بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين، لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه، ولو بالحرمان من رغد العيش، وما يعقبه من التعب والمشقة. فإن قلت: لم قال هنا: {فَكُلا} بالفاء، وفي البقرة {وَكُلا} بالواو؟ قلت: لا منافاة بين الحرفين؛ لأن الواو للجمع المطلق، فتحمل على إحدى معانيها التي هي عطف اللاحق على السابق، فتتحد مع الفاء في المعنى الذي هو الترتيب. فإن قلت (¬1): لم حذف {رَغَدًا} هنا على سبيل الاختصار، وأثبت في البقرة؟ قلت: لأن تلك مدنية وهذه مكية، فوفى المعنى هنا باللفظ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[20]

وقرىء (¬1): هذي وهو الأصل لتصغيره على ذيا، والهاء بدل من الياء. 20 - {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ}؛ أي: حدّث (¬2) لهما في أنفسهما، وفي «الخازن» يعني: فوسوس إليهما، والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيا مكررا، ومعنى وسوس لهما: فعل الوسوسة وألقاها إليهما. وقال المراغي: أي: زين لهما ما يضرهما ويسؤهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره، وأن لا يرى مكشوفا. والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلّمهما. انتهى. فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة، وإبليس قد أخرج منها؟ قلت: أجيب عن هذا السؤال بأجوبة: منها: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه. ومنها: أنه كان على باب الجنة، وهما على بابها من داخلها. ومنها: ما قال الحسن: إنه وصلت وسوسته لهما في الجنة، وهو في الأرض بالقوة التي خلقها الله له، وقيل: كان يدخل إليهما في فم الحية، وهذان القولان ضعيفان؛ لمخالفتهما لفظ القرآن، ولكن البحث عن هذه المسألة ليس مما كلفنا الله بعلمه، فالكلام فيه لا يعنينا. {لِيُبْدِيَ}؛ أي: ليظهر {لهما ما ورى عنهما}؛ أي: ما ستر عنهما بلباس النور، أو بثياب الجنة. وقال الصاوي: واختلف في ذلك اللباس، فقيل: غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الأظفار في اليدين والرجلين تذكرة وزينة وانتفاعا، ولذلك قالوا: إن النظر إلى الأظفار في حال الضحك يقطعه، وقيل: كان نورا، وقيل: كان من ثياب الجنة. انتهى. {مِنْ سَوْآتِهِما}؛ أي: من عوراتهما، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الواحدي.

كان مستورا عنهما من عوراتهما، فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما، ولا يراها أحدهما من الآخر. قيل: إنما بدت عوراتهما لهما لا لغيرهما، وكان عليهما نور يمنع رؤيتها، وإنما لم تقلب (¬1) الواو في {وُورِيَ} همزة؛ لأن الثانية مدة مأخوذة من المواراة؛ وهي الستر يقال: واريته بمعنى سترته، والسوءة فرج الرجل والمرأة، سمي بذلك؛ لأن ظهوره يسوء الإنسان. وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات، واللام في قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُما}: لام العاقبة؛ وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما، وإنما كان حملهما على المعصية فقط، فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما. {وَقالَ} إبليس لآدم وحواء فيما وسوسهما به {ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ}؛ أي: ما منعكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة {إِلَّا} لأحد أمرين كراهة {أَنْ تَكُونا} بالأكل منها {مَلَكَيْنِ}؛ أي: كالملكين فيما أوتي الملائكة من الخصائص والمزايا كالقوة، وطول البقاء، وعدم التأثر بتأثيرات الكون المؤلمة المتعبة {أَوْ} كراهة {أن تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} في الجنة؛ أي: من الذين لا يموتون البتة، ويبقون في الجنة ساكنين يعني (¬2): إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر، أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون، وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية؛ لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش، فاستشرف لذلك آدم، وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم، أو يكون مع الخالدين الذين لا يموتون أبدا. وفي الآية (¬3): إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم، وخصصه بعضهم بملائكة السماء والعرش والكرسي، من العالين المقربين، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها، وإحكام نظامها. وقرأ الجمهور (¬4): {وُورِيَ} وقرأ عبد الله: {أوري} - بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز -. وقرأ ابن وثاب: {ما وري} - بواو مضمومة من غير واو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[21]

بعدها - على وزن كسي. وقرأ مجاهد والحسن: {من سوتهما} - بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واوا وإدغام الواو فيها -. وقرأ الحسن أيضا وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح: {من سوّاتهما} - بتسهيل الهمزة وتشديد الواو -. وقرىء: {من سواتهما} - بواو واحدة وحذف الهمزة - ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو، فمن قرأ بالجمع؛ فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماع مثلين، ومن قرأ بالإفراد؛ فمن وضعه موضع التثنية، ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أن كل عورة الدبر والفرج، وذلك أربعة فهي جمع. وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحاك ويحيى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير (¬1): {ملكين} - بكسر اللام - ويدل لهذه القراءة ما في سورة طه من قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى}. 21 - {وَقاسَمَهُما}؛ أي: أقسم وحلف إبليس لهما، والمفاعلة ليس على بابها بقوله: {والله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ}؛ أي: إني لناصح لكما فيما رغبتكما فيه من الأكل من الشجرة، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها؛ إذ كان عندهما محل الظنة والتهمة في نصحه؛ لأن الله أخبرهما أنه عدو لهما. وقرىء: {وقاسمهما بالله}. 22 - {فَدَلَّاهُما}؛ أي: جرأهما إبليس على أكل الشجرة {بِغُرُورٍ}؛ أي: بسبب غروره وتزيينه لهما أكل الشجرة بالحلف لهما بالله، أو المعنى: فأسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة المولى بما غرهما به، وزين لهما من أكل الشجرة، وقد اغترا به وانخدعا بقسمه، وصدقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا. وفي «الشوكاني» التدلية (¬2) والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال: أدلى دلوه أرسلها، والمعنى: أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة، وقيل معناه: أوقعهما في الهلاك، وقيل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

معناه: جرأهما على المعصية، فخرجا من الجنة انتهى. وقيل معناه: فخدعهما (¬1) بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر؛ لغلبة الشهوة، لا لكونهما صدقا قول إبليس. ويرى بعض العلماء (¬2) أن الغرور كان بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر وطبائعهم كشف المجهول، والرغبة في الممنوع، فقد نفخ الشيطان في نار هذه الشهوات الغريزية، وأثار النفس إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال في سورة طه: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}. وجاء في الصحيح عن أبي هريرة: «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها»؛ أي: لأنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل، ولو بالخيانة له. {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ}؛ أي: فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه {بَدَتْ لَهُما}؛ أي: ظهرت لكل منهما {سَوْآتُهُما}؛ أي: سؤته وسؤة صاحبه، وكانت مستورة عنهما؛ أي: ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره، وزال عنهما ثوبهما من حلل الجنة، فدبت فيهما شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}؛ أي: وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها. والخلاصة (¬3): أن الشيطان لما وسوس لهما بقوله: {ما نَهاكُما رَبُّكُما ...} إلخ، ولم يقبلا منه ما قال .. لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله: {وَقاسَمَهُما} فلم يصدقاه أيضا، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله: {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ}؛ أي: أنه شغلهما بتحصيل اللذات، فجعلاها نصب أعينهما، ونسيا النهي كما يدل على ذلك قوله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

قال ابن عباس: الورق الذي خصفا منه ورق الزيتون، وقيل: ورق شجر التين، وقيل ورق الموز، ولم يثبت تعيينها لا في القرآن، ولا في حديث صحيح. وقد قيل فيهما شعر: لله درّهم من فتية بكروا ... مثل الملوك وراحوا كالمساكين وقرأ أبو السمال (¬1): {وطفقا} - بفتح الفاء - وقرأ الزهري: {يخصفان} من أخصف، فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل، ويحتمل أن تكون الهمزة للتعدية من خصف؛ أي: يخصفان أنفسهما. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب: {يخصّفان} - بفتح الياء وكسر الخاء والصاد وشدها - وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك، إلا أنه فتح الخاء. ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وقرىء: {يخصّفان} - بتشديد - من خصف على وزن فعل. وقرأ عبد الله بن يزيد: {يخصّفان} - بضم الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرها - وتقرير هذه القراءات في علم العربية. وقد عاتبه الله سبحانه وتعالى على تركه التحفظ والحيطة والتدبر في عواقب الأمور فقال: {وَناداهُما رَبُّهُما} معاتبا لهما، وموبخا لهما، وقال: يا آدم ويا حواء {أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}؛ أي: عن أن تقربا هذه الشجرة وعن الأكل من ثمرها {وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر العداوة لكما حيث أبى السجود، فإن أطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في العيش والتعب، والنصب في الحياة. والاستفهام في قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُما} تقريري. قيل: لما كان وقت الهناء .. شرف بالتصريح باسمه في النداء، فقيل: ويا آدم اسكن، وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه، ولم يصرح باسمه. والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة. وقال الجمهور: إن النداء كان بواسطة الوحي. روي (¬2): أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[23]

قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدّا، فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وسقى وحصد، ودرس وذرى وعجن وخبز. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): لما أكل آدم من الشجرة .. قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها قال: فرنت - صاحت - حواء عند ذلك رنة - صيحة - فقيل لها: الرنة عليك وعلى بناتك، وقال محمد بن قيس: ناداه ربه: يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: أطعمتني حواء، فقال: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني الحية، فقال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس، قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر، وأما أنت يا حية فأقطع رجليك، فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور عن الرحمة. وقيل: ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك جنتي في جواري. 23 - {قالا}؛ أي: قال آدم وحواء {رَبَّنا} ويا مالك أمرنا {ظَلَمْنا أَنْفُسَنا}؛ أي: أضررنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك، وقد أنذرتنا {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا} ما ظلمنا به أنفسنا {وَتَرْحَمْنا} بالرضا عنا، وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق، والله {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} لأنفسنا الهالكين لها بتعريضها للعقوبة. والخلاصة (¬2): أن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما أحد بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك، ويتبع سبيلك، ولا ينالهما من يصر على ذنبه ويحتج على ربه، كما فعل الذي أبى واستكبر فكان من الخاسرين. وقال الضحاك في قوله (¬3): {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...} الخ. قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه عز وجل. قالَ الله سبحانه وتعالى لآدم وحواء وإبليس والحية، كما قاله الطبري. 24 - {اهْبِطُوا}؛ أي: انزلوا من السماء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

إلى الأرض. وقال الفخر الرازي: إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس، فقوله: {اهْبِطُوا} يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة، قيل: هبط آدم في الهند، وحواء بجدة، وإبليس بالأبلة - بضم الهمزة الموحدة وبتشديد اللام - جبل بقرب البصرة، والحية بأصبهان. وقال المراغي: يرى كثير من سلف الأمة أن هذا الخطاب لآدم وحواء وإبليس عليه اللعنة؛ أي: اهبطوا من هذه الجنة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ أي: حالة كون بعضكم عدوا لبعض آخر؛ أي: إن الشيطان عدو للإنسان، فعلى الإنسان أن لا يغفل عن عداوته، ولا يأمن وسوسته وإغواءه كما جاء في قوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)} فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس، وذرية كل منهما. وهذا (¬1) الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية التي بها ظلما أنفسهما، وقد قضت به سنة الله في الخلق، إذ جعله أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه إما العقاب الأخروي على عصيان الرب، فقد غفره الله له بالتوبة التي أذهبت أثره من النفس، وجعلتها محلا لاصطفائه كما قال في سورة طه: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)}. {وَلَكُمْ} يا آدم وحواء وإبليس مع ذريتكم {فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}؛ أي: استقرار وبقاء إلى زمن مقدر في علم الله؛ وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم، وتقوم فيه القيامة {وَ}: لكم فيها أيضا {مَتاعٌ}؛ أي: ما تستمتعون وتنتفعون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها {إِلى حِينٍ}؛ أي: إلى حين انقضاء آجالكم، ونحو الآية قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ}. ومعنى الآية (¬2): أن الله سبحانه وتعالى أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض، فإن بعضهم لبعض عدو، وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم، ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} يعني: إلى يوم القيامة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[25]

وإلى انقطاع الدنيا. 25 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى لآدم وذريته، وإبليس وأولاده {فِيها}؛ أي: في هذه الأرض التي خلقتم منها {تَحْيَوْنَ}؛ أي: تعيشون مدة العمر المقدر لكل منكم، وللنوع بأسره {وَفِيها}؛ أي: وفي الأرض {تَمُوتُونَ}؛ أي: تكون وفاتكم، وموضع قبوركم حين انتهاء أعماركم {وَمِنْها}؛ أي: ومن الأرض {تُخْرَجُونَ}؛ أي: يخرجكم ربكم بعد موتكم كلكم حين ما يريد أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة، ويحشركم للحساب يوم القيامة. وهذا الكلام (¬1) كالتفسير لقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ} ولذلك جاء {قالَ} بغير واو العطف، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان: تخرجون - بالبناء للفاعل هنا - وفي الجاثية والزخرف وأول الروم، وعن ابن ذكوان في أول الروم خلاف. وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول. ونحو الآية قوله تعالى في سورة طه: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)}. فصل في مغزى هذا القصص قص الله - سبحانه وتعالى - علينا خبر النشأة الأولى (¬2)؛ ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه، وليهدينا إلى أنه كان في نشأته الأولى في جنة النعيم وراحة البال، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر، وعاقبة التأثر الأولى سعادة الدارين، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما، وهو أيضا محتاج إلى الوحي لإرشاده وهدايته. فعلينا أن نعرف غرائزنا، ونربي أنفسنا على أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، ولا نعبد معه أحدا سواه، ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، ونتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[26]

الضلالات، وعلينا أن نعرف أن آدم لم يكن نبيا ولا رسولا عند بدء خلقه، ولا موضعا للرسالة في ذلك الحين، بل أنكر بعضهم أن يكون رسولا مطلقا، وقال: إن أول الرسل نوح عليه السلام كما تدل على ذلك الآيات الواردة في الرسل والأحاديث، وما ورد في هذه القصة من التفسير بالمأثور، فأكثره مدخول مأخوذ من الإسرائيليات عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره من الإسرائيليات؛ فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد له من أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعرف بالرأي. 26 - ويقول سبحانه وتعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ} بقدرتنا من سمائنا لتدبير أموركم {لِباسًا يُوارِي} ويستر {سَوْآتِكُمْ} وعوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطروا إلى لزق الأوراق، فأنتم مستغنون عن ذلك باللباس يعني: ثياب القطن وغيره كالصوف والوبر والشعر {وَ} أنزلنا عليكم لباسا {رِيشًا} لكم؛ أي: يكون زينة لكم؛ أي: لباسا يزين لابسه كالريش الذي يزين الطائر، استعير من ريش الطائر؛ لأنه لباسه وزينته، وذلك كالحرير والخز والقز وحلي الذهب والفضة؛ أي أنزلنا عليكم لباسين؛ لباسا يواري سؤاتكم ولباسا يزينكم؛ لأن الزينة غرض صحيح. والمعنى (¬1): خلقناه لكم بتدبيرات سماوية، وأسباب نازلة منها كالمطر، فهو سبب لنبات القطن والكتان وغيرهما كالتوت، ولمعيشة الحيوانات ذوات الصوف وغيره فبهذا الاعتبار كأن اللباس نفسه أنزل من السماء، ونظير هذا: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ...} إلخ. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ...} إلخ. ومعنى إنزال ما ذكر من السماء: إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة، وافتن الناس في استعماله بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى، وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد، ولا سيما في هذا العهد الذي وفيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية. ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة في استعمالها، والإسلام دين ¬

_ (¬1) أبو السعود.

الفطرة، وليس فيه ما يخالف ما تدعو إليه الحاجة وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة. وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن جيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية (¬1): ورياشا فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، يقال: راشه الله يريشه ريشا ورياشا إذا أنعم عليه. {وَلِباسُ التَّقْوى} بالرفع مبتدأ خبره جملة قوله: {ذلِكَ خَيْرٌ}؛ أي: اللباس الناشيء عن تقوى الله تعالى وخوفه، وهو العمل الصالح والإخلاص فيه ذلك خير؛ أي: هذا اللباس الأخير خير من اللباسين الأولين؛ لأن الإنسان يكسى من عمله يوم القيامة، وإنما كان خيرا لأنه يستر من فضائح الآخرة. وفي (¬2) الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فإذا كان كذلك فينبغي للإنسان أن يشتغل بتحسين ظاهره بالأعمال الصالحة، وباطنه بالإخلاص، فإنه محل نظر لله تعالى، ولذلك قال بعضهم: إلهي زين ظاهري بامتثال ما أمرتني به ونهيتني عنه، وزين سري بالإسرار، وعن الأغيار فصنه. وقال المراغي: المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوي لا حسي. فقد قال ابن زيد: لباس هو التقوى خير، وعن ابن عباس أنه هو الإيمان والعمل الصالح، فإنهما خير من الريش واللباس، وروي عن زيد بن علي بن الحسين أنه لباس الحرب كالدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها العدو، واختاره أبو مسلم الأصفهاني، ويدل عليه قوله تعالى: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب (¬3) {لباس} عطفا على {لِباسًا}؛ أي: وأنزلنا عليكم لباس التقوى، وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس، أو السمت الحسن كما قاله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الصاوي. (¬3) المراح.

[27]

عثمان بن عفان، أو خشية الله تعالى كما قاله ابن الزبير، أو الحياء كما قاله معبد والحسن. {ذلِكَ}؛ أي: اللباس {خَيْرٌ} لصاحبه من اللباسين الأولين؛ لأنه يستر من فضائح الآخرة، وقرأ باقي السبعة بالرفع كما مر. {ذلِكَ}: المنزل من اللباسين {مِنْ آياتِ اللَّهِ}؛ أي: من دلائل قدرته؛ أي: ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات الله الدالة على قدرته، وعظيم فضله، وعميم رحمته لعباده، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، والمعنى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم أنواع الملابس؛ لكي تذكرون وتعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس، وتقومون بما يجب عليكم من الشكر والابتعاد من فتنة الشيطان، وإبداء العورات، أو لإسراف في استعمال الزينة. 27 - ولما ذكر سبحانه وتعالى نعمة اللباس .. أراد أن ينبههم على أن الشيطان حسود وعدو لهم كما أنه حسود وعدو لأبيهم، فقال: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ}؛ أي: لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنه ووسوته، فتمنعوا من دخول جنتي {كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} آدم وحواء {مِنَ الْجَنَّةِ}؛ أي: إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري، فمنعا من سكنى الجنة. وهذا في الظاهر نهي للشيطان، وفي الحقيقة نهي لبني آدم عن الإصغاء لفتنته ووسوسته واتباعه، فليس المراد النهي عن تسلطه؛ إذ لا قدرة لمخلوق على منع ذلك؛ لأنه قضاء مبرم، بل المراد النهي عن الميل إليه. والمعنى (¬1): أي لا تغفلوا يا بني آدم عن أنفسكم، فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم، والتحيل في خداعكم، وإيقاعكم في المعاصي كما وسوس لأبويكم آدم وحواء، فزين لهما معصية ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهم عنها، وكان ذلك سببا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها ودخولهما في طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها. ¬

_ (¬1) المراغي.

وقرأ ابن وثاب وإبراهيم: {لا يفتننكم} - بضم حرف المضارعة - من أفتنه بمعنى حمله على الفتنة. وقرأ زيد بن علي: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ} - بغير نون توكيد - اه «سمين» وقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما} حال من الضمير في {أَخْرَجَ}، أو من {أَبَوَيْكُمْ}؛ لأن الجملة فيها ضمير الشيطان، وضمير الأبوين؛ أي: حالة كون الشيطان ينزع ويسقط عن أبويكم لباسهما؛ أي: حالة كونه تسبب في سقوط لباسهما عنهما بأمرهما بالأكل من الشجرة {لِيُرِيَهُما}؛ أي: ليظهر لهما {سَوْآتِهِما}؛ أي: عوراتهما أي: ليري آدم سوأة حواء، وترى هي سوأة آدم؛ أي: أنه أخرجهما من الجنة، وكان سببا في نزع لباسهما من ثياب الجنة، أو مما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة؛ لأجل أن يريهما سؤاتهما، وفي ذلك إيماء إلى أنهما كانا يعيشان عريانين بعدما أهبطا إلى الأرض؛ لأنه ليس في الأرض ثياب تصنع، وليس هناك إلا أوراق الأشجار، وعلماء العاديات والآثار يحكمون حكما جازما بأن البشر قبل اهتدائهم إلى الصناعات كانوا يعيشون عراة، ثم اكتسوا بورق الشجر وجلود الحيوان التي يصطادونها، ولا يزال المتوحشون منهم إلى الآن يعيشون كذلك. وقوله: {إِنَّهُ يَراكُمْ} تعليل للتحرز من الشيطان اللازم للنهي، كأنه قيل: فاحذروه لأنه يراكم {هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}؛ أي أن إبليس وجنوده وأعوانه من شياطين الجن يرونكم يا بني آدم من مكان لا ترونهم فيه، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد، ووجوب العناية باتقائه أعظم، كما يرى ذلك في بعض الأوبئة التي ثبت وجودها في هذا العصر بالمجهر، فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب، أو البعوض، أو مع الطعام أو الشراب، أو الهواء، فتتوالد وتنمو بسرعة، وقد تسبب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء، والسل والسرطان إلى غير ذلك. وفعل جنة الشياطين في أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في الأجسام، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقى، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء، واستعمال الوسائل العلاجية الواقية، والأولى تتقى أيضا

بتقوية الأرواح بالإيمان بالله وصفاته، وإخلاص العبادة له، والتخلق بالأخلاق الكريمة، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فتبتعد تلك الأرواح الشيطانية عنها، ولا تستطيع القرب منها. والحاصل: أن الشياطين يرون بني آدم لكثافة أجسامهم وتلونهم، وبنو آدم لا يرونهم للطافتهم وعدم تلونهم، فأجسام الشياطين كالهواء، وأما رؤية الشياطين بعضهم بعضا، فحاصلة لقوة في أبصارهم. قال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربع: نرى، ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا شابا. وقال مالك بن دينار: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المجاهدة إلا من عصمه الله. وهذا حيث كانوا بصورتهم الأصلية، وأما إذا تصوروا بغيرهم فنراهم؛ لأن الله تعالى جعل لهم قدرة على التشكل بالصور الجميلة أو الخسيسة، وتحكم عليهم الصورة كما في الأحاديث الصحيحة، فالآية ليست على عمومها، فالفرق بينهم وبين الملائكة أن الملائكة لا يتشكلون إلا في الصورة الجميلة، ولا تحكم عليهم، بخلاف الجن. وقد ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى. وقرأ اليزيدي: {وقبيله} - بالنصب - عطفا على اسم {إن}. ثم زاد في التحذير من الشيطان، وبيّن شديد عداوته للإنسان، فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا} وصيرنا {الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ} وأعوانا وأصحابا {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}: أي: لغير المؤمنين؛ أي: مكناهم من إغوائهم، فتحرزوا أنتم أيها المؤمنون منهم؛ أي: إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن مسلطين عليهم؛ أي: أن (¬1) سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس؛ وهم الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم لما بينهما من التناسب والتشاكل. واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

وإغوائهم، وعدم احتراسهم من الخواطر الرديئة، كاكتساب ضعفاء البنية للأمراض باستعدادهم لها، وعدم احتراسهم من أسبابها، كتناول الأطعمة والأشربة الفاسدة، والوجود في جو مملوء بالجراثيم القاتلة بعدم تعرضه للشمس والنور والهواء المتجدد. 28 - {وَإِذا فَعَلُوا}؛ أي: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ممن جعلوا الشياطين أولياء لأنفسهم فعلة {فاحِشَةً}؛ أي: فعلا قبيحا شرعا وعقلا من الأفعال التي تدينوا بها كتعريهم حين الطواف بالبيت، وسجودهم للأصنام، فلامهم لائم على ذلك ونهاهم عنه. قال أكثر المفسرين: المراد بالفاحشة هنا هي طواف المشركين بالبيت عراة. وقيل: هي الشرك، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعا، والفاحشة في أصلها هي الذنوب التي بلغت الغاية في فحشها وقبحها. {قالُوا}؛ أي: قال الذين لا يؤمنون بالله في جواب اللائم والناهي محتجين بأمرين، تقليد الآباء والافتراء على الله {وَجَدْنا} ورأينا {عَلَيْها}؛ أي: على هذه الفاحشة {آباءَنا} وأجدادنا وأسلافنا؛ أي: قالوا: وجدنا آباءنا يفعلون مثل ما نفعل، فنحن نقتدي بهم ونستن بسنتهم {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَمَرَنا بِها}؛ أي: بهذه الفعلة، فنحن نتبع أمره، فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها، وقد رد تعالى عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد في جوابهم ردا عليهم في المقالة الثانية {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}؛ أي: إن هذا الفعل من الفحشاء، والله سبحانه بكماله منزه عن أن يأمر بالفحشاء، فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال، والحث على نفائس الخصال، وإنما يأمر بالفحشاء الشيطان، كما جاء في قوله سبحانه: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ}. ثم رد عليهم المقالة الأولى، ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، وهذا من جملة المأمور به في الجواب؛ أي: وقل لهم يا محمد: إنكم باتباعكم للآباء والأجداد في الآراء والشرائع غير المستندة إلى الوحي تقولون على الله ما لا تعلمون أنه

شرعه لعباده يعني: أنكم (¬1) ما سمعتم كلام الله مشافهة، ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وعباده في تبليغ أوامره ونواهيه؛ لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء، فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون. والخلاصة (¬2): أنهم في عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله تعالى بها، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهم في كل منهما، فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بها إنما هو الشيطان، ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات، وهو لم ينزل عليهم بفعل الفاحشة، فقولهم هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة. واعلم: أن في هذه الآية الشريفة لأعظم (¬3) زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: إنا وجدنا آباؤنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون، والقائلون: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية، والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعية، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية إنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة، وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا أمرهم باتباعه، ونهى عن مخالفته، فقال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[29]

نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولو كان محض رأي أئمة المذاهب واتباعهم حجة على العباد .. لكان لهذه الأمة رسل كثيرة متعددون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به، وإن من أعجب الغفلة، وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله، ووجود سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجود من يأخذونهما عنه، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم. 29 - وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا .. بين ما يأمر به من محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق بقوله لرسوله: {قُلْ} لهم يا محمد: {إنما أَمَرَ} ني {رَبِّي بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالاستقامة، والعدل في الأمور كلها، فأطيعوه، وقوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} معطوف على المحذوف المقدر، أو على معنى {بِالْقِسْطِ} قال لهم: أمرني ربي بالقسط، فأقسطوا في الأمور كلها، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد؛ أي (¬1): وجهوا وجوهكم في الصلاة إلى القبلة في أي مسجد كنتم فيه، أو في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود على أن المراد بالسجود الصلاة، أو المعنى (¬2) أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية، وحضور القلب، وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه سواء كانت العبادة طوافا، أو صلاة، أو ذكرا {وَادْعُوهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: واعبدوه وحده حالة كونكم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والعبادة، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم، ويقربونكم إليه زلفى، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله، وقولا عليه بغير علم. 30 - وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهي فيه .. ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال، فقال: {كَما بَدَأَكُمْ} وأنشأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته {تَعُودُونَ} إليه سبحانه وتعالى بالبعث يوم القيامة، وأنتم فريقان سعداء وأشقياء {فَرِيقًا} منكم {هَدى} هـ الله سبحانه وتعالى في الدنيا ببعثة الرسل، فاهتدى بهديهم، وأقام ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وجهه له وحده في العبادة، ودعاه مخلصا له الدين لا يشرك به أحدا {وَ} أضل {فَرِيقًا} آخر منكم {حَقَّ} وثبت {عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} أزلا؛ لاتباعهم إغواء الشيطان، وإعراضهم عن طاعة بارئهم، وكل فريق يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقرأ أبي: {تعودون فريقين فريقا هدى}. وقيل المعنى: {كَما بَدَأَكُمْ} في (¬1) الخلق شقيا وسعيدا، فكذلك {تَعُودُونَ} سعداء وأشقياء يدل على صحة هذا المعنى قوله: {فَرِيقًا هَدى}؛ أي: أرشد إلى دينه، وهم أولياؤه {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}؛ أي: أضلهم، وهم أولياء الشياطين، أو المعنى: كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب. وإنما حقت على الفريق الثاني الضلالة؛ لأنهم اقترفوا أسبابها، فوجدت نتائجها ومسبباتها، لا أنها جعلت لهم غرائز، فكانوا عليها مجبورين يرشد إلى ذلك قوله: {إِنَّهُمُ}؛ أي: إن هؤلاء الفريق الثاني {اتَّخَذُوا} وجعلوا لأنفسهم {الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى يطيعونهم في معصية الله، وهذه الجملة تعليل لقوله: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}؛ أي: أنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زينوا لهم من الفواحش والمنكرات، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر {وَ} هم مع عملهم هذا {يَحْسَبُونَ ويظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} راشدون فيما تلقنهم الشياطين من الشبهات، كجعل التوجه إلى غير الله، والتوسل إليه في الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بواسطة بعض المقربين عنده، ودلت هذه الآية على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في حصة الدين، بل لا بد من الجزم والقطع؛ لأنه تعالى ذم الكفار بأنهم بحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم لما ذمهم بذلك، ودلت أيضا على أن كل من شرع في باطل؛ فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى، أو لم ¬

_ (¬1) الواحدي.

يحسب ذلك اه «كرخي». والكثير (¬1) من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا - كأعداء الرسل في عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله، كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث في جمع كثير منهم، وهم الذين قال فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وهؤلاء هم الأقلون عددا. وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة، وهم الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} وهؤلاء هم جمهرة الناس في جميع الأمم، وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده في البحث والنظر في الحق، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته، وكان مخالفا في شيء منه لما جاءت به الرسل لا يدخل في مدلول هذه الآية ونحوها، بل يكون معذورا عند الله تعالى لقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها}. الإعراب {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}. {وَيا آدَمُ} {الواو}: عاطفة. {يا آدَمُ}: منادى مضافا، وجملة النداء في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} على كونها مقولا لـ {قُلْنا}، والتقدير: ثم قلنا للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}، وقلنا: {يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، كما ذكره صاحب «زاده» {اسْكُنْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر وجوبا. {أَنْتَ}: ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل؛ ليصح عطف ما بعده عليه كما قال ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَزَوْجُكَ}: معطوف على الضمير المستتر. {الْجَنَّةَ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلف بـ {اسْكُنْ}، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فَكُلا}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب، {كلا}: فعل وفاعل معطوف على اسكن. {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور متعلق بـ {كلا}. {شِئْتُما}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَلا}: {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَقْرَبا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {فَكُلا}. هذِهِ: في محل النصب مفعول به. {الشَّجَرَةَ}: بدل من اسم الإشارة. {فَتَكُونا}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {تكونا}: فعل ناقص، واسمه معطوف على {تَقْرَبا} مجزوم بـ {لا} الناهية. مِنَ الظَّالِمِينَ: جار ومجرور خبر {تكونا} وإن شئت قلت {الفاء}: عاطفة سببية، {تكونا}: فعل ناقص، واسمه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، وعلامة نصبه حذف النون، والتقدير على هذا الوجه: لا يكن منكما قربان هذه الشجرة فكونكما من الظالمين. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)}. {فَوَسْوَسَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى نهاهما عن تلك الشجرة، وأوردت بيان هل امتثلا لذلك النهي أم لا .. فأقول لك: {وسوس لهما الشيطان}: {وسوس}: فعل ماض. {لَهُمَا} جار ومجرور متعلق به. {الشَّيْطانُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لِيُبْدِيَ}: {اللام}: حرف جر وعاقبة، {يبدي}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانُ}. {لَهُمَا}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإبدائه لهما ما ووري، الجار والمجرور متعلق بـ {فَوَسْوَسَ}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به

لـ {يبدي}. {وُورِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {عَنْهُما}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في {وُورِيَ} مِنْ {سَوْآتِهِما}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير {وُورِيَ}. {وَقالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانُ}، والجملة معطوفة على جملة {فَوَسْوَسَ} على أنها عطف بيان لها. {ما نَهاكُما رَبُّكُما} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {ما} نافية. {نَهاكُما} فعل ومفعول. {رَبُّكُما}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {عَنْ هذِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَهاكُما}. {الشَّجَرَةِ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَكُونا}: فعل ناقص، واسمه منصوب بـ {أَنْ}. {مَلَكَيْنِ}: خبرها، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر المنصوب على أنه مفعول لأجله تقديره: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهية كونكما ملكين. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {تَكُونا}: فعل ناقص، واسمه معطوف على {تَكُونا}. {مِنَ الْخالِدِينَ}: خبر {تَكُونا}، والتقدير: أو كراهية كونكما من الخالدين. {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}. {وَقاسَمَهُما}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة {قالَ}. {إِنِّي}: {إن}: حرف نصب، والياء اسمها. {لَكُما}: جار ومجرور متعلق بـ {النَّاصِحِينَ}. {لَمِنَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {من الناصحين}: جار ومجرور خبر {إن} تقديره: إني لكائن من الناصحين لكما، وجملة {إن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}. {فَدَلَّاهُما} {الفاء}: عاطفة، {دلى}: فعل ماض من باب فعل المضعف،

و {الهاء}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة {قاسَمَهُما}. {بِغُرُورٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {دلى} تقديره: فدلاهما الشيطان حالة كونه متلبسا بغرور وخداع لهما. {فَلَمَّا}: {الفاء} عاطفة، {لما}: حرف شرط غير جازم. {ذاقَا الشَّجَرَةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الأعراب. {بَدَتْ}: فعل ماض. {لَهُما}: متعلق به. {سَوْآتُهُما}: فاعل ومضاف إليه، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على جملة قوله: {فَدَلَّاهُما}. {وَطَفِقا}: فعل ناقص واسمه؛ لأنه من أفعال الشروع، وجملة {يَخْصِفانِ} خبره، وجملة {وَطَفِقا} معطوفة على جملة قوله: {بَدَتْ} على كونها جواب {لما}. {عَلَيْهِما}: جار ومجرور متعلق بـ {يَخْصِفانِ}. {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَخْصِفانِ} أيضا. {وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ}. {وَناداهُما رَبُّهُما} فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة بَدَتْ. {أَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام التقريري، {لَمْ}: حرف جزم ونفي. {أَنْهَكُما} فعل ومفعول مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جملة مفسرة للنداء لا محل لها من الإعراب. {عَنْ تِلْكُمَا}: {عَنْ}: حرف جر. {تـ}: اسم إشارة يشار بها للمفردة المؤنثة البعيدة في محل الجر بـ {عَنْ} مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبها معنويا، {اللام}: لبعد المشار إليه، و {الكاف}: حرف دال على الخطاب، و {الميم}: حرف عماد، و {الألف}: حرف دال على التثنية. {الشَّجَرَةَ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْهَكُما}. {وَأَقُلْ}: فعل مضارع معطوف على أنه مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُما}: جار ومجرور متعلق به. {إِنَّ الشَّيْطانَ} إلى آخره مقول محكي لـ {أَقُلْ}، وإن شئت قلت {إِنَّ} حرف نصب. {الشَّيْطانَ}: اسمها. {لَكُما}: جار ومجرور متعلق بـ {عَدُوٌّ}. {عَدُوٌّ}: خبر إن {مُبِينٌ}: صفة {عَدُوٌّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول لـ {أَقُلْ}.

{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)}. {قالا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. {رَبَّنا ظَلَمْنا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {رَبَّنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {ظَلَمْنا أَنْفُسَنا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء على كونها مقول القول. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إِنْ}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {تَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {لَنا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَغْفِرْ}. {وَتَرْحَمْنا}: فعل ومفعول معطوف على {تَغْفِرْ}، وفاعله ضمير يعود على الله، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم المقدر تقديره: نكن من الخاسرين، وجملة الشرط مع جوابه المحذوف معطوفة على جملة {ظَلَمْنا} على كونها جواب النداء. {لَنَكُونَنَّ}: {اللام}: موطئة لقسم محذوف تقديره: والله لئن لم تغفر لنا لنكونن، {نكونن}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على آدم وحواء. {مِنَ الْخاسِرِينَ}: جار ومجرور خبر {نكون}، وجملة {نكونن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {اهْبِطُوا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {اهْبِطُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {بَعْضُكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {لِبَعْضٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَدُوٌّ}. {عَدُوٌّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {اهْبِطُوا} تقديره: اهبطوا حالة كونكم موصوفين بعداوة بعضكم لبعض. {وَلَكُمْ} {الواو}: واو الحال، أو عاطفة. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُسْتَقَرٌّ}. مُسْتَقَرٌّ: مبتدأ مؤخر. {وَمَتاعٌ}: معطوف عليه. {إِلى حِينٍ}: جار

ومجرور تنازع فيه {مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال ثانية من فاعل {اهْبِطُوا}، أو معطوفة على جملة {اهْبِطُوا} على كونها مقول {قالَ}. {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فِيها تَحْيَوْنَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت فِيها: جار ومجرور متعلق بـ {تَحْيَوْنَ}. {تَحْيَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {وَفِيها}: متعلق بـ {تَمُوتُونَ}. {تَمُوتُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {تَحْيَوْنَ}. {وَمِنْها}: جار ومجرور متعلق بـ {تُخْرَجُونَ}. {تُخْرَجُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {تَحْيَوْنَ}. {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}. {يا بَنِي آدَمَ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. {قَدْ أَنْزَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَنْزَلْنا}. {لِباسًا}: مفعول به لـ {أَنْزَلْنا}. {يُوارِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {لِباسًا}. وجملة {يُوارِي} صفة لـ {لِباسًا} {سَوْآتِكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَرِيشًا}: معطوف على {لِباسًا}. {وَلِباسُ التَّقْوى}: بالنصب معطوف على {لِباسًا} أيضا. {لِباسُ} - بالرفع -: مبتدأ أول، ومضاف إليه. ذلِكَ: {مبتدأ} ثان. {خَيْرٌ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة مستأنفة. {ذلِكَ}: مبتدأ. {مِنْ آياتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَذَّكَّرُونَ} خبرها، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل جملة {أَنْزَلْنا}. {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما}. {يا بَنِي آدَمَ}: منادى مضاف، والجملة مستأنفة. {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ}:

فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {كَما}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية. {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ}: فعل ومفعول. {مِنَ الْجَنَّةِ} متعلق بـ {أَخْرَجَ}، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانُ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، والتقدير: لا يفتننكم الشيطان فتنة مثل إخراج أبويكم، أو لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم، أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم. {يَنْزِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانُ}. {عَنْهُما} متعلق به. {لِباسَهُما}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {أَخْرَجَ} تقديره: حالة كونه ينزع عنهما لباسهما، أو في محل النصب حال من {أَبَوَيْكُمْ}. {لِيُرِيَهُما}: فعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانُ}. {سَوْآتِهِما}: مفعول ثان لأرى؛ لأن رأى بصرية تعدت إلى مفعولين بالهمزة، وجملة أرى صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام الجار والمجرور متعلق بـ {يَنْزِعُ} تقديره: ينزع عنهما لباسهما لإزائته إياهما سؤاتهما. {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {يَراكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الشّيطان}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجر باللام المقدره مسوقة لتعليل النهي المستفاد من قوله: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ} فكأنه قيل: فاحذروه لأنه يراكم. {هُوَ}: تأكيد لضمير الفاعل المستتر في {يَراكُمْ} ليصح العطف عليه كما قيل. {وَقَبِيلُهُ}: بالرفع معطوف على ضمير الفاعل، وبالنصب معطوف على اسم {إن}. {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَراكُمْ}. {لا تَرَوْنَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل. {الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ}: مفعولان لـ {جَعَلْنَا}، وجملة {جَعَلْنَا}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} جملة معللة مؤكدة لجملة قوله: {إِنَّهُ يَراكُمْ}. {لِلَّذِينَ}: جار

ومجرور صفة لـ {أَوْلِياءَ}، أو متعلق بـ {جَعَلْنَا}، وجملة {لا يُؤْمِنُونَ} صلة الموصول. {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {فَعَلُوا فاحِشَةً}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفص بإضافة إِذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إِذا مستأنفة. {وَجَدْنا عَلَيْها} إلى قوله: {قُلْ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت {وَجَدْنا}: فعل وفاعل. {عَلَيْها}: متعلق به. {آباءَنا}: مفعول به ومضاف إليه؛ لأن وجد هنا بمعنى أصاب، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {أَمَرَنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {بِها}: متعلق بـ {أَمَرَنا}، وجملة {أَمَرَنا} في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت {إِنَّ}: حرف نصب. {اللَّهُ}: اسمها. لا: نافية. {يَأْمُرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {بِالْفَحْشاءِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَتَقُولُونَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبخي، وفيه معنى النهي، {تَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولُونَ}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {تَقُولُونَ}؛ لأنه بمعنى تذكرون وتفترون. {لا تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه. {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} إلى قوله: {كَما بَدَأَكُمْ}: مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {أَمَرَ رَبِّي}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {بِالْقِسْطِ}: متعلق بـ {أَمَرَ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على محذوف معلوم من السياق: قل أمر ربي بالقسط فأقسطوا وأقيموا وجوهكم. {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَقِيمُوا}. {وَادْعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَقِيمُوا}. {مُخْلِصِينَ}: حال من واو {وَادْعُوهُ}. {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}. {الدِّينَ}: مفعول لـ {مُخْلِصِينَ}. {كَما}: {الكاف}: حرف جر، {ما}: مصدرية. {بَدَأَكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {تَعُودُونَ}: فعل وفاعل، وجملة {بَدَأَكُمْ} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والتقدير: كبدئه إياكم، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: تعودون عودا مثل بدئه إياكم في كونه عن عدم محض، وجملة {تَعُودُونَ} مستأنفة. {فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}. {فَرِيقًا}: مفعول مقدم لـ {هَدى}. {هَدى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل بدأ؛ أي: تعودون كما بدأكم حال كونه هاديا فريقا، ومضلا فريقا، وقد مضمرة هنا. {وَفَرِيقًا}: مفعول لفعل محذوف تقديره: وأضل فريقا، وجملة {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} صفة لـ {فَرِيقًا}، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {فَرِيقًا هَدى} على كونه مستأنفة، أو حالا من فاعل بدأ تقديره: تعودون كما بدأكم حال كونه هاديا فريقا، ومضلا فريقا حق عليهم الضلالة. {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. {إِنَّهُمُ}: ناصب واسمه. {اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور

ومضاف إليه متعلق بـ {اتَّخَذُوا} أو حال من فاعل {اتَّخَذُوا}، والتقدير: اتخذوا الشياطين أولياء حالة كونهم مجاوزين الله. {وَيَحْسَبُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على {اتَّخَذُوا}، أو حال من فاعل {اتَّخَذُوا}. {إِنَّهُمُ}: ناصب واسمه. {مُهْتَدُونَ}: خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {حسب}، والتقدير: ويحسبون هدايتهم. التصريف ومفردات اللغة {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} قرب يستعمل لازما، فيكون بضم الراء في الماضي والمضارع، ويستعمل متعديا كما هنا فيكون بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارع، وبفتحها في الماضي وضمها في المضارع، وفي «المصباح» قرب الشيء منا قربا؛ أي: دنا إلى أن قال: وقربت الأمر أقربه - من باب تعب، وفي لغة من باب قتل - قربانا - بالكسر - فعلته، أو دانيته، اه. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} أصل الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، ووسوسة الشيطان للبشر ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم، يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيا مكررا. {الشَّيْطانُ} مأخوذ من شاط إذا احترق، أو من شطن بمعنى بعد. {ما وُورِيَ}؛ أي: غطى وستر، وهو بوزن فوعل؛ لأنه مغير وارى على وزن فاعل كضارب، فلما بني للمفعول أبدلت الألف واوا كضورب، فالواو الأولى فاء الكلمة، والثانية: زائدة، فحينئذ لا يجب قلب الأولى همزة، وإنما يجب قلبها لو كانت الثانية أصلية كما أوضحوه في قول «الخلاصة»: وهمزا أول الواوين رد. وقرأ عبد الله (¬1): {أوري} - بإبدال الأولى همزة - وهو بدل جائز لا واجب، وهذه قاعدة كلية، وهي أنه إذا اجتمع في أول الكلمة واوان، وتحركت الثانية، أو كان لها نظير متحرك .. وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا، فإن لم ¬

_ (¬1) الفتوحات.

تتحرك، ولم تحمل على متحرك جاز الإبدال كهذه الآية الكريمة. {مِنْ سَوْآتِهِما} جمع سوءة، والسوءة ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن، وعمل قبيح، وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة؛ لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. {مِنَ الْخالِدِينَ}؛ أي: من الذين لا يموتون أبدا. {وَقاسَمَهُما}؛ أي: أقسم وحلف لهما، وفي «السمين» المفاعلة هنا يحتمل أن تكون على بابها. فقال الزمخشري: كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين، فقالا له: أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا، فجعل ذلك مقاسمة بينهم، أو أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم. وقال ابن عطية: وقاسمهما؛ أي: حلف لهما، وهي مفاعلة؛ إذ قبول المحلوف له، وإقباله على معنى اليمين، وتقديره: كالقسم وإن كان بادىء الرأي يعطي أنها من واحد، ويحتمل أن يكون فاعل بمعنى أفعل كباعدته وأبعدته، وذلك أن الحلف لما كان من إبليس دونهما كان فاعل بمعنى أصل الفعل. انتهى. {لَمِنَ النَّاصِحِينَ} جمع ناصح اسم فاعل من نصح، ونصح يتعدى لواحد؛ تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر، ومثله شكر وكال ووزن، وهل الأصل التعدي بحرف الجر، أو التعدي بنفسه، أو كل منهما أصل؟ الراجح الثالث، وزعم بعضهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوف، وأن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحت لزيد، فالتقدير: نصحت لزيد الرأي، وكذلك شكرت له صنيعه، وكلت له طعامه، ووزنت له متاعه، فهذا مذهب رابع، وقال الفراء: العرب لا تكاد تقول: نصحتك إنما يقولون: نصحت لك، وأنصح لك، وقد يجوز نصحتك، اه «سمين». والنصيحة: هي إرادة الخير للغير، وإظهاره له. {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ} يقال: دلى الشيء تدلية - كزكى تزكية - إذا أرسله، وأنزله من أعلى إلى أسفل رويدا رويدا، وقال الأزهري: وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، وقيل: حطهما من منزلة

الطاعة إلى حالة المعصية؛ لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى سفل. ومعنى الآية (¬1): أن إبليس لعنه الله غر آدم باليمين الكاذبة، وكان آدم عليه السلام يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وإبليس أول من حلف بالله كاذبا، فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به، والغرور: مصدر حذف فاعله ومفعوله، والتقدير بغروره إياهما. {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما}؛ أي: شرعا وأخذا يلزقان عليهما؛ أي: على القبل والدبر؛ أي: جعل كل منهما يستر عورتيه. يخصفان؛ أي (¬2): يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، من قولهم: خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها. وفي «المختار»: طفق يفعل كذا؛ أي: جعل يفعل كذا، وبابه طرب، وبعضهم يقول: هو من باب جلس. اه. وفي «المصباح»: خصف الرجل نعله خصفا - من باب ضرب - فهو خصاف، وهو فيه كرقع الثوب. {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ} من حيي (¬3) من باب رضي، فتحيون أصله تحييون بوزن ترضيون، تحركت الياء الثانية وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعون بحذف لام الكلمة. {وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى} الريش: لباس (¬4) الحاجة والزينة، ولباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحرب. وفي «الفتوحات»: والريش فيه قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا الشيء المعروف. والثاني: أنه مصدر يقال: راشه يرشه ريشا إذا جعل فيه الريش، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين، وهذا هو التحقيق. وقرىء: {ورياشا} وفيه تأويلان (¬5): ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات. (¬4) المراغي. (¬5) الفتوحات.

أحدهما: وبه قال الزمخشري: أنه جمع ريش كشعب وشعاب. والثاني: أنه مصدر أيضا، فيكون ريش ورياش مصدرين لراشه الله ريشا ورياشا؛ أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: هما اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس كما قالوا: لبس ولباس. {لا يَفْتِنَنَّكُمُ} الفتنة: الابتلاء والاختبار من قولهم: فتن الصائغ الذهب، أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار. {وَقَبِيلُهُ} والقبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد، والقبيلة: الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة اه «سمين». وفي «المصباح»: والقبيل: الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى، والجمع قبل بضمتين، والقبيلة لغة فيه، وقبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض، وبها سميت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، وهم بنو أب واحد. اه. {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً} الفاحشة (¬1): الفعلة المتناهية في القبح، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم، ويقولون لا نطوف بيت ربنا في ثياب عصيناه بها. {بِالْقِسْطِ} والقسط الاعتدال في جميع الأمور، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط. {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه، وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط، والوجه قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}. {فَرِيقًا هَدى}: وفي «القاموس»: والفرقة - بالكسر - الطائفة من الناس، والجمع فرق، والفريق كأمير أكثر منها، والجمع أفرقاء وأفرقة وفروق. اه. ¬

_ (¬1) المراغي.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَيا آدَمُ}؛ أي: وقلنا يا آدم، وفي قوله: {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما}؛ أي: فكلا منها؛ أي: من ثمارها حيث شئتما. ومنها: المبالغة في النهي عن الأكل في قوله: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ}؛ لأنه عبر عن النهي من الأكل بالنهي عن القربان مبالغة. ومنها: التأكيد في قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ} وفي قوله: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أكد الخبر بالقسم وبـ {إن} وباللام وبإسمية الجملة؛ لدفع شبهة الكذب، وهو من الضرب الذي يسمى إنكاريا؛ لأن السامع متردد. ومنها: تخصيص الخطاب بآدم (¬1)، في قوله: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ} للإيذان بأصالته في تلقي الوحي، وتعاطي المأمور به، وتعميمه في قوله: {فَكُلا}، وقوله: {وَلا تَقْرَبا} للإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به، وتجنب المنهى عنه. ومنها: المجاز المرسل، في قوله: {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ} لأنه مجاز عن الأكل من إطلاق المسبب وإرادة السبب. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُما} وهو (¬2) حمل المخاطب على الإقرار بما علم عنده ثبوته أو نفيه. والمعنى (¬3): أقر بذلك على حد {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (1). ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَرِيشًا} شبه لباس الزينة بريش الطائر بجامع الزينة في كل؛ لأن الريش زينة الطائر، كما أن اللباس زينة الأدميين، فاستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: التشبيه في قوله: {وَلا تَقْرَبا} لأنه من إضافة المشبه به إلى المشبه، فهو من قبيل إضافة لجين الماء، وقال الشوكاني (¬4): ومثل هذه الاستعارة كثير ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الصاوي. (¬3) الصاوي. (¬4) فتح القدير.

الوقوع في كلام العرب، ومنه قوله: إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا، وإن كان كاسيا ومثله قوله: تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه ومنها: الالتفات في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وكان (¬1) مقتضى الظاهر لعلكم تذكرون، ونكتته دفع الثقل في الكلام. ومنها: الطباق في قوله: {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ}؛ لأن بين الجملتين طباقا، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: المقابلة في قوله: {فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما}؛ لأنه أسند النزع إليه لتسببه فيه. ومنها: حكاية الحال الماضية، في قوله: {يَنْزِعُ}: عبر (¬2) بلفظ المضارع وعلى أنه حكاية حال؛ لأنها قد وقعت وانقضت. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}. المناسبة قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...} الآية، مناسبة (¬1) ¬

_ (¬1) المراغي.

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر عباده في الآية السالفة بالعدل في كل الأمور، واتباع الوسط منها .. طلب إلينا أن نأخذ بالزينة في كل مجتمع للعبادة، فلنستعمل الثياب الحسنة في الصلاة والطواف ونحو ذلك، كما أباح لنا أن نأكل ونشرب مما خلق الله، بشرط أن لا نسرف في شيء من ذلك. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنكر في الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق .. ذكر هنا أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، وجميعها من الأعمال الكسبية، لا من المواهب الخلقية؛ ليستبين للناس أن الله لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم. قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين جماع المحرمات على بني آدم لما فيها من المفاسد والمضار للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها .. ذكر هنا حال الأمم في قبول هذه الأصول، أو ردها، والسير على منهاجها بعد قبولها، أو الزيغ عنها. قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن لكل أمة أجلا لا تعدوه .. حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها، وبينه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها، وتكميل فطرتها، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقي الله فيما تأتي وتذر، وتصلح أعمالها، فلا يحصل لها في الآخرة خوف ولا حزن، وإن هي تمردت واستكبرت، وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار، وبئس القرار. قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ...} الآيات، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها .. ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على الله الكذب، فينسبون إليه ما لم يقله كمن يثبت الشريك لله تعالى سواء كانت صنما، أو كوكبا، أو يضيف إليه أحكاما باطلة، أو يكذب ما قاله، كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما ذكر المكذبين .. ذكر من هو أسوأ حالا منهم، وهو من يفتري الكذب على الله، وذكر أيضا من كذب بآياته. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه الآية من تتمة ما سلف من وعيد الكفار، وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الايمان، بين بها أنهم خالدون في النار، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم، واستكبارهم عن طاعة ربهم، واتباع أوامره. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬2) وعيد أهل الكفار والمعاصي .. أردفه وعد أهل الطاعات، وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله، ثم يقفوه بالآخر. أسباب النزول قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة وعلى فرجها خرقة، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أحلّه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

فنزلت: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...}، ونزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ...} الآيتين. وأخرج (¬1) عبد بن حميد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة، ويقولون لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها، فطافت ووضعت يدها على قبلها، وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أحلّه فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد (¬2): كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول: لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فيقول: من يعيرني مئزرا، فإن قدر عليه، وإلا طاف عريانا، فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، وهم قريش وأحلافهم، فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عريانا، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها؛ أي: جعلها حراما عليه؛ فلذلك قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة، وقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} أمر، وظاهره الوجوب، وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة، والطواف، وفي كل حال من الأحوال، وإن كان الرجل خاليا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[31]

التفسير وأوجه القراءة 31 - والخطاب في قوله: {يا بَنِي آدَمَ} عام (¬1) لجميع بني آدم، وإن كان واردا في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالذي ينبغي للأمة التجمل بالثياب عند حضور مشاهد الخير مع القدرة {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ}؛ أي: البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}؛ أي: في كل وقت صلاة وطواف، والزينة ما يزين الشيء، أو الشخص، ومعنى أخذها: التزين بها، والمراد بالزينة هنا: الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات. وأقل هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس، وهو ما يستر عورته، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة - ولا سيما صلاة الجمعة والعيد - فهو سنة لا واجب. ويرى بعض العلماء (¬2) وجوب الزينة عند كل مسجد بحسب عرف الناس في تزينهم في المجامع والمحافل؛ ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين في أجمل حال، لا تقصير فيها ولا إسراف. أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم .. فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزين له، فإن لم يكن له ثوبان. فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود». وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء». وعلى الجملة: فالزينة تختلف باختلاف حال الناس في السعة والضيق، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه .. فليستر به جميع بدنه، وليصل به، فإن لم يستر إلا العورة كلها، أو الغليظة منها؛ وهي السوءتان ... فليستر به ما يستره، ومن وجد ثوبين، أو أكثر فليصل بهما. وهذا (¬3) الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

المسلمين، وكان سببا في تعليم القبائل المتوحشة القاطنة في الكهوف والغابات أفرادا وجماعات لبس الثياب عند دخولها في حظيرة الإسلام، وكانوا قبل ذلك يعيشون عراة الأجسام رجالا ونساء حتى ذكر بعض المنصفين من الإفرنج أن لانتشار الإسلام في إفريقية منه على أوروبا بنشره للمدينة بين أهلها؛ إذ ألزمهم ترك العرى، وأوجب لبس الثياب، فكان ذلك سببا في رواج تجارة المنسوجات. وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية؛ أي: خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} من الطيبات {وَلا تُسْرِفُوا} فيها بالتعدي إلى الحرام، أو بتحريم الحلال، أو بالإفراط في الطعام، بل عليكم بالاعتدال في جميع ذلك {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: لأن الله سبحانه وتعالى الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين؛ أي: لا يرتضي عنهم فعلهم، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضار والمفاسد؛ لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة، وجنوا على أنفسهم في أبدانهم وأموالهم، وجنوا على أسرهم وأوطانهم إذ هم أعضاء في جسم الأسرة والأمة. روى النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة - كبر وإعجاب بالنفس - ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده». وعن ابن عباس أنه قال: كل ما شئت، واشرب ما شئت، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة. والإسراف تجاوز الحد في كل شيء، والحدود لها أقسام: منها: طبيعي كالجوع والشبع، والظمأ والري، فمن أكل إذا أحس بالجوع، أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع، وإن كان يستلذ الاستزادة أو شرب إذا شعر بالظمأ، واكتفى بما يزيله، ولم يزد على ذلك .. لم يكن مسرفا في أكله وشربه، وكان طعامه وشرابه نافعين له. ومنها: اقتصادي؛ وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه.

ومنها: شرعي، فإن الشارع حرم من الطعام الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وحرم من الشراب الخمر، وحرم من اللباس الحرير الخالص، أو الغالب على الرجال دون النساء، وحرم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وعده من السرف المنهي عنه، فهذه الأشياء لا يباح استعمالها إلا لضرورة تقدر بقدرها. والمعول عليه في الإنفاق في كل طبقة عرف المعتدلين فيها، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا، وكم جر الإسراف إلى خراب بيوت عامرة، ولا سيما في المهور، وتجهيز العرائس، وحفل العرس والمأتم (¬1)، والزار، قال الشاعر: ثلاثة تشقى بها الدّار ... العرس والمأتم والزّار وهذا السرف كبير الضرر، عظيم الخطر على الأمم، أكثر من ضرره على الأفراد، ولا سيما في البلاد التي تأتي إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية عنها، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم، والعدوان عليهم. والخلاصة: أن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية، ولكن ضل في ذلك فريقان: 1 - فريق البخلاء والغلاة في الدين، تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة؛ إما بخلا وشحا، أو تحرجا وتأثما؛ إما دائما، أو في أوقات مخصوصة من السنة. 2 - فريق المترفين الذين أسرفوا في اللذات البدنية، وجعلوها جل هممهم، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، وليس لهم غاية يقفون عندها، ¬

_ (¬1) والمأتم عند العرب نساء يجتمعن في الخير والشر، والجمع مآتم، وعند العامة المصيبة يقولون: كنا في مأتم فلان، والصواب كنا في مناحة فلان اه «مختار».

[32]

أو نهاية ينتهون إليها. 32 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة {مَنْ حَرَّمَ}؛ أي: من الذي حرم عليكم {زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ} ـها وخلقها {لِعِبادِهِ} من النبات كالقطن والكتان، ومن الحيوان كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع {وَ} من الذي حرم عليكم {الطَّيِّباتِ}؛ أي: المستلذات {مِنَ الرِّزْقِ}؛ أي: من المآكل والمشارب، والاستفهام فيه إنكاري توبيخي؛ أي: لا أحد حرم عليكم أن تتزينوا بها، وتلبسوها في الطواف وغيره، ولا أن تأكلوا المستلذات من الرزق في الحج وغيره. ومعنى إخراج الله للزينة (¬1): خلق موادها، وتعليم طرق صنعها بما أودع في فطرهم من حبها، والميل إلى الافتتان في استعمالها؛ إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته في جميع ما خلق في هذا العالم الذي يعيشون فيه بما أودع في غرائزها من الميل إلى البحث في كشف المجهول، والاطلاع على خفايا الأمور، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى، وأوجه لا نهاية لها، ولم تنتهي بحوثهم ما دام الإنسان على ظهر البسيطة. وغريزة حب الزينة، وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب في اتساع أعمال الفلاحة والزراعة، ورقي ضروب الصناعة، واتساع وسائل العمران، ومعرفة سنن الله وآياته في الأكوان، وهما لا يذمان إلا بالإسراف فيهما، والغفلة عن شكر المنعم بهما. والخلاصة: أن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي، والكمال الخلقي، وأنه لم يجعل تركهما قربة إلى الله كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين، وصاروا يبثون في الأمم الإسلامية تعاليم تقضي بأن روح الدين ومخ العبادة في التقشف، وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة. وقد بين الله سبحانه وتعالى وجه ¬

_ (¬1) المراغي.

الصواب في ذلك بقوله لرسوله: {قُلْ} يا محمد لأمتك {هِيَ}؛ أي: الزينة والطيبات ثابتة {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله بطريق الأصالة، فالضمير عائد على الزينة والطيبات من الرزق، لكن على وجه أعم بأن يراد بها الأعم من الدنيوية والأخروية؛ لأجل أن يصح الإخبار عنها بقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}، وبقوله: {خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} غير خالصة لهم؛ لأنه يشركهم فيها المشركون، وإن لم يستحقوها مثلهم حالة كونها {خالِصَةً} لهم ومختصة بهم {يَوْمَ الْقِيامَةِ} لا يشاركهم فيها غيرهم؛ لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق. وقيل (¬1): معناه خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيض والغم؛ لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص، فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله. وقرأ قتادة (¬2): {قل هي لمن آمن} وقرأ نافع: {خالصة} - بالرفع -، وقرأ باقي السبعة {خالِصَةً} بالنصب، فأما النصب فعلى الحال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا، وأما الرفع فعلى أنه خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وهي خالصة. وقصارى ذلك: أن الدين يورث أهلها سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)}، وقوله: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا}. ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه، وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته في نفسه، أو في غيرها من الكائنات، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح، كشكر اللسان بالثناء عليه، وشكر سائر الأعضاء كذلك. ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» والسر في هذا: أن الأكل والشرب من الطيبات بدون ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

إسراف هما قوام الحياة والصحة، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية، ولهما التأثير في جودة النسل الذي به يكثر سواد الأمة، والملابس الجيدة النظيفة لها فوائد: 1 - حفظ الصحة. 2 - كرامة من يتجمل بها في نفوس الناس. 3 - إظهار نعمة الله على لابسها، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها. روى أبو داود عن أبي الأحوص قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: «ألك مال»؟ قلت: نعم. قال: «من أي المال»؟ قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال: «فإذا آتاك الله .. فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك». وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس في الطواف تعبدا، وتحرم الادهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر في سورة الأنعام، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات، فجاء الدين الإسلامي الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة، والمطهر للنفوس، والمهذب للأخلاق، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة، وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان، ولم يوح به الله تعالى إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار. {كَذلِكَ}؛ أي: كتفصيلنا هذا الحكم المذكور وتبيينا إياه {نُفَصِّلُ} ونبين {الْآياتِ}؛ أي: الأحكام من الحلال والحرام {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أني أنا الله وحدي لا شريك لي، فأحلوا حلالي، وحرموا حرامي. أي: أن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات، الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط، لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع

[33]

البشر ومصالحهم، ونحن قد فصلناه على لسان هذا النبي الأمي، الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر في أطوار بداوتهم وأطوار حضارتهم قبل أن ننزلها عليه، فكان ذلك آية دالة على نبوته؛ إذ ما كان لمثله أن يعلمها إلا بالوحي من عندنا، ولولا الكتاب الكريم .. لما خرجت العرب من ظلمات الوثنية والجهالة إلى ذلك النور الذي صلحت به، وأصلحت أمما كثيرة بالدين والفنون والآداب، وما أحيت من علوم الأوائل. ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن الله في الأكوان، وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية، وأصبحوا في مؤخرة الأمم، وصاروا مضرب الأمثال في التأخر والخمول والكسل، وبذلك استكانوا وذلوا، وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك من أن لهم زينة الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها، وأن عليهم أن يشكروا الله على ما يؤتيهم من ذلك، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل، وكل ما تقتضيه خلافتهم في الأرض. ولقد بلغ الجهل بكثير من المسلمين أن ظن - وبعض الظن إثم - أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم ومسكنتهم، وذهاب ملكهم، واستعباد الكفار لهم حتى رغب الجهال منهم الدخول في المسيحية والشيوعية؛ لطول ما عليهم من الاستئمار، كما رأينا ذلك في بعض القبائل من الشعوب الآرومية في شرقي إفريقيا؛ لاستعباد الجيوش لهم بأخذ أراضيهم، وضرب الجزية عليهم استعبادا لا نظير له إلا استعباد فرعون لبني إسرائيل، ولكن كتاب الله وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية، وتزييف تلك الدعوى فليس لها من دعائم تستند إليها وتقف بها على رجليها. 33 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف، والذين يحرمون أكل الطيبات {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ}؛ أي: الزنا {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}؛ أي: جهرها وسرها {وَالْإِثْمَ}؛ أي: شرب الخمر {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: الظلم على الناس بغير الحق، فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ

ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا}؛ أي: وحرم أن تسووا بالله في العبادة معبودا ليس على ثبوته حجة، ولا يخفى ما فيه من التهكم بالمشركين (¬1) والكفار؛ لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهانا بأن يشرك به غيره؛ لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهان ممتنع، فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك .. وجب أن يكون باطلا على الإطلاق {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته، والافتراء عليه في التحريم والتحليل؛ أي: أن تقولوا على الله ما لا تعلمون حقيقته، وأن الله قاله، مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها. فالجنايات محصورة في خمسة أنواع (¬2): أحدها: الجناية على الأنساب؛ وهي المرادة بالفواحش الظاهرة والباطنة، وقد تقدم تفسيرها في سورة الأنعام، وهي إحدى الوصايا التي ذكرت هناك، وقد تقدم تخصيصها بفاحشة الزنا، وإن كان الأولى التعميم. وثانيها: الجناية على العقول؛ وهي المشار إليها بالإثم والإثم (3) يتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم والذم، وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص، والثلاثة بعده معطوفة عليه عطف خاص على عام؛ لمزيد الاعتناء بها، وقيل: هو الخمر خاصة ومنه قول الشاعر: شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول ومثله قول الآخر: يشرب الإثم بالصّواع جهارا وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل الإثم خاصا بالخمر. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر .. فلا يعرف ذلك، وحقيقته أنه جميع المعاصي كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) المراح والمراغي والشوكاني. (¬2) الشوكاني.

إنّي وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشرّه الإثم قال في «الصحاح»: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد: شربت الإثم ... البيت، وكذا أنشده الهروي قبله في غريبته. وثالثها: الجناية على النفوس والأموال والأعراض، وإليها الإشارة بقوله: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو (¬1) الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق، أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعتهم، ومن ثم قرن بالعدوان في قوله: {تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} وقيد البغي بكونه بغير الحق؛ لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد، ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما في الأمور التي ليس لهم فيها حقوق، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم، فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها. ورابعها: الجناية على الأديان؛ وهي من وجهين: إما بالطعن في توحيد الله تعالى؛ وهو الشرك، وإليه الإشارة بقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} وهو أقبح الفواحش، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجة سلطانا؛ لأن لها سلطانا على العقل والقلب. وفي هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من الله يؤيده البرهان كما قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان في الدين، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق، وهذا من فرض المحال مبالغة في فضل الاستدلال كما قال: {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}. وإما بالقول في دين الله بغير معرفة، وإليه الاشارة بقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}: وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا؛ إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة، وسبب الابتداع في الدين الحق، وقد انتشر الابتداع بين أهله، وتحكمت بينهم الأهواء، واتبعوا سنن من قبلهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[34]

كما جاء في الحديث: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟». رواه الشيخان. ورأس البلية في هذا الابتداع القول في الدين بالرأي، فما من أحد يبتدع، أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأي. وقد ظهرت مبادىء هذه البدع والأهواء في القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن. وما شرع (¬1) من اجتهاد الرأي في حديث معاذ وغيره؛ فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته، فقد أكمل الله دينه، فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادي إلى الله، فيقول: هذا حكم الله، وهذا دينه، بل يقول: هذا مبلغ اجتهادي، فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإلهامه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. والخلاصة: أنه لا ينبغي لأحد أن يحرم شيئا تحريما دينيا على عباد الله، أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ومن تهجم على ذلك .. فقد جعل نفسه شريكا لله، ومن تبعه في ذلك .. فقد جعله ربا له، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول في الدين بالرأي، وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان، فقال: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}. وهذه الجنايات الخمسة المذكورة في هذه الآية أصول الجنايات، وأما غيرها فهي كالفروع. 34 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}: من الأمم التي كذبت الرسل {أَجَلٌ}؛ أي: وقت معين لهلاكها {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ}؛ أي: وقت هلاكهم؛ أي: أجل واحد اندرج تحت الأمة {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً}؛ أي: لا يتركون بعد الأجل طرفة عين {وَلا ¬

_ (¬1) المراغي.

يَسْتَقْدِمُونَ}؛ أي: ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين، فقوله: {ساعَةً}؛ أي: شيئا قليلا من الزمان؛ فهي مثل يضرب لغاية القلة من الزمان. ذكره أبو السعود. فالجزاء (¬1) مجموع الأمرين، لا كل واحد على حدته، والمعنى: أن الوقت المحدود لا يتغير، وهذا وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم السابقة؛ إذ خالفوا أمر ربهم؛ يعني (¬2): فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة، وإنما ذكرت الساعة؛ لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد في أقصر وقت وأقربه، وإنما أفرد (¬3) الأجل؛ لأنه اسم جنس، أو لتقارب أعمال أهل كل عصر، أو لكون التقدير: لكل واحد من أمة. وقرأ الحسن وابن سيرين: {فإذا جاء آجالهم} بالجمع. والمعنى (¬4): قل يا محمد لقومك ولغيرهم لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها، وهذا الأجل على ضربين: أجل لوجودها في الحياة الدنيا، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم: الأول: أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها، فردوا دعوته كبرا وعنادا، واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا، فاستمروا في تكذيبهم، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر، كما وقع لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم. وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة بأقوامهم، وقد انتهى ذلك ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله بقوله: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ..} وقد مضت سنة الله في الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

والثاني: أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم، وهذا منوط بسنن الله في الاجتماع البشري، وعوامل الرقي والعمران، وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعد، ومخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف في الزينة، أو إسراف في التمتع بالطيبات، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، أو بالتوغل في خرافات الشرك والوثنية، أو بالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من الأحكام. فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها الله سعادتها، ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} وهاكم شاهد صدق على ما نقول، إن الأمم التي كان لها شأن يذكر في التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم، ممن سلب ملكهم كله أو بعضه، لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا، وهذا الضرب من الأجل، وإن عرفت أسبابه لا يمكن أن يحد بالسنين والأعوام والليالي والأيام، ولكن الله يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهي بمسبباتها، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها كما قال: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}. الساعة لغة: أقل مدة من الزمن؛ أي: فإذا جاء الوقت الذي وقته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء في الدنيا أقل تأخر، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك. فإن قلت: لم أتى بالفاء هنا وفي سائر المواضع إلا في يونس فحذفها؟ قلت: لأن مدخولها في غير يونس جملة معطوفة على أخرى مصدرة بالواو، وبينهما اتصال وتعقيب، فحسن الإتيان بالفاء الدالة على التعقيب بخلاف ما في يونس. انتهى من «الفتوحات». وفي الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه؛ أي: قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي، والإسراف المفسد للأخلاق، وخرافات الشرك المفسدة للعقول، وتترك البدع في التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى بأن يقوم فيها جماعة من

[35]

المصلحين، فيرشدوها إلى تغير ما بأنفسها من الفساد، فيغير الله ما بها، وهذا من استئخار الهلاك، أو منعه عنها قبل مجيء أهلها. وخلاصة معنى الآية: أن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء ولا يتقدمون عليه أيضا، فيهلكوا قبل مجيئه، ونحو الآية قوله: {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)} - صلى الله عليه وسلم -. 35 - {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}؛ أي يا بني آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}؛ أي: يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال، وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال {فَمَنِ اتَّقى} واجتنب منكم ما نهيته عنه {وَأَصْلَحَ} نفسه بفعل ما أوجبته عليه {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب الآخرة حين يخاف غيرهم {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حين الجزاء على ما فاتهم في الدنيا، أما حزنهم على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل لهم من زوال الخوف. وحكمة كون الرسول منهم (¬1): أنه أقطع لعذرهم، وأظهر في الحجة عليهم إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هي بقدرة الله لا بقدرته إلى ما في ذلك من حصول الألفة، فالجنس يألف بالجنس ويركن إليه، ومن ثم قال: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا}. وقرأ أبيّ والأعرج (¬2): {إما تأتينكم} - بالتاء على تأنيث الجماعة - {ويَقُصُّونَ} محمول على المعنى إذ ذاك؛ إذ لو حمل على اللفظ لكان تقص. 36 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} المنزلة على أحد من رسلنا {وَاسْتَكْبَرُوا} عَنْها؛ أي: امتنعوا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة، وتفضيلا لأنفسهم عليه، أو لقومهم على قومه فـ {أُولئِكَ} المكذبون المستكبرون عنها {أَصْحابُ النَّارِ} ملازمون لها {هُمْ فِيها}؛ أي: ماكثون فيها مكثا لا نهاية له. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[37]

ومعنى الاستكبار عن قبول الآيات: رفضها كبرا وعنادا لمن جاء بها، كما حدث من رؤساء قريش حين استكبروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إماما لهم، إذ رأوا أنفسهم أحق بالرياسة منه؛ لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا. والخلاصة: أن جميع الرسل قد بلغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع، وعدم الحزن على ما وقع منهم في الدار الأولى، وأن تكذيب ما جاؤوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث في نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان. 37 - والاستفهام في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنكاري}؛ أي: لا أحد أظلم وأقبح وأشنع ممن افترى واختلق على الله الكذب بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله، أو بنسبة الشريك والولد إليه {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} المنزلة عليهم سواء أكان بالقول، أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها، أو الاستكبار عن اتباعها، أو بتفضيل غيرها عليها. {أُولئِكَ} المفترون المكذبون بآيات الله {يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ}؛ أي يصيبهم، ويوفى لهم نصيبهم وحظهم من الكتاب؛ أي: من الأعمار والأرزاق المكتوبة لهم في اللوح المحفوظ، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم من الأرزاق إلى انقضاء آجالهم تفضلا منه سبحانه وتعالى؛ لكي يصلحوا ويتوبوا، ونحو الآية قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ}، وقوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)}. و {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا} غاية (¬1) لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هنا الجملة الشرطية، وهي {إِذا جاءَتْهُمْ}: أي: يوفى لهم نصيبهم من الأرزاق والأعمار المكتوبة لهم في اللوح ¬

_ (¬1) النسفي.

[38]

المحفوظ مدة حياتهم، حتى إذا جاءتهم رسلنا ملك الموت وأعوانه حالة كون رسلنا {يَتَوَفَّوْنَهُمْ}؛ أي: يقبضون أرواحهم؛ أي: يوفى لهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم، وجاءتهم رسلنا يقبضون أرواحهم {قالُوا}؛ أي: قالت رسلنا لأولئك المفترين المكذبين بآيات الله تعالى على سبيل التوبيخ والتقريع: {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: أين الشركاء والآلهة التي كنتم تعبدونهم في الدنيا من دون الله سبحانه وتعالى لقضاء الحاجات، ودفع المضرات، فادعوهم لينجوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من الشدائد والعذاب {قالُوا}؛ أي: قال المفترون للملائكة {ضَلُّوا عَنَّا}؛ أي: غابت الآلهة عنا وذهبوا، لا ندري أين مكانهم؛ أي: غابوا عنا، فلا نرجوا منهم الآن جلب النفع، ولا دفع الضر {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: واعترفوا على أنفسهم بـ {أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم؛ إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين، وحاش الله أن يتخذ الأعوان والمساعدين، فالله غني بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان والمساعدين، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس، ويعجز عن معرفة أحوالهم، ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} لاحتمال ذلك من طوائف، أو في أوقات مختلفة. [الخلاصة:] وخلاصة هذا: زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر، وحملهم على النظر والتأمل في عواقب أمورهم، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم في الهاوية. 38 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؛ أي: يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وجعلوا له شركاء بواسطة الملائكة {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}؛ أي: ادخلوا بين أمم {قَدْ خَلَتْ} ومضت وسبقت {مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}؛ أي: أمم تقدم زمانهم على زمانكم؛ أي: ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين الجن والإنس. وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى، لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة

واحدة، بل يدخلهم فوجا فوجا، فيكون منهم سابق ومسبوق، ويشاهد من الأمة في النار من سبقه {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ}؛ أي: كلما دخلت جماعة منهم في النار، ورأت ما حل بالسابقة من الخزي والنكال {لَعَنَتْ أُخْتَها} في الدين والملة؛ إذ هي قد ضلت باتباعها والاقتداء بها في كفرها كما قال تعالى: {يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}. والخلاصة: فيلعن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس. {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا}؛ أي: حتى إذا تداركوا في النار وتلاحقوا فيها، واجتمع بعضهم بعضا، واستقروا فيها {قالَتْ أُخْراهُمْ}؛ أي: قالت أخرى كل أمة منزلة وهم الأتباع والسفلة {لِأُولاهُمْ}؛ أي: لأجل أولاهم منزلة، وهم القادة والرؤساء {رَبَّنا} ويا مالك أمرنا {هؤُلاءِ} الرؤساء والقادة {أَضَلُّونا} عن الحق باتباعنا لهم، وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا {فَآتِهِمْ}؛ أي: أعطهم {عَذابًا ضِعْفًا}؛ أي: عذابا مضاعفا مزادا {مِنَ النَّارِ} مثلي عذابنا لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم في أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفي عذابنا ضعفا للضلال، وضعفا للإضلال؛ أي: عذبهم مثل عذابنا مرتين. ومعنى قوله: {لِأُولاهُمْ}؛ أي: في شأنهم، ولأجل إضلالهم، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم؛ لأنهم ما خاطبوهم، بل خاطبوا الله سبحانه بهذا الكلام. {قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى جوابا لأخراهم: لكل منهم ومنكم (¬1) ضعف؛ أي: عذاب مضاعف، فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر إلى غير نهاية، فالآلام متزايدة من غير نهاية، أما القادة فلكفرهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم. {وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أيها السائلون ما لكل فريق ¬

_ (¬1) المراح.

[39]

منكم من العذاب، أو المعنى: ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك. وقيل معنى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ}؛ أي: يقول الله تعالى للأتباع السائلين: لكل (¬1) من الرؤساء القادة ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله، ولكن أيها الأتباع لا تعلمون عذابهم، فإن العذاب روحي ونفسي، والأول أنكى وأشد ألما، فالرئيس العزيز في قومه إذا دخل السجن مع السفلة، وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون، وفي جميع ما يعملون؛ إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة في ألمها كما هي في صورتها، ونحو الآية قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وقرأ أبو عمرو (¬2): {اداركوا} - بقطع ألف الوصل - قال أبو الفتح: هذا مشكل، ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا، فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا، لكنه وقف مثل وقفة المستنكر، ثم ابتدأ فقطع. وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضا. وقرأ حميد: {أدركوا} - بضم الهمزة وكسر الراء -؛ أي: ادخلوا في أدراكها. وقرأ ابن مسعود والأعمش: {تداركوا} ورويت عن أبي عمرو وقال أبو البقاء، وقرىء: {إذا ادّركوا} - بألف واحدة ساكنة والدال بعدها مشددة -، وهو جمع بين ساكنين، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل. وقرأ الجمهور: {لا تَعْلَمُونَ} - بالتاء على الخطاب للسائلين - كما مر تفسيره آنفا. وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بالياء في: {لا يعلمون}؛ أي: لا يعلم كل فريق قدر ما أعد له من العذاب، أو قدر ما أعد للفريق الآخر من العذاب قال أبو حيان: وهذه الجملة رد على أولئك السائلين، وعدم إسعاف لما طلبوا. 39 - {وَقالَتْ أُولاهُمْ} في الكفر، أو في الدخول يعني القادة مخاطبة {لِأُخْراهُمْ} يعني الأتباع حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، إذا كان الأمر كما قلتم من أننا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[40]

أضللناكم {فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ}؛ أي: أدنى فضل في الدنيا؛ أي: إنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب؛ لأنكم كفرتم اختيارا، لا أنا حملناكم على الكفر إجبارا، فلا يكون عذابنا ضعفا {فَذُوقُوا الْعَذابَ} أيتها الأخرى {بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}؛ أي: بما كنتم تقولونه وتعملونه في الدنيا من الشرك والمعاصي، فلا يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد، وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضي، فذوقوا بكسبكم له مهما يكن سببه. وقد جاء في سورة الصافات: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)}. 40 - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؛ أي: كذبوا بدلائل توحيدنا، ولم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها}؛ أي: وتكبروا عن الإيمان بها، والتصديق لها، وأنفوا عن اتباعها، والانقياد لها، والعمل بمقتضاها تكبرا {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ}؛ أي: لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل؛ لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة، وإنما يصعد إلى الله سبحانه وتعالى الكلم الطيب، والعمل الصالح كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار، وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس أيضا قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل. وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب (¬2): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء. قال: «فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ قال: فيقولون: فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ}. وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير؛ لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء، فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء، فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء. {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}؛ أي: ولا يدخل هؤلاء المكذبون المستكبرون الجنة {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ}؛ أي: حتى يدخل ذكر الإبل فِي {سَمِّ الْخِياطِ}؛ أي: في ثقب الإبرة، والجمل معروف؛ وهو الذكر من الإبل، وسم الخياط: ثقب الإبرة. قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به، والمراد به في هذه الآية: الإبرة، وإنما خص (¬1) الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات؛ لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب. قال الشاعر: جسم الجمال وأحلام العصافير وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل، فجسم الجمل من أعظم الأجسام، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا، فكذلك دخول الكفار الجنة محال؛ لأن المعلق بالمحال محال؛ لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز، وهذا كقوله: لا آتيك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار. ومنه قول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللّبن الحليب وقال آخر: من رام العلم بلا كدّ ... سيدركها حين شاب الغراب ¬

_ (¬1) الخازن.

والمعنى: كما (¬1) يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة، ويقال: حتى يدخل القلس الغليظ - وهو الحبل الذي تشد به السفينة - في خرق الإبرة. وقرأ أبو عمرو: {لا تفتح} - بتاء التأنيث والتخفيف -. وقرأ الكسائي وحمزة: - بالياء والتخفيف -. وقرأ باقي السبعة: بالتاء من فوق التشديد. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم بالتاء من فوق مفتوحة والتشديد. وقرأ ابن عباس (¬2) فيما روى عنه شهر بن حوشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وأبان عن عاصم: {الجُمَّل} - بضم الجيم وفتح الميم مشددة - وفسر بالقلس الغليظ؛ وهو حبل السفينة تجمع حبال وتفتل وتصير حبلا واحدا. وقيل: هو الحبل الغليظ من القنب. وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل. وقرأ ابن عباس في رواية مجاهد وابن جبير وقتادة وسالم الأفطس بضم الجيم وفتح الميم مخففة. وقرأ ابن عباس في رواية عطاء والضحاك والجحدري بضم الجيم والميم مخففة. وقرأ عكرمة وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكون الميم. وقرأ المتوكل وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم. ومعناه في هذه القرآت كلها: القلس الغليظ؛ وهو حبل السفينة. وقراءة الجمهور: {الْجَمَلُ} - بفتح الجيم والميم - أوقع لأن سم الإبرة يضرب بها المثل في الضيق، والجمل وهو هذا الحيوان المعروف يضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرناه سابقا. وقرأ عبد الله بن مسعود (¬3): {حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط}. وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وابن مصرف وطلحة بضم سين (¬4): {سم}. وقرأ أبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين. وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز: {المِخْيَط} - بكسر الميم وسكون الخاء وفتح ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[41]

الياء -. وقرأ طلحة بفتح الميم. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: ونجزي كل من صار الإجرام والشرك وصفا له جزاء مثل جزاء هؤلاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء، وعدم دخولهم الجنة، لا من أجرموا جرما بثورة غضب، أو نزوة شهوة، ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى في وصف المؤمنين: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وقال أيضا: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. 41 - ولما بين الله سبحانه وتعالى أنّ الكفار لا يدخلون الجنة أبدا .. بين أنهم من أهل النار، ووصف ما أعد لهم فيها، فقال {لَهُمْ}: أي: لهؤلاء المكذبين المستكبرين {مِنْ} نار {جَهَنَّمَ مِهادٌ}؛ أي: فرش من تحتهم {وَ} لهم {مِنْ فَوْقِهِمْ} منها {غَواشٍ}؛ أي: لحف وأغطية تغطيهم، والمراد: أنها محيطة بهم مطبقة عليهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف، وأصل المهاد المتمهد الذي يقعد عليه، ويضطجع عليه كالفراش والبساط، والغواش جمع غاشية، وهي الغطاء كاللحاف ونحوه. وقرىء: {غواش} - بالرفع - كقراءة عبد الله: {وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ}. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}؛ أي: ونجزي كل من صار الظلم لنفسه وللناس وصفا لازما له جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من كون جهنم مهادا وغطاء لهم. والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين في صفتي الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال. 42 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: والذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}؛ أي: وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك واجتنبوا ما نهاهم عنه، وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها}؛ أي: ولا نكلف نفسا مكلفة إلا ما يسهل عليها من الأعمال، وما يدخل في قدرتها، ولا يضيق فيه عليها، كلام معترض بين المبتدأ والخبر، اعترض به لأنه من جنس ما قبله، فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم، وتنبيه على أن

[43]

الجنة مع عظم قدرها يتوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب، والتقدير: والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات {أُولئِكَ} الموصوفون بما ذكر {أَصْحابُ الْجَنَّةِ} لا غيرهم {هُمْ فِيها خالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها مكثا مؤبدا لا يخرجون منها، ولا يسلبون نعيمها. 43 - {وَنَزَعْنا}؛ أي: وقلعنا وأخرجنا، وأزلنا وصفينا ما في صدور المؤمنين {مِنْ غِلٍّ} وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا، فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله تعالى به بعضهم دون بعض. ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، ودفعها عن أن ترد على القلوب، والمراد خلقناهم في الجنة على هذه الحالة، وليس المراد أنهم دخلوا الجنة بما ذكر، ثم نزع منهم فيها، بل المراد أنهم دخلوها مطهرين منه. قاله أبو حيان. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقّوا أذن الله لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا». أخرجه البخاري. وجملة قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} حال (¬1) من ضمير {صُدُورُهُمْ}، والعامل فيها معنى الإضافة؛ أي حالة كونهم تجري وتسيل من تحت أشجارهم وقصورهم أنهار الخمر والعسل واللبن والماء زيادة في لذتهم وسرورهم، فيرونها وهم في غرفات قصورهم تتدفق في جناتها وبساتينها، فيزدادون حبورا وسرورا، لا تشوب صفاءهم شائبة كدر. قال أبو حيان: والظاهر أن جملة {تَجْرِي} خبر مستأنف عن صفة حالهم. ¬

_ (¬1) النسفي.

{وَ} إذا دخلوا الجنة، واستقروا في منازلهم {قالُوا} شاكرين لله بألسنتهم معبرين عن غبطتهم وبهجتهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا}:؛ أي: وفقنا وأرشدنا في الدنيا للعمل الذي هذا ثوابه، وتفضل علينا به رحمة منه وإحسانا إلينا {وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} ونرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه {لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى إليه؛ أي: لولا أنه سبحانه وتعالى أرشدنا إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه؛ أي: وما كان من شأننا ولا مقتضى فكرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليه، ورحمته الخاصة بنا إلى هدايته التي فطرنا عليها، وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل. وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله، ومن لم يهده الله .. فليس بمهتد. وقرأ ابن عامر (¬1): {ما كنا} بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام، وذلك لأنه جار مجرى التفسير لقوله: {هَدانا لِهذا} فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف. وقالوا أيضا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا تبجحا بما نالوه: والله {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا} في الدنيا {بِالْحَقِّ}؛ أي: ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق، فقد حصل لنا عيانا، وهذا مصداق ما وعدنا به في الدنيا على التوحيد وصالح العمل {وَنُودُوا}؛ أي: نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ}؛ أي: تلك الدار التي ترى لكم من بعد هي الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا، فـ {أَنْ} مفسرة لما في النداء، وكذا في سائر المواضع الخمسة الآتية. وجملة قوله: {أُورِثْتُمُوها}؛ أي: أعطيتموها حال من الجنة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة؛ أي: حالة كونها موروثة معطاة لكم {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا، فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى، فإذا دخلوها بأعمالهم .. فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته؛ إذ أعمالهم رحمة منه لهم، وتفضل منه عليهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط والمراح.

روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (¬1): «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة». زاد في: «رواية فذلك قوله تعالى: {أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}». وأخرج ابن جرير عن السدي قال (¬2): ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار، فنظروا إلى منازلهم فيها، فقيل: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فيقتسم أهل الجنة منازلهم. وفي الآية (¬3): دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل، وفي معناها آيات وأحاديث كثيرة. أما حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان: «لن يدخل أحدا عمله الجنة»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما .. فلا يستحق به الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته، ومن ثم قال بعده: «فسددوا وقاربوا»؛ أي: لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم، ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به. وأدغم النحويان (¬4) - أبو عمرو والكسائي - وحمزة وهشام الثاء المثلثة في التاء الفوقية في قوله: {أُورِثْتُمُوها} وأظهرها باقي السبعة. الإعراب {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

{يا بَنِي آدَمَ}: منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وجملة النداء مستأنفة. {خُذُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {زِينَتَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {خُذُوا}، والكلام على (¬1) حذف مضاف تقديره: عند قصد كل مسجد. {وَكُلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {خُذُوا}. وكذلك قوله: {وَاشْرَبُوا} معطوف عليه. {وَلا تُسْرِفُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {خُذُوا}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة لتعليل النهي المذكور قبلها. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {قُلْ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {حَرَّمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {زِينَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول. {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {زِينَةَ}. {أَخْرَجَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {لِعِبادِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَخْرَجَ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أخرجها لعباده. {وَالطَّيِّباتِ}: معطوف على {زِينَةَ اللَّهِ}. {مِنَ الرِّزْقِ}: جار ومجرور حال من {وَالطَّيِّباتِ}. {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {كَذلِكَ} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {هِيَ}: مبتدأ. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ¬

_ (¬1) العكبري.

القول. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {فِي الْحَياةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنُوا}. {الدُّنْيا}: صفة لـ {الْحَياةِ}. {خالِصَةً} بالنصب: حال من الضمير المستكن في الخبر المحذوف؛ أي: هي كائنة لهم في الدنيا حالة كونها خالصة يوم القيامة، وبالرفع: خبر ثان لـ {هِيَ}. {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {خالِصَةً}. كَذلِكَ: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نُفَصِّلُ الْآياتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، والتقدير: نفصل الآيات تفصيلا مثل ذلك التفصيل السابق. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُفَصِّلُ}، وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة لـ {قوم}. {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة. {حَرَّمَ رَبِّيَ}: فعل وفاعل. {الْفَواحِشَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {ما}: موصولة في محل النصب بدل من {الْفَواحِشَ} بدل تفصيل من مجمل. {ظَهَرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة الموصول. {مِنْها}: متعلق بـ {ظَهَرَ}. {وَما}: معطوف على ما الأولى. {بَطَنَ}: صلته. {وَالْإِثْمَ}: معطوف على {الْفَواحِشَ} عطف عام على خاص. {وَالْبَغْيَ}: معطوف على {الْإِثْمَ} عطف خاص على عام لمزيد الاعتناء به، وكذلك ما بعده. {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {الْبَغْيَ}. {وَأَنْ تُشْرِكُوا}: فعل وفاعل وناصب. {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على {الْإِثْمَ} عطف خاص على عام تقديره: وإشراككم بالله. {ما}: موصولة، أو موصوفة. {لَمْ يُنَزِّلْ}: فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على {الله}. {بِهِ}: متعلق بـ {يُنَزِّلْ}. {سُلْطانًا}: مفعول به لـ {يُنَزِّلْ}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير

{بِهِ}. {وَأَنْ تَقُولُوا}: فعل وفاعل وناصب. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، والجملة صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على {الْإِثْمَ} عطف خاص على عام تقديره: وقولكم على الله. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {بِهِ}. {لا}: نافية. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {أَجَلٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فَإِذا} {الفاء}: عاطفة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت لكل أمة أجلا، وأردت بيان كيفية ذلك الأجل .. فأقول لك: {إذا جاء أجلهم} {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جاءَ أَجَلُهُمْ}: فعل وفاعل والجملة في محل جر مضاف إليه لجواب {إذا}، على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {لا يَسْتَأْخِرُونَ} فعل وفاعل والجملة جواب {إذا} ولم يؤت هنا بالفاء الرابطة للجواب مع اقترانه بلا النافية؛ لأن المضارع المنفي بلا إذا وقع جوابا لإذا في الظاهر .. جاز أن يتلقى بالفاء، وأن لا يتلقى بها. قال الشيخ: ويبنغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسما مبتدأ، فتصير الجملة اسمية، ومتى كانت كذلك .. وجب أن تتلقى بالفاء أو إذا الفجائية ذكره في «الفتوحات». {ساعَةً}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَسْتَأْخِرُونَ}. {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَسْتَأْخِرُونَ}: على كونها جوابا لـ {إذا}، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}. {يا بَنِي آدَمَ}: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. {إِمَّا} {إن}: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة، {ما}:

زائدة. {يَأْتِيَنَّكُمْ} {يأتين}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل له من الإعراب، و {الكاف}: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول به. رُسُلٌ: فاعل. مِنْكُمْ: جار ومجرور صفة أولى لـ رُسُلٌ. يَقُصُّونَ: فعل وفاعل. عَلَيْكُمْ: متعلق به. آياتِي: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ رُسُلٌ. فَمَنِ: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب أو الشرط أو هما، أو {من} موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: {فَلا خَوْفٌ ...} إلخ. {اتَّقى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {وَأَصْلَحَ}: معطوف على {اتَّقى}. {فَلا خَوْفٌ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية، {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ}: اسمها مرفوع. {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور خبر {لا}، وفيه مراعاة لمعنى {من} بعد مراعاة لفظها في {اتَّقى وَأَصْلَحَ}، وجملة {لا} في محل الجزم جواب {من} الشرطية، أو خبر {من} الموصولة، وعلى هذا الوجه، فجملة {اتَّقى وَأَصْلَحَ} صلة {من} الموصولة، وجملة {من} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، أو جملة {من} الموصولة من المبتدأ والخبر جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية من فعل شرطها وجوابها جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وَ {لا} {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {هُمْ}: في محل الرفع اسمها، وجملة {يَحْزَنُونَ}: في محل النصب خبر {لا}، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل الجزم معطوف على جملة {لا} الأولى. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}. {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {وَاسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كَذَّبُوا}. {عَنْها}: متعلق بـ {اسْتَكْبَرُوا}. {أُولئِكَ}: مبتدأ

ثان. {أَصْحابُ النَّارِ}: خبر للمبتدأ الثاني ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ} على كونها جواب {إن} الشرطية، وإيراد الاتقاء في الجواب الأول للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب، بل هو الاتقاء والاجتناب، وإدخال الفاء في الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد، والمسامحة في الوعيد. اه «كرخي». {هُمْ}: مبتدأ. {فِيها}: متعلق بـ {خالِدُونَ}. {خالِدُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {أَصْحابُ النَّارِ}. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ}. {فَمَنْ} {الفاء}: استئنافية. {من}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. افْتَرى: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {افْتَرى}. {كَذِبًا}: مفعول به. {أَوْ} حرف عطف. {كَذَّبَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة معطوفة على جملة {افْتَرى} على كونها صلة لـ {من} الموصولة. {بِآياتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبَ}. {أُولئِكَ}: مبتدأ. {يَنالُهُمْ} فعل ومفعول. {نَصِيبُهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافا بيانيا. {مِنَ الْكِتابِ}: جار ومجرور حال من قوله: {نَصِيبُهُمْ}. {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {حَتَّى}: غائية لكونها غاية لما قبلها، ابتدائية لدخولها على الجملة. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول. {رُسُلُنا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذا}، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {يَتَوَفَّوْنَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال

من {رُسُلُنا}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة من حيث اللفظ، وغاية لما قبلها من حيث المعنى. {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {أَيْنَ}: اسم استفهام للاستفهام الاستخباري في محل الرفع خبر مقدم. {ما}: موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف في {تَدْعُونَ}، أو متعلق به، وجملة {تَدْعُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: أين الآلهة التي كنتم تدعونهم من دون الله. {قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {ضَلُّوا عَنَّا}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {ضَلُّوا}: فعل وفاعل. {عَنَّا}: متعلق به، والجملة مقول لـ {قالُوا}. {وَشَهِدُوا}: فعل وفاعل معطوف على قالُوا. {عَلى أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِدُوا}. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {كافِرِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {شَهِدُوا} تقديره: وشهدوا على أنفسهم كونهم كافرين. {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}: إلى قوله: {كُلَّما دَخَلَتْ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل، {فِي أُمَمٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {قَدْ خَلَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {أُمَمٍ}، والجملة في محل الجر صفة أولى لـ {أُمَمٍ} {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه صفة ثانية لـ {أُمَمٍ}. {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} جار ومجرور، صفة ثالثة لـ {أُمَمٍ}. {فِي النَّارِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ادْخُلُوا}، واعترض بأنه: كيف يتعلق حرفا جر

متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟ فأجيب عنه بأحد جوابين: إما بأن في الأولى ليست للظرفية، بل للمعية كأنه قيل: ادخلوا مصاحبين لأمم في الدخول، وإما بأن قوله {فِي النَّارِ}: بدل من قوله: {فِي أُمَمٍ} بدل اشتمال، فتكون الظرفية الأولى مجازا؛ لأن الأمم ليسوا ظروفا لهم حقيقة، وإنما المعنى: ادخلوا في جملة أمم. كذا في «الفتوحات». {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}. {كُلَّما}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {دَخَلَتْ أُمَّةٌ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّما} لا محل لها من الإعراب، أو في محل الجر مضاف إليه لـ {كُلَّما}. {لَعَنَتْ أُخْتَها}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {أُمَّةٌ}، والجملة جواب {كُلَّما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّما} مستأنفة. {حَتَّى}: غائية ابتدائية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {ادَّارَكُوا}: فعل وفاعل. {فِيها}: متعلق به. {جَمِيعًا}: حال من واو {ادَّارَكُوا}، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {قالَتْ أُخْراهُمْ}: فعل وفاعل. {لِأُولاهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {قالَتْ}، واللام فيه للتعليل؛ أي: لأجلهم، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة، ولكنها غاية لما قبلها في المعنى. {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا} إلى قوله: {قالَ} مقول محكي لـ {قالَتْ}، وإن شئت قلت: {رَبَّنا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {هؤُلاءِ}: مبتدأ. {أَضَلُّونا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {فَآتِهِمْ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، لكون ما قبلها علة لما بعدها، {آتهم عذابا}: فعل ومفعولان؛ لأنه بمعنى أعطهم، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة: {أَضَلُّونا} على كونها خبر المبتدأ. {ضِعْفًا}: صفة أولى لـ {عَذابًا}؛ لأنه بمعنى مضاعف. {مِنَ النَّارِ}: صفة ثانية لـ {عَذابًا}.

{قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لِكُلٍّ} خبر مقدم. {ضِعْفٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَلكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكِنْ}: حرف استدراك. {لا تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} على كونها مقول {قالَ}. {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}. {وَقالَتْ أُولاهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {قالَتْ أُخْراهُمْ}، وما بينهما اعتراض. {لِأُخْراهُمْ}: متعلق بـ {قالَتْ}. {فَما كانَ لَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَما}: {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قال لكم الرب جل جلاله، وأردتم بيان حالنا وحالكم .. فأقول لكم. {ما كان لكم}: {ما}: نافية. {كانَ}: فعل ماض ناقص. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كانَ}. {عَلَيْنا}: متعلق بـ {فَضْلٍ}. {مِنْ}: زائدة. {فَضْلٍ}: اسم {كانَ} مؤخر، والتقدير: فما كان من فضل علينا كائنا لكم، وجملة {كانَ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالَتْ}. {فَذُوقُوا الْعَذابَ}: فعل وفاعل ومفعول، و {الفاء} حرف عطف وتفريع، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {كانَ}. بِما {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: موصولة في محل الجر بالباء. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكْسِبُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بالذي كنتم تكسبونه، أو بكسبكم، الجار والمجرور متعلق بـ {ذوقوا}. {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسمها. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل صلة

الموصول. {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {وَاسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كَذَّبُوا}. {عَنْها}: متعلق بـ {اسْتَكْبَرُوا}. {لا} نافية. {تُفَتَّحُ}: فعل مضارع مغيّر الصيغة. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَبْوابُ السَّماءِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، ولكنها خبر سببي، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. {وَلا يَدْخُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {لا تُفَتَّحُ}. {الْجَنَّةَ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {يَدْخُلُونَ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَلِجَ الْجَمَلُ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد {حَتَّى}: بمعنى إلى. {فِي سَمِّ الْخِياطِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَلِجَ}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى ولوج الجملة في سم الخياط، الجار والمجرور متعلق بـ {يَدْخُلُونَ}. {وَكَذلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، والتقدير: ونجزي المجرمين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء لهم، وعدم دخول الجنة إلى ولوج الجمل في سم الخياط. {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ جَهَنَّمَ}: جار ومجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث المعنوي، الجار والمجرور حال من {مِهادٌ}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها. {مِهادٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب حال من واو {يَدْخُلُونَ}. {وَمِنْ فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {غَواشٍ}: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص، وسيأتي البحث عنه في مبحث الصرف إن

شاء الله تعالى، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ}. {وَكَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نَجْزِي الظَّالِمِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونجزي الظالمين جزاء مثل جزاء الذين كذبوا واستكبروا، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {لا}: نافية. {نُكَلِّفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {نَفْسًا}: مفعول به. {إِلَّا وُسْعَها}: منصوب على الاستثناء، والجملة الفعلية معترضة بين المبتدأ والخبر الآتي، أو هي خبر أول له مع تقدير الرابط تقدر: لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها. {أُولئِكَ}: مبتدأ ثان. {أَصْحابُ الْجَنَّةِ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة. {هُمْ}: مبتدأ. {فِيها}: متعلق بـ {خالِدُونَ}. {خالِدُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من {أَصْحابُ الْجَنَّةِ}. {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ}. {وَنَزَعْنا} {الواو}: استئنافية. {نَزَعْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {فِي صُدُورِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {مِنْ غِلٍّ}: جار ومجرور حال من {ما}. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهِمُ}: متعلق به. {الْأَنْهارُ}: فاعل، والجملة الفعلية حال من ضمير {صُدُورِهِمْ}. {وَقالُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {نَزَعْنا}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {ونودي} مقول محكي، وإن شئت قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول

القول. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {هَدانا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {لِهذا}: جار ومجرور متعلق بـ {هَدانا}. {وَما}: {الواو}: واو الحال، أو استئنافية. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {لِنَهْتَدِيَ}: {اللام}: لام الجحود، {نهتدي}: منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كان} تقديره: وما كنا مريدين للهداية لولا أن هدانا، وجملة {كان}: مستأنفة، أو في محل النصب حال من ضمير المفعول في {هَدانا}، والتقدير: الحمد لله الذي هدانا لهذا حالة كوننا عادمين الهداية لولا هدايته إيانا. {لَوْلا}: حرف امتناع لوجود. {أَنْ}: مصدرية. {هَدانا}: فعل ومفعول في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، ولفظ الجلالة {اللَّهُ} فاعل، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبا تقديره: لولا هدايته إيانا موجودة، وجواب {لَوْلا} محذوف دل عليها ما قبلها تقديره: لولا هدايته موجودة ما كنا لنهتدي، وجملة {لَوْلا} في محل النصب مقول {قالُوا}. {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {جاءَتْ}، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف تقديره: نقسم والله، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَنُودُوا} {الواو}: عاطفة، أو استئنافية. {نُودُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قالُوا}، أو مستأنفة. {أَنْ}: مفسرة بمعنى: أي. {تِلْكُمُ} مبتدأ. {الْجَنَّةُ}: خبر، والجملة مفسرة لجملة {نُودُوا} لا محل لها من الإعراب، أو {أَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {تِلْكُمُ}، مبتدأ. {الْجَنَّةُ}: خبره، والجملة في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في محل النصب مفعول ثان لـ {نُودُوا}. {أُورِثْتُمُوها}: فعل ونائب فاعل، {الهاء} في محل النصب مفعول ثان

لأورثتموا، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الْجَنَّةُ}، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والتقدير: حالة كونها موروثة لكم، ولا يجوز أن يكون حالا من {تلك} لوجهين: أحدهما: أنه فصل بينهما بالخبر. والثاني: أن تلك مبتدأ، والابتداء لا يعمل في الحال، ويجوز أن تكون {الْجَنَّةُ} نعتا لـ {تِلْكُمُ}، أو بدلا، {وأُورِثْتُمُوها} الخبر، ولا يجوز أن تكون الجملة حالا من الكاف والميم؛ لأن الكاف حرف للخطاب، وصاحب الحال لا يكون حرفا، ولأن الحال تكون بعد تمام الكلام، والكلام لا يتم بتلكم. ذكره أبو البقاء. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {أورث}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبرها، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوفا تقديره: تعملونه. التصريف ومفردات اللغة {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} والزينة (¬1): فعلة من التزين، وهو اسم لما يتجمل به من ثياب وغيرها كقوله: {وَازَّيَّنَتْ}؛ أي: بالنبات، والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة. قاله مجاهد والسدي والزجاج. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} قال الكلبي: معناه كلوا من اللحم والدسم، واشربوا من الألبان، وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام. {وَلا تُسْرِفُوا} قال ابن عباس: الإسراف: الخروج عن حد الاستواء. {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ} الفواحش (¬2): جمع فاحشة؛ وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة، ويطلقونها أحيانا على الزنا، والبخل، والقذف بالفحشاء، والبذاء المتناهي في القبح. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{وَالْإِثْمَ} الإثم لغة: القبيح الضار؛ وهو شامل لجميع المعاصي كبائرها كالفواحش، وصغائرها كالنظر بشهوة لغير الحليلة. وقال (¬1) الفضل: الإثم: الخمر وأنشد: نهانا رسول الله أن نقرب الخنا ... وأن نشرب الإثم الّذي يوجب الوزرا وأنشد الأصمعي أيضا: ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم ... كأنّي شربت الإثم أو مسّني خبل قال: وقد تسمى الخمر إثما، وأنشد: شربت الإثم حتى زال عقلي {وَالْبَغْيَ} والبغي: تجاوز الحد، وقد يقال: بغى الجرح إذا تجاوز الحد في الفساد، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}؛ أي: مدة (¬2) العمر من أولها إلى آخرها. وقوله: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ}؛ أي: آخر هذه المدة، فلذلك أظهر لاختلاف معنى الأجل في الموضعين، فالأجل يطلق على جميع مدة العمر بتمامها، وعلى الجزء الأخير منها. وفي «المصباح»: أجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلا - من باب تعب - وأجل أجولا - من باب قعد لغة - وأجلته تأجيلا جعلت له أجلا، والآجال جمع أجل مثل سبب وأسباب. والأمة: قال ابن عطية: الفرقة والجماعة من الناس؛ وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس. وقال غيره: والأمة الجماعة قلوا أو كثروا، وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة: يبعث يوم القيامة أمة وحده، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ}. {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} المراد بهم الجماعات والأحزاب وأهل الملل. {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها} أصله: تداركوا بوزن تفاعلوا، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها، ثم اجتلبت همزة الوصل، فصار اداركوا، وهذه (¬3) المسألة نصوا على نظيرتها، وهي أن تاء الافتعال إذا أبدلت إلى حرف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات.

مجانس لما بعدها - كما تبدل طاء أو دالا في نحو: اصطبر، واضطرب، وازدجر - إذا وزن ما هي فيه قالوا: نلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا نلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فنقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك نقول هنا: وزن اداركوا تفاعلوا لا افّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال، وتاء التفاعل في ذلك. {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ} وأخراهم وأولاهم يحتمل أن يكون فعلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري: أخراهم منزلة؛ وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة؛ وهم القادة والسادة والرؤساء، ويحتمل أن تكون أخرى بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل أول، لا تأنيث آخر الذي للمفاضلة كقوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} والفرق بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تأنيث آخر بزنة أفعل التفضيل أن التي للتفضيل لا تدل على الانتهاء كما لا يدل عليه مذكرها، ولذلك يعطف أمثالها عليها في نوع واحد تقول: مررت بامرأة وأخرى وأخرى، كما تقول: مررت برجل وآخر وآخر، وهذه تدل على الانتهاء كما يدل عليه مذكرها، ولذلك لا يعطف أمثالها عليها، ولأن الأولى تفيد إفادة غير، وهذه لا تفيد إفادة غير، والظاهر في هذه الآية الكريمة أنهما ليستا للتفضيل، بل لما ذكرت لك. اه «سمين». {عَذابًا ضِعْفًا} والمراد بالضعف هنا (¬1): تضعيف الشيء وزيادته إلى ما لا يتناهى، لا الضعف بمعنى مثل الشيء مرة واحدة. اه. «كرخي». وفي «السمين»: قوله: {ضِعْفًا} قال أبو عبيدة: الضعف: مثل الشيء مرة واحدة. وقال الأزهري: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضعفه؛ أي: مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ} لم يرد به مثلا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله كقوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور اه. {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} وفي «السمين»: والولوج: الدخول بشدة، ولذلك يقال: هو الدخول في ضيق، فهو أخص من مطلق الدخول، والوليجة: كل ما يعتمده الإنسان، والوليجة: الداخل في قوم ليس هو منهم. وفي «المصباح»: ولج الشيء في غيره يلج - من باب وعد - ولوجا إذا دخل، وأولجته إيلاجا: أدخلته. اه. والجمل: الذكر من الإبل قيل: لا يقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، وأول ما يخرج ولد الناقة حوار إلى الفطام، وبعده فصيل إلى سنة، وفي الثانية ابن مخاض وبنت مخاض، وفي الثالثة ابن لبون وبنت لبون، وفي الرابعة حق وحقة، وفي الخامسة جذع وجذعة، وفي السادسة ثني وثنية، وفي السابعة رباع ورباعية مخففة، وفي الثامنة سديس لهما، وقيل: سديسة للأنثى، وفي التاسعة بازل وبازلة، وفي العاشر خلف وخلفة، وليس بعد البزول والأخلاف سن بل يقال: بازل عام أو عامين، وخلف عام وعامين حتى يهرم، فيقال: له عود. {سَمِّ الْخِياطِ} وفي «المصباح»: السم: ما يقتل بالفتح في الأكثر، وجمعه سموم - مثل فلس وفلوس - وسمام أيضا مثل: سهم وسهما، والضم لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، والسم ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه سمام كسهام. وفي «السمين»: وسم الخياط: ثقب الإبرة، وهو الخرق وسينه مثلثة، وكل ثقب ضيق فهو سم، وقيل: كل ثقب في البدن، وقيل: كل ثقب في أنف أو أذن فهو سم، وجمعه سموم، والسم القاتل سمي بذلك للطفه، وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدر، ثم أريد به معنى الفاعل؛ لدخوله باطن والبدن، وقد سمه إذا أدخله فيه، ومنه السامة للخاصة الذين يدخلون في باطن الأمور ومسامها، ولذلك يقال لهم: الدخال، والسموم: الريح الحارة؛ لأنها تؤثر تأثير السم القاتل. والخياط والمخيط: الآلة التي يخاط بها فعال ومفعل كإزار ومئزر، ولحاف وملحف، وقناع ومقنع. اه. {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ}؛ أي: فراش {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ}: جمع غاشية أصله: غواشي بتنوين الصرف، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الياء والتنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في

الأصل، فحذف تنوين الصرف، فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل، فأتي بالتنوين عوضا عنها، فغواش المنون ممنوع من الصرف؛ لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت، وتنوين الصرف قد حذف، وهذا بناء على أن الإعلال؛ أي: التغيير والتصرف بالحذف مقدم على منع الصرف؛ أي: حذف التنوين، وإنما كان الراجح تقديم الإعلال؛ لأن سببه ظاهر؛ وهو الثقل، وسبب منع الصرف خفي؛ وهو مشابهة الفعل. وفي «السمين»: وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصا بقياس خلاف: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرف؛ لأنه قد زالت منه صيغة منتهى الجموع، فصار وزنه وزن جناح، وقد زال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوين تنوين عوض، واختلف في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور: على أنه عوض من الياء المحذوفة. وذهب المبرد: إلى أنه عوض من حركتها، والكسر ليس كسر إعراب، وهكذا جوار وموال، وبعض العرب يعرب غواش ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة، فيقول: هؤلاء جوار، وقرىء: {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} - برفع الشين - كما مر. {مِنْ غِلٍّ} والغل: - بالكسر - الغش والحق أيضا، وقد غل صدره يغل - بالكسر - غلا إذا كان ذا غش أو ضغن أو حقد. اه من «المختار» ويجمع على غلال. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {يا بَنِي آدَمَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} لأن المراد بالمسجد الصلاة والطواف علاقته المحلية، ولما كان المسجد محل الصلاة والطواف أطلق عليهما ذلك.

ومنها: الجناس المغاير بين {وَلا تُسْرِفُوا} وبين {الْمُسْرِفِينَ}. ومنها: الطباق بين ظهر وبطن في قوله: {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} وبين أولاهم وأخراهم، في قوله: {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ} وبين مهاد وغواش، في قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ}. ومنها: الظرفية المجازية في قوله: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}؛ أي: ادخلوا حال كونكم في أمم. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَالْإِثْمَ}؛ لأنه معطوف على {الْفَواحِشَ}، فيشمل الفواحش وغيرها. ومنها: عطف الخاص على العام؛ لمزيد الاعتناء به في الثلاثة المذكورة بعد {الْإِثْمَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {سُلْطانًا} استعاره للحجة؛ لأن لها تسلطا على القلب. ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}. ومنها: الطباق بين {لا يَسْتَأْخِرُونَ .. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ومنها: الاعتراض في قوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} اعترض به بين المبتدأ والخبر. ومنها: التهكم في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذابَ}. ومنها: الكناية في قوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ} لأنه كناية عن عدم قبول عملهم ودعائهم. ومنها: تعليق الممكن بالمستحيل إفادة لاستحالته في قوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} فاستفيد منه أن دخول الكافر الجنة مستحيل.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} لأن المراد ما في قلوبهم علاقته المحلية. ومنها: الإتيان باسم الإشارة البعيدة في قوله: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} إشارة إلى عظم رتبتها ومكانتها على حد قوله: {ذلِكَ الْكِتابُ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} قال أبو حيان: هذا استعارة لما يحيط بهم من النار. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. المناسبة قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما

قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان .. أردف ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين، فريق أهل الجنة وفريق أهل النار من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما في داره. وفيها دليل على أن الدارين في أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة، وهم في أعلى عليين على أهل النار؛ وهم في هاوية الجحيم، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط في جنب الله تعالى. وهذا التخاطب لا يقتضي قرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، ويرى من أقاصي الجهات. وإن ما جد الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد، وتفصل بينهما ألوف الأميال، إما بالإشارات الكتابية كالبرق - التلغراف اللاسلكي والسلكي - وإما بالكلام اللساني كالمسرة التليفون اللاسلكي والسلكي، ليقرب هذا أتم التقريب، ويزيدنا فهما له. وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام، وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة التلفاز. قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬2) مقال أهل الجنة لأهل النار، ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار .. أردف ذلك بما قال أهل النار لأهل الجنة، وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم الله عليهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ...} الآية، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، وذكر الحوار الذي كان بين هذه الفرق الثلاثة على وجه يحمل الناظر فيها على الحذر والاحتراس، والتأمل في العواقب لعله يرعوي عن غيه، ويهتدي إلى سبيل رشده .. عقب ذلك بذكر حال الكتاب الكريم، وعظيم فضله، وجليل منفعته، وأنه حجة الله على البشر كافة، وأنه أزاح به علل الكفار، وأبطل معاذيرهم، ثم يذكر حال المكذبين، وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة، وتمني العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...} الآيات، علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عني القرآن الكريم بشأنها هي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية لله تعالى، والعلم الشامل والقدرة التامة. ومناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بسط القول فيما سلف في أمر المعاد، وبين فئات الناس في ذلك اليوم، وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة .. قفى على ذلك بذكر الخلق والتكوين، وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته؛ لتكون دليلا على الربوبية والألوهية، وأنه لا معبود سواه. قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر الأدلة على توحيد الربوبية .. قفى على ذلك بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة، وروحها ومخها الدعاء والتضرع له. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) تفرده بالملك والملكوت، وتصرفه في العلوي والسفلي وتدبيره الأمر وحده، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا، ونهانا عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأبان لنا أن رحمته ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[44]

قريب من المحسنين .. قفى على ذلك بذكر بعض ضروب من رحمته؛ إذ أرسل إلينا الرياح وما فيها من منافع للناس فيها ينزل المطر الذي هو مصدر الرزق وسبب حياة كل حي في هذه الأرض، وفي ذلك عظيم الدلالة على قدرته تعالى على البعث والنشور. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي .. أتبعها بالدلائل من العالم السفلي؛ وهي محصورة في آثار العالم العلوي، منها الريح والسحاب والمطر، وفي المعدن والنبات والحيوان، ويترتب على نزول المطر أحوال النبات، وذلك هو المذكور في الآية، وانجر مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر، والبعث والقيامة، وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد. انتهى. التفسير وأوجه القراءة 44 - {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} حين استقرار أهل الجنة في الجنة، واستقرار أهل النار في النار إذا ما وجهوا إليهم أبصارهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم، وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم: {أَنْ قَدْ وَجَدْنا}؛ أي: قد وجدنا وتيقنا {ما وَعَدَنا رَبُّنا} على ألسنة رسله من النعيم والكرامة {حَقًّا} وصدقا لا شبهة فيه، وها نحن نستمتع بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {فَهَلْ وَجَدْتُمْ} يا أهل النار {ما وَعَدَ رَبُّكُمْ}؛ أي: ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال والعذاب على الكفر {حَقًّا}؛ أي: صدقا {قالُوا}؛ أي: قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة: {نَعَمْ}؛ أي: وجدنا ما أوعدنا به ربنا حقا كما بلغنا على ألسنة الرسل، و {نَعَمْ} حرف يجاب به عن الاستفهام في إثبات المستفهم عنه، ونونها ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وعينها مفتوحتان، ويقرأ بكسر العين؛ وهي لغة، ويجوز كسرهما جميعا على الإتباع. ذكره أبو البقاء. فإن قلت (¬1): هل هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟ قلت: ظاهر قوله: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} يفيد العموم، والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا. فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء، والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء، أو كيف يصح أن يقع؟ قلت: إن الله قادر على أن يقوي الأصوات والأسماع، فيصير البعيد كالقريب. اه «خازن». ويحتمل أنه تعالى يقرب إحدى الدارين من الأخرى؛ إما بإنزال العليا، وإما برفع السفلى. فإن قلت: كيف يرى أهل الجنة أهل النار وبالعكس مع أن بينهما حجابا وهو سور الجنة؟. أجيب: باحتمال أن سور الجنة لا يمنع الرؤية لما وراءه لكونه شفافا كالزجاج، وباحتمال أن فيه طاقات تحصل الرؤية منها. وقرأ (¬2) ابن وثاب والأعمش والكسائي في جميع القرآن: {نعم} - بكسر العين -. قال مكي من قال: {نِعَم} بكسر العين فكأنه أراد أن يفرق بين نعم التي هي جواب، وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}؛ أي: فنادى مناد {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين أهل الجنة وأهل النار؛ أي: نادى مناد أسمع الفريقين كلهم قائلا: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط وفتح القدير.

[45]

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والبزي بتشديد (¬1): {أنّ} ونصب {لعنة} وهو الأصل، وقرأ الباقون {أَنْ} بالتخفيف ورفع {لَعْنَةُ} على أنها المخففة من الثقيلة، أو المفسرة. وقرأ الأعمش بكسر همزة {إن} على إضمار القول، 45 - ثم المراد بالظالمين {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: الذين يعرضون بأنفسهم عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه، ويمنعون الناس عن سلوكها تارة بالزجر والقهر، وأخرى بسائر الحيل {وَيَبْغُونَها عِوَجًا}؛ أي: يطلبون اعوجاجها؛ أي: يريدون إثبات كونها معوجة مائلة عن الحق بإلقاء الشكوك في أدلتها، أو ينفرون الناس عنها، ويقدحون في استقامتها بقولهم: إنها غير حق، وأن الحق ما هم عليه. وفي «أبي السعود» في آل عمران: بأن يلبسوا على الناس، ويوهموهم أن فيها ميلا عن الحق بنفي النسخ، وتغيير صفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحو ذلك. اه. وفي «الخازن»: هنا (¬2) {وَيَبْغُونَها عِوَجًا}؛ أي: يحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها. وقيل معناه: أنهم يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله، وذلك أنهم طلبوا سبيل الحق بالصلاة لغير الله، وتعظيم ما لم يعظمه الله، فأخطؤوا الطريق وضلوا عن السبيل. اه. 46 - {وَبَيْنَهُما}؛ أي: وبين الفريقين؛ فريقي أهل الجنة وأهل النار، أو بين الجنة والنار {حِجابٌ}؛ أي: حاجز يفصل كلّا منهما من الآخر، ويمنعه من الاستطراق إليه، وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتي ذكره في سورة الحديد بقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) ...} الآية. {وَعَلَى الْأَعْرافِ}؛ أي: وعلى أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار {رِجالٌ} يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها، فـ {يَعْرِفُونَ كُلًّا} من أهل الجنة وأهل النار {بِسِيماهُمْ}؛ أي: بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده، وهي التي وصفهم الله تعالى بها في نحو قوله: {وُجُوهٌ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}. وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول لهم: «قوموا ادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم». أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة، وفي رواية عنه: «يجمع الله الناس، ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك، فيقال: إن حسناتكم تجاوزن بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوها بمغفرتي ورحمتي». وقيل (¬1): هؤلاء الرجال قوم قتلوا في سبيل الله، وهم عصاة لآبائهم، وقيل: هم قوم كان فيهم عجب، وقيل: هم قوم كان عليهم دين، فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب، وقيل: إنهم الأشراف من أهل الثواب، وقيل: إنهم الأنبياء، وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة، وقيل: إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة، وعلى أهل الكفر والمعصية، فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات، وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ}. {وَنادَوْا}؛ أي: ونادى رجال الأعراف {أَصْحابَ الْجَنَّةِ} حين رأوهم قائلين لهم {أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} يا أهل الجنة، وهذا السلام إما تحية ودعاء، وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب؛ أي سلمتم من الآفات، وحصل لكم الأمن والسلام، هذا إن كان قبل دخول الجنة. فإن كان بعدها فهي تحية خالصة تدخل في عموم قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا (26)} وجملة قوله: {لَمْ يَدْخُلُوها} حال من فاعل {نادَوْا} {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال ¬

_ (¬1) المراح.

[47]

من فاعل {يَدْخُلُوها}؛ أي: نادوهم مسلمين عليهم حال كونهم؛ أي: حالة كون رجال الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد؛ أي: الآن، والحال أنهم طامعون في دخولها لما بدا لهم من يسر الحساب. وقد جاء (¬1) في الآثار، أن الناس يكونون في الموقف بين الخوف والرجاء، لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخولها. وروى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لو نادى مناد يا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا .. لوجدت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا .. لخشيت أن أكون ذلك الرجل. وقرأ ابن النحوي (¬2): {وهم طامعون} وقرأ إياد بن لقيط: {وهم ساخطون} وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء، فعلى هذا القول: إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة، وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم، والمراد من هذا الطمع طمع يقين؛ أي: وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة. 47 - {وَإِذا صُرِفَتْ}؛ أي: وجهت {أَبْصارُهُمْ}؛ أي: أبصار رجال الأعراف بغير قصد. وقرأ الأعمش: {وإذا قلبت أبصارهم}. {تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ}؛ أي: إلى جهنم، وقد قرىء {تِلْقاءَ} هنا بمده وقصره قراءتان سبعيتان. {قالُوا}؛ أي: قال رجال الأعراف نعوذ بالله {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم، والمقصود من جميع هذه الآيات الإنذار والتخويف من التقليد الرديء؛ ليتبصر المرء في عاقبة أمره، فيفوز بالثواب المقيم في جنات النعيم. وفي التعبير (¬3) بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويلقون إليهم السلام، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا حولت أبصارهم إليهم من غير قصد ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها .. قالوا: ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون، وفي ذلك من استعظام حال الظالمين، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[48]

واستفظاع مآلهم، وشناعة أمرهم ما لا يخفى. وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يحاسب الله الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة .. دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة .. دخل النار، ثم قرأ قول الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ...} الآيتين، ثم قال: إن الميزان يخفف بمثقال حبة ويرجح، ومن استوت حسناته وسيئاته .. كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الحنة قالوا سلام عليكم، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} نعوذوا بالله من منازلهم. قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطي كل عبد يومئذ نورا، وكل أمة نورا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون {يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم، فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فكان الطمع دخولا قال سعيد: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة، ثم قال: هلك من غلب وحدانه أعشاره. اه. 48 - {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا} من أهل النار كانوا عظماء في الدنيا، وهذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزون في الدنيا بغناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم، أو لحرمانهم من عصبية تمنعم وتذود عنهم، ويزعمون أن من أغناه الله، وجعله قويا في الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}. ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام في مكة، وعذبوا أهله كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل. أي: نادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل النار {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ}؛ أي: يعرف أصحاب الأعراف أولئك الرجال بسيماهم وعلاماتهم كسواد الوجوه وزرقة

[49]

العيون وتشويه الخلق، واختار أبو مسلم أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها في الدنيا، وقيل: بسيما المستكبرين؛ إذ قد جاء في الأثر ما يدل على أن لمن تغلب عليهم رذيلة خاصة علامة تدل عليهم، فيعرفون بها، فقد روى البخاري: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيعرفه، فيشفع له، فلا تقبل شفاعته، ثم يمسخه الله ذئبا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه» فمسخه ذئبا مناسب لحماقته ونتن الشرك. وقوله: {قالُوا} بدل من {نادى}؛ أي قال أصحاب الأعراف لأولئك الرجال وهم في النار: يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف مثلا {ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ}؛ أي: أي شيء دفع عنكم جمعكم في الدنيا من المال والخدم والأتباع {وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: وما أغنى عنكم استكباركم عن قبول الحق، وعلى الناس المحقين، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. والخلاصة (¬1): أنهم نادوهم قائلين لهم: ما أغنى عنكم جمعكم للأموال والخدم، ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان؛ إذ لم يمنع عنكم العقاب، ولا أفادكم شيئا من الثواب. وقرىء: {تستكثرون} - بالثاء المثلثة - من الكثرة؛ أي: وما أغنى عنكم إكثاركم من الأموال والجند. 49 - ثم زادوا لهم على هذا التبكيت بقولهم: {أَهؤُلاءِ} الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم هم {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ}؛ أي: حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار {لا يَنالُهُمُ اللَّهُ} تعالى ولا يصيبهم {بِرَحْمَةٍ} منه؛ إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة الأموال؛ أي: أقسمتم في الدنيا لا يدخلهم الله الجنة في الآخرة، وقد دخلوا الجنة الآن على رغم أنوفكم. وقد قيل الآن من جهة الله لهؤلاء الذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} بفضل الله تعالى، فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف، فهو خبر ثان عن اسم الاشارة؛ أي: أهؤلاء قد قيل لهم من ¬

_ (¬1) المراغي.

[50]

جهة الله تعالى: ادخلوا الجنة {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} من العذاب {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} على ما خلفتم في الدنيا، فظهر كذبكم في إقسامكم وحلفكم، ويدل على هذا المعنى قراءتان شاذتان: {أدخلوا} - بصيغة الماضي المبني للمفعول - من أدخل الرباعي، و {دخلوا}، وعلى هاتين القراءتين تقع هذه الجملة خبرا، والتقدير: دخلوا الجنة مقولا فيهم: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. وقيل (¬1): إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا .. قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء الضعفاء، فأنتم لم تدخلوا الجنة، فلما عيروهم بذلك .. قيل لأصحاب الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أي: لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون مما ينغص عليكم حاضركم. وقرأ الحسن وابن هرمز (¬2): {أدخلوا} أمر من أدخل الرباعي؛ أي: أدخلوا أنفسكم، أو يكون خطابا للملائكة؛ أي: أدخلوا أيها الملائكة هؤلاء الضعفاء الجنة، ثم خاطب بعد للبشر بقوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ}. وقرأ عكرمة: {دخلوا} إخبارا بفعل ماض. وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي: {ادخلوا} خبرا مبنيا للمفعول كما ذكرنا هاتين القراءتين آنفا. 50 - {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ}؛ أي: بقولهم صبوا علينا من الماء صبا كثيرا {أَوْ} ألقوا علينا {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى من ثمار الجنة، وأطعمونا منها. وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد، والجوع الشديد لأهل النار. والمعنى: أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وعن ابن عباس ينادي الرجل أخاه، فيقول: يا أخي أغثني، فإني قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[51]

وعن أبي الدرداء (¬1): أنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم، فيستغيثون، فيغاثون بالضريع - نبات رطبه يسمى شبرقا، ويابسه يسمى ضريعا - لا تقربه دابة لنتن ريحه - لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ - ثم يستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون ويستغيثون، فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد، فيقطع ما في بطونهم، ويستغيثون إلى أهل الجنة، فيقول أهل الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ، ويقولون لمالك: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، فيجيبهم بعد ألف عام، ويقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فيجيبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فعند ذلك ييأسون من كل خير، ويأخذون في الزفير والشهيق. وهذا طلب (¬2) منهم مع علمهم باليأس من إجابته؛ إذ يعرفون دوام عقابهم، وأنه لا يفتر عنهم أبدا، ولكن اليائس من الشيء قد يطلبه كما قالوا في أمثالهم: الغريق يتعلق. {قالُوا}؛ أي: قال أصحاب الجنة لأهل النار في جواب سؤالهم: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى قد {حَرَّمَهُما}؛ أي قد حرم ماء الجنة ورزقها {عَلَى الْكافِرِينَ} كما حرم عليهم دخولها، فلا سبيل لإفاضة شيء منهما عليهم، وهم في النار، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم، وطعامها من الضريع والزقوم. وقوله: 51 - {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا}؛ أي: باطلا {وَلَعِبًا}؛ أي: فرحا صفة للكافرين؛ أي: الذين جعلوا اللهو واللعب دينا وديدنا لهم، فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} عن الآخرة؛ أي: شغلهم الطمع في طول العمر، وحسن العيش، وكثرة المال، وقوة الجاه، ونيل الشهوات عن الاستعداد والتزود للآخرة. والخلاصة: أن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة، وشهواتها الباطلة، فغرتهم ¬

_ (¬1) المراغي والمراح. (¬2) المراغي.

[52]

وضرتهم، وهي من شأنها أن تغر وتضر وتمر، ثم ذكر عاقبة أمرهم، فقال: {فَالْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم الحاضر يعني: يوم القيامة {نَنْساهُمْ}؛ أي: نتركهم في النار {كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا}؛ أي: كما تركوا هم في الدنيا الاستعداد والتزود للقاء يومهم هذا؛ أي: نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا، أو المعنى: نعاملهم معاملة من نسي، فنتركهم في النار؛ لأنهم أعرضوا عن آياتنا، والمراد من هذا النسيان: أن الله سبحانه وتعالى لا يجيب دعاءهم، ولا يرحمهم، بل يتركهم في النار كما تركوا العمل وقوله: {وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} معطوف على {ما نسوا}؛ أي: كَما نَسُوا وك ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ؛ أي: ينكرونها؛ أي: وكما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله إنكارا مستمرا، ورفضوا ما جاءت به رسله ظلما وعلوا. والخلاصة: فاليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون، ولا يصدقون بشيء منها. ويجوز (¬1) أن تكون الكاف للتعليل، أي: نتركهم في النار لأجل نسيانهم وجحودهم بآياتنا، والتعليل واضح في المعطوف دون التشبيه. 52 - {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جئنا هؤلاء الكفار من مشركي مكة وغيرهم {بِكِتابٍ}؛ أي: بقرآن كريم أنزلناه عليك يا محمد {وفَصَّلْناهُ}؛ أي: بينا حلاله وحرامه، ومواعظه وقصصه حالة كوننا {عَلى عِلْمٍ} منا بما فيه من العقائد والأحكام وغيرها؛ أي: عالمين بكيفية تفصيل أحكامه، أو المعنى: حالة كون ذلك الكتاب مشتملا على علم كثير، وفضل كثير مختلف، وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة التي اشتمل عليها القرآن في قوله: حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصّة عظة مثل وقرأ ابن محيصن والجحدري (¬2): {فضلناه} - بالضاد المنقوطة - والمعنى: ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) البحر المحيط.

[53]

فضلناه على جميع الكتب عالمين بأنه أهل للتفضيل عليها حالة كون ذلك الكتاب {هُدىً}؛ أي: هاديا من الضلالة إلى الرشد {وَرَحْمَةً}؛ أي: وذا رحمة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} به، ويعملون بما فيه من الأحكام، أو فصلناه لأجل الهداية والرحمة للمؤمنين. وقرىء {هدى ورحمة} - بالرفع؛ أي: هو هدى ورحمة لهم. وقرأ زيد بن علي: {هدى ورحمة} بالخفض على البدل من {كتاب}، أو النعت، وعلى النعت لـ {كتاب} خرجه الكسائي والفراء رحمهما الله تعالى. وحاصل المعنى: ولقد (¬1) جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان؛ وهو القرآن فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل تزكية لنفوسهم، وتطهيرا لقلوبهم، وجعلناه سبب سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص في مثل قوله: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين، وحث على النظر والاستدلال، والاعتماد على البرهان في مثل قوله: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة، وينبوع الهدى والحكمة. 53 - والاستفهام في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} إنكاري؛ أي: ما ينتظر هؤلاء الكفار من أهل مكة وغيرهم إذ أعرضوا عن الإيمان به {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} وتفسيره؛ أي: إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة؛ أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله، وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا، ثم في الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب، وأوعد به الكافرين من خذلان وعقاب. ¬

_ (¬1) المراغي.

روي عن الربيع بن حسن أنه قال (¬1): لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}؛ أي: يوم يأتي عاقبة ما وعد لهم في القرآن، وهو يوم القيامة، وهو ظرف لقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ}؛ أي: تركوا القرآن، وأعرضوا عن الايمان به {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل أن يأتي تأويله، والمعنى (¬2): إن الذين تركوا الإيمان بالقرآن في الدنيا يقولون يوم القيامة: {قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} الذي أرسلهم الله تعالى به إلينا، وكذبناهم؛ أي: أنهم أقروا يوم القيامة بأن ما جاءت به الرسل من ثبوت البعث والنشر، والحشر والقيامة، والثواب والعقاب كل ذلك كان حقا، وقوله: {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ}: استفهام معناه التمني {فَيَشْفَعُوا لَنا} اليوم من العذاب {أَوْ نُرَدُّ} إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}؛ أي: أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نوحده بدل ما أشركنا به، أو نطيعه بدل ما عصيناه، والمعنى: نتمنى وجود الشفعاء، فشفاعتهم لنا من العذاب، أو ردنا إلى الدنيا، فعملنا عملا غير الذي كنا علمناه أولا، فيقال لهم في جواب الاستفهامين: لا. وقال الشوكاني: ومعنى الآية (¬3): هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب، أو هل نرد إلى الدنيا فنعمل صالحا غير ما كنا نعمل من المعاصي. والحاصل: أنهم (¬4) يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة؛ إما بشفاعة الشفعاء، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى، فيكونون أهلا لمرضاة ربهم. وإنما تمنوا الشفعاء وتساءلوا عنهم من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء، وعندما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل؛ وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) فتح القدير. (¬4) المراغي.

الصحيح والعمل الصالح .. يتمنون لو يردون إلى الدنيا؛ ليعملوا بما أمرهم به الرسل. وقرأ الجمهور (¬1): {أَوْ نُرَدُّ} - برفع الدال - {فَنَعْمَلَ} - بنصب اللام - عطف جملة فعلية على جملة اسمية، وتقدمهما استفهام، فانتصب الجوابان؛ أي: هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب، أو هل نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا. وقرأ الحسن فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام. وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما: عطف {فَنَعْمَلَ} على {نُرَدُّ}. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما، فنصب {أَوْ نُرَدُّ} عطفا على {فَيَشْفَعُوا لَنا} جوابا على جواب، فيكون الشفعاء في أحد أمرين؛ إما في الخلاص من العذاب، وإما في الرد إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح، وتكون الشفاعة قد انسحبت على الرد، أو الخلاص، و {فَنَعْمَلَ} عطف على: {أَوْ نُرَدُّ}، ويحتمل أن يكون {أَوْ نُرَدُّ} من باب لألزمنك أو تقضيني حقي، على تقدير من قدر ذلك: حتى تقضيني حقي، أو كي تقضيني حقي، فجعل اللزوم مغيا بقضاء حقه، أو معلولا له لقضاء حقه، وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط. قال تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: خسروا وغبنوا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: بطل وذهب وغاب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم، فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعلموا أنهم في دعواهم كانوا كاذبين، والمعنى: أنه بطل كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا، أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكا لله، فلم ينفعهم ولا حضر معهم. وخلاصة ذلك: أنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتهما بلفضائل والأعمال الصالحة فخسروا حظوظهما فيها وبطل كذبهم الذي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[54]

كانوا يفترونه على الله، أو غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الأصنام. 54 - ثم ذكر سبحانه وتعالى دلائل القدرة والوحدانية، فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ} أيها العباد وخالقكم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة هو {اللَّهُ}؛ أي: المعبود بحق في الوجود المنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد {السَّماواتِ} السبع {وَالْأَرْضَ} على غير مثال سابق فِي مقدار {سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الدنيا التي أولها الأحد، وآخرها الجمعة، وإنما خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة بأن يقول لها: كوني فتكون؛ ليعلم عباده الرفق والتأني والتثبت في الأمور، وعدم العجلة، وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)}. {ثُمَّ} بعد خلق السموات والأرض وما بينهما {اسْتَوى}؛ أي: علا وارتفع سبحانه وتعالى {عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تعطيل نثبته، ونؤمن به على الوجه الذي يليق به مع تنزيهه عما لا يجوز عليه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقته وكيفيته، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والأئمة من بعضهم لم يشتبه أحد منهم فيه. وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله: {اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وقال الحافظ بن حجر: مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه .. فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحية على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله النقائص ... فقد سلك سبيل الهدى. انتهى. وقال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان

به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال الإمام أحمد رحمه الله: أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل، فلا يقال: كيف ولم نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحدها حاد، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل. وقال القرطبي: لم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن، وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا. وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ}؛ أي: يجعل الليل كالغشاء والغطاء للنهار، فيغطي بظلمته ضوء النهار جملة حالية من فاعل {اسْتَوى}؛ أي: استوى سبحانه وتعالى على العرش حالة كونه مغشيا الليل النهار. وقوله: {يَطْلُبُهُ}؛ أي: يطلب الليل النهار طلبا {حَثِيثًا} حال من الليل {اللَّيْلَ}؛ أي: حالة كون الليل طالبا للنهار طلبا حثيثا؛ أي: طلبا سريعا لا يفتر عنه بحال؛ أي: مسرعا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يغشّي} بالتشديد من باب فعل المضعف. وقرأ الباقون بالتخفيف من باب أفعل، وهما لغتان، يقال: أغشى يغشي إغشاء، وغشى يغشي تغشية، ولم يذكر في هذه الآية، ويغشي النهار الليل اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر على حد {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. وقرأ حميد بن قيس: {يغشى الليل النهار}: على إسناد الفعل إلى الليل. وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} قال الأخفش: معطوف على {السَّماواتِ} {مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} حال منها؛ أي: وخلق الشمس والقمر والنجوم حالة كونها مذللات بأمره وإرادته، خاضعات لتصرفه، منقادات لحكمه، جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر، وقرأ أبان بن تغلب برفع والنجوم مسخرات فقط على الابتداء والخبر. {أَلا}؛ أي: انتبهوا أيها العباد {لَهُ}: سبحانه وتعالى لا لغيره {الْخَلْقُ}؛ أي: الإيجاد والاختراع، فهو الخالق لجميع المخلوقات علويها وسفليها المالك لذواتها {وَ} له سبحانه وتعالى أيضا لا لغيره

[55]

{الْأَمْرُ}؛ أي: التصرف والتدبير في جميعها؛ إذ هو المال لها لا شريك له فيها. وفي معنى الآية قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} وقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} وقوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها؛ لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكر استواءه على عرشه، وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وأن له الخلق والأمر .. قال: {تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}؛ أي: تزايد خيره وبره، وكثرت بركته وإحسانه، وعم نواله وإنعامه. وقال الأزهري: معنى: {تَبارَكَ} تعالى وتعاظم؛ أي: تعالى الله مالك العالمين بوحدانيته وألوهيته، وتعاظم بربوبيته وصفاته، وأن كل ما في هذا العالم من الخيرات الكثيرة، والنعم العظيم؛ فهو منه، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه، وليس له من الخلق ولا من الأمر شيء. وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال: إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم. 55 - {ادْعُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: اسألوا أيها العباد ربكم، ومتولي أموركم، وخالقكم حال كونكم {تَضَرُّعًا}؛ أي: متضرعين متذللين وخاضعين له ومبتهلين إليه {وَ} حالة كونكم {خُفْيَةً}؛ أي: مخفين ومسرين دعاءكم عن غيركم، أو هما صفتان لمصدر محذوف؛ أي: ادعوه دعاء تضرع، ودعاء خفية، والتضرع: الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسن لباب من يخالف الإخلاص. وقرأ الجمهور بضم خاء {وَخُفْيَةً}، وقرأ أبو بكر بكسرها؛ وهما لغتان. وفي هذا إيماء إلى أن الإخفاء في الدعاء أفضل إن لم يكن وجبا، ويدل على ذلك وجوه:

1 - أنه تعالى أثنى على زكريا، فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)}؛ أي: أنه أخفاه عن العباد، وأخلصه لله، وانقطع به إليه. 2 - روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّا ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» رواه مسلم. 3 - روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وقال: «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي». 4 - روي عن الحسن البصري أنه قال: إن كان الرجل لقد جمع، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعند الزور، وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} اه. 5 - أن النفس شديدة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به، فلا يبقى فيه فائدة البتة، ومن ثم كان الأولى الإخفاء؛ ليبقى مصونا عن الرياء. وفصل بعض العلماء، فقال: إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعي، ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة، ويحسن الإسرار في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج، وتكبير العيدين. وإذا كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة إلى أنه

يطرد الوسواس، ويقاوم فتور النعاس، ويعين على تدبر القرآن، وبكاء الخشوع للرحمن لدى المتهجدين في خلواتهم. وقال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء .. فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء .. كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى. قرأ ابن أبي عبلة {إن الله} جعل مكان المضمر المظهر. ذكره أبو حيان. {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ أي: المجاوزين لما أمروا به في الدعاء بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء، وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء .. فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين؛ أي: لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا، ومن الاعتداء (¬1) في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2): «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه .. وللاعتداء في الدعاء مظاهر شتى (¬3): 1 - اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة في رفع الصوت، والتكلف في صيغ الدعاء. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

2 - اعتداء خاص بالمعنى؛ وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد، وطلب إبطال سنن الله في الخلق، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد، وطلب الغنى بلا كسب، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. 3 - اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله تعالى؛ ليشفع له عنده، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ومن طلب ذلك من غير الله .. فقد اتخذه إلها؛ لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي عن أنس مرفوعا: «الدعاء مخ العبادة» وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة»، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: «القرب من الله عز وجل»، ثم قرأ: {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره. فائدة أخرى: وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «الدعاء» (¬1)، والخطيب في «تاريخه» عن الحسن بن علي قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم، ومن كل شيطان مريد، ومن كل سبع ضاري، ومن كل لص عادي: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}، وعشرا من أول سورة الصافات، وثلاث آيات من الرحمن أولها: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...} الآية .. بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح، وعوفي من السرق. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال: مرض رجل من أهل المدينة، فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه، فقرأ رجل منهم: ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[56]

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الآية كلها، وقد أصمت الرجل، فتحرك، ثم استوى جالسا، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها قال له أهله: الحمد لله الذي عافاك، قال: بعث إلى نفسي ملك يتوفاها، فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ سجد الملك وسجدت سجوده، فهذا حين رفع رأسه، ثم مال فقضي عليه. انتهى. 56 - {وَلا تُفْسِدُوا} أيها الناس {فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي والكفر، والدعاء إلى غير طاعة الله تعالى: {بَعْدَ إِصْلاحِها}؛ أي: بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل، وبيان الشرائع، والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا المعنى قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي. وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع، وما هدى الناس إليها من استغلالها، والانتفاع بتسخيرها لهم، وامتنانه بذلك في مثل قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل، وقطع الأطراف والأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي والبدع، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه. والخلاصة (¬1): أن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد، والآداب الشخصية والاجتماعية، والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة، ووسائل تعاون بين الناس. وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين، وإرسال الرسل، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين، فبه أصلحت عقائد البشر، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد، وما شرع لهم من التعاون والتراحم، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة: درء المفاسد وحفظ المصالح، وبذا امتاز ¬

_ (¬1) المراغي.

به دينهم عن بقية الأديان. وبعد أن بين في الآية الأولى شرط الدعاء .. أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية، ولا يخاف من عقابه، ولا يطمع في غفرانه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح، فقال: {وَادْعُوهُ}؛ أي: وادعوا أيها الناس ربكم حالة كونكم {خَوْفًا}؛ أي: خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم، أو ذوي خوف من عقابه {وَ} حالة كونكم {طَمَعًا}؛ أي: طامعين في رحمته وإحسانه في دنياكم وآخرتكم، أو ذوي طمع في رحمته، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها، والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة. فإن قلت (¬1): إنه تعالى قال في الآية الأولى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وقال هنا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} وهذا من عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟ قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات، وقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء، وقيل معناه: كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما. ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوي الأمل بالإجابة، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب، وجهلت وسائل النجاح، والدعاء مخ العبادة ولبها، وإجابته مرجوة حين استكملت شرائطها وآدابها، فإن لم تكن ¬

_ (¬1) الخازن.

بإعطاء الداعي ما طلبه، فربما كانت بما يعلم الله أنه خير له منه. ثم بين فائدة الدعاء وعلل سبب طلبه، فقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى وثوابه {قَرِيبٌ مِنَ} عباده {الْمُحْسِنِينَ} ذكر الخبر نظرا إلى أن الرحمة بمعنى الثواب كما فسرناه كذلك؛ أي: إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)} فمن أحسن في عبادته .. نال حسن الثواب، ومن أحسن في الدعاء .. أعطي خيرا مما طلبه، وقد طلب الإحسان في كل شيء يهدي إليه دين الفطرة، وحرم الإساءة في كل شيء، وجعل جزاءها من جنسها كما قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شي، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته». رواه مسلم. وأصل الرحمة (¬1): رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، وإذا وصف بها الباري جل وعز، فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة، فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده، وإيصال الخير إليهم. وكون الرحمة قريبة من المحسنين (¬2)؛ لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا، وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة، وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت؛ وهو قريب من الإنسان. والأحسن (¬3) في علة تذكير {قَرِيبٌ} مع أن {الرحمة} مؤنثة أن يقال: تذكيره إما باعتبار أن الرحمة مجازية التأنيث، أو باعتبار أن المراد بها الثواب؛ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) الجمل بتصرف.

[57]

وهو مذكر، فيكون التذكير باعتبار معناها كما مر آنفا. تأمل. 57 - قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ} معطوف على قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}، والمعنى: إن ربكم الذي دبر السموات والأرض، وهو الذي يرسل ويبعث الرياح والهواء حالة كون تلك الرياح {بُشْرًا} بالنون؛ أي: منتشرة متسعة، وبالباء أي مبشرة بمجيء المطر؛ أي: يرسلها ويهيجها {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: أمام المطر الذي هو رحمته حالة كونها نشرا، أو بشرا، وإنما سمي المطر رحمة؛ لأنه سبب لحياة الأرض الميتة {حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ} ورفعت تلك الرياح، و {حَتَّى} غاية لقوله: {يُرْسِلُ} كما في «الشهاب» {سَحابًا ثِقالًا}؛ أي: غيما مثقلا بالماء {سُقْناهُ}؛ أي: سقنا ذلك السحاب {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء {فَأَنْزَلْنا بِهِ}؛ أي: في ذلك البلد {الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ} أي: بذلك الماء، أو في ذلك البلد {مِنْ كُلِّ} أنواع {الثَّمَراتِ} والزروع {كَذلِكَ}؛ أي: كما أخرجنا الثمرات بالماء {نُخْرِجُ الْمَوْتى} أحياء من قبورهم بعد فنائهم دروس آثارهم {لَعَلَّكُمْ} أيها المنكرون للبعث {تَذَكَّرُونَ} هذا الشبه، فيزول عنكم استبعادكم للبعث بنحو قولكم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أو المعنى: لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث، وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. وحاصل معنى الآية: أن ربكم المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته؛ أي: بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها فينشيء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله. ونحو الآية قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)}. {فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ}؛ أي: فأنزلنا بالسحاب الماء؛ إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة .. يرتفع في الجو

ويبرد؛ لوصوله إلى منطقة باردة، أو لامتزاجه بتيار من الهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء، وتكون السحاب، فالسحاب ناشيء من تكاثف بخار الماء من الهواء في الطبقات العالية من الجو، وهو لا يكون ثابتا في مكان، بل يسير في اتجاه أفقي مدفوعا بقوة الريح، ويتراوح بعده عن الأرض بين ميل وعشرة أميال، ويكون معتما مشبعا بالماء إذا كان قريبا من سطح الأرض، وهو الذي ينشأ عنه المطر؛ لتجميع قطيرات الماء التي فيه بعضها مع بعض بتأثير البرودة، فتكون قطيرات كبيرة تسقط من خلاله نحو الأرض؛ لثقلها بحسب سنة الله في جاذبية الثقل. وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة: أن سكان الجبال الشامخة يبلغون في العلو حذاء السحاب الممطر، أو يتجاوزونه إلى ما فوقه، فيكون دونهم {فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ}؛ أي: فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة الله تعالى وعلمه، ورحمته وفضله كما قال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}. وبعد أن ذكرهم بهذه الآيات .. قفى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث، فقال: {كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى}؛ أي: ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم إذ القادر على هذا قادر على ذلك {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} هذا الشبه، فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، وقولكم: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}. فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة إذ لا فارق بين حياة النبات، وحياة الحيوان، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شيء، والحياة في عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي، والنمو في النبات، والحس والحركة

في الحيوان. إعادة الموتى جاء في الكتاب الكريم قوله: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، وقوله: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، وقوله: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} فأثبت في هذه الآيات الإعادة، وشببها بالبدء، هو تشبيه في جملة ذلك، لا في تفصيله، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ، ونفخ فيه الروح يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسي في الحياة الدنيا، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح، وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع والحسن والسلمي وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان (¬1): {الرياح نُشُرا} - جمعين بضم النون والشين - أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية وجانب. وقرأ عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر وعبد الوارث والحسن البصري في رواية عنه: {نُشْرا} - بضم النون وسكون الشين - وهي في معنى {نُشُرا} - بضمتين - إلا أنهم سكنوا الشين تخفيفا من الضم كرسل في رسل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف والمفضل عن عاصم: {نَشْرا} - بفتح النون وسكون الشين -. قال الفراء: النشر: الريح الطيبة اللينة التي تنشيء السحاب. وقال ابن الأنباري: النشر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقرأ أبو رجاء العطاردي وإبراهيم النخعي ومسروق في رواية عنهم ومورق العجلي: {نَشَرا} - بفتح النون والشين - إما جمع نشور كعمود وعمد، أو جمع ناشر كغائب وغيب وحافد وحفد. هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير.

[58]

قراءات من قرأ بالنون، فجملتها أربعة. وقد قرأ آخرون بالباء الموحدة، فقرأ ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة: {الرِّياحَ} - جمعا -: {بُشُرا} - بضم الباء والشين -. ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرة كنذيرة ونذر. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفا من الضم. وقرأ السلمي: {بَشْرا} - بفتح الباء وسكون الشين - وهو مصدر بشر المخفف، ورويت عن عاصم. وقرأ ابن السميقع وابن قطيب: {بشرى} بألف مقصورة كرجعى، وهو مصدر. فهذه ثماني قراءات؛ أربعة في النون، وأربع في الباء. والمعنى على كلها: أنه سبحانه وتعالى يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات. 58 - وبعد أن ضرب الله إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى .. ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما في البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر، والرشاد والغي، فقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ}؛ أي: والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة {يَخْرُجُ نَباتُهُ} ووافيا حسنا كثيرا غزير النفع {بِإِذْنِ رَبِّهِ}؛ أي: بمشيئة الله تعالى وتيسيره بلا كد ولا عناء، كذلك المؤمن المخلص يؤدي ما أمر الله به بطيبة النفس {وَالَّذِي خَبُثَ}؛ أي: والبلد الذي خبث أرضه السبخة ترابه {لا يَخْرُجُ} نباته {إِلَّا نَكِدًا}؛ أي: إلا بتعب وعناء وكلفة، والمعنى: إلا حالة كونه قليلا عديم النفع. قال الشاعر في المعنى يذم إنسانا: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا يعني بالتافه: القليل، وبالنكد: العسير، ومعناه: إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة وكلفة، وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله به إلا كرها بغير طيبة النفس. قال (¬1) المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة الطيبة التراب، وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة، فإذا نزل المطر أخرجت أنواع الأزهار والثمار، وكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به، وانتفع به، وظهرت منه الطاعات ¬

_ (¬1) الخازن.

والعبادات، وأنواع الأخلاق الحميدة، وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة البسخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر، فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به، ولا يصدقه، ولا يزيده إلا عتوا وكفرا، وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول: هو طيب وعمله طيب، كما أن البلد الطيب ثمره طيب، ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة، فالكافر خبيث وعمله خبيث. ويدل (¬1) على صحة هذا التأويل ما روى الشيخان والنسائي وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب التي تشرب ولا تنبت، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا، وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان - أرض مستوية - لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القسم الأول؛ وهو الذي نفع وانتفع بالهادي المهتدي، وفسر القسم الثالث؛ وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد، وسكت عن القسم الثاني؛ وهو الذي نفع غيره بعلمه، ولم ينتفع به هو؛ لأن له أحوالا كثيرة، فمنه المنافقون، ومنه المفرطون في دينهم، والمشاهدة تدل على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب، أو إدلاء إلى الحكام. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر (¬2): {يُخْرَجُ نَباتُهُ}: - مبنيا للمفعول -؛ أي: يخرجه البلد. وقرأ ابن القعقاع: نَكَدا - بفتح الكاف - قال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

الزجاج: وهي قراءة أهل المدينة. وقرأ ابن مصرف بسكونها، وهما مصدران؛ أي: ذا نكد. وقرأ الباقون: {نَكِدًا} بفتح النون وكسر الكاف. {كَذلِكَ}؛ أي: مثل ذلك التصريف البديع والتكرير العجيب {نُصَرِّفُ الْآياتِ}؛ أي: نردد الآيات الدالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، ونكررها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمتنا باستعمالها فيما تتم به حكمتنا، وبذلك يستحقون منا المزيد، ويكافؤون بالثواب عليها. وختم (¬1) هذه الآية بالشكر إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال. وقرىء: {يصرف} - بالياء التحتية - مراعاة للغيبة في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} ذكره أبو حيان. الإعراب {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)}. {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، وسيأتي مقابله بقوله: {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...} الخ. {أَصْحابَ النَّارِ}: مفعول به ومضاف إليه. {أَنْ}: مفسرة بمعنى: أي؛ لسبقها بجملة فيها معنى القول دون حروفه مبنية على السكون، وجملة الفعل بعدها جملة مفسرة لـ {نادى} لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {قَدْ}: حرف تحقيق. {وَجَدْنا}: فعل وفاعل، وجملة {وَجَدْنا}: في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة: في محل النصب مفعول نادى، أو في محل الجر بجار محذوف تقديره: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار بأنه قد وجدنا الخ. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {وَجَدْنا}. {وَعَدَنا رَبُّنا}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، ¬

_ (¬1) المراغي.

أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما وعدناه ربنا. {حَقًّا}: مفعول ثان لـ {وَجَدْنا}، أو حال من الضمير المحذوف في {وَعَدَنا} إن كان {وجد} بمعنى أصاب. {فَهَلْ}: {الفاء}: عاطفة، {هل}: حرف للاستفهام الاستخباري. {وَجَدْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة وَجَدْنا. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {وجد}. {وَعَدَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما وعده ربكم. {حَقًّا} مفعول ثان لـ {وجد}، أو حال من الضمير المحذوف في {وَعَدَ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {نَعَمْ}: حرف جواب يجاب بها لتصديق الأخبار لا محل لها من الإعراب، والمجاب به محذوف لنيابة {نَعَمْ} عنه تقديره: وجدناه حقا. {فَأَذَّنَ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {أذن مؤذن}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {نادى}. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أذن}، أو صفة لـ {مُؤَذِّنٌ}. {أَنْ}: تفسيرية بمعنى أي. {لَعْنَةُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عَلَى الظَّالِمِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة مفسرة لـ {أذن} لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {أَنْ} المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في محل النصب مفعول {أذن} تقديره: فأذن مؤذن بينهم أنه لعنة الله على الظالمين، أو في محل الجر بحرف جر محذوف تقديره: فأذن مؤذن بينهم بأنه لعنة الله على الظالمين. {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر صفة لـ {الظَّالِمِينَ}. {يَصُدُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَصُدُّونَ}. {وَيَبْغُونَها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يَصُدُّونَ}. {عِوَجًا}: حال من الهاء في {يَبْغُونَها}، ولكنها في تأويل معوجة، ويصح كونه مفعولا ثانيا. {وَهُمْ}: مبتدأ. {بِالْآخِرَةِ}: جار ومجرور متعلق

بـ {كافِرُونَ}. {كافِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَصُدُّونَ}. {وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}. {وَبَيْنَهُما}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {حِجابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَعَلَى الْأَعْرافِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {رِجالٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {يَعْرِفُونَ كُلًّا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {رِجالٌ}. {بِسِيماهُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَعْرِفُونَ}. {وَنادَوْا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَصْحابَ الْجَنَّةِ}: مفعول به ومضاف إليه. {أَنْ}: تفسيرية بمعنى أي مبنية على السكون. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ}: مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض الدعاء، والجملة الاسمية جملة مفسرة لجملة {نادَوْا} لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {أَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن أنه سلام عليكم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبرها، وجملة {أَنْ} المخففة في محل النصب مفعول {نادَوْا}؛ أي: نادوهم أنه سلام عليكم، أو في محل الجر بحرف جر محذوف تقديره: نادوهم بأنه سلام عليكم. {لَمْ يَدْخُلُوها}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نادَوْا}، أو مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: ما صنع بأصحاب الأعراف .. فقيل: لم يدخلوها. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَطْمَعُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَدْخُلُوها}. {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ}: ظرف

ومضاف إليه متعلق بـ {صُرِفَتْ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا}: مستأنفة. {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {لا}: دعائية جازمة. {تَجْعَلْنا}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {مَعَ الْقَوْمِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَجْعَلْنا}. {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)}. {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {رِجالًا}: مفعول به. {يَعْرِفُونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِسِيماهُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يعرفون}، وجملة {يَعْرِفُونَهُمْ}: صفة لـ {رِجالًا}، ولكنها سببية. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية بدل من جملة نادى بدل كل من كل. {ما أَغْنى عَنْكُمْ}: إلى آخر الآية التالية مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {ما}: استفهامية استفهام توبيخ في محل الرفع مبتدأ. {أَغْنى}: فعل ماض. {عَنْكُمْ}: متعلق به. {جَمْعُكُمْ}: فاعل ومضاف إليه. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: مصدرية. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَسْتَكْبِرُونَ} خبرها، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على {جَمْعُكُمْ} على كونه فاعل {أَغْنى} تقديره: ما أغنى عنكم جمعكم، وكونكم مستكبرين، أو استكباركم عن الحق، وجملة {أَغْنى} في محل الرفع خبر {ما} الاستفهامية، وجملة {ما} الاستفهامية في محل النصب مقول {قالُوا}. {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}. {أَهؤُلاءِ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري التوبيخي، {هؤُلاءِ}: مبتدأ.

{الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {أَقْسَمْتُمْ}: فعل وفاعل. {لا}: نافية. {يَنالُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل. {بِرَحْمَةٍ} متعلق بـ {يَنالُهُمُ}، وجملة {يَنالُهُمُ} جواب لقسم محذوف تقديره: والله لا ينالهم الله برحمة، وجملة {أَقْسَمْتُمْ} مع جوابه صلة الموصول، والعائد الهاء من {يَنالُهُمُ}. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية نائب فاعل لقول محذوف تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، وجملة القول المحذوف في محل الرفع خبر ثان لاسم الاشارة؛ أي: أهؤلاء قد قيل لهم ادخلوا الجنة. {لا}: نافية تعمل عمل ليس. {خَوْفٌ}: اسمها مرفوع. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبر {لا}، وجملة {لا} من اسمها وخبرها في محل النصب حال من فاعل {ادْخُلُوا}. {وَلا} الواو: عاطفة {لا}. نافية. {أَنْتُمْ}: اسمها، وجملة {تَحْزَنُونَ} خبرها، وجملة {لا} الثانية في محل النصب معطوفة على جملة {لا} الأولى. {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)}. {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {أَصْحابَ الْجَنَّةِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَنْ}: مفسرة. {أَفِيضُوا}: فعل وفاعل. {عَلَيْنا}: متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة لجملة نادى لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {أَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة {أَفِيضُوا} في محل الرفع خبرها، وجملة {أَنْ} المخففة في محل النصب مفعول {نادى}، والتقدير: ونادى أصحاب النار أنه أفيضوا علينا، أو في محل الجر بجار محذوف تقديره: ونادى أصحاب النار بأنه أفيضوا علينا. {مِنَ الْماءِ}: جار ومجرور صفة لمفعول محذوف تقديره: أن أفيضوا علينا شيئا من الماء. {أَوْ مِمَّا}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله تقديره: أو أفيضوا علينا شيئا مما رزقكم الله تعالى. {رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقكم الله إياه.

{قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ} حرف نصب، {اللَّهُ}: اسمها. {حَرَّمَهُما}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَى الْكافِرِينَ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنْ}، وجملة {أَنْ} في محل النصب مقول {قالُوا}. {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)}. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْكافِرِينَ}: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا}: فعل وفاعل ومفعولان. {وَلَعِبًا}: معطوف على {لَهْوًا}، والجملة صلة الموصول. {وَغَرَّتْهُمُ}: فعل ومفعول. {الْحَياةُ}: فاعل. {الدُّنْيا}: صفة لـ {الْحَياةُ}، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {فَالْيَوْمَ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم ودينهم، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك، {اليوم}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {نَنْساهُمْ}. {نَنْساهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَما}: {الكاف}: حرف جر، {ما}: مصدرية. {نَسُوا}: فعل وفاعل. {لِقاءَ يَوْمِهِمْ}: مفعول به ومضاف إليه. هذا: في محل الجر صفة لـ {يَوْمِهِمْ}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كنسيانهم يومهم هذا، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاليوم ننساهم نسيانا كنسيانهم يومهم هذا. {وَما كانُوا}: {الواو} عاطفة. {ما}: مصدرية. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِآياتِنا}: متعلق بـ {يَجْحَدُونَ}، وجملة {يَجْحَدُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية. {ما} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من {ما} الأولى والتقدير: ننساهم نسيانا كنسيانهم لقاء يومهم، وكونهم منكرين أن الآيات من عند الله تعالى، ويجوز أن تكون الكاف للتعليل؛ أي فاليوم نتركهم لأجل نسيانهم وجحودهم، والتعليل

واضح في المعطوف دون التشبيه كما سبق ذكره عن «الفتوحات». {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية، {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {جِئْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِكِتابٍ}: متعلق به، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {فَصَّلْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {كتاب}. {عَلى عِلْمٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {فصلنا}؛ أي: حالة كوننا متلبسين بعلم، أو من المفعول؛ أي: حالة كون ذلك الكتاب مشتملا على علم. {هُدىً وَرَحْمَةً} إما حال من هاء {فَصَّلْناهُ}؛ أي: فصلناه حالة كونه هاديا وذا رحمة للمؤمنين، أو حالا من {كتاب}، وجاز مجيء الحال منه لتخصصه بالوصف، أو منصوبان على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: فصلناه لأجل الهداية والرحمة للمؤمنين. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور تنازع فيه كل من {هُدىً وَرَحْمَةً}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قوم}. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ}. {هَلْ} حرف للاستفهام الإنكاري. {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {تَأْوِيلَهُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {يَقُولُ} الآتي. {يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {يَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {نَسُوهُ} فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {قَدْ جاءَتْ رُسُلُ} إلى قوله: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} مقول محكي لـ {يَقُولُ}، وإن شئت قلت: {قَدْ}: حرف تحقيق. {جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور حال

من {رُسُلُ رَبِّنا}؛ أي: حالة كونهم متلبسين بالحق. {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}. {فَهَلْ} {الفاء}: عاطفة، {هل}: حرف للاستفهام الاستخباري، وفيه معنى التمني. {لَنا}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ شُفَعاءَ}: مبتدأ مؤخر، و {مِنْ} زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة: {قَدْ جاءَتْ} على كونها مقولا لـ {يَقُولُ}. {فَيَشْفَعُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام. {لَنا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: فهل لنا ثبوت شفعاء فشفاعتهم لنا. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {نُرَدُّ} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ} والتقدير: فهل لنا من شفعاء، أو هل نرد إلى الدنيا. {فَنَعْمَلَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: فهل يوجد لنا رد إلى الدنيا فعملنا غير الذي كنا نعمل. {غَيْرَ الَّذِي}: مفعول به ومضاف إليه. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {نَعْمَلُ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: غيره الذي كنا نعلمه. {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}. {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَضَلَّ}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {ما} موصولة، أو مصدرية. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}

صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وضل عنهم الآلهة اللاتي كانوا يفترونهن، أو صلة {ما} المصدرية تقديره: وضل عنهم افتراؤهم في الدنيا، وجملة {ضَلَّ} معطوفة على جملة قوله: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}. {إِنَّ}: حرف نصب. {رَبَّكُمُ}: اسمها. {اللَّهُ}: خبرها، والجملة مستأنفة. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {خَلَقَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {السَّماواتِ}: مفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَقَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {اسْتَوى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ}، فالآية الكريمة من باب أعطيت زيدا عمرا؛ لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشيا ومغشيا، فوجب جعل الليل في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي، والنهار هو المفعول من غير عكس اه «سمين». {يَطْلُبُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّيْلَ}، والضمير البارز يعود على {النَّهارَ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يطلب} {حَثِيثًا}: صفة لمصدر محذوف تقديره: يطلبه طلبا حثيثا؛ أي: سريعا. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ}: معطوفات على {السَّماواتِ}. {مُسَخَّراتٍ} حال من الثلاثة. {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُسَخَّراتٍ}. {أَلا}: حرف استفهام وتنبيه. {لَهُ}: خبر مقدم. {الْخَلْقُ}: مبتدأ مؤخر. {وَالْأَمْرُ}:

معطوف عليه، والجملة مستأنفة. {تَبارَكَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبُّ الْعالَمِينَ}: صفة للجلالة. {ادْعُوا رَبَّكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} حالان من واو {ادْعُوا}، ولكنه بعد تأويلهما بمشتق؛ أي: ادعوا ربكم حالة كونكم متضرعين ومخفين في دعائكم، أو صفتان لمصدر محذوف تقديره: دعاء تضرع ودعاء خفية. {إِنَّهُ}: {إنّ}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها، وجملة {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}. {وَلا} الواو عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تُفْسِدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {لا تُفْسِدُوا}. {بَعْدَ إِصْلاحِها}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تُفْسِدُوا} أيضا. {وَادْعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تُفْسِدُوا}. {خَوْفًا وَطَمَعًا}: حالان من واو {ادْعُوهُ}، ولكن بعد تأويلهما بمشتق تقديره: {وَادْعُوهُ} تعالى حالة كونكم خائفين من عقابه وطامعين في رحمته. {إِنَّ}: حرف نصب. {رَحْمَتَ اللَّهِ}: اسمها ومضاف إليه. {قَرِيبٌ} خبرها. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَرِيبٌ}؛ لأنه صفة مشبهة، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}. {يُرْسِلُ الرِّياحَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بُشْرًا}: حال من {الرِّياحَ}؛ أي: حالة كونها مبشرات أو ناشرات. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُرْسِلُ}.

{حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. {حَتَّى}: ابتدائية غائية. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَقَلَّتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الرِّياحَ}. {سَحابًا}: مفعول به. {ثِقالًا}: صفة لـ {سَحابًا}، والجملة الفعلية في محل الخفض على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {سُقْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {لِبَلَدٍ}: متعلق بـ {سقنا}. {مَيِّتٍ}: صفة {لِبَلَدٍ}، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة في اللفظ غاية لما قبلها في المعنى. {فَأَنْزَلْنا}: فعل وفاعل معطوف على {سقنا}. {بِهِ}: متعلق بـ {أنزلنا}. {الْماءَ}: مفعول به. {فَأَخْرَجْنا}: فعل وفاعل معطوف على {أنزلنا}. بِهِ: متعلق بـ {أخرجنا}. {مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أخرجنا} أيضا. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: {نُخْرِجُ الْمَوْتى} من قبورهم إخراجا مثل إخراج الثمرات من الأرض. {نُخْرِجُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، {تَذَكَّرُونَ} خبرها، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ}: مبتدأ وصفة. {يَخْرُجُ نَباتُهُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {بِإِذْنِ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {يَخْرُجُ}. {وَالَّذِي}: مبتدأ. {خَبُثَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {لا}: نافية. {يَخْرُجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النبات، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {نَكِدًا}: حال من فاعل {يَخْرُجُ}. {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ونصرف الآيات

تصريفا مثل تصريفنا الآيات السابقة. {نُصَرِّفُ الْآياتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُصَرِّفُ}، وجملة {يَشْكُرُونَ} صفة لـ {قوم}. التصريف ومفردات اللغة {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ} والنداء: رفع الصوت لطلب الإقبال {ما وَعَدَنا} والوعد: خاص بما كان في الخير أو يشمل الخير والشر، وهو الصحيح، والوعيد: خاص بالشر أو السوء، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا؛ إما من قبيل التهكم، أو للمشاكلة. {نَعَمْ}: هي حرف جواب كأجل وجير وإي وبلى، ونقيضها لا، ونعم لتكون لتصديق الأخبار، أو إعلام استخبار، أو وعد طالب، وقد يجاب بها النفي المقرون باستفهام، وهو قليل جدا، وتبدل عينها حاء، وهي لغة فاشية كما تبدل حاء حتى عينا، وكسر عينها لغة قريش. اه «سمين». {فَأَذَّنَ} التأذين: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} اللعنة: الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة. {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يقال: صد عن الشيء يصد - بضم الصاد - صدودا أعرض عنه، وصده عن الأمر إذا منعه، وصرفه عنه من باب رد، فهو يتعدى ولا يتعدى. {عِوَجًا}؛ أي: ذات عوج؛ أي: غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد والعوج - بالكسر - يكون في المعاني كالملة والدين والرأي والقول، ويكون في الأعيان ما لم يكن منتصبا، وبالفتح مختص بالأعيان المنتصبة كالرمح والحائط كما في «أبي السعود». {حِجابٌ} والحجاب: هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال في سورة الحديد: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}.

{الْأَعْرافِ}: جمع عرف - بزنة قفل - وهو أعلى الشيء، وكل مرتفع من الأرض وغيرها، ومنه عرف الديك والفرس والسحاب لعلوها، وجعل بعضهم الأعراف هو نفس الحجاب المتقدم ذكره، عبر عنه تارة بالحجاب، وتارة بالأعراف. قاله الواحدي، ولم يذكر غيره، ولذلك عرف الأعراف؛ لأنه عني به الحجاب. اه. {بِسِيماهُمْ} والسماء والسيمياء: العلامة. {صُرِفَتْ}: حولت. والتلقاء جهة اللقاء؛ وهي جهة المقابلة يقال: فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه، ويستعمل تلقاء ظرف مكان كما هنا، ويستعمل (¬1) مصدرا كالتبيان، ولم يجىء من المصادر على التفعال بالكسر غير التلقاء والتبيان والزلزال، وإنما يجيء ذلك في الأسماء نحو التمثال والتمساح والتصفار، وانتصاب {تِلْقاءَ} ههنا على الظرف؛ أي: ناحية أصحاب النار. {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ} إفاضة الماء: صبه، ثم استعملت في الشيء الكثير، فيقال: فاض الرزق والخير، وأفاض عليه النعم، وقالوا: أعطاه غيضا من فيض؛ أي: قليلا من كثير، وما رزقهم الله يشمل الطعام والأشربة غير الماء. {لَهْوًا وَلَعِبًا} اللهو (¬2): صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب كما مر به ذكره «البيضاوي». {بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ} الكتاب: هو القرآن الكريم، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها. {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} وتأويل الشيء: عاقبته ومرجعه ومصيره الذي يؤول ذلك الشيء إليه. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} والرب (¬3): هو السيد والمالك والمدبر والمربي، والإله هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي.

أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه، و {اللَّهُ}: اسم لخالق الخلق أجمعين، ولا يثبت الموحدون ربا سواه، وأكثر المشركين يقولون: إنه أكبر الأرباب، أو رئيسهم وأعظم الآلهة، وكان مشركوا العرب لا يثبت ربا سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه. {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} يراد بهما العالم العلوي، والعالم السفلي. الستة: رتبة من العدد معروفة، حاشيته العليا السبعة، وحاشيته السفلى الخمسة، وأصلها: سدسة أبدلت التاء من إحدى السينين، وأدغم فيها الدال، والدليل على ذلك أنك تقول: في التصغير: سديسة، وفي الجمع: أسداس، وتقول: جاء فلان سادسا. واليوم: الزمن الذي يمتاز عن غيره بما يحدث فيه كامتياز اليوم المعروف بما يحده من النور والظلام، وامتياز أيام العرب بما يقع فيها من الحرب والخصام، وليست هذه الأيام الستة من أيام الأرض، وهي التي مجموع ليلها ونهارها أربع وعشرون ساعة، فإن هذه إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض، فكيف يعد خلقها بأيام منها. {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} والاستواء لغة: استقامة الشيء واعتداله، واستوى الملك على عرشه؛ أي: ملك، وثل عرشه؛ أي: هلك، واستوى هنا بمعنى علا وارتفع استواء يليق به سبحانه وتعالى. والعرش لغة: كل شيء له سقف، ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم، وعلى سرير الملك وكرسيه في مجلس الحكم والتدبير، وعرش الرحمن من أعظم المخلوقات محيطا بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} يقال: غشي الشيء الشيء ستره وغطاه، وأغشاه إياه جعله يغشاه؛ أي: يغطيه ويستره، ومنه إغشاء الليل النهار. {حَثِيثًا}؛ أي: مسرعا من قولهم: فرس حثيث السير؛ أي: سريعه، والحث: (¬1) الإعمال والسرعة، والحمل على فعل الشيء كالحض عليه، فالحث ¬

_ (¬1) الفتوحات.

والحض أخوان يقال: حثثت فلانا، فأحثثت، فهو حثيث ومحثوث اه من «السمين». وفعله من باب رد كما في المختار». {مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ}؛ أي: مذللات لما يراد منها طلوع وغروب، ومسير ورجوع بأمره؛ أي: بتدبيره وتصرفه. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} الخلق: التقدير، والمراد هنا الإيجاد بقدر {تَبارَكَ اللَّهُ}؛ أي: تعاظمت بركاته وكثرت، والبركة: الخير الثابت الكثير، وهو فعل ماض جامد لا يتصرف؛ أي: لم يجئ منه مضارع ولا أمر، ولا اسم فاعل. {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} التضرع: التذلل؛ وهو إظهار ذل النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان وتضرع إذا أظهر الذل له في معرض السؤال، والخفية: ضد العلانية من أخفيت الشي؛ أي: سترته، والاعتداء: تجاوز الحد، ومحبة الله للعمل: إثابته عليه، ومحبته للعامل: رضاه عنه. {خَوْفًا وَطَمَعًا} أصل الخوف: انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل، والطمع: توقع محبوب يحصل في المستقبل. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ} والرياح (¬1): جمع ريح؛ وهي الهواء المتحرك، وأصل ريح روح، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع: الشمال والجنوب، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها، والصبا أو القبول؛ وهي الشرقية، وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن، والشمال إلى الشام، والدبور؛ وهي الغربية، والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية، فتكون بين اثنتين منها تسمى النكباء. قال الراغب: كل موضع ذكر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة. وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يجثو على ركبته حين هبوب الرياح، ويقول: «اللهم اجعلها لنا رياحا، ولا تجعلها ريحا، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا ¬

_ (¬1) المراغي.

بعذابك، وعافنا قبل ذلك». وعن ابن (¬1) عمر أنها ثمان؛ منها أربعة عذاب؛ وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم، ومنها أربعة رحمة؛ وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والنازعات. اه. {بُشْرًا} - بسكون الشين - مخفف بشرا بضمتين واحدها بشير بمعنى مبشرة، كغدر جمع غدير، نشرا بسكون الشين مع النون مخفف نشرا بضمتين، جمع نشور بمعنى منشورة غير مطوية، كرسول يجمع على رسل، والرحمة هنا المطر. {حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ}؛ أي: رفعت يقال: أقل (¬2) الشيء حمله ورفعه من غير مشقة، ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود، ومنه القلة؛ لأن البعير يحملها من غير مشقة، وأصله من القلة، فكأن المقل يرى ما يرفعه قليلا، واستقل به أقله. وفي «المصباح»: كل شيء حملته، فقد أقللته. والسحاب: الغيم، واحده سحابة، والسحاب (¬3) اسم جنس جمعي تصح مراعاة لفظه ومراعاة معناه، فالثاني في قوله: {ثِقالًا} والأول في قوله: {سُقْناهُ}، والثقال منه: المشبعة ببخار الماء و {سُقْناهُ} سيرناه، وقال أبو حيان: والسوق حمل الشيء بعنف. {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} وفي «المصباح»: البلد: يذكر ويؤنث، والجمع بلدان، والبلدة البلد، وجمعها بلاد مثل كلبة وكلاب. اه. وقال المراغي: والبلد (¬4) والبلدة الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وبلد ميت أرض لا نبات فيها ولا مرعى. وفي «القاموس»: والبلد والبلدة: مكة، وكل قطعة من الأرض متحيزة عامرة أو غير عامرة، والتراب والبلد القبر والمقبرة والدار والأثر الخ. اه. {مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} واحدها: ثمرة، والثمرة: واحدة الثمر، وهو الحمل ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات. (¬4) المراغي.

الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا، فيقال: ثمر الأراك وثمر النخل والعنب. {إِلَّا نَكِدًا} والنكد: كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر يقال: رجل نكد - بفتح الكاف وكسرها - وناقة نكداء خفيفة الدر صعبة الحلب. وفي «المصباح»: نكد نكدا - من باب تعب - فهو نكد تعسر، ونكد العيش نكدا اشتد وعسر. اه. وفي «القاموس»: نكد عيشهم - كفرح - اشتد وعسر، والبئر قل ماؤها، ونكد زيد حاجة عمرو - كنصر - منعه إياها، ونكد فلانا منعه ما سأله، أو لم يعطه إلا أوله اه. ونكد الرجل (¬1): سئل إلحافا وأخجل، قال الشاعر: وأعط ما أعطيته طيّبا ... لا خير في المنكود والنّاكد {كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} والتصريف: تبديل الشيء من حال إلى حال، ومنه تصريف الرياح. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المقابلة في قوله: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} لأنه قابل الجمع بالجمع، والقاعدة: أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا. ومنها: المشاكلة في قوله: {ما وَعَدَ رَبُّكُمْ} لأنه عبر عن الوعيد بالوعد لمشاكلة ما قبله. ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل، في قوله: {وَنادى} إشعارا بتحقق وقوعه؛ لأن النداء إنما يكون في الآخرة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}. وفيه أيضا الإبهام إفادة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

للتهويل والتعظيم. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {حَرَّمَهُما}؛ لأنه استعار التحريم للمنع لانقطاع التكليف حينئذ، وفي قوله: {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}؛ لأنه شبه البلد المجدب الذي لا نبات فيه بالجسد الذي لا روح فيه بجامع عدم الانتفاع في كل على طريق الاستعارة التصريحية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا} وفي «زاده»: فشبه (¬1) معاملته تعالى مع الكفار بمعاملة من نسي عبده من الخير، ولم يلتفت إليه وشبه عدم إخطارهم لقاء الله ببالهم، وعدم مبالاتهم به بحال من عرف شيئا ونسيه، وكثر مثل هذه الاستعارات في القرآن؛ لأن تعليم المعاني التي في عالم الغيب لا يمكن أن يعبر عنها إلا بما يماثلها من عالم الشهادة. اه. وفي قوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا}؛ لأنه شبه شغلهم بالدنيا بالطمع في طول العمر، وحسن العيش بغرور من يخدع في البيع مثلا، بجامع عدم الوصول إلى المقصود في الكل، وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}؛ لأنه شبه لحوق (¬2) وعيده لهم، وعدم فرارهم منه بانتظار الشيء وترقبه، فعبر عنه بالانتظار. ومنها: الالتفات في قوله: {سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}؛ لأنه التفت عن الغيبة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ} إلى التكلم في قوله: {فَسُقْناهُ}. ومنها: التتميم في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ ...} الخ؛ لأنه لما قال أولا: {فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} تمم هذا المعنى ببيان كيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والسبخة. ومنها: تخصيص خروج النبات الطيب بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} على سبيل ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

المدح والتشريف، وإن كان كل من النباتين يخرج بإذن الله تعالى. ومنها: الكناية في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ}؛ أي: بمشيئته؛ لأنه كناية عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه، لأنه أوقعه في مقابلة قوله: {وَالَّذِي خَبُثَ}. ومنها: الطباق بين قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى}؛ لأنه شبه قيام الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض، فذكرت الأداة، ولم يذكر وجه الشبه، وهو مطلق الإخراج من العدم. ومنها: إيجاز القصر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وهو جمع الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة، فالآية مع قلة ألفاظها جمعت معاني كثيرة استوعبت جميع الأشياء والشؤون على وجه الاستقصاء حتى قال ابن عمر: من بقي له شيء .. فليطلبه، وهذا الأسلوب البليغ يسمى إيجاز قصر. ومنها: الاكتفاء في قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} وهو حذف أحد المتقابلين لعلمه من الآخر؛ لأن فيه محذوفا تقديره: ويغشي النهار الليل، وذكره في آية أخرى، فقال: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَنادى} {وَنادى}، وفي قوله: {تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا}. ومنها: الاستفهام التوبيخي في مواضع. ومنها: الإنكاري في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {رُسُلُ رَبِّنا}.

ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. ومنها: القصر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}. المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ ...} الآيات، مناسبة (¬1) هذه الآية ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني، وهو آدم عليه السلام، وقص من أخباره ما قص، واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة، وأهل الشقاوة إلى النار، وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وكان من بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا غير مستجيبين له ولا مصدقين لما جاء به عن الله سبحانه وتعالى .. قص تعالى عليه أحوال الرسل الذين كانوا قبله، وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم، والتأسي بهم، فبدأ بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر، وأول رسول بعث إلى من في الأرض، وأمته أدوم تكذيبا له وأقل استجابة. وعبارة المراغي هنا: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) مبدأ الإنسان ومعاده، وأن مرده إلى الله في يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت .. أردف ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وإعراضهم عن دعوتهم؛ ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدء في قومك، بل سبق به أقوام كثيرون، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه من التنبيه إلى أن الله تعالى لا يهمل أمر المبطلين، بل يمهلهم، وتكون العاقبة للمتقين، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ}. وفي «الخازن»: واعلم أن (¬2) الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته، وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت .. أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن الإعراض عن قبول الحق من قومه فقط، بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية، والقرون الماضية، وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا، وفي الآخرة إلى العذاب العظيم، فمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم من قومه .. كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[59]

الأمم، وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يلق أحدا من علماء زمانه، فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد .. علم بذلك أنه إنما أتى به من عند الله عز وجل، وأنه أوحي إليه ذلك، فكان ذلك دليلا واضحا، وبرهانا قاطعا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم. انتهى. التفسير وأوجه القراءة 59 - واللام في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا} وبعثنا {نُوحًا إِلى} مشركي {قَوْمِهِ} واقعة في جواب قسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا نوح بن لمك - بفتح الميم وسكونها - بن متوشلخ ابن أخنوخ، وهو اسم إدريس عليهما السلام، واسم نوح عبد الغفار، ولقب بنوح؛ لكثرة نياحته؛ وإما لدعوته على قومه بالهلاك، أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. وتركت (¬1) الواو هنا وذكرت في سورة هود والمؤمنون؛ لعدم تقدم ما يعطف عليه هنا بخلاف ما يأتي، وإنما أتى بالقسم هنا للرد على المنكرين، وهو مما يجب التأكيد فيه، وقدم قصة نوح؛ لأن قومه أول من كفر، ولأنه أول رسول أرسله الله إلى قومه المشركين كما هو رأي كثير من المحققين كما ثبت في حديث الشفاعة وغيره. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أقسم للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه منذرا لهم بأسه، ومخوفهم سخطه على عبادتهم غيره، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحي إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شيء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى في بلاد العرب والشام {فَقالَ} نوح {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: وحدوه بالعبادة. وقوله: {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} في حكم العلة لقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: اعبدوا ¬

_ (¬1) الصاوي.

[60]

الله؛ لأنه ليس لكم إله غيره تتوجهون إليه في عبادتكم بدعاء تطلبون به ما تقدرون عليه، فربكم هو الخالق لكل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وهو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء وغيره. ثم ذكر السبب في الأمر بعبادته وحده، وترك أدنى شوائب الشرك مثبتا للبعث والجزاء، فقال: {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم شديد هوله، وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به من عبادة الله وحده، وترك ما سواه، قال أبو السعود: هذه الجملة تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، انتهى. قال أبو حيان: وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم. وقرأ (¬1) ابن وثاب والأعمش وأبو جعفر والكسائي: {غيره} - بالجر - على أنه بدل من لفظ إله، أو نعت له. وقرأ باقي السبعة بالرفع على أنه صفة لإله، أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء؛ لأن {مِنْ} زائدة، و {لَكُمْ} خبره. وقرأ عيسى بن عمر: {غيره} بالنصب على الاستثناء، والجر والرفع أفصح. 60 - {قالَ الْمَلَأُ}؛ أي: الأشراف والرؤساء والكبراء {مِنْ قَوْمِهِ} الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء {إِنَّا لَنَراكَ} يا نوح {فِي ضَلالٍ} وخطأ عن الحق {مُبِينٍ}؛ أي: بين واضح ظاهر بتركك ملة آبائك حيث نهيتنا عن عبادة آلهتنا ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم شفعاؤنا عند الله، ووسيلتنا إليه فببركتهم يتقبل منا صالح أعمالنا، ويعطينا سؤلنا لما كانوا من الصلاح والتقوى، ونحن لا نستطيع أن نوجه دعواتنا دون وساطتهم؛ لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم. وخلاصة مقالتهم: أنت في غمرة من الضلال أحاطت بك، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا، ولم يقل (¬2) هنا: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ كما قال في قوم هود فيما سيأتي؛ لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، بخلاف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

[61]

الملأ من قوم نوح، فكلهم أجمعوا على هذا الجواب، فلم يكن أحد منهم مؤمنا، فإن قيل: سيأتي في سورة هود تقييد قوم نوح بالذين كفروا، فالجواب: أن ما سيأتي في دعائهم إلى الإيمان في أثناء زمن رسالته، فكان فيهم من آمن ومن كفر، وأما ما هنا فهو في أول دعائه لهم. 61 - {قالَ} نوح عليه السلام مجيبا لهم: {يا قَوْمِ} ـي، ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ}؛ أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة {وَلكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}. والمعنى (¬1): قال نوح عليه السلام في الجواب لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد الله، وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا مني عن محجة الحق، وضلالا عن سبيل الرشاد، ولكني رسول من رب العالمين إليكم أهديكم باتباعي إلى ما يوصلكم إلى السعادة في دنياكم وآخرتكم، وأنقذكم من الهلاك الأبدي بالشرك بالله والمعاصي المدنسة للأنفس، والمفسدة للأرواح، ومن رحمة ربكم بكم أن لا يدعكم في عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السويّ الموصل إلى النجاة. وإنما (¬2) قال: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} ولم يقل: ليس بي ضلال؛ لأن نفيها أعم من نفي الضلال؛ لأن ضلالة دالة على واحدة غير معينة، ونفي فرد غير معين نفي عام بخلاف ضلال؛ فإنه مصدر يعم الواحد والتثنية والجمع، ونفيه لا يقتضي على سبيل القطع النفي العام، فكان قوله: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} أبلغ في نفي الضلال عن نفسه من قوله: ليس بي ضلال. ولكن جاءت هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال وهدى، والرسالة لا تجامع الضلال. وفي قوله: {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} تنبيه على أنه ربهم؛ لأنهم من جملة العالم؛ أي: من ربكم المالك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

[62]

لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة. وجملة قوله: 62 - {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي} في محل رفع على أنها صفة لـ {رَسُولٌ}، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول؛ أي: أرسلني إليكم لأبلغكم ما طلب إلي تبليغه إليكم من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، والوحي والرسالة، والملائكة، والجنة والنار، والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك. والرسالات: كل ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه، وجمعها (¬1) باعتبار ما أوحى إليه في الأزمان المتطاولة، أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي، والزجر والوعظ، والتبشير والإنذار، أو باعتبار ما أوحي إليه، وإلى من قبله. قيل: في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة، وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة. وقرأ أبو عمرو: {أبلغكم} هنا في الموضعين، وفي الأحقاف بالتخفيف من أبلغ من باب أفعل، وباقي السبعة بالتشديد، والهمزة والتضعيف للتعدية فيه. {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}؛ أي: أخلص لكم النصيحة بتحذيركم عقاب الله تعالى على كفركم به، وتكذيبكم لي، وردكم نصحي. روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». فتبليع (¬2) الرسالة هو يعرفهم أنواع تكاليف الله، وأقسام أوامره ونواهيه، والنصيحة هي: أن يرغبهم في الطاعات، ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}؛ أي: إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولكم؛ أي: وأعلم من جهته بالوحي ما لا تعلمون من الأمور الآتية، أو أعلم من شؤونه وبطشه الشديد ما لا تعلمون. وحاصل المعنى: أي وأنا (¬3) في هذا التبليغ وذلك النصح على علم من الله أوحاه إلي لا تعلمون منه شيئا، كما أني أعلم من الله وشؤونه ما لا تعلمون في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[63]

نظام هذا العالم وما ينتهي إليه، وكما أعلم ما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء، فإذا نصحت لكم، وأنذرتكم عاقبة شكركم من إنزال العذاب بكم في الدنيا إذا جحدتم وعاندتم .. فإنما أنصح لكم عن علم يقيني لا تعلمونه. قال ابن (¬1) عطية: وما أحسن سياق هذه الأفعال، قال أولا: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي}، وهذا مبدأ أمره معهم؛ وهو التبليغ كما قال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، ثم قال: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}؛ أي: أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده، ثم قال وأعلم من الله ما لا تعلمون من بطشه بكم، وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة، فنبه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم. انتهى. 63 - والهمزة في قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ} للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والواو عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف؛ أي: أكذبتم وعجبتم من {أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ}؛ أي: موعظة ووحي كائن {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: من مالك أموركم {عَلى} لسان {رَجُلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: من جنسكم تعرفونه، ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه، أو لا تعرفون لغته، فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام، ويقولون: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. وقوله: {لِيُنْذِرَكُمْ} علة للمجيء؛ أي: جاءكم ليحذركم، ويخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي. وقوله: {وَلِتَتَّقُوا} عبادة غير الله علة ثانية مرتبة على التي قبلها. وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: ولكي ترحموا بالتقوى، فلا تعذبوا علة ثالثة مرتبة على التي قبلها، وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة. وفائدة حرف الترجي هنا (¬2): التنبيه على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله تعالى، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه، ولا يأمن عذاب الله تعالى. والمعنى: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم، ليحذركم عاقبة كفرهم، ويعلمكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الكرخي.

[64]

بما أعد لكم من العذاب على ذلك، ولتتقوا بهذا الإنذار ما يسخط ربكم عليكم بالشرك في عبادته، والإفساد في أرضه، وليعدكم بالتقوى لرحمته التي ترجى لكل من أجاب الدعوة واتقى. وفي قوله (¬1): {عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ} بيان لشبهتهم على الرسالة، وهي أن الرسول بشر مثلهم، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك في البشرية والصفات العامة يقتضي التساوي في جميع الخصائص والمزايا، ويمنع الانفراد بشيء منها، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية، فالتفاوت في الغرائز والصفات الفاضلة، والاختلاف في القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية جد عظيم في البشر، وليس في الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان في ذلك إلى أنه لو فرض التساوي بينهم، فهل هذا يمنع أن يختص لله بعض عباده بما هو فوق المعهود في الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا، إنه تعالى قدير على ذلك، وقد قضت به مشيئته، ونفذت به قدرته. 64 - {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: فبعد ذلك كذبه جمهورهم، واستمروا على ذلك، وخالفوا أمر ربهم، ولجوا في طغيانهم يعمهون؛ أي: كذبوا نوحا في ادعاء النبوة، وتبليغ الأحكام من الله، وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة بعد ما كرر عليهم الدعوة مرارا، فلم يزدهم إلا فرارا حسبما نطق به قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (5) ...} الآيات. {فـ} أغرقناهم كما سيأتي آنفا، و {أنجيناه}؛ أي: أنجينا نوحا من الغرق. {وَ} أنجينا {الَّذِينَ} آمنوا وصحبوا {مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} من الغرق قيل: كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وقيل: كانوا تسعة، أبناؤه الثلاثة، وستة من غيرهم، وقيل: كانوا ثلاثة عشر، نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم، وستة ممن كانوا آمنوا به، وقد جاءت القصة مفصلة في سورة هود، وسيأتي فيها: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[65]

وروي (¬1): أن نوحا عليه السلام صنع السفينة بنفسه في عامين، وكان طولها ثلاث مئة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين، وجعل لها ثلاث طبقات، فحمل في أسفلها الدواب والوحوش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير، وركبها في عاشر رجب، ونزل منها في عاشر المحرم. {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؛ أي: برسولنا نوح، بالطوفان {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ} عن الحق غير مستبصرين به لما قام بهم من عمى البصيرة والقلب. أي (¬2): وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات، وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته على إرسال الرسل، وحكمته في ذلك، والثواب والعقاب في يوم الجزاء يوم يحشر الناس لرب العالمين، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من شدة العذاب حيارى. قال أبو حيان: وفي قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} إعلام بعلة الغرق؛ وهو التكذيب، وبآياتنا يقتضي أن نوحا عليه السلام كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله. ذكر قصة هود عليه السلام 65 - {وَ} لقد أرسلنا {إِلى عادٍ} الأولى؛ وهي قبيلة سميت باسم جدهم الأكبر، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام (¬3) {أَخاهُمْ} في النسب لا في الدين، وقوله: {هُودًا} عطف بيان من {أَخاهُمْ}، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن، والأحقاف: الرمل الذي عند عمان وحضر موت. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وكان بين هود ونوح ثمان مئة سنة (¬1)، وعاش هود أربع مئة سنة وأربعا وستين سنة. وإنما (¬2) صرح هنا وفيما سيأتي في صالح وشعيب بتعيين المرسل إليهم دون ما سبق في نوح وما سيأتي في لوط؛ لأن المرسل إليهم إذا كان لهم اسم قد اشتهروا به ذكروا به، وإلا فلا، وقد امتازت عاد وثمود ومدين بأسماء مشهورة. وإنما جعل رسول كل قوم منهم (¬3)؛ لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في اتباعه؛ لمعرفتهم شمائله وأخلاقه {قالَ} هود لهم {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: أفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ولا تجعلوا معه إلها غيره؛ لأنه {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: ليس لكم إله غيره تعالى يستحق العبادة منكم، لأنه هو الخالق لكم المدبر لأموركم. والحكمة في قوله هنا (¬4): {قالَ}: بدون الفاء، وفي قصة نوح: {فَقالَ} بالفاء أن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير متوان فيها على ما حكي عنه في سورة نوح من قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (5)} فناسبه التعقيب بالفاء، وأما هود فلم يكن كذلك، بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء، والهمزة في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتركتم التفكر في مصنوعات الله وما فعله بقوم نوح عليه السلام، فلا تتقون، ولا تخافون عقابه بعبادتكم غيره، واقترافكم الشرك والمعاصي، وهذا استبعاد وإنكار لعدم اتقائهم العذاب بعد ما علموا ما حل بقوم نوح. وإنما قال هنا (¬5): {أَفَلا تَتَّقُونَ} وفي سورة هود: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} لعله خاطبهم بكل منهما، وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر، كما لم يذكر هنا ما ذكر هناك من قوله: ¬

_ (¬1) التحبير للسيوطي. (¬2) أبو السعود. (¬3) البيضاوي. (¬4) الخازن. (¬5) الفتوحات.

[66]

{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من القصص. ذكره أبو السعود. ولما كانت هذه القصة معطوفة على قصة نوح، وقد علموا ما حل بهم من الغرق .. حسن قوله هنا: {أَفَلا تَتَّقُونَ} يعني: أفلا تخافون ما نزل بهم من العذاب، ولما لم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء .. حسن تخويفهم من العذاب، فقال هناك: {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. 66 - {قالَ الْمَلَأُ} والرؤساء {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: من قوم هود، وجحدوا توحيد الله، وأنكروا رسالة هود إليهم، وإنما وصف (¬1) الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح؛ لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان ممن يكتم إيمانه، بخلاف الملأ من قوم نوح، فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب، فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائه إياهم إلى الإيمان {إِنَّا لَنَراكَ} يا هود {فِي سَفاهَةٍ} وحماقة وجهالة وقلة عقل؛ أي: إنا لنتيقن كونك يا هود متمكنا ومتعمقا في سفاهة وخفة عقل عن الحق، والصواب حيث فارقت ديننا، وتركت عبادة آلهتنا الذي اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم، والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم، وإنما (¬2) أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: في ضلال مبين، وعن قوم هود أنهم قالوا له: في سفاهة، لأن نوحا لما خوف قومه بالطوفان، وشرع في عمل السفينة، فعند ذلك قالوا له: {إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} حتى تتعب نفسك في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء، وأما هود عليه السلام، فإنه لما نهاهم عن عبادة الأصنام التي سموها صمدا وصمودا، ونسب من عبدها إلى السفه، وهو قلة العقل .. قابلوه بمثل ما نسبهم إليه، فقالوا له: {إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ}. اه «خازن». {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ} يا هود {مِنَ الْكاذِبِينَ} في ادعائك أنك رسول من عند الله تعالى، وفي قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول؛ إذ هم قد عبروا عن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[67]

أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين، وجعلوه واحدا منهم. 67 - {قالَ} هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه: {يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ}؛ أي: ليس بي شيء مما تنسبونني إليه من السفه؛ أي: ليس الأمر كما تدعون من أن بي سفاهة {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أرسلني إليكم لأبلغكم رسالات ربي وأؤديها إليكم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل، وحصافة الرأي، وكمال الصدق، وإنما جمع الرسالة نظرا لاختلاف أوقاتها، ولتنوع معانيها، أو لأن المراد بها المرسل به؛ وهو يتعدد. ذكره أبو السعود. 68 - ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ، فقال: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي}؛ أي: أؤدي إليكم ما أرسلني به ربي إليكم من أوامره ونواهيه، وشرائعه وتكاليفه {وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ} فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل، وترك عبادة ما سواه أَمِينٌ؛ أي: موثوق فيما أبلغه عن ربي، فلا أكذب عليه في وحيه إلي، والأمين الثقة على ما ائتمن عليه. وهذا رد لقولهم (¬1): {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} فكأن هودا قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا، واعترفتم لي بكوني أمينا، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟ وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها، وإنما أتى هود (¬2) بالجملة الاسمية في قوله: {وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ}؛ ونوح بالفعلية حيث قال: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}؛ لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، وكان نوح عليه السلام يكرر في دعائهم ليلا ونهارا من غير تراخ، فناسب التعبير بالفعل، وأما هود فلم يكن كذلك، بل كان يدعوهم وقتا دون وقت، فلذا عبر بالاسمية. وفي إجابة (¬3) هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة أدب حسن، وخلق ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[69]

عظيم، وتعليم لعباده كيف يقابلون السفهاء، وكيف يغضون عن قالة السوء التي تصدر عنهم. 69 - والهمزة في قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، كما مر نظيره آنفا تقديره: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة وبيان من ربكم وخالقكم {عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: على لسان رجل من جنسكم ونسبكم {لِيُنْذِرَكُمْ} ويخوفكم من عقاب ربكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة {وَاذْكُرُوا} فضل الله عليكم ونعمته لكم {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ} في الأرض {مِنْ بَعْدِ} إغراق {قَوْمِ نُوحٍ} وجعلكم ورثتهم {وَزادَكُمْ} على غيركم {فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً}؛ أي: زادكم سعة في الأبدان والقوى على ما أعطاه لغيركم، وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان قيل: كان طول الطويل منهم خمسمئة ذراع، وطول القصير ثلاثمئة ذراع بذراع نفسه، وكان رأس الواحد منهم قدر القبة العظيمة، وكانت عينه بعد موته تفرخ فيها الضباع {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} هذا تعميم بعد تخصيص كما في «البيضاوي»؛ أي: فاذكروا نعم الله وفضله عليكم، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأصنام {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تنجوا من العذاب، وتفوزوا بما أعده الله سبحانه وتعالى للشاكرين لنعمه الراجين للمزيد منها، وتدركون الخلود والبقاء، والنعيم الأبدي في دار القرار. 70 - ثم ذكر ما ردوا به عليه، فقال: {قالُوا}؛ أي: قال قوم هود مجيبين له عن تلك النصائح العظيمة: {أَجِئْتَنا} يا هود {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}؛ أي: لأجل أن نخص الله سبحانه وتعالى بالعبادة وحده {وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا}؛ أي: ونترك ما كان يعبد أباؤنا معه من الأولياء والشفعاء، وهم الوسيلة عنده، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى، وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم؟ وبعد أن استنكروا التوحيد، واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد .. اقترحوا الوعيد، فقالوا: {فَأْتِنا}؛ أي:

[71]

فجئنا يا هود {بِما تَعِدُنا}؛ أي: بما تهددنا به من العذاب على ترك الإيمان بك، وترك العمل بما جئت به من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في إخبارك بنزول العذاب، وغرضهم بهذا القول أنه إذا لم يأتهم هود بذلك العذاب ظهر لهم كونه كاذبا، وهذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به لشدة تمردهم على الله، ونكوصهم عن طريق الحق، وبعدهم عن ابتاع الصواب. 71 - فأجابهم هود على مقالتهم بقوله: {قالَ} هود لقومه: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ}؛ أي: عذاب {وَغَضَبٌ}؛ أي: سخط منه؛ أي: قد قضى عليكم ربكم ومالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض، ثم ترميهم صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر، أي: قد قلع من منابته وزال من أماكنه، وفي هذه الجملة جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيها على تحقق وقوعه. ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة، فقال: {أَتُجادِلُونَنِي} والهمزة فيه للإنكار والاستقباح لإنكارهم مجيئه داعيا لهم إلى عبادة الله، وترك عبادة الأصنام؛ أي: أتخاصمونني {فِي أَسْماءٍ} عارية عن المسمى؛ إذ ليس فيها من معنى الألوهية شيء {سَمَّيْتُمُوها}؛ أي: سميتم بها {أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ} أصناما، وكانت ثلاثة سموا أحدها صمودا، والأخرى صمدا، والثالثة هبا، فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع أن معنى الألوهية فيها معدوم؛ أي: وضعتموها أنتم وأباؤكم الذي قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم، ولا منهم لمسميات اتخذوها، فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى، وتشفع عنده لكم {ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها}؛ أي: ما أنزل بعبادتها {مِنْ سُلْطانٍ}؛ أي: من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضي أن تكون واسطة بينه وبينكم؛ لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأن الأصنام لو استحقت العبادة .. كان استحقاقها بجعله تعالى؛ إما بإنزال آية، أو نصب دليل، فقوله تعالى: {ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة. والخلاصة: (¬1) أنه هو الذي يتوجه إليه وحده، ولا يشرك معه أحد من خلقه ¬

_ (¬1) المراغي.

[72]

كما قال إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكل ما يتعلق بعبادة الله لا يعلم إلا بوحي منه ينزله على رسله إذ لا يعلم إلا من عباده المبلغين عنه. {فَانْتَظِرُوا} ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام، وهو نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لنزوله بكم، وفصل قضائه فينا وفيكم، وإنني لموقن بذلك وأنتم مرتابون. 72 - {فـ} لما جاء أمرنا، ووقع ما وقع {أنجيناه والذين معه}؛ أي: أنجينا هودا والذين آمنوا معه {بِرَحْمَةٍ} عظيمة كائنة {مِنَّا} لهم {وَقَطَعْنا}؛ أي: استأصلنا {دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؛ أي: آخرهم مع أولهم {وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ}؛ أي: ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون، فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم. والمعنى: فلما جاء أمرنا، ووقع ما وقع أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد الله، وهجر الأوثان، وكانوا شرذمة قليلة يكتمون إيمانهم برحمة عظيمة من جهتنا بأن جعلوا في حظيرة ما يصل إليهم من الريح إلا ما يلين عليهم جلودهم وتلتذ به أنفسهم. وبعد ذلك (¬1) أتوا مكة مع هود، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا، واستأصلنا دابر الدين جحدوا بآياتنا، ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ} وكانت باردة ذات صوت شديد، ولا مطر فيها، وكان وقت مجيئها في عجز الشتاء، وابتدأتهم صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال، وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكت رجالهم ونساءهم وأولادهم وأموالهم بأن رفعت ذلك في الجو فمزقته. وفي «الخازن»: قال السدي: بعث الله عز وجل الريح العقيم، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها، وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح، فقلعت أبوابهم، ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكتهم أرسل الله عليهم ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[73]

طيرا أسود، فنقلتهم إلى البحر، فألقتهم فيه. وقيل: إن الله تعالى أمر الريح، فأهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الريح، فكشفت عنهم الرمل، ثم احتملتهم، فرمت بهم في البحر. اه. 73 - {وَ} لقد أرسلنا {إِلى ثَمُودَ} اسم قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر، وهو ثمود بن عامر بن سام بن نوح، وتسمى عادا الثانية {أَخاهُمْ} في النسب {صالِحًا}؛ لأنه صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن المذكور، فهو من فروعه، فليس من أنبياء بني إسرائيل، وكان بين صالح وهود مئة سنة، وعاش صالح مئتين وثمانين سنة. وكانت (¬1) مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، والمعنى: وأرسلنا إلى بني ثمود أخاهم صالحا؛ لأن ثمود قبيلة. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد: الماء القليل. {قالَ} صالح لثمود: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: أفردوا الله بالعبادة وحده {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: فليس لكم إله غيره تعالى يستحق منكم العبادة {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} ظاهرة ومعجزة واضحة كائنة {مِنْ رَبِّكُمْ} تدل على صدقي فيما أقول لكم، وأدعوكم إليه من توحيد الله سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد. وفي قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} إيماء إلى أنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه، وهكذا سائر ما يؤيد الله به الرسل من خوارق العادات، وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم الله، وتكذيبهم له كما جاء في سورة هود: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ...} إلى آخر الآيات، وجملة قوله: {هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ} حالة كونها {لَكُمْ آيَةً} على صدقي مشتملة على بيان البينة المذكورة أولا، وانتصاب {آيَةً} على الحال، والعامل فيها معنى الإشارة، وفي ¬

_ (¬1) الخازن.

إضافة {ناقَةُ} إلى {اللَّهَ} تعالى تشريف لها وتكريم كما يقال: بيت الله وروح الله. ووجه كونها معجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل، وكونها لا من ذكر ولا من أنثى، وكان خلقها من غير حمل ولا تدريج؛ لأنه خلقت في ساعة، وخرجت من الصخرة، وقيل: لأنها كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم، وهذه من المعجزة أيضا؛ لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة، وكانوا يحلبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم، ويقوم لهم مقام الماء، وهذا أيضا معجزة. وقيل: إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم نوبتها، وتشرب في يوم نوبة ثمود، وهذا أيضا معجزة، وإنما أضافها إلى الله؛ لأن الله تعالى خلقها من غير واسطة ذكر وأنثى. وقيل: لأنها لم يملكها أحد إلا الله تعالى. وقيل: لأنها كانت حجة الله على قوم صالح، وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة؛ لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته، وصحة نبوته. ثم ذكر ما يترتب على كونها آية من أنه لا ينبغي التعرض لها، فقال: {فَذَرُوها}؛ أي: فاتركوها حالة كونها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}؛ أي: في الحجر؛ أي: إن الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله، فاتركوها تأكل ما تأكل في أرض ربها، وليس لكم أن تحولوا بينها وبين أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، وكانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون. وقرأ أبو جعفر في رواية: {تأكل} - بالرفع - وهو في محل حال حينئذ. {وَلا تَمَسُّوها}؛ أي: ولا تقربوها {بِسُوءٍ}؛ أي: بضرر من عقر وضرب مثلا؛ أي: لا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى، ولا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوؤها وتضرها في نفسها، ولا في أكلها إكراما لآية الله تعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} بسبب أذاها؛ أي: فإنكم

[74]

إن فعلتم ذلك أخذكم عذاب أليم؛ أي: إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم، أي: شديد الألم. وقد وصف العذاب في سورة هود بالقريب، وهو يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بالسوء، وكذلك كان، وجاء في سورة القمر: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} وجاء تفسير هذا في سورة الشعراء: {هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}؛ أي: إن الماء الذي كانوا يشربون منه قسمة بينهم وبين الناقة؛ إذ كان ماء قليلا، فكانوا يشربونه يوما وتشرب هي يوما، وقد روي عن ابن عباس: أنهم كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها. 74 - ثم ذكرهم بنعم الله عليهم، وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده، فقال: {وَاذْكُرُوا}؛ أي: وتذكروا يا قومي نعم الله عليكم، وإحسانه إليكم {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ}؛ أي: جعلكم خلفاء في الأرض عن عاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أنزلكم وأسكنكم منازلهم في الأرض حالة كونكم {تَتَّخِذُونَ}؛ أي: تعملون وتصنعون {مِنْ سُهُولِها}؛ أي: من سهول الأرض - جمع سهل - والسهل من الأرض: اللين، وهو غير الجبل؛ أي: تصنعون وتأخذون من سهول الأرض وترابها {قُصُورًا}؛ أي: مادة قصور كالطين واللبن والآجر، والمعنى: تتخذون من سهولها قصورا زاهية ودورا عالية بما ألهمكم الله من حذق في الصناعة، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا - الطوب المحرق - وتستعملون الجص، وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة {وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا}؛ أي: تنقبون من الجبال بيوتا؛ إذ علمكم صناعة النحت، وآتاكم القوة والجلد. روي أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول في باقي الفصول للزراعة والعمل. وقال الشوكاني: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا}؛ أي: تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتا تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال، فيتخذون فيها كهوفا يسكنون فيها؛ لأن الأبنية والسقوف لطول أعمارهم كانت تفنى قبل فناء أعمارهم. اه.

والخلاصة: تبنون قصورا عالية، وبيوتا رفيعة للصيف بما تعملون من سهول الأرض من الطين واللبن والآجر والجبس، وتنقبون في الجبال بيوتا للشتاء، وذلك لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية تتهدم قبل انقضاء أعمارهم، فكان عمر واحد منهم ثلاث مئة سنة إلى ألف سنة كقوم هود. قال (¬1) وهب: كان الرجل يبني البنيان، فتمر عليه مئة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مئة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مئة سنة، فيخرب، فأضجرهم ذلك، فاتخذوا الجبال بيوتا. وسميت القصور قصورا؛ لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها. {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ}؛ أي: تذكروا نعم الله تعالى عليكم بالشكر عليها، فإنكم متنعمون مترفون {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قال قتادة (¬2): معناه ولا تسيروا في الأرض مفسدين ومكثرين فيها الفساد، والعثو: أشد الفساد. وقيل: أراد به عقر الناقة، وقيل: هو على ظاهره، فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد، والمعنى على هذا: ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد، والمعنى: وتذكروا هذه النعم العظام، واشكروها له بتوحيده، وإفراده بالعبادة، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضي الله الذي خلقها لكم بالكفر، والعثي في الأرض بالفساد. وقرأ الحسن (¬3): {وتنحَتون} - بفتح الحاء - وزاد الزمخشري أنه قرأ: {وتنحاتون} - بإشباع الفتحة -. وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء. وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء، ومن قرأ بالياء فهو التفات، وقرأ الأعمش: {تِعثوا} - بكسر التاء - لقولهم: أنت تعلم وهي لغة. قصة الناقة وروي: أن هذه الناقة هي آية مقترحة لقوم صالح لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك، وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

لنا اتبعتنا. قال صالح: نعم. فخرج معهم، فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة، فلم تجبهم، ثم قال سيدهم - جندع بن عمرو بن جواس، وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها: الكاثبة - أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء، والمخترجة: ما شاكلت البخت من الإبل، فأخذ صالح عليه السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا: نعم. فصلى ركعتين، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت، فانصدعت عن ناقة كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظما، وهم ينظرون، ثم نتجت سقبا مثلها في العظم، فآمن به جندع ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبا أوثانهم، وريان ابن كاهنهم، وكانوا من أشراف ثمود، وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب. قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود، فذرعت صدر الناقة، فوجدته ستين ذراعا. الإعراب {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة للقسم المحذوف. {قد}: حرف تحقيق {أَرْسَلْنا نُوحًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {إِلى قَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَرْسَلْنا}. فَقالَ: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {قال}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نوح}، والجملة معطوفة مفرعة على جملة {أَرْسَلْنا}. {يا قَوْمِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، {قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {ما} نافية. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ} زائدة. {يَشْكُرُونَ}: مبتدأ مؤخر. {إِلهٍ}: صفة لـ {إِلهٍ} تابع لمحله، والتقدير: ما

إله غير الله كائن لكم، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها مسوقة لتعليل العبادة، أو للأمر بها كما في «أبي السعود» إِنِّي: {إن}: حرف نصب، و {الياء}: اسمها. {أَخافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {نوح}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَخافُ}. {عَذابَ يَوْمٍ}: مفعول به ومضاف إليه. {عَظِيمٍ} صفة لـ {الله}، وجملة {أَخافُ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال} معللة للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها. ذكره «أبو السعود». {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60)}. {قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {الْمَلَأُ}. {إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّا}: {إن}: حرف نصب. {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {لَنَراكَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {نراك}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. {فِي ضَلالٍ}: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولا ثانيا لـ {رأى}؛ لأن {رأى} هنا من أفعال القلوب. {مُبِينٍ}: صفة {ضَلالٍ}، وجملة {رأى}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}. {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)}. {قالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نوح}، والجملة مستأنفة. {يا قَوْمِ} إلى قوله: {فَكَذَّبُوهُ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء. {قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {بِي}: جار ومجرور خبر لـ {لَيْسَ} مقدم على اسمها. {ضَلالَةٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {لَيْسَ} في محل النصب مقول على كونها جواب النداء. {وَلكِنِّي}: {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: اسمها. {رَسُولٌ}: خبرها. {مِنْ رَبِ

الْعالَمِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {رَسُولٌ}، وجملة {لكن} في محل النصب مقول {قالَ} على كونها استدراكا على ما قبلها. {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)}. {أُبَلِّغُكُمْ}: فعل ومفعول أول. {رِسالاتِ رَبِّي}: مفعول ثان ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {نوح}. {وَأَنْصَحُ} فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره آنا يعود على نوح {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أُبَلِّغُكُمْ}. {وَأَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة {أُبَلِّغُكُمْ}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}، أو حال من {ما} الموصولة المذكورة بعده، أو من عائده المحذوف؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، فيتعدى إلى مفعول واحد. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول علم. {لا تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. {أَوَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، {عَجِبْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول {قالَ}. {أَنْ}: مصدرية. {جاءَكُمْ}: فعل ومفعول في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية. {ذِكْرٌ}: فاعل لـ {جاء}. {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {ذِكْرٌ}، أو متعلق بـ {جاء}، وجملة {جاء} في تأويل مصدر منصوب بـ {عَجِبْتُمْ} تقديره: أو عجبتم مجيء ذكر من ربكم. {عَلى رَجُلٍ}: جار ومجرور إما متعلق بـ {جاء}؛ لأنه بمعنى نزل، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله؛ أي: ذكر كائن من ربكم حال كونه نازلا على رجل منكم. {منكم}: جار ومجرور صفة لـ {رَجُلٍ}. {لِيُنْذِرَكُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {ينذركم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي،

وفاعله ضمير يعود على {رَجُلٍ}، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام كي، الجار والمجرور متعلق بـ {جاء}، والتقدير: أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لإنذاره إياكم. {وَلِتَتَّقُوا}: {الواو}: عاطفة. {لِتَتَّقُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولاتقاءكم عذاب الله، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله على كونه متعلقا بـ {جاء}. {وَلَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تُرْحَمُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل الجر بلام التعليل المقدرة معطوفة على جملة {لِيُنْذِرَكُمْ}؛ لأنها علة ثالثة؛ أي: جاءكم لإنذاركم، ولاتقائكم عذاب الله، ولرجائكم رحمة الله تعالى. {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}. {فَكَذَّبُوهُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم نوح وما قالوا له، وأردت بيان عاقبة أمره وأمرهم .. فأقول لك:} كذبوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَأَنْجَيْناهُ}: {الفاء}: عاطفة، {أنجيناه}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كذبوه}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على الضمير في {أنجيناه}. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. {فِي الْفُلْكِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنجيناه}، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله. {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أنجيناه}. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِآياتِنا}: متعلق بـ {كذّبوا}. {إِنَّهُمْ}: {إن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {قَوْمًا}: خبرها. {عَمِينَ}: صفة لـ {قَوْمًا} منصوب بالياء، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أعني: أغرقنا. {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}.

{وَإِلى عادٍ}: {الواو}: عاطفة. {إِلى عادٍ}: جار ومجرور معطوف على قوله: {إلى نوح} على كونه متعلقا بـ {أَرْسَلْنا}. {أَخاهُمْ}: مفعول {أَرْسَلْنا}. {هُودًا}: بدل من {أَخاهُمْ}، أو عطف بيان له. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {هود}، والجملة مستأنفة. {يا قَوْمِ} إلى قوله: {قالَ الْمَلَأُ} محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {ما}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ إِلهٍ}: مبتدأ مؤخر. {غَيْرُهُ} صفة لـ {إِلهٍ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {أَفَلا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري الاستبعادي داخلة على محذوف. {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف. {لا}: نافية. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، والتقدير: أتعرضون فلا تتقون الله. {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)}. {قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْمَلَأُ}. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {مِنْ قَوْمِهِ}: جار ومجرور حال من واو {كَفَرُوا}. {إِنَّا لَنَراكَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّا} {إن}: حرف نصب، و {نا}: ضمير المتكلمين اسمها. {لَنَراكَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {نراك}: فعل ومفعول أول. {فِي سَفاهَةٍ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني؛ لأن {رأى} هنا قلبية، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، وجملة {رأى} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَنَظُنُّكَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {نظنك}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. {مِنَ الْكاذِبِينَ}: في محل المفعول الثاني، وجملة {نظنك} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى. {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67)}.

{قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة. {يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ} إلى قوله: {قالُوا أَجِئْتَنا}: مقول محكي، وإن شئت قلت {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {لَيْسَ}: فعل ناقص. {بِي}: خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {سَفاهَةٌ}: اسم ليس مؤخر، وجملة {لَيْسَ} في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء. {وَلكِنِّي}: ناصب واسمها. {رَسُولٌ}: خبر {لكن}. {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}: صفة لـ {رَسُولٌ}، وجملة {لكن} استدراكية في محل النصب معطوفة على جملة {لَيْسَ}. {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)}. {أُبَلِّغُكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على هود. {رِسالاتِ رَبِّي}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير رسالته وتفصيل أحكامه، وقيل: صفة أخرى لـ {رَسُولٌ}، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم، فقال: {أُبَلِّغُكُمْ}، ولو راعى الاسم الظاهر بعده لقال: يبلغكم، والاستعمالان جائزان في كل اسم ظاهر سبقه ضمير حاضر من متكلم أو مخاطب، فيجوز لك وجهان: مراعاة الضمير السابق وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظاهر، فتقول: أنا رجل أفعل كذا مراعاة لأنا، وإن شئت قلت: أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجل، ومثله: أنت رجل تفعل ويفعل بالخطاب والغيبة اه «سمين». {وَأَنَا}: مبتدأ. {لَكُمْ}: متعلق بـ {ناصِحٌ}. {ناصِحٌ}: خبر المبتدأ. {أَمِينٌ}: صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {أُبَلِّغُكُمْ}. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ}. {أَوَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، {عَجِبْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالَ}. {أَنْ}: مصدرية. {جاءَكُمْ}: فعل ومفعول في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية. {ذِكْرٌ}: فاعل {جاء}. {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {ذِكْرٌ}، وجملة

{جاء} في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعول {جاء} تقديره: أو عجبتم مجيء ذكر من ربكم، أو مجرور بمن المحذوفة تقديره: أو عجبتم من مجيء ذكر من ربكم. {عَلى رَجُلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جاء}. {مِنْكُمْ}: صفة {رَجُلٍ}. {لِيُنْذِرَكُمْ}: {اللام} لام كي، {ينذركم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {رَجُلٍ}، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإنذاره إياكم، الجار والمجرور متعلق بـ {جاء}. {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَاذْكُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {اذْكُرُوا}. {جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ}: فعل ومفعولان، وفاعلة ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {خُلَفاءَ}. {وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {جَعَلَكُمْ} على كونها مضافا إليه لـ {إِذْ}. {فَاذْكُرُوا} {الفاء}: عاطفة، {اذكروا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اذكروا} الأول للتأكيد. {آلاءَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه. {تُفْلِحُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَجِئْتَنا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {أَجِئْتَنا}: {الهمزة}: فيه للاستفهام الإنكاري، {جِئْتَنا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {لِنَعْبُدَ اللَّهَ} {اللام} لام كي، {نعبد الله}: فعل ومفعول منصوب

بأن مضمرة، وفاعله ضمير المتكلمين. {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: أجئتنا لأجل عبادتنا الله وحده، الجار والمجرور متعلق بـ {جاء}. {وَنَذَرَ}: معطوف على {نعبد} منصوب بأن مضمرة. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {نَذَرَ}. {كانَ}: زائدة لزيادتها بين الموصول وصلته، أو الموصوف وصفته، أو شأنية. {يَعْبُدُ آباؤُنا}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كان يعبده آباؤنا. {فَأْتِنا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إنكارنا عليك، وأردت بيان غاية قولنا لك .. فنقول لك أتنا، {أتنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {هود}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالُوا}. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {أتنا}. {تَعِدُنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعدناه. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتَ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية. {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر {كان}، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف دل عليه ما قبله تقديره: إن كنت من الصادقين .. فأتنا بما تعدنا، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}. {قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {هود}، والجملة مستأنفة. {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {قَدْ}: حرف تحقيق. {وَقَعَ}: فعل ماض. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَقَعَ} أيضا، أو حال من {رِجْسٌ وَغَضَبٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {رِجْسٌ}: فاعل {وَقَعَ}. {وَغَضَبٌ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ}. {أَتُجادِلُونَنِي}: {الهمزة}: فيه للاستفهام

الإنكاري الاستقباحي. {تُجادِلُونَنِي}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {فِي أَسْماءٍ}: جار ومجرور متعلق به. {سَمَّيْتُمُوها}: فعل وفاعل، ومفعول ثان، والمفعول الأول محذوف تقديره: أصناما؛ أي: سميتم الأصنام بها، والجملة في محل الجر صفة أولى لـ {أَسْماءٍ}. {أَنْتُمْ}: تأكيد لضمير الفاعل ليصح العطف عليه. {وَآباؤُكُمْ}: معطوف على ضمير الفاعل. {ما}: نافية. {نَزَّلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {بِها}: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ {أَسْماءٍ}. {مِنْ}: زائدة. {سُلْطانٍ}: مفعول به لـ {نَزَّلَ}. {فَانْتَظِرُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {انتظروا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة قوله: {قَدْ وَقَعَ} على كونها مقولا لـ {قالَ}. {إِنِّي}: {إن}: حرف نصب، و {الياء}: اسمها. {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {الْمُنْتَظِرِينَ}. {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: جار ومجرور خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}. {فَأَنْجَيْناهُ} {الفاء}: فاء الفصيحة كما في «أبي السعود»؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوا لهود وما قال هود لهم، وأردت بيان عاقبة الفريقين .. فأقول لك: أنجيناه، {أنجيناه}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على هاء {أنجيناه}. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. {بِرَحْمَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنجينا}. {مِنَّا}: جار ومجرور صفة لـ {رحمة}. {وَقَطَعْنا}: فعل وفاعل معطوف على {أنجينا} على كونه مقولا لجواب إذا المقدرة. {دابِرَ الَّذِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {بِآياتِنا}: جار ومجرور متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {مُؤْمِنِينَ}: خبره، وجملة {كانُوا}

معطوفة على جملة {كَذَّبُوا} على كونها صلة الموصول، وهو عطف علة على معلول، أو عطف توكيدا. كما في «الفتوحات». {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)}. {وَإِلى ثَمُودَ}: جار ومجرور معطوف على قوله: {إِلى عادٍ} وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى القبيلة، فإن لم يرد به القبيلة، بل أريد به الحي .. صرف لكنه لم يقرأ بالصرف هنا إلا شذوذا، ذكره في «الفتوحات». {أَخاهُمْ}: مفعول أرسلنا. {صالِحًا} بدل منه، أو عطف بيان له. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {صالح}، والجملة مستأنفة، أو حال من {صالِحًا}. {اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}: إلى قوله: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء. {ما}: نافية. {لَكُمْ} خبر مقدم. {مِنْ إِلهٍ}: مبتدأ مؤخر. {غَيْرُهُ}: صفة لـ {إِلهٍ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} على كونها معللة للعبادة. {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل. {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {بَيِّنَةٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} على كونها علة بعد علة. {هذِهِ}: مبتدأ. {ناقَةُ اللَّهِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ} على كونها مستأنفة مسوقة لبيان البينة، ويصح أن تكون الجملة في محل الرفع بدلا من {بَيِّنَةٌ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر ثان لاسم الاشارة، أو حال من {ناقَةُ اللَّهِ}، أو معمول لمحذوف تقديره: أعني لكم. {آيَةً}: حال من {ناقَةُ اللَّهِ}، والعامل فيها: إما معنى التنبيه، وإما معنى الإشارة، كأنه قال: أنبهكم عليها، أو أشير إليها في هذه الحال. {فَذَرُوها} {الفاء}: تفريعية لكون ما قبلها علة لما بعدها؛ أي: ذروها لكونها آية من آيات الله، {ذروها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل

النصب مقول {قالَ}. {تَأْكُلْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الناقة، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {فِي أَرْضِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَأْكُلْ}. {وَلا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَمَسُّوها}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية. {بِسُوءٍ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {ذروها} على كونها مقولا لـ {قالَ} {فَيَأْخُذَكُمْ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {يأخذكم}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. {عَذابٌ} فاعل. {أَلِيمٌ}: صفة له، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن مسكم إياها بسوء فأخذ عذاب أليم إياكم. {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. {وَاذْكُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {إِذْ} ظرف لما مضى متعلق بـ {اذْكُرُوا}. {جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {مِنْ بَعْدِ عادٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جعل}، أو صفة لـ {خُلَفاءَ}. {وَبَوَّأَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {جَعَلَكُمْ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {بَوَّأَكُمْ}. {تَتَّخِذُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين في {بَوَّأَكُمْ}. {مِنْ سُهُولِها}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَتَّخِذُونَ}، أو حال من {قُصُورًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {قُصُورًا}: مفعول به لـ {تَتَّخِذُونَ} على احتمال كون اتخذ متعديا لواحد، ويجوز أن يكون متعديا لاثنين ثانيهما: {مِنْ سُهُولِها}. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {تَتَّخِذُونَ} وهذا على تضمين نحت معنى ما يتعدى إلى مفعولين؛ أي: وتتخذون الجبال بيوتا بالنحت، ويجوز أن ينصب {الْجِبالَ}: بنزع الخافض، و {بُيُوتًا}: مفعولا به، ويجوز أن يكون

{الْجِبالَ}: مفعولا به، {بُيُوتًا}: حالا مقدرة منه، ولكن بتأويلها بمشتق؛ أي: مسكونة. {فَاذْكُرُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح اللازم لكم .. فأقول لكم: {اذكروا آلاء الله}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَلا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَعْثَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {مُفْسِدِينَ}: حال من واو {تَعْثَوْا} مؤكدة لعاملها؛ لأن العثو بمعنى الفساد. التصريف ومفردات اللغة {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ} في «المصباح»: قوم الرجل: أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد، وقد يقيم الرجل بين الأجانب، فيسميهم قومه مجازا للمجاورة. وفي «التنزيل»: {قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} قيل: كان مقيما بينهم، ولم يكن منهم، وقيل: كانوا قومه. اه. {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} واليوم هنا: يوم القيامة. {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} وفي «المصباح» أيضا: الملأ - مهموزا -: أشراف القوم سموا بذلك لملأتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي، أو لأنهم يملؤون العيون أبهة والصدور هيبة، والجمع أملاء مثل سبب وأسباب اه. وفي «أبي السعود»: الملأ: الذين يملؤون صدور المحافل بأجسادهم، والقلوب بجلالتهم وهيبتهم، والعيون بجمالهم وأبهتهم اه. {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وفي «المصباح»: ضل الرجل الطريق وضل عنه يضل - من باب ضرب - ضلالا وضلالة إذا زل عنه، فلم يهتد إليه، فهو ضال هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي} وفي لغة لأهل العالية من باب تعب، والأصل في الضلال الغيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة - بالهاء - للمذكر والمؤنث، والجمع الضوال مثل: دابة ودواب اه.

{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} يقال (¬1): نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له، والنصح: إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه. وقيل: النصح: تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير. وقيل: حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر. والمعنى: أنه قال: أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه، وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم، وأدعوكم إلى ما دعاني إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي. قال بعضهم: والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه، وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها عليهم، وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات، ويحذرهم عذابه إن عصوه. {ذِكْرٌ} والذكر: الموعظة. {عَلى رَجُلٍ}؛ أي: على لسانه {مِنْكُمْ}؛ أي: من جنسكم {فِي الْفُلْكِ} وفي «المختار»: الفلك السفينة واحد وجمع تذكر وتؤنث قال تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فأفرد وذكر، وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ} فأنث، ويحتمل الإفراد والجمع، وقال: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع وكأنه يذهب (¬2) بها إذا كانت واحدة إلى المركب فتذكر، وإلى السفينة فتؤنث. اه. {عَمِينَ} عن فهم الحق (¬3) جمع عم صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع، فأصله عميين بيائين: الأولى مكسورة، والثانية ساكنة حذفت الأولى تخفيفا على حد قول ابن مالك: واحذف من المقصور في جمع على ... حدّ المثنّى ما به تكمّلا وفي «السمين» ويقال: عم إذا كان أعمى البصير غير عارف بأموره، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) أي فكأنه يلاحظ فيها معنى المركب فتذكر، أو معنى السفينة فتؤنث اه مؤلفه. (¬3) الفتوحات.

وأعمى؛ أي: في البصرة وهذا قول الليث. كما قال زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنّني عن علم ما في غد عمي وقيل: عم وأعمى بمعنى كخضر وأخضر. وقال بعضهم: عم فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق، ولو أريد الحدوث .. لقيل عام كما يقال: فارح وضائق. وقد قرىء: قوما عامين حكاها الزمخشري. اه. {أَخاهُمْ هُودًا} الأخ هنا: هو الأخ في النسب، وتقول العرب في أخوة الجنس: يا أخا العرب. {فِي سَفاهَةٍ} والسفاهة: خفة العقل والحمق. {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} والآلاء (¬1): جمع إلي - بكسر الهمزة وسكون اللام - كحمل وأحمال، أو جمع ألي - بضم الهمزة وسكون اللام - كقفل وأقفال، أو جمع إلى - بكسر الهمزة وفتح اللام - كضلع وأضلاع وعنب وأعناب، أو جمع ألى - بفتحهما - كقفا وأقفاء اه «سمين». والإلى على جميع أوجهها النعمة، وأما إلى الذي هو من حروف الجر .. فلا يجمع؛ لأنها حرف، والحرف لا يجمع. {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} هو (¬2) مصدر محذوف الزوائد، وأصل هذا المصدر: الإيجاد من قولك: أوجدته إيجادا إذا أفردته، فحذفت الهمزة والألف، وهما الزائدان. {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} والرجس (¬3): العذاب من الأرجاس الذي هو الاضطراب، والغضب: إرادة الانتقام. {أَتُجادِلُونَنِي} المجادلة: المماراة والمخاصمة، والسلطان الحجة والدليل، والدابر الآخر، ويراد به الاستئصال؛ أي: أهلكناهم جميعا. {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا} وأخوة صالح لهم أخوة في النسب كأخوة هود لقومه، كما تقدم في مبحث التفسير، والبينة: المعجزة الظاهرة الدلالة. وَاذْكُرُوا؛ أي: تذكروا. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري. (¬3) أبو السعود.

{وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أنزلكم فيها، وجعلها مباءة لكم، والمباءة في الأصل أعطان الإبل، والأرض: المراد بها: أرض الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. {وَتَنْحِتُونَ} والنّحت: نجر الشيء الصلب اه «أبو السعود». وفي «القاموس»: نحته ينحته - كيضربه وينصره ويعلمه - براه، ونحت السفر البعير أنضاه، وفلانا صرعه، والنحاتة البراية، والمنحت ما ينحت به اه. والعيث والعثي: الفساد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}، وفي قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، وفي قوله: {قالَ الْمَلَأُ}، وفي قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي}، وفي قوله: {وَاذْكُرُوا}، وفي قوله: {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، وفي قوله: {سَفاهَةٍ}. ومنها: المبالغة (¬1) بجعل الضلال ظرفا له حيث قالوا: {إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وزادوا في المبالغة حيث صدروا الجملة بـ {إن} وزادوا في خبرها اللام. ومنها: التعميم في قوله: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} لأنها أعم من الضلال، وذلك لأن ضلالة دالة على واحدة غير معينة، ونفي فرد غير معين نفي عام. وفيه أيضا المبالغة في الرد عليهم؛ لأنه نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلا عن أن يحيط به الضلال، ولو قال: لست ضالا لم يؤد هذا المؤدى. ومنها: الإضافة في قوله: {يا قَوْمِ} استمالة لقلوبهم إلى الحق. ومنها: الاستعطاف (¬2) والتحضيض على تحصيل التقوى في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: {ناقَةُ اللَّهِ} و {فِي أَرْضِ اللَّهِ} كالإضافة في بيت الله وروح الله. ومنها: الرجوع في قوله: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ}، وفي قوله: {لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ}: وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض والإبطال. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، وفي قوله: {فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} لأن إسناد المجيء إلى الذكر مجاز. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {رَجُلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: على لسان رجل منكم. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في مواضع كقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ} مثلا. ومنها: الكناية في قوله: {وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} لأنه كناية لطيفة عن استئصالهم جميعا بالهلاك. ومنها: التنكير في قوله: {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ} إفادة للتقليل والتنكير؛ أي: لا تمسوها بأدنى سوء. ومنها: الإتيان بحرف الترجي في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} للتنبيه (¬1) على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله تعالى، وأن المتقي ينبغي له أن لا يعتمد على تقواه، ولا يأمن عذاب الله تعالى، كما مر. ومنها: الطباق في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا} بين لفظي الجبال والسهول. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} لأن المعية (¬2) مجاز عن ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) شهاب.

المتابعة، وفي قوله: {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} لأن (¬1) المس والأخذ هنا استعارة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه تعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[75]

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)}. التفسير وأوجه القراءة 75 - قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ} والأشراف {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تكبروا عن الإيمان بالله تعالى وبصالح {مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: من قوم صالح. قرأ (¬1) ابن عامر: وقال الملأ - بواو عطف -. وقرأ الجمهور: {قالَ} بغير واو -. {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} منهم؛ أي: للمساكين الذين استضعفهم المستكبرون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

واستذلوهم، وعدوهم أراذل، وقوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من الموصول بإعادة الجار بدل كل من كل إن قلنا: إن ضمير مِنْهُمْ عائد إلى قومه؛ أي: قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم بطريق الاستهزاء والسخرية، أو بدل بعض من كل إن قلنا: إن الضمير عائد إلى الذين استضعفوا؛ لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن، ومقول القول قوله: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ} إلينا وإليكم {مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: لا تعلمون ذلك، والاستفهام فيه (¬1) للإنكار {قالُوا}؛ أي: قال المستضعفون جوابا عن سؤال المستكبرين {إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ} صالح {مُؤْمِنُونَ}؛ أي: نحن مصدقون بما جاء به صالح من ربه، أجابوهم (¬2) بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان، وتنبيها على أن كونه مرسلا أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه، فأجاب المستكبرون تمردا وعنادا بقولهم: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}؛ أي: إنا بالذي صدقتم به من نبوة صالح منكرون وجاحدون. وعبارة المراغي هنا: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...} الخ. قد (¬3) جرت سنة الله أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون إذ يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف في الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال. وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله، ومرادهم بهذا: التهكم والاستهزاء بهم. {قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}؛ أي: إنا بما أرسل به صالح من ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[76]

الحق والهدى مصدقون ومقرون بأنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر الله دعانا صالح. وفي جوابهم هذا دون أن يقولوا نعم، أو نعلم أنه مرسل منه، أو إنا برسالته عالمون إيماء إلى أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذعانيّا له السلطان على عقولهم وقلوبهم، وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه المرتبة، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان، لكنه يجحده ويحاربه، وهو موقن به حسدا لأهله، أو استكبارا عنه كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}. 76 - {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن أمر الله، وأمر رسوله صالح {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ}؛ أي: صدقتم به من نبوة صالح، وأن الذي جاء به هو الحق {كافِرُونَ}؛ أي: جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر. وإنما لم يقولوا: إنا بالذي أرسل به صالح كافرون؛ لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة، فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا. 77 - ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم، فقال: {فَعَقَرُوا}؛ أي: عقر أولئك المستكبرون {النَّاقَةَ}؛ أي: ناقة صالح وقتلوها، ونسب الفعل إليهم جميعا، والفاعل واحد منهم، وهو (¬1) قدار بن سالف، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه ابن زانية، ولم يكن لسالف، ولكنه ولد على فراشه، وكان قدار عزيزا متبعا في قومه قتلها بأمرهم في يوم الأربعاء، فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا، ثم أن تصبحوا يوم الجمعة حمرا، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد؛ أي: نسب الفعل إليهم مع كون العاقر واحدا منهم كما جاء في سورة القمر: {فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)} وجاء في «صحيح البخاري» مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة؛ لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا». وفي ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم، وإن أضراره ستصيبهم جميعا، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة في جملتها، وتعاقب عليه جميعها كما قال تعالى: ¬

_ (¬1) المراح.

[78]

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. {وَعَتَوْا}؛ أي: تكبروا {عَنْ} قبول {أَمْرِ رَبِّهِمْ} الذي أمرهم به صالح؛ أي: وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلغهم صالح إياه، وهو ما سلف ذكره. روى أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، وكانت الناقة ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، وهو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». {وَقالُوا} استهزاء وتهكما {وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا} وتخوفنا به من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} من عند الله تعالى حقا، فإنهم كذبوا صالحا في قوله: {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}. وقرأ ورش والأعمش: {يا صالِحُ ائْتِنا} وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فائتنا واوا لضمة حاء صالح. وقرأ باقي السبعة بإسكانها. وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم: قرأ عيسى وعاصم: {أوتنا} - بهمزة وإشباع ضم - انتهى. فلعله عاصم الجحدري، لا عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة ذكره أبو حيان في «البحر». والوعد يكون في الخير والشر؛ أي: قالوا له: ائتنا بما وعدتنا به من عذاب الله ونقمته إن كنت رسولا إلينا، وتدعي أن وعيدك تبليغ عنه، فالله ينصر رسله على أعدائه، فعجل ذلك لنا 78 - {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: الزلزلة الشديدة من الأرض، والصيحة من السماء {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}؛ أي: فصاروا في بلدهم خامدين ميتين، لا يتحركون، والمراد: كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة؛ أي: لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة نزلت بهم الصيحة في أرضهم. وفي سورة الحجر: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}، وفي سورة حم السجدة: {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ} وفي سورة الذاريات: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} والمراد

[79]

بالجميع الصاعقة، فإن لنزولها صيحة شديدة القوة ترجف من هولها الأفئدة، وتضطرب الأعصاب، وربما اضطربت الأرض، وتصدع ما فيها من بنيان. وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها السحاب، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد، وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة، كصعق الناس والحيوان، وهدم المباني أو تصديعها، وإحراق الشجر ونحو ذلك، وقد هدى العلم إلى الطريق في اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه: «مانعة الصواعق». وقد يجوز أن الله سبحانه وتعالى جعل هلاكهم في وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة، وقد يجوز أن الله قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة، وأيهما كان قد وقع .. فقد صدق الله رسوله، وحدث ما أنذرهم به. 79 - {فَتَوَلَّى} وأعرض صالح {عَنْهُمْ}؛ أي: خرج من بينهم قبل موتهم {وَقالَ}؛ أي: صالح {يا قَوْمِ} والله {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} وأوصلت إليكم {رِسالَةَ رَبِّي}؛ أي: ما أرسلني به ربي إليكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}؛ أي: بذلت لكم النصيحة بالترغيب والترهيب، وبذلت وسعي في نصيحتكم، ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال: {وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}؛ أي: لا تطيعوا الناصحين لكم، بل تستمروا على عداوتهم. وروي (¬1) أن صالحا خرج في مئة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمس مئة دار. والمعنى (¬2): قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى، مغتما متحسرا، كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفاني في شهواته: ألم أنهك عما يوردك ريب المنون؟ ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

وقوعها؟ فماذا أفعل إذ فضلت لذة الساعات والأيام على عيش هنيء يدوم عشرات الأعوام؟ وروي مثل هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم في القليب - البئر غير المبنية - «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟». قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري، قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها - أو فيها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ثم قال: قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا لهم، ونقمة وحسرة وندما عليهم اه. قال العلماء: ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم، ويقولون إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه، ويقضي حاجته قياسا على ذلك مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء، ولا يدخلها باب القياس. وحاصل قصة قوم صالح عليه السلام (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما أهلك عادا .. أقام ثمود مقامهم، وطال عمرهم، وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا - وكان منهم - فطالبوه بالمعجزة، فقال: ما تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا في عيدنا ونخرج أصناما، فتسأل إلهك، ونسأل أصنامنا، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا، فخرج معهم، ودعوا أوثانهم، فلم تجبهم، ثم قال: سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه السلام، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل - يقال لتلك الصخرة كاثبة -: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء براء، فإن فعلت ذلك صدقناك. فأخذ ¬

_ (¬1) المراح.

[80]

صالح عليهم المواثيق أنه إن فعل ذلك آمنوا، فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفجرت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء، وكانت في غاية الكبر، ثم نتحت ولدا مثلها في العظم، فآمن به جندع ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به، فنهاهم ذؤاب بن عمرو والحباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر كاهنهم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترده غبا، فإذا كان يومها .. وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفرج بين رجليها، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي، فيهرب منها أنعامهم، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي، فتهرب مواشيهم، فشق ذلك عليهم، وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة بنت غانم، وصدقة بنت المختار لما أضرت به مواشيهم، فعقروها واقتسموا لحملها وطبخوه، فرقى ولدها جبلا مسمى بقارة، فرغا ثلاثا، وقال لهم صالح عليه السلام: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، وانفتحت الصخرة بعد رغائه، فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر، وتكفنوا بالإنطاع، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض، فتقطعت قلوبهم وهلكوا. 80 - {وَ} لقد أرسلنا {لُوطًا}؛ أي: لوط بن هاران بن تارخ، وهو ابن أخ إبراهيم، وإبراهيم عمه: {إِذْ قالَ}؛ أي: وقت قوله: {لِقَوْمِهِ} أهل سدوم، وكان قد أرسل إليهم، وذلك أن لوطا بعد موت والده هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام، وكانت ولادته في الطرف الشرقي من جنوب العراق في موضع يسمى أرض بابل، فنزل إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين، ونزل لوط عليه السلام الأردن، فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم يدعوهم إلى الله تعالى، وينهاهم عن فعلهم القبيح، وهو قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ}؛ أي: أتفعلون الفعلة الخسيسة القبيحة التي هي غاية في القبح، وكانت فاحشتهم: إتيان الذكران في

أدبارهم، ولما كان هذا الفعل معهودا قبحه، ومركوزا في العقول فحشه أتى بها معرفا بالألف واللام ذكره أبو حيان. والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ؛ أي: لا ينبغي لكم أن تفعلوها، والحال أنه {ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} {من} الأولى زائدة (¬1) لتوكيد النفي، وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. والمعنى: ما سبقكم أيها القوم بهذه الفعلة الفاحشة أحد من العالمين قبلكم. والجملة (¬2) استئنافية مقررة للإنكار كأنه وبخهم أولا بإتيان الفاحشة، ثم باختراعها، فإنه أسوأ. قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا قبل قوم لوط عليه السلام. والمعنى (¬3): أي ما عملها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي من مبتدعاتكم في الفساد، فأنتم فيها أسوة وقدوة، فتبؤون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة. وفي هذا بيان بأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم إلى ما فيه من مخالفة لهدي الدين. قال الحسن: كانوا يأتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها، فقال لهم إبليس - وهو في صورة غلام -: إن أردتم دفع الغرباء .. فافعلوا بهم هكذا، فمكنهم من نفسه تعليما لهم، ثم فشا، واستحلوا ما استحلوا. وفي تسمية (¬4) هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن، ويجلد من لم يحصن، وفعله عبد الله بن الزبير: أتى بسبعة منهم، فرجم أربعة أحصنوا، وجلد ثلاثة، وعنده ابن عمر وابن عباس، ولم ينكروا به، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يرجم أحصن أو لم يحصن، وكذا المفعول به إن كان محتلما، وعنده يرجم المحصن ويؤدب، ويحبس غير المحصن؛ وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم. وعن مالك أيضا: يعزر أحصن أو لم يحصن؛ وهو مذهب أبي حنيفة. وحرّق خالد بن الوليد رضي الله عنه رجلا يقال له الفجاء عمل ذلك العمل، وذلك برأي أبي بكر وعلي، وإن أصحاب ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[81]

رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم عليه، وفيهم علي بن أبي طالب ذكره أبو حيان. 81 - والاستفهام في قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ} للإنكار والتوبيخ أيضا، وهذا أشنع مما سبق؛ لتأكيده بأن وباللام واسمية الجملة. ذكره أبو السعود، وهذا بيان لقوله: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ}؛ أي: أئنكم أيها القوم لتأتون وتطؤون أدبار الرجال {شَهْوَةً}؛ أي: لمجرد الشهوة واللذة، لا للولد ولا للألفة، وقوله: {مِنْ دُونِ النِّساءِ} حال من الواو في {تَأْتُونَ}؛ أي: تطؤون أدبار الرجال حال كونكم متجاوزين النساء، وتاركين إياهن، أو حال من {الرِّجالَ}؛ أي: حال كونهم منفردين عن النساء. والمراد بالإتيان هنا: الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين، وداعيته الشهوة وقصد النسل. وإنما (¬1) ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل القبيح الخبيث؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل، فإذا تركهن الإنسان، وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال، فكأنما أسرف وجاوز الحد واعتدى؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، وموضعه الذي خلق له؛ لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان. وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان؛ لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش في أعلى الأشجار، أو الوكن في قلل الجبال، أو الأحجار في باطن الأرضين، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل .. فقد أسرف فيها، وانقلب نفعها ضرا، وصار خيرها شرا. وقرأ نافع وحفص عن عاصم (¬2): {إنّكم} - بهمزة واحدة مكسورة - على ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

[82]

الخبر المستأنف؛ وهو بيان لتلك الفاحشة. وقرأ ابن كثير بهمزتين بدون ألف بينهما وبتسهيل الثانية، وأبو عمرو كذلك لكنه أدخل الألف بينهما، وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مد، والباقون بتحقيقهما من غير مد بينهما على الأصل. و {بَلْ} في قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} للإضراب الانتقالي من قصة إلى قصة؛ أي: بل أنتم قوم مجاوزون الحلال إلى الحرام؛ أي: إنكم لا تأتون هذه الفاحشة، ثم تندمون على ما فعلتم، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم، ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال، وقد جاء في سورة النمل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}؛ أي: أنتم ذو سفه وطيش، وفي سورة العنكبوت: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} وفي كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين في لذاتهم متعدين حدود العقل والفطرة، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة، فهم لو عقلوا ذلك .. لاجتنبوها، ولو كان لديهم شيء من الفضيلة .. لانصرفوا عنها. وقال هنا (¬1): {مُسْرِفُونَ} بصيغة اسم الفاعل؛ ليدل على الثبوت، ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء. وقال في النمل: {تَجْهَلُونَ} بالمضارع لتجدد الجهل فيهم، ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال. 82 - {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا}؛ أي: ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه السلام {أَخْرِجُوهُمْ}؛ أي: أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا ورييشا {مِنْ قَرْيَتِكُمْ} سذوم - بوزن رسول بالذال المعجمة - من قرى حمص بالشام {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ}؛ أي: أي يتنزهون من أدبار الرجال، قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه. وأتى هنا بقوله: {وَما} وفي النمل والعنكبوت بقوله: {فَما} والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأن المراد أنهم لم يتأخر جوابهم عن نصحته، وأما الواو فالتعقيب أحد محاملها، فتعين هنا أنها للتعقيب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[83]

لأمر خارجي؛ وهو القرينة في السورتين المذكورتين، لا أنها اقتضت ذلك بوضعها. اه «سمين». والمعنى (¬1): أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة، أو الأعذار المسكنة لثورة الغصب، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا: إن هؤلاء أناس يتطهرون، ويتنزهون عن مشاركتهم في فسوقهم ورجسهم، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم لما بينهم من الفوارق في الصفات والأخلاق. والظاهر أن قوله: {إِنَّهُمْ} تعليل للإخراج؛ أي: لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه، ومن لا يوافقنا .. وجب أن نخرجه. ذكره أبو حيان. وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد. وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها، ويحتقروا من يتنزه عنها، وهذا أسفل الدركات، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر. 83 - {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ}؛ أي: فأنجينا لوطا وأهله؛ وهم بنتاه من العذاب الذي حل بقومه {إِلَّا امْرَأَتَهُ}؛ أي: زوجته الكافرة - واسمها واهلة -؛ لأنها {كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ}؛ أي: من الباقين في ديارهم، فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها؛ لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم، وقال: {مِنَ الْغابِرِينَ} تغليبا للذكور. وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم، وهو في فلسطين؛ أي: فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته، فإنها لم تؤمن به، بل خانته بولاية قومه الكافرين، فكانت من جماعة الهالكين، أو الباقين الذين نزل بهم العذاب في الدنيا، وبعده عذاب الآخرة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[84]

84 - {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا}؛ أي (¬1): وأرسلنا عليهم إرسال المطر وإنزاله في الكثرة جرّا محروقا معجونا بالكبريت والنار. قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام، وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، فاقتلعها ورفعها إلى السماء، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. وقيل المعنى (¬2): وأنزلنا على الخارجين من المدائن الخمسة حجارة من السماء معلمة عليها اسم من يرمى بها. وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم، فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته، وخرج من الحرم، فوقع عليه فأهلكه. والإمطار (¬3) حقيقة في المطر مجاز فيما يشبهه في الكثرة من خير وشر مما يجيء من السماء، أو من الأرض؛ أي: وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره؛ وهو الحجارة التي رجموا بها. وجاء في سورتي هود والحجر أنها حجارة من سجيل مسومة؛ أي: معلمة ببياض في حمرة، وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة، وألقاها عليهم، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطمة التي يسميها علماء الفلك: الحجازة النيزكية؛ وهي بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها؛ وهي تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته، وهي الشهب التي ترى بالليل، فإذا سلم منها شيء من الاحتراق، ووصل إلى الأرض .. ساخ فيها، وكان لسقوطه صوت شديد، وقد وجد بعض الناس بعض تلك الحجارة ووضعوها في دور الآثار. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ} هؤلاء {الْمُجْرِمِينَ} وآخر أمرهم الذين كذبوا بالله ورسوله الذي أرسل إليهم، وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم بعذاب مستأصل لهم، وهذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به غيره من أمته؛ ليعتبروا بما جرى على هؤلاء، فينزجروا بذلك الاعتبار عن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[85]

الأفعال القبيحة والفواحش الخبيثة، والمعنى: فانظر أيها المعتبر هذا القصص وتأمله حق التأمل؛ لتعلم عذاب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة. وهذا العقاب أثر طبيعي لذلك، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم، ويذهبان ببأسها، ويفرقان كلمتها، ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية، فيسلط الله عليها من يستذلها، ويسلبها استقلالها، ويسخرها لمنافعه، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين، وقد يكون هلاكها بسنن الله في الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والرياح العاصفة، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة، أو بالثورات والفتن والحروب، ونحو ذلك مما يكون سببا في انقراض الأمم وفنائها. وخلاصة القول في تحريم هذه الفاحشة: 1 - أنها مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوات. 2 - أنها مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن، ويقصرون فيما يجب عليهم من إحصانهن. 3 - قلة النسل، فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج، والرغبة في إتيان الأزواج في غير مأتى الحرث. وفي الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه، وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة، ويحفظ بها النوع الإنساني من الزوال. 85 - {وَ} أرسلنا {إِلى} أولاد {مَدْيَنَ} بن إبراهيم عليه السلام {أَخاهُمْ} في النسب، لا في الدين {شُعَيْبًا} بن ثويب بن مدين بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر؛ وهو هود عليه السلام، فبين شعيب وهود على هذا القول ثمانية آباء، وكان شعيب أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وقال قتادة: أرسل شعيب مرتين: مرة إلى مدين، ومرة إلى أصحاب الأيكة. قيل: شعيب هو ابن بنت لوط، وقيل: زوج بنته، وهذه مناسبة بين قصته وقصة لوط. وقيل: مدين اسم لقرية شعيب بينها وبين مصر ثمانية مراحل سميت

باسم أبيهم مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. والمعنى: أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم في النسب لا في الدين؛ إذ {قالَ} شعيب لقومه؛ وهم أهل كفر، وبخس للكيل والميزان {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: ليس لكم إله يستحق العبادة منكم غيره تعالى؛ لأنه خالقكم وموجدكم {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ}؛ أي: معجزة واضحة {مِنْ رَبِّكُمْ} دالة على صدقي، ولم يذكر هنا ولا في أي سورة من سور القرآن آية معينة لشعيب عليه السلام، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه، وتقوم بها الحجة عليهم، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم، وقيل: أراد بالبينة الموعظة المذكورة بقوله الآتي: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ...} الخ. فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»؛ أي: أن كل نبي مرسل أعطاه الله تعالى من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله. والبينة كل ما يتبين به الحق، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والأمم القديمة لم تكن تذعن إلا لخوارق العادات. وكانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبدؤوا في الدعوة بالأهم فالأهم، ولما كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء قال شعيب: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع في نهيهم عما هم عليه من المعاصي، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل والوزن .. دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة، وهي تطفيف الكيل والوزن، فقال: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ}؛ أي: أتموا كيل المكيال ووزن الميزان إذا بعتم أموالكم للناس {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ}؛ أي: ولا تنقصوا عن الناس أشياءهم وأثمانهم إذا اشتريتم من الناس، أو المعنى (¬1): ولا تنقصوا حقوق الناس ¬

_ (¬1) المراح.

بجميع الوجوه كالغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل وقيل: كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه كما يفعل أمراء الجور. وعبارة المراغي هنا: قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} قد (¬1) ثنى الله سبحانه وتعالى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد الله؛ لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي، ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوء أي التي كانت فاشية فيهم، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس، أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم، ويزيدون عليه، وإذا كالوهم، أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان؛ أي: ينقصونه، فيبخسون أشياءهم، وينقصونهم حقوقهم. والبخس: يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشي والأشياء المعدودة، ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وفي الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، وقد فشا كل من هذين النوعين في هذا العصر، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بني جلدتهم، مدّعون للتفوق عليهم، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا. وقد روي أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه، ويقولون: هذه زيوف، فيقطعونها قطعا، ثم يشترونها منه بالبخس؛ أي: بالنقصان الظاهر، وأعطوه بدلها زيوفا، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالكفر والمعاصي {بَعْدَ إِصْلاحِها}؛ أي: بعد أن أصلحها الله سبحانه وتعالى ببعثة الرسل، وإقامة العدل، وإفاضة النعم فيها، ¬

_ (¬1) المراغي.

وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم، فالإضافة في إصلاحها كإضافة مكر الليل. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا تعمل فيها المعاصي، وتستحل فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء، فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا، ودعاهم إلى الله صلحت الأرض؛ لأن بعثة كل نبي إلى قومه فهو صلاحهم. وحاصل المعنى: أنه (¬2) سبحانه وتعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة، ومكنهم في الأرض بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من سنن حكيمة وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آدات وأخلاق، ونظم في المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم في دينهم، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس في دنياهم. فعليكم أن لا تفسدوا فيها ببغي ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام، وبث الخرافات والجهالات التي تقوض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها {ذلِكُمْ} الذي أمرتكم به من الإيمان بالله، ووفاء الكيل والميزان، وترك الظلم والبخس {خَيْرٌ لَكُمْ} مما أنتم عليه من الكفر والمعاصي وظلم الناس في دينكم ودنياكم، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع، ولا ينهى إلا عن الضار، ولأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة .. رغبوا في المعاملات معكم، فكثرتم أموالكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين لي في قولي هذا؛ أي: وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله، وبما جاءكم به من شرع وهدى، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله، وإن خالف النفس ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) المراغي.

[86]

والهوى. والمؤمن الموحد لا يخضع إلا لربه (¬1)، وإنما يطيع رسوله؛ لأنه مبلغ عنه كما قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ}. هذا والبشر لم يصلوا في عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه في هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار، ومعرفة المصالح والمفاسد في المعاملات والآداب، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنم شيئا، فكثرت في البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا في تدهور نظم المجتمعات، فلم يبق اليوم من الإسلام إلا رسمه، ولا من الدين إلا اسمه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وإقناعهم بمضار الرذائل؛ لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي. 86 - {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ}؛ أي: ولا تجلسوا على كل طريق محسوس حالة كونكم توعدون، وتخوفون بالقتل من مر عليكم ممن يذهب إلى شعيب ليؤمن به. وقد روي عن ابن عباس: أن بلادهم كانت خصبة، وكان الناس يمتارون منهم، فكانوا يقعدون على الطريق، ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا، ويقولون لهم إنه كذا فلا يفتننكم عن دينكم؛ أي: يقعدون على الطريق، ويخوفون الغرباء الذين يريدون الإيمان بشعيب بالقتل إن آمن به. {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: وتمنعون عن طاعة الله وعبادته {مَنْ آمَنَ بِهِ}؛ أي: من آمن بالله أو بشعيب {وَتَبْغُونَها عِوَجًا}؛ أي: وتطلبون لسبيل الله ودينه زيغا وميلا عن الحق، وعدولا عن القصد والصواب بإلقاء الشكوك والشبهات فيها. وجملة الأفعال الثلاثة - التي هي توعدون وتصدون وتبغون - أحوال؛ أي: لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين. والخلاصة: أنه نهاهم عن أشياء ثلاثة: 1 - قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوفين من يجيئه ليرجع عنه ¬

_ (¬1) المراغي.

[87]

قبل أن يراه ويسمع دعوته. 2 - صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان، والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين. 3 - ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجة بالطعن، وإلقاء الشبهات المشككة فيها، أو المشوهة لها، وهم بعملهم هذا ارتكبوا ضلالتين: التقليد والعصبية للآباء والأجداد، وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن في الأديان حتى بلغوا في ذلك حد الطغيان. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا}؛ أي: وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد {فَكَثَّرَكُمْ} الله سبحانه وتعالى بما بارك في نسلكم، واشكروا له ذلك بعبادته وحده واتباع وصاياه في الحق، والإعراض عن الفساد في الأرض. وقد روي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط، فولدت له، فرمى الله في نسلهما البركة والنماء فكثروا. وقيل المعنى: إذ كنتم مقلين فقراء، فجعلكم مكثرين موسرين، وقيل: إذ كنتم أذلة قليلي العدد، فأعزكم بكثرة العدد والعدد. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}؛ أي: فانظروا وتأملوا نظر اعتبار كيف كان آخر أمر المفسدين في الأرض من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود، وكيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، فاعتبروا بما حل بهم واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. 87 - {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ}؛ أي: جماعة كائنة {مِنْكُمْ} أيها القوم {آمَنُوا} وصدقوا {بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من الأحكام والشرائع التي شرعها الله تعالى لكم {وَطائِفَةٌ} أخرى منكم {لَمْ يُؤْمِنُوا} ولم يصدقوا بما أرسلت به إليكم {فَاصْبِرُوا}؛ أي: فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون من الطائفتين {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا} وبينكم جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين ونصرهم، وبإظهار خزي الكافرين وذلهم {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الْحاكِمِينَ}؛ أي: أفضلهم وأعلمهم؛ لأنه تعالى حاكم عادل منزه عن الجور لا معقب لحكمه ولا حيف فيه، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد، وحكم الله بين عباده ضربان:

1 - حكم شرعي يوحيه إلى رسله، وعليه جاء قوله تعالى في سورة المائدة بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال البهيمة: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ}. 2 - حكم فعلي يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله في آخر سورة يونس: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)}. والمعنى: وإن كان جماعة صدقوا بالذي أرسلت به إليكم من إخلاص العبادة لله، وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم في المكاييل والموازين، واتبعوني في كل ذلك، وجماعة أخرى لم يصدقوني وأصروا على شركهم، وإفسادهم. فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم، وهو خير من يفصل، وأعدل من يقضي؛ لتنزهه عن الباطل والجور، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم، وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، والله أعلم. الإعراب {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}. {قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْمَلَأُ}. {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ قَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من واو {اسْتَكْبَرُوا}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قالُوا} {اسْتُضْعِفُوا}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. {لِمَنْ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله كقولهم: مررت بزيد بأخيك. {آمَنَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة {من} الموصولة. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {آمَنَ}. {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قالُوا}. {أَنَّ}: حرف نصب {صالِحًا}: اسمها. {مُرْسَلٌ}: خبرها. {مِنْ رَبِّهِ}: متعلق به، أو

صفة له، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: أتعلمون إرسال صالح من ربه. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}: مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت {إنّ}: حرف نصب، و {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {مُؤْمِنُونَ}: {أُرْسِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {صالح}. {بِهِ}: متعلق بـ {أُرْسِلَ} {مُؤْمِنُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالُوا}. {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (76)}. {قالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصولة. {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {إن}: حرف نصب، و {نا}: اسمها. {بِالَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {كافِرُونَ}. {آمَنْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول. {كافِرُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}. {فَعَقَرُوا}: {الفاء}: عاطفة، {عقروا الناقة}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}. {وَعَتَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {فَعَقَرُوا}. {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عَتَوْا}. {وَقالُوا} فعل وفاعل معطوف على {عَتَوْا}. {يا صالِحُ ائْتِنا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {يا صالِحُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {ائْتِنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {صالِحُ}، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} على كونها جواب النداء. {بِما} جار ومجرور متعلق بـ {ائْتِنا}. {تَعِدُنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {صالِحُ} والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعدنا إياه. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتَ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم

بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: جار ومجرور خبر {كان}، وجواب {إِنْ} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنت من المرسلين فائتنا بما تعدنا من العذاب، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (78)}. {فَأَخَذَتْهُمُ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {أخذتهم الرجفة}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ}. {فَأَصْبَحُوا}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {أصبحوا}: فعل ناقص واسمه. {فِي دارِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {جاثِمِينَ}. {جاثِمِينَ}: خبر {أصبح} منصوب بالياء، وجملة {أصبحوا}: معطوفة على جملة قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}. {فَتَوَلَّى} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {تولى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {صالِحُ} {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أصبحوا}. {وَقالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {صالِحُ}، والجملة معطوفة على جملة {تولى}. {يا قَوْمِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة لقسم محذوف. {قد}: حرف تحقيق. {أَبْلَغْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {رِسالَةَ رَبِّي}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول {قالَ} على كونه جواب النداء. {وَنَصَحْتُ}: فعل وفاعل معطوف على {أَبْلَغْتُكُمْ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {وَلكِنْ}: {الواو}: عاطفة. لكِنْ: حرف استدراك. {لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} على كونها مقولا لـ {قالَ}. {وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80)}.

{وَلُوطًا}: معطوف على نوحا؛ أي: وأرسلنا لوطا أيضا. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بأرسلنا المحذوف. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {لوط}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لِقَوْمِهِ}: متعلق بـ {قالَ}. {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي. {تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {ما}: نافية. {سَبَقَكُمْ}: فعل ومفعول. {بِها}: متعلق بـ {سبق}. {مِنْ}: زائدة. {أَحَدٍ}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {مِنَ الْعالَمِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدٍ}. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}. {إِنَّكُمْ} {إنّ}: حرف نصب، و {الكاف}: اسمها، {لَتَأْتُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {تأتون الرجال}: فعل وفاعل ومفعول. {شَهْوَةً}: مفعول من أجله، أو حال من واو {تأتون}؛ أي: مشتهين، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قالَ}. {مِنْ دُونِ النِّساءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من الواو في {تأتون}؛ أي: حال كونكم متجاوزين النساء، أو من الرجال؛ أي: حال كونهم منفردين من النساء. {بَلْ}: حرف للاضراب الانتقالي. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {قَوْمٌ}: خبر. {مُسْرِفُونَ}: صفته، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}. {وَما} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {كانَ}: فعل ماض ناقص. {جَوابَ قَوْمِهِ}: خبرها ومضاف إليه مقدما على اسمها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {قالُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كانَ}

مؤخرا تقديره: وما كان جواب قومه إلا قولهم، وجملة {كانَ} مستأنفة. {أَخْرِجُوهُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت {أَخْرِجُوهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} {مِنْ قَرْيَتِكُمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَخْرِجُوهُمْ}. {إِنَّهُمْ}: {إن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها. {أُناسٌ}: خبرها، وجملة {يَتَطَهَّرُونَ} صفة لـ {أُناسٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالُوا} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83)}. {فَأَنْجَيْناهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم لوط وما قالوا له، وأردت بيان عاقبة أمره وأمرهم .. فأقول لك، {أنجيناه}: فعل وفاعل ومفعول. {وَأَهْلَهُ}: معطوف على الهاء في {أنجيناه}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء. {امْرَأَتَهُ}: مستثنى ومضاف إليه. {كانَتْ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على المرأة. {مِنَ الْغابِرِينَ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {كان}: مستأنفة استئنافا بيانيا وقع جوابا عن سؤال نشأ من استثنائها، كأنه قيل: فماذا كان حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين. ذكره أبو السعود. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}. {وَأَمْطَرْنا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به {مَطَرًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَأَنْجَيْناهُ} على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. {فَانْظُرْ}: {الفاء}: عاطفة، {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة معطوفة على جملة {وَأَمْطَرْنا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كانَ} مقدم عليها وجوبا. {كانَ}: فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}: اسمها ومضاف إليه. وفي «الفتوحات»: {كَيْفَ} وما في حيزها معلقة للنظر عن العمل،

فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض، والنظر هنا التفكر، و {كَيْفَ} خبر {كانَ} واجب التقدم. اه «سمين». {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ}. {وَإِلى مَدْيَنَ}: جار ومجرور متعلق بأرسلنا محذوفا ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. {أَخاهُمْ}: مفعول أرسلنا المحذوف. {شُعَيْبًا}: بدل من {أَخاهُمْ}، أو عطف بيان له، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {شعيب}، والجملة مستأنفة. {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {قالَ الْمَلَأُ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {يا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء مقول {قالَ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء. {ما}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ إِلهٍ}: مبتدأ مؤخر. {غَيْرُهُ}: صفة لـ {إِلهٍ} تابع لمحله، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل. {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {بَيِّنَةٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مجيء بينة من ربكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {أوفوا الكيل}: فعل وفاعل ومفعول. {وَالْمِيزانَ}: معطوف على {الْكَيْلَ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة قوله {أوفوا}. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

{وَلا تُفْسِدُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {بَعْدَ إِصْلاحِها}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {لا تُفْسِدُوا}. {ذلِكُمْ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {مُؤْمِنِينَ}: خبره، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف دل عليها ما قبلها تقديره: إن كنتم مؤمنين فبادروا إلى ما أمرتكم به، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ}. {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}. {وَلا تَقْعُدُوا}: فعل وفاعل. {بِكُلِّ صِراطٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ}. {تُوعِدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من واو {تَقْعُدُوا}. {وَتَصُدُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تُوعِدُونَ}. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَصُدُّونَ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول تصدون. {آمَنَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِهِ}: متعلق بـ {آمَنَ}، والجملة صلة الموصول. {وَتَبْغُونَها}: فعل وفاعل ومفعول. {عِوَجًا}: حال من الهاء، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على {تَصُدُّونَ} على كونها حالا من واو {تَقْعُدُوا}. {وَاذْكُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَأَوْفُوا}. {إِذْ}: ظرف لما مضى في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {اذْكُرُوا}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {قَلِيلًا}: خبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فَكَثَّرَكُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {كثركم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {كُنْتُمْ}. {وَانْظُرُوا}:

فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أوفوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كانَ}. {كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه و {كَيْفَ} معلقة لـ {انْظُرُوا} عن العمل فيما بعدها، و {كَيْفَ} وما في حيزها في محل النصب بإسقاط الخافض كما في «الفتوحات» في هذا الموضع. {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. إِنْ: حرف شرط. كانَ طائِفَةٌ: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {مِنْكُمْ}: صفة لـ {طائِفَةٌ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كانَ}. {بِالَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنُوا}. {أُرْسِلْتُ}: فعل ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَطائِفَةٌ}: معطوف على {طائِفَةٌ}. {لَمْ يُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كانَ}؛ أي: وإن كانت طائفة منكم مؤمنين بالذي أرسلت به وطائفة غير مؤمنين. {فَاصْبِرُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبا، {اصبروا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ} على كونها مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَحْكُمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد {حَتَّى}. {بَيْنَنا}: ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، والجار والمجرور متعلق بـ {فَاصْبِرُوا}، والتقدير: فاصبروا إلى حكم الله بيننا وبينكم. {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الجلالة. التصريف ومفردات اللغة {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تكبروا، فالسين فيه زائدة.

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ}؛ أي: نحروها، وأصل العقر الجرح، وعقر الإبل قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت في مكانها ولا تنتقل. وفي «السمين»: والعقر أصله: كشف العراقيب في الإبل، وهو أن يضرب قوائم البعير أو الناقة، فيقع، وكانت سنتهم في الذبح، ثم أطلق على كل عقر، وإن لم يكن فيه كشف العراقيب تسمية للشيء بما يلازمه غالبا إطلاقا للسبب على مسببه هذا قول الأزهري. وقال ابن قتيبة: العقر: القتل كيف كان، يقال: عقرتها فهي معقور، وقيل: العقر الجرح. اه. وفي «المصباح»: عقره عقرا - من باب ضرب - جرحه وعقر البعير بالسيف عقرا ضرب قوائمه به، ولا يطلق العقر في غير القوائم، وربما قالوا: عقره إذا نحره، فهو عقير وجمال عقري. اه. {وَعَتَوْا}؛ أي: تمردوا مستكبرين، والعتو: الامتناع من الشيء: إما عن عجز وضعف ومنه عتا الشيخ عتيا إذا أسن وكبر، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين، ويقولون: نخلة عاتية إذا كانت عارية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود. وفي «الفتوحات»: العتو والعتي النتو؛ أي: الارتفاع عن الطاعة، يقال منه: عتى يعتو عتوا وعتيا بقلب الواوين ياءين، والأحسن فيه إذا كان مصدرا تصحيح الواوين -: كقوله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} - وإذا كان جمعا الإعلال: نحو قوم عتي؛ لأن الجمع أثقل، فناسبه الإعلال تخفيفا، وقوله تعالى: {أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} يحتمل الوجهين. اه «سمين». {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الرجفة: المرة من الرجف، وهو الحركة والاضطراب، يقال: رجف البحر إذا اضطربت أمواجه، ورجفت الأرض زلزلت واهتزت، ورجف القلب والفؤاد من الخوف. {فِي دارِهِمْ} دار الرجل ما يسكنها هو وأهله، ويطلق على البلد؛ وهو المراد هنا. {جاثِمِينَ} يقال: جثم الناس إذا قعدوا لا حراك بهم، وفي «السمين» وقال: أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل. اه. وفي «المصباح»:

جثم الطائر والأرنب يجثم من بابي دخل وجلس جثوما، وهو كالبروك من البعير، وربما أطلق على الظباء والإبل، والفاعل جاثم وجثام مبالغة، ثم استعير الثاني مؤكدا بالهاء للرجل الذي يلازم الحضر ولا يسافر، فقيل فيه: جثامة وزان علامة ونسابة، ثم سمي به، ومنه الصعب بن جثامة الليثي. اه. وفي «القاموس»: جثم إذا لزم مكانه ولم يبرح، أو وقع على صدره. اه. {وَلُوطًا} هو (¬1) لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليهما السلام ولد في الطرف الشرقي من جنوب العراق، وكانت تسمى أرض بابل، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين، وكان يسمى جزيرة قورا، وهناك كانت مملكة أشور، ثم أسكنه إبراهيم شرقي الأردن، لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت، أو بحر لوط قرى خمس سكن لوط في إحداها المسماة بسذوم، وكانت تعمل الخبائث، ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد، وبعض الناس يقول: إن البحر قد غمرها، ولا دليل لهم على ذلك. {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ} شهوة إما مفعول لأجله، أو مصدر واقع موقع الحال؛ أي: مشتهين ملتذين، أو باق على مصدريته، ناصبه أَتَأْتُونَ؛ لأنه بمعنى: أتشتهون شهوة، ويقال: شهي يشهى شهوة وشهى يشهو شهوة من بابي تعب وعلا. كما في «المصباح». {مِنَ الْغابِرِينَ} في «المصباح»: غبر غبورا - من باب قعد - إذا بقي، ويستعمل فيما مضى أيضا، فيكون من الأضداد، قال الزبيدي: غبر غبورا: مكث. اه. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ} قال أبو عبيد (¬2): يقال: مطر في الرحمة، وأمطر في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

العذاب. وقال الراغب: ويقال: مطر في الخير، وأمطر في العذاب قال تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} وهذا مردود بقوله تعالى: {عارِضٌ مُمْطِرُنا} فإنهم إنما عتوا بذلك الرحمة، وهو من أمطر رباعيا، ومطر وأمطر بمعنى واحد يتعديان لمفعول واحد، يقال: مطرتهم السماء وأمطرتهم، وقوله: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ} ضمن معنى أرسلنا، ولذلك عدو يعلى، وعلى هذا فمطرا مفعول به؛ لأنه يراد به الحجارة، ولا يراد به المصدر أصلا إذا لو كان كذلك؛ لقيل إمطارا، اه «سمين». {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} والكيل (¬1): مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود: {الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ}، فطابق قوله: {وَالْمِيزانَ} وهو باقي على المصدرية، وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة، فتطابقا، أو حمل الميزان على حذف مضاف؛ أي: ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال، فتطابقا. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} يقال: بخسه حقه؛ أي: نقصه {وَلا تُفْسِدُوا} والإفساد شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق والآداب بارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظم. {بَعْدَ إِصْلاحِها} وإصلاح الأرض هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس، والأعمال المرقية للعمران المحسنة لأحوال المعيشة. {بِكُلِّ صِراطٍ} الصراط: الطريق المحسوس. {تُوعِدُونَ}؛ أي: تخوفون الناس بالقتل والضرب. وفي «القاموس» الوعيد: التهديد، والتوعد: التهدد كالإيعاد. اه. ثم قال: وهدده خوفه. اه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} يحتمل (¬1) قلة العدد، ويحتمل قلة المال، ويحتمل قلة القوة التي هي الضعف، فقوله: {فَكَثَّرَكُمْ}؛ أي: كثر عددكم وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقوة بعد الضعف. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين قوله: {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} .. و {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}: وبين {مُؤْمِنُونَ} و {كافِرُونَ}، وبين {الرِّجالَ} و {النِّساءِ} في قوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ}، وبين قوله: {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا} وقوله {وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}، وفي قوله: {أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ}، وفي قوله: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا}، وفي قوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَعَقَرُوا} لأن العاقر واحد منهم، فنسب العقر إلى الكل لرضاهم له نسبة لما للبعض إلى الكل. ومنها: الاكتفاء في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: والصيحة من السماء وقد وقع التصريح بها آية أخرى، فكان عذابهم بالرجفة والصيحة، فذكر في كل موضع واحدة منهما اه «قاري». ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ}. ومنها: السخرية والاستهزاء بلوط وأهله في قوله: {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ¬

_ (¬1) الخازن.

ويسمى هذا النوع في علم البديع التعريض بما يوهم الذم، ولذلك قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به، وهذا مثل قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب والله سبحانه وتعالى أعلم (¬1) * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم الجزء الثامن من تفسير القرآن العظيم بتوفيق الله الجواد الكريم، فنحمده على إفضاله، ونشكره على نواله، ونصلي ونسلم على صفيه وحبيبه محمد وآله وصحبه صلاة وسلاما دائمين بدوام جوده وفضله وكرمه وطوله ما تطارد الجديدان، وتطاول المدى والزمان. وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة زادها الله شرفا، ورزقنا الموت فيها، في اليوم التاسع عشر من الشهر المبارك الربيع الأول يوم الأربعاء قبيل الغروب من شهور سنة عشر وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية - بتاريخ: 19/ 3/ 1410 هـ، الموافق 18/ 10/ 1989 م في شهر أكتوبر. وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في التاريخ المذكور في أعلى الصحيفة بيد مؤلفه: محمد أمين بن عبد الله الأرمي الأثيوبي الهرري الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على إكماله، وييسره عليه، ويوفقه لما هو المعنى عنده، ويجعل في عمره البركة إلى تمامه، ويحفظ عليه سمعه وبصره وفهمه وعقله وجسمه وجميع قواه إلى انتهائه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله لهم مرجعا في علوم كتابه، وذخيرة له عند وفوده إلى دار الآخرة، ويجعله خالصا مخلصا لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. تم المجلد التاسع من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد العاشر وأوله قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...} الآية.

شعرٌ أُطْلُبْ وَلاَ تَضْجَرَنَّ مِنْ مَطْلَبٍ ... فَآفَةُ الطَّالِبِ أَنْ يَضْجَرَا أَمَا تَرَى الْحَبْلَ بِتَكْرَارِهِ ... فِيْ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا آخرُ دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُوْنَ قَدْ بَلَغُوْا ... حَدَّ النُّفُوْسِ وَأَلْقَوْا دُوْنَهُ الأُزُرَا وَكَابَدُوْا الْجُهْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ ... وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا لاَ تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر كِتَابٌ لَوْ يُبَاعُ بَوْزْنِهِ ذَهَبًا ... لَكَانَ الْبَائِعُ فِيْهِ الْمَغْبُوْنَا حَوَى مِنْ ثِمَارِ التَّفْسِيْرِ أَفْنَانَا ... فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا حَبَانَا آخر جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ آخر يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بَاشِرُ الْوَرَعَا ... وَجَانِب النَّوْمَ وَاحْذَرِ الشِّبَعَا دَاوِمْ عَلَى الدَّرْسِ لاَ تُفَارِقْهُ ... فَالْعِلْمُ بِالدَّرْسِ قَامَ وَارْتَفَعَا

[تتمة سورة الأعراف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بحمدك نبتدي، وبعونك نستكفي، وبتوفيقك نهتدي إلى تفسير كتابك الكريم، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ونصلي ونسلم على نبيه وحبيبه سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه ما سطر القلم بمداد الإخلاص تفاسير الكتاب، راجيا منه سبحانه وتعالى الخلاص من التبعات في يوم القيامة، والفوز بدار السلام. أما بعد: فأقول وقولي هذا: قال الله سبحانه جلّ وعلا: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)}.

المناسبة قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...} الآيات (¬1)، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ هذه الآيات من تتمة قصص شعيب، ذكر فيها جواب الملأ من قومه عما أمرهم به من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، وعما ختم به حديثه من التهديد والإنذار بقوله: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا}. وتولى الرد عليه أشراف قومه، كما هو الشأن في بحث كبريات المسائل ومهام الأمور. وقوله تعالى: {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها ظاهرة: وهي أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر جواب الملأ من قوم شعيب، وطلبهم منه العود إلى ملتهم، وبيّن يأسهم منه بما كان من جوابه لهم الدال على ثباته في مقارعتهم، وأنّه دائم النصح والتذكير لهم علّهم يرعوون عن غيّهم .. ذكر هنا أنّهم حذروا من آمن منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذ سيلحقهم الخسار في دينهم، والخسار في دنياهم، لعل ذلك يثنيهم عن عزيمتهم، ويردهم إلى الرشاد من أمرهم، بحسب ما يزعمون، فكانت عاقبة ذلك أن أصبحوا كأمس الدابر، وأصبحت ديارهم خرابا يبابا، لا أنيس فيها ولا جليس. قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬2) حال الأمم السابقة مع أنبيائها، وبيّن من العظة والعبرة، فقد كانت العاقبة في كل حال للمتقين، والدائرة تدور على المبطلين .. أشار هنا إلى سنة الله في الأمم التي تكذب رسلها، أن ينزل بها البؤس وشظف العيش، وسوء الحال في دنياهم، ليتضرعوا إلى ربهم وينيبوا إليه بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائهم، وفي هذا من التحذير لقريش والتخويف لهم ما لا يخفى. ثم ذكر أنّه بدل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا، لكنّهم لم يفعلوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[88]

وقال أبو حيان (¬1): مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر ما حل بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم، حين لا تجدي فيهم الموعظة .. ذكر تعالى هنا أنّ تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصروا على تكذيبهم. انتهى. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيّن أخذه لأهل القرى الذين كذبوا رسلهم، وكفروا بما جاؤوا به، وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بما افتنّوا فيه من أفانين الشرك والمعاصي، كما حكى الله في محاورتهم لرسلهم، وإجابة الرسل لهم بما سلف ذكره .. ذكر هنا لأهل مكة ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل، واهتدوا بهديهم، واعتبروا بسنة الله في الأمم من قبلهم، فإنّ سنته تعالى في الأمم واحدة، لا تبديل فيها ولا تحويل. قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّها خطاب وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، تسلية وتثبيتا له على الصبر على دعوته، بتذكيره بما في قصص أولئك الرسل مع أقوامهم، من وجوه العبر والمواعظ، وبيان أن ما يلاقيه منهم من ضروب العناد والاستكبار والإيذاء، ليس بدعا بين الأمم، بل ذلك طريق سلكه كثير من الأمم المجاورة لهم، كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، وقصصهم تدور على ألسنتهم بحكم الجوار لهم، وطروق أرضهم في حلهم وترحالهم في رحلتي الشتاء والصيف. التفسير وأوجه القراءة 88 - {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: قال الأشراف من قوم شعيب، الذين تكبروا وأنفوا عن الإيمان به، وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه؛ أي: قالوا مقسمين: والله {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ} أنت من قريتنا {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ولنخرجن معك الذين آمنوا بك، والظرف متعلق بالإخراج لا بالإيمان، أي: والله لنخرجنك وأتباعك {مِنْ قَرْيَتِنا} مدين؛ أي: من بلادنا كلها، بغضا لكم ودفعا لغشكم {أَوْ} والله {لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا}؛ أي: أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا، وتدخلن في زمرتنا، وتندمجن في غمارنا. الخلاصة (¬1): ليكونن أحد الأمرين: إخراجكم من البلاد، أو عودتكم في الملة، فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم. وشعيب عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه، فساغ لهم أن يطالبوه بالعود إلى ملتهم، وكونه لم يشاركهم في شركهم وفي بخس الناس أشياءهم - أمر سلبي لا يعده به جمهورهم خروجا عنهم - فلا منافاة بين هذا وعصمة الأنبياء عن الكفر. قال في «الخازن»: وهذا الكلام فيه إشكال، وهو (¬2) أنّ شعيبا عليه السلام لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه، فما معنى قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا}؟ وأجيب عن هذا الإشكال: بأنّ أتباع شعيب كانوا قبل الإيمان به على ملة أولئك الكفار، فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعا، فدخل هو في الخطاب، وإن لم يكن على ملتهم قط، وقيل معناه: لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود على معنى الابتداء، كما تقول: قد عاد عليّ من فلان مكروه، بمعنى قد لحقني منه ذلك، وإن لم يكن قد سبق منه مكروه، فهو كما قال الشاعر: فإن تكن الأيّام أحسنّ مدّة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب أراد فقد حارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان. انتهى. {قالَ} شعيب عليه السلام {أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ}؛ أي (¬3): أتأمروننا أن نعود ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

في ملتكم، وتهددوننا بالنفي من أوطاننا، والإخراج من ديارنا، إن لم نفعل، ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟ والاستفهام فيه للإنكار. والمعنى: لا تطمعوا في عودنا مختارين ولا مكرهين، فتأمل - ذكره الصاوي - إنّكم لقد جهلتم أنّ الدين عقيدة وأعمال، يتقرب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية، كما جهلتم أنّ حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدي ولدى قومي، فظننتم فيّ وفيمن آمن معي أنّنا نؤثر التمتع بالإقامة في الوطن على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات، وبالفضائل المهذبة للنفوس، والمرقية لها في معارج الكمال، حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة. فللدين منزلة في النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى، فإن تمكن صاحبه من إقامته في وطنه، وإصلاح أهله به .. فهم أحق به، وإن فتن في دينه فيه .. كان تركه واجبا عليه، وقد أوجب الله الهجرة على من يستضعف في وطنه، فيمنع من إقامة دينه فيه، فإن لم يفعل ذلك .. دخل تحت وعيد قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا 97 إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ} الآية. وقال الشوكاني (¬1): وجملة قوله: {قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ} مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال؛ أي: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعا؟ والمعنى: أنّه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإنّ المكره لا اختيار له، ولا تعد موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرها عودا، وبهذا التقدير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا ¬

_ (¬1) فتح القدير.

[89]

المقام، حتى تسبب من ذلك تطويل ذيول الكلام. 89 - {قَدِ افْتَرَيْنا} واختلقنا {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {كَذِبًا} عظيما وتخرصنا عليه من القول باطلا {إِنْ} نحن {عُدْنا} ورجعنا ودخلنا في {مِلَّتِكُمْ} الباطلة، وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى وخلصنا {مِنْها} وبصرنا خطأها، وهدانا الصراط المستقيم، باتباع ملة إبراهيم، وإذا كان اتباع ملتكم يعد افتراء على الله لأنّه قول عليه، لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل .. فكيف بمن يفتري عليه ويضل عن صراطه على علم؟ فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء، التي لا تقبل فيها الأعذار بحال. وفي قوله: {إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ}، أيضا فيه من الإشكال (¬1) مثل ما في الأول، وهو أنّ شعيبا عليه السلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول: {إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها} والجواب عنه مثل ما أجيب به عن الإشكال الأول، وهو أن تقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أنّ شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا مما كانوا عليه من الكفر، فأجرى الكلام على حكم التغليب، وقيل: معنى {نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها} علمنا قبح ملتكم، وفسادها، فكأنّه خلصنا منها. وعبارة المراغي قوله: {إِذْ نَجَّانَا}؛ أي: نجى أصحابي منها، فهو تغليب بإدخاله في زمرتهم، أو: نجاني من الإنتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أؤمن بعقيدتها، ولا أعمل بعمل أهلها. انتهى. {وَما يَكُونُ لَنا}؛ أي: ما ينبغي لنا، ولا يصح منا، ولا يستقيم {أَنْ نَعُودَ} ونرجع إلى ملتكم وندخل {فِيها} ونترك الحق الذي نحن عليه في حال من الأحوال {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا}؛ أي: إلا في حال مشيئة ربنا أن نعود فيها، فهو وحده القادر على ذلك، لا أنتم ولا نحن، لأنّا موقنون بأن ملتكم باطلة، وملتنا هي الحق، التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض، فحينئذ يمضي ¬

_ (¬1) الخازن.

قضاء الله وقدره فينا، وينفذ سابق مشيئته علينا. وهذه الجملة (¬1) رفض آخر للعود إلى ملتهم، مؤكد أبلغ التأكيد، مؤس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم، نفاه نفيا مؤكدا بأنّه ليس من شأنهم، ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال، كالترغيب والترهيب، بالرجاء في المنافع، والخوف من المضار، كالإخراج من الديار إلا حالا واحدة، وهي مشيئة الله، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه، وسنته في خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له، وقائمين بما هداهم إليه منه. وخلاصة ذلك: لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفي بنا، عودتنا في ملتكم، بعد إذ نجانا منها بفضله، فما كان الله ليدحض حجته ويغير سنته. وقال الواحدي: معنى (¬2) العود هنا الابتداء. والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية: أنّ شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا نرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنّها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله تعالى، ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ}. وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال الزجاج - رحمه الله تعالى -: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها، إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}؛ أي: أحاط علم ربنا سبحانه وتعالى أزلا بكل الأشياء، ويعلم ما كان وما سيكون، قبل أن يكون، فالسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله، فهو سبحانه وتعالى يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئة تجري على موجب الحكمة، فكل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الواحدي.

ما يقع فهو مشتمل عليها، وفي هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}. {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْنا}؛ أي: اعتمدنا، وفي أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته، وإليه استندنا في أمورنا كلها، فإنّه الكافي لمن توكل عليه؛ أي: إلى الله وحده وكلنا أمورنا، مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، فهو الذي يكفينا تهديدكم، وما ليس في استطاعتنا من جهادكم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية، ومراعاة السنن الكونية، والاجتماعية، فمن يترك العمل بالأسباب .. فهو الجاهل المغرور، لا المتوكل المأجور. كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لمن سأله: أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ «إعقلها وتوكل». رواه الترمذي، وقال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلّم، بعد أن أمره بمشورة أصحابه في غزوة أحد: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ وإنما يكون العزم بعد الأخذ في الأسباب، فقد لبس من يومئذ در عين، وأعد العدة لقتال أعدائه، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة في ذلك العصر. وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه: أنّه عجب من تهديدهم وإنذارهم، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه، غير الله الفعال لما يريد، ثمّ ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه، مما هو فوق كسبه واختياره، ثمّ ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما في الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ} واحكم وافصل واقض {بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ}؛ أي: بالعدل الذي لا جور فيه، ولا ظلم ولا حيف، الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين. وكرر الظرف في قوله: {بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا} بخلاف قوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا} زيادة في تأكيد تميزه ومن معه من قومه ا. هـ. «سمين» {وَأَنْتَ}: يا ربنا {خَيْرُ

[90]

الْفاتِحِينَ}؛ أي: خير الحاكمين لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم، وتنزهك عن ابتاع الظلم واتباع الهوى في الحكم. 90 - {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم؛ أي: قال الرؤساء من قومه للسفلة {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} في دينه {إِنَّكُمْ إِذًا} في حال اتبعتموه فيما يقول {لَخاسِرُونَ}؛ أي: لمغبونون في الدين وفي الدنيا؛ لأنّه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس. والمعنى: وقال الكافرون من قوم شعيب - وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله، وكذبوا رسوله، وتمادوا في غيهم - لآخرين منهم: والله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله، وأقررتم بنبوته .. إنّكم إذا لخاسرون في فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها، وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد، إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم، تعترفون بأنّهم كانوا ضالين ومعذبين عند الله، وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان، وبخس الغرباء أشياءهم. ووصف الملأ أولا بالاستكبار؛ لأنّه هو الذي جرّأهم على تهديده، وإنذاره بالإخراج من القرية، وإشعاره بأنّهم أرباب السلطان فيها، وثانيا بالكفر؛ لأنّه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان، والأخذ بما جاء به، ثم عللوا لهم صدهم بأنّ في ذلك لهم مصلحة أيما مصلحة، وفائدة أيما فائدة. والخلاصة: أنه تعالى وصفهم أولا بالضلال، ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال. 91 - ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: الزلزلة الشديدة المهلكة {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ}؛ أي: فصاروا في مساكنهم {جاثِمِينَ}؛ أي: منكبين على وجوههم ميّتين. وقد بين سبحانه في سورة الشعراء أنّ الله أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة - وهم إخوة مدين في النسب -. أخرج ابن عساكر، عن ابن عباس في قوله: {كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} قال: كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين، وفي ذلك دليل على أن الله أرسله

[92]

إلى أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر، وأن حال الفريقين في الكفر والمعاصي كانت واحدة، وكان ينذرهم متنقلا بينهم، وكان عذاب مدين بالصيحة والرجفة المصاحبة لها، وعذاب أصحاب الأيكة بالسموم والحر الشديد، وقد انتهى ذلك بظلة من السحاب، فزعوا إليها يتبردون بظلها، فأطلقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون. 92 - {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}؛ أي: استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنّهم لم يقيموا في قريتهم أصلا؛ أي: عوقبوا بقولهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا}. وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ} دينا ودنيا دون الذين اتبعوه؛ فإنّهم الرابحون في الدارين. وعبارة «المراغي» هنا: قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} الآية. جاءت هذه الجملة بيانا من الله لما انتهى إليه أمرهم، وكيف كان عاقبة عملهم، فكأنّ سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا} وقولهم لقومهم: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ} فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا ...} إلخ؛ أي: الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم، فحرموها كأن لم يقيموا فيها، ولم يعيشوا فيها بحال، وأجاب عن الثاني: بقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ}؛ أي: الذين كذبوا وزعموا أنّ من يتبعه يكون خاسرا، كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة، دون الذين اتبعوه؛ فإنّهم كانوا هم الفائزين المفلحين. وفي الآية (¬1) إيماء إلى أنّ الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق، تكون عاقبته الحرمان الأبدي منه، كما أنّ الحريص على الربح، بأكل أموال الناس بالباطل، ينتهي بالحرمان منه ومن غيره. ¬

_ (¬1) المراغي.

[93]

93 - {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}؛ أي: فأدبر شعيب عنهم، وخرج من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله {وَقالَ} حزنا عليهم {يا قَوْمِ} والله {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي} وأديت إليكم ما بعثني به إليكم، من الأوامر والنواهي والتوحيد وَنَصَحْتُ لَكُمْ؛ أي: وأظهرت لكم النصح فأبيتم قبوله، فجاءكم العذاب {فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ}؛ أي: فكيف أحزن على عذاب قوم جحدوا وحدانية الله، وكذبوا رسله، وأتوجع لهلاكهم، بعد أن أعذرت إليهم، وبذلت جهدي في سبيل هدايتهم ونجاتهم، فاختاروا ما فيه هلاكهم؛ لأنّهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر وإنّما يأسى من قصر فيما يجب عليه من النصح والإنذار. والمعنى (¬1): لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم، فلم تسمعوا قولي، ولم تقبلوا نصحي، فكيف آسى عليكم؟ والمراد: أنّهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم، والاستفهام فيه للإنكار وفيه معنى التعجب. 94 - {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ} من القرى {مِنْ نَبِيٍّ}؛ أي: نبيا من الأنبياء فكذبه أهلها {إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها}؛ أي: عاقبناهم {بِالْبَأْساءِ}؛ أي: بالشدة في أحوالهم، كالخوف وضيق العيش {وَالضَّرَّاءِ}؛ أي: الأمراض والأوجاع، أي: وما أرسلنا في قرية من القرى نبيا من الأنبياء، فكذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها وعاقبناهم بالفقر والجوع، والأوجاع والأمراض {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}؛ أي: لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء، وينقادوا لأمر الله تعالى. والمعنى: أنّ سنتنا قد جرت - ولا مبدل لها - أنّنا إذا أرسلنا نبيا في قوم وكذبوه .. أنزلنا بهم الشدائد والمصائب، لنعدّهم ونؤهّلهم للتضرع والإخلاص في دعائنا بكشفها، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق: أنّ الشدائد تربي الناس، وتصلح فساد أحوالهم، فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى ¬

_ (¬1) المراح.

[95]

ربه، لكن الشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها له بفقدها، وتنبهه الشدائد والأهوال إلى وجود الرب الخالق، والمدبر لأمور الخلق، وتذكره الأهوال بمصدر هذا النظام في الكون 95 - {ثُمَّ} بعدما أخذناهم بالبأساء والضراء {بَدَّلْنا}؛ أي: أعطينا لهم {مَكانَ السَّيِّئَةِ}؛ أي: بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة {الْحَسَنَةَ}؛ أي: الرخاء والسعة؛ أي: ثمّ أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض؛ لأنّ ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر، والمراد: بدلنا مكان الحال السيئة من البأساء والضراء، الحال الحسنة من السراء والنعمة حَتَّى {عَفَوْا}؛ أي: حتى كثروا في أنفسهم وأموالهم ونموا، إذ إنّ الرخاء مما يكون سببا في كثرة النسل، وبه تتم النعمة في الدنيا على الموسرين، ومن هذه الحسنات: ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها، وذكرهم هود بها في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وكذا ما قاله صالح لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. {وَقالُوا} قولا يدل على أنّهم لا يعتبرون بأحداث الزمان، إذ قالوا: {قَدْ مَسَّ آباءَنَا} ممن قبلنا {الضَّرَّاءُ}؛ أي: ما يسؤهم من الشدائد والأمراض {وَالسَّرَّاءُ}؛ أي: ما يسرهم من الرخاء والراحة والخصب، كما أصابنا، وما نحن إلا مثلهم، فيصيبنا مثل ما أصابهم، وهذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة، وتلك عادة الدهر بأبنائه، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب، فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، فليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل، فلمّا لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء، ولم ينتفعوا بذلك الإمهال .. أخذهم الله بغتة أينما كانوا، كما قال تعالى: {فَأَخَذْناهُمْ} بعد ذلك {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة بالعذاب {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}؛ أي: والحال أنّهم لا يعلمون وقت نزول العذاب بهم، ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره، أي: فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة، وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم، إذ هم

[96]

قد جهلوا سنن الله التي وضعها في شؤون الاجتماع، فلا هم اهتدوا إليها بعقولهم، ولا هم صدقوا الرسل فيما أنذروهم به، ونحو هذه الآية قوله تعالى في سورة الأنعام: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}. فالكافرون إذا مسهم الشر .. يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير .. بطروا واستكبروا وبغوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، والمؤمنون بالله وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصائب تربية لهم وتمحيصا. ولما ترك (¬1) المسلمون هدى القرآن في حكوماتهم ومصالحهم العامة، في أعمال الأفراد .. سلبهم الله ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فاتبعوا أهل الكتاب في خرافاتهم وحفلهم، وتقليد آبائهم وأجدادهم، فغشيهم الجهل والثابتة منهم قلدوا الإفرنج في الفسق والفجور، وشر ما وصلوا إليه في طور فساد حضارتهم، وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم. 96 - {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى} الذين أهلكناهم {آمَنُوا} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر {لَفَتَحْنا}؛ أي: لبسطنا {عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ} بالمطر {وَ} بركات من {الْأَرْضِ} بالنبات، والثمار، والحبوب، والمواشي، والأمن، والسلامة؛ أي: لوسعنا عليهم الخيرات من فوقهم ومن تحتهم، ومن كل الجوانب من النعم التي لم يروا مثلها قط. وقال (¬2) السدّي: المعنى: لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق، وقيل: بركات السماء إجابة الدعاء، وبركات الأرض تيسير الحاجات. وقيل: البركات النمو والزيادة، فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس والقمر، ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت؛ وذلك لأنّ السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

ومنهما تحصل جميع الخيرات بخلق الله وتدبيره. ذكره أبو حيان. وقرأ ابن (¬1) عامر وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن: {لَفَتَحْنا} بتشديد التاء. ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم، كما تيسر على الأبواب المنغلقة بفتحها، ومنه: فتحت على القارىء، إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة. والمعنى (¬2): {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى} التي أرسلنا إليها رسلنا {آمَنُوا} بالرسل المرسلين إليهم {وَاتَّقَوْا} ما صمموا عليه من الكفر، ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: ليسرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، ويجوز أن يكون اللام في {الْقُرى} للجنس، والمعنى: ولو أنّ أهل القرى أينما كانوا، وفي أي بلد سكنوا آمنوا واتقوا. إلى آخر الآية. وقيل المعنى (¬3): ولو أنّ أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، من عبادته تعالى وحده، واتقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد في الأرض، بارتكاب الفواحش والآثام .. لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل، فتكون لهم أبواب نعم وبركات، غير التي عهدوا في صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض، وتكسب البلاد رفاهية العيش، وآتيناهم من العلوم والمعارف، وفهم سنن الكون، ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل. والخلاصة: أنّهم لو آمنوا .. لوسعنا عليهم الخير من كل جانب، ويسرناه لهم، بدل ما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم: أنّ الإيمان الصحيح، ودين الحق سبب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[97]

في سعادة الدنيا، ويشارك المؤمنين في المادي منها الكفار، وكما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: إنّ ذلك الفتح كان ابتلاء واختبارا لحالهم، وكان من أثره فيهم البطر والأشر، بدلا من الشكر لمولي النعم، فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة، ولكن المؤمنين إذا فتح الله عليهم .. كان أثره فيهم شكر الله تعالى عليه، والاغتباط بفضله، واستعماله في سبيل الخير دون الشر، وفي الإصلاح دون الإفساد، وكان جزاؤهم على ذلك زيادة النعم في الدنيا، وحسن الثواب عليها في الآخرة. {وَلكِنْ كَذَّبُوا} بالأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا {فَأَخَذْناهُمْ} بالعذاب والجدوبة {بـ} سبب {ما كانوا يكسبون} من الذنوب والمعاصي الموجبة لعذابهم، أو بسبب كسبهم الذنوب. أي: ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا، بل كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشري، وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي، بحسب السنن التي وضعها المولى في الكون، ويكون فيه العبرة لأمثالهم، إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة، التي لا تبديل فيها ولا تغيير. 97 - ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ والتقريع، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم، وغرهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا؟ {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا}؛ أي: عذابنا {بَياتًا}؛ أي: ليلا {وَهُمْ نائِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم غافلون عن ذلك، فلا ينبغي لهم أن يأمنوا ذلك، 98 - والهمزة في قوله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} للاستفهام الإنكاري التوبيخي أيضا، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهلوا ذلك وأمنوا؟ {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا}؛ أي: عذابنا {ضُحًى}؛ أي: نهارا {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؛ أي: والحال أنّهم يشتغلون بما لا ينفهم؛ أي: والحال أنّهم مشتغلون باللعب،

[99]

ومنهمكون في أعمالهم التي هي كأنّها لعب أطفال، لعدم الفائدة التي تترتب عليها. والخلاصة: أنّه تعالى خوفهم نزول العذاب بهم في أوقات الغفلات، إما وقت النوم، وإمّا وقت الضحى، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات. وفي «الخازن»: والمقصود من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة، وهو حال النوم في الليل، ووقت الضحى في النهار؛ لأنّه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا، وأمور الدنيا كلها لعب، ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم، وذلك لعب أيضا يضر ولا ينفع. انتهى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر (¬1): {أو أمن} بسكون الواو، وجعل أو عاطفة، ومعناها التنويع، لا أن معناها الإباحة أو التخيير، خلافا لمن ذهب إلى ذلك، وحذف ورش همزة: {أَمِنَ} ونقل حركتها إلى الواو الساكنة، والباقون بهمزة، فالاستفهام بعدها واو العطف، وتكرر لفظ {أَهْلُ الْقُرى} لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع، ما لا يكون في الضمير لو قال: أو أمنوا؛ فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر. 99 - والاستفهام في قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} للتقريع (¬2) والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم في هذين الوقتين، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، وجاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير؛ لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} أو {أَمِنَ} وتأكيد لمضمون ذلك، فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء. وقال أبو السعود: تكرير المكرر لزيادة التوبيخ والتقريع، والمراد بـ {مَكْرَ اللَّهِ} هنا إتيان بأسه في الوقتين المذكورين؛ ولذلك عطف الأول والثالث بالفاء؛ فإنّ الإنكار فيهما متوجه إلى ترتب الأمن على الأخذ المذكور، وأما الثاني فمن تتمته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[100]

الأول، فلذلك عطف بالواو. انتهى. و {مَكْرَ اللَّهِ} مصدر مضاف إلى الفاعل، وهو كناية عن أخذه العبد من حيث لا يشعر. قال ابن عطية: و {مَكْرَ اللَّهِ} هي إضافة مخلوق إلى الخالق، كما تقول: ناقة الله وبيت الله، والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة، فلما كان عقوبة الذنب .. أضيف إلى الله؛ فإن العرب تسمى العقوبة - على أي جهة كانت - باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة. وهذا نص في قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}. انتهى، وقال عطية: ألقوا في مكر الله: عذابه وجزاؤه على مكرهم، وقيل: مكره تعالى استدراجه بالنعمة والصحة، وأخذه على غرة، وكرر المكر مضافا إلى الله تحقيقا لوقوع جزاء المكر بهم. ذكره أبو حيان في «البحر». والمذهب الأسلم الذي نلقى الله عليه: أن مكر الله تعالى صفة ثابتة له تعالى فنثبتها، ولا نكيفه ولا نعطله، أثرها أخذ العبد من حيث لا يشعر. والمعنى: أجهلوا بأس الله تعالى بمن قبلهم، فأمنوا مكر الله لهم في هذين الوقتين: البيات والضحى {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} وعذابه {إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}؛ أي: إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم، حتى صاروا إلى النار المؤبدة. وقال المراغي: وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر الله جهلا يورث الخسر، فما بال من يأمن مكر الله وهو مسترسل في معاصيه، إتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟!. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر من الدعاء بقوله: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». وذكر سبحانه أنّ الراسخين في العلم يدعونه فيقولون: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. وكما أن الأمن من مكر الله خسران ومفسدة .. فاليأس من رحمة الله كذلك، فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد. 100 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها} للتوبيخ والتقريع، كالتي قبلها، وهي داخلة على محذوف، والواو عاطفة ما بعدها على

ذلك المحذوف، والتقدير: أجهل الذين يرثون أرض مكة وما حولها من بعد إهلاك أهلها الذين هم أسلافهم سنتنا فيمن قبلهم؟ أي: أجهل هؤلاء الوارثون سنتنا فيمن قبلهم، من إهلاكهم بذنوبهم، ولم يهد لهم؛ أي: ولم يتبين لهؤلاء الوارثين من بعد إهلاك أهلها، الذين هم أسلافهم. {أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} كما أصبنا أولئك المتقدمين؛ أي: أجهلوا سنتنا فيمن قبلهم ولم يبين لهم؟ أي: لهؤلاء الوارثين أنّه؛ أي: أن الشأن والحال، لو شئنا وأردنا إصابة هؤلاء الوارثين بذنوبهم، أصبناهم وأهلكناهم بذنوبهم، وكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أصبنا وأهلكنا أولئك الموروثين الذين هم أسلافهم بذنوبهم، والواو في قوله: {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ} بمعنى (أو) التي تمنع الجمع، عاطفة ما بعدها على أصبناهم؛ أي: أو نطبع ونختم على قلوب هؤلاء الوارثين إن نهلكهم بالعذاب، كما طبعنا على قلوب أولئك المتقدمين {فَهُمْ}؛ أي: هؤلاء الوارثون حينئذ؛ أي: حين إذ طبعنا على قلوبهم {لا يَسْمَعُونَ} الموعظة من أخبار الأمم المهلكة، ولا يقبلونها. والمراد (¬1): لو شئنا نفعل بهؤلاء الوارثين إما الإهلاك وإما الطبع على القلب؛ لأنّ الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب، فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه؛ وإنّما يجعل الطبع حال استمراره على الكفر، فهو يكفر أولا، ثم يكون مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: {وَنَطْبَعُ} على {أَصَبْناهُمْ}. والمعنى: أي أكان (¬2) ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى، وأنه هو سنة الله، ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، أنّ شأننا فيهم، كشأننا فيمن سبقهم، فهم خاضعون لمشيئتنا، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم، كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها، وأهلكناهم كما أهلكناهم، فإن لم نهلكهم بالعذاب .. نطبع على قلوبهم، فلا يسمعون ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[101]

الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}. إذ أن قلوبهم قد ملئت بمعتقدات وشهوات تصرفها عن غيرها، فجعلتهم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، وقد كان في مثل هذه القصص عبرة للمسلمين أيما عبرة، فكتابهم يقص عليهم قصص الأمم قبلهم، ويبين لهم أنّ ذنوب الأمم لا تغفر، كذنوب الأفراد، وسننه فيها لا تتبدل ولا تتحول، فكان عليهم أن يتقوا كل ما قصه من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم، وزالت بها الدولة لأعدائهم، ولكنهم قصروا في وعظ الأمة بها، وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها، وكان عليهم أن يعتبروا بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «شيبتني هود وأخواتها» وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}. وفي «زاد المسير» وقرأ يعقوب (¬1): {نهد} بالنون، وكذلك في طه والسجدة. قال الزجاج: من قرأ بالياء .. فالمعنى: أو لم يبين الله لهم؟ ومن قرأ بالنون .. فالمعنى: أو لم نبين؟ انتهى. وقال الشوكاني: قرىء {نهد} (¬2) بالنون وبالتحتية، فعلى قراءة النون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه وتعالى، ومفعول الفعل: {أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: أنّ الشأن هو هذا، وعلى قراءة التحتية يكون فاعل يَهْدِ هو {أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم، والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عدّيت باللام. انتهى. 101 - {تِلْكَ الْقُرى} التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها، وجهل قومك حقيقة حالها التي أهلكناها - وهي قرى قوم نوح، وهود وصالح، ولوط، وشعيب - المتقدم ذكرها {نَقُصُّ} ونتلو {عَلَيْكَ} يا محمد ونخبرك {مِنْ أَنْبائِها}؛ أي: بعض أخبارها، مما فيه العبرة لقومك، والتسلية لك وللمؤمنين؛ لأنّه (¬3) إنّما قص عليه صلى الله عليه وسلّم ما فيه عظة وإنزجار، دون غيرهما، ولها أنباء غيرها لم يقصها عليه؛ ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) فتح القدير. (¬3) الفتوحات.

وإنّما قص عليه أنباء أهل هذه القرى؛ لأنّهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنّهم على الحق، فذكرها الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلّم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال. أي: نقص أنباءها عليك لتتسلى، وليحذر كفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصاب هذه القرى، والمضارع يحتمل أن يكون على معناه، والمعنى: نقص عليك فيما سيأتي مفترقا في السور، كما هو الواقع، فإنّ القرى المذكورة فيما سبق ستأتي قصصها في السور الآتية بأبسط مما ذكر هنا، ويحتمل أن يكون بمعنى الماضي، ويحتمل أن يكون بالمعنيين. وقال المراغي: والحكمة في تخصصها بالذكر، أنّها كانت في بلاد العرب وما جاورها، وكان أهل مكة. وغيرهم ممن وجهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها، وهي جميعا طبعت على غرار واحد في تكذيب الرسل، والمماراة فيما جاؤوا به من النذر، فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال، فالعبرة في جميعها واحدة، ومن ثم فصلها في قصة موسى الآتية؛ لأنّ قومه آمنوا به، وإنّما كذب فرعون. انتهى. واللام في قوله: {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} موطئة للقسم؛ أي: إنّ من أخبارهم - والله - لقد جاءتهم؛ أي: لقد جاءت كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياءهم، الذين أرسلوا إليهم بالبينات؛ أي: المعجزات الواضحة، الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}؛ أي: فما كان أهل تلك القرى - بعد رؤية تلك المعجزات - ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات، والمعنى (¬1): كانت كلّ أمة من تلك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك، كأن لم يبعث إليهم أحد. ¬

_ (¬1) المراح.

والمعنى (¬1): ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، فجاء كل رسول قومه بما أعذر به إليهم، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدأ الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله وحده بما شرعه، وترك الشرك والمعاصي. ذاك أنّ شأن المكذبين عنادا أو تقليدا .. أن يصروا على التكذيب بعد إقامة الحجة، إذ لا قيمة لها في نظرهم، فهم إمّا جاحدون ومعاندون ضلوا على علم، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم. {كَذلِكَ}؛ أي: كما طبع الله سبحانه وتعالى، وختم على قلوب كفار الأمم الخالية، من أهل القرى المذكورة وأهلكهم {يَطْبَعُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى ويختم {عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} الذين كتب عليهم أنّهم لا يؤمنون من قومك، فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير، ولا ترغيب ولا ترهيب؛ أي: مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال، وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم .. يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم، وصار العناد ديدنهم، سنة الله في أخلاق البشر وأحوالهم، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله، وتستحوذ أوهامه على عقولهم، ويملأ حب الشهوات أفئدتهم، فلا يقبلون بحثا، ولا فيما هم عليه نقدا، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء سبك معدنها وإذابته، ثمّ جمدت، فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وإعلام له بأنّ أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد، وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل، لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت، والآيات وإن اقترحت، وقد كانوا يقترحون عليه الآيات، وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا على إيمانهم، حتى بين الله له طباعهم وأخلاقهم، ليعرف مبلغ أمرهم في قبول دعوته، وأنّه لا أمل له ¬

_ (¬1) المراغي.

[102]

فيهم بحال 102 - {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}؛ أي: وما وجدنا (¬1) لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية، الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد - من وفاء بالعهد الذي عهدنا إليهم، وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق - قال ابن عباس: إنّما أهلك الله أهل القرى .. لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به؛ أي: وما وجدنا (¬2) لأكثر أولئك الأقوام عهدا يفون به، سواء أكان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبي فوق جميع القوى، وعلى إيثار الحسن، واجتناب غيره، وعلى حب الكمال، وكراهة النقص، أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم - وهم في الأصلاب - أنه ربهم ومليكهم، وأنّه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا معه غيره، بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، وقد جاء في «صحيح مسلم»: «يقول الله: إنّي خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفي «الصحيحين»: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .. {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}؛ أي: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا، وهذا المعنى على مذهب الكوفيين من كون {إِنْ} للنفي واللام بمعنى إلا، وعند غيرهم إنّ {إِنْ} مخففة، واسمها ضمير الشأن، واللام فارقة، والمعنى حينئذ أي: وإنّ الشأن والحال وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة، خارجين عن كل عهد فطري وشرعي وعرفي، فهم ناكثون غادرون للعهود، مرتكبون أفانين المعاصي، وفي التعبير بالأكثر إيماء إلى أنّ بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه، أو تعاهد عليه مع الناس. الإعراب {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

{قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: فماذا قالوا بعد سماعهم هذه المواعظ من شعيب؟ إه أبو السعود. {الَّذِينَ}: اسم موصول صفة للملأ {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، مِنْ قَوْمِهِ: جار ومجرور، حال من واو {اسْتَكْبَرُوا}. {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ} إلى قوله: {قالَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَنُخْرِجَنَّكَ} اللام: موطئة للقسم {نخرجنك} فعل ومفعول، ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول قالوا {يا شُعَيْبُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مقول القول على كونها معترضة {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على الكاف في {لَنُخْرِجَنَّكَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {نخرجنك} وفي «الفتوحات» قوله: {مَعَكَ} متعلق بالإخراج لا بالإيمان {مِنْ قَرْيَتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نخرجنك} {أَوْ}: حرف عطف، {لَتَعُودُنَّ} واللام: موطئة للقسم المحذوف {تعودن}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكين، في محل الرفع فاعل؛ لأنّ أصله تعودونن، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم معطوف على جملة القسم في قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ}. {فِي مِلَّتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تعودن}. {قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {شُعَيْبُ}: والجملة مستأنفة. {أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ} إلى قوله: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مقول محكي لـ {قالَ}. وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتعيدوننا في ملتكم، أو تخرجوننا من قريتكم كارهين، كلا الأمرين، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالَ} (¬1). قال الزمخشري: الهمزة: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

للاستفهام، والواو: واو الحال تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، أو مع كوننا كارهين. انتهى. فجعل الاستفهام خاصا بالعود في ملتهم، وليس كذلك، بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين: الإخراج أو العود، وجعل الواو واو الحال، وقدره: تعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبر عنها النحويون بواو الحال، بل هي واو العطف، عطفت على حال محذوفة كقوله: ردوا السائل ولو بظلف محرق، ليس المعنى ردوه في حال الصدقة عليه بظلف محرق، بل المعنى: ردوه مصحوبا بالصدقة، ولو مصحوبا بظلف محرق. ذكره أبو حيان في «البحر». والواو: واو الحال: {لَوْ}: حرف شرط بمعنى إن الشرطية {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه {كارِهِينَ}: خبره، وجملة كان فعل شرط لـ {لَوْ}. وجوابها معلوم مما قبلها تقديره: أو لو كنا كارهين تعيدوننا أو تخرجوننا؟ وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب، حال من ضمير المفعول في الفعل المحذوف تقديره: أتعيدوننا، أو أتخرجوننا، حالة كوننا كارهين كلا الأمرين؟ {قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ}. {قَدِ افْتَرَيْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على كونها مقول {قالَ}. وجواب القسم محذوف تقديره: والله لقد افترينا {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {افْتَرَيْنا}. {كَذِبًا}: مفعول به {إِنْ}: حرف شرط {عُدْنا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ}، على كونها فعل شرط لها فِي {مِلَّتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عُدْنا}: وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن عدنا في ملتكم .. فقد افترينا على الله كذبا. وجملة {إِنْ}: الشرطية في محل النصب مقول {قالَ}. {بَعْدَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {عُدْنا}. {بَعْدَ}: مضاف {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان مضاف إليه، {نَجَّانَا اللَّهُ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْها}: متعلق به، والجملة الفعلية مضاف إليه لـ {إِذْ}، والتقدير: بعد وقت تنجية الله تعالى إيانا منها {وَما} الواو: عاطفة ما: نافية، {يَكُونُ}:

فعل مضارع ناقص {لَنا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {يَكُونُ}. {إِنْ}: حرف نصب ومصدر، {نَعُودَ}: فعل مضارع منصوب بـ {إِنْ}: وفاعله ضمير المتكلمين يعود على {شُعَيْبُ} وأتباعه {فِيها} جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أنْ} المصدرية {أنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {يَكُونُ} تقديره: وما يكون العود فيها كائنا لنا، وجملة {يَكُونُ}: معطوفة على جملة قوله: {قَدِ افْتَرَيْنا} على كونها مقول {قالَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء من عام الأحوال {أنْ}: حرف مصدر، {يَشاءَ}: منصوب به، {اللَّهِ}: فاعل، {رَبُّنا}: بدل من الجلالة، أو عطف بيان منه، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عودنا، وجملة، {أنْ} المصدرية مع ما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المقدر إليه والتقدير: وما يكون لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، إلا في حال مشيئة الله عودنا فيها {وَسِعَ رَبُّنا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به لـ {وَسِعَ}. {عِلْمًا}: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: وسع علمه كل شيء {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَوَكَّلْنا}. {تَوَكَّلْنا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {رَبُّنا} منادى مضاف {افْتَحْ} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة في محل النصب مقول {قالَ}: {بَيْنَنا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {افْتَحْ}. {وَبَيْنَ قَوْمِنا}: ظرف ومضاف إليه، معطوف على الظرف الأول {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، متعلق بـ {افْتَحْ}. {وَأَنْتَ}: مبتدأ {خَيْرُ الْفاتِحِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (90)}. {وَقالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْمَلَأُ}، كَفَرُوا: صلة الموصول، {مِنْ قَوْمِهِ}: حال من الواو {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا}: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: اللام: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط {اتَّبَعْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {شُعَيْبًا}: مفعول به، {إِنَّكُمْ}: {إن}: حرف نصب، والكاف:

اسمها، {إِذًا}: حرف جواب وجزاء ملغاة لا عمل لها لعدم دخولها على الفعل. {لَخاسِرُونَ}: اللام: حرف ابتداء، {خاسرون}: خبر {إن} وجملة {إن}: من اسمها وخبرها جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن اتبعتم شعيبا .. فإنّكم لخاسرون. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الفاء: حرف عطف وتعقيب {أخذتهم الرجفة}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}. {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}، الفاء: عاطفة {أصبحوا}: فعل ناقص، واسمه {فِي دارِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جاثِمِينَ}، جاثِمِينَ خبر {أصبحوا}، وجملة {أصبحوا} معطوفة على جملة قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}. {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ}. {الَّذِينَ}: مبتدأ {كَذَّبُوا شُعَيْبًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {كَأَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: كأنهم {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَغْنَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {كَأَنْ} وجملة {كَأَنْ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا}: مبتدأ، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْخاسِرِينَ}: خبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)}. {فَتَوَلَّى}: الفاء: عاطفة، {تولى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، وما بينهما اعتراض، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {تولى} {وَقالَ}: معطوف على {تولى}، {يا قَوْمِ}: إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {يا قَوْمِ}: منادى

مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {لَقَدْ}: اللام: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق، {أَبْلَغْتُكُمْ} فعل وفاعل، ومفعول أول، {رِسالاتِ رَبِّي}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية، جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، {وَنَصَحْتُ}: فعل وفاعل {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أَبْلَغْتُكُمْ}. {فَكَيْفَ} الفاء: عاطفة، {كيف}: اسم استفهام في محل النصب على التشبيه بالحال، {آسى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {شُعَيْبُ} والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نَصَحْتُ}، {عَلى قَوْمٍ} متعلق بـ آسى، {كافِرِينَ} صفة {قَوْمِ}. {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}. {وَما}: نافية {أَرْسَلْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {فِي قَرْيَةٍ}، متعلق بـ {أَرْسَلْنا}. {مِنْ}: زائدة، {نَبِيٍّ}: مفعول {أَرْسَلْنا} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال، {أَخَذْنا}: فعل وفاعل، {أَهْلَها}: مفعول {أَخَذْنا}، {بِالْبَأْساءِ}: متعلق بـ {أَخَذْنا}، {وَالضَّرَّاءِ}: معطوف على {البأساء}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {أَرْسَلْنا} ولكنها على تقدير قد والتقدير: وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة، نبيا من الأنبياء، في حال من الأحوال، إلا في حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء، {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترج، والهاء اسمها وجملة {يَضَّرَّعُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها. {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف {بَدَّلْنا}: فعل وفاعل، {مَكانَ السَّيِّئَةِ}: مفعول {كان} ومضاف إليه، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: في مكان السيئة، {الْحَسَنَةَ}: مفعول أول، والمعنى: بدلنا مكان الحال السيىء الحال الحسن، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة، ومكان السيئة هو المتروك الذاهب، وهو الذي تصحبه الباء في مثل هذا التركيب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَخَذْنا}

{حَتَّى}: حرف جر وغاية {عَفَوْا}: فعل وفاعل، في محل النصب بأن المضمرة، {وَقالُوا}: معطوف عليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} الجار والمجرور، متعلق بـ {بَدَّلْنا}؛ أي: بدلنا مكان السيئة الحسنة إلى عفوهم، وقولهم: {قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {قَدْ}: حرف تحقيق، {مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ}: فعل ومفعول وفاعل، {وَالسَّرَّاءُ}: معطوف على {الضَّرَّاءُ}: والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {فَأَخَذْناهُمْ} الفاء: عاطفة {أخذناهم}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {قالُوا}. {بَغْتَةً} مفعول مطلق؛ أي: أخذ بغتة، أو حال من فاعل {أخذنا}. {وَهُمْ}: مبتدأ وجملة {لا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من هاء {أخذناهم}. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)}. {وَلَوْ} الواو: استئنافية {لَوْ}: حرف شرط {أَنَّ}: حرف نصب {أَهْلَ الْقُرى}: اسمها {آمَنُوا}: فعل وفاعل، {وَاتَّقَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} وجملة {آمَنُوا}: في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف بعد لو الشرطية؛ لأن {لَوْ} لا يليها إلا الفعل، والتقدير: ولو ثبت إيمان أهل القرى وتقواهم .. {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ} اللام: رابطة لجواب {لَوْ}. {فتحنا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به: {بَرَكاتٍ} مفعول به، {مِنَ السَّماءِ}: صفة لـ {بَرَكاتٍ}، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماءِ} وجملة {فتحنا} جواب {لَوْ}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة، {وَلكِنْ}: الواو عاطفة {لكِنْ}: حرف استدراك، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة، على جملة {لَوْ} الشرطية، {فَأَخَذْناهُمْ}: الفاء: حرف عطف وتفريع، {أخذناهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}، {بِما}: جار ومجرور، متعلق بـ {أخذنا}، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يكسبونه.

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ (97)}. {أَفَأَمِنَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف {أمن أهل القرى}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهل أهل القرى من مكة وما حولها سنتنا فيمن قبلهم فأمنوا؟ {أَنْ}: حرف مصدر، {يَأْتِيَهُمْ}: فعل ومفعول، {بَأْسُنا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: أفأمنوا إتيان بأسنا إياهم؟، {بَياتًا}: حال من {بَأْسُنا}؛ أي: بائتا مستخفيا في الليل، وقيل: هو منصوب على الظرفية؛ أي: ليلا، {وَهُمْ نائِمُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من هاء {يَأْتِيَهُمْ}، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، هذا على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب الجمهور: الفاء: عاطفة ما بعدها على {أخذناهم بغتة}، وما بينهما اعتراض. {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}. {أَوَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، {أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل القرى عن سنننا فيمن قبلهم، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا}: جملة فعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: إتيان بأسنا إياهم، {ضُحًى}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يأتي}. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَلْعَبُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من هاء {يَأْتِيَهُمْ}. {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)}. {أَفَأَمِنُوا} الهمزة: داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف {أمنوا}: فعل وفاعل، {مَكْرَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والتقدير: أجهلوا سنتنا فأمنوا مكر الله؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {فَلا يَأْمَنُ}: الفاء: استئنافية، {لا}: نافية {يَأْمَنُ مَكْرَ

اللَّهِ}: فعل ومفعول ومضاف إليه، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {الْقَوْمُ}: فاعل، {الْخاسِرُونَ}: صفته، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}. {أَوَلَمْ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَهْدِ} - صلى الله عليه وسلم -: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}: وعلامة جزمه حذف حرف العلة، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به {يَرِثُونَ الْأَرْضَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {مِنْ بَعْدِ أَهْلِها}: جار ومجرور متعلق بـ {يَرِثُونَ}. {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: أنه {لَوْ}: حرف شرط {نَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} ومفعول المشيئة محذوف تقديره: لو نشاء أصبنا إياهم، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ}. {أَصَبْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وأتى بجواب {لَوْ} هنا خاليا عن اللام، وهو جائز على قلة، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {يَهْدِ} والتقدير: أغفل الذين يرثون الأرض من بعد أهلها، عن سننا فيمن قبلهم، ولم يهد ويبين لهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو نشاء الإصابة لهم، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب {بِذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور متعلقان بـ {أَصَبْناهُمْ} {وَنَطْبَعُ} الواو: عاطفة بمعنى {أو} التي تمنع الجمع، {نَطْبَعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {عَلى قُلُوبِهِمْ}: متعلق بـ {نَطْبَعُ}، والجملة معطوفة على {أَصَبْناهُمْ} على كونها جواب {لَوْ}. {فَهُمْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {هم}: مبتدأ وجملة {لا يَسْمَعُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على {نَطْبَعُ}: {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)}.

{تِلْكَ}: مبتدأ، {الْقُرى}: بدل منه، أو عطف بيان له، {نَقُصُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {مِنْ}: حرف جر وتبعيض، {أَنْبائِها}: مجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور، متعلق بـ {نَقُصُّ}، أيضا، وجملة {نَقُصُّ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية، اللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {جاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول، {رُسُلُهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، {بِالْبَيِّناتِ}: متعلق بـ {جاء} والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة استئنافا بيانيا، {فَما}: الفاء: عاطفة، {ما}: نافية، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، {لِيُؤْمِنُوا}: اللام: حرف جر وجحود، {يؤمنوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، {بِما}: جار ومجرور، متعلق بـ {يؤمنوا}. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كذبوه، و {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَذَّبُوا}: وجملة {يؤمنوا} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر كان، تقديره: فما كانوا مريدين لإيمانهم بما كذبوا من قبل. هذا على مذهب البصريين، وأما على مذهب الكوفيين: فاللام زائدة لتوكيد النفي، والتقدير عندهم: فما كانوا مؤمنين بما كذبوا من قبل. كما ذكرنا ذلك مبسوطا في كتابنا «الدرر البهية في إعراب أمثلة الآجرومية» وعرف بعضهم لام الجحود ببيت واحد: وكلّ لام قبله ما كانا أو ... لم يكن فللجحود بانا {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف {يَطْبَعُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَطْبَعُ}، والتقدير: يطبع الله على قلوب الكافرين من أمتك طبعا مثل طبعه على قلوب الكافرين من الأمم الماضية، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)}. {وَما} الواو: إستئنافية، {ما}: نافية، {وَجَدْنا}: فعل وفاعل، والجملة

مستأنفة، {لِأَكْثَرِهِمْ} (¬1): متعلق بوجد، كقولك: ما وجدت له مالا؛ أي: ما صادفت له مالا ولا لقيته، ويحتمل أن يكون حالا {مِنْ عَهْدٍ}؛ لأنّه في الأصل صفة نكرة، فلمّا قدم عليها نصب على الحال، والأصل: وما وجدنا عهدا لأكثرهم، وهذا لم يذكر أبو البقاء غيره، وعلى هذين الوجهين: ف {وجد} متعد لواحد، وهو {مِنْ عَهْدٍ}، ومن مزيدة فيه، والوجه الثالث: أنه في محل نصب مفعولا ثانيا لوجد، إذ هي بمعنى علم، والمفعول الأول هو {مِنْ عَهْدٍ}، وقد يترجح هذا بأن {وجد} الثانية علمية لا وجدانية، بمعنى الإصابة، فإذا تقرر هذا .. فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام، ومناسبة له، ومن يرجح الأول يقول: إن الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر اه «سمين». {وَإِنْ}: الواو: عاطفة {إِنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وإن الشأن والحال، {وَجَدْنا}: فعل وفاعل، {أَكْثَرُهُمْ}: مفعول أول لوجد؛ لأنّها علمية {لَفاسِقِينَ}: اللام فارقة بين المخففة والنافية، {فاسقين}: مفعول ثان لوجد على حد قول ابن مالك: وخفّفت أنّ فقلّ العمل ... وتلزم اللّام إذا ما تهمل وجملة وجد في محل الرفع خبر {إِنْ} المخففة، وجملة {إِنْ} المخففة معطوفة على جملة قوله: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ} وقال بعض (¬2) الكوفيين: إن {إِنْ} في مثل هذا التركيب هي النافية، واللام بمعنى إلا، والمعنى: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين. التصريف ومفردات اللغة {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا} وفي السمين (¬3): وعاد في لسانهم لها استعمالان: أحدهما: وهو الأصل، أنّه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول. والثاني: استعمالها بمعنى صار، وحينئذ ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلا تكتفي ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

بمرفوع كقولهم: عاد السعر رخيصا، واستشكلوا على كونها بمعناها الأصلي أنّ شعيبا عليه السلام لم يكن قط على دينهم، ولا في ملتهم، فكيف يحسن أن يقال: أو لتعودن؛ أي: ترجعن إلى حالتكم الأولى، والخطاب له ولأتباعه؟ وقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنّ هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العوام، والإيهام لهم أنّه كان على دينهم وعلى ملتهم. الثاني: أن يراد بعوده رجوعه إلى حاله قبل بعثته من السكون؛ لأنّه قبل أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه، وهو ساكت عنهم، بريء من معبوداتهم غير الله. الثالث: تغليب الجماعة على الواحد؛ لأنّهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج .. سحبوا عليه وعليهم حكم العود إلى الملة تغليبا لهم عليه، وأما إذا جعلنا بمعنى صار .. فلا إشكال في ذلك، إذ المعنى: لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا، وفي ملتنا حال على الأول، خبر على الثاني، وعدي عاد بفي الظرفية تنبيها على أنّ الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا}؛ أي: اقض؛ لأنهم يسمون القاضي: الفاتح والفتاح؛ لأنّه يفتح مواضع الحق اه كرخي، وفي «السمين»: أن الفتح: الحكم بلغة حمير، وقيل: بلغة مراد، وفي «المراغي» الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال وهو قسمان: حسي يدرك بالبصر، كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي، ومعنوي يدرك بالبصيرة، كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم، والنصر في وقائع الحرب، والمبهم من قضايا الحكم، ويقال: فتح الله عليه إذا جد وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه نصره، وفتح الحاكم بينهم، وما أحسن فتاحته؛ أي: حكمه كما قال شاعرهم: ألا أبلغ بني وهب رسولا ... بأنّي عن فتاحتهم غنيّ ويقال: بينهم فتاحات؛ أي: خصومات، وولي الفتاحة؛ أي: القضاء. انتهى. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الرجف الحركة والاضطراب، والمراد منها: الزلزلة

الشديدة، ومنه: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} وقال هنا وفي سورة العنكبوت: الرجفة، وفي سورة هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}؛ أي: صيحة جبريل وصرخته عليهم من السماء، ولعلها؛ أي: الصيحة كانت في مبادىء الرجفة، فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة، وإلى البعيد أخرى. اه أبو السعود. وقال قتادة (¬1): بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، فأما أصحاب الأيكة .. فأهلكوا بالظلة، وأمّا أهل مدين .. فأخذتهم الرجفة، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا، وقال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، ملوك مدين، وكان ملكهم في يوم الظلة اسمه كلمن، فلما هلك رثته ابنته بشعر اه. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أصله يغنيوا بوزن يفعلوا، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، أو يقال: تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف فصار: يغنوا بوزن يفعوا، وفي «المصباح»: غني بالمال يغنى غنى، مثل رضي يرضى رضى، فهو غني، والجمع أغنياء، وغني بالمكان: إذا نزل به واقام فيه فهو غان. اه. {فَكَيْفَ آسى} والأسى شدة الحزن، وأصل آسى أأسى بهمزتين، قلبت الثانية ألفا، وفي «المصباح» وأسى أسا - من باب تعب - حزن، فهو أسى مثل حزين. اه. {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة: كل ما يستحسنه الطبع والعقل، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة، وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج. {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ} القرية المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها - العاصمة - والبأساء الشدة والمشقة، كالحرب والجدب، وشدة الفقر، والضراء ما ¬

_ (¬1) الفتوحات.

يضر الإنسان في بدنه، أو نفسه، أو معيشته، والأخذ بها، جعلها عقابا لهم. والتضرع إظهار الضراعة؛ أي: الضعف والخوضع {حَتَّى عَفَوْا}؛ أي: حتى نموا وكثروا عددا وعددا، من عفا النبات والشعر إذا كثر وتكاثف {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة، فهو الأخذ حال السعة والرخاء، لا حال الجدب كما قيل؛ فإنّه قد بدل بالسعة. اه أبو السعود. {بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ} تشمل معارف الوحي العقلية، ونفحات الإلهام الربانية، والمطر، ونحوه مما يوجب الخصب والخير في الأرض، وبركات الأرض، النبات والثمار، وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق، والأمن، والسلامة من الآفات، وكل ذلك من فضل الله وإحسانه على عباده، وأصل البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض، لأنّه نشأ من بركات السماء، وهي المطر، وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشي؛ أي: تابعنا عليهم المطر من السماء، والنبات من الأرض، ورفعنا عنهم القحط والجدب. اه خازن. {بَأْسُنا بَياتًا} البأس العذاب، بياتا؛ أي: وقت بيات، وهو الليل. {ضُحًى}؛ أي: ضحوة النهار، وهي في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت، اه أبو السعود، وفي «السمين»: والضحى: انبساط الشمس، وامتداد النهار، وسمى به الوقت، ويقال: ضحى وضحاء، إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته، وقال بعضهم: الضحى - بالضم والقصر - لأول ارتفاع الشمس، والضحاء - بالفتح والمد - لقوة ارتفاعها قبل الزوال، والضحى مؤنث اه. {يَلْعَبُونَ}؛ أي: يلهون من فرط غفلتهم {مَكْرَ اللَّهِ}: والمكر التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب، وفي «المختار»: المكر الاحتيال والخديعة، وقد مكر من باب نصر، فهو ماكر ومكّار. اه وفي «السمين»: والمراد بمكر الله هنا: فعل يعاقب به الكفرة على كفرهم، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة على ذنبهم {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} يقال: هداه

السبيل وهداه إليه، وهداه له؛ أي: دله عليه وبينه له. {مِنْ عَهْدٍ} العهد الوصية، والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها، وأخرى يراد بها ما يوحى به، ويقال: عهدت إليه بكذا؛ أي: وصيته بفعله أو حفظه، وهو إما أن يكون بين طرفين - وهو المعاهدة - وإما من طرف واحد، بأن يعهد إليك بشيء، أو تلزم بشيء، والميثاق: هو العهد الموثق بضرب من ضروب التوكيد. وقال الراغب (¬1): عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب وألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع، كالنذور وما يجري مجراها اه {الفاسقين} والفسوق: الخروج عن كل عهد فطري وشرعي، بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي، ووجدنا الأولى بمعنى ألفينا، والثانية بمعنى علمنا. البلاغة وقد تضمنت هذه الأيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تغليب حكم الجماعة على الواحد في قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا}؛ لأنّ شعيبا لم يكن في ملتهم قط، فيعود فيها. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: الإطناب في قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى}، وقوله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} لزيادة التقرير. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَسِعَ رَبُّنا}؛ لأنّه كناية عن الإحاطة، وفي قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا}؛ لأن الفتح حقيقة في الأجسام كفتح الباب، وفي قوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ}؛ لأنّه استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب، كما ذكره أبو السعود. وفي قوله: {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ ¬

_ (¬1) المراغي.

السَّماءِ} شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول، فهو من باب الاستعارة التصريحية التبعية؛ أي: وسعنا عليهم الخير من جميع الأطراف. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، من الإسناد إلى السبب؛ أي: فأخذهم الله بالرجفة. ومنها: الطباق بين لفظ {الْحَسَنَةَ} و {السَّيِّئَةِ} وبين لفظ {الضَّرَّاءِ} و {السراء} في قوله: {إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ}، وقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} وبين قوله: {الضَّرَّاءُ} و {السَّرَّاءُ} في قوله: {قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}. ومنها: التفخيم (¬1) والتهويل في تكرار لفظ {أَهْلَ الْقُرى} لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد، ما لا يكون في الضمير لو قال: أو أمنوا؛ فإنّه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر. ومنها توسيط (¬2) النداء باسمه العلمي بين المعطوفين في قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ}، لزيادة التقرير والتهديد، الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان؛ أي: والله لنخرجنك وأتباعك. ومنها: الإخبار المتضمن معنى التعجب في قوله: {قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، كأنّه قيل: ما أكذبنا على الله إن عدنا إلى الكفر، قاله الزمخشري. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) أبو السعود.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)}. المناسبة لما قص (¬1) الله سبحانه وتعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وما آل إليه أمر قومهم، وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل، إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات، وأمته من أكثر الأمم تكذيبا وتعنتا واقتراحا وجهلا، وكان قد بقي من أتباعه عالم وهم اليهود .. فقص الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[103]

ومناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة - كما حكى الله تعالى في كتابه - ونسبا لكونهما من نسل إبراهيم، ولما استفتح قصة نوح بأرسلنا بنون العظمة .. أتبع ذلك قصة موسى فقال: {ثُمَّ بَعَثْنا}، ذكره أبو حيان في «البحر». وعبارة «المراغي» هنا: هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر في غيرها؛ لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، وجهل قومه كان أفحش، وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة، وذكر اسمه في سور كثيرة، زادت على مئة وثلاثين مرة، وسر هذا أنّ قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى الله عليه وسلّم، إذ أنّه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة، ذات ملك ومدنية. التفسير وأوجه القراءة 103 - {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى}؛ أي: ثمّ بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، أو من بعد إهلاك الأمم المذكورة؛ أي: ثم بعدما فرغنا من ذكر قصص الأنبياء المذكورين وأممهم، نذكر قصة موسى وقومه فنقول: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران من بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل المذكورين في هذه السورة، وإهلاك أممهم، وقطع دوابرهم، حالة كونه مؤيدا {بِآياتِنا} ومعجزاتنا التسع، وملتبسا بأدلتنا وحججنا الدالة على صدقه، مثل العصا واليد، وغيرهما من الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، كما سيأتي التعبير عنها بهذا العدد في سورة الإسراء إن شاء الله تعالى: {إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ}؛ أي: أشراف قومه، وتخصيصهم (¬2) بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم؛ لأنّ من عداهم كالأتباع لهم، سموا (¬3) ملأ لأنّهم يملؤون المجالس بأجرامهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) أبو السعود.

والعيون بجمالهم، والقلوب بمهابتهم. ذكره أبو السعود. وقال في «التحبير» (¬1): فرعون اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وكنيته أبو مرة، وقيل: أبو العباس، وهو فرعون الثاني الذي أرسل إليه موسى، وكان قبله فرعون آخر، وهو أخوه، واسمه قابوس بن مصعب ملك العمالقة، ولم يذكر في القرآن، وفرعون إبراهيم النمروذ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل. انتهى. فائدة: كان ملك فرعون أربع مئة سنة، وعاش ست مئة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو حمى ليلة، أو وجع .. لما ادعى الربوبية، وفرعون في الأصل علم لشخص، ثم صار لقبا لكل من ملك مصر، كما في «الشهاب». {فَظَلَمُوا بِها}؛ أي: ظلم فرعون وأتباعه بتلك الآيات، وجحدوا بها وأنكروها؛ لأنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة، فكفروا بها؛ أي (¬2): وضعوا الإنكار في موضع الإقرار بها، ووضعوا الكفر في موضع الإيمان، وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة، أو معنى {فَظَلَمُوا بِها}؛ أي: ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها، أو ظلموا أنفسهم بسببها {فَانْظُرْ} يا محمد، أو أيها المخاطب بعين بصيرتك {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} بالكفر من إهلاكهم؛ أي: أنظر بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم، حيث صاروا مغرقين، وجعلناهم مثلا نوعد به كفرة من كان في عصرك يا محمد. وحاصل المعنى: أي ثمّ (¬3) بعثنا - من بعد أولئك الرسل - موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه، فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا، فكان عليم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، وقال: {إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ} ولم يقل فرعون ¬

_ (¬1) التحبير. (¬2) المراغي. (¬3) أبو السعود.

[104]

وقومه؛ لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل، وبيدهم أمرهم، وليس لسائر المصرين من الأمر شيء؛ لأنّهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم كان على بني إسرائيل الغرباء أشد، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين؛ لأنّهم كانوا تبعا لهم، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بني إسرائيل قصدا، وإلى فرعون وملئه وسيلة {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}؛ أي: فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض، بالظلم واستعباد البشر، حين جحدوا آيات الله وكفروا بها. وفي هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم، إذ نصر رسوله موسى - وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم - على فرعون وملئه، وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة، بأن أبطل سحرهم، وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته، وكون آياته من عند الله تعالى، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد، ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده، وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر، وحجة على أنّ الغلب ليس للقوة المادية فحسب، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة الأجنبية لمن استضعفتهم من أهل الوطن، كما هو مشاهد الآن في شرقي أفريقيا كأرمينيا. وبعد التشويق والتنبيه المتقدم، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم في ابتداء أمرهم، حتى انتهوا إلى تلك العاقبة فقال: 104 - {وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104)} وهذا كلام (¬1) مستأنف لتفصيل ما أجمل قبله من كيفية إظهار الآيات، وكيفية عاقبة المفسدين، ولم يكن هذا القول وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا، بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات المحكية بقوله تعالى: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} الآيات. وقوله: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} الآيات. فطوى ذكره هنا للإيجاز؛ أي: وقال موسى عليه السلام - حين دخل على فرعون ودعاه إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان به: ¬

_ (¬1) أبو السعود.

[105]

إنّي رسول؛ أي: مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين؛ أي: من خالق العالمين كلهم، وسيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم، 105 - وأنا {حَقِيقٌ}؛ أي: جدير وحريص {عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا} القول {الْحَقَّ} والكلام الصدق، فهو لا يقول على الله إلا القول الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو معصوم من الكذب والخطأ في التبليغ. والخلاصة: أنّ كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية، وهي أنّ للعالمين ربا واحدا، وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ والهداية. وقرأ نافع (¬1): {عليّ أن لا أقول} بتشديد الياء، جعل {على} داخلة على ياء المتكلم، ف {حَقِيقٌ}: مبتدأ، وخبره ما دخلت عليه {أَنْ}؛ أي: واجب وثابت علي ترك القول على الله إلا بالحق، وقرأ باقي السبعة عَلى بمد اللام على أنّها جارة للمصدر المنسبك مما بعدها، فـ {حَقِيقٌ}: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: وأنا حقيق وحريص على عدم القول على الله إلا الحق، كما مر آنفا في حلنا. وقال أبو الحسن والفراء والفارسي: {عَلى}: بمعنى الباء؛ أي: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، كما أنّ الباء تكون بمعنى {على} في قوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ}؛ أي: على كل صراط، فكأنه قيل: حقيق بأن لا أقول، كما تقول: فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به، ويشهد لهذا التوجيه قراءة أبي {بأن لا أقول} وضع مكان {عَلى} الباء، وقرأ عبد الله والأعمش {حقيق أن لا أقول} بإسقاط {عَلى} فاحتمل أن يكون على إضمار {على}، كقراءة من قرأ بها، واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبي، وعلى كلا الاحتمالين يكون التعلق بـ {حَقِيقٌ}. ولمّا ذكر أنّه رسول من عند الله، وأنّه لا يقول على الله إلا الحق .. أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدل على صدق رسالته فقال: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} والخطاب فيه لفرعون وملائه الحاضرين معه؛ أي: قد جئتكم ببرهان قاطع {مِنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[106]

رَبِّكُمْ} ومعجزة شاهدة على رسالتي، دالة على صدق ما أقول، وفي قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1) إيماء إلى أنّهم مربوبون، وأنّ فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أنّ البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم فرع على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بني إسرائيل؛ أي: يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره، ليذهبوا معه إلى دار غير داره، ويعبدوا فيها ربهم وربه فقال: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: أطلقهم من أسرك، وخلهم من استعبادك، ليذهبوا معي إلى الأرض المقدسة، التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام والأعمال الشاقة، مثل ضرب اللبن، ونقل التراب، ونحو ذلك من الأعمال الشاقة. وقال المفسرون: كان سبب سكنى بني إسرائيل بمصر - مع أنّ أباهم كان بالأرض المقدسة - أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر إلى أخيهم يوسف، فمكثوا وتناسلوا في مصر، فلما ظهر فرعون .. استعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة، فأحب موسى أن يخلصهم من هذا الأسر، ويذهب بهم إلى الأرض المقدسة وطن آبائهم، وكانوا يؤدون إلى فرعون الجزاء، فاستنقذهم الله بموسى. وكان (¬2) بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر، واليوم الذي دخل فيه موسى أربع مئة عام، والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه، وفي غير هذه الآية دعاه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده، قال تعالى: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)} وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} فهذا ونظائره دليل على أنّه طلب منه الإيمان، خلافا لمن قال: إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان، ولا إلى التزام شرعه. وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط؛ ألا ترى أنّ بقية القبط - وهم الأكثر - لم يرجع إليهم موسى، ثمّ حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ: 106 - {قالَ} فرعون لموسى {إِنْ كُنْتَ} يا موسى {جِئْتَ} وأتيت من عند من أرسلك {بِآيَةٍ} ومعجزة وحجة دالة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[107]

على صدقك {فَأْتِ بِها}؛ أي: فأحضرها عندي ليثبت صدقك {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك أنّك رسول. أي: قال فرعون لموسى: إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعي .. فأتني بها، وأظهرها لدي إن كنت ممن يقول الصدق، ويلتزم قول الحق. 107 - ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال: {فَأَلْقى} موسى {عَصاهُ}؛ أي: فلم يلبث موسى أنّ ألقى ورمى عصاه - التي كانت بيمينه - أمام فرعون {فَإِذا هِيَ}؛ أي: العصا {ثُعْبانٌ}؛ أي: حية ضخمة صفراء ذكر {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر بيّن، لا خفاء ولا شك في كونه ثعبانا حقيقيا، يسعى وينتقل من مكان إلى آخر، وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنّها تسعى. روي (¬1) أنّه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، قائما على ذنبه، مرتفعا من الأرض بقدر ميل، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه، فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا، فإن قلت: وصفها هنا بالثعبان، والثعبان من الحيات العظيم الضخم، ووصفها في آية أخرى بأنّها جان، والجان الحية الصغيرة، فبين الوصفين معارضة؟ قلت: يمكن الجمع بين الوصفين أنّها كانت في عظم الحية كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة، وهي الجان. ذكره في «الخازن». قيل (¬2): بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنّها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة، قالوا منها: أنّه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها، فشاب رأسه فخضبه بالسواد، فهو أول من خضب السواد. ومنها: انقلابها ثعبانا، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[108]

وانقلاب خشبة لحما ودما قائما به الحياة من أعظم الإعجاز، ويحصل من إنقلابها ثعبانا من التهويل ما لا يحصل في غيره، وضربه بها الحجر فينفجر عيونا، وضربه بها الأرض فتنبت، قاله ابن عباس، ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه، واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة، وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة، وتلقفها الحبال والعصي التي للسحرة، وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم. 108 - {وَنَزَعَ يَدَهُ}؛ أي: نزع موسى يده اليمنى، وجذبها وأخرجها وأظهرها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه - بعد إلقاء العصا - أو من تحت إبطه، وفي التنزيل {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، {فَإِذا هِيَ}؛ أي: يده التي أخرجها {بَيْضاءُ} بياضا نورانيا، تتلألأ نورا غلب شعاعه شعاع الشمس يظهر {لِلنَّاظِرِينَ} إليها؛ أي: لكل من ينظر إليها. 109 - ثم حكى الله سبحانه وتعالى ما قاله قومه، بعد أن رأوا من موسى ما رأوا فقال: {قالَ الْمَلَأُ}؛ أي: الأشراف {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} وهم أهل مشورته ورؤساء دولته {إِنَّ هذا} الرجل، يعنون موسى {لَساحِرٌ عَلِيمٌ}؛ أي: حاذق في علم السحر، كثير في فهمه ومعرفته وفائق فيه، يعنون أنّه ليأخذ بأعين الناس، حتى يخيل لهم أنّ العصا صارت حية، ويرى الشيء بخلاف ما عليه، كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنّما قالوا ذلك لأنّ السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان، فلما أتى بما يعجز عنه غيره .. قالوا: {إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ}. فإن قلت (¬1): قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ هذا الكلام من قول الملأ لفرعون، وقال في سورة الشعراء: {قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} فكيف الجمع بين الآيتين؟ قلت: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولا، ثم إنّهم قالوه بعده، فأخبر الله تعالى عنهم هنا، وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. وقيل: يحتمل أنّ فرعون ¬

_ (¬1) الخازن.

[110]

قال هذا القول، ثم إنّ الملأ من قومه - وهم خاصته - سمعوه منه، ثم إنّهم بلغوه إلى العامة، فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ، وأخبر هناك عن فرعون، والله أعلم. 110 - وجملة قوله: {يُرِيدُ}؛ أي: موسى {أَنْ يُخْرِجَكُمْ} أيها القبطيون {مِنْ أَرْضِكُمْ} ووطنكم مصر، صفة ثانية لساحر. والمعنى: قال (¬1) الأشراف والرؤساء من قوم فرعون: إنّ هذا الرجل لساحر عليم؛ أي: ماهر في فنون السحر، قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم، وإخراجكم من أرضكم بسحره، إذ به يستميل الشعب إليه، وينتزع منكم الملك، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد، حتى لا يناوئوه في شؤون الملك واستعادته منه، استشعرت (¬2) نفوسهم الخبيثة ما صار إليه أمرهم، من إخراجهم من أرضهم، وخلو مواطنهم منهم، وخراب بيوتهم، فبادروا إلى الإخبار بذلك، وكان الأمر كما استشعروا، إذ أغرق الله فرعون وآله، وأخلى منازلهم منهم، وهذا المذكور من كلام الملأ لفرعون، وأما قوله: {فَماذا تَأْمُرُونَ} فقيل (¬3): هو من كلام فرعون؛ أي: قال فرعون للملأ - لما قالوا ما تقدم - بأي شيء تأمرونني فيه؟ وقيل: هو من كلام الملأ؛ أي: قالوا لفرعون: فبأي شيء تأمرنا فيه؟ وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة تعظيما له، كما يخاطب الرؤساء أتباعهم، ولكن كون هذا من كلام فرعون هو الأولى، بدليل ما بعده، وهو قوله: {قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111)}؛ أي: قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله: {فَماذا تَأْمُرُونَ} أرجه وأخاه هارون؛ أي: أخر الفصل والقضاء في أمره وأمر أخيه، وأرسل في مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك، {حاشِرِينَ}؛ أي: جامعين لك السحرة منها، وسائقيهم إليك، وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[111]

وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا، ومن ثم خيل إلى كثير منهم أنّ ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم، فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما حكى الله عن فرعون حيث قال: {أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكانًا سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)}. {يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)}؛ أي: إن ترسلهم .. يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم بكل ساحر عليم؛ أي: بكل ماهر في السحر، كثير العلم بصناعته، فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى، فلا يفتن به أحد، وإنّما قالوا: {فِي الْمَدائِنِ}؛ لأن السحر من العلوم التي توجد في المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة؛ وإنّما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين؛ لأنّهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم. وقرأ الجمهور (¬1): {فَماذا تَأْمُرُونَ} بفتح النون، على أنّ النون نون علامة الرفع هنا وفي الشعراء، وروى كردم عن نافع: بكسر النون فيهما، على أنّ النون نون الوقاية، حذفت بعدها ياء المتكلم. 111 - {قالُوا أَرْجِهْ} فيه (¬2) ست قراءات، ثلاث بإثبات الهمزة التي بعد الجيم، وهي: كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن أبي عامر، وضمها كذلك لأبي عمرو، وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير وهشام عن ابن عامر، وثلاث بحذف الهمزة، وهي: سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون، وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي وورش. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي (¬3): {بكل سحار} هنا، وفي يونس والباقون ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

[112]

{ساحِرٍ} وفي الشعراء أجمعوا على {سَحَّارٍ} لتناسب {سَحَّارٍ عَلِيمٍ} لكونهما من ألفاظ المبالغة، ولما كان قد تقدم {إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} .. ناسب هنا أن يقابل بقوله: 112 - {بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ}. فذلكة في السحر وضروبه: السحر (¬1) أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين في مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، واقتفى أثرهم في ذلك البابليون، والهنود، وغيرهم، ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر، اهتم بعض الإنجليز وغيرهم بالبحث عن حقيقة أمرها، فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر. وهو لا يروج إلا بين الجاهلين، وله مكانة عظيمة في القبائل الهمجية، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشعوذة - الاحتيال والدجل - وهو أنواع ثلاثة: 1 - ما يعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة، معروفة للساحر، مجهولة عند من يسحرهم بها، كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم، كما سنذكره بعد، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر السحر في أواسط أفريقيا وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر .. لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها، حتى لو ادعوا فيهم الألوهية .. لخضعوا لهم، فضلا عن النبوة والولاية. 2 - الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض، وإراءة بعضها بغير صورها، وغير ذلك مما هو معروف في هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدنة. 3 - ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية، في الأنفس الضعيفة، القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس: بالأنفس الهستيرية، وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين، ومنهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[113]

من يكتب بالأوفاق والطلسمات للحب والبغض، إلى نحو ذلك، ومن ذلك ما استحدث في هذا العصر من التنويم المغناطيسي، وعلى الجملة: فالسحر صناعة تتلقى بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم، وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء في هذا العصر. وبعد أن ذكر فيما سلف أنّهم طلبوا إليه تأخير الفصل في أمره، حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله، ويبينوا خبيىء حيله .. ذكر هنا أن السحرة جاؤوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه، فأجابهم إلى ذلك، ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب في قلوب المشاهدين فقال: 113 - {وَجاءَ السَّحَرَةُ} الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته {فِرْعَوْنَ} اللعين، وقال أبو حيان: وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى، تقديره: فأرسل جنده حاشرين، وجمعوا السحرة، وأمرهم بالمجيء، وجاؤوا إليه وحين جاؤوا {قالُوا} لفرعون {إِنَّ لَنا لَأَجْرًا}؛ أي: إن لنا عليك لجعلا عظيما وأجرا وجائزة، كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ} على موسى. قرأ (¬1) نافع وابن كثير وحفص عن عاصم {إِنَّ لَنا} بهمزة واحدة على الإخبار فكأنهم قاطعون بالجعل، وإنّه لا بد لهم منه، وجوز أبو علي أن تكون {إِنَّ} استفهاما حذفت منه الهمزة، كقراءة الباقين الذين أثبتوها، قال: والاستفهام أشبه بهذا الموضع؛ لأنّهم لم يقطعوا أن لهم الأجر، وإنّما استفهموا عنه. ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير»، وقرأ حمزة والكسائي، وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو بهمزتين، فمنهم من حققهما، ومنهم من سهل الثانية، ومنهم من أدخل بينهما ألفا، كأبي عمرو، والخلاف في كتب القراءات مبسوط على الاستفهام، استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة، والاستفهام هنا للتقرير. واشتراط (¬2) الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة، لا يريدون مطلق الأجر، بل المعنى: إن لنا لأجرا عظيما، ولهذا قال الزمخشري: والتنكير للتعظيم، كقول ¬

_ (¬1) المراح والبحر. (¬2) البحر المحيط.

[114]

العرب: إنّ له لإبلا، وإن له لغنما، يقصدون الكثرة، وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم، وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه، 114 - وعلى من لا يعلم مثل علمه {قالَ} فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا {نَعَمْ}. قرأ الكسائي (¬1) بكسر العين؛ أي: إنّ لكم لأجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك الأجر {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إلينا، فتجمعون بين المال والجاه، وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها، والمعنى (¬2): إنّ فرعون قال للسحرة: إنّي لا أقتصر معكم على الأجر، بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقربين إلي بالمنزلة، قال الكلبي: تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج من عندي. وفي (¬3) مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه، دليل على شدة اضطراره لهم، وأنّهم كانوا عالمين بأنّه عاجز، ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه السلام. 115 - {قالُوا}؛ أي: قالت السحرة لموسى بعد وعد فرعون لهم: {يا مُوسى} اختر {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} ما عندك أولا {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}؛ أي: وإما أن نلقي نحن ما عندنا أولا، وفي هذا التخير منهم له دليل على اعتدادهم بسحرهم، وثقتهم بأنفسهم، وعدم المبالاة بعمله، ولولا ذلك لما خيروه، إذ المتأخر في العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه. 116 - {قالَ} لهم موسى عليه السلام - وهو واثق بشأنه، محتقر لهم غير مبال بهم - {أَلْقُوا} ما أنتم ملقون، وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء؛ وإنّما أمرهم بأن يتقدموه فيما جاؤوا به لأجله، ولا بد لهم منه، وأراد بذلك التوصل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته، وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك، وقد صرح فيما حكاه الله تعالى عنه: {قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}. {فَلَمَّا أَلْقَوْا} ما ألقوا من حبالهم وعصيهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}؛ أي: قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاؤوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة؛ أي: خيلوا إليهم ما لا حقيقة له، كما قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى}. {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}؛ أي: استرهبوا الناس وأفزعوهم وأوقعوا في قلبهم الرهب والخوف، وأرهبوهم إرهابا شديدا، حيث خيلوها حيات تسعى {وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في مظهره، كبير في تأثيره في أعين الناس، يخافه كل من رآه، قال ابن كثير: أي: خيلوا إلى الأبصار أنّ ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وهذا هو السحر الذي هو محض تخييل في عين الرائي، والشيء المسحور حقيقته على ما هي عليه لم تقلب، وأما المعجزة ففيها قلب حقيقة الشيء - كالعصا - حيث صارت حية، هذا هو الفارق بين السحر والمعجزة اه. «خازن». قال ابن إسحاق (¬1): صف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته، فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال - قد ملأت الوادي - يركب بعضها بعضا، وكانت سعة الأرض ميلا في ميل، فصارت كلها حيات، قيل (¬2): إنّهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثّر تسخين الشمس فيها .. تحركت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها {اسْتَرْهَبُوهُمْ}؛ أي: بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحيات والعصي، وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته، فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات، وليس خوفه لأجل سحرهم؛ ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) المراح.

[117]

لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنّهم لن يغلبوه وهو غالبهم. فعلى هذا (¬1): يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها، ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى، كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين، فجعلتها تبصر ذلك، أو أنّ الحبال والعصي جعلت على صور الحيات، وحركت بمحركات خفية سريعة، لا تدركها أبصار الناظرين. 117 - {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى} على لسان جبريل بـ {أَنْ أَلْقِ عَصاكَ} فألقاها، فلما ألقاها {فَإِذا هِيَ}؛ أي: العصا {تَلْقَفُ}؛ أي: تأخذ وتبتلع {ما يَأْفِكُونَ}؛ أي: ما يكذبون فيه من الحبال والعصى، ويقلبونه من الحق إلى الباطل؛ لأنّه لا حقيقة له في الواقع، بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة؛ أي (¬2): ولما ألقى موسى العصا .. صارت حية عظيمة، حتى سدت الأفق، ثم فتحت فكها، فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مئة بعير، فلما أخذها موسى .. صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا. وظاهر السياق (¬3) يقتضي أن إلقاء العصا وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون: الأولى كانت سببا في جمع السحرة، والثانية بحضرتهم، فالأولى ذكرت سابقا بقوله: {فَأَلْقى عَصاهُ} الخ، والثانية هي المذكورة هنا، ووقع انقلابها حية أيضا مرة أخرى قبل هاتين المرتين، ولم يكن حاضرا هناك أحد غير موسى، وقد ذكرت هذه المرة في صورة طه في قوله: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نارًا إلى قوله: قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20)}. وقرأ حفص (¬4): {تَلْقَفُ}، بسكون اللام من لقف، من باب علم وفهم، وقرأ باقي السبعة بفتح اللام وتشديد القاف، من تلقف يتلقف، من باب تفعل الخماسي، حذفت إحدى تائيه، إذ الأصل: تتلقف، وقرأ البزي بإدغام تاء المضارعة في التاء في الأصل، وقرأ ابن جبير {تلقم} بالميم؛ أي: تبلع كاللقمة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الفتوحات. (¬4) البحر المحيط.

[118]

قال الشاعر: أنت عصا موسى الّتي لم تزل ... تلقم ما يأفكه آلسّاحر 118 - {فَوَقَعَ الْحَقُّ}؛ أي: فظهر الحق الذي جاء به موسى، وثبت {وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} من السحر؛ أي: ظهر بطلانه وفساده. وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا، فلما فقدت .. ثبت أن ذلك حصل بقدرة الله تعالى، لا لأجل السحر، فتبين لمن حضره وشهده أنّ موسى رسول من عند الله، يدعو إلى الحق، وأنّ ما عملوه ما هو إلا إفك السحر وكذبه ومخايله 119 - {فَغُلِبُوا}؛ أي: فرعون وقومه {هُنالِكَ}؛ أي: في ذلك الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم {وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ}؛ أي: صاروا ذليلين مبهوتين؛ أي: غلب موسى فرعون وجموعه في ذلك الجمع العظيم، الذي كان في عيد لهم، ضربه موسى موعدا لهم كما جاء في سورة طه: {قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)} وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا من خيبة وخذلان. 120 - {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120)}؛ أي: خروا سجدا لله تعالى؛ أي: فكأنّهم من سرعة سجودهم ألقوا؛ أي: وألقي السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة الله تعالى ساقطين على وجوههم سجدا لربهم؛ لأنّ الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود، حتى كأن أحدا دفعهم وألقاهم. والخلاصة (¬1): أن ظهور بطلان سحرهم، وإدراكهم فجأة لآية موسى، وعلمهم بأنّها من عند الله تعالى، لا صنع فيها لمخلوق، ملأت عقولهم يقينا، وقلوبهم إيمانا، فكأن اليقين الحاكم على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء، وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة، بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية، فنطقوا بما حكى الله عنهم 121 - {قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)}؛ أي: قالوا صدقنا بما ¬

_ (¬1) المراغي.

[122]

جاءنا به موسى، وأنّ الذي علينا أن نعبده هو رب الإنس والجن وجميع المخلوقات، المدبر لها. وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قالوا عند سجودهم أو في سجودهم؟ وأجيب: بأنّهم قالوا: آمنا برب العالمين، ولما قالوا ذلك فكأن فرعون قال: إياي تعنون؟ فقالوا: لا بل 122 - {رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)}؛ أي: مالكهما ومعبودهما. ولما (¬1) ظفروا بالمعرفة .. سجدوا لله تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى، فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة، على سبيل الجمع، وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حد السحر .. علموا أنّها أمر من الله، فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى. فصل اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولا (¬2): أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اثنان وسبعون ألفا، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: إثنا عشر ألفا، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفا، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، إلا أنّه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبع مئة، وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير.

قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيرين من سبع مئة ألف، ثم إنّ فرعون اختار من السبعين الألف سبع مئة. والسابع: خمسة وعشرون ألفا. قاله الحسن. والثامن: تسع مئة. قاله عكرمة. والتاسع: ثمانون ألفا. قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: بضعة وثلاثون ألفا. قاله السدي. والحادي عشر: خمسة عشر ألفا. قاله ابن إسحاق. والثاني عشر: تسعة عشر ألفا. رواه أبو سليمان الدمشقي. والثالث عشر: أربع مئة. حكاه الثعلبي. فأما أسماء رؤسائهم .. فقال ابن إسحاق: رؤوس السحرة: ساتور، وعاذور، وحطحط، ومصفى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا، ورأيت عن غير ابن إسحاق: سابورا، وعاذورا وقال مقاتل: اسم أكبرهم شمعون. قال ابن زيد (¬1): كان اجتماعهم بالاسكندرية، وبلغ ذنب الحية وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم، واحدا واحدا، حتى ابتعلت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع، ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، وفرعون يضحك تجلدا، فأقبلت الحية نحو فرعون، فصاح: يا موسى يا موسى، فأخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت، فلما رأت السحرة ذلك .. عرفوا أنّه ليس بسحر، فعند ذلك خروا ساجدين، وآمنوا برب العالمين. وكل هذا مبالغات إسرائيلية، وتهويلات لم يصح شيء منها، وليس في التوراة ما يأيدها. ¬

_ (¬1) المراح.

[123]

فائدة (¬1): وبدؤوا هنا بموسى قبل هارون - وإن كان أكبر سنا من موسى قيل بثلاث سنين - لأنّ موسى هو الذي ناظر فرعون، وظهرت المعجزتان في يده وعصاه؛ ولأن قوله: {وَهارُونَ}، فاصلة، وجاء في طه {رب هارون وموسى}؛ لأنّ {مُوسى} فيها فاصلة، ويحتمل وقوع كل منهما مرتبا من طائفة وطائفة، فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة، وبعض إلى المجموع في سورة أخرى. قال المتكلمون: وفي الآية دلالة على فضيلة العلم؛ لأنّهم لما كانوا كاملين في علم السحر .. علموا أنّ ما جاء به موسى حق خارج عن جنس السحر، ولولا العلم .. لتوهموا أنّه سحر، وأنّه أسحر منهم. ذكره أبو حيان في «البحر». 123 - {قالَ فِرْعَوْنُ} للسحرة {آمَنْتُمْ بِهِ}؛ أي: آمنتم برب موسى وهارون، أو صدقتم بموسى واتبعتموه مذعنين لرسالته {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} فيه وآمركم به؛ أي: قال ما ذكر منكرا على السحرة، موبخا لهم على ما فعلوه، فالاستفهام للإنكار والتوبيخ {إِنَّ هذا} الصنيع الذي صنعتموه من الإيمان بموسى واتباعه {لَمَكْرٌ}؛ أي: لحيلة وخديعة {مَكَرْتُمُوهُ}؛ أي: احتلتموه ودبرتموه اتفاقا مع موسى، وأنتم {فِي الْمَدِينَةِ}؛ أي: في مدينة مصر قبل أن تخرجوا إلى هذا الميعاد وإلى هذه الصحراء، بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه، بعد ادعاء ظهور حجته، كما قال في سورة طه: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة {لِتُخْرِجُوا مِنْها}؛ أي: من المدينة {أَهْلَها} من القبطيين؛ أي: لأجل أن تخرجوا المصريين منها بسحركم، ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف في البلاد. وكل (¬2) ذي لب وفطنة يعلم أنّ هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة، ولا ظل لها من الحقيقة؛ فإن موسى - إثر مجيئه من مدين - دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل جنده في المدائن حاشرين، ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى لا يعرف منهم أحدا، ولا رآه ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[124]

اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنّما قال ذلك تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم، كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ}. والحاصل (¬1): أن قوله: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ} وقوله: {لِتُخْرِجُوا مِنْها} الخ. هاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط، فأراهم أنّ إيمان السحرة مبني على المواطأة بينهم وبين موسى، وأنّ غرضهم بذلك إخراج القوم من المدينة، وإبطال ملكهم، ومعلوم أنّ مفارقة الأوطان مما لا يطاق فجمع اللعين بين الشبهتين تثبيتا للقبط على ما هم عليه، وتهييجا لعداوتهم لموسى، ثم عقبهما بالوعيد ليريهم أن لهم قوة فقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع، 124 - ثم بين ذلك بقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ}؛ أي: والله لأنكّلن بكم أشد التنكيل، فلأقطعن الأيدي والأرجل منكم، حالة كونها مختلفة في شق وجانب؛ أي: أنه يقطع من كل شق طرفا فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، فيخالف بينهما في القطع {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}؛ أي: ثم بعد قطع الأيدي والأرجل لأعلقنكم على الأخشاب، ممدودة أيديكم على صورة الصليب؛ أي: ثمّ لأصلّبنّ كل واحد منكم - وهو على تلك الحال - لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا، والترفع عن الخضوع لعظمتنا، قال ابن عباس رضي الله عنه: أول من قطع الأيدي والأرجل وصلب فرعون. والخلاصة: أنّ اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى، إنّما كان تمويها على قومه المصريين، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى، فادعى أنّه لا ينتقم من السحرة إلا حبا فيهم، ودفاعا عنهم، وابقاء لاستقلالهم في وطنهم، كما هو شأن كل رئيس أو ملك في شعب يخاف أن ينتفض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر، يقوم بدعوة دينية أو سياسية، وجاء هنا بـ {ثُمَّ} وفي يونس والشعراء بـ {الواو}؛ لأنّ الواو صالحة للمهلة، فلا تنافي في الآيات. ذكره في «الفتوحات». ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[125]

واختلف (¬1) في قوله: {آمَنْتُمْ بِهِ} هنا وفي طه وفي الشعراء على أربع مراتب: الأولى: قراءة الأخوين حمزة والكسائي وأبي بكر، عن عاصم وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكار، وأما الألف الثالثة فالكل يقرؤونها كذلك، وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة، وأما الأولى: فمحققة ليس إلا، والثانية: قراءة حفص وهي {أمنتم} بهمزة واحدة بعدها ألف، والثالثة: قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين، والرابعة: قراءة قنبل عن ابن كثير فقرأ في هذه السورة حال الابتداء {أآمنتم} بهمزتين، أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها، كقراءة البزي، وحال الوصل يقرأ {قال فرعون وآمنتم} بإبدال الأولى واوا، وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها، وقرأ في سورة طه كقراءة حفص، وفي سورة الشعراء كقراءة البزي. وقرأ (¬2) مجاهد وحميد المكي وابن محيص: {لأقطعن}: مضارع قطع الثلاثي، و {لأصلبنكم} مضارع صلب الثلاثي، بضم لام {لأصلبنكم} وروي بكسرها، وجاء هنا بـ {ثُمَّ} وفي السورتين بالواو في {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} فدل على الواو أريد بها معنى (ثم)، من كون الصلب بعد القطع، والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون. 125 - وعند ما سمع السحرة التهديد والوعيد السابق من ذلك الجبار المتكبر أجابوه بقولهم: {قالُوا}؛ أي: السحرة {إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ}؛ أي: راجعون بالموت بلا شك، سواء كان بقتلك أو لا، فيحكم بيننا وبينك، وإنّا إلى رحمة ربنا راغبون. أي (¬3): إنّهم لا يبالون بقتلهم؛ لأنّهم راجعون إلى ربهم، راجون مغفرته ورحمته، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه، والتمتع بجزائه، قال أبو حيان (¬4): وهذا تسليم واتكال على الله تعالى، وثقة بما عنده، والمعنى: إنّا نرجع ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[126]

إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد، أو: إنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته، وخلاصنا منك ومن لقائك، أو: إنا ميّتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت، إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه. انتهى. وقد يكون المعنى: إنا وإياك سننقلب إلى ربنا، وما أنت بمخلّد بعدنا، فلئن قتلتنا .. فسيحكم الله بعدله بينك وبيننا، وما أحسن قول الشاعر: إلى ديّان يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم وفي هذا إيماء إلى تكذيبه في دعوى الربوبية، وتصريح بإيثار ما عند الله على ما عنده من الشهوات الدنيوية الزائلة. وما جاء في سورة الشعراء من قولهم: {قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)} يؤيد المعنى الأول. 126 - {وَما تَنْقِمُ مِنَّا}؛ أي: وما تكره منا {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا}؛ أي: إلا إيماننا وتصديقنا بآيات ربنا ومعجزاته، التي ظهرت على يد عبده ورسوله موسى عليه السلام {لَمَّا جاءَتْنا}؛ أي: حين جاءتنا على يد موسى؛ أي: ما تعيب علينا إلا إيماننا بآيات ربنا، أو: ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا إيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا، وهذا الاستثناء شبيه بقوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب والخلاصة: أي وما تعيب منا وما تنكر منا إلا خير الأعمال، وأصل المفاخر، الذي هو الإيمان بالله تعالى، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك، ولا طلبا للزلفى إليك، وفيه تيئيس له، وكأنهم قالوا: لا مطمع لك في رجوعنا عن إيماننا، وإنّ تهديدك لا يجدي فائدة. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم، وابن أبي عبلة (¬1): {وما تنقم} بفتح القاف، مضارع نقم بكسرها، وهما لغتان، والأفصح قراءة الجمهور. وقد ختم الله سبحانه وتعالى كلام السحرة بدعائهم بقولهم: {رَبِّنا} ويا ¬

_ (¬1) المراغي.

مالك أمرنا {أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا}؛ أي: أصبب علينا صبرا كاملا تاما عند القطع والصلب ليكلا نرجع كفارا؛ أي: هب لنا صبرا واسعا وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء إفراغا، {وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ}؛ أي: أمتنا ثابتين على الإسلام، منقادين لأوامرك، مخلصين لك على دين موسى وإبراهيم، والمعنى: ربنا (¬1) هب لنا صبرا واسعا تفرغه علينا، وأيدنا بروحك حتى لا يبقى في قلوبنا شيء من خوف غيرك، ولا من الرجاء في سوى فضلك، وتوفنا إليك، مذعنين لأمرك ونهيك، مستسلمين لقضائك، غير مفتونين بتهديد فرعون، ولا مطيعين له في قوله ولا فعله، وقد ذكر المؤرخون قديما وحديثا أنّ المؤمنين بالله واليوم الآخر، من كل ملة ودين، يكونون أعظم شجاعة، وأكثر صبرا على مشاق الحروب من غيرهم، ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء. قال الكلبي: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وقال غيره إنّه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ}. الإعراب {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {بَعَثْنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا}. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {بَعَثْنا}. {مُوسى}: مفعول به {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من موسى؛ أي: حال كونه ملتبسا بآياتنا. {إِلى فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {بَعَثْنا}. {وَمَلَائِهِ}: معطوف على {فِرْعَوْنَ}. {فَظَلَمُوا} فعل وفاعل، معطوف على {بَعَثْنا} {بِها}: متعلق بـ {ظلموا}. {فَانْظُرْ}: {الفاء}: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ظلمهم بها، وأردت التعجب من عاقبتهم .. فأقول لك {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كانَ} مقدم عليه وجوبا لكونه مما يلزم الصدارة {عاقِبَةُ}: اسم {كانَ}، {الْمُفْسِدِينَ} مضاف إليه، وجملة {كانَ}: جملة استفهامية في محل النصب على إسقاط حرف جر تقديره: فانظر إلى مآل عاقبة المفسدين. كما في «الفتوحات» وجملة {انظر} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104)}. {وَقالَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بَعَثْنا} {يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ} إلى قوله: {قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ} مقول محكى لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، {فِرْعَوْنُ}: في محل النصب منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ} {إِنِّي}: {إن} حرف نصب، والياء اسمها {رَسُولٌ}: خبرها {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}: صفة لـ {رَسُولٌ}، وجملة {إن} جواب النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)}. {حَقِيقٌ}: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنا حقيق {عَلى}: حرف جر {أَنْ}: حرف نصب {لا} نافية. {أَقُولَ} فعل مضارع منصوب {أَنْ} المصدرية، وفاعله ضمير المتكلم يعود على موسى، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَقُولَ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الْحَقَّ}: مفعول به لـ {أَقُولَ} لأنّه بمعنى: أذكر أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا القول الحق، وجملة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلى} تقديره: على عدم قولي إلا الحق، والجار والمجرور متعلق بـ {حَقِيقٌ} ولكن {عَلى} بمعنى الباء؛ أي: حقيق بعدم قولي إلا الحق، هذا على قراءة الجمهور، وقرأ نافع: {حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ}

بتشديد الياء، وذلك لقلب ألف {على} ياء وإدغامها في ياء المتكلم، فعلى هذه القراءة {حَقِيقٌ}: مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة عمله في الجار والمجرور بعده، فإنّ {علي}: متعلق بـ {حَقِيقٌ} وجملة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية تقديره: حقيق على عدم قولي على الله إلا الحق، والجملة الإسمية على كلا التقديرين في محل النصب مقول {قالَ} {قَدْ}: حرف تحقيق {جِئْتُكُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول، {بِبَيِّنَةٍ}: متعلق به، {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {بينة}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ}. {فَأَرْسِلْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {أرسل}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ} والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {جِئْتُكُمْ}. {مَعِيَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {أرسل}، {بَنِي إِسْرائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه. {قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. {قالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة مستأنفة {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} إلى قوله: {فَأَلْقى} عَصاهُ مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: إِنْ {:} حرف شرط {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية {جِئْتَ}: فعل وفاعل، {بِآيَةٍ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان {فَأْتِ} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية {ائت} فعل أمر في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}. {بِها} جار ومجرور، متعلق به، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ} إِنْ {:} حرف شرط {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مِنَ الصَّادِقِينَ}: جار ومجرور خبر {كان} وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنت من الصادقين .. فأت بها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ}. {فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}.

{فَأَلْقى} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {ألقى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة معطوفة على جملة {قالَ}، {عَصاهُ}: مفعول به ومضاف إليه، {فَإِذا}: {الفاء}: عاطفة {إذا}: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب، {هِيَ}: مبتدأ {ثُعْبانٌ}: خبره، {مُبِينٌ}: صفة لـ {ثُعْبانٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {ألقى}. {وَنَزَعَ يَدَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة معطوفة على جملة {ألقى} {فَإِذا}: {الفاء}: عاطفة {إذا}: حرف فجأة {هِيَ}: مبتدأ {بَيْضاءُ}: خبره، {لِلنَّاظِرِينَ} متعلق بـ {بَيْضاءُ}، أو صفة له؛ لأنّه اسم فاعل لمؤنث، كحمراء وأحمر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {نَزَعَ}. {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110)}. {قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من {الْمَلَأُ}. {إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {قالُوا} مقول محكي لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {إِنَّ} هذا حرف نصب، واسم الإشارة اسمها {لَساحِرٌ}: {اللام}: حرف ابتداء {ساحر} خبر {إِنَّ}. {عَلِيمٌ}: صفة {ساحر}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قالَ}. {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} أو على {ساحر}، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في {ساحر}، أو في محل الرفع صفة ثانية {لَساحِرٌ}، {أَنْ يُخْرِجَكُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إخراجه إياكم {مِنْ أَرْضِكُمْ}، متعلق بـ {يُخْرِجَكُمْ}. {فَماذا}: {الفاء}: عاطفة داخلة على قول محذوف تقديره: فقال فرعون: ماذا تأمرون؟ {ماذا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول ثان مقدم وجوبا للزومه صدر الكلام، {تَأْمُرُونَ}: فعل وفاعل، والواو عائدة على {الْمَلَأُ}، والمفعول الأول محذوف تقديره: فقال فرعون: أي شيء تأمرونني فيه؟ والجملة الفعلية في

محل النصب مقول لـ {قالَ} المحذوف، وجملة {قال} المحذوف معطوفة على جملة قوله: {قالَ الْمَلَأُ} ويجوز أن تكون {ما} اسم استفهام مبتدأ {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي، في محل الرفع خبره، وجملة {تَأْمُرُونَ}: صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فقال فرعون ما الذي تأمرونني فيه؟. {قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافيا بيانيا {أَرْجِهْ وَأَخاهُ} إلى قوله: {وَجاءَ السَّحَرَةُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَرْجِهْ}: فعل أمر مبني بسكون على الهمزة المحذوفة للتخفيف؛ لأنه من أرجأ و {الهاء}: ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل النصب مفعول به، مبني على السكون تشبيها له بهاء السكت مع إجراء الوصل مجرى الوقف، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {وَأَخاهُ}: معطوف على ضمير المفعول {وَأَرْسِلْ}: فعل أمر معطوف على {أَرْجِهْ}، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، {فِي الْمَدائِنِ}: متعلق به، {حاشِرِينَ}: مفعول به لـ {أَرْسِلْ}، ومفعول {حاشِرِينَ} محذوف تقديره: حاشرين السحرة {يَأْتُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق {بِكُلِّ ساحِرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به. {عَلِيمٍ}: صفة {ساحِرٍ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)}. {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة {جاءَ} تقديره: وجاء السحرة فرعون فقالوا: {إِنَّ لَنا لَأَجْرًا} إلى آخر الآية. مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {إِنَّ} حرف نصب {لَنا}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}، {لَأَجْرًا}: اسمها مؤخر {واللام}: حرف ابتداء وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قالُوا}، {إِنَّ}: حرف شرط، {كُنَّا}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها، {نَحْنُ}: ضمير فصل، أو مؤكد لاسم كان،

{الْغالِبِينَ}: خبر كان، وجواب {إِنَّ} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنا نحن الغالبين .. فإن لنا لأجرا، وجملة {إِنَّ}: الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}. {قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ} والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {نَعَمْ}: حرف جواب وتصديق، قائم مقام الجملة الجوابية تقديرها: قال: إن لكم لأجرا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالَ}، {وَإِنَّكُمْ}: الواو عاطفة {إن}: حرف نصب {والكاف}: اسمها {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} جار ومجرور خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة {إن} المحذوفة، القائم مقامها حرف {نَعَمْ} على كونها مقولا لـ {قالَ}. {قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يا مُوسى}: إلى آخر الآية. مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {يا مُوسى} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {إِمَّا}: حرف تخيير {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تُلْقِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على موسى، وجملة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب، على كونه مفعولا لفعل محذوف تقديره: اختر إما إلقاءك، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالُوا} على كونها جواب النداء، {وَإِمَّا}: الواو عاطفة لـ {إِمَّا} على {إِمَّا}، {أَنْ نَكُونَ}: ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على السحرة {نَحْنُ}: ضمير فصل، أو مؤكد لاسم {نَكُونَ}، {الْمُلْقِينَ}: خبر نكون، وجملة {نَكُونَ} في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها تقديره: إختر إما إلقاءك وإما إلقاءنا، ومفعول الإلقاء في الموضعين محذوف لعلمه تقديره: إختر إما إلقاءك حبالك وعصيك، وإما إلقاءنا حبالنا وعصينا. {قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}.

{قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة مستأنفة {أَلْقُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {فَلَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن موسى أمرهم بالإلقاء، وأردت بيان ما وقع منهم بعد أمره بالإلقاء .. فأقول لك {لما ألقوا} {لما}: حرف شرط غير جازم {أَلْقُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {سَحَرُوا}: فعل وفاعل، {أَعْيُنَ النَّاسِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا، {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {سَحَرُوا}، {وَجاؤُ}: فعل، وفاعل معطوف على {سَحَرُوا}، {بِسِحْرٍ}: متعلق بـ {جاؤُ}، {عَظِيمٍ}: صفة لـ {سحر}. {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)}. {وَأَوْحَيْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلى مُوسى}: جار ومجرور، متعلق به {أَنْ}: مفسرة أو مصدرية {أَلْقِ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} {عَصاكَ}: مفعول به، ومضاف إليه، وجملة {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وأوحينا إلى موسى إلقاءه عصاه {فَإِذا هِيَ} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فألقاها فإذا هي {إذا}: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب، {هِيَ}: مبتدأ، {تَلْقَفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على العصا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول {تَلْقَفُ}، أو مصدرية، وجملة {يَأْفِكُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما يأفكونه، أو الجملة صلة ما المصدرية، والتقدير: تلقف إفكهم؛ أي: مأفوكهم من الحبال والعصي. {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)}.

{فَوَقَعَ} {الفاء}: عاطفة {وقع الحق}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَوْحَيْنا}، {وَبَطَلَ}: فعل ماض، {ما}: موصولة في محل الرفع فاعل لـ {بَطَلَ}، ويصح أن تكون مصدرية، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة كان صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، أو صلة {ما} المصدرية والتقدير: وبطل عملهم، وجملة {بَطَلَ} معطوفة على جملة {وقع}. {فَغُلِبُوا} {الفاء}: عاطفة {غلبوا}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {بَطَلَ}، {هُنالِكَ} {هنا}: اسم إشارة يشار به للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية مبني على السكون، {اللام}: لبعد المشار إليه، {والكاف}: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ {غلبوا}، {وَانْقَلَبُوا}: فعل وفاعل معطوف على {غلبوا}، {صاغِرِينَ}: حال من الواو في {انْقَلَبُوا}. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)}. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {غلبوا} {ساجِدِينَ}: حال من {السَّحَرَةُ}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية حال ثانية من {السَّحَرَةُ} والتقدير: وألقي السحرة حالة كونهم ساجدين قائلين: آمنا برب العالمين. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، {بِرَبِّ الْعالَمِينَ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {رَبِّ مُوسى}: بدل من {بِرَبِّ الْعالَمِينَ}، {وَهارُونَ}: معطوف على {مُوسى}. {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}. {قالَ فِرْعَوْنُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {آمَنْتُمْ بِهِ} إلى قوله: {قالُوا} مقول محكي، وإنّ شئت قلت: {آمَنْتُمْ}: فعل وفاعل، {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول، {قَبْلَ}: منصوب

على الظرفية، متعلق بـ {آمَنْتُمْ}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {آذَنَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}. وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ}، {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: قبل إذني لكم. {إنْ}: حرف نصب، {هذا}: اسمها، {لَمَكْرٌ}: {اللام}: حرف ابتداء {مكر}: خبرها، وجملة {أَنْ} في محل النصب مقول {قالَ} {مَكَرْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {مكر}، {فِي الْمَدِينَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مَكَرْتُمُوهُ}، {لِتُخْرِجُوا} {اللام}: حرف جر وكي {تخرجوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} مضمرة بعد لام كي {مِنْها} متعلق بـ {تخرجوا}، {أَهْلَها}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإخراجكم منها أهلها، الجار والمجرور متعلق بـ {مَكَرْتُمُوهُ}، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. {الفاء}: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مكركم وأردتم بيان عاقبته .. فأقول لكم سوف تعلمون ما يحل بكم، وجملة {سوف تعلمون}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لقوله: {قالَ فِرْعَوْنُ}. {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125)}. {لَأُقَطِّعَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم {أقطعن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير المتكلم المستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، {أَيْدِيَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {وَأَرْجُلَكُمْ}: معطوف عليه {مِنْ خِلافٍ}: جار ومجرور، حال من الأيدي والأرجل؛ أي: حالة كونها مختلفة في القطع، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول {قالَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أصلبنكم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ}، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير المخاطبين، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب

معطوفة على جملة القسم الأول. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِنَّا إِلى رَبِّنا} إلى قوله: {وَقالَ الْمَلَأُ}: مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {إِنَّا}: حرف نصب واسمه {إِلى رَبِّنا}: متعلق بـ {مُنْقَلِبُونَ}، {مُنْقَلِبُونَ}: خبر {إِنَّا} وجملة إنّ في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)}. {وَما} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {تَنْقِمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ مِنَّا}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّا إِلى رَبِّنا}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {آمَنَّا}: فعل ماض، وفاعله في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، {بِآياتِ رَبِّنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {آمَنَّا}، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقديره: إلا إيماننا بآيات ربنا، {لَمَّا}: حينية في محل النصب على الظرفية، {جاءَتْنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الآيات، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا} تقديره: حين مجيئها إيانا، والظرف متعلق بـ {آمَنَّا}، {رَبِّنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}، {أَفْرِغْ}: فعل دعاء سلوكا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله، {عَلَيْنا}: متعلق به، {صَبْرًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالُوا} على كونها جواب النداء {وَتَوَفَّنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، {مُسْلِمِينَ}: حال من ضمير المتكلمين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَفْرِغْ} على كونها جواب النداء. التصريف ومفردات اللغة {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ}. {مُوسى} (¬1) موسى ابن عمران ¬

_ (¬1) المراغي.

- بكسر العين - وأهل الكتاب يقولون: عمرام بفتح أوله، وإنّما سمي موسى لأنّه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية: مو، والشجر: سى، وذلك أنّ أمه وضعته بعد ولادته في تابوت - صندوق - وأقفلته إقفالا محكما، وألقته في نهر النيل، خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه، إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم، ويتركون نساءهم، وفرعون لقب لملوك مصر القدماء، كلقب قيصر لملوك الروم، وكسرى لملوك الفرس، كما مر، والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم، أن فرعون موسى هو الملك منفتاح، وكان يلقب بسليل الإله: رع؛ أي: الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية. الآية الكريمة {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} {وَمَلَائِهِ} والملأ أشراف الناس، يملؤون المجالس بأجرامهم، والعيون بجمالهم، والقلوب بمهابتهم، كما مر عن أبي السعود، ومن المراد هنا ما يشمل الرفيع والوضيع {فَظَلَمُوا بِها}؛ أي: جحدوا بها وكفروا {حَقِيقٌ}؛ أي: جدير وخليق به، يقال: أنت حقيق بكذا، كما يقال: أنت جدير به وخليق، وقال الليث: حق الشيء معناه: وجب، ويحق عليك أن تفعله، وحقيق أن أفعله، فهو بمعنى فاعل، وقد يكون بمعنى مفعول، تقول: فلان محقوق عليه أن يفعل {وَنَزَعَ يَدَهُ} والنزع إخراج الشيء من مكانه {فَماذا تَأْمُرُونَ}؛ أي: تشيرون في أمره، يقال: مرني بكذا على معنى: أشر علي وأدل رأيك. {أَرْجِهْ وَأَخاهُ}؛ أي: أرجىء أمره وأخره ولا تقض فيه بادىء الرأي، وهو من أرجأ الرباعي {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ} جمع مدينة، ومدينة على وزن فعيلة، فالياء زائدة في المفرد، فلذلك تقلب همزة في الجمع على حد قوله في الخلاصة: والمدّ زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد والمدينة من مدن بالمكان يمدن، إذا أقام به، فالفعل من باب نصر، وفي «السمين»: والمدائن جمع مدينة ووزنها فعيلة، فميمها أصلية، وياؤها زائدة، مشتقة من مدن يمدن مدونا؛ أي: أقام {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} يجوز (¬1) أن يكون استفعل هنا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بمعنى أفعل؛ أي: أرهبوهم، وهو قريب من قولهم قر واستقر، وعظم واستعظم، وهذا رأي المبرد، ويجوز أن تكون السين على بابها؛ أي: استدعوا رهبة الناس منهم، وهو رأي الزجاج. اه «سمين». {تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} (¬1) قرأ العامة: {تَلْقَفُ} بتشديد القاف من {تَلْقَفُ} والأصل تتلقف بتائين، فحذفت إحداهما، إما الأولى وإما الثانية، وقد تقدم ذلك في نحو {تذكرون} والبزي: على أصله وإدغامها فيما بعدها، فيقرأ: {فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ} بتشديد التاء أيضا، وقرأ حفص {تَلْقَفُ} بتخفيف القاف من لقف، كعلم يعلم، وركب يركب، يقال: لقفت الشيء ألقفه لقفا، وتلقفته أتلقفه تلقفا إذا أخذته بسرعة فأكلته أو ابتلعته، ويقال: لقف ولقم بمعنى واحد، قاله أبو عبيد اه «سمين»، وفي «المختار»: لقف من باب فهم، وتلقفته؛ أي: تناولته بسرعة اه. {ما يَأْفِكُونَ} أصل الإفك قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب أفّاك؛ لأنّه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل. اه «خازن». وفي «المصباح» أفك يأفك من باب ضرب، إفكا بالكسر فهو أفوك وأفاك، وأفكته صرفته، وكل أمر صرف عن وجهه فقد أفك. اه وفي «المراغي»: المأفوك (¬2) المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها: مؤتفكة، كما قال تعالى: {وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)} وقال: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ أي: يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح، فالإفك بالقول كالكذب، وقد يكون بالفعل، كعمل سحرة فرعون. {فَغُلِبُوا هُنالِكَ}. {هُنالِكَ}: يجوز أن يكون مكانا؛ أي: غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن يكون زمانا، وهذا ليس أصله، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى في قوله تعالى: {هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} وفي قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

فهناك يعترفون أين المفزع ولا حجة فيهما؛ لأن المكان فيهما واضح. اه «سمين» {وَانْقَلَبُوا}؛ أي: عادوا {صاغِرِينَ}؛ أي: أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120)}؛ أي: خروا - سجدا؛ لأنّ الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود. {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ}؛ أي: قال (¬1) ما ذكر منكرا على السحرة، موبخا لهم على ما فعلوه، فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، وأصل هذا الفعل آمن بوزن آدم، وأصله أأمن بهمزتين، فقلبت الثانية ألفا وجوبا على القاعدة، والثانية هي فاء الكلمة، والأولى زائدة، فهو بوزن أفعل، كأكرم ثمّ إنّه دخلت عليه همزة الاستفهام، فاجتمع همزتان صريحتان، وبعدهما ألف منقلبة عن همزة في الأصل {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أصله (¬2) أأذن وهو فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، والهمزة الأولى همزة المتكلم التي تدخل على المضارع، والثانية قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة أخرى، وأصله أأذن على وزن أعلم. المكر: صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان، محمود: يراد به الخير، ومذموم: يراد به الشر {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} والصلب: الشد على خشبة ونحوها، وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت، وهو المتعارف اليوم. {وَما تَنْقِمُ مِنَّا} عبارة «الخازن» يعني: وما تكره منا وما تطعن علينا. وقال عطاء: معناه وما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه. انتهت. وفي «المصباح» نقمت عليه أمره ونقمت منه نقما، من باب ضرب، ونقوما، ونقمته أنقمه من باب تعب لغة إذا عبته وكرهته أشد الكراهة لسوء فعله، وفي «التنزيل»: {وَما تَنْقِمُ مِنَّا} على اللغة الأولى؛ أي: وما تطعن فينا وتقدح، وقيل: ليس لنا عندك ذنب، ولا ركبنا ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الفتوحات.

مكروها. اه وقال: نقمت بالشيء إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة، كما قال تعالى {وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} و {وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ}. {أَفْرِغْ عَلَيْنا}؛ أي: افض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء من القرب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإبهام في قوله: {بِآياتِنا} إفادة للتفخيم والتعظيم. ومنها: التضمين في قوله: {فَظَلَمُوا بِها} وهو إشراب كلمة معنى كلمة أخرى؛ لأنّه ضمن (ظلموا) بمعنى {كفروا} فعداه بالباء. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. ومنها: التضمين أيضا في قوله: {حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. على قراءة العامة؛ لأنّه ضمن {حَقِيقٌ} بمعنى (حريص) فعداه بعلى. ومنها: المقابلة في قوله: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ}، فإنّه في مقابلة قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ لأنّه بمعنى خل أمرهم، واترك سبيلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة، وفي قوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ}؛ لأنّه استعار النزع - الذي هو بمعنى أخذ الشيء بسرعة - للإخراج؛ لأنّه بمعنى: أخرج يده من جيبه، أو من كمه. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} للمبالغة، أكده بإن وبإسمية الجملة، وباللام، وفي قوله: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أكد الجملة بإن، وباللام لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا النوع من أنواع الخبر إنكاريا. ومنها: التنكير إفادة للتعظيم في قوله: {إِنَّ لَنا لَأَجْرًا} قال الزمخشري:

كقولهم: إن له لإبلا، وإن له لغنما وفي قوله: {لَمَكْرٌ}. ومنها: الإبهام في قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ أي: ما يحل بكم، ثم البيان بقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} جاء به في جملة قسمية تأكيدا لما يفعله. ومنها: الجناس المغاير بين {تُلْقِيَ} و {الْمُلْقِينَ} في قوله: {يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}. وتغيير النظم في الجملة الثانية - بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل، وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل - يدل على رغبتهم في التقدم وعدم مبالاتهم بموسى؛ لأن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا ممن له قوة وملكة في الأمر الذي يدعيه، فيخير من يقابله في الابتداء في العمل أو التأخر، فكأنّه يقول: لا أبالي بفعلك سواء تقدم أو تأخر. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} لأنّه استعار الوقوع للثبوت والحصول، وفي قوله: {أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا}؛ لأنّ الإفراغ حقيقة في الماء. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا} مثل قوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1) يخبر عما تمالأ عليه ¬

_ (¬1) المراغي.

فرعون وملؤه، وما أضمروه لموسى وقومه، لقد نصح موسى قومه، ودار بينهم حوار قصه الله علينا في تلكم الآيات. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى وعد موسى لقومه بقوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ...} .. ذكر هنا مبادىء الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحن، حالا بعد حال، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال تنبيها للسامعين، وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء. قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ...} الآيات (¬1)، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى الآيات الخمس التي سبق ذكرها .. بين هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جميعا، وطلبهم من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب، فإذا هو فعل .. آمنوا به، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب، حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق في البحر. قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ...} مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما بين ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى، بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه .. ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات، إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وهي بلاد الشام. قوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم .. أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم، وهي أنّه جاوز بهم البحر آمنين، ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة، فإنّهم جروا معه على دأب ¬

_ (¬1) المراغي.

[127]

أسلافهم مع أخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهم، وإيقاظ للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم، ومراقبة نعم الله تعالى عليهم، فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما منّ الله تعالى به عليهم من النعم. التفسير وأوجه القراءة 127 - {وَقالَ الْمَلَأُ} والأشراف {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لفرعون لما خلى سبيل موسى: {أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ}؛ أي: أتترك موسى وقومه بني إسرائيل أحرارا آمنين؟ والاستفهام للإنكار التعجبي؛ أي: لا تذرهم {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر؛ أي: لتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك القبطيين بإدخالهم في دينهم، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}؛ أي: ويترك عبادتك وعبادة آلهتك، فلا يعبدوك ولا يعبدوها، فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها، ولا يغيبن عنك إيمان السحرة، فقد يكون مقدمة لما بعده. والتاريخ (¬1) المصري المستمد من العادات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة، منها: الشمس ويسمونها: رع، وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): كانت لفرعون بقرة كان يعبدها، وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها، ولذلك أخرج لهم السامري عجلا، وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما، وكان يأمرهم بعبادتها، وقال لهم: أنا ربكم ورب هذه الأصنام، وذلك قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى}، والأولى أن يقال: إن فرعون كان دهريا منكرا لوجود الصانع، فكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب، فاتخذ أصناما على صورة الكواكب، وكان يعبدها ويأمر بعبادتها، وكان يقول في نفسه،: إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض، فلهذا قال: أنا ربكم الأعلى. اه من «الخازن». ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وقرأ الجمهور (¬1): {وَيَذَرَكَ} بياء الغيبة ونصب الراء، وفي النصب وجهان، أظهرهما: أنّه على العطف على {لِيُفْسِدُوا}، والثاني: أنّه منصوب على جواب الاستفهام، كما ينصب في جوابه بعد الفاء، وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن في رواية عنه: {وَيَذَرَكَ} بالرفع عطفا على أتذر بمعنى أتذره ويذرك، وعلى الاستئناف إخبارا بذلك، أو على الحال على تقدير: وهو يذرك، وقرأ الأشهب العقيلي والحسن في رواية عنه {وَيَذَرَكَ} بالجزم، إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو عطفا على {يفسدوا} على توهم الجازم كما قيل: في {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}. وقرأ أنس بن مالك: {ونذرك} بالنون ورفع الراء، توعدوه بتركه وترك آلهته، أو على معنى الإخبار؛ أي: إن الأمر يؤول إلى هذا. وقرأ أبي وعبد الله (¬2): {ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك} وقرأ الأعمش: {وقد تركك وآلهتك} وقرأ الجمهور: {وَآلِهَتَكَ} بفتح الهمزة على صيغة الجمع. والظاهر: أن فرعون كان له آلهة يعبدها كما مر عن ابن عباس، وقيل: إن الإضافة لأدنى ملابسة باعتبار أنّه صنعها وأمرهم بعبادتها، لتقربهم إليه. وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وأنس رضي الله عنهم، والشعبي والضحاك: {وإلهتك}: بكسر الهمزة، وفسروا ذلك بأمرين: أحدهما: أن المعنى: ويذكر وعبادتك فلا يعبدك؛ لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد، فيكون حينئذ مصدرا بمعنى العبادة. والثاني: أن المعنى: ويذرك ومعبودك، والمراد بالآلهة الشمس التي كان يعبدها، والشمس تسمى إلهة، علما عليها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنّه كان ينكر قراءة الجمهور ويقرأ: {وإلهتك} ويقول إن فرعون يعبد ولا يعبد. اه «سمين». واعلم (¬3): أن فرعون بعد واقعة السحر كان كلما رأى موسى خافه أشد ¬

_ (¬1) البحر المحيط وغيره. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[128]

الخوف، ولا يتعرض له، إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه حين قالوا: {أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} قال فرعون مجيبا للملأ - لما لم يقدر على موسى أن يفعل معه مكروها لخوفه منه - {سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ}؛ أي: سنقتل أبناء بني إسرائيل تقتيلا كلما تناسلوا {وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ}؛ أي: ونستبقي نساءهم أحياء للخدمات كما كنا نفعل بهم قبل ولادته، حتى ينقرضوا ويعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة. وقال ابن عباس (¬1): كان فرعون قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى، فلما جاءه موسى بالرسالة - وكان من أمره ما كان - أعاد فيهم القتل، وقيل: لم يعد فيهم القتل بل وعده وهدده إياهم، وقرأ نافع وابن كثير {سَنُقَتِّلُ} بالتخفيف مع فتح النون وسكون القاف، وقرأ الباقون بالتشديد مع ضم النون {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ}؛ أي: فوق بني إسرائيل في المنزلة والتمكن في الدنيا؛ أي: مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان {قاهِرُونَ} لهم وغالبون عليهم، كما كنا من قبل فلا يقدرون على إذايتنا، ولا على الإفساد في أرضنا، ولا على الخروج من عبوديتنا، وإنما تركنا موسى وقومه بلا حبس لعدم التفاتنا إليهم، وعدم مبالاتنا لهم، لا لعجز ولا لخوف. واختلف المفسرون (¬2): هل أعاد عليهم القتل أم لا؟ فمنهم من قال: أعاد عليهم القتل، ومنهم من قال: لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى: {أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ}. 128 - ولكن لما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد .. خافوا من فرعون، فشكوا ذلك إلى موسى، فطمأنهم موسى كما حكى الله عنه بقوله: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ}: بني إسرائيل يا قوم {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ}؛ أي: اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم، ورفع أذاهم عنكم؛ فإن الله هو الكافي لكم {وَاصْبِرُوا} على أذاهم، أو على ما سمعتم من أقاويله الباطلة، ولا تحزنوا {إِنَّ الْأَرْضَ}؛ أي: أرض مصر وكذا سائر أقطار الأرض، شرقها وغربها {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

خلقا وملكا، لا لفرعون، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء {يُورِثُها}؛ أي: يورث الأرض ويعطيها {مَنْ يَشاءُ} أي لمن يشاء إعطاءه إياها {مِنْ عِبادِهِ} فهي على مقتضى سننه دول وأيام، وهذا إطماع من موسى عليه السلام لبني إسرائيل أنه يهلك فرعون وقومه، ويملك بنو إسرائيل أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم كما قال: {وَالْعاقِبَةُ} المحمودة في الدنيا والآخرة، وعاقبة كل شيء آخره {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: لمن يتقون الله، ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض، باتحاد الكلمة، والاعتصام بالحق، وإقامة العدل، والصبر على الشدائد، والاستعانة بالله لدى المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب، ودلت عليه الشرائع، وهم موسى وقومه. وقرأ الحسن، ورويت عن حفص (¬1): {يورثها}: بضم الياء وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير، وقرأت فرقة: {يورثها}: بفتح الراء، مبينا للمفعول. وقرأ ابن مسعود: {الْعاقِبَةُ}: بالنصب عطفا على الأرض، فالاسم معطوف على الاسم، والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات، فنتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم، ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة، والنصر على من عاداهم، فلذلك كان الأمر شيئين ينتج عنهما شيئان: قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة - أعني قوله: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} - من الواو، وأدخلت على التي قبلها - أعني قوله: {وَقالَ الْمَلَأُ}؟ قلت: هذه جملة مستأنفة، والتي قبلها معطوفة على ما سبقها من قوله: {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ}. انتهى. والخلاصة: ليس الأمر كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض، ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه في الخلق، وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوي على قوته، والضعيف على ضعفه، اعتمادا على أنّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الكشاف.

[129]

الآلهة ضمنت له بقاء ملكه، وعظمته، وجبروته، لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل، ففزعوا من فرعون وقومه 129 - {وقالُوا}؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار، هل في الحال، أو لا، لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة، وشكا في وعده {أُوذِينا} يا موسى من جهة فرعون وقومه، بقتل أبنائنا، واستخدام نسائنا {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا} بالرسالة {وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا} رسولا بإعادة ذلك علينا، وذلك (¬1) أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه، وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة نصف النهار، فلما جاء موسى - وجرى بينه وبين فرعون ما جرى - شدد فرعون في استعمالهم، فكان يستعملهم جميع النهار، وأعاد القتل فيهم، ولما ذكروا ذلك لموسى .. أجابهم بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه: {قالَ} موسى لقومه مسليا لهم، حين رأى شدة جزعهم بما شاهدوه من فعل فرعون {عَسى رَبُّكُمْ}؛ أي حقق ربكم {أَنْ يُهْلِكَ} ويستأصل {عَدُوَّكُمْ} فرعون وقومه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يجعلكم خلفاء في أرض مصر بعد هلاك أهلها، أو المعنى: قال (¬2) موسى لهم: إن رجائي من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم، ويجعلكم خلفاء في الأرض. {فَيَنْظُرَ} سبحانه وتعالى ويرى {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} بعد استخلافه إياكم فيها، أتشكرون النعمة أم تكفرون، وتصلحون في الأرض أم تفسدون، ويكون جزاؤكم في الدنيا والآخرة وفق ما تعملون، وعبر بالرجاء - دون أن يجزم بذلك - لئلا يتركوا ما يجب من العمل، ويتكلوا على ذلك، أو لئلا يكذبوه؛ لأنّ أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخدام لفرعون وقومه، واستعظامهم لقومه وملكه، وقال التبريزي: يحتمل أن يكون قد أوحي بذلك إلى موسى، فعسى: للتحقيق، أو لم يوح، فيكون على الترجي منه، وهذا تصريح (¬3) بما رمز إليه أولا. من أن الأرض لله، وقد حقق الله تعالى رجاءه وملكوا مصر في زمان ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[130]

داود وسليمان، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، وأهلك فرعون وقومه بالغرق، وأنجاهم. 130 - ثم شرع في تفصيل مبادىء هلاكهم فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ابتلينا آل فرعون وقومه، في المدة التي كان موسى أقام بينهم يدعوهم إلى الله تعالى، والأخذ (¬1) - التناول باليد - ومعناه: هنا الابتلاء ومعنى {بِالسِّنِينَ} بالقحوط والجدوب، والسنة تطلق على الحول، وتطلق على الجدب ضد الخصب. {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ} وذهابها بالعاهات؛ أي: ابتليناهم بالجدب وضيق المعيشة. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}؛ أي: لكي يتذكروا ضعفهم أمام قدرة الله، وعجز ملكهم العالي الجبار، وعجز آلهتهم، ويرجعوا عن ظلمهم لبني إسرائيل، ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه، والعمل على مرضاته والتضرع له، دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده. فإن لم تجد المصائب في تذكر المولى، وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به، حتى في أوقات الشدائد، فهم في خسران مبين، وضلال بعيد، وكذلك كان دأب آل فرعون، بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام. قال ابن عباس وقتادة (¬2): أما السنون فكانت لباديتهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم، وهذه سيرة الله في الأمم، يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم، فإن الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب، والرجوع إلى طلب لطف الله وإحسانه، وكذا فعل بقريش حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وروي أنه يبس لهم كل شيء، حتى نيل مصر، ونقصوا من الثمرات، حتى كانت النخلة تحمل التمرة الواحدة. 131 - ثم بين أن المصائب لم تفدهم ذكرى، بل زادتهم عتوا فقال: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}؛ أي: فإذا جاءهم الخصب، والثمار، والمواشي، والسعة في الرزق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

والعافية {قالُوا}؛ أي: قال آل فرعون {لَنا هذِهِ} الحسنة؛ أي: نحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس، فبلادنا بلاد خصب ورخاء، وقد غاب عنهم أن يعلموا أن هذا من الله، فعليهم أن يشكروه عليها ويقوموا بحق النعمة فيه. قال أبو السعود: وهذه الجملة بيان لعدم تذكرهم وتماديهم في الغي. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}؛ أي: وإن أصابهم قحط وجدب ومرض وبلاء {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ} من المؤمنين؛ أي: تشاءموا بموسى وقومه وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، وغفلوا عن سيئات أنفسهم، وظلمهم لقوم موسى، توهما منهم أنّ ذلك حق من حقوقهم. وهذه المعاملة يعامل بها الآن الأجنبي في الوطن أو في الدين، كما نراه الآن في بعض الدول العصرية، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. قال الزمخشري (¬1): فإن قلت: كيف قيل: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} بـ {إذا} وتعريف الحسنة، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ {إِنْ} وتنكير السيئة؟ قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه، كالواجب لكثرته واتساعه، وأما السيئة: فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا يسير منها، ومنه قول بعضهم: وقد عدّدت أيّام البلاء ... فهل عددت أيّام الرّخاء انتهى. وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: {تطيروا} بالتاء وتخفيف الطاء، فعلا ماضيا {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ}؛ أي: حظهم {عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: سبب خيرهم وشرهم في جميع ما ينالهم من خصب وقحط، هو من عند الله تعالى، ليس بسبب موسى ومن معه؛ أي: إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وتقديره، وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليها البلاء، ويكون إمتحانا واختبارا لهم، ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بني إسرائيل، وعن طغيانهم وإسرافهم في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[132]

جميع أمورهم، وقرأ الحسن: {ألا إنما طيرهم} وكان النبي صلى الله عليه وسلّم (يتفاءل ولا يتطير) وأصل الفأل الكلمة الحسنة، كانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الفأل وأبطل الطيرة {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}؛ أي: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة تصرف الخالق في هذا الكون، ولا أسباب الخير والشر، ولا أن كل شيء فيه جاء بمشيئته وتدبيره؛ لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة، ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وقدره، والحق أن الكل من الله، فإسنادها إلى غير الله تعالى يكون جهلا بكمال الله تعالى. 132 - وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عماهم فيه من الطغيان .. ذكر أنّه أصابهم بضروب أخرى من العذاب، وهي في أنفسها آيات بينات وهم مع ذلك لم يرعووا عن كفرهم وعنادهم {وَقالُوا}؛ أي: آل فرعون وهم القبطيون لموسى عليه السلام {مَهْما تَأْتِنا بِهِ}؛ أي: أي شيء تأتنا به وتظهره لدينا {مِنْ آيَةٍ}؛ أي: من علامة من عند ربك {لِتَسْحَرَنا}؛ أي: لتصرفنا عما نحن عليه من الدين بِها؛ أي: بتلك الآية {فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بمصدقين لك في الرسالة بسبب تلك الآية. أي: إنّك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات، التي يستدل بها على أنّك محق في دعوتك، لأجل أن تسحرنا بها، وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا، ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا، فما نحن بمصدقين لك، ولا بمتبعين رسالتك، والضميران في {بِهِ} و {بِها} راجعان لـ {مَهْما} الأول مراعاة للفظها، والثاني مراعاة لمعناها. وهذا شروع في بيان ضرب آخر مما أخذوا به من فنون العذاب، التي هي أنفسها آيات بينات، وعدم رجوعهم مع ذلك عما كانوا عليه من العناد؛ أي: قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من شأن العصا والسنين، ونقص الثمار: {مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ ...} الخ. وكان موسى رجلا حديدا حارا، فعند ذلك دعا عليهم وقال: يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا، وإنّ قومه قد نقضوا العهد، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية،

[133]

فاستجاب الله له فقال تعالى: 133 - {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ}؛ أي: أرسلنا على آل فرعون عقوبة على جرائمهم، وقد عدد سبحانه هنا من الآيات والعقوبات خمسا، وفي سورة الإسراء تسعا، الأول: منها ما ذكره بقوله: {الطُّوفانَ}؛ أي: أنزلنا عليهم مطرا أغرق أرضهم، وأتلف زرعهم وثمارهم، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط متشبكة مختلطة، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ومن جلس منهم غرق، ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء، وركب ذلك الماء على أرضهم، فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، حتى كان الرجل منهم لا يرى شمسا ولا قمرا، ولا يستطيع الخروج من داره، فصرخوا إلى فرعون فاستغاثوا به، فأرسل إلى موسى عليه السلام فقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا؛ فإن كشفت هذا العذاب عنا .. آمنا بك، فأزال الله تعالى عنهم المطر، وأرسل الريح، فجفت الأرض، وخرج من النبات ما لم ير مثله قط، فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا، لكنا لم نشعر، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، فنكثوا العهد ولم يؤمنوا، فأقاموا شهرا في عافية {وَ} أرسل الله عليهم {الْجَرادَ} فأكل زروعهم وثمارهم، وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم، وابتلي الجراد بالجوع، فكانت لا تشبع، ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك، وعظم الأمر عليهم، حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس، ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا، فضجوا في ذلك إلى موسى وقالوا: يا موسى أدع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز .. لنؤمنن لك، فأعطوه عهد الله وميثاقه، فدعا موسى عليه السلام، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فأرسل الله تعالى ريحا فألقته في البحر، وكان قد بقي من زرعهم وغلاتهم بقية، فنظروا إلى ما بقي منها فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا، ولا نؤمن بك {وَ} أقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليم {الْقُمَّلَ} واختلفوا في معنى القمل، والصحيح أنّه هو القمل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا المعنى قراءة الحسن: {وَالْقُمَّلَ} - بفتح القاف وسكون الميم - فيكون فيه لغتان. القمل - بصم القاف وتشديد الميم المفتوحة - كقراءة الجمهور، والقمل

كقراءة الحسن، وقيل: القمل البراغيث، وقيل الجعلان، وقيل: إنه السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل: غير ذلك مما يطول الكلام بذكره، وعن سعيد بن جبير: كان إلى جنبهم كثيب أحمر، فضربه موسى عليه السلام بعصاه، فصار قملا، فأخذت أبشارهم وأشعارهم، وأشعار عيونهم، وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنّه الجدري، ومنعهم النوم والقرار، فصاحوا وصرخوا هم وفرعون إلى موسى عليه السلام، وقالوا: إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء، فدعا موسى فرفع الله عنهم القمل بعدما أقام عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا: اليوم قد تيقنا أنه ساحر، حيث جعل الرمل دواب ولم يؤمنوا {وَ} أقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم {الضَّفادِعَ} الحيوان المعروف، فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم، فلا يكشف أحد منهم عن ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى رقبته، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وكان يثب في قدورهم، فيفسد عليهم طعامهم، ويطفىء نيرانهم، وكان أحدهم يضطجع، فيركبه الضفدع، فيكون عليه ركاما حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر، ويفتح فاه إلى أكله فيسبق الضفدع أكله إلى فيه، ولا يعجن عجينا، ولا يفتح قدرا إلا امتلأ الضفادع، فلقوا منها أذى شديدا، فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح، ولا نعود إلى الكفر، فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بأن أماتها وأرسل عليها المطر والريح فاحتملها إلى البحر بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، ثم أظهروا الكفر {وَ} أقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم {الدَّمَ} في مياههم، فصارت مياههم كلها دما، فما يسقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دما عبيطا - الخالص الطري - أحمر، فشكوا إلى فرعون وقالوا: إنّه ليس لنا شراب، فقال فرعون: سحركم موسى، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا، وكان فرعون لعنه الله تعالى يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد، فيكون ما يلي القبطي دما، وما يلي الإسرائيلي ماء، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم

[134]

العطش فتقول لها: اسقيني ماءك، فتصب لها من قربتها فيعود في إناء القبطية دما، حتى كانت القبطية تقول للإسرائيلية: اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ، فتأخذه في فيها ماء، وإذا مجته في فيها .. صار دما، واعترى فرعون العطش، حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها دما، فمكثوا على ذلك سبعة أيام، من السبت إلى السبت، لا يشربون إلا الدم فأتوا موسى وشكوا إليه ما يلقونه، وقالوا: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا هذا الدم لنؤمنن لك، ولنرسلنّ معك بني إسرائيل مع أموالهم، فدعا موسى عليه السلام ربه فكشفه عنهم وقوله: {آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} حال من تلك الأشياء الخمسة؛ أي: فأرسلنا عليهم هذه الأشياء الخمسة، حالة كونها آيات مفصلات؛ أي: علامات مبينات ومعجزات واضحات، لا يخفى على كل عاقل أن هذه الخمسة من آيات الله تعالى، التي لا يقدر عليها غيره، أو حالة كونها آيات مفرقات بعضها من بعض بزمان مدة شهر لامتحان أحوالهم، أيقبلون الحجة أو يستمرون على التقليد، وكان كل عذاب يبقى عليهم أسبوعا، من سبت إلى سبت، وبين كل عذابين شهر {فَاسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تكبروا عن الإيمان بها وعن عبادة الله تعالى، لرسوخهم في الإجرام والإصرار على الذنوب، وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته، وحجة رسالته، {وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}؛ أي: مصرين على الذنب، لا يهتدون إلى الحق، ولا يقلعون عن الباطل. والذي دلت عليه الآية (¬1): أنّه أرسل عليهم ما ذكر فيها، وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات، فمرجعه إلى النقل عن الأخبار الإسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شيء. 134 - فقوله {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ....} الخ، موزع (¬2) على الخمسة المذكورة، وهي الطوفان وما بعده، إذ كانوا في كل واحدة من الخمس المذكورة يلتجؤون إلى موسى ويطلبون منه الدعاء، ويسألونه أن يطلب لهم من ربه كشف ما نزل بهم، ويواعدونه بالإيمان به وإرسال بني إسرائيل معه، ويدعو الله فيكشف عنهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

[135]

فيستمرون على الإيمان شهرا ثم ينكثون؛ أي: فكلما وقع عليهم، وحل بهم الرجز والعذاب، الذي هو واحد من الخمسة المذكورة في الآية السابقة، اضطربوا وفزعوا أشد الفزع و {قالُوا} كل مرة منها {يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ} وتوسل إليه {بِما عَهِدَ عِنْدَكَ}؛ أي: بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا هذا الرجز والعذاب الذي نزل بنا، ونحن نقسم لك {لَئِنْ كَشَفْتَ} ورفعت {عَنَّا} هذا {الرِّجْزُ} والعذاب بدعائك {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} ولنصدقن رسالتك {وَلَنُرْسِلَنَّ}؛ أي: لنطلقن {مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} ليعبدوا ربهم معك. 135 - {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ}؛ أي: فكلما كشفنا ورفعنا عنهم الرجز والعذاب، مرة بعد أخرى من المرات الخمسة السابقة {إِلى أَجَلٍ} ومدة من الزمن {هُمْ بالِغُوهُ} ومنتهون إليه لا بد، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} وينقضون عهدهم ويحنثون في قسمهم في كل مرة؛ أي: فكلما رفعنا عنهم العذاب فاجؤوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب، بل نهلكهم به. والخلاصة (¬1): أنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد، فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. 136 - {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} عند بلوغ الأجل المضروب لهم؛ أي: فلما بلغوا الأجل المؤقت لهم .. أردنا الانتقام منهم، والعقوبة لهم على ما أسلفوا من المعاصي {فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ}؛ أي: فأهلكناهم في البحر الملح {بـ} سبب {أنهم كذبوا بآياتنا} التسع كلها الدالة على صدق رسولنا {وَكانُوا عَنْها}، أي: عن تلك الآيات {غافِلِينَ}؛ أي: معرضين غير ملتفتين إليها. أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم، بأن أغرقناهم في البحر وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات، وعدم تفكرهم فيها، حتى صاروا كالغافلين عنها، ¬

_ (¬1) المراغي.

[137]

فالمراد بالغفلة عدم التدبر، وهذا مؤاخذ به، فسقط ما يقال: الغفلة لا مؤاخذة بها. والخلاصة: أنّهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب، ثم يكذبون، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم، انتقمنا منهم بسبب أنّهم كذبوا بها كلها، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة، إذ كانت في نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم في كل آية منها، ويحاولون أن يأتي سحرتهم وعلماؤهم بمثلها. ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه، فآمن به جهرة ككبار السحرة، ومنهم من كتم إيمانه كالذي عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان، في قتل موسى كما سيأتي في سورة غافر، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا في الأرض، كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه. 137 - {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}؛ أي: يغلبون ويذلون ويمتهنون بقتل أبنائهم، واستبقاء نسائهم، وضرب الجزية عليهم، واستعمالهم في الأعمال الشاقة لفرعون وقومه، وهم بنو إسرائيل {مَشارِقَ الْأَرْضِ} التي كانت للعمالقة أولا، التي باركنا فيها بكثرة الأشجار والثمار والأنهار فيها، وهي الشام {وَمَغارِبَهَا} التي كانت للفراعنة أولا {الَّتِي بارَكْنا فِيها} بالخصب وسعة الأرزاق، وبالنيل وهي مصر؛ أي: ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا فيها {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى}؛ أي: نفذت كلمة الله وقضاؤه، ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة، وأنجز لهم وعده الحسن الذي وعدهم بالنصر لهم على أعدائهم حيث قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} فالمراد بالكلمة: وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم، وتمامها: إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم، وقوله: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} يرسم لفظ كلمت هنا بالتاء المبسوطة، وما عداها في القرآن يرسم بالهاء المربوطة على الأصل، ذكره في «الفتوحات» والحسنى صفة لكلمة، وهي تأنيث الأحسن {بِما صَبَرُوا}؛ أي:

بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه، وقد كان وعد الله تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة، كما أمرهم نبيهم عليه السلام مبلغا عن ربه {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} فمن قابل البلاء بالجزع .. وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر .. ضمن الله له الفرج، وقد تم وعد الله تعالى لهم بذلك، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس، ولم يكن من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى. {وَدَمَّرْنا}؛ أي: دمرنا {ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} في مصر من المباني والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته، والتشكيك فيها، كما قال تعالى: {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ}. فـ {فِرْعَوْنُ} (¬1) اسم كان، و {يَصْنَعُ} خبر لـ {كانَ} مقدم؛ أي: وخربنا الذي كان فرعون وقومه يصنعه من المدائن والقصور {وَ} خربنا {ما كانُوا يَعْرِشُونَ}؛ أي: ما كان فرعون وقومه يعرشونه ويرفعونه من الشجر والكروم، أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان. وقرأ (¬2) ابن عامر وشعبة وأبو بكر بضم الراء، وباقي السبعة والحسن ومجاهد، وأبو رجاء بكسر الراء هنا، وفي «النحل» وهي لغة الحجاز، وقال الزيدي: هي أفصح، وقرأ ابن أبي عبلة {يعرشون} بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء، قال الزمخشري: وبلغني أنّه قرأ بعض الناس {يغرسون} من غرس الأشجار، وما أحسبه إلا تصحيفا. وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور (¬3): 1 - الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها، وسمتها التوراة الضربات العشر. 2 - إنجاء بني إسرائيل، وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم في أعمالهم. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[138]

3 - هلاك من غرق من قوم فرعون، وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم في العمران، وقد أنذرهم موسى عاقبة ذلك، فكذبوا بالآيات وأصروا على الجمود والعناد، فظلموا أنفسهم وما ظلمهم الله تعالى. ووجه العبرة في هذه الآيات ما كان للإيمان في قلب موسى وهارون من التأثير، إذ تصديا لأكبر ملك، في أكبر دولة في الأرض استعبدت قومه في خدمتها عدة قرون، وما زالا يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما الله تعالى به، وأنقذا قومهما من ظلمه، ولهذا يحذر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وقال: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. وهذا (¬1) آخر ما قص الله تعالى من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان، وأنّه كما وصف: ظلوم كفار، جهول كفور إلا من عصمه الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}. وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة. 138 - {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ} وهذا (¬2) شروع في قصة بني إسرائيل، وشرح ما أحدثوه من الأمور الشنيعة، بعد أن أنقذهم الله من مهلكة فرعون، والمقصود من سياقها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتنبيه المؤمنين، حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم. أي: عبرنا بهم {الْبَحْرَ} بالسلامة، بأن فلق الله تعالى البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا؛ أي: إنّهم تجاوزوه وخرجوا منه بعناية الله تعالى وتأييده وحفظه، حتى كانوا من الشط الغربي إلى الشط الشرقي، والبحر بحر القلزم طرف من بحر فارس، كما في النهر، وهو عند خليج السويس الآن، وروي (¬3) أنه عبر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) البحر المحيط.

بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء، بعد ما أهلك الله فرعون وقومه، فصاموا شكرا لله تعالى، وأعطي موسى التوراة يوم النحر، فبين الأمرين أحد عشر شهرا. وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: {وجوّزنا} بتشديد الواو المفتوحة، من باب فعل المضعف، وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد، نحو: قدر وقدر، وليس التضعيف للتعدية. {فَأَتَوْا}؛ أي: مروا عقب مجاوزتهم البحر ودخولهم في بلاد العرب من البحر الآسيوي. {عَلى قَوْمٍ} قال (¬1) قتادة وأبو عمرو الجوني: هم من لخم وجذام، كانوا يسكنون الريف، وقيل كانوا نزولا بالرقة رقة مصر، وهي قرية بريف مصر، تعرف بساحل البحر، يتوصل منها إلى الفيّوم، وقيل: هم الكنعانيون الذين أمر موسى بقتالهم {يَعْكُفُونَ}؛ أي: يقيمون ويواظبون {عَلى} عبادة {أَصْنامٍ} وتماثيل على صور البقر كانت {لَهُمْ}؛ أي: لأولئك القوم الذين مروا عليهم، وهذا مبدأ شأن العجل الذي اتخذوه بعد ذلك وتعلقوا به، وكان ذلك أول فتنة العجل. وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وأبو عمرو في رواية عبد الوارث {يَعْكُفُونَ} بكسر الكاف، وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان. فصل في حقيقة الصنم والأصنام (¬2) جمع صنم، وهو ما يصنع وينحت من الخشب أو الحجر أو المعدن، مثالا لشيء حقيقي أو خيالي، ليعظم تعظيم العبادة، وقد اتخذ بعض العرب في الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها، ثم جاعوا فأكلوها، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما، وقد يكون للزينة، كالذي يكون على جدران بعض القصور، أو أبوابها، أو في حدائقها، وقد يكون للتعظيم غير الديني، كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وكبار العلماء والقادة، للتذكير بتاريخهم وأعمالهم، للاقتداء بهم. {قالُوا}؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا تلك التمثال عند أولئك القوم: {يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا}؛ أي: عيّن لنا تمثالا نتقرب بعبادته إلى الله تعالى. {كَما لَهُمْ}؛ أي: كما لهؤلاء القوم {آلِهَةٌ}؛ أي: تماثيل يعبدونها. قالوا (¬1) ذلك حنينا منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها، وسر هذا الطلب أنّهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، إذ إن السحرة كانوا من العلماء، فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم. ولم يذكر القرآن شيئا يعين شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل، والراجح أنّهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر، روي عن قتادة أنّهم من عرب لخم كما مر، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من النحاس. {قالَ} موسى للقائلين من قومه {إِنَّكُمْ} يا قوم {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}؛ أي: جاهلون عظمة الله تعالى، وأنّه لا يستحق أن يعبد سواه؛ لأنّه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه، فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه، فلا جهل أعظم مما قلتم؛ فإنّكم قلتموه بعدما شاهدتم المعجزة العظمى، وعن (¬2) واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لما خرج إلى غزوة حنين .. مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم» أخرجه الترمذي، قال أبو حيان (¬3): تعجب موسى عليه السلام من قولهم على إثر ما رأوا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ووصفهم بالجهل المطلق، وأكده بـ {إن}؛ لأنّه لا جهل أعظم من هذه المقالة، ولا أشنع، وأتى بلفظ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[139]

{تَجْهَلُونَ} ولم يقل جهلتم، إشعارا بأنّ ذلك منهم كالطبع والغريزة، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل. انتهى. والخلاصة (¬1): أنّكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر، كالأصنام والتماثيل والعجل، فالله قد كرم البشر، وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربهم إليه، فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد. وبعد أن بين لهم جهلهم وسفههم، بين لهم فساد ما طلبوه، عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال: 139 - {إِنَّ هؤُلاءِ} القوم الذين يعبدون تلك التماثيل {مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ}؛ أي: مهلك مدمّر مكسر مضمحل معدوم، منمحق ما هم عليه من الدين والعبادة؛ أي: إنّ الله سبحانه وتعالى يهدم دينهم عن قريب، ويحطم أصنامهم {وَباطِلٌ} زائل {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} من عبادتها؛ أي: فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضر. والمعنى: إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار والهلاك، بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله تعالى، فإنما بقاء الباطل في ترك الحق له وبعده عنه. 140 - وفي هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وقد حقق الله تعالى ما قال: {قالَ} لهم موسى متعجبا من قولهم: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا}؛ أي: أأطلب لكم معبودا غير الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}؛ أي: والحال أنّه سبحانه وتعالى قد فضلكم على عالمي زمانكم، بالإسلام والتوحيد، أو فضلكم على العالمين كلهم بتخصيصكم بنعم لم يعطها ¬

_ (¬1) المراغي.

[141]

غيركم، كالتخصيص بتلك الآيات القاهرات؛ فإنه لم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال (¬1)، مثاله: رجل تعلم علما واحدا، وآخر تعلم علوما كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد، وفي الحقيقة أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد، والمعنى: أأمركم أن تعبدوا ربا يتخذ ويطلب، بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النعم، والاستفهام فيه للإنكار والتعجيب والتوبيخ. والخلاصة (¬2): أن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه، وكونه عرضة للتبار والزوال؛ لأنّه باطل في نفسه، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح ألبتة، سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين، أو أخسها كالأصنام، ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة في هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله تعالى عليهم، بتفضيلهم على أهل زمانهم، ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة، وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب، وهم فرعون وقومه، برسالة موسى وهارون منهم، وتجديد ملة إبراهيم فيهم، وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره. 141 - ثم ذكر سبحانه وتعالى منته على بني إسرائيل فقال: {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل قصة وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية، حالة كون آل فرعون {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ}؛ أي: يذيقونكم أشد العذاب باستعمالكم في الأعمال الشاقة، وحالة كونهم {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ} صغارا {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}؛ أي: ويبقون بناتكم بلا قتل لاستخدامهن، وجملة {يُقَتِّلُونَ} وما بعدها مفسرة لـ {يَسُومُونَكُمْ}، أو بدل منه {وَفِي ذلِكُمْ} ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

الإنجاء أو العذاب {بَلاءٌ}؛ أي: إنعام أو ابتلاء {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أفلا تتعظون وتنتهون عن قولكم: اجعل لنا إلها؟!. وحاصل المعنى: واذكروا إذ أنجيناكم - بإرسال موسى وبما أيدناه من الآيات - من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور، ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وفي ذلك العذاب والإنجاء منه - بفضل الله عليكم، وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها - بلاء عظيم؛ أي: اختبار لكم من ربكم، المدبر لأموركم، ليس هناك اختبار أعظم منه، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة الله تعالى، وإخلاص العبادة له، من يرى في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به، أنّه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير الله، وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوفات، تجعلونها واسطة بينكم وبين الله تعالى، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها، ومن هم أرقى منهم. وقرأ الجمهور: {أَنْجَيْناكُمْ} وفرقة: {نجيناكم}: مشددا، وابن عامر: {أنجاكم}، فعلى قراءة: {أنجاكم}، يكون جاريا على قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ} خاطب به موسى قومه، وفي قراءة النون خاطبهم الله تعالى بذلك، قال الطبري: الخطاب لمن كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم تقريعا لهم بما فعل أسلافهم، وبما جاؤوا به، وقرأ نافع: {يقتلون} من قتل الثلاثي، والجمهور {يُقَتِّلُونَ} بالتشديد من قتل المضعف. الإعراب {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)}. {وَقالَ} الواو: عاطفة أو مستأنفة، {قالَ الْمَلَأُ}: فعل وفاعل، والجملة

معطوفة على جملة قوله: {قالَ فِرْعَوْنُ}، أو مستأنفة، {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {الْمَلَأُ}، {أَتَذَرُ مُوسى} إلى قوله: {قالَ}: مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {أَتَذَرُ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، {تَذَرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {مُوسى} مفعول به {وَقَوْمَهُ}: معطوف عليه، {لِيُفْسِدُوا}: {اللام}: حرف جر وعاقبة، {يفسدوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإفسادهم في الأرض، الجار والمجرور متعلق بـ {تَذَرُ}، {وَيَذَرَكَ}، الواو: عاطفة {يَذَرَكَ}: فعل ومفعول، معطوف على {لِيُفْسِدُوا} وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، {وَآلِهَتَكَ}: معطوف على الكاف في {يَذَرَكَ} {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، {سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير المتكلمين يعود على {فرعون وقومه}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ} والجملة معطوفة على جملة {سَنُقَتِّلُ}، {وَإِنَّا} {إن}: حرف نصب و {نا}: اسمها، {فَوْقَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه خبر أول لـ {إن} {قاهِرُونَ}: خبر ثان لها، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة {سَنُقَتِّلُ}. {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. {قالَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لِقَوْمِهِ}: جار ومجرور، متعلق به {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {اسْتَعِينُوا} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {وَاصْبِرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتَعِينُوا}. {إِنَّ}: حرف نصب {الْأَرْضَ}: اسمها {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر إنّ، والجملة في محل

النصب مقول {قالَ} على كونها معللة لما قبلها {يُورِثُها}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة في محل نصب حال من الجلالة تقديره: حالة كونه مورثا لها من يشاء من عباده، أو حال من الضمير المستكن تقديره: إنّ الأرض مستقرة لله حال كونها موروثة من الله لمن يشاء من عباده. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان، وجملة {يَشاءُ}: صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاؤه، {مِنْ عِبادِهِ}: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف، {وَالْعاقِبَةُ} مبتدأ، {لِلْمُتَّقِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة إنّ على كونها مقولا لـ {قالَ} وعلى قراءة النصب معطوفة على اسم إن. {قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}. {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أُوذِينا}: إلى قوله: {قالَ} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {أُوذِينا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أُوذِينا} {أَنْ تَأْتِيَنا}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: من قبل إتيانك إلينا، {وَمِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، {ما}: مصدرية {جِئْتَنا}: فعل وفاعل ومفعول، في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: ومن بعد مجيئك إيانا، {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} والجملة مستأنفة {عَسى رَبُّكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {عَسى}: من أفعال الرجاء تعمل عمل كان، {رَبُّكُمْ}: اسمها {أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسى} تقديره: عسى ربكم إهلاكه عدوكم، ولكنه في تأويل مهلكا عدوكم، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ}: فعل ومفعول، معطوف على {يُهْلِكَ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به،

{فَيَنْظُرَ}: {الفاء}: عاطفة، {ينظر}: فعل مضارع معطوف على {يستخلف}: وفاعله ضمير يعود على الله. {كَيْفَ}: اسم استفهام معلق ما قبلها عن العمل فيما بعدها في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ما بعدها {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول به لـ {ينظر}: علق عن العمل في لفظه باسم الاستفهام، والتقدير: عسى ربكم مهلكا عدوكم، ومستخلفا إياكم في الأرض فناظر كيف تعملون، وجملة عسى في محل النصب مقول {قالَ}. {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق {أَخَذْنا}: فعل وفاعل {آلَ فِرْعَوْنَ}: مفعول ومضاف إليه، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {بِالسِّنِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَخَذْنا}، {وَنَقْصٍ}: معطوف على {السنين}، {مِنَ الثَّمَراتِ} متعلق بـ {نَقْصٍ}. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمها، وجملة {يَذَّكَّرُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل} وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل جواب القسم. {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)}. {فَإِذا} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أخذنا إياهم بالسنين وما بعده، وأردت بيان حالهم ومقالتهم حينئذ .. فأقول لك: (إذا جاءتهم الحسنة): {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة، {لَنا هذِهِ}: مقول محكي، أو مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {وَإِنْ} الواو: عاطفة، {تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: فعل ومفعول، وفاعل مجزوم

بإن الشرطية على كونها فعل شرط لها، {يَطَّيَّرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ}: على كونه جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إذا}، {بِمُوسى}: جار ومجرور متعلق بـ {يَطَّيَّرُوا}، {وَمَنْ} موصولة في محل الجر، معطوفة على {موسى}. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صلة من الموصولة {أَلا}: حرف استفتاح وتنبيه، {إِنَّما}: أداة حصر {طائِرُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه، {عِنْدَ اللَّهِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة، {وَلكِنَّ}، الواو: عاطفة {لكِنَّ}: حرف استدراك ونصب، {أَكْثَرَهُمْ}: اسمها، وجملة {لا يَعْلَمُونَ}: خبرها، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}. {وَقالُوا} الواو: استئنافية {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مَهْما تَأْتِنا بِهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَهْما}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب مفعول مقدم، والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما، على الخلاف المذكور، {تَأْتِنا}: فعل ومفعول مجزوم بـ {مَهْما} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير المخاطب يعود على {مُوسى} {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَأْتِنا} والضمير عائد على {مَهْما} ذكره نظرا للفظه {مِنْ آيَةٍ}: جار ومجرور، حال من ضمير به {لِتَسْحَرَنا}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}. {بِها}: متعلق به، والضمير عائد على {مَهْما}، وأنثه نظرا إلى كونه بمعنى {آيَةٍ}، وجملة {تسحرنا} في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لسحرك إيانا، الجار والمجرور متعلق بـ {تَأْتِنا}، {فَما} {الفاء}: رابطة لجواب {مَهْما} وجوبا، {ما}: حجازية أو تميمية، {نَحْنُ}: في محل الرفع اسمها أو مبتدأ، {لَكَ}: متعلق بـ {بِمُؤْمِنِينَ}، {بِمُؤْمِنِينَ}: خبر {ما} الحجازية، أو خبر المبتدأ، وجملة {ما} الحجازية، أو جملة المبتدأ في محل الجزم بـ {مَهْما} على كونها جوابا لها، وجملة {مَهْما} الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}.

{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}. {فَأَرْسَلْنا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فدعا عليهم، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ}. {أرسلنا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمُ} متعلق به، {الطُّوفانَ}: مفعول به، {وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ}: معطوفات على {الطُّوفانَ}، وجملة {أرسلنا}: معطوفة على جملة دعا المحذوفة، {آياتٍ}: حال من الأشياء الخمسة، {مُفَصَّلاتٍ}: صفة لآيات، {فَاسْتَكْبَرُوا}: {الفاء}: عاطفة، {استكبروا}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة {أرسلنا}، {وَكانُوا}: فعل ناقص واسمه، {قَوْمًا} خبرها، {مُجْرِمِينَ}: صفة لـ {قَوْمًا}، وجملة كان معطوفة على جملة {استكبروا}. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)}. {وَلَمَّا} الواو: استئنافية {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {وَقَعَ}: فعل ماض، {عَلَيْهِمُ}: متعلق به، {الرِّجْزُ}: فاعل، والجملة فعل شرط لـ {ما} لا محل لها من الإعراب، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} مستأنفة، {يا مُوسَى} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}، {ادْعُ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، {لَنا}: متعلق به، {رَبَّكَ}: مفعول به، وجملة {ادْعُ} جواب النداء، في محل النصب مقول {قالُوا}، {بِما}: {الباء}: حرف جر، {ما} مصدرية، {عَهِدَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {عِنْدَكَ}: متعلق بـ {عَهِدَ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، وجملة {ما} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بعهده عندك؛ أي: برسالته عندك؛ أي: متوسلا بالرسالة التي جعلها عندك، الجار والمجرور متعلق بـ {ادْعُ}، ويصح أن تكون {ما} موصولا اسميا {لَئِنْ} {اللام}: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط: {كَشَفْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل

شرط لها، {عَنَّا}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَشَفْتَ}، {الرِّجْزُ}: مفعول به لـ {كَشَفْتَ}، قال أبو حيان: وجملة القسم حال من واو {قالُوا}؛ أي: قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت .. الخ انتهى، {لَنُؤْمِنَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للام الأولى، أتي باللام ثانيا إيذانا بأنّ الجواب بعدها مبني على قسم مقدر قبلها، لا على الشرط تقديره: والله لئن كشفت .. الخ ذكره في «الفتوحات». {نؤمنن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير المتكلمين، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن كشفت عنا الرجز نؤمن لك، وجملة القسم مع جوابه، وكذلك جملة الشرط في محل النصب مقول {قالوا}، {لَكَ} جار ومجرور متعلقان بالفعل {نؤمنن} {وَلَنُرْسِلَنَّ}: الواو: عاطفة، {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، {نرسلن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد وفاعله ضمير يعود على قوم فرعون، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَنُؤْمِنَنَّ}، على كونها جواب القسم، {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {نرسلن}، أو حال من {بَنِي إِسْرائِيلَ}، {بَنِي إِسْرائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فدعا موسى الكشف عنهم فكشفنا عنهم الرجز المذكور، {لما}: حرف شرط غير جازم، {كَشَفْنا}: فعل وفاعل، {عَنْهُمُ}: متعلق به، {الرِّجْزَ}: مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما}: لا محل لها من الإعراب، {إِلى أَجَلٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَشَفْنا}، {هُمْ بالِغُوهُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجر صفة، لـ {أَجَلٍ}، ولكنها سببية، {إِذا}: فجائية خلف عن الفاء الرابطة، حرف لا محل لها من الإعراب، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَنْكُثُونَ}: خبره، والجملة الاسمية جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة.

{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}. {فَانْتَقَمْنا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فنكثوا عهودهم فانتقمنا منهم، {انتقمنا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {انتقمنا}، {فَأَغْرَقْناهُمْ} {الفاء}: تفسيرية عاطفة، {أغرقناهم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {انتقمنا}، مفسرة لها لأنّ الإغراق عين الانتقام، {فِي الْيَمِّ} متعلق بـ {أغرقنا}، {بِأَنَّهُمْ}: الباء حرف جر وسبب، {أن}: حرف نصب و {الهاء}: اسمها، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، {بِآياتِنا}: متعلق به، {وَكانُوا}: فعل ناقص واسمه، {غافِلِينَ}: خبر كان، {عَنْها}: متعلق بـ {غافِلِينَ}، وجملة {كانُوا}: معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}، على كونها خبرا لـ {أن}، وجملة {كَذَّبُوا}: في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أنّ في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: فأغرقناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا، وغفلتهم عنها، الجار والمجرور متعلق بـ {أغرقنا}. {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا}. {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {أغرقنا} {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه {يُسْتَضْعَفُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان صلة الموصول {مَشارِقَ الْأَرْضِ}: مفعول ثان لـ {أَوْرَثْنَا}، {وَمَغارِبَهَا}: معطوف على {مَشارِقَ الْأَرْضِ}، {الَّتِي}: صفة للمشارق والمغارب كما أشرنا إليه في مبحث التفسير {بارَكْنا}: فعل وفاعل {فِيها}: متعلق به، والجملة صلة الموصول {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه {الْحُسْنى}: صفة لـ {كَلِمَتُ رَبِّكَ}، والجملة معطوفة على جملة {أَوْرَثْنَا}، {عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَمَّتْ}، {بِما صَبَرُوا} الباء حرف جر، {ما}: مصدرية، {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ {تَمَّتْ} تقديره: وتمت عليهم كلمت ربك بسبب صبرهم على إذاية فرعون.

{وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ}. {وَدَمَّرْنا}: فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}، ولكن الواو لا تقتضي ترتيبا فلا يقال: إن التدمير قبل تمام النعمة، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {دَمَّرْنا}، {كانَ}: فعل ماض ناقص، {يَصْنَعُ} فعل مضارع مرفوع بالضم والفاعل تقرير هو {فِرْعَوْنُ}: اسم كان مؤخر، {وَقَوْمُهُ}: معطوف عليه، وجملة {يَصْنَعُ}: خبر كان، وجملة {كانَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كان فرعون وقومه يصنعونه، {وَما} الواو: عاطفة، {ما}: معطوفة على {ما} الأولى على كونها مفعول {دَمَّرْنا}، {كانُوا}: فعل ناقص، واسمه، وجملة {يَعْرِشُونَ}: خبر كان، وجملة {كان}: صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره وما كانوا يعرشون. {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}. {وَجاوَزْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {بِبَنِي إِسْرائِيلَ}: متعلق بـ {جاوَزْنا}، {الْبَحْرَ} منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {جاوَزْنا}، {فَأَتَوْا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {جاوَزْنا}. {عَلى قَوْمٍ}: متعلق بـ {أتوا}، وجملة {يَعْكُفُونَ} في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ}، {عَلى أَصْنامٍ}: متعلق بـ {يَعْكُفُونَ}، {لَهُمْ}: صفة لـ {أَصْنامٍ}، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب لما المحذوفة تقديرها: فلما رأوهم وأصنامهم قالوا: يا موسى ... إلى قوله: {قالَ}: مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {يا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مقول: {قالُوا} {اجْعَلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يوعد على {مُوسَى} والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. على كونها جواب النداء، {لَنا}: جار ومجرور متعلق بـ {اجْعَلْ}، {إِلهًا}: مفعول به لـ {اجْعَلْ}؛ لأنه بمعنى اصنع فتعدى إلى مفعول واحد، {كَما}: {الكاف}: حرف جر، {ما}: مصدرية {لَهُمْ آلِهَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة {ما}: المصدرية، وحسن ذلك كون الظرف مقدرا بالفعل. كما ذكره أبو البقاء. الجار والمجرور صفة لـ {إِلهًا} تقديره: إلها كائنا كالآلهة التي

استقرت لهم، {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: مقول محكي لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {إِنَّكُمْ} {إن} حرف نصب والكاف اسمها، {قَوْمٍ}: خبرها، وجملة {تَجْهَلُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، وجملة إن في محل النصب مقول {قالَ}. {إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. {إِنَّ} حرف نصب {هؤُلاءِ} في محل النصب اسمها، {مُتَبَّرٌ}: خبرها، ولكنه خبر سببي، وجملة إنّ في محل النصب مقول {قالَ}. {ما هُمْ فِيهِ}، {ما}: موصولة في محل الرفع نائب فاعل لـ {مُتَبَّرٌ}: لأنه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المغير لاعتماده على المخبر عنه، {هُمْ}: مبتدأ {فِيهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة {ما} الموصولة {وَباطِلٌ}: معطوف على {مُتَبَّرٌ}، {ما}: موصولة في محل الرفع فاعل، {باطِلٌ}، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبر {كان}، وجملة كان صلة {ما} الموصولة. {قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة {أَغَيْرَ اللَّهِ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري حقها أن تدخل على الفعل المذكور بعده، {غَيْرَ اللَّهِ}: مفعول به لـ {أَبْغِيكُمْ} مقدم عليه أصله: أأبغي غير الله لكم إلها؟ فلمّا قدم غير حذف الجار، واتصل الكاف بالفعل .. فصار، أبغيكم، {إِلهًا}: تمييز لـ {غَيْرَ} منصوب به، أو منصوب على الحال {وَهُوَ} الواو: واو الحال، هو: مبتدأ، وجملة {فَضَّلَكُمْ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب إما حال من الجلالة، أو من ضمير المخاطبين، أو مستأنفة، {عَلَى الْعالَمِينَ}: متعلق بـ {فضل}. {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبنية على السكون، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره:

واذكروا إذا أنجيناكم، والجملة المحذوفة مستأنفة، {أَنْجَيْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَنْجَيْناكُمْ}، {يَسُومُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {سُوءَ الْعَذابِ}: مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {آلِ فِرْعَوْنَ}، {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب بدل من جملة {يَسُومُونَكُمْ} على كونها حالا من {آلِ فِرْعَوْنَ}، وجملة قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}، معطوفة على جملة {يُقَتِّلُونَ} على كونها بدلا من {يَسُومُونَكُمْ}، {وَفِي ذلِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {بَلاءٌ}: مبتدأ مؤخر، {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة أولى لـ {بَلاءٌ}، {عَظِيمٌ}: صفة ثانية له، والجملة الاسمية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ} كثر استعمال الأخذ في العذاب كقوله: وَ {كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}، و {آلَ فِرْعَوْنَ} قومه وخاصته وأعوانه في أمور الدولة، وهم الملأ من قومه، ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة، كما قال عزّ اسمه. {وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ} أو بموالاة ومتابعة في الرأي، كما قال: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ}. {بِالسِّنِينَ}: جمع سنة، وهي بمعنى الحول، ولكن أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه الجدب، كما هنا بدليل نقص الثمرات، وأصل سنة سنهة، فلامها هاء لقولهم: عاملته مسانهة، وقيل لامها واو لقولهم: سنيوة، وفي لفظ سنين لغتان: أشهرهما: إجراؤه مجرى جمع المذكر السالم فيرفع بالواو وينصب ويجر بالياء، وتحذف نونه للإضافة، كما في الحديث الصحيح «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف». واللغة الثانية: أن يجعل الإعراب على النون، ولكن مع الياء خاصة، نقل هذه اللغة أبو زيد والفراء.

{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}: والمراد بالحسنة هنا الخصب والرخاء، وبالسيئة: ما يسؤهم من جدب وجائحة، أو مصيبة في الأبدان والأرزاق {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى}؛ أي: يتشاءموا، وسر (¬1) إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير، فإذا طارت من جهة اليمين .. تيمنت بها، ورجت الخير والبركة، وإذا طارت من جهة الشمال .. تشاءمت وتوقعت الشر، وسمي الطائر الأول السانح، والثاني البارح، وسموا الشؤم طيرا وطائرا، والتشاؤم تطيرا. وأصل (¬2) {يَطَّيَّرُوا}: يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها في المخرج، وقيل أصل التطير: أن يفرق المال ويطير بين القوم، فيطير لكل واحد حظه وما يخصه، ثم أطلق على الحظ والنصيب السيء بالغلبة، وفي «الخازن»: قال ابن عباس (¬3): طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله تعالى، وفي رواية عنه: شؤمهم عند الله، ومعناه أنّ ما جاءهم بكفرهم بالله تعالى، وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله تعالى من عذاب النار. انتهى. وفي «المصباح»: طائر الإنسان عمله الذي يقلده، وتطير من الشيء واطّير منه، والاسم الطيرة، وزان عنبة أو هي التشاؤم. اه وفيه أيضا: الشؤم الشر، ورجل مشؤوم غير مبارك، وتشاءم القوم به مثل تطيروا به. {الطُّوفانَ} الطوفان لغة: ما طاف بالشيء وغشيه، وغلب في طوفان الماء سواء كان من السماء أو من الأرض، وفيه قولان، أحدهما: أنّه جمع طوفانه؛ أي: هو اسم جنس كقمح وقمحة، وشعير وشعيرة، وقيل: بل هو مصدر كالنقصان والرجحان. وهذا قول المبرد مع آخرين، والأول قول الأخفش، قال: هو فعلان من الطواف؛ لأنه يطوف حتى يعم، وواحدته في القياس طوفانة، والطوفان الماء الكثير. قاله الليث، اه «سمين» {الْجَرادَ} جمع جرادة، الذكر والأنثى فيه سواء، يقال: جرادة ذكر وجرادة أنثى، كنملة وحمامة، قال أهل اللغة: وهو مشتق من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) الخازن.

الجراد، قالوا: والاشتقاق (¬1) في أسماء الأجناس قليل جدا، يقال: أرض جرداء؛ أي: ملساء، وثوب أجرد إذا ذهب وبره. اه «سمين» {وَالْقُمَّلَ} قيل: هو القردان، وقيل: دواب تشبهها أصغر منها، وقيل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل: هو نوع من الجراد وأصغر منه، وقيل: الحمنان الواحدة حمنانة نوع من القردان، وقيل: هو القمل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا المعنى قراءة الحسن: {وَالْقُمَّلَ} بفتح القاف وسكون الميم كما مر. {وَالضَّفادِعَ} جمع ضفدع بوزن درهم، ويجوز كسر داله، فيصير بزنة زبرج، والضفدع مؤنث وليس بمذكر، فعلى هذا يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف فيقال: ضفدع ذكر، وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في الملتبس بتاء التأنيث نحو: حمامة وجرادة وقملة اه «سمين». وفي «القاموس» (¬2) الضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم، وهذا أقل ومردود، الواحدة بهاء، والجمع ضفادع وضفادي اه {وَالدَّمَ} هو الرعاف، وقيل هو دم كان يحدث في مياه المصريين. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ}، {الرِّجْزُ} (¬3): العذاب الذي يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم، وذلك شامل نقمة وجائحة أنزلها الله تعالى على قوم فرعون، كالخمس التي ذكرت قبل. {بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} والعهد النبوة والرسالة كما مر {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} والنكث لغة نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال، ثم استعمل في الحنث في العهود والمواثيق، وأصله (¬4) من نكث الصوف ليغزله. ثانيا، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه. {وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} وفي «القاموس»: غفل عنه غفولا إذا تركه وسها عنه اه وفي «المصباح» وقد تستعمل الغفلة في ترك الشيء إهمالا وإعراضا اه {فِي الْيَمِّ}، {الْيَمِّ}: البحر في اللغة المصرية الموافقة للغة العربية في كثير من مفرداتها، مما يدل على أن أصل الأمتين واحد {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} وتمام الشيء وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) القاموس. (¬3) المراغي. (¬4) زاده.

واستخلافهم في الأرض {وَدَمَّرْنا} والتدمير إدخال الهلاك على السالم والخراب على العامر {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} والعرش رفع المباني والسقائف للنبات والشجر المتسلق، كعرائش العنب ومنه عرش الملك. {وَجاوَزْنا} وفي «الخازن» يقال: جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره اه، وجاز الشيء وجاوزه وتجاوزه بمعنى؛ أي: عداه وانتقل عنه، وجاوز هنا بمعنى جاز، ففاعل بمعنى فعل {يَعْكُفُونَ} والعكوف على الشيء الإقبال عليه وملازمته تعظيما له يقال: عكف يعكف بضم الكاف وكسرها من بابي قعد وضرب. {مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ} والتبتر الإهلاك والتدمير، يقال: تبره إذا أهلكه ودمره، والتبار الهلاك، ومنه التبر وهو كسارة الذهب لتهالك الناس عليه، وقيل: التبتير التكسير والتحطيم، ومنه التبر؛ لأنّه كسارة الذهب اه «سمين» {وَباطِلٌ}؛ أي: هالك وزائل لا بقاء له، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا} يقال بغى وابتغاه إذا طلبه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المماثل في، قوله: {أَتَذَرُ مُوسى} {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، والجناس المغاير في قوله: {يَطَّيَّرُوا} وفي قوله: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} وقوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ}. ومنها: الطباق بين قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ} وقوله: {وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ} وبين قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا} وقوله: {وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا} وبين قوله: {أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} وقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ} وبين قوله: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} وبين قوله: {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ} وقوله {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ومنها الوصل في قوله: {وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: {أَتَذَرُ مُوسى}، وفي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا}.

ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} وفي قوله: {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} عدل عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الصورة الماضية في ذهن المخاطب، والأصل: ما صنعوا وما عرشوا. ومنها: العدول عن صيغة الماضي إلى المضارع في قوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ولم يقل (¬1) جهلتم إشعارا بأن ذلك منهم كان كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل. ومنها: تصدير (¬2) الجملة بالقسم في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ} لإظهار الاعتناء بمضمونها. ومنها: تصديرها بحرف التنبيه في قوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ لإبراز كمال العناية بمضمونها. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ}؛ لأنّه استعار الأخذ للابتلاء على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ}؛ لأنّ الطائر حقيقة في الحيوان استعارة للحظ والنصيب أو الشؤم، ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}؛ لأن النكث (¬3) حقيقة في حل الصوف ليغزله ثانيا، استعاره هنا لنقض العهد على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بِالسِّنِينَ}؛ لأنّ السنة حقيقة في الحول، استعارها هنا للجدوب والقحوط ونقص الثمرات تجريد، وهو ذكر ما يلائم المشبه المستعار له. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}. المناسبة قوله تعالى: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ما أنعم به على بني إسرائيل من النجاة من العبودية، ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرّعه الله ¬

_ (¬1) المراغي.

تعالى لها من العبادات والأحكام .. ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام، ممتنا عليهم بما حصل لهم من الهداية، بتكليم موسى وإعطائه التوراة، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقربهم من ربهم من الأحكام، وقد روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم .. أتاهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون .. سأل موسى ربه الكتاب، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة. قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه، وفساده في الأرض .. ذكر هنا سننه تعالى في ضلال البشر بعد مجيء البينات، وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه، ومن الغافلين، كما هي حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين، كفرعون وملئه، وفي هذا إيماء للنبي صلى الله عليه وسلّم بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا في دعوته، ولا في آيات القرآن الدالة على وحدانية الله تعالى، بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية، وآيات في الآفاق والأنفس. وجملة الموانع الصادة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر، فإنّهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها، فلا ينبغي أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية. قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر خبر مناجاة موسى لربه، واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه، وأمره بأخذ الألواح بقوة .. ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة، ثم عبادته من دون الله تعالى، لما رسخ في نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية في

[142]

مصر، وقد ذكرت هذه القصة عقب تلك لما بينهما من العلاقات الظاهرة، وللاشتراك في الزمن. قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبني إسرائيل وعبادته له، ثم ندمهم على ما فرط منهم في جنب الله، وطلبهم الرحمة من ربهم .. ذكر هنا ما حدث من موسى من الأسى والحزن، حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغي، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه، حين رآهم في ضلالتهم يعمهون. التفسير وأوجه القراءة 142 - {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً}؛ أي: ضربنا وجعلنا موعدا لموسى عليه السلام لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة، قيل هي شهر ذي القعدة. {وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ}؛ أي: وزدنا على تلك الثلاثين بعشر ليال تامات، وفي مصحف أبي {تممناها} بالتضعيف {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ}؛ أي: فتم ميقات وعد ربه للمكالمة بتلك العشر المزيدة {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} صعد على جبل سيناء في أول هذا الموعد، وهبط في آخره، قيل: وكان التكليم في يوم النحر، وفائدة الإتيان بقوله: {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} مع العلم بأنّ الثلاثين والعشر أربعون، لئلا يتوهم أنّ المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات؛ أي: اتممناها بعشر ساعات، والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ما ذكره أبو حيان في «البحر». وروي (¬1) عن أبي العالية أنّه قال في بيان زمان الموعد - يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة -: فمكث على الطور ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح فقربه الرب نجيا، وكلمه وسمع صريف الأقلام، والمعنى أي (¬2): وعدناه بأن نكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة يصومها، وإنّما عبر بالليالي مع أن الصوم في الأيام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

لما نقله «زاده على البيضاوي» عن ابن عباس: أنّه صام تلك المدة الليل والنهار، فكان يواصل الصوم، وحرمة الوصال إنما هي على غير الأنبياء. اه شيخنا. وفي «الخازن» (¬1) قال المفسرون: إن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها - وهي شهر ذي القعدة - فلما أتم الثلاثين .. أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له: «أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟» فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه السلام، وقيل: أمره بأن يتخلى ثلاثين يوما بالصوم والعبادة، ويعمل فيها ما يتقرب به، ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال: وأتممناها بعشر. وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فذكره هناك على الإجمال وهنا على التفصيل اه. وفي «زاده على البيضاوي» (¬2): ما الحكمة في تفصيل الأربعين هنا إلى الثلاثين والعشر مع الاقتصار على الأربعين في البقرة حيث قال: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}؟ وتقرير الجواب: أنّ الحكمة في التفصيل هنا الإشارة إلى أنّ أصل المواعدة كان على صوم الثلاثين، وزيادة العشرة كانت لإزالة الخلوف، وما ذكره في سورة البقرة فهو بيان للحاصل وجمع بين العددين، أو يقال: فصل الأربعين هنا إلى مدتين لكون ما وقع في إحدى المدتين مغايرا لما وقع في الأخرى، فالثلاثون للتقرب، والعشر لإنزال التوراة. انتهى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) زاده.

[143]

{وَقالَ مُوسى} حين أراد الذهاب إلى الجبل لميقات ربه {لِأَخِيهِ هارُونَ} وكان أكبر منه سنا {اخْلُفْنِي}؛ أي: كن خليفتي {فِي قَوْمِي} وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، وكانت الرياسة فيهم لموسى، وكان هارون وزيره ونصيره بسؤاله لربه حين قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)}، {وَأَصْلِحْ} ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم وأمرهم بعبادة الله تعالى، فهي صلاحهم {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي ولا تسلك سبيل من سلك الإفساد في الأرض بالمعاصي، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم، ومساعدتهم عليها، ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد. والمقصود (¬1) من هذا النهي التأكيد؛ لأنّ هارون عليه السلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين، فهو كقوله: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وكقولك للقاعد: أقعد، بمعنى دم على ما أنت عليه من القعود، والمعنى: دم على عدم اتباع سبيل المفسدين. 143 - {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا}؛ أي: لميعادنا الذي وقتنا له للكلام فيه، ولإعطاء الشريعة له، وعبارة «المراح»: ولما جاء موسى لميعادنا في مدين، في يوم الخميس، يوم عرفة، فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. انتهى. {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من وراء حجاب بغير واسطة ملك؛ أي: أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من جميع جهاته، استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فـ {قالَ} موسى {رَبِّ أَرِنِي} ذاتك المقدسة، واجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك، وكمال المعرفة بك؛ أي: مكنّي من رؤيتك {أَنْظُرْ إِلَيْكَ} يا إلهي {قالَ} سبحانه وتعالى لموسى: {لَنْ تَرانِي}؛ أي: إنك لا تراني الآن ولا فيما يستقبل من الزمان الدنيوي، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا. ¬

_ (¬1) الخازن.

قال أهل الأخبار: لما جاء موسى لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام، ثم أتى طور سيناء، فأنزل الله تعالى ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية، وطرد عنه الشيطان وهوام الأرض، ونحى عنه الملكين، وكشط له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح، وكلّمه وكان جبريل معه لم يسمع ذلك الكلام، فاستحلى موسى كلام ربه، فاشتاق إلى رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي ...} الخ. وإنّما سألها مع علمه بأنّها لا تجوز في الدنيا لما هاج به من الشوق، وفاض عليه من أنواع الجلال، واستقر في بحر المحبة، فعند ذلك سأل الرؤية، وقيل: إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا، وتعالى الله عن ذلك. وقال السدي: لما كلم الله موسى عليه السلام .. غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى، فوسوس إليه أن مكلمك شيطان، فعند ذلك سأل موسى ربه الرؤية اه «خازن». وسؤال موسى (¬1) للرؤية يدل على أنّها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله: {لَنْ تَرانِي} يفيدا أنّه لا يراه في هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنّه لا يرى ما دام الرائي حيا في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا لا يأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، والاستدراك بقوله: {وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} معناه أنّك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه {فَإِنِ اسْتَقَرَّ} الجبل {مَكانَهُ} ولم يتزلزل عند رؤيتي له {فَسَوْفَ تَرانِي}؛ أي: فلعلك تراني وإن ضعف الجبل عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، أو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا. والمعنى: فإن (¬2) ثبت الجبل لدى التجلي، وبقي مستقرا في مكانه .. فسوف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

تراني، إذ هو مشارك لك في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر؛ لأنّ مادته غير مستعدة لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء، فاعلم أنّك لن تراني أيضا، وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة، وخاضعا للسنن الربانية في ضعف استعدادها، وقبولها للفناء {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ أي: رب موسى أو رب الجبل {لِلْجَبَلِ}؛ أي: ظهر له بعض ظهور وأدناه وأقله ظهورا بلا كيف {جَعَلَهُ}؛ أي: جعل ذلك التجلي الجبل {دَكًّا}؛ أي: مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا من الدك، وهو الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، هذا على قراءة الجمهور (¬1)، وقرأ حمزة والكسائي {دكاء} بزنة حمراء، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، والمعنى: جعله أرضا دكاء؛ أي: مستوية لا ارتفاع فيها، تشبيها له بالناقة الدكاء، وقال الزمخشري: والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. انتهى، والمعنى على هذا: جعله جبلا صغيرا كالرابية، وقرأ ابن وثاب: {دك} بضم الدال، وبالقصر جمع دكاء بالمد نحو: غز جمع غزاء، والمعنى: جعله قطعا صغارا {وَخَرَّ مُوسى}؛ أي: سقط موسى على وجهه {صَعِقًا}؛ أي: مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنّما كان للجبل دونه، فما بالك لو كان له، والمعنى: أنّه صار حاله لما غشى عليه، كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، أي: النار النازلة من السماء عند الرعد والبرق {فَلَمَّا أَفاقَ} موسى وصحا من غشيته {قالَ} موسى: {سُبْحانَكَ} يا إلهي؛ أي: تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألت؛ أي: أنزهك تنزيها من أن أسألك شيئا لم تأذن لي به {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن العود إلى مثل هذا السؤال، وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنّه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى، فتاب ورجع عما طلب، وقال مجاهد: {تُبْتُ إِلَيْكَ}؛ أي: اسألك الرؤية. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية؛ فإنّ الأنبياء معصومون، وقيل: هي توبة من قتله للقبطي. ذكره القشيري. ولا وجه له في مثل هذا المقام. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[144]

{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر، المعترفين بعظمتك وجلالك. والخلاصة (¬1): أنّ موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة، فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل، تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته، فطلب ذلك منه، وهو يعلم أنّه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته التي منها كلامه، ولكن الله تبارك وتعالى قال له: {لَنْ تَرانِي} ولكي يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أنّ المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهي، حينئذ نزه الله وسبّحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره بأنّه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه، وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال. 144 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى: {يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} واخترتك وفضلتك {عَلَى النَّاسِ} المعاصرين لك من بني إسرائيل {بِرِسالاتِي}، قرأ نافع وابن كثير بالإفراد، وهو مراد به المصدر؛ أي: بإرسالي، أو يكون على حذف مضاف؛ أي: بتبليغ رسالتي؛ لأنّ مدلول الرسالة غير مدلول المصدر، وقرأ باقي السبعة بالجمع نظرا إلى أن الذي أرسل به ضروب وأنواع من الوحي {وَ} اصطفيتك {بِكَلامِي}؛ أي: بتكليمي لك بلا توسط ملك، وإن كان من وراء حجاب، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام، وقرأ الجمهور {وَبِكَلامِي} بالإفراد، على أنّه مصدر كما فسرنا، أو على أنّه على حذف مضاف؛ أي: وبسماع كلامي، وقرأ أبو رجاء {برسالتي وبكلمي} جمع كلمة؛ أي: وسماع كلمي، وقرأ الأعمش {برسالاتي وتكلمي} {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ}؛ أي: فخذ ما أعطيتك من الشريعة، وهي التوراة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}؛ أي: من جماعة الشاكرين لنعمتي عليك وعلى قومك بإقامتها بقوة وعزيمة، والعمل بها، وأداء حقوق نعمي جميعها عليك، تنل المزيد من فضلي {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

فصل في كلام الله تعالى ورؤيته وأعلم (¬1): أن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح في القرآن الكريم في آيات عدة، لا تعارض بينها، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ} وقوله: {لَنْ تَرانِي} وهما أصرح في النفي من دلالة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)} على الإثبات؛ فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وفي كلام العرب، كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} وقوله: {ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} وفي الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروي عن أكثر من عشرين صحابيا، ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلّم ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثلاث من حدثكهن .. فقد كذب، من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلّم رأى ربه .. فقد كذب وفي رواية: فقد أعظم الفرية، ثم قرأت {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} ومن حدثك أنه يعلم ما في غد .. فقد كذب، ثم قرأت {وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا} ومن حدثك أنّه كتم شيئا من الدين .. فقد كذب، ثم قرأت {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال مسروق - وكنت متكئا - فجلست وقلت: ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13)}؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ذلك؟ فقال: «إنما هو جبريل». ومن هذا تعلم أنّ عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقا، أو في هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} وقوله: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} وهذا الاستدلال ليس نصا في النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة في الرؤية، وقد قال بها بعض علماء الصحابة، كابن ¬

_ (¬1) المراغي.

[145]

عباس رضي الله عنهما، والمثبتون للرؤية يقولون: إن استنباط عائشة إنما هو لنفي الرؤية في الدنيا فقط، كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شؤون البشر في الآخرة على شؤونهم في الدنيا؛ لأنّ لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه، حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب والمأكول والمشروب، فماء الجنة غير آسن، فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مقره أو جوّه، قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. وجمهرة المسلمين: أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق، وأنّها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني التي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة، وأنّها أحق ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهي المعبر عنها بقولهم: إنّها رؤية بلا كيف. 145 - وبعد أن أخبر سبحانه في الآيات السالفة أنّه منع موسى رؤيته في الدنيا، وبشره بأنّه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه، اخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ}؛ أي: وكتبنا لموسى في ألواح التوراة {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: كل شيء يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح، فـ {مِنْ} زائدة في المفعول. وقوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا} بدل {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، باعتبار محله وهو النصب على المفعولية. وقوله: {لِكُلِّ شَيْءٍ}؛ متعلق بتفصيلا؛ أي: وكتبنا (¬1) له في الألواح كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة، والنفرة عن المعصية، ومن تفصيل الأحكام وشرح أقسامها؛ أي: إننا (¬2) أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية، والمواعظ التي تؤثر في القلوب، ترغيبا، وترهيبا، وتفصيلا لأصول الشرائع، وهي أصول العقائد والآداب، وأحكام الحلال والحرام، والراجح أنّ هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالي، أما سائر الأحكام ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات .. فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن. وهذه (¬1) الألواح هي التوراة، قيل كانت من زمردة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من زبرجد، وقيل: من صخرة صماء، وقد اختلفوا في عدد الألواح، فمن مقل قال: إنّها اثنان وهذا ضعيف؛ لأنّ أقل ما يصدق عليه الجمع ثلاثة على المشهور، ومن مكثر قال: إنّها اثنا عشر، أو عشرة، أو سبعة، والله أعلم بحقيقة الحال. والألواح جمع لوح، وسمي لوحا لكونه تلوح فيه المعاني، وأسند الله سبحانه وتعالى الكتابة إلى نفسه تشريفا للمكتوب في الألواح، وهي مكتوبة بأمره سبحانه، وقيل: هي كتابة خلقها الله تعالى في الألواح. {فـ} قلنا له {خذها}؛ أي: خذ الألواح واعمل بما فيها {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد ونشاط، لا بتراخ وكسل؛ فإن العلم لا يأتي إلا للمجد المشتاق، سواء كان كسبيا أو وهبيا، فلا بد لمتعاطي العلم من الكد والتعب، ومخالفة النفس قال بعضهم: بقدر الكدّ تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر اللّيالي تروم العزّ ثمّ تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب الّلآلي وقال بعض العارفين: فجد بالرّوح والدّنيا خليلي ... كذا الأوطان تدرك من سناه ذكره الصاوي. وهذا الأمر على إضمار القول كما قدرنا؛ أي: وكتبنا له في الألواح ما ذكر، وقلنا له: هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها، فخذها بقوة وجد وعزم ذاك أنّك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة، وأخلاق جديدة، مخالفة في جوهرها وصفاتها لما كان عليه هذا الشعب من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه، وما كانوا عليه من الشرك والوثينة التي ألفوها من فرعون وقومه، وراضت ¬

_ (¬1) الشوكاني.

أنفسهم لقبولها، فأنى للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد، ويرأب ذلك الصدع، إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم في أوامره ونواهيه {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} بني إسرائيل أن {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها}؛ أي: بأحسن ما في تلك الألواح التي هي التوراة؛ لأنّ فيها حسنا وأحسن، كالقود والعفو، والانتصار والصبر، والمأمور به والمباح، فأمروا بما هو الأكثر ثوابا، فعلى هذا المعنى: فأفعل التفضيل على بابه وهو مثل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: أكثره أجرا، وقيل: أفعل التفضيل ليس على بابه، فمعنى: {بِأَحْسَنِها}: بحسنها إذ كل ما فيها حسن، أو يقال: أمروا فيها بالخير، ونهوا عن الشر، وفعل الخير أحسن من ترك الشر. وقيل المعنى (¬1): يعملوا بمحكمها، ويؤمنوا بمتشابهها، وقال بعضهم: الحسن يدخل فيه الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات، والمندوبات، وقال المراغي: أي: وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة، والأحكام المفصلة في الألواح التي هي منتهى الكمال والحسن، كالإخلاص لله في العبادة، إذ يتحلى العقل، وتتزكى النفس مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل؛ لأنّها ذرائع للشرك، وسبب للوصول إليه {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} قيل (¬2) هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه، وقيل: منازل عاد وثمود، وقيل: هي جهنم، وقال مجاهد: وهذا المعنى أحسن، وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها، والمعنى على هذا القول: سأدخلكم الشام بطريق الايراث، وأريكم منزال الكافرين الذيك كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها، فلا تفسقوا مثل فسقهم، وقيل: الدار بمعنى الهلاك، والمعنى: سأريكم هلاك الفاسقين والخارجين عن طاعتنا كفرعون وقومه. وقرأ الحسن (¬3): {سأوريكم} بواو ساكنة بعد الهمزة، على ما يقتصيه رسم المصحف، وقال الزمخشري: وهذه لغة فاشية بالحجاز، يقال: أورني كذا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

وأوريته، فوجهه أن يكون من أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي، والمعنى هنا: سأبين لكم عاقبتها، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير {سأورثكم} بالثاء المثلثة، قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يقويها قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}. وقال المراغي: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ}؛ أي (¬1): إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة، وتتبعوا أحسنه .. كنتم فاسقين عن أمر ربكم، فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم، ونصركم عليهم، وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق. قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار. قال ابن جرير: وإنّما قال: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} كما يقول القائل لمن يخالفه: سؤريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره، وفي الآية عبرة لمن يقرأها ويتدبر أمرها من وجوه: 1 - أن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجد لتنفيذ ما بها من الإصلاح، وتكوين الأمة تكوينا جديدا، ومظهر ذلك الرسول المبلّغ لها والداعي إليها، والمنفذ لها بقوله وعمله، فهو الأسوة والقدوة، وهذه سنة الله في كل انقلاب وتجديد اجتماعي وسياسي، وإن لم يكن بهدى الله، فما بالك بالدين - وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن - وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية، وسعدوا به في دنياهم، وسيكونون كذلك في آخرتهم، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه، وتركوا هدايته، فشقوا في دنياهم وآخرتهم كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ¬

_ (¬1) المراغي.

[146]

الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)}. 2 - أن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة، حتى إذا غلبه الغرور، وظن أن الله ينصره لنسبه، وأنّه شعب الله، ففسق وظلم .. أنزل الله به البلاء، وسلط عليهم البابليين، فأزالوا ملكه، ثم ثاب إلى رشده، فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد، فسلط عليه النصارى، فمزقوه كل ممزق. 3 - أن المسلمين الذين اتبعوا سننهم، اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب الإسلام ولقب أمة محمد ولم يثوبوا إلى رشدهم، فزالت دولتهم، وذهب ريحهم، وامتلك عدوهم ناصيتهم، وجد في إفساد عقائدهم وأخلاقهم، وإيقاع الشقاق فيما بينهم، وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى، كما يرى ذلك كثيرا في أكثر بلدان المسلمين، خصوصا في الجهات التي دخلها الشيوعيون شرقا وغربا، خاصة في شرقي إفريقيا كالشعوب الأروميا التي استعبدها استعمار الحبوش، ولله الأمر من قبل ومن بعد. 146 - {سَأَصْرِفُ} وادفع {عَنْ آياتِيَ} التي جاء بها موسى وغيره من الرسل {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ}؛ أي: مكر الذين يتكبرون {فِي الْأَرْضِ} حالة كونهم ملتبسين {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ويترفعون عن الإيمان بها بإهلاكهم؛ أي: سأزيل (¬1) الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل، وأدفعهم عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات على يد موسى، فلا يقدرون على منع موسى من تبغليها، وعلى منع المؤمنين من الإيمان بها، وقال الشوكاني (¬2): سأمنعهم فهم كتابي، وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها، وقيل: سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}. وقيل: سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها، ولا يعتبروا بها، واختلف في تفسير الآيات فقيل: هي المعجزات، وقيل: الكتب المنزلة، وقيل: هي خلق السموات والأرض، وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها، ولا مانع من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) فتح القدير.

حمل الآيات على جميع ذلك، وحمل الصرف على جميع المعاني المذكورة، و {بِغَيْرِ الْحَقِّ} إما متعلق بقوله: {يَتَكَبَّرُونَ}؛ أي: يتكبرون بما ليس بحق، أو بمحذوف وقع حالا؛ أي: يتكبرون ملتبسين بغير الحق. انتهى. وقال المراغي: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ ...} إلخ، أي: سأمنع (¬1) قلوب المتكبرين عن طاعتي وعلى الناس بغير حق، فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتي وعلى ما في شرائعي من هدى وسعادة لهم كما قال: {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}. كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيناها إليه، وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: بتلبسهم بالباطل، وانغماسهم فيه، إذ لا قيمة للحق عندهم، فهم لا يبحثون عنه، ولا يطلبونه، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها، وهم بها موقنون، كما قال تعالى في قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ثم بين صفات المتكبرين وأحوالهم فقال: 1 - {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها}؛ أي: وإن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها، فهذه الجملة (¬2) معطوفة على {يَتَكَبَّرُونَ} منتظمة معه في حكم الصلة، والمعنى: سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات، ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة، والآيات التكوينية والمعجزات، أي: لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت. والمعنى (¬3): أنّهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته ... لا يستفيدون منها فائدة ما، فلا يؤمنون بها؛ لأنّ كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنّما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه، أو يشك في الطريق الموصلة إليه، لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها، أو لسوء فهمه لها، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها .. فقد تظهر له دلالة غيره، فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه، وتسفر له عن وجهها، وفي هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأن الذين يقترحون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه، بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به، وقرأ مالك بن دينار {وإن يروا} بضم الياء في الموضعين. 2 - {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ}؛ أي: سبيل الهدى والبيان الذي جاء من الله تعالى: {لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}؛ أي (¬1): لا يسلكوا سبيله؛ أي: وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد، وهي السبيل المعبدة الواضحة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه، ولا يفضلها على ما هو عليه من الغي، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب، والخروج عن جادة العقل، والفطرة، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل، فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها، واختار لنفسه سبيل الرشاد. 3 - {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ}؛ أي: الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}؛ أي: يختارونه مسلكا لأنفسهم؛ أي: إنّهم إذا رأوا سبيل الغي والضلال ... هرعوا إليها، وخبوا فيها، وأوضعوا بما تزينه لهم أنفسهم من سلوكها، والسير فيها إلى آخر الحلبة، وهذه حال لهم شر من سابقتيها، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم على سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فسبيل الحق بغيضة إليهم، وطريقه مكروهة لديهم. قال الشوكاني (¬2): وجملة قوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} معطوفة على ما قبلها، داخلة في حكمها، وكذلك جملة قوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} المعنى: أنّهم إذا وجدوا سبيلا من سبل الرشد .. تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلا من سبل الغي .. سلكوه واختاروه لأنفسهم. وقرأ حمزة والكسائي (¬3): {الرَّشَد} بفتح الراء والشين، والباقون بضم الراء وسكون الشين. وروي عن ابن عامر بضمتين، وقال أبو عمرو بن العلاء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح والبحر المحيط.

{الرُّشْدِ} - بضم وسكون - الصلاح في النظر، وبفتحتين الاستقامة في الدين، وقرأ أبو عبد الرحمن {الرشاد} وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام، وقرأ ابن أبي عبلة: {لا يتخذوها ويتخذوها} على تأنيث السبيل، والسبيل تذكر وتؤنث قال تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي} ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب، استعار للرشد والغي سبيلين، فذكر أنّهم تاركوا سبيل الرشد، سالكوا سبيل الغي. ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر في الآيات، وعدم اعتبارهم بها فقال: {ذلِكَ}؛ أي: تكبرهم وعدم إيمانهم بشيء من الآيات، وإعراضهم عن سبيل الرشد، وإقبالهم التام إلى سبيل الغي، حاصل {بـ} سبب {أنهم كذبوا بآياتنا} الدالة على صدق رسلنا، وباهر قدرتنا {وَ} بسبب أنّهم {كانُوا عَنْها غافِلِينَ}؛ أي: كانوا معرضين عن النظر والتفكر فيها؛ أي: ذلك حاصل بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها. أي: إننا (¬1) عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق، فيما أمرنا به ونهينا عنه بالختم على قلوبهم والغشاوة على أعينهم، حتى لا يجد الحق منفذا في الوصول إليها. والخلاصة: أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغي والضلال طبعا، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات، والصد عن السبيل الموصلة إلى الرشاد، وغفلوا عن النظر في أدلتها لشغلهم بأهوائهم، واتباع شهواتهم، وبذا لجوا في الطغيان، وتمادوا في العصيان، واحتقروا ما سوى ذلك، مما يهدي عقولهم إلى صواب الحق وسلوك طريقه، وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[147]

ولا شك أنّ كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية، ورأوا زخرف المدنية الأوروبية، وغرهم بهرجها وخبلتهم زينتها، تنطبق عليهم هذه الصفات، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه، وسائر تعاليمه، وماله من تأثير عظيم في النفوس وتوجيه لها إلى الخير، وصد لها عن الشر، والبعد عن الفواحش والمنكرات. ذاك أنّهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى، وهم عبيد شهواتهم، منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية، فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم، ويسيروا على سنتهم، علهم يصلون في ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه، ولو ساغ لبني إسرائيل أن لا يتبعوا موسى عليه السلام؛ لأنّه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات، ومن رائع المدنية مثل ما كان عند فرعون وقومه، لساغ لهم أن ينحدروا في تلك الهوة ويقعوا في تلك الحفرة، ولله في خلقه شؤون، وهو يصرف الأمور بيده، وله الأمر من قبل ومن بعد 147 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا} وجحدوا {بِآياتِنا} المنزلة على رسلنا؛ أي: لم يصدقوها، ولم يأتمروا بأوامرها، ولم ينتهوا بنواهيها {وَلِقاءِ الْآخِرَةِ}؛ أي: وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة، وما فيها من المجازاة بالبعث والنشور، وماتوا على ذلك {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ}؛ أي (¬1): حسناتهم التي لا تتوقف على نية، كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين؛ أي: لا يثابون عليها في الآخرة وإن نفعتهم في تخفيف العذاب، لكن التخفيف لا يقال له ثواب، والاستفهام في قوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ} إنكاري، بمعنى النفي؛ أي: ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي. والمعنى (¬2): والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق، والهدى على رسلنا، فلم يؤمنوا بها، ولم يهتدوا بهديها، وكذبوا بما يكون في الآخرة من الجزاء على الأعمال، من ثواب على الخير وعقاب على الشر، تحبط أعمالهم وتذهب ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[148]

سدى؛ لأنّهم عملوا لغير الله تعالى وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضي الله تعالى، فتصير أعمالهم وبالا عليهم، ولا يجزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي، فأثر في نفوسهم وأرواحهم، حتى دساها وأفسدها، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل، مرتبا عليه، كترتيب المسبب على السبب {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} في جزائه مثقال ذرة 148 - {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى}؛ أي: وصاغ بنو إسرائيل {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد إنطلاق موسى عليه السلام وذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه، وفاء للموعود الذي وعده إياه {مِنْ حُلِيِّهِمْ}؛ أي: من حلي القبط وذهبهم التي استعاروها منهم لعلة العرس {عِجْلًا}، أي: تبيعا وأبدل منه قوله: {جَسَدًا}؛ أي: جرما وتمثالا، لدفع توهم أنّه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا {لَهُ خُوارٌ}؛ أي: له صوت مثل صوت تبيع البقر؛ أي: صاغ لهم موسى السامري - رجل منهم، وكان رجلا مطاعا فيهم، ذا منزلة واحترام؛ لأنّه رباه جبريل في الجبل -، {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} وتمثالا على صورة عجل البقر، له صوت وصياح، فقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وإنّما نسب الاتخاذ إليهم - مع أن الصائغ له هو موسى السامري - لأنّه عمله برأي جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه. قيل (¬1): إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه، ويستعيرون من القبط الحلي، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، وصارت ملكا لهم، فجمع السامري تلك الحلي - وكان رجلا مطاعا فيهم، صائغا - فصاغ السامري عجلا، وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام، فألقاه في جوف ذلك العجل، فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى عليه السلام، وكان (¬2) اسم السامري موسى بن ظفر، من قرية تسمى سامرة، وكان ابن زنا، وضعته أمه في جبل فأرسل الله جبريل فصار يرضعه من إصبعه، فكان يعرفه إذا نزل إلى الأرض، فلما نزل جبريل يوم غرق فرعون، وكان راكبا فرسا، فكان كل شيء وطئه بحافرها يخضر ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الصاوي.

ويثمر، ففطن موسى السامري لذلك، وعلم أن هذا التراب له أثر، فأخذ شيئا منه ادخره، فلما توجه موسى عليه السلام للمناجاة .. صنع لهم العجل، ووضع التراب في فيه فصار له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، فنسي كما في سورة طه، وكان موسى السامري منافقا، وانظر إلى من رباه جبريل، حيث كان منافقا، وإلى من رباه فرعون، حيث كان مرسلا فإنّ هذا دليل على أن السعادة والشقاوة بيد الله، قال بعضهم: إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل ... فقد خاب من ربّى وخاب المؤمّل فموسى الّذي ربّاه جبريل كافر ... وموسى الّذي ربّاه فرعون مرسل قال ابن كثير (¬1): وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل، هل صار لحما ودما له خوار؟ أو استمر على كونه من ذهب إلا أنّه يدخل فيه الهواء، فيصوت كالبقر، على قولين والله أعلم، انتهى. ويرى (¬2) الرأي الأول قتادة والحسن البصري، في جماعة آخرين، وتعليل ذلك عندهم: أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا، ما وطىء بها أرضا إلا حلت فيها الحياة، واخضر نباتها، فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل، فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل. ويرى جماعة آخرون الرأي الثاني، ويقولون: إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه، ذاك أنّه صنع تمثال عجل مجوفا، ووضع في جوفه أنابيب على طريق فنية، مستمدة من دراسة علم الصوت، وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح، فمتى دخلت الريح في جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل، وقال آخرون: بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل الحواة، ذاك أنّه جعل التمثال أجوف، وجعل تحت الموضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس، فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تجري فيها المياه، وبهذا الطريق ونحوه ظهر ¬

_ (¬1) ابن كثير. (¬2) المراغي.

الصوت من التمثال، ثم ألقى في روع الناس أن هذا العجل إلهكم وإله موسى، فعبدوه كلهم إلا هارون وقليلا منهم وافقوه، كما قال الحسن، وقال الكرماني (¬1): جعل في بطن العجل بيتا يفتح ويغلق، فإذا أراد أن يخور .. أدخل غلاما يخور بعلامة بينهما إذا أراد، وقيل: يحتمل أن يكون الله أخاره ليفتن بني إسرائيل، وخواره قيل مرة واحدة ولم يثنّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقيل مرارا، فإذا خار سجدوا، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن هذا العجل قد ذبحه موسى وحرقه وذرأه في الهواء، كما سيأتي في سورة طه في قوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} الخ. وقرأ الكسائي وحمزة (¬2): {مِنْ حُلِيِّهِمْ} بكسر الحاء، إتباعا لحركة اللام، كما قالوا: عصي، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيى بن وثاب، وطلحة والأعمش، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء، وهو جمع نحو: ثدي وثديّ، وقرأ يعقوب: مِنْ حُلِيِّهِمْ بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد، ويراد به الجنس، أو اسم جنس مفرده حلية، كثمر وثمرة، وأضيفت الحلي إليهم لأنّهم ملكوها غنيمة لما غرق قوم فرعون، أو أضيفت إليهم وإن كانت لغيرهم تجوزا لأدنى ملابسة. وقرأ علي وأبو السمال وفرقة {جؤار} بالجيم والهمز، من جار إذا صاح بشدة صوت. فرد الله عليهم ضلالاتهم، وأبان لهم فساد آرائهم، وقرعهم على جهالاتهم فقال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ؛ أي: ألم يعلم قوم موسى أنّ هذا العجل لا يكلمهم بشيء {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}؛ أي: طريقا توصلهم إلى مصالحهم وسعادتهم بوجه من الوجوه. أي: ألم يروا أنّه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته، لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته، وسبيل عبادته، كما كلم رب العالمين موسى عليه السلام، وألقى إليه الألواح التي فيها من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[149]

الشرائع ما يزكي النفوس، وتقوم بها مصالح العباد، وعليها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم. وخلاصة ذلك: أنّه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق، وهي صفة الهداية والإرشاد للعباد، بإرسال الرسل الذين يختارهم إلى الناس، ومرجعها صفة الكلام، ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: {اتَّخَذُوهُ} أي: اتخذوا ذلك العجل إلها وعبدوه {وَكانُوا ظالِمِينَ} لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى، واشتغلوا بعبادة العجل. أي: إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان، بل اتخذوه عن تقليد للمصريين، إذ رأوهم يعبدون العجل - أبيس - من قبل، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد، فعبدوه مثلهم، {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}؛ أي: ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل، وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم في جنب الله تعالى، وتحيروا بعد عود موسى من الميقات {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا}؛ أي: وعلموا أنّهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل {قالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض: إن ذنبنا لعظيم، وإن جرمنا لكبير، وإنّه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء و {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا} بقبول توبتنا {وَيَغْفِرْ لَنا} بالتجاوز عن جريمتنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}؛ أي: من الذين خسروا سعادة الدنيا - وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد - وخسروا سعادة الآخرة وهي دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم. 149 - وفي «الفتوحات» قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هذا كناية عن (¬1) الندم، ومعلوم أنّ الندم متأخر عن علمهم بالخطأ، فتقديمه على الرؤية للمسارعة إلى بيانه، والإشعار بغاية سرعته، حتى كأنّه سابق على الرؤية. اه «أبو السعود». {وسُقِطَ} فعل ماض مبني للمجهول، وأصل الكلام: سقطت أفواههم على أيديهم، ففي بمعنى على، وذلك من شدة الندم، فإن العادة أنّ الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم، ¬

_ (¬1) الفتوحات والمراح.

[150]

فأطلق اسم اللازم، وأريد الملزوم على سبيل الكناية، وهذا التركيب لم تعرفه العرب إلا بعد نزول القرآن الكريم. وقرأ ابن أبي عبلة (¬1): {أسقط في أيديهم} رباعيا مبنيا للمفعول، وقرأ ابن السميقع {سقط في أيديهم} مبنيا للفاعل، وفاعله مضمر؛ أي: الندم، هذا قول الزجاج، وقال الزمخشري: سقط العض، وقال ابن عطية: سقط الخسران والخيبة. وكل هذه أمثلة، ذكره في «الفتوحات». وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - والشعبي وابن وثاب، والجحدري وابن مصرف، والأعمش وأيوب: بالخطاب في {ترحمنا وتغفر لنا} ونصب {ربنا} على النداء حكاية لدعائهم، وفاعل الفعلين مستتر؛ أي: لئن لم تغفر أنت يا ربنا. وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج، وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم: {يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا} بالياء فيهما، ورفع {رَبُّنا} على الفاعلية حكاية لأخبارهم فيما بينهم؛ أي: قال بعضهم لبعض: لئن يرحمنا ربنا ويغفر لنا، وفي مصحف أبي: {قالوا ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا} بتقديم المنادى، وهو {ربنا} وفي قولهم: {رَبُّنا} استعطاف حسن إذ الرب هو المالك الناظر في أمر عبيده، والمصلح منهم ما فسد. 150 - {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى} عليه السلام من مناجاته لربه في جبل الطور {إِلى قَوْمِهِ} بني إسرائيل حالة كونه {غَضْبانَ} على أخيه هارون، إذ رأى أنّه لم يكن فيهم صلب الرأي، قوي الشكيمة، نافذ الكلمة {أَسِفًا}؛ أي: حزينا لما فعله قومه من عبادة غير الله تعالى، وكان قد أخبره الله تعالى بذلك قبل رجوعه كما سيأتي في سورة طه: {قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} فقوله: {غَضْبانَ أَسِفًا} حالان من موسى، وذكر جواب لما بقوله {قالَ} موسى لهم {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي}؛ أي: بئس وقبح خلافة خلفتمونيها {مِنْ بَعْدِي}؛ أي: من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة ربي، وقد كنت لقنتكم التوحيد، وكففتكم عن الشرك، وبينت ¬

_ (¬1) البحر المحيط والفتوحات.

لكم فساده وسوء عاقبته، وحذرتكم صنيع القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر. وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثري وتتبعوا سيرتي، بيد أنّكم سلكتم ضد ذلك، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم، فعبده بعضكم، ولم يردعكم عن ذلك باقيكم {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، قال صاحب «الكشاف»: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم - وهو انتظار موسى - حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره، ولم أرجع إليكم فحدثتكم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وعبارة «المراح» هنا قوله: {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}؛ أي: بئسما قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل، وهذا الخطاب إما لعبدة العجل - السامري وأشياعه - أي: بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى، وإما لهارون والمؤمنين معه؛ أي: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}؛ أي: أعجلتم وعد ربكم من الأربعين، فلم تصبروا له، وذلك أنّهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة قد مات. {وَأَلْقَى} موسى {الْأَلْواحَ}؛ أي: ألواح التوراة التي جاء بها؛ أي: وضعها في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه، فلما فرغ من مكالمتهم عاد إليها فأخذها؛ أي: طرحها من يديه {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ}؛ أي: بشعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله حالة كونه {يَجُرُّهُ}؛ أي: يجر هارون {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى نفسه بذؤابته لا على سبيل الإهانة، بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة، ظنا منه أنه قد قصر في ردعهم وتأنيبهم، وكفهم عن عبادة العجل، كما فعل هو بتحريقه وإلقائه في اليم إن قدر، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن لم يستطع، كما حكى الله تعالى عنه في سورة طه {يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} ولا شك أنّ سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها،

فالقوي منهم الشديد الغضب للحق كموسى، يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهارون عليه السلام. ثم ذكر سبحانه جواب هارون لموسى فقال: {قالَ} هارون لموسى {ابْنَ أُمَّ}؛ أي: يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفي، ولا تظنن تقصيري في جنب الله تعالى، فإنّي لم آل جهدا في الإنكار على القوم والنصح لهم {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}؛ أي: ولكن القوم قد وجدوني واعتقدوني ضعيفا، ولم يرعووا لنصحي، ولم يمتثلوا لأمري {وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي}؛ أي: بل وأوشكوا وقاربوا أن يقتلونني لأنّي نهيتهم عن عبادة العجل. ناداه (¬1) نداء استعطاف وترفق، وكان شقيقه، وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم، كما قال: يا ابن أمّي ويا شقيق نفسي وقال آخر: يا ابن أمّي فدتك نفسي ومالي وأيضا: فكانت أمهما مؤمنة، قالوا: وكان أبوه مقطوعا عن القرابة بالكفر، كما قال تعالى: لنوح عليه السلام {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} وأيضا لما كان حقها أعظم، لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته، والشفقة عليه .. ذكره بحقها، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وكان كثير الحلم، ولهذا كان محببا في بني إسرائيل. وقرأ الحرميان (¬2) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو وحفص {ابْنَ أُمَّ} بفتح الميم، فقال الكوفيون أصله: يا ابن أماه، فحذفت الألف تخفيفا كما حذفت في يا غلام، أصله: يا غلاما، وسقطت هاء السكت لأنّه درج، فعلى هذا الاسم معرب، إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه لابن، وقال سيبويه: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[151]

هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد، كخمسة عشر ونحوه، فعلى قوله: ليس مضافا إليه ابن، والحركة حركة بناء. وقرأ باقي السبعة: بكسر الميم، فقياس قول الكوفيين: أنّه معرب وحذفت ياء المتكلم، واجتزىء عنها بالكسرة، كما اجتزؤا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم، وقال سيبويه: هو مبني أضيف إلى ياء المتكلم، كما قالوا: يا أحد عشر أقبلوا، وحذفت الياء، واجتزؤا عنها بالكسرة، وقرىء بإثبات ياء الإضافة فتقول: يا ابن أمي. وقرىء ابن أمّ بكسر الهمزة والميم. {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ}؛ أي: فلا تفرح الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه؛ أي: فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون ويفرحون بي. وقرأ ابن محيصن (¬1): {تُشْمِتْ} بفتح التاء وكسر الميم ونصب الأعداء. ومجاهد كذلك، إلا أنّه فتح الميم، وعن مجاهد أيضا {فَلا تُشْمِتْ} بفتح التاء والميم ورفع الأعداء، وعن حميد بن قيس كذلك، إلا أنّه كسر الميم، جعلاه فعلا لازما فارتفع به الأعداء. {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: لا تعجلني في زمرة القوم الظالمين لأنفسهم، وهم الذين عبدو العجل، فتغضب مني كما غضبت منهم، وتؤاخذني كما آخذتهم؛ فإني لست منهم في شيء؛ أي: ولا تظن أنّي واحد من الذين عبدوا العجل مع برائتي منهم، وإنما قال هارون تلك المقالة لأنّه خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى عليه السلام غضبان عليه، كما أنّه غضبان على عبدة العجل. وفي هذا دليل على أنّ هارون كان دون موسى في شدة العزيمة، وقوة الإرادة، وأخذ الأمور بالحزم، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب، 151 - ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف في قلب موسى عليه السلام فقال: {قالَ} موسى {رَبِّ اغْفِرْ لِي} فيما أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب {وَلِأَخِي} في تركه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التشديد على عبدة العجل {وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ}؛ أي: في جنتك بمزيد الإنعام بعد غفران ما سلف منا {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}؛ أي: فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا. وحاصل المعنى: أي قال موسى: رب اغفر لي ما فرط مني من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء، واغفر له ما عساه يكون قد قصر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام، خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل، {وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ} التي وسعت كل شيء، واغمرنا بجودك وفضلك، فأنت أرحم بعبادك من كل رحم، والآية صريحة في براءة هارون من جريمة اتخاذ العجل وفي إنكاره على متخذيه وعابديه من قومه. الإعراب {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. {وَواعَدْنا} الواو استئنافية، {واعَدْنا}: فعل وفاعل، {مُوسى}: مفعول أول، {ثَلاثِينَ}: مفعول ثان ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: انقضاء ثلاثين أو تمام ثلاثين، {لَيْلَةً}: تمييز لـ {ثَلاثِينَ}. منصوب به، والجملة الفعلية مستأنفة، {وَأَتْمَمْناها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {واعَدْنا}، بِعَشْرٍ: جار ومجرور، متعلق بـ {أتممنا}، {فَتَمَّ}: الفاء عاطفة تفريعية {تم}: فعل ماض {مِيقاتُ رَبِّهِ}: فاعل ومضاف إليه، {أَرْبَعِينَ}: مفعول به، {لَيْلَةً}: تمييز لـ {أَرْبَعِينَ} منصوب به، وجملة {تم} من الفعل والفاعل معطوفة مفرعة على جملة {أتممنا}. {وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. {وَقالَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لِأَخِيهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {قالَ}، {هارُونَ}: بدل من {أخيه} بدل كل من كل، أو عطف بيان منه، {اخْلُفْنِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {اخْلُفْنِي}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {هارُونَ}، والجملة في محل النصب مقول

{قالَ}، {فِي قَوْمِي}: جار ومجرور، متعلق بـ {اخْلُفْنِي}، {وَأَصْلِحْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {هارُونَ}، والجملة معطوفة على جملة {اخْلُفْنِي}، {وَلا}: {الواو} عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَتَّبِعْ}: فعل مضارع مجزوم بـ لا الناهية، وفاعله ضمير يعود على {هارُونَ}، {سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أَصْلِحْ}. {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}. {وَلَمَّا} الواو: استئنافية {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {جاءَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، {لِمِيقاتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جاءَ}، {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}: فعل ومفعول، وفاعل معطوف على {جاءَ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} مستأنفة، {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإنّ شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {أَرِنِي} (أر): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والنون نون الوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أرني نفسك، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول القول، {أَنْظُرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق؛ لأنّه في تقدير: فإن فعلت بي ذلك أنظر إليك، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في محل النصب مقول القول، {إِلَيْكَ} متعلقان بـ {أَنْظُرْ} {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة مستأنفة، {لَنْ تَرانِي} إلى قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَنْ}: حرف نصب، {تَرانِي}: فعل مضارع منصوب بـ {لَنْ} وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها التعذر، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به لـ {ترى}؛ لأنّ ترى

بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {وَلكِنِ}، الواو: عاطفة، {لكِنِ}: حرف استدراك {أَنْظُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، إِ {لَى الْجَبَلِ}: جار ومجرور متعلقان بـ {أَنْظُرْ}، والجملة الاستدراكية في محل النصب، معطوفة على جملة {لَنْ تَرانِي}. {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. {فَإِنِ} {الفاء}: عاطفة، {إن}: حرف شرط، {اسْتَقَرَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {الْجَبَلِ}، {مَكانَهُ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {اسْتَقَرَّ}، {فَسَوْفَ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة تسويفية، {سوف}: حرف تنفيس، {تَرانِي} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على الجملة الاستدراكية: {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فتجلى ربه للجبل، {لما}: حرف شرط غير جازم، {تَجَلَّى رَبُّهُ}: فعل وفاعل، {لِلْجَبَلِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَجَلَّى}، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {جَعَلَهُ دَكًّا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة {وَخَرَّ مُوسى} فعل وفاعل {صَعِقًا} حال من موسى، والجملة معطوفة على جملة {جعل}، {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطف على محذوف وتقديره: ثم أفاق موسى، {لما}: حرف شرط، {أَفاقَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة جواب لما، وجملة لما معطوف على جملة محذوفة، {سُبْحانَكَ} ... إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإنّ شئت قلت: {سُبْحانَكَ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبا تقديره: أسبحك سبحانا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالَ}، {تُبْتُ}:

فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {إِلَيْكَ} متعلق بـ {تُبْتُ}، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تُبْتُ}. {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة {يا مُوسى} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {يا مُوسى} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {إِنِّي} {إن}: حرف نصب، والياء اسمها {اصْطَفَيْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء، {عَلَى النَّاسِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {اصطفى}، {بِرِسالاتِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق أيضا بـ {اصطفى}، {وَبِكَلامِي}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، وكرر حرف الجر تنبيها على مغايرة الاصطفاء للكلام، كما في السمين، {فَخُذْ}: {الفاء}: عاطفة، {خذ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {إِنِّي} على كونها مقول {قالَ}، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، {آتَيْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: آتيتكه، والجملة صلة لـ {ما}: أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من {آتَيْتُكَ}، {وَكُنْ}: فعل ناقص واسمه، ضمير يعود على موسى، {مِنَ الشَّاكِرِينَ}: جار ومجرور خبر {كُنْ}، وجملة {كُنْ} من اسمها وخبرها في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ}. {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. {وَكَتَبْنا} الواو: استئنافية {كَتَبْنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَهُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَتَبْنا}، وكذا يتعلق به قوله: {فِي الْأَلْواحِ}،

{مِنْ}: زائدة {كُلِّ شَيْءٍ}: مفعول به لـ {كَتَبْنا}. {مَوْعِظَةً} بدل من محل {كُلِّ شَيْءٍ}: على كونه مفعول {كَتَبْنا}. {وَتَفْصِيلًا} معطوف على {مَوْعِظَةً}. {لِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَفْصِيلًا}. {فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ}. {فَخُذْها} {الفاء}: عاطفة داخلة على قول محذوف تقديره: فقلنا له خذها، وجملة القول المحذوف معطوفة على جملة {كَتَبْنا} {خذها}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي قدرناه آنفا، {بِقُوَّةٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {خذها}؛ أي: خذها حال كونك متلبسا بقوة ونشاط، لا بتكاسل وغفلة، {وَأْمُرْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {خذها}، {قَوْمَكَ}: مفعول به ومضاف إليه، {يَأْخُذُوا} فعل وفاعل مجزوم بالطلب السابق تقديره: إن أمرتهم يأخذوا، {بِأَحْسَنِها}: جار ومجرور، متعلق بـ {يَأْخُذُوا}، {سَأُرِيكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {دارَ الْفاسِقِينَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}. {سَأَصْرِفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة مسوقة لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات، التي هي ما كتب في ألواح التوارة أو ما يعمها وغيرها، {عَنْ آياتِيَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أصرف}. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع في محل النصب مفعول به، {يَتَكَبَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَتَكَبَّرُونَ}، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ}؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بالدين غير الحق، {وَإِنْ}: الواو: عاطفة {إِنْ} حرف شرط، {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية، {كُلَّ آيَةٍ}: مفعول به لـ {يَرَوْا}؛ لأنّ رأى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، {لا يُؤْمِنُوا}:

فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابا لها، {بِها}: جار ومجرور، متعلق بـ {لا يُؤْمِنُوا}، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على {يَتَكَبَّرُونَ}، على كونها صلة الموصول {وَإِنْ يَرَوْا}: جازم وفعل وفاعل مجزوم على كونه فعل الشرط {سَبِيلَ الرُّشْدِ}: مفعول به ومضاف إليه، {لا يَتَّخِذُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول مجزوم بإن الشرطية، على كونه جوابا لها، {سَبِيلًا}: مفعول ثان لـ {اتخذوا}، جملة إن الشرطية معطوفة على جملة الصلة أيضا. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}. {وَإِنْ} الواو: عاطفة {إِنْ يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها، {سَبِيلَ الغَيِّ}: مفعول به ومضاف إليه، {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}: فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة الصلة أيضا. {ذلِكَ}: مبتدأ {بِأَنَّهُمْ}: {الباء}: حرف جر، وسبب، {أنّهم}: ناصب واسمه، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، {بِآياتِنا}: جار ومجرور، متعلق به، {وَكانُوا} فعل ناقص واسمه، {عَنْها} متعلق بـ {غافِلِينَ} {غافِلِينَ} خبر كان، وجملة كان في محل الرفع، معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}، وجملة {كَذَّبُوا} في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أن من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك الصرف المذكور عن آياتنا كائن بسبب تكذيبهم آياتنا، وبسبب غفلتهم عنها، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافا بيانيا. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَذَّبُوا} صلة الموصول {بِآياتِنا}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {وَلِقاءِ الْآخِرَةِ}: معطوف على {آياتنا} مجرور بالكسرة الظاهرة، {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل

الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري، {يُجْزَوْنَ}: فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {يُجْزَوْنَ}، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه، وجملة {يُجْزَوْنَ} جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148)}. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ اتَّخَذَ، {مِنْ حُلِيِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اتَّخَذَ} أيضا، وجاز (¬1) تعلق حرفي جر بلفظ واحد بعامل واحد، لاختلاف مدلوليهما؛ لأنّ {مِنْ} الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض، وأجاز أبو البقاء أن يكون {مِنْ حُلِيِّهِمْ}: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لكان صفة؛ أي: عجلا كائنا من حليهم {عِجْلًا}: مفعول أول لـ {اتَّخَذَ}. {جَسَدًا}: بدل من {عِجْلًا} أو عطف بيان منه أو صفة له. اه. والمفعول الثاني محذوف تقديره: واتخذوا عجلا جسدا له خوار إلها {لَهُ خُوارٌ} مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب صفة {عِجْلًا}. {أَلَمْ يَرَوْا}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، وقالوا: الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريعي، {لَمْ يَرَوْا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة الفعلية إنشائية لا ملح لها من الإعراب {أَنَّهُ} ناصب واسمه، والضمير عائد للعجل، {لا يُكَلِّمُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على العجل، والجملة في محل الرفع خبر أنّ، {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على العجل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {لا يُكَلِّمُهُمْ} على كونها خبرا لـ {أن}، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وجملة أنّ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى؛ لأنّ رأى هنا بمعنى علم، تقديره: ألم يروا عدم تكليمه إياهم، وعدم هدايته إياهم سبيلا {اتَّخَذُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: اتخذوه إلها، والجملة توكيد لفظي لـ {اتَّخَذَ} الأول لا محل لها من الإعراب، {وَكانُوا ظالِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة، وقال ابن عطية: يحتمل كونها حالا من فاعل {اتَّخَذُوهُ} انتهى. {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)}. {وَلَمَّا} الواو: استئنافية، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم {سُقِطَ}: فعل ماض مغير الصيغة {فِي أَيْدِيهِمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، وأصله سقطت أفواههم على أيديهم، ففي بمعنى على، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، {وَرَأَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {سُقِطَ}، {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {قَدْ ضَلُّوا} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى تقديره: ورأوا ضلالهم، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة، {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: لَئِنْ، {اللام}: موطئة للقسم المحذوف، {إن}: حرف شرط جازم، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَرْحَمْنا}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لَئِنْ}، {رَبُّنا}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم، بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، {وَيَغْفِرْ لَنا} معطوف على {يَرْحَمْنا}، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم الآتي تقديره: إن لم يرحمنا نكن من الخاسرين، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}، {لَنَكُونَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، زيدت إشعارا بأنّ ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط، لتقدم القسم عليه، {نكونن} فعل مضارع ناقص في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، واسمها ضمير يعود على المتخذين عجلا، {مِنَ الْخاسِرِينَ}: جار ومجرور خبر نكون، وجملة نكون جواب القسم لا محل

لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}. {وَلَمَّا} الواو: عاطفة {لَمَّا}: حرف شرط، {رَجَعَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}، {إِلى قَوْمِهِ} متعلق: بـ {رَجَعَ} {غَضْبانَ أَسِفًا}: حالان من {مُوسى} عند من يجيز تعدد الحال، وقيل: {أَسِفًا}: بدل من {غَضْبانَ} بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة لما معطوفة على جملة قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى}، أو مستأنفة {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} مقول محكي لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {بِئْسَما}: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: هو، يعود على الشيء المبهم و {ما}: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز لفاعل بئس، {خَلَفْتُمُونِي}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة {لَمَّا}، والرابط محذوف تقديره: بئس الشيء خلافة خلفتمونيها، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: خلافتكم، وجملة بئس في محل النصب مقول {قالَ} {مِنْ بَعْدِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {خَلَفْتُمُونِي} {أَعَجِلْتُمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي التقريعي، {عَجِلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {أَمْرَ رَبِّكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، عداه إلى المفعول بلا واسطة حرف جر لتضمينه معنى سبق، والأصل: أعجلتم عن أمر ربكم {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة معطوفة على جملة {قالَ}، {وَأَخَذَ}. فعل ماض معطوف على {أَلْقَى} وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} {بِرَأْسِ أَخِيهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَخَذَ} {يَجُرُّهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، {إِلَيْهِ}، متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {أَخَذَ}. {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا

تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {هارُونَ}، والجملة مستأنفة، {ابْنَ أُمَّ} إلى آخر الآية. مقول محكي لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {ابْنَ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، {ابْنَ} مضاف، {أُمَّ}: مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحة، المحذوفة تلك الألف اجتزاء عنها بالفتحة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأنّ ما قبل ياء المتكلم لا يكون إلا مكسورا، {أُمَّ}: مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه، مبني على السكون، هذا على قراءة فتح ميم {أم}. وأما على قراءة كسر ميم {أُمَّ} فتقول في إعرابه {ابْنَ}: مضاف، {أُمَّ}: مضاف إليه مجرور بالمضاف، وعلامة جره كسرة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة {أُمَّ} مضاف، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {إِنَّ الْقَوْمَ}: ناصب واسمه، {اسْتَضْعَفُونِي}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء، {وَكادُوا}: فعل ناقص واسمه، وهو من أفعال المقاربة، {يَقْتُلُونَنِي}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر {كادُوا}، جملة كاد في محل الرفع معطوفة على جملة {اسْتَضْعَفُونِي} على كونها خبرا لـ {إِنَّ} {فَلا}: {الفاء}: عاطفة تقريعية {لا}: ناهية جازمة {تُشْمِتْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها مقولا لـ {قالَ}، {بِيَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تُشْمِتْ}، {الْأَعْداءَ}: مفعول به، {وَلا تَجْعَلْنِي}: جازم وفعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، {مَعَ الْقَوْمِ}: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لجعل، {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ} وجملة {لا تَجْعَلْنِي} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَلا تُشْمِتْ}.

{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، والجملة مستأنفة {رَبِّ اغْفِرْ لِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ} {اغْفِرْ}: فعل دعاء مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {لِي}: جار ومجرور، متعلق بـ {اغْفِرْ}، {وَلِأَخِي}، معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء، {وَأَدْخِلْنا}: فعل ومفعول، معطوف على {اغْفِرْ} وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله، {فِي رَحْمَتِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَدْخِلْنا}، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {أَدْخِلْنا}. التصريف ومفردات اللغة {وَواعَدْنا}: من باب فاعل الرباعي، يتعدى إلى مفعولين؛ أي: واعدناه بأن نكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة يصومها {مِيقاتُ رَبِّهِ} الميقات الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال، كمواقيت الحج، ومواقيت الصلاة {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}؛ أي: كن خليفتي في سياسة القوم، وإصلاح أمورهم، دينا ودنيا، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} يقال: جلا الشيء والأمر، وانجلى وتجلى، إذا ظهر، وجلاه فتجلى: إذا انكشف ووضح بعد خفاء في نفسه، أو على مجتليه وطالبه، وجلوت العروس بمعنى: أبرزته، وجلوت السيف أخلصته من الصداء، والمعنى: لما ظهر ربه للجبل {جَعَلَهُ دَكًّا} والدك الدق، وهو تفتيت الشيء أو سحقه، وقيل: تسويته بالأرض، وهو مصدر بمعنى المفعول؛ أي: جعله مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا، هذا على قراءة من قرأ {دَكًّا} بالمصدر، وهم أهل المدينة، وأهل البصرة. وأما على قراءة أهل الكوفة {جعله دكاء} على التأنيث والجمع دكاوات كحمراء وحمراوات، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض، أو للأرض المستوية، فالمعنى: أنّ الجبل صار صغيرا كالرابية، أو أرضا مستوية {وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا}

الخر والخرور السقوط من علو والانكباب على الأرض كما قال: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا} {وصَعِقًا}؛ أي: صاعقا صائحا مغشيا عليه، يقال: صعق الرجل، من باب فرح، فهو صعق ومصعوق، إذا أصابته الصاعقة، والمعنى: أنّه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه {فَلَمَّا أَفاقَ} يقال: أفاق إذا رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان، والإفاقة رجوع الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر أو نحوهما، ومنه إفاقة المريض وهي رجوع قوته، وإفاقة الحلب وهي رجوع الدر إلى الضرع، يقال: استفق ناقتك، أي أتركها حتى يعود لبنها، والفواق ما بين حلبتي الحالب، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى اه «سمين». {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} والاصطفاء وكذا الاجتباء: اختيار صفوة الشيء؛ أي: خالصه الذي لا شائبة فيه {بِرِسالاتِي} والمراد به المصدر؛ أي: بإرسالي إياك، أو على أنّه على حذف مضاف؛ أي: بتبليغ رسالتي {وَبِكَلامِي} يحتمل أن يراد به المصدر؛ أي: بتكليمي إياك، فيكون كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا}. ويحتمل أن يراد به التوراة، وما أوحاه إليه من قولهم: القرآن كلام الله، تسمية للشيء باسم المصدر، وقدم الرسالة على الكلام لأنّها أسبق، أو ليترقى إلى الأشرف، وكرر حرف الجر تنبيها على مغايرة الاصطفاء للكلام كما مر. {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ} التكبر: التكثر، من الكبر وهو: غمط الحق بعدم الخضوع له، ويصحبه احتقار الناس، فصاحبه يرى أنّه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوي نفسه بشخص، والرشد والرشد والرشاد مصادر، كالسقم والسقم والسقام، واختلف في معنى الرشد والرشد، هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال الجمهور: نعم هما لغتان في المصدر، كالبخل والبخل، والسّقم والسّقم، والحزن والحزن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرشد - بضم فسكون - الصلاح في النظر، وبفتحتين في الدين قال: ولذلك أجمعوا على قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} بالضم والسكون، وعلى قوله: {فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} بفتحتين، وروي عن ابن عامر: {الرشد} - بضمتين - فكأنّه من باب الإتباع اه «سمين». وبالجملة الرشد الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفساد،

والآيات الأولى هي البينات والدلائل، والثانية هي الآيات المنزلة من حيث اشتمالها على الهداية، وتزكية النفوس. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} الحلي - بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء - جمع حلي، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف الياء، كثدي وثدي، وأصله حلوي، اجتمعت الواو والياء، وسبقت الواو بالسكون، فقلبت ياء، وادغمت في الياء وكسرت اللام لأجل الياء {عِجْلًا} والعجل ولد البقر من العراب، أو الجواميس، كالحوار لولد الناقة، والمهر لولد الفرس {جَسَدًا} الجسد: الجثة، وبدن الإنسان، والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف {لَهُ خُوارٌ} والخوار: صوت البقر، كالرغاء لصوت الإبل، والخور الضعف، ومنه أرض خوارة وريح خوارة، والخوران مجرى الروث، وصوت البهائم أيضا {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} وسقط (¬1) في يده، وأسقط في يده - بضم أولهما بالبناء للمفعول، أي: ندم ويقولون: فلان مسقوط في يده، وساقط في يده؛ أي: نادم. قال في «العباب» و «تاج العروس» هذا نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب، وذكرت اليد لأنّ الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر فيها بعضّها، أو الضرب بها على أختها، كما قال سبحانه في النادم: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها}؛ لأنّ اليد هي الجارحة العظمى، وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ}. وقال الزمخشري (¬2): {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}؛ أي: ولما اشتد ندمهم؛ لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحزنه أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها؛ وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه، ويضع ذقنه على يده معتمدا عليها ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليد مسقوط فيها، وفي بمعنى على، فمعنى {فِي أَيْدِيهِمْ} على أيديهم كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وأعلم أن (سقط في يده) عده بعضهم في الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس {أَسِفًا} الأسف (¬3) الحزن والغضب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

ويقال: أسف يأسف - من باب تعب - حزن وتلهف، وأسف كغصب وزنا ومعنى، ويعدى بالهمزة فيقال: آسفته، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن، قوله تعالى حكاية عن يعقوب: {وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} وبمعنى الغضب قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ}. {أَعَجِلْتُمْ} يقال عجله إذا سبقه، وأعجله استعجله، ويقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، وفي «الخازن» العجلة التقدم على الشيء قبل وقته، والمعنى: أعجلتم ميعاد ربكم، فلم تصبروا له؟ أي: أعجلتم وعد ربكم من الأربعين، وقال الإمام: العجلة التقدم بالشيء قبل وقته، ولذلك كانت مذمومة، والسرعة غير مذمومة؛ لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته اه. {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ} أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك، يقال: شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به، والمعنى: لا تسر الأعداء بما تفعل بي من المكروه. اه «خازن»، وفي «المصباح» شمت به يشمت، من باب سلم إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم الشماتة، وأشمت الله به العدو اه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ} وقوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وفي قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}، وفي قوله: {رَبِّ أَرِنِي}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَرِنِي}، {لَنْ تَرانِي}: {فَسَوْفَ تَرانِي} وفي قوله: {أَنْظُرْ إِلَيْكَ} و {انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}. ومنها: الطباق في قوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}؛ لأنّه بمعنى ولا تفسد فيهم، وفي قوله: {وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ}. ومنها: إرادة الخصوص بما ظاهره العموم في قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من قومه، وفي قوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ}؛ أي: من أهل عصره. ومنها: التكرار في قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وفي قوله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ}، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ}، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ}.

ومنها: الطباق بين كلمتي {الرُّشْدِ} و {الغَيِّ}. ومنها: التكرار والتأكيد في قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى} مع قوله: {اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ}؛ لأنّ الذي صاغه موسى السامري، فأسند ما للبعض إلى الكل لرضاهم به، من إطلاق ما للبعض على الكل. ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله: {مِنْ حُلِيِّهِمْ}؛ لأنّ الحلى للقبطيين، فاستعاروه لغرض العرس. ومنها: الإبدال في قوله: {جَسَدًا}؛ لدفع التوهم؛ لأنّه أبدله من {عِجْلًا} لدفع توهم أنّه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ}، للمبالغة في الحض على سلوك نهج الصالحين، والأصل: سأريهم؛ أي: قومك. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}؛ لأنّه كناية عن الندم، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصبعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم، فأطلق اسم اللازم، وأريد الملزوم على سبيل الكناية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في استعارة لفظ {فِي} لمعنى (على) في قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ}؛ أي: على أيديهم، شبه الاستعلاء الكلي بالظرفية الكلية، بجامع التمكن في كل، واستعير لفظ الطرفية للاستعلاء؛ أي: يقدر ذلك، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات التي هي معاني الحروف، فاستعير لفظ (في) الموضوعة لكل جزئي من جزئيات الظرفية لمعنى {على}، وهو الاستعلاء الخاص؛ أي: المقيد بالسقوط في هذا المثال، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {سَبِيلَ الرُّشْدِ} و {سَبِيلَ الغَيِّ}؛ لأنّ السبيل حقيقة في مكان المرور، فاستعاره للإيمان والضلال اللذين

هما من أعمال القلب، بجامع الإيصال إلى المقصود أو الهلاك في كل. ومنها: الاستفهام الإنكاري (¬1) في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ} حيث عبدوا جمادا أو حيوانا عاجزا، عليه آثار الصنعة، لا يمكن أن يتكلم، أو لا يهدي، وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة .. استحال أن يكون إلها، وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى الاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) عتاب موسى لأخيه هارون عليهما ¬

_ (¬1) المراغي.

[152]

السلام، ثم استغفاره لنفسه وله .. قفى على ذلك بذكر ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل، وهو مما أوحاه الله تعالى إلى موسى يومئذ. قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال القوم، وقسمهم إلى قسمين: مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وتائب منيب إلى ربه، وبين مآل كل من القسمين .. ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت ثورة غضبه وهدأ روعه. قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلّم من قوم موسى، ووصفهم بأنّهم هم المفلحون .. ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الإتباع، وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلّم. التفسير وأوجه القراءة 152 - {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلها؛ أي: عبدوا العجل واستمروا على عبادته، كالسامري وأشياعه {سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}؛ أي: سيصيبهم غضب وسخط وعقوبة كائنة من ربهم في الحياة الدنيا، وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة {وَذِلَّةٌ}؛ أي: ذل وهوان ومسكنة {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} منتظرة لهم ولأولادهم جميعا إلى يوم القيامة، والذلة (¬1) التي اختص بها السامري هو الإنفراد عن الناس، والابتلاء بلا مساس، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك؛ أي: لا مساس، وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم .. حمّا جميعا في الوقت. والمعنى (¬2): أن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامري وأشياعه، سيصيبهم غضب من ربهم في الحياة الدنيا، بأن لا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، وذلة عظيمة في الحياة الدنيا، وبالخروج من الديار والغربة عن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

الوطن، وقال الواحدي (¬1): إن الذين اتخذوا العجل، يعني اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم أبناء الذين اتخذوا العجل إلها، فأضيف إليهم تعييرا لهم فعل آبائهم .. سينالهم غضب من ربهم؛ أي: عذاب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وهي الجزية. قال في «الخازن»: ثم للمفسرين في هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل، الذين باشروا عبادته، وعلى هذا القول ففي الآية سؤال وهو: أن أولئك الأقوام الذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم، كما أمرهم الله تعالى، فتاب عليهم، فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة؟ والجواب: أن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا، وهو نفس القتل، فكان ذلك القتل غضبا عليهم، والمراد بالذلة هو: إسلامهم أنفسهم للقتل، واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ. فإن قلت: السين في قوله: {سَيَنالُهُمْ} للاستقبال، فكيف تكون للماضي؟ قلت: هذا الكلام إنّما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه، واتخاذهم العجل، ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنّه {سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ} فكان هذا الكلام سابقا لوقوعه، وهو القتل الذي أمرهم الله به بعد ذلك. والقول الثاني: أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم كما مر عن الواحدي آنفا. انتهى مع زيادة. {وَكَذلِكَ}؛ أي: وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها في الحياة الدنيا {نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}؛ أي: نجزي كل من افترى على الله كذبا وعبد غيره في كل زمان، إذ فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء، قال (¬2) الحسن البصري: إنّ ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت (¬3) بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، ¬

_ (¬1) الواحدي. (¬2) المراغي. (¬3) هملجت الدّابة: سارت سيرا حسنا في سرعة.

[153]

وروي عن أبي قلابة أنّه قرأ هذه الآية وقال: هي والله لكل مفتري إلى يوم القيامة أن يذله الله. وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية. قال: والمبتدع مفتر في دين الله، قال أبو حيان (¬1) {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}؛ أي: مثل ذلك النيل من الغضب والذلة، نجزي من افترى الكذب على الله، وأي افتراء أعظم من قولهم: {هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى}، والمفترون عام في كل مفتر، انتهى. 153 - {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} من الكفر والمعاصي غيره {ثُمَّ تابُوا}؛ أي: رجعوا إلى الله تعالى {مِنْ بَعْدِها}؛ أي: من بعد عمل السيئات، بأن رجع الكافر عن كفره، والعاصي عن عصيانه {وَآمَنُوا}؛ أي: داموا واستمروا على إيمانهم، وزكوه بالعمل الصالح، أو تكون الواو حالية؛ أي: وقد آمنوا {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {مِنْ بَعْدِها}؛ أي: من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان {لَغَفُورٌ} لهم؛ أي: لستار لذنوبهم وإن عظمت وكثرت {رَحِيمٌ} بهم؛ أي: منعم عليهم، مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية عليهم؛ أي: من أتى بجميع السيئات ثم تاب .. فإن الله سبحانه وتعالى يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين. وينتظم في هذا المسلك متخذوا العجل وغيرهم من المجترحين للسيئات، عظمت ذنوبهم أو حقرت؛ لأنّ الذنوب وإن جلت وعظمت، فعفو الله وكرمه أعظم وأجل، على شريطة التوبة والإنابة، وبدونها الطمع فيه طمع في غير مطمع، ألا ترى أن طمع الفساق في المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات، وكانوا شرا ممن قال الله فيهم: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح، بل هي أماني جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي: إنّ الأماني والأحلام تضليل 154 - {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}؛ أي: زال وسكن عنه الغضب، باعتذار ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[155]

أخيه إليه وتوبة القوم، ولجأ إلى رحمة ربه وفضله، وجأر بالدعاء له أن يغفر له ولأخيه خطاياهما {أَخَذَ الْأَلْواحَ}؛ أي: عاد إلى الألواح التي ألقاها غضبا، فأخذها {وَفِي نُسْخَتِها}؛ أي: وفي المكتوب فيها من اللوح المحفوظ، وقيل: وفيما كتب له فيها، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وقيل: وفيما نسخ من الألواح المتكسرة، ونقل إلى الألواح الجديدة، قال ابن عباس وعمرو بن دينار: لما ألقى موسى الألواح فتكسرت .. صام أربعين يوما، فردت عليه في لوحين، وفيهما ما في الأولى بعينها، فيكون نسخها نقلها، وقال عطاء: {وَفِي نُسْخَتِها} معناه: وفيما بقي منها، وذلك أنّه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها، ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء اه «قرطبي». {هُدىً}؛ أي: بيان للحق {وَرَحْمَةٌ} للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح، فالهدى ما يهتدون به من الأحكام، والرحمة ما يحصل لهم من الله تعالى عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، واللام في قوله: {لِلَّذِينَ هُمْ} متعلقة بمحذوف صفة لـ {رَحْمَةٌ}، وفي قوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} متعلقة بـ {يَرْهَبُونَ} زيدت لتقوية العامل لضعفه بالتأخر، والمعنى: وفي نسختها هدى من الضلالة، ورحمة كائنة للذين هم يرهبون ويخافون عقاب ربهم، ويرجون ثوابه بالعمل بما فيها. وقرأ معاوية بن قرة (¬1): {ولما سكن عن موسى الغضب} وقرىء: {ولما أسكت} رباعيا مبنيا للمفعول، وكذا في مصحف حفصة؛ أي: أسكت الله عن موسى الغضب، وفي مصحف عبد الله: {ولما صبر عن موسى الغضب}. وفي مصحف أبي: {ولما انشق عن موسى الغضب}. 155 - {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا} هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، و {سَبْعِينَ} مفعول {اخْتارَ}، و {قَوْمَهُ}: منصوب بنزع الخافض، أي: من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه؛ أي: وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه ممن لم يعبدوا العجل، وجملتهم اثنا عشر ألفا، وكان جملة بني إسرائيل الذين خرجوا معه من مصر ست ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مئة ألف وعشرين ألفا، فكلهم عبدوا العجل إلا هذه الشرذمة القليلة، {لِمِيقاتِنا}؛ أي: للميقات الذي وقته الله تعالى له، ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجي ربه من جبل الطور. روي (¬1): أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة ستة، فصاروا اثنين وسبعين فقال: ليستخلف منكم رجلان، فتشاجروا فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، فخرج بهم إلى طور سيناء. فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة؛ أي: لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه، فأخذتهم رجفة الجبل فماتوا يوما وليلة {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: الزلزلة الشديدة؛ أي: أهلكتهم وأماتتهم رجفة الجبل وزلزلته وتحركه {قالَ} موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ} إهلاكهم {أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل خروجهم إلى الميقات {وَ} أهلكتني {إِيَّايَ} معهم، قاله تسليما لقضاء الله تعالى؛ أي: إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه. والمعنى: أي فلما أخذتهم رجفة الجبل، وصعقوا قال موسى: رب إنني أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان، فأهلكتهم وأهلكتني معهم، حتى لا أقع في شديد الحرج مع قومي فيقولوا: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم، وإن لم تفعل فإني أسألك برحمتك أن لا تفعل الآن، والاستفهام في قوله: {أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا} للاستعطاف، وفيه معنى النفي، ظن موسى أنما أهلكهم الله تعالى بعبادة قومهم العجل، أو بسوء أدبهم بسؤالهم رؤية الله جهرة؛ أي: لا تهلكنا يا إلهي بما فعل واقترف السفهاء والجهال منا من عبادة العجل، أو من سؤال رؤيتك جهرة، وفي هذا إيماء إلى أن عقلاء بني إسرائيل، وأصحاب الرؤية منهم لم يعبدوه، إنما عبده السفهاء وهم ¬

_ (¬1) المراح.

[156]

الأكثرون {إِنْ هِيَ}؛ أي (¬1): ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء {إِلَّا فِتْنَتُكَ}؛ أي: إلا محنتك بأن أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به، وأسمعتهم كلامك، فافتتنوا بذلك حتى طمعوا فيما فوق ذلك. {تُضِلُّ بِها}؛ أي: بتلك الفتنة {مَنْ تَشاءُ} إضلاله، فلا يهتدي إلى التثبت {وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ} هدايته إلى الحق، فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه. وعبارة «المراغي»: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ...} الخ؛ أي: ما تلك الفعلة التي كانت سببا في أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية، وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة، بحسب سننك في خلقك بالعدل والحق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك، ولست بالظالم لهم في تقديرك، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم في توفيقك، فأمرهم دائر بين العدل والفضل. انتهت. {أَنْتَ} يا إلهي {وَلِيُّنا}؛ أي: متولي أمورنا الدنيوية والأخروية، والقائم علينا بما تكسب نفوسنا {فَاغْفِرْ لَنا} ما اقترفته أنفسنا مما يترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك، والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك {وَارْحَمْنا} برحمتك التي وسعت كل شيء، بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} حلما وكرما وجودا؛ لأنّك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض ولا لطلب عوض، بل لمحض الفضل والكرم والجود، أما غيرك فإنّما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل، أو للثناء الجميل، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب، وأنت خير الراحمين رحمة، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك 156 - {وَاكْتُبْ لَنا}؛ أي: وأثبت لنا {فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا}؛ أي: في هذه الحياة القريبة الزوال والخسيسة {حَسَنَةً}؛ أي: حياة طيبة من نعمة وعافية، وبسطة في الرزق، وتوفيق للطاعة {وَفِي} الدار {الْآخِرَةِ} حسنة؛ أي: واكتب (¬2) لنا في الدار الآخرة مثوبة حسنة بدخول جنتك، ونيل رضوانك، فهو بمعنى قوله: فيما علمنا من دعائه {رَبَّنا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}؛ أي: تبنا إليك مما فرط من سفهائنا، من طلب الآلهة، وعبادة العجل، ومن تقصير عقلائنا في الإنكار عليهم، مستغفرين مسترحمين كما فعل من قبل آدام عليه السلام، إذ تاب من معصيته إليك، فتبت عليه واجتبيته، فكانت تلك سنتك في ولده. وقرأ (¬1) زيد بن علي، وأبو وجزة: {هدنا} - بكسر الهاء - من هاد يهيد إذا حرك؛ أي: حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك، فيكون الضمير فاعلا، ويحتمل أن يكون مفعولا لم يسم فاعله؛ أي: حركنا إليك وأملنا، والضم في {هُدْنا} يحتملهما، وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم، وأنّهم تائبون عبيد له خاضعون، فناسب عز الربوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرحمة والكتب {قالَ} الله سبحانه وتعالى: {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ}؛ أي: اخص به {مَنْ أَشاءُ} من الكفار والعصاة، وليس لأحد علي اعتراض؛ لأنّ الكل ملكي {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ} وعمت {كُلَّ شَيْءٍ} من البر والفاجر، والمكلفين وغيرهم، قال (¬2) جماعة من المفسرين: لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء .. تطاول إبليس إليها وقال: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله تعالى من إبليس، فقال تعالى: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} فآيس إبليس منها، وقالت اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله من اليهود وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية. والظاهر (¬3): أنّ هذه الجملة مستأنفة، مسوقة للإخبار عن عذابه ورحمته سبحانه وتعالى، والمعنى؛ أي: قد كان (¬4) من سبق رحمتي غضبي أن جعلت عذابي خاصا، أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، فهي من صفاتي التي قام بها أمر العالم منذ خلقته، والعذاب من أفعالي المترتبة على صفة العدل، ولولا الرحمة العامة المبذولة لكل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط بتصرف. (¬4) المراغي.

[157]

أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ}. وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد (¬1): {من أساء} - بالسين المهملة - فعل ماض من الإساءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاووس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عينية مرة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقري، وصاح به وأسمعه، فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع. ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال: {فَسَأَكْتُبُها}؛ أي: فسأكتب رحمتي، وأثبتها وأقدرها وأقضيها بمشيئتي في الآخرة خاصة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}؛ أي: المفروضة؛ أي: يعطون زكاة أموالهم وصدقاتها التي تتزكى بها أنفسهم، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات لأن النفوس شحيحة، ففتنته تقتضي أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات، كما إنّ في ذلك إيماء إلى أنّ اليهود أشربوا في قلوبهم حب المال، وفتنوا بجمعه ومنع بذله في سبيل الله {وَ} سأكتبها لـ {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا}؛ أي: بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا، وصدق رسلنا {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون تصديق إيقان مبني على العلم الصحيح، دون تقليد للآباء والأجداد. 157 - ثم بين الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة، ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} نعت {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين يتمسكون دين الرسول الكريم ويتبعون {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} محمدا صلى الله عليه وسلّم؛ أي: الذي لم يمارس القراءة والكتابة، ومع ذلك جمع علوم الأولين والآخرين، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب - وهم العرب - أو نسبة إلى الأم، والمعنى: إنه باق على حالته التي ولد عليها، لا يكتب ولا يقرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المكتوب، وقيل نسبة إلى أم القرى - وهي مكة - وقرأ يعقوب {الأمي} بفتح الهمزة، وخرجها بعضهم على أنّه من تغيير النسب كما قالوا في النسب إلى أمية: أموي بفتح الهمزة، وخرجها بعضهم على أنّه نسبة إلى الأم، بمعنى القصد الذي هو مصدر أم يؤم أما، بمعنى قصد، ومعناه: المقصود لكل أحد، وهذا الوصف من خصوصياته صلى الله عليه وسلّم، إذ كثير من الأنبياء كان يكتب ويقرأ، فالأمية آية من آيات نبوته صلى الله عليه وسلّم، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة، التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، فغير نظم البشر في تلك الحقبة الطويلة، وأثر في حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر، بما شهد له المنصفون في كل الأديان، وقد وصف الله تعالى ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بني إسرائيل بصفات: منها: أنّه نبي أمي. ومنها: أنّه هو {الَّذِي يَجِدُونَهُ}؛ أي: يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل اسمه ونعته {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} اللذين هما مرجعهم في الدين، بحيث لا يشكون أنّه هو، وبالجملة فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم فيما بينهم، ويذكرون البشارات من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون، وكان علماؤهم يصرحون بذلك، كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي صلى الله عليه وسلّم. ومنها: أنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره، من التوحيد ومكارم الأخلاق، وبر الوالدين وصلة الأرحام {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عن كل ما تنكره القلوب ولا تعرفه، وهو ما كان من مساوىء الأخلاق، كعبادة الأوثان، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين. ومنها: أنّه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ}؛ أي: كل ما تستطيبه الأذواق السليمة من الأطعمة، وفيه فائدة في التغذية مما حرم عليهم في التوراة، كلحوم الإبل،

وشحوم البقرة والغنم. ومنها: أنّه {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ}؛ أي: كل ما تستخبثه الطبائع السليمة، وتستقذره النفوس، كالميتة والدم المسفوح، والخنازير، وما يؤخذ من الأموال بغير حق، كالربا والرشوة والغضب والخيانة. ومنها: أنّه {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}؛ أي: يسقط عنهم ثقل العهد الذي أخذ عليهم، والمراد (¬1) بالإصر هنا: العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل على أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام، فكانت تلك الشدائد، قاله ابن عباس. وقيل (¬2): التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، وأكل الشحوم، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح وقد كتب على باب بيته أن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وقرأ ابن عامر {أصارهم} بالجمع. وقرىء: {أصرهم} بفتح الهمزة وبضمها. وقرأ طلحة: {ويذهب عنهم إصرهم} {وَ} يخفف عنهم {الْأَغْلالَ}؛ أي: التكاليف الشاقة {الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} في عبادتهم ومعاملاتهم، كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وكاشتراط قتل النفس في صحة التوبة، وتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة، وعدم صحة صلاتهم إلا في الكنائس، وغير ذلك من التكاليف التي كانت على بني اسرائيل، شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه. والخلاصة (¬3): أنّ بني إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكانت مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئط منها، وهو موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية، وشدد في الأحكام ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) زاد. (¬3) المراغي.

[158]

الروحية، إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات الله عليه. ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه صلى الله عليه وسلّم، وعلو مرتبة متبعيه، واغتنامهم مغانم الرحمة في الدارين، إثر بيان نعوته الجليلة فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ}؛ أي: بالرسول النبي الأمي حين بعث من قوم موسى، ومن كل أمة {وَعَزَّرُوهُ}؛ أي: منعوه وحموه من كل من يعاديه، مع التعظيم والإجلال؛ لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز {وَنَصَرُوهُ} على أعدائه باللسان والسنان {وَاتَّبَعُوا النُّورَ} الأعظم {الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}؛ أي: مع رسالته، وهو القرآن. سماه نورا لأنّه يظهر نور الإيمان لصاحبه، ويزيل عنه ظلمة الجهل والضلال {أُولئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة، من الإيمان به والتعزير والنصر له، واتباع النور الذي أنزل معه {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بالرحمة والرضوان؛ أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة، والناجون من السخط والعذاب، دون غيرهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله تعالى في الدنيا والآخرة. وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى (¬1): {وَعَزَّرُوهُ} بالتخفيف. وقرأ جعفر بن محمد: {وعززوه} بزايين، 158 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم المكتوبة في التوراة والإنجيل .. أمره سبحانه أن يقول هذا القول الآتي، المقتضي لعموم رسالته صلى الله عليه وسلّم إلى الناس جميعا فقال: {قُلْ} يا محمد لجميع البشر من عرب أو عجم {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}؛ أي: مرسل إليكم كافة لا إلى قومي خاصة، فهو بمعنى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}؛ أي: وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، وقوله: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)} .. وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلّم، بالرسالة العامة: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فمنها: ما روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة». وفي رواية: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي بعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة». وقوله في الرواية الأولى: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود». قيل: أراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: أراد بالأحمر الإنس، وبالأسود الجن. ومنها: ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «فضلت على الأنبياء بستة: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون». ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وبالإحياء وبالإماتة فقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ}؛ أي: إن الإله الذي أنا رسوله هو من له التصرف والملك في السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام في جملة المخلوقات، وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو، وتوحيد الربوبية بالإيمان، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل؛ أي: بعبادة الله وحده، هما أصل الدين، والركن الأول في العقيدة، والركن الثاني: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم، والركن الثالث: عقيدة البعث بعد الموت، وهي تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب في خلقه. وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال: {فَآمِنُوا}

أيها الناس جميعا {بِاللَّهِ} الواحد في ربوبيته وألوهيته، الذي يحيي كل ما تحله الحياة، ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم {وَ} آمنوا بـ {رَسُولِهِ} النبي الأمي الذي بعثه في الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين يعلمهم الكتاب، والحكمة، ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل، والتفرق والتعادي، ليكونوا بهدايته أمة واحدة، يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر بهذا النبي والأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنّه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس، قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبي، بعد قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقه الالتفات من البلاغة، وليعلم أنّ الذي يجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنّه النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان أنا أو غيري، إظهارا للنصفة {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ}؛ أي: يؤمن يتوحيد الله وبكلماته التشريعية، التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله، وهي مظهر علمه ورحمته، والمراد بها القرآن وسائر الكتب السماوية، وبكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته، وقرأ الأعمش: {الذي يؤمن بالله وآياته} بدل {كَلِماتِهِ}. وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: {وَاتَّبِعُوهُ}؛ أي: واتبعوا ذلك النبي الأمي، واسلكوا طريقه، واقتفوا أثره في كل ما يأتي ويذر من أمر الدين {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، وتلك هي الثمرة التي تجنى منهما، فما آمن قوم بنبي ... إلا كانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة في دنياهم، وسعادتهم في آخرتهم، بنيل رضوان ربهم، والحظوة بالقرب منه. وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهي ما لا تعلق له بحق الله ولا حق خلقه، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم، والفنون المبنية على التجارب، وما جاء فيها من أمر ونهي فهو إرشاد لا تشريع، وقد ظن بعض الصحابة أنّ إنكار النبي صلى الله عليه وسلّم لبعض

[159]

الأمور الدنيوية المبنية على التجارب من قبيل التشريع، كامتناعهم عن تلقيح النخل حين نهاهم عنه فأشاص - أي خرج ثمره شيصا رديئا - فراجعوه فأخبرهم أنّ مقاله كان عن ظن ورأي، لا عن تشريع ووحي، وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». والحكمة في ذلك تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية متروكة لمعارف الناس وتجاربهم. 159 - قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى} كلام مستأنف، مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم من تخصيص كتابة الرحمة بمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلّم، وذلك المتوهم هو حرمان قوم موسى من كل خير، وبيانه أنّهم ليسوا كلهم يحرمون منها، بل من قوم موسى {أُمَّةٌ}؛ أي: جماعة عظيمة {يَهْدُونَ} الناس ويرشدونهم، ويدعونهم إلى الخير والهدى حالة كونهم متلبسين {بِالْحَقِّ} والعدل الذي جاء به موسى عليه السلام من عند الله تعالى {وَبِهِ}؛ أي: وبالحق الذي جاء به موسى لا بغيره {يَعْدِلُونَ}؛ أي: يحكمون بين الناس حكما عدلا موافقا للصواب إذا حكموا بين الناس، فلا يتبعون هوى، ولا يأكلون سحتا ولا رشا، واختلف (¬1) في هؤلاء القوم، فقيل: هم الذين أسلموا من بني إسرائيل، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام قبل التحريف والتبديل، ودعوا الناس إليه، فإن (¬2) قيل: إن هؤلاء القوم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة ينبىء عن الكثرة؟ فالجواب: أنّهم لما أخلصوا في الدين جاز إطلاق الأمة عليهم كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً}. اه كرخى. 160 - {وَقَطَّعْناهُمُ}؛ أي: وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ومنهم الظالمون والفاسقون فجعلناهم {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا}؛ أي: جعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا؛ أي: قبائل، وصيرناهم {أُمَمًا}؛ أي: جماعات، يمتاز كل منهم بنظام خاص في معيشته، وبعض شؤونه؛ لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة، وسبب (¬3) تفرقهم اثنتى عشرة أسباطا أنّ أولاد يعقوب كانوا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات.

كذلك، فكل سبط ينتمي لواحد منهم، والأسباط جمع سبط وهو ولد الولد، فهو كالحفيد. هكذا في كتب اللغة، وتخصيص السبط بولد البنت، والحفيد بولد الابن أمر عرفي. وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم (¬1): {وقطعناهم}: بتخفيف الطاء، وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان: {عشرة} بكسر الشين، وعنهم الفتح أيضا، وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر، وهي لغة تميم، والجمهور بالإسكان، وهي لغة الحجاز. {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ} بنو إسرائيل؛ أي: حين طلبوا منه السقيا - وقد أخذهم العطش في التيه - فاستسقى ربه لهم؛ أي: أوحينا إليه بـ {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} وهو الذي فرّ بثوبه، خفيف مربع كرأس الرجل، رخام أو كذان، كما في «الجلالين» في سورة البقرة فضربه {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا}؛ أي: فانفجرت ونبعت وسالت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء، بقدر عدد أسباطهم، وخص كل واحدة من الأسباط بعين منها للزحام وحفظا للنظام {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ}؛ أي: كل سبط منهم {مَشْرَبَهُمْ}؛ أي: عينهم الخاصة بهم بالعلم الضروري الذي خلقه الله في كلّ {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ}؛ أي: سخرنا لهم السحاب في التيه، تقيهم بظلها من حرّ الشمس، تسير بسيرهم وتسكن بإقامتهم، وكان ينزل لهم في الليل عمود من نور، يسيرون بضوئه، ولولا السحاب في التيه .. لأحرقتهم حرارة الشمس، إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به {وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ} وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس، ويأخذ كل إنسان صاعا {وَالسَّلْوى}؛ أي: الطير السماني - بتخفيف الميم - وبالقصر بوزن حبارى، وتسوقه ريح الجنوب عليهم، فيذبح كل واحد ما يكفيهم، وهو (¬2) يموت إذا سمع صوت الرعد، فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر، التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، وخاصيته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية. والمعنى (¬1): فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه، وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم، ويكفي الألوف من الناس، وتقوم السماني مقام اللحوم والطيور الأخرى، وقلنا لهم {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}؛ أي: من مستلذات ما رزقناكم، وهو المن والسلوى، وفي ذلك تنبيه وتذكير لهم بما يجب عليهم من شكر هذه النعم، وقرأ عيسى الهمداني (¬2): {من طيبات ما رزقتكم} موحدا للضمير. والمعنى: أقصروا أنفسكم على ذلك المطعوم، ولا تطلبوا غيره، واشكروا رزق ربكم، وسئموا منه وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وطلبوا غيره، فظلموا أنفسهم بكفران هذه النعم {وَما ظَلَمُونا} بكفرهم بهذه النعم {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمخالفة ما أمروا به؛ أي: بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والكفران، وكان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن. ولا شك أن من ظلم نفسه .. كان لغيره أظلم، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنّه ظلم لها، إذ يتجلى له في صورة المنفعة، وتكون عاقبته مضرة، وهكذا الحال في جميع الظالمين والمجرمين، فهم يظنون أنّهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم، جهلا منهم للعواقب، وقلة تدبر ما ينبغي أن يتفطن له. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: اسمها، {اتَّخَذُوا الْعِجْلَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلها، والجملة الفعلية صلة الموصولة، {سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ}: فعل ومفعول وفاعل، {مِنْ رَبِّهِمْ}: جار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

ومجرور صفة لـ {غَضَبٌ}. {وَذِلَّةٌ} معطوف على {غَضَبٌ}، {فِي الْحَياةِ}: متعلق بـ {ينال}. {الدُّنْيا}: صفة لـ {الْحَياةِ}، وجملة {سَيَنالُهُمْ} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة إنّ مستأنفة، {وَكَذلِكَ}: الواو: استئنافية، {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ونجزي المفترين جزاء مثل جزائنا لهؤلاء المتخذين العجل، {نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {عَمِلُوا السَّيِّئاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {تابُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {عَمِلُوا}، {مِنْ بَعْدِها}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تابُوا}، {وَآمَنُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {تابُوا}. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {مِنْ بَعْدِها}: جار ومجرور ومضاف إليه، تنازع فيه {غفور رحيم}، {لَغَفُورٌ} {اللام}: حرف ابتداء {غفور}: خبر أول لـ {إِنَّ}، {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}. {وَلَمَّا} الواو: استئنافية، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {سَكَتَ}: فعل ماض، {عَنْ مُوسَى}: متعلق به، {الْغَضَبُ}: فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، {أَخَذَ الْأَلْواحَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة الفعلية جواب {لَمَّا}: لا محل له من الإعراب، وجملة {لَمَّا} مستأنفة، {وَفِي نُسْخَتِها}: جار ومجرور خبر مقدم، {هُدىً}: مبتدأ مؤخر، {وَرَحْمَةٌ} معطوف على {هُدىً}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الْأَلْواحَ}، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، تنازع فيه كل من {هُدىً وَرَحْمَةٌ}، {هُمْ}: مبتدأ، {لِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {يَرْهَبُونَ}، وجملة {يَرْهَبُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول.

{وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}. {وَاخْتارَ مُوسى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {قَوْمَهُ}: منصوب بنزع الخافض؛ أي: من قومه وهو في محل المفعول الثاني {سَبْعِينَ}: مفعول أول لـ {اخْتارَ}، {رَجُلًا}: تمييز له منصوب به، {لِمِيقاتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اخْتارَ}، {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فخرج بهم فأخذتهم الرجفة، {لما}: حرف شرط غير جازم، {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {قالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة جواب {لما} وجملة لما معطوفة على ذلك المحذوف الذي قدرناه آنفا، {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ} إلى قوله: {قالَ عَذابِي} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {شِئْتَ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ لا محل لها من الإعراب، {أَهْلَكْتَهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَهْلَكْتَهُمْ}، {وَإِيَّايَ} معطوف على ضمير {أَهْلَكْتَهُمْ}، وجملة {أَهْلَكْتَهُمْ} جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ}، مع كونها جواب النداء. {أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ}. {أَتُهْلِكُنا}: {الهمزة}: للاستفهام الاستعطافي الإنكاري، {تُهْلِكُنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {بِما}: جار ومجرور، متعلق بـ {تُهْلِكُنا}، {فَعَلَ السُّفَهاءُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما فعله السفهاء. {مِنَّا}: جار ومجرور حال من {السُّفَهاءُ}، {إِنْ}: نافية بطل عملها لانتقاض نفيها بإلا، {هِيَ}: مبتدأ {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {فِتْنَتُكَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}، {تُضِلُّ}: فعل

مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {بِها}: جار ومجرور، متعلق بـ {تُضِلُّ}، {مِنْ}: موصولة في محل النصب مفعول {تُضِلُّ}، وجملة {تَشاءُ}: صلة {مِنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إضلاله، وجملة {تُضِلُّ} في محل النصب حال من الكاف في {فِتْنَتُكَ}، {وَتَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {تَهْدِي} في محل النصب معطوفة على جملة {تُضِلُّ}، {مِنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَهْدِي}، وجملة {تَشاءُ}: صلتها، والعائد محذوف تقديره: من تشاء هدايته، أَنْتَ وَلِيُّنا: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، مسوقة لتعليل ما قبلها، فَاغْفِرْ {الفاء}: عاطفة تفريعية، {اغفر}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {أَنْتَ وَلِيُّنا} على كونها مقول {قالَ}، {لَنا}: جار ومجرور، متعلق بـ {اغفر}، {وَارْحَمْنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {فَاغْفِرْ لَنا}، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {فَاغْفِرْ} أو معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ}. {وَاكْتُبْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَاغْفِرْ}، {لَنا}: متعلق به، وكذا قوله: {فِي هذِهِ الدُّنْيا} متعلق بـ {اكْتُبْ}، {حَسَنَةً}: مفعول {اكْتُبْ}، {وَفِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله {إِنَّا}: ناصب واسمه، {هُدْنا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّا}، وجملة {إِنَّا} في محل النصب مسوقة لتعليل ما قبلها. {قالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ} إلى قوله: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {عَذابِي}: مبتدأ ومضاف إليه، {أُصِيبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {بِهِ}:

متعلق بـ {أُصِيبُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أُصِيبُ}، {أَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من أشاؤه. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ}. {وَرَحْمَتِي}: مبتدأ، {وَسِعَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرحمة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {عَذابِي} على كونها مقول {قالَ}، {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول {وَسِعَتْ}، {فَسَأَكْتُبُها} {الفاء}: عاطفة تفريعية {سأكتبها}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة {وَسِعَتْ} على كونها خبر المبتدأ، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {سأكتبها}، {يَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}:فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَتَّقُونَ}، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، {هُمْ}: مبتدأ {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ}. {الَّذِينَ} في محل الجر نعت لـ {الَّذِينَ} الأول، أو بدل منه، ويجوز قطعه إلى النصب أو الرفع، {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {النَّبِيَّ} بدل من {الرَّسُولَ} أو عطف بيان له {الْأُمِّيَّ} صفة أولى لـ {النَّبِيَّ}. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب صفة ثانية لـ {النَّبِيَّ}، يَجِدُونَهُ فعل وفاعل ومفعول أول، {مَكْتُوبًا}: مفعول ثان، {عِنْدَهُمْ}: متعلق بـ {مَكْتُوبًا} والجملة الفعلية صلة الموصول {فِي التَّوْراةِ}: متعلق بـ {مَكْتُوبًا} أيضا، {وَالْإِنْجِيلِ}: معطوف على {التَّوْراةِ}.

{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ}. {يَأْمُرُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الرَّسُولَ}، {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من {الرَّسُولَ}، {وَيَنْهاهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الرَّسُولَ}، {عَنِ الْمُنْكَرِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَأْمُرُهُمْ}. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ}: عطف على ما تقدم، وكذلك الجمل التي بعدها إلى قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ} معطوفات على جملة قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {الْأَغْلالَ}، {كانَتْ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على {الْأَغْلالَ}، {عَلَيْهِمُ}: خبر كان، وجملة كان صلة الموصول. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. {فَالَّذِينَ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت صفاته المذكورة، وأردت بيان كيفية اتباعه .. فأقول لك، {الذين آمنوا به}: {الذين}: مبتدأ أول {آمَنُوا}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، وقوله: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ} جمل معطوفات على جملة الصلة. {الَّذِي}: في محل النصب صفة لـ {النُّورَ}، {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، {مَعَهُ}: ظرف متعلق بـ {أُنْزِلَ}، والجملة صلة الموصول، {أُولئِكَ}: مبتدأ ثان، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قالَ} الذي مر في قوله: {قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ}. {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {يا أَيُّهَا النَّاسُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء {أي} منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {النَّاسُ}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}، {إِنِّي} {إن}: حرف نصب و {الياء} اسمها، {رَسُولُ اللَّهِ}: خبرها وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء، {إِلَيْكُمْ}: جار ومجرور حال من {رَسُولُ اللَّهِ}؛ أي: حالة كوني مرسلا إليكم، أو متعلق بـ {رَسُولُ جَمِيعًا} حال من ضمير المخاطبين في {إِلَيْكُمْ}، {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة، أو بدل منه، ويجوز القطع إلى الرفع أو النصب، {لَهُ}: خبر مقدم {مُلْكُ السَّماواتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ}، والجملة الاسمية صلة الموصول، {لا}: نافية تعمل عمل إن، {إِلهَ} في محل النصب اسمها، وخبر {لا} محذوف جوازا تقديره: موجود، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا، وجملة لا من اسمها وخبرها بدل أول من جملة الصلة لا محل لها من الأعراب، {يُحيِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية بدل ثان من جملة الصلة، أو حال من الجلالة، وجملة {وَيُمِيتُ}: معطوفة على جملة {يُحيِي}. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. {فَآمِنُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنّي رسول الله إليكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح اللازم لكم .. فأقول لكم: {أمنوا}: فعل وفاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق به، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة على كونها مقولا لـ {قال}، {النَّبِيِّ}: بدل من {الرسول} أو عطف بيان منه، {الْأُمِّيِّ}: صفة أولى لـ {النَّبِيِّ}، {الَّذِي}:

في محل الجر صفة ثانية له {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُ}، {وَكَلِماتِهِ}: معطوف على الجلالة، {وَاتَّبِعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَهْتَدُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة لعل مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قُلْ}. {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}. {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم، {أُمَّةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لدفع ما عسى أن يتوهم من تخصيص كتابة الرحمة بمن يتبع محمدا، وذلك المتوهم هو حرمان قوم موسى من كل خير، وبيانه: أنّهم ليسوا كلهم يحرمون منها، بل منهم أمة الخ ذكره في «الفتوحات»، وجملة {يَهْدُونَ}: في محل الرفع صفة لـ {أُمَّةٌ}، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور حال من الواو في {يَهْدُونَ} تقديره: حالة كونهم متلبسين بالحق، {وَبِهِ}: متعلق بـ {يَعْدِلُونَ} وجملة {يَعْدِلُونَ}: في محل الرفع معطوفة على جملة {يَهْدُونَ} على كونها صفة لـ {أُمَّةٌ}. {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ}. {وَقَطَّعْناهُمُ}: فعل وفاعل ومفعول {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز، {اثْنَتَيْ}: حال من مفعول {قَطَّعْناهُمُ}، {عَشْرَةَ} جزء حال لا محل له من الإعراب، مبني على الفتح، والتقدير: وفرقناهم حالة كونهم معدودين بهذا العدد، ويجوز أن يكون {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} مفعولا ثانيا لـ {قَطَّعْناهُمُ}، إذا كان بمعنى صيرناهم، وجملة {قَطَّعْناهُمُ} مستأنفة، وتمييز {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة {أَسْباطًا}: بدل من التمييز المحذوف، ولا يجوز كون أسباطا تمييزا؛ لأنّه جمع {أُمَمًا}: بدل من أَسْباطًا، {وَأَوْحَيْنا}: فعل وفاعل، معطوف على قوله: {وَقَطَّعْناهُمُ}، {إِلى مُوسى}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْحَيْنا} {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان، {اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ}: فعل

ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذ إليها تقديره: وقت استسقاء قومه إياه، والظرف متعلق بـ {وَأَوْحَيْنا}. {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى}. {أَنِ}: مفسرة بمعنى أي التفسيرية، أو مصدرية، {اضْرِبْ}: فعل أمر مبني على السكون أو في محل النصب بـ {أَنِ} المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى}، {بِعَصاكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اضْرِبْ}. {الْحَجَرَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ {أَوْحَيْنا} لا محل لها من الإعراب، أو في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بـ {أَوْحَيْنا} تقديره: وأوحينا إلى موسى بالضرب بعصاه الحجر، {فَانْبَجَسَتْ} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فضربه فانبجست، {انبجست}: فعل ماض، {مِنْهُ}: متعلق به، {اثْنَتا عَشْرَةَ}: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز، {اثْنَتا}: فاعل مرفوع بالفعل، وعلامة رفعه الألف، {عَشْرَةَ}: جزء فاعل مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبها معنويا لتضمنه معنى حرف العطف، وإنّما حرك ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركيب، {عَيْنًا}: منصوب على التمييز، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، {مَشْرَبَهُمْ}: مفعول به؛ لأنّ علم بمعنى عرف والجملة مستأنفة {وَظَلَّلْنا}: فعل وفاعل {عَلَيْهِمُ}: متعلق به {الْغَمامَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَوْحَيْنا}. {وَأَنْزَلْنا}: فعل وفاعل معطوف أيضا على {أَوْحَيْنا}، {عَلَيْهِمُ} متعلق به {الْمَنَّ}: مفعول به {وَالسَّلْوى}: معطوف عليه. {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. {كُلُوا}: فعل وفاعل، {مِنْ طَيِّباتِ ما}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كُلُوا}. {رَزَقْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما} أو

صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما رزقناكموه، وجملة {كُلُوا} مقول لقول محذوف معطوف على {أَنْزَلْنا} تقديره: وأنزلنا عليهم المن والسلوى وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم، {وَما ظَلَمُونا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فظلموا وكفروا بتلك النعم، {وَلكِنْ} الواو: عاطفة، {لكِنْ}: حرف استدراك {كانُوا}: فعل ناقص واسمه {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به لـ {يَظْلِمُونَ}، وجملة {يَظْلِمُونَ}: في محل النصب خبر كان، وجملة كان من اسمها وخبرها جملة استدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. التصريف ومفردات اللغة {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} السكوت (¬1) في اللغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذي قوة ورياسة، يأمر وينهى، فيطاع. قال في «الكشاف»: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء. اه. {وَفِي نُسْخَتِها}؛ أي: فيما نسخ وكتب منها، من النسخ كالخطبة من الخطاب، فهي فعلة بمعنى مفعول؛ أي: منسوخها؛ أي: مكتوبها، فالنسخ يطلق على الكتابة كما يطلق على النقل والتغيير والإضافة على معنى في؛ أي: المنسوخ والمكتوب فيها. وفي «الخازن» {وَفِي نُسْخَتِها} النسخ عبارة عن النقل والتحويل، فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف .. فقد نسخت هذا الكتاب، فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع، فعلى هذا قيل: أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ، وقيل: أراد بها النسخة المكتتبة من الألواح التي أخذها موسى بعدما تكسرت. انتهى. {هُدىً}، أي: بيان للحق {وَرَحْمَةٌ} بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح ¬

_ (¬1) المراغي.

{يَرْهَبُونَ} والرهبة أشد الخوف {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} يقال: اختاره من الرجال وانتقاه، إذا اصطفاه من بينهم، اختار (¬1) افتعل من الخير، وهو التخير والانتقاء، واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين، أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر، وهي مقصورة على السماع، وهي اختار واستغفر وأمر وكنى ودعا وزوج وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فيقال: اخترت زيدا من الرجال، واخترت زيدا الرجال، قال الشاعر: اخترتك النّاس إذ رثّت خلائقهم ... واعتلّ من كان يرجى عنده السّول أي: اخترتك من الناس. {والرَّجْفَةُ} الصاعقة {إِلَّا فِتْنَتُكَ} والفتنة الاختبار والامتحان مطلقا، أو بالأمور الشاقة {أَنْتَ وَلِيُّنا} الولي المتولي أمور غيره القائم عليها {والحسنة} في الدنيا هي العافية وبسطة الرزق، وعز الاستقلال، والملك و {وَفِي الْآخِرَةِ} دخول الجنة، ونيل الرضوان {هُدْنا إِلَيْكَ} من هاد يهود، كقال يقول، إذا تاب ورجع إلى الحق، فهو هائد، وقوم هود، وأصل (¬2) الهود: الرجوع برفق، وبه سميت اليهود، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم، وبعده صار اسم ذم، وهو لازم لهم. {النَّبِيَّ} (¬3) من النبأ، وهو الخبر المهم العظيم الشأن، وفي لسان الشرع من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم، بكسبه من خبر أو حكم به، يعلم علما ضروريا أنّه من الله عز وجل {والرَّسُولَ} نبي أمره الله تعالى بتبليغ شرع ودعوة دين، وبإقامته والعمل به، ولا يشترط أن يكون كتابا يقرأ وينشر، ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس، بل يكون تابعا لشرع غيره كله، كالرسل من بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما {والْأُمِّيَّ} الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم، وأهل الكتاب يلقبون العرب: بالأميين، كما حكى الله عنهم: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} {والمعروف} ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة، بحيث لا تستطيع أن ترده أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

تعترض عليه إذا ورد به الشرع {والْمُنْكَرِ}: ما تنكره القلوب وتأباه على الوجه المذكور و {الطيب} ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة، وتستفيد منه التغذية النافعة و {الخبيث} من الأطعمة ما تمجه الطباع السليمة، كالميتة والدم المسفوح، أو تصد عنه العقول الراجحة، لضرره في البدن، كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة، أو لضرره في الدين، كالذي يذبح للتقرب به إلى غير الله تعالى على سبيل العبادة و {الخبيث} من الأموال ما يؤخذ بغير حق، كالربا والرشوة والغلول والسرقة والغصب، ونحو ذلك {والإصر} الثقل الذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه من الحركة لثقله {وَالْأَغْلالَ} واحدها غل - بالضم - وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها: جامعة، وفي «المصباح» الغل - بضم الغين - طوق من حديد يجعل في العنق اه. {وَعَزَّرُوهُ}؛ أي: عظموه، والتعزير: الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو، وتعزير الشيء تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه {وَنَصَرُوهُ}؛ أي: على أعدائه، فهو معطوف على عزروه عطف لازم على ملزوم، {وَقَطَّعْناهُمُ} (¬1)؛ أي: صيرناهم قطعا وفرقا، كل فرقة منها سبط، والسبط ولد الولد مطلقا، وقد يختص بولد البنت، وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة؛ أي: ما عدا لاوى، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما: افرايم ومنسى، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين في جميع الأسباط، ولم تجعل سبطا مستقلا {والأمة} الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة، أو مصلحة واحدة، أو نظام واحد {إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ} والاستسقاء طلب الماء للسقيا {وانبجست} والانبجاس والانفجار واحد، يقال: بجسه فانبجس وبجسه فتبجس، كما يقال: فجره؛ أي: شقه فانفجر، وقال الراغب: الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، وفي «المصباح»: بجست الماء بجسا من باب قتل فانبجس، بمعنى فجرته فانفجر. اه {والْغَمامَ} السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق {والْمَنَّ} مادة بيضاء تنزل من السماء كالطّلّ، ¬

_ (¬1) المراغي.

حلوة الطعم، شبيهة بالعسل، وإذا جفت .. كانت كالصمغ {وَالسَّلْوى} طير يشبه السماني - بوزن حبارى - لكنه أكبر منه {كُلُّ أُناسٍ} وأناس اسم جمع، واحده إنسان، وقيل: جمع تكسير له، وفي «المصباح» والإنسان اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، والواحد والجمع، والأناس بالضم مشتق من الإنس وقد تحذف همزته تخفيفا على غير قياس فيصير: ناس. اه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة، وضروبا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة في قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} في هذا الكلام (¬1) مبالغة وبلاغة من حيث إنّه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به، والمغري له عليه، حتى عبر عن سكونه بالسكوت اه «بيضاوي». ففي هذه الجملة استعارتان: استعارة بالكناية: حيث شبه الغضب بإنسان ناطق يغرى موسى ويقول له: قل لقومك كذا وكذا، وألق الألواح، وخذ برأس أخيك، ثم يقطع الإغراء ويترك الكلام كما مر، واستعارة تصريحية تبعية: حيث شبه سكون الغضب وخموده بانقطاع كلام المتكلم وسكوته. ومنها: الطباق بين لفظي {تُضِلُّ} و {تَهْدِي} وبين لفظي: {يُحيِي} ويُمِيتُ وبين لفظي: {الدُّنْيا} و {الْآخِرَةِ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين: {فَاغْفِرْ} و {الْغافِرِينَ}. ومنها: المقابلة بين قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله: {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} وبين قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ} وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} وهي - أعني المقابلة - أن يؤتى بأمرين أو أمور ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب، وهي من المحسنات البديعية. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

ومنها: التعريض في قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}؛ فإنّ فيه تعريضا بقومه كأنّه قيل: لا لقومك لأنهم غير متقين. ومنها: الالتفات في قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فإنّ فيه التفاتا من التكلم إلى الغيبة؛ لأنّ الاسم الظاهر من قبيل الغيبة، لما في الالتفات من البلاغة والنكات المقررة عندهم، كما مر في مبحث التفسير، فحق العبارة أن يقال: فآمنوا بالله وبي. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَالْأَغْلالَ}؛ لأنّ الغل في الأصل حديدة تجمع اليد إلى العنق وتمنعها من المد والتحرك، فشبه التكاليف الشاقة بالغل الذي هو الحديد، بجامع المنع في كل؛ لأنّ التكاليف والتحريمات تمنع من الفعل، كما أن الغل يمنع من الفعل، وقيل: شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق، فكما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه، ذكره في «الفتوحات». ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا}؛ لأنّه استعار التقطيع للتفريق؛ لأنّ التقطيع حقيقة في فصل الأجسام المتصلة بعضها عن بعض كالحبل، فاشتق منه قطعنا بمعنى فرقنا، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ...} الآيات، إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} لا يزال الكلام في قصة بني إسرائيل فالمناسبة ظاهرة؛ لأنّ السابقة واللاحق كله في قصة واحدة.

[161]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما ذكر هدايته للبشر بإرسال الرسل، وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل .. قفّى على ذلك بذكر هدايته إياهم بما أودع في فطرتهم، وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به، وتوحيده وشكره منذ النشأة الأولى، فهو سبحانه بعد أن أظهر تمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص الذي دل عليه قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وذكر هنا أنّهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بني آدم جميعا - وهم في صلب آدم - واشركوا بالله وقالوا: عزير ابن الله. أسباب النزول قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ...} الآية، ذكر (¬2) في سبب نزولها أنّ بعض اليهود المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلّم قالوا له: لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به، فنزلت هذه الآية موبخة لهم، ومقررة كذبهم، ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ، وكانت اليهود تكتم هذه القصة، فهي من ما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم .. علم أنّه من جهة الوحي. التفسير وأوجه القراءة 161 - {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك، المنكرين عصيان أسلافهم ومعاندتهم لأمر الله تعالى قصة إذ قيل لهم؛ أي: لأسلافهم {اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: قرية الجبارين، قوم من بقية عاد - رئيسهم عوج بن عنق - أي: قصة إذ قال الله تعالى لهم على لسان موسى: إذا خرجتم من التيه .. أسكنوا بيت المقدس، أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه: اسكنوا أريحاء {وَكُلُوا مِنْها}؛ أي: من ثمار القرية ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[162]

وزروعها وحبوبها وبقولها {حَيْثُ شِئْتُمْ}؛ أي: من أي مكان شئتم من نواحيها، وفي أي وقت شئتم من غير أن يزاحمكم فيها أحد {وَقُولُوا} وقت دخولها: مسألتنا ومطلبنا منك يا إلهنا {حِطَّةٌ}؛ أي: حط ذنوبنا وامحوها بعفوك عنا {وَادْخُلُوا الْبابَ}؛ أي: باب القرية، وقيل: باب القبة التي كانوا يصلون إليها {سُجَّدًا}؛ أي: حالة كونكم ساجدين سجود انحناء لا سجودا شرعيا بوضع الجبهة على الأرض، بل المراد اللغوي، وهو الانحناء بأن يكونوا على هيئة الراكعين، شكرا على إخراجهم من التيه {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} وذنوبكم التي سلفت منكم، إن فعلتم ذلك المذكور الذي أمرتم به من القول والسجود. وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي والحسن والأعمش (¬1): {نَغْفِرْ} بالنون {لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} جمع سلامة بالتاء مهموزا، إلا أنّ الحسن خفف الهمزة وادغم الياء فيها، وقرأ أبو عمرو: {نَغْفِرْ} بالنون {لكم خطاياكم} على وزن قضاياكم جمع تكسير، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو: {تغفر} بالتاء مبنيا للمفعول {لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} بجمع سلامة، وقرأ ابن عامر: {تغفر} بتاء مضمومة مبنيا للمفعول {لكم خطيئتكم} بالإفراد مهموزا، وقرأ ابن هرمز {تغفر} بتاء مفتوحة على معنى إن الحطة تغفر، إذ هي سبب الغفران، وقرىء (¬2): {يغفر} بالياء، فعلى هذا لا يقرأ {خطايا} بالإفراد. {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بالطاعة والامتثال لأمرنا ثوابا في حسناتهم، وقيل المعنى: من كان محسنا منكم .. كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا .. كانت له توبة ومغفرة كما مر في البقرة، 162 - {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم {مِنْهُمْ} وهم أصحاب الخطيئة؛ أي: غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها للتوبة وقالوا: {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: قالوا حنطة بدل حطة، وكذلك بدلوا الفعل الذي أمروا به من دخولهم سجدا فدخلوا زحفا، فالحاصل أنّهم دخلوا الباب زاحفين على أدبارهم، قائلين حنطة على شعيرة، استخفافا بأمر الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

تعالى واستهزاء بموسى، وهذا القول مجرد هذيان منهم، قصدهم إغاظة موسى، وليس له معنى يقابلون به معنى القول الذي قيل لهم. {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ} عقب ما فعلوا من غير تأخير {رِجْزًا}؛ أي: عذابا كائنا. {مِنَ السَّماءِ}؛ أي: طاعونا وبلاء وعذابا مقدرا من السماء. {بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} أنفسهم؛ لأنّهم خرجوا عن طاعة الله تعالى؛ أي: بسبب ظلمهم وخروجهم عن طاعتنا، روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا أو أقل، فهذا الوباء غير الوباء الذي حل بهم في التيه كما مر في البقرة. تنبيه: تقدم (¬1) مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة، غير أن بين الموضعين فروقا كثيرة: منها: أنّه قال هنا: {اسكنوا القرية} وفي سورة البقرة {ادْخُلُوا} والفائدة هنا أتم؛ لأنّ السكنى تستلزم الدخول دون العكس. ومنها: أنّه قال هنا: {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ}، وفي سورة البقرة {فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}، فجاء العطف هناك بالفاء؛ لأنّ بدء الأكل يكون عقب الدخول، كأكل الثمرات والفواكه التي تكون في كل ناحية من القرية، أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل في أثنائه لا عقبه. كما وصف هناك الأكل بالرغد - وهو الواسع الهنىء - لأنّ الأكل في أول الدخول يكون ألذ، وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك. ومنها: أنّه قال هنا: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا} وقدم هنا ما أخر هناك، وأخر ما قدمه، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين، فالاختلاف في التعبير دال على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك، وبين عكسه، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم: {حِطَّةٌ}؛ أي: حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا: اللهم غفرانا، في حال التلبس بالتواضع والخضوع، وتنكيس الرؤوس شكرا لله على نعمه عند دخول القرية، وبين أن يبدؤوا بتنكيس الرؤوس ¬

_ (¬1) المراغي.

والخضوع والتواضع، ثم يدعوا بقوله: {حِطَّةٌ}. ومنها: أنّه قال هنا {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بدون واو وهناك {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بالعطف، والمعنى واحد، وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من الله سبحانه وتعالى ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار، والدعاء بحط الأوزار. ومنها: أنّه قال ههنا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فزيد منهم على مثله في سورة البقرة. ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم: أنهم عصوا بالقول والفعل، وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا، فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ، ولا الفحوى والمقصود منه، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم. وما روي في الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاط العبرانية أو العربية، فلا ثقة به، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا، كحديث أبي هريرة في «الصحيحين» وغيرهما: قيل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: {حِطَّةٌ} حبة في شعيرة، إذ هو مروي من طريق همام بن منبه - أخي وهب - وهمام، صاحب الغرائب في الإسرائيليات، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلّم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار، إذ ثبت أنّه روي عنه. ومنها: أنّه قال: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} وقال هناك {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}، فالاختلاف بين الإنزال والإرسال، وهو خلاف لفظي، وبين {عَلَيْهِمْ} و {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وبين {يَظْلِمُونَ} و {يَفْسُقُونَ}، وفائدته بيان أنّهم كانوا يجمعون بين الظلم: الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير، والفسق: الذي هو الخروج عن الطاعة، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب، أو يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم.

[163]

والعبرة في هذه القصص (¬1): أن نعلم أنّ الله يعاقب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل أن يعذبها في الأخرة، وأنّ نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق، فقد عاقب الله بني إسرائيل بظلمهم، ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا، ككثرة الأنبياء فيهم، وتفضيلهم على العالمين كما تقدم. 163 - وقوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ} (¬2) معطوف على عامل إذ المقدر؛ أي: واذكر لهم يا محمد إذ قيل لهم {وَسْئَلْهُمْ} وهذا سؤال توبيخ وتقريع؛ أي: اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها، المخالف لما أمرهم الله به وقرىء {وسلهم}. وقد ذكرت (¬3) هذه القصة في سورة البقرة إجمالا، وههنا ذكرت تفصيلا، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم لقي أحدا من اليهود، وقد كان أميا لا يقرأ كتابا كما قال تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} فكان ذلك أدل على الإعجاز. والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلّم، والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ، وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم، فإنّ أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح، والمعصية الفاحشة، واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص خبره. والمعنى: واسأل يا محمد اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم - وهي أيلة قرية بين مدين والطور - وقيل: هي قرية يقال لها مقنا بين مدين وعينونا، وتقدم لك في أسباب النزول: أن اليهود قالوا: لم يصدر من بني إسرائيل عصيان ولا مخالفة للرب، فأمره الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

تعالى أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية في زمن داود عليه السلام تقريعا فإنّهم يعتقدون أنّه لا يعلمه أحد غيرهم، فذكر الله لهم قصة أهل تلك المدينة، فبهتوا وظهر كذبهم، والظرف في قوله {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} متعلق بمضاف محذوف تقديره: واسألهم عن حال القرية إذ يتجاوزون حدود الله بصيد السمك في يوم السبت المأمورين بتركه فيه، وذلك أن اليهود أمرهم الله تعالى باتخاذ يوم الجمعة عيدا يعظمونه كما نعظمه، فأبوا واختاروا يوم السبت، فشدد الله عليهم ونهاهم عن الصيد فيه، وفيما اختاروه إشارة إلى انقطاعهم عن الخير إذ السبت في اللغة: القطع، فاختاروا ما فيه قطيعتهم، وقرىء (¬1): {يَعْدُونَ} من الإعداد للآلة، وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة، وقرأ شهر بن حوشب، وأبو نهيك {يَعْدُونَ} - بفتح العين وتشديد الدال - وأصله يعتدون، فأدغمت التاء في الدال، كقراءة من قرأ: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} وقرأ الجمهور {يَعْدُونَ} بفتح الياء وسكون العين، وضم الدال مخففة، وقرأ (¬2) ابن السميقع في: {الأسبات} على الجمع. والظرف في قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} متعلق بـ {يَعْدُونَ}؛ أي: يتجاوزون حدود الله وينتهكون حرماتها باصطياد السمك، إذ تأتيهم الحيتان والأسماك يوم سبتهم؛ أي: يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد والتفرغ للعبادة، وقرأ عمر بن عبد العزيز: {يوم أسباتهم}، قال أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوامع»: وقد ذكرت هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز، وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت، وقوله: شرعا، حال من فاعل {تَأْتِيهِمْ}؛ أي: إذ تأتيهم الحيتان حالة كونها شرعا؛ أي: ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ينظرون إليها ابتلاء من الله واختبارا لهم، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل، كما قال: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ}؛ أي: لا يدخلون في السبت ولا يراعون حرمتها، وهو سائر الأيام {لا تَأْتِيهِمْ} كما كانت تأتيهم يوم سبتهم؛ أي: لا تظهر على ظاهر الماء، ولا تقرب إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[164]

الساحل، حذرا من اصطيادهم لاعتيادها أحوالهم، قيل: إنّها اعتادت أن لا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت، فأمنت وصارت تظهر فيه، وتختفي في الأيام التي لا يسبتون فيها، لما اعتادت من اصطيادها فيها، فلما رأوا ظهورها وكثرتها يوم السبت .. أغراهم ذلك بالاحتيال على صيدها فيه. وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف عنه {لا يَسْبِتُونَ} بضم كسرة الباء في قراءة الجمهور، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه {يَسْبِتُونَ} بضم ياء المضارعة، من أسبت إذا دخل في السبت، قال الزمخشري: وعن الحسن {لا يَسْبِتُونَ} بضم الياء على البناء للمفعول؛ أي: لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا. {كَذلِكَ}؛ أي: مثل هذا البلاء والاختبار بظهور السمك يوم السبت {نَبْلُوهُمْ}؛ أي: نبتليهم ونختبرهم، ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله، ليترتب الجزاء على عمله {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}؛ أي: بسبب فسقهم المستمر، وخروجهم عن أمر ربهم، واعتدائهم حدود شرعه، وقد جرت سنة الله تعالى بأن من أطاعه .. سهل له أمور الدنيا، وأجزل له الثواب في الآخرة، ومن عصاه .. ابتلاه بأنواع المحن والبلاء. 164 - والظرف في قوله: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} معطوف على قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} معمول لعامله داخل في حكمه؛ أي: واسألهم يا محمد عن حال أهل تلك القرية، حين قالت جماعة منهم؛ أي: من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والمشقة في موعظة أولئك الصيادين، حتى أيسوا من قبولهم الموعظة - لأقوام آخرين من الصلحاء الذين لم يقلعوا عن وعظ الصيادين، ولم يتركوه رجاء للنفع، وطمعا في فائدة الإنذار؛ أي: قال الآيسون من الوعظ للمستمرين فيه: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}؛ أي: لم تستمرون في وعظ قوم {اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}؛ أي: مخزيهم في الدنيا بعذاب الاستئصال {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} في الآخرة {عَذابًا شَدِيدًا}؛ موجعا لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والاصطياد.

[165]

وفي ذلك (¬1) دلالة على أن الذين كانوا يعدون في السبت بعض أهل القرية لا جميعهم، وإنّ أهلها كانوا فرقا ثلاثا: فرقة العادين في السبت التي أشير إليها في الآية الأولى. وفرقة الواعظين لهؤلاء العادين، لينتهوا عن عدوانهم ويكفوا عنه. وفرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم: لم تعظون قوما قضى الله عليهم بالهلاك بالاستئصال، أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المراد: مهلكهم في الدنيا، ومعذبهم في الآخرة، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. {قالُوا}؛ أي: قال الواعظون للائمين لهم: نعظهم {مَعْذِرَةً}؛ أي: موعظة اعتذار نعتذر بها {إِلى رَبِّكُمْ} عن السكوت على المنكر، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهي عن المنكر .. قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورين {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ أي: ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة، ويتركوا الصيد في السبت، فهو معطوف على معنى معذرة؛ أي: وعظناهم للاعتذار إلى ربكم، ولرجاء أن ينتفعوا بالموعظة، فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون، وقرأ الجمهور (¬2): {معذرة} بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: موعظتنا معذرة؛ أي: موعظتنا إقامة عذر إلى الله، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التقصير، ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي، وقرأ حفص عن عاصم وزيد بن علي وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف {مَعْذِرَةً} - بالنصب - على أنّه مفعول لأجله؛ أي: وعظناهم لأجل المعذرة، وللرجاء في اتقائهم المعاصي. 165 - {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: فلما ترك العادون ما وعظوا به، وأعرضوا عنه، حتى صار كالمنسي عنه، بحيث لا يخظر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}؛ أي: عن العمل السيء الذي هو أخذ الحيتان في يوم السبت، وهم الفريقان الآخران {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أنفسهم بأخذ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

الحيتان يوم السبت؛ أي: أهلكناهم {بِعَذابٍ بَئِيسٍ}؛ أي: بعذاب شديد موجع {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}؛ أي: بسبب تماديهم في الفسق، حتى صار ديدنهم وهجيرهم؛ أي: أخذناهم بالعذاب بسبب الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة، وهو الظلم، فالباءان متعلقتان بـ {أَخَذْنَا}؛ لأنّ الأولى للتعدية، والثانية للسببية، فلا اعتراض. والخلاصة (¬1): أنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون .. أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وقد جرت سنة الله بأن لا يؤخذ الظالم في الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم، كما يدل على ذلك قوله: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ}، وقوله: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}، ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، كما عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين، ثم النصارى بهم، وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم. وبالجملة: فالآية صريحة في هلاك الظالمين الفاسقين، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، وهي ناجية أيضا؛ لأنّها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له، بدليل أنّها لم تفعله، وإنّما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي، واعتقادها أنّ القوم قد استحقوا عقاب الله تعالى بإصرارهم على الفسق، فلا يفيدهم الوعظ، وهذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: {بِعَذابٍ بَئِيسٍ}، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {بَئِيسٍ} على وزن فعيل، كرئيس، فالهمزة بين الباء والياء، وقرأ نافع: {بيس} بكسر الباء من غير همز، وقرأ ابن عامر كذلك، إلا أنّه همز، وروى خارجة عن نافع: {بيس} - بفتح الباء - من غير همز - على وزن فعل -، وروى أبو بكر عن ¬

_ (¬1) المراغي.

[166]

عاصم: {بيأس} على وزن فيعل كضيغم، وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأيوب: {بيآس} على وزن فيعال، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومعاذ القارىء: {بئس} بفتح الباء وكسر الهمزة، من غير ياء على وزن تعس، وقرأ الضحاك وعكرمة: {بيس} بتشديد الياء، مثل قيم، وقرأ أبو العالية وأبو مجلز: {بئس} بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة، من غير باء ولا ألف، على وزن فعل، وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء {بائس} بألف ومدّة بعد الباء، وبهمزة مكسورة بوزن فاعل. 166 - {فَلَمَّا عَتَوْا} وأبوا أن ينكفوا ويقلعوا {عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ} من الاصطياد؛ أي: فلما تمرّدوا وتكبروا، وأبو أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون {قُلْنا لَهُمْ}؛ أي: لأولئك العادين باصطياد السمك {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}؛ أي: صاغرين أذلاء بعداء عن الناس؛ أي: تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك، فكانوها صورة ومعنى. وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر في الآية السالفة، وقيل: إنّه عذاب آخر، فقد عاقبهم أوّلا بالبؤس والشقاء في المعيشة، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوا وإصرارا على الفسق والظلم .. مسخهم مسخ خلق وجسم، فكانوا قردة على الحقيقة، وهذا ما يراه جمهرة العلماء، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم، وهذا رأي مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق. وفي الآية إيماء إلى أنّ هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب. 167 - {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ}؛ أي: واذكر يا محمد قصة إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم، إن لم يؤمنوا بأنبيائهم وعزني وجلالي {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ}؛ أي: ليسلطن عليهم {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ}؛ أي: من يذيقهم {سُوءَ الْعَذابِ}؛ أي: أشد العذاب؛ أي: من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته، والظرف في قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} منصوب على المفعولية بمقدر معطوف على {وَسْئَلْهُمْ} والتقدير: واذكر يا محمد لليهود وقت أن تأذن ربك؛

أي أعلم أسلافهم، والمعنى: واذكر أيها الرسول إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة إثر أخرى أنّه قضى عليهم في علمه، وفقا لما قامت عليه نظم الاجتماع، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يوقع بهم العذاب الشديد على ظلمهم وفسقهم وفسادهم في الأرض، والآية بمعنى قوله في سورة الإسراء {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} إلى أن قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا}؛ أي: وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد .. عدنا إلى التعذيب والإذلال، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى، فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد أن نجوا من سبى البابليين، وقهرهم واستذلالهم، إلى أن جاء الإسلام فعاداه منهم الذين هربوا من الذل والنكال، ولجؤوا إلى بلاد العرب، فعاشوا فيها آمنين أعزاء، لكنهم نكثوا العهد الذي أعطوه للنبي صلى الله عليه وسلّم، وبه أمنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم، فنصروا المشركين عليه، فسلطه الله عليهم، فقاتلهم ونصره عليهم، فأجلى بعضهم، وقتل بعضا، وأجلى عمر البقية الباقية منهم إلى سورية، ولما فتحها .. انتقل اليهود من حكم الروم الجائر إلى سلطة الإسلام العادلة، ولكنهم فقدوا الملك والاستقلال في جميع الحالات. {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَسَرِيعُ الْعِقابِ} لمن عصاه إذا جاء وقته، فيعاقبهم في الدنيا، أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم .. والمعنى: أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره، وتفسد في الأرض، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد، يؤيد هذا قوله: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16)}؛ أي: وإذا أردنا هلاك قرية من القرى .. أمرنا سادتها وكبرائها بالحق والعدل والرحمة، فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا في الأرض، فحق عليهم القول بمقتضى سنته في خلقه، فحل بهم الهلاك، وحاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام. والمعنى: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن أقلع عن ذنبه وأناب إليه، وأصلح ما كان قد أفسد في الأرض، قبل أن يحل به عذابه، والآية بمعنى قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ

[168]

لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى (82)} وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين، حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكرمه، وهو مصرّ على ذنبه، 168 - وقد فصل سبحانه عقابهم، فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم، وتمزيق جامعتهم، فقال: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا}؛ أي: وفرقنا بني إسرائيل الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلّم في نواحي الأرض وأقطارها حالة كونهم فرقا كثيرة، وأمما؛ أي: جماعات مشتتة، فيها كل فرقة منهم في قطر من أقطارها، فلا يخلو منهم قطر، وليس لهم شوكة ولا دولة .. {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} كالذين نهوا من اعتدوا في السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى، والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم {وَمِنْهُمْ} أناس {دُونَ ذلِكَ} المذكورين في الصلاح لم يبلغوا مبلغهم، وهم سائر المؤمنين من بني إسرائيل، ومنهم الغلاة في الكفر والفسق، كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب، الأكالون للسحت والرشا، لتبديل الأحكام، والقضاء بغير ما أنزل الله تعالى، كما هو شأن الأمم؛ فإنّها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة، كما نشاهد ذلك في المسلمين الذين تتبعوا نظم النصارى، ورضعوا البانهم، وقيل معنى {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ}؛ أي: ومنهم أناس غير أولئك الصالحين، وهم الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا {وَبَلَوْناهُمْ}؛ أي: واختبرناهم {بِالْحَسَناتِ}؛ أي: بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ؛ أي: بالجدوبة والشدائد {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ أي: لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم؛ فإن كلا من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب، والمعنى: واختبرنا بني إسرائيل وامتحنا استعدادهم بالنعم التي تحسن في عيونهم، وتقر بها أفئدتهم، وبالنقم التي تسؤهم - وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم - رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود إليهم فضله ورحمته. 169 - {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}؛ أي: جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء {وَرِثُوا الْكِتابَ}؛ أي: أخذوا التوراة من أسلافهم يقرؤونها ولا يعملون بها وقرأ الحسن: {ورثوا} بضم الواو وتشديد الراء، حالة كونهم {يَأْخُذُونَ} من

سفلتهم {عَرَضَ هذَا الْأَدْنى}؛ أي: متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم، وفي الأحكام، وهم يستحقرون ذلك الذنب {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا}؛ أي: يغفر الله لنا ذنبنا ولا يؤاخذنا عليه؛ لأننا أبناؤه وأحباؤه، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ}؛ أي: وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس {يَأْخُذُوهُ} لحرصهم على الدنيا، أو المعنى: إنّهم يتمنون المغفرة من الله تعالى، والحال أنّهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه. وحاصل المعنى: أي نبتت من أولئك - الذين منهم الصالح والطالح - نابتة ورثوا التوراة؛ أي: وقفوا على ما فيها، وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم، والحال أنّهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها، بما يأكلونه من السحت والرشا، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم، ويقولون: سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا، فإنّنا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أبنائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر، إلى نحو ذلك من الأماني والأضاليل، وهم بالغون في خطاياهم، مصرون على ذنوبهم، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل .. يأخذوه ولا يستعففوا عنه، وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة للتائبين الذين يقلعون عن ذنبهم، ندما وخوفا من ربهم، ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا، ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم: سيغفر لنا، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ} والاستفهام فيه لتقرير ما بعد النفي، ولا يخفى ما فيه من التقريع والتوبيخ؛ أي: ألم يؤخذ ويجعل عليهم في التوراة العهد المؤكد باليمين على {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}؛ والصدق الذي بينه فيه، وقد منعوا فيها من تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة. وللتمني، ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها أن من ارتكب ذنبا عظيما فإنّه لا يغفر له إلا بالتوبة، {وَ} قد {دَرَسُوا ما فِيهِ}؛ أي: ما في الكتاب وقرؤوه وعلموا ما فيه، والمعنى: أنّهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أنّهم قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الشرك منهم عن علم لا عن جهل، والمقصود من الاستفهام التقريري: إثبات ما بعد النفي، والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق في الكتاب، ودرسوا ما فيه من الميثاق، وفهموا ما فيه، فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، والكذب على الله تعالى، وقيل: معنى

{دَرَسُوا ما فِيهِ}؛ أي: محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم: درست الريح الآثار، إذا محتها، ولكن فيه بعد، وقرأ علي والسلمي: {وادارسوا}، وأصله وتدارسوا، كقوله: {فَادَّارَأْتُمْ}؛ أي: تدارأتم {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ}؛ أي: ولثواب دار الآخرة ونعميها وهو الجنة {خَيْرٌ} من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة، المعقبة خزي الدنيا والآخرة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} عقاب الله، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، {أَ} تجهلون خيرية ذلك {فَلا تَعْقِلُونَ}؛ أي: فلا تعلمون أنّ الدنيا فانية والآخرة باقية، وفي هذا الاستفهام من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره، أو المعنى: أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أنّ ما في الآخرة خير وأبقى؛ لأنّها دار المتقين. والمعنى (¬1): والدار الاخرة وما فيها من النعيم خير للذين يقتون المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ أي: خير لهم من حطام الدنيا الفاني، الذي يؤخذ بالرشا والسحت وغير ذلك، أتجهلون ذلك فلا تعقلون، وهو واضح لا يخفى على كل ذي عقل لم تطمسه الشهوات، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل، وبذا يرجح الخير على الشر، والنعيم المقيم على المتاع الزائل، وفي هذا إيماء إلى أنّ الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد على بني إسرائيل أمرهم، واستحوذ عليهم حب العاجلة، فأذهب عنهم رشدهم. وفي هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد، وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل، وهم قد درسوا كتابهم الكريم، لكن التحلي بلقب الإسلام - والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفرات - هو الذي غرهم وجعلهم يتمادون في غيهم، وكتابهم ينهاهم عن الأماني والأوهام، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله تعالى لمن رضي عنه كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. وقرأ (¬2) نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب إلتفاتا لهم، ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب، وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط، والمراح.

[170]

أفلا تعقلون حالهم، والباقون بالياء جريا على الغيبة في الضمائر السابقة. 170 - {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} قرأ عمر (¬1) وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم {يُمَسِّكُونَ} من أمسك، والجمهور {يُمَسِّكُونَ} مشددا، من مسك المضعف، وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير: فما تمسّك بالعهد الّذي زعمت ... إلّا كما يمسك الماء الغرابيل وقرأ عبد الله والأعمش {استمسكوا} وفي حرف أبي {تمسكوا} بالكتاب. أي: والذين يعملون {بـ} ما في {الكتاب} الأول التوراة والإنجيل، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويبينون صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته، ولم يحرفوه ولم يغيروا، فإنّهم بالتمسك به، كانوا أشد تمسكا بالكتاب الثاني الذي هو القرآن {وَأَقامُوا الصَّلاةَ}؛ أي: وداموا على إقامتها في مواقيتها، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإنّما أفرد الصلاة بالذكر - وإن كانت داخلة في التمسك بالكتاب - تنبيها على عظم قدرها، وأنّها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله ورسوله، والموصول مبتدأ والخبر قوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} بالعمل بما في الكتاب وبالصلاة؛ أي: لا نضيع ولا نحبط أجر أعمالهم الصالحة، وجاز جعل هذه الجملة خبرا عن الموصول؛ لأن الربط حاصل بلفظ {الْمُصْلِحِينَ}؛ لأنّه قائم مقام الضمير، لا سيما وهو فيه الألف واللام؛ فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على الموصول الذي قبله، وهو قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وتكون حينئذ جملة {أَفَلا تَعْقِلُونَ} جملة معترضة. والمعنى (¬2): أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب، ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه، وهم من تقدم ذكره، وطائفة يتمسكون بالكتاب؛ أي: بالتوراة ويعملون بما فيه، ويرجعون إليه في أمر دينهم، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[171]

وحاصل معنى الآية: أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب، ويعتصمون بحبله في جميع شؤونهم، ويقيمون الصلاة التي هي عماد الدين وركن منه متين، كعبد الله بن سلام وأصحابه، لا نضيع أجرهم؛ لأنّهم قد أصلحوا أعمالهم، والله لا يضيع أجر المصلحين، وهي بمعنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}. 171 - ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكرا ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم، والخروج عنه فقال: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}؛ أي: واذكر يا محمد لهم قصة إذ نتقنا جبل الطور وقلعناه من أصله ورفعناه {فَوْقَهُمْ}؛ أي: فوق بني إسرائيل حتى صار {كَأَنَّهُ}؛ أي: كأن ذلك الجبل {ظُلَّةٌ} وغمامة أظلت فوقهم {وَظَنُّوا}؛ أي: أيقنوا أنّهم إن خالفوا أوامر دينهم {أَنَّهُ}؛ أي: أنّ ذلك الجبل {واقِعٌ بِهِمْ}؛ أي: ساقط عليهم لا محالة. وذلك أنّه أخذ عليهم الميثاق ليأخذن الشريعة بقوة وعزم، فخالفوا الميثاق، فرفع فوقهم الطور، وأوقع في قلوبهم الرعب خوف وقوعه عليهم، فخر كل واحد منهم ساجدا لربّه، وقيل العمل بالميثاق. روي (¬1): أنّ بني إسرائيل أبو أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم، وقيل لهم: إنّ قبلتم العمل بها وإلا ليقعن عليكم، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنّا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به. وفي الآية تعريض بأنّهم إذا كانت حالهم في مبدأ أمرهم مخالفة كتابهم، فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد، وقساوة القلوب، والأنس بالمعاصي والذنوب، وقلنا لهم في حال رفع الجبل فوقهم: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ}؛ أي: ما أعطيناكم من الكتاب وأحكام الشريعة، واعملوا به حالة ¬

_ (¬1) المراغي.

[172]

كونكم متلبسين {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد واجتهاد وعزم على تحمل تكاليفه {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ}؛ أي: واذكروا ما في الكتاب الذي أعطيناكموه من الأوامر والنواهي بالعمل به، ولا تنسوه، وقيل: واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب، وقيل: واعملوا بما فيه من الحلال والحرام. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ أي: لكي تجعلوا ذلك الامتثال وقاية وسترا لكم من عذاب الله تعالى، وتزكية لنفوسكم من الأدناس؛ فإنّ قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذب الأخلاق، كما أنّ التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)} أو المعنى: لكي تتقون قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق. وقرأ (¬1) الأعمش {واذكروا} بالتشديد من الأذكار. وقرأ ابن مسعود {وتذكروا}، وقرىء {وتذكروا} بالتشديد بمعنى وتذكروا. 172 - قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} معطوف على قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} عطف قصة على قصة، والحكمة في تخصيص (¬2) بني إسرائيل بهذه القصة الزيادة في إقامة الحجة عليهم، حيث أعلمهم الله بأنّه أعلم نبيه بمبدأ العالم، فضلا عن وقائعم؛ أي: واذكر يا محمد للناس كافة قصة إذ أخذ ربك العهد {مِنْ بَنِي آدَمَ} على التوحيد وقال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، وأنا ربكم لا رب لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئا، فإنّي سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي، وإنّي مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي هذا، ومنزل عليكم كتابا، فتكلموا جميعا وقالوا: شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم حين استخرج {مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: أخرج بعضهم من ظهور بعض، آخر الأبناء من الآباء بطنا بعد بطن، فأخرج أولا ذرية آدم من ظهره، فأخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، ثم أخرج من هذا الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني، وانحصر الجميع قدام آدم، ونظر لهم بعينه، وخلق فيهم العقل والفهم والحركة والكلام، وبين مسلمهم من كافرهم، بأن جعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود {وَأَشْهَدَهُمْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الصاوي.

عَلى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: أشهد أنفسهم على أنفسهم على أخذ ذلك الميثاق وقبوله؛ أي: قررهم، فإنّ الشهادة على النفس معناها الإقرار، وأشهد بعضهم على بعض، وقال لهم: {أَلَسْتُ} أنا {بِرَبِّكُمْ} وخالقكم ومعبودكم {قالُوا بَلى} أنت ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثقهم، ثم كتب الله آجالهم، وأرزاقهم، ومصائبهم، فنظر إليهم آدم عليه السلام، فرأى منهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب هلا سويت بينهم؟ فقال: إني أحب أن أشكر، فلمّا قررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض، أعادهم إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق، ثم استشهد الملائكة على قبولهم الميثاق، فقال: يا ملائكتي اشهدوا على قبولهم هذا الميثاق. قالت الملائكة: {شَهِدْنا} ذلك عليهم، وعلى هذا المعنى يحسن الوقف على قوله {بَلى}؛ لأنّ كلام الذرية قد تم وانقطع بقوله: {بَلى}؛ وقوله: {شَهِدْنا} مستأنف من كلام الملائكة، وقيل هو من كلام الذرية، والمعنى: شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار، وعلى هذا المعنى لا يحسن الوقف على بلى؛ لأنّ مقولهم لم يتم ولم ينقطع على {بَلى} وقيل (¬1): المراد ببني آدم هنا آدم نفسه، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم .. مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وموقوفا على غيره من الصحابة. وقد أخرج مالك في «الموطأ» وأحمد في «المسند» وعبد بن حميد والبخاري في «تاريخه»، وأبو داود والترمذي، وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} .. الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسأل عنها؟ فقال: «إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار». والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم .. فهي كثيرة، منها عن ابن عباس عند ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ... الآية. قال: خلق الله آدم، وأخذ ميثاقه أنّه ربه، وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. وقد أخرج عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تفسيرها، مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل. وقرأ أبو عمرو وابن عامر ونافع (¬1): {ذرياتهم} بالجمع، وقرأ باقي السبعة {ذُرِّيَّتَهُمْ} بالإفراد، وهي تقع على الواحد والجمع، ثم بين سبحانه وتعالى سبب الإشهاد وعلته فقال: {أَنْ تَقُولُوا} قرأ أبو عمرو هنا وفيما يأتي بالياء التحتية على الغيبة، كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وجملة {أَنْ تَقُولُوا} علة لمحذوف تقديره: فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن تقولوا أيها الذرية، أو لكي لا تقولوا: {يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} التوحيد؛ أي: عن كون الله ربنا وحده لا شريك له {غافِلِينَ}؛ أي: ساهين جاهلين؛ أي: إنّا (¬2) فعلنا هذا الأخذ والإشهاد بكم منعا لاعتذاركم يوم القيامة بأن تقولوا: «إذا عذبت على الإشراك: إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبه، ومآل هذا أنّه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل؛ لأنّهم نبهوا بنصب الأدلة، وجعلوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[173]

مستعدين لتحقيق الحق، وإبعاد الشرك عن قلوبهم وقوله: 173 - {أَوْ تَقُولُوا} بالتاء أو الياء معطوف على {تَقُولُوا} الأول؛ أي: فعلنا ذلك الأخذ والميثاق كراهية أن تعذروا بالغفلة أو بقولكم: {إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ}؛ أي: إنّما أسس الإشراك آباؤنا من قبل زماننا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً} موجودين {مِنْ بَعْدِهِمْ} مقتدين بهم في الإشراك، جاهلين لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب، والفاء في قوله {أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} داخلة على محذوف تقديره: أتؤاخذنا يا مولانا فتهلكنا بالإشراك الذي أسسه لنا، واخترعه آباؤنا المبطلون؛ أي: الملتبسون بالباطل، الذي هو الإشراك، ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثارهم، والاستفهام فيه للاستعطاف، وفيه معنى الإنكار ولفظة {أَوْ} مانعة خلو لا جمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين. والمعنى: أي أو (¬1) تقولوا في ذلك اليوم: إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنوه من قبل زماننا، وكنا جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم، ولم نهتد إلى التوحيد، أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين، فتجعل عذابنا كعذابهم؟ والخلاصة (¬2): أنّ الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد، إذ التقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا يركن إليه ولا ينبغي لعاقل أن يلجأ إليه، كما أنّ الاعتذار بالجهل بعدما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل. والحاصل: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬3) بين في هذه الآية الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأنّه فعل ذلك لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة. 174 - {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ}؛ أي (¬4): ومثل هذا التفصيل الذي فصلناه في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

الآيات السابقة في أخذ الميثاق وغيره، نفصل الآيات؛ أي: نبين الآيات اللاحقة الدالة على توحيدنا ليتدبروا فيها {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ أي: ولكي يرجعوا عن شركهم، وعبادة غير الله تعالى، إلى عبادته وتوحيده بذلك التفصيل والتوضيح، وقرأت فرقة {يفصل} بالياء؛ أي: يفصل هو؛ أي: الله تعالى. والمعنى (¬1): أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة نفصل لبني آدم الآيات والدلائل، ليستعملوا عقولهم في التبصر فيها، والتدبر في أمرها، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم، وتقليد آبائهم وأجدادهم. وفي الآية إيماء إلى أنّ من لم تبلغه بعثة رسول .. لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله تعالى، ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة، وتدرك ضررها العقول الحصيفة، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه أن لا يعرف إلا منهم، وهو تفصيل العبادات، وعالم الغيب، وما سيكون في اليوم الآخر من أحوال العاصين، وشؤون النبيين والصديقين من عقاب وثواب، وكنه ذلك على الحقيقة. الإعراب {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ}. {وَإِذْ} الواو: استئنافية، {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلقة بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لهم قصة إذ قيل لهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمُ}: متعلق به، {اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} إلى آخر الآية نائب فاعل محكي، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {اسْكُنُوا}: فعل وفاعل، {هذِهِ}: في محل النصب على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعول به عند الأخفش {الْقَرْيَةَ} نعت لـ {هذِهِ} أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل ¬

_ (¬1) المراغي.

لـ {قِيلَ}، {وَكُلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْكُنُوا}. {مِنْها} متعلق به، {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بـ {كُلُوا}. {شِئْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}. {وَقُولُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {اسْكُنُوا}، {حِطَّةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مسألتنا حطة، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُولُوا}، {وَادْخُلُوا} فعل وفاعل معطوف على {اسْكُنُوا}، {الْبابَ} منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بـ {ادْخُلُوا}، {سُجَّدًا} حال من واو {ادْخُلُوا}. {نَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب الطلب لا محل لها من الإعراب، {لَكُمْ} متعلقان بـ {نَغْفِرْ}. {خَطِيئاتِكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {سَنَزِيدُ}: فعل مضارع، {الْمُحْسِنِينَ}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة بعاطف مقدر كما أظهره في سورة البقرة على جملة {نَغْفِرْ} على كونها جواب الطلب، وإنّما لم يجزم لأنّ الطلب عامل ضعيف فلا يعمل في المعطوف. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)}. {فَبَدَّلَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنّهم أمروا بقول حطة وأردت بيان ما قالوا .. فأقول لك، {بدل الذين}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذ المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا، {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور، حال من واو {ظَلَمُوا}، {قَوْلًا}: مفعول به، {غَيْرَ}: صفة لـ {قَوْلًا}، {غَيْرَ}: مضاف، {الَّذِي}: مضاف إليه، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {فَأَرْسَلْنا}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {أرسلنا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بدل}،

{عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أرسلنا}، {رِجْزًا} مفعول به، {مِنَ السَّماءِ}: جار ومجرور، صفة لـ {رِجْزًا}، {بِما} {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة {ما} المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب ظلمهم، الجار والمجرور متعلق بـ {أرسلنا}. {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}. {وَسْئَلْهُمْ}: الواو: عاطفة قصة على قصة، {سْئَلْهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} أعني: أذكر، أو مستأنفة، {عَنِ الْقَرْيَةِ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، متعلق بـ {اسأل}، {الَّتِي}: صفة لـ {الْقَرْيَةِ}، {كانَتْ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على {الْقَرْيَةِ}، {حاضِرَةَ الْبَحْرِ}: خبرها ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، متعلق بمضاف محذوف في قوله: {عَنِ الْقَرْيَةِ} تقديره: واسألهم عن حال القرية وقت عدوانهم في يوم السبت، {يَعْدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {فِي السَّبْتِ} متعلق بـ {يَعْدُونَ}، {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، والظرف بدل من الظرف الذي قبله، أعني قوله: {إِذْ يَعْدُونَ}، {تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {يَوْمَ سَبْتِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَأْتِيهِمْ}، {شُرَّعًا}: حال من {حِيتانُهُمْ}؛ أي: تأتيهم حيتانهم حالة كونها ظاهرة على وجه الماء. {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}. {وَيَوْمَ} الواو: استئنافية، {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {لا تَأْتِيهِمْ}، {لا يَسْبِتُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {لا تَأْتِيهِمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الحيتان،

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: بلاء مثل البلاء المذكور وهو إتيانها لهم يوم السبت شرعا، وعدم إتيانها في غيره نبلوهم بلاء آخر بسبب فسقهم، نَبْلُوهُمْ: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، بِما: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْسُقُونَ}: خبرها، وجملة كان صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب فسقهم، الجار والمجرور، متعلق بـ {نَبْلُوهُمْ} بسبب فسقهم وتقدير الكلام: نبلوهم بسبب فسقهم المستمر بلاء آخر مثل البلاء المذكور في الحيتان. {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على الظرف في قوله: {إِذْ يَعْدُونَ} على كونه متعلقا بالمضاف المحذوف الذي قدرناه سابقا، والتقدير: واسألهم عن حال القرية إذ يعدون في السبت، واسألهم عن حالهم إذ قالت أمة منهم، {قالَتْ أُمَّةٌ}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: صفة لأمة، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {لِمَ تَعِظُونَ} إلى قوله: {قالُوا} مقول محكي لـ {قالَتْ}، وإن شئت قلت: {لِمَ}: اللام حرف جر، {م}: اسم استفهام في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقا بينها وبين {ما} الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {تَعِظُونَ} والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، {تَعِظُونَ قَوْمًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَت}، {اللَّهُ}: مبتدأ، {مُهْلِكُهُمْ} خبره ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ {قَوْمًا}، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}: معطوف على {مُهْلِكُهُمْ}، {عَذابًا}: مفعول مطلق لـ {مُعَذِّبُهُمْ}، {شَدِيدًا}: صفة لـ {عَذابًا}، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {مَعْذِرَةً}: منصوب على كونه مفعولا لأجله لفعل محذوف تقديره وعظناهم لأجل المعذرة، أو منصوب على المفعولية المطلقة بفعل مقدر من لفظه

تقديره نعتذر معذرة، وعلى قراءة الرفع مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: موعظتنا معذرة إلى ربكم {إِلى رَبِّكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {مَعْذِرَةً} {وَلَعَلَّهُمْ} الواو: عاطفة، لعل: حرف نصب والهاء اسمها، وجملة {يَتَّقُونَ}: خبرها، وجملة لعل في محل النصب معطوفة على معنى معذرة، على كونها مقولا لـ {قالُوا} والتقدير: قالوا وعظناهم معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون عما هم عليه من العدوان باصطياد السمك. {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انقسام أهل القرية إلى واعظة وعادية، وأردت بيان عاقبة كل من الفريقين .. فأقول لك، {لما}: حرف شرط غير جازم، {نَسُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {نَسُوا}، {ذُكِّرُوا}: فعل ونائب فاعل، بِهِ متعلق به، والجملة صلة {لما} أو صفة {لما} والعائد أو الرابط ضمير به، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {يَنْهَوْنَ}: فعل وفاعل، {عَنِ السُّوءِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَنْجَيْنَا}، {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، {بِعَذابٍ}: متعلق به، {بَئِيسٍ}: صفة لـ {عذاب}: والجملة الفعلية صلة الموصول، {بِما} {الباء}: حرف جر، وسبب، و {ما}: مصدرية، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْسُقُونَ} خبره، وجملة كان صلة {ما}: مصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والباء متعلقة بـ {أَخَذْنَا}؛ أي: أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم، والباء الأولى للتعدية، وهذه للسببية، فلا اعتراض بتعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد، لاختلاف معناها.

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: حرف عطف وتفصيل، {لما}: حرف شرط، {عَتَوْا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {عَنْ ما}: جار ومجرور، متعلق بـ {عَتَوْا}، {نُهُوا}: فعل ونائب فاعل، {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة {لما} أو صفة لها، {قُلْنا}: فعل وفاعل، {لَهُمْ} متعلق به، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على جملة {لما} الأولى على كونها مفصلة لأخذهم بالعذاب، {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}: مقول محكي لـ {قُلْنا}: وإن شئت قلت: {كُونُوا}: فعل ناقص واسمه، {قِرَدَةً}: خبر {كُونُوا}، {خاسِئِينَ}: صفة لـ {قِرَدَةً}: وجملة {كُونُوا}: في محل النصب مقول {قُلْنا}. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ}. {وَإِذْ} الواو: عاطفة، {إِذْ}: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف معطوف على قوله {وَسْئَلْهُمْ} تقديره: واسألهم عن القرية واذكر إذ تأذن ربك، {تَأَذَّنَ}: فعل ماض بمعنى: أقسم {رَبُّكَ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}: {لَيَبْعَثَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم، {يبعثن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يبعثن}، وكذلك قوله: {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ}: متعلق به أيضا، {مَنْ}: موصولة في محل النصب مفعول {يبعثن}، {يَسُومُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على مَنْ الموصولة، {سُوءَ الْعَذابِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. {إِنَّ}: حرف نصب، {رَبُّكَ}: اسمها، {لَسَرِيعُ الْعِقابِ}: خبرها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وكذلك جملة قوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: معطوفة عليها على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.

{وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}. {وَقَطَّعْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، أو مفعول أول، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، {أُمَمًا} إما حال من مفعول {قَطَّعْناهُمْ}، وإما مفعول ثان على تضمين قطع معنى صير، {مِنْهُمُ}: جار ومجرور خبر مقدم، {الصَّالِحُونَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ {أُمَمًا}، {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم، {دُونَ ذلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومنهم فريق كان دون ذلك الفريق الصالح، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} على كونها صفة لـ {أُمَمًا}، {وَبَلَوْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {قَطَّعْناهُمْ}، {بِالْحَسَناتِ}: متعلق بـ {بلونا}، {وَالسَّيِّئاتِ}: معطوف على {الحسنات}، {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترج بمعنى كي التعليلية، والهاء اسمها، وجملة {يَرْجِعُونَ} خبرها، وجملة {لعل} في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها والتقدير: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لرجاء رجوعهم إلى طاعة الله تعالى. {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. {فَخَلَفَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انقسام هؤلاء المذكورين إلى فريقين فريق صالح وفريق طالح، وأردت بيان من خلف عنهم .. فأقول لك، {خلف}: فعل ماض، {مِنْ بَعْدِهِمْ}: متعلق به، {خَلْفٌ}: فاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَرِثُوا الْكِتابَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {خَلْفٌ}، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ}: فعل وفاعل ومفعول، {هذَا الْأَدْنى}: مضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من واو {وَرِثُوا}، {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَأْخُذُونَ}، {سَيُغْفَرُ لَنا}: مقول محكي وإن شئت قلت: {سَيُغْفَرُ}:

فعل مضارع مغير الصيغة، {لَنا}: جار ومجرور نائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول القول {وَإِنْ}. الواو: حالية أو استئنافية، {إِنْ}: حرف شرط، {يَأْتِهِمْ}: فعل ومفعول مجزوم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، {عَرَضَ}: فاعل، {مِثْلُهُ}: صفة لـ {عَرَضَ}، {يَأْخُذُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب حال من فاعل {يَقُولُونَ} أو مستأنفة. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، وهو الاستفهام الذي يقصد به إثبات ما بعد حرف النفي {لَمْ}: حرف جزم، {يُؤْخَذْ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {لَمْ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {مِيثاقُ الْكِتابِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {إِنْ}: حرف نصب، {لا}: نافية، {يَقُولُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {إِنْ} المصدرية، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {يَقُولُوا}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {الْحَقَّ}: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلا من {مِيثاقُ} تقديره: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب عدم قولهم على الله إلا الحق، {وَدَرَسُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على {يُؤْخَذْ} الداخل عليه همزة الاستفهام التقريري؛ أي: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب، وألم يدرسوا ما فيه، ما: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {دَرَسُوا}، {فِيهِ}: جار ومجرور، صلة لـ {ما}: أو صفة لها، {وَالدَّارُ}: مبتدأ، {الْآخِرَةُ}: صفة له {خَيْرٌ} خبر، والجملة مستأنفة، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، متعلق بخبر، وجملة {يَتَّقُونَ}: صلة الموصول، {أَفَلا}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف تقديره: أتجهلون خيرية ذلك، {فَلا}: {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {لا}: نافية {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: أفلا تعقلون خيرية ذلك، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة

المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة. {الَّذِينَ}: مبتدأ، {يُمَسِّكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {بِالْكِتابِ}: متعلق به، {وَأَقامُوا الصَّلاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة يمسكون، {إِنَّا}: حرف نصب واسمه، {لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {إن} في محل الرفع خبر المبتدأ، والرابط محذوف، تقديره: لا نضيع أجر المصلحين منهم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}. {وَإِذْ} الواو: استئنافية أو عاطفة، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف معطوف على قوله: {وَسْئَلْهُمْ} تقديره: واسئلهم عن القرية واذكر إذ نتقنا الجبل أو مستأنفة استئنافا نحويا، {نَتَقْنَا الْجَبَلَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه، {فَوْقَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {نَتَقْنَا}، {كَأَنَّهُ}: حرف نصب واسمه، {ظُلَّةٌ}: خبره، وجملة {كأن} في محل النصب حال من {الْجَبَلَ} تقديره: حالة كونه مشابها بظلة، {وَظَنُّوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على {نَتَقْنَا} أو في محل النصب حال من {الْجَبَلَ}، ولكنه على تقدير: قد، {أَنَّهُ} حرف نصب واسمه {واقِعٌ} خبره. {بِهِمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {واقِعٌ} وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن تقديره: وظنوا وقوعه بهم، {خُذُوا ما}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل {نَتَقْنَا} تقديره: وإذ نتقنا الجبل فوقهم حالة كوننا قائلين لهم: خذو ما آتيناكم أو معطوف على {نَتَقْنَا} تقديره: وقلنا لهم، {آتَيْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن آتى بمعنى أعطى تقديره: ما آتيناكموه، والجملة

صلة لـ {ما} أو صفة لها، {بِقُوَّةٍ}: جار ومجرور حال من واو {خُذُوا}؛ أي: خذوا حالة كونكم ملتبسين بقوة، {وَاذْكُرُوا ما}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {خُذُوا}، {فِيهِ}: جار ومجرور صلة لـ ما أو صفة لها، {لَعَلَّكُمْ} {لعل}: حرف ترج وتعليل بمعنى، كي والكاف اسمها، وجملة {تَتَّقُونَ}: خبرها، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}. {وَإِذْ} الواو: استئنافية، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر قصة إذ أخذ ربك، والجملة مستأنفة أو معطوفة على القصص التي قبلها، {أَخَذَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {مِنْ بَنِي آدَمَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَخَذَ}، {مِنْ ظُهُورِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، بدل من الجار والمجرور قبله، بدل بعض من كل، {ذُرِّيَّتَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه {وَأَشْهَدَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {رَبُّكَ}، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {أَخَذَ}، {عَلى أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ {أشهد}. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ}. {أَلَسْتُ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لَسْتُ}: فعل ناقص واسمه، {بِرَبِّكُمْ}: خبره، {والباء}: صلة، والجملة مقول لقول محذوف معطوف على {أَخَذَ} تقديره: وقال ألست بربكم {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَلى}: حرف جواب لإثبات النفي المذكور قبلها، قائمة مقام الجواب المحذوف تقديره: بلى أنت ربنا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالُوا}. فائدة: {بَلى} حرف جواب تفيد إثبات النفي المذكور قبلها؛ لأنّها لا يجاب بها إلا النفي، سواء كان مقرونا بالاستفهام التقريري كما هنا، أو مجردا، وأما نعم .. فحرف جواب لتصديق ما قبلها، قال ابن عباس: لو قالوا: نعم ..

لكفروا؛ لأنّ نعم لتقرير ما قبلها، مثبتا كان أو منفيا، فكأنهم أقروا أنّه ليس بربهم، وإلى ذلك أشار علي الأجهوري رحمه الله بقوله: بلى حرف جواب لكنّه ... يصير إثباتا كذا قرّروا نعم لتقرير الّذي قبلها ... إثباتا أو نفيا كذا حرّروا {شَهِدْنا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} إن قلنا إنّه من كلام الذر، أو مقول لقول محذوف، إن قلنا إنّه من كلام الملائكة تقديره: قالت الملائكة: شهدنا على قبولهم الميثاق {أَنْ تَقُولُوا}: ناصب وفعل وفاعل {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، المعلل لفعل محذوف تقديره: فعلنا الأخذ بالميثاق كراهية قولكم يوم القيامة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} مقول محكي لـ {تَقُولُوا} وإن شئت قلت: {إِنَّا}: حرف نصب واسمه، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {عَنْ هذا}: متعلق بـ {غافِلِينَ}، {غافِلِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {تَقُولُوا}. {أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. {أَوْ تَقُولُوا} معطوف على {تَقُولُوا} الأول {إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا} إلى آخر الآية: مقول {تَقُولُوا}: وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر ونفي، {أَشْرَكَ آباؤُنا}: فعل وفاعل {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَشْرَكَ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {تَقُولُوا}، {وَكُنَّا}: فعل ناقص واسمه {ذُرِّيَّةً}: خبره {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور، صفة لذرية تقديره: كائنة من بعدهم {أَفَتُهْلِكُنا}. {الهمزة}: للاستفهام الاستعطافي الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أتؤاخذنا، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {تهلكنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرب، {بِما}: جار ومجرور متعلق به {فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}: فعل وفاعل صلة لما أوصفه لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره بما فعله

{الْمُبْطِلُونَ}، وجملة {تهلكنا}: معطوفة على الجملة المحذوفة الداخلة عليها الهمزة كما قدرناه آنفا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {تَقُولُوا}. {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. {وَكَذلِكَ}. الواو: استئنافية {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وتفصيلا مثل ذلك التفصيل المذكور هنا {نُفَصِّلُ الْآياتِ}: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والتقدير: ونفصل الآيات اللاحقة تفصيلا مثل تفصيلنا الآيات السابقة ليتدبروها {وَلَعَلَّهُمْ}. الواو: عاطفة، {لعل}: حرف ترج وتعليل، و {الهاء}: اسمها، وجملة {يَرْجِعُونَ}: في محل الرفع خبرها، وجملة {لعل} معطوفة على جملة محذوفة معللة للفعل السابق، والتقدير: ونفصل الآيات مثل ذلك ليتدبروها، ولعلهم يرجعون إلى طاعة الله سبحانه وتعالى؛ أي: ولرجاء رجوعهم إلى طاعة الله عما هم عليه من الإشراك. التصريف ومفردات اللغة {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ}، {الْقَرْيَةِ}، هي أيلة، وقيل: مدين، وقيل: طبرية، والعرب تسمى المدينة قرية: {حاضِرَةَ الْبَحْرِ}؛ أي: قريبة منه على شاطئه. {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}؛ أي: يتجاوزون حكم الله بالصيد المحرم عليهم فيه. {حِيتانُهُمْ} سمكهم جمع حوت، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كنون ونينان لفظا ومعنى. {يَوْمَ سَبْتِهِمْ}؛ أي: تعظيمهم للسبت، وهو مصدر سبت اليهود تسبت، من باب ضرب، إذا عظمت السبت بترك العمل فيه، والتفرغ فيه للعبادة، وقيل: إنه اسم لليوم، والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه. ذكره أبو السعود. وفي «المصباح» وسبت اليهود انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب، وهو مصدر، يقال: سبتوا سبتا، من باب ضرب إذا قاموا بذلك، وأسبتوا بالألف لغة اه. {شُرَّعًا}: جمع شارع كراكع وركع، من شرع عليه إذا دنا وأشرف؛

أي: ظاهرة على وجه الماء {نَبْلُوهُمْ} نختبرهم {أُمَّةٌ مِنْهُمْ}؛ أي: جماعة منهم {مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ} والمعذرة بوزن المغفرة، اسم مصدر لعذر يعذر عذرا، من باب ضرب، وهي بمعنى العذر، وهو التنصل من الذنب، فمعنى معذرة إلى ربكم، قياما وإظهارا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: تركوه ترك الناس، وأعرضوا عنه إعراضا تاما {عَنِ السُّوءِ} والسوء العمل الذي تسوء عاقبته {بَئِيسٍ} والبئيس الشديد، من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه، أو الفقر، فهو فعيل من بؤس يبؤس بأسا وبؤسا إذا اشتد. {فَلَمَّا عَتَوْا} العتو الإباء والعصيان {خاسِئِينَ}؛ أي: أذلاء صاغرين. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} قال سيبويه: أذن أعلم، وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} ومثله تأذن {لَيَبْعَثَنَّ} ليسلطن {يَسُومُهُمْ} يذيقهم ويوليهم {وَقَطَّعْناهُمْ} فرقناهم {أُمَمًا}؛ أي: جماعات {دُونَ ذلِكَ}؛ أي: منحطون عنهم {وَبَلَوْناهُمْ} امتحانهم {بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ} الحسنات النعم، والسيئات النقم {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} والخلف بسكون اللام يستعمل في الأشرار، وبالتحريك في الأخيار يقال: خلف سوء بسكون اللام، وخلف صدق بفتحها اه «الخازن»، وفي «البيضاوي»: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}؛ أي: بدل سوء، وهو مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: هو جمع وهو شائع في البشر، والخلف بالفتح في الخير. انتهى. وفي «السمين» والخلف بفتح اللام وبإسكانها هل هما بمعنى واحد؛ أي: يطلق كل منهما على القرن الذي يخلف غيره، صالحا كان أو طالحا أو أن الساكن اللام في الطالح، ومفتوحها في الصالح خلاف مشهور بين اللغويين، قال الفراء: يقال للقرن خلف: يعني ساكنا، ولمن استخلفته خلف يعني متحرك اللام. اه {عَرَضَ هذَا الْأَدْنى} والعرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها، {والْأَدْنى}: الشيء القريب الزوال، والمراد به هنا الدنيا. {وَدَرَسُوا ما فِيهِ}؛ أي: قرؤوا فهم ذاكرون له {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ}؛ أي: يتمسكون به ويعملون. وفي «المختار» أمسك بالشيء وتمسك واستمسك به، كله بمعنى اعتصم به وكذا مسك به تمسيكا. اه.

وفي «المصباح» مسكت بالشيء مسكا، من باب ضرب، وتمسكت وامتسكت بمعنى أخذت به وتعلقت واعتصمت، وأمسكته بيدي إمساكا قبضته باليد، وأمسكت عن الأمر: كففت عنه. اه. {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}؛ أي: رفعناه، كما روى عن ابن عباس أو زلزلناه، وهو مرفوع يقال: نتق السقاء إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبد، أو اقتلعناه، كما هو رأي كثير من العلماء، وفي «الفتوحات»: {والنتق} اختلفت فيه عبارات أهل اللغة، فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي به، ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار فإنهم أنتق أرحاما وأطيب أفواها وأرضى باليسير» وقيل: النتق الجذب بشدة، ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقلع الزبدة من فمه، وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة: هو الزعزعة وبه فسر مجاهد، وكل هذه معان متقاربة، وقد عرفت أن {فَوْقَهُمْ} يجوز أن يكون منصوبا بنتق؛ لأنّه بمعنى رفع وقلع اه «سمين»، ونتق من باب نصر كما في «المختار». {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} والظلة كل ما أظلك من سقف بيت، أو سماء، أو جناح طائر، والجمع ظلل وظلال {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} والظهور جمع ظهر، وهو ما فيه العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد {ذُرِّيَّتَهُمْ} والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث، شَهِدْنا والشهادة تارة قولية كما قال: {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ...} الآية وتارة تكون حالية، كما قال: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}؛ أي: حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة، وضروبا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: التكرار في قوله: {اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} وفي قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} {يَوْمَ سَبْتِهِمْ}.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ}؛ أي: عن أهل القرية لما فيه من إطلاق المحل وإرادة الحال. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ}، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ}. وفي قوله: {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا}. ومنها: المقابلة في قوله: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ}، وفي قوله: {بِالْحَسَناتِ} {وَالسَّيِّئاتِ}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إشعارا بسرعة إيقاع العذاب بهم، وترجية لمن آمن منهم في غفرانه ورحمته. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ}؛ لأنه استعار النسيان للشرك، فاشتق من النسيان بمعنى الشرك نسوا، بمعنى تركوا، بجامع الإعراض في كل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: المقابلة في قوله: {أَنْجَيْنَا} {وَأَخَذْنَا}. ومنها: الإضافة في قوله: {حِيتانُهُمْ}: لاختصاصهم بأحكام فيها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ لأنّه استعار الأخذ للإخراج، فاشتق منه أخذ بمعنى أخرج، وإيثار (¬1) الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ، لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء، وهو السبب في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي. ومنها: إضافة {رَبُّكَ} إلى ضميره صلى الله عليه وسلّم للتشريف. ومنها: الالتفات في لفظ {رَبُّكَ} من التكلم إلى الغيبة؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: وإذا أخذنا، كما قال أولا: وإذ نتقنا الجبل فوقهم، والنكتة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

فيه: تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب إليه، وفي الآية أيضا البيان بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، في قوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ونكتته: التوبيخ والتأنيب. ومنها: الإظهار في وضع الإضمار في قوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: إنا لا نضيع أجرهم، ونكتة الإظهار: الإشارة إلى شرفهم، والاعتناء بهم. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}. ومنها: ذكر الخاص بعد العام إظهارا لفضله وشرفه في قوله: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ}؛ لأنّها داخلة بما في الكتاب، خصها بالذكر لأنّها أعظم أركان الدين بعد التوحيد. ومنها: الكناية في قوله: {كُونُوا قِرَدَةً}؛ لأنّه كناية عن سرعة المسخ، إذ لا يكلف الشخص إلا بما يقدر عليه، وكونهم قردة ليس في طاقتهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر أنّه أخذ العهد والميثاق على بني آدم جميعا، وأشهدهم على أنفسهم بأنّ الله ربهم، كي لا يكون لهم العذر يوم القيامة في الإشراك بالله، جهلا أو تقليدا .. أردف ذلك بضرب المثل للمكذبين ¬

_ (¬1) المراغي.

بآياته المنزلة على رسوله، بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها، قادرا على بيانها، والجدل بها، لكنّه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأنّ العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول، فأشبه الحية تنسلخ من جلدها، وتخرج منه وتتركه على الأرض. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته، وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم .. ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر، كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لما اطلعوا عليه من كتب الله المنزلة، وتبشيرها به، وبذكر صفاته، فلما بعث .. كفروا، فذكروا أنّ ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها. قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬2) نبيه صلى الله عليه وسلّم بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات الله تعالى على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة، ويعودوا إلى حظيرة الحق .. أردف ذلك ببيان أنّ أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير الله تعالى، والسير على سننه في استعمال مواهبه، وهداياته الفطرية من العقل والحواس في أحد السبيلين كما قال: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) وإِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم ذكر المهتدين والضالين .. أخبر هنا أنّه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال. انتهى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...} مناسبة (¬3) هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

الآية لما قبلها: أنّه تعالى لما ذكر أنّه هو الهادي وهو المضل .. أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار، وذكر أوصافهم فيما ذكر، وفي ضمنه وعيد الكفار. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) في الآية السالفة أنّ المخلقين لجهنم لما يستعملوا عقولهم ومشاعرهم في الاعتبار بالآيات، والتفقه في تزكية أنفسهم بالعلم النافع، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم، بذكر الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال .. أردف ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة، والوسائل التي تخرج إلى ضدها، وهي ذكر الله تعالى، ودعاؤه في السر والعلن، بكرة وعشيا. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (¬2) أنّه ذرأ كثيرا من الجن والإنس للنار .. ذكر نوعا منهم - وهم يلحدون في أسمائه - وهم أشد الكفار عتيا، أبو جهل وأحزابه، وأيضا لما نبه على أن دخول جهنم هو للغفلة عن ذكر الله تعالى، والمخلص من العذاب هو ذكر الله تعالى .. أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في الحرص، وانتقل من رغبة إلى رغبة، ومن طلب إلى طلب، ومن ظلمة إلى ظلمة، وقد وجدنا ذلك بالذوق، حتى إنّ أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص من آفات الغفلة، وامتثل ما أمره الله به، واجتنب ما نهى عنه. انتهى. قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬3) أنّه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين - الجن والإنس - وأبان أهم أسباب ذلك، وهي أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى .. أردف ذلك ببيان وصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

أمة الدعوة، وثلث بتنفيذ ما عرض لهم من الشبهة، ثم أرشد إلى التفكر الموصل إلى الفقه في الأمور ومعرفة الحقائق، وإلى النظر الهادي إلى الحجة والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول، ثم ختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه تعالى لما ذكر (¬1) من ذرأ للنار .. ذكر مقابلهم، وفي لفظة {وَمِمَّنْ} دلالة على التبعيض، وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق، ولا عادلين به، انتهى. وقال أيضا: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه تعالى لما حضهم على التفكر في حال الرسول، وكان مفرعا على تقرير دليل التوحيد .. أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أرشد من كانوا في عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر في اقتراب أجلهم بقوله: {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} .. أتبع ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهي بها جميع أجل الناس. والخلاصة: أن هذا كلام في الساعة العامة بعد الكلام في الساعة الخاصة بكل فرد، وهي انتهاء أجله. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما ذكر (¬2) التوحيد والنبوة والقضاء والقدر .. أتبع ذلك بذكر المعاد، وأيضا فلما تقدم قوله: {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}، وكان ذلك باعثا على المبادرة إلى التوبة .. أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أن وقتها مكتوم عن الخلق، فيكون ذلك سببا للمسارعة إلى التوبة. انتهى. قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا ...} الآية، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الآية لما قبلها: أنّ (¬1) الله سبحانه وتعالى لما أمر خاتم رسله أن يجيب السائلين عن الساعة: بأن علمها عند الله تعالى وحده .. قفى على ذلك بأمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يبين للناس أنّ كل الأمور بيده وحده، وأن علم الغيب كله عنده. وهذه الآية أساس (¬2) من أسس الدين وقواعد عقائده، إذ بينت حقيقة الرسالة، وفصلت بينها وبين الربوبية، وهدمت قواعد الشرك، واجتثت جذور الوثنية. أسباب النزول قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها} قيل: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وكان قد (¬3) حفظ بعض الكتب المنزلة، وقيل: كان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة، فاتبع دينهم وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين .. سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحول لسانه على أصحابه، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة، وسأمكر لكم، وإنّي أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم، فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنوا إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا، وقيل: إنّ هذا الرجل اسمه باعم، وهو من بني إسرائيل، وقيل: المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب المتقدمة، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلّم، وشرفه الله بالنبوة .. حسده وكذبه، وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة، فقصد بعض الملوك، فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم؟ فقيل له: قتلهم محمد، فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. فلما مات أمية .. أتت أخته فازعة إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني والمراح والخازن.

رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وفاة أخيها؟ فقالت: بينما هو راقد أتاه اثنان، فكشفا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: أوعى؟ قال: وعي، قال أذكى؟ قال: أبى، قالت: فسألته عن ذلك؟ فقال: خير أريد بي، فصرف عني ثم غشى عليه فلما أفاق من غشيته قال شعرا: كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرّة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا إنّ يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصّغير يوما ثقيلا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنشديني من شعر أخيك، فأنشدته بعض قصائده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «آمن شعره وكفر قلبه» فأنزل الله تعالى عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ...} الآية، وقيل نزلت في قريش، آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلّم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلّم فكفروا به. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...} الآية. قال (¬1) مقاتل: إن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال بعض مشركي مكة - قال ابن الجوزي: هو أبو جهل - إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون إلها واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ...} أخرج (¬2) أبو حاتم وأبو الشيخ، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم قام على الصفا ليلا، فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، إنّي لكم نذير مبين، وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت؛ أي: إلى الصباح، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ}. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ...} قال قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) لباب النقول.

[175]

إن بيننا وبينك قرابة، فأسر إلينا متى الساعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج (¬1) ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: قال جبل بن أبي قشير وسموأل بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم - وهما من اليهود -: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول، فإنا نعلم ما هي؟ فأنزل الله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} يعني عن خبر الساعة. التفسير وأوجه القراءة 175 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واقرأ وقص يا محمد على هؤلاء اليهود النبأ العجيب {نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا}؛ أي: خبر الشخص الذي أعطيناه حجج توحيدنا، وأفهمناه دلائل قدرتنا، حتى صار عالما بها، وكان يعلم علوم الكتب المتقدمة، والتصرف بالاسم الأعظم، وهو أحد علماء بني إسرائيل على ما قيل، فكان يدعو به حيث شاء، فيجاب بعين ما طلب في الحال {فَانْسَلَخَ} وانسل وخرج {مِنْها}؛ أي: من آياتنا، وتركها وراءه ظهريا، ولم يلتفت إليها ليهتدي بها؛ أي: انسلخ منها كما تنسلخ الحية من جلدها، بأن كفر بها، وأعرض عنها، وفي التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنّه كان متمكنا منها، ظاهرا لا باطنا {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ}؛ أي: وبعد أن انسلخ منها باختياره أتبعه الشيطان ولحقه وأدركه واستحوذ عليه، وتمكن من الوسوسة إذ لم يبق لديه من نور البصيرة، ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته، وسلوك فهمه. وقرأ طلحة بخلاف، والحسن فيما روى عنه هارون: {فاتبعه} مشددا بمعنى تبعه، {فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ} أي فصار من الضالين المضلين المفسدين في الأرض، قال ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، كان عنده اسم الله الأعظم، وقال (¬2) ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل، بعثه موسى إلى ملك مدين داعيا إلى الله، فرشاه الملك، وأعطاه الملك على أنّ يترك دين موسى، ويتابع الملك على دينه، ففعل وأضل الناس بذلك. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) التسهيل.

[176]

والخلاصة: أنّه أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال، ومال إلى الدنيا، فتلاعب به الشيطان، وكانت عاقبته البوار والخذلان، وخاب في الآخرة والأولى. 176 - وفي الآية عبرة وعظة للمؤمنين، وتحذير لهم من اتباع أهوائهم، حتى لا ينزلقوا في مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا، وركونه إلى شهواتها ولذاتها، {وَلَوْ شِئْنا}؛ أي: ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات وبالعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان {لَرَفَعْناهُ}؛ أي: لرفعنا ذلك المنسلخ {بِها}؛ أي: بتلك الآيات إلى درجات الكمال، ومنازل العلماء الأبرار، بأن نخلق له الهداية خلقا، ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا {وَلكِنَّهُ}؛ أي: ولكن ذلك المنسلخ {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}؛ أي: أراد الخلود في الأرض، وركن إلى الدنيا، ومال إليها، وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام، والأرض هنا عبارة عن الدنيا؛ لأنّ الأرض عبارة عن المفاوز والقفار، وفيها المدن والضياع، والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا، فالدنيا كلها هي الأرض. ذكره في «الخازن» {وَاتَّبَعَ هَواهُ}؛ أي: واتبع ما تهواه نفسه، وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا، فخسر دنياه وآخرته، ووقع هاوية الردى والهلاك وانحط في أسفل سافلين، وقيل: المعنى: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله تعالى. وخلاصة ذلك (¬1): أنّ من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد في سلم الكمال، لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضة على العمل النافع، وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة، كما جاء في الحديث: «إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى». أما من تلقاها بغير ¬

_ (¬1) المراغي.

قصد أو بنية كسب المال والجاه، وفي نفسه ما يصرفه عنها .. فلن يستفيد منها شيئا، وسرعان ما ينسلخ منها. وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا، وشهوات النفس، ويتبعون الهوى، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى خص هذا الرجل بآياته وحكمته، وعلمه اسمه الأعظم، وجعل دعاءه مستجابا، ثم إنّه لما اتبع هواه، وركب إلى الدنيا، ورضي بها عوضا عن الآخرة .. نزع منه ما كان أعطيه، وانسلخ من الدين، فخسر الدنيا والآخرة، ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع، وثبته بالعلم، وبصره بعيوب نفسه. وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي. ثم ضرب الله تعالى مثلا لهذا الرجل الذي آتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال: {فَمَثَلُهُ}؛ أي: مثل هذا المنسلخ عن آيات الله تعالى وصفته في الدناءة والخسة، ولزوم حاله له {كَمَثَلِ الْكَلْبِ}؛ أي: كصفة الكلب الذي صار لهث اللسان طبيعة له {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} أيها المخاطب؛ أي: إن تزجره وتطرده {يَلْهَثْ}؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس الشديد {أَوْ تَتْرُكْهُ}؛ أي: تترك ذلك الكلب غير مطرود {يَلْهَثْ}؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس؛ أي: (¬1) إن شددت عليه وأجهدته لهث، أو تركته على حاله لهث، لأن اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال الحريص على الدنيا، إن وعظته .. فهو حرص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه .. فهو حريص أيضا؛ لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة، كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب اه. «خازن». وعبارة الشوكاني هنا قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}؛ أي: (¬2) فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة، مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة، مماثلا له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

الإنسان له وتركه فهو لاهث، سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة قوله: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} في محل النصب على الحال؛ أي: مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة، والمعنى: إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوى عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ، وذكره المذكر، وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك، قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب؛ فإنّه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل، وإن تركته ضل، فهو كالكلب، إن تركته لهث، وإن طردته لهث كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)}، واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش، أو غير ذلك مع التنفس الشديد، وقيل معنى الآية: إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا عليك، ومدبرا عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. انتهت. والمعنى (¬1): أن هذا الرجل كالكلب في صفته هذه، وهي أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك في أسوء حال، فهو في هم دائب، وشغل شاغل في جمع عرض الدنيا وزخرفها - يعني بخسيس أمورها وجليلها - كشأن عباد الأهواء وطلاب الأموال، ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب، وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيي، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة في الدنيا .. زاد طمعا فيها كما قال الأول: فما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب إلّا إلى أرب والإشارة بقوله: {ذلِكَ} إلى ما تقدم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة، وهو مبتدأ خبره قوله: {مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؛ أي: ذلك المثل الخسيس مثل القوم؛ أي: تلك الصفة الخسيسية الدنيئة المذكورة في المنسلخ عن ¬

_ (¬1) المراغي.

آياتنا صفة ليست خاصة به، بل هي صفة عامة قائمة بجميع القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود والمشركين وغيرهم، بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا، وبدلوا وكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلّم، وكذبوا بها، فعم (¬1) هذا المثل جميع من كذب بآيات الله تعالى وجحدها، فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث: أنّهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم .. لم يهتدوا، وإن تركوهم لم يهتدوا أيضا، بل هم ضلال في كل حال. أي (¬2): ذلك المثل البالغ في الغرابة، مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها، جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة، ويحط من أقدارهم، ويحول بينهم وبين ما يستمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم - وهي حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات - إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد، فما أشبه حالهم، بحال من أوتي الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها، بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها، قال بعضهم: قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم {فَاقْصُصِ} يا محمد على هؤلاء المكذبين لك من اليهود وغيرهم هذا {الْقَصَصَ} الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن آياتنا؛ فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم، فالقصص مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: أخبرهم هذا الخبر {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك، ويعملون فيه أفهامهم، فينزجرون عن الضلال، ويقبلون على الصواب. قال أبو السعود (¬3): وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) أبو السعود.

[177]

المخاطب، أو على أنّها مفعول له؛ أي: فاقصص القصص راجيا لتفكرهم، أو رجاء لتفكرهم. انتهى. والخلاصة: فاقصص (¬1) أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الأيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه، فيحملهم سوء حالهم، وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر في المخلص مما هم فيه، والنظر في الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة، إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب، إذ هو من خفي أخبارهم، ففي إخبارك بذلك أعظم معجز. 177 - {ساءَ} وقبح من جهة كونه {مَثَلًا} وصفة مثل {الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} بعد قيام الحجة عليها، وعلمهم بها وقوله: {وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ} معطوف على {كَذَّبُوا} فهو داخل مع حكم الصلة، أي: ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وكانوا يظلمون أنفسهم بذلك التكذيب؛ أي: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم خاصة؛ أي: ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها. والمعنى (¬2): قبحت صفة أولئك القوم في الصفات، وساء مثلهم في الأمثال، بإعراضهم عن التفكر في الآيات، وبالنظر إليها نظر عداوة وبغضاء، وهم بعملهم هذا إنّما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها، وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وقرأ (¬3) الحسن وعيسى ابن عمر والأعمش {ساء مثل} بالرفع {القوم} بالجر، واختلف على الجحدري، فقيل: كقراءة الأعمش، وقيل بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافا إلى القوم. ولم يبين الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه، ولا جاء في السنة الصحيحة شيء من ذلك، فلا حاجة لنا في العظة إلى بيانه، ولرواة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[178]

التفسير بالمأثور روايات كثيرة في شأنه كما ذكرنا في مبحث أسباب النزول، وبالجملة فهذه الروايات الإسرائيلية لا يعتد بها، وليست بحجة في بيانه. 178 - {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ}؛ أي: من يوفقه الله تعالى لسلوك سبيل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له، بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} الذي شكر نعم الله عليه، وأدى حقه عليه، ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وفي (¬1) «السمين»: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} راعى لفظ {مَنْ} فأفرد، وراعى معناها في قوله: {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} فجمع، وياء {الْمُهْتَدِي} ثابتة عند جميع القراء لثبوتها في الرسم، وسيأتي لك خلاف في التي في الإسراء والكهف، وبحثها، وقال الواحدي: {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} يجوز إثبات الياء فيه على الأصل، ويجوز حذفها استخفافا اه. {وَمَنْ يُضْلِلْ}؛ أي: ومن يخذله ويحرمه التوفيق، فيتبع شيطانه وهواه، ويترك استعمال عقله وحواسه في فقه آياته، وشكر ما أنعم به عليه {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}؛ أي: فهو الكفور الضال، الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعدا للسعادتين الدنيوية والأخروية؛ أي: {فَأُولئِكَ} الموصوفون بالضلالة {هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى، وإنما العظة والتذكير من جهة الوسائط العادية في حصول الاهتداء، من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله، كسائر أفعال العباد. ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح، أما أنواع الضلال فلا حصر لها، يرشد إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 179 - ثم فصل سبحانه ما أجمله في الآية السالفة مع بيان سببه فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا في العالم {كَثِيرًا مِنَ الْجِنِ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وَالْإِنْسِ}؛ أي: خلقا كثيرا منهما لسكنى جهنم، والمقام فيها، وهم الذين حقت كلمة العذاب عليهم، وخلقنا للجنة مثل ذلك بمقتضى استعداد الفريقين كما قال: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. ومن خلقه للنار فلا حيلة له في الخلاص منها؛ أي: خلق خلقا كثيرا من النوعين لسكنى جهنم بحكم القبضة الإلهية حين قبض قبضة وقال: هذه للجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هذه للنار ولا أبالي، وقوله: {كَثِيرًا} يؤخذ منه أن أهل النار أكثر من أهل الجنة، وهو كذلك لما ورد من أنه من كل ألف واحد للجنة والباقي للنار، ثم بين سبب كونهم معدين لجهنم، وصفاتهم المؤهلة لذلك فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لأولئك الكثير {قُلُوبٌ} وعقول {لا يَفْقَهُونَ بِها}؛ أي: لا يعقلون ولا يفهمون بها الخير والهدى؛ أي: إنّهم لا يفقهون بقلوبهم ما تزكو به أنفسهم من توحيد الله، المبعد لها عن الخرافات والأوهام، وعن الذلة والصغار؛ فإن من يعبد الله تعالى وحده .. تسمو نفسه بمعرفته، فلا تذل بدعاء غيره، ولا الخوف منه ولا الرجاء فيه، والاتكال عليه، بل يطلب من الله ما يحتاج إليه، فإن كان مما أقدر الله عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه، وتمكينهم منها .. طلبه بسببه مع مراعاة سننه في خلقه، وإن لم يكن كذلك .. توجه إلى الله لهدايته إلى العلم بما لم يعلم من سببه، وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله، أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه، كالأطباء لمداواة الأمراض، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال، والعلماء الراسخين للفتوى في المسائل العلمية، وحل إشكال ما غمض من حقيقتها. {وَلَهُمْ}؛ أي: ولأولئك الكثير {أَعْيُنٌ} وأبصار {لا يُبْصِرُونَ بِها} إبصار تأمل وتفكر في مصنوعات الله {وَلَهُمْ آذانٌ} وأسماع {لا يَسْمَعُونَ بِها} سماع اعتبار واتعاظ في مصنوعاته؛ أي: فهم لا يفهمون بقلوبهم، ولا يبصرون بأعينهم، ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين؛ أي: وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله، ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، فالآذان إنّما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، والأبصار إنّما خلقت لينتفع بكل ما يبصر، وإنّما يكون

ذلك بتوجيه الإرادة والقصد إلى استعمال كل منهما فيما خلق له، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)}. وا أسفا للمسلمين أصبحوا اليوم أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم في النظر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته في مشاعر الإنسان، وانفعالاته النفسية، وقواه العقلية، وآياته في الحيوان والنبات، والجماد والهواء، والماء والبخار، وسنن النور والكهرباء، والعلوم الفلكية. ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنّما يعرفها للانتفاع بها في الحياة الدنيا، من غير مراعاة أنّها آيات دالة على أن لها ربا خالقا مدبرا عليما قديرا رحيما، يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة {أُولئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الصفات {كَالْأَنْعامِ} من إبل وبقر وغنم، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشهم في هذه الحياة. {بَلْ هُمْ}؛ أي: بل هؤلاء الموصوفون بالصفات المذكورة {أَضَلُّ} وأجهل وأخطأ من الأنعام؛ لأنّها تعرف صاحبها وتطيعه، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه؛ أي: بل هم أضل سبيلا منها، إذ هذه البهائم لا تجني على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها، وجمع حاجاتها، لكن عبيد الشهوات يسرفون في كل ذلك إسرافا عظيما، قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرطون فيه بحقوق البدن، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء، ويقصرون في الحقوق الزوجية، فيجنون على أشخاصهم وعلى النوع كله بالتفريط، كما يجني عليهما عبيد الشهوات بالإفراط، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك، وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف، ولو سلكوا مسلك الإهتداء بالقرآن في فهم أسرار الخلق، ومعرفة منافعه .. لاستفادوا السعادة في معاشهم، والاستعداد لمعادهم {أُولئِكَ} المذكورون {هُمُ الْغافِلُونَ} والساهون عما فيه صلاحهم في الحياتين، أو عما أعد الله لأوليائه من الثواب، ولأعدائه

[180]

من العقاب، وهم في الغفلة على درجات، فمنهم الغافلون عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدي العبد إلى معرفة ربه، والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم في أفضل ما خلقت لأجله، والغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية والقومية والدينية. والخلاصة: أنّ أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور، وأبصارهم وأسماعهم في استنباط المعارف، واستفادة العلوم، ولا في معرفة آيات الله الكونية، وآياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسي على كمال الإسلام 180 - {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْأَسْماءُ الْحُسْنى}؛ أي: الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها. {فَادْعُوهُ}؛ أي: فادعو الله سبحانه وتعالى وسموه ونادوه {بِها}؛ أي: بتلك الأسماء عند الدعاء لحوائجكم، وعند الذكر والثناء عليه، كأن تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم؛ أي: فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * ونحو: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)} وإما لدى السؤال، وطلب الحاجات، وذكر الأسماء الحسنى في أربع سور من القرآن: أولها: هذه السورة. ثانيها: في آخر سورة الإسراء في قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ}. وثالثها: في أول طه في قوله: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)}. رابعها: في آخر الحشر في قوله: {هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}. اه. الخطيب. وللذكر فوائد: منها تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى، والخشوع له، والرغبة فيما عنده، واحتقار آلام الدنيا، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها، ومن ثم جاء في الحديث: «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهم فليقل:

لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وروى الحاكم في «المستدرك» عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لفاطمة: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين». وأسماء الله كثيرة، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه، وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين، كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم. وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها .. دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر». وفي رواية: «من أحصاها» في رواية أخرى: «لله تسعة وتسعون اسما، مئة إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر». قال البخاري: أحصاها: حفظها. وفي رواية الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن العزيز، الجبار المتكبر، الخالق البارىء المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب الواسع، الحكيم الودود، المجيد الباعث، الشهيد الحق، الوكيل القوي، المتين الولي، الحميد المحصي، المبدىء المعيد، المحي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعال، البر التواب، المنتقم العفو،

الرؤوف، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغني، المانع الضار النافع، النور الهادي، البديع الباقي، الوارث الرشيد الصبور» وقد شرحت معاني هذه الأسماء كلها في كتابي «هدية الأذكياء على طيبة الأسماء منظومة الأسماء الحسنى» لرستم الحلبي، فراجعه إن شئت. وقد اختلف (¬1) المحدثون في سرد هذه الأسماء، هل هو مرفوع أو مدرج في الحديث من بعض الرواة؟ والثاني هو الراجح، ومن ثم لم يخرجه الشيخان لتفرد الوليد بن مسلم به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ بن حجر في «الفتح». {فَادْعُوهُ بِها}؛ أي: فادعوا (¬2) بأسمائه التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله، ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنّه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا عاقل، ويجوز أن يقال: يا حكيم، ولا يجوز أن يقال: يا طبيب. وللدعاء بها شروط: منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ويستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ويخلص النية في دعائه، مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله، ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة، ويعترف لله سبحانه وتعالى بالربوبية، وعلى نفسه بالعبودية، فإذا فعل العبد ذلك .. عظم موقع الدعاء، وكان له تأثير عظيم. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ} تعالى؛ أي (¬3): واتركوا أيها المؤمنون تسمية الذين يزيفون ويميلون عن الحق في أسمائه تعالى، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، يا سخي يا عاقل، أو بما يوهم معنى فاسدا، كقولهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه، كقولهم: ما نعرف إلا رحمن اليمامة، أو: وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) البيضاوي.

واشتقاق أسمائها منها، كاللات من الله، والعزى من العزيز، ولا توافقوهم عليه، أو: أعرضوا عنهم، فإنّ الله سبحانه وتعالى مجازيهم كما قال: {سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: لأنّهم سيلقون جزاء عملهم، وتحل بهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فاجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم مثل ما يصيبهم، وهذا تهديد لمن ألحد في أسمائه تعالى، وهذا قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ بآية السيف، وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء هنا وفي فصلت والنحل، ووافقه عاصم والكسائي في النحل، يقال: لحد وألحد إذا مال عن الحق، وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى، وقرأ باقي السبعة بضم الياء وكسر الحاء فيهن من ألحد الرباعي. فصل في الإلحاد في أسمائه تعالى وأقسامه والإلحاد ضربان (¬1): إلحاد إلى الشرك بالله وهو ينافي الإيمان ويبطله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق الله وتسخيره، أو يعتقد أنّها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى، وهذا يوهن عرا الإيمان، ولا يبطله. والخلاصة: أن الإلحاد في أسمائه الحسنى أقسام: 1 - تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه في كتابه أو ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلّم، فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية؛ أي: تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى، وكل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له، وإخبارا عنه، يصح إثباته له، ويمنع كل ما دلت على منعه، قال في «الكشاف»: كقول أهل البدو: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخي. ¬

_ (¬1) المراغي.

[181]

2 - ترك تسميته بما سمى به نفسه، أو وصفها به، أو ترك إسناد ما أسنده تعالى إلى نفسه من الأفعال، بناء على أن ذلك لا يليق به تعالى، أو أنّه يوهم نقصا في حقه، كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلّم بما يليق به وما لا يليق. 3 - تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه، كاللات والعزى. 4 - تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شيء كرجل من خلقه؛ لأنّه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك، كالسمع والبصر والكلام، والوجه، واليد، والرجل، والضحك، والرضا والغضب، وذهبوا إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم. 5 - إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ، كاسم الجلالة الله، والرحمن، ورب العالمين، وما في معناه كرب السماء والأرض، أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)}. 6 - إشراك غيره في كمال أسمائه، كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره تعالى رحمة كرحمته، ورأفة كرأفته، وغير ذلك من معاني أسمائه، كالمجيب مثلا، كما قال تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ}. وبعض الذين يدعون غير الله تعالى من الموتى يعتقدون أنّهم أسرع وأقرب في إجابتهم من الله تعالى، فيجمعون بذلك بين شركين، شرك دعاء غير الله مع اعتقاد إجابته، وشرك الكفر بتفضيل غيره عليه سبحانه في سرعة الإجابة مع أن الله يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ}؛ أي: لا يجيب المضطر إلا هو، فهو المستحق وحده للعبادة 181 - {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ}؛ أي: جماعة وعصابة كثيرة {يَهْدُونَ} الناس ويدلونهم على الاستقامة حالة كونهم ملتبسين {بِالْحَقِّ} والعدل والصواب {وَبِهِ}؛ أي: وبالحق {يَعْدِلُونَ}؛ أي: يحكمون بين الناس في الحكومات والخصومات الجارية فيما بينهم، ولا يجورون فيها، والمعنى: وبالحق خاصة يجعلون الأمور متعادلة، لا

[182]

زيادة في شيء منها على ما ينبغي، ولا نقص، لأنّا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك المتقدمين، والمعنى (¬1): ويكون ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة يهدون الناس بالحق، ويدلونهم على الاستقامة، وبالحق يحكمون في الحكومات التي تجري بينهم، ولا يجورون في حكمهم، فسبيلهم واحدة؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، وهؤلاء هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ، عن ابن جريج في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون»، وأخرج عبد الله بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا قرأها: «وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}. وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة، يقول تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة. وروى الشيخان عن معاوية قال - وهو يخطب -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به، ويهدي إليه. 182 - ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة .. بين حال من يخالفهم فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} القرآنية والكونية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلّم، وهم جميع أنواع الكفرة من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ أي: سنأخذهم قليلا قليلا {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}؛ أي: من حيث لا يحتسبون الهلاك والأخذ ولا يظنونه، وقيل معناه (¬2): سنقربهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[183]

ما يراد بهم؛ لأنّهم كانوا إذا أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب .. فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادون بذلك تماديا في الغي والضلال، ويتدرجون في الذنوب والمعاصي، فيأخذهم الله أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، والمعنى: أي: والذين كذبوا بآيات الله، ولم يؤمنوا بها سندعهم ونتركهم يسترسلون ويستمتعون في غيهم وضلالهم، لا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم لجهلهم سنن الله تعالى في المنازعة بين الحق والباطل، وأن الحق يدفع الباطل، وما ينفع الناس يتغلب على ما يضرهم، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} وقال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}. وقد صدق الله وعده، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم اغترارا بكثرتهم وثروتهم، لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا، وأكثرهم من الضعفاء الفقراء، فما زالوا يتدرجون في عداوتهم له، وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر، فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا تغلبهم عليه آخر معركة أحد، حتى قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، إلى أن كان الفتح الأعظم فتح مكة، فأظهر رسوله صلى الله عليه وسلّم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سننه تعالى. وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما حملت إليه كنوز كسرى: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)} وقرأ بعضهم: سيستدرجهم بالياء فيحتمل أن يكون الفاعل الله سبحانه، وهو التفات من التكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله: {كَذَّبُوا}. 183 - {وَأُمْلِي لَهُمْ}؛ أي: وأمهل لهؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر، وأمد لهم في أسباب المعيشة، والتدرب على الحرب بمقتضى سنني في نظام الاجتماع البشري، كيدا لهم ومكرا بهم، لا حبا فيهم، ونصرا لهم، كما قال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)} وروى الشيخان من حديث أبي موسى: «إن الله ليمد للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

[184]

وخلاصة ذلك: أنّ سنة الله قد مضت في الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما، ولا يحسب للعواقب حسابا، فيسترسل في ظلمه إلى أن تحيق عاقبة ظلمه في الدنيا بأخذ الحكام له، أو بوقوعه في المصائب والمهالك، وله في الآخرة عذاب النار، وبئس القرار. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}؛ أي: إنّ استدراجي ومكري وأخذي قوي لا يدافع بقوة، ولا بحيلة، وسمى العذاب كيدا لأنّ ظاهره إحسان ولطف، وباطنه خذلان وقهر، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر: {أن كيدي} بفتح الهمزة على معنى: لأجل أن كيدي. وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف، 184 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا فيها فيعلموا {ما بِصاحِبِهِمْ} محمد صلى الله عليه وسلّم {مِنْ جِنَّةٍ}؛ أي: شيء من جنون؛ أي: أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من بدء نشأته، وفي حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم. إنّهم إن تفكروا في ذلك مليا .. أوشكوا أن يعرفوا الحق، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة، وقد حكى الكتاب الكريم أنّهم رموه بالجنون كقوله في كفار مكة: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)}، وقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)} وقوله: {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ}. وعبر عنه صلى الله عليه وسلّم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلّم مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلّم عن شائبة الجنون. وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون؛ لأنّهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم، لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم؛ ولأنّهم ادعوا ما لم يعهد له نظير عندهم، فقد حكى الله عن قوم نوح أنّهم اتهموه بالجنون فقالوا: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}.

[185]

وقال في شأنهم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}. وقال حكاية عن فرعون في موسى عليه السلام: {قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}. وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}. {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلّم {إِلَّا} رسول {نَذِيرٌ}؛ أي: مخوف من عذاب الله لمن كذب به {مُبِينٌ}؛ أي: مظهر لهم في التخويف بلغة يعرفونها؛ أي: إنّه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح، ومبلغ عن الله تعالى، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم في الدنيا بجمع الكلمة، وصلاح حال الفرد والمجتمع، والسيادة على من سواكم، وصلاحكم في الآخرة بلقاء ربكم وأنتم في جنان النعيم. ولو تأمل مشركوا مكة في نشأته صلى الله عليه وسلّم - وما جربوا من أمانته وصدقه - إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح في حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية .. لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل، ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأي ذلك النبي الأمي الناشىء بين الأميين، وأنّ ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على ما يدعي لا يصدر ممن لم يناظر، ولم يفاخر، ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم. 185 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} للاستفهام التوبيخي التعجبي، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أكذبوا الرسول الذي علموا صدقة وأمانته وقالوا: إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال في هذا الكون العظيم من السموات والأرض، فيروا ذلك النظام البديع فيهما الدال على القدرة الباهرة والحكمة الظاهرة {وَ} لم ينظروا في {ما خَلَقَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى فيهما {مِنْ شَيْءٍ} من الأجناس التي لا يحصرها عدد، وإن دق وصغر، فإنّهم لو تأملوا

[186]

في كل ذلك .. لرأوا آثار قدرته وعلمه وفضله ورحمته، وأنّه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا، ولا ترك الناس سدى، إنّ كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد، وسبيل واضح إلى التوحيد. وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه الواحد إنهم لو نظروا في شيء من ملكوت السموات والأرض .. لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم وقوله: {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} معطوف (¬1) على {مَلَكُوتِ السَّماواتِ} و {أَنْ} مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وكذا اسم {يَكُونَ} ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم، وتوقع حلولها، فيسارعون إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة (¬2) الموت، ونزول العذاب، فإنهم لو نظروا في توقع قرب آجالهم وقدومهم على ربهم بسوء عملهم .. لاحتاطوا لأنفسهم، ورأوا أنّ من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلّم لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنّه خير لهم في الدنيا، وخير لهم في الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} وكتاب {بَعْدَهُ}؛ أي: بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون إن لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله تعالى بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به .. فلا مطمع في إيمانه بغيره، وقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ} وهي جملة استفهامية سيقت للعجب؛ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث .. فكيف يؤمنون بغيره. والمعنى (¬3): فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم يصدقون إن لم يصدقوا به، وليس بعد محمد نبي، ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنّه خاتم الأنبياء، وكتابه آخر الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلّم؟ 186 - ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: من يرد الله سبحانه وتعالى إضلاله عن الحق والصواب: {فَلا هادِيَ لَهُ}؛ أي: فلا مرشد له إلى الحق، فإنّ إعراضهم ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) مغافصة الموت: مفاجئة الموت. (¬3) الخازن.

عن الإيمان لإضلال الله إياهم؛ أي: إن الله تعالى قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين، وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا، وأكملهم عقلا وأجملهم أخلاقا، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول .. فهو الذي أضله الله؛ أي: هو الذي قضت سنته في خلق الإنسان، وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن .. فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها {وَيَذَرُهُمْ}؛ أي: وهو سبحانه وتعالى يذر هؤلاء الضالين ويتركهم {فِي طُغْيانِهِمْ} وضلالهم {يَعْمَهُونَ}؛ أي: يتحيرون يترددون حيرة، ولا يهتدون سبيلا للخروج مما هم فيه، بما كسبت أيديهم من الطغيان، وتجاوز الحد في الظلم والفجور. والخلاصة (¬1): أنّه ليس معنى إضلال الله لهم أنّه أجبرهم على الضلال وأعجزهم بقدرته عن الهدى، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا، بل المراد أنّهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال، وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان .. فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان، فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى، وقلوبهم لا ترعوي لدى الذكرى {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)}. وقرأ الحسن (¬2) وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر: {وَنَذَرُهُمْ} بالنون ورفع الراء، وأبو عمرو وعاصم: بالياء ورفع الراء، وهو استئناف إخبار قطع أو أضمر قبله نحن، فيكون جملة اسمية، وقرأ ابن مصرف والأعمش والأخوان - حمزة والكسائي - وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم: بالياء والجزم، وروى خارجة عن نافع: بالنون والجزم، وخرج سكون الراء على وجهين: أحدهما: أنّه سكن لتوالي الحركات، كقراءة: {وما يشعركم وينصركم} فهو مرفوع. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[187]

والآخر: أنّه مجزوم عطفا على محل {فَلا هادِيَ لَهُ}؛ فإنه في موضع جزم، فصار مثل قوله: {فهو خير لكم ونكفر}: في قراءة من قرأ بالجزم، في (راء) و {نكفر}، 187 - {يَسْئَلُونَكَ}؛ أي: يسألك يا محمد كفار قريش سؤال استهزاء وسخرية {عَنِ السَّاعَةِ}؛ أي: عن وقت قيام الساعة ومجيء القيامة، والساعة من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الناس، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة، أو لأنّها مع طولها في نفسها عند الخلق كساعة من الساعات عند الله. وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان بعض أنواع ضلالهم وطغيانهم؛ أي: يسألونك عن الساعة بقولهم {أَيَّانَ مُرْساها}؛ أي: متى إرساؤها ووقوعها وحصولها، وكأنه شبهها بالسفينة القائمة في البحر تشبيها للمعاني بالأجسام، والساعة الوقت الذي تموت فيها الخلائق، وقرأ الجمهور: {أَيَّانَ} بفتح الهمزة، والسلمي بكسرها حيث وقعت، وهي لغة قومه بني سليم. {قُلْ} لهم يا محمد في جواب سؤالهم {إِنَّما عِلْمُها}؛ أي: علم وقت مجيئها كائن {عِنْدَ رَبِّي} سبحانه قد انفرد بعلمها، بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب، أو نبي مرسل؛ أي: ما علمها حاصل إلا عند الله سبحانه وتعالى، والمعنى: يسألونك أيها الرسول عن الساعة يقولون: متى إرساؤها واستقرارها؟ - والسائلون هم قريش - لأنّ السورة مكية ولم يكن في مكة أحد من اليهود، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه، وتكذيب بوجوده، كما جاء حكاية عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)} وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)}. وفي التعبير عن زمن وقوعها - بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب - إيماء إلى أنّ قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم، وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي}؛ أي: قل إن علم الساعة عند ربي وحده، لا عندي ولا عند غيري من الخلق، وقد جاء بمعنى الآية قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها} وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)

إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)} وفي قوله: {عِنْدَ رَبِّي} إشارة إلى أنّ ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد، فالله قد أعد نبيه ليكون منذرا ومبشرا، والإنذار إنّما يكون بالساعة وأهوالها، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، إذ تحديد ذلك ينافي هذه الفائدة، بل فيه مفاسد، إذ لو وقت الرسول ميعاد الساعة بتاريخ معين لاستهزأ به المكذبون، ولألحوا في تكذيبه، وازدادوا ارتيابا، حتى إذا ما وقع الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم، ينغص عليهم حياتهم، ويشنج أعصابهم، فلا يستطيعون عملا، ولا يستسيغون طعاما ولا شرابا، ويسخر الكافرون من المؤمنين. والخلاصة: أن هناك حكمة بالغة في إبهام أمر الساعة العامة للعالم، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال يجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به. {لا يُجَلِّيها}؛ أي: لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه {لِوَقْتِها}؛ أي: في وقتها المعين لها {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى؛ أي: لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار عنه إلا هو سبحانه وتعالى، والمعنى: لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها في وقتها المحدود عند الله تعالى، إلا هو سبحانه، إذ لا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها، ولا في الإعلام بميقاتها، وإنّما وساطة الرسل في الإنذار بها. {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: ثقل وصعب تحصيل العلم بوقتها على أهل السموات والأرض، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى وقوعها، وقيل المعنى: ثقل وقتها، وعظم أمرها في السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن؛ لأنّ الله تعالى أنبأهم بأهوالها، ولم يشعرهم بميقاتها، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم قيامها. وقال السدي: خفيت في السموات والأرض، فلا يعلم قيامها ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقال ابن عباس: ليس شيء من الخلق إلا يصيبه ضرر يوم القيامة. وروي عن ابن جريج: أن ثقلها يكون يوم مجيئها {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)

وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} إلى نحو ذلك مما وصفه الله تعالى من أمر قيامها {لا تَأْتِيكُمْ} الساعة أيها السائلون عنها {إِلَّا بَغْتَةً}؛ أي: إلا فجأة وحين غفلة من الخلق بلا إشعار ولا إنذار، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه - أي يصلحه بطين وجص ليمسك الماء - فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فمه فلا يطعمها». والمراد من هذا كله أنّها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم. ويجب (¬1) على المؤمنين أن يخافوا ذلك، وأن يحملهم ذلك على مراقبة الله تعالى في أعمالهم، بأن يلتزموا فيها الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشر والمعاصي، ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدل فيها، وكثرة القيل والقال في شأنها، وفي تعيين ميقاتها، وقوله: {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} فيه تقديم وتأخير؛ أي: يسألونك عنها كأنك حفي بها؛ أي: سألك قومك يا محمد عن حقيقة الساعة وكنهها وثقلها وشدائدها، كأنك حفي أي: عالم بها، ومتيقن لها، فعلى هذا التفسير فلا تكرار مع ما سبق؛ لأن السؤال الأول عن وقت مجيئها، وهذا الثاني عن حقيقتها وكنهها وثقلها، وقيل: السؤال هنا أيضا عن وقت مجيئها، ولكن كرره تأكيدا لما سبق، وتقريرا له. وقد يكون المعنى: يسألونك عنها كأنك حفي وشفيق بهم، وصديق لهم بينك وبينهم مودة، ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال: لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفي بهم؟ فأوحى الله إليه: «إنما علمها عنده استأثر به، فلا يطلع عليه ملكا مقربا ولا رسولا» وما روي عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلّم: إن بيننا وبينك قرابة. فأشر إلينا متى الساعة، فقال: الله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها}. وقرأ عبد الله (¬2): {كأنك حفي بها} بالباء مكان عن؛ أي: عالم بها، بليغ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

في العلم بها {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّما عِلْمُها}؛ أي: علم حقيقتها أو علم وقت مجيئها كائن {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، استأثر بعلمه لا يعلمه أحد من خلقه، أنا ولا غيري، وكرر الجواب إثر تكرير السؤال مبالغة في التأكيد، وإيآسا لهم من العلم بوقت مجيئها، وتخطئة لمن يسألون عنها، وعبّر في هذا الجواب بلفظ الجلالة حيث قال: {عِنْدَ اللَّهِ} وفي الجواب السابق بلفظ: {رَبِّي} حيث قال: {عِنْدَ رَبِّي} إشارة إلى أنّه استأثر بعلمها لألوهيته، كما أشعر في السابق بأن علمها من شؤون ربوبيته، وكلاهما مستحيل على خلقه. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}؛ أي: لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى، ولا حكمة ذلك، ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغي أن يعلم في هذا الباب، وإنّما يعلم ذلك القليلون منهم، وهم المؤمنون بما جاء في كتاب الله من أخبارها، وبما سمع من رسوله صلى الله عليه وسلّم، كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل، وسؤاله النبي محمد صلى الله عليه وسلّم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم عن الساعة؟ وإجابة النبي صلى الله عليه وسلّم له عن سؤاله الأخير بقوله: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»؛ أي: إنا سواء في جهل هذا الأمر، فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة. وقال الطبري (¬1): المعنى: لا يعلمون أنّ هذا الأمر لا يعلمه إلا الله، بل يظن أكثرهم أنّه مما يعلمه البشر. اه وقيل: لا يعلمون أن القيامة حق؛ لأنّ أكثر الناس ينكرون المعاد ويقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} ... الآية. قيل: لا يعلمون أني أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا الله، وقيل: لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها، والأظهر قول الطبري كما أشرنا إليه في الحل. قال الألوسي (¬2): وإنّما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها، نعم علم عليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الألوسي.

الصلاة والسلام قربها على الإجمال، وأخبر به، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، وفي «الصحيحين» عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيما مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس». اه. فصل في عمر الدنيا ألف الجلال السيوطي رسالة سماها: «الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف» أخرج فيها عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمس مئة، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة؛ لأن نصفها دنيا، ونصفها الآخر أخرى، ولا شك أن ما جاء في هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس في المسلمين، حتى رووه مرفوعا وقد اغتر بها من لا ينظر في نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات، التي أريد بها الكيد للإسلام. والخلاصة: أنّ القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت في نص يعتمد عليه، وإن كانت قد رويت فيه آثار عن السلف، أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب، وفي أسانيدها مقال، قال ابن حزم المتوفى سنة 456 هـ: أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل .. فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه لفظة تصح، بل صح عنه خلافه، بل نقطع على أنّ للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعر البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض» وهذه نسبة من تدبرها، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنّه الأكبر .. علم أنّ للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله اه.

فصل في بعض أشراط الساعة وعلاماتها الأشراط واحدها شرط، أسباب وسبب، وهي العلامات والأمارات الدالة على قربها، وقد ثبت في الكتاب والسنة أنّ للساعة أشراطا كما قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)} ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحي الإلهي للناس أجمعين، فبعثته قد كمل بها الدين، وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية، ويتلوها كمال الحياة المادية، وما بعد الكمال إلا الزوال. وقد وردت أحاديث في أشراط الساعة يدل بعضها على أنّ الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلبة زمنا. ثم تنتصر الهداية الروحية، ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق، وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام: 1 - ما وقع بالفعل منذ قرون خلت، كقتال اليهود، وفتح بيت المقدس، والقسطنطينية. 2 - ما وقع بعضه - وهو لا يزال في ازدياد - كالفتن والفسوق، وكثرة الزنا وكثرة الدجالين، وكثرة النساء وتشبههن بالرجال، والكفر والشرك، حتى في بلاد العرب. 3 - ما سيقع بين يدي الساعة من العلامات الصغرى والكبرى. المهدي المنتظر أشهر الروايات أنّ اسمه محمد بن عبد الله، والشيعة يقولون: إنّه محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر، ويقولون: إنّه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة «سرّ من رأى» التي تسمى الآن «سامراء» سنة (365)، وله من العمر تسع سنين، وأنّه لا يزال في السرداب حيا، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية، وأنه حي مقيم بجبل رضوى - جبل بالمدينة - بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا، ومعه أربعون من أصحابه.

والمشهور في نسبه أنّه علوي فاطمي من ولد الحسن، وهناك رواية مصرحة بأنّه من ولد العباس، فقد روى الرافعي عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال للعباس: «ألا أبشرك يا عم إنّ من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء، ومنك المهدي في آخر الزمان، به ينشر الله الهدى، ويطفىء نيران الضلالة، إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم». ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا «اللهم انصر العباس وولد العباس - ثلاثا - يا عم، أما علمت أن المهدي من ولدك موفقا مرضيا». وفي معناهما أحاديث أخرى لأبي هريرة وأم سلمة وعلي، وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث، ويقولون: إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة، ومن ثم لم يعتد بها الشيخان، ومن هؤلاء ابن خلدون، فقد ذكر الأحاديث التي وردت في المهدي وضعفها، وضعف أسانيدها، وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنّه لم يصح فيه شيء يوثق به، إلى أن قال: إن لله سننا - في الأمم والدول والعمران - مطردة في كل زمان ومكان، كما ثبت في مصحف القرآن وصحف الأكوان، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية، وأن الأعاجم سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية، فإن صحت أخبار هذا المهدي فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية، ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا، ولكان استعدادهم لظهور المهدي بالاهتداء بسنن الله رحمة لهم تجاه ما كانوا في أخباره من الفتن والنقم فيهم، وربما أغناهم عن بعض ما يروجون من زعامته، إن لم يغنهم عنه كله. هذا والمسلمون لا يزالون على ظهور المهدي، ويزعم دهماؤهم أنّه سينقض لهم سنن الله، أو يبدلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. فإذا كان من أشراط الساعة آيات، وكان في زمانها خوارق عادات، فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم، وإقامة لشرعهم في عزة وسلطان في أرضهم، وكان لكعب الأحبار جولة واسعة في تلفيق تلك الأخبار. وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن في الشعوب الإسلامية،

[188]

إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين، ومرقوا من الإسلام. وقد كان من حصافة الرأي أن يكون خروج المهدي باعثا لهم على الاستعداد لظهوره، بتأليف عصبية قوية بزعامته، تجدد الإسلام وتنشر العدل في الإسلام، لكنهم لم يفعلوا، بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة بجمع كلمة الأمة، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة، واتكلوا على قرب ظهور المهدي، وأنه هو الذي سيرد إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات، لا بالمدافع والدبابات والطيارات، والقاذفات، والأساطيل، والغواصات، وقد فاتهم أنّ الحرب كانت بين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين المشركين سجالا، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا، فهل يكون المهدي أهدى وأحسن منه حالا ومآلا؟. 188 - {قُلْ} لهم يا محمد فيما تبلغه لهم من أمر دينهم {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} ولا لغيري {نَفْعًا وَلا ضَرًّا}؛ أي: جلب نفع ولا دفع ضر، مستقلا بقدرتي على ذلك {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أن يقدرني عليه، فإذا أقدرني على جلب النفع .. جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرني على منع الضر .. منعته بتسخير الأسباب كذلك. وقد كان المسلمون - ولا سيما حديثوا العهد بالإسلام - يظنون أنّ منصب الرسالة يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب، وأنّ الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحب، أو عمن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره، أو بمن يشاء، فأمره الله تعالى أن يبين للناس أنّ منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وأن وظيفة الرسول إنّما هي التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد، وأنّه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}؛ أي: جلب منافع الدنيا، ودفع مضراتها {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}؛ أي: لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب، كالادخار في زمن الخصب لزمن الجدب {وَ} لـ {ما مَسَّنِيَ السُّوءُ}؛ أي: ولما أصابني

الضر والفقر لاحترازي عنه باجتناب الأسباب، وفي «الكرخي»: {وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ}؛ أي: سوء يمكن التقصي عنه بالتوقي عن موجباته، والمدافعة بموانعه، لا سوء ما؛ فإن منه ما لا مدفع له. اه. قال ابن كثير: أمره الله تعالى أن يفوض الأمر إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب في المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك، إلا ما أطلعه الله عليه كما قال: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)} روى الضحاك عن ابن عباس: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}؛ أي: من المال. وقال ابن جرير: أي: لو كنت أعلم الغيب .. لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: {وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ} قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته. اه. ثم علل نفي امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب، وسنن الله في الخلق، ونفي امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال: {إِنْ أَنَا}؛ أي: ما أنا {إِلَّا نَذِيرٌ}؛ أي: مخوف من النار {وَبَشِيرٌ} بالجنة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالجنة والنار؛ أي: كتب في الأزل أنهم يؤمنون فإنّهم المنتفعون به، فلا ينافي كونه بشيرا ونذيرا للناس كافة، واللام في قوله: {لِقَوْمٍ} تتعلق بكل من (النذير) و (البشير)؛ لأن (¬1) النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم، أو متعلق بالبشير وحده، والمتعلق بالنذير محذوف؛ أي: إلا نذير للكافرين، وبشير للمؤمنين. والمعنى (¬2): إنّه لا امتياز لي عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن الله عز وجل بالإنذار والتبشير، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة، والآيات في ذلك كثيرة نحو قوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} وقوله: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ}. والخلاصة: أنّ الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون، لا يشاركون الله في صفاته ولا في أفعاله، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه، ولا في ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

تدبيره، وإنّما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه واصطفائهم لتبليغ رسالته لعباده، وجعلهم قدوة صالحة للناس في العمل بما جاؤوا به عن الله تعالى من الصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة. قال الشوكاني: وفي (¬1) هذه الآية من إظهار العبودية، والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلّم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل، أو الطرق بالحصى أو الزجر اه. قال أبو حيان: وظاهر (¬2) قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب، كما روي عنه: «لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي» بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون العلم بالمستقبل الغيبي، وأنّهم برياضة نفوسهم يحصل لهم إطلاع على المغيبات، وإخبار بالكوائن التي تحدث، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر، وخصوصا في ديار مصر، حتى إنّهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمخ بالنجاسة، يظل دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسة، ويكشف عورته للناس حين يبول، وهو عار عن العلم والعمل الصالح. انتهى. الإعراب {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)}. {وَاتْلُ} الواو: عاطفة، {اتْلُ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على العامل المقدر في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} كما ذكره أبو السعود، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {اتْلُ}، {نَبَأَ الَّذِي}: مفعول به ومضاف إليه، {آتَيْناهُ آياتِنا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، {فَانْسَلَخَ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {انسلخ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، {مِنْها}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْناهُ}، {فَأَتْبَعَهُ ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) البحر المحيط.

الشَّيْطانُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {انسلخ}، {فَكانَ} {الفاء}: عاطفة، {كان}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على المنسلخ، {مِنَ الْغاوِينَ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ}. {وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط، {شِئْنا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} {لَرَفَعْناهُ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ}، {رفعناه}: فعل وفاعل ومفعول، {بِها}: متعلق به، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة، {وَلكِنَّهُ}: {لكن}: حرف استدراك. {والهاء}: اسمها. {أَخْلَدَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على المنسلخ، {إِلَى الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لَوْ}، {وَاتَّبَعَ هَواهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المنسلخ، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {أَخْلَدَ}، {فَمَثَلُهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت صفات المنسلخ المذكورة، وأردت بيان مثله لك .. فأقول: مثله كمثل الكلب، {مثله}: مبتدأ ومضاف إليه، {كَمَثَلِ الْكَلْبِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنْ}: حرف شرط، {تَحْمِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} وفاعله ضمير يعود على المخاطب {عَلَيْهِ}: متعلقان بالفعل {تَحْمِلْ}، {يَلْهَثْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على {الْكَلْبِ}، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب حال من {الْكَلْبِ}؛ أي: حالة كون الكلب لاهثا في كل حال، {أَوْ تَتْرُكْهُ}: فعل ومفعول معطوف على {إِنْ تَحْمِلْ} على كونه فعل شرط لـ {إِنْ} وفاعله ضمير يعود على المخاطب، {يَلْهَثْ}: فعل مضارع معطوف على

{يَلْهَثْ} الأول على كونه جوابا لـ {إِنْ} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {الْكَلْبِ}. {ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. {ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، بـ {بِآياتِنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {فَاقْصُصِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تحققت أن المثل المذكور مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وأردت بيان ما هو اللازم .. فأقول لك: {اقصص القصص}: {اقصص}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، {الْقَصَصَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترج، {والهاء}: اسمها، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ} خبرها، وجملة (¬1) الترجي في محل النصب على أنّها حال من ضمير المخاطب، أو على أنّها مفعول له؛ أي: فأقصص القصص راجيا لتفكرهم، أو رجاء لتفكرهم. {ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)}. {ساءَ}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لشبهه بالمثل تقديره: هو، يعود على مبهم يفسره التمييز، {مَثَلًا} تمييز لفاعل {ساءَ} المستتر فيه، {الْقَوْمُ} مخصوص بالذم مرفوع على الابتداء، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: مثل القوم، وخبره جملة {ساءَ} والتقدير: مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا ساء مثلا، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل رفع صفة لـ {الْقَوْمُ}. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، {بِآياتِنا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول {وَأَنْفُسَهُمْ}: مفعول مقدم لـ {يَظْلِمُونَ}، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَظْلِمُونَ}: خبره، وجملة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{كانُوا} معطوفة على جملة {كَذَّبُوا} على كونها صلة الموصول. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو جملة الشرط، أو هما، {يَهْدِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {فَهُوَ الْمُهْتَدِي}: مبتدأ وخبر، و {الفاء} رابطة الجواب وجوبا، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جواب شرط لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ}: الواو: عاطفة {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب على الخلاف المذكور آنفا، {يُضْلِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله، {فَأُولئِكَ} {الفاء}: رابطة الجواب، {أولئك}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فعل، {الْخاسِرُونَ}: خبره والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {اللام} موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {ذَرَأْنا}: فعل وفاعل، {لِجَهَنَّمَ} متعلق به، {كَثِيرًا}: مفعول به، {مِنَ الْجِنِّ}: صفة لـ {كَثِيرًا}، {وَالْإِنْسِ}: معطوف على {الْجِنِّ}، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، {لَهُمْ} خبر مقدم، {قُلُوبٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثانية لـ {كَثِيرًا}، لا {يَفْقَهُونَ}: فعل وفاعل، بِها متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {قُلُوبٌ}، {وَلَهُمْ}: خبر مقدم، {أَعْيُنٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ} على كونها صفة لـ {كَثِيرًا}، وجملة {لا يُبْصِرُونَ بِها} في محل الرفع صفة لـ {أَعْيُنٌ}، وجملة {وَلَهُمْ آذانٌ} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ} وجملة {لا

يَسْمَعُونَ بِها} في محل الرفع صفة لـ {آذانٌ} {أُولئِكَ}: مبتدأ، {كَالْأَنْعامِ}: خبره، والجملة مستأنفة، {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، {هُمْ}: مبتدأ {أَضَلُّ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ}، {أُولئِكَ}: مبتدأ، {هُمْ}: ضمير فصل، {الْغافِلُونَ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)}. {وَلِلَّهِ}: خبر مقدم، {الْأَسْماءُ}: مبتدأ مؤخر، {الْحُسْنى}: صفة له، والجملة مستأنفة، {فَادْعُوهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن لله الأسماء وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم، {ادعوه}: فعل وفاعل ومفعول، {بِها}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَذَرُوا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {فادعوا}، {يُلْحِدُونَ}: فعل وفاعل، {فِي أَسْمائِهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {سَيُجْزَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبرها، وجملة: {كانُوا} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كانوا يعملونه. {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)}. {وَمِمَّنْ} {الواو}: استئنافية، {مِمَّنْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {خَلَقْنا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وممن خلقناه، {أُمَّةٌ}: مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة، {يَهْدُونَ}: فعل وفاعل، {بِالْحَقِّ}: متعلق به، والجملة صفة لـ {أُمَّةٌ}، {وَبِهِ} متعلق بـ {يَعْدِلُونَ}، وجملة {يَعْدِلُونَ} في محل الرفع معطوفة على جملة {يَهْدُونَ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، {بِآياتِنا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول،

{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، وجملة: {لا يَعْلَمُونَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}. {وَأُمْلِي} {الواو}: عاطفة، {أُمْلِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، لَهُمْ: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}، وفيه نوع من الالتفات؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: ونملي، أو مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وأنا أملي، {إِنَّ}: حرف نصب، {كَيْدِي}: اسمها ومضاف إليه، {مَتِينٌ}: خبرها، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا، الواو: عاطفة على ذلك المحذوف، {لَمْ يَتَفَكَّرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة معطوفة على المحذوف الذي قدرناه آنفا، والجملة المحذوفة مستأنفة، ما: نافية، {بِصاحِبِهِمْ}: خبر مقدم، {مِنْ جِنَّةٍ}: مبتدأ مؤخر، {ومِنْ}: زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول لـ {يَتَفَكَّرُوا}؛ لأنّها علقت بما النافية، {إِنْ}: نافية، {هُوَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {نَذِيرٌ}: خبر، {مُبِينٌ}: صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها وتأكيده. {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا الرسول الذي علموا صدقه، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، {لَمْ يَنْظُرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، {فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ}، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، {وَما خَلَقَ اللَّهُ}.

الواو: عاطفة، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل الجر، معطوفة على {مَلَكُوتِ السَّماواتِ}، {خَلَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {مِنْ شَيْءٍ} حال من الضمير المحذوف من {خَلَقَ}؛ أي: وفي ما خلقه الله من شيء، والجملة الفعلية صلة لـ ما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وفي ما خلقه من شيء، {وَأَنْ} الواو: عاطفة {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وفي أنّه، {عَسى}: فعل ماض تام من أفعال الرجاء، {أَنْ}: حرف مصدر، {يَكُونَ} منصوب بـ {أَنْ}، واسمها ضمير الشأن، {قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {يَكُونَ}، وجملة {يَكُونَ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {عَسى} والتقدير: وأن عسى اقتراب أجلهم، وجملة {عَسى} في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر معطوف على {مَلَكُوتِ السَّماواتِ} والتقدير: أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وفي ما خلق الله من شيء، وفي توقع اقتراب أجلهم، {فَبِأَيِّ} {الفاء}: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن .. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، {بأي حديث}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، والاستفهام فيه تعجبي، {بَعْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بالفعل {يُؤْمِنُونَ} {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة. {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها}. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} على كونه فعل شرط لها، {فَلا}: الفاء رابطة الجواب بالشرط وجوبا، {لا} نافية تعمل عمل ليس، {هادِيَ} في محل النصب اسمها، {لَهُ} جار ومجرور، خبر {لا}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة، وهذه الجملة تذييل لما قبلها، {وَيَذَرُهُمْ}: فعل ومفعول،

وفاعله ضمير يعود على الله، {فِي طُغْيانِهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلا هادِيَ}، وجملة {يَعْمَهُونَ} في محل النصب حال من هاء {وَيَذَرُهُمْ}. {يَسْئَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة {عَنِ السَّاعَةِ} متعلق بـ {يسئلون} على أنه مفعول ثان له، {أَيَّانَ}: ظرف زمان بمعنى متى في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبها معنويا، لتضمنه معنى حرف الاستفهام، وهو خبر مقدم، و {مُرْساها}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجر بدل عن {السَّاعَةِ}، تقديره: يسألونك عن الساعة عن زمان حلول الساعة، كما ذكره أبو البقاء. {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {إِنَّما عِلْمُها} إلى قوله: {بَغْتَةً} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر، {عِلْمُها}: مبتدأ ومضاف إليه، {عِنْدَ رَبِّي}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول، {لا}: نافية، {يُجَلِّيها}: فعل ومفعول، {لِوَقْتِها}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة في محل النصب مقول القول، {ثَقُلَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {السَّاعَةِ}، والجملة في محل النصب مقول القول، {فِي السَّماواتِ}: متعلق به {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ}، {لا تَأْتِيكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {السَّاعَةِ}، والجملة مستأنفة في محل النصب مقول القول، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بَغْتَةً}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: لا تأتيكم إلا إتيان بغتة. {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. {يَسْئَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان خطئهم في

توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بناء على زعمهم أنّه عليه الصلاة والسلام عالم بالمسؤول عنه، {كَأَنَّكَ}: {كأن}: حرف نصب وتشبيه، {والكاف}: اسمها، حَفِيٌّ خبرها، وجملة {كأن} في محل النصب حال من مفعول {يَسْئَلُونَكَ}؛ أي: يسألونك حال كونك مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي بها؛ أي: عالم، عَنْها: جار ومجرور، متعلق بـ {يسئلون}، وجملة {كأن} معترضة، وصلة {حَفِيٌّ}: محذوف تقديره: بها، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مؤكدة للجواب السابق؛ لأنّها عينه، وعبارة أبي السعود: أمر عليه السلام بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وإشعارا بعلته. انتهت. {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر، {عِلْمُها}: مبتدأ، {عِنْدَ اللَّهِ} خبره، والجملة في محل النصب مقول القول، {وَلكِنَّ}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لا يَعْلَمُونَ}: خبرها، وجملة الاستدراك مستأنفة. {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت. {لا}: نافية، {أَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول، {لِنَفْسِي}: جار ومجرور، متعلق به {نَفْعًا}: مفعول به {وَلا ضَرًّا} معطوف على {نَفْعًا}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء، {شاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه الله. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ}. {وَلَوْ} {الواو}: عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط، {كُنْتُ}: فعل ناقص واسمه، {أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {أَعْلَمُ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}: فعل شرط لـ {لَوْ} لا

محل لها من الإعراب، {لَاسْتَكْثَرْتُ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} {استكثرت}: فعل وفاعل {مِنَ الْخَيْرِ} متعلق به، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، {وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على {استكثرت}. {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. {إِنْ}: نافية مهملة لانتقاض نفيها بإلا، {أَنَا} مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {نَذِيرٌ}: خبر، {وَبَشِيرٌ}: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول القول، {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور تنازع فيه ما قبله، فعند البصريين يتعلق بـ {بَشِيرٌ} لقربة، وعند الكوفيين بـ {نَذِيرٌ} لسبقه، ويجوز أن يكون متعلق النذارة محذوفا؛ أي: نذير للكافرين، وحذف لدلالة ما قبله عليه، كما في «الكرخي» وجملة {يُؤْمِنُونَ} في محل الجر صفة لـ {قوم}. التصريف ومفردات اللغة {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها} التلاوة: القراءة، والنبأ الخبر الذي له شأن، وانسلاخه منها: كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدثه نفسه بالرجوع إليه: انسلخ منه، وقال أبو حيان: الانسلاخ التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء، ومنه: انسلخت الحياة من جلدها إذا خرجت منه اه. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ}؛ أي: أدركه ولحقه، قال الجوهري: يقال: اتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم، والمعنى: فصار هو قدوة ومتبوعا للشيطان على سبيل المبالغة. {فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ}؛ أي: من الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}؛ أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها، وقال أبو السعود: الإخلاد إلى الشيء الميل إليه مع الاطمئنان به، وفي «المصباح» خلد بالمكان خلودا - من باب قعد - أقام، وأخلد بالألف مثله، وخلد إلى كذا وأخلد إليه ركن اه {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}؛ أي: الذي هو أخس الحيوانات،

والكلب (¬1) حيوان معروف، ويجمع في القلة على أكلب، وفي الكثرة على كلاب، وشذوا في هذا الجمع، فجمعوه بالألف والتاء فقالوا: كلابات، وتقدمت هذه المادة في مكلبين، وكررناها لزيادة الفائدة {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ}؛ أي: تشد عليه وتطرده {يَلْهَثْ} يقال: لهث الكلب يلهث من باب قطع، لهثا بفتح اللام ولهثا بضمها ولهاثا بضمها أيضا إذا أخرج لسانه مع التنفس الشديد، وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والري، بخلاف غيره من الحيوان، فإنّه لا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش {ساءَ مَثَلًا} يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء، إذا قبح، وساءه يسوؤه مساءة والمثل الصفة. {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها}. الذرء (¬2) لغة: الخلق، يقال: ذرأ الله الخلق إذا أوجد أشخاصهم، والخلق التقدير؛ أي: إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، والجن: الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بالحواس. والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبرية الشكل في الجانب الأيسر من جسد الإنسان، وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا بالضمير وهو محل الحكم في أنواع المدركات والشعور الوجداني لما يلائم أو يؤلم، وهو كثير بهذا المعنى في الكتاب الكريم كقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}، {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8)}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} وسر استعمال القلب في هذا المعنى: ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز، أو حين السرور والابتهاج. والفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب، وقد استعمله القرآن في مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم، والتعمق في العلم ليترتب عليه أثره - وهو الانتفاع به - ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين؛ لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفى فقهه عنهم، ففاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} و {الْأَسْماءُ} جمع اسم، وهو اللفظ الدال على الذات، أو عليها مع صفة من صفاتها، و {الْحُسْنى} بوزن فعلى مؤنث الأحسن، كالكبرى والصغرى، وقيل: الحسنى مصدر وصف به، كالرجعى، وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل في قوله: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} ولو طوبق به .. لكان التركيب الحسن كقوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. {فَادْعُوهُ بِها}؛ أي: سموه ونادوه بها للثناء عليه، أو للسؤال وطلب الحاجات {وَذَرُوا}؛ أي: أتركوا {يُلْحِدُونَ} يقال: لحد وألحد لغتان، قيل بمعنى واحد، وهو العدول عن الحق، والإدخال فيه ما ليس منه - قاله ابن السكيت - وقال غيره: العدول عن الاستقامة، والرباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي، قال الشاعر: ليس الأمير بالشّحيح الملحد والإلحاد الميل عن الوسط حسا أو معنى، والأول هو الأصل فيه، ومنه لحد القبر وهو ما يحفر في أسفل جانب القبر، مائلا عن وسطه، وألحد السهم الهدف: إذا مال في أحد جانبيه ولم يصب وسطه، ومن الثاني: ألحد فلان إذا مال عن الحق، وقيل: ألحد بمعنى مال وانحرف، ولحد بمعنى ركن وانضوى، قال الكسائي: {سَيُجْزَوْنَ}؛ أي: سيلقون جزاء عملهم. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}، الاستدراج (¬1) إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه، وإما من الدرجة وهي المرقاة، فعلى الأول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ أي: سنطويهم طي الكتاب، ونغفل أمرهم كما قال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} وعلى الثاني: سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا، كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها، وقال في «التحرير» (¬2): الاستدراج استفعال من الدرج، بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو، فيكون استصعادا، أو بالعكس، فيكون استنزالا، والمعنى؛ أي: نقربهم إلى الهلاك بإمهالهم وإدرار النعم عليهم، حتى يأتيهم وهم غافلون لاشتغالهم بالترفه، ولذا قيل: إذا رأيت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

الله أنعم على عبده - وهو مقيم على معصيته - فاعلم أنه مستدرج له، {وَأُمْلِي لَهُمْ} الإملاء الإمداد في الزمن، والامهال والتأخير من الملوة والملاوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن، والملوان الليل والنهار (والكيد) كالمكر: هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع المكيد بمظهره، فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسؤه، وأكثره احتيال مذموم، ومنه ما هو محمود يقصد به المصلحة، ككيد يوسف لأخذ أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم، ومقتضى شريعتهم، وفي «الكرخي»: وسمى الأخذ كيدا لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان. اه. و {الْمَتِينُ} القوي الشديد، ومنه المتن وهو الوسط؛ لأنّه أقوى ما في الحيوان، وقد متن بالضم يمتن متانة؛ أي: قوي واشتد. {الجنة}: بالكسر نوع من الجنون، والإنذار: التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته، والملكوت: الملك العظيم، {ومَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} مجموع العالم، والحديث: كلام الله تعالى وهو القرآن، والطغيان: تجاوز الحد في الباطل والشر، من الكفر والفجور والظلم، والعمه: التردد في الحيرة. {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها}. {السَّاعَةِ}: لغة: جزء قليل غير معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين متساوية، يضبط بآلة تسمى الساعة، وقد كان ذلك معروفا عند العرب، فقد جاء في الحديث: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة». وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر، وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة، كما هنا، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل في الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمنية، وبأل بمعنى الساعة الشرعية، وهي ساعة خراب العالم، وموت أهل الأرض جميعا، وجاء المعنيان في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ}، والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء، والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم، ويضطرب نظامه، فالساعة مبدأ، والقيامة غاية {أَيَّانَ مُرْساها}. {أَيَّانَ} بمعنى متى، فهي للسؤال عن الزمان، و {مُرْساها}؛ أي: إرساؤها وحصولها واستقرارها، ويقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه

غيره، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر، فتمنعها من الجريان كما قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} وقال أبو البقاء: {وَمُرْساها}: مفعل من أرسى، وهو مصدر مثل المدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج؛ أي: متى أرساها. اه وفي «المختار»: رسا الشيء ثبت، وبابه عدا، ورست السفينة وقفت عن الجري، وبابه عدا وسما. اه. {لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ} يقال جلى فلان الأمر تجلية إذا أظهره أتم الإظهار، {لِوَقْتِها}؛ أي: في وقتها كما يقال: كتبت هذا لغرة رمضان؛ أي: في غرته {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة من غير توقع ولا انتظار {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} من قولهم: أحفى في السؤال، إذا ألحف، وهو حفي عن الأمر بليغ في السؤال عنه، واستحفيته عن كذا استخبرته على وجه المبالغة، وتحفى بك فلان إذا تلطف بك وبالغ في إكرامك {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: {الْغَيْبَ} قسمان: حقيقي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} والخير ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم {وَالسُّوءَ} ما يرغبون عنه مما يسؤهم ويضرهم {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} والإنذار تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي، والتبشير تبليغ مقترن بترغيب في الثواب مع الإيمان والطاعة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَانْسَلَخَ مِنْها}؛ لأنه شبه الإعراض عن الآيات بانسلاخ نحو الحية من جلدها بجامع التجرد والتبري في كلّ. ومنها: المبالغة في قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ} حيث جعله قدوة وإماما ومتبوعا للشيطان على سبيل المبالغة، مع أنّه تابع للشيطان. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} حيث شبه حاله

التي هي مثل في السوء، بحال أخس الحيوانات وأسفلها، وهي حالة الكلب في دوام لهثه، في حالتي التعب والراحة، فالصورة منتزعة من متعدد، ولهذا يسمى التشبيه التمثيلي. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}؛ لأنّ المراد بالأرض ما فيها من المستلذات والشهوات، فهو من إطلاق المحل وإرادة الحال. ومنها: الطباق في قوله: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} {أَوْ تَتْرُكْهُ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ} وقوله: {وَاتَّبَعَ هَواهُ}، والجناس المغاير في قوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ}. ومنها: الطباق في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)}. ومنها: المقابلة في قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ} {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ} و {وَلَهُمْ آذانٌ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ}؛ لأنه ذكرت فيه الأداة، ولم يذكر فيه وجه الشبه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ لأنّ الاستدراج في الأصل التحول والتنقل على الدرجات استصعادا أو نزولا، فاستعاره للأخذ والعقوبة شيئا فشيئا. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، وقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. ومنها: التذييل في قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ}؛ لأنّه تذييل (¬1) لما قبله خارج مخرج المثل. ¬

_ (¬1) الصاوي.

ومنها: الالتفات في قوله: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ} على قراءة النون. ومنها: الاستعارة (¬1) بالكناية في قوله: {أَيَّانَ مُرْساها} حيث شبه الساعة بسفينة في البحر، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإرساء، فذكره تخييل. ومنها: التكرار في قوله: {يَسْئَلُونَكَ} وفي قوله: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الصاوي.

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}. المناسبة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها، وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث .. ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيها على أن الإعادة ممكنة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

كما أن الإنشاء كان ممكنا، وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعا بالفعل، فإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل. وقيل: وجه المناسبة أنّه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ويشتقون منها أسماء لآلهتهم وأصنامهم، وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية .. بين هنا أنّ أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حين تمنيا الولد الصالح، وأجاب الله دعاءهما، فأدخل عليهما إبليس الشرك، بقوله: سمياه عبد الحرث؛ فإنّه لا يموت، ففعلا ذلك. وقيل المناسبة: لما افتتح (¬1) الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد، واتباع ما أنزل على لسان رسوله، وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان .. اختتم السورة بهذه المعاني، فذكر بالنشأة الأولى، ونهى عن الشرك، واتباع وسوسة الشيطان، وأمر بالتوحيد، واتباع ما جاء به القرآن. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أنّها من تتمة ما قبلها مؤكدة له، ومقررة لما تتضمنه، وهو إثبات التوحيد ونفي الشرك، وهو رأس الإسلام وركنه المتين، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه في القرآن نفيا وإثباتا ليتأكد في النفوس، ويثبت في القلوب، وبه تخلع جذور الوثنية، ويحل محلها نور الوحدانية. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام، وحقر شأنها، وأظهر كونها جمادا عارية عن شيء من القدرة .. أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك؛ أي: لا مبالاة بكم ولا بشركائكم، فاصنعوا ما تشاؤون، وهو أمر تعجيز؛ أي: لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم، ولا كيد لي، وكانوا قد خوفوه آلهتهم. قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ ...} الآية، مناسبة (¬4) هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره، وأراهم أنّ الله هو القادر على كل شيء .. عقب ذلك بالاستناد إلى الله تعالى، والتوكل عليه، والإعلام أنّه تعالى هو ناصره عليهم، وبين جهة نصره بأن أوحى إليه كتابه، وأعزه برسالته، ثم إنّه تعالى يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم على أعدائه ولا يخذلهم. قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنّه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره: وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه، وإيصال الضر إليه .. بين في هذه الآية النهج القويم، والصراط المستقيم في معاملة الناس، وهذه الآية تشمل أصول الفضائل، فهي من أسس التشريع التي تلي - في المرتبة - أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف، بأبلغ وجه وأتم برهان. قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات أمثل الطرق في معاملة الناس بعضهم بعضا، مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا .. أردف ذلك بالوصية التي تتضمنها هذه الآيات الثلاث، وهي اتقاء إفساد الشياطين؛ أي: شياطين الجن المستترة، فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين - وهم السفهاء - اتقاء لشرهم، وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة بالله من الشياطين اتقاء لشرهم. قوله تعالى: {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال .. أردف ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء، وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة، تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)}؛ أي: إذا ¬

_ (¬1) المراغي.

لم تأتهم بما طلبوا .. قالوا: هلا افتعلتها وأتيت بها من عند نفسك؛ لأنّهم كانوا يقولون: {ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً}. قوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر مزايا القرآن الكريم، وأنّه آيات بينات للمؤمنين، وهدى ورحمة لهم .. أردف ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوي عليها، وهي الإنصات له إذا قرىء. وقال أبو حيان (¬2): مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة .. أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالانصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه؛ لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة، حري بأن يصغى إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة، وينتفع بها، فيستبصر من العمى، ويهتدي من الضلال، ويرحم بها. أسباب النزول قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...} أخرج (¬3) البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} إلا في أخلاق الناس. وأخرج (¬4) ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن الشعبي قال: لما أنزل الله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)} قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا جبريل؟ قال لا أدري حتى أسال العالم، فذهب ثم رجع، فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل {خُذِ الْعَفْوَ ....} الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كيف بالغضب يا رب»؟ فنزل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ}. قوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...} الآية، سبب نزولها: ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن. (¬4) الشوكاني.

[189]

أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة قال: نزلت: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} في رفع الأصوات في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلّم. وأخرج عنه أيضا قال: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ....} الآية، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله، وأخرج عن الزهري قال: نزلت الآية في فتى من الأنصار كان كلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا قرأه. وقال سعيد بن منصور في «سننه»: حدثنا أبو معتمر عن محمد بن كعب قال: كانوا يتلقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ شيئا قرؤوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. قلت: ظاهر ذلك أنّ الآية مدنيّة. التفسير وأوجه القراءة 189 - {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأوجدكم وأنشأكم يا أهل مكة {مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ}؛ أي: من آدم عليه السلام على طريق التوالد والتناسل، وهذا كلام (¬2) مستأنف يتضمن ذكر نعم الله تعالى على عباده، وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر عليها، والاعتراف بالعبودية، وأنّه المنفرد بالألوهية قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم وقوله: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها} معطوف على {خَلَقَكُمْ}؛ أي: وهو سبحانه وتعالى الذي خلقكم من نفس آدم على سبيل التوالد والتناسل، وجعل من هذه النفس الواحدة زوجها وقرينتها، على سبيل النزع والفصل، وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاع آدم من غير ألم، وقيل المعنى: {جَعَلَ مِنْها}؛ أي: من جنسها {زَوْجَها}، كما في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا} والأول أولى، وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْها} علة للجعل المذكور؛ أي: جعله منها ليسكن آدم ويميل إليها، ويستأنس بها، ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه، أو جنسه؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل، خصوصا إذا كان بعضا منه كما سكن الإنسان إلى ولده، ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه، وإنّما ذكر ضمير النفس في قوله: {لِيَسْكُنَ} بعد ما أنث في قوله: {واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} نظرا إلى ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني.

[190]

معنى النفس، ليبين أنّ المراد بها آدم، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار، ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما إلى الأرض فقال: {فَلَمَّا تَغَشَّاها}؛ أي: فلما جامع آدم حواء {حَمَلَتْ} حواء، وعلقت بعد الجماع {حَمْلًا خَفِيفًا}؛ أي: حملا هينا غير ثقيل في بادىء الأمر {فَمَرَّتْ} حواء ودامت متلبسة {بِهِ}؛ أي: بذلك الحمل من غير خروج ولا سيلان منها، حتى كبر الولد في بطنها، وأحست بثقل الحمل، أو المعنى: ترددت في أغراضها وحوائجها من غير مشقة ولا كلفة، كما في «الفتوحات» {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} حواء؛ أي: فلما أحست حواء بثقل الحمل في بطنها، وأحست تحركها، وعرفت أنّه حيوان في بطنها، وأخبرت حال حملها لآدم {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما}؛ أي: دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما أن يؤتيهما ولدا صالحا، حالفين بالله بقولهما والله {لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا}؛ أي: والله لئن أعطيتنا يا إلهنا ولدا صالحا؛ أي: بشرا سويا مثلنا؛ أي: كامل الخلق، مستوى الأعضاء، خاليا من العوج والعرج {لَنَكُونَنَّ} يا إلهنا {مِنَ الشَّاكِرِينَ} لك على هذه النعمة، وذلك (¬1) أنّ إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته، وقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت ما أدري: قال: إنّي أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا، وذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها فقال: إن سألت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك فسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس عند الملائكة الحارث، ولم يزل بها حتى غرها، فلما ولدت ولدا سوي الخلق .. سمته عبد الحارث برضا آدم فذلك قوله: 190 - {فَلَمَّا آتاهُما}؛ أي: فلما أعطى الله سبحانه وتعالى آدم وحواء {صالِحًا}؛ أي: ولدا صالحا، وبشرا سويا {جَعَلا}؛ أي: جعل آدم وحواء {لَهُ} سبحانه وتعالى {شُرَكاءَ} يعني إبليس، فأوقع الواحد موقع الجمع {فِيما آتاهُما}؛ أي: في تسمية ما أعطاهما الله سبحانه وتعالى من الولد الصالح، حيث سمياه عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله تعالى، ولم تعرف حواء أنّه إبليس، ولم يكن هذا شركا بالله، لأنّهما لم يذهبا إلى أن الحارث ¬

_ (¬1) الشوكاني.

ربهما، لكنهما قصدا إلى أنّه كان سبب نجاته وسلامة أمه. قال كثير (¬1) من المفسرين: إنّه جاء إبليس إلى حواء وقال لها: إن ولدت ولدا .. فسميه باسمي، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، ولو سمى لها نفسه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فكان هذا شركا في التسمية، ولم يكن شركا في العبادة، وإنّما قصدت أن الحارث كان سبب نجاة الولد، كما سمى الرجل نفسه عبد ضيفه، كما قال حاتم الطائي: وإنّي لعبد الضّيف ما دام ثاويا ... وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد وقرأ (¬2) حماد بن سلمة عن ابن كثير: {حَمْلًا}: بكسر الحاء، وقرأ الجمهور: {فَمَرَّتْ بِهِ} قال الحسن: أي: استمرت به، وقيل: هذا على القلب؛ أي: فمر الحمل بها؛ أي: استمر بها، وقال الزمخشري: فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر وأيوب {فَمَرَّتْ بِهِ} خفيفة الراء من المرية؛ أي: فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض؟. وقيل: معناه استمرت به، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه، نحو: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فيمن فتح من القرار، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري {فمارت به} بألف وتخفيف الراء؛ أي: جاءت وذهبت وتصرفت به، كما تقول: مارت الريح مورا، ووزنه فعل، وقال الزمخشري: من المرية كقوله تعالى: {أفتمرونه} ومعناه ومعنى المخففة: {فَمَرَّتْ} وقع في نفسها ظن الحمل، وارتابت به، ووزنه فاعل، وقرأ عبد الله {فاستمرت بحملها}. وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضا والضحاك: {فاستمرت به}. وقرأ أبي بن كعب والجرمي {فاستمارت به}. والظاهر رجوعه إلى المرية، بني منها استفعل كما بني منها فاعل في قولك: {ماريت}. وقرىء: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} على البناء للمفعول، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد، وأبان بن تغلب ونافع وأبو بكر عن عاصم: {شركا} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

على المصدر، وهو على حذف مضاف؛ أي: ذا شرك، ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك، كقولهم: زيد عدل، قال الزمخشري: أو أحدث لله إشراكا في الولد. انتهى، وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وابن كثير وأبو عمرو: {شُرَكاءَ}. على الجمع ويبعد توجيه الآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة، وتظهر باقي الأقوال عليهما، وفي مصحف أبي {فلما آتاهما صالحا أشركا فيه} وجملة قوله: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: فترفع الله سبحانه وتعالى، وتنزه عن شركة ما يشرك به الكفار، من الأصنام والطواغيت، معطوفة (¬1) على جملة قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} والتقدير: هو الذي خلقكم من نفس واحدة، فتعالى عما يشركون، ويكون في قوله: {يُشْرِكُونَ} التفات وما بينهما، وهو قوله: {وَجَعَلَ مِنْها} إلى قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفي «الكرخي»: هذه الجملة مسببة معطوفة على خلقكم؛ أي: وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلا، ويوضح ذلك تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية، ولو كانت القصة واحدة لقال: عما يشركان، كقوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما} اه، ويؤيد هذا التأويل قراءة السلمي: {عما تشركون} بتاء الخطاب، التفاتا من الغيبة إلى الخطاب. وقال بعض المفسرين: وقد نسب (¬2) هذا الجعل إلى آدم وحواء، والمراد أولادهما، قال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهودوا ونصروا، وقال الحافظ ابن كثير: أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا التأويل، وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء، وإنّما المراد من ذلك ذريته، ولهذا قال: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم قال: فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس. اه وقال صاحب «الانتصاف»: إن المراد جنس الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى - والله أعلم -: خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[191]

الذي هو الأنثى .. جرى من هذين الجنسين كيت كيت، وإنّما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأنّ المشركين منهم، كقوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)} وقوله: {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)} وقوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}. اه وقال صاحب «الكشاف»: إن المراد بالزوجين الجنس لا الفرد؛ أي: معينان، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزغات الشرك الخفي والجلي في هذا الشأن وأمثاله، والجنس يصدق ببعض أفراده. وبهذا (¬1): تعلم أن ما روي عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية في آدم وحواء، وما روي في حديث سمرة بن جندب مرفوعا: قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد - وذلك لأنّها ولدت قبل ذلك عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فأصابهم الموت - فقال لها: سميه عبد الحارث، فإنّه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان؛ أي: وسوسته، ونحوه آثار كثيرة في هذه المعنى مفصلة ومطولة، فهو خرافة من دس الإسرائيليين، نقلت عن مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، فلا يوثق بها؛ لأنّ فيها طعنا صريحا في آدم وحواء عليهما السلام، ورميا لهما بالشرك، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير: وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنّها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم». وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام (¬2): فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله. ومنها: ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا. ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». وهو لا يصدق ولا يكذب لقوله: «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم». 191 - ثم بين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[192]

سبحانه فساد رأيهم، وسخافة عقولهم لهذا الشرك، فقال: {أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع؛ أي: أيشركون به سبحانه وتعالى، وهو الخالق لهم ولأولادهم، ولكل مخلوق {ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا}؛ أي: أصناما لا تقدر على خلق شيء من الأشياء وإن كان حقيرا، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}؛ أي: بل هم مخلوقون، ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر، ومعبودا لنفسه، ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده. والمعنى (¬1): أتشركون الأصنام - وهي لا تقدر على خلق شيء - كما يخلق الله، وهم يخلقون؛ أي: يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما يوجدكم، أو المعنى: وهم ينحتون ويصنعون، فعبدتهم يخلقونهم، وهم لا يقدرون على خلق شيء، فهم أعجز من عبدتهم، وجملة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} معطوفة على جملة الصلة، وجمع الضمير اعتبارا بمعنى {ما} كما أفرده في {يَخْلُقُ} اعتبارا بلفظه، وعبر عن الأصنام بضمير العقلاء نظرا لاعتقاد الكفار فيهم، أو لأن من جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم، فغلبوا على غيرهم. والآية وما بعدها حكاية لشرك عباد الأصنام عامة، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن في عهدهم، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافي ما اعتقدوه، وقرأ السلمي {أتشركون} بالتاء من فوق. 192 - {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}؛ أي: ولا يستطيع المعبودون نصرا ومعونة لعابديهم إذا حزبهم أمر مهم وخطب ملم {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}؛ أي: كما لا يستطيعون نصرا لأنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة لهم، أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}. والخلاصة: أنّهم يحتاجون إليكم في تكريمهم وفي الدفاع عنهم، وأنتم لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[193]

تحتاجون إليهم، فلو تفكرتم في ذلك .. لآمنتم بالله تعالى وكفرتم بها 193 - {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ}؛ أي: وإن تدعوا أيها المشركون الأصنام {إِلَى الْهُدى}؛ أي: إلى أن يهدوكم إلى الحق والرشاد {لا يَتَّبِعُوكُمْ}؛ أي: لا يجيبوكم كما يجيبكم الله تعالى. والمعنى: وإن تدعوا تلك الأصنام إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم، أو إلى ما تنجون به من المكاره التي تحيق بكم .. لا يتبعوكم؛ أي: لا يوافقوكم ولا يجيبوا لكم، ولا ينفعوكم بجلب المصالح، أو دفع المضار، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل في {تَدْعُوهُمْ} إلى {المؤمنين} والمنصوب إلى {الكفار}؛ أي: وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الكفار إلى الهدى والإيمان .. لا يتبعوكم؛ أي: لا يوافقوكم إلى الإيمان والتوحيد، فهم مصرون على شركهم، راسخون فيه. وقرأ الجمهور (¬1): {لا يَتَّبِعُوكُمْ} مشددا هنا وفي {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224)}. من اتبع الخماسي، ومعناه: لا يقتدوا بكم، وقرأ نافع فيهما: لا يتبعوكم مخففا من تبع الثلاثي، ومعناه: لا يتبعوا آثاركم، ثم أكد عدم نفعهم فقال: {سَواءٌ عَلَيْكُمْ} أيها المشركون {أَدَعَوْتُمُوهُمْ}؛ أي: أدعوتم تلك الأصنام واستغثتم بها {أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ} عن دعوتها، وساكتون عن الاستغاثة بها؛ أي: دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء في عدم الإفادة، لا فرق بينهما؛ لأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يجيبون؛ فإنه لا يتغير حالكم في كلتا الحالتين إذ هم لا يفهمون دعاءكم، ولا يسمعون أصواتكم، ولا يعقلون ما يقال لهم، وفي «السمين»: وإنّما أتى بالجملة الثانية اسمية - ولم يقل أم صمتّم - لأنّ الفعل يشعر بالحدوث؛ ولأنّها رأس فاصلة اه. والخلاصة: أنه لا ينبغي أن يعبد من كانت هذه صفته، وإنّما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليه، الخاذل عدوه، والهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[194]

194 - {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} وتعبدونهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {عِبادٌ أَمْثالُكُمْ} أيها المشركون في كونهم مخلوقين لله، خاضعين لإرادته وقدرته، مع أنّكم أكمل منهم؛ لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله، مسخرة لأمره، لا آلهة. وإذا كانوا أمثالكم .. كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم ما لا تستطيعون نيله بأنفسكم، ولا بمساعدة أمثالكم، وإنّما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة، والذي تخضع لإرادته الأسباب، وهو لا يخضع لها، ولا لإرادته أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها، وفي هذا تقريع لهم بالغ، وتوبيخ لهم عظيم. والدعاء: هو النداء لدفع الضر أو جلب النفع، الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه، إما بذاته وإما بحمله الرب الخالق على ذلك، وجملة قوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} مقررة لمضمون ما قبلها من أنّهم إن دعوهم إلى الهدى .. لا يتبعوهم، وأنّهم لا يستطيعون شيئا؛ أي: فادعوا هؤلاء الشركاء والأصنام، فإن كانوا كما تزعمون .. فليستجيبوا لكم {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضر؛ أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية، من نفع أو ضر، فادعوهم، فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم، وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون. وقرأ سعيد بن جبير: {إن الذين تدعون} بتخفيف {إن}، وقرأ {عبادا أمثالكم} بنصب الدال واللام، على إعمال {إن} النافية عمل ما الحجازية، وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره، من اختيار الرفع في خبرها لإهمالها، وقد أطال أبو حيان الكلام فيها في «البحر»، فراجعه إن شئت. ثم ارتقى سبحانه في الرد عليهم، وأثبت أنّهم ليسوا أمثالهم بل أحط منهم منزلة، ودونهم رتبة، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال:

[195]

195 - {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها} والاستفهام فيه وفيما بعده للتقريع والتوبيخ والإنكار؛ أي: إن هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء لله ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم، فضلا عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم؛ فإنّهم - كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها - ليست لهم {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها} في نفع أنفسهم، فضلا عن أن يمشوا في نفعكم {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها} في دفع ما يؤذي {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها} المنافع من المضار {أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} تضرعكم ودعاءكم؛ أي: وليست لهم أيد يبطشون ويعملون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليست لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون، وليست لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات، وبهذه المنزلة من العجز؟!! و {أَمْ} في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى {بل} والهمزة؛ كما ذكره أئمة النحو. والمعنى (¬1): أنّ هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر في هذه الحياة، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير، أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم، ولا آذان يسمعون بها أقوالكم، ويعرفون بها مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم في الصفات والقوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الخلق، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة، وإنّكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول، ويقول بعضكم لبعض {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (34)} فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم، وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية، مع انحطاطه عن درجة المثلية؟ وقرأ الحسن والأعرج ونافع (¬2): {يَبْطِشُونَ}: بكسر الطاء، وقرأ أبو جعفر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[196]

وشيبة ونافع بضمها. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال: {قُلِ} يا محمد لهؤلاء الذين يحتقرون نعم الله عليهم {ادْعُوا} ونادوا {شُرَكاءَكُمْ} الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله، واستعينوا بهم في عداوتي {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وشركاؤكم جميعا؛ أي: تعاونوا على كيدي وبالغوا فيما تقدرون عليه من المكر وأوقعوا الضر بي سريعا {فَلا تُنْظِرُونِ}؛ أي: فلا تمهلوني ولا تؤخروني ساعة من نهار، فإني لا أبالي بكم لاعتمادي على ولاية الله وحفظه، فمعنى {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ}: استعينوا بهم على إيصال الضر إلي {ثُمَّ كِيدُونِ}؛ أي: امكروا بي، ولا تؤخرون عما تريدون بي من الضر. والحكمة في مطالبتهم بهذا (¬1): أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان، ولا يجدي معها دليل، ومن ثم طالبهم بأمر عملي ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصد دعوة الداعين إلى الكفر بها، وإثبات العجز له، وإنكار ما لهم من سلطان غيبي وتدبير كامن، فإن كان لها سلطان في أنفسها أو من عند الله تعالى .. فهذا أوان ظهوره، وإلا فمتى يظهر ليساعد إبطال عبادتها، وينصر عابديها ومعظمي شأنها، ومن الجلي أنّ القوم كانوا ينكرون البعث، فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو في هذه الحياة. وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه: {كيدوني} بإثبات الياء وصلا ووقفا، وقرأ باقي السبعة بحذف الياء، اجتزاء بالكسرة عنها. 196 - ثم زاد الأمر بيانا، وبالغ في حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر، وهو بمكة حين نزول هذه السورة، فقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ}؛ أي: إن ناصري ومتولي أموري هو {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الَّذِي نَزَّلَ} علي {الْكِتابَ} الكريم والقرآن العظيم المؤيد لوحدانيته، ووجوب عبادته، ودعائه عند الشدائد والملمات، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم، {وَهُوَ} ¬

_ (¬1) المراغي.

[197]

سبحانه وتعالى {يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} من عباده؛ أي: ينصرهم على أعدائه ولا يخذلهم، فلا تضرهم عداوة من عاداهم، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد، وسلمت من الأوهام والخرافات، وبالأعمال التي تصلح بها شؤون الأفراد والجماعات، فنصرهم على ذوي الخزعبلات والأوهام، وفاسدي العقائد والأحلام، تصديقا لقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}. وقرأ الجمهور (¬1): {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} بياء مشددة مضافا لياء المتكلم المفتوحة، وهي ياء فعيل، أدغمت في لام الكلمة، وهي قراءة واضحة، أضاف الولي إلى نفسه، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: بياء واحدة مشددة مفتوحة، ورفع الجلالة، قال أبو علي: لا يخلو إما أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهو لا يجوز؛ لأنّه ينفك الإدغام الأول، أو تدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ويحذف لام الفعل، فليس إلا هذا. انتهى. وروي (¬2): أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا، فقيل له في ذلك؟ فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله، ومن كان الله له وليا .. فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين .. فقد قال تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته. 197 - ثم أكد ما سلف بقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} أيها المشركون في أمر من الأمور {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}؛ أي: ولا يحفظون أنفسهم ويمنعونها مما يراد بهم من الضرر، فكيف أبالي بهم؟!! وهذه الجملة (¬3) من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم فهي معطوفة على قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}؛ أي: لا أبالي بهم؛ لأن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

[198]

وليي الله؛ ولأنّ {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} الخ. وبهذا يندفع توهم التكرار مع ما سبق؛ لأنّ ما سبق للفرق بين من تجوز عبادته ومن لا، وما هنا لتعليل عدم المبالاة بهم. والمعنى (¬1): أي وإنّ الذين تدعونهم لنصركم، وجلب النفع لكم، ودفع الضر عنكم عاجزون، فلا هم بالمستطيعون نصركم، ولا نصر أنفسهم على من يحقر شأنهم، أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب، أو حلي، فقد كسر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه الأصنام، فجعلهم جذاذا، فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم، ولا أن ينتقموا منه لها. وقد روي (¬2) عن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما - وكانا شابين من الأنصار قد أسلما، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة - أنّهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانه ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤوا لأنفسهم رأيا آخر. وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيد قومه - صنم يعبده، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء ورأى ذلك .. علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد: تالله لو كنت إلها مستدن ... لم تك والكلب جميعا مقترن ثم أسلم وحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه، وبعد أن نفى عنهم القدرة على النصرة، أردف ذلك بنفي قدرتهم على الإرشاد إلى الهدى والرشاد. 198 - فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى}؛ أي: وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم وتنتصرون به من أسباب خفية أو ظاهرة {لا يَسْمَعُوا} دعاءكم، ولا يجيبونه، فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[199]

لأنهم أموات غير أحياء، وقيل (¬1): المعنى وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى والإيمان لا يسمعوا؛ أي: لا يقبلوا ذلك بقلوبهم، فلا يجيبوكم، والآية كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ}. {وَتَراهُمْ}؛ أي: وترى أيها المخاطب تلك الأصنام {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} بما وضع لهم من أعين صناعية، وحدق زجاجية، أو جوهرية، موجهة إلى من يدخل عليها، كأنها تنظر إليه {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} بها؛ لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة، وإنّما هي من خواص الحياة التي استأثر الله بها؛ أي: والحال أنّهم غير قادرين على الإبصار؛ لأنّهم أموات غير أحياء، وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم، ولا من غيرهم، وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر؟ أو أي معونة أخرى؟ أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم؟!! وقيل المعنى: وترى يا محمد المشركين ينظرون إليك بأعينهم، وهم لا يبصرونك بقلوبهم. 199 - {خُذِ الْعَفْوَ} يا محمد؛ أي: اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتوالد العداوة والبغضاء، أو المعنى: خذ ما تيسر من المال فما آتوك به فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة، وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وذلك مثل قبول الاعتذار منهم، وترك البحث عن الأشياء، والعفو: المساهلة في كل شيء، وقال أبو السعود: ولما ذكر الله سبحانه وتعالى من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق .. حمله أمره عليه السلام بمكارم الأخلاق، التي من جملتها الإغضاء عنهم، انتهى. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}؛ أي: وأمر الناس بكل ما أمرك الله به، وهو كل ما عرفته بالوحي من الله عز وجل، وقرأ (¬2) عيسى بن عمر {بِالْعُرْفِ} - بضمتين - وهما لغتان، والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

إليها النفوس، ومنه قول الشاعر: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والنّاس {وَأَعْرِضْ} واصفح {عَنِ} إساءة {الْجاهِلِينَ} بالمعروف، المستهزئين بك؛ أي: إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف، فلم يفعلوا، فأعرض عنهم، ولا تمارهم، ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة، قيل: وهذه الآية من جملة ما نسخ بآية السيف، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء، وقيل: هي محكمة، قاله مجاهد وقتادة. وقيل (¬1): إن كان المراد بالجاهلين الكفار، وبالإعراض عدم مقاتلتهم .. فالآية منسوخة بآية السيف، وإن كان المراد بالجاهلين ضعفاء الإسلام وأجلاف العرب، وبالإعراض عدم تعنيفهم والإغلاظ عليهم .. فالآية محكمة، وفي معنى ذلك قوله سبحانه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وهو الذي لا عتاب فيه. وقال بعضهم (¬2): أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم، يريد بنسخ أولها أخذ الفضل من الأموال، فنسخ بفرض الزكاة، والأمر بالمعروف محكم، والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال، وفي هذه الآية تعليم مكارم الأخلاق للعباد، فليس هذا الأمر من خصوصياته صلى الله عليه وسلّم. وحاصل معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى (¬3) أمر نبيه في هذه الآية بثلاثة أشياء، هي أسس عامة للشريعة في الآداب النفسية والأحكام العملية: 1 - العفو: وهو السهل الذي لا كلفة فيه؛ أي: خذ ما عفا لك وسهل من أفعال الناس وأخلاقهم، وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، وهذا كما جاء في الحديث: «يسروا ولا تعسروا». وقال الشاعر: خذ العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

وقيل إن المعنى: خذ العفو وما تسهل من صدقاتهم. والخلاصة: أن من قواعد الدين وفوائده اليسر وتجنب الحرج، وما يشق على الناس، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما». 2 - الأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه، ولا شك أنّ هذا مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها، وإجمال القول فيه: أنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس. وقد ذكر المعروف في السور المدنية في الأحكام الشرعية العملية، كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}، وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وفي أحكام الطلاق كقوله: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ}، وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا في الأحكام الهامة، وأنّ المراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات، ولا شك أنّه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات، ومن ثم قال بعض الأئمة: المعروف ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة، ويكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن الله ورسوله، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأي فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، ويكون عمدتهم في ذلك جمهور العقلاء، وأهل الفضل والأدب في كل عصر. 3 - الإعراض عن الجاهلين: وهم السفهاء، بترك معاشرتهم، وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم، وقد روي عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

[200]

وروي الطبري وغيره عن جابر: «أنّه لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلّم جبريل عنها؟ فقال: لا أعلم حتى أسأل، ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». كما مر وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكلّ الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين وقال بعض العلماء: هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها فقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} إيماء إلى جانب اللين ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء وأمور التكليف وقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف في الشريعة حكمه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره. اه. 200 - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} ويصيبنك (¬1) يا محمد ويعرض لك {مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ}؛ أي: نخسة ووسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به من العفو والإعراض عن الجاهلين {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}؛ أي: فاستجر بالله، والتجىء إليه في دفعه عنك {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} يسمع دعاءك واستعاذتك {عَلِيمٌ} بحالك، أو سميع باستعاذتك بلسانك، عليم بما في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر، أو سميع بأقوال من آذاك، عليم بأفعاله، فيجازيه عليها مغنيا لك عن الانتقام، ومتابعة الشيطان. والمعنى (¬2): وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد، بسبب غضب أو شهوة، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها، كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع، فالجأ إلى الله وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر، وعبر عن ذلك بلسانك فقل: أعوذ بالله من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

الشيطان الرجيم؛ فإنّه سميع لما تقول، عليم بما تحدثك به نفسك، ويجيش به صدرك، فهو سبحانه وتعالى يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر. وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى الله تعالى، وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان، قال تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}. والخطاب في الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه، وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإنّ الشيطان يجد مجالا في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ، فأمر الله بالالتجاء إليه، والتعويذ في تلك الحالة، فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض. فصل (¬1): واحتج الطاعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية فقالوا: لو كان النبي معصوما .. لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة منه، والجواب عنه بأوجه: الأول: أن معنى الكلام: إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان .. فاستعذ بالله، وإنّه لم يحصل له ذلك ألبتة، فهو كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} وهو بريء من الشرك ألبتة. والوجه الثاني: على تقدير أنّه لو حصل وسوسة من الشيطان، لكن الله عصم نبيه صلى الله عليه وسلّم عن قبولها وثبوتها في قلبه، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال وإياي، إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير». قال النواوي: ويروى: (فأسلم) بفتح الميم وضمها، فمن رفع قال: معناه فاسلم من شره وفتنته، ومن فتح قال: معناه أن القرين أسلم من الإسلام، يعني: ¬

_ (¬1) الخازن.

[201]

صار مؤمنا، لا يأمرني إلا بخير، ورجح النواوي الفتح لقوله: «فلا يأمرني إلا بخير». والوجه الثالث: يحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، ومعناه: وإمّا ينزغنّك أيها الإنسان من الشيطان نزع .. فاستعذ بالله، فهو كقوله: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}. قال القاضي عياض: واعلم أنّ الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وفي هذا الحديث المذكور آنفا إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، أعلمنا أنّه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان. والله أعلم. 201 - ثم بين سبحانه طريق سلام من يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصية فقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا}؛ أي: إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها {إِذا مَسَّهُمْ} وأصابهم {طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ}؛ أي: شيء قليل من وسوسة الشيطان، وخاطر منه {تَذَكَّرُوا} ما أمرهم الله به، من ترك إمضاء الغضب، ومن أنّ الإنسان إذا أمضى الغضب .. كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة، وإن تركه واختار العفو .. كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء والصالحين، ومن أنّه ربما انقلب ذلك الضعيف الذي يريد أن يعدو عليه قويا قادرا على الغضب، فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه، أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف {فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} بسبب التذكر مواقع الخطأ، ومكايد الشيطان، ومنتبهون لها، فيتحرزون عنها، ولا يتبعونه فيها؛ أي: إذا حضرن هذه التذكرات في قلوبهم، ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان، ويحصل لهم الإبصار لها، والانكشاف عنها، وينتهون عن المعصية. والمعنى: أن خيار المؤمنين وهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} إذا ألم ونزل بهم طائف وخيال من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية، أو إيقاع البغضاء بينهم .. تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر الله بالاستعاذة منه، والالتجاء إليه في الحفظ من

غوايته، فإذا هم أولو بصيرة يربئون أنفسهم أن تطيعه فهو إنّما تأخذ وسوسته الغافلين من ربهم، الذين لا يراقبونه في شؤونهم وأعمالهم، ولا شيء أقوى على طرد وسواس الشيطان من ذكر الله، ومراقبته في السر والعلن من قبل أن يقوي في النفس حب الحق، وداعي الخير، ويضعف فيها الميل إلى الشرور والآثام. فقويّ الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان في نفسه، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية، من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها، ولا بس النفس وقوىّ فيها داعي الشر، كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من شرها وضرّها. وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعي الخير والشر في نفسه، وإن لداعية الخير والحق مسلكا يقويها، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك بقوله: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك .. فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ}. وقرأ النحويان (¬1): أبو عمرو والكسائي وابن كثير: {طيف} فيحتمل أن يكون مصدرا من طاف يطيف طيفا، كباع يبيع بيعا، ويحتمل أن يكون مخففا من طيف، كميت وميت، وليّن ولين، وقرأ باقي السبعة {طائِفٌ} اسم فاعل من طاف، وقرأ ابن جبير: {طيف} بالتشديد، وهو فيعل، وقرأ ابن الزبير: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تأملوا فإذا هم مبصرون} وفي مصحف أبي {إن الذين اتقوا إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون}. وينبغي أن يحمل هذا، وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير، لا على أنّه قرآن، لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون من ألفاظ القرآن. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[202]

202 - {وَإِخْوانُهُمْ}؛ أي: وإخوان الشياطين وهم الكفار، {يَمُدُّونَهُمْ}؛ أي: تمدّهم الشياطين وتساعدهم وتشجعهم {فِي الغَيِّ} والضلالة بتزيينه لهم، {ثُمَّ} أولئك الإخوان الذين هم الكفار {لا يُقْصِرُونَ} ولا ينكفون عن الغي، ولا ينزجرون عنه بالتبصر فيه كما تبصر المتقون، وإخوانهم مبتدأ، والخبر جملة {يَمُدُّونَهُمْ} ولكن الخبرجرى على غير من هو له؛ لأنّ الضمير المرفوع يعود على {الشياطين} والمنصوب على {الكفار}، فكأنّه (¬1) قيل: والكفار الذين هم إخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، وهذا التفسير الذي ذكرته هو قول الجمهور، وعليه عامة المفسرين، وجرى عليه الطبري، قال الزمخشري: وهذا التفسير هو أوجه التفاسير؛ لأنّ {إِخْوانُهُمْ} في مقابلة {الَّذِينَ اتَّقَوْا}. وقيل الضمير المرفوع يعود على الإخوان، والمنصوب على {الشياطين}. والمعنى (¬2): وإخوان الشياطين من الكفار يمدونهم، أي: يقوون الشياطين في الغي والضلال، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن، فشياطين الإنس يضلون الناس، فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}؛ أي: لا ينكف الغاوون عن الضلال، والمغوون عن الإضلال، وعلى هذا فالخبر جار على من هو له، وقيل غير ذلك. والمعنى: أي إن (¬3) إخوان الشياطين - وهم الجاهلون والمشركون - الذين لا يتقون الله يتمكن الشياطين من إغوائهم، فيمدونهم ويزيدونهم في غيهم وإفسادهم؛ لأنّهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر، ولا يستعيذون به من نزغ الشيطان ومسه، إما لأنّهم لا يؤمنون بالله، وإما لأنّهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر، ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي، والواعظ القلبي. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[203]

والخلاصة: أنّ المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي .. تذكروا فأبصروا وحذروا وسلموا، وإن زلوا تابوا وأنابوا، وإنّ إخوان الشياطين تتمكن الشياطين من إغوائهم، فيمدونهم في غيهم، ولا يكفون عن ذلك، ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي. وقرأ نافع (¬1): {يَمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم، من أمد الرباعي، وباقي السبعة {يَمُدُّونَهُمْ} بفتح الياء وضم الميم، من مد الثلاثي، وقرأ الجحدري {يمادونهم} بألف بعد الميم من ماد على وزن فاعل، وقرأ الجمهور {لا يُقْصِرُونَ} بضم الياء من أقصر الرباعي، بمعنى كف، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى ابن عمر {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} بفتح الياء وضم الصاد من قصر الثلاثي؛ أي: ثمّ لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم. 203 - {وَإِذا} تباطأ ظهور الخوارق على يديك يا محمد و {لَمْ تَأْتِهِمْ}؛ أي: لم تأت أهل مكة {بِآيَةٍ}؛ أي: بمعجزة باهرة مما اقترحوا وطلبوا منك {قالُوا}؛ أي: قال أهل مكة استهزاء وسخرية {لَوْلا اجْتَبَيْتَها}؛ أي: هلا اصطفيت تلك الآية واخترعتها وأنشأتها من عند نفسك، كما اخترعت واختلقت ما قبلها، وقال (¬2) الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم الآيات تعنتا، فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا اجتبيتها، يعني: هلا أحدثتها وأنشأتها من عند نفسك كما اختلقت ما قبلها. قال الفراء: تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك، وعبارة المراغي هنا: وإذا لم تأتهم أيها الرسول بآية قرآنية، بأن تراخى نزول الوحي زمنا ما .. قالوا: لولا افتعلت نظمها وتأليفها، واخترعتها من تلقاء نفسك، وقد يكون المعنى: وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا: هلا حباك الله بها بأن مكنك منها، فاجتبيتها وأبرزتها لنا إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك، ويجيب التماسك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[204]

ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يجيبهم الجواب الشافي بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات: لست ممن يأتي بالآيات ويختلقها من عند نفسه كما تزعمون بل {إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} فما أوحاه إلي وأنزله علي أبلغته إليكم؛ أي: إنه ليس لي أن اقترح على ربي أمرا من الأمور، وإنما انتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا وجب علي السكوت وترك الاقتراح. وقد يكون المعنى: ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية، ولا بمفتات على الله في طلبها، وإنّما أنا متبع لما يوحى إلي، فضلا من ربي علي إذ جعلني مبلغا عنه، وقد وصف الله تعالى القرآن بثلاثة أوصاف فقال: 1 - {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: وقل لهم يا محمد هذا القرآن الذي أنزل عليّ، وأوحاه الله إلي بصائر من ربكم؛ أي: بمنزلة البصائر للقلوب، فبه تبصر الحق وتدرك الصواب؛ أي: حجج بينة وبراهين نيرة للعقول في الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد - صادرة من ربكم، من تأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق، فهي أدل عليه مما تطلبونه من الآيات الكونية. 2 - {وَهُدىً}؛ أي: وهو هاد إلى الحق وإلى طريق مستقيم. 3 - {وَرَحْمَةٌ}؛ أي: وهو رحمة في الدنيا والآخرة. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: للذين يؤمنون به، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه؛ أي: فالقرآن في حق أصحاب عين اليقين، وهم من بلغوا - في معارف التوحيد والنبوة والمعاد - مرتبة أصبحوا بها كالمشاهدين لها، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فهو لهؤلاء بصائر، وفي حق أصحاب علم القين، وهم الذين بلغوا إلى درجات المستدلين به هدى، وفي حق عامة المؤمنين رحمة لا جرم، وهم أصحاب حق اليقين. 204 - {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ} عليكم أيها المؤمنون {فَاسْتَمِعُوا لَهُ}؛ أي: فاصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه {وَأَنْصِتُوا}؛ أي: اسكتوا عن

الكلام لاستماعه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: لكي يرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم من فرائضه في آيه، فمن استمع وأنصت كان جديرا أن يفهم ويتدبر، ومن كان كذلك .. كان حريا أن يرحم. والآية تدل على وجوب الاستماع والانصات للقرآن إذا قرىء، سواء أكان ذلك في الصلاة أو في خارجها، وهو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلّم في عهده، وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم، إذ يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه، والمشتغل بالحكم حكمه، وكل ذي عمل عمله. أما قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم، فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع، أو يتكلّم بما يشغله، أو يشغل غيره عنه، وهكذا شأن المصلي مع إمامة وخطيبه، إذ هذا هو المقصود من الصلاة، والواجب فيها. وما يفعله جماهير الناس، والمحافل التي يقرأ فيها القرآن - كالمآتم وغيرها - من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة، فمكروه كراهة شديدة، ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي. ولا يجوز (¬1) لقارىء أن يقرأ على قوم لا يستمعون له، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارىء، ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضي ترك القراءة، ولا تنافي الاستماع. والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته، كما يحرص على تلاوته، وأن يتأدب في مجلس التلاوة، والضابط في ذلك: أن لا ¬

_ (¬1) المراغي.

يصدر من السامع - ما يعد في اعتقاده أو في عرف الناس - أنه مناف للأدب، ولا بأس بقراءة القرآن حال القيام والقعود، والاضطجاع والمشي والركوب، ولا تكره مع حدث أصغر ولا مع نجاسة ثوب أو بدن، وإن كان يستحب الوضوء حين القراءة حال الحدث، ولا سيما للقارىء في المصحف، وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع، من غير تكلف ولا تصنع، فقد روى أبو هريرة مرفوعا: «ما أذن - استمع - الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» رواه الشيخان. فصل واختلف (¬1) العلماء في القراءة خلف الإمام، فذهب جماعة إلى إيجابها، سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر، يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب الشافعي، وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد، وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وذهب قوم إلى أنّه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر، يروى ذلك عن جابر، وإليه ذهب أصحاب الرأي (¬2). حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية، وحجة من قال: يقرأ في السرية دون الجهرية، قال: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية، وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية، جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال: الآية واردة في غير الفاتحة؛ لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب القراءة خلف الإمام، ولم يفرق بين السرية والجهرية، قالوا: وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكتاته، ولا ينازعه في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) هذا يدل على أن المؤلف ربما يكون متعصبا لمذهب من المذاهب. اه.

[205]

القراءة، ولا يجهر بالقراءة خلفه، ويدل عليه ما روي عن عبادة بن الصامت: قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: أراكم تقرؤون وراء إمامكم؟! قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» أخرجه الترمذي بطوله، وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» يقولها ثلاثا غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ قال: اقرأ بها في نفسك، وذكر الحديث. 205 - والخطاب في قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} للنبي صلى الله عليه وسلّم، ويدخل فيه غيره من أمته؛ لأنّه عام لسائر المكلفين؛ أي: واذكر أيها المكلف ربك الذي خلقك ورباك بنعمه، عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك، مستحضرا لصفات الكمال والجلال، والعز والعلو والعظمة {فِي نَفْسِكَ} وقلبك؛ أي: أسمع نفسك سرا، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب .. كان عديم الفائدة؛ لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل، وقيل: المعنى: أذكر ربك سرا في نفسك؛ لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء والسمعة. وقوله: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} منصوبان على الحال، ولكن بعد تأويله بالمشتق؛ أي: واذكر - أيها المكلّف - ربك في نفسك حالة كونك متضرعا ومتذللا وخاضعا له، وخائفا منه، راجيا نعمه، وقرىء {وخفية} بضم الخاء {وَ} اذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكرا {دُونَ الْجَهْرِ} برفع الصوت {مِنَ الْقَوْلِ} وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا بين الجهر والمخافتة، بأن يذكر الشخص ربه بحيث يسمع نفسه، كما قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}. وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب، وملاحظة معاني الذّكر لا يجدي نفعا، فكم رأينا من ذوي الأوراد والأدعية، الذين يذكرون الله كثيرا بالمئين والألوف،

[206]

ولا يفيدهم ذلك معرفة بالله تعالى، ولا مراقبة له؛ لأنّ ذلك أصبح عادة لهم، تصحبها عادات أخرى منكرة، ومن ثم كان الواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان. والمعنى: واذكر ربك أيها الملكف بأي (¬1) نوع من أنواع الذكر، من قرآن وتهليل وتحميد وتكبير وتسبيح ودعاء، وغير ذلك، سرا في نفسك إن لم يلزم عليه الكسل، وإلا جهرا وذكرا وسطا دون الجهر، وفوق السر {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}؛ أي: في البكر والعشايا وما بينهما من جميع الأوقات، وقرأ أبو مجلز {والإيصال} جعله مصدرا لقولهم: أصلت؛ أي: دخلت في وقت الأصيل، والغدو جمع غدوة، وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والآصال جمع أصيل، وهو من العصر إلى الغروب، وإنّما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأن الإنسان يقوم من النوم عند الغداة، فطلب أن يكون أول صحيفته ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال فلأن الإنسان يستقبل النوم - وهو أخو الموت - فينبغي له أن يشغله بالذكر، خيفة أن يموت في نومه، فيبعث على ما مات عليه، وقيل: إن الأعمال تصعد في هذين الوقتين، وقيل: لكراهة النفل في هذين الوقتين، فطلب بالذكر فيهما، لئلا يضيع على الإنسان وقته، ولأن من افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به، كان جديرا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، {وَلا تَكُنْ} أيها المكلف {مِنَ الْغافِلِينَ} عن ذكر الله تعالى، بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من قدرته عليك، إذا أنت غفلت عن ذلك، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكره. 206 - ثم ختم (¬2) سبحانه هذه الآيات بما يؤكد الأمر والنهي السابقين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يا محمد؛ أي: إن ملائكة الرحمن المقربين عنده {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ} سبحانه وتعالى كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، بل يؤدونها حسب ما أمروا به {وَيُسَبِّحُونَهُ}؛ أي: ينزهون الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي.

بعظمته وكبريائه وجلاله، وعن اتخاذ الولد والند والشريك، ولا يفعلون كما يفعل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأندادا، يحبونهم كحبه {وَلَهُ} وحده سبحانه وتعالى، يصلون و {يَسْجُدُونَ}؛ فلا يشركون معه أحدا، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة المقربين إليه تعالى من حملة عرشه، والحافين به أسوة حسنة له في صلاته وسجوده، وسائر عبادته. فإن قلت (¬1): التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ}؛ لأنّهما من جملة العبادة، فكيف أفردهما بالذكر؟ قلت: أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنّهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته، ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنّهم يسبحونه وله يسجدون. ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين، أعمال القلوب وأعمال الجوراح، وأعمال القلوب هي: تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله {وَيُسَبِّحُونَهُ} وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. وقد شرع الله سبحانه وتعالى لنا (¬2) السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها، إرغاما لمن أبى ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين، ومثلها آيات أخرى ستأتي في مواضعها، وقد كان صلى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعي وعملا يرفعني» وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يقول في سجدة التلاوة: «اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا». وهذه السجدة (¬3) من عزائم سجود القرآن، فيستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

والجمهور على أنّه ليس بواجب، وقال أبو حنيفة: هو واجب، ولا خلاف في أنّ شرطه شرط الصلاة من طهارة خبث وحدث ونية واستقبال ووقت، إلا ما روى البخاري عن ابن عمر وابن المنكدر عن الشعبي: أنّه يسجد على غير طهارة، وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع اليدين، وقال مالك: يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة، وأما في غير الصلاة فاختلف عنه، ويسلم عنها عند الجمهور، وقال جماعة من السلف وإسحاق: لا يسلم ووقتها سائر الأوقات مطلقا؛ لأنّها صلاة بسبب، ذكره أبو حيان في «البحر» وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم: (كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «عليك بكثرة السجود لله، فإنّك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» رواه مسلم أيضا. وفي الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذّكر، وقد روى أحمد قوله صلى الله عليه وسلّم: «خير الذّكر الخفي». الإعراب {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {خَلَقَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {مِنْ نَفْسٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {خلق}، {واحِدَةٍ}: صفة لـ {نَفْسٍ}، {وَجَعَلَ}: فعل ماض، {مِنْها}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، {زَوْجَها}: مفعول به

ومضاف إليه والجملة معطوفة على جملة {خلق}. {لِيَسْكُنَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {يسكن}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على نفس واحدة، وذكره نظرا لمعناها، لأنّها بمعنى آدم {إِلَيْها} متعلق بـ {يسكن}، وجملة يسكن: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ}؛ أي: وجعل منها زوجها لسكونه إليها. {فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: ولما سكن إليها غشاها وجامعها، {لما}: حرف شرط غير جازم، {تَغَشَّاها}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على آدم، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {حَمَلَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، {حَمْلًا} مفعول به أو مفعول مطلق، {خَفِيفًا} صفة لـ {حَمْلًا}: والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على جملة {لما} المحذوفة، {فَمَرَّتْ}: {الفاء}: عاطفة، {مرت}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق به، وجملة {مرت} معطوفة على جملة {حَمَلَتْ}، {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: ولما مرت به أثقلت، {لما}: حرف شرط {أَثْقَلَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {دَعَوَا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، {رَبَّهُما}: بدل من الجلالة، والجملة جواب {لما} وجملة {لما} معطوفة على جملة {لما} المحذوفة، {لَئِنْ} {اللام}: موطئة لقسم محذوف تقدير: أقسمنا والله، {إن} حرف شرط، {آتَيْتَنا صالِحًا}: فعل وفاعل ومفعولان في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {لَنَكُونَنَّ}: {اللام} لام قسم مؤكدة للأولى جيء بها لتدل على أن ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط، {نكونن}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على آدم وحواء، {مِنَ الشَّاكِرِينَ}: خبرها،

وجملة {نكون} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن آتيتنا صالحا .. نكن من الشاكرين، وجملة إن الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: دعوا الله ربهما فقالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، أو جملة مفسرة لجملة الدعاء لا محل لها من الإعراب، وفي «السمين» (¬1): هذا القسم وجوابه فيه وجهان: أظهرهما: أنّه مفسر لجملة الدعاء، كأنّه قيل: فما كان دعاؤهما؟ فقيل: كان دعاؤهما كيت وكيت. والثاني: أنّه مفعول لقول محذوف تقديره: فقالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين. {فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فآتاهما صالحا، {لما}: حرف شرط، {آتاهُما صالِحًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {جَعَلا}: فعل وفاعل، {لَهُ} متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني. {شُرَكاءَ} مفعول أول لـ {جَعَلا}، والجملة الفعلية جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة {فِيما}: جار ومجرور، متعلق بـ {شُرَكاءَ}، {آتاهُما}: فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاه إياهما، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. {فَتَعالَى اللَّهُ} {الفاء}: عاطفة سببية، {تعالى الله}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} وما بينهما اعتراض كما مر في مبحث التفسير، {عَمَّا}: جار ومجرور، متعلق ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بـ {تعالى}، وجملة {يُشْرِكُونَ} صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: عما يشركونه به، أو صلة {ما} المصدرية، إن قلنا {ما} مصدرية أي: تعالى عن إشراكهم. {أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}. {أَيُشْرِكُونَ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يُشْرِكُونَ}، {لا}: نافية، {يَخْلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ما، وأفرده نظرا للفظ ما، {شَيْئًا}: مفعول به، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {يُخْلَقُونَ}: خبره، وجمع الضمير هنا نظرا لمعنى ما كما مر في بحث التفسير، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {يَخْلُقُ}، على كونها صلة {لما} الموصولة {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة أيضا على جملة الصلة {لَهُمْ} متعلق به أو متعلق بنصرا {نَصْرًا}: مفعول به {وَلا}. الواو: عاطفة {لا} نافية، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به مقدم على عامله لرعاية الفاصلة، والجملة معطوفة على جملة الصلة أيضا. {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية، {إِنْ}: حرف شرط جازم، {تَدْعُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {إِلَى الْهُدى} متعلق به، {لا} نافية، {يَتَّبِعُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة، {سَواءٌ}: خبر مقدم لمبتدأ متعد من الجملة التي بعدها، من غير سابك لإصلاح المعنى، {عَلَيْكُمْ} متعلقان بـ {سَواءٌ}. {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} {الهمزة}: للتسوية، وهي في الأصل للاستفهام، ولكنه غير مراد هنا لوقوعها بعد {سَواءٌ}، {دَعَوْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرا لـ {سَواءٌ} من غير

سابك لإصلاح المعنى، وقيل: السابك هنا همزة التسوية كما مر في أول البقرة، {أَمْ}: عاطفة متصلة لوقوعها بعد همزة التسوية، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {صامِتُونَ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء والتقدير: دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء؛ أي: سيان في عدم الإفادة، والجملة الاسمية مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {تَدْعُونَ} صلة الموصول، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {تَدْعُونَ}. {عِبادٌ} خبر {إِنَّ}. {أَمْثالُكُمْ} صفة لـ {عِبادٌ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {فَادْعُوهُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن زعمتم أنّها آلهة .. فادعوهم، {ادعوهم}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم على أنّها جواب الشرط، وجملة الشرط المحذوف مع جوابها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، {فَلْيَسْتَجِيبُوا}: {الفاء}: عاطفة، {واللام}: لام الأمر، {يستجيبوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لام} الأمر، والواو فاعل، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة {فَادْعُوهُمْ} على كونها جوابا لشرط محذوف، {لَكُمْ} متعلقان بالفعل {يستجيبوا}. {إِنَّ}: حرف شرط، {كُنْتُمْ صادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إِنَّ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين في أنّها آلهة .. فادعوهم، وجملة إن الشرطية مستأنفة مقررة لما قبلها. {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها}. {أَلَهُمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {لَهُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم، {أَرْجُلٌ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يَمْشُونَ بِها} صفة {أَرْجُلٌ}، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {أَمْ}: عاطفة منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري، وبمعنى بل التي للإضراب الانتقالي من توبيخ إلى

توبيخ آخر، {لَهُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم، {أَيْدٍ}: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل، وجملة {يَبْطِشُونَ بِها}: صفة لـ {أَيْدٍ}، والجملة معطوفة على جملة {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ}، {أَمْ}: عاطفة، {لَهُمْ}: خبر مقدم {أَعْيُنٌ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يُبْصِرُونَ بِها} صفة {أَعْيُنٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} وكذلك جملة {أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} معطوفة على الجملة الأولى. {قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ} إلى قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} مقول محكي لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول محكي لـ {قُلِ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {كِيدُونِ}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة النون في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ}، {فَلا}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {لا} ناهية جازمة {تُنْظِرُونِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو: فاعل و {النون} للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة النون في محل النصب مفعول به، وجملة {فَلا تُنْظِرُونِ} في محل النصب معطوفة على جملة {ثُمَّ كِيدُونِ}. {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}. {إِنَّ}: حرف نصب، {وَلِيِّيَ}: اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، وهو مضاف وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، {اللَّهُ}: خبر {إِنَّ} مرفوع، وجملة إن في محل النصب مقول {قُلِ} على كونها تعليلا لما قبلها. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة، {نَزَّلَ الْكِتابَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {وَهُوَ}: مبتدأ، {يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود

على {اللَّهُ}، والجملة في محل الرفع خبر {هُوَ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {نَزَّلَ}. {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة، {الَّذِينَ}: مبتدأ، {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والذين تدعونهم، {مِنْ دُونِهِ} متعلق بـ {تَدْعُونَ}، {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، ومعطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها مقولا لـ {قُلِ}، {وَلا أَنْفُسَهُمْ} مفعول مقدم لما بعده، {يَنْصُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ} على كونها خبر الموصول. {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إِنْ} حرف شرط {تَدْعُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} على كونها فعل الشرط، {إِلَى الْهُدى} متعلق به، {لا يَسْمَعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} على كونها خبر الموصول {وَتَراهُمْ}: فعل ومفعول به؛ لأنّ رأى بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من مفعول {تَراهُمْ}، وجملة {تَراهُمْ} في محل الرفع معطوفة على جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ}، على كونها خبر المبتدأ، {وَهُمْ}، مبتدأ وجملة {لا يُبْصِرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {يَنْظُرُونَ}. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)}. {خُذِ الْعَفْوَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {وَأْمُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة

على جملة {خُذِ}. {بِالْعُرْفِ} متعلق به {وَأَعْرِضْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {خُذِ}، {عَنِ الْجاهِلِينَ} متعلق به. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}. {وَإِمَّا} {الواو}: استئنافية، {إِمَّا} {إن}: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة، {يَنْزَغَنَّكَ}: فعل ومفعول في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، {مِنَ الشَّيْطانِ}: متعلق به {نَزْغٌ} فاعل، {فَاسْتَعِذْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل الجزم جواب {إن} الشرطية و {الفاء}: فيه رابطة الجواب وجوبا، لكون الجواب جملة طلبية، {بِاللَّهِ} جار ومجرور، متعلق بـ {استعذ}، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {سَمِيعٌ}: خبر أول له، {عَلِيمٌ} خبر ثان له، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أعني جملة الأمر بالاستعاذة. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)}. {إِنَّ}: حرف نصب، {الَّذِينَ}: اسمها، {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان، {مَسَّهُمْ طائِفٌ}: فعل ومفعول وفاعل {مِنَ الشَّيْطانِ}: صفة لـ {طائِفٌ}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {تَذَكَّرُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا الشرطية، وجملة {إِذا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة إنّ مستأنفة، {فَإِذا} {الفاء}: عاطفة سببية، {إذا} حرف فجأة لا محل لها من الإعراب، {هُمْ مُبْصِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {تَذَكَّرُوا} لا محل لها من الإعراب. {وَإِخْوانُهُمْ}: مبتدأ، {يَمُدُّونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الاسمية معطوفة على جملة

{إِنَّ}. {فِي الغَيِّ} متعلق بـ {يَمُدُّونَهُمْ}، {ثُمَّ}: حرف عطف، {لا يُقْصِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {يَمُدُّونَهُمْ} على كونها خبر المبتدأ. {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية، إِذا: ظرف لما يستقبل من الزمان، {لَمْ تَأْتِهِمْ}: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بِآيَةٍ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إِذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا، وجملة إِذا مستأنفة، {لَوْلا اجْتَبَيْتَها} مقول محكي لـ {قالُوا} وإن شئت قلت: {لَوْلا}: حرف تحضيض بمعنى هلّا، {اجْتَبَيْتَها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {إِنَّما أَتَّبِعُ}: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّما}: أداة حصر، {أَتَّبِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {ما يُوحى}: {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {أَتَّبِعُ}، {يُوحى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {إِلَيَّ}: جار ومجرور، متعلق به، وكذا {مِنْ رَبِّي} متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، {هذا بَصائِرُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور، صفة لـ {بَصائِرُ}، {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ}: معطوفان على {بَصائِرُ}، {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور تنازع فيه كل من {هُدىً وَرَحْمَةٌ} على كونه صفة لهما، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}. {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {قُرِئَ

الْقُرْآنُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {فَاسْتَمِعُوا} {الفاء}: رابطة لجواب إِذا وجوبا {استمعوا}: فاعل وفاعل، والجملة جواب {إِذا}، وجملة {إِذا} مستأنفة، {لَهُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {استمعوا}، {وَأَنْصِتُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {استمعوا} {لَعَلَّكُمْ} {لعل}: حرف نصب وترج، و {الكاف}: اسمها، وجملة {تُرْحَمُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)}. {وَاذْكُرْ} الواو: استئنافية، {اذْكُرْ رَبَّكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مكلف، والجملة مستأنفة، {فِي نَفْسِكَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {اذْكُرْ}، {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}: حالان من فاعل {اذْكُرْ}، ولكن بعد تأويله بمشتق تقديره: حالة كونك متضرعا وخائفا من ربك، {وَدُونَ الْجَهْرِ}: ظرف ومضاف إليه معطوف (¬1) على قوله: {فِي نَفْسِكَ} على كونه متعلقا بـ {اذْكُرْ}، أو على كونه صفة لمصدر محذوف تقديره: واذكر ربك ذكرا دون الجهر، {مِنَ الْقَوْلِ}: جار ومجرور حال (¬2) من الدون؛ أي: حالة كون الدون من القول، أو متعلق بـ {الْجَهْرِ} على أن {مِنَ} بمعنى الباء؛ أي: الجهر بالقول تأمل، {بِالْغُدُوِّ}: جار ومجرور، متعلق بـ {اذْكُرْ}، {وَالْآصالِ} معطوف على {الغدو}، {وَلا} الواو: عاطفة {لا}: ناهية جازمة، {تَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على أي مكلف، {مِنَ الْغافِلِينَ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ}. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}. {إِنَّ}: حرف نصب، {الَّذِينَ} في محل النصب اسمها، {عِنْدَ رَبِّكَ}: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، {لا يَسْتَكْبِرُونَ}: فعل وفاعل، {عَنْ عِبادَتِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَيُسَبِّحُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَسْتَكْبِرُونَ} على كونها خبرا لـ {إِنَّ}، {وَلَهُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {يَسْجُدُونَ}، وجملة {يَسْجُدُونَ} في محل الرفع معطوفة على جملة {يَسْتَكْبِرُونَ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} المشهور (¬1) أن الحمل - بفتح الحاء - ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل بكسرها خلافه، وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح، وهو هنا إما مصدر فينتصب انتصاب المفعول المطلق، أو الجنين المحمول، فيكون مفعولا به، وخفته إما عدم التأذي به كالحوامل، أو على الحقيقة في ابتدائه، وكونه نطفة لا تثقل البطن اه «شهاب». {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}؛ أي: صارت ذات ثقل، كقولهم: البن الرجل وأتمر؛ أي: صار ذا لبن وتمر، وقيل: دخلت في الثقل كقولهم: أصبح وأمسى؛ أي: دخل في الصباح والمساء، والمعنى: صار حملها ثقيلا. {أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ}: اسم فاعل من صمت بمعنى سكت، والصمت السكوت، يقال منه: صمت يصمت صمتا بالفتح في الماضي والضم في المضارع من باب قتل، ويقال: صمت بالكسر يصمت بالفتح، والمصدر الصمت، والصمات بضم الصاد اه «سمين». وإصمت (¬2) بوزن إضرب اسم فلاة معروفة، وهي مسماة بفعل الأمر قطعت همزته، إذ ذاك قاعدة في التسمية بفعل فيه همزة وصل، وكسرت الميم؛ لأن التغيير يأنس بالتغيير، ولئلا يدخل في وزن ليس في الأسماء. ¬

_ (¬1) شهاب. (¬2) البحر المحيط.

{يَبْطِشُونَ بِها} في «المصباح»: بطش بطشا، من باب ضرب، وبها قرأ السبعة، وفي لغة من باب قتل، وبها قرأ الحسن البصري. وأبو جعفر المدني، والبطش: الأخذ بقوة وشدة وعنف، ويقال: بطشت اليد إذا عملت فهي باطشة اه. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ} النزغ (¬1): كالخنس والنغز والوكز، إصابة الجسد برأس محدد كالإبرة والمهماز والرمح، والمراد هنا: نزغ الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد في النفس، بغضب أو شهوة، بحيث تلجىء صاحبها إلى العمل بتأثيرها، كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع، وفي «البحر المحيط»: النزغ أدنى حركة، ومن الشيطان أدنى وسوسة، قاله الزجاج، وقال ابن عطية: حركة فيها فساد، وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان؛ لأنّ حركته مسرعة مفسدة، وقيل: هو لغة الإصابة تعرض عند الغضب، وقال الفراء: النزغ: الإغراء والإغضاب. اه. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} والاستعاذة بالله الالتجاء إليه ليقيك من شر هذا النزغ. {إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ} الطائف الخاطر منه كما مر، وقرىء {طيف} بوزن (¬2) بيع، يقال: طاف يطيف طيفا، كباع يبيع بيعا، فوزنه فعل، ويحتمل أنّه مخفف طيف، كميت مخفف ميّت، فوزنه فيل؛ لأن عينه - وهي الياء الثانية - محذوفة، وفي «المراغي»: والطوف والطواف بالشيء الاستدارة به، أو حوله، وطيف الخيال: ما يرى في النوم من مثال الشخص، والمس يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى، فقد ذكر في التنزيل مس الضر والضراء والبأساء، والسوء والعذاب. {يَمُدُّونَهُمْ} والمد والإمداد الزيادة في الشيء ومن جنسه، واستعمل في القرآن في الخلق والتكوين، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وفي مد الناس فيما يذم ويضر، كقوله: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا}، {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} والإقصار التقصير، ويقال أقصر عن الأمر تركه وكف عنه، وهو قادر عليه. {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الاستماع (¬1) أخص من السمع؛ لأنّه إنّما يكون بقصد ونية، أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، أما السمع فيحصل ولو بغير قصد، والانصات السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ، وقال (¬2) الفراء: الانصات السكوت للاستماع، يقال: نصت وأنصت وانتصت، بمعنى واحد، وقد ورد الإنصات متعديا في شعر الكميت حيث قال: أبوك الّذي أجدى عليه بنصره ... فأنصت عنّى بعده كلّ قائل قال: يريد فأسكت عن، {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} والتضرع إظهار الضراعة، وهي الذلة والضعف والخضوع، والخيفة حالة الخوف والخشة، وأصله خوفة، فوقعت الواو ساكنة إثر كسرة فقلبت ياء، فهو واوي من الخوف {وَدُونَ الْجَهْرِ}؛ أي: ذكرا دون الجهر برفع الصوت، وفوق التخافت والسر، بأن يذكر ذكرا وسطا. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} والغدو جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والآصال (¬3) جمع أصل، كعنق وأعناق، أو جمع أصيل كيمين وأيمان، ولا حاجة لدعوى أنّه جمع جمع كما ذهب إليه بعضهم، إذ ثبت أنّ أصلا مفرد، وإن كان يجوز جمع أصيل على أصل .. فيكون جمعا ككثيب وكثب، وممن ذهب إلى أنّ آصالا جمع أصل، ومفرد أصل أصيل الفراء، ويقال: جئناهم موصلين؛ أي: عند الآصال {وَيُسَبِّحُونَهُ}؛ أي: ينزهونه عما لا يليق به. {يَسْجُدُونَ}؛ أي: يصلون. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الكناية في قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاها}؛ لأنّ التغشي هنا كناية عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة. ومنها: التكرار في قوله: {آتاهُما}، وفي قوله: {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} وفي قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى}. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، إن قلنا إنّه معطوف على قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} كما مر في بحث التفسير وبحث الإعراب. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} بعد قوله أولا: {أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا} وفائدته: الاشعار بمزيد الاعتناء بأمر التوبيخ، والتبكيت ببيان عجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنها وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب. ومنها: المبالغة في قوله: {أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ} في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، كما ذكره أبو السعود، وفي «السمين»: وإنّما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية ولم يقل: أم صمتم؛ لأنّ الفعل يشعر بالحدوث؛ ولأنّها رأس فاصلة. اه. ومنها: التهكم في قوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها} وكذا في المواضع الثلاثة المذكورة بعده. ومنها: الإطناب في قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ} إلى قوله: {أَمْ لَهُمْ آذانٌ}، وفائدته زيادة التقريع والتوبيخ لهم.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ}؛ لأنّ النزغ في الأصل النخس - وهو حث السائق للدابة على السير - والمراد هنا الوسوسة، فشبهت الوسوسة بالنزغ، بمعنى الحث على السير، بجامع السرعة في كل، واستعير اسم المشبه به - الذي هو النزغ - للمشبه - الذي هو الوسوسة، فاشتق من النزغ بمعنى الوسوسة، ينزغنك بمعنى: يوسوسنك، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، وذكر الشيطان تجريد؛ لأنه يلائم المشبه الذي هو الوسوسة. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو ما حذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه، وأصله: هذا كبصائر من ربكم، وقيل: إنّه من قبيل المجاز المرسل، حيث أطلق المسبب على السبب؛ لأنّ القرآن لما كان سببا لتنوير العقول .. أطلق عليه لفظ البصيرة؛ لأنّ البصائر جمع بصيرة، وأصل البصيرة ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان فيهتدى به، فأطلق لفظ البصيرة على القرآن تسمية للسبب باسم المسبب. اه. «كرخي». ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}؛ لأنّ المراد به جميع الأوقات، من إطلاق اسم الجزء على الكل على ما قيل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خاتمة في خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من الموضوعات جملة ما اشتملت عليه هذه السورة من المقاصد سبعة: الأول: التوحيد: وهو يتضمن دعاء الله وحده، وإخلاص الدين له، وتخصيصه بالعبادة؛ فإنه شارع الدين، فيجب اتباع ما أنزله، ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه في العقائد والعبادات، ولا التحليل والتحريم الديني، كما قال: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} وإنّ القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد، كما قال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} وأن جميع ما يشرعه لعباده حسن، وما سواه قبيح {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ} ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا. الثاني: الوحي والكتب: ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم للإنذار به، والأمر باستماعه والانصات له، رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به، وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم. الثالث: الرسالة والرسل: ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بني آدم كما قال: {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة، ومجيء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم، وعقاب الأمم على تكذيب الرسل، كما ذكر في قصص نوح وهود وصالح وشعيب. الرابع: عالم الآخرة: ويتضمن ذلك البعث والإعادة في الآخرة كما قال: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ووزن الأعمال يوم القيامة، وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها، وأنّ الجزاء بالعمل، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار، ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة، واعتراف أهل النار في الآخرة بصدق الرسل، وصفة أهل النار، وقيام الساعة، وكونها تأتي بغتة. الخامس: أصول التشريع: ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنّه قربة

يثاب فاعلها عليها، ويعاقب تاركها في الآخرة، وتحريم التقليد فيه، والأخذ بآراء البشر، وتعظيم شأن النظر العقلي والتفكر، لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به، ومعرفة آيات الله وسننه في خلقه، والأمر بالعدل في الأحكام والأعمال، كما قال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة في قوله: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ...} الخ وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)}. السادس: آيات الله وسننه في الكون: ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض في ستة أيام، واستواءه على العرش، ونظام الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وخلق الرياح والمطر، وإحياء الأرض به، وإخراجه الثمرات من الأرض، خلق الناس من نفس واحدة، وخلق زوجها منها ليسكن إليها، وإعداد الزوجين للتناسل، وتفضيل الإنسان على من في الأرض جميعا، خلق بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى، وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنّه ربهم، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم، بما منحوه من العقل، وحجته تعالى عليهم بذلك: خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات، وضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر، وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره. وفي ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره، ومعرفة الأثر بمصدره، عداوة إبليس والشياطين من نسله لبني آدم، وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون، منة الله تعالى على البشر، بتسهيل أسباب المعاش لهم في آيات الله تعالى ونعمه على بني إسرائيل، إلى نحو ذلك مما فيه سعادة البشر في دينهم ودنياهم. السابع: سننه تعالى في الاجتماع والعمران البشري: ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها، وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة، ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة، وبالرخاء والنعماء أخرى، وأن الإيمان بما دعا إليه، والتقوى في العمل بشرعه، فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة، كما قال تعالى:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} وأن لله إرث الأرض، واستخلاف الأمم، والسيادة على الشعوب سننا لا تتبدل، كما قال: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)}؛ أي: إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية، فتدوم لهم، وإنما هي لله، ولله سنن في سلبها من قوم، وجعلها إرثا لقوم آخرين، وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد في الأرض، ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال، كالصبر على المكاره، والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شيء وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة في هذا العصر باستعمار الشيوعية لها كالشعوب الأرمية في شرقي افريقيا يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوي السيادة عليها في القوى المادية والسلاحية، جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس؛ فإنّ رجحان فرعون وقومه على بني إسرائيل، كان فوق رجحان قوى السائدين عليهم وقهرهم إياهم، وقد كان ينبغي للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه الله عليهم من ذنوب الأمم، التي هلك بها من كان قبلهم، حتى دالت دولتهم، وزال ملكهم، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬1). ¬

_ (¬1) إلى هنا تم ما تيسر لنا جمعه من تفسير سورة الأعراف، في الليلة الرابعة والعشرين من الجمادى الأخيرة، منتصف الليل، في تاريخ 24/ 6/ 1410 هـ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيات .. فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تيسيره، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، حمدا يعدل حمد الملائكة المقربين وجميع عباده الصالحين وصل الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين ... آمين.

سورة الأنفال

سورة الأنفال سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات، من قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فمكية، والأصح (¬1): أنّ سورة الأنفال كلها مدنية كما في «الخازن» وإن كانت الآيات السبع المذكورة في شأن الواقعة التي وقعت بمكة، إذ لا يلزم من كون الواقعة في مكة أن تكون الآيات التي في شأنها مكية، فالآيات المذكورة نزلت بالمدينة تذكيرا له صلى الله عليه وسلّم بما وقع له في مكة، فقولهم: مدنية إلا سبع آيات ضعيف، وقيل: كلها مدنية إلا (¬2) قوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}؛ فإنّها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وجملة آيات هذه السورة خمس أو ست (¬3) وسبعون آية، وكلماتها ألف وست مئة وإحدى وثلاثون كلمة، وحروفها خمسة آلاف ومئتان وأربعة وتسعون حرفا، والله أعلم. ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب: (أنّ (¬4) النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في صلاة المغرب). وأخرج الطبراني أيضا عن زيد بن ثابت: (أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال). المناسبة: ومناسبة هذه السورة لسورة الأعراف (¬5): أنّها في بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه، وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم. الناسخ والمنسوخ: وجملة ما في هذه السورة من المنسوخ ست آيات (¬6): ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) ابن كثير. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراغي. (¬6) الناسخ والمنسوخ لابن حزم.

أولاهن: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...} الآية (1) نسخت بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...} الآية (41). الآية الثانية: قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية (33)، منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ} الآية (34). الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} الآية (38): منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...}. الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ...} الآية (61) منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (29)، من سورة التوبة. الآية الخامسة: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (65) منسوخة، وناسخها قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآية (66). الآية السادسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا} (72) وذلك أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة لا بالنسب، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (75). والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)}. المناسبة المناسبة بين أول هذه السورة وآخر سورة الأعراف: أن سورة الأنفال بدئت بالأمر بتقوى الله تعالى وبإصلاح ذات البين وبالحث على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وبيان أنّ الخوف من الله تعالى وعدم الاستكبار عن طاعته من صفات المؤمنين، وأن إقامة الصلاة التي من أركانها السجود من صفاتهم، وأن سورة الأعراف ختمت بأخذ العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، المستلزم لإصلاح ذات البين، وبالأمر باستماع القرآن والإنصات له عند قراءته،

المسلتزم خوف القلوب من ربها، وزيادة الإيمان لها عند تدبرها معاني آيات الله تعالى، وختمت أيضا ببيان أنّ من صفات الملائكة المقربين عدم الاستكبار عن عبادته تعالى، وأنّهم يسبحونه وله يسجدون؛ أي: يصلون، كما أنّ من صفات المؤمنين إقامة الصلاة وعدم الاستكبار عن طاعة الله تعالى. أسباب النزول قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قتل قتيلا .. فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا .. فله كذا وكذا»، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنّا كنا لكم ردءا، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}. وروى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اذهب فخذ سيفك». وروى (¬2) أبو داود والترمذي والنسائي عن سعد قال: لما كان يوم بدر .. جئت بسيف فقلت: يا رسول الله، إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، هب لي هذا السيف، فقال: «هذا ليس لي ولا لك»، فقلت: عسى أن يعطى هذا من لا يبلي بلائي، فجاءني الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال: «إنّك سألتني وليس لي، وإنّه قد صار لي وهو لك»، قال: فنزلت {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنّهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن الخمس بعد الأربعة ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

الأخماس؟ فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...} الآية. وأخرج الإمام أحمد وابن جرير والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا، فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وفاق بين المسلمين. الحديث هذا لفظ أحمد. ولا تنافي بين السببين، إذ لا مانع أن تكون الآية نزلت في الجميع، والله أعلم. قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم - ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت -: «ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا؟» فخرجنا فسرنا يوما أو يومين، قال: «ما ترون فيهم» فقلنا: يا رسول الله، ما لنا طاقة بقتال القوم إنما أخرجنا للعير، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال موسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} فأنزل الله عز وجل: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)}. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} سبب نزوله: ما أخرجه الإمام أحمد (ج 1/ ص 30) قال: حدثنا أبو نوح قراد، أنبأنا عكرمة عن عمار، حدثنا سماك الحنفي - أبو زميل - حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلّم إلى

[1]

أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلّم القبلة، ثم مد يديه - وعليه رداؤه وإزاره - قال: «اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه، فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}. الحديث أخرجه مسلم والترمذي وقال حسن صحيح غريب. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَسْئَلُونَكَ}؛ أي: يسألك يا محمد أصحابك - منهم سعد بن أبي وقاص - سؤال استفتاء أو سؤال طلب {عَنِ الْأَنْفالِ}؛ أي: عن الغنائم يوم بدر لمن هي؟ أللشبان أم للشيوخ أو للمهاجرين هي؟ أم للأنصار أم لهم جميعا؟ وسميت الغنائم أنفالا لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم الغنائم؛ ولأنّها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم ي {سئلونك الأنفال} بدون {عَنِ} {قُلِ} لهم يا محمد {الْأَنْفالِ} والغنائم يوم بدر {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ أي: الحكم فيها لله سبحانه وتعالى، يحكم فيها بحكمه، وللرسول صلى الله عليه وسلّم، يقسمها بحسب حكم الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسواء، وقد (¬1) بين الله سبحانه وتعالى بهذه الجملة أنّ أمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم بين مصارفها، وكيفية قسمتها، في آية الخمس: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية. وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس، وقد روي عن سعد بن وقاص أنّه قال: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقلت: إن الله شفى ¬

_ (¬1) المراغي.

صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال لي عليه الصلاة والسلام: «ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض» فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا سعد، سألتني السيف وليس لي، وقد صار لي فخذه». والحديث سبق في أسباب النزول. وكان سبب نزول الآية (¬1): اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سبق بيانه، فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول فقال: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ أي: حكمها مختص بهما، يقسمها بينكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حسب ما أمره الله سبحانه به، وليس لكم حكم في ذلك. وقد ذهب (¬2) جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة، ليس لأحد فيها شيء، حتى نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...} الآية. ثم أمرهم بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون في أخذ الغنائم، واتركوا المنازعة فيها؛ أي: فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله، لما فيه من المضار، ولا سيما في حال الحرب. {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}؛ أي: وأصلحوا الحال والشأن والمواصلة بينكم، بترك النزاع وتفويض أمر الغنائم إلى الله ورسوله؛ أي: وأصلحوا ما بينكم من الأحوال والشؤون، حتى تكون أحوال ألفة ومودة ومحبة واتفاق، وعبارة «البيضاوي» هنا؛ أي: وأصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى، وتسليم أمره إلى الله والرسول. انتهت. وعبارة «الصاوي» هنا قوله: {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ}؛ أي: الحالة التي بينكم، وهي الوصلة الإسلامية، فالمعنى: اتركوا النزاع والشحناء، والزموا المودة والمحبة بينكم، ليحصل النصر والخير لكم، انتهت. وهذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[2]

الإصلاح (¬1) واجب شرعا، وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها، وبه تحفظ وحدتها، روي عن عبادة بن الصامت قال: نزلت هذه الآية فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من بين أيدينا، فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى {وَرَسُولَهُ} صلى الله عليه وسلّم أيها المؤمنون في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويقضى به ويحكم، فالله تعالى مالك أمركم، والرسول مبلغ عنه، ومبين لوحيه بالقول والفعل والحكم، وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة في الآخرة، والفوز بثوابها، والرسول صلى الله عليه وسلّم يطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة، ولا سيما في الشؤون الحربية؛ لأنّه القائد العام، فمخالفته تخل بالنظام، وتؤدي إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة في تنفيذ الشرع، وإدارة شؤون الأمة، وقيادة الجند، ما كان له صلى الله عليه وسلّم بشرط عدم معصية الله تعالى، ومشاورة أولي الأمر، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: امتثلوا لهذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله؛ لأنّ هذه الأمور الثلاثة - التي هي تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول - لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلا لمن لم يمتثلها؛ فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن. أي: إن كنتم كاملي الإيمان .. فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، إذ كمال الإيمان يقتضي ذلك الامتثال؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أوجبه، فالمؤمن بالله حقا يكون من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي، إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة، أو فورة غضب، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله، ويتوب إليه مما عرض له. 2 - ثم وصف الله تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى، ¬

_ (¬1) المراغي.

وإصلاح ذات البين، وطاعة الله تعالى ورسوله، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: إنّما المؤمنون حقا المخلصون في إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خمس خصال: الأولى منها: ما ذكره بقوله: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} ورقت وخافت {قُلُوبُهُمْ}: من الله تعالى خوف عقاب، وهو خوف العصاة، وخوف الهيبة والعظمة وهو خوف الخواص، ولفظة إِنَّمَا تفيد الحصر، والمعنى: ليس المؤمنون الذين يخالفون الله ورسوله، {إنّما} المؤمنون الصادقون في إيمانهم هم الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم وجلت قلوبهم؛ أي: خضعت وخافت ورقت قلوبهم؛ أي: فزعوا لعظمته وسلطانه، أو لوعده ووعيده، ومحاسبته لخلقه، والآية بمعنى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}. فإن قلت: إنّه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} بمعنى خافت، وقال في آية أخرى {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}، فكيف الجمع بينهما؟. قلت: لا منافاة بين هاتين الحالتين؛ لأن الوجل هو خوف العقاب، والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين، وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد جمعا في آية واحدة، وهي قوله سبحانه وتعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} والمعنى: تقشعر جلودهم من خوف عقاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله، ورجاء ثوابه، وهذا حاصل في قلب المؤمنين. والثانية: ما ذكره بقوله: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ}؛ أي: وإذا قرأت عليهم آيات القرآن المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلّم {زادَتْهُمْ إِيمانًا}؛ أي: زادتهم تصديقا ويقينا في الإيمان، وقوة في الاطمئنان، ونشاطا في الأعمال؛ لأنّ تظاهر الأدلة، وتعاضد الحجج يوجد زيادة اليقين، فإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فمقام الطمأنينية في الإيمان يزيد على ما دونه من

الإيمان المطلق قوة وكمالا، قيل: والمراد بزيادة الإيمان: هو زيادة انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات. وقيل: المراد بزيادة الإيمان: زيادة العمل؛ لأنّ الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة، والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». ففي هذا الحديث دليل على أنّ الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك .. كان قابلا للزيادة والنقص، ويروى أن عليا المرتضى قال: لو كشف عني الحجاب ما ازددت يقينا، والعلم التفصيلي في الإيمان أقوى من العلم الإجمالي، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات، ويعلم ذلك علما إجماليا، ولو سألته أنّ يبين لك شواهده في الخلق .. لعجز، لا يوزن إيمانه إيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله في الكائنات في كل نوع من أنواع المخلوقات، ولا سيما في العصور الحديثة، التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء في القرون الخوالي، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: في وصف {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ} في غزوة أحد {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ}. والثالثة: ما ذكره بقوله: {وَعَلى رَبِّهِمْ} ومالك أمرهم لا على غيره {يَتَوَكَّلُونَ}؛ أي: يعتمدون بالكلية، وينقطعون بالكلية عما سوى الله تعالى؛ أي: إنّهم يتوكلون على ربهم وحده، لا يفوضون أمرهم إلى غيره، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله .. لا يمكن منه أن يكل شيئا منها إلى غيره، فلا يعتمد على مال، ولا على عمل، ولا يخاف من غيره. واعلم: أن هذه الخصال الثلاث - أعني الوجل عند ذكر الله، وزيادة

[3]

الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله - من أعمال القلوب، والصفتان الباقيتان من أعمال الجوارح، كما سترى قريبا. واعلم: أنّه إذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به، وأنه يجازى على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .. وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله تعالى في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأنّ هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأما ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله تعالى الذي سخرها وجعلها أسبابا، وعلمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده، وإليه يتوجه فيما يطلبه منه، أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله في الخلق .. فهو جهل بالله وجهل بدينه، وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول. 3 - والرابعة: ما ذكره بقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} وهذا الموصول في محل رفع على أنّه وصف للموصول قبله، أو بدل منه، أو بيان له، أو في محل نصب على المدح، وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه، يعني: يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها؛ أي: يؤدونها مقومة كاملة في صورتها وأركانها الظاهرة من قيام، وركوع، وسجود، وقراءة، وذكر، وفي معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع، في مناجاة الرحمن، واتعاظ وتدبر في تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. والخامسة: ما ذكره بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}؛ أي: وينفقون بعض ما رزقناهم في وجوه البر، من الزكاة المفروضة، والحج والجهاد، والنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين، والمحتاجين، وفي مصالح الأمة ومرافقها العامة، التي بها يعلو شأنها بين الأمم، ويكون عليه تقدمها وعمرانها. 4 - {أُولئِكَ} الموصوفون بالصفات الخمس المذكورة {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} إيمانا {حَقًّا} لا شك في إيمانهم؛ لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه.

روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، أنّه مر برسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: «انظر ماذا تقول يا حارثة؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: «يا حارثة عرفت فالزم» ثلاثا. وروي عن الحسن أنّ رجلا سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والحساب .. فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ...} الخ فو الله لا أدري أنا منهم أم لا. وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافهم، ذكر جزاءهم عند ربهم فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة {دَرَجاتٌ} من الكرامة والزلفى، ومراتب متفاوتة، بعضها فوق بعض بحسب تفاوتهم في الإيمان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين مئة عام» أخرجه الترمذي. وله أيضا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ في الجنة مئة درجة، لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهن .. لوسعتهم مدخرة لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} الذي خلقهم وسواهم، وهو القادر على جزائهم على أعمالهم الصالحة في دار الجزاء والثواب، والله تعالى فضل بعض الناس على بعض، ورفعهم درجة أو درجات في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)} وقال تعالى في الرسل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ}. الآية. وقال في درجات الدنيا وحدها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}.

[5]

وفي كونها عنده سبحانه وتعالى زيادة تشريف لهم، وتكريم وتعظيم وتفخيم. {وَ} لهم {مَغْفِرَةٌ} من الله سبحانه وتعالى لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجات الكمال {وَ} لهم {رِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ أي: ثواب حسن في الجنة، مقرون بالإكرام والتعظيم، خال عن كد الاكتساب وخوف الحساب، وهو ما أعد الله سبحانه وتعالى لهم من نعيم الجنة، من لذيذ المآكل والمشارب، وهناء العيش، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن، لا قبح فيه ولا شكوى. 5 - والكاف في قوله: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} خبر لمبتدأ محذوف جوازا تقديره: الأمر والشأن كائن كما أخرجك ربك، و {ما} مصدرية؛ أي: قضاء الله وأمره وشأنه كائن كإخراجه إياك من بيتك في المدينة، حال كونك ملتبسا بالحق والوحي {وَ} الحال {إِنَّ فَرِيقًا} وجماعة {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ} ذلك الخروج، لعدم استعدادهم له بالعدد والعدد، وقيل: إن الكاف اسم بمعنى مثل واقعة خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل جميع الغزاة بالسوية، مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب؛ أي فكراهتهم لقسمة الغنيمة على السوية مثل كراهتهم لقتال قريش. والحاصل: أنه وقع للمسلمين في وقعة بدر كراهتان: كراهة قسمة الغنيمة على السوية، وهذه الكراهة من شبابهم فقط، وهي الداعي الطبيعي، ولتأولهم بأنّهم باشروا القتال دون الشيوخ. والكراهة الثانية: كراهة قتال قريش، وعذرهم فيها أنّهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة، ولم يتهيؤوا للقتال، فكان ذلك سبب كراهتهم للقتال، فشبه إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهة. وقيل: إن التشبيه واقع بين إخراجين؛ أي: إخراج ربك إياك من بيتك في مكة بالحق والوحي، وأنت كاره للخروج، وكان عاقبة ذلك الإخراج الظفر والنصر، والخير كائن، كإخراجه إياك - وبعض المؤمنين - من بيتك في المدينة بالحق والوحي في أنّه يكون عقب ذلك الخروج الثاني الظفر والنصر والخير، كما

كانت عقيب ذلك الخروج الأول، وقيل: المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق والوحي، كثبوت إخراجك من بيتك بالمدينة بالحق والوحي، والحال: إنّ فريقا وطائفة من المؤمنين لكارهون ذلك الخروج. وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام - وفيها تجارة عظيمة ومعه أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام - فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران - بوزن سلمان وهو قريب من الصفراء - نزل عليه صلى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع - فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل؛ أي: بجمع أهل مكة، ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام عند ذلك أبو بكر وعمر، فأحسنا في القول، ثم قال سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض كما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس» فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبسطه قول سعد، ثم قال صلى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم». وحاصل المعنى: أنّ الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من

[6]

جعل الله لهم الحق فيها بالسوية، وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنّهم أحق بها، كما يكرهون إخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك، لعدم استعدادهم للقتال، ولقلة عددهم، وقلة سلاحهم، وكثرة عدوهم وسلاحهم، 6 - {يُجادِلُونَكَ}؛ أي: يجادلك يا محمد المؤمنون وينازعونك {فِي الْحَقِّ}؛ أي: في القتال وتلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم {بَعْدَ ما تَبَيَّنَ}؛ أي: بعد أن ظهر لهم الحق الذي هو القتال بإخبارك أنّهم سينصرون أينما توجهوا، وبعد ما أمرت به، ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا وأخبرته أولا لنستعد ونتأهب له، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال، إذ أنّهم كانوا في حال ضعف، فكان من حكمة الله أو وعدهم أولا إحدى طائفتي قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام؛ لأنّها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه لضعف الحامية، فلما ظهر لهم أنّها فاتتهم ونجت - إذ ذهبت من طريق سيف البحر، طريق الشاطىء - وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة، وأنّها قد قربت منهم، ووجب عليهم قتالها، إذ تبين أنّها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى بالنصر عليها .. صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأنّهم لم يخرجوا إلا للعير؛ لأنّه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له. ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه .. فلا ينبغي أن يقال: إنّ طائفة العير هي مراد الله؛ لأنّها نجت، ولا بأن يقال: إننا لم نعد للقتال عدته؛ لأنّه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله به، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال، وقرأ عبد الله {بعد ما بين} بضم الباء من غير تاء، وفي قوله: {بَعْدَ ما تَبَيَّنَ} إنكار عظيم عليهم؛ لأن من جادل في شيء لم يتضح .. كان أخف عتبا، أما من نازع في أمر واضح .. فهو جدير باللوم والإنكار.

[7]

{كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ}؛ أي: يجادلونك في الحق حالة كونهم لشدة ما بهم من جزع ورهب، يساقون بعنف وشدة وقهر إلى موت محقق لا مهرب منه، لوجود أماراته وأسبابه، حتى كأنّهم ينظرون إليه بأعينهم، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم، من التفاوت في القوة والعدد، والخيل والزاد، قاض بذلك، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم ووعده لا يتخلف. وأما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين، وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم، وكان هذا نصرا مؤزرا للمسلمين على المشركين، وبه علا ذكرهم في البلاد العربية، وهابهم قاصيها ودانيها. 7 - {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}؛ أي: واذكروا أيها المؤمنون قصة إذ وعدكم الله تعالى الظفر بإحدى الطائفتين العير والنفير {أَنَّها لَكُمْ}؛ أي: أن تلك الإحدى تكون وتحصل لكم وتتسلطون وتتصرفون فيها {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}؛ أي: والحال أنّكم تتمنون وتحبون كون الطائفة غير صاحب الشوكة والقوة، وحصولها لكم - وهي العير - لضعفها وقلة عددها؛ لأنّه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال، والمعنى: تمنون أنّ العير التي ليس فيها قتال ولا سلاح ولا شوكة تكون لكم، والشوكة: الشدة والقوة {وَيُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بوعده غير ما أردتم {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} الذي أراده ويظهره، وهو نصر المؤمنين وخذلان الكافرين {بِكَلِماتِهِ}؛ أي: بآياته المنزلة على رسوله في محاربة ذات الشوكة، أو بما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة، أو بما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم في قليب - بئر - بدر، أو بأمره إياكم بالقتال، وقيل: بعداته التي سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه، وقيل: كلماته هي ما وعد نبيه في سورة الدخان، فقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} أي من أبي جهل وأصحابه {وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ}؛ أي: ويهلك أصل الكافرين من أولهم إلى آخرهم،

[8]

ويعدم المعاندين بالجملة، ويذهب أثرهم، ويمحق قوتهم، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها، إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، قال صاحب (¬1) «الكشاف»: يعني أنّكم تريدون الفائدة العاجلة، وسفساف الأمور، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلو الكلمة، والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقتلكم، وأعزكم وأذلهم اه. 8 - وقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ} متعلق بمحذوف تقديره: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق الذي هو الإسلام؛ أي: ليظهر حقيته ويثبته، ويبطل الباطل الذي هو الشرك؛ أي: ليظهر بطلانه ويزيله {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: المشركون أولو الاعتداء والطغيان إظهار الحق وإحقاقه، وإبطال الباطل وإزالته، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير، بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم. وفي الآية سؤالان (¬2): الأول: أن قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} تكرير مع قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} فما معناه؟ والجواب: أنّه ليس بتكرار؛ لأن المراد بالمذكور أولا تثبيت ما وعد في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، وبالمذكور ثانيا تقوية الدين، وإظهار الإسلام مدى الأيام؛ لأنّ الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم، وقهر الكافرين مع كثرتهم .. كان سببا لإعزاز الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله: {وَيُبْطِلَ الْباطِلَ}، وقيل: إنّ الأول للفرق بين الإرادتين، إرادة الله تعالى وإرادتهم، والثاني لبيان الداعي إلى حمله صلى الله عليه وسلّم على اختيار ذات الشوكة ونصره؛ لأنّ الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سببا لإعزاز الدين وقوته مدى الأيام. ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) الخازن مع بعض زيادة.

[9]

السؤال الثاني: الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، فما المراد بتحقيق الحق، وإبطال الباطل؟ والجواب: أنّ المراد من تحقيق الحق: إظهار كون ذلك الحق حقا، والمراد من إبطال الباطل: إظهار كون ذلك الباطل باطلا، وذلك بإظهار دلائل الحق، وتقويته، وقمع رؤساء الباطل وقهرهم. وقرأ مسلمة بن محارب (¬1): {يعدكم} بسكون الدال لتوالي الحركات، وابن محيصن {اللَّهُ إِحْدَى}: بإسقاط همزة إحدى على غير قياس، وعنه أيضا أحد على التذكير، إذ تأنيث الطائفة مجاز، وأدغم أبو عمرو {الشَّوْكَةِ تَكُونُ} وقرأ مسلم بن محارب {بكلمته} بالإفراد، وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع، بخلاف عنهم، وأطلق المفرد مرادا به الجمع للعلم به، أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو: كن. 9 - وقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا أيها المؤمنون قصة وقت استغاثتكم ربكم؛ أي: وقت طلبكم الغوث والنصر من ربكم قائلين: ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه، إذ ضاقت عليهم الحيل، وطلبوا مخلصا من تلك الشدة، فاستجاب دعاءهم كما قال: {فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ}؛ أي: فأجاب دعاءكم بأني ممدكم ومساعدكم فمعينكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}؛ أي: متتابعين؛ أي يردف بعضهم بعضا، ويتبعه؛ أي: يأتي بعضهم إثر بعض، وهذا (¬2) الألف هم وجوههم وأعيانهم، وبهذا يطابق ما جاء في سورة آل عمران {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} و {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وقيل (¬3): يجمع بين ما هناك وهنا بأن الملائكة كانت ألفا في ابتداء الأمر، ثم صارت ثلاثة، ثم خمسة؛ أي: ثم صارت بعد الوعد بالألف ووقوع القتال بالفعل ومقاتلة الألف معهم صارت الألف بزيادة الله عليها ألفين ثلاثة آلاف، ثم صارت الثلاثة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

بزيادة ألفين عليها خمسة. ومعنى بـ {أَنِّي مُمِدُّكُمْ}؛ أي: (¬1) بإمدادي إياكم؛ أي: بوعدي إياكم بالإمداد، وذلك لأنّه وقت الإجابة لم يحصل الامداد بالفعل؛ لأن الدعاء واستجابته كانا قبل وقوع القتال، وفي «الخازن»: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} الأصل بأني ممدكم؛ أي: مرسل إليكم مددا وردءا لكم. وقرأ الجمهور (¬2): {أَنِّي} بفتح الهمزة على تقدير حذف الجر؛ أي: بأني، وقرأ عيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرو {إني} بكسرها، وفيه مذهبان: مذهب البصريين: أنه على إضمار القول؛ أي: فقال: إني ممدكم. ومذهب الكوفيين: أنّها محكية باستجاب، إجراء له مجرى القول؛ لأنّه بمعناه. وقرأ الجمهور (¬3): بألف بالإفراد، وقرأ الضحاك وأبو رجاء: {بآلاف} بهمزة ممدودة و {بِأَلْفٍ} على الجمع، وقرأ أبو العالية وأبو المتوكل: {بألوف} بوزن فلوس، بضم الهمزة واللام، وبواو بعدها، على الجمع، وقرأ تميم بن حذلم الضبي والجحدري: {بألف} بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف، وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران: {بيلف}: بياء مفتوحة، وسكون اللام من غير واو، ولا ألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومجاهد: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال؛ أي: متتابعين، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وروي عن قنبل أيضا بفتح الدال، قال الفراء: أراد فعل ذلك بهم؛ أي: إن الله أردف المسلمين بهم، وقرأ معاذ القارىء وأبو المتوكل الناجي وأبو مجلز: {مُرْدِفِينَ} بفتح الراء والدال، مع التشديد، وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران: {مُرْدِفِينَ}: بضم الراء وكسر الدال، وقال الزجاج: يقال ردفت الرجل إذا ركبت خلفه، وأردفته إذا أركبته خلفك، فمعنى {مُرْدِفِينَ} يأتون فرقة بعد ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

[10]

فرقة، ويجوز في اللغة: مردّفين ومردّفين ومردّفين، فالدال مكسورة مشددة على كل حال، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر، قال سيبويه: الأصل مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال، فصار مردفين؛ لأنّك طرحت حركة التاء على الراء، وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسرت التاء لالتقاء الساكنين، والذين ضموا الراء جعلوها تابعة لضم الميم 10 - {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ}؛ أي: وما جعل الله إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لعلة من العلل {إِلَّا بُشْرى}؛ أي: إلا لأجل البشرى لكم بأنّكم تنصرون {وَ} إلا {لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}؛ أي: وإلا لتسكن بذلك الإمداد قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم، فكان من مجادلتكم للرسول في أمر القتال ما كان، وبذا تلقون أعداءكم ثابتين، موقنين بالنصر، وفي هذا إشعار بأنّ الملائكة لم يقاتلوا، بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم، وتطمين قلوبهم وتثبيتها، وحذف {لكم} هنا وأثبته في آل عمران لأن القصة هناك مسهبة، فناسبها الإثبات، وهنا موجزة فناسبها الحذف، وهنا قدم لفظة {بِهِ} وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في دائرة الكلام، وجاء هنا {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} مراعاة لأواخر الآي، وهناك ليست آخر آية، لتعلق {يَقْطَعَ} بما قبله، فناسب أن يأتي {العزيز الحكيم} على سبيل الصفة، وكلاهما يشعر بالعلية، ذكره أبو حيان. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لا من عند غيره؛ أي: إنّ الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره، ولا تتكلوا على قوتكم، فإمداد الملائكة، وكثرة العدد، والأهب ونحوها وسائط لا تأثير لها، فلا تحسبوا النصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها، وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره؛ فإن الله تعالى بيده النصر والإعانة؛ أي: ليس النصر إلا من عند الله تعالى دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب، فهو سبحانه الفاعل للنصر، والمسخر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه، كتسخير الملائكة لتخالط المؤمنين، فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب على أمره، قوي منيع لا يقهره شيء، ولا يغلبه غالب، بل هو يقهر كل شيء ويغلب {حَكِيمٌ} في تدبيره

[11]

ونصره، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء من عباده، لا يضع شيئا في غير موضعه. وظاهر الآية يدل على أن لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، فهو يؤثر في القلوب فيزيدها قوة، وإن لم يكونوا محاربين، وهناك روايات تدل على أنّهم قاتلوا فعلا، وفي يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى، ولكن الشرط الأخير قد انتفى، فانتفى ما علق عليه. 11 - واذكروا أيها المؤمنون نعمة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}؛ أي: نعمة إذ يلقي الله سبحانه وتعالى عليكم {النُّعاسَ}؛ أي: النوم الخفيف {أَمَنَةً مِنْهُ}؛ أي: حالة كون النعاس أمانا من الله لكم؛ أي: سبب أمان وسلامة لكم من عدوكم أن يغلبكم، قال عبد الله بن مسعود (¬1) النعاس في القتال أمنة من الله؛ أي: طمأنينة منه، وفي الصلاة من الشيطان، والفائدة في كون النعاس أمنة في القتال: أنّ الخائف على نفسه لا يأخذه النوم، فصار حصول النوم وقت الخوف الشديد دليلا على الأمن، وإزالة الخوف، وقيل: إنّهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عدوهم وعددهم، وقلة المسلمين عددا وعددا وعطشوا عطشا شديدا .. ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة، وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوهم، وكان ذلك النوم نعمة في حقهم؛ لأنّه كان خفيفا بحيث لو قصدهم لعرفوا وصوله إليهم، وقدروا على دفعه عنهم، وقيل في كون هذا النوم كان أمنة من الله: أنّه وقع عليهم النعاس دفعة واحدة، فناموا كلهم مع كثرتهم، وحصول النعاس لهذا الجمع العظيم - مع وجود الخوف الشديد - أمر خارج عن العادة، فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة؛ لأنّه أمر خارق للعادة، وهذه (¬2) الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنّهم مع خوفهم من لقاء العدو، والمهابة لجنابه، سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها. قيل: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

أحدهما: أنّه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أنّه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم. وقيل: إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران، وروى البيهقي في «الدلائل» عن علي كرم الله وجهه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأينا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح. والمتبادر من الآية أنّ النعاس كان في أثناء القتال، وهو يمنع الخوف؛ لأنّه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر. وقرأ (¬1) ابن كثير، وأبو عمرو، ومجاهد، وابن محيصن {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ} بفتح الياء، وسكون الغين، وفتح الشين بعدها ألف مضارع غشي الثلاثي، والنعاس رفع به، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع: {يُغَشِّيكُمُ} بضم الياء وسكون الغين وكسر الشين، النعاس بالنصب مضارع أغشى الرباعي، وقرأ عروة بن الزبير، ومجاهد، والحسن وعكرمة، وأبو رجاء، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {يُغَشِّيكُمُ} بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين مكسورة، النعاس بالنصب، وقرأ الجمهور {أَمَنَةً} بالتحريك، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن محيصن، {أَمَنَةً مِنْهُ} بسكون الميم على وزان رحمة. {وَ} اذكروا نعمة {إذ ينزل} الله سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً}؛ أي: مطرا {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}؛ أي: بذلك الماء من الأحداث والجنابات، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ}؛ أي: وسوسته إليكم، بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم عطاشا محدثين، والمشركون على الماء {وَلِيَرْبِطَ} به {عَلى قُلُوبِكُمْ} باليقين والصبر، وقال الواحدي: ويشبه أن تكون لفظة {عَلى} صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بالصبر، وما أوقع فيها من اليقين، وفي «الوسيط»: {عَلى} زائدة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل من الماء، ولا تضطرب بوسوسة الشيطان اه ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير.

«زاده» أي: يقويها ويعينها باليقين، فجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، {وَيُثَبِّتَ بِهِ}؛ أي: بذلك الماء {الْأَقْدامَ} على الرمل فقدروا على المشي عليه، كيف أردوا في مواطن القتال. روى (¬1) ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمىء المسلمون، وصلّوا مجنبين محدثين، وكان بينهم، رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال أتزعمون أنّ فيكم نبيّا وأنكم أولياء، وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهّروا، وثبتت أقدامهم؛ أي: على الرمل اللين لتلبده بالمطر، وذهبت وسوسته. وقال ابن القيم: أنزل الله تعالى تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهّرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهّد به المنزل، وربط على قلوبهم فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله وأصحابه أعلى الحياض، وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عريش على تلّ مشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى، فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته. وقال ابن إسحاق (¬2): إن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الحرب والرأي والمكيدة» قال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم تغور ما وراءه من القلب، - الأبار غير المبنية - ثم نبني عليها حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لقد أشرت بالرأي» ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[12]

وفعلوا ذلك، وقد فهم من الآية أنّه كان لهذا المطر أربع فوائد: 1 - تطهيرهم حسّيا بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس، وشرعيّا بالغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث الأصغر. 2 - إذهاب رجس الشيطان ووسوسته. 3 - الربط على القلوب؛ أي: توطين النفس على الصبر وتثبيتها، كما قال: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها} وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال. 4 - تثبيت الأقدام به؛ ذاك أنّ هذا المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم، فقدروا على المشي كيف أرادوا، ولولاه لما قدروا على ذلك. وقرأ طلحة (¬1): {وَيُنَزِّلُ} بالتشديد، وعبارة النسفي: {وينزل} قرأ مكيّ وبصري بالتخفيف، وقرأ غيرهم بالتشديد. اه. وقرأ الجمهور: {ماءً} بالمد، وقرأ الشعبي، {ما} بغير همز، والأصحّ أنها بمعنى ماء المدودة، قصر للتخفيف، وقيل: هي ما الموصول، ولا يصح لأنّ لام كي لا تكون صلة الموصول، وقرأ ابن المسيب {ليطهركم} بسكون الطاء، وقرأ عيسى بن عمر {ويذهب} بسكون الباء، وقرأ ابن محيصن {رجز} بضم الراء، وأبو العالية {رجس} بالسين. 12 - واذكر يا محمد نعمة {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ}؛ أي: نعمة وقت إيحاء ربك إلى الملائكة، الذين أمد بهم المؤمنين يوم بدر، وإعلامه إياهم، فأل فيه للعهد الذّكري {أَنِّي مَعَكُمْ}؛ أي: أني مع المؤمنين بالنصر، والمعونة، والتأييد، أو أني معكم يا ملائكتي في إمدادهم وإعانتهم {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: فثبتوا يا ملائكتي قلوب الذين آمنوا بإلقاء النصر والغلبة في قلوبهم، أو ثبتوهم بقتالكم معهم للمشركين. وقيل: بشّروهم بالنصر والظفر، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف، ويقول: أبشروا فإنّ الله ناصركم عليهم، فالمراد بالمعية في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قوله أنّي معكم معية الإعانة والنصر والتأييد في مواطن الجد، ومقاساة شدائد القتال، وهذه منة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها. وقال الزجاج (¬1): كان التثبيت لهم بأشياء يلقونها في قلوبهم، تصح بها عزائمهم، ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير، ويقال له: إلهام، كما إن للشيطان قوة إلقاء الشر، ويقال لها وسوسة. وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} والخوف منكم تفسير لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} كأنه قيل: أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فلا يكون لهم ثبات، وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين، حيث ألقى الخوف منهم في قلوب المشركين، وقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ} كالتفسير لقوله: {فَثَبِّتُوا} وهو أمر للمؤمنين، أو للملائكة، وفيه دليل على أنّهم قاتلوا، قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعرف كيف تقاتل بني آدم، فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله: فاضربوا يا ملائكتي فوق الأعناق {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} (¬2)؛ أي: فاضربوا رؤوسهم، واضربوا أطراف الأصابع؛ أي: اضربوا أيها المؤمنون، أو يا ملائكتي في جميع أعضاء المشركين من أعاليها إلى أسافلها، كيف شئتم؛ لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس، فهو إشارة إلى جميع الأعضاء. ومعنى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}؛ أي: فاضربوا الأعناق وما فوقها، وهي الرؤوس، ومعنى {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ}؛ أي: واضربوا أطراف أصابع اليدين، سميت (¬3) بذلك، لأنّ بها صلاح الأشياء التي يمكن الإنسان أن يعملها بيديه، وإنما خصّت بالذكر دون سائر الأطراف، لأجل أن الإنسان بها يقاتل، وبها يمسك السلاح في الحرب، وقيل: إنه سبحانه وتعالى أمرهم بضرب أعلى الجسد وهو الرأس، وهو أشرف الأعضاء وبضرب البنان، وهو أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كلّ عضو في الجسد، وقيل: أمرهم بضرب الرأس، وفيه إهلاك الإنسان، وبضرب البنان وفيه تعطيل حركة الإنسان عن الحرب؛ لأنه بالبنان يتمكن من مسك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

السلاح وحمله والضرب به، فإذا قطعت بنانه تعطّل عن ذلك كلّه. روي (¬1) عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وعن سهل بن حنيف قال: لقد لقينا يوم بدر، وإنّ أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقرأ (¬2) عيسى بن عمر بخلاف عنه: {إني معكم} بكسر الهمزة على اضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء {يُوحِي} مجرى يقول على مذهب الكوفيين، وقرأ ابن عامر، والكسائي، والأعرج: {الرُّعْبَ} بضم العين، وقال (¬3) الفراء علمهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرؤوس والأيدي، والأرجل، فكأنه قال: فاضربوا الأعالي إن تمكنتم من الضرب فيها، فإن لم تقدروا، فاضربوهم في أوساطهم، فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم، فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت، والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع، والضرب في الأسافل يمنعهم من الكر والفر، فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية، وإما الاستيلاء عليهم. انتهى. والخلاصة (¬4): فاضربوا الهام وافلقوا الرؤوس، واجتزوا الرقاب، وقطّعوها، وقطعوا الأيدي ذات البنان، التي هي أداة التصرف في الضرب وغيره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة، ويقول: «نفلق هاما» فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو: نفلّق هاما من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما وفي ذلك دليل على ألمه صلى الله عليه وسلّم من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه، فالمشركون هم الذين ظلموه، هو ومن آمن به، حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا، ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[13]

13 - ثم بيّن سبب ذلك التأييد والنصر فقال: {ذلِكَ} المذكور من تأييد الله للمؤمنين بالنصر والمعونة والإمداد، والظفر، والغلبة، وخذلانه للمشركين بالقتل والأسر والهزيمة، {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: كائن بسبب أنّ المشركين {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} صلى الله عليه وسلّم؛ أي: خالفوهما في الأوامر والنواهي وعادوهما، فكان كل منهما في شقّ، وجانب غير الذي فيه الآخر، فالله هو الحق، والداعي إلى الحق ورسوله، هو المبلغ عنه، والمشركون على الباطل، وما يستلزمه من الشرور والآثام، والخرافات، والكاف في ذلك، لخطاب الرسول، أو لخطاب كل سامع {وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: ومن يخالف الله ورسوله فيما أمرا به، ونهيا عنه. وأجمعوا (¬1) على الفك في {يُشاقِقِ} اتباعا لخط المصحف، وهي لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم، كما جاء في الآية الأخرى {وَمَنْ يُشَاقِّ} {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى يعاقبه يوم القيامة على مخالفته، وشركه لأنه سبحانه وتعالى: {شَدِيدُ الْعِقابِ} له، فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة إلى ما أعده الله لهم من العقاب يوم القيامة، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له، الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردهم عن دينهم بالقوة والقهر، وإخراجهم من ديارهم، ثم اتّباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه، 14 - والخطاب في قوله: {ذلِكُمْ} للمشركين؛ أي: هذا العقاب الذي عجلت لكم أيها المشركون، المشاقون لله ورسوله في الدنيا، من انكسار وهزيمة مع الخزي، والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين؛ أي: ذلك العذاب المذكور {فَذُوقُوهُ} عاجلا في الدنيا وباشروه {وَ} اعلموا {أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ}؛ أي: إنّ لكم في الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم، وهو شر العذابين، وأبقاهما، وأشار بالتعبير بالذوق إلى أنّ عذاب الدنيا يسير بالنسبة لعذاب الآخرة، وقيل: المعنى ذوقوا ما عجل لكم في الدنيا مع ما أجل لكم في الآخرة. وقرأ الحسن وزيد بن علي وسليمان التيمي (¬2): {وَإنَّ لِلْكافِرِينَ} بكسر همزة {إن} على استئناف الإخبار. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الإعراب {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}. {يَسْئَلُونَكَ} فعل وفاعل ومفعول أول {عَنِ الْأَنْفالِ} جار ومجرور متعلق به على كونه مفعولا ثانيا له، والجملة مستأنفة {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {الْأَنْفالُ لِلَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكى لـ {قُلِ}، وإن شئت قلت: {الْأَنْفالِ} مبتدأ {لِلَّهِ} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قال} {وَالرَّسُولِ} معطوف على الجلالة {فَاتَّقُوا اللَّهَ} {الفاء} حرف عطف وتفريع {اتقوا الله} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {الْأَنْفالُ لِلَّهِ} على كونها مقولا لـ {قال} {وَأَصْلِحُوا} فعل وفاعل {ذاتَ بَيْنِكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة {إِنْ} حرف شرط وجزم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ مُؤْمِنِينَ} خبرها وجواب {إِنْ} معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم مؤمنين فأطيعوا الله ورسوله، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلِ}. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}. {إِنَّمَا} أداة حصر {الْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ {الَّذِينَ} خبر، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة المؤمنين المذكورين في الآية السابقة، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {ذُكِرَ اللَّهُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} من فعل شرطها، وجوابها صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والعائد ضمير {قُلُوبُهُمْ} {وَإِذا} {الواو}: عاطفة {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {تُلِيَتْ} فعل

ماض مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ} متعلق به {آياتُهُ} نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذا}. {زادَتْهُمْ} فعل ومفعول أول {إِيمانًا} مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على الآيات، والجملة جواب إِذا وجملة إِذا معطوفة على جملة إِذا السابقة على كونها صلة الموصول، والعائد ضمير {زادَتْهُمْ}. {وَعَلى رَبِّهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَتَوَكَّلُونَ}، وجملة {يَتَوَكَّلُونَ} معطوفة على جملة إِذا الأولى على كونها صلة الموصول، أو مستأنفة أو في محل النصب حال من مفعول {زادَتْهُمْ}. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع صفة للموصول الأول {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} فعل وفاعل ومفعول، به، والجملة صلة الموصول، {وَمِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {رَزَقْناهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: مما رزقناهم إياه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} على كونها صلة {الَّذِينَ}. {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. {أُولئِكَ} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْمُؤْمِنُونَ} خبر، والجملة مستأنفة مسوقة، لبيان ما للمؤمنين من الأجور {حَقًّا} صفة لمصدر محذوف، تقديره: المؤمنون إيمانا حقا {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {دَرَجاتٌ} مبتدأ مؤخر {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {دَرَجاتٌ} تقديره: درجات كائنات عند ربهم، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثان لـ أُولئِكَ. {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ} معطوفان على {دَرَجاتٌ}. {كَرِيمٌ} صفة لـ {رِزْقٌ}. {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)}. {كَما} {الكاف} حرف جر وتشبيه {ما} مصدرية {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فعل ومفعول وفاعل {مِنْ بَيْتِكَ} متعلق به {بِالْحَقِّ} جار ومجرور متعلق به أيضا، أو حال من مفعول {أَخْرَجَكَ}؛ أي: حال كونك ملتبسا بالحق، والجملة الفعلية صلة

{ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كإخراج ربك إياك {مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرا لمبتدأ محذوف تقديره الأمر والشأن كائن كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق؛ أي: الأمر والشأن الجاري في الأنفال من قسمها بالتسوية بينهم، كائن كإخراج ربك من بيتك في كونه مكروها لهم، وقد ذكروا في متعلق هذه الكاف نحو عشرين وجها أكثرها معترضة، وبعضها صعبة، وفيما ذكرناه كفاية، لأنه أوضح الوجوه، وأسلمها من الاعتراض، {وَإِنَّ فَرِيقًا} الواو: واو الحال {إِنَّ} حرف نصب {فَرِيقًا} اسمها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور صفة لـ {فَرِيقًا} {لَكارِهُونَ} {اللام} حرف ابتداء {كارهون} خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب حال من مفعول {أَخْرَجَكَ} تقديره: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، حال كون فريق من المؤمنين كارهين خروجك. {يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}. {يُجادِلُونَكَ} فعل وفاعل ومفعول {فِي الْحَقِّ} متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة إخبارا عن حالهم في المجادلة، أو حال ثانية من مفعول {أَخْرَجَكَ}؛ أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك، ويحتمل أن تكون حالا من الضمير في {لَكارِهُونَ}؛ أي: لكارهون في حال الجدال. {بَعْدَ ما} {بَعْدَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {يُجادِلُونَكَ} ما مصدرية {تَبَيَّنَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحق، والجملة صلة ما المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرود بإضافة الظرف إليه، تقديره: بعد تبينه {كَأَنَّما} {كأن} حرف نصب وتشبيه {ما} كافة لكفها {كأن} عن العمل فيما بعدها، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية {يُساقُونَ} فعل ونائب فاعل {إِلَى الْمَوْتِ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في {لَكارِهُونَ}؛ أي: حال كونهم مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، {وَهُمْ} مبتدأ {يَنْظُرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {يُساقُونَ}.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكروا {إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} فعل ومفعول أول، وفاعل ومفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} تقديره: واذكروا نعمة وقت وعد الله سبحانه وتعالى إياكم إحدى الطائفتين؛ {أَنَّها} لَكُمْ أنّ حرف نصب والهاء اسمها {لَكُمْ} جار ومجرور خبرها، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على البدلية من {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} بدل اشتمال تقديره: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين كونها لكم {وَتَوَدُّونَ} الواو: حالية {تَوَدُّونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من كاف {يَعِدُكُمُ اللَّهُ} {أَنَّ} حرف نصب {غَيْرَ} اسمها {ذاتِ الشَّوْكَةِ} مضاف إليه، {تَكُونُ} فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على {غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ} وأنث الضمير مراعاة لمعنى {غَيْرَ} وهو الفرقة {لَكُمْ} جار ومجرور خبر {تَكُونُ}، وجملة {تَكُونُ} في محل رفع خبر {أَنَّ} تقديره كائنة لكم، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: وتودون كون غير ذات الشوكة لكم، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {كاف} {إِذْ يَعِدُكُمُ}. {وَيُرِيدُ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {بِكَلِماتِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يُحِقَّ}، وجملة {أَنَّ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويريد الله إحقاق الحق بكلماته، {وَيَقْطَعَ} معطوف على {يُحِقَّ} وفاعله ضمير يعود على الله {دابِرَ الْكافِرِينَ} مفعول به، ومضاف إليه، والتقدير: ويريد الله إحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين بقدرته وقهره. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}. {لِيُحِقَّ} {اللام} لام كي {يحق} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على الله {الْحَقَّ} مفعول به {وَيُبْطِلَ الْباطِلَ} فعل

ومفعول معطوف على {يحقّ الحقّ} وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {يحقّ} مع ما عطف عليها صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإحقاقه الحق، وإبطاله الباطل، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة لإحقاقه الحقّ وإبطاله الباطل، والجملة المحذوفة مستأنفة. {وَلَوْ} الواو: واو الحال {لَوْ} حرف شرط وغاية لا جواب لها {كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الحق والباطل، تقديره: وعد بما وعد ليحق الحق، ويبطل الباطل، حالة كون المجرمين كارهين إحقاق الحق، وإبطال الباطل، {ولَوْ} الغائية هي التي لا تطلب جوابا، ويكون ما بعدها حالا. وقال أبو حيان (¬1): والتحقيق أن الواو فيه للعطف على محذوف، وذلك المحذوف في موضع الحال، والمعطوف على الحال حال، ونظيره قولهم: أعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ أي: على كل حال، ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل، وإن {وَلَوْ} هذه تأتي لاستقصاء ما بطن، لأنه لا يندرج في عموم ما قبله، لملاقاة التي بين هذه الحال وبين المسند الذي قبلها. انتهى. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره، واذكروا إذ تستغيثون، والجملة المحذوفة مستأنفة {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} تقديره، واذكروا أيها المؤمنون نعمة وقت استغاثتكم ربكم {فَاسْتَجابَ} {الفاء} عاطفة {استجاب} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {تَسْتَغِيثُونَ} {أَنِّي} {أن} حرف نصب ومصدر، والياء اسمها {مُمِدُّكُمْ} خبرها، ومضاف إليه بـ {بِأَلْفٍ} متعلق به {مِنَ الْمَلائِكَةِ} صفة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لـ {ألف}. {مُرْدِفِينَ} حال من ألف لتخصصه بالصفة، أو صفة ثانية لألف، وجملة {أن} المفتوحة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: بإمدادي إياكم بألف {مِنَ الْمَلائِكَةِ} الجار والمجرور متعلق بـ {استجاب}، وعلى قراءة كسر همزة إن فهو مقول لقول محذوف تقديره: وقال: إني ممدكم بألف من الملائكة. {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}. {وَما} {الواو}: استئنافية {ما} نافية {جَعَلَهُ اللَّهُ} فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ من أعم العلل {بُشْرى} مفعول لأجله {وَلِتَطْمَئِنَّ} {الواو}: عاطفة و {اللام} لا كي {تطمئن} منصوب بأن مضمرة {بِهِ} جار ومجرور متعلق به {قُلُوبُكُمْ} فاعل ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولاطمئنان قلوبكم به، وهذا المصدر المؤول معطوف (¬1) على {بُشْرى} على كونه مفعولا لأجله، ولكن جر باللام لفقد شرط النصب من اتحاد الفاعل كما لا يخفى، فإن فاعل الجعل هو الله تعالى وفاعل الاطمئنان القلوب، وعبارة «السمين» هنا: {إِلَّا بُشْرى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مفعول لأجله، وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء، إلا للبشرى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدرا. والثاني: أنه مفعول ثان لـ {جعل} على أنه بمعنى صير. والثالث: أنه بدل من {الهاء} في جَعَلَهُ قاله الحوفي. {وَما} {الواو} استئنافية ما نافية، {النَّصْرُ} مبتدأ {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {إِنَ} حرف نصب {اللَّهُ} اسمها {عَزِيزٌ} خبر أول لها {حَكِيمٌ} خبر ثان ¬

_ (¬1) الفتوحات.

لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا إذ يغشّيكم النعاس، والجملة المحذوفة مستأنفة {يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ}. {أَمَنَةً} إما حال من {النُّعاسَ}، و {مِنْهُ} صفة له؛ أي: حالة كونه أمانا منه تعالى لكم، أو مفعول لأجله، أي لأجل تأمينه لكم، وفي المقام أوجه أخر من الإعراب تركناها خوف الإطالة. {وَيُنَزِّلُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَيْكُمْ} متعلق به {مِنَ السَّماءِ} متعلق به أيضا {ماءً} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {يُغَشِّيكُمُ} على كونها مضافا إليه، لـ {إِذْ}. {لِيُطَهِّرَكُمْ} {اللام} لام كي {يطهركم} فعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة وفاعله ضمير يعود على الله {بِهِ} متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتطهيره إياكم به الجار والمجرور متعلق بـ {يُنَزِّلُ} {وَيُذْهِبَ} معطوف على {يطهر}، وفاعله ضمير يعود على الله {عَنْكُمْ} متعلق به {رِجْزَ الشَّيْطانِ} مفعول به، ومضاف إليه، {وَلِيَرْبِطَ} الواو: عاطفة {اللام} لام كي {يربط} منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله {عَلى قُلُوبِكُمْ} متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولربطه على قلوبكم، الجار والمجرور معطوف على الجار، والمجرور في قوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ} {وَيُثَبِّتَ} معطوف على {يربط} {بِهِ} متعلق به وفاعله ضمير يعود على الله {الْأَقْدامَ} مفعول به. {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد إذ {يُوحِي رَبُّكَ} فعل وفاعل {إِلَى الْمَلائِكَةِ} متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ}، والجملة المحذوفة مستأنفة {أَنِّي} أن حرف نصب، والياء

اسمها {مَعَكُمْ} ظرف، ومضاف إليه والظرف متعلق بمحذوف خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر ومجرور بحرف جر، محذوف تقديره: بكوني {مَعَكُمْ} الجار والمجرور متعلق بـ {يُوحِي}. {فَثَبِّتُوا} {الفاء} حرف عطف وتفريع {ثبتوا}. {الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة مفرعة على جملة {أَنِّي مَعَكُمْ}. {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {سَأُلْقِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، وهذه الجملة كالتفسير لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ}. {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {ألقى} {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {الرُّعْبَ} مفعول به منصوب بـ {ألقى}. {فَاضْرِبُوا} {الفاء} عاطفة {اضربوا} فعل وفاعل {فَوْقَ الْأَعْناقِ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {اضربوا}، وعلى هذا المفعول محذوف تقديره فاضربوا رؤوسهم فوق الأعناق، وقيل: {فَوْقَ} مفعول به على التوسع منصوب بالفعل، والجملة معطوفة على جملة {سَأُلْقِي} وهذه الجملة كالتفسير لقوله: {فَثَبِّتُوا} الخ. {وَاضْرِبُوا} فعل وفاعل {مِنْهُمْ} متعلق بـ {اضْرِبُوا} أو حال من {كُلَّ بَنانٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {كُلَّ بَنانٍ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)}. {ذلِكَ} مبتدأ {بِأَنَّهُمْ} {الباء} حرف جر وسبب {أن} حرف نصب و {الهاء} اسمها {شَاقُّوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} تقديره: ذلك بأنهم مشاقوا الله ورسوله، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء} تقديره: ذلك بسبب مشاقتهم الله ورسوله، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب مشاقتهم الله ورسوله، والجملة الاسمية مستأنفة {وَمَنْ} الواو: عاطفة {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما {يُشاقِقِ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {اللَّهَ} لفظ الجلالة مفعول

به، {وَرَسُولَهُ} معطوف عليه {فَإِنَّ} {الفاء} رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبا أو تعليلية للجواب المحذوف {إن} حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {شَدِيدُ الْعِقابِ} خبرها، ومضاف إليه، وجملة {إن} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابا لها، والرابط محذوف تقديره، فإن الله شديد العقاب له، أو الجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية، على كونها معللة للجواب المحذوف، تقديره: ومن يشاقق الله ورسوله يعاقبه الله تعالى؛ لأنّ الله شديد العقاب، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} على كونها مقررة ومكملة لها. {ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)}. {ذلِكُمْ}: مبتدأ. {فَذُوقُوهُ} {الفاء}: زائدة في الخبر على رأي الأخفش، {ذوقوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو {ذلِكُمْ}: مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: ذالكم العذاب، والجملة مستأنفة. {فَذُوقُوهُ} {الفاء}: استئنافية، وجملة: {ذوقوه}: مستأنفة. {وَأَنَّ}: حرف نصب ومصدر {لِلْكافِرِينَ}: خبر مقدم لـ {أَنَّ} {عَذابَ النَّارِ}: اسمها مؤخر ومضاف إليه، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا كون عذاب النار للكافرين، وجملة علم المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ}. التصريف ومفردات اللغة {يَسْئَلُونَكَ}؛ أي (¬1): سؤال استفتاء، لأنّ هذا أول تشريع الغنيمة، وفاعل السؤال يعود على معلوم، وهو من حضر بدرا، وسأل: تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، فيتعدّى بعن كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال فيتعدى لاثنين، نحو سألت زيدا مالا، وقد ادعى بعضهم أن السؤال هنا بهذا المعنى، وزعم أن {عَنِ} زائدة، والتقدير: يسألونك الأنفال، وأيد هذا بقراءة سعد بن ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم {يسئلونك الأنفال} بدون عن، والصحيح أن هذه القراءة على إرادة حرف الجر {عَنِ الْأَنْفالِ} (¬1) جمع نفل بفتح النون والفاء، كفرس وأفراس، والمراد بها هنا الغنائم، وسميت أنفالا، والنفل هو الزيادة لزيادة هذه الأمة بها على الأمم السابقة، وفي «المصباح» النفل: الغنيمة، والجمع أنفال مثل سبب وأسباب، والنفل: وزان فلس مثله اه ومنه: صلاة النفل، وقيل: الغنيمة (¬2) كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب، وقبل الظفر أو بعده، والنفل ما يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة، ومن إطلاقها على الغنيمة قول عنترة: إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ... ونعفّ عند مقاسم الأنفال أي الغنائم. ويطلق (¬3) النفل على معان أخر: منها اليمين، والابتغاء، ونبت معروف، والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب، والنافلة ولد الولد، لأنه زيادة على الولد. {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} والبين: يطلق على الاتصال والافتراق، وعلى كل ما بين طرفين، كما قال: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وذات البين الصلة التي تربط بين شيئين، وإصلاحها بالمودة وترك النزاع. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الوجل: الفزع والخوف وفي «السمين» (¬4) يقال: وجل بالكسر في الماضي يوجل بالفتح في المضارع، وفيه لغة أخرى قرىء بها شاذا {وَجِلَتْ}: بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع، فتحذف الواو في المضارع، كوعد يعد، ويقال في المشهورة: وجل يوجل بإثبات الواو في المضارع اه. {لَهُمْ دَرَجاتٌ} والدرجات منازل الرفعة، ومراقي الكرامة {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) الفتوحات.

والطائفتان طائفة العير الآتية من الشام، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة، وغير ذات الشوكة هي العير، والشوكة الحدة، والقوة: وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح {دابِرَ الْكافِرِينَ} ودابر القوم: آخرهم الذي يأتي في دبرهم، ويكون من روائهم و {يحق الحق}؛ أي: يعز الإسلام؛ لأنه الحق {وَيُبْطِلَ الْباطِلَ}؛ أي: يزيل الباطل، وهو الشرك ويمحقه. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فالسين والثاء فيه للطلب؛ أي: تطلبون الغوث من ربكم، والاستغاثة طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة {فَاسْتَجابَ لَكُمْ}؛ أي: أجاب لكم، فالسين والتاء فيه زائدتان {مُمِدُّكُمْ}؛ أي: ناصركم ومعينكم {بِأَلْفٍ} قرىء بألف، وأصل آلف أألف بوزن أفلس فقلبت الهمزة الثانية ألفا، فصار آلفا {مُرْدِفِينَ} من أردفه إذا أركبه وراءه {إِلَّا بُشْرى} مصدر على وزن فعلى كرجعى بمعنى البشارة، وهو الخبر السار {وتطمئن}: تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم في جملتكم {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب على أمره {حَكِيمٌ} لا يضع شيئا في غير موضعه {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ}؛ أي: يجعله مغطيا لكم، ومحيطا بكم، وفيه ثلاث قراءات سبعية، يغشاكم كيلقاكم من غشيه، إذا أتاه، وأصابه، وفي «المصباح» غشيته أغشاه من باب تعب أتيته {ويُغَشِّيكُمُ}: من أغشاه؛ أي: أنزله بكم، وأوقعه عليكم {ويُغَشِّيكُمُ} من غشاه تغشية غطّاه؛ أي: يغشيكم الله النعاس؛ أي: يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم، والنعاس على الأولى مرفوع على الفاعلية، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية. {النُّعاسَ} والنعاس: فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم، فهو يضعف الإدراك، ولا يزيله كله، فإذا أزاله كان نوما، وقال بعض الفقهاء: علامة النعاس: أن تسمع كلام الحاضرين ولا تفهمه، وعلامة النوم: أن لا تسمع كلامهم. {رِجْزَ الشَّيْطانِ} والرجز والرجس والركس الشيء المستقذر حسا، أو معنى، ويراد به هنا وسوسة الشيطان، وفي الكرخي: الرجز في الأصل العذاب الشديد، وأريد به هنا نفس وسوسة الشيطان مجازا لمشقتها على أهل الايمان،

كما قيل: كل ما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز. اه. {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر، وفي «زاده» الربط الشد، يقال لكل من صبر على أمر ربط على قلبه، أي قواه وشدده. وعدى بعلى للإيذان بأن قوة قلوبهم بلغت في الكمال إلى أن صارت مستولية على القلوب، حتى صارت كأنها علت عليها، وارتفعت فوقها؛ أي: فتفيد التمكن في القوة {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} والرعب الخوف الذي يملأ القلب {فَوْقَ الْأَعْناقِ}؛ أي: الرؤوس {كُلَّ بَنانٍ} والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وهي جمع بنانة وفي «المصباح» البنان الأصابع، وقيل: أطرافها، والواحدة بنانة اه وفي «السمين» والبنان قيل: الأصابع، وهو اسم جنس، الواحد: بنانة، وضربها عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء، قال عنترة: وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ... ويضرب عند الكرب كلّ بنان {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: عادوا وخالفوا، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير الذي يكون فيه الآخر. البلاغة وقد تضمنت هذه الأيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الحصر في قوله: {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لأن تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر. ومنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} إشعارا بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} استعار الدرجات التي هي حقيقة في المحسوسات للمراتب الرفيعة، والمنازل العالية في الجنة بجامع العلو في كل. ومنها: التشبيه في قوله: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} شبه حالهم وقت قسم الأنفال

بالسوية بينهم بحالهم وقت إخراجه من بيته بجامع الكراهة في كل مع كونه خيرا لهم، وفي قوله: {كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} شبههم بمن يساق إلى الموت؛ أي: القتل، وهو ينظر بعينه أسبابه، بجامع الكراهة في كل. ومنها: الإبهام في قوله: {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} فلما نجت العير علم أن الموعود بها النفير. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} وقوله: {وَيُبْطِلَ الْباطِلَ}. ومنها: الطباق بين {الْحَقَّ} و {الْباطِلَ}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} فلذلك عطف عليه: {فَاسْتَجابَ لَكُمْ} بصيغة الماضي على مقتضى الواقع. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {ذاتِ الشَّوْكَةِ} فإنها حقيقة في شوك الشجر فاستعيرت للسلاح بجامع الحدة والطعن في كل. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ}: على قراءة رفع النعاس، ومنها: الكناية في قوله: {وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ} لأنه كناية عن استئصالهم بالهلاك. ومنها: تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، في قوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ}: لأن الرجز حقيقة في العذاب، فاستعاره لوسوسة الشيطان بجامع المشقة والضرر في كل، لأن وسوسة الشيطان ضرر ومشقة على أهل الايمان، كما أن العذاب مشقة على أهله. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} لأن الربط حقيقة في الأجرام، فاستعاره لتقوية القلوب وتثبيتها بجامع القوة في كل. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا

الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ} لأن قوله {سَأُلْقِي} الخ كالتفسير لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} وقوله: {فَاضْرِبُوا} الخ كالتفسير لقوله {فَثَبِّتُوا ...} الخ. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ} للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل، أو سبب الجمع بين العاجل والآجل؛ لأنّ أصل الكلام فذوقوه وإن لكم عذاب النار، فوضع {لِلْكافِرِينَ} موضع لكم شهادة عليهم بالكفر وتنبيها على العلة المذكورة. ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}. ومنها: التكرار في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {شَاقُّوا اللَّهَ} {وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ}. ومنها: التهكم في قوله: {فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ}. ومنها: التهييج والإلهاب - أي: الإطناب - في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنّ الإيمان موجود فيهم مع الصفات السابقة، والمعنى: إن كنتم مستمرين على الإيمان. ومنها: الدلالة على التشريف والتكريم في قوله: {لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لأن في كونها عنده سبحانه وتعالى زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. المناسبة قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار، وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم، وبنانهم .. حرضهم على الصبر عند مكافحة العدو، ونهاهم عن الانهزام. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما نهى الله تعالى عن تولي الأدبار .. توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو. قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما هدد المشركين بقوله: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا ..} أردف ذلك بتأديب المؤمنين، بالأمر بطاعة الرسول، وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته. قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعدم التولي حين الجهاد .. أردفه بالأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة؛ لما في ذلك من تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها في الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصلوا ما يوجب عليهم الاستجابة، وهو الإيمان. قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬3) أخبر أن هؤلاء المشبه بهم لا يسمعون .. أخبر أن شر الحيوان الذي يدب الصم، أو أن شر البهائم، فجمع بين هؤلاء وبين جمع الدواب، وأخبر أنهم شر الحيوان مطلقا. قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حذر من الفتنة بالأموال والأولاد .. أردف ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. ¬

_ (¬1) و (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ...} الآية، روى أبو داود (ج 2 ص 349): حدثنا محمد بن هشام المصري، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا داود بن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم بدر {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الحديث أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي وابن جرير، وعزاه الحافظ بن كثير (ج 2/ ص 395) إلى النسائي، وابن مردويه مع من ذكرنا، ثم قال: وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة، من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجمهور والله أعلم. قوله تعالى: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ...} الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعلي: «ناولني كفا من حصباء» فناوله فرمى به في وجوه القوم، بما بقى منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة، رواه الطبراني عن ابن عباس، وفي رواية أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، وقال: «شاهت الوجوه» فما بقى مشرك إلا شغل بعينيه بعالج التراب الذي فيها، فنزلت {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} وذلك يوم بدر، وهذا قول الأكثرين. والقول الثاني: أن أبيّ بن خلف، أقبل يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخلوا سبيله، وطعنه النبي صلى الله عليه وسلّم بحربته، فسقط أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه. والثالث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رمى يوم خيبر بسهم فأقبل السهم يهوي حتى ¬

_ (¬1) زاد المسير.

قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية. ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين، والحديث مرسل (¬1)، جيد الإسناد، والمشهور أنها نزلت في رمية يوم بدر بالقبضة من الحصباء. قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ...} الآية، روى (¬2) الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير، قال: كان المستفتح أبا جهل، فإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه الغداة، وكان ذلك استفتاحا، فأنزل الله {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية، قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين وأكرم الفرقتين، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ...} الآية، روى (¬3) سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: نزلت هذه الآية {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} في أبي لبابة رفاعة بن عبد المنذر، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما حاصر بني قريظة، سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم، لأنّ ولده وأهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، أنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته، قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام كذلك، ثم تاب الله عليه، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني، فجاء فحله بيده، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) زاد المسير.

[15]

فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يجزئك الثلث». وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» وأخرج بعضه الطبري، وابن هشام. وروى ابن جرير (¬1) وغيره عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الآية. غريب جدا، في سنده وسياقه نظر. وأخرج ابن جرير عن السدي، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلّم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنزلت. التفسير وأوجه القراءة 15 - {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا الله ورسوله {إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: قابلتموهم للقتال حالة كونهم {زَحْفًا}؛ أي: زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر، والمعنى (¬2) على التشبيه؛ أي: حالة كونهم مثل الزاحفين والماشين على أدبارهم، وذلك لأن الجيش إذا كثر والتحم بعضهم ببعض يتراءى أن سيره بطيء، وإن كان في نفس الأمر سريعا، فالمقصود من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة، وهو الكثرة. {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ}؛ أي: فلا تولوهم ظهوركم، وأقفيتكم منهزمين؛ أي: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم، بل قابلوهم بوجوهكم، وقاتلوهم مع قلتكم، 16 - {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تلقونهم {دُبُرَهُ} بضمتين، وقراءة الحسن {دُبُرَهُ}: بسكون الباء كقولهم عنق في عنق، أي ظهره؛ أي: ومن يجعل ظهره ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الفتوحات.

واليا ومقبلا إليهم شاردا منهزما منهم {إِلَّا مُتَحَرِّفًا}؛ أي: إلا رجلا منعطفا مائلا لمكان رآه أحوج إليه {لِقِتالٍ} فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه على اتباعه، حتى إذا انفرد عن أنصاره، كر عليه فقتله {أَوْ مُتَحَيِّزًا}؛ أي: منتقلا منضما {إِلى فِئَةٍ}؛ أي: إلى جماعة أخرى من المؤمنين، في جهة غير الجهة التي كان فيها، ليشد أزرهم، وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليهم ممن كان معهم؛ أي: من فعل ذلك التولي {فَقَدْ باءَ}؛ أي: رجع عن قتاله حالة كونه ملتبسا {بِغَضَبٍ} عظيم {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {وَمَأْواهُ} الذي يأوي إليه في الآخرة أي منزله ومسكنه في الآخرة {جَهَنَّمُ} دار العقاب {وَبِئْسَ}؛ أي: قبح {الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع هي. وانتصاب {مُتَحَرِّفًا} {أَوْ مُتَحَيِّزًا} على الاستثناء، أو على الحال كما سيأتي، والمعنى: ومن ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله، إلا المتحرف والمتحيز، وهذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف، ذاك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك، والعذاب الدائم، وجوزي بضد غرضه. وفي الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات» - المهلكات - قالوا يا رسول الله وما هي؟: قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم، لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة.

[17]

وروي عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة .. فلم يفر، ومن اثنين .. فقد فر. 17 - و {الفاء}: في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم (¬1) ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة، وإيقاع الرعب في قلوبهم .. فأقول لكم: لم تقتلوا أنتم أيها المؤمنون الكفار في الحقيقة، ولكن الله سبحانه وتعالى قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر، من إلقاء الرعب في قلوبهم، وإمداد الملائكة لكم؛ أي: إن افتخرتم بقتلكم، فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم؛ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجذع، ذكره أبو حيان. والمعنى: يا أيها (¬2) الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا، فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر، ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصركم عليهم على قلة عددكم، وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم، وربطه على قلوبكم، وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم، ولكن الله قتلهم بأيديكم بما كان من تثبيت قلوبكم، بمخالطة الملائكة، وملابستها لأرواحكم وبإلقائه الرعب في قلوبهم، وهذا بعينه هو ما جاء في قوله تعالى: {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)}، والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا، وأعظم رجاء لله والدار الآخرة، يؤيد هذا قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ}. ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم، إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهو قائدهم الأعظم فقال: {وَما رَمَيْتَ} يا محمد أحدا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

من المشركين {إِذْ رَمَيْتَ}؛ أي: في الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها في الهواء، فأصابت وجوههم، فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث {وَلكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {رَمى} وجوههم كلهم بذلك التراب، الذي ألقيته في الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال: «شاهت الوجوه» ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم، ومعنى (¬1) شاهت الوجوه، قبحت يقال: شاه وجهه يشوه شوها وشوهة، ويقال: رجل أشوه وامرأة شوهاء إذا كانا قبيحين. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قال في استغاثته يوم بدر: «يا رب إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا» قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل، فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين. وقال ثعلب (¬2): المعنى {وَما رَمَيْتَ} الفزع والرعب في قلوبهم، {إِذْ رَمَيْتَ} بالحصباء فانهزموا {وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى}؛ أي: أعانك وأظفرك، والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك، وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب «المجاز» وقال محمد بن يزيد المبرد: المعنى {وَما رَمَيْتَ} بقوتك {إِذْ رَمَيْتَ} ولكنك بقوة الله رميت، وقيل: المعنى إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل، فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصلا، هكذا في «الكشاف» فإن قلت: كيف نفى عن المؤمنين قتل الكفار مع أنهم قتلوهم يوم بدر، ونفى عن النبي صلى الله عليه وسلّم رميهم ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني.

مع أنه رماهم يوم بدر بالحصى في وجوهم، قلت: نفى الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم باعتبار الكسب والصورة فقوله: {إِذْ رَمَيْتَ}؛ أي: أتيت بصورة الرمي، وقرأ (¬1) حمزة، والكسائي، وابن عامر: {وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}، {وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} بتخفيف نون {لكِنَّ}، ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة، وجاءت هنا لكن أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات، ولم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم كما قال: {إِذْ رَمَيْتَ} مبالغة في الجملة الثانية اه من «السمين». فصل والفرق (¬2) بين قتل المسلمين للكفار، وبين رمي النبي صلى الله عليه وسلّم إياهم بالتراب: أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم، بحسب سنن الله في الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم، وهزيمتهم لا مشاهدا كضرب أصحابه، لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم، وشوهة وجوههم لقلته، وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له، كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول، وعدم استقلاله بالسببية، وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا الفشل؛ لأنك قد علمت ما كان من خوفهم، وكراهتهم للقتال، وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلّم فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم، لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا. والفرق بين فعله تعالى في القتل، وفعله في الرمي: أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل في حصول غاياتها إلا بفعل الله، وتسخيره لهم للأسباب التي لا يصل إليه كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} فالإنسان يحرث الأرض ويلقي فيها البذر، ولكنه لا يملك إنزال المطر، ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[18]

التربة، ولا دفع الجوائح عنه. وأن الثاني من فعله تعالى وحده، بدون كسب عادي للنبي صلى الله عليه وسلّم في تأثيره فالرمي منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلّم، فما مثله في ذلك إلا مثل أخيه موسى عليه السلام، في إلقائه العصا {فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى}. والواو في قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا}؛ أي: ولينعم على المؤمنين إنعاما جميلا عاطفة (¬1) لما بعدها على علة مقدرة قبلها؛ أي: ولكن الله رمى ليمحق الكافرين، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة، وحسن السمعة {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} لدعائهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم، والبلاء هنا بمعنى النعمة، والمعنى: فعل الله تعالى ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا، إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم، ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، عليم بنياتهم الباعثة عليه، والعواقب التي تترتب عليه. 18 - وقوله: {ذلِكُمْ} مبتدأ خبره محذوف، والمصدر المؤول من قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ}؛ أي: مضعف مكرهم لرسوله وللمؤمنين، ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد، والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد، معطوف عليه، والتقدير (¬2) ذلكم الإبلاء والإنعام للمؤمنين بالنصر والغنيمة حق، وتوهين كيد الكافرين بالهزيمة حق. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، {موهن} بفتح الواو، وتشديد الهاء، والتنوين فـ {كَيْدِ} منصوب على المفعولية من وهن، والتعدية بالتضعيف بما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل، نحو ضعفت، ووهنت، وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته، وأوهنته، وألحمته، وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو رجاء، والأعمش، وابن محيصن بسكون الواو وتخفيف الهاء من أوهن، كأكرم منونا، وأضافه حفص إلى كيد. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الصاوي.

[19]

وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم: انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه (¬1) الغداة، فكان ذلك منه استفتاحا. 19 - وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فأجابهم الله تعالى بقولهم: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}؛ أي: إن تطلبوا الفتح والنصر لأعلى الجندين، وأهداهما {فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} والنصر لأعلاهما وأهداهما، وهذا من قبيل التهكم بهم، لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة. {وَإِنْ تَنْتَهُوا} وتنزجروا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم وقتاله {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: فالانتهاء خير لكم، لأنكم قد ذقتم من الحرب ما ذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان. {وَإِنْ تَعُودُوا} إلى حربه وقتاله {نَعُدْ} إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجيء الفتح الأعظم، الذي به تدول الدولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم، وتذهب ريحكم {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ}؛ أي: ولن يدفع عنكم رهطكم {شَيْئًا} من بأس الله، وشديد نقمته، ولو كثرت عددا إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة، إلا إذا تساوت معها في أمور كثيرة، كالصبر والثبات، والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة. قال الحسن ومجاهد والسدي (¬2): وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم، والمعنى: إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما، وقد زعمتم أنكم الأعلى، فالتهكم في المجيء، أو: فقد جاءكم الهزيمة، فالتهكم في نفس الفتح، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذبيه ¬

_ (¬1) من حال الرجل إذا هلك وباعه باع، وأحانه الله إذا هلك ا. هـ مختار. (¬2) المراح.

[20]

فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب والفوز بالثواب، وفي الدنيا بالخلاص من القتل، والأسر والنهب، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم، ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إن تستنصروا أيها المؤمنون، فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم، ثم لا تنفعكم كثرتكم. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (¬1): {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} بفتح همزة أن على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: والأمر، والشأن كون الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين بمعونته، وتوفيقه، فلا تضرهم قلتهم، ولا كثرة عددكم فهو يؤتي النصر من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، أو على أنه معطوف على علة محذوفة، لمعلول محذوف، تقديره: فعل الله بكم ما فعل من الأسر، والقتل، والهمزيمة، لأن الله سبحانه وتعالى ليس معكم، وأن الله مع المؤمنين، وقرأ باقي السبعة بكسرها على الاستئناف، وقرأ ابن مسعود: {والله مع المؤمنين}. 20 - {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الاجابة إلى الجهاد، وترك المال إذ أمر الله بتركه؛ أي: داوموا على طاعته، وعلى عدم التولي، وعلى ترك المال يدم لكم العز الذي حصل لكم ببدر {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}؛ أي: عن الرسول؛ أي: ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته في الجهاد، فالضمير في {عَنْهُ} عائد على الرسول؛ لأنّ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي من طاعة الله، ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الله، وإلى رسوله، وقل: الضمير راجع إلى الأمر الذي دل عليه {أَطِيعُوا} وأصل تولوا تتولوا بتائين. {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}؛ أي: والحال أنكم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته، وموالاته، ونصره في جهاده، ولا شك أن المراد بالسماع هنا: سماع ¬

_ (¬1) الفتوحات والبحر المحيط.

[21]

الفهم والتصديق بما يسمع كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا: {سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج، والبراهين، وتصدقون بها، ولستم كالصم البكم 21 - {وَلا تَكُونُوا} أيها المؤمنون {كَالَّذِينَ قالُوا} بأسلنتهم {سَمِعْنا} دعوتك {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}؛ أي: لا يتعظون، ولا ينتفعون بما سمعوا من القرآن، والمواعظ؛ أي: قالوا بألسنتهم: إنا قبلنا تكاليف الله تعالى، والحال: أنهم لا يقبلونها بقلوبهم، وهم المشركون، أو المنافقون، أو اليهود، أو الجميع من هؤلاء، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل، فهم كالذي لا يسمع أصلا، لأنهم لم ينتفعوا بما سمعوا. 22 - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} جمع دابة، وهي كل ما دب على الأرض، وقل أن يستعمل في الإنسان، بل الغالب أن يستعمل في الحشرات، ودواب الركوب، فإذا استعمل في الإنسان كان ذلك في موضع الاحتقار؛ أي: إن شر ما دب على الأرض وأقبحه وأخسه {عِنْدَ اللَّهِ} تعالى؛ أي: في حكم الله وقضائه هم {الصُّمُّ} الذين لا يسمعون الحق {الْبُكْمُ} الذين لا ينطقون به، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} ولا يعرفون ما فيه النفع لهم، فيأتونه، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه، فهم شر الدواب عند الله تعالى، لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها، والمعنى: إن شر الدواب في حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق، ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، البكم الذين لا يقولون الحق ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}. والخلاصة: أنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل .. كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى بأن خلقوا خداجا ناقصي هذه المشاعر، أو طرأت

[23]

عليهم آفات أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم لأن هذه المشاعر، خلقت لهم، فأفسدوها على أنفسهم، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف، وفي الآية غاية الذم لهم بأنهم أشر من الكلب، والخنزير، والحمير. 23 - {وَلَوْ عَلِمَ} اللَّهُ سبحانه وتعالى {فِيهِمْ}؛ أي: في هؤلاء الصم البكم {خَيْرًا}؛ أي: سعادة {لَأَسْمَعَهُمْ} سماعا ينتفعون به ويتعقلون عنده الحجج والبراهين، والمعنى: ولو علم الله فيهم خيرا أي استعدادا للايمان، والهداية بنور النبوة، ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة، وفساد التربية ... لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، فهم ممن ختم الله على قلوبهم، وأحاطت بهم خطاياهم. قال الزجاج: {لَأَسْمَعَهُمْ} جواب كل ما سألوا عنه، وقيل: {لَأَسْمَعَهُمْ} كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب، وغيره، ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} الله سبحانه وتعالى الحجج والبراهين سماع تفهم، وقد علم أنه لا خير فيهم {لَتَوَلَّوْا} عن قبولها وأعرضوا عن إذعانها. {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنها قبل ذلك؛ أي: لتولوا عن القبول، والإذعان، والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به، كراهية وعنادا للداعي إليه، ولأهله، فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق، والخير، فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا. واعلم: أن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه: 1 - أن يتعمد من يتلى عليه أن لا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادىء ذي بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم. 2 - أن يستمع، وهو لا ينوي أن يفهم ويتدبر، كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا}. 3 - أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل

[24]

المعاندون من المشركين وأهل الكتاب، وقت التنزيل وفي كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه. 4 - أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن من بعد أن نظر، وتأمل، فقد نظر طبيب فرنسي في ترجمة القرآن، فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال في المآكل، والمشارب، وعدم الإسراف فيهما، ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة، توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأي الأطباء، في هذا العصر، فرغب في هذا كله وأسلم. وكثير من المسلمين يستمعون القراء، ويتلون القرآن، فلا يشعرون بأنهم في حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده، وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفاظ عنده في ليالي رمضان، ويجلسهم في حجرة البوابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء. 24 - {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا الله ورسوله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}؛ أي: أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة، والانقياد، فاستجاب هنا بمعنى أجاب، لأن السين والتاء فيه زائدتان، وإن كان استجاب يتعدى باللام، وأجاب بنفسه كما أن قوله: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ} وقد يتعدى استجاب بنفسه، كما في قول الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب {إِذا دَعاكُمْ} الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم؛ وإنما أفرد الضمير لأن استجابة الرسول استجابة لله تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، وأخرج البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال صلى الله عليه وسلّم: «ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم»، ثم ذكر الحديث. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج على أبيّ بن كعب

وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا أبي» فالتفت أبي ولم يجبه، وصلى أبي، وخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك»، فقال: يا رسول الله، إنّي كنت في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلّم: «أفلم تجد فيما أوحي إليّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ}» قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله تعالى، وذكر الحديث. وقال: حديث حسن صحيح. قيل (¬1): هذه الإجابة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر، وقيل: لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير .. فله أن يقطع صلاته. {لِما يُحْيِيكُمْ}؛ أي: لما فيه حياتكم من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أن الجهل موت، قال الشاعر: لا تعجبنّ الجهول حلّته ... فذاك ميت وثوبه كفن قال (¬2) السدي: هو الإيمان لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال قتادة: هو القرآن لأنه حياة القلوب، وفيه النجاة والعصمة في الدارين، وقال مجاهد: هو الحق، وقال محمد بن إسحاق: هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل، وقيل: هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. والمعنى (¬3): أن الرسول صلى الله عليه وسلّم إذا دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية من علم بسننه في خلقه، ومن حكمة وفضيلة، ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال، حتى تحظى بالقرب من ربها، وتنال رضوانه في الدار الآخرة ... فأجيبوا دعوته بقوة وعزم كما قال في آية أخرى: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} وطاعته صلى الله عليه وسلّم واجبة في حياته، وبعد مماته، فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه الله به، كبيانه لصفة الصلاة، وعددها، قولا أو فعلا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

فقد صلى بأصحابه وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقال: «خذوا عني مناسككم». وكبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة، وأقواله كذلك، فكل من ثبت عنده شيء منها ببحثه أو ببحث العلماء الذين يثق بهم .. وجب عليه الاهتداء به، أما الإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس، والطعام، والشراب، والنوم .. فلم يعدها أحد من الأئمة دينا يجب الاقتداء به فيه. ويستدل (¬1) بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله، أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية، أن يبادر إلى العمل به كائنا ما كان، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال، وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة، وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائنا ما كان. {وَاعْلَمُوا} يا معشر المؤمنين {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}؛ أي: يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه (¬2) قال تعالى: بادروا إلى الأعمال الصالحة، ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به، وقال مجاهد: المراد بالقلب هنا العقل؛ أي: فإن الله تعالى يحول بين المرء وعقله. والمعنى: فبادروا إلى الأعمال، وأنتم تعقلون، فإنكم لا تأمنون زوال العقل، والله يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ولا يستطيعون المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى. والمعنى (¬3): أنه تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء والقادر على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

[25]

الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه، فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعا، إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء، وزمامه، وفي ذلك حض على المراقبة، والخوف من الله تعالى والبدار إلى الاستجابة له، وقال مجاهد: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده، وقال السدي: يحول بين كل واحد، وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه، وقيل: غير ذلك، وقرأ ابن أبي إسحاق {بَيْنَ الْمَرْءِ} بكسر الميم اتباعا لحركة الإعراب، إذ في المرء لغتان فتح الميم مطلقا، وإتباعها حركة الاعراب، وقرأ الحسن، والزهري: {بين المرّ} بتشديد الراء من غير همز، ووجهه: أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وحذف الهمزة، ثم شدها كما تشدد في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف {وَ} اعملوا {أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى {تُحْشَرُونَ} في الآخرة للجزاء على أعمالكم، فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم، فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم. 25 - {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} أي بلية؛ أي: واحذروا سبب بلية إن أصابتكم {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} خطاب للمؤمنين جميعا صلحائهم وغيرهم، والمراد بالفتنة العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء وتسليط الظلمة، وغير ذلك؛ أي (¬1): واحذروا أيها المؤمنون فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعا، وتصل إلى الصالح والطالح، واتقاء تلك الفتنة بالنهي عن المنكر، فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك، فإذا سكت عليه فكلهم عصاة، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة. وعلامة الرضا بالمنكر: عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ولده، أو ماله، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار، وعبارة المراغي هنا: وبعد أن أمرنا الله سبحانه بتلك الأوامر، ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية أمرنا أن نتقي الفتن الاجتماعية، التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل ¬

_ (¬1) المراح.

إلى الصالح والطالح فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}؛ أي: اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده بل تعمه وغيره، كالفتن القومية التي تقع بين الأمم في التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة، أو التفرق في الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية، والأحزاب السياسية، ونحو ذلك من ظهور البدع، والتكاسل في الجهاد، وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله تعالى أن تعقاب عليها الأمم في الدنيا قبل الآخرة، وروي عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. وقال عدي بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك .. عذب الله الخاصة والعامة» وقال البيضاوي: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}؛ أي: اتقوا ذنبا يعمكم أثره، كإقرار المنكر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد انتهى. وروى البخاري والترمذي «أن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به» متفق عليه. فإن قلت (¬1): ظاهر قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} يشمل الظالم وغير الظالم، كما تقدم تفسيره، فكيف يليق برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من لم يذنب؟ ¬

_ (¬1) الخازن.

[26]

قلت: إنه تعالى مالك الملك، وخالق الخلق، وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع من أنواع المصلحة، والله أعلم بمراده. وقرأ ابن (¬1) مسعود وعلي، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبو العالية {لتصيبن} وفي ذلك وعيد للظالمين فقط، وعلى هذا التوجيه خرج ابن جني قراءة الجماعة {لا تُصِيبَنَّ} وحكى النقاش عن ابن مسعود، أنه قرأ فتن أن تصيب {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْعِقابِ}؛ أي: شديد عقابه للأمم، والأفراد، التي خالفت سننه التي لا تبديل لها ولا تحويل، أو خالفت هدى دينه المزكي، للأنفس المطهر للقلوب، ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى: الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى، وهذا العقاب (¬2) منه ما هو في الدنيا، وهو مطرد في الأمم وقد أصيبت به الأمة الإسلامية في القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ قصروا في درء الفتنة الأولى، فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان، حتى زالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها. وقد يقع هذا العقاب للأفراد، لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا، فلا يكاد يحس به، وأما العقاب الأخروي فأمره الله إلى العالم بالسر والنجوى، والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم. 26 - وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} خطاب للمهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة في عصر التنزيل، يذكرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية في الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أي: واذكروا يا معشر المهاجرين {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} في العدد في أول الإسلام {مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: مقهورون في أرض مكة {تَخافُونَ} من مبدأ الإسلام إلى حين الهجرة إذا خرجتم من البلد {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}؛ أي: أن يأخذكم مشركو العرب من قريش وغيرها، بسرعة لشدة عداوتهم لكم، ولقربهم منكم، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة، فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا في خارج الحرم، وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} {فَآواكُمْ} وضمكم أيها المهاجرون إلى الأنصار ونقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة، {وَأَيَّدَكُمْ} وإياهم؛ أي: قواكم {بِنَصْرِهِ} سبحانه وتعالى إياكم في بدر، وفي سائر غزواتكم، ويؤيدكم على من سواكم من فارس والروم، وغيرهما كما وعدكم بذلك في كتابه الكريم، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ}؛ أي: من الغنائم وغيرها، وكانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم العظيمة؛ أي: رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد في كتابه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية. قال كان هذا الحي أذل الناس ذلا، وأشقاه عبثا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل. وفي الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان، ومكن لأهله في الأرض، وأنالهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم في الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا، وريحانا، وجنة نعيم.

[27]

هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه، ونأوا بجانبهم، عاقبهم الله بما جرت به سننه في الأرض، فأضاعوا ملكهم، وسلط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيؤوا بنورهم، وليتوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر، وعزهم الماضي {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. 27 - {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لا تَخُونُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى (¬1) فتعطلوا فرائضه، أو تتعدوا حدوده، وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم في كتابه، {وَ} لا تخونوا {الرَّسُولَ} محمدا صلى الله عليه وسلّم فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم، أو أراء مشايخكم، أو آبائكم، أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم، {وَ} لا {تَخُونُوا أَماناتِكُمْ} فيما بين بعضكم وبعض آخر منكم من المعاملات المالية، وغيرها حتى الشؤون الأدبية، والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة، ويكفي في العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد، أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء، وآكد الأمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين، كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولي الأمر من شؤون سياسية أو حربية، فتطلعوا عليها عدوكم، وينتفع بها في الكيد لكم، وقرأ مجاهد {أمانتكم} بالإفراد، والمراد الجمع. والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، قال أنس بن مالك: قلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد. وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم». ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنكم تعلمون مفاسد الخيانة، وتحريم الله إياها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى: وأنتم تعلمون أنّ ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفي عليكم حكمه، فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب، كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه، 28 - {وَاعْلَمُوا}؛ أيها المؤمنون {أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} عظيمة مانعة لكم عن أمور الآخرة؛ أي: محنة يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى، أو تجنبه، ولذلك مال أبو لبابة إلى قريظة في إطلاعهم على حكم سعد، لأنّ ماله وولده كان فيهم؛ أي: (¬1) إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته، وتحصيل رغائبه، وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه من أجل ذلك يتكلف في كسبها المشاق، ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغبه في القصد والاعتدال ويتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء في انفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة، وغير معينة كالزكاة، ونفقات الأولاد، والأزواج وغيرها وأما الأولاد فحبهم مما أودع في الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم من مال، وصحة، وراحة، وقد روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: «الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة». فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام في سبيل تربيتهم، والإنفاق عليهم، وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدي إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق، أو الأمة، أو الدين، وإلى البخل بالزكاة، ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

والنفقات المفروضة، والحقوق الثابتة، كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه، إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات، وتمزيق ثيابهن، ولطم وجوههن، وعلى الجملة: ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال، الرجل يكسب المال الحرام، ويأكل أموال الناس بالباطل، لأجل الأولاد. فيجب على المؤمن أن يتقي الفتنتين، فيتقي الأولى بكسب المال من الحلال، وإنفاقه في سبيل البر، والإحسان، ويتّقي خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال، ونحوه بما يشير إليه الحديث، ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد، وتعويدهم الدين والفضائل، وتجنيبهم المعاصي والرذائل. {وَ} اعلموا أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وثواب جسيم، فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم، بمراعاة أحكام دينه، في الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم في الدنيا من التمتع بهما، فإنّ سعادة الآخرة، وهو ثواب الله تعالى، خير من سعادة الدنيا، وهو المال والولد؟ لأن سعادة الآخرة لا نهاية لها، ولا انقضاء، وسعادة الدنيا تفنى وتنقضي. 29 - {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: إن تمتثلوا أوامر الله وتجتنبوا نواهيه {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا}؛ أي: نجاة مما تخافون في الدارين، أو يجعل لكم نورا، وتوفيقا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل، وقال مجاهد: يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: مخرجا في الدين من الشبهات، وقال عكرمة: نجاة، أي: يفرق بينكم وبين ما تخافون، وقال محمد بن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم، ويطفىء باطل من خالفكم، وقيل: يفرق بينكم وبين الكفار، بأن يظهر دينكم ويعليه، ويبطل الكفر ويوهنه، أو نصرا، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله، أو بيانا وظهورا في أقطار الأرض {وَيُكَفِّرْ

عَنْكُمْ}؛ أي: يمح (¬1) عنكم {سَيِّئاتِكُمْ}؛ أي: الصغائر منها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}؛ أي: يستر لكم الكبائر منها {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}؛ أي: ذو المن والعطاء الجسيم على عباده بالمغفرة والجنة، أو المعنى: {يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ}؛ أي: يسترها في الدنيا {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}؛ أي: يزلها في الآخرة، وفي «الصاوي»: قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} عطف مرادف على ما قبله، انتهى وفي «البحر»: وإنما تغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}؛ لأنه هو الذي يفعل ذلك بكم، فله الفضل العظيم عليكم، وعلى غيركم من خلقه، ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به، قيل: إنه يتفضل على الطائعين بقبول الطاعات، ويتفضل على العاصين بغفران السيئات، وقيل: معناه إن بيده الفضل العظيم، فلا يطلب من عند غيره. وفي قوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} إيماء (¬2) وتنبيه إلى أنّ ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان، تفضل به علينا بدون واسطة، وبدون التماس عوض. الإعراب {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15)}. {يا أَيُّهَا} يا حرف نداء {أي} منادى نكرة مقصودة {ها} حرف تنبيه زائد تعويضا عما فات {أي} من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}، {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان، {لَقِيتُمُ الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

{زَحْفًا} حال من المفعول به وهو الذين فهو مصدر مؤول بمشتق تقديره: حال كونهم زاحفين، {فَلا} {الفاء} رابطة لجواب {إِذا}، وجوبا لكون الجواب جملة طلبية {لا} ناهية جازمة {تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة جواب إذ لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ}. {وَمَنْ} الواو: استئنافية {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {يُوَلِّهِمْ} فعل ومفعول أول مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على من {يَوْمَئِذٍ} {يوم} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يُوَلِّهِمْ} {يوم} مضاف {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر، مضاف إليه، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين {دُبُرَهُ} مفعول ثان، ومضاف إليه، {إِلَّا} أداة استثناء {مُتَحَرِّفًا} إما منصوب على الاستثناء من ضمير المؤمنين؛ أي: ومن يولهم إلا رجلا منهم {مُتَحَرِّفًا} أو متحيزا أو حال من فاعل {يُوَلِّهِمْ} {لِقِتالٍ} جار ومجرور متعلق بـ {مُتَحَرِّفًا} واللام فيه للتعليل {أَوْ مُتَحَيِّزًا} معطوف عليه {إِلى فِئَةٍ} جار ومجرور متعلق بـ {مُتَحَيِّزًا}. {فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. {فَقَدْ} {الفاء} رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبا لكون الجواب مقرونا بـ {قد}، {قد} حرف تحقيق {باءَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة استئنافا بيانيا، لا محل لها من الإعراب، {بِغَضَبٍ} جار ومجرور متعلق بـ {باءَ} أو حال من فاعله، والباء فيه للملابسة؛ أي ملتبسا ومصحوبا بغضب {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور متعلقان بـ {باءَ}، {وَمَأْواهُ} مبتدأ، ومضاف إليه، {جَهَنَّمُ} خبره، ولم ينون للعلمية، والتأنيث المعنوي، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة {باءَ} على

كونها جوابا لـ {مَنْ} الشرطية {وَبِئْسَ} الواو: استئنافية {بِئْسَ الْمَصِيرُ} فعل وفاعل، وهو من أفعال الذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي، وهو مبتدأ، خبره جملة {بِئْسَ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}. {فَلَمْ} {الفاء} (¬1) فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره، إن افتخرتم بقتلهم، وأردتم بيان حقيقة الأمر فيهم، فأقول لكم: أنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء لكم النصر والظفر، وقوى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع كما ذكره الزمخشري {لم تقتلوهم} جازم وفعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَلكِنَّ} الواو: عاطفة {لكِنَّ} حرف نصب واستدراك، {اللَّهَ} اسمها {قَتَلَهُمْ} فعل ومفعول وفاعله، ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لكِنَّ} وجملة {لكِنَّ} في محل النصب معطوفة على جملة {لم تقتلوهم} على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة، {وَما} الواو: عاطفة ما نافية {رَمَيْتَ} فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}، وصح العطف عليها؛ لأن (¬2) المضارع المنفي بـ {لم} في قوة الماضي المنفي بما، فإنك إذا قلت: لم يقم كان معناه، ما قام {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية {رَمَيْتَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ {رَمَيْتَ}؛ أي: وما رميت الرعب والهزيمة في قلوبهم، وقت رميك إياهم بالحصى {وَلكِنَّ} الواو: عاطفة {لكِنَّ} حرف استدراك ونصب {اللَّهَ} اسمها {رَمى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {لكِنَّ}، وجملة {لكِنَّ} معطوفة على جملة {وَما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

رَمَيْتَ}. {وَلِيُبْلِيَ} الواو: عاطفة {لِيُبْلِيَ} {اللام} حرف جر وتعليل {يبلي} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله {الْمُؤْمِنِينَ} مفعول أول، {مِنْهُ} متعلق بـ {يبلى} {بَلاءً} مفعول ثان {حَسَنًا} صفة له. قال الزمخشري؛ أي: وليعطي المؤمنين من عنده عطاء جميلا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولإبلائه المؤمنين منه بلاء حسنا، الجار والمجرور معطوف على علة محذوفة تقديره، ولكن الله رمى، وفعل بالكفار ما فعل لمحق الكافرين، ولإبلائه المؤمنين منه بلاء حسنا، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير. {إِنَّ} حرف مشبه بالفعل {اللَّهَ} اسمها منصوب {سَمِيعٌ} خبرها مرفوع {وعَلِيمٌ} خبر ثان مرفوع. {ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)}. {ذلِكُمْ} مبتدأ وخبره محذوف جوازا تقديره ذلكم الإبلاء، والقتل والرمي حق، والجملة مستأنفة، {وَأَنَّ} الواو: عاطفة {أَنَّ} حرف نصب ومصدر {اللَّهَ} اسمها {مُوهِنُ} خبرها {كَيْدِ} بالجر مضاف إليه، وبالنصب مفعول مُوهِنُ. {الْكافِرِينَ} مضاف إليه وجملة أن في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ خبره محذوف تقديره: وتوهين الله كيد الكافرين، حق، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {ذلِكُمْ}، ويجوز أن تكون جملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا توهين الله كيد الكافرين. {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}. {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} جازم وفعل وفاعل {فَقَدْ} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية، وجوبا لكون الجواب مقرونا بـ {قد} {قد} حرف تحقيق {جاءَكُمُ الْفَتْحُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {وَإِنْ تَنْتَهُوا} جازم وفعل وفاعل {فَهُوَ} {الفاء} رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة اسمية {هو خير} مبتدأ وخبر {لَكُمْ} متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل

الجزم جواب إن الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إِنْ} الأولى {وَإِنْ تَعُودُوا} جازم وفعل وفاعل {نَعُدْ} فعل مضارع مجزوم بـ إِنْ على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إِنْ} الأولى، {وَلَنْ} {الواو}: عاطفة {لَنْ} حرف نصب {تُغْنِيَ} فعل مضارع منصوب بـ {لَنْ} {عَنْكُمْ} متعلق به {فِئَتُكُمْ} فاعل، ومضاف إليه {شَيْئًا} مفعول به، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة {نَعُدْ} {وَلَوْ} الواو: عاطفة {لَوْ} حرف شرط {كَثُرَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الفئة، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} وجوابها محذوف تقديره: فلن تغنى عنكم، وجملة {لَوْ} الشرطية معطوفة على جملة محذوفة تقديره، ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا إن وجدت ولو كثرت {وَإِنْ} الواو: استئنافية {إِنْ} حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} خبرها، وجملة {إِنْ} في تأويل مصدر ساد من مفعولي علم المحذوف تقديره: واعلموا كون الله مع المؤمنين بالنصر والإمداد، والجملة مستأنفة. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}. {يا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء {أي} منادي نكرة مقصودة {ها} حرف تنبيه {الَّذِينَ} صفة لـ {أي} وجملة النداء مستأنفة {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {أَطِيعُوا اللَّهَ} فعل وفاعل، ومفعول {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة والجملة جواب النداء {وَلا تَوَلَّوْا} جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَطِيعُوا} {عَنْهُ} متعلق بـ {تَوَلَّوْا} {وَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تَسْمَعُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تَوَلَّوْا}. {وَلا تَكُونُوا} جازم وفعل ناقص واسمه {كَالَّذِينَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {وَلا تَوَلَّوْا} {قالُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {سَمِعْنا} مقول محكي لـ {قالُوا} وان شئت قلت: {سَمِعْنا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} {وَهُمْ} مبتدأ وجملة {لا يَسْمَعُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل

النصب حال من واو: {قالُوا}. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. {إِنَّ} حرف نصب {شَرَّ الدَّوَابِّ} اسم {إِنَّ} ومضاف إليه، {عِنْدَ اللَّهِ} متعلق بـ {شَرَّ}، {الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ} كل من الثلاثة خبر المبتدأ كقولهم: الرمان حلو حامض، وجملة {لا يَعْقِلُونَ} صلة الموصول، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها مستأنفة. {وَلَوْ} الواو: استئنافية {لَوْ} حرف شرط {عَلِمَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {فِيهِمْ} متعلق بـ عَلِمَ {خَيْرًا} مفعول به {لَأَسْمَعَهُمْ} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية {أسمعهم} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} حرف شرط وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {لَتَوَلَّوْا} {اللام} رابطة لجواب لو الشرطية {تولوا} فعل وفاعل والجملة جواب {لَوْ} وجملة {لَوْ} الشرطية معطوفة على جملة {لَوْ} الأولى {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تولوا}. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}. {يا أَيُّهَا} منادى نكرة مقصودة {الَّذِينَ} صفة لـ {أي} وجملة النداء مستأنفة {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {اسْتَجِيبُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {لِلَّهِ} متعلق بـ {اسْتَجِيبُوا} {وَلِلرَّسُولِ} معطوف على الجار، والمجرور قبله {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {دَعاكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الرسول} وجملة {دعا} في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها، على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذا دعاكم لما يحييكم .. استجيبوا لله وللرسول {لِما} جار

ومجرور متعلق بـ {دعا} {يُحْيِيكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ما} والجملة الفعلية صلة {لِما} أو صفة لها {وَاعْلَمُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَجِيبُوا} {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {يَحُولُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {بَيْنَ الْمَرْءِ} ظرف ومضاف إليه، {وَقَلْبِهِ} معطوف على {الْمَرْءِ} والظرف متعلق بـ {يَحُولُ}، وجملة {يَحُولُ} في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: واعلموا حيلولة الله بين المرء وقلبه، {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه {إِلَيْهِ} متعلق بـ {تُحْشَرُونَ} وجملة {تُحْشَرُونَ} في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} معطوفة على جملة {أَنَّ} الأولى على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: وحشركم إليه تعالى. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}. {وَاتَّقُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَجِيبُوا} على كونها جواب النداء {فِتْنَةً} مفعول به {لا} نافية {تُصِيبَنَّ} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على فتنة {الَّذِينَ} مفعوله، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {فِتْنَةً} {ظَلَمُوا} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من واو {ظَلَمُوا} {خَاصَّةً} منصوب على الحال من الفاعل المستتر في قوله {لا تُصِيبَنَّ} وأصلها أن تكون صفة لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة كما في «السمين» {وَاعْلَمُوا} فعل وفاعل معطوف على {اسْتَجِيبُوا} {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {شَدِيدُ الْعِقابِ} خبر {أَنَّ} ومضاف إليه، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره، واعلموا شدّة عذاب الله تعالى. {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}.

{وَاذْكُرُوا} فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة {اسْتَجِيبُوا} {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {اذْكُرُوا} {أَنْتُمْ} مبتدأ {قَلِيلٌ} خبر والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {مُسْتَضْعَفُونَ} صفة أولى لـ {قَلِيلٌ} {فِي الْأَرْضِ} متعلق به، {تَخافُونَ} فعل وفاعل، والجلمة في محل الرفع صفة ثانية لـ {قَلِيلٌ}، {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {تَخافُونَ} تقديره: تخافون تخطف الناس إياكم، {فَآواكُمْ} {الفاء} حرف عطف وتفريع {أواكم} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة مفرعة على الجملة الاسمية، في قوله: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} على كونها مضافا إليه لـ {إِذْ} {وَأَيَّدَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {أواكم} {بِنَصْرِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {أَيَّدَكُمْ} {وَرَزَقَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {أواكم} {مِنَ الطَّيِّباتِ} جار ومجرور متعلق بـ {رزق} {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه، وجملة {تَشْكُرُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}. {يا أَيُّهَا} منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة {الَّذِينَ} صفة لـ {أي} {آمَنُوا} صلة الموصول {لا تَخُونُوا اللَّهَ} جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، {وَالرَّسُولَ} معطوف على الجلالة {وَتَخُونُوا} فعل وفاعل معطوف على تخونوا الأول {أَماناتِكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، {وَأَنْتُمْ} مبتدأ وجملة {تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {تَخُونُوا} ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف تقديره: وأنتم تعلمون أن ما وقع منكم خيانة. {وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. {وَاعْلَمُوا} فعل وفاعل معطوف على {تَخُونُوا} على كونه جواب النداء، {أَنَّما} {أن} حرف نصب و {ما} كافة لكفها ما قبلها عن العمل، فيما بعدها

{أَمْوالُكُمْ} مبتدأ {وَأَوْلادُكُمْ} معطوف عليه {فِتْنَةٌ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: واعلموا كون أموالكم وأولادكم فتنة {وَأَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {عِنْدَهُ} ظرف ومضاف إليه خبر مقدم {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر {عَظِيمٌ} صفة لأجر، وجملة المبتدأ والخبر، في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} معطوفة على جملة {أَنَّما} على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم} تقديره وكون أجر عظيم عند الله تعالى. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. {يا أَيُّهَا} منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة {الَّذِينَ} صفة لـ {أي} {آمَنُوا} صلة الموصول {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} جازم وفعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {يَجْعَلْ} فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق به {فُرْقانًا} مفعول به، وجملة {إِنْ} الشرطية من فعل شرطها وجوابها جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {وَيُكَفِّرْ} معطوف على {يَجْعَلْ} وفاعله ضمير يعود على الله {عَنْكُمْ} متعلق به {سَيِّئاتِكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه، {وَيَغْفِرْ} معطوف على يجعل وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ} متعلق به {وَاللَّهُ} مبتدأ {ذُو الْفَضْلِ} خبر ومضاف إليه، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الْفَضْلِ}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {زَحْفًا} من زحف (¬1) إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده، كالصبي، أو على ركبتيه، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف صغار الجراد، والعسكر المتوجه إلى العدوّ لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه ¬

_ (¬1) المراغي.

يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل، فتحس حركته بطيئة، وإن كانت في الواقع سريعة، وفي «المصباح» زحف القوم زحفا من باب نفع وزحوفا، ويطلق على الجيش الكثير، زحف تسمية بالمصدر، والجمع زحوف مثل فلس وفلوس، والصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي، وزحف البعير إذا أعيا فجر فرسنه، وأزحف بالألف، ومنه قيل: زحف الماشي، وأزحف أيضا إذا أعيا. انتهى. {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} {الْأَدْبارَ}: جمع دبر، وهو الخلف، ومقابله القبل، ومن ثم يكنى بهما عن السؤتين، وتولية الدبر والأدبار، يراد بهما الهزيمة، لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره، وفي «الجمل» (¬1): يطلق الدبر على مقابل القبل، ويطلق على الظهر، وهو المراد هنا، والمقصود ملزوم تولية الظهر، وهو الانهزام، فهذا اللفظ استعمل في ملزوم معناه. انتهى. {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ}؛ أي: لأجل التمكن من القتال، والمتحرف للقتال أو غيره: هو المنحرف عن جانب إلى آخر من الحرف، وهو الطرف {أَوْ مُتَحَيِّزًا} والمتحيز (¬2) المنضم إلى جانب، وقال أبو عبيدة: التحيز، والتحوز، التنحي والتحوز الانضمام، وقال الليث: ما لك متحوزا إذا لم تستقر على الأرض، وأصله: من الحوز وهو الجمع، يقال: حزته في الطرس، فانحاز، وتحيز انضم، واجتمع، وتحوزت الحية انطوت واجتمعت، وسمي التنحي تحيزا؛ لأنّ المتنحي عن جانب ينضم عنه، ويجتمع إلى غيره، وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، وتحوز تفعل ضعفت عينه، ووزن (¬3) متحيز متفيعل، والأصل: متحيوز فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء {إِلى فِئَةٍ} والفئة: الطائفة من الناس {وَمَأْواهُ} والمأوى: الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان، {وَما رَمَيْتَ} والرمي معروف، ويكون بالسهم، والحجر والتراب {بَلاءً} هو اسم مصدر لأبلى يبلي إبلاء وبلاء، والمراد به هنا: المبلو به، أي: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

المعطى {مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ} والموهن: المضعف من أوهنه إذا أضعفه، والكيد: التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، فتسوء عاقبة من يقصد به {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} والاستفتاح: طلب الفتح، والفصل في الأمر كالنصر في الحرب. {لا تَخُونُوا اللَّهَ} الخيانة (¬1): لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقالوا: خانه سيفه إذا نبا عن الضربة، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: تنقصونها بعص ما أحل لها من اللذات، ثمّ استعمل في ضد الأمانة والوفاء؛ لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان، {أَمِنْتُكُمْ} جمع أمانة، والأمانة كل حقّ مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله، قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} والفتنة: الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه، أو قبوله أو إنكاره، فهي تكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال، والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين، والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق، أو الباطل، وعمل الخير أو الشر {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} وفي «المصباح» خطفه يخطفه من باب تعب استلبه بسرعة وخطفه خطفا من باب ضرب لغة، واختطف وتخطف مثله، والخطفة مثل تمرة المرّة يقال لما اختطفه الذئب ونحوه من حيوان، هي خطفة تسمية بذلك اه. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} التقوى: ترك الذنوب، والآثام، وفعل ما يستطاع من الطاعات، والواجبات الدينية، وبعبارة أخرى: هي اتقاء ما يضر الإنسان في نفسه، وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة، والغايات الحسنة. {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا} والفرقان أصله الفرق، والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضار والنافع، ¬

_ (¬1) المراغي.

وبعبارة ثانية: هو العلم الصحيح والحكم الرجيح، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل، والقرآن، وغلب على الأخير قال تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (1)} من قبل أن كلامه تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والعدل والجور، والخير والشر، والفرقان (¬1) في الأصل: مصدر فرق بين الشيئين؛ أي: حال بينهما. وقال ابن عباس وجماعة: {فُرْقانًا}؛ أي: مخرجا في الدين من الضلال، وقال مزرد بن ضرار: بادر الأفق أن يغيب فلمّا ... أظلم اللّيل لم يجد فرقانا وقال الآخر: ما لك من طول الأسى فرقان ... بعد قطين رحلوا وبانوا وقال الآخر: وكيف أرجو الخلد والموت طالبي ... وما لي من كأس المنيّة فرقان أو مخرجا من الشبهات، وتوفيقا وشرحا للصدور؛ أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة، ولفظ {فُرْقانًا} مطلق، فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة. والتقوى هنا: إن كانت من اتقاء الكبائر، كانت السيئات الصغائر، ليتغاير الشرط والجزاء، وتكفيرها في الدنيا ومغفرتها إزالتها في القيامة، وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار كما مرّ في بحث التفسير. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا وضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه البليغ في قوله {زَحْفًا} لأن المعنى (¬2) على التشبيه بالزاحفين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

على أدبارهم في بطء السير، وذلك لأنّ الجيش إذا كثر والتحم بعضه ببعض يتراءى أن سيره بطيء، وإن كان في نفسه سريعا، فالمراد من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة، وهو: الكثرة. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} لما فيه من إطلاق اللازم، وهو تولية الظهر، وإرادة الملزوم، وهو الانهزام، فكأنه قال: فلا تنهزموا. ومنها: التعريض في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} حيث عدل عن ذكر الظهر إلى الدبر تعريضا (¬1) بسوء حالهم، وقبح فعالهم، وخساسة منزلتهم، بذكر ما يستهجن ذكره، وهو الدبر، وبعض البيانيين يسمي هذا بالإيماء، وبعضهم بالكناية، وهذا ليس بشيء فإن الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح. ذكره في التحرير. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} وفي قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} وفي قوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} وفي قوله: {سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} والجناس المغاير في قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} وفي قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} وفي وقوله: {لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}. ومنها: التهكم في قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} لأن الأصح أن يكون الخطاب للمشركين على سبيل التهكم، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} لأنهم هم الذين وقع بهم الهلاك، والفتح وقع لغيرهم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} لأنه كناية (¬2) عن كونه أقرب للشخص من قلبه لذاته، بل هو تعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الصاوي.

أقرب من السمع للأذن، ومن البصر للعين، ومن اللمس للجسد، ومن الشم للأنف، ومن الذوق للسان، فشبه القرب بالحيلولة، واستعير اسم المشبه به، وهو الحيلولة للمشبه وهو القرب، واشتق من الحيلولة {يَحُولُ} بمعنى يقرب على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لما فيه من إطلاق المسبب الذي هو المصائب والفتن، وإرادة السبب الذي هو الذنوب والمعاصي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} .. ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة، بدفع كيد المشركين، ومكر الماكرين بنصره عليهم، وخيبة مسعاهم في إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه، وقطعوا برأي معين فيه. قوله تعالى: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ...} ¬

_ (¬1) المراغي.

مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت .. ذكر من فعلهم القبيح، ما يؤكد ذلك، وأن من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أوياءه. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما بيّن أحوال هؤلاء المشركين في الطاعات البدنية بقوله: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً} .. أردف ذلك بذكر أحوالهم في الطاعات المالية. قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر (¬3) الله سبحانه وتعالى ما يحل بهم من حشرهم إلى النار، وجعلهم فيها وخسرهم .. تلطف بهم، وأنهم إذا انتهوا عن الكفر، وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة، وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر، فلذلك كان المعنى أن ينتهوا عن الكفر. وعبارة «المراغي» هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين حال من يصرّ على الكفر، والصد عن سبيل الله، وقتال رسوله والمؤمنين، وعاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة .. أردف ذلك ببيان من يرجعون عنه، ويدخلون في الإسلام، لأن الأنفس في حاجة إلى هذا البيان. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما بويع (¬4) رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، أشفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كر عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) زاد المسير.

أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي نصحا، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: ما هذا برأي يوشك أن يغضب له قومه، فيأخذوه من أيديكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا من إيذائه لكم، فقال إبليس لا مصلحة لكم فيه، لأنه قد يجمع طائفة على نفسه، ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة غلاما، ثم نعطي كل غلام سيفا فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب، فتفرقوا عن ذلك، وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة، وأمر عليا فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن الله له في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لما أصبحوا، فرأوا عليّا فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت، فأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة، يذكره نعمته عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية. ذكره ابن هشام في «سيرته» (1/ 480 - 483) قال فيه، قال ابن إسحاق: حدثني به من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، وغيره ممن لا أتهم عن عبد الله بن عباس، ورواه أحمد في «مسنده» رقم (3251) مختصرا. قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وكان المقداد ¬

_ (¬1) لباب النقول.

أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله: أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ...}» الآية. قوله تعالى: {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وروى البخاري عن أنس قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت، ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنزل الله {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ...} الآية. ولا مانع من أن الآية نزلت في هذا وهذا، وأنهما معا كانا سببا لنزول الآية. والله أعلم. وأخرج (¬1) ابن جرير عن ابن أبزى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة فأنزل الله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فخرج إلى المدينة، فأنزل الله {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وكان أولئك البقية من المسلمين، الذين بقوا فيها يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ...} الآية، فأذن في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم. قوله تعالى: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ...} الآية (¬2)، سبب نزولها: أن قريشا كانوا يطوفون بالبيت، ويصفقون، ويصفرون، ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. وأخرج ابن جرير عن سعيد، قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) زاد المسير.

[30]

الطواف يستهزؤون به، ويصفرون، ويصفقون، فنزلت: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ...} الآية. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، قال (¬1) ابن إسحاق: حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمير بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن، قالوا: لما أصيب قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وآبناؤهم فكلموا أبا سفيان ومن كان له من قريش في ذلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك منه ثأرا، ففعلوا، ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} إلى قوله: {يُحْشَرُونَ}. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة، قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب. الأوقية اثنان وأربعون مثقالا. وأخرج (¬2) ابن جرير عن ابن أبزى، وسعيد بن جبير، قالا: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش - أي من أخلاط القبائل - ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. التفسير وأوجه القراءة 30 - أي: {وَ} اذكر يا محمد لأمتك قصة {إِذْ يَمْكُرُ} ويحتال في إيقاع الضرر والهلاك {بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك، وهذا تذكار لما مكرت قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى في خلاصه من مكرهم، واستيلائه عليهم؛ أي: واذكر نعمته تعالى عليك في ذلك الزمن القريب، الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبرون في السر من وسائل إيقاع الهلاك بك، فإن في ذلك القصص على ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

المؤمنين والكافرين في عهدك، ومن بعدك، لأكبر الحجج على صدق دعوتك، ووعد ربك بنصرتك؛ أي: واذكر لهم قصة إذ يمكرون بك، {لِيُثْبِتُوكَ} في مكان، ويمنعوك من الحركة بالوثاق (¬1)، أو الحبس أو الإثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به، ولا براح، وقال ابن عباس ومجاهد: ليقيدوك وقيل: المعنى ليحبسوك، وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات، وقرىء {لِيُثْبِتُوكَ} بالتشديد أَوْ لـ {يَقْتُلُوكَ} بسيوفهم {أَوْ} لـ {يُخْرِجُوكَ} من وطنك مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم، فزعوا، فاجتمعوا في دار الندوة، متشاورين في أمره كما سبق في أسباب النزول. وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة، وبها ظهر الإسلام، وخذل الشرك، روي من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق وابن هشام في سيرتهما كما ذكرناها سابقا، وهذه الآية مدنية كسائر السورة، وهو الصواب. والخلاصة: أن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى ثلاث خصال: إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس، ودعوتهم إلى الإسلام، وإما بالقتل، بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم، كما مر، وإما بالإخراج والنفي من الوطن {وَيَمْكُرُونَ} بك، وبمن معك من المؤمنين؛ أي: يريدون إهلاككم من حيث لا تحتسبون؛ أي: إن دأبهم معك، ومع من اتبعك من المؤمنين، تدبير الأذى لكم دائما، والله محيط بما دبروا لكم، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان، والقوة وكرر (¬2) قوله: {وَيَمْكُرُونَ} إخبارا باستمرار مكرهم، وكثرته {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} بهم؛ أي: ويرد الله سبحانه وتعالى عليهم مكرهم في نحورهم، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين حتى حملوا عليهم، فلقوا ما لقوا، والمكر (¬3) هو التدبير، وهو من الله تعالى التدبير بالحق، والمعنى: ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

[31]

إنهم احتالوا في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم والله سبحانه وتعالى أظهره وقواه ونصره، فضاع فعلهم وتدبيرهم، وظهر فعل الله وتدبيره، وسمي (¬1) ما وقع منه تعالى من التدبير مكرا مشاكلة بما وقع منهم من المكر {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الْماكِرِينَ}؛ أي: أفضل المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم، فهو تعالى يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشد ضررا عليهم، وأعظم بلاء من مكرهم، لأن مكره تعالى نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه، وفي الآية: إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة في معاملته صلى الله عليه وسلّم ومن تبعه من المؤمنين. 31 - ولما قص الله سبحانه وتعالى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وسلّم .. قص علينا مكرهم في دين محمد صلى الله عليه وسلّم فقال: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ}؛ أي: وإذا قرأت على هؤلاء الذين كفروا {آياتُنا} القرآنية الواضحة، لمن شرح الله صدره لفهمها {قالُوا} جهلا منهم، وعنادا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون {قَدْ سَمِعْنا} ما قال محمد صلى الله عليه وسلّم من الآيات، أو قد سمعنا مثل ما قال محمد من التوراة والإنجيل، وقد تنازع هذا العامل مع قوله: {لَقُلْنا} في قوله: مثل هذا {لَوْ نَشاءُ} القول {لَقُلْنا مِثْلَ هذا} الذي تلي علينا محمد صلى الله عليه وسلّم {إِنْ هذا}؛ أي: ما هذا القرآن الذي تلاه محمد صلى الله عليه وسلّم علينا {إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: إلا أكاذيب الأولين، وأخبار الماضين، من القرون الخالية أي ما سطروه وكتبوه من القصص والأخبار. والمعنى: ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص؛ أي: إنّ أخبار القرآن عن الرسل، وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها، فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله، وقد كان النضر بن الحارث أول من قال هذه الكلمة، فقلده فيها غيره، لأنه كان يأتي الحيرة - بكسر الحاء بلدة بقرب الكوفة - يتجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة، وأن محمدا هو الذي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[32]

افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} لأنهم يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدوا العرب عن القرآن، وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن، ويمنعون الناس عنه خوفا من استمالة الناس إليه، لما رأوا من شدة تأثيره وسلطانه على القلوب، حتى قال الوليد بن المغيرة: كلمته المشهورة: إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته. 32 - {وَ} اذكر يا محمد قصة {إِذْ قالُوا}؛ أي: قصة إذ قال هؤلاء الذين كفروا من قومك دعاء على أنفسهم {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ} هذا القرآن وما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلّم من التوحيد {هُوَ الْحَقَّ} والصدق حالة كونه منزلا {مِنْ عِنْدِكَ} ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلّم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا}؛ أي: فأنزل علينا {حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} عقوبة على إنكارنا، قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار {أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: وجيع غير الحجارة، قاله النضر بن الحارث استهزاء، وقد أسره المقداد يوم بدر، فقتله النبي صلى الله عليه وسلّم، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر، وقرأ الجمهور: {هُوَ الْحَقَّ} بالنصب جعلوا {هُوَ} فصلا، وقرأ الأعمش، وزيد بن علي بالرفع، وهي جائزة في العربية، وفي هذا (¬1) إيماء إلى أنهم لا يتبعونه، وإن كان هو الحق المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء، أو بعذاب أليم سوى ذلك كما أن فيه تهكما وإظهارا للحزم واليقين، بأنه ليس من عند الله، وحاشاه، ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار. روي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك حين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} ولم يقولوا: فاهدنا له. ¬

_ (¬1) المراغي.

[33]

33 - ثم قال: سبحانه وتعالى: بيانا للموجب لإمهالهم، والتوقف في إجابة دعائهم {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}؛ أي: وما كان من سنة الله تعالى، ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول موجود مقيم فيهم؛ لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة، لا عذابا ونقمة، فإنك ما دمت فيهم، فهم في مهملة من العذاب الذي هو الاستئصال مع أنه قد جرت سنته أيضا أن لا يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم بين أظهرهم، بل كان يخرج الرسل أولا، كما حدث لهود، وصالح، ولوط، وقرأ أبو السمال: {وما كان ليعذبهم} بفتح اللام، وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن. {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} هذا الاستئصال {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}؛ أي: وفيهم من يستغفر من المسلمين الذين بقوا فيهم بعد الهجرة؛ أي: وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذب بمثله الأمم قبلهم، فاستأصلهم وفيهم من يستغفر من المسلمين الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المستضعفين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده. روى ابن جرير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة فأنزل الله {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله: {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وكان من بقي في مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} الآية، فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به، وقيل: المعنى وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله تعالى، وقيل: المعنى وهم يستغفرون في الطواف بقولهم: غفرانك. قال أهل المعاني (¬1): دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله أنزل عليّ ¬

_ (¬1) الخازن.

[34]

أمانين لأمتي، {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} {وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي. 34 - ولما بين الله سبحانه وتعالى أن المانع من تعذيبهم، هو الأمران المتقدمان، وجود رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، ووقوع الاستغفار .. ذكر بعد ذلك أنّ هؤلاء الكفار، أعني كفار مكة، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح، فقال: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: وأي شيء لهم يمنع من تعذيب الله إياهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}؛ أي: والحال أنهم يصدون النّاس ويمنعونهم عن الوصول إلى المسجد الحرام لزيارته، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه من البيت، وفي «السمين»: وما اسم استفهام إنكاري، مبتدأ و {لَهُمْ} خبره، وقوله: {أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} على تقدير الجار المتعلق بما تعلق به الظرف الواقع خبرا، والمعنى: وأي شيء ثبت واستقر لهم في أن لا يعذبهم الله؛ أي: في عدم تعذيبه؛ أي: أي مانع منه؛ أي: لا مانع منه بعد زوال هذين المانعين، وهما كون النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم، وكون الضعفاء يستغفرون، وهم مستضعفون فيما بينهم، فلما زال هذان المنعان وجب عليهم العذاب، ولم يبق له مانع ا. هـ؛ أي: وأي شيء يمنع تعذيبهم، بما دون عذاب الاستئصال، عند زوال المانع منه، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك، فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام، فإن دخل مكة .. عذبوه، إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا: عذاب بدر، إذ قتل صناديدهم ورؤساء الكفر، كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وأسر سراتهم. وجملة قوله: {وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ} في محل نصب على أنها حال من فاعل {يَصُدُّونَ}؛ أي: والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد الحرام، وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه، كطوافهم فيه عراة، رجالا ونساء، وهذا رد لقولهم نحن ولاة الحرم والبيت، فنصد من نشاء، وندخل من نشاء {إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}؛ أي: ما يلي أمره إلا من كان برا تقيا، لا من كان كافرا عابدا للصنم؛ أي: ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن

[35]

المنكرات، كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، ومن كانت هذه حاله لا يكون وليا للمسجد الحرام، بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف، ويحاربوا {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنه لا ولاية لهم عليه؛ أي: لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه، والجديرون بولاية بيته. وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم في جاهليتهم، وضلالهم في شركهم، وكون الله لا يرضى عنهم كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق في الحكم، ولا يقول إلا الحق، ولا يقول كما يقول الناس: إنّ القليل لا حكم له. 35 - ثم بين سبحانه سوء حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله، وهي الصلاة، فقد كانوا يطوفون عراة فقال: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ}؛ أي: عبادتهم {عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً}؛ أي: صفيرا فكان الواحد منهم يشبك أصابع إحدى كفيه بأصابع الأخرى، ويضمها، وينفخ فيهما فيظهر من ذلك صوت {وَتَصْدِيَةً}؛ أي: تصفيقا أي ضربا لإحدى الكفين على الأخرى أي: ما كان شيء مما يعدونه عبادة وصلاة إلا هذين الفعلين، وهما المكاء والتصدية؛ أي إذا كان لهم صلاة، فلم تكن إلا هذين، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، مشتبكين بين أصابعهم، يصفرون ويصفقون بإحدى اليدين على الأخرى، وروي عن سعيد بن جبير، قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف يستهزؤون ويصفرون، يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلّم يخلطون عليه في صلاته، فنزلت {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً}. وبالجملة (¬1): فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب، سواء عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته، أم لا؟ {فَذُوقُوا ¬

_ (¬1) المراغي.

[36]

الْعَذابَ}؛ أي: فذوقوا أيها المشركون في الدنيا عذاب القتل لبعض كبرائكم، والأسر للآخرين منهم، وانهزام الباقين، مدحورين مكسورين يوم بدر، {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلّم. والخلاصة: فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم: {أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ}. وقرأ أبان بن تغلب، وعاصم، والأعمش بخلاف عنهما (¬1) {صلاتهم} بالنصب {إلا مكاء وتصدية} بالرفع، وخطأ قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبرا والنكرة اسما، قالوا: ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة كقوله: يكون مزاجها عسل وماء وخرّجها أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسم جنس، واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه {إلا مكا} بالقصر منونا فمن مد فكالثغاء، والرغاء، ومن قصر فكالبكاء في لغة من قصر. 36 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية .. ذكر عقبها عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلّم يعني كفار قريش وخبر إن جملة قوله: {يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} ويصرفونها في محاربة النبي صلى الله عليه وسلّم {لِيَصُدُّوا} الناس ويمنعوهم {عَنْ} الدخول في {سَبِيلِ اللَّهِ} تعالى ودينه واتباع رسوله؛ أي: إن مقصدهم بالانفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. قال مقاتل والكلبي (¬2): نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش، أبي جهل وأصحابه، يطعم كل واحد منهم كل يوم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

عشر جزور، وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: نزلت في أبي سفيان، وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق فيهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا كما مر، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة كما مر ذلك في أسباب النزول. والمعنى (¬1): أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم، هو الصد عن سبيل الحق، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز، فقال: {فَسَيُنْفِقُونَها}؛ أي: فينفقون أموالهم في المستقبل في الصد عن سبيل الله، أو المعنى فسيعلمون عاقبة إنفاقها من الخيبة، وعدم الظفر بالمقصود، فحصلت المغايرة، ذكره في «الفتوحات» {ثُمَّ تَكُونُ} نفقاتهم في ذلك {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}؛ أي: ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد صلى الله عليه وسلّم {ثُمَّ} في آخر أمرهم {يُغْلَبُونَ} كما وعد الله تعالى به في مثل قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. أي: إنه سيقع هذا الانفاق، وتكون عاقبته الحسرة؛ لأنه سيذهب المال، ولا يصلون إلى المقصود، بل يغلبون كما وعد الله به نبيه، وسينكسرون المرة بعد المرة. ومعنى (¬2) {ثُمَّ} في الموضعين: إما التراخي في الزمان لما بين الانفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة بين بذل المال، وعدم حصول المقصود من المبيانة، ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: استمروا على الكفر، كأبي جهل وأصحابه، وإنما فسرنا كذلك؛ لأن من هؤلاء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[37]

الكفار المذكورين سابقا من أسلم، وحسن إسلامه، كالعباس بن عبد المطلب {إِلى جَهَنَّمَ} لا إلى غيرها {يُحْشَرُونَ}؛ أي: يساقون يوم القيامة فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما. وقد كان (¬1) للمسلمين في هذه الآية عبرة وعظة فلينفقوا أموالهم في سبيل الله كما أنفق أسلافهم فيها، لأن لهم بها سعادة الدارين، والكفار في هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم، وتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة في نشر دينهم، وفتنة المسلمين عن دينهم، وهم لا يبالون ماذا يفعلون، ألا ساء ما يعملون. 37 - ثم بين سبحانه العلة التي لأجلها كانت الحسرة عليهم والحشر إلى جهنم، فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} وقرأ حمزة (¬2) والكسائي، ويعقوب، ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية المكسورة من التمييز، وهو أبلغ من الميز، وقرأ الباقون بالتخفيف من ماز يميز كباع يبيع، واللام متعلقة بـ {يُحْشَرُونَ} أو بـ {يُغْلَبُونَ}؛ أي: يحشرون إلى جهنم ليميز الله سبحانه وتعالى، ويفصل الفريق الخبيث من الكفار {مِنَ} الفريق {الطَّيِّبِ} من المؤمنين {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ}؛ أي: ويجعل الفريق الخبيث {بَعْضَهُ} منضما متراكبا {عَلى بَعْضٍ} آخر {فَيَرْكُمَهُ}؛ أي: فيجمعه {جَمِيعًا} ويضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكم ويركب بعضه بعضا، لفرط ازدحامهم، يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، {فَيَجْعَلَهُ} أي: يطرحه {فِي جَهَنَّمَ}؛ وقيل: المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيها في جهنم، ويعذبهم بها {أُولئِكَ} الفريق الذين كفروا، وخبثوا اعتقادا وأعمالا {هُمُ الْخاسِرُونَ} في الدنيا والآخرة، لأنهم اشتروا بأعمالهم عقاب الآخرة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[38]

وقيل: اللام في قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} متعلقة بمحذوف تقديره؛ أي: إن (¬1) الله سبحانه وتعالى كتب النصر والغلب لعباده المتقين، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار، للصد عن سبيل الله، ليميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وهذا التمييز بين الأمرين في سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة، فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة، ومن ثم قال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} الآية؛ أي: ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، واختلاف المتناكرات، كما جاء في الحديث: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» ثم يجعل أصحابه في جهنم إلى يوم القيامة، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله. 38 - {قُلْ} يا محمد {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: لهؤلاء الكفار الذين آذوك وصدوا عن سبيل الله من كفار مكة، كأبي سفيان وأصحابه، وغيرهم من سائر الكفار، وفي «الكشاف»: قل لأجلهم هذا القول وهو: {إِنْ يَنْتَهُوا} وينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله {يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ}؛ أي: يغفر الله سبحانه وتعالى لهم ما سلف، وسبق منهم من عداوتك، وصدهم عن سبيل الله، وغير ذلك من سائر الذنوب، فلا يعاقبهم على شيء من ذلك في الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون، فلا يطالبون قاتلا منهم بدم، ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم. وفي مصحف ابن مسعود (¬2): {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} بالتاء المثناة من فوق {يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} خطابا لهم، وقرىء {يغفر} مبنيا للفاعل والضمير لله تعالى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[39]

روى مسلم من حديث عمرو بن العاص، قال: فلما جعل الله الإيمان في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت: أبسط يدك أبايعك فبسط يده، فقبضت يدي قال: «مالك؟» قلت: أردت أن أشترط، قال: «ماذا تشترط؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟». {وَإِنْ يَعُودُوا} ويرجعوا إلى الكفر، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلّم وإلى الصد عن سبيل الله؛ أي: وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، ويرجعوا للكفر، وقتال النبي صلى الله عليه وسلّم ويكون العود بمعنى الاستمرار، ننتقم منهم بالعذاب {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: لأنه قد سبقت سيرة الأولين، الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير، كما جرى على أهل بدر؛ أي: قد سبقت سنة الله فيهم بالاستئصال والتدمير فلهم ما لهم. والمعنى: أي وإن يعودوا إلى العداء، والصد، والقتال تجر عليهم سننه المطردة في أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل، وقاتلوهم من نصر المؤمنين، وخذلانهم، وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)}. ولا يخفى ما في قوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} من (¬1) التهديد، والوعيد، الشديد، والتمثيل لهم بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله؛ أي: قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل ما فعل هؤلاء من الأولين من الأمم، أن يصيبه بعذاب، فليتوقعوا مثل ذلك، وترسم {سُنَّتُ} هذه بالتاء المجرورة، وكذا الثلاثة التي في فاطر، وكذا التي في آخر غافر، ثم بين ما سلف من قوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} 39 - ورغب المؤمنين في قتالهم فقال: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ أي: حتى لا توجد فتنة في الدين؛ أي: وقاتل الذين كفروا أنت يا محمد ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة في الدين بالتعذيب ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش في مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم في دار الهجرة {وَ} حتى {يَكُونَ الدِّينُ}؛ أي: العبادة {كُلُّهُ لِلَّهِ}: فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على ترك إلى دين المكره تقية وخوفا منه. وخلاصة ذلك (¬1): قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا في عقائدهم، لا يكره أحد أحدا على ترك عقيدته إكراها، ولا يؤذي ويعذب لأجلها كما قال تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم، ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم. وروي عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك، والمعنى عليه: قاتلوهم حتى لا يبقى شرك في مكة وغيرها، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام. وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة؛ وهنا زيادة {كُلُّهُ} توكيدا للدين، وقرأ الأعمش ويكون برفع النون، والجمهور بنصبها. {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الكفر، وعن قتالكم، وعن سائر المعاصي بالتوبة والإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ أي: عليم لأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ونياتهم، فيجازيهم على أعمالهم الحسنة من الإيمان وغيره ويثيبهم عليها بحسب علمه. وقرأ الحسن ويعقوب من العشرة وسلام بن سليمان (¬2): {بما تعملون} بالتاء على الخطاب، لمن أمروا بالمقاتلة على معنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الايمان بصير يجازيكم، فيكون (¬3) تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب، وبالباء التحتية على الغيبة باتفاق السبعة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي.

[40]

40 - {وَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: وإن أعرض أولئك الكفار عن التوبة، والإيمان، وعن سماع تبليغكم، ولم ينتهوا عن كفرهم، وفتنتهم وقتالهم لكم {فَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مَوْلاكُمْ}؛ أي: مواليكم، ومعينكم عليهم، وهذا وعد صريح بالظفر والنصر؛ أي: فأيقنوا أيها المؤمنون بنصر الله تعالى ومعونته لكم، وهو متولي أموركم، فلا تبالوا بهم، ولا تخشوا بطشهم، وجواب {إِنْ} محذوف، وجملة قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} علة للجواب المحذوف، والمعنى: وإن تولوا عن الإيمان، فلا تخشوا بأسهم، لأن الله مولاكم، وهو سبحانه وتعالى {نِعْمَ الْمَوْلى}؛ أي: نعم الولي بالحفظ، فلا يضع من تولاه {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}؛ أي: نعم الناصر على الأعداء، فلا يغلب من نصره، وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات، مصونا عن المخلوقات، وهذا ثناء من الله تعالى على نفسه، فهو حمد قديم لقديم، وما غلب المسلمون في العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} واتكلوا على خوارق العادات، وقراءة الأحاديث، والدعوات، وذلك مما لم يشرعه الله، ولم يعمل به رسوله، إلى أنهم تركوا العدل والفضائل، وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم. وعلى العكس من ذلك، اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام، فاستعدوا للحرب، واتبعوا سنن الله في العمران، فرجحت كفتهم، ولله الأمر. وما مكن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى، وقيصر، وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد في الآداب، ومساوي الأخلاق، والعادات، والانغماس في الشهوات، واتباع سلطان البدع، والخرافات فجاء الإسلام، وأزال كل هذا، واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها. ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل، واتبعوا سنن من قبلهم في اتباع

البدع والرذائل، وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا في الاستعداد المادي والحربي للنصر في الحرب، عاد الغلب عليهم لغيرهم، ومكن لسواهم في الأرض {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}؛ أي: الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات. وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد، وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى، ويهتدون بهدي دينهم، ويستمسكون بآدابه، ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز في الدنيا، والسعادة في الآخرة بمنه وكرمه، وفضله وجوده آمين. الإعراب {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ يمكر بك {يَمْكُرُ}: فعل مضارع {بِكَ} متعلق به {الَّذِينَ}: اسم موصول فاعل {كَفَرُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول وجملة {يَمْكُرُ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لِيُثْبِتُوكَ} اللام: حرف جر وتعليل {يثبتوك}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإثباتهم إياك الجار والمجرور متعلق بـ {يَمْكُرُ}. {أَوْ يَقْتُلُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يثبتوك} وكذا قوله: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} معطوف على {يثبتوك} أيضا، والتقدير: أو لقتلهم إياك أو لإخراجهم إياك {وَيَمْكُرُونَ}: فعل وفاعل مستأنف كرره للتأكيد، {وَيَمْكُرُ اللَّهُ}: فعل وفاعل معطوف على {يَمْكُرُونَ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ {خَيْرُ الْماكِرِينَ} خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية أو عاطفة {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان

{تُتْلى}: فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ} متعلق به {آياتُنا}: نائب فاعل، ومضاف إليه والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذا} والظرف متعلق بالجواب الآتي {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا}: مستأنفة، ومعطوفة على قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} {قَدْ سَمِعْنا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت {قَدْ}: حرف تحقيق {سَمِعْنا}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: مثل هذا القرآن، وهو التوراة والإنجيل، وقد تنازع هذا العامل مع قوله: {لَقُلْنا} في قوله: {مِثْلَ} هذا كما يستفاد من الخازن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا}؛ {لَوْ} شرطية {نَشاءُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المشركين ومفعوله محذوف تقديره: لو نشاء القول، والجملة فعل شرط لـ لو {لَقُلْنا} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية {قلنا}: فعل وفاعل {مِثْلَ} هذا مفعول به، ومضاف إليه، لأن {قلنا}: بمعنى ذكرنا، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة لو الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا} {إِنْ}: نافية مهملة لانتقاض نفيها بـ {إِلَّا} هذا: مبتدأ {إِلَّا}: إداة استثناء مفرغ {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)}. {وَإِذْ} {الواو}: عاطفة {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}: والظرف متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قالوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ}: {اللَّهُمَّ}: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللَّهُمَّ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}، {إِنْ}: حرف شرط {كانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إِنْ}: الشرطية على كونه فعل شرط لها، هذا: اسمها {هُوَ} ضمير فصل {الْحَقَّ}: خبر {كانَ}. {مِنْ عِنْدِكَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {الْحَقَّ} {فَأَمْطِرْ}

{الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبا {أمطر}: فعل دعاء في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَيْنا} متعلق به {حِجارَةً}: مفعول به {مِنَ السَّماءِ}: جار ومجرور صفة لـ {حِجارَةً} وفائدة (¬1) توصيف الحجارة بقوله: {مِنَ السَّماءِ} الدلالة على أن المراد بالحجارة السجيل وهو حجارة مسومة، أي: معلمة معدة لتعذيب قوم من العصاة. وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول قالوا: على كونها جواب النداء {أَوِ ائْتِنا}: فعل ومفعول معطوف على {أمطر}، وفاعله ضمير يعود على الله {بِعَذابٍ} متعلق بـ {ائْتِنا} {أَلِيمٍ} صفة لـ {عذاب}. {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}. {وَما} الواو: استئنافية {ما}: نافية {كانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه {لِيُعَذِّبَهُمْ} {اللام}: حرف جر وجحود {يعذبهم}: فعل ومفعول منصوب بـ {أن}: مضمرة بعد لام الجحود، وجوبا، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {يعذب}: صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ما كان الله لتعذيبهم الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرا لكان تقديره: ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وجملة {كانَ} مستأنفة، ومن أراد البسط في مبحث لام الجحود، فليراجع كتابنا «الدرر البهية في إعراب أمثلة الآجرومية» {وَأَنْتَ}: مبتدأ {فِيهِمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من مفعول {يعذبهم}: {وَما كانَ اللَّهُ}: ناف وفعل ناقص واسمه {مُعَذِّبَهُمْ} خبره، وجملة {كانَ} معطوفة على جملة {كانَ} الأولى {وَهُمْ}: مبتدأ وجملة {يَسْتَغْفِرُونَ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب حال من هاء {مُعَذِّبَهُمْ}. {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)}. {وَما} {الواو}: استئنافية ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ {أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر مقدر متعلق بما تعلق به الظرف الواقع خبرا، تقديره: وأي شيء ثبت، واستقر لهم في أن لا يعذبهم الله؛ أي: في عدم تعذيب الله إياهم، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَصُدُّونَ} خبره {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} متعلق به، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {يُعَذِّبَهُمُ}. {وَما} الواو: حالية {ما}: نافية {كانُوا}: فعل ماض ناقص، واسمه {أَوْلِياؤُهُ} خبر {كان} وجملة {كان} في محل النصب حال من واو {يَصُدُّونَ}. {إِنْ}: نافية {أَوْلِياؤُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه {أَلَّا} أداة استثناء مفرغ {الْمُتَّقُونَ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {لا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر {لكِنَّ}، وجملة {لكِنَّ} معطوفة على جملة قوله {إِنْ أَوْلِياؤُهُ}. {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}. {وَما كانَ صَلاتُهُمْ}: ناف وفعل ناقص واسمه {عِنْدَ الْبَيْتِ}: ظرف ومضاف إليه حال من {صَلاتُهُمْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مُكاءً}: خبر {كانَ}. {وَتَصْدِيَةً} معطوف عليه والجملة مستأنفة {فَذُوقُوا الْعَذابَ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن صلاتهم هذا اللعب واللهو وأردت بيان ما يقال لهم في الجزاء، فأقول لك: يقال لهم: ذوقوا العذاب {ذوقوا العذاب}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {بِما} الباء حرف جر {ما} مصدرية {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة: {تَكْفُرُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل

مصدر مجرور بـ {الباء} الجار والمجرور متعلق بـ {ذوقوا}، والتقدير، فذوقوا العذاب بكفركم. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}. {إِنَّ}: حرف نصب {الَّذِينَ}: اسمها، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة {لِيَصُدُّوا} {اللام}: لام كي {يصدوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لصدهم عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {فَسَيُنْفِقُونَها} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب {سينفقونها}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يُنْفِقُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر فيها يعود على نفقاتهم {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور حال من {حَسْرَةً}: لأنه صفة نكرة قدمت عليها، أو متعلق بـ {تَكُونُ} {حَسْرَةً}: خبر تكون، وجملة {تَكُونُ} معطوفة على جملة {سينفقونها} {ثُمَّ} حرف عطف: {يُغْلَبُونَ} فعل مغير ونائب فاعل والجملة معطوفة على جملة {تَكُونُ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ {كَفَرُوا}: صلة الموصول إِلى {جَهَنَّمَ} متعلق بـ {يُحْشَرُونَ} وجملة {يُحْشَرُونَ} من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة. {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)}. {لِيَمِيزَ} {اللام}: حرف جر وتعليل {يميز الله الخبيث}: فعل وفاعل ومفعول {مِنَ الطَّيِّبِ} متعلق بـ {يميز}، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره لميز الله الخبيث من الطيب الجار

والمجرور متعلق بـ {يُحْشَرُونَ}. {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ}: فعل ومفعول معطوف على {يميز} وفاعله ضمير يعود على الله {بَعْضَهُ} بدل من {الْخَبِيثَ} بدل بعض من كل {عَلى بَعْضٍ} متعلق بـ {يَجْعَلَ}. {فَيَرْكُمَهُ} {الفاء} عاطفة {يركمه}: فعل ومفعول معطوف على {يَجْعَلَ} وفاعله ضمير يعود على الله، {جَمِيعًا}: حال من ضمير {يركمه} أو توكيد له، والجملة معطوفة على جملة {يَجْعَلَ} {فَيَجْعَلَهُ}: فعل ومفعول، معطوف على {يركمه} وفاعله ضمير يعود على الله {فِي جَهَنَّمَ} متعلق به {أُولئِكَ}: مبتدأ {هُمُ}: ضمير فصل {الْخاسِرُونَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به {كَفَرُوا} صلة الموصول {إِنْ يَنْتَهُوا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنْ}: حرف شرط {يَنْتَهُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {يُغْفَرْ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بإن على كونه جواب الشرط {لَهُمْ} متعلق به، ما موصولة أو موصوفة، في محل الرفع نائب فاعل، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول القول {قَدْ سَلَفَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ما والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {وَإِنْ} الواو: عاطفة {إِنْ}: حرف شرط {يَعُودُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وجواب (¬1) الشرط محذوف تقديره: ننتقم منهم بالعقاب والعذاب، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إِنْ} الأولى {فَقَدْ} {الفاء}: تعليلة {قد}: حرف تحقيق {مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}: فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها، معللة للجواب المحذوف. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}. {وَقاتِلُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة (¬1) معطوفة على جملة قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لكنّ لما كان الغرض من الأول التلطف بهم، وهو وظيفة النبي وحده، بالإفراد، ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال، جاء بالجمع، فخوطبوا جميعا {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى إلى {لا تَكُونَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، وهو تام {فِتْنَةٌ} فاعله والجملة الفعلية، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى عدم كون فتنة، وشرك الجار والمجرور متعلق بـ {قاتلوا} و {وَيَكُونَ الدِّينُ}: فعل مضارع ناقص واسمه معطوف على تكون {كُلُّهُ} تأكيد للدين {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر {يَكُونَ}: {فَإِنِ} {الفاء} فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر: تقديره: إذا عرفتم ما أمرتكم به من قتالهم، وأردتم بيان حكم ما إذا انتهوا أو تولوا فأقول لكم: {إن انتهوا} {إن}: حرف شرط {انْتَهَوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّ اللَّهَ} {الفاء} رابطة لجواب الشرط وجوبا {إن}: حرف نصب ولفظ الجلالة اسمها {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ} الآتي {يَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما يعملونه {بَصِيرٌ}: خبر {إن} وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}. {وَإِنْ} الواو: عاطفة {إِنْ} حرف شرط {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل في محل الجزم، بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَاعْلَمُوا} {الفاء}: رابطة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة طلبية {اعلموا}: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه جوابا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى {أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} ناصب واسمه وخبره، وجملة {أنْ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: فاعلموا، وأيقنوا كون الله تعالى مولاكم، وناصركم {نِعْمَ الْمَوْلى}: فعل وفاعل وهو من أفعال المدح، والمخصوص بالمدح، محذوف وجوبا تقديره: هو، وهو في محل رفع على الابتداء، وجملة {نِعْمَ} في محل الرفع خبر له، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: فعل وفاعل والجملة في محل الرفع، خبر للمخصوص بالمدح المحذوف وجوبا المرفوع على كونه مبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {نِعْمَ الْمَوْلى} على كونها إنشائية لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {لِيُثْبِتُوكَ}؛ أي: ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة؛ لأن كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة، وهذا إشارة لرأي أبي البختري، بفتح الباء وسكون الخاء المعجمة، وقوله: {أَوْ يَقْتُلُوكَ}؛ أي: كلهم قتلة رجل واحد، وهذا إشارة لرأي أبي جهل، الذي صوبه صديقه إبليس لعنهما الله تعالى، وقوله: {أَوْ يُخْرِجُوكَ}؛ أي: من مكة منفيا، وهذا إشارة لرأي هشام بن عمرو اه من «شرح المواهب اللدنية». {وَيَمْكُرُونَ} بك؛ أي: ويحتالون ويتدبرون في أمرك وشأنك، والمكر (¬1) هو: التدبير الخفي، لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، وإذا نسب إلى الله .. كان من المشاكلة في الكلام بتسمية خيبة المسعى في مكرهم، أو مجازاتهم عليه باسمه. ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} إن قلت: كيف (¬1) قال: والله خير الماكرين؟ ولا خير في مكرهم؟ قلت: يحتمل أن يكون المراد: والله أقوى الماكرين، فوضع خير موضع أقوى، وفيه التنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن مكرهم فيه خير بزعمهم، فقال تعالى: في مقابلته؛ {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} وقيل: ليس المراد التفضيل بل إن فعل الله خير مطلقا اه. «خازن». {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} والأساطير جمع أسطورة، كأراجيح جمع أرجوحة، وأحاديث جمع أحدوثة، وهي الأقاصيص والأخبار التي سطرت وكتبت في الكتب السالفة، بدون تمحيص ولا تثبت في صحتها، وفي «القاموس»: الأساطير الأحاديث لا نظام لها، واحدها: إسطار وإسطير، وأسطور وبالهاء في الكل، وأصل السطر الصف من الشيء، كالكتاب والشجر اه. {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً} و {المكاء} (¬2) مصدر مكا يمكو مكوا من باب عدا و {مُكاءً} أيضا إذا صفر، أي شبك أصابع إحدى كفيه بأصابع الأخرى، ويضمها وينفخ فيها، فيظهر من ذلك صوت، والمكاء بالضم كالبكاء والصراخ. وهمزة (¬3) {المكاء} مبدلة من واو؛ لقولهم مكا يمكو كغزا يغزو، {والتصدية} فيها قولان: أحدهما: أنه من الصدى: وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة، يقال: منه: صدى يصدى تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق، والضرب بإحدى الكفين على الأخرى، وفي التفاسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي ويتلو القرآن صفقوا بأيديهم، وصفروا بأفواههم، ليشغلوا عنه من يسمعه ويخلو عليه قراءته، وهذا مناسب لقوله: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}، وقيل: مأخوذ من التصدد والضجيج ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات. (¬3) العكبري.

والصياح والتصفيق، فأبدلت إحدى الدالين ياء تخفيفا، ويدل عليه قراءة {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} بالكسر؛ أي يضجون ويلغطون. والثاني: أنها من الصدّ وهو المنع، والأصل تصددة بدالين أيضا فأبدلت ثانيتهما ياء، ويؤيد هذا قراءة {يَصُدُّونَ} بالضم؛ أي: يمنعون. {تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}؛ أي: ندامة يقال: حسر يحسر كطرب يطرب بمعنى ندم ندامة، ويقال: حسر كمه عن ذراعه، من باب ضرب يضرب، ويقال: حسر بصره إذا كل، وتعب من باب جلس فالأول والأخير لازمان، والأوسط متعد، هذا ما في «المختار»، وفي «المصباح»: حسر عن ذراعه حسرا من بابي ضرب وقتل، وحسرت المرأة ذراعها وخمارها، من باب ضرب كشفته فهي حاسر بغيرها، وحسر البصر حسورا من باب: قعد كل لطول المدى، وحسرت على الشيء حسرا من باب تعب، والحسرة اسم منه اه. {يُحْشَرُونَ} من بابي ضرب ونصر، كما في «المصباح» {فَيَرْكُمَهُ} يقال: ركمه إذا جمعه، وضم بعضه إلى بعض، وفي «المختار» ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، وبابه: نصر، وارتكم الشيء وتراكم اجتمع، والركام الرمل المتراكم، والسحاب، ونحوه اه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}، وفي قوله: {وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}، وفي قوله: {يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} {فَسَيُنْفِقُونَها}، وفي قوله: {نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}. ومنها: الطباق في قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. ومنها: الجناس المغاير بين {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} {والْماكِرِينَ} وبين {يعذبهم} {ومُعَذِّبَهُمْ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} لأن المكر

حقيقة في الاحتيال في إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي، والمراد بمكر الله: رد مكرهم بطريق لا يعرفون، فإذا يقال في تقرير الاستعارة: شبه المكر بمعنى رد الحيلة بالمكر بمعنى الاحتيال في ترتب أثره عليه، فاستعير اسم المشبه به الذي هو المكر بمعنى الحيلة للمشبه الذي هو المكر بمعنى ردها فاشتق من المكر بمعنى الرد، يمكر بمعنى يرد، على طريقه الاستعارة التصريحية التبعية. ويصح أن يكون مجازا مرسلا إذا قلنا: المراد بمكر الله مجازاتهم على مكرهم بجنسه، من إطلاق اسم السبب على المسبب، والعلاقة السببية، والمشاكلة تزيده حسنا على حسن. وتصح الاستعارة في هذا المعنى أيضا بأن يقال: شبه المكر بمعنى المجازاة بالمكر بمعنى الاحتيال، بجامع إيصال الضرر في كل، فاستعير اسم المشبه به الذي هو المكر بمعنى الاحتيال للمشبه الذي هو المكر بمعنى المجازاة، فاشتق من المكر بمعنى المجازاة، يمكر بمعنى يجازي، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ويصح أن يكون استعارة تمثيلية بتشبيه حالة تقليل المسلمين في أعينهم الحامل لهم على هلاكهم، بمعاملة الماكر المحتال بإظهار خلاف ما يبطن. ويصح أن يكون مشاكلة صرفة، فالوجوه أربعة اه «شهاب» بتصرف وزيادة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} لأن الإمطار حقيقة في إنزال الغيث، ويصح أن يكون مجازا مرسلا علاقته المشابهة في الصب بكثرة. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}. ومنها: القصر في قوله: {إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}، وفي قوله: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً}. ومنها: الحصر في قوله: {إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}. ومنها: المقابلة في قوله: {إِنْ يَنْتَهُوا}، وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا}، وفي قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا}، وقوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا}.

ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونسأل الله الإعانة، وكمال التيسير، والتوفيق لنا لأصوب التفسير، وأن يكرمنا بإكماله كما وفقنا بابتدائه بمنه وكرمه وجوده وإفضاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين آمين (¬1). ¬

_ (¬1) قال المؤلف: وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد العاشر من الشرح على الجزء التاسع من القرآن منتصف ليلة الجمعة، الليلة السابعة من شهر الله المبارك رجب الفرد، من شهور السنة العاشرة بعد الألف وأربع مئة 7/ 7/ 1410 هـ من هجرة من أرسله الله تعالى ليكون للعالمين نذيرا، سيدنا ومولانا محمد من جعله الله لدينه سراجا منيرا، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. تم تصحيح هذه النسخة في الليلة السادسة والعشرين، أوائلها من شوال بيد مؤلفه في تاريخ 26/ 10/ 1411 هـ فلله سبحانه الحمد والشكر على هذا التوفيق، ونسأله تعالى الإخلاص في جميع الأعمال، ليكون موجبا لنا الخلاص من عهدتها في يوم العرض والقصاص.

شعر مُرَادِيَ لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ فَجُدْ بِهِ ... وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيْلِ عِنْدَكَ بَادِيْ تَعَؤَدْتُ مِنْكَ الْجُوْدَ وَالْفَضْلَ في الَّذِيْ ... أُوَمِّلُ مِنْ خَيْرٍ فَعَجِّلْ جَوَابِي لَدَيْكَ جَمِيْعُ اَلْخَيْرِ فَاسْمَحْ بِنَيْلِهِ ... لِعَبْدٍ يُنَاجِي يَا سَمِيْعَ نِدَائِي

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على كماله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وجميع صحبه وحزبه. أما بعد: فإني لمَّا فرغتُ من تفسير الجزء التاسع من القرآن .. قصدت البداية في تفسير الجزء العاشر منه، وبالله أعتضد، ومن فيضه أستمد , وأقول وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}.

المناسبة قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا (¬1) أمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعًا لأخذ الغنائم منهم .. ناسب أن يذكر ما يرضيه سبحانه وتعالى في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أنّ هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أنّ ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها. وقال أبو حيان (¬2): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا أمر بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة .. اقتضى ذلك وقائع وحروبًا، فذكر بعض أحكام الغنائم، وكان في ذلك تبشيرٌ للمؤمنين بغلبتهم للكفار وقسم ما يحصل منهم من الغنائم. انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى (¬3) لما ذكر نعمه على رسوله، وعلى المؤمنين يوم بدر .. أردف ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوِّهم: 1 - الثبات وتوطين النفس على اللِّقاء، مع عدم التواني والتكاسل. 2 - ذكر الله كثيرًا، وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم؛ تنبيهًا على أنَّ الإنسان يجب أن لا يخلو قلبه من ذكره في أشد الأوقات حرجًا، وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدولة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) لباب النقول.

قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات، ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع .. قفى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير، من البطر والكبرياء، والصد عن سبيل الله تعالى. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر .. خرجوا بالقيان - جمع قينة: المرأة المغنية - والدفوف فأنزل الله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} الآية. قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ..} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسندٍ ضعيف عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} .. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، أيُّ جمع؟ وذلك قبل بدر، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريشٌ .. نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم مصلتًا بالسيف يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} فكانت ليوم بدر، فأنزل فيهم {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} الآية، وأنزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}، ورماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوسعتهم الرمية، وملأت أعينهم وأفواهم، حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذي عينه وفاه، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، وأنزل في إبليس: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}، وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر: غَرَّ هؤلاء دينهم، فأنزل الله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[41]

التفسير وأوجه القراءة 41 - {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: أنَّ كلَّ ما غنمتموه من الأموال، وأخذتموه من الكفار المحاربين قهرًا، حالة كونه كائنًا من شيء، أي: قليلًا كان أو كثيرًا، حقيرًا كان أو جليلًا، ولكن خصَّص الإجماع من عموم الشيء الأسارى؛ فإن الخيرة فيهم إلى الإِمام بلا خلاف، وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإِمام {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}؛ أي: فإن خمس ما غنمتموه لله؛ أي: مفوض أمره إلى الله تعالى، يصرف في المواضع التي أمر الصرف إليها، وهي الخمسة المذكورة بعد لفظ الجلالة، والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم والتبرك؛ لأن الدنيا والآخرة كليهما لله تعالى؛ كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، وأنَّ المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين عليه، وأما أربعة أخماسها الباقية .. فللغانمين، للفارس منهم ثلاثة أسهم، وللراجل سهمٌ. والمعنى: واعلموا أيها المؤمنون أن ما غنمتموه من الكفار المحاربين قهرًا، حالة كونه من شيء يتمول، ولو قليلًا .. فأربعة أخماسه حقٌّ لكم، وأن خمسه الباقي مصروفٌ لمن جعله الله مستحقًا له، وهم المذكورون بقوله: {وَلِلرَّسُولِ ...} إلخ؛ أي: يصرف خمس ذلك الخمس؛ أي: يخمس ذلك الخمس، فيصرف خمسه للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته، يصنع فيه ما شاء، أما (¬1) بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: يصرف خمس الخمس الذي كان له إِلى مصالح المسلمين العامَّة، من سد الثغور، وشراء السلاح، وبناء المساجد والمدارس والقناطر، وطريق الدعوة إلى الله تعالى، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك: الرأي فيه إلى الإِمام. وقال أبو حنيفة: سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته - صلى الله عليه وسلم -، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية اهـ. "بيضاوي". وخرج بقولنا: قهرًا .. ما أخذ منهم من غير قتال، فهو فيء، كالجزية، وعشر التجارة، وتركة المرتد والكافر المعصوم الذي لا وارث له، وحكمه معلوم ¬

_ (¬1) البيضاوي.

من كتب الفروع. وظاهر الآية: أن خمس الغنيمة يقسم ستة أقسام، وبه قال أبو العالية وطائفة. ومعنى الآية على هذا القول، أي: واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين ... فاجعلوا أولًا خمسه لله تعالى، ينفق فيما يرضيه تعالى من مصالح الدين العامة؛ كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره، وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول من كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوي القربى الخ. {وَلِذِي الْقُرْبَى}؛ أي: ويصرف خمسٌ لأصحاب قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أهله وعشيرته - نسبًا وولاءً - المسلمين، وقد خصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - هاشم وبني أخيه المطلب، دون بني عبد شمس ونوفل، سواءٌ فيه أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، روى البخاري عن مطعم بن جبير - من بني نوفل - قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما بنوا المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحدٌ" وسر هذا: أنَّ قريشًا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب لحمايتهم له - صلى الله عليه وسلم - .. دخل معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس، ولا بنو نوفل، مع ما كان من عداوة بني أمية بن عبد شمس لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام، فقد ظلَّ أبو سفيان يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤلِّبُ عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله؛ ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإِسلام خرج معاوية على علي وقاتله. {و} خمس يصرف إلى {اليتامى} الفقراء من سائر المسلمين، غير يتامى بني هاشم وبني المطلب، وهم: أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم {و} خمسٌ يصرف لـ {المساكين}؛ أي: ذوي الحاجة من المسلمين، من غير بني هاشم وبني المطلب {و} خمس يصرف لـ {ابن السبيل}؛ أي: المنقطع في سفره - المحتاج، ولا معصية بسفره - من المسلمين. والحكمة في تقسيم الخمس على هذا النحو: أن الدولة التي تدير سياسة

الأمة لا بدَّ لها من المال؛ لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين، والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله في هذه الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلًا لشرفه وكرامته، وهو سهم ذوي القربى، ثم ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة، وهم الباقون. ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولًا به في كثير من الدول مع اختلاف شؤون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل في موازين الوزارات المختلفة، ما بين جهرية وسرية، ولا سيما الأمور الحربية، وكذلك راتب بمثل الدولة من ملك، أو رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌّ بشخصه، ومنه لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة: ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما. وكذلك اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، لا تجعل لهم الدول في هذا العصر حقًّا في أموال الدولة، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالًا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين في وقت الحاجة فحسب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام؛ أي: إنه ذكر على سبيل التبرك، وانما أضافه سبحانه إلى نفسه؛ لأنه هو الحاكم فيه، فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أنَّ لله سهمًا مفردًا؛ لأن ما في السموات والأرض .. فهو لله، وبهذا قال الحسن، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم النخعي، فقالوا: سهم الله وسهم رسوله واحدٌ، وذكر الله للتعظيم، وهذا هو القول الذي عليه الجمهور، وهو الراجح كما مرَّ، وكأنَّ التركيب حينئذٍ: واعلموا أنَّ ما غنمتم من شيء فأن لله وللرسول خمسًا واحدًا من أخماس خمسه، ولذي القربى خمسًا واحدًا منها ولليتامى خمسًا واحدًا منها وللمساكين خمسًا واحدًا منها، ولابن السبيل خمسًا واحدًا منها.

فصل واختلف العلماء (¬1): هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمَّى واحد أم يختلفان في التسمية؟. فقال عطاء بن السائب: الغنيمة: ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوةً، وأما الأرض فهي فيءٌ. وقال سفيان الثوري: الغنيمة: ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوةً بقتال، وفيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة، والفيء: ما صولحوا عليه بغير قتال، وليس فيه خمس، فهو لمن سمَّى الله. وقيل: الغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار عنوةً عن قهر وغلبة، والفيء: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ؛ كالعشور، والجزية، وأموال الصلح، والمهادنة، وقيل: إن الفيء والغنيمة معناهما واحدٌ، وهما اسمان لشيء واحد. والصحيح: أنهما يختلفان، فالفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والغنيمة: ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه أو ركاب. فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الغنيمة، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}، يعني: من أي شيء كان، حتى الخيط والمخيط، فإنَّ لله وللرسول خمسه، وقد ذكر أكثر المفسرين والفقهاء أن قوله: {لله} افتتاح كلام على سبيل التبرك، وإنّما أضافه لنفسه تعالى لأنّه هو الحاكم فيه، فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أنَّ سهمًا منه لله مفردًا؛ لأنَّ الدنيا والآخرة كلها لله تعالى كما مرَّ. وروى الجعفي عن هارون عن أبي عمرو (¬2): {فإنّ لله} بكسر الهمزة، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، ويقوِّي هذه القراءة قراءة النخعي: {فلِلَّهِ خُمُسُه}. وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو: {خُمْسَه} ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

بسكون الميم، وقرأ النخعي: {خِمْسَه} بكسر الخاء على الإتباع، يعني: إتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها، كقراءة من قرأ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} بكسر الحاء إتباعًا لحركة التاء، ولم يعتد بالساكن؛ لأنّه حاجز غير حصين. وقوله سبحانه وتعالى: {إن كنتم} أيها المؤمنون {ءَامَنتُم بالله} وصدّقتم وحدانيته، شرطٌ جوابه محذوف، وقوله: {وما أنزلنا} معطوف على الجلالة؛ أي: وآمنتم بالمنزل {عَلَى عَبْدِنَا} محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه إضافة تشريف وتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي أنزله على عبده محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ...} الآية، وقيل: المراد ما أنزله عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ، قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} متعلقٌ بـ {أنزلنا} والمراد بيوم الفرقان: يوم بدر، سمي به؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرَّق فيه بين الحق بنصره والباطل بخذلانه؛ لأنه حكم فيه بالنصرة والغنيمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والقتل والهزيمة لأبي جهل وأصحابه. وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} بدل من يوم الفرقان؛ أي: يوم التقى وتقاتل فيه والتحم جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر، وهو (¬1) أول مشهد شهده رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رئيس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة، أو لسبع عشرة خلت من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، والمشركون ما بين الألف والتسع مئة، فهَزم المشركين، وقَتل منهم زيادةً على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك. والمعنى: إن كنتم أيها المؤمنون أمنتم باللهِ، وبما أنزل على عبده محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر، الذي هو يومٌ فرَّق الله فيه بين الحق والباطل، ويوم التقى واقتتل فيه جمع المسلمين وجمع الكافرين؛ أي: إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان وقبول .. فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروفٌ إلى هذه المصارف الخمسة، واقطعوا أطماعكم عنه، واقنعوا بالأخماس الأربعة. {والله} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، لا ¬

_ (¬1) الخازن.

[42]

يعجزه شيء، ومن قدرته: أن نصركم على قلتكم، وجوعكم، وضعفكم، وبلوغ عدوكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيَّد رسوله وأنجز وعده له. وقرأ زيد بن عليّ (¬1): {عَلَى عُبُدِنَا} بضمتين، كقراءة من قرأ: {وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ} بضمتين، و {عَبْدنا} على قراءة الجمهور هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما مرَّ بيانه، و {عُبُدِنا} على هذه القراءة هو الرسول ومن معه من المؤمنين. 42 - و {إذ} في قوله: {إذ أَنتُم}: بدل من يوم الفرقان؛ أي: إن كنتم آمنتم بما أنزلنا على عبدنا ذلك اليوم، في الوقت الذي أنتم كائنون مستقرون {بالعدوة الدنيا}؛ أي: بالجانب القريب إلى المدينة من ذلك الوادي، يعني: وادي بدر {وَهُم}؛ أي: أعداؤكم المشركون نازلون {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}؛ أي: بالجانب البعيد من المدينة من ذلك الوادي. والعدوة - مثلثة العين - جانب الوادي. والدنيا: - مؤنث الأدنى - وهو الأقرب. والقصوى: - مؤنث الأقصى - وهو الأبعد، كما سيأتي في مبحث التصريف. والمعنى (¬2): إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم، في الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا في غيره، والأعداء في الجانب الأبعد عنها، ولا ماء فيه، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام، ويجوز أن يكون العامل في {إذ} محذوفًا، تقديره: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم، إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وهم - أي المشركون - نازلون بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}؛ أي: والحال أن العير التي خرج المسلمون للقائها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه قادمًا بها من الشام بطعام .. كائنون ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بمكانٍ أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر. {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أنتم وأهل مكة على القتال {اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}؛ أي: لخالف بعضكم بعضًا في الميعاد؛ هيبةً منهم؛ لكثرتهم وقلتكم؛ أي: ولو أعلم كل منكم الآخر بالخروج للقتال .. لاختلفتم في الميعاد؛ أي: لتخلفتم عن الميعاد؛ أي: المواعدة؛ أي: التواعد، بمعنى: أنكم لم توفوا بما أعلمتم به، بل تتخلفون عن الخروج. والمعنى (¬1): أي ولو تواعدتم أنتم وهم على القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم .. لاختلفتم في الميعاد؛ كراهةً للحرب لقلَّتكم، وعدم إعداد العُدَّة لها، وانحصار همكم في العير، ويأسًا من الظفر بها, ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال؛ لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يأمنون نصر الله له؛ لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارًا وعنادًا، لا اعتقادًا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في (¬2): {العِدْوة} في الموضعين، وباقي السبعة بالضم. وقرأ الحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح، وأنكر أبو عمرو الضم، وقال الأخفش: لم يسمع من العرب إلا الكسر. وقال أبو عبيد: الضم أكثرهما. وقال اليزيدي: الكسر لغة الحجاز. انتهى. وقرىء: {بالعِدْية} بقلب الواو ياء؛ لكسرة العين، ولم يعتدوا بالساكن؛ لأنه حاجز غير حصين. وقرأ زيد بن علي: {القصيا} وقد ذكرنا أنه القياس، وذلك لغة تميم. وقرأ زيد بن علي: {أسفل} بالرفع، اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازًا. فائدة لطيفة: قال الزمخشري: فإن قلتَ (¬3): ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الكشاف.

قلتُ: الفائدة فيه: الإخبار عن الحالة الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعًا من الله تعالى، ودليلٌ على أنَّ ذلك أمر لم يتيسَّر إلا بحوله سبحانه وتعالى وقُوَّته، وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضًا لا بأس بها, ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي غبار تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، وكانت الحماة دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم؛ ليبعثهم الذب عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالإنحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر. انتهى، وهو كلام حسن. {وَلَكِنْ} جمع الله تعالى بينكم وبينهم على هذه الحال بغير ميعاد؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}؛ أي: ليمضي الله سبحانه وتعالى ويوجد أمرًا وشأنًا كان مفعولًا في سابق علمه، وهو النصرة والغنيمة للنبيِّ وأصحابه، والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه، ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزةً دالةً على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أي (¬1): ولكن تلاقيتم واقتتلتم على غير موعد ولا رغبةٍ في القتال؛ ليقضي الله سبحانه ويظهر لكم أمرًا وشيئًا كان وسبق في علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفضي إلى خزيهم، ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله، ولو كره المشركون، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها, ولم يكن في ظن ¬

_ (¬1) المراغي.

الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة. واللام في {لِيَقْضِيَ} متعلقة بمحذوف، كما قدَّرنا آنفًا بقولنا: ولكن جمعهم ليقضي. وجملة قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}: بدلٌ من الجملة التي قبلها، أعني: ليقضي؛ أي: جمع الله بينكم؛ ليموت من مات عن بينةٍ رآها، وعبرةٍ عاينها، وحجةٍ قامت عليه، ويعيش من عاش عن بينة رآها، وعبرة شاهدها، وحجة عليه؛ لئلا يكون له حجةٌ ومعذرةٌ. وقيل: الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام؛ أي: ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح وبينة، لا عن مخالجة شبهةٍ، وقال قتادة: ليضل من ضلَّ عن بينة، ويهتدي من اهتدى على بينة، وفي "الفتوحات": {لِيَهْلِكَ} (¬1)؛ أي: يدوم على الهلاك؛ أي: الكفر {وَيَحْيَى}؛ أي: يدوم على الحياة، أي: الإيمان. انتهى. والخلاصة: فعل ذلك بكم؛ ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجةٍ بينةٍ، واضحةٍ، مشاهدةٍ بالبصر على حقية الإِسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفي الشبهة، ولا يكون هناك مجالٌ للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها، فيزداد يقينًا بالإيمان، ونشاطًا في الأعمال. وقرأ الأعمش، وعصمة عن أبي بكر عن عاصم (¬2): {لِيَهْلِك} بفتح اللام. وقرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزيّ وأبو بكر: {مَنْ حَيّ} بيائين على الأصل. وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف، والفك والإدغام لغتان مشهورتان. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَسَمِيعٌ} بكفر الكافرين، وإيمان المؤمنين {عَلِيمٌ} بكفرهم وإيمانهم، لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[43]

الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، ويعلم ما يكنُّه من ذلك ومن غيره، ويجازي كلًّا بحسب ما يسمع ويعلم. والخلاصة: (¬1) أنَّ غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم - كما بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم - كما أنذرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا مجال في ذلك للمكابرة والتأويل. وختم بهاتين الصفتين؛ لأنَّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق باللسان، والاعتقاد بالجَنَانِ، فهو سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم. 43 - {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: واذكر يا محمَّد نعمة الله عليك؛ إذ يريك المشركين {فِي مَنَامِكَ}؛ أي: في نومك قبل يوم بدر {قَلِيلًا} عددهم مع كثرتهم، وقال أبو حيان: والمراد بالقلة هنا قلة القدر واليأس والنجدة، وأنهم مهزومون مصروعون، ولا يحمل على قلة العدد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رؤياه حق، وقد كان علم أنهم ما بين تسع مئة إلى ألف، فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد. انتهى. قال مجاهد (¬2): أراهم الله في منامه قليلًا، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، وكان ذلك تثبيتًا. وقال محمَّد بن إسحاق: فكان ما أراه الله من ذلك نعمةً من نعمه عليهم، يشجعهم بها على عدوهم، فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم. وقيل: لما أُري النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارَ قريش في منامه قليلًا، فأخبر بذلك أصحابه .. قالوا: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، فصار ذلك سببًا لجرائتهم على عدوهم، وقوةً لقلوبهم. وقال الحسن: إن هذه الإراءة كانت في اليقظة، والمراد من المنام: العين؛ لأنها موضع النوم. قال الزجاج: هذا مذهب حسن، ولكن الأول أسوغ في العربية؛ لقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ ...} إلخ، فدل بهذا على أنَّ هذه رؤية الالتقاءة واليقظة، وأن تلك رؤية النوم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وقيل: الظرف في {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}: متعلق بـ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} المذكورين قبله، والمعنى (¬1): حينئذٍ: إنَّ الله سبحانه وتعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلًا في الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوي آمالهم بالنصر.، فيجترئون عليهم. {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ}؛ أي: ولو أراك يا محمَّد المشركين في منامك {كَثِيرًا} عددهم، وذكرت ذلك لأصحابك .. {لَفَشِلْتُمْ}، أي: لجبنتم، ولتأخرتم عن حربهم وقتالهم؛ أي: لو أراكهم كثيرًا .. لذكرته لأصحابك، ولو سمعوا ذلك .. لجبنوا {وَلَتَنَازَعْتُم} معطوف على ما قبله عطف سبب على مسبب، وسيذكر مقدمًا في قوله الآتي: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}؛ أي: ولاختلفتم في أمر القتال، ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات. وانظر إلى محاسن القرآن، فإنه لم يسند الفشل إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه معصوم، بل قال: {لَفَشِلْتُمْ} إشارةً إلى أصحابه؛ أي: (¬2) ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا .. لفشل أصحابك وخافوا، ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال؛ إذ منهم القوي الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبط عن القتال، بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدم في قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}. وعبارة "الخازن" هنا قوله: {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} يعني: اختلفتم في أمر الإقدام عليهم، أو الإحجام عنهم، وقيل: معنى التنازع في الأمر: الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجاذبة كل واحد إلى ناحية، والمعنى: لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم. انتهت. {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَلَّمَ}؛ أي: سلمكم، وحفظكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم، وقيل: معناه: ولكن الله تعالى سلمكم وعصمكم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[44]

من الفشل والتنازع، وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان والهزيمة {إنه} سبحانه وتعالى {عَلِيم بذَات اَلصدُورِ}؛ أي: بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن، ولذلك دبر ما دبر. والمعنى: أنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فيحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث في النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضي إلى ما يريده منها. 44 - والخطاب في قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ} .. للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين جميعًا، وأرى: بصرية يقظانية، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا يا معشر المؤمنين نعمة الله تعالى عليكم؛ إذ يبصركم الكفار وقت التقائكم وتقابلكم في المعركة {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا}؛ أي: أراكم إياهم حالة كونهم قليلًا في أعينكم ونظركم، حتى قال قائلٌ من المسلمين لآخر: أتراهم سبعين؟ قال: هم نحو المئة، وهم في نفس الأمر ألفٌ، تصديقًا لرؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم. {وَيُقَلِّلُكُمْ} أيها المؤمنون {فِي أَعْيُنِهِمْ}؛ أي: في أعين الكفار ونظرهم؛ أي: يريهم إياكم قليلًا في أعينهم ونظرهم، حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمَّد آكلة جزور؛ أي: قليلٌ، يشبعهم. جزور واحدٌ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، وقلل الله المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر، فيصير ذلك سببًا لانكسارهم، ولأنهم إذا رأوهم قليلًا أقدموا على القتال غير خائفين، فلما التحم القتال .. أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار، وكانوا ألفًا، فرأوا المسلمين قدر ألفين؛ ليهابوا، وتضعف قلوبهم وشوكتهم، ويتمكن المسلمون منهم، وتكون الدائرة عليهم. واللام في قوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} متعلقةٌ بمحذوف، تقديره: فعل بكم وبهم ذلك التقليل؛ ليظهر الله سبحانه وتعالى أمرًا كان مقضيًّا في سابق علمه، من إعلاء كلمة الإِسلام، ونصر أهله، وإذلال كلمة الشرك، وخذلان أهله.

والخلاصة (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى فعل ذلك؛ ليقدم كل منكم ومنهم على قتال الآخر، فهذا واثق بنفسه مدل ببأسه , وهذا متكل على ربه واثق بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم وثبطهم؛ ليقضي بنصركم عليهم أمرًا كان في علمه مفعولًا، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ومن ثم هيَّأ الأسباب وقدرها تقديرًا. - فإن قلت (¬2) قد قال في الآية المتقدمة: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} وقال في هذه الآية: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، فما فائدة هذا التكرار؟ قلتُ: المقصود من ذكره في الآية المتقدمة؛ ليحصل استيلاء المسلمين على المشركين على وجه القهر والغلبة؛ ليكون ذلك معجزةً دالة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود من ذكره في هذه الآية: أنَّ الله سبحانه وتعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضًا؛ للحكمة التي قضاها، فلذلك قال: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}. {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا إلى غيره {تُرْجَعُ} بالبناء للمفعول؛ أي: ترد {الْأُمُورُ} كلها، يفعل فيها ما يريد، ويقضي في شأنها ما يشاء، ولا تجري على ما يظنه العبيد. وقرىء بالبناء للفاعل، أي: تفسير وترجع وتعود إلى الله تعالى في الآخرة، فيجازي كل عامل على قدر عمله، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يغفر. فائدة: فإن قيل (¬3): ما فائدة تكرار الرؤية ها هنا، وقد ذكرت في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}؟ قلتُ: يجاب عنه بجوابين: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) زاد المسير.

[45]

أحدهما: أنَّ الأولى كانت في المنام، والثانية في اليقظة، فلا تكرار. والثاني: أنَّ الأولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، والثانية له ولأصحابه. فإن قيل: تكثير المؤمنين في أعين الكافرين أولى من تقليلهم لمكان إعزازهم؟ قلتُ: يجاب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنهم لو كثروا في أعينهم .. لم يقدموا عليهم، فلم يكن قتال. والقتال سبب النصر، فقللهم لذلك. والثاني: أنه قللهم؛ لئلا يتأهب المشركون كل التأهب؛ فإذا تحقق القتال .. وجدهم المسلمون غير مستعدين، فظفروا بهم. والثالث: أنه قللهم؛ ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم فيغلبهم المسلمون، فيكون ذلك آيةً للمشركين، ومنبِّهًا على نصرة الحق. 45 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ، وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}؛ أي: إذا قابلتم جماعة كافرة وحاربتموها. وترك (¬1) وصفها؛ لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء اسم غالب للقتال {فَاثْبُتُوا} لقتالهم وجدوا في المحاربة، ولا تنهزموا إذا لم يزيدوا على الضعف، بأن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله، ولا يحدثوها بالتولي {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى بالقلب واللسان في أثناء القتال ذكرا {كَثِيرًا} ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير. والمعنى (¬2): كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكرًا كثيرًا بقلوبكم وألسنتكم. أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال، وذلك عند لقاء العدو وقتاله. وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله تعالى، وقيل: المراد من هذا الذكر: هو الدعاء على العدوِّ، وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، فأمر الله سبحانه ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن.

وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء. والخلاصة: أنكم إذا لقيتم (¬1) أعداءكم الكفار .. فاثبتوا لهم، ولا تفروا أمامهم؛ فإن الثبات قوة معنوية طالما كان هو السبب في النصر والغلب بين الأفراد والجيوش. انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان، فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعًا، ولكن قد يخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة، فيكون له الفَلْجُ والفوز على خصمه، وهكذا في الحروب، فإن من أهم أسباب النصر فيها: الثبات وعدم اليأس، بل الثبات نافع في كل أعمال البشر، فهو الوسيلة في الفوز والنجاح فيها. وأكثروا من ذكر الله تعالى في أثناء القتال بقلوبكم: بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين، ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده، يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم: بالتكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وبالدعاء على الأعداء بنحو قولكم: اللهم أخذلهم واقطع دابرهم واجعل الدائرة عليهم، والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شيء. وفي ذلك إيماءٌ إلى أنه يجب على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله تعالى، أكثر ما يكون همَّا وأشغل ما يكون قلبًا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، وإن كانت متوزعة عن غيره. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تظفروا بمرادكم من النصرة والمثوبة؛ فإن الثبات وذكر الله تعالى هما وسيلتان من وسائل الفوز في القتال في الدنيا، وفي نيل الثواب في الآخرة. فإن قلت (¬2): ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال، وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[46]

قلتُ: المراد من الثبات هو: الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة، وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة، بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز. 46 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح في القتال وفي غيره، {و} أطيعوا {رسوله} - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فهو المبين لكلام ربه، والمنفذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم في القتال، فطاعته هي جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهو المشاور لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور. {وَلَا تَنَازَعُوا}؛ أي: ولا تختلفوا في أمر القتال كما فعلتم في أحد {فَتَفْشَلُوا}؛ أي: فتجبنوا عن القتال؛ فإن التنازع والاختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ أي: شدتكم وقوتكم ودولتكم. وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة عن عاصم: {ويذهب} بالياء ونصب الباء، وقرأ الحسن وإبراهيم: {فَتَفْشَلُوا} بكسر الشين. قال أبو حاتم: وهذا غير معروف. وقال غيره: هي لغة؛ أي: لا يكن منكم تنازعٌ واختلافٌ؛ فإن ذلك مدعاةٌ للفشل والخيبة وذهاب القوة فيتغلب عليكم العدو. وأصل الريح (¬1): الهواء المتحرك، ثم استعيرت للقوة والغلبة؛ لأنه لا يوجد في الأجسام ما هو أقوى منها، فهي تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال: هبت رياح فلان: إذا جرى أمره على ما يريد، كما يقال: ركدت رياحه: إذا ضعف أمره. ومن استعارة (¬2) الريح للدولة والقوة قول الشاعر: إِذَا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاَغتَنِمهَا ... فَإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُوْنَا وقال شاعر الأنصار: قَدْ عَوَّدَتْهُم صَبَاهُم أنْ يَكُونَ لَهُم ... رِيْحُ اَلْقِتَالِ وَأسْلاَبُ اَلَّذِيْنَ لَقُوْا وقيل: المراد بالريح: ريح الصبا؛ لأن بها كان ينصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يدل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[47]

عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور" وعن النعمان بن مقرِّن قال: (شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا لم يقاتل من أول النهار .. أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر) أخرجه أبو داود. ثم أمرهم الله سبحانه وتعالى بالصبر على شدائد الحرب، وأخبرهم بأن الله مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، فقال: {وَاصْبِرُوا} عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنهم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصر والمعونة، وعن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس .. قام فيهم، فقال: "أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وأسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم مُنْزِلَ الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا" متفق عليه. والمعنى: واصبروا على الشدائد، وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده، وكثرة عدده، فالله مع الصابرين، يمدهم بمعونته وتأييده، ومن كان الله معينًا له .. فلا يغلبه غالبٌ، ويا حبَّذا هذه المعية، التي لا يغلب من رزقها غالبٌ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرةً. 47 - ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، وهم قريش، فقال: {وَلَا تَكُونُوا} في الاستكبار والفخر {كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} مكة، لحماية العير، حالة كونهم {بَطَرًا}؛ أي: بطرين، فرحين مرحين، أشد البطر والفرح، أو خرجوا لأجل البطر والفرح، والبطر: شدة الفرح، أو الطغيان، أو كفران النعم، (و) حالة كونهم {رِئَاءَ النَّاسِ}؛ أي: مرائين الناس، أو لأجل الرياء، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة .. أتاهم رسول أبي سفيان، وقال: ارجعوا إلى مكة؛ فقد سلمت عيركم، فأبوا إلا إظهار الجلادة والقوة

والشجاعة، وأيضًا لما وردوا الجحفة .. بعث الخفاف الكناني إلى أبي جهل - وهو صديق له - بهدايا مع ابن له، فلما أتاه .. قال: إنَّ أبي يقول: إن شئت أن أمدك بالرجال .. أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي .. فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك: جزاك الله خيرًا، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ... فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس .. فوالله إن بنا على الناس لقوةً، والله ما نرجع عن قتال محمَّد حتى نرد بدرًا، فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، وننحر الجزور في بدر، فيثني الناس علينا بالشجاعة والسماحة، وقد بدَّلهَم الله شرب الخمر بشرب كأس الموت، وبدل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدل نحر الجزور بنحر رقابهم, حيث قتل منهم سبعون، وأسر سبعون. واعلم: أن النِّعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد، فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى .. فذاك هو الشكر، وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان .. فذاك هو البطر. والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، مع إبطان القبيح. والفرق بين الرياء والنفاق: أن النفاق: إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء: إظهار الطاعة مع إبطان المعصية. والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتثلوا ما أمرتم به، وتنتهوا عمَّا نهيتهم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوةٍ ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة. وظاهر النظم الكريم أن قوله: {بَطَرًا} متعلق بخرجوا، وهو لا يوافق الواقع؛ لأن خروجهم كان لغرضٍ مهم، وهو المنع عن عيرهم، والحق: أن يكون علة لمعلول محذوف، تقديره: خرجوا من ديارهم ليمنعوا عيرهم، ولم يرجعوا بعد نجاتها بطرًا، فهو علة لهذا المقدر، وهو قولنا: لم يرجعوا، وعلة الخروج: منعهم عن عيرهم كما قدرنا، كما ذكره في "الفتوحات".

[48]

وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله، بمعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، معطوفٌ على {بَطَرًا} على كلا التأويلين. والمعنى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرين مرائين، صادين عن سبيل الله، أو خرجوا للبطر والرياء والصد عن سبيل الله تعالى. والصد: إضلال الناس، والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون {وَيَصُدُّونَ} معطوفًا على {خَرَجُوا} والمعنى: يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد عن سبيل الله. وإنّما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم، والصد بصيغة الفعل؛ لأنَّ أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء، وأما صدهم عن سبيل الله .. فإنّما حصل في الزمان الذي ادَّعى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوة. {والله} سبحانه وتعالى: {بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} بعلمه؛ أي: عالم بما جاؤوا لأجله؛ أي: إنَّه تعالى عالم بجميع الأشياء، ظواهرها وبواطنها, لا يخفى عن علمه شيءٌ؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلِّها، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين. 48 - وفي هذا زجر شديد، وتهديد أكيد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازي عليها أشد الجزاء {و} اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم {وَإِذْ زَيَّنَ} وحسن {لَهُمُ}؛ أي: لهؤلاء المشركين {الشَّيْطَانُ}؛ أي: إبليس بوسوسته {أَعْمَالَهُمْ} الخبيثة، في معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وخروجهم من مكة، فإن المشركين حين أرادوا السير والخروج إلى بدر .. خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنهم كانوا قتلوا منهم رجلًا واحدًا قبل ذلك، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتصوَّر لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم - وهو من بني بكر بن كنانة، وكان من أشرافهم - في جندٍ من الشياطين، ومعه رايةٌ. {وَقَالَ} إبليس للمشركين: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}؛ أي: لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ أي: وقال لهم بما ألقاه في قلوبهم، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون قربات، حتى قالوا: اللهم انصر إحدى الفئتين، وأفضل الدينين.

{و} قال لهم: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُم}؛ أي: حافظكم من مضرتهم وناصركم عليهم، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} والتقى الجمعان - جمع المسلمين وجمع الكافرين - بحيث ترى كل فئة الأخرى، أي: فلمَّا قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر، وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن تصطلي نار القتال معه، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء .. {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}؛ أي: رجع إبليس إلى خلفه هاربا: أي: رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، وهي الجهة التي فيها: العقبان، والمراد: أنَّه كفَّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم، وكان إبليس في صف المشركين، وهو آخذٌ بيد الحارث بن هشام {و} قال له الحارث: إلى أين تترك نصرتنا يا سراقة في هذه الحالة، أما تزعم أنك جار لنا، وجعل الحارث يمسكه. {قال} إبليس: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ}؛ أي: إني بريء من جواركم وحفظكم ونصركم والذب عنكم، {إِنِّي أَرَى}؛ أي: لأني أبصر {مَا لَا تَرَوْنَ}؛ أي: ما لا تبصرون من نزول الملائكة مع جبريل، وإني أرى جبريل بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي يده اللجام يقود الفرس، ولم تروه، ودفع إبليس في صدر الحارث وانطلق وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} أن يهلكني بتسليط الملائكة عليَّ، وانهزم المشركون. فلمَّا قدموا مكة .. قالوا: هزم الناسَ سراقةُ، فبلغ ذلك سراقة، فقال: بلغني أنكم تقولون: إني هزمت الناس، فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا: أما أتيتنا في يوم كذا وكذا، فحلف لهم، فلما أسلوا .. علموا أنَّ ذلك كان شيطانًا. وقيل: لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء .. خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال؛ إشفاقًا على نفسه {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عاداه وعادى أولياءه، قاله الشيطان بسطًا لعذره حينئذٍ، فهو تعليل لما قبله؛ أي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}؛ لأنه شديد العقاب، أو مستأنف من محض كلامه تعالى؛ تهديدًا لإبليس وجنده. وقال قتادة (¬1): قال إبليس: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}، وصدق. وقال: {إنِّي أَخَافُ اللَّهَ} وكذب، ما به مخافة الله. ولكن إنه لا قوة له ولا منعة، فأوردهم ¬

_ (¬1) الخازن.

[49]

وأسلمهم، وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه، إذا التقى الحق والباطل ... أسلمهم وتبرأ منهم. وقيل: إنه خاف أن يهلك فيمن هلك، وقيل: خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله، فلا يطيعوه. وقيل: معنى {إنِّي أَخَافُ اللَّهَ}: أعلم صدق وعده لأولياه؛ لأنه كان على ثقة من أمر ربه. فإن قلت (¬1): كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر، وإذا تشكل بصورة البشر .. فكيف يسمى شيطانًا؟ قلت: إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أعطاه قوةً وأقدره على ذلك، كما أعطى الملائكة قوة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر، لكن النفس الباطنة لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة. والخلاصة (¬2): أنّ جند الشيطان كانوا منبثين في المشركين، يوسوسون لهم - بملابستهم لأرواحهم الخبيثة - بما يغويهم ويغوهم، كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم - بملابستهم لأرواحهم الطيبة - ما يثبتون به قلوبهم، ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما .. فر الشيطان بجنوده من بين المشركين؛ لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان، ولو اجتمعا .. لقضى أقواهما، وهم الملائكة على أضعفهما، وهم الشياطين). فخوف الشيطان من الملائكة إنَّما كان من إحراق الملائكة لجنوده، لا على المشركين، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق متلاشٍ أمامه لا يبقى منه شيء. 49 - والظرف في قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}: متعلق بـ {زين} أو باذكر محذوفًا؛ أي: واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن في حكمهم من مرضى القلوب، أو: واذكروا إذ يقول المنافقون وهم قومٌ من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

الأوس والخزرج {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}؛ أي: شك وارتياب في الدين، وهم قوم من قريش، أسلموا ولم يقول إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا، منهم: عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس الفاكه، والحارث بن زمعة، وعديُّ بن أمية، والعاص بن منبه، فلما خرج كفار قريش إلى حرب رسول - صلى الله عليه وسلم - .. خرجوا معهم إلى بدر، فلمَّا نظروا إلى قلة المسلمين .. ارتابوا وارتدوا، وقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ} المؤمنين {دِينُهُمْ}؛ أي: توحيدهم، حين أقدموا على ما أقدموا عليه من الخروج لحرب قريش مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، توهمًا منهم أنهم ينصرون عليهم؛ أي: اغتروا بدينهم، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به، حيث خرجو وهم ثلاث مئة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ظنًّا منهم أنهم على الحق، ينصرون ولا يغلبون، فأولئك المرضى الذين خرجوا مع قريش كلهم قتلوا في بدر مع المشركين، ولم يذكر أن أحدًا من المنافقين خرج إلى بدر مع المسلمين. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسانه .. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى حافظه وناصره؛ لأنه {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب لا يغلبه شيء، فيسلط القليل الضعيف على الكثير القوي {حَكِيمٌ} فيما قضى وحكم، لا يسوي بين أوليائه وأعدائه، فيوصل الثواب إلى أوليائه، والعقاب إلى أعدائه. وهذا الكلام يتضمَّن الرد على من قال (¬1): {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} فكأنه قيل: هؤلاء في لقاء عدوهم هم متوكلون على الله، فهم الغالبون ومن يتوكل على الله .. ينصره ويعزه؛ فإن الله عزيز لا يغالب بقوة ولا بكثرة، حكيمٌ يضع الأشياء مواضعها، أو حاكم بنصره من يتوكل عليه، فيديل القليل على الكثير. والمعنى (¬2): أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء أراده .. يكفه ما يهمه وينصره ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم؛ لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه بمقتضى سننه في نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل. الإعراب {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. {وَاعْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّمَا}: أن حرف نصب ومصدر، ما: موصولة في محل النصب اسمها، وكان القياس فصلها من أنَّ، لكن ثبت وصلها في خط المصحف العثماني، وثبت فصلها أيضًا في بعضها، كما ذكره الجزري. {غَنِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: أن ما غنمتموه. {مِنْ شَيْءٍ}: جار ومجرور حال من العائد المحذوف، تقديره: حال كونه كائنًا من شيء ما قليلًا كان أو كثيرًا. {فَأَنّ} {الفاء} رابطة الخبر بالاسم؛ لما في اسم أنَّ من العموم {أن} حرف نصب ومصدر. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر {أنَّ} مقدم على اسمها. {خُمُسَهُ}: اسمها مؤخر ومضاف إليه، تقديره: فإن خمسه كائنٌ لله، وجملة أن اسمها وخبرها في محل الرفع خبرٌ {أنَّ} الأولى: ولكنّه خبر سببيٌّ، تقديره: واعلموا أن الذي غنتموه من شيء فكائنٌ خمسه لله وللرسول، وجملة {أنَّ} الأولى في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي علم، تقديره: واعلموا كون خمس الذي غنتموه من شيء لله، {وَلِلرَّسُولِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لله} {وَلِذِي الْقُرْبَى} معطوف على الجار والمجرور قبله، {وَالْيَتَامَى}: معطوف على ذي القربى، وكذا {وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} معطوفان عليه. {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {إن} حرف شرط {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِن}

على كونه فعل شرط لها. {آمَنْتُمْ} فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} متعلق به، الجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، تقديره: إنْ كنتم مؤمنين، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مؤمنين بالله .. فاعلموا ذلك، وجملة {إنْ} الشرطية مستأنفة {وَمَا} في محل الجر معطوف علي لفظ الجلالة {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: وبما أنزلناه {عَلَى عَبْدِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأنزلنا. {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بأنزلنا. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، بدل من يوم الفرقان. {الْتَقَى الْجَمْعَان} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقدير. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {إذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان بدل من يوم الفرقان {أَنْتُمْ} مبتدأ، {بِالْعُدْوَةِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والباء بمعنى في، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {الدنيا}: صفة للْعُدْوَةِ. {وهم} مبتدأ {بِالْعُدْوَةِ}: خبره، والجملة في محل الجر معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مضافًا إليه لـ {إِذْ}. {الْقُصْوَى}: صفة لـ {الْعُدْوَةِ}. {وَالرَّكْبُ} مبتدأ. {أَسْفَلَ}: منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لأسفل، والجملة من المبتدأ، والخبر في محل النصب، حال من الظرف الذي قبله، وهو قوله: {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}، والتقدير: إذ أنتم كائنون بالعدوة الدنيا، وهم كائنون بالعدوة القصوى، حالة كون الركب كائنين في مكان أسفل منكم، ويجوز أن تكون جملة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} في محل الجر معطوف على أنتم؛ أي: وإذ الركب أسفل منكم، ذكره أبو البقاء. وفي "الفتوحات": وإيضاح ما في المقام أن {وَالرَّكْبُ}: مبتدأ و {أسْفَلَ} أفعل تفضيل، استعمل بمعنى صفة لمكان محذوف أقيم مقامه، فهو مع متعلقه خبرٌ،

والجملة حال من الظرف الذي قبله، يعني: بـ {بِالْعُدْوَةِ}. اهـ كرخي. وفي السمين: قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} الأحسن في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على هم أن تكون عاطفةٌ ما بعدها على: {أَنْتُمْ}؛ لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم، ويجوز أن تكونا واوي حالٍ، و {أسْفَل} منصوب على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقه صفةٌ لظرف مكان محذوف؛ أي: والركب في مكان أسفل من مكانكم اهـ. {وَلَو} {الواو} استئنافية، {لو} حرف شرط {تَوَاعَدْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَو} لا محل لها من الإعراب. {لَاخْتَلَفْتُمْ} {اللام} رابطة لجواب {لو} الشرطية، {لَاخْتَلَفْتُمْ}: فعل وفاعل. {فِي الْمِيعَادِ}: متعلق به، والجملة جواب لو الشرطية، وجملة لو الشرطية مستأنفة. {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة {وَلَكِن} حرف استدراك {لِيَقْضِيَ} {اللام} حرف جر وتعليل، {يقضي}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {اللَّهُ} فاعل. {أمْرًا} مفعول به، وجملة {كَانَ مَفْعُولًا}: صفة لأمرًا، وجملة يقضي مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقضاء الله أمرًا كان مفعولًا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: ولكن جمع الله بينكم؛ لقضائه وإمضائه أمرًا كان مقضيًّا في سابق علمه، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة لو الشرطية. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {لِيَهْلِكَ} {اللام} لام كي. {يهلك}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. {مَن} اسم موصول في محل الرفع فاعل. {هَلَكَ}: فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على من. {عَنْ بَيِّنَةٍ} متعلق بيهلك، والجملة صلة {من} الموصولة، وجملة {يهلك} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لهلاك من هلك عن بينة، الجار والمجرور معطوف بعاطف مقدر على الجار والمجرور قبله، على كونه متعلقًا بمحذوف، تقديره: ولكن جمع الله بينكم لقضائه أمرًا مفعولًا، ولهلاك من هلك عن بينة، وحياة من

حيَّ عن بينة، {وَيَحْيَى} فعل مضارع معطوف على يهلك {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل. {حَيّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة من الموصولة. {عَنْ بَيِّنَة} متعلق بيحيى، {وَإِنّ} {الواو} استئنافية {إن} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها {لَسَمِيعٌ}: {اللام} حرف ابتداء {سميع} خبر أول لإنَّ {عَلِيمٌ}: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة. {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمَّد إذ يريكهم الله، والجملة المحذوفة مستأنفة. {يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعولان وفاعل. {فِي مَنَامِكَ}: متعلق به {قَلِيلًا}: مفعول ثالث لأرى؛ لأن رأى الحلمية تنصب مفعولين بلا همزة، فإذا دخل عليها الهمز .. نصبت ثلاثة مفاعيل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه. {وَلَو} {الواو} استئنافية. {لو} حرف شرط {أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا}: فعل وثلاثة مفاعيل، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو}. {لَفَشِلْتُمْ} {اللام} رابطة الجواب {لَفَشِلْتُمْ} فعل وفاعله، والجملة جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة، {وَلَتَنَازَعْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على فشلتم، واللام فيه لام الربط مؤكدة للأولى {فِي الْأَمْرِ}: متعلق به {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} {الواو} عاطفة {لكن} حرف استدراك ونصب، ولفظ الجلالة: اسمها {سَلَّمَ} فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على الله ومفعوله محذوف، تقديره: سلَّمكم الله من الفشل والتنازع، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لَكِنَّ}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لو} الشرطية على كونها مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {عَلِيمٌ}: خبره {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: متعلق بعليم، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. {وَإِذ} {الواو} عاطفة {إذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف،

تقديره: واذكروا أيها المؤمنون إذ يريكموهم، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}. {يُرِيكُمُوهُمْ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ {إِذِ}: ظرف لما مضى، متعلق بيريكموهم، وجملة {الْتَقَيْتُمْ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذِ}، {فِي أَعْيُنِكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {قَلِيلًا}. {قَلِيلًا} حال من المفعول الثاني الذي هو الهاء، ورأى هنا بصرية تنصب مفعولًا واحدًا بلا همز، واثنين مع الهمز كما هنا. {وَيُقَلِّلُكُمْ}: فعل ومفعول، و {الواو} فيه واو الحال. {فِي أَعْيُنِهِمْ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من فاعل يريكموهم {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا}: فعل وفاعل ومفعول، واللام فيه لام كي، وجملة {كَانَ مَفْعُولًا} صفة لـ {أَمْرًا}، وجملة {يقضي} في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: لقضاء الله أمرًا كان مفعولًا، الجار والمجرور متعلق بيريكموهم، أو متعلق بمحذوف، تقديره فعل الله بكم وبهم ذلك التقليل؛ ليقضي أمرًا كان مفعولًا، وكرَّر هذا التعليل؛ لاختلاف الفعل المعلَّل به، أولًا: اجتماعهم بغير ميعاد، وثانيًا: تقليل المؤمنين قبل الالتحام، ثم تكثيرهم في أعين الكفار، كما مر في مبحث التفسير. {وَإِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بترجع {تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {يَا أَيُّهَا} {يَا} حرف نداء {أيُّ} منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه {الَّذِينَ} صفة لأيُّ، وجملة النداء مستأنفة، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {لَقِيتُمْ فِئَةً} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {فَاثْبُتُوا} {الفاء} رابطة لجواب إذا {اثبتوا} فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، وجملة إذا جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {فَاثْبُتُوا}. {كَثِيرًا}:

منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: ذكرًا كثيرًا {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {تُفْلِحُونَ} في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة معطوفة على جملة إذا على كونها جواب النداء، {وَلَا تَنَازَعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة {وَأَطِيعُوا}. {فَتَفْشَلُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فعل وفاعل معطوف على {تفشلوا} وجملة تفشلوا صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن تنازعكم ففشلكم وذهاب ريحكم. {وَاصْبِرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {وَأَطِيعُوا} .. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {مَعَ الصَّابِرِينَ}: خبره، وجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}. {وَلَا تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه، مجزوم بلا الناهية. {كَالَّذِينَ}: خبر تكونوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَنَازَعُوا}، {خَرَجُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مِنْ دِيَارِهِمْ}: متعلق به {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}: منصوبان على الحال من فاعل {خَرَجُوا}؛ أي: بطرين ومرائين، أو على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: لأجل البطر والرياء، {وَيَصُدُّونَ}: فعل وفاعل {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على {بَطَرًا وَرِئَاءَ} على كونها حالًا من فاعل {خَرَجُوا} أي: حالة كونهم بطرين ومرائين وصادين عن سبيل الله، أو معطوفة على جملة {خَرَجُوا} على كونها صلة

الموصول. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بمحيط، وجملة {يَعْمَلُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما يعملونه. {مُحِيطٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}. {وَإِذْ} {الواو} استئنافية، أو عاطفة، {وَإِذ}: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا إذْ زَيَّن لهم الشيطان، والجملة المحذوفة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} {زَيَّنَ} فعل ماض {لَهُمُ} متعلق به. {الشَّيْطَانُ} فاعل. {أَعْمَالَهُمْ} مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {وَقَالَ}: فعل ماض معطوف على {زَيَّنَ}، وفاعله ضمير يعود على الشيطان. {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ} مقول محكي لـ {قال} وإن شئت قلت: {لَا}: نافية، {غَالِبَ} في محل النصب اسمها، {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر {لا}. {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بالخبر، {مِنَ النَّاسِ} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر {لا} وجملة {لا} في محل النصب مقول قال. {وَإِنِّي}: ناصب واسمه، {جَارٌ} خبره. {لَكُمْ} متعلق به؛ لأنَّه بمعنى مجير، وجملة إنَّ في محل النصب معطوفة على جملة {لا} على كونها مقول قال. {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. {فَلَمَّا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرف ما قال لهم الشيطان، وأردت بيان عاقبة أمره معهم .. فأقول لك {لمّا} حرف شرط غير جازم. {تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لمَّا} لا محل لها من الإعراب. {نَكَصَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة جواب لمَّا، لا محل لها من الإعراب، وجملة لمَّا

في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {عَلَى عَقِبَيْهِ}: متعلق بـ {نَكَصَ}. {وَقَالَ}: فعل ماضي معطوف على: {نَكَصَ} وفاعله ضمير يعود على الشيطان {إِنِّي بَرِيءٌ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب واسمه، {بَرِيءٌ} خبره. {مِنْكُم} متعلق بـ {بَرِيءٌ} وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال: {إِنِّي} ناصب واسمه. {أَرَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، وجملة {أَرَى} في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {أرى}؛ لأنَّها بصرية تتعدى لمفعول واحد، {لَا}: نافية. {تَرَوْنَ} فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لما، أو صفةٌ لها والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا ترونه، ورأى بصرية أيضًا. {إِنِّي} ناصب واسمه، {أَخَافُ اللَّهَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال، {وَاللَّهُ} مبتدأ {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبره، والجملة مستأنفة، إنْ كان من كلام الله، أو في محل النصب مقول قال إنْ كان من تمام كلام الشيطان. {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمَّد إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة مستأنفة. {يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}: فعل وفاعل، {وَالَّذِينَ} معطوف على {الْمُنَافِقُونَ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم {مَرَضٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول يقول {وَمَنْ} {الواو} استئنافية، {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يتوكل} فعل الشرط، وفاعله ضمير يعود على {مَن} {عَلَى اللَّهِ} متعلق به، وجواب الشرط محذوف، تقديره: يغلب، وجملة من الشرطية مستأنفة. {فَإِنَّ}: {الفاء}

تعليلية {إنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها، {عَزِيزٌ}: خبر أول لها. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {إنّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بالجواب المحذوف، تقديره: ومن يتوكل على الله يغلب أعداءه؛ لكون الله عزيزًا حكيمًا. التصريف ومفردات اللغة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}: الغُنم (¬1) والمغنم والغنيمة لغةً: ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادي، وقولهم: الغرم بالغنم؛ أي: يقابل به. وشرعًا: ما حصل للمسلمين من الكفار الحربيين بإيجاف خيلٍ، أو ركاب. والفيء: كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك، بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار الإِسلام، وهو لكافة المسلمين، وليس فيه الخمس. والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. والسلب: ما احتوت عليه يد القتيل من ثياب وسلاح ومركوب يستحقه القاتل. {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} والعدوة (¬2) - بضم العين وكسرها - وقرىء بفتحها, لغات كلها بمعنى واحد، وهو: شط الوادي وشفيره، سميت بذلك؛ لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها؛ أي: منعته. وفي "المختار": العدوة - بضم العين وكسرها - جانب الوادي وحافته. وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع اهـ. وفي "البحر": العدوة: شط الوادي، وتسمَّى شفيرًا وضفة، سميت بذلك؛ لأنَّها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه؛ أي: منعته. وقال الشاعر: عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِهَا الْعَوَادِيْ ... وَقَالَتْ دُوْنهَا حَرْبٌ زَبُوْنُ ويسمى الفضاء المساير للوادي عدوةً؛ للمجاورة اهـ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

{الْقُصْوَى}: القصو (¬1): البعد، والقصوى: تأنيث الأقصى، ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامه واو، فقالوا: إن كان اسمًا .. أبدلت الواو ياءً، ثم يمثلون بما هو صفةٌ، نحو: الدنيا، والعليا، والقصيا، وإن كان صفة .. أقرت، نحو: الحلوى، تأنيث الأحلى، ولهذا قالوا: شذ القصوى - بالواو - وهي لغة الحجاز. والقصيا: لغة تميم، وذهب بعض النحويين إلى أنه إن كان اسمًا .. أقرت الواو، نحو: حزوى، وإن كان صفة .. أبدلت، نحو: الدنيا والعليا، وشذ إقرارها، نحو: الحلوى، ونص على ندور القصوى ابن السكيت. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} وفي "القاموس": والركب: ركبان الإبل، وهو اسم جمع لراكب، أو جمع له، وهو العشرة فصاعدًا، وقد يكون للخيل، والجمع أركب وركوب اهـ. {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وفي "المختار": والميعاد: المواعدة ووقتها ومكانها اهـ. ومثله في "القاموس". {من حي} (¬2) يقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل؛ لأن الحرفين متماثلان متحركان، فهو مثل شد ومد، ومنه قول عبيد: عَيُّوْا بِأمْرِهِمُ كَمَا ... عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ ويقرأ بالإظهار، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ الماضي حمل على المستقبل، وهو يحيا، فكما لم يدغم في المستقبل .. لم يدغم في الماضي، وليس كذلك شد ومد؛ فإنه يدغم فيهما جميعًا. والوجه الثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لججت عينه، وضبب البلد، إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أنَّ الحركة الثانية عارضة، فكانت الياء ساكنة، ولو سكنت .. لم يلزم الإدغام، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياءان أصلٌ، وليست الثانية بدلًا من واو، فأما الحيوان .. فالواو فيه بدلٌ من الياء، وأما الحواء ... فليس من لفظ الحية، بل من حوي يحوي إذا جمع، ذكره أبو البقاء. {لفَشِلتُم}؛ أي: لجبنتم، يقال: فشل يفشل فشلًا، كطرب يطرب طربًا، ¬

_ (¬1) البحر. (¬2) العكبري.

كذا في "المختار". {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}؛ أي: حاربتم جماعة، وفي "المصباح": الفئة: الجماعة، ولا واحد لها من لفظها، وتجمع على فئات، وقد تجمع بالواو والنون؛ جبرًا لما نقص منها اهـ. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}: في "القاموس" و "المختار": إن الريح يطلق ويراد به القوة والغلبة، والرحمة والنصرة والدولة - بفتح الدال -. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}: هم أهل مكة، حين خرجوا لحماية العير، والبطر (¬1): إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى، أو الرياسة، ويعرف ذلك في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ، وفي "الشهاب" و"زاده": البطر (¬2) والأشر - بفتحتين -: الطغيان في النعمة، بترك شكرها وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضاه الله تعالى، وقيل: معناهما: الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء والفخر بها اهـ. والرئاء: أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به، وفي "السمين": والرئاء: مصدر راءى، كقاتل قتالًا، والأصل: ريايًا، فالهمزة الأولى: بدل من ياء هي عين الكلمة، والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة؛ لأنها وقعت طرفًا بعد ألف زائدة، والمفاعلة في رئاءً على بابها. اهـ. منه في سورة البقرة. {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}؛ أي: مجير ومعين وناصر لكم، والألف في {جَارٌ} بدل (¬3) من واو، لقولك: جاورته. {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}؛ أي: قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها .. {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}؛ أي: رجع القهقرى، وتولى إلى الوراء. {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: والمنافق: من يظهر الإِسلام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشهاب وزاده. (¬3) العكبري.

ويسر الكفر، هم أهل المدينة من الأوس والخزرج؛ والذين في قلوبهم مرض: هم ضعاف الإيمان, ملأت قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينًا وسكن حينًا آخر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التنكير في قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} إفادة للتقليل. ومنها: الإضافة في قوله: {عَلَى عَبْدِنَا} إفادة للتشريف والتكريم. ومنها: الطباق بين لفظ الدنيا والقصوى، في قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}، وبين لفظ يهلك ويحيا، في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَاد}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} شبه الكفر بالهلاك بجامع الضرر، والإيمان بالحياة بجامع النفع، فاستعير اسم المشبه به - الذي هو الهلاك والحياة - للمشبه - الذي هو الكفر والإيمان - فاشتق من الهلاك بمعنى الكفر يهلك بمعنى يكفر، ومن الحياة بمعنى الإيمان يحيا بمعنى يؤمن، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ وفي قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} فالمضارع فيه بمعنى الماضي؛ لأن نزول الآية كان بعد الإراءة. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ لأنها كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، تقول العرب: هبت ريح فلان، إذا أقبل أمره على ما يريد، وفي "البيضاوي": والريح هنا مستعارٌ للدولة من حيث إنها - في تمشي أمرها ونفاذه - مشبهة بها في هبوبها ونفاذها اهـ. ومنها: التكرار في قوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، وفي قوله:

{إذْ يُرِيكَهُمُ} {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ}، ولكن التكرار هنا لفظيٌّ؛ لأن الإراءة الأولى حلمية، والثانية بصرية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات، لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) حال هؤلاء ¬

_ (¬1) المراغي.

الكفار - من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرًا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم .. أردف ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم، وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت. قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين حال مشركي قريش في قتالهم له - صلى الله عليه وسلم - ببدر .. قفى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتلوه، وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات في ستة وهط من اليهود، منهم: ابن تابوت. وقال مجاهد: نزلت في يهود المدينة، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم. قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بين فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم، قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه، وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء .. أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب، التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشري؛ إذ حصول الصراع بين الحق والباطل، والقوة والضعف أمرٌ لا مندوحة منه. وقال أبو حيان (¬2): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلةٍ ولا عدةٍ، وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين .. كان ذلك سببًا للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه، فأمره تعالى والمؤمنين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد. انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، وربما كان جنوحهم لها مظنة الخداع والمكر، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين، إذ سخرهم له، وألَّف بين قلوبهم باتباعه .. قفَّى على ذلك بوعده بكفايته، له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف بين قلوبهم في حال الحرب والسلم، وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب، أو نقض العهد أو خان في الصلح. أسباب النزول قوله تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: نزلت: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} في ستة وهي من اليهود، فيهم ابن التابوت. قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه أبو الشيخ أيضًا عن ابن شهاب قال: دخل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد، قد وضعت السلاح وما زلت في طلب القوم؟ فاخرج فإنَّ الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً ...} الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما رواه البزَّار بسند ضعيف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر .. قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}، وله شواهد: أخرج الطبراني وغيره من طريق سعيد بن ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[50]

جبير عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة وثلاثون رجلًا وامرأةٌ، ثم إن عمر أسلم فكانوا أربعين .. نزل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون رجلًا وست نسوة، ثم أسلم عمر .. نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لمَّا أسلم عمر ... أنزل الله في إسلامه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}. قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرةً .. ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين، فأنزل الله فيه {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلى آخر الآية. وأخرج البخاري (¬1) قال: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا جرير بن حازم قال: أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} .. شقَّ ذلك على المسلمين حين فرض أن لا يفرَّ واحدٌ من عشرة، فجاء التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. التفسير وأوجه القراءة 50 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: ولو رأيت يا محمَّد، أو أيها المخاطب، وعاينت وشاهدت إذ تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا عند الموت ويأخذونها، يعني: الذين قتلوا ببدر، أو مطلقًا حالة كون الملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}؛ أي: تضرب الملائكة وجوه الذين كفروا وظهورهم ¬

_ (¬1) البخاري.

بسياطٍ من نار {و} حالة كون الملائكة تقول لهم وقتئذٍ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: باشروا العذاب المحرق وادخلوه أيها الكفرة. وجواب لو محذوف، تقديره: لرأيت أمرًا عظيمًا، ومنظرًا فظيعًا، وعذابًا شديدًا ينالهم في ذلك الوقت. واختلفوا (¬1) في وقت هذا الضرب، فقيل: هو عند الموت، تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار، وقيل: إنَّ الذين قتلوا يوم بدر من المشركين كانت الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم. وقال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين .. ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف، وإذا ولَّوا أدبارهم .. ضربت الملائكة أدبارهم. وقال ابن جريج: يريد ما أقبل من أجسادهم وأدبر، يعني: يضربون جميع أجسامهم، وتقول الملائكة لهم عند القتل: ذوقوا عذاب الحريق، قيل: كان مع الملائكة مقامع من حديد محماة بالنار يضربون بها الكفار، فتلتهب النار في جراحاتهم. وقال ابن عباس: تقول الملائكة لهم ذلك بعد الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم الزبانية: ذوقوا عذاب الحريق. والمعنى (¬2): ولو عاينت وأبصرت يا محمَّد حال الكفار حين يتوفّاهم الملائكة، فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضاربين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون. وقرأ ابن عامر والأعرج (¬3): {تتوفى} بالتاء، وذكر في قراءة غيرهما؛ لأن تأنيث الملائكة مجاز، وحسنه الفصل. وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضي أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم؛ أي: لو رأيت ذلك .. لرأيت أمرًا عظيمًا هائلًا يرد الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره. وقد روي أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[51]

أقبل من المشركين من وجوههم، والملائكة يضربون من أدبارهم. 51 - {ذَلِكَ} الضرب والعذاب والقول حاصلٌ بكم أيها الكفار {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم}؛ أي: بسبب ما كسبته وعملته أيديكم وجوارحكم وقلوبكم من الكفر والمعاصي {و} الأمر والشأن {أَنَّ اللَّه} سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بمعذب لعبيده بغير جرم اجترموه، وذنب اكتسبوه، وصيغة {ظلام} ليست للمبالغة، وإنما هي للنسب، كتمَّار وبقَّال؛ أي: ليس منسوبًا إلى الظلم، فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى، ويحتمل كون {وَأَنَّ اللَّهَ} معطوفًا على {ما}؛ أي: ذلك العذاب بسبب ما كسبته أيديكم من المعاصي، وبسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يظلمكم؛ إذ أنتم مستحقون العذاب، فتعذيبكم عدلٌ منه؛ لأنه سبحانه قد أرسل إليكم رسله، وأنزل عليكم كتبه، وأوضح لكم السبيل، وهداكم النجدين، كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وحاصل المعنى: أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سيء الأعمال في حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والفعل، ونسب ذلك إلى الأيدي - وإن كان قد يقع من الأيدي والأرجل وسائر الحواس، أو بتدبير العقل - من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها، وبسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا من عبيده، فلا يعذب أحدًا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه، وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم، فلوموها ولا لوم إلا عليها. روى مسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ الله يقول: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا ... يا عبادي، إنَّما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". 52 - وقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل آل فرعون، خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كدأب آل فرعون؛ أي: فعلهم وعادتهم في الكفر والتكذيب والعذيب كعادة قوم فرعون وفعلهم، وفعل من قبلهم من الأمم الخالية في كفرهم وتعذيبهم، فجوزي

هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر، كما جوزي آل فرعون بالإغراق. وأصل الدأب في اللغة (¬1): إدامة العمل، يقال: فلان يدأب في كذا وكذا؛ أي: يداوم عليه، ويتعب نفسه فيه، ثم سميت العادة دأبا؛ لأنَّ الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها. قال ابن عباس: معناه: إن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام رسولٌ من الله تعالى فكذبوه، فكذلك هؤلاء لمَّا جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بالصدق .. كذبوه، فأنزل الله بهم عقوبته، كما أنزل بآل فرعون. وجملة قوله: {كفروا بآيات الله} مفسرةٌ لدأب آل فرعون؛ أي: دأبهم هذا هو أنَّهم كفروا بآيات الله؛ أي: أنكروا الدلائل الإلهية. والمعني (¬2): عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر، وفيما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم من الأمم الماضية، الذين من عادتهم أنهم كفروا بآيات الله الكونية، والمنزلة على رسله، وأنكروها. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: فأخذ الله سبحانه وتعالى تلك الأمم الماضية وأهلكها متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها؛ أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولم يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين بهم، وكما كانت سننه تعالى في أولئك الماضين أن أخذهم بذنوبهم .. فسنته في هؤلاء المشركين كذلك؛ فقد نصر رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في بدر، وأهلك هؤلاء المشركين بذنوبهم. وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} معترضة (¬3) مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى قويٌّ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شيءٍ أجلا. وروى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه .. لم يفلته". والإشارة بقوله: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[53]

53 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ...} إلخ، إلى العقاب الذي أنزله الله بهم، وهو مبتدأ، وخبره: ما بعده، والجملة جاريةٌ مجرى التعليل لما حلَّ بهم من عذاب الله، والمعنى: ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها؛ إذ بعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه .. كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم؛ أي: تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم حاصلٌ بسبب أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يكن مغيرًا ومبدِّلًا بنقمةٍ {نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ}؛ أي: لم يكن مبدلًا نعمة أنعم بها على قوم كائنًا من كان، كالعقل وإزالة الموانع؛ أي: لم يكن مبدِّلًا إياها بنقمةٍ {حَتَّى يُغَيِّرُوا}؛ أي: حتى يغيِّر ويبدِّل أولئك القوم {مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الأحوال؛ أي: ما لهم من الحال إلى حال أسوأ منه، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق والكفر .. فقد غيَّروا نعمة الله تعالى على أنفسهم، فاستحقوا تبديل النعم بالنقم، والمنح بالمحن، يعني: أنَّ (¬1) الله سبحانه وتعالى أنعم على أهل مكة بأن أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف، وبعث إليهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقابلوا هذه النعمة بأن تركوا شكرها، وكذبوا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وغيروا ما بأنفسهم، فسلبهم الله سبحانه وتعالى النعمة وأخذهم بالعقاب، قال السدي: نعمة الله: هو محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - أنعم به على قريش، فكفروا به وكذَّبوه، فنقله الله تعالى إلى الأنصار. وقولنا: إلى حال أسوأ منه: إشارةٌ (¬2) إلى دفع ما يقال من أن آل فرعون ومشركي مكة لم يكن لهم حالٌ مرضية حتى يقال أنهم غيَّروها إلى حال مسخوطة، فغير الله نعمته عنهم إلى النقمة، وتقرير الدفع: أنَّ قوله: {مَا بِأَنْفُسِهِمْ} يعم الحال المرضية والقبيحة، فكما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة .. كذلك تغير الحال المسخوطة إلى ما هو أسوأ منها، وأولئك كانوا قبل بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كفرةً عبدة أصنام، فلمَّا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآيات البينات .. كذبوه وعادوه وتحزبوا على إراقة دمه، فغير الله نعمة إمهالهم بمعاجلتهم بالعذاب، هذا حاصل ما في "الكشاف"، اهـ "زاده". ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) زاده.

[54]

وجملة قوله: {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} معطوفة على قوله: {بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً} داخلة معها في التعليل؛ أي: ذلك بسبب أنَّ الله لم يك مغيرًا ... إلخ، بسبب {أَنَّ الله} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} لما يقوله مكذبوا الرسل {عَلِيمٌ} بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون وما يعملون، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وقرىء (¬1) بكسر الهمزة على الاستئناف. وفي الآية (¬2) إيماءٌ إلى أنَّ نعم الله تعالى على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودوامًا بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون ثابتةً لهم متمكنةً منهم .. كانت تلك النعم ثابتةً لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال .. غيَّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم، فصار الغنيُّ فقيرًا، والعزيز ذليلًا، والقويُّ ضعيفًا. وليست (¬3) سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطةً بسعة الثروة، ولا كثرة العدد، كما كان يظن بعض المشركين، وحكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}. وكذلك لا يحابي الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوةٍ، أو بما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم، كما كان هو شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم إذا تبعوا سنتهم واغتروا بدينهم، وإن كانوا من أشد المخالفين له. 54 - {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} خبرٌ لمحذوف كما مرَّ نظيره، تقديره: دأب هؤلاء المشركين من أهل مكة في الكفر والتكذيب والتعذيب {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}؛ أي: كعادة قوم فرعون {و} عادة {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل قوم فرعون، من قوم نوح وهود ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

وصالح ولوط؛ أي: هؤلاء المشركون غيروا ما بأنفسهم تغييرًا كتغيير الأمم الماضية، فهم {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}؛ أي: كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى ربَّاهم وأنعم عليهم، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم، كما كذب أهل مكة ذلك {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}؛ أي: أهلكنا الذين من قبل قوم فرعون {بـ} سبب {ذنوبهم} ومعاصيهم من الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى، أهلكنا بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: قومه في البحر، بانطباقه عليهم بعدما خرج ونجا منه بنو إسرائيل مع موسى، فكذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف في بدر، حين غيَّروا ما بأنفسهم. {وَكُلٌّ}؛ أي: وكل من الأمم المكذبة، من الأولين والآخرين {كَانُوا ظَالِمِينَ} لأنفسهم بالكفر والمعصية، ولأنبيائهم بالتكذيب، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش، فالله تعالى إنَّما أهلكهم بسبب ظلمهم، اللهم أهلك الكفرة والمشركين، وطهِّر الأرض من الفجرة والفاسقين، فإنك أنت القهار الجبار، القادر المنتقم يا خير المنتقمين. فإن قلت (¬1): ما الفائدة في تكرير هذه الآيات مرة ثانية؟ قلتُ: فيها فوائد: منها: أنَّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول؛ لأنَّ الآية الأولى فيها ذكر أخذهم، وفي الآية الثانية ذكر إغراقهم، فهذه تفسير للأولى. الفائدة الثانية: أنَّه ذكر في الآية الأولى أنَّهم كفروا بآيات ربهم، وفي الآية الثانية أنَّهم كذَّبوا بآيات ربهم، ففي الآية الأولى إشارة إلى أنَّهم أنكروا آيات الله وجحدوها، وفي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها. الفائدة الثالثة: أنَّ تكرار هذه القصة للتأكيد. وفي قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} زيادة دلالةٍ على كفران النعم وجحود الحق، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ ¬

_ (¬1) الخازن.

[55]

بالذنوب اهـ. من "الخازن". وفي "الفتوحات": كرره؛ لأن الأول إخبارٌ عن عذاب لم يمكن الله أحدًا من فعله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم، والثاني إخبارٌ عن عذاب مكن الله الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق، وقيل: غير ذلك. انتهت. وعبارة المراغي هنا: ولا تكرار؛ لأنَّ الدَّأب (¬1) الأول في بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفي تعذيب الله إياهم في الآخرة، فهو دأبٌ وعادةٌ فيما يتعلَّق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفي الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتديء بالموت وينتهي بدخول النار. والدَّأبُ الثاني: في تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه، من حيث إنَّه هو المربي لهم، ويدخل في ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذاؤهم، وكفر النعم المتعلِّقة ببعثهم، وفي الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم في الدنيا. وخلاصة ذلك: أنَّ ما دوَّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض ومن عقاب الله إياها .. جارٍ على سننه تعالى المطردة في الأمم، لا بسلب نعمة منهم، ولا بإيقاع أذىً بهم، وإنَّما عقابه لهم أثرٌ طبيعيٌّ لكفرهم وظلمهم لأنفسهم، وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوي .. فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها، ثم فعلوا ذلك. 55 - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ}؛ أي: إنَّ أقبح ما يدب على الأرض وأخسه {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: في علمه وحكمه هم {الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: أصروا على الكفر ورسخوا فيهم {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يرجى منهم إيمان، 56 - وقوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} بدل (¬2) من {الَّذِينَ كَفَرُوا} بدل البعض؛ للبيان والتخصيص، قيل: {من} صلةٌ، يعني: الذين عاهدتهم على ترك الحرب لك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وعلى ترك المساعدة لمن يحاربك. وقيل: هي وللتبعيض؛ لأنَّ المعاهدة مع بعض القوم، وهم الرؤساء والأشراف {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ} من مرات المعاهدة {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} الله؛ أي: لا يخافون عقاب الله تعالى في نقض العهد، أو لا يخافون (¬1) سبة الغدر وما فيه من العار والنار؛ لأنَّ عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم .. أن يتقي نقض العهد، حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقون بكلامه، فبيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّ مَنْ جمع بين الكفر ونقض العهد .. فهو من شرِّ الدَّواب. وجعلهم شرَّ الدواب لا شرَّ الناس؛ إيماءً إلى انسلاخهم عن الإنسانية، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان؛ لعدم تعقلهم بما فيه رشادهم. والمعنى (¬2): إنَّ هؤلاء الكافرين الذين هم شر الدواب عند الله تعالى .. هم هؤلاء الذين عاهدت منهم؛ أي: أخذت منهم عهدهم على ترك محاربتك والمساعدة لمن يحاربك، ثم هم ينقضون عهدهم الذي عاهدتهم في كل مرة من مرات المعاهدة، والحال أنهم لا يتقون النقض، ولا يخافون عاقبته، ولا يتجنبون أسبابه. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬3): هم قريظة، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرةً ثانية فنقضوا العهد أيضًا، وساعدوا معهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة، فحالفهم على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحاصل معنى الآيتين: أنّ شرَّ ما يدبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان: - الإصرار على الكفر والرسوخ فيه، بحيث لا يرجى إيمان جملتهم، أو ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

[57]

إيمان جمهورهم؛ لأنَّهم إمَّا رؤساء حاسدون للرسول - صلى الله عليه وسلم - معاندون له، جاحدون بآياته المؤيِّدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} وإمَّا مقلدون جامدون على التقليد، لا ينظرون في الدلائل والآيات، وقد لقَّبهم الله سبحانه وتعالى بالدَّواب - وهو اللفظ الذي غلب استعماله في ذوات الأربع -؛ لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضلُّ من العجماوات؛ لأنَّ لها منافع، وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم، كما قال تعالى في أمثالهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}. 2 - نقض العهد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدًا أقرَّهم فيه على دينهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده، بما مرَّ آنفًا عن ابن عباس رضي الله عنه. 57 - وبعد أن بين سبحانه وتعالى أنه قد تكرر منهم نقض العهد .. أردف ذلك بذكر ما يجب أن يعاملوا به، فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ}؛ أي: فإن تجد يا محمَّد هؤلاء الناقضين لعهدهم معك {في الْحَرْبِ}؛ أي: في أثناء الحرب؛ أي: فإمَّا تصادفنهم وتظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم {فَشَرِّدْ بِهِمْ}؛ أي: ففرق وخوف بسبب تنكيلك بهم وعقوبتك لهم {مَنْ خَلْفَهُمْ}؛ أي: من ورائهم؛ أي: من سواهم من سائر الكفار الذين يريدون محاربتك، كأهل مكة. ومعنى (¬1) الآية: إنَّك يا محمَّد إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد .. فافعل بهم فعلًا من القتل والتنكيل تفرِّق بهم جمع كلِّ ناقضٍ للعهد، حتى يخافكم من وارءهم من أهل مكة واليمن {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل الذين خلفهم {يَذَّكَّرُونَ}؛ أي: يتعظون بما يقع لهؤلاء الناقضين من التعذيب؛ أي (¬2): إذا فعلت بقريظة العقوبة .. فرقت شمل قريش؛ إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم، وهم قريظة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفرِّقهم في ذلك الوقت تفريقًا عنيفًا موجبًا للاضطراب، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

والضميران في {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الظاهر عودهما على {مَنْ خَلْفَهُمْ}؛ أي: إذا رأوا ما حلَّ بالناقضين تذكروا اهـ. "سمين". وقرأ الأعمش بخلاف عنه (¬1): {فشرِّذ} - بالذال المعجمة - بدل الدال المهملة، وكذا في محصف عبد الله، قالوا: ولم نحفظ هذه المادة في لغة العرب، وقال الزمخشري: فشرِّذ - بالذال المعجمة - بمعنى ففرِّق، وقال قطرب: - بالذال المعجمة - التنكيل، - وبالمهملة - التفريق. وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف: {مِنْ خلِفهم} جارًا ومجرورًا، ومفعول {فشرِّد} محذوف؛ أي: ناسًا من خلفهم يعملون مثل عملهم، أو فشرد أمثالهم من الأعداء. والخلاصة (¬2): أنَّك تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم في الحرب .. فنكِّل بهم أشد التنكيل؛ حتى يكون ذلك سببًا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادة عن أمكنتها، وإنّما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه؛ لئلا ينخدع مرةً أخرى بكذبهم؛ لما جبل عليه من الرحمة، وحب السلم. واعتبار الحرب ضرورةً تترك إذا زال سببها كما قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنَّهم يرغبون في السلم، واعتذروا عن نقضهم العهد، وكانوا في ذلك مخادعين. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}؛ أي: لعل من خلفهم من الأعداء يذكرون النكال، فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال. روى البخاري ومسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال: "أيها الناس، لا تمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم .. فاصبروا، واعلموا أنَّ الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قال: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم". ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[58]

وفي ذلك إيماءٌ إلى شيئين: 1 - أنَّ الحرب ليست محبوبة عند الله، ولا عند رسوله، وإنما هي ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. 2 - أنَّ استعمال القوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من وراءهم .. أمر لا بد منه للعظة والاعتبار، حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم، ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار. 58 - وبعد أن ذكر حكم ناقض العهد حين سنوح الفرصة .. قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ}؛ أي: وإن توقعت يا محمَّد {مِنْ قَوْمٍ} معاهدين {خِيَانَةً} وغشًّا ونكثًا للعهد، بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تدل عليها {انْبِذْ إِلَيْهِمْ}، أي: فاطرح وارم إليهم عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} على جهرٍ، لا على سرٍّ؛ أي: فاقطع (¬1) عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها، بأن تنبذ إليهم عهدهم، وتنذرهم بأنك غير مقيد به، ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح، لا خداع فيه ولا استخفاء. والحكمة في هذا: أنَّ الإِسلام لا يبيح الخيانة مطلقًا. والمعنى (¬2): أعلمهم - قبل حربك إياهم - أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً، فلا يتوهَّمون أنك نقضت العهد أولًا بنصب الحرب معهم؛ أي: لا تحاربهم قبل إعلامهم بنقض العهد. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}؛ أي: الناقضين للعهود؛ أي: يعاقبهم، وهذه الجملة تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف. قال ابن عطية: والذي (¬3) يظهر من ألفاظ القرآن أنَّ أمر بني قريظة انتهى عند قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، ثم ابتدأ تبارك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[59]

وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانةً؛ أي: إنَّ الخيانة مبغوضةٌ بجميع ضروبها, ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرةً. روى البيهقي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ المسلم والكافر فيهن سواء: من عاهدته .. فوفِّ عهده مسلمًا كان أو كافرًا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم .. فصلها مسلمًا كان أو كافرًا، ومن ائتمنك على أمانةٍ .. فأدِّها إليه مسلمًا كان أو كافرًا". وعبارة "المراح" هنا قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}؛ أي (¬1) وإن تعلمنَّ يا محمَّد من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة .. فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستوٍ، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً، ولا تبادرهم بالحرب - وهم على توهم بقاء العهد - فيكون ذلك خيانة منك {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} في العهود. والحاصل: إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمرٍ مستفيض .. وجب على الإِمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب، ذلك كما في قريظة، فإنهم عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورًا مقطوعًا به .. فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد وإعلامهم بالحرب، بل يفعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وصل إليهم جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - بمرِّ الظهران، وذلك على أربع فراسخ من مكة. 59 - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} قرأ ابن عامر (¬2) وحفص عن عاصم - بالياء التحتية - أي: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهربهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقية، على مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أيّ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

[60]

مخاطب؛ أي: ولا تحسبن يا محمَّد الذين كفروا الذين خلصوا منك يوم بدر فائتين من عذابنا {إِنَّهُمْ} بهذا الفرار {لَا يُعْجِزُونَ} الله تعالى من الانتقام منهم، إمَّا بالقتل في الدنيا، وإمّا بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر {إِنَّهُمْ} - بفتح الهمزة - على التعليل 60 - {وَأعِدُّوا لَهُمْ}، أي: وهيئوا أيها المسلمون لحرب الكفار {مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقدرتم عليه وأمكن لكم {مِنْ قُوَّةٍ}، أي: من كل ما يتقوى به في الحرب، من كل ما هو آلة للجهاد، كالسيف والرماح والقوس. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}؛ أي: ومن الخيل المربوط المهيأ، المقتنى للجهاد عليه، سواء كان من الفحول، أو من الإناث. وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيار عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، حالة كونكم {تُرْهِبُونَ} وتخوفون {بِهِ}، أي: بذلك الإعداد، أو بما ذكر من القوة والخيل المربوط. وقرىء {تخزون} {عدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهم كفار مكة، وذكر أوَّلًا عدو الله؛ تعظيمًا لما هم عليه من الكفر، وتقوية لذمهم، وأنه يجب لأجل عدواتهم أن يقاتلوا ويبغضوا، ثم قال: {وَعَدُوَّكُمْ} على سبيل التحريض على قتالهم؛ إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه، وأن يبغي له الغوائل. ذكره أبو حيان في "البحر" {و} ترهبون به قومًا {وَآخَرِينَ} من أعدائكم {مِنْ دُونِهِمْ}؛ أي: من غير كفار مكة {لَا تَعْلَمُونَهُمُ}؛ أي: لا تعلمون أنتم أيها المؤمنون أولئك الآخرين، على ما هم عليه من العداوة لكم، أي: فإنَّ تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين تعلمون كونهم أعداءً لكم .. كذلك يرهب الأعداء الذين لا تعلمون أنهم أعداء، سواء كانوا مسلمين أو كفارًا. {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}؛ أي: الله سبحانه وتعالى لا غيره يعلم أولئك الآخرين؛ أي: كونهم أعداء لكم. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: من مال قل أو جلَّ من آلةٍ وسلاحٍ وصفراء وبيضاء {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعة الله في الجهاد، وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَف إِلَيكُمْ}؛ أي: يخلف لكم من العاجل، ويوفَّر لكم أجره في الآخرة، أي: يعطي لكم عليه أجرًا وافرًا كاملًا {وَأَنتُمْ تُظْلَمُون}؛ أي: لا تنقصون من أجوره شيئًا، ولو مثقال ذرة، بل يصير ذلك إليكم وافيًا وافرًا كاملًا {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}، {أني لا أضيع عمل عامل منكم}.

وقرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص (¬1): {يَحْسَبَنَّ} - بالياء التحتية - وقرأ الباقون: {تحسبن} - بالمثناة فوق - كما مرَّ آنفًا، فعلى القراءة الأولى: يكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأول محذوفًا؛ أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني: {سَبَقُوا}، ومعناه: فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم، وعلى القراءة الثانية: يكون الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومفعوله الأول {الَّذِينَ كَفَرُوا}، والثاني {سَبَقُوا}، وقرىء: {إنَّهم سبقوا} وقرىء: {يِحْسَبَنَّ} بكسر الياء. وقرأ الأعمش (¬2): {ولا يحسب} - بفتح الياء من تحت والسين، وحذف النون - وينبغي أن يخرَّج على حذف النون الخفيفة؛ لملاقاة الساكن، فيكون كقوله: لاَ تُهِينَ الْفَقِيْرَ عَلَّكَ أَنْ. . . تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وقرأ ابن عامر: {إِنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ} - بفتح الهمزة - والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة؛ لكون الجملة تعليلية. وقرأ ابن محيصن: {لَا يُعْجِزُونِي} - بكسر النون، وياء بعدها -. وقال الزجاج: الاختيار فتح النون، ويجوز كسرها على أنَّ المعنى: إنهم لا يعجزونني، وتحذف النون الأولى؛ لاجتماع النونين. وقرأ طلحة: بكسر النون من غير تشديد ولا ياءٍ. وعن ابن محيصن: تشديد النون وكسرها، أدغم نون الإعراب في نون الوقاية، وعنه أيضًا؛ بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون. قال النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنَّ معنى عجزه: ضعفه وضعف أمره، والآخر: أنَّه كان يجب أن يكون بنونين اهـ. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار: {وَمِنْ رُبُط الْخَيْلِ} - بضم الراء والباء - وعن أبي حيوة والحسن أيضًا. {رُبْط} - بضم الراء وسكون الباء - وذلك نحو كتاب وكتب وكتب. وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو: {تُرْهِبُونَ} مشددًا عدي بالتضعيف كما عدي بالهمزة، قال أبو حاتم: وزعم عمرو أنَّ الحسن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

قرأ {يرْهِبُونَ} بالياء من تحت وخففها، انتهى. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد: {تخزون به} مكان {تُرْهِبُونَ بِهِ}. وقرأ السلمي: {عَدُوًّا اللَّهِ} بالتنوين ولام الجر. قال صاحب "اللوامح": فقيل: أراد به اسم الجنس، ومعناه أعداءً لله. فصل واعلم: أنَّ الله (¬1) سبحانه وتعالى أمر المؤمنين في هذه الآية بالاستعداد للحرب التي لا بُدَّ منها؛ لدفع العدوان، وحفظ الأنفس والحق والفضيلة، ويكون ذلك الاستعداد بأمرين: 1 - إعداد المستطاع من القوة؛ ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات والرصاص، وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب. وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر وغيرها. روى مسلم عن عقبة بن عامر أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تلا هذه الآية يقول: "ألا إنَّ القوة الرمي" قالها ثلاثًا، وذلك أنَّ رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربةٍ، أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفةً في عصره - صلى الله عليه وسلم -. 2 - مرابطة الفرسان في ثغور البلاد وحدودها: إذ هي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد. ¬

_ (¬1) المراغي.

والحكمة في هذا: أن يكون للأمة جندٌ دائم مستعدٌّ للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرةٍ، وقوام ذلك الفرسان؛ لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها, ولا يزال للفرسان نصيب كبير في الحرب في هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية في الدول الحربية. ومعنى قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}؛ أي: أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة؛ لترهبوا عدو الله - الكافرين به وبما أنزله على رسوله - وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر؛ إذ لا شيء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات .. خافوهم. وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه: 1 - يجعل أعدائهم لا يعينون عدوًّا آخر عليهم. 2 - يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم. 3 - ربَّما حملهم ذلك على الدخول في الإِسلام والإيمان بالله ورسوله. وقوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}؛ أي: وترهبون به أناسًا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين العدواتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر، ممن لا تعلمون الآن عدواتهم، بل يعلمهم الله، وهو علام الغيوب. والخلاصة: أنّ تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين تعلمون أنهم أعداء لكم .. يرهب الأعداء الذين لا تعلمون أنهم أعداء لكم، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعًا، ويمنعهم من الإقدام على القتال. وهذا ما يسمى في العصر الحديث: السلام المسلح. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} قليلًا كان أو كثيرًا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تعالى {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}؛ أي: يعطكم الله عليه الجزاء

[61]

الوافي التام {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنه لا يحلقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوي المستعد لمقاومة المعتدي قلما يعتدي عليه أحد، وإن اعتدى عليه .. فقلَّ أن يظفر به. وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة في سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغب سبحانه عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفَّى إليهم، إمّا في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فحسب. 61 - ولمَّا كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب .. أكده بقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}؛ أي: وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم والصلح ولم يعتز بقوته .. {فَاجْنَحْ لَهَا}؛ أي: فمل إليها واقبلها منهم؛ لأنَّك أولى بالسلم منهم. وقرأ (¬1) أبو بكر عن عاصم والأعمش والمفضل وابن محيصن: {لِلسَّلْمِ} - بكسر السين - وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ الأشهب العقيليّ: {فَاجْنَحْ} - بضم النون - وقرأ الباقون بفتحها، والأولى لغة قيس، والثانية لغة تميم. قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤولَّة بالخصلة أو الفعلة. أي: وإن (¬2) مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد .. فاقبله منهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: وفوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله؛ ليكون عونًا لك على السلامة، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد، ولا تخف غدرهم ومكرهم {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع {الْعَلِيمُ} بما يفعلون وبنياتهم، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع - وإن خفي عليك - فيؤاخذهم بما يستحقونه، ويرد كيدهم في نحرهم. وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية منسوخة أو محكمة؟. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[62]

فقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. وقيل: ليست منسوخة؛ لأنَّ المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصةً بأهل الكتاب. وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح .. جاز أن يجابوا عليه. وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزةٍ وقوةٍ، لا إذا لم يكونوا كذلك .. فهو جائز، كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك. وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرَّر في مواطنه. انتهى من "الشوكاني". 62 - {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ}؛ أي: وإن يرد الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم ويفترصوا الفرص، كانتظار الغرة التي تمكِّنهم من أهل الحق أو الاستعداد للحرب .. {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}؛ أي: فاعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى كافيك من شرورهم وناصرك عليهم. {هُوَ} سبحانه وتعالى {الَّذِي أَيَّدَكَ} وقواك {بِنَصْرِهِ} في يوم بدر، وفي سائر أيامك {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} من المهاجرين والأنصار، وهذه الجملة معللة لما قبلها؛ أي: لا تخف من خداعهم ومكرهم؛ فإنَّ الله الذي قواك عليهم بالنصر في يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخداع والنكث. أي: إنَّ (¬1) من آثار عنايته تعالى بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمةً متحدةً متآلفةً متعاونةً على نصرك، وأن سخر لك ما وراء الأسباب من خوارق العادات، كالملائكة التي تثبت القلوب يوم بدر، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}؛ أي: وهو الذي ألف وجمع بين قلوب المؤمنين على الإيمان بك وبذل النفس والمال في مناصرتك بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروبٍ طويلة وضغائن موروثة، كما كان بين الأوس ¬

_ (¬1) المراغي.

[63]

والخزرج من الأنصار. 63 - وظاهر قوله (¬1): {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} العموم، وإنَّ ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيَّد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة، فألَّف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والحمل على العموم أولى؛ فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضًا، ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإِسلام فصاروا يدًا واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية. وجملة قوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ} - أي: لو بذلت يا محمَّد ما في الأرض من معادنها وزخارفها {جَمِيعًا} لتحصيل التأليف والجمع بينهم {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}؛ أي: ما قدرت على تحصيل التأليف والتوفيق بين قلوبهم، جملة مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: أنَّ ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض .. لم يتم له ما طلبه من التأليف؛ لأنَّ أمرهم في ذلك قد تفاقم جدًّا، أي (¬2): إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوة الإيمان التي هي أقوى من أخوة الأنساب والأوطان .. لما أمكنك أن تؤلِّف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة في الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنَّما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة، كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم وأشرافهم وعامتهم على ما كان بينهم من فوارق في الجاهلية وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العدوات والإحن .. لم يكن مما ينال بالمال والآمال في المغانم ونحوها، على أن شيئًا من ذلك لم يكن في يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول الإِسلام، وإن كان قد صار في يده شيء كثير منه في المدينة بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[64]

وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل (¬1) به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه، فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول، والسبق إلى الإيمان، والأنصار لهم ميزة المال والقوة، وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركي مكة، وإيواؤهم ومشاركتهم لهم في أموالهم، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع، لولا فضل الله وعنايته. ومن ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: جمع بين قلوبهم بعظيم قدرته وبديع صنعه؛ إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتألفت قلوبهم {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور؛ أي: إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين، ولا كيد الماكرين {حَكِيمٌ} في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره وفي جميع أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب. 64 - وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ليس تكرارًا لما قبله، فإن الأول مقيد بإرادة الخداع؛ حيث قال: {وإن يريدوا أن يخدوعك فإن حسبك الله} فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ...} إلخ، كفاية عامة غير مقيدة. والواو في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف، والمعنى حينئذٍ: حسبك الله وحسبك المؤمنون، أي: كافيك الله وكافيك المؤمنون. ويحتمل أن تكون بمعنى مع، كما تقول: حسبك وزيدًا درهمٌ، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله؛ لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو، وأجازه الكوفيون؛ أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى كافٍ لك يا محمَّد كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم وكافٍ لمن اتبعك وأيدك من المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذا المعنى الأخير أرجح وأوضح من الأول وإن كان من حيث العربية ضعيفًا. وقيل: يجوز أن ¬

_ (¬1) يقال: دل بعطائه إذا افتخر به على أقرانه اهـ م ج.

[65]

يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله، على كونه مبتدأ خبره محذوف. 65 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم والرسول الرحيم {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: حث المؤمنين {عَلَى الْقِتَالِ}؛ أي: على قتال أعدائهم ورغبهم فيه؛ لدفع عدوان الكفار وإعلاء كلمة الحق والعدل أهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما. والخلاصة: حثهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضًا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين. ثم بشرهم؛ تثبيتًا لقلوبهم وتسكينًا لخواطرهم بأنَّ الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار، فقال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ}؛ أي: إن يوجد منكم أيها المؤمنون {عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا}؛ أي: يقهروا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم {مِائَتَيْنِ} من الكافرين الذين جرِّدوا من هذه الصفات الثلاث، أي: إن يكن منكم عشرون .. فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مئتين {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} صابرة {يَغْلِبُوا} ويقهروا {أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذا وعد من الله تعالى وبشارة بأنَّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا .. غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده. والخلاصة (¬1): ليصبرن الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية سواء قلوا أو كثروا، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدؤوهم بالقتال. وإنما يجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط المذكورة (¬2): منها: أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويًّا جلدًا. ومنها: أن يكون قوي القلب، شديد البأس، شجاعًا غير جبان. ومنها: أن يكون غير متحرف لقتالٍ، أو متحيزٍ إلى فئة، فعند حصول هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[66]

الشوط رجب على الواحد أن يثبت للعشرة. والباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} سببية متعلقة بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين، أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة، بسبب أنهم، أي: أنَّ الكفار قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر، لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، عن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع عن قوة، وعن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين: النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية. وأنتم تقاتلون امتثالًا لأمر الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، وابتغاءً لمرضاته, وهم إنما يقاتلون للحمية الجاهلية وإثارةً للعدوان، وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمين يستغيثون بربهم بالتضرع، ومن كان كذلك .. كان النصر أليق به. وبالجملة: فحالهم يخالف حالكم في كل ما تقدَّم، لا سيما منكري البعث والجزاء منهم، كمشركي العرب في ذلك العصر واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم؛ لعدم اعتقادهم بسعادةٍ أخرويةٍ إلَّا أن أهل الكتاب يظنون أنَّهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم. وفي الآية (¬1) إيماءٌ إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المئة من الكافرين دون العشرة عن المؤمنين الصابرين، وهكذا كان المسلمين في العصور الأولى، حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعزٍ وجاه عريضٍ، ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهدية .. زال مجدهم وسؤددهم، وذهبت ريحهم , ونزع منهم أكثر ذلك الملك. 66 - ثم لما شقَّ ذلك عليهم واستعظموه .. خفف عنهم، ورخص لهم؛ لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم، فقال: {الآنَ}؛ أي في هذا الزمن الحاضر الذي قل فيه عددكم ¬

_ (¬1) البيضاوي.

وعدتكم .. {خَفَّفَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَنْكُمْ} أيها المؤمنون أمر القتال، رفع عنكم ما فيه مشقةٌ {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} في الأبدان عن قتال عشرة أمثالكم، لا في الإيمان؛ لكثرة العبادة والتعب، فرحمكم الله وأكرمكم بالتخفيف, وأيضًا علم الله سبحانه وتعالى ضعف من يأتي بعد الصدر الأول عن القتال، فخفف الله عن الجميع {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ}؛ أي: يوجد منكم {مِائَةٌ صَابِرَةٌ} على شدائد القتال {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}؛ أي: يتغلبوا على مئتين من الكفار {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ}؛ أي: وإن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة القتال .. {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} أي: يتغلبوا على ألفين من الأعداء. وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بإرادته وتيسيره: متعلقٌ بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين , وهو خيرٌ بمعنى الأمر؛ أي: فليثبت الواحد منكم لرجلين من الكفار، وقد استمر هذا الأمر إلى يوم القيامة. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} على مشاق التكاليف بنصره ومعونته, فكيف لا يغلبون؟ قال (¬1) سفيان: قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية .. شقَّ ذلك على المسليمن حين فرض عليهم أن لا يفرَّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: فلمَّا خفف الله عنهم من العدة .. نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار، وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقفٌ في الصف مع العسكر , أو لم يكن هناك عسكرٌ. والخلاصة: أنّ أقل حال للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المئة ¬

_ (¬1) المراغي.

منهم على المئتين، والألف على الألفين، وإنَّ هذه رخصة خاصة بحال الضعف، كما كان الحال كذلك في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، وهو وقت غزوة بدر، حين كان المؤمنون لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرسٌ واحدٌ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدِّين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي الأهبة والعدة. ولمَّا كملت للمؤمنين القوة .. كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تمَّ لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك. وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عهده ومن بعده القدوة في ذلك، فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث بن عمير الأزدي ثلاثة آلاف، وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مئةً وخمسين ألفًا. وقد (¬1) قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمئتين، والمئة للألف: أنَّ سراياه - صلى الله عليه وسلم - التي يبعثها كان لا ينقص عددها عن العشرين، ولا يجاوز المئة، وقيل: في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المئة للمئتين، والألف للألفين: بشارةٌ للمسلمين بأنَّ عساكر الإِسلام يجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف، ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره، لا بقوتهم ولا جلادتهم، ثم بشرهم بأنَّه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر، والتأكيد عليهم بلزومه، والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر؛ لأنَّ من كان الله معه .. لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم: هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وقرأ الأعمش (¬2): {حرص} - بالصاد المهملة - وهو من الحرص، وهو قريب من قراءة الجمهور - بالضاد -. وقرأ الكوفيون: {يكن منكم مئة} على التذكير فيهما، ورواها خارجة عن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

نافع، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وابن عامر على التأنيث، وقرأ أبو عمرو على التذكير في الأولى، ولحظ {يَغْلِبُوا} والتأنيث في الثانية؛ ولحظ {صَابِرَةٌ} وقرأ الأعرج على التأنيث كلها، إلا قوله: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ} فإنه على التذكير بلا خلاف، وقرأ المفضل عن عاصم: {وعلم} مبنيًّا للمفعول. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق: {ضُعفا} هنا وفي الروم - بضم الضاد وسكون العين - وقرأ عيسى بن عمر بضمهما، وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين، وهي كلها مصادر وعن أبي عمرو بن العلاء: ضم الضاد لغة الحجاز، وفتحها لغة تميم. وقرأ ابن القعقاع: {ضعفاء} جمع ضعيف، كظريف وظرفاء، وحكاها النقاش عن ابن عباس. الإعراب {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)}. {وَلَوْ} {الواو} استئنافية {لو}: حرف شرط {تَرَى}: فعل مضارع بمعنى الماضي؛ أي: بمعنى رأيت؛ لأنَّ لو الامتناعية ترد المضارع ماضيًا، كما أنَّ أن الشرطية ترد الماضي مضارعًا، وفاعله: ضمير يعود على محمَّد، أو على أيّ مخاطب، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} وجوابها محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} .. لرأيت أمرًا فظيعًا عجيبًا، وجملة لو الشرطية: مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {تَرَى}. {يَتَوَفَّى}: فعل مضارع. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول مقدم على الفاعل للاهتمام به. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الْمَلَائِكَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذْ. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَأَدْبَارَهُمْ}: معطوف على وجوههم، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الملائكة.

{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: {الواو} عاطفة لقول محذوف، تقديره: ويقولون: ذوقوا عذاب الحريق. {ذوقوا عذاب الحريق} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لذلك القول المحذوف، وجملة القول المحذوف في محل النصب على الحال على كونها معطوفة على جملة يضربون. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب ما قدمته أيديكم، والجملة الاسمية مستأنفة. {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما قدمته أيديكم {وَأَنَّ}: {الواو} عاطفة. {أن} حرف نصب ومصدر. {اللَّهَ} اسمها. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. {بِظَلَّامٍ}: خبر ليس، والباء زائدة. {لِلْعَبِيدِ}: متعلق بظلام، وجملة أنَّ في تأويل مصدر معطوف على ما الموصولة على كونه مجرورًا بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب ما قدمته أيديكم، وكائن بسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر للمبتدإ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء المشركين كائن كدأب آل فرعون، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {آلِ فِرْعَوْنَ} {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور، صلة الموصول. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل. {بِآيَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا}، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تفسير لـ {دأب آل فرعون} {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل معطوف على كفروا؛ لأنَّ الفاء فيه عاطفة {بِذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أخذهم}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {قَوِيٌّ}: خبره. {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبر ثانٍ لأنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة

لتعليل ما قبلها. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ} {الباء} حرف جر وسبب: {أَنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {لَمْ}: حرف نفي وجزم {يَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وعلامة جزمه سكون ظهر على النون المحذوفة للتخفيف على حدِّ قول ابن مالك: وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ ... تُحْذَفُ نوْنٌ وَهُوْ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ وحذفت الواو من {يك}؛ لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ أصله: يكون، دخل الجازم عليه فسكنت النون، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو؛ لالتقائهما، فصار يكن، ثم حذفت النون؛ للتخفيف، فصار: يك، واسمها: ضمير يعود على الله. {مُغَيِّرًا}: خبرها، {نِعْمَةً}: مفعول مغيرًا، وجملة يكون في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم كون الله مغيرًا نعمة الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب عدم تغيير الله نعمة أنعمها على قوم، والجملة اسمية مستأنفة {أَنْعَمَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب صفة لنعمة ولكنها سببية. {عَلَى قَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمَهَا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يُغَيِّرُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى}، بمعنى إلى {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {بِأَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور صلة لـ {ما}، أو صفة لا، تقديره: ما كان بأنفسهم من الحال، وجملة {يُغَيِّرُوا} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى: تقديره: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، الجار والمجرور متعلق بيكون، أو بمغيرًا {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {سَمِيعٌ}: خبر أول له. {عَلِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة أنَّ في محل الجر معطوفة على جملة أن في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} على قراءة الفتح، وعلى قراءة كسر همزة إن - فالجملة مستأنفة.

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور خبر لمحذوف، تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون، والجملة مستأنفة، كررت؛ للإطناب في الذم. {وَالَّذِينَ}: معطوف على آل فرعون. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل. {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا} والجملة مفسرة لدأب أل، فرعون لا محل لها من الإعراب {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كَذَّبُوا}. {بِذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}. {وَأَغْرَقْنَا}: فعل وفاعل. {آلَ فِرْعَوْنَ}: مفعول ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أهلكنا}. {وَكُلٌّ}: مبتدأ وسوَّغ الابتداء بالنكرة .. قصد العموم. {كَانُوا ظَالِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وجمع الضمير في كانوا وفي ظالمين؛ مراعاةً لمعنى {كل}؛ لأنَّ كلًّا متى قطعت عن الإضافة .. جاز مراعاة لفظها تارة ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى؛ لأجل الفواصل، ولو روعي اللفظ فقط، فقيل: وكلُّ كان ظالمًا .. لم تتفق الفواصل اهـ "سمين". {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)}. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بشر {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {فَهُمْ}: {الفاء} اعتراضية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين البدل والمبدل منه، أو معطوفةٌ على جملة الصلة، وعبارة أبي السعود هنا قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} هذا حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه، وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع، لا يلويهم صارف، ولا يثنيهم عاطف أصلًا، جيء به على وجه الاعتراض، لا أنه

عطفٌ على {كَفَرُوا} داخلٌ معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل. انتهت. {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}. {الَّذِينَ} بدل من الموصول قبله بدل بعض من كل، أو عطف بيان له، أو خبر لمحذوف، تقديره: هم الذين. {عَاهَدْتَ}: فعل وفاعل. {مِنْهُمْ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة الصلة {فِي كُلِّ مَرَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْقُضُونَ}. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَتَّقُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {يَنْقُضُونَ}. {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}. {فَإِمَّا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور من نقض العهد، وأردت بيان ما تفعل معهم .. فأقول لك: {إما تثقفنهم}. {إما} {إنْ} حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة {ما} زائدة لتأكيد معنى الشرط. {تثقفن} فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {فِي الْحَرْبِ} متعلق به {فَشَرِّدْ} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية {شَرِّدْ}: فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {بِهِمْ}: متعلق بشرد. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول شرِّد. {خَلْفَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَذَّكَّرُونَ} في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها.

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}. {وَإِمَّا} {الواو} عاطفة {إن} حرف شرط. {ما} زائدة. {تَخَافَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بأن مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {مِنْ قَوْمٍ}: متعلق به. {خِيَانَةً}: مفعول به. {فَانْبِذْ} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية {انبذ} فعل أمر في محل الجزم بإن مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: عهدهم. {إِلَيْهِمْ} متعلق بانبذ. {عَلَى سَوَاءٍ}: حال من الفاعل الذي هو ضمير انبذ، والمفعول الذي هو ضمير إليهم، تقديره. حالة كونك وكونهم مستوين في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر, وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ} اسمها، وجملة {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} خبرها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول, وجملة {سَبَقُوا} في محل النصب مفعول ثان لحسب، ومفعولها الأول محذوف, تقديره: أنفسهم، والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُعْجِزُونَ} في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. {وَأَعِدُّوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَهُمْ} متعلق به. {مَا}: موصولة, أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {اسْتَطَعْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما

استطعتموه. {مِنْ قُوَّةٍ} جار ومجرور حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف، تقديره: حالة كونه بعض قوة. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. {تُرْهِبُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به {عَدُوَّ اللَّهِ}: مفعول به {وَعَدُوَّكُمْ}: معطوف عليه، وجملة {تُرْهِبُونَ}: في محل النصب حالٌ من فاعل {أعدوا}، تقديره: حالة كونكم مرهبين لهم، ويجوز أن يكون حالًا من مفعوله وهو الموصول؛ أي: أعدوه حال كونه مرهبًا به. {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. {وَآخَرِينَ}: معطوف على {عَدُوَّ اللَّهِ}. {مِنْ دُونِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لآخرين. {لَا تَعْلَمُونَهُمُ}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {آخرين}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَعْلَمُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثالثة لآخرين. {وَمَا}: {الواو} استئنافية. {ما}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم لـ {تُنْفِقُوا}. {تُنْفِقُوا}: فعل وفاع مجزوم بما، على كونه فعل شرط لها. {مِنْ شَيْءٍ}: حال من {ما}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تُنْفِقُوا}. {يُوَفَّ}: فعل مضارع مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ {ما}، على كونه جواب شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {إِلَيْكُمْ}: متعلق به. {وَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا تُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير إليكم؛ أي: يوف إليكم حالة كونكم غير مظلومين فيه، وجملة ما الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن}: حرف شرط. {جَنَحُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بإن، على كونه فعل شرط لها. {لِلسَّلْمِ}: متعلق به. {فَاجْنَحْ}:

{الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية {اجنح} فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {لَهَا}: متعلق به، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {وَتَوَكَّلْ}: فعل أمر معطوف على {فَاجْنَحْ}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {السَّمِيعُ}: خبر أول لإنَّ. {الْعَلِيمُ}: خبر ثانٍ لها، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)}. {وَإِنْ} {الواو} عاطفة. {إن}: حرف شرط. {يُرِيدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. {أن}: حرف نصب ومصدر. {يَخْدَعُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بإن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُوا}، تقديره: وإن يريدوا خداعهم إياك، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فصالحهم ولا تخش منهم، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} {فَإِنَّ} {الفاء} تعليلية {إن} حرف نصب. {حَسْبَكَ}: اسمها ومضاف إليه. {اللَّهُ}: خبرها، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنَّ جملتها مسوقة لتعليل الجواب المحذوف، كما قدَّرناه آنفًا. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَيَّدَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بِنَصْرِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَيَّدَكَ}. {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}: معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}. {وَأَلَّفَ}: فعل ماض معطوف على {أَيَّدَكَ}، وفاعله ضمير يعود على الله {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَلَّفَ}. {لَوْ}: حرف شرط. {أَنْفَقْتَ}: فعل وفاعل. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول

{أَنْفَقْتَ}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلةٌ لما، أو صفةٌ لها. {جَمِيعًا}: تأكيدٌ لما الموصولة، أو حال منها، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية. {أَلَّفْتَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب لو الشرطية، وجملة لو الشرطية مستأنفة. {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَلَّفْتَ}. {وَلَكِنَّ اللَّهَ}. ناصب واسمها. {أَلَّفَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله {بَيْنَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لكن، وجملة لكن معطوفة على جملة لو الشرطية. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {عَزِيزٌ}: خبر أول لها. {حَكِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء، {أيُّ} منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه زائد. {النَّبِيُّ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفةٌ. {حَسْبُكَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {اللَّهُ} خبره، والجملة الاسمية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وقال (¬1) قوم: {حَسْبُكَ}: مبتدأ، و {اللَّهُ}: فاعله؛ أي: يكفيك الله. {وَمَنِ اتَّبَعَكَ}: في {مِنَ} ثلاثة أوجه من الإعراب: أحدها: جره عطفًا على الكاف في {حَسْبُكَ}؛ أي: حسبك يا محمَّد وحسب من اتبعك من المؤمنين .. الله. وهذا الوجه في المعنى أوضح وأظهر وأسلم من الإشكال، ولكن هذا الوجه من حيث العربية لا يجوز عند البصريين؛ لأنَّ العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لا يجوز عندهم، كما قال ابن مالك: وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ... ضَمِيْرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ والثاني: موضعه نصب بعامل محذوف دلَّ عليه الكلام، تقديره: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا الوجه واضح أيضًا. ¬

_ (¬1) العكبري.

والثالث: موضعه رفع، وهو على وجهين: أحدهما: أنَّه معطوف على لفظ الجلالة، فيكون خبرًا آخر للمبتدأ، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يثن حسبك؛ لأنه مصدر. وقال قوم: هذا الوجه ضعيف من حيث المعنى؛ لأنَّ الواو للجمع، ولا يحسن ههنا، كما لا يحسن في قولهم: ما شاء الله وشئت، وثم هنا أولى، إلا أن يقال: إن الواو هنا بمعنى ثم. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وحسبك من اتبعك من المؤمنين من حيث النصر، ولا يلزم على هذا الوجه التشريك بين الله وبين غيره؛ لأنَّ الكلام جملتان. وليس فيه اعتماد على غير الله؛ لأنَّ المؤمنين ما التفت إليهم إلا لإيمانهم وكونهم حزب الله، فرجع الأمر فيهم إلى الله. انتهى أبو البقاء مع زيادة وتصرف. {اتَّبَعَكَ} فعل ومفعول، وفعله ضمير يعود على {مَنِ}، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور حال من فاعل اتبعك. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة. {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي}. {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على النبي، والجملة الفعلية جواب النداء. {عَلَى الْقِتَالِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَرِّضِ} {إن}: حرف شرط. {يَكُنْ}: فعل مضارع تام بمعنى يوجد، مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. {مِنْكُمْ}: متعلق به. {عِشْرُونَ} فاعل. {صَابِرُونَ}: صفة لـ {عِشْرُونَ}، ويصح أن تكون {يَكُنْ} ناقصة. {يَغْلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جواب الشرط لها. {مِائَتَيْنِ}: مفعول به، وجملة إن الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}. {وَإِنْ}: {الواو} عاطفة {إِنْ يَكُنْ}: جازم. ومجزوم. {مِنْكُمْ}: متعلق

به {مِائَةٌ}: فاعل. {يَغْلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها. {أَلْفًا}. مفعول به، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة إن الأولى {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لِـ {أَلْفًا}، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {بِأَنَّهُمْ} {الباء} حرف جر وسبب {أنَّ} حرف نصب، و {الهاء} اسمها. {قَوْمٌ}: خبر أنَّ، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ} صفة لـ {قَوْمٌ}، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم فقههم. الجار والمجرور متعلق بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين. {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}. {الْآنَ} ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمنه معنى حرف التعريف، والظرف متعلق بـ {خَفَّفَ} الآتي. {خَفَّفَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنْكُمْ}: متعلق بـ {خَفَّفَ} {وَعَلِمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله, والجملة معطوفة على جملة {خَفَّفَ} {أَنَّ}: حرف نصب. {فِيكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لأن {ضَعْفًا} اسم أنَّ مؤخر، وجملة أنَّ في تأويل مصدر ساد مسدَّ مفعولي {علم}، تقديره: وعلم كون ضعف فيكم {فَإِنْ} {الفاء} حرف عطف وتفصيل. {إن} حرف شرط جازم. {يَكُنْ}: فعل مضارع تام مجزوم بـ {إن} {مِنْكُمْ}: متعلق به {مِائَةٌ}: فاعل {يَكُنْ}. {صَابِرَةٌ}: صفة مئة. {يَغْلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {مِائَتَيْنِ}: مفعول به، وجملة إن الشرطية من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة {خَفَّفَ} على كونها مفصلة لها. {وَإِنْ يَكُنْ}: جازم ومجزوم. {مِنْكُمْ}: متعلق به. {أَلْفٌ}: فاعلٌ. {يَغْلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جوابًا لها. {أَلْفَيْنِ}: مفعول به، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها تفصيلًا لـ {خَفَّفَ}. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {مَعَ الصَّابِرِينَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

التصريف ومفردات اللغة {وَأَدْبَارَهُمْ}؛ أي: ظهورهم وأقفيتهم. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} والذوق: قد يكون محسوسًا، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم. والحريق: بمعنى المحرق - فعيل بمعنى مفعل - {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بذي ظلم، ففعال صيغة نسب، على حد قول ابن مالك: وَمَعَ فَاعِلٍ فِعَالٌ وَفُعِلْ ... فِيْ نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ اليَا فَقُبِلْ {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ}: وفي "المصباح": ثقفت الشيء ثقفًا - من باب تعب - أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل ثقيفٌ، وبه سمي حيٌّ من اليمن اهـ. {فَشَرِّدْ بِهِمْ}؛ أي: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، يقال: شرد إذا فرق وطرد، والمشرد: المفرق المبعد. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}: والنبذ: الطرح والرمي. {عَلَى سَوَاءٍ}؛ أي: على طريق واضح، لا خداع فيه ولا خباءة ولا ظلم. {سَبَقُوا}؛ أي: أفلتوا من الظفر بهم {لَا يُعْجِزُونَ}؛ أي: لا يجدون الله عاجزًا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}: الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل. {مِنْ قُوَّةٍ}: والمراد بالقوة: جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو، فكل ما هو آلة يستعان به في الجهاد .. فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}: والرباط - بكسر أوله في الأصل -: مصدر سماعي لرابط؛ لأنَّ فعالا لا يكون مصدرًا قياسيًّا إلا إذا كان الفعل يقتضي الاشتراك، كقاتل وخاصم، وهنا ليس كذلك، وفي "السمين": وقال الزمخشري: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط بمعنى مربوط، كفصيلٍ وفصالٍ، والمصدر هنا مضافٌ لمفعوله اهـ. والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها. وفي "المصباح": ربطته رباطًا من باب ضرب، ومن باب قتل لغة - شددته. والرباط: ما تربط به القربة وغيرها، والجمع ربط، مثل: كتاب وكتب، ويقال للمصاب: ربط الله على قلبه بالصبر، كما يقال: أفرغ الله عليه الصبر؛ أي: ألهمه.

والرباط: اسم من رابط مرابطة - من باب قاتل - إذا لازم ثغر العدو، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد، ويجمع في القياس على رُبُط - بضمتين - ورباطات اهـ. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ}: والإرهاب والترهيب: الإيقاع في الرهبة، وهي الخوف المقترن بالاضطراب. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}: يقال: جنح للشيء وإليه: إذا مال، يقال: جنحت الشمس إذا مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه، يقال: جنح - من باب دخل وخضع - جنوحًا، والجنوح: الميل، وجنحت الإبل: أمالت أعناقها، ويقال: جنح الليل إذا أقبل، قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح: الاتباع أيضًا لتضمنه الميل، ومنه الجوانح للأضلاع لميلها على حشوة الشخص، والجناح من ذلك؛ لميلانه على الطائر اهـ. "سمين". {إِلَى السَّلْمِ}: وفي "المصباح": والسلم - بكسر السين وفتحها -، ويذكَّر ويؤنَّث، الصلح وضد الحرب، والإِسلام دين السلم والسلام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}. {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}: التحريض في اللغة: الحث على الشيء بكثرة الترغيب وتسهيل الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحرض، وهو الهلاك اهـ. "الخازن". وفي "البيضاوي": الحرض: أن ينهكه المرض حتى يشرف على الموت اهـ. وفي "المصباح": حرض حرضا - من باب تعب - إذ أشرف على الهلاك، فهو حرض - بفتح الراء - تسميةً بالمصدر مبالغةً، وحرّضته على الشيء تحريضًا اهـ. وفي "المختار": والتحريض على القتال: الحث عليه اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}؛ لأنه كناية عن ضرب أجسادهم، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وفي قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}؛ لأن المعنى: بما قدمته أنفسكم، فاليد هنا عبارة عن القدرة، وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل، والقدرة هي المؤثرة، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة اهـ "كرخي".

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ لأنَّ الذوق حقيقة في المطعومات, فشبه مباشرة العذاب بذوق الطعام بجامع الوصول إلى المقصود في كل. ومنها: الاعتراض التذييليُّ المقرر لمضمون ما قبله في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}. ومنها: التكرار في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}، وفي قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} , وفي قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ} {يَغْلِبُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التخييلية في قوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} لأن النبذ حقيقة في الطرح، وهو هنا مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد بعد اليوم، فشبه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه, وأثبت النبذ له تخييلًا. ومنها: الاحتباك الذي هو من المحسنات البديعية في قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} والاحتباك هو أن يحذف من كلّ من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر. وفي "الكرخي": وأثبت في الشرطية الأولى قيدًا - وهو {صَابِرُونَ} - وحذفه من الشرطية الثانية، وأثبت في الثانية قيدًا - وهو {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} - وحذفه من الأولى, والتقدير: مئتين من الذين كفروا، ومئة صابرة، فحذف من كل منهما ما أثبت في الآخر، وهو غاية الفصاحة، وهذا الاحتباك جارٍ في الجمل المذكورة بعد قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع منها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}. المناسبة قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ...}: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (¬1) لمَّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها .. أردف ذلك بذكر أحكام الأسرى, لأنَّ أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبًا، كما وقع في وقعة بدر، كما يقع في كل زمان. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه لما أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفداء من الأسرى .. شقَّ عليهم أخذ أموالهم, فأنزل الله هذه الآية؛ استمالةً لهم وترغيبًا في الإِسلام، ببيان ما فيه ¬

_ (¬1) المراغي.

من خير الدنيا والآخرة، وتهديدًا وإنذارًا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته، وبشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى .. ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظًا غير منبوذ ولا منكوث. أسباب النزول قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم (ج 3/ ص 339) قال: أخبرنا أبو العباس محمَّد بن أحمد المحبوبي حدثنا سعيد بن مسعود حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسارى أبا بكر، فقال: قومك وعشيرتك، فخلِّ سبيلهم. فاستشار عمر، فقال: اقتلهم. قال: ففداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، قال: فلقي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عمر قال: "كاد أن يصيبنا بلاءٌ في خلافك"، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: قلت على شرط مسلم. وروى (¬1) ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر .. جيء بالأسارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: ¬

_ (¬1) المراغي.

أنت في وادٍ كثير الحطب، فأضرمه عليهم نارًا، فقال العباس - وهو يسمع ما يقول - أقطعت رحمك؟ فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليهم شيئًا، فقال أناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناسٌ: يأخذ بقول عمر: وقال أناس: يأخذ: بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ الله ليلين قلوب رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}، ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام؛ إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، وإنَّ مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. أنتم عالةٌ، فلا يفلتن أحدٌ إلا بفداء أو ضرب عنق" فقال عبد الله رضي الله عنه: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء؛ فإني سمعته يذكر الإِسلام، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ الحجارة منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ...} إلى آخر الآيتين. وروى (¬1) أحمد من حديث ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون قوةً لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ "، قال: لا والله، لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل - أخيه - فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٌ لعمر -، فأضرب عنقه، ومكن فلانًا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان الغد .. جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدان يبكيان، ¬

_ (¬1) المراغي.

قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء .. أبكي، وإن لم أجد بكاءً .. تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرةٍ قريبةٍ منه - وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}. وفي هذا الحديث تصريحٌ بأنَّ الذين طلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الرويات أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنَّه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقامًا، وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمدٍ الفداء يوم بدر، ففادوهم بأربعة آلاف "أربعة آلاف درهم". قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم تحلَّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها"، فلمَّا كان يوم بدر .. وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} إلى آخرِ الآيتين. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى ...} الآية، روى الحاكم والبيهقي في "سننه" وغيرها عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرًا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلمًا إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن يكن ما تذكره حقًّا .. فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك .. فقد كان علينا" قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليَّ، فقال: "أمَّا شيء أخرجت لتستعين به علينا .. فلا"، قال وكلَّفني رسول الله فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن ¬

_ (¬1) المراغي.

الحارث، فقال العباس: تركتني يا محمَّد أتكفف قريشًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الذهب الذي دفعته إلى أمِّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث .. فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؟ "، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، قال: فإني أشهد أنَّك صادقٌ، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابًا في أمرك، وأما إذ أخبرتني بذلك .. فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك إلى الآن عشرون عبدًا، وإنَّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزم، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورِّث أرحامنا المشركين، فنزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ ...} الآية، سبب نزولها ما أخرجه ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل، ترثني وأرثك، فنزلت هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. وأخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعبًا أصابته الجراحة بأُحد، فقلت: لو مات فانقطع عن الدنيا وأهلها .. لورثته، فنزلت هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ ...} الآية، فصارت المواريث - بعد - للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[67]

التفسير وأوجه القراءة 67 - {مَا كَانَ} ينبغي {لِنَبِيٍّ} من الأنبياء، وما يليق به، ولكن المراد به: النبي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بقرينة المقام. {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} من الكفار؛ أي: أن يحبس كافرًا قدر عليه وصار في يده أسيرًا، ويترك قتله للفداء والمنّ {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: حتى (¬1) يبالغ ويكثر في قتال المشركين في نواحي الأرض ويغلبهم ويقهرهم، فإذا حصل ذلك .. فله أن يقدم على الأسر، فيأسر الأسارى، بل اللائق به الآن قتلهم بلا فداء؛ إظهارًا لقوة المسلمين وعزة الإِسلام. أخبر (¬2) الله سبحانه وتعالى أنَّ قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم، ثمَّ لما كثر المسلمون .. رخَّص الله في ذلك، فقال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله تعالى. والمعنى (¬3): ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء، إلا بعد أن يثخن في الأرض؛ أي: إلا بعد أن يعظم شأنه فيها، ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه؛ لأن الملك والدولة إنَّما تقوى وتشتد بالقتال والقتل، كما قال: لاَ يَسْلَمُ الشَّرَفُ اَلرَّفِيْعُ مِنَ الأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ مع أنَّ كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغي، ومن ثم أمر الله سبحانه به. وخلاصة ذلك: أنَّ اتخاذ الأسرى إنَّما يكون خيرًا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، ففي المعركة الواحدة بإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفي الحالة العامة - التي تعم كلَّ معركة وكل قتال - فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

{تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون بما قبضتم من الفداء {عَرَضَ} الحياة {الدُّنْيَا} الفاني الزائل ونفعها، وسمي عرضًا؛ لأنَّه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر، أي: تريدون بأسركم عرض الدنيا، وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداءً لهم {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُرِيدُ} ويرضى لكم {الْآخِرَةَ}؛ أي: ثواب الآخرة الباقي بما يشرِّعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، التي منها الإثخان بالقتل، ويدخل في ذلك: الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة على إرادة الإثخان في الأرض والسيادة فيها؛ لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل. وفي ذلك إنكارٌ لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله سبحانه وتعالى بما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضًا. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب لا يغالب، يغلب أولياءه على أعدائه، وينصرهم عليهم، ويجعل الغلبة لهم، ويمكنهم من أعدائهم قتلًا وأسرًا {حَكِيمٌ} فيما دبَّره لخلقه، يعلم ما يليق بكل حال، كما أمر بالإثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المنِّ لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين، ولا تتم لهم العزة .. إلا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية، بمثل فداء الأسرى من المشركين، وهم في عنفوان قوتهم وشوكتهم وكثرتهم. وعلى هذه القاعدة (¬1): جرت الدول العسكرية في العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة .. نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرِّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف عن قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات، ولكنَّ الإِسلام - ¬

_ (¬1) المراغي.

وهو دين الرحمة والعدل - لا يبيح شيئًا من ذلك. وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة (¬1): {ما كان للنَّبي} معرفًا، والمراد به في التعريف والتنكير: الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينًا، وهو هنا على حذف مضاف؛ أي: ما كان لأصحاب نبيٍّ، أو لأتباع نبي، فحذف اختصارًا, ولذلك جاء الجمع بعده في قوله: تريدون عرض الدنيا, ولم يجىء التركيب: تريد أو يريد عرض الدنيا؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد عرض الدنيا قط، وإنَّما فعله جمهور مباشري الحرب. وقرأ أبو عمرو: {أن تكون} على تأنيث لفظ الجمع، وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى، لكن في قراءة (¬2) التاء الفوقية .. تتعين الإمالة في {أسرى}، وعلى قراءة الياء التحتية تجوز الإمالة وتركها. اهـ. وقرأ الجمهور والسبعة. {أَسْرَى} على وزن فعلى، وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفةً، كجريح وجرحى. وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم: {أسارى} وشبَّه فعيلٌ بفعلان، نحو كسلان وكسالى، كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعًا: كسلى، قاله سيبويه، وهما شاذَّان، وزعم الزجاج أنَّ أسارى جمع أسرى، فهو جمع جمع. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثَّاب: {حتى يثخِّن} مشدَّدًا، {عدوه} بالتضعيف، والجمهور بالتخفيف، وعدوه بالهمزة؛ إذ كان قبل التعدية ثخن. وقرىء: {يريدون} بالياء من تحت، وقرأ الجمهور: {الآخرة} بالنصب, وقرأ سليمان بن جمَّاز المدني بالجر، واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف، فمنهم من قدره: عرض الآخرة، قال: وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه، قال بعضهم: وقد حذف العرض في قراءة الجمهور، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب, فنصب. وممن قدره عرض الآخرة: الزمخشريُّ قال: على التقابل, يعني: ثوابها. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

فصل فيما يتعلق بعصمة الأنبياء قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء، وبيانه من وجوه: الأول: أنَّ قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} صريح في النهي عن أخذ الأسارى، وقد وجد ذلك يوم بدر. الوجه الثاني: أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقومه بقتل المشركين يوم بدر، فلمَّا لم يقتلوهم، بل أسروهم .. دلَّ ذلك على صدور الذنب منهم. الوجه الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بأخذ الفداء، وهو محرمٌ، وذلك ذنب. الوجه الرابع: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء، وخوف العذاب، وقرب نزوله. والجواب عن الوجه الأول: أنَّ قوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} .. يدل على أنَّه كان الأسر مشروعًا، ولكن بشرط الإثخان في الأرض، وقد حصل؛ لأنَّ الصحابة رضى الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلًا من عظماء المشركين وصناديدهم, وأسروا سبعين، وليس من الإثخان في الأرض قتل جميع الناس، فدلَّت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان، وقد حصل. والجواب عن الوجه الثاني: أنَّ الأمر بالقتل إنما كان مختصًا بالصحابة، لإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بمباشرة قتال الكفار بنفسه، وإذا ثبت أنَّ الأمر بالقتل كان مختصًا بالصحابة .. كان الذنب صادرًا منهم، لا من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن الوجة الثالث: - وهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بأخذ الفداء وهو محرَّم - فنقول: لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرَّمًا، وأما قوله سبحانه وتعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} .. فهو عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه، ولا يدل على تحريم الفداء؛ إذ لو كان حرامًا في علم الله تعالى .. لمنعهم من أخذه مطلقًا.

[68]

والجواب عن الوجه الرابع: - وهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قعدا يبكيان -: يحتمل أن يكون لأجل أنَّ بعض الصحابة لمَّا خالف الأمر بالقتل واشتغل بالأسر .. استوجب بذلك الفعل العذاب، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ خوفًا وإشفاقًا من نزول العذاب عليهم بسبب ذلك الفعل، وهو الأسر، وأخذ الفداء، والله أعلم. 68 - {لَوْلَا كِتَابٌ}: أي: لولا حكم {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {سَبَقَ} إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أن لا يعاقب المخطىء في اجتهاده؛ لأنَّ هذا كان اجتهادًا منهم؛ لأنهم نظروا في أنَّ استبقاءهم ربَّما كان سببًا في إسلامهم، وأنَّ فداءهم يتقوى به على الجهاد، وخفي عليهم أنَّ قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم، أو ما كتب في اللوح من أنه لا يعذب أهل بدر، أو أنَّه لا يعذب قومًا لم يصرح لهم بالنهي عنه، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم، و (¬1) فيما ذكر من الاستشارة دلالةٌ على جواز الاجتهاد، فيكون حجةً على منكري القياس. وخبر المبتدأ بعد لولا محذوف وجوبًا، تقديره: لولا كتاب من الله سبق موجودٌ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب شديد، ولكنَّه لم يمسكم؛ لسبق الكتاب بما ذكر آنفًا. وقيل المعنى (¬2): ولولا كتاب من الله تعالى سبق في علمه الأزلي أن لا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم .. لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم. وأخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدم الإِسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء! وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه .. ما أمر بقتلهم. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول أبي بكر، ففاداهم، فنزل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كاد ليمسنا في ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

[69]

خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب .. ما أفلت إلا عمر". 69 - وبعد أن عاتبهم الله سبحانه وتعالى على أخذ الفداء .. أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدَّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول السورة، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} والفاء فيه عاطفة على محذوف، تقديره: قد أبيحت لكم الغنائم، فكلوا من كل ما غنمتم وأخذتم من الكفار قهرًا، سواء كان من الفدية المذكورة أو غيرها حالة كونه {حَلَالًا} لكم بإحلاله سبحانه لكم، وحالة كونه {طَيِّبًا}؛ أي: مستلذًا في نفسه، لا خبث فيه، مما حرم لذاته، كالدم، ولحم الخنزير. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر، ولم يمدوا أيديهم إليها حتى نزلت هذه الآية. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمر ونهيه في المستقبل؛ أي: خافوا عقاب الله في أن تعودوا إلى أكل شيء من أموال الناس، كفارًا كانوا أو مسلمين قبل أن يحله لكم ربكم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لذنبكم، بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أوَّلًا، لإعزاز الحق وأهله وإذلال الشرك وكبت حزبه {رَحِيمٌ} بكم؛ إذ أباح لكم ما أخذتم وأباح لكم الانتفاع به. وخلاصة ما تقدم من الآيات: أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين؛ لئلا يفضي أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال .. كان ذنبًا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا كتابٌ من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى، وعلى خلاف سننه .. لمسَّهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك، وأنَّه أحلَّ لهم ما أخذوا، وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله تعالى لهم، والله غفور رحيم. 70 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم والرسول الرحيم {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ} وسلطتكم وقهركم {مِنَ} هؤلاء {الْأَسْرَى} الذين أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم

[71]

الفداء: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}؛ أي: إيمانًا وعزمًا على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف، وتوبةً من الكفر وجميع المعاصي .. {يُؤْتِكُمْ} الله سبحانه وتعالى ويعوضكم في هذه الدنيا رزقًا {خَيْرًا} وأنفع لكم {مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفداء، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما سلف منكم قبل الإيمان من كفركم وقتالكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن آمن وتاب من كفره وآثامه {رَحِيمٌ} بالمؤمنين من أهل طاعته، فيشملهم بعنايته وتوفيقه، ويعدهم للسعادة في الدنيا والآخرة، وفي ذلك من الحض على الإِسلام والدعوة إليه ما لا يخفى. وقرأ الجمهور (¬1): {مِنَ الْأَسْرَى} معرفًا وابن محيصن: {من أسرى} منكرًا، وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة: {من الأُسَارى} - بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف - وبالإمالة. واختلف عن الحسن وعن الجحدري. وقرأ الأعمش: {يثبكم خيرًا} من الثواب، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد: {مما أَخذ} مبنيًّا للفاعل. 71 - ولمَّا ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرًا .. ذكر من هو على ضد ذلك منهم، فقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا}؛ أي: وإن يرد - يا محمَّد - هؤلاء الأسرى - الذين أسرتموهم في بدر وفاديتموهم بالمال - بما قالوا لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك {خِيَانَتَكَ}؛ أي: مخادعتك ومماكرتك، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة .. فاعلم أنَّه ليس ذلك بمستبعد منهم؛ {فـ} إنَّهم {قد} فعلوا ما هو أعظم من ذلك، وهو أنَّهم {خَانُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا الأسر والظفر بهم بما أقدموا عليه من كفرهم بالله ومحاربتهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}؛ أي: مكَّنك منهم بأن نصرك عليهم في يوم بدر، فقتلت منهم من قتلت، وأسرت من أسرت {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم ونياتهم من الخيانة وضدِّها {حَكِيمٌ} فيما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فعله بهم. وحاصل معنى الآية: أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإِسلام والرغبة عن قتال المسلمين .. فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال؛ فإنَّهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه الله على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله في خلقه، فيمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر، مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد، والله تعالى عليم يعلم ما يضمرونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم، يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين، وفي الآية من العبر: 1 - أنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان, وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان. 2 - أن فيها بشارةً للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم. وبعد ما ذكر الله سبحانه وتعالى تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم، وما يجب أن يعمل مع الأسرى .. ختم السورة بذكر ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة، وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض؛ ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به. وقسم المؤمنين أربعة أقسام، وبين حكم كل من تلك الأقسام ومنزلته من بينها: 1 - المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية. 2 - الأنصار الذين كانوا بالمدينة، وآووا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين عند

[72]

هجرتهم إليهم. 3 - المؤمنون الذين لم يهاجروا. 4 - المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية. 72 - وسمى الله سبحانه وتعالى المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم؛ لأنهم هجروا وتركوا أوطانهم وفارقوها؛ طلبًا لما عند الله تعالى، وإجابةً لداعيه، وسمى الأنصار أنصارًا؛ لأنهم نصروا دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أولًا - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله، وصدقوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَهَاجَرُوا} من مكة إلى المدينة، وفارقوا أوطانهم حبا لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وسبقوا إلى الهجرة، بأن هاجروا قبل العام السادس عام الحديبية {وَجَاهَدُوا}؛ أي: بذلوا جهدهم وطاقتهم في الجهاد {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي في طاعته؛ إعلاءً لكلمة الله التي هي الكلمة العليا كلمة الإِسلام؛ أي: صرفوا أموالهم إلى السلاح وأنفقوها على المحتاجين وبذلوا أنفسهم بمباشرة القتال، وبالخوض في المهالك. أمَّا ما كان من بذل الأموال .. فهو قسمان: 1 - ما ينفق في التعاون والهجرة، والدفاع عن دين الله ونصر دينه، وحماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - ما يكون بسخاء النفس، بترك ما تركوه في أوطانهم عند خروجهم منها. وما كان من بذل الأنفس .. فهو ضربان أيضًا: 1 - قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعدتهم. 2 - ما يكون قبل القتال من احتمال المشاقّ، ومغالبة الشدائد، والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سغب وتعب، ونحو ذلك.

ثانيًا - {وَالَّذِينَ آوَوْا} الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين؛ أي: أسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة {وَنَصَرُوا} هم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وقاتلوا من قاتلهم، وعادوا من عاداهم، ومن جراء هذا .. جعل الله حكمهم حكم المهاجرين في قوله: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات المذكورة - والإشارة إلى كل من الموصولين - {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، أي: يكونون يدًا واحدةً على الأعداء، ويكون حب كل واحد للآخر جاريًا مجرى حبه لنفسه؛ أي: يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولَّونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم؛ لأنَّ حقوقهم ومرافقهم مشتركةٌ، ويجب عليهم كفاية المحتاج وإغاثة المضطر منهم، وقيل: بعضهم أولياء بعض في الميراث والنصرة، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة، دون الأقارب حتى نسخ بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. ثالثًا - {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وبالقرآن {وَلَمْ يُهَاجِرُوا} من مكة إلى المدينة {مَا لَكُمْ} أيها المهاجرون والأنصار {مِنْ وَلَايَتِهِمْ}؛ أي: من ولاية الذين لم يهاجروا ونصرتهم وتعظيمهم، أو من ميراثهم بأن كان بينكم وبينهم قرابة وعصوبة {مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} إلى المدينة، وما من ميراثكم لهم من شيء حتى يهاجروا، فإن هاجروا .. فلهم مثل ما لكم من المناصرة أو الموارثة. والمعنى: أنَّ المؤمنين المقيمين في أرض المشركين، وتحت سلطانهم وحكمهم ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإِسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، أما من أسره الكفار من دار الإِسلام .. فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضًا. وقرأ الأعمش وابن وثَّاب وحمزة: {ولايتهم} بالكسر، وباقي السبعة والجمهور بالفتح، وهما لغتان، قاله الأخفش. وقيل: هي بفتح الواو، خاصَّة

[73]

بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبكسرها في الإمارة وتولي الأمور العامة؛ لأنَّها من قبيل الصناعات والحرف. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}؛ أي: وإن طلب منكم أيها المهاجرون والأنصار هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا النصرة لهم على المشركين {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} لهم؛ أي: فواجب عليكم النصر لهم {إِلَّا} إن استنصروكم {عَلَى قَوْمٍ} من المشركين {بَيْنَكُمْ}؛ أي: أيها المؤمنون {وَبَيْنَهُمْ}؛ أي: وبين أولئك القوم {مِيثَاقٌ} وعهد على ترك القتال، كأهل مكة الذين بينكم وبينهم صلح الحديبية الذي عقدتموه لهم على ترك القتال عشر سنين فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته؛ إذ الميثاق مانع من ذلك. والمعنى: أنّه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار، أو اضطدوهم لأجل دينهم، وطلبوا نصركم عليهم .. فعليكم أن تساعدوهم بشرط: أن يكون الكفار حَرْبييِّن، لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين .. فيجب الوفاء بعهدهم، ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بما تعلمون بصير} فلا تخالفوا أمره؛ كي لا يحل بكم عقابه، فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم، وتتوخوا فيها الحق والعدل، وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك. وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرًّا وجهرًا .. امتازت الشريعة الإِسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها: الوفاء بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر. وقرأ السلمي والأعرج {بما يعملون} بالياء على الغيبة. 73 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتم فريقٌ واحدٌ تجاه المسلمين، وإن كانوا شيعًا يعادي بعضهم بعضًا، فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود، فلمَّا ظهرت دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. تعاونوا على إيذائه ومحاربته، والمشركون واليهود والنصارى لمَّا

اشتركوا في عداوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .. صارت هذه الجهة سببًا لانضمام بعضهم إلى بعض، وقرب بعضهم من بعض، وتلك العداوة لمحض الحسد، لا لأجل الدين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان في غاية الإنكار لدين صاحبه. ولم يكن في الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولَّون المشركين وينصرونهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم، فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر، وفي هذا تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}؛ أي: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل بين المسلمين، ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار .. {تَكُنْ فِتْنَةٌ}؛ أي: تحصل فتنة {فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}؛ أي: ومفسدة عظيمة، فإنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم .. ربما صارت تلك المخالطة سببًا لالتحاق المسلم بالكفار، وإنَّ المسلمين لو كانوا متفرقين .. لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سببًا لجراءة الكفار عليهم، وقال ابن عطية: والفتنة: المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، والفساد الكبير: ظهور الشرك. وقال (¬1) البغوي: الفتنة في الأرض: قوة الكفر، والفساد الكبير: ضعف الإسلام اهـ. وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي: {كثير} - بالثاء المثلثة - وروي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {وفسادٌ عريض} وقال الزمخشري: أي: إنْ لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضًا حتى في التورث، تفضيلًا لنسبة الإِسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرباتهم كلا قرابة .. تحصل فتنة في الأرض، ومفسدة عظيمة؛ لأنَّ المسلمين ما لم يصيروا يدًا واحدةً على الشرك .. كان الشرك ظاهرًا والفساد زائدًا اهـ. والخلاصة (¬2): إنْ لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[74]

تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود - والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم وينبذوه على سواءٍ .. يقع من الفتنة والفساد في الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم، بتخاذلكم الذي يفضي إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم، واضطهادكم في دينكم بصدكم عنه، كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة. 74 - ثم فضل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على غيرهم، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن {وَهَاجَرُوا} من مكة إلى المدينة {وَجَاهَدُوا}؛ أي: قاتلوا الكفار {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعة الله تعالى، لإعلاء كلمته. لم يقل هنا بأموالهم وأنفسهم؛ اكتفاءً بما سبق {وَالَّذِينَ آوَوْا}؛ أي: وطّنوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالمدينة {وَنَصَرُوا} محمدًا - عليه الصلاة والسلام - يوم بدر {أُولَئِكَ} المذكورون من المهاجرين والأنصار {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}؛ أي: صدقًا يقينًا؛ أي: هم المؤمنون حقَّ الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} تامة من ربهم، كاملة ساترة لجميع ما فرط منهم من السيئات {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ أي: ثواب جسيم وجزاء حسن في الآخرة؛ لأنهم قد تركوا الأهل والوطن، وبذلوا النفس والمال، وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقرِّبهم من ربهم في دار النعيم. فإنْ قلت (¬1): ما معنى هذا التكرار؟ قلتُ: ليس فيه تكرار؛ لأنَّه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، ثم ذكر في هذه الآية ما منَّ به عليهم من المغفرة والرزق الكريم، وقيل: إنَّ إعادة الشيء مرةً بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به، فلما ذكرهم أولًا، ثم أعاد ذكرهم ثانيًا .. دل ذلك على تعظيم شأنهم وعلوِّ درجاتهم، وهذا هو الشرف العظيم. ¬

_ (¬1) الخازن.

[75]

75 - ثم أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأولين والأنصار .. فهو من جملتهم؛ أي: من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان, والمغفرة والرزق الكريم، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {مِنْ بَعْدُ}؛ أي: من بعد الهجرة الأولى، وقبل فتح مكة؛ لأنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكة؛ لأنَّها صارت دار إسلام بعد الفتح {وَهَاجَرُوا} من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين، بأن هاجروا بعد صلح الحديبية في السنة السادسة، وقبل الفتح، والسابقون: هم الذين هاجروا قبلها {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} في بعض مغازيكم {فَأُولَئِكَ} المذكورون {مِنْكُمْ}؛ أي: من جملتكم أيها المهاجرون الأولون والأنصار في المناصرة والموالاة، يعني (¬1) أنهم منكم، وأنتم منهم، فلهم ما لكم، لكن فيه دلالةٌ على أنَّ مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة؛ لأنَّ الله سبحانه ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين، وجعلهم معهم، وذلك معرض المدح والشرف، ولولا أنَّ المهاجرين الأولين أفضل وأشرف .. لما صحَّ هذا الإلحاق. ثم بيَّن سبحانه بأنَّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم وقرابة في التوارث والتناصر والموالاة، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ}؛ أي: أصحاب القرابات والأرحام، جمع رحم - بزنة قفل وكتف - وأصله: رحم المرأة، وهو موضع تكوين الولد، سمي به الأقارب لأنهم من رحم واحد؛ أي: وأولوا الأرحام، وأصحاب القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى} وأحق {بِبَعْضٍ} من المهاجرين والأنصار الأجانب في التناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة في ذلك العهد وفي كلِّ عهد {فِي كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: في حكمه الذي كتبه، وأوجبه على عباده المؤمنين، من صلة الأرحام، والوصية للوالدين وذي القربى، وفي حكمه الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء، أي: بعضهم أولى بعض في الإرث من التوارث بالإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة. ¬

_ (¬1) الخازن.

والخلاصة (¬1): أن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليه في جميع الولايات المتعلقة به، كولاية النكاح، وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريبٌ وبعيد يستحقان البر والصلة .. فالقريب أولى، كما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بنفسك، فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء .. فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك .. فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء .. فهكذا وهكذا"، أي: فللمستحق من الأجانب. وأخرج (¬2) أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، وورَّث بعض من بعض - بالهجرة والإخاء - حتى نزلت هذه الآية {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فتركوا ذلك، وتوارثوا بالنسب. وتمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام، وأجاب عنه الشافعي بأنه: لمَّا قال {فِي كِتَابِ اللَّهِ} .. كان معناه في حكم الله الذي بيَّنه في سورة النساء، فصارت هذه الآية مقيَّدةً بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء من قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم، وما بقي فللعصبات {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ أي: عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه، فهو سبحانه إنَّما شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة، والعهود والمواثيق، وصلة الأرحام، وأحكام القتال والغنائم، وسنن التشريع والأحكام عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية، ونحو الآية قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}. زادنا الله تعالى علمًا بفقه كتابه، ووفَّقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع القريب المجيب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام وجملة ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الموضوعات سبعة عشر: 1 - تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق، كقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}. 2 - كفاية الله تعالى رسوله مكر مشركي قريش من مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه في بلده، أو قتله، كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}. 3 - امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم، كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}. 4 - استغاثة الرسول ربَّه، وإمداده بالملائكة، كما قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}. 5 - كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به، ويرغب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق، كما قال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}. أمَّا المجادلة والمراجعة في المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحقُّ فيها .. فمحمودةٌ؛ إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن كثيرة. 6 - أنَّ من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله تعالى؛ أي: يكل إليه أموره وحده، فلا يتكل على مخلوق مربوب الخالق مثله، فكلُّ المخلوقات سواءٌ في الخضوع لسننه، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شيء من سببه خضوعًا لسننه في نظام خلقه، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها. وكل أمره فيها إلى ربه داعيًا أن يعلمه ما جهل منها، وأن يسخِّر له ما عجز عنه من جمادٍ، أو حيوان، أو إنسان، كما قال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وبيَّن فائدة ذلك بقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

7 - أنَّ الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضي إلى الزوال أو فقد الاستقلال، وإنَّ هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها، لا على مقترفي الظلم وحدهم، كما قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. 8 - أنَّ الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإنَّ حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدي الدين وحسن التربية والتعليم، كما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. 9 - أن تقوى الله في الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل، والخير والشر، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}. 10 - أن تغير أحوال الأمم وتنقلها في الأطوار من نعم إلى نقم، أو بالعكس أثرٌ طبيعي لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. 11 - وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها، وذلك يشمل السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كثرت أنواعه من بريٍّ وبحريٍّ وهوائيٍّ، ومرابطة الفرسان في ثغور البلاد؛ لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها، أو على أفرادها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. 12 - تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو؛ لأنَّ الحرب ضرورةٌ من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. 13 - المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم، وتحريم الخيانة سرًّا وجهرًا {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}.

14 - وجوب معاملة ناقض العهد بالشدة التي يكونون بها عبرةً ونكالًا لغيرهم تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}. 15 - جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه، حتى لا يرجع المشركون أحدًا عن دينه {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}. 16 - إتقاء التنازع والتفرق حال القتال؛ لأنَّه سبب الفشل وذهاب القوة {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وقد جرت على ذلك الدول في العصر الحديث، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب، وتكتفي بالشورى العسكرية التي شرعها الإِسلام، وعمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر، وفرضت عليه في غزوة أحد {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. 17 - منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال في حال الضعف، وجواز ذلك حين الإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة، مع ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمنٍّ أو فداءٍ. موضوعات السور المكية والمدنية واعلم: أن أمهات المسائل التي ذكرت في السور المكية: هي أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله، والتصديق بالوحي والرسالة والبعث والجزاء وقصص الرسل مع أقوامهم، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة، وجاء في أثناء محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، ودحض شبهاتهم، وإبطال ضلالاتهم، والنعي على خرافاتهم. وأمهات ما جاء في السور المدنية: قواعد التشريع التفصيلية ومحاجة أهل الكتاب، ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم، فكثر في سورة البقرة محاجة اليهود، وكثر في سورة آل عمران محاجة النصارى، وكثر في سورة المائدة محاجة الفريقين، وكثر في سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين، وكثر

في سورة التوبة فضائح المنافقين، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كتابه ومعاني كلامه. الإعراب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}. {مَا} نافية. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {لِنَبِيٍّ}: جار ومجرور خبر مقدم لكان على اسمها {أَنْ يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن المصدرية {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم ليكون على اسمها {أَسْرَى}: اسم يكون مؤخر، والتقدير: ما كان لنبي أن يكون أسرى كائنًا له، وجملة يكون صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا عن خبرها، تقديره: ما كان كون أسرى لنبي كائنًا له؛ أي: لائقًا به، وجملة كان مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى إلى. {يُثْخِنَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على نبي {فِي الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى تقدير: إلى إثخانه في الأرض، الجار والمجرور متعلق بكان. {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه, والجملة الفعلية مستأنفة {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يُرِيدُ الْآخِرَةَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ}: مبتدأ وخبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}. {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود {كِتَابٌ} مبتدأ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة أولى لكتاب. {سَبَقَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كتاب، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لكتاب، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا: لقيام جواب لولا مقامه، تقديره: لولا كتابٌ من

الله سبق موجود {لَمَسَّكُمْ}، على حدِّ قول ابن مالك: وَبَعْدَ لَوْلاَ غَالِبًا حَذفُ الخَبَرْ {اللام} رابطة لجواب لولا، {مسَّكم} فعل ومفعول. {فِيمَا} {في} حرف جر وسبب {ما} موصولة، أو موصوفة في محل الجر بفي. {أَخَذْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوفٌ، تقديره: فيما أخذتموه. الجار والمجرور متعلق بمسَّ. {عَذَابٌ}: فاعل مسَّ. {عَظِيمٌ}: صفة لعذاب، وجملة {مسَّ} جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة لولا مستأنفة. {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}. {فَكُلُوا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم {كلوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {كُلُوا} {غَنِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، والعائد محذوف، تقديره: مما غنمتموه. {حَلَالًا}: حال من ما الموصولة، أو من عائدها المحذوف، أو نعت لمصدر محذوف، تقديره: أكلًا حلالًا. {طَيِّبًا}: صفة حلالًا، أو حال ثانية. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معترضة؛ لاعتراضها بين العلة ومعلولها. {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {غَفُورٌ} خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، وجملة إنَّ مستأنفة معلَّلة لقوله: {فَكُلُوا}. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يا} حرف نداء {أيُّ} منادى نكرة مقصودة {ها} حرف تنبيه زائد. {النَّبِيُّ}: صفة لأيُّ، وجملة النداء مستأنفة. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية جواب النداء. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {قُلْ}. {فِي أَيْدِيكُمْ}: جار ومجرور صلة لـ {من} الموصولة {مِنَ الْأَسْرَى} حال مِنْ {مَنْ} الموصولة، أو من الضمير المستكن في الظرف قبله.

{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {إِنْ} حرف شرط {يَعْلَمِ اللَّهُ} فعل وفاعل مجزوم بإن، على كونه فعل شرط لها {فِي قُلُوبِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَعْلَمِ}. {خَيْرًا}: مفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}: فعل ومفعولان، مجزوم بإنْ، على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، وجملة إنْ الشرطية في محل النصب مقول قل {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرًا}. {أُخِذَ} فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ما {مِنْكُمْ} متعلق بـ {أُخِذَ} وجملة {أُخِذَ} صلة لما، أو صفة لها. {وَيَغْفِرْ}: فعل مضارع معطوف على {يُؤْتِكُمْ} على كونه جوابًا لإن الشرطية، وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ}: متعلق به {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر أول {رَحِيمٌ}: خبر ثان، أو صفة لـ {غَفُورٌ}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} حرف شرط. {يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} فعل وفاعل ومفعول، مجزوم على كونه فعل شرط لها. {فَقَدْ} {الفاء} رابطة الجواب وجوبًا؛ لاقترانه بقد. {قد} حرف تحقيق. {خَانُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم على كونه جوابًا لها. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة إنْ الشرطية مستأنفة. {فَأَمْكَنَ} {الفاء} عاطفة. {أمكن} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعوله محذوف، تقديره: فأمكنك {مِنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر أول {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. {إِنَّ}: حرف نصب {الَّذِينَ} اسمها {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة

الموصول. {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا}: معطوفان على {آمَنُوا}. {بِأَمْوَالِهِمْ} متعلق بـ {جاهدوا}. {وَأَنْفُسِهِمْ}: معطوف على {أموالهم}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاهدوا} أيضًا. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على الموصول الأول. {آوَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {وَنَصَرُوا}: معطوف على {آوَوْا}. {أُولَئِكَ} مبتدأ. {بَعْضُهُمْ} بدل من {أُولَئِكَ} بدل بعض من كل {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}. {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول {آمَنُوا}: صلة الموصول {وَلَمْ يُهَاجِرُوا}: معطوف عليه {مَا}: نافية {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مِنْ وَلَايَتِهِمْ}: جار ومجرور، حال {مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنَّه صفة نكرة قُدِّمت عليها {مِنْ}: زائدة {شَيْءٍ}: مبتدأ ثان مؤخر، والتقدير: ما شيء كائن لكم حال كونه كائنًا من ولايتهم، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره: جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى إلى. {يُهَاجِرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى مهاجرتهم، والجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بإن، على كونه فعل شرط لها {فِي الدِّينِ} متعلق به {فَعَلَيْكُمُ} {الفاء} رابطة الجواب، {عليكم} خبر مقدم {النَّصْرُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بإن على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {عَلَى قَوْمٍ}: جار ومجرور، متعلق بالنصر {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم. {وَبَيْنَهُمْ} معطوف عليه {مِيثَاقٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية

في محل الجر صفة {قَوْمٍ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما تعملونه {بَصِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة للتهديد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول. {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {إِلَّا} {إن} حرف شرط جازم مبني بسكون على النُّون المدغمة في لام لا. {لا} نافية. {تَفْعَلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. {تَكُنْ فِتْنَةٌ}: فعل وفاعل، مجزوم بإن على كونها جواب شرط لها، وكان هنا تامة بمعنى وقع وحصل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به {وَفَسَادٌ}: معطوف على {فِتْنَةٌ}. {كَبِيرٌ}: صفة {فساد}، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}. {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} معطوفان على {آمَنُوا}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {جاهدوا}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {آوَوْا}: صلة الموصول. {وَنَصَرُوا}: معطوف على {آوَوْا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان {هُمُ}: ضمير فصل. {الْمُؤْمِنُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {حَقًّا}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: إيمانًا حقًّا. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ مؤخر. {وَرِزْقٌ}: معطوف على {مَغْفِرَةٌ}. {كَرِيمٌ} صفة لـ {رزق}، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ الثاني، والتقدير: أولئك هم المؤمنون حقًّا، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {مِنْ بَعْدُ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنُوا} {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} معطوفان على {آمَنُوا} {مَعَكُمْ} متعلق بـ {وَجَاهَدُوا} {فَأُولَئِكَ} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا لشبهه بالشرط؛ لما فيه من العموم {أولئك} مبتدأ ثان. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ}: مبتدأ أول ومضاف إليه مرفوع بالواو المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنَّه ملحق بجمع المذكر السالم. {بَعْضُهُمْ}: مبتدأ ثان. {أَوْلَى}: خبر للمبتدأ الثاني. {بِبَعْضٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْلَى}. وجملة المبتدأ الثاني خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها. {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْلَى}، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الحكم المذكور كائن في كتاب الله تعالى، وجملة المبتدأ المحذوف مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بعليم. {عَلِيمٌ} خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}: الأسرى: جمع أسير - كجرحى جمع جريح - مأخوذ من الأسر، وهو الشدُّ بالإسار؛ أي: القَدّ من الجلد، وكان مَنْ يؤخذ من العسكر في الحرب يشد؛ لئلا يهربَ، ثم صار يطلق على أخذ الحرب وإن لم يشد. {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}: والإثخان: قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح: مأخوذ من الثخانة، وهي الغلظة والصلابة، فاستعمل في لازم المعنى الأصلي، وهو القوة، فكل شيء غليظ .. فهو ثخين، وفي "المصباح": وأثخن في الأرض إثخانًا: سار إلى العدو وأوسعهم قتلًا، وأثخنته: أوهنته بالجراحة وأضعفته. اهـ.

{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}: والعرض: ما يعرض ولا يدوم، سمي به حطام الدنيا؛ لأنَّه حدث قليل اللبث. {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ}: اختلف (¬1) المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق، ما هو؟ على أقوال: الأول: ما سبق في علم الله من أنَّه لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرَّمة على سائر الأمم. والثاني: أنَّه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخَّر، كما في الحديث الصحيح: "إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم". القول الثالث: هو أنَّه لا يعذبهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}. القول الرابع: أنَّه لا يعذِّب أحدًا بذنب فعله جاهلًا؛ لكونه ذنبًا. القول الخامس: أنَّه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس: أنَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي، ولم يتقدم نهي عن ذلك، وذهب ابن جرير الطبري إلى أنَّ هذه المعاني كلَّها داخلة تحت اللفظ، وأنَّه يعمها. {لَمَسَّكُمْ}، أي: لأصابكم ولحلَّ بكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ}؛ أي: بسبب ما أخذتم من الفداء، أو لأجل ما أخذتم. {فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}؛ أي: حسن إيمان، وصلاح نيةٍ وخلوص طوية {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}؛ أي: يعوضكم في هذه الدنيا رزقًا خيرًا منه، وأنفع لكم في الدنيا، أو ثوابًا في الآخرة. {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}؛ أي: مخادعتك، والخيانة: مصدر خان يخون، وأصل يائه الواو، فقلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها، ووقوع الألف بعدها. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{وَالَّذِينَ آوَوْا} أصله: أأووا - بهمزتين - أولاهما: همزة أفعل الرباعي، وثانيتهما: فاء الكلمة؛ لأنَّ ثلاثيه أوى بهمزة واحدة، يقال: أوى البيت، أو إلى البيت يأوي أويًا وإواءً نزل فيه، وآواه البيت يؤويه إيواءً: أنزله فيه. {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}: يقرأ بكسر الواو وفتحها، قيل (¬1): هما لغتان، وقيل: المكسور مصدرٌ؛ تشبيهًا بالعمل والصناعة، كالكتابة والإمارة اهـ. "بيضاوي". يعني: إنَّ فعالة - بالكسر في المصدر - إنما يكون في الصناعات، وما يزول الكتابة والإمارة والزراعة والحراثة والخياطة والولاية .. ليست من هذا القبيل إلا على التشبيه اهـ. زكريا، والمفتوح: معناه الموالاة في الدين، وهي النصرة اهـ. "سمين". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ}؛ لأنَّ الثخانة حقيقة في الغلظة والصلابة، فاستعمل هنا في لازمه الذي هو القوة. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {عَرَضَ الدُّنْيَا} شبه منافع الدنيا ولذاتها بالعرض الذي هو من صفات الأجرام وأحوالها، بجامع عدم الثبات والدوام في كلٍّ، فاستعار لها لفظ عرض على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: الطباق بين لفظ {الدُّنْيَا} ولفظ {الْآخِرَةَ}. ومنها: الجناس المغاير بين {خِيَانَتَكَ} و {خَانُوا} في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}. ومنها: التكرار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا}، وقوله: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ومنها: الجناس المماثل في: {هاجروا} {وَلَمْ يُهَاجِرُوا}، والمغاير في قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}. ومنها: المقابلة بين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة التوبة

سورة التوبة سورة التوبة (¬1) مدنيةٌ بإجماع المفسرين، قال ابن الجوزي: سوى آيتين في آخرها {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة، فإنَّهما نزلتا بمكة، وهي مئة وتسع وعشرون آية، وقيل: مئة وثلاثون آية، وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمةً، وعشرة آلافٍ وأربع مئة وثمان وثمانون حرفًا. التسمية: ولهذه السورة أسماء عشرة (¬2): منها: سورة التوبة؛ لأنَّ فيها التوبة على المؤمنين. ومنها: سورة براءة؛ لأنَّ فيها ذكر براءة الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، وهذان الاسمان مشهوران. ومنها: المقشقشة، قاله ابن عمر؛ لأنَّها تقشقش من النفاق؛ أي تبرىء منه. ومنها: المبعثرة؛ لأنَّها تبعثر عن أخبار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها. ومنها: الفاضحة، قاله ابن عباس؛ لأنَّها فضحت المنافقين. ومنها: سورة العذاب، قاله حذيفة. ومنها: المخزية؛ لأنَّ فيها خزي المنافقين. ومنها: المدمدمة؛ لأنَّ فيها هلاك المنافقين. ومنها: المشردة؛ لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم. ومنها: المثيرة؛ لأنَّها أثارت مخازي المنافقين، وكشفت عن أحوالهم، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

وهتكت أستارهم. وعن سعيد بن جبير قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تقول: ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها. قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر. قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: بل سورة النضير. أخرجاه في "الصحيحين". فصلٌ في بيان سبب ترك كتابة البسملة في أول هذه السورة وقد اختلف العلماء في سقوط البسملة من أولها على أقوال (¬1): عن المبرد وغيره أنَّه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهدٌ فأرادوا نقضه .. كتبوا إليهم كتابًا، ولم يكتبوا فيه بسملةً، فلمَّا نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين .. بعث بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، فقرأها عليهم، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت عليَّ بن أبي طالب: لِمَ لا تكتب في براءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}؟ قال: لأنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} أمان، وبراءة نزلت بالسيف. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} ووضعتموها في السبع الطِّوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء .. دعا بعض من كان يكتب، فيقول: "ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ¬

_ (¬1) الشوكاني والخازن.

القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنَّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما, ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} ووضعتها في السبع الطوال. وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة، أسورتان أم سورة؟ قال: سورتان. وقال محمَّد بن الحنفية (¬1)، قلت لأبي - يعني عليَّ بن أبي طالب -: لِمَ لَمْ تكتبوا في براءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}؟ قال: يا بنيَّ إنَّ براءة نزلت بالسيف، وإن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأنَّ للتسمية رجَّةً، والرجة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين. وسئل أبي بن كعب عن هذا، فقال: إنَّها نزلت في آخر القرآن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر في كل سورة بكتابة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}، ولم يأمر في براءة بذلك، فضمت إلى الأنفال؛ لشبهها بها. وقيل: إن الصحابة اختلفوا في سورة الأنفال وسورة براءة، هل هما سورة واحدةٌ أم سورتان؟ فقال بعضهم: سورة واحدة؛ لأنَّهما نزلتا في القتال، ومجموعهما معًا مئتان وخمس آيات، فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال. وقال بعضهم: هما سورتان. فلمَّا حصل هذا الاختلاف بين الصحابة .. تركوا بينهما فرجةً؛ تنبيهًا على قول من يقول إنهما سورتان، ولم يكتبوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}؛ تنبيهًا على قول من يقول هما سورة واحدة، وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهي آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ - أي: شدة الحر - زمن العسرة، وفي أثنائها ظهر من علامات نفاق المؤمنين ما كان خفيًّا. قيل: وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا ليقرأها على المشركين في الموسم. ¬

_ (¬1) الخازن.

روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة. ثم اختلف (¬1) العلماء في ابتداء هذه السورة بها، فقال ابن حجر من الشافعية: بالحرمة. وقال الرملي: بالكراهة. وفي الأثناء: يكره عند الأول ويجوز عند الثاني، ومذهب مالك كذلك. وقد أشار إلى ذلك صاحب "الشاطبية" بقوله: وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأَتَ بَرَاءَةً ... لَتَنْزِيْلِهَا بِالسِّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ وَلاَ بُدَّ مِنْهِا فِيْ ابتِدَائِكَ سُوْرَةً ... سِوَاْهَا وَفِيْ الأَجْزَاءِ خُيِّرَ مَنْ تَلاَ ومما ورد في فضلها: ما أخرجه أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب: تعلَّموا سورة براءة، وعلِّموا نسائكم سورة النور. ومنه ما رُوي: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آيةً، إلا سورة براءة وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فإنَّهما نزلتا ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة". الناسخ والمنسوخ فيها: قال الشيخ أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة التوبة مدنية، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، فيها سبع آيات منسوخات: أولاهنَّ: قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} الآية (1 - 3) التوبة، نسخت بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (5) التوبة. الآية الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية (34) التوبة، نسخت بالزكاة الواجبة. الآية الثالثة: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الآية (39)، نسخت بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (122). ¬

_ (¬1) الصاوي.

الآية الرابعة: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية (43)، نسخت بقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} (62) النور. الآية الخامسة: قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية (80)، نسخت بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية (6) المنافقون. الآية السادسة: قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} الآية (97). هذه الآية والتي تليها منسوختان بقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}. المناسبة مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬1): أنَّ سورة براءة كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما في أصول الدين وفروعه، وفي التشريع الذي جله في أحكام القتال والاستعداد له وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي لذلك، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين ¬

_ (¬1) المراغي.

المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين، والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بدىء به في الأنفال .. تيمم به في براءة، وهاك أمثلةً لذلك: 1 - تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب. 2 - ذكر في الأنفال صدَّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنَّهم ليسوا بأوليائه، وجاء في براءة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} إلى آخر الآيات. 3 - ذكرت العهود في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها. 4 - ذكر في سورة الأنفال الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه في براءة. 5 - جاء في سورة الأنفال ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وفصل ذلك في براءة أتم تفصيل. قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله .. أردف ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم، والأمان الذي أعطي لهم للضرب في الأرض. قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارًا، ثم ذكر ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ - وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها - بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر، من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم إلا من يستجير بالرسول يسمع كلام الله، فإنه يجار حتى يسمعه .. أردف ذلك ببيان أنَّ هذا النبذ وما يترتب عليه إنَّما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين، أو دونه. قوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم، حتى مراعاة القرابة والوفاء، ونحوهما مما يمدح عندهم .. أردف ذلك بذكر السبب في هاتين الآيتين. قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين عداوة المشركين للمؤمنين .. أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك، وهو لا يعدو أحد أمرين، فصلهما في هاتين الآيتين. التفسير وأوجه القراءة 1 - وقوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه (¬2) الآيات الآتية التي أُمر عليُّ بن أبي طالب بالنداء بها يوم النحر - وهي أربعون آية تنتهي إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} - براءة من جهة الله ورسوله، واصلة {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: هذه الآيات دالة على البراءة، أي: على التبري والتباعد من الله ورسوله، أي: على انقطاع الوصلة بينهما وبين المشركين، و {من} ابتدائية، وقرىء شاذًا: {من الله} - بكسر النون - على أصل التقاء الساكنين، ذكره أبو البقاء. أي: تبرّؤ وتباعدٌ مبتدأ من الله ورسوله من عهود المشركين الناقضين للعهد؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أذن في معاهدة المشركين، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

فاتفق المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاهدهم، ثم إن المشركين نقضوا العهد، فأوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين، ونسب (¬1) البراءة إليهما من قبل أنَّه تشريع جديد شرعه الله تعالى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذه، ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين - وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد -؛ لأنه عقده بوصف كونه الإِمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقادة من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح. وقرأ عيسى بن عمر: {براءةً} بالنصب، قال ابن عطية: أي: الزموا، وفيه معنى الإغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءةً، قال البغوي: لمَّا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) إلى تبوك .. كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودًا كانت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} اهـ. وقال الحافظ ابن كثير (¬3): اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن له عهد دون أربعة أشهر فيكمَّل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهدٌ مؤقت .. فأجله إلى مدته مهما كانت؛ لقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} ولما سيأتي في الحديث "ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ .. فعهد إلى مدته" وهذا أحسن الأقوال وأقواها، واختاره ابن جرير رحمه الله اهـ. رُوي (¬4): أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يحجَّ سنة تسع، فقيل له: إن المشركين يحضرون الحج ويطوفون بالبيت عراة، فقال: "لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك"، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرًا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البغوي. (¬3) ابن كثير. (¬4) المراح.

[2]

معه أربعين آية من صدر براءة، ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليًّا على ناقته العضباء، ليقرأ على الناس صدر براءة، وأمره أن يؤذِّن بمكة ومنى وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، فسار أبو بكر أميرًا على الحجاج، وعليٌّ بن أبي طالب يؤذِّن ببراءة، فلمَّا كان قبل يوم التروية بيوم .. قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس، وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحجَّ، والعرب في تلك السنة على معاهداتهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر .. قام عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذَّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم أول سورة براءة، وقال عليٌّ: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد .. فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد .. فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج، فقال المشركون لعليٍّ عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وإنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح، وضرب بالسيوف. ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر حجة الوداع، وقال: "إن الزمان قد استدار ... " الحديث. 2 - وقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} مقول لقول محذوف، هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين مبين لما يجب عليهم أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم؛ أي: فقولوا أيها المسلمون للمشركين: سيحوا في الأرض؛ أي: سيروا في نواحي الأرض كيف شئتم، مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين، لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتل ولا قتال مدة أربعة أشهر، تبتدىء من عاشر ذي الحجة من سنة تسع للهجرة - وهو يوم النحر الذي بلِّغوا فيه هذه الدعوة - وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر. قال الكلبي: إنّما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك .. فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}.

[3]

والحكمة في تحديد هذه المدة (¬1): ليكون لهم فسحة من الوقت للنظر والتفكير في عاقبة أمرهم، والتخير بين الإِسلام والاستعداد للقتال إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السماحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال: إنه أخذهم على غرة. {وَاعْلَمُوا} أيها المشركون {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}؛ أي: غير فائتي عذاب الله تعالى، وأن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم، بل للطف بكم؛ ليتوب من تاب منكم؛ أي: اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم، فافعلوا كل ما أمكنم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب، فإنكم لا تعجزون الله، بل الله يعجزكم ويأخذكم؛ لأنكم في ملكه {و} اعلموا أيضًا {أن الله} سبحانه وتعالى {مُخْزِي الْكَافِرِينَ}؛ أي: مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب. والمعنى (¬2): واعلموا أنَّكم لن تعجزوا الله تعالى، ولن تفوتوه فتجدوا مهربًا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط عليكم المؤمنين ويؤيِّدهم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين، فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله في الدنيا والآخرة، كما جاء في مشركي مكة ومن نحا نحوَهم: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}. 3 - وقوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} خبر لمحذوف، تقديره: أي وهذه الآيات الآتي ذكرها أذان وإعلام صادر من الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واصل {إِلَى النَّاسِ} كافة، غير مختص بقوم دون قوم، واقع {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} وهو يوم العيد؛ لأنَّ فيه تمام معظم أفعال الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي، وعن (¬3) علي بن أبي طالب قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

فقال: "يوم النحر" أخرجه الترمذي، قال: ويروى موقوفًا عليه، وهو أصح. وعن عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال: "أيُّ يوم هذا؟ " فقالوا: يوم النحر، فقال: "هذا يوم الحج الأكبر" أخرجه أبو داود. وقيل: هو يوم عرفة؛ لأنَّ الوقوف بعرفه معظم أفعال الحج، ويروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب. ووصف الحج بالأكبر؛ احترازًا عن العمرة، فهي الحج الأصغر, لأنَّ أعمالها أقلُّ من أعمال الحج؛ إذ يزيد عليها بأمور، كالرمي والمبيت، فكان أكبر بهذا الاعتبار. وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} على حذف الجار، والتقدير: أي: هذه الآيات أذان وإعلام صادر من الله ورسوله إلى الناس كافة بأن الله سبحانه وتعالى بريء من موالاة المشركين الناقضين للعهد، ورسوله بريءٌ منهم أيضًا. فإن قلت (¬1): لا فرق بين قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} وبين قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فما فائدة هذا التكرار؟ قلت: المقصود من الآية الأولى: البراءة من العهد، ومن الآية الثانية: البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد، والذي يدل على صحة هذا الفرق: أنَّه قال في أولها {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى} يعني بريءٌ إليهم، وفي الثانية: بريء منهم. والمعنى: وهذا الآتي من الآيات إعلامٌ (¬2) من الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبراءة من عهود المشركين وموالاتهم وسائر خرافات شركهم وضلالهم في وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر الذي هو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الحجاج لإتمام مناسكهم في مِنى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل (¬1): {واذْن} بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: {إن الله} بكسر الهمزة والفتح على تقدير: بأن والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأن الأذان في معنى القول، فكسرت على مذهب الكوفيين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وزيد بن علي وأبو رزين وأبو مجلز وأبو رجاء ومجاهد وابن يعمر: {ورسولَه} بالنصب عطفًا على لفظ اسم إنَّ، وأجاز الزمخشري أن ينصب على أنه مفعول معه، وقرىء بالجر شاذًّا، ورويت عن الحسن، وخرجوا على العطف على الجوار، كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار، وقيل: هي واو القسم، وهذا تخريج ضعيف جدًّا، إذ لا معنى للقسم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله، وروي أن أعرابيًّا سمع من يقرأ بالجر، فقال: إن كان الله بريئًا من رسوله .. فأنا برىءٌ منه: فلبَّبه القارئ إلى عمر، فحكى الأعرابيُّ قراءته، فعندها أمر عمر بتعليم العربية، وأما قراءة الجمهور بالرفع، فعلى الابتداء. والخبر محذوف؛ أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. ثم أكد ما يجب أن يبلَّغوه بلا تأخير بقوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ} أيها المشركون من الشرك .. {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: فالتوب خير لكم في الدارين لا شر؛ أي: قولوا لهم أيها المبلِّغون، فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم، بنقض العهد وقبلتم هدى الإِسلام .. فذلك المتاب خير لكم في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ في هدايته سعادتكم فيهما {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}، أي: أعرضتم عن المتاب من الشرك {فَاعْلَمُوا} أيها المشركون {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}، أي: غير فائتين من عذاب الله، فإن الله قادرٌ على إنزال أشد العذاب بكم، والمعنى: وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة .. فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه، ولا فائتيه، فلن تفلتوا من حكم سننه، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَبَشِّرِ} أيها الرسول الكريم {الَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا رسالتك ولم ¬

_ (¬1) الخازن.

[4]

يؤمنوا بالله وملائكته واليوم الآخر {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، وفي استعمال البشارة فيما يسوء ويكره، ضرب من التهكم بهم، وفيه من الوعيد ما لا يخفى، فالبشارة على سبيل الاستهزاء، كما يقال إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب، أو المعنى أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر، 4 - وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال الزجاج (¬1): إنه استثناء من قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخ والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم، وقال في "الكشاف": إنه مستثنى من قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} والتقدير: فقولوا لهم: سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم من المشركين {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} من شروط الميثاق ولم يضروكم؛ أي: لم يقع منهم أيُّ نقص وإن كان يسيرًا. وفيه دليلٌ على أنه كان من أهل العهد من خان بعهده، ومنهم من ثبت عليه فأذن الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، بنقض عهد من نقض وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته {وَلَمْ يُظَاهِرُوا}؛ أي: ولم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم، وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد وابن السميقع {ينقضوكم} بالضاد المعجمة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، لدلالة الكلام عليه. {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}؛ أي: إلى وقت أجلهم تسعة أشهر، كما سيأتي قريبًا، والمعنى (¬2): لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، بشرط أن لا ينقضوا شيئًا من شروط الميثاق، ولا يضاروكم ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم؛ أي: فلا تجعلوا الوافين كالغادرين، وهم بنو ضمرة حيٌّ من كنانة، أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، فإنهم ما غدروا من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

هذين الوجهين. وفي ذلك (¬1) إيماءٌ إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإِسلام ما دام العهد معقودًا، وإلى أنَّ العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أنَّ من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدوِّ المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره، بنصه وفحواه، فإن نقص شيئًا منه وأخل بغرض من أغراضه .. عد ناقضًا له، كما قال: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} ويدخل في الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين؛ لأن المقصود من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر، وحرية التعامل بينهما. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}؛ أي: الذين يتقون نقض العهد، وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام، وتمنع جريان العدل بين الناس. وفي ذلك إيماء إلى أنَّ مراعاة حقوق العهد تدخل في حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفيِّ والغادر منافية لذلك، وإن كان المعاهد مشركًا. وقد ورد في تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها؛ أي: التبليغ العلني، أحاديث في الصِّحاح، أشهرها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أبا بكر رضي الله عنه أميرًا على الحج سنة تسع، وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحجَّ أنهم يمنعون منه بعهد ذلك العام، ثم أردفه بعليِّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر، لينظروا في أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها، من أول سورة براءة وهي نحو أربعين آية. وقد كان من عادة العرب أنَّ العهود ونبذها إنما يكون ممن عاقدها أو من أحد عصبته القريبة، وإنَّ عليًّا اختصَّ بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبي هريرة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذِّنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، ألَّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب: وأمره أن يؤذِّن ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. 5 - {فَإِذَا انْسَلَخَ}: أي: انقضى ومضى وخرج {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ}؛ أىِ: الباقي منها من وقت نبذ العهد، وهو يوم النحر، والباقي منها خمسون يومًا ينقضي بانقضاء المحرم، فالمراد بالأشهر الحرم على هذا المعنى الأشهر المعروفة التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، واحدٌ فردٌ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يومًا تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله تعالى، بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم، منهم الضحاك والباقر وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير. وقيل: المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} وسميت حرمًا؛ لأن الله سبحانه حرَّم فيها على المسلمين دماء المشركين والتعرض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وغيرهم. وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة, ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمر وابن شعيب ومحمد ابن إسحاق وقتادة وغيرهم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الناكثين خاصَّةً {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ أي: في أيِّ مكان وجدتموهم من حلٍّ أو حرم، وفي أيِّ وقت، قال الشوكاني (¬1): وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من ¬

_ (¬1) فتح القدير.

خصته السنة، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب، الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كلَّ آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. انتهى. {وَخُذُوهُمْ}؛ أي: وأسروهم والأخيذ الأسير {وَاحْصُرُوهُمْ}؛ أي: وامنعوهم من إتيان المسجد الحرام ومن التقلب في البلاد، وقرىء: {وحاصروهم} شاذًّا {وَاقْعُدُوا لَهُمْ}؛ أي: لأجل مراقبتهم {كُلَّ مَرْصَدٍ}؛ أي: في كل ممر وطريق يسلكونه، لئلا ينبسطوا في البلاد. والمعنى (¬1): فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين .. فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقًا للمصلحة، من تدابير الحرب وشؤونها؛ لأنَّ الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية: 1 - قتلهم في أي مكان وجدوا فيه من حل أو حرم. 2 - أخذهم أسارى، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر في سورة الأنفال بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}؛ لأن الإثخان، وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد. 3 - حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن، بأن يحاط بهم، ويمنعوا من الخروج والانفلات، حتى يسلموا أو ينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه، أو بدون شرط. 4 - القعود لهم كل مرصد؛ أي: مراقبتهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه، ورؤية تجولهم وتقلبهم في البلاد. وهذه الآية تسمى: آية السيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال، وقد كان مؤجلًا ومنسّأً إلى أن يقوى المسلمون، وكان الواجب عليه في حال الضعف الصبر على الأذى. ¬

_ (¬1) المراغي.

{فَإِنْ تَابُوا} عن الشرك الذي يحملهم على عدواتكم وقتالكم ودخلوا في الإِسلام، بأن نطقوا بالشهادتين {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} المفروضة كما تقيمونها في الأوقات الخمسة، والصلاة مظهر الإِسلام وأكبر أركانه وهي مطلوبة من الغني والفقير والأمير والمأمور، وهي حق الله على عباده، تزكى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده. {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}؛ أي: وأدوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء والمصالح العامة {فَخَلُّوا} أيها المؤمنون {سَبِيلَهُمْ}؛ أي: واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم، إذا كانوا مقاتلين، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} يغفر لهم ما سبق من الشرك، وغيره من سيئاتهم {رَحِيمٌ} يرحمهم فيمن يرحم من عباده، وقد جاء في الأثر: "الإِسلام يجب ما قبله". وفي الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤدِّيهما حقوق المسلمين، من حفظ الدم والمال، إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضي حدًّا معلومًا أو جريمةٍ توجب تعزيرًا أو تغريمًا. روى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك .. عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله". والخلاصة: أن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم في جماعة المسلمين بالفعل، والتزامهم شرائع الإِسلام وإقامة شعائره، إذ مقتضى الشهادة الأولى: ترك عبادة غير الله تعالى، ومقتضى الشهادة الثانية: طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، واكتفى من أركان الإِسلام بالصلاة التي تجب في اليوم والليلة خمس مرات لأنها الرابطة الدينية والروحية

[6]

الاجتماعية بين المسلمين، وبالزكاة؛ لأنها الرابطة المالية الاجتماعية، فمن أقامهما .. كان أجدر بإقامة غيرهما. 6 - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرت بقتالهم وقتلهم بعد انقضاء الأشهر الحرم {اسْتَجَارَكَ}؛ أي: استأمنك؛ أي: طلب منك الأمان والجوار ليسمع كلام الله منك، أو لحاجة أخرى .. {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}؛ أي: فأمنه حتى يسمع قراءتك لكلام الله، ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه، ونقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلًا من المشركين، قال لعلي بن أبي طالب: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجةٍ أخرى .. فهل نقتل؟ فقال علي: لا، فإن الله تعالي قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}؛ أي: ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم، والمعنى: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، إلا من طلب منكم الأمان، ليعلم ما أنزل الله تعالى وأمر به من دعوة الإِسلام، فإنَّ بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغًا مقنعًا، ولم يسمعوا شيئًا من القرآن، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه؛ لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه. والخلاصة: وإن استأمنك أيها الرسول الكريم أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله، ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه أو ليلقاك، وإن لم يذكر سببًا .. فأجره وأمنه على نفسه وأمواله؛ لكي يسمع أو لكي يراك، فإنّ هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإن اهتدى وآمن عن علم وإقناع .. فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن فيه على نفسه، ويكون حُرًّا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر. والمراد بالسماع: أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة، ويتبين به بطلان الشرك، وحقيقة التوحيد، والبعث، وصدق الرسول في تبليغه عن الله فإنه إذا ألقى إليه السمع .. لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبية والعدوان للداعي،

[7]

فإن لم يفعل ذلك .. كان له شأنه: وكانت له حريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام وهو على هذا الحال. {ذَلِكَ} المذكور من إجارة المستجير من المشركين، وإعطاء الأمان له إلى أن يسمع كلام الله {بـ} سبب {أنهم قوم لا يعلمون}؛ أي: لا يفقهون ولا يدرون ما الكتاب وما الإيمان, وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبيةٍ واغترارٍ بالقوة وإصرارٍ على الجفوة، فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله .. أجيبوا إلى ذلك؛ لأنَّ هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم، والرسول صلوات الله عليه إنما أرسل مبشرًا ونذيرًا. وفي الآية إيماءٌ إلى أن التقليد في الدِّين غير كاف، وأنه لا بد عن النظر والاستدلال؛ لأنه لو كان كافيًا .. لوجب أن لا يمهل الكافر بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك؟ فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال، فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق، ببحثه عن الدليل والتفكير فيه .. أمهل، وترك، وإن ظهر أنه معرض عن الحق .. لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه. 7 - والاستفهام في قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} للتعجب المتضمن للإنكار والاستبعاد وفي الآية إضمار، والمعنى كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله يَأْمَنُون به من عذابه؟ أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد. وقيل (¬1) معنى الآية: محالٌ أن يثبت لهؤلاء عهدٌ، وهم أضدادٌ لكم مضمرون للغدر، فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدِّثوا به أنفسهم، ثم استدرك على ذلك فقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؛ أي: عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية، ولم ينقضوا ولم ينكثوا، فلا تقاتلوهم {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ}؛ أي: فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[8]

{فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}؛ أي: فدوموا لهم على عهدهم ولا تقاتلوهم، قيل: هم بنو بكر، وقيل: بنو كنانة وبنو ضمرة، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، ولم يكن نقض العهد أحدٌ إلا قريش وبنو الدِّيل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض العهد، وهم بنو ضمرة، وهذا القول هو الصواب وإنما (¬1) كان صوابًا؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد، وذلك قبل فتح مكة؛ لأن بعد الفتح كيف يقول لشيءٍ قد مضى: فما استقاموا لكم .. فاستقيموا لهم، وإنما هم الذين قال الله عَزَّ وَجَلَّ فيهم: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} كما نقصكم قريشٌ ولم يظاهروا عليكم أحدًا، كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجملة قوله {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا، ويتقون نقضه، تعليلٌ للأمر بالاستقامة المذكور قبله 8 - والاستفهام في قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}: تعجبيٍّ إنكاري أيضًا كرره للتأكيد؛ والتقدير: كيف يكون لهم عهدٌ عند الله، وعند رسوله، والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم؛ أي: إن يظفروا بكم ويغلبوكم ويعلوا عليكم {لَا يَرْقُبُوا}؛ أي: لا يحفظوا ولا يراعوا {فِيكُمْ} أيها المؤمنون {إِلًّا} أي: قرابة ورحمًا، وقرىء {إيلًا} بوزن ريح {وَلَا} يراعون فيكم {ذِمَّةً}؛ أي: عهدًا؛ أي: لا يتركونكم لأجل القرابة التي بينكم وبينهم ولا للعهد الذي عاهدوه لكم. والمعنى (¬2): كيف لا تقتلونهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابةً ولا ضمانًا، بل يؤذونكم ما استطاعوا، وقوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} كلام مستأنف لبيان حالهم عند عدم الظفر، فهو مقابل في المعنى لقوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...} الخ. أي: يقولون بألسنتهم كلاما حلوًا طيبًا من الوعد بالإيمان والوفاء بالعهد، مجاملةً لكم وتطيبًا لقلوبكم {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ}؛ أي: تمتنع قلوبهم ذلك الذي يقولونه بألسنتهم من الإيمان والوفاء بالعهد؛ أي تخالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم كما يفعله أهل النفاق وذو الوجهين، فإنهم لا يضمرون لكم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

[9]

إلا الشر والإيذاء إن قدروا {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}؛ أي: كاذبون ناقضون للعهد خارجون عن الحق، مذمومون عند جميع الناس، وفي جميع الأديان، والمعنى: هم يخادعونكم (¬1)، حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسولٍ، يرون أنه يرضيكم، سواء أكان عهدًا، أم وعدًا أم أيمانًا مؤكدة، وقلوبهم مملوءة ضغنًا وحقدًا {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فهم إن ظهروا عليكم .. نكثوا العهود وحنثوا بالأيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون، وإنما يفعلون ذلك؛ لأنَّ أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق، متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، فليس لهم مروءة رادعةٌ، ولا عقيدة وازعة، ولا يتعففون عن الغدر، وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض، وإنما وصف الأكثر؛ لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفون الذين استثناهم الله تعالى، وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم. فإن قلت: (¬2) إن الموصوفين بهذه الصفة كفار، والكفر أخبث وأقبح من الفسق، فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم، وما الفائدة في قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}، مع أنَّ الكفار كلهم فاسقون؟ قلتُ: قد يكون الكافر عدلًا في دينه، وقد يكون فاسقًا خبيث الفسق في دينه، فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين: أنهم نقضوا العهد، وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم، فيكون أبلغ في الذم، وإنما قال: أكثرهم، ولم يقل: كلهم فاسقون؛ لأنَّ منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه، وأكثرهم نقضوا العهد، فلهذا قال سبحانه وتعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} وقيل (¬3): معنى وأكثرهم: وكلهم فاسقون، قاله: ابن عطية والكرماني. 9 - {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها؛ أي: تركوا آيات الله الآمرة بالاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا لأجل تحصيل الشهوات، والمعنى استبدلوا آيات الله بالأعراض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[10]

الفانية والشهوات الزائلة، وذلك أن أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحملتهم تلك الأكلة على نقض العهد، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بسبب تلك الأكلة {فَصَدُّوا}؛ أي: منعوا الناس عن {سَبِيلِهِ}؛ أي: عن الدخول في دين الله تعالى، أو صدُّوا الناس عن سبيل البيت الحرام، حيث كانوا يصدُّون الحجاج والعمار عنه، أو معنى فصدوا عن سبيله؛ أي: فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بئس ما كانوا يعملونه من الشرك ونقضهم العهد، ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإِسلام. وحاصل المعنى: أنهم (¬1) استبدلوا بآيات الله الدالة على توحيده بالعبادة وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية للناس وعلى البعث والجزاء على الأعمال ثمنًا قليلًا من حطام الدنيا، وهو ما هم فيه من رخاء العيش، وكثرة الأموال، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإِسلام، وما يقتضيه من الوفاء، وصدوا غيرهم أيضًا، وجعله قليلًا؛ لأنه زائلٌ غير باق، وما عند الله باق دائم، وهو خير وأبقى، روي أن أبا سفيان لمَّا أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية .. صنع لهم طعامًا استمالهم به، فأجابوه إلى ما طلب {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: قبح عملهم الذي يعملونه، من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصد عن دين الله، وما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من البينات والهدى. 10 - وقوله: {لَا يَرْقُبُونَ}؛ أي: لا يرقب هؤلاء المشركون الناقضون للعهد ولا يحفظون {فِي مُؤْمِنٍ} أيَّ مؤمن كان، سواء كان منكم أيها المخاطبون، أو من غيركم {إِلًّا}؛ أي: قرابةً ورحمًا {وَلَا ذِمَّةً}؛ أي: ولا عهدًا؛ أي: لا يلتفتون إلى قرابته ولا إلى عهده، إذا قدروا عليه .. قتلوه، فلا تبقوا أنتم عليهم، كما لا يبقوا عليكم إذ ظهروا عليكم، ولا تكرار (¬2) هنا؛ لأن الأول: على الخصوص، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

[11]

حيث قال: فيكم، والثاني: على العموم، حيث قال: في مؤمن، كما أشرنا إليه في الحل آنفًا؛ أي: ومن أجل هذا الكفر الذي رسخ فيهم لا يرعون في مؤمن يقدرون على الفتك به قرابةً تقتضي الود، ولا ذمةً توجب الوفاء بالعهد، ولا ربًّا يحرم الخيانة والغدر، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدًا ولا يستحل غدرًا ولا يقطع رحمًا {وَأُولَئِكَ} المشركون الناقضون للعهد {هُمُ الْمُعْتَدُونَ}؛ أي: المجاوزون للحلال إلى الحرام أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى، والعلة في هذا رسوخهم في الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر، والاعتصام بالإيمان, والتمسك بفضائل الأخلاق، وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال. 11 - {فَإِنْ تَابُوا}؛ أي: فإن رجع هؤلاء المشركون، الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله تعالى، إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إليه وأطاعوه {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: أدوها بشروطها وأركانها {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} المفروضة، كرر (¬1) هذا الشرط؛ لاختلاف جزائه مع جزاء الأول، إذ جزاء الشرط في الأول تخلية سبيلهم في الدنيا، وفي الثاني أخوَّتهم لنا في الدين، وهي ليست عين تخليتهم، بل سبيلها {فـ} هم {إخوانكم في الدين} الذي أمركم به، لَهُمْ مَا لَكُمْ، وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف في المساجد؛ لإقامة الصلوات، وأداء الصدقات، بمواساة الغني للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها، إذ كان بعضهم حربًا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار. {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ}؛ أي: وإنا نبين حجج آياتنا وأدلة أحكامنا، ونوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ أي: لقوم يفهمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته، وهذه (¬2) الجملة اعتراضية، للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين، أو خصال ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البيضاوي.

[12]

التائبين، 12 - {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}؛ أي: نقضوا عهودهم التي بينكم وبينهم {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ}؛ أي: من بعد ما عادوكم على أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم، والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد، كفار قريش، وفي "أبي السعود" {وَإِنْ نَكَثُوا} عطف (¬1) على قوله: {فَإِنْ تَابُوا}؛ أي: وإن لم يفعلوا ذلك، بل نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم الموثق بها، وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القول إلى حسبما ينبىء عنه، قوله تعالى: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا} الآية وثبتوا على ما هم عليه من النكث، لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل اهـ. {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}؛ أي: عابوا دينكم بالتكذيب، وتقبيح الأحكام، وفي هذا دليل على الذمي، إذا طعن في دين الإِسلام وعابه ظاهرًا لا يبقى له عهد، وعطف (¬2) {وَطَعَنُوا} على ما قبله، مع أن نقض العهد كافٍ في إباحة القتل؛ لزيادة تحريض المؤمنين على قتالهم وقيل معناه: وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم فيكون عطف تفسيرٍ {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}؛ أي: قاتلوا رؤساء المشركين وقادتهم، والمراد: قاتلوا الكفار بأسرهم، فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر أحقاء بالقتل والقتال، قال ابن عباس (¬3): نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهدهم، وهموا بإخراج الرسول، وقيل: أراد جميع الكفار، وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة، ففي قتالهم قتال الأتباع، وقال مجاهد: هم فارس والروم، وقل غير ذلك، وقال ابن عطية: أصوب ما في هذا أن يقال: إنه لا يعني بها معين؛ وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة من غير تعيين {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}؛ أي: إنهم لا عهود لهم على الحقيقة؛ لأنهم لا يعدون نقضها محذورًا، وهم لمَّا لم يفوا بها .. صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان، وإن أجروها على ألسنتهم. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) زاده. (¬3) الخازن.

والمعنى: أي وإن نكث (¬1) هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم، واستهزؤوا به، وصدوا الناس عنه، ومن ذلك الطعن في القرآن، وفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يفعل شعراؤهم، الذين أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، دماءهم .. فقاتلوهم، فهم أئمة الكفر، وحملة لوائه، المقدمون على غيرهم بزعمهم، فهم الأجدر بالقتل والقتال {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}؛ أي: إن عهودهم لا قيمة لها، فهي مخادعة لسانية، لا يقصد الوفاء بها، كما قال سبحانه: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة. {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}؛ أي: قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الإيمان ونقض العهود، والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه. وفي ذلك (¬2) إيماء: إلى أن القتال لا يكون اتباعًا لهوى النفس، أو إرادة منافع الدنيا، من السلب والنهب وإرادة الانتقام، وهذه مزيّة الإِسلام إذ جعل الحرب ضرورةً لإرادة منع الباطل وتقرير الحق. وقرأ الحرميان (¬3) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: {أيمة الكفر} بإبدال الهمزة الثانية ياءً، وروي عن نافع مد الهمزة وقرأ باقي السبعة وابن أبي أريس عن نافع بهمزتين وأدخل هشام بينهما ألفًا، وأصله: أأممة، بوزن أفعلة، جمع إمام أدغموا الميم في الميم، فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها، وقرأ الجمهور: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} بفتح الهمزة، وقرأ الحسن وعطاء وزيد بن علي وابن عامر: {لا إيمان لهم} بكسر الهمزة؛ أي: لا إسلام وتصديق لهم ولا يعطون الأمان بعد النكث والطعن، ولا سبيل إليه، وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يمينًا، وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه: أنهم لا يوفون بها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

الإعراب {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}. {بَرَاءَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: هذه الآيات الآتية براءة {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {بَرَاءَةٌ} تقديره: صادرةٌ من الله {وَرَسُولِهِ}، معطوف على الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة ومتعلق المبتدأ محذوف اكتفاء بذكره في المنفي وفرارًا من التكرار في اللفظ، تقديره: من المشركين؛ أي: من الوفاء بعهودهم إذا نقضوها. والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا {إِلَى الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {بَرَاءَةٌ} كما تقول: برئت إليك من كذا، وقيل: إن {بَرَاءَةٌ} مبتدأ و {مِنَ اللَّهِ} نعت لها، و {إِلَى الَّذِينَ} خبرها {عَاهَدْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: عاهدتموهم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} حال من الموصول، أو من العائد المحذوف. {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}. {فَسِيحُوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم براءة الله سبحانه، وبراءة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من المشركين، وأردتم بيان ما تقولون لهم .. فأقول لكم: قولوا لهم: سيحوا في الأرض، {سيحوا} فعل وفاعل {فِي الْأَرْضِ} متعلق به {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق به، الجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف، وجملة القول المحذوف في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَاعْلَمُوا} فعل وفاعل والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {فَسِيحُوا} {أَنَّكُمْ} ناصب واسمه {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} خبره ومضاف إليه، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} تقديره: واعلموا عدم إعجازكم الله {وَأَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {مُخْزِي الْكَافِرِينَ} خبره ومضاف إليه وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} الأولى.

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. {وَأَذَانٌ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهذه الآية الآتي ذكرها أذان {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة له، أو متعلق به {وَرَسُولِهِ} معطوف على الجلالة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {بَرَاءَةٌ} {إِلَى النَّاسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أذان} أو صفة له أيضًا، والتقدير: وهذه الآية الآتي ذكرها {أذان} صادر من الله ورسوله، واصل إلى المشركين {يَوْمَ الْحَجِّ}: ظرف ومضاف إليه {الْأَكْبَرِ} صفة لـ {الْحَجِّ} والظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور في قوله: {إِلَى النَّاسِ} وقيل (¬1): متعلق بـ {أذان} وهو فاسد من وجهين: أحدهما: وصف المصدر قبل عمله. والثاني: للفصل بينه وبين معموله بأجنبي وهو الخبر. اهـ "سمين". {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {بَرِيءٌ} خبره {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} متعلق به وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: ببراءة الله من المشركين، الجار والمجرور متعلق بـ {أذان} {ورسولُه}: بالرفع، باتفاق السبعة: مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ورسوله بريء منهم، وحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة {أَنَّ} أو معطوف على الضمير المستتر في بريء أو معطوف على محل اسم {أَنَّ} وهذا (¬2) عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياسًا على المكسورة وقريء شاذًا بالجر على المجاورة، أو على أن {الواو} للقسم وقرىء شاذًّا أيضًا بالنصب، على أنه مفعول معه. {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. {فَإِنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم براءة الله ورسوله منكم، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم .. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

فنقول لكم {إن} حرف شرط {تُبْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَهُوَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر و {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ} وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: فقولوا لهم أيها المبلِّغون: فإن تبتم .. فهو خير لكم {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة {إن} حرف شرط {تَوَلَّيْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَاعْلَمُوا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية {اعلموا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} والشرطية على كونه جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى {أَنَّكُمْ}: ناصب واسمه {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} خبره ومضاف إليه، وجملة. {إن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {اعلموا} {وَبَشِّرِ الَّذِينَ} فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {بِعَذَابٍ} متعلق بـ {كَفَرُوا} {أَلِيمٍ} صفة لعذاب. {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}. {إِلَّا} أداة استثناء {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء {عَاهَدْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول والعائد محذوف، تقديره: إلا الذين عاهدتموهم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جار ومجرور حال من {الْمُشْرِكِينَ} أو من العائد المحذوف {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} جازم وفعل وفاعل ومفعولان إن جعلنا {شَيْئًا} مفعولًا ثانيًا ويجوز نصبه على المصدرية؛ أي: شيئًا من النقصان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة {وَلَمْ يُظَاهِرُوا} جازم وفعل وفاعل {عَلَيْكُمْ} متعلق به {أَحَدًا} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ}. {فَأَتِمُّوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم هذا الاستثناء وأردتم بيان ما يلزمكم فيهم ..

فأقول لكم: أتموا إليهم عهدهم {أتموا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أتموا} على تضمينه بمعنى: أدوا إليهم {عَهْدَهُمْ}، مفعول به {إِلَى مُدَّتِهِمْ}: جار ومجرور حال من {عَهْدَهُمْ} تقديره: حالة كونه تامًّا إلى انقضاء مدتهم {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتم لهم سيحوا في الأرض أربعة أشهر، وأردتم بيان حكمهم إذا انقضت تلك الأشهر .. فأقول {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ}: فعل وفاعل {الْحُرُمُ}: صفة له، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إذا} والظرف متعلق بالجواب الآتي {فَاقْتُلُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا {اقتلوا المشركين} فعل وفاعل، ومفعول والجملة، جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة {حَيْثُ} في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الضم، لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا، والظرف متعلق بـ {اقتلوا} {وَجَدْتُمُوهُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ} {وَخُذُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {فَاقْتُلُوا} وكذلك قوله {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا}. معطوفان على {فَاقْتُلُوا} {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {اقعدوا} {كُلَّ مَرْصَدٍ} منصوب على الظرفية بـ {اقعدوا} أو بنزع الخافض والخافض (¬1) المقدر هو: على، أو الباء الظرفية، أو في. {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{فَإِنْ} {الفاء} عاطفة على محذوف، تقديره: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم إن لم يتوبوا، فإن تابوا ... إلخ {إن} حرف شرط {تَابُوا} فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {تَابُوا} {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف عليه أيضًا، {فَخَلُّوا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا {خَلُّوا سَبِيلَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية معطوفة على ذلك المحذوف {إِنَّ} حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {غَفُورٌ} خبر أول لها {رَحِيمٌ}: خبر ثان وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية {إن}: حرف شرط {أَحَدٌ}: فاعل بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وإن استجارك {أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدٌ} {اسْتَجَارَكَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدٌ} والجملة: جملة مفسرة لذلك المحذوف، لا محل لها من الإعراب {فَأَجِرْهُ} {الفاء} رابطة الجواب {أجره}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}: فعل ومفعول منصوب بأن المضمرة وجوبًا، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدٌ} والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى: إلى، تقديره إلى سماعه كلام الله، الجار والمجرور متعلق بـ {فَأَجِرْهُ} {ثم}: حرف عطف وترتيب. {أَبْلِغْهُ} فعل ومفعول في محل الجزم، معطوف على {أجره} وفاعله ضمير يعود على محمَّد {مَأْمَنَهُ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {أبلغ} {ذَلِكَ}: مبتدأ {بِأَنَّهُمْ} {الباء}: حرف جر وسبب {أنَّ}: حرف نصب و {الهاء}: اسمها {قَوْمٌ}: خبرها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} صفة لـ {قَوْمٌ} وجملة

{أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: سبب عدم علمهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم علمهم كلام الله تعالى ودينه والجملة الاسمية مستأنفة. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}. {كَيْفَ}: اسم استفهام, للاستفهام التعجبي، في محل النصب خبر {يَكُونُ} مقدم عليه وجوبًا للزومه الصدارة {يَكُونُ} فعل مضارع ناقص {لِلْمُشْرِكِينَ} متعلق بـ {يَكُونُ} {عَهْدٌ}: اسم {يَكُونُ} {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {عَهْدٌ}؛ أي: عهد كائن عند الله، أو متعلق بـ {يَكُونُ} {وَعِنْدَ رَسُولِهِ}: معطوف على {عِنْدَ اللَّهِ} وجملة {يَكُونُ} مستأنفة وقال أبو (¬1) البقاء: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ} اسم يكون {عَهْدٌ} وفي الخبر ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كيف وقدم للاستفهام وهو مثل قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}. والثاني: أنه للمشركين، و {عنده} على هذين: ظرف للعهد، أو لـ {يَكُونُ} أو للجار أو هي وصف الـ {عَهْدٌ}. والثالث: الخبر عند الله وللمشركين تبين، أو متعلق بـ {يَكُونُ} و {كَيْفَ} حال من الـ {عَهْدٌ} انتهى. {إِلَّا}: أداة استثناء {الَّذِينَ} في محل النصب على الاستثناء {عَاهَدْتُمْ} فعل وفاعل {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ظرف متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: إلا الذين عاهدتموهم {فَمَا} {الفاء} فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر, تقديره: إذا عرفتم الاستثناء المذكور، وأردتم بيان حكمهم .. فأقول لكم {ما} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما ¬

_ (¬1) العكبري.

{اسْتَقَامُوا}، فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونه فعل شرط لها {لَكُمْ}، متعلق به {فَاسْتَقِيمُوا} {الفاء} رابطة الجواب {استقيموا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونه جوابًا لها {لَهُمْ} متعلق به، وجملة {ما} الشرطية محل النصب مقول، لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر ليكون المحذوفة، تقديرها: كيف يكون عهد للمشركين عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجملة يكون المحذوفة: مستأنفة {وَإِنْ} {الواو} واو الحال و {إن} حرف شرط {يَظْهَرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {عَلَيْكُمْ} متعلق به {لَا يَرْقُبُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها {فِيكُمْ} متعلق به {إِلًّا} مفعول به {وَلَا ذِمَّةً} معطوف عليه وجملة {إن} الشرطية في محل النصب حال من المشركين المحذوف تقديره: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، حالة كونهم لا يرقبون فيكم إلًّا ولا ذمة، إن يظهروا عليكم؟ {يُرْضُونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول {بِأَفْوَاهِهِمْ}: جار ومجرور متعلق به والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حالهم عند عدم الظفر، فهو مقابل في المعنى لقوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...} إلخ {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} فعل وفاعل معطوف على جملة {يُرْضُونَكُمْ} {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}. {اشْتَرَوْا} فعل وفاعل {بِآيَاتِ اللَّهِ} متعلق به {ثَمَنًا}: مفعول به {قَلِيلًا} صفة له، والجملة مستأنفة {فَصَدُّوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع {صدوا}

فعل وفاعل {عَنْ سَبِيلِهِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اشْتَرَوْا} {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {سَاءَ مَا} فعل وفاعل ومفعول {سَاءَ} محذوف تقديره: ساءهم إن قلنا {سَاءَ} متصرف متعد إلى المفعول بمعنى: عابهم {كَانُوا} فعل ناقص واسمه وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبر {كان} وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه وجملة {سَاءَ} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة وفي "الفتوحات": يجوز في {سَاءَ} أن يكون على بابه من التصرف والتعدي، ومفعوله محذوف، أي: ساءهم الذي كانوا يعملونه، أو عملهم وأن يكون جاريًا مجرى بئس، فيحول إلى فعل بالضم، ويمتنع تصرفه، ويصير للذم، ويكون المخصوص بالذم محذوفًا تقديره: عملهم هذا. اهـ. "سمين". {لَا يَرْقُبُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {فِي مُؤْمِنٍ} متعلق به {إِلًّا} مفعول به {وَلَا ذِمَّةً} معطوف عليه {وَأُولَئِكَ} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْمُعْتَدُونَ} خبر والجملة الاسمية مستأنفة. {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}. {فَإِنْ تَابُوا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: هذا الحكم المذكور فيهم إن لم يتوبوا {فَإِنْ تَابُوا ...} إلخ {إن} حرف شرط جازم {تَابُوا} فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في محل الجزم معطوفان على تابوا {فَإِخْوَانُكُمْ} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا {إخوانكم} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم {فِي الدِّينِ}: جار ومجرور، حال من {إخوانكم} والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {لِقَوْمٍ}: متعلق بـ {نفصل} وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}.

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}. {وَإِنْ نَكَثُوا} فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها {أَيْمَانَهُمْ} مفعوله به {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {نَكَثُوا} {وَطَعَنُوا} فعل وفاعل، معطوف على {نَكَثُوا} {فِي دِينِكُمْ} جار ومجرور متعلق به {فَقَاتِلُوا} {الفاء} رابطة الجواب {قاتلوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} مفعول به ومضاف إليه {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {لَا} نافية للجنس، تعمل عمل إن {أَيْمَانَ} في محل النصب اسمها {لَهُمْ} جار ومجرور خبر {لَا} وجملة {لَا} النافية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه وجملة {يَنْتَهُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: مأخوذ من برىء من الدين، يبرأ براءة، إذا أسقط عنه، وبرىء من الذنب ونحوه، إذا تركه وتباعد عنه، وأصل (¬1) البراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان، أبرأ براءة؛ أي: انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علاقة، وقيل، معناها: هنا التباعد مما تكره مجاورته، {عَاهَدْتُمْ} والمعاهدة (¬2): عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه في يمين الآخر، ويوثقونها بالأيمان، ومن جراء ذلك سميت أيمانًا في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}؛ أي: لا عهود لهم {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} والسياحة في الأرض: الانتقال والتجول فيها، ويراد بها هنا: حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر، لا يتعرض المسلمون لهم فيها بقتال، يقال: ساح فلان في الأرض، يسيح سياحة وسيوحًا وسيحانًا، ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل. {غَيْرُ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

مُعْجِزِي اللَّهِ}؛ أي: لا تفوتونه بالهرب والتحصن {مُخْزِي الْكَافِرِينَ} والخزي: الذل والفضيحة بما فيه عار {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} والأذان: الإعلام بما ينبغي أن يعلم {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} هو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الناس لإتمام مناسكهم. {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا}؛ أي: من شروط الميثاق، فلم يقتلوا أحدًا منكم ولم يضروكم {وَلَمْ يُظَاهِرُوا}؛ أي: لم يعاونوا {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} انسلاخ الشهر: تكامله جزءًا فجزءًا إلى أن ينقضي، كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله: الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فأستعير لانقضاء الشهر، يقال: سلخت الشهر، تسلخه سلخًا وسلوخًا، بمعنى: خرجت منه، ويقال: سلخت المرأة درعها نزعته قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}. والحُرُم: واحدها حرام, وهي الأشهر التي حرم الله فيها قتالهم في الأذان والتبليغ بقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}. {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانًا، أرصده إذا ترقبته؛ أي: أقعدوا لهم على كل مرصد، قال أبو حيان (¬1) المرصد: مفعل من رصد يرصد، من باب قتل، يكون مصدرًا وزمانًا ومكانًا، وقال عامر بن الطفيل: وَلَقَدْ عَلِمْت وَمَا أَخَالُكَ نَاسِيًا ... أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصِدِ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} يقال: استجاره إذا طلب جواره؛ أي: حمايته وأمانه، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه، حتى يسمون النصير جارًا {فَأَجِرْهُ}؛ أي: أمنه {مَأْمَنَهُ}؛ أي: مسكنه الذي يأمن فيه على نفسه، وهو دار قومه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: ما الإِسلام وما حقيقته، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لم معذرة. {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يقال: ظهر عليه، إذا غلبه وظفر به {لَا يَرْقُبُوا} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يقال: رقب الشيء إذا رعاه وحاذره؛ لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه، ومنه: فلان لا يرقب الله في أموره؛ أي: لا ينظر إلى عقابه {فِيكُمْ إِلًّا} والإلُّ القرابة، قال ابن مُقْبل: أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوْفٌ خَلَفُوْا ... قَطَّعُوْا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ وفي "السمين" (¬1) قوله: {إِلًّا} مفعولٌ به لـ {يَرْقُبُوا}. وفي الإلِّ أقوال لأهل اللغة: أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدّي. الثاني: أن المراد به القرابة، وبه قال الفراء. الثالث: أن المراد به الله تعالى؛ أي: هو اسمٌ من أسمائه. الرابع: أنَّ الإلَّ الجؤار، وهو رفع الصوت عند التحالف، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا .. جأروا بذلك جؤارًا. الخامس: أنه من ألَّ البرق إذا لمع، ويجمع الإلُّ في القلَّة على أُلِّ، والأصل أألُلٌ، بزنة أفلس، فأبدلت الهمزة الثانية ألفًا، لكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللام في اللام، وفي الكثرة على إلالٍ، كذئب وذئاب، والأل بالفتح: قيل: شدة القنوط، قال الهروي: في الحديث: "عجب ربكم من ألكم وقنوطكم" اهـ. وفي "القاموس": الإلُّ بالكسر: العهد والحلف وموضعٌ والجؤار والقربة والمعدن والحقد والعداوة والربوبية، واسم الله تعالى وكل اسم آخره إل أو إيل فمضاف إلى الله تعالى، والرخاء والأمان والجزع عند المصيبة، ومنه ما روي: "عجب ربكم من إلكم" فيمن رواه بالكسر ورواية الفتح أكثر اهـ. {وَلَا ذِمَّةً} والذمة والذمام: العهد الذي يلزم من ضيعه الذم، ونقض العهد عندهم من العار، فيكون مما كرر لاختلاف لفظه، إذا قلنا إن الإلَّ العهد أيضًا، فهو كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وقيل: الذمة (¬2) الضمان، يقال: هو في ذمتي، أي: في ضماني وبه يسمي أهل الذمة، لدخولهم ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

في ضمان المسلمين، وقال: الراغب: الذِّمام: ما يذم الرجل على إضاعته من عهد. وكذلك الذمة والمَذَمَة والمِذَمة. يعني بالفتح والكسر، وقيل: لي ذمة فلا تهتكها، وقال غيره: سميت ذمة؛ لأن كل حرمة يلزمك من تضييعها الذم، يقال لها: ذمة وقال الأزهري: الذمة الأمان، وفي الحديث "يَسْعى بذمتهم أدناهم" اهـ "سمين". {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} يقال: أبي يأبى، إذا اشتد امتناعه. فكل إباء امتناعٌ، من غير عكس، ولم يصب من فسره بمطلق الامتناع، ومجيء (¬1) مضارعه على يفعل بفتح العين شاذٌّ. ومنه قلى يَقَلى في لغةٍ، ومنه آبي اللحم لرجلٍ من الصحابة وقال الشاعر: أَبَى اللَّهُ إلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ ... فَلاَ النُّكْرُ مَعْرُوْفٌ وَلاَ الْعُرْفُ ضَائِعُ {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}؛ أي (¬2) خارجون من قيود العهود والمواثيق، متجاوزون لحدود الصدق والوفاء من قولهم: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها. {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ووزن (¬3) أئمة أفعلة؛ لأنه جمع إمام، كحمار وأحمرة وزمام وأزمة، والأصل أأممة، فألتقى ميمان، فأريد إدغامهما، فنقلت حركة الميم الأولى للساكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالبصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهل بين بين، ومن أدخل الألف .. فللخفة حتى يفرق بين الهمزتين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرارُ في قوله: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وفي قوله: {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

اللَّهِ}، وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ}، وفي قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، وفي قوله: {إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} وفي قوله: {كَيْفَ} لإفادة التأكيد. ومنها: التنوين في قوله: {براءة} لإفادة التفخيم. ومنها: التقييد بأنها من الله ورسوله، لزيادة التفخيم والتهويل. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ لأن البشارة بالعذاب تهكم. ومنها: الجناس المماثل بين {بَرِيءٌ} و {بَرَاءَةٌ} وبين {اسْتَجَارَكَ} و {فَأَجِرْهُ} وبين {اسْتَقَامُوا} و {فَاسْتَقِيمُوا}. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أيها المشركون. ومنها: الكناية في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}؛ لأنه كناية عن عقد الأمان لهم أربعة أشهر؛ أي: يباح لكم أن تعقدوا الأمان لهم أربعة أشهر بعد نقضهم العهد المطلق، أو المقيد بدونها أو فوقها. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} شبه انقضاء الشهر وخروجه بانسلاخ الجلد من الحيوان، بجامع الانفصال في كل، ثم اشتق من الانسلاخ بمعنى الانقضاء، انسلخ بمعنى: انقضى، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. أو يقال (¬1): شبه خروج المتزمن عن زمانه، بانفصال المتمكن عن مكانه، كما ذكره الشوكاني. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} لزيادة التقبيح عليهم، حيث وصفهم بكونهم رؤساء في الكفر، وكان مقتضى الظاهر، فقاتلوهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}؛ لأن (¬1) النكث في الأصل الرجوع إلى خلف، ثم استعمل في النقض مجازًا، بجامع أن كلَّا متأخر عن مطلوبه، وفيه المقابلة أيضًا؛ لأنه مقابل لقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا}. ومنها: الإطناب في قوله: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ} لمزيد (¬2) التشنيع والتقبيح عليهم؛ لأن مقام الذم كمقام المدح، البلاغة فيه الإطناب. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}؛ لأنّ (¬3) الطعن هنا مجاز عن العيب؛ لأنه حقيقة في الإصابة بالرمح أو العود وشبهه. ومنها: الاعتراض بقوله: {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ لأنه اعتراض بين الشرطين بين قوله: {فَإِنْ تَابُوا} وقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا} لإفادة الحث والتحريض على تأمل ما فصَّله تعالى من الأحكام. ومنها: الزيادة والحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الصاوي. (¬3) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}. المناسبة قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) بقتال أئمة الكفر .. ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله سبحانه وتعالى قد علم أن في نفس ¬

_ (¬1) المراغي.

جماعة من المؤمنين كرهًا لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإِسلام، لأمنهم من ظهورهم عليهم، ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزينون لهم ذلك، والله يريد أن تطهير جزيرة العرب من الشرك وأدران الوثنية، ويمحص المؤمنين من النفاق ومثالبه، من جراء هذا أعاد الكرَّة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد، المعتدين عليهم بالحرب، الذين بدؤوهم بالقتال وهموا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر البراءة من المشركين وأنواعًا من قبائحهم توجب البراءة منهم .. ذكروا أنهم موصوفون بصفاتٍ حميدةٍ توجب انتفاء البراءة منها، كونهم عامري المسجد الحرام، روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليٌّ يوبخ العباس، فقال: الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تظهرون مساوينا وتكتمون محاسننا، فقال: أو لكم محاسن، قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرًا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًّا عليهم. قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنها مكملة (¬2) لما قبلها، مبينة أنَّ عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون، من عمارة المسجد وسقاية الحاج فيه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا أعلن براءته وبراءة رسوله من المشركين، وآذنهم بنبذ عهودهم، بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم .. عَزَّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرَّم به ضعفاء الإيمان, وكان أكثرهم من الطلقاء الذين أعتقهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف، نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال الكثير منهم أولو قرابة من المشركين، يكرهون قتالهم ويتمنون إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجةٌ وبطانةٌ منهم. من أجل هذا، بين الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد، وقيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين، وإيثار حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد، والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن. أسباب النزول قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) أبو الشيخ عن قتادة، قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة، حين جعلوا يقتلون بني بكرٍ بمكة، وأخرج عن عكرمة، قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وأخرج عن السدي {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قال: هم خزاعة حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، يشف صدورهم من بني بكر. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ ...} الآيات، أخرج ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: قال العباس، حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة والجهاد .. لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ...} الآية. وأخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير، قال: كنت (¬2) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أُبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) مسلم.

[13]

مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة .. دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة، فاستفتاه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وأخرج (¬1) الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم عليُّ بن أبي طالب مكة، فقال للعباس: أي عم، ألا تهاجر، ألا تلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية وقال لقوم سماهم: ألا تهاجروا ألا تلحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ...} الآية كلها، وأخرج عبد الرزاق، عن الشعبي نحوه، وأخرج ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعليُّ بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال عليُّ: لقد صليت إلى القبلة قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ...} الآية كلها. التفسير وأوجه القراءة 13 - {أَلَا تُقَاتِلُونَ}؛ أي: هلَّا تقاتلون أيها المؤمنون {قَوْمًا} من كفار مكة {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}؛ أي: نقضوا عهودهم التي عاهدوكم يوم الحديبية، حيث نقضوها بإعانتهم لبني بكر، الذين هم حلفاؤهم، بإعطاء السلاح لهم على خزاعة، الذين هم حلفاؤكم، وألا هنا: للتحضيض، كما قاله السيوطي في "تفسير الجلالين" وهو الطلب بحثٍّ وإزعاج، ودخول (¬2) حرف التحضيض على مستقبلٍ حث على الفعل وطلبٌ له، وعلى الماضي توبيخٌ على ترك الفعل، وأدواته خمسةٌ: ألا بالتخفيف، وألا بالتشديد، وهلَّا، ولولا, ولوما، كما ذكرته ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الفتوحات القيومية على الآجرومية.

في "الفتوحات القيومية". وقال أبو حيان (¬1): وألا هنا حرف عرض وهو الطلب برفق ولين ومعناه هنا: الحض على قتالهم، وزعموا أنها مركبةٌ من همزة الاستفهام ولا النافية، فصار فيها معنى التحضيض اهـ وليس هذا الزعم بشيءٍ يعتد. فالمعنى: (¬2) قاتلوا قومًا اجتمعت فيهم أسبابٌ ثلاثةٌ، كل منها يقتضي قتالهم، فما بالكم باجتماعها؟ وهي نقض العهد، وإخراج الرسول، وقتال حلفائكم {وَهَمُّوا}؛ أي: أرادوا {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} الكريم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، من مكة، لكن لم يخرجوه، بل خرج باختياره بإذن الله تعالى له في الهجرة {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} أيها المؤمنون بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ}؛ أي: والحال أنهم بدؤوكم بالقتال يوم بدر أول مرة؛ لأنهم حين سلمت العير، قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه، أبو بدؤوا بقتال خزاعة، حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتالٌ معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالًا وقرأ زيد بن عليّ {بدوكم} بوزن رموكم: بغير همزٍ ووجهه: أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياءً، كما قالوا في قرأت قريت، فصار كرميت، فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كرموكم، ذكره أبو حيان في "البحر" والاستفهام في قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} للتوبيخ والتقريع؛ أي: أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه، حتى تتركوا قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال: {فَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَحَقُّ} وأجدر وأولى {أَنْ تَخْشَوْهُ} في ترك أمره، وقوله: {أَنْ تَخْشَوْهُ} بدل اشتمال من لفظ الجلالة الواقع مبتدأً؛ أي: فخشية الله تعالى أحق وأولى لكم من خشيتهم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مذعنين بأنه تعالى هو الضار النافع فاخشوه، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتالهم. وحاصل المعنى: أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسبابٍ ثلاثة: 1 - أنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

وأصحابه على ترك القتال عشر سنين، يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارًا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة - حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلًا بالقرب من مكة، على ماءٍ يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولمَّا علم بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. قال: "لا نُصِرت إن لم أنصركم" وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة. 2 - أنهم هَمُّوا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وطنه، أو حبسه حتى لا يبلِّغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبةٍ من بطون قريش، ليتفرق دمه في القبائل فتتعذَّر المطالبة به، إلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. 3 - أنهم بدؤوا بقتال المؤمنين في بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا وأصحابه، ونقيم في بدر أيامًا نشرب الخمر، وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما. وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم، قال: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}؛ أي: أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفًا منكم وجبنًا {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}؛ أي: فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره، وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع .. فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجح خشيته تعالى على خشية غيره. وخلاصة ما سلف: أنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها, لم يبق من سببٍ يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقًّا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم، وقلتكم وكثرة عددهم، وفي الآية إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب عليه أن يكون أشجع الناس، وأعلاهم همةً، ولا يخشى إلا الله. وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم وفند الشبه المانعة من ذلك ..

[14]

أمرهم به أمرًا صريحًا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم، وهذه العدة من أخبار الغيب في وقعةٍ معينة، 14 - وقد صدق الله وعده فقال: {قَاتِلُوهُمْ}؛ أي: قاتلوا أيها المؤمنون المشركين الذين نقضوا العهد وبدؤوا بالقتال، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم؛ أي: قاتلوهم كما أمرتكم، فإنكم إن فعلتم ذلك .. {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِأَيْدِيكُمْ}؛ أي: يقتلهم بسيوفكم ورماحكم وسلاحكم، والمراد بالتعذيب هنا: القتل. فإن قلت (¬1): كيف الجمع بين قوله: هنا {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وبين قوله: في الأنفال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}؟ قلت: المراد بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} عذاب الاستئصال، يعني وما كان الله ليستأصلهم بالعذاب جميعًا وأنت فيهم، وبالعذاب هنا قتل من نقض العهد، والفرق بين العذابين: أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب، وإلى المخالف والموافق، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف. {وَيُخْزِهِمْ}؛ أي: يذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ}؛ أي: يبرىءُ داء قلوب طائفة {مُؤْمِنِينَ} مما أصابهم من أذى المشركين، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه .. فإنه يشفى ويفرح بذلك، ويعظم سروره ويصير ذلك سببًا لقوة اليقين وثبات العزية، قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يومئذٍ في خزاعة مؤمنون كثير، حيث أعانت قريش بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قتلوا منهم، 15 - ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر، حين أخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثأرهم منهم يوم فتح مكة {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}؛ أي: يذهب الله سبحانه وتعالى وجد قلوب طائفة من المؤمنين المذكورين وحزنها بما ناله من بني بكر من الفتك، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: "ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر" ذكره البغوي بغير سند. ¬

_ (¬1) الخازن.

[16]

وقد وفي الله سبحانه وتعالى بما وعدهم، من الأمور الخمسة، والآية من المعجزات الدالة على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم -. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في جواب الأمر بالقتال خمسة أمور، وقوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} مستأنفٌ ولم يجزم (¬1)؛ لأن توبته على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار؛ أي: ويهدي الله سبحانه وتعالى من يشاء هدايته من أهل مكة وغيرهم إلى الإِسلام، فيمنُّ عليه بالتوبة من الشرك والكفر، ويهديه إلى الإِسلام، كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين، ثم مَنَّ الله عليهم بالإِسلام يوم فتح مكة، فأسلموا {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة، فيتوب عليه ويهديه إلى الإِسلام وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم في الحال والاستقبال {حَكِيمٌ} فيما شرعه لهم من الأحكام، لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله. ومن سننه تعالى: تفاوت البشر في العقائد والأخلاق والأعمال، وقابليَّة التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات، بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع. وقرأت فرقة (¬2): {ويذهب غيظ} فعلًا لازمًا غيظ فاعل به، وقرأ زيد بن عليّ كذلك، إلا أنه رفع الباء، وقرأ الجمهور: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} رفعًا وهو استئناف، وقرأ زيد بن عليّ والأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفيُّ وعمرو بن عبيد وعمر ابن فائد وأبو عمرو ويعقوب فيما روي عنهما: {ويتوبَ الله} بنصب الباء جعله داخلًا في جواب الأمر من طريق المعنى، قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. 16 - و {أم} في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} بمعنى همزة الاستفهام التوبيخي، وبل التي للإضراب الانتقالي، أي: بل أظننتم أيها المؤمنون {أَنْ تُتْرَكُوا}؛ أي: أن ¬

_ (¬1) الكرخي. (¬2) البحر المحيط.

يترككم الله سبحانه وتعالى بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}؛ أي: والحال أنه لم يظهر الله سبحانه وتعالى الذين جاهدوا منكم بالإخلاص؛ أي: لم يميزهم عن غيرهم، ممن جاهدوا بدون إخلاص، وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا} عطف على {جَاهَدُوا} داخل في الصلة؛ أي: ولم يظهر الذين لم يتخذوا {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى {وَلَا رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -، {وَلَا} من دون {الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين {وَلِيجَةً}؛ أي: بطانة وأصدقاء من الكفار؛ أي: أم حسبتم أن يترككم الله سدى بلا امتحان بالتكاليف، والحال أنه لم يميز بين المجاهدين المخلصين الذين لم يتخذوا وليجةً وبطانةً من الكفار، وبين غيرهم ممن لم يخلصوا في جهادهم واتخذوا وليجةً من الكفار؛ أي: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق، الذي يستحق به الثواب والعقاب. والمعنى: كيف تحسبون أنكم تتركون، ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخل، ولم يتبين المتخذ وليجةً من غير المتخذ؟ والخلاصة (¬1): أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم، بغير فتنةٍ ولا امتحانٍ، ولم يتبين المجاهدون المخلصون منكم، الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين، من المنافقين الذين اتخذوا لأنفسهم وليجة، من المشركين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة الإِسلامية، ويقفونهم على سياسة الأمة المحمدية، كما يفعل المنافقون في كل زمان؟ وقد عبَّر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين، وعن عدم تميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان بعدم علمه بهم؛ لأن عدم علمه بالشىء دليلٌ على عدم وجوده، ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد، وذلك أنه لما فرض القتال .. تبين المنافق من غيره، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحص ما في ¬

_ (¬1) المراغي.

[17]

القلوب، ويطهر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من موالاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب. وخلاصة المعنى: أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين في جهادهم، والكاذبين فاسدي السريرة، ومتخذي الوليجة، وهو لم يعلم الصادقين في الجهاد؛ لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له، إذ لا يخفى عليه شيءٌ من أمركم وهو الخبير بكل ما تعملون. وقرأ الجمهور (¬1): {تَعْمَلُونَ} بالتاء على الخطاب، مناسبةً لقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رُوُيْسٍ وسلَّام: بالياء على الغيبة التفاتًا. 17 - {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ}؛ أي: ما ينبغي ولا يصح ولا يستقيم للمشركين {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} تعالى ومتعبداته بدخولها والقعود فيها وخدمتها، فإذا دخل الكافر بغير إذن المسلم .. عزر، وإن دخل بإذنه .. لم يعزر، لكن لا بد من حاجة، فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد، وهو كافر) حالة كونهم {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} قولًا وفعلًا، حال من فاعل يعمروا؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين، عمارة متعبدات الله، والكفر بالله قولًا؛ لأنهم يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، مع قولهم: نحن نعبد اللات والعزى، وفعلًا؛ لأنهم كلما طافوا .. سجدوا للأصنام، فلم يزدادوا بذلك إلا بعدًا من الله ومن مساجده. وقرأ الجمهور (¬2): {يَعْمُرُوا} بفتح حرف المضارعة وضم الميم، من عمر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

يعمر، من باب قتل، وقرأ ابن السميقع: {أن يُعمِروا} بضم الياء وكسر الميم، من أعمر الرباعي؛ أي: أن يعينوا على عمارته، وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن والجحدري ويعقوب: {مسجد الله} بالإفراد وقرأ باقي السبعة، ومجاهد وقتادة، وأبو جعفر والأعرج وشيبة: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالجمع، ومن قرأ بالإفراد: فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أو الجنس، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجد الحرام دخولًا أوليًّا، ومن قرأ: بالجمع فيحتمل، أن يراد به المسجد الحرام، وإنما جمعه؛ لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد، وأن يراد به سائر المساجد، كما هو ظاهر اللفظ. وقرأ زيد بن علي {شَاهِدُونَ} على إضمار {هم شاهدون}. وحاصل الآية: أي ما كان (¬1) من شأن المشركين ولا مما ينبغي لهم، أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم، وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجًا أو معتمرين، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر، قولًا وعملًا، بعبادتهم للأصنام، والاستشفاع بها، والسجود لما وضعوه منها في البيت عقب كل شوط من طوافهم، وقولهم حينئذٍ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا، هو لك تملكه وما ملك. إذ في عملهم هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية، بعبادته تعالى وحده، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحد، لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه في العبادة. وخلاصة ذلك: أنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان، وقوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: إنهم كفروا كفرًا صريحًا، معترفًا به لا تمكن المكابرة فيه، والمراد بالعمارة الممنوعة ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

عن المشركين للمساجد: الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون الكافر ناظرًا للمسجد وأوقافه، أما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة والبناء والنجارة .. فلا يدخل في ذلك. وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدًا بناه كافر، أو أوصى ببنائه أو ترميمه، إذا لم يكن في ذلك ضرر ديني ولا سياسي، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى، بترميم ما كان قد تداعى من بنائه، أو بذلوا لذلك مالًا .. لم يقبل منهم؛ لأنهم يطمعون في الاستيلاء على هذا المسجد، فربما جعلوا ذلك ذريعةً لادعاء حق لهم فيه. {أُولَئِكَ} المشركون الكافرون بالله، وبما جاء به رسوله قد {حَبِطَتْ} وبطلت {أَعْمَالُهُمْ} التي يفتخرون بها من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، وقرى الضيف، وصلة الرحم، ونحو ذلك، مما كانوا يعملونه في دنياهم، فلم يبق له أثرٌ ما في صلاح أنفسهم، ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده، فصارت هباءً منثورًا. ونحو هذه الآية قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)}. {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}؛ أي: وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلود ودوام؛ لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسَّى أنفسهم، حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم في دار الكرامة والنعيم. وقرأ زيد بن علي (¬1): {خَالِدِينَ} بالياء نصبًا على الحال، وفي النار هو الخبر، كما تقول: في الدار زيد قاعدًا 18 - {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} بنحو البناء والتزيين بالفرش والسرج، وقال أبو حيان (¬2): ويتناول عمارتها رمَّ ما تهدّمَ منها، وتنظيفها وتنويرها وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله -، وصونها عما لم تبن له، من الخوض في أحوال الدنيا، وفي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الحديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد .. فاشهدوا له بالإيمان"، انتهى. وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة، عن ابن كثير: {مسجد الله} بالإفراد وقرأ السبعة وجماعة بالجمع، ذكره في "البحر"، والظاهر: أن الجمع هنا حقيقة؛ لأن المراد جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض؛ أي: إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} تعالى؛ لأن المساجد موضعٌ يعبدون الله فيه، فمن لم يكن مؤمنًا بالله .. لا يبني موضعًا يعبد الله فيه {و} آمن بـ {اليوم الآخر}؛ لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة، فمن أنكر القيامة، لا يعبد الله، ومن لا يعبد الله، لا يبني بناءً لعبادة الله تعالى. ولم (¬1) يذكر الإيمان بالرسول؛ لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول، فتضمن الإيمان بالرسول، أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان باللهِ تعالى قرينته الإيمان بالرسول لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما، مقترنين مزدوجين، كأنهما شيءٌ واحدٌ لا ينفك أحدهما عن صاحبه، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} بأركانها وآدابها، فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد: إقامة الصلوات {وَآتَى الزَّكَاةَ}؛ أي: أدى الزكاة المفروضة لمستحقيها، وإنما اعتبر (¬2) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد؛ لأن الإنسان إذا كان مقيمًا للصلاة، فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور، وإذا كان مؤدِّيًا للزكاة .. فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزكاة، فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور، ولأنَّ (¬3) الإنسان لا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مقيمًا للصلاة، مؤدِّيًا للزكاة؛ لأن الصلاة والزكاة واجبان، وعمارة المسجد نافلةٌ، ولا يشتغل الإنسان بالنافلة، إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}؛ أي: ولم يخف في باب الدين غير الله تعالى، ولم يترك أمر الله لخشية ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

الناس، ولم يختر على رضا الله رضا غيره، وإنما قلنا في باب الدين؛ لأن الخشية عن المحاذير جبلية، لا يكاد الرجل العاقل يتمالك عنها. والمعنى: أن (¬1) المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الذي بينه في كتابه - من توحيده، وتخصيصه بالعبادة، والتوكل عليه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده، ويجزي فيه كل نفس بما كسبت - مع إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الجامع بين أركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه، ومع إعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، ومع خشية الله دون غيره، مما لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله تعالى، خوفًا من ضرره أو رجاءً لنفعه. {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}؛ أي: فيرجوا أولئك الموصوفون بالصفات الأربعة أن يكونوا من المهتدين؛ أي: من الذين سبقت لهم الهداية في علمه؛ أي: فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإِسلام، هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسًّا ومعنًى، بحسب سننه تعالى في أعمال البشر وتأثيرها في نفوسهم، وبذا يستحقون عليها الجزاء في جنان النعيم، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإِسلام، وقيل: (عسى) في كلام الله للوجوب والتحقق، والمعنى حينئذٍ: فحقيقٌ واجبٌ كون أولئك الموصوفين بالصفات السابقة من المهتدين. وفي ذلك (¬2) قطعٌ أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إذ من جمع هذه الخصال الأربعة .. جعل حاله حال من ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

منها؟ وفي ذلك ترجيح الخشية على الرَّجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها. فصل في ذكر نبذة من الأحاديث الواردة في عمارة المساجد وبنائها وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من غدا إلى المسجد، أو راح .. أعدَّ الله له في الجنة نزلًا، كلما غدا أو راح" متفق عليه. والنزل: ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولامه الناس .. قال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله .. بنى الله له بيتًا في الجنة" متفق عليه. وأخرجه الترمذي وفي رواية: "بنى الله له في الجنة مثله". وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بنى لله مسجدًا، صغيرًا كان أو كبيرًا .. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه الترمذي. وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بنى لله مسجدًا ليُذكر الله فيه .. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه النسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: "مَنْ بنى لله مسجدًا، ولو كمفحص - الموضع الذي تفحص التراب عنه، وتكشفه لتبيض فيه - قطاةٍ لبيضها .. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه أحمد. وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه: أنَّ امرأة كانت تقُمُّ المسجد - تَكْنِسُهُ - فماتت، فسأل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: ماتت، فقال: "أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلي عليها، دلوني على قبرها" فأتى قبرها فصلى عليها. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد .. فاشهدوا له بالإيمان". وتلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...} الآية،

[19]

أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم. 19 - والاستفهام في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} للإنكار، وهو كلام مستأنف خوطب به المشركون، التفاتًا من الغيبة في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا ...} إلخ، وقيل: خوطب به المؤمنون الذين تنازعوا أَيِّ الأعمال أفضل. والسقاية والعمارة مصدران، كالسعاية والحماية، فالسقاية: إسقاء الحجاج، وإعطاء الماء لهم، والعمارة: تعمير المسجد تعميرًا حسيًّا أو معنويًّا، كما مر، ولا بد من تقدير مضاف، ليتفق الموضوع والمحمول، إما في الآخر، والتقدير: أجعلتم أيها المشركون، أو المؤمنون، سقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام {كـ} ـعمل {من آمن بالله} سبحانه وتعالى، أو كإيمان من أمن بالله. وإما في الأول، والتقدير: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام الذين هم المشركون، كمن آمن بالله في الفضيلة وعلو الدرجة، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن الزبير وغيره: {أجعلتم سُقاة الحاجِّ وعَمَرَةَ المسجدِ الحرامِ} جمع ساقٍ وعامر، وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير مضاف. والمراد (¬1): أنه لا ينبغي أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: في طاعته لإعلاء كلمته، فإنَّ السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال البر والخير، فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد في علوِّ المرتبة وشرف المقدار. والمعنى (¬2): أنَّ الله تعالى أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة، ويفضلونهما على عمل المسلمين، فأنكر عليهم ذلك ثم صرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين، وتفاوتهم وعدم استوائهم، فقال: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} تعالى؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر، المجاهدة في سبيله، ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون؛ أي: إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين .. فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون؟! أي: لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني، لا في صفته، ولا في عمله في حكم الله، ولا في مثوبته وجزائه عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلًا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركي قريش، الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها. ثم حكم عليهم بالظلم، وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، حيث قال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: لا يهديهم إلى الحق في أعمالهم، ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم، إذ ليس من سننه تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدي الظالم إلى شيء من ذلك، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت، وحفظ مفتاحه، وسقاية الحاج على الإيمان باللهِ وحده، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم، ويحبب إليها الحق والعدل، ويرغبها في الخير وعمل البر، ابتغاء مرضاة الله تعالى، لا للفخر والرياء، وعلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وقرأ الجمهور (¬1): {سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهما مصدران كما مرَّ، وقرأ عبد الله بن الزبير والباقر وأبو حيوة وابن أبي وجرة السعديُّ وسعيد بن جبير: {سُقاةَ الحاجِّ وعَمَرَةَ المسجدِ الحرامِ} جمع ساق كرام ورماة وجمع عامر، كصانع وصنعة، وكامل وكملة إلا أن ابن جبير نصب المسجد على إرادة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[20]

التنوين في عمرة، وقرأ الضحاك: {سُقاية} بضم السين {وعمرة} بنى الجمع على فعال، كرخل ورخال الرخل: الأنثى من أولاد الضأن وكان المناسب أن يكون بغيرها, لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة. 20 - ثم صرح بالفريق الفاضل، وبين مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وبجميع ما يجب الإيمان به، مبتدأ. {وَهَاجَرُوا}؛ أي: فارقوا أوطانهم من مكة إلى المدينة، طلبًا لرضا الله ورسوله {وَجَاهَدُوا} الكافر {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي في طاعته لإعلاء كلمته، لا للحمية والوطنية باذلين {بِأَمْوَالِهِمْ} النفيسة {وَأَنْفُسِهِمْ} العزيزة {أَعْظَمُ دَرَجَةً} خبر المبتدأ؛ أي: أعظم درجة {عِنْدَ اللَّهِ} تعالى، وأعلى مقامًا في مراتب الفضل، والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد، اللذين رأى بعض المسلمين أو المشركون أنهما من أفضل القربات بعد الإِسلام أو أنهما أفضل من الإِسلام؛ أي: أحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحبطة الباطلة؛ أي: فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد، بنوعيه النفسي والمالي، أعلى مرتبة وأعظم كرامةً ممن لم يتصف بهما، كائنًا من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة {وَأُولَئِكَ} المؤمنون - المهاجرون المجاهدون {هُمُ الْفَائِزُونَ} بمثوبة الله تعالي وكرامته، دون من لم يكن مستجمعًا لهذه الصفات الثلاث، وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية، وإن فرض فيها حسن النية. 21 - ثم بين سبحانه ذلك الفوز العظيم بقوله: {يُبَشِّرُهُمْ}؛ أي: يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين {رَبُّهُمْ} سبحانه وتعالى {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} تعالى، أي: بمنفعة خالصة دائمة، مقرونة بالتعظيم من قبل الله تعالى، جزاء على إيمانهم الخالص {و} بـ {رضوان} كامل لا يشوبه سخط على جهادهم الذي فيه بذل الأنفس والأموال {و} بـ {جناتٍ}؛ أي: بساتين {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}؛ أي: دائم في مقابلة هجرتهم.

[22]

أي (¬1): يبشرهم ربهم في كتابه على لسان رسوله وعلى لسان ملائكته حين الموت برحمةٍ منه ورضوان كامل من لدنه، لا يشوبه سخط، وجنات تجري من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال، كونهم 22 - {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤبَّدًا، لا نهاية له، لا يموتون ولا يخرجون منها، والتنوين في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم والنعيم (¬2) المقيم الدائم المستمرَّ، الذي لا يفارق صاحبه، وذكر الأبد بعد الخلود، تأكيدٌ له، وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل؛ أي: أعطاهم الله تعالى هذه الأجور العظيمة، لكون الأجر الذي عنده عظيمًا، يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم. ولمَّا وصف (¬3) الله سبحانه وتعالى المؤمنين بثلاث صفات: الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال .. قابلهم على ذلك التبشير بثلاث، وبدأ بالرحمة التي هي النجاة من النيران في مقابلة الإيمان, وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة ترك الأوطان، ثم ثلث بالجنات التي هي المنافع العظيمة في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وإنما خصوا بالأجر العظيم؛ لأنَّ إيمانهم أعظم الإيمان. وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وحميد بن هلال (¬4): {يَبشُرهم} بفتح الياء وضم الشين خفيفةً. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {ورُضوان} بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران، وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معًا. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا. انتهى، وينبغي أن يجوز فقد قالت العرب: سلطان، بضم اللام، وأورده الصرفيون في أبنية الأسماء {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}؛ أي: إن ما عند الله من الأجر على الإيمان, وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد، عظيم لا يقدر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[23]

المكرمين، ولا سيما على الإيمان الكامل، الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل والسكن، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شيء إلى النفس، وعلى بذل النفس، التي هي أعز شيء على الإنسان. فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء، ما بين روحي وجسماني: فالأول: الرحمة والرضوان، والرضوان: هو نهاية الإحسان، وهو أعلى النعيم، وأكمل الجزاء، ما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". والثاني: هو النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا. 23 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ}؛ أي: أقاربكم؛ أي: لا تجعلوا آباءكم وإخوانكم {أَوْلِيَاءَ} وأصدقاء وبطانةً لأنفسكم، تفشون إليهم أسراركم {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ}؛ أي: إن أحب الآباء والإخوان الكفر واختاروه {عَلَى الْإِيمَانِ} بالله ورسوله، وأقاموا عليه وتركوا الإيمان. والمعنى (¬1): أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء، تنصرونهم في القتال، وتظاهرون لأجلهم الكفار، أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين، وما يستعدون به لقتال المشركين، إن أصروا على الكفر وآثروه على الإيمان، فإن في ذلك قوةً ¬

_ (¬1) المراغي.

[24]

للمشركين على قتال المؤمنين، دحضًا لشوكتهم، وقد حدث ذلك منذ ظهور الإِسلام إلى نزول هذه السورة، فقد كتب حاطب بن أبي بلتعة، وهو من أهل بدر، وقد استخفته نعرة القرابة إلى مشركي مكة خفيةً، يعلمهم بما عزم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتالهم؛ ليتخذ له بذلك يدًا عندهم يكافؤنه عليه بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفي ذلك نزلت سورة الممتحنة، للنهي عن موالاة أعداء الله وأعدائهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، وهم على تلك الحال في الدين {فَأُولَئِكَ} المتولون لهم {هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم ولجماعتهم، بوضعهم الموالاة في غير موضعها، فهم قد وضعوا الولاية في موضع البراءة والمودة في محل العداوة وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحمية الجاهلية، وذكر (¬1) الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء هنا لأنهم في الغالب تبع لآبائهم، وقرأ عيسى بن عمر: {أن استحبوا}، بفتح الهمزة، جعله تعليلًا وغيره بكسرها جعله شرطًا. والخطاب (¬2) في هذه الآية للمؤمنين كافة وهو حكمٌ باقٍ إلى يوم القيامة، يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا بأن يوالوا الآباء والإخوة، فيكونون لهم تبعًا في سكنى بلاد الكفر، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان, من الآباء والإخوان بالظلم، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدِّها. ولمَّا نزلت هذه الآية السابقة .. 24 - قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا .. ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا، وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {قُلْ}؛ أي: قل يا محمَّد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ}؛ أي: حواشيكم {وَأَزْوَاجُكُمْ}؛ أي: زوجاتكم {وَعَشِيرَتُكُمْ}؛ أي: أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

كالأعمام وأبنائهم، وقرأ الجمهور (¬1): {وَعَشِيرَتُكُمْ} بالإفراد بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن: {وعشائركم} بالألف على الجمع {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}؛ أي: اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ}؛ أي: أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ} كسادها؛ أي: عدم رواجها وربحها بفراقكم لها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}؛ أي: منازل تحبون الإقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ}؛ أي: أعجب عندكم {مِنَ} طاعة {الله} والهجرة إلى {وَرَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -، بالحبِّ الاختياري والقراء على (¬2) نصب {أحبَّ}؛ لأنه خبر {كان} وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: {أحبُّ} بالرفع ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في {كان} ضمير الشأن. ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر {كان} {و} من {جهادٍ في سبيله}؛ أي: في طاعته {فَتَرَبَّصُوا}؛ أي: فانتظروا عذاب الله، مقيمين بمكة {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِأَمْرِهِ} أي: بقضائه فيكم وهو عقوبته التي تحل بكم عاجلًا أو آجلًا، وهذا أمر تهديد وتخويف، وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة، وفيه بُعد، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح، {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: لا يرشد القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الضلال، وفي هذا دليلٌ على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا .. وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا، ليبقى الدين سليمًا. ومعنى الآية (¬3): قل لهم يا محمَّد: وإن كنتم تفضلون حظوظ الدنيا وشهواتها، من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال، والتجارة على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية في الآخرة .. فانتظروا حتى يأتي أمر الله؛ أي: عقوبته التي تحل بكم عاجلًا أو آجلًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها في أربعة: 1 - مخالطة الأقارب، وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج, ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة. 2 - الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة. 3 - الرغبة في تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة. 4 - الرغبة في الأوطان والدور التي بنيت للسكنى. وخلاصة ذلك: إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيله .. فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة. وبتفصيل ما تقدم في الآية نجد أنها حوت أمورًا ثمانية من أفضل ما يحب: 1 - حب الأبناء للآباء وهو غريزيٌّ في النفوس، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه، من جسمية وخلقية، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج، كما قال تعالى حاثًّا على ذكره: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. 2 - حب الآباء للأبناء وهو غريزيٌّ أيضًا، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه، أو أشد، ويحرم نفسه كثيرًا من الطيبات إيثارًا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال، ويركب الصعاب، ويقوم بتربيته وتعليمه، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. 3 - حب الإخوة وهو يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون في الكفاح في الحياة والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم، يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم، ويوقرون كبيرهم ويرحمون

صغيرهم، ويكفلون من تركه أبوه صغيرًا فيتربى مع أولادهم كأحدهم. 4 - حب الزوجة، وبالزوجية يتحد بشران، يتمم وجود كل منهما وجود الآخر، وينتجان بشرًا مثلهما، ومن ثم امتن الله علينا به فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}. 5 - حب العشيرة، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر، في مواطن القتال والنزال، والذود عن الحمى والحريم، وهو يكون على أشده في أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر. 6 - حب الأموال المقترفة؛ أي: المكتسبة، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة؛ لأنَّ عناء النفس في جمعها يجعل لها في قلبه منزلة لا تكون لما يجيء من المال عفوًا. 7 - حب التجارة التي يخشى كسادها في حال الحرب، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها في ذلك الحين؛ لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب في موسم الحج، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة. 8 - حب المساكن الطيبة المرضية، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة في مكة، كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكن، لما فيها من المرافق وأسباب الراحة. فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروهًا مبغوضًا لدى النفوس، فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. أما حبه تعالى: فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام، وتسخير منافع الدنيا للناس، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان في آلاء الله في خلقه، وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

وكذلك حب رسوله، يجب أن يكون فوق هذه أيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان المثل الأعلى في أخلاقه وآدابه، وقد أرسله الله تعالى هدايةً للعالمين إلى يوم الدين. قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: الخارجين من حدود الدين والشريعة، ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد. وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدي إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم هم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله. هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: منها: ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه .. وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". وعنه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع، والذكر الحق: هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد، وتأمُّل سنن الله وآياته في الخلق، وأن تذكر حين رؤية كل شيء من صنع الله تعالى وسماع كل صوت من مخلوقات الله أنه يسبح بحمده تعالى، ويدل على قدرته وحكمته ورحمته. ومن أقام فرائض الله كما أمر وترك معاصيه كما نهى .. فإنه يصل بفضل الله تعالى إلى المقام الذي أشار إليه في الحديث القدسي: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضه عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته .. كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصِر به، ويده التي

يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" رواه البخاري. الإعراب {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}. {أَلَا} حرف تحضيض مضمَّن معنى التوبيخ {تُقَاتِلُونَ قَوْمًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب صفة {قَوْمًا} {وَهَمُّوا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {نَكَثُوا} {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {هموا} {وَهُمْ} مبتدأ {بَدَءُوكُمْ} فعل وفاعل ومفعول {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {بدؤوا} وجملة {بدؤوا} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {هموا} {أَتَخْشَوْنَهُمْ} {الهمزة} للاستفهام التوبيخي مضمن معنى الإنكار {تخشوهم} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {فَاللَّهُ أَحَقُّ}: مبتدأ وخبر و {الفاء}: عاطفة مضمنة معنى التعليل، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَتَخْشَوْنَهُمْ} على كونها معلَّلة لها {أَنْ تَخْشَوْهُ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر بدل اشتمال من المبتدأ؛ أي: فخشية الله أحق وأجدر بكم {إن} حرف شرط {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِن} {مُؤْمِنِينَ} خبر {كان} وجواب {إنْ} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مؤمنين .. فاخشوا الله تعالى. وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}. {قَاتِلُوهُمْ} فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بالطلب السابق، والجملة جملة جوابية، لا محل لها من

الإعراب {بِأَيْدِيكُمْ} جار ومجرور، متعلق بـ {يُعَذِّبْهُمُ} {وَيُخْزِهِمْ} فعل ومفعول معطوف على {يُعَذِّبْهُمُ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {وَيَنْصُرْكُمْ} فعل ومفعول معطوف عليه أيضًا وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {ينصركم} {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ} فعل ومفعول ومضاف إليه معطوف عليه أيضًا {مُؤْمِنِينَ} صفة {قَوْمٍ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فعل ومفعول ومضاف إليه معطوف عليه أيضًا، وفاعله ضمير يعود على الله {وَيَتُوبُ اللَّهُ} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {عَلَى مَنْ} جار ومجرور متعلق بيتوب {يَشَاءُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاء التوبة عليه {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلِيمٌ} خبر أول {حَكِيمٌ} خبر ثان والجملة مستأنفة. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكاري، وبل التي للإضراب الانتقالي {حَسِبْتُمْ} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {أَنْ تُتْرَكُوا} ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر ساد (¬1) مسد مفعولي حسب تقديره: بل أظننتم ترككم. {وَلَمَّا} {الواو} حالية {لَمَّا} حرف نفي وجزم {يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لمَّا} والجملة في محل النصب، حال من واو {تُتْرَكُوا} {جَاهَدُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من واو {جَاهَدُوا} {وَلَمْ يَتَّخِذُوا} جازم وفعل وفاعل معطوف على {جَاهَدُوا} على كونها صلة الموصول، أو في محل النصب حال من واو {جَاهَدُوا} تقديره: {جَاهَدُوا} حال كونهم غير متخذين وليجة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَتَّخِذُوا} أو في محل المفعول الثاني إن كان الاتخاذ بمعنى التصيير {وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ} معطوفان على الجلالة ¬

_ (¬1) إعراب النحاس.

{وَلِيجَةً} مفعول به، أو مفعول أول {وَاللَّهُ} مبتدأ {خَبِيرٌ} خبره {بِمَا} متعلق بـ {خَبِيرٌ} {تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل صلة بـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}. {مَا} نافية {كَانَ} فعل ماض ناقص {لِلْمُشْرِكِينَ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسمًا مؤخرًا لـ {كَانَ} تقديره: ما كان عمارة مساجد الله كائنة للمشركين مستحقةً لهم وجملة {كَانَ} مستأنفة {شَاهِدِينَ} حال من واو {يَعْمُرُوا} {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {شَاهِدِينَ} {بِالْكُفْرِ} جار ومجرور متعلق به أيضًا {أُولَئِكَ} مبتدأ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {وَفِي النَّارِ} {الواو} عاطفة {في النار}: متعلق بـ {خَالِدُونَ} {هُمْ} مبتدأ {خَالِدُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة أولئك. {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}. {إِنَّمَا} أداة حصر {يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} فعل ومفعول ومضاف إليه {مَنْ} موصولة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة {آمَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول {بِاللَّهِ} متعلق بـ {آمَنَ} {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوف على الجلالة {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة معطوفة على جملة {آمَنَ} وكذلك جملة {وَآتَى الزَّكَاةَ} معطوفة عليه {وَلَمْ يَخْشَ} جازم وفعل مجزوم وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة معطوفة على جملة {آمَنَ} {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {اللَّهَ} مفعول به.

{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. {فَعَسَى} {الفاء}: عاطفة مضمنة معنى التعليل أو استئنافية {عَسَى} فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء {أُولَئِكَ} اسمها {أَنْ يَكُونُوا} ناصب وفعل ناقص واسمه {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} خبره وجملة {يَكُونُوا} مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسَى} ولكنه في تأويل اسم الفاعل، تقديره: عسى أولئك كونهم مهتدين؛ أي: عسى أولئك كائنين من المهتدين، والمعنى: حق كونهم من المهتدين، وجملة {عَسَى} معطوفة على جملة قوله {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} أو مستأنفة. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}. {أَجَعَلْتُمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري {جعلتم} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {سِقَايَةَ الْحَاجِّ} مفعول أول ومضاف إليه {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف عليه {كَمَنْ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني، لـ {جعل} ولكنه على تقدير مضاف كما مر في بحث التفسير؛ أي: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كائنين كإيمان من آمن بالله {آمَنَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {بِاللَّهِ} متعلق به {وَالْيَوْمِ} معطوف على الجلالة {الْآخِرِ} صفة لـ {اليوم} والجملة الفعلية صلة {من} الموصولة {وَجَاهَدَ} فعل ماض {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {من} والجملة معطوفة على جملة {آمَنَ} {لَا يَسْتَوُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {عِنْدَ اللَّهِ} متعلق به {وَاللَّهُ} مبتدأ {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} فعل ومفعول {الظَّالِمِينَ} صفة لـ {الْقَوْمَ} وفاعله ضمير يعود على {الله} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}. {الَّذِينَ} مبتدأ {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {وَهَاجَرُوا

وَجَاهَدُوا} معطوفان عليه {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {جاهدوا} {بِأَمْوَالِهِمْ} متعلق به أيضًا {وَأَنْفُسِهِمْ} معطوف على {أموالهم} {أَعْظَمُ} خبر المبتدأ {دَرَجَةً} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَعْظَمُ} والجملة الاسمية مستأنفة {وَأُولَئِكَ} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْفَائِزُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}. {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ} فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة {بِرَحْمَةٍ} متعلق {يُبَشِّرُهُمْ} {مِنْهُ} صفة الرحمة {وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} معطوفان على رحمة {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {فِيهَا} جار ومجرور حال من {نَعِيمٌ} وهو مبتدأ مؤخر {مُقِيمٌ} صفة له والجملة الاسمية في محل الجر صفة لجنات. {خَالِدِينَ} حال مقدرة من ضمير {لَهُمْ} أو من ضمير {يُبَشِّرُهُمْ} {فِيهَاَ} متعلق بـ {خَالِدِينَ} {أَبَدًا} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {خَالِدِينَ} {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {عِنْدَهُ} ظرف ومضاف إليه خبر مقدم {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر {عَظِيمٌ} صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء {أَيُّ} منادى نكرة مقصودة و {الهاء} حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي من الإضافة وجملة النداء مستأنفة {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي} {آمَنُوا} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول {لَا تَتَّخِذُوا} فعل وفاعل، مجزم بـ {لا} الناهية {آبَاءَكُمْ} مفعول أول، ومضاف إليه {وَإِخْوَانَكُمْ} معطوف عليه {أَوْلِيَاءَ} مفعول ثان، لـ {تَتَّخِذُوا} والجملة الفعلية جواب النداء {إِنِ} حرف شرط {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} فعل وفاعل

ومفعول، في محل الجزم بـ {إنِ} الشرطية على كونه فعل شرط لها {على الإيمانِ} متعلق بـ {استحبوا} لتضمينه معنى اختاروا، وجواب {إنِ} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن استحبوا الكفر على الإيمان لا تتخذوهم أولياء، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {وَمَن} {الواو} استئنافية {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما على الخلاف المذكور في محله {يتولهم} فعل ومفعول، مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {منكم} جار ومجرور حال من فاعل {يتولهم} {فَأولئكَ}: {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا {أولئك} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الظالمون} خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ}. {قل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قُلْ} والجملة الفعلية مستأنفة. وإن شئت قلت {إن} حرف شرط {كَانَ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية {آبَاؤُكُمْ} اسمها {وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ} معطوفات على {آبَاؤُكُمْ} {اقْتَرَفْتُمُوهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {أموال} {وَتِجَارَةٌ}: معطوف عليه أيضًا {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {تجارة} {أَحَبَّ}: خبر كان {إليكم}: متعلق به {من الله} متعلق به أيضًا {ورسوله}: معطوف على الجلالة {وَجِهَادٍ}: معطوف على الجلالة أيضًا {في سبيله}: متعلق بـ {وَجِهَادٍ}. {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. {فَتَرَبَّصُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية {فَتَرَبَّصُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن}

الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {حَتَّى}: حرف جر وغاية {يَأْتِيَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى: إلى {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَأْتِيَ} والجملة الفعلية مع {أن} المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى: إلى، تقديره: إلى إتيان الله {بِأَمْرِهِ} الجار والمجرور متعلق بـ {تربصوا} {وَاللَّهُ} مبتدأ {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} فعل ومفعول {الْفَاسِقِينَ} صفة لـ {الْقَوْمَ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} يقال: هَمَّ بالشيء يهم همًّا - من باب رد - إذا أراده. {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أصله أتخشيونهم تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تخشون بوزن تفعون {غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} وفي "المختار" الغيظ غضب كامن للعجز، تقول: غاظه: من باب باع فهو مغيظٌ، انتهى. {وَلِيجَةً} وفي "المصباح" ولج الشيء في غيره يلج - من باب وعد - ولوجًا دخل، وأولجته إيلاجًا أدخلته، والوليجة البطانة، اهـ ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين، وفي "السمين" والوليجة فعيلة، من الولوج، وهو الدخول والوليجة من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه، فهو وليجة، والرجل في القوم وليس منهم يقال له: وليجة ويستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والمجموع، وقد يجمع على ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف اهـ. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} المساجد جمع مسجد: وهو في الأصل مكان السجود، ثم صار علمًا على البيت الذي يعبد الله وحده فيه، كما قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} وعمارة المسجد، تطلق تارةً على لزومه والإقامة فيه للعبادة، أَو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه، أو نحو ذلك، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه، ومنها: النسك المخصوص المسمى

بالعمرة، وفي "المصباح": عمرت الدار عمرًا، من باب قتل، بنيتها والاسم العِمارة بالكسر، اهـ وفي "المختار": وعمرت الخراب عمرًا، من باب كتب فهو عامر؛ أي: معمور، اهـ. {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} السقاية: الموضع الذي يسقى فيه الماء في المواسم وغيرها، ولكن المراد بها هنا المصدر؛ أي: إسقاء الحجاج، وإعطاء الماء لهم، وسقاية العباس موضع بالمسجد الحرام، يستقي فيه الناس، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، لا تزال ماثلة إلى الآن، ولكن جعلها السعوديون الآن تحت الأرض، وقد يراد (¬1) بالسقاية الحرفة، كالحجابة، وهي سدانة البيت، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرَّهما الإسلام وفي الحديث "كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت" وقد كانت قريش تسقي الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام وفي "السمين" قوله {سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ} الجمهور على قرائتهما مصدرين، على فعالة بكسر الفاء، كالصيانة والوقاية والتجارة، ولم تقلب الياء لتحصنها بتاء التأنيث، بخلاف رداءة وعباءة لطرو تاء التأنيث فيهما، وحينئذٍ فلا بد من حذف مضاف، إما من الأول، تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله، وإما من الثاني، تقديره: أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن، أو كعمل من آمن، كما مر. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} و {أَعْظَمُ} (¬2): اسم تفضيل يجوز أن يبقى هنا على بابه من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير: اعتقاد المشركين بأنَّ في سقايتهم وعمارتهم فضيلةً، فخوطبوا على اعتقادهم، أو يكون التقدير: أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا، ولم يجاهدوا، وقيل: أعظم ليس على بابه، بل هو كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

{مُسْتَقَرًّا} وكأنه قيل: عظيمون درجة، و {عِنْدِ اللَّهِ}: بالمكانة لا بالمكان. {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} استحب كذا وأحبه بمعنى واحد فالسين والتاء فيه زائدتان {الظَّالِمُونَ} والظلم: وضع الشيء في غير موضعه اللائق به؛ لأنهم وضعوا المحبة في غير موضعها {وَعَشِيرَتُكُمْ} والعشيرة (¬1): الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل ذوو قرابته الأدنون الذين يعاشرونه، ومن شأنهم التعاون والتناصر، وهو اسم جمع، وقرأ أبو بكر وحماد: {عشيراتكم} بجمع السلامة، فقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات، وإنما يجمعونها على عشائر جمع تكسير {اقْتَرَفْتُمُوهَا} والاقتراف: الاكتساب، يقال: اقترف إذا اكتسب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو، والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة: الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، وكسادها عدم نفاقها، لفوات وقت بيعها، بالهجرة ومفارقة الأوطان، يقال: كسد الشيء كسادًا وكسودًا إذا بار ولم يكن له نَفاق {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} جمع مسكن، وهو المنزل المتخذ سكنًا، والمراد بها هنا: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم، ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله والتربص الانتظار و {أَمْرِه} عقوبته عاجلًا أو أجلًا، كما مر {الْفَاسِقِينَ} وفي "التحرير" الفسق هنا: الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية والكفر ضلال، والضلال: ضد الهداية، وإن كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا، فيكون الفسق: الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله تعالى ولا أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة والفصاحة والبيان والبديع أنواعًا: فمنها: التحضيض المضمن معنى التوبيخ في قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ} وهو ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الطلب بحثٍّ وإزعاج، فالمعنى: قاتلوا قومًا ... إلخ. ومنها: ذكر اسم الجلالة مكان الضمير في قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لتربية المهابة وإدخال الروعة في القلب. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ}؛ أي: بالقتال؛ لأنه مجاز عن إعانتهم لبني بكر على خزاعة قال أبو السعود: الإعانة على القتال بإعطاء السلاح تسمى قتالًا مجازًا اهـ. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} وفي قوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا}. ومنها: الالتفات في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}؛ لأنه كلام مستأنف، خوطب به المشركون التفاتًا من الغيبة في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} وفيه أيضًا مجاز الحذف؛ لأنه على تقدير؛ أجعلتم أهل سقاية الحاج كما مر. ومنها: طباق السلب في قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} وهو الجمع بين فعلين من نوع واحد، أحدهما منفي والآخر مثبت؛ لأن الأول هنا في قوة المنفي لدخول همزة الاستفهام الإنكاري عليه. ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ}؛ لأن المراد النهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من أفراد المشركين، بقضية مقابلة الجمع بالجمع الموجبة لانقسام الآحاد إلى الآحاد، كما في قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. ومنها: مراعاة اللفظ تارةً والمعنى أخرى في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} فيه مراعاة لفظ (من) وقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فيه مراعاة معناها. ومنها: المزاوجة في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ...} إلى آخر الآية وهي أن يزواج؛ أي: يقارن بين أمرين فأكثر في الشرط والجزاء.

ومنها: تعريف جزئي الكلام مع الإتيان بضمير الفصل، إفادة للحصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}؛ أي: هم الفائزون لا غيرهم. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} وفيه أيضًا تخصيص الصلاة والزكاة بالذِّكر، تفخيمًا لشأنهما، وإظهارا لفضلهما. ومنها: التنكير في قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} للتفخيم والتعظيم؛ أي: برحمة لا يبلغها وصف واصف. ومنها: الإتيان بصيغة الأمر مرادًا به التهديد والوعيد، في قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} نظير قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} شبه الدوام بالإقامة، فاشتق منه مقيم بمعنى دائم، على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}. المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر فيما قبلها أنَّ (¬1) الخير ¬

_ (¬1) المراغي.

والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وفي إيثار حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والجهاد في سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها، مما يحب .. أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة، لم يكن بقوة العصبية، ولا بقوة المال، ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول، الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وإن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين، كان ابتلاءً لهم على عجبهم بكثرتهم، ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية، لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة. انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما أمر (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر حين أمَّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلغ الناس، أنه لا يحج بعد هذا العام مشركٌ، ثم أمر عليًّا أن يتبع أبا بكر، فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله بريءٌ من المشركين ورسوله .. قال الناس: يا أهل مكة، ستعلمون ما تلقون من الشدة، لانقطاع السبل، وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة، فقال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: كان المشركون يجيؤون إلى البيت. ويجيؤون معهم بالطعام، يتجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت .. قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ...} الآية، قال: فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم، وأسلم أهل اليمن، وجاءهم الناس من كل فج. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أحكام المشركين، في إظهار البراءة من عهودهم، وفي إظهار البراءة منهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وإبعادهم عن المسجد الحرام .. أردف ذلك بحكم قتال أهل الكتاب، وبيان الغاية منه، وفي ذلك توطئةٌ للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ - شدة الحر - وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم، وتمحيص المؤمنين، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقاتل فيها الروم، لما سيأتي. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح .. أردف ذلك بشرح المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم، أنهم أثبتوا لله ابنًا، وهذا بمنزلة الشرك بالله، فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، يحرمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله، وصحة دينه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر في الآيات السالفة أن اليهود والنصارى، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، فعبدوا غيره من دونه .. أردف ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدِّينيين في معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم، والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء، وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك ¬

_ (¬1) المراغي.

الشهوات، ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة في صناديقهم ولا ينفقونها في سبل البر والخير بالعذاب الأليم، وفي نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة، فتصير كالنار التهابًا، ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور، ويقال لهم: هذا جزاء صنيعكم في الدنيا، منعتموه البائس الفقير، لتتمتعوا به، فكان جزاؤكم أن صار وبالًا عليكم، وميسمًا تكتوون به على جنوبكم وظهوركم، فلم تنتفعوا به في دين ولا دنيا. أسباب النزول قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) البيهقي في "الدلائل" عن الربيع بن أنس، أن رجلًا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، وكانوا اثني عشر ألفًا، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية. قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام، يتجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت .. قال المسلمون: من أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .. شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام والمتاع؟ فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وأخرج مثله عن عكرمة وعطية العوفي والضحاك وقتادة وغيرهم. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى ومحمد بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ فأنزل الله في ذلك {وَقَالَتِ ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[25]

الْيَهُودُ ...} الآية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} الآيتين، سبب نزولهما (¬1): ما أخرجه البخاري عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها. فأكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليَّ حبشيًّا .. لسمعت وأطعت. التفسير وأوجه القراءة 25 - وعزتي وجلالي {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون {فِي مَوَاطِنَ} وأماكن {كَثِيرَةٍ} للحرب، توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، وفي مشاهد تلتقون فيها أنتم وهم في صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقًا وإظهارًا لدينه. روى أبو يعلى عن جابر، أن عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرون، قاتل بنفسه في ثمانٍ، منها: بدر، وأُحد، والأحزاب، والمصطلق، وخيبر، ومكة، وحنين، والطائف. وبعوثه وسراياه ست وثلاثون، واختار جمع من العلماء، أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع في بعضها قتال، ونصرهم في كل قتال إما نصرًا كاملًا وهو الأكثر، وإما نصرًا مشوبًا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها، كما في أُحد إذ نصرهم أوَّلًا ثم أظهر عليهم العدو، لمخالفتهم أمر القائد الأعظم، ¬

_ (¬1) البخاري.

في أهم أوامر الحرب، وهو حماية الرماة لظهورهم، وكما في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة والنصر التام في آخرها. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}؛ أي: ولقد نصركم الله سبحانه وتعالى أيضًا يوم قتالكم مع هوازن، في وادي حنين، فهوازن قبيلة حليمة السعدية، مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحنين اسم واد بين مكة والطائف، بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلًا، وذلك لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان .. خرج في شوال، في تلك السنة، وهي سنة ثمان من الهجرة، متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف، والظرف في قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ}؛ أي: إذ أفرحت وبشرت أنفسكم {كَثْرَتُكُمْ}؛ أي: كثرة عددكم وعُددكم بدل من يوم؛ أي: نصركم يوم حنين إذ أعجبت أنفسكم كثرة عددكم وعُددكم، إذ كنتم اثني عشر ألفًا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا بمكة، وألفان من الطلقاء، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا، وهم أسلموا بعد فتح مكة في هذه المدة القليلة، وكان الكفار من هوازن وثقيف أربعة آلاف فقط، ومعهم أمداد من سائر العرب، فقال قائل منكم - قيل اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري - افتخارًا بكثرتكم: لن نغلب اليوم من قلة؛ أي: من أجلها؛ أي نحن كثيرون فلا نغلب، فأحزنت تلك الكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الهزيمة عليكم؛ أي: فكانت الهزيمة عقوبة لكم على هذا الغرور والعجب، وتربيةً للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة مرةً أخرى {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ}، أي: فلم تدفع عنكم كثرتكم {شَيْئًا} من عار الغلب والهزيمة ولم تفدكم في مقاومة العدو {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} الواسعة من شدة الخوف {بِمَا رَحُبَتْ}؛ أي: مع رحبها وسعتها، فالباء (¬1) بمعنى مع، و {ما} مصدرية والمعنى: إن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليكم بسبب ما حل بكم من الخوف والوجل، فلم تجدوا وسيلةً للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ}؛ أي: انهزمتم حالة كونكم {مُدْبِرِينَ}؛ أي: مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم، لا تلوون على شيء، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[26]

طائفة قليلة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث ثم تراجع المسلمون، فكان النصر والظفر لهم. وقال البراء بن عازب (¬1): كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم .. انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق معه - صلى الله عليه وسلم - إلا عمه العباس، وهو آخذ بلجام بغلته، وابن عمه أبا سفيان حرب بن الحارث بن عبد المطلب، وهو آخذ بركابه، وقد أسلم هو والعباس يوم الفتح، وهو - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته الشهباء نحو الكفار، لا يبالي وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" ثم قال للعباس: "ناد المهاجرين والأنصار" وكان العباس رجلًا صيتًا، فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقًا واحدًا، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده كفا من الحصى، فرماهم بها، وقال: "شاهت الوجوه" فما زال أمرهم مدبرًا وحدهم كليلًا حتى هزمهم الله تعالى، ولم يبق منهم يومئذٍ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله تعالى: 26 - {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أي: رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن {عَلَى رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: أنزل ما يسكنهم فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين، هم الذين لم ينهزموا، وقيل: الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم؛ لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا؛ أي: ثم (¬2) أفرغ الله سكينةً وطمأنينة من عنده على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه، حين وقوع الهزيمة لهم، فما ازداد إلا ثباتًا وشجاعة وإقدامًا على العدو {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الذين ثبتوا معه، وأحاطوا ببغلته الشهباء وعلى سائر المؤمنين الصادقين، فأذهب روعهم، وأزال حيرتهم، وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم وخصوصًا حين سمعوا نداءه - صلى الله عليه وسلم - ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[27]

{وَأَنْزَلَ} الله تعالى مع هذه السكينة من السماء {جُنُودًا} من الملائكة {لَمْ تَرَوْهَا} بأبصاركم، بل وجدتم أثرها في قلوبكم بما عاد إليها من الثبات وشدة البأس، وهم الملائكة أنزلهم لتقوية قلوب المؤمنين، بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، لا للقتال؛ لأن الملائكة لم تقاتل إلا في يوم بدر، {وَعَذَّبَ} أعداءكم {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله بالقتل والأسر والسبي، وهم قوم مالك بن عوف الدهماني، وقوم كنانة بن عبد يا ليل الثقفي {وَذَلِكَ} التعذيب بالقتل والأسر {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} بالله ورسوله في الدنيا، ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان، ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه، 27 - {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} التعذيب الذي وقع عليهم في الدنيا بالأسر والخذلان {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} التوبة عليه من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لمن تاب {رَحِيمٌ} لمن آمن وعمل صالحًا؛ أي: وهو تعالى غفور لهم، يتجاوز عمّا سلف منهم من الكفر والمعاصي، رحيم بهم يتفضل عليهم، ويثيبهم بالأجر والجزاء. فصلٌ في وفد هوازن وإسلامهم وغنائمهم وروي عن المسور بن مخرمة وغيره، أن ناسًا منهم (¬1) جاؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبو الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا، فقال - صلى الله عليه وسلم - "إن ما عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم". قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا وهي مفاخر الآباء الذراري والنساء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن هؤلاء جاؤونا مسلمين، وإنّا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده أسير، وطابت نفسه أن يرده .. فشأنه - أي: فيلزم شأنه - ومن لا .. فليعطنا، وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه"، ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا ندري، لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفائكم، فليرفعوا ذلك إلينا" فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا، ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم، فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفًا، ومن الغنم ما لا يحصى عددًا، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم، وكان فيها غير ذلك، ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها، فلا نطيل الكلام بذلك. 28 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}؛ أي: أنجاس فاسدوا الاعتقاد، يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم، وهي أقذار حسية، ويستحلون القمار والزنا، ويسبيحون الأشهر الحرم، وهي: أرجاس معنوية فمن أجل هذا {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}؛ أي: بعد هذه السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة؛ أي: لا تمكنوهم بعد هذا العام، أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلًا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراةً، يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا .. لم تكن صلاتهم إلا مكاءً وتصدية. تنبيه: واعلم أن بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام (¬1): 1 - الحرم: فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال، لظاهر الآية، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك: فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم .. لا يأذن له في دخوله الحرم، بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وأبو حنيفة يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه. 2 - الحجاز: وهو ما بين عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضًا، ويجوز للكافر دخولها ¬

_ (¬1) المراغي.

بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام، روى مسلم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلمًا" وفي رواية لغير مسلم: وأوصى، فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" فلم يتفرغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأخرج مالك في "الموطأ" مرسلًا: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" وروي عن مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". 3 - سائر بلاد الإسلام: فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم، وقرأ الجمهور: {نَجَس}، بفتح النون والجيم، وهو مصدر نجس نجسًا بكسر الجيم وضمها في الماضي؛ أي: قذر قذرًا، وقرأ أبو حيوة (¬1): {نِجْس} بكسر النون وسكون الجيم، وهو اسم فاعل، من نجس، فخففوه بعد الاتباع، كما قالوا: في كبِد كبْد، وفي كرش كرش، وقرأ ابن السميقع: {أنجاس} فيحتمل أن يكون جمع نجس المصدر، وجمع نجس اسم فاعل. ولما امتنع المشركون من دخول الحرم، وكانوا يتجرون ويأتون مكة بالطعام، وكانت معايش أهل مكة من التجارات، فخافوا الفقر وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} أيها المؤمنون بسبب امتناع المشركين من مكة {عَيْلَةً}؛ أي: فقرًا بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون، من أرباب المزارع في الشعاب، والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع، كالطائف وأرباب المتاجر {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مِنْ فَضْلِهِ} ورزقه وعطائه من وجه آخر {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى ذلك، وفضله كثير، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد، وصدق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وعده، فأرسل الله تعالى عليهم السماء مدرارًا أغزر بها خيرهم، وأكثر ميرهم، وأسلم أهل جدة وحنين وأهل اليمن وصنعاء وتبالة، وصاروا يجلبون الطعام لأهل مكة، وأسلم أولئك المشركون، ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب، بما فتح الله عليهم من البلاد، فكثرت الغنائم، وتوجه إليهم الناس من كل فجٍّ، ومهد الله لهم سبل الرزق، من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة، وكان نصيب مكة من ذلك عظيمًا بكثرة الحاج، وأمن طرق التجارة. وقيد (¬1) هذا الغني بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول ما تتعلق به، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده، وإن كانوا مأمورين به، لأنه من سننه في خلقه، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم، فهو الذي نصرهم وأغناهم، وسيزيدهم نصرًا وغنًى. وقال أبو حيان (¬2): وعلق بالمشيئة، لأنه يقع في حق بعض دون بعض، وفي وقت دون وقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم .. أغناكم، وقال القرطبي: إعلامًا بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروى للشافعي: لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِيْ ... بِنُجُوْمِ أقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِيْ لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ... ضِدَّانِ مَفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ وَمِنَ الدَّلِيْلِ عَلَى الْقَضَاءِ وُكَوْنِهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيْبِ وَطِيْبُ عَيْشِ الأَحْمَقِ وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: {عائلة}، وهو مصدر كالعاقبة، والعافية والقابلة أو نعت لمحذوف؛ أي: حالًا عائلة. وقيل: معناه: خصلةً شاقةً {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر، عليم بأحوالكم وبمصالحكم {حَكِيمٌ} فيما دبره لكم، فلا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، وحكيم فيما يشرعه لكم، من أمرٍ ونهي، كأمركم بقتال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[29]

المشركين بعد انقضاء عهودهم، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد عامهم هذا، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، 29 - والخطاب في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وأصحابه. والمعنى: قاتلوا أيها المؤمنون أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله، ولا بمجيء اليوم الآخر؛ لأن (¬1) اليهود مثنِّية، والنصارى مثلِّثة، فإن قلت: (¬2) اليهود والنصارى، يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟ قلت: إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك .. فليس بمؤمن بالله، بل هو مشرك بالله، وقيل: من كذب رسولًا من رسل الله .. فليس بمؤمن بالله، واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء، فليسوا بمؤمنين بالله، وأما إيمانهم باليوم الآخر .. فليس كإيمان المؤمنين، وذلك يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون فيها ولا ينكحون، ومن اعتقد ذلك .. فليس إيمانه كإيمان المؤمنين، وإن زعم أنه مؤمن {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى في الكتاب {وَرَسُولُهُ}؛ أي: ولا ما حرم رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في السنة، من الخمر والخنزير، وسائر المحرمات، كالربا وأخذ أموال الناس بالباطل، أو المعنى: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله المرسل إليهم في التوارة والإنجيل؛ أي: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من عند أنفسهم. والمعنى: أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادًا وعملًا {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}؛ أي: ولا يتمسكون دين الحق، الذي هو دين الإسلام، أو لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، حالة كون هؤلاء المذكورين ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن.

{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: من الذين أعطوا التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}؛ أي: قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، أو يسلموا؛ أي: حتى يقبلوا إعطاء الجزية لكم، والمراد بإعطائها التزامها بالعقد. وإن لم يجىء وقت دفعها، ذكره في "الفتوحات". والجزية: هي ما يعطي المعاهد من أهل الكتاب على عهده، وهي الخراج المضروب على رقابهم، سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم {عَنْ يَدٍ}؛ أي: عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئًا كرهًا من غير طيب نفس: أعطى عن يد، وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم، ولا يرسلون بها على يد غيرهم؛ أي: حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدًا، غير نسيئةً، لا مبعوثًا على يد أحد، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ، وقيل: يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم، لأن ترك أروحهم عليهم بقبول الجزية ومنهم نعمة عظيمة {وَهُمْ صَاغِرُونَ}؛ أي: والحال أنهم أذلاء مقهورون، منقادون لحكم الإسلام، يجرون إلى الموضع الذي يقبض منهم فيه بالعنف، حتى يؤدوها عن يدهم. وحاصل معنى الآية (¬1): قاتلوا أهل الكتاب إذ هم جمعوا أربع صفات، هي العلة في عدواتهم للإسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا في دار الإسلام، إذ لو أجيز لهم حمل السلاح .. لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وجعلهم حلفاء له، وأجاز لهم الحكم فيما بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم في حدود البلاد العربية. وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها، هي أصول كل دين إلهي، ومن ثم، أمر بقتال الذين لا يقيمونها، وهي: 1 - أنهم {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقد شهد القرآن بأنَّ اليهود والنصارى فقدوا ¬

_ (¬1) المراغي.

الإيمان، بهدم أساسه، وهو التوحيد، إذ قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، يشرعون لهم العبادات، ويحرمون ويحللون، فيتبعونهم، وبذا أشركوهم في الربوبية، ومنهم من أشرك به في الألوهية، كالذين قالوا: عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله، أو هو الله. 2 - أنهم {لا} يؤمنون {بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إذ هم يقولون: إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة، يكون الناس فيها كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفًا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد، ولا يوجد فيما بين يدي اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة في البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة في ذلك. 3 - أنهم {لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فاليهود لا يحرمون ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى، ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حرم، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل، كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين في القتال والنفي، ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب، إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت في كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها. 4 - أنهم {لا يدينون دين الحق} إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدي، وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية، وأهوائهم المذهبية، لا دين الحق الذي أوحاه الله تعالى إلى موسى وعيسى عليهما السلام. والخلاصة: قاتلوا أيها المؤمنون من وصفوا بتلك الصفات الأربعة إذا وجد منهم ما يقتضي القتال، كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببًا لغزوة تبوك؛ أي: قاتلوهم إلى أن تأمنوا عدوانهم، بإعطائكم الجزية، بشرط أن تكون صادرة عن يد؛ أي: من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا، وبشرط أن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما

يشاهدون من عدلكم، وفضائلكم التي يرونها رأي العين. فإن أسلموا .. عمَّ الهدى والعدل، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية .. وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم، وإعطاؤهم حريتهم في دينهم، ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويسمون حينئذٍ: أهل الذمة إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله، أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق، يعترف به الطرفان .. فيسمون: المعاهدين، أو أهل العهد، ولقب (¬1) أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب وإن كان عامًّا خص به اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها، كما قال تعالى: مخاطبًا لمشركي العرب {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}. فصلٌ في الجزية واعلم (¬2): أن قدر الجزية أقلها دينار، ولا يجوز أن ينقص عنه، ويقبل الدينار من الغني والفقير والمتوسط، ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وجهه إلى اليمن .. أمره أن يأخذ من كل حالم؛ أي: محتلم دينارًا أو عدله من المعافرية - ثياب تكون باليمن - أخرجه أبو داود، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ دينارًا، ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط، وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء، وإنا تؤخذ من الأحرار البالغين، وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط دينارين، وعلى كل فقير دينارًا، وهو قول أصحاب الرأي، ويدل عليه ما روي أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورِق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، أخرجه مالك في "الموطأ". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[30]

وقال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار، لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضي أهل الذمة بالزيادة .. ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير. وقال العلماء: إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل، بخلاف أهل الشرك، حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوارة والإنجيل، قبل النسخ والتبديل، وأيضًا فإن بأيديهم كتبًا قديمة، فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته، فأمهلوا لهذا المعنى، وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب، إقرارهم على كفرهم، بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم، رجاء أن يعرفوا الحق، فيرجعوا إليه، بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه. 30 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق .. بيَّن في هذه الآية الآتية ما أجمله في تلك فأخبر عنهم أنهم أثبتوا لله ولدًا، ومن جوز ذلك على الله .. فقد أشرك به؛ لأنه لا فرق بين من يعبد صنمًا وبين من يعبد المسيح، فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لعائن الله تعالى عليهم؛ أي: قال بعضهم وهم يهود المدينة؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، أو فنحاص بن عازوراء {عُزَيْرٌ} بن شرخيا {ابْنُ اللَّهِ} تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. روى (¬1) ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك، وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ كما مر بيان ذلك في الأسباب، وإسناد هذا القول إليهم جملة، وإن كان قد صدر من بعضهم مَبنيٌّ على أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها ¬

_ (¬1) المراغي.

العامة فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه .. يؤاخذون به كلهم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. وسبب هذا القول منهم أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله تعالى، إذ نزل نور من السماء، فدخل جوفه فعادت التوراة إليه، فأعلم قومه، وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة، وردها علي، فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت، عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت .. فوجدوه مثله، فقالوا: ما جمع التوراة في صدر عزير وهو غلام إلا لأنه ابنه. {وَقَالَتِ النَّصَارَى}؛ أي: قال بعضهم: {الْمَسِيحُ} عيسى بن مريم {ابْنُ اللَّهِ} تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذا قول القدماء منهم، كانوا يريدون به المحبوب أو المكرم، ثم سرت إليهم وثنية الهنود، فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقةً وعلى أن ابن الله بمعنى {اللَّهِ} وبمعنى روح القدس إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة. روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق، بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة، يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له: بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولس لليهود: إن كان الحق مع عيسى .. فقد كفرنا، والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار، ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى. فقالوا: له من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولس، قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنتصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة، ومكث سنة في بيت فيها، ولم يخرج منها حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك،

فصدقوه وأحبوه، وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال، اسم واحد منهم: نسطور، والآخر يعقوب، والثالث ملكان، والرابع، من أهل الروم، فعلَّم نسطورًا أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان، وأنه ابن الله، وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلًا آخر من الروم اللاهوت والناسوت، وقال: ما كان عيسى إنسانًا ولا جسمًا ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة، وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وأني غدًا أذبح نفسي لمرضاة ربي ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم، واختلفوا، ووقع القتال بينهم، فكان ذلك سبب قولهم: المسيح ابن الله {ذَلِكَ} المذكور الذي قالوه في عزير وفي المسيح {قَوْلُهُمْ}؛ أي: قول صادر واقع من غير فائدة ولا برهان، يقولونه {بِأَفْوَاهِهِمْ} وتلوكه ألسنتهم مجرد عن المعنى، خال عن الفائدة، لا يؤيده برهان، ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دال على عكسه، لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىءٌ عن الحاجة، واتخاذ الصاحبة. ووجه (¬1) تقييده بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا من الفم: أن هذا القول لما كان ساذجًا ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرد دعوى لا معنى تحتها، فارغة صادرة عنهم صدور المهملات، التي ليس فيها إلا كونها خارجةً من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتد بها، وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في كتبت بيدي، ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه، لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولًا زورًا، كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وأشباه ذلك. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[31]

{يُضَاهِئُونَ}؛ أي: يشابهون في قولهم ذلك {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبلهم، وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول، إذ قالوا: الملائكة بنات الله. وفي معنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا من قبل أقوال لأهل العلم: الأول: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم: واللات، والعزى، ومناة، بنات الله. القول الثاني: أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين أن الملائكة بنات الله. الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيرًا ابن الله، وأن المسيح ابن الله. وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} تعالى دعاء عليهم بالهلاك؛ لأن من قاتله الله .. هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم، وقيل، معنى قاتلهم الله: لعنهم الله تعالى، وطردهم من رحمته {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ أي: كيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، وبه تجزم كل العقول، وبلغه عن الله كل رسول إلى قول لا يقبله عقل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله، الذي خلق هذا الكون العظيم، ودبر أمره، ولا ينبغي لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شؤونه ولدًا من جنسه، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}. وقرأ عاصم والكسائي: {عُزَيْرٌ} منونًا على أنه عربي، وباقي السبعة: بغير تنوين، ممنوع الصرف، للعجمة والعلمية، كعاذر وعيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القراءتين فـ {ابن} خبر، وقرأ عاصم، وابن مصرف {يضاهؤن}، بالهمز، وباقي السبعة: بغير همز، ثم فصل قوله من قبل {يضاهؤن} قول الذين كفروا من قبل بقوله: 31 - {اتَّخَذُوا}؛ أي: اتخذ كل من اليهود والنصارى {أَحْبَارَهُمْ}؛ أي: علماءهم {وَرُهْبَانَهُمْ}؛ أي عبادهم {أَرْبَابًا}؛ أي آلهة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، كالربا والرشوة والخمر والخنزير، وتحريم ما أحل الله تعالى، كالسوائب والبحائر، أو في السجود لهم

{و} اتخذت النصارى زيادة على ما مر {المسيح} عيسى {ابْنَ مَرْيَمَ} ربًّا معبودًا بعد ما قالوا: إنه ابن الله. والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساءهم في الدين أربابًا، فاليهود اتخذوا أحبارهم، وهم علماء الدين، أربابًا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم، وإطاعتهم فيه، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم؛ أي: عبادهم الذين يخضع ويركع لهم العوام أربابًا كذلك. والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابًا يقتضي بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء، مدونًا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان، ولو غير مدون، سواء قالوه تبعًا لمن فوقهم، أو من تلقاء أنفسهم، لثقتهم بدينهم، وانفردت النصارى باتخاذهم المسيح ربًّا وإلهًا يعبدونه، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقةً، ويصرحون بذلك، واليهود لم يقصروا في دينهم على أحكام التوراة، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم، ثم دونوه، فكان هو الشرع العام، وعليه العمل عندهم، والنصارى غيَّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية، واستبدلوا بها شرائع أخرى في العبادات والمعاملات جميعًا، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاؤوا، وحرمان من شاؤوا من رحمة الله وملكوته، والله يقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات. {وَمَا أُمِرُوا}؛ أي: اتخذ هؤلاء الكفار ما ذكر أربابًا من دون الله، والحال أنهم ما أمروا في التوراة والإنجيل {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} في ذاته وصفاته وأفعاله عظيم الشأن، هو الله تعالى؛ أي (¬1) اتخذوا رؤساءهم أربابًا من دون الله، والربوبية تستلزم الألوهية، إذ الربُّ هو الذي يجب أن يعبد وحده، ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى، ومن اتبعهما فيما جاء به من عند الله إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلهًا واحدًا، بما شرعه لهم، وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه، ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذه الجملة صفة لـ {إِلَهًا}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود غيره تعالى في حكم الشرع ولا في نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأي والهوى، جهلًا بصفات الألوهية، إذ ظنوا أن لبعض المخلوقات سلطانًا غيبيًّا، وقدرة على الضر والنفع، من غير طريق الأسباب المسخرة للخلق مثل ما لله، إما بالذات، وإما بالوساطة والشفاعة لديه. {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزَّه وتمجَّد اللَّه له تعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفي ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه. 32 - {يُرِيدُونَ}؛ أي: يريد رؤساء اليهود والنصارى {أَنْ يُطْفِئُوا} ويخمدوا {نُورَ اللَّهِ}؛ أي: دين الله الذي هو دين الإسلام {بِأَفْوَاهِهِمْ}؛ أي: بتكذيبهم وألسنتهم يعني (¬1) يريد هؤلاء إبطال دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، بتكذيبهم إياه، وقيل المراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وهي أمور: أحدها: المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الدالة على صدقه. وثانيها: القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند الله فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه. وثالثها: أن دينه الذي أمر به، وهو دين الإسلام، ليس فيه شيء سوى تعظيم الله، والثناء عليه، والانقياد لأمره، ونهيه واتباع طاعته، والأمر بعبادته والتبري من كل معبود سواه، فهذه أمور نيرة، ودلائل واضحة، في صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير .. فقد خاب سعيه وبطل عمله. ¬

_ (¬1) الخازن.

وهذه الجملة تمثيل (¬1) لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم، قد أنارت به الدنيا، وانقشعت به الظلمة، ليطفئه ويذهب أضواءه، ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بمزيد النصر، وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين بقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ} سبحانه وتعالى ويمتنع، ولا يريد كل شيء {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ} ويظهر {نُورَهُ} ويعلي كلمته، ويتم الحق، الذي بعث به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. وخلاصة ما سلف (¬2): أنهم يريدون أن يطفؤوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وركنه الركين، وأساسه المتين: توحيد الربوبية والألهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر، فيجعله بدرًا كاملًا يعم نوره الأرض كلها. وجواب لو في قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} محذوف (¬3) تقديره: ولو كره الكافرون تمام نوره .. لأتمه ولم يبال بكراهتهم، وجملة لو معطوفة على (¬4) مقدر، تقديره: ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك، وحتى لو كرهوا، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. والمعنى (¬5): ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون بعد تمامه، كما كانوا يكرهونه من قبل، حين بدء ظهوره، فهم يكيدون له ويفترون عليه، ويطعنون فيه وفيمن جاء به، ويحاولون إخفاءه، أما اليهود .. فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوةً لأهله، فهم في ذلك كمشركي العرب سواء. ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه، وتفريق كلمة أهله، كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعليٍّ كرم الله وجهه والغلو في ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين، ثم في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراغي.

[33]

الفتنة بين عليّ ومعاوية، ولولا ذلك .. لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة في تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ. وأما النصارى: فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فتودد اليهود للمسلمين؛ لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين، ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد؛ لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم، إلى أن جاءت الحروب الصليبية، فغلا نصارى أوروبا في عداوة المسلمين، ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، كما هو مشاهد معروف. 33 - ثم بين إتمام نوره فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي أَرْسَلَ} وبعث {رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، حالة كونه متلبسًا {بِالْهُدَى}؛ أي بالقرآن أو بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده {وَدِينِ الْحَقِّ} الذي هو دين الإسلام والملة الحنيفية، وهذه الجملة بمنزلة التعليل لما قبلها؛ أي: إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق، الذي لا يغيره دين آخر ولا يبطله شيء آخر. ثم ذكر الغاية من إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم -، خاتم النبيين بدين الحق، فقال: {لِيُظْهِرَهُ}؛ أي: ليعلي هذا الدين، الذي هو دين الإسلام ويرفع شأنه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}؛ أي: على جميع الأديان كلها بالحجة والبرهان والهداية والعرفان والسيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي، وإظهاره على الدين كله بأن لا يعبد الله إلا به، فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس

[34]

على بلادهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل، وكان ذلك إخبارًا عن الغيب فكان معجزًا. وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبًا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ذلك الإظهار .. لأظهره الله تعالى، فجواب {لو} محذوف، كما قدرناه مثل ما مر، سواء بسواء، وقد وصفهم هنا بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر، للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه، والشرك بالله، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره على جميع الأديان يكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم، وغير المشركين، وهذا آخر الآيات التي أمر عليٌّ بالتأذين بها في موسم الحج. 34 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان، المتخذين لهم أربابًا .. ذكر هنا حال المتبوعين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ}؛ أي: علماء اليهود {وَالرُّهْبَانِ}؛ أي: علماء النصارى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ}؛ أي: ليأخذون الأموال من سفلتهم {بِالْبَاطِلِ}؛ أي: بالوجوه الباطلة، كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وغير ذلك، وعبر عن أخذ الأموال بالباطل بالأكل؛ لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فمسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وأثبت هذا الأكل للكثير منهم؛ لأنَّ فيهم من لم يتلبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان كثير من الذين يدعون العلم في الإسلام، ممن لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، {وَيَصُدُّونَ} الناس؛ أي: يمنعون الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم -، لئلا يفوتهم ما يأخذونه من سفلتهم، أو يمنعونهم في كل زمان عما كان حقًّا في شريعتهم قبل نسخها، بسبب أكلهم أموال الناس بالباطل.

والمعنى: إن كثيرًا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حب المال والجاه، فمن أجل حب المال أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الجاه .. صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصحة دينه .. لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم، وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون في المنع من متابعته، وصد الناس عنه. وأكل الأموال بالباطل: أخذها بغير حق شرعي، ويقع ذلك على صور مختلفة منها: 1 - أخذها رشوة لأجل الحكم، أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت، أو غير رسمية. 2 - أخذها بالربا، وهو فاش عند اليهود وأحبارهم، يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين، ويأكلونه معهم، مستحلين له بنص توارتهم المحرفة بدلًا من نهيهم عنه. 3 - أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم هدايا ونذورًا. 4 - بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد في الدنيا ليدعوا لهم ويشفعوا عند الله في قضاء حاجاتهم، وشفاء مرضاهم اعتقادًا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يرد شفاعتهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفًا في الكون، يقضون به الحاجات، من دفع الضر عمن شاؤوا، وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون، وقالوا: إنها لا تنافي التوحيد الذي جاءت به الرسل. 5 - أخذها جعلًا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتي الرجل أو المرأة لدى القسيس، أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها، فيقص عليه الخاطىء ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها، لأجل أن يغفرها له، وهم

يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله. 6 - أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام أو تحريم الحلال؛ إرضاءً لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم. 7 - أخذها من أموال مخالفيهم في الجنس أو الدين خيانة وسرقةً، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية. وصدهم عن سبيل الله (¬1): هو منعهم الناس عن معرفة الله، معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين - كما علمت مما سلف - فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر واليهود، قد كفروا بالمسيح، وهو المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسيين، وجل عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن في عهد المسيح، ومن أنكى طرقهم في الصد عن سبيل الله: الطعن في النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب الكريم؛ أي القرآن. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}؛ أي: يجمعونهما {وَلَا يُنْفِقُونَهَا}؛ أي: ولا ينفقون تلك الكنوز {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: في طاعته؛ أي: لا يؤدون زكاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر، قال: ما أُدي زكاته .. فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته .. فهو كنز، وإن كان ظاهرًا. وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي مال أديت زكاته .. فليس بكنز". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} .. كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يبقي لولده مالًا بعده، فقال عمر: أنا أفرج ¬

_ (¬1) المراغي.

عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم"، فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها الرجل .. سرته، وإذا أمرها .. أطاعته، وإذا غاب عنها .. حفظته"، وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال؛ لكونهما أثمن الأشياء، وغالب ما يكنز، وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز، وقرأ الجمهور: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} بالواو على الاستئناف، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين، وقرأ ابن مصرف: {الَّذِين} بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم، واختلفوا (¬1) في المراد بهؤلاء الذين ذمهم بسبب كنز الذهب والفضة، فقيل: هم أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم وصفهم بالبخل الشديد، وهو جمع المال، ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس والسدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل .. حذر المسلمين من ذلك، وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه. وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول: أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال، ومنع الحقوق الواجبة فيه، سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين. أخرج البخاري عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة - موضع بين مكة والمدينة - فإذا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام ¬

_ (¬1) الخازن.

[35]

فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس، حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أُمر عليَّ عبد حبشي .. لسمعت وأطعت. وإنما قال: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} ولم يقل: ينفقونهما؛ لأنه أعاد الضمير إلى المال المكنوز، وهي أعيان الذهب والفضة، وقبل أعاد الضمير إلى الفضة؛ لأنه أغلب أموال الناس. واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته، هل يسمى كنزًا أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز، ومن القائلين بالقول الأول أبو ذرٍّ، وقيده بما فضل عن الحاجة، ومن القائلين بالقول الثاني: عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو الحق لما تقدم من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ}؛ أي: فأخبرهم يا محمد {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: مؤلم، جملة تهكمية خبر عن الموصول، وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة، لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغم. 35 - وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} منصوب بقوله: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقيل: منصوب بمحذوف، تقديره: أي: أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى ويوقد فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم؛ أي: بأن توضع فيها وتضرم عليها النار الحامية، حتى تبيض من شدة الحرارة، وتصير مثلها {فَتُكْوَى بِهَا}؛ أي: فتحرق بتلك الكنوز المحماة {جِبَاهُهُمْ}؛ أي: جباه كانزيها جمع جبهة وهي أعلى الوجه، والمراد بها ما أقبل منهم كله {وَجُنُوبُهُمْ} جمع جنب، والمراد بها جهة اليمين واليسار {وَظُهُورُهُمْ} جمع ظهر، والمراد بها ما أدبر منهم كله؛ أي: فتلصق بجباهم وجنوبهم وظهورهم، حتى

يصل الحر إلى أجوافهم. وخص (¬1) الجباه والجنوب والظهور بالذكر لكون التألم بكيِّها أشد، لما في داخلها من الأعضاء الشريفة وقيل: ليكون الكي في الجهات الأربع من قدام وخلف، وعن يمين وعن يسار، وقيل: لأن الجمال في الوجه، والقوة في الظهر والجنبين والإنسان، إنما يطالب المال للجمال والقوة، وقيل: لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئًا .. تبدو منه آثار الكراهة والمنع، فعند ذلك يكلح وجهه، وتجتمع أسارير جبهته، فيتجعد جبينه، ثم إن كرر السائل الطلب .. ناى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانبًا، ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال .. ولاه ظهره، وأعرض عنه واستقبل جهةً أخرى، وهي نهاية في الرد، وغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء، فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة. وقيل (¬2): خصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد؛ لأنهم يستقبلون بالوجوه الناس، وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة، ويستقبلون الفقراء ووجوههم منقبضة من العبوس، لينفروا ويحجموا عن السؤال، ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة، اضطجاعًا واستلقاءً، ويعرضون بها عن لقاء المساكين، وطلاب الحاجات، فلا يكون لهم في جهنم استراحة، فيما سوى الوقوف، إلا بالانكباب على الوجوه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}. وفي الآية (¬3) إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها، والله قادر على إعادتها، وأمور الآخرة من عالم الغيب، فلا ندرك كنهها ولا صفتها فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب، وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله .. إلا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره" وروى عنه "من آتاه الله مالًا، فلم يؤدِّ زكاته ... مثل له شجاع - ذكر الحيات - أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه - العظمان الناتئان تحت الأذنين - يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم -: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} " وتقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم توبيخًا لهم: {هَذَا} الكي جزاء {مَا كَنَزْتُمْ} وجمعتم في الدنيا لمنفعة أنفسكم، فكان اليوم سبب مضرتها، وتعذيبها أو هذا الميسم الذي تكوون به، هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم، لتنفردوا بالتمتع به، {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}؛ أي: فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزونه وتجمعونه من الأموال، هذا إن قلنا {مَا} موصولة ويصح كونها مصدرية؛ أي: فذوقوا وبال كنزكم له، وجزاء إمساككم إياه، عن النفقة في سبيل الله، وسوء عاقبته وقبح مغبته وشؤم فائدته ومنفعته. وخلاصة هذا: أن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفكسم، لا يشارككم فيها أحد .. قد إن لكم ضرًّا، وعليكم ضدًّا، فقد صار في الدنيا لغيركم، وعذابه في الآخرة لاحقًا بكم، وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه في المسلمين عامةً، حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم، بخل أغنيائهم، إذ لو وجهوا هممهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل، لتعليم النشىء العلوم الدينية والدنيوية، من فنون الحرب، وصنع الأسلحة .. لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالًا، يحفظون الدين والملك، ويعيدون إليها مجدها الزائل، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام، ويدخلونهم فيه أفواجًا أفواجًا. وقرأ الجمهور: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} بالياء وقرأ الحسن وابن عامر: في رواية {تُحْمَى} بالتاء، وقرأ أبو حيوة: {فيكوى} بالياء، لكون المسند إليه مجازي التأنيث ووقع الفصل أيضًا. الإعراب {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ

تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}. {لَقَدْ} {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {نَصَرَكُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب {فِي مَوَاطِنَ} جار ومجرور متعلق بـ {نصر} وعلامة جره الفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، لصيغة منتهى الجموع {كَثِيرَةٍ} صفة {مَوَاطِنَ} {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بفعل محذوف معطوف على {نَصَرَكُمُ} تقديره: ونصركم يوم حنين، ويصح عطفه على محل قوله: {فِي مَوَاطِنَ} عطف ظرف الزمان من غير واسطة في على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرابة في نسق ظرف زمان على مكان، أو بالعكس {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {نصر} المحذوف الذي تعلق به {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} على كونها بدلًا من {يوم} {أَعْجَبَتْكُمْ} فعل ومفعول {كَثْرَتُكُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر، مضاف إليه {فَلَمْ تُغْنِ} الفاء عاطفة وجازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على الكثرة {عَنْكُمْ} متعلق به {شَيْئًا} مفعول به، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة أعجب. {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}. {وَضَاقَتْ} فعل ماض {عَلَيْكُمُ} متعلق به {الْأَرْضُ} فاعل {بِمَا} {الباء}: حرف جر ومعية {ما} مصدرية {رَحُبَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْأَرْضُ} والجملة صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: مع رحبها، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الأرض تقديره: وضاقت عليكم الأرض حالة كونها متلبسة برحبها وسعتها {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ} فعل وفاعل، معطوف على {ضاقت} {مُدْبِرِينَ}: حال من تاء {وَلَّيْتُم} مؤكدة لعاملها. {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}. {ثُمَّ} حرف عطف {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه،

والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} {عَلَى رَسُولِهِ}: جار ومجرور متعلق به {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} معطوف على {رَسُولِهِ} {ثُمَّ أَنْزَلَ}: فعل ماض معطوف على {ثُمَّ أَنْزَلَ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {جُنُودًا}: مفعول به {لَمْ تَرَوْهَا}: جازم وفعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة في محل النصب صفة لـ {جُنُودًا} {وَعَذَّبَ} فعل ماض معطوف على {أَنْزَلَ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {الَّذِينَ} مفعول به {كَفَرُوا} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه والجملة مستأنفة. {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}. {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ} فعل وفاعل معطوف على {وَعَذَّبَ} {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَتُوبُ} {عَلَى مَنْ}: متعلق بـ {يَتُوبُ} أيضًا {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: على من يشاء التوبة له {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر أول {رَحِيمٌ} خبر ثان، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء {أي}: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة، {ها}: حرف تنبيه {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي} {الَّذِينَ آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {إِنَّمَا}: أداة حصر {الْمُشْرِكُونَ} مبتدأ {نَجَسٌ} خبر، والجملة الاسمية جواب النداء {فَلَا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {لا}: ناهية {يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية {الْحَرَامَ} صفة لـ {الْمَسْجِدَ} والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مفرعة عليها {بَعْدَ عَامِهِمْ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يَقْرَبُوا} {هَذَا}: صفة لـ {عَامِهِمْ}. {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}: جازم، وفعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية {فَسَوْفَ} {الفاء} رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة تسويفية {سوف}: حرف تنفيس {يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل {مِنْ فَضْلِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {إِنْ} حرف شرط جازم {شَاءَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {إِنْ} ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: إن شاء إغناءكم وجواب إن: محذوف دل عليه ما قبله تقديره: إن شاء يغنيكم وجملة إن الشرطية مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {عَلِيمٌ} خبر أول له {حَكِيمٌ} خبر ثان له وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}. {قَاتِلُوا الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة {لَا يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة صلة الموصول {وَلَا بِالْيَوْمِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله {الْآخِرِ} صفة لليوم {وَلَا يُحَرِّمُونَ} فعل وفاعل معطوف على {يُؤْمِنُونَ}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به {حَرَّمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {وَرَسُولُهُ} معطوف على الجلالة، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما حرمه الله {وَلَا يَدِينُونَ} فعل وفاعل {دِينَ الْحَقِّ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {لَا يُؤْمِنُونَ} {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور، حال من اسم الموصول، أو من فاعل {يُؤْمِنُونَ} {أُوتُوا} فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول لآتى؛ لأنه بمعنى أعطى {الْكِتَابَ} مفعول ثان لـ {آتى} والجملة صلة الموصول {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}: فعل وفاعل ومفعول ثان منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى والمفمعول الأول محذوف، تقديره: إياكم، والجملة الفعلية صلة أن

المضمرة، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى إعطائهم إياكم الجزية الجار والمجرور متعلق بـ {قَاتِلُوا} {عَنْ يَدٍ} جار ومجرور حال من واو {يُعْطُوا}؛ أي: حالة كونهم مسلمين لها بأيديهم لا بواسطة غيرهم {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ثانية من واو {يُعْطُوا}. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}. {وَقَالَتِ الْيَهُود} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}: مبتدأ، وخبر والجملة في محل النصب مقول {قال} {وَقَالَتِ النَّصَارَى}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب مقول {قال} {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة {بِأَفْوَاهِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه حال، والعامل فيه القول، ويجوز أن يعمل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن تتعلَّق {الباء} بـ {يُضَاهِئُونَ} ذكره أبو البقاء {يُضَاهِئُونَ}: فعل وفاعل {قَوْلَ الَّذِينَ} مفعول، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من اليهود والنصارى {كَفَرُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَفَرُوا} {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة للدعاء عليهم {أَنَّى} اسم استفهام تعجبي، بمعنى: كيف في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، أو بالحال، مبني على السكون، والعامل فيه ما بعده {يُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل مرفوع والجملة جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}.

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {وَرُهْبَانَهُمْ}: معطوف على {أَحْبَارَهُمْ}. {أَرْبَابًا}: مفعول ثانٍ لـ {اتَّخَذُوا}، والجملة الفعلية مستأنفة {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {اتَّخَذُوا} أو صفة، لـ {أَرْبَابًا} أو حال من واو {اتَّخَذُوا}؛ أي: حال كونهم مجاوزين الله {وَالْمَسِيحَ} معطوف على أحبارهم {ابْنَ} صفة له {مَرْيَمَ} مضاف إليه، والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف؛ أي: ربًّا وانظر لم ثبتت الألف في ابن هنا مع أنه صفة بين علمين؛ لأن المسيح لقب وهو من أقسام العلم، ذكره في "الفتوحات" {وَمَا} {الواو} حالية {ما}: نافية {أُمِرُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من واو {اتَّخَذُوا} {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {لِيَعْبُدُوا} {اللام} حرف جر وتعليل {يعبدوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، {إِلَهًا} مفعول به {وَاحِدًا} صفة أولى لـ {إِلَهًا} وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفة ثانية لـ {إِلَهًا} والجملة الفعلية صلة أن المضمرة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام والتقدير: وما أمروا إلا لعبادتهم إلهًا واحدًا، واللام فيه بمعنى الباء {سُبْحَانَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة تقديره: أسبحه تعالى سبحانًا؛ أي: أنزهه تنزيهًا وجملة التسبيح مستأنفة {عَمَّا} {عن} حرف جر {ما} موصولة، أو مصدرية، وجملة {يُشْرِكُونَ} صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: عما يشركونه به، أو صلة {ما} المصدرية؛ أي: عن إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ {سبحان}. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}. {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {أَنْ يُطْفِئُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {نُورَ اللَّهِ}: مفعول به، ومضاف إليه. {بِأَفْوَاهِهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُطْفِئُوا} والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون إطفاءهم نور الله بأفواههم. {وَيَأْبَى اللَّهُ}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة {يُرِيدُونَ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {أَنْ

يُتِمَّ نُورَهُ} فعل ومفعول منصوب بـ {أَنْ} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إلا إتمامه نوره. {وَلَوْ} {الواو} عاطفة على محذوف، تقديره: ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك، وحتى لو كرهوا والجملة المحذوفة مستأنفة. {لو}: حرف شرط غير جازم. {كَرِهَ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لو} وجواب {لو} محذوف تقديره: ولو كره الكافرون تمامه .. لأتمه. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. {أَرْسَلَ رَسُولَهُ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة الموصول {بِالْهُدَى} متلعق بأرسل {وَدِينِ الْحَقِّ} معطوف على الهدى {لِيُظْهِرَهُ} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الله} {عَلَى الدِّينِ} متعلق به {كُلِّهِ} توكيد لـ {الدِّينِ} والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} تقديره: لإظهاره إياه على الدين كله الجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلَ} وجملة {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} معطوفة على محذوف، تقديره: ولو لم يكره المشركون إظهاره .. لأظهره ولو كرهوا ذلك، كما مر في مبحث التفسير. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: جملة ندائية مستأنفة {إِنَّ كَثِيرًا}: ناصب واسمه {مِنَ الْأَحْبَار}: جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا} {وَالرُّهْبَانِ}: معطوف على الأحبار {لَيَأْكُلُونَ} {اللام}: لام الابتداء {يأكلون أموال الناس} فعل وفاعل ومفعول {بِالْبَاطِلِ} متعلق بـ {يأكلون أموال الناس} أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا متلبسًا بالباطل، أو حال من واو {يأكلون} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} جواب النداء لا محل لها من الإعراب {وَيَصُدُّونَ} فعل وفاعل معطوف على {يأكلون} {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق به،

ومفعول الصد محذوف، تقديره: ويصدون الناس. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. {وَالَّذِينَ} مبتدأ {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} فعل وفاعل ومفعول به {وَالْفِضَّةَ} معطوف على {الذَّهَبَ} والجملة الفعلية صلة الموصول {وَلَا يُنْفِقُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {يَكْنِزُونَ} {فَبَشِّرْهُمْ} {الفاء} رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم {بشرهم} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد {بِعَذَابٍ} متعلق به {أَلِيمٍ} صفة لـ {عذاب} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}. {يَوْمَ} ظرف متعلق بـ {أَلِيمٍ} أو بمحذوف تقديره: بعذاب أليم يصيبهم يوم يحمى {يُحْمَى} فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهَا}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: متعلق به و {جَهَنَّمَ} ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث المعنوي، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} {فَتُكْوَى} {الفاء} عاطفة {تكوى} فعل مضارع مغير الصيغة {بِهَا} متعلق به {جِبَاهُهُمْ}: نائب فاعل {وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} معطوفان عليه، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {يُحْمَى} {هَذَا} مبتدأ {مَا} موصولة، أو موصوفة، في محل الرفع خبر المبتدأ {كَنَزْتُمْ} فعل وفاعل {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كنزتموه لأنفسكم، والجملة الاسمية مقول لقول محذوف، تقديره: وتقول الملائكة لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم، وجملة القول المحذوف معطوفة على جملة {تكوى} {فَذُوقُوا} {الفاء} عاطفة تفريعية، {ذوقوا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها مفرعة عليها {مَا} موصولة،

أو موصوفة، أو مصدرية في محل النصب مفعول به {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه وجملة {تَكْنِزُونَ}: خبره وجملة {كان} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كنتم تكنزونه أو جزاء كنزكم. التصريف ومفردات اللغة {فِي مَوَاطِنَ}؛ أي: أماكن كثيرة - جمع موطن - وهو مقر الإنسان، ومحل إقامته، كالوطن، والمراد بالمواطن: مشاهد الحرب ومواقعها. وفي "المصباح" الوطن: مكان الإنسان ومقره، والجمع أوطان، مثل: سبب وأسباب، والموطن مثل الوطن، والجمع مواطن كمسجد ومساجد، والموطن أيضًا: المشهد من مشاهد الحرب اهـ. قال الشاعر: وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طِحْتُ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قِنَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوِيْ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وحنين: واد بين مكة والطائف، على ثلاثة أميال من الطائف، وثمانية عشر ميلًا من مكة، وقيل: وادٍ إلى جنب ذي المجاز، وغزوته: تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن، وهوازن: قبيلة حليمة السعدية، وكانت تلك الغزوة في شوال، سنة ثمان عقيب رمضان، الذي وقع فيه فتح مكة، قال الشاعر: نَصَرُوْا نَبِيَّهُمُ وَشَدُّوْا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنِ يَوْمَ تَوَاكَلَ الأَبْطَالُ {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ}؛ أي: لم تدفع الكثرة والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة {بِمَا رَحُبَتْ} وفي "المختار" الرحب بالضم: السعة، يقال: منه فلان رحيب الصدر، والرحب بالفتح الواسع وبابه ظرف وقرب، والمصدر رحابة كظرافة، ورحب كقرب {مُدْبِرِينَ}؛ أي: هاربين ولا تلوون على شيء {سَكِينَتَهُ} والسكينة: الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها، وهي ضد الانزعاج، وقد تطلق على الرزانة والوقار، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} النجس: من نجس الشيء، من باب فهم إذا كان قذرًا غير نظيف، والاسم النجاسة، وفي "الخطيب": النجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والتثنية والجمع،

وفي "القاموس" النجس بالفتح والكسر وبالتحريك، وككتف عضد ضد الطاهر، وقد نجس كسمع وكرم اهـ وفي "المصباح": إنه من باب تعب، وفي لغة من باب قتل اهـ. وقال الراغب: النجاسة: القذارة، وهي ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة، وهذا ما وصف الله به المشركين، فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ويقال: نجسه إذا جعله نسجًا، ونجسه أزال نجسه، ومنه تنجيس العرب، وهي شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي، ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس داء خبيث لا دواء له اهـ. والمعنى: إنما المشركون ذوو نجس، لأن معهم الشرك، الذي هو بمنزلة النجس، أو أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسات بعينها، مبالغةً في وصفهم بها، وعن ابن عباس أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن: من صافح مشركًا توضأ، وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين، ذكره في "الفتوحات". {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} والعيلة: الفقر يقال: عال الرجل يعيل عيلًا وعيلةً؛ من باب باع إذا افتقر، فهو عائل، وأعال كثر عياله، وهو يعول عيالًا كثيرين؛ أي: يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم، وفي "المصباح" العيلة بالفتح: الفقر، وهو مصدر عال يعيل، من باب سار إذا افتقر، قال الشاعر: وَمَا يَدْرِيْ الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِيْ الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيْلُ والجمع عالة، وهو في تقدير فعلة مثل كافر وكفرة، وعيلان بالفتح: اسم رجل، ومنه: قيس بن عيلان قال بعضهم: ليس في كلام العرب عيلان، بالعين المهملة إلا هذا. اهـ. وفي "المختار" وعيال الرجل من يعولهم، وواحد العيال عيِّل، كجيِّد، والجمع عيائل كجيائد، وأعال الرجل كثرت عياله، فهو معيل. والمرأة معيلةٌ قال الأخفش: أي: صار ذا عيال، اهـ {مِنْ فَضْلِهِ} والفضل: العطاء والتفضل: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} يقال: فلان يدين بكذا، إذا اتخذه

دينًا وعقيدةً، ودين الحق: هو الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على أنبيائه، وهو من دان يدين، من باب باع يبيع. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} والجزية: ضرب من الخراج، يضرب على الأشخاص، لا على الأرض، وجمعها جزًى بالكسر وفي "البحر": الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها؛ أي: يقضونها، أو لأنا نجزي بها من مُنَّ عليهم بالإعفاء عن القتل. اهـ ووزنها فعلة، من جزى يجزي، كرمى يرمي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن {عَنْ يَدٍ} واليد: السعة والقدرة وفي "زاده": اليد قد تجعل كنايةً عن الانقياد، يقال: أعطى فلان بيده إذا سلم وانقاد؛ لأن من أبى وامتنع .. لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، كأنه قيل: قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن طيب نفس وانقياد، دون أن يكرهوا عليه، فإذا احتيج في أخذها منهم إلى الإكراه .. لا يبقى عقد الذمة اهـ. {وَهُمْ صَاغِرُونَ} والصَّغار، والصغر: ضد الكبر، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد به هنا: الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم، بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم. {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} بالتنوين: أي: تنوين الصرف وتركه قراءتان سبعيتان فالأولى بناءً على أنه عربي، وليس فيه إلا علة واحدة، والثانية بناء على أنه أعجمي، ففيه العلتان العلمية والعجمة، وعلى كل هو مبتدأ و {ابْنُ اللَّهِ} خبر، فلذلك ثبتت الألف في ابن؛ لأنها لا تحذف مثله، إلا إن كان صفة. اهـ شيخنا، ذكره في "الفتوحات" وعزير: هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا، وينتهي نسبه إلى العازار بن هارون {يُضَاهِئُونَ}؛ أي: يشابهون ويحاكون، قرأ العامة: يضاهون بضم الهاء بعدها واو، وقرأ عاصم: بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة بعدها واو، كما مر في مبحث القراءة، فقيل: هما بمعنى واحد، وهو المشابهة، وفيه لغتان ضاهأت وضاهيت، بالهمزة والياء والهمزة لغة ثقيف، وقيل: الياء فرع عن الهمزة، كما قالوا: قرأت وقريت وتوضأت وتوضيت وأخطأت وأخطيت، اهـ

"سمين" وفي "المصباح" ضاهأه مضاهأة، مهموز عارضه وباراه، ويجوز التخفيف، فيقال: ضاهيته مضاهاة، وهي مشاكلة الشيء بالشيء وفي الحديث: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة، الذين يضاهون خلق الله"؛ أي: يعارضون بما يعملون، والمراد المصورون، اهـ. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} جملة أصلها الدعاء، ثم كثر استعمالها، حتى قيلت على وجه التعجب في الخير أو الشر، وهم لا يريدون الدعاء {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} والإفك: صرف الشيء عن وجهه، يقال: أفك فلان؛ أي: صرف عقله عن إدراك الحقائق، ورجل مأفوك العقل. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} والأحبار: جمع حبر - بالفتح والكسر - وهو العالم من اليهود، والكسر أفصح؛ لأنه يجمع على أفعال دون فعول، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيد: هو بالفتح، وقال الأصمعي: لا أدري أنه بالفتح أو بالكسر. وكعب الحبر - بالكسر -: منسوب إلى الحبر الذي يكتب به؛ لأنه كان صاحب كتب، والحبرة كالعنبة برد يماني، والجمع حبر كعنب، وحبران والرهبان جمع راهب، وهو لغة الخائف، وعند النصارى: هو المتبتل المنقطع للعبادة، وهم علماء النصارى، كما أن الأحبار علماء اليهود. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} للتنويه بشأنه حيث جاء النصر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبيعة في قوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} حيث شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة والضيق النفسي، بضيق الأرض مع سعتها على سبيل الاستعارة التصريحية. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {نَجَسٌ}؛ أي: هم كالنجس في خبث

بواطنهم واعتقاداتهم، فحذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، أو هو مجاز عن خبث الباطن وفساد العقيدة، فيكون استعارة لذلك، كما في "الشهاب". ومنها: المبالغة في قوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}؛ لأنهم إنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم، ونهي المشركين أن يقربوا راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك، اهـ "أبو السعود". ومنها: الكناية في قوله: {عَنْ يَدٍ}؛ لأنه كناية عن الانقياد والاستسلام. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} لأن أحبارهم راجع لليهود، ورهبانهم راجع للنصارى. ومنها: التشبيه البليغ في قوله {أَرْبَابًا}؛ أي: كالأرباب في الطاعة والعبادة لهم جمع رب، وهو الإله؛ لأنه حذف فيه الأداة ووجه الشبه وهو الاتباع والطاعة لهم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} شبه تكذيبهم بآيات الله، بإخماد النار، فاستعار له اسم المشبه به ثم اشتق من الإطفاء، بمعنى التكذيب يطفئوا بمعنى: يكذبوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبيعة. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {نور الله} حيث شبه شرائع الله سبحانه وتعالى التي منها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة وحججه النيرة الدالة على وحدانيته بالنور الحسي، كالشمس بجامع الاهتداء في كل؛ لأنها يهتدى بها إلى الصواب والحق، كما يهتدى بالنور الحسي إلى المحسوسات. ومنها: التهكم في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} وقوله: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ}. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ...} الآية، مناسبة (¬1) ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر أنواعًا من قبائح أهل الشرك، وأهل الكتاب .. ذكر أيضًا نوعًا منه، وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى؛ لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيروا ذلك الوقت .. فقد غيروا حكم الله تعالى، وهذه الآيات (¬1) عود على بدء إلى الكلام في أحوال المشركين، وقد كان الكلام في قتال أهل الكتاب {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أن الكلام السابق في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم، من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال، والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك، والمراد بها: قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها. قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما توعد من لم ينفروا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتثاقلوا حين استنفرهم، وضرب لهم من الأمثال ما ضرب .. أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذر لأحد في التخلف، وترك الطاعة. قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما رغبهم في الجهاد في سبيل الله، وبين أن فريقًا منهم تباطؤوا وتثاقلوا .. أردف ذلك ببيان أن فريقًا منهم تخلفوا عنه، مع ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنوه - صلى الله عليه وسلم - في القعود والتخلف ليأذن لهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن جرير عن أبي مالك، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرَّم صَفرًا، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وحين أمرهم بالنفير في الصيف، حين طابت الثمار واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. قوله تعالى: {إِلَّا تَنفِرُوا ...} الآية، أخرج (¬2) ابن أبي حاتم، عن نجدة بن نفيع، قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحياءً من العرب، فتثاقلوا عنه فأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فأمسك عنهم المطر، فكان عذابهم. قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن حضرمي، أنه ذكر له أن أناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلًا، أو كبيرًا فيقول: إني آثم فأنزل الله {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}. قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال: اثنتان فعلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فأنزل الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[36]

التفسير وأوجه القراءة 36 - {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ}؛ أي: إن عدد الشهور التي تتكون منها السنة القمرية {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: في حكمه وتقديره وعلمه، لا عند الناس أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يجعلونه ثلاثة عشر شهرًا أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت، وفي قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} رد عليهم؛ أي إن عدد شهور السنة في حكمه تعالى، لا بالنظر إلى ما ابتدعه الناس {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} من غير زيادة ولا نقصان، مثبتة {فِي كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: مرتبة على هذا الترتيب المعروف فيها أول ما خلق الله السموات والأرض فقوله (¬1): {فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقوله: {يَوْمَ خَلَقَ} بدل من قوله: {عِندَ اللهِ} والتقدير: إن عدد شهور السنة عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرًا، هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر، وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وفائدة الإبدالين: تقرير الكلام في الأذهان؛ لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله تعالى في كتاب الله، وثابت في علمه من أول ما خلق الله هذا العالم. ويجوز أن يكون {فِي كِتَابِ اللَّهِ} صفة اثنا عشر؛ أي: اثنا عشر شهرًا مثبتة في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء، ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط، من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يومًا وبعضها أكثر وبعضها أقل. والمعنى: أن (¬2) مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرًا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر، وتقديره: منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن، والمراد بقوله: يوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه، ونهايته في جملته، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله، وخلق كل منهما وما فيهما، وقال "البيضاوي": والمعنى أن هذا الأمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة اهـ. والمراد بها شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم، وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم كالعدد ومدة الحمل والرضاع وآجال الدين. وأيام هذه المشهور (¬1) ثلاث مئة وخمسة وخمسون يومًا، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورةً تامةً، وهي ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء، وتارة في الصيف. قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية، من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية، فكان يقع حجهم تارة في وقته، وتارة في المحرم، وتارة في صفر، وتارة في غير ذلك من سائر الشهور، فأعلم الله عَزَّ وَجَلَّ أن عدة شهور سنة المسلمين التي يعتدون به اثنا عشر شهرًا على منازل القمر وسيره فيها، وهو قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} يعني: في علمه وحكمه اثنا عشر شهرًا اهـ "خازن". {مِنْهَا}؛ أي: من تلك الشهور الاثني عشر {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}؛ أي: محترمةٌ ثلاثةٌ سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد رجب، كما ورد ذلك في السنة المطهرة، وإنما سميت (¬2) حرمًا: لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال، حتى إن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

الأربعة أشهر .. لم يزعجه، ولما جاء الإِسلام .. لم يزدها إلا حرمة وتعظيمًا، ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف، وكذلك السيئات أيضًا أشد فيها من غيرها، فلا يجوز انتهاك حرمتها {ذَلِكَ}؛ أي: تحريم الأشهر الأربعة هو {اَلدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي (¬1): الدِّين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب وَرِثوه منهما، فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها، حتى أحدثت النسيء فغيروا، وقيل: أراد بالدين القويم: الحكم الذي لا يغير ولا يبدل، والقيِّم هنا بمعنى الدائم الذي لا يزول، وقيل: المعنى ذلك؛ أي: كون شهور السنة اثني عشر شهرًا هو الدين القيم، أي: الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوفى، فالدين إذًا بمعنى الحساب، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه - يعني حاسب نفسه - وعمل لما بعد الموت". فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبيعاتهم وأجل ديونهم، وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ}، أي: في هذه الأشهر الحرم الأربعة {أَنْفُسَكُمْ} بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: الضمير يعود إلى الأشهر كلها الحرم وغيرها. والمعنى: فلا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات؛ لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقًا في جميع الأوقات إلى الممات. والقول الأول أولى، وهو قول أكثر المفسرين، وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا. فإن قلت: لِمَ خص هذه الأربعة بالتحريم؟ قلت: إن الأنفس (¬2) مجبولة بطبعها على الظلم والفساد، والامتناع عنه على ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن.

الإطلاق شاق على النفس، فخص الله سبحانه وتعالى بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات، فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة، سببًا لترك الظلم والمعاصي في غيرها من الأشهر، فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض، بمزيد التشريف والتعظيم، وكذلك الأمكنة أيضًا. وقد ذهب (¬1) جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ، لهذه الآية ولقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ولقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية. وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما .. فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدىء محاصرتهم في ذي القعدة، بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع. وعبارة "المراغي" هنا قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (¬2)؛ أي: فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها، وقد خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضي ترك المحرمات فيها، تنشيطًا للنفوس على زيادة العناية بما يزكيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة، كالصلوات الخمس، وخص يوم الجمعة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرًا وموعظة حسنة تقوي في المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وخص أيامًا معدودات من ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادًا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها في جميع السنة، لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت، وحرم رجب في وسط السنة، لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه، انتهت. {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}؛ أي: قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم {كمَا} أنهم {يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}؛ أي: بأجمعهم مجتمعين على قتالكم. والمعنى (¬1): تعاونوا وتناصروا على قتالهم، ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم، وكونوا عباد الله مجتمعين، متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة. وفيه (¬2) دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان، إن لم يقم به البعض. والمعنى: أي (¬3) قاتلوهم جميعًا، وكونوا يدًا واحدةً على دفع عدوانهم وكف أذاهم، كما يقاتلونكم كذلك، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره، لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال، كما هو دأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم حينئذٍ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، والله عزيز حكيم. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مَعَ الْمُتَّقِينَ}، أي: مع أوليائه، الذين يخشونه في أداء المأمورات واجتناب المنهيات بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم، لما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[37]

فيه خيرهم وصلاحهم، فمن يتق الظلم والعدوان في الأرض، وأسباب الفشل والخذلان في القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء، ومخالفة سنن الله في الاجتماع .. يكن الله معه ومن كان الله معه، فلا يغلبه أحد. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص (¬1): بإسكان العين مع إثبات الألف في {اثْنَا عَشَرَ} وهو جمع بين ساكنين على غير حده كما روي: "التقت حلقتا البطان". بإثبات ألف حلقتا، وقرأ طلحة: بإسكان السين 37 - {إِنَّمَا النَّسِيءُ}؛ أي: إن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، كتأخير حرمة المحرم إلى صفر {زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ}؛ أي: كفر زائد على الكفر الأصلي الذي كان فيهم من الكفر باللهِ ورسوله، أي: إن تأخير الحرمة التي جعلها لشهر واحد وشرعها فيه إلى شهر آخر وجعلها له كفر بما شرعه الله تعالى في ذلك الشهر، زائد على كفرهم بالله ورسوله، وإنما سمى الله سبحانه وتعالى النسيء زيادة في الكفر؛ لأنه نوع من أنواع كفرهم ومعصيةٌ من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. والمعنى: هو زيادة كفر على كفرهم، وسبب هذه الزيادة أنهم أمروا بإيقاع كل فعل في وقته من الأشهر الحرم، ثم إنهم بسبب أغراضهم الفاسدة أخروه إلى وقت آخر بسبب ذلك النسيء، فأوقعوه في غير وقته من الأشهر الحرم، فكان ذلك الفعل زيادة في كفرهم؛ لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر. وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها .. قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم .. حرموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرًا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة بعضهم على بعض، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يَضُرُّ بِهِم تواليها، وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بقدره من غير الأشهر الحرم، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيستحلون المحرم ويحرمون صفر، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر .. أخروه إلى ربيع الأول، فكانوا يصنعون هكذا، يؤخرون شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذا باقي شهور السنة، فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة، ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في العام المقبل حجة الوداع، فوافق حجة شهر ذي الحجة، وهو شهر الحج المشروع، فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض فيما روى الشيخان وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذا الحجة؟ " قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام؟ " قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ "، قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه"، ثم قال: "ألا هل بلغت، ألا هل بلغت"، قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد". وقرأ الجمهور (¬1): {النَّسِيءُ}، مهموزًا على وزن فعيل، وقرأ الزهري وحميد ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: {النَّسِيءُ} بتشديد الياء من غير همز، وروي ذلك عن ابن كثير، سهل الهمزة بإبدالها ياءً، وأدغم الياء فيها كما فعلوا من نبيء وخطيئة، فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام، وفي كتاب "اللوامع": قرأ جعفر بن محمَّد والزهري والأشهب: {النسي} بالياء من غير همز، مثل الندي وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل {النسء}، بإسكان السين، وقرأ مجاهد: {النُسوء} على وزن فعول، بفتح الفاء، وهو التأخير ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن مسعود (¬1) وحفص وحمزة والكسائي {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح الضاد مبنيًّا للمجهول، وهو المناسب لقوله: {زين} الآتي، والمعنى أن كبارهم أضلوهم وحملوهم على ذلك النسيء، والتأخير وقرأ باقي السبعة وابن مسعود في رواية عنه والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: بضم الياء وكسر الضاد مبنيًّا للفاعل، والمعنى حينئذ يضل الله بالنسيء والتأخير الذين كفروا، أو يضل به الشيطان الذين كفروا بتزيين ذلك لهم، أو المعنى يضل به رؤساء الذين كفروا تابعيهم، والآخذين بأفعالهم، وهذا المعنى أحسن في تفسير قراءة من قرأ: {يضل} بالبناء للفاعل، كما في "الخازن" ورويت قراءة البناء للفاعل عن الأعمش وأبي رجاء. وفي "زاد المسير" قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {يَضِلُّ} بفتح الياء وكسر الضاد والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به اهـ. وقرأ أبو رجاء: {يَضَلُّ} بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضل بفتح الضاد، منقولًا فتحها من فتحة اللام، إذ الأصل أضلل، وقرأ النخعي ومحبوبٌ عن الحسن: {نُضِلُّ} بالنون المضمومة وكسر الضاد؛ أي: نضل نحن. {يُحِلُّونَهُ}؛ أي: يحلون هذا النسيء والتأخير؛ أي: يحلون هذا المؤخر تحريمه {عَامًا}؛ أي: في العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم {وَيُحَرِّمُونَهُ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أي: ويحرمون التأخير {عَامًا} آخر وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه؛ أي: يفعلون ذلك التحليل عامًا والتحريم عامًا آخر {لِيُوَاطِئُوا}؛ أي: ليوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله {عِدَّةَ}؛ أي: عدد {مَا حَرَّمَ اللهُ} من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة، ولا ينقصون ولا ينظرون إلى أعيان الأربعة الأشهر، التي حرمها الله تعالى {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بخصوصه يعني المحرم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرًا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرًا من الحلال، ولم يحرموا شهرًا من الحلال، إلا أحلوا مكانه شهرًا من الحرام، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة، كما حرم الله، فيكون ذلك موافقة في العدد، لا في الحكم، وقال ابن عباس: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثةً، قيل: أول من شرعه عمرو بن يحيى، وقيل: رجل، يقال له نعيم بن ثعلبة، وقيل غير ذلك. وكان من عادتهم في ذلك أن يقوم رجل من كنانه في أيام منى، حيث يجتمع الحجيج، فيقول: أنا الذي لا يرد قضاء لي، فيقولون: صدقت، فأخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالًا، ثم صاروا ينسؤون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل، فتغير أسماء الشهور كلها، فيسمون صفر محرمًا وربيع الأول صفرًا، وهكذا، وبذلك يعلم أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم، اتباعًا للهوى وسوء التأويل، ومن ثم سماه الله زيادة في الكفر؛ أي: إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله، زائد على شركهم بالله وكفرهم به، إذ حق التشريع له وحده، فمنازعته في ذلك شرك في ربوبيته، وهم يضلون به سائر الكفار، الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم إذ واطؤوا عدة ما حرم الله من الشهور في ملته، ولم يزيدوا ولم ينقصوا، وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد في ذلك العدد والتخصيص، لا مجرد العدد، وإذا لم يفعلوا ذلك .. فقد استحلوا ما حرم الله تعالى. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}؛ أي: زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي

[38]

يعملونها، ومن جملتها النسيء، حتى حسبوا هذا القبيح، حسنًا بهذه الشبهة الباطلة، إذا اكتفوا بالعدد، ولم ينقصوا منه شيئًا، ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}؛ أي: المصرين على كفرهم المستمرين عليه، فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده. أي: لا يهديهم إلى الحكمة في أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس في دينهم ودنياهم، أفرادًا وجماعات، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين، من آثار الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان، فيوقعهم في الشقاء والخسران. وقرأ الأعمش وأبو جعفر (¬1): {ليواطيوا} بالياء المضمومة، وقرأ الجمهور: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} بالبناء للمفعول. وقرأ زيد بن علي: {زَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ} بفتح الزاي والياء والهمزة، والأَولى أن يكون المعنى: زَيَّن لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم. 38 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك، وكانت في رجب سنة تسع، بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، وفيما لابسها من هتك ستر المنافقين، وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق إلا آيتين جاءتا في آخرها، وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريًا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به. وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن المدينة (610 كم)، أربع عشرة مرحلة، وعن دمشق (693 كم). ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

غزوة تبوك وكان السبب في هذه الغزوة: ما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان - صلى الله عليه وسلم - قليلًا ما يخرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك، وذلك لبعد المسافة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليأخذ الناس أهبتهم، فأمرهم بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب، وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فجهز عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير الإبل والخيل وهي تسع مئة بعير ومئة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، حتى ما تربط به الأسقية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأنفق غيره من الأغنياء، وأول من جاء بالنفقة أبو بكر، فجاء بجميع ماله، أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله وجاء ابن عوف بمئة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فلما تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وهم ثلاثون ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وكان الخيل عشرة آلاف فرس .. خلَّف على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: عليَّ بن أبي طالب وتخلف عبد الله بن أبي، ومن كان معه من المنافقين، بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع متوجهًا إلى تبوك، وعقد الأَلوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر، ورايته العظمى للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخزرج للحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواءً ورايةً، ولمَّا نزلوا بتبوك وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرفة من مائها، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت، وارتووا هم وخيلهم وركابهم، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين ليلة، فأتاه يُحَنَّةُ - بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة، ثم تاء تأنيث - بن رؤبة - بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة - صاحب أيلة وأهدى له بغلة بيضاء فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - رداء، وصالحه على إعطاء الجزية بعد أن عرض عليه الإِسلام، فلم يسلم فكتب له ولأهل أيلة كتابًا تركه عندهم ليعملوا به

وقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في مجاوزة تبوك، وأشاروا عليه بعدم مجاوزتها، فانصرف هو المسلمون راجعين إلى المدينة، ولمَّا دنا من المدينة .. تلقاه الذين تخلفوا، فقال لأصحابه: "لا تكلموا رجلًا منهم، ولا تجالسوهم، حتى آذن لكم" فأعرض عنهم المسلمون، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه إلى آخر ما في القصة، اهـ من "سيرة الحلبي". والاستفهام في قوله: {مَا لَكُمْ} للإنكار والتوبيخ؛ أي: أي شيء يمنعكم من ذلك و {ما}: مبتدأ و {لكم}: خبره وجملة {اثَّاقَلْتُمْ} حال من ضمير المخاطبين وأصله تثاقلتم فأبدلت التاء ثاء، ثم أدغمت في الثاء، ثم اجتلبت همزة الوصل توصلًا إلى النطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود والأعمش {تثاقلتم} {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} ظرف لهذه الحال مقدم عليها، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أي شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم انفروا؛ أي: اخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله، يقال: استنفر الإِمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذ استنفرتم .. فانفروا" والاسم النفير اهـ "خازن". أي: يا أيها الذين آمنوا، ما الذي عرض لكم، مما يخل بالإيمان أو بكماله، من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم، وإخلادكم إلى الراحة واللذة في الأرض، حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق، الذي هو سبيل سعادتكم، فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال في سبيل الله، كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} وكان من أسباب تثاقلهم أمور: 1 - الزمن كان وقت حر شديد. 2 - أنهم كانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين. 3 - أنهم كانوا في عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.

4 - أن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر؛ لأن رجبًا وافق أكتوبر في تلك السنة، فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن تلك الغزوة. روى ابن جرير عن مجاهد، قال: أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين، وبعد الطائف أمروا بالنفير في الصيف حين اخترمت النخل - اجتني ثمرها - وطابت الثمار واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فقالوا: منا الثقيل، وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله. وكان من دأب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها , لما تقتضيه المصلحة من الكتمان، إلا في هذه الغزوة، فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر. وكانت حكمة (¬1) الله في إخراجهم، وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالًا تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين، والاستفهام في قوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} استفهام توبيخ وتعجب؛ أي: أرضيتم بالحياة الدنيا وغرورها {مِنَ الْآخِرَةِ}؛ أي: بدل نعيم الآخرة؛ أي: أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلًا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية، ومن يفعل ذلك .. فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: فما التمتع بلذائذ الدنيا {في} مقابلة نعيم {الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه. أي: فما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا مشوبًا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما في الآخرة من النعيم المقيم والرضوان من المولى إلا شيء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلًا منه. روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "والله ما في ¬

_ (¬1) المراغي.

[39]

الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع". أي: إن نعيم الدنيا في قلته وقلة زمنه، إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله. وفي الآية (¬1) دليل على وجوب الجهاد في كل حال، وفي كل وقت؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، فلو لم يكن الجهاد واجبًا .. لما عاتبهم على ذلك التثاقل، 39 - ويؤيد هذا الوعيد المذكور الآية الآتية وهي قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا}؛ أي: إن لم تخرجوا أيها المؤمنون إلى ما طلبكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - للخروج إليه {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي وجيعًا (¬2) في الآخرة؛ لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة، وقيل: إن المراد به احتباس المطر في الدنيا، قال نجدة بن رفيع: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا فأمسك الله تعالى عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم؛ أي (¬3): يهلكهم الله بسبب فظيع هائل، كقحط وظهور عدو {وَيَسْتَبْدِلْ} عنكم {قَوْمًا غَيْرَكُمْ} خيرًا منكم وأطوع يطيعونه ويطيعون رسوله؛ لأنه قد وعد بنصره وإظهار دينه على الدين كله {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} قال سعيد بن جبير: هم أَبناء فارس، وقيل: هم أهل اليمن، نبه سبحانه وتعالى على أَنه قد تكفل بنصرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإعزاز دينه فإن سارعوا معك إلى الخروج إلى حيث استنفروا ... حصلت النصرة بهم ووقع أَجرهم على الله عَزَّ وَجَلَّ، وإن تثاقلوا وتخلفوا عنه .. حصلت النصرة بغيرهم، وحصلت العُتْبَى لهم، لئلا يتوهموا أن إعزاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرته لا تحصل إلا بهم. والمعنى: أن الله يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا، كأهل اليمن وأبناء فارس، والضمير في قوله: {وَلَا تَضُرُّوُه} إما (¬4) راجع إلى الله؛ أي: ولا تضروا الله بتثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه شيئًا من الضرر , ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) البيضاوي. (¬4) الخازن.

[40]

فهو سبحانه الغني عنكم في كل أمر، {وَهُوَ القَاهِرُ فوقَ عِبَادِهِ}، وكل من في السموات والأرض مسخر بأمره، ولكن جعل للبشر شيئًا من الاختيار، ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم، وإنما تضرون أنفسكم بترككم الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإما عائد على محمَّد؛ أي: ولا تضروا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الضرر، فإن الله ناصره على أعدائه ولا يخذله {وَاللَّهِ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: والله سبحانه قادر على كل شيء فهو ينصر نبيه ويعز دينه، وقادر على إهلاككم والإتيان بغيركم إن أصررتم على عصيان رسوله، وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه، ممن يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ولا يخشون في الحق لومة اللائمين، كما قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. 40 - ثم رغبهم ثانية في الجهاد، فأبان لهم أنه تعالى المتكفل بنصره على أعداء دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وهو قد فعل ذلك به، وهو في قلة من العدد والعدو في كثرة، فكيف وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ}؛ أي: إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله، وأعداء رسوله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: فسينصره الله بقدرته وتأييده؛ كما نصره {إذ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: حين أجمع المشركون على القتل به واضطروه إلى الخروج والهجرة، حال كونه {ثَانِىَ اَثْنَيْنِ}؛ أي: أحد اثنين والآخر أبو بكر الصديق، وقرأت (¬1) فرقة: {ثاني اثنين} بسكون ياء {ثاني} قال ابن جني: حكاها أبو عمرو ووجهه: أنه سكن الياء تشبيهًا لها بالألف وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الغَارِ} بدل من قوله: {إذْ أخْرَجَهُ} بدل بعض، والغار ثقب في الجبل المسمى ثورًا، وهو المشهور بغار ثور، وهو جبل قريب من مكة؛ أي: فقد نصره الله إذ هما في غار جبل ثور، وقوله: {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} بدل ثانٍ؛ أي: حين يقول محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، لصاحبه في الغار، وهوأبو بكر الصديق، لمَّا رأى منه أمارة الحزن {لَا تَحْزَنْ} ولا تخف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{إنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {مَعَنَا} بنصره ومعونته وحفظه وتأييده، فلن يطلع المشركون علينا , ولن يصلوا إلينا، والمراد بالمعية الولاية الدائمة، التي لا يحوم حول صاحبها شيء من الحزن، اهـ "كرخي". وكان (¬1) الصديق قد حزن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا على نفسه فقال له: يا رسول الله، إذا من أنا .. فأنا رجل واحد، وإذا مت أنت .. هلكت الأمة والدين. روي: أن قريشًا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار، فخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يضطجع على فراشه، ليمنع السواد من طلبه، حتى يبلغ إلى ما أمر الله به، فلما وصل إلى الغار .. دخل أبو بكر فيه أولًا يلتمس ما فيه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما لك؟ " فقال: بأبي أنت وأمي الغار مأوى السباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه؛ لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا .. بكى أبو بكر خوفًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بنصره فجعل يمسح الدموع عن خده، وروي لما دخلا الغار .. بعث الله تعالى حمامتين، فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أعم أبصارهم"، فجعلوا يترددون حول الغار، ولا يرون أحدًا، وقصة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث، فراجعها، إن أردت تمامها. روى البخاري ومسلم من حديث أنس، قال: حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه .. لأبصرنا تحت قدميه، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وقال (¬2) أبو بكر رضي الله عنه شعرًا من بحر البسيط: قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي ... وَنَحْنُ فِيْ سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

لاَ تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَكَفَّلَ لي مِنْهُ بِإِظْهَارِ وَإنَّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ ... كَيْدُ الشَيَاطِيْنِ قَدْ كَادَتْ لِكُفَّارِ وَاللهُ مُهْلِكُهُمْ طُرًّا بِمَا صَنَعُوْا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ وخلاصة ذلك (¬1): إن لا تنصروه بالنفر لما استنفركم له .. فإن الله قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في الوقت الذي اضطرّه المشركون إلى الهجرة، حين كان ثاني اثنين في الغار، وكان صاحبه قد ساوره الحزن، فقال له: لا تحزن إن الله معنا، ونحن لا نكلف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء. {فَأَنزَلَ اَللهُ} سبحانه وتعالى {سَكِيِنَتَهُ}؛ أي: طمأنينته التي يسكن عندها القلب {عَلَيْهِ}؛ أي: على رسوله، وقيل: على صاحبه أبي بكر؛ لأن الرسول معصوم عن الخوف {وَأَيَّدَهُ}؛ أي: قواه {بجُنُودٍ} من عنده {لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأُحد، وقيل: بل هم ملائكة أيده بهم في حال الهجرة، يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار، ويصرفونها عنهما، فقد خرج والشبان المتواطؤون على قتله وقوف ولم ينظروه. وهذه (¬2) الجملة معطوفة على جملة {نَصَرَهُ اَللهُ} {وَجَعَلَ} الله سبحانه وتعالى {كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُواْ}؛ أي: كلمة الشرك وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام هي {السَّفْلى}؛ أي: السافلة الحقيرة الزاهقة المنمحقة المضمحلة {وَكَلِمَةُ اَللهِ} وهي دينه المبنيُّ على أساس توحيده تعالى، والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة، والخالي من شوائب الشرك، وخرافات الوثنية، أو كلمة لا إله إلا الله، وكلمة الدعوة إلى الإِسلام {هِيَ اَلعُلْيَا}؛ أي: العالية الظاهرة بظهور نور الإِسلام وإزالة سيادة المشركين في تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وأتى بضمير الفضل تأكيدا لفضل كلمته في العلو وإشعارًا بأنها المختصة به دون غيرها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[41]

وقرأ الجمهور (¬1): {وَأَيَّدَهُ} بتشديد الياء ومجاهد {وأيده} بالتخفيف وقرأ (¬2) الأعمش ويعقوب: {وكلمة الله} بالنصب حملًا على جعل؛ أي: وجعل كلمة الله وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم وقال أبو حيان وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الأخبار وعن أنس رأيت في مصحف أبيٍّ {وجعل كلمته هي العليا} انتهى. {وَاللهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب على أمره قاهر على أعدائه {حَكِيمٌ} فيما دبره لخلقه إذ يضع الأشياء في مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل من ناوأه من المشركين. 41 - {انفِرُوا}، أي: اخرجوا أيها المؤمنون مع نبيكم إلى غزوة تبوك حالة كونكم {خِفَافًا} في الخروج لنشاطكم له {و} حالة كونكم {ثقالا} عنه لمشقته عليكم، وقيل: منفردين ومجتمعين، وقيل: فقراء وأغنياء وقيل: شبابًا وشيوخًا، وقيل: رجالًا وفرسانًا، وقيل: ذوي عيال وغير ذوي عيال، وقيل: ذوي أشغال وغير ذوي أشغال، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: عزابًا ومتأهلين، وقيل غير ذلك. وقيل (¬3): وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى}، وقيل: الناسخ لها قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية، وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وإخراج الضعيف والمريض بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} من باب التخصيص، لا من باب النسخ، على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: {خِفَافًا وَثِقَالًا}، والظاهر عدم دخولهم تحت العموم. والصحيح (¬4): القول الأول وأنها منسوخة، ولأن الجهاد من فروض ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني. (¬4) الخازن.

الكفايات، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال، فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفاية ليس على الأعيان، ومحل (¬1) النسخ قوله: {وَثِقَالًا}، وأما {خِفَافًا} فلا نسخ فيه على كل قول والله أعلم. أي: انفروا على كل حال من يسرٍ أو عسرٍ، وصحة أو مرض، وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك، مما ينتظم في مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة في الجملة. فإذا أعلن النفير العام .. وجب الامتثال إلا حال العجز التام، وهو ما بينه الله تعالى في قوله {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}. ويؤيد هذا التعميم في عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري، وقد شهد المشاهد كلها، إلا غزوة واحدة، قال الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلًا، وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدي النبي وعمله، ففتحوا البلاد وسادوا العباد، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه، ذلوا وضعفوا واستكانوا، وسادتهم الشعوب الأخرى، وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين، وصاروا عبيدًا لأعدائهم. {وَجَاهَدُواْ} أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ويفسدون في الأرض وابذلوا {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي في إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق، فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه .. وجب عليه ذلك، ومن قدر على أحدهما، وجب عليه ما كان في مقدرته {ذَلِكُمْ} الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة في حفظ كيان الأمم وعلو كلمتهم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من القعود والتثاقل في دينكم ودنياكم، إما في الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم، وأما في الدنيا، فإنه لا ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[42]

عزَّ للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هي وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود عنه، فانفروا وجاهدوا في سبيل الله وبادروا إليه وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون، فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه. 42 - ولما أمرهم بالنفير تخلف بعض المنافقين، لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين، فأنزل الله في أثناء السفر قوله {لَوْ كَانَ} ما تدعوهم إليه {عَرَضًا قَرِيبًا}؛ أي: متاعا قريب المنال وغنيمةً سهلة المأخذ، والعرض: ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر {وَسَفَرًا قَاصِدًا}؛ أي: متوسطًا بين القريب والبعيد، يعني: سهلًا قريبًا {لَاتَّبَعُوكَ} في الخروج إلى تبوك طمعًا في تلك المنافع؛ أي لخرجوا معك. والمعنى (¬1): لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس في الوصول إليها كبير عناء وسفرًا هينًا، لا تعب فيه {لَاتَّبَعُوكَ} وأسرعوا بالنفر إليه إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعي في الإنسان، ولا سيما إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال، وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم، كأولئك المنافقين. {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}؛ أي: المسافة التي تقطع بمشقة، والشقة (¬2): السفر البعيد؛ لأنه يشق على الإنسان سلوكه، فتخلفوا عن الجهاد، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. أي: ولكنَّك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًّا؛ لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ، وحين الحاجة إلى الكن، فتخلفوا جبنًا وحبًّا للراحة والسلامة. والخلاصة: لو كان العرض قريبًا، والغنيمة سهلة، والسفر قاصدًا .. لاتبعوك، طمعًا في تلك المنافع التي تحصل لهم، ولكن لما كان السفر بعيدًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[43]

وكانوا يتعظمون غزو الروم، لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب. ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجهاد، يحلفون باللهِ، وهو قوله تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ}؛ أي: المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من غزوة تبوك، وهم عبد الله بن أبي وجُدُّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، كما قال: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} قائلين {بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا} الخروج إلى الجهاد بوجود الزاد والراحلة وانتفاء الأعذار المانعة منه {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إلى غزوة تبوك، فما كان تخلفنا إلا لاضطرار، وقال البيضاوي: هذه (¬1) الجملة سادة مسد جوابي القسم والشرط، وهذا من المعجزات؛ لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه اهـ. {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بإيقاعها في العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب، لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدًا للباطل بالباطل، وتقويةً للإجرام بالإجرام، فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع". {وَاللهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم وحلفهم بالله، وقولهم: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوي يسرة في المال، وقرأ الأعمش وزيد بن علي {لَوُ اسْتَطَعْنَا} بضم الواو، فرَّ من ثقل الكسرة على الواو، وشبهها بواو الجمع، عند تحريكها لالتقاء الساكنين، وقرأ (¬2) الحسن: بفتحها، كما جاء {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} بالأوجه الثلاثة، 43 - ثم عاتب الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يا محمَّد، ما وقع منك، من ترك الأولى والأكمل؛ أي: عما عنك ما أدَّاك إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار، والاستفهام في قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} للعتاب من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، حيث ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

وقع منه الإذن في القعود لمن استأذنه قبل أن يتبين له من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ومن هو كاذب فيه، والعتاب: هو لوم الحبيب حبييه على أمر غير لائق به؛ أي: لأي سببٍ، ولأي شيء أذنت لهم في القعود والتخلف كما أرادوا، وهلا تأنيت في الإذن لهم وتوقفت عنه {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ}؛ أي: حتى ينجلي وينكشف لك {الَّذِينَ صَدَقُوا} في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال , أو من جهة البدن {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيما يعتذرون به؛ أي: حتى يتبين لك الفريقان فتعامل كلًّا بما ينبغي أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك والأولى لك، أن تتلبث أو تمسك عنه اختبارًا. والمعنى: عفا الله عنك يا محمَّد، ما كان منك من إذنك لهؤلاء المنافقين، الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك. روي عن مجاهد في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} هم ناس قالوا: استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم، فاقعدوا , وإن لم يأذن لكم، فاقعدوا. وقال ابن عباس, لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف المنافقين يومئذٍ، حتى نزلت سورة براءة، قيل (¬1): إنما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئين لم يؤمر بهما: أخذه للفداء - صلى الله عليه وسلم - وإذنه للمنافقين، فعاتبه الله عليهما، وفي ذكر العفو عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت: هذا العتاب المذكور هنا، يعارض ما رخص له - صلى الله عليه وسلم - في سورة النور، بقوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}؟ قلت: يمكن الجمع بين الآيتين، بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات، حتى يتبين الصادق من الكاذب, والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[44]

قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء" (¬1): وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط؛ أي لم يلزمكم ذلك، ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: (العفو لا يكون إلا عن ذنب) مَنْ لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا عنك؛ أي: لم يلزمك ذنب، 44 - ثم ذكر سبحانه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القعود عن الجهاد بلا عذر، كان من عادتهم أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أذن لواحد منهم بالقعود ... شق عليه ذلك، فقال: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ} يا محمَّد. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} في {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} في سبيل الله بل الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف علي الإذن، فضلًا عن أن يستأذنوك في التخلف من غير عزر، فحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مظنةً للتأني في أمرهم، بل دليلًا على نفاقهم، ذكره أبو السعود. والمعنى: ليس (¬2) من شأن المؤمنين بالله - الذي كتب عليهم القتال - وباليوم الآخر الذي يوفي فيه كل عامل جزاء ما عمل، أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، إذا جد ما يدعو إلى ذلك, بل يُقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان، كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل وهم بالأولى لا يستأذنونك في التخلف عنه بعد إعلان النفير العام, وأقصى ما يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدًا. واعلم: أنه قد تقدم لنا أن هذه السورة تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين , ومن ثم نقل البغوي وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بهذا التفصيل حتى ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف. (¬2) المراغي.

[45]

نزلت هذه السورة، وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} الذين يسارعون إلى طاعته؛ أي: والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته في عدوه، وجهادهِ بماله ونفسه، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهيةً للقتال. وفي (¬1) الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر أعمال المعروف. 45 - ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة في التوكيد والتقرير، فقال: {إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ} يا محمَّد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر {الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ} ولا يصدقون {بِاللهِ}؛ أي: بتوحيده (و) لا بـ {اليوم الآخر} وهم المنافقون، فهؤلاء يرون بذل المال مغرمًا يفوت عليهم بعض المنافع، وهم لا يرجون ثوابًا عليه كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلامًا ومتاعب، وذكر (¬2) الإيمان بالله أولًا، ثم باليوم الآخر ثانيًا في الموضعين؛ لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله، قوله: {وَارْتَابَت قُلُوبُهُمْ} عطف على الصلة في قوله: {الَذَينَ لَا يُؤمِنُونَ} وجاء بالماضي، للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو الشك، وأنما أضاف (¬3) الشك والارتياب إلى القلب؛ لأنه محل المعرفة والإيمان أيضًا، فإذا دخله الشك، كان ذلك نفاقًا؛ أي: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم؛ أي: شكت قلوبهم في الدين {فَهُمْ} حال كونهم {في رَيْبِهِمْ} وشكهم المفرق قلوبهم {يتَرَدَّدُونَ}؛ أي: يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين. والمعنى: فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل كانوا مرتابين حائرين، لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق، فلم تطمئن به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم فهم متحيرون في أمرهم، مذبذبون في عملهم، يوافقون المؤمنين فيما سَهلَ أداؤه من عبادات الإِسلام، من صلاة وصيام، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

[46]

ويلتمسون الخلاص فيما شق عليهم من تكاليفه، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشيء منها. 46 - وقد جاء في بعض الروايات: أن عدد هؤلاء كان تسعةً وثلاثين رجلًا {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ} إلى الغزو معك {لَأَعَدُّواْ له}؛ أي: لهيؤوا للخروج {عُدَّةً}؛ أي: أهبةً من الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد، وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}؛ أي: ولكن لم يرد نهوضهم للخروج معك {فَثَبَّطَهُمْ}؛ أي: حبسهم بالكسل. أي: ولو (¬1) كانوا صادقين فيما يدعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك .. لأعدوا له عدة، ولكن لم يكن معهم من العدة للجهاد ما يُحتاج إليه، لما تركوا إعداد العدة وتحصيلها قبل وقت الجهاد، كما يستعد لذلك المؤمنون، فمعنى الكلام: أنهم لم يريدوا الخروج أصلًا ولا استعدوا للغزو عدةً، ولكن كره الله انبعاثهم وخروجم، فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى: ما خرجوا, ولكن تثبطوا؛ لأن كراهة الله انبعاثهم، تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانعباث: الخروج؛ أي: حبسهم الله عن الخروج معك، وخذلهم؛ لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس .. أفسدنا وحرضنا على المؤمنين، وقيل المعنى: لو أرادوا الخروج .. لأعدوا له عدة، ولكن ما أرادوه؛ لكراهة الله له. والانبعاث في الأصل (¬2): توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة، كبعث الرسل وبعث الموتى، والتثبيط: التعويق عن الأمر والمنع منه. والخلاصة: كره الله نفيرهم وخروجهم مع المؤمنين، لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف التي هي مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها، ومن ثم لم يعدوا للخروج عدته، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان. {وَقِيلَ اقْعُدُوا} أي: قال لهم الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة: تخلفوا مع المتخلفين, وقيل: قاله بعضهم لبعض، وقيل: قاله لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا عليهم, وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي: أوقع الله في قلوبهم القعود، خذلانًا لهم، ومعنى {مَعَ الْقَاعِدِينَ}؛ أي: مع أولى الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان , وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقيص بهم ما لا يخفى. أي: وقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارة تدل على السخط لا على الرضا: اقعدوا مع الأطفال والزمنى والعجزة والنساء، وهم قد حملوه على ظاهر لموافقته لما يريدون. وها هنا يتوجه سؤال، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة، فإن كان فيه مصلحة .. فلم قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وإن كان فيه مفسدةٌ، فلم عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - في إذنه لهم في القعود؟ الجواب عن هذا السؤال: أن خروجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبره بتلك المفسدة بقوله: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} بقي أن يقال: فلم عاتب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}؟ فنقول: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبير في حالهم، فلهذا السبب قال تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} وقيل: إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود, اهـ "خازن". وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية {عُده} بضم العين من غير تاء، قال صاحب "اللوامح": لما أضاف .. جعل الكناية نائبةً عن التاء, فأسقطها، وقال أبو حاتم: هو جمع عدةٍ كبرةٍ وبرٍّ ودرةٍ ودرٍ , وقرأ زر بن حبيش

وأبان عن عاصم: {عُدَّةً} بكسر العين وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعدو، سمي قتلًا إذ حقه أن يقتل، وقرئ أيضًا: {عُدَّةً} بكسر العين وبالتاء دون إضافةٍ أي: عدةً من الزاد والسلاح. الإعراب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}. {إِنَّ} حرف نصب، {عِدَّةَ} اسمها {الشُّهُورِ} مضاف إليه {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {عِدَّةَ}؛ لأنه مصدرٌ {اثْنَا عَشَرَ} عدد مركب, معرب الصدر مبنيُّ العجز {اثْنَا} خبر {إِنَّ} وعلامة رفعه الألف، نيابةً عن الضمة؛ لأنه ملحق بالمثنى {عَشَرَ} جزء خبر مبني على الفتح , لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا {شَهْرًا} منصوب على التمييز {فِي كِتَابِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه صفة لأثنى عشر أو بدل من {عِنْدَ اللَّهِ} {يَوْمَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {كِتَابِ اللَّهِ} إن قلنا إنه مصدر لا جثةٌ، أو بدلٌ ثان من {عِنْدَ اللَّهِ} {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} فعل ومفعول {وَالْأَرْضَ} معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة {مِنْهَا} جار ومجرور حال من {أَرْبَعَةٌ}؛ لأنها صفة نكرة قدمت عليها {أَرْبَعَةٌ} مبتدأ {حُرُمٌ} خبر، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لـ {اثْنَا عَشَرَ} أو مستأنفة {ذَلِكَ} مبتدأ {الدِّينُ} خبر {الْقَيِّمُ}، صفه لـ {الدِّينُ} والجملة مستأنفة {فَلَا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر, تقديره: إذا عرفتم أن تحريمها هو الدين القيام، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم {لا تظلموا} جازم وفعل وفاعل {فِيهِنَّ} متعلِق به {أَنْفُسَكُمْ} مفعول به، ومضاف إليه والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} فعل وفاعل ومفعول به {كَافَّةً} حال من واو {وَقَاتِلُوا} أو من {الْمُشْرِكِينَ} ولكنَّه مصدر جامد في

تأويل المشتق، كما سيأتي في مبحث التصريف، تقديره: حالة كونكم أو كونهم مجتمعين، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَلَا تَظْلِمُواْ} {كَمَا} {الكاف} حرف جر وتشبيه و {ما} مصدرية {يُقَاتِلُونَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول {كَافَّةً} إما حال من واو الفاعل، أو كاف المخاطبين، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كقتالهم إياكم {كَافَّةً} الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: وقاتلوا المشركين كافة، قتالًا كائنًا كقتالهم إياكم كافة {وَاعْلَمُوا} فعل وفاعل معطوف على قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا} أو مستأنف، {أَنَّ اَللهَ} ناصب واسمه {مَعَ الْمُتَّقِينَ} ظرف ومضاف إليه خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علم؛ أي: واعلموا كون الله مع المتقين. {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}. {إِنَّمَا} أداة حصر {النَّسِيءُ زِيَادَةٌ} مبتدأ وخبر {فِي الْكُفْرِ} متعلق بـ {زِيَادَةٌ} والجملة الاسمية مستأنفة {يُضَلُّ} فعل مضارع مغير الصيغة {به} متعلق به {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ {النَّسِيءُ} {كَفَرُوا} فعل وفعل صلة الموصول {يُحِلُّونَهُ} فعل وفاعل ومفعول {عَامًا} ظرف متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الموصول، أو مفسرة للضلال لا محل لها من الإعراب {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} معطوف على {يُحِلُّونَهُ} {لِيُوَاطِئُوا} {اللام} لام كي {يواطئوا} فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة بعد لام كي {عِدَّةَ مَا} مفعول به، ومضاف إليه {حَرَّمَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عدة ما حرمه، وجملة {يواطىء} صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور {باللام} تقديره: لمواطأتهم عدة ما حرمه الله، الجار والمجرور متعلق بـ {يحرمونه} {فيُحِلُّوا} {الفاء} عاطفة {يحلوا} فعل وفاعل، معطوف على {يواطئوا} {مَا} في محل النصب مفعول {فيُحِلُّواْ} {حَرَّمَ اللهُ}

فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما حرمه {زُيِّنَ} فعل ماض مغير الصيغة {لَهُمْ} متعلق به {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} نائب فاعل، ومضاف إليه، والأصل زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، كما قاله ابن عباس رضي الله عنه {وَاللهُ} مبتدأ {لَا يَهْدِى القَوْمَ} فعل ومفعول به {الْكَافِرِينَ} صفة لـ {الْقَوْمَ} وفاعله ضمير يعود على {اللهُ} والجملة الفعلية خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء {أيُّ} منادى نكرة مقصودة و {ها} حرف تنبيه {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أيُّ} وجملة النداء مستأنفة {آمَنُوا} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول {مَا} للاستفهام الإنكاري التوبيخي، في محل الرفع مبتدأ {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: أي شيء ثابت لكم، والجملة الاسمية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، لا جواب لها {قِيلَ} فعل ماض مغير الصِّيغة {لَكُمُ} متعلق به {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} نائب فاعل محكي، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} والظرف متعلق بـ {اثَّاقَلْتُمْ} الآتي وإن شئت قلت: {انْفِرُواْ} فعل وفاعل {في سَبيلِ اللهِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {اثَّاقَلْتُمْ} فعل ماض وفاعل {إِلَى الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين في {لَكُمُ} والتقدير: أيُّ شيء ثبت لكم من الأعذار، حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم: انفروا؛ أي: أخرجوا في سبيل الله {أَرَضِيتُم} {الهمزة} للاستفهام التوبيخي التعجبي الإنكاري {رضيتم} فعل وفاعل {بِالْحَيَاةِ} متعلق به {الدُّنْيَا} صفة للحياة والجملة الاستفهامية مستأنفة {مِنَ الْآخِرَةِ} جار ومجرور حال من {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كما ذكره أبو البقاء: أي: حالة كونها بدلًا من الآخرة {فَمَا مَتَاعُ} {الفاء} تعليلية {ما} نافية

{مَتَاعُ} مبتدأ {الْحَيَاةِ} مضاف إليه {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ} {في الْآخِرَةِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المبتدأ، على رأي سيبويه، تقديره: حالة كونه منسوبًا إلى الآخرة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {قَلِيلٌ} خبر المبتدأ والجملة الاسمية مسوقة لتعليل النفي المفهوم من الجملة الاسمية، والتقدير: لا ترضوا الحياة الدنيا بدل الآخرة لكون متاع الدنيا قليلًا، وفي "الفتوحات" قوله: {في الْآخِرَةِ} متعلق بمحذوف من حيث؛ المعنى، تقديره: فما متاع الحياة الدنيا محسوبًا في الآخرة، فمحسوبًا: حال من متاع، وقال الحوفي: إنه متعلق بـ {قَلِيلٌ} وهو خبر المبتدأ، قال: وجاز أن يتقدم الظرف على عامله المقرون بإلا؛ لأن الظروف تعمل فيها روائح الأفعال، ولو قلت: ما زيد إلا عمرًا يضرب .. لم يجز، اهـ "سمين". {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {إلَا} {إنْ} حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في لام {لا}، {لا} نافية {تَنفِرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها {يُعَذِّبْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم بإن الشرطية، على كوفه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله {عَذَابًا} مفعول به، أو مفعول مطلق {أَلِيمًا} صفة لـ {عَذَابًا} والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَيَسْتَبْدِلْ} معطوف على {يُعَذِّبْ} وفاعله ضمير يعود على الله {قَوْمًا} مفعول به {غَيْرَكُمْ} صفة لـ {قَوْمًا} لأنه بمعنى مغايرين إياكم {وَلَا تَضُرُّوهُ} فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على يعذب أيضًا {شَيْئًا} مفعول ثان {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {قَدِيرٌ} {قَدِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. {إِلَّا} {إِنَّ} حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في لام

{لَا} النافية، {لا} نافية {تَنْصُرُوهُ} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إِنَّ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فسينصره الله تعالى، وجملة الشرط مع جوابه المحذوف مستأنفة {فَقَدْ} {الفاء} تعليلية {قد} حرف تحقيق {نَصَرَهُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بـ {لام} التعليل المقدرة المدلول عليها بـ {الفاء} التعليلية المتعلقة بالجواب المحذوف، الذي قدرناه آنفًا {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ {نَصَرَهُ اللَّهُ} {أخْرَجَهُ الَّذِينَ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محلّ الجر بإضافة {إذْ} إليها {كَفَرُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول {ثَانِيَ} منصوب على الحال من الهاء في {أَخْرَجَهُ} {اثْنَيْنِ} مضاف إليه، ولكنه في تأويل مشتق، تقديره: إذ أخرجه الذين كفروا، حالة كونه واحدًا من اثنين؛ أي: حالة كونه منفردًا عن جميع الناس، إلا أبا بكر الصديق، {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، في محلّ النصب على الظرفية، والظرف بدل من {إِذْ} قبله بدل بعض من كل، فيفرض زمن إخراجه ممتدًا، بحيث يصدق على زمن استقرارهما في الغار، وزمن القول المذكور، والبدل في هذا وما بعده بدل بعض من كل، ولا بد من هذا التكلف لتصح البدلية، وإلا فزمن الإخراج مباين لزمن حصولهما في الغار، إذ بين الغار ومكة مسيرة ساعة {هُمَا} مبتدأ {فِي الْغَارِ} خبره، والجملة في محلّ الجر مضاف إليه. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى {يَقُولُ} فعل مضارع {لِصَاحِبِهِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محلّ الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} والظرف بدل أيضًا من {إِذْ} الأولى بدل بعض من كل {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} مقول محكي لـ {يَقُولُ} وإن شئت قلت: {لا} ناهية {تَحْزَنْ} فعل

مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على أبي بكر، والجملة في محلّ النصب مقول {يَقُولُ} {إِنَّ} حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {مَعَنَا} ظرف متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محلّ النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها {فَأَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل و {الفاء} عاطفة الجملة على جملة قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} {سَكِينَتَهُ} مفعول به {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أَنْزَلَ} {وَأَيَّدَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلَ} {بِجُنُودٍ} متعلق بـ {أَيَّدَ} {لَمْ تَرَوْهَا} فعل وفاعل ومفعول به وجازم؛ لأنَّ رأى بصرية، والجملة في محلّ الجر صفة لـ {جنود} {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ} فعل ومفعول أول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة معطوفة على جملة {أيد} {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {السُّفْلَى} مفعول ثان لجعل {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه {هِيَ} ضمير فصل {الْعُلْيَا} خبر المبتدأ والجملة مستأنفة {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَزِيزٌ} خبر أول {حَكِيمٌ} خبر ثان، والجملة مستأنفة أو معطوفة على الجملة التي قبلها. {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}. {انْفِرُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {خِفَافًا وَثِقَالًا} حالان من واو {انْفِرُوا} {وَجَاهِدُوا} فعل وفاعل معطوف على {انْفِرُوا} {بِأَمْوَالِكُمْ} متعلق به {وَأَنْفُسِكُمْ} معطوف على {أَمْوَالِكُمْ} {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {جَاهِدُوا} {ذَلِكُمْ} مبتدأ {خَيْرٌ} خبره {لَكُمْ} متعلق بـ {خَيْرٌ} والجملة مستأنفة {إِنْ} حرف شرط {كُنْتُمْ} فعل واسمه في محلّ الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ} خبر {كان} وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون خيريته .. فلا تتثاقلوا عنه، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة. {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ

بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {لَوِ} حرف شرط {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ما فهم من السياق، تقديره: لو كان ما دعوتهم إليه {عَرَضًا} خبرها {قَرِيبًا} صفة {عَرَضًا {وَسَفَرًا} معطوف على {عَرَضًا} {قَاصِدًا} صفة {سَفَرًا} {لَاتَّبَعُوكَ} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية {اتَّبَعُوكَ} فعل وفاعل ومفعول وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة {لكن} حرف استدراك {بَعُدَتْ} فعل ماض {عَلَيْهِمُ} متعلق به {الشُّقَّةُ} فاعل وجملة الاستدراك معطوفة على جملة {لَوْ} {وَسَيَحْلِفُونَ} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الاستدراك {لَوِ} حرف شرط {اسْتَطَعْنَا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوِ} {لَخَرَجْنَا} {اللام} رابطة لجواب {لَوِ} {خَرَجْنَا} فعل وفاعل {مَعَكُمْ} ظرف حال من فاعل {خرجنا}؛ أي: حالة كوننا مصاحبين بكم، وجملة {خرجنا} ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعًا، كما في "الفتوحات" وجملة {لَوِ} الشرطية في محلّ النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وسيحلفون لكم. قائلين: لو استطعنا .. لخرجنا معكم {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة بدل من جملة قوله {وَسَيَحْلِفُونَ}؛ لأنّ الحلف الكاذب إهلاك للنفس. {وَاللَّهُ} مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ} خبره والجملة الاسمية مستأنفة {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {لَكَاذِبُونَ} {اللام} حرف ابتداء {كاذبون} خبر {إن} وجملة {إن} سادة مسد مفعولي عَلم معلقة عنها باللام. {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}. {عَفَا اللَّهُ} فعل وفاعل {عَنْكَ}: متعلق به، والجملة مستأنفة {لِمَ} {اللام} حرف جر {م} اسم استفهام إنكاري، في محلّ الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة، فرقًا بينها وبين الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {أَذِنْتَ} المذكور بعده {أَذِنْتَ} فعل وفاعل {لَهُمْ} متعلق به أيضًا، وجاز تعلقهما بعامل واحد مع اتحادهما لفظًا لاختلاف معناهما؛ لأنّ الأولى للتعليل،

والثانية للتبليغ، كما في "الجمل" والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محلّ لها من الإعراب {حَتَّى} حرف جر وغاية، {يَتَبَيَّنَ} منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} {لَكَ} متعلق به {الَّذِينَ} فاعل وجملة {صَدَقُوا} صلة الموصول، وجملة {يَتَبَيَّنَ} في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره: إلى تبيّن الذين صدقوا وظهورهم لك، الجار والمجرور متعلق بـ {أَذِنْتَ} {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فعل ومفعول معطوف على {يَتَبَيَّنَ} وفاعله ضمير يعود على محمد، وعلم هنا بمعنى: عرف. {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}. {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ} فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، صلة الموصول {بِاللَّهِ} متعلق به {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوف على الجلالة {أَنْ يُجَاهِدُوا} ناصب وفعل وفاعل {بِأَمْوَالِهِمْ} متعلق به {وَأَنْفُسِهِمْ} معطوف عليه والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في مجاهدتهم بأموالهم وأنفسهم، والجار المحذوف متعلق بـ {يَسْتَأْذِنُكَ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} مبتدأ وخبر {بِالْمُتَّقِينَ} متعلق به والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر {يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة {لَا يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول {بِاللَّهِ} متعلق به {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوف على الجلالة {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} فعل وفاعل، معطوف على جملة الصلة {فَهُمْ} مبتدأ و {الفاء} تفريعية عاطفة، {هم} مبتدأ. {فِي رَيْبِهِمْ} متعلق بـ {يَتَرَدَّدُونَ} وجملة {يَتَرَدَّدُونَ} في محلّ الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مفرعة معطوفة على جملة {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}.

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} حرف شرط وفعل وفاعل ومفعول {لَأَعَدُّوا}: فعل وفاعل، جواب {لو} و {اللام} رابطة للجواب {لَهُ} متعلق بـ {أَعَدُّوا} {عُدَّةً} مفعول به وجملة {لو} الشرطية مستأنفة {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة {لكن} حرف استدراك {كَرِهَ اللَّهُ} فعل وفعل {انْبِعَاثَهُمْ} مفعول به، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة {لو} {فَثَبَّطَهُمْ} فعل ومفعول و {الفاء} عاطفة وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة معطوفة على جملة {كَرِهَ} {وَقيلَ} فعل ماض مغير الصيغة {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} نائب فاعل محكى لـ {قيل} وجملة {قيل} معطوفة على جملة {ثبطهم}. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} {عِدَّةَ} اسم مصدر لعد الشيء، يعده: من باب رد إذا أحصاه، والشهور: جمع شهر، وهو في الأصل اسم للهلال، سميت به الأيام؛ أي: إن عدد شهور السنة القمرية {فِي كِتَابِ اللَّهِ} والكتاب: هو اللوح المحفوظ {حُرُمٌ} بضمتين واحدها حرام من الحرمة، بمعنى: التعظيم {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}: الدين: الشرع، والقيم: الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه {كَافَّةً}: مصدر في موضع الحال، كما تقدم في مبحث الإعراب، ومعناه: جميعًا ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أن ولا يتصرف فيه بغير الحال، اهـ. كرخي. {إِنَّمَا النَّسِيءُ} والنسيء: من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة إذا أخره؛ أي: الشهر الذي أنسىء تحريمه؛ أي: أخر عن موضعه وقال الكسائي: يقال: نسأه وأنساه إذا أخره، وقال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل، بمعنى: مفعول من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل، ورجل ناسىء وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة، انتهى. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه: الزيادة، انتهى، فإذا قلت أنسأ الله أجله، بمعنى: أخر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفًا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع، وإذا كان النسيء مصدرًا كان الإخبار عنه بمصدر واضحًا، وإذا

كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمارٍ إما في النسيء؛ أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة؛ أي: ذو زيادة، وبتقدير هذا الإضمار يُردُّ على ما يرد على قوله: ولا يجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر ذكره في "البحر". وفي "المختار": والنسيئة كالفعيلة التأخير، وكذا النسآء، بالفتح والمد، التأخير والنسيء في الآية، فعيل بمعنى: مفعول، من قولك نسأه، من باب: قطع؛ أي: أخره فهو منسوء فحول منسوء إلى نسيء، كما حول مقتول إلى قتيل، والمراد: تأخيرهم حرمة المحرم إلى صفر، انتهى. {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} النفر والنفور: الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، يقال: نفرت الدابة والغزال، نفورًا ونفر الحجيج من عرفات نفرًا واستنفر الملك العسكر إلى القتال، وأعلن النفير العام، فنفروا خفافًا وثقالًا وفي "الخازن" يقال: استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا استنفرتم، فانفروا" والاسم النفير، اهـ {اثَّاقَلْتُمْ}؛ أي: تبأطاتم وملتم عن الجهاد إلى القعود في الأرض، وأصله تثاقلتم، فأبدلت التاء ثاءً مثلثة ثم أدغمت في الثاء، ثم اجتلبت همزة الوصل، توصلا إلى النطق بالساكن، فصار اثاقلتم {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والمتاع ما يتمتع به من لذات الدنيا {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} والغار: النقب العظيم في الجبل، والمراد هنا غار جبل ثور، يجمع على غِيران، مثل: تاج وتيجان وقاع وقيعان، والغار أيضًا نبت طيب الريح، والغار أيضًا: الجماعة والغاران: البطن والفرج، وألف الغار منقلبةٌ عن واوٍ، اهـ "سمين". {لِصَاحِبِهِ} والصاحب: هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - سكينته والسكينة: سكون النفس واطمئنانها، وهو ضد الانزعاج والاضطراب و {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} هي التوحيد و {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هي الشرك والكفر. {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} أي: انفروا على الصفة التي يخفف عليكم الجهاد فيها، وعلى الصفة التي يثقل عليكم الجهاد فيها، وهذان الوصفان يدخل تحتهما

أقسام كثيرة، كما أشرنا إليها في مبحث التفسير. {عَرَضًا قَرِيبًا} والعرض بفتحتين: ما يعرض لك من متاع الدنيا ومنافعها، مما لا ثبات له ولا بقاء، وليس في الوصول إليه كبير عناء {وَسَفَرًا قَاصِدًا} ويقال: سير قاصد، وسفر قاصد؛ أي: هين لا مشقة فيه، من القصد وهو الاعتدال {الشُّقَّةُ} والشقة الطريق، لا تقطع إلا بعناء ومشقة، فهي مشتقة من المشقة كما في "السمين" {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} والعفو: التجاوز عن التقصير، وترك المؤاخذة عليه {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} إنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب؛ لأنه محلّ المعرفة والإيمان، فإذا دخله الشك، كان ذلك نفاقًا اهـ "خازن". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين يحلون ويحرمون في قوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} وبين {الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} في قوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} وبين كلمة {اللَّهُ} وكلمة {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وبين قوله: {خِفَافًا وَثِقَالًا}، وبين {الصَّادِقِينَ} و {الْكَاذِبِينَ} في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}. ومنها: التكرار في قوله {كَافَّةً} وفي لفظ الجلالة في قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} وفي لفظ {الدُّنْيَا} و {الْآخِرَةِ} في قوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ...} إلخ. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وفي قوله: {أعدوا له عدة} وفي قوله: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}؛ أي: أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} من إطلاق الكل، وإرادة البعض؛ لأن المراد بها الشهور القمرية. ومنها: إبهام الفاعل استهجانًا له في قوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} إن كان المزين الشيطان، أو للتفخيم إن قلنا: المزين هو الله. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار؛ لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودنائتها، بالنسبة للآخرة. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}؛ لأنها استعارة عن الشرك، كما أن كلمة الله استعارة عن الإيمان والتوحيد، وفي قوله: {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}؛ لأنه استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على سالكها. ومنها: الإبهام في قوله: {لِصَاحِبِهِ} إظهارًا بعظم فضله، وجلالة قدره. ومنها: تقديم المسرة على المضرة، في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} حيث قدم العفو على العتاب، وقد أحسن من قال: إن من لطف الله بنبيه: أن بدأه بالعفو قبل العتب. ومنها: التشبيه في قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ لأنه أسند الارتياب والشك إلى القلب؛ لأنه محل المعرفة والإيمان، فإذا دخله الشك كان ذلك نفاقًا كما مرَّ. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}. المناسبة قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف أن استئذانهم في التخلف عن القتال إنما كان سترًا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم .. أردف ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها في أمور ثلاثة:

1 - الاضطراب في الرأي وفساد النظام. 2 - تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالنميمة. 3 - أنَّ فيكم ناسًا من ضعفاء الإيمان، يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنها سيقت لبيان أقوالٍ قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرًا، وبعضها أكنوه في أنفسهم، وأعذارٍ سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤونٍ أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب. قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لمّا قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر .. أردف ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال، طوعًا أو كرهًا، لن يتقبلها الله تعالى، ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله تعالى، فهم إن فعلوا شيئًا من أركان الدين .. فإنما يفعلونه رئاء الناس، وخوفًا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وإن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لمّا بيَّن أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنون أن تدور الدوائر على المؤمنين .. أردف ذلك بذكر غلوهم في النفاق، وأنهم لا يتحرجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للبعد عن المؤمنين، فيلجؤوا إليها مسرعين. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ...} الآيتين، مناسبتهما لما

قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الإيمان إذا وجدوا في ذلك طريقًا لخدعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون، كي يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا .. أردف ذلك بذكر سوءة أخرى من سوآتهم، وهي: أنهم يتمنون الفرص للطعن علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى يوقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولجوا هذا الباب، وقالوا ما شاؤوا أن يقولوا. قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) من يعيب الرسول في قسم الصدقات، بأنّه يعطي من شاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه أو يأخذ لنفسه ما بقي، وكانوا يسألون فوق ما يستحقون .. بيَّن تعالى مصرف الصدقات، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬3): ما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج إلى غزوة تبوك .. قال للجدِّ بن قيس: "يا جُدَّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، إني امرؤٌ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفْتتِن، فأُذن لي ولا تفتنِّي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من حديث جابر بن عبد الله، مثله وأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اغزوا، تغنموا بنات بني الأصفر". فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) لباب النقول.

قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن جابر بن عبد الله، قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبار السوء، يقولون: إن محمدًا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال الجدُّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء .. لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي. قال: ففيه نزلت هذه الآية {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} قال: لقوله: أعينك بمالي. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) البخاريُّ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل" قال عمر بن الخطّاب: دعني أضرب عنقه، قال: "دعه، فإن له أصحابًا، يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، ينظر في قذذه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل، إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة" أو قال: "مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين غفلة من الناس" قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فنزلت فيهم {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وروى (¬2) ابن جرير عن داود بن أبي عاصم: قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقةٍ فقسمها ها هنا وها هنا، حى ذهبت ورأى ذلك رجلٌ من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية. ¬

_ (¬1) البخاري. (¬2) المراغي.

[47]

ومجموع الروايات يدلّ على أن أشخاصًا من منافقي المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين، ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في منى. التفسير وأوجه القراءة 47 - وقوله: {لَوْ خَرَجُوا} شروع في بيان المفاسد التي تترتب على خروجهم؛ أي: لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود {فِيكُمْ}؛ أي: في جيشكم وفي جمعكم، وقيل: في بمعنى: مع؛ أي: معكم {مَا زَادُوكُمْ} بخروجهم معكم شيئًا {إِلَّا خَبَالًا}؛ أي: إلا فسادًا وشرًّا، وأصل الخبال: اضطراب ومرض يؤثر في العقل، كالجنون، والمراد به هنا الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف، قيل: هذا الاستثناء متصل والمستثنى منه محذوف، والمعنى: ما زادوكم شيئًا إلا خبالًا، والمتصل ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، بالخبال بعض المستثنى منه المحذوف؛ لأنه داخل في الشيء، وقيل: منقطع، والمعنى: ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكن خبالًا، وقوله: {وَلَأَوْضَعُوا} معطوف على {مَا زَادُوكُمْ} والمفعول محذوف؛ أي: ولأسرعوا ركائب نمائمهم وإفساداتهم {خِلَالَكُمْ}؛ أي: بينكم. والمعنى: ولأسرعوا بينكم بالإفساد، بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين، وقال الحسن: معناه: لأسرعوا بالنميمة، وخط في المصحف {ولا أوضعوا} بزيادة الألف؛ لأنّ الفتحة كانت تكتب ألفًا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن، وقد بقي من تلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفًا، وفتحها ألفًا أخرى، ونحوه: أو لا أذبحنه ذكره النسفي. وقرأ ابن أبي عبلة (¬1): {ما زادكم} بغير واو؛ أي:. ما زادكم خروجهم إلا خبالا وفسادًا، وقرأ محمد بن القاسم: {لأسرعوا بالفرار} وقرأ مجاهد ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومحمد بن زيد: {ولأوفضوا}؛ أي: أسرعوا كقوله: {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} وقرأ ابن الزبير: {ولأرفضوا} بالراء من رفض، إذا أسرع في مشيه رفضًا ورفضانًا، والخلال جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين، وجملة قوله: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} حال (¬1) من فاعل أوضعوا؛ أي: ولأسرعوا فيما بينكم، حال كونهم باغين؛ أي: طالبين لكم الفتنة؛ أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، وذلك أنهم يقولون للمؤمنين: لقد جمعوا لكم كذا وكذا، ولا طاقة لكم بهم، وإنكم ستهزمون منهم، وسيظرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تورث الجبن والفشل. والمعنى: يطلبون لكم، ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم، وبإفساد نياتكم، وقيل معناه: يطلبون لكم العيب والشر، وجملة قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} حال إما من مفعول {يَبْغُونَكُمُ} أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنّ في الجملة ضميريهما، قال مجاهد: يعني وفيكم في خلالكم عيون لهم، يؤدون إليهم أخباركم، وما يسمعون منكم، وهم الجواسيس، فاللام على هذا المعنى للتعليل، وقال قتادة: وفيكم مطيعون لهم، يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم، وذلك؛ لأنهم يلقون إليهم أنواعا من الشبهات الموجبة لضعف القلب، فيقبلونها منهم، فاللام على هذا المعنى لتقوية التعدية، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. فإن قلت: كيف (¬2) يجوز أن يكون في المؤمنين المخلصين من يسمع ويطيع المنافقين؟ قلتُ: يحتمل أن يكون بعض المؤمنين لهم أقارب من كبار المنافقين ورؤساءهم، فإذا قالوا قولًا .. ربما أثر في قلوب ضعفة المؤمنين، في بعض الأحوال. اهـ "خازن". ومعنى الآية (¬3): لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود معكم .. ما زادوكم قوةً ومنعةً وإقدامًا كما هو الشأن في القوى المتحدة في العقيدة ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

والمصلحة، بل زادوكم اضطرابًا في الرأي، وضعفًا في القتال، ومفسدةً للنظام، كما حدث مثل ذلك في غزوة حنين، فقد ولى المنافقون الأدبار في أول المعركة، وولى على أثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر وتفكير، كما هو الشأن في مثل هذه الأحوال، ولأوضعوا؛ أي: ولأسرعوا في الدخول فيما بينكم، سعيًا بالنميمة، وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال، وتهويل أمر العدو، وإيقاع الرعب في قلوبكم، وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان، أو ضعفاء العزم، يسمعون كلامهم، فإذا ألقوا إليهم شيئًا مما يوجب ضعف العزائم .. قبلوه، وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم علمًا يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع، ومما لم يقع، فأحكامه فيهم على علم تام، لا ظن فيه ولا اجتهاد كاجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإذن لهم، ولا ينافي (¬1) حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف؛ لأنه سارع إلى الإذن لهم ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب - صلى الله عليه وسلم - على تسرعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله فيما يأتي في هذه السورة {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} الآية، وقال في سورة الفتح: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} إلى قوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} وفي قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وعيدٌ وتهديدٌ للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين. والخلاصة: أن وجه (¬2) العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه .. لظهر نفاقهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[48]

بين المسلمين بادئ ذي بدء فلم يستطيعوا مخالفتهم ولا السعي فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها وتسوء عاقبتها. والذي تثبته هذه الآية: أن خروجهم شرٌّ لا خير فيه، وهو ضعف لا قوةٌ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم؛ فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات. فقد كان من حكمة الله تعالى في تربية رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها، لتكون أوقع في نفسه ونفس أتباعه، فيحرصون على العمل بها ولا يحكموا أهواءهم فيها، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه ويهتدون بهديه. 48 - وعزتي وجلالي {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ} أي: أي لقد ابتغى وطلب هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين وتفريق شملهم؛ أي: لقد طلبوا صد أصحابك يا محمد عن الدين وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنكم {مِن قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين يوم أحد، حين انصرف بأصحابه عنكم، حين اعتزل بثلث الجيش، في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحدٍ، وطفق يقول للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد، فرجع بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون، ولكن عصمهما الله تعالى من الفتنة. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}؛ أي: ودبروا لك المكايد والحيل في إبطال دينك ورد أمرك، فكان لهم خوض مع اليهود ومع المشركين في كل ما فعلا من عداوته - صلى الله عليه وسلم - وقتال المؤمنين، وقرأ مسلمة من محارب (¬1): {وقلَبوا} بتخفيف اللام. وقوله: {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} غاية للمحذوف تقديره: واستمروا على تقليب الأمور وتدبير المكايد لك وإثارة الفتنة بين المسلمين وتنفير الناس عن قبول ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[49]

الحق، حتى جاء الحق والنصر الإلهي الذي وعده لك ربك {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} أي: ظهر دين الله وعلا شرعه وغلب دينه بظهور الأسباب التي تقوي شرع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود، والنصر على المشركين بفتح مكة، ودخول الناس في الإِسلام أفواجًا {وَهُمْ كَارِهُونَ}؛ أي: والحال أنهم كارهون لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم أنف منهم. وفي الآيتين (¬1) تسليةٌ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين على تخلف المنافقين، وبيان ما ثبطهم الله تعالى، لأجله، وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم، تداركًا لما فوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة إلى الإذن، ولذلك عوتب عليه. 49 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن هؤلاء المنافقين {مَنْ يَقُولُ} لك يا محمَّد {ائْذَنْ لِي} في القعود في المدينة {وَلَا تَفْتِنِّي}؛ أي: ولا توقعني في الفتنة؛ أي: في العصيان والمخالفة، بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود، وقعدت بغير إذنك .. وقعت في الإثم، وقيل معناه: لا توقعني في الهلكة بالخروج، وقيل معناه أي: ومن المنافقين ناسٌ يستأذنوك في التخلف عن القتال، حتى لا يفتنوا بنساء الروم، روى ابن أي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: لجد بن قيس: يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر؛ أي: في جهاد ملوك الروم، قال الجد: يا رسول الله، قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، وإني أخشى إن رأيتهن .. أن لا أصبر عنهم، ولكني أعينك بمالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معرضٌ عنه: "قد أذنت لك" فنزلت الآية، كما سبق في مبحث الأسباب، وبنو الأصفر هم أولاد الأصفر بن روم بن عيصو بن إسحاق، أو لأن جيشًا من الحبشة غلب عليهم، فوطىء نساءهم فولد لهم أولادٌ صفر، اهـ "قاموس". ¬

_ (¬1) الخازن م.

وقد ردَّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها، بقوله: {أَلَا}؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون {فِي الْفِتْنَةِ} العظيمة، وهي فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل، {سَقَطُوا}؛ أي: وقعوا. والمعنى (¬1): أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة، فإن أعظم أنواع الفتن الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف؛ أي (¬2): فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا، وتردوا في هاوية الفتنة، حيث اعتذروا بالمعاذير الكاذبة، من حيث يزعمون إتقاء التعرض للإثم، ثم بالنظر إلى جمال نساء الروم، وشغل القلب بمحاسنهم، وفي التعبير (¬3) بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة. وقرا ورشٌ (¬4): بتخفيف همزة {ائْذَن ليِ} بإبدالها واوًا لضمة ما قبلها، وقال النحاس ما معناه: إذا دخلت الواو أو الفاء على إئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال، ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون، والفرق: أن ثم يوقف عليها، وتنفصل بخلافهما، وقرأ عيسى بن عمرو {ولا تُفتني} بضم التاء الأولى من أفتن، الرباعي، قال أبو حاتم: هي: لغة تميم، وهي أيضًا قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي، وجمع الشاعر بين اللغتين فقال: لَئِنْ فَتَنَتْنِي فَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... سَعِيْدا فأَمْسَى قَدْ قَلَا كُلَّ مُسْلِمِ وقرىء (¬5): {سقط}؛ أي: مراعة للفظ من. ثم توعدهم على ذلك، فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}؛ أي: مشتملة عليهم من جميع الجوانب، لا يجدون عنها مخلصًا، ولا يتمكنون من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط. (¬5) أبو السعود.

[50]

الخروج منها بحال من الأحوال. أي: وإن النار لمطيفة بمن كفر باللهِ، وجحد آياته وكذب رسله، جامعةٌ لهم يوم القيامة، وكفى بها نكالًا ووبالًا. وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردوا فيها، وبيانٌ بأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم، حتى لا رجاء في توبتهم منها، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}. 50 - {إِنْ تُصِبْكَ} يا محمَّد في بعض الغزوات، كيوم بدر {حَسَنَةٌ} من ظفر أو غنيمةٍ أو انقياد بعض ملوك الأطراف {تَسُؤْهُمْ}؛ أي: تحزنهم لشدة عداوتهم لك، والحسنة: كل ما يسر النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما؛ أي: إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة، كما حدث يوم بدر يورثهم كآبة وحزنًا لفرط حسدهم وشدة عدواتهم، {وَإِنْ تُصِبْكَ} في بعض الغزوات {مُصِيبَةٌ}؛ أي: شدة، وإن صغرت كانكسار جيش وهزيمة كما حدث يوم أحد {يَقُولُوا} معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا}؛ أي: أخذنا حذرنا وعملنا بالحزم، ولزمنا بالاحتياط حين اعتزلنا عن المسلمين، وتخلفنا عن الخروج معهم للقتال، وجاملنا مع الكفرة {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذه المصيبة، ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك. والمعنى: احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم من المصيبة {وَيَتَوَلَّوْا}؛ أي: وينصرفوا ويرجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث التي يقولون فيها هذا القول، أو يعرضوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، {وَهُمْ فَرِحُونَ} فرح البطر والشماتة، ومسرورون بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها. فإن قلت: لم قابل الله هنا الحسنة بالمصيبة، ولم يقابلها بالسيئة، كما قال: في سورة آل عمران {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا}؟ قلت: لأنّ الخطاب هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي في حقه مصيبة يثاب عليها، لا

[51]

سيئة يعاتب عليها، والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين اهـ "شهاب". 51 - ثُمَّ لما قالوا هذا القول .. أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب عليهم بقوله: {قُل} يا محمد لهؤلاء المنافقين، الذين يفرحون بمصائبك ويحزنون بمسارك بيانًا، لبطلان اعتقادهم {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}؛ أي: إلا ما خط لنا، وكتب علينا في اللوح المحفوظ، بحسبه سننه تعالى في خلقه، من نصر وغنيمة، أو تمحيص وشهادة، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم، فالأمور كلها بقضائه تعالى. والمعنى: لن يصيبنا، ولن يحصل لنا خيرٌ ولا رخاء، ولا أمن، ولن يقع علينا شر ولا شدة ولا خوف، إلا وهو مقدر لنا، مكتوب علينا عند الله سبحانه وتعالى، فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا {هُوَ} سبحانه وتعالى {مَوْلَانَا}؛ أي: ناصرنا ومتولي أمورنا بتوفيقنا ونصرنا، وجاعل العاقبة لنا، ومظهر دينه على جميع الأديان {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: فليعتمد المؤمنون، وليتقوا به؛ أي: فنحق نتوكل عليه ونلتجأ إليه، فلا نيأس عند شدة ولا نبطر عند نعمةٍ. ومن حق (¬1) المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه في شرعه، ويهتدي بسننه في خلقه، عن الأخذ بأسباب النصر المادّية والمعنوية، كإعداد العدة، وإتقاء التنازع الذي يولد الفشل ويفرق الكلمة، ثم بعد ذلك يكل الأمر إلى الله فيما لا تصل إليه الأيدي من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح. ويقابل التوكل بهذا المعنى إتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر، وأدركهم اليأس، حين حلول البأس واتكال ذوي الأوهام الذين يتعلقون بالأماني والأحكام حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم .. نكصوا على أعقابهم، وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين، وهو إنما ¬

_ (¬1) أبو السعود.

[52]

وعد أولياءه لا أولياء الشيطان وذوي الخرافات والأوهام وقرأ (¬1) ابن مسعود، وابن مصرف: {هل يصيبا} مكان {لَنْ يُصِيبَنَا} وقرأ ابن مصرف أيضًا، وأعْيَنُ قاضي الري: {هل يصيبنا} بتشديد الياء، وهو مضارع فَيْعَلَ، نحو: بيطر، لا مضارع فَعَّلَ، إذ لو كان كذلك لكان صوب مضعف العين. 52 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المنافقين {هَلْ تَرَبَّصُونَ} وتنتظرون {بِنَا} أيا الجاهلون {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي: إلا إحدى العاقبتين الحسنتين، إما النصرة، أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة، والحسنى: تأنيث الأحسن، والاستفهام (¬2) فيه للتقريع والتوبيخ مع الإنكار؛ أي: ما تنتظرون بنا إلا إحدى الحالتين الشريفتين، النصر أو الشهادة، وذلك لأن (¬3) المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوبًا مقتولًا .. فاز بالاسم الحسن في الدنيا، وهي الرجولية والشوكة، وبالثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة، وإن صار غالبًا .. فاز في الدنيا بالمال الحلال، والاسم الجميل، وفي الآخرة بالثواب العظيم، وقرأ البزي وابن فليح: {هل تربصون} بإظهار اللام، وتشديد التاء، وقرأ الكوفيون: بإدغام اللام في التاء، وقرأ الباقون: بإظهار اللام، وتخفيف التاء، {وَنَحْنُ} معاشر المؤمنين {نَتَرَبَّصُ} وننتظر {بِكُمْ} أيها المنافقون إحدى السوأتين؛ أي: إحدى الحالتين الخسيستين، إما {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ}؛ أي: بقارعة سماوية، لا كسب لنا فيها، كما فعل بالأمم المكذبة لرسلها، كأن ينزل عليكم صاعقةً من السماء، كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل على الكفر؛ أي: أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم؛ أي: إنَّ (¬4) المنافق إذا قعد فيه بيته .. كان مذمومًا منسوبًا إلى الجبن وضعف القلب، والرضا بأمر يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون، ثم يكون أبدًا خائفًا على نفسه وولده وماله، وإن إذن الله في قتله .. وقع في القتل والأسر والنهب مع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) المراح.

[53]

الذل، وإن مات .. انتقل إلى العذاب الدائم في الآخرة. والمعنى: أو يصيبكم بأيدي المؤمنين، بأن يظفرنا بكم، ويظهرنا عليكم، وقرأ ابن محيصن (¬1): {إلا حدى} بإسقاط الهمزة، قال ابن عطية: فوصل ألف إحدى، وهذه لغة، وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر: يَابَا الْمُغِيْرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضَلٍ وقول الآخر: إِنْ لَمْ أُقاتِل فَالبِسَنِّي بُرْقُعَا {فَتَرَبَّصُوا} بنا إحدى الحالتين الشريفتين {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}؛ أي: منتظرون وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين، وقال الحسن (¬2): فتربصوا مواعيد الشيطان، إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه. والمعنى: فتربصوا بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم، إن أصررتم على كفركم، وظهر أمركم، فنحن على بينة من ربنا، ولا بينة لكم، فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه، لا نشاهد إلا ما يسوؤكم، ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة. 53 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المنافقين القائلين: ذرونا نكن مع القاعدين، ونعينكم بالأموال، كالجد بن قيس وأشباهه حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إئذن لي في القعود، وهذا مالي أعينك به، كما مر في مبحث الأسباب. {أَنْفَقُوا} أموالكم {طَوْعًا} واختيارًا؛ أي: من غير إلزام من الله ورسوله {أَوْ كَرْهًا}؛ أي: إلزامًا، منهما وسمى (¬3) الإلزام إكراهًا؛ لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقًّا عليهم كالإكراه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[54]

والمعنى (¬1): أنفقوا طائعين، من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} ذلك الإنفاق؛ لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله، وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين .. فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله، بل أنفقه رياء وسمعة، فإنه لا يقبل منه. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف (¬2): {كرها} بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف: بالضم، من المشقة، وفي النساء والتوبة: بالفتح، من الإكراه، والباقون: بفتح الكاف في جميع ذلك. وقال الشوكاني قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} هذا الأمر معناه الشرط والجزاء؛ لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم، والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين .. فلن يتقبل منكم، وقيل: هو أمر في معنى الخبر؛ أي: أنفقتم طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم، فهو كقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول. وجملة قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق: التمرد والعتوُّ، والمراد به هنا: الكفر؛ أي: لأنكم كنتم قوما منافقين؛ أي: كافرين في الباطن. وخلاصة معنى الآية: قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا من أموالكم ما شئتم في الجهاد، أو في غيره من النفقات التي أمر الله بها وحث في شرعه عليها حال التطوع تقيةً وحفظًا للنفس وكرهًا وخوفًا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يتقبل منكم ما دمتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة؛ لأنكم قوم فاسقون؛ أي: خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين. 54 - ثم بين سبحانه وتعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم، فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}؛ أي: وما منع هؤلاء المنافقين قبول نفقاتهم {إِلَّا أَنَّهُمْ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}؛ أي: إلا كفرهم بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستثناء (¬1) من أعم الأشياء؛ أي: ما منعهم قبول نفقاتهم شيءٌ من الأشياء إلا كفرهم و {ما} عطف عليه. وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي (¬2): {أن يُقْبل} بالياء، وباقي السبعة: بالتاء، و {نَفَقَاتُهُمْ} بالجمع، وزيد بن علي بالإفراد، وقرأ الأعرج بخلاف عنه: {أن تقبل} بالتاء، من فوق نفقتهم بالإفراد، وفي هذه القراءات، الفعل مبني للمفعول، وقرأت فرقة: {أن نَقْبَل منهم نفقتهم} بالنون ونصب النفقة، وقال الزمخشري: وقراءة السلمي: {أن نقبل منهم نفقاتهم} على أن الفعل لله تعالى. انتهى. والمعنى: أي وما منع (¬3) قبول نفقاتهم، إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله، وما جاء به عن الهدى والبينات {و} إلا أنهم {لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}؛ أي: وإلا عدم إتيانهم مواضع فعل الصلاة ومساجدها إلا وهم كسالى، جمع كسلان؛ أي: متثاقلون في الإتيان إلى الصلاة، وذلك؛ لأنهم لا يرجون على فعلها ثوابًا ولا يخافون على تركها عقابًا، فلذل ذمهم مع فعلها، والمعنى: ولا يصلون إلا رياء وتقية، لا إيمانًا بوجوبها، ولا قصدًا إلى ثوابها واحتسابًا لأجرها، ولا تكميلًا لأنفسهم بما شرعه الله تعالى، لأجلها لأنها لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى، لا تنشرح لها نفوسهم، ولا تنشط لها أبدانهم، {و} إلا أنهم {لا ينفقون} أموالهم في مصالح الجهاد وغيره {إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} لذلك الإنفاق غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون، وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا في الدنيا - وهو واضح - ولا في الآخرة، إذ لا يؤمنون بها. والحاصل: أنه جعل (¬4) المانع من القبول، ثلاثة أمور: ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[55]

الأول: الكفر. والثاني: أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل؛ لأنهم لا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، فصلاتهم ليست إلا رياءً للناس، وتظهرًا بالإسلام الذي يبطنون خلافه. والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعًا؛ لأنهم يعدون إنفاقها وضعًا لها في ضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله. وعبارة "زاده": أي (¬1) ما منعهم قبول نفقتهم إلا كفرهم وكسلهم في إتيان الصلاة، وكونهم كارهين الإنفاق. انتهت. فإن قيل (¬2): الكفر سبب مستقل، لعدم القبول، فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة، وعند حصول السبب المستقل، لا يبقى لغيره أثر؟ قلنا: أجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على قول المعتزلة، القائلين: بأن العلل مؤثرة في الحكم، وأما أهل السنة، فإنهم يقولون هذه الأسباب معرفةٌ غير موجبة للثواب ولا للعقاب، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائزٌ. اهـ "شهاب". 55 - والخطاب في قوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ} يا محمد {أَمْوَالُهُمْ}؛ أي: كثرة أموالهم {ولا أولادهم}؛ أي: ولا كثرة أولادهم، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المراد جميع المؤمنين، والسامعين، أي فلا تعجبك أيها السامع كثرة أموالهم ولا أولادهم التي هي من أكبر النعم وأجلها ولا يجولن بخاطرك أنهم قد صغا لهم، نعيمها في الدنيا، وقد حرموا ثوابها في الآخرة، فإن ذلك استدراج ووبال لهم، كما أشار إليه بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا}؛ أي: بتلك الأموال والأولاد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بما يحصل لهم من الغم الحزن، عندئذٍ ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) الشهاب.

[56]

يغنمها المسلمون، ويأخذوها قسرًا من أيديهم، مع كونها زينة حياتهم، وقرة أعينهم، وكذا في الآخرة، يعذبهم بعذاب النار، بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يحق التصدق به. وقيل (¬1): إن سبب كون المال والولد عذابًا في الدنيا: هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما، فإذا حصلا، ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما، ويزداد الحزن والغم بسبب المصائب الواقعة فيهما، فعلى هذا القول لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية، وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصلٌ لكل أحد من بني آدم، مؤمنهم وكافرهم، فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا التعذيب في الدنيا؟ وأجيب عن هذا الإيراد: بأنَّ المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا التعذيب، وهو أنَّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة، وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا، فلم يكن المال والولد في حقه عذابًا في الدنيا، وأما المنافق .. فإنه لا يعتقد كون الآخرة له، وأنه ليس له فيها ثواب، فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والشدة، والغم والحزن على المال والولد عذابًا عليه في الدنيا، فثبت بهذا الاعتبار أنَّ المال والولد، عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين. وقال مجاهد وقتادة (¬2): في الآية تقديم وتأخير، تقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة؛ لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين، فيعذبون بما ينفقون {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: ويريد الله سبحانه وتعالى، أن تخرج أرواحهم {وَهُمْ كَافِرُونَ}؛ أي: والحال أنهم كافرون، لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء، وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة، فيعذبون بها في الآخرة إثر ما عذبوا بها في الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم. 56 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى نوعًا آخر من قبائح المنافقين، فقال: {وَيَحْلِفُونَ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[57]

بِاللَّهِ}؛ أي: ويحلف هؤلاء المنافقون بالله للمؤمنين كذبًا إذا جالسوهم {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}؛ أي: لمن جملتكم في الدين، والملة، والانقياد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكتاب الله سبحانه {وَمَا هُمْ}؛ أي: والحال أنهم ليسوا {مِنْكُمْ} يا معشر المؤمنين في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم، دون بواطنهم؛ أي: ليسوا من أهل ملتكم ودينكم بل هم أهل شك ونفاق {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}؛ أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ أي: يخافون أن ينزل بهم، ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام، ويحلفون لكم تقيةً منكم، لا عن حقيقة 57 - {لَوْ يَجِدُونَ}؛ أي: لو وجد هؤلاء المنافقون {مَلْجَأً}؛ أي مهربًا وحرزًا، يلتجؤون إليه، ويحفظون فيه نفوسهم، تحصنًا منكم، من رأس جبل أو قلعه أو جزيرة {أَوْ مَغَارَاتٍ} جمع مغارة، بمعنى: غار؛ أي: كهوفًا في الجبل، يخفون فيها أنفسهم {أَوْ مُدَّخَلًا}؛ أي: مكانًا يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات؛ أي: سربًا تحت الأرض يندسون ويختفون فيه منكم كالآبار، وأنفاق اليربوع، وقوله: أو مغارات أو مدخلًا من عطف الخاص على العام، لدخولهما في الملجأ {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}؛ أي: للتجؤوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه؛ أي: لو حصلوا واحدًا من هذه الثلاثة، لولَّوا إليه؛ أي لصرفوا وجوههم ورجعوا إليه؛ أي: إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة، التي هي شرُّ الأمكنة {وَهُمْ} أي: والحال أنهم {يَجْمَحُونَ}؛ أي: يسرعون إليه إسراعا لا يرد وجوههم عنه شيء، لشدة تأذيهم من الرسول، ومن المؤمنين من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام، والمعنى: لو (¬1) وجدوا شيئًا من هذه الأشياء المذكورة، لولَّوا إليه مسرعين هربًا من المسلمين. والخلاصة: (¬2) أنهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم، يتمنون الفرار منكم، والعيش في مكان يعتصمون به من انتقاكم منهم، حتى لو استطاعوا السكنى في الحصون والقلاع، أو في كهوف الجبال ومغاراتها، أو في أنفاق الأرض وأسرابها .. لولَّوا إليه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

مسرعين، كالفرس الجموح، لا يردهم شيء عن ذلك. وإنما وصفهم الله سبحانه وتعالى بتلك الأوصاف؛ لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم؛ لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر، ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله، ولأهل الإيمان به، وبالغ الحقد عليهم. وعبارة "زاده" هنا: أي إنهم (¬1) وإن كانوا يحلفون لكم أنهم منكم، إلا أنهم كاذبون في ذلك وإنما يحلفون خوفًا من القتل، ولو استطاعوا ترك دورهم وأموالهم والالتجاء إلى بعض الحصون والغيران، والسروب التي تحت الأرض، لدخلوه تسترًا عنكم واستكراهًا لرؤيتكم ولقائكم، انتهت. وقرأ الجمهور: {مُدَّخَلًا} وأصله مدتخل، مفتعل، من ادَّخل، وهو بناء تأكيد ومبالغةٍ، ومعناه: السرب والنفق في الأرض كما مر وقال النحاس: الأصل فيه متدخلٌ، قلبت التاء دالًا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ومسلمة بن محارب وابن محيصن ويعقوب وابن كثير بخلاف عنه {مُدَّخَلًا} بفتح الميم من دخل الثلاثي. وقرأ محبوب عن الحسن: {مُدَّخَلًا} بضم الميم من أدخل الرباعي، وروي ذلك عن الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش {مُدَّخَلًا} بتشديد الدال والخاء معا، أصله متدخَّلٌ، فأدغمت التاء في الدال وقرأ أبي {مُندَخلًا} بالنون من إنْدخَل، وقال أبو حاتم قراءة أُبيٌّ {مُتْدَخَّلًا} بالتاء وقرأ الأشهب العقيلي {لوالوا إليه}؛ أي: لتابعوا إليه، وسارعوا، وروى ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه عن جده، وكانت له صحبةٌ أنه قرأ: {لوالوا إليه} من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم، وقال: أظنها {لَوألوا} بمعنى للجؤوا إليه، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي: وهذا مما جاء فيه ¬

_ (¬1) زاده.

[58]

فاعل وفعل بمعنى واحد، ومثله ضاعف وضعف، انتهى. وقال الزمخشري: وقرأ أبيٌّ {متدخلًا لوألُوا إليه}؛ أي: لالتجووا إليه، انتهى، وعن أبيٍّ {لَولَّوا وجوههم إليه} وقرأ أنس بن مالك والأعمش {وهم يَجْمَزون} قيل: يجمحون ويجمزون ويشدون واحدٌ، وقال ابن عطية يجمزون يُهَرْولون، ومنه قولهم في حديث الرجم: "فلما أذلقته الحجارة جمز". ولمَّا (¬1) كان العطف بـ {أو} عاد الضمير إليه مفردًا، على قاعدة النحو في {أوْ} فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ، أو على المدخل، فلا يحتمل في الظاهر أن يعود على المغارات لتذكيره، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها. 58 - ثم شرع سبحانه وتعالى في ذكر نوع آخر من قبائحهم فقال: {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن هؤلاء المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ} يا محمد ويعيبك سرًّا ويطعن عليك {فِي} قسمة {الصَّدَقَاتِ} والزكوات المفروضة بين الناس إذ يزعمون أنك تحابى فيها، وتؤتي من تشاء من الأقارب وأهل المودة، ولا تراعي العدل في ذلك، قيل: وفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسم أهل مكة في الغنائم استعطافًا لقلوبهم، فضجَّ المنافقون. وقرأ الجمهور: {يَلْمِزُكَ} بكسر الميم مخففة، وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة، عن ابن كثير والحسن: وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهي قراءة المكيِّين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: {يُلَمِّزكُ}، بالتشديد، وروى أيضًا حماد بن سلمة، عن ابن كثير: {يلامزك} وهي مفاعلة من واحدٍ، ثم بيَّن سبحانه أسباب هذا اللَّمْز، وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا، فقال: {فَإِنْ أُعْطُوا}؛ أي: فإن أعطي هؤلاء اللامزون {مِنْهَا}؛ أي: من الصدقات، قدر ما يريدون في الكثرة، ولو بغير حق، كأن أظهروا الفقر كذبًا واحتيالًا {رَضُوا} بما وقع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعيِّبوه، واستحسنوا قسمته، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا}؛ أي: من الصدقات ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[59]

ما يريدونه ويطلبونه {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}؛ أي: فاجئوك بالسخط، وبادروك بالغضب واللمز، وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لا هَمَّ لهم، إلا المنفعة الدنيوية، ونيل حطام الدنيا. وفائدة إذا الفجائية إفادة أنَّ الشرط مفاجىء للجزاء، وهاجمٌ عليه، وقد ثابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء على حد قوله: وَتَخْلُفُ الْفَاءَ إِذَا المُفَاجَأَهْ والأصل فهم يسخطون. 59 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ}؛ أي: ما أعطاهم الله تعالى من الغنائم وغيرها، وذكر (¬1) الله للتعظيم والتنبيه على أنَّ ما فعله الرسول، كان بأمره تعالى، والأصل ما أتاهم الله {و} أعطاهم {رسوله} - صلى الله عليه وسلم -، بقسمة الغنائم والصدقات، كما أره الله تعالى {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}؛ أي: كافينا الله في كل حال {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ}؛ أي: وسيعطينا الله سبحانه {مِنْ فَضْلِهِ} ورزقه بما يرد علينا من الغنائم والصدقات {و} يقسم لنا {رسوله} على وفق ما أمره الله تعالى به، لا يبخس أحدًا منَّا شيئًا يستحقه في شرع الله، وقالوا: {إِنَّا إِلَى} فضل {اللَّهِ رَاغِبُونَ} وفي رزقه طامعون، أي: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم، والآية بأسرها في حيز الشرط، والجواب محذوف، تقديره: لكان خيرًا لهم، أي: لو فعلوا ذلك المذكور .. لكان خيرًا لهم من الطمع في غير مطمع، ومن همز الرسول ولمزه. والخلاصة (¬2): أنهم لو رضوا من الله نعمته، ومن الرسول قسمته، وعلقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم في مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل في القسمة .. لكان في ذلك الخير كل الخير لهم. وفي ذلك إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعًا بكسبه، وما يناله بحق من صدقة ونحوها، مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في الحصول على ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراغي.

[60]

رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية. 60 - ولمَّا لمز (¬1) المنافقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عابوه في قسم الصدقات .. بيَّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية، ومصرفها إليهم، ولا تعلق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بشيءٍ، ولم يأخذ لنفسه منها شيئًا، فلم يلمزونه ويعيبون عليه؟ فلا مطعن لهم فيه، بسبب قسم الصدقات، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ}؛ أي: إنما الزكوات الواجبة مصروفةٌ {لِلْفُقَرَاءِ} وما عطف عليه من سائر الأصناف السبعة، وإنما أداة حصرٍ، وتعريف الصدقات للجنس؛ أي: جنس هذه الصدقات مقصورٌ على هذه الأصناف المذكورة، لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم، وقد اختلف العلماء، هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأول: الشافعي وجماعةٌ من أهل العلم، وذهب إلى الثاني: مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم. الأول منها: الفقراء، جمع فقير وهو (¬2) من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، بأن لم يكن له مالٌ ولا كسبٌ أصلًا، أو كانا له ولا يقعا موقعًا من كفايته، كمن يحتاج إلى عشرة، وكان عنده أربعة وما دونها، مأخوذ من الفقار، كأنه أصيب في فقاره، وهو أسوأ حالًا من المسكين. وثانيهما: ما ذكره بقوله {و} مصروفة لـ {المساكين} جمع مسكين، والمسكين: من له مال، أو كسب، يقع موقعًا من كفايته ولا يكفيه تمام حاجته، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده خمسةٌ، أو ما فوقها إلى تسعة، ومعنى وقوعه موقعًا من كفايته: أن يسد نصف حاجته، وما فوقه دون تمامها، مأخوذٌ من السكون، كأنَّ العجز أسكنه، ويدل عليه قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} وأنه عليه السلام كان يسأل المسكنة، ويتعوذ من الفقر، وقيل: بالعكس، لقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}. ¬

_ (¬1) البيضاوي بزيادة. (¬2) الشوكاني.

والأولى في بيان ماهية المسكين (¬1): ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان" قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا". والصنف الثالث: ما ذكره بقوله {و} مصروفةٌ لـ {العاملين عليها}؛ أي: على الصدقات من جابٍ وقاسم وكاتب وحاشر، وهم (¬2) السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها، ووضعها في جهتها، فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، هذا قول ابن عمر، وبه قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أنَّ الشافعي، يقول: هو أجرة عمل، تتقدر بقدر العمل، والصحيح أن الهاشمي والمطلبيَّ لا يجوز أن يكون عاملًا على الصدقات، لما روي عن أبي رافع أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا من بني مخزوم على الصدقات، فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل لنا الصدقة، وإن مولى القوم منهم". أخرجه الترمذي والنسائي. والصنف الرابع: ما ذكره بقوله {و} مصروفةً لـ {المؤلفة قلوبهم} أي: ومصروفةٌ لأقوام ضعفاء النية في الإسلام، فتستألف قلوبهم على الإسلام بإعطائهم من الزكاة، والمؤلفة: هم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم، أو نصرهم على عدوٍّ لهم، فأقسامها كثيرة مذكورة في كتب الفروع. تنبيهٌ: (¬3) وإنما أضاف في الآية الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بفي الظرفية، للإشعار بإطلاق الملك في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) الفتوحات.

الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة بما إذا صرفت في مصارفها المذكورة، فإذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجعت بخلافه في الأولى، كما هو مقرر في الفقه. والصنف الخامس: ما ذكره بقوله: {و} مصروفة {في} فك {الرِّقَابِ}؛ أي: الأرقاء من الرق. فهو معطوف على قوله {للفقراء}؛ أي فسهمهم مصروف في المكاتبين، ليستعينوا به في أداء النجوم، فيعتقوا كما هو مذهب الشافعي والليث بن سعد، أو مصروفٌ في عتق الرقاب، يشترى به عبيدٌ فيعتقون، كما هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الزكاة. والصنف السادس: ما ذكره بقوله: {و} مصروفةٌ في فك {الغارمين} والمديونين في طاعة الله، من أسر الديون، مأخوذ من الغرم، وهو في اللغة: لزوم ما يشق على النفس، وسمي الدَّين غرمًا، لكونه شاقًّا على الإنسان، والمراد بالغارمين هنا المديونون وهم قسمان: قسم ادَّانوا لأنفسهم في غير معصية، فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مالٌ يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء .. فلا يعطون. وقسم ادَّانوا في المعروف وإصلاح ذات البين، فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء. أما من استدان في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئًا. والصنف السابع: ما ذكره بقوله: {و} مصروفةٌ {في سبيل الله} وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة، والمرابطون للجهاد، فيعطون من الصدقات ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم، وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء، والحق: أن المراد بسبيل الله، مصالح المسلمين العامة، التي بها قوام أمر الدين والدولة، دون الأفراد، كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء، وأسباب الصحة للحجاج، إن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج

الإفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور، والحصون، وعمارة المساجد، ونحو ذلك. والصنف الثامن: ما ذكره بقوله: {و} مصروفةٌ في معونة {ابن السبيل} والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، وهو المنقطع عن بلده في سفر غير المعصية، لا يتيسَّر له فيه شيء من ماله، إن كان له مال، فهو غنيٌّ في بلده، فقير في سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده، وفي ذلك عناية بالسياحة، وتشجيع عليها، على شرط أن يكون سفره في غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وسهولة طرق الوصول في العصر الحاضر، ونقل الأخبار في المؤمن القليل، جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورًا بلا كلفة، فيسهل على الغني في بلده أن يجلب ماله في أي وقتٍ أراد وإلى أي مكان طلب، فلا يعطى حينئذٍ من الصدقات، والله أعلم. وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأن معنى قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} فرض الله سبحانه وتعالى، صرف الصدقات لهؤلاء الأصناف المذكورة، فريضةً كائنةً منه؛ أي: محتمةٌ عنده. والمعنى: أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف، هو حكم لازم، فرضه الله على عباده، ونهاهم عن مجاوزته، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، والتقدير: إنما الصدقات مصروفةٌ هي لهؤلاء الأصناف المذكورة حالة كونها فريضةً من الله سبحانه وتعالى، وقرىء: {فريضة} بالرفع على معنى: تلك الصدقات فريضة من الله تعالى، يعني: أنَّ هذه الأحكام التي ذكرها في هذه الآية فريضةٌ واجبةٌ من الله تعالى، ويجوز قطعه إلى النصب؛ أي: فرض الله هذه الأشياء فريضةً. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بمصالح عباده، وبأحوالهم وبحوائجهم، {حَكِيمٌ} فيما شرعه ودبَّره لهم، تطهيرًا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرًا لخالقهم على ما أنعم به عليهم، كما قال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} لا

يدخل في تدبيره وشرعه نقصٌ ولا خللٌ. فصل في بيان حكمة إيجاب الزكاة على الأغنياء، وصرفها إلى المحتاجين من الناس (¬1) ذكروا في بيان حكمتها ستة أوجه: الوجه الأول: أن المال محبوب بالطبع، وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال، وصفة الكمال محبوبة لذاتها، والمال سبب لتحصيل تلك القدرة، فكان المال محبوبًا بالطبع، فإذا استغرق القلب في حب المال .. اشتغل به عن حب الله - عز وجل -، وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله - عز وجل -، فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال، الذي هو سبب البعد عن الله، فيصير سببًا للقرب من الله - عز وجل -، بإخراج الزكاة منه. الوجه الثاني: أنَّ كثرة المال توجب قسوة القلب، وحبَّ الدنيا، والميل إلى شهواتها ولذاتها، فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة، ليقل ذلك المال الذي هو سبب لقساوة القلب. الوجه الثالث: سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن؛ لأنَّ التكاليف البدنية غير شاقة على العبد، وإخراج المال سياق على النفس، فأوجب الله - عز وجل - الزكاة على العباد، ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال، ليميز بذلك المطيع المخرج لها طيبةً بها نفسه من العاصي المانع لها. الوجه الرابع: أنَّ المال مال الله، والأغنياء خزان الله، والفقراء عيال الله، فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم الأغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله، فيثيب العبد المؤمن المطيع، المسارع إلى امتثال الأمر المشفق على عياله، ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله، وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الخازن المسلم الأمين، الذي ينفذ - وربما قال: يعطي - ما ¬

_ (¬1) الخازن.

أمر به، فيعطيه كاملًا موفرًا، طيبةً به نقسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" متفق عليه. الوجه الخامس: أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال، التي بأيدي الأغنياء، فأوجب الله - عز وجل - نصيبًا للفقراء في ذلك المال تطييبًا لقلوبهم. الوجه السادس: أنَّ المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك .. بقي معطلًا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء، حتى لا يصير ذلك المال معطلًا بالكلية. الأعراب {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}. {لَوْ} حرف شرط {خَرَجُوا}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} {فِيكُمْ} متعلق بـ {خَرَجُوا} أو حال من فاعله تقديره: لو خرجوا حال كونهم مصاحبين لكم {مَا} نافية {زَادُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول والجملة جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {خَبَالًا} مفعول ثان لـ {زادوا} {وَلَأَوْضَعُوا} {الواو} عاطفة و {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} {أوضعوا} فعل وفاعل معطوف على {زَادُوكُمْ} {خِلَالَكُمْ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {أوضعوا} ومفعول {أوضعوا} محذوف تقديره، ولأوضعوا ركائب نمائمهم بينكم، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل النصب حال من فاعل {أوضعوا} أي: لأسرعوا فيما بينكم حال كونهم باغين؛ أي: طالبين الفتنة لكم اهـ. "سمين" {وَفِيكُمْ}: خبر مقدم {سَمَّاعُونَ} مبتدأ مؤخر {لهم} متعلق به والجملة في محل النصب حال من كاف {يَبْغُونَكُمُ} أو من واوه، أو مستأنفة كما مر في مبحث التفسير {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلِيمٌ} خبره {بِالظَّالِمِينَ} متعلق به والجملة مستأنفة. {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ

اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}. {لَقَدِ ابْتَغَوُا} {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ} فعل وفاعل ومفعول {مِنْ قَبْلُ} متعلق به والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب {وَقَلَّبُوا} فعل وفاعل معطوف على {ابْتَغَوُا} {لَكَ} متعلق به {الْأُمُورَ} مفعول به {حَتَّى} حرف جر وغاية {جَاءَ}. فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، {الْحَقُّ}: فاعل {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ}: فعل وفاعل معطوف على {جَاءَ} وجملة {جَاءَ الْحَقُّ} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: واستعمروا على تقليب الأمور إلى مجيء الحق، وظهور أمر الله {وَهُمْ كَارِهُونَ}: مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب حال من الحق؛ أي: حتى جاء الحق حالة كونهم كارهين مجيئه وظهوره. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}. {وَمِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وجملة {يَقُولُ} صلة {مَنْ} الموصولة {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}: مقول محكي لـ {يَقُولُ} وإن شئت قلت: {ائْذَنْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد {لِي} متعلق به والجملة في محل النصب مقول القول {وَلَا} {الواو} عاطفة {لا} ناهية {تَفْتِنِّي} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية وعلامة جزمه سكون النون المدغمة في نون الوقاية، والنون للوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {ائْذَنْ لِي} {أَلَا} حرف تنبيه {فِي الْفِتْنَةِ} متعلق بـ {سَقَطُوا}. {سَقَطُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة {إنَّ} حرف نصب {جَهَنَّمَ} اسمها {لَمُحِيطَةٌ} {اللام} حرف ابتداء {محيطة} خبر {إن} {بِالْكَافِرِينَ} متعلق به، والجملة الاسمية معطوفة على جملة

{سَقَطُوا} وقال أبو السعود: هذه الجملة وعيد لهم على ما فعلوا، معطوفة على الجملة السابقة، داخلة تحت التنبيه اهـ. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}. {إِن} حرف شرط {تُصِبْكَ حَسَنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {تَسُؤْهُمْ} فعل ومفعول، مجزوم بـ {إِن} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {حَسَنَةٌ} وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم على كونه فعل شرط لها في {يَقُولُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وجملة {إِن} الشرطية معطوفة على جملة {إِن} الأولى {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} مقول محكي لـ {يَقُولُوا} وإن شئت قلت: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} فعل وفاعل ومفعول {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {أَخَذْنَا} والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُوا} {وَيَتَوَلَّوْا}: فعل وفعل معطوف على {يَقُولُوا} {وَهُمْ فَرِحُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الضمير في {يَقُولُوا} و {وَيَتَوَلَّوْا} لا من الأخير فقط، لمقارنة الفرح لهما معًا. ذكره أبو السعود. {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لَنْ يُصِيبَنَا} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {لَنْ يُصِيبَنَا} ناصب وفعل ومفعول {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل {يُصِيبَنَا} والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول {كَتَبَ اللَّهُ} فعل وفاعل {لنا} متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كتبه الله لنا {هُوَ مَوْلَانَا} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول {وَعَلَى اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {يتوكل} قدم عليه لإفادة الحصر {فَلْيَتَوَكَّلِ} {الفاء}: عاطفة سبببية

كما في الجمل، و {اللام}: لام الأمر {يتوكل المؤمنون} فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر والجملة معطوفة على جملة {هُوَ مَوْلَانَا}. {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ} حرف للاستفهام التوبيخي الإنكاري. {تَرَبَّصُونَ}: فعل وفاعل. {بِنَا} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}. {وَنَحْنُ} مبتدأ {نَتَرَبَّصُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين {بِكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية، على كونها مقولًا لـ {قُل} {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ} ناصب وفعل ومفعول وفاعل {بِعَذَابٍ} متعلق به {مِنْ عِنْدِهِ} جار ومجرور صفة لـ {عذاب} والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، والتقدير: ونحن نتربص بكم إصابة الله إياكم بعذاب من عنده {أَوْ بِأَيْدِينَا} جار ومجرور، معطوف على قوله {بِعَذَابٍ} {فَتَرَبَّصُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة، كما في الشوكاني؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلته لكم، وأردتم بيان ما هو اللائق بكم .. فأقول لكم {تربصوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول لـ {قُل} {إِنَّا} ناصب واسمه {مَعَكُمْ} ظرف متعلق بما بعده {مُتَرَبِّصُونَ} خبر {إنّ}، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}.

{قُلْ} فعل أمر، وفعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أَنْفِقُوا}: إلى آخر الآية، مقول محكى، وإن شئت قلت: {أَنْفِقُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}: مصدران في محل النصب على الحال من فاعل {أَنْفِقُوا} ولكنه في تأويل المشتق؛ أي طائعين أو كارهين {لَنْ يُتَقَبَّلَ} ناصب وفعل {مِنْكُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الإنفاق المفهوم مما قبله، والجملة في محل النصب مقول القول {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه {قَوْمًا} خبره {فَاسِقِينَ} صفته، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول القول، مسوقٌ لتعليل ما قبلها. {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية {ما} نافية {مَنَعَهُمْ} فعل ومفعول أول {أَن} حرف نصب {تُقْبَلَ} فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ {أَن}. {مِنْهُمْ} متعلق به. {نَفَقَاتُهُمْ} نائب فاعل {تُقْبَلَ} والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {منع} والتقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم منهم، فإن منع يتعدى لمفعولين بنفسه، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، وهو: (من) أو (عن)، وهنا تعدى بنفسه إليهما، وإن كان حذف حرف الجر مع أن، وأنَّ، مقيسًا مطردًا، ولذا قدره بعضهم هنا، وقال أبو البقاء: {أَنْ تُقْبَلَ} بدل اشتمال، من (هم) في منعهم. اهـ "شهاب". {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {كَفَرُوا} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به {وَبِرَسُولِهِ} معطوف على {بِاللَّهِ} وكرر الباء إشعارًا إلى تعدد كفرهم، وجملة {كَفَرُوا} في محل الرفع خبر {أَن} وجملة {أَن} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {منع} تقديره: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم باللهِ وبرسوله، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}. {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع، معطوفة على جملة {كَفَرُوا} على كونها خبرًا لـ {أَن} {إِلَّا}: أداة استثناء

مفرغ {وَهُمْ كُسَالَى} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَأْتُونَ} {ولا ينفقون} فعل وفاعل في محل الرفع، معطوف على {كَفَرُوا} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {وَهُمْ كَارِهُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من فاعل {يُنْفِقُونَ} والمعنى: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم باللهِ ورسوله، وكسلهم في إتيان الصلاة، وكونهم كارهين الإنفاق. اهـ "زاده". {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}. {فَلَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكورة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك {لا} ناهية جازمة {تُعْجِبْكَ} فعل ومفعول {أَمْوَالُهُمْ} فاعل ومضاف إليه {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّمَا}: أداة حصر {يُرِيدُ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لِيُعَذِّبَهُمْ} {اللام} حرف جر زائد لتقوية العامل {يعذبهم} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {بِهَا} متعلق به، وكذا {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إنما يريد الله تعذيبه إياهم بها في الحياة الدنيا، وكذا في الآخرة {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}: فعل وفاعل، معطوف على {يعذب} {وَهُمْ كَافِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من ضمير {أَنْفُسُهُمْ}؛ لأن المضاف جزء المضاف إليه. {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}. {وَيَحْلِفُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِاللَّهِ} متعلق به {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {لَمِنْكُمْ} {اللام}: حرف ابتداء {مِنْكُمْ} جار ومجرور، خبر {إن} وجملة {إن} جواب القسم {وَمَا}: نافية {هُم} مبتدأ {مِنْكُمْ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في خبر {إن}

{وَلَكِنَّهُمْ} ناصب واسمه {قَوْمٌ} خبره، وجملة {يَفْرَقُونَ} صفة {قَوْمٌ} وجملة {لكن} جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}. {لَوْ}: حرف شرط {يَجِدُونَ مَلْجَأً}: فعل وفاعل ومفعول به لأن وجد هنا بمعنى: أصاب، فيتعدى إلى مفعول واحد {أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}: معطوفان على ملجأ، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ} {لَوَلَّوْا} {اللام} رابطة لجواب {لو} {وَلَّوْا} فعل وفاعل {إِلَيْهِ}: متعلق به، والجملة جواب {لَوْ} وجملة {لَوْ} مستأنفة {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {يَجْمَحُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {ولَّوا}. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}. {وَمِنْهُمْ} جار ومجرور، خبر مقدم {مَنْ} اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} وما بينهما، اعتراض {يَلْمِزُكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول {فِي الصَّدَقَاتِ} متعلق به {فَإِنْ} {الفاء}: تفصيلية {إنْ} حرف شرط {أُعْطُوا} فعل ونائب فاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها {مِنْهَا} متعلق به {رَضُوا} فعل وفاعل والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جواب شرط لها، وجملة {إن} الشرطية جملة تفصيلية لجملة {يَلْمِزُكَ} لا محل لها من الإعراب {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة {إن} حرف شرط {لَمْ} حرف جزم {يُعْطَوْا} فعل ونائب فاعل، مجزوم بـ {لَمْ} {مِنْهَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها {إذَا} فجائية، قائمة مقام فاء الجزاء في ربط الجواب وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية، كما قال ابن مالك: وَتَخْلُفُ الفَاءَ إِذَا المُفَاجَأَةْ

{هُمْ}: مبتدأ وجملة {يَسْخَطُونَ}: خبره والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {وَإِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إنْ} الأولى. {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}. {وَلَوْ} {الواو} استئنافية، {لو}: حرف شرط {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {رَضُوا} خبره، وجملة {أن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف؛ لأن {لو} الشرطية لا يليها إلا الفعل، تقديره: ولو ثبت رضاؤهم {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به {رَضُوا} {آتَاهُمُ اللَّهُ} فعل وفاعل ومفعول أول {وَرَسُولُهُ} معطوف على الجلالة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما آتاهم الله إياه؛ لأنَّ آتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط، الضمير المحذوف، وجواب {لو} محذوف، تقديره: لكان خيرًا لهم، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة {وَقَالُوا} فعل وفاعل، معطوف على {رَضُوا} {حَسْبُنَا اللَّهُ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {حَسْبُنَا} خبر مقدم {اللَّهُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب، مقول {قالوا} {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ} فعل ومفعول أول، وفاعل {مِنْ فَضْلِهِ} في محل المفعول الثاني، {وَرَسُولُهُ} معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا {إِنَّا} ناصب واسمه {إِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {رَاغِبُونَ} {رَاغِبُونَ} خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب، مقول {قالوا} وفي "الفتوحات": هاتان الجملتان، أعني قوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقوله: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} كالشرح لقوله: {حَسْبُنَا اللهُ}، فلذلك لَمْ يتعاطف؛ لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}.

{إِنَّمَا} أداة حصر {الصَّدَقَاتُ} مبتدأ {لِلْفُقَرَاءِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة مستأنفة {وَالْمَسَاكِينِ}: معطوف على الفقراء {وَالْعَامِلِينَ} معطوف على الفقراء أيضًا {عَلَيْهَا} متعلق به {وَالْمُؤَلَّفَةِ}: معطوف على الفقراء {قُلُوبُهُمْ}: نائب فاعل للمؤلفة {وَفِي الرِّقَابِ}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ}، {وَالْغَارِمِينَ}: معطوف على {الرِّقَابِ} {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور، معطوف {لِلْفُقَرَاءِ} أيضًا {وَابْنِ السَّبِيلِ}: معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ} {فَرِيضَةً}: حال من الضمير المستكن في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} ولكن بعد تأويلها بمشتق، تقديره: إنما الصدقات مصروفة هي للفقراء ومن بعدهم، حالة كونها مفروضة لهم، من الله تعالى {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لفريضة. أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف. تقديره: فرض الله ذلك لهم فريضة كائنةً منه {وَاللَّهُ}: مبتدأ {عَلِيمٌ}: خبر أول له {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {إِلَّا خَبَالًا}، وأصل الخبال: اضطراب ومرض يؤثر في العقل، كالجنون. اهـ "خازن" وقيل: الخبال: الاضطراب في الرأي، والفساد في العمل، كضعف القتال، {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: يقال: وضعت الناقة، تضع، إذا أسرعت في سيرها، وأوضعتها أنا اهـ "سمين" ويقال: وضع الرجل، إذا عدا مسرعًا، وأوضع راحلته، إذا حملها على الإسراع، والخلال: جمع خلل، كجمل وجمال، وخلال الأشياء ما يفصل بينها من فروج ونحوها، وفي الشوكاني الإيضاع: سرعة السير، ومنه قول ورقة بن نوفل: يَا لَيتَنِيْ فِيْهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيْهَا وَأَضَعْ ويقال: أوضع البعير إذا أسرع السير، وقيل: الإيضاع سير الخبب، والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال؛ أي: الفرج التي تكون بين الصفوف {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} والفتنة: التشكيك في الدين، والتخويف من الأعداء، وقيل: الفتنة هنا الشرك {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أي: ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم

{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} يقال: قلب لك الأمر، إذا اجتهد فيه، ودبر لك فيه بالمكر والحيل والمكايد، وتقليب الشيء: تصريفه في كل وجه من وجوهه، والنظر في كل ناحية من أنحائه، والمراد: أنهم دبروا الحيل والمكايد، ودوروا الأراء في كل وجه لإبطال دينك. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} والحسنة: كل ما يسر بها صاحبها، النصر والغلبة على الأعداء {المصيبة} كل ما يصيبك من المكاره {الْحُسْنَيَيْنِ} تثنية الحسنى، مؤنث الأحسن {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} مصدران، بمعنى: المشتق {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} والإعجاب: السرور بالشيء، مع نوع من الافتخار به، مع اعتقاد أنه ليس لغيره مثله اهـ "خازن"، وهذا المعنى، إنما يناسب في إعجاب الشخص بمال نفسه، يقال: أعجب بماله، أو ولده؛ أي: فرح به، وما هنا في إعجاب المرء بمال غيره، والمعنى عليه: لا تستحسن أموالهم وأولادهم، ولا تخبر برضاك بها. وفي "المصباح": ويستعمل التعجب على وجهين: أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه: الاستحسان والإخبار عن رضاه به. والثاني: ما يكرهه، ومعناه: الإنكار والذم له، ففي الاستحسان، يقال: أعجبني - بالألف - وفي الذم والإنكار عجبت، وزان تعبت. اهـ {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ} يقال: زهقت الروح، إذا خرجت من باب ذهب {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} في "المختار" فرق فرقًا - من باب تعب - إذا خاف، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أفرقته اهـ. والفَرَق بالتحريك: الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} والملجأ المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به، كحصن أو قلعةٍ، أو جزيرة في بحرٍ، أو قنةٍ في جبل {أَوْ مَغَارَاتٍ} والمغارات، جمع مغارة: وهي الكهف في الجبل، يغور فيه الإنسان ويستتر {أَوْ مُدَّخَلًا} والمدخل، بالتشديد: السرب في الأرض، يدخله الإنسان بمشقة، وفي "السمين" {مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ} الملجأ: الحصن، وقيل: المهرب، وقيل الحرز، وهو مفعل، من لجأ إليه، يلجأ؛ أي: انحاز، يقال: ألجأته إلى كذا؛ أي: اضررته إليه فالتجأ،

والملجأ يصلح للمصدر والزمان والمكان، والظاهر منها هنا المكان، والمغارات جمع مغارة، وهي مفعلة من غار يغور، فهي كالغار في المعنى، وقيل: المغارة: السرب في الأرض كنفق اليربوع، والغار: الثقب في الجبل، وهذا من أبدع النظم، ذكر أولًا الأمر الأعم، وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبال، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السروب، وهي التي عبر عنها بالمدخل. اهـ {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}؛ أي: يسرعون، والجماح: السرعة التي تتعذر مقاومتها، وفي "المصباح": جمح الفرس براكبه، يجمح بفتحتين، من باب خضع جماحًا بالكسر، وجموحًا استعصى حتى غلبه، فهو جموح بالفتح، وجامح يستوى فيه المذكر والمؤنث اهـ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} اللمز: العيب والطعن في الوجه، والهمز: الطعن في الغيبة، وفي "المصباح": لمزه لمزًا - من باب ضرب - إذا عابه. وبه قرأ السبعة: ومن باب قتل لغة، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. اهـ فهو أخص من الغمز إذ هو الإشارة بالعين ونحوها، سواء كان على وجه الاستنقاص أو لا، وأما اللمز: فهو خاص بكونه على وجه العيب، وفي "السمين" قرأ العامة: يلمزك بكسر الميم، من لمزه يلمزه إذا عابه، وأصله الإشارة بالعين وغيرها، وقال الأزهري: أصله الدفع، يقال: لمزته؛ أي: دفعته. وقال الليث: هو الغمز في الوجه. ومنه {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}؛ أي: كثير هذين الفعلين، وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة وغيرهما: بضمها، وهي لغتنا في المضارع اهـ. {إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} يقال: رغبه ورغب فيه، إذا أحبه، ورغب عنه إذا كرهه، ورغب إليه إذا طلبه وتوجه إليه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} جمع صدقة: وهي الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، سميت صدقة لإشعارها بصدق باذلها في الإيمان. والفقير: من لا مال له يقع موقعًا من كفايته، فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته. والمسكين: من له مال قليل يقع موقعًا من كفايته، ولا يكفيه تمامها، كما مر في بحث التفسير، وقيل بالعكس فيهما. والعامل عليها: هو الذي يولِّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}:

هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام، أو التثبيت فيه، {وَفِي الرِّقَابِ}؛ أي: وللإنفاق في إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق {وَالْغَارِمِينَ}؛ أي: الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أدائها، من الغرم، وأصله لزوم شيء شاق، ومنه قيل للعشق: غرام، ويعبر به عن الهلاك، في قوله تعالى: {إنَّ عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا} وغرامة المال فيها مشقة عظيمة اهـ "سمين" {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: وفي الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى في طاعة الله وسبل الخيرات، كالغزاة، والحجاج الذين انقطعت بهم السبل، ولا مورد لهم من المال، وطلبة العلم، والفقراء {وَابْنِ السَّبِيلِ}: هو المسافر الذي بعد عن بلده، ولا يتيسر له إحضار شيء من ماله، فهو غني في بلده فقير في سفره {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}؛ أي فرض الله ذلك فريضة، ليس لأحد فيها رأي، والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الركائب المسماة بالإيضاع، وهو إسراع سير البعير، ثم استعير لسرعة الإفساد لفظ الإيضاع، ثم اشتق منه أوضعوا، بمعنى: أسرعوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وأصل الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم، وأقيم المضاف إليه مقامها، لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. قاله الطيبي. اهـ زكريا. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} حيث شبه وقوعهم في جهنم بإحاطة العدو بالجند، أو السوار بالمعصم. ومنها: جمع المؤكدات في هذه الجملة إنَّ واللام واسمية الجملة للدلالة على الثبات والدوام. ومنها: ما يسمى بالمقابلة، التي هي من المحسنات البديعية في قوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ...} الآية، وفي قوله: {قُل هَل

تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ...} الآية؛ لأنه في معنى: ونحن نتربص بكم إحدى السوءيين. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}. ومنها: الطباق في قوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، وبين الرضا والسخط في قوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}. ومنها: القصر في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ لأنَّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر، وفيه أيضًا إظهار الاسم الجليل مكان الإضمار، لتربية الروعة والمهابة. ومنها: تكرار لفظ الجلالة في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية. ومنها: ذكر الأعم ثم الأخص في قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} حيث ذكر أولًا الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر المغارات التي يختفى فيها في أعلى الأماكن. وهي الجبال، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السروب التي عبر عنها بالمدخل. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ...} الآية، ففي الآية قصر الموصوف على الصفة؛ أي: الصدقات مقصورة على الاتصاف، بصرفها لهؤلاء الثمانية، لا تتجاوز هذه الصفة إلى أن تتصف بصرفها لغيرهم. ومنها: الزيادة والحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية ¬

_ (¬1) المراغي.

لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن من دلائل نفاقهم الطعن في أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، كإيذاء الذين لمزوه في قسمة الصدقات .. أردف ذلك بذكر من طعن في أخلاقه وشمائله الكريمة، بقولهم: إن محمدًا أذنٌ، نحلف له فيصدقنا. قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أفعال المنافقين الخبيثة، وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة .. أردف ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم، وما أعدَّه لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان نَبْتَلُ بن الحارث يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ف يجلس إليه، فيسمع منه وينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...} الآية. قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، قال: قال رجل في غزوة تبوك، في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا، ولا أك ذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحجارة تنكبه، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟! ". ثم أخرج من وجه آخر، عن ابن عمر نحوه، وسمى الرجل عبد الله بن أبي، وأخرج عن كعب بن مالك، قال مخشيُّ بن حمير - بالتصغير -: لوددت أني ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[61]

أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مئة، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاؤوا يعتذرون، فأنزل الله {لَا تَعْتَذِرُوا ...} الآية، فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمقتله أحد، فقتل يوم اليمامة لا يعلم مقتله إلا من قتله، وأخرج ابن جرير عن قتادة أن ناسًا من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات، فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فأتاهم، فقال: "قلتم كذا وكذا"، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 61 - {وَمِنْهُمُ}؛ أي: ومن المنافقين {الذين يؤذون النبي}؛ أي: جماعة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقوالهم وأفعالهم، ويعيبونه {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} سامعة؛ أي: يسمع من كل أحد ما يقوله، ويقبله، ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول، لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغي قبوله، وهذا عيب في الملوك والرؤساء، لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاملهم بأحكام الشريعة، كما يعامل عامة المؤمنين، بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له. قال الجوهري (¬1): يقال رجل أذن، إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع، ومرادهم: أقمأهم الله تعالى أنهم إذا آذوا النبي، وبسطوا فيه ألسنتهم، وبلغه ذلك .. اعتذروا له، وقبل ذلك منهم؛ لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه، أنه: أذن مبالغةً؛ لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأنَّ جملته أذن سامعةٌ، ونظيره قولهم للربيئة؛ أي الجاسوس: عين، وإيذاؤهم له هو قولهم {هُوَ}؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -، {أُذُنٌ} سامعةٌ، ليس له ذكاءٌ؛ لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

يقال له، ولا يفرق بين الصحيح والباطل، اغترارا منهم بحلمه عنهم، وصفحه عن جناياتهم، كرمًا وحلمًا وتغاضيًا، ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد، نعم هو {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} لا أذن شرٍّ، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إذا سمعه. أي (¬1): أنه أذن، ولكنه نعم الأذن؛ لأنه أذن خير، لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق، وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن في سماع الباطل، كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه، كما هو شأن الملوك والزعماء، الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه. وقرأ جمهور القراء (¬2): {هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} بالتثقيل، وقرأ نافع: {هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} بإسكان الذال فيهما. وقرأ الجمهور أيضًا (¬3): {أذُنُ خير} بالإضافة، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبا بكر عن عاصم في رواية: {قل أذنٌ خير} وجوزوا في {أُذُنٌ}، أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و {خَيْرٌ} خبر ثان لذلك المحذوف؛ أي: هو أذن هو خير لكم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلقكم، وأن يكون {خيرٌ} صفةً لـ {أذن}؛ أي: أذنٌ ذو خير لكم. ثم بيَّن الله سبحانه كونه - صلى الله عليه وسلم -، أذن خير بقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}؛ أي: يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة، وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير غيركم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، ويقبل قولهم فيما يخبرونه، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدِّثونه به، وفي هذا إيماءٌ إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم، ولا يصدقهم في أخبارهم، وإن وكدوها بالأيمان اغترارًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط.

بلطيفه وأدبه - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان لا يواجه أحدًا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه. وعدى (¬1) فعل الإيمان بالباء إلى الله؛ لأنه قصد به التصديق بالله، الذي هو ضد الكفر به، وإلى المؤمنين باللام؛ لأنه قصد به السماع من المؤمنين أخبارهم، وأن يسلم لهم ما يقولونه، ويصدقه لكونهم صادقين عنده، ألا ترى إلى قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} كيف ينبىء عن الباء. {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}؛ أي: وهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة للذين آمنوا إيمانًا صحيحًا صادقًا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسر الكفر نفاقًا، إذ هو نقمة عليه في الدارين. وإنما قال منكم (¬2)؛ لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فبيَّن الله سبحانه وتعالى كذبهم بقوله: إنه رحمة للمؤمنين المخلصين، لا للمنافقين، وقيل: في كونه - صلى الله عليه وسلم - رحمةً؛ لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر، ولا ينقب عن أحوالهم، ولا يهتك أسرارهم. وقرأ الجمهور (¬3): {وَرَحْمَةٌ} بالرفع عطفًا على {أُذُنٌ}، والمعنى عليه: هو أنه أذن خيرٍ، وأنه هو رحمة للمؤمنين، وقرأ حمزة وأبي وعبد الله والأعمش: {ورحمةٍ} بالجر عطفًا على {خيرٍ}، والمعنى عليه: إنه أذن خير، وأذن رحمةٍ فالجملة من يؤمن ويؤمن اعتراضٌ بين المتعاطفين، قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيدٌ، يعني قراءة الجر؛ لأنه قد تباعد بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض اهـ وقرأ ابن أبي عبلة: {رحمةً} بالنصب على أنه مفعول لأجله، لفعل محذوف دلَّ عليه أذن خير؛ أي: يأذن لكم ويستمع رحمةً لكم، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

[62]

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} - صلى الله عليه وسلم -، بالقول، أو بالفعل {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع شديد الإيلام في الدنيا والآخرة، وأبرز (¬1) اسم الرسول ولم يأت به ضميرًا على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيمًا لشأنه، وجمعًا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين، من النبوة والرسالة، وإضافته زيادة في تشريفه، وحتَّم على من آذاه بالعذاب الأليم، وحقَّ لهم ذلك {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ} عام، يندرج فيه هؤلاء الذين آذوه هذا الإيذاء، وغيرهم. وفي هذه الآية (¬2)، وما في معناها: دليلٌ على أن إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفرٌ إذا كان فيما يتعلق برسالته؛ لأن ذلك ينافي الإيمان، وأما إيذاؤه في شؤونه البشرية، والعادات الدنيوية، فحرام لا كفر، كإيذاء الذين كانوا يطيلون الجلوس في بيوته لدى نسائه بعد الطعام، وفيهم نزل {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} وإيذاؤه (¬3) في بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كإيذائه في حال حياته، كالخوض في أبويه، وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيًّا، فالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - مانعٌ من تصدي المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله وسلامه عليه إيذاءً ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب، ومعصيةٌ من أعظم المعاصي. 62 - {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: يحلف المنافقون ويقسمون باللهِ {لَكُمْ} أيها المؤمنون على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، من طعن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطعن المؤمنين {لِيُرْضُوكُمْ} أيها المؤمنون، بالأيمان الكاذبة، وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى المؤمنين .. جاء المنافقون، فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[63]

عنهم، قاصدين بهذه الإيمان الكاذبة أن يرضوا رسول الله، ومن معه من المؤمنين، فنعى الله ذلكم عليهم، وقال؛ {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالإرضاء من إرضاء المؤمنين بالأيمان الكاذبة، فإنهم لو اتقوا الله، وآمنوا به، وتركوا النفاق .. لكان ذلك أولى لهم، وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة، وإيفاء حقوقه - صلى الله عليه وسلم - في باب الإجلال مشهدًا ومغيبًا، لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة. وإفراد الضمير في قوله (¬1): {يُرْضُوهُ} إما للتعظيم للجناب الإلهيِّ بإفراده بالذِّكر، أو لكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله، فإرضاء الله إرضاء لرسوله، أو المراد: الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، كما قال سيبويه: ورجحه النحاس، أو لأن الضمير موضوع موضع اسم الإشارة، فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد، أو الضمير راجعٌ إلى المذكور، وهو يصدق عليهما، وقال الفراء: المعنى: ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام، كما تقول: ما شاء الله، وشئت، وفي التعبير بـ {يُرْضُوهُ} دون يرضوهما، إشعارٌ بأن إرضاء رسوله، هو عين إرضائه تعالى؛ لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وجواب قوله: {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} محذوف، تقديره: إن كانوا مؤمنين .. فليرضوا الله ورسوله بالطاعة، فإنهما أحق بالإرضاء؛ أي إن كان هؤلاء المنافقون مصدِّقين بوعد الله، ووعيده في الآخرة، كما يدعون ويحلفون .. فليرضوهما، وإلَّا كانوا كاذبين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرًا معلومًا باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيوحي إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين، وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا وفي كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصةٍ الملوك والوزراء، الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضي ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل، وأقذر السبل، 63 - ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته ¬

_ (¬1) الشوكاني.

بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا}؛ أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون، وهو استفهام، معناه التوبيخ والإنكار، كما ذكره أبو حيان {أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن والحال {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ}؛ أي: من يخالف الله {وَرَسُولَهُ} - صلى الله عليه وسلم - بتعدي حدوده، أو بلمز الرسول في أعماله، كقسمة الصدقات، وفي أخلاقه وشمائله، كقولهم: هو أُذُنُ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} أي: فحق أن له نار جهنم؛ أي، فكون نار جهنم له أمر ثابت؛ أي: فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة، حالة كونه {خَالَدًا فِيها} أبدًا لا مخلص له منها {ذَلِكَ} العذاب الخالد هو {الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} والذل البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره، والهوان الذي يصغر دونه كل خزي وذل في الدنيا وهو ثمرات نفاقهم. وقرأ الحسن والأعرج (¬1): {ألم تعلموا} بالتاء الفوقية على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمناقين، قيل: ويحتمل أن يكون خطابًا للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهام التقرير. وإن كان خطابًا للرسول .. فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادة الله تعالى، وقرأ الباقون: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} بالياء التحتية وفي مصحف أُبيٍّ {ألم تعلم} قال ابن عطية: على خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. والأولى أن يكون خطابًا للسامع. قال أهل المعاني: {ألم تعلم} الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئًا مدةً وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم، فقال له: ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة، والمدة المديدة، وحسن ذلك؛ لأنه طال مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - معه، وكثر منه التحذير عن معصية الله، والترغيب في طاعة الله، وقرأ الجمهور: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} بفتح الهزة على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فحق أن له نار جهنم، أو فالواجب أن له النار، والفاء رابطةٌ جواب الشرط، وقرأ ابن أبي عبلة: {فإن له} بالكسر في الهمزة، حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربية قوي؛ لأن الفاء تقتضي الاستئناف والكسر مختار؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار بخلاف الفتح. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[64]

64 - {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}؛ أي: يخاف المنافقون، قيل: هو خبر ليس بأمر. وقال الزجاج: هو خبر بمعنى الأمر، فهو على تقدير ليحذر المنافقون {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ}؛ أي على المؤمنين، وقرىء بالتخفيف وبالتشديد {سُورَةٌ} من سور القرآن {تُنَبِّئُهُمْ}: أي: تخبر المؤمنين {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: بما في قلوب المنافقين، من النفاق والحسد والعداوة للمؤمنين، وذلك أن المنافقين كانوا فيما بينهم يذكرون المؤمنين بسوءٍ ويسترونه، ويخافون الفضيحة، ونزول القرآن في شأنهم. ويجوز (¬1) أن تكون الضمائر للمنافقين؛ فإنَّ النازل فيهم كالنازل عليهم، من حيث إنه مقروءٌ، ومحتجٌ به عليهم. والمعنى: يخاف المنافقون أن ينزل في شأنهم سورة تفضحهم بإظهار ما في قلوبهم للمؤمنين، وذلك يدل على ترددهم أيضًا في كفرهم، وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ. والخلاصة: أنهم يحذرون أن تنزل سورة في شأنهم، وبيان حالهم، فتكون في ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم. ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلِ} لهم يا محمد {اسْتَهْزِئُوا} أمر تهديد على حد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}؛ أي: افعلوا الاستهزاء بالله وبرسوله وبآياته {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مُخْرِجٌ} ومظهر {مَا تَحْذَرُونَ} من إنزال سورة تهتك ستركم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم، والمعنى؛ أي: قل لهم استهزئوا، فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين أمركم، من قرآن أو وحي. 65 - ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد على فعلم، وكونه سببًا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبآت سرائرهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن سألت يا محمد هؤلاء المستهزئين عما قالوه من الطعن في الدين، ¬

_ (¬1) البيضاوي،

وثلب المؤمنين، بعد أن يبلغ إليك ذلك، ويطلعك الله عليه {لَيَقُولُنَّ} معتذرين عما قالوا {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ولم نكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين؛ أي: إنما كنا نخوض ونتحدث بالحديث الباطل الذي لا معنى له، نقطع به عنا الطريق كحديث الركب المسافرين في الطريق لتقصر عليه المسافة، {وَنَلْعَبُ}؛ أي: نضحك بما نقول، ولا نقصد معناه. أي: إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها، بأنهم لم يكونوا جادين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول، لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوًا ولعبًا كفرٌ محضٌ، كما قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)} وقال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)}. ويدخل في عموم الآية المبتدعون في الدين، والذين يخوضون في الداعين، إلى الكتاب والسنة، ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات .. فاطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال: "احبسوا على هؤلاء الركب"، فأتاهم، فقال: "قلتم كذا، وقلتم كذا"، قالوا: يا نبيَّ الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يجيب عنهم، فقال: {قُلِ} لهم يا محمد {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} والاستفهام للتقريع والتوبيخ حقه الدخول على كان، وأثبت وقوع ذلك منهم، ولم يعبأ بإنكارهم؛ لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم، حيث جعل المستهزأ به واليًا لحرف الاستفهام؛ أي: أكنتم تستهزئون، وتسخرون بالله؛ أي: بفرائض الله وحدوده وأحكامه وبآياته؛ أي: وبكتابه وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: كيف تقدمون على الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، ولا يستقيم ذلك

[66]

لمن له عقل؛ أي: قل لهم (¬1): إن الخوض واللعب في صفات الله وشرعه وآياته المنزلة ورسوله استهزاء بها، إذ كل ما يلعب به، فهو مستخف به، وكل مستخف به، فهو مستهزأ به. وقصارى ذلك: ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله، فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سبل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه، وتلعبون به غير هذا، ثم بعدئذٍ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل، وتدلون بها بلا خوف ولا خجل؛ 66 - {لَا تَعْتَذِرُوا} بالاعتذارات الباطلة، فلن نقبلها منكم؛ أي لا تذكروا هذا العذر الباطل، لدفع هذا الجرم العظيم، فإنَّ ذلك غير مقبول منكم؛ لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون، فاعتذاركم إقرارٌ بذنبكم، فهو كما يقال: عذر أقبح من الذنب. ونقل الواحدي عن أئمة اللغة، أن معنى الاعتذار هو أثر الذنب وقطعه، من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس واعتذرت المياه إذا انقطعت، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التصريف؛ أي: لا تعتذروا فـ {قَدْ كَفَرْتُمْ}؛ أي: أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور، {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}؛ أي: بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}؛ أي: إن نعف عن جماعة منكم هذا الاستهزاء، لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشي بن حمير {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} أخرى منكم لإجرامهم وإصرارهم عليه، {بـ} سبب {أنهم كانوا مجرمين}؛ أي: مصرين مستمرين على الإجرام والنفاق، لم يتوبوا منه، قال الزجاج: الطائفة: الجماعة، قال ابن الأنباري: ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب. وخلاصة ذلك: أن من تاب من كفره ونفاقه .. عفي عنه، ومن أصر عليه، وأظهره .. عوقب به. روي (¬2): أن الطائفتين كانوا ثلاثة، فالواحد: طائفة، وهو جهير بن حمير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[67]

والاثنان: طائفة، وهما وديعة بن جذام وجدُّ بن قيس، فالذي عفى عنه جهير بن حمير؛ لأنه كان ضحك معهم، ولم يستهزىء معهم، فلما نزلت هذه الآية، تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية، تقشعر منها الجلود، وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلًا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه. وقرأ زيد بن ثابت (¬1) وأبو عبد الرحمن وزيد بن علي وعاصم من السبعة: {إِنْ نَعْفُ} بالنون {نعذب} بالنون {طائفة} بالنصب، ولقيني شيخنا الأديب الكامل أبو الحكم، مالك بن المرحل المالقي بغرناطة، فسألني: قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباع؟ فقلت: قراءة عاصم، فأنشدني: لِعاصِمٍ قِرَاءَةٌ لِغَيْرِهَا مُخَالِفَهْ ... إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَهْ وقرأ باقي السبعة {إن تُعفَ عن طائفة تعذب طائفة} مبنيًّا للمفعول، وقرأ الجحدري: {إن يَعف} {يُعذب} مبنيًّا للفاعل فيهما؛ أي: إن يعف الله، وقرأ مجاهد {إن تعف} بالتاء مبنيًّا للمفعول {تعذب} مبنيًّا للمفعول بالتاء أيضًا، قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير؛ لأن المسند إليه الظرف، كما تقول سير بالدابة، ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة، فأنث لذلك، وهو غريب، والجيد قراءة العامة: {إن يعف عن طائفة} بالتذكير و {تعذب طائفة} بالتأنيث. انتهى. 67 - {الْمُنَافِقُونَ} قيل (¬2) كانوا ثلاث مئة {وَالْمُنَافِقَاتُ} وكنَّ مئة وسبعين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}؛ أي: متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة؛ أي: أنَّ (¬3) أهل النفاق رجالًا ونساءً يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، كما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}. وقال الشاعر: تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِه العُصَيَّهْ ... هَلْ تَلِدُ الحَيَّةُ إلَّا حَيَّهْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[68]

ثُم بين ذلك التشابه فقال: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}؛ أي: إن بعضهم يأمر بعضًا بالمنكر، وهو كل (¬1) قبيح عقلًا أو شرعًا كالكذب والخيانة، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}؛ أي: وينهى بعضهم بعضًا عن المعروف، وهو كل حسن عقلًا أو شرعًا كالجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال، كما حكى الله تعالى عنهم، بقوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن كل خير، من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والقبض كناية عن الشح، كما أن البسط كناية عن الكرم، واقتصر (¬2) من منكراتهم الفعلية في هذه الآية على الامتناع عن البذل؛ لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالةً على النفاق، كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى دلائل الإيمان {نَسُوا اللَّهَ}؛ أي: نسوا وتركوا أن يتقربوا إليه بفعل، ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولم يكن يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان {فَنَسِيَهُمْ}؛ أي: تركهم من رحمته وفضله، والنسيان هنا الترك؛ لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، أو المعنى: فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه، وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة. ثم حكم عليهم بالفسق؛ أي: الخروج عن طاعته إلى معاصيه فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبل الشيطان {هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي؛ الكاملون في الفسق، الذي هو الانسلاخ من كل خير؛ أي: هم أكثر الناس فسوقًا وخروجًا من جميع الفضائل، حتى من الكفار، الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم في الفسوق والخروج من طاعة الله، والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة، 68 - ثم بين سبحانه ما أعدَّ لهم ولأمثالهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[69]

من العقاب جزاءً لهم على أعمالهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى هؤلاء {الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} المجاهرين بالكفر جميعًا {نَارَ جَهَنَّمَ} يصلونها حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين فيها مكثًا مؤبدًا لا نهاية له، فالنار المخلدة من أعظم العقوبات، وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرفة أو منسوخة، كأهل الكتاب وفي هذه الآية دليلٌ على أن وعد يقال في الشر، كما يقال في الخير: {هِيَ}؛ أي: نار جهنم {حَسْبُهُمْ}؛ أي: كافيتهم عقوبةً ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكن الزيادة عليها {و} مع ذلك فقد {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} تعالى: أي: طردهم وأبعدهم من رحمته {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي: نوعٌ آخر من العذاب دائم، لا ينفك عنهم، كالزمهرير والسموم. والمعنى: أن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم، عقابًا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة، بحرمانهم من رحمته، التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم دائم، غير عذاب جهنم، كالسموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريح الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله تعالى وكرامته، والحجاب دون رؤيته، كما قال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)}. 69 - ثم شبه سبحانه وتعالى حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم، ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب، فقال: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} والكاف فيه خبر لمبتدأ محذوف، ولكنه مع تقدير مضاف؛ أي: فعلكم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كفعل الكفار الذين كانوا من قبلكم من الأمم الماضية، في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، فقد {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً}؛ أي: أكثر منكم قوةً في الأبدان {وَأَكْثَرَ} منكم {أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}؛ أي: أجمع منكم إياها {فَاسْتَمْتَعُوا}؛ أي: تمتع أولئك الكفار وانتفعوا {بِخَلَاقِهِمْ}؛ أي: بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا وشهواتها مدة حياتهم،

وخاضوا في تكذيب أنبيائهم واستهزائهم، وفتنوا بدنياهم، وغروا بشهواتهم، وخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين من - رحمة الله - تعالى ونعيم الآخرة. والمعنى: أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء السابقين، فتنتم بأموالكم وأولادكم، كما فتنوا وغروا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوةً، وأكثر منكم أموالًا وأولادًا، وقد كان جل مطلبهم وسعيهم، هو التمتع بنصيبهم وحظهم الدنيويِّ، من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا، وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان باللهِ ورسله والدار الآخرة، من إعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين. {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ}؛ أي: فأنتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حذوتم حذوهم، وسلكتم سبيلهم، وتمتعتم بنصيبكم وحظكم من ملاذ الدنيا وشهواتها {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ}؛ أي: استمتعتم استمتاعًا كاستمتاع الكفار الذين خلوا من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية، وفتنتم بها، كما فتنوا بها، فأنتم أولى بالعقاب منهم. والمعنى: أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشيءٍ من الاسترشاد بكلام الله وهدي رسوله، إذ لم تعلموا شيئًا من الفضائل التي تزكي النفوس وتجعلها أهلًا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم؛ لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم. فإن قلت: ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرةً ثم في حق المنافقين ثانيًا ثم تكريره في حق الأولين ثالثًا، والثاني مغن عن الأول؟ قلت: فائدة ذكر الاستمتاع في الأولين أولًا: تمهيدٌ لذم حال المخاطبين، بأن قرر وبين حال الأولين، ثم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم، فيكون ذلك

[70]

بيانًا لوجه الشبه، وتكريره ثانيًا تأكيدٌ ومبالغةٌ في ذم المخاطبين، وتقبيح حالهم، ولم يسلك هذه الطريقة في التشبيه الثاني، وهو قوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} حيث لم يقل: وخاضوا وخضتم كخوضهم، اكتفاءًا بالتمهيد الأول فاستغنى عن ذكر التمهيد في التشبيه الثاني. اهـ "زاده" بتصرف. وقوله: {وَخُضْتُمْ} معطوف على قوله: واستمتعتم؛ أي: وخضتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ودخلتم أشد الدخول في إيذاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وفي الطعن بالإسلام {كَالَّذِي خَاضُوا}؛ أي: خوضًا كخوض الفريق الذي خاضوا في تكذيب أنبيائهم وطعنهم من الذين كانوا من قبلكم؛ أي: ودخلتم في الباطل، كما دخلوا فيه مع ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضي أن تكونوا أهدى منهم سبيلًا. {أُولَئِكَ} المستمتعون بخلاقهم وحظوظهم، والخائضون في الأباطيل، فالإشارة إلى كل من المشبهين والمشبه بهم، فهي لمجموع الفريقين {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}؛ أي: بطلت حسناتهم بسبب الفقر، والانتقال من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف، وبسبب الموت وفي الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب. والمعنى: حبطت أعمالهم الدنيوية، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم في الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية في الآخرة من عبادات، وصلة رحم وصدقة، وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها في الآخرة الإيمان والإخلاص. {وَأُولَئِكَ} الموصوفون بالأفعال الذميمة {هُمُ الْخَاسِرُونَ} في الدنيا والآخرة، حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء، فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب بهم في الدنيا والآخرة، فهم خسروا في مظنة الربح والمنفعة. ونحو الآية قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}. 70 - ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم،

فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ}؛ أي: ألم يأت أولئك المنافقين المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ففيه رجوع إلى الغيبة عن الخطاب، ففيه التفات {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم، حيث عصوا رسلهم، وخالفوا أمر ربهم، فأخذهم العذاب المستأصل في الدنيا؛ أي: ألم يأتهم خبرهم الذي له شأن، وهو ما فعلوه وما فعل بهم، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف على الإجمال، في المشبه بهم، ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم؛ لأن بلادهم وهي الشام والعراق واليمن، قريبة من بلاد العرب، فالاستفهام فيه للتقرير على حدِّ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} كما في "الجمل" وقوله: {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} بدل تفصيل من الموصول؛ أي: ألم يأتهم نبأ قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان، ونبأ عاد الذين أهلكوا بالريح العقيم، ونبأ ثمود الذين أهلكوا بالصيحة، ونبأ قوم إبراهيم الذين حاولوا إحراقه، وهم نمروذ وأتباعه، وأهلكوا بسلب النعمة عنهم والهدم، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ، ونبأ أصحاب مدين، الذين هم قوم شعيب، أهلكوا بالظلة أو بالرجفة، ونبأ أصحاب المؤتفكات؛ أي: القرى المنقلبات، التي جعل الله عاليها سافلها، الذين هم قوم لوط أهلكوا بالخسف الذي نزل بهم وهم فيها، وأمطروا حجارةً من سجيل، وإنما (¬1) اقتصر على هذه الستة؛ لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن، وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها ويعرفون أخبار أهلها، كما مر آنفًا. {أَتَتْهُمْ}؛ أي: جاءت تلك الأمم الماضية {رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات، الدالة على صدقهم فكذبوهم، وخالفوا أمرنا، كما فعلتم أيها المنافقون والكفار المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فتعجل لكم العقوبة، كما عجلت لهم، {فَمَا كَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِيَظْلِمَهُمْ}؛ أي: ظالمًا لهم، بتعجيل العقوبة لهم؛ لأنه حكيم حليم، فلا يعاقب أحدًا بغير جرم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ¬

_ (¬1) الخازن.

[71]

حيث عرضوها للعقوبة بالكفر والتكذيب للأنبياء. والمعنى (¬1): وما كان من سنة الله، ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم، ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم، وعدم مبالاتهم، بإنذار رسلهم، وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته - صلى الله عليه وسلم - والمنافقين ليبين لهم أن سنة الله تعالى في عباده واحدة، لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحل بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا، وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة، وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر، حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده، وبهذا التمحص كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس، نشر الله بها أعلام دينه، حتى سادت العالم جميعه. ولمَّا وصف الله سبحانه وتعالى المنافقين بالأعمال الخبيثة، والأحوال الفاسدة، 71 - ثم ذكر بعده ما أعد لهم، من أنوع الوعيد في الدنيا والآخرة .. عقبه بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة، وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}؛ أي: والمصدقون بوحدانية الله ورسالة رسوله من الرجال، والمصدقات من النساء، بعضهم أنصار بعض آخر، وأصدقاؤه في الدين والمعاونة بتسديد الله وتوفيقه وهدايته، لا بمقتضى الطبيعة، وهوى النفس، بل قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف، بسبب ما جمعهم من أمر الدين، وضمهم من الإيمان بالله ورسوله. والولاية: ضد العداوة، فتشمل ولاية النصرة، وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء: تكون فيما دون القتال، من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش، من ¬

_ (¬1) المراغي.

الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونساء أصحابه، يخرجن مع الجيش يسقين الماء، وبجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، قال حسان بن ثابت: تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٌ ... تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فإن قلت: لِمَ قال سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقال في وصف المنافقين: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} فما الفائدة في التفرقة بينهما في الوصف؟ قلت: فرق بينهما لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم، حتى شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضًا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل، وإعلاء كلمة الله تعالى، أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضًا في الشكوك والذبذبة، وما يتبعها من الجبن والبخل، وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام، وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكْذَبَ الله منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم، بنصرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا قاتلوهم، في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآية، ثم بين أوصافهم الحميدة، كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين، فقال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه، وترك عبادة غيره؛ أي: يأمرون غيرهم بالإيمان بالله ورسوله، واتباع ما أمر به {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عما هو منكر في الدين والشرع، غير معروف فيه، من الشرك والمعاصي والبدع {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}؛ أي: يؤدون الصلاة المفروضة، بإتمام الأركان والشرائط {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يؤدون الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وخصَّ (¬1) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من بين جملة العبادات؛ لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما يأمرهم به وينهاهم عنه في السر والعلن. والحاصل (¬1): أن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين في هذه الآية بصفاتٍ خمسٍ، تفاد مثلها في المنافقين: 1 - أنهم يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر. 2 - أنهم ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان سياج الفضائل، ومنع فشوِّ الرذائل. 3 - أنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله، وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة .. قاموا وهم كسالى، يراؤون الناس. 4 - أنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم، وما وفقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون، ولكن خوفًا أو رياءً لا طاعةً لله تعالى، كما قال سبحانه {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ...} الآية. 5 - أنهم يستمرون على الطاعة، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به، بقدر الطاقة وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم. ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة، وعظيم الجزاء على جميل أفعالهم فقال: {أُولَئِكَ} الموصفون بالصفات المذكورة من المؤمنين والمؤمنات {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: يفيض عليهم آثار رحمته، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته، وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم. وزيدت (¬2) السين فيه للتأكيد والمبالغة؛ أي: للدلالة على تحقيق ذلك وتقرر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

[72]

ألبتة بمعونة المقام كما هنا، إذ السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخير، فهذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة ووعدًا، تمحضت لتأكيد الوقوع اهـ. كرخي. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب لا يمنع من مراده من رحمةٍ أو عقوبة، ولا يمتنع عليه شيء من وعده ووعيده {حَكِيمٌ} فيما دبره لعباده، لا يضع شيئًا منهما في غير موضعه. 72 - والإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان للوعد المذكور، ذكره أبو السعود. وبعد أن بين صفاته روحمته لهم إجمالًا .. بين ما وعدهم به، من الجزاء المفسر لرحمته تفصيلًا، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} وبساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة الجارية في الجنة، اللبن، والماء، والخمر، والعسل، حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤيدًا لا نهاية له {و} وعدهم {مساكن طيبة}؛ أي: منازل حسنة يسكنون فيها من الدرِّ والياقوت تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش، أو قد طيبها الله بالمسك والريحان، ويقال: جميلةً ويقال: طاهرةً ويقال: عامرةً كائنة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} وخلود وإقامة مؤبدة، فجنات عدن، هي جنات الإقامة والخلود كقوله: {جَنَّةُ الخُلْدِ} {جَنَّةُ المَأوَى} وقيل: إنه منزل من منازل دار النعيم، كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها، روي عن أبي هريرة: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما، كما بين السماء والأرض، فهذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن". تتمة: والجنَّات (¬1): البساتين الملتفة الأشجار، التي تجن ما تحتها؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة في جنات عدن هي الدور والخيام، التي يطيب لساكنها المقام فيها، لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن: الإقامة والاستقرار، يقال: عدن في مكان كذا، إذا أقام فيه وثبت. والمراد (¬1) بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار: البساتين التي يتحير في حسنها الناظر؛ لأنه سبحانه وتعالى، قال: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ}، والمعطوف يجب أن يكون مغايرًا للمعطوف عليه، فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين، فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها، والجنات الأخرى هي البساتين التي يتنزهون فيها، فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والفرق بينهما. والمعنى: ومنازل طيبةً كائنةً في محلات تسمى بجنة عدن، روى الطبري، بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة، قالا: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} قال: "قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا، على كل سرير سبعون فراشًا، على كل فراش زوجة من الحور العين"، وفي رواية: "في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونًا من طعام، وفي كل بيت سبعون وصيفةً، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع"، ولكن هذا الحديث ضعفه أئمة الحديث، وبعضهم جعله من الموضوعات، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين، ككعب الأحبار وغيره، قال ابن القيم: لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجتين لكل رجل. وروى بسنده عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عدن داره - يعني ¬

_ (¬1) الخازن.

دار الله - التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة، النبيين والصدقين والشهداء، يقول الله - عز وجل -: طوبى لمن دخلك"، هكذا رواه الطبري، فإن صحت هذه الرواية .. فلا بد من تأويلها، فقوله: "عدن داره"، يعني: دار الله، وهو من باب حذف المضاف، تقديره عدن دار أصفياء الله التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته، والمقربين من عباده. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" أخرجه البخاري ومسلم. وقال عبد الله بن مسعود: {عَدْنٍ} بطنان الجنة، يعني وسطها، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرًا، يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، له خمسة الآف باب لا يدخله إلا نبيٌّ أو صديق أو شهيد، وقال عطاء بن السائب: {عَدْنٍ} نهر في الجنة خيامه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: عدن: أعلى درجة في الجنة، فيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها، وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش، فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض. قال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل هذا الكلام: أن في جنان عدن قولين: أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة، وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول. قال صاحب "الكشاف": و {عدن} علم بدليل قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ}.

والقول الثاني: أنه صفة للجنة، قال الأزهري: {العدن} مأخوذ من قولك عدن بالمكان، إذا أقام يعدن عدونا، فبهذا الاشتقاق قالوا: الجنات كلها جنات عدن، انتهى من "الخازن". وقوله سبحانه وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} جملة مستأنفة؛ أي: رضوان قليل يسير من الله الذي ينزله عليهم أكبر وأعلى وأفضل من ذلك النعيم المقيم كله الذي أعطاهم إياه، وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه، وإن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية، وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية، اللهم ارض عنا رضًا لا سخط بعده، ولا يكدره نكد، يا من بيده الخير كله. وقرأ الأعمش: {ورضوان} بضمتين، قال صاحب "اللوامع" وهي: لغة. اهـ "البحر". {ذَلِكَ} المذكور من الأمور الثلاثة، من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ومن المساكن الطيبة، من الرضوان الأكبر {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والظفر الجسيم، لا ما يطلبه المنافقون والكفار، من التنعم بطيبات الدنيا، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول أحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدًا" متفق عليه. الإعراب {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}. {وَمِنْهُمُ} جار ومجرور، خبر مقدم {الَّذِينَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي}. {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {وَيَقُولُونَ} فعل وفاعل

معطوف على {يُؤْذُونَ} {هُوَ أُذُنٌ} مقول محكي، أو مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أُذُنُ خَيْرٍ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أذن خير لكم، والجملة في محل النصب، مقول القول {خَيْرٍ} مضاف إليه، ويقرأ: بالرفع، على أنه صفة {أُذُنُ} والتقدير: أذنٌ ذو خير لكم، ذكره أبو البقاء {لَكُمْ} متعلق بـ {خَيْرٍ} أو صفة له، ويجوز أن يكون {خَيْرٍ} بمعنى أفعل؛ أي: أذن أكثر خيرًا لكم {يُؤْمِنُ} فعل مضارع {بِاللَّهِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {أُذُنٌ} بمعنى محمد، والجملة في محل الرفع صفة {أُذُنُ} {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} جملة معطوفة على ما قبلها، و {اللام} في {لِلْمُؤْمِنِينَ} زائدة، دخلت عليه لتفرق بين يؤمن، بمعنى: يصدق، ويؤمن بمعنى: يثبت الأمان، كما تقدم في بحث التفسير بأوضح بيان {وَرَحْمَةٌ} بالرفع معطوف على {أُذُنٌ}؛ أي: هو أذن ورحمة، ويقرأ: بالجر عطفًا على {خَيْرٍ} فيمن جر خيرًا {لِلَّذِينَ} جار ومجرور، صفة لـ {رحمة} {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {مِنْكُمْ} جار ومجرور، حال من فاعل الصلة؛ أو من الموصول {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول {يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول {لَهُمْ} خبر مقدم {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة. {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}. {يَحْلِفُونَ} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة مستأنفة {لَكُمْ} متعلق به أيضًا {لِيُرْضُوكُمْ} {اللام} لام كي {يرضوكم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ {يَحْلِفُونَ} على كونه بدل اشتمال من {لَكُمْ}؛ أي: يحلفون بالله لكم، لإرضائهم إياكم، والخطاب فيه للمؤمنين {وَاللَّهُ} مبتدأ {وَرَسُولُهُ}، معطوف عليه {أَحَقُّ} خبر

عنهما {أَنْ يُرْضُوهُ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، والتقدير: والله ورسوله أحق بإرضائهم إياهما منكم، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {يَحْلِفُونَ}؛ أي: يحلفون لكم لإرضائكم، والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم؛ أي يعرضون عما يهمهم ويشتغلون بما لا يَعْنِيهم، ذكره أبو السعود {إِن}: حرف شرط {كَانُوا} فعل ماض ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مُؤْمِنِينَ} خبرها، وجواب {إن} الشرطية محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: إن كانوا مؤمنين .. فليرضوا الله ورسوله بطاعتهما، فإنهما أحق بالإرضاء، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}. {أَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام التوبيخي وفيه معنى التقرير {لم} حرف نفي وجزم {يَعْلَمُوا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {لم} {أَنَّهُ} أن حرف نصب ومصدر و {الهاء} اسمها من اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما {يُحَادِدِ اللَّهَ} فعل ومفعول مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة، وفاعله ضمير يعود على {مَن} {فَأَنَّ لَهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا {أن} حرف نصب ومصدر، {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم لها {نَارَ جَهَنَّمَ} اسمها مؤخر {خَالِدًا} حال من الضمير، المجرور باللام {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدًا} وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع، على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: فجزاؤه كون نار جهنم له خالدًا فيها، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل الرفع، خبر لـ {أنَّ} الأولى، وجملة {أن} الأولى في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، تقديره: ألم يعلموا كون جزاء من يحادد الله ورسوله نار جهنم، وجملة علم جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، {ذَلِكَ} مبتدأ {الْخِزْيُ}

خبره {الْعَظِيمُ} صفة و {الْخِزْيُ} والجملة مستأنفة. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {أَنْ تُنَزَّلَ} ناصب وفعل {عَلَيْهِمْ} متعلق به {سُورَةٌ}: نائب فاعل والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يحذر المنافقون تنزيل سورة عليهم، الجملة الفعلية مستأنفة {تُنَبِّئُهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {سُورَةٌ} والجملة في محل الرفع صفة لـ {سُورَةٌ} {بِمَا} جار ومجرور، متعلق بـ {تُنَبِّئُهُمْ} {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {اسْتَهْزِئُوا} إلى آخر الآية، مقول محكي. وإن شئت، قلت {اسْتَهْزِئُوا} فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول القول {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {مُخْرِجٌ} خبره، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول، مسوقة لتعليل ما قبلها {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {مُخْرِجٌ} {تَحْذَرُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تحذرونه. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}. {وَلَئِنْ} {الواو} استئنافية {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {سَأَلْتَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: عن استهزائهم {لَيَقُولُنَّ} {اللام} موطئة للقسم مؤكدة للأولى {يقولن} فعل مضارع، مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجواب {إن} الشرطية محذوف، لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: وإن سألتهم .. يقولون، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {إِنَّمَا}: أداة حصر

{كُنَّا} فعل ناقص واسمه {نَخُوضُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان} وجملة {كان} في محل النصب مقول القول، وجملة {وَنَلْعَبُ} معطوفة على جملة {نَخُوضُ} {قُل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أَبِاللَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {الهمزة} للاستفهام التوبيخي، داخلة على {كنتم بالله} ومجرور متعلق بـ {تَسْتَهْزِئُونَ} {وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} معطوفان على الجلالة {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه وجملة {تَسْتَهْزِئُونَ} في محل النصب خبر {كان} وجملة {كان} في محل النصب مقول {قُل}. {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}. {لَا تَعْتَذِرُوا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة مستأنفة {قَدْ كَفَرْتُمْ} فعل وفاعل {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ظرف ومضاف إليه، متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبله {إِنْ نَعْفُ} جازم وفعل مجزوم على كونه فعل شرط له، وفاعله ضمير يعود على {الله} {عَنْ طَائِفَةٍ} متعلق به {مِنْكُمْ} جار ومجرور صفة لـ {طَائِفَةٍ} {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} فعل ومفعول، مجزوم على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {الله} وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة {بِأَنَّهُمْ} {الباء} سببية {أن} حرف نصب، والهاء اسمها وجملة {كَانُوا مُجْرِمِينَ} في محل الرفع، خبر {أن} وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب كونهم {مُجْرِمِينَ} الجار والمجرور متعلق بـ {نُعَذِّبْ}. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}. {الْمُنَافِقُونَ}: مبتدأ أول {وَالْمُنَافِقَاتُ}: معطوف عليه {بَعْضُهُمْ}: مبتدأ ثان، {مِنْ بَعْضٍ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة {يَأْمُرُونَ}: فعل وفاعل {بِالْمُنْكَرِ}: متعلق به، والجملة

الفعلية مستأنفة، مفسرة لما قبلها، وجملة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}: معطوفة على جملة {يَأْمُرُونَ}: وكذلك جملة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوفة عليها. {نَسُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة {فَنَسِيَهُمْ} {الفاء} عاطفة {نسميهم} فعل ومفعول وفاعله ضمير، يعود على {اللَّهَ} والجملة معطوفة على جملة {نَسُوا} {إِنَّ} حرف نصب {الْمُنَافِقِينَ} اسمها {هُمُ} ضمير فصل {الْفَاسِقُونَ} خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} فعل وفاعل ومفعول أول {وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} معطوفان على {الْمُنَافِقِينَ} {نَارَ جَهَنَّمَ} مفعول ثان، والجملة مستأنفة {خَالِدِينَ} حال من المفعول الأول، وهو مجموع الأصناف الثلاثة، غير أنها حال مقدرة، إذ وقت الوعد لم يكونوا {خَالِدِينَ} {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ} {هِيَ حَسْبُهُمْ} مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب، حال من {جَهَنَّمَ} {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَعَدَ} {وَلَهُمْ}: خبر مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر {مُقِيمٌ} صفة له، والجملة معطوفة على جملة {وَعَدَ} أيضًا. {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ}. {كَالَّذِينَ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: حالكم كائن كحال الذين {مِنْ قَبْلِكُمْ}: والجملة مستأنفة {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور صلة الموصول {كَانُوا أَشَدَّ}: فعل ناقص واسمه وخبره {مِنْكُمْ}: متعلق بـ {أَشَدَّ} وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لبيان حال الذين من قبلهم {قُوَّةً} تمييز محول عن اسم كان منصوب باسم التفضيل أعني أشد

{وَأَكْثَرَ} معطوف على {أَشَدَّ} {أَمْوَالًا}، تمييز منصوب بـ {أكثر} {وَأَوْلَادًا} معطوف عليه {فَاسْتَمْتَعُوا} {الفاء} عاطفة {استمتعوا} فعل وفاعل معطوف على {كَانُوا} {بِخَلَاقِهِمْ} متعلق به {فَاسْتَمْتَعْتُم} معطوف على {استمتعوا} {بِخَلَاقِكِمْ} متعلق به {كَمَا} {الكاف} حرف جر وتشبيه {ما} مصدرية {اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} فعل وفاعل {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور صلة الموصول {بِخَلَاقِهِمْ} متعلق باستمتع وجملة استمتع صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره فاستمتعتم بخلاقكم استمتاعًا كائنًا كاستمتاع الذين من قبلكم. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. {وَخُضْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {استمتعتم} {كَالَّذِي}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، ولكنه على حذف مضاف تقديره: وخضتم في الباطل خوضًا كائنًا، كخوض الفريق الذي خاضوا من قبلكم {خَاضُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول وأتى في العائد بضمير الجمع نظرًا لمعنى الذي لأنه هنا عبارة عن الفريق {أُولَئِكَ}: مبتدأ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {فِي الدُّنْيَا} متعلق بـ {حَبِطَتْ} {وَالْآخِرَةِ} معطوف على الدنيا {أُولَئِكَ}: مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْخَاسِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}. {أَلَمْ} {الهمزة} فيه: للاستفهام التقريري {لم} حرف جزم {يَأْتِهِمْ} فعل ومفعول مجزوم بلم {نَبَأُ الَّذِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والجمل مستأنفة {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول {قَوْمِ نُوحٍ}: بدل الموصول بدل بعض من كل {وَعَادٍ}: معطوف على {قَوْمِ نُوحٍ} مجرور بالكسرة الظاهرة {وَثَمُودَ}

معطوف عليه أيضًا مجرور بالفتحة، للعلمية والتأنيث المعنوي {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ}: معطوف عليه أيضًا وكذلك {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}: معطوفان عليه أيضًا {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان نبأهم كما ذكره أبي السعود. {فَمَا} {الفاء} عاطفة على محذوف تقديره: أتتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم فأهلكوا {ما}: نافية، {كَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه {لِيَظْلِمَهُمْ}: {اللام}: حرف جر وجحود {يَظْلِمَهُمْ}: فعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة الفعلية صلة أو المضمرة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لظلمه إياهم الجار والمجرور متعلق بمحذوف، خبر كان، تقديره: فما كان الله مريدًا لظلمه إياهم، وجملة كان معطوفة على ذلك المحذوف {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة {لَكِنْ}: حرف استدراك. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول مقدم لـ {يَظْلِمُونَ} قدمه عليه للاهتمام به، ولرعاية الفاصلة وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر {كَانُ} وجملة الاستدراك معطوفة على جملة قوله: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. {وَالْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ أول {وَالْمُؤْمِنَاتُ} معطوف عليه {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة {يَأْمُرُونَ} فعل وفاعل {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان خصالهم الحميدة {وَيَنْهَوْنَ} فعل وفاعل معطوف على {يَأْمُرُونَ} {عن الْمُنْكَرِ} متعلق به، وكذلك جملة قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: معطوفاتٌ عليها أيضًا {أُولَئِكَ} مبتدأ {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان عاقبتهم الحسنة، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} ناصب واسمه وخبره {حَكِيمٌ} خبر ثان

له، الجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} فعل وفاعل ومفعول أول {وَالْمُؤْمِنَاتِ} معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ} {جَنَّاتٍ} مفعول ثان لـ {وَعَدَ} والجملة الفعلية مستأنفة {تَجْرِي} فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق به {الْأَنْهَارُ}: فاعل وجملة {تَجْرِي} في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ} ولكنها صفة سببية {خَالِدِينَ} حال مقدرة أو {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} {فِيهَا} متعلق به {وَمَسَاكِنَ}: معطوف على {جَنَّاتِ} {طَيِّبَةً}: صفة أولى {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، صفة ثانية لـ {مَسَاكِنَ} {رِضْوَانٌ} مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه، بما بعده {مِنَ اللَّهِ} جار ومجرور صفة لـ {رِضْوَانٌ} {أَكْبَرُ} خبر لـ {رضوان} والجملة مستأنفة {ذَلِكَ} مبتدأ {هُوَ} ضمير فصل {الْفَوْزُ} خبر المبتدأ {الْعَظِيمُ} صفة له، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} الأذى: ما يؤلم الحي المدرك في بدنه، أو في نفسه، ولو ألمًا خفيفًا، يقال: أوذي بكذا، أذًى، وتأذى تأذِّيًا إذا أصابه مكروه يسير {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} والأذن: هو الذي يسمع أو كل أحد ما يقبل فيقبله، ويصدقه، ويقولون: رجل أذن؛ أي: يسرع الاستمتاع والقبول، وفي "المختار" أذن له، إذا استمع، وبابه طرب، ورجل أُذن بالضم، إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع، اهـ {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي؛ يصدقهم لما علم فيهم أو علامات الإيمان، الذي يوجب عليهم الصدق {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ}؛ أي: يخالفه ويخاصمه، وأصل المحادة في اللغة أو الحد؛ أي: الجانب كأن كل واحد أو المتخاصمين في محل غير محل صاحب اهـ "خازن" يعني: أن المحادة من الحد، وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق بالكسر. وهو الجانب

ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة، من العدوة بالضم: وهي جانب الوادي؛ لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض، بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان، فكأنَّ كلا منهما في شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفي بنقيض، وهكذا المنافقون يكونون في الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده، والرسول لأمته من الحق والخير، والعمل الصالح. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} الحذر: الإحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه، {مُخْرِجٌ}: من الإخراج والإخراج: إظهار الشيء الخفي المستتر، كإخراج الحب والنبات أو الأرض {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} والخوض: الدخول في البحر، أو في الوحل، وكثر استعماله في الباطل، لما فيه من التعرض للأخطار {لَا تَعْتَذِرُوا} والاعتذار الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه، أو عذر الصبي يعذره؛ في: ختنه تطهيرًا له، بقطع عذرته؛ في: قلفته، وفي "الفتوحات" والاعتذار: التنصل أو الذنب، وأصله أو تعذرت المنازل؛ أي: درست وانمحت آثارها، فالمعتذر يزاول أبو ذنبه، وقيل: أصله أو العذر، وهو القطع، ومنه العذرة؛ لأنها تقطع، قال ابن الأعرابي: ويقولون اعتذرت المياه؛ أي: انقطعت، فكأن المعتذر يحاول قطع الذم عنه، اهـ "سمين" {عَنْ طَائِفَةٍ} والطائفة: الجماعة أو الناس، والقطعة أو الشيء، يقال: ذهبت طائفة من الليل، ومن العمر، وأعطاه طائفةً من ماله. {وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ} يقال: وعده في الخير والشر، والاختلاف إنما هو بالمصدر، فمصدر الأول: وعد، ومصدر الثاني: وعيد فاستعمل وعد في الشر، كما هنا، وفي الخير، فيما سيأتي في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ ....} إلخ وفي "المصباح" وعده وعدًا يستعمل في الخير والشر، ويعدى بنفسه وبالباء، فيقال: وعده الخير وبالخير، وشرًّا وبالشر، وإذا أسقطوا لفظ الخير والشر .. قالوا في الخير: وعده وعدًا، وعدةً، وفي الشر وعده وعيدًا، فالمصدر فارق، وأوعده خيرًا وشرًّا بالألف أيضًا، وقد أدخلوا الباء مع الألف في الشر خاصة، يقال: أوعده بالسجن اهـ.

{بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}؛ أي: متشابهون فيه وصفًا وعملًا، كما تقول: أنت مني وأنا منك، أي: أمرنا واحد، لا افتراق بيننا {بِالْمُنْكَرِ} وهو إما شرعي، وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطري، وهو ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامة، وضده المعروف في كل ذلك {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} وقبض الأيدي يراد به الكف عز البذل، وضده بسط اليد {نَسُوا اللَّهَ}؛ أي: تركوا أوامره حتى صارت عندهم بمنزلة المنسي {فَنَسِيَهُمْ}؛ أي: فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم أو النشاب على ذلك في الآخرة {هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الخارجون عن الطاعة المنسلخون عن فضائل الإيمان {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} واللعن الطرد والإبعاد أو الرحمة، والإهانة والمذلة {عَذَابٌ مُقِيمٌ} والمقيم الثابت الذي لا يتحول {بِخَلَاقِهِمْ}؛ أي: بنصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقه أو الخلق، بمعنى التقدير: فإنه ما قدر لصاحبه، كما في "البيضاوي". {وَخُضْتُمْ}؛ أي: دخلتم في الباطل وتلبستم به {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} يقال: حبط العمل إذا فسد، وذهبت فائدته {هُمُ الْخَاسِرُونَ}: من الخسارة والخسارة في التجارة تقابل الربح فيها {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}؛ أي: المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها، جمع مؤتفكة، من الائتفاك، وهو الانقلاب، بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهي قرى قوم لوط، يقال: أَفَكَهُ إذا قلبه، وبابه ضرب وفي "السمين" والمؤتفكات؛ أي: المنقلبات، يقال: أفكته فأتفك؛ أي: قلبته فانقلب والمادة تدل على التحول والصرف ومنه {يُؤفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ}؛ أي: يصرف اهـ. {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}؛ أي: منازل يطيب العيش فيها، جمع مسكن، وهو من أوزان منتهى الجموع؛ لأنه على زنة مفاعل كمساجد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {هُوَ أُذُنٌ} لما فيه من إطلاق اسم الجزء

على الكل، للمبالغة في استماعه، كأنه عين آلة الاستماع، وفي "المصباح" أنه مجاز مرسل، كما يراد بالعين الرجل إذا كان ربيئة؛ في: طليعة وجاسوسًا؛ لأن العين هي المقصودة منه، فصارت كأنها الشخص كله. ومنها: إبراز اسم الرسول في قوله: {يُؤذُونَ رَسُولَ اَللهِ} حيث لم يأت به ضميرًا ولم يقل: يؤذونه تعظيمًا لشأنه عليه السلام، وجمعًا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين، النبوة والرسالة، وفيه أيضًا إضافة إليه زيادةً في تشريفه. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ}. ومنها: الإشارة بالبعيد عن القريب، في قوله: {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} للإيذان ببعد درجته في الهول والفظاعة. ومنها: الكناية في قوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}؛ لأن قبض الأيدي كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الكرم والجود. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}؛ لأنه مجاز عن الترك، ففيه إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. ومنها: الالتفات في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ لأن فيه التفاتًا عن الغيبة في قوله: المنافقون إلى الخطاب لزيادة التقريع والتوبيخ. ومنها: الإطناب في قوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ ...} الآية، والغرض منه: الذم والتوبيخ لاشتغالهم بالمتاع الخسيس عن الشيء النفيس. ومنها: الالتفات في قوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ} فهو رجوع إلى الغيبة عن الخطاب، ففيه التفات وفيه أيضًا الاستفهام التقريري، حملًا لهم على الإقرار بما بعد النافي. ومنها: تقديم المفعول في قوله: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمجرد الاهتمام به، مع مراعاة الفاصلة، أو غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم، كما ذكره أبي السعود.

ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} تسجيلًا عليهم بأنهم يستحقون جهنم باسم النفاق، وفي قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إشعارا بأنهم يستحقون ذلك الجزاء بصفة الإيمان، وزيادة في التقرير. ومنها: التنكير في قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} دلالة على التحقير والتقليل. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف (¬1) المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل النشاب، وأرفع الدرجات .. أعاد الكرة إلى تهديد المنافقين، وإنذارهم بالجهاد، كالكفار المجاهرين بكفرهم، إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافي الإِسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره ¬

_ (¬1) المراغي.

الله عليه، وكذبهم في إنكارهم. وجهادهم أن لا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر، إلى نحو ذلك مما سيذكر. وقال أبو حيان (¬1): لما ذكر الله سبحانه وتعالى وعيد غير المؤمنين، وكانت السورة قد نزلت في المنافقين .. بدأ بهم في ذلك بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} ولمَّا ذكر أمر الجهاد، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة، وأقوى أسبابًا في القتال، وأنكاءً بتصديهم للقتال، قال: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} فبدأ بهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى أو المنافقين، أغناهم الله تعالى بعد فقرٍ وإملاقٍ، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم .. نكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وهضموا يقول الخلق، ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر بخل المنافقين، وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم أو فضله .. أردف ذلك ببيان أنهم، يقتصروا في جرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين، وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظٍّ من الإِسلام، ولا أدنى نفع أو استغفار الرسول، ودعائه لهم، لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرَّجاء في إيمانهم. قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ ....} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر بعض سوءات المنافقين أو اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال، ولمزهم في قسمة الصدقات، وفي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

إعطائهم .. عاد إلى الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في عزوة تبوك وظلوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر. أسباب النزول قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ....} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وقال: لئن كان هذا الرجل صادقًا .. لنحن شر من الحمير، فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحلف بالله ما قلت، فأنزل الله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ...} الآية، فزعموا أنه تاب وحسنت توبته. ثم أخرج عن كعب بن مالك نحوه، وأخرج أيضًا عن أنس بن مالك، قال: سمع زيد بن أرقم رجلًا من المنافقين، يقول والنبي - صلى الله عليه وسلم -، يخطب: إن كان هذا صادقًا .. لنحن شر من الحمير، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجحد القائل: فأنزل الله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ...} الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جالسًا في ظل شجرة، فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان"، فطلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك"، فانطلق الرجل: فجاء بأصحابه، فحلفوا باللهِ ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ...} الآية، وأخرج (¬2) قتادة، قال: إن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظهر الغفاري على الجهيني، فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمَّد إلا كما قال القائل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة .. ليخرجن الأعز منها الأذل، فسعى رجل من المسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليه، فسأله، فجعل يحلف بالله ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

ما قال، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ...} الآية. قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ...} سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس، قال: همَّ رجلٌ، يقال له: الأسود، بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ...}. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن عكرمة، أن مولى بني عدي بن كعب، قتل رجلًا من الأنصار، فقضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بالدية اثني عشر ألفًا، وفيه نزلت: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: بأخذهم الدية. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ...} الآية، أخرج (¬1) الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل"، بسند ضعيف، عن أبي أمامة، أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، قال: "ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه" قال: والله لئن آتاني الله مالًا .. لأوتين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتَّخذ غنمًا فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابًا فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم .. فمروا بي، ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {يُكَذِّبُونَ} الحديث بطوله. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الشيخان، عن أبي مسعود، قال: لما نزلت آية الصدقة .. كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء آخر فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ...} ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[73]

الآية وورد نحو هذا من حديث أبي هريرة، وأبي عقيل، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وعميرة بنت فهد بن رافع، أخرجها كلها ابن مردويه. قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجل: يا رسول الله الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفروا في الحر، فأنزل الله {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ...} الآية. وأخرج عن محمَّد بن كعب القرظي. قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ..} الآية. التفسير وأوجه القراءة 73 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ}؛ أي: جاهد المجاهرين بالكفر، بالسيف والسِّنان {و} جاهد {المنافقين}؛ أي: الساترين كفرهم بإظهار الإِسلام بالحجة واللسان، لا بالسيف، لنطقهم بكلمتي الشهادة {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول، ولا ترأف عليهم والغلظ: نقيض الرأفة، وهو شدة القلب، وخشونة الجانب، قيل: وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح المذكور في القرآن. والأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجهاد أمرٌ لأمته أو بعده، وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى يخرجوا عن النفاق، ويؤمنوا باللهِ تعالى. والمعنى: يا أيها النبي ابذل جهدك في مقاومة هاتين الطائفتين، اللتين تيعشان بين ظهرانيك، بمثل ما يبذلان من جهد في عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة، التي توافق سوء حالهما. وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو

امتنعوا من إقامة شعائر الإِسلام وأركانه، وعن ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان؛ أي: بالحجة والبرهان. وكان كفار اليهود يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بتحريف السلام عليه، بقولهم: السام عليكم، والسام: الموت، فيقول: "وعليكم" ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإِسلام الظاهر، فجرأهم هذا على أذاه - صلى الله عليه وسلم -، بنحو قوله: {هُوَ أُذُنٌ} فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين، في جهاده التأديبي لهم؛ لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا. وهو جهاد فيه مشقة عظيمة؛ لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل، واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال: أذلوهم، ولا تظلموهم، وفي هذه الغلظة تربية للمنافقين، وعقوبة لهم، يرجى أن تكون سببًا في هداية من لم يطبع الكفر على قلبه، ولم تحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه - صلى الله عليه وسلم - في وجوههم تحقيرٌ لهم، يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقرٌ بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره .. يضق صدره، ويحاسب نفسه، ويثب إلى رشده، ويتب إلى ربه، وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}؛ أي: ومسكنهم ومنزلهم في الآخرة نار جهنم؛ أي: لا مأوى لهم يلجؤون إليه، إلا دار العذاب، التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي وقبح المرجع لهم هي {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)} وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم. والخلاصة: أنهم قد اجتمع لهم عذابان عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة، بأن تكون جهنم مأواهم. ثم ذكر سبحانه، الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهي أنهم أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشر ما يغرى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أظهره الله عليه، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم، ويحلفون على إنكارهم

[74]

ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ويخوضون في آيات الله وفي رسوله، استهزاءً خرجوا به من الإيمان الذي يدعونه إلى الكفر الذي يكتمونه، فقال: 74 - {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: يحلف ويقسم لك، يا محمَّد، هؤلاء المنافقون باسم الله تعالى على أنهم {مَا قَالُوا} تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم، ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر، التي رويت عنهم، حيث قال: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد قالوا كلمة الكفر، التي نسبت إليهم بتوافقهم على شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطعنهم على دينه {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}؛ أي: أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بتلك الكلمة بعد أن أظهروا الإِسلام، وإن كانوا كفارًا في الباطن. والمعنى: أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم، على تقدير صحة إسلامهم {وَهَمُّوا}؛ أي: قصدوا {بِمَا لَمْ يَنَالُوا}؛ أي بما لم يصيبوا، ولم يقدروا على تحصيله، قيل: هو همهم بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليلة العقبة في غزوة تبوك، كما قاله ابن كثير، وقيل: هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي، وقيل غير ذلك. ولم يذكر القرآن تلك الكلمة التي قالوها؛ لأنه لا ينبغي ذكرها، ولئلا يتبعد بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها: ما رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل شجرةٍ، فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء .. فلا تكلموا" فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك"؟ إلى آخر ما سبق في أسباب النزول، وأما همهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة عند منصرفه من تبوك. روي: أنَّ (¬1) المنافقين هموا بقتله - صلى الله عليه وسلم - عند رجوعه من تبوك، وهم خمسة عشر رجلًا، قد اتفقوا على أن يدفعوه - صلى الله عليه وسلم - عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، ¬

_ (¬1) المراح.

فأخبره الله تعالى بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة .. نادى مناديه بأمره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي، فإن أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي وسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - العقبة، وكان ذلك في ليلة مظلمة، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يسير في العقبة .. إذ زحمه المنافقون، فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل عرفت أحد منهم؟ " قال: لا فإنهم كانوا متلثمين، والليلة مظلمة، قال: "هل علمت مرادها؟ "، قال: لا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم مكروا، وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة، فيزحمونني عنها، وإنّ الله أخبرني بهم وبمكرهم" فلما أصبح .. جمعهم، وأخبرهم بما مكروا به، فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قالوا: أولا تأمرنا بهم يا رسول الله، إذًا فنضرب أعناقهم؟ قال: "أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدًا قد وضع يده في أصحابه "فسماهم لهما، وقال: "اكتماهم". والصحيح (¬1) في عددهم: ما رواه مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في أمتي اثنا عشر منافقًا، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحا، حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة - خراج ودمل كبير يظهر في الجوف، يقتل صاحبه كثيرًا - سراجٌ من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم؛ أي: كأنه سراج من النار. ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَمَا نَقَمُوا}؛ أي: وما أنكر هؤلاء المنافقون، وما كرهوا من أمر الإِسلام وبعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم شيئًا يقتضي الكراهة، والهم بالانتقام {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من فضله بالغنائم، التي هي عندهم أحب الأشياء لديهم في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء، فأغناهم الله تعالى ببعثة الرسول ونصره، وبما آتاه من الغنائم، كما وعده، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "كنتم عالةً فأغناكم الله بي". فإن (¬1) هؤلاء المنافقين، كانوا قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل، ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه - صلى الله عليه وسلم - أخذوا الغنائم، وفازوا بالأموال، ووجدوا الدولة. وقتل للجلاس مولى، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديته اثني عشر ألفًا، فاستغنى وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له - صلى الله عليه وسلم -، مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله، فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره - صلى الله عليه وسلم - أن كرهوه وعابوه. {فَإِنْ يَتُوبُوا} من النفاق، وما يصدر عنه من مساوي الأقوال والأفعال، كما وقع للجلاس بن سويد، فإنه تاب وحسنت توبته {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}؛ أي: يكن ذلك المتاب خيرًا لهم في الدنيا والآخرة، أما في (¬2) الدنيا فبما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة في الآخرة ومعاشرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومشاهدة فضائله، وأخوة المؤمنين، بعضهم لبعض، وما فيها من الود والوفاء الكامل، والإيثار على النفس إلى نحو ذلك. وأما في الآخرة: فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين، من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والمساكن الطيبة. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا}؛ أي: يعرضوا عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا} بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم؛ لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس .. صاروا مثل أهل الحرب. فيحل قتالهم {و} في {الآخرة} بالنار ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[75]

وغيرها، من أفانين العقاب. والمعنى (¬1): وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة، وأصروا على النفاق، وما ينشأ منه من المساوي الخلقية والنفسية .. يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا، بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع، كما قاله سبحانه: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} وقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} فهم في جزع دائم، وهمّ ملازم. وأما في الآخرة: فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار، التي تطلع على الأفئدة {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها {مِنْ وَلِيٍّ}؛ أي: من حافظ يحفظهم من عذاب الدنيا {وَلَا نَصِير} ينقذهم من عذاب الآخرة. أي: وما لهم في الأرض كلها من يتولى أمورهم، ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره، أما في الدنيا: فقد أغلقت في وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصر بالمؤمنين والمؤمنات، دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإِسلام على جوار الجاهلية، وعلى أحلافهم من أهل الكتاب في الحجاز بالقتل والجلاء، وأما في الآخرة: فقد تظاهرت النصوص، على أنه لا ولي ولا ظهير للكفار والمنافقين 75 - {وَمِنْهُم}؛ أي: ومن المنافقين {مَّنْ عَهَدَ أللهَ}؛ أي: من أعطى الله سبحانه وتعالى عهده وميثاقه، بقوله: والله {لَئِنْ آتَانَا} الله سبحانه وتعالى، وأعطانا {مِنْ فَضْلِهِ} وجوده وكرمه وعطائه مالًا وثروةً، وأغنانا عن غيرنا {لَنَصَّدَّقَنَّ}؛ أي: لنشكرن له نعمته بالصدقة منها، {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ} جملة {الصَّالِحِينَ} من المؤمنين، القائمين بواجبات الدين، التاركين لمحرماته، والصالح ضد المفسد، والمفسد هو الذي بخل بما يلزمه في حكم الشرع؛ أي: ولنعملن عمل أهل الصلاح بأموالنا من صلة الرحم به، والإنفاق في سبيل الله، كإعداد العدة للجهاد، وبذل المستطاع لخير الأمة وصلاحها، بما يرقى بها في اختلف شؤونها، وقرأ الأعمش شاذًا: ¬

_ (¬1) المراغي.

[76]

{لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} بالنون الخفيفة، واللام الأولى؛ أعني قوله: {لَئِنْ آتَانَا} لام القسم. كما أشرنا إليه في الحل، واللام الثانية؛ أعني قوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ}، لام الجواب للقسم 76 - {فَلَمَّا آتَاهُمْ}؛ أي: فلما رزقهم الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم ما طلبوا {مِنْ فَضْلِهِ} وعطائه {بَخِلُوا بِهِ} أي: بما آتاهم وأمسكوه عن الإنفاق في سبيل الله، فلم يتصدقوا منه بشيء، كما حلفوا به {وَتَوَلَّوْا}؛ أي: وأعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله، إصلاح حالهم وحال أمتهم، كما عاهدوا الله عليه {وَهُمْ}؛ أي: والحال أنهم {مُعْرِضُونَ} بقلوبهم عن طاعة الله تعالى في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده. والمعنى: لم يكن ذلك التولِّي عارضًا طارئًا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوةٍ، بحافز نفسيٍّ، ملك عليهم أمرهم، ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذُكِّروا بما يجب عليهم .. لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون. 77 - {فَأَعْقَبَهُمْ} الله سبحانه وتعالى، وأورثهم بسبب البخل الذي وقع منهم، والإعراض عن الإنفاق {نِفَاقًا} وكفرًا كائنًا {فِي قُلُوبِهِمْ} متمكنًا منها، مستمرًّا فيها {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي يلقون الله سبحانه وتعالى، ويرونه في الآخرة، وحكمة الجمع في هذه الضمائر مع أن سبب نزولها في شخص واحد: الإشارة إلى أن حكم هذه باق لكل من اتصف بهذا الوصف، من أول الزمان إلى آخره، وليس مخصوصًا بثعلبة، وهذا التفسير على أن الضمير في أعقبهم إلى الله تعالى، وقيل: من الضمير يرجع إلى البخل، والمعنى عليه: فأعقبهم ذلك البخل بما عاهدوا الله عليه، والتولِّي عنه بعد العهد الموثق بأوكد الإيمان، نفاقًا كائنًا في قلوبهم متمكنًّا منها، وملازمًا لها إلى يوم يلقون بخلهم؛ أي: جزاء بخلهم؛ أنه: ملازمًا لها إلى يوم الحساب في الآخرة؛ لأنه لا رجاء أمه في التوبة، يعني: أنه سبحانه حرمهم التوبة إلى يوم القيامة، فيوافونه على النفاق، فيجازيهم عليه، ومعنى {أَعْقَبَهُمْ} أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل، ثم ذكر الله سبحانه سببين هما من أخس أوصاف

المنافقين، إخلاف الوعد، والكذب، فقال: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} والباء فيه وفيما بعده للسببية؛ أي: فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم، بسبب إخلافهم وتركهم لما وعدوه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقرأ أبو رجاء: {يكذِّبُونَ} بالتشديد؛ أى: وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: أنَّ سنة الله في البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق في القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوةً ورسوخًا في النفس. وهكذا جميع الأخلاق والعقائد، تقوَّى وترسَّخ بالعمل الذي يصدر منها، فهؤلاء لما كان قد رسخ في قلوبهم خلف الوعد واستمرار الكذب .. مكن ذلك النفاق في قلوبهم، بمقتضى سننه وتقديره. أخرج ابن جرير، وابن مردويه والبيهقي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية، أن رجلًا من الأنصار، يقال له: ثعلبة، أتى مجلسًا، فأشهدهم، قال: لئن آتاني الله من فضله .. آتيت كل ذي حق حقه، وتصدقت، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله، فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله تعالى شأنه في القرآن اهـ. وكان (¬1) ثعلبة في ابتداء أمره صحيح الإِسلام، لكنه صار منافقًا في آخر أمره، فصح كونه من المنافقين، اهـ شيخنا. وفي "الشهاب" قيل: كان ثعلبة قبل ذلك ملازمًا لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما لك تفعل فعل المنافقين؟ "فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد، أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به، فادع الله أن يوسع في رزقي ... إلى آخر ما في القصة اهـ. قال بعض العلماء (¬2): إنما لم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة ثعلبة لأن الله ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

[78]

سبحانه وتعالى، منعه من قبولها منه، مجازاة له على إخلافه ما عاهد الله عليه، وإهانةً له على قوله: إنما هي جزية، أو أخت الجزية، فلما صدر هذا القول منه .. ردت صدقته عليه، إهانة له، وليعتبر غيره به، فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها، ويرى أنها واجبة عليه ويثاب على إخراجها ويعاقب على منعها. وفي "الخازن": وهذا أحد قولين في سبب نزولها، والآخر: أنه حاطب بن أبي بلتعة، قال ابن السائب: إنَّ حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام، فأبطأ عليه، فجهد لذلك جهدًا شديدًا، فحلف بالله لئن آتاني الله من فضله، يعني ذلك المال .. لأصدقن منه، ولأصلن قرابتي، فلما آتاه ذلك المال .. لم يف بما عاهد الله عليه، فأنزل الله هذه الآية اهـ. وحاصل ما في المقام: أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله، لئن آتاه من فضله .. ليصدقن، وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة، فلما آتاه الله من فضله ما سأل .. لم يَفِ بما عاهد الله عليه، بلا تعيين واحد منهم. وقال الإِمام فخر الدين الرازي: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر .. فليجتهد في الوفاء به. 78 - وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} رجوع لما سبق، في قوله: المنافقون والمنافقات، لا بقيد كونهم الذين عاهدوا الله، إذ الآيات الواردة في خصوص المعاهدين قد انقضت بقوله: {يَكذِبُونَ} والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع المضمن للإنكار. وقرأ عليٌّ وأبو عبد الرحمن والحسن (¬1): {تَعْلَمُوا} بالتاء خطابًا للمؤمنين على سبيل التقرير؛ أي: ألم يعلم المنافقون {أنَّ الله} سبحانه وتعالى {اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ}؛ أي: جميع ما يسرونه من النفاق {وَنَجْوَاهُمْ}؛ أي: جميع ما يتناجون به ويتحدثونه فيما بينهم، من الطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه وعلى دين ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[79]

الإِسلام {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؛ أي: ما غاب عن الخلق، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة، كائنًا ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين. أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرون به، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان، ولَمْزِ الرسول، أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر الكامن في أعماق نفوسهم، الذي يخصون به من يثقون به، ممن هو مشارك لهم في النفاق، وأن الله تعالى يعلم الغيوب كلها, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه. 79 - وقوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} محله (¬1) إما الرفع على الابتداء، وخبره قوله الآتي: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وهو أوضح الإعراب فيه، أو النصب على الذم، أو الجر، بدلًا من الضمير في سرهم ونجواهم، وقرىء: {يَلْمِزُونَ} بضم الميم؛ أي: أولئك المنافقون الذين يلمزون ويعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}؛ أي: يلمزون المتطوعين والمتبرعين من المؤمنين، ويعيبونهم في شأن الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان ويذمونهم في أكمل فضائلهم، ويقولون: ما فعلوها لوجه الله، وإنما فعلوها رئاء الناس، سخر الله منهم، فلَمْزُهم (¬2) هنا في مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك؛ أي: في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} في قسمتها، وقد جاء في بعض الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على الصدقة، فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة، وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل: فإنما جاء بصاعه ليذكِّر بنفسه، فيعطى من الصدقات، والله غني عن صاعه. وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} معطوف (¬3) على {الْمُطَّوِّعِينَ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

[80]

عطف خاصٍ على عام، وليس معطوفًا على البيان، لإيهام أن المعطوف ليس من المؤمنين؛ أي: ويلمزون الفقراء الذين لا يجدون إلا طاقتهم، ويعيبونهم ويطعنونهم في صدقاتهم القليلة؛ أي: يعيبون الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم. وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم} معطوف على الصلة؛ أعني يلمزون، فالصلة أمران: اللمز، والسخرية. والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم، فيسخرون منهم؛ أي: يستهزئون بهم؛ لحقارة ما يخرجونه في الصدقة، وعدِّه من الحماقة والجنون، مع كون ذلك جهد المقل وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه، وخص هؤلاء بالذكر، وإن كانوا داخلين في المتطوعين؛ لأنَّ مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار، والأحق بالثناء عند المؤمنين. وقرأ ابن هرمز وجماعة شذوذًا (¬1): {جُهْدَهُمْ} بالفتح. والجُهد بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة، وقيل: هما لغتان، ومعناهما واحد، وقال الشعبي: بالضم: القوت. وبالفتح: في العمل، وقيل: بالضم، شيءٌ قليل يعاش به. وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} خبر المبتدأ السابق، في قوله الذين يلمزون؛ أي (¬2): جازاهم على ما فعلوه من السخرية المؤمنين، بمثل ذلك، فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم في الدنيا بفضيحتهم وقتلهم، وهو خبر ليس بدعاء عليهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة. والمعنى: أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخريةً للمؤمنين وللناس أجمعين، بفضيحتهم في هذه السورة، ببيان مخازيهم وعيوبهم، وقيل: هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمؤمنين. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع في الآخرة. 80 - ثم بيَّن سبحانه عقابهم وسواهم بالكافرين، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إن شئت {أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إن شئت، وهذا كلام خرج مخرج الأمر، ومعناه: الخبر، تقديره استغفارك لهم وعدمه سواء، وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما. والحاصل: أن هذا الأمر تخيير له - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار وتركه، ومعناه: إخبار باستواء الأمرين؛ أي: إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم، فاستغفارك لهم وعدمه سواء، وقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} بيانٌ لاستحالة المغفرة لهم بعد المبالغة في الاستغفار، إثر بيان الاستواء بينه وبين عدمه، ذكره أبو السعود، ومعنى قوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}؛ أي: إن (¬1) تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها، أو لا تدع لهم بالمغفرة فلن يغفر الله لهم؛ أي لن يستر الله عليهم، ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولًا كما في سائر مفاهيم الأعداد، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول، فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى أنه لن يغفر الله لهم، وإن استغفرت لهم استغفارًا بالغًا في الكثرة غاية المبالغ، ويراد بالسبعين في مثل هذا الأسلوب: الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم .. فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله، فيتوب عليهم، ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" رواه ابن ماجه، وقال الضحاك: ولما نزلت هذه الآية .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قد رخَّص لي، فسأزيدن على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم"، فأنزل الله سبحانه {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. وقد ذهب بعض الفقهاء (¬2): إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

قبول الزيادة عليه، ويدل على ذلك، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لأزيدن على السبعين" وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهًا، فقال: إن السبعة عدد شريف؛ لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة، والأعضاء السبعة، وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقيل: خصت السبعين بالذكر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة، بإزاء تكبيراتك على حمزة {ذَلِكَ}؛ أي: امتناع المغفرة لهم، ولو بعد المبالغة في الاستغفار، ليس لعدم الاعتداد باستغفارك، بل بسبب {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفي "الكرخي" {ذَلِكَ}؛ أي: اليأس من الغفران لهم، بسبب أنهم كفروا بالله ورسوله، لا ببخل منا، أو قصورٍ فيك، بل لعدم قابليتهم، بسبب الكفر الصارف عنها. اهـ؛ أي: ذلك المذكور بسبب (¬1) جحودهم وحدانية الله تعالى، وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه، من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما أوجبه من أتباعه، وجحودهم بعثه للموت، وجزاءهم على أعمالهم، لم يعف عن ذنوبهم، ولا عمَّا دسُّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: المتمردين الخارجين عن الطاعة، المتجاوزين لحدودها، والمراد (¬2) هنا: الهداية الموصلة إلى المطلوب، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق؛ أي: أنَّ سنة الله سبحانه قد جرت فيمن أصرُّوا على فسوقهم، وتمرَّدوا في نفاقهم، وأحاطت بهم خطاياهم، أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان، فلا يهتدون إليهما سبيلًا. والمعنى: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة الله، وطاعة رسوله، وهو كالدليل على الحكم السابق، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر، والإرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره المطبوع عليه، لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره، وهو عدم يأسه من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[81]

إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...} الآية، ذكره البيضاوي. 81 - ثم ذكر سبحانه نوعًا آخر من قبائح المنافقين، فقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ}؛ أي: المخلفون من هؤلاء المنافقين، الذين تركهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه إلى غزوة تبوك {بِمَقْعَدِهِم}؛ أي: بقعودهم في بيوتهم في المدينة {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي: بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، أو مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من أجر عظيم، لا تذكر معه راحة القعود في البيوت شيئًا، والمخلفون اسم مفعول، من خلف إذا ترك، فالمخلفون المتروكون، وهم الذين استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة، أو الذين خلفهم وأقعدهم الكسل أو خلفهم الله تعالى، بتثبيطه إياهم، لما علم في ذلك من الحكمة الخفية، أو خلفهم كسلهم، أو نفاقهم، كما ذكره أبو السعود {بِمَقْعَدِهِم}؛ أي: بقعودهم، يقال قعد قعودًا ومقعدًا؛ أي: جلس {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، ظرف زمان، بمعنى بعد خروج رسول الله إلى تبوك، إليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمرو الأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون {خلف} بفتح الخاء وسكون اللام، أو مفعول لأجله، والعامل فيه إما فرح، وإما مقعد؛ أي: فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه، أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ؛ {خلف} بضم الخاء وسكون اللام، أو منصوب على المصدرية، بفعل مقدر مدلول عليه، بقوله: {مقعدهم} لأنه في معنى تخلفوا؛ أي: تخلفوا خلاف رسول الله. وقرأ ابن مسعود وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة (¬1): {خلف رسول الله} بفتح الخاء وسكون اللام، وقرىء: {خلف} بضم الخاء وسكون اللام ¬

_ (¬1) زاد المسير.

{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن في المجاهدة إتلاف المال والنفس، سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص، ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم {وَقَالُوا}؛ أي: قال المنافقون بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} تثبيطًا لهم وكسرًا لنشاطهم، وتواصيًا بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله؛ أي: لا تخرجوا مع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك في الحر الشديد، ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم بقوله: {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر {نَارُ جَهَنَّم} التي هي موعدهم في الآخرة {أَشَدُّ حَرًّا} من حر الدنيا {لوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}؛ أي: يعلمون أنَّ مآبهم إليها، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة. والمعنى (¬1): أنكم أيها المنافقون، كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم الي ستدخلونها خالدين فيها أبدًا أشد حرًّا مما فررتم منه، فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناهٍ أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وجواب لو، في قوله: {لوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} محذوف تقديره: لو كانوا يفقهون أنها كذلك .. لما فعلوا ما فعلوا. وقرأ عبيد الله (¬2): {يعلمون} مكان يفقهون، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير؛ لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه. وحال معنى الآية: أي (¬3) وقالوا لإخوانهم في النفاق إغراءً لهم بالثبات على المنكر، وتثبيطًا لعزائم المؤمنين: لا تنفروا في الحر، قل لهم أيها الرسول، مفندًا آراءهم، ومسفهًا أحلامهم: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[82]

رسوله أشد حرًّا في تلك الأيام في أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم، ولا يلبث أن يخف ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم، يلفح الوجوه، وينضج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك، ويعتبرون به .. لما خالفوا وقعدو، ولما فرحوا بقعودهم، بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا. 82 - {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}؛ أي: فليضحك (¬1) هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فرحين بمقعدهم خلافه قليلًا في الدنيا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} في الآخرة مكان ضحكهم في الدنيا، وهذا وإن ورد بصيغة الأمر، إلا أن معناه الإخبار. والمعنى: إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة؛ لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل، وإنما جيء (¬2) بهما على صيغة الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم، لا يكون غيره، وانتصاب {جَزَاءً} على المصدرية بعامل محذوف، تقديره: يجزون ذلك البكاء الكثير في الآخرة جزاءً {بـ} سبب {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَـ} ـه في الدنيا من المعاصي؛ أي: يجزون به جزاء على ما يقولونه، ويعملونه من المعاصي. أو المعنى (¬3): إن الأجدر بهم، بحسب ما تقتضيه حالهم، وتستوجبه جريمتهم، أن يضحكوا قليلًا ويبكوا كثيرًا في الدنيا، لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه في الآخرة من وزر، وما يلاقونه في الدنيا من خزي وضرٍّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان. ونحو الآية قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو تعلمون ما أعلم .. لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا يظهر النفاق، وترتفع الأمانة وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[83]

أناخ بكم الشرف الجون، الفتن كأمثال الليل المظلم"، الشرف بضمتين جمع شارف، وهي الناقة الكبيرة السن، والجون السود. 83 - ثم بين ما يجب أن يعاملوا به في الدنيا قبل الآخرة، مما يقتضي تركهم الفرح، والغبطة في دنياهم بالتمتع بأحكام الإِسلام فقال: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى يا محمَّد، من غزوة تبوك، وردَّك من سفرك هذا، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم}؛ أي: إلى طائفة من المنافقين المتخلفين عنك في المدينة، وإنما قال إلى طائفة منهم؛ لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين، بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين، الذين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتاب الله عليهم، كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك، وقيل: إنما قال: إلى طائفة؛ لأن منهم من تاب عن النفاق، وندم على التخلف. {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك؛ أي: ليخرجوا معك في غزوة أو غيرها، مما تخرج لأجله {فَقُلْ} لهم يا محمَّد إخراجًا لهم عن ديوان الغزاة، وإبعادًا لمحلهم عن محفل صحبتك {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} في سفر من الأسفار، ولن يكون لكم أبدًا شرف الصحبة بالخروج معي للجهاد في سبيل الله تعالى، ما دمت ودمتم {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} من الأعداء لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك، كأن يهاجم المؤمنون في عقر دارهم، كما حدث يوم وقعة الأحزاب. وقرىء (¬1): {معي} في الموضعين بفتح الياء، وقرىء: بسكونها فيهما، ثم بين سبب النهي عن صحبتهم فقال: {إِنَّكُمْ} أيها المتخلفون {رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} عن الغزو {أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهي غزوة تبوك {فَاقْعُدُوا} عن الجهاد {الْخَالِفِينَ}؛ أي: مع النساء والصبيان والرجال العاجزين، كالمرضى والزمنى، الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعًا عن الحق، وإعلاءً لكلمة الله تعالى، وجملة ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قوله: {إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} للتعليل؛ والفاء في قوله: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} لتفريع ما بعدها على ما قبلها. والمعنى (¬1): لن تخرجوا معي أبدًا، ولن تقاتلوا عدوًّا؛ لأنكم رضيتم لأنفسكم بخزي العقود والتخلف أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذ طلب إليكم أن تنفروا، فلم تنفروا، وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدًا مع الذين تخلفوا عن النفر، من الأشرار المفسدين، الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالمخالفين الصبيان والعجزة والنساء، كما مرَّ آنفًا. والخالفين (¬2) جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم: من تخلَّف عن الخروج، وقيل: المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين من قولهم: فلان خالف أهل بيته، إذا كان فاسدًا فيهم، من قولك: خلف اللبن، إذا فسد بطول المكث في السقاء، ذكر معناه الأصمعيُّ، وقرأ (¬3) مالك بن دينار وعكرمة مع {الْخَالِفِينَ}، وهو مقصورٌ من الخالفين. وفي الآية (¬4): دليلٌ على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه، وخداع وبدعة .. يجب الانقطاع عنه، وترك مصاحبته؛ لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد، وهو مشعر بإظهار نفاقهم، وذمهم وطردهم، وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا} حرف نداء {أَيُّ} منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه زائد، تعويضًا عمَّا فات {أَيُّ} من الإضافة {النَّبِيُّ} صفة لـ {أَيُّ} وجملة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الخازن.

النداء مستأنفة {جَاهِدِ الْكُفَّار} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جواب للنداء، لا محل لها من الإعراب، {وَالْمُنَافِقِينَ} معطوف على {الْكُفَّار} {وَاغْلُظْ} فعل أمر {عَلَيْهِمْ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {جَاهِدِ} {وَمَآواهُم} مبتدأ، ومضاف إليه {جَهَنَّمُ} خبره، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله، كما ذكره أبو السعود. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فعل وفاعل، والجملة خبر عن المخصوص بالذم المحذوف وجوبًا تقديره: وبئس المصير هي. {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}. {يَحْلِفُونَ} فعل وفاعل {بِاللَّه} متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما صدر عنهم، من الجرائم الموجبة للأمر بجهادهم، والغلظة عليهم، كما ذكره أبو السعود {مَا} نافية {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: يحلفون بقولهم: والله ما قالوا {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية {اللام} موطئة لقسم محذوف {قَد} حرف تحقيق {قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة مسوقة لبيان حالهم. {وَكَفَرُوا}: فعل وفاعل {بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {قَالُوا} {وَهَمُّوا} فعل وفاعل معطوف على قالوا أيضًا {بِمَا} جار ومجرور متعلق به {لَمْ يَنَالُوا} جازم وفعل وفاعل والجملة صلة و {ما}: أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لم ينالوه. {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية {ما} نافية {نَقَمُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} ناصب وفعل ومفعول وفاعل {وَرَسُولُهُ} معطوفة على لفظ الجلالة {مِنْ فَضْلِهِ} متعلق به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {نَقَمُوا} تقديره: وما نقموا إلا إغناء الله ورسوله

إياهم من فضله {فَإِنْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول لك {إِنْ}: حرف شرط {يَتُوبُوا} فعل وفعل مجزوم بـ {أن} على كونه فعل شرط لها {يَكُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير مستتر فيه، يعود على التوب المفهوم مما قبله، تقديره: هو {خَيْرًا}: خبرها منصوب {لَهُمْ}: متعلق بخيرًا، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة {إن}: حرف شرط {يَتَوَلَّوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ}: على كونه فعل شرط لها {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جواب شرط لها، وجملة {إن}: الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة {عَذَابًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، أو مفعول ثان {أَلِيمًا}: صفة له {فِي الدُّنْيَا}: متعلق بـ {عَذَابًا} {وَالْآخِرَةِ}: معطوف عليه {وَمَا}: {الواو} حالية {ما}: نافية {لَهُم} جار ومجرور، خبر مقدم لـ {ما} {فِي الْأَرْضِ} حال من الضمير المستكن في الخبر {مِنْ وَلِيٍّ}: اسم {ما} مؤخر {مِنْ}: زائدة {وَلَا نَصِيرٍ} معطوف عليه، والتقدير: وما ولي ولا نصير كائنًا هو لهم، حالة كونه في الأرض، وجملة {ما} في محل النصب، حال من هاء {يُعَذِّبْهُمُ} والتقدير: يعذبهم الله عذابًا أليمًا، حالة كونهم عادمي ولي ونصير في الأرض. {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}. {وَمِنْهُمْ} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، كما تقدم نظيرها {منهم}: جار

ومجرور خبر مقدم {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة {عَاهَدَ اللَّهَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول، وفيه معنى القسم؛ لأنه بمعنى أقسم بالله. وقال في قسمه {لَئِنْ}: و {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {آتَانَا}: فعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: مالًا {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق به وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} وجواب {إن} الشرطية، محذوف لدلالة جواب القسم عليه تقديره: إن آتانا من فضله، نتصدق، ونكون من الصالحين، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب، مقول لـ {قال} المقدر، كما مر آنفًا {لَنَصَّدَّقَنَّ} {اللام} موطئة للقسم، وكررت لتدل على أنَّ ما بعدها جواب القسم، لا جواب الشرط {نَصَّدَّقَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على {المنافقين} والجملة جواب القسم. لا جواب الشرط، وقد اجتمع هنا قسم وشرط، فالمذكور وهو قوله: لنصدقن ... إلخ، جواب القسم وجواب الشرط محذوف كما قدرناه آنفًا على حد قول ابن مالك: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَم وفي الكرخي قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فيه معنى القسم: فلذلك أجيب بقوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ} وحذف جواب الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و {اللام}: للتوطئة، ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له اهـ. {وَلَنَكُونَنّ}: {الواو} عاطفة و {اللام} موطئة للقسم {نكونن} فعل مضارع ناقص: في محل الرفع مبني على الفتح، واسمها ضمير يعود على {المنافقين} {مِنَ الصَّالِحِينَ}: خبرها، والجملة معطوفة على {لَنَصَّدَّقَنَّ} على كونها جواب القسم. {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}. {فَلَمَّا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قسمهم هذا، وأردت بيان عاقبته .. فأقول لك {لما}: حرف

شرط غير جازم {آتَاهُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {مِنْ فَضْلِهِ} متعلق به، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فلمَّا آتاهم مالًا من فضله، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لمَّا} لا محلَّ لها من الإعراب {بَخِلُوا} فعل وفاعل {به} متعلق به، والجملة جواب {لِمَا} لا محل لها من الإعراب {وَتَوَلَّوْا} فعل وفاعل معطوف على {بَخِلُوا} {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} مبتدأ وخبر، الجملة في محل النصب حال من فاعل {تولوا} وجملة {لما} من فعل شرطها وجوابها مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. {فَأَعْقَبَهُمْ} {الفاء} حرف عطف وتفريع {أعقبهم نفاقًا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {بخلوا} {فِي قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور صفة لـ {نِفَاقًا}. {إِلَى يَوْمِ} جار ومجرور، متعلق بـ {أعقبهم} أو صفة ثانية لـ {نِفَاقًا}؛ أي: نفاقًا مستمرًا إلى يوم يلقون {يَلْقَوْنَهُ} فعل وفاعل، ومفعول: والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمِ} {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب {مَا} مصدرية {أَخْلَفُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول أول {مَا} موصولة أو موصوفة في حل النصب مفعول ثان لـ {أخْلَفُوا} {وَعَدُوهُ} فعل وفاعل ومفعول، صلة لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {أَخْلَفُوا} صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إخلافهم الله فيما وعدوه {وَبِمَا} {الواو}: عاطفة {الباء}: حرف جر و {مَا}: مصدرية {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْذِبُونَ}: خبرها، وجملة {كان} صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: وبتكذيبهم الله ورسوله، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: بما أخلفوا الله. {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمَّن معنى الإنكار {لم} حرف

جزم {يَعْلَمُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} فعل ومفعول به؛ لأنه علم بمعنى عرف {وَنَجْوَاهُمْ} معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} وجملة يعلم في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لعلم؛ لأنه بمعنى عرف تقديره: ألم يعلموا علم الله سبحانه وتعالى سرهم ونجواهم {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ناصب واسمه، وخبره والجملة معطوفة علي جملة {أَنَّ} الأولى، تقديره: وكون الله تعالى علام الغيوب. {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {الَّذِينَ}: مبتدأ {يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {مِنَ اَلمُؤمِنِينَ} حال من الضمير في المطوعين {فِي الصَّدَقَاتِ} متعلق بـ {يَلْمِزُونَ} {وَالَّذِينَ} في محل النصب، معطوف على {الْمُطَّوِّعِينَ} {لَا يَجِدُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {جُهْدَهُمْ} مفعول به، ومضاف إليه {فَيَسْخَرُونَ} فعل وفاعل {مِنْهُمْ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {يَلْمِزُونَ} على كونها صلة الموصول {سَخِرَ اللَّهُ} فعل وفاعل {مِنْهُمْ} متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {وَلَهُمْ} خبر مقدم {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة {سَخِرَ اللَّهُ} على كونها خبر المبتدأ. {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. {اسْتَغْفِرْ} فعل أمر {لَهُمْ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَوْ} حرف عطف {لَا} ناهية {تَسْتَغْفِرْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَغْفِرْ} {لَهُمْ} متعلق به {إن} حرف شرط {تَسْتَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم

بـ {إن} وفاعله ضمير يعود على محمد {لَهُمْ} متعلق به {سَبْعِينَ}: منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: استغفارًا سبعين {مَرَّةً} منصوب على التمييز {فَلَن} {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} فعل وفاعل، منصوب بـ {لَنْ} {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {ذَلِكَ} مبتدأ {بِأَنَّهُمْ} {الباء} حرف جر وسبب {أن} حرف نصب و {الهاء} اسمها {كَفَرُوا} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة وجملة {كَفَرُوا} في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب كفرهم باللهِ {وَرَسُولِهِ} الجار والمجرور خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب كفرهم بالله ورسوله، والجملة الاسمية مستأنفة {وَاللَّهُ} مبتدأ، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِمَقْعَدِهِمْ}: متعلق به {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} ظرف بمعنى بعد، ومضاف إليه متعلق بـ {مَقْعَدِهِمْ} وقد تقدم لك في مبحث التفسير، ما يجري فيه، من أوجه الإعراب، استعجالًا للفائدة {وكَرِهُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {فَرِحَ} {أنْ يُجَاهِدُوا}: فعل وفاعل، منصوب بـ {أَنْ} المصدرية {بِأَمْوَالِهِمْ}: متعلق به {وَأَنْفُسِهِمْ}: معطوف عليه {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، تقديره: وكرهوا مجاهدتهم في سبيل الله، بأموالهم وأنفسهم. {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {كَرِهُوا} {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا}: ناهية جازمة، {تَنْفِرُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {لَا} الناهية {فِي الْحَرّ}: متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول {قَالُوا}

{قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {نَارُ جَهَنَّم} مبتدأ ومضاف إليه {أَشَدُّ} خبره {حَرًّا} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قُلْ} {لَو} حرف شرط {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه، وجملة {يَفْقَهُونَ} خبرها، وجملة {كَانُوا} فعل شرط لِـ {لَوْ} وجوابها محذوف، تقديره: لو كانوا يفقهون شدة حرارتها .. ما تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجملة {لَوْ} الشرطية معترضة بين جمل المقول، وفي "أبي السعود" قوله: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} اعتراضٌ تذييليٌّ من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكِّدٌ لمضمونه اهـ. {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. {فَلْيَضْحَكُوا} {الفاء}: حرف عطف وتفريغ و {اللام}: لام الأمر، مبنية على السكون، لاتصالها بالفاء {يضحكوا} فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر {قَلِيلًا} منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره ضحكًا قليلًا، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} على كونها مَقُولًا لـ {قُلْ} {ولْيَبْكُوا كَثِيرًا} فعل وفاعل ومفعول مطلق، مجزوم بـ {لام} الأمر معطوف على {فَلْيَضْحَكُوا} {جَزَاءً}: مفعول لأجله؛ أي: بسبب الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء، جزاؤهم بعملهم، أو منصوب على المصدرية، بفعل مقدر، تقديره: يجزون، ذلك جزاء {بِمَا} {الباء} حرف جر وسبب {ما} موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء، الجار والمجرور صفة لـ {جَزَاءً} أو متعلق به، لتعديته به {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُون} خبره وجملة {كَانُ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}. {فَإِنْ} {الفاء} لتفريع ما بعدها على ما قبلها؛ أي: على ما سرد من أمرهم، كذا قالوا، أو {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شوط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور فيما سبق، وأردت بيان شأنك فيهم ...

فأقول لك {إن} حرف شرط {رَجَعَكَ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {إِلَى طَائِفَةٍ} متعلق به {مِنْهُمْ} صفة لـ {طَائِفَة} {فَاسْتَأْذَنُوكَ} {الفاء}: عاطفة {اسْتَأْذَنُوكَ} فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {رَجَعَكَ} {لِلْخُرُوجِ} متعلق به {فَقُلْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبدًا}: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {لَنْ تَخْرُجُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {لَنْ} {مَعِيَ} متعلق به {أَبَدًا} منصوب على الظرفية متعلق به - والجملة في محل النصب، مقول {قُلْ} {وَلَنْ} {الواو} عاطفة {لَنْ تُقَاتِلُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {لَنْ} معطوف على {لَنْ تَخْرُجُوا} {مَعِيَ} متعلق به {عَدُوًّا} مفعول به {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه {رَضِيتُمْ} فعل وفاعل {بِالْقُعُودِ} متعلق به {أوَّلَ مرَّةٍ} ظرف متعلق {بِالقُعُودِ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قل} مسوقة لتعليل ما قبلها {فَاقْعُدُوا} {الفاء} حرف عطف وتفريع {اقْعُدُوا} فعل وفاعل {مَعَ الْخَالِفِينَ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {اقْعُدُوا} أو حال من فاعل {اقْعُدُوا} والجملة في محل الرفع، معطوفة مفرعة على جملة {رَضِيتُم} والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} جاهد، من باب فاعل الرباعي فيه معنى المشاركة. يقال: جاهد يجاهد جهادًا ومجاهدة، والجهاد والمجاهدة: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه كلها قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقال - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم"، وقال: "جاهدوا الكفار

بأيديكم وألسنتكم" والجهاد باللسان، إقامة الحجة والبرهان، كما مر والجهاد باليد: الجهاد بالسيف، وبكل الوسائل الحربية {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} من الغلظة، وهي الخشونة، والشدة في المعاملة، وهي ضد اللين {وَمَا نَقَمُوا} نقم منه الشيء إذا أنكره وعابه عليه، من باب ضرب {لَنَصَّدَّقَنَّ} فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، أصله لنتصدقن من باب تفعل الخماسي، فقلبت التاء صادًا، فأدغمت الصاد في الصاد، فصار لنصَّدَّقن بتشديد الصاد، والدال. {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} يقال: أعقبت فلانًا ندامةً، إذا صيرت عاقبة أمره نادمة وحسرة وخسارة. {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} وفي "المصباح" لمزه لمزًا من باب ضرب إذا عابه، وقرأ بها السبعة ومن باب قتل لغة، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، كما مر المطَّوِّعين بتشديد الطاء والواو، جمع المطوع بمعنى: المتبرع بغير ما وجب عليه، فأصله المتطوعين؛ لأنه اسم فاعل من تطوع الخماسي، فقلبت التاء طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، فصار المطوعين بتشديد الطاء {فِي الصَّدَقَاتِ} جمع الصدقة، {إِلَّا جُهْدَهُمْ} والجهد: بالضم والفتح، الطاقة وهي: أقصى ما يستطيعه الإنسان، وقال القرطبي: الجهد الشيء اليسير الذي يعيش به المقل {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}؛ أي: يستهزئون منهم، احتقارًا وفي "المصباح" سخرت منه سخرًا، من باب تعب، هزئت به، والسِّخريُّ، بالكسر اسم منه، والسُّخريُّ بالضم، لغة فيه، والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو جارية أو دابة، بلا أجرٍ ولا ثمنٍ، والسخري بالضم، بمعناه، وسخرته في العمل، بالتثقيل استعملته مجانًّا وسخر الله الإبل، ذللها وسهلها اهـ وفيه أيضًا هزئت به أهزأ. مهموز من باب تعب، وفي لغة من باب نفع، سخرت منه اهـ {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} جمع مخلف، اسم مفعول من خلف، كما مر، والفاعل الكسل؛ أي: الذين خلفهم، وأقعدهم الكسل، والفرح: الشعور بارتياح النفس وسرورها. {بِمَقْعَدِهِمْ}؛ أي: بقعودهم. يقال: قعد قعودًا ومقعدًا، إذا جلس وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري، {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} والخلاف والمخالفة بمعنى،

ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال: جلست خلاف فلان، وخلفه؛ أي: بعده، ومنه {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}. {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ}؛ أي: ردك (¬1) الله، خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم جمعهم معه في مشاهد الخير بعد ذلك، ويؤخذ من ذلك: أن أهل الفسوق والعصيان لا يرافقون ولا يشاورون. ورجع: إما لازم، فبابه جلس، ومصدره الرجوع، وإما متعد، وبابه قطع، ومصدره المرجع، كالرد، كما في "المختار" وفي "الكرخي" ومعنى الرجع تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعا كقولك رددته ردًّا. اهـ. {أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهي (¬2) الخرجة إلى غزوة تبوك، ومرة مصدر، كأنه قيل أول خرجه دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجه خرجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق، وقيل: التقدير: أول خرجه خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه، وقيل: أول مرة قبل الاستئذان. {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}؛ أي: أقيموا وليس أمرًا بالقعود الذي هو نظير الجلوس، وإنما المراد منعهم من الخروج معه، قال أبو عبيدة: الخالف، الذي خلف بعد خارج، فقعد في رحله، وهو الذي يستخلف عن القوم، وقيل: المخالفين، المخالفين، من قولهم: عبد خالف؛ أي: مخالف لمولاه، وقيل: الأخساء الأدنياء، من قولهم: فلان خالفة قومه، لأخسِّم وأرذلهم. ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكرٌ وخداع وكيد، وقطع العلاقة معه، والاحتراز منه، وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثثي عشر رجلًا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآية أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنهما: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) البحر المحيط.

وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} كأنه قال: ليس له صفة تكره وتعاب إلا أنه ترتب على قدومه إليهم هجرته عندهم إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة، وهذه ليست صفة ذم، فحينئذٍ ليست له صفة تُذم أصلًا، وهو من باب قول النابغة: وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غير أنَّ سيُوْفَهُمْ ... بِهنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ومن باب قول الآخر: مَا نَقَمُوْا مِنْ بَنِيْ أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلَمُوْنَ إِنْ غَضِبُوْا وَأنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوْكِ وَلاَ ... يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ وفي "البحر" قوله: {وَمَا نَقَمُوا} الجملة كلام أجري مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب، إلا أني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لِئامًا. ومنها: اللف (¬1) والنشر المرتب في قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا} فقوله: {بَخِلُوا بِهِ} راجع لقوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ} وقوله: {وَتَوَلَّوْا} راجع لقوله: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}. ومنها: المقابلة في قوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} وفي قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} وهي من المحسنات البديعية. ومنها: جناس الاشتقاق بين يعلم وعلام في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. ومنها: أن التنوين في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} للتهويل والتفخيم. ومنها: طباق السلب في قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ}. ومنها: المقابلة (¬2) المعنوية بين قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ}، وقوله: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} لأن الفرح من ثمرات المحبة. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

ومنها: الجناس المغاير في قوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا}. ومنها: التكرار في قوله: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} وقوله: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَلْمِزُونَ}؛ لأن اللمز حقيقة في الإشارة بالعين ونحوها، ثم استعير للتعييب والتغيير. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وفيه أيضًا من المحسنات البديعية المشاكلة. ومنها: الاعتراض التذييلي في قوله: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}؛ لأنه كلام معترض من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكدٌ لمضمونه، كما في "أبي السعود". ومنها: التعريض (¬1) بالمؤمنين بتحملهم المشاق العظيمة، في قوله: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: كرهوا أن يجاهدوا كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وآثروا ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أمر رسوله فيما سبق، بإهانة المنافقين، وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات .. أردف ذلك بذكر إهانة أخرى لهم، وهي منع الرسول أن يصلي على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ...} الآية، مناسبة ¬

_ (¬1) المراغي.

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أنَّ المنافقين عملوا الحيل، والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقعود عن الغزو .. أردف ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعنا نكن مع الضعفاء والزَّمنى العاجزين عن القتال. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لمَّا قبلها: أنَّ أنه سبحانه تعالى لمَّا ذكر فيما سبق المعذورين، والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم. أردف ذلك بذكر أصنافٍ ثلاثةٍ، أعذارها مقبولةٌ، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار، وهو استئذان الأغنياء. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ...} سبب نزوله: ما روي عن ابن عمر، قال لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول .. جاء ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه إياه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي، فقام عمر بن الخطاب، فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك، أن تصلي على المنافقين؟ قال: "إنما قد خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}. فقال عمر: إنه منافق فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فترك الصلاة عليهم، وروي ذلك من حديث عمر وأنس وجابر وغيرهم. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ ...} الآية؛ سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أكتب براءة، فإني لواضع القلم على أذني، إذا أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى، فقال: كيف بي يا رسول الله، وأنا أعمى؟ فنزلت {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ ...} الآية، وأخرج عن طريق العوفي عن ابن عباس، قال:

[84]

أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابةٌ من أصحابه , فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقال: يا رسول الله، احملنا , فقال: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا ولهم بكاءٌ، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقةً ولا محملًا , فأنزل الله عز وجل: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية , وقد ذكرت أسمائهم في المبهمات. التفسير وأوجه القراءة 84 - {وَلَا تُصَلِّ} يا محمد بعد الآن؛ أي: بعد عبد الله بن أبي {عَلَى أَحَدٍ} من هؤلاء المنافقين، الذين تخلفوا عن الخروج معك، وقوله: {مَاتَ} صفة لأحد، وقوله: {أَبَدًا} ظرف لتأييد النفي، منصوب بالنهي؛ أي: لا تصل أبدًا بعد اليوم على أحد مات منهم؛ لأن المقصود من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له، وهو ممنوع في حق الكفار {ولَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}؛ أي: ولا تقف عند قبره للدفن , أو الزيارة أو الدعاء له بالتثبيت، كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دفن الميت .. وقف على قبره ودعا له. روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت. وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل". ثم بيَّن سبب نهيه عن الصلاة عليم {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله في السِرِّ مدَّة حياتهم {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}؛ أي: خارجون عن حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه، فليسوا أهلًا للصلاة عليهم، ولا للاستغفار لهم بالقيام عند قبورهم. فإن قلت: لِمَ وصفهم بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر؛ لأن الفسق أدنى حالًا من الكفر، فالكفر يشمله وغيره، فما الفائدة في وصفهم بكونهم فاسقين بعد وصفهم بالكفر؟. قلتُ: إن الكفر قد يكون عدلًا في دينه، بأن يؤدِّي الأمانة ولا يضمر

لأحد سوءًا، وقد يكون خبيثًا في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع، وإضمار السوء للغير، وهذا أمر مستقبح عند كل أحد، ولما كان المنافق بهذه الصفة الخبيثة .. وصفهم الله تعالى بكونهم فاسقين، بعد أن وصفهم بالكفر، ولما نزلت هذه الآية .. ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منافق، ولا قام على قبره بعدها. روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس، قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي .. دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف .. قلت: أتصلي على عدو الله، عبد الله بن أبي، القائل: كذا وكذا، والقائل: كذا وكذا؟ أعدِّد أيامه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يبتسم، حتى إذا أكثرت، قال: "يا عمر أخر عني، إني قد خيرت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له .. لزدت عليها" ثم صلى عليه، ومشى معه حتى قام على قبره، إلى أن فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه} فما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منافق بعده، حتى قبضه الله عز وجل. وقد حكم كثير من العلماء (¬1)، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي، وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث، لمخالفته للآية من وجوه: 1 - جعل الصلاة على ابن أبي سببًا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك، سنة ثمان، وابن أبي مات في السنة التي بعدها. 2 - قول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي، وقوله بعده، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة. ¬

_ (¬1) المراغي.

3 - قوله إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله خيَّره في الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث، ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فـ (أو) فيها: للتسوية لا للتخيير. وهناك (1) روايات أخرى في الصلاة على ابن أبي من طريق ابن عمر، ومن طريق جابر، وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل، لما ذكروا من الأسباب؛ لأنه قلما يخلو تفسير من ذكره، وقيل أن تجد من يشير إلى شيء مما يدل على ضعفه واضطرابه، لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينةٍ من أمره، إذا أنت قرأته. فصل وقد وقع في الأحاديث (2) التي تتضمن قصة موت عبد الله بن أبي بن سلول صورة اختلاف في الروايات، ففي حديث ابن عمر: أنه لما توفي عبد الله بن أبي .. أتى ابنه عبد الله إلى رسول - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، وأن يصلي عليه، فأعطاه قميصه، وصلَّى عليه، وفي حديث عمر بن الخطاب - من أفراد البخاري - أن رسول الله دعا له ولم يصل عليه، وفي حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بعد ما أدخل في حفرته، فأمر به فأخرج فوضعه على ركبته، ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. ووجه الجمع بين هذه الروايات: أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه قميصه فكفن فيه، ثم إنه صلى عليه، وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه، فالظاهر - والله أعلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه أولًا، كما في حديث ابن عمر، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه ثانيًا، بعدما أدخل حفرته، فأخرجه منها، ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه، لينفث عليه من ريقه، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - ألبسه قميصه بيده الكريمة، فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطييبًا لقلب ابنه عبد الله، فإنه كان من فضلاء الصحابة، وأصدقهم إسلامًا وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرًا. ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كُلِّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وما يغني

[85]

عنه قميصي وصلاته من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه" ويروي أنه أسلم ألف من قومه لمَّا رأوه يتبرك بقميص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية عن جابر، قال: لما كان يوم بدر، أتى بالأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - له قميصًا، فوجدو قميص عبد الله بن أبي مقدرًا عليه، فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه فلذلك نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه له. اهـ "الخازن". 85 - ثم أكد ما تقدَّم من النهي عن الاغترار بالأموال والأولاد؛ لأن الأمر جد خطير، يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبًا للقلوب، وجلبًا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرةً بعد أخرى، فقال: {وَلَا تُعْجِبْكَ} يا محمد أموالهم وأولادهم؛ أي. كثرتها واغترارهم بها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بتمتيعهم بالأموال والأولاد {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} ويتعبهم {بِهَا}؛ أي بمكابدتهم الشدائد في شأنها {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}، أي: وتخرج أرواحهم {وَهُمْ كَافِرُونَ}؛ أي: مغرورون بها عن نعيم الآخرة، أي: فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها. وقد جاء (¬1) مثل هذا النص فيما سبق، إلا أن زيادة {لا} في الآية السابقة للنهي عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهي في هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين، وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما. فصلٌ للكلام على هذه الآية في بحثين البحث الأول: في وجه تكرارها (¬2)، والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأنٌ في تقرير ما نزل أولًا، وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بالٍ، ولا يغفل عنه، ولا ينساه، وأن يعتقد أنَّ العمل به مهم، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه، وهو أن أشد الأشياء جذبًا للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى، وبالجملة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

[86]

فالتكرار يراد به التأكيد، والمبالغة في التحذير في ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به، وقيل أيضًا: إنما كرر هذا المعنى؛ لأنه أراد بالآية الأولى قومًا من المنافقين، كان لهم أموالٌ وأولاد عند نزولها، وبالآية الأخرى أقوامًا آخرين منهم. البحث الثاني: في بيان وجه ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين، وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى: {فَلَا تُعْجِبْكَ} بالفاء، وقال، هنا: {وَلَا تُعْجِبْكَ} بالواو، والفرق بينهما: أنه عطف الآية الأولى على قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق، لشدة المحبة للأموال والأولاد، فحسن العطف عليه بالفاء في قوله: فلا تعجبك، وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها، فلهذا أتى بحرف الواو، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} بزيادة لا وأسقطها هنا، فقال: {أَوْلَادُهُمْ} والسبب فيه: أن حرف {لا} دخل هناك لزيادة التأكيد في شأن الأولاد، فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد، وكان إعجابهم بأولادهم أكثر من إعجابهم بأموالهم، وفي إسقاط حرف {لا} هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بزيادة حرف اللام، وقال هنا: {أَن يُعَذِّبَهُمْ} بإسقاطها وزيادة حرف أن، والسبب في ذلك، التنبيه على أنَّ التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما ورد حرف اللام، فمعناه: أن كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ومعناه: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله، وقال أيضًا في الآية الأولى {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بزيادة لفظ الحياة، وقال هنا: {فِي الدُّنْيَا} بإسقاطه، والحكمة في إسقاطه هنا: التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر، ولا تسمى حياةً، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا، تنبيهًا على كمال دنائتها وخستها، فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. 86 - {وَإِذَا أُنْزِلَتْ} عليك يا محمد {سُورَةٌ} من سور القرآن، كلا أو بعضًا

يحتمل أن يراد بالسورة بعضها؛ لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز، ويحتمل أن يراد جميع السورة، فعلى هذا المراد بالسورة سورة براءة؛ لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان، والأمر بالجهاد بـ {أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ}؛ أي: داوموا على إيمانكم بالله تعالى {وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم - في المستقبل، ويصح أن تكون أن مصدرية، كما أشرنا إليه بتقدير الباء، ومفسرة لما في الإنزال من معنى القول والوحي، والقولان ذكرهما أبو السعود. فإن قلت: كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين، فهو من باب تحصيل الحاصل؟ قلت: معناه: الأمر بالدوام على الإيمان وبالجهاد في المستقبل، وقيل: إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد، في كل ساعة، وقيل: إن هذا الأمر، وإن كان ظاهرهُ العموم، لكن المراد به الخصوص، وهم المنافقون، والمعنى حينئذ: إن أخلصوا الإيمان بالله، وجاهدوا مع رسوله، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد؛ لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلًا، فكأنه قيل للمنافقين: الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله أولًا، وتجاهدوا مع رسوله ثانيًا حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة. والمعنى: وإذا أنزلت عليك يا محمَّد سورة من القرآن، مشتملةٌ على الأمر بإخلاص الإيمان، وعلى الأمر بالجهاد مع رسوله في المستقبل {اسْتَأْذَنَكَ} في التخلف عن الغزو {أُولُو الطَّوْلِ} وأصحاب الغنى {مِنْهُمْ}؛ أي: من المنافقين أي: استأذنك أصحاب السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين وكبرائهم، كعبد الله بن أبي وجدٍّ بن قيس، ومعتب ابن قشير. وخصهم بالذكر؛ لأن الذم لهم ألزم، لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد؛ أو لأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان {وَقَالُوا}؛ أي: قال أولوا الطول لك {ذَرْنَا}؛ أي: أتركنا يا محمَّد عن الخروج معك {نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} في البيوت من النساء والصبيان. وقيل: مع المرضى والزمنى: أي: إن تركتنا وسامحتنا من الخروج للغزو نكون مع الضعفاء من الناس، والساكنين

[87]

في البلد بعذر. والمعنى: أنه كلما أنزلت سورةٌ، تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان باللهِ، والجهاد مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. استأذنك أولوا المقدرة على الجهاد، المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم في التخلف عن الجهاد، وقالوا: دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى، العاجزين عن القتال والنساء والصبيان، غير المخاطبين بالجهاد. ونحو الآية قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وفي هذا تصريح بجبنهم، ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان. 87 - {رَضُوا}؛ أي: رضي هؤلاء المنافقون لأنفسهم {بِأَن يَكوُنُواْ} في البلد {مَعَ الْخَوَالِفِ}؛ أي: مع النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت، جمع خالفة، وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف، وهو من لا خير فيه؛ أي: أن يكونوا مع النساء اللاتي ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن، وتعافه النفس الكريمة، التي لا ترضى بالمذلة، ثم بين العلة في قبولهم هذا الذل، فقال: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: ختم على قلوب هؤلاء المنافقين، ومنعت من حصول الإيمان {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} ولا يفهمون مراد الله تعالى في الأمر بالجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة. والمعنى: أن الله تعالى قد ختم على قلوبهم، فلا تقبل جديدًا من العلم والموعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها، وصار وصفًا لازمًا لها، لأن النفاق قد أثر فيها، بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به فَهْم تدبر واعتبار، فيعملوا به. 88 - والمقصود من الاستدراك: في قوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ} إلى آخره، الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم، وأخلص نية على حد قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا

[89]

بِكَافِرِينَ}؛ أي: ولكن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَالَّذِينَ آمَنُوا} به وكانوا {مَعَهُ} في كل المهام الدينية ولا يفارقونه {جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وقاموا بالواجب خير قيام، عملًا بداعي الإيمان وأمر الله في القرآن {وَأُولَئِكَ} المجاهدون في سبيل الله {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ}؛ أي منافع الدارين، النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة؛ أي لهم الخيرات التى هى ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر، ومحو كلمة الكفر، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل، والتمتع بالغنائم، والسيادة في الأرض دون المنافقين الجبناء، الذين ألفوا الذلة والهوان، ولم يكونوا أهلًا للقيام بهذه الأعباء {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: هم الفائزون بسعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر في أخلاقهم وأعمالهم. 89 - وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} إلى آخره، كلام مستأنف مسوق لبيان ما لهم من الخيرات الأخروية؛ أي،: هيأ الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}، أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَار} الأربعة الماء واللبن والخمر والعسل حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤبَّدًا، لا نهاية له، لا يموتون ولا يخرجون منها {ذَلِكَ} المذكور من الخيرات والفلاح وإعداد الجنات، الموصوفة بتلك الصفة هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والظفر الجسيم الذي لا فوز وراءه. 90 - وقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب، إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة، والمعذرون: هم المعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة {مِنَ الْأَعْرَابِ} هم سكان البوادي، وهم أخص من العرب، إذ العربي من تكلم باللغة العربية، سواء كان يسكن البادية أو الحاضرة، وهؤلاء (¬1) المعذرون هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك .. أغارت طيءُ على أهالينا ومواشينا، ¬

_ (¬1) المراغي.

فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنبأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم" واختلفت الروايات فيهم، بين قائل بصدقهم في الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون في اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين. أي: وجاء إليك يا محمَّد المعذرون؛ أي: الذين أتوا بأعذار كاذبة، وتكلفوا عذرًا بباطل من الأعراب؛ أي: من سكان البوادي من بني غفار أو من أسد وغطفان على الخلاف فيه {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} في التخلف عن غزوة تبوك، فلم يعذرهم الله تعالى {وَقَعَدَ} عن الجهاد بغير إذن {الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في ادعائهم الإيمان وهم منافقوا الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذورا. وقال أبو عمرو بن العلاء (¬1): إن قومًا تكلفوا عذرًا بباطل، فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} وتخلف آخرون لا لعذر، ولا لشبهة عذر جرأة على الله تعالى، فهم المراد بقوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهم منافقوا الأعراب، الذين ما جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله، يعني: في ادعائهم الإيمان، فمنافقوا الأعراب قسمان: قسم جاء واعتذر بالأعذار الكاذبة، وقسمٌ لم يجىء ولم يعتذر. والمعنى (¬2): وجاء الذين يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك، امتثالًا للنفير العام من أولي التعذير، وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما، كذبًا وإيهامًا على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو: كان كلا الفريقين مسيئًا، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين في قلوبهم مرض عذاب أليم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار؛ أي: سيصيب الذين استمروا على الكفر منهم، لا من أسلم منهم عذاب أليم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي.

[91]

وقرأ الجمهور: {الْمُعَذِّرُونَ} بفتح العين وتشديد الذال، وسيأتي لك بيان أصله في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي في رواية عنه: {الْمُعذِرُونَ} من أعذر الرباعي، وقرأ مسلمة: {الْمُعَذِّرُونَ} بفتح العين، وتشديد الذال، من تعذر، بمعنى اعتذر، قال أبو حاتم: أراد المتعذرين والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه، وقرأ الجمهور: {كَذَبُوا} بالتخفيف؛ أي: في إيمانهم فأظهروا ضدَّ ما أخفوه، وقرأ أُبَيٌّ والحسن، في المشهور عنه، ونوحٌ وإسماعيل: {كذَّبوا} بالتشديد؛ أي: لم يصدقوه تعالى ولا رسوله، وردوا عليه أمره، والتشديد أبلغ في الذم. 91 - ولمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار باطلة .. عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقة الصحيحة وعذرهم، وأخبر: أن فرض الجهاد عنهم ساقط، فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} جمع ضعيف والضعيف: هو الصحيح في بدنه، العاجز عن الغزو، وتحمل مشاق السفر والجهاد، مثل الشيوخ والصبيان والنساء، ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفًا نحيفًا، ويدل على أنَّ هؤلاء الأصناف هم الضعفاء: أنَّ الله سبحانه وتعالى عطف عليهم المرض فقال سبحانه {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فأما المرضى .. فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة، وكل من كان موصوفًا بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو {وَلَا عَلَى} الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} فيه من الزاد والراحلة والسلاح وسائر مؤونة السفر؛ لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور {حَرَجٌ}؛ أي: ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج؛ أي: إثم في التخلف عن الغزو، وقال الإِمام الفخر الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج؛ لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة، إما بحفظ متاعهم، أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلًّا ووبالًا عليهم، فإن ذلك طاعة مقبولة، ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطًا معينًا، وهو قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ} بالإيمان به، والعمل بشريعته، وترك ما

يخالفها، كائنًا ما كان، ويدخل تحته دخولًا أوليًّا نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، والقيام بمصالح بيوتهم، وإيصال الخير إلى أهاليهم، وإخلاص الإيمان والعمل لله تعالى، والاحتراز عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن {و} نصحوا لـ {رسوله}. بتصديق رسالته، وقبول ما جاء به في كل ما يأمر به، أو ينهى عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سننه، وإحيائها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة، وقد ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الدين النصيحة" ثلاثًا، قالوا: لمن؟ قال: "الله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وقرأ أبو حيوة: {إذا نصحوا الله ورسوله} بنصب الجلالة وجملة قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} بالقول والفعل {مِنْ سَبِيلٍ} مُقرِّرةُ لمضمون ما سبق؛ أي: ليس على المعذورين المخلصين الناصحين من سبيل؛ أي: طريق عقاب، ومؤاخذةٍ على تخلفه؛ أي: ليس على من أحسن، فنصح لله ولرسوله، في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع، طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه، والمعنى: إنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه. و {من} في قوله (¬1) {مِنْ سَبِيلٍ} مزيدة للتأكيد، وعلى هذا المعنى المذكور فيكون لفظ {الْمُحْسِنِينَ} موضوعًا موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقًا، كأنه قال: ما عليهم من سبيل، ويحتمل أن يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقًا من جملتهم، فتكون الجملة معللة. ويستنبط من قوله (¬2): {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أنَّ كلَّ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، مخلصًا من قلبه، ليس عليه سبيل في نفسه وماله، إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل، وجملة قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع {رَحِيمٌ} بجميع عباده جملة تذييلية، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

ونحو الآية: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}. والحاصل (¬1): أن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة: 1 - الضعفاء: وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد، كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان، وذوي العاهات التي لا تزول، كالكساح والعمى والعرج. 2 - المرضى: وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهي إذا شفوا منها. 3 - الفقراء: الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفي عيالهم، وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته، كما فعلوا في غزوة تبوك. والخلاصة: أن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم؛ أي: لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب، على شرط أن ينصحوا لله ورسوله؛ أي: يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة، بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإِسلامية، ولا سيما المجاهدين منها، من كتمان السر، والحث على البر، ومقاومة الخائنين - في السر والجهر. روى البخاري ومسلم عن جابر، قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}؛ أي: ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذة المحسنين، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[92]

والخلاصة: أن كل ناصح لله ورسوله .. فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، ثم قفى ذلك بذكر الصفح عنهم، والتجاوز عن سيئاتهم فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: وهو سبحانه وتعالى كثير المغفرة، واسع الرحمة، يستر على المقصرين ضعفهم في إداء الواجبات، ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده. أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم، ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببًا في ارتكاب هذه الآثام، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في "الصحيحين" أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لقد تركتم بعدكم قومًا، ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديًا، إلا وهم معكم فيه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: "حبسهم العذر" وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر، 92 - ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} إلخ والعطف على جملة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: ولا على الذين إذا ما أتوك، من سبيل، ويجوز أن يكون عطفًا على الضعفاء؛ أي: ولا على الذين إذا ما أتوك ... إلخ حرجٌ. والمعنى: أنَّ من جملة المعذورين هؤلاء الذين إذا ما أتوك لتحملهم، إلخ وقرأ معقل بن هارون: {لنحملهم} بنون الجماعة. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين، أتبعه بذكر قسم رابع فقال: {وَلَا} حرج ولا إثم في التخلف عنك في الخروج إلى غزوة تبوك {علَى} الأقوام {الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} على الرواحل، فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه {قُلْتَ} لهم، {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وجواب إذا قوله: {تَوَلَّوْا}؛ أي: انصرفوا من مجلسك {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ أي: انصرفوا من عندك، والحال أن أعينهم تسيل من الدموع {حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} في سبيل الله؛ أي: رجعوا من عندك، والحال

[93]

أنهم يبكون بكاءً شديدًا لأجل الحزن والأسف على عدم وجدانهم ما ينفقون ويركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله، وابتغاء مرضاته. وهؤلاء، وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل، قد خصوا بالذكر اعتناءً بشأنهم، وجعلهم كأنهم قسم مستقل. وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل، البرية والبحرية والهوائية في هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده، أو المعنى: وليس على من أتوك يسألونك أن تحملهم إلى غزوة تبوك، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم، ولذلك سموا البكائين، وهم سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عتمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن زيد، فإنهم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فتولوا وهم يبكون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثةً، زيادةً على الجيش الذي جهزه وهو ألفٌ، وحمل يامين بن عمرو النضريُّ اثنين. 93 - ثم ذكر سبحانه وتعالى من عليه السبيل من المتخلفين، فقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ}؛ أي: طريق العقوبة والمؤاخذة، والطريق هي الأعمال السيئة {علَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف عن الغزو، والقعود عن الجهاد {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ}؛ أي: والحال أنهم واجدون للأهبة، قادرون على الخروج معك؛ أي إنما الإثم والحرج في التخلف على الذين يستأذنونك فيه، وهم قادرون على الجهاد، وعلى الإنفاق لغناهم، ثم ذكر السبب في استحقاقهم المؤاخذة، فقال: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}؛ أي: رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف، والخالفين من النساء والأطفال والمُعذِّرين من المفسدين وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف، إيثارًا للدعة والراحة، وجملة قوله: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: ختم على قلوبهم، وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم، بحسب سنن الله في

أمثالهم، معطوفة على جملة {رَضُوا}؛ أي: سبب الاستئذان مع الغنى، أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم {فَهُمْ} بسبب هذا الطبع {لَا يَعْلَمُونَ} ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسران؛ أي: لا يعلمون ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا .. فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو، وأما في الآخرة .. فالثواب والنعيم الدائم، الذي لا ينقطع فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم، ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضوا بالمهانة في الدنيا، بانتظامهم في سلك النساء والأطفال، إلا أنَّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق، وأما سوء عاقبتهم، فيكفي فيه فضيحتهم في هذه السورة، كفاء إحجامهم عن الجهاد في سبيله، وما أعده لهم من العذاب العظيم، والخزي والنكال في نار الجحيم، وتقدم نظير هذه الجملة آنفًا، وذكره ثانيًا: للتأكيد، وعبر هنا بالعلم، وهناك بالفقه إشارة إلى أن معناهما واحد، إذ الفقه هو العلم، والعلم هو الفقه. ذكره الصاوي. الإعراب {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}. {وَلَا} {الواو} استئنافية {لا} ناهية جازمة {تُصَلِّ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة على {عَلَى أَحَدٍ} متعلق به {مِنْهُمْ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {أَحَدٍ} {مَات}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدٍ}، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ {أَحَدٍ} {أَبَدًا} ظرف متعلق بـ {لا تصل} وجملة قوله: {وَلَا تَقُمْ}: معطوفة على جملة {وَلَا تُصَلِّ} {عَلَى قَبْرِهِ} متعلق به {إنَّهُمْ} ناصب واسمه {كَفَرُوا} فعل وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به {وَرَسُولِهِ} معطوف على الجلالة، وجملة {كَفَرُوا} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة، لتعليل ما قبلها {وَمَاتُوا}: فعل

وفاعل، معطوف على {إنَّهُمْ}، {وَهُمْ فَاسِقُونَ}: جملة اسمية في محل النصب حال، من فاعل {مَاتُوا}. {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}. {وَلَا تُعْجِبْكَ}: فعل ومفعول {أَمْوَالُهُمْ}: فاعل {وَأَوْلَادُهُمْ}: معطوف عليه، والجملة مستأنفة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {بِهَا}: متعلق به، وكذا قوله: {فِي الدُّنْيَا}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، تقديره: إنما يريد الله تعذيبه إياهم بها {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ} فعل وفاعل معطوف على {يُعَذِّبَهُمْ} {وَهُمْ كَافِرُونَ}: جملة اسمية في محل النصب، حال من ضمير الغائبين في {أَنْفُسُهُمْ}. {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {أُنْزِلَتْ سُورَةٌ}؛ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها {أن} حرف مصدر ونصب {آمِنُوا} فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية {بِاللَّهِ} متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بباء مقدوة، تقديره: وإذا أنزلت سورة بإيمانهم بالله {وَجَاهِدُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {آمِنُوا} {مَعَ رَسُولِهِ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {جَاهِدُوا}؛ أي: وإذا أنزلت سورة بالإيمان بالله وبالجهاد مع رسوله {اسْتَأْذَنَكَ} فعل ومفعول {أُولُو الطَّوْلِ} فاعل ومضاف إليه {مِنْهُمْ} حال من {أُولُو الطَّوْلِ} والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتَأْذَنَكَ} عطفًا تفسيريًّا، فهو مغن عن بيان ما استأذنوا فيه، وهو القعود، ذكره أبو السعود، {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} مقول محكي، وإن

شئت قلت: {ذَرْنَا}، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول {نَكُنْ} فعل مضارع ناقص، مجزوم بالطلب السابق، واسمه ضمير يعود على المتكلمين {مَعَ الْقَاعِدِينَ} خبر {نَكُنْ} وجملة {نَكُنْ} في محل لنصب مقول قالوا، على كونها جواب الطلب. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}. {رَضُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، أعني قوله: {اسْتَأْذَنَكَ} {بِأَنْ} {الباء} حرف جر {أن}: حرف مصدر {يَكُونُوا} فعل مضارع ناقص، منصوب بـ {أن} {والواو}: اسمها {مَعَ الْخَوَالِفِ} خبرها، وجملة {يكون} في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: رضوا بكونهم مع {الْخَوَالِفِ} الجار والمجرور متعلق بـ {رَضُوا} {وَطُبِعَ}: فعل ماض مغير الصيغة {عَلَى قُلُوبِهِمْ} نائب فعل، والجملة معطوفة على جملة {رَضُوا} {فَهُمْ} {الفاء} عاطفة تفريعية {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ} خبره، الجملة معطوفة مفرعة على جملة طبع. {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)}. {لَكِنِ} حرف استدراك، على محذوف، تقديره؛ إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد مَنْ هو خير منهم، ذكر البيضاوي، {الرَّسُولُ} مبتدأ {وَالَّذِينَ} معطوف عليه {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {مَعَهُ}، متعلق بـ {آمَنُوا} {جَاهَدُوا} فعل وفاعل {بِأَمْوَالِهِمْ} متعلق به {وَأَنْفُسِهِمْ} معطوف عليه، والجملة الفعلية، في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب {وَأُولَئِكَ} مبتدأ أول {لَهُمُ} خبر مقدم {الْخَيْرَاتُ} مبتدأ ثاني مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع، خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأولى وخبره، مستأنفة {وَأُولَئِكَ} مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْمُفْلِحُونَ} خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}. {أَعَدَّ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان كونهم مفلحين {لَهُمْ} متعلق به {جَنَّاتٍ} مفعول به {تَجْرِي} فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق به {الْأَنْهَارُ} فاعل والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {جَنَّاتٍ} {خَالِدِينَ} حال من ضمير لهم {فِيهَا} متعلق به {ذَلِكَ الْفَوْزُ} مبتدأ وخبر {الْعَظِيمُ} صفة له، والجملة مستأنفة. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنَ الْأَعْرَابِ} حال من {الْمُعَذِّرُونَ} {لِيُؤْذَنَ} {اللام} حرف جر وتعليل {يؤذن}: فعل مضارع، مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي {لَهُمْ}: جار ومجرور، نائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: للإذن لهم، الجار والمجرور متعلق بـ {جَاءَ} {وَقَعَدَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، معطوف على {جاء} {كَذَبُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة، والجملة الفعليه، صلة الموصول {سَيُصِيبُ الَّذِينَ}: فعل ومفعول {كَفَرُوا} صلة الموصول {مِنْهُمْ} حال من فاعل {كَفَرُوا} {عَذَابٌ}: فاعل {أَلِيمٌ} صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة. {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص {عَلَى الضُّعَفَاءِ}: جار ومجرور، خبر {لَيْسَ} مقدم على اسمها {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله وكذا قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ}: معطوف عليه {لَا يَجِدُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {مَا} موصولة، أو موصوفة، في محل النصب، مفعول {يَجِدُونَ} وجملة {يُنْفِقُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد، أو

الرابط محذوف، تقديره: ما ينفقونه {حَرَجٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر عن خبرها، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {نَصَحُوا لِلَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول {وَرَسُولِهِ} معطوف على الجلالة، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذ نصحوا لله ولرسوله ليس عليهم حرج، وجملة {إِذَا} معترضة، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المتعاطفين {مَا}: نافية {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} خبر مقدم {مِنْ سَبِيلٍ}: مبتدأ مؤخر {مِنْ} زائدة، والجملة مستأنفة {وَاللَّهُ}: مبتدأ {غَفُورٌ} خبر أول {رَحِيمٌ} خبر ثان، أو صفة له، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}. {وَلَا عَلَى الَّذِينَ} معطوف على قوله: {عَلَى الضُّعَفَاءِ}؛ أي: وعلى الذين إلخ {حَرَجٌ} أو معطوف على {الْمُحْسِنِينَ} أي: ليس عليهم سبيل {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {مَا}: زائدة {أَتَوْكَ}: فعل وفاعل ومفعول فعل شرط لـ {إِذَا} {لِتَحْمِلَهُمْ} {اللام}: لام كي {تَحْمِلَهُمْ}: فعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لحملك إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {أَتَوْكَ} {قُلْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض، معطوفة بعاطف مقدر على جملة {أَتَوْكَ} على كونها فعل شرط لها، وفيه أوجه أخرى {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}: مقول محكي، إن شئت قلت: {لَا}: نافية {أَجِدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {أَجِدُ} {أَحْمِلُكُمْ}: فعل ومفعول، {عَلَيْهِ} متعلق به، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل جواب إذا، وجملة إذا صلة الموصول {وَأَعْيُنُهُمْ} مبتدأ، وجملة {تَفِيضُ}: خبره {مِنَ الدَّمْعِ}: متعلق به، والجملة الاسمية، في محل النصب حال من فاعل

{تَوَلَّوْا} {حَزَنًا} مفعول لأجله {تَفِيضُ} {أَلَّا} {أن} حرف نصب ومصدر {لَّا}: نافية {يَجِدُوا} فعل وفاعل، منصوب بـ {أن} {مَا} موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {يَجِدُوا} وجملة {يُنْفِقُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما ينفقونه، وجملة {يَجِدُوا} صلة {أن} المصدرية {أن} مع صلتها، في تأويل مصدر، منصوب عل كونه مفعولًا لأجله لحزنًا تقديره: حزنا لعدم وجدانهم ما ينفقون، فيكون علل فيض الدمع، بالحزن، وعلل الحزن، بعدم وجدان النفقة، وكون التقدير: وأعينهم تفيض من الدمع لأجل الحزن، لعدم وجدان ما ينفقونه. {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}. {إِنَّمَا السَّبِيلُ}: مبتدأ {عَلَى الَّذِينَ}: خبره، والجملة مستأنفة {يَسْتَأْذِنُونَكَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من فاعل {يَسْتَأْذِنُونَكَ} {رَضُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل الاستئذان؛ أي: لأنهم رضوا {بِأَنْ} {الباب} حرف جر و {أن} مصدرية {يَكُونُوا}: فعل ناقص، واسمه منصوب بـ {أن} المصدرية {مَعَ الْخَوَالِفِ}: خبر {يَكُونُوا} وجملة {يَكُونُوا} في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {رَضُوا}؛ أي: رضوا بكونهم مع الخوالف {وَطَبَعَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، معطوف على جملة {رَضُوا} {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: متعلق بـ {طَبَعَ} {فَهُمْ}: {الفاء} عاطفة تفريعية {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية، معطوفة مفرعة على جملة {طَبَعَ اللَّهُ}. التصريف ومفردات اللغة {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} أبدًا، اسم لزمان بعد زمان تكلمك إلى ما لا نهاية له، وهو هنا لتأييد النفي {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}؛ أي: لا تقف عليه، ولا تتولَّ دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، إذا كفاه أمره، وناب عنه فيه،

كما في "الخازن" {أُولُو الطَّوْلِ} والطول: بالفتح، الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة، من طال عليه طولًا، {وَقَالُوا ذَرْنَا} أي: دعنا واتركنا، تقول: ذره؛ أي: دعه وهو يذره؛ أي: يدعه، ولا يقال منه: وذر، ولا واذر، ولكنه تركه، وهو تارك؛ لأنه من الأفعال التي ليس لها مصدر ولا ماض، ولا اسم فاعل. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} رضوا أصله: رضيوا، بوزن فرحوا، استثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء، فصار رضوا، بوزن فعوا و {الْخَوَالِفِ} جمع خالفة من صفة النساء، وهذه صفة ذم، وقال النحاس: يجوز أن تكون الخوالف من صفة الرجال، بمعنى: أنها جمع خالفة، يقال: رجل خالفة؛ أي: لا خير فيه، فعلى هذا، يكون جمعًا للذكور باعتبار لفظه، وقال بعضهم: إنه جمع خالف، يقال: رجل خالف؛ أي: لا خير فيه، وهذا مردود، فإن فواعل لا يكون جمعًا لفاعل وصفًا لعاقل إلا ما شد، من نحو: فوارس ونواكس، وهوالك اهـ "سمين". {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ}: وهي جمع خير، فيشمل منافع الدنيا والدين، وقيل: المراد به: النساء الحسان، كقوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} ومفرده خيرة بالتشديد، ثم خفف مثل: هيئة وهينة {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} جمع معذر، من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وهو يوهم أن له عذرًا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون، من اعتذر، والمعتذر إما صادق أو كاذب، وقال أبو حيان: قرأ الجمهور: {الْمُعَذِّرُونَ} بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين: أحدهما: أن يكون فعَّل، بتضعيف العين، ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له، والثاني: أن يكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر، كاختصم، فأدغمت التاء في الذال، ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل، ويؤيِّده قراءة سعيد بن جبير: {الْمُعَذِّرُونَ} بالتاء، من اعتذر. ومن ذهب إلى أن وزنه افتعل الأخفش والفراء وأبو عبيد وأبو حاتم والزجاج وابن الأنباري {مِنَ الْأَعْرَابِ} بفتح

الهمزة: سكان البوادي الناطقون بالعربية، والعربي: من نطق بالعربية مطلقًا، سكن البوادي أم لا، فهو أعم من الأعراب، وبكسرها مصدر أعرب الكلام، إذا بين، ويطلق على المعنى المصطلح عند النحاة {كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أظهروا الإيمان بهما كذبًا، يقال: كذبته نفسه، إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقةً له {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} جمع ضعيف كشرفاء جمع شريف، وهو الهرم ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة، بحيث لا يمكنه الجهاد {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى}: جمع مريض كجريح وجرحى، والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمنًا، ويدخل فيه العمى والعرج {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} هم الفقراء {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} يقال: حمله على البعير أو غيره، إذا أركبه إياه، أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنَّ الطالب لظهر يركبه، يقول: لمن يطلب منه: احملني {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ أي: تفيض فيضًا، مبتدأ من الدمع، أي: من كثرته وفي "البيضاوي" تفيض من الدمع، أي: يفيض دمعها، فإن {من} البيانية مع مجرورها، في محل نصب على التمييز المحول عن الفاعل، يقال: فاض يفيض فيضًا، إذا انصبَّ عن امتلاءٍ، والدمع ماء العين الملح الحار. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} وفي قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي قوله: ({وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ} الآية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {مَعَ الْخَوَالِفِ}؛ لأن الخوالف حقيقة في الأعمدة التي في أواخر بيوت الحيِّ مجاز في النساء، شبه النساء لكثرة لزومهن البيوت بالخوالف؛ أي: بالأعمدة التي تكون في البيوت، على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، وقال الآلوسي: الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي، بعد رحيل الرجال، ففيه استعارة، وإنما سمي النساء خوالف، تشبيهًا

لهن بالخوالف، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيِّ، فشبهت لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت، انتهى. ومنها: الاستهجان والمبالغة في الذم لهم، في قوله {بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}؛ لأن الخوالف: النساء، فكونهم رضوا بأن يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجينٍ؛ لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة، اللواتي لا مدافعة عندهن ولا غنى. ذكره في "البحر المحيط". ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}؛ لأن المراد بالمحسنين: المتخلفون للعذر، وهم الضعفاء والمرضى والفقراء، فحق العبارة أن يقال: ما عليهم من سبيل، وإنما أتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين اهـ "أبو السعود". ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} إلخ؛ لأنهم داخلون في الذين لا يجدون ما ينفقون، ذكرهم اعتناء بشأنهم، أفاده في "روح البيان". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ لأن الفيض مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية؛ لأن الامتلاء سبب للفيض، الذي هو انصباب الدمع بكثرةٍ، فالمجاز في المسند أو الفيض على حقيقته، والمجاز في إسناده إلى العين للمبالغة، كجرى النهر، ذكره في "الفتوحات". ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

شعر الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قَبْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ (¬1) ¬

_ (¬1) وكان الفراغ بحمد الله سبحانه وتعالى، من مُسوَّدة هذا المجلد الحادي عشر، في الليلة الثامنة، أوئل الليل من شهر الله المبارك، شهر شوال، عن شهور سنة عشرٍ وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية (8/ 10/ 1410 هـ) بحارة الرشد بالمسفلة، من مكة المكرمة، زادها الله شرفًا، وختم عمرنا فيها بالإيمان الصادق، والإسلام الكامل، وصلى الله عليه وسلم وبارك على خير خلقه محمَّد، وآله وصحبه وجنده آمين والحمد لله رب العالمين. تَمَّ بعون الله تعالى وتوفيقه المجلد الحادي، من تفسير "حدائق الروح والريحان؛ في روابي علوم القرآن"، ويليه المجلد الثاني عشر، إن شاء الله تعالى، وأوله قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ...} الآية، آية رقم (94) من سورة التوبة. تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفة في تاريخ (17/ 11/ 1411 هـ). الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إكْمَالِهِ ... وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى إِفْضَالِهِ. ثُمَّ صَلاَتُهُ مَعَ سَلاَمِهِ ... عَلَى مُحَمَّدٍ وَخَيْرِ آلِهِ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [12]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ بِقَدْرِ الْكدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اَللَّيَالِي عَجَبًا لِلطَّالِبِ كَيْفَ يَنَامُ ... وَكُلُّ النَّوْمِ عَلَى الطَّالِبِ حَرَامُ مَنْ رَامَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ كَدِّ ... سَيُدْرِكُهَا حِيْنَ شَابَ الْغُرَابُ آخر وَاِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ ... وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيبَ فِيْهِ وَعَلاَ آخر يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنا يَا رَبَّنا ... يَا رَبَّنا بَارِكْ لَنَا فِي أَعْمَارِنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنا يَا رَبَّنَا ... كُنْ وَافِيًا لَنَا مُرَادَنَا وَلبَنِيْ تِسْعٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ ... مَعْذِرَةٌ مَقْبُوْلَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَمْدًا لِمَنْ وَفَّقَنا بشرحِ كتابه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه وآله وأصحابه، صلاة وسلامًا مستمِرَّينِ إلى يوم حشره وحسابه. أما بعدُ: فإني لما فرغْتُ من الجزء العاشر من الكتاب والقرآن الكريم .. ابتدَرْتُ إلى الشروع في الجزء الحادي عشر مسابقةً للِمَنِيَّةِ، فقلت: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ

لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}. المناسبة قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ...} الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخدتهم ولا حرج عليهم .. ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد عودتهم. قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) أنهم يصدر منهم الاعتذار .. أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وأن سبب الحلف هو طلبهم أن يعرضوا عنهم، فلا يلوموهم ولا يوبخوهم. قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬3) أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم .. بيَّن في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك. قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات .. أردف ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع، مرنت على النفاق، وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم. قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬4) شرح أحوال منافقي المدينة ثم أحوال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب من هو مخلص صالح، ثم بيَّن رؤساء المؤمنين من هم .. ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الأعراب وفي المدينة لا تعلمونهم؛ أي: لا تعلمون أعيانهم، أو لا تعلمونهم منافقين. أسباب النزول قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ...} الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه ابن جرير بسنده أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك .. جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وصدقته حديثي، فقال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته فأهلك، كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، شرَّ ما قال لأحد: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ...} الحديث، رجاله رجال الصحيح ونحوه في "صحيح البخاري" في ختام حديث كعب بن مالك في كتاب المغازي باب غزوة تبوك. قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ...} الآية، سبب نزولها: ما (¬1) أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: إنها نزلت في بني مقرن من مزينة الذين نزلت فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}. وقال (¬2) عبد الرحمن بن معقل بن مقرن المزني: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا هذه الآية: يعني {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...} الآية، يريد الستة أو السبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البحر المحيط.

[94]

قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا، وندموا وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون معه في الجهاد، واللهِ لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقها، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته، فقال: من هؤلاء الموثقون بالسواري؟. فقال رجل: هذا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال: "لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم"، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...} الآية. فلما نزلت .. أطلقهم، وعذرهم وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ...} الآية، فجعل أناس يقولون هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم حتى نزلت: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا"، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 94 - وقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} كلام مستأنف (¬2) لبيان ما يتصدرون له عند العود إليهم. روي أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلًا، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. جاءوا يعتذرون إليه بالباطل، والخطاب لرسول الله وأصحابه؛ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضًا لا إليه فقط، وتخصيص الخطاب في قوله: {لَا تَعْتَذِرُوا} حيث لم يقل: قولوا، لما أن الجواب وظيفته فقط، وأنه متولي أمورهم ورئيسهم، وأما الاعتذار ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) أبو السعود.

فكان له وللمؤمنين. اهـ "أبو السعود". وقيل: إنما ذكره بلفظ الجمع تعظيمًا له - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يعتذر هؤلاء المنافقون وهم بضعة وثمانون رجلًا كما مر آنفًا إليكم أيها الرسول والمؤمنون في التخلف عن الخروج معكم للغزو بالأعذار الكاذبة الباطلة {إِذَا رَجَعْتُمْ} من غزوة تبوك {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى أولئك المنافقين المتخلفين عنكم المعتذرين إليكم. وإنما قال (¬1): إليهم، ولم يقل إلى المدينة؛ لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها. ثم أخبر الله سبحانه وتعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يجيب به عليهم فقال: قُل لهم يا محمَّد {لَا تَعْتَذِرُوا} إلينا عن تخلفكم عنا بما عندكم من الأعذار الباطلة؛ لأننا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}؛ أي: لن نصدقكم فيما تقولون من المعاذير أبدًا، كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم؛ لأن غرض المعتذر أن يصدَّق فيما يعتذر به، فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار؛ لأننا {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى من أخباركم؛ أي: قد أعلمنا الله فيما سلف بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر. وإنما قال: {نَبَّأَنَا} ولم يقل: نبأني؛ إيماءً إلى أنه أَمَره أن ينبىء بذلك أصحابه، ولم يكن هذا النبأ خاصًّا به، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضي أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به. وفي هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه {وَسَيَرَى اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَمَلَكُمْ} أي: ويرى الله سبحانه وتعالى ويعلم ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد، هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه؟، فالتنفيس بالنسبة إلى عملهم لا إلى علم الله. وقوله: {وَرَسُولُهُ} معطوف على الاسم الشريف، ووسط مفعول الرؤية إيذانًا بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة والمعنى (¬2): وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد، وهو الذي سيدل إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم، وأما أقوالكم فلا يعتد بها مهما وكدتموها بالأيمان، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم، وشهد لكم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[95]

عملكم بصلاح طويتكم .. فإن الله يتقبل منكم توبتكم، ويغفر لكم حوبتكم، ويعاملكم الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا، وصدقوا، وشهدت لهم أعمالهم بذلك وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق والاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها .. فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم، والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين. وفي هذا: إيماء إلى الرغبة في توبتهم حين سنوح الفرصة {ثُمَّ تُرَدُّونَ}؛ أي: ثم ترجعون يوم القيامة {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ}؛ أي: إلى عالم ما غاب، وخفي عنا من ضمائركم وغيرها {و} عالم {الشهادة} أي: عالم ما شوهد، وظهر لنا من ظواهركم وغيرها {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فيخبركم عند وقوفكم بين يديه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، ويجازيكم عليه بما تستحقون، وهو ما أوعدكم به في كتابه الكريم في هذه السورة وفي غيرها: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}. ولا يخفى ما في قوله (¬1): {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من التهديد، والتخويف الشديد لما اشتمل عليه من وضع الظاهر موضع المضمر، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم، مما يكتمونه، ويتظاهرون به، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه. ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاؤوا به من الأعذار الباطلة بالحِلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو وغرضُهم من هذا التأكيد: هو أن يُعرْض المؤمنون عنهم، فلا يوبخونهم، ولا يؤاخذونهم بالتخلف، ويظهرون الرضا عنهم، 95 - كما يفيده ذكر الرضا من بعد فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ}؛ أي: سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الإيمان، {إِذَا انْقَلَبْتُمْ} من سفركم ورجعتم إليهم {لِتُعْرِضُوا عَن} العتب عليـ {هم} والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين، من العجزة والنساء والأطفال، وعلى البخل بالنفقة والمال، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ}؛ أي: فأعرضوا عنهم، إعراضَ الإهانة ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[96]

والتحقير لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم. قال أهل المعاني: إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت. ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال: {إنَّهُمْ رِجْسٌ}؛ أي: إن بواطنهم خبيثة نجسة، وأعمالهم قبيحة؛ أي: إن في نفوسهم قذرًا معنويًّا يجب الاحتراس منه؛ خوف سريان عدواه وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسية التي ربما تصيبه، إذا لم يحتط لها، {وَمَأْوَاهُمْ}؛ أي: ومسكنهم في الآخرة {جَهَنَّمُ} ومصيرهم النار، يعني: وكفتْهم النارُ عتابًا وتوبيخًا، فلا تتكلفوا عتابهم {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} في الدنيا من الأعمال الخبيثة؛ أي: يجزون بها جزاء كسبهم، وهذا من تمام التعليل، فإن من كان من أهل النار .. لا يجدى فيه الدعاء إلى الخير؛ أي: ومرجعهم الأخير نار جهنم؛ جزاء لهم بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وغيرها، مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسًا على رجسهم. 96 - ثم زاد في تأكيد نفاقهم فقال: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي يحلف لكم هؤلاء المنافقون {لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} بالحلف، وتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم، وهذا أهم الأغراض لديهم، فلا حظّ لهم من إظهار الإِسلام سواه، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد .. لكان غرضهم الأول، إرضاء الله ورسوله. {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ}؛ أي: فإن رضيتم عنهم، أيها المؤمنون بما حلفوا لكم، وقبلتم عذرهم، وساعدتموهم على ما طلبوا .. فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعًا. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: الخارجين عن طاعته، وطاعة رسوله، بما في قلوبهم من النفاق، والشك؛ أي: فإن الله تعالى ساخط عليهم، بسبب فسوقهم، وخروجهم عن أمره ونهيه. وفي هذا: إيماء إلى نهي المخاطبين عن الرضا عنهم، والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، وأن من يرضى عنهم، من المؤمنين .. يكون فاسقًا مثلهم، محرومًا من رضوان الله. وأن من يتوب منهم ويُرضي الله ورسوله .. يخرج من حدود سخطه، ويدخل في حظيرة مرضاته، ولا يعد حينئذٍ فاسقًا.

[97]

97 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين بالمدينة .. ذكر حال من كان خارجًا عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم، ومن نفاق غيرهم؛ لأنهم أقسى قلبًا وأغلظ طبعًا وأجفى قولًا وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله، فقال: {الْأَعْرَابُ}؛ أي: جنس أهل البدو {أَشَدُّ كُفْرًا} مجاهرًا {وَنِفَاقًا} مبطنًا من أهل الحضر، لتوحشهم، واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وبعدهم عن أهل العلم {وَأَجْدَرُ} وأحق بـ {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ} وتكاليف وفرائض وأحكام {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى رَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}؛ إذ ليس كلهم كما ذكر، على ما ستحيط به خبرًا، كما ذكره "أبو السعود": أي: إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين: 1 - أن كفارهم ومنافقيهم أشدّ كفرًا ونفاقًا من أمثالهم، من أهل الحضر، ولا سيما، من يقيم منهم في المدينة، فهم أغلظ طباعًا، وأقسى قلوبًا؛ لأنهم أفنوا جلَّ أعمارهم في رعي الأنعام، وحمايتها من ضواري الوحوش، إلَّا أنهم محرومون من العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية. 2 - أنهم أحق وأحرى من أهل الحضر، بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، من الهدى والبينات في كتابه، وما أتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود؛ تارة بالقول، وأخرى بالفعل، وكان صحابته في المدينة وما حولها، يتلقون عنه الكتاب حين نزوله، ويشهدون سنته في العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت، يبلغون الناس القرآن، ويحكمون به وبسنّة رسوله المبينة له، وكلّ هذا لم يكن مستطاعًا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية. روى أبو داود والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من بدا جفا، ومن اتبع الصّيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدًا". ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول، ويؤثرهم بالنصح، ولا يزداد منهم قربًا، إلا المراؤون، الذين يعينونهم على الظلم، ويثنون عليهم بالباطل.

[98]

فإن قلت: وصفُ العرب بأنهم جاهلون بذلك، ينافي صحةَ الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلتُ: لا منافاة؛ إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن - كما أشرنا في الحل - لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ؛ لأن القرآن والحديث جاءا بلغتهم اهـ "كرخي". {وَاَللهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه، {حَكِيمٌ} فيما فرض من فرائضه؛ أي: واسع العلم بشؤون عباده، وأحوالهم، من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما شرعه لهم، وفي جزائهم، من نعيم مقيم، أو عذاب أليم. 98 - ثم قسم سبحانه الأعراب إلى قسمين: القسم الأول منهما: ما ذكره بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ} أي يعد {مَا يُنْفِقُ}؛ أي: يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به، {مَغْرَمًا}؛ أي: غرامةً وخسرانًا؛ إذ لا يحتسبه قربة عند الله، ولا يرجو عليه ثوابًا، وإنما ينفق رياءً، أو تقيةً، والمغرم التزام ما لا يلزم؛ أي: ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم في الجهاد رياءً وتقيةً، ويعدّون ذلك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعًا أو كرهًا، لدفع المكروه عن أنفسهم، أو قومهم، ولا منفعة لهم فيها، لا في الدنيا، وهو واضح، ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث. قال الضحاك: وهم بنو أسد وغطفان. {وَيَتَرَبَّصُ}؛ أي: ينتظر {بِكُمُ}، أيها المؤمنون، {الدَّوَائِرَ}؛ أي: دوائر الزمان، وصروفه، وتقلباته عليكم؛ أي: ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم، بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فينعدم الإِسلام بموته، أو بغلبة المشركين عليكم، فتذهب قوتكم، فيتخلص من إعطاء الصدقة، والدوائر، جمع دائرة وهي، الحالة المنقلبة عن النعمة، إلى البليّة، وأصلها ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان، نوبه وتصاريفه ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه. والمعنى؛ أي: وينتظرون أن تحُلَّ بكم نوائب الزمان، وأحداثه التي تدور بالناس، وتحيط بهم، فتبدل قوتكم ضعفًا وانتصارَكم هزيمةً، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار

[99]

الإِسلام نفاقًا، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما أعيتهم الحيل .. صاروا ينتظرون موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ظنًّا منهم، أن الإِسلام يموت بموته. ثم دعا سبحانه وتعالى عليهم بقوله: {علَيْهِمْ}؛ أي: على أولئك الأعراب، الذين يتربصون بكم الدوائر، لا على غيرهم، {دَائِرَةُ السَّوْءِ}؛ أي: دائرةُ البلاء والحُزن والمصيبة والعذاب، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: عليهم الدائرةُ السيئة، والمصيبة الشديدة، والعاقبة القبيحة؛ والمعنى: أنّ عليهم وحدهم الدائرة السوء، تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم، وليس للمؤمنين عاقبة، إلَّا ما يسرهم من نصر الله، وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم، من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬1): {السَّوْءِ} هنا وفي سورة الفتح ثانية بالضم. وباقي السبعة بالفتح. فالفتح مصدر قال الفراء: سوأته سوأً ومساءة وسوائية. والضمُّ الاسم وهو الشر والعذاب. والفتح ذم الدائرة. وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وُصِفَتْ الدائرة بالمصدر، كما قالوا: رجل سوء، في نقيض رجل صدق. وقال المبرد: {السوء} بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم، وقد حُكيَ بالضم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى: {سَمِيعٌ} لما يقولونه، مما يعبر عن شعورهم، واعتقادهم في نفقاتهم؛ إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم، {عَلِيمٌ} بما يضمرونه في سرائرهم، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم، من قول وفعل، ويجزيهم به. 99 - وبعد أن بين سبحانه القسم الأول من الأعراب، وهم المنافقون .. ذكر القسم الثاني منهما: وهم المؤمنون الصادقون. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} في السر والعلانية؛ أي: ومن الأعراب من يؤمن بالله، ويثبت له القدرة، وكمال التصرف في الكون، ويؤمن بمجيء اليوم الآخر، الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت. قال مجاهد: هم بنو مقرن بن مزينة، وهم الذين قال فيهم: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}. {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ}؛ أي: ويجعل ما يتصدق به {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} تعالى، أي: سببًا لقربه عند الله تعالى، ووسيلة لحصول مرضاته تعالى له، {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} - صلى الله عليه وسلم - معطوف على قربات؛ أي: ويتخذ ما ينفقه سببًا لحصول دعواته - صلى الله عليه وسلم - له؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو للمتصدقين، بالخير والبركة ويستغفر لهم؛ أي: يقصد بصدقاته، حصول مرضاة الله تعالى له، وحصول دعواته له، وقال أبو البقاء: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} معطوف على ما ينفق تقديره، ويتخذ صلوات الرسول قربات عند الله. انتهى. والقربات (¬1). جمع قربة، وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى، تقول منه قربت لله قربانًا. والجمع قرب وقربات، والمعنى، أنه يجعل ما ينفقه سببًا لحصول القربات، {عند الله و} سببًا لـ {صلوات الرسول}؛ أي: لدعوات الرسول لهم. ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا القسم من الأعراب، تقربًا إلى الله مقبول، واقع على الوجه الذي أرادوه فقال: {أَلَا}؛ أي: انتبهوا {إِنَّهَا}؛ أي: إن نفقتهم، {قُرْبَةٌ لَهُمْ} إلى الله في الدرجات، ثم فسر سبحانه القربة بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ} تعالى، {في رَحْمَتِهِ}؛ أي: في جنته التي هي محل الرحمة الواسعة الدائمة، أي (¬2): وقد بين الله تعالى جزاءهم، على ما انطوت عليه نفوسهم، من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله، فأخبر بقبول نفقتهم، وإثابتهم عليها، فقال: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}؛ أي: ألا إن تلك النفقة التي اتخذت لهم، قد تقبلها الله، وأثاب عليها بما وعد به في قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}؛ أي: سيرحمهم الله تعالى برحمته الخاصة بمن رضي عنهم، وهي هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم. والمراد بإدخالهم في الرحمة؛ أن تكون محيطة بهم شاملة لهم، وهم مغمورون فيها وهذا أبلغ في إثباتها لهم من مثل قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ}. والسين في {سَيُدْخِلُهُمُ}، للدلالة على تحقق الوقوع {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {غَفُورٌ} لسيّئاتهم، {رَحِيمٌ} بهم، حيث وفقهم لهذه الطاعات؛ أي: إنه تعالى، واسع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[100]

المغفرة والرحمة، لمن يخلصون في أعمالهم، فهو يغفر لهم، ما فرط منهم من ذنب، أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم، إلى خير العمل، وحسن المصير. وهذا وعد منه تعالى لهم بواسع الرحمة والغفران، كما أن قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، تهديد للأولين، عقب الدعاء عليهم. وقرأ ورش (¬1): {قُرُبة} بضم الراء، وباقي السبعة: بالسكون، وهما لغتان، ولم يختلفوا في قربات بالضم، فإن كان جمع قربة .. فجاء بالضم على الأصل في الوضع وإن كان جمع قربة بالسكون .. فجاء بالضم إتباعًا لما قبله كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة. وهذا القسم الأخير قال (¬2) مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبي: هم أسلم وغفار وجهينة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرًا من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة" فقال رجل: خابوا وخسروا، قال: "نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة" متفق عليه. وفي رواية أن الأقرع بن حابس، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما تابعك سراقُ الحجيج، من أسلم وغفار ومزينة، وأحسبه قال: وجهينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة، وأحسبه قال: وجهينة خيرًا من بني تميم، وبني عامر وأسد وغطفان قال: خابوا وخسروا، قال: "نعم". وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها". متفق عليه. زاد مسلم في رواية له: "أما إني لم أقلها لكنْ الله قالها". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله"، متفق عليه. 100 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أصناف الأعراب .. ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة، وأن منهم التابعين لهم، فقال: {وَالسَّابِقُونَ} إلى الإِسلام ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

والإيمان {الْأَوَّلُونَ} في الهجرة، والنصرة حالة كونهم، {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ}؛ أي: من الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، {و} حالة كونهم من، {الأنصار}؛ أي: من الذين نصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وآووه، وهم أهل المدينة، من الأوس والخزرج، {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ}؛ أي: والذين اتبعوا السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، في الهجرة والنصرة حالة كونهم ملتبسين، {بِإِحْسَانٍ}؛ أي: بعمل صالح ونية صادقة، قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار، سوى السابقين الأولين، فعلى هذا القول، يكون الجميع من الصحابة. وقيل: هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار، في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة، وخبر المبتدأ، قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}؛ أي: أكرمهم الله تعالى بقبول طاعاتهم، وأعمالهم الحسنة، {وَرَضُوا عَنْهُ} سبحانه وتعالى، بما أفاض عليهم من نعمه الدينية والدنيوية. واختلف العلماء (¬1) في السابقين الأولين من المهاجرين. قيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وهو قول سعيد بن المسيب وطائفة. وقيل: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وهو قول: الشعبي، أو هم الذين شهدوا بدرًا، وهو قول محمَّد بن كعب وعطاء بن يسار. ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها. قال أبو منصور البغدادي: أجمع أصحابنا على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون منهم، ثم البدريون، ثم أصحاب أُحُدْ ثمَّ أهل بيعة الرضوان بالحديبية. وأما السابقون من الأنصار (¬2): فهم الذين بايعوا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ليلة العقبة الأولى، وكانوا ستة أنفار، ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل، وكانوا اثني عشر رجلًا، ثم أصحاب العقبة الثالثة، وكانوا سبعين رجلًا، فهؤلاء سباق الأنصار. ثم بعث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، يعلمهم القرآن. فأسلم على يده خلق كثير، من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة، وذلك قبل أن يهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

والحاصل (¬1): أن الله سبحانه وتعالى، ذكر في هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هي خيرها: 1 - السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين، ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها، ولا يمكنون أحدًا من الهجرة متى كان ذلك في طاقتهم، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم، إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا في ذلك الوقت .. كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة، ثم العشرة الذين بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة. 2 - السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة، في منى في المرة الأولى، سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفي المرة الثانية وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين. 3 - الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة، حال كونهم محسنين، في أفعالم وأقوالهم فإذا اتبعوهم في ظاهر الإِسلام .. كانوا منافقين مسيئين، غير محسنين في هذا الاتباع وإذا تبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض .. كانوا مذنبين. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: هؤلاء المذكورون جميعًا رضي الله سبحانه وتعالى عنهم في إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم، وتجاوز عن زلاتهم، وبهم أعز الإِسلام، ونكل بأعدائه من المشركين، وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر. وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ} معطوف على رضي؛ أي: وهيأ لهؤلاء المذكورين، من الطبقات الثلاث في الآخرة، {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي} وتسيل {تَحْتَهَا}؛ أي: تحت أشجارها وغرفها. وقرأ ابن كثير: {من تحتها} بزيادة ¬

_ (¬1) المراغي.

{من} ومعلوم أن قراءته الصلة، فليتنبه القارئ إذا قرأ بزيادة منْ لصلة الميم في المواضع الثلاثة، وهي اتبعوهم وعنهم وأعدّ لهم، لئلا يقع في التلفيق اهـ شيخنا ذكره "الجمل". {الْأَنْهَار} الأربعة حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين في تلك الجنات {أَبَدًا}؛ أي: زمنًا لا نهاية له ولا انقضاء {ذَلِكَ} المذكور من الرضوان، والجنات؛ أي: نيل ذلك هو، {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والظفر الجسيم، الذي لا فوز وراءه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري، أذَكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة. متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدًا - وفي رواية: أحدكم - أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". متفق عليه. والمعنى (¬1): لو أن أحدًا، عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في سبيل الله .. ما بلغ هذا القدر اليسير التافه، من أعمال الصحابة، وإنفاقهم؛ لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة. قال أبو حيان (¬2): ولما بين الله سبحانه وتعالى، فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين، وما أعدّ لهم من النعيم .. بين حال هؤلاء السابقين، وما أعد لهم - وشتان ما بين الإعدادَين والثناءين - هناك قال: أَلا إنها قربة لهم، وهنا رضي الله عنهم، وهناك: سيدخلهم الله في رحمته، وهنا: وأعدَّ لهم جنات تجري، وهناك ختم: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهنا: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} اهـ. وقرأ (¬3) عمر بن الخطاب والحسن وقتادة وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[101]

أبي سعيد وطلحة ويعقوب: {والأنصار} برفع الراء، عطفًا على والسابقون. فيكون الأنصار جميعهم، مندرجين في هذا اللفظ، وعلى قراءة الجمهورة: وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول، ويكون المخبر عنهم بالرضا، سابقيهم. وقرأ ابن كثير: {من تحتها} بإثبات من الجارّة، وهي ثابتة في مصاحف مكة، وباقي السبعة، بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر بن الخطاب، أنه كان يرى {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو، فقال: ائتوني بأُبَيّ، فقال: تصديق ذلك في كتاب الله، في أول الجمعة، {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وأوسط الحشر، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وآخر الأنفال، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ}. وروي أنه سمع رجلًا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك، فقال: أبي، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا وُفِّقْنَا وقْعة لا يبْلُغُها أحدٌ بعدنا. 101 - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى، كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث، ورضاه عنهم، بين حال منافقي أهل المدينة ومن حولها، فقال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} أيها المؤمنون، وهو خبر مقدم؛ أي: وممن حول بلدتكم؛ يعني المدينة، أي: وممن هم نازلون حول المدينة وخارجها، قريبًا منكم حال كونهم {مِنَ الْأَعْرَابِ}؛ أي: من سكان البوادي أقوام {مُنَافِقُونَ}؛ أي: مبطنون بالكفر، مظهرون بالإِسلام. قال البغوي والواحدي: هم من قبائل جهينة ومُزِينة وأشجع وأسلم وغفار، نازلون حول المدينة، وأشعر بقوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} حيث عبر بمن التبعيضية، أن فيهم مؤمنين صادقين، دعا لهم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ومدحهم. فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار، موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره". وعنه أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى".

{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} من الأوس والخزرج؛ أي: وممن هم نازلون في جوف المدينة، وداخلها أقوام {مَرَدُوا}؛ أي: ثبتوا واستمروا ومرنوا {عَلَى النِّفَاقِ} ولجوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه، ولم يتوبوا منه كعبد الله بن أبي، وأصحابه، ثبتوا على النفاق، ولم يتوبوا منه؛ أي: وكذلك من أهل المدينة نفسها، ناس منافقون من الأوس والخزرج، سوى من أعلم الله رسوله بهم، في هذه السورة، بما صدر منهم، من أقوال وأفعال تنافي الإيمان. هؤلاء الذين كانوا حول المدينة، وهؤلاء الذين كانوا من أهل المدينة، مرنوا على النفاق وحذقوه، حتى بلغوا الغاية في إتقانه، فلا يشعر أحد نفاقهم، إذ هم يتقون جميع الإمارات، والشبه التي تدل عليه. وجملة قوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ}؛ أي: لا تعلم، أنت يا محمَّد، نفاقهم بفطنتك، ودقيق فراستك، لحذقهم في التقية، وتباعدهم عن مثار الشبهات مبينة للجملة الأولى وهي {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}؛ أي: ثبتوا عليه ثبوتًا شديدًا ومهروا فيه، حتى خفي أمرهم عليك يا محمَّد، فكيف سائر المؤمنين، والمراد عدم علمه، - صلى الله عليه وسلم - بأعيانهم، لا من حيث الجملة، فإنّ للنفاق دلائل لا تخفى عليه - صلى الله عليه وسلم -، وجملة قوله: {نحن نعلمهم} بأعيانهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت .. مقررة لما قبلها، لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق، ورسوخهم فيه، على وجه يختفي على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه، لعلمه بما يخفى، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر. وهؤلاء أخفى نفاقًا ممن قال الله فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وهؤلاء لم يعلمه الله بأعيانهم، ولا فضحهم بأقوال قالوها، ولا بأفعال فعلوها، كما فضح غيرهم، في هذه السورة؛ لأنهم يتحامون ما يكون شبهة في إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم، لا يعدوهم إلى سواهم. والحكمة في إخبارنا بحالهم، أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله، كما فضح غيرهم، وليتوب منهم، من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ}؛ أي: سنعذب هؤلاء المنافقين في الحياة الدنيا {مَرَّتَيْنِ} أولاهما: ما يصيبهم به من

[102]

المصائب في الأموال، والأولاد، وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم، وثانيتهما: آلام الموت، وزهوق أنفسهم، وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم في ذلك الحين، {ثُمَّ} بعد تعذيبنا إياهم في الدنيا مرتين، {يُرَدُّونَ}؛ أي: يرجعون يوم القيامة {إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}؛ أي: إلى عذاب جهنم، وبئس المصير، وبانضمامه للمرتين، يصير عذابهم ثلاث مرات، مرتين في الدنيا، ومرة في الآخرة. وقيل: مرة في الدنيا، ومرة في القبر، ومرة في الآخرة. والخلاصة: أنهم يعذبون في الدنيا، بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر، وعذاب الخوف من الفضيحة على رؤوس الأشهاد في الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار. فإن قلت: كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا، وأثبته في قوله: ولَتَعرِفَنَّهُم في لحن القول. فالجواب: أن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات، فلا تنافي اهـ "كرخي". 102 - {و} من أهل المدينة أقوام، {آخرون} سوى المذكورين، ليسوا من المنافقين، ولا من السابقين، {اعْتَرَفُوا}؛ أي: أقروا، {بِذُنُوبِهِمْ} التي هي تخلفهم عن غزوة تبوك، وأظهروا الندامة عليها، {خَلَطُوا}؛ أي: جمعوا {عَمَلًا صَالِحًا} وهو ما سبق لهم في الإِسلام، من الأعمال الصالحة، وخروجهم مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في سائر الغزوات، {وَآخَرَ سَيِّئًا} وهو تخلفهم عن غزوة تبوك؛ أي: خلطوا كل واحد من العمل الصالح، والعمل السيء، بالآخر، وهم أقوام من المسلمين، تخلفوا عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في غزوة تبوك بلا عذر ولا استئذان، ثم ندموا على تخلفهم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد، كأبي لُبابة وأصحابه، كما مر في أسباب النزول، أي: وهناك (¬1) فريق آخر، ممن حولكم من الأعراب، ومن أهل المدينة، ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل، بالسيء منه، والسيء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص، ولا من المنافقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات، كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم ¬

_ (¬1) المراغي.

يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم، ناصحين لله ورسوله، شاعرين بذنوبهم، خائفين من ربهم، وقد بين سبحانه حالهم بقوله: {عَسَى اللَّهُ} أي: حقق الله سبحانه وتعالى: {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: أن يقبل توبتهم، المفهومة من قوله: اعترفوا بذنوبهم. قال الزمخشري: فإن قلت (¬1): قد جعل كل واحد منهما مخلوطًا، فما المخلوط به؟ قلت: كل واحد مخلوط ومخلوط به؛ لأن المعنى، خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كل واحد منهما بالآخر، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن؛ لأنك جعلت الماء مخلوطًا، واللبن مخلوطًا به. وإذا قلته: بالواو، جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطًا بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء اهـ. والمعنى: أنهم محلُّ الرَّجاء لقبول توبتهم، بتوفيقهم للتوبة الصحيحة، التي هي سبب المغفرة والرحمة، وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب، وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير، حين تصور سخط الله، والخوف من عقابه، ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى اقترافه، والعزم على العمل بضده، ليمحو أثره من نفسه. ثم علل هذا بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {غَفُورٌ} لمن تاب، {رَحِيمٌ} بقبول توبته؛ أي: إنه تعالى يقبل توبتهم؛ لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وفي معنى الآية قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. قال جماعة من العلماء: إن هذه الآية، أرجى آية في القرآن، في توقع رحمة الله، للمذنبين الذين يجترحون السيئات، ثم يتوبون إلى ربهم، ويقلعون عن ذنوبهم. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[103]

103 - ولما أظهر هؤلاء التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال .. أمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم، فقال: {خُذْ} يا محمَّد، {مِنْ أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: من أموال هؤلاء، ومن أموال غيرهم، من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها، من نقد وأنعام وأموال تجارة، {صَدَقَةً} بمقدار معين، في الزكاة المفروضة، أو بمقدار غير معين، في صدقة التطوع حالة كونك، {تُطَهِرُهُمْ} يا محمَّد، بتلك الصدقة من دنس الذنوب والبخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين، {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}؛ أي: تزكي يا محمَّد أنفسهم بتلك الصدقة، وترفعهم إلى منازل الأبرار، بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية. ونسبت التزكية إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}؛ لأنه: الخالق، الموفق للعبد، بفعل ما تزكو به نفسه، وتصلح، ونسبت إلى الرسول، في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ لأنه: هو المربى للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم، ويعلو قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية، وبيانه لكتاب الله تعالى، فهو القدوة الحسنة لهم. ونسبت إلى الفاعل لها في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}؛ لأنه: قد فعل، ما كان سببًا في طهارة نفسه، وزكاتها من صدقات، ونحوها من أعمال البر. وأما النهي عن تزكية النفس، في نحو قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. فذاك في تزكية النفس، بدعوى اللسان فقط، دون عمل يؤيدها. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: واستعطف عليهم يا محمَّد، وادع لهم؛ أي: للمتصدقين، واستغفر لهم عند أخذ الزكاة منهم. قال الشافعي رحمه الله: والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة، أن يدعو للمتصدق، ويقول آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا. {إِنَّ صَلَاتَكَ}؛ أي: إن دعاءك واستغفارك لهم {سَكَنٌ لَهُمْ}؛ أي: رحمة وطمأنينة لقلوبهم، يذهب به اضطراب نفوسهم، وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم،

[104]

بأخذك لها، ووضعها في مواضعها. والصلاة من الله على عباده رحمته لهم، ومن ملائكته استغفارهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ومن المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاؤهم له، بما أمرهم به في الصلاة بعد التشهد الأخير. {وَاللَّهَ} سبحانه وتعالى، {سَمِيعٌ} لاعترافهم بذنوبهم، وسميع لدعائك لهم، سماع قبول وإجابة {عَلِيمٌ} بندمهم وتوبتهم منها، وإخلاصهم في صدقاتهم، وطيب أنفسهم بها، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم، وهو الذي يثيبهم عليها. وقد روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صل على فلان" فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". وقرأ الحسن (¬1): {تُطَهِرُهُمْ} من أطهر الرباعي وأطهر وطهّر للتعدية من طهر. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وحفص: {إِنَّ صَلَاتَكَ} هنا وفي هود، {أصَلَاتَكَ} بالإفراد وباقي السبعة بالجمع 104 - {أَلَمْ يَعْلَمُوا}؛ أي: ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم، قبل توبتهم وصدقتهم، {أَنَّ اللَّه} سبحانه وتعالى، {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، الصحيحة {عَنْ عِبَادِهِ}، المخلصين؛ لاستغنائه عن طاعة الطائعين، وعدم مبالاته لمعصية المذنبين، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه، لا رسول، ولا من دونه، {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}؛ أي: ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص نية، ويثيب عليها، ويضاعف ثوابها، كما وعد ذلك في قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وفي الآية حَضٌّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما. وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه، بعد أمره لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - بأخذها، تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها. والاستفهام (¬2) في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا}: للتقرير، وهو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته، أو نفيه، أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

[105]

للتحضيض، والتأكيد. ومعناه: إن ذلك ليس لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الله سبحانه وتعالى، هو الذي يقبل التوبة ويردها، فاقصدوه بها اهـ كرخي. والقصد به، تهييجهم إلى التوبة والصدقة. {و} ألم يعلموا {أنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {هُوَ التَّوَّابُ} أي: هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين، الذين ينيبون إلى ربهم، وأنه تعالى، هو {الرَّحِيمُ}، بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل، ويمنعهم الخوف أن يصروا على ذنب، كما قال تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وجاء في الحديث "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" رواه الترمذي. وهذه الجملة تأكيد لقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم. وروى الشيخان، عن أبي هريرة، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله تعالى. وفي مصحف (¬1) أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه {أَلَمْ تَعْلَمُوا} بالتاء على الخطاب وهو إما خطاب للتائبين أو لجماعة من المؤمنين. 105 - {وَقُلِ} يا محمَّد لهؤلاء التائبين أو لجميع الناس، {اعْمَلُوا}، ما شئتم من الأعمال الحسنة والسيئة {فَسَيَرَى اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {عَمَلَكُمْ} خيرًا كان أو شرًّا؛ أي: فسيرى الله سبحانه وتعالى أعمالكم المستقبلة ويعلمها خيرًا كانت أو شرًّا كما يرى أعمالكم الماضية ويعلمها فالاستقبال بالنظر إلى الأعمال وإلا فعلم الله حاصل لا استقبال فيه. وفيه ترغيب عظيم للمطيعين، ووعيد شديد للمذنبين، فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل، فإن الله تعالى يرى أعمالكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ويجازيكم عليها، {و} يراه {رسوله} - صلى الله عليه وسلم - بإطلاع الله إياه على أعمالكم، كما أطلعه على أعمالكم الماضية بفضيحتكم عليها، {و} يراه {المؤمنون} بما قذف الله تعالى في قلوبهم. من محبة الصالحين وبغض المذنبين. والمعنى (¬1): وقيل لهم أيها الرسول، اعملوا لدنياكم وآخرتكم لأنفسكم وأمتكم، فالعمل هو مناط السعادة، لا الاعتذار عن التقصير، ولا دعوى الجد والتشمير، وسيرى الله عملكم خيرًا كان أو شرًّا، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم، وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم، ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به، أن يتقيه في السر، والعلن، ويقف عند حدود شرعه، وسيراه رسوله والمؤمنون، ويزنونه بميزان الإيمان، الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء الله على الناس. روى أحمد والبيهقي: أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماءٍ ليس لها باب ولا كوة .. لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان". وفي الآية: إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان، تلي مرضاة الله ورسوله. وفي حديث أنس رضي الله عنه، قال: "مروا على النبي، - صلى الله عليه وسلم - بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال، النبي، - صلى الله عليه وسلم - وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت، قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شداء الله في الأرض"، متفق عليه. وقال ابن عباس: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. ثم ذكر سبحانه وتعالى بوعيد شديد، فقال: {وَسَتُرَدُّونَ} أي: وسترجعون بعد الموت، {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: إلى الله الذي يعلم ما غاب عن عباده، وما شوهد لهم؛ أي إلى الله الذي يعلم ما تسرونه، وما تعلنونه، وما تخفونه، وما تبدونه، وفي تقديم الغيب على الشهادة، إشعار بسعة علمه تعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء، ويساوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون ¬

_ (¬1) المراغي.

[106]

عقب ردّهم إليه فقال: {فَيُنَبِّئُكُمْ} أي: فيخبركم الله سبحانه وتعالى، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، في الدنيا، فيجازيكم عليه فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده؛ لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة، لا تحصل إلا بعد الإخبار بعمله، ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم 106 - {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} أي: ومن المتخلفين عن غزوة تبوك أقوام آخرون؛ أي: غير الذين مردوا على النفاق، وغير الذين اعترفوا بذنوبهم، مرجون؛ أي: بل هم مرجون {لِأَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: بل هم مؤخرون عن التوبة إلى قضاء الله تعالى وحكمه فيهم بما شاء إما التوبة وإما التعذيب. وقرأ (¬1) الحسن وطلحة وأبو جعفر وابن نصاح والأعرج ونافع وحمزة والكسائي وحفص: {مُرْجَوْنَ} و {ترجي} في سورة الأحزاب بغير همزة. وقرأ باقي السبعة: {مرجؤن وتجرىء} بالهمز وهما لغتان. كان (¬2) المتخلفون عن الجهاد في غزوة تبوك، أقسامًا ثلاثة: الأول: المنافقون الذين مردوا على النفاق وهم أكثر المتخلفين. والثاني: المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم، وتابوا، وزكوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول، واستغفاره، فتاب الله عليهم، كأبي لبابة وأصحابه. والثالث: المؤمنون الذين حاروا في أمرهم، ولم يعتذروا للرسول، - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم، لا عذر لهم، وأرجؤوا توبتهم واعتذارهم إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، صريحًا وإنما وجد منهم الندم والحزن، فإرجاء الله تعالى الحكم القاطع في أمرهم، لأسباب ستذكر، والفرق بين القسم الثاني، والقسم الثالث: أن القسم الثاني، سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم، والقسم الثالث توقفوا، ولم يسارعوا إلى التوبة، فأخر الله أمرهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة، الذين خلفوا عن التوبة، وهم مرارة - بضم الميم - ابن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

غزوة تبوك، في جملة من قعد من المخالفين، كسلًا وميلًا إلى الدعة والراحة والتمتع بطيب الثمار والتفيؤ بالظلال لا شكًّا ونفاقًا. وكانت طائفة منهم، ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه. وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء، وأرجئت أي أخرت توبة هؤلاء، حتى نزلت آية {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ}، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية. ومعنى {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: ومن المتخلفين، ناس آخرون مؤخرون إلى أمر الله وحكمه فيهم بما شاء، وهم أولئك النفر، الذين سبق ذكرهم، وكانوا تخلفوا عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - مع الهم باللحاق به، ولم يتيسر لهم، ولم يكن تخلفهم عن نفاق. فلما قدم النبي، - صلى الله عليه وسلم - من تبوك .. قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، من الذين ربطوا أنفسهم في سواري المسجد، فنزل فيهم، قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} الآية. فنهى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم، وإرسالهن إلى أهاليهن، إلى أن نزل قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} الآية. وكانت مدة ما بين نزول الآيتين، خمسين ليلة، بقدر مدة التخلف؛ إذ كانت غيبته، - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة، خمسين ليلة؛ لأنهم، لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر .. عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضت خمسون ليلة .. نزلت توبتهم بقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} الآية. ومعنى قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إن أصروا ولم يتوبوا من التخلف، {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا عنه؛ أي: إن أَمْرهم دَائِرٌ بين هذين، التعذيبِ والتوبةِ، وإما هنا إما للشك بالنسبة إلى المخاطبين، وإما للإبهام بالنسبة إلى الله، بمعنى: أنه تعالى، أبهم على المخاطبين كما في "السمين". وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس، فلا يدرون ماذا ينزل بهم، هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم، كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة، كما حكم على الخالفين من المنافقين. وحكمة إبهام الأمر

عليهم، إثارة الغم والحزن في قلوبهم، لتصح توبتهم. وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخاطبتهم تربيةً للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد؛ لإعلاء كلمة الحق، ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين. وهذه الجملة، في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في {مرجون}، والتقدير، وآخرون مرجون هم إلى أمر الله حالة كونهم إما معذبين، وإما متوبًا عليهم، ما سيأتي في بحث الإعراب. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما يصلح حالَ عباده، ويربيهم ويزكيهم، أفرادًا وجماعات {حَكِيمٌ} فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح، إذا عملوا بها. ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم في كتابه، كما أن تكرار تلاوتها في مختلف الأوقات، مما يوقع في قلوب المؤمنين الرهبة والخوف، ويفيدهم عظة وتهذيبًا. الإعراب {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}. {يَعْتَذِرُونَ}: فعل وفاعل {إِلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يَعْتَذِرُونَ}، أو الجواب محذوف دل عليه ما قبلها. {رَجَعْتُمْ}: فعل وفاعل. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {لَا تَعْتَذِرُوا} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا تَعْتَذِرُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {لَنْ نُؤْمِنَ}: ناصب وفعل. {لَكُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، أعني: المؤمنين، والجملة في محل

النصب مقول القول. {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ} {قَدْ}: حرف تحقيق. {نَبَّأَنَا اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {مِنْ أَخْبَارِكُمْ}: مفعول ثانٍ، والجملة في محل النصب مقول القول. وفي "الفتوحات" قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}، فيه وجهان: أحدهما: أنها المتعدية إلى مفعولين، أحدهما ضمير التكلم. والثاني: قوله من أخباركم، وعلى هذا، ففي {مِنْ} وجهان: أحدهما: أنها غير زائدة، والتقدير: قد نبأنا الله أخبارًا من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفة للمفعول المحذوف. والثاني: أن {مِنْ} زائدة عند الأخفش،؛ لأنه لا يشترط فيها شيئًا. والتقدير: قد نبأنا الله أخباركم. الوجه الثاني: من الوجهين الأولين: أنها متعدية لثلاثة، كأعلم، فالأول والثاني ما تقدم، والثالث محذوف؛ اختصارًا للعلم به، والتقدير: نبأنا الله من أخباركم كذبًا ونحوه اهـ "سمين". {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: واقعًا، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قُل} {وَرَسُولُه}: معطوف على الجلالة. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {تُرَدُّونَ}: فعل ونائب {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {تُرَدُّونَ} {وَالشَّهَادَةِ} معطوف على الغيب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {سيرى} على كونها، مقولا لـ {قُلْ} {فينبئكم} {الفاء}: عاطفة {ينبئكم}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير، يعود على الله {بِمَا}: جار ومجرور، في محل المفعول الثاني، والجملة، معطوفة على جملة تردون {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه. وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} إن قلنا: {ما} موصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كنتم تعملونه، أو صلة {ما} المصدرية إن قلنا: {ما} مصدرية تقديره: بعملكم.

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)}. {سَيَحْلِفُونَ}: فعل وفاعل {بِاللَّهِ}: متعلق به، وكذا يتعلق به {لَكُمْ} والجملة بدل من {يَعْتَذِرُونَ} أو تفسير له كما في "أبي السعود" {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يَحْلِفُونَ} {انْقَلَبْتُمْ} فعل وفاعل {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذَا} {لِتُعْرِضُوا}: {اللام}: لام كي. {تُعْرِضُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، مجرور {باللام} تقديره، لإعراضكم {عَنْهُمْ}: الجار والمجرور، متعلق بيحلفون {فَأَعْرِضُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنهم سيحلفون لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم: أعرضوا عنهم {أعرضوا}: فعل وفاعل {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إِذَا}: المقدرة مستأنفة {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} {إن} حرف نصب والهاء: اسمها. {رِجْسٌ}: خبرها، وجملة إن: في محل النصب، مستأنفة، مسوقة، لتعليل الأمر بالإعراض عنهم، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: مبتدأ وخبر، إما من تمام التعليل، وإما تعليل مستقل، كما ذكره: أبو السعود {جَزَاءً}: منصوب على المصدرية، بعامل مقدر من لفظه، تقديره: يجزون جهنم جزاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويجوز كونه حالًا من جهنم وفي "الفتوحات" قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يجوز أن ينتصب على المصدر، بفعل من لفظه مقدر؛ أي: يجزون جزاءً وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأن كونهم ثاوين في جهنم، في معنى المجازاة، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله، اهـ "سمين" {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب، أو بمعنى: على {ما}: موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه. وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره، وجملة {كَانُ}: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط، محذوف، تقديره: بما كانوا يكسبونهُ أو صلة ما المصدرية تقديره: بكسبهم، الجار والمجرور متعلق بـ {جزاءً}، أو صفةٌ له.

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}. {يَحْلِفُونَ}: فعل وفاعل {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة {لِتَرْضَوْا}: {اللام}: حرف جر، وتعليل {ترضوا} فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بـ {اللام} تقديره: لرضائكم عنهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يَحْلِفُونَ} {فَإِنْ تَرْضَوْا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حلفهم، لرضائكم عنهم، وأردتم بيان حكم رضائكم عنهم .. فأقول لكم {إن ترضوا}: {إن}: حرف شرط {ترضوا}: فعل وفاعل، مجزوم بإن، على كونه فعل شرط لها {عَنْهُمْ}: متعلق به، وجواب إن الشرطية محذوف، تقديره: فلا ينفعهم رضاؤكم عنهم، وجملة إن الشرطية، في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فإنَّ الله}: الفاء: تعليلية {إن}: حرف نصب {اللَّهَ} اسمها {لَا يَرْضَى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على الله {عَنِ الْقَوْمِ}: متعلق به {الْفَاسِقِينَ}: صفة للقوم، وجملة {لَا يَرْضَى}: في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن}: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {الْأَعْرَابُ}: مبتدأ {أَشَدُّ}: خبر {كُفْرًا}: تمييز، محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة مستأنفة {وَنِفَاقًا}: معطوف على كفرًا {وَأَجْدَرُ}: معطوف على {أَشَدُّ}. {أَلَّا} {أن}: حرف مصدر {لا}: نافية {يَعْلَمُوا}: فعل وفاعل، منصوب بـ {أن} {حُدُودَ مَا}: مفعول به، ومضاف إليه {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {عَلَى رَسُولِه}: متعلق به، وجملة {أَنزَلَ}: صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما أنزله الله، وجملة {لا يعلموا} في تأويل مصدر، مجرور، بحرف جر محذوف، تقديره، وأجدر بعدم

علمهم حدود ما أنزله الله على رسوله {وَالله}: مبتدأ {عَلِيمٌ}: خبر أول {حَكِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ}: جار وجرور، خبر مقدم {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة {يَتَّخِذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على {مَن} {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول. {يُنفِقُ} فعل مضارع وفاعله ضمير، يعود على {مَن} وجملة {ينفِقُ}: صلة لـ {مَا}: أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما ينفقه. {مَغْرَمًا}: مفعول ثان، لاتخذ، وجملة {يَتَّخِذُ}: صلة من الموصولة {وَيَتَرَبَّصُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على {مَنْ} والجملة معطوفة على جملة {يَتَّخِذُ} {بِكُمُ}: متعلق بـ {يَتَرَبَّصُ}: {الدَّوَائِرَ}: مفعول به {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم {دَائِرَةُ السَّوْءِ}: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة دعائية لا محل لها من الإعراب {وَاللَّهُ} مبتدأ {سَمِيعٌ}: خبر أول {عَلِيمٌ}: خبر ثانٍ والجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ} اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَمِنَ الْأَعْرَابِ}. {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: معطوف على الجلالة {وَيَتَّخِذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة معطوفة على جملة {يُؤْمِنُ} {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول أول، لـ {يَتَّخِذُ {يُنْفِقُ}؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة

صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: {ما ينفقه} {قُرُبَاتٍ}: مفعول ثان لـ {يتخذ} ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: سبب قربات، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {قُرُبَاتٍ} أو متعلق بـ {يَتَّخِذُ} {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}: معطوف على {قُرُبَاتٍ}؛ أي: سبب صلوات الرسول ودعواته {ألا إنها}: {أَلَا}: حرف تنبيه واستفتاح {إِنَّهَا قُرْبَةٌ}؛ ناصب، واسمه وخبره {لَهُمْ}: صفة لقربة، والجملة مستأنفة {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل {فِي رَحْمَتِهِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}: ناصب واسمه وخبر أول {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {وَالسَّابِقُونَ}: مبتدأ {الْأَوَّلُونَ}: صفة له {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ}: جار ومجرور، حال من المبتدأ {وَالْأَنْصَارِ}: معطوف على المهاجرين {وَالَّذِينَ}: معطوف على {السَّابِقُونَ} {اتَّبَعُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول {بِإِحْسَانٍ}: جار ومجرور حال، من واو اتبعوهم، أو متعلق بـ {اتَّبَعُوهُمْ} {رَضِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {وَرَضُوا} فعل وفاعل معطوف على {رَضِيَ}. {عنه} متعلق به {وَأَعَدَّ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير، يعود على الله {لَهُمْ}: متعلق به {جَنَّاتٍ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {رَضِيَ} {تَجْرِي}: فعل مضارع {تَحْتَهَا}: متعلق به {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة صفة لـ {جنات} {خَالِدِينَ}: حال من ضمير لهم {فِيهَا}: متعلق به، وكذا يتعلق به {أبدًا} {ذَلِكَ الْفَوْزُ}: مبتدأ وخبر {الْعَظِيمُ}: صفة له والجملة مستأنفة. {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}. {وَمِمَّنْ}: جار ومجرور، خبر مقدم {حَوْلَكُمْ}؛ ظرف ومضاف إليه، صلة {مِنَ} الموصولة {مِنَ الْأَعْرَابِ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن

في الصلة {مُنَافِقُونَ} مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ}: جار ومجرور، خبر مقدم لمبتدأ محذوف، قامت صفته مقامه، وحَذفُ الموصوف وإقامة صفته مقامه مطرد تقديره: ومن أهل المدينة قوم. وجملة {مَرَدُوا}: صفة لهذا المبتدأ المحذوف، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} {عَلَى النِّفَاقِ}: متعلق بـ {مَرَدُوا}. {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}. {لَا تَعْلَمُهُمْ}: فعل ومفعول به، إن قلنا: أن علم هنا عرفانية، ومفعول أول إن قلنا إن علم على بابه، والمفعول الثاني محذوف تقديره: لا تعلمهم منافقين، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، أو صفة لـ {مُنَافِقُونَ} {نَحْنُ}: مبتدأ {نَعْلَمُهُمْ}: فعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: منافقين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {سَنُعَذِّبُهُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {مَرَّتَيْنِ}: منصوب على المصدرية {ثُمَّ}: حرف عطف {يُرَدُّونَ}: فعل ونائب فاعل {إِلَى عَذَابٍ}: متعلق به {عَظِيمٍ}: صفة لعذاب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نُعَذِّبُهُمْ}. {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَآخَرُونَ} معطوف على منافقون، على كونه صفة لمبتدأ محذوف، خبره محذوف أيضًا، تقديره: وممن حولكم، أو من أهل المدينة قوم آخرون، والجملة معطوفة على جملة قوله {وممن حولكم} {اعْتَرَفُوا}: فعل وفاعل {بِذُنُوبِهِمْ} متعلق به، والجملة صفة ثانية لذلك المحذوف {خَلَطُوا}: فعل وفاعل {عَمَلًا}: مفعول به {صَالِحًا} صفة له، والجملة صفة ثالثة له {وَآخَرَ}: معطوف على {عَمَلًا} {سَيِّئًا}: صفة {آخر} {عَسَى}: فعل ناقص، من أفعال الرَّجاء {اللَّهُ}: اسمها {أَنْ يَتُوبَ}: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، وجملة {يَتُوبَ} في تأويل مصدر، منصوب على كونه خبر

عسى، ولكنه في تأويل اسم الفاعل، ليصح الإخبار به عن الجلالة، تقديره: عسى الله توبته عليهم؛ أي: عسى الله تائبًا عليهم، وجملة عسى مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {غَفُورٌ}: خبر أول {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ لها، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. {خُذْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: متعلق به {صَدَقَةً} مفعول به {تُطَهِرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية صفة لصدقة، ولكنها سببية، والرابط محذوف تقديره: بها {وَتُزَكِّيهِمْ}: فعل وفاعل. {بِهَا}: متعلق به لقربه، أو بتطهر لسبقه، كما هو شأن التنازع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة تطهر. {وَصَلِّ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {خُذْ} {إِنَّ صَلَاتَكَ}: ناصب واسمه. {سَكَنٌ}: خبره. {لَهُمْ}: متعلق بـ {سَكَنٌ}: وجملة {إنَّ}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: مبتدأ وخبر أول. {عَلِيمٌ} خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. {أَلَمْ}: الهمزة: للاستفهام التقريري. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَعْلَمُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} والجملة مستأنفة. {أَنَّ}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {هُوَ}: ضمير فصل. {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْ عِبَادِهِ}: متعلق بـ {يَقْبَلُ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي علم، تقديره: ألم يعلموا قبول الله تعالى توبة عباده. {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يَقْبَلُ}. {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {التَّوَّابُ}: خبر أن. {الرَّحِيمُ}: صفة للتواب،

أو خبر ثانٍ لها، وجملة أن معطوفة على جملة أن الأولى. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {وَقُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {اعْمَلُوا}: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قُلِ} وإن شئت قلت {اعْمَلُوا}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف. تقديره: ما شئتم، والجملة في محل النصب مقول قل. {فَسَيَرَى}: الفاء: تعليلية، السين: حرف استقبال زيدت هنا لإفادة تأكيد معنى الكلام. {يَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَرَسُولُهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قل. {وَالْمُؤْمِنُونَ}: معطوف على الجلالة أيضًا. {وَسَتُرَدُّونَ}: فعل ونائب فاعل. {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ}: متعلق به. {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف على الغيب، والجملة معطوفة على جملة {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}. {فَيُنَبِّئُكُمْ}: الفاء: عاطفة. {ينبئكم}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِمَا كُنْتُمْ}: جار ومجرور، في محل المفعول الثاني، والجملة معطوفة على جملة قوله {ستردون}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره وجملة {كان} صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {وَآخَرُونَ}: صفة لمبتدأ محذوف، خبره محذوف أيضًا، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون. {مُرْجَوْنَ}: صفة ثانية لذلك المحذوف، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} كما قاله أبو البقاء {لِأَمْرِ اللَّهِ}: متعلق بـ {مُرْجَوْنَ}. {إِمَّا}: حرف تفصيل. {يُعَذِّبُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة في محل الرفع صفة ثالثة لذلك المحذوف، ولكنها سببية، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون مرجون لأمر الله، إما معذبون أو حال من الضمير المستكن في مرجون، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون مرجون هم لأمر الله، حالة كونهم إما معذبين، وإما متوبًا

عليهم. {وَإِمَّا يَتُوبُ}: الواو: عاطفة {إما} على {إِمَّا}. {إِمَّا}: حرف تفصيل، مفيدة للشك بالنسبة إلى المخاطب، ومفيدة للإبهام بالنسبة إلى الله. قال أبو البقاء: وإما إذا كانت للشك .. جاز أن يليها الاسم، وأن يليها الفعل، فإن كانت للتخيير، ووقع الفعل بعدها .. كانت معه أن كقوله: إما أن تلقى انتهى. {يَتُوبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ}. على كلا الاحتمالين، وقيل: غير ذلك، من أوجه الإعراب. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {عَلِيمٌ} خبر أول. {حَكِيمٌ} خبر ثانٍ، والجملة الاسمية مستأنفة. مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ}: من اعتذر من باب افتعل إذا مَهَّد العذر. والاعتذار: إظهار العذر بالأعذار الكاذبة. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: {الْغَيْبِ}: ما غاب عنك علمه {وَالشَّهَادَةِ}: ما تشهده وتعرفه. {إِذَا انْقَلَبْتُمْ}: انقلب إلى الشيء من باب انفعل: رجع إليه {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}؛ أي: قذر يجب الإعراض عنهم. {وَمَأْوَاهُمْ}: والمأوى، كل مكان يأوى إليه الشيء، ليلًا أو نهارًا، وقد أوى فلان إلى منزله، يأوي أويًا وإيواء. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا}: {الْأَعْرَابُ} اسم لبدو العرب، واحده أعرابي، والأنثى أعرابية، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة، بَدْوِه وحَضَره، واحدَهُ عربي، كالمجوس والمجوسي واليهود واليهودي. وفي "الفتوحات" والأعراب اسم جمع، جاء على صورة الجمع، وليس جمعًا لعرب، لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده؛ لأن الأعراب سكان البادية خاصة، والعرب المتكلمون باللغة العربية، سواء سكنوا البادية أو الحاضرة، اهـ شيخنا. وفي "المصباح" وأما {الْأَعْرَابُ} بالفتح فأهل البَدْوِ من العرب، الواحد أعرابي بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نجعة، وارتياد غيث وكلأ، وزاد

الأزهري فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم قال: فمن نزل البادية وجاور البادين، وظعن بظعنهم .. فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب .. فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء. قال النيسابوري: قيل إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤوا بالعرب، وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب، وينطق بلسانهم فهو منهم، وقيل: لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى. {وَأَجْدَرُ}؛ أي: أحق وأولى وأحرى يقال، هو جدير وأجدر، وحقيق وأحق، وقمن وخليق، وأولى بكذا كله بمعنى واحد. قال الليث: جدر يجدر جدارة، فهو جدير وأجدر به، يؤنث ويثنى ويجمع. قال الشاعر: نَخِيْلٌ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيْرُوْنَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوْا فَيَسْتَعْلُوْا وقد نبه الراغب على أصل اشتقاق هذه المادة، وأنها من الجدار؛ أي: الحائط، فقال: والجدير المنتهي لانتهاء الأمر إليه، انتهاء الشيء إلى الجدار، والذي يظهر، أن اشتقاقه من الجدر، وهو أصل الشجرة، فكأنه ثابت كثبوت الجدر في قولك: جدير بكذا، اهـ "سمين". {مَغْرَمًا} والمغرم: الغرامة والخسران، من الغرام بمعنى: الهلاك؛ لأنه سببه، ومنه {إن عذابها كان غرامًا} وقيل: أصله الملازمة، ومنه الغريم، للزومه من يطالبه وإلحاحه عليه. {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ}: والتربص: الانتظار، والدوائر، هي: المصائب التي لا مخلص منها، تحيط به كما تحيط الدائرة. وقيل: تربص الدوائر هنا: موت الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وظهور الشرك. قال الشاعر: تَرَبَّصْ بِهَا ريْبَ الْمَنُوْنِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أوْ يَمُوْتَ حَلِيْلُهَا والدوائر: جمع دائرة، وهي: ما يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة، أخذًا من الدائرة المحيطة بالشيء، وأصلها داورة؛ لأنها من دار يدور؛ أي: أحاط، فقلبت الواو همزة ومعنى تربص الدوائر: انتظار المصائب؛ أي: انتظار انقلاب الدوائر. ففي الكلام حذف مضاف، وفي الدائرة مذهبان أظهرهما، أنها صفة

على فاعلة كقائمة، وقال الفارسي: يجوز أن تكون مصدرًا كالعاقبة، اهـ "سمين". ودوائر الزمان، حوادثه. والمراد بها ما لا محيص منه، من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس، والدائرة أيضًا، النائبة والمصيبة، والسوء اسم لما يسوء ويضر. وقال الفراء: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: العذاب والبلاء. قال: والسوء بالفتح مصدرر سؤته سوءًا ومساءة وسوائية ومسائية، وبالضم اسم لا مصدر. وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر، وهو مصدر في الحقيقة، قلت: يعني، أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدر، ثم أطلق على كل ضرر وشر. وقال مكي: من فتح السين، فمعناه الفساد والرداءة، ومن ضمها، فمعناه البلاء والضرر، وظاهر هذا، أنهما اسمان لما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدرين، ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره: المضموم العذاب والضرر، والمفتوح الذم، اهـ "سمين". {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}؛ والـ {قُرُبَاتٍ}: جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، تقول منه: قربت لله قربانًا، وهي في المنزلة والمكانة، كالقرب في المكان والقرابة في الرحم. {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}: والـ {صلوات}: واحدها صلاة، ويراد بها الدعاء، والمعنى: أنه يتخذ ما ينفق سببًا لحصول القربات عند الله تعالى، وسببًا لحصول دعوات الرسول. {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}: وأصل مرد وتمرد: اللين والملاسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه غصن أمرد لا ورق عليه، وفرس أمرد لا شعر فيه، وغلام أمرد لا شعر بوجهه، وأرض مرداء لا نبات فيها، وصرح ممرد؛ أي: مجرد فالمعنى: أنهم أقاموا على النفاق، وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه. {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}: الاعتراف: الإقرار بالشيء، ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في الحال والاستقبال. {خَلَطُوا}: ومعنى الخلط، أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر، كقولك خلطت الماء باللبن، واللبن بالماء، ويجوز أن تكون الواو في قوله: {وَءَاخَرَ}: بمعنى الباء، كقولك بعت الشاة شاة ودرهمًا؛ أي: بدرهم. {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}:

والصدقة: مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه. والصدقة ما ينفقه المؤمن قربة لله. {تزكيهم}: والتزكية من قولهم رجل زكى؛ أي: زائد الخير والفضل، قاله: في "الأساس". {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: والصلاة الدعاء. {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}: والسكن: كل ما تسكن وتطمئن إليه النفس، وترتاح عنده من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء، فهو فعل بمعنى، مفعول كالقبض بمعنى، المقبوض والقنص بمعنى، المقنوص. والمعنى، يسكنون إليها. مرجون ومرجؤون وبهما قرئ؛ أي: مؤخرون يقال؛ أرجأت الأمر وأرجيته؛ أي: أخرته. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا، وضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين كلمتي {الْغَيْبِ} {وَالشَّهَادَةِ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}. ومنها: التكرار في: {يَحْلِفُونَ} وفي لفظ {الْأَعْرَابُ}، وفي قوله: {وسيرى الله عملكم ورسوله}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ونكتة العدول لهذا الظاهر التسجيل عليهم، حيث وصفهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم في ذلك، اهـ "أبو السعود". ومنها: المقابلة في قوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا}، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر}؛ لأن الدوائر حقيقة في الدائرة المحيطة بالشيء، كدائرة القمر ودائرة الخط، فاستعملها في المصائب والنكبات النازلة بالإنسان، بجامع الاشتمال والإحاطة في كل.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}؛ حيث أطلق المسبب الذي هو القربات، وأراد السبب، أي: سبب قربات، وسبب صلوات وفي قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}؛ أي: يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة، وهو من إطلاق الحال وإرادة المحل. ومنها: الطباق بين قوله: {عَمَلًا صَالِحًا} وقوله: {وَآخَرَ سَيِّئًا}. ومنها: التشبيه البليغ قوله {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} حيث جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان مبالغة، وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه فصار بليغًا. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {وَآخَرَ سَيِّئًا} حيث استعار الإلصاق، الذي هو معنى الباء للواو التي هي للجمع؛ لأن الواو هنا، بمعنى الباء؛ أي بآخر. قال التفتازاني: وتحقيقه أن الواو للجمع، والباء للإلصاق والجمع، والإلصاق من قبيل واحد، فسلك به طريق الاستعارة، اهـ "كرخي". ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} حيث أتى بأن، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، وبصيغة المبالغة في التواب وفي الرحيم؛ تبشيرًا لعباده؛ وترغيبًا لهم كما ذكره الشوكاني. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}؛ حيث شبه القبول بالأخذ، فاستعار له اسمه، فاشتق من الأخذ، بمعنى القبول، يأخذ بمعنى يقبل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَةَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}. المناسبة لما (¬1) ذكر الله سبحانه وتعالى طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وأفعالًا .. ذكر هنا، أن منهم: من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعًا للمنافقين، يدبرون فيه ما شاؤوا من الشر وسموه مسجدًا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصرين من المؤمنين .. أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، البالغين فيه حد الكمال، وبذا تم معرفة جميع أحوال المؤمنين. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما (¬2) كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال بين الله سبحانه هنا أنه يجب البراءة من أمواتهم، وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه، وهو وعده بالاستغفار بقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فلما أصر على كفره، تبرأ منه وبعدئذٍ بين رحمته بعباده، وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شافٍ لما يعاقبون عليه. قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ...} الآية، مناسبة (¬3) هذه الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما قدم الكلام في أحوال المنافقين، من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين، حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم .. عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب، يشرعون في شيء، ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة، ويطيلون فيها، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وعبارة المراغي هنا: لما استقصى الله سبحانه وتعالى أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف، عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم، جريًا على سنّة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد؛ لأنه أفعل في النفس، وأشد تأثيرًا في القلب، وأجدى في تجديد الذكرى، وأدنى أن لا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها، إلا أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذ كل مما يتاب منه وكل عثرة يطلب منها الصفح والعفو. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ...} الآية، سبب (¬1) نزولها ما أخرجه ابن مردويه: من طريق ابن إسحاق، قال: ذكر ابنُ شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم، وكان ممن بايع تحت الشجرة يقول: أتى منْ بني مسجدَ الضرار رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال: إني على جناح السفر، وإذا قدمنا إن شاء الله .. أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما رجع نزل بذي أوان على ساعة من المدينة، فأنزل الله في المسجد: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}، إلى آخر القصة، فدعا مالك بن الدخشن، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه، ففعلا. وأخرج (¬2) ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسجد قباء خرج رجال من الأنصار، منهم: بخدج، فبنوا مسجد النّفاق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبخدج "ويلك، ما أردتَ إلى ما أرى" فقال: يا رسول الله، ما أردت إلا الحسنى، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن مردويه: من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إن أناسًا من الأنصار بنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابتنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر، ملك الروم، فآتي بجند، فأخرِجَ محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا له: لقد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، فأنزل الله {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}. وأخرج الواحدي، عن سعد بن أبي وقاص قال: إن المنافقين عرضوا بمسجد، يبنونه يضاهون به مسجد قباء، لأبي عامر الراهب إذا قدم ليكون إمامهم فيه، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا بنينا مسجدًا، فصل فيه فنزلت: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}. وأخرج الترمذي، عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَةَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ} قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: قال عبد الله بن رواحة، لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، اشْتَرِطْ لربك ولنفسك ما شئتَ، قال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم"، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا، قال: "الجنة"، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري (ج3 ص 465) عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم -، لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب، آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى فيه

هذه الآية، والحديث قد أخرجه مسلم والنسائي وأحمد وابن جرير والبيهقي وابن أبي حاتم. وأنزل (¬1) في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية، وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة. وأخرج الترمذي وحسنه، والحاكم عن علي قال: سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك. فذكرت ذلك لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}. وأخرج الحاكم والبيهقي: في "الدلائل" وغيرهما عن ابن مسعود، قال: خرج رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلًا، ثم بكى فبكيت لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} قال الحافظ (¬2) ابن حجر: يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب، متقدم هو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة، وقصة علي، وجمع غيره بتعدد النزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بين أن هذا الحكم، غير مختص بدين محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، بل هو مشروع أيضًا، في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في وجوب الانقطاع، أكمل وأقوى، اهـ كرخى. قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} سبب نزولها: ما أخرجه البخاري وغيره، عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها، إلا بدرًا، حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها، وآذن الناس بالرحيل، فذكر الحديث بطوله، وفيه فأنزل الله توبتنا. {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[107]

إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال: وفينا أنزل أيضًا، {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. التفسير وأوجه القراءة 107 - وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} عطف على قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ}؛ أي: ومن المنافقين الفريق الذين اتخذوا، وبنوا مسجدًا، وكانوا اثني عشر رجلًا من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عمرو، {ضِرَارًا}؛ أي: لأجل إضرار أهل مسجد قباء؛ أي: ومن المنافقين جماعة، بالغوا في الإجرام حتى ابتنوا مجتمعًا يدبرون فيه الشر للمؤمنين، وسموه مسجدًا مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" {وَكُفْرًا}؛ أي: ولأجل تقوية الكفر والنفاق، الذي أضمروه بالطعن علي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإِسلام، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ولأجل التفريق والتشتيت بين المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد قباء؛ أي: لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد الذي بنوه، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة، {وَإِرْصَادًا}؛ أي: وانتظارًا {لـ}: مجيء {من حارب الله ورسوله}: أبي عامر الراهب الفاسق. وقوله: {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بحارب؛ أي: حارب الله ورسوله من قبل بناء هذا المسجد وكان أبو عامر: قد تنصر في الجاهلية، وترهب؛ أي: لبس المسوح وطلب العلم، فلما قدم النبي، - صلى الله عليه وسلم - المدينة، عاداه؛ لأنه زالت رياسته وقال: للنبي، - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، ولم يزل يقاتله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربًا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدًا، فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدًا وأصحابه من المدينة، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. {وَلَيَحْلِفُنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي، ليحلفن لك أيها الرسول، أولئك الذين بنوا ذلك المسجد، كاذبين والله، {إِنْ أَرَدْنَا}؛ أي: ما أردنا ببناء هذا المسجد،

{إِلَّا الْحُسْنَى}؛ أي: إلا الفعلة الحسنى، والخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الصلاة والذكر فيه، والرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء، أو مسجد الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، {وَاللَّهُ}، سبحانه وتعالى {يَشْهَدُ}؛ أي: يعلم {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قيلهم وفي حلفهم؛ لأنهم ما بنوه إلا للسوء وضرار مسجد قباء. روي أن الذين اتخذوا هذا المسجد، كانوا اثني عشر رجلًا من منافقي الأوس والخزرج، وقد بين الله سبحانه وتعالى الأغراض التي لأجلها بنى، وهي أربعة: 1 - مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء، الذي بناه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مقدمه من مكة مهاجرًا قبل وصوله إلى المدينة. 2 - تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك، مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور فيما بينهم في الكيد لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين. 3 - التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء، وفي ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، وهي أهم مقاصد الإِسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيًا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلي المسلمون الجمعة في مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا فإن تفرقوا عمدًا كانوا آثمين. ومن (¬1) هذا، يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولم يكن سببًا لتفريق جماعتهم، فكثير من المساجد المتقاربة في القاهرة وغيرها من الأمصار والمدن الأخرى، لم تبن لوجه الله، بل كان الباعث على بنائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء، وعدم نصح ¬

_ (¬1) المراغي.

العلماء لهم. 4 - الانتظار والترقب، لمن حارب الله ورسوله، أن يجيء محاربًا فيجد مكانًا مرصدًا له، وقومًا راصدين مستعدين للحرب معه، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدًا له. {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}؛ أي: وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي: الرفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف، ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وليصلي معهم فيه، والله يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم؛ لأنهم ما بنوه إلا للسوء وضرار مسجد قباء. وقرأ جمور القراء (¬1): {وَالَّذِينَ} بالواو عطفًا على {وَآخَرُونَ}؛ أي: ومنهم: الذين اتخذوا، الخ كما مر. وقرأ أهل المدينة، نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: {الذين} بغير واو، كذا في مصاحف المدينة، والشام، فاحتمل أن يكون بدلًا من قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} وأن يكون خبر مبتدأ تقديره هم الذين. وقرأ الأعمش: {وَإِرْصَادًا للذين حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. روي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما انصرف من تبوك راجعًا، نزل بذي أوان، وهو موضع قريب من المدينة، فأتاه المنافقون، وسألوه أن يأتي مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فأنزل الله هذه الآية، وأخبره خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيًّا، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار. فدخل أهله، فأخذ من سعف النخل، فأشعله، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فأحرقوه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[108]

وهدموه وتفرق عنه أهله، وأمر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أن يتخذ ذلك الموضع كناسة، تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام غريبًا وحيدًا. وروي أن بني ابن عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضرار. قال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليت فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلامًا قارئًا للقرآن، وكانوا شيوخًا لا يقرؤون، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر. 108 - وقوله سبحانه {لَا تَقُمْ} يا محمَّد {فِيهِ} أي: في هذا المسجد الذي بني للضرار، {أَبَدًا} للصلاة فيه قال ابن عباس، معناه: لا تصل فيه أبدًا، منع الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، أن يصلي في مسجد الضرار. واللام في قوله: {لَمَسْجِدٌ} لام الابتداء، وقيل لام القسم، تقديره: والله مسجد أسس على التقوى وهو مسجد قباء؛ أي: لمسجد {أُسِّسَ}؛ أي: وضع أساسه وبني أصله، {عَلَى التَّقْوَى}؛ أي: على تقوى الله عزَّ وجلّ وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} بني ووضع أساسه، كان ذلك البناء على التقوى، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهو يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج منه صبيحة يوم الجمعة، وهو أوفق للقصة، أو هو مسجد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لقول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - سألت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عنه، فقال: هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة أخرجه مسلم. {أَحَقُّ} وأولى، {أَنْ تَقُومَ} وتصلي يا محمَّد، {فِيهِ}؛ أي: في ذلك المسجد الذي أسس على التقوى، من الصلاة في مسجد الضرار الذي يدعوك المنافقون إلى الصلاة فيه.

والمعنى: أن مسجدًا قصد ببنائه، منذ وضع أساسه في أول يوم، تقوى الله، بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى، هو أحق من غيره أن تقوم فيه، أيها الرسول مصليًّا بالمؤمنين. والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى، هو مسجد قباء، ولكن روى البخاري ومسلم والنسائي: أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه، فأجاب: بأنه مسجده الذي في المدينة، والآية لا تمنع إرادة كلّ من المسجدين؛ لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد بنى كلًّا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه، ومما يدل على فضل مسجد قباء، ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يزور قباء، أو يأتي قباءً راكبًا وماشيًا، زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين، وفي رواية، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، وكان ابن عمر يفعله. أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم. وأخرج الرواية الثانية البخاري. وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم -، من خرج حتى يأتي هذا المسجد، مسجد قباء فيصلي فيه، كان له كعدل عمرة، أخرجه النسائي. وعن أسد بن ظهير، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" أخرجه الترمذي. {فِيهِ}؛ أي: في ذلك المسجد الذي أسس على التقوى {رِجَالٌ} من بني عامر بن عوف يعمرونه بإقامة الصلاة، وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، و {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهرُوا} بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ويتبع الطهارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها، الطهارة الحسية للثوب والبدن، وطهارة الوضوء والاغتسال. قال عطاء: كانوا يستنجون بالماء بعد الحجر ولا ينامون بالليل على الجنابة. روى ابن خزيمة في "صحيحه" عن عويمر بن ساعدة، أنه، - صلى الله عليه وسلم - أتاهم؛ أي: أهل مسجد قباء فقال: إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ قالوا والله يا رسول الله، ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. وفي حديث رواه البزار فقالوا نتبع الحجارة بالماء. فقال هو

[109]

ذاك فعليكموه. ومعنى (¬1) محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، وقيل، معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار، والأول أولى كما يفيده الحديث المذكور. والخلاصة (¬2): أن التطهر يشمل الطهارتين، النفسية والبدنية والروايات وردت بكل منهما، والأولى إرادتهما معًا. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى، {يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ}؛ أي: الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لحبهم إياهما؛ لأنهم يرون فيهما الكمال الإنساني، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب، وأشد منهما بغضًا لهم، نجاسة النفس وخبثها، بالإصرار على فعل المعاصي، والتخلق بذميم الأخلاق. كالرياء في الأعمال إذ هو فعل المنافقين، والشح بالأموال، أو بالأنفس في سبيل الله ابتغاءً لمرضاته، وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده في أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم، كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" الحديث. ومعنى (¬3) محبة الله لهم: الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه، والحق أن المحبة صفة ثابتة له سبحانه وتعالى، نثبتها ونعتقدها ولا نكيفها ولا نمثلها. وقرأ (¬4) ابن مصرف والأعمش: {يطهروا} بالإدغام. وقرأ ابن أبي طالب: "المتطهرين". 109 - والهمزة في قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} للاستفهام التقريري (¬5)، داخلة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني (¬4) البحر المحيط. (¬5) أبو السعود.

على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أبعد ما علم حالهم فمن أسس ووضع بناءه الذي بناه {على تَقْوَى} ومخافة {مِنَ} عقاب {اللَّهِ} تعالى، {و} رجاء، {رضوان} وثواب منه، وهم النبي وأنصاره، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ} ووضع {بُنْيَانَهُ}. الذي بناه، {عَلَى شَفَا} وطرف {جُرُفٍ} وهوَّةٍ وحفرة {هَارٍ} ومشرف ذلك الطرف على السقوط، {فَانْهَارَ} وسقط ذلك الطرف {بِهِ}؛ أي: بالباني وببنائه، {فِي} قعر نار، {جَهَنَّمَ} خير وهم أهل مسجد الضرار ورد أنهم رأوا الدخان حين حفروا أساسه، اهـ كرخي وجواب الاستفهام محذوف تقديره: الأول: خير وهو مثال، مسجد قباء، والثاني: مثال، مسجد الضرار. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان خيرية الرجال المذكورين على أهل مسجد الضرار. وعبارة المراغي هنا قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} إلخ، هذا (¬1) بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى، وهم الرسول، - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسًا إلى رجسهم. والأساس على شفا الجرف الهاري، مثلٌ يُضرب لما يكون في منتهى الوهى والانحلال، والإشراف على الزوال؛ أي: أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنًا لراحته وهناء معيشته، ويتقي به العوامل الجوية، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها، على مصابرة العواصف والسيول وقد العوام، والوحوش خيرٌ بنيانًا أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاءً واستمساكًا، فكانت عرضة للانهيار في كل حين من ليل أو نهار؟ وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان والنفاق والارتياب؛ أي: أفمن كان مؤمنًا صادقًا، يتقي الله في جميع أحواله، ويبتغي مرضاته في جميع أعماله، قاصدًا تزكية نفسه وإصلاح سريرته. خير، أم من هو ¬

_ (¬1) المراغي.

منافق مرتاب، يبتغي بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين، والإرصاد، لمساعدة من حارب الله ورسوله، مع ما يكون لعمله في الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار، وفي الآخرة من الانهيار في النار. وخلاصة المثل (¬1): بيان ثبات الإِسلام وقوته وسعادة أهله به، وثمرته في أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه، وقرب زواله وخيبة صاحبه، وسرعة انقطاع آماله، وبيان أن شر أعمال المنافقين ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة. فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق، بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح في الوجود، وقد صدق الله وعده وثبت المؤمنين بالقول الثابت. وهداهم إلى العمل الصالح، ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل، وأهلك المنافقين، وقد جرت سنّته في كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به ولم يقلعوا عنه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى، {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بالنفاق وغيرهم بالأضرار؛ أي: لا يوفقهم ما فيه صلاحهم ونجاتهم، ولا يغفر لهم ولا ينجيهم؛ أي: مضت سنّته تعالى أن لا يكون الظالم مهتديًا في أعماله إلى الحق والعدل، ولا إلى الرحمة والفضل. وقرأ (¬2) نافع وابن عامر: {أسس بنيانه}، مبنيًّا للمفعول في الموضعين، وقرأ باقي السبعة وجماعة: ذلك مبنيًّا للفاعل، وبنصب بنيانه. وقرأ عمارة بن عائذ: الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بن عاصم: {أسس بنيانه}، وعن نصر بن علي، وأبي حيوة، ونصر بن عاصم أيضًا، {أساس بنيانه}، بالألف جمع أس، وعن نصر بن عاصم: {أسس}، بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء: {إساس} بالكسر، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[110]

وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء: {أساس} بفتح الهمزة، و {أس} بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. فهذه تسع قراءات. وفي كتاب "اللوامح" قرأ، نصر بن عاصم: {أفمن أسس}، بالتخفيف والرفع، {بنيانه} بالجر على الإضافة فأسس مصدر أس الحائط، يؤسه أسا، من باب شد وأسسا. وعن نصر أيضًا: {أساس بنيانه}، كذلك إلا أنه بالألف وأس وأسس وأساس كل منها مصادر انتهى. وقرأ عيسى بن عمر: {على تقوى}، بالتنوين. وحكى سيبويه: هذه القراءة وردها الناس. قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق، كأرطى. وقرأ جماعة، منهم حمزة وابن عامر، وأبو بكر: {جرف}، بإسكان الراء وباقي السبعة وجماعة: بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم، وفي مصحف أبي: {فانهارت به قواعده في نار جهنم}. 110 - {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُم} أي: لا يزال بنيان أهل مسجد الضرار، ولا يبرح مسجدهم، {الَّذِي بَنَوْا} بعد ما هدم، {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: سبب ريبة وشك في الدين، متمكن في قلوبهم في جميع الأوقات، {إِلَّا} وقت، {أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: إلا وقت أن تجعل قلوبهم قطعًا وفلذًا، إما بالسيف أو بالموت. والمعنى: أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا، فالاستثناء من أعم الأزمنة كما ذكره "البيضاوي"؛ أي: لا يزال (¬1) مسجدهم سبب شك في الدين؛ لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بتخريبه ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له وارتيابهم في نبوته، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات، وصاروا مرتابين في أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، هل يخلي سبيلهم، أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم وقال السدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حرارة وغيظًا في قلوبهم في جميع الأوقات، إلا أن يموتوا؛ أي؛ إلا في وقت موتهم وتقطع أجزائهم وتمزق أجسادهم. ¬

_ (¬1) المراح.

والمعنى (¬1): أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك في الدين؛ لأنهم يظهرون فيه حال قيامه وثباته ما في قلوبهم من آثار الكفر والنفاق، ويدبرون أمورهم ويتشاورون في ذلك، ويلقي بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين، مما يزيدهم ريبةً وشكًّا في الدين، وحين أمر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم، وعظم خوفهم وارتابوا في أمرهم، أيتركون على حالهم؟ أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم؟ إلى أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين في أمره، ولأي سبب كان ذلك؟ ولا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذًا، وصيرورتها جذاذًا، فتكون غير قابلة للإدراك وفي هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة في قلوبهم، وإضمار الشك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياءً. والخلاصة: أنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا، سببًا للقلق واضطراب النفس، وأن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة، أما إذا تفرقت قطعًا وتقطعت أجزاءً بقتلهم، فحينئذٍ يسلون عنه. وقد يكون المراد إلا أن يتوبوا توبةً تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم. وقرأ (¬2) ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: {إلا أن تقطع} بفتح التاء والطاء المشددة؛ أي: يتقطع. وقرأ باقي السبعة: بضم التاء مبنيًّا للمجهول. وعن ابن كثير: {إلا أن تقطع قلوبهم}، بفتح الطاء، وسكون القاف وفتح قلوبهم على الخطاب؛ أي: إلا أن تجعل قلوبهم قطعًا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب {إلى أن تقطع قلوبهم}. وقرأ أبو حيوة: كذلك، إلا أنه قرأ: بضم التاء وفتح القاف، وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول، وقلوبهم بالنصب، أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة، وفي مصحف عبد الله: {ولو قطعت قلوبهم} بالبناء للمجهول. وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو: هذه القراءة {إن قطعت} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والمراح.

[111]

بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: {ولو قطعت قلوبهم} خطابًا للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: {حتى الممات} وفيه: {حتى تقطع}. والمعنى (¬1): أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدًا ويموتون على هذا النفاق وإلا بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى: {عَلِيمٌ} بأحوالهم وأحوال جميع عباده {حَكِيمٌ} فيما حكم به عليهم، ومن حكمته أن بين حال المنافقين، وأظهر ما خفي من أمرهم لتعرفوا عنه الحقيقة في ذلك. 111 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين، {أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد على أبلغ وجه، وأحسن صورة فقد مثل الله سبحانه وتعالى إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله، بتمليكهم الجنة التي هي دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي، تفضلًا منه تعالى، وكرمًا بصورة من باع شيئًا هو له لآخر، وعاقد عقد البيع هو رب العزة، والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلًا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك لا يقبل التحلل والفسخ، وفي هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها. وقال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن، وانظروا إلى كرم الله أنفسًا هو خلقها وأموالًا هو رزقها ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة. وقال بعضهم، ناهيك، عن بيع البائع فيه المؤمن والمشتري فيه رب العزة، والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} كلام مستأنف، لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء، فكأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله؛ أي: أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيها؛ أي: يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله تعالى {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}؛ أي: فيكونون ¬

_ (¬1) المراح.

إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان في سبيله، ولم يكن رغبة في سفك الدماء، ولا حبًّا للأموال ولا توسلًا إلى ظلم العباد، كما يفعل الذين يقاتلون الآن لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء. وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش (¬1): {وأموالهم بالجنة}. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، أبو عمرو، وابن عامر، والحرميان، نافع، وابن كثير، وعاصم، أولًا: {فيقتلون} بالبناء للفاعل، وثانيًا: {ويقتلون} بالبناء للمفعول؛ وقرأ النخعي، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، والأخوان - حمزة والكسائي - بعكس ذلك، والمعنى واحد، إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل، وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمع له الأمران، وفيهم من لا يقع له واحد منهما، بل تحصل منهم المقاتلة. وقال أبو علي (¬2): القراءة الأولى بمعنى، أنهم يقتلون أولًا، ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى، كالأولى؛ لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، فإن لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى، يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل. وفي "المراح" (¬3): فمعنى تقديم الفاعل على المفعول، أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى: أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعًا للباقي عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء، قاتلين لهم بقدر الإمكان. {وَعْدًا عَلَيْهِ}؛ أي: وعدهم الله ذلك عليه وعدًا {حَقًّا}؛ أي: ثابتًا عليه وأوجبه على نفسه وجعله حقًّا وأثبته {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} فإن الله سبحانه بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمَّد أنفسهم وأموالهم بالجنة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراح.

[112]

كما بين في القرآن، وضياعه منهما في النسخ التي بين يدي أهل الكتاب لا يقدح في ذلك؛ لأنه قد ضاع منهما كثير، وحرف بعضهما لفظًا ومعنى، ويكفي إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما. والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} إنكاري؛ أي: لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء، ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه. والفاء في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا} فاء الفصيحة؛ أي: فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور، وافرحوا غاية الفرح {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} مع ربكم، وهو بيع الأنفس والأموال بالجنة؛ أي: فافرحوا غاية الفرح بجهادكم الذي فزتم به الجنة، {وَذَلِكَ} البيع الذي هو بيع الأنفس والأموال بالجنة، {هُوَ الْفَوْزُ}؛ أي: سبب الفوز؛ لأنه رابح في الآخرة، {الْعَظِيمُ} الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك، لا يعد فوزًا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل. وفي هذا الأسلوب من تأكيد استحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه، ومبايعين له، ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده، وعن جعفر الصادق أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها. يريد أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله، بذل بدنه الفاني لا روحه الباقي. 112 - ثم وصف الله سبحانه هؤلاء الكملة من المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم، بجنته بصفات تسعة، الستة الأولى منها، تتعلق بمعاملة الخالق، والسابع والثامن، يتعلقان بمعاملة المخلوق، والتاسع يعم القبيلين: 1 - {التَّائِبُونَ} وهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم الراجعون إلى ربهم، بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وقرأ أبي، وعبد الله، والأعمش: {التائبين} بالياء، إلى والحافظين نصبًا على المدح. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أمور أربعة: الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم على ما مضى منه، والعزم على الترك في المستقبل. ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور

الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس، وتحصيل مدحهم، أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية، فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت، فالتوبة تختلف باختلاف المعاصي، فتوبة الكفار هي: رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه، كما قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وتوبة المنافق تكون بترك نفاقة، وتوبة العاصي من معصيته، تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله، كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره. 2 - {الْعَابِدُونَ} لله المخلصون في جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استغاثة، ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة في الآخرة. 3 - {الْحَامِدُونَ} لله في السراء والضراء، روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا أتاه الأمر يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال". وروى البغوي بغير سند، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء" وقيل: "هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى". 4 - {السَّائِحُونَ} في الأرض والمتنقلون فيها من بلد إلى بلد آخر لغرض صحيح، كعلم نافع للسائح في دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته أو النظر في خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار، وقد قيل: إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها؛ لأن السائح، لا بد أن يلقى أنواعًا من التفسير والبؤس، ولا بد له من الصبر عليها، ويلقى العلماء والصالحين في سياحته، فيستفيد منهم ويرى العجائب وآثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك، فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته.

وقد حث الله سبحانه وتعالى كثيرًا على السير في الأرض والضرب فيها، كما قال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها. وفسر بعضهم السياحة بالصوم لما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "سياحة هذه الأمة الصيام؛ لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبًا. وقال الأزهري، قيل للصائم، سائح؛ لأن الذي يسيح في الأرض كان متعبدًا لا زاد معه، فكان ممسكًا عن الأكل، وكذلك الصائم ممسك عن الأكل. وقيل: أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض، كالماء الذي يسيح، والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي. 5 - 6 {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} في صلواتهم المفروضة، وخُصَّا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه وتعالى. والمراد بهم، المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي، بخلاف حالة القيام والقعود لأنما يكونان للمصلى ولغيره. 7 - {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} شرعًا، يعني: يأمرون الناس بالإيمان باللهِ وحده، وما يتبعه من أعمال البر والخير. 8 - {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} شرعًا، الذين ينهون الناس عن الإشراك بالله، وعن غيره من سائر الأعمال السيئة. ولم يذكر في الآية لهذه الأوصاف متعلقًا، فلم يقل: التائبون من كذا لله، والعابدون لله لفهم ذلك، إلا صفتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك، ولم يأت بعاطف بين هذه الصفات لمناسبة بعضها لبعض، إلا في صفتي الأمر والنهي لتباين ما بينهما، فإن الأمر طلب فعل، والنهي طلب ترك أو كف، وكذا الحافظون عطفه وذكر متعلقة لعدم مناسبته للصفات السابقة، ولخفاء متعلقة، اهـ "سمين". وقال الخازن: أما دخول الواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فإن

[113]

العرب تعطف بالواو على السبعة، ومنه قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقيل: غير ذلك. 9 - {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات؛ أي: الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بين فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه، وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين، وأولي الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم، إذا أخلوا بما يجب عليهم حفظه منها. ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال: {وَبَشِّرِ} يا محمَّد {الْمُؤْمِنِينَ} المتصفين بهذه الصفات السابقة بخيري الدنيا والآخرة. وخصت تلك الخلال بالذكر؛ لأن بها تكون المحافظة على حدود الله. 113 - {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}؛ أي: ما جاز لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، {و} لا لـ {لذين آمنوا} بالله ورسوله {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا}؛ أي: ولو كان أولئك المشركون {أُولِي قُرْبَى}؛ أي: أصحاب قرابة للنبي والمؤمنين؛ أي: ما كان من شأن النبي، ولا مما ينبغي أن يصدر منه من حيث هو نبي، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين، ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضي الحدب والإشفاق عليهم. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} وظهر {لَهُمْ} بالدليل {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك، كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .. متعلق بالنفي أو بالاستغفار المنفي. وأما قبل الموت فيفصل، فإن أريد بطلب المغفرة للكافر، هدايته للإسلام .. جاز الاستغفار له وإن أريد به أن تغفر ذنوبه مع بقائه على الكفر .. لم يجز. فمفهوم قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ} إلخ، فيه تفصيل، اهـ "فتوحات" ومعنى الآية: ما كان ينبغي للنبي، والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين، ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله. ففيه النهي عن الاستغفار

[114]

للمشركين ولو كانوا أولي قربى؛ لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام، فيستوي فيه القريب والبعيد. وخلاصة ذلك: أن النبوة والإيمان الصادق، لا يبيحان الاستغفار للمشركين في كل حال، حتى ولو كانوا أولي قربى، إذا ظهر لهم بالدليل، أنهم من أصحاب الجحيم. وقد تقدم لك في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، وقد استبعد بعض العلماء نزولها فيه؛ لأن موت أبي طالب كان في مكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، وأجاب عنه آخرون بأحد أمرين: 1 - إما بأنها نزلت عقب موته، ثم ألحقت بهذه السورة المدنية، لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين. 2 - وإما بأنها نزلت مع غيرها من براءة، مبينة لحكم استغفار النبي، - صلى الله عليه وسلم - له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية، يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة. وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء، لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة. 114 - ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم فيقال: كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه؟ فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: وما استغفر إبراهيم، {لِأَبِيهِ} آزر بقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}؛ أي: وَفِّقْه للإيمان وَاهدِه إلى سبيله، {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} مبنية على عدم تبين أمره كما ينبىء عنه قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} إلخ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل؛ أي: لم يكن استغفاره لأبيه ناشئًا عن شيء، ولا لأجل شيء، إلا لأجل موعدة {وَعَدَهَا} إبراهيم {إياهُ}؛ أي: أباه بقوله سأستغفر لك ربي؛ أي: لا أملك لك هدايةً ولا نجاةً وإنما أملك أن أدعو الله لك وقد وفى إبراهيم بما وعده ولم يكن إلا وَفِيًّا كما شهد الله له بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي

[115]

وَفَّى}. وقرأ (¬1) الحسن. وحماد الراوية وابن السميقع، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: {وَعَدَهَا إِيَّاهُ} بالباء الموحدة. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ}؛ أي: فلما ظهر لإبراهيم، {أَنَّهُ}؛ أي: أن أباه، {عَدُوٌّ لِلَّهِ}؛ أي: مستمر على الكفر ومات عليه، {تَبَرَّأَ} إبراهيم، {مِنْهُ}؛ أي: من أبيه وترك الاستغفار له؛ أي؛ إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيًّا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له. والمعنى: أي (¬2) لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه. قال ابن عباس: وقيل، تبين له ذلك بوحي من الله، فتبرأ منه ومن قرابته، وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية. ثم بيّن السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه، مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام، {لَأَوَّاهٌ}؛ أي: كثير التأوه والدعاء والتضرع إلى الله، {حَلِيمٌ}؛ أي: صبور على المحنة؛ أي: إن إبراهيم لكثير المبالغة في خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلات غيره عليه، 115 - {وَمَا كَانَ اللَّهُ}؛ أي: وما كان من سنن الله في خلقه ولا من رحمته وحكمته {لِيُضِلَّ قَوْمًا}؛ أي: أن يصف قومًا بالضلال، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب، {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام بقول يصدر منهم خطأ أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطيء، {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} بالوحي، {مَا يَتَّقُونَ}؛ أي: ما ينزجرون منه، وينتهون عنه من الأقوال والأفعال، بيانًا واضحًا فيمتنعوا من امتثال نهيه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[116]

والحاصل (¬1): أنه لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين، خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع، وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار، فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية، وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل، إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه. والمعنى؛ أي: وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين، بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين، فلا تنزجروا عما نهيتم عنه، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {بِكُلِّ شَيْءٍ} من المعلومات {عَلِيمٌ} فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك؛ أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي، والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم، وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى. 116 - ولما منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، وذلك يستدعي التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد .. بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {لَهُ} لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وسلطنتهما والتصرف فيهما كيف يشاء؛ أي: أنه تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره في السموات والأرض وهو الذي {يُحْيِي}؛ أي: يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين، {وَيُمِيتُ} من يشاء حين انقضاء أجله، {وَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: غيره، {مِنْ وَلِيٍّ} يتولى أموركم، {وَلَا} من، {نَصِيرٍ} ينصركم على أعدائكم؛ أي: وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصركم على عدوِّكم غير الله تعالى، فلا ¬

_ (¬1) المراح.

[117]

تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولي القربى، الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوي الأرحام، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه. والحاصل: أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار، بين أن له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصرًا لكم .. فهم لا يقدرون على إضراركم؛ أي: أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم .. فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض، والمحيي والمميت ناصركم، فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله تعالى وتكليفه، لكونه إلهكم، ولكونكم عبيدًا له. 117 - {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ}، صلى الله عليه وسلم -؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد عفا الله سبحانه وتعالى عن النبي، محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فيما وقع منه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، وهو شيء صدر منه من باب ترك الأولى والأفضل، لا أنه ذنب يوجب عقابًا؛ لأنه معصوم، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، ويحتمل أن يكون ذكر النبي، بالتوبة عليه تشريفًا للمهاجرين والأنصار؛ حيث ضم توبتهم إلى توبة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فهو تشريف له، - صلى الله عليه وسلم -، {و} كذلك تاب الله سبحانه وتعالى على {المهاجرين والأنصار}؛ أي: عفا (¬1) عنهم عما وقع منهم، من الوساوس، والخطرات النفسانية التي وقعت في قلوبهم، من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك؛ لأنها كانت في وقت حر شديد، وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم، وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم، وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخطرات. وقيل: إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين لما تحملوا مشاق هذا السفر، ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد التي حصلت لهم في هذا السفر، غفر الله لهم، وتاب عليهم، لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي، - صلى الله عليه وسلم - وإنما ضم ذكر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي ¬

_ (¬1) الفتوحات.

لأجلها ضم ذكر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى ذكرهم. ثم وصف الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار بقوله: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} - صلى الله عليه وسلم - ولم يتخلفوا عنه، {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} والمشقة؛ أي: (¬1) في الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدًّا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد، وعسرة من الظهر، وعسرة من الحر، وعسرة من الماء، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة، وكان معهم شيء من شعير مسوس، فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة، وكانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد، وأصابهم فيه عطش شديد، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه ويشربه، وكانت تلك الغزوة تسمى غزوة العسرة، وجيشها يسمى جيش العسرة. وقد ذكر بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سار إلى تبوك في سبعين ألفًا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من سائر القبائل، اهـ "خازن". والمراد بالساعة هنا، مطلق الوقت والزمن، لا الساعة الفلكية كما أشرنا إليه في الحل. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ} إلخ بيان (¬2) لتناهى الشدة وبلوغها النهاية؛ أي: الذين اتبعوه في وقت المشقة والشدة {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}؛ أي: من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النبي - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك الغزو لحر شديد، ولم ترد الميل عن الدين، وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم، وكيف لنا بالخلاص منها؛ ولكنهم صبروا واحتسبوا، وندموا على ما خطر في قلوبهم، فلأجل ذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: عفا الله عنهم ما وقع في قلوبهم من تلك الخواطر والوساوس، لما صبروا وندموا على ذلك الهم، يعني، أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات.

[118]

وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة. وفي تكرير (¬1) التوبة تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق .. فلا تكرار، أو يراد بالأول: إنشاء التوبة، وبالثاني: استدامتها. فإن (¬2) قلت: قد ذكر التوبة أولًا، ثم ذكرها ثانيًا، فما فائدة التكرار؟ قلتُ: إنه تعالى ذكر التوبة أولًا، قبل ذكر الذنب، تفضلًا منه، وتطييبًا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى؛ تعظيمًا لشأنهم، وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم. ثم علل قبول توبتهم بقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيدًا لذلك؛ أي: إنه سبحانه وتعالى رؤوف بهم؛ أي: منعم عليهم بجلائل النعم التي منها مجرد الإيمان، وأنه رحيم بهم؛ أي: منعم عليهم بدقائقها التي منها قوة الإيمان وزيادته بقبول التوبة. وقيل: معنى رؤوف؛ أي: مكرم لهم بدفع المضار عنهم، رحيم بهم بجلب المنافع لهم. وفي، "الفتوحات" الرأفة، عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة، عبارة عن السعي في إيصال النفع، اهـ. وقيل: رؤوف بهم، فلا يحملهم ما لا يطيقون من العبادة رحيم بهم، فلا (¬3) يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم، بعد ما أبلوا في الله، وأبلوا مع رسوله، وصبروا في البأساء والضراء. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: {كَادَ يَزِيغُ} بالياء التحتية. وقرأ باقي السبعة: {تزيغ} بالتاء الفوقية. وقرأ الأعمش، والجحدري: {تزيغ} بضم التاء. وقرأ أبي: {من بعد ما كادت تزيغ}. وقرأ ابن مسعود: {من بعد ما زاغت}. ومعنى تزيغ: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل، معناه: تميل عن الحق، وتترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه: تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة. 118 - وقوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ} معطوف على قوله: {عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} وفائدة هذا العطف، بيان قبول توبتهم؛ أي: ولقد تاب الله سبحانه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

وتعالى على النبي والمهاجرين وعلى الثلاثة، {الَّذِينَ خُلِّفُوا}؛ أي: أخروا في قبول توبتهم عن الطائفة الأولى التي خلطت عملًا صالحًا وآخر سيئًا كأبي لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة، هم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية، الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار، وهم المرادون بقوله سبحانه: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} وكلمة إذا في قوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ} زائدة، وفي "الفتوحات" ولا بد من ادعاء أحد أمرين، إما ادعاء زيادة إذا وإما ادعاء زيادة ثم، وقد نص "زكريا على البيضاوي" على زيادة ثم وغيره على زيادة إذا؛ أي: أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض {بِمَا رَحُبَتْ}؛ أي: مع رحبها وسعتها بسبب مجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة والتحقير؛ لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان معرضًا عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة. والمعنى: خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعًا، خوفًا من العاقبة وجزعًا من إعراض النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة، وهذا مثل للحيرة في الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانًا يقرون فيه قلقًا وجزعًا مما هم فيه قال قائلهم: كَأَنَّ فِجَاجَ الأَرْضِ وَهِيَ فَسَيْحَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوْبِ كَفَّةُ حَابِلِ ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم فقال: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: وأخروا إلى أن ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء، بسبب تأخير أمرهم من قبول التوبة. والمعنى: وضاقت أنفسهم على أنفسهم لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم، بامتلائها بالهم والغم حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكانهم لا يجدون لأنفسهم مكانًا ترتاح إليه وتطمئن به. {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}؛ أي: وأخروا إلى أن ظنوا وأيقنوا

[119]

وعلموا أنه لا ملجأ ولا منجا لأحد من سخطه تعالى وغضبه إلا إليه تعالى، بالتوبة والاستغفار ورجاءِ رحمته، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه، واستغفاره، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم -، لا يشفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على هؤلاء الثلاثة؛ أي: ثم وفقهم التوبة الصحيحة المقبولة {لِيَتُوبُوا}؛ أي: ليحصلوا التوبة، وينشئوها، فبهذا المعنى تحصل المغايرة، ويصح التعليل. وفي "البيضاوي" ثم تاب عليهم بالتوفيق للتوبة ليتوبوا، أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التوابين، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم، اهـ. وفي "الخازن" {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} فيما مضى، {لِيَتُوبُوا}؛ أي: ليكون ذلك داعيًا لهم إلى التوبة في المستقبل، فيرجعوا ويداوموا عليها. وقيل: إن أصل التوبة الرجوع، ومعناه حينئذٍ: ثم تاب عليم ليتوبوا؛ أي: ليرجعوا إلى حالتهم الأولى، يعني: إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك، اهـ ببعض تصرف. وفي "المراغي" {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم. {لِيَتُوبُوا} ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، واتباع رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {هُوَ التَّوَّابُ}؛ أي: الكثير القبول لتوبة التائبين، {الرَّحِيمُ}؛ أي: الكثير الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم، مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب، ولما نزلت هذه الآية، خرج رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، من حجرته وهو عند أم سلمة فقال: الله أكبر، قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر، أخبر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عليهم ما نزل فيهم. وقال كعب بن مالك: توبتي إلى الله، أن أخرج عن مالي صدقة، فقال: لا، قلت: فنصفه، قال: لا، قلت: فثلثه، قال: نعم. وقصتهم مشهورة مذكورة في حديث رواه البخاري وغيره، 119 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله، {اتَّقُوا اللَّهَ} وراقبوه بأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، {وَكُونُوا} في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في

الآخرة، {مَعَ الصَّادِقِينَ} في الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب، ويؤيدونه بالحلف. وقيل: {مع} هنا بمعنى من، بدليل القراءة الشاذة التي حكاها أبو السعود، والمعنى: كونوا من الصادقين في الأقوال والأفعال والاعتقاد. وفي قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} بعد قصة الثلاثة، الإشارة إلى أنّ هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق، ما حصل لهم من توبة الله تعالى، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم. أخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له اقرءوا إن شئتم" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وأخرج البيهقي مرفوعًا: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال: للصادق صدق وبر، ويقال: للكاذب كذب وفجر، وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صادقًا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابًا. ولا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها؛ أي: في التحبب إليها بوصف محاسنها، ورضاه عنها لا في مصالح الدار والعيال وغيرها. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، عن أسماء بنت يزيد، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب، أو صلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها" ولا شك أن في المعاريض ما يغني العاقل عن الكذب، كما جاء في الحديث: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب". وروي (¬1): أن رجلًا جاء إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إني رجل أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت ¬

_ (¬1) المراح.

بك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم. فلما خرج من عند النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت .. فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها. ثم عرضوا عليه الزنا، فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب، انسدت أبواب المعاصي عليَّ. وقرأ الجمهور (¬1): {خلفوا} بتشديد اللام مبنيًّا للمفعول. وقرأ أبو مالك: كذلك. وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون، المخزومي، وزر بن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القارئ، وحميد، بتخفيف اللام مبنيًّا للفاعل. ورويت عن أبي عمرو؛ أي؛ خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من المخالفة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، كذلك مشدد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: {خالفوا} بألف؛ أي: لم يوافقوا على الغزو. وقرأ الأعمش: {وعلى الثلاثة المخلفين} ولعله قرأ: كذلك على سبيل التفسير؛ لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: {من الصادقين} ورويت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع وأبو المتوكل ومعاذ القارئ: {مَعَ الصَّادِقِينَ} بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}. الإعراب {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة {الذين}: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: ومنهم الذين اتخذوا، والجملة معطوفة على قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}. {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {ضِرَارًا}: مفعول لأجله، أو مفعول ثانٍ {لاتخذوا}. {وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا}: معطوفان عليه. {بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تفريقًا}. {وَإِرْصَادًا}: معطوف عليه أيضًا {لِمَنْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {إرصادًا}. {حَارَبَ اللَّهَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير، يعود على {مَن} والجملة صلة الموصول. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بحارب. {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {وَلَيَحْلِفُنَّ} الواو: استئنافية. {اللام}: موطئة للقسم. {يحلفن}: فعل مضارع مرفوع، لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب القسمم، لا محل لها من الإعراب، {إِنْ}: نافية، {أَرَدْنَا}: فعل وفاعل، والجملة، جواب لجواب القسم. وفي "الفتوحات" قوله: {إنْ أَرَدْنَا} جواب لقوله: {ليحلفن} فوقع جواب القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله: {إنْ أَرَدْنَا} انتهى. أو الجملة مقول لقول محذوف تقديره: {وَلَيَحْلِفُنَّ} قائلين {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الْحُسْنَى}: صفة لموصوف محذوف، واقع مفعولًا به {لأردنا} تقديره: إن أردنا إلا الخصلة الحسنى. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَشْهَدُ} خبره والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنَّهُمْ} {إن}: حرف نصب. والهاء: اسمها. {لَكَاذِبُونَ} اللام: حرف ابتداء {كاذبون}: خبر إن مرفوع بالواو، وجملة إن في محل النصب سادة مسد مفعولي {يَشْهَدُ}؛ لأنه بمعنى، يعلم. {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ}. {لَا}: ناهية جازمة {تَقُمْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله

ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {فِيهِ}: متعلق به {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {تَقُمْ} {لَمَسْجِدٌ} اللام: حرف ابتداء أو لام قسم {مسجد}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، {أُسِّسَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على مسجد، والجملة الفعلية صفة {لَمَسْجِدٌ}. {عَلَى التَّقْوَى}: متعلق بـ {أُسِّسَ}. {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أُسِّسَ}. {أَحَقُّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو جواب لقسم محذوف. {أَنْ تَقُومَ}: فعل وناصب، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {فِيهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أحق بالقيام فيه {فِيهِ}: جار ومجرور، خبر مقدم. {رِجَالٌ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يُحِبُّونَ} صفة لـ {رِجَالٌ}: والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها {أَنْ يَتَطَهَرُوا} فعل وفاعل، وناصب، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليحبون، تقديره يحبون الطهارة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {يُحِبُّ الْمُطَّهرِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ}. {أَفَمَنْ}: الهمزة: للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى من الله إلخ. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول. {عَلَى تَقْوَى}: متعلق بـ {أَسَّسَ}: أو حال من فاعل {أَسَّسَ}؛ أي: حالة كونه قاصدًا تقوى الله {مِنَ اللَّه}: صفة لتقوى. {وَرِضْوَانٍ}: معطوف على {تَقْوَى}. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة المذكورة آنفًا. {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

{أَمْ}: متصلة عاطفة. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة الموصول {عَلَى شَفَا} جار ومجرور متعلق بـ {أَسَّسَ} {جُرُفٍ} مضاف إليه {هَارٍ}: صفة لـ {جُرُفٍ} مجرور بكسرة ظاهرة، أو مقدرة، كما سيأتي البحث عنه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى {فَانْهَار} الفاء: عاطفة {انْهَار}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على البنيان. {بِهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {انهار} والضمير يعود على الباني، والجملة معطوفة على جملة {أَسَّسَ}، وفي "الفتوحات" قوله: {فَانهارَ بِهِ}: فاعله إما ضمير البنيان، والهاء في {بِهِ} على هذا .. ضمير المؤسس الباني؛ أي: فسقط بنيان الباني على شفا جرف هار، وإما ضمير الشفا، وإما ضمير الجرف؛ أي: فسقط الشفا أو سقط الجرف، والهاء في به للبنيان، ويجوز أن تكون للباني المؤسس، والأولى أن يكون الفاعل ضمير الجرف؛ لأنه يلزم من انهياره انهيار الشفا والبنيان جميعًا، ولا يلزم من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهياره، والباء في {بِهِ}: يجوز أن تكون للتعدية، وأن تكون للمصاحبة، وقد تقدم لك خلاف أول هذا الموضوع أن التعدية عند بعضهم، تستلزم المصاحبة، وإذا قيل: إنها للمصاحبة هنا فتتعلق بمحذوف؛ لأنها: حال؛ أي: فانهار مصاحبًا له، اهـ "سمين". {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {انهار}. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ}: فعل ومفعول. {الظَّالِمِينَ}: صفة للقوم، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {لَا يَزَالُ}: فعل مضارع ناقص من أخوات كان {بُنْيَانُهُمُ}: اسمها. {الَّذِي}: في محل الرفع، صفة لـ {بُنْيَانُهُمُ}. {بَنَوْا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: الذي بنوه. {رِيبَةً}: خبر زال، منصوب به ولكنه على حذف مضاف، تقديره: سبب ريبة وشك في الدين. {فِي

قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور صفة لـ {رِيبَةً}. {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأوقات، أو {إِلَّا} حرف بمعنى: إلى الجارة، كما قيل، {أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مجرور بإضافة المستثنى المحذوف إليه، تقديره: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم في جميع الأوقات، إلا وقت تقطع قلوبهم وتمزقها بالموت، أو في تأويل مصدر، مجرور بإلا بمعنى، إلى تقديره: لا يزال بنيانهم ريبة في قلوبهم إلى تقطع قلوبهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يَزَالُ} وجملة يزال مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {عَلِيمٌ} خبر أول {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {اشْتَرَى} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {اشْتَرَى} {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به. {وَأَمْوَالَهُمْ}: معطوف عليه. {بِأَنَّ}: الباء: حرف جر و {أن}: حرف نصب ومصدر {لَهُمْ}: خبر أن مقدم على اسمها. {الْجَنَّةَ}: اسمها مؤخر، وجملة أن في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: يكون الجنة لهم، الجار والمجرور متعلق بـ {اشْتَرَى} ودخلت الباء هنا على المتروك على بابها، وسماها أبو البقاء: باء المقابلة، كقولهم: باء العوض، ذكره: في "الفتوحات". {يُقَاتِلُونَ}: فعل وفاعل. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان الاشتراء، ذكره: أبو السعود. {فَيَقْتُلُونَ}: الفاء: استئنافية. {يَقْتُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء، أو لبيان تسليم المبيع. {يَقْتُلُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {يَقْتُلُونَ}. {وَعْدًا}: منصوب على المصدرية بفعل محذوف، تقديره: وعدهم ذلك وعدًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. مسوقة

لتأكيد ما قبلها. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور صفة لـ {وَعْدًا} {حَقًّا}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف، تقديره وحق ذلك الوعد حقًّا، أي: تحقق، وثبت والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها، ويصح كون {حَقًّا} صفة لـ {وَعْدًا}. {فِي التَّوْرَاةِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {اشْتَرَى} أو صفة لـ {وَعْدًا}. وفي "الفتوحات" قوله: {فِي التَّوْرَاةِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق باشترى، وعلى هذا فتكون كل أمة قد أمرت بالجهاد، ووعدت عليه الجنة. والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة الوعد؛ أي: وعدًا مذكورًا وكائنًا في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورًا في كتب الله المنزلة، اهـ "سمين". {وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: معطوفان على التوراة. {وَمَنْ أَوْفَى}: الواو اعتراضية. {من}: اسم استفهام، للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ {أَوْفَى} خبره مرفوع بضمة مقدرة، والجملة اعتراضية، مقررة لمضمون ما قبلها، من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه أوفى بالعهد من كل وافٍ، فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم، فكيف بجانب الخالق، اهـ أبو السعود. {بِعَهْدِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أَوْفَى} وكذلك يتعلق به قوله: {مِنَ اللَّهِ}. {فَاسْتَبْشِرُوا}: الفاء: عاطفة. {اسستبشروا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى}. {بِبَيْعِكُمُ}: متعلق به. {الَّذِي} صفة للبيع. {بَايَعْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به والجملة صلة الموصول. {وَذَلِكَ}: مبتدأ. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْفَوْزُ}: خبر. {الْعَظِيمُ}: صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة. {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. {التَّائِبُونَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أولئك المؤمنون هم التائبون، والجملة في محل الجر، صفة للمؤمنين في قوله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

{الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ}: أخبار بعد خبر لذلك المبتدأ المحذوف. {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق بـ {الْآمِرُونَ} {وَالنَّاهُونَ}: معطوف على {الْآمِرُونَ} {عَنِ الْمُنْكَرِ}: متعلق به {وَالْحَافِظُونَ}: معطوف على الآمرون أيضًا. {لِحُدُودِ اللَّهِ}: متعلق به. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان والجملة مستأنفة. فائدة: وإنما عُطف قولهُ: {وَالنَّاهُونَ} على ما قبله للمضادة بينهما، إذ الأول طلب فعل، والثاني طلب ترك كما مر. وقيل: إنما عطفه بالواو إشارة إلى أن مدخولها هو الوصف الثامن، وذلك؛ لأنها عندهم تسمى: واو الثمانية وتدخل على ما يكون ثامنًا، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود": والعطف فيه للدلالة على أن المتعاطفين بمنزلة خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين اهـ ذكره في "الفتوحات". {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. {مَا}: نافية. {كَانَ} فعل ماضٍ ناقص {لِلنَّبِيِّ}: جار ومجرور. خبر مقدم لـ {كَانَ}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على النبي. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن المصدرية {لِلْمُشْرِكِينَ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، تقديره: ما كان جائزًا للنبي، والذين آمنوا استغفارهم للمشركين، والجملة مستأنفة. {وَلَوْ كَانُوا} الواو: عاطفة. {لَوْ}: حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {أُولِي قُرْبَى}: خبر كان، وجملة {كَانُ} فعل شرط لـ {لو} وجواب {لو} معلوم مما قبله تقديره: ولو كانوا أولى ما يجوز استغفارهم لهم، وجملة {لو} معطوفة على جملة محذوفة، واقعة حالًا من المشركين، تقديرها: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إن كانوا غير أولي قربى، ولو كانوا أولي قربى؛ أي: حالة كونهم مغايرين لأولي قربى، وموصوفين بالقرابة. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَانَ}: أو متعلق بـ {يَسْتَغْفِرُوا}. {مَا}

مصدرية. {تَبَيَّنَ}: فعل ماض {لَهُمْ}: متعلق به. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: خبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {تَبَيَّنَ} تقديره: من بعد ما تبين كونهم من أصحاب الجحيم، وجملة {تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبين كونهم من أصحاب الجحيم. {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}. {وَمَا}: الواو: استئنافية. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ}: اسمها ومضاف إليه. {لِأَبِيهِ}: متعلق بـ {اسْتِغْفَارُ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {عَنْ مَوْعِدَةٍ}: جار ومجرور خبر {كان}. {وَعَدَهَا إِيَّاهُ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية صفة لـ {مَوْعِدَةٍ}، والتقدير: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا كائنا عن موعدة وعدها إياه. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}. {فَلَمَّا}، الفاء: عاطفة. {لما}: حرف شرط غير جازم. {تَبَيَّنَ}: فعل ماض. {لَهُ}: متعلق به {أَنَّهُ} ناصب واسمه {عَدُوٌّ} خبر أن. {لِلَّهِ}: متعلق بـ {عَدُوٌّ} وجملة، أن في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية، لـ {تَبَيَّنَ} تقديره: فلما تبين له كونه عدوًا لله، والجملة الفعلية فعل شرط للما، لا محل لها من الإعراب. {تَبَرَّأَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {مِنْهُ} متعلق به، وجملة {تَبَرَّأَ} جواب {لما} وجملة {لما} معطوفة على جملة {كَانَ}. {إنَّ إِبْرَاهِيمَ}: ناصب واسمه. {لَأَوَّاهٌ} اللام: حرف ابتداء. (أواه}: خبر {إن}. {حَلِيمٌ}: صفة {أواه} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {وَمَا}: الواو: استئنافية. {ما}: نافية. {كَانَ اللَّه}: فعل ناقص،

واسمه. {لِيُضِلَّ}، اللام: حرف جر وجحود. {يضل}: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير مستتر فيه، يعود على الله. {قَوْمًا}: مفعول به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: وما كان الله لإضلاله قوما، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف، لوقوعه خبرًا لـ {كَانَ} تقديره: وما كان الله مريدًا لإضلاله قومًا، هذا على مذهب البصريين. وعند الكوفيين. فاللام زائدة، والتقدير: وما كان الله مضلًا قومًا وجملة {كَانَ} مستأنفة. {بَعْدَ} منصوب على الظرفية {إِذْ}: حرف بمعنى أن المصدرية. {هَدَاهُمْ}: فعل ومفعول في محل النصب بإذ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: بعد هدايته إياهم، والظرف متعلق بـ {يضل}. وفي "الفتوحات" قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} {إِذْ} فيه وجهان: أحدهما: أن إذ بمعنى أن. الثاني: أنها ظرف بمعنى وقت، أي: بعد أن هداهم أو بعد وقت هداهم فيه، اهـ. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُبَيِّنَ}: منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهُمْ}: متعلق به. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {يَتَّقُونَ}: فعل وفاعل والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما يتقونه، وجملة {يُبَيِّنَ} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، بمعنى، إلى تقديره: حتى تبيينه لهم ما يتقون الجار والمجرور متعلق بيضل. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَهُ}: خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ

ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع، خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {يُحْيِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على الجملة الاسمية على كونها خبرًا {لإن}. وجملة قوله: {وَيُمِيتُ}: معطوفة على {يُحْيِي}. {وَمَا لَكُمْ}، الواو: عاطفة. {ما}: نافية. {لَكُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ لاستقرار الذي تعلق به الخبر {مِنْ وَلِيٍّ} مبتدأ مؤخر و {مِنْ}: زائدة {لَا نَصِيرٍ}: معطوف على {وَلِيٍّ} والجملة من المبتدأ والخبر معطوفة على جملة {إن}. {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {لَقَدْ}: اللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق {تَابَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {عَلَى النَّبِيِّ}: متعلق بـ {تَابَ}. {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}: معطوفان على النبي. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الجر صفة لكل من {الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}. {اتَّبَعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ}. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور، متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ} أيضًا. {مَا}: مصدرية {كَادَ}: زائدة لفظًا، لا عمل لها وإن كان معناها مرادًا بدليل قراءة ابن مسعود {من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم} {يَزِيغُ}: فعل مضارع. {قُلُوبُ فَرِيقٍ}: فاعل، ومضاف إليه. {مِنْهُمْ}: صفة لفريق، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}: المصدرية {مَا}: مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مقاربة زيغ قلوب فريق منهم. {ثُمَّ تَابَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْهِمْ} متعلق به. والجملة معطوفة على جملة تاب الأول {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {بِهِمْ} تنازع فيه ما بعده؛ لأن التنازع يكون في المتأخر كما يكون في المتقدم. {رَءُوفٌ}: خبر أول

لـ {إِنَّ} {رَحِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة {إن}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}. {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ}: جار ومجرور، معطوف على قوله: {عَلَى النَّبِيِّ}؛ أي لقد تاب الله على النبي والمهاجرين وعلى الثلاثة، أو معطوف على عليهم؛ أي: ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة. {الَّذِينَ}: صفة للثلاثة. {خُلِّفُوا}: فعل، ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إذَا}: زائدة. {ضَاقَتْ}: فعل ماض. {عَلَيْهِمُ}: متعلق به. {الْأَرْضُ} فاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بحتى بمعنى: إلى؛ لأن أن المصدرية مقدرة بعدها إذا جعلنا إذا زائدة، تقديره: خلفوا وأخروا عن التوبة إلى ضيق الأرض {عَلَيْهِمُ}، الجار والمجرور متعلق بـ {خُلِّفُوا}. {بِمَا} الباء: حرف جر. {ما}: مصدرية. {رَحُبَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الأرض، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: برحبها، الجار والمجرور متعلق بضاقت. {وَضَاقَتْ}: فعل ماض. {عَلَيْهِمْ} متعلق به {أَنْفُسُهُمْ} فاعل، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة قوله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ}. {وَظَنُّوَا}: فعل وفاعل، معطوف على {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ}. {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لَا}: نافية للجنس. {مَلْجَأَ}: في محل النصب اسمها. {مِنَ اللَّهِ} خبر {لَا}: تقديره: إنه لا ملجأ موجود من الله، ويحتمل تعلق الجار والمجرور بملجأ، وخبر {لَا}: محذوف، تقديره: لا ملجأ من الله موجود وجملة {لَا}: من اسمها وخبرها، في محل الرفع خبر أن المخففة وجملة أن المخففة سادة مسد مفعولي ظن. {إِلَّا إِلَيْهِ}: {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {إلَيْهِ}: جار ومجرور، بدل من الجار والمجرور في قوله: {مِنَ اللَّهِ} على كونه خبر {لَا} مثل قولنا "لا إله إلا الله" كما ذكره أبو البقاء. وفي "الفتوحات" قوله: {إلا إليه}

مستثنى من مقدر؛ أي: لا ملجأ لأحد ولا اعتماد على أحد إلا إليه تعالى، اهـ من "السمين". {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}: معطوف على {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ} على كونه مجرورًا بـ {حَتَّى}. {لِيَتُوبُوا} اللام: لام كي. {يتوبوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: ثم تاب عليهم لتوبتهم، الجار والمجرور متعلق بتاب. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {هُوَ} ضمير فصل. {التَّوَّابُ} خبر أول لإن. {الرَّحِيمُ}: خبر ثانٍ لها، وجملة إن مستأنفة. مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: في محل الرفع، صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وَكُونُوا}: فعل ناقص، واسمه. {مَعَ الصَّادِقِينَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {كونوا} تقديره: وكونوا مصاحبين بالصادقين؛ أي: من الصادقين، وجملة كونوا معطوفة على جملة {اتَّقُوا} على كونها جواب النداء. التصريف ومفردات اللغة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}: الضرار والمضارة محاولة إيقاع الضرر، {والإرصاد}: الانتظار والترقب مع العداوة، يقال: رصدته؛ أي: قعدت له على طريقه أترقبه، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد، {إِلَّا الْحُسْنَى}: الحسنى مؤنث الأحسن، وهو صفة لموصوف محذوف، تقديره: إلا الخصلة الحسنى، أو إلا الحالة الحسنى، {لَا تَقُمْ فِيهِ}؛ أي: لا تصل فيه. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}: أسس (¬1) على وزن فعل مضعف العين، وآسس على وزن فاعل، إذا وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس والتأسيس وضع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع، والتقوى اسم لما يرضي الله ويقي من سخطه. {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}: أحق اسم التفضيل على غير بابه، أو المفاضلة باعتبار زعمهم، أو بالنظر له في ذاته فإن المحظور قصدهم ونيتهم، اهـ "جمل". {بُنْيَانَهُ}: والبنيان مصدر، كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى، المخلوق، وقيل: هو جمع، واحده بنيانة، ذكره أبو حيان. {شَفَا}، أي: حرف وفي "المصباح" وشفا كل شيء طرفه وحرفه مثل النوى، اهـ. {جُرُفٍ}، والجرف بضمتين جانب الوادي ونحوه، والجرف أيضًا البئر التي لم تطو. وقال أبو عبيدة: الجرف الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. {هَارٍ}: والهار والهائر كالشاك والشائك، الضعيف المتداعي للسقوط، يتداعى بعضه إثر بعض. وأصله (¬1) هاير أو هاور فقلبت الياء أو الواو همزة ثم حذفت الهمزة اعتباطًا فوزنه قال، فهو محذوف العين. وقيل: إنه منقوص، كقاض وأصله هاور، ثم نقلت الواو بعد الراء، ثم قلبت ياءً فصار كقاض، ثم حذفت الياء فإعرابه بحركات مقدرة عليها، اهـ شيخنا. وفي "المختار" هار الجرف، من باب قال، وهورًا أيضًا، فهو هائر ويقال: أيضًا جرف هار، اهـ. وفي "السمين" هار الجرف، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو المشهور أنه مقلوب بتقديم لامه على عينه، وذلك أن أصله هاور أو هاير بالواو أو بالياء لأنه سمع فيه الحرفان قالوا: هار يهور ويهار وهار يهير، وتهور البناء وتهير فقدمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء، فصار كغاز ورام فأعل بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب فالع ثم نزنه بعد الحذف على قال. القول الثاني: أنه حذف عينه اعتباطًا؛ أي: لغير موجب، وعلى هذا فتجري وجوه الإعراب على لامه فيقال هذا هار ورأيت هارًا ومررت بهار ووزنه أيضًا قال. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

القول الثالث: أنه لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله هور أو هير بوزن كتف فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفًا، وعلى هذا فتجري عليه وجوه الإعراب أيضًا كالذي قبله، كما تقول هذا باب، ورأيت بابًا، ومررت ببابٍ وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف، ومعنى هار؛ أي: ساقط متداع منهال اهـ {فَانهَارَ}؛ أي: سقط. {رِيبَةً}؛ أي: سبب ريبة وشك في الدين، والريبة من الريب. وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة. {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}: يقال تقطع الشيء إذا تفرقت أجزاؤه، وتمزقت، وهو من باب تفعل الخماسي {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} والاستبشار: إظهار السرور، والسين: ليست للطلب بل للمطاوعة، كاستوقد وأوقد. وفي "الكرخي"، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ}؛ أي: افرحوا به غاية الفرح، واستفعل هنا، ليس للطلب، بل بمعنى، أفعل كاستوقد وأوقد، اهـ. {لأواه}؛ أي: يكثر التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه، اهـ "بيضاوي". والتأوه، أن يقول الرجل عند الشكاية والتوجع: آه، اهـ "زاده". وفي "المختار" وقد أوه الرجل تأويهًا وتاوه تأوهًا، إذا قال أَوَّهُ اهـ. وفي "المراغي" الأواه الكثير التأوه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل: إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها: المؤمن أو الموقن، اهـ. وفي "السمين" والأواه الكثير التأوه، وهو من يقول أواه. وقيل: من يقول، أوه، وهو أنسب؛ لأن: أوه بمعنى، أتوجع فالأواه، فعال، مثال مبالغة من ذلك، وقياس فعله أن يكون ثلاثيًّا؛ لأن: أمثلة المبالغة إنما تطرد في الثلاثي، وقد حكى: قطرب فيه فعله ثلاثيًّا، فقال: يقال، آه يؤوه أوهًا، كقال يقول قولًا، وأنكر النحويون: هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يقال من أوه بمعنى، أتوجع فعل ثلاثي، وإنما يقال: أوه تأويهًا، وتأوه تأوهًا اهـ. وعبارة الخازن: جاء في الحديث أن الأواه الخاشع المتضرع. وقال ابن مسعود: الأواه الكثير الدعاء. وقال ابن عباس: هو المؤمن التواب، وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله. وقال مجاهد: الأواه الموقن وقال كعب

الأحبار: هو الذي يكثر التأوه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول: أوه من النار، قبل أن لا ينفع أوه. وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله. وقال سعيد بن جبير: هو المسبح، وعنه: أنه المعلم للخير. وقال عطاء: هو الراجع عما يكره الله، الخائف من النار. وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزومًا للطاعة. وقال الزجاج: انتظم في قول أبي عبيدة، جميع ما قيل، في الأواه، وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت بتنفس الصعداء، والفعل منه أوه، وهو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه، والسبب فيه أنه عند الحزن تحمى الروح داخل القلب، ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخفف بعض ما به من الحزن والشدة. وأما {الحليم}: فمعناه ظاهر، وهو الصفوح عمن سبه، أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم مع أبيه حين قال له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} فأجابه إبراهيم بقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وقال ابن عباس: الحليم السيد اهـ. وعبارة المراغي: {والحليم} هو الذي لا يستفزه الغضب، ولا يعبث به الطيش، ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك: الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور، واتقاء العجلة في الرغبة والرهبة، اهـ. {في سَاعَةِ العُسْرَةِ} {العسرة}: الشدة والضيق {تزيغ قلوب} من زاغ القلب، مال عن الحق من زاغ يزيغ زيغًا، كباع يبيع بيعًا، {بِمَا رَحُبَتْ}، يقال: رحب من باب ظرف رحبًا، والرحب بضم الراء السعة، وبفتحها المكان المتسع، فمضمومها مصدر ومفتوحها مكان، ومنه يقال: فلان رحب الصدر، بضم الراء، واسعه وقولهم مرحبًا وأهلًا؛ أي: أتيت سعة وأتيت أهلًا، فاستأنس ولا تستوحش ورحب به ترحيبًا إذا قال له مرحبًا. {مَلْجَأً}، الملجأ؛ اسم مكان من لجأ إلى الحصن، أو غيره، من باب قطع، إذا لاذ إليه واعتصم به. {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: الرأفة، العناية بالضعيف والرفق به، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرار في قوله: {أُسِّسَ}. ومنها: جناس المحرف في قوله: {أسس وأسس} لاختلافهما في الشكل. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، للتنبيه على علة الحكم، أي: سبب استحقاقهم الجنة هو إيمانهم، وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان، وهو الجنة ذكره أبو السعود، وفي قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}؛ لأن مقتضى السياق أن يقول أم من أسسه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {هَارٍ فَانْهَارَ}، وفي قوله: {أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، وفي قوله: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا}، وفي قوله: {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وفي قوله: {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا}، وفي قوله: {لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ}. ومنها: التكرار في قوله: {تَابَ}. ومنها: الجناس المحرف في قوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} لاختلافهما في الشكل سمي محرفًا لانحراف إحدى الهيئتين عن هيئة الآخر. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} شبهت التقوى والرضوان بما يعتمد عليه البناء؛ تشبيهًا مضمرًا في النفس، وأسس بنيانه تخييل، فهو مستعمل في معناه الحقيقي، أو مجاز، فتأسيس لبنيان بمعنى، إحكام أمور دينه أو تمثيل لحال من أخلص لله، وعمل الأعمال الصالحة، بحال من بنى شيئًا محكمًا، مؤسسًا يستوطنه، ويتحصن فيه، أو البنيان: استعارة أصلية والتأسيس: ترشيح، اهـ "شهاب". {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ} هو كناية عن إحكام أمور دينه وترتيبها على ضلال وكفر ونفاق، وقوله: {شَفَا جُرُفٍ} المراد به هنا، الضلال وعدم التقوى.

ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} شبه بذلهم الأموال والأنفس، وإثابتهم عليها بالجنة، بالبيع والشراء بجامع المعاوضة في كل. ومنها: الالتفات في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} تشريفًا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرورهم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما. ومنها: الطباق بين {لِيُضِلَّ} و {إِذْ هَدَاهُمْ} وكذلك بين {يحيي ويميت} وبين {ضاقت ورحبت}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} إعتناءً بشأنه وإظهارًا لفضله. ومنها: الاستفهام والحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}. المناسبة قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما ذكر توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. أكد هنا وجوب متابعة الرسول، والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه. وقال أبو حيان (¬2): مناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وأمر بكينونتهم مع الصادقين، وأفضل الصادقين رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ثم المهاجرون والأنصار .. اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته، أنى توجه من الغزوات والمشاهد، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، في غزوة تبوك، واقتضى ذلك الأمر بصحبته، وبذل النفوس دونه. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد، مع بيان حكم العلم والتفقه في الدين، من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان، وهو الركن الركين في الدعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإِسلام، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حمايةً وسياجًا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدي المعاندين والمعتدين من الكافرين والمنافقين. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن كلا النفيرين هو في سبيل الله، وإحياء دينه، هذا بالعلم، وهذا بالقتال، انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما حض المؤمنين على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه .. أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء في ذلك: مَنْ لاَ يَعُدَّ لَهُ الْقُرْآنَ كَانَ لَهُ ... مِنَ الصَّغَارِ وَبِيْضِ الْهِنْدِ تَعْدِيْلُ وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر فيما سبق بقتال المشركين كافة .. أرشدهم في هذه الآية إلى طريق السداد في هذا الباب، وهو أن يبدؤوا بقتال من يليهم، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد، وهكذا، وقد فعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته كذلك، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق، وكذلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

في أمر الدعوة، فقد قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف في طريقها من المشركين فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} انتهت. قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما ذكر ضروبًا من مخازي المنافقين، كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة .. ذكر هنا ضروبًا أخرى من تلك المثالب، كتهكمهم بالقرآن، وتسللهم لواذًا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم، وفي المؤمنين. قوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ...} الآية، مناسبتها: أنه تعالى لما ذكر أنهم (¬2) بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة .. ذكر أنهم أيضًا في الدنيا لا يخلصون من عذابها. قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬3) بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئًا فشيئًا خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم، والمن عليهم بكونهم جاءهم رسول من جنسهم، أو من نسبهم، عربيًّا قرشيًّا يبلغهم عن الله، متصف بالأوصاف الجميلة، من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم. وعبارة المراغي: مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما أمر رسوله في هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خص بوجوه التوفيق والكرامة .. ختمها بما يوجب تحملهم تلك التكاليف، فبين أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلا أنه يشق عليه ضررهم وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم، فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق، ربما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[120]

ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...} الآية، أخرج (¬1) ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: لما نزلت آية {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقد كان تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي فنزلت: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}. وأخرج عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان المؤمنون لحرصهم على الجهاد إذا بعث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، سرية خرجوا فيها، وتركوا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالمدينة في رقة من الناس فنزلت. التفسير وأوجه القراءة 120 - وفي قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلخ، زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ما صح ولا جاز لأهل المدينة عاصمة الإِسلام ومقر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي لساكنيها من المهاجرين والأنصار، {و} لا لـ {من حولهم من الأعراب}؛ أي: من سكان البوادي، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}، - صلى الله عليه وسلم -، ويتأخروا عنه في الخروج للغزو في سبيل الله، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غيره من شؤون الأمة ومصالح الملة، فإن السمع والطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجب وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا. وإنما (¬2) خصهم الله سبحانه وتعالى بالذكر؛ لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا، بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {وَلَا} أن، {يَرْغَبُوا} ويتخلفوا، {بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ} صيانة وحفظ، {نفسه} - صلى الله عليه وسلم -، الشريفة فيشحون بأنفسهم ويصونونها، ولا يشحون بنفس رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ويجاهدوا بين يديه ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني.

أهل الشقاق، ويبذلوا أنفسهم دون نفسه؛ أي (¬1)؛ لا يختاروا إِبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد، بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء، ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة. والمعنى (¬2): ولا ينبغي لهم أن يفضلوا أنفسهم على نفسه، فيرغبوا في الراحة والسلامة، ولا يبذلوها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علمًا بأنها أعز نفس على الله وأكرمها فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلًا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. والخلاصة: أن المتخلف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه. وفي ذلك نهي شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه وتهييج لمتابعته، - صلى الله عليه وسلم -، بأنفة وحمية، والإِشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى ما يفيده السياق من وجوب متابعته، - صلى الله عليه وسلم -، والنهي عن التخلف عنه؛ أي: ذلك الوجوب والنهى عن التخلف عنه، - صلى الله عليه وسلم -، {بـ} سبب، {أنهم لا يصيبهم} ولا ينالهم في سفرهم ولا غزواتهم، {ظَمَأٌ} ولا عطش، {وَلَا نَصَبٌ} ولا تعب. وقرأ عبيد بن عمير: {ظمأ} بالمد مثل سفه وسفاها. وقرأ غيره: بالقصر وهما لغتان، مثل خطأ وخطاء. {وَلَا مَخْمَصَةٌ} ولا مجاعة ولو يسيرًا، وكذا يقال، فيما قبله، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وطاعته والجهاد لإعلاء كلمته، {ولا يطئون}؛ أي: ولا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم {مَوْطِئًا}؛ أي: دوسًا ووطئًا، {يَغِيظُ} ويغضب، {الْكُفَّارَ} ويضيق صدورهم أو لا يدوسون مكانًا من أمكنة الكفار يغيظهم الدوس فيها، يعني: ولا يضعون قدمًا على الأرض يكون ذلك القدم سببًا لغيظ الكفار، وغمهم وحزنهم. وقرأ زيد بن علي: {يغيظ} بضم الياء {وَلَا ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

يَنَالُونَ}؛ أي: ولا يصيبون {من عدو} وكفار، {نيلا}؛ أي: إصابة أسرًا أو قتلًا أو هزيمةً أو غنيمةً، أو نحو ذلك قليلًا كان أو كثيرًا، {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ}؛ أي: إلا حالة كونهم يكتب لهم بكل واحد من الأمور الخمسة، {عَمَلٌ صَالِحٌ} وثواب حسن جزيل؛ لأن من قصد طاعة الله تعالى، كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبةً له عند الله تعالى. وجملة (¬1) كتب، حالية فهذا التركيب نظير قولك: ما جاء زيد إلا راكبًا، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود" {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ}؛ أي: بكل واحد من الأمور المعدودة عمل صالح، وحسنة مقبولة، مستوجبة بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل وقيل الزلفى، اهـ. والمعنى: أي لم (¬2) يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذًى وإن كان قليلًا كظمأ لقلة الماء أو نصب لبعد الشُّقَّة أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته، فيغيظه أن تمسه أقدام المؤمنين، أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجرح، أو قتل أو أسر أو هزيمة، أو غنيمة إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحة التي تشمل كل حركة من بطشة يد، أو وطأة قدم، أو عروض جوع، أو عطش أو نحو ذلك، ولما كان الظمأ أشق الأشياء المؤذية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصًا في شدة الحر كغزوة تبوك، بدىء به أولًا، وثنى بالنصب وهو التعب؛ لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشيء من العطش والسير، وأتى ثالثًا بالجوع لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر، فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولًا فثانيًا فثالثًا، ذكره أبو حيان. وفي الآية إيماء إلى أن من قصد خيرًا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشي أو كلام، أو نحو ذلك مشكورًا مثابًا عليه وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[121]

الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لا يضيع أجر المحسنين}؛ أي: لا يبطل ولا يترك ثوابهم؛ أي: لا يترك إثابتهم على إحسانهم وهو تعليل (¬1) لكتب، وتنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار؛ فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المداوي للمجنون، وأما في حق المؤمنين؛ فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم؛ أي: إن الله تعالى لا يضيع محسنًا أحسن في عمله، فأطاعه فيما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه، ويثيبه على صالح عمله، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا، فلم يضع لهم أجرًا على عمل عملوه. والخلاصة: أن هؤلاء محسنون ولا يبطل ثوابهم. 121 - {وَلَا يُنْفِقُونَ} في سبيل الله، {نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرة أو علاقة سوط، {وَلَا} نفقة {كبيرة} كما أنفق عثمان في جيش العسرة، {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} من الأودية؛ أي: ولا يجاوزون في مسيرهم في سبيل الله واديًا مقبلين، أو مدبرين فيه، {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}؛ أي: إلا كتب الله لهم آثارهم وخطاهم، ونفقاتهم في صحائف أعمالهم، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، {أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: لكي يجزيهم الله تعالى الجزاء الحسن؛ والثواب الوافر على جميع ما يعملونه في سبيل الله تعالى، قليلًا أو كثيرًا. والمعنى: أي كذلك شأنهم فيما ينفقون في سبيل الله صغر أو كبر، قل أو كثر، وفي كل وادٍ يقعطونه في سيرهم غادين، أو رائحين إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاءً لهم على عملهم، ولا يترك شيء منه أو ينسى ليجزيهم بكتابته في صحف أعمالهم، كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم. وخلاصة ذلك: أنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر، جزاءً أحسن من ¬

_ (¬1) البيضاوي.

جزائهم على أعمالهم الجليلة، في غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة في غيره من أنواع المبرات، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فيما عداه من الأعمال الصالحة. فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"، وفي رواية "وما فيها" متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادًا في سبيل الله، وإيمانًا بي وتصديقًا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمَّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي نفس محمَّد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمَّد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". متفق عليه، هذا لفظ مسلم وللبخاري بمعناه. وعن أبي سعيد الخدري، قال: أتى رجل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"، قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله". متفق عليه. وفي رواية" "يتقي الله ويدع الناس من شره". وعن أبي هريرة، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديق بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات" أخرجه البخاري. وعن ابن عباس، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما اغبرت قدما عبد في سبيل

[122]

الله فتمسه النار". أخرجه البخاري. وعن أبي مسعود الأنصاري البدري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة كلها مخطومة" أخرجه مسلم. وعن خريم بن فاتك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أنفق نفقة في سبيل الله، كتب الله له سبع مئة ضعف" أخرجه الترمذي والنسائي. 122 - واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى (¬1): {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}. فذهب جماعة: إلى أنه من بقية أحكام الجهاد؛ لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد، والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، سرية إلى الكفار، ينفرون جميعًا، ويتركون المدينة خاليةً، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك؛ أي: أن ينفروا جميعًا. وذهب آخرون: إلى أن هذه الآية، ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والنفقة في الدين، جعله الله سبحانه متصلًا بما دل على وجوب الخروج للجهاد، فيكون السفر نوعين: الأول: سفر الجهاد. والثاني: السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها، من لغة ونحو وصرف وبيان، وأصول؛ أي: وما كان ينبغي أن يفعل المؤمنون النفر والخروج للجهاد جميعًا، ويتركوا المدينة خالية، ورسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، منفرد وحده؛ لأن ذلك يخل بأمر المعاش {فَلَوْلَا نَفَرَ}؛ أي: فهلا خرج للجهاد، {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: من كل قبيلة منهم، {طَائِفَةٌ}؛ أي: جماعة ليقوموا بواجب الجهاد، وبقيت طائفة أخرى منهم، في المدينة مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}؛ أي: لتتعلم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

تلك الباقية أحكام دينهم من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، {وَلِيُنْذِرُوا} ويبشروا، {قَوْمَهُمْ} الذين خرجوا للجهاد بما تعلموا من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، {إِذَا رَجَعُوا}؛ أي: إذا رجع الخارجون من الغزو، {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى الباقين في المدينة، {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}؛ أي: لكي يحذر الخارجون بسبب تعليمهم إياهم، ويخافوا عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فالمعنى (¬1): ما ينبغي ولا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعًا، ويتركوا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وحده، بل يجب أن ينقسموا قسمين: طائفة تكون مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وطائفة تنفر إلى الجهاد؛ لأن ذلك هو المناسب للوقت إذ كانت الحاجة داعية إلى هذا الانقسام، قسم للجهاد، وقسم لتعلم العلم والفقه في الدين؛ لأن أحكام الشريعة كانت تتجدد شيئًا بعد شيء، والماكثون يحفظون ما تجدد، فإذا قدم الغزاة علموهم ما تجدد في غيبتهم. وفي قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة لا الترفع على العباد، والتبسط في البلاد، كما هو دأب أبناء الزمان، اهـ "أبو السعود". والخلاصة: وما كان من شأن المؤمنين، ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعًا في كل سرية تخرج للجهاد، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقط عن الباقين، لا فرض على كل شخص، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد. فهلا خرج، ونفر من كل فرقة كبيرة منهم، كأهل بلد، أو قبيلة طائفة وجماعة منهم، وتبقى طائفة أخرى للتفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين، بما يتجدد نزوله على الرسول، - صلى الله عليه وسلم - من الآيات، وما يكون منه - صلى الله عليه وسلم -، من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته ويوضح المجمل بالعمل به، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم؛ أي: ليجعلوا أهم قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم، وإنذارهم عاقبة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الجهل، وترك العمل بما علموا رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته، والحجاج عنه وبيان أسراره للناس، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية، والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضًا. وفي الآية، إشارة إلى وجوب التفقه في الدين، والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم، فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد، لهم عند الله تعالى من سامي المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال، والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله، والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون الدفاع فيها واجبًا عينيًّا على كل شخص. فصل في ذكر الأحاديث الدالة على فضل التفقه في الدين وعن معاوية بن أبي سفيان، قال: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي أمر الله" متفق عليه. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجدون الناس خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا" متفق عليه. وعن ابن عباس، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" أخرجه الترمذي. وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة" أخرجه الترمذي. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" أخرجه الترمذي.

[123]

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة". أخرجه أبو داود. والآية المحكمة: هي التي لا اشتباه فيها، ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ، والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك، والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها. قال الفضيل بن عياض: عالم عامل معلم يدعى عظيمًا في ملكوت السموات، وأخرجه الترمذي موقوفًا. وقال الإِمام الشافعي: طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة. 123 - ولما أمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين كافة، أرشدهم إلى الطريق الأصلح، وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، {قَاتِلُوا} الأقوام، {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} ويقربونكم، {مِنَ الْكُفَّارِ}؛ أي: قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإِسلام في الدار والبلاد والنسب. وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة؛ لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور؛ ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين، والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار، كما قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}. وهذا الترتيب أولى، لوجوه كثيرة: منها: قلة النفقات والحاجة فيه إلى الدواب والآلات، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع في الدعوة والنفقات والصدقات، وما يدار في المجالس من شراب ونحوه، فكان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يعطي من على يمينه، وإن لم يكن أفضل الجالسين، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وقال للأعرابي الذي كان يمد يده إلى الجوانب البعيدة: "كل مما يليك".

[124]

{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ}؛ أي: وليدرك الكفار فيكم أيها المؤمنون {غِلْظَةً}؛ أي: شدةً عظيمةً وخشونة، وجرأة وصبرًا على القتال وعنفًا في القتال والأسر ونحو ذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}. والغلظة في زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح. وفي الآية إيماءٌ إلى أنه قد يحتاج حينًا إلى الرفق واللين وآخر إلى العنف والشدة، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب، فإن ذلك مما ينفر، ويوجب تفرق الناس عنهم. وإنما أمروا بذلك في القتال، وما يتصل بالدعوة إلى الإِسلام للإِرشاد، إلا أنه يجب أن تكون حالهم في الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة في المعاملة، ومن ثم صار ذلك من أخص صفات المسلمين. وقرأ الجمهور: {غِلْظَةً} بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب، والمفضل، كلاهما عن عاصم، بفتحها، وهي لغة الحجاز. وأبو حيوة، والسلمي، وابن أبي عبلة، والمفضل، وأبان أيضًا، بضمها وهي لغة تميم. وعن أبي عمرو ثلاث اللغات ذكره أبو حيان. {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون، {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {مَعَ الْمُتَّقِينَ} الله بالمعونة، والنصرة على أعدائهم، والمراد أن يكون الإقدام على الجهاد بسبب تقوى الله، لا بسبب طلب المال والجاه؛ أي: واعلموا أن الله سبحانه وتعالى معكم أيها المؤمنون بالمعونة والنصر، إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه وابتعدتم عن التقصير في أسباب النصر والغلب، من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله تعالى بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ومن الثبات والصبر والطاعة وحسن النظام وترك التنازع والاختلاف وكثرة ذكر الله، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة. 124 - {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} من سور القرآن، والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين مجلس نزولها، وليس في السورة فضيحة لهم، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ}؛ أي: فمن المنافقين فريق، يقول لأصحابه استهزاءً أو للمؤمنين: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السورة، {إِيمَانًا}؛ أي: تصديقًا ويقينًا. وقرأ الجمهور: {أَيُّكُمْ} بالرفع. وقرأ

[125]

زيد بن علي، وعبيد بن عمير، {أَيُّكُمْ} بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح، كما هو بعد أداة الاستفهام نحو: أزيدًا ضربته؛ أي: وإذا أنزل الله تعالى على رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، سورة من سور كتابه الكريم، فمن المنافقين من يقول لإخوانه، على سبيل الاستهزاء والسخرية هذه المقالة، ليثبتوا علي النفاق، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشككًا لهم، {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}؛ أي: من الذي زادته هذه السورة يقينًا بحقية القرآن والإِسلام وصدق الرسول محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أيكم زادته تصديقًا جازمًا مقترنًا بإذعان النفس، وخضوعًا وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه. والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول، - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه، وكذا يزيد بسماعه من غيره في قلب المؤمن قوة إذعان، ورغبة في العمل والقرب من الله تعالى قال تعالى مجيبًا عن هذا السؤال مبينًا حالهم وحال المؤمنين: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله تعالى، وبما جاء من عنده، {فَزَادَتْهُمْ} هذه السورة {إِيمَانًا} بانضمام إيمانهم، بما فيها بإيمانهم السابق؛ لأنهم يقرون عند نزولها بأنها حق من عند الله تعالى، {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: يفرحون بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية. أي: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين، واطمئنان القلب، ويزيدهم قوة في العمل به، والتقرب إلى ربهم وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة بتزكية أنفسهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظمًا ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النِّفاق يبدو لمعة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود، اهـ "خازن". 125 - {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: نفاق وسوء عقيدة، {فَزَادَتْهُمْ} هذه السورة، {رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}؛ أي: عقيدة باطلة إلى عقيدتهم الباطلة، فإنهم

كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة، فقد انضم كفر إلى كفر، وإنهم كانوا في العداوة واستنباط وجوه المكر، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة، {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى، فإن الأولى ازدياد الرجاسة، وهذه مداومة الكفر وموتهم عليه؛ أي وأما (¬1) الذين في قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر، وإظهار الإِسلام فزادتهم كفرًا ونفاقًا مضمومًا إلى كفرهم ونفاقهم السابق، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق، على مقتضى سننه تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس، وتغيير هواجس الفكر، ثم عجيب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} والهمزة (¬2): فيه للاستفهام التوبيخي على قراءة الياء في يرون وللاستفهام التعجيبي على قراءة التاء فيه. والخطاب فيه للمؤمنين، وهي داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أيجهلون ولا يرون؛ أي؛ يجهل المنافقون ولا يرون أنهم يختبرون في كل عام بأنواع البليات، من المرض والجوع، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم، وعلى تخلفهم من الغزو مرة أو مرتين فأكثر، {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} من نفاقهم {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}؛ أي: يتعظون بتلك الفتن الموجبة للتوبة، وقوله: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} وما بعده معطوف على لا يرون على قراءة الياء التحتية داخل تحت الإنكار والتوبيخ، وعطف على {يُفْتَنُونَ} على قراءة التاء الفوقية. أي: أيجهلون (¬3) هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عامًا بعد عام، من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر، والتفرقة بين الحق والباطل، ولا ينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، في كل ما أخبر به، من نصر الله لمن اتبعه، وخذلان أعدائه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[126]

ووقوع ما أنذرهم به، ومن إنباء الله بما في قلوبهم، وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم. ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام بعد الأعوام، ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يتعظون بما يحل بهم من العذاب، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان، وانطفاء نور الفطرة؛ ولله در القائل: قَدْ تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ منْ رمدِ ... وينكرُ الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ 126 - وقرأ الجمهور (¬1): {أَوَلَا يَرَوْنَ} بالياء والضمير فيه يعود على الذين في قلوبهم مرض. وقرأ حمزة {ترون} بالتاء، خطابًا للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود والأعمش: {أو لا ترى}؛ أي: أنت يا محمَّد. وعن الأعمش أيضًا: {أولم تروا}. وقال أبو حاتم عنه: {أولم يروا}. وقرأ ابن مسعود {ولا هم يتذكرون}. 127 - وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة في المنافقين، وهم غائبون عن مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين حالهم وهم في مجلسه، - صلى الله عليه وسلم -، حين نزولها واستماع تلاوته لها، فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} فيها بيان حالهم، وكانوا حاضرين مجلس نزولها {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: تغامزوا بالعيون، يدبرون الهرب ليتخلصوا عن تأذي سماعها، يقولون بطريق الإشارة: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} من المسلمين إن قمتم من المجلس، {ثُمَّ انْصَرَفُوا} جميعًا عن مجلس نزول الوحي؛ خوفًا من الافتضاح أو غير ذلك. والمعنى؛ أي: وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس، تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون على حين تخشع أبصار المؤمنين، وتنحني رؤوسهم، وتشاوروا في الانسلال. من المجلس، خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلًا بعضهم لبعض: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ}؛ أي: هل يراكم الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، أو المؤمنون إذ قمتم من المجلس، ثم انصرفوا جميعًا عن مجلس نزول الوحي، متسللين لواذًا، كراهة منهم لسماعه، وانتظارًا لسنوح ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[128]

فرصة الغفلة عنهم، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عن الإِيمان وعن استماع القرآن {بـ} سبب {أنهم قوم لا يفقهون} ولا يفهمون ما يسمعون من الآيات لسوء فهمهم وعدم تدبرهم؛ أي: صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق، والاسترشاد بآيات كتابه، إلى ما في ملكوت السموات والأرض، من دلائل قدرته، وهذه الجملة إما إخبار بذلك، أو دعاء عليهم به، والمآل في هذه واحد في كلامه تعالى. {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}؛ أي: ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق، وما يترتب عليها من الأعمال، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل في معانيها، مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به، من غير بحث ولا تأمل، أحق هو أم باطل، أخير هو أم شر، وأنى لمثل هؤلاء، وتلك حالهم أن يهتدوا بنزول الآيات والسور؛ وعزتي وجلالي 128 - {لَقَدْ جَاءَكُمْ} وبعث إليكم يا معشر العرب، {رسولٌ} عظيم الشأن {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم. وقرىء (¬1): بفتح الفاء؛ أي: من أشرفكم وأفضلكم. قيل: هذه قرءاة فاطمة وعائشة رضي الله عنهما. وإلى (¬2) كون هذه الآية خطابًا للعرب، ذهب جمهور المفسرين؛ وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم، والمعنى، لقد جاءكم {رَسُولٌ مِنْ} جنسكم في البشرية، إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه، والأخذ عنه. وحاصل المعنى على القول الأول: أي (¬3) لقد جاءكم يا معشر العرب رسول من جنسكم ونسبكم، والآية بمعنى قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

ذاك أن منته على قومه أعظم وحجته بكتابه أنهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربين، بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوة إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه، - صلى الله عليه وسلم - له، بالتبليغ والعمل، وبما شاهدوا من آيات الله في شخصه، وقد امتن عليه (¬1) وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}؛ أي: وإنه لشرف لك ولهم، تُذْكَرُون به في العالم، ويدون لكم في بطون الكتب والدفاتر وإنما قاومه أكابر قومه أنفةً واستكبارًا عن اتباعه، إذ هم يرونه دونهم، إلَّا أنَّ في اتباعه إقرارًا بكفرهم وكفر أبائهم الذين يفاخرون بهم، إلا أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتِّباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة. {عَزِيزٌ}؛ أي: شاق شديد، {عَلَيْهِ}؛ أي: على هذا الرسول الكريم، {مَا عَنِتُّمْ}؛ أي: ما أثمتم وأذنبتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب، لكونه من جنسكم ومبعوثًا لهدايتكم، والعنت التعب لهم، والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه، أو بعذاب الآخرة في النار أو بمجموعهما. والظاهر (¬2)، أن ما مصدرية، في موضع الفاعل بعزيز، أي: يعز عليه عنتكم ومشقتكم، كما قال الشاعر: يَسُرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالي ... وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابَا أي: يسر المرء ذهابُ الليالي؛ أي: شديدٌ عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه؛ لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا في الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها، والتحكم فيها، ولا أن تكونوا في الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}؛ أي: حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: شديد الحرص والرغبة في اهتدائكم، وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة، أو حريصٌ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[129]

وشحيح عديكم بأن تدخلوا النار. {بِاَلمُؤمنِينَ} بالله وبرسوله؛ أي: بجميعهم، {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ أي: شديد الرأفة والشفقة بالمطيعين وكثير الرحمة والإصلاح بالمذنبين. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم، ذكره في "البحر". فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها، كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه. وقال الحسن بن المفضل: لم يجمع الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه اسمين من أسمائه، إلا لنبينا محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قال فيه؛ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى في حق نفسه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. وقرأ ابن عباس (¬1)، وأبو العالية والضحاك وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، وعبد الله بن قسيط، المكي، ويعقوب من بعض طرقه: {من أنفسكم} بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وعن فاطمة وعائشة - رضي الله عنهما - كما مر، والمعنى، من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. وقرىء "رؤوف" بالمد؛ أي: بزيادة واو بعد الهمزة وبالقصر؛ أي: بحذف الواو قراءتان سبعيتان في هذه الكلمة حيثما وقعت في القرآن. 129 - ثم قال الله سبحانه وتعالى (¬2) مخاطبًا لرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ومسليًا له ومرشدًا له، إلى ما يقوله عندما يعصى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن (¬3) تولى هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة، وناصبوك الحرب؛ أي: فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك، والاهتداء بما جئتهم به، ولم يعملوا به، ولا قبلوه بعد هذه الحالة التي منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بها، من إرسالك إليهم، واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة، {فَقُلْ} يا محمَّد: {حَسْبِيَ} وكافيَّ، {اللَّهُ} سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

المنفرد بالأولوهية؛ أي: فالله سبحانه وتعالى هو كافيَّ من شرهم، فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم، وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله فقد بلغت وما قصرت، {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق ولا حافظ ولا ناصر {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى؛ أي: لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين، {عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره، {تَوَكَّلْتُ} واعتمدت، وإليه أموري فوضت لا إلى غيره، فلا أكل أمري فيما عجزت عنه إلى غيره، {وَهُوَ} سبحانه وتعالى، {رَبُّ الْعَرْشِ}؛ أي: مالك وخالق العرش، {الْعَظِيمِ} وصفه بالعظم؛ لأنه أعظم المخلوقات، ولأجل عظمه خصه بالذكر، مع أن الله سبحانه وتعالى رب كل شيء، فذكره أمدح للباري. وقد قرأ (¬1) الجمهور: {العظيمِ} بالجر على أنه صفة للعرش، ومعنى عظمه، كبر جرمه واتساع جوانبه. وقرأ ابن محيصن: {العظيم} برفع الميم على أنه صفة لرب. وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير. ومعنى عظمه تعالى، تنزهه عن جميع النقائص واتصافه بجميع الكمالات. وقال أبو (¬2) بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ؛ لأن جعل العظيم صفةً لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، اهـ والعرش (¬3)، مركز تدبير أمور الخلق، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك في الملأ الأعلى، وفيما دونه، هي مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى. ودليل على أنه وحده الإله الحق، الذي لا ينبغي أن يعبد غيره، ولا يتوكل على سواه وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم. روى (¬4) أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم، عن زيد بن ثابت، في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر، أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...} إلى آخرها، يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

في الرقاع والأكتاف والعُسُب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صُرح ذلك في الروايات الأخرى. فقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف"، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} إلى عمر، فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدري، والله إني أشهد لسمعتهما من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورةً من القرآن فالحقوها بها، فألحقت في آخر براءة وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، أن رجلًا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر: لا أسألك عليها بينة أبدًا، كذلك كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها. ومن هذه الروايات يعلم، أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا في موضعهما، ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي، - صلى الله عليه وسلم -. وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول؛ لأن من حفظ بالتوقيف حجة على من لم يحفظ. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": إن زيدًا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلًا على ذلك قوله: إنهم كانوا يسمعون رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها فهو صريح في أن البحث عمن كتبها فقط، اهـ فجملة القول أن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة، وإنما اختلفوا حين الجمع، في موضع كتابتهما، حتى شهد من شهد أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة وفاقًا لقول أبيّ بن كعب، وهو أحد الذين تلقوا القرآنَ كُلَّه مرتبًا عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وكذا زيد بن ثابت، وكان عدد المختلفين في موضعهما قليلًا، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أيَّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم، كابن مسعود رضي الله عنه.

فائدة: وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء، قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله تعالى ما أهمه، ذكره في "البحر". الإعراب {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}. {مَا}: نافية. {كَانَ} فعل ماضٍ ناقص. {لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها. {وَمَنْ} اسم موصول، معطوف على أهل المدينة. {حَوْلَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ {مِنَ} الموصولة. {مِنَ الْأَعْرَابِ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستقر في الظرف. {أَنْ يَتَخَلَّفُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، تقديره: ما كان التخلف عن رسول الله جائزًا لأهل المدينة ومن حولهم، ولا لائقًا بهم، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {وَلَا يَرْغَبُوا}: الواو: عاطفة. {لَا}: نافية. {يَرْغَبُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يَتَخَلَّفُوا} {بِأَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور متعلق به، وكذلك، يتعلق به الجار والمجرور في قوله: {عَنْ نَفْسِهِ} والتقدير: ولا الرغبة بأنفسهم عن نفسه كائنًا. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ}، الباء: حرف جر وسبب. {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه. {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} فعل ومفعول وفاعل. {وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} معطوفان على ظمأ. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بيصيب، أو حال من ضمير المفعول في {يُصِيبُهُمْ} وجملة يصيب، في محل الرفع خبر {أَنّ}، ولكنه خبر سببي، وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره؛ ذلك بسبب عدم إصابة ظمأ ولا نصب ولا مخمصة {في سبيل الله}، الجار والمجرور، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك النهي عن التخلف،

كائن بسبب عدم إصابتهم ظمأ ولا نصب، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. {وَلَا يَطَئُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على قوله {لَا يُصِيبُهُمْ} {مَوْطِئًا}: منصوب على المفعولية المطلقة. {يَغِيظُ الْكُفَّارَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَوْطِئًا} والجملة في محل النصب، صفة لـ {مَوْطِئًا}. {وَلَا يَنَالُونَ}: فعل وفاعل، معطوف أيضًا على {يُصِيبُهُمْ} {مِنْ عَدُوٍّ} متعلق به. {نَيْلًا} منصوب على المصدرية. {إِلَّا كُتِبَ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {كُتِبَ} فعل ماض مغير الصيغة {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به، وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: {بِهِ} {عَمَلٌ}: نائب فاعل {صَالِحٌ}: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من مفعول {يُصِيبُهُمْ} ومن فاعل يطئون وينالون وفي "الفتوحات" قوله: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}: جملة {كُتِبَ} حالية، فهذا التركيب نظير قولك: ما جاء زيد إلا راكبًا، اهـ شيخنا. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر إن، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}. {وَلَا يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، في محل الرفع معطوف على قوله: {لَا يُصِيبُهُمْ} {نَفَقَةً}: مفعول به {صَغِيرَةً}: صفة لها {وَلَا كَبِيرَةً}: معطوف على {صَغِيرَةً} {وَلَا يَقْطَعُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {لَا يُصِيبُهُمْ} {وَادِيًا} مفعول به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {كُتِبَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على المذكور من كل واحد من الأمرين، النفقة وقطع الوادي. {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من النفقة، وقطع الوادي؛ أي: إلا حالة كونهما مكتوبين لهم. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

{لِيَجْزِيَهُمُ} فعل ومفعول أول وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {أَحْسَنَ مَا}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، تقديره: لجزاء الله إياهم أحسن ما كانوا يعملون، الجار والمجرور متعلق بـ {كُتِبَ} {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}. {وَمَا}: الواو: استئنافية. {مَا}: نافية {كَانَ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل ناقص واسمه {لِيَنْفِرُوا}؛ {اللام}: حرف جر وجحود {ينفروا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، لوقوعه بعد {كَانَ} المنفية بما. {كَافَّةً}: حال من واو ينفروا؛ أي: حالة كونهم مجتمعين، وجملة ينفروا، صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور باللام المتعلقة بمحذوف خبر كان، تقديره: وما كان المؤمنون مريدين النفر كافة، وجملة {كَانَ} مستأنفة؛ أي: ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعًا، ويتركوا المدينة خالية، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة. وقال النحاس: هذه الجملة لفظها خبر ومعناها أمر؛ أي: نهي؛ أي: لا تنفروا كافةً. {فَلَوْلَا} الفاء: عاطفة. {لولا}: حرف تحضيض، بمعنى، هلا {نَفَرَ}: فعل ماض {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {نفر} {مِنْهُمْ} صفة لـ {فِرْقَةٍ} {طَائِفَةٍ}: فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَانَ} {لِيَتَفَقَّهُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي {فِي الدِّينِ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتفقههم في الدين والجار والمجرور متعلق بمحذوف معطوف على نفر، تقديره: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة؛ وبقيت طائفة في المدينة لتفقههم في الدين {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة، معطوف على قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} عطف علة على علة {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط متعلق بينذروا، {رَجَعُوا} فعل وفاعل

{إِلَيْهِمْ}: متعلق به والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} {لَعَلَّهُمْ} حرف نصب واسمه. وجملة {يَحْذَرُونَ} في محل الرفع خبر، لعل، وجملة، لعل مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}. {يا}: حرف نداء {أي} منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة {الَّذِينَ} اسم موصول، صفة لأي، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول {قَاتِلُوا الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء {يَلُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْكُفَّارِ}: جار ومجرور، حال من واو {يَلُونَكُمْ}. {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. {وَلْيَجِدُوا} الواو: عاطفة {اللام}: لام الأمر {يَجِدُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر {فِيكُمْ}: متعلق به {غِلْظَةً}: مفعول به؛ لأن وجد هنا بمعنى أصاب وأدرك، والجملة معطوفة على جملة قوله {قَاتِلُوا} على كونها جواب النداء. {واعلموا} فعل وفاعل معطوف على {قَاتِلُوا} {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {مَعَ الْمُتَّقِينَ} ظرف ومضاف إليه، خبر أن وجملة أن في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، تقديره: واعلموا كون الله مع المتقين. {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. {وَإِذَا} الواو: استئنافية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {مَا}: زائدة {أُنْزِلَتْ سُورَةٌ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها {فَمِنْهُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذَا} الشرطية {مِنْهُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم {مِن}: اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة من الموصولة، والجملة الاسمية جواب {إِذَا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}: مقول محكي،

ليقول، وإن شئت قلت: {أَيُّكُمْ}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، مبتدأ مرفوع، والكاف: مضاف إليه {زَادَتْهُ}: فعل ومفعول أول {هَذِهِ} فاعل {إِيمَانًا}: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت قولهم هذا، وأردت بيان ما يترتب على نزول السورة، فأقول لك: {أما}: حرف شرط وتفصيل {الَّذِينَ}: مبتدأ وجملة {آمَنُوا} صلته {فَزَادَتْهُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما} {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على سورة {وَهُمْ}: مبتدأ. وجملة {يَسْتَبْشِرُونَ}: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب، حال من هاء {زادتهم} وجملة {زادتهم} في محل الرفع خبر الموصول، ولكنه خبر سببي، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}. {وَأَمَّا} الواو: عاطفة {أما}: حرف شرط. {الَّذِينَ}: مبتدأ {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا}: فعل ومفعولان، والفاء: رابطة لجواب {أما} والفاعل ضمير مستتر، يعود على السورة {إِلَى رِجْسِهِمْ}: جار ومجرور، صفة لـ {رِجْسًا} تقديره: رجسا منضمًا إلى رجسهم، وجملة {زادتهم} جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب، معطوفة على جملة {أما} الأولى {وَمَاتُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {زادتهم} {وَهُمْ كَافِرُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب، حال من فاعل {ماتوا}. {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

{أَوَلَا}: الهمزة فيه: للاستفهام التوبيخي، على قراءة الياء التحتية في يرون، وللتعجبي على قراءة التاء الفوقية، داخلة على محذوف تقديره: أيجهلون، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، كما مر في مبحث التفسير. {ألَا}: نافية {يَرَوْنَ}: فعل وفاعل، والرؤية يحتمل كونها قلبية، وكونها بصرية {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه {يُفْتَنُونَ}: فعل ونائب فاعل {فِي كُلِّ عَامٍ}: متعلق به {مَرَّةً}: منصوب على المفعولية المطلقة {أَوْ مَرَّتَيْنِ}: معطوف عليه، وجملة يفتنون في محل الرفع خبر {أَنّ} وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعول {يرى} إن كانت بصرية، أو ساد مسد مفعولي {يرى} إن كانت قلبية، تقديره: أوَلا يرون افتتانهم مرة أو مرتين في كل عام، وجملة {يَرَوْنَ} معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {يُفْتَنُونَ} {وَلَا} الواو: عاطفة {لَا} نافية {هُمْ}: مبتدأ. وجملة {يَذَّكَّرُونَ} خبره والجملة الاسمية معطوفة على جملة لا يتوبون. {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}. {وَإِذَا} الواو: استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {مَا}: زائدة {أُنْزِلَتْ سُورَةٌ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {نَظَرَ بَعْضُهُمْ}: فعل وفاعل {إِلَى بَعْضٍ}: متعلق به، والجملة جواب {إِذَا} وجملة {إِذَا} مستأنفة {هَلْ}: حرف للاستفهام الاستخباري {يَرَاكُمْ}: فعل ومفعول به {مِنْ أَحَدٍ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من فاعل نظر، تقديره: نظر بعضهم إلى بعض حالة كونهم قائلين: هل يراكم من أحد {ثُمَّ انْصَرَفُوا}: فعل وفاعل معطوف على نظر {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، مسوقة للدعاء عليهم أو للإخبار عن حالهم، قولان، كما ذكره أبو السعود {بِأَنَّهُمْ} الباء: حرف جر وسبب {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه {قَوْمٌ}: خبره. وجملة {لَا يَفْقَهُونَ} صفة لقوم، وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر

مجرور بالباء المتعلقة بـ {صَرَفَ} تقديره: صرف الله قلوبهم بسبب كونهم قومًا لا يفقهون. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {لَقَدْ}: اللام: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ رَسُولٌ}: فعل، ومفعول، وفاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} صفة أولى للرسول {عَزِيزٌ}: صفة ثانية له، ولكنها سببية {عَلَيْهِ}: متعلق به {مَا}؛ مصدرية {عَنِتُّمْ}: فعل وفاعل، صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر، مرفوع على كونه فاعلًا لعزيز، تقديره: عزيز عليه عنتكم ومشقتكم. {حَرِيصٌ} صفة ثالثة له {عَلَيْكُمْ}: متعلق به {بِالْمُؤْمِنِينَ}: تنازع فيه كل من {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} {رَءُوفٌ} صفة رابعة له {رَحِيمٌ} صفة خامسة له. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. {فَإِنْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلته لك، وأردت ما إذا تولوا عنك فأقول لك. {إن تولوا} {إِنْ}: حرف شرط {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بإن الشرطية، على كونه فعل شرط لها {فَقُلْ} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب، مقول لجواب، إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، {حَسْبِيَ اللَّهُ} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قل} وإن شئت قلت: {حَسْبِيَ} خبر مقدم، ومضاف إليه. {اللَّهُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول {لَا إِلَهَ} {لَا}: نافية {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبرها محذوف، تقديره: لا إله موجود {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {هُوَ} ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة

والأنوثة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا} المحذوف، وجملة {لَا} في محل النصب مقول القول {عَلَيْهِ} متعلق بما بعده {تَوَكَّلْتُ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول {الْعَظِيمِ}: بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة للرب، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} يقال (¬1): رغب في الشيء إذا أحبه، وآثره ورغب عنه إذا كرهه، وقد جمع بينهما في الآية {ظَمَأٌ} الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ، من باب فرح فهو ظمآن، وهي ظمأى ويمد ويقال: ظمآء {وَلَا نَصَبٌ} والنصب: الإعياء والتعب، {وَلَا مَخْمَصَةٌ} المخمصة الجوع الشديد. {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار} والموطىء (¬2): اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدرًا، يغيظ: بفتح الياء باتفاق السبعة وإن كان يجوز لغة ضمها، إذ يقال: غاظه وأغاظه بمعنى واحد. ذكره "الجمل" والغيظ الغضب {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} في "المختار" (¬3)، و"المصباح"، نال خيرًا، ينال نيلًا إذا أصابه، وأصله، نيل، ينيل من باب فهم، والأمر منه، نل وإذا أخبرت عن نفسك كسرت النون، فتقول: نلت اهـ. هذا لفظ الأول، ولفظ الثاني، نال من عدوه، ينال: من باب تعب نيلًا، بلغ منه مقصوده، ومنه قيل نال من امرأته ما أراد اهـ. {وَادِيًا} الوادي في الأصل: المنفرج بين الجبال، أو الآكام؛ أي؛ المنفتح بينها الذي تجتمع وتمر فيه السيول، فهو اسم فاعل من ودي إذا سال، اهـ أبو السعود. والمراد به هنا، مطلق الأرض. وفي "المصباح" وودي الشيء: إذا سال، ومنه اشتقاق الوادي، وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذًا للسيل، والجمع أودية، ووادي القرى، موضع قريب من المدينة على طريق الحاج، من جهة الشام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

اهـ. وقال أبو حيان: الوادي (¬1): ما انخفض من الأصل مستطيلًا، كمجاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية، وليس بقياسه، قال تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} وقياسه أوادي على زنة فواعل، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. وقال النحاس: ولا أعرف فاعلًا وأفعله سواه، وذكر غيره: ناد، وأندية. قال الشاعر: وَفيْهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوْهُهُمْ ... وَأنْدِيَةٌ يَتَشَابَهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه: أوداء، كصاحب وأصحاب. قال جرير: عَرَفْتُ بِبُرْقَةِ الأوْدَاءِ رَسْمَا ... مُجِيْلًا طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُوْمِ {فَلَوْلَا نَفَرَ} نفر: بمعنى خرج للقتال. {ولولا} (¬2): كلمة تفيد التحضيض، والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلًا، واللوم على تركه إذا كان ماضيًا فإن كان مما يمكن تلاقيه .. فربما أفاد الأمر به كما هنا؛ لأن المعنى على الطلب، كأنه قيل: لتخرج طائفة وتبقى أخرى. {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} والفرقة: الجماعة الكثيرة، والطائفة: الجماعة القليلة {لِيَتَفَقَّهُوا} يقال: تفقه إذا تكلف الفقاهه والفهم، وتجشم مشاق تحصيلها. {وَلِيُنْذِرُوا} يقال: أنذره إذا خوفه. {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} يقال: حذره، من باب فهم إذا تحرز منه. وقد (¬3) جعل الله سبحانه وتعالى الغرض من هذا، هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو .. طالب لغرض دنيوي، لا لغرض ديني فهو كما قلت: وَطَالِبُ الدُّنْيَا بِعِلِـ ... ـمِ الدِّيْنِ أيُّ بَائِسِ! كَمَنْ غَدَا لِنَعْلِهِ ... يَمْسَحُ بِالْقَلاَنِسِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} في "المصباح" الولى: مثل فلس القرب، وفي الفعل لغتان: أكثرهما، وليه يليه، بالكسر فيهما، والثانية من باب وعد، وهي قليلة الاستعمال، وجلست مما يليه؛ أي: يقاربه، انتهى. وكأنَّ (¬1) الآي جاءت على اللغة الثانية، وأصله يليون بوزن يعدون، فنقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو. {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} والغلظة: تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة. {رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} والرجس: القذر والعذاب وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال، وإذا كفروا بسورة فقد زاد كفرهم واستحكم، وتزايد عقابهم {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} بضم الفاء؛ أي: من جنسكم. وقرىء بفتح الفاء؛ أي: من أفضلكم {عَزِيزٌ}؛ أي: شاق. {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} والعنت: المشقة ولقاء المكروه الشديد. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} والحرص: شدة الرغبة في الحصول على مفقود، وشدة عناية بموجود، والرأفة: الشفقة والرحمة والإِحسان فالرؤوف أخص من الرحيم، وإنما قدم عليه رعاية للفواصل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} وفي قوله: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا}. ومنها: الطباق في قوله: {صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا}؛ لأن القطع حقيقة في فصل الأجزاء المتصلة، كالحبل. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {غِلْظَةً}؛ لأن الغلظة حقيقة في الأجرام، فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلد كما في "السمين"، وفيه ¬

_ (¬1) الفتوحات.

المجاز المرسل، لما فيه من استعمال المسبب في السبب، فإن وجدان الكفار لغلظة المسلمين، سببه إغلاظ المسلمين عليهم ذكره: في "الفتوحات". ومنها: المقابلة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}؛ أي عمى وضلالة لأن الرجس حقيقة في الشيء المستقذر، فاستعاره لعمى قلوبهم وضلالتها. قال في "تلخيص البيان" السورة لا تزيد الأرجاس رجسًا ولا القلوب مرضًا، بل هي شفاءً للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة، اهـ. ومنها: الحصر في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم ما يسره الله سبحانه لنا من تفسير سورة التوبة في تاريخ: 20/ 11/ 1410 هـ. في اليوم العشرين، من شهر ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وعشر، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية. اللهم كما وفقتنا بابتداء تفسير كتابك الكريم، فأكرمنا بانتهائه واجعل لنا البركة في أعمارنا إلى إكماله، ووفقنا لما هو المعنى عندك يا إلهنا، واجعله في ميزان حسناتنا وذخيرةً عندك يا ربنا، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمَّد، خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين آمين. والحمد لله رب العالمين آمين.

سورة يونس

سورة يونس مكية كلها إلا ثلاث آيات: 40، 94، 96 نزلت بعد سورة الإسراء، وقبل سورة هود. وعدد آياتها تسع ومئة آية. وكلماتها ألف وثمان مئة واثنتان وثلاثون كلمة. وحروفها سبعة آلاف وخمس مئة وسبعة وستون حرفًا. وسميت بذلك لذكر اسمه فيها وقصته. وقد جرت العادة بتسمية السورة ببعض أجزائها. ووجه مناسبتها لما قبلها (¬1): أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، واختتمت بها هذه، وأن جل تلك في أحوال المنافقين، وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن، وهذه في أحوال الكفار وما كانوا يقولونه في القرآن. وليس التناسب بين السور سببًا في هذا الترتيب الذي بينهما، فكثيرًا ما نرى صورتين بينهما أقوى تناسب في موضوع الآيات، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتي الهمزة واللهب، وموضوعهما واحد، وقد يجمع بينهما تارة أخرى، كما فعل بين سور الطواسين وسور آل حاميم وسورتي المرسلات والنبأ. ومن الحكمة في الفصل بين القوية التناسب في المعاني، أنه أدنى إلى تنشيط تالي القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر، ولهذه الحكمة عينها تفرق مقاصد القرآن في السورة الواحدة، كالعقائد والأحكام العملية، والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال، والقصص والعمدة في كل ذلك التوقيف والسماع. وقال أبو حيان (¬2): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه تعالى لما أنزل {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} وذكر تكذيب المنافقين ثم قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أرسل، وأن ديدن الضالين واحد، متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية، وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدمًا على ذكر الرسول في آخر السورة جاء في أول هذه السورة كذلك فقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول، انتهى. وموضوع (¬1) هذه السورة يدور على إثبات أصول التوحيد، وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله، وهي موضوعات السور المكية. الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال محمَّد بن حزم: جملة المنسوخ في هذه السورة أربع آيات: أولاهن: قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15)، نسخت بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية (2) من سورة الفتح. الثانية: قوله تعالى: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} الآية (102) نسخت بآية السيف. الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الآية (41) نسخت بآية السيف. الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} الآية (108) نسخت بآية السيف انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما افتتح السورة بذكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب .. أردف ذلك بذكر أمرين:

1 - إثبات أن لهذا العالم إلهًا قادرًا نافذ الحكم بالأمر والنهي، يفعل ما يشاء، وهو العليم الخبير. 2 - إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء. وقال أبو حيان مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن من كان قادرًا على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين، وهو ربكم الناظر في مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته، ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثًا، بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى، اهـ. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الآيات الدالة على وجوده، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم ... ذكر هنا أنواعًا من آياته الكونية، الدالة على ذلك، وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان، وهو تفصيل لما تقدم، وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب. وقال أبو حيان مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي، ذكر ما أودع في العالم العلوي، من هذين الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياءً، انتهى. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على وجوده تعالى، من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب .. أردف ذلك بذكر حال من كفر به، وأعرض عن البينات الدالة عليه، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم، ثم ذكر جزاء كل من الفريقين. قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْر ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تعجب القوم، من

[1]

تخصيص محمَّد بالنبوة، وأزال هذا التعجب بقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} ثم ذكر دلائل التوحيد والبعث والجزاء .. ذكر هنا جوابًا عن شبهة كانوا يقولونها أبدًا، وهي: اللهم إن كان ما يقول محمَّد حقًّا في أداء الرسالة، فأمطر علينا حجارة من السماء. وخلاصة الجواب: أنه لا مصلحة لهم في إيصال الشر إليهم، إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنًا. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنهم لما استدعوا حلول الشر بهم، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم، بل يترك من لا يرجو لقائه يعمه في طغيانه .. بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه، مسيئهم ومحسنهم، وأن من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حالة مس التفسير له، فكل يلجأ إليه حينئذٍ، ويفرده بأنه القادر على كشف الضر، ذكره في "البحر". أسباب النزول قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جرير، من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، رسولًا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، أما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب، فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الر} هذه (¬2) الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا: ألف لام را والأخير منها غير مهموز. ¬

_ (¬1) لباب النقول والخازن. (¬2) المراغي.

والحكمة في مجيئها أول السورة: تنبيه السامع إلى ما يتلى عليه بعدها، لأجل العناية بفهمه، حتى لا يفوته شيء مما يسمع، فهي من وادي حروف التنبيه نحو {لا} و {ها} الداخلة على اسم الإشارة. قال ابن الجوزي (¬1): فأما قوله: {الر} قرأ ابن كثير: {الر} بفتح الراء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي {الر} على الهجاء مكسورة، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة ما يشتمل على بيان هذا الجنس، وقد خصت هذه الكلمة بستة أقوال: أحدها: أن معناها، أنا الله أرى، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثاني: أنا الله الرحمن، رواه عطاء، عن ابن عباس. والثالث: أنه بعض اسم من أسماء الله، روى عكرمة، عن ابن عباس قال: {الر} و {حم} و {نون} حروف الرحمن، فالراء والحاء والميم والنون بعض حروف الرحمن. والرابع: أنه قسم أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد وقتادة. والسادس: أنه اسم لسورة قاله ابن زيد. وقد (¬2) اتفق القراء على أن {الر} ليس بآية وعلى أن طه آية. وفي "مقنع" أبي عمرو الداني، أن العادّين لطه آية هم الكوفيون فقط. قيل: ولعل الفرق بينهما أن {الر} لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده. والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى ما تضمنته هذه السورة من الآيات، وأتى باسم إشارة البعيد مع كونها قريبة تنزيلًا لبعدها الرتبي منزلة البعد الحسي، وهو مبتدأ خبره ما بعده؛ أي: هذه الآيات المذكورة في هذه السورة هي {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أي: آيات من القرآن المحكم بمعنى، المبين في مبانيه الموضح في ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني.

[2]

معانيه، والعرب تضع فعيلًا بمعنى، مفعل، أو بمعنى: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره، وقيل: الحكيم معناه الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فهو فعيل، بمعنى: فاعل. وقيل الحكيم، يعني: المحكوم فيه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول؛ أي: حكم الله فيه بالعدل والإحسان، قاله: الحسن وغيره. وقيل: الحكيم، ذو الحكمة لاشتماله عليها وتعلقه بها. 2 - والاستفهام في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ؛ أي: لا ينبغي ولا يليق لهم أن يتعجبوا من إرسال هذا الرسول لهم، فهذا رد عليهم في قولهم: العجب أن الله لم يجد رسولًا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهم من فرط حماقتهم، وقصر نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال مع أن خفة المال أليق بحاله، - صلى الله عليه وسلم -، وما هو بصدده، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم السلام قبله كذلك، اهـ "بيضاوي". والعجب: حالةٌ تعتري الإنسان من رؤية شيءٍ على خلاف العادة، وقيل: العجب حالة تعتري الإنسان عند الجهل بسبب الشيء، اهـ "خازن". وقيل: هو استعظام أمر خفي اهـ. واسم كان {أَنْ أَوْحَيْنَا}؛ أي إيحاؤنا {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، وخبره {عَجَبًا}؛ أي: هل كان عجبًا لأهل مكة إيحاؤنا، وإرسالنا إلى رجل من جنسهم ونسبهم بـ {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}؛ أي: بأن خوف الكافرين من عذاب الله؛ أي: لا ينبغي لهم العجب من ذلك؛ لأنه ليس في إيحائنا إلى رجل من جنسهم ما يقتضى العجب، فإنه لا يلابس الجنس ويرشده، ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن، ويتعذر المقصود من الإِرسال حينئذٍ؛ لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإِنساني، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم، أو في الشكل الإِنساني، فلا بد من إنكارهم

لكونه في الأصل غير إنسان، هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وأما إن كان لكونه يتيمًا، أو فقيرًا، فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعًا من خصال الخير والشرف، ما لم يجمعه غيره، وبالغًا في كمال الصفات إلى حد يقصر عنه من كان غنيًّا أو كان غير يتيم. وقد كان لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن يصطفيه الله تعالى بإرساله، من خصال الكمال عند قريش، ما هو أشهر من الشمس، وأظهر من النهار، حتى كانوا يسمونه الأمين. وقرأ ابن مسعود (¬1): {عجب} بالرفع على أن كان تامة وعجب فاعلها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا إلى رجل منهم، ومعنى: كونه للناس عجبًا، أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علمًا لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وقرأ رؤبة: {إِلَى رَجُلٍ} بسكون الجيم، وهي لغة تميمية، يسكنون فعلًا، نحو: سبع وعضد، في سبع وعضد. ولما كان الإنذار عامًّا، كان متعلقه - وهو الناس - عامًّا، ولما كانت البشارة خاصة كان متعلقها خاصًّا، وهو الذين آمنوا. وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} معطوف على {أَنْذِرِ النَّاسَ} والمعنى: أكان للناس عجبًا إيحاؤنا إلى رجل منهم، بأن أنذر (¬2) الناس كافة، وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين، مع التخويف بعاقبة ما هم عليه، من كفر وضلال، وبشر الذين آمنوا منهم بما أوحيناه إليك، بأن لهم قدم صدق؛ أي: أعمالًا صالحةً استوجبوا بها الثواب منه تعالى، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية. وفي "الخازن": واختلفت (¬3) عبارة المفسرين وأهل اللغة في معنى {قَدَمَ صِدْقٍ} فقال ابن عباس: أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم. وقال الضحاك: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

ثواب صدق. وقال مجاهد: الأعمال الصالحة، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس، أنه قال: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، يعني: في اللوح المحفوظ. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول قتادة. وقيل: لهم منزلة رفيعة عند ربهم، وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. والفائدة في هذه الإضافة: التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم؛ لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح، ومثله في مقعد صدق ومدخل صدق. وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر، فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإِسلام وقدم في الخير، ولفلان عندي قدم صدق وقدم سوء. وقال الليث وأبو الهيثم: القدم: السابقة، والمعنى: أنه قد سبق لهم عند الله خير، والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يدًا؛ لأنها تعطى باليد اهـ. وجملة قوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ} مستأنفة (¬1) استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب. وقال القفال: قبله إضمار، تقديره: فلما أتاهم (¬2) بوحي الله وتلاه عليهم، قال الكافرون المتعجبون من إيحاء الله تعالى إليه، المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله: {إِنَّ هَذَا} القرآن الذي جاء به محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، {لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر واضح، يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه. وجعلوه سحرًا؛ لأنه خارق للعادة في تأثيره في القلوب، وجذبه النفوس إلى الإِيمان به، واحتقار الحياة، ولذاتها في سبيل الله. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وخلاصة ذلك: أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، لكنه واضح البطلان في الحقيقة. وقد كذبوا في تسميته سحرًا؛ لأن السحر ما يكون بأسباب خفية يتعلمها بعض الناس من بعض، إما بالحيل والشعوذة، وإما باستخدام خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير، وإما بتأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة وجميعها من الأمور التي يشترك فيها الكثير من العارفين بها، والقرآن ليس بسحر يؤثر بالعلم والصناعة، بل هو أقوال مشتملة على آداب عالية، وتشريع حكيم فيه مصلحة للناس، ولم يكن ليقدر على شيء من مثله، وبهذا ثبت أنه نبي من عند الله تعالى، وأن ما جاء به وحي من لدنه تعالى. قال ابن عطية (¬1): وقولهم في الإنذار والبشارة سحر، إنما هو بسبب أنه: فرق كلمتهم وحال بين القريب وقريبه. فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري: وهذا دليل عجزهم واعترافهم به، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرًا وقرأ (¬2) الجمهور، وأبو عمرو وابن عامر ونافع: {لسحر} إشارة إلى الوحي أو القرآن. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وابن محيصن وابن مسعود وأبو رزين ومسروق وابن جبير ومجاهد وابن وثاب وطلحة وابن كثير وعيسى بن عمرو، بخلاف عنهما {لساحر} إشارة إلى الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وفي مصحف أبيّ {ما هذا إلا سحر}. وقرأ الأعمش أيضًا {ما هذا إلا ساحر}. وحاصل المعنى على القراءة الثانية أعني القراءة على صيغة اسم الفاعل؛ أي (¬3): إن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم، قالوا متعجبين: إن هذا الذي يدعي أنه رسول وهو محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، ساحر ظاهر. وعلى القراءة الأولى، أعني؛ قراءة المصدر؛ أي: إن هذا القرآن لكذب ظاهر ووصف الكفار القرآن بكونه سحرًا، يدل على عظم القرآن عندهم من حيث تعذر المعارضة عليهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[3]

فيه، فأرادوا بهذا الكلام أن القرآن كلام مزخرف، حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، وهذا ذم له، أو أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر وهذا مدح له وإنما لم يؤمنوا به عنادًا. 3 - ثم إن الله سبحانه وتعالى جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار، من الإيحاء إلى رجل منهم فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ} ومالككم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة هو {اللَّهُ}؛ أي: هو المعبود بحق الذي لا يعبد معه سواه {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد {السموات والأرض} واخترعهما على غير مثال سابق {في} مقدار {سِتَّةِ أَيَّامٍ} معلومة التي أولها الأحد، وآخرها الجمعة {ثُمَّ} بعد خلق السموات والأرض {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} العظيم المخلوق قبلهما استواء يليق بعظمته وجلاله، لا يكيف ولا يمثل ولا يعطل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} حالة كونه {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي يدبر أمر ملكوت السموات والأرض ويصرفها على الوجه الأكمل، ويقدرها ويقضيها بحسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به إرادته. أي: من (¬1) كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم، محلًا للتعجب؟ مع كون الكفار يعترفون بذلك، فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول؟. وحاصل المعنى: أي إن (¬2) ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها في ستة أزمنة، قد تم في كل زمن منها، طور من أطوارها، وقدرها بمقادير أرادها، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم، استواء يليق بعظمته وجلاله، حالة كونه يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، واقتضته حكمته من الأحكام، ولا يستنكر من هو رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده، أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه، ما يهديهم به، لما فيه كمالهم من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

عبادته، وشكره، وبذلك تصلح أنفسهم، وتطهر قلوبهم، وتستنير أفئدتهم، لتتم لهم بذلك الحياة السعيدة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، كما لا يستنكر أن هذا الوحي منه عَزَّ وَجَلَّ، إذ هو من كمال تقديره وتدبيره، ولا يقدر عليه سواه. وترك العاطف في قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} لأن جملته كالتفسير والتفصيل لما قبلها. وقيل: هي في محل نصب على الحال من ضمير استوى، كما أشرنا إليه في الحل. وقيل: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها، لتقع على الوجه المقبول، واشتقاقه من الدبر كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. وقال مجاهد معناه: يقضيه ويقدره وحده. وقيل: يبعث الأمر. وقيل: ينزل الأمر. وقيل: يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب، والأمر: الشأن، وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق. وقال أبو السعود: والمراد بالأمر: ملكوت السموات والأرض والعرش، وغير ذلك من الجزئيات الحادثة، شيئًا فشيئًا على أطوار شتى لا تكاد تحصى، اهـ. قال الزجاج (¬1): إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية، كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله. فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه بشيء إلا بعد إذنه؛ لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فقال: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} أي، لا يوجد (¬2) شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، والآية بمعنى، قوله سبحانه؛ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وقد جاء في كتابه تعالى، أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضي له الرحمن، لإيمانه وصالح عمله كما قال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}. وفي هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب، ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعباده المقربين من الملائكة والبشر، يشفعون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[4]

لهم عند الله بما يدفع عنهم الضرر، ويجلب لهم النفع، كما حكى الله تعالى عن عبدة الأصنام قولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وفي هذه العقيدة حجة عليهم؛ إذ يقال لهم: إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أولياء. وعباده المقربين يشفعون لكم بما يقربكم إليه زلفى، وهو قول عليه تعالى بغير علم، فما بالكم تنكرون وتعجبون، أن يوحي إلى من يشاء، ويصطفي من عباده من يعلمهم ما يهديهم إلى العمل الموصل إلى السعادة، والهادي إلى طريق الرشاد. {ذَلِكُمُ} الرب، الموصوف بالصفات السابقة، من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في أمر الشفاعة، يأذن بها لمن يشاء هو {اللَّهُ}؛ أي: المعبود بحق في الوجود {رَبُّكُمْ} المتولي شؤونكم {فَاعْبُدُوهُ}؛ أي: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئًا، ولا تشركوا معه أحدًا، لا في شفاعة، ولا في غيرها، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعًا ولا ضرًّا، بل هو الذي يملك ذلك وحده، وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه، فلا تطلبوا نفعًا ولا ضرًّا إلا بالأسباب التي سخرها لكم، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون، أو يدفع عنكم ما تكرهون وهذه الجملة زيادة تأكيد لقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ والتقريع، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتجهلون هذا الحق الواضح، فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض، وانفرد بتدبير هذا العالم، هو الذي يجب أن يعبد، ولا يعبد سواه، وذلك هو مقتضى الفطرة، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها. 4 - {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ}، أي: رجوعكم أيها الخلائق بالبعث بعد الموت، للمجازاة على أعمالكم؛ أي: إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون {جَمِيعًا} بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه، لا يتخلف منكم أحد، فلا حكم إلا حكمه، ولا نافذ إلا أمره {وَعْدَ اللَّهِ} سبحانه

وتعالى ذلك الرجوع وعدًا {حَقًّا}؛ أي: ثابتًا لا خلف فيه، فهو تأكيد لتأكيد، فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك. وقرأ (¬1) ابن أبي عبلة {حق} بالرفع على الاستئناف، فهو مبتدأ، خبره أنه يبدأ الخلق قاله أبو الفتح، وكون حق خبرًا مقدمًا، {إنه} مبتدأ مؤخرًا، هو الوجه في الإعراب، كما تقول صحيح أنك تخرج؛ لأن اسم إن معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة. {إنه} تعالى {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: المخلوق فالمصدر بمعنى المفعول، وينشئه من العدم المحض حين التكوين، ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ}؛ أي: ينشؤه نشأة أخرى، من العدم بالبعث بعد انحلاله وفنائه {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات على إيمانهم وأعمالهم الصالحة {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل الذي لا جور فيه لا ينقص من أجورهم شيئًا. وقال البيضاوي: قوله: {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بعدله، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ. والجزاء (¬2) بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئًا من فضله، ويضاعف لهم كما وعد على ذلك في آيات أخرى، منها قوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وفي هذه الجملة (¬3) إيماء إلى أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة، هو الإثابة وإيصال الرحمة، وأما عقاب الكفرة، فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم؛ أي: إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل، فيعطي كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله، وهذا المعنى، قد جاء في آيات كثيرة كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} وقوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. والعدل في الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

{بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}. وقد اتفق (¬1) العلماء جميعًا، ماديهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية، قد وجدت بعد أن لم تكن، وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة في أصل مادتها، وهم جميعًا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسها بسًّا، فتكون هباءً منبثًا. وهَا هُوَذَا، قد حمل البدء بالفعل، والإعادة أهون من البدء، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة، كما قال في سورة الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وقرأ (¬2) عبد الله، وأبو جعفر والأعمش وسهل بن شعيب ويزيد بن القعقاع: {أنه يبدأ الخلق} بفتح الهمزة. قال الزمخشري: هو منصوب بالفعل الذي نصب {وعد الله}، والتقدير: وعد الله تعالى بدأ الخلق، ثم إعادته والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه، {وعد الله} على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعًا بما نصب حقًّا؛ أي: حق حقًّا بدء الخلق ثم إعادته كقوله: أَحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ جَائِيَا ... وَلاَ ذَاهِبًا إلَّا عَلَيَّ رَقِيْبُ انتهى. وقال ابن عطية: وموضعها النصب على تقدير، أحق أنه. وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير، لحق إنه قال ابن عطية ويجوز عندي أن يكون أنه بدلًا من قوله: وعد الله وقرأ طلحة: {يبدىء} بضم الياء من أبدأ الرباعي، وبدأ، وأبدأ بمعنى واحد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} باللهِ ورسوله محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}؛ أي: من ماء حار قد انتهى حره {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع يبلغ وجعه إلى قلوبهم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كفرهم بالله ورسوله؛ أي: إن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[5]

الكافرين لهم من الجزاء شراب من حميم يقطع أمعاءهم، وعذاب شديد الألم بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر، المستمرة إلى الموت، كدعاء غير الله تعالى من الأوثان، والأصنام، وسائر المعاصي التي يزينها لهم الشيطان، ويصدهم بها عن الإيمان. وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين، بيان منه، بأنه المقصود بالذات، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري، للذين زكوا أنفسهم، وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم، فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي، ما هو خال من الشوائب التي تخالطه في نعيم الدنيا، ومن النعيم الروحي، وهو رضوان الله الأكبر مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحدٌ، كما قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وجاء في الحديث القدسي "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" رواه البخاري. وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم، وللناس على تدسيتهم لأنفسهم، بالكفر والخطايا، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل، ومقتضى مشيئته تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات. 5 - {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}؛ أي: ذات ضياء أو مضيئة {و} جعل {القمر نورًا} أي: ذا نور أو منيرًا؛ إن ربكم الذي خلق السموات والأرض هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارًا، والقمر منيرًا ليلًا، ودبر أمور معاشكم هذا التدبير البديع، فأجدر به وأولى أن يدبر أمور معادكم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والضوء والنور، بمعنى واحد، لغة، والضوء أقوى من النور، استعمالًا بدليل هذه الآية. وقيل: الضوء: لما كان من ذاته، كالشمس والنار، والنور: لما كان مكتسبًا من غيره ويدل على ذلك قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}. والسراج: نوره من ذاته، والضياء والضوء: ما أضاء لك.

{وَقَدَّرَهُ}؛ أي: وقدر سير القمر في فلكه وجعله {مَنَازِلَ}؛ أي: في منازل وأماكن ينزل فيها كل ليلة في واحد منها، لا يجاوزها ولا يقصر دونها، يرى القمر فيها بالأبصار، وليلة أو ليلتان يحتجب فيهما فلا يرى. ومنازل القمر هي: المسافة التي يقطعها في يوم وليلة، بحركته الخاصة به. وأسماء تلك المنازل هي، السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة والسعد الذابح وسعد البلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يومًا. وهذه المنازل منقسمة على اثني عشر برجًا وهي، الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، لكل برج منها منزلتان وثلث. فيكون إقامة القمر في كل برج ستة وخمسين ساعة وانتقالات الشمس في هذه الأبراج مرتبة على الشهور القبطية، لكن الشهر نصفه الأول من آخر برج، ونصفه الآخر من أول برج آخر، فيكون نصفه الأول من نصف السنبلة الأخير، ونصفه الأخير من نصف الميزان الأول وهكذا، وخص (¬1) القمر بالذكر، وإن كانت الشمس لها منازل أيضًا؛ لأن سير القمر في المنازل أسرع، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين؛ لأن المعتبر في مثل الصيام والحج السنة القمرية، لا الشمسية. وفي "الخازن" قوله {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} قيل: الضمير (¬2) في قدره يرجع إلى الشمس والقمر، والمعنى: وقدر لهما منازل، أو وقدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير، ولا يقصران عنها وإنما وحد الضمير في وقدره للإيجاز، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، فهو كقوله تعالى؛ {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وقيل: الضمير في {وَقَدَّرَهُ} يرجع للقمر فقط؛ لأن سير القمر في المنازل أسرع، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين، وذلك؛ لأن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشرع هي السنة القمرية لا الشمسية اهـ. ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الخازن.

ثم ذكر سبحانه بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير فقال: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ}؛ أي: قدر هذه المنازل لتعلموا بها، أيها العباد، عدد السنين والأعوام وقت دخولها وانقضائها {و} لتعلموا {الحساب} أي: حساب الشهور والأيام والساعات، ونقصانها وزيادتها، فيمكنكم ترتيب مهمات المعاش، من الزراعة والحراثة، ومهمات الشتاء والصيف. فإن (¬1) في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية؛ والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى، ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه .. لم يعلم الناس بذلك، ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم، والسنة تتحصل من اثني عشر شهرًا، والشهر يتحصل من ثلاثين يومًا، إن كان كاملًا، واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي: أربع وعشرون ساعة للَّيل والنهار، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة والنقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف. والمعنى: قدره منازل لتعلموا بتلك المنازل حساب الأوقات، من الأشهر والأيام، لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية، ولولا هذا النظام المشاهد .. لتعذر العلم بذلك على الأميين، من أهل البدو والحضر، إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري، الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، ولعبادتي الصوم والحج حكمة أخرى وهي: دورانهما في جميع فصول السنة، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة وطويلة وقصير ومعتدلة. {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} المذكور من جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وتقديره: منازل {إِلَّا} خلقًا ملابسًا {بِالْحَقِّ} والصواب والحكمة البالغة ومطابقة المصلحة في أمور المعاملات، والعبادات، ولم يخلق ذلك باطلًا ولا عبثًا؛ أي: ما خلق ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[6]

الله الشمس (¬1) ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لها، فتنبعث الحرارة في جميع الأحياء، وبها يبصر الناس جميع المبصرات، ويقومون بأمور معايشهم وسائر شؤونهم، وما خلق الله القمر ذا نور مستمد من الشمس، تنتفع به السيارة في سيرهم، وقدره منازل يعرف بها الناس السنين والشهور، ما خلق ذلك إلا خلقًا مقترنًا بالحق، الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم، فلا عبث فيه ولا خلل. فكيف يعقل بعد هذا أن يخلق هذا الإنسان ويعلمه البيان، ويعطيه من كمال الاستعداد ما لم يعط غيره، ثم يتركه بعد ذلك سدًى يموت ويفنى ولا يعاد ويبعث لتجزى كل نفس بما كسبت، فيُجزى المتقون بصالح أعمالهم، والمشركون والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم؟ كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}. {يُفَصِّلُ} الله سبحانه وتعالى ويبين {الْآيَاتِ}؛ أي: دلائل قدرته ووحدانيته على لسان رسوله {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها، من الوحدانية وكمال القدرة والعلم؛ أي: يبين الدلائل من حكم الخلق على رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، مفصلة منوعة، من كونية وعقلية، لقوم يعلمون دلالة الأدلة، ويميزون بين الحق والباطل، باستعمال عقولهم في فهم تلك الآيات، فيجزمون بأن من خلق النيرين على هذا النظام البديع لا يمكن أن يخلق الإنسان سدًى. وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم؛ لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح. وقرأ قنبل (¬2) {ضئاء} هنا وفي الأنبياء والقصص، بهمزة قبل الألف، بدل الياء. وقرأ ابن مصرف: {وَالْحِسَابَ} بفتح الحاء، ورواه أبو توبة: عن العرب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: {يفصل} بالياء جريًا على لفظة الله، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات، والإخبار بنون العظمة. 6 - {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}؛ أي: في تعاقبهما، أو في تفاوتهما بازدياد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[7]

وانتقاص، أو في تفاوتهما بحسب الأمكنة في الطول والقصر {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من أنواع الموجودات {لَآيَاتٍ}؛ أي: لعلامات دالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} الله تعالى، بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وخص العلامات بالمتقين؛ لأن الداعي إلى التدبر والنظر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة؛ أي: إن في اختلاف الليل والنهار وحدوثهما وتعاقبهما بمجيء كل منهما خلفة للآخر، وفي طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس وما لهما من نظام دقيق، بحسب حركة الشمس اليومية والسنوية، وفي طبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون، وعمل دنيوي وديني {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} من أحوال الجماد والنبات والحيوان، ويدخل في ذلك أحوال الرعود والبروق والسحاب والأمطار وأحوال البحار، من مد وجزر، وأحوال المعادن العجيبة في تركيبها، وأوضاعها المختلفة إلى نحو ذلك. {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}؛ أي: لدلائل (¬1) عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته، وحكمته في الإبداع والإتقان، وفي تشريع العقائد والأحكام {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} مخالفة سننه تعالى في التكوين، وسننه في التشريع، فلله سنن في حفظ الصحة، من خالفها مرض، وله سنن في تزكية الأنفس، من خالفها، وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، جوزي على ذلك في الآخرة أشد الجزاء. 7 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}؛ أي: لا يخافون لقاءنا يوم القيامة لتكذيبهم بالبعث والمجازاة، فهم مكذبون بالثواب والعقاب، أو لا يطمعون ثوابنا؛ لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} واختاروها بدل الآخرة، وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}؛ أي: سكنوا ومالوا إليها مطمئنين فيها. وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار، من الميل إلى الدنيا ولذاتها، أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم. والمعنى؛ أي: إن الذين لا يتوقعون ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

لقاءنا في الآخرة للحساب، والجزاء على الأعمال لإنكارهم للبعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدلًا من الآخرة، فقصروا كل همهم من الحياة على الحصول على أغراضهم منها، وسكنت نفوسهم إلى شهواتها ولذاتها. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا} ودلائل قدرتنا {غَافِلُونَ}؛ أي: ساهون ومعرضون عنها، فلا يتدبرون منها ما نزل على رسولنا، وما حوته من عبر ومواعظ ومعاد وحكم، ولا يتفكرون في أحوال الكون وما فيها من حكمته وسننه في الخلق، وبهذا شاركوا الفريق الأول في الشغل بالدنيا عن الآخرة، ومن ثم لم يستعدوا لحسابنا وما يعقبه من نعيم مقيم، وعذاب أليم. والعطف (¬1) إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسًا والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلًا، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين، من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والاستعداد له. 8 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة {مَأْوَاهُمُ} ومسكنهم في الآخرة {النَّار} جزاء {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: جزاءً على ما كانوا يقترفون من السيئات طول حياتهم، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية، وظلمات الشهوات الحيوانية، فلم يبق لنور الحق والخير مكان فيها، ومن ثم لا يجدون ملجأً بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب. 9 - وبعد (¬2) أن أبان جزاء الفريق الأول .. كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار، وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى، ولسانهم مشغول بذكر الله {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}؛ أي: يهديهم إلى الجنة ثوابًا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، وإنما لم يذكر الجنة تعويلًا على ظهورها، ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

[10]

وانسياق النفس إليها كما ذكره "أبو السعود"؛ أي: إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به، ولم يغفلوا عن الآيات التي غفل عنها الغافلون، ورجوا لقاء ربهم، وخافوا حسابه وعقابه يهديهم ربهم بسبب إيمانهم إلى صراطه المستقيم في كل ما يعملون، وينتهي بهم ذلك إلى دخول الجنة التي أعدها لعباده المخبتين، وفي هذا إيماء إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الهداية والفوز برفيع الدرجات والوصول إلى أقصى الغايات. وقوله: {تجري} وتسيل {مِنْ تَحْتِهِمُ}؛ أي: من تحت قصورهم وأشجارهم {الْأَنْهَار} الأربعة الماء واللبن والخمر والعسل، جملة مستأنفة أو خبر ثانٍ؛ لأن، أو: حال من مفعول يهديهم. وقوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} خبر آخر، أو حال أخرى من الأنهار أو متعلق بتجري؛ أي: إنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار التي تجري من بين أيديهم. 10 - {دَعْوَاهُمْ}؛ أي: دعاؤهم ونداؤهم {فِيهَا}؛ أي: في الجنة {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}؛ أي: نسبحك يا الله تسبيحًا، ونقدسك تقديسًا من كل النقائص {وَتَحِيَّتُهُمْ}؛ أي: تحية بعضهم لبعض {فِيهَا}؛ أي: في الجنة؛ أي: أو تحية الله، أو الملائكة لهم فيها {سَلَامٌ}؛ أي: قول سلام عليكم، الدال على السلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ}؛ أي: وخاتمة دعائهم وثنائهم الذي هو التسبيح {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أن يقولوا الحمد لله رب العالمين؛ أي: خاتمة تسبيحهم في كل مجلس، أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين لا أن معناه: انقطاعه؛ أي: الحمد، فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها، اهـ "كرخي". أي (¬1): أن أهل الجنة لما عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات، والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية إنما كانت بإحسان الله تعالى عليهم، فاشتغلوا بالثناء على الله تعالى، فقالوا الحمد لله رب العالمين وإنما وقع ¬

_ (¬1) المراح.

الختم على الحمد؛ لأن الاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة. والمعنى: أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله، ووجدوا فيها النعم العظيمة، وعرفوا أنه تعالى كان صادقًا في وعده إياهم بتلك النعم، مجدوه تعالى، ونعتوه بنعوت الجلال، فقالوا سبحانك اللهم؛ أي: نسبحك عن الخلف في الوعد، والكذب في القول، وعما لا يليق بحضرتك العلية، ولما حياهم الله والملائكة بالسلامة عن الآفات، وبالفوز بأنواع الكرامات .. أثنوا عليه تعالى بصفات الإكرام. وهذه (¬1) التحية تكون منه عَزَّ وَجَلَّ حين لقائه، كما قال الذي سورة الأحزاب: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ومن الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وتكون منهم بعضهم لبعض كما قال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}. وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كما أنه أول ثناء عليه، حين دخولها كما قال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فعلى كل مؤمن أن يستعد لها بتزكية نفسه، وترقية روحه، ويعلم أنه لن يكون أهلًا لها إلا بالعمل، ومجاهدة النفس والهوى، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}. وقال أهل (¬2) التفسير: كلمة {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} علامة بين أهل الجنة والخدم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

في الطعام، فإذا أرادوا الطعام قالوا: سبحانك اللهم، فيأتونهم في الوقت، بما يشتهون على الموائد، كل مائدة: ميل في ميل على كل مائدة: سبعون ألف صحيفة، في كل صحيفة: لون من الطعام، لا يشبه بعضها بعضًا، فإذا فرغوا من الطعام، حمدوا الله عَزَّ وَجَلَّ على ما أعطاهم، فذلك قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقيل: إن المراد بقوله: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد، والتقديس لله عَزَّ وَجَلَّ، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم، وابتهاجهم، وكمال لذتهم، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يشغلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون"، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" وفي رواية "التسبيح والحمد" أخرجه مسلم. قوله: جشاء؛ أي: يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقًا. وقال الزجاج: أعلم الله أن أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه، انتهى. وقرأ (¬1) عكرمة، ومجاهد وقتادة وابن يعمر وبلال بن أبي بردة وأبو مجلز وأبو حيوة وابن محيصن، ويعقوب: {إن الحمد لله} بالتشديد ونصب الحمد. قال ابن جني: ودلت قراءة الجمهور بالتخفيف ورفع الحمد على أن {أن} هي المخففة كقول الأعشى: فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوْفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوْا ... إِن هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحَفَى وَينْتَعِلُ يريد إنه هالك، فإذا خففت لم تعمل في غير ضمير شأن محذوف. ونزل لما استعجل المشركون رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم، كما حكى الله عنهم في نحو قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[11]

وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} وقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. 11 - قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ}؛ أي: ولو يعجل الله سبحانه وتعالى للناس إجابة الدعاء في طلب الشر، وفيما عليهم فيه مضرة في نفس، أو مال، أو ولد عند الغضب، أو الضمير من البلاء {اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ}؛ أي: تعجيلًا مثل استعجالهم إجابة الدعاء في طلب الخير، الذي يدعونه من الله، أو حصول الخير الذي يرجونه بعلاج الأسباب، التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}؛ أي: لحكم عليهم حلول أجلهم قبل أوانه، ووقته الطبيعي وفرغ من هلاكهم وماتوا جميعًا كما هلك الذين كذّبوا الرسل من قبلهم، واستعجلوهم بالعذاب، ولكن الله أرحم بهم من أنفسهم. وقد بعث محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، بالهداية الدائمة، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب، ويحملوا دينهم إلى العجم، وأنه يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا، بما فيه تأديب لهم، كما بين ذلك بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الخ. وقال ابن قتيبة (¬1): إن الناس عند الغضب والضجر، قد يدعون على أنفهسم وأهلهم وأولادهم، بالموت وتعجيل البلاء، كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير .. لقضى إليهم أجلهم، يعني: لفرغ من هلاكهم، ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير، ولا يستجيب له في الشر. وقرأ ابن عامر (¬2): {لقضى} مبنيًّا للفاعل {أجلهم} بالنصب. وقرأ الأعمش {لقضينا} وباقي السبعة مبنيًّا للمفعول {وأجلهم} بالرفع. وقوله: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[12]

{فنذر الذين لا يرجون لقائنا} معطوف (¬1) على فعل محذوف، دلت عليه الشرطية تقديره: ولكن لا نعجل ولا نقضي، فنذرهم ونتركهم إمهالًا لهم واستدراجًا بهم؛ أي: فنترك الذين لا يخافون عقابنا، ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت، {فِي طُغْيَانِهِمْ} وتمردهم وعتوهم وضلالتهم حالة كونهم {يَعْمَهُونَ} ويترددون ويتحيرون فيها. روى الشيخان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم إني اتخذت عندك عهدًا، لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة، واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة". وحاصل المعنى (¬2): أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكره، فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلًا للخروج منه، ولا نعجل لهم العذاب في الدنيا بالاستئصال، حتى يأتي أمر الله في جماعتهم بنصر رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، عليهم وفي أفرادهم بقتل بعضهم، وموت بعض، ومأواهم النار وبئس القرار، إلا من تاب وآمن منهم. وقد يكون المراد ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه، بما يقترفونه من ظلم وفساد في الأرض، لأهلكهم كما جاء في قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب، كما قال: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}؛ أي: وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه بسننه في خلقه، إلا في ضياع، لا يستجيبه الله لهم، لحلمه عليهم ورحمته بهم. 12 - ثم بين الله سبحانه وتعالى أنهم كاذبون في استعجال الشر، ولو أصابهم ما طلبوه .. لأظهروا العجز والجزع فقال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: إذا أصاب جنس الإنسان، مسلمًا كان أو كافرًا. وقيل: المراد به، الكافر {الضُّرُّ}؛ أي: ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

الشدة والجهد والمشقة والفقر والمرض، وهو كل ما يشعر فيه شدة ألم، أو فيه خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال {دَعَانَا} في كشفه وإزالته، ملحًا في الدعاء حالة كونه مضطجعًا {لِجَنْبِهِ}؛ أي: على جنبه وشقه {أَوْ} حالة كونه {قَاعِدًا} على إسته {أَوْ} حالة كونه {قَائِمًا} على قدميه حائرًا في أمره، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه ما دام يشعر بمس الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه. والمعنى: إن المضرور لا يزال داعيًا في جميع حالاته إلى أن ينكشف ضره، سواء كان مضطجعًا أو قاعدًا، أو قائمًا، وإنما خص هذه الحالات الثلاث؛ لأن الإنسان لا ينفك عن إحدى هذه الحالات غالبًا، وما عداها نادر، كالركوع والسجود، وقدم منها، ما يكون الإنسان فيه أشد عجزًا، وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى، ثم التي تليها ثم التي تليها. {فَلَمَّا كَشَفْنَا} وأزلنا {عَنْهُ ضُرَّهُ} وجهده الذي دعانا إليه، حال شعوره بعجزه، عن كشفه بنفسه، أو بغيره من الأسباب {مَرَّ} ومضى واستمر في طريقته التي كان عليها قبل مس الضر، من الغفلة عن ربه، والكفر به {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}؛ أي: وكان كأنه لم يدعنا إلى كشف ضر، وجهد مسّه، وأصابه ولم نكشف عنه ضرًّا. والمعنى: أنه استمر على حالته الأولى، قبل أن يمسه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر، وهذه (¬1) الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين، تلين ألسنتهم بالدعاء، وقلوبهم بالخشوع والتذلل، عند نزول ما يكرهون بهم، فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء، والتضرع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم، من إجابة دعائهم، ورفع ما نزل بهم من الضر، ودفع ما أصابهم من المكروه، وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان، اللهم أوزعنا شكر نعمتك، وأذْكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء، حتى نستكثر من الشكر ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الذي لا نطيق سواه، ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. وهذه الآية (¬1)، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء، مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا مجتهدًا في ذلك الدعاء، طالبًا من الله تعالى إزالة تلك المحنة وتبديلها بالمنحة، فإذا كشف الله تعالى عنه بالعافية، أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر، ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره، فالواجب على العاقل أن يكون صابرًا عند نزول البلاء، شاكرًا عند الفوز بالنعماء، وأن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية، حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة. وعن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء". والإشارة (¬2) بقوله: {كَذَلِكَ} إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مر غير مرة؛ أي: مثل ذلك التزيين العجيب الذي حصل لمن مسه الضر {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: زين لهم عملهم الخبيث، والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، وشرعًا من باع دينه بدنياه واستبدلها عن آخرته. والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريق التحلية وعدم اللطف بهم، أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء. والمعنى: أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء، والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات. وعبارة الجلال {كَذَلِكَ}؛ أي: كما زين له الدعاء عند الضر، والإعراض عند الرخاء {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ}؛ أي: للمشركين {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء، زين للمسرفين المتجاوزين الحد في الإجرام والإشراك، ما كانوا يعملون من الإعراض عن الشكر والإيمان ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

والانهماك في الشرك والمعاصي. وعبارة المراغي؛ أي: مثل هذا الطريق من معرفة الله، والإخلاص في دعائه وحده في الشدة ونسيانه والكفر به، بعد كشفها زين للمشركين، من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك، حتى بلغ من عنادهم للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب، أن استعجلوه به، فقالوا: اللهم ربنا أمطر علينا حجارة من السماء انتهت. الإعراب {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}. {الر}: ليس بمعرب ولا مبني، فلا محل له من الإعراب، إن قلنا: إنه مما استأثر الله تعالى بعلمه؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، وإن قلنا: إنه علم للسورة .. فتجري فيه الأوجه الخمسة، أو السبعة التي تجري، في أسماء التراجم، ولكن إعرابه لا يظهر لتعذره بسكون الوقف. {تِلْكَ}: مبتدأ {آيَاتُ الْكِتَابِ}: خبر ومضاف إليه. {الْحَكِيمِ} صفة للكتاب والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {أَكَانَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص. {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {عَجَبًا} أو حال منه؛ لأن التقدير: أكان عجبًا للناس، أو متعلق بـ {كَانَ} كما ذكره: أبو البقاء. {عَجَبًا} خبر {كَانَ} مقدم على اسمه {أَنْ أَوْحَيْنَا} ناصب وفعل وفاعل {إِلَى رَجُلٍ}: متعلق به {مِنْهُمْ} صفة لرجل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، تقديره: أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم عجبًا للناس، وجملة {كَانَ} جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}: {أَنْ} مصدرية، أو مفسرة بمعنى: أي {أَنْذِرِ النَّاسَ}: فعل أمر، ومفعول في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على {رَجُلٍ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب بـ {أَوْحَيْنَا} تقديره: أن أوحينا إلى رجل منهم إنذار الناس، أو الجملة مفسرة {لأوحينا} لا محل لها من الإعراب، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ} فعل ومفعول، معطوف على {أَنْ أَنْذِرِ}

على كلا التقديرين، وفاعله ضمير يعود على {رَجُلٍ} {آمَنُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر {أَنَّ} مقدم على اسمها. {قَدَمَ صِدْقٍ} اسمها مؤخر. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف ومضاف إليه، حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة؛ لأن حذف الجار، مطرد مع، أن، وأن، تقديره: وبشر الذين آمنوا، بكون قدم صدق كائنًا لهم حالة كونه كائنًا عند ربهم، والباء المحذوفة متعلقة بـ {بَشِّر} {قَالَ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {إِنَّ هَذَا} ناصب واسمه {لَسَاحِرٌ} خبر {إِنَّ} واللام حرف ابتداء {مُبِينٌ} صفة {سَاحِرٌ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}. {إِنَّ رَبَّكُمُ}: ناصب واسمه {اللَّهُ}: خبره والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السموات} {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بخلق. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف {اسْتَوَى} فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة خلق {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب، حال من فاعل {اسْتَوَى} أو في محل الرفع خبر ثانٍ؛ لـ {إن}، أو، مستأنفة لا محل لها من الإعراب، كما ذكره في "الفتوحات" {مَا مِنْ شَفِيعٍ} {مَا}: نافية. {مِنْ}: زائدة {شَفِيعٍ}: مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة دخول {مِنْ} الاستغراقية عليه {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {ذَلِكُمُ}: مبتدأ {اللَّهُ}: خبره {رَبُّكُمْ}: بدل من الجلالة، أو خبر

ثانٍ لاسم الإشارة، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {فَاعْبُدُوهُ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره؛ إذا عرفتم أيها العباد ذلكم الله ربكم وأردتم بيان ما هو الواجب عليكم: فأقول لكم {اعبدوه} {اعبدوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول، لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {أَفَلَا}: الهمزة: للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. {لَا}: نافية، {تَذَكَّرُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، تقديره: أتجهلون هذا الحق الواضح فلا تذكرون، والجملة المحذوفة مستأنفة. {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور، خبر مقدم {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه {جَمِيعًا}: حال من ضمير، المخاطبين، والجملة مستأنفة. {وَعْدَ اللَّهِ}: منصوب على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره: وعدكم بالرجوع إليه وعدًا، والجملة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها. {حَقًّا}: منصوب أيضًا على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره، حق ذلك الوعد حقًّا، والجملة مؤكدة لـ {وَعْدَ اللَّهِ} وفي "الفتوحات" قوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} مصدران منصوبان بفعلهما المقدر؛ أي: وعدكم بالرجوع إليه وعدا، وحق ذلك الوعد حقًّا، لكن الأول مؤكد لنفسه؛ لأن قوله: إليه مرجعكم جميعًا، صريح في الوعد لا يحتمل غيره، والثاني مؤكد لغيره، فإن الوعد يحتمل الحق وغيره، اهـ "بيضاوي"، وفي "زاده" المصدر إذا أكد مضمون جملة تدل على معناه، فإن كان نصًّا فيه لا تحتمل غيره .. فهو مؤكد لنفسه، كما هنا فإن إليه مرجعكم لا يحتمل غير الوعد، وإن احتملته وغيره كان مؤكدًا لغيره، مثل {حَقًّا} فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف، والعامل فيهما محذوف اهـ {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر {إِنّ} وجملة {إِنَّ}

مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، هذا على قراءة كسر همزة إن وأما على فتحها فعلى تقدير لام التعليل. وجملة قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} معطوفة على جملة {يَبْدَأُ} على كونها خبرًا لـ {إِنَّ}. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ} فعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لجزائه الذين آمنوا الجار والمجرور متعلق بـ {يعيده} {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} {بِالْقِسْطِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَجْزِيَ}. وفي "السمين" ويجوز أن يكون قوله: {بِالْقِسْطِ} حالًا إما من الفاعل، وإما من المفعول؛ أي: يجزيهم ملتبسًا بالحق، أو ملتبسين به، والقسط: العدل اهـ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول. وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول ويجوز أن يكون الموصول في محل النصب، معطوفًا على الموصول قبله، وتكون الجملة بعده مبينة لجزائهم. {لَهُمْ}: خبر مقدم {شَرَابٌ}: مبتدأ ثانٍ مؤخر. {مِنْ حَمِيمٍ}: صفة لشراب. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ}: معطوف على شراب، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مستأنفة {بِمَا}، الباء: حرف جر {مَا}: مصدرية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَكْفُرُونَ} خبره وجملة {كَان} في تأويل مصدر، مجرور بالباء تقديره.: لهم شراب من حميم، بسبب كفرهم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار، الذي تعلق به الخبر. وقال أبو البقاء: الجار والمجرور في قوله: {بِمَا كَانُوا} في موضع رفع صفة أخرى لعذاب، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اهـ. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}: فعل ومفعولان، {وَالْقَمَرَ نُورًا}: معطوف على المفعولين، وفاعله ضمير على {اللَّهِ} والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَقَدَّرَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير

يعود على {الله} والجملة معطوفة على جملة {جَعَلَ} {مَنَازِلَ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {قدر} {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ}: فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة، بعد لام كي {وَالْحِسَابَ}: معطوف على {عَدَدَ السِّنِينَ} والجملة في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، الجار والمجرور متعلق {بقدر} {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ}: ذلك فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَ}. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} والجملة مستأنفة {لِقَوْمٍ} متعلق بـ {يُفَصِّلُ} وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة لقوم. {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}. {إِنَّ} حرف نصب. {فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم لـ {إِنَّ} {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {اللَّيْلِ} {وَمَا} في محل الجر معطوف على اختلاف الليل {خَلَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق به {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السموات} والجمله الفعلية صلة لما، أو صفة لها والعائد أو الرابط، محذوف تقديره: وما خلقه الله {لَآيَاتٍ} اسم {إِنَّ} مؤخر واللام حرف ابتداء {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَاتٍ} {يَتَّقُونَ}: صفة {لِقَوْمٍ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)}. {إِنَّ} حرف نصب {الَّذِينَ} اسمها. {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {وَرَضُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {لَا يَرْجُونَ} {بِالْحَيَاةِ} متعلق بـ {رضوا} {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الحياة} {وَاطْمَأَنُّوا}: فعل وفاعل، معطوف على {رضوا} {بِهَا}: متعلق بـ {اطْمَأَنُّوا} {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول {هُمْ}: مبتدأ {عَنْ آيَاتِنَا}: متعلق بـ {غَافِلُونَ}. {غَافِلُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول.

{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}. {أُولَئِكَ}، مبتدأ أول {مَأْوَاهُمُ} مبتدأ ثانٍ. {النَّارُ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من الأول وخبره خبر، لـ {إن} وجملة {إن} مستأنفة {بِمَا كَانُوا}: الباء حرف جر وسبب {ما}: موصولة أو موصوفة أو مصدرية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره وجملة {كَانَ} صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما كانوا يكسبونه، أو صلة لـ {ما} المصدرية تقديره: بكسبهم، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، دل عليه الكلام، تقديره: جوزوا ذلك بما كانوا يكسبون، ذكره أبو البقاء. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}. {إِنَّ} حرف نصب {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} {يَهْدِيهِمْ}: فعل ومفعول وفاعل {بِإِيمَانِهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة {تَجْرِي}: فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهِمُ}: متعلق به {الْأَنْهَارُ}، فاعل والجملة في محل الرفع خبر ثانٍ لـ {إن} أو مستأنفة أو حال من مفعول {يَهْدِيهِمْ} كما في "أبي السعود" {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: جار ومجرور خبر ثالث لـ {إن} أو حال ثانية من مفعول {يَهْدِيهِمْ}، أو حال من {الْأَنْهَارُ} أو متعلق بـ {تَجْرِي}: كما في "الخازن". {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}. {دَعْوَاهُمْ} مبتدأ ومضاف إليه {فِيهَا}: جار ومجرور حال من ضمير {دَعْوَاهُمْ}. {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}: خبر محكي؛ أي: دعواهم هذا اللفظ، والجملة مستأنفة {وَتَحِيَّتُهُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} هو حال من ضمير {تحيتهم} {سَلَامٌ}: خبر والجملة معطوفة على جملة قوله: {دَعْوَاهُمْ} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ}: مبتدأ، ومضاف إليه {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}:

مبتدأ وخبر {رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ صفة للجلالة، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة وجملة {أَن} المخففة في محل الرفع خبر المبتدأ. {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية {لو}: حرف شرط غير جازم {يُعَجِّلُ اللَّهُ}: فعل وفاعل {لِلنَّاسِ}: متعلق به {الشَّرَّ} مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب {اسْتِعْجَالَهُمْ} منصوب على المصدر التشبيهي، تقديره: تعجيلًا مثل استعجالهم، ثم حذف الموصوف وهو تعجيل، وأقيمت صفته مقامه وهي مثل فبقي ولو يعجل الله للناس مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه فصار استعجالهم. {بِالْخَيْرِ}: متعلق به {لَقُضِيَ} اللام رابطة لجواب {لو} الشرطية. {إِلَيْهِمْ} متلعق به {أَجَلُهُمْ} نائب فاعل {لقضي} وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. {فَنَذَرُ}: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: ولكن نمهل، ولا نقضي إليهم أجلهم {نذر الذين}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اَللهِ} والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} فعل وفاعل ومفعول {فِي طُغْيَانِهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. وجملة {يَعْمَهُونَ} في محل النصب، حال من ضمير طغيانهم. {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية {إذا} ظرفية شرطية {مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {دَعَانَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إذا} مستأنفة {لِجَنْبِهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {دَعَانَا} تقديره: دعانا حالة كونه مضطجعًا على جنبه {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}: معطوفان على تلك الحال

المحذوفة. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {فَلَمَّا}: الفاء: عاطفة {لما}: حرف شرط غير جازم {كَشَفْنَا} فعل وفاعل {عَنْهُ}: متعلق به {ضُرَّهُ} مفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب {مَرَّ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانَ} والجملة جواب {لما} وجملة {لما} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة {إذا} {كَأَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: كأنه {لَمْ يَدْعُنَا}: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانَ} {إِلَى ضُرٍّ}: متعلق به. وجملة {مَسَّهُ} صفة لضر، وجملة {يَدْعُنَا} في محل الرفع خبر، {كَأَنْ} وجملة {كَأَنْ} في محل النصب، حال من فاعل مر، تقديره: استمر هو على كفره حالة كونه مشبهًا بمن {لَمْ يَدْعُنَا} أصلًا؛ أي: رجع إلى حالته الأولى، وترك الالتجاء إلى ربه {كَذَلِكَ}: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف منصوب بـ {ما} بعده تقديره: تزيينًا مثل ذلك التزيين الذي حصل لمن مسه الضر {زُيِّنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِلْمُسْرِفِينَ}: متعلق به {مَا كَانُوا}: ما موصولة أو موصوفة، في محل الرفع نائب فاعل، لـ {زُيِّنَ} أو مصدرية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كَان} صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه، أو صلة ما المصدرية تقديره، كذلك زين للمسرفين عملهم الخبيث وجملة زين مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} {الْكِتَابِ}: هو القرآن العظيم و {الْحَكِيمِ}: ذو الحكمة، لاشتمال الكتاب عليها {عَجَبًا}: وفي "المختار"، والعجب: مصدر عجيب من باب طرب، وتعجب واستعجب بمعنى، وعجب غيره تعجيبًا، والعجب والعجاب: الشيء الذي يتعجب منه، وكذا العجاب بتشديد الجيم، وهو الأكثر وكذا الأعجوبة {أَنْ أَوْحَيْنَا}: والوحي الإعلام الخفي لامرىء بما يخفى على

غيره. {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف {وَبَشِّرِ} التبشير: الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء {قَدَمَ صِدْقٍ} والصدق (¬1): يكون في الأقوال، ويستعمل في الأفعال، فيقال: صدق في القتال، إذا وفاه حقه، وكذب فيه إذا لم يفعل ذلك، ويطلق على الإيمان والوفاء وسائر الفضائل، وجاء في التنزيل {مَقْعَدِ صِدْقٍ} و {مُدْخَلَ صِدْقٍ} و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} و {قَدَمَ صِدْقٍ} ويراد بالقدم هنا: السابقة والتقدم، والمنزلة الرفيعة. قال (¬2) الليث وأبو الهيثم: القدم: السابقة. قال ذو الرمة: وَأَنْتَ امْرُؤٌ مِنْ أَهْلِ بَيتِ دُؤَابَةٍ ... لَهُمْ قَدَمٌ مَعْرُوْفَةٌ وَمَفَاخِرُ وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر، فهو قدم. وقال الأخفش: سابقة إخلاص، كما في قول حسان: لَنَا الْقَدَمُ اَلْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا ... لأوَّلِنَا في طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ وقال أحمد بن يحيى: كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. {لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}؛ أي: يؤثر في القلوب، ويجذب النفوس فهو جار مجرى السحر. {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر واضح {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} العرش: مركز التدبير، ولا نعلم كنهه ولا صفته {يُدَبِّرُ الْأَمْر} والتدبير: النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود، وتدبير الأمر أو القول هو التفكر فيما وراءه، وما يراد منه وينتهي إليه {بِالْقِسْطِ} والقسط: العدل {مِنْ حَمِيمٍ} والحميم: الماء الشديد الحرارة. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} والشمس: كوكب نهاري يزيل ظهوره ظلمة الليل، ولها السلطنة على سائر الكواكب. والقمر: كوكب ليلي له السلطنة على سائر النجوم. والضوء: ما كان من ذاته. والنور: ما كان مكتسبًا من غيره كما مر. والضياء: يحتمل كونه مصدرًا، وكونه جمع ضوء، كسوط وسياط {مَنَازِلَ}: جمع منزل، وهو اسم لمكان النزول {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقال (¬1) في "المصباح": رجوته أملته أو أردته، قال تعالى {لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}؛ أي: لا يريدونه. ويستعمل بمعنى، الخوف؛ لأن الراجي يخاف أن لا يدرك ما يرجوه. وقيل: الرَّجاء مجرد التوقع الذي يشمل ما يسر وما يسوء. واللقاء: الاستقبال والمواجهة {واطمأنوا} والاطمئنان سكون النفس إلى الشيء وارتياحها به {مَأْوَاهُمُ النَّارُ} والمأوى: الملجأ الذي يأوي إليه المتعب، أو الخائف، أو المحتاج من مكان آمن، أو إنسان نافع. وقد أطلق على الجنة في ثلاث آيات، وعلى النار في بضع عشرة آية. {دَعْوَاهُمْ} والدعوى، مصدر بمعنى الدعاء، وهو للناس النداء، والطلب المعتاد بينهم في دائرة الأسباب المسخرة لهم، ولله هو دعاؤه وسؤاله، والرغبة فيما عنده مع الشعور بالحاجة إليه، والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه، من دفع ضر أو جلب نفع {سُبْحَانَكَ}؛ أي: تنزيهًا لك وتقديسًا، وهو اسم مصدر، لسبح تسبيحًا. {وَتَحِيَّتُهُمْ} والتحية: التكرمة بقولهم: حياك الله؛ أي: أطال عمرك وحياتك. وفي "الفتوحات" التحية: التكرمة بالحالة الجليلة، أصلها: أحياك الله حياة طيبة؛ أي: ما يحيي به بعضهم بعضًا، فعلى هذا فهو مصدر مضاف لفاعله، أو تحية الملائكة إياهم كما في قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أو تحية الله لهم، كما في قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} وعلى هذين الأخيرين، فهو مصدر مضاف لمفعوله كما في "الشهاب" {سَلَامٌ}؛ أي سلامة من كل مكروه {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} عجل يعجل تعجيلًا، من باب فعل الرباعي، والاستعجال: مصدر استعجل السداسي، وتعجيل الشيء تقديمه على أوانه المقدر له، أو الموعود به. والاستعجال به طلب التعجيل له. والعجلة من غرائز الإنسان، كما قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه، بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، أو للنجاة مما هو شر منه وقال الزمخشري (¬2): أصله: ولو يعجل الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

للناس الشر تعجيله لهم بالخير، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله بالخير، إشعارًا بسرعة إجابته لهم، وإسعافه بطلبتهم، فإن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. قال الشيخ (¬1): عجل مدلوله: غير مدلول استعجل؛ لأن عجل يدل على الوقوع، واستعجل يدل على طلب التعجيل، وذاك واقع من الله تعالى، وهذا مضاف إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري. {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُم} وقضاء الأجل: انتهاؤه، والأجل: المدة التي أجلها الله لعباده في دار الفناء. {ونذر}: نترك، والطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان، والعمه: التردد والتحير في الأمر أو الشر {مَرَّ}؛ أي: مضى في طريقته التي كان عليها من الكفر بربه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا وضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا}. ومنها: الطباق بين {أَنْذِر} و {وَبَشِّرِ}. ومنها: المبالغة في المدح في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} لأن الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، ففائدة هذه الإضافة عندهم التنبيه على زيادة الفضل، ومدح القدم؛ لأن كل شيء أضيف إلى الصدق، فهو ممدوح، وفيه أيضًا المجاز المرسل؛ حيث أطلق القدم الذي هو سبب في السبق، وأراد به السابقة في الخير، والعلاقة السببية. ومنها: إطلاق المضارع، بمعنى: الماضي في قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} استحضارًا للصورة الغريبة، وفيه أيضًا إطلاق المصدر بمعنى: اسم المفعول؛ لأن الخلق هنا، بمعنى: المخلوق. ¬

_ (¬1) الشيخ إذا أطلق في الفتوحات الشهاب الرملي الشافعي اهـ مؤلفه.

ومنها: الطباق بين كلمتي البدء والإعادة في قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. ومنها: الإيجاز في قوله: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} حيث وحد الضمير، إن قلنا إن الضمير يرجع إلى الشمس والقمر كما في "الفتوحات". ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} على قراءة النون وفي قوله: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}؛ لأن مقتضى السياق لا يرجون لقاءه، أضافه إلى ضمير الجلالة، لتعظيم الأمر وتهويله. ومنها: التشبيه في قوله: {اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ}؛ أي: كاستعجالهم أو مثل استعجالهم، ففيه تشبيه مؤكد مجمل. ومنها: الطباق بين كلمتي الشر والخير. ومنها: تغير الأسلوب في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة، هو الإثابة، والعذاب إنما وقع بالعرض. ومنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي. ومنها: الطباق بين الليل والنهار، وبين السموات والأرض في قوله: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْر}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وذكر أنه لا صلاح لهم في إجابة دعائهم ثم ذكر أنهم كاذبون ¬

_ (¬1) المراغي.

في هذا الطلب إذ لو نزل بهم الضرّ جاؤوا وتضرعوا إلى الله في كشفه وإزالته .. بين هنا ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى، قد ينزّل بهم عذاب الاستئصال، كما حدث للأمم قبلهم، حتى يكون ذلك رادعًا لهم وزاجرًا عن هذا الطلب. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما بدأ السورة بذكر الكتاب الحكيم، وإنكار المشركين الوحي على رجل منهم، ثم أقام الحجة على الوحي والتوحيد والبعث، بخلق العالم علويه وسفليه وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه .. أعاد هنا الكلام في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، بشأنه وحجته البالغة عليهم، في كونه وحيًا من عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى، لما بين في الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين، إما الإتيان بقرآن غير هذا، أو تبديله؛ لأن فيه نبذًا لآلهتهم، وطعنًا فيها وتسفيهًا لآرائهم في عبادتها .. نعى عليهم هنا عبادة الأصنام، وبين لهم حقارة شأنها، إذ لا تستطيع نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله تعالى؟ ويجعل لها الشفاعة عنده تعالى، وليس لديهم برهان على ما يدَّعون، سبحانه وتعالى عما يشركون. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام، وبين سبب هذه العبادة .. ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين، وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه. قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ...} الآية، مناسبة (¬1) ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الآية، ثم ذكر قوله: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وذلك على سبيل التعنت .. أخبر أن هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عند ما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأن إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقًا بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته، وإعراضهم عن الآيات نظير قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أن الناس إذا أصابهم الضر .. لجؤوا إلى الله، فإذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم، من إهمال جانب الله تعالى، والمكر في آياته، وكان قبل ذلك قد ذكر نحوًا من هذا في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ ...} الآية، وكان المذكور في الآيتين أمرًا كليًّا أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي، ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به، إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم، هو مثال من أذاقه الرحمة، وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك، هو مثال من الضر الذي مسهم. وعبارة المراغي: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) أن القوم طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية أخرى سوى القرآن، وذكر جوابًا عن هذا، بأنه لا يملك ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه .. أردف ذلك بجواب آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم، بل يكابرون حسهم، ولا يؤمنون؛ إذ من عاداتهم اللجاج والعناد، فكثيرًا ما جاءتهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[13]

الآيات الكونية، الدالة على وحدانية الله تعالى في أفعاله، ثم هم يمكرون فيها، ولا تزيدهم إلا ضلالًا انتهت. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ...} الآية، قال ابن عباس (¬1) والكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن، من أهل مكة، قالوا: يا محمَّد ائت بقرآن غير هذا، فيه ما نسألك. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في جماعة من مشركي مكة، وقال مقاتل: نزلت في خمسة نفر، عبد بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن وائل. قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): أنه لما دعا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، على أهل مكة بالجدب .. قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع لنا بالخصب فإن أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم، فسقوا ولم يؤمنوا. التفسير وأوجه القراءة 13 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا}، أي: وعزتي وجلالي لقد أهلكنا واستأصلنا بالعذاب الشديد {الْقُرُونَ}؛ أي: الأمم الماضية {مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أي: من قبل زمانكم يا أهل مكة {لَمَّا ظَلَمُوا}؛ أي: حين ظلموا أنفسهم بالإشراك والتكذيب لرسلهم وباستعمال القوى والجوارح فيما لا ينبغي {و} الحال أنه قد {جاءتهم رسلهم بالبينات}؛ أي: بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى {وَمَا كَانُوا}؛ أي: وما كان تلك الأمم الماضية {لِيُؤْمِنُوا} برسلهم ويصدقوهم فيما جاؤوا به من عند الله تعالى، لو أبقيناهم وأمهلناهم ولم نهلكهم؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[14]

لأن الله سبحانه وتعالى، علم منهم أنهم يصرون على كفرهم والواو (¬1) في قوله: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} للعطف على ظلموا، أو الجملة اعتراضية لاعتراضها بين أهلكنا وبين قوله الآتي: 14 - {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ} واللام لتأكيد النفي يعني: أن السبب في إهلاكهم، تكذيبهم للرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم، بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل؛ أي: ولقد أهلكنا كثيرًا من الأمم الماضية من قبل زمانكم، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، حين ظلموا بالتكذيب لرسلهم، والحال أنه قد جاءتهم رسلهم بالبينات، الدالة على صدقهم، وما كانوا ليؤمنوا؛ أي: وما كان من شأنهم، ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا؛ لأنهم قد مرنوا على الكفر، وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات، من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: نجزي القوم المجرمين، بالإشراك والتكذيب لك يا محمَّد، جزاءً مثل الجزاء الذي جزيناه الأمم الماضية، وهو العذاب الشديد بالاستئصال إن لم يؤمنوا بك. وقرأت فرقة: {يجزي} بالياء؛ أي؛ يجزى الله، وهو التفات ذكره أبو حيان. وفي هذا وعيد شديد لأهل مكة، على تكذيبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وإهلاك الله تعالى للأمم، بالظلم ضربان: 1 - ضرب بعذاب الاستئصال، للأقوام الذين بعث الله تعالى فيهم رسلًا لهدايتهم، بالإيمان والعمل الصالح، كقوم نوح فعاندوا الرسل، فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم. 2 - ضرب بعذاب، هو مقتضى سنته تعالى، في نظم الاجتماع البشري، فالظلم مثلًا سبب لفساد العمران، وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم، بالفسوق والإسراف، في الشهوات المضعفة ¬

_ (¬1) النسفي.

للأبدان، المفسدة للأخلاق، وإما ظلم الحكام، الذي يفسد بأس الأمة ويهن من قوتها. {ثُمَّ} بعد إهلاك تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها {جَعَلْنَاكُمْ} أيتها الأمة المحمدية {خَلَائِفَ} يخلفون عن تلك الأمم {في} سكنى الأرض، وإحيائها {مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي: من بعد تلك القرون الماضية {لِنَنْظُر} أي: لكي ننظر ونعلم {كَيْفَ تَعْمَلُونَ}؛ أي: عمل تعملونه من خير أو شر، فنجازيكم بحسبه. والمعنى (¬1): استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة، لننظر أتعملون خيرًا أم شرًّا، فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى: لننظر، أي: لنظهر في الوجود ما علمناه أزلًا، أو ليظهر متعلق علمنا، فالنظر مجاز عن هذا، وقيل: الكلام على حذف مضاف، أي: لينظر رسلنا وأولياؤنا، وأسند النظر إلى الله مجازًا، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحارث الزماري: {لنظر} بنون واحدة وتشديد الظاء، وقال: هكذا رأيته في مصحف عثمان. ووجهها أن (¬2) النون الثانية قلبت ظاء وأدغمت في الظاء. والاستفهام في كيف لطلب تعيين أحد الأمرين؛ لأن المعنى، لنعلم جواب كيف تعملون؛ أي: أي عمل تعملونه أخير أم شر، وهي معمولة لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر؛ لأنها معلقة، وجاز التعليق في نظر إن لم يكن من أفعال القلوب؛ لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم. ومعنى الآية: ثم (¬3) جعلناكم خلائف في الأرض، من بعد أولئك الأقوام، بما آتيناكم في هذا الدين، من أسباب الملك والحكم، إذ في شريعتكم، ما به سعادة الأمة في دينها ودنياها. وفي الآية: بشارة لهذه الأمة، بأنها ستخلفهم في الأرض، إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه، كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقد صدق الله وعده، فملكهم ملك الأكاسرة، والقياسرة، والفراعنة، وكثير من الأمم غيرها {لِنَنْظُرَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) العكبري. (¬3) المراغي.

[15]

كَيْفَ تَعْمَلُونَ}؛ أي: لنرى ماذا تعملون في خلافتكم، فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء". أخرجه مسلم، وقوله: فاتقوا الدنيا، معناه: احذروا فتنة الدنيا، واحذروا فتنة النساء. وقال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل، أو النهار. وفي هذا إيماء، إلى أن هذه الخلافة، منوطة بالأعمال، حتى لا يغتروا بما سينالونه، ويظنوا أنه باقٍ لهم، وأنهم يتفلتون من سننه تعالى في الظالمين. 15 - ثم حكى (¬1) الله سبحانه نوعًا ثالثًا من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله تعالى فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضًا عنهم، والمراد بالآيات آيات القرآن الكريم؛ أي: وإذا تلا التالي عليهم آياتنا، الدالة على إثبات التوحيد، وإبطال الشرك، حالة كونها بينات؛ أي: واضحات الدلالة على المطلوب {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} ولا يخافون {لقاءنا} يوم القيامة بالبعث، وهم المنكرون للمعاد؛ أي: قالوا: لمن يتلوه عليهم - وهو محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، حين سمعوا ما يغيظهم فيما تلاه عليهم، من القرآن، من ذم عبادة الأوثان، والوعيد الشديد لمن عبدها: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}؛ أي: بدل ما فيه مما نكره كسبِّ آلهتنا، وذكر البعث، وليس طلبهم تبديل جميعه؛ أي: طلبوا منه أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن، مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن، بنسخ بعض آياته، أو كلها، ووضع أخرى مكانها، مما يطابق هواهم ويلائم غرضهم. والمعنى: ائت بقرآن غير هذا، مع بقاء هذا القرآن، أو بدله؛ أي: أزله بالكلية، وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين، إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه، فيحصل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

التغاير بين المطلوبين، ذكره أبو حيان. وحاصل المعنى (¬1): وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أئزل إليك، حال كونها بارزات في أعلى أسلوب من البيان، دالَّات على الحق، ساطعات الحجة والبرهان، قالوا: لمن يتلوها عليهم - وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ائت بقرآن غير هذا، أو بدله؛ أي: ائت بكتاب آخر نقرؤه، ليس فيه ما لا نؤمن به، من البعث والجزاء على الأعمال، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا، والوعيد على عبادتها، أو بدله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد، آية أخرى، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله، بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره، في جملة ما بلغهم من سوره في أسلوبها، ونظمها، أو بالتصرف فيه، بالتغيير والتبديل لما يكرهونه، منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا فعل هذا أو ذاك، كانت دعواه أنه كلام الله، أوحاه إليه دعوى باطلة، لا يعول عليها، وكان قصارى أمره، أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت علهيم أسباب معرفته، ولم يكن بوحي من الله كما يزعمه. فأمره الله تعالى أن يقول لهم في جوابهم {قُلْ} لهم يا محمَّد {مَا يَكُونُ لِي}؛ أي: ما ينبغي لي ولا يحل لي {أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}؛ أي: من قبل نفسي. وقرىء {تلقاء} بفتح التاء؛ أي: قل لهم، أيها الرسول: إنه ليس من شأني، ولا مما تجيزه لي رسالتي، أن أبدله من تلقاء نفسي، ومحض رأيي، وخالص اجتهادي. فنفى عن نفسه أحد القسمين، وهو التبديل؛ لأنه الذي يمكنه، لو كان ذلك جائزًا، بخلاف القسم الآخر، وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس في وسعه، ولا يقدر عليه. وقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - نفى عن نفسه أسهل القسمين، ليكون دليلًا على نفي أصعبهما بالطريق الأولى. وهذا منه (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، من باب مجاراة السفهاء، إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء، بعد أن أمره الله سبحانه بذلك، وهو أعلم بمصالح عباده، وبما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[16]

يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة، والسؤالات الباردة. قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه، من ذكر البعث والنشور. وقيل: سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم. وقيل: سألوه أن يحول الوعيد وعدًا والحرام حلالًا، والحلال حرامًا. ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم، من أنه ما صح ولا استقام أن يبدله، من تلقاء نفسه بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ}؛ أي: ما أتبع شيئًا من الأشياء {إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} في القرآن، أو في غيره من عند الله سبحانه وتعالى، من غير تبديل ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله - صلى الله عليه وسلم - على اتباع ما يوحى إليه؛ أي: ما علي إلا البلاغ، فإن بدل الله سبحانه منه شيئًا بنسخه، بلغت عنه ما أراد وإلا فلا. ثم أمره الله تعالى أن يقول لهم تكميلًا للجواب عليهم، وتعليلًا للسابق منه: {إِنِّي أَخَافُ}؛ أي: لأني أخاف {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وخالفت ما أوحي إليّ بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: شديد عذابه، وهو يوم القيامة؛ أي إني أخاف إن فعلت أي عصيان، عذاب يوم عظيم الشأن، ألا وهو يوم القيامة، فكيف بي إذا عصيته، بتبديل كلامه اتباعًا لأهوائكم. ثم أكد الله سبحانه وتعالى كون هذا القرآن من عند الله تعالى، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه، لا يقدر على غير ذلك فقال: 16 - {قُلْ} يا محمَّد، لهؤلاء الذين طلبوا منك تبديل القرآن وتغييره، إن هذا القرآن المتلو عليكم، هو بمشيئة الله تعالى وإرادته و {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى عدم تلاوتي لهذا القرآن عليكم، بأن لم ينزله عليّ، ولم يأمرني بتلاوته عليكم {مَا تَلَوْتُهُ} وقرأته عليكم {وَلَا أَدْرَاكُمْ} الله سبحانه وتعالى {بِهِ}؛ أي: بهذا القرآن؛ أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم، وما أعلمكم الله به بواسطتي، فالأمر كله منوط بمشيئة الله، ليس لي في ذلك شيء. وقوله: {وَلَا أَدْرَاكُمْ} معطوف على ما تلوته؛ أي: ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن؛ أي: ما أعلمكم به على لساني، يقال: دريت الشيء، وأدراني الله به؛ أي: علمته، وأعلمني الله به؛ أي: قل لهم (¬1) يا محمَّد: لو شاء الله أن لا أتلو عليكم هذا القرآن، ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه عليكم بأمره، وتنفيذ ¬

_ (¬1) المراغي.

مشيئته، ولو شاء الله أن لا يعلمكم به، بإرسالي إليكم، لما أرسلني، ولما أدراكم به، ولكنه شاء أن يمن عليكم بهذا العلم النافع، لتهتدوا به، وتكونوا بهدايته خلائف في الأرض، وهذا لن يكون بكتاب آخر كما قال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. فهو قد أنزله عالمًا بأن فيه كل ما يحتاج إليه البشر، من الهداية وأسباب السعادة. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} فـ {لا} مؤكدة وموضحة، بأن الفعل منفي، لكونه معطوفًا على منفي من أدراه، يدريه، بمعنى: أعلمه يعلمه. وقرأ ابن كثير وقنبل والبزيّ {ولأدراكم} بلام دخلت على فعل مثبت، معطوف على منفي، والمعنى: ولأعلمكم به من غير طريقي، وعلى لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة، ورآني لها أهلًا دون الناس. وقرأ ابن عباس وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة وشيبة بن نصاح: {ولا أدرأتكم} بهمزة ساكنة، وتاء بعدها، ثم كاف؛ أي: ولا أجعلكم بتلاوته عليكم خصماء، تدرؤونني بالجدال، وتكذبونني، من الدرء، بمعنى: الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال تعالى؛ {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} ودرأته، جعلته دارئًا؛ أي: خصمًا. وقرأ شهر بن حوشب والأعمش {ولا أنذرتكم به} بالنون، والذال من الإنذار، وكذا هي في مصحف ابن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {ولا أدريكم} بالإمالة. وقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} تعليل لكون ذلك بمشيئة الله تعالى، ولم يكن من النبي، - صلى الله عليه وسلم - إلا التبليغ، أي: فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرًا طويلًا، وهو أربعون سنة، من قبل تلاوة هذا القرآن عليكم، لم أقل عليكم سورةً من مثله. ولا آية تشبه آياته، لا في العلم والهداية، ولا في البيان والبراعة، تعرفونني بالصدق والأمانة، ولست ممن يقرأ ولا ممن يكتب. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للتقريع (¬2) والتوبيخ داخلة على محذوف، تقديره: أعميتم عن الحق ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير وغيرهما. (¬2) الشوكاني.

فلا تعقلون؛ أي: فلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي، لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدة الطويلة، بالصدق والأمانة مني، وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل، وتعلمي لما عند أهلها من العلم، ولا طلبي لشيء من هذا الشأن، ولا حرصي عليه، ثم جئت بهذا الكتاب، الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه، وقصرتم عن معارضته، وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة، المعترف لهم، بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم؛ أي (¬1): أفلا تعقلون أن من عاش أربعين سنة، لم يقرأ كتابًا، ولم يلقن من أحد علمًا، ولم يتقلد دينًا ولم يمارس أساليب البيان، وأفانين الكلام، من شعر ونثر وخطابة وفخر وعلم وحكمة، لا يمكنه أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولجميع الدارسين لكتب الأديان، فكيف تقترحون علي، أن آتي بقرآن غيره؟ وقد كان أكثر أنبياء بني إسرائيل، قبل نبوتهم على شيء من العلم، كما قال تعالى في موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} وقال في يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. والخلاصة (¬2): أن كفار مكة، شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، وعلموا أحواله، وأنه كان أميًّا لم يقرأ كتابا، ولا تعلم من أحد، وذلك مدة أربعين سنة، ثم بعدها جاءكم بكتاب عظيم الشأن، مشتمل على نفائس العلوم والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق، فكل من له عقل عليم، وفهم ثابت، يعلم أن هذا القرآن من عند الله تعالى، لا من عند نفسه. وقرأ الحسن والأعمش (¬3): {عمرا} بضم العين وسكون الميم. قال أبو عبيدة وفي العمر ثلاث لغات، عمر، بضم فسكون، وعمر بضمتين، وعمر بفتح فسكون. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الصاوي. (¬3) زاد المسير.

فصل في ذكر الأحاديث الواردة في عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ابن أربعين سنة، فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي، - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه. وفي رواية، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، يوحى إليه، وتوفي وهو وابن ثلاث وستين سنة. وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا وتوفي وهو ابن خمس وستين سنة. أخرجاه في "الصحيحين". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وعمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. أخرجه مسلم. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل، أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي، وبالمدينة عشرًا، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. متفق عليه. وقال النووي رحمه الله: ورد في عمره - صلى الله عليه وسلم - ثلاث روايات: أحدها: أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو ابن ستين سنة. والثانية: خمس وستون سنة. والثالثة: ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها، رواها مسلم، من حديث أنس وعائشة وابن عباس، واتفق العلماء، على أن أصحها رواية، ثلاث وستين، وحملوا الباقي عليها، فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضًا، بأنها حصل فيها اشتباه. قوله: يسمع الصوت، أي: صوت الهاتف من الملائكة، ويرى الضوء؛

[17]

أي: نور الملائكة، أو نور آيات الله، حتى رأى الملك بعينه، وشافهه بالوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: ليس بالأمهق، المراد به: الشديد البياض، كلون الجص، وهو كريه المنظر، وربما توهم الناظر أنه برص، والمراد أنه كان أزهر اللون، بين البياض والحمرة. 17 - والاستفهام في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} للإنكار (¬1)؛ أي: لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {كَذِبًا} فزعم أن لله شريكًا وولدًا. والمعنى (¬2): أني لم أفتر على الله كذبًا، ولم أكذب عليه في قولي: إن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأنتم قد افتريتم على الله الكذب، فزعمتم أن له شريكًا وولدًا، والله تعالى منزه عن الشريك والولد. وقيل معناه: إن هذا القرآن، لو لم يكن من عند الله، لما كان أحدًا في الدنيا أظلم على نفسه مني، من حيث إني افتريته على الله، ولما كان هذا القرآن من عند الله، أوحاه إليّ، وجب أن يقال: ليس أحد في الدنيا أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم، من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله، فقد كذبتم بآياته وهو قوله: {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} تعالى القرآنية أو الكونية؛ أي: جحد يكون القرآن من عند الله تعالى، وأنكر دلائل توحيده. ففيه (¬3) بيان أن الكاذب على الله، والمكذب بآياته في الكفر سواء. وإنما زاد كذبًا في قوله (¬4): {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبًا لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذبًا في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره. وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو كذب بآياته؛ أي: إن الشأن والحال لا ينجو المشركون من عذاب الله، ولا يظفرون الخير في الدنيا والآخرة، لافترائهم الكذب على الله بنسبة الشريك، ولتكذيبهم بآيات الله تعالى، 18 - ثم نعى الله سبحانه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي. (¬4) الشوكاني.

عليهم عبادة الأصنام، وبين أنها لا تنفع من عبدها، ولا تضر من لم يعبدها فقال: {وَيَعْبُدُونَ}؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى؛ أي متجاوزين الله سبحانه وتعالى إلى عبادة غيره، لا بمعنى ترك عبادته بالكلية؛ أي: ويعبدون معه تعالى {مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}؛ أي: ما ليس من شأنه الضرر، ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيبًا لمن أطاعه، معاقبًا لمن عصاه. والواو لعطف هذه الجملة على جملة قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا}؛ أي: ويعبدون ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا من الأصنام وغيرها. حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته تعالى وحده، فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} ونفي التفسير والنفع هنا، باعتبار ذواتهم، وإثباتهما في قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} باعتبار السبب، فلا يرد كيف نفى عن الأصنام هنا التفسير والنفع، وأثبتهما لها في الحج، اهـ "كرخي". وفي الآية: إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدعون، هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع، فرد عليهم خطأهم بأنه هو القادر على نفع من يعبده، وضر من يشرك بعبادته غيره، في الدنيا والآخرة. وقد دل تاريخ البشر في كل طور من أطواره، على أن كل ما عبده البشر من دون الله تعالى، من صنم أو وثن، فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر، بسلطان له فوق الأسباب المعروفة، كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة، أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة، أو غير المصنوعة، كاللات، وهي صخرة كانت بالطائف يلت عليها السويق، عظمت حتى عبدت، أو الأشجار، كالعزى، معبودة قريش. وقوله: {وَيَقُولُونَ} في حقها وشأنها، معطوف على {وَيَعْبُدُونَ}؛ أي: ويقول هؤلاء المشركون في سبب عبادتهم لها، مع اعتقادهم أنها لا تملك الضر، ولا النفع بأنفسها إيمانهم: بأن الرب الخالق، هو الله تعالى و {هَؤُلَاءِ} الأصنام {شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى فإنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الدنيا، في إصلاح معايشهم، وكشف ما يهمهم، كالقحط؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثًا بعد

الموت، أو تشفع لهم في الآخرة على تقدير أن يبعثوا؛ لأنهم كانوا شاكين في البعث؛ أي: ونحن إنما نعبدهم ونعظم هياكلهم ونطيبها بالعطر، ونقدم لها النذور ونهل لهم عند ذبح القرابين، بذكر أسمائهم، وبدعائهم والاستغاثة بهم؛ لأنهم يشفعون لنا عند الله تعالى، ويقربونا إليه زلفى، ويدفعون بجاههم عنا النبلاء ويعطوننا ما نطلب من النعماء، والإخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم، والتنبيه على أنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة. وقال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من عبادتهم إياه، وقالوا لسنا بأهلٍ أن نعبد الله، ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، فإنها تكون شافعة لنا عند الله، قال تعالى إخبارًا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. فأساس عقيدة الشرك، أن جميع ما يطلب من الله تعالى، لا بد أن يكون بوساطة المقربين عندهم، إذ هم لا يمكنهم التقرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم؛ لأنها مدنسة بالمعاصي. أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده، تائبًا إليه طالبًا مغفرته ورحمته. والاستفهام في قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ} للتوبيخ والتقريع والإنكار والتهكم. وقرأ أبو السمال العدوي {أتنبئون} بالتخفيف من أنبأ، ينبىء. وقرأ من عداه: بالتشديد من نبأ، ينبىء؛ أي: قل لهم يا محمَّد تبكيتًا لهم، ومبينًا لهم كذبهم ومنكرًا عليهم افتراءهم على ربهم، أتخبرون الله سبحانه وتعالى: {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: بالأمر الذي لم يعلم الله سبحانه وتعالى وجوده في السموات، وهو شفاعة الملائكة لهم، ولا وجوده في الأرض وهو شفاعة الأصنام، وإذا لم يعلم الله شيئًا من الأشياء، استحال وجود ذلك الشيء؛ لأنه تعالى لا يعزب عن علمه شيء. وقال الضحاك: أتخبرون الله أن له شريكًا، ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السموات ولا في الأرض، انتهى. ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده، لكان أعلم بهم منكم، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذًا هؤلاء لا وجود لهم عنده، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسًا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم، والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم، بدون وساطة

[19]

الوزراء وذوي المكانة فيهم. وبهذا ثبت بطلان الشرك في الألوهية، وهو عبادة غير الله تعالى مهما يكن المعبود. {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما لا يليق به {وَتَعَالَى}؛ أي: ترفع وعلا {عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن شركائهم، الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند الله تعالى. والمعنى: تنزه ربنا، وعلا علوًا كبيرًا، عما يشركون به من الشفعاء. والوسطاء، وما يفترونه عليه، من أن لأحد من خلقه وساطة عنده، وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى، ففي هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية، وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين. وفي هذا إيماء إلى أن شؤون الرب، وسائر ما في عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحي، ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده فيكون كفرًا صراحًا. وقرأ العربيان (¬1): أبو عمرو وابن عامر، والحرميان: نافع وابن كثير وعاصم: {يشركون} بالياء على الغيبة هنا، وفي حرفي النحل وحرف في الروم. وذكر أبو حاتم، أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج، وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: في النمل فقط، بالتاء على الخطاب. وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة والكسائي: الخمسة بالتاء على الخطاب. وأتى بالمضارع، ولم يقل عما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم كما جاؤوا يعبدون، وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي 19 - {وَمَا كَانَ النَّاسُ} جميعًا {إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} موحدة لله سبحانه وتعالى، مؤمنة به متفقة على فطرة الإِسلام والتوحيد، من غير أن يختلفوا بينهم؛ لأن التوحيد والإِسلام ملة قديمة اجتمعت عليها الناس قاطبةً فطرةً وتشريعًا وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة؛ أي: إنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة {فَاخْتَلَفُوا}؛ أي؛ ثم اختلفوا في الأديان، وإلى ذلك الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم، وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[20]

ثم اختلفوا في الكتاب أيضًا بغيًا بينهم، واتباعًا لأهوائهم، وقيل المعنى: وما كان الناس إلا على دين واحد، هو دين الإِسلام في عهد آدم عليه السلام، إلى أن قتل قابيل هابيل ثم اختلفوا. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف وعبدت الأصنام والأوثان، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ} حق {سَبَقَتْ} من الله تعالى وقضاء وقع {مِنْ رَبِّكَ} أزلًا بتأخير الجزاء العام إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، أي: لعجل لهم الجزاء في الدنيا، بالقضاء بينهم {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}؛ أي: في الدين الذي يختلفون بسببه، ففي سببية بإهلاك المبطلين، وتعجيل العقوبة للمكذبين، وكان ذلك فصلًا بينهم. وعبر بالمضارع عن الماضي حكايةً للحال الماضية. وفي الآية (¬1) وعيد شديد على اختلاف الناس المؤدي إلى العدوان، والشقاق، ولا سيما الاختلاف في الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق. وقرأ (¬2) عيسى بن عمر: {لقضى} بالبناء للفاعل. وقرأ من عداه: بالبناء للمفعول. 20 - {وَيَقُولُونَ} معطوف على {وَيَعْبُدُونَ}؛ أي: وقال أهل مكة: مرة بعد مرة وكرة بعد كرة. وعبر بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه؛ أي: وقالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ}؛ أي: هلا أنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {آيَةٌ} أخرى كونية، سوى القرآن {مِنْ رَبِّهِ} دالة على صدق ما يقول، كما كان لصالح، من الناقة، ولموسى، من العصا. والقائلون (¬3) ذلك هم أهل مكة، كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، التي لو لم يكن منها إلا القرآن، لكفى به دليلًا بينًا، ومصدقًا قاطعًا؛ أي: هلا أنزلت عليه آية من الآيات، التي نقترحها عليه، ونطلبها منه، كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهبًا وغير ذلك. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني.

[21]

ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {قُلْ} لهم يا محمَّد في الجواب: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ}؛ أي: إن نزول الآية غيب والله هو المختص بعلمه المستأثر به، لا علم لي ولا لكم، ولا لسائر مخلوقاته، فإن كان قدر إنزال آية عليّ .. فهو يعلم وقتها وينزلها فيه، ولا أعلم إلا ما أوحاه إليّ {فَانْتَظِرُوا} نزول ما اقترحتموه من الآيات {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لنزولها. وقيل المعنى: انتظروا قضاء الله بيني وبينكم، بإظهار الحق على الباطل، أو انتظروا لما يفعل الله بكم، لاجترائكم على جحود الآيات القرآنية واقتراح غيرها. والآية بمعنى قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}. وقد جاء تفسير ما ينتظر وينتظرونه في قوله في آخر هذه السورة: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)}. وفي الآية الإنذار بما سيحل بهم من العذاب، بخذلانهم ونصر الرسل عليهم في الدنيا، وما وراءها من عذاب الآخرة. 21 - {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ}؛ أي: وإذا أعطينا ورزقنا كفار مكة {رَحْمَةً}؛ أي: نعمة وخصبًا ورخاء وسعة العيش {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ}؛ أي: من بعد فقر وقحط وشدة وبلاء، وضيق أصابهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين، حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير، حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك الضر، فلم يتعظوا بذلك، بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر، وهو قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ} وتدبير {في} إبطال {آيَاتِنَا} القرآنية والكونية واستهزاء وتكذيب لها، وإذا الأولى شرطية، وجوابها {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ} وهي فجائية، يستفاد منها السرعة؛ لأن المعنى: أنهم فاجؤوا المكر وسارعوا فيه؛ أي: أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة. والمعنى (¬1): وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب، ورخاء بعد شدة أصابتهم، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به في مقام الشكر، فإذا كانت ¬

_ (¬1) المراغي.

الرحمة مطرًا أحيا الأرض، وأنبت الزرع، ودر به اللبن بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، نسبوا ذلك إلى الكواكب أو الأصنام، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزهم معرفة عللها وأسبابها، عللوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبي أنكروا إكرام الله له وتأييده بها، كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رفع عنهم بدعائه، عليه الصلاة والسلام، فما زادهم ذلك إلا كفرًا وجحودًا. روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشًا، لما استعصوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميت، من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان، من الجوع، فأنزل الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} فجاء أبو سفيان، إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمَّد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول، يطعنون في آيات الله تعالى، ويعادون رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويكذبونه. {قُلْ} لهم يا محمَّد {الِلَّهِ} سبحانه وتعالى {أَسْرَعُ} وأعجل منكم {مَكْرًا}؛ أي: (¬1) عقوبة على مكركم، وأشد أخذًا، وأقدر على الجزاء، وأن عذابه في هلاككم أسرع إليكم مما يقع منكم في دفع الحق؛ أي: إن هؤلاء (¬2) الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر، فالله تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو إهلاكهم يوم بدر، وحصول الفضيحة والخزي في الدنيا، وعذاب شديد يوم القيامة. ومعنى الوصف بالأسرعية: أنه تعالى، قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم، والمكر من الله، إما الاستدراج، أو الجزاء على المكر، أي: إخفاء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

الكيد. وتسمية (¬1) عقوبة الله مكرًا، من باب المشاكلة، كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز. والخلاصة: أي قل لهم: إنَّ الله أسرع منكم مكرًا، فهو قد دبر عقابكم، وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون، في إطفاء نور الإِسلام، وقد سبق في تدبيره لأمور العالم، وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة، وهو عليم بما تفعلون، لا تخفى عليه خافية. {إِنَّ رُسُلَنَا} الحفظة الذين يحفظون أعمالكم، ووكلهم الله تعالى بإحصاء أعمال الناس، وكتبها للحساب والمجازاة عليها في الآخرة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} به أو يكتبون مكركم، ويعرض عليكم يوم القيامة ما في بواطنكم الخبيثة. وفي ذلك تنبيه، إلى أن ما دبروا، ليس بخاف عليه تعالى، وإلى أن انتقامه حاصل واقع بهم لا محالة، وفيه وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهرًا لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة. والمعنى: إن رسل الله، وهم الملائكة، يكتبون مكر الكفار، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟. وقرأ الحسن (¬2)، وابن أبي إسحاق وأبو عمرو {رسلنا} بالتخفيف. وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد والأعرج، ورويت عن نافع ويعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية {يمكرون} بالتحتية على الغيبة، جريًا على ما سبق. وقرأ أبو رجاء وشيبة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وعيسى وطلحة والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل وابن محيصن وشبل وأهل مكة والسبعة: {تمكرون} بالتاء الفوقية على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتًا لقوله: {قُلِ اللَّهُ}؛ أي: قل لهم، فناسب الخطاب. وفي قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا} التفات أيضًا إذ لم يأت إن رسله. وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي {يا أيها الناس إن الله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[22]

أسرع مكرا وإن رسله يكتبون ما تمكرون}. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير؛ لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون، من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف. وعلينا (¬1) أن نعتقد بأن الملائكة، تكتب الأعمال كتابة غيبية، لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظامًا حكيمًا في إحصاء أعمالنا؛ لأجل أن نراقبه فيها، فنلتزم الحق والعدل والخير، ونجتنب أضدادها. 22 - وقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} كلام مستأنف، مسوق لبيان جناية أخرى لهم، مبنية على ما مر آنفًا، من اختلاف حالهم حسب اختلاف ما يعتريهم، من السراء والضراء، اهـ "أبو السعود"؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي يسيركم، وينقلكم في نواحي البر وأرجائه مشاةً وركبانًا، وفي أمواج البحر بالسفن والبواخر، وفي الجو بالطائرات. وقيل: يحملكم في البر على ظهور الدواب، وفي البحر على الفلك، أي: إنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير في البر، وسخر لكم الإبل والدواب، وفي البحر بما سخر لكم من السفن التي تجري في البحر، والقطر التجارية، والسيارات، وفي الهواء بالطائرات التي تسير في الجو. وقرأ (¬2) زيد بن ثابت والحسن وأبو العالية وزيد بن علي وأبو جعفر وعبد الله بن جبير وأبو عبد الرحمن وشيبة بن عامر: ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحسن أيضًا: {ينشركم} من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين: {ينشركم} بالتشديد، للتكثير من النشر، الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: {يُسَيِّرُكُمْ} من التسيير. قال أبو علي، هو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية؛ لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته. {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ}؛ أي: في السفن. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء (¬1): {فِي الْفُلْكِيِّ} بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة، في نحو أحمري وزواري. وقيل: إنه صفة لموصوف محذوف، تقديره: في اللج الفلكي؛ أي: في اللج، الذي لا تجري السفن إلا فيه، واللج الماء الغمر العميق. وحتى غاية للتسيير في البحر. قال صاحب (¬2) "الكشاف": فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غايةً للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بعد الكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غايةً للتسيير، ولكن الغاية مضمون الجملة الشرطية، الواقعة بعد حتى بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة، وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، وظن الهلاك والدعاء بالإنجاء. اهـ. وجواب إذا هو جاءتها. فعلم أن الغاية: هي مضمون (¬3) الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها: الكون في الفلك. والثاني: جريها بهم بالريح الطيبة، التي ليست بعاصفة. وثالثها: فرحهم. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضًا: الأول: جاءتها. والثاني: وجاءهم الموج. والثالث: ظنوا. وقوله: {دَعَوُا اللهَ}، بدل من ظنوا بدل اشتمال، أو مستأنف مبني على سؤال، ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ فقيل: دعوا الله إلخ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني.

وفي قوله: {فيَ الْبَحْرِ} (¬1) دلالة على جواز ركوب البحر، ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر، وقع به المثال لذلك المعنى الكلي به، من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة، والإهمال لجانبه حالة الرخاء. وفي قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} التفات (¬2) عن الخطاب في قوله، كنتم إلى الغيبة، وحكمة الالتفات هنا، هي أن قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} خطاب فيه امتنان، وإظهار نعمة المخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة. ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض، عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة، لئلا يخاطب المؤمنون بما لا يليق صدوره منهم، وهو البغي بغير الحق. اهـ. {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ} أيها المسيرون {فِي الْفُلْكِ} والسفن {وَجَرَيْنَ}؛ أي: السفن ملتبسة {بِهِمْ}؛ أي: بالذين فيها، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة كما مر {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}؛ أي: لينة الهبوب إلى جهة المقصد {وَفَرِحُوا بِهَا}؛ أي: بتلك الريح اللينة فرحًا تامًّا وقوله: {جَاءَتْهَا} جواب إذا، كما مر؛ أي: جاءت تلك الريح اللينة الطيبة وتلقتها {رِيحٌ عَاصِفٌ}؛ أي: شديدة الهبوب أزعجت سفينتهم، أو المعنى: جاءت الفلك ريح عاصف، والعصوف: شدة هبوب الريح {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ} العظيم الذي أرجف قلوبهم، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}؛ أي: من كل ناحية؛ أي: جاء الراكبين فيها الموج من جميع الجوانب للفلك. والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}؛ أي: أحاط بهم الهلاك؛ أي: ظنوا القرب من الهلاك؛ أي: غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم، أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلًا في الهلاك، وإن كان بغير العدو كما هنا. وقوله: {دَعَوُا اللَّهَ} سبحانه وتعالى، بدل من ظنوا، كما مر لكون هذا الدعاء الواقع، إنما كان عند ظن الهلاك، وهو الباعث عليه، فكان بدلًا منه بدل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[23]

اشتمال، لاشتماله عليه، ويمكن أن تكون جملة دعوا مستأنفة، كأنه قيل: ماذا صنعوا، فقيل: {دَعَوُا اللَّهَ} كما مر ذلك كله آنفًا، حالة كونهم {مُخْلِصِينَ لَهُ} سبحانه وتعالى {الدِّينَ}؛ أي: الدعاء من غير أن يشركوا معه تعالى شيئًا، من آلهتهم؛ أي (¬1): وهم مقرون بوحدانية الله تعالى وربوبيته، لأجل علمهم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى، فيكون إيمانهم جاريًا مجرى الإيمان الاضطراري، قائلين والله {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} وخلصتنا يا إلهنا {مِنْ هَذِهِ} الشدائد التي نحن فيها، وهي الريح العاصفة، والأمواج المتلاطمة والله {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} للنعم التي أنعمت بها علينا، التي من أجلها كشف هذه الشدائد عنا. وحاصل المعنى: أي (¬2) حتى إذا كنتم في الفلك التي سخرناها لكم، وجرت بمن فيها بسبب ريح مؤاتية لهم في جهة سيرهم، وفرحوا بما هم فيه، من راحة وانتعاش، وتمتع بمنظره الجميل، وهوائه العليل، جاءت ريح شديدة قوية، فاضطرب البحر وتموج سطحه كله، فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي، بتأثير الريح، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة، بإحاطة الموج بهم، فبينما يهبط الريح العاصف بهم في لجج البحر حتى كأنهم سقطوا في هاوية، إذا به يثب بهم إلى أعلى، كأنهم في قمة الجبل الشاهق. فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب، وتقطعت بهم الأسباب .. دعوا الله مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم، ولا يتوجهون معه إلى وليّ، ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء، وقد صمموا العزيمة على طاعته، وقالوا: ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة، لنكون من جماعة الشاكرين، ولا نتوجه في تفريج كروبنا، وقضاء حوائجنا إلى وثن، ولا صنم. 23 - {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ}؛ أي: فلما أنجى الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم، وواعدوا له بالشكر على الإنجاء، إذا أنجاهم من تلك الشدائد التي أحاطت بهم، وأخرجهم إلى البر {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: فاجؤوا وأسرعوا البغي والفساد في الأرض، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

هذا شامل لأقطار الأرض؛ أي: فلما نجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة، فاجؤوا الناس في الأرض التي يعيشون فيها، بالبغي والاستطالة عليهم، والظلم لهم مع الإمعان في ذلك. والإصرار عليه، أو المعنى: أنهم أخلفوا الله ما وعدوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها. وفي قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تأكيدًا للواقع، وتذكير بقبحه وسوء حال أهله، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضًا، بأن يكون ظلمًا ظاهرًا، لا يخفى على أحد قبحه، كما جاء في قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قال صاحب "الكشاف": فإن قلت: ما معنى قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} والبغي لا يكون بحق؟ قلتُ: بلى قد يكون بحق، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم، كما فعل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ببني قريظة. وبعد أن حكى المثل، خاطب البغاة في أي مكان كانوا، وفي أي زمان وجدوا، منبهًا واعظًا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الغافلون عن أنفسكم، أما كفاكم بغيًا على المستضعفين منكم اغترارًا بقوتكم وكبريائكم {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} وظلمكم في الحقيقة {عَلَى أَنْفُسِكُمْ}؛ لأن عاقبة وباله عائدة إليكم، وإنما تتمتعون ببغيكم {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزائلة وهي تنقضي سريعًا، والعقاب باقٍ. والبغي من (¬1) منكرات الذنوب العظام قال بعضهم: لو بغى جبل على جبل .. لاندك الباغي. وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرًا، وكان المأمون يتمثل به فقال: يَا صَاحِبَ الْبَغْي إِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ ... فَارْجِعْ فَخَيْرُ مَقَالِ الْمَرْءِ أَعْدَلُهُ فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْمًا عَلَى جَبَلٍ ... لاَنْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيْهِ وَأَسْفَلُهُ وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَنُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فنخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها، معطوف (¬2) على ما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) أبو السعود.

مر من الجملة المستأنفة، المقدرة، فكأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل، فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم، والتمتع بالباطل، ونجازيكم به، وإنما غير الأسلوب إلى الجملة الاسمية، مع تقديم الجار والمجرور، للدلالة على الثبات والقصر، اهـ "أبو السعود". وفي (¬1) الآية إيماء، إلى أن البغي مجزيٌّ عليه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ولما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبخاري: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة من البغي، وقطيعة الرحم"، والذي رواه أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، "ثلاث، هن رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي"، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}. وأما في الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد. والخلاصة: أن البغي، وهو أشنع أنواع الظلم، يرجع على صاحبه لما يولد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات في الشعوب. انظر إلى من يبغي على مثله، تجده قد خلق له عدوًا، أو أعداءً، ممن يبغي عليهم. ولا شك أن وجود الأعداء، ضرب من العقوبة، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل الوسائل التي يقدرون عليها، وإن هم لم يفعلوا ذلك .. فإنه يرى في أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه، فيتأجج قلبه حسرةً وندامةً على ما فعل، ويود أن لو لم يكن خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة في النفوس. وقرأ الجمهور (¬2): {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالرفع على أنه خبر مبتدأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير والشوكاني.

محذوف، تقديره ذلك البغي متاع الحياة الدنيا. وقال النحاس: على قراءة الرفع، يكون بغيكم مرتفعًا بالابتداء، وخبره متاع الحياة الدنيا، وعلى أنفسكم مفعول البغي. ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم، ويضمر مبتدأ؛ أي: ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا، انتهى. والمعنى على الأول: إن بغي هذا الجنس الإنساني، بعضه على بعض هو سريع الزوال، قريب الاضمحلال، كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قرب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة، ولا عظيم جدوى. وعلى الثاني، أن ما يقع من البغي على الغير، هو بغي على نفس الباغي، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه، مجازاة على بغيه. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن. وحفص وأبان عن عاصم وزيد بن علي وابن أبي إسحاق وهارون عن ابن كثير: بنصب الـ {متاع} على أنه مصدر لفعل محذوف، تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا كما مر. وقرأ أبو المتوكل واليزيدي في اختياره وهارون العتكي عن عاصم: {متاع الحياة الدنيا} بكسر العين على أنه صفة {لأنفسكم} ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: ذوات متاع الحياة الدنيا، ذكره أبو البقاء. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا {متاعا الحياة الدنيا}. بنصب متاع، وتنوينه، ونصب الحياة. وقرأت فرقة {فينبئكم} بالياء على الغيبة والمراد الله تعالى. الإعراب {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية. {اللام}: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور، متعلق (¬1) بـ {أهلكنا} وليس بحال من القرون؛ لأنه زمان، ذكره أبو البقاء {لَمَّا} ظرف بمعنى حين في محل ¬

_ (¬1) العكبري.

النصب على الظرفية الزمانية، مبنية على السكون، والظرف متعلق بـ {أَهْلَكْنَا} {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {لَمَّا} {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب، حال من واو {ظَلَمُوا} على تقدير: قد، أو في محل الجر، معطوف على {ظَلَمُوا} {وَمَا كَانُوا}: {الواو}: عاطفة {ما} نافية. {كَانُوا}: فعل ناقص، واسمه. {لِيُؤْمِنُوا} {اللام}، حرف جر وجحود {يؤمنوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، على مذهب البصريين، والجار والمجرور متعلق بخبر {كَانُ} المحذوف، والتقدير: وما كانوا مريدين لإيمانهم، والجملة معطوفة (¬1) على {ظَلَمُوا} كما ذكره السيوطي، فكأنه قيل: لما ظلموا وأصروا على الكفر، بحيث لم يبق فائدة في إمهالهم، أهلكناهم، فيكون السبب في إهلاكهم مجموع هذين الأمرين. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف {نَجْزِي الْقَوْمَ}: فعل ومفعول {الْمُجْرِمِينَ} صفة للقوم، وفاعله ضمير، يعود على الله، والتقدير: نجزي القوم المجرمين، جزاء مثل الجزاء المذكور في الأمم الماضية، والجملة الفعلية مستأنفة. {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}. {ثُمَّ}: حرف عطف {جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ} فعل وفاعل، ومفعولان {فِي الْأَرْضِ}: صفة لخلائف، أو متعلق بـ {جعلنا} والجملة معطوفة على {أهلكنا} {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله {لِنَنْظُرَ} {اللام}: لام كي {ننظر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، المتعلقة بـ {جعلنا} والتقدير: جعلناكم خلائف لنظرنا {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب، مفعول مقدم لـ {تَعْمَلُونَ} لا لننظر، ¬

_ (¬1) جلالين مع الفتوحات.

لأن: لها صدر الكلام {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب، مفعول {لِنَنْظُرَ} معلق عنها باسم الاستفهام، والمعنى: لنعلم جواب كيف تعملون، كما مر. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {آيَاتُنَا}: نائب فاعل ومضاف إليه. {بَيِّنَاتٍ}: حال من آياتنا، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه، لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} وجملة {إذا} مستأنفة {لَا يَرْجُونَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: مقول محكي، لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {ائْتِ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بِقُرْآنٍ}: متعلق به. {غير} صفة لـ {قرآن} {هَذَا}: مضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول: {قَالَ}. فائدة: ولفظ {ائْتِ} إن قرئ بالوصل بما قبله .. فالأمر ظاهر، وإن وقف على لقائنا .. قرئ {ايت} بهمزة، ثم ياء ساكنة، بعدها على حد قول ابن مالك: وَمَدًّا ابْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَيْنِ مِنْ ... كَلِمَةٍ ................... إلخ {أَوْ}: حرف عطف {بَدِّلْهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {ائْتِ} {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {مَا يَكُونُ لِي ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَا} نافية {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص {لِي} جار ومجرور خبرها مقدم {أَنْ أُبَدِّلَهُ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق

به، والجملة في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم يكون، تقديره: قل ما يكون تبديلي إياه من تلقاء نفسي كائنًا لي ولائقًا بي وجملة {يَكُونُ} في محل النصب مقول {قُل} {إِنْ}: نافية {أتَّبِعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب، مقول القول {إلَّا} أداة استثناء مفرغ {مَا} في محل النصب، مفعول به {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا} {إِلَيَّ}، متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها {إِنِّي}: ناصب واسمه. وجملة {أَخَافُ} خبره، والجملة في محل النصب، مقول القول {إِنْ عَصَيْتُ} فعل وفاعل في محل الجزم، بـ {إن} على كونه، فعل شرط لها {رَبِّي} مفعول {عَصَيْتُ} وجواب إن معلوم مما قبله، تقديره: إن عصيت ربي ... أخاف عذاب يوم عظيم، وجملة {إنْ} الشرطية معترضة على كونها مقول القول، لاعتراضها بين المفعول وفعله. {عَذَابَ يَوْمٍ}: مفعول لـ {أَخَافُ} ومضاف إليه. {عَظِيمٍ} صفة يوم. {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {لَوْ شَاءَ اللَّهُ}: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، فعل شرط لـ {لَوْ} ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: عدم تلاوتي إياه. {مَا} نافية {تَلَوْتُه}: فعل وفاعل ومفعول {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} في محل النصب مقول القول {وَلَا أَدْرَاكُمْ} {الواو}: عاطفة {لَا}: نافية مؤكدة لنفي ما قبلها {أَدْرَاكُمْ}: فعل ومفعول {بِهِ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة تلوته {فَقَدْ}: الفاء: تعليلية {قَدْ}: حرف تحقيق. {لَبِثْتُ}: فعل وفاعل {فِيكُمْ}: متعلق به {عُمُرًا}: منصوب على التشبيه بظرف الزمان؛ أي: مدة متطاولة، متعلق بـ {لَبِثْتُ} والجملة الفعلية معللة لما قبلها، على كونها مقول القول {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق

بـ {لَبِثْتُ} {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، تقديره: أعميتم. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف {لَا}: نافية {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول القول. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}. {فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان حكم من افترى على الله .. فأقول لكم. {مَنْ} اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ {أَظْلَمُ}؛ خبره والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {مِمَّنِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ} {افْتَرَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير، يعود على {مَنِ} والجملة صلة الموصول {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به {كَذِبًا}: مفعول به {أَوْ كَذَّبَ}: معطوف على {افْتَرَى} وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} {بِآيَاتِهِ}: متعلق به {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. وجملة {لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}: خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. {وَيَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل معطوف على قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} عطف قصة على قصة {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: متعلق به {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به {لَا يَضُرُّهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا} والجملة صلة لما، أو صفة لها {وَلَا يَنْفَعُهُمْ}: معطوف على {يَضُرُّهُمْ}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {وَيَعْبُدُونَ}. {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}: مقول محكي وإن شئت قلت: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} مبتدأ وخبر {عندَ الله}: متعلق بـ {شُفَعَاؤُنَا}: والجملة في محل النصب مقول القول. {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ ...}: إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي الإنكاري {تنبئون الله}: فعل وفاعل ومفعول أول. {بِمَا}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني {لَا يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير على الله، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها. والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لا يعلمه، وجملة {تُنَبِّئُونَ} في محل النصب مقول، {قل} {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بـ {يَعْلَمُ} {وَلَا فِي الْأَرْضِ} معطوف على {في السموات} {سُبْحَانَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة، بعامل محذوف وجوبًا، تقديره، أسبحه سبحانًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول، لقل، أو مستأنفة. {وَتَعَالَى} معطوف على جملة سبحانه {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تعالى} {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عما يشركونه به، أو صلة ما المصدرية؛ أي: عن إشراكهم. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. {وَمَا}: الواو: استئنافية {ما}: نافية. {كَانَ النَّاسُ}: فعل ناقص واسمه {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {أُمَّةً} خبر كان {وَاحِدَةً}: صفة لـ {أُمَّةً} وجملة {كَانَ} مستأنفة {فَاخْتَلَفُوا} الفاء: عاطفة {اختلفوا}: فعل وفاعل معطوف على جملة {كَانَ} {وَلَوْلَا} الواو: استئنافية {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود {كَلِمَةٌ}: مبتدأ. وجملة {سَبَقَتْ} صفة لـ {كَلِمَةٌ} {مِنْ رَبِّكَ}: متعلق بـ {سَبَقَتْ} وخبر المبتدأ محذوف، وجوبًا، تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك، موجودة، والجملة الاسمية شرط لـ {لَوْلَا} لا محل لها من الإعراب {لَقُضِيَ}: اللام: رابطة لجواب {لولا} {قضي} فعل ماض مغير الصيغة. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، في محل الرفع نائب فاعل لـ {قضي} {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {قضي} والجملة الفعلية جواب {لَوْلَا} لا محل لها عن الإعراب، وجملة {لَوْلَا} مستأنفة {فِيهِ} في حرف جر وسبب. والهاء في محل

الجر بفي، والجار والمجرور متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ} وجملة {يَخْتَلِفُونَ}: صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير فيه. {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {وَيَعْبُدُونَ} {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلا {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به {آيَةٌ}: نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ}: صفة لـ {آيَةٌ} والجملة الفعلية مقول {يقولون}. {فَقُلْ} الفاء: عاطفة تفريعية {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة مفرعة على {يقولون} {إِنَّمَا الْغَيْبُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْغَيْبُ}: مبتدأ {لِلَّهِ} خبر، والجملة في محل النصب مقول قل {فَانْتَظِرُوا} الفاء: عاطفة تفريعية {انتظروا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} {إِنِّي}: ناصب واسمه. {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بما بعده {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: جار ومجرور خبر {إِنِّ} وجملة {إِنِّ} في محل النصب مقول قل. {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}. {وَإِذَا}: الواو: استئنافية، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان {أذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً}: فعل وفاعل ومفعولان. {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أَذَقْنَا} وجملة {أَذَقْنَا} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذًا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {مَسَّتْهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ضَرَّاءَ} والجملة في محل الجر صفة لـ {ضَرَّاءَ} {إذَا}: فجائية رابطة لجواب {إذَا} وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، حرف لا محل لها من الإعراب {لَهُمْ}: خبر مقدم {مَكْرٌ}: مبتدأ مؤخر والجملة جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} مستأنفة {فِي آيَاتِنَا}: جار ومجرور متعلق

بـ {مَكْرًا} {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت {اللَّهُ أَسْرَعُ} مبتدأ وخبر. {مَكْرًا}؛ تمييز محول، عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قل {إِنَّ رُسُلَنَا} ناصب واسمه {يَكْتُبُونَ}: فعل وفاعل {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَكْتُبُونَ} وجملة {تَمْكُرُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: تمكرونه، أو صلة {مَا} المصدرية، وجملة {يَكْتُبُونَ} في محل الرفع، خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل النصب، مقول القول على كونها تعليلًا لما قبلها. {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {يُسَيِّرُكُمْ}، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {فِي الْبَرّ}: متعلق بـ {يسير} {وَالْبَحْرِ}: معطوف على {الْبَرِّ} {حَتَّى} حرف جر وغاية {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {كُنْتُمْ} فعل نافص واسمه {فِي الْفُلْكِ} جار ومجرور خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل الجر بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {وَجَرَيْنَ}: فعل وفاعل معطوف على {كُنْتُمْ} {بِهِم}: متعلق به. وكذا يتعلق به قوله: {بِرِيحٍ}، {طَيِّبَةٍ} صفة {ريح} فإن قلت: كيف يتعدى فعل واحد إلى معمولين، بحرفي جر متحدين لفظًا ومعنى؟ قلت: إن الباء الأولى للتعدية، كهي في مررت يزيد، والثانية للسببية، فاختلف المعنيان، فلذلك تعلقًا بعامل واحد، ويجوز أن تكون الثانية للحال، فتتعلق بمحذوف، تقديره: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتكون الحال من ضمير الفلك اهـ "سمين" {وَفَرِحُوا} فعل وفاعل معطوف على {كُنْتُمْ} {بِهَا} متعلق به {جَاءَتْهَا رِيحٌ}: فعل ومفعول وفاعل. {عَاصِفٌ}: صفة {ريح} والجملة الفعلية جواب {إذًا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} في محل الجر، بحتى

الغائية، التي بمعنى: (إلى) تقديره: هو الذي يسيركم في البر والبحر إلى مجيء ريح عاصف، ومجيء الموج إياهم، وقت كونكم في الفلك وجريها بكم، وفرحكم بها، الجار والمجرور متعلق بـ {يسير}. {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ} فعل ومفعول وفاعل معطوف على {جَاءَتْهَا}، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}: جار ومجرور مضاف إليه متعلق به {وَظَنُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {جَاءَتْهَا} {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {أُحِيطَ}: فعل ماض مغير الصيغة {بِهِمْ}؛ نائب فاعل له، وجملة {أُحِيطَ} في محل الرفع خبر {أَنْ} وجملة {أَنْ} في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي، ظن، تقديره: وظنوا إحاطة الهلاك بهم {دَعَوُا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، بدل من {ظَنُّوا} بدل اشتمال. {مُخْلِصِينَ} حال من واو {دَعَوُا} {له} متعلق بـ {مخلصين} {الدِّينَ} مفعول مخلصين؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله ضمير مستكن فيه؛ أي: هم {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا}: اللام: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط {أَنْجَيْتَنَا}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم، بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره. لئن أنجيتنا، نكن من الشاكرين. {مِنْ هَذِهِ} متعلق بأنجيتنا {لَنَكُونَنَّ}: اللام موطئة للقسم، مؤكدة للأولى {نكونن}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على المتكلمين {مِنَ الشَّاكِرِينَ}: خبرها، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إن} الشرطية جواب للقسم الأول، لا محل لها من الإعراب وجملة القسم في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من واو {دَعَوُا} تقديره: دعوا الله حالة كونهم قائلين في دعائهم: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. {فَلَمَّا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،

تقديره؛ إذا عرفت وعدهم المذكور في دعائهم، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك لما أنجاهم إلخ. {لَمَّا}: حرف شرط، غير جازم {أَنْجَاهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله، ضمير يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب {إذَا}: فجائية رابطة لجواب {لَمَّا} وجوبًا، حرف لا محل لها من الإعراب {هُمْ} مبتدأ. وجملة {يَبْغُونَ} خبره {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به {بِغَيْرِ الْحَقّ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل {يَبْغُونَ} والجملة الاسمية جواب {لَمَّا} وجملة {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {يَا أَيُّهَا}: يا: حرف نداء. أي: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد {النَّاسُ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة {إنَّمَا}: أداة حصر {بَغْيُكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه {عَلَى أَنْفُسِكُمْ}؛ خبره والجملة الاسمية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب {مَتَاعَ}: منصوب على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا، والجملة المحذوفة مستأنفة. أو مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: ذلك البغي متاع الحياة الدنيا، والجملة مستأنفة. أو مجرور على كونه صفة {لأنفسكم} ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: ذوات متاع الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، تقديره: ممتعات الحياة الدنيا، ذكره أبو البقاء {الْحَيَاةِ}: مضاف إليه {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ} {ثُمَّ}: حرف عطف {إِلَيْنَا}: خبر مقدم {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية المحذوفة، أو على الاسمية المحذوفة {فَنُنَبِّئُكُمْ} الفاء عاطفة {ننبئكم} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة، قوله: ثم إلينا مرجعكم {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ننبئكم} على كونه مفعولًا ثانيًا له {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط

محذوف، تقديره: بما كنتم تعملونه. التصريف ومفردات اللغة {الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: القرون: الأمم واحدها، قرن، وهم القوم المقترنون في زمن واحد، قيل: مئة سنة أو ثمانون سنة أو ما دونها، فيه أقوال أخر. وجاء في الحديث الشريف: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم {بِالْبَيِّنَاتِ}: جمع بينة: الحجة الواضحة والمعجزة الباهرة، كعصا موسى، وناقة صالح {خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}: جمع خليفة، وهو من يخلف غيره في شيء. {لِنَنْظُرَ}؛ أي: لننظر متعلق علمنا، ونشاهد ونرى {وَلَا أَدْرَاكُمْ}: يقال؛ دريته ودريت به؛ أي: علمته {عُمُرًا}؛ أي: مدة طويلة، أربعين سنة {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً}: أصل الذوق إدراك الطعم بالفم، ويستعمل في إدارك الأشياء المعنوية، كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة. {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}، والمكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يتوقعه، ومكره تعالى: تدبيره الذي يخفى على الناس، بإقامة سننه وإتمام حكمه في نظام العالم، وكله عدل وحق، فإن ساء الناس سموه شرًّا، وإن كان جزاءً عدلًا. {إِنَّ رُسُلَنَا} والرسل هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة. {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} سير من باب فعل، المضعف، وهو من الثلاثي المزيد، بحرف؛ لأنه من سار يسير سيرًا، من باب باع، والتسيير جعل الشيء، أو الشخص يسير بتسخيره تعالى، أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة. {في الفلك}: والفلك يستعمل جمعًا ومفردًا، فحركته إذا كان جمعًا، كحركة بدن، جمع بدنة وإذا كان مفردًا كحركة قفل، ويفرق بينهم بنحو الصفة، وهنا مستعمل في الجمع بدليل، وجرين وفي آية {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} مستعمل مفردًا {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}؛ أي: لينة الهبوب، وفي " المصباح" الريح الهواء بين السماء والأرض، وأصلها الواو، لكن قلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها، والجمع، أرواح، ورياح، وبعضهم يقول: أرياح بالياء، على لفظ الواحد، وغَلّطه أبو حاتم، والريح مؤنثة على الأكثر، فيقال: هي الريح، وقد تذكر على معنى الهواء، فيقال: هو الريح،

وهب الريح، نقله أبو زيد. وقال ابن الأنباري: الريح: مؤنثة لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار، فإنه مذكر، وراح اليوم يروح روحًا من باب قال، وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه، فهو رائح. والطيب من كل شيء ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال: رزق طيب، ونفس طيبة، وشجرة طيبة {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} والعاصف: الذي يعصف الأشياء ويكسرها، يقال: ريح عاصف وعاصفة، وقال أبو حيان: العاصف الشديدة، يقال: عصفت الريح، إذا اشتد هبوبها. قال الشاعر: حَتَّى إِذَا عَصَفَتْ رِيْحٌ مُزَعْزِعَةٌ ... فِيْهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجَلُ وقال أبو تمام: إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيْدَانَ نَجْدٍ وَلاَ يَعْبَأْنَ بِالرُّتَمِ {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ} والموج: ما ارتفع من الماء عند هبوب الهواء، سمي موجًا لاضطرابه {أُحِيطَ بِهِمْ} يقال: أحيط، إذا هلك، كما يحيط العدو بعدوه، فيسد عليه سبيل النجاة {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} والبغي: ما زاد على القصد والاعتدال، من بغى الجرح إذا زاد، حتى ترامى إلى الفساد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها (¬1): الاستعارة التمثيلية في قوله: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} حيث شبه حال العباد مع ربهم، بحال رعية مع سلطانها في إمهالهم، لينظر ماذا تعمل، واستعير الاسم الدال على المشبه به للمشبه، على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ¬

_ (¬1) الصاوي.

ومنها: الالتفات عن الخطاب في قوله: {مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى الغيبة في قوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}؛ لأن الضمير واقع على أهل مكة، وعن الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} والأصل وجرين بكم لما فيه من زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار، لعدم شكرهم النعمة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} وفي قوله: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ}. ومنها: التكرار في قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وفي قوله: {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} حكايةً للحال الماضية، وإشعارًا باستمرار حالهم على ما كانوا عليه أولًا. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً}؛ لأن الذوق حقيقة في إدراك الطعم بالفم، شبه الإذاقة بمعنى إعطاء الرحمة بالذوق، بمعنى إدراك الطعم بجامع إيصال النفع في كل، فاشتق منه أذقنا بمعنى، أعطينا الرحمة على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية وكذلك في قوله: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} فيه الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأن المس حقيقة في لمس الأجسام، فاستعاره لإصابة الضراء، ونزولها بهم. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا} وكان مقتضى السياق أن يقول، إن رسله؛ لأنه قال قبله {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} شبه إتيان الموج من كل مكان الذي أشرف بهم إلى الهلاك، وسدّ عليهم مسالك الخلاص والنجاة، بإحاطة العدو، وأخذه بأطراف خصمه كما في "الشهاب". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}؛ لأنه أطلق

البغي الذي هو سبب الوبال، وأراد به الوبال، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب، أو فيه (¬1) استعارة بتشبيه بغيه على غيره بإيقاعه على نفسه، بجامع ترتب الضرر فيهما كقوله: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أو المراد بالأنفس أمثالهم استعارة أو أبناء جنسهم، كنفس واحدة، وهو استعارة أيضًا، اهـ "شهاب". ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} للدلالة على الثبات والقصر، اهـ "أبو السعود". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .. ضرب مثلًا عجيبًا غريبًا للحياة الدنيا، تذكر من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها، وأنها بحال ما تعز وتسر تضمحل، ويؤول أمرها إلى الفناء. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذ الآية لما قبلها: أنه لما (¬1) كان سبب بغي الناس في هذه الحياة الدنيا هو إفراطهم في حبها والتمتع بزينتها .. ضرب بذلك مثلًا يصرف العاقل عن الغرور بها ويرشده إلى الاعتدال في طلبها، والكف عن التوسل في الحصول على ذاتها بالبغي، والظلم والفساد في الأرض، فشبه حال الدنيا، وقد أقبلت بنعيمها وزينتها، وافتتن الناس بها بعد أن تمكنوا من الاستمتاع بها، ثم أسرع ذلك النعيم في التقضي وانصرم غب إقباله واغترار الناس به بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر، فيلتف بعضها على بعض، وتصبح بهجة للناظرين، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة، تستأصلها وتجعلها حطامًا، كأن لم تغن بالأمس. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا، وضرب لهم الأمثال على ذلك .. أردف ذلك بالترغيب في الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات .. ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة إذ أهلها سالمون من كل مكروه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ ....}، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا، وحالهم يوم القيامة، ومآلهم إلى الجنة .. ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بيّن جزاء الذين كسبوا السيئات، وما يكون لهم من الذلة والهوان .. قفى على ذلك بذكر اليوم الذي يحصل فيه هذا الجزاء. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬2) فضائح عبدة الأوثان .. أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم، بما يوبخهم، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة، فبدأ بما فيه قوام حياتهم، وهو الرزق الذي لا بد منه فمن السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات. وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى جنايات المشركين على أنفسهم، وبين فساد معتقداتهم، وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا .. أردف ذلك بإقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما استفهمهم (¬3) عن أشياء من صفات الله تعالى، واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق، وعبادة الله تعالى .. استفهم عن شيء هو سبب العبادة، وهو إبداء الخلق، وهم يسلمون ذلك كما قال في آية أخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ثم إعادة الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطفه على ما يسلمونه، ليعلم أنهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...} الآية، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[24]

الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) عجز أصنامهم عن الإبداء، والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة، وأعظم دلائل الألوهية .. بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله، وهو الهداية إلى الحق، وإلى مناهج الصواب. وعبارة المراغي هنا: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ....} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على المشركين بما تقدم .. ذكر هنا ضربًا آخر من الحجة، أقامه عليهم سبحانه وتعالى دليلًا على توحيده وبطلان الإشراك به، جاء فيه بطريق السؤال للتوبيخ، وإلزام الخصم، فإن الكلام إذا كان ظاهرًا جليًّا ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوض الجواب إلى المسؤول .. يكون أوقع في النفس، وأبلغ في الدلالة على الغرض، انتهت. التفسير وأوجه القراءة 24 - {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: إنما صفة الحياة الدنيا في سرعة انقضائها وفنائها وزوالها، و {إِنَّمَا}: ليست هنا للحصر؛ لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالًا غير هذا {كَمَاءٍ} أي: كمثل نبات ماء ومطر {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: أنزلنا ذلك الماء والمطر {مِنَ السَّمَاءِ} والسحاب وإنما شبه الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض؛ لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه، بزيادة أو نقص، بخلاف ماء الأرض، فكان تشبيه الحياة به أنسب {فَاخْتَلَطَ} واشتبك وتراكم لكثرته {بِهِ}؛ أي: بسبب ذلك الماء {نَبَاتُ الْأَرْضِ} حالة كون ذلك النبات {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الثمار والحبوب والبقول والأبازير {و} مما يأكل {الأنعام} والبهائم، من الحشيش والكلأ والعشب؛ أي؛ {إنَّمَا}: صفة الحياة الدنيا في صورتها ومآلها، كصفة نبات ماء نزل من السماء، فأنبتت به الأرض أزواجًا شتى، من النبات تشابكت وتراكمت والتفت واختلط بعضها، ببعض لكثرتها مع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

اختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى تكفي الناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم. وحتى في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} غاية لمحذوفٍ تقديره: وما زال ذلك النبات ينمو ويزهو ويكبر، حتى إذا أخذت الأرض، واستوفت واستكملت إنباتها وأظهرت زخرفها وجمالها وبهجتها من النبات {وَازَّيَّنَتْ}؛ أي: تزينت بذلك الزخرف والنبات، كعروس أخذت حليها من الذهب والجواهر والحلل المختلفة الألوان، ذات البهاء والبهجة، وازينت بها في ليلة زفافها {وَظَنَّ أَهْلُهَا}؛ أي: أهل تلك الأرض {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}؛ أي: قادرون على التمتع بثمراتها، متمكنون من جذاذها وحصدها، وتحصيل ثمارها وزروعها وبقولها. وجواب {إذَا} قوله: {أَتَاهَا}؛ أي: أتى ثمار تلك الأرض وزروعها {أَمْرُنَا}؛ أي: قضاؤنا بهلاكها، وجاءها عذابنا {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا}؛ أي: فجعلنا ثمار تلك الأرض وزروعها {حَصِيدًا}؛ أي: كالمحصود بالمناجل المقطوع من أصله المعدوم، وصارت تلك الثمار والزروع {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ}؛ أي: كأنها لم توجد، ولم تنبت على تلك الأرض {بِالْأَمْسِ}؛ أي: في الزمن الماضي أصلًا. والمراد بالأمس الزمن الماضي، لا خصوص اليوم الذي قبل يومك؛ أي: نزل بها في تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها، فجاءتها جائحة، وضرب زرعها بعاهة، كجراد أو صقيع، الذي يسقط بالليل من السماء شبيه بالثلج شديد أو ريح سموم ليلًا وهم نائمون أو نهارًا وهم غافلون، فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت ثمارها، واستؤصل زرعها، ولم يبق منه شيء، أو كأنها لم تنبت، ولم تكن زروعها نضرة بالأمس. وجاء هذا المعنى في قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}. والمعنى: إن هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء، مثل النبات الذي لما عظم الرَّجاء في الانتفاع به .. وقع اليأس منه بالهلاك والمتمسك بالدنيا، إذا نال منها بغيته .. أتاه الموت بغتة، فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها. وقيل: يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد، والبعث بعد الموت، وذلك؛ لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى .. أتته آفة، فتلف

بالكلية، ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرّةٍ فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادرًا على إعادة الأموات أحياء في الآخرة، ليجازيهم على أعمالهم، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي {كَذَلِكَ}؛ أي: كما فصلنا وبينا مثل الحياة الدنيا، وعرفناكم حكمها {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}؛ أي: نبين حججنا ودلائل قدرتنا {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويتأملون فيها، ويعتبرون بها، ليكون ذلك سببًا موجبًا لزوال الشك، والشبهة عن القلوب. والخلاصة: أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس بها، مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها، نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول الشرائع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق، وكل ما فيه صلاح للناس، في معاشهم ومعادهم، لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة، فليس هذا المثل قاصرًا على شخص دون شخص، بل هو عبرة لمن كان له بصيرة وتدبر، فينبغي للإنسان أن ينزل القرآن في خطاباته على نفسه، ويتأمل فيها ويتدبر، ليأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَازَّيَّنَتْ} وأصله: وتزينت فأدغمت التاء في الزاي، فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي، وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش: {وتزينت} على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية وقتادة ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: {وأزينت} على وزن أفعلت، كأحصد الزرع؛ أي: حضرت زينتها، وحانت وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعليت المرأة، والقياس: وأزانت، كقولك: وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي: بهمزه مفتوحة. بوزن، أفعألت قاله: عنه صاحب "اللوامح"، قال: كأنه كانت في الوزن بوزن احمارت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة، ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة، فقال: وقرأت فرقة، وأزيأنت ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[25]

وهي لغة منها، قال الشاعر: إِذا مَا الْهَوَادِيْ بِالْعَبِيْطِ احْمَأَرَّتِ وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة {وازيانت} بنون مشددة، وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرق {وازاينت} والأصل وتزاينت فأدغم. وقرأ الحسن وقتادة {كأن لم يغن} بالياء على التذكير، فقيل: عائد على المضاف المحذوف، الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله: {قَادِرُونَ عَلَيْهَا} وفي قوله: {أتاها فجعلناها}. وقيل: عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد؛ أي: كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر {كأن لم تتغن} بتائين مثل تتفعل. وفي مصحف أبي {كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها} وفي "التحرير" نفصل الآيات، رواها عنه ابن عباس. وقيل: في مصحفه {وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها} وفي "التحرير". وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبي {كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها} ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة؛ لأنها مخالفة لخط المصحف، الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون، انتهى. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل. وقرأ أبو الدرداء {لقوم يتذكرون} بالذال بدل الفاء. 25 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى صفة الدنيا، ورغب في الزهد فيها والتجنب لزخارفها .. رغب في الآخرة ونعيمها حيث قال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَدْعُوا} عباده {إِلَى} الجنة {دَارِ السَّلَامِ} بدعائه إلى التوحيد والإيمان؛ أي: دار السلامة يسلم من دخلها من جميع الآفات الدنيوية كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد، أو دار يسلم الله سبحانه وتعالى فيها على أهلها، أو دار تسلم الملائكة فيها على أهلها أو دار الله السلام؛ أي: دار الله الذي سلم من كل النقائص والعيوب، والإضافة فيه للتشريف أو إلى الجنة التي تسمى دار السلام؛ لأن دار السلام، اسم لإحدى الجنان السبع أحدها: دار

السلام والثانية: دار الجلال والثالثة: جنة عدن والرابعة: جنة المأوى والخامسة: جنة الخلد والسادسة: جنة الفردوس والسابعة: جنة النعيم. وقيل: المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة. وهذه الجملة كأنها معطوفة على مقدر، تقديره: ذلك (¬1) الإِيثار لمتاع الدنيا والغرور بها: هو ما يدعو إليه الشيطان فيوقع متبعيه في جهنم، دار النكال والوبال، والله يدعوا عباده إلى دار السلام؛ إذ يأمرهم إلى ما يوصل إليها {وَيَهْدِي} الله سبحانه وتعالى ويوفق {مَنْ يَشَاءُ} من خلقه ويختاره للهداية {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى الطريق الموصل إليه، القويم الذي لا اعوجاج فيه، وهو طريق دين الإِسلام، عقائده وفضائله وأحكامه. عم (¬2) بالدعوة أولًا، إظهارًا للحجة، وخص بالهداية ثانيًا، استغناءً عن الخلق، وإظهارًا للقدرة، فحصلت المغايرة بين الدعوتين، فالدعوة (¬3) عامة على لسان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بالدلالة والهداية، خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية، والمعنى: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون. وعن جابر رضي الله عنه قال: جاءت الملائكة إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو نائم، فقال؛ بعضهم إنه نائم وقال بعضهم: العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقالوا: مثله، كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي .. دخل لدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها بفقهها، فإن العين نائمة، والقلب يقظان، فقال بعضهم: الدار الجنة، والداعي محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فمن أطاع محمدًا .. فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا .. فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. وفي رواية، خرج علينا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا" رواه البخاري. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي.

[26]

26 - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أعمالهم في الدنيا بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات المثوبة {الْحُسْنَى}؛ أي: البالغة أعلى درجات الحسن، وهي الجنة {و} لهم أيضًا {زيادة} عظيمة ما وراءها فوق، وهي النظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى. وقد ورد من طرق عدة أن هذه الزيادة، هي النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أعلى مراتب الكمال الروحي، الذي لا يصل إليه إلا المحسنون العارفون في الآخرة. وهذا قول جماعة من الصحابة: منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وهو قول الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي، ويدل على صحة هذا القول المنقول والمعقول. أما المنقول (¬1): فما روي عن صهيب، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: أتريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى" زاد في رواية: ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أخرجه مسلم. وروى الطبري بسنده عن كعب بن عجرة، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم" وعن أبي بن كعب، أنه سأل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عن قول الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم"، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وأما المعقول: فنقول: إن الحسنى، لفظة مفردة، دخل عليها حرف التعريف، فانصرفت إلى المعهود السابق، وهو الجنة في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} فثبت بهذا، أن المراد من لفظة: الحسنى، هو الجنة وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرًا مغايرًا لكل ما في الجنة من النعيم، وإلا لزم التكرار، وإذ كان كذلك وجب حمل هذه الزيادة على ¬

_ (¬1) الخازن.

[27]

رؤية الله تبارك وتعالى. القول الثاني: في معنى هذه الزيادة، ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب. والقول الثالث: إن الحسنى واحدة الحسنات، والزيادة التضعيف إلى تمام العشرة، وإلى سبع مئة. قال ابن عباس: هو مثل قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. قال قتادة: كان الحسن. يقول: الزيادة: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف. القول الرابع: إن الحسنى، حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان، قاله مجاهد. القول الخامس: قول ابن زيد: إن الحسنى هي الجنة، والزيادة ما أعطاهم في الدنيا، لا يحاسبهم به يوم القيامة، اهـ من "الخازن". {وَلَا يَرْهَقُ}: ولا يغشى ولا يغطي {وُجُوهَهُمْ}؛ أي: وجوه أهل الجنة {قَتَرٌ}؛ أي: سواد {وَلَا ذِلَّةٌ}؛ أي: كآبة وحزن. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى؛ أي: ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى الكفرة، من الغبرة التي فيها سواد، ولا أثر هوان ولا انكسار بال. {أُولَئِكَ} الذين هذه صفتهم هم {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وسكانها وملازموها و {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبدًا، لا نهاية له، فهي لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين منها، فتنغص عليهم لذاتهم. والمعنى: أن هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أصحاب الجنة لا غيرهم، وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبدًا. وقرأ (¬1) الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر والأعمش: {قتر} بسكون التاء، وهي لغة كالقدر والقدر. 27 - {وَالَّذِينَ كَسَبُوا} وعملوا في الدنيا {السَّيِّئَاتِ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أي: الشرك والمعاصي، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله، - صلى الله عليه وسلم -، {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}؛ أي (¬1): جزاء سيئاتهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها، لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة؛ أي: جزاء سيئة واحدة من عملهم السيء الذي عملوه في الدنيا، بمثلها من عقاب الله في الآخرة، جزاءً وفاقًا، ولا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئًا {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}؛ أي: تغشى وتعلو أنفسهم ذلة عظيمة؛ أي: يصيبهم ذل وخزي وهوان، بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من عذاب الله وسخطه {مِنْ عَاصِمٍ}؛ أي: مانع يمنعه، ويحفظه إذا هو عاقبهم، أو يحول بينه وبينهم كالذين اتخذوهم في الدنيا شركاء وزعموهم شفعاء، فذلك هو اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب التي كانت تفيد في الدنيا {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. فائدة: وجاءت (¬2) صلة المؤمنين أحسنوا وصلة الكافرين كسبوا السيئات، تنبيهًا على أن المؤمن، لما خلق على الفطرة، وأصلها بالإحسان، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة، انتقل عنها وكسب السيئات، فعل ذلك محسنًا، وهذا كاسبًا للسيئات، ليدل على أن المؤمن سلك ما ينبغي وهذا سلك ما لا ينبغي. {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} وغطيت وألبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} وجزءًا جمع قطع {مِنَ} أديم {اللَّيْلِ} حال كونه حالكًا {مُظْلِمًا} لا بصيص - لمعة - فيه من نور القمر الطالع، ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعةً بعد قطعة، فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض؛ أي: كأن وجوه أهل النار، لفرط سوادها، ألبست طائفة من سواد الليل المظلم. {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات المذكورة الذميمة {أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ}؛ أي: ساكنوها وملازموها و {هُمْ فِيهَا}؛ أي: في النار {خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون مكثًا مؤبدًا، لا انقضاء لها، لا يبرحونها؛ لأنه ليس لهم مأوى سواها. وقد جاء في معنى هذه الآيات، في وصف الفريقين، قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط.

[28]

ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}. وقرىء {ويرهقهم} بالياء؛ لأن تأنيث الذلة مجاز. وقرأ الجمهور؛ {قِطَعًا} بكسر القاف وفتح الطاء، جمع قطعة، كقربة، وقرب. وقرأ ابن كثير، والكسائي: {قطعا} بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع. وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وقرأ أبي {كأنما تغشى وجوههم قط من الليل مظلم}. 28 - {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ}؛ أي: واذكر، يا محمَّد، لكلا الفريقين الذين أحسنوا، والذين كسبوا السيئات، قصة يوم نحشر الخلائق ونجمعهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة. والحشر: الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد. حالة كونهم {جَمِيعًا}؛ أي: متجمعين لا يتخلف منهم أحد، أو نحشر العابدين والمعبودين {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ أي: للمشركين منهم بعد طول مكث، لا يكلمون بشيء قبل ذلك {مَكَانَكُمْ}؛ أي: الزموا مكانكم وموقفكم واثبتوا فيه {أَنْتُمْ} أيها المشركون {وشركاؤكم}؛ أي: معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله تعالى، حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم. وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة {نحشرهم} بالنون. وقرأت فرقة بالياء. وقرىء {وشركاءكم} بالنصب على أن الواو بمعنى: مع، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يحشر العابد والمعبود، لسؤالهم، ثم يقول للذين أشركوا في حالة الحشر ووقت الجمع، تقريعًا لهم على رؤوس الأشهاد، وتوبيخًا لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة، وحضور معبوداتهم: مكانكم؛ أي: الزموا مكانكم واثبتوا فيه، وقفوا في موضعكم أنتم ومعبوداتكم، حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم، فيما كان من سبب عبادتكم إياهم، والحجة التي يحتج بها كل فريق منكم. وفي هذا وعيد شديد، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد، وتقريع يكون هذا عظم سيئاتكم {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}؛ أي: ففرقنا بين المشركين وشركائهم، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وباعدنا بينهم بعد الجمع في الموقف. والمعنى: ففرقنا بين العابدين والمعبودين، وميزنا بعضهم من بعض، كما يميز بين الخصوم

[29]

عند الحساب، ويراد بهذا التفريق تقطيع ما كان بينهم في الدنيا من صلات وروابط، وبيان خيبة ما كان للمشركين في الشركاء من آمال وتبرُّؤ المعبودين من العابدين وعبادتهم، كما قال: {وقال شركاؤهم} الذين عبدوهم، وجعلوهم شركاء لله سبحانه وتعالى، أي: قال المعبودون للعابدين {مَا كُنْتُمْ} أيها المدعون لعبادتنا {إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}؛ أي: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم التي أغوتكم، فإنها الآمرة لكم بالإشراك، وتتخذون تماثيلنا هياكل لمنافعكم وأغراضكم، والمعبود الحق: هو الذي يعبد وحده؛ لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق، وبيده الضر والنفع. وقدم المفعول هنا للفاصلة لا للحصر، إذ ليس الغرض أن المنفي عبادة الأصنام المقصورة عليها فقط، بل مطلق عبادتها، سواء كانت مقصورة عليها أم لا، اهـ "فتوحات". 29 - {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}؛ أي: فكفى الله سبحانه وتعالى شهيدًا وحكمًا بيننا، وبينكم، فهو العليم بحالنا وحالكم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ}؛ أي: إنا كنا عن عبادتكم إيانا {لَغَافِلِينَ}؛ أي: لجاهلين لا نعلمها ولا نرضى بها؛ لأن العبادة لا تليق بنا، بل لله سبحانه وتعالى وحده. والمعنى: وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه: ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم، الذين أغووكم وإنما أضاف الشركاء إليهم، مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية. وقيل: لكونهم شركاءهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء، وإن كان مخالفًا لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة. 30 - {هُنَالِكَ}؛ أي: في ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على (¬1) معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان؛ أي: في ذلك المقام، والموقف الذي ¬

_ (¬1) الخازن.

يقتضى الحيرة والدهش {تبلو} بالتاء (¬1)، فالباء على القراءة المشهورة؛ أي: تذوق {كُلُّ نَفْسٍ} سعيدة أو شقية {مَا أَسْلَفَتْ}؛ أي: جزاء ما قدمت من عمل، فتعلم نفعه، أو ضره. وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي: {تتلو} بتاءين؛ أي: تقرأ كل نفس في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر، أو تتبع ما أسلفت؛ لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة، أو إلى طريق النار. وقرأ عاصم: {نبلو كل نفس} بالنون فالباء ونصب كل؛ أي: نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل السيء؛ أي: نفعل بها فعل المختبر، أو المعنى: نصيب بالبلاء الذي هو العذاب كل نفس عاصية، بسبب ما أسلفت من الشر. وقوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} معطوف على فزيلنا بينهم، والضمير فيه عائد إلى الذين أشركوا؛ أي: أعرض الذين أشركوا عن المولى الباطل، ورجعوا إلى المولى الحق؛ أي: الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وأقروا بألوهيته ووحدانيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، وردوا إلى حكمه؛ أي: ردوا إلى جزائه وما أعدَّ لهم من عقابه، ومولاهم ربهم والحق صفة له؛ أي: الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة. وقرأ يحيى بن وثاب (¬2): {وردوا} بكسر الراء، لما سكن للإدغام .. نقل حركة الدال إلى الراء بعد سلب حركتها. وقرىء {الحق} بالنصب على المدح. نحو: الحمد لله أهل الحمد. {وَضَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: ضاع وغاب عنهم في الموقف، فلا ينافي قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: ما كانوا يدعون من أن معبوداتهم آلهة، وأنها تشفع لهم. وحاصل معنى الآية (¬3): أي في موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[31]

ومعبودة ومؤمنة وجاحدة، ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل وما كان لكسبها في صفاتها من أثر، خير أو شر، بما ترى من الجزاء عليه، فهو ثمرة طبيعة له، لا شأن فيه لولي ولا شفيع ولا معبود ولا شريك. {رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}؛ أي: وأرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق، دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء والأنداد والشركاء. وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} {وَضَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: وضاع عنهم وغاب؛ أي: في الموقف {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} عليه من الشفعاء والأولياء، فلم يجدوا أحدًا ينصرهم لا ينقذهم من هول ذلك الموقف، كما قال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة منها: ما جاء مجملًا، ومنها: ما جاء مفصلًا: فمنها: ما يسأل الله فيه العابدين. ومنها: ما يسأل فيه المعبودين. ومنها: ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين. والحاصل: أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ويعترفون به ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهًا، ولكن حين لا ينفعهم ذلك. 31 - {قُلْ} يا محمَّد، لهؤلاء المعاندين من أهل مكة {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} بما ينزله عليكم من الأمطار {و} يرزقكم من {الأرض} بما ينبته من نباتات شتَّى، من نجم وشجر تأكلون منه؛ أو تأكل أنعامكم، والاستفهام فيه للتقرير، وكذا فيما بعده؛ أي: من الذي يرزقكم منهما جميعًا، فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحدة منهما، والمقصود من هذا القول، الاستدلال على حقية التوحيد، وبطلان ما هم عليه من الشرك، اهـ "أبو السعود". وهذه أسئلة ثمانية، جواب الخمسة الأولى منها: منهم، وجواب

الاثنين بعدها منه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الله إياه، لعدم قدرتهم عليه، وجواب الأخيرة، لم يذكر لشهرته والعلم به. وأم في قوله: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} هي (¬1) المنقطعة؛ لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تقدر هنا ببل وحدها دون الهمزة، وقد تقرر عند الجمهور أن المنقطعة تقدر بهما، وإنما لم تقدر هنا ببل، والهمزة؛ لأنها وقع بعدها هنا اسم استفهام صريح، وهو: من والإضراب هنا على القاعدة المقررة في القرآن أنه إضراب انتقال، لا إضراب إبطال اهـ "سمين"؛ أي: وقيل لهم (¬2) يا محمَّد، بل من يملك ما تتمتعون به من حاستي السمع والبصر، وأنتم بدونهما لا تدرون شيئًا من أمور العالم، وتكون الأنعام والهوام، بل والشجر خيرًا منكم؛ باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها؛ أي: أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما، من أدنى شيء، وخص هاتين الحاستين بالذكر؛ لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية، وكمال الحياة الإنسانية، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية. وخلاصة ذلك: بل من خلق هذه الحواس، ووهبها للناس، وحفظها مما يعتريها من الآفات، ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر، فإن هم تأملوا في ذلك .. ازدادوا علمًا وإعجابًا بإنعام الله بهما، وإيمانًا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما. وعن علي رضي الله عنه كان يقول: سبحان من بصَّر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم. {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}؛ أي: ومن يقدر أن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة، والمؤمن من الكافر {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}؛ أي: وأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر والكافر من المؤمن؛ أي: وقيل لهم: بل من ذا الذي بيده أمر الموت والحياة، فيخرج الحي من الميت، والميت من الحي، فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون، فالله هو الذي يخرج النبات ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[32]

من الأرض الميتة، بعد إحيائه إياها، بماء المطر النازل عليها من السماء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}. {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؛ أي: ومن يتولى تدبير أمر الخليقة جميعًا، بما أودعه في كل منها من السنن، وقدره من النظام، وهذا السؤال الخامس أعم من كل من الأربعة قبله، فهو من ذكر العام بعد الخاص. {فَسَيَقُولُونَ} في جواب هذه الأسئلة الخمسة بلا تباطؤ ولا تجاحد هو {اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة، بأن فاعل ذلك كله هو الله سبحانه وتعالى رب العالم كله ومليكه، إذ لا جواب غيره، وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه. والهمزة في قوله: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره؛ فقل: لهم يا محمَّد، عند ذلك تبكيتًا لهم ووعظًا وتذكيرًا لهم، أتعلمون ذلك فلا تتقون سخطه وعقابه لكم، بشرككم وعبادتكم لغيره، ممن لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا 32 - {فَذَلِكُمُ} المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو {اللَّهُ}؛ أي: المعبود بحق {رَبُّكُمُ}؛ أي: المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم {الْحَقُّ}؛ أي: الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه. والاستفهام في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} للإنكار التوبيخي، بدليل ذكر إلا الإيجابية بعده؛ أي: فماذا بعد الرب الحق، الثابتة ربوبيته إلا الضلال؛ أي: الباطل الضائع المضمحل، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، وعبادته وحده هي الهدى، وما سواها من عبادة الشركاء والوسائط ضلال، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال؛ أي: فإذا ثبت أن عبادة الله حق، ثبت أن عبادة غيره من الأصنام ضلالٌ محض، إِذ لا واسطة بينهما. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؛ أي: فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، مع علمكم بما كان الله به هو الرب الحق، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فتتخذون مع الله آلهة أخرى؛ أي: فكيف تمالون من التوحيد إلى الإشراك، وعبادة الأصنام مع علمكم ذلك؟ فالاستفهام فيه، للتعجيب والابتعاد والإنكار.

[33]

33 - {كَذَلِكَ}؛ أي: كما حق وثبت أن الحق ليس بعده إلا الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون من الحق {حَقَّتْ} وثبتت {كَلِمَتُ رَبِّكَ}؛ أي: وجب حكمه ونفذ قضاؤه {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا}؛ أي: خرجوا من الحق إلى الباطل، وتمردوا في كفرهم عنادًا ومكابرةً، وتلك الكلمة هي قوله جل ثنائه: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ ...} الآية. أو هي جملة قوله: {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فتكون هذه الجملة بدلًا من كلمة ربك، بدل كل من كل؛ أي: حقت كلمة ربك التي هي عدم إيمانهم. وعلى المعنى الأول: تكون الجملة تعليلية لما قبلها، بتقدير اللام؛ أي: حقت عليهم كلمة ربك، التي هي دخول جهنم؛ لأنهم لا يؤمنون. والمعنى: كما حقت كلمة ربك بوحدة الربوبية والألوهية، وكون الحق ليس بعده إلا الضلال، حقت كلمة ربك؛ أي: وعيده على الذين خرجوا من حظيرة الحق، وهو توحيد الألوهية والربوبية، وهداية الدين الحق. {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: هي أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا، من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بينة، والحجة ظاهرة قوية؛ أي: وجب وثبت قضاء ربك، بأنهم لا يؤمنون لرسوخهم وتمردهم في الإشراك. وليس المراد (¬1): أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر، بل هم يمتنعون منه باختيارهم، لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل، فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال، لرسوخهم في الكفر واطمئنانهم به بالتقليد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}. وقرأ (¬2) أبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر: {كلمات ربك} بالجمع هنا، وفي آخر السورة. وقرأ باقي السبعة بالإفراد. 34 - والاستفهام في قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} للتقرير، كالاستفهامات السابقة والآتية، أي: قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله تعالى، أو من دون الله، من الأصنام أو الأرواح الحالة فيها، كما تزعمون، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[35]

أو الكواكب السيارة، أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: من ينشىء المخلوقات من العدم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} في القيامة للجزاء؛ أي: من له التصرف في هذا الكون ببدء الخلق في طور، ثم إعادته في طور آخر. وفي هذا سؤالان: سؤال عن البدء، وسؤال عن الإعادة. ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال، كما أجابوا عن الأسئلة الأولى، لإنكارهم للبعث والمعاد، لقن الله سبحانه وتعالى رسوله الجواب، فقال: {قُلِ} لهم، يا محمَّد، في الجواب {اللَّهُ} سبحانه وتعالى هو الذي {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: ينشىء المخلوقات من العدم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يوم القيامة للمجازاة، لا جواب غيره، إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرًا على إعادته بالأولى، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية، دون الأحياء النباتية، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض حين ما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافه في فصل الصيف والخريف، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله تعالى هو الذي يفعل البدء والإعادة؛ لأنهم يشاهدون كلًّا منهما، وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم، أو يلمسونه بأيديهم. وقد أمر الله رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير في أمرهم فقال: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} والاستفهام فيه تعجبي؛ أي: فكيف تصرفون من الحق، الذي لا محيد عنه، وهو التوحيد إلى الضلال البين، وهو الإشرك وعبادة الأصنام، وذلك من دواعي الفطرة، وخاصة العقل حين تفكيره في المصير، 35 - ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره، إلزامًا لهم عقب الإلزام الأول، فسألهم عن شأن من شؤون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال: {قُلْ} لهم، يا محمَّد، {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؛ أي: هل من هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله من يهدي ويرشد غيره إلى الحق والصواب، مما فيه صلاحكم في الدين والدنيا، بوجه من وجوه الهداية، التي بها تتم حكمة الخلق، كما يدل على ذلك قوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} إذ أدنى مراتب المعبودية، هداية المعبود لعابديه إلى الحق. والهداية لها أنواع: 1 - هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله في الإنسان والحيوان.

2 - هداية الحواس، من سمع وبصر ونحو ذلك. 3 - هداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل. 4 - هداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته بمثابة العقل للأفراد. 5 - هداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق، وتسهيل سبله، ومنع الصوارف عنه. ولما كانوا لا يستطيعون أن يدعوا أن أحدًا من أولئك الشركاء يهدي إلى الحق، لا من ناحية الخلق، ولا من ناحية التشريع .. لقن الله رسوله الجواب، فقال: {قُلْ} لهم، أيها الرسول، في الجواب، لا جواب غيره: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى هو الذي {يَهْدِي} ويرشد من يشاء {لِلْحَقِّ}؛ أي: إلى الحق دون غيره من شركائكم، بما نصب من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وهدى إلى النظر والتدبر وأعطى من الحواس. وفي "السمين": {هدى} يتعدى إلى اثنين، ثانيهما، إما باللام، أو بإلى، وقد يحذف الحرف تخفيفًا، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدى الأول والثالث بإلى، والثاني باللام، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قال: الله يهدي من يشاء للحق، أفمن يهدي غيره إلى الحق، وقد تقدم أن التعدية بإلى وباللام من باب التفنن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: يقال: هداه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين اهـ. والمراد بالحق في المواضع الثلاثة ضد الباطل. وعبارة الخطيب قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق بنصب الحجج وخلق الاهتداء وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالحق في ذلك أو معاندين .. أمرَ الله تعالى رسولَه، - صلى الله عليه وسلم -، أن يجيب بقوله: {قُلِ اللَّهُ} الذي له الإحاطة الكاملة، يهدي للحق من يشاء، لا أحد ممن زعمتموه شركاء. فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها، جهل محض. اهـ. يعني أن الله هو الذي يهدي للحق، فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدى، اهـ "خازن". والمعنى: قل لهم يا محمَّد: هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإِسلام، ويدعو الناس

إلى الحق، فإذا قالوا: لا، فقل لهم: الله يهدي للحق دون غيره. وقوله: {أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...} الخ، سؤال ثامن، لم يذكر جوابه لوضوحه، والاستفهام للتقرير والتوبيخ، كما أشرنا إليه أولًا، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق، من تحقيق هدايته تعالى صريحًا، وعدم هداية شركائهم المفهوم من القصر، والهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما تقديمها في الذكر لإظهار عراقتها في الاستفهام، واقتضاء الصدارة كما هو رأي الجمهور، اهـ "أبو السعود". فالهمزة في قوله: {أفمن يهدي} داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أعميتم عن إبصار الحق، أم عاندتم، فمن يهدي ويرشد من يشاء إلى الحق والصلاح .. {أحق} وأولى من غيره بـ {أَن} يطاع و {يُتَّبَعَ} فيما شرعه ويعبد دون غيره {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} غيره ولا يهتدي بنفسه، فضلًا عن هداية غيره إلا أن يهدى؛ أي لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له، إذ لا هادي غيره، وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح، وعزير عليهم السلام، أو من لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلا أن ينقل إليه؛ لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة؛ أي: أهذا الأخير أحق، أن يتبع، أم الأول فالجواب الأول أحق أن يتبع، وترك ذكر الجواب لوضوحه كما مر. والاستفهامان في قوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} للتعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم، وللتقريع والتوبيخ {فَمَا لَكُمْ} أي: فأي شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى، فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم، أو أي شيء أصابكم، وماذا حل بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم، الذي لا خالق ولا رازق ولا هادي لكم سواه {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بالباطل وتجعلون لله شركاء، أو كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده تعالى بدون إذنه. وهاتان (¬1) جملتان، أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يهتدى، وأنكر في الثانية حكمهم بالباطل، وتسوية الأصنام برب العالمين. وقد اختلف (¬1) القراء في {لا يهدى} فقرأ أهل المدينة إلا ورشًا، أم لا يهدي، بفتح الياء، وسكون الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس: لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة. وسيبويه: يسميه اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون: في رواية كذلك، إلا أنه اختلس الحركة؛ أي: بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن: كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء؛ أي: قرءوا بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدي فنقلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا؛ لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية يحيى بن آدم {يهدى} بكسر الياء والهاء وتشديد الدال للاتباع، ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز {يهدى} ويجيز تِهدى ونِهدى وإِهدى قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب: {يهدى} بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي. قال النحاس، وهذه القراءة لها وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة: الأول: أن الكسائي والفراء، قالا: إن يهدي بمعنى يهتدي. الثاني: أن أبا العباس قال: إن التقدير: أم لا يهدي غيره ثم تم الكلام. وقال بعد ذلك: {إلا أن يهدى}؛ أي: لكنه يحتاج أن يهدي فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي: لكنه يحتاج أن يسمع. والمعنى على القراءات المتقدمة (¬2): أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه، أحق أن يتبع ويقتدى به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، فضلًا عن أن يهدي غيره، والاستثناء على هذا استثناء ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[36]

مفرغ من أعم الأحوال. 36 - وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية، بين حال المشركين الاعتقادية، فقال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}؛ أي: وما يتبع أكثر المشركين في معتقداتهم إلا ظنًّا واهيًا، أما بعضهم فقد يتبعون العلم، فيقفون على بطلان الشرك، لكن لا يقبلون العلم عنادًا، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. والمعنى (¬1): أي إن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير الله، ولا في إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، إلا ضربًا من ضروب الظن، قد يكون ضعيفًا، كأن يقيسوا غائبًا على شاهد، ومجهولًا على معروف، ويقلدون الآباء، اعتقادًا منهم أنهم لا يكونون على باطل في اعتقادهم ولا ضلال في أعمالهم، وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق والهدى، وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضر ولا تنفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله تعالى، ويكذبون رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، عنادًا واستكبارًا، وخوفًا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين. ثم بين حكم الله في الظن، فقال: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ}؛ أي: عن العلم {شَيْئًا} من الإغناء في العقائد، والحق هو الثابت الذي لا ريب في ثبوته وتحققه؛ أي: إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شيء، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. وخلاصة ذلك: أن الظن لا يجعل صاحبه غنيًّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك، كالعقائد الدينية، وبهذ تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح، أي: إن مجرد الظن لا يغني في معرفة الحق شيئًا؛ لأن أمر الدين، إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني من العلم والاعتقاد الحق شيئًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الاتباع للظنون الفاسدة، والإعراض عن البراهين القاطعة؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى عليم بما كانوا يعملون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها، كتكذيبهم للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، واتباعهم للظن، كالتقليد باتباع الآباء والأجداد. وفي الآية إيماءٌ، إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيًّا من كتاب أو سنة، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق، والاختلاف فيه، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن، فلا يؤخذ به في الاعتقاد، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولي الأمر في القضاء، مع سلوك طريق الشورى، حتى يتحقق العدل والمساواة في المصالح العامة. وفي هذه الجملة تهديد لهم، على ما وقع منهم، من الأفعال الشنيعة والأحوال القبيحة. وقرأ عبد الله {تفعلون} بالتاء على الخطاب التفاتًا. الإعراب {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، ولكنها مجردة هنا عن معنى الحصر؛ لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالًا غير هذا، كما مر في مبحث التفسير {مَثَلُ الْحَيَاةِ}: مبتدأ، ومضاف إليه {الدُّنْيَا}: صفة للحياة {كَمَاءٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة لـ {أمَاءٍ} {فَاخْتَلَطَ}: الفاء: عاطفة {اختلط} فعل ماض. {بِهِ} متعلق به {نَبَاتُ الْأَرْضِ}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَاهُ} ولكنها صفة سببية هِنَا: جار ومجرور حال من نبات الأرض {يَأْكُلُ النَّاسُ}: فعل وفاعل {وَالْأَنْعَامُ}: معطوف على {النَّاسُ} والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط

محذوف، تقديره: مما يأكله الناس والأنعام. {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {وَازَّيَّنَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْأَرْضُ} والجملة معطوفة على جملة {أَخَذَتِ}. {وَظَنَّ أَهْلُهَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَخَذَتِ}. {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {قَادِرُونَ}: خبره. {عَلَيْهَا} متعلق بـ {قَادِرُونَ} وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظنّ، تقديره: وظن أهلها قدرتهم عليها {أَتَاهَا أَمْرُنَا}: فعل ومفعول وفاعل. {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا}: منصوبان على الظرفية الزمانية، متعلقان بـ {أَتَاهَا} وجملة {أتى} جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} من فعل شرطها وجوابها مجرور بحتى، بمعنى إلى و {حَتَّى} متعلقة بـ {اختلط} تقديره: فاختلط به نبات الأرض، إلى إتيان أمرنا إياها، وقت أخذها زخرفها، وتزينها به. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على جملة {أَتَاهَا أَمْرُنَا} {كَأَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: كأنها؛ أي: كأن ثمار تلك الأرض وزروعها {لَمْ}: حرف نفي وجزم {تَغْنَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف؛ لأنه من غني يغنى، كرضي يرضى، وفاعله ضمير يعود على الأرض، أي: على ثمارها وزروعها. {بِالْأَمْسِ}: متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر كأن، تقديره: كأنها عادمة الغنى والوجود بالأمس، وجملة {كَأَنْ} في محل النصب، حال من هاء {جعلناها} تقديره فجعلناها حصيدًا، حالة كونها مشبهة بعدم الغناء بالأمس؛ أي: مشبهًا حالها بحال الشيء الذي لم يوجد بالأمس.

{كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف، تقديره: تفصيلًا مثل التفصيل السابق {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {لِقَوْمٍ}: متعلق بنفصل. وجملة {يَتَفَكَّرُونَ}: صفة {لِقَوْمٍ}. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَدْعُو}: خبره والجملة الاسمية مستأنفة {إِلَى دَارِ السَّلَامِ} جار ومجرور ومضاف متعلق بـ {يَدْعُو} {وَيَهْدِي مَنْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة معطوفة على جملة {يَدْعُو} {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور، وصفة متعلق بـ {أيَهْدِي} وجملة {يَشَاءُ}: صلة من الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: من يشاءه. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، خبر مقدم {أَحْسَنُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول {الْحُسْنَى}: مبتدأ مؤخر {وَزِيَادَةٌ}: معطوف عليه والجملة مستأنفة {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة {وَلَا ذِلَّةٌ}؛ معطوف على {قَتَرٌ} {أُولَئِكَ}: مبتدأ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {هُمْ}: مبتدأ {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}. {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول. {كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ} مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه {بِمِثْلِهَا} خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والرابط محذوف تقديره؛ جزاء سيئة منهم بمثلها، والجملة من الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، أعرضنا عنها صفحًا خوف الإطالة

{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة {مَا}: نافية {لَهُمْ}: خبر مقدم {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {عَاصِمٍ} {مِنْ عَاصِمٍ}: مبتدأ مؤخر و {مِنْ}: زائدة، والجملة مستأنفة. {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {كَأَنَّمَا}: {كَأَنّ}: حرف تشبيه ونصب، ما: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها {أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة {قِطَعًا}: مفعول ثان لـ {أُغْشِيَتْ} {مِنَ اللَّيْلِ} صفة لـ {قِطَعًا} {مُظْلِمًا}: حال من الليل {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {هُمْ}: مبتدأ {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ} {خَالِدُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من {أَصْحَابُ النَّارِ}. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية {يوم} منصوب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة {نَحْشُرُهُمْ}: فعل ومفعول {جَمِيعًا}: حال من ضمير المفعول، وفاعله ضمير، يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم} {ثُمَّ}: حرف عطف {نَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على الله، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة {نَحْشُرُهُمْ} {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {نَقُولُ} {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول {مكانكم أنتم وشركاؤكم}: مقول محكي لـ {نَقُولُ} وإن شئت قلت: {مَكَانَكُمْ}: مفعول لفعل محذوف، تقديره: الزموا مكانكم {أَنْتُمْ} تأكيد لضمير الفاعل، في الفعل المحذوف {شُرَكَاؤُهُمْ} بالرفع، معطوف على ضمير الفاعل، في الفعل المحذوف، وبالنصب، منصوب على كونه مفعولًا معه، والجملة الفعلية المحذوفة في محل النصب، مقول لـ {نَقُولُ} {فَزَيَّلْنَا} الفاء عاطفة {زيلنا} فعل وفاعل {بَيْنَهُمْ}: متعلق به،

والجملة معطوفة على جملة {نَقُولُ}؛ لأنه في تأويل، فنزايل بينهم {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة نقول؛ لأنه في تأويل فنزايل بينهم، ويقول شركاؤهم: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَا} نافية {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه {إِيَّانَا}: مفعول مقدم {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل النصب مقول القول. {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}. {فَكَفَى}: الفاء: عاطفة، {كفى باللهِ}: فعل وفاعل. {شَهِيدَا}: تمييز لفاعل {كفى} والجملة في محل النصب، معطوف على جملة قوله: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} {بَيْنَنَا} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {شَهِيدًا} {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف على {بَيْنَنَا} {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه {عَنْ عِبَادَتِكُمْ} متعلق بـ {غافلين} {لَغَافِلِينَ} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنْ} المخففة وجملة {إنْ} المخففة في محل النصب مقول على كونها معللة لما قبلها. {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. {هُنَالِكَ}: هنا: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، أو هو مستعار للزمان، اللام: لبعد المشار إليه. والكاف: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ {تَبْلُو} {تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {مَا} موصولة أو موصوفة، في محل النصب على المفعولية {أَسْلَفَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {كُلُّ نَفْسٍ} والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما أسلفته. {وَرُدُّوا}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {زيلنا}، كما في "الشوكاني" {إِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {ردوا} {مَوْلَاهُمُ}: بدل أول من الجلالة {الْحَقِّ} صفة لـ {مَوْلَاهُمُ}، أو بدل ثان من الجلالة {وَضَلَّ} فعل ماض {عَنْهُمْ}: متعلق به

{مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة {رُدُّوا} {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل خبر {كَان} وجملة {كَان} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يفترونه. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ} مقول محكي، وإن شئت، قلت {مَنْ}: اسم استفهام، في محل الرفع {يَرْزُقُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يَرْزُقُكُمْ} {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاءِ}. {أَمَّنْ يَمْلِكُ} أم: عاطفة منقطعة؛ لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تقدر هنا، ببل وحدها، دون الهمزة؛ لأنها وقع بعدها اسم استفهام صريح {من} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {يَمْلِكُ السَّمْعَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {وَالْأَبْصَار}: معطوف على السمع، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {مَن} الأولى. {وَمَن} الواو عاطفة من: اسم استفهام مبتدأ. {يُخْرِجُ الْحَيَّ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {مَن} الاستفهامية، والجملة معطوفة على جملة {مَن} الأولى {مِنَ الْمَيِّتِ}: متعلق بـ {يُخْرِجُ} {يُخْرِجُ الْمَيِّتَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {مِنَ الْحَيِّ}: متعلق بـ {يُخْرِجُ} والجملة معطوفة على جملة {يُخْرِجُ} الأول {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: الواو: عاطفة {مَن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة في محل الرفع خبر {مَنْ} الاستفهامية، والجملة معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى {فَسَيَقُولُونَ}: الفاء: حرف عطف

وتفريع {سَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة قوله {قُلْ} مفرعة عليها {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ذلك الرازق المالك المخرج، المدبر .. الله، والجملة في محل النصب مقول القول {فَقُلْ}: الفاء: حرف عطف وتفريع {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {سيقولون} {أَفَلَا تَتَّقُون}: مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، تقديره: أتعلمون ذلك. الفاء: عاطفة على ذلك المحذوف {لَا}: نافية {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: أفلا تتقون عقابه وسخطه، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، على كونها مقول القول. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}. {فَذَلِكُمُ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو الحق الواجب فأقول لكم ذلكم الله {ذَلِكُمُ}: مبتدأ {اللَّهُ} خبر أول {رَبُّكُمُ} خبر ثان. {الْحَقُّ}: صفة للرب، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَمَاذَا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم، فذلكم الله ربكم، وأردتم بيان حقيقة الأمر، فأقول لكم: ماذا بعد الحق {ماذا}: اسم استفهام، مركب في محل الرفع مبتدأ {بَعْدَ الْحَقِّ}: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الضَّلَالُ}: بدل من الضمير المستكن في الخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وإن شئت قلت: {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {ذا}: اسم موصول، بمعنى: الذي، في محل الرفع خبر {بَعْدَ الْحَقِّ}: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، تقديره: فما الذي استقر بعد الحق {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الضَّلَالُ}: بدل من الضمير المستكن في الصلة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فَأَنَّى} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه ليس بعد الحق إلا الضلال، وأردتم بيان ما يقال: لكم في التعجب من حالكم .. فأقول لكم: {أنى تصرفون}. {أنى}: اسم استفهام.

بمعنى: كيف، في محل النصب على التشبيه بالمفعول به لما بعده {تُصْرَفُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: حقًّا مثل حق صرفهم عن الحق {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}: إلخ؛ أي: ثبوتًا مثل ثبوت صرفهم عن الحق، ثبتت كلمة ربك على الذين فسقوا، والإشارة راجعة إلى قوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} كما ذكره الزمخشري {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَقَّتْ} {فَسَقُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ}: خبره وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلًا من {كَلِمَتُ رَبِّكَ} بدل كل من كل، تقديره: حقت عليهم كلمة ربك، عدم إيمانهم، أو مجرور بلام التعليل المقدرة، أي: حقّت عليهم كلمة ربك، لأملأن جهنم لعدم إيمانهم. {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ}، إلى قوله: {قُلْ} مقول محكي، وإن شئت، قلت: {هَل}: حرف استفهام {مِنْ شُرَكَائِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير في عود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: فعل ومفعول معطوف على {يَبْدَأُ} وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {اللَّهُ يَبْدَأُ}: إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللَّهُ} مبتدأ {يَبْدَأُ الْخَلْقَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ {قُلِ} وجملة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} معطوفة على {يَبْدَؤُا} {فَأَنَّى} الفاء: عاطفة {أنى}: اسم استفهام، بمعنى: كيف في محل

النصب على التشبيه بالمفعول به، والعامل فيه ما بعده. {تُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} إلى قوله {قُلْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ} حرف استفهام {مِنْ شُرَكَائِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {يَهْدِي}: فعل مضارع {إِلَى الْحَقِّ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {مِنْ} والجملة صلة الموصول {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}؛ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَهْدِي} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {لِلْحَقِّ}: متعلق بـ {يَهْدِي}. {أَفَمَنْ} الهمزة: للاستفهام، التقريري، مقدمة على الفاء العاطفة، لعراقتها في التصدير. {الفاء}: حرف عطف وترتيب {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. وجملة {يَهْدِي} صلته {إلَى الْحَقِّ}: متعلق به {أَحَقُّ}: خبر لـ {مِنْ} الموصولة والجملة معطوفة على جملة قوله: {اللَّهُ يَهْدِي} على كونها مقول {قُلْ}. {أَنْ}: مصدرية {يُتَّبَعَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ {أَنْ}، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَن} وجملة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: أحق بالاتباع {أَمَّنْ} {أَمْ}: متصلة لسبقها بهمزة، يطلب بها وبأم التعيين {مَن} اسم موصول مبتدأ. وجملة {لَا يَهِدِّي}؛ صلته والخبر محذوف، تقديره: أمن لا يهدي أحق بالاتباع، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {أَفَمَنْ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال {أنْ}: حرف نصب ومصدر. {يُهْدَى} فعل مضارع منصوب بأن، ونائب فاعله ضمير، يعود على {مَن} الموصولة، والجملة الفعلية

في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، تقديره: أم لا يهدى إلا إهداءه، أي: إلا إهداء الغير إياه؛ أي: لا يهتدي في حال من الأحوال، إلا في حال إهدائه؛ أي: إهداء الغير إياه، والجواب الأول أحق بالاتباع. {فَمَا لَكُمْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن الأول أحق بالاتباع، وأردتم بيان ما يقال: لكم في التعجب من حالكم .. فأقول: ما لكم {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبره، أي فأي شيء ثابت لكم في اتباعكم الباطل، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم لـ {تَحْكُمُونَ} {تَحْكُمُونَ}: فعل وفاعل، ومعموله محذوف، تقديره: كيف تحكمون بالباطل، وتجعلون لله أندادًا وشركاء، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}. {وَمَا}: الواو: استئنافية. {ما}: نافية {يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ}؛ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {ظَنًّا}: مفعول به {إنَّ الظَّنَّ}: ناصب واسمه {لَا يُغْنِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الظَّنَّ} {مِنَ الْحَقِّ}: متعلق به {شَيْئًا}: مفعول {يغني} وجملة {لا يغني} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {عَلِيمٌ}: خبره وجملة إن مستأنفة {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ} {يَفْعَلُونَ}: فعل وفاعل، صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما يفعلونه. التصريف ومفردات اللغة {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} قال في "الصحاح" الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مموه مزور، انتهى. والمعنى: أن الأرض أخذت لونها الحسن، المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرد.

{وَازَّيَّنَتْ} وأصل ازينت تزينت، أدغمت التاء في الزاي، وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم فيه قائم مقام حرفين، أولهما ساكن، والساكن لا يمكن الابتداء به، ثم حذفت همزة الوصل لما دخل العاطف عليه. {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}؛ أي: كأن لم يكن زرعها موجودًا فيه بالأمس، مخضرًا طريًّا من غني بالمكان بالكسر يغنى بالفتح، من باب رضي إذا أقام به، والمراد بالأمس الوقت القريب. والمغاني في اللغة: المنازل. {يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} دار السلام: هي الجنة. والسلام: السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار. وقال الزجاج: والمعنى: والله يدعو إلى دار السلامة. ومعنى السلام والسلامة واحد، كالرضاع والرضاعة، ومنه قول الشاعر: تُحَيَّى بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لَكَ بَعْدَ قَوْمِكَ مِنْ سَلاَمِ وقد مر في تفسيره أقوال. {الْحُسْنَى} الحسنى: مؤنث الأحسن. قال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. والمراد بها هنا، الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم كما مر {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}؛ معنى يرهق، يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. والرهق: الغشيان، يقال: رهقه يرهقه رهقًا، من باب طرب إذا غشيه بسرعة ومنه {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}؛ أي: لا تكلفني ما يشق عليّ ويعسر. {فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} يقال: رهقته وأرهقته، مثل ردفته وأردفته، ففعل وأفعل بمعنى. ومنه أرهقت الصلاة إذا أخرتها حتى غشي وقت الأخرى؛ أي: دخل. وقال بعضهم: أصل الرهق: المقاربة، ومنه غلام مراهق، أي: قارب الحلم. {والقتر} والقترة؛ الغبار معه سواد، يقال: قتر، كفرح ونصر وضرب. وقيل: القتر: الدخان الساطع من الشواء والحطب، ومنه غبار القدر. وقيل: القتر: التقليل، ومنه {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ويقال: قترت الشيء وأقترته وقترته؛ أي: قللته: ومنه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} اهـ "سمين". والذلة: ما يظهر على الوجه من الخضوع والانكسار والهوان، والعاصم: المانع.

{قِطَعًا} جمع قطعة، كسدرة وسدر وكسرة وكسر، والقطعة الجزء من الشيء {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد، كما مر. {مَكَانَكُمْ} ومكانكم: كلمة يراد بها التهديد والوعيد؛ أي: الزموا مكانكم. {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}؛ أي: فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، يقال: زيلته فتزيل؛ أي: فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة، يقال: زايله زيالًا،، إذا فارقه، والتزايل التباين. واختلف في زيل، هل وزنه فعل، أو فيعل، والظاهر الأول، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية؛ لأن ثلاثيه متعد بنفسه. حكى الفراء: زلت الضأن من المعز، ويقال: زلت الشيء عن مكانه، أزيله، وهو على هذا من ذوات الياء، والثاني أنه فيعل، كبيطر وهو من زال يزول، والأصل زيولنا فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فأعلت الإعلال المشهور، وهو قلب الواو ياء وإدغام الياء فيها، كميت وسيد، في ميوت وسيود، وعلى هذا، فهو من مادة الواو، وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وتبعه أبو البقاء، اهـ "سمين". {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ} وفي "المختار" البلية والبلاء والبلوى واحد، والجمع البلايا، اهـ. ومعنى الكل: الاختبار وفي "السمين": وفي هنالك وجهان: الظاهر منهما بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقف الدحض والمكان الدهش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: في ذلك الوقت. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه (¬1) المركب في قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حيث شبهت حال الدنيا في سرعة زوالها، وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا، بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، قاله الزمخشري. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} حيث جعلت الأرض في زينتها، بما عليها من أصناف النبات، كالعروس التي أخذت من أنواع الثياب والزينة، فتزينت بها، ذكره أبو السعود. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {حَصِيدًا}؛ أي: كالمحصود وهو ما حذف فيه الأداة، ووجه الشبه. ومنها: الكناية في قوله: {أتَاهَا أَمْرُنَا}؛ لأن الأمر هنا كناية عن العذاب والدمار. ومنها: إطلاق الخاص بمعنى العام في قوله: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}؛ لأن المراد بالأمس الزمن الماضي، لا خصوص اليوم الذي قبل يومك. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى}، وفي قوله: {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ}. ومنها: الطباق بين كلمتي الحي والميت في قوله: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}، وبين كلمتي يبدأ ويعيد في قوله: {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وبين كلمتي الحق والضلال في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}. ومنها: التكرار في قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ}، وفي قوله: {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وفي قوله: {مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {دَارِ السَّلَامِ} إن قلنا: إن السلام من أسماء الله تعالى. ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}؛ لأن المراد من هذا الأمر وعيدهم وتهديدهم وإهانتهم، وإلا فالمؤمنون يلزمون بالوقوف أيضًا حتى يسألوا ويحاسبوا.

ومنها: التأكيد بقوله: {أَنْتُمْ}؛ لأنه تأكيد للضمير المستتر في الفعل المحذوف. ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله: {وقال شركاؤهم}؛ لأنه جعل الأصنام شركاءهم، من حيث إنهم اتخذوها شركاء لله في استحقاق العبادة. ومنها: التفنن في قوله: {مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} حيث عدى أولًا بإلى وثانيًا باللام. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) قدم قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} وكان من قولهم: إنه افتراء .. قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى}؛ أي: ما صح ولا استقام، أن يكون هذا القرآن المعجز مفترى. وعبارة "المراغي": مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأدلة على أن القرآن من عنده، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، عاجز كغيره عن الإتيان بمثله، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم، واتباع أكثرهم لأدنى الظن، وأضعفه في عقائدهم .. عاد إلى الكلام في تفنيد رأيهم في الطعن علي القرآن، بمقتضى هذا الظن الضعيف، لدى الأكثرين منهم، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بيّن في الآية السالفة، أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله، وقبل أن يحيطوا بعلمه .. أردف ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع، وبين أنهم حينئذٍ يكونون فريقين، فريق يؤمن به، وفريق يستمر على كفره وعناده. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنبأ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالًا ولا استقبالًا، بل يصرون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات، وكان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث .. ذكر سبب هذا، وهو أنهم قوم طبع الله على قلوبهم، وفقدوا الاستعداد للإيمان، فلا وسيلة له - صلى الله عليه وسلم - في إصلاح حالهم، ولا قدرة له على هدايتهم. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء، وتكذيبهم للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن، قبل أن يأتيهم تأويله .. قفّى على ذلك بالوعيد، بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة. قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ...} الآية، ¬

_ (¬1) المراغي.

مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما بين (¬1) الله سبحانه وتعالى في الآية السالفة، أن هؤلاء المشركين الذين كذبوا بلقاء الله تعالى، قد خسروا، وما كانوا مهتدين، وهذا يتضمن تهديدًا ووعيدًا بالعذاب الذي سيلقونه في الدنيا والآخرة .. أردف ذلك ببيان أن بعض هذا العذاب ستراه أيها الرسول الكريم، وتقر عينك برؤيته، وبعض آخر سيكون لهم يوم الجزاء، وهو عليم بما فعلوه، فيجازيهم به قدر ما يستحقون. قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين (¬2) الله سبحانه وتعالى حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قومه .. بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، تسليةً له، وتطمينًا لقلبه، ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة، بل بعث إليها رسولًا، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ...} الآية، مناسبة (¬3) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر العذاب، وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه .. ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب، أحق هو، وأجيبوا بأنه، حق لا محالة، وكان ذلك جوابًا كافيًا لمن وفقه الله تعالى للإيمان كما كان جوابًا للأعرابي، حين سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الله أرسلك؟ وقوله عليه السلام له: "اللهم نعم" فقنع بإخباره - صلى الله عليه وسلم -، إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق، كما قال هرقل: لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله .. انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته، وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد، يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وأن ما سواه فهو مِلْكُهُ ومُلْكُهُ، فعبر عن هذا بهذه الآية، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[37]

السورة في قوله: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...} الآية، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} فاكتفى هنا عن ذكرها. وإذا كان جميع ما في العالم مِلْكُهُ ومُلْكُة كان قادرًا على كل الممكنات عالمًا بكل المعلومات غنيًّا عن جميع الحاجات منزهًا عن النقائص والآفات، وبكونه قادرًا على الممكنات، كان قادرًا على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة، وقادرًا على تأييد رسوله بالدلائل، وإعلاء دينه، فبطل الاستهزاء والتعجيز، وبتنزيهه عن النقائص كان منزهًا عن الخلف والكذب، فثبت أن قوله: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مقدمة توجب الجزم بصحة قوله: {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ذكره "أبو حيان". أسباب النزول وأما أسباب النزول فليست في هذه الآيات ولم نر من ذكر شيئًا منها في هذه الآيات المذكورة. التفسير وأوجه القراءة 37 - {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ}؛ أي: وما صح أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الحجج الناطقة، ببطلان الشرك وحقية التوحيد {أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: مفترى من الخلق {وَلَكِنْ} كان القرآن {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، أي: مصدق الذي قبله وأمامه، من الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء قبله، كالتوراة والإنجيل؛ أي: مصدقًا لها وموافقًا لها، في العقائد وبعض الفروع. ووقعت (¬1) لكن هنا، أحسن موقع إذ هي بين نقيضين، وهما الكذب، والصدق المضمن للتصديق {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}؛ أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، في اللوح المحفوظ من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ومبينًا لما كتبه الله تعالى على عباده حالة كونه {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في كونه {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: منزلًا من مالك العالمين، جل جلاله. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أي: وما كان ينبغي لهذا القرآن، أن يختلق ويفتعل؛ لأن معنى الافتراء: الاختلاق، والمعنى ليس وصف القرآن: وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله؛ لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، وذلك أن كفار مكة، زعموا أن محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، أتى بهذا القرآن من عند نفسه، على سبيل الافتعال والاختلاق، فأخبر الله تعالى أن هذا القرآن وحي، أنزله الله عليه، وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب، وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله، ثم ذكر ما يؤكد ذلك بقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب المنزلة، ونفس هذا التصديق، معجزة مستقلة؛ لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة، مع أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه، ولا اتصل بمن له علم بذلك. وقيل (¬1) المعنى: ولكن القرآن {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب؛ أي: إنها قد بشرت به قبل نزوله، فجاء مصدقًا لها. وقيل المعنى: ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن، وهو محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن. والخلاصة (¬2): أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه، وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره عَزَّ وَجَلَّ؛ فإن ما فيه من علوم عالية، وحكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وإنباء بالغيوب الماضية، والمستقبلة، ليس في طوق البشر، ولا هو داخل تحت قدرته، وفي حيّز مكنته، ولئن سلم أن بشرًا في مكنته ذلك، فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئًا. ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أبو جهل، قال: إن محمدًا لم يكذب على بشر قط، أفيكذب على الله؟! {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحي، لرسل الله تعالى بالإجمال، كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم وسلامه، بدعوته إلى أصول الدين الحق، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وصالح الأعمال، بعد أن نسي بعض بقية ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[38]

أتباعهم، وضلوا عن بعض، ولم يكن محمَّد النبي الأمي، يعلم شيئًا من ذلك، لولا الوحي عن ربه. {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}؛ أي: وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشؤون الاجتماع {لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ أي: لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لوضوح برهانه؛ لأنه الحق والهدى {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: من وحيه، لا افتراء من عند غيره، ولا اختلاقًا كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. 38 - وبعد أن أبان سبحانه وتعالى، أنه أجل وأعظم من أن يفترى، لعجز الخلق عن الإتيان بمثله .. انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين، الذين قالوا: إن محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، قد افتراه، وفنّد مزاعمهم، وتعجب من حالهم، وشنيع مقالهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (¬1) وأم فيه إما منقطعة، تقدر، ببل، والهمزة التي للإنكار عند سيبويه وأتباعه، وعليه فهو انتقال عن الكلام الأول، وأخذ في إنكار قول آخر، والمعنى عليه: بل أيقولون افترى هذا القرآن واختلقه محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، من عند نفسه، وإما متصلة، ولا بد حينئذٍ من حذف جملة، ليصح التعادل، والتقدير: أيقرون بحقية القرآن، أم يقولون: افتراه؛ أي: بل يقول كفار مكة: اختلق محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، القرآن من تلقاء نفسه؛ أي: ما كان ينبغي أن تقولوا: إن محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، افتراه من عند نفسه، واختلقه. {قُلْ}: لهم، يا محمَّد، إظهارًا لبطلان مقالتهم الفاسدة: إن كان الأمر كما تقولون من أني اختلقته وافتريته .. {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}؛ أي: بسورة واحدة مماثلة لهذا القرآن، في الفصاحة والبلاغة، وحسن تركيبه وأسلوبه، ورزانة معانيه وعلمه، مفتراة من عند أنفسكم، فإن لساني لسانكم، وكلامي كلامكم، وأنتم أشد مني تمرنًا وتمرسًا للنثر والنظم منه {وَادْعُوا} للمعاونة والمساعدة {مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} وقدرتم دعاءه وطلبه {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: من أصنامكم وآلهتكم ¬

_ (¬1) الفتوحات تصرف.

التي تزعمون أنها ممدة لكم في المهمات والملمات، أو من سائر خلق الله تعالى وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {وَادْعُوا} ودون جار مجرى أداة الاستثناء؛ أي: ادعوا سواه تعالى، ممن استطعتم من خلقه، ذكره: أبو السعود {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أني افتريته؛ أي: واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئًا من ذلك، فإن جميع الخلق عاجزون عن هذا {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}. وإذ قد (¬1) عجزتم عن ذلك، مع شدة تمرسكم، ولم يوجد في كلام أولئك، الذين نصبت لهم المنابر في سوق عكاظ، وبهم دارت رحى النظم والنثر، وتقضت أعمارهم في الإنشاء والإنشاد، مثله فهو ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر. ومن البيّن أنه ما كان لعاقل مثله، - صلى الله عليه وسلم -، أن يتحداهم هذا التحدي، لو لم يكن موقنًا، أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن في جملته، ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه، يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق، من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به. إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر، قد يمكن غيره، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه. والخلاصة: أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله. وقرأ (¬2) الجمهور {تصديق} {وتفصيل} بالنصب على أنه خبر لكان المحذوفة كما قدرناه في الحل. وقيل: انتصب على أنه مفعول لأجله، والعامل محذوف تقديره: ولكن أنزل للتصديق. وقرأ عيسى بن عمر {تفصيل} و {تصديق} بالرفع هنا، وفي يوسف على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ولكن هو تصديق. وزعم الفراء ومن تابعه: أن العرب إذا قالت: ولكن بالواو، آثرت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[39]

تشديد النون، وإذا لم تكن الواو، آثرت التخفيف. وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف وقرأ عمرو بن فائد: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} على الإضافة؛ أي: بسورة كتاب أو كلام مثله؛ أي: مثل القرآن. 39 - ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه في القرآن، بتحديه لهم، إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشيء من عدم علمهم بحقيقة أمره، واختبار حاله، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} وبل، فيه للإضراب الانتقالي أضرب بها عن الكلام الأول، وانتقل إلى بيان أنهم، سارعوا إلى تكذيب القرآن؛ أي: بل هم سارعوا إلى تكذيب القرآن، من غير أن يتدبروا ما فيه، ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على حقيقته. وقيل (¬1) معناه: بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها، مما لم يحيطوا بعلمه؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك له. وقيل: إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص، وأخبار الأمم الحالية، ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك .. أنكروها لجهلهم، فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}؛ لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة، لا يقدر على استيعابها وتحصيلها {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} معطوف على {لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}؛ أي: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال؛ أي: كذبوا به، حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به، ولا بلغته عقولهم. والمعنى: أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه، وقيل: أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه، من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين، والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث، من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها، أو قبل أن يفهموه حق الفهم. وخلاصة ذلك: أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار ¬

_ (¬1) الخازن.

[40]

بالغيب، قد أسرعوا في تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به، وفي تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله، شناعة وقصر نظر، لا تخفى على عاقل، وفيه دليل على أنهم مقلدون. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك التكذيب من غير تدبر {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ما كذبوا من المعجزات، التي ظهرت على أيدي أنبيائهم، عندما جاءتهم رسلهم بحجج الله وبراهينه، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله، الذي أوعدهم به. {فَانْظُرْ} يا محمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بتكذيب رسلهم، من الأمم السالفة من سوء العاقبة، بالخسف والمسخ، ونحو ذلك من العقوبات، التي حلت بهم، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم، وهذه العاقبة هي التي بينها الله تعالى في قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}. وقد أنذر الله سبحانه وتعالى قوم محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -؛ بمثل ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا، بهذه الآية وغيرها، من هذه السورة، كما أنذرهم عذاب الآخرة؛ وكذبه المعاندون المقلدون في كل ذلك، ظنًّا منهم أنه لا يقع. 40 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} في نفسه، ويعلم أنه صدق وحق؛ ولكنه كذب به مكابرةً وعنادًا. وقيل المراد: ومنهم من يؤمن به في المستقبل، وإن كذب به في الحال؛ أي: ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله، وظهور حقيقته، بعد أن سعوا في معارضته، ورازوا قواهم فيها، فتضاءلت دونها {وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} ولا يصدقه في نفسه، بل كذب به جهلًا، أو ومنهم من لا يؤمن به في المستقبل، بل يبقى على جحوده وإصراره على الكفر. وقيل: الضمير في الموضعين للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل: إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل عام في جميع الكفار {وَرَبُّكَ} يا محمَّد {أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}؛ أي: بمن يفسدون في الأرض، بالشرك والظلم والبغي،

[41]

لفقدهم الاستعداد للإيمان، وهؤلاء سيعذبهم في الدنيا، ويخزيهم وينصركم عليهم، ويجزيهم في الآخرة بأعمالهم، لفسادهم وسوء معتقداتهم. 41 - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم بالبراءة بينه وبينهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه فقال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ}؛ أي: وإن أصروا على تكذيبك يا محمَّد {فَقُلْ} لهم {لِي عَمَلِي}؛ أي: جزاء عملي، وهو البلاغ والإنذار والتبشير، وما أنا بمسيطر ولا جبار {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}؛ أي: جزاء عملكم من الشرك والظلم والفساد، الذي تجزون به يوم الحساب، فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه، وليس عليَّ غير ذلك، والمعنى: وإن تمادوا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت وبلغت. ثم أكد هذا بقوله: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ}؛ أي: لا تؤاخذوا بعملي {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}؛ أي: ولا أؤاخذ بعملكم، وهذا مثل قوله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}. وقد قيل: إن هذا منسوخ بآية السيف، كما ذهب إليه جماعة من المفسرين. وقال المحققون منهم: ليست بمنسوخة 42 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن هؤلاء المشركين المكذبين {مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}؛ أي: ناس يصيخون إليك بأسماعهم الظاهرة إذا قرأت القرآن، أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة، إذ يستمعون لعدم حصول أثر السماع، وهو حصول القبول، والعمل بما يسمعونه، فهم لا يتدبرون القول، ولا يتفقهون ما يراد منه، بل جل همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته، بترتيله كمن يستمع إلى الطائر، يغرد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته، لا ليفهم ما يغرد به. وقد وصف الله سبحانه وتعالى حالهم في آي أخرى فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}. والآن نرى من المسلمين، من يستمع إلى قراءة القرآن، من قارئ حسن الصوت، أو من آلات اللهو العصرية، للتلذذ بترتيله، وتوقيع صوته، لا لينتفع بعظاته وعبره، ولا ليفهم عقائده وأحكامه، وجمع الضمير في {يَسْتَمِعُونَ} حملًا

[43]

على معنى من وأفرده في {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ} حملًا على لفظه. والهمزة في قوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أأنت تطمع إسماع الصم، فأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. وقيل التقدير: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم كما في "الشوكاني". والمعنى: أنت لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع. ومعنى قوله: {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: ولو كان مع الصمم عدم العقل، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، وجملة الشرط معطوفة على محذوف تقديره: أأنت تسمع الصم إن عقلوا، بل ولو كانوا لا يعقلون فأنت لا تسمعهم، فيكون المعنى أنت لا تسمع الصم، عقلوا أو لم يعقلوا، فهم كالأنعام، بل هم أضل؛ أي: إن السماع النافع للمستمع، هو الذي يعقل به ما يسمعه، ويفقهه، ويعمل به، ومن فقد هذا كان كالأصم، الذي لا يسمع، وإنك أيها الرسول الكريم، لم تؤت القدرة على إسماع الصم، الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة، فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعًا نافعًا من في حكمهم، وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون، ولا يفقهون معناه، فيهتدوا به وينتفعوا بعظاته. 43 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي: ومن هؤلاء المشركين {مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ}؛ أي: من يتجه نظره إليك، ويبصرك بعينه الظاهرة، حين تقرأ القرآن، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان والخلق العظيم، وأمارات الهدى، والتزام الصدق، والهمزة في قوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} للاستفهام الإنكاري أيضًا، داخله على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أأنت تطمع أنك تقدر على إبصار العمي، فأنت تهدي العمي. وقيل: التقدير: أينظرون إليك، فأنت تهديهم، كما في "الشوكاني". {وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}؛ أي: أتحسب أنك تقدر على هداية العمى، ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة، قد يحدس؛ وأما العمى مع الحمق فجهد النبلاء وقوله: {وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}؛ أي: لا يتأملون ولا يفكرون بقلوبهم فيما جئت به من الدلائل العظيمة والشمائل الفخيمة، معطوف على محذوف، تقديره: أأنت تهدي العمي إن أبصروا، بل ولو كانوا لا يبصرون، والمعنى: أنت لا تهدي عمي القلوب،

[44]

أبصروا أو لم يبصروا. وخلاصة ما تقدم: أن هداية الدين كهداية الحس، لا تكون إلا للمستعد بهداية العقل، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالًا نافعًا في الدلائل البصرية والسمعية، لإدراك، أي مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم. والمقصود من هذا الكلام، تسلية رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فإن الطبيب إذا رأى مريضًا لا يقبل العلاج أصلًا، أعرض عنه واستراح من الاشتغال به 44 - {إنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} بسلب حواسهم وعقولهم {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بإفساد الحواس والعقول، وتفويت منافعها عليها، فإن الفعل منسوب إليهم، بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم، وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون منه تعالى ظلمًا؛ لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالمًا. والمعنى: أنه تعالى لم يكن في سننه في خلقه أن ينقصهم شيئًا من الأسباب، التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم، من إدراكات وإرشادات إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولكن الناس يظلمون أنفهسم وحدها دون غيرها؛ لأن عقاب ظلمهم واقع عليها فهم يجنون عليها بكفرهم، بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله، من اتباع الحق في الاعتقاد والهدى في الأعمال، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين. وقال الشوكاني: ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئًا من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر، ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر

[45]

مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية. وقرأ (¬1) حمزة والكسائي: {وَلَكِنَّ النَّاسَ} بتخفيف النون وكسرها، لالتقاء الساكنين ورفع الناس. وقرأ الباقون: بتشديدها ونصب الناس. 45 - {و} اذكر، يا محمَّد، لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث قصة {يوم نحشرهم}؛ أي: يوم نحشر المشركين وسائر الخلائق، ونجمعهم لموقف الحساب. وأصل الحشر، إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم. وقرأ الأعمش وحفص: {يحشرهم} بالياء مسندًا إلى ضمير الغيبة العائد على الله. إذ تقدم أن الله لا يظلم الناس شيئًا حالة كونهم {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} ولم يمكثوا في الدنيا {إلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ}؛ أي: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، إلا قدر ساعة من النهار، لهول ما يرون من الشدائد، حالة كونهم {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: يعرف (¬2) بعضهم بعضًا إذا خرجوا من قبورهم، كما كانوا يتعارفون في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، يعني: يعرف بعضهم بعضًا في بعض المواطن، ويوبخ بعضهم بعضًا، فيقول، كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وكذا، وأغويتني وزينت لي الفعل الفلاني، لا تعارف شفقة ورأفة، كما قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} ولا يعرف بعضهم بعضًا في بعض المواطن. {قَدْ خَسِرَ} وغبن {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} تعالى بالبعث {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إلى طريق النجاة؛ أي: قد هلكوا بتكذيبهم بالبعث بعد الموت، وضلوا عن طريق النجاة، وما كانوا عارفين لطريقه. وهذه شهادة من الله تعالى على خسرانهم وتعجيب منه. وخلاصة ذلك: أن هذه الدنيا التي غرتهم بمتاعها الحقير الزائل، قصيرة الأمد، ستزول بموتهم، وسيقدرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار، لا تسع لأكثر من التعارف. وإن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المُنَغَّصَة بالأقدار، السريعة الزوال على الحياة الأبدية، بما فيها من النعيم المقيم، فلم يستعدوا لها ويعملوا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[46]

الأعمال الصالحة، التي تزكي نفوسهم وتهذب أرواحهم فخسروا السعادة فيها، وما كانوا مهتدين فيما اختاروه لأنفسهم، من إيثار الخسيس الزائل على النفيس الخالد. 46 - {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ}؛ أي: وإن أريناك، يا محمَّد {بَعْضَ} العذاب {الذين نعدهم} به في الدنيا، فذاك الذي يستحقونه، وهم له أهل، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة، بدعائه، - صلى الله عليه وسلم -، ونصره عليهم نصرًا مؤزرًا، في أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم، وصناديدهم، وهي غزوة بدر، فقتلهم وشردهم شر تقتيل وتشريد. وكذلك فعل بهم، - صلى الله عليه وسلم -، في غيرها من الغزوات، حتى فتح عاصمتهم، أم القرى، ودخل الناس في الدين أفواجا. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك ذلك فيهم {فَإِلَيْنَا} لا إلى غيرنا {مَرْجِعُهُمْ} ومصيرهم في الآخرة {ثُمَّ} بعد رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {شَهِيدٌ}؛ أي: مشهد أعضاءهم وجوارحهم {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا من الشرك والمعاصي، فمجازيهم عليه، ففعيل هنا، بمعنى: مفعل، أو المعنى: ثم بعد رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى شهيد؛ أي معاقب لهم على ما يفعلون في الدنيا. وعبارة "الفتوحات" هنا قوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} ثم هنا (¬1)، ليست للترتيب الزماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في نفسها. قال أبو البقاء: كقولك: زيد عالم، ثم هو كريم. وقال الزمخشري (¬2): فإن قلت الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم؟ قلتُ: ذكرت الشهادة، والمراد مقتضاها، ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قيل: ثم الله معاقب لهم على ما يفعلون، اهـ "سمين" وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة. وفي "البحر": ويجوز (¬3) أن يكون المعنى: أن الله تعالى مؤدِّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الكشاف. (¬3) البحر المحيط.

[47]

وأرجلهم شاهدة عليهم، اهـ. وقرأ ابن أبي عبلة: {ثُمَّ اللَّهُ} بفتحِ الثاء؛ أي: هنالك. وقد جاء، بمعنى هذه الآية، قوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وقوله: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. 47 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم الماضية {رَسُولٌ} بعث إليهم بشريعة خاصة، مناسبة لأحوالهم، ليدعوهم إلى الحق والتوحيد {فإذا جاء رسولهم} فبلغهم ما أرسل به إليهم، فكذبه بعضهم وصدقه بعضهم، {قُضِيَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين الرسول وأمته {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل؛ أي: فصل بينهم وحكم بهلاك المكذبين له، وبنجاة الرسول ومن صدقه {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا يظلمون في ذلك القضاء بتعذيبهم؛ لأنه بجرمهم. وقيل (¬1)، معناه: لكل أمة يوم القيام رسول، تنسب إليه، فإذا جاء رسولهم الموقف، ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قُضي بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين لقوله: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}. وحاصل المعنى: أنه تعالى رحمةً بعباده، وإزالةً للحجة، جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولًا، بعثه فيها وقت الحاجة إليه، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به، وباليوم الآخر، وما ينجيهم من العقاب في ذلك اليوم، وهو العمل الصالح، الذي يكون سببًا في سعادتهم في الدارين. وفي الآية (¬2): دليل على أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولًا، وما أهمل أمةً قط، ويدل على ذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه، لم يبق لهم حينئذٍ عذر في مخالفته، فهنالك في يوم الحساب يقضي الله تعالى بينهم بالعدل، ولا يظلمون في قضائه شيئًا مما سيحل بهم من عذاب، لا يكون ظلمًا لهم؛ لأنه ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

[48]

من قبل أنفسهم، وهم الذين دنسوها بسيء الأعمال، فاستحقوا على ذلك شديد العقاب. 48 - {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول كفار قريش للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، ومن اتبعه من المؤمنين، مكذبين له فيما أخبرهم به، من نزول العذاب بالأعداء، والنصرة للأولياء {مَتَى} يقع {هَذَا الْوَعْدُ}؛ أي: هذا العذاب الموعود الذي تعدوننا به {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: إن الله تعالى سينتقم لكم منا، وينصركم علينا؛ أي: في نحو ما جاء في قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)}. 49 - وقد لقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب عن هذا السؤال بقوله: {قُلْ}: أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد، ويقول لك متى هذا الوعد، إني بشر رسول {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} فضلًا عن غيري {ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}؛ أي؛ شيئًا من التصرف في الضر، فأدفعه عنها، ولا شيئًا من النفع، فأجلبه لها، من غير طريق الأسباب، التي يقدر عليها غيري، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين، ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: لكن ما شاء الله تعالى من ذلك العذاب الموعود، يكون متى شاء، ولا شأن لي فيه؛ لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة، التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين وقد جاء في معنى الآية، قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أو المعنى (¬1): قل لهم يا محمد؛ لا أملك ضرًّا؛ أي: دفع ضر عنها، من مرض وفقر، ولا نفعًا؛ أي: ولا جلب نفع لها، من صحة أو غنى، ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب؟. {لِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسولهم {أَجَلٌ} مؤقت ¬

_ (¬1) النسفي.

[50]

لعذابهم، يحل بهم عند حلوله، لا يتعداهم إلى أمة أخرى {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}؛ أي: وقت هلاكهم؛ أي: إذ جاء ذلك الأجل {فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجل {سَاعَةً}؛ أي: شيئًا قليلًا من الزمان {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} عليه؛ أي: فلا يملك رسولهم من دون الله تعالى، أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له، وإن قَلَّت. وقرأ ابن سيرين: {آجالهم} على الجمع. 50 - {قُلْ} يا محمَّد، لهؤلاء الذين يستعجلون منك العذاب: {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني عن حالكم، وما يمكنكم أن تفعلوه {إِنْ أَتَاكُمْ} وجاءكم {عَذَابُهُ} سبحانه وتعالى، الذي تستعجلون منه {بَيَاتًا}؛ أي: وقت اشتغالكم بالنوم ليلًا {أَوْ} أتاكم {نَهَارًا}؛ أي: وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم، أو بأمور معاشكم نهارًا. وجواب الشرط جملة قوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} ولكن بتقدير: الفاء؛ لأن الجملة اسمية؛ أي إن أتاكم عذابه. فأيَّ نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذّابون، أعذاب الدنيا، أم عذاب الآخرة؟ وأيًّا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة والاستفهام (¬1) فيه للإنكار المضمن معنى النهي، ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم أن العذاب مكروه، تنفر منه القلوب، وتأباه الطبائع، فما المقتضي لاستعجالهم له. وقيل: إن جواب الشرط محذوف، تقديره: إن أتاكم عذابه .. تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه. وقيل: إن الجواب جملة قوله: 51 - {أثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ}؛ أي: بعد ما وقع العذاب بكم حقيقةً، آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان، وتكون جملة {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} معترضة. والمعنى، على هذا القيل: إن أتاكم عذابه .. آمنتم به بعد وقوعه، حين لا ينفعكم الإيمان. ولكن الأول، أولى. وقرأ طلحة بن مصرف {أثُمَّ} بفتح الثاء، وهذا يناسبه تفسير الطبري، أهنالك. ودخول همزة الاستفهام الإنكاري على ثم في قوله: {أثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} كدخولها على الواو والفاء، وهي: لإنكار إيمانهم، حيث لا ينفع الإيمان، وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته، مع تركهم له في وقته الذي يحصل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[52]

به النفع والدفع. والتقدير (¬1): أأخرتم الإيمان، ثم إذا ما وقع العذاب، آمنتم به؛ أي: أأخرتم الإيمان باللهِ، أو بالعذاب إلى حين وقوع العذاب؛ أي: لا ينبغي هذا التأخير ولا يصح ولا يليق؛ لأن الإيمان في هذه الحالة، غير نافع وغير مقبول. وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به، الذي أمر الله رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، أن يقوله لهم، وجيء بكلمة {ثُمَّ} التي للتراخي، دلالةً على الاستبعاد. وجيء: بـ {إذا} مع زيادة {مَا} للتأكيد، دلالةً على تحقق وقوع الإيمان منهم، في غير وقته، ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم، والمعنى: أبعد ما وقع عذاب الله عليكم، وحل بكم سخطه وانتقامه، آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئًا، ولا يدفع عنكم ضرًّا. والخلاصة: أي أيستعجل مجرموكم بالعذاب الذي هو أحق بالخوف منه، بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم، ثم إذا وقع بالفعل، آمنتم به حين لا ينفع الإيمان إذ هو قد صار ضروريًّا بالمشاهدة والعيان، لا تصديقًا للرسول، عليه السلام. وقوله: {الآن}؛ أي: هل بعد وقوع العذاب تؤمنون {و} الحال أنكم {قد كنتم به}؛ أي: بوقوع العذاب {تَسْتَعْجِلُونَ} تكذيبًا به واستكبارًا، كلام مستأنف بتقدير: القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، أن يقوله لهم. والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، أي: وقيل لهم: الآن حين وقوع العذاب، تؤمنون به، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبًا واستهزاءً. وقرأ طلحة والأعرج بهمزة الاستفهام، بغير مد. وقرأ الجمهور؛ {الآن} على الاستفهام بالمد وكذا {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ}. 52 - وقوله: {ثُمَّ قِيلَ} من جهة الله {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان: إن هذا الذي تطلبونه، ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}؛ أي: العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة، والتي ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[53]

قبلها، قيل: هم الملائكة الذين هم خزنة جهنم، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص، أو المؤمنون على العموم؛ أي: ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم، بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد، تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدًا، بحيث لا فناءَ له ولا زوال. والاستفهام في قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا من الكفر والمعاصي للإنكار، بمعنى: النفي؛ أي: لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون، باختياركم من الظلم والكفر والفساد، في الأرض والعزم، على الثبات عليه، وعدم التحول عنه، وليس في هذا الجزاء شيء من الظلم؛ لأنه أثر لازم لما عملوا، فلم يعودوا أهلًا للكرامة وجوار المولى في جنة الخلد. وكأنه يقال لهم ذلك القول عند استغاثتهم عن العذاب، وحلول النقمة. 53 - ثم حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة، أنهم أستفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال؛ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ}؛ أي: ويستخبرونك يا محمَّد أحق ما تعدنا به من نزول العذاب وقيام الساعة {قُلْ} لم يا محمَّد {إِي وَرَبِّي}؛ نعم، وأقسم لكم بربي {إنه لحق}؛ أي: إن العذاب الذي أعدكم به حق، لا شك فيه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}؛ أي؛ بفائتين من العذاب؛ لأن من عجز عن شيء فقد فاته، ويقال: أعجزه الأمر: إذا فاته. والمعني (¬1): أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة، أحق أنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو إرهاب وتخويف فحسب، قل لهم يا محمَّد: نعم أقسم لكم بربي، إنه لحق واقع ما له من دافع، وما أنتم بواجدي من يوقع العذاب بكم، عاجزًا عن إدراككم وإيقاعه بكم. وإي بكسر الهمزة وسكون الياء، كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم، وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل، هل بمعنى، قد فيه خاصة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[54]

وخلاصة ذلك: أنه إن ينزل بكم عذابه، لستم بفائتيه سبحانه بهرب أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه إذا أراد فعل ذلك بكم، فاتقوه في أنفسكم أن يحل بكم غضبه. وقرأ (¬1) الأعمش: {إنه الحق}. قال الزمخشري: وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض، بأنه باطل، وذلك أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل، أو أهو الذي سميتموه الحق، انتهى. 54 - ثم ذكر ما في هذا اليوم من الأهوال فقال: {وَلَوْ} ثبت {أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} وكفرت بالله {مَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جميع ما في الأرض من أنواع الملك، وصنوف النعم، وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه {لَافْتَدَتْ بِهِ}؛ أي لعادت وأنقذت بما في الأرض نفسها، من عذاب الله تعالى، ولم تدخر منه شيئًا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}؛ أي: وأسر أولئك الذين ظلموا غمهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} بأبصارهم؛ أي: حين معاينة العذاب بأبصارهم إذا برزت لهم نار جهنم، وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، فما مثلهم إلا مثل من يقدم للصلب، يثقله ما نزل به من الخطب الجلل، ويغلب عليه الحزن الفادح، فيخرسه، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة، ويبقى جامدًا مبهوتًا لا حراك به. ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم}؛ أي: بين الظالمين وغيرهم {بالقسط}، أي: بالعدل {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن الظالمين {لَا يُظلَمُونَ} فيما فعل بهم من العذاب؛ أي: وقضى الله سبحانه وتعالى، وحكم بين الظالمين وبين خصومهم بالحق والعدل، وخصومهم هم، الرسل والمؤمنون بهم، وكذلك من أضلوهم وظلموهم، من المرؤوسين، والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر، ويصدونهم عن الإيمان. وجاء في معنى هذه الآية قوله في سورة سبأ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[55]

وقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)}. 55 - ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته، على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده. وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربًا، فقال: {أَلَاَ}؛ أي: انتبهوا {إِنَّ لِلَّهِ} لا لغيره {ما في السموات والأرض}؛ أي: جميع ما في السموات والأرض ملكًا وخلقًا وعبيدًا؛ أي: إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم فليس للكافرين به شيء يملكونه، فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب، بل الأشياء كلها لله، الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم. وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه، تنبيه للغافلين وإيقاظ للذاهلين. والخلاصة: فليتذكر من نسي، وليتنبه من غفل، وليعلم من جهل، أن لله وحده جميع ما في العوالم العلوية والعوالم الأرضية، يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئًا من التصرف والفداء في يوم البعث والجزاء. ثم أكد ما سلف بقوله {أَلَاَ}؛ أي: انتبهوا {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}؛ أي: إن جميع ما وعد الله به {حَقٌّ}؛ أي: ثابت لا بد أن يقع ووعده تعالى مطابق للواقع لا شك فيه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر الناس {لَا يَعلَمُونَ} إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، فهم غافلون عن حقيقة ذلك؛ أي: لا يعلمون ما فيه صلاحهم فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه؛ أي: إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه؛ لأنه وعد المالك القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء، لا يعلمون أمر الآخرة، لغفلتهم عنها، وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها. 56 - ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى {يُحْيِي وَيُمِيتُ} في الدنيا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الموت للجزاء، فترون ما وعد به؛ أي: إنه تعالى هو المحيي المميت، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء، والإماتة ثم إليه سبحانه وتعالى لا إلى غيره ترجعون؛ حين يحييكم بعد موتكم؛ ويحشركم إليه

للحساب والجزاء بأعمالكم، فيجازي كلا بما يستحقه، ويتفضل على من يشاء من عباده. وقرأ (¬1) الحسن بخلاف عنه وعيسى بن عمر: {يرجعون} بالياء على الغيبة. وقرأ الجمهور: بالتاء على الخطاب. الإعراب {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما} نافية {كَانَ هَذَا}: فعل ناقص واسمه {الْقُرْآنُ}: بدل من هذا {أَنْ يُفْتَرَى}: أن حرف نصب. {يُفْتَرَى}: فعل مضارع، مغير الصيغة، منصوب بـ {أَنْ} ونائب فاعله ضمير يعود على {الْقُرْآنُ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ {كَانَ} تقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً من دون الله؛ أي: مفترى من دونه، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {وَلَكِنْ}. {الواو} عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {تَصْدِيقَ} معطوف على خبر {كَانَ} أو خبر لـ {كَانَ} المحذوفة، تقديره: ولكن كان تصديق الذي، وجملة كان المحذوفة معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى، وهو مضاف {الَّذِي}: مضاف إليه. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}: معطوف على {تَصْدِيقَ} {لَا رَيْبَ} {لَا}: نافية {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها {فِيهِ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر {لَا} وجملة {لَا} في محل النصب حال من الكتاب، تقديره: حالة كون الكتاب منتفيًا عنه الريب، وصح مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنه مفعول في المعنى، أو جملة {لَا} مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور، حال ثانية من الكتاب، تقديره: حالة كون الكتاب، كائنًا من رب العالمين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {افْتَرَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول القول {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}: إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت، قلت: الفاء: رابطة الجواب بالشرط المحذوف، تقديره؛ إن كان الأمر كما تقولون .. {فَأْتُوا} فعل وفاعل في محل الجزم على كونه جوابًا للشرط المحذوف {بِسُورَةٍ}: متعلق به {مِثْلِهِ}: صفة لـ {سورة} ولكنه في تأويل مشتق، تقديره: بسورة مماثلة إياه، ومثل من الأسماء المتوغلة فصح كونه صفة لنكرة {وَادْعُوا مَنِ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {فَأْتُوا} {اسْتَطَعْتُمْ} فعل وفاعل {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة صلة {مَن} الموصولة، تقديره: من استطعتم دعاءه {إنْ}: حرف شرط {كُنْتُمْ}، فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية {صَادِقِينَ} خبره، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين في أني افتريته فأتوا بسورة مثله؛ لأنكم عربيون فصحاء مثلي، وجملة الشرط مستأنفة. {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}. {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي {كَذَّبُوا} فعل وفاعل. {بِمَا} جار ومجرور، متعلق به والجملة مستأنفة {لَمْ يُحِيطُوا} فعل وفاعل، مجزوم بلم {بِعِلْمِهِ} متعلق به، والجملة صلة لـ {مَّا} أو صفة لها {الواو}: عاطفة {لما يأتهم}: فعل ومفعول {تَأْوِيلُهُ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: تكذيبًا مثل تكذيب قومك إياك {كَذَّبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور

صلة الموصول. {فَانْظُرْ} الفاء، عاطفة {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {كذب}؛ لأنها في قوة {كذلك كذب الذين من قبلهم فأهلكناهم} {كَيْفَ}: اسم استفهام، في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها. {كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}؛ فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب مفعول لـ {انظر} معلق عنها باسم الاستفهام. {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}. {وَمِنْهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع {بِهِ}؛ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة صلة {مَن} الموصولة {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر {بِالْمُفْسِدِينَ}: متعلق بـ {أَعْلَمُ} والجملة مستأنفة. {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية {إن}: حرف شرط {كَذَّبُوكَ}؛ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَقُلْ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية. {قل} فعل أمر في محل الجزم على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {لِي عَمَلِي}، إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت، قلت: {لِي} خبر مقدم {عَمَلِي} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول محكي {وَلَكُمْ}، خبر مقدم. {عَمَلُكُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {لِي عَمَلِي} {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول لـ {قل}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {بريئون} {أَعْمَلُ}؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما أعمله. {وَأَنَا بَرِيءٌ}: مبتدأ وخبر معطوف على {أنتم بريئون} {مِمَّا} متعلق بـ {بَرِيءٌ}. وجملة {تَعْمَلُونَ}، صلة لـ {ما} أو

صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تعملونه. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}. {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} {يَسْتَمِعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول {إِلَيْكَ}: متعلق به، والعائد ضمير الفاعل وجمعه نظرًا لمعنى من {أَفَأَنْتَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أيستمعون إليك {أنت}: مبتدأ. {تُسْمِعُ الصُّمَّ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة {وَلَوْ} الواو: عاطفة {لو} حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {لَا يَعْقِلُونَ}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} فعل شرط لـ {لو} وجوابها محذوف، تقديره: ولو كانوا لا يعقلون، فأنت لا تسمعهم، وجملة لو معطوفة على محذوف، تقديره: أأنت تسمع الصم إن عقلوا، بل ولو كانوا لا يعقلون، فأنت لا تسمعهم. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}. {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم {مَنْ}: مبتدأ مؤخر. {يَنْظُرُ}: صلته، وأفرد العائد هنا، نظرًا إلى لفظ {مَن} والجملة معطوفة على جملة، قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ}. {أَفَأَنْتَ} الهمزة: داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أينظرون إليك فأنت {أنت}: مبتدأ. وجملة {تَهْدِي الْعُمْيَ}: خبره والجملة الاسمية معطوفة على المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة {وَلَوْ}: الواو: عاطفة {لو}: حرف شرط {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {لَا يُبْصِرُونَ}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} فعل شرط لـ {لو} وجواب {لو} معلوم مما قبله، تقديره: ولو كانوا لا يبصرون، فأنت تهدي العمى، وجملة {لو} معطوفة على محذوف، تقديره: أأنت تهدي العمي إن أبصروا، بل، ولو كانوا لا يبصرون.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}: فعل ومفعولان؛ أي: لا ينقص الناس شيئًا من أعمالهم، أو شيئًا منصوب على المصدرية؛ أي: شيئًا من الظلم قليلًا أو كثيرًا، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} وجملة {لَا يَظْلِمُ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة {وَلَكِنَّ النَّاسَ}: ناصب واسمه {أنفسهم} مفعول مقدم لـ {يَظلِمُونَ} قدم عليه لرعاية الفاصلة. وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل الرفع خبر {لَكِنَّ} وجملة {لَكِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ}. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية. {يوم}، منصوب باذكر محذوفًا. والجملة المحذوفة مستأنفة {يَحْشُرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}. {كَأَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، تقديره: كأنهم {لَمْ يَلْبَثُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {سَاعَةً} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَلْبَثُوا} {مِنَ النَّهَارِ}: صفة لساعة وجملة {كَأَنْ} في محل النصب حال من مفعول {يَحْشُرُهُمْ} تقديره: واذكر يوم يحشرهم، حال كونهم مشبهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار {يَتَعَارَفُونَ}: فعل وفاعل {بَيْنَهُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب، حال ثانية من ضمير {يَحْشُرُهُمْ} أو مستأنفة {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {بِلِقَاءِ اللَّهِ}: متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {وَمَا كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {مُهْتَدِينَ}: خبره والجملة معطوفة على جملة خسر. {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}. {وَإِمَّا}: {الواو}: استئنافية {إن}؛ حرف شرط {ما}؛ زائدة {نرين} فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، مبني

على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. والكاف مفعول أول لأرى {بَعْضَ الَّذِي}: مفعول ثانٍ، ومضاف إليه؛ لأن رأى هنا بصرية، تعدت بالهمزة إلى مفعولين {نَعِدُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} والجملة صلة الموصول. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}: فعل مضارع متصل بنون التوكيد في محل الجزم معطوف على {نرين}. والكاف: مفعول به {فَإِلَيْنَا} الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {إلينا}: خبر مقدم {مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم {بإن} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ}؛ مبتدأ وخبر. {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}: متعلق بـ {شَهِيدٌ} والجملة الاسمية في محل الجزم، معطوفة على جملة قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر قدم {رَسُولٌ}: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة {فَإِذَا} الفاء: عاطفة {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بالجواب الآتي {جَاءَ رَسُولُهُمْ} فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونه فعل شرط لها {قُضِيَ}، فعل ماض مغير الصيغة {بَيْنَهُمْ}: نائب فاعل، والجملة جواب {إذا} وجملة {إذا} معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {بِالْقِسْطِ}: متعلق بـ {قضي} {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير بينهم. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَتَى}: اسم استفهام، في محل النصب على الظرفية الزمانية خبر مقدم. {هَذَا الْوَعْدُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِنْ كُنْتُمْ} {إِنْ} حرف شرط {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فعل

ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم صادقين متى هذا الوعد، والجملة الشرطية في محل النصب مقول القول. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ...} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية {أَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {لِنَفْسِي}: متعلق به. {ضَرًّا}: مفعول به {وَلَا نَفْعًا}: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء المنقطع {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: إلا ما شاء الله {لِكُلِّ أُمَّةٍ}: خبر مقدم {أَجَلٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي {جَاءَ أَجَلُهُمْ}: فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها {فَلَا} الفاء: رابطة {لَا}: نافية {يَسْتَأْخِرُونَ}: فعل وفاعل {سَاعَةً} ظرف متعلق به، والجملة جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} في محل النصب مقول {قُلْ} {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَسْتَأْخِرُونَ}. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَرَأَيْتُمْ} إلى قوله: {الآن} مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، بمعنى: أخبروني، تتعدى إلى مفعولين، الأول منهما: محذوف تقديره: عن عذاب الله، والمفعول الثاني: الجملة الاستفهامية الآتية، والجملة في محل النصب مقول القول {إنْ أتاكم} {إنْ} حرف شرط {أَتَاكُمْ عَذَابُهُ}: فعل

ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {بَيَاتًا}: منصوب على الظرفية متعلق بأتى {أَوْ نَهَارًا} معطوف عليه {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ {يَسْتَعْجِلُ}: فعل مضارع. {مِنْهُ}، جار ومجرور حال من مفعول {يَسْتَعْجِلُ} المحذوف، تقديره أيَّ شيء يستعجله المجرمون حالة كونه كائنًا من عذاب الله {الْمُجْرِمُونَ}: فاعل وجملة {يَسْتَعْجِلُ} في محل الرفع خبر المبتدأ والرابط الضمير المحذوف في {يَسْتَعْجِلُ} والجملة الاسمية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، ولكنها على تقدير: الفاء الرابطة؛ لأن الجملة اسمية، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب، سادة مسد المفعول الثاني لـ {أرأيتم} وقيل: إن جواب الشرط محذوف، تقديره: إن أتاكم عذابه، تندموا، وجملة {إنْ} معترضة كما مر في مبحث التفسير. {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}. {أَثُمَّ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أأخرتم الإيمان، والجملة المحذوفة مستأنفة {ثم}: حرف عطف وترتيب وتراخ {إذَا}: ظرف لما يستقبل. {مَا} زائدة {وَقَعَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على العذاب، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {آمَنْتُمْ} فعل وفاعل جواب {إذا}. {به} متعلق بـ {آمَنْ} وجملة {إذا} معطوفة على الجملة المحذوفة. {آلْآنَ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي. {الآن} ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: الآن تؤمنون، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم: الآن تؤمنون، والقول المحذوف مستأنف {وَقَدْ كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه. {بِهِ} متعلق بـ {تَسْتَعْجِلُونَ} وجملة {تَسْتَعْجِلُونَ} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل النصب على الحال من فاعل {تُؤمِنُونَ} المحذوف. {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.

{ثُمَّ}: حرف عطف {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة {لِلَّذِينَ}: متعلق به. وجملة {ظَلَمُوا} صلة الموصول {ذُوقُوا ...} إلى آخر الآية، نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ} وجملة القول معطوفة على جملة القول المقدر عند قوله: الآن، وإن شئت قلت: {ذُوقُوا}: فعل وفاعل، {عَذَابَ الْخُلْدِ}: مفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري {تُجْزَوْنَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تُجْزَوْنَ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَكْسِبُونَ} خبره وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: تكسبونه. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن استنبأ هنا، بمعنى: سأل، يتعدى إلى مفعولين {أَحَقٌّ} الهمزة للاستفهام التقريري. {حق} مبتدأ. {هُوَ}: فاعل سد مسد الخبر، أو {هُوَ} مبتدأ مؤخر، و {حق}: خبر مقدم، والجملة في محل النصب مفعول ثانٍ لاستنبأ معلق عنه بالاستفهام، والجملة الفعلية مستأنفة {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {إي} حرف جواب بمعنى نعم، خاصة بالقسم {وَرَبِّي} الواو حرف جر وقسم {رَبِّي}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور، متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بربي {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {لَحَقٌّ}: خبره، واللام: حرف ابتداء وجملة {إِنَّ} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَمَا} الواو: عاطفة. {ما} حجازية {أَنْتُمْ}: في محل الرفع اسمها {بِمُعْجِزِينَ}: خبرها وجملة {ما} الحجازية في محل النصب معطوفة على جملة القسم على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}.

{وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية {لو} حرف شرط غير جازم {أنّ}: حرف نصب ومصدر {لِكُلِّ نَفْسٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم {لأن}. وجملة {ظَلَمَتْ} صفة لـ {نَفْسٍ} {مَا} موصولة في محل النصب اسم {أنّ} مؤخر. {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور صلة الموصول، وجملة {أنّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على كونه، فاعل فعل محذوف، تقديره: ولو ثبت كون ما في الأرض لكل نفس ظلمت {لَافْتَدَتْ} اللام: رابطة لجواب {لو} الشرطية {افْتَدَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على النفس. {به} متعلق به، والجملة الفعلية جواب {لو} الشرطية لا محل لها من الإعراب وجملة لو الشرطية مستأنفة، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون، الظرف متعلق بـ {أسروا} {رَأَوُا الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {وَقُضِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة {بَيْنَهُمْ} ظرف متعلق به {بِالْقِسْطِ}: جار ومجرور نائب فاعل لـ {قُضِيَ} والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {رَأَوُا}. {وَهُمْ} مبتدأ. وجملة {لَا يُظْلَمُونَ}: خبره والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {بَيْنَهُمْ}. {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه {إنَّ}: حرف نصب. {لِلَّهِ} خبر مقدم لـ {إنَّ} {مَا}: اسم موصول في محل النصب اسم {إِنَّ} مؤخر {فِي السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور صلة لـ {مَا} {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السموات} والتقدير: ألا إن ما في السموات والأرض مملوك لله سبحانه وتعالى، وجملة {إنَّ} مستأنفة {أَلَا} حرف تنبيه {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {حَقٌّ}: خبره، والجملة مستأنفة {وَلَكِنَّ}: حرف نصب واستدراك {أَكْثَرَهُمْ} اسمها. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبر {لَكِنَّ} وجملة {لَكِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ}.

{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. {هُوَ} مبتدأ. وجملة {يُحْيِي}: خبره والجملة مستأنفة {وَيُمِيتُ}: معطوف على {يُحْيِي} {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ} {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية معطوف على الجملة الاسمية أعني: جملة {هُوَ يُحْيِي}. التصريف ومفردات اللغة {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} يُفترى: فعل مبني للمجهول من افترى الخماسي، من باب افتعل، والقائم مقام الفاعل ضمير عائد إلى القرآن، والافتراء، مصدره، وهو اختلاق الكذب من عند نفسه. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}: جمع أصم، كالحمر جمع الأحمر، وهو من به صمم، وكذلك العمي جمع الأعمى. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ}: حقيقة (¬1) الحشر، جمع الناس في الموقف، وحقيقة البعث إحياؤهم من القبور، والتعارف يقع في الحشر الذي هو الاجتماع؛ أي: في ابتدائه، وينقطع في أثنائه، لشدة الأهوال، ويشغل كل بنفسه، وأما البعث فلا تعارف فيه، لعدم الاجتماع الذي هو لازمه. {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: متى هذا العذاب الموعود الذي تعدنا به يا محمَّد يقولون ذلك استعجالًا للعذاب. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} والأجل (¬2): يطلق على مدة العمر، وعلى آخر جزء منه، والمراد هنا: الثاني، كما في التفاسير، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود": إن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان .. فمعنى مجيئه ظاهر، وإن أريد به ما امتد إليه من الزمان .. فمجيئه عبارة عن انقضائه، إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه، اهـ. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

{الآن} بهمزتين الأولى: همزة الاستفهام، والثانية: همزة أل المعرفة، وإذا اجتمع هاتان الهمزتان .. وجب في الثانية أحد أمرين: تسهيلها من غير ألف بينها وبين الأولى، وإبدالها مدًّا بقدر ثلاث ألفات على حد قول ابن مالك: وَايْمُنُ هَمْزِ أَلْ كَذَا ويُبْدَلُ ... مَدًّا فِي الاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ وقد وقع في القرآن من هذا القبيل ستة مواضع، اثنان في الأنعام وهما {آلذَّكَرَيْنِ} مرتين، وثلاثة في هذه السورة، لفظ {ألْآنَ} هنا، وفيما سيأتي، ولفظ {أللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} وواحد في النمل {أللَّهُ خَيْرٌ}، فلا يجوز في هذه المواضع الستة تحقيق الهمزتين، بل يجب أحد الأمرين اللذين قد عرفتهما، اهـ شيخنا. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} وأصل يستنبئونك (¬1): أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، تقول: استنبأت زيدًا عن عمرو، أي: طلبت منه أن يخبرني عن عمرو، فاستفعل هنا للطلب، والمفعول الأول كاف الخطاب، والمفعول الثاني، الجملة من قوله: {أَحَقٌّ هُوَ} على سبيل التعليق، كما مر في مبحث الإعراب. {قُلْ إِي وَرَبِّي} و {إي} من حروف الجواب بمعنى: نعم، لكن لا يجاب بها إلا مع القسم خاصة، ذكره: أبو السعود. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وإسرار الحديث؛ خفض الصوت به، وإسرار الشيء: إخفاؤه وكتمانه. وفي "السمين": {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} قيل: أسر من الأضداد، يستعمل بمعنى أظهر، ويستعمل بمعنى: أخفى، وهو المشهور في اللغة كقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل: إنه ماض على بابه قد وقع، وقيل: بل هو بمعنى: المستقبل اهـ. والندم والندامة (¬2): ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة، عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام، كما قال تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدةً من إعلانه، أو اتقاءً للشماتة أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الإهانة. وقيل: معنى أسروا الندامة: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها، ومنه قول كثيّر: فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... برَدِّ جِمَالِ عَاصِرَةَ الْمُنَادِيْ ذكره "الشوكاني". {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} والبيات بمعنى: التبييت اسم مصدر، كالسلام بمعنى التسليم، وهو منتصب على الظرفية، وكذلك نهارًا؛ أي: وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، اهـ منه {بِالْقِسْطِ} القسط العدل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ لأنه كناية عما سبقه من التوراة والإنجيل، فإنهما بشرتا به. ومنها: إطلاق المصدر بمعنى اسم الفاعل في قوله: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أفأنت تسمع اَلْصُّمَّ} وقوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنه شبه الكافرين بمن ليس له حاسة السمع، ولا حاسة البصر، بجامع عدم الاهتداء في كل إلى المقصود. ومنها: طباق السلب في قوله: {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} و {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ}. ومنها: المقابلة في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} وفيه أيضًا جناس الاشتقاق بين: {عَمَلِي} و {أَعْمَلُ}، وكذا فيما بعده. ومنها: الطباق بين {ضرًّا} {ونفعا} في قوله: {ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} وبين {بَيَاتًا} و {نَهَارًا} وبين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وبين {يَسْتَقْدِمُونَ} و {يَسْتَأْخِرُونَ}.

ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} والمقصود من (¬1) هذا التشبيه، كما قاله أبو السعود: بيان كمال سهولة الحشر بالنسبة إليه تعالى، ولو بعد دهر طويل، وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم له بقولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ونحو ذلك، أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكال والصور، فإن اللبث اليسير يلزمه عدم التبدل والتغير فيكون قوله: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} بيانًا وتقريرًا له؛ لأن التعارف يبعد مع طول العهد، والمراد بالساعة: الزمن القليل، فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار؛ لأن ساعاته أعرف حالًا من ساعات الليل. ومنها: الكناية في قوله: {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}؛ لأن الاستعجال كناية عن التكذيب. قال الزمخشري: {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يعني: تكذبون؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار. قلتُ: فجعله من باب الكناية؛ لأنها دلالة الشيء بلازمه، نحو هو طويل النجاد، كنى به عن طول قامته؛ لأن طول نجاده لازم لطول قامته، وهو باب بليغ، اهـ "سمين". ومنها: الإطناب في قوله: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية (¬1) لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة .. ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها، وهو القرآن المتصف بهذه الأوصاف الشريفة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وعبارة المراغي هنا: لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأدلة على أسس الدين الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والبعث .. أردف ذلك بذكر التشريع العملي، وهو القرآن الكريم، وقد أجمل مقاصد هذا التشريع في أمور أربعة. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...} الآية، مناسبة هذه (¬1) الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم .. بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحي. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الأدلة العقلية على إثبات الوحي والرسالة .. أردف ذلك بذكر فعل من أفعالهم، لا ينكرونه ولا يجادلون في وجوده، وهو يثبت صحة وجودهما، ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى وحده، وأن الأصل في الأرزاق، وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعضها، إما بأمره تعالى بوساطة رسله، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما بالافتراء على الله تعالى، وهو يلزمكم بإنكار الأول، إذ لا واسطة بينهما. قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ...} الآية، مناسبة (¬2) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ومحاورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم وذكر فضله تعالى على الناس، وأن أكثرهم لا يشكره على فضله .. ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم، وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى، ليظهر التفاوت بين الفريقين، فريق الشيطان، وفريق الرحمن. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

بين في سابق الآيات، أن فضله على عباده كثير، وأن الواجب عليهم أن يشكروه بدوام طاعته وترك معصيته، وأن القليل منهم هم الشاكرون .. أردف ذلك بتذكيرهم بإحاطة علمه بشؤونهم وأعمالهم، ما دق منهم وما عظم، في جميع ملكوت السموات والأرض، حتى يحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ...} الآية، مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لعباده سعة علمه ومراقبته لعباده وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها وذكرهم بما يجب عليهم، من شكره على تفضله عليهم .. ذكر هنا حال الشاكرين المتقين، الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة. قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - صفة أوليائه، وما بشرهم به، ووعدهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به، من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم في مكة بكثرتهم، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد الله، وكان ذلك مما يحزنه كما قال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .. أردف ذلك بتسليته له - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من أذى أعدائه، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأوليائه. قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده تعالى .. أردف ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم، وهو زعمهم أنه تعالى جده اتخذ ولدًا، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

أسباب النزول ما رأيت أحدًا ذكر سببًا لنزول هذه الآيات، ولكن قال أبو حيان في "البحر": قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ...} الآية، نزل في قريش الذين سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أحق هو؟ فالناس هم كفار قريش. التفسير وأوجه القراءة 57 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قيل: أراد بالناس قريشًا، وقيل: هو على العموم، وهو الأصح، وهو اختيار الطبري؛ أي: قل يا محمَّد، لكفار قريش، أو لجميع الكفار: يا أيها الناس {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم، كالطبيب الذي ينهى المريض عما يضره. ومن في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} متعلقة بالفعل، أي: قد جاءتكم من ربكم موعظة فتكون ابتدائية أو متعلقة بمحذوف صفة لـ {مَوْعِظَةٌ} والوعظ (¬1): الزجر المقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. وقيل: الموعظة: ما يدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والقرآن؛ داع إلى كل خير وصلاح بهذا الطريق {و} جاءكم {شفاء} ودواء {لِمَا فِي الصُّدُور}؛ أي: وجاءكم كتاب شاف لما في القلوب، من أمراض الجهل؛ وذلك لأن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة، فالقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها؛ لأن فيه الوعظ والزجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، فهو الدواء والشفاء لهذه الأمراض القلبية وإنما خص الصدر بالذكر؛ لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه، ذكره في "الخازن". {و} جاءكم كتاب {هدى}؛ أي: هاد من الضلالة إلى الصراط المستقيم ¬

_ (¬1) الخازن.

{و} كتاب هو {رحمة للمؤمنين} به؛ أي: نعمة من الله على المؤمنين خصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون به دون غيرهم. والمعنى: قد (¬1) جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية، الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها، والمرغبة في المحاسن، والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك، وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين، حيث أنزل عليهم، فنجوا به من ظلمة الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان، والتنكير فيها للتعظيم. والخلاصة (¬2): أن الآية الكريمة، أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر في أربعة أمور: الأول: الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرق له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك وقد جاء في معنى الآية قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}. الثاني: الشفاء لما في القلوب، من أدواء الشرك والنفاق، وسائر الأمراض التي يشعر من أحبها بضيق الصدر، كالشك في الإيمان، والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير. الثالث: الهدى إلى طريق الحق واليقين، والبعد من الضلال في الاعتقاد والعمل. الرابع: الرحمة للمؤمنين، وهي ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم، ومن آثارها بذل المعروف، وإغاثة الملهوف، وكف الظلم ومنع التعدي والبغي. وحاصل ذلك: أن موعظة القرآن وشفاءه لما في الصدور، من أمراض ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

[58]

الكفر والنفاق، وجميع الرذائل، وهداه إلى الحق والفضائل .. موجهات إلى أمة الدعوة، وهم جميع الناس، والمؤمنون قد اختصوا بما تثمره هذه الصفات الثلاث، من الرحمة؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها، 58 - ثم أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ المؤمنين، بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان، وبالرحمة الخاصة بهم، الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} والباء (¬1) في {بِفَضْلِ اللَّهِ} متعلقة بمحذوف، استغنى عن ذكره، لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، والفضل هنا بمعنى: الإفضال، ويكون معنى الآية على هذا: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهو القرآن، بإفضال الله عليكم وإحسانه لكم، ورحمته بكم وإرادته الخير لكم {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة {فَلْيَفْرَحُوا} لا بما جمعوا من حطام الدنيا، وقيل: الباء في {بِفَضْلِ اللَّهِ} متعلقة بفعل يفسره قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} والتقدير: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل، والرحمة بالفرح دونما عداهما من فوائد الدنيا. قال الواحدي: الفاء في قوله تعالى: {فَلْيَفْرَحُوا} زائدة، كقول الشاعر: فَإِذا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِيْ فالفاء في قوله: فاجزعي زائدة. وقيل: الفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء .. فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. والفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب والمشتهي، يقال: فرحت بكذا، إذا أدركت المأمول، ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح في اللذات البدنية الدنيوية، واستعمل هنا، فيما يرغب فيه من الخيرات. ومعنى الآية: ليفرح المؤمنون بفضل الله وبرحمته؛ أي: بما آتاهم الله من المواعظ وشفاء الصدور وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه، ذكره الخازن. أي: قل (¬2) لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته؛ أي: إن كان شيء في الدنيا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

يستحق أن يفرح به .. فهو فضل الله ورحمته. روى ابن مردويه وأبو الشيخ، عن أنس مرفوعًا: "فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله". وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن. {هُوَ}؛ أي: المذكور من فضل الله ورحمته {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من الدنيا؛ لأن الآخرة أبقى؛ أي: أن الفرح بهما أفضل وأنفع من الفرح بما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا؛ لأنه هو سبب السعادة في الدارين، وتلك سبب السعادة في الدنيا الزائلة فحسب، فقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه الملك الواسع، والمال الكثير، مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسن لغيرهم من قبل، ولا من بعد. وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا، ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن في إنفاقه والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم. فإن قلت: الأمر بالفرح في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} ينافي النهي عنه في قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. قلت: لا منافاة بينهما، لاختلاف المتعلق، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته، والمنهي هناك، الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر، ولذلك جاء بعده {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وقبله {إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ}. وقرأ (¬1) السبعة والجمهور: {فَلْيَفْرَحُوا} بالياء التحتية أمرًا للغائب. وقرأ يعقوب من العشرة، وأبي ويزيد بن القعقاع والأعمش وعمرو بن فائد وكثير من السلف: {فلتفرحوا} بالتاء الفوقية خطابًا لأصحاب محمَّد، والمعنى على هذا فلتفرحوا بذلك يا أصحاب محمَّد، هو خير مما يجمع الكفار. وفي مصحف أبي {فبذلك فافرحوا} وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب، وأما فليفرحوا بالياء، هي لغة قليلة. وقرأ أبو التياح والحسن. {فليفرحوا} بكسر ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني.

[59]

اللام، وقد تقرر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة جاءت هذه القراءة عليها. وقرأ الجمهور بالمثناة التحتية في {يَجْمَعُونَ} كما قرؤوا في {فَلْيَفْرَحُوا} بالياء. وروي عن ابن عامر أنه قرأ: بالفوقية في {يجمعون} وبالتحتية في {فَلْيَفْرَحُوا} 59 - {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء المشركين: {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني أيها الجاحدون للوحي والرسالة {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: أهذا الذي أفاضه الله عليكم من فضله وإحسانه {مِنْ رِزْقٍ} تعيشون به من نبات وحيوان {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الرزق {حَرَامًا وَحَلَالًا}؛ أي: فجعلتم بعضه حرامًا، وبعضه حلالًا، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الأنعام بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} إلخ، وبقوله في سورة المائدة: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. ويحتمل كون ما في {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف؛ أي: ما أنزله الله، وهي في محل نصب مفعول أول، لـ {أرأيتم}؛ لأنه بمعنى أخبروني، والثاني: هو الجملة من قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف، تقديره: آلله أذن لكم فيه، واعترض على هذا، بأن قوله: قل، يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولًا ثانيًا وأجيب بأنه كرر توكيدًا للأمر بالاستخبار. وقيل: إن {مَا} استفهامية في محل الرفع بالابتداء وخبرها {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ}. وقيل في قوله: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} تكرير للتوكيد، والرابط محذوف ومجموع المبتدأ والخبر في محل النصب بـ {أَرَأَيْتُمْ} والمعنى: أخبروني، أهذا الذي أنزل الله إليكم من رزق، فجعلتم منه حرامًا كالبحيرة، وحلالًا كالميتة، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وتكذبون في نسبة ذلك إليه؛ أي: أخبروني آلله أمركم بذلك الحكم، فأنتم ممتثلون بأمره تعالى، أم لم يأذن لكم في ذلك، بل أنتم كاذبون على الله في ادعائكم أن الله أمرنا بذلك الحكم. ومعنى (¬1) إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ، من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه. والظاهر (¬1): أن أم هنا متصلة، كما قال السفاقسيّ، أي: آلله أذن لكم، أم تكذبون عليه في نسبة الإذن إليه، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى، بل وهمزة التقرير لافترائهم بمعنى، بل أتفترون على الله ذلك، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة (¬2): ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم، والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله تعالى، ولا يفهمونها، ولا يدرون ما هي. ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعًا مستقلًا ما عمل به من الكتاب والسنة، فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه ولم يفهمه حق فهمه أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم، المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبدًا بهذه الشريعة، كما هم متعبدون بها ومحكومًا عليه بأحكامها، كما هم محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه، وأدى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجرًا واحدًا مع الخطأ. إنما الشأن في جعلهم لرأيه، الذي أخطأ فيه شريعةً مستقلة ودليلًا معمولًا به، وقد أخطؤوا في هذا خطأً بينًا، وغلطوا غلطًا فاحشًا فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإِسلام المعتد بأقوالهم إنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدًا له واقتداءً به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل، اللهم ارزقنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، وارزقنا من الإنصاف ما نظفر به بما هو الحق عندك، يا واهب الخير والعطايا، ومانح التوفيق والهدايا. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

[60]

وحاصل المعنى: أي (¬1) قل لهم: إن حق التحريم والتحليل لا يكون إلا لله؛ فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك، بوحي من عنده؟ أم أنتم على الله تفترون بزعمكم أنه حرم ما حرمتم وحلل ما حللتم. والخلاصة: أنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين: إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحريم والتحليل، وذلك اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال. وإما الافتراء على الله، وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول. 60 - وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله .. قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة، فقال: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} ويختلقون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} عند لقائهم ربهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت؛ أي (¬2): أي شيء ظنهم في ذلك اليوم، أيظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله، وتعمده فيما هو خاص بربوبيته، وعلى نزاع له فيها وشرك به، كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}. أي: أيُّ (¬3) شيءٍ ظنُّهم يومَ عرضِ الأفعال والأقوال، أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم، أو لا يجازون عليه، ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون، كلا إنهم لفي أشد العذاب؛ لأن معصيتهم أشد المعاصي، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع المضمن بمعنى الإنكار؛ أي: لا ينبغي هذا الحسبان ولا صحة له بوجه من الوجوه. وقرأ عيسى بن عمر: {وما ظن} جعله فعلًا ماضيًا؛ أي: أي ظن ظن الذين يفترون، فـ {مَا}: في موضع نصب على المصدر و {ما} الاستفهامية، قد تنوب عن المصدر، تقول: ما تضرب زيدًا، تريد: أيَّ ضربٍ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

تضرب زيدًا، ذكره في "البحر". {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَذُو فَضْلٍ} ومنّ {عَلَى النَّاسِ} بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإمهالهم على سوء أفعالهم. أو المعنى (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لذو فضل على الناس، في كل ما خلقه لهم من الرزق، وفي كل ما شرع لهم من الدين، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده، كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده، كمن اتخذوه من أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، تعالى، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارًّا بهم، وحصر محرمات الطعام في أمور معينة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر الناس {لَا يَشْكُرُونَ} تلك النعم كما يجب، فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى، ولا يقبلون دعوة أنبياء الله تعالى، ولا ينتفعون باستماع كتب الله تعالى. كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ومن ثم تراهم يحرمون ما لم يحرمه الله تعالى، ويكفرون نعمه فيغالون في الزهد، وترك الزينة والطيبات من الرزق، أو يسرفون في الأكل والشرب والزينة، ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس، مع أن الإِسلام يأمر بالاعتدال، كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}. أخرج أحمد، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وأنا رثّ الهيئة، فقال: "هل لك مال"؟ قلت: نعم، قال: "من أي المال"؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم، فقال: "إذا آتاك الله مالًا .. فلير أثر نعمته عليك وكرامته". وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعًا: "إذا آتاك الله مالًا فلير عليك فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس". ¬

_ (¬1) المراغي.

[61]

61 - {وَمَا تَكُونُ} أيها الرسول الكريم {فِي شَأْنٍ} أي في أمر من أمورك الهامة، خاصة كانت أو عامة مما تعالج بها شؤون الأمة بدعوتها إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذارًا لها وتبشيرًا وتعليمًا وعملًا {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ}؛ أي: من أجل ذلك الشأن {مِنْ قُرْآنٍ}؛ أي: قرآنا أنزل عليك تعبدًا به، أو تبليغًا له. فالضمير (¬1) في {مِنْهُ} إما عائد إلى الشأن، وعلى هذا فمن تعليلية؛ أي: وما تتلو قرآنًا من أجل الشأن الذي نزل بك وحدث لكون الذي تقرؤه نزل في شأنه، أو عائد إلى الله وعلى على هذا فمن ابتدائية؛ أي: وما تتلو قرآنًا مبتدأً من الله، تعالى، ونازلًا من عنده و {من} في قوله: {مِنْ قُرْآنٍ} زائدة عل كلا الوجهين، فالحاصل أن الثانية زائدة ولا بد، والأولى إما تعليلية، أو ابتدائية على حسب الوجهين اللذين ذكرنا. وفي التعبير (¬2) بالشأن وهو الأمر ذو البال، دلالة على أن جميع أموره، - صلى الله عليه وسلم -، كانت عظيمة، حتى ما كان منها من مجرى العادات لأنه، - صلى الله عليه وسلم -، كان فيها قدوةً صالحةً. وبعد أن خاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، انتقل إلى خطاب الأمة كلها في شوونها وأعمالها، فقال: {وَلَا تَعْمَلُونَ} أيها الرسول وأيتها الأمة {مِنْ عَمَلٍ}؛ أي: أي عمل خيرًا كان أو شرًّا، شكرًا كان أو كفرًا، وإن كان كمثقال ذرة. والاستثناء في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أعني: تكون تتلو تعملون؛ أي: ما تتلبسون بشيء من الأفعال الثلاثة في حال من الأحوال إلا في حال كوننا شهودًا عليكم، أي: رقباء مطلعين عليه حافظين له {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تشرعون في ذلك المذكور من الأفعال الثلاثة السابقة وتخوضون فيه فنحفظه عليكم ونجازيكم به فإذ ظرف لشهودا. وفي التعبير بالأمكنة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمًا به مندفعًا فيه جدير بأن لا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} يا محمَّد أي وما يبعد عن علم ربك ولا يخفى عليه {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي: وزن نملة صغيرة {فِي الْأَرْضِ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

وَلَا فِي السَّمَاءِ} فـ {مِن} زائدة؛ أي: ولا يغيب عن علم ربك ما يساوي في الثقل نملة صغيرة، أو هباء في دائرة الوجود والإمكان السفلي والعلوي. وقرأ الكسائي وابن وثاب والأعمش وابن مصرف (¬1): {يعزب} بكسر الزاي وكذا في سبأ. وقرأ باقي السبعة: بالضم، وهما لغتان فصيحتان. وفي التعبير (¬2) بيعزب الدال على الخفاء والبعد، دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعالنا، لا يغيب عن علمه تعالى، وقدم ذكر الأرض؛ لأن الكلام مع أهلها. ثم أكد سبحانه ما سبق وبين إحاطة علمه بكل شيء فقال: {وَلَا} يعزب عن علمه من {أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}؛ أي: شيء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقاثق الكون وخفاياه {وَلَا أَكْبَرَ} من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى. فأصغر وأكبر معطوفان على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممنوعين من الصرف، وسيأتي في مبحث الإعراب إيضاح ما في المقام من أوجه الإعراب وبيان الراجح منها، فانظره {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: في لوح محفوظ؛ أي: إلا وهو معلوم له تعالى، ومحصى عنده في كتاب عظيم الشأن، فكيف يغيب عن علمه وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها، إكمالًا للنظام، وبيانًا لضبط جميع الأعمال وفي معنى الآية قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)}. وفي ذلك (¬3): إشارة إلى أن في الوجود أشياء لا تدركها الأبصار، وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبر الأشياء أضعافًا مضاعفة أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها، إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم - المكروبات - ولم تكن تخطر على البال في عصر التنزيل وقد ظهرت للناس الآن، فهي من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[62]

وقرأ (¬1) الجمهور: {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} بفتح الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ. وقرأ حمزة ويعقوب من العشرة برفع الراء فيهما ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب. 62 - ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين وكرّ لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ...} إلخ، وكلمة ألا في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} حرف تنبيه؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون إن أولياء الله الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، والتوكل عليه، ولا يتخذون له أندادًا يحبونهم كحبه، ولا يتخذون من دونه وليًّا ولا شفيعًا يقربهم إليه زلفى {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات مطلوب. والمراد (¬2) بـ {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} خلص المؤمنين، كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معاصيه؛ أي: لا خوف عليهم في الآخرة: مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون، من أهوال الموقف، وعذاب الآخرة، كما قال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب، ولا يعتريهم ذلك فيها؛ لأن مقصدهم نيل رضوان الله المستتبع للكرامة والزلفى، ولا ريب في حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهي. وكذلك في الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار، وضعفاء الإيمان، وعبيد الدنيا، من مكروه يتوقع، كما قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنْتُم مُؤمِنينَ}. 63 - وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} بكل ما جاء من عند الله تعالى {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الله، سبحانه وتعالى، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[64]

التقوى (¬1): هي اتقاء كل ما لا يرضي الله، من ترك واجب وفعل محرم، واتقاء مخالفة سنن الله، تعالى، في خلقه، من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة. أي: أولياء الله تعالى هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح باللهِ وملائكته وكتبه وملكة التقوى له، عَزَّ وَجَلَّ، وما تقتضيه من عمل. والمراد (¬2)، بنفي الخوف عنهم: أنهم لا يخافون أبدًا كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب؛ لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة. 64 - وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} تفسير لمعنى، كونهم أولياء الله تعالى؛ أي: لهم البشارة والمسرة من الله تعالى، ما داموا في الحياة الدنيا بالنصر، وحسن العاقبة في كل أمر، وباستخلافهم في الأرض، ما أقاموا شرع الله وسننه، ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وبما يوحيه إلى أنبيائه وينزله في كتبه من كون حال المؤمنين عنده، هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤى الصالحة، وما يتفصل الله به عليهم، من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم، بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم: {لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة}. ولهم البشرى في الآخرة، بتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعم، والسلامة من العذاب، كما أشارت إليه الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

{تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}. وعبارة المراح هنا: فالبشرى (¬1) في الدنيا محبة الناس لهم، وذكرهم إياهم بالثناء الحسي والرؤى الصالحة، وبشرى الملائكة لهم عند الموت، وفي الآخرة تلقي الملائكة إياهم مبشرين بالفوز، والكرامة، وبياض الوجوه وإعطاء الصحف بأيمانهم، وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات، انتهت. فصل في الأحاديث المناسبة للآية عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له". أخرجه الترمذي. وله: عن رجل من أهل مصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، وقال: "ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له". قال الترمذي: حديث حسن. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جؤء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". متفق عليه. وهذا لفظ البخاري، ولمسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة". ¬

_ (¬1) المراح.

[65]

والرؤيا (¬1) ثلاثة: الرؤيا الصالحة: بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان. ورؤيا مما يحدث المرء نفسه. قال بعض العلماء: ووجه هذا القول أنا إذا حملنا قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى} على الرؤيا الصالحة الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحمل هذه الحالة إلا لهم، وذلك؛ لأن ولي الله تعالى هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن كان كذلك .. فإنه عند النوم لا يبقى في قلبه غير ذكر الله ومعرفته، ومن المعلوم، أن معرفة الله في القلب لا تفيد إلا الحق والصدق، فإذا رأى الولي رؤيا أو رُؤيت له كانت تلك الرؤيا بشرى من الله عَزَّ وَجَلَّ لهذا الولي. قال الخطابي: وفي هذه الأحاديث، توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها. {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: لا تغيير لأقواله على العموم، ولا إخلاف لمواعيده التي وعد بها أولياءه وأهل طاعته في كتابه وعلى ألسنة رسله {ذَلِكَ} المذكور من البشرى بسعادة الدارين {هُوَ الْفَوْزُ} والظفر {الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه، ولا يقادر قدره ولا يماثله غيره؛ لأنه ثمرة الإيمان الحق، والتقوى في حقوق الله وحقوق الخلق، والجملتان (¬2)، أعني {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} و {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، أو الأولى اعتراضية، والثانية تذييلية. 65 - {وَلَا يَحْزُنْكَ} يا محمَّد {قَوْلُهُمْ}؛ أي: قول هؤلاء المشركين، أي: إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم إياك، ولا يغمك تخويفهم لك؛ أي: لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، ولا بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك. وقرأ (¬3) نافع بضم الياء وكسر الزاي، من: أحزنه يحزنه، وكلاهما بمعنى. وهذا نهي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، عن الحزن من قول ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح والبيضاوي.

[66]

الكفار، المتضمن للطعن عليه، وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود: التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، معللًا لما ذكره من النهي لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وكأن قائلًا، قال: لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن؟ فقال: {إن العزة لله جميعًا} ليس لهم منها شيء؛ أي وإنما نهيتك عن الحزن لقولهم؛ لأن العزة والغلبة والقدرة والقهر جميعًا لله، سبحانه وتعالى، هو المنفرد بها دون غيره، لا يملك أحد من دونه شيئًا منها، فهو يهبها لمن يشاء، ويحرمها من يشاء، وهو ناصرك عليهم والمنتقم لك منهم، ولا منافاة (¬1) بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأن عزة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وعزة المؤمنين بإعزاز الله إياهم، فثبت بذلك أن العزة لله جميعًا وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. وقيل: إن المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن جميع ذلك لله تعالى وفي ملكه، فهو قادر على أن يسلبهم جميع ذلك، ويذلهم بعد العزة. وقرأ (¬2) أبو حيوة: {أن العزة} بفتح الهمزة، وليس معمولًا لقولهم؛ لأن ذلك لا يحزن الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو قول حق، وخرجت هذه القراءة على التعليل؛ أي: لا يقع منك حزن لما يقولون؛ لأجل أن العزة لله جميعًا. وقال القاضي فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافًا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. {هُوَ} سبحانه وتعالى {السَّمِيعُ} يسمع ما يقولون في حقك وفي تكذيبهم بالحق، وادعائهم للشرك فيكافؤهم على ذلك وهو {الْعَلِيمُ} بما يفعلون من إيذاء وكيد لا تخفى عليه خافية، فهو مذلهم ومحبط أعمالهم. 66 - ثم أقام الدليل على كون العزة لله جميعًا وكون الجزاء بيده فقال: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ}؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون، واعلموا أن لله سبحانه وتعالى لا لغيره {من في السموات ومن في الأرض}؛ أي: جميع من فيهما له سبحانه وتعالى لا لغيره، ومن جملتهم هؤلاء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

المشركون المعاصرون للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كانوا ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بما لم يأذن به الله تعالى؟ والمعنى (¬1): ألا إن لله كل من في السموات ومن في الأرض عبيدًا مملوكين له، لا مالك لشيء من ذلك سواه، فكيف يكون إلهًا معبودًا ما يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، والعبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب. فإن قلت (¬2): قد قال تعالى في الآية التي قبل هذه {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} بلفظة {مَا} وقال في هذه الآية بلفظة {مَن} فما فائدة ذلك؟ قلتُ: إن لفظة {ما} تدل على ما لا يعقل ولفظة {من} تدل على من يعقل، فمجموع الآيتين يدل على أن الله عزّ وجل يملك جميع من في السموات ومن الأرض من العقلاء وغيرهم، وهم عبيده وفي ملكه. وقيل: إن لفظة {مَن} لمن يعقل، فيكون المراد بـ {مَن} في السموات الملائكة العقلاء وبـ {مَن} في الأرض الإنس والجن، وهم العقلاء أيضًا، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء العقلاء المميزون في ملكه وتحت قدرته .. فغير العقلاء من الحيوانات والجمادات بطريق الأولى، أن يكونوا في ملكه، إذا ثبت هذا فتكون الأصنام التي يعبدها المشركون أيضًا في ملكه وتحت قبضته وقدرته، ويكون ذلك قدحًا في جعل الأصنام شركاء لله معبودة دونه. وفي الآية: نعي على عباد البشر والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا أردفه بقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ} المشركون {الَّذِينَ يَدْعُونَ} ويعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى آلهة {شُرَكَاءَ} له تعالى حقيقة؛ لأن ذلك محال، انما هي أسماء لا مسميات لها، و {مَا} نافية؛ أي: إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى بدعائهم في الشدائد واستغاثتهم في النوازل والتقريب إليهم بالقرابين والنذور، لا يتبعون شركاء له في الحقيقة يدبرون أمور العباد، ويكشفون الضر عنهم، إذ لا شريك له ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

تعالى. وقرأ السلمي: {تدعون} بالتاء على الخطاب. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وقال الزمخشري: وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - {تدعون} بالتاء. ووجهه أن يحمل {وَمَا يَتَّبِعُ} على الاستفهام؛ أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني إنهم يتبعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} انتهى. ومن قرأ: {تدعون} بالتاء كان قوله: {إن يتبعون} التفاتًا إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة، ذكره أبو حيان. ثم أكد ما سلف وزاده بيانًا، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ}؛ أي: ما يتبعون في الحقيقة فيما يقولون {إلَّا الظَّنَّ} والحدس في دعواهم أنهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين، المتكبرين، الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجابه ووزرائه ووسائطه. ثم زاد ذلك توكيدًا بقوله: {وَإِنْ هُمْ}؛ أي: وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا {إِلَّا يَخْرُصُونَ} ويكذبون؛ أي: إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون؛ أي: ما يتبعون يقينًا إنما يتبعون ظنًّا والظن لا يغني من الحق شيئًا {إن هم إلا يخرصون}؛ أي: يقدرون أنهم شركاء تقديرًا باطلًا وكذبًا بحتًا. والخلاصة (¬1): أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة، وأوهامهم الباطلة، فقاسوا الرب في تدبير أمور عباده على الملوك، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجري بمقتضى مشيئته تعالى الأزلية، وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة، العادلة، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}؛ أي: إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليهم بهم، كالمسيح والملائكة ومن دونهم يتوسلون إليه راجين خائفين، لا كأعوان الملوك ¬

_ (¬1) المراغي.

[67]

الذين لا ينتظم أمر ملكهم إلا بهم، 67 - ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله، من نفي الشركاء له في الخلق والتقدير والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع فجعل {اللَّيْلَ} مظلمًا {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}؛ أي: لأجل أن تسكنوا فيه، وتستريحوا بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش {و} جعل {النهار مبصرا}؛ أي: مضيئًا ذا إبصار، لتنتشروا في الأرض، وتقوموا بجميع أعمال العمران والكسب والشكر للرب، وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الجعل {لَآيَاتٍ}؛ أي: لعبرات {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} مواعظ القرآن، فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المنفرد بالوحدانية في الوجود؛ أي: إن في اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما، لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار، وخالف بينهما لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى، ووجه النعمة في ذلك سماع تدبر وعظة لما يسمع وقد جاء بمعنى الآية، قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}. وذكر (¬1) علة خلق الليل، وهي قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل عليه مقابله، والتقدير: جعل الليل مظلمًا لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة، ففيه شبه احتباك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[68]

68 - {قَالُوا}؛ أي: قال المشركون كفار مكة وغيرهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} حيث قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عما لا يليق به، قال تعالى ذلك تنزيهًا لنفسه عما نسبوه إليه وتعجيبًا من كلمتهم الحمقاء. ويصح أن يكون المعنى على العموم؛ أي: وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزه ربنا عما لا يليق بربوبيته وألوهيته، ويمكن أن يكون المعنى: عجيب أن تصدر منهم تلك المقالة الحمقاء. ثم أكد هذا التنزيه بقوله: {هُوَ} سبحانه وتعالى {الغني} غنىً مطلقًا عن جميع خلقه، فإن كل ما في الوجود من العالم العلوي والسفلي ملك له تعالى، ولا حاجة له إلى شيء منه، وجميعه في حاجة إليه، ولا يجانسه شيء منه، فالإنسان يحتاج إلى الولد، إما للنصرة والمعونة، وإما للاعتزاز به لدى الأهل والعشيرة، وإما لأنه زينة يلهو به في صغره، ويفخر به في كبره، وإما للحاجة إليه في قضاء مصالحه، أو لانتظار رفده وبره حين عجزه، وإما لبقاء ذكره بعد موته، والله غني عن كل ذلك، ولا حاجة له إلى شيء من هذه المنافع فهو مستغن أزلًا، وأبدًا، ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان، فقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا وعبيدًا من ناطق وصامت، يعني: أنه مالك ما في السموات وما في الأرض، وكلهم عبيده، وفي قبضته وتصرفه، وهو محدثهم وخالقهم، وإذا كان الكل له وفي ملكه، فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولدًا له؛ للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة. ثم زيف دعواهم الباطلة، وبين أنها بلا دليل، فقال: {إِنْ عِنْدَكُمْ}؛ أي: ما عندكم {مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: من حجة وبرهان {بِهَذَا} القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهي، و {مِن} زائدة والباء في {بِهَذَا} إما متعلقة بـ {سُلْطَانٍ}؛ لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الظرف. ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء، فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}؛ أي: أتقولون على الله قولًا لا تعلمون حقيقته، وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز نسبته إليه تعالى جهلًا منكم، ولا سيما بعد مجيء ما ينقضه من الأدلة العقلية، والوحي الإلهي، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري

[69]

التوبيخي؛ أي: لا تقولوا على الله ذلك. وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وإن العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع، وأن التقليد فيه غير سائغ. 69 - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول لهم قولًا يدل على أنَّ ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح، فقال: {قُلْ} لهم يا محمَّد ليتبين لهم سوء عاقبتهم {إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} ويختلقون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة الشركاء إليه أو باتخاذه ولدًا لنفسه، أو بدعوى أن الأولياء يطلعون على أسرار خلقه، ويتصرفون في ملكه {لَا يُفْلِحُونَ}؛ أي: لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد، أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى ولا ينجون من عذاب الآخرة. والمعنى: إن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم، لا يفوزون بمطلب من المطالب، ولا يسعدون، وإن اغتروا بطول السلامة، والبقاء من النعمة، والمعنى: إن قائل هذا القول لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلوبه، بل خاب وخسر. 70 - ثم بين سبحانه: أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة، فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذابًا مؤبَّدًا، فقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا}؛ أي: حياتهم متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت {ثُمَّ} بعد الموت {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}؛ أي: رجوعهم إلينا بالبعث لا إلى غيرنا {ثُمَّ} بعد الرجوع إلينا {نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كونهم كافرين فأين هم من الفلاح. والمعنى: أي هؤلاء لهم متاع في الدنيا حقير يتلهون به في حياة قصيرة هي: الحياة الدنيا إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاء فهو قليل بالنسبة إلى ما أعد الله تعالى في الآخرة للصادقين المتقين، ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب، فيذيقهم العذاب الشديد، بسبب كفرهم بآياته، وبالافتراء عليه وتكذيب رسله، بعد أن قامت عليهم الحجة. وفي الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على

منافع الدنيا المادية والمعنوية، فهو لا يعتد به بالنسبة إلى ما عند الله من حظ عظيم، ونعيم مقيم. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}. {يَا أَيُّهَا}: يا: حرف نداء {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد {النَّاسُ}: صفة لـ {أي} تابع للفظه وجملة النداء مستأنفة. {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء. {مِنْ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَاء} أو صفة لـ {مَوْعِظَةٌ} {وَشِفَاءٌ} معطوف على {مَوْعِظَةٌ} {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {شفاء} أو صفة {فِي الصُّدُورِ} جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}: معطوفان على {مَوْعِظَةٌ} {لِلْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور صفة. {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {بِفَضْلِ اللَّهِ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {بِفَضْلِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف دل عليه المذكور بعده {وَبِرَحْمَتِهِ} معطوف عليه، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، والجملة المحذوفة مقول {قُلْ} {فَبِذَلِكَ} الفاء: عاطفة لفعل محذوف على المحذوف السابق، تقديره: فليعجبوا {بذلك} جار ومجرور متعلق بهذا الفعل المقدر، أعني: يعجبوا {فَلْيَفْرَحُوا} الفاء: عاطفة ما بعدها على يعجبوا المحذوف. واللام: لام الأمر {يفرحوا}: مجزوم بها، والجملة معطوفة على يعجبوا {هُوَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر {مِمَّا}: متعلق بـ {خَيْرٌ} وجملة {يَجْمَعُونَ}: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره يجمعونه.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَرَأَيْتُمْ} ... إلى قوله: {قُلْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَرَأَيْتُمْ} فعل وفاعل بمعنى أخبروني. {مَا} اسم موصول في حل النصب مفعول أول لـ {أرأيتم}. {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل. {لَكُمْ} متعلق به، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد محذوف، تقديره: ما أنزله الله لكم {مِنْ رِزْقٍ}: جار ومجرور حال من {مَا} أو من الضمير المحذوف. {فَجَعَلْتُمْ} فعل وفاعل معطوف على {أَنْزَلَ} {مِنْهُ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {جعل} {حَرَامًا} مفعول ثانٍ لـ {جَعَلْ} {حَلَالًا} معطوف عليه؛ لأن المعنى: فجعلتم بعضه حرامًا، وبعضه حلالًا. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية مؤكدة لجملة {قُلْ} الأولى معترضة بين الفعل ومفعوله، أعني: أرأيتم ومفعوله الثاني {آللَّهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، بمعنى: النفي {الله} مبتدأ. {أَذِنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {أرأيتم} {أَمْ}: متصلة معادلة للهمزة {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تَفْتَرُونَ} وجملة {تَفْتَرُونَ} معطوفة على جملة {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} والمعنى: أخبروني أحصل إذن من الله لكم أم ذلك افتراء منكم وكذب، وهو استفهام لطلب التعيين، وهو الأول، {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية {ما}: اسم استفهام إنكاري في محل الرفع مبتدأ. {ظَنُّ} خبره {الَّذِينَ} مضاف إليه، والجملة مستأنفة {يَفْتَرُونَ} فعل وفاعل {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به {الْكَذِبَ}: مفعول به، والجملة صلة الموصول {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {ظَنُّ} {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه

{لَذُو فَضْلٍ}: خبره واللام حرف ابتداء. {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بـ {فَضْلٍ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة {وَلَكِنَّ} الواو: عاطفة {لكن أكثرهم}: ناصب واسمه. وجملة {لَا يَشْكُرُونَ} خبره، وجملة الاستدراك معطوفة على جملة {إِنَّ}. {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}. {وَمَا}: الواو استئنافية. {مَا}: نافية {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على محمَّد {فِي شَأْنٍ}: جار ومجرور خبر تكون والجملة مستأنفة. {وَمَا تَتْلُو} الواو: عاطفة {ما} نافية {تَتْلُو} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَتْلُو} فـ {مِن} تعليلية والضمير يعود على الشأن {مِنْ قُرْآنٍ} {مِنْ} زائدة {قُرْآنٍ}: مفعول {تَتْلُو} والجملة معطوفة على جملة {تَكُونُ} {وَلَا تَعْمَلُونَ} فعل وفاعل {مِنْ عَمَلٍ} {مِن} زائدة. {عَمَلٍ}: مفعول {تَعْمَلُونَ} {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة {كنا} فعل ناقص واسمه {عليكم} متعلق بـ {شُهُودًا} {شُهُودًا} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل النصب على الاستثناء من أعم الأحوال والتقدير وما تتلبسون بشيء من الأفعال المذكورة في حال من الأحوال إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه. {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {شُهُودًا} {تُفِيضُونَ}: فعل وفاعل {فِيهِ}: متعلق به، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذْ} إليها {وَمَا يَعْزُبُ} الواو: استئنافية. {ما} نافية {يَعْزُبُ}: فعل مضارع {عَنْ رَبِّكَ}، متعلق به {مِن}: زائدة {مِثْقَالِ ذَرَّةٍ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور حال من ذرة، أو صفة لها أو حال من {مِثْقَالِ} {وَلَا فِي السَّمَاءِ}: معطوف على الأرض وزيدت {لا} لتأكيد نفي ما قبلها. وقوله: {وَلَاَ

أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}: كلام مستقل برأسه مقرر لما قبله، الواو استئنافية. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل إن {أَصْغَرَ}: بالنصب اسمها منصوب؛ لأنه شبيه بالمضاف لعمله في الجار والمجرور بعده {مِنْ ذَلِكَ} متعلق به. وبالرفع إما على الابتداء، أو على أن {لا} عاملة عمل ليس {وَلَا أَكْبَرَ}: معطوف على {أَصْغَرَ} والخبر على كلا القراءتين النصب والرفع بوجهيه. قوله: {إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فـ {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ {فِي كِتَابٍ}: جار ومجرور خبر {لا} أو خبر المبتدأ {مبينٍ}: صفة له، وجملة {لا} النافية أو جملة المبتدأ مستأنفة، منقطعة عما قبلها. وإنما (¬1) جاز إعراب {أَصْغَرَ} و {أَكْبَرَ} بالنصب على أن {لا} عاملة عمل إن؛ لأن {أَصْغَرَ} و {أَكْبَرَ} شبيهان بالمضاف تعلق بهما شيء من تمام معناهما، وهو العمل في الجار والمجرور، وهاتان القراءتان هنا فقط، وأما في سبأ فبالرفع، باتفاق السبعة. وقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: الاستثناء منقطع، والمعنى (¬2) لكن جميع الأشياء في كتاب مبين، فهو استدراك على ما يتوهم نفيه؛ لأن قوله: {لا يعزب عن ربك ...} إلخ، ربما يتوهم أنه لم يحط بها غير علم الله، فدفع ذلك بقوله: إلا في كتاب مبين؛ أي: لكن جميع الأشياء مثبتة في كتاب مبين أيضًا. ولا يصح أن يكون متصلًا؛ لأنه يصير المعنى: لا يغيب عن علمه شيء في حال من الأحوال، إلا في حال كونه مثبتًا في كتاب مبين فيغيب، فيفيد أن ما في الكتاب غائب عن علم الله، وذلك باطل، وهذا الإشكال لا يرد إلا على جعل قوله: {وَلَا أَصْغَرَ} {وَلَا أَكْبَرَ} معطوفًا على {مِثْقَالِ} وأما إن جعل مستأنفًا - كما تقرر - فلا يرد الإشكال فتأمل. {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. {أَلَاَ}: حرف تنبيه واستفتاح {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه {لَا خَوْفٌ} {لَا}: نافية تعمل عمل ليس {خَوْفٌ} اسمها. {عَلَيْهِمْ} خبرها، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة {وَلَا هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ} خبره، وجملة الابتداء في محل الرفع معطوفة على ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الصاوي.

جملة {لَا} على كونها خبرا لـ {إن}. {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: من أولئك الأولياء؟ فأجاب: هم الذين، إلخ {آمَنُوا}: فعل، وفاعل صلة الموصول {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه. وجملة {يَتَّقُونَ}: خبره وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة الصلة {لهُمْ}: خبر مقدم {الْبُشْرَى}: مبتدأ مؤخر {فِي الْحَيَاةِ} متعلق به؛ أي: البشرى تقع في الدنيا، وفسرت بالرؤيا الصالحة؛ أو حال من {الْبُشْرَى}؛ متعلق بمحذوف، والعامل في الحال الاستقرار في {لَهُمُ} لوقوعه خبرًا، اهـ "سمين". {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ} والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا أعد لهم في الدارين. {وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {وَفِي الْآخِرَةِ}: معطوف على الجار والمجرور قبله. {لَا تَبْدِيلَ} {لَا}: نافية تعمل عمل إن {تَبْدِيلَ} اسمها. {لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور خبر {لَا} والجملة معترضة في آخر الكلام، لا محل لها من الإعراب، كما سيأتي في مبحث البلاغة بيان وجه اعتراضها. {ذَلِكَ} مبتدأ {هُوَ}: ضمير فصل {الْفَوْزُ} خبر {الْعَظِيمُ}: صفة له، والجملة معترضة أيضًا، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}. {وَلَا}: {الواو}: استئنافية {لا يحزنك قولهم}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة {إِنَّ الْعِزَّةَ}: ناصب واسمه {لِلَّهِ} خبره {جَمِيعًا} حال من {الْعِزَّةَ} أو توكيد لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {هُوَ السَّمِيعُ}: مبتدأ وخبر {الْعَلِيمُ} خبر ثانٍ؛ أو صفة لـ {السَّمِيعُ} والجملة مستأنفة.

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}. {أَلَا}: حرف تنبيه {إنَّ} حرف نصب {لِلَّهِ}: خبر مقدم لها {مَن}: اسم موصول اسمها مؤخر وجملة {إنَّ} مستأنفة {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة الموصول {وَمَن} معطوف على {مَن} الأولى. {فِي الْأَرْضِ}: صلتها. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما} نافية {يَتَّبِعُ الَّذِينَ} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {يَدْعُونَ}؛ فعل وفاعل صلة الموصول {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: متعلق به ومفعول {يَدْعُونَ} محذوف تقديره: آلهة {شُرَكَاءَ} مفعول {يَتَّبِعُ} أي: وما يتبعون شركاء حقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء؛ لأن شركة الله في الربوبية محالة. {إنْ}: نافية {يَتَّبِعُونَ} فعل وفاعل {إلا}: أداة استثناء مفرغ {الظَّنَّ}؛ مفعول به والجملة مستأنفة {وَإِنْ هُمْ}: {الواو} عاطفة {إن}: نافية {هُمْ} مبتدأ. {إلا}: أداة استثناء مفرغ. وجملة {يَخْرُصُونَ} خبره والجملة معطوفة على جملة النفي قبلها. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الموصول {لَكُمُ} متعلق به {اللَّيْلَ}: مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: مظلمًا، والجملة صلة الموصول. {لِتَسْكُنُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {فِيهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام: الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ} {وَالنَّهَارَ} معطوف على {اللَّيْلَ} {مُبْصِرًا}: مفعول ثان {إنّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إنّ} {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر {لِقَوْمٍ}؛ جار ومجرور صفة {لَآيَاتٍ} وجملة {يَسْمَعُونَ} صفة {لِقَوْمٍ} وجملة {إن} مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

{قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن {اتَّخَذَ} هنا بمعنى تبنى، والجملة في محل النصب مقول، {قَالُوا} {سُبْحَانَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف، والجملة مستأنفة من كلامه تعالى. {هُوَ الْغَنِيُّ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل جملة التنزيه {لَهُ} خبر مقدم {مَا}: اسم موصول مبتدأ مؤخر {فِي السَّمَاوَاتِ} صلة الموصول {وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوف على {ما في السموات} والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل جملة {هُوَ الْغَنِيُّ}. {إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. {إنْ} نافية {عِنْدَكُمْ} خبر مقدم {مِنْ سُلْطَانٍ}: مبتدأ مؤخر، و {مِن} زائدة، والجملة مستأنفة {بِهَذَا}: متعلق بـ {سُلْطَانٍ} {أَتَقُولُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري. {تقولون}: فعل وفاعل {عَلَى اللَّهِ}، متعلق به {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {تقولون} {لَا تَعْلَمُونَ}، فعل وفاعل صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة {تقولون} مستأنفة. {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ}: حرف نصب {الَّذِينَ} اسمها. {يَفْتَرُونَ}؛ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به {الْكَذِبَ}: منصوب على المفعولية المطلقة، مؤكد لعامله. وجملة {لَا يُفْلِحُونَ}: خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول. {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.

{مَتَاعٌ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: حياتهم متاع {فِي الدُّنْيَا}: متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب، والحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح، كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في نعيم، فقيل: هو متاع قليل في الدنيا، وليس بنافع في الآخرة، اهـ "أبو السعود". {ثُمَّ} حرف عطف {إِلَيْنَا}: خبر مقدم {مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مَتَاعٌ} {ثُمَّ} حرف عطف. {نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ}: فعل ومفعولان {الشَّدِيدَ} صفة للعذاب، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {بِمَا} الباء حرف جر {ما} مصدرية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه وجملة {يَكْفُرُونَ}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: بسبب كونهم كافرين، الجار والمجرور متعلق بـ {نذيق} والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} الموعظة: هي التذكير بالعواقب، سواء كان بالزجر والترهيب، أو بالاستمالة و"الترغيب" وفي "زاده" الموعظة: مصدر بمعنى: الوعظ، وهو إرشاد المكلف ببيان ما ينفعه من محاسن الأعمال، وما يضره من القبائح والترغيب في المحاسن، والزجر عن القبائح اهـ. {وَشِفَاءٌ} والشفاء: الدواء، وهو في الأصل مصدر، جعل وصفًا، مبالغة، أو اسم لما يشفى به أو يتداوى به، فهو كالدواء، اسم لما يتداوى به {والهدى}: بيان الحق المنقذ من الضلال، ويكون في الاعتقاد بالحجة والبرهان، وفي العمل ببيان المصالح والحكم {وَرَحْمَةٌ} والرحمة: الإحسان {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} وفضل لله: هو توفيقهم لتزكية أنفسهم، بالموعظة والهدى {وَبِرَحْمَتِهِ} والرحمة هي: الثمرة التي نتجت من ذلك، وبها فضلوا جميع الناس {فَلْيَفْرَحُوا} والفرح: لذة في القلب، بإدراك المحبوب والمشتهى، يقال: فرحت بكذا إذا أدركت المأمول، ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح، في اللذات البدنية الدنيوية،

واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الخيرات {فِي شَأْنٍ} والشأن: الخطب، والحال، والأمر الذي يتفق ويصلح، ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور يجمع على شؤون، تقول العرب: ما شأن فلان؛ أي: ما حاله والشأن: اسم إذا كان بمعنى الخطب، ويكون مصدرًا إذا كان بمعنى القصد، يقال: شأنت شأنه؛ أي: قصدت قصده، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، اهـ "أبو السعود". وشأن من باب نفع، كما في "القاموس"، والشأن أصله الهمز، وقد تبدل ألفًا: اهـ "شهاب". والذي في هذه الآية، يجوز أن يكون المراد به الاسم، ويجوز أن يكون المراد منه المصدر، يعني: قصد الشيء {شُهُودًا} وفي "المصباح": وشهدت على الشيء: اطلعت عليه، فأنا شاهد وشهيد، والجمع أشهاد وشهود، مثل شريف وأشراف، وقاعد وقعود. {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يقال: أفاض في الشيء، أو من المكان إذا اندفع فيه بقوة أو بكثرة {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} بضم الزاي وكسرها، قراءتان سبعيتان، وفي "المصباح" عزب الشيء، من باب قتل وضرب، إذا غاب وخفي، فهو عازب، ومنه قولهم: عزبت النية؛ أي: غاب عنه ذكرها، اهـ. وفي "المختار" أنه من باب دخل، وعزب الرجل بإبله يعزب؛ أي: بعد وغاب في طلب الكلأ {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ}؛ أي: موازن نملة صغيرة أو هباء، والمثقال: الوزن، والذرة: النملة الصغيرة الحمراء، وهي خفيفة الوزن جدًّا، وبها يضرب المثل في الصغر والخفة، وتطلق على الدقيقة من الغبار، الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} والكتاب: هو اللوح المحفوظ {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الأولياء: جمع ولي، من الولي، وهو القرب، يقال: تباعد بعد ولي، أي: بعد قرب. وفي "البيضاوي": أولياء الله: هم الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة، اهـ. والولي: ضد العدو، فهو المحب، ومحبة العباد لله: طاعتهم له، ومحبته لهم إكرامه إياهم، كما في "شرح الكشاف"، وعلى الأول: يكون فعيل: بمعنى فاعل: وعلى الثاني: بمعنى مفعول، فهو مشترك بينهما، اهـ "شهاب". واعلم أن تركيب الواو واللام والياء، يدل على معنى القرب، فولي كل شيء، هو الذي يكون قريبًا منه، والقرب من الله بالمكان والجهة محال،

فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقًا في نور معرفة الله. وفي "الخازن": وأصل الولي، من الولاء، وهو القرب والنصرة، فولي الله، هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه، ويكون مشتغلًا بالله، مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى} البشرى: مصدر كالرجعى، الخبر السار الذي تنبسط به بشرة الوجه، فتتهلل وتبرق أساريره، وأريد به هنا المبشر به، {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} العزة: الغلبة والقوة والقدرة، فعزة الله هي العزة الكاملة التي تندرج فيها عزة الإلهية والإحياء والإماتة، وعزة البقاء الدائم، ونحو ذلك. {جَمِيعًا} توكيد للعزة، ولم يؤنث بالتاء: لأن فعيلًا يستوى فيه المذكر والمؤنث، لشبهه بالمصادر. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} والخرص: الحزر بتقديم الزاي على الراء، والتقدير والتخمين للشيء: الذي لا يجري على قياس من وزن أو كيل، أو ذرع، كخرص الثمر على الشجر، والحب في الزرع، ويستعمل بمعنى الكذب أيضًا؛ لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين. وفي "المصباح": خرصت النخل خرصًا - من باب قتل - حزرت ثمره، والاسم الخرص بالكسر، وخرص الكافر خرصًا فهو خارص إذا كذب اهـ. {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} الولد، يستعمل فردًا وجمعًا، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة، بالكسر فيهما. {وسبحان} كلمة تنزيه وتقديس، وتستعمل للتعجب. {مِنْ سُلْطَانٍ} والسلطان: الحجة والبرهان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} المراد بها القلوب، من باب تسمية الحال {القلوب} باسم المحل {الصُّدُورِ} أي: شفاء لما في القلوب من الحقد والحسد والبغض والعقائد الفاسدة. ومنها: التكرار في قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} عطفت الجملة الثانية على

الأولى، للتقرير والتأكيد. ومنها: الطباق في قوله: {حَرَامًا وَحَلَالًا} وفي قوله: {فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وفي قوله: {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} وفي قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وبين الليل والنهار في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} إلخ. ومنها: عطف ما للشيء الواحد من الصفات بعضها على بعض في قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} تنزيلًا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذات. ومنها: القصر في قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} لأن تقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد الحصر. ومنها: إظهار الاسم الجليل وتقديمه على الفعل في قوله: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} دلالة على كمال قبح افترائهم وتأكيدًا للتبكيت. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} حيث أتى بحرف التنبيه، وبـ {إِنَّ} المؤكدة، وبالجملة الاسمية لزيادة تقرير مضمونها. ومنها: الاعتراض في قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فهاتان الجملتان اعتراض لتحقيق البشارة وتعظيم شأنها، وليس من شأن الاعتراض أن يقع في أثناء الكلام، اهـ "أبو السعود". وعبارة "التلخيص": ومنه الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء كلام، أو بين كلامين متصلين معنى، بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة، سوى دفع الإيهام، انتهت. ومنها: الاحتباك في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، فحذف من الأول وصف الليل وهو مظلمًا، وذكر حكمته وحذف من الثاني لحكمه وذكر وصفه مبصرًا، والأصل هو الذي جعل لكم الليل مظلمًا، لتسكنوا فيه، والنهار مبصرًا لتبتغوا وتتحركوا فيه. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} فإن إسناد الإبصار إلى

النهار مجاز عقلي؛ لأنه يبصر فيه، فهو من الإسناد إلى الظرف. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر الدلائل على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار .. ذكر قصصًا من قصص الأنبياء، وما جرى لهم مع قومهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

من الخلاف، وذلك تسلية للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء، فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب، وقلة الأتباع، وليعلم المتلو عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء، وما منح الله تعالى، نبيه من العلم بهذا القصص، وهو لم يطالع كتابًا ولا صحب عالمًا، وإنها طبق ما أخبر به، فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به، وأنه نبي لا شك فيه. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر عناد المشركين لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبهم له، بعد أن قامت البراهين على صدقه .. أردف ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له، - صلى الله عليه وسلم -، وبيانًا بأن قومه لم يكونوا بدعًا في عنادهم وتكذيبهم له، بل سبقهم في مثل فعلهم كثير من سالفي الأمم، وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم، وأمّ الله لهم النصر، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم، فينزجروا بما فيه مزدجر لهم، ويعترفوا بصدقه، - صلى الله عليه وسلم -، ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة، فيندمون، ولات ساعة مندم. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) ذكر قصص نوح مع قومه، وبين عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر الله له عليهم .. بين هنا عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل، وسنةً من سننه فيهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة، فيعلموا أن لله سننًا لا تبديل فيها، ولا تحويل، فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلت بمن قبلهم، من المكذبين من قوم نوح وغيرهم، واتقاؤه في مكنتهم، وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ...} الآية، أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، وفصلت تفصيلًا وافيًا، لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثل العروش وتهد أركان الباطل، وإن علا أصحابه فقد كان الفَلْج والظفر لموسى على ذلك الطاغية، الذي قال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[71]

أنا ربكم الأعلى، وانتهى أمره بالغرق وصار مثلًا للآخرين. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما كانت الآيات الماضية في ذكر الحوار بين موسى وفرعون .. ذكر هنا ما فعل فرعون في مقاومة دعوة موسى، لصد الناس عن اتباعه، باعتبار أنه ساحر، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته. قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما فعله فرعون لمقاومة دعوة موسى .. أردف ذلك بذكر ما كان من بني إسرائيل مع موسى، توطئةً لإخراجهم من أرض مصر. التفسير وأوجه القراءة 71 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم، فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم، على مقتضى سننه في المكذبين لرسله من قبلك {نَبَأَ نُوحٍ}؛ أي: بعض خبر نوح وقصته مع قومه، الذين هم أشباه قومك في العناد، ليصير داعيًا إلى مفارقة الإنكار للتوحيد والنبوة {إِذْ قَالَ} نوح؛ أي: حين قال {لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: شق عليكم وثقل {مَقَامِي} فيكم؛ أي: قيامي فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم، أو مكثي فيكم مدة طويلة {وَتَذْكِيرِي}؛ أي: مع وعظي إياكم {بِآيَاتِ} التكوينية والتنزيلية الدالة على وحدانيته، ووجوب عبادته، فالواو بمعنى: مع، والمعنى: إن كان عظم عليكم مكثي بينكم مع تذكيري بآيات الله {فَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْتُ} واعتمدت ووثقت به وفوضت أمري إليه، وهذه الجملة جواب الشرط، والمعنى: إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديمًا وحديثًا. ويجوز أن يكون جواب الشرط {فَأَجْمِعُوا} وجملة {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئًا فالله حسبي. والمعنى عليه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم .. فإنني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني، واعتمدت عليه وحده، بعد أن أديت رسالته بقدر

طاقتي {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}؛ أي: فأعدوا أمركم، واعزموا على ما تقدمون عليه في أمري وإهلاكي {و} ادعوا {شركاءكم} وأصنامكم الذين تعبدونهم من دون الله لنصرتكم، كما أنا أدعو ربي، وأتوكل عليه. وإنما (¬1) حثهم على الاستعانة بالأصنام بناءً على مذهبهم واعتقادهم أنها تضر وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضر ولا تنفع، فهو كالتبكيت والتوبيخ لهم. أو ادعوا من يشاركونكم في الدين والقول، ليساعدوكم فيما تريدون بي، من السعي في إهلاكي {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ} الذي تعتزمونه في إهلاكي {عَلَيْكُمْ غُمَّةً}؛ أي: غمًّا وهمًّا ومبهمًا، وخفيًّا عليكم فيه حيرة ولبس، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه، والغم والغمة، كالكرب والكربة، والمعنى: ولا يكن قصدكم إلى هلاكي مستورًا عليكم، ولكن مكشوفًا مشهورًا تجاهرونني به {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}؛ أي: ثم أدوا إلى ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها {وَلَا تُنْظِرُونِ}؛ أي: ولا تمهلوني بتأخير هذا القضاء عني بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه. والخلاصة (¬2): أن نوحًا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به، مطالبةً المدل الواثق ببأسه وقوته، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة، وقوة الإرادة، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم، وأن لا يكون في أمرهم الذي أجمعوا عليه شيء من الغمة والخفاء، الذي قد يوجب الوهن والتردد في التنفيذ. وقرأ الجمهور (¬3): {مَقَامِي} بفتح الميم؛ أي: قيامي بالتذكير والدعوة إلى التوحيد. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء {مقامي} بضمها؛ أي: إقامتي ومكثي بين أظهركم. وقرأ الجمهور: {فأجمعوا} بقطع الهمزة من أجمع الرجل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط بتصرف وتلخيص.

الشيء إذا عزم عليه ونواه. قال الشاعر: أَجْمَعُوْا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا ... أَصْبَحُوْا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وقال أبو فيد السدوسي أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره جعله مجموعًا بعد ما كان متفرقًا. وعلى هذه القراءة يكون {وشركاءكم} معطوفًا على أمركم على حذف مضاف؛ أي: وأمر شركائكم أو منصوبًا بإضمار فعل؛ أي: وادعوا {وشركاءكم}. وقال أبو علي: وقد ينصب الشركاء بواو المعية. وقرأ الزهري والأعمش والجحدري وأبو رجاء والأعرج والأصمعي، عن نافع ويعقوب بخلاف عنه: {فاجمعوا} بوصل الألف وفتح الميم من جمع الثلاثي يجمع جمعًا، {وشركاءكم} عطف على أمركم؛ لأنه يقال: جمعت شركائي أو على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف أي: ذوي الأمر منكم فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف لو ثبت، قاله أبو علي. وفي كتاب "اللوامح": أجمعت؛ أي: جعلته جميعًا وجعلت الأموال جميعًا، فكان الإجماع في الأحداث والجمع في الأعيان وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر، وفي التنزيل فجمع كيده. انتهى. وقرأ (¬1) أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب فيما روي عنه: {وشركاؤكم} بالرفع ووجه بأنه عطفه على الضمير في {فأجمعوا} وقد حصل الفصل بالمفعول فحسن، أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما قبله عليه؛ أي: وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة: وشركائكم بالخفض عطفًا على الضمير في أمركم؛ أي: وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر: أكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِيْنَ امْرَأً ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا أي: وكل نار فحذف كل لدلالة ما قبله عليه. وقرأ السري بن ينعم؛ ثم أفضوا بالفاء وقطع الهمزة؛ أي: انتهوا إليَّ بشركم من أفضى بكذا: انتهى إليه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[72]

وقيل معناه: أسرعوا، وقيل: من أفضى إذا خرج إلى الفضاء؛ أي: فأصحروا به إلي وأبرزوه. وهذا الكلام (¬1) من نوح عليه السلام على طريق التعجيز لهم، أخبر الله عز وجل عن نوح عليه السلام: أنه كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنه كان وائقًا بنصره إياه، غير خائف من كيدهم، علمًا منه بأنهم وآلهتهم ليس لهم نفع ولا ضر، وأن مكرهم لا يصل إليه. 72 - ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم، من الإعذار، والإنذار، وتبليغ الشريعة عن الله، ليس هو لطمع دنيوي، ولا لغرض خسيس، فقال: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}؛ أي: فإن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم، وتذكيري إياكم، أي: إن دمتم على إعراضكم بعد دعائي إياكم، وتبليغ رسالة ربي إليكم {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: فلن يضرني ذلك؛ لأني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا ولا جزاءً تؤدونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به، فجواب الشرط محذوف، كما في "الشهاب" والفاء في {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والفاء في {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} جزائية {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، أي: ما جزاء عملي وثواب دعوتي، إلا على ربي الذي أرسلني إليكم، فهو يوفيني إياه، آمنتم أو توليتم {وَأُمِرْتُ} من جهة ربي {أَنْ أَكُونَ} بالفعل {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي: من المنقادين لما أدعوكم إليه، الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى، لا يأخذون عليها أجرًا، ولا يطمعون في عاجل، أو من (¬2) المسلمين لكل ما يصعب من البلاء؛ أي: من المستسلمين لأمر الله، ولكل مكروه يصل إليّ منكم، لأجل هذه الدعوة. قرأ (¬3) أل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص، بتحريك الياء من أجري. وقرأ الباقون، بالسكون. 73 - {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: فكذب نوحًا قومه؛ أي: استمروا على تكذيبه وأصروا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) أبو السعود. (¬3) الشوكاني.

[74]

عليه، وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن؛ أي: فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام عليهم الحجة، بقوله وعمله على حقيقة دعوته {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ}؛ أي: فنجينا نوحًا ومن آمن معه، وأجاب دعوته وصار على دينه في السفينة التي كان صنعها بأمرنا؛ أي: أعقبنا تكذيبه النجاة له ولمن معه، وكانوا أربعين رجلًا وأربعين امرأة. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ}؛ أي وجعلنا الذين نجيناهم مع نوح في السفينة خلائف في الأرض، التي كانت للمهلكين بالغرق من قومه، الذين كذبوه بعد أن أنذرناهم فأغرقناهم، وحقت عليهم كلمة ربك يسكنونها. ويخلفونهم فيها. والخلائف، جمع خليفة، كصحائف جمع صحيفة. {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: بدلائل قدرتنا التكوينية والتنزيلية، من الكفار المعاندين لنوح عليه السلام، الذين لم يؤمنوا به، أغرقهم الله تعالى، بالطوفان، وإنما أخر ذكره وقدم الإنجاء، إشارةً إلى أن الرحمة سابقة على الغضب، لتعجيل المسرة لمن يمتثل الأمر ذكره "الصاوي". وفي هذا (¬1) الإخبار توعد للكفار بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وضرب مثال لهم، في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب، فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب {فَانْظُرْ} أيها الرسول، بعين بصيرتك وعقلك {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}؛ أي: على أي حالةٍ كانت عاقبة الذين أنذرهم رسولهم وقوع عذاب الله بهم، وأصروا على تكذيبه، وكيف صار آخر أمرهم، وهكذا عاقبة من يصرون على تكذيبك من قومك؛ وعاقبة المؤمنين المتقين لك. وقيل: الخطاب في {فَانْظُرْ} للسامع لهذه القصة، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم الرسول، وتسلية له، - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد للمشركين وتهويل عليهم 74 - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: ثم أرسلنا من بعد نوح عليه السلام {رُسُلًا} مثله كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب {إِلَى قَوْمِهِمْ}؛ أي: إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه، في تكذيب رسلهم، فقد أرسل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام، الذين كانوا في زمانه، إلا شعيبًا، فإنه أرسل إلى قومه، أهل مدين وإلى جيرانهم، أصحاب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المؤتفكة، فقد كانوا متحدين معه لغةً ووطنًا {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: فجاء كل رسول منهم قومه بالحجج الدالة على صدقه في رسالته، بحسب ما يتسنى لهم فهمه، من الأدلة العقلية والحسية؛ أي: فجاء كل رسول منهم قومه المخصوصين به، بالمعجزات الدالة على صدق ما قاله، وبما أرسله الله به، من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبي {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: فما (¬1) كانوا ليصدقوا بما كذبوا به، من أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبةً، ودعوا أممهم إليها من قبل مجيء رسلهم؛ أي: كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك، كأن لم يبعث إليهم أحد، أو المعنى؛ أي: فما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل، ممن كان مثله في سبب كفره، وهو استكبار الرؤساء وتقليد الدهماء. وعبارة "الشوكاني" هنا: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}؛ أي (¬2): فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه، والمعنى: أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام، الذين أرسل الله إليهم رسله؛ أن يؤمنوا في وقت من الأوقات {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم. والمعنى: أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا زمن أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم؛ لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولًا وهذا مبني على أن الضمير في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} وفي قوله: {بِمَا كَذَّبُوا} راجع إلى القوم المذكورين في قوله: {إِلَى قَوْمِهِمْ} وقيل: ضمير {كَذَّبُوا} راجع إلى قوم نوح؛ أي: فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام، الذين جاؤوا من بعدهم وجاءتهم رسلهم بالبينات. وقيل: إن الباء في {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} للسببية؛ أي: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب من قبل مجيئهم وفيه نظر. وقيل المعنى: بما كذبوا به من قبل؛ أي: في عالم الذر، فإن فيهم من كذب ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[75]

بقلبه وإن آمنوا ظاهرًا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل: إنه لقوم بأعيانهم، انتهت. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الطبع العظيم الذي طبعناه على قوم نوح، ومن بعدهم من الأمم {نَطْبَعُ} ونختم {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}؛ أي: على قلوب المتجاوزين الحد في الكفر والتكذيب والعناد، المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم، لانهماكهم في الغي والضلال، أمثالهم في كل قوم كقومك إذ كانوا مثلهم في اللجاج والعتو والاستكبار في الأرض {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} وقرأ الجمهور (¬1): {نَطْبَعُ} بالنون، والعباس بن الفضل، بالياء والكاف للتشبيه؛ أي: مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله، نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر والتكذيب والعناد والعتو. 75 - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} هذا عطف قصة على قصة، وخاص على عام، لمزيد الغرابة في وقائع موسى مع فرعون، كل هذا تسلية للنبي، - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ثم أرسلنا من بعد أولئك الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، {مُوسَى} بن عمران {و} أخاه {هارون} معه {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}؛ أي: إلى فرعون مصر وأشراف قومه، وخصهم بالذكر؛ لأن قومهم القبط كانوا تبعًا لهم، يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا، ويرجعون إليهم في إقامة المصالح والمهمات حالة كونهما مؤيدين {بِآيَاتِنَا} التسع المبينة في سورة الأعراف، وخص موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل، لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون {فَاسْتَكْبَرُوا} عن قبولها ولم يتواضعوا لها؛ أي: أعرضوا عن الإيمان بها كبرًا وعلوًا، مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر {و} لما {كانوا قوما مجرمين}؛ أي: راسخين في الإجرام والظلم والفساد في الأرض، فبسبب ذلك اجترؤوا على ردها؛ لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب. قيل: وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستكبار (¬2): ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فيه فاء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

[76]

الفصيحة؛ أي: فأتياهم فبلغاهم الرسالة، فاستكبروا عن اتباعها، اهـ "أبو السعود". وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبيينها واستيضاحها. 76 - {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ}؛ أي: فلما جاء فرعون وقومه الحق، الذي جاء به موسى من عند الله تعالى، من الحجج والمعجزات الدالة على الربوبية والألوهية {قَالُوا} من فرط عتوهم وعنادهم {إِنَّ هَذَا} الذي جاء به موسى {لَسِحْرٌ مُبِينٌ} واضح لمن رآه وعاينه يعرفه كل أحد قالوا (¬1): - لحبهم الشهوات - إن هذا لسحر مبين، وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر، الذي ليس إلا تمويهًا وباطلًا، ولم يقولوا: إن هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها، واليد وخروجها بيضاء، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا، وهي معجزة موسى التي وقع فيها عجز المعارض. وقرأ (¬2) مجاهد وابن جبير والأعمش: {لساحر مبين} جعل خبر إن اسم فاعل، لا مصدرًا. لقراءة الجماعة. 77 - {قَالَ} لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ} الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر، الذي هو باطل {لَمَّا جَاءَكُمْ}؛ أي: حين جاءكم إنه سحر، من غير أن تترووا، وتتدبروا فيه، وما ترونه بأعينكم من آيات الله، وترجف له قلوبكم من عظمته، لا يمكن أن يكون سحرًا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم، ومقولهم محذوف، كما قدرناه في الحل آنفًا، بقولنا: إنه سحر. والاستفهام هنا وفيما بعده للإنكار، كما أشرنا إليه. ثم استأنف إنكار ما قالوه فقال؛ {أَسِحْرٌ هَذَا} خبر ومبتدأ؛ أي: أسحر هذا الحق الذي جئت به الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف، لا يعني إنه ليس بسحر. وجملة قوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} في محل نصب على الحال من واو أتقولون، والرابط هو الواو بلا ضمير، كما في قول من قال: جاء الشتاء ولست أملك عدة؛ أي: أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه؛ أي: أن الشأن والحال لا يفلح الساحرون، أي: لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند رب العالمين؟ وقد أيده بالمعجزات ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[78]

والبراهين الواضحة، وقد مضت سنة الله، بأن السحرة لا يفوزون في الأمور الهامة، كالدعوة لدين، والتأسيس لملك، وذلك ما تتهمونني به على ضعفي وقوتكم، فإن السحر خيال وشعوذة، لا تلبث أن تفتضح وتزول. 78 - وجملة قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعًا في جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؛ أي: قالوا لموسى منكرين {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}؛ أي: لتصرفنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من عبادة الأصنام {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ}؛ أي: الملك والعز {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بمصدقين والهمزة في {أَجِئْتَنَا} للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي؛ أي (¬1): قالوا له منكرين: ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها، من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها، وما نحن بمتبعين لكما اتباع إيمان وإذعان، فيما يخرجنا من دين آبائنا، الذي تدين به عامتنا وتتمتع بكبريائه خاصتنا، وهم الملك وأشراف قومه. والخلاصة: أنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا، وإن لم تعترف به، وقد وجهوا الخطاب أولًا لموسى؛ لأنه هو الداعي لهم، وأشركوا معه أخاه في فائدة الدعوى، والغرض منها، وهي الكبرياء في الأرض؛ لأنهما سيشتركان فيها. وقرأ (¬2) ابن مسعود وإسماعيل والحسن فيما زعم خارجة وأبو عمرو وعاصم، بخلاف عنهما ويكون بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الكبرياء. وقرأ الجمهور: بالتاء الفوقانية لمراعاة تأنيث اللفظ. 79 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول: اعملوا على دفع حجته بالفعل و {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} بفنون السحر حاذق ماهر فيه، قال: هكذا، لما رأى اليد البيضاء والعصا؛ لأنه اعتقد أنهما من السحر فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم. والمخاطب بقوله: {ائْتُونِي} خدمة فرعون، والمتصرفون بين يديه. وقرأ (¬3) ابن مصرف وابن وثاب وعيسى وحمزة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[80]

والكسائي: {بكل سحار} بصيغة المبالغة. وقرأ الباقون: {سَاحِرٍ} بصيغة اسم الفاعل. وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف. 80 - قوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} معطوف على محذوف، تقديره: فأتوا بالسحرة، فلما جاء السحرة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}؛ أي: اطرحوا على الأرض ما معكم من الحبال والعصي؛ أي: قال لهم هذه المقالة بعد أن خيروه بين أن يلقي ما عنده أولًا، أو يلقوا ما عندهم، كما جاء ذلك في سورتي الأعراف وطه، ليظهر الحق ويبطل الباطل 81 - {فَلَمَّا أَلْقَوْا} حبالهم وعصيهم السحرية واسترهبوا الناس {قَالَ} لهم {مُوسَى} غير مبالٍ بهم، ولا بما صنعوا {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}؛ أي: إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظارة هو السحر؛ أي: التمويه الذي يظهر بطلانه، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند الله، تعالى. وقد سماه فرعون وملؤه سحرًا. وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع وأبو جعفر بهمزة الاستفهام في قوله: {السحر} بإبدال (¬1) الهمرة الثانية ألفًا، ومدها مدًّا لازمًا، أو بتسهيلها من غير قلب، وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى والمعنى: والذي جئتم به، أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام على وجه التحقير والتوبيخ. وقرأ باقي السبعة والجمهور، بهمزة الوصل، والتقدير على الاستفهام، أهو السحر أم لا؟ وتكون ما استفهامية منصوبة بـ {جِئْتُمْ} و {السِّحْرُ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أي شيء جئتم به، أهو السحر أم لا؟ وعلى قراءة همزة الوصل، تكون {مَا} موصولة مبتدأة والخبر {السِّحْرُ}. وقرأ عبد الله والأعمش {ما جئتم به سحر}. وقرأ أبي {ما أتيتم به سحر}. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَيُبْطِلُهُ}؛ أي: سيظهر بطلان ما جئتم به ويمحقه به بما يظهره على يدي، من الآيات المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة، وحجة واضحة على بطلان حجتي. ثم علل ما قال، ببيان سنن الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد ¬

_ (¬1) المراح.

[82]

فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}؛ أي: إن الله تعالى لا يجعل عمل المفسدين صالحًا للبقاء فيقويه بالتأييد الإلهي ويديمه بل يزيله ويمحقه ويدخل فيه السحر والسحرة دخولًا أوليًّا 82 - {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}؛ أي: ويثبت الله الحق الذي فيه صلاح الخلق، وينصره على ما يعارضه من الباطل ويبينه ويوضحه {بِكَلِمَاتِهِ} التنزيلية التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، لاشتمالها على الحجج والبراهين، وبكلماته التكوينية وقضاياه السابقة في وعده. وقال ابن سلام، بكلماته بقوله: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} وهي مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومن ثم سينصر موسى على فرعون، وينقذ قومه من عبوديته، والواو في قوله: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} للعطف على سيبطله. وقرىء {بكلمته} على التوحيد؛ أي: بأمره ومشيئته {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} من آل فرعون، أو المجرمون على العموم، ويدخل تحتهم آل فرعون دخولًا أوليًّا. والإجرام: الآثام؛ أي: ويظهر الله الحق وينصره، ولو كره من اتصف بالإجرام والآثام، إظهاره كفرعون وملئه. 83 - وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما أتى به موسى، عليه السلام، من المعجزات العظيمة الباهرة، أخبر الله سبحانه وتعالى، أنه مع مشاهدة هذه المعجزات، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ هذا تسلية لنبيه محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به واستمرارهم على الكفر، والتكذيب، فبين الله سبحانه وتعالى، أن له أسوة بالأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الذي جاء به موسى، عليه السلام، كان أمرًا عظيمًا، ومع ذلك فما آمن معه إلا ذرية من قومه. والفاء في قوله: {فَمَا آمَنَ} عاطفة على مقدر فصل في مواضع أخر؛ أي: فألقى عصاه. فإذا هي تلقف ما يأفكون، فمع ظهور تلك المعجزات الباهرة ما آمن لموسى؛ أي: فما انقاد واستسلم لموسى إلا ذرية قلائل من قومه؛ أي: فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم، وهم بنو إسرائيل، الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب، وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفًا من فرعون، وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}؛ أي: آمنوا

[84]

مع خوف من فرعون؛ لأنه كان شديد البطش، ومع خوف من ملأ فرعون، وأشراف قومه، وهم رؤساء الذرية، فإن أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من إجابة موسى، خوفًا من فرعون عليهم، وعلى أنفسهم، وإنما جمع الضمير في {ملإيهم} مع أنه عائد إلى فرعون وهو واحد، تفخيمًا له على حسب اعتقادهم، أو الضمير عائد على الذرية؛ أي: ملأ الذرية، وقد عرفت أن آباء الذرية كانوا من جملة ملأ فرعون ورؤسائه وعرفائه عليهم {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}؛ أي: من أن يصرفهم ويصدهم عن الإيمان بتسليط أنواع العذاب عليهم، وإنما قال: أن يفتنهم، ولم يقل: أن يفتنوهم؛ لأن قوم فرعون كانوا على مراده وتابعين لأمره، وهو بدل اشتمال من فرعون؛ أي: على خوف من فتنة فرعون. والمعنى: إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى، بعد خيبة السحرة وظور حقه على باطلهم، ثم عزمه على قتله، كما جاء في قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}. وقرأ الحسن وجراح ونبيح {يفتنهم} بضم الياء من أفتن الرباعي. كل هذا أوقع الرعب والخوف في قلوب بني إسرائيل، قوم موسى، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وهم الأحداث والشبان، وكانوا خائفين من فرعون وأشراف قومهم الجبناء المرائين، الذين هم عرفاؤهم عند فرعون فيما يطلب منهم أن يضطهدوهم ويعذبوهم، ليرتدوا عن دينهم. {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}؛ أي؛ لشديد العتو قويّ القهر في أرض مصر، فهو جدير بأن يخاف منه، كما حكى الله عنه بقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: لمن المجاوزين الحد في الظلم والفساد، بكثرة القتل والتعذيب، لمن يخالفه في أمر من الأمور، وبالكبر وغمص الحق واحتقار الخلق، ومن ثم ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء، 84 - {وَقَالَ مُوسَى} لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} حق الإيمان {فَعَلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلُوا}؛ أي: اعتمدوا وبوعده فثقوا {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}؛ أي: مذعنين مستسلمين منقادين لأمره تعالى، إذ لا

[85]

يكون الإيمان يقينًا إلا إذا صدقه العمل وهو الإِسلام، وخطاب موسى لمن آمن بقوله: {يَا قَوْمِ} دليل على أن المؤمنين من الذرية كانوا من قومه. وليس (¬1) في الآية دلالة على إيمان جميع قومه، إذ الإيمان باللهِ غير الإيمان لموسى، المتضمن معنى الإِسلام، والاتباع، الذي أشير إليه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} فهم قد طلبوا منه بعد ما نجاهم من الغرق، أن يجعل لهم آلهة من الأصنام، ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه. وقيل: إنما أعيد قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} بعد قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} لإرادة إن كنتم موصوفين بالإيمان القلبي وبالإِسلام الظاهري، ودلت الآية على أن التوكل على الله والتفويض لأمره من كمال الإيمان، وإن من كان يؤمن باللهِ فلا يتوكل إلا على الله لا على غيره. 85 - {فَقَالُوا}؛ أي: فقال: قوم موسى مجيبين له {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْنَا}؛ أي: اعتمدنا في أمورنا كلها ثم دعوا ربهم فقالوا: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: لا تجعلنا موضع فتنة لهم؛ أي: مفتونين لهم؛ أي (¬2): لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق، الذي قبلناه أو المعنى (¬3): لا تظهرهم علينا، ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانًا وكفرًا. وقال مجاهد لا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عذبوا، ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك. وقيل معناه: لا تسلطهم علينا فيعذبونا، حتى يفتنونا عن ديننا. 86 - ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد .. أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا: {وَنَجِّنَا}؛ أي: خلصنا {بِرَحْمَتِكَ} وحفظك وغوثك وإحسانك وإنعامك {مِنَ} أيدي {الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}؛ أي: من أيدي فرعون وقومه، ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة. وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

[87]

وخلاصة (¬1) ما قالوا: ربنا لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا، أو نضعف فيه، فرارًا من شدة ظلمهم لنا، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرًا وعنادًا وظلمًا بظهورهم علينا، ويظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل، وقد دلت التجارب على أن سوء حال المؤمنين، من ضعف أو فقر تجعلهم موضعًا لافتتان الكفار بهم، باعتقاد أنهم خير منهم، كما جاء في قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}. 87 - وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ ...} الآية، لما أرسل (¬2) موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلون فيها خوفًا من فرعون، فذلك قوله: {أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا}؛ أي: وقلنا لموسى وأخيه هارون اتخذا واجعلا لقومكما {بِمِصْرَ بُيُوتًا}؛ أي: بيوتًا في مصر تكون مساكن وملاجىء، تعتصمون بها ومرجعًا ترجعون إليها للعبادة. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى وأخيه أن يتخذا لقومهما مساكن، بأرض مصر، يتوطنون بها، ويعبدون الله فيها رغمًا عن أنف عدوهم فرعون، وهذا طمأنينة للقوم، فإنهم كانوا خائفين من فرعون. وقيل: مصر (¬3) في هذه الآية هي الإسكندرية، وقيل: هى مصر المعروفة لا الإسكندرية، ومصر من البحر إلى أسوان والإسكندرية من أرض مصر. وقرأ حفص في رواية هبيرة {تبويا} بالياء وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس، لكان بين الهمزة والألف، ذكره أبو حيان. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}؛ أي: اجعلوها مستقبلة للقبلة لتصلوا فيها سرًّا، لئلا يصيبكم من الكفار معرة بسبب الصلاة، كما كان المؤمنون في أول الإِسلام بمكة على هذه الحالة، والمراد بالقبلة جهة بيت المقدس؛ لأنها قبلة اليهود إلى اليوم. وقيل: جهة الكعبة، وأنها قبلة موسى ومن معه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} التي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) تفسير الواحدي. (¬3) الشوكاني.

أمركم الله بإقامتها في تلك البيوت، متجهين إلى جهة واحدة؛ لأن الاتحاد في الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب؛ أي: أتموها بشروطها وأركانها المعلومة عندهم. {وَبَشِّرِ} يا موسى {الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بشر قومك الذين آمنوا بك بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم، وتنجيتهم من ظلمهم أو بشرهم، بالنصر في الدنيا، وبالجنة في العقبى. وإنما (¬1) جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عامًّا في استقبال القبلة وإقامة الصلاة؛ لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء، ثم جعل خاصًّا بموسى؛ لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تابع له، فكان ذلك تعظيمًا للبشارة وللمبشر بها. وقيل: إن الخطاب في {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى. وعبارة المراغي هنا: وإنما خص موسى بالتبشير؛ لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وأشرك معه هارون في أمر قومهما بالتبوؤ؛ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم، فهو تدبير عملي يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه، انتهت. الإعراب {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}. {وَاتْلُ} {الواو}: استئنافية {اتْلُ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَلَيْهِمْ}، متعلق به {نَبَأَ نُوحٍ}، مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {إِذْ}؛ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {نَبَأَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نُوحٍ} والجملة في محل الجر مضاف إليه ¬

_ (¬1) الشوكاني.

لـ {إِذْ} {لِقَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}. {يَا قَوْمِ}: إلى قوله: {فَكَذَّبُوهُ} مقول محكي، وإن شئت قلت يا: حرف نداء {قوم}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كَانَ} في محل الجزم بـ {إنْ} على كونها شأنية واسمها ضمير مستتر فيها، تقديره: هو، يعود إلى الشأن، أو زائدة لزيادتها بين أداة الشرط وفعله. {كَبُرَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها. {عَلَيْكُمْ} متعلق به {مَقَامِي} فاعل {كَبُرَ}. {وَتَذْكِيرِي} معطوف عليه {بِآيَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَذْكِيرِي} {فَعَلَى اللَّهِ} الفاء: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية {عَلَى اللَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {تَوَكَّلْتُ} {تَوَكَّلْتُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه جواب الشرط، ويجوز أن تكون جملة {تَوَكَّلْتُ} معترضة، فيكون الجواب جملة {أجمعوا} وهذا أولى؛ لأنه لا يصح أن يكون توكلت جوابًا؛ لأنه لا يحسن ترتبه على الشرط، إذ هو متوكل على الله دائمًا، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول: قال، على كونها جواب النداء {فَأَجْمِعُوا} الفاء: رابطة أو عاطفة {أجمعوا أمركم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجزم معطوفة على الجواب، أو هي جواب الشرط {وَشُرَكَاءَكُمْ}: منصوب على كونه مفعولًا معه ولا يصح كونه معطوفًا على {أَمْرَكُمْ}؛ لأن الشركاء ذوات لا يتسلط عليه {أجمعوا} إلا بقلة ويصح نصبه بإضمار فعل لائق، نحو: واستعينوا شركاءكم أو {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} واجمعوا شركاءكم، بهمزة الوصل على حد علفتها تبنًا، وماءً باردًا، أو يقدر مضاف في المعطوف، والتقدير: فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم {ثُمَّ}: حرف عطف. {لَا}: ناهية {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص معطوف على {أجمعوا}: على كونه جواب الشرط {أَمْرُكُمْ}: اسم {يَكُنْ}. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {غُمَّةً} {غُمَّةً} خبر يكن منصوب {ثُمَّ اقْضُوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ}

الشرطية معطوف على قوله {لَا يَكُنْ}؛ لأن العطف كان هنا بحرف مرتب {إِلَيَّ} جار ومجرور متعلق بـ {اقْضُوا} {وَلَا تُنْظِرُونِ} {الواو}: عاطفة {لَا}: ناهية {تُنْظِرُونِ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا}: الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي الكسرة عن الفعل، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، وجملة {وَلَا تُنْظِرُونِ} في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ اقْضُوا} على كونها جواب الشرط. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلته لكم، وأردتم بيان شأني فيما إذا توليتم .. فأقول لكم {إن}: حرف شرط. {تَوَلَّيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَمَا} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ {ما} النافية {ما} نافية {سَأَلْتُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {مِنْ أَجْر}: مفعول ثانٍ لـ {سأل} و {مِن}: زائدة، أو يقال: جواب {إنْ} الشرطية محذوف، تقديره: فإن توليتم، فلا ضير عليّ؛ لأني ما سألتكم عليه من أجر، والفاء في {سَأَلْتُكُمْ} تعليل للجواب المحذوف وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذَا} المقدرة وجملة {إذَا} المقدرة مستأنفة على كونها مقول، قال. {إِنْ أَجْرِيَ} {إنْ} نافية {أجري}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول قال {وَأُمِرْتُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول قال {أَنْ أَكُونَ} {أَنْ}: حرف نصب {أَكُونَ}: منصوب بها واسمها ضمير يعود على {نُوحٍ}. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} جار ومجرور خبر {كَانَ} وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المسلمين، والجار

المحذوف متعلق بـ {أَكُونَ}. {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}. {فَكَذَّبُوهُ}: الفاء: عاطفة {كذبوه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {قَالَ} على كونها مضافًا لـ {إذْ} {فَنَجَّيْنَاهُ} الفاء، عاطفة {نجيناه}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كَذَّبُواْ} {وَمَنْ مَعَهُ} الواو: عاطفة {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على مفعول {نجيناه} {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة من الموصولة {فِي الْفُلْكِ} جار ومجرور متعلق بـ {نجيناه} {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {نجيناه} {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة أيضًا على جملة {فَنَجَّيْنَاهُ} {كَذَّبوُاْ} فعل وفاعل صلة الموصول {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به {فَانْظُرْ} الفاء عاطفة {انظر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {أَغْرَقْنَا} {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها، معلق للنظر عن العمل فيما بعده {كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}: فعل ناقص واسمه، ومضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب سادة مسد مفعول انظر علقت عنها باسم الاستفهام. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف {بَعَثْنَا} فعل وفاعل معطوف على قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ} {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {بَعَثْنَا {رُسُلًا} مفعول به {إِلَى قَوْمِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {بَعَثْنَا} {فَجَاءُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {بَعَثْنَا} {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جَاءُ} {فَمَا كَانُوا} الفاء: عاطفة {ما}: نافية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {لِيُؤْمِنُوا} اللام: حرف جر وجحود {يؤمنوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود.

{بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُوا} {كَذَّبُوا} فعل وفاعل صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {بِهِ} متعلق بـ {كَذَّبُوا} وهو العائد على {مَا} الموصولة {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَذَّبُوا} أيضًا وجملة {يُؤْمِنُوا} صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، على مذهب البصريين، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كَانَ} تقديره: فما كانوا مريدين للإيمان بما كذبوا به من قبل، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {جاؤوا} وأما على مذهب الكوفيين فلام الجحود زائدة، والتقدير: فما كانوا مؤمنين بما كذبوا به من قبل {كَذَلِكَ}: جار وجرور صفة لمصدر محذوف. {نَطْبَعُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} متعلق به، والتقدير: نطبع على قلب كل معتد طبعًا مثل طبعنا على هؤلاء، والجملة الفعلية مستأنفة. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. {ثُمَّ بَعَثْنَا}: فعل وفاعل {مِنْ بَعْدِهِمْ} جار ومجرور متعلق به {مُوسَى وَهَارُونَ} مفعول به ومعطوف عليه {إِلَى فِرْعَوْنَ}: متعلق به أيضًا. {وَمَلَئِهِ}: معطوف على {فِرْعَوْنَ} {بآياتنا}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من {مُوسَى وَهَارُونَ}؛ أي: حالة كونهما مؤيدين بآياتنا، وجملة {بَعَثْنَا}: معطوفة على {بَعَثْنَا} الأول عطف قصة على قصة، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لما في الخاص من الغرابة، كما ذكره "أبو السعود" {فَاسْتَكْبَرُوا} فعل وفاعل معطوف على محذوف مرتب عليه، تقديره: فأتياهم فبلغاهم الرسالة، فاستكبروا عن اتباعها، فالجملة المحذوفة معطوفة على جملة {بَعَثْنَا} {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه معطوف على {استكبروا} {قَوْمًا}: خبرها {مُجْرِمِينَ} صفة له. {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}. {فَلَمَّا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم استكبروا عن آياتنا، وأردت بيان كيفية استكبارهم ..

فأقول لك {لما}: حرف شرط غير جازم {جَاءَهُمُ الْحَقُّ}: فعل ومفعول وفاعل {مِنْ عِنْدِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاء} أو حال من {الْحَقِّ} {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {لما} وجملة {لما} مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّ هَذَا} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت، قلت {إِنَّ هَذَا} ناصب واسمه {لَسِحْرٌ}؛ خبره. {مُبِينٌ}: صفة سحر وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول قالوا. {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}. {قَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {أَتَقُولُونَ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت. قلت {أَتَقُولُونَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري {تقولون}: فعل وفاعل {لِلْحَقِّ} جار ومجرور متعلق به؛ أي: في شأن الحق ولأجله {لَمَّا} ظرف بمعنى حين متعلق بـ {تقولون} {جَاءَكُمْ}: فعل ومفعول وفاعله، ضمير يعود على {الْحَقِّ} والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {لَمَّا} ومقول {تقولون} محذوف، تقديره أتقولون للحق لما جاءكم إنه سحر. وقوله: {أَسِحْرٌ هَذَا}؛ من كلام موسى، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري. {سحر} خبر مقدم {هَذَا}: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة من جهة موسى، عليه السلام، تكذيبًا لقولهم وتوبيخًا إثر توبيخ، وتجهيلًا بعد تجهيل، كما ذكره "أبو السعود" {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالَ مُوسَى}. {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {أَجِئْتَنَا ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري. {جئتنا}: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {لِتَلْفِتَنَا}: اللام حرف جر وتعليل {تلفت} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. {نَا}: ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: للفتك وصرفك إيانا عن الحق

الجار والمجرور متعلق بـ {جئتنا}. {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تلفتنا} {وَجَدْنَا} فعل وفاعل {عَلَيْهِ} متعلق به وهو في محل المفعول الثاني. {آبَاءَنَا} مفعول أول، أو وجد هنا بمعنى أصاب يتعدى لمفعول واحد {وَتَكُونَ}: فعل مضارع ناقص معطوف على {تلفت} {لَكُمَا}: جار ومجرور خبر {تَكُونَ} مقدم على اسمها. {الْكِبْرِيَاءُ} اسم تكون مؤخر. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {الْكِبْرِيَاءُ} أو بـ {تَكُونَ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما} حجازية {نَحْنُ}: في محل الرفع اسمها {لَكُمَا} متعلق {بِمُؤْمِنِينَ} {مؤمنين} خبر {ما} الحجازية والباء: زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} فعل وفاعل والجملة مستأنفة {ائْتُونِي ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {ائْتُونِي}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِكُلِّ سَاحِرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. {عَلِيمٍ}: صفة {سَاحِرٍ} والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قَالَ}. {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}. {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فأتوا بالسحرة {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} {لما}: حرف شرط غير جازم {جَاءَ السَّحَرَةُ}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لما} {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ} متعلق به {مُوسَى} فاعل، والجملة جواب {لما} وجملة {لمّا} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على تلك الجملة المحذوفة {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَلْقُوا مَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} {أَنْتُمْ مُلْقُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة {مَا} الموصولة والعائد محذوف، تقديره: ما أنتم ملقونه.

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}. {فَلَمَّا}: الفاء: عاطفة على محذوف؛ تقديره: فألقى السحرة ما عندهم {لما}: حرف شرط. {أَلْقَوْا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما} {قَالَ مُوسَى} فعل وفاعل والجملة جواب {لما} وجملة {لما} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} إلى آخر الآيتين مقول محكي، وإن شئت، قلت: {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {جِئْتُمْ}: فعل وفاعل {بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول {السِّحْرُ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} وفي المقام أوجه أخر من الإعراب، تركناها خوف الإطالة {إِنَّ اللَّهَ}. ناصب واسمه {سَيُبْطِلُهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معطوفة على قوله {سَيُبْطِلُهُ} {بِكَلِمَاتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يحق} {وَلَوْ كَرِهَ} {الواو} عاطفة على محذوف، تقديره: ويحق الله الحق لو لم يكره المجرمون {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} {لو}: حرف شرط {كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لو} وجوابها محذوف، تقديره: ولو كره المجرمون يحق الله الحق بكلماته، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}. {فَمَا آمَنَ} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، كما ذكره في "الفتوحات" {ما}: نافية {آمَنَ}: فعل ماض {لِمُوسَى}: متعلق به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {ذُرِّيَّةٌ} فاعل {مِنْ قَوْمِهِ}: جار

ومجرور صفة لـ {ذُرِّيَّةٌ} والجملة مستأنفة {عَلَى خَوْفٍ}: على حرف جر، بمعنى اللام التعليلية {خَوْفٍ} مجرور بها الجار والمجرور متعلق بـ {آمَنَ} {مِنْ فِرْعَوْنَ} متعلق بخوف. {وَمَلَئِهِمْ} معطوف على {فِرْعَوْنَ} {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدل اشتمال من فرعون؛ أي: من فتنتهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ}: ناصب واسمه {لَعَالٍ} اللام: حرف ابتداء {عال}: خبر {إنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأن أصله لعالي، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها فصار لعال. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {عال} وجملة {إِنَّ}: معطوفة على جملة قوله: {فَمَا آمَنَ} عطف علة على معلول {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لَمِنَ} اللام: حرف ابتداء {لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}: جار ومجرور خبر {إِنَّ} والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى. {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)}. {وَقالَ}: الواو: استئنافية {قال موسى} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يَا قَوْمِ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {إنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. {آمَنْتُمْ} فعل وفاعل {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كَانَ} {فَعَلَيْهِ} {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية {عَلَيْهِ} متعلق بـ {تَوَكَّلُوا} {تَوَكَّلُوا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {إِنْ كُنْتُمْ} {إن}: حرف شرط {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها {مُسْلِمِينَ} خبر {كَانَ} وجواب {إنْ} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مسلمين، فعليه توكلوا، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قال}.

{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)}. {فَقَالُوا}: الفاء: حرف عطف وتفريع {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَقَالَ مُوسَى} {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ...} إلى آخر الآيتين: مقول محكي، وإن شئت، قلت: على الله متعلق بـ {تَوَكَّلْنَا} {تَوَكَّلْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالوا} {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء مقول {قالوا} {لَا تَجْعَلْنَا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {لِلْقَوْمِ} متعلق بـ {فِتْنَةً} {الظَّالِمِينَ} صفة {لِلْقَوْمِ} وجملة {تَجْعَلْنَا} في محل النصب مقول {قالوا} على كونها جواب النداء. {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}. {وَنَجِّنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة معطوفة على جملة {لَا تَجْعَلْنَا} {بِرَحْمَتِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نجنا} وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: {مِنَ الْقَوْمِ} {الْكَافِرِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَأَوْحَيْنَا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلَى مُوسَى}: متعلق به {وَأَخِيهِ} معطوف على موسى {أَنْ}: إما مفسرة لوجود ضابطها، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، وإما مصدرية {تَبَوَّآ}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون أمر من تفعل مثل قوله تعالى: {أن اصنع الفلك} أو فعل أمر في محل النصب بأن المصدرية مبني على حذف النون {لِقَوْمِكُمَا} متعلق بـ {تبوءا} وهو في محل المفعول الأول والأقرب كون اللام زائدة في المفعول {بِمِصْرَ}: متعلق بـ {تَبَوَّآ} أو حال من ضمير {تبوءا} أو حال من {بُيُوتًا}. {بُيُوتًا}، مفعول ثانٍ لـ {تبوءا} وجملة {تبوءا} صلة {أَنْ} المصدرية {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية {لأوحينا} تقديره: وأوحينا إلى موسى وأخيه التبوؤ لقومهما بمصر بيوتا {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}: فعل وفاعل ومفعولان

والجملة معطوفة على جملة {تبوءا} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تبوءا}. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {موسى} والجملة معطوفة على جملة {تبوءا}. التصريف ومفردات اللغة {نَبَأَ نُوحٍ}؛ أي: بعض نبأه مع قومه، إذ المذكور ليس جميع خبره، بل بعضه وتقدم أن اسمه عبد الغفار، وأن نوحًا لقبه. والنبأ: هو الخبر الذي له خطر وشأن. {مَقَامِي} والمقام: بفتح الميم، مكان القيام، وبضمها مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها، والأول: من قام الثلاثي، والثاني: من أقام الرباعي، وفي "زاده"، والمقام إما اسم لمكان القيام، أو مصدر له، فعلى الأول يكون كناية عن النفس؛ لأن المكان من لوازمه، وعلى كونه مصدرًا، إما أن يراد به طول قيامه بينهم، أو قيامه على الدعوة والتذكير؛ لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، اهـ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أمر من الإجماع والإجماع: العزيمة على الأمر عزمًا لا تردد فيه، كما قال شاعرهم: أَجْمَعُوْا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا ... أَصْبَحُوْا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ فأجمع الرباعي يتعدى بنفسه وبعلى، فيقال: أجمع أمره وأجمع عليه، والمعنى على كلا الوجهين: العزم والتصميم؛ أي: عزم أمره وصمم عليه. وفي "السمين" قرأ العامة: فأجمعوا أمرًا، من أجمع، بقطع الهمزة، يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري، وجمعت الجيش هذا هو الأكثر {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}؛ أي: أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي، فالقضاء هنا، من قولهم: قضى دينه، إذا أداه. وقيل معناه: أسرعوا به إليّ، وأبرزوه، ولام القضاء واو؛ لأنه من قضا يقضو، اهـ "سمين". {غُمَّةً} والغمة: الستر واللبس، يقال: إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له، والإنظار: التأخير والإمهال. {فِي الْفُلْكِ} تقدم أن الفلك يستعمل مفردًا وجمعًا، والمراد هنا المفرد {خَلَائِفَ} يخلفون الذين هلكوا بالغرق، جمع خليفة، كصحائف وصحيفة {نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} الطبع على القلوب هو عدم

قبولها شيئًا غير ما رسخ فيها، واستحوذ عليها. والمعتدين جمع معتد، والمعتدي: المتجاوز حدود الحق والعدل، اتباعًا لهوى النفس وشهواتها. {فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} تقدم أن الملأ أشراف الناس الذين يملؤون العيون بالمهابة، والمجالس بأجرامهم والاقتصار عليهم؛ لأنهم المتبوعون، وغيرهم من بقية قوم فرعون تبع لهم، هكذا قرره بعض المفسرين، وقرر بعضهم أن المراد بالملأ هنا، مطلق القوم، من استعمال الخاص في العام. {فَاسْتَكْبَرُوا} من باب استفعل والاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق {لِتَلْفِتَنَا} اللفت والفتل أخوان، اهـ "أبو السعود"، وكلاهما من باب ضرب، ففي "المصباح" لفته لفتًا، من باب ضرب، صرفه إلى ذات اليمين أو الشمال، ومنه يقال: لفته عن رأيه إذا صرفته اهـ وفي "السمين" اللفت: اللي والصرف، لفته عن كذا؛ أي: صرفه ولواه عنه. وقال الأزهري: لفت الشيء وفتله: لواه، وهذا من المقلوب، قلت: ولا يدعى فيه قلب حتى يرجح أحد اللفظين في الاستعمال على الآخر. {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ} والكبرياء، مصدر على وزن فعلياء، ومعناها: العظمة، وسمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا، قاله الزجاج، وقيل: سمي بذلك؛ لأن الملك يتكبر. {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} وقرىء سحار، والسحار، صيغة مبالغة؛ أي: كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه، {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ} الذرية في اللغة، صغار الأولاد وتستعمل في الصغار والكبار عرفًا، والذرية اسم يقع على القليل من القوم. قال ابن عباس: الذرية القليل، وقيل، المراد به: التصغير وقلة العدد {فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الفتنة والفتون: الابتلاء والاختبار الشديد، للحمل على الفعل أو الترك والمراد به هنا: الاضطهاد والتعذيب {أن تبوءا}؛ أي: أن اتخذا لقومكما بيوتًا بمصر، يقال: تبوأ الدار، اتخذها مباءة ومسكنًا، يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة، ويقال: بوأت زيدًا مكانًا، وبوأت لزيد مكانًا، والمبوأ: المنزل الملزوم ومثه بوأه الله منزلًا؛ أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنها الحديث "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ومنه قول الراجز:

نَحْنُ بَنُوْ عَدْنَانَ لَيْسَ شَكُّ ... تَبَوَّأ الْمَجْدُ بِنَا وَالْمُلْكُ {قِبْلَةً} والقبلة ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة؛ لأن المصلي يقابلها، وهي تقابله. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد المجازي في قوله: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي}؛ لأن حق الإسناد أن يكون للذات نظير ثقل عليّ ظله، كما في "الصاوي". ومنها: تقديم المعمول على عامله لإفادة الحصر في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}. ومنها: الاعتراض بين الشرط وجوابه بقوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} إن قلنا الجواب جملة {فأجمعوا} كما قاله الأكثرون. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} إذا كان من قضى دينه إذا أداه، فالهلاك مشبه بالدين على طريقة الاستعارة المكنية والقضاء تخييل، أو فيه تضمين واستعارة مكنية إذا كان من قضى، بمعنى حكم، والتقدير: احكموا بما تؤدونه إليّ. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلَا تُنْظِرُونِ}؛ لأن الإنظار حقيقة في إمهال دين المعسر، مجاز في تأخير الإهلاك. ومنها: تأخير الإغراق عن ذكر الإنجاء والاستخلاف في قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} لإظهار كمال العناية بشأن المقدم، ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة، التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب، الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين، ذكره "أبو السعود".

ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} لما في الخاص من الغرابة. ومنها: الإبهام في قوله: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} إفادةً لتحقيره وعدم المبالاة به. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم وحق العبارة أن الله لا يصلح عملكم كما في "الكرخي". ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}. ومنها: الطباق بين قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} وقوله: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} فكأنه قال إن الله يبطل الباطل ويحق الحق. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}؛ لأن المراد بها أرض مصر. ومنها: الحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أبان جبروت فرعون ¬

_ (¬1) المراغي.

وملئه وخوف بني إسرائيل من بطشهم، وأنهم امتنعوا لأجل ذلك عن الإيمان إلا قليلًا من شبانهم .. استجابوا لدعوة موسى بعد حث لهم وتحريض على الإيمان، وطلب موسى من بني إسرائيل أن يتخذوا بيوتًا لهم بمصر، يقيمون فيها مراسم دينهم، ثم بشرهم بالفوز والغلبة والنصر .. قفى على ذلك بدعوة موسى على فرعون وقومه مع ذكر السبب الذي دعاه إلى ذلك، وهو: الجحود والعناد لدعوته لما أوتوه، من بسطة النعمة التي أبطرتهم، فتركوا الدين وراءهم ظهريًّا. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما بالغ (¬1) موسى عليه السلام في إظهار المعجزات، وهم مصرون على العناد، واشتد أذاهم عليه، وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرًا وعلى الإنذار إلا استكبارًا، وعلم بالتجربة وطول الصحبة، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى .. دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس وأخزى الكفرة، كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه، أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله تعالى، من النعمة في الدنيا، وكان ذلك سببًا للإيمان به، ولشكر نعمه، فجعلوا ذلك سببًا لجحوده ولكفر نعمه انتهت. قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) ما دار من الحوار بين موسى وفرعون، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه، وغلبه لسحرة فرعون، ولم يزده ذلك إلا كبرًا وعتوًا فدعا عليه بالطمس على الأموال، والشد على القلوب، وذكر استجابة الله دعوته .. قفى على ذلك بذكر خاتمة القصة: وهو ما كان من تأييد الله لموسى وأخيه، على ضعفهما وقوة فرعون وقومه، إذ كانت دولته أقوى دول العالم في عصره. قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ...} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل، وما امتن به عليهم، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها، والظاهر أن بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى، ونجوا من الغرق، وسياق الآيات لشهد لهم. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خاتمة فرعون (¬2) وجنوده .. قفى على ذلك بذكر عاقبة بني إسرائيل، وفي هذا عبرة لمكذبي محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، والجاحدين من قومه المغترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم، فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددًا، وأشد قوة، وأوفر ثروة، وقد جعل الله سننه في المكذبين واحدةً، ففكروا أيها المكذبون في عاقبة أمركم، وتدبروا مليًّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وها هو ذا أهلك أكثر زعمائهم، وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين، وأعطاهم أعظم ملك في العالمين. قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص (¬3) قصص الأنبياء السالفين، وما لا قوه من أقوامهم، من العناد والجحود والاستكبار والعتو، وفي كل حال كان النصر حليف المؤمنين، والخذلان نصيب الظالمين .. أردف ذلك بذكر صدقه فيما قال: ووعد وأوعد، وكون ذلك سنّة الله في المكذبين قبل، وسيكون ذلك فيهم من بعد، وليس في هذا سبيل للافتراء والشك، وقد ساق ذلك بطريق التلطف في الأسلوب، فوجه الكلام إلى الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، والمراد قومه، فجاء على نحو قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[88]

قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ...} الآيات الثلاث، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم .. أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. وهذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها، وبيان لسنن الله تعالى في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله، وأفعال عباده ووقوعها وفقهما. قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن سننه في نوع الإنسان، أن خلقه مستعدًّا للإيمان والكفر، الخير والشر، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة، إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده، وأنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك .. بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله، في التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار، وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار، إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله تعالى بهما. فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين فإن سنتنا لا تغيير فيها ولا تبديل فننجي رسلنا والذين آمنوا معهم، ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم. وقال أبو حيان: قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم قوله {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ...} وكان ذلك مشعرًا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحًا بهلاكهم في غير ما آية .. أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية، فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى: أن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين. التفسير وأوجه القراءة 88 - {وَقَالَ مُوسَى} بعد أن أعد قومه بني إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي، وغرس في قلوبهم الإيمان وحب العزة

والكرامة ونحو ذلك، وتوجه إلى الله أن يتم أمره {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ}؛ أي: أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءهم {زِينَةً}؛ أي: ما يتزين به من حلي وحلل، وآنية وماعون، وأثاث ورياش {وَأَمْوَالًا} كثيرة من صامت وناطق، أي: من ذهب وفضة وزروع وأنعام، يتمتعون بها، وينفقون منها في حظوظهم وشهواتهم. فالمراد (¬1) بالزينة: ما يتزين به من ملبوس ومركوب وغلمان وحلية وفراش وسلاح، وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة، والمال ما زاد على هذه الأشياء، من الصامت ونحوه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم كرر النداء تأكيدًا للدعاء والاستغاثة فقال: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا، آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا {لِيُضِلُّوا} غيرهم {عَن سَبِيلِكَ}؛ أي: لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك، عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك، باتباع الحق والعدل وصالح العمل. والمعنى (¬2): إنك آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها، ويتبعوا سبيلك، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروها، وضلوا عن سبيلك، وأضلوا غيرهم. وقد جرت (¬3) سنّة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان، وتخضع رقاب الناس لأربابها، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}. وقد أثبت البحث والتنقيب في نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثًا، وفيما حفظ في دور الآثار المصرية، وغيرها من العواصم الأوروبية، ما يشهد بكثرة تلك الأموال، ووجود أنواع من الزينة والحلي، لم تكن لتخطر على البال، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر، مع ما بلغه العلم والرقي العقلي في الإنسان. قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وقد اختلف (¬4) في هذه اللام الداخلة على الفعل، فقال: الخليل وسيبويه: إنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى: أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه، أعطاهم ما أعطاهم من النعم، ليضلوا، فتكون اللام على هذا، متعلقة بـ {ءَاتَيْتَ}. وقيل إنها لام كي؛ أي: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

أعطيتهم لكي يضلوا. وقال قوم: إن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا، كما قال سبحانه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}. قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن، فموه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وقيل: اللام للدعاء عليهم، والمعنى: ابتلهم بالهلاك عن سبيلك، واستدل هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا: {اطمس} و {اشدد}. وقد أطال صاحب "الكشاف" في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى، كما اقتصرنا عليه في حلّ الآية. وقرأ (¬1) أبو الفضل الرقاشي {إنك آتيت} على الاستفهام. وقرأ الكوفيون وقتادة والأعمش وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنهما: {ليضلوا} بضم الياء من أضلّ الرباعي. وقرأ الحرميان، نافع وابن كثير والعربيان، أبو عمرو وابن عامر ومجاهد وأبو رجاء والأعرج وشيبة وأبو جعفر، وأهل مكة، بفتحها من ضل الثلاثي. وقرأ الشعبي: بكسرها والى بين الكسرات الثلاث. ولما قدم ذكر الأموال، وهي أعز ما ادخر، دعا بالطموس عليها، فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: ربنا امحق أموالهم، وأهلكها بالآفات التي تستأصل زروعهم، والجوائح التي تهلك أنعامهم، وتنقص مكاسبهم، فيذوقوا ذل الحاجة. وقرأ الشعبي وفرقة {اطمس} بضم الميم، وهي لغة مشهورة. قال ابن (¬2) عباس ومحمد بن كعب، صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا، ولم يبق لهم معدن، إلا طمس عليه، فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد أهلكها حتى لا ترى {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان {فَلَا يُؤْمِنُوا} جواب (¬3) للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على {لِيُضِلُّوا} {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وإنما دعا موسى عليهم بهذا الدعاء، لما علم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[89]

أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون، فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم؛ أي: واطبع (¬1) على قلوبهم وزدها قسوة على قسوتها، وإصرارًا وعنادًا فيستحقوا شديد عقابك، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك. وسبب غضبة موسى: أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضًا مكررًا، وردد عليهم المواعظ والنصائح، ردحًا من الزمن، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعتوًا واستكبارًا في الأرض، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال، وأن إيمانهم كالمحال، فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، إذ لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا، ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، ويسيرون قُدُمًا في طريق الغي والهلاك. وخلاصة ذلك: كأنه قيل: فليثبتوا على ضلالهم، وليطبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنوا وما عليّ منهم، هم أهل لذلك وأحق به، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده، الذي انحرف عن جادة الاستقامة، ولم يقبل منه نصيحة: فلتمض في غوايتك، ولتعث في الأرض فسادًا وهو لا يريد غوايته بل حردًا وغضبًا. 89 - وقد روي أن موسى دعا بهذا الدعاء، وهارون، عليه السلام، كان يؤمّن على دعاء أخيه ومن ثم قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}؛ أي: قال (¬2) الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: قد قبلت دعوتكما. في فرعون وملئه وأموالهم، فموسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، والتأمين دعاء، وحصل المدعو به، بعد أربعين سنة؛ لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. وقرأ ابن السميقع: {قد أجبت دعوتكما} خبرًا عن الله تعالى، ونصب دعوة. وقرأ الربيع: {قد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[90]

أجبت دعوتيكما} وهذا يؤكد قول من قال: إن هارون دعا مع موسى. {فَاسْتَقِيمَا}؛ أي: فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة، وإلزام الحجة ولا تستعجلا؛ أي: فامضيا لأمري، واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنّتي في خلقي، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته، ويستبطئا وقوعه في حينه؛ أي: ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابًا كان المقصود حاصلًا في الحال، والاستعجال، وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال. وفي سفر الخروج (¬1) من التوراة ما يدل على استجابة دعاء موسى، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعو ربه فيكشفها عنهم، فيؤمنوا به حتى إذا كشفها قسى الرب تعالى قلب فرعون، فأصر على كفره. وقرأ الجمهور (¬2): {تتبعان} بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان، بتخفيف التاء والنون على النفي، لا على النهي. وابن ذكوان أيضًا بتشديد التاء وتخفيف النون. وفرقة: بتخفيف التاء وسكون النون. وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة، لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورةً فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة وكسرت كما كسرت الشديدة، لكون الكسر الأصل ولكونهما أشبهتا نون التثنية. 90 - {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر} أي: جعلناهم مجاوزين بحر السويس، وسمي بحر القلزم، بأن جعلناه يبسا، وحفظناهم حتى بلغوا الشط، أي: جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونة الله، تعالى، وقدرته وحفظه، وكان آيةً من آياته لنبيه موسى، عليه السلام، بفرقه تعالى بهم البحر. وقرأ الحسن: {وجوزنا} وهما لغتان. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

قال أهل التفسير (¬1): اجتمع يعقوب وبنوه على يوسف، وهم اثنان وتسعون، وخرج بنوه مع موسى من مصر، وهم ست مئة ألف، وذلك لما أجاب الله تعالى، دعاء موسى وهارون .. أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر، فخرجوا وقد كان فرعون غافلًا عن ذلك، فلما سمع بخروجهم، خرج بجنوده في طلبهم، فلما أدركهم، قالوا لموسى: أين المخلص، والبحر أمامنا والعدو وراءنا، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فقطعه موسى وبنو إسرائيل، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم، وكان معه ثمانية آلاف حصان على لون حصانه، سوى سائر الألوان، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى وميكائيل يسوقهم حتى لا يشذ منهم أحد فدنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يتمالك فرعون من أمره شيئًا، فنزل البحر وتبعه جنوده، حتى إذا اكتملوا جميعًا في البحر، وهم أولهم بالخروج، انطبق البحر عليهم، ولا يخفى عليك ما في هذه القصة من الخيالات الإسرائيلية. {فَأَتْبَعَهُمْ}؛ أي: فلحقهم وأدركهم في مجاوزة البحر {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا}؛ أي: ظلمًا وعدوانًا، أو ظالمين عادين عليهم؛ أي: مفرطين في محبة قتلهم ومجاوزين الحد، ليفتكوا بهم، أو يعيدوهم إلى مصر، ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم عبيدًا لهم. وقيل: إن البغي طلب الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل، وخاض البحر مع جنوده وراءهم {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}؛ أي: حتى إذا أشرف على الغرق وناله، ووصله وألجمه {قَالَ آمَنْتُ} وصدقت {أَنَّهُ}؛ أي: بأن الشأن والحال {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق {إلّا} الرب {الَّذِي آمَنَتْ بِهِ}؛ أي: صدقت بوحدانيته وانقادت لأمره {بَنُو إِسْرَائِيلَ}؛ أي: جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى، عليه السلام، {وَأَنَا} الآن {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي: من المنقادين لأوامره، كما انقادوا، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان مني من جحود بآياته، وعنادٍ لرسوله موسى، عليه السلام، وقرأ الحسن (¬2) وقتادة: {فاتبعهم} بتشديد التاء. وقرأ الجمهور. {وجاوزنا فأتبعهم} ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[91]

رباعيًّا. وقرأ الحسن: {وعدوا} بضم العين وتشديد الواو، بوزن علا يعلو علوًا، وتقدم في الأنعام، وعدوًا وعدوًا. من العدوان. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: {أنه} بفتح الألف، والمعنى آمنت بأنه على حذف الباء، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى أن ففتح. وقرأ حمزة والكسائي: {إنه} بكسر الهمزة على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلًا من آمنت، أو على إضمار القول؛ أي: قائلًا إنه. 91 - ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر (¬1) المعنى الواحد بثلاث عبارات، حرصًا منه على القبول المفضي إلى النجاة، ولكن هيهات، فقد فات الوقت، وجاء الإيمان حين اليأس، وهو لا يجدي فتيلًا ولا قطميرًا، وهذا ما بينه سبحانه بقوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}؛ أي؛ وقيل له: أتسلم الآن حين يئست من الحياة، وأيقنت بالممات، وقد عصيت وخالفت أمر ربك قبل ذلك، وضيعت التوبة في وقتها، وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} في الأرض الظالمين للعباد، الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان, فدعواك الإِسلام الآن لا تقبل، فقد صار إسلامك اضطرارًا، لا اختيارًا، ولم (¬2) يقبل ذلك من فرعون؛ لأنه إنما آمن عند نزول العذاب، وإنما أقر بعزة الربوبية ووحدانية الله تعالى، ولم يقر بنبوة موسى؛ ولأن ذلك الإقرار كان مبنيًّا على محض التقليد، وهو كان دهريًّا منكرًا لوجود الصانع، وإنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة. وخلاصة المعنى (¬3): آلآن تقر لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض الصادين عن سبيله، فهلا أقررت بما أقررت به الآن، وباب التوبة لك منفتح، والمقصود من الاستفهام في قوله: {الآن} التقريع والتوبيخ له. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[92]

وقد اختلف (¬1) في من القائل لفرعون بهذه المقالة، فقيل: هي من قول الله سبحانه، وقيل: من قول جبريل، وقيل: من قول ميكائيل، وقيل: من قول فرعون، قال ذلك في نفسه لنفسه. والظاهر (¬2) أن قوله: {آلْآنَ} إلى آخره من كلام الله تعالى، على لسان ملك، ويدل على هذا القول قوله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}. 92 - {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}؛ أي: فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك؛ أي: على مكان مرتفع من الأرض، ينظر إليك من كذب بهلاكك {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}؛ أي: لتكون عبرة لمن بعدك من الناس، يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله، والكفر به، والسعي في الأرض بالفساد، وهذا آخر مقول جبريل. ووجه (¬3) العبرة في ذلك أنه يكون شاهدًا على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم، كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج الله عليهم قبل غيرهم، والمعنى: ليعرفوا عبوديتك ويبطل دعوى ألوهيتك؛ لأن الإله لا يموت. قال أهل التفسير (¬4): لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه، وأخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرًا، كأنه ثور، فرآه بنو إسرائيل فعرفوه، فمن ذلك الوقت، لا يقبل الماء الميت أبدًا، ولكن تحديد هذه البداية لا أصل له. ومعنى قوله: {بِبَدَنِكَ} يعني: نلقيك وأنت جسد لا روح فيه، وقيل: هذ الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء، كأنه قيل له: ننجيك، ولكن هذه النجاة، إنما تحصل لبدنك لا لروحك، وقيل: أراد بالبدن الدرع، وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر يعرف به، فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه. قرأ الجمهور (¬5): {نُنَجِّيكَ} بالتشديد من التنجية. وقرأ يعقوب: {ننجيك} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) الخازن. (¬5) البحر المحيط.

مخففًا مضارع أنجى. وقرأ أبي وابن السميقع ويزيد البربري: {ننحيك} بالحاء المهملة من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود. ومعنى {نُنَجِّيكَ} بالجيم، نلقيك على نجوة من الأرض، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا هو أعظم شأنًا من ذاك، فألقاه الله على نجوة من الأرض؛ أي: مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه. وقيل، المعنى: نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر، ونجعلك طافيًا ليشاهدوك ميتًا بالغرق. ومعنى: {ننحيك} بالحاء المهملة نطرحك على ناحية من الأرض مما يلي البحر. قال كعب: رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور. وقرأ أبو حنيفة {بأبدانك}. ورويت عن ابن مسعود أيضًا؛ أي: بدروعك، أو جعل كل جزء من البدن بدنًا كقولهم ثابت مفارقه. واختلف (¬1) المفسرون في معنى {بِبَدَنِكَ} فقيل معناه: بجسدك بعد سلب الروح، منه قاله مجاهد. وقيل معناه: بدرعك، قاله: صخر، والدرع يسمى بدنًا ومنه قول كعب: تَرَى الأبْدَانَ فِيْهَا مُسْبَغَاتٌ ... عَلَى الأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الْحَصِيْنَا أراد بالأبدان الدروع. وقد ذكرنا أنه كان له درع من ذهب فعرف بدرعه. وقيل: نلقيك عريانًا قاله: الزجاج. وقيل: ننجيك وحدك، قاله ابن قتيبة، ورجح القول بأن المراد بالبدن هنا، الجسد. وقرأ ابن مسعود (¬2) وابن السميقع {بندائك} مكان ببدنك؛ أي: بدعائك بقولك: آمنت إلى آخره، لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع أو بما ناديت به في قومك كما حكاه عنه سبحانه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. والمراد (¬3) بالآية في قوله: {لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} العلامة؛ أي: لتكون لمن خلفك، وبعدك من الناس، علامة يعرفون بها هلاكك، وأنك لست كما تدعي، ويندفع عنهم الشك ¬

_ (¬1) زاد المسير والشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[93]

في كونك قد صرت ميتًا بالغرق. وقيل: المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آيةً من آيات الله يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سأل من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبر، والتمرد على الله سبحانه، فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية، واستمر على ذلك دهرًا طويلًا، كانت له هذه العاقبة القبيحة. وقرىء (¬1): {لمن خلفك} على صيغة الفعل الماضي بفتح اللام؛ أي: من الجبابرة والفراعنة، ليتعظوا بذلك ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. وقرأ ابن السميقع وأبو المتوكل وأبو الجوزاء {لمن خلقك} بالقاف من الخلق وهو الله، سبحانه وتعالى، أي: ليجعلك الله آية له في عباده. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا} ودلائل قدرتنا التي توجب الاعتبار والتفكر في مصنوعاته، وتوقظ من سنة الغفلة {لَغَافِلُونَ}؛ أي: لساهون عمّا توجبه الآيات من التيقظ وهذه الجملة تذييلية؛ أي: وإن كثيرًا من الناس لفي غفلة عن حججنا وأدلتنا، على أن العبادة له وحده خالصةً، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها، وفي ذلك إيماءٌ إلى ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها، واستبانة سنن الله فيها، للعظة والاعتبار 93 - {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} هذا من جملة ما عدد الله سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا وأسكنا بني إسرائيل بعد ما أنجيناهم، وأهلكنا أعداءهم منزلًا صالحًا مرضيًّا، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية، وهي بلاد فلسطين والأردن. وقيل: أرض الشام ومصر، فالشام بلاد البركة والخصب، وأورثهم الله تعالى جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه. وهذه الآية بمعنى قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. والمبوأ اسم مكان أو مصدر، كما سيأتي في مبحث التصريف، وإضافته إلى الصدق على ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير.

جرت عليه عادة العرب، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئًا أضافوه إلى الصدق، كما مر في أول هذه السورة، والمراد به هنا المنزل المحمود المختار. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ أي: وأعطيناهم المستلذات من الرزق فيها وقد جاء وصفها في كتبهم، بأنها تفيض لبنًا وعسلًا، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر. {فَمَا اخْتَلَفُوا} في أمر دينهم، وتشعبوا فيه شعبًا، بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة {حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}؛ أي: لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعدما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الإخبار بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل المعنى: إنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر، فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول: هم اليهود، بعد أن أنزلت عليهم التوراة، وعلموا بها، وعلى القول الثاني: هم اليهود المعاصرون لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، وقيل (¬1) العلم، بمعنى: المعلوم، وهو محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن رسالته كانت معلومة عندهم، مكتوبة في التوراة، وكانوا يستفتحون به؛ أي: يستنصرون به في الحروب، يقولون: اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان، انصرنا فينصرون. فلما جاء قالوا: النبي الموعود به من ولد يعقوب، وهذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك، فآمن به بعضهم، كعبد لله بن سلام وأصحابه. وقيل: العلم القرآن، كما مر، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو من كلام محمَّد، وقول بعضهم: من كلام الله، وليس لنا إنما هو للعرب، وصدق به قوم فآمنوا؛ أي: فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد أن علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه، بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عنده، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن به آخرون. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[94]

{إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد سبحانه وتعالى {يَقْضِي} ويحكم {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: بين بني إسرائيل المختلفين، أو بين سائر الناس على العموم {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والمحق بعمله بالحق، والمبطل بعمله بالباطل؛ أي: إن هذا النوع من الاختلاف لا سبيل لإزالته في دار الدنيا، بل سيقضي الله بينهم في الآخرة، فيميز المحقين من المبطلين، ويدخل الأولين الجنة والآخرين النار، وبئس القرار 94 - {فَإِن كنُتَ} يا محمَّد {فِي شَكٍّ} وارتياب {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}؛ أي: في حقيقة ما أنزلنا إليك، والشك في موضوع اللغة خلاف اليقين، والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين، أو لعدم الأمارة، والشك ضرب من الجهل، وهو أخص منه، فكل شك جهل، وليس كل جهل شكا. فإذا قيل: فلان شك في هذا الأمر، فمعناه: توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه. وظاهر هذا الخطاب في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أنه للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: فإن كنت يا محمَّد، في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به، وأنزلناه يعني القرآن، أو المعنى: فإن كنت أيها الرسول في شك مما قلناه في تلك الشواهد، من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضًا وتقديرًا {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: الذين يقرؤون كتب الأنبياء من قبلك، كاليهود والنصارى، يخبروك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم، أو يعلمون أن ما أنزلناه إليك من القصص حق، لا يستطيعون إنكاره. وقرأ يحيى وإبراهيم: {يقرؤون الكتب} على الجمع. وقد توجه (¬1) ههنا سؤال واعتراض، وهو أن يقال: هل شك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيما أنزل عليه، أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك؟ وإذا كان شاكًّا في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه. قلت: الجواب عن هذا السؤال، والاعتراض، ما قاله القاضي عياض: في كتابه "الشفاء" فإنه أورد هذا السؤال، ثم قال: احذر ثبت الله قلبك، أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين، عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) الخازن.

فيما أوحى إليه فإنه من بشر. فمثل هذا لا يجوز عليه، - صلى الله عليه وسلم - جملة، بل قد قال ابن عباس: لم يشك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسأل، ونحوه عن سعيد بن جبير، والحسن البصري، وحكي عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أشك ولا أسأل" وعامة المفسرين على هذا، تم كلام القاضي عياض رحمه الله. ثم اختلفوا في معنى الآية، ومن المخاطب بهذا الخطاب، على قولين: أحدهما: أن الخطاب للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، في الظاهر، والمراد به غيره، فهو كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ومعلوم أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يشرك، فثبت أن المراد به غيره، ومن أمثلة العرب إياك أعني واسمعي يا جارة. فعلى هذا يكون معنى الآية: قل يا محمَّد: يا أيها الإنسان الشاك، إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب، يخبروك بصحته، ويدل على صحة هذا التأويل، قوله تعالى في آخر هذه السورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الآية. فبين أنَّ المذكور في هذه الآية، على سبيل الرمز، هو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح، وأيضًا لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكًّا في نبوته .. لكان غيره أولى بالشك في نبوته، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، معاذ الله من ذلك. وقيل: إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يشك قط، فيكون المراد بهذا التهييج، فإنه، - صلى الله عليه وسلم -، إذا سمع هذا الكلام يقول: لا أشك يا رب، ولا أسأل أهل الكتاب، بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة. وقال الزجاج: إن الله سبحانه وتعالى، خاطب الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} وهو شامل للخلق فهو كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وهذا وجه حسن، لكن فيه بعد، وهو أن يقال: متى كان الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، دخلًا في هذا الخطاب، كان الاعتراض موجودا، والسؤال واردًا. وقيل: إن لفظة {إن} في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} للنفي، وما أنت في شك، مما أنزلنا إليك حتى تسأل، فلا تسأل، ولئن سألت لازددت يقينًا. والقول الثاني: أن هذا الخطاب ليس هو للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ألبتة، ووجه هذا

[95]

القول، أن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق: فرقة له مصدقون وبه مؤمنون، وفرقة على الضد من ذلك، والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره، الشاكون فيه، فخاطبهم الله عزّ وجلّ، بهذا الخطاب، فقال: تبارك وتعالى، فإن كنت أيها الإنسان، في شك مما أنزلنا إليك، من الهدى، على لسان محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله الضمير في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ} وهو يريد الجمع؛ لأنه خطاب لجنس الإنسان، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} لم يرد في الآية إنسانًا بعينه، بل أراد الجمع. واختلفوا في المسؤول عنه في قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} من هم. فقال المحققون من أهل التفسير: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه؛ لأنهم هم الموثوق بأخبارهم. وقيل، المراد: كل أهل الكتاب، سواء مؤمنهم وكافرهم؛ لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، وإنه مكتوب، عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك، فقد حصل المقصود، والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى، وأهل الإيمان, من أهل الكتاب، ممن أدرك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ذكره في "الخازن". وعزتي وجلالي {لَقَدْ جَاءَكُمْ} يا محمَّد {الحقُّ} واليقين من الخبر {مِنْ رَبِّكَ} بأنك رسول الله حقًّا، وإن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}؛ أي: من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك بالتزلزل، عما أنت عليه، من الجزم واليقين، والامتراء: الشك والتردد؛ أي: لقد جاءك الحق الواضح، بأنك رسول الله، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون نعتك في كتبهم، فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك. وهذا النهي وما بعده، يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه، ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته - صلى الله عليه وسلم -، فأظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم، فهم في شك منه. 95 - {وَلَا تَكُونَنَّ} أيها الرسول {مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: ممن كذب بآيات الله وحججه في الأكوان، مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال

[96]

الرسل، لهداية البشر {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: فتكون ممن خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان, وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. فالشك والامتراء فيما أنزل إليك، كالتكذيب بآيات الله جحودًا بها، وعنادًا، كلاهما سواء في الخسران لحرمان الجميع من الهداية بها والوصول إلى السعادة في الدارين 96 - {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ} وثبتت ووجبت {عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}؛ أي: قضاؤه وحكمه الذي كتبه في اللوح المحفوظ، بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار، بفقدهم الاستعداد للاهتداء لرسوخهم في الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم بهم وإعراضهم عن آيات الله، التي خلقها في الأكوان بما يرشد إلى وحدانيته، وكمال قدرته {لَا يُؤْمِنُونَ} إذ لا يكذب كلامه، ولا ينتقض قضاؤه 97 - {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} من الآيات الكونية، كآيات موسى عليه السلام، التي اقترحوا مثلها عليك، والآيات المنزلة عليك، كآيات القرآن العقلية، الدالة بإعجازها على أنها من عند الله، وعلى حقية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} بأعينهم، ويذوقوه حين ينزل بهم، فيكون إيمانهم، اضطرارًا لا اختيارًا منهم، كدأب آل فرعون وأشباههم، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم، وحينئذٍ لا ينفعهم إيمانهم كما لا ينفع فرعون، ويقال لهم إذ ذاك {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}. 98 - {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ}؛ أي: فهلا كانت ووجدت قرية {آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا}؛ أي: فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل، آمنوا بعد دعوتهم، وإقامة الحجة عليهم، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به. وخلاصة ذلك: أنه لم يؤمن قوم منهم، بحيث لم يشذ منهم أحد. قال أبو مالك (¬1) - صاحب ابن عباس -: كل ما في كتاب الله تعالى، من ذكر لولا، فمعناه: هلا إلا حرفين {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} فمعناه: فما كانت قرية آمنت، {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُم} فمعناه: فما كان من القرون، ¬

_ (¬1) المراح.

وتقدير الآية: فما كان ووجد أهل قرية آمنوا، فنفعهم إيمانهم في الدنيا {إلا قوم يونس} عليه السلام {لَمَّا آمَنُوا} أول ما رأوا أمارة العذاب {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}؛ أي: صرفنا عنهم عذاب الذل {فِي الْحَيَاةِ} الدنيا {وَمَتَّعْنَاهُمْ} بمتاع الدنيا بعد صرف العذاب عنهم {إِلَى حِينٍ}؛ أي: إلى وقت انقضاء آجالهم. وعبارة "الفتوحات" هنا قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ} {لَوْلَا} (¬1) تحضيضية فيها معنى النفي والتوبيخ، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه. والحاصل: أن الآية تضمنت تحضيضًا وتوبيخًا ونفيًا، فالنفي راجع لمن مضى، والتوبيخ والتحضيض راجعان لمن يسمع، فوبخ الله أهل القرى المهلكة، قبل يونس، قبل نزول العذاب بهم، إلا قوم يونس فإنهم آمنوا قبل نزوله بهم، وذلك حين رؤية أماراته فالفارق بين قوم يونس ومن قبلهم، أن قوم يونس آمنوا قبل نزوله، وذلك عند حضور أماراته وغيرهم لم يؤمن قبل نزوله، أعم من أن يكون آمن وقت نزوله، أو لم يؤمن أصلًا، فبهذا الاعتبار صار بين قوم يونس وغيرهم التباين باعتبار الوصف المذكور، فلم يندرج قوم يونس في غيرهم. روي (¬2) أن يونس عليه السلام، بعث إلى نينوى من أرض الموصل، وكانوا يعبدون الأصنام فكذبوه فذهب عنهم مغاضبًا، فلما فقدوه، خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجّوا أربعين ليلة، وكان يونس قال لهم: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك .. آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة، ظهر في السماء غيم أسود هائل، فظهر منه دخان شديد، وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة، وسوّد سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، يوم الجمعة. وعن الفضل بن عباس، أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلَّت، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

[99]

وأنت أعظم وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وخرج يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئًا، هكذا ذكروا، والله أعلم بحقيقة الحال. والخلاصة (¬1): أن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم .. صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا، بعد ما أظلهم، وكاد ينزل بهم، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم، وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن الله في استعداد بنيته ومعيشته. وفي ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم، وحضّ على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم، اعتبروا وآمنوا قبل اليأس، وقبل أن ينزل بهم البأس. وقرأ أبي وعبد الله (¬2): {فهلا}، وكذا في مصحفهما، وقال الزمخشري: وقرىء {إلا قوم يونس} بالرفع على البدل من قرية عن الحرمي والكسائي وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها، وذكر جواز فتحها. 99 - {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} يا محمَّد إيمان أهل الأرض جميعًا {لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} بحيث لا يخرج منهم أحد، حال كونهم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه، ولا يختلفون بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرًا، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد في فطرتهم، لغير الإيمان, ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفًا للمصلحة التي أرادها الله سبحانه وتعالى، وجاء في معنى الآية قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وخلاصة ذلك (¬3): أنه لو شاء ربك أن لا يخلق الإنسان مستعدًّا بفطرته للخير والشر، والإيمان والكفر، ومرجحًا باختياره لأحد الأمور الممكنة، على ما يقابله بإرادته ومشيئته .. لفعل ذلك، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا، يوازن باختياره بين الإيمان والكفر، فيؤمن بعض ويكفر آخرون. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[100]

ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إيمان جميع الناس، أخبره الله سبحانه وتعالى، بأن ذلك لا يكون؛ لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك، فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} والهمزة (¬1) فيه للاستفهام التأديبي للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتحزن يا محمَّد، على عدم إيمانهم وتتأسف عليه، فأنت تكره الناس؛ أي: تريد أن تجبرهم على الإيمان {حَتَّى يَكُونُوا} كلهم {مُؤْمِنِيَنَ} طائعين لله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يا محمَّد ليس في وسعك ولا داخل تحت قدرتك. والمعنى: ليس عليك إلا البلاغ، لا خلق الإيمان في قلوبهم وإكراههم عليه، فإن الأمر كله لله لا خالق سواه؛ أي: إن هذا ليس بمستطاع لك، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت، وسائر الرسل الكرام. كما قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} وقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وفي هذا (¬2) تسلية للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، ودفع لما يضيق به صدره، من طلب صلاح الكل، الذي لو كان، لم يكن صلاحًا محققًا، بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة. 100 - ثم بين وعلل سبحانه ما تقدم فقال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: ما ثبت وما استقام وما صح لنفس من الأنفس أن تؤمن في حال من الأحوال، إلا في حال إرادة الله تعالى الإيمان لها، وتيسيره وتوفيقه ومشيئته لذلك، فلا يقع غير ما يشاؤه كائنًا ما كان؛ أي: وما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها الله، من الاختيار والاستقلال في الأفعال، أن تؤمن إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، ومقتضى سننه في الترجيح بين المتقابلين، فالنفس مختارة في دائرة الأسباب والمسببات، ولكنها غير مستقلة في اختيارها استقلالًا تامًّا بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية. وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} معطوف (¬3) على محذوف، تقديره: فيريد الله الإيمان للبعض، ويجعل الرجس؛ أي: العذاب أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب {عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: على ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الصاوي.

[101]

الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله تعالى، ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة؛ أي: وإذا (¬1) كان كل شيء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجري بقدره، فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته ويوازنون بين الأمور، فيختارون خير الأعمال، ويتقون شرها ويرجحون أنفعها على أضرها بإذنه وتيسيره، ويجعل الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، إذ هم لخطل رأيهم وسلوك سبيل الهوى، يرجحون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى. وقرأ (¬2) الحسن وأبو بكر والمفضل وزيد بن علي: {ونجعل} بالنون. وقرأ الأعمش: {ويجعل الله الرجز} بالزاي وفي الرجس لغتان، ضم الراء، وكسرها، والرجز بمعناه. 101 - ولما بين سبحانه وتعالى أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى .. أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية فقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: قل (¬3) أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم، من كفار قومك، انظروا بأبصاركم وفكروا وتأملوا ببصائركم، ماذا في السموات والأرض؛ أي: في المخلوق الذي في السموات والأرض، من كواكب نيرات ثوابت وسيارات، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب ومطر، وهواء وماء، وليل ونهار. وإيلاج أحدهما في الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع، والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران، وما في البحر من عجائب، وهو مسخر مذلل للسالكين، يحمل سفنهم ويجري بها برفق، بتسخير القدير العليم، الذي لا إله غيره ولا رب سواه {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} إنه يريكم كل هذه الآيات، ثم أنتم تشركون، وما أحسن قول الشاعر: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والشوكاني. (¬3) المراغي.

[102]

وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ والخلاصة (¬1): قل يا محمَّد للكفار: تفكروا واعتبروا واتعظوا بما في السموات والأرض، من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته، وكمال قدرته و {ماذَا}: مبتدأ وخبره {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أو المبتدأ {ما} فقط و {ذا} بمعنى الذي {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صلته، والموصول وصلته خبر المبتدأ؛ أَيْ: أيُّ شيءٍ الذي في السموات والأرض؟ وعلى كلا التقديرين، فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها وقرأ (¬2) الحرميان، نافع وابن كثير، والعربيان أبو عمرو وابن عامر والكسائي؛ {قُلِ انْظُرُوا} بضم اللام على نقل ضمة الهمزة إلى اللام. وقرأ باقي السبعة: بكسر اللام على أصل حركة التخلص من التقاء الساكنين. ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته، فقال: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ}؛ أي: وما تنفع الدلائل السماوية والأرضية المذكورة في قوله: {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {وَالنُّذُرُ}؛ أي: والرسل المنذرون {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} في علم لله تعالى وحكمه وقضائه. والمعنى: أن من كان هكذا .. لا يجدي فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع، و {ما}: نافية؛ أي: ما تنفع، ويجوز أن تكون استفهامية؛ أي: أي شيء ينفع؟ وقرىء: {وما تغني} بالتاء وهي قراءة الجمهور، وبالياء. {تغني} تنفع (¬3) وتفيد {وَالنُّذُرُ} واحدها نذير؛ أي: إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والرسل على بلاغة حجتها, لا تجدي نفعًا لقوم لا يتوقع إيمانهم؛ لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها، على ما تدل عليه من وحدانية الله تعالى، وقدرته، والاعتبار بسننه في خلقه والاستفادة منها فيما يزكي النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس. 102 - قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} مرتب (¬4) على قوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ} إلخ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط والصاوي. (¬3) المراغي. (¬4) الفتوحات.

[103]

والاستفهام فيه إنكاري بمعنى: النفي؛ أي: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمَّد {إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: إلا يومًا يعاينون فيه العذاب، مثل أيام كفار الأمم الذين مضوا من قبلهم، التي عاينوا فيها العذاب حين كذبوا رسلهم، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم؛ أي: ما ينتظرون بتكذيبك إلا عذابًا مثل عذاب الأمم الماضية المكذبة لرسلها أهلكناهم جميعًا، والعرب تسمّي العذاب أيامًا، والنعمَ أيامًا كقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}. والمعنى: يقول (¬1) الله سبحانه وتعالى لنبيه، - صلى الله عليه وسلم -، محذرًا مشركي قومه، من حلول عاجل نقمة ربهم بهم، وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت في تكذيب رسله، وجحودهم مسلكهم هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون، بما جئتهم به من عند الله تعالى، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم، الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب. والخلاصة: أنهم ما ينتظرون إلا مثل وقائعهم مع رسلهم، ممَّا بلغهم مبدؤه وغايته، فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب فـ {قُلْ} لهم يا محمَّد؛ أي: لهؤلاء الكفار المعاصرين لك {فَانْتَظِرُوا}؛ أي: تربصوا لوعد ربكم {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}؛ أي: من المتربصين لوعد ربي. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء، ما نزل بأولئك، من الإهلاك، إن لم يؤمنوا؛ أي: قل لهم منذرًا مهددًا انتظروا عقاب الله، ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم وإني على بينة بما وعد الله به وصدق وعده للمرسلين، وإن الذين يصرون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين. 103 - و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: أهلكنا الأمم، ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} معطوف على رسلنا؛ أي: نجيناهم ونجينا الذين آمنوا. والتعبير بلفظ المضارع لاستحضار صورة الحال الماضية، تهويلًا لأمرها؛ أي: إن سنتنا في رسلنا ¬

_ (¬1) المراغي.

السابقين على محمَّد مع أقوامهم، الذين يبلغونهم الدعوة ويقيمون عليهم الحجة، وينذرونهم سوء عاقبة التكذيب، فيؤمن بعض، ويصرّ آخرون على الكفر، أن نهلك المكذبين وننجي رسلنا والذين آمنوا بهم. وقوله: {كَذَلِكَ} صفة (¬1) لمصدر محذوف؛ أي: إنجاء مثل ذلك الإنجاء، فهو مفعول مطلق، والعامل فيه قوله: {ننج المؤمنين}. وقوله: {حَقًّا عَلَيْنَا} اعتراض؛ أي: وحق ذلك علينا حقًّا، أي: وجب وتحتم بمقتضى الفضل والكرم؛ أي: إنجاء مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المصرين على تكذيبك وعدنا ذلك وعدًا حقًّا علينا لا نخلفه، كما قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}. وقرأ (¬2) يعقوب: {ثم ننجي} مخففًا وقرأ الباقون {ثم ننجي} بالتشديد وبثبوت الياء خطًّا ولفظًا. وقرأ حفص والكسائي ويعقوب: {ننجي} بالتخفيف والباقون بالتشديد، وتحذف منه الياء خطًّا إتباعًا لرسم المصحف. قاله "السمين" وفي اللفظ، إن وصل بما بعده، فحذفها ظاهر لأجل التقاء الساكنين، وإن وقف عليه وجب حذفها في النطق أيضًا، تبعًا لرسم المصحف اهـ "شيخنا". والتشديد والتخفيف في {ننجي} كلاهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاءً، ونجى ينجي تنجيةً، بمعنى واحد. ومعنى الآية: أهلكنا (¬3) المكذبين ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم والذين آمنوا بهم؛ لأن العذاب لا ينزل إلا على الكفار كذلك؛ أي: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل، ومن آمن بهم، ننج المؤمنين بك يا محمَّد، من كل شدة وعذاب، وجب ذلك علينا وجوبًا بحسب الوعد والحكم، لا بحسب الاستحقاق؛ لأن العبد لا يستحق على خالقه شيئًا. الإعراب {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني والفتوحات. (¬3) المراح.

لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}. {وَقَالَ مُوسَى}: الواو: استئنافية. {قال موسى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ} إلى قوله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {إنَّكَ} ناصب واسمه {آتَيْتَ فِرْعَوْنَ} فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن أتى هنا بمعنى: أعطى. {وَمَلَأَهُ} معطوف على فرعون {زِينَةً} مفعول ثانٍ {وَأَمْوَالًا}: معطوف عليه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {آتَيْتَ} وجملة {آتَيْتَ} في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إنّ} في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {لِيُضِلُّوا}: اللام: حرف جر وعاقبة، {يضلوا}: فعل مضارع منصوب {بأن} مضمرة جوازًا بعد لام العاقبة {والواو} فاعله. {عَنْ سَبِيلِكَ}: متعلق به والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإضلالهم عن سبيلك، الجار والمجرور متعلق بـ {آتَيْتَ}. {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف كرره للتأكيد، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {اطْمِس} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى أَمْوَالِهِم} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء {وَاشْدُدْ}: فعل أمر معطوف على {اطْمِس} {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: متعلق به {فَلَا يُؤْمِنُوا} الفاء: عاطفة سببية {لا}: نافية {يُؤْمِنُوا} فعل وفاعل منصوب {بأن} مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب الدعاء، سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: وليكن شدك قلوبهم يا الله فعدم إيمانهم ويصح أن يكون قوله: {فَلَا يُؤْمِنُوا}: معطوفًا على {لِيُضِلُّوا} وما بينهما دعاء معترض، ذكره "أبو السعود". {حَتَّى}: حرف جر وغاية {يَرَوُا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى. {الْعَذَابَ}: مفعول به {الْأَلِيمَ}: صفة له والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المضمرة {أَنْ} مع صلتها في

تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى رؤيتهم العذاب الأليم الجار والمجرور متعلق بيؤمنوا. {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {قَدْ أُجِيبَتْ} إلى آخر الآية مقول محكي: وإن شئت قلت: {قَدْ}: حرف تحقيق. {أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاسْتَقِيمَا} الفاء: عاطفة {استقيما}: فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أُجِيبَت} {وَلَا تَتَّبِعَانِّ} الواو: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة {تَتَّبِعَانِّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة، والألف ضمير للمثنى المذكر المخاطب في حل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد، حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الكسر، وإنما كسرت مع أن الأصل في نون التوكيد البناء على الفتح تشبيهًا لا بنون المثنى، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَاسْتَقِيمَا} {سَبِيلَ الَّذِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} صلة الموصول. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}. {وَجَاوَزْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِبَنِي إِسْرَائِيلَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاوزنا} {الْبَحْر}: منصوب على الظرفية {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ}: فعل ومفعول وفاعل والفاء: عاطفة {وَجُنُودُهُ}: معطوف على {فِرْعَوْنُ} والجملة معطوفة على جملة {جاوزنا}. {بَغْيًا وَعَدْوًا}: مفعولان لأجله؛ أي: لأجل البغي والعدو وشروط النصب متوفرة، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال؛ أي: باغين وعادين. {حَتَّى}: حرف جر وغاية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض

بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حَتَّى}: تقديره {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} إلى قوله: آمنت وقت إدراك الغرق إياه الجار والمجرور متعلق {بأتبع}. {آمَنْتُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {آمَنْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنَّهُ}: ناصب واسمه {لَا}: نافية تعمل عمل {إنَّ}. {إِلَهَ} في محل النصب اسمها وخبر {لَا} محذوف تقديره موجود. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا} المحذوف، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر {أنّ} وجملة {أنّ} المفتوحة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: آمنت بعدم وجود إله، إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، الجار والمجرور متعلق بـ {آمَنَتْ} وقراءة كسر همزة {إنَّ} على تقدير القول؛ أي: قائلًا. {آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول. {وَأَنَا}: مبتدأ. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: خبره والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة {آمَنَتْ} على كونها مقول {قَالَ}. {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}. {آلْآنَ} في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: أتؤمن الآن، والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، والجملة المحذوفة في محل الرفع نائب فاعل لقول محذوف، تقديره: قيل له: الآن تؤمن، والجملة المحذوفة مستأنفة {وَقَدْ عَصَيْتَ} {الواو}: حالية {قد}: حرف تحقيق {عَصَيْتَ}: فعل وفاعل {قَبْلُ}: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم، لقطعه عن الإضافة، والظرف متعلق بـ {عَصَيْتَ} والجملة الفعلية في محل النصب حال

من فاعل تؤمن المحذوف، الذي تعلق به {آلْآنَ}. {وَكُنْتَ} فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْمُفْسِدِينَ} خبره والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {عصيت}. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. {فَالْيَوْمَ}: الفاء: عاطفة تفريعية {اليوم}: منصوب على الظرفية متعلق بما بعده {نُنَجِّيكَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله {بِبَدَنِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من الكاف؛ أي: ننجيك ملتبسًا ببدنك فقط، لا مع روحك، كما هو مطلوبك، فهو تخييب له وحسم لطمعه، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة أتؤمن الآن على كونها نائب فاعل للقول المحذوف، تقديره: قيل له أتؤمن الآن، فاليوم ننجيك ببدنك. {لِتَكُونَ} اللام: حرف جر وتعليل {تكون}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي واسمها ضمير يعود على {فِرعَوْنَ}. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَكُونُ} أو حال من آية لأنه صفة نكرة قدمت عليها {خَلْفَكَ}: ظرف ومضاف إليه صلة من الموصولة {آيَةً}: خبر {تَكوُنُ} وجملة {أَنْ} المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونك آية لمن خلفك، الجار والمجرور متعلق بـ {نُنَجِّيكَ} {وَإِنَّ كَثِيرًا} ناصب واسمه {مِنَ النَّاسِ} صفة لـ {كَثِيرًا} {عَنْ آيَاتِنَا}: متعلق بـ {غافلون} {لَغَافِلُونَ}: خبر {إنَّ} والجملة مستأنفة اعتراضية تذييلية لا محل لها من الإعراب. {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}. {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية. اللام: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق. {بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} فعل وفاعل ومفعول به {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {بَوَّأْنَا} وهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: مبوأً

صادقًا، ومنزلًا حسنًا، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مستأنفة {وَرَزَقْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول {مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: جار ومجرور متعلق بـ {رزقناهم} وهو في محل المفعول الثاني، والجملة معطوفة على جملة {بَوَّأْنَا} {فَمَا} الفاء: عاطفة {ما} نافية {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل معطوف على {رزقناهم} {حَتَّى}: حرف جر وغاية {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}: فعل ومفعول وفاعل في محل النصب بأن مضمرة بعد {حَتَّى} والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى مجيء العلم إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {اخْتَلَفُوا} {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {يَقْضِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب. {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {يَقْضِي}. وكذا يتعلق به {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجملة {يَقْضِي} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَقْضِي} أيضًا. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {فِيهِ}: متعلق بما بعده وجملة {يَخْتَلِفُونَ} في محل النصب خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. {فَإِنْ}: الفاء: استئنافية {إن} حرف شرط. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فِي شَكٍّ}: جار ومجرور خبر {كَانَ}. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {شَكٍّ} و {مِن} بمعنى في. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما أنزلناه إليك. {فَاسْأَلِ} الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {اسأل}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {الَّذِينَ}: مفعول أول لسأل والثاني محذوف، تقديره: عنه. {يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور حال من واو {يقرؤون}، وجملة {يقرؤون}: صلة الموصول، وجملة سأل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {لَقَدْ}

اللام: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق. {جَاءَكَ الْحَقُّ}: فعل ومفعول وفاعل {مِنْ رَبِّكَ}: حال من {الْحَقُّ} أو متعلق بـ {جاء} والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف. {فَلَا تَكُونَنَّ} الفاء: عاطفة تفريعية {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ} فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ {لا} مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {تَكُونَنَّ}: معطوفة مفرعة على جملة {جاء} على كونها جواب القسم المحذوف، فلا محل لها من الإعراب. {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. {وَلَا}: الواو: عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر {تكون} وجملة {تكون} معطوفة على جملة {تَكُونَنَّ} الأولى {كَذَّبُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {بآيات الله}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {فَتَكُونَ} الفاء: عاطفة سببية. {تكون}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: خبرها وجملة {تكون} صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن تكذيبك بآيات الله فكونك من الخاسرين. {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه {حَقَّتْ}: فعل ماض {عَلَيْهِمْ}: متعلق به {كَلِمَتُ رَبِّكَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَوْ} الواو: اعتراضية. {لو}: حرف شرط {جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}: فعل وفاعل ومفعول،

والجملة فعل شرط لـ {لو} وجواب {لو} معلوم مما قبلها، تقديره: لا يؤمنون بها، وجملة {لو} معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين الجار ومتعلقه. {حَتَّى} حرف جر وغاية. {يَرَوُا الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد {حَتَّى}. {الْأَلِيمَ} صفة للعذاب والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى: إلى، تقديره: إلى رؤيتهم العذاب الأليم الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}. {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}. {فَلَوْلَا}: الفاء: استئنافية، {لولا}: تحضيضية مضمنة معنى النفي. {كَانَتْ قَرْيَةٌ} فعل وفاعل لأن {كان} هنا تامة. {آمَنَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {قَرْيَةٌ} والجملة في محل الرفع صفة لـ {قَرْيَةٌ} وجملة {كان} مستأنفة. {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {آمَنَتْ} على كونها صفة لـ {قَرْيَةٌ} ولكنها صفة سببية. {إِلَّا} أداة استثناء {قَوْمَ يُونُسَ}: منصوب على الاستثناء. {يُونُسَ}: ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {كَشَفْنَا} فعل وفاعل. {عَنْهُمْ} متعلق به {عَذَابَ الْخِزْيِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} مستأنفة. {فِي الْحَيَاةِ} متعلق بـ {كَشَفْنَا}. {الدُّنْيَا} صفة للحياة. {وَمَتَّعْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول. {إِلَى حِينٍ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {كَشَفْنَا} على كونها جواب لما. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}. {وَلَوْ}: الواو: استئنافية. {لو}: حرف شرط {شَاءَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لو}. {لَآمَنَ} اللام: رابطة لجواب {لو}. {آمن من} فعل وفاعل، والجملة جواب {لو} الشرطية وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {فِي

الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة من الموصولة. {كُلُّهُمْ} توكيد لـ {مَن} الموصولة. {جَمِيعًا} حال منها. {أَفَأَنْتَ} الهمزة للاستفهام التأديبي داخلة على محذوف تقديره: أتحزن وتتأسف على عدم إيمانهم. الفاء: عاطفة {أنت} مبتدأ. {تُكْرِهُ النَّاسَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ذلك المحذوف. {حَتَّى يَكُونُوا} فعل ناقص واسمه. {مُؤْمِنِينَ} خبره والجملة في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى تقديره: إلى كونهم مؤمنين الجار والمجرور متعلق بتكره. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}. {وَمَا}: {الواو} استئنافية. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لِنَفْسٍ}: جار ومجرور خبر {كَانَ} مقدم. {أَنْ تُؤْمِنَ}: ناصب وفعل وفاعله ضمير يعود على النفس. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنَ} وجملة: {تُؤْمِنَ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} تقديره: وما كان الإيمان إلا بإذن الله، كائنًا لنفس، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية معطوفة على محذوف، تقديره: فيأذن الله لبعضهم في الإيمان ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَجْعَلُ}. وجملة {لَا يَعْقِلُونَ} صلة الموصول. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة مستأنفة {انْظُرُوا مَاذَا ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {انْظُرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي. {مَاذَا} {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول {انْظُرُوا} لتعليق العامل، وهو {انْظُرُوا} عنها

بالاستفهام. {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ}: معطوف عليه. {وَمَا}: الواو حالية. {ما}: نافية. {تُغْنِي الْآيَاتُ}: فعل وفاعل. {وَالنُّذُرُ}: معطوف على الآيات. {عَنْ قَوْمٍ}: متعلق بـ {تغني}. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قَوْم} والجملة الفعلية في محل النصب حال من واو {انْظُرُوا} والتقدير: انظروا، والحال أن النظر لا ينفعكم. {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}. {فَهَلْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الآيات لا تغني فيهم شيئًا، وأردت بيان عاقبتهم. فأقول لك. {هل ينتظرون}: {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري. {يَنْتَظِرُونَ}: فعل وفاعل {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ}: مفعول به، ومضاف إليه. {خَلَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول {مِنْ قَبْلِهِمْ}: متعلق بـ {خَلَوْا} وجملة {يَنْتَظِرُونَ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة مستأنفة. {فَانْتَظِرُوا ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَانْتَظِرُوا} الفاء: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا وأردت بيان ما تقول لهم فأقول لك. {انتظروا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {إِنِّي}: ناصب واسمه. {مَعَكُمْ}: متعلق بـ {الْمُنْتَظِرِينَ} {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {نُنَجِّي رُسُلَنَا} فعل ومفعول. {وَالَّذِينَ}: معطوف عليه

وفاعله ضمير يعود على الله. وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول وجملة {نُنَجِّي} معطوفة على محذوف تقديره: نهلك الأمم المكذبة لرسلنا {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} {كَذَلِكَ} كذلك صفة لمصدر محذوف، والعامل فيه ننج؛ أي: إنجاء مثل ذلك الإنجاء ننج المؤمنين. {حَقًّا}: مصدر مؤكد لفعله المحذوف، تقديره: حق ذلك الإنجاء علينا حقًّا، ووجب وجوبًا بمقتضى وعدنا {عَلَيْنَا}: متعلق بالعامل المحذوف، وجملة الفعل المحذوف معترضة، لاعتراضها بين العامل والمعمول جيء بها للتأكيد. {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {زِينَةً وَأَمْوَالًا} الزينة: الحلل والحلي والأثاث والرياش والماعون. والأموال ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك. قال ابن عباس: كان من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة، جبال فيها ذهب وفضة، وزبرجد وياقوت، اهـ كرخي. وفي "المصباح" الفسطاط بضم الفاء وكسرها: مدينة مصر قديمًا. {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} وفي "المختار" طمس الطريق، من باب دخل، وجلس، وطمسه إذا غيره، من باب ضرب، فهو متعد ولازم. وقوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: غيرها كما قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} اهـ. والطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو. ومعنى اطمس على أموالهم: أزل صورها وهيئاتها، وقال مجاهد: أهلكها. وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئاتها، ويقال: طمس الأثر وطمسته الريح، إذا زال. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسّها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. ومعنى الشد على القلوب: الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان. وفي "المختار" شده يشده، من باب نصر ويشده - من باب ضرب - شدا فيهما إذا أوثقه اهـ. والشد على القلب: الطبع عليه، وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان. {وَلَا تَتَّبِعَانِّ} بتشديد التاء من اتبع الخماسي وتخفيفها من تبع الثلاثي، يقال: تبعه إذا مشى خلفه، واتبعه إذا أدركه ولحقه. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} من جاوز

المكان إذا تخطاه وخلفه وراءه، والباء للتعدية؛ أي: جعلناهم مجاوزين البحر، بأن جعلناه يبسًا وحفظناهم حتى بلغوا الشط، اهـ "أبو السعود". ويقال: جاز المكان، وجاوزه وتجاوزه، إذا قطعه حتى خلفه وراءه. وقوله: {الْبَحْرَ}؛ أي: بحر القلزم، وهو بحر السويس. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} يقال: تبعته حتى أتبعته، إذا كان قد سبقك فلحقته. وفي "المختار" تبعه من باب طرب وسلم إذا مشى خلفه أو مر به، فمضى معه، وكذا اتبعه بوزن افتعل الخماسي، وأتبعه على وزن أفعل الرباعي، إذا كان قد سبقه فلحقه. وقال الأخفش: تبعه، وأتبعه بمعنًى مثل ردفه وأردفه اهـ. {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي: من المنقادين لأمره. {وننجيك}؛ أي: نجعلك على نجوةٍ من الأرض، والنجوة: المكان المرتفع من الأرض، وقرىء بالتشديد من نجى المضعف ينجي تنجية، وبالتخفيف من أنجى الرباعي من باب أفعل ينجي إنجاءً. {آية} والآية: العبرة والعظة {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ}؛ أي: منزلًا صالحًا مرضيًّا، وأصل الصدق: ضد الكذب، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئًا أضافوه إلى الصدق، فقالوا: مكان صدق إذا كان كاملًا في صفته، صالحًا للغرض المقصود منه، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} والشك في أصل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئًا آخر خلافه، فيتردد ويتحير {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ} لولا كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلّا، والمراد بالقرية أهلها، وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى. {عَذَابَ الْخِزْيِ} والخزي الذل والهوان. {إِلَى حِينٍ} والحين: مدة من الزمن، والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} والإذن بالشيء: الإعلام بإجازته، والرخصة فيه، ورفع الحجر عنه. {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} والرجس لغة: الشيء القبيح المستقذر، والمراد به هنا العذاب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: التكرار في قوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} تأكيدًا للأول، وتلذذًا بخطاب الله تعالى. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ لأن الشد حقيقة في ربط الأجرام بعضها إلى بعض كشد الحبال، شبه قسوة القلوب وتغليظها وعدم لينها للإيمان بشد الأجرام وربطها على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: تكرار المعنى الواحد ثلاث مرات ليقبل إيمانه في قوله: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي} إلخ، فإنه كرر إقراره بالإيمان ثلاث مرات في قوله: {آمَنْتُ} وفي قوله: {أنه} وفي قوله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}. ومنها: الاعتراض التذييلي في قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} إلخ, لأنه كلام معترض جيء به عقب الحكاية تقريرًا للكلام المحكي. ومنها: جناس الاشتقاق بين قوله: {بوأنا} و {مبوأ}. ومنها: الكناية في قوله: {كَلِمَتُ رَبِّكَ}؛ لأنه كناية عن القضاء والحكم الأزلي بالشقاوة عليهم. ومنها: التحضيض المضمن للتوبيخ والنفي في قوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {قَرْيَةٌ} من باب تسمية الحال باسم المحل لا مجاز بالحذف كما قيل. ومنها: إيلاء الاسم حرف الاستفهام في قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو، وما هو إلا هو وحده، لا يشارك فيه؛ لأنه هو القادر على أن يلقي في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان, وذلك غير مستطاع للبشر، اهـ "كرخي". ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ}؛

أي: المذكورة في قوله: {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: حكاية الأحوال الماضية في قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا}، حيث عبر بالمضارع حكايةً عن الماضي لتهويل أمرها، باستحضار صورتها، وكذلك في قوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} حيث ذكر المضارع بمعنى الماضي. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[104]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على صدقه في رسالته وصحة الدين الذي جاء به وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك .. أردف (¬1) ذلك بالأمر بإظهار دينه وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو الله الذي خلقهم وبيده تصريف أمورهم. قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما قرر دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد .. ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها. التفسير وأوجه القراءة 104 - {قُلْ} يا محمَّد لهؤلاء الذين أرسلناك إليهم، فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا ¬

_ (¬1) المراغي.

بك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الذي أنا عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته وأنه الدين الحق، الذي لا دين غيره، فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها. والتعبير عمّا هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة، للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في صحته، وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه، أو المعنى: إن كنتم في شك من ثباتي على ديني فاعلموا أني لا أتركه أبدًا، اهـ "أبو السعود". وإنما حصل (¬1) الشك لبعضهم في أمره، - صلى الله عليه وسلم -، لما رأى الآيات التي كانت تظهر على يد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فحصل له الاضطراب والشك، فقال: إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه, لأنه دين إبراهيم عليه السلام وأنتم من ذريته، وتعرفونه، ولا تشكون فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في عبادتكم لهذه الأصنام التي لا أصل لها البتة، فإن أصررتم على ما أنتم عليه {فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: فلا أعبد معكم الأوثان التي تعبدونها من دون الله تعالى في حال من الأحوال، وجواب إن كنتم .. فلا أعبد، والتقدير: فأنا لا أعبد, لأن المنفي بلا، إذا وقع جوابًا، انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء، علم أنه على إضمار المبتدأ، وكذلك لو ارتفع دون لا، كقوله: ومن عاد، فينتقم الله منه؛ أي: فهو ينتقم الله منه ذكره أبو حيان. وإنما وجب تقديم هذا النفي؛ لأن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود، فلا تليق لأخس الأشياء، وهي الحجارة التي لا تنفع لمن عبدها ولا تضر لمن تركها, ولكن تليق العبادة لمن بيده النفع والضر وهو قادر على الإماتة والإحياء، كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} ويقبض أرواحكم حين انتهاء آجالكم؛ أي: أخصه بالعبادة ولا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها. وخص (¬2) صفة المتوفي من بين الصفات، لما في ذلك من التهديد لهم؛ أي: أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولًا وعلى الإعادة ثانيًا، ولكونه أشد الأحوال مهابةً في القلوب، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[105]

ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة، فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله، بين أنه مأمور بالإيمان, فقال: {وَأُمِرْتُ}؛ أي: أمرني ربي {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من المصدقين بما جاء من عنده؛ أي: أمرني بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين. ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه، ولم يتبين لكم أنه الحق، فاسمعوا وصفه واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك، إني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم، بل أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء، وينفعهم ويضرهم إذا أراد، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد، وأن يخاف، وأن يتقى، دون من لا يقدر على شيء من ذلك، وفي ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشك فيه، وإنما ينبغي أن تشكوا فيما أنتم عليه، من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو الفطرة السليمة، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذي لب وعقل سليم، وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وبنصرهم على أعدائهم واستخلافهم في الأرض. 105 - وجملة قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} معطوفة (¬1) على جملة قوله: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر, لأن المقصود من أن الدلالة على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية؛ أي: وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أقيم وجهي للدين القيم، الذي لا عوج فيه حالة كوني {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا من الأديان الباطلة إلى الدين الحق. فحنيفًا، حال من الوجه، أو من الدين، كما سيأتي، وذلك بالتوجه إلى الله وحده في الدعاء وغيره بدون التفات إلى شيء سواه، ونحو الآية قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. فمن توجه قلبه إلى غيره ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[106]

في عبادة من العبادات، ولا سيما مخ العبادة وروحها، وهو الدعاء، فهو عابد له مشرك بالله. والمعنى: إن الله سبحانه وتعالى أمره بالاستقامة في الدين، والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال، وخص الوجه, لأنه أشرف الأعضاء أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها. ثم أكد (¬1) الأمر المتقدم بالنهي عن ضده فقال: {وَلَا تَكُونَنَّ} يا محمَّد {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والأنداد، كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين الله حجابًا من الوسطاء والأولياء والشفعاء، يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم، والحاجة تستعصي عليهم، ليقضوا لهم حاجتهم، إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين، وهذا من باب التعريض لغيره، - صلى الله عليه وسلم -. 106 - وقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} معطوف (¬2) على {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} غير داخل تحت الأمر. وقيل: معطوف على {وَلَا تَكُونَنَّ}؛ أي: ولا تدع يا محمَّد من دون الله في حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرك بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعًا ولا يدفع ضرًّا ضائع لا يفعله عاقل، على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره، فكيف إذا كان موجودًا، فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأفحش، أي (¬3): ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاشتراك، بوساطة الشفعاء ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره. {فَإِنْ فَعَلْتَ}؛ أي: فإن دعوت غيره تعالى ولكنه كنى عن القول بالفعل {فَإِنَّكَ} يا محمَّد {إِذًا}؛ أي: إذا دعوت غير الله تعالى {مِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بحرمانها من سعادة الدارين، وهذا جواب الشرط؛ أي: فإن دعوت من دون الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[107]

ما لا ينفعك ولا يضرك فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم، والمقصود من هذا الخطاب التعريض بغيره، - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى؛ أي: فإن فعلت هذا ودعوت غيره كنت في هذا الحال من الذين ظلموا أنفسهم، ولا ظلم لها أكبر من الشرك باللهِ تعالى، فدعاؤه وحده أعظم العبادات، ودعاء غيره شرك وظلم للنفس، لإضافة التصرف إلى ما لا يصدر منه، فهو وضع للشيء في غير موضعه. 107 - ثم أكد سبحانه وتعالى المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير الله؛ لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ}؛ أي: وإن يصبك الله سبحانه وتعالى أيها الإنسان {بِضُرٍّ} كمرض يصيبك، بمخالفة سننه في حفظ الصحة أو نقص في الأموال والثمرات، بأسباب لك فيها عبرة، أو ظلم يقع عليك من غيرك .. {فَلَا كَاشِفَ} ولا رافع {له}؛ أي: لذلك الضر {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، بل هو المختص بكشفه كما اختص بإنزاله، وقد جعل الله سبحانه للأشياء أسبابًا يعرفها خلقه بتجاربهم، ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها. ومعرفة خواص العقاقير التي يتداوى بها، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتي البيوت من الأبواب، ونتوجه إلى الله وحده وندعوه مخلصين له متوكلين عليه. {وَإِنْ يُرِدْكَ} ربك أيها الإنسان {بِخَيْرٍ}؛ أي: برخاء ونعمة وعافية {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}؛ أي: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى، فما شاء كان حتمًا، فلا يُرجى خير ولا نفع إلا من فضله، ولا يخاف رد ما يريده فهو {يُصِيبُ بِهِ}؛ أي: بفضله {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بكسب أو بغير كسب، وبسبب ما قدره في السنن العامة، وبغير سبب ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد، أو العامة في نظام الخلق، كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية، جهلًا أو تقصيرًا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل، وكثرة الظلم. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْغَفُورُ} لذنوب من تاب، وأناب من عباده، من كفره وشركه إلى الإيمان به، وطاعته {الرَّحِيمُ} بمن آمن به منهم، فلا يعذبه بعد التوبة، ولولا مغفرته الواسعة ورحمته العامة، لأهلك الناس جميعًا

[108]

بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}. فإن قلت (¬1): لِمَ ذكر المس في أحدهما والإرادة في الثاني. قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعًا الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا رادَّ لما يريد منهما, ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام، بأن ذكر المسَّ، وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. وجملة قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تذييلية، ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره، 108 - فقال: {قُلْ} لهم أيها الرسول مخاطبًا جميع الناس من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام، المبين لحقيقة هذا الدين، وقد أوحى به إلى رجل منكم {فَمَنِ اهْتَدَى} بالإيمان به {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} لا لغيره؛ أي: فمنفعة اهتدائه مختصة بها؛ أي: فمن (¬2) سلك سبيل الحق وصدق بما جاء من عند الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه؛ لأنه يفوز بالسعادة في دنياه ودينه، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته. {وَمَنْ ضَلَّ} بالإعراض عنه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}؛ أي: فوبال ضلاله مقصور على نفسه لا يتعداها, وليس لله حاجة في شيء من ذلك، ولا غرض يعود إليه؛ أي: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته في الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء في الدنيا وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه في الآخرة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[109]

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: بحفيظ يحفظ أموركم، وتوكل إليه، وإنما أنا بشير ونذير، أي: وما أنا بموكل من عند الله بأموركم، ولا بمسيطر عليكم فأكرهكم على الإيمان, وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان، ولا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم بشير لمن اهتدى، ونذير لمن ضل وغوى، وقد أعذر من أنذر، فلا يجب علي السعي في إيصالكم إلى الثواب. 109 - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله تعالى له ولأمته، فقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}؛ أي (¬1): واتبع أيها الرسول وحي الله الذي أنزله إليك في كتابه، واعمل به وعلمه أمتك. ثم أمره بالصبر على أذى الكفار، وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعاينه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم، وجعل ذلك الصبر ممتدًا إلى حكمه بينه وبينهم، فقال: {وَاصْبِرْ} يا محمَّد على ما يصيبك من الأذى والمكاره، وعلى ما ينالك من قومك {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}؛ أي: حتى يقضي الله بينك وبين المكذبين لك، وينجز لك ما وعدك؛ أي: حتى يحكم الله سبحانه وتعالى بينك وبينهم، في الدنيا بالنصر لك عليهم، وفي الآخرة بعذابهم بالنار، وهم يشاهدونه، - صلى الله عليه وسلم -، هو وأمته المتبعون له المؤمنون به، العاملون بما يأمرهم به، المنتهون عما ينهاهم عنه، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه، ولا يوقف على أدنى مزاياه. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: خير القاضين وأعدل الفاصلين، فهو لا يحكم إلا بالحق، وغيره قد يحكم بالباطل، إما لجهله بالحق، أو مخالفته له باتباع الهوى، وقد امتثل رسوله أمر ربه وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه، وأنجز وعده له، - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبعه من المؤمنين, فاستخلفهم في الأرض وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين. ولا يخفى ما في هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين. وأنشد (¬2) بعضهم في الصبر شعرًا فقال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

سَأَصْبِرُ حَتَّى يَعْجَزَ الصَّبْرُ عَنْ صَبْرِيْ ... وَأصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيْ أَمْرِيْ سَأصْبِرُ حَتَّى يَعْلَمَ الصَّبْرُ أنَّنِي ... صَبَرْتُ عَلَى شَيءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ الإعراب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه {النَّاسُ}: صفة لأي وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ} {إن} حرف شرط {كُنْتُمْ}؛ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فِي شَكٍّ}: جار ومجرور خبر {كاَنَ}. {مِنْ دِينِي} جار ومجرور متعلق بـ {شَكٍّ} {فَلَا} الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية {لا} نافية {أَعْبُدُ الَّذِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة. لكن حرف استدراك. {أَعْبُدُ اللَّهَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الشرطية على كونها مقولًا لـ {قُلْ} {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب صفة الجلالة. {يَتَوَفَّاكُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {وَأُمِرْتُ} فعل ونائب فاعل والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الشرطية. {أَنْ أَكُونَ} ناصب وفعل ناقص واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} خبر أكون صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المؤمنين. {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}.

{وَأَنْ}: الواو: عاطفة {أَن}: حرف نصب ومصدر. {أَقِمْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَن} المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَجْهَكَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائب فاعل لفعل محذوف، تقديره، وأوحي إليّ قيام وجهي للدين، والجملة المحذوفة في محل النصب معطوفة على جملة {أمرت} على كونها مقولًا لـ {قُلْ} {لِلدِّينِ}؛ جار ومجرور متعلق بـ {أَقِمْ} {حَنِيفًا} حال من الفاعل المستتر في {أَقِمْ} ويجوز أن يكون حالًا من المفعول، أو من {الدين} {وَلَا} {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية جازمة {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ {لا} مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} خبر {تكون} والجملة معطوفة على جملة {أَقِمْ} على كونه فاعلًا لفعل محذوف، والتقدير: وأوحي إليّ قيام وجهي للدين وعدم كوني من المشركين. {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}. {وَلَا}: الواو: عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَدْعُ} فعل مضارع جزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} كما في "أبي السعود"، ويجوز أن تكون مستأنفة كما في "السمين" {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: متعلق به {مَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول {تدع} {لَا يَنْفَعُكَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {وَلَا يَضُرُّكَ} معطوف عليه والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}. {فَإن}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت نهينا لك عن دعاء ما لا ينفع ولا يضر، وأردت بيان حكم ما إذا فعلت ذلك .. فأقول لك {إِن}: حرف شرط. {فَعَلْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها {فَإِنَّكَ} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية. {إنك} ناصب واسمه {إِذًا} حرف جواب توسطت بين اسم {إنَّ}

وخبرها ورتبتها التأخر عن الخبر، وإنما توسطت رعايةً للفواصل، اهـ "كرخي" {مِنَ الظَّالِمِينَ}: خبر إن وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. {وَإِنْ}: الواو: استئنافية. {إن} حرف شرط. {يَمْسَسْكَ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها {بِضُرٍّ}: متعلق به {فَلَا} الفاء رابطة. {لَا}: نافية تعمل عمل إن {كَاشِفَ}: في محل النصب اسمها. {لَهُ} جار ومجرور خبر {لا}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {هُوَ} ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا المحذوف، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة {إن}: حرف شرط {يُرِدْكَ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِخَيْرٍ} متعلق به {فَلَا رَادَّ} الفاء رابطة. {لا}: نافية {راد}: في محل النصب اسمها {لِفَضْلِهِ}. جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وخبر {لا} محذوف جوازًا تقديره: فلا راد لفضله موجود، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. {يُصِيبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {بِهِ} متعلق به {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يَشَاءُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ومفعول المشيئة محذوف، تقديره يشاءه، وهو عائد على {مَن} الموصولة. {مِنْ} {عِبَادِهِ} حال من الضمير المحذوف من {مَن} الموصولة وجملة {يشاء} صلة من الموصولة وجملة {يصيب} في محل النصب حال من ضمير {فضلِهِ}. {وَهُوَ}. مبتدأ {الْغَفُورُ} خبر أول {الرَّحِيمُ} خبر ثانٍ. والجملة الاسمية

معترضة تذييله. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه {النَّاسُ} صفة لأي، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ}: فعل ومفعول وفاعل {مِنْ رَبِّكُمْ}: متعلق بـ {جاء} أو حال من {الْحَقُّ} والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}. {فَمَنِ}: الفاء: حرف عطف وتفصيل. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما {اهْتَدَى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَإِنَّمَا} الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية. {إنما}: أداة حصر ونفي. {يَهْتَدِي}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {من}. {لِنَفْسِهِ}: متعلق به، وجملة {يَهْتَدِي} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {قَدْ جَاءَكُمُ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {وَمَن} {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ. {ضَلَّ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية {إنما}: أداة حصر. {يَضِلُّ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {من}. {عَلَيْهَا}: متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: حجازية أو تميمية. {أَنَا}: في محل الرفع اسمها أو مبتدأ. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {بوكيل}.

{بِوَكِيلٍ} خبر {ما} الحجازية منصوب بفتحة مقدرة، أو خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة، وجملة {ما} الحجازية أو المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة {من} الشرطية على كونها مقول القول. {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}. {وَاتَّبِعْ}: فعل أمر معطوف على {قُلْ} وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}؛ متعلق به، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها {وَاصْبِرْ}: فعل أمر معطوف على {وَاتَّبِعْ} وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {حَتَّى} حرف جر وغاية. {يَحْكُمَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى الجار والمجرور متعلق باصبر والتقدير واصبر إلى حكم الله تعالى بينك وبينهم. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}: مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب حال من الجلالة. التصريف ومفردات اللغة {فِي شَكٍّ} والشك: إدراك الطرفين على السواء، والظن: إدراك الطرف الراجح، والتوهم: إدراك الطرف المرجوح، وهو مصدر شك يشك، من باب شد، والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب، هو الشك في صحته، وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه، كما مر ذكره عن "أبي السعود". {مِنْ دِينِي} والدين لغةً: ما يتدين به الشخص، باطلًا كان، أو حقًّا، وشرعًا ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، من العقائد والأحكام. {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}؛ أي: اصرف وَوَجِّهْ وجهك؛ أي: ذاتك بكليتها للدين؛ أي: إلى الدين. {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} لعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول. {وَاصْبِرْ} والصبر: حبس النفس على الشدائد والمشقات وتجرعها.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المماثل في قوله: {فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. ومنها: إطلاق الجزء وإرادة الكل، في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}، أي: اصرف وَوَجِّهْ ذاتك. ومنها: الطباق بين {ينفعك} و {يضرك}. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} وقوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ}. ومنها: الطباق بين قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى} وقوله: {وَمَنْ ضَلَّ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين قوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. ومنها: الجناس المماثل بين {اهتدى} و {يهتدى}، وبين {ضل} و {يضل}. ومنها: الكناية في قوله: {فَإِنْ فَعَلْتَ}؛ أي: دعوت {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ لأن الفعل هنا كناية عن القول والدعاء. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة هود

سورة هود عليه السلام مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: هي مكية إلا آيةً، وهي قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ...} الآية. وقال مقاتل (¬1): هي مكية إلا قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}، وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، وقوله سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وهي: مئة وثلاث وعشرون آيةٌ، وألف وسبع مئة وخمس وعشرون كلمةً، وتسعة آلاف وخمس مئة وسبعة وستون حرفًا. وسميت السورة باسم هود لذكره فيها، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن عم أبي عاد، اهـ "بيضاوي". ومن فضائلها: ما أخرجه (¬2) الدارمي وأبو داود في "مراسيله"، وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في "الشعب" عن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقرؤوا هود يوم الجمعة". وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر، من طريق مسروق عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شيبني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتسألون، وإذا الشمس كورت". وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أنس عنه مرفوعًا بلفظ، قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب قال: "شيبتني هود وأخواتها، والواقعة، والحاقة، وعم يتسألون، وهل أتاك حديث الغاشية". قال بعض العلماء (¬3): سبب شيبة - صلى الله عليه وسلم - من هذه السور المذكورة في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

الحديث، لما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار، وما فعل بالأمم السابقة، والله أعلم بمراده - صلى الله عليه وسلم -. الناسخ والمنسوخ: وقال (¬1) أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة هود فيها من المنسوخ ثلاث آيات: أولاهن: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآية (15) نسخت بقوله تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الآية (18). الآية الثانية: قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} الآية (121) نسخت بآية السيف. الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)} الآية (122) منسوخة بآية السيف أيضًا. المناسبة: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬2): أنها تضمنت ما تضمنته سورة يونس، من أصول الإِسلام، وهي التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء. وفصل فيها ما أجمل في سابقتها، من قصص الرسل عليهم السلام، وهي مناسبة لها في فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة في أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد {الر} وذكر رسالة النبي، المبلغ عن ربه، وبيان أنَّ وظيفة الرسول إنما هي التبشير والإنذار، وفي أثنائهما ذكر التحدِّي بالقرآن والرد على الذين زعموا، أن الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، قد افتراه ومحاجة المشركين في أصول الدين، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمر الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، في الأولى بالصبر، حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفي الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى، مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه. وعلى الجملة فقد أجمل في كل منهما، ما فصل في الأخرى، مع فوائد انفردت بها كل منهما، فقد ¬

_ (¬1) كتاب الناسخ والمنسوخ. (¬2) المراغي.

اتفقتا موضوعًا في الأكثر واختلفتا نظمًا وأسلوبًا، مما لا مجال للشك في أنهما من كلام الرحمن، الذي علم الإنسان البيان. والله أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}. المناسبة قوله تعالى في سورة هود: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم إن أعرضوا، حاق بهم عذاب يوم كبير .. بين في هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل. أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ...} سبب نزولها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: كان أناس يستحيون أن ينخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الر} قيل: إنها حروف مقطعة من أوائل الأسماء، فمعناها: أنا الله الرحمن، وقيل: إنها اسم للسورة، وقيل (¬1): إنها حرف تنبيه، كألا، وتقرأ (¬2) كأسمائها ساكنةً فيقال: {ألف لام راء} وقيل معناه: أنا الله أرى. والراجح الأسلم من الأقوال الجارية في أمثال هذه، تفويض علمها إلى الله تعالى. هذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

القرآن {كِتَابٌ} عظيم الشأن جليل القدر {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي (¬1): صارت آياته محكمة متقنةً لا نقص فيها ولا نقض لها، كالبناء المحكم من الإحكام، أي: الإتقان ففعله متعد، والمعنى أتقنت آياته لفظًا ومعنى، فلا يحيط بمعنى آيات القرآن غيره تعالى ولم يوجد تركيب بديع الصنع، عديم النظير، نظير القرآن. وقيل معناه: إنها لم تنسخ، بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ. وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. وقيل: أحكمت جملته ثم فصلت آياته. وقيل: {أُحْكِمَتْ} وجمعت في اللوح المحفوظ {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوحي. وقيل: أحكمها الله تعالى، فليس فيها تناقض، ثم فصلها وبينها. وقيل: أحكمت آياته لفظًا ونظمت نظمًا رائقًا بليغًا، ثم فصلت معنى، وبينت وفسرت. فإن قلت (¬2): كيف عم الآيات هنا بالإحكام، وخص بعضها بالإحكام في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}؟ قلتُ: إن الأحكام الذي عم به هنا، غير الذي خص به هناك، فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد، كإحكام البناء، فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه. والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} أن بعض آياته منسوخة؛ نسخها بآيات منه أيضًا لم ينسخها غيره. وقيل: أحكمت آياته؛ أي: معظم آياته محكمة، وإن كان قد دخل النسخ على البعض، فأجري الكل على البعض؛ لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامه، تقول: أكلت طعام زيد، وإنما أكلت بعضه. والتراخي المستفاد من {ثُمَّ} إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم بحسب النزول؛ لأنها أحكمت أولًا حين نزلت جملة واحدة، ثم فصلت ثانيًا على حسب المصالح والوقائع، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[2]

قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى ثُمَّ؟ قلتُ: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن معناها التراخي في الأخبار، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، انتهى. يعني: إن ثم جاءت لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع في الزمان، والمعنى: أخبرنا الله بأن القرآن محكم أحسن الأحكام، مفصل أحسن التفصيل. وقرأ (¬1) عكرمة والضحاك والجحدري وزيد بن علي وابن كثير في رواية: {ثم فصلت} بفتحتين خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب "اللوامح": يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية فصلت بين المحق والمبطل من الناس. قال الزمخشري وقرىء {أحكمت آياته ثم فصلت}، على بناء الفعل للمتكلم المعلوم؛ أي: أحكمتها أنا ثم فصلتها. وقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} لف ونشر مرتب؛ أي: كتاب أحكمت آياته من عند حكيم في جميع أفعاله، ثم فصلت من عند خبير بأحوال عباده وما يصلحهم، عالم بمواقع الأمور، والمعنى: أحكمها حكيم وفصلها خبير؛ أي: شرحها وبينها. ومعنى الآية (¬2): أي هذا كتاب عظيم الشأن، جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، واضحة المعاني، لا تقبل شكًّا ولا تأويلًا ولا تبديلًا، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل، وجعلت فصولا متفرقة في سورة تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ، وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصل بالفرائد، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده، ويعطيهم ما فيه الخير لهم، خبير بعواقب ذلك ومصادره وموارده. 2 - والأحسن (¬3) في قوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} أن تكون أن تفسيرية لوجود ضابطها، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهو قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} ويصح أن تكون مصدرية بتقدير الجار؛ أي: هذا كتاب أحكمت آياته وفصلت بأن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[3]

لا تعبدوا إلا الله؛ أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له. والمراد بالعبادة، التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته، والدخول في دين الإِسلام وهذا كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}. وقل يا محمَّد للناس {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ}؛ أي: من جهة الحكيم الخبير {نَذِيرٌ}؛ أي: بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى {وَبَشِيرٌ} بثوابه إن تمحضتم في عبادته؛ أي: قل لهم إنني لكم نذير من جهة الله تعالى، أنذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه {وَبَشِيرٌ} منه أبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده، وهذا بيان لوظيفة الرسالة، ومبين لدعوة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -. 3 - وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} معطوف على {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} والكلام في {أَن} هذه كالكلام في التي قبلها. وقوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} معطوف على {اسْتَغْفِرُوا} وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها؛ أي: اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك، ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص: لأن الاستغفار هو طلب الغفر، وهو الستر، والتوبة: الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك، فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة. وقيل معناه: استغفروا لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل. وقيل: استغفروا في الصغائر ثم توبوا إليه في الكبائر. وقال الفراء: ثم هنا بمعنى الواو؛ لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد. والمعنى (¬1): واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون غيره، مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان. فإن فعلتم ذلك، واستغفرتم من كل ذنب، وتبتم من الإعراض عن هدايته، وتنكب سننه .. {يُمَتِّعْكُمْ} في دنياكم {مَتَاعًا حَسَنًا}؛ أي: يطول نفعكم في الدنيا ¬

_ (¬1) المراغي.

بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق وسعة العيش، فيرزقكم من زينة الدنيا، وينسأ لكم في آجالكم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت، وهو العمر المقدر لكم في علمه المكتوب في نظام الخليقة، وسنن الاجتماع البشري في عباده، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال، ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي. وهذه (¬1) سنة مطردة في ذنوب الأمم، وهي فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصر على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها. ومعنى {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}؛ أي: يعشكم (¬2) عيشًا مرضيًّا إلى وقت مقدر عند الله تعالى، وهو آخر أعماركم، فمن أخلص لله في القول والعمل .. عاش في أمنٍ من العذاب وراحةٍ مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله .. كان انقطاعه عن الخلق أكمل، وسروره أتم؛ لأنه أمن من زوال محبوبه، ومن كان مشتغلًا بحب غير الله .. كان أبدًا في ألم الخوف من فوات المحبوب. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن {يمتعكم} بالتخفيف من أمتع. {وَيُؤْتِ}؛ أي: يعط في الدنيا والآخرة {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الإِسلام والطاعة {فَضْلَهُ}؛ أي: ثواب فضله وجزاءه؛ أي: وإن (¬3) تجتنبوا الشرك، وتؤمنوا بالله وتستغفروه .. يمتعكم متاعًا حسنًا، تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله، أما في الآخرة فهو مطرد دائمًا، وأما في الدنيا فقد يكون ناقصًا مشوبًا بأكدارٍ، ولا يكون مطردًا لقصر أعمار الأفراد. فإن قلت (¬4): قد ورد في الحديث، أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله، فكيف الجمع بين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي. (¬4) الخازن.

[4]

مُسَمًّى}. قلتُ: أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن المؤمن" فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم، فإنه في سجن في الدنيا، حتى يفضي إلى ذلك المعد له، وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم، الذي لا ينقطع، فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة. وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات، فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات، فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشةٍ حسنة, لأنه راضٍ عن الله في جميع أحواله. ثم توعدهم سبحانه على مخالفة الأمر فقال: {وَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: وإن تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بموجب الشفقة {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}؛ أي: شديد عذابه، وهو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير يوم بدر. والمعنى: وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه، من عبادة الله وحده، وعدم عبادة غيره فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم، وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو قريب منه بعد الرسول والمؤمنين. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو مجلز وأبو رجاء {وَإِنْ تَوَلَّوْا} بضم التاء واللام وفتح الواو مضارع ولّى. والقراءة الأولى مضارع تولّى. وفي كتاب "اللوامح": وقرأ اليماني وعيسى البصري: {وإن تولوا} بثلاث ضمات مبنيًّا للمفعول. وقرأ الأعرج: {تولوا} بضم التاء واللام وسكون الواو مضارع أولى. 4 - ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم بالموت ثم البعث ثم الجزاء {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}، ومن جملة ذلك تعذيبكم على عدم الامتثال؛ أي (¬1): إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

جميعًا أممًا وأفرادًا، لا يتخلف منكم أحد، وحينئذٍ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس، وهو سبحانه قدير على كل شيء، من إيصال الرزق إليكم في الدنيا، وثوابكم وعقابكم في الآخرة، وهذه الجملة مقررة لما قبلها. 5 - ثم أخبر (¬1) الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجح فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدرًا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه: {أَلاَ}؛ أي: انتبه يا محمَّد {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن هؤلاء الكفار الكارهين لدعوة التوحيد {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}؛ أي: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما هو دأب المنافقين {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}؛ أي: ليختفوا من الله سبحانه وتعالى فلا يطلع عليه رسوله ولا المؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ثم كرر كلمة التنبيه مبينًا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ}؛ أي: انتبه يا محمَّد إنهم يستخفون منه في وقت استغشاء الثياب والتغطية بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمَّد .. فمن يعلم بنا. وقيل معنى: حين يستغشون: حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون ثيابهم. وقيل: إنه حقيقة، وذلك إن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. والعامل في قوله: {حِينَ يَسْتَغْشُونَ} مقدر وهو يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفًا ليعلم؛ أي: ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح ذكره في "الفتوحات"؛ أي: تنبه (¬2) يا محمَّد إن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء. عن ابن عباس إن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه، من منافقي مكة، وكان رجلًا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، المحبة، ويضمر في قلبه العداوة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

ومعنى الآية (¬1): أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رؤوسهم، كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن، ليستخفوا منه، - صلى الله عليه وسلم -، حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رؤوسهم. روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، ثنى صدره كيلا يراه أحد. وجملة {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله تعالى يعلم ما يسرونه في قلوبهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه بأفواههم، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان. وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لما قبلها وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور. وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإظهار والإسرار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك. والأوضح كما مر، أن يكون الظرف متعلقًا بـ {يَعْلَمُ}؛ أي (¬2): إن ثني صدورهم وتنكيس رؤوسهم، ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، لا يغني عنهم شيئًا، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلًا، حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم، ثم ما يلعنون نهارًا، إنه سبحانه وتعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صدوركم الشك في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه. وقرأ الجمهور (¬3): {يَثْنوُنَ} بفتح الياء وضم النون، من ثنى يثني من باب رمى. وقرأ سعيد بن جبير: {يثنون} بضم الياء، مضارع أثنى الرباعي {صُدُورَهُم} بالنصب ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للإثناء، كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه، زيد ومحمد، وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن أبزى والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو الأسود الدؤلي وأبو رزين والضحاك؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط والعكبري.

{تثنوني} بالتاء، مضارع اثنوني، على وزن افعوعل نحو: اعشوشب المكان صدورهم، بالرفع بمعنى: تنطوي صدورهم. وقرأ أيضًا ابن عباس ومجاهد وابن يعمر وابن أبي إسحاق: {يثنوني} بالياء، {صدورهم} بالرفع ذكر على معنى الجمع دون الجماعة. وقرأ ابن عباس أيضًا: {ليثنون} بلام التأكيد في خبر إن وحذف الياء تخفيفًا لطول الكلمة، {وصدورهم} بالرفع. وقرأ ابن عباس أيضًا وعروة وابن أبي أبزى والأعشى {يثنون} بياء مفتوحة وسكون الثاء ونون مفتوحة، بوزن يفعوعل من أأثن بني منه افعوعل، وهو ماهش وضعف من الكلأ، وأصله يثنونن، يريد: مطاوعة نفوسهم للشيء كما ينثني الهش من النبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم، {صدورهم} بالرفع. وقرأ عروة ومجاهد أيضًا كذلك إلا أنه همز فقرأ: {يثنئن} بوزن يطمئن، {وصدورهم} بالرفع. وقرأ الأعشى؛ {يثنؤن} بوزن يفعلون مهموز اللام، {صدورهم} بالنصب. قال صاحب "اللوامح": ولا أعرف له وجهًا؛ لأنه يقال: ثنيت، ولم أسمع ثنأت، ويجوز أنه قلب الياء ألفًا، على لغة من يقول أعطأت في أعطيت، ثم همز على لغة من يقول ولا الضألين. وقرأ ابن عباس: {يثنوي} بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوى. قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلط لا تتجه، انتهى. وقرأ نصر بن عاصم وابن يعمر وابن أبي إسحاق: {ينثون} بتقديم النون على الثاء، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة. وقرأ ابن عباس: {على حين يستغشون}. قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة: عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ اَلْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازعُ؟! الإعراب {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}. {الر}: إن كان مسرودًا على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور .. فلا محل له، وإن كان اسمًا للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ، خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الآتي سورة الر، وعلة بنائه شبهه بالحرف شبهًا وضعيًّا و {كِتَابٌ} يكون على هذا الوجه خبرًا لمبتدأ محذوف،

أي: هذا كتاب وكذا على تقدير أن {الر} لا محل له. ويجوز أن يكون {الر} في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام، نحو: اذكر أو اقرأ فيكون {كِتَابٌ} على هذا الوجه خبر مبتدإِ محذوف، تقديره: هذا كتاب والإشارة في المبتدأ المقدر، إما إلى بعض القرآن، أو إلى مجموع القرآن، والجملة من المبتدأ المقدر وخبره مستأنفة. {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {كِتَابٌ}. {ثم} حرف عطف. {فُصِّلَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {آيَاتُهُ} والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {أُحْكِمَتْ} على كونها صفة لـ {كِتَابٌ}. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {فُصِّلَتْ} أو هو من باب التنازع، أو صفة ثانية لـ {كِتَابٌ} أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف. {خَبِيرٍ} صفة {حَكِيمٍ}. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}. {أَن}: مصدرية. {لَّا} ناهية {تَعْبُدُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَّا} الناهية. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {اللَّهَ}: مفعول به منصوب، والجملة الفعلية في محل النصب بـ {أَن} المصدرية وجملة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فصلت آياته لترك عبادة غير الله تعالى، أو فصلت بترك عبادة غير الله، ويجوز أن تكون {أَن} تفسيرية؛ لأن في تفصيل الكتاب معنى القول، فكأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا، إلخ وهذا أظهر الأوجه الجارية فيها؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار ذكره في "الفتوحات" {إِنَّنِي} {إنَّ} حرف نصب والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي حركة بناء الحرف والياء ضمير المتكلم اسمها. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بكل من {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {مِنْهُ}: جار ومجرور حال منهما؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {نَذِيرٌ} خبر {إنَّ}. {وَبَشِيرٌ} معطوف عليه وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}.

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} عطف علة على أخرى. {ثُمَّ تُوبُوا} فعل وفاعل معطوف على {اسْتَغْفِرُوا} فهو علة ثالثة. {إِلَيْهِ}: متعلق به {ثُمَّ} هنا على بابها من التراخي؛ لأنه يستغفر أولًا، ثم يتوب ويرجع إلى طاعته، ويتجرد من ذلك الذنب المستغفر منه {يُمَتِّعْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {مَتَاعًا} منصوب على المفعولية المطلقة. {حَسَنًا}: صفة له وهذا مرتب على قوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا} والجملة الفعلية جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {يمتع} {وَيُؤْتِ}: فعل مضارع معطوف على {يمتع} وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ} وهذا مرتب على قوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} كما في "الجمل". {كُلَّ ذِي فَضْلٍ}: مفعول أول، ومضاف إليه. {فَضْلَهُ}: مفعول ثانٍ, لأن آتى هنا بمعنى: أعطى. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} {الواو}: استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَوَلَّوْا}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية؛ لأن أصله تتولوا بتاءين، والواو فاعله. {فَإِنِّي} الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {إِنِّي} ناصب واسمه {أَخَافُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {عَذَابَ يَوْمٍ}: مفعول به، ومضاف إليه. {كبَير} صفة لـ {يَوْمٍ} وقيل: صفة لـ {عَذَابَ} فهو منصوب، وإنما خفض على الجوار، كقولهم: هذا جحر ضب خرب، بجر خرب، وهو صفة لجحر، اهـ "سمين". وجملة {أَخَافُ} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. {وَهُوَ} مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ والجملة في محل النصب حال من الجلالة، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الخبر. {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ

وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}. {أَلَاَ}: حرف تنبيه {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، وجملة {يَثْنُونَ} في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إن} مستأنفة {لِيَسْتَخْفُوا} اللام: حرف جر وتعليل {يستخفوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} مضمرة جوازًا بعد لام كي. {مِنْهُ} متعلق به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لاستخفائهم منه الجار والمجرور متعلق بـ {يَثْنُونَ}. {ألاَ}: حرف تنبيه كررت للتأكيد. {حِينَ} منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {يستخفوا} أو متعلق بـ {يَعْلَمُ} الآتي، وهو أوضح كما مر {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ} {يَعْلَمُ مَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه} والجملة مستأنفة. {يُسِرُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يعلم ما يسرونه. {وَمَا يُعْلِنُونَ}: معطوف على {مَا يُسِرُّونَ}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه {عَلِيمٌ} خبره {بِذَاتِ} {الصُّدُور} متعلق بعليم وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ماض مبني للمجهول، من أحكم الرباعي يحكم إحكامًا، إذا أتقنه، وإحكام البناء كالقصر والحصن: إتقانه حتى لا يقع فيه خلل. {ثُمَّ فُصِّلَتْ} مبني للمجهول أيضًا، من فصّل المضعف، يفصل تفصيلًا، وتفصيل العقد بالفرائد: جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر، وفي "السمين" قوله: {أُحْكِمَتْ} الهمزة فيه يجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف؛ أي: صار حكيمًا بمعنى: جعلت حكيمة كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ويجوز أن يكون من قولهم: أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لمنعها من الجماح، فالمعنى: إنها منعت من الفساد، ويجوز أن تكون لغير النقل من الإحكام، وهو الإتقان، كالبناء المحكم المرصف والمعنى: إنها نظمت نظمًا رصيفًا متقنًا، اهـ.

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} {أَلَّا} هذه (¬1) تكتب موصولة: أي: لا يفصل بين الألف ولا النافية بالنون، كما ذكره ابن الجزري، فصنيع الشارح السيوطي معترض حيث أنه أثبت نونًا حمراء، حيث قال: أن فأثبت الألف والنون بالحمرة، فيقتضي أن النون من رسم القرآن، فكان عليه أن يقول: {ألا} بقلم الحمرة ثم يقول؛ أي: بأن لا بإثبات النون في التفسير. وعبارة ابن الجزري مع شرحها لشيخ الإِسلام: فاقطع بعشر كلمات يعني فاقطع كلمة {أَن} الناصبة للاسم أو للفعل، بأن ترسمها مقطوعة عن لا النافية في عشرة مواضع وهي: {أَن لَّا} مع ملجأ في سورة التوبة و {أن لا إله إلا هو} في سورة هود و {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} في الموضع الثاني من سورة هود، بخلافه في أولها وهو ما هنا فإنه موصول، اهـ. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} والظاهر أن {تَوَلَّوْا} مضارع حذف منه التاء أي: وإن تتولوا؛ لأنه من باب، تفعل الخماسي. {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} مضارع، متع المضعف يمتع تمتيعًا إذا أنعم، والمتاع اسم مصدر لمتع، والمتاع كل ما ينتفع به في المعيشة، وحاجة البيوت ومواعينه، والإمتاع أصله: الإطالة ومنه: أمتع الله بك؛ أي: يعيشكم معيشة طيبة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} والأجل المسمى: هو العمر المقدر {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} من آتى الرباعي يؤتي إئتاءً، إذا أعطى، فهو يتعدى إلى مفعولين. {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} والمرجع مصدر ميمي؛ من رجع فهو بمعنى الرجوع {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ثنى الشيء: عطف بعضه على بعض، فطواه وإثناء الثوب إطواؤه، وثناه عنه: لواه وحوله؛ وثناه عليه: أطبقه وطواه، ليخفيه فيه، وثنى عنانه عنّي: تحول وأعرض، وأصل {يَثْنُونَ} يثنيون (¬2)؛ لأنه من ثنى يثني ثنيًا من باب رمى يرمي رميًا، فالمصدر الثني نقلت ضمة الياء إلى النون قبلها، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فوزنه يفعون كيرمون؛ لأن الياء المحذوفة هي لام الكلمة. {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} والاستخفاء محاولة الخفاء، والمعنى: أنهم يفعلون ثني الصدر لهذه العلة، اهـ "سمين". {حِينَ يَسْتَغْشُونَ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

ثِيَابَهُمْ} واستغشى الثوب: إذا تغطى به، كما قال حكايةً عن نوح، عليه السلام: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} والمعنى: يتغطون بها للاستخفاء. وفي "القاموس": واستغشى ثوبه: تغطى به كي لا يسمع ولا يرى. البلاغة تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة: منها: جناس الاشتقاق بين قوله: {أُحْكِمَتْ} وقوله: {حَكِيمٍ}. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}؛ لأن المعنى أحكمها وفصلها خبير، كما في "الشوكاني". ومنها: الكناية في قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}؛ لأن ثني الصدور كناية عن الإعراض. ومنها: إضافة العذاب إلى اليوم الكبير للتهويل والتفظيع. ومنها: الطباق بين {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) انتهى المجلد الثاني عشر ويليه المجلد الثالث عشر بإذن الله تعالى.

شعر العَبْدُ ذُو ضجَرٍ والربُّ ذُو قدَرٍ ... والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والعِلْمُ مَقْسُوم والخَيْرُ أجْمعُ فيما اخْتار خالِقُنَا ... وفي اختيار سواه اللُّومُ والشُّوم آخر فَلَيْتَكَ تَحْلُو والحياةُ مَرِيْرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وبَيْني وبَيْنَ العَالَمِين خَرَابُ آخر فَزادِي قَلِيلٌ ما أُراه مُبلِّغي ... على الزادِ أبكي أم لِبُعْدِ مَسافَتي أتَيْتُ بأعمالٍ قِبَاحٍ رَدِيئَةٍ ... وَمَا في الوَرى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايتي

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [13]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ جَزَى اللَّة خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ وَأصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ آخرُ الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ ... وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ آخرُ وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ ... وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَرَا يَا مَنْ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهْ ... طُوْبَى لمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْرًا لِغَدِهْ أُطْلُبُوْا الأرْزَاقَ مِنْ أَسْبَابِهَا ... أُدْخُلُوْا الأَبْيَاتَ مِنْ أَبْوَابِهَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، ما سطرت الأقلام وتعاقبت الأيام والليالي. أمَّا بعد: فلما فرغنا من تفسير الجزء الحادي عشر .. أخذنا في تفسير الجزء الثاني عشر مستمدًا منه الهداية وكل التوفيق في تفسير كتابه لأقوم الطريق، وها أنا أقول: وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ

{يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (¬1) لما بيَّنَ في الآيات السالفة شمولَ قدرته تعالى لكلِّ شيء، وإحاطةَ علمه بما يسرُّون وما يعلنون، وبما في الصدور .. أردفَ ذلك بذكر ما يهم الناسَ من آثار قدرته، ومتعلَّقاتِ علمه، وهوَ ما يتعلَّق بحياتهم، وشؤونهم المختلفة، ثمَّ بذِكْر خَلْقِهِ للعالَمِ كلِّه، ومكانِ عرشه قبلَ هذا من ملكه وبلاءِ البشر بذلك، لِيظهِرَ أيّهم أحسنُ عَمَلًا، ثم بعثه إيَّاهُم بعد الموت لينالوا جزاءَ أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك، وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به، مع بيانِ أنه واقع بهم لا محالةَ، إنْ أصرُّوا على كفرهم. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) ما يدل على كونه تعالى عالمًا .. ذَكَرَ ما يدل على كونه تَعالى قَادِرًا. قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قَبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬3) أنَّ عذابَ الكفار، وإن تأخَّرَ لا بدَّ أن يحيقَ بهم .. ذكَرَ ما يدلُّ على كفرهم، وكونهم مستحقينَ العذابَ، لِمَا جبلوا عليه من كفر نعماءِ الله وما يترتبُ على إحسانه تعالى إليهم مما لا يلِيقُ بهم من فخرِهم على عباد الله تعالى. وعبارةُ المراغي: مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى: لَمَّا ذَكَرَ (¬4) أنه خَلَق السمواتِ والأرضَ ليبلو الإنسانَ أيشكرُ أم يكفرُ .. قَفى على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) و (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

ذلك بذكر طبيعة الإنسان في ذلك، وهي: أنه إذا أصابته نعماء، ثم نزعت منه، قَنَطَ من روح الله, وكفر بها، وإذا أَذاقه نِعْمَةً بعد بؤس، بَطرَ وفَخَرَ، هكذا شأن الإنسان، إلا من صبرَ، وشكر، وعمِلَ صالحًا. قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ...} الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ في بَدْءِ السورة قولهم في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} وأنهم {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} كي لا يسمعوه .. أردفَ ذلك بذكر تكذيبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، وبيان أنَّ همه وحزنَه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كلامهم، قد بلغ كل مبلَغ، ثمَّ أعقبَه بتحديه لهم بالقرآن، كي يأتوا بعشر سور مثله، حتَّى إذا ما عجزوا، عُلِمَ أنَّه وحيٌ من عند الله تعالى. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنها لا تتعلق أطماعُهم بأن يَتْرُك بعضَ ما يوحي إليه، إلا لدَعْوَاهم أنه ليس من عند الله، وأنه الذي افتراه، وإنَّما تَحدَّاهم أولًا بعشر سور مفتريَاتٍ قبل تحديهم بسورة؛ إذْ كانَت هذه السورة مكيةً، والبقرة مدنيةً، وسورةُ يونسَ أيضًا مكيةً، ومقتضى التحدي بعشر: أن يكونَ قبل طلب المعارضَةِ بسورة، فلَمَّا نسبوه إلى الافتراء طلبَ منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفترياتٍ إرخاء لعنانهم، وكأنه يقول: هبوا أنِّي اختلقته، ولم يوحَ إلَيَّ فأتوا أنتم بكلام مثلِهِ مختلَق من عند أنفسكم، فأنتم عَرَبٌ فصحاء مثلي، لا تَعجزُون عن مثلِ ما أقدِر عليه من الكلام. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر شيئًا من أحوال المنافقينَ في القرآن .. ذَكَرَ شيئًا من أحوالهم الدنيوية، وما يؤولون إليه في الآخرة. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[6]

أقام الحجة على حَقِّيَةِ دعوة الإِسلام، وعلى أنَّ القرآنَ من عند الله، وليس بالمفترَى من عند محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما يدعيه المشركون .. أَرْدف ذَلِك ببيَانِ أنَّ البَاعِثَ لهم على المعارضة، والتكذيب، ليس إلا شهواتُهم، وحظوظُهم الدنيوية، والإِسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى. قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لِمَا قبلَها: أنَّ اللَّهَ سبحانَه وتعالى لما ذكر (¬1) مآلَ مَنْ كانَ يريد الدنيا وزينتها, ولا يهتم بالآخرَةِ وأعمالِها .. أردَفَ ذلِكَ بذكر مَنْ كَانَ يريد الآخرةَ، ويعمل لها، وكان على بينة من ربه في كلِّ ما يعملُ، ومعه شاهِدٌ يدل على صدقه، وهو القرآن، ومآل من أنكر صِحَّتَه، وكفرَ بِه. وعبارة أبي حيان: مناسبةُ هذه الآية لما قبلَها: أنه تعالى لما ذكر حال مَن يريد الحياةَ الدنيا .. ذَكَرَ حَالَ من يريد وجهَ الله تعالى بأعماله الصالحة. التفسير وأوجه القراءة 6 - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ}، أي: وما دابة، من أي نوع من أنواع الدوابِّ في الأرض {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وغذاؤها الذي تحتاج إليه اللائق بها على اختلاف أنواعها، تفضلًا منه، وإحسانًا، وإنما جيء به على طريق الوجوب، كما تشعر به كلمة: {عَلَى} اعتبارًا بِسَبْقِ الوعد به منه، وتحقيقًا لوصوله، وحملًا على التوكل فيه، وقيل: {عَلَى} بمعنى: من؛ أي: من الله رزقُها, لا فرق (¬2) في ذلك بَيْنَ الجِنَة - المكروبات - التي لا ترى بالأبصار، وبين ضِخَامِ الأجسام، والوسطى بَيْنَ هذه وتلكَ، وقد أعطى كلًّا خلقَهُ المناسبَ لمعيشته إلى تحصيل غِذَائِهِ بالغريزة، والفطرة، ولله تَعالى حِكَمٌ في خلق كل نوع منها، فإنْ خفيَ علينَا أمرُ خلق الحيات والسنانير ونحوها فلَنَا أن نَقولَ مثلًا: إنه لولاها لَضَاقَت الأَرض بكثرةِ أحيائها أو لأنتنت من كثرة أمواتها. ¬

_ (¬1) و (¬2) المراغي.

ومعنى كفالته تعالى لرِزْقِها أنه سخَّره لها، وهدَاها إلى طلبه، وتحصيله كما قال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقد عُلِمَ بنصوص القرآن، وسُنَنِ الله في الخلقَ وأسبابِ الرزق، أنَّ مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضَى سُنَنِهِ في ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمةِ في ذلك، إلَّا أنه يأتيها بمحض قدرتهِ، سواء طلبته أمْ لا. و {مِن} زائدة للتأكيد، والدابَّةُ كُلَّ حيوان يَدِبُّ في الأرض. رُوي (¬1) أن موسى عليه السلام تَعَلَّق قلبُه بأحوال أهله، فأمرَه الله تعالى أن يضرب بعصاه علَى صخرة، فانشقَّتْ وخرَجَت صخرةٌ ثمَّ ضَرَبَ بعصاه عليها، فانشقت وخرجَت صخرةٌ ثانية، ثُمَّ ضَرَبَ بعصاه عليهَا فانْشَقَّتْ وخرجت صخرةٌ ثالثةٌ ثُمَّ ضَرَبها بعصاه فانشقت فخَرَجَتْ منها دُودةٌ كالذَّرَّةِ، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها, ورفع الله الحجابَ عن سمع موسى عليه السلام فسَمِعَ الدودةَ تقولُ: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، وَيذْكرُني ولا ينساني. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}؛ أي: محلَّ استقرارها في الأرض، أو محل قرَارِها في الأصلاب {وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: موضِعَها في الأرحام، وما يَجْرِي مَجْرَاها كالبيضة ونحوها، وقال الفراء: {مُسْتَقَرَّهَا} حيث تأوي إليه ليلًا ونهارًا، {ومستودعها} موضِعَها الذي تموت فيه. ووجه تقدُّمِ المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهرٌ (¬2)؛ وأما على القول الأول، فلعلَّ وجهَ ذلك أنَّ المستقرَّ أنْسَبُ باعتبار ما هي عليه حالَ كونها دابةً. والمعنى (¬3): وما من دابة في الأرض إلا يَرْزقُها اللهُ حيث كَانت من أَماكنها بعد كونها دابةً، وقبل كونها دابةً، وذلك حيثُ تكون في الرحم، ونحوه، ثم خَتَمَ الآية بقوله: {كُلٌّ}؛ أي: كُلٌّ من الدواب وأرزاقها، ومستقَرّها، ومستودعِها ثابتٌ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني.

[7]

مَرْقُومٌ {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: في لوح محفوظ، كَتَبَ الله تعالى فيه مقاديرَ الخَلْقِ كلِّها؛ أي: كلَّ ذلك مذكور في اللوح المحفوظ قبلَ خلقِها، وثابتٌ في عِلْم الله تعالى. وكأنه أريد بهده الآية ببيان كونه عالمًا بالمعلومات كلها (¬1)، وبما بعدَها بيانُ كونه قادرًا على الممكنات بأسرها، تقريرًا للتوحيد، ولما سبَقَ من الوعد والوعيد، 7 - ثُمَّ أكَّدَ دلائلَ قدرته بالتعرض لذِكْر خلق السموات والأرض، وكيف كان الحالُ قبلها، فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإلهُ {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وأنشأهما على غير مثال سبق، أي: خلقهما وما فيهما {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الله في الخلق والتكوين، وما شاء من الأطوار، لا مِنْ أيَّامِنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق، لا قَبْلَه، فلا يصح أنْ تُقدَّر أيامُ الله بأيامِنا المعروفَةِ، وهي المقابلة للَّيالي؛ لأنه لم يكُنْ حينئذ لا أرْضٌ ولا سماء، ويؤيِّد هذا قَوْلُه تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}. وكانَ خَلْقُ السموات في يومين والأرضين في يومين، وما عليهما من أنواع الحيوان، والنبات، والجماد في يومين، كما سيأتي في {حم (1)} السجدة. {وَكَانَ عَرْشُهُ} سبحانَه وتعالى؛ أي: كَانَ عَرْشُه قبل خَلْقِهما {عَلَى الْمَاءِ} الذي تحت الأرضين السبع، لم يكن حائل بَيْنَهُما، لا أنه كان موضوعًا على مَتْن الماءِ، بَل هُو في مكانه الذي كان فيه الآن، وهو ما فوقَ السمواتِ السبع، والماءُ في المكان الذي هو فيه الآن، وهو ما تَحْتَ الأرضينَ السبع، وفيه بيانُ تقدم خَلْقِ العرش والماء على السموات والأرضين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كان الله، وما كان معه شيءٌ ثُمَّ كان عَرْشه على الماء"؛ أي: والعرش الذي هو أعظمُ المخلوقات قد أمْسَكَهُ الله تعالى فَوْقَ سبع سموات من غير دِعامةٍ تحته، ولا عِلاقة فوقه، وذلك يَدُلُّ على كمال قدرته تعالى. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

وقال سعيد بن جبير (¬1): سُئِلَ ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} على أيِّ شيءٍ كان الماء، قال: على مَتْن الريح، وقال وَهْبُ بنْ منبه: إنَّ العرْشَ كَانَ قبل أن يَخْلُق الله السموات والأرض، ثُم قَبَضَ اللَّهُ قَبْضةً من صفاءِ الماء، ثم فتح القبضة، فارتفع دخان، ثُمَّ قضاهن سبع سموات في يومين، ثم أَخَذَ سبحانه وتعالى طينة من الماء، فوضعها مكانَ البيت، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ منها، ثُمَّ خَلَقَ الأقواتَ في يومين، والسموات في يومين، والأرض في يومين، ثم فرغ آخر الخلق في اليوم السابع. قال بعض العلماء: وفي خلق جميع الأشياء، وجعلها على الماء ما يدلُّ على كمالِ القدرة؛ لأنَّ البناءَ الضعيفَ إذا لم يكن له أساسٌ على أرض صُلبة .. لم يَثْبُتْ، فكيف بهذا الخلق العظيم، وهو العرش والسموات، والأرض على الماء! فهذا يدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى. وعن عمرانَ بن حصين رضي الله عنه، قال: دخلتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلْتُ ناقتي بالباب، فأتى ناسٌ من بني تميم، فقال: "اقْبَلُوا البشرى يا بني تميم" فقالوا: بَشَّرْتَنا فأعطنا، مرتين، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: "اقْبَلُوا البُشْرى يا أهلَ اليمن، إذْ لم يَقْبَلْهَا بنو تميم" قالوا: قَبِلْنَا يا رسول الله! ثم قالوا: جِئْنَا لِنَتَفَقَّه في الدين، ولنسأَلك عن أَوَّلِ هذا الأمر، ما كان؟ قال: "كان الله سبحانه وتعالى، ولم يكن معه شيءٌ قَبْله، وكان عَرْشُه على الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كُلَّ شيء"، ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أَدْرِكْ نَاقَتَكَ؛ فقد ذهبَت، فانطَقَتُ أطْلبُها، فإذا السَّرَاب يقطع دُونها، وايْمُ الله لَوَدِدْت أنَّها ذهبَتْ، ولم أَقُمْ. أخرجه البخاري. وعن أبي رُزَين العقيليِّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبلَ أن يَخْلُق خَلْقَه؟ قال: "كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، وخَلَق عرشه على الماء" أخرجه الترمذي، وقال: قال أحمد: يريدُ بالعماء أنه ¬

_ (¬1) الخازن.

ليسَ معه شيءٌ. قال أبو بكر البيهقيُّ في كتاب "الأسماء والصفات" (¬1) له: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ الله ولم يكن شيء قبله" يعني لا الماءَ ولا العرشَ، ولا غَيْرهُما، قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يعني: وخَلَقَ الماء، وخلق العرشَ على الماء، ثم كتَبَ في الذكر كلَّ شيء، وقوله: "في عماء" العَماء بالمدِّ: السحابُ الرقيقُ، ويريدُ بقوله: "في عماء"؛ أي: فوقَ سحاب مدبِّرًا له، وعاليًا عليه، وقوله: "وما فوقه هواء"؛ أي: ما فوق السحاب هواءٌ، وكذلك قوله: "وما تحته هواء"؛ أي: ما تَحتَ السحابِ هواء، وقال الأزهري: قال أبو عبيد: إنما تأوَّلْنَا هذا الحديثَ على كلام العرب المعقولِ عَنْهُم وإلا فلا نَدْري كيف كان ذلك العماءُ؟ قال الأزهري: فنحنُ نُؤْمِنُ به ولا نكيِّفُ صِفَتَهُ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كتب الله مقاديرَ الخلق قَبْلَ أن يَخْلُق السموات والأرضَ بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء"، وفي روايةٍ: "فَرَغَ الله من المقادير، وأمورِ الدنيا قبل أن يَخْلُقَ السموات والأرضَ، وكان عرشُه على الماء بخمسينَ ألْفَ سنة". أخرجه مسلم. قوله: فَرغ: يريد إتْمامَ خَلْقِ المقادير، لا أنه كان مشغولًا، ففَرَغَ منه، لأنَّ الله تعالى لا يشغَلُه شأنٌ عن شأن، فإنما أمره إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له: كن فيكون. وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسِّنا, ولا نستطيع تصويرَهُ بأفكارنا، فلا نَعلمُ كُنْهَ استوائِه عليه، ولا صُدُورَ تدبيره، لأمر هذا الملك العظيم، ومِن ثمَّ رُوي عن أمِّ سلمة، رضي الله عنها، وعن مالك، وربيعةَ قولهم: الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ. ومن الآية نَعْلَم أنَّ الذي كانَ دونَ العرش من مادَّةِ الخَلْقِ قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جَعَلَهُ الله أصْلًا لخلق جميع الأحياءِ، كما ¬

_ (¬1) الخازن.

قال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}. ثم عَلَّلَ خَلْقَهُ بما ذكر ببعض حِكَمِهِ الخاصَّة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن، فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} و (اللام) فيه متعلقة بـ {خَلَقَ} أي: خلق (¬1) السموات والأرض، وما فيهما، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم، وأسباب معايشكم، وأودعَ فيهما ما تستدلون به على مطالِبكم الدينية، ليعامِلَكم معاملةَ من يختبركم، فيُظْهِر أيُّكُم أحسنُ عملًا؛ أي: عقلًا، وأورع عن محارم الله، وأسْرَع في طاعة الله، فإنَّ لكل من القلب والقالب عملًا مخصوصًا به. أيْ (¬2): خَلَقَ هذه المخلوقات ليبتليَ عِبَادَهُ بالاعتبار، والتفكر، والاستدلال على كمال قدرته, وعلى البعث، والجزاء أيهم أحسنُ عملًا، فيما أُمِر به، ونهي عنه، فيجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، ويُوفِّر الجزاءَ لِمَنْ كان أَحْسن عملًا من غيره، وَيدْخُل في العمل الاعتقاد؛ لأنه من أعمال القلب، وقيل: المراد بالأحسن عملًا الأتمُّ عقلًا، وقيل: الأزْهَدُ في الدنيا، وقيل: الأكثر شكرًا، وقيل: الأتْقَى لله. أي: ليجعلَ ذلك ابتلاءً واختبارًا لكم فيظهرَ أيكم أحسنُ إتقانًا لما يعمله لنفسه، وللناس، ذاك أنه تعالى سَخَّر لنا ما في الأرض، وجعلنا مستعدينَ لإبرازِ ما أَوْدَعَه فيها من منافعَ وفوائدَ ماديةٍ ومعنويةٍ، ومستعدِّين للإفساد، والضرر ليجزيَ كل عامل بما يعمل، ثمَّ لما كان الابتلاء يتضمَّن حديثَ البعث، أَتْبَعَ ذلك بذكره، فقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ}؛ أي: وعزتي وجَلالي، لئن قُلْتَ: يا محمَّد لهؤلاء الكفار من قومك على ما توجبه قضيَّة الابتلاء {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} للحساب، والجزاء، فيُجَازَى المحسنُ بإحسانه، والمسيءُ بإساءته، وقرأ (¬3) عيسى ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[8]

الثقفي: {ولئن قُلتُ} بضم التاء إخبارًا عنه تعالى، والمعنى عليه: ولئن قلتُ مستدلًا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ} دلالةٌ على القدرة العظيمةِ فمَنْ أخْبَر بوقوع ممكنٍ وَقَعَ لا محالةَ، وقد أَخْبَرَ بالبعث، فوجب قبولُهُ وتيقُّنُ وقوعه. وكسرت (¬1) إن مِنْ قوله: {إِنَّكُمْ} لأنها وقعت بعد القول، وحكى سيبويه الفتحَ على تضمينِ قُلْتَ بمعنى: ذكرتَ أو على أنَّ (إن) بمعنى لعلَّ؛ أي: ولئن قلت: لعلكم مبعوثون على أن الرَّجاء باعتبار حال المخاطبين؛ أي: توقَّعوا ذلك، ولا تَبتُّوا القولَ بإنكاره. {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} منهم {إِنْ هَذَا}؛ أي: ما هذا القرآنُ الذي تضمَّن البعث، والحسابَ، والجزاءَ {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: إلَّا سحر بَيِّنٌ ظاهر تُسْحَرُ به العقول وتُسَخَّرُ به الضمائر، والقلوب، أو المعنى: ما هذا القولُ الذي تقولونه لنا من البعث، والجزاء إلَّا خديعةٌ منكم، وضَعْتُمُوها لمنع الناس عن لذات الدنيا، وإحرازًا لهم إلى الانقياد لكم، والدخول تحت طاعَتِكم. وقرأ الحسن والأعرج، وأبو جعفر، وشيبةُ، وفرقةٌ من السبعة (¬2): {سِحْرٌ}، وقَرَأ حمزة، والكسائي: {إن هذا إلا ساحر} فاسم الإشارة حينئذ، عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ما هذا الرجل الذي يَدَّعي البعثَ، والجزاءَ إلا كاذبٌ مُبْطِلٌ، والمعنى؛ أي: ولئن أخبرت يا محمدُ هؤلاء المشركين أنَّ اللَّهَ سيبعثهم بعد مماتهم كما بَدَأهم ليجزِيَهم فيما بَلاَهم به كما قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ليُجِيبَنَّك الذين كذَّبوا بلقاء الله قائلينَ: ما هذا الذي جئتَنا به مِن هذا القرآن لتسخِّرَنَا لطاعتك، وتَمْنَعَنا عن لَذَّاتِ الدنيا إلَّا سحرٌ بَيِّنٌ ظاهرٌ تَسْحَرُ به العقولَ وتُسخِّرُ به الضمائر والقلوب. 8 - وبعد أنْ ذَكَرَ سبحانَه ما يقوله المنكرونَ للبعث .. ذَكَرَ ما يقوله المنكرونَ لإنذار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهم عذابَ الدنيا، والآخرةِ بتكذيبهم له فقال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[9]

عَنْهُمُ}؛ أي: عن هؤلاء المشركين مِنْ قومك {الْعَذَابَ} الذي تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}، وقيل: عذاب يومِ القيامة، وما بعده، وقيل: يوم بدر {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}؛ أي: إلى طائفة من الأيام قليلة, لأن ما يحصره العدُّ قليلٌ. {لَيَقُولُنَّ} بطريق الاستعجال استهزاءً {مَا يَحْبِسُهُ}؛ أي: أيُّ شيء يَمْنَعُ العذابَ من المجيء إلينا، والنزولِ علينَا، والمعنى: وعزتي، وجلالي، لئن أخَّرْنَا عنهم عذابَنا الذي توعدهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حين من الزمن مقدَّر في علمنا، وهو مقتضى سنتنا في خَلْقِنا وبَيَّناه في كتابنا بقولنا: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ليقولُن استهزاءً، أيُّ شيء من الأشياء يمنع هذا العذاب، ويحبسهُ من الوقوع، إن كان حقًّا، والاستفهامُ فيه للإنكار، المضمَّنِ للاستهزاء، والسخرية، ثُمَّ توعَّدَهم بنزوله، وأجابَهم بقوله: {ألا}؛ أي: أنتبهوا أيُّها المخاطبون {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ}؛ أي: العذابُ {لَيْسَ مَصْرُوفًا}، ولا مدفوعًا، ولا محبوسًا {عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ} عبر بلفظ الماضي تنبيهًا على تحقُّق وقوعه، فكأنَّه قد حاق بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: ويَحِيقُ ويُحيط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلُونه استهزاءً منهم، ووَضَع يستهزئون مكانَ يستعجلون؛ لأنَّ استعجالَهم كانَ استهزاءً منهم. والمعنى: انتبهوا أنَّ له يومًا يأتيهم فيه حين تنتهي المدَّة المضروبةُ دُونَهُ، ويومئذ لا يصرِفه صارفٌ، ولا يحبسه حابسٌ، وسيحيط بهم يومَئذ مِن كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عَنْهُم، ولا ينجَونَ مِنه. 9 - {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} و (اللام) فيه موطئة للقسم، والمراد: الجنسُ فشَمَلَ المؤمنَ والكافرَ بدليل الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}؛ أي: وعزتي وجلالي: لَئِن أذقنا الإنسان وأعطيناه {مِنَّا رَحْمَةً}؛ أي: رحمةً كائنةً منا، ورحمةً صادرةً من جهَتِنا كغِنًى، وصِحَّةٍ {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}؛ أي: سلبناه إياها {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ}؛ أي: لقاطع رجاءه من عود أمثالها لقِلَّةِ صبره وعدم ثقته بالله {كَفُورٌ}؛ أي: عظيم الكفران لما سَلَفَ من النعم، وقيل: المرادُ بالإنسان جنس الكفار، ويؤيده أنَّ اليأسَ والكفرانَ، والفرحَ، والفخرَ، هي: أوصافُ أهل الكفر، لا أهل

[10]

الإِسلام غالبًا، وقيل: المرادُ بالإنسان الوليدُ بن المغيرة، وقيل: عبد الله بن أبي أُميةَ المخزوميّ، والمرادُ بالرحمة هنا: النعمةُ من توفير الرِزق والصحة والسلامة من المِحَنِ. والمعنى (¬1): والله لئن أعطينا الإنسانَ نوعًا من أنواع النِّعَم كرخَاءِ العيش وبَسْطةِ الرزق، وصحةٍ وأمن وولدٍ بارٍّ رحمةً مبتدأةً منا، أذقناهُ لَذَّتها، فكانَ شديدَ الاغتباط بِهَا ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قَدَّرها الله تعالى في الخليقة، كالمرض، والموت، والعسْر، إنّه لَيَظُلُّ في هذه الحال شديدَ اليأس من الرحمة، قاطعًا للرجاء من عود تلك النعمة، كثيرَ الكفران لغيرها من النِّعَمِ التي لا يزالُ يتمتَّع بها فضلًا عمَّا سَلَفَ مِنها. 10 - والخلاصةُ: أنَّهُ يجمع بَيْنَ اليأس بعودة ما نُزع منه، والكفر بما بقي له، لحرمانه من فضيلتي الصَّبْرِ والشكر {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ}؛ أي: وعزتي، وجلالي: لئن أَعْطينَا الإنسَانَ {نَعْمَاءَ}؛ أي: سعةَ رزق، وعافية، وفي التعبير (¬2) بالذوق ما يدلُّ على أنه يكون منه ذلكَ عند سلب أدنى نعمةٍ ينعم الله بها عليه؛ لأن الإذاقَةَ والذوق أقل ما يُوجَد به الطعم {بَعْدَ} كشف {ضَرَّاءَ} وشدة {مَسَّتْهُ}؛ أي: أصابته كصحَّةٍ بعد سقم، وفرَجٍ بعد شدَّةٍ {لَيَقُولَنَّ} ذلك الإنسان {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ}؛ أي: المصائب التي أساءتني {عَنِّي} من الضرِّ والفقر. والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبدَ نعماءَه من الصحة، والسلامة، والغنى بعد أن كانَ في ضر من فقر، أو مرض، أو خوف، لم يقابِلْ ذلك بما يليقُ به من الشكر لله سبحانه، بل يقول: ذهبت السيئات؛ أي: المصائِبُ التي ساءَتْهُ من الضر والفقر، والخوف، والمرض عنه، وزال أثَرُهَا غَيْرَ شاكرٍ لله، ولا مثن عليه بنعمة {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ ذلك الإنسانَ {لَفَرِحٌ}؛ أي: كثير الفرحِ، بَطَرًا وأَشرًا {فَخُورٌ}؛ أي: كثيرُ الفخر على الناس، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبةٌ للتعبير في جَانِب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[11]

النعماء بالإذاقة، فإنَ كِلَيْهِمَا لأدنى ما يُطْلَقُ عليه اسمُ الملاقاة، وقرأ الجمهور: {لَفَرِحٌ} بكسرِ الراء، وهو قياسُ اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرأتْ فرقةٌ: {لَفَرُحَ} بضم الراء وهي كما تقول: دنس وطمس ذكره أبو حيان. وحاصل المعنى: ولئن (¬1) كشفنا عنه الضراء التي أصابَتهُ، وحَلَّ محلَّها نعماءُ كشِفاءٍ من مرض، وزيادة قوة، وخروج من عسر إلى يُسْرٍ ونَجَاةٍ من خوف، وذلٍّ إنه ليقولن ذَهَبَ ما كان يَسُوءُني من المصائب والضراء، ولن يعودَ، وما هي إلا سحابة صيف قد تقشَّعَتْ، وعليَّ أنْ أنسَاها وأتمتَّعَ بتلك اللذَّاتِ، وإنه حينئذ لشديدُ الفرح بما يهيِّجُهُ البَطَرُ بتلك النعمة، وإنَّه ليُغالِي في الفَخْرِ والتَّعَالِي على الناس، والاحتقارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا. والخلاصة: أنَّا إذا مَنَحْنَا هذا الإنسانَ اليؤوسَ الكَفورَ، نَعْماءَ أذقْنَاه لَذَّتَها، بَعدَ ضرَّاء مسَّتْه باقترافه أسبابَها, لم يُقابِلْهَا بشكر الله عليها، بل يَبْطَرُ ويفخَرُ على الناس، ولا يقومُ بما يَجِبُ عليه من مُواساة البائِسينَ، الفقراءِ، وعملِ الخير لبني آدَمَ كفاء ما هو متمتع به من تلك النِّعَمِ، 11 - ثمَّ استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذَكر من حالتَيْه السَّالِفَتَيْنِ قَبْلُ الصابرينَ الذينَ يعملون الصالحاتِ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على ما أصابهم من الضراء إيمانًا بالله، واحتسابًا للأَجْرِ عنده {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} حينما يكشِفُها ويبدِّلُ النعماءَ بِهَا، ويشكرهُ باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر، والخير لعباده {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذُكِر {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} من ربهم تَمْحُو ما عَلِقَ بأنفسهم من ذَنْبٍ أو تقصير {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}؛ أي: ثوابٌ جسيمٌ في الآخرة على ما وفِّقوا لعمله من برّ، وخير كثير. والخلاصةُ (¬2): أنَّ الإنسانَ وإن كانَ مؤمنًا حقَّ الإيمان, لا يسلم من ضيق صَدْر حينَ حُلُول الضراءِ والمصائب، وذلك مِمَّا ينافي كمالَ الرضا كما لا يسلم حين النعماء من شيءٍ من الزُّهْوِ والتقصيرِ في الشكر، فيُغْفَرُ له كلٌّ منهما بصبره وشكره، وإنابته إلى ربه، وقد جاءَ بمعنى الآية قولُه تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[12]

الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} ووصفُ الأجر بالكبير لِمَا حَواهُ من نعيم سَرْمديٍّ وأمْن من العذاب، ورضىً من الله عز وجل، ونظَرٍ إلى وجهه الكريم {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، واختيارُهُ على العظيم لرعاية الفواصل كما ذكره الكرخي، 12 - ثم سلَّى اللَّهُ سبحانه وتعالى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {فَلَعَلَّكَ} يا محمَّد {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}؛ أي؛ فلعلك يا محمدٌ تاركٌ تبليغَ بعض ما يوحي إليك ربُّك، أنْ تبلغه إلى مَنْ أمَرَكَ أن تبلِّغ ذلك إليه، {و} لعلَّك {ضائق به صدرك}؛ أي: ولعلك (¬1) يضِيق صَدْرُك بما يوحى إليك، فلا تبلغه إيَّاهم، وذلك أنَّ كفَّارَ مكةَ قالوا: إئت بقرآنٍ غير هذا، ليس فيه سَبُّ آلهتنا، فهَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَترُكَ ذِكْر آلهتهم ظاهرًا، فأنزل الله عز وجل، {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} يعني مِنْ ذكر آلهتهم، هذا ما ذكره المفسرون في معنى الآية، قيل (¬2): وهذا الكلام خارجٌ مَخْرَجَ الاستفهام، فلعلَّ هنا للاستفهام الإنكاري، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَلَّنا أعْجلنَاك"؛ أي: هل أنت تاركٌ، وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد؛ أي: لا يكونُ منك ذلك بل تبلغهم جميعَ ما أنزلَ اللَّهُ عليك أحَبُّوا ذَلِك أم كرهوه، شاؤوا أم أَبَوا. والمعنى على الاستفهام: أي أفتاركٌ (¬3) أنت أيها الرسول بعضَ ما يوحى إليكَ مما يشُقُّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، والإنذارِ والوعيد لهم، والنَّعْيِ على معبوداتِهم وتَسْفِيهِ أحلامهم، وضائقٌ به صَدْرُك أن تبلغَهم إياه، كما أُنزل ذاك أنهم كانوا يَتَهَاوَنُون به، فيَضِيقُ صَدْرُه أنْ يلقي إليهم ما لا يَقْبَلُون، وما يضحكون منه، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة، وعدم المبالاة باستهزائهم، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءَه ظهريًّا. والخلاصة: تحمل أخف الضرَرَيْنِ، وهو تحمل سَفَاهَتِهم على ترك بعض الوحي، والوقوع في الخيانة فيه. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

وعبر بـ {ضائق} دونَ ضيق, لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث، والعروض، والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم؛ أي: لا تَتْرُك تبليغَ بَعْضَ ما يُوحى إليك من البينات الدالَّة على حقيقة نبوتك، ولا يَضِيْق صدرك بتلاوته عليهم في أثناء الدعوة، والمحاجةِ، مخافةَ {أَنْ يَقُولُوا} لك {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ}؛ أي: هلَّا أُنْزِل على محمد {كَنْزٌ}؛ أي: مالٌ كثير مكنوز مخزون ينتفع به، ويَسْتَغْنِي به، ويُنْفِقُه {أَوْ} هلَّا {جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يشهدُ بصدقه، وقائل (¬1) هذه المقالةِ هو: عبدُ الله بن أبي أمية المخزومي. والمعنى: أنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ صادقًا في قولِك بأنَّكَ رسولُ الله، الذي تصفه بالقدرة على كل شيء، وأنت عزيزٌ عنده، مع أنك فقيرٌ، فهلَّا أنزلَ ما تستغني به، أنت وأصحابُك، وهلَّا أَنْزلَ عليك مَلَكًا يشهد لك بالرسالة، فتزولَ الشبهة في أمرك، فأخْبَرَ الله تعالى عَزّ وجلّ أنه - صلى الله عليه وسلم - نذيرٌ بقوله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمَّد {نَذِيرٌ} تُنذِر الناسَ بالعقاب على أعمالهم التي عَمِلُوها لِطلبِ الدنيا، وذلك أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى، يوسِّع عليهم الرزق، ويدفع عنهم المكارهَ في الدنيا {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وليسَ عليكَ من أعمالهم شيءٌ. وحاصل المعنى: أنَّ عِنَادَهم وجحودَهم، وإعراضَهم عن الإيمان، وشدَّةَ اهتمامِك بأمرِهم، ممَّا شأنه أن يَقْتضِي ضَيْقَ الصدر بحسب الطباع البشرية، أو أن يخطرَ على البال، ترك بعضِ الوحي، ولولاَ عِصْمَتُنا إيَّاك، وتثبيتُنا لك، لاجْترَحت ذلك، واستَسْلَمْتَ لما لمثله جَرَت العادة، ولكنَّ الله تعالى حَفِظكَ حتى تؤدِّي رِسالتَه، وترحَمَ العالمين بنور نبوتك، كما قال: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}. وقد جَاء بمعنى الآية قولُه تعالى؛ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}، وقولُه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا ¬

_ (¬1) الخازن.

يَمْكُرُونَ (70)}، وقوله: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}؛ أي: ليس عليك إلا إنذارُهم بما أوحيَ إليك، غيرَ مبال بما يَصْدُر منهم، ويطلق ألسنتَهم، والله هو الرقيب على عباده، وليسَ عليكَ من أعمالهم شيء. فصل وأجمع المسلمون على أنه - صلى الله عليه وسلم - فيما (¬1) كَانَ طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه، بخلافِ ما هو به، لا خطأً، ولا عمدًا، ولا سهوًا، ولا غلطًا، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغَ جميعَ ما أنزلَ الله عليه إلى أمَّته، ولم يكتم منه شيئًا، وأجمعوا على أنَّه لا يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيانةٌ في الوَحْي، والإنذار، ولا يترك بَعض ما أوحي إليه لقولِ أحدٍ؛ لأنَّ تجويزَ ذلك يؤدي إلى الشك في آداء الشرائع، والتكاليف؛ لأنَّ المقصودَ من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه، فإذا لم يحصل ذلك، فقد فاتَتْ فَائدة الرسالة، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك كله، وإذا ثَبَتَ هذا وجب أن يكون المرادُ بقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} شيئًا آخرَ سوى ما ذكره المفسرون، وللعلماء في ذلك أجوبةٌ: أحدُها: قال ابن الأنباري: قد علمَ الله سبحانه وتعالى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يترك شيئًا مِما يوحى إليه إشفاقًا من مَوْجِدَةِ أحد، وغَضَبِه، ولكنَّ اللَّهَ تعالَى أكَّدَ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - متابَعَة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...} الآية. الثاني: أنَّ هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وتحريضه على أداءِ ما أنزله إليه، والله سبحانه وتعالى مِن وراء ذلك في عِصْمتِهِ مما يخافه ويَخْشاه. الثالث: أنَّ الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن، ويَضْحَكُون منه، ويتهاوَنون به، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يضيق صَدْرُهُ لذلك، وأن يُلْقِي إليهم ما لا يقبلونه، ويستهزئونَ به، فأمَرَهُ الله سبحانَه يتبليغ ما أوحِي إليه، وأن لا يَلْتَفِتَ إلى ¬

_ (¬1) الخازن.

[13]

استهزائهم، وأنَّ تحمُّلَ هذا الضَّرَرَ أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة, لأن الإنسان إذا عَلم أنَّ كلَّ واحد من طَرَفَي الفعلِ والترك مشتملٌ على ضَرَرٍ عظيم، ثمَّ عَلِمَ أنَّ الضَّرَرَ في بابِ الترك أعْظَمُ، سَهُلَ عليه الإقدامُ على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتركُ شيئًا من الوحي، هَيَّجَه لأداء الرسالة، وطرح المبالاةِ باستهزائهم، ورَدِّهم إلى قبول قوله بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}؛ أي: لعَلَّكَ تتركُ أن تلقِيَه إليهم مخافةَ رَدِّهِم، واستهزائهم به، وضائقٌ به صَدْرُكَ؛ أي: بأنْ تَتْلُوَهُ عليهم، والله أعلم. 13 - و {أَمْ} في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ...} (¬1) هي: المنقطعة التي تقدَّرُ بمعنى بَلْ الإضرابية، وهمزة الاستفهام التوبيخي، والتقريعي، والضميرُ المستتر في {افْتَرَاهُ} للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والبارزُ إلى ما يُوحى إليه. أي: بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكَّة: إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد افترَى هذا القرآن واختلقَه من عند نفسه، {قُلْ} لهم يا محمَّد في جواب مقَالَتِهم هذه، ورَدِّها إن كانَ الأَمْرُ كما تزعمون {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}؛ أي: مثل القرآن في البلاغة، وحُسْنِ النَّظْمِ، وجزالة اللفظ، وفَخامةِ المعاني، ووصَفَ السُّورَ بما يوصف به المفرد، فقال: {مِثْلِهِ} ولم يقل: أمثالِه؛ لأنَّ المرادَ: مماثَلَة كلِّ واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وَجْه الشبه، ومدارةِ المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز، وهذا: إنما هو على القول بأنَّ المطابقةَ في الجمع، والتثنية، والإفراد، شرطٌ، ذَكَرَه الشوكاني، أي: بعشر سور مماثلة للقرآن في ذلك {مُفْتَرَيَاتٍ}؛ أي: مختلفات من عند أنفسكم, لا تدَّعُون أنها من عند الله تعالى، فإنكم أهلُ اللَّسَنِ والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة، والبلاغة، وفنون الشعر، والخَطابة، ولَم يسبِقْ لي مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أنْ أُزاوِل شيئًا من ذلك، فإن كَانَ من كلام البشر، فأنتم على مثله أقْدَرُ، وإنكم لتعلمون أني لم أكذب على بشر قط، فكيف أَفْتَرِى على الله؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[14]

{و} إنْ زعمتم أنَّ لي من يعينني على تأليفِهِ ووصْفِه، فـ {ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} ممن تعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى، ومِنْ سَائِرِ خلقه لِيُسَاعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مِثلَه مفترياتٍ تشملُ على مثل ما فيه من تشريع دينيٍّ، ومَدَنيٍّ، وحكم ومواعظ، وآداب، وأَنْباء غيبية إخبارًا عن ماض، وأنباء غيبية. إخبارًا عن مستقبل بمثل هذا النظام البديع، والأسلوب البالغ حَدَّ الإعجاز، والبلاغَةِ الساحِرَة للألباب، والسلطان الحَاكِم على الأنفس والأرواح {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في ادعاءِ كونِ القرآن مفترًى على الله تعالى. والخلاصة (¬1): أنّ مشركي مكَّةَ المعانِدِينَ، لم يجدوا شبهةً في القرآن بعد شبهة السحر التي لم تَجِد أُذنًا صاغيةً عند العرب؛ لأنهم أربابُ الفصاحة، واللسن، فعرفوا فضله على سائر الكلام، إلا زَعْمَهُمْ أنَّ محمدًا قد افتراه جملةً، وليس بوحي من عند الله، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله، في النظم والأسلوب محتويةٍ على التشريع القيم من دينيٍّ ومدَنيٍّ، وسياسيّ، وحكم، ومواعظ، وآداب، وكلَّفهم دعوةَ مَن استطاعوا من دون الله، لِيُظاهِرُوهم، ويُعَاوِنُوهم على ذلك، فعَجَزُوا, ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم، فقامت الحُجَّةُ عليهم، وعلى غيرهم إلى يوم الدين، وهذا معنى قوله: 14 - {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}؛ أي: فإن لم يستجب لكم مَنْ تَدْعونهم من دونِ الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المُمَاثلةِ للقرآن من فحول الكتَّاب، ومَصَاقِع الخطباء، وعلماء أهلِ الكتاب العارفين أخْبارَ الأنبياء {فَاعْلَمُوا} أيها المشركون {أَنَّمَا أُنْزِلَ} هذا القرآنُ على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {بِعِلْمِ اللَّهِ}؛ أي: بمقتضَى علم الله وإرادتِه أن يبلِّغَه لعباده على لسان رسوله، ولا يقدرُ عليه محمَّد ولا غيره ممن تدعونه زورًا أنهم أعانُوه, لأنه من علم الغيب الذي لا يَعْلَمُه إلا مَنْ أعلمه الله به. {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ أي: واعلموا أيها المشركونَ، أنه لا معبودَ بحق في ¬

_ (¬1) المراغي.

الوجود إلا اللهُ سبحانَه وتعالى، إذ من خصائص الإلَه أن يَعْلَمَ ما لا يعلمه غيره، وأن يُعْجِزَ مَن عداه عن مثلِ ما يقدر عليه، والاستفهام، في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} للتوبيخ المضَمَّنِ للأمر؛ أي: فهل أنتم أيها المشركون بعد أن قامت عليكم الحجة، داخلون في الإِسلام الذي أدعوكم إليه، بهذا القرآن، مؤمنون بما فيه من عقائدَ، ووعد، ووعيد، وأحكام، وحِكم وآداب؛ أي: أسْلِمُوا، وأخْلِصُوا لله العبادةَ. والخلاصة: أنه لم يَبْقَ لكم بَعْدَ أنْ دُحِضَتْ شبهتَكم، وانقطعَتْ مَعَاذِيركُم إلَّا جُحودَ العناد، وإعراض الاستكبار، والعاقل المنصِفُ لا يرضَى لنفسه بمِثْل هذا. والمعنى (¬1): فإن لم يستجِب لكم آلهتكم، وسائرُ مَنْ إليه تجأرُونَ في مُلِمَّاتِكم إلى المعاونة، فاعلموا أنَّ القرآنَ خارج عن دائرة قدرة البشر، وأنه منزل من خالق القِوَى والقُدَرِ، واعلموا أيضًا أنَّ آلِهَتَكُم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية، فهل أنتم داخلون في الإِسلام بعد قيام هذه الحجة القاطعة؟. وقرأ زيد بن علي (¬2): {أنَّما نَزَّل} بفتح النون والزاي وتشديدها، ويحتملُ أن تكونَ {ما} مصدرية، أي: {أنَّ} التنزيلَ، ويحتمل أن تكونَ بمعنى الذي؛ أي: أن الذي نزَّله، وحذف الضمير المنصوب لوجود شرط جواز الحذف. فإن قلت: (¬3) قد تحدَّاهم بأن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك، وعجزوا عنه، فكيف قال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، ومَنْ عجزَ عن سورة واحدة، فهُو عن العشرة أعْجَز؟ قلتُ: قد قال بعضهم: إن سورة هود نزلَتْ قبل سورة يونس، وأنه تحدَّاهم أوَّلًا بعشر سور، فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس، وأنكر المُبرِّد هذا القول، وقال: إن سورةَ يُونُسَ نَزَلَتْ أوَّلًا. قالَ: ومعنى قولِه في سورة يونس: {فَأْتُوا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

[15]

بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يعني مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد، والوعيد، وقولُه في سورة هود: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} يعني مجرَّدَ الفصاحة، والبلاغة من غير إخبارٍ عن غيبٍ، ولا ذِكرِ حكم، ولا وعد، ولا وعيد، 15 - ثم إنَّ اللَّهَ سبحانَه وتعالى توعَّدَ مَنْ كَانَ مقصورَ الهمة على الدنيا، لا يطلُب غَيْرَها, ولا يريد سِوَاها فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} بعمله الذي يَعْمَلَهُ من أعمال البر والخير من العبادات، وإيصال المنفعة إلى الحيوانات {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: التمتعَ بلذاتها من طعام وشراب {وَزِينَتَهَا}؛ أي: ما يَتَزَيَّن به فيها من اللباس والأثاث، والرياش، والأموال، والأولاد دُونَ استعدادٍ للحياة الآخرة {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}؛ أي: نُؤدِّ إليهم جزاءَ أعمالهم، وثمراتها فيها، وافيةً تامَّةً بحسب إرادتنا، وسُنَّتِنَا في الأسباب؛ أي: نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا، كاملةً {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}؛ أي: والحال أنهم في الحياة الدنيا: لا يُنْقَصون من جزاءِ أعمالهم نقصًا كليًّا، ولا يحرمون من ذلك حرمانًا كليًّا، لأجل كفرهم إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال، لا على النيات، والمقاصد، وإن كانَ لهداية الدينِ أثر في ذلكَ كالاستقامة، والصدقِ واجتنابِ الخيانةِ والزور، والغش، وغير ذلك، وذلكَ الجزاء هو: ما يرزقون فيها من الصّحَّةِ، والرياسة، وسعة الرّزق، وكثرة الأولاد ونحو ذلك. والخلاصة: أَنَّ جزاءَ الأعمال في الدنيا مَنُوطٌ بأمرَين: كسب الإنسان، وقضاءِ الله، وقدره به، وأمَّا جزاءُ الآخرة فهو بفعلِ الله تعالى بلا وساطةِ أحد، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. {وَهُمْ}؛ أي: هؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم {فِيهَا}؛ أي: في الدنيا {لَا يُبْخَسُونَ}؛ أي: لا ينقصون منْ جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها، وذلك في الغالب، وليس بمطرد، بل إن قَضَتْ به مشيئتُهُ سبحانه ورجَّحَتْهُ حكمتُه البالغةُ، وقال (¬1) القاضي: معنى الآية مَنْ كانَ يريد بعمل الخيرِ الحياةَ الدنيا، وزينتَهَا نوف إليهم أعمالهم، وافيةً كاملةً من غير بخس في الدنيا، وهو ما ينالون فيها من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[16]

الصحة، والكفاف، وسائر اللذات، والمنافع، فخص الجزاءَ بمثل ما ذكره، وهو حاصلٌ لكل عامل للدنيا, ولو كانَ قليلًا يسيرًا 16 - {أُولَئِكَ} الذين لا هَمَّ لهم إلا الدنيا، وزينتَها الموفون فيها جزاءَ أعمالهم هم {الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونةِ بالرياء؛ لأنَّ الجزاءَ فيها على الأعمالِ كالجزاءِ في الدنيا، وهم لم يعملوا للآخرة شيئًا، فإنَّ العمل لَهَا يكون بتزكية النفس بالإيمان، وعمل الفضائل، وبالتقوى باجتناب المعاصي، والرذائل، وما صَنَعُوه فيها مِمَّا ظاهِرُه البرُّ والإحسان كالصدقة، وصلة الرحم، ونحو ذلك، لم يكن تزكيةً لأنفسهم تُقربُهم إلى ربهم بَلْ كانَ لأغراض نفسية من شهواتهم كالرياء، والسمعة، والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء، ولو بالباطل فلا أجْرَ له فيها، وقد انقطع أثرهُ الدنيويُّ. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا}؛ أي: ظهر حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت صُورَتُها صورةَ الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي، لولا أنهم أفسَدُوها بفساد مقاصدهم، وعدم الخلوص فيها، وعدم إرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قَصَرُوا ذَلك على الدنيا وزينتها؛ أي: ظَهَر حبوطُه وبُطْلانهُ {فِيهَا}؛ أي: في الآخرة، إن قلنا: إن الجار والمجرور متعلق بـ {حبط} فالضميرُ عائد إلى {الْآخِرَةِ} وإن تعلق بـ {صَنَعُوا} فهو عائد إلى {الدُّنْيَا} {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: إنه كان عملهم في نفسه باطلًا غيرَ معتد به, لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاءَ ويترتَّبَ عليه ما يترتَّبُ على العمل الصحيح. فصل ويندرج في عموم الآية (¬1) المُراؤون من أهل القبلة، كما ترى أحدَهم إذا صلّى إمامًا يتنغم بألفاظ القرآن، ويُرتِّلِهُ أحسنَ ترتيل، ويُطيل ركوعَه وسجُودَه، ويتباكَى في قراءته، وإذا صَلّى وَحْدَهُ اختلسها اختلاسًا، وإذا تصدَّقَ أظهَرَ صدقتَه أمَامَ مَنْ يثني عليه، ودَفَعها لمن لا يستحقها، حتى يُثْنِي عليه الناسُ، وأهلُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الرباط المتصدق عليهم، وأين هذا من رجل يتصدَّقُ خفيةً، وعلى مَنْ لا يعرفه، كما جاء في السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظِلَّ إلّا ظِلُّه "ورجلٌ تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تَعلم شماله ما تنفق يمينه"، وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدًّا، وإذا تعلَّم علمًا راءى به، وتبجَّح، وطلَبَ بمعظمه يسيرَ حطام من عرض الدنيا، وقد فَشَا الرياء في هذه الأمة فشوًا كثيرًا، حتى لا تكادُ تَرَى مخلصًا لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أولِ من تسعَّر بهم النار يوم القيامة، والعياذُ بالله تعالى، والرياءُ هو أن يُظْهِرَ الإنسانُ الأعمالَ الصالحةَ ليحمده الناس عليها، أو ليَعْتَقِدُوا فيه الصلاحَ، أو ليقصدوه بالعطاءِ، فهذا العملُ هو الذي لغير الله تعالى، نعوذ بالله تعالى من الخذلان، اهـ من "الخازن". وقرأ الجمهور (¬1): {نُوَفِّ} بنون العظمة، وقرأ طلحة بن ميمون: {يُوفِّ} بالياء على الغيبة، وقرأ زيد بن علي: {يُوفِ} مخففًا مضارعُ أوفى، وقرىء: {تُوف} بالتاء مبنيًّا للمفعول، و {أعمالهم} بالرفع، وهو على هذه القراءات مجزوم جوابَ الشرط كما انجزم في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. وقرأ الحسن: {نُوفي} بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزومًا بحذف الحركة المقدرة على لغة مَنْ قال: أَلَمْ يَأتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِيْ وهي لغةٌ لبعض العرب، واحتملَ أن يكونَ مرفوعًا. وقرأ زيد بن علي: {وَبَطَلَ} جعلَه فعلًا ماضيًا، وقرأ أُبيٌّ وابن مسعود، و {باطلًا} بالنصب، وخرَّجه صاحب "اللوامح" على أنه مفعول لـ {يَعْمَلُونَ} فهو معمولُ خبر {كَانَ} متقدمًا، و {ما} زائدة؛ أي: وكانوا يعملون باطلًا، وفي جواز هذا التركيب خلافٌ بَيْنَ النحويين، وهو أن يتقدَّم معمول الخبر على الجملة بأسرها مِنْ كَانَ واسمها وخبرها، ويشهد للجواز قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[17]

يَعْبُدُونَ} ومَنْ مَنَعَ تأَوَّل، ذكره أبو حيان. 17 - ثُمَّ ذكر الله سبحانه وتعالى أنَّ بين مَنْ كان طالبًا للدنيا فقط، ومن كانَ طالبًا لِلآخرة تفاوتًا عظيمًا، وتباينًا بعيدًا فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري داخلةٌ على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجَهِلتُم وتَعَامَيْتُم عن الحق فَمَنْ كان على بينة ومعجزة، وبيان وبرهان من ربه، والمراد بالبينة: القرآن، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون فـ {مَن} مبتدأ خبره محذوف تقديره؛ أي: أفمن كان على برهان من ربه، كمن هو في كفر وضلالة، وجواب الاستفهام محذوف أيضًا، تقديره: لا يستويان، وقد صرَّحَ بهذين المحذوفين في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} معطوف على جملة الصلة، والضميرُ في {يتلوه} عائد على {مَن} وكذلك الضمير في قوله الآتي {من قبله} كما في "الصاوي"، أي أفمن كانَ على بيان وبرهان من ربه ويتلوه؛ أي: ويتبعه ويصدِّقه، ويقَوِّيه شاهد منه؛ أي: من الله تعالى، وهو جبريل كمن ليس كذلك وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ} حال من {كِتَابُ مُوسَى} وهو معطوف على {شَاهِدٌ} وقوله: {إِمَامًا وَرَحْمَةً} حالانِ أيضًا من {كِتَابُ مُوسَى} والتقدير: أفمَن كانَ على بيان وبرهان وحجة من ربه، ويتلوه ويتبَعُه ويصدِّقُه، ويقويه شاهد منه تعالى, يشهدُ بصدقه، وهو جبريل، ويتلوه ويتبعه، ويُوافقه كتاب موسى، فيما يدَّعِيه من التوحيد حالَ كون كتاب موسَى كائنًا من قبله، وحالةَ كَوْن كتابه إمامًا يقتدَى به في الدين، وحالةَ كونه رحمةً لمن آمن به من بني إسرائيل؛ لأنه يهدي إلى الحق في الدين والدنيا، كمَنْ ليسَ كذلك لا يستويان فبينهما بون بائن وفرق فارق. وقرأ محمَّد بن السائب الكلبيُّ وغيره (¬1): {كتابَ موسى} بالنصب عطفًا على مفعول {يتلوه} أو بإضمار فعل، فالضمير في {يتلوه} حينئذ عائدٌ على بينة، بمعنى القرآن؛ أي: ويتلو القرآن، وكتاب موسى شاهدٌ منه تعالى، وإنما خَصَّ كتاب موسى بالذكر دونَ كتاب عيسى؛ لأنَّ أهلَ الملتين اليهودَ، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والنصارى، متوافقان على أنَّ التوراةَ مِن عند الله تعالى بخلاف الإنجيل؛ لأنَّ اليهودَ تُخالِفُ فيه، فكان الاستشهادُ بما تَقُومُ به الحجة على الفريقين أولى. وأعرب البيضاوي {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} مبتدأ والجار والمجرور خبرًا. والمعنى (¬1): أفمن كان على نور، وبصيرة في دينهِ، ويؤيده نُورٌ غيبيٌّ يشهدُ بصحته، وهو القرآن المشرِق النور والهدي ويؤيده شاهدٌ آخرَ جاء مِنْ قبله، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، حالَ كونه إمامًا متَّبعًا في الهدى والتشريع، ورحمةً لِمَنْ آمن، وعَمِلَ به مِن بني إسرائيل وشهادةُ موسى لهذا النبي الكريم شهادةُ مقال بالبشارة بنبوته، وشهادة حال، وهي التشابه بين رسالتَيْهما؛ أي: أفمن كان على هذه الأوصاف كمَنْ يريد الحياة الدنيا الفانيةَ وزينتَها الموقوتة ويظل محرومًا من الحياة العقلية، والروحية التي تُوصِل إلى سعادة الآخرة الباقية ونحو الآية قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}. وإجمالُ المعنى (¬2): أفمن كانَ كاملَ الفطرة، والعقل، وعَرَفَ حقيقةَ الوحي، وهو القرآن، وما فيه من نور وهداية وعرَف تأييدَه بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فتظاهرت لدَيْه الحججُ الثلاثُ في الهداية كمال الفطرة، ونور القرآن، والوحي الذي أنزل على موسى كمَنْ حُرِم من ذلك، وكان هَمُّه مقصورًا على الحياة الفانية ولذاتِها. والإشارةُ بقوله (¬3): {أُولَئِكَ} إلى المتصفينَ بتلكَ الصِّفَةِ الفاضلةِ، وهو الكون على البينة من الله، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره {يُؤْمِنُونَ بِهِ}؛ أي: يصدقون بالقرآن، أو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي (¬4): أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية، والبينة الكسبية النقلية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين، وإذعان على علم بما فيه من الهدى، والفرقان، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون الله، ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ}؛ أي: ومن يكفر بهذا القرآن فيَجْحَدُ أنه من عند الله {مِنَ الْأَحْزَابِ}؛ أي: ممن تحزّبوا، وتجمَّعوا من أهل مكة، وزُعماء قريش للصدِّ عنه، قال مقاتل: هم بَنُو أمية، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآلُ طلحة بن عُبيد الله، وقيل: من (¬1) جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة، فتدخلُ فيه اليهودُ والنصارَى، والمجوس وعبدة الأوثان، وغيرهم، والأحزاب هم الفرق الذين تحزَّبوا، وتجمَّعوا، واتفقُوا على مخالفة الأنبياء {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}؛ أي: مكان وعده في الآخرة، ومصيرُهُ وموردُه يَرِدُها لا محالةَ، وهي التي فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب، فإنه يصير إلى جهنم من جَرَّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء في نحو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}. روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسُ محمَّد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ومات، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلَّا وجدت مصداقه في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حتى بَلَغني هذا الحديث: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" الحديثَ، قال سعيد: فقلت: أيْنَ هذا في كتاب الله؟ حتَّى أتيت على هذه الآية: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} إلى قوله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال: فالأحزاب أهلُ الملل كلها {فَلَا تَكُ} يا محمَّد {فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك {مِنْهُ}؛ أي: من القرآن {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} نَزَل به جبريل إن قلنا: إنه متعلق بما قبله من قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أو المعنى: فلا تكن في شك من أنَّ مصيرَ من كفر بالقرآن النار، إنَّ هذا الوعدَ هو الحق الثابتُ مِمَّن يربيك في دينك ودنياك، إن قلنا: إنه راجع إلى قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} والخطاب في قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به غيره؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يشُك قط، وقيل: الخطابُ لكل مكلف؛ أي: فلا تكن (¬2) أيها المكلف في شك من أمر هذا القرآن، إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

يديه، ولا من خلفه، آتيًا من ربك، وخالقِك الذي يربيك بما تكملُ به فطرتُك، ويُوصِلُك إلى سعادَتِك في دنياك، وآخرَتِك، وقرأ الجمهور (¬1): {في مِرية} بكسر الميم، وهي لغة الحجاز، وقرأ السلمي، وأبو رجاء، وأبو الخطاب السدوسي، والحسن بضمها، وهي: لغة أسد، وتميم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} بذلك مع وجوب الإيمان به، وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقًّا، أو قد طبع على قلوبهم، فلا يفهمون أنه الحقّ أصلًا. أي: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} هذا الإيمانَ الكامِل، أمَّا المشركون منهم، فلاستكبار زُعمائهم، ورؤسائهم وتقليد مرؤوسيهم، وعامتهم لهم وأما أهل الكتاب .. فلتحريفِهم دينَ أنبيائهم، وابتداعهم فيه. الإعراب {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. {وَمَا} {الواو} استئنافية، {مَا} نافية {مِن} زائدة {دَابَّةٍ} مبتدأ أول {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور صفة لـ {دَابَّةٍ}، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {عَلَى اللَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم {رِزْقُهَا} مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره مستأنفة {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} فعل ومفعول {وَمُسْتَوْدَعَهَا} معطوف عليه وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة المبتدأ الثاني على كونَها خبرًا للأول، {كُلٌّ} مبتدأ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة نِيَّةُ الإضافة فيه، والمضاف إليه محذوف، تقديره: كل ما ذكر من الدابة، ورزقها، ومستقرها، ومستودعها {فِي كِتَابٍ} خبر المبتدأ {مُبِينٍ} صفة لـ {كِتَابٍ}، والجملة الاسمية مستأنفة مقررة لما قبلها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. {وَهُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} فعل ومفعول {وَالْأَرْضَ} معطوف عليه وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَقَ} {وَكَانَ عَرْشُهُ} فعل ناقص واسمه {عَلَى الْمَاءِ} خبره، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {خَلَقَ} على كونها صلةَ الموصول {لِيَبْلُوَكُمْ} {اللام} حرف جر وتعليل {يبلوكم} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لبلائكم، واختباركم الجار والمجرور متعلق بـ {خَلَقَ} {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} مبتدأ، وخبر {عَمَلًا} تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة (¬1) الاسمية في محل النصب معمولة لـ {يبلوكم} علق عنها باسم الاستفهام. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم, لأنه طريق إليه، فهو ملابس له، اهـ "سمين" {وَلَئِنْ} {الواو} استئنافية {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {قُلْتَ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعلَ شرط لها {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} ناصب واسمه وخبره والجملة في محل النصب مقول لـ {قل}. {مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {مَبْعُوثُونَ}. {لَيَقُولَنَّ} {اللام} موطئة للقسم مؤكدة للام القسم الأولى {يقولن الذين} فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه جواب القسم تقديره، وإن قلت: إنكم مبعوثون يقول الذين كفروا، وجملة الشرط مع جوابه، وكذلك جملة القسم مع جوابه مستأنفة، {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلةُ الموصول {إِنْ} نافية لا عمل لها لانتقاض نفيها بـ {إلا}. {هَذَا} مبتدأ {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {سِحْرٌ} خبر المبتدأ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{مُبِينٌ} صفة لـ {سِحْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول. {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. {وَلَئِنْ} {الواو} عاطفة، {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {أَخَّرْنَا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونِه فعلَ شرط لها {عَنْهُمُ} متعلق به {الْعَذَابَ} مفعول به {إِلَى أُمَّةٍ} متعلق بـ {أَخَّرْنَا} {مَعْدُودَةٍ} صفة لـ {أُمَّةٍ} {لَيَقُولُنَّ} {اللام} موطئة للقسم، مؤكدة للأولى {يقولن} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأن أصلَه ليقولونن، وواو الجماعة المحذوفة، لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجوابُ الشرط محذوف لِدلالةِ جواب القسم عليه، تقديره: وإن أخرنا عنهم العذاب .. يقولون ما يحبسه، وجملة الشرط مع جوابه، وكذلك جملة القسم معطوفة على جملة قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ} و {يقولن} بضم اللام هنا معرب بالنون المحذوفة لالتقاء الساكنين، وإنما أعرب مع نون التوكيد لانفصالها بالواو في التقدير، وإن بَاشَرَتْ في اللفظ، وشرط بناء الفعل معها مباشرتها فيهما، وهذا بخلاف {لَيَقُولَنَّ} المتقدم فإنه مبني لمباشرة النون في اللفظ والتقدير كما سيأتي بيان إعلاله في مباحث الصرف، {مَا} استفهامية في محل الرفع مبتدأ {يَحْبِسُهُ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ما الاستفهامية، والضمير المنصوب يعود على {الْعَذَابَ} والمعنى: أي شيء من الأشياء يحبس العذاب، ويمنعه من الوقوع؟ وهذا الاستفهام على سبيل الاستهزاء، والسخرية، وجملة {يَحْبِسُهُ} في محل الرفع خبر {مَا} الاستفهامية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول {أَلَا} حرف استفتاح داخلة على {لَيْسَ} في المعنى {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {مَصْرُوفًا} {يَأْتِيهِمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الْعَذَابَ}، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {الْعَذَابَ}. {مَصْرُوفًا} خبر {لَيْسَ} والتقدير:

ألا ليس هو؛ أي: العذاب مصروفًا عنهم يوم يأتيهم العذاب، وجملة {لَيْسَ}. مستأنفة {عَنْهُمْ} متعلقان بـ {مصروفا} {وَحَاقَ} فعل ماض {بِهِم} متعلق به {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {لَيْسَ} {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه {بِهِ} متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ} وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ} في محل النصب خبر {كان} وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير {بِهِ}. {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)}. {وَلَئِنْ} {الواو} استئنافية (اللام) موطئة للقسم (إن) حرف شرط {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعلَ شرط لها {مِنَّا} حال من {رَحْمَةً} لأنه صفة نكرة، قدمت عليها {رَحْمَةً} مفعول ثان {ثُمَّ} حرف عطف {نَزَعْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول {مِنْهُ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أَذَقْنَا} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {لَيَئُوسٌ} (اللام) حرف ابتداء {يئوس} خبره {كَفُورٌ} صفة {يئوس} أو خبر ثان لـ (إن) وجملة (إن) جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه جواب القسم، تقديره: فهو يؤوس كفور، وجملة الشرط مع جوابه، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، لا محلَّ لها من الإعراب. {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}. {وَلَئِنْ} {الواو}: عاطفة (اللام) موطئة للقسم (إن) حرف شرط {أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} فعل وفاعل ومفعولان في محل الجزم بـ (إن) الشرطية {بَعْدَ ضَرَّاءَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {أَذَقْنَاهُ}. {مَسَّتْهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ضَرَّاءَ}، والجملة في محل الجر صفة لـ {ضَرَّاءَ} {لَيَقُولَنَّ} (اللام) موطئة للقسم مؤكدة للأولى، {يقولن} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة جوابُ

القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف تقديره: وإن أذقناه نعماء .. يقول: وجملة الشرط مع جوابه، وكذا القسم مع جوابه معطوفة على جملة، قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ}، {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ} فعل وفاعل {عَنِّي} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَفَرِحٌ} خبره {فَخُورٌ} صفة {فرح} أو خبر ثان، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل القول. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}. {إِلَّا} أداةُ استثناء {الَّذِينَ} مستثنًى (¬1) متصل في محل النصب، والمستثنى منه الإنسان، وقيل: الاستثناء منقطع، و {إِلَّا} بمعنى (لكن) الاستدراكية {الَّذِينَ} في محل الرفع مبتدأ أول، {صَبَرُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على {صَبَرُوا}، {أُولَئِكَ} مبتدأ ثان، {لَهُمْ} خبر مقدم {مَغْفِرَةٌ} مبتدأ ثالث {وَأَجْرٌ} معطوف على {مَغْفِرَةٌ}، {كَبِيرٌ} صفة {أَجْرٌ} والجملة من المبتدأ الثالث، وخبره خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من الأول، وخبره جملة استدراكية لا محلَّ لها من الإعراب، وفي "السمين" قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب على الاستثناء المتصل، إذ المراد بالإنسان الجنس، لا واحد بعينه. والثاني: أنه منقطع، إذ المراد بالإنسان شخص معين، وهو على هذين الوجهين، منصوب المحل. والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وهو منقطع أيضًا اهـ. ¬

_ (¬1) العكبري.

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}. {فَلَعَلَّكَ} {الفاء}: استئنافية، {لعل} حرف ترج ونصب {والكاف} في محل النصب اسمها {تَارِكٌ} خبرها، وجملة {لعل} مستأنفة، و {تَارِكٌ} اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على محمَّد، {بَعْضَ مَا} مفعول، ومضاف إليه {يُوحَى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، {إِلَيْكَ} متعلق به، وجملة {يُوحَى} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {وَضَائِقٌ} معطوف على {تَارِكٌ}، {بِهِ} متعلق به {صَدْرُكَ} فاعل {ضائق}، {أَنْ يَقُولُوا} ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، تقديره: مخافةَ قولهم، أو كراهيةَ قولهم، والمصدر المقدر معلل لـ {تَارِكٌ}، و {ضائق}، {لَوْلَا أُنْزِلَ} إلى قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلا {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَيْهِ} متعلق به {كَنْزٌ} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول، {أَوْ} حرف عطف {جَاءَ} فعل ماض {مَعَهُ} متعلق به {مَلَكٌ} فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أُنزِلَ}، {إِنَّمَا} أداة حصر {أَنْتَ نَذِيرٌ} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَاللَّهُ} مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {وَكِيلٌ}، {وَكِيلٌ} خبر عن الجلالة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}. {أَمْ} منقطعة مقدرة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار {يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {افْتَرَاهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على

محمَّد، والجملة مستأنفة {فَأْتُوا} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: (الفاء) رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كان الأمر كذلك {ائتوا} فعل وفاعل {بِعَشْرِ سُوَرٍ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول {قُلْ}، {مِثْلِهِ} صفة أولى لـ {عشر} لأنه في تأويل مماثلة إياها {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة ثانية {وَادْعُوا} فعل وفاعل معطوف على {فَأْتُوا}، {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول {وَادْعُوا}، {اسْتَطَعْتُمْ} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من استطعتموه {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه حال من {من} الموصولة {إِنْ كُنْتُمْ} جازم وفعل ناقص واسمه {صَادِقِينَ} خبره، وجملة {كان} في محل الجزم بـ (إن) الشرطية، وجوابها محذوف معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم فادعوهم، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول القول. {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}. {فَإِلَّمْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم، ما قلت لكم من دعوة من يساعدكم، وأردتم بيان ما هو الأصلَح، إن لم يجيبوا لكم .. فأقول لكم: إن لم يستجيبوا لكم {إن} حرف شرط {لَّمْ} حرف جزم {يَسْتَجِيبُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَّمْ}، {لَكُمْ} متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها فعل شرط لها {فَاعْلَمُوا} (الفاء) رابطة لجواب (إن) الشرطية وجوبًا {اعلموا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول لجواب (إذا) المقدرة {أَنَّمَا} (أنَّ) حرف نصب ومصدر، ولكن بطل عملها لدخول (ما) الكافة عليها, ولذلك دخلت على الجملة الفعلية (ما) كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها، {أُنْزِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على القرآن {بِعِلْمِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه حال من

الضمير المستتر في {أُنْزِلَ}؛ أي: حالةَ كونه ملتبسًا بعلم الله وقضائه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم؛ أي: فاعلموا إنزالَ الله إياه بعلمه، {وَأَنْ لَا} (الواو) عاطفة (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن أي وأنه (لا) نافية تعمل عمل (إنَّ)، {إِلَهَ} في محل النصب اسمها، وخبر (لا) محذوف تقديره: وأنه لا إله موجود {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {هُوَ} ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر (لا) وجملة (لا) في محل الرفع خبر لـ (أن) المخففة، وجملة (أن) المخففة في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، تقديره: واعلموا عدمَ وجودِ إله إلا هو {فَهَلْ} (الفاء) حرف عطف وتفريع (هل) حرف للاستفهام الطلبي المضمن للأمر {أَنْتُمْ} مبتدأ {مُسْلِمُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة {فَاعْلَمُوا}. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}. {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف في محله {كاَنَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَن} على كونها فِعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَن}، {يُرِيدُ الْحَيَاةَ} فعل ومفعول {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةَ} وفاعله ضمير يعود على {مَن} وجملة {يُرِيدُ} في محل النصب خبر {كَانَ}؛ أي: من كان مريدًا الحياةَ الدنيا {وَزِينَتَهَا} معطوف على {الْحَيَاةَ}، {نُوَفِّ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله {إِلَيْهِمْ} متعلق به {أَعْمَالَهُمْ} مفعول به {فِيهَا} متعلق به أيضًا، وجملة (من) الشرطية مستأنفة، {وَهُمْ} مبتدأ {فِيهَا} متعلق بما بعده، وجملة {لَا يُبْخَسُونَ} خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {أَعْمَالَهُمْ}، {أُولَئِكَ الَّذِينَ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {لَيْسَ} فعل ماض ناقص {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم

لـ {لَيْسَ}، {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بالاستقرار، الذي تعلق به الخبر {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {النَّارُ} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والتقدير {لَيْسَ} كائنًا لهم في الآخرة إلا النار، وجملة {لَيْسَ} صلة الموصول، {وَحَبِطَ} فعل ماض {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل لـ (حبط) والجملة معطوفة على جملة {لَيْسَ}، {صَنَعُوا} فعل وفاعل {فِيهَا} متعلق به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: ما صنعوه فيها، {وَبَاطِلٌ} خبر مقدم {مَا} موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {لَيْسَ}، {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كَانَ} صلة (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره ما يعملونه. {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}. {أَفَمَنْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهلتم أيها المشركون حَقِيَّةَ ما عليه محمَّد وأصحابه، فمن كان على بينة من ربه، كمن ليس على ذلك (من) اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على (من) {عَلَى بَيِّنَةٍ} جار ومجرور خبر {كاَنَ}، {مِنْ رَبِّهِ} صفة لـ {بَيِّنَةٍ} وجملة {كَانَ} صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: كمن ليس على ذلك، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، وجواب الاستفهام محذوف أيضًا، تقديره: لا يستويان كما مر في مبحث التفسير، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} فعل ومفعول وفاعل معطوف على جملة {كَانَ}، {مِنْهُ} جار ومجرور صفة لـ {شَاهِدٌ}، {وَمِنْ قَبْلِهِ} جار ومجرور حال من {كِتَابُ مُوسَى}، {كِتَابُ مُوسَى} معطوف على {شَاهِدٌ}، والتقدير: ويتلوه كتاب موسى حالةَ كونِه كائِنًا قبلَه {إِمَامًا} حال ثانية من {كِتَابُ مُوسَى}، {وَرَحْمَةً} معطوف على {إِمَامًا}، {أُولَئِكَ} مبتدأ، وجملة {يُؤْمِنُونَ} خبره، {بِهِ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَمَن} {الواو}: استئنافية {مَن} اسم شرط في

محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب {يَكْفُرْ} فعل مضارع مجزوم على كونه فِعْلَ شرط لـ {مَن}. {بِهِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {من} {مِنَ الْأَحْزَابِ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَكْفُرْ}. {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} مبتدأ وخبر، و {الفاء} رابطة الجواب، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب مَن الشرطية، وجملة مَن الشرطية مستأنفة. {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}. {فَلَا} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلته وأردت بيان ما هو الأصلح اللازمُ لك .. فأقول لك {لا تك في مرية منه} {لاَ} ناهية جازمة {تَكُ} فعل مضارع ناقص مجزوم بـ (لا) الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد، أو على أيِّ مخاطب {فِي مِرْيَةٍ} جار ومجرور خبرها {مِنْهُ} متعلق بـ {مِرْيَةٍ}، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، {إِنَّهُ الْحَقُّ} ناصب، واسمه، وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور، حال من {الْحَقُّ}، {وَلَكِنَّ} (الواو) عاطفة {لكنَّ} حرف نصب واستدراك {أَكْثَرَ النَّاسِ} اسم {لكنَّ} ومضاف إليه، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبر {لكنَّ}، وجملة {لكنَّ} معطوفة على جملة {إن} على كونها مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} والدابة (¬1) اسم لكلِّ نسمة حية تدب على الأرض، زحفًا أو على قوائم اثنين فأكثر، وغلبَ عُرْفًا على ما يركب من الخيل، والبغال، والحمير، والدبُّ، والدبيب الانتقال الخفيف البطيء، كدبيب الطفل، والشيخ المسن، والعقرب. وفي "المصباح": دَبَّ الصغيرُ يدبُّ من باب: ضَرَب إذا مشى ودَبَّ الجيشُ دبيبًا أيضًا إذا سارُوا سيرًا لينًا، وكل حيوان في الأرض دابَّةً. اهـ {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} والمرادُ به ما يقوم به رَمقُها وتَعِيش به. "الكرخي". ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} والمستقر مكانُ الاستقرار من الأرض، والمستودع حيث كانَ مودَعًا قبل الاستقرار في صلب أو رَحم أو بيضة، ويجوز (¬1) أن يكونَا مصدرين؛ أي: استقرارَها واستيداعَها، ويجوز أن يكونَ مستودَعها اسم مفعول ليتَعدَّى فعله، ولا يجوز ذلك في مستقر لأنَّ فعله لازمٌ، اهـ "سمين". وفي "البيضاوي": {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: أماكنها في الحياة، وفي الممات، أو الأصلاب والأرحام، أو مساكنها من الأرض، حيث وجدَت بالفعل، ومُودَعَها من الموادِّ، والمقار حيث كانَت بعد بالقوة، اهـ. وقوله: من المواد كالمني والعَلقَةِ، والمَقارُّ كالصلب، والرحم، وقولُه: بعد؛ أي: بعد أنْ لم تكن شيئًا، اهـ "زكريا". {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ} والعرش مركز نظام الملك، ومصدرُ التدبير، والبلاء: الاختبار، والامتحان من بلاه يَبْلوه بلوى كدَعَا يدعو دَعْوَى وهو ناقص وَاوِيٌّ. {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} الأمَّةُ في الأصل الجماعة، والطائفة من الناس من نوع واحد، أو دين واحد، أو ملة واحد، والمراد بها هنا: الطائفة، أو المدة من الزمن، قال القرطبي: الأمة: اسم مشترك يطلق على ثمانية أوجه: الجماعة، والملة، والرجل الجامع للخير، والحين، والزمن، وأتباع الأنبياء ... الخ. {مَعْدُودَةٍ}؛ أي: قليلة، إذ الحصر بالعد يشعر بالقلة {مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}؛ أي: مدفوعًا ومحبوسًا {وَحَاقَ} نزَلَ وأحاطَ. {لَيَقُولُنَّ} وفي "السمين" قولُه {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} هذا الفعلُ معرب على المشهور لأنَّ النون مفصولة تقديرًا إذ الأصلُ ليقولونن (النون) الأولى للرفع وبعدها نون مشددة، فاستثقل توالي الأمثال، فحذفت نون الرفع, لأنها لا تدل من المعنى على ما تدل عليه نُونُ التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو التي هي ضمير الفعل، لالتقائها ساكنة مع النون، اهـ. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} الإذاقة هنا: الإعطاء القليل، والنزع، والسلب، والحرمان، واليؤوس: شديدُ اليأس من عود تلك النعمة، والكفور، كثيرُ الكفران، والجحود لما سلف عليه من النعم، والنعماء، والنعمةُ والنعمى الخير، والمنفعة، ويقابلها الضراء، والضر {فرح} بطر مغتر بهذه النعمة، {فَخُورٌ} أي: متعاظم على الناس بما أوتي من النعم، مشغولُ بذلك عن القيام بشكرها. وفي "الشوكاني": والنعماء: إنعام يظهر أثَرَهُ على صاحبه، والضراءُ ظهورُ أثر الإضرار على من أصيب به، اهـ. {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} لعل هنا: للاستفهام الإنكاري الذي يفيد النهي مع الاستبعاد،؛ أي: لا تترك تبليغَ بعض ما أوحي إليك، ولا يَضِقْ به صدرُك، والتركُ، والضيقُ مستبعدان منك، وضيقُ الصدر يراد به الغم والحزن وعبر (¬1) بـ {ضائق} دون ضيِّق للمناسبة في اللفظ مع {تَارِكٌ} وإن كان ضيقٌ أكثرَ استعمالًا, لأنه وصف لازم، {وَضَائِقٌ} وصف عارض، وقال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ عدَل عن ضيق إلى {ضائق}؟ قلتُ: ليدل على أنه ضيقٌ عارض غيرُ ثابت, لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أفسَحَ الناس صدرًا ومثله قولك: سيدٌ، وجوادُ تريد السيادةَ والجُود الثابتَين المستقرين، فإذا أردتَ الحدوثَ، قلت: سائدُ وجائدُ. انتهى ذكره أبو حيان. {كَنْزٌ} والكنزُ ما يدخر من المال في الأرض، وفي "زاده" {كَنْزٌ} أي: مال كثير من شأنه أن يكنز؛ أي: يدفن، اهـ. {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} نعت لـ {سُوَرٍ} و {مثل} وإن كانت بلفظ الإفراد فإنها يوصف بها المثنَّى، والجمع، والمؤنث كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وتجوز المطابقة قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ}، وقال تعالى: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، و (الهاء) في {مِثْلِهِ} تعود لـ {مَا يُوحَى} و {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة لـ {سُوَرٍ} أيضًا، وهي جمع مفتراة كمصطفيات في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

جمع مصطفَاة، فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية، اهـ "سمين". {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} والوكيل: الرقيب الحفيظ للأمور، الموكل بحراستها {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} والاستجابة للداعي إجابته إلى ما يريد، فالسين والتاء، فيه زائدتان {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الإسلام، الإذعان، والخضوع، والانقياد {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ..}؛ أي: نُوصل إليهم من وفَّى يوفي توفية ووفاء كزكى يزكي تزكيةً وزكاةً وهو من المضعف الناقص الذي قياس مصدره التفعلة، وهو مجزوم بحذف الياء {لَا يُبْخَسُونَ} لا ينقصون، وإنما (¬1) عبر عن عدم نقص أعمالهم، بنفي البخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية، التي هي إعطاءَ الحقوق مع أن أعمالَهم بمعزل عن كَوْنِها مستوجبةً لذلك، بناءً للأمر على ظاهر الحال، مبالغة في نفي النقص؛ أي: إن كان ذلك ناقصًا لِحُقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع، والصدور عن الكريم أصلًا، اهـ "أبو السعود". {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا}؛ أي: فسد وبطل، ولم ينتفعوا به {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} والبينة (¬2) ما يتبين به الحق كالبرهان في الأمور العقلية، والنصوص في الأمور النقلية، والتجارب في الأمور الحسية، والشهادة في القضاء {وَيَتْلُوهُ}؛ أي: يتبعه ويصدقه ويقويه والشاهد جبريل أو القرآن {إِمَامًا} والإمامُ (¬3) هو الذي يُؤتم به في الدين، ويُقتدى به {وَرَحْمَةً} والرحمة النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على مَنْ أنزله عليهم، وعلى مَنْ بعدهم باعتبار ما اشتملَ عليه من الأحكام الشرعيةِ المُوافِقَة لحكم القرآن {مِنَ الْأَحْزَابِ} والأحزاب قبائلُ الكفار الذين تحزبوا، واجتمعوا على معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاندته {مَوْعِدُهُ} اسم مكان من وَعد يعد وعدًا وموعدًا؛ أي: مكان وعده الذي يَصِير إليه، {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} المِرية بكسر الميم، وضمها: الشكُّ، ففيها لغتان: أشهرُهما: الكسرُ، وهي: لغة الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، الثانية: الضم لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

السلميُّ وأبو رجاء وأبو الخطَّاب والسدوسيّ، اهـ "سمين". البلاغة وقد تضمنت هذه الآياتُ ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الحصر في قوله {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. ومنها: إفادة العموم بحذف المضاف في قوله: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: كل من الدابة ومستقرها، ومستودعها، ورزقها. ومنها: الإضافةُ للتشريف في قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}. ومنها: تكريرُ القسم في قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ}، {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا}، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا}، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ}. ومنها: الطباق بين: {نَعْمَاءَ} و {ضَرَّاءَ}. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: كالسحر، فالكلام من باب التشبيه البليغ، حيث شَبَّهوا نَفْسَ البعث أو القرآن المتضمن لذكره بالسحر في الخديعة، حيث زعموا أنه إنما ذكر ذلكَ لمنع الناس عن لذات الدنيا، وصَرفِهم إلى الانقياد له، ودخولهم تحت طاعته، أو في البطلان، فإنَّ السحرَ لا شكَّ أنه تمويه، وتخييلٌ بَاطِل، فشبهوا الأمورَ المذكورة من البعث، والحساب، والجزاء في البطلان بالسحر، اهـ "زاده". ومنها: الاستعارة التصريحيةُ التبعيةُ في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} لأنّ الذوقَ حقيقة في معرفة طَعْمِ المطعوم باللسان، فهو هنا كناية عن الإعطاء. ومنها: وصف الأجر بالكبر في قوله: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} للتفخيم، والتعظيم لما احتوى عليه من النعيم السرمدي، ودفع التكاليف، والأمن من عذاب الله، والنظر إلى وجهه الكريم، وفيه أيضًا رعاية الفواصل حيث أتى به، ولم يَقُلْ أجر عظيم.

ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}. ومنها: الكنايةُ في قوله: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}؛ لأن الضِّيقَ هنا كناية عن الهمِّ والحزن. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {صَدْرُكَ}؛ أي: قلبك حيث أطلق المحل، وأراد الحال. تنبيه: التحدي بعشر سور، جاء بعد التحدي بالقرآن الكريم كله، فلما عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن تحدَّاهم بعشر سور، ثُمَّ لما عجزوا تحداهم بالإتيان بسورة مثله في البلاغة، والفصاحة، والاشتمال على المغيبات، والأحكام التشريعية، وأمثالها، وهي الأنواعُ التسعةُ، وقد نظَمَها بعضُهم بقوله: أَلاَ إِنَّمْا الْقُرْآنُ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ ... سَأُنْبِيْكَهَا فِيْ بَيْتِ شِعْرٍ بَلا مَلَلْ حَلاَلٌ حَرَامٌ مُحْكمٌ مُتَشَابِهٌ ... بَشِيْرٌ نَذِيْرٌ قِصَّةٌ عِظَةٌ مَثَلْ ومنها: الحذفُ والزيادة في عدّةِ مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}. المناسبة قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ...} الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّه لمَّا سبَق (¬1) قوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} .. ذَكر هنا أنه لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أحدَ أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله سبحانَه وتعالى الولدَ، واتخذوا معه آلهةً وحرَّموا وحلَّلوا من غير شرع الله تعالى. قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ...} الآيات، مناسبتُها لِما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يَؤُول إليه الكفار من النار .. ذَكَرَ ما يَؤُول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا: المؤمنُ والكافرُ، ولمَّا كان قدَّم ذِكرَ الكفار، وأَعْقبَ بذكر المؤمنينَ جاء التمثيلُ هنا مبتدأً بالكافر، فقال: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ}. وعبارةُ المراغي هنا: مناسبتُها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّن فيما سبق أنَّ الناس فريقانِ: فريقٌ يريدُ الدنيا وزينتَها، وفريق على بَيِّنَةٍ من ربه .. أرْدفَ ذلك ببيانِ حالِ كلِّ من الفريقين في الدنيا، وما يكون عليه في الآخرة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ...} الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَرَ (¬1) بَعثة النبيّ الكريم، وأثْبتَ بالبرهان أنه رسول من رب العالمين، وأنَّ القرآنَ وَحْيٌ من الرحمن الرحيم .. أرْدفَ ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبينَ لقومه: أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعًا من الرسل، وإنه إنما بُعِثَ بمثلِ ما بعث به مَن قبله من الدعوةِ إلى عبادة الله تعالى وحده، والإيمان بالبعث والجزاء، فحالُه معهم كحال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام، مع أقوامهم جملةً وتفصيلًا، كما قال: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}. قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قَبْلَها: أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَر مقالتَهم وطَعْنَهم في نوح عليه السلام بتلك الشُّبه السالفة .. قَفَّى على ذلك بدَحْضِ نوح عليه السلام لها، وردِّ شبهات أخرى، قد تكون صَدَرَتْ منهم، ولم يَحْكِها لعِلْمِها من الرد عليها، ورُبَّما لم ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

يقولوها، وإن كان كلامهم يستلزمُهَا، وهذا من خواص أسلوب الكتاب الكريم، وسرٌّ من أسرار بلاغته. قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ...} الآيات، مناسبتها لِمَا قَبْلَها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ شُبهَاتِهم في رَفْضِ نبوة نوح عليه السلام، ورَد نوحٍ عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون .. ذَكَرَ هنا مقالتَهم التي تَدُلُّ على العجز والإفحام، وأنَّ الحِيَلَ قد ضَاقَتْ عليهم، فلم يَجِدُوا للردِّ سبيلًا في ذلك إيماءً إلى أنَّ الجدال في تقرير أدلة التوحيد، والنبوة والمعاد، وفي إزالة الشبهات عنها هيَ وظيفة الأنبياء، والتقليد، والجهلُ والإصرار على الباطل والإنكار والجحودُ هو دَيْدَنُ الكفار المعاندين. التفسير وأوجه القراءة 18 - والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} للإنكار؛ أي: لا أحَدَ أشدُّ ظلمًا لنفسه ولغيره ممن افترى واخْتَلَق على الله كذبًا في أقواله، أو أفعاله، أو أحكامه، أو صفاته، أو في اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه، أو في زعم أنه اتخذ له ولدًا من الملائكة كالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، أو في تكذيب ما جاء به رُسُلُه من دينه، لصد الناس عن سلوك سبيله. واللفظ (¬1) وإن كان لا يقتضي إلا نفيَ وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقامُ يفيدُ نَفْيَ المساوي لهم في الظلم، فالمعنى على هذا لا أحد مِثْلَهم في الظلم فَضْلًا عن أن يُوجَد من هو أظلم منهم، والإشارةُ بقوله {أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ؛ أي: أولئك المُفتَرُونَ على الله الكذبَ {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} يوم القيامة للمحاسبة عرضًا تظهرُ به فضيحَتُهم؛ أي: يساقون إلى الأماكن المعدَّة للحساب، والسؤال، أو المعنى تعْرَضُ أعمالُ هؤلاء، وأقوالُهم على ربهم لمحاسبتهم {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} الذين يقومون للشهادة ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[19]

عليهم الذين هم الملائكة الحَفَظَةُ، وقيل: المرسلون، وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمَرَهم الله تعالى بإبلاغه، وقيل: جميع الخلائق. أي: يقولُ الأشهادُ عند العَرْضِ {هَؤُلَاءِ} المُعرِضُون أو المعروضة أعمالُهم هم {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} بما نسبوه إليه، ولم يصرِّحوا بما كَذَبوا به كأنهُ كان أمرًا معلومًا عند أهلِ ذلك الموقف، وقولُهُ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هذا من تمام كلام الأشهاد، أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله، وطرده على الظالمين الذين ظَلَمُوا أنفُسَهم بالافتراء على الله، وغيرهم بالصدِّ عن سبيل الله، يفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة، باللعنة الدالَّة على خروجهم من مُحيط الرحمة؛ ويجوز أن يكونَ من كلام الله سبحانَه قَالَه بعد ما قال الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}. وقد جاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}. وفي حديث ابن عُمر في "الصحيحين" وغيرهما، سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يدنِي المؤمنَ حتى يضَعَ كَنَفَه عليه ويَسْترُهُ من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرَف ذَنْبَ كذا؟ فيقول: رَبّ أعْرِفُ، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هَلَكَ؟ قال: فإني سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثُمَّ يُعْطيَ كتابَ حسناته، وأما الكافرُ، والمنافق فيقول: {الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ". 19 - ثمَّ وصفَ هؤلاء الظالمينَ الذينَ لعنوا بأنهم هم {الَّذِينَ يَصُدُّونَ}؛ أي: يمنعون مَن قَدَرُوا على مَنْعِه ويصرفونهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن دينه القيم وصراطه المستقيم، والدخول فيه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}؛ أي: يصِفُونَها بالاعوجاج، والالتواءِ والميل عن الحق لينفروا منها أو يَبْغُون أَهلها أن يكونوا معَوَّجِينَ بالخروج عنها إلى الكفر {و} الحال أنَّ {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} لا يؤمنون ببعث، ولا جزاء؛ أي: يصفونها بالعِوَج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدقين،

[20]

فكيف يَصُدُّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البَحْتِ؟ وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرهم، واختصاصهم به، حتى كان كفر غيرهم غيرَ مُعتدٍّ به، بالنسبة إلى عَظيم كفرهم 20 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفات السابقة يعني المفترينَ على الله الصادينَ عن سبيل الله {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} الله {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ما كانوا يعجزون اللَّهَ في الدنيا، إن أرادَ عقوبتهم؛ أي: إن هؤلاء الذين يصُدون عن سبيل اللَّهِ لم يكونوا بالذين يعجزون رَبهم، بهربهم منه في الأرض، إذا أراد عِقَابَهم بل هم في قبضته وملكه لا يمتنعون منه إذا أرادهم، ولا يفوتونه هربًا إذا طلبهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزالِ بأسِه بهم؛ أي: ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه، وَيحُولُون بَيْنَهم وبَيْنَه إذا هو عذَّبهم، وجملة قوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} من أجل ضلالهم وإضلالهم، مستأنفة لبيان أنّ تأخير العذاب والتراخيَ عن تعجيله لهم، ليكون عذابًا مضاعفًا يعني الرؤساءَ الصَّادِّين عن سبيل الله، وذلك لإضلالهم أتباعَهم، واقتداء غيرهم بهم؛ أي: إنَّ عدمَ (¬1) نزول العذاب ليسَ لأجْلِ أنهم قَدَرُوا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار وغيره، ولا لأجل أن لهم ناصرًا يمنع العذابَ عنهم، كما زعموا أنَّ الأصْنَامَ شفعاؤُهُم عند الله، بل لأنه تعالى أمهلَهم كي يتوبوا عن كفرهم، فإذا أبوا إلَّا الثباتَ عليه، فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}؛ أي: يُزَاد عذابهم بسبب صدِّهم عن سبيل الله، وإنكارهم البعثَ بعد الموت، فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم، وعلى إضلالهم غيرَهم، وهذا غيرُ خارج عن قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد، ويعقوب (¬2): {يُضعَّف} بلا ألف مع تشديد العين. ثمَّ بين علّةَ هذه المضاعفة بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}؛ أي: ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاءً لدعوة الحق، لاسْتحواذ الباطل على أنفسِهم، ورَيْنِ الكفر، والظلم على قلوبهم، كما حَكى الله عنهم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[21]

بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)}، {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} ما يدُلُّ على صِدقه في الأنفس والآفاق. وإجمال المعنى (¬1): أنهم لشدة انهماكهم في الكفر، واتباع الهوى والشهوات، صاروا يكرهون الحقَّ والهدى فيثقل عليهم سماع ما يبيِّنه من الآيات السَّمعية، وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد خَتَم الله على سمعهم، وعلى أبصارهم، فلا يسمعون الحقَّ سماعَ منتفع، ولاَ يبصرون حُجَجَ الله إبصارَ مهتد. والخلاصة: أنهم أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له حَتّى كأنَّهم لا يقدرون على الاستماع، ولا يقدرون على الإبصار، لِفرط تَعَامِيهم عن الصواب والحق. 21 - {أُولَئِكَ} المتصفون بتلك الصفات هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بعبادة غير الله تعالى؛ أي: اشتَروا عبادةَ الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم، أعظم خسران {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: ذَهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم، ولم يبقَ بأيديهم إلا الخسران. والمعنى: أي: أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبَنُوا أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله بافترائهم عليه، واشتراء الضلالة بالهدى، وبطل كذبهُم بادعاء أنَّ له شركَاءَ وشفعاء، يُقربونهم إليه زلفى ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غيرَ مسلكهم، إذ سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عَدَمًا؛ لأنها كانت في الدنيا أحجارًا أو خشبًا أو نحاسًا، وذلك هو ضلالهم وبعدُهم عنهم. 22 - والخلاصة: وبَطَل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، وادعاؤهم أنَّ الملائكةَ والأصنامَ تشفع لهم، وكلمة لا في قوله {لَا جَرَمَ} زائدة كما في "الإتقان"، وجَرَم فعل ماض بمعنى: حق، وثَبَتَ، وجملةُ قوله {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لجرم؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونهم في الآخرة أشدَّ الناس خسرانًا إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب ¬

_ (¬1) المراغي.

[23]

الرحيق المختوم بسموم وحميم، وظلٍّ من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن قربِ الرحمن بعقوبة الملك الديان. وفي "الفتوحات": كلمةُ {لَا جَرَمَ} ورَدَتْ (¬1) في القرآن في خمسة مواضع متلوةً بأنَّ واسمها, ولم يجيء بعدها فعل، واختلف فيها، فقيل: {لا} نافية لما تقدمَ، وقيل: زائدةٌ، قاله في "الإتقان"، اهـ "كرخي". وعبارة "أبي السعود" {لَا جَرَمَ} فيها ثلاثة أوجه: الأول: أن (لا) نافية لما سبق، و (جرم) فعل ماض بمعنى حقَّ وثَبَتَ، و (أنَّ) وما في حيزها فاعله؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونُهم في الآخرة هم الأخسرين، وهذا مذهب سيبويه. والثاني: أنَّ {جَرَمَ} بمعنى كَسَبَ وما بعده مفعولُه، وفاعله ما دلَّ عليه الكلام؛ أي: كَسَب ذلكَ خسرانهم، والمعنى ما حَصَل من ذلك إلا ظهورُ خسرانهم. والثالث: أنَّ (لا جرم) بمعنى لا بدَّ؛ أي: لا بدَّ أنهم في الآخرة هم الأخسرون، اهـ. وفي "الخطيب" ما نصه: قال الفراء: إن {لَا جَرَمَ} بمنزلة قولنا: لا بُدَّ ولا محالةَ ثم كَثُرَ استعمالُها حتى صارت بمنزلة حقًّا، تقول العرب: لا جَرمَ أنك مُحْسِنُ، على معنى حقًّا أنك محسن، اهـ وسيأتي بقية مباحثها في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. 23 - وبعد أن بيَّنَ حالَ الكافرينَ وأعمالَهم ومآلهم .. بيَّنَ حالَ المؤمنين، وعاقبةَ أمرهم، فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا الله ورسوله {وَعَمِلُوا} في الدنيا {الصَّالِحَاتِ} أي الأعمال الصالحة فأتوا بالطاعات وتركوا المنكرات {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}؛ أي: خشعت نفوسُهُم واطمأنت إلى ربهم؛ أي (¬2): إنَّ الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمانُ به، وأتَوا بالأعمال الصالحات، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، واطمأنَّتْ قلوبُهُم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله، فارغةً عن الالتفات ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

[24]

إلى ما سوى الله تعالى، واطمأنت إلى صِدْقِ وعْدِ الله بالثواب على تلك الأعمال، وخافَتْ قُلوبُهم أنْ يكونوا أتَوا بتلك الأعمال مع وجود الإخلال، ومن أنْ لا تكون مقبولةً {أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفات الجميلة هم {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}؛ أي: قُطَّان الجنة الذين لا يخرجون منها, ولا يموتون بل {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبَّدًا دائمون فيها أبدًا. والإخْبَاتُ (¬1) في اللغة هو: الخشوع، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظ الإخبات يتعدى بإلَى، وباللام فإذا قُلتَ: أَخْبَتَ فلان إلى كذا، فمعناه: اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخبت له، فمعناه: خَشَعَ وخَضَعَ له، فقوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إشارة إلى جميع أعمال الجوارح، وقوله {وَأَخْبَتُوا} إشارة إلى أعمال القلوب، وهي الخضوع، والخشوع لله عز وجل، يعني: أنَّ هذه الأعمال الصالحة لا تنفعُ في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب، وهي الخشوع، والخضوع، وإذا فسَّرْنَا الإخبات بالطمأنينة، كان معنى الكلام أنهم يأتون بالأعمال الصالحة، مطمئِنّين إلى صدق وعد الله بالثواب، والجزاء على تلك الأعمال، أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى، وإذا فسَّرنا الإخباتَ بالخشوع، والخضوع .. كان معناه: أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفينَ وَجِلينَ، أنْ لا تكونَ مقبولة، وهو الخشوع والخضوع، 24 - وقولُه: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} ضَرَب (¬2) به مثلًا للفريقين، وهو تشبيهُ فريق الكافرينَ بالأعمى، والأصم، وتشبيهُ فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أنَّ كلَّ فريق شُبِّه بشيئَين أو شبِّه بمَنْ جَمَع بين الشيئين، فالكافر شُبِّه بمنْ جمَعَ بين العَمَى والصمم، والمؤمن شبِّه بمَنْ جَمَعَ بين السمع والبصر، وعلى هذا تكونُ (الواو) في {وَالْأَصَمِّ} وفي {وَالسَّمِيعِ} لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر: إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ اَلْهُمَامْ ... وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ فيْ الْمُزْدَحَمْ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[25]

أي (¬1): صفة الكافر كصفةِ شخصٍ متصفٍ بالعمى، والصمم، فلا يهتَدي لمقصوده، وصفَةُ المؤمن كصفة شخص متصف بالبصر والسمع فاهتدى لمطلوبه. والمعنى: مَثَلُ (¬2) فريقَيْ الكافرين والمؤمنين، وصفتهما الحِسيَّةُ التي تطابق حالَهما كمثل الأعمى الفاقدِ لحاسَّةِ البصر في خِلْقَتِهِ والأصم الفاقد لحاسةِ السمع الذي حُرِمَ وَسَائِلَ العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومَنْ هو كاملُ حَاستَي السمع والبصر، فهو يستمد العِلْمَ من آيات الله في خَلقِهِ بما يسمعُ من القرآن، وبما يَرَى في الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان. والاستفهام في قوله {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} للإنكار، وهذه الجملة مقررةُ لِمَا تقدم من قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: هل يستوي الفريقان صفةً وحالًا ومآلًا؟ كلَّا، إنهما لا يَستويان، و (الهمزةُ) في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} للتوبيخ داخلةٌ على محذوف، و (الفاءُ) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتَغْفُلُون عن ذلك المَثَلِ الجَليِّ الواضح وتَشكُّون في عدم الاستواء، فلا تَتَذكَّرون ما بينهما من التَّباين والاختلاف، فتعتبرُوا به؛ أي أفلا تذكرون في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يَخْفى على مَنْ له تذكُرٌ وعنده تأمُّلٌ، والهمزةُ لإنكارِ عدم التذكر، وابتعاد صدورِه من المخاطبين. وإجمالُ المعنى: أنه شَبَّهَ الكافرين بالعُمْي الذين لا يستعملون أبْصَارهم فيما يفضلون به الحيوانَ الأعجم من فَهْمِ آيات الله التي تزيدُهم عِلْمًا وهُدًى وبالصم الذين لا يَسْمَعون داعِيَ الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه، ويهتدون به، وشبه المؤمنين الذين انْتَفَعُوا بأسماعهم وأبصارهم، واهتدوا إلى الجنة، وتركوا مَا كَانوا خابطينَ فيه من كفر وضلال، بحال مَنْ هو سميع بصير، فيهتدي بِسَمْعِهِ إلى ما يبعدُه من مواضع الهلاك، ويهتدي ببصرِه بواسطة النور حين السير في الظلام، وقرأ الجمهور: {أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} بإدغام التاء الثانية في الأصل في الذال، وفي قراءة سبعية: {تَذَكَّرُون} بحذف إحدى التائَين تخفيفًا. 25 - ولمّا أورد سبحانه على ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

الكفار المعاصِرينَ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنواعَ الدلائل التي هي أوْضَحُ من الشمس .. أكَّد ذلك بذكر القصص طريقةِ التَّفَنُّنِ في الكلام، ونَقْلِه من أسلُوب إلى أسلوب لِتكونَ الموعظةُ أظْهَر، والحجةُ أبْينَ، والقبولُ أتمَّ، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}. فصل فيما حوته قصص القرآن إنَّ في قصص (¬1) القرآن لأَشِعَّةٌ من ضياء العلم والهدى، جاءَتْ على لسان رَجْلٍ أمّيّ لم يكن منشئًا، ولا راويةً، ولا حافظًا، ويمكن أن نَجْعَلَ أغراضَها فيما يلي: 1 - بيان أُصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله، وتوحيده، وعلمه، وحكمته، وعدله، ورحمته، والإيمان بالبعث والجزاء. 2 - بيانُ أنَّ وظيفة الرسل تَبْليغُ وَحْيِ الله تعالى لعباده فحَسْبُ، ولا يملكون وَراءَ ذلِكَ نَفْعًا، ولا ضَرًّا. 3 - بيانُ سُنن الله في استعدادِ الإنسان النفسيّ والعقليّ لكلّ من الإيمان, والكفر، والخير، والشر. 4 - بيان سُنَنِ الله في الاجتماع، وطباع البشر، وما في خلقه للعالم من الحكمة. 5 - آياتُ الله وحججه على خلقه في تأييد رسله. 6 - نصائح الأنبياء ومواعظُهم الخاصَّة بكل قوم بحسَبِ حَالِهم كَقَوْمِ نوح في غِوَايتهم، وغرورهم، وقوم فرعون، ومَلَئِهِ في ثَرْوَتِهم، وعُتوِّهم، وقوم عاد في قُوَّتِهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم. 7 - تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يَعْلَمُ ما وقع لغيره من الأنبياء. ¬

_ (¬1) المراغي.

وجملة ما ذكره في هذه السورة من القصص سبعةٌ (¬1): القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} إلخ. القصة الثانية: قصة هود عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}. القصة الثالثة: قصة صالح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} إلخ. القصة الرابعة: قصة إبراهيم عليه السلام، مع الملائكة، المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}. القصة الخامسة: قصة لوط عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} إلخ. القصة السادسة: قصة شعيب المذكورة في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} إلخ. القصة السابعة: قصة موسى المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} إلخ، وهي آخر القصص. وتقدَّم أنَّ نوحًا اسمه عَبْدُ الغفار، ونوحُ لقبه، قال ابن عباس (¬2): بُعث نوح بعد أربعينَ سنةً، ولبِثَ يدعو قومَه تسع مئة سنة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنةً، فكان عُمْرُه ألف سنة وخمسين سنة، وقال مقاتل: بُعِثَ، وهو ابن مئة سَنَةٍ، وقيل: وهو ابن خمسين سنة، وقيل: وهو ابنُ مئتين وخمسين سنة، ومكَثَ يَدْعُو قَوْمَه تسع مئة سنةٍ وخمسين سنةً، وعاش بعد الطوفان مئتين وخمسين سنةً، فكان عمره ألفَ سنة وأربع مئة سنة وخمسين سنة، اهـ "خازن". ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الخازن.

[26]

أي: وعزتي وجلالي .. لقد أرسلنا وبعثنا نوحًا عليه السلام إلى قومه قائلًا لهم: يا قوم {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: مخوف لكم من عذاب الله تعالى، وبأسه إن خالفتم أمر الله سبحانه وعبدتُم غَيرَه {مبِينٌ}؛ أي: بَيّن الإنذار، أبيِّن لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه. أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه قائلًا لهم: إني لكم نذير من الله أنْذركم بأْسَه على كفركم به فآمنوا به، وأطيعوا أمْرَه. وقرأ النحويان (¬1) أبو عَمرو، والكسائي، وابن كثير: (أَنَّي) بفتح (الهمزة)؛ أي: بأني وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول 26 - ثم فسَّر هذا الإنذار بقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} بدل (¬2) من {إني لكم ..} إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلِّقة بـ {أَرْسَلْنَا}؛ أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأن لا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وكانوا أولَ مَنْ أشْركَ بالله، واتخذوا الأندادَ، وكان هو أوَّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ثم علل هذا بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}؛ أي: إن لم تخصوه بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد، وتخلعوا ما دونه من الأنداد، والأوثان .. أخَف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عِقَابُه وعذابه، لمن عذب فيه، وهو يوم القيامة أو يوم الطوفان، ووصفَه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغةً، وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضةٍ ظنًّا منهم أنها تكفي في رد دعوته، وهذا الجواب يتضمَّن الطعنَ منهم في نبوته من ثلاثِ جهات: 27 - الجهة الأولى: ما ذكره بقوله {فَقَالَ الْمَلَأُ}؛ أي: الأشراف، والرؤساء الذين كفروا من قومه؛ أي: من قوم نوح، ووصفهم بالكفر ذمًّا لهم، وفيه دليلٌ على أنَّ بعضَ أشرافِ قومه لم يكونوا كفرةً {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}؛ أي: ما نعلمك إلا آدمِيًّا مثلنا، ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا؛ أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزيةٌ تستحق بها النبوةَ دُوننا؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

وهذه هي الجهة الأولى من جهات طعنهم. والجهة الثانية: ما ذكره بقوله {وَمَا نَرَاكَ} يا نوح {اتَّبَعَكَ}، وأطاعك في دعوتك {إِلَّا} الأقوام {الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وأخساؤنا كالحجَّامين والنساجين والأساكفة، ولم يَتْبَعْكَ أحد من الأشراف، فليس لك علينا مزية باتباع هؤلاء الأراذل لك، وانتصاب {بَادِيَ الرَّأْيِ} على الظرفية، والعامل فيه اتبعك؛ أي: اتبعوك في ظاهر رأيهم، وابتداء فكرهم من غير تعمق، ولا تأمل فيه، ولو احتاطُوا في الكفر ما اتبعوك؛ أي: وإنَّا لم نَرَ متبعيك إلّا الأَخساء والفقراء كالزراع والصناع، ومن في حكمهم في المكَانَة الاجتماعية باديَ الرأي قبل التأمل في عواقبه، والنظر في مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجِّح ردَّ الدَّعوة، والتولي عنها. والجهة الثالثة من جهات طعنهم في نبوته: ما ذكره بقوله: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}؛ أي: لا نرى لك، ولمن اتَّبعك من الأراذل فضْلًا علينا لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجَدَل تتميزون به عنا، وتستحقون به ما تدعونه، خاطبوه في الوجهَين الأولَين منفردًا، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه. والمعنى: وما نَرى لك، ولمن اتبعك أدْنَى امتياز عنا من قوة أو كثرة علم، أو أصالة رَأي يَحْمِلُنا على اتباعكم، ويَجْعَلُنا ننزِل عن جاهِنا ومالِنا، ونكون نحنُ وأنتم سواءَ، ثم أضرَبوا عن الثلاثةِ المَطَاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان، الذي لا مستندَ له إلا مجردَ العصبية، والحسد، واستبقاءَ ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، وهذا هو الجوابُ الرابعُ فقالوا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} فيما تدَّعُون؛ أي: بل إنَّا نُرَجِّحُ الحكم عليك، وعليهم بالكذب، فأنت كاذب في دعوى النبوة، وهم كاذبون في تَصْدِيقك؛ أي: بل نَظَنُّك يا نوح كاذبًا في دعوى النبوة، ونظن أصحابكَ كَاذِبينَ في تصديق نبوتك. وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي (¬1): {بادئ الرأي} من بَدأ يبدأ، ومعناه: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[28]

أولَ الرأي، وقرأ باقي السبعة {بادِيَ} بالياء من بَدا يَبْدُو، ومعناه ظاهرَ الرأي، وقيل: {بادي} (بالياء) معناه بادِىءَ بالهمز فسهِّلت الهمزة، بإبدالها ياءٌ لكسر ما قبلها، والعامل فيه نراك، أو اتبعك، أو أراذلنا؛ أي: وما نراك فيما يَظهرُ لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أوَّل رأيهم، أو ظاهرَ رأيهم، واحتملَ هذا الوَجْهُ معنيين: أحدُهما: أنْ يريد: اتبعوك في ظاهرِ أمرهم، وعسى أن تكونَ بواطنهم ليسَتْ معك. والمعنى الثاني: أن يُريد: اتبعوكَ بأوَّلِ نظر، وبالرأي البادىء دون تثبت، ولو تثبتوا .. لم يتبعوك، وإذا كان العاملُ أراذلنا فمعناه الذين هم أراذِلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يُعْلَمُ ذلك منهم. ذكره أبو حيان. 28 - ثمَّ ذَكَر سبحانه ما أجاب به نوحٌ عليهم فقال {قَالَ} نوحٌ {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ}؛ أي؛ أَخْبِرُوني {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}؛ أي: على برهان من ربي في النبوة، يدل على صحتها، ويُوجب عليكم قبولَها مع كون ما جعلتموه قادحًا ليس بقادح في الحقيقة، فإنَّ المساواةَ في صفة البشرية لا تمنعُ المفارقةَ في صفة النبوة، واتباعُ الأراذل كما تزعمون ليس ما يمنع من النبوة، فإنهم مثلكم في البشرية، والعقل, والفهم، فاتباعهم لي حجةٌ عليكم لا لكم، ويجوز أنْ يُرِيدَ بالبينة المعجزةَ {وَآتَانِي}؛ أي: أعطاني {رَحْمَةً}؛ أي: نبوَّة {مِنْ عِنْدِهِ}؛ أي: من فضله سبحانه وتعالى وقيَّدَ الرحمة بكونها من عنده تأكيدًا، وفائدتُهُ رَفْعُ الاشتراك، ولو بالاستعارةِ. ذكره أبو حيان. وقيل: الرحمةُ المعجزةُ، والبينةُ النبوةُ {فَعُمِّيَتْ}؛ أي: خَفِيَتْ كُلُّ واحدة من البينة، والرحمة {عَلَيْكُمْ} وصار ذلك البرهانُ مشكوكًا في عقولكم، والإفرادُ في {عميت} على إرادة كلّ واحدة منهما، أو على إرادة البينة, لأنَّها هي التي تَظْهَر لِمَنْ تَفَكَّر، وتَخْفى على مَنْ لم يَتَفَكَّرْ. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (¬1): {فَعُمِّيَتْ} بضم العين، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أبهمت عليكم، وأُخْفِيَت، وقرأ باقي السبعة {فعميت} بفتح العين، وتخفيف الميم مبنيًّا للفاعل، وقرأ أبيٌّ وعليٌّ السلميُّ، والحسَن، والأعمش، فعَمَّاهَا عليكم، وروى الأعمش عن أُبيٍّ ووَثَّاب {وعميت} بالواو خفيفةً. والمعنى (¬1): أي قال نوحُ {يَا قَوْمِ} أخْبِرُوني ماذا تَرون، وماذا تقولون، إن كنتُ على حجة فيما جئتكم به من ربي يَتَبيَّن لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي، ومن كسبي البشري الذي تُشاركُونني فيه، وآتاني رحمةً من عنده، وهي النبوةُ وتعاليمُ الوحي التي هي سبَبُ رحمةٍ خاصَّةٍ لِمن يَهتدِي بِهَا، فحَجَبَها عنكم جهلكم، وغروركم بالمال والجاه، فلم تتبينوا منها ما تَدُلُّ عليه من التفرقة بيني وبينكم، فمنعتم فَضْلَ الله عني بحرماني من النبوة، والاستفهامُ في قوله {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للإنكار؛ أي: أنُكْرِهُكُم على قبولها، والاهتداء بها، والمرادُ إلزام الجبر بالقَتْلِ ونحوه لا إلزام الإيجاب، إذ هو حاصلٌ كما في "البيضاوي" {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}؛ أي: وأنتم عنها معرضون غير متدبرين لها، كلّا إنَّا لا نفعل ذلك بل نَكِلُ أمركم إلى الله، حتى يقْضي في أمركم ما يَرى ويشاء، وما عليَّ إلا البلاغُ وهذا أوّلُ نصٍّ في دين الله على أنه لا ينبغي أن يكون الإيمانُ بالإكراه. والخلاصة: أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، إلّا أنها خَافِيةٌ عليكم أيُمْكِنُنَا أن نَضْطَرَّكم إلى العلم بها، والحال أنكم كارهون لها غير متدبرين فيها، فإنَّ ذلك لا يَقْدِرُ عليه إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ؛ أي: أخْبِروني بجواب هذا الاستفهام، وهو أني لا أقْدِر على إجْباركم. وحَكى الكِسَائي (¬2)، والفراء إسكان الميم الأولى في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} تخفيفًا كما في قول امرئ القيس: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ فإنَّ إسكانَ الباء في أشْرَبْ للتخفيف، وقد قرأ أبو عمرو كذلك. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[29]

قال ابن عطية (¬1): وفي قراءة أبيّ بن كعب {أنلزمكموها من شطر أنفسنا} ومعناه: مِن تلقاء أنفسنا، ورُوي عن ابن عباس: أنه قرأ ذلك {من شطر قلوبنا} انتهى، ومعنى شطر نحو، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن، لمخالفته سوادَ المصحف. وفي هذه الآية (¬2) إثباتٌ لنبوته عليه السلام، وردٌّ لإنكارهم لها، وتكذيبِه ومن معه فيها، وإبطالُ لشبهتهم في أنه بشرٌ مثلهم، وقد فاتهم أنَّ المساواة في البشرية لا تقتضي استواءَ أفرادِ الجنس في الكمالات، والفضائل، فالمشاهدَةُ والتجاربُ، تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرَّأي، والأخلاق والأعمال حتى إنّ الواحِدَ منهم ليأتي بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل، يَعْجزُ عن مثلها الأُلُوفُ من الناس في أَجْيالٍ كثيرة: وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ ... وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أمْرٌ عَرَا فما بَالُكَ بِمَنْ يَخْتَصُّهم الله تعالى من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه، كالأنبياء والرسل الكرام، 29 - وقال نُوحٌ أيضًا {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا}؛ أي: لا أطْلُب مِنكم مالًا، وجُعْلًا على تبليغي دَعْوةَ الرِّسالةِ، وعلى نصيحتي لكم، ودعوتي إياكم إلى توحيد الله، وإلى إخلاص العبادة له، فأكُونُ مُتَّهَمًا فيه عندكم، لمكانة حبِّ المال من أنفسكم، واعتزازكم به عليَّ، وعلى الفقراء من أتباعي، وما أريد بذلك إلا خَيْرَكم، ومصلحتكم، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}؛ أي: فما أَجْرِي على ذلك إلَّا على الله، الذي أرْسَلَنِي، فهو الذي يجازيني، ويثيبُني عليه، وإن ظننتم أنّي إنما اشتغلت بهذا التبليغ لأجل أخذ أموالكم، فهذا الظنُّ منكم خَطأٌ، وإنما أسْعَى في طلب الدين، لا في طلب الدنيا، وهذا يوجب فضلي عليكم، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد. ومثْل هذه المقالة قد صدَرَتْ من جميع الأنبياء بعده، فجَاءت على لسان هُود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، كما ترى ذلك في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[30]

سورة الشعراء مَحْكِيًّا عنهم. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ وحده، وصدَّقوا برسالتي عن مجلسي بسبب قولكم اطْرُدهم عنك نتبعك؛ أي: ليس من شأني، ولا بالذي يكون مني أن أبعد من يؤمن بي، وأنحيه عني احتقارًا له على أيِّ حال كانَتْ صفتُه، وفي هذا إيماءٌ إلى الجواب عن قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وقد روي أنهم قالوا له: يا نوح! إن أحبَبْتَ أن نتبعك، فاطردْ هؤلاء، فإنَّا لن نَرْضَى أن نكون نحن وهم في الأمر سواءً، وقرىء {بطاردٍ} بالتنوين، قال الزمخشري: على الأصل، يعني أن اسمَ الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله: أن يَعْمَلَ، ولا يُضَافُ وهذا ظاهر كلام سيبويه، ذكره أبو حيان ثُمَّ علَّل الامتِناع من طردهم بقوله: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}؛ أي: إنَّ هؤلاء الذين تسألونَني طردَهم صائرون إلى ربهم، وهو سائلهم عمَّا كانوا يعملون في الدنيا, ولا يسألهم عن حَسَبهم وشَرَفهم؛ أي: إنهم فائِزون في الآخرة بلقاء الله تعالى، فإنْ طردتهم .. استَخْصَمُوني في الآخرة عنده، فأُعاقبُ على طَرْدِهِم. والمعنى: لا أطردهم فإنَّهم ملاقونَ يومَ القيامة ربَّهم، فهو يجازيهم على إيمانهم, لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عندَه سبحانه، وكأنَّه قال هذا على وَجْه الإعظام لَهم، ويحتمل أنَّه قاله خوفًا من مخاصمتهم له عند ربهم، بسببِ طرده لهم، ثمَّ بيَّنَ لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طَلَبُوها منه، والعلل التي اعتلُّوا بها عن إجابته، فقال {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} كل ما ينبغي أن يُعْلَمَ، ومن ذلك استرذالُهم للذين اتبعوه، وسؤالُهُم له أن يطردَهم، أي: تجهلون ما يَمْتَازُ به البشر بعضُهم عن بعض من اتباع الحقِّ، والتَحلِّي بالفضائل، وعملِ البر، والخير، وتظنون أنَّ الميزةَ إنما تكون بالمال والجاه. وقد جاءَ هذا المعنى في قصته من سورة الشعراء: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)}. 30 - ثم أكد عدمَ جوازِ طردِهم

[31]

بقوله: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي}، ويمنعني {مِن} عذاب {اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وانتقامه {إِنْ طَرَدْتُهُمْ}؛ أي: إن طرَدت الذينَ آمنوا عن حَضْرَتِي، وأبْعَدْتُهم عن مجلسي بسبب قَوْلِكُم، فإنَّ طردَهم بسبب سبقهم إلى الإيمان, والإجابة إلى الدعوة التي أرسَلَ الله رسولَه لأجلها .. ظلم عظيم، لا يَقَعُ من أنبياء الله المؤيدينَ بالعصمة، ولو وقَعَ ذلك منهم فرضًا وتقديرًا .. لكان فيه من الظلم ما لا يكون، لو فَعَلَه غَيْرُهم من سائر الناس، والاستفهام في قوله: {مَنْ يَنْصُرُنِي} للإنكار و (الهمزة) في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} للتوبيخ داخلةٌ على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتستمرون عَلى ما أنتم عليه مِنَ الجهل بما ذكر، فلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه حتَّى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، فَتَنْتَهُوا عنه، وما هم عليه من الصواب، فإنَّ لهم ربًّا ينصرهم، وينتقم لهم. 31 - {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} بادّعائي للنبوة والرسالة {عِنْدِي خَزَائِنُ} رزق {اللَّهِ} سبحانه وتعالى أي أنواع (¬1) رزقه التي يَحْتَاجُ إليها عبادُهُ للإنفاق منها، أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخَّرة لسائر الناس، فأنفق على نفسي، وعلى من تَبِعَني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري في الكسب سواء، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة، ولا من خصائص النبيّ، ولو كَانَ كذلك لاتبع الناس الرُّسلَ لأجلها، بل الغاية من بعْثِ الرسل تزكية الأنْفُس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها لِمَثُوبتِهِ في دَارِ كرامته، ورضاه عنها يومَ لا ينفعُ مالُ ولا بنون. وقال ابن الأنباري (¬2): أراد بالخزائن: عِلْمَ الغيب المَطْوِيِّ عن الخَلْق لأنهم قالوا له: إنما اتَّبَعَكَ هؤلاء في الظَّاهِر، وليسوا مَعَك فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله، فأعلمَ ما تَنْطوِي عليه الضمائر، وإنما قيل للغيوب خزائنُ لِغُموضها عن الناس، واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة: إنما آيات القرآن خزائن، فإذا دَخَلْتَ خزانة .. فاجْتَهد أن لا تَخْرُجَ منها حتى تعرف ما فيها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

{وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}؛ أي: ولا أدَّعي أنِّي أعلَمُ بغيب الله، فلا أمْتَازُ عن سائر البشر، بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبيُّ من مصالحهم، ومنافعهم، ومضارِّهم في معايشهم، وكسبهم، فأخْبَرُ بها أتباعي، لِيَفْضُلوا عليكم، ومن ثمَّ أمَرَ الله تعالى نبِيَّه أن يقول لقومه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. قيل: إنما قالَ لهم هذا, لأنَّ أرضَهم أجْدَبَتْ فسألوه متى يَجِىءُ المطر، وقيل: بل سألوه متى يجيء العذابُ، وقوله: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} جوابُ لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}؛ أي: ولا أقول لكم إني مَلَكُ من الملائكة، أُرْسِلْتَ إليكم، فَأكون كاذبًا فيما أدَّعِي، بل أنا بشر مثلكم، أمرتُ بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. وفي هذا (¬1): دحض لشبهَتهم إذ زعموا أنَّ الرَّسولَ من الله إلى البشر، يجب أن يفضُلَهم، ويمتازَ عنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بأن يكون مَلَكًا يَعلمُ ما لا يعلمه البشر، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر. والحاصلُ: أنكم (¬2) اتخذتم فقدانَ هذه الأمور الثلاثة ذريعةً إلى تكذِيبي، والحالُ أنِّي لا أدَّعي شيئًا من ذلك، والذي أدَّعِيه لا يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلَّقُ بالفضائل النفسانية التي بها تتَفاوَتُ مقاديرُ البشرِ. فصل في الاستدلال على تفضيل الملائكة على الأنبياء استدلَّ بعضُهم بهذه الآية (¬3) على تفضيل الملائكة على الأنبياء، قال: لأن نوحًا عليه السلام قال: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} لأنَّ الإنسان إذا قَالَ: أنا لا أدَّعِي كذا وكذا، لا يحسن إلا إذا كَانَ ذلك الشيء أشرف وأفضل من أحوال ذلك القائل، فلَمَّا قال نوح عليه السلام هذه المقالة، وجب أن يكون ذلكَ المَلَكُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

أفضَلَ منه، والجواب أن نوحًا عليه السلام إنما قال هذه المقالةَ في مقابلة قولهم: ما نراك إلا بشرًا مثلَنا لِما كان في ظنِّهم أنَّ الرُّسُلَ لا يكونون من البشر، إنما يكونون من الملائكة، فأعلمهم أن هذا ظن باطل، وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر، فلهذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} ولم يُرِدْ أنَّ دَرَجَةَ الملائكة أفضلُ من درجة الأنبياء، والله أعلم. وقال الشوكاني: وقد استدلَّ بهذا مَنْ قال: إنَّ الملائكةَ أفضل من الأنبياء، والأدلَّة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجةً، فليست مما كلَّفنا الله سبحانه وتعالى بعلمه. {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي} ـهم وتحتقِرُهم {أَعْيُنُكُمْ} وتنظرهم نَظْرَةَ احتقار {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ولن يعطِيَهم {خَيْرًا}؛ أي: هدايةً وأجْرًا، بل آتاهم الخير العظيم، بالإيمان به، واتباع نبيه، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافِعُهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقارُكم لهم شيئًا. أي: ولا أقولُ للذين اتبعوني، وآمنوا باللهِ وحده، وأنتم تنظرون إليهم نَظْرةَ استصغارٍ، واحتقارٍ، فتزدريهم أعينُكم لفقرهم، ورَثَاثَةِ حالهم: لن يؤتيهم الله خيرًا، وهو ما وعدوه على الإيمان والهُدى من سعادة الدنيا والآخرة، ولا يُبْطِلُ احتقَارُكم إيَّاهُمْ أجْرَهم، وليس لي أن أطَّلِعَ على ما في نفوسهم فأقْطَعَ عليهم بشيء. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} من الإيمان به، والإخلاص له فَيُجازِيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء؛ أي: بل الله سبحانه وتعالى أعْلَمُ بما في قلوبهم، وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة، ومن اتباع رسوله بإخلاصٍ وصدق سريرة، لا كَمَا زَعمتم من اتباعهم إيايَ باديَ الرأي، بلا بصيرة ولا علم. {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} لهم: إن فعلْتُ بهم ما تُريدونه أو من الظالمينَ لأنفسهم إن فعلتُ ذلك بهم؛ أي: إنّي إذا قَضَيْتُ على سرائرهم، بخلاف ما أبْدَتْه لي ألسنتهم على غير علم مني بما في نفوسهم، أكُونَ ظالمًا لهم بهضم

[32]

حقوقهم. 32 - {قَالُوا}؛ أي: قال قومُ نوح له؛ أي: جاوبوه بغير ما تقدم مِنْ كلامهم وكلامِه عجزًا عن القيام بالحجة، وقصورًا عن رتبة المناظرة، وانْقِطاعًا عن المباراة بقولهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا}؛ أي: خاصَمْتَنَا بأنواع الخصام، وحاجَجْتَنَا بضروب الحجج، {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}؛ أي: خصومَتَنا، ودفاعنا بكل حجة لها مدخل في المقام، واستقصيت فيه، فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا، ولم يَبْقَ لنا في هذا الباب شيءٌ من الجواب، فقد ضاقَتْ علينا المسالك، وانسدَّتْ أبوابُ الحِيَلِ، ولم يَبْقَ لدَيْنا شيء نَقُولُه كما قال في سورة نوح حكايةً عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} قال أبو السعود: فَأكْثَرْتَ جِدَالنا؛ أي: شَرَعْتَ في الجدال، فأكثرت، أو جادلْتَنا؛ أي: أرَدتَ جِدالَنا فأكثرتَ جِدَالَنا، فلا بُدَّ من أحد هذين التأويلين لِيَصِحَّ العطف، انتهى. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}؛ أي: بالذي تعدناه، وتُخْبِرَنا به من عذاب الله الدنيوي الذي تَخَافُه علينا، وهو الذي أراده بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تقولُه لنا؛ أي: إن كنتَ صادقًا في دَعْواكَ أنَّ اللَّهَ يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبلَ عقابِ الآخرة. وإنَّما كثرت مُجَادَلتُهُ لهم؛ لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألْفَ سنة إلا خمسينَ عامًا، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله، وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم، وقرأ (¬1) ابن عباس: {فأكثرت جدلنا} كقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. قال أبو البقاء: قوله تعالى: {قَدْ جَادَلْتَنَا} الجمهور على إثبات الألف، وكذلك: {جدلتنا} فأكثرتَ جدلنا بغير ألف فيهما، وهو بمعنى غلبتنا بالجَدَل، انتهى. 33 - {قال} نوح لقومه حين استعجلُوه بإنزال العذاب يا قوم {إِنَّمَا} ذلكم العذاب بيد الله لا أملكه، وهو الذي {يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ}؛ أي: إن تعلقت مشيئته به في الوقت الذي تَقتضيه حكمتُه، فإن قضَتْ مشيئته، وحكمته بتعجيله .. عَجَّلَهُ لكم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[34]

وإن قَضَتْ مشيئته، وحكمته بتأخِيرِه .. أخَّره {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: بفائتين عمَّا أراده الله بِكُم بهربٍ، أو مدافعة؛ أي: لستم بفائتيه هربًا منه إن أخَّره لحكمة يعلمها، وهو واقع لا محالةَ متى شاء, لأنكم في ملكه وسلطانه، وقدرتُه نافذة عليكم لا يمكن أن تفلِتوا منه، ولا أنْ تَمْتَنِعُوا. 34 - ولمّا قالوا (¬1) قَدْ جَادَلْتَنَا، وطلبوا تعجيلَ العذابِ، وكانَ مجادلَتُهُ لهم، إنما هو على سبيل النصح، والإنقاذ من عذاب الله قال: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} وقرأ عيسى بن عُمَر الثقفي: (نَصْحِي) بفتح النون، وهو مصدر، وقرأه الجمهور بضمها، فاحتملَ أن يكونَ مصدرًا كالشكر، واحتمل أن يكونَ اسمًا. أي: ولا ينفعكم، ولا يفيدكم إنذاري، وتحذيري إياكم عقوبتَه، ونزولَ العذاب بكم {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} وجوابُ هذا الشرط محذوف، دَلَّ عليه ما قبله، تقديره: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي الذي أبذُلُه لكم، وأستكثر منه قيامًا مني بحقِّ النصيحة لله، بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق، وبيان بطلان ما أنتم عليه {إِنْ كَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ويضلكم عن طريق الهدى والتوحيد، فلا ينفعكم نصحي بمجرد إرادتي له فيما أدْعُوكم إليه، بل يتوقف نَفْعُه على إرادة الله تعالى له، وقد مضت سنته كما دلَّت عليه التجارب، أنَّ النُّصْحَ إنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه مَنْ غَلَبَ عليه الغيُّ والفسادُ باجتراحه أسْبَابَه من غُرور بِغنًى أو جاهٍ، أو باتباع هَوًى وحبِّ شهوات تمنع من طاعة الله تعالى. فمعنى الآية (¬2): لا ينفعكم نصحي، إن كان الله يريد أنْ يُضِلَّكُم عن سبيل الرشاد، ويَخْذلكم عن طريق الحق. والخلاصة (¬3): أنَّ معنى إرادة الله إغواءَهم: اقتضاءُ سننه فيهم أن يكونوا من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

الغاوينَ لا خَلْقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم، ولا كسب لأسبابها، فإن الحَوادثَ مرتبطة بأسبابها، والنتائجَ متوقفة على مقدماتها {هُوَ} سبحانه وتعالى {رَبُّكُمْ}؛ أي: مالك أمُوركم، ومُدبِّرُها بحسب سُنَنِه المطردة في الدنيا، فإليه الإغواء، وإليه الهدايةُ، ولكل شيء عنده قدر، ولكل قدر أَجَل {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون، إن خيرًا .. فخيرًا، وإن شرًّا .. فشر، ولا تظلمون نقيرًا. الإعراب {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}. {وَمَنْ} {الواو} استئنافية {مَن} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَظْلَمُ} خبره، والجملة مستأنفة، {مِمَّنِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}، {افْتَرَى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {افْتَرَى}، {كَذِبًا} مفعول به {أُولَئِكَ} مبتدأ {يُعْرَضُونَ} فعل ونائب فاعل {عَلَى رَبِّهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبرُ المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُعْرَضُونَ}، {هَؤُلَاءِ} إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت: قلتَ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ {يقول}، {كَذَبُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {عَلَى رَبِّهِمْ} متعلق به {أَلَا} حرف تنبيه {لَعْنَةُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه {عَلَى الظَّالِمِينَ} خبره، والجملة في محل النصب مقول القول. {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}. {الَّذِينَ} صفة لـ {الظَّالِمِينَ}، {يَصُدُّونَ} فعل وفاعل صلةُ الموصول {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق به، {وَيَبْغُونَهَا} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَصُدُّونَ}، {عِوَجًا} حال من (الهاء) في {يبغونها}، {وَهُمْ} مبتدأ {بِالْآخِرَةِ} متعلق

بـ {كَافِرُونَ}، {وَهُم} توكيد لفظي {كَافِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من (واو) يصدون. {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)}. {أُولَئِكَ} مبتدأ، {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {مُعْجِزِينَ} {وَمَا} الواو: عاطفة (ما) نافية {كَانَ} فعل ماض ناقص {لَهُمْ} جار ومجرور خبر {كَانَ} مقدم على اسمها {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، حال {مِنْ أَوْلِيَاءَ} أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {مِن} زائدة {أَوْلِيَاءَ} اسم {كاَنَ} مؤخر؛ أي: وما كان أولياء كائِنينَ لهم من دون الله، وجملة {كاَنَ} في محل الرفع معطوفة على جملة {لَمْ يَكُونُوا}، {يُضَاعَفُ} فعل مضارع مغير الصيغة {لَهُمُ} متعلق به {الْعَذَابُ} نائب فاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة {لَمْ يَكُونُوا}، {ما} نافية {كَانُوا} فعل ناقص واسمه {يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كاَنَ}، والجملة مستأنفة مسوقةٌ لتعليل مضاعفة العذاب، {وَمَا} (الواو) عاطفة (ما) نافية {كَانُوا} فعل ناقص، واسمه، وجملة {يُبْصِرُونَ} خبره، وجملة (كان) معطوفة على جملة {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {وَضَلَّ}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: جار ومجرور متعلقان بالفعل {ضل} {ما} موصولة أو موصوفة في محل رفع فاعل {ضل}. {كَانُوا}: فعل ماض ناقص، والواو: اسمها في محل رفع {يَفْتَرُونَ}: فعل مضارع والجملة في محل نصب خبر كان، والجملة الاسمية صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يفترونه. {لَا}: زائدة {جَرَمَ}

فعل ماض بمعنى حق، وثبت مبني على الفتح، {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بـ {الْأَخْسَرُونَ}، {هُمُ} ضمير فصل {الْأَخْسَرُونَ} خبر (أنّ)، وجملة (أنّ) المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {جَرَمَ}، والجملة مستأنفة، والمعنى حَقَّ، وثبت كَوْنُهم الأخْسرين. فصل في لا جرم وقد مر لك بعض المباحث في جرم في مبحث التفسير، وفي "السمين": وفي هذه اللفظة خلاف بين النحويين، وتلخَّص من ذلك وجوه. أحدُها: وهو مذهب الخليل، وسيبويه، أنهما مركَّبتان من {لا} النافية و {جَرَمَ} وبُنِيَتا على تركيبهما تركيبَ خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل، وهو حقَّ، فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}؛ أي: حقَّ وثَبَت كون النار لهم، أو استقرارُها لهم. الوجه الثاني: أنَّ {لَا جَرَمَ} بمعنى لا رَجُل في كون {لا} نافية للجنس، وجرمَ اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محلّ رفع بالابتداءِ, وما بعدهما خبر {لا} النافية للجنس، وصار معناها, لا محالةَ في أنهم في الآخرة هم الأخسرون؛ أي: في خسرانهم. الوجه الثالث: أنَّ {لا} نافية لكلام قد تقدم تكلم به الكفرةُ، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله: {لا} كما ترد لا هذه قبلَ القسم في قوله لا أُقسِمُ وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} وقد تقدَّم تَحْقِيقُه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي جرم أنَّ لهم كذا وجَرَم فعل ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، وأنَّ وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأنَّ {جَرَمَ} يتعدى إذا كان بمعنى كسَبَ، وعلى هذا فالوَقْف على قوله: {لا} ثم يبتدىءُ بـ {جَرَمَ} بخلاف ما تقدَّم. الوجه الرابع: أنَّ معناه لا حَدَّ، ولا منعَ، ويكون {جَرَمَ} بمعنى القَطْعِ

تقول: جرمت؛ أي: قطعت فيكون {جَرَمَ} اسمَ لا مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدَّم، وخبرها {أنَّ} وما في حيزها على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم فيعود فيه الخلاف المشهور، وفي هذا اللفظ لغاتٌ: يقال: لا جِرْمَ، بكسر الجيم، ولا جُرْم بضمها, ولا جَر بحذف الميم، ولا ذا جَرم، ولا أنَّ ذا جَرم، ولا ذُو جرم، وغير ذلك انتهى. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)}. {إِنَّ} حرف نصب {الَّذِينَ} اسمها {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}، {وَأَخْبَتُوا} فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} إلى {إِلَى رَبِّهِمْ} متعلق به {أُولَئِكَ} مبتدأ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِن} وجملة {إِن} مستأنفة {هُمْ} مبتدأ {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ}، {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مؤكِّدة لما قَبْلَها. {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}. {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} مبتدأ ومضاف إليه، {كَالْأَعْمَى} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، {وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} معطوفات على {الأعمى}، {هَلْ} حرف للاستفهام الإنكاري {يَسْتَوِيَانِ} فعل وفاعل {مَثَلًا} تمييز محول عن الفاعل, والأصل هل يستوي مثَلُها، والجملة مستأنفة {أَفَلَا} (الهمزة) للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، (لا) نافية {تَذَكَّرُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتشكون في عدم الاستواء، فلا تذكَّرون ما بَيْنَهما من التباين. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية واللام موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {أَرْسَلْنَا

نُوحًا} فعل وفاعل ومفعول {إِلَى قَوْمِهِ}: متعلق به، والجملة جواب للقسم المحذوف وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {إِنِّي} بالكسر ناصب واسمه {لَكُمْ} متعلق بـ {نَذِيرٌ}، {نَذِيرٌ} خبر إن {مُبِينٌ} صفة نذير، وجملة إن المكسورة في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره قائلًا: إني لكم نذير مبين، وأما قراءة فتح همزة أنَّ فعلى تقدير حرف الجر. {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}. {أَن} حرف نصب ومصدر {لَا} ناهية جازمة {تَعْبُدُوا} فعل وفاعل في محل نصب بـ {أن} المصدرية مجزوم بـ {لَا} الناهية {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {اللَّهَ} مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ومجرور بحرف جر محذوف تقديره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بعدم عبادة غير الله تعالى، ويصح كونُ أنْ مخففة، وكونُها تفسيرية {إِنِّي} ناصب واسمه {أَخَافُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح {عَلَيْكُمْ} متعلق به {عَذَابَ يَوْمٍ} مفعول به ومضاف إليه {أَلِيمٍ} صفة {يَوْمٍ} على سبيل التجوز، أو صفة {عَذَابَ} مجرور بالجوار نظير هذا جحر ضب خرب، وجملة {أَخَافُ} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {إِنِّي لَكُمْ} ولقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} إلخ كما في "الجمل". {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}. {فَقَالَ} الفاء: عاطفة، {قَالَ الْمَلَأُ} فعل وفاعل معطوف على جملة {أَرْسَلْنَا}، {الَّذِينَ} صفة {الْمَلَأُ}، {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {مِنْ قَوْمِهِ} جار ومجرور حال من فاعل {كَفَرُوا}، {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئتَ قلت: {ما} نافية {نَرَاكَ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلَأُ}، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {بَشَرًا} مفعول ثان لـ {نَرَاكَ} إن كانت علمية أو حال من الكاف إن كانت بصرية {مِثْلَنَا} صفة لـ {بَشَرًا} والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول {وَمَا} الواو: عاطفة.

ما نافية {نَرَاكَ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلَأُ}، {اتَّبَعَكَ} فعل ومفعول به {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {الَّذِينَ} فاعل {اتبع}، وجملة {اتَّبَعَكَ} في محل النصب مفعول ثان لـ {نَرَاكَ} إن كانت علمية، أو حال من الكاف إن كانت بصرية، والجملةُ الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {نَرَاكَ} الأول {هُمْ أَرَاذِلُنَا} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، {بَادِيَ الرَّأْيِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اتَّبَعَكَ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، (ما): نافية {نَرَى} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلَأُ}، {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، إن كانت علمية {عَلَيْنَا} متعلق بـ {فَضْلٍ} {مِنْ} زائدة {فَضْلٍ} مفعول أول لـ {نَرَى}، والجملةُ في محل النصب معطوفة على جملة {مَا نَرَاكَ}، {بَلْ} حرف إضراب {نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلَأُ} والجملة في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلَها على كونِهَا مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}. {قَالَ} فعل وفاعله ضمير يعود على نوحٍ، والجملة مستأنفة {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} إلى قوله: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} مقول محكي، وإن شئت قلتَ: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال {أَرَأَيْتُمْ} فعل وفاعل، وهو: يتعدى إلى مفعولين، والأول محذوف، لدلالة ما بعده عليه، تقديره: أرأيتم البَيِّنة من ربي إن كنتُ عليها أنلزمكموها، والمفعولُ الثاني: جملة الاستفهام الآتية {إن} حرف شرط {كُنْتُ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعلَ شرط لها {عَلَى بَيِّنَةٍ} جار ومجرور خبر {كان}، {مِنْ رَبِّي} صفة لـ {بَيِّنَةٍ}، {وَآتَانِي} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {رَحْمَةً} مفعول ثان لـ {آتَانِي} لأنه بمعنى أعْطَى {مِنْ عِنْدِهِ} جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةً}، وجملة {آتاني} في محل الجزم معطوفة على جملة {كان}، {فَعُمِّيَتْ} {الفاء} عاطفة {عميت} فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على {آتاني} ونائب

فاعله ضمير يعود على كل من البينة والرحمة {عَلَيْكُمْ} متعلق به، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنت على بينة من ربي، أأقدر على إلزامكم إياها، وجملة الشرط معترضة بينَ {أَرَأَيْتُمْ} وبين مفعولها الثاني في محل النصب، مقول لـ {قَالَ}، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} {الهمزة} للاستفهام الأنكاري {نلزم} فعل مضارع مرفوع، وقرىء بإسكان الميم الأول فرارًا من توالي الحركات، وهو متعد إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود على نوح ومَنْ معه، (الكاف) ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول أول، و (الميمُ) حرفُ دال على الجمع، مبني بسكونٍ مقدر، مَنَعَ من ظهوره حركة إتباع الكاف، و {الواو} حرف متولد من إشباع ضمة الميم، و {الهاء} في محل النصب مفعول ثان لـ {ألزم} والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتُمْ} كما مرَّ آنفًا، {وَأَنْتُمْ} مبتدأ {لَهَا} متعلق بما بعده {كَارِهُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من كاف المخاطبين في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}. {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف معطوف على {وَيَا قَوْمِ} الأول {لَا} نافية {أَسْأَلُكُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح {عَلَيْهِ} متعلق به {مَالًا} مفعول ثان، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونه جوابَ النداء {إن} نافية {أَجْرِيَ} مبتدأ، ومضاف إليه {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {عَلَى اللَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَمَا} {الواو} عاطفة {ما} نافية {أَنَا} مبتدأ {بِطَارِدِ الَّذِينَ} خبر، ومضاف إليه و {الباء} زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} خبره ومضاف إليه، وجملة إن في محل النصب مقول لـ {قَالَ} على كونها معلّلةً لما قبلها {وَلَكِنِّي} ناصب واسمه {أَرَاكُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح {قَوْمًا} مفعول ثان، وجملة {تَجْهَلُونَ} صفة {قَوْمًا} وجملة {أَرَاكُمْ}

في محل الرفع خبر {لكنَّ} وجملة الاستدراك معطوفة على ما قبلَها على كَوْنِها مقولَ القول. {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف معطوف على {وَيَا قَوْمِ} الأول. {مَن} اسم للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ {يَنْصُرُنِي} فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على {من} {مِنَ اللَّهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {من} الاستفهامية، والجملة الاسمية جواب النداء على كَوْنِهَا مقول القول، {إن} حرف شرط {طَرَدْتُهُمْ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قَبْلَهَا، والتقدير: إن طردتهم فمن ينصرني، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لـ {قال} {أَفَلَا} {الهمزة} للاستفهام التوبيخي داخلةٌ على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف {لا} نافية {تَذَكَّرُونَ} فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: ما ينبغي تذكره من أحوالهم، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، تقديره: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تذكرون؟ والجملة المحذوفة مع ما عُطِفَ عليهَا مقول {قَالَ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة {لا} نافية {أَقُولُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَا أَسْأَلُكُمْ} على كونهَا جوابَ النداءِ {لَكُم} متعلق بـ {أَقُولُ} {عِنْدِي} خبر مقدم {خَزَائِنُ اللَّهِ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {أقول}. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة {لا} نافية {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فعل ومفعولٌ به, لأنَّ عَلِم هنا بمعنى عَرَفَ، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} على كَوْنِهَا مقولَ أقول؛ أي: ولا أقول لكم إني أعلم

الغيبَ، {وَلَا أَقُولُ} معطوف على ولا أقول الأول {إِنِّي مَلَكٌ} ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل النصب مقول أقول، {وَلَا أَقُولُ} معطوف على {وَلَا أَقُولُ} الأول {لِلَّذِينَ} متعلق به {تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: تزدريهم وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلةُ الموصول {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} ناصب وفعل ومفعول أول وفاعل ومفعول ثان، والجملةُ في محل النصب مقول {أَقُولُ}، {اللَّهُ} مبتدأ {أَعْلَمُ} خبره {بِمَا} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، {فِي أَنْفُسِهِمْ} صلة لـ {ما} والجملةُ الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {وَلَا أَقُولُ} {إِنِّي} ناصب واسمه {إِذًا} حرف جواب لا عمل لها لعدم دخولها على الفعل {لَمِنَ} {اللام} حرف ابتداء {مِنَ الظَّالِمِينَ} خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله {وَلَا أَقُولُ}. {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يَا نُوحُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا نُوحُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداءِ في محل النصب مقول {قال}. {قَدْ جَادَلْتَنَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محلِّ النصب مقول {قَالُوا} على كونهَا جوابَ النداء، {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {جَادَلْتَنَا}، {فَأْتِنَا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة {فَأَكْثَرْتَ}، {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {أتنا}، {تَعِدُنَا} فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: تعدناه، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} {إن} حرف شرط {كُنْتَ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كَوْنِهِ فعلَ شرط لها {مِنَ الصَّادِقِينَ} خبره، وجواب {إِن} معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتَ من الصادقين .. فأتنا بما تعدنا، وجملةُ {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}.

{قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} مقول محكي، وإن شئتَ قلت: {إِنَّمَا} أداة حصر، {يَأْتِيكُمْ} فعل ومفعول {بِهِ} متعلق به {اللَّهُ} فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِن} حرف شرط {شَاءَ} فعل ماض في محل الجزم، بـ {إِنْ} على كونه فِعلَ شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} وجواب إن معلوم مما قبلها تقديره: إن شاء يأتيكم به، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب، مقولُ {قَالَ}، {وَمَا} حجازية، أو تميمية لعدم ظهور الإعراب في الخبر، {أَنْتُمْ} اسمها أو مبتدأ {بِمُعْجِزِينَ} خبرها أو خبر المبتدأ، و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}. {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} على كونها مقول {قَالَ}: {إن} حرف شرط {أَرَدْتُ} فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعلَ شرطِ لها {أَنْ أَنْصَحَ} ناصب وفعل منصوب {لَكُمْ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن أردت النصح لكم، وجوابُ {إن} معلوم مما قبلها تقديره: إن أردت النصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قال}. {إِنْ} حرف شرط {كَانَ اللَّهُ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه فِعْلَ شرط لها، {يُرِيدُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب خبرُ {كَانَ}، {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ {يُرِيدُ} تقديره: يريد إغواءه إياكم، وجواب هذا الشرط الثاني: هو الشرط الأول، وجوابه تقديره: إن كان الله يريد أن يُغْويكم .. فإن أردتُ أن أنْصَحَ لكم .. فلا ينفعكم نصحي، وذلك لأنه إذا اجتمع في الكلام شرطان وجواب، يُجعل الشرط الثاني

شرطًا في الأول؛ لأنَّ الشرطَ مقدَّم على المشروط في الخارج، ذكَرَه في "الفتوحات" {هُوَ رَبُّكُمْ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، مقول {قَالَ} على كونها تَعْلِيلًا لِما قبلها، {وَإِلَيْهِ} متعلق بما بعده {تُرْجَعُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {هُوَ رَبُّكُمْ} على كونهَا تَعْلِيلًا لما قبلها، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} {أَظْلَمُ} اسم تفضيل من ظلم يظلم، من باب: ضرب: ظلمًا، والظلم وضع الشيء في غير محله، وهو ضد العدل، والافتراءُ: اختلاق الشيء من عند نفسه، من غير أن يكون له أساس {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ}؛ أي: للمحاكمة عرضًا تظهر به فضيحتهم على ربهم؛ أي: على من يحسن إليهم، ويَمْلِكُ نواصِيَهم وكانوا جَديرينَ أن لا يكذبوا عليه {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ}، والأشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف، والأشهادُ الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالَهم في الدنيا أو الأنبياءُ أو هما والمؤمنون، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم، أقوالٌ، واللعنة الطرد من الرحمة، والصدُّ عن سبيل الله الصرف عن دينه، والمنع من الدخول فيه {يبغونها عوجًا}؛ أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيرًا للناس عنها، والعِوج: الالتِواءُ، وعدمُ الاستِواء يقال: بَغَيْتُك شرًّا؛ أي: طلبته لك. وفي "المختار": عوج - من باب طرب - فهو أعوج، والاسمُ العِوَجُ بكسر العين، فما كان في حائط أو عُود أو نحوهما، مما ينتصب فهو عَوَج بفتح العين، وما كان في أرض أو دين أو معاش فهو عِوَجٌ بكسر العين، واعوجَّ الشيء اعوجاجًا، فهو معوَّج بوزن محمَّد، وعصا معوجة أيضًا؛ أي: غيرَ مستقيمة. اهـ. {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لا يمكنهم أنْ يهربوا مِنْ عذابه {وَضَلَّ}؛ أي: غابَ {لَا جَرَمَ} قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بُدَّ، ولا محالةَ

فَجَرَتْ على ذلك، وكثُرَتْ حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام، كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: لا جرم لآتينك. اهـ "مختار". وقد مر البحث عن {لَا جَرَمَ} في مبحثِ التفسير، وفي مبحثِ الإعراب، فلا حاجةَ إلى إطالة المبحث عنه هنا. {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} والإخبات في اللُّغة هو: الخشوعُ، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظُ الإخبات يتعدَّى بإلى وباللام، فإذا قُلْتَ: أخْبَت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخْبَتَ له فمعناه: خَشَعَ، وخضع له، {وَأَخْبَتُوا} بمعنى: خشعوا، وخضعوا، وأصْلُه من الخبت، وهو الأرضُ المطمئنة {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ}، و {الأعمى} هو من قام به العَمَى، والعَمى بفتحتين ذهابُ البصر، خِلْقةً أوْ لاَ يقال: عَمِيَ من باب صَدِي فهو أعمى، وقوم عُمْيٌ {وَالْأَصَمِّ} هو من قام به الصمم، والصمم ذَهابُ السمع خِلقة أَوْ لا، يقال: أصمّه الله فصم يصم بالفتح صممًا، وأصمَّ أيضًا بمعنى صَمَّ؛ أي: حَصَلَ له الصممُ، ورَجب شهر الله الأصمُّ، قال الخليل: إنما سمى بذلك؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال، ولا قعقعةُ سِلاح, لأنه من الأشهر الحُرُم. اهـ "مختار". {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فيه إدغامُ التاء الثانية في الأصل، في الذال على قراءة التشديد، وقرىء في السبعة: تذكرون بتخفيف الذال وتشديد الكاف بحذف إحدى التائين على حدِّ قول ابن مالك - وما بتاءين ابتدى قَدْ يُقْتَصَرُ - إلخ. {فَقَالَ الْمَلَأُ} الملأُ: الأشرافُ، والرؤساءُ، والزعماء {هُمْ أَرَاذِلُنَا}، وفي "السمين": الأراذل فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع الجمع، فهو جمع أرذل بضم الذال، جمع رذل، بسكونها مثل أكالب، وأكلب، وكلب. ثانيهما: أنه جمع مفرد، فالأراذل جمع الأرذل، كأكابر وأكبر، وأساود وأسود، وأباطح وأبطح، وأبارق وأبرق، وجمع على هذه الزنة، وإن كان وصفًا؛ لأنه غلبت عليه الاسمية، فصارَ كالأسماء، ومعنى غَلَبَتِهِ أنّه لا يكاد يذكر الموصوف معه، وهو مثل الأبطَح، والأبرق. ذَكَره أبو البقاء، والأرذل: الخسيس

الدنيء المرغوب عنه لدناءته والسفلة، قال النحاس: الأراذِلُ الفقراء الذينَ لا حسَبَ لهم، والحسَبُ الصِّناعاتُ. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أنَّ الصناعات لا أثرَ لها في الديانة، وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يُصْلِحُ الدنيا بدينه، قيل له: فمن سَفَلةُ السَّفلةِ قال: الذي يُصْلِحُ دنيا غيرهِ بفساد دينه، والظاهر من كلام أهل اللغة أنَّ السفلة هو الذي يدخل في الحِرَفِ الدنية. ذكره الشوكاني. {بَادِيَ الرَّأْيِ} يقرأ (¬1) بهمزة بعد الدال، وهو من بَدَأَ يبدأُ إذا فَعَلَ الشيءَ أولًا، ويقرأ بياءِ مفتوحة، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ الهمزةَ أبدِلَتْ ياءً لانكسار ما قبلها. والثاني: أنه من بدا يبدو إذا ظَهَرَ وبادِيَ هُنَا ظَرفُ، وجاء على فاعل كما جاءَ على فعيل نَحْو: قريب، وبعيد، وهو مصدرُ مِثْلُ العافية، والعاقبة، وفي العامل فيه أربعةُ أوجه: أحدها: نراك أي فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا فإن قيل ما قبل إلّا إذا تمَّ لا يعمل فيما بعدها كقولك، ما أعطيتُ أحدًا إلا زيدًا دينارًا, لأنَّ إلّا تُعدِّي الفعلَ ولا تعديه إلا إلى واحد كالواو في باب المفعول معه قيل جاز ذلك هنا, لأنَّ بادِيَ ظرف أو كالظرف، مثل جَهْد رأيي إنك ذاهب؛ أي: في جهدِ رأيي، والظروف يتوسع فيها. والوجه الثاني: إن العاملَ فيه: أتبعكَ؛ أي: اتبعوك في أول الرّأي، أو فيما ظهَر منه من غير أن يبحثوا. والوجه الثالث: أنه من تمام أراذلنا؛ أي: الأراذل في رَأينا. والرابعُ: أنَّ العاملَ فيه محذوف؛ أي: يقول ذاك في بادي الرأي به، والرأي مهموز، وغير مهموز، {تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} والازدراء مأخوذٌ من أزرى عليه إذا عَابه، ¬

_ (¬1) (2) العكبري.

وزَرَى عليه إذا احتقره، وأنشَدَ الفراء: يُبَاعِدُهُ الصَّدِيْقُ وَتَزْدَريهِ ... حَلِيْلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيْرُ وقال الآخر: تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فتَزْدَرِيهِ ... وَفِيْ أثْوَابِهِ أسَدٌ هَصُوْرُ وقال أبو البقاء: {تَزْدَرِي} (1) الدال فيه بدل من تاء الإفعالِ، وأصْلُ تزدري تزتري بوزن تفتعِلُ من زَرَيت، وأبدِلت دالًا لتجانس الزاي في الجهر والتَّاء مهموسةٌ، فلم تجتمع مع الزاي. انتهى. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يقال: عُمِّي عن كذا، وعمِّي عليه كذا بمعنى التبسَ عليه، ولم يَفْهَمْهُ، وخفيَ عليه أمرُهُ. {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} أصل الجدال، هو: الصراعُ، وإسقاطُ المرء صَاحِبَه على الجدالة، وهي الأرضُ الصلبة، ثم استُعمل في المخاصمة، والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب. {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} والنصحُ بضم النون، وفتحها مع سكون الصاد فيهما، مصدر نَصَح من بابَ فَتَحَ، والنصحُ معناه: تحري الخير، والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولًا وعملًا. {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} من أغوى الرباعي يُغْوِي إغواءً بمعنى أضله، والإغواء الإيقاع في الغي، وهو الفسادُ الحِسيُّ والمعنويُّ ثلاثيُّهُ غوى الرجل يَغْوِي إذا ضَلَّ وأَخطأ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهامُ الإنكاريُّ في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى}. ومنها: التحقيرُ في قوله: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} إشارةٌ إلى تحقيرهم، وإصْغَارِهم بسوء مرتكبهم، وفي قوله {عَلَى رَبِّهِمْ}؛ أي: على مَنْ

يُحْسِنُ إليهم، ويَمْلِكُ نَوَاصِيَهم ذكره في "البحر". ومنها: تكريرُ الضمير في قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} لتأكيد كفرهم واختصاصهم به حتى كان كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم. ومنها: التشبيه المرسلُ المجمل في قوله: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} لوجود أداة التشبيه، وحذف وَجْهِ الشبه؛ أي: مَثَلُ الفريق الكافر {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} في عدم البصر والسمع. ومثلُ الفريق المؤمن كالسميع والبصير، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس فأعمى البصيرة أصمها، شبِّهَ بأَعْمى البصرِ أصم السَّمْعَ ذلك في ظلمات الضلالات متردد تَائِهٌ، وهذا في الطرقاتِ متحيِّرٌ لا يهتدي إليها. ومنها: التنبيه بقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} على أنه يُمْكِنُ زوالُ هذا العَمَى وهذا الصممُ المعقولُ فيجب على العاقل أن يتذكَّر ما هو فيه، ويَسْعَى في هداية نفسه، ويمكن أن يكونَ من باب تشبيه اثنين باثنين، فقُوبِل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصمُّ بالسميع وهو طباق أيضًا، والعمى والصمم، آفتان تمنعان من البصر والسمع، ولَيْسَتَا بِضِدَّين لأنه لا تَعاقُبَ بينهما، ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات، كما قال الشاعر: إِلى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامْ ... وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ في الْمُزْدَحَمْ ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأَعمى وضِدِّه، وفي لَفْظِهِ الأصَمِّ وضدهِ, لأنه تعالى لَمَّا ذكر انسدادَ العين أَتْبَعَه بانسداد السمع، ولَمَّا ذَكَرَ انفتاحَ البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأُسلوب في المقابلةِ والأتَم في الإعجازِ، ذَكَرَه في "البحر". ومنها: المجازُ العقليُّ في قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم} لأنَّ نسبة الإيلام إلى اليوم مجاز عقلي نظير قولهم: نَهَارُه صائم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} شبه خَفَاءَ الدليل بالعَمى في أنَّ كُلًّا يمنع الوصولَ إلى المقاصد، فاشتقَّ من العمى بمعنى الخفاء، {عميت} بمعنى خفيت على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، ويمكن أن يكون

استعارةً تمثيليةً بأن شَبَّهَ الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه، بمَنْ سَلَكَ مفازة لا يعرف طُرُقَها، ومسلكها، واتبع دليلًا أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية. ومنها: الاستفهامُ التوبيخيٌّ المضمن للإنكار في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. ومنها: التهكمُ والاستهزاء في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}. ومنها: الحذفُ والزيادة في عِدَّةِ مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}. المناسبة قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ...} الآية، قال مقاتل وغيره: هذه الآية معترضة في قصة نوح عليه السلام حكايةً لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص، وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد: منها: تنبيهُ الأذهان، ومنعُ السآمة، وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر، والتشويقُ إلى سماع بقية الكلام، ومن المتوقع هنا أن يَخْطُرَ في بال

[35]

المشركين حينَ سماع ما تقدم من هذه القصة، أنها مفتراةٌ لاستغرابهم هذا السبك في الجدال والقُوَّةَ في الاحتجاج؛ فكان إيراد هذه الآية تجديدًا للردِّ عليهم، وتجديدًا لِنشاطِهم. قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا أخبر أنَّ نوحًا قد أكثرَ في حجاجهم وجدالهم، وأنه كلما ازدادَ في ذلكَ زَادُوا عتوًّا وطغيانًا حين تعجَّلوا منه العذابَ، وقالوا له: ائتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين .. أرْدَفَ ذلك بذكر ما أَيْأسَه من إيمانهم، وأعلمه بأنَّ ذلك كالمحال الذي لا يكون، فالجدالُ والحجاجُ معهم عبث ضائع؛ فلن يؤمن إلا من قد حَصَلَ منه إيمان من قبل، فإِيَّاك أن تَغْتَمَّ على ما كان منهم من تكذيب في تلك الحقبة الطويلة، فقد حَانَ حِينُهُم، وأزِفَ وقت الانتقام منهم. قولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ...} الآيات، هذه الآيات غايةٌ لما ذكر قبلها من الاستعدادِ لهلاكهم، ومقابلةِ السخرية بغير ابتئاسٍ ولا ضجرٍ. قوله تعالى {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ ...} الآيات الثلاث الأُولى تبيِّنُ أنَّ حُكْمَ الله في خلقه العدل بلا محاباة لولي ولا نبيٍّ وأنَّ الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، ويعد ذلك ذنبًا بالنظر إلى مقامهم الرفيع، ومعرفتهم بربهم، وذلك مَا عرض له نوحُ عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلَّف عن السفينة فَكَانَ من المغرقين، كما أنَّ في الآية الأخيرةِ استدلالًا على نبوة محمدِ - صلى الله عليه وسلم - وطلب صبره على أذى قومه. التفسير وأوجه القراءة 35 - و {أَمْ} في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} منقطعة تقدر ببَلْ الإضرابية، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أيقول مشركو مكة: إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - افتراه؛ أي: اختلق خبر قوم نوح عليه السلام، وجاءَ به من عند نفسه، أو اختلقَ القرآنَ، وافتراه من عندِ نفسه، فأمره الله سبحانه وتعالى أنْ يجيبهم بقوله: {قُلْ} لهم

[36]

يا محمَّد في الجواب: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ}؛ أي: أنِ افتريت خبرَ قوم نوحٍ، أو افتريتُ هذا القرآنَ على الله من عند نفسي كما تزعمون {فـ} ـما عليكم بأس، ولا ضَرَرَ في ذلك إنما {علي إجرامي}؛ أي: إنما عليَّ لا على غيري، ولا عليكم عقوبة إجرامي وذنبي {و} أنتم بريئون من إجرامي كما {أنا بريء مما تجرمون}؛ أي: من عقوبة إجرامكم، وذنبكم، فحكم الله العدل: أن يجزى كل امرئ بعمله، كما قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والإجرامُ والجرم اكتساب الذنب كما سيأتي في مبحث الصرف، وفي الآية حذف، والتقدير إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صَادِقًا وكذبتموني فعليكم عقابُ ذلك التكذيب، إلَّا أنه حذِفَت هذه البقية لدلالة الكَلام عليهَا. فعلى هذا التفسير تكون هذه الآيةُ (¬1): دَخيلة في أثناء قصة نوح ومعترضة بين أجزائها؛ لأجل تنشيط السامع لسماع بقية القصة، وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من جملة قصة نوح، كما هو ظاهرُ السِّياق والمعنى عليه {أَمْ يَقُولُونَ}؛ أي (¬2): بل أيقول قوم نوح {افْتَرَاهُ}؛ أي: إن نوحًا افترى بما أتانا به من عند نفسه مسندًا إلى الله تعالى {قُلْ} لهم يا نوح {إِنِ افْتَرَيْتُهُ}؛ أي: إن اختلقت الوحيَ الذي بلغته إليكم من تلقاء نفسي .. {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}؛ أي: فعليَّ عقاب اكتسابي للذنب، وإن كنتُ صادقًا، وكذبتموني .. فعليكم عقاب ذلك التكذيب {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}؛ أي: من عقاب كسبكم الذنبَ بإسناد الافتراء إليَّ، وقرأ الجمهور {إجرامي} بكسر الهمزة، وهو مصدر أجرم، وهو الفاشي في الاستعمال، ويجوز (جرم) ثلاثيًّا، وقرىء شاذًا: (أجرامي) بفتح (الهمزة) جمع جرم كأقفال جمع قفل، اهـ "سمين". 36 - {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ}؛ أي: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بعد أن استعجلَ قومه بالعذاب، ودعا عليهم دعوتَه التي حَكَاهَا الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}؛ أي: أَوْحَى الله تعالى إليه ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

[37]

{أَنَّهُ}؛ أي: أنَّ الشأنَ، والحال {لَنْ يُؤْمِنَ} أحدٌ {مِنْ قَوْمِكَ} المصرينَ على الكفر فيتبَعُك على ما تدعوه إليه من التوحيد {إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} من قبل، فيَظلُّ على إيمانه، {فَلَا تَبْتَئِسْ} ولا تحْزَنْ {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؛ أي: بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة، فقد انتهى أفعالهم، وحانَ وقت الانتقامِ منهم والبؤس والحزن، والابتئاس الحزن مع الاستكانة والتذلل. والمعنى (¬1): فلا يشتدَّ عليكَ البؤس والحزن بعد اليوم بما كانوا يفعلون في السنين الطوال، من العناد والإيذاء، والتكذيب لك، ولمَنْ آمن مَعَكَ فَأَرِحْ نَفْسَكَ بعد الآن من جِدَالِهم، ومن إِعراضِهِم، واحْتِقارِهم فَقَد آنَ زَمَن الانتقام، وحَانَ حين العذاب. قال ابن عباس (¬2): إنَّ قومَ نوح كانوا يضربونَ نوحًا حتى يَسْقُطَ فيلفُّونَه في لبد، ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مَاتَ، فيخرج في اليوم الثاني، ويدعوهم إلى الله، ويروى أنَّ شيخًا منهم جَاءَ متكئًا على عصاه، ومعه ابنه فقال: يا بنيَّ لا يَغُرنك هذا الشيخُ المجنون، فقال: يا أبت أمكنّي مِن العَصا فأَخَذَها من أبيه، وضرب بها نوحًا عليه السلام، حتى شجَّه شجَّةً منكرةً فأوحى الله إليه إنه لن يُؤْمِنَ مِن قومك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وحكى محمَّد بن إسحاق عن عبد الله بن عُمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يَبْسطون نُوحًا فيخنِقُونه حتى يغْشَى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادَوا في المعصية، واشتدَّ عليه منهم البلاء، وهو ينتظر الجيلَ بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس مِنَ الذي قبله، ولقد يأتي القرنُ الآخِر منهم فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجْدادِنا هكذا مجنونًا، فلا يقبلون منه شيئًا فشكا نوحٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فقال: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} الآيات حتى بلغ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. 37 - ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى لما أخبره أَنهم لا يؤمنونَ ألبتة عرفه وجهَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[38]

إهلاكهم، وألهَمَهُ الأمرَ الذي يكون به خلاصُه وخلاص من آمن معه فقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ}؛ أي: واعْمَلْ السفينة التي سننجيك ومن آمن معك فيها حالة كونك محفوظًا محروسًا {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بحفظنا لك، وحراسَتنَا لك {و} معلمًا كيفيةَ صنعتها بـ {وحينا} وتعليمنَا لك؛ أي: إنَّنا حافظوك في كل آن، فلا يمنعك مِن حفظنا مانعٌ، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه، فلا يعرضَنَّ لك خَطَأٌ في صنعتها, ولا في وصفها، والظاهر: أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيلَ إلى صون نفس وأرواح غيره من الهلاك إلا بهذَا الطريقِ، وصَوْنُ النفس من الهلاك واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ, اهـ "كرخي". والمراد بقوله (¬1): {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بحِراسَتِنَا لك، وحفظِنَا لك، وعَبَّر عن ذلك بالأَعْيُن لأنها آلةُ الرؤية، والرؤية هي التي تكونُ بها الحراسةُ والحفظ في الغالب، وجَمَع الأعْيُنَ للتعظيم لا للتكثير، لئلا يناقض قولَه تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، وقيل: المعنى: {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بأعين ملائكتنا الذين جعَلْناهم عُيونًا على حفظك، وقيل: {بِأَعْيُنِنَا} بِعِلمنا، وقيل: بأمرنا، ومعنى بِوَحْيِنا؛ أي: بما أوْحَيْنا إليك من كيفية صنعتها. {وَلَا تُخَاطِبْنِي}؛ أي: ولا تُراجعني {فِي} شيءٍ من أَمْر {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسَهم بالإشراك بدفع العذاب عنهم، وطلبِ الرحمة لهم، فقد حقَّتْ كلمة العذاب عليهم؛ أي: لا تطلب إمهالَهم فقد حان وَقْتُ الانتقام منهم، وجملةُ قوله: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بالطوفان للتعليل؛ أي: لا تطلب منَّا إمهالَهم، فإنه محكوم منا عليهم بالإغراق، وقد مضى به القضاء، فلا سبيلَ إلى دَفْعِهِ، ولا إلى تأخيره، وقيل: المعنى: ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنَّهم مغرقون في الوقتِ المضروب، لذلك لا يتأخر إغراقُهم عنه، وقيل: المراد بالذين ظلموا: امرأتُهُ وابنُه. والخلاصة: لا تأخذنَّك بهم رأفةٌ ولا شفقةٌ، وقرأ (¬2) طلحة بن مصرف: (بأعيُنَّا) مدغمةً 38 - {و} شَرَعَ نوح عليه السلام {يصنع}، ويعمل {الْفُلْكَ} والسفينةُ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

{و} الحال أنه {كلما مر} وجاوز {عَلَيْهِ}؛ أي: على نوح {مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: جماعةٌ من كبراء قومه، {سَخِرُوا مِنْهُ}؛ أي: سخر الملأ من نوح وعمله، واستهزؤوا به، وضَحِكُوا منه، وتنادَوْا عليه ظَنًّا منهم أنه أُصِيبَ بالهَوَسِ والجنون. رُوي أنهم قالوا له: أتحولت نَجَّارًا بعد أنْ كُنْتَ نَبيًّا، وليس ذلك بالغريب منهم، فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكْتبَ له النجاح. وفي وجه سخريتهم منه قولان: أحدُهما: أنهم كانوا يرونه يَعْمل السفينةَ، فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا. والثاني: أنهم لَمَّا شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشِي بها على الماء، فعجبوا من قوله، وسَخِرُوا به. وقال ابن عباس (¬1): اتَّخذَ نُوحٌ السفينةَ في سنتين، فَكَانَ طولها ثلاث مئة ذراع، وعَرْضُها خمسينَ ذراعًا، وطُولُها في السماء ثلاثينَ ذراعًا، وكانت مِن خشب السَّاجِ وجَعَلَ لها ثلاثة بطون فَجَعَل في البطن الأسفل الوحوش، والسباع، والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب، والأنعام، ورَكبَ هو ومن معه في البطن الأعلى، وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره، قال قتادة: وكان بابها في عَرْضِها. انتهى. وقال كعب الأحبار (¬2): عمل نوح عليه السلام السفينةَ في ثلاثين سنة، ورويَ أنها ثلاثة أطباق: الطبقة السفلى: للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى: للإنس، والطبقة العليا: للطير، فلما كثرت أرواث الدواب: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنبَ الفيل، فغَمَزَه فوَقَع منه خنزيرٌ وخنزيرة، ومَسَح على الخنزير فوقع منه الفأر والفأرة، فأقبلوا على الروث، فأكلوه فلما أفسد الفأر في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[39]

السفينة، فجعل يقرضها، ويقرض حِبَالَها، أَوْحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عَيْنَي الأسدِ فضربَ فخَرَج من منخره سنَّور وسِنّوَرة، وهي القطة والقط، فَأَقْبَلا على الفأر، فأَكلاه. ثُمَّ أجاب عليهم نوح بما ذكره بقوله: {قَالَ} نوح مجيبًا لهم عن سخريتهم {إِنْ تَسْخَرُوا} وتستهزؤوا {مِنَّا} اليومَ وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصوَّرون له فائدةً {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} اليومَ لجهلكم باللهِ، وشرككم به وغدًا حين ينزلُ بكم العذاب لكفركم {كَمَا تَسْخَرُونَ} مِنَّا جزاءً وفاقًا؛ أي: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنعُ، فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر، والتعرض لسخط الله، وعذابه، 39 - ثم هدَّدَهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وتَرَون {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}؛ أي: أينا يأتيه عذاب في الدنيا يهينه ويذله، وهو عذابُ الغرق، ومَنْ هو أحق بالسخرية، ومَنْ هو أَحْمَدُ عاقبةً {و} تعلمون من {يحل} وينزل {عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي: دائم؛ أي: وسوفَ تعلمون أينا ينزل عليه النار الدائم في الآخرة. والمعنى (¬1): فإن كنتم لا تعلمون اليومَ فائدةَ ما نعمل، وما له من عاقبة محمودة، فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه، ويَجْلِب له العارَ، والخِزيَ في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب دائم في الآخرة بعد ذلك، وكل ما في الدنيا فهو هيِّن ليِّنٌ بالنسبة إلى ما يكون في الآخرة لانقضائه وزواله، وبقاء ذَاكَ ودَوامِهِ. فإن قُلتَ (¬2): السخريةُ لا تَلِيقُ بمنصب النبوة، فكيف قال نوح عليه السلام: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}. قلتُ: إنما سَمَّى هذا الفعلَ سخريةً على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام، كما في قوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} والمعنى: إنا نَرى غِبَّ سخريتكم بِنا إذا نزل بكم العذاب. والتشبيه في قوله (¬3): {كَمَا تَسْخَرُونَ} لمجرد التحقق، والوقوع، أو التجدد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[40]

والتكرر، والمعنى: إنَّا نَسْخَرُ منكم سخريةً متحققة واقعةً كما تسخرون منَّا كذلك، أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك. 40 - وحكى الزهراويُّ أنه يقرأ (¬1): (وَيحُلُّ) بضم الحاء، ويَحِل بكسرها بمعنى ويَجِبُ، وحتى في قوله {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} ابتدائية، دخلَتْ على الجملة الشرطية، وجُعلت غايةً لقوله {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ}؛ أي: وكان يَصْنَعُ الفلكَ حتى إذا جاء وَقْتُ أمْرِنا وقضائنا بهلاكهم، ووَقْتُ عذابنا الموعود به {وَفَارَ التَّنُّورُ}؛ أي: نَبَعَ الماءُ من التنور؛ أي: من وَجْه الأرض أو من تنور الخُبْز، وارتفعَ بشدة، كما تَفُور القدر بغليانها، وكانَ ذلِكَ علامةً لنوح عليه السلام، رُوي (¬2) أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيتَ الماء يفور من التنور، فَارْكَب ومن مَعَك في السفينة، فلما نَبَعَ الماء أخبرته امْرَأته .. فرَكِبَ، وقيل: كانَ التنور لآدم، وكانت حواء تقمر فيه الخبز، فصار إلى نوح، وكانَ من حجارةٍ وهو بالكوفة على يمين الداخل، مِمَّا يلي باب كندة في المسجد، والأقرب أن يكونَ المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نَبَع الماء من وجه الأرض {قلنا} لنوح آنئذ: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}؛ أي: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين، ذكرًا وأنثى، لِيبقى ذلك النوع بعد غرق سائر الأحياء، فيتناسل وَيبْقَى على الأرض. وقرأ حفص (¬3): {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} بتنوين {كلٍ}، {زوجين} مفعول به و {اثنين} نعت توكيد؛ أي: احمل من كل حيوان، زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر، وقرأ باقي السبعة بالإضافة؛ أي: احمل من كل فردين متزاوجين اثنين، بأن تحمل من الطير ذكرًا وأنثى، ومن الغنم ذكرًا وأنثى، وهكذا، وتترك الباقي، والمرادُ من الحيوانات التي تنفعُ، والتي تلد وتبيض، فتخرج المضرات، والتي تَنْشَأ من العفونات والتراب كالدود، والقمل، والبق، والبعوض. قال البغوي: وروي عن بعضهم: أنَّ الحيَّة والعقربَ أَتيَا نوحًا عليه السلام، فَقَالتا: إحمِلنا معَك، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

[41]

فقال: إنكما سبب البلاء، فلا أحْمِلُكما، فقالتا: إحملنا معك، فنحن نَضْمَنُ لك أن لا نَضُرَّ أحدًا ذَكَرَك، فَمَنْ قرأ حين يخاف مضرَّتُهما {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}، لم تضرَّاهُ، ذكره في "الخازن". وقوله: {وَأَهْلَكَ} معطوف على زوجين على قراءة حفص، وعلى اثنين على قراءة غيره؛ أي: واحمل فيها أهلَ بيتك ذكرانًا وإناثًا {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، والقضاءُ بأنهم من المغْرَقِين بسبب ظلمهم، كما قال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} والمرادُ (¬1) به: ابنه كَنعَان، وأمه واعلة أم كنعان، فإنهما كَانَا كافرين، فحَمَل في السفينة زوجتَه المؤمِنةَ وأولادَها الثلاثةَ مع نسائهم: سامًا، وحامًا، ويافثًا، فسامُ أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك، وإفرادُ الأهلِ منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم، وقوله: {وَمَنْ آمَنَ} معطوف على زوجين، أو على اثنين على اختلاف القراءة؛ أي: واحمِل معك مَنْ آمن، وصَدَّقَكَ واتبعك من غير أهلك. {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} من قومه، قيل: إنهم كانوا ثمانية: نوحًا عليه السلام، وأبناءه الثلاثة، وأزواجهم. وعن ابن عباس (¬2) قال: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا، نصفهم رجال، ونصفُهم نساءٌ. وقال مقاتل: في ناحية الموصل قريةٌ يقال لها: قرية الثمانين، سميت بذلك؛ لأنَّ هؤلاء لَما خرجوا من السفينةِ بَنَوْها فسُمِّيَتْ بهذا الاسم. ولكن لم يبين (¬3) الله سبحانه وتعالى لَنَا ورَسولُه - صلى الله عليه وسلم - عَدَدَهم فحصره في عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لَمْ يبيَّنِ لنا أنواعَ الحيوان التي حملها، ولا كيف حَمَلها، وأدْخلها السفينة، وقد فصل ذلك في سفر التكوين من التوراة. 41 - وقوله: {وَقَالَ} معطوف على محذوف تقديره، فحَمَلهم نوحٌ، وقال: {ارْكَبُوا فِيهَا}؛ أي: في جوف السفينة، والخطابُ فيه للإنس، وأما غيرهم من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

الحيوانات أخَذه بيده، وألقاه فيها {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}؛ أي: باسم الله سبحانه وتعالى جريانُ السفينة على الماء وإرساؤها؛ أي: وقوفها، فهو الذي يتولَّى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، وروي (¬1) أنه كان إذا أراد أنْ تجري قال: بسم الله، فَجَرَتْ، وإذا أراد أن تَرْسُو قَالَ: بسم الله، فرَسَتْ؛ أي: وقفت، ويجوز أن يكون الاسمُ مُقْحمًا كقوله: إِلَى الْحَوَلِ ثُمَّ اسْم السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا وهذا تعليم من الله لعباده أنه ينبغي لهم أن يستعينوا بالله تعالى، وقد يكون المعنى أنَّ نوحًا أمرهم بأن يقولُوها كما يقولُها على تقدير اركبوا فيها قائلينَ باسم الله؛ أي: بتسخيره، وقدرته، مجْراها حين تَجْرِي ومرساها حين يرسيها, لا بحولنا ولا بقوتنا، ويحتمل أن يكونَ مجْريها ومُرْسَاهَا اسمي مكان أو زمان، أي: اركبوا فيها ذاكرينَ اسمَ الله، وقتَ جريانها أو إرسائِهَا، أو مكانهما. وقرأ مجاهدٌ والحسنُ وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر (¬2): {مُجراها} بضم الميم، وقَرأ حمزةُ والكسائِيّ وحَفْصٌ بفتحها، وكلهم ضمَّ ميم {مُرساها}، وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفيَّ وزيد بن علي والأعمش: {مجراها ومرساها} بفتح الميمين ظرفيْ زمان، أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة، وقرأ الضَّحاك، والنخعيُّ، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جندب، والكلبيُّ، والجحدري: {مجريها، ومرسيها} سمي فاعل من أجرى وأَرْسى على البدل من اسم الله، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتَين. {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى {لَغَفُورٌ}؛ أي: سَتُورٌ عليكم ذنوبَكم، بتوبتكم وإيمانكم {رَحِيمٌ} لكم إذ نَجَّاكم من الغرق، ولولا مغفرتُه تعالى ورحمته إياكم، لما نجَّاكم لأنكم لا تنفكون عن أنواع الزَّلَّات؛ أي: إنَّ ربِّي لواسع المغفرة لعباده حيثُ لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرينَ الظالمينَ منهم، رحيم بهم إذ ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

[42]

سخَّر لهم هذه السفينةَ لنجاة بقيَّةِ الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته، ورُوي في الحديث: "أنَّ نوحًا رَكِبَ في السفينة، أوَّل يوم من رجب، وصام الشهر أجْمَعَ - وعن عكرمة لعشر خلون من رجب - ونَزَلَ عنها عَاشِرَ المحرم، فصَامَ ذلك اليوم، وأمَرَ مَنْ معه بصيامه شكرًا لله تعالى" وكانَتْ مدة مُكْثِه على السفينة سِتَّةَ أشهر تقريبًا. وأخرج الطبرانيُّ (¬1) وغيره عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنَّه قَالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم بسم الله مجريها" الآية. 42 - قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} هذه الجملة (¬2) متصلة بجملة محذوفة دلَّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير فركبوا مُسَمِّينَ وهي تَجْري بهم، والموج جمع مَوْجَةٍ وهي ما ارتفعَ مِن جملةِ الماء الكثير عند اشتدادِ الريح، وشبَّهَها بالجبال المرتفعة على الأرض. أي: فركبوها، والحال أنها تَجْرِي بهم في موج يشبه الجبالَ، في عُلُوهِ وارتفاعه وامتداده، ومَنْ كابد ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياحُ الشديدة .. عَرَفَ أنَّ المبالغةَ في هذا التشبيه غير بعيدة، فإنَّ السفينة لترى كأنها تهبط في غور عميق كَوادٍ سحيق يُرَى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليهَا، وبعد هنيهة يرى أنَّها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنَّها في شاهق جبلٍ تُريدُ أن تنقضَّ منه، والملَّاحُون يَرْبِطُون أنْفُسُهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيضُ من الموج عليها. وهذه الجملةُ تدُلُّ على وجود الرياح الشديدة في ذلك الوقت، قال علماءُ (¬3) السير: أرسلَ الله تعالى المطَرَ أربعين يومًا وليلةً، وخرج الماء من الأرض، وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعًا، وقيل: خَمْسَةَ عَشَر ذِراعًا حتى أغرَق كل شيء. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

ورُوي (¬1) أنه لما كَثُر المَاءُ في السكك خَافَتَ أم صبيٍّ على ولدها من الغرق، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فخرجت به إلى الجبل حتى بَلغت ثلثه، فلَحِقَهَا الماء، فارتفعَتْ حتى بلغت ثلثَيه فلَمّا لَحِقَها الماء ذهبَتْ حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبيَّ. بِيَدَيْها حتى ذَهَبَ بهِمَا الماءُ فأغرقهما، فلَوْ رحم الله منهم أحدًا .. لرَحِمَ أمُّ الصبِيّ ثم بَيَّنَ أنَّ نوحًا دَعَته الشفقة على ابنه، فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} هو كنعانُ (¬2)، وقيل: يَام، قيل: وكان كَافِرًا، واستبعِدَ كون نوح ينادي مَنْ كان كافرًا مع قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وأُجيب بأنه كان منافقًا، فظنَّ نوح أنه مؤمن، وقيل: حملته شَفَقةُ الأُبُوَّة على ذلك، وقيل: إنه كان ابنَ امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيِّده ما روى أنّ علّيًا قرأ: {ونادى نوح ابنها}، وقيل: إنَّه كان لغير رشدة، وولدَ على فراش نوح، ورُدَّ بأن قوله: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}، وقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} يَدْفَعُ ذلك على ما فيه من عدم صيانةِ مَنْصِبِ النبوة. أي: ونادى نوح ابنه كنعانَ قَبْلَ سَيْرِ السَّفينَةِ {و} الحال أنه {كان في معزل}؛ أي: في مكان بعيد عزل وبعد وفصل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقرابته وقومه، بحيث لم يَبْلُغه الخطاب بارْكَبُوا؛ أي: قول نوح لمَنْ آمَن {اركبوا} وقيل: {في معزل} عن دين أبيه، وقيل: من السفينة، قيل: وكان هذا النداء قبل أنْ يَسْتَيْقِنَ الناسُ الغرَقَ بل كان في أوَّلِ فور التنور. وقرأ الجمهورُ (¬3): بكسر تنوين {نوحٍ}، وقرأ وكيع بن الجراح بضمه أتبع حركتَه حركةَ الإعراب في الحاء، قال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تُعْرَف، وقرأ الجمهور بوصل (هَاءِ) الكناية، بواو، وقرأ ابن عباس: {ابنَهْ} بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل، وأبو الفضل الرازي، وهذا على لغة الأزد الشراة يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[43]

وَنَضْوَايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أَرِقَانِ وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب، وعُقيل، وقرأ السدي: {ابناهْ} بألف وهاء السكت، قال أبو الفتح: ذلك على النداء، وذهبَتْ فرقة إلى أنه على الندبة والرثاءِ. وقرأ علي وعروة وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنُه جعفر (¬1): {ابنه} بفتح الهاء من غير ألف، أي: ابنها مضافًا لضمير امرأته، فاكتفي بالفتحة عن الألف، قال ابن عطية: وهي لغةٌ ومنه قول الشاعر: إِمَّا تَقُوْدُ بِهَا شَاةً فَتَأْكُلُهَا ... أَوْ أنْ تَبِيْعَهَ فِيْ بَعْضِ الأَرَاكِيْبِ يريد تَبِيعَها، وقرأ أيضًا علي وعروة: {ابنها} بفتح الهاء وألف. وقرأ عاصم: {يا بنيَّ اركب معنا} بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأَ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بُنيا، كيا غلامًا ثُمَّ حذفت، وبقيت الفتحة لِتَدُلَّ عليه، أو على أنَّ الألِفَ انحذفت لالتقائها مع راءِ اركب، وقرأ باقي السبعة بكسر الياء اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة، أو حذِفَت لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو عمرو والكسائي وحفص (¬2): {ارْكَبْ مَعَنَا} بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج، وقَرأَ الباقون بعدم الإدغام. والمعنى: ونادَى نوحٌ ابنه حينَ الركوب في السفينة، وقبل أنْ تجرِيَ بهم، وكان في مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومَنْ آمن من قومه يا بنيَّ اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الذين قضي عليهم بالهلاك، نَهَاه عن الكون مع الكافرين؛ أي: خَارجَ السفينةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ بالكون معهم الكونَ على دينهم. 43 - ثمَّ حكى الله سبحانه وتعالى ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: {قَالَ} ابن نوح جوابًا لأبيه، ظانًّا أنَّ ذلك المطرَ والتَّفْجِيرَ على العادة {سَآوِي} وألتجىء من وصول الماء إليَّ {إِلَى جَبَلٍ} أتحصن به من الماء {يَعْصِمُنِي} أي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

فيحفظني ذلك الجبل {مِن} الغرق بـ {الْمَاءِ} وهذا يدل على عادته في الكفر، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به، قيل: والجبل الذي عَناه طُورُ زيتا، فلم يمنعه فَأجَابه نوح مبينًا له خطأَه بما ذكره الله سبحانه وتعالى {قال} نوح لابنه {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ}؛ أي: لا شيء يعصِم أحدًا في هذا اليوم العصيب، زاد اليومَ تنبيهًا على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع التي ربما يخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب، اهـ "روح البيان". {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: مِن عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقامٌ من أشرار العباد الذين أشركوا بالله، وظلموا أنْفُسَهم، وظلموا الناسَ بطغيانهم في البلاد. والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} منقطع بمعنى لكن؛ أي: لا عاصم اليومَ من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو المعصوم, لأنَّ المستثنى هو المعصوم، والمستثنى منه هو العاصم؛ أي: لكن مَنْ عصمه الله سبحانه وتعالى ورحمه، فهو المعصومُ المرحوم، وقد اختص بهذه الرحمة والعصمةِ مَنْ حَمَلَهُم في السفينة. والمعنى: لا مانِعَ (¬1) من أمر الله وعذابه اليومَ فإنه يوم قد حق فيه العذاب، وجف القلم بما هو كائن فيه، نفى جنسَ العاصم، فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجًا أوليًّا، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره، والاستثناء هنا قال الزجاج: هو منقطعٌ؛ أي: لكن مَنْ رَحِمَهُ الله فهو يعصمه فيكون {مَنْ رَحِمَ} في مَوْضع نصب، ويجوز أن يكونَ الاستثناء متصلًا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم؛ أي: لا مَعْصُومَ اليومَ من أمر الله إلّا مَنْ رحمه الله مثل: {مَاءٍ دَافِقٍ} بمعنى مدفوق و {عيشة راضية} بمعنى مَرْضِيَّةٍ، وقول الشاعر: بَطِيْءُ الْقِيَامِ رَخِيْمُ الْكَلاَمْ ... أَمْسَى فُؤَادِيْ بِهِ فَاتِنَا أي مفتونًا، واختارَ هذا الوجه ابن جرير، وقيل: العاصم بمعنى ذي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[44]

العصمة كَلاَبِنٍ وتامر، والتقديرُ: لا عَاصمَ قط؛ أي: لا مكانَ ذا عصمةٍ إلا مكانَ مَنْ رحم الله، وهو السفينةَ. وذكر صاحب "الانتصاف" (¬1): أنَّ الاحتمالات الممكنة هنا أربعةٌ: لا عَاصمَ إلّا راحم، لا معصومَ إلا مرحوم، لا عاصمَ إلا مرحوم، لا معصومَ إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران استثناء من غير الجنس، فيكون منقطعًا؛ أي: لكنِ المرحومُ يُعْصمُ على الأول ولكن الراجح يَعْصِمُ مَنْ أراد على الثاني، اهـ "زاده" و"شهاب". وقُرِىءَ (¬2): {إِلَّا مَنْ رُحِمَ} بضم الراء، بالبناء للمفعول، وهذا يدل على أنَّ المراد بِمَنْ في قرَاءة الجمهور الذين فتحوا الراءَ هو المرحومُ لا الراحمُ. {و} كان الماء يتزايدَ ويرتفع أثناء المحادثةِ والمراجعة بينهما حتى {حال بينهما}؛ أي: بين الولد ووالده {الْمَوْجُ فَكَانَ} الولدُ {مِنَ الْمُغْرَقِينَ} بالفعل الهالكين بالطوفان، فتعذَّر خَلاصُه مِن الغرق، قيل كَانَا يتَراجَعَانِ الكلامَ فما استتمَّت المراجعةُ حتى جاءت موجة عظيمةٌ، وكان راكبًا على فرس قد بَطِرَ وأعجب بنفسه، فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق وقال الفراء (¬3): بَيْنَهُما؛ أي: بين نوح والجبل الذي ظنَّ أنه يعصمه، والأول أولى لأن تَفَرُّعَ {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} عليه يدل على الأول لا على الثاني, لأنَّ الجبلَ ليس بعاصم. 44 - ثُمَّ ذَكَر ما حدث بعد هلاكهم مبيِّنًا قُدْرَتَه تعالى فقال: {وَقِيلَ}؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}؛ أي: أنشفي ما على وَجْهك من ماء الطوفان، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}؛ أي: أمسكي عن إرسال المطر، وقدَّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداءِ الطوفان منها {وَغِيضَ الْمَاءُ}؛ أي: ونقَصَ ما بين السماء والأرض من الماء، وفي "القرطبي"، وقيل: ميز الله بين الماءين فَمَا كَانَ من ماء ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

الأرض أمرَهَا فبلعته، وصَارَ مَاء السماء بِحارًا، اهـ. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: أتم الله الأمر من هلاك قوم نوح؛ أي: أحكم وأمضى وفرغ منه {وَاسْتَوَتْ} الفلك؛ أي: واستقرت السفينة رَاسِيةً واقفة {عَلَى الْجُودِيِّ}؛ أي: على جبل بالجزيرة، مدينة بالعراق قريب من الموصل، يقال له: الجوديُّ، وكان ذلك الجبل منخَفِضًا، ويقال: إنَّه مِن جبال الجنة، فلذا اسْتَوَتْ عليه. وفي "القرطبي": رُوِيَ أنْ الله تعالى أُوحى إلى الجبال أنَّ السفينةَ تُرْسَى إلى واحد منها، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعًا لله تعالى، فَاسْتَوَتْ السفينة عليه، وبقيت على أعوادها، وفي الحديث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة". اهـ. رُوي (¬1) أنه عليه السلام رَكِبَ في الفلك في عاشر رجب، ومرَّتْ بالبيت الحرام، فطافَتْ به سبعًا، ونَزَل عن الفلك عَاشِرَ المحرم، فصام ذَلِك اليومَ وأمر من معه بصيامه شكرًا لله تعالى، وبَنَوا قريةً بقُربِ ذلك الجبلِ فسمَّوها قريةَ الثَّمانِين، فهي أوَّل قرية عمِّرت على الأرض بعد الطوفان، وقَرأ الأعمش، وابن أبي عَبْلَةَ على {الجوديْ} بسكون الياء مخففةً، قال ابن عطية: وهما لغتان، وقال صاحب "اللَّوامح": هو تخفيفُ ياء النسب، وهذا التخفيفُ بابُهُ الشعرُ لشذوذه ذَكَرَه أبو حيان. ومعنى الآيةِ وجاء نداء (¬2) من الملأ الأعلى خُوطِبَتْ به الأرضُ والسماء: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الذي عليك، والذي تفجرَ من باطنِك، ويا سماء كُفِّي عن المطر، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالًا للأمر، وقضي الأمر بإهلاك الظالمين، واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي، {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: بعدًا من رحمتي، وهَلاكًا بعذابِي قضيت وأثبت للقوم الظالمين بما كَانَ من ظلمهم، وفقدهم الاستعدادَ للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والقائل هو سبحانه وتعالى كما فسَّرنا ليناسب صَدْرَ الآية، وقيل: هو نوحٌ وأصحابه. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[45]

والمعنى: أي قال نوح وأصحابه: بَعِدُوا بُعْدًا من رحمة الله للقوم المشركين، بحيث لا يرجَى عودهم، وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأنَّ الغالبَ ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة إذا هلكوا ونجا منهم قالَ مثْلَ هذا الكلام، وهذا من الكلمات التي تختص بدعاء السوء، ووَصَفهم بالظلم، للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}. فإنْ قلتَ (¬1): كيف اقتضَتْ الحكمة الإلهية، والكرمُ العظيم إِغراقَ مَنْ لم يبلغوا الحلم من الأطفال، ولم يَدْخلوا تحت التكليف بذنوبِ غيرهم؟ قلت: الجواب الشافي عن هذا أنْ يقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى متصرِّف في خَلْقِهِ، وهو المالك المطلقُ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسْألُ عما يفعل، وهم يسألون، لا ما قيل: من أن الله عَزَّ وَجَلَّ أعْقَمَ أَرْحَامَ نسائهم أربعين سنة، فلَمْ يُولد لهم ولد في تلك المدَّة، لأنَّ هذا الجواب ليس بقويٍّ لأنه يَرِدُ عليه إغراقَ جميع الدواب والهوام والطير. قال العلماء بالسير (¬2): لمَّا استقرت السفينةُ بَعَثَ نوحٌ الغرابَ ليأتِيَه بخبر الأرض، فوقع على جيفة، فلم يرجع إليه، فبَعَثَ الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها, ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوحٌ أن الماءَ قد ذهَبَ، فدعا على الغراب بالخوفِ فلذلك لا يألف البيوتَ، وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها، ودعا لها بالأمان فمن ثم تَأْلَفُ البيوت. 45 - {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة، ودَعاهُ إليها فلم يستجب، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي} هذا {مِنْ أَهْلِي} الذي وعدَتنِي بنجاتهم، إذ أمرتني بحَمْلهم في السفينة {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الذي لا خلف فيه {وَأَنْتَ} يا إلهي {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: خير الحاكمينَ بالحق، وأفضلُهم كما قلتَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، فلا يعرض له الخطأ، ولا الحَيف، ولا الظلم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[46]

والمعنى: وأنت أعلم الحكَّام وأَعْدَلُهم إذ لا فَضْلَ لحاكم على غيرِه إلَّا بالعلم، والعدل، ورُبَّ جاهل ظالم من متقلدي الحكومة في زمانك لقد لقِّبَ بأقضى القُضاة، وقال جَارُ الله: قُضَاةُ زَمَانِنَا صَارُوْا لُصُوْصَا ... عُمُوْمًا فيْ الْقَضَايَا لاَ خُصُوْصَا خَشِيْنَا مِنْهُمُ لَوْ صَافَحُوْنَا ... لَلَصُّوْا مِنْ خَواتِمِنَا فُصُوْصَا اهـ "روح البيان". وهذا الدعاء من نوح عليه السلام في غاية التلطُّف، وهو مِثْلُ دعاءِ أيوب عليه السلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. والخلاصة: أن نوحًا كانَ يريد أن ينجوَ ابنه الذي تخلَّفَ عن السفينة من الغرق، بعد أَن دعاهُ إليهَا، ومن البَيِّنِ أنَّ هذا الدّعاءَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بعد المحاورة مَعَ ابنِه قبل أن يَحُولَ بينهما الموج، ومعنى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ}؛ أي: أراد أن يناديه، ولذلك أَدْخَلَ الفاء؛ إذ لو كان أراد حقيقةَ النداءِ والإخبار عن وقوعه منه لم تَدْخُل (الفاء) في {فقال} ولسقَطَتْ كما لم تَدْخُل في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ} و (الواو) في هذه الجملة لا ترتب أيْضًا، وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ كانت أوَّلَ ما ركب نوحُ السفينةَ، ويظهر من كلام الطبري أنَّ ذلك مِنْ بعدِ غَرْق الابن 46 - {قال} الله سبحانه وتعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ ابْنَكَ هَذَا {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين أمرتك أنْ تحملهم في الفلك لإنجائهم، وقد بَيَّن سبحانه سبَبَ ذلك بقوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ ابْنك هذا {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}؛ أي: ذو عمل غير صالح؛ لأنه عَمِلَ عملًا غير مرضيٍّ، وهو الشركُ والفسادُ والتكذيب. قال الزَّمخشري (¬1): فإنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قيل: إنه عمل فاسد؟ قلتُ: لمَّا نفاه من أهله نَفَى عنه صِفَتَهم بكلمة النفي التي يُستنفى بها معها لفظ المنفي، وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم لا لأنهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أهلك وأقاربك، وإنَّ هذا لمَّا انتفى عنه الصَّلاحُ لم تنفعه أُبُوَّتُكَ. والظاهر (¬1): أن الضمير في أنه عائد على ابن نوح، لا على النداءِ المفهوم من قوله: {وَنَادَى} المتضمّن سؤالَ ربَّهِ، وجعَلَه نفس العمل مبالغة في ذمِّهِ هذا على قراءة جمهور السبعة عمل بلفظ المصدر، وقرأ الكسائي: {عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ} على جعله فعلًا ناصبًا {غير صالح} وهي قراءة عليّ وأنس، وابن عباس، وعكرمة، ويعقوب، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يُرَجِّحُ أن الضميرَ يعود على ابن نوح، قيل: ويرجِّح كونَ الضمير في أنه عائدًا على نداءِ نوح المتضمن السؤالَ أنَّ في مصحف ابن مسعود: {إنه عملٌ غيرُ صالح أن تسألني ما ليس لك به علم} وقيل: يعودُ الضمير في هذه القراءةِ على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمَّنه سؤالُ نوح. المعنى: أن كونَه مع الكافرين، وتركَه الركوبَ مع المؤمنين، عمل غيرُ صالح، وكون الضمير في أنه عائدًا على غير ابن نوح عليه السلام تكلفٌ وتعسفٌ لا يليق بالقرآن، ذكره أبو حيان. {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: إذا وقَفْتَ على جَلِيَّةِ الحال، فلا تَطْلُب مني مطلبًا لا تَعْلَمُ يقينًا أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة، ولمَّا بيَّنَ له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرَّع على ذلك النهي عَنِ السؤال، وهو وإنْ كان نَهْيًا عامًّا بحيث يشمل كُلَّ سؤال لا يعلمُ صاحبه أنَّ حصولَ مطلوبه منه صواب، فهو يَدْخُلُ تحته سؤاله هذا دُخولًا أوليًّا. أي: فلا تسألني يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح، وقد سمَّى دعاءَه سؤالًا لتضمنه معنى السؤال؛ لأنه تضمَّن ذكر الوعد بنجاة أهله، وما رتَّبه عليه من طلب نجاة ولده. وفي الآية (¬2): إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله في خلقه، بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرَّمٌ شرعًا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[47]

وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب، والتوفيق فيها، والهداية إلى العلم بالمجهول، من السنن والنظام لنكثر من عمل الخير، ونزيدَ من عمل البر والإحسان {إِنِّي أَعِظُكَ}؛ أي: أُخَوِّفكَ وأحذرك وأنهاك عن {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} بالسؤال، سَمَّى سؤالَه عليه السلام جهلًا؛ لأنَّ حُبَّ الولد شَغَلَه عن تذكرِ استثناءِ مَنْ سبق عليه القول منهم بالإهلاك. أي: إني أنهَاكَ أن تكون من زُمرةِ مَنْ يجهلون فيسألونَه تعالى أن يبطِلَ حكمتَه، وتقديرَه في خلقه إجابة لشهواتهم، وأهْوائِهم في أنفسهم، أو أهليهم، أو مُحِبِّيهم، وفي ذلك (¬1) دليلٌ على أنَّ منْ أكبر الجهالات أنْ تسأل بعضَ الصَّالحِينَ والأولياء ما نهى الله عنه نَبِيًّا من أولي العزم مِنْ رسله أن يَسْألَهُ إيَّاه، فإنَّ ذَلِك يقتضي بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله، وموعظة يرفع بها نوحًا عن مقام الجاهلين، ويُعْلِيه بها إلى مقام العلماء العاملين. وقرأ الصاحبان (¬2) - نافع وابن عامر -: {تَسْألنِّ} بتشديد النون مكسورةً، وقرَأ أبو جعفر، وشيبة، وزيد بن عليّ كذلكَ إلا أنهم أثبتوا (الياء) بعد (النون)، وابنُ كثير بتشديدها مفتوحةً، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الحسن، وابن أبي مليكة {تسالنِي} من غير همز من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة، وقَرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام، وكسر النون، وتخفيفِها وأثْبتَ الياء في الوصل وَرْشٌ، وأبو عمرو، وحَذَفَها الباقون. 47 - قال الزمخشري: المعنى فلا تلتمس ملتمسًا أو التماسًا لا تعلمُ أصَواب هو أم غير صواب؟ حتى تَقِفَ على كنهه، ثمَّ لمَا عَلِمَ نوح بأنَّ سؤاله لم يطابق الواقع، وأنَّ دعاءَه ناشيء عن وهم كانَ يتوهمه، بادَرَ إلى الاعتراف بالخَطَأ، وطلب المغفرة والرحمة فـ {قال} نوح {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} وألتجِىءُ إليكَ وأحتمي بك من {أَنْ أَسْأَلَكَ} بعد الآن {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: شَيئًا لا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أعْلَمُ أنَّ حْصُولَهُ على مقتضى الحكمة {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}؛ أي: وإن لم تغفر لي ذَنْبَ هذا السؤال الذي سولته لي الرحمة الأبوية، وطمعي في الرحمة الربانية {وَتَرْحَمْنِي} بقبول توبتي، برحمتك التي وَسِعَت كُلَّ شيء {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في أعمالي، فلا أربح فيها؛ أي: أكنْ من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلِّهم، وسعادتِهم بطاعتك، وأنت أعلم بها مني، وقد استدلّ بهذه الآيات من لا يرى عِصْمَة الأنبياءِ، والخاسرون هم المغبونون حُظُوظَهم من الخير، ونَسَب النَّقْصَ والذَّنْبَ إلى نفسه، تأدبًا مع ربه، فقال: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}، أي: ما فرط من سؤالي، وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام. والعبرة في الآية من وُجوهٍ (¬1): 1 - أنَّ ما سأله نوح لابنه لم يكن معصيةً لله تعالى، خَالَفَ فيها أمْرَه أو نَهْيَهُ، وإنما كَانَ خَطأً في اجتهاد بنية صالحةٍ، وعَدَّ هذا ذَنْبًا لأنه ما كان ينبغي لِمِثْلِهِ من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومِثلُ هذا الاجتهاد لم يُعْصَم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانًا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم، وتكميله إياهم حينًا بعد حين. 2 - أنه لا علاقةَ للصلاح بالوراثةِ والأنساب، بل يختلفُ ذلك باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كَانَ للوراثة تأثير كبيرٌ .. لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين. 3 - أنه تعالى يجزي الناسَ في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابِي أحدًا منهم لأجل الآباء والأجداد، وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين. 4 - أنه من يغتر بنسبه، ولا يعمل ما يرضي ربَّه، ويزعم أنه أفضلُ من العلماء العاملين، والأولياءِ الصالحين فهو جاهل بكتاب ربِّه الذي لا يأتيه الباطل ¬

_ (¬1) المراغي.

[48]

من بين يديه ولا من خلفه 48 - {قِيلَ}؛ أي: قال الذي (¬1) بيده ملكوت كل شيء ومدبر أمر العالم كلّه لنوح بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابْتَلَعَت الأرْضُ ماءَها، وصَارَت السكنى على الأرض، والعملُ عليها سَهْلًا مُمْكِنًا، {يَا نُوحُ اهْبِطْ} وانزل من الجودي الذي استوَتْ عليه السفينة، وقرىء {اهبط} بضم الباء ممتعًا {بِسَلَامٍ}؛ أي: بسلامةٍ وتحية وأمن {مِنَّا} كما قال تعالى {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)}، وذلك أنَّ الغَرَق لما كان عَامًّا في جميع الأرض، فعندما خَرَجَ نوح عليه السلام من السفينة عَلِمَ أنه ليس في الأرض شيءٌ مما ينتفع به من النبات والحيوانات، وقيل: فكان كالخائف في أنه كيف يَعِيش، وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلَمَّا قَالَ الله له: اهبط بسلام مِنَّا زَالَ عَنْهُ الخَوْفُ؛ لأن ذلك يَدُلُّ على حصول السلامة، وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق {وَبَرَكَاتٍ} في المعايش والأرزاق، وقيل: أي: ونعم ثابتة، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته، ومغفرة زلته، وحَكَى عبد العزيز بن يحيى {وبركة} على التوحيد عن الكسائي؛ أي: وبركات فائضة {عَلَيْكَ} وعلى مَن مَعَكَ في السفينة، {وَعَلَى أُمَمٍ} مؤمنة ناشئة {مِمَّنْ مَعَكَ} في السفينة؛ أي: وعلى ذريات يتناسلون منهم، ويتفرقون في الأرض، فيكونون أُمَمًا مستقلًا بعضها من بعض، يعني بهؤلاء المؤمنين من ذرياتهم، ولم يُعْقِبْ أحدٌ منهم إلَّا أولادَ نوح الثلاثةَ، فانحصر النوع الإنسانيُّ بعد نوح في ذريته، {وَأُمَمٌ} كافرة متناسلة ممن معك {سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا بالأرزاق، والبركات، ولا يصيبهم لطفٌ من ربهم ورحمة كما يصيب المؤمنين، فإنَّ الشَّيْطانَ سيغويهم، ويزين لهم الشرك، والظلمَ، والبغْيَ {ثُمَّ} بعد رجوعهم إلى ربهم {يَمَسُّهُمْ مِنَّا} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وَجيع، فيكون جزاؤُهم فيها دارَ البوار، وبئس القرار. 49 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا قصَصٌ من عالم الغيب لا يعرفه هو، ولا قوْمُه من قبل، فقال: {تِلْكَ}؛ أي: هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}؛ أي: من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى ¬

_ (¬1) المراغي.

تَعْلَمَها {نُوحِيهَا إِلَيْكَ}؛ أي: نُخْبِرُها لك فنعرفكها تفصيلًا، و {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} الوحي الذي نَزَل مبينًا لها تفصيلًا، وربما كَانَ يعلمها هو، وقومه على سبيل الإجمال {فَاصْبِرْ} يا محمَّد على أَذَى هؤلاء الكفار كما صبر نوح على أذى أولئك الكفار؛ أي: فاصبرْ على القيام بأمر الله، وتبليغ رسالته، وما تَلْقى مِنْ قومك من أذًى، كما صَبَرَ نوح على قومه، {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} المحمودة؛ أي: آخِرَ الأمر بالظفر في الدنيا، وبالفوز في الآخرة {لِلْمُتَّقِينَ} لله المؤمنين بما جاءَتْ به رسله؛ أي: فإنَّ سُنَّة الله سبحانه وتعالى في رسله، وأقوامهم أن تكونَ العاقبة بالفوز، والنجاة للمتقينَ الذين يتجنبون المعاصيَ، ويعملونَ الطاعاتِ، فأنتم الفائزون المفلحون، والمصرُّون على عُداونكم هم الخاسرون الهالكون، وفي هذا تسلِيةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ولا اعتبار بمباديه. وفي مصحف ابن مسعود (¬1): {مِنْ قبلِ هذا القرآن}. الإعراب {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}. {أَمْ} منقطعة مقدرة ببل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري، {يَقُولُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {افْتَرَاهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح على الخلاف في معنى الآية، كما سبق، والجملة في محل النصب مقول القول {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح، والجملة مستأنفة {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم، بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فَعَلَيَّ} {الفاء} رابطة {عليَّ} خبر مقدم {إِجْرَامِي} مبتدأ مؤخر والجملة الإسمية في محل الجزم بـ (إن) على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول القول {وَأَنَا بَرِيءٌ} مبتدأ وخبرٌ، والجملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {بَرِيءٌ}، {تُجْرِمُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تجرمونه. {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}. {وَأُوحِيَ} الواو: استئنافية {أوحي} فعل ماض مغير الصيغة {إِلَى نُوحٍ} متعلق به، {أَنَّهُ} ناصب واسمه {لَنْ يُؤْمِنَ} ناصب وفعل منصوب {مِنْ قَوْمِكَ} متعلق به {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مَن} اسم موصول في محل الرفع فاعل {يُؤْمِنَ}، {قَدْ آمَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَن} الموصولة، والجملة الفعلية صلة {مَن} الموصولة، وجملة قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ} في محل الرفع خبر أنَّ وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائِبَ فاعل لأُوحي تقديره وأُوحي إلى نوح عدمُ إيمان قومه، وجملة أوحي مستأنفة {فَلَا} الفاء: حرف عطف وتفريع، لا: ناهية جازمة {تَبْتَئِسْ} فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ}، {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {تَبْتَئِسْ}، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْعَلُونَ} خبر {كان} وجملة {كان} صلةٌ لما أو صفة لها. {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}. {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ} والتقدير: أوحي إلى نوح أن اصنع الفلك، {بِأَعْيُنِنَا} جار ومجرور حال من فاعل {اصنع} {وَوَحْيِنَا} معطوف عليه، والتقدير: واصنع الفلكَ حالةَ كونك محروسًا بأعيننا، ومعلمًا بوحينا {وَلَا} (الواو) عاطفة (لا) ناهية جازمة {تُخَاطِبْنِي} فعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح {فِي الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اصنع} {ظَلَمُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ناصب واسمه، وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي.

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}. {وَيَصْنَعُ الْفُلْك} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة {وَكُلَّمَا} (الواو) حالية {كلما} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ {سَخِرُوا}، {مَرَّ} فعل ماض {عَلَيْهِ} متعلق به {مَلَأٌ} فاعل {مَرَّ}، {مِنْ قَوْمِهِ} صفة لـ {ملأ} والجملة الفعلية فعلُ شرط لـ {كلما} لا محلَّ لها من الإعراب. {سَخِرُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {كلما}، {مِنْهُ} متعلق به وجملة {كلما} في محل النصب حال من فاعل {يصنع}. {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} إلى قوله: {عَذَابٌ مُقِيمٌ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنْ تَسْخَرُوا} جازم وفعل وفاعل {مِنَّا} متعلق به {فَإِنَّا} (الفاء) رابطة {إِنَّا} ناصب واسمه {نَسْخَرُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ومن معه {مِنْكُمْ} متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطيةِ على كونها جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول (قال) {كَمَا} و {الكاف} حرف جر وتشبيه (ما) مصدرية {تَسْخَرُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كسخريتكم {مِنَّا} الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: نسخر منكم سخريةً كسخريتكم منا. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}. {فَسَوْفَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ عاقبتِنا، وعاقبتكم .. فأقول لكم {سوف تعلمون} {سوف} حرفُ تنفيس للاستقبال البعيد، {تَعْلَمُونَ} فعل

وفاعل {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به؛ لأنَّ (عَلِم) هنا بمعنى عرف يتعدَّى لمفعول واحد، أو (مَن) استفهامية في محل الرفع، وجملة {يَأْتِيهِ} خبر (مَن) الاستفهامية، وجملة (من) الاستفهامية سادة مسدَّ مفعول (علم)، وجملة {تَعْلَمُونَ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {يَأْتِيهِ} فعل ومفعول {عَذَابٌ} فاعل، والجملة صلة (مَن) الموصولة {يُخْزِيهِ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {عَذَابٌ} والجملة في محل الرفع صفة لـ {عَذَابٌ}. {وَيَحِلُّ} فعل مضارع {عَلَيْهِ} متعلق به {عَذَابٌ} فاعل {مُقِيمٌ} صفة {عَذَابٌ} وجملة {يحل} معطوفة على جملة {يَأْتِيهِ} على كونها صلة (من) الموصولة. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}. {حَتَّى} حرف جر وغاية، وابتداء {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {جَاءَ أَمْرُنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {وَفَارَ التَّنُّورُ} فعل وفاعل معطوف على {جَاءَ}، {قُلْنَا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} لا مَحَلَّ لها منَ الإعراب {احْمِلْ فِيهَا} إلى قوله: {وَقَالَ} مقول محكي، والجملة الفعلية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حَتَّى} الغائية، والتقدير: ويصنع الفلك إلى قولنا: احمل فيها وَقْتَ مجيء أمرنا وفوران التنور، الجار والمجرور متعلق بـ {يصنع} وسميت {حَتَّى} غائية لكونها غاية لما قبلها، أعني قوله: {وَيَصْنَعُ} وما بينهما اعتراض، وابتدائية، لدخولها على الجملة، وإن شئت قلت: {احْمِلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْنَا}. {فِيهَا} متعلق بـ {احْمِلْ}، {مِنْ كُلٍّ} بالتنوين جار ومجرور حال من {زَوْجَيْنِ} لأنه صفة نكرة قُدمت عليها، {زَوْجَيْنِ} مفعول به لـ {احْمِلْ}، {اثْنَيْنِ} صفة مؤكدة لـ {زَوْجَيْنِ}؛ أي: احمل فيها زوجين اثنين حالةَ كونهما مِنْ كل حيوان، وعلى قراءة الإضافة الجار

والمجرور حالٌ من {اثْنَيْنِ} و {اثْنَيْنِ} مفعول به لـ {احْمِلْ}، {وَأَهْلَكَ} معطوف على المفعول على كلا القراءتين {إِلَّا} أداة استثناء {مَن} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء {سَبَقَ} فعل ماض {عَلَيْهِ} متعلق به، {الْقَوْلُ} فاعل، والجملة صلة من الموصولة، {وَمَنْ} الواو: عاطفة {مَن} اسم موصول في محل النصب معطوف على المفعول {آمَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مِن} والجملة صلة {مَن} الموصولة {وَمَا} (الواو) استئنافية (ما) نافية {آمَنَ} فعل ماض {مَعَهُ} متعلق به {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {قَلِيلٌ} فاعل {آمَنَ}، والجملةُ مستأنفةٌ. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}. {وَقَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فحمل غير الإنس، وقال للإنس: اركبوا. {ارْكَبُوا فِيهَا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئتَ قلت: {ارْكَبُوا} فعل وفاعل {فِيهَا} متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول {قَالَ}، {بِسْمِ اللَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم {مَجْرَاهَا} مبتدأ مؤخر {وَمُرْسَاهَا} معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال مقدرة من (الواو) في {ارْكَبُوا} تقديره: اركبوا فيها حالةَ كونكم مُسمين اللهَ أو قائلينَ بسم الله، وَقْتَ جَرَيَانِها وإرْسَائِها، أو حال مقدرة مِن (الهاء) في {فِيهَا} كما ذكره أبو البقاء، {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه {لَغَفُورٌ} خبره {رَحِيمٌ} صفة {غَفُورٌ} أو خبر ثان، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها تعليلةً. {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}. {وَهِيَ} الواو: حالية {هِيَ} مبتدأ {تَجْرِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على السفينة {بِهِمْ} متعلق به، وكذا قوله: {فِي مَوْجٍ} يتعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من شيء محذوف، تضمنته جملة محذوفة، دلَّ عليها سياق الكلام، تقديره: فركبوا فيها

حالَ كونها تجري بهم أو مستأنفة {كَالْجِبَالِ} جار ومجرور صفة لـ {مَوْجٍ} {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {وَكَانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن {فِي مَعْزِلٍ} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل النصب حال من {ابْنَهُ}، {يَا بُنَيَّ} {يا} حرف نداء {بني} منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياءِ المتكلم المنقلبة ألِفًا محذوفة اجتزاءً بالفتحة، وياء المتكلم المنقلبة ألِفًا محذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قائلًا: {يا بنيّ اركب معنا} {ارْكَبْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الابن {مَعَنَا} ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة جواب النداءِ {وَلَا تَكُنْ} جازم وفعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الابن {مَعَ الْكَافِرِينَ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة {ارْكَبْ}. {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الابن والجملة مستأنفة {سَآوِي} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الابن، والجملة في محل النصب مقول (قال) {إِلَى جَبَلٍ} متعلق به {يَعْصِمُنِي} فعل مفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على {جَبَلٍ}، {مِنَ الْمَاءِ} متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو يعصمني، والجملة الاسمية في محل الجر صفة لـ {جَبَلٍ}. {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة {لاَ} نافية تعمل عمل إنَّ {عَاصِمَ} في محل النصب اسمها {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {أَمْرِ اللَّهِ}، {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} جار ومجرور خبر {لَا}، والتقدير: لا عاصم كائن من أمر الله اليوم، كما ذكره أبو البقاء. وجملة {لَا} في محل النصب مقول {قَالَ} {إِلَّا} أداة استثناء {مَن} اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء، والاستثناء متصل إن كان {عَاصِمَ} بمعنى معصوم، ومنقطع إن كان على معناه،

{رَحِمَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره إلا من رحمه الله {وَحَالَ} فعل ماض {بَيْنَهُمَا} متعلق به {الْمَوْجُ} فاعل، والجملة مستأنفة {فَكَانَ} (الفاء) عاطفة (كان) فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن، {مِنَ الْمُغْرَقِينَ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة {حال}. {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}. {وَقِيلَ} الواو: استئنافية {قيل} فعل ماض مغير الصيغة {يَا أَرْضُ ابْلَعِي} إلى {وَغِيضَ الْمَاءُ} نائب فاعل محكي، والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: {يَا أَرْضُ} منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل الرفع نائِبُ فاعل {ابْلَعِي مَاءَكِ} فعل أمر، وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع نائب فاعل على كونها جوابَ النداء، {وَيَا سَمَاءُ} منادى نكرة مقصودة معطوف على قوله: {يَا أَرْضُ}. {أَقْلِعِي} فعل وفاعل جواب لنداء {يا سماء}، {وَغِيضَ الْمَاءُ} فعل ونائب فاعل معطوف على {وَقِيلَ}، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فعل ونائب فاعل معطوف على {وَغِيضَ}، {وَاسْتَوَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْفُلْكَ} بمعنى السفينة، والجملة معطوفة على جملة {قضي}. {عَلَى الْجُودِيِّ} متعلق بـ {استوت}. {وَقِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} نائب فاعل محكي، والجملة معطوفة على وقيل الأول، وإن شئت قلت: {بُعْدًا} مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أبعد بعدًا، وفاعله ضمير يعود على الله {لِلْقَوْمِ} متعلق بالفعل المحذوف {الظَّالِمِينَ} صفة {لِلْقَوْمِ}. {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)}. {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {فَقَالَ} (الفاء) عاطفة {قال} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة {نادى}، {رَبِّ إِنَّ ابْنِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت:

ناصب واسمه {مِنْ أَهْلِي} خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جوابَ النداء {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ناصب واسمه وخبره، والجملة معطوفة على (إن) الأولى {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من كاف {وَعْدَكَ}. {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّه} والجملة مستأنفة {يَا نُوحُ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا نُوحُ} منادى مفرد العلم {إِنَّهُ} ناصب واسمه {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن {مِنْ أَهْلِكَ} جار ومجرور خبر {لَيْسَ}، وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَابَ النداء {إِنَّهُ} ناصب واسمه {عَمَلٌ} خبره، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: ذو عمل {غَيْرُ} صفة لـ {عَمَلٌ} {صَالِحٍ} مضاف إليه، وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مُعلّلةً لما قبلها، {فَلَا} (الفاء) حرف عطف وتفريع (لا) ناهية جازمة {تَسْأَلْنِ} فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت و (النون) نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول أول {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل)، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مفرعةً عليها {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَا}، {لك} خبر مقدم لـ {لَيْسَ} {به} متعلق بـ {عِلْمٌ}، {عِلْمٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ (ما) أو صفة لها {إِنِّي} ناصب واسمه {أَعِظُكَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} على كَوْنِها مُعَلَّلَةً لما قبلها {أَنْ تَكُونَ} ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على نوح

{مِنَ الْجَاهِلِينَ} خبر {تَكُونَ}، وجملة {تَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إني أعظك من كونك من الجاهلين. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة، {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال)، {إِنِّي} ناصب، واسمه {أَعُوذُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح {بِكَ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَاب النداء {أَنْ أَسْأَلَكَ} ناصب وفعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل) {لَيْسَ} فعل ماض ناقص {لِي} خبر {لَيْسَ} مقدم {بِهِ} متعلق بـ {عِلْمٌ}، {عِلْمٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة {سأل} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إني أعوذ بك من سؤالي إياك ما ليس لي به علم، {وإلا} (الواو) عاطفة (إلا) (إن) حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في (لام) (لا)، (لا) نافية {تَغْفِرْ} فعل مضارع مجزوم بـ (إن) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على اللَّه {لِي} متعلق به، {وَتَرْحَمْنِي} فعل ومفعول ونون وقاية معطوف على {تَغْفِرْ} وفاعله ضمير يعود على الله {أَكُنْ} فعل مضارع ناقص مجزوم بـ (إن) الشرطية على كونه جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على نوح {مِنَ الْخَاسِرِينَ} خبرها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مقول (قال). {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}. {قِيلَ} فعل ماض {يَا نُوحُ} إلى آخر الآية نائب فاعل محكي، والجملة

مستأنفة، وإن شئت قلت: {يَا نُوحُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل الرفع، نائب فاعل لـ {قِيلَ} {اهْبِطْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على نوح {بِسَلَامٍ} جار ومجرور، حال من فاعل {اهْبِطْ}؛ أي: متلبسًا بسلام، {مِنَّا} صفة لـ (سلام)، وجملة {اهْبِطْ} في محل الرفع، نائب فاعل، لـ (قيل) على كونها جَوَابَ النداء، {وَبَرَكَاتٍ} معطوف على (سلام)، {عَلَيْكَ} صفة لـ {بركات}، {وَعَلَى أُمَمٍ} جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، {مِمَّنْ} جار ومجرور صفة لـ {أُمَمٌ} تقديره: وعلى أمم متناسلين ممن معك، أو كائنينَ ممن معك {مَعَكَ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة (من) الموصولة {وَأُمَمٌ} مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة، وقوعه في معرض التقسيم، {سَنُمَتِّعُهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ (قيل) {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} فعل ومفعول معطوف على سنمتعهم {مِنَّا} حال من {عَذَابٌ} لأنه صفة نكرةِ قُدَّمَت عليها {عَذَابٌ} فاعل {أَلِيمٌ} صفة له. {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}. {تِلْكَ} مبتدأ {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {نُوحِيهَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة في محل النصب حال {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} والعامل فيه ما في الإشارة من معنى الفعل، {مَا} نافية {كُنتَ} فعل ناقص واسمه {تَعْلَمُهَا} فعل ومفعول به, لأن علم هنا: بمعنى عرف، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {أَنْتَ} تأكيد للضمير المستتر في الفعل ليعطف عليه {وَلَا قَوْمُكَ} معطوف على ضمير الفاعل {مِنْ قَبْلِ هَذَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ (تعلم) وجملة {تعلم} في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) مستأنفة {فَاصْبِرْ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما أوحينا إليك من قصة قوم نوح، وإذايتهم له، وأردت بيانَ ما هو الأصلحُ لك .. فأقول لك: اصبر إن العاقبة للمتقين {اصبر} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد،

والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} ناصب واسمه {لِلْمُتَّقِينَ} خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة على كونها مُعَلّلةً لما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} الإجرام والجرم بمعنى، وهو اكتساب الذنب، وفي "المصباح" جرم جرمًا من باب: ضرب إذا أذنب، واكتسب الإثم، وبالمصدر سُمِّيَ الرجلُ، والاسم منه الجُرم بالضم، والجريمة مثله، وأجرمَ إجرامًا كذلك، اهـ. {فَلَا تَبْتَئِسْ} يقال: ابتأس فلانُ إذا بَلَغَه ما يَكْرَه، اهـ "سمين"، وفي "المختار": فلا تبتئس؛ أي: لا تَحْزَن ولا تشتك، والمبتئسُ: الكَارِهُ الحزينُ، اهـ. ويقال: ابْتَأَس إذا اشتد بُؤْسُه وحُزْنُه {الْفُلْكَ} السفينةُ، ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وعلى المفرد كما هنا، ويذكر بمعنى المركب، ويؤنَّث بمعنى السفينة {بِأَعْيُنِنَا}، والمرادُ بالأعين هنا شدة الحِفاظ والحراسة، وفي "الكرخي": قوله: {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بمرأى منَّا، وحفِظَنا، فلا يمكن إجراؤُه على ظاهره، لوجوه: منها: أنَّه يقتضي أن يكونَ لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قولَهُ تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. ومنها: أنه يقتضي أن يُصْنَعَ الفلك بتلك الأعين كقولك: قطعتُ بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أنَّ ذلك باطلٌ إلى غير ذلك {سَخِرُوا مِنْهُ} يقال: سَخِرَ منه إذا استهزأ به، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي: يذله ويفضحه، ويَحِلُّ التلاوةُ بكسر الحاء، ويجوزُ لغةً ضَمُّها. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}؛ أي: عذابُنا أو وقته، اهـ "زاده". فهو واحد الأمور، لا الأوامر، ويصح أن يُرادَ الثاني على معنى: جاء أمْرُنا بركوب السفينة، اهـ "شهاب". {وَفَارَ التَّنُّورُ} الفور والفَوران: الارتفاع القويُّ يقال في الماء إذا نَبَعَ وجرى، وإذا غلا وارتفع، والمرادُ منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور ما يُخْبَزُ

فيه الخبز، اتَّفقَتْ فيه لغة العرب والعجم، كان من حجارة، وكانت حواء تَخْبِزُ فيه، وصار إلى نوح، وكان ذلك التنُّور في الكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة، اهـ "خازن". وفي "السمين": والتنور قيل: وزنه تفعول فقلبت الواو الأولَى همزةً لانضمامها، ثمَّ حُذِفَت ثمَّ شُدِّدَت النون للعوض عن المحذوف، ويُعْزَى هذا لِثَعْلب، وقيل: وَزْنُه فعول، ويعزَى لأبي علي الفارسي، وقيل: هو أعجميُّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغةُ العرب والعجم كالصابون {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} والزوجان: هما الاثنان اللذان لا يستغني أحدهما عن الآخر، ويطلق على كل واحد منهما زوجٌ، كما يقال للرجل: زوج، وللمرأة: زوجة، ويطلق الزوج على الاثنين، إذا استعمل مقابلًا للفرد، ويُطلق الزوج على الضرب والصنف، ومثلُه قولُه تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والمعنى: من كل صنف زوجين اثنين. {وَأَهْلَكَ}؛ أي: واحمل أهلك، وأهلُ بيتِ الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجَهم، {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}، والركوبُ: العلو على شيء متحرك، ويتعدَّى بنفسه، واستعماله هنا بكلمة (في) ليس لأجل أنَّ المأمورَ به كونهم في جوفها, لا فوقَها؛ كما ظنَّ فإنَّ أَظْهَرَ الروايات أنه عليه السلام جَعَلَ الوُحُوشَ ونظائِرَها في البطن الأسفل، والأنعام في الأوسط, ورَكِبَ هو ومن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية، والمكانية في الفلك، والسر فيه أنَّ معنى الركوب العلو على شيءٍ له حركة إمَّا إراديَّةٌ كالحيوان، أو قسرِيَّةٌ كالسفينةِ، والعَجَلَة ونحوهما، فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل، فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}، وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة (في) فيقال: ركبتُ في السفينة، وعليه الآية الكريمة وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}، وقوله: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} اهـ، "أبو السعود". {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بفتح الميم فيهما إما مصدران، الأول من جَرَتْ تَجْري جَرْيًا، والثاني: من رَسَتْ تَرْسُو رسُوًّا من باب سما أو رَسْوًا من باب عدا ومرسىً إذا ثبتَتْ؛ أي: جَرَيانُهَا ورسُوّها، أو اسمَا زمان؛ أي: زمان جَرْيها ورُسوها، أو مكان؛ أي: مكان جريها ورسوها.

{يَا بُنَيَّ} أصله بثلاث ياءات الأولى: ياء التصغير، والثانية: لاَمُ الكلمة، وأصلُها واو عند قوم، وياءٌ عند آخرين، والياءُ الثالثةِ ياء المتكلم، ولكنَّها حذفت لدلالة الكسرة عليها فرارًا من توالي الياءين، ولأنَّ النداءَ موضع تخفيف، وقيل: حذفت من اللفظ لالتقائها مع الراء في {ارْكَبْ} ويقرأ بالفتح، وفيه وجهان: أحدهما: أنه أبْدلَ الكسرةَ فتحةً فانقلبت ياءُ الإضافة ألِفًا، ثُمَّ حذفت الألِفُ كما حُذفت الياءُ مع الكسرة؛ لأنها أصلُها. والثاني: أنَّ الألِفَ حذفت من اللفظ لالتقاء الساكنين {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} والموج جمع موجة، وهي ما ارتفعَ عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي} يقال: بَلَعَ الماءَ يبلعه مثل مَنَعَ يمنَع وبلع يَبلَع مثل حَمِدَ يَحْمَدَ لغتان؛ حكاهما الكسائِي، والفراء، والبَلَعُ الشرب، ومنه البَالُوعَةُ: وهي الموضع الذي يُشْرَب منه الماء، وبئر ضيِّقُ الرأس، يجري إليها مَاءُ الغُسَالة {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} الإقلاع الإمساك، يقال: أقلع المطر إذا انقطع، ومنه أقْلَعَت الحُمَّى، وقيل: أقلع عن الشيء إذا تركه، وهو قريب من الأوّل {وَغِيضَ الْمَاءُ}؛ أي: نقص يقال: غاض الماء وغضته، وهو هنا مبنيٌّ للمجهول إذ يستعمل لازمًا ومتعديًا، وعبارة "السمين": الغَيْضُ: النقصانُ، وفعله لازمٌ ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}؛ أي: تَنْقُص، وقيل: بل هو هنا متعدٍ أيضًا؛ لأنه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه، اهـ "سمين". وفي "المختار": غاض الماء إذا قَلَّ ونَضَبَ؛ أي: ذَهَب في الأرض، وبابه بَاعَ وانغَاضَ مثله وغيضَ الماء: فعِل به ذلك، وغَاضَ الله يتعدَّى وَيلْزَمُ، وأغَاضَه الله أيضًا، وغيض الماء تَغْيِيضًا نَقَصه، وحبَسَه ويقال: غَاض الكرام؛ أي: قلوا، وفَاضَ اللئَامُ؛ أي: كَثُرُوا، اهـ. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: أحكم، وفرغ منه يعني أهلك قومُ نوح علَى تَمَامِ، وإحكام اهـ "قرطبي" {بُعْدًا} يقال: بَعِدَ بكسر العين بُعْدًا بضم فسكون، وبَعَدًا بفتحتين: إذا بَعُدَ بُعْدًا بعيدًا بحيث لا يُرجى عوده، اهـ "بيضاوي". {فَلَا تَسْأَلْنِ} يقرأ بتشديد النون مع فتح اللام قبلَها، فالنون المشددة للتوكيد،

والفعل مبني على الفتح لاتصاله بها، وحينئذ فيقرأ بثبوت الياء، وحذفها وهذا عند كسر نون التوكيد، ويُقرَأ أيضًا بفتحها، وبلا ياءٍ أصلًا، فالقراءات السبعية في التشديد ثلاثة، ويقرأ بتخفيفها؛ أي: تخفيف النون مع سكون اللام قَبْلَها، وعليه فالنون للوقاية، ويقرأ بثبوت الياء، وحذفها في الوصل، فالقراءات السبعية في هذا المقام خمسة، وثبوت الياء في بعض هذه القراءات سواء مع التخفيف والتشديد؛ إنما هو عند الوصل، وأمَّا عند الوقف فلا تثبت في شيء من هذه القراءات كُلِّها، بل ولا تثبُتُ في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وهي تثبتُ في الوصل دون الوقف، ودون الرسم اهـ "جمل" {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} هذه إن الشرطية، و (لا) النافية كما مَرَّ في بحث الإعراب أُدْغِمَتْ نونَ إن في لاَم (لا) ولا تُرْسَمُ النونُ كما ترى. {وَبَرَكَاتٍ} وهي عبارة عن بقاء النعمة ودَوامِها، وثَباتِها مشتق من بروك الجَمَل، وهو ثبوته، ومنه البُرْكَةُ لثبوت الماءِ فيها {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} والأنباءُ جمع نبأ وهو الخبر الذي له شَأن. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: مجاز بالحذف في قوله: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}؛ أي: عقوبةُ إجرامي. ومنها: جناس الاشتقاق بين إجرامي، وتجرمون. ومنها: الإتيان، بـ (إن) الدالة على الشك في قوله: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} لبيان أنه على سبيل الفرض بخلاف إجرامهم، فإنه محقق. ومنها: الجناسُ المماثل بين قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ}، وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} , لأنَّ حقَّ العبارة أنْ يقال: ويصنعها.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِأَعْيُنِنَا}؛ لأنَّ المراد به بحراستنا، وحفظنا ففيه إطلاق السبب الذي هو الأعين، وإرادةُ المسبب الذي هو الحراسةُ والحفظ لأنَّ الأعين آلة للحراسة مبالغةً في الحفظ. ومنها: حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة في قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} فالمضارع بمعنى الماضي، أي وصَنَعَها. ومنها: المشاكلة في قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء، وقيل: لجزائهم من جنس صنيعهم، فلا يَقْبُحُ كما في "الشهاب". ومنها: الطباق بين الأرض والسماء، والجناس الناقص بين {ابْلَعِي} و {أَقْلِعِي} في قوله: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} وكلاهما من المحسنات البديعية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ابْلَعِي} شبَّهَ تغويرَ الماء وشُرْبَه في بطنها ببلع الحيوان؛ أي: إزدراده لطعامه وشرابه في جوفه بجامع الوصول إلى الجوف في كلٍّ، فاشتق منه ابلعي بمعنى غوري على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، واستُعير البلع الذي هو من فعلِ الحيوانَ للنَّشَفِ دلالةً على أنَّ ذلك ليس كالنَّشَفِ المعتاد الكائن على سبيل التدريج. ومنها: التفخيم في قوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} عَبَّر عن الغرق بأمر الله تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره. ومنها: الإبهام ثُمَّ التفسيرُ في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ}؛ أي: إلا الراحمَ، وهو الله تعالى تفخيمًا لشأنه الجليل بالإبهام ثمّ التفسير، وبالإجمال ثُمَّ التفصيل، وإشعارًا بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه. ومنها: حكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها، في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}، وحقُّ العبارة أن يقال، وهي جَرَت بهم. ومنها: التشبيهُ في قوله: {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} شبَّه كلَّ موجة من ذلك بالجبل في عِظَمِها وارْتِفاعِها على الماء وتراكمها.

ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لأنَّ البُعْدَ هنا مستعارٌ للهلاك. ومنها: التعرُّض لوَصف الظلم في قوله: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} للإشعار بعِلِّيَّتِهِ للهلاك، ولتذكير ما سَبَق مِنْ قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}. ومنها: الحذف والزيادة في عِدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ...} الآيات، هذا القصصُ ذكِرَ في سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا، وفي كل منهما من العظة والعبرة ما

[50]

ليسَ في الآخر، وسيأتي في السور التالية بسياق آخر، وقد جاء في بعض الروايات، أنَّ هودًا أوَّلَ مَنْ تكلم بالعربية، فهو أول رسول عربيٍ من ذرية نوح، وآخِرُ رسول هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وهو عربي أيضًا. قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ...} الآية، مناسبتُها لما قبلها: لَمَّا ذَكَرَ تبليغَ هود عليه السلام قومَه دعوةَ ربه .. ذَكَر هنا رَدَّ قومه لتلك الدعوة في جحودهم للبينة، ثم إنذاره لهم. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر سبحانه وتعالى إصرارَ قوم هود على العنادِ، والعتو وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات ... ذكَرَ هنا عاقبةَ أمْرِه وأمْرِهِم، وأنه تعالى أصابَه برحمة مِن لدنه، وأنْزلَ بهم العذابَ الغليظَ كِفاءَ كفرِهم بآياتِه وعصيان رسله. قولُه تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ...} الآيات، جاء هذا القصص في بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردِّهم لها بعد احتجاجه عليهم، وصالحُ هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته - الحجر - وهي بين الحجاز والشام، وسيأتي ذِكْرُ قصصهم في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها، وفي كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يُغني عنه غيره. قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنه تعالى لَمَّا ذَكَر أن قومه قالوا له: إننا لفي شك مما تدعونَا إليه، وسألُوه الآية على ما دعاهم إليه .. ذَكر هنا أنه قال لهم: إنَّ آيتَه على رسالته هي الناقة، وأنَّ مَنْ يَمَسُّها بسوء يُصيبه عذابٌ أليم. التفسير وأوجه القراءة 50 - قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} معطوف على {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا}؛ أي: وأرسلنا إلى عاد الأُولى أخاهم في النسب، والوَطنِ لا في الدين. هودًا أي واحدًا منهم يسمى هودًا، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان، وقيل: هم عاد الأُولى وعاد الأخرى، فهؤلاء عاد الأولى، وعادُ الأخرى هم: شدادٌ ولقمانُ وقومُهما

[51]

المذكورون في قوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} وأصل عادٍ اسم رجل ثُمَّ صار اسمًا للقبيلة، كتَمِيمِ وبكر ونحوهما، والمرادُ بعاد هنا: اسم قبيلة تُنسب إلى أبيها عاد من ذرية سام بن نوح، فعاد أبو القبيلة، وسمِّيت باسمه، وهودٌ من تلك القبيلة، فينتسب إلى عاد أيضًا، وبَيْنَ هود ونوح ثمان مئة سنة، وعاش أربع مئة سنة، وأربعًا وستينَ سنةً فـ {قَالَ} لهم هود عليه السلام، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: أفردُوا الله سبحانَه وتعالى بالعبادة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: ليس لكم إلهٌ غيره تعالى، فلا تعبدوا من دونه وَثَنًا ولا صنمًا، وقرأ غيره بالجر على اللفظ، وبالرفع على محلِّ {مِنْ إِلَهٍ} وقرِىء بالنصب على الاستثناء ذكره الشوكاني {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}؛ أي: ما أنتم باتخاذ إله غير الله، إلا كاذبون على الله عز وجل؛ أي: فما أنتم في عبادتكم غَيْرَه تعالى من الأنداد والشركاء، إلا مختلقون الكذبَ عليه تعالى، بتسميتكم إياهم شُفَعَاءَ تتقرَّبون بهم أو بقبُورهم، أو بصورهم وتماثيلهم، وتَرْجُون النَّفْعَ وكَشْفَ الضر عنكم بجاههم عنده تعالى 51 - و {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: على تبليغ ما أدْعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وحده، والبراءة من الأوثان {أَجْرًا}؛ أي: مالًا مَجْعولًا لي في مقابلة التبليغ، فتَتَّهموني بأني أريد المنفعةَ لنفسي، خاطب بهذا كل نبي قَوْمَه إزاحة للتهْمةِ، وتمحيضًا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامَتْ مَشُوبةً بالمطامع، وقرأ ابن محيصن: (يا قوم) بضم الميم كقراءة حفص {وقل رب احكُم} بالضم، وهي لغةٌ في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره، ذكره أبو حيان {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما ثوابي الذي أرْجُوهُ على تبليغي إياكم {إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}؛ أي: إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة مبرأً من هذه البدَعِ الوثنيَّةِ التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيلَ لحفظِ ذِكرى الصالحين، فزَيَّن لهم الشيطانُ تعظيمَ هذه التماثيل، فَعَبَدُوها، وإنما جعل (¬1) الصلةَ فِعلَ الفطرة لكونه أقدمَ النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر. وإنما قال (¬2) فيما تقدم في قصة نوح: {مَالًا}، وهنا قال: {أَجْرًا} لذكر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[52]

الخزائن بَعْدَه في قصة نوح، ولفظُ المال بها ألْيَق، وفي "الجمل" قوله: {أَجْرًا} قال في نوح مالًا، وهنا أجرًا تَفنُّنًا، اهـ. و (الهمزة) في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للتوبيخ داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أي أتغفلون عن هذه القصة فلا تعقلونَها أو أفلا تعقلونَ أنّ أجْرَ الناصحين، إنما هو من رب العالمين، أو أفلا تعقلون ما يقال لكم: فتميزوا بين ما يضرُّ وما ينفع، وإني لكم ناصح أمين، فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه. 52 - ثمَّ أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فقال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: سَلُوهُ أن يغفرَ لكم ما تقدَّم من شرككم {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من بعد التوحيد بالندم على ما مضى، وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله، وفي "الخازن": {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: آمنوا (¬1) به، فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان؛ لأنه هو المطلوب أولًا {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} يعني من شرككم، وعبادتكم غيره، ومن سالف ذنوبِكم، انتهى. وفي "روح البيان" واللَّائِحُ (¬2) للبال أن المعنى: اطْلُبُوا مغفرةَ الله تعالى لذنوبكم السالفةِ من الشرك، والمعاصي بأنْ تُؤمنوا به، فإنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ أي يقطع، ثم ارْجِعُوا إليه بالطاعة؛ فإنَّ التحليةَ - بالمهملة - بعد التخلية - بالمعجمة -، فتكون ثُمَّ على بابها في التراخي، انتهى. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: يُنْزِل المطرَ عليكم حالةَ كونه {مِدْرَارًا}؛ أي: كثيرَ الدرور والنزول مُتَتابعًا مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه، وذلك (¬3) أنَّ بِلاَدَهم كانت مخصبةً كثيرة الخير والنعم، فأمسك الله عنهم المطر مُدَّةَ ثلاث سنين، فأجْدَبَتْ بلادهم وقحطت بسبب كفرهم، فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إنْ آمنوا باللهِ وصدقوا رسوله أَرْسَلَ اللَّه إليهم المطرَ فأحيا به بلادهم كما كانت أولَ مرَّةٍ. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

[53]

{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً}؛ أي: شِدَّة {إِلَى قُوَّتِكُمْ}؛ أي: مع شدتكم، ويضاعفها لكم، وقيل معناه: إنكم إن آمنتم .. يُقوِّكم بالأموال والأولاد، وقَصَدَ (¬1) هودُ بذلك استمالَتَهم إلى الإيمان بكثرة المطر، وزيادة القوة، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى أعْقَمَ أرحامَ نسائهم، فلم تَلِدُ فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرْسَل الله المطرَ فتزدادون مالًا ويعيد أرحام النساء إلى ما كانت عليه، فيَلِدْنَ فتزدادون قُوَّةً بالأموال، والأولاد، وقد كانوا يَهْتَمُّون بذلك، ويَفْخَرُون على الناس، وقيل معناه: تزدادُون قوةً في الدين إلى قوة الأبدان {وَلَا تَتَوَلَّوْا}؛ أي: ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي، حال كونكم {مُجْرِمِينَ}؛ أي: مصرِّينَ على الإجرام والإشراك والآثام، والإجرامُ كَسْبُ الجُرْمِ كالإذناب بكسر (الهمزة) كَسْبُ الذنب. وعن الحسن (¬2) بن علي رضي الله عنهما أنه وَفَد على معاويةَ فلَمَّا خَرَجَ قال لَهُ بَعضُ حُجّابه: إنّي رَجلٌ ذُو مال ولا يُولد لي، علِّمني شيئًا لَعَلَّ الله يرزقني ولدًا، فقال الحسنُ: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى رَبَّما استغفر في يوم واحد سبع مئة مرة، فوُلد له عشر بنين فبلغ ذلك معاويةَ فقال: هلَّا سأَلْتَه مِمَّن قال ذلك، فوَفَدَ وَفْدةً أخرى فسأله الرجلُ فقال: ألَم تَسْمَعْ قولَ هود: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وقول نوح: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}. 53 - ثم أجابه قومه بما يَدُل على فَرْطِ جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فـ {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ}؛ أي: ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي} عبادة {آلِهَتِنَا} وأصْنَامنا التي نَعْبُدُها، وأصله تاركينَ سقطت النونُ للإضافة، وقولُه: {عَنْ قَوْلِكَ} حال مِنَ الضمير في {تاركي} (¬3) كأنه قِيلَ: وما نَتْرُكُ آلهتنا صَادِرينَ عن قولك؛ أي: صادرًا تركنا عن قولك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف، ومعناه: التعليل، على أَبْلِغ وَجْهٍ لدلالته على كونه عِلَّةً فاعليَّةً، ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

[54]

ولا يفيده الباء واللام. قال السعديُّ: قد يقال: (عَنْ) للسببية فيتعلَّقُ بـ {تاركي}؛ أي: بسبب قولك: المجرَّدِ عن حُجَّةٍ. {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بمصدَقين فيما تَدعُونا إليه من التوحيد، وتركِ عبادةِ الآلهة وهو إقناطٌ له من الإجابة والتصديق. 54 - {إِنْ نَقُولُ}؛ أي: ما نقول في شأنك شيئًا {إِلَّا} قولَنا {اعْتَرَاكَ} وأصَابَك {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}؛ أي: بجُنون فقوله: {اعْتَرَاكَ} جملة (¬1) مفسِّرة لمصدر محذوف، تقديره: ما نقولُ في شأنك إلّا قَوْلَنا اعتراك؛ أي: أصَابَكَ، من عراه يعروه إذا أصابه {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}؛ أي: بجنون لسبك إياها، وصدِّك عنها، وعداوتك مكافأةً لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين، وتهذي بهذيان المرسمين. والخلاصة (¬2): أنَّ ما تقولُه لا يصدر إلا عَمَّنْ أصيب بشيءٍ اقتضى خروجه عن قانون العقل، فلا يُعْتَدُّ به؛ لأنه مِنْ قبيل الخرافات، والهذيانات التي لا تصدر إلا عَن المجانين، فكيف نؤمن بك، فأجابهم بما يَدُلُّ على عدم مبالاته بهم، وعلى وثوقه بربه، وتوكله عليه، وأنَّهم لا يقدرون على شيءٍ مما يريده الكفار، بل الله سبحانه وتعالى هو الضار النافع، فـ {قَالَ} لهم هودٌ {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} سبحانَه وتعالَى على براءتي من إشراككم {وَاشْهَدُوا} أنتم؛ أي: وأقولُ اشْهَدُوا؛ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر {أَنِّي بَرِيءٌ} تنازع فيه أُشْهِدُ اللَّهَ واشهدوا؛ أي: واشهدوا أنتم على أنّي بريء {مِمَّا تُشْرِكُونَ}؛ أي: من إشراككم 55 - {مِنْ دُونِهِ} سبحانَه وتعالَى أو {مِمَّا} تشركونه به من آلهة غير الله، فـ (ما) إما مصدرية أو موصولة وإشهادُ الله تعالى حقيقةٌ وإشهادهم استهزاءٌ بهم، واستهانةٌ؛ إذ لا يقولُ أحد لِمَنْ يعاديه أُشْهِدُكَ على أنِّي بريء منك إلّا وهو يريد عَدَم المبالاة ببراءته، والاستهانةَ بعداوته. واعلم: أنهم لمَّا سموا أصنامَهم آلِهةً وأثبتوا لها الضررَ .. نفى هود بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} الآيةَ كونَهم آلهةً رأسًا ثُمَّ نَفى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[56]

الضررَ بقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم، واحتالوا في إضراري إن كانت كما تَزْعمون، أنها تقدر على الإضرار بي، وأنها اعترتني بسوء، {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}؛ أي: لا تمهلوني ولا تؤخِّرُوني حتى آتِيَ بشيءٍ يحفظني من قراة وسلام، بل عاجلوني واصنعوا ما بَدا لكم، وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسَامِعَهم، ويوضحُ عَجْزَهم وعدمَ قدرتهم على شيءٍ قوله: {فَكِيدُونِي} بثبوت الياء وصلًا، ووقفًا لكلهم، والتي في المرسلات بحَذْفها، كذلك لكلهم، وأمَّا التي في الأعراف فمِنْ ياءات الزوائد فتحذف وقفًا لا غيرُ وتثبت وتحذَفُ في الوصل. ذكره "الجمل". والكيد (¬1) إرادةُ مضرة الغير خفيةً، وهو من الخَلْقِ: الحِيلةُ السيئةُ، ومن الله التدبيرُ بالحقِّ، لمجازاة أعمال الخلق؛ أي: إن صحَّ ما تفوهتم به من كون آلهتكم مما تَقْدِر على إضرار من يَسُبُّها، ويَصُدُّ عن عبادتها، فإنِّي بَريءٌ منها، فكونوا أنتم وآلهتكم {جَمِيعًا} حال من ضمير {كيدوني} على قصد إهلاكي، بكل طريق {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}؛ أي: لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، (فالفاء) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما. قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: هلَّا قيل: إني أُشهدُ الله وأشهدكم؟ قلت: لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهادٌ صحيح، ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تَهاونٌ بدِينهم، ودَلالة على قلة المبالاة بهم فحَسْبُ، فَعَدَلَ به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيءَ به على لفظ الأمر بالشهادة، انتهى. وقولُه: {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} هذا من (¬3) معجزاته الباهرة؛ لأنَّ الرَّجُلَ الواحدَ إذا أَقْبَل على القوم العظام، وقال لهم: بَالِغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجِّلوني، فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقًا من الله بأنه يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداء، 56 - وهذا هو المُرادُ بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ}، واعتمدتُ {عَلَى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}؛ أي: مالكي، ومالككم، يعني: أنكم وآلهتكم لا تقدرون على ضرري، فإني متوكل على الله القادر القوي، وهو مالكي ومالككم ومالك كل شيء إذ {مَا مِنْ دَابَّةٍ} ونسمة تَدبُّ وتتحرك على الأرض {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}؛ أي: إلا وهو مالك لها، قَادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، والناصية عند العرب (¬1): مَنْبَتُ الشعر في مقدم الرأس، ويُسمّى الشَّعْرُ النابت هناك أيضًا ناصية، تسميةً له باسم منبته، والأَخذ بناصية الإنسان عبارةٌ عن قهره، والغلبة عليه، وكونه في قبضة الآخذ بحيثُ يَقْدِرُ على التصرف فيه كيف يشاء، والعربُ إذا وَصفوا إنسانًا بالذلة والخُضوع لرجل .. قالوا: ما ناصيته إلا بيدِ فلان؛ أي: إنه مُطيع له؛ لأنَّ كل من أخذْتَ بناصيته فقد قهَرْتَه، وأَخْذُ الله سبحانه وتعالى بناصية الخلائق استعارة تمثيليةٌ لنفاذ قدرته فيهم. والغرض من هذا الكلام: الدلالة على عظمته تعالى وجَلالة شأنه وكبرياء سلطانه، وباهر قدرته، وأنَّ كُلَّ مقدور، وإن عَظُم وجَلَّ في قوته وجثته، فهو مستصغرٌ إلى جنب قدرته، مقهور تحت قهره وسلطانه، منقاد لتكوينه فيه ما يشاء غَيْرُ ممتنع عليه {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إنه سبحانه وتعالى، وإن كان قادرًا على عباده، لكنَّه لا يظلمهم، ولا يفعلُ بهم إلا ما هو الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به. وقولُ هود عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا} إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يتضمَّن جملةَ أُمورٍ (¬2): 1 - البراءة من إشراكهم الذي اقْتَرَفُوه، ولا حقيقةَ له. 2 - إشهاد الله على ذلك ثِقَةً منه بأنه على بينةٍ من ربه. 3 - إشهادهم أيضًا على ذلك إعلامًا منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره. 4 - طَلَبهُ منهم أن يجمعوا كُلُّهم على الكيد له، والإيقاع به بلا إمهال، ولا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[57]

تأخير إن استطاعوا. وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخافُهم، ولا يخافُ آلهتهم. 5 - عدم الخوف منهم ومن آلهتهم إذ وكل أمْر حفظه وخِذْلانِهم إلى ربه وربهم، ومالك أمره وأمرهم المتصرف في كل ما دبَّ على وجه الأرض، والمسخِّر له، وهو سبحانه وتعالى مطلع على أمور العبادة، مجازٍ لهم بالثواب والعقاب، كافٍ لمَن اعتصَمَ به، وهو لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق مِنْ رسله، ولا يفوته ظالم. 57 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن تتولَّوا، بحذف إحدى التائين؛ أي: وإن تستمروا على التولي، والإعراض عن الإيمان, والتوبة، فلا تفريطَ مِنّي في الإبلاغ {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}؛ أي: لأنَّي قد أدَّيْتُ ما عليَّ من الإبلاغ، وإلزام الحجة، وكنتم محجوجينَ، بأن بلغكم الحقُّ فأَبَيْتُم إلا التكذيب، والجحود، فالمذكور دليل الجواب المحذوف. وقال الزمخشري (¬1): فإن قلتَ: الإبلاع كان قبل التولي، فكيف وَقَعَ جزاءً للشرط؟ قلت: معناه: فإن تَولَّوا لم أُعاقَبْ على تفريط في الإبلاع، فإنَّ ما أرسلت به قد بَلَغَكُم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة، وعداوة الرسول. وقرأ الجمهور فإن {تَوَلَّوْا}؛ أي: تتولوا مضارع تولَّى، وقرأ الأعرج، وعيسى الثقفي، {تَوَلَّوْا} بضم التاء واللام مضارع ولَّى قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} كلام مستأنف، أي: ويهلككم الله، ويجيء بقوم آخرين، يَخْلُفونكم في دياركم وأموالكم. وقرأ الجمهورُ: {وَيَسْتَخْلِفُ} بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف، وقرأ حفص في رواية هبيرة بجزمها عطفًا على موضع الجزاء، وقرأَ عبد الله كذلك، ويجزمُ {ولا تضرُّوه} وقرأ الجمهورُ {وَلَا تَضُرُّونَهُ} سبحانه وتعالى بتوليكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[58]

وإعراضكم {شَيْئًا} من الضرر، لأنه غني عنكم، وعن إيمانكم لا يجوز عليه المضارُّ والمنافِع، وإنما تضرون أنفسَكم. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}؛ أي: رقيب مهيمن عليه، يحفظه من كل شيء، فلا يَخْفى عليه أعمالكم، ولا يَغْفَلُ عن مجازاتكم، قيل: (وعلى) بمعنى اللام فيكون المعنى: إنَّ ربي لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء قرأ عبد الله: (ولا تنقصونه شيئًا). 58 - {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}؛ أي: عذابنا، فيكون مصدرَ أمر {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} من قومه، وكانوا أربعةَ آلاف {بِرَحْمَةٍ} عظيمة كائنةٍ {مِنَّا} لهم؛ أي: نجَّيْنَاهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم؛ لأنه لا يَنْجُو أحدٌ، وإن اجتهد في الأعمال، والعمل الصالح، إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهبُ أهل السنة، وذلك أنَّ العذابَ إذا نزل قدْ يَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، فلما أَنْجَى الله المؤمنينَ مِنْ ذلك العذابِ كان برحمته وفضله وكرمه، وقيل: الرحمة هي الإيمان. {وَنَجَّيْنَاهُمْ}؛ أي: ونجينا هودًا والذين آمنوا معه {مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}؛ أي: شديد، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه؛ أي: كانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وهي السموم التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة، وتخرج من أدبارهم، فتقطعهم إرَبًا إربًا، وفيه (¬1) إشارة إلى أنَّ العذاب نوعان: خفيف، وغليظ؛ فالخفيفُ هو: عذاب الشَّقَاوةِ المقدَّرة قبل خلق الخلق، والغليظ هو عذابُ الشقيّ بشقاوة معاملات الأشقياء، التي تَجْرِي عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود، وقيل (¬2): المراد بالعذاب الغليظ هو عذابُ الآخرة, وهذا هو الصحيح ليحصل الفرقُ بين العذابين. رُوي (¬3): أنَّ الله تعالى لما أهلك عادًا، ونجَّى هودًا، والمؤمنين معه، أتَوا مكة، وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا، قال في "إنْسان العيون"، كُلُّ نبيّ من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

[59]

الأنبياء كان إذا كَذَّبه قومه خَرجَ من بين أظهرهم، وأتى مكة يَعْبُدُ اللَّهَ تعالى حتى يموتَ وقد وَرَد "ما بين الركن اليماني، والركن الأسود رَوْضَةٌ مِنْ رياض الجنة، وإنَّ قَبْرَ هود وشعيبٌ وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة". 59 - {وَتِلْكَ} القَبِيلَة التي كذبت هودًا فأهلكْناهم، والخطابُ لقوم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {عاد}؛ أي: قبيلة تسمَّى عادًا بالصرف، قال الكسائي؛ إنَّ من العرب من لا يصرف عادًا، ويجعلُه اسمًا للقبيلة {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}؛ أي: كفروا بها، وكذَّبوها، وأنكروا المعجزات {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} تعالى، هودًا وَحْدَه؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جَمَع هنا؛ لأنَّ مَنْ كَذَّب رسولًا فقد كَذَّب جميعَ الرسل، لاتفاق كلمتهم على التوحيد، وأُصول الشرائع، وقيل: إنهم عصوا هودًا ومَنْ كان قَبْلَه من الرسل أو كانوا بحيثُ لو بَعَث الله إليهم رُسُلًا متعددين .. لكذَّبُوهم. وهذا الجحودُ والعصيانُ شامل لكل فرد منهم؛ أي: لرؤسائهم وأسافلتهم، {وَاتَّبَعُوا}؛ أي: الأسافِلُ {أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ}؛ أي: أمر كل شخص متعظم في نفسه، متكبر على العباد {عَنِيدٍ}؛ أي: كثير العناد، والمعارضة للحق، أي: واتبع السفلة أمْرَ رؤسائهم الدُّعاةِ إلى الضلال، وإلى تكذيب الرسل، والمعنى: عَصَوْا مَنْ دعاهم إلى الإيمان, وما يُنْجِيهم، وأطاعُوا مَنْ دعاهم إلى الكفر، وما يُرْدِيهم، وقال في "التبيان": الجبار المتعظم في نفسه، المتكبر على العباد، والعنيد الذي لا يقول الحقَّ، ولا يقبَله 60 - {وَاتَّبَعُوا}؛ أي: أتبع الرؤساءُ والمرؤوسون منهم، وأرْدِفوا {فِي هَذِهِ} الدار {الدُّنْيَا لَعْنَةً} تَتْبَعُهم، وتلحقهم وتنصرف معهم؛ أي: أتبعوا كلهم في الدنيا إبعادًا، وطردًا عن الرحمة، وعن كل خير على لسان الأنبياء، فما جاء نَبِيٌّ بَعْدَهم إلَّا لعنهم؛ أي: جُعلت (¬1) اللعنة من الناس تابعةً لهم، ولازمة تكبهم في العذاب كَمَنْ يأتي خَلْفَ شخص فيدفعه من خلف، فيكبُّهَ، وإنما عبَّر عن لزوم اللعنة لهم بالتبعية للمَبَالغَةِ، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذَهَبوا كلّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[61]

مذهب، بل تَدُورُ معهم حيث دَارُوا, ولوقوع صحبة أتباعهم رؤَسائهم، يعني: أنَّهم لما اتبعوا .. أتبعوا ذلك جزاءً لصنيعهم، جزاءً وفاقًا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: وأتبعوا في يَوْم القيامة أيضًا لعنةً، وهي عذابُ النار المخلَّد، حذفت لدلالة الأولى عليها، يعني وفي يوم القيامة أيضًا تتبعهم اللعنة كما تتبعهم في الدنيا، ثمَّ ذَكَر سبحانه وتعالى السببَ الذي استحقُّوا به هذه اللعنة، فقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ عَادًا}؛ أي: انْتَبَهوا! إنَّ عادًا {كَفَرُوا رَبَّهُمْ}؛ أي: كفروا بربهم، وجحدوه كأنَّهم كانوا من الدهرية، وهم الذين يَرَوْنَ مَحْسُوسًا، ولا يرون معقولًا، وينسبون كل حادث إلى الدهر؛ أي: إنَّ عادًا كفروا نعمه عليهم، بجحودهم بآياته، وتكذيبهم لِرسُلِه كِبْرًا وعنادًا {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ}؛ أي: انتبهوا! إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أَبْعَدَ عادًا منْ رحمته فبَعُدوا عنها بعدًا، والمرادُ منه تحقيرهم، وقولُه: {قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان لعاد قُيِّدَ به, لأن عادًا عَادانَ: عادُ هود القديمةُ، وعادُ إرم الحديثةُ التي هي قوم صالح المسماة بثمود، فقومُ هود عادُ الأولى، وقومُ صالح عاد الثانية. وإنما كرَّر ألا ودعاءَه عليهم، وأعادَ ذِكرهم تهويلًا لأمرهم، وتفظيعًا له، وحثًّا على الاعتبار بهم، والحَذَرِ من مثل حالهم، وفي "الخازن" فإنَّ (¬1) قلت: اللعنة معناها الإبعادُ والهلاكُ، فما الفائدة في قوله: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ}؛ لأنَّ الثانيَ هو الأولُ بعينه؟ قلتُ: الفائدةُ فيه: أنَّ التكرارَ بعبارتين مختلفتين، يدُلُّ على نهاية التأكيد، وأنَّهم كانوا مستحقّين له. 61 - وقولُه: {وَإِلَى ثَمُودَ} متعلق بمحذوف كما مَرَّ نظيره أي: وأرسلنا إلى ثمود، وهي قبيلةٌ من العرب، سُمُّوا باسم أبيهم الأكبر، ثمودَ بن عاد بن إرم بن سام، وقيل: إنما سُمُّوا بذلك لقلةِ مائهم من الثَّمد، وهو الماءُ القليلُ، وقرأ ابن وثاب، والأعمش (¬2) {وإلى ثمودٍ} بالصرف على إرادة الحيّ، والجمهورُ على منع الصرف ذهابًا إلى القبيلة، وفي "تفسير أبي الليث": إنما لم ينصرفْ لأنه اسمُ قبيلة، وفي الموضع الذي ينصرف جعله اسمًا للقوم {أَخَاهُمْ}؛ أي: واحدًا منهم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

في النسب {صَالِحًا} عطف بيان، لأخاهم، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد بن خاور بن ثمود، وعاش صالحٌ مئتي سنة وثمانين سنةً، وبينه وبين هود مئةُ سنة، وثمود هم سكَّانُ الحِجْر، مكانُ بين الشام والمدينة {قَالَ} استئنافٌ بيانيٌّ كأنَّ قائِلًا قال: فما قال لهم صالحٌ حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده، أي: وَحَّدُوا الله وخُصّوه بالعبادةِ، {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} يعني هو إلهكم المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام، ثُمَّ ذَكَرَ سبحانه وتعالى الدَّلائِلُ الدالَّةَ على وحدانيته، وكمال قدرته، فقال: {هو} سبحانه وتعالى الإله الذي {أَنْشَأَكُمْ}، وابتدأ خَلْقَكُم {مِنَ الْأَرْضِ}، وذلك أنهم من بني آدم، وآدم خُلق من الأرض، فمن لابتداء الغاية (¬1)؛ أي: ابتدأ إنشاءَكم منها؛ فإنَّه خَلَق آدمَ من التراب، وهو أنموذج منطو على جميع ذرياته التي ستوجد إلى يوم القيامة، انطواءً إجماليًّا؛ لأنَّ كل واحد منهم مخلوق من المني، ومن دم الطَّمثِ، والمنيُّ إنما يتولد من الدم، والدمُ إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية أو نباتية، والنباتية، إنما تتولد من الأرض، والأغذية الحيوانية لا بُدَّ أن تَنتَهي إلى الأغذية النباتية المتولدة من الأرض، فثبَتَ أنه تعالى أنشأَ الكل من الأرض، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: جَعَلَكم سُكَّانَ الأرض، وصيركم عامرين لها، أو جَعَلَكم معمِّرين ديارَكم تسكنونَها مدة أعماركم، ثمَّ تتركونها لغيركم، وقال الضحاك (¬2): أطال أعمارَكم فيها، حتى كان الواحدُ منهم يعيشُ ثلاثَ مئة سنة إلى ألف سنة، وكذلك كان قوم عاد، وقال مجاهد: أعْمَركم من العمرى؛ أي: جَعَلَها لكم ما عشتم {فَاسْتَغْفِرُوهُ}؛ أي: فاطلبوا مغفرةَ الله بالإيمان, أي آمِنُوا بالله وحده {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}؛ أي: ارْجِعُوا إلى عبادته تعالى من عبادة غيره, لأنَّ التوبةَ لا تصح إلا بعد الإيمان {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} إلى عباده بالعلم، والسمع، والرحمة، {مُجِيبٌ} دعاءَ المحتاجين بفضله ورحمته، والذي (¬3) يَلُوحُ للخاطر أنَّ قوله تعالى: {قَرِيبٌ} راجع لـ {تُوبُوا} و {مُجِيبٌ} لـ {اسْتَغْفِرُوا}؛ أي: ارجعوا إلى الله، فإنه قريب ما هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[62]

ببعيد، واسألوا منه المغفرةَ، فإنه مجيبٌ لسائله 62 - {قَالُوا}؛ أي: قال قومُ صالح بعد دعوتهم إلى الله تعالى، وعبادته {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا}؛ أي: مأمولًا؛ أي: كُنَّا نرجوا أن تكونَ فِينَا سَيِّدًا مطاعًا ننتفع برأيك، ونَسْعَدُ بسيادتك {قَبْلَ هَذَا} الذي أظهرته لنا من ادعائك النُّبوَّةَ ودعوتك إلى التوحيد، أو قَبْلَ (¬1) هذا الوقت، وهو وقت الدعوة، كانَتْ تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد والسداد، فإنَّكَ كنت تعطفُ على فقرائنا، وتعِينَ ضُعَفَاءنا، وتعود مَرْضَانَا فقَوِيَ رجاؤُنا فيك، فكنَّا نَرْجوك أنْ تكون لنا سَيِّدًا ننتفع بك ومستشارًا في الأمور، ومسترشدًا في التدابير، فلما سَمِعْنَا منك هذا القَول انقطع رجاؤُنا عنك، وعَلِمْنا أن لا خَيْرَ فيك. والخلاصة (¬2): أي قَدْ كنت عِندنا موضعَ الرجاءِ لِمَهامِّ أمورِنا؛ لمَا لَكَ من رجاحة عقل، وأصالَة رأي، ولحسبك ونَسبِك قبل هذه الدعوة، التي تَطلُب بها إلينا أن نبدل ديننا، زَعْمًا منك أنه باطل، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك، ثُمَّ ذَكَروا أسباب انْقِطَاع رَجائِهم بقولهم متعجِّبين تعجّبًا شديدًا {أَتَنْهَانَا}، و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري التعجبي؛ أي: أتمنعنا من {أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؛ أي: ما عَبَدُوه من الأوثان، والعدول فيه إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية. أي: عجيب منك أن تَنْهانا عن عبادة ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلنا، وقد سِرْنا نحن على نهجهم، ولم ينكره أحدٌ علينا, ولم يستقبحه فكيف تُنْكِرُه؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد، وترك عبادة الأوثان {مُرِيبٍ}؛ أي: موقع في الريبة، أي: في اضطراب القلوب، وانتفاء الطمأنينة من أرابَه إذا أوقعه في الريبة، وإسنادُ الإرابة إلى الشك، وهو أن يبقى الإنسانُ متوقِّفًا بين النفي والإثبات مجازي لأنَّ الريبَ هو انتفاء ما يرجح أحد طرفي النسبة، أو تعارض الأدلة لا نفس الشك. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[63]

والمعنى: أي وإنا لفي شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده، دونَ أن نتوسَّل إليه بأحد من الشفعاء، المقربين عنده تعالى، ولا أن نُعَظِّم ما وضَعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل، تذكّرُنا بهم، فكل هذا يوجب الريبَ والتهمةَ، وسوء الظن، وعدمَ الطمأنينة إلى دعوتك. والخلاصة: إننا لفي شك مِمَّا تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب، و (إنا) و (إننا) (¬1) لغتان لقريش قال الفراء: مَنْ قال إنَّنا أَخْرج الحرفَ على أصله؛ لأنَّ كناية المتكلمين (نا) فاجتمعت ثلاث نونات، ومن قال: (إنا) استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثةَ، وأبْقَى الأولتين، انتهى. والذي أختاره أنَّ (نا) ضمير المتكلمين، لا تكون المحذوفة؛ لأنَّ في حذفها حَذْف بَعْضِ اسم، وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من (إنَّ) فحذفت لاجتماع الأمْثال، وبقي من الحرف (الهمزة) والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف، وأيضًا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمينَ، ولم يُعْهَدْ حذف نون (نا) فكان حَذْفُها من إنَّ أوْلَى، 63 - فأجابهم صالح فـ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخْبِرُوني عن حالي معكم، {إِن كُنْتُ} في الحقيقة {عَلَى بَيِّنَةٍ}؛ أي: على بصيرة، وبرهان صادر {مِنْ رَبِّي} ومالك أمري {وَآتَانِي}؛ أي: أعطاني {مِنْهُ رَحْمَةً} تعالى؛ أي: من قِبَله رِحمةً خاصةً من عنده، جَعَلني بها نبيًّا مرسلًا إليكم، وهذه الأُمورُ (¬2)، وإن كانت متحققةَ الوقوع، لكنَّها صدرت بكلمة الشك، اعتبارًا بحال المخاطبين؛ لأنهم في شك من ذلك، كما وَصَفوه عن أنفسهم، والاستفهام في قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} استفهام إنكار بمعنى النفي؛ أي: فمن يمنعني، ويُنْجِيني ويحفظني من عذاب الله {إِنْ عَصَيْتُهُ} تعالى، وخالَفْتُه بالمساهلة في تبليغ الرسالة، وفي المَجاراة معكم؛ أي: فَمَنْ يَنصُرَني منجيًا من عذابه تعالى، أي لا ناصرَ لي يمنعني من عذاب الله {إِنْ عَصَيْتُهُ}، وخالفته في تبليغ الرسالة، وراقبتكم، وفترت عما يجِبُ عليّ من البلاغ {فَمَا تَزِيدُونَنِي} بتثبيطكم إياي {غَيْرَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[64]

تَخْسِيرٍ}؛ أي: غير إيقاعكم لي في الخسارة بأن تجعلوني خاسرًا بإبطال عملي، والتعرض لعقوبة الله تعالى، والمعنى: أخبروني إن كنتُ على بينة ونبوة من ربي، فلا أحد يمنعني من عذاب الله إن اتبعتكم، وعصيتُه، وحينئذ أكون خاسرًا مضيِّعًا لما أعطاني الله من الحق، وهَلْ رأيتم نبيًّا صار كافرًا؟ وكلُّ هذا منه لهم، اهـ "صاوي". قال الفراء: غَيْر تضليل، وإبعاد من الخير، أو فما تزيدونني بما تقولون غير بَصيرة في خسارتكم؛ أي: وما زادني قولُكم إلَّا قولي لكم: إنكم لخاسرون، أو المعنى: فما تفيدونني غير تَخسير إذْ لم يكن فيه أصلُ الخسران حتى يزيدوه، وحاصل المعنى: أي: فمن يمنعني من عذابه، إذا أنا كَتَمْتُ الرسالةَ أو كتمت ما يسوؤكم من بُطلان عبادةِ الأصنام، والأوثان تقليدًا لآباءكم؛ أي: لا أحَدَ يدفع ذلك عني في هذه الحال، فلا أُبالي إذا انقطع رجاؤكم فيَّ، ولا بما أنتم فيه من شك وريب في أمري، ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}؛ أي: فما تزيدونني باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعي في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله تعالى، واشتراءِ رضاكم بسخطه تعالى 64 - {وَيَا قَوْمِ}؛ أي: ويا قومي {هَذِهِ} البهيمةُ التي خَرَجَتْ من الصخرة {نَاقَةُ اللَّهِ} الإضافة فيه للتشريف، كبيت الله؛ لأنه أخرجها لهم من صخرة في جوف الجبل حاملًا من ذكر على تلك الصورة دفعة واحدة وقد حصل منها لبنٌ كثيرٌ يكفي الخلقَ العظيمَ؛ أي: هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترَوْن من أكْلِها وشربها، وجميع شؤونِها، قد جعلها الله سبحانه وتعالى {لَكُمْ آيَةً} بينة منه، ومعجزةً باهرةً تدل على صدقي، وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها {فَذَرُوهَا}؛ أي: فاتركوها، وخلوها {تَأْكُلْ} وتَشْرَبُ فهو من باب الاكتفاء نظيرَ قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبردَ مِمَّا {فِي أَرْضِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، من المراعِي والمياه، تَرْعَ نباتَها وتشرب ماءها، فليس عليكم كلفة في مؤونتها، وكانت هي تنفعهم، ولا تَضُرُّهم, لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها، وقرأَتْ (¬1) فرقة (تأكُلُ) بالرفع على الاستئناف أو على الحال {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[65]

أي: ولا يمسَّها, ولا يصبها أحدٌ منكم بأذى من ضرب وعقر وقتل {فَيَأْخُذَكُمْ}؛ أي: فيهلككم {عَذَابٌ قَرِيبٌ} النزول والوقوع لا يَتَراخى عن مسكم لها بالسوء إلا بيسير، وهو ثلاثةُ أيام، وكانت تصيفُ بظَهْرِ الوادِي فتهربُ منها أنعامُهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتَهْرُب مواشِيهم إلى ظهره، 65 - فشَقَّ عليهم ذلك {فَعَقَرُوهَا}؛ أي: عَقَرها، وقَتلَها قُدارُ بن سالف بأمرهم، ورضاهم فَضرَبها في رجليها، فأوقَعها، فذَبَحُوها، وقسَمُوا لَحْمَها على جميع القرية على ألْفٍ وخمس مئةٍ دارٍ {فَقَالَ} لهم صالح بعد قتلهم لها {تَمَتَّعُوا}؛ أي: استمتعوا بحياتكم، وعِيشُوا {فِي دَارِكُمْ}؛ أي: في بلادِكم {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} من العَقْر: الأربعاءَ، والخميسَ، والجمعةَ، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرابع، يوم السبت، وإنما أقاموا ثلاثةَ أيام؛ لأنَّ الفَصِيلَ بَقِيَ يَنُوح على أمه ثلاثةَ أيام، وانفجَرتْ له الصخرة بعد تلك المدَّة فدَخَلها, ولما عقروا الناقَةَ .. أنذرهم صالح بنزول العذابِ، ورَغَّبَهم في الإيمان, فقالوا: يا صالحُ، وما علامةُ العذاب؟ فقال: تصبح وجوهكم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرةً، وفي الثالث مسودةً، وفي الرابع يأتيكم العذاب صَبِيحَتُه {ذَلِكَ}؛ أي: نزولُ العذاب عقبَ ثلاثَةِ أيام {وَعْدٌ} من الله سبحانه وتعالى وَعَدكم حين انقضائِها بالهلاك {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فهو لم يكذبكم فيه مَنْ أعلمكم ذلك، أو وعد غَيْرُ كذبٍ كالمجلود بمعنى الجلد الذي هو الصلابة، والمفتون بمعنى الفتنة. رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬1): "إنَّ صَالِحًا لمَّا دعا قومَه إلى الله تعالى كذَّبوه، فضاق صدره، فسأل ربَّه أنْ يأذن له في الخروج من عندهم، فأذن له فَخَرَج، وانتهى إلى ساحل البحر، فإذا رجل يمشِي على الماء، فقال له صالح: ويْحَكَ من أنت؟ فقال: أنا من عباد الله، كنت في سفينة كانَ قومها كفَرة غيري، فأهلكهم الله تعالى، ونجاني منهم، فخَرَجْتُ إلى جزيرة أتعَبَّدُ هناكَ فأَخْرُجُ أحيانًا، وأطلب شيئًا من رزق الله، ثم أرجع إلى مكاني فمضى صالح، فانتهى إلى تل عظيمٍ، فرَأى رجلًا فانتهى إليه، وسَلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، فقال له صالِحٌ: مَنْ أنتَ؟ قال: كانت ههنا قريةٌ، كان أهلها كفارًا غيري، فأهلكهم الله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[66]

تعالى، ونجَّاني منها، فجعَلْتُ على نفسي أنْ أعبد الله تعالى ههنا إلى الموت، وقد أنْبَتَ اللَّهُ لي شجَرةُ رُمَّانٍ، وأَظْهَرَ عَيْنَ ماء، آكُل من الرمان وأشرب من ماء العَينِ، وأتوضَّأ منه، فذهب صالح، وانتهى إلى قريةٍ كان أهلها كفارًا كُلُّهم غَيْر أخَوين مُسْلِمَين، يعملان عملَ الخَوص - فضَرَبَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مثَلًا فقال: لو أن مؤمنًا دَخَلَ قريةً فيها ألف رجل، كلهم كفارٌ، وفيهم مؤمنٌ واحد، فلا يسكن قلبه مع أحدٍ حتى يجد المؤمنَ، ولو أنَّ منافقًا دَخَل قرية فيها ألفُ رجل كلهم مؤمنون، وفيهم منافق واحد .. فلا يسكُن قَلْبُ المنافق مع أحد ما لم يجد المنافقَ - فدَخَل صالح، وانتهى إلى الأَخوين، فَمَكَثَ عِندهما أيامًا، وسألَ عن حالهما فأخبرا أنهما يصبران على أذى المشركين، وأنهما يعملان عملَ الخوص، ويمسكان قُوتَهُما، ويتصدَّقان بالفَضْلِ، فقال صالح: الحمد لله الذي أرَاني في الأرض منْ عبادِهِ الصالحين، الذين صَبَرُوا على أذَى الكفار، فأنا أرْجِعُ إلى قومي، وأصبرُ على أذاهم، فرجع إليهم، وقد كانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدَعَاهم إلى الإيمان, فسألوه آيةً، فقال: أَيَّة آية تريدون؟ فأشارَ سيِّدهم جندع بن عَمرو إلى صخرة منفردة، يقال لها: الكَاثِبةُ، وقال له: أخْرِجْ من هذه الصخرة ناقةً واسعةَ الجوف كثيرةَ الوبر عشراء؛ أي: أتت عليها من يوم أرْسَل الفحل عليها عشرة أشهر، فإن فَعَلْتَ صَدَّقْنَاكَ، فأخذ عليهم مواثقَهم لئنْ فعلت ذلك لتؤمِنُنَّ فقالوا: نَعَمْ فصَلَّى، ودَعا ربه، فتمخضت الصخرةُ تمخض النتوج بولدها، فانشقَّتْ عن ناقة عشراء جَوْفَاء، وبراء كما وصفوا فقال: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} فكانت تَرْعَى الشجرةَ، وتشرب الماءَ ثم تفرِّج بين رجليها، فيحلبون ما شاؤوا، حتى تَمْتَلِىءَ أوانيهم، فيشربون ويَدَّخِرُون، وهم تسع مئة أهل بيت، وقيل: ألْفٌ وخَمسُ مئة، ثُمَّ إنه عليه السلام لمَّا خَافَ عليها منهم قال: ولا تمسُّوها بسوء، فيأخُذَكم عذاب قريب، فعقروها، أي: عقرها قُدَارُ - بوزن غراب - بن سالف فقال: تمتَّعُوا في داركم ثَلاثَةَ أيام ذلك وَعْدُ غيرُ مكذوب. 66 - ثُمَّ ذَكَرَ وقوعَ ما أوعِدوا به، فقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}؛ أي: جَاءَ ثمودَ

عذابنَا، {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} والظرف (¬1) متعلق بـ {نَجَّيْنَا} أو بـ {آمَنُوا}، وهو الأظهر؛ إذ المراد {آمَنُوا} كما {آمن} صالحٌ، واتبعوه في ذلك، لا أنَّ أزمانَ إيمانهم مقارن لزمان إيمانه، فإن إيمان الرسول مقدَّم على إيمان من اتبعه من المؤمنين {بِرَحْمَةٍ}؛ أي: متلبسينَ بمجرد رحمة عظيمة {مِنَّا}، وفضل لا بأعمالهم، كما هو مذهبُ أهل السنة، وهِيَ بالنسبة إلى صالح: النبوة، وبالنسبة إلى المؤمنين الإيمان {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} عطف على {نجينا}؛ أي: ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي: من ذلته ومَهَانته وفَضِيحَته، ولا خِزْيَ أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه وكرر نَجَّيْنَا لبيان مَا نَجَّاهُم منه، وهو هلاكُهم يومئذ؛ أي: يَوْم، إذ جاء أمرنا فإنَّ إذ مضافة إلى جملة محذوفة، عوِّض عنها التنوين؛ أي: ونجيناهم من عذاب يوم إذ جاء أمرنا وعذابُنا. قيل (¬2): الواوُ زائدة في {وَمِنْ خِزْيِ}؛ أي: من خزي يومئذ فيتعلَّق من بِنَجَّيْنا، وهذا لا يجوز عند البصريين, لأن الواو لا تزاد عندهم، بل تتعلق (من) بمحذوف؛ أي: ونجيناهم من خِزْيِ؛ أي: وكانت التنجية من خزي يومئذ، ولكون الإخبار بتنجية الأولياء، لا سيما عند الإنباء بحُلول العذاب أهم ذَكَرَها أولًا، ثم أخْبَر بهلاك الأعداء، وقَرَأ طلحةُ وَأبانُ بن تغلب، {ومن خزيٍ} بالتنوين، ونصب (يومَئذ) على الظرف معمولًا لخزي، وقرأ الجمهور بالإضافة، وفَتَح المِيمَ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون هنا وفي المعارج، وهيَ فتحة بناءٍ لإضافته إلى إذ، وهو غيرُ متمكن، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فيهما، وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر؛ أي: ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر، وحَلَّ بهم، فلما قطِعَ المضاف إليه عن إذْ نُوِّنَ؛ ليدلَّ التنوين على ذلك، ثم كسرت الذال لسكونها، وسكون التنوين، ولم يلزم من إضافة يوم إلى المبني، أن يكون مبنيًّا؛ لأنَّ هذه الإضافة غيرُ لازمة. ثم بين عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد الذي فَعَلَ هذا بقوم صالح، {هُوَ الْقَوِيُّ}؛ أي: القادر على أنْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط والمراح.

[67]

يفعلَ مِثْلَ ذلك بقومك إن أصَرُّوا على الجحود وهو {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يعجزه شيء، فإنه أوْصَلَ ذلك العذاب إلى الكفار، وصان أهلَ الإيمان عنه، وهذا التمييز لا يصح إلّا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء، فيجعل الشيءَ الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاءً وعذابًا وبالنسبة إلى إنسان آخرَ راحةً ورَيْحانًا. 67 - ثمَّ ذَكَر مآلَ أمرهم وشديدَ عقابه بهم فقال: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفُسَهم بالكفر والتكذيب؛ أي: أهلكتهم {الصَّيْحَةُ}؛ أي: صيحةُ جبريل مع الزلزلة في اليوم الرابع من عَقر الناقة، وذكَّر الفعلَ لأنَّ الصيحة، والصياح، واحد مع كون التأنيث غير حقيقي، وللفصل بينهما بالمفعول، والصيحة فعلةٌ تدل على المرة من الصياح، وهو الصوت الشديد، يقال: صاح يَصِيح صياحًا؛ أي صوت بقوة قيل: هي صيحة جبريل، فقد صاح عليهم، وقيل: صيحة من السماء، فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطَّعَتْ قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعًا، وتقدَّم في الأعراف، فأخذَتْهم الرجفةُ قيل: ولعلَّها وقعت عَقِبَ الصيحة، {فَأَصْبَحُوا}؛ أي: صاروا {فِي دِيَارِهِمْ} وبلادهم، وفي مساكنهم: {جَاثِمِينَ}؛ أي: ساقطينَ على وجوههم ميتين، لا يتحركون، ولا يضطربون عند نزول العذاب، قد لَصِقُوا بالتراب كالطير، إذا جثمت حَالةَ كَوْنِهِم 68 - {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}؛ أي: كأنهم لم يقيموا في بلادهم، فإنهم صاروا رمادًا، أي: أصْبَحُوا جاثمين، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط، ولا يَخْفَى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ، وسرعته. اللهم إنَّا نعوذ بك من حلول غضبك. وقوله: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} فيه وضع الظاهر موضع المضمر، لزيادة البيان، وصرَّح بكفرهم مع كونه معلومًا تعليلًا للدعاء عليهم بقوله: {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ}؛ أي: جَحَدُوا بوحدانية الله تعالى، فهذا تَنْبِيه وتخويفٌ لِمَنْ بَعْدَهم، وقوله: {أَلَا بُعْدًا} مَصْدَرُ (¬1) وُضعَ موضع فِعْلِه، ¬

_ (¬1) روح البيان.

فإِنَّ معناه بَعُدُوا؛ أي: هلكوا، واللام لبيان مَنْ دعي عليهم، وفائدة الدعاء عليهم: بعد هلاكهم: الدلالةُ على استحقاقهم عذابَ الاستئصال بسبب كفرهم، وتكذيبهم، وعقرهم، ناقةَ الله تعالى، والمعنى، أي كأنَّهم (¬1) لسرعة زوالهم، وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا في ديارهم ألبتةَ، وما سبب هذا إلا أنْ كفروا بآيات ربهم، فجحدوها ألا بُعْدًا، وهلاكًا لهم، {أَلَا إِنَّ ثَمُودا} مَنَع حمزة وحفصُ صَرْفَهُ وصَرفَه الباقون {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} صرفه الكسائي، ومَنْعه باقي السبعة، والصرفُ على إرادة معنى الحي، ومَنْعُه على إرادة معنى القبيلة، وعن جابر (¬2) رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَا نَزَلَ الحجرَ في غزوة تبوك قَامَ فخَطَبَ النَّاسَ فقال: "يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قومُ صالح، سَأَلُوا نَبِيَّهم أن يَبْعَثَ لهم الناقةَ فكانت تَرِدَ من هذا الفجِّ فَتَشْرَبُ ماءَهم يوم وردها، ويَحْلُبون مِنْ لبنها، مِثْلَ الذي كانوا يشربون من مائها يَوْمَ غبّها، فعتوا عن أمر ربهم، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} وكان وعدًا من الله غير مكذوب، ثم جاءَتْهم الصيحة فأهلك الله مَنْ كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم، إلَّا رجلًا كان في حرم الله، فَمَنَعه حَرم الله من عذابِ الله، يقال له: أبو رِغَال"، قيل له: يا رسول الله، مَنْ أبو رِغَال قال: "أبُو ثَقِيفٍ". الإعراب {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)}. {وَإِلَى عَادٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: وأرسلنا إلى عاد، والجملة المحذوفة معطوفةً على جملة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} عطفَ قصة على قصة، {أَخَاهُمْ} مفعول به لـ {أَرْسَلْنَا} المحذوف {هُودًا} عطف بيان له، أو بدل منه، {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ سائلًا قال: ماذا قال لهم؟ فأجابه بقوله، قال: يا قوم اعبدوا اللَّه. {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى آخرِ الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

{يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {اعْبُدُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء على كَوْنِها مقول {قال} {مَا} نافية أو حجازية {لَكُمْ} خبر مقدم {مِنْ} زائدة {إِلَهٍ} مبتدأ مؤخر {غَيْرُهُ} صفة لـ {إِلَهٍ} والتقدير: ما إله غيره تعالى كائنٌ أو كائنًا لكم، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول {قال} {إن} نافية {أَنْتُمْ} مبتدأ {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مُفْتَرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال). {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}. {يَا قَوْمِ} إلى قوله {قَالُوا} مقول محكي، وإنْ شئتَ قلتَ: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال) {لا} نافية {أَسْأَلُكُمْ} فعل ومفعول أول {عَلَيْهِ} متعلق به {أَجْرًا} مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة الفعلية في محل النصب مقول (قال) على كَوْنِهَا جوابَ النداء {إِنْ} نافية {أَجْرِيَ} مبتدأ، ومضاف إليه {إِلَّا}، أداة استثناء مفرغ {عَلَى الَّذِي} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال} {فَطَرَنِي} فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملةُ صلة الموصول {أَفَلَا} (الهمزة) للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف تقديره: أتغفلون عن هذه القصة و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف {لا} نافية {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل، والجملةُ معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قال}. {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف معطوف على المنادى الأول {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كَوْنِها جَوابَ النداء، {ثُمَّ تُوبُوا} فعل وفاعل معطوف على {اسْتَغْفِرُوا}، {إِلَيْهِ} متعلق به {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على

الله {عَلَيْكُمْ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها جوابَ الطلب السابق {مِدْرَارًا} حال من {السَّمَاءَ} ولم يؤنثه مع كون صاحب الحال مؤنثًا لثلاثة أوجه (¬1): أحدها: أن المراد بـ {السَّمَاءَ} السحاب أو المطر، فذكَّر الحال على المعنى. والثاني: أنَّ مِفعالًا للمبالغة، فيستوي فيه المذكر والمؤنث، مثل فَعُولٍ كصبور، وشكور، وفعيل كجريح. والثالث: أنَّ الهاءَ حُذِفَتْ عن مفعال على طريق النسب قاله مكي، اهـ "سمين". {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ}، {إِلَى قُوَّتِكُمْ} جار ومجرور صفة لـ {قُوَّةً} تقديره: قوة مضافة إلى قوتكم، {وَلَا تَتَوَلَّوْا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية {مُجْرِمِينَ} حال من {الواو}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} على كونها مقول القول. {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا} إلى قوله: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا هُودُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {مَا} نافية {جِئْتَنَا} فعل وفاعل ومفعول {بِبَيِّنَةٍ} متعلق بـ {جِئْتَنَا} والجملة في محل النصب، مقول {قال} على كونها جوابَ النداء، {وَمَا} (الواو) عاطفة (ما) نافية أو حجازية، {نَحْنُ} مبتدأ أو في محل الرفع اسم (ما) {بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} خبر المبتدأ، أو خبر (ما) ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {عَنْ قَوْلِكَ} متعلق {بِتَارِكِي} فـ {عَن} للتعليل، وهذا هو الأولى، أو حال من الضمير في ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{تاركي}؛ أي: وما نترك آلهتنا تركًا صادرًا عن {قَوْلِكَ}، {وَمَا} (الواو) عاطفة (ما) حجازية، أو تميمية {نَحْنُ} اسمها أو مبتدأ {لَكَ} متعلق {بِمُؤْمِنِينَ}، {بِمُؤْمِنِينَ} خبر (ما) أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولَ {قَالُوا}. {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)}. {إن} نافية {نَقُولُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم هود، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {اعْتَرَاكَ} فعل ماض، ومفعول {بَعْضُ آلِهَتِنَا} فاعل ومضاف إليه {بِسُوءٍ} متعلق بـ {اعْتَرَاكَ} وجملة {اعْتَرَاكَ} في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ما نقول في شأنك إلا قولَنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي} ناصب واسمه {أُشْهِدُ اللَّهَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة في محل الرفع خبر {إن} وجملة إنَّ في محل النصب مقول {قال} {وَاشْهَدُوا} فعل وفاعل معطوف على جملة (إن) على كونها مقول {قال}، {أَنِّي بَرِيءٌ} ناصب واسمه وخبره {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {بريء} وجملة (أن) في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تنازع فيه الفعلان قبله، ولكن أعمل فيه الثاني؛ أي: واشهدوا براءتي مما تشركون {تُشْرِكُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلةُ لـ (ما) أو صفة لها، والعائدُ أو الرابط محذوف تقديره: مما تشركونه، ويحتمل كونُ (ما) مصدرية {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور حال من الضمير المحذوف من {تُشْرِكُونَ} {فَكِيدُونِي}. الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كانت آلهتكم كما قلتم من أنها تنفع، وتضر .. فكيدوني {كيدوني} فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية {جَمِيعًا} حال من (واو) الفاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم على كونها جوابًا للشرط المحذوف، والشرط المحذوف في محل النصب مقول القول، {ثُمَّ} حرف عطف {لا} ناهية

جازمة {تُنْظِرُونِ} فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والنونُ المذكورة نونُ الوقاية لأنَّ أصْلَه، ولا تنظرونني وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم، معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}. {إِنِّي} ناصب واسمه {تَوَكَّلْتُ} فعل وفاعل {عَلَى اللَّهِ} متعلق به {رَبِّي} بدل من الجلالة، {وَرَبِّكُمْ} معطوف على {رَبِّي}، وجملة {تَوَكَّلْتُ} في محل الرفع خبر، (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقولُ القول على كَوْنِها مَسُوقة لتعليل مَا قَبلها {مَا} نافية {مِن} زائدة {دَابَّةٍ} مبتدأ أول، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {هُوَ} مبتدأ ثان {آخِذٌ} خبرٌ للمبتدأ الثاني {بِنَاصِيَتِهَا} متعلق بـ {آخذ} وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب مقول القول على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه {عَلَى صِرَاطٍ} خبره {مُسْتَقِيمٍ} صفة {صِرَاطٍ} وجملة (إن) مستأنفة في محل النصب مقول القول. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}. {فَإِنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ حُكم ما إذا توليتم .. فأقول لكم {وَإِنْ تَوَلَّوْا} (إن) حرف شرط جازم {تَوَلَّوْا} فعل مضارع وفاعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، أصله (تتولوا) حذفت إحدى التاءين لتوالي الأمثال، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا أبالي بكم، ولا مؤاخذةَ عليّ، وجملة الشرط في محل النصب مقولٌ لجوَابِ إذا المقدَّرة {فَقَدْ} (الفاء) تعليلية (قد) حرف تحقيق {أَبْلَغْتُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها

(بالفاء) التعليلية؛ لأنها تعليل للجواب المحذوف، تقديره: فلا أُبالي بكم لإبْلاغي إياكم {ما أرسلت به}، {أُرْسِلْتُ} فعل ونائب فاعل {بِهِ} متعلق به، وكذلك {إِلَيْكُمْ} يتعلق به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي} فعل وفاعل {قَوْمًا} مفعول به {غَيْرَكُمْ} صفة له، والجملة مستأنفة على كونها مقولَ القول، أو معطوفةٌ على جملة الجواب، {وَلَا تَضُرُّونَهُ} فعل وفاعل ومفعول به {شَيْئًا} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ}، {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {حَفِيظٌ}، {حَفِيظٌ} خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة على كونها مقولَ القول. {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)}. {وَلَمَّا} (الواو): استئنافية (لما) حرف شرط غير جازم {جَاءَ أَمْرُنَا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمّا)، {نَجَّيْنَا هُودًا} فعل وفاعل ومفعول به، {وَالَّذِينَ} معطوف على {هُودًا} والجملة الفعلية جواب (لما)، وجملة (لمَّا)، مستأنفة {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {مَعَهُ} ظرف، ومضاف إليه حال من فاعل {آمَنُوا} {بِرَحْمَةٍ} متعلق بـ {نَجَّيْنَا}، {مِنَّا} صفة لـ {بِرَحْمَةٍ}، {وَنَجَّيْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول {مِنْ عَذَابٍ} متعلق به {غَلِيظٍ} صفة لـ {عَذَابٍ} والجملة الفعلية مستأنفة لا معطوفة على {نَجَّيْنَا} الأول لأنَّ الأول مقيد بقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} إلخ، والثاني لا يتقيد به، اهـ "فتوحات". {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}. {وَتِلْكَ عَادٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {جَحَدُوا} فعل وفاعل {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} متعلق به، والجملة مستأنفة سيقت للإخبار عن حالهم، وليسَتْ حالًا ممَّا قبلها كما في "الجمل" {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {جَحَدُوا}، {وَاتَّبَعُوا} فعل وفاعل معطوف على {جَحَدُوا} {أَمْرَ كُلِّ

جَبَّارٍ} مفعول به، ومضاف إليه {عَنِيدٍ} صفة {جَبَّارٍ}، {وَأُتْبِعُوا} فعل ونائب فاعل {فِي هَذِهِ} في هذه متعلق به {الدُّنْيَا} بدلُ من اسم الإشارة أو عطف بيان {لَعْنَةً} مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {جَحَدُوا}، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف معلوم مما قبله تقديره: وأتبعوا يوم القيامة لعنة على رؤوس الخلائق، {ألا} حرف تنبيه {إِنَّ عَادًا} ناصب واسمه {كَفَرُوا رَبَّهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة {ألا} حرف تنبيه {بُعْدًا} مصدر نائب عن التلفظ بفعله تقديره بعدوا أي هلكوا {لِعَادٍ} اللام لبيان مَنْ دُعِي عليهم متعلقة بالمصدر كـ (لام) سقيًا لك ورعْيًا لك {قَوْمِ هُودٍ} بدل من {عَادٍ} أو عطف بيان له. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. {وَإِلَى ثَمُودَ} متعلق بمحذوف معطوف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا}، {أَخَاهُمْ} مفعول {أَرْسَلْنَا} المحذوف {صَالِحًا} عطف بيان له {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {اعْبُدُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول, والجملة في محل النصب مقول القول على كَوْنِهَا جَوابَ النداء {ما} نافية، {لَكُمْ} خبر مقدم {مِنْ إِلَهٍ} مبتدأ مؤخر و {من} زائدة {غَيْرُهُ} صفة لـ {إِلَهٍ} والجملة في محل النصب مقول {قال}. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}. {هُوَ} مبتدأ {أَنْشَأَكُمْ} فعل ومفعول {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} فعل ومفعول معطوف على {أَنْشَأَكُمْ}، {فِيهَا} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، {فَاسْتَغْفِرُوهُ} (الفاء) عاطفة تفريعية, {استغفروه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية معطوفةٌ مفرعة على الجملة الاسمية في قوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ}، {ثُمَّ تُوبُوا} فعل وفاعل معطوف على {فَاسْتَغْفِرُوهُ}؛ {إِلَيْهِ}

متعلق به، {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه {قَرِيبٌ} خبره {مُجِيبٌ} خبر ثان، أو صفة له، وجملة (إن) مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {يَا صَالِحُ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا صَالِحُ} منادى مفرد العلم، وجملةُ النداء في محل النصب مقول {قال}، {قَدْ كُنْتَ} فعل ناقص واسمه {فِينَا} متعلق بـ {مَرْجُوًّا}، {مَرْجُوًّا} خبر كان {قَبْلَ هَذَا} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ (كان)، وجملة {كاَنَ} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جوابَ النداء، {أَتَنْهَانَا} (الهمزة) للاستفهام الإنكاري {تنهانا}، فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَنْ نَعْبُدَ} ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم صالح، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره أتنهانا عن عبادة ما يعبد آباؤنا {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {نَعْبُدَ}، {يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبده آباؤنا {وَإِنَّنَا} ناصب واسمه {لَفِي شَكٍّ} جار ومجرور خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة (إن) معطوفة على جملة {كان} على كونها جوابَ النداء، {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ (شك)، {تَدْعُونَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على صالح {إِلَيْهِ} متعلق به، {مُرِيبٍ} صفة {شَكٍّ} والجملة الفعلية صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {إِلَيْهِ}. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {فَعَقَرُوهَا} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول {قال}، {أَرَأَيْتُمْ} فعل

وفاعل {إن} حرف شرط {كُنْتُ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ (إن) {عَلَى بَيِّنَةٍ} خبر (كان)، {مِنْ رَبِّي} صفة لـ {بَيِّنَةٍ}، {وَآتَانِي} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجزم، معطوفة على جملة (كان) {مِنْهُ} جار ومجرور حال من {رَحْمَةً} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {رَحْمَةً} مفعول ثان لـ {آتى} {فَمَن} (الفاء) رابطة لجواب (إن) الشرطية {من} اسم استفهام إنكاري في محل الرفع مبتدأ {يَنْصُرُنِي} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل الجزم بـ (إن) على كونها جَواب (إن) الشرطية، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب سادةً مسد مفعولي {أَرَأَيْتُمْ}، {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {يَنْصُرُنِي}. {إِنْ} حرف شرط {عَصَيْتُهُ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، وجواب (إن) معلوم مما قبلها، تقديره: إن عصيته .. فمَنْ ينصرني، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب، مقولُ {قال}. {فَمَا} (الفاء) عاطفة (ما) نافية {تَزِيدُونَنِي} فعل وفاعل، ومفعول أول {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} مفعول ثان، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَرَأَيْتُمْ} على كونها مقولًا لـ {قال}. {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف معطوف على {يَا قَوْمِ} الأول {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال) على كونها جوابَ النداء، {لَكُمْ} جار ومجرور حال من {آيَةً} لأنه نعت نكرة قدمت عليها {آيَةً} حال من {نَاقَةُ}، {فَذَرُوهَا} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم هذه ناقةَ الله، وأردتم بيانَ ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم {ذروها} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول {قال}، {تَأْكُلْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الناقة {فِي أَرْضِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَأْكُلْ}، {وَلَا تَمَسُّوهَا}

فعل وفاعل، ومفعول مجزوم بـ (لا) الناهية {بِسُوءٍ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {فَذَرُوهَا}، {فَيَأْخُذَكُمْ} (الفاء) عاطفة سببية {يأخذكم} فعل، ومفعول منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية {عَذَابٌ} فاعل {قَرِيبٌ} صفة له، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر مقيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن مسكم إياها بسوء فأخذُ عذاب قريب إياكم. {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}. الفاء: عاطفة {عقروها}: فعل وفاعل ومفعول والجملة معطوفة على جملة {قال} {فَقَالَ} الفاء عاطفة، (قال) فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة معطوفة على جملة (عقروها). {تَمَتَّعُوا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَمَتَّعُوا} فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول (قال) {فِي دَارِكُمْ} متعلق به. {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {تَمَتَّعُوا} {ذَلِكَ وَعْدٌ} مبتدأ وخبر. {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} صفة {وَعْدٌ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال). {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)}. {فَلَمَّا} (الفاء): فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال لهم صالح، وأردتَ بيانَ حال المؤمِنينَ بهِ، وحال المكذبين له بعد ما جاء العذابُ فأقول لك: {لما} حرف شرط. {جَاءَ أَمْرُنَا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). {نَجَّيْنَا صَالِحًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {وَالَّذِينَ} معطوف على {صَالِحًا}. {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {مَعَهُ} متعلق بـ {آمَنُوا} أو بـ {نَجَّيْنَا}. {بِرَحْمَةٍ} متعلق بـ {نَجَّيْنَا}. {مِنَّا} صفة لـ (رحمة). {وَمِنْ خِزْيِ} متعلق بمحذوف تقديره ونجيناهم وذلك المحذوف معطوف على {نَجَّيْنَا} وقال بعضهم: إنه متعلق بـ {نَجَّيْنَا} الأول، و (الواو)

زائدة، وهذا لا يجوز عند البصريين غير الأخفش, لأن زيادة (الواو) غير ثابتة {خِزْيِ} مضاف {يَوْمِئِذٍ} (يوم) مضاف إليه (يوم) مضاف (إذ) مضاف إليه {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل {الْقَوِيُّ} خبر {إن} {الْعَزِيزُ} صفة القوي، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}. {وَأَخَذَ الَّذِينَ} فعل ومفعول. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الصَّيْحَةُ} فاعل لـ (أخذ)، والجملة معطوفة على {نَجَّيْنَا} على كونها جواب (لما). {فَأَصْبَحُوا} (الفاء) عاطفة، {أصبحوا} فعل ناقص واسمه. {فِي دِيَارِهِمْ} متعلق بـ {جَاثِمِينَ} {جَاثِمِينَ} خبر {أصبحوا} وجملة {أصبح} معطوفة على جملة {أخذ} {كَأَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف تقديره: كأنهم {لَمْ يَغْنَوْا} جازم وفعل وفاعل {فِيهَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {كَأَنْ} وجملة {كَأَنْ} في محل النصب حال من واو {أصبحوا} تقديره: فأصبحوا جاثمينَ، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط {أَلَا} حرف تنبيه {إِنَّ ثَمُودَ} ناصب واسمه {كَفَرُوا رَبَّهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة {أَلَا} حرف تنبيه {بُعْدًا} مصدر نائب مناب فعله منصوبٌ بفعله المحذوف تقديره: ألا بعدوا بعدًا {لِثَمُودَ} متعلق بـ {بُعْدًا} وزيدت اللام لبيان المدعو عليهم كـ (لام) سُقيًا لك. التصريف ومفردات اللغة {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}؛ أي: جعلًا، ورشوة، ومعناه: لست بطامع في أموالكم. {مِدْرَارًا} من (¬1) أبنية مبالغة الفاعل، يستوي فيه المذكر والمؤنث، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وأصله من دَرَّ اللبن دُرورًا، وهو كثرةُ وروده على الحالب، يقال: سحاب مِدْرَارٌ ومطر مدرارٌ إذا تتابع منه المطر في وقت الاحتياج إليه، والمعنى: حالَ كونه مُتَتَابِعًا دائمًا، كلما تحتاجون إليه ويقال: درَّ يدرُّ كردَّ يرُدُّ. وفي "المصباح": درَّ اللبن وغيره درًا من بابي ضرب وقتل إذا كثر دَرهُ، اهـ. وفي "القاموس": ودرَّت السماء بالمطر درًّا ودرورًا فهي مدرار، اهـ. {إِلَّا اعْتَرَاكَ} يقال: عراه الأمر يعروه واعتَرَاهُ إذا ألمّ به وأصابه. {فَكِيدُونِي} والكيد: إرادة مضرَّة الغير خُفيةً، وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاةِ أعمالِ الخلق. {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وفي "السمين": الناصية: منبت الشعر من مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النابت أيضًا ناصيةً، تسميةً له باسم محلِّه، ويقال: نصوت الرجل إذا أخَذت بناصيته، فلامها واوٌ، يقال له: ناصاه، فقلبت ياؤُها ألفًا، فالأخذ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر، وإن لم يكن أخذ بناصية، ولذا كانوا إذا منوا على أسير، جزُّوا نَاصِيَتَه، اهـ. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أصله: تَتولُّوا فحذفت إحدى التاءين لتوالي الأمثال, لأنه مضارع تولى من باب تفعل. {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} وجَحَد يتعدى (¬1) بنفسه، ولكنه ضمِّن معنى كَفَرَ، فتعدى بحرف الجر، كما ضمِّن كفر معنى جحد، فتعدى بنفسه في قوله: {بعد ذلك} {كفروا ربَّهم}. وقيل: إن كَفَرَ كشكر في تعديته بنفسه تارةً، وبحرف الجر أخرى، اهـ "سمين". {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أصله عصيوا؛ لأنه من عَصَى يَعْصِي كرمى يرمي، تحركت الياء وانفتحَ ما قبلها، قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألِفُ لبقاءِ دَالها فصار عَصَوا بوزن رَمَوا. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا. والعنيد: الطاغي المتجاوز في الظلم، من قولهم: عَنَدَ يعند، من باب: جَلَسَ إذا حادَ عن الحق من جانب إلى جانب، ومنه عند الذي هو ظرف لأنه في معنى جانب في قولك: عندي كذا؛ أي: في جانبي، وعند أبي عبيد: العنيد، والعنود، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

والعاند، والمعاند كله بمعنى المعارض والمُخَالِف، اهـ "سمين". والعنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحقَّ، ولا يذعن له، ومنه قيل للعِرق الذي ينفجر بالدم عَانِد. قال الراجز: إِنِّيْ كَبِيْرٌ لاَ أُطِيْقُ الْعَنَدْ وفي "المختار" عند من باب جلس؛ أي: خَالفَ ورد الحقّ، وهو يعرفه فهو عنيد، وعاند، اهـ. {لَعْنَةً}؛ أي: طردًا وبعدًا عن كل خير. {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي: لا زالوا (¬1) مبعدينَ من رحمة الله تعالى. والبعد: الهلاك، والبعدُ التباعد من الخير، يقال: بَعُدَ يبعد من باب: كرم بعدًا، إذا تأخر، وتَبَاعد، وبَعِدَ يبعد، من باب: طَرِب، بعدًا إذا هلكَ. ومنه قول الشاعر: لاَ يَبْعُدَنْ قَوْمِي الَّذِيْنَ هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفةُ الْجُزُرِ وقال النابغة: فَلاَ تَبْعُدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ... وَكُلُّ امْرِىءٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ ومنه قول الشاعر: مَا كَانَ يَنْفَعُنِيْ مَقَالُ نِسَائِهِمْ ... وَقتلتُ دُوْنَ رِجَالِهِمْ لاَ تَبْعَدِ {وَإِلَى ثَمُودَ}، وهي قبيلة من العرب، سموا باسم أبيهم الأكبر، ثمودَ بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. سمُّوا بذلك لقِلَّة مائهم من الثمد، وهو الماءُ القليلُ. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: كونكم وخَلَقَكم. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ}؛ أي: عمركم وأسكنكم (¬2) فالسين والتاء زائدتان، أو صيَّركم عامرينَ لها، فهما للصيرورة. وفي "البيضاوي": {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: عمَّركم فيهَا واستبقاكم من العمر، يقال: عمر الرجل يَعْمُرُ عَمْرًا بفتح العين وسكون الميم؛ أي: عاش زمانًا طويلًا، واستعمره الله؛ أي: أطال بقاءه، ونظيره بَقِي الرجلُ، واستبقاه الله من البقاء، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات وروح البيان.

أي: إبقاء الله، فبِناءِ استفعل للتعدية. والمعنى: عَمَّرَكُم واستبقاكم في الأرض، أو أقدركم على عمارتها، وأمرَكم بها، وقيل: هو من العمرى بمعنى أعمركم فيها دياركم، ويَرِثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرينَ ديارَكم، تسكنونها مدةَ عمركم، ثم تتركونها لغيركم، اهـ. ويقال: أعمرتُه الأرضَ، واستعمرته إياها، إذَا فوضت إليه عِمَارَتَها. {مُرِيبٍ}؛ أي: مُوقِعٌ في الريب، اسم فاعل من أَرَابَ المتعدي بمعنى أوقعه في الريب، أو مِن أَرَابَ اللازم بمعنى صارَ ذَا ريب وشك، وذو الريب وصاحبه من قام به، لا نفس الشك، فالإسناد مجازي للمبالغة كجد جده. والرَّيْبُ: الظن والشك، يقال: رابني الشيءُ يَريبني، إذا جَعَلَك شاكًّا. {نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} الآية المعجزة الدالة على صدق نبوته. {ذروها} اتركوها وخلوها وشأنَها. {فَعَقَرُوهَا} يقال: عَقرَ الناقة بالسيف، إذا قطع قَوائِمَها به أو نَحَرَها. {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ} التمتع: التلذذ بالمنافع والدار البلد كما يقال: ديار بكر؛ أي: بلادهم. {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}؛ أي: غير مكذوب فيه؛ لأن المكذوبَ وصف الإنسان لا الوعد؛ لأنه يقال: كَذَبَ زيد عمرًا في مقالته، فزيد كاذب، وعمرو مكذوب، والمقالةُ مكذوب فيها. فالكلامُ على الحَذْفِ والإيصال، فلمَّا حذف الجار صار المجرورُ مفعولًا على التوسع، فأقيم مقام الفاعل، اهـ "شهاب". وفي "السمين": قولُه: {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} يجوز أن يكونَ مَصدرًا على وزن مفعول، وقد جاء منه ألفاظ: نَحْوُ: المجلود، والمعقول، والمنشور، والمغبون، والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعول على بابه، وفيه تأويلان: أحدهما: غير مكذوب فيه، ثُمَّ حذف حرف الجر، فاتصل الضمير مرفوعًا مستترًا في الصفة، ومثله يوم مشهود. والثاني: أنه جَعَلَ هو نفسَه غير مكذوب؛ لأنه قد وَفَى به، وإذا وَفى به .. فقد صَدَقَ، اهـ. والوعد خبر موقوت كأنَّ الواعدَ قال للموعود: إنّني أفِي به في وقته، فإنْ وفى .. فقد صَدَقَ، ولم يكذبه. {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، وأصلُ الأخذ: التناولُ باليد، ثم استعمل في الأشياء المعنوية، كأخذ الميثاق، والعهد، وفي الإهلاك، وحُذفت تاء التأنيث من الفعل إما لكون المؤنث مجازيًّا، أو للفصل بالمفعول، أو لأن الصيحةَ بمعنى الصياح، والصيحةُ فعلة تَدُلُّ على المرة

من الصياح، وهو الصوت الشديد. يقال: صاح يصيح صياحًا؛ أي: صوَّت بقوة، اهـ "سمين". {جَاثِمِينَ}؛ أي: ساقطينَ على وجوههم مصعوقينَ لم يَنْجُ منهم أحدٌ، وجثومهم سُقُوطُهم على وجوههم، أو الجُثُوم: السكونُ: يقال للطير: إذا باتت في أوكارها .. جَثَمَتْ، ثم إن العرَبَ أطلقوا هذا اللفظَ على مَا لا يتحرك من الموت. قال في "بحر العلوم" يقال: الناسُ جثم أي قعود لا حرَاكَ بهم. وفي "المصباح": جثم الطائر، والأرنب يجثمُ من بابي دَخل، وجلس جُثُومًا، وهو كالبروك من البعير، والفاعل جَاثِم وجثام مبالغة، اهـ. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} يقال: غنيت بالمكان إذا أتيتَه وأقمتَ فيه. وفي "المختار": وغَنِي بالمكان إذا أَقَام به، وبابه صَدِيَ، اهـ. والمَعنى: المنزلُ، والمقام الذي يقيم فيه الحي، يقال: غني الرجلُ بمكان كذا؛ أي: أقام به، وغَنيَ أي عاش. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجازُ المرسل في قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}؛ لأنَّ المرادَ بالسماءِ المطر، فهو من إطلاق المحل، وإرادة الحال؛ لأنَّ المطر ينزل من السماء. ومنها: المبالغة في {مِدْرَارًا} لأن مفعالَ من صيغ المبالغة؛ ومنها: الجناس المماثل في قوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا}. ومنها: التعجيز في قوله: {فَكِيدُونِي} لأنَّ المرادَ من هذا الأمر التعجيز. ومنها: الكناية في قوله: {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}؛ لأنَّ الأخذَ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر، أو فيه استعارة تمثيليَّة، شبَّهَ الخلقَ، وهم في قبضة الله، وملكه وتحت قهره وسلطانه، بالمالك الذي يقودَ المقدورَ عليه بناصيته، كما يقاد الأسيرُ والفرس بناصيته.

ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ لأنه عبارة عن كمال العدل في ملكه تعالى، فهو مطلع على أمور العباد، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}؛ لأن الأمرَ كناية عن العذاب. ومنها: الإطناب في قوله: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لبيان أنَّ الأمرَ شديد عظيم، لا سهلٌ يسيرٌ. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ}؛ أي: عصَوا رَسولَهم هودًا من باب إطلاق الكل وإرادة البعض، وفيه: تفظيع لحالهم، وبيان أنَّ عصيانَهم له، عصيانٌ لجميع الرسل، السابقين، واللاحقين. ومنها: المبالغة في التهويل والتفظيع في قوله: {أَلَا إِنَّ عَادًا}، {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ} لأنَّ في تكرير حرف التنبيه، وتكرير لفظ عاد من المبالغة في التهويل من حالهم ما لا يخفى. ومنها: القصر في قوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: هو سبحانه لا غيره أنشأكم وخلَقَكم؛ لأنه فاعل معنوي، وتقديمه يدل على القصر ذكره في "روح البيان". ومنها: الإسناد المجازي في قوله {لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، فإسناد الريب إلى الشك مجاز, لأن الموقع في الريب بمعنى القلق والاضطراب، هو الله سبحانه وتعالى لا الشك، ولكن أسنده إليه للمبالغة كجد جده. ومنها: المجاز في قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من يمنعني، ويحفظني من عذاب الله؛ لأن النصرةَ هنا مستعملة في لازم معناها، وهو المنع والحفظ. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {نَاقَةُ اللَّهِ} كبيت الله بمعنى أنها لا اختصاصَ لأحد بها. ومنها: الاكتفاء في قوله: {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}؛ أي: ترع نباتَهَا وتشرب

ماءَها فهو من قَبيل الاكتفاء، نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. ومنها: المجاز المرسل، في قوله: {فَعَقَرُوهَا} لأنَّ العاقرَ واحد منهم، وهو قدار بن سالف، فأطْلَقَ ما للبعض على الكل، لرضاهم بفعله، وأمرهم له. ومنها: حكاية الحال الماضيةِ استحضارًا لها في قوله: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؛ أي: ما عَبَد آباؤنا. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ} لزيادة البيان. ومنها: تكرار حرف التنبيه، ولفظ ثمود مبالغةً في التهويل مِنْ حالهم. ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}. ومنها: الطباقُ بين {نَجَّيْنَا} {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} لأن معنى أَخَذَ أهلك. ومنها: الزيادة، والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}. المناسبة قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ...} الآيات، وأعلم أنَّ ترتيب (¬1) قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئًا من أخبار ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[69]

إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط؛ لأن له مَدْخَلًا في قصة لوط، وكان إبراهيمُ ابنَ خالةِ لوط. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذَكَرَ بَعضَ ما جرى بين إبراهيم والملائكة، وَصَل به بعضًا آخر كالتتمة له. قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن ما يدل على أن لوطًا كان قلقًا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم، وذلك قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ذَكَرَ هنا أنَّ الرُّسلَ بشروه بأن قومَه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأنَّ اللَّهَ تعالى مهلِكُهُم ومنجيه مع أهله من العذاب. قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ...} الآية، تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف، وذكرت هنا مرة أخرى، وقد جاء في كل منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس في الآخر، مع الإحكام في السبك، وحسن الرصف، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت. التفسير وأوجه القراءة 69 - {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاءت رسلُنَا من الملائكة جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، على ما قاله ابن عباس وعطاء في صورة الغلمان، الذين يكونون في غاية الحُسنِ والبهاءِ والجمالِ، إلى إبراهيم عليه السلام حالةَ كونهِم متلبسينَ بالبشارة له بالولد من سارةَ بدليل ذكره في سورة أخرى، ولأنه أطلق البشرَى هنا، وقيَّد في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} والمطلق محمول على المقيد، وهذا شروع (¬2) في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، لكنها مذكورة هنا توطئةً لقصة لوط لا استقلالًا، ولذا لم يذكرهما على أسلوب ما قبلها وما بعدها، فلم يقل وأَرْسَلنا إبراهيمَ إلى كذا كما قال {وَإِلَى مَدْيَنَ}، {وَإِلَى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

ثَمُودَ}، {وَإِلَى عَادٍ} مثلًا وعاش إبراهيم من العمر مئة وخمسًا وسبعينَ سنةً، وبينه وبين نوح ألفًا وست مئة وأربعون سنة. وابنه إسحاق عاش مئةً وثمانين سنةً. ويعقوب بن إسحاق عاش مئةَ وخمسًا وأربعين سنةً. و {رُسُلَنَا} يقرأ بسكون السين وضمها حيثما وقع مضافًا للضمير بخلاف ما إذا أضيف إلى مظهر، فليس فيه إلا ضمها، والرسل: هم الملائكة كما مر، واختلفوا في عددهم. فقال ابن عباس، وعطاء، كانوا: ثلاثةً جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ. وقال الضحاك: كانوا تسعةً. وقال مقاتل: كانُوا اثني عشر مَلَكًا. وقال محمَّد بن كعب القرظي كان جبريلُ، ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كانوا أحَدَ عَشَرَ مَلَكًا على صور الغلمان الحسان الوجوه. وقول ابن عباس هو الأولى؛ لأن أقلَّ الجمع ثلاثةٌ. وقوله: {رُسُلَنَا} جمع فيحمل على الأقل، وما بعده غير مقطوع به، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي، ولم يثبت شيء منه في عددهم. والبشرى هي: البشارة بإسحاقَ ويعقوبَ. وقيل: بإهلاك قوم لوط وإنجائه. والأول أظهر. وقوله: {قَالُوا} استئناف بياني؛ أي: قالت الرسلُ لإبراهيم. {سَلَامًا}؛ أي: سلمنا عليك سلامًا أو نسلم عليك سلامًا، هذه تحيتهم التي وَقَعَتْ منهم، وهي لفظ سلامًا، وهو مصدر معمول لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سلمنا سلامًا {قَالَ} إبراهيم عليكم {سَلَامٌ} هذه تحيته الواقعةُ منه جوابًا، وهي لفظ سلام، وهو مبتدأ خبره محذوف كما قَدَّرنا، فقد حيَّاهم بالجملة الاسمية في جواب تحيتهم بالفعلية، ومن المعلوم أنَّ الاسمية أبلغُ من الفعلية؛ لأن الجملةَ الاسمية دالة على الثبات والاستمرار، والفعليةَ دالة على التجدد والحدوث، فكانَتْ تحيتُه أحسنَ من تحيتهم كما قال: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}. وفي "السمين": {قَالُوا سَلَامًا} في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به، ثمَّ هو محتمل لأمرين: 1 - أن يُرادَ: قالوا هذا اللفظَ بعينه، وجاز ذلك؛ لأنه يتضمن معنى الكلام.

2 - أنه أرادَ قالوا معنى هذا، وقد تقدم ذلك في نحو قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}. وثاني الوجهين: أن يكونَ منصوبًا على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصبٍ بالقول، تقديره: قالوا: سلمنا سلامًا، وهو من باب: ما نابَ فيه المصدر عن العامل فيه، وهو واجبُ الإضمار، وقوله: {قَالَ سَلَامٌ} في رفعه وجهان: 1 - أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: سلام عليكم. 2 - أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أمري، أو قولي سلام، وقد تَقَدَّم أول هذا الموضوع، أن الرفعَ أدل على الثبوت من النصب، والجملةُ بأسرها، وإن كان أحدُ جزأيها محذوفًا في محل نصب بالقول. وقرأ الأخوان حَمزةُ والكسائيّ: {قال سلم} هنا، وفي سورة الذاريات: بكسر السين، وسكون اللام، ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف. فقيل: هما لغتان كحِرْم، وحرام، وحِلٍ وحَلاَل. وقيل: السِّلْمُ، بالكسر، ضدُّ الحرب، وناسبَ ذلك, لأنه نكرهم فكأنه قال: أنَّا مُسَالِمكم غيرُ محارب لكم، اهـ. ولفظةُ (ما) في قوله: {فَمَا لَبِثَ} نافية، و {لبث} فعل ماض بمعنى أَبْطأَ، وجملة: {أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} فاعله؛ أي: فما أبطأ (¬1) وتأخَّر عنهم مجيء إبراهيم بعجل حنيذ؛ أي: بولد بقر مشويّ بحجارة محماة في حفرة من الأرض من غير أن تمسه النار، فوضَعَه بين أيديهم، وكان مِنْ فعلِ أهل البادية، وكان سَمينًا يسيل منه الوَدَكُ. قال قتادة: وإنما جاءهم بعجل؛ لأنه كان عامَّة مال إبراهيم البقر، وقيل: مُكَثَ إبراهيم عليه السلام خَمَسَ عشرة ليلةً لم يأته ضيف، فاغتم لذلك، وكان يحب الضيف، ولا يأكل إلا معه، فلما جاءت الملائكة رأى أَضيافًا لم يرَ مِثْلُهُم قطُّ فَعَجَّلَ قراهم، فجاءهم بعجل سمينٍ مشويٍّ. وقال أكثر النحويينَ (¬2): (أنْ) هنا بمعنى حتى. والمعنى: فما لَبِث إبراهيم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[70]

حَتّى جاءَ بعجل حنيذ، وقيل: إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر، والتقدير: فما لبث إبراهيم عن أن جاء؛ أي: فما أَبْطَأَ إبراهيم عن مجيئه بعجل حنيذ. و (ما) نافية قاله سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي: ما أبطأ وتأخر مجيئه بعجل حنيذ. وقيل: إن (ما) موصولة، وهي مبتدأ، والخبر أَنْ جاءَ بعجل حنيذ، والتقدير: فالذي لَبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ؛ أي: قدر زمان مجيئه به. والحنيذ: المشويُّ مُطْلقًا. وقيل: المشوي بحَرِّ الحجارة من غير أن تمَسَّه النار، يقال: حَنِذَ الشاةَ يحنذها جعلها فَوْقَ حجارة محماةٍ لتنضجها فهي حنيذ. وقيل: معنى (حنيذ): سمين. وقيل: الحَنِيذُ: السَّمِيطُ. وقيل: النَّضيجُ، وهو فعيل يمعنى مفعول كما سيأتي في مباحث الصرف. وقد (¬1) اهتدى البشر إلى شَيِّ اللحم مِنْ صيدٍ وغيره على الحجارة المُحَمَّاة بِحَرِّ الشمس قديمًا قبل الاهتداء إلى إنضَاجِه بالنار. وجاء في سورة الذاريات: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)}. وفي هذا دليل على أنه كان مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يجيء من الضُّيوف، وربما كان قد شَوِيَ عند وصولهم بلا إبْطاءٍ. 70 - فلما قرب إليهم، ووضع بين أيديهم كفوا عنه {فَلَمَّا رَأَى} إبراهيم {أَيْدِيَهُمْ}؛ أي: أيدي الرسل {لَا تَصِلُ إِلَيْهِ}؛ أي: لا تمتد إلى الطعام الذي قَدَّم إليهم {نَكِرَهُمْ}؛ أي: أنكر إبراهيم ذلك منهم، ووجده على غير ما يعهد من الضيوف، ولم يعرف سبب عدم تناولهم منه، وامتناعهم عنه، فالعادة قد جرت أنَّ الضيفَ إذا لم يطعم مما قدم إليه .. ظنَّ أنه لم يَجِىء بخير، وأنه يُحْدِّثَ نَفْسُه بشرٍّ، {وَأَوْجَسَ} إبراهيم؛ أي: أحس وأدرك إبراهيم {مِنْهُمْ}؛ أي: من جهتهم {خِيفَةً}؛ أي: خوفًا في نفسه؛ أي: أحسَّ وعلم في نفسه فزعًا وخوفًا منهم حين شعر أنهم ليسوا بشرًا، ووقع في نفسه أنهم ملائكة، وأنَّ نزولَهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه. والوجس رعب القلب (¬2)، وإنما خاف إبراهيمُ عليه السلام منهم؛ لأنه كان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[71]

ينزل ناحيةً من الناس، فخاف أن ينزلوا به مكروهًا لامتناعهم من طعامه، ولم يعرف أنهم ملائكة. وقيل: إن إبراهيمَ عرف أنهم ملائكة، وإنما خَافَ أَنْ يكونوا نزلوا بعذاب قومه، فخاف من ذلك. والأقرب: أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكةً في أول الأمر، ويدل على صحة هذا أنه عليه السلام قدمَ إليهم الطعام، ولو عرف أنهم ملائكة لما قدمه إليهم، لعلمه أن الملائكةَ لا يأكلونَ ولا يشربون، ولأنه خافهم، ولو عرف أنهم ملائكة .. لما خافهم، فلما عرف الملائكة خَوفَ إبراهيم منهم بأمارات تدل عليه كظهور أثره على وجهه، أو بكلام من إبراهيم يدل على خوفه كما قال في سورة الحجر: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}. فلا يقال: الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فمن أينَ علمت الملائكة إخفاءه للخيفة. {قَالُوا}؛ أي: قالتَ الملائكة لإبراهيم {لَا تَخَفْ} منَّا يا إبراهيم فنحن لا نريد بك سوءًا {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب؛ أي: وإنما نحنُ ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط خاصة لإهلاكهم، وكانت دِيارهم قريبةً من دياره، وما أرسلنا إلى قومك، فكُنْ طيبَ النفس، وكان لوط أخا سارة، أو ابنَ أخي إبراهيم عليهما السلام، 71 - {وَامْرَأَتُهُ} سارة بنت هاران بن ناخور، وهي ابنة عمه {قَائِمَةٌ} وراءَ الستر بحيث تسمع محاوراتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، وكانت نساؤهم لا تحجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروهًا، وكانت عجوزًا، وخدمة الضيفان مما يعدُّ من مكارم الأخلاق. وجاء في شريعتنا مثل هذا في حديث أبي أسيد الساعدي، وكانت امرأته عروسًا فكانت خَادِمَة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن حضر معه من أصحابه. والجملة الاسمية حال من ضمير قالوا: أي: قالوا لإبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته. {فَضَحِكَتْ} امرأة إبراهيم سرورًا بالأمن من الخوف، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة. قال الجمهور: هو الضحك المعروف، فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه، وسرورها بنجاة أخيها وهلاك قومه. وقال مجاهد، وعكرمة، فضحكت، حَاضَتْ عند فرحها بالسلامة من الخوف، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد. قال الزمخشري (¬1): وفي مصحف عبد الله: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{وامرأته قائمة وهو قاعد}. وقال ابن عطية: وفي قراءة ابن مسعود: {وهي قائمة وهو جالس} ولم يتقدم ذِكرُ امرأة إبراهيم، فيُضْمَرُ لكنه يفسره سياق الكلام. وقرأ محمَّد بن زياد الأعرابي، رجل من قراء مكة {فضحكت} بفتح الحاء. قال المهدوي، وفتح الحاء غير معروف. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}؛ أي: فعقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا، وإسحاق بالعبرانية الضحاك، وولد إسحاق بعد البشارة بسنة، وكانت ولادته بعد إسماعيل بأربع عشرةَ سنةً. {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ}؛ أي: ووهبنا لها من بعد إسحاق {يَعْقُوبَ} ولدَ إسحاق، فهو من عطف جملة على جملة، ولا يكون يعقوب على هذا مبشَّرًا به، وبشِّرَت من بين أولاد إسحاق بيعقوب؛ لأنها رأَتْهُ، ولم تَرَ غَيْرَه، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسعٍ وتسعينَ سنةً، وإبراهيم ابن مئة سنة. واعلم: أنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمَنَّتْ سَارةُ أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبُشِّرَت بولد يكون نبيًّا، ويلد نبيًّا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولدَ ولدها، وإنما بشروها دونَه؛ لأن المرأَة أعجل فرحًا بالولد، ولأن إبراهيمَ بشروه، وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارَتَه ببشارتها. وقال في "التبيان" (¬1): أي بشروها بأنها تلد إسحاق، وأنها تعيش إلى أن ترى وَلَد الولد، وهو يعقوب ابن إسحاق. والاسمان (¬2) يحتمل وقوعهما في البشارة، كيحيى حيث سمي به في البشارة قال الله تعالى: {إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى}. ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا بإسحاق ويعقوب، وتوجيه البشارة إليها لا إليه، مع أنه الأصلُ في ذلك للدلالة على أنَّ الولدَ المبشرَ به يكون منها, ولأنها كانت عَقِيمَةً حريصةً على الولد، وكان لإبراهيم ولدُه إسماعيل من هاجر، ولأنَّ المرأةَ أشدُّ فرحًا بالولد. وقال ابن عباس ووهب: فضحكت تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها، وسن زوجها، وعلى هذا تكون الآية من التقديم والتأخير، تقديره: وامرأته قائمةٌ فبشرناها بإسحاق، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوب، فضحكت كما في "بحر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[72]

العلوم" وتفسير أبي الليث. قال ابن عطية: أضاف فعلَ الملائِكَةِ إلى ضمير اسم الله تعالى في قوله {فَبَشَّرْنَاهَا} إذ كَانَ ذلك بأمره ووحيه، وقد وَقَعَ التبشير هنا لها، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} , لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة لكونه منهما. وقرأ (¬1) الحرميان نافع، وابن كثير، والنحويان أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر {يعقوبُ} بالرفع على الابتداء {وَمِنْ وَرَاءِ} الخبر كأنه قيل، ومن وراء إسحاق يعقوب كائن. وقدره الزمخشري مولودٌ أو موجودٌ. قال النحاس: والجملة داخلة في البشارة، أي: فبشرناها بإسحاق متصلًا به يعقوب. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي {يَعْقُوبَ} بالنصب. قال الزمخشري، كأنه قيل: ووهبنا لها إسحاقَ، ومن وراءِ إسحاقَ يعقوب، يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن يَنْتَصِبَ {يَعْقُوبَ} بإضمار فعل، تقديره: ومن وراء إسحاقَ وهبنَا لَهَا يعقوب، ودلَّ عليه قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا} لأن البشارة بمعنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي، ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بـ {إِسْحَاقَ} أو على موضعه فقوله: ضعيف؛ لأنه لا يجوز الفصل بالظرف، أو المجرور بين حرف العطف، ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليومَ وأمس عمرو. 72 - وقوله: {قَالَتْ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قالت إذ بشِّرت بذلك، فقيل: قالت سارة لما بشرت بإسحاق {يَا وَيْلَتَى} وقرأ الحسن: {ياويلتي} بالياء، وهي كلمة تقال عند التعجب؛ أي: يا عجبًا. وأصله (¬2): {يا ويلتي} بالياء فأبدل من الياء الألف، ومن كسرة التاء الفتحة، لأنَّ الألفَ مع الفتحة أخفُّ من الياءَ مع الكسرة، وأصل هذه الكلمة في الشر؛ لأنَّ الشَّخْصَ ينادي ويلته، وهي هلكته يقول لها تعالي واحضري فهذا أوان حضورك، ثمَّ أطلق في كل أمر عجيب، كقولك: يا سبحانَ الله، وهو المراد هنا. قال سعدي المفتِي أصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفسَ، ثم استعمل في عَجَب يدهم النَّفْسَ، والاستفهام في قوله: {أَأَلِدُ} استفهام تعجب، أي: قالت سارة لما بشرت بإسحاق، يا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح المعاني.

[73]

ويلتا، ويا عجبًا احضري إليَّ لأتعجب منك، فهذا أوان التعجب منك كيف ألِدُ وَلدًا {وَأَنَا عَجُوزٌ}؛ أي: والحال أني عجوز قد بلغت السن التي لا يلد مَنْ كان قد بَلغها من الرجال والنساءِ، بلغت تسعينَ سنةً أو تسعًا وتسعينَ سنةً لم ألد قط، ومثلي لا يلد، بل الغالب أن ينقطع حيضُ المرأة. في سن الخمسين، فيبطل استعدادها للحمل، والولادة، على أنها كانت عقيمًا {وَهَذَا بَعْلِي}؛ أي: والحال أن هذا الرجلَ الذي تشاهدونه بعلي أو زوجي حالة كونه {شَيْخًا} كبيرًا لا يولد لمثله ابن مئة سنة، أو مئة وعشرين سنةً. وأصل معنى البعل: هو المستعلي على غيره، ولما كان زوج المرأة مستعليًا عليها قائمًا بأمرها سَمِيَّ بعلًا، اهـ "خازنٍ". {إِنَّ هَذَا} الذي بشرتمونا به {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} مخالف لسنن الله تعالى التي سلكها في عباده، وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش (¬1): {شيخ} بالرفع، وجوَّزوا فيه، وفي {بعلي} أن يكونا خبرين كقولهم هذا حلو حامض، وأن يكونَ بعلي الخبر، وشيخ خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلًا، أو عطف بيان وشيخ الخبر. والإشارة بهذا إلى الولادة، أو البشارة بها تعجبتْ من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكارًا لقدرة الله تعالى. {إِنَّ هَذَا}؛ أي (¬2): حصولَ الولد من هرمين مثلنا، {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} بالنسبة إلى سنة الله المسلوكة فيما بين عباده، ومقصدها استعظام نعمة الله عليها في ضمن الاستعجاب العاديّ، لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرة الله تعالى؛ لأن التعجبَ من قدرة الله يوجب الكفرَ، لكونه مستلزمًا للجهل بقدرة الله تعالى. وقدَّمَتْ بيانَ حالها على بيان حال بعلها؛ لأن مُباينة حَالها لِمَا ذُكر من الولادة أكثر، إذ رُبَّما يُولد للشيوخ من الشَّواب، ولا يولد للعجائز من الشبان. 73 - والاستفهام في قوله: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} للإنكار لعَجَبِهَا؛ أي: قالت الملائكة لسارة منكرينَ عليها لعجبها، أتعجبين يا سارة من أمر الله وشأنه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[74]

وقدرته على إيجاد الولد من كَبيرَيْن. قال سعدي المفتي: أخذ جبريل عودًا من الأرض يابسًا، فدلكه بين أصبعيه، فإذا هي شجرة تهتزُّ، فعرفت أَنه من الله تعالى؛ أي: قالوا لها: لا ينبغي لك أن تعجبي من شيء يَصْدُر عن أمر الله الذي لا يُعجزه شيءٌ كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} والله الخالق للسنن, والواضع لنظام الأسبابِ، هو الذي أرادَ أنْ يستثنيَ منها واقعةً بعينها، يجعلُها من آياته لحكمة من حِكَمِه أرادها لبعض عباده. {رَحْمَتُ اللَّهِ} التي وسعت كلَّ شيء، واستبقت كلَّ خير {وَبَرَكَاتُهُ}؛ أي: خيراته النامية المتكاثرة في كل باب، التي من جملتها هبة الأولاد حالتان {عَلَيْكُمْ} لازمتان لكم لا تفارقكم. وحكى سيبويه {عليكم} بكسر الكاف، لمجاورة الياء كما في "القرطبي". يا {أَهْلَ الْبَيْتِ}؛ أي: يا أهلَ بيت النبوة، ويراد بالبيت، بيت السكنى كما ذكره أبو حيان. أرادوا أنَّ هذه، وأمثالَها مما يكرمكم به ربّ العزة، ويخصكم بالإنعام يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عَجَبٍ. والمعنى: رحمة (¬1) الله الواسعةُ لكل شيء، وخيراته الفائضة منه بواسِطَة تلكَ الرحمة، لازمة لكم لا تفارقكم يا أهلَ بيت إبراهيم، فإذا رأيتم أنَّ الله خَرَق العاداتِ في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية، فكيفَ يليق به التعجبُ، وما تلك بأُولَى آية لإبراهيم، فقد نجَّاه الله من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بَارَكَ فيها للعالمين، وهذه الجملة مستأنفة. فقيل: خبر، وهو الأظهر. وقيل: دعاء. وقيل: الرحمة: النبوة، والبركات: الأسباط من بني إسرائيل؛ لأنَّ الأنبياء منهم، وكُلُّهم من ولد إبراهيم عليه السلام. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {حَمِيدٌ} الفعال؛ أي: فاعل ما يستوجب به الحمدَ من عباده، لا سيما في حقها، {مَجِيدٌ} الذات أو كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده، خصوصًا، في أنْ جَعَلَ بيتَها مهبطَ البركات. 74 - {فَلَمَّا ذَهَبَ} وزال {عَنْ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام {الرَّوْعُ}؛ أي: الخوف والفزَعُ الذي أصابه لمَّا لم يأكلوا من العجل، واطمأنَّ قلبه بعرفانه ¬

_ (¬1) المراح.

[75]

بحقيقتِهم المَلَكِيّةِ، وعرفانِ سببِ مجيئهم {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} بنجاة قومه كما قال: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} أو بالولدِ إسحاقَ كما قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} وإبراهيم أصل في التبشير، كما قال في سورة أخرى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}. {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}؛ أي: أخذ يجادل، ويخاصم رسلَنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط، وجُعِلَتْ مجادلتهم مجادلةَ الله؛ لأنها مجادلة في تنفيذ أمره. وقد صرَّح في سورة العنكبوت بكون هذه المجادَلَةِ مع الرسل حيث قال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}. وجيءَ بجواب (¬1) لَمَّا مضارعًا مع أنه ينبغي أن يكون ماضيًا لكونها موضوعة للدلالة على وقوع أمر في الماضي لوقوع غيره فيه على سبيل حكاية الحال الماضية، أي جَادَلَ، وخَاصَمَ رسلَنَا في شأن قوم لوط وحقِّهم لرفع العذاب عنهم جدالَ الضعيف مع القويِّ لا جِدَالَ القوي مع الضعيف بل جدالَ المحتاج الفقير مع الكريم الغني، وجدالَ الرحمة والمعاطفة وطلب النجاة للضعفاء، والمساكين الهالكين. وكان لوط ابنَ أخيه، وهو لوط بن هاران بن آزر، وإبراهيم بن آزر، ويقال: ابن عمه، وسارة كانت أختَ لوط. فلما سمعا بهلاك قوم لوط اغتما لأجل لوط، فطفق إبراهيم يجادل الرسلَ حينَ قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، فقال: أرأيتم لو كانَ فيها خمسون رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعونَ؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسةً قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلٌ واحد مسلمٌ، أَتُهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}. 75 - {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام {لَحَلِيمٌ}؛ أي: غير (¬2) عجول على كل من أساءَ إليه، فلذلك طَلَبَ تأخيرَ العذاب عنهم، رَجَاءَ إقدامهم على الإيمان, ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[76]

والتوبة عن المعاصي {أَوَّاهٌ}؛ أي: كثيرُ التضرع إلى الله عند وصول الشدائد إلى الغير {مُنِيبٌ}؛ أي: رجاع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم. والمعنى: أنه جَادَلَ الملائكةَ في عذاب قوم لوط؛ لأنه كان حليمًا لا يعجل بالانتقام من المسيء، كثير التأوه مما يَسُوء الناسَ، ويؤلمهم يَرْجِع إلى الله في كل أموره؛ أي: كَانَ جداله بحلم وتأوه عليهم، فإنَّ الذي لا يتعجل في مكافأة من يؤذيه يتأوه أي: يقول أوه وآه، إذَا شاهدَ وصولَ الشدائد إلى الغير، وأنه مع ذلك راجعٌ إلى الله في جميع أحواله؛ أي: ما كان بعض أحواله مشوبًا بعلة راجعةٍ إلى حَظِّ نفسه، بل كان كُله لله، فتبيَّنَ أنَّ رقَّةَ القلب حَمَلَتْهُ على المجادلة فيهم، رَجَاءَ أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلَّهم يحدثون التوبةَ والإنابَةَ، كما حملته على الاستغفار لأَبِيهِ. 76 - وقوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ} على تقدير القول؛ أي: قالت الملائكة يا إبراهيم {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الجدال، والمحاورَة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه، وحكم به من عذابه الواقع بهم لا مَحالَةَ، ولا مردَّ له بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غير ذلك {إنه}؛ أي: إنَّ الشَّأنَ {قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وقدره بمقتضَى قضائِه الأزليِّ بعذابهم، وهو أَعْلَمُ بحالهم، والقضاء (¬1) هو الإرادة الأزلية، والعناية الإلَهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدرُ تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإنَّ قوم لوط {آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}؛ أي: غير مصروف عنهم، ولا مدفوع بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غيرهما، وإنك مأجور مثاب فيما جادلتْنَا لنجاتهم، وهذا كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "اشفعوا تؤجَروا, وليقضينَّ اللَّهُ على لسان رسوله ما شاء". والمعنى (¬2): يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، والاسترحام لهم، إنه قد نَفَذَ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[77]

لا يردُّ عن القوم المجرمينَ وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بِجَدَلٍ ولا شفاعة، ولا بغيرهما. وقرأ عمرو بن هرم (¬1): (وإنهم أتاهم) بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. والظاهر: أنَّ إتيان العذاب الغير المردود لإصرارهم على الكفر، والتكذيب بعد استبانة الحق، واللواطةُ من جملة أسباب الإتيان كالعَقْرِ لناقةِ الله بالنسبةِ إلى قوم صالح. رُوي: أنَّ الرسلَ الذين بَشَّروا إبراهيمَ ذهبوا بعد هذه المجادلة من عنده، وانطلقوا إلى قرية لوط سدوم، وما بين القريتَين أربع فراسخ، فانتهوا إليها نصفَ النهار، فإذا هم بِجَوَارٍ يَسْتَقِيْنَ من الماء، فأبصَرَتْهُم ابنةُ لوط، وهي تستقي الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ وأين تريدون؟ قالوا: أَقْبَلْنَا منْ مكان كذا، ونريد كذا، فأخبرتهم عن حال أهل المدينة، وخبثِهم، فأظهروا الغَمَّ مِنْ أنفسهم، فقالوا: هل أحد يضيفنا في هذه القرية؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذاك الشيخ، فأشارتِ إلى أبيها لوط، وهو قائم على بابه فأتَوا إليه. فلمَّا رآهم، وهيئتهم ساءه ذلك، 77 - وهو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا}؛ أي: ولما جاءت ملائكتُنا لوطًا {سِيءَ بِهِمْ}؛ أي: حَزِنَ بسببهم؛ أي: سَاءَهُ مجيؤهم، وهو فعل مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من قولك: ساءني كذا؛ أي: حصل لي منه سوء وحزن، وغم وبهم متعلق به؛ أي: بسببهم. والمعنى: ساءَهُ وأَحْزَنَه مجيئهم. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}؛ أي: ضاق صدره بمجيئهم وكونهم عنده، وضيق الصدر كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه. والمعنى: ساءه مجيؤهم، وضَاقَ بهم صَدْرُه، لا لأنهم جاؤوا مسافرين، وهو لا يُحِبُّ الضيفَ، فحاشا بيت النبوة عن ذلك، بل لأنهم جاؤوا في صورة غلمان حِسان الوجوه، فحَسِبَ أنهم أناس، فَخَافَ عليهم أن يَقْصِدَهُم قومُه، فيعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[78]

وفيه إشارة إلى عروض الهم والحزن له، لهلاك قومه بالعذاب، فَانْظُر إلى التفاوت بين إبراهيم، ولوط، وبين قومهما حيث كان مجيؤهم لإبراهيم للمسرة، وللوط للمساءة، مع تقديم المسرة, لأنَّ رحمةَ الله سابقة على غضبه. وروي أنَّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ عليهم لوط أربعَ شهادات، فلما أَتَوْا إليه، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية، قالوا: وما أمرها؟ قال: أشهدُ بالله إنها لشر قرية في الأرض عملًا يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا منزلَه، ولم يعلم بذلك أحَدٌ. {وَقَالَ} لوط {هَذَا} اليوم {يَوْمٌ عَصِيبٌ}؛ أي: شديد عليّ، وهو لغة جرهم كما في "ربيع الأبرار"؛ أي: هذا يوم شديد شَرُّه عظيم بلاؤه. ثُم قال لوط لامرأته: ويحك قومِي فاخبِزِي للضيف، ولا تعلِمي أحدًا. وكانت امرأته كَافِرَةً منافِقَةً، فانطلقَتْ لطلب بعض حَاجَتِها، فجَعَلَت لا تدخل على أحد إلا أخبرَتْه، وقالت: إنَّ في بيت لوط رجالًا ما رأيت أحسنَ وُجوهًا منهم، ولا أنظَفَ ثيابًا، ولا أطيبَ رائحةً. فلمَّا علموا بذلك جاؤوا إلى باب لوط، مُسْرِعين، 78 - فذلك قوله تعالى: {وَجَاءَهُ}؛ أي: وجاءَ لوطًا، وهو في بيته مع أضيافه {قَوْمُهُ}، والحال أنهم {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}؛ أي: يُساقون إليه، ويسرعون إليه، ويَسُوقُ بعضهم بعضًا، كأنما يُدْفَعون دفعًا طلبًا للفاحشة من أضيافه، غافلينَ عن حالهم جاهلينَ بمآلهم. والإهراع: الإسراع يقال: أَهْرَعَ القَوْمُ، وهَرَعُوا. وقرأ الجمهور: {يُهْرَعُونَ} مبنيًّا للمفعول مِن أُهْرعَ، أي: يُهْرِعُهم الطَّمعُ وقرأت فرقة: (يهرعون) بفتح الياء من هرع الثلاثي. وجملة قوله: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} حال أيضًا من {قومه}؛ أي: جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا من قبل هذا الوقت، وهو وقت مجيئهم إلى لوط منهمكين في عمل الفواحش واللواطِ، فتمرَّنوا بها؛ أي: تَعَوَّدوا، واستمروا عليها حتى لم تُعَبْ عندهم قباحتها, ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعينَ مجاهرينَ. وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملونَ السيئات. وفي "التأويلات النجمية" كانوا يعملون السيئات الموجبةَ للهلاك والعذابِ فجاؤوا مسرعينَ مستقبلي العذابِ، وطلبوا من بيت النبوة من أهل الطهارة معاملةً ساءتهم بخيانة نفوسهم، ليستحقوا بذلك كمالَ الشقاوة، وسرعةَ العذاب، انتهى.

ودلَّ ما ذكر على أنَّ جِهارَ الفسق فوقَ إخفائِه، ولذا رد شهادة الفاسق المعلن. وفي الحديث: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون"، أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، بل يؤخذون في الدنيا إن كانت مما يتعلَّق بالحدود، وأما في الآخرة فمطلقًا. فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافَهُ لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعًا و {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ} مبتدأ خبره {بَنَاتِي} الصلبية، فتزوجوهن (¬1)، وكانوا يطلبونهن من قبلُ، ولا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لعدم مشروعيته، فإنَّ تزويجَ المسلمات من الكفار كان جائزًا في شريعته، وهكذا كان في أول الإِسلام بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - زوج ابنتيه من أبي العاص بن وائل، وعتبة بن أبي لهب، قبل الوحي، وهما كافران، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}. وقيل: كان لهم سيدان مُطَاعَان، فأراد أن يُزَوّجَهما ابنتيه، وأيّا ما كَانَ فقد أراد به وقاية ضيفه، وذلك غايةٌ في الكرم. {هُنَّ} مبتدأ خبره قوله: {أَطْهَرُ لَكُمْ}؛ أي: أحسن لكم فتزوجوهن، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي. وقد كان له ثلاث بَنَاتٍ. وقيل: اثنتان. وقيل: أراد بقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} النساءُ جملةً, لأنَّ نَبِيَّ القوم أبٌ لهم، كما قال ابن عباس: "ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج" ومراده أن الاستماع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط فإنه يَكْبَحُ جماح الشهوة مع الأمن من الفساد. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: أراد نساءَ قومه، وأضافهن إلى نفسه, لأن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة، والتربيةُ، وهذا القول أولى, لأن إقدامَ الإنسان على عَرْضِ بناته على الأوباش، والفجار مستبعد لا يليق بأهل المروءة، فكيف بالأنبياء وأيضًا فبناته لا تكفي الجمع العظيم، أمَّا بنات أمته، ففيهن كفاية للكل، اهـ "كرخي". والتطهر التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة {أَطْهَرُ} دلالةَ على التفضيل بل هي مثل: "الله أكبر" فلا يدل على أن إتيان الذكور كان طاهرًا كما لا يدل قولك النكاح أطهر من الزنى على كون الزنا طاهرًا؛ لأنه خبث ليس فيه شيء ¬

_ (¬1) روح المعاني.

من الطهارة. لكن هؤلاء القوم اعتقدوا ذلك طهارة، فبنى ذلك على زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل. وهو مثل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه: "الله أجلّ وأعلى" جوابًا لأبي سفيان حيث قال: "أعلُ هُبَل" اعْتَقَد علوَّ صنمه، وذلك اعتقاد فاسد لا شبهةَ فيه. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، أو بإيثارهن عليهم {وَلَا تُخْزُونِ}؛ أي: ولا تذلوني، وتجلبوا عليَّ العارَ {فِي ضَيْفِي}، والضيف يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة, لأنه في الأصل مصدر، ومعنى: {فِي ضَيْفِي}؛ أي: في حقهم وشأنهم، فإن إخزاءَ ضيف الرجل إخزاؤه، كما أن إكرامَ من يتصل به إكرامُهُ. والمعنى (¬1): أي: فاخشوا الله، واحذروا عقابَهُ في إتيانكم الفاحشةَ التي تطلبونها, ولا تذِلوني وتمتهنوني بفضيحتي في ضيفي، فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف، وفضيحة له، والاستفهام في قوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ} للتوبيخ والتقريع أي أليس منكم {رَجُلٌ} واحد {رَشِيدٌ}؛ أي: ذو رشد، وحكمة يَهْتَدِي إلى الحق، وَيرْعَوِي عن القبيح، وينهى من أراد ركوب الفاحشة مِن ضيوفي، ويرد هؤلاء الأوباشَ عنهم ما يريدون، وفي ذلك توبيخٌ عظيم لهم حيث لم يكن منهم رشيد ألبتةَ يرشدهم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعهم منه. وقرأ الجمهور (¬2): {أَطْهَرُ} بالرفع والأحسن في الإعراب أن يكون جملتين كل منهما مبتدأ وخبر، وجوِّز في بناتي أن يكونَ بدلًا، أو عطفَ بيان، وهُنَّ فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسنُ وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: (أطهرَ) بالنصب. وقال سيبويه: هو لَحْنٌ. وقال أبو عمرو بن العلاء: احْتَبَى فيه ابن مروان في لَحْنه، يعني تَرَبَّعَ. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخُرّجت هذه القراءة على أن نصبَ (أطهر) على الحال. فقيل: (هؤلاء) مبتدأ، و (بناتي هن) مبتدأ وخبر في موضع خبر (هؤلاء) وروي هذا عن المبرد. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[79]

79 - {قَالُوا}؛ أي: قال قوم لوط مجيبينَ عليه معرضينَ عمَّا نَصَحَهم به، وأرشدهم إليه، والله {لَقَدْ عَلِمْتَ} يا لوط من قبل {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}؛ أي: علمت (¬1) من قبل أنه ليس لنا في بناتك من حق؛ أي: من رغبة في تزوجهن، فَتَصْرَفنا بعرضهن علينا عما نريده، وقد يكون المعنى: لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتي تسميهن بناتكَ من حق الاستمتاع، وما نحن عليه معهن، فلا ينبغي عَرْضُك إياهن علينا لتصرفنا عَمَّا نريده؛ أي: ما لنا فيهن من شهوة ولا حاجة، لأنَّ من احتاج إلى شيء، فكأنه حصل له فيه نوعٌ حق، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم، أنه قد عَلِمَ منهم المكالَبَة على إتيان الذكور، وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حَاجةَ لهم إلى النساء، ويُمكِن أن يريدوا أنه لا حَقَّ لنا في نكاحهن؛ لأنه لا ينكحهن، ولا يتزوج بهن إلا مؤمن، ونحن لا نؤمن أبدًا. ومقصودُهم أنَّ نكاح الإناث ليس من عادتنا ومذهبِنا, ولذا قالوا: (علمْتَ) فإنَّ لوطًا كان يعلم ذلك، ولا يعلم عدمَ رغبتهم في بناته بخصوصهن، ويؤيده قوله: {وَإِنَّكَ} يا لوط {لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}؛ أي: لتعرف حقَّ المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذُّكران، وإننا لا نؤثر عليه شيئًا. والخلاصة: أنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون، وهو في الحقيقة طلب ما أعد الله لهم في الأزل من قهره، يعني الهلاكَ بالعذاب. 80 - ولما يئس من ارعوائهم عَمَّا هم عليه من الغيِّ {قَالَ} لوط لقومه: حينَ أَبَوا إلا المُضِيَّ لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم. {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}؛ أي: لو ثَبَتَ كون قوة لي بكم، وقدرة عليكم، ومنعة منكم بأنصار ينصروني، وأعوان يعينوني عليكم {أو} أنني {آوِي}، وأنضمُّ {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}؛ أي: عشيرة قويَّة؛ أي: أوَ ثبَتَ لي كون عشيرة قوية تجيرني منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم له، تريدونه مني في أضيافي، ولدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم. وجواب لو محذوف كما قدرنا، والأنسب بمثل هذا المقام أن تكون (لو) للتمني. فكأنه قال: لو قَوِيَتْ على دَفْعكم، ومقاومتكم بنفسي، أو ¬

_ (¬1) المراغي.

التجأت إلى ناصرٍ عزيز قويٍّ أَسْتَنِد إليه، وأتَمَنَّعُ به، فيحميني منكم. شبَّه بِرُكْن الجبل في الشدة والمَنعة. والرُّكْنُ بسكون الكاف، وضمِّها في الأصل: الناحية من الجبل، وغيره، ومرادُه بالركن الشديد العشيرةُ، والأقاربُ، وما يمتنعُ به عنهم هو ومَنْ معه. وقيل: أراد بالقوة الولد، وبالركن الشديد من ينصره من غير ولده. وقيل: أراد بالقوة قوته في نفسه. وكان لوط رجلًا غريبًا فيهم ليس له عشيرة وقبيلة يلتجيء إليهم في الأمور الملمة والغريب لا يعينه أحد غالبًا في أكثر البلدان، خُصُوصًا في هذا الزمان, لأنه كَانَ أوّلًا بالعراق مع إبراهيم، فلمَّا هاجر إلى الشام، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، وهي قرية عند حِمْصَ. وفي "الخطيب" في سورة الشعراء: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ}؛ أي: في البلد لا في الدين، ولا في النسب, لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل، وقومُ لوط - أهلَ سدوم - من أرض الشام، وكأنه عبر بالأخوّة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدةً، وسنينَ عديدةً، وإتيانه بالأولاد من نسائهم. قال أبو هريرة: ما بعث الله نبيًّا بعده إلا في مَنَعةٍ من عشيرته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لَبِثَ يوسف ثم أتاني الداعي لأجبتُه". متفق عليه. قال النواوي رحمه الله: المرادُ بالركن الشديد، هو الله عز وجل، فإنه أشد الأركان، وأقواها وأمنعها. ومعنى الحديث: أنَّ لوطًا عليه السلام لما خَاف على أضيافه، ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمينَ ضاق ذَرْعُه، واشتدَّ حزنه عليهم، فغَلَب ذلك عليه، فقال في تلك الحال: لو أنَّ لي بكم قوة في الدفع بنفسي، أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم، وقَصَدَ لوط إظهارَ العذرِ عند أضيافه، وأنه لو استطاع .. لَدَفع المكروهَ عنهم. وقرأ شيبة، وأبو جعفر (¬1): (أو آوِيَ) بنصب الياءِ بإضمار أنْ بعد أو، فتقدر بالمصدر عطفًا على قوله: {قوة} والتقدير: لو أنَّ لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[81]

قال ابن عباس وأهل التفسير (¬1): أغلَق لوط بابَه، والملائكة معه في الدار، وجَعَلَ يناظر قَوْمَه ويناشدهم من وراء الباب، وقومه يعالجون سُوَر الدار، 81 - فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم من الكرب {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة للوط بعد أَنْ رأوا شديدَ الكرب الذي لحقه بسببهم، وتمنِّيهِ أن يَجِدَ قُوَّةً تدفعهم عن أضيافه {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} أرسلنا لإهلاكهم، وتنجيتك من شَرِّهم {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} وإلى من معك بضرر، ولا مكروه، ولن يخزوك فينا، وإنَّ ركنَك شديد، فهَوِّن عليك الأمر، وافتح الباب، ودَعْنا وإياهم. ففتح البابَ فدخلوا، فاستأذن جبريل ربَّه تعالى في عقوبتهم، فأَذِنَ له فتحول إلى صورته التي يكون فيها، ونشر جَنَاحَيْه وعليه وشاح من در منظوم، وهو براق الثَّنَايا أجلى الجبين، ورَأْسُه حبك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضًا، وقدَماه إلى الحضرة، فضَرَبَ بجناحيه وجوههم، فطَمَسَ أعيُنَهم، وأعماهم فَصاروا لا يعرفون الطريقَ، ولا يهتدون إلى بيوتهم، وانصرفوا، وهم يقولون: النجاءَ، النَّجاءَ في بيتِ لوط أسْحَرُ قوم في الأرض، قد سَحَرونا، وجَعَلُوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبحَ، وسترى ما تلقى مِنَّا غدًا، يوعدونه بذلك، ولكنه من الإسرائيليات لا أصلَ لها. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}؛ أي: فاخْرُج من هذه القرى أنت مع أهلك، يعني: بنتيه ريْثا وزَعُورا {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: في طائفةٍ وبقيةٍ من الليلِ تكفي لتجاوز حدودها؛ أي: أُخرُجوا ليلًا لتستبقوا نُزولَ العذاب الذي موعده الصبح. وجاء في سورة الذاريات: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)}. وفي "القرطبي": فخرج لوط، وطَوَى الله له الأرض في وَقْتِهِ حتى نجا ووَصلَ إلى إبراهيمَ، اهـ. وقرأ (¬2) الحرميان نافع، وابن كثير: {فاسر بأهلك} هنا، وفي الحجر، وفي الدخان: {فاسر بعبادي}. وقوله: (أن اسر} في طه والشعراء قرأ جميع ذلك بهمزة الوصل تَسْقُط درجًا، وتثبت مكسورة ابتداءً. وقرأ الباقون: {فأَسْر} بهمزة القطع، تثبت مفتوحةً دَرَجًا وابتداءً. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

والقراءتان مأخوذتان من معنى هذا الفعل، فإنه يقال: سَرَى. ومنه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} وأسرى. ومنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}. وهل هما بمعنى واحد؛ أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور. فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قول أبي عبيد. وقيل: بل (أسرى) لأول الليل، وسَرَى لآخره، وهو قول الليث. وأمَّا سار فمختص بالنهار، وليس مقلوبًا مِنْ سرى، اهـ "سمين". {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}؛ أي: لا تلتفت أنت، ولا تترك إحدى بِنْتَيْكَ، تلتفت؛ لئلا يَرَى عظيمَ ما يَنْزِلُ بهم فيحصل له كرب ربما لا يطيقه. وفي "المراح": وإنما نُهوا عن الالتفات (¬1) ليسرعوا في السير، فإنَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وَقْفَةٍ. وقوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} قرأه ابن كثير، وأبو عمرو بالرفع؛ أي: لا يتأخر منكم أحدُ إلا امرأتك واعلة المنافقةُ. وعلى هذه القراءة يقتضي كونَ لوطٍ مأمورًا بالإسراء بها، وقرأ الباقون بالنصب، والمعنى: ولا ينظر أحد إلى وراءه منك، ومن أهلك إلا امرأتك. وهذه القراءة تقتضي كونَ لوط غير مأمور بالإسراء بها. أي (¬2): ولا ينظر أحدٌ إلى ما وراءه ليجدوا في السَّيْرِ، أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب، فيرقوا لهم. وجاء في سورة الحجر: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}، {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فقد كان ضَلَعُها مع القوم، وكانت كافرةً خائِنةً. {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ الشأن {مُصِيبُهَا}؛ أي: امرأتك {مَا أَصَابَهُمْ} من العذاب؛ أي: إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم، ومقضي عليها بذلك فهو واقع لا بُدَّ منه. يعني (¬3): وَقَعَتْ أهل بيتِ نُبُوَّتِه في الضلالة فهَلَكَتْ، فإنها مع تشرفها بالإضافة إلى بيت النبوة لِمَّا اتَّصَلَتْ بأهل الضلالة صارت ضالَّةً، وأدَّى ضلالها، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[82]

وكفرها إلى الهلاك معهم. ففيه تنبيه إلى أنَّ لصحبة الأغيار ضررًا عظيمًا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {إلا امرأتُك} بالرفع، وباقي السبعة بالنصب. فوجه النصب على أنه استثناء من قوله: {بِأَهْلِكَ} إذ قبله أمر، والأمر عندهم كالواجب، ويتعيَّن النصبُ على الاستثناء من أهلكَ في قراءة عبد الله إذ سقط في قراءته وفي مصحفه: {ولا يلتفت منكم أحد} ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل. ثم علَّل الإسراءَ ببقية من الليل، فقال {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ}؛ أي: موعدَ عذابهم {الصُّبْحُ} ابتداءً من طلوع الفجر إلى الشروق، كما جاء في سورة الحجر: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)}. وقرأ عيسى بن عمر: {الصبُحُ} بضم الباء. قيل: وهي لغةٌ فلا يكون ذلك اتباعًا، وإنما جعل الصبح ميقاتًا لهلاكهم؛ لأن النفوسَ فيه أودع، والراحةُ فيه أَجْمَعُ فيكون حُلولُ العذاب حينئذ أفْظَعَ؛ ولأنه أنسبُ بكونِ ذلك عبرةً للناظرين. رُوي أنَّ لوطًا قال للملائكة متى موعدهم؟ قالوا: الصبحُ، فقال: أُريد أسرعَ من ذلك، فقالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؛ أي: أليس موعد الصبح بموعد قريبٍ؟ لم يَبْقَ له إلا ليلة واحدةُ فَانْجُ فيها بأهلك. والاستفهامُ فيه تقريري. وفيه إشارة إلى أنَّ صبحَ يومِ الوفاة، قريبٌ لكل أحد، فإذا أدركَه فكأنَّه لم يَلْبَثْ في الدنيا إلا ساعةً من نهار. وفي "المراغي": وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونونَ مجتمعينَ في مساكِنهم، فلا يفلت منهم أحدٌ، اهـ. 82 - {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}؛ أي: وقت أمرنا بالعذاب، وقضائنا فيهم بالهلاك، وهو الصبح {جَعَلْنَا} بقدرتنا الكاملة {عَالِيَهَا}؛ أي: عاليَ قرى قوم لوط، وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات، وهي أربعُ مدائنَ فيها أربع مئة ألف، وأربعة آلاف، وهي سدوم، وعامورا، وكَادُوما، ومذاويم. كانت على مسيرة ثلاثةِ أيام من بيت المقدس {سَافِلَهَا}؛ أي: قلبناها على تلك الهيئات؛ أي: قَلَبْنَا قُراهم كُلَّها، وخَسَفْنا بها الأرض. روي أنَّ جبريلَ جعل جَنَاحَه في أسْفَلِها فاقتلعها من الماء الأسود، ثمَّ رَفَعَها إلى السماء حتى سمِعَ أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الدِّيكة لم يكفأ إناء، ولم يَنتَبِه نائم، ثم قلبها عليهم، فأقبلت تَهْوي من السماء

[83]

إلى الأرض، ولكنَّه من الإسرائيليات التي لا مستندَ لها. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا}؛ أي: على أهل المدائن من فوقهم، قبل القلب، أو في أثنائه {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}؛ أي: من طين متحجِّرٍ كما جاء في سورة الذاريات: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)}. ومثل هذا المطر يَحْدث بإرسال الله تعالى ريحًا شديدةً تحمل بعضَ الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله تعالى، وكان حقَّ العبارة، وجعلوا عاليِا، وأمطروا؛ أي: الملائكة المأمورونَ بذلك، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبِّبُ تعظيمًا للأمر، وتهويلًا للخطب؛ أي: وأمطرنا على أهل تلك القرى الخارجين عنها في الأسفار وغيرها، حجارةً من سجيل. {مَنْضُودٍ}؛ أي: متتابع بعضه بعضًا في الإرسال، والنزول كقطار الأمطار، والنَّضَد: وضع الشيء بعضِه على بعضٍ، وهو نعتٌ لسجيل. 83 - {مُسَوَّمَةً} نعت حجارة؛ أي: معلمة تلك الحجارة لا تُشْبِهُ حجارة الدنيا، أو باسم صاحبها الذي تصيبه وَيُرْمى بها {عِنْدَ رَبِّكَ} يا محمَّد؛ أي: كائنة في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا الله. والمعنى: جاءت من عند ربك. وفي ذلك دليل على أنها ليسَتْ من حجارة الأرض، قاله الحسن، اهـ "قرطبي". وفي إمطار الحجارة قولانَ. أحدهما: أنها أمطرَتْ على المدن حينَ رفعها جبريل، أو بعد القلب. والثاني: أنها أمطرت على مَنْ لَمْ يكن في المُدُن من أهلها، وكان خارجًا عنها. رَوي أنَّ الحجر اتبع شذاذهم أينما كانوا في البلاد، ودخل رجل منهم الحرمَ، وكان الحجر معلقًا في السماء أربعين يومًا حتى خَرَج فأصابه فأهلكه. ولعل الإمطارَ على تلك القرى بعد القلب إنما هو لتكميل العقوبة، كالرجفة الواقعة بعد الصيحة لقوم صالح، ولتحصيل الهلاك لمسافريهم الخارجين من بلادهم لمصالحهم، وهو الظاهر، والله أعلم. والسجيل: الطين المتحجر بطبخ أو غيره. وقيل: هو الشديدُ الصلب من الحجارة. وقيل: السجيل: الكثير. وقيل غير ذلك. وهذا السجيل قد نضدَ، وتراكب بعضه في إثر بعضٍ بحيث يقع طائفة بعد طائفة، وقد وضع على تلك الأحجار سومة، أي: علامة خاصة في علم ربك، بحيث لا تصيب غير أهلها. وقد يكون المعنى: أنه سخَّرها عليهم،

[84]

وحكمها في إهلاكهم بحيث لا يمنعها شيء، من قولهم سَوَّمْتُ فلانًا في الأمر، إذا حكمته فيه، وخَلَّيْتَه وما يُريد لا تثني له يد في تصرفه. ويَرى بَعْضُ المفسرينَ أنَّ التسْوِيم كانَ حِسيًّا بخطوط في ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها، أو بأسماء أهلها، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان، ونص من خاتم الرسل، وأَنَّى هو. {وَمَا هِيَ}؛ أي: وما هذه القرى التي حَلَّ بها العذابُ {مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: منكم أيها المشركون من أهل مكة، الظالمون لأنفسهم بتكذيبك، والمماراة فيما تُنذرهم به {بِبَعِيدٍ}؛ أي: بمكان بعيد عنكم، بل هي قريبة منكم على طريقكم في رحلة الصيف إلى الشام، كما قال في سورة الصافات: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}؛ أي: وإنكم لتمرون على آثارهم، ومنازلهم في أسفاركم وَقْتَ النهار، وبالليل أفلا تعتبرون بما حَلَّ بهم. وفي هذه عبرة للظالمين في كل زمان، وإن اختلفَ العذابُ باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرةً وقلةً، ومقدار أثره في الأمة من إفسادٍ عامٍّ أو خاصٍّ. وقيل المعنى: {وَمَا هِيَ}؛ أي: وما هذه الحجارة الموصوفة من كل ظالم ببعيد، فإنهم بسبب ظلمهم مستحقونَ لها؛ أي: فإن الظالمينَ حقيق بأن تمطر عليهم، ومنهم كفار قريش، ومن عاضَدَهم على الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أو من الظالمينَ من قوم لوط، وتذكيرُ البعيد على تأويل الحجارة بالحجر، أو إجراء له على موصوف مذكر؛ أي: شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدرًا كالزفير، والصهيل، والمصادرُ يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. 84 - وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ} معطوف كسابقه على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} وهو اسم ابن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثمَّ صَارَ اسمًا للقبيلة، أو اسْمُ مدينة بناها مَدْيَنَ، فسُمِّيت باسمه؛ أي: وأرسلنا إلى قبيلة مَدْيَنَ أو ساكني بلدةِ مدين {أَخَاهُمْ}؛ أي: واحدًا منهم في النسب {شُعَيْبًا} عطف بيان له، وهو ابن مكيلِ بن يشجر بن مدين {قَالَ} استئناف بيانيٌّ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: فلمَّا أتاهم قال: يا قوم اعبدوا الله،

وحده، ولا تشركوا به شيئًا من الأصنام فـ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: لأنه ليس لكم إله سوى اللَّه تعالى، وقد جرَتْ سنة الأنبياءِ أن يَبْدؤوا بالدعوةِ إلى التوحيد؛ لأنه جِذْرُ شجرة الإيمان. ثمَّ يَتْبِعُونَه بالأهمِّ فالأهمِّ فيما يرون لدى أقوامهم، ومن ثم ثنى بالنهي عن نقص الكيل والميزان؛ لأنَّ أهْلَ مَدْينَ اعتادوا ذلك فقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}؛ أي: آلة (¬1) الوزن والكيل، وكان لهم مكيالان، وميزانان: أحدُهما أكبَرُ من الآخر، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون بالأكبر، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخْسِرونَ بالأصغر، والمراد لا تنقصوا حَجْمَ المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس. ويجوز أن يكونَ من ذكر المحل، وإرادة الحال، فإذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائدٍ، وكذلك إذا وصل إليهم الموزونُ، أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا .. باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص، وكل من البَخْسَين شائع في هذا الزمان أيضًا كأنه ميراث من الكفرة الخائنين. وجملة قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي؛ أي (¬2): لا تنقصوا المكيالَ، والميزان لأني أراكم بخير؛ أي: متلبسين بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن التطفيف، فلا تغيروا نعمةَ الله عليكم بمعصيته، والإضرار بعباده. ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها مما تنقصون لهم من المبيع في مكيل أو موزون، وكانوا تُجَّارًا مطففينَ إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصونَ المكيالَ والميزان. أَلاَ إنَّ في هذا كفرانًا لنعمة الله عليكم، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان. ثمَّ ذكَرَ بعد هذه العلة، علَّةً أُخرى، فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ} وأخشى {عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}؛ أي: يومًا يُحيط بكم عذابه، لا يشُذ منه أحدٌ منكم، إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا العذاب إما في الدنيا بعذاب الاستئصال، وإمَّا في يوم ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) الشوكاني.

[85]

القيامة، ففي هذه العلة تذكير لهم بعذاب الآخرة، كما أنَّ العلة الأُولى فيها تذكير لهم بنعيم الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، والمراد العذاب: لأنَّ العذابَ واقعٌ في اليوم ففيه إسناد مجازيٌّ. ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يُشُذُّ منهم أحد عنه، ولا يجدون منه مَلجأً ولا مهربًا. واليومُ هو يوم القيامة. وقيل: هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة. وأصل (¬1) العذاب في كلام العرب من العذب، وهو: المَنْعُ، وسمِّي الماء عذبًا؛ لأنه يمنع العطشَ. والعذابُ عذابًا؛ لأنه يمنع المعاقب عن معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره عن مثل فعله. 85 - ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا} وأتموا {الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل بلا زيادة، ولا نقصان. ومعنى (¬2): إيفاء الحق إعطاؤُه تامًّا كاملًا؛ أي اسْعوا في إعطاء الحق على وَجه التمام والكمال، بحيث يحصل لكم اليقينُ بالخروج عن العهدة وقوله: {بِالْقِسْطِ} حال من فاعل {أَوْفُوا} أي متلبسين بالعدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإنَّ الزيادةَ في الكيل والوزن وإن كانت تفضلًا مندوبًا إليه، لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيال، والناقص للاستعمال وقتَ الكيل، كذا في "الإرشاد". وصرَّح بالإيفاء بعد النهي عن ضده؛ لأن النهيَ عن نقص حَجْم المكيال، وصنجات الميزان, والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال، والميزان للمعهود، فلا تكرار في الآية كما في "حواشي سعدي المفتي". ثمَّ زاد ذلك تأكيدًا، فقال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ}؛ أي: ولا تنقصوا النَّاسَ {أَشْيَاءَهُمْ}؛ أي: حُقُوقَهم مطلقًا، ولا تأخذوها منهم ظلمًا؛ أي: سواء كانت من الموزونات أو المكيلات، أو المذروعات، أو المحدودات بحدود حسية، وسواء كانت من حقوق ماديَّة أو معنوية، وسواءٌ كانت للأفراد، أو الجماعات، وسواءٌ كانت جليلةً أو حقيرةً. وفي هذا النهي عن البخس على العموم والأشياء أعمُّ مما يكال أو يوزن، ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) روح المعاني.

[86]

فيَدْخُل فيه البَخْسُ بتطفيف الكيل والوزن دخولًا أوَّليًّا، وكانوا يأخذونَ من كلِّ شيء يباعُ شيئًا كما يفعل السماسرة، ويمكنون الناس وينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياءِ، وقيل: البخس المكس خاصة. ثم قال: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} العثي: أشدُّ الفساد؛ أي: ولا تفسدوا في الأرض؛ أي: ولا تفعلوا في الأرض ما ظاهِرُهُ الإِفْسَادُ حالةَ كونكم مفسدين؛ أي: قاصدينَ به الإفسادَ لا الإصلاحَ. الإفساد: تعطيل يشمل مصالحَ الدنيا، وأمور الدين، وأخلاقَ النفس وصفاتها، وكلُّ ذلك فاش في عَصْرِنا، ومن الفساد: نقص الحُقُوق في المكيال والميزان. ومن الإفساد: قَصُّ الدراهم والدنانير، وترويج الزيوف ببعض الأسباب، وغير ذلك؛ أي: لا تفسِدوا في الأرض، وأنتم تتعمدون الإفسادَ، وإنما اشترط في النهي تعمد الإفسادِ؛ ليخرج بعضُ ما هو إفسادٌ في الظاهر، ويرادُ به الإصلاحُ، أو فعلُ أخفِّ الضرَرَين لدفع أثقلهما كما وقع من الخضر في السفينة، التي كانت لمساكين يعملون في البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءَهم من أخذها إذا أعجبته، وكما يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فَتحِ سُدَدِ الأنهار، أو إحراق بعض الغابات، أو قتل دواب أهل الحرب. 86 - وهذا نَهْيٌ عام يشمل غير ما سَبَقَ كقطع الطرق، وتهديد الأمن وقطع الشجر، وقَتَل الحيوان، ونحو ذلك {بَقِيَّتُ اللَّهِ}؛ أي: ما أبقاه الله تعالى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان, وترك الحرام من الربح الحلال فهي فعيلة بمعنى المفعول، وإضافتها للتشريف كما في بيت الله، وناقة الله، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال يستحق التشريفَ {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: أكْثَرُ لكم بركةً، وأحمدُ عاقبةً مما تأخذونه بالتطفيف، وتجمعونه بالبخس من الحرام، فإن ذَلِكَ هبَاءٌ منثور، بل شر محض، وإن زعمتم أنَّ فيه خَيْرًا كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. قال في "شرح الشرعة": ولا يَخون أحد في مبايعته بالحِيَل والتلبيس، فإنَّ الرزق لا يزيد بذلك، بل تزول بركته فمَنْ جمع المال بالحِيل حَبَّةً حَبَّةً يهلكه الله جملة قبة قبة، ويبقَى عليه وزره ذرة ذرة، كرجل

كان يخلط اللبنَ بالماء ليُرَى كثيرًا، فجاء السيل، وقَتَلَ بقَرَهُ، فقالَت صِبيته: يا أبت قد اجتمعت المياه الَّتي خلطتها في اللبن، وقتلتْ البقرَ. وقرأ (¬1) إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة: {بَقِيَّةٍ} بتخفيفِ الياء. قال ابن عطية: هي لغةٌ، انتهى. وذلك أنَّ قِياسَ فَعِلَ اللازم أن يكون على وزن فعِلٍ نحو: سَجِيَتِ المرأة فهي سَجِيَة، فإذا شدَّدت الياءَ .. كان على وزن فعيل للمبالغة. وقرأ الحسن: {تَقِيَّة} بالتاء، وهي تقواه، ومراقبته الصارفة عن المعاصي فقوله: {بقيت الله} يُرْسَم بالتاء المجرورة، وإذا وقفت عليه اضطرارًا يصح الوقف بالمجرورة، والمربوطة، وليس في القرآن غيرها، اهـ "فتوحات"؛ أي: المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق التطفيف {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين لي في مقالتي لكم، أو إن كنتم مؤمنين به تعالى حقَّ الإيمان, فالإيمان يطهِّر النفسَ من رَذيلةِ الطمع، ويحلِّيها بفضيلة السَّخاءِ والكرم، وإنما شرط (¬2) الإيمان في خيريَّة ما بقي بعد الإيفاءِ, لأنَّ فَائِدَتَهُ وهي حصول الثوابِ، والنجاةُ من العقاب إنما تَظْهَرُ مع الإيمان, فإنَّ الكَافِرَ مخلد في عذاب النيران، ومحروم مِن رضوانِ الله تعالى، وثواب الرحمنِ، سواء أوفى الكيلَ والميزانَ أو سلَكَ سبيل الخوان. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}؛ أي: برقيب (¬3) أرقبُكم عند كيلكم، ووَزْنِكم؛ أي: لا يُمْكِنُني شهودُ كُلَّ معاملة تصدرُ منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق، وقيل: أي: لا يتهيَّأ لي أن أَحْفَظَكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم، اهـ "قرطبي". وقيل (¬4): أي: وما أنا بالذي أستطيع أن أحْفَظَكم من القبائِح، وإنَّما أنا ناصحٌ مبلِّغ، وقد أعْذَرَتُ إذ أنْذَرْتُ، ولم آل جهدًا في ذلك. فائدة: واعلم (¬5) أنَّ العدلَ ميزان الله في الأرض، سواء كان في الأحكام، أو في المعاملات، والعدول عنه يؤدِّي إلى مؤاخذة العباد، فينبغي أن يتجنَّب الظلم، والمرادُ بالظلم أن يتضرَّرَ به الغير، والعدل أن لا يتضرَّرَ منه أحدٌ بشيء ما. قال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح المعاني. (¬3) قرطبي. (¬4) المراغي. (¬5) روح البيان.

عكرمة: أشهدُ أنَّ كُلَّ كيَّالَ، ووزان في النار. قيل له: فَمَنْ أوفى الكيلَ والميزانَ؟ قال: ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال، وَيزِن كما يَتَّزِنُ، والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}. وقال سعيد بن المسيب: إذا أتيت أرضًا يوفون المكيالَ والميزانَ .. فأطل المقامَ فيها، وإذا أتيتَ أرضًا ينقصون المكيالَ والميزانَ .. فأقِلَّ المقامَ فيها. وفي الحديث: "ما ظهر الغُلولُ في قوم، إلا أَلْقَى اللَّهُ في قلوبِهِم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم، إلا كثر فيهم الموت، ولا نَقَصَ في قوم المكيالُ والميزان إلا قَطَعَ الله عنهم الرزقَ، ولا حَكَم قومٌ بغير حق إلا فشا فيهم الدَّمُ، ولا خَتَرَ قومٌ بالعهد إلَّا سَلَّطَ الله عليهم العدو". قوله: ولا ختر؛ أي: غَدَر، ونقض العهد، كما في "الترغيب". الإعراب {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}. {وَلَقَدْ} (الواو) استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. (قد) حرف تحقيق. {جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب. {بِالْبُشْرَى} جار ومجرور حال من {أَرْسَلْنَا}؛ أي: حالةَ كونهم متلبسينَ بالبشرى. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {سَلَامًا} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: نسلم عليك سلامًا، أو: سلمنا عليك سلامًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ سَلَامٌ} {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {سَلَامٌ} مبتدأ خبره محذوف تقديره عليكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمري؛ أو قولي: {سلام} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَمَا} (الفاء) حرف عطف وتعقيب. (ما) نافية. {لَبِثَ} فعل ماض. {أن} حرف نصب ومصدر. {جَاءَ} فعل ماض في محل النصب بـ (أن) وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {بِعِجْلٍ} جار ومجرور حال من فاعل {جَاءَ}. {حَنِيذٍ} صفة لعجل، وجملة {جَاءَ} صلة (أن) المصدرية، (أَن) مع صلتها في تأويل

مصدر مرفوع على الفاعلية، تقديره: فما تأخَّر مجيؤه بعجل حنيذ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ}. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب ضَرَبْنا عنها صَفْحًا خَوفَ الإِطالة. {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)}. {فَلَمَّا} (الفاء) عاطفة. (لما) حرف شرط. {رَأَى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {أَيْدِيَهُمْ} مفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة فعل شرط لـ (لما). {لَا} نافية. {تَصِلُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الأيدي. {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الأيدي. {نَكِرَهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية جواب (لمَّا)، وجملة (لمَّا) معطوفة على محذوف تقديره: فقرَّبه إليهم، فقال: ألا تأكلون، فلمَّا رأى أيديهم إلخ، كما سيأتي التصريح بهذا المقدر في الذاريات. {وَأَوْجَسَ} فعل ماض معطوف على {نَكِرَهُمْ} وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {مِنْهُمْ} متعلق بـ {خِيفَةً}. {خِيفَةً} مفعول {أَوجس}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَا} ناهية. {تَخَفْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {إبراهيم}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا} ناصب واسمه. {أُرْسِلْنَا} فعل ونائب فاعل. {إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) وجملة (إن) مسوقة لتعليل النهي قبلها على كونها مقولَ القول. {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}. {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا لَا تَخَفْ}؛ أي: {قَالُوا} ذلك في حال قيام امرأته. {فَضَحِكَتْ} (الفاء) عاطفة. {ضحكت} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأته، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَوْجَسَ}. {فَبَشَّرْنَاهَا} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على {ضحكت}. {بِإِسْحَاقَ} متعلق به. {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} جار ومجرور،

ومضاف إليه متعلق بمحذوف تقديره: ووهبناها من وراء إسحاق. {يَعْقُوبَ} مفعول ثان لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {بشرناها} ويجوز أن يكون {من وراء إسحاق} خبرًا مقدمًا، و {يعقوب} بالرفع مبتدأ مؤخرًا، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {إسحاق}. {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}. {قَالَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {امرأته} والجملة مستأنفة. {يَا وَيْلَتَى} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (يا) حرف نداء. {ويلتا} منادى منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن ما قبل الياءِ لا يكون إلا مكسورًا، {ويلة} مضاف. وياء المتكلم المنقلبة ألفًا في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. وقد بيَّنَّا إعراب هذه الكلمة في ضمن نظائرها كـ (يا) (حسرتا) مع مسائلَ نفيسةٍ فيها في رسالتنا "هَدِية أولى الإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها، وهي مطبوعة منتشرة. {أَأَلِدُ} (الهمزة) للاستفهام الإنكاري. {ألد} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على سارة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جَوَاب النداء. {وَأَنَا عَجُوزٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {ألد}. {وَهَذَا بَعْلِي} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها حالًا من فاعل {ألد}. {شَيْخًا} بالنصب حال من بعلي، والعامل فيه اسم الإشارة، لما فيه من معنى الفعل، وبالرفع بدل من بعلي أو عطفُ بيان له. {إِنَّ هَذَا} ناصب واسمه. {لَشَيْءٌ} خبره، واللام للابتداء. {عَجِيبٌ} صفة له، وجملة: إنَّ في محل النصب مقول (قال) على كونها مستأنفة. {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَتَعْجَبِينَ} إلى آخر الآية مقول

محكي، وإن شئت قلت: (الهمزة) للاستفهام الإنكاري. {تعجبين} فعل مضارع مرفوع بالنون، و (الياء) فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. {رَحْمَتُ اللَّهِ} مبتدأ. {وَبَرَكَاتُهُ} معطوف عليه. {عَلَيْكُمْ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَهْلَ الْبَيْتِ} منادى مضاف، حذف منه حرف النداءِ، أو منصوب على الاختصاص، وجملة النداء، أو الاختصاص في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {حَمِيدٌ} خبر أول له. {مَجِيدٌ} خبر ثان، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول قال. {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}. {فَلَمَّا} (الفاء) استئنافية. (لما) حرف شرط. {ذَهَبَ} فعل ماض. {عَنْ إِبْرَاهِيمَ} متعلق به. {الرَّوْعُ} فاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمَّا). {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} فعل ومفعول وفاعل معطوف على {ذَهَبَ}. {يُجَادِلُنَا} فعل ومفعول. {فِي قَوْمِ لُوطٍ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة جواب (لما) لأنه بمعنى جَادَلَنا عَبَّرَ عنه بالمضارع حكايةً للحال الماضية. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} ناصب واسمه. {لَحَلِيمٌ} خبر أول له. {أَوَّاه} خبر ثان. {مُنِيبٌ} خبر ثالث، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}. {يَا إِبْرَاهِيمُ} إلى آخر الآية مقول محكي لقول محذوف، تقديره: قالوا: يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال إلخ. وإن شئت قلت: {يَا إِبْرَاهِيمُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. {أَعْرِضْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}. {عَنْ هَذَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لذلك القول، على كونها جوابَ النداء. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما

قبلها على كونها مقولَ القول. {وَإِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {آتِيهِمْ} خبر (إنَّ) ومضاف إليه. {عَذَابٌ} فاعل {آتي}. {غَيْرُ مَرْدُودٍ} صفة عذاب، وجملة إن معطوفة على جملة (إن) الأولى على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}. {وَلَمَّا} (الواو) استئنافية. {لما} حرف شرط. {جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} فعل وفاعل ومفعول والجملة فعل شرط لـ (لما). {سِيءَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (لوط). {بِهِم} متعلق به، والجملة جواب لمَّا، وجملة (لما) مستأنفة. {وَضَاقَ} فعل ماض معطوف على {سِيءَ}، وفاعله ضمير يعود على {لوط}. {بِهِم} متعلق به. {ذَرْعًا} تمييز محول عن الفاعل. {وَقَالَ} معطوف على {سِيءَ} وفاعله ضمير يعود على {لوط}. {هَذَا يَوْمٌ} مبتدأ وخبر. {عَصِيبٌ} صفة {يَوْمٌ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}. {وَجَاءَهُ} فعل ومفعول. {قَوْمُهُ} فاعل والجملة مستأنفة. {يُهْرَعُونَ} فعل ونائب فاعل. {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {قَوْمُهُ}. {وَمِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلق بـ {يَعْمَلُونَ}. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) في محل النصب على الحال معطوفة على جملة {يُهْرَعُونَ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. {يَا قَوْمِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {هُنَّ أَطْهَرُ} مبتدأ وخبر. {لَكُمْ} متعلق بـ {أَطْهَرُ} والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدرٍ، تقديره: إذا عرفتموهن أطهر وأردتُم بيانَ ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم. {اتقوا اللَّه}

فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَا} (الواو) عاطفة. (لا) ناهية جازمة. {تُخْزُونِ} فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذفُ النون، و (النونُ) للوقاية و (ياء) المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، {فِي ضَيْفِي} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. {أَلَيْسَ} (الهمزة) للاستفهام التوبيخي. {ليس} فعل ماض ناقص. {مِنْكُمْ} خبر {ليس} مقدم. {رَجُلٌ} اسمها مؤخر. {رَشِيدٌ} صفة لـ {رجل}، وجملة {ليس} في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَقَدْ عَلِمْتَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (اللام) موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {علمت} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جوابُ القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَا} نافية. {لَنَا} جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ، أو لـ (ما) الحجازية. {فِي بَنَاتِكَ} متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {مِنْ حَقٍّ} مبتدأ مؤخر، أو اسم (ما) الحجازية و (من) زائدة، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي {علم}. {وَإِنَّكَ} ناصب واسمه. {لَتَعْلَمُ} اللام حرف ابتداء، {تعلم} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {لوط}. {مَا} موصولة أو موصوفة، أو مصدرية، أو استفهامية معلقة ما قبلها في محل النصب مفعول (تعلم) , لأنه بمعنى عرف. {نُرِيدُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم لوط، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما نريده، أو لتعرف إرادتنا، وجملة {تعلم} في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب معطوفة على جملة القسم، على كونها مقول {قَالُوا}. {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. {لَوْ أَنَّ لِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف تمن أو شرط.

{أَنَّ} حرف نصب. {لِي} خبر مقدم, لأن {بِكُمْ} متعلق بمحذوف حال من {قُوَّةً} لأنه صفة نكرة قُدِّمت عليها. {قُوَّةً} اسم (أن) مؤخر، وجملة (أن) في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون قوة بكم لي .. لبطشت بكم أو أتمنى ثبوتَ قوة بكم لي، وجملة {لو} في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوْ} حرف عطف. {آوِي} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على لوط. {إِلَى رُكْنٍ} متعلق به. {شَدِيدٍ} صفة {رُكْنٍ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر, لأن المحذوفة، تقديره: أو أني مؤوٍ إلى ركن شديد، وجملة أن المقدرة في محل الرفع معطوفة على جملة (أن) الأولى على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقديرُ: لو ثبَتَ كون قوة بكم لي، أو إيوائي إلى ركن شديد .. لبطشتُ بكم. {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا لُوطُ} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا لُوطُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول القول. {إِنَّا} ناصب واسمه. {رُسُلُ رَبِّكَ} خبره، ومضاف إليه، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقولَ القول على كونها جوابَ النداء. {لَنْ يَصِلُوا} ناصب وفعل وفاعل. {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة للجملة التي قبلها على كونها مقول القول. وقال أبو حيان: والجملة من قوله: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} موضحة للذي قبلها, لأنهم إذا كانوا رسل الله، لن يصلوا إليه، ولم يقدروا على ضرره، ثم أمروه بأنْ يَسْرِيَ بأهله، انتهى. {فَأَسْرِ} (الفاء) عاطفة. (أسر) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على لوط. {بِأَهْلِكَ} جار ومجرور حال من فاعل (أسْر)؛ أي: متلبسًا بأهلك، والجملة في محل النصب بالقول معطوفة على الجملة التي قبلها. {بِقِطْعٍ} (الباء) حرف جر بمعنى (في). (قطع) مجرور به، الجار والمجرور متعلق (بأسر). {مِنَ اللَّيْلِ} صفه لـ (قطع). {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ

أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. {وَلَا يَلْتَفِتْ} جازم ومجزوم. {مِنْكُمْ} حال من {أَحَدٌ}. {أَحَدٌ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَأَسْرِ}. {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالنصب على الاستثناء من الأهل، أو من {أَحَدٌ} أو بالرفع على البدلية من {أَحَدٌ}. {إنه} ناصب واسمه. {مُصِيبُهَا} خبره، وجملة (إن) مسوقة لتعليل الاستثناء على كونَها مقولَ القول. {مَا أَصَابَهُمْ} (ما) موصولة، أو موصوفة في حل الرفع فاعل لـ (مصيب). {أَصَابَهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على (ما)، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. وعبارة أبي حيان هنا: والضمير في {إنه} ضمير الشأن، و {مُصِيبُهَا} مبتدأ و {مَا أَصَابَهُمْ} الخبر. ويجوز على مذهب الكوفيينَ أن يكونَ {مُصِيبُهَا} خبر (إن) و {مَا أَصَابَهُمْ} فاعل به, لأنهم يجيزون إنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أن ضميرَ الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحًا بجزئيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم، انتهت. {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} ناصب واسمه، وخبره، والجملة في محل النصب مقول القول. {أَلَيْسَ} (الهمزة) للاستفهام التقريري. {ليس الصبح} فعل ناقص واسمه. {بِقَرِيبٍ} خبره و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب مقول القول. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}. {فَلَمَّا} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرفْتَ ما قالوا له، وأردتَ بيانَ عَاقِبَةِ أمرهم .. فأقول لك. {لما جاء أمرنا} {لَمَّا} حرف شرط. {جَاءَ أَمْرُنَا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَأَمْطَرْنَا} فعل وفاعل معطوف على {جَعَلْنَا}. {عَلَيْهَا} متعلق به. {حِجَارَةً} مفعول {أمطرنا}. {مِنْ سِجِّيلٍ} جار ومجرور صفة لـ {حِجَارَةً}. {مَنْضُودٍ} صفة لـ {سِجِّيلٍ}. {مُسَوَّمَةً} حال من {حِجَارَةً}. {عِنْدَ رَبِّكَ} متعلق بـ {مُسَوَّمَةً}. {وَمَا}

(الواو) عاطفة، أو حالية، أو استئنافية. (ما) حجازية، أو تميمية. {هِيَ} اسمها، أو مبتدأ. {مِنَ الظَّالِمِينَ} متعلق {بِبَعِيدٍ}. {بِبَعِيدٍ} خبر (ما) أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أمطرنا} أو حال من {حِجَارَةً} أو مستأنفة. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ}. {وَإِلَى مَدْيَنَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره، ولقد أرسلنا إلى مدين، وعلامة جره الفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والعجمة، والجملة المحذوفة، معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا}. {أَخَاهُمْ} مفعول {أَرْسَلْنَا} المحذوف. {شُعَيْبًا} عطف بيان منه. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب والجملة مستأنفة. {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ} مقول محكي، وإن شئت .. قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {مَا} نافية. {لَكُمْ} خبر مقدم. {مِنْ إِلَهٍ} مبتدأ مؤخر. {غَيْرُهُ} صفة {إِلَهٍ}، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل ما قَبلَها على كونَها مقول {قَالَ}. {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ} فعل وفاعل ومفعول. {وَالْمِيزَانَ} معطوف على {الْمِكْيَالَ} والجملة معطوفة على جملة {اعْبُدُوا اللَّهَ} على كونها مَقُولَ {قَالَ}. {إِنِّي} ناصب واسمه. {أَرَاكُمْ} فعل ومفعول به؛ لأنَّ رأى بصرية. {بِخَيْرٍ} حال من ضمير المخاطبين؛ أي: متلبسين {بِخَيْرٍ} وفاعله ضمير يعود على {شعيب}، وجملة {أَرى} في محل الرفع خبر (إن)، وجملة إنَّ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونِهَا مقولَ القول. {وَإِنِّي} ناصب واسمه. {أَخَافُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على شعيب. {عَلَيْكُمْ} متعلق به. {عَذَابَ يَوْمٍ} مفعول به، ومضاف إليه. {مُحِيطٍ} صفة مجازية لـ {يَوْمٍ} وجملة {أَخَافُ} في محل

الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها عِلَّةً ثانيةً لما قبلها. {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف معطوف على المنادى الأول. {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ} فعل وفاعل ومفعول. {وَالْمِيزَانَ} معطوف عليه. {بِالْقِسْطِ} حال من (واو) {أَوْفُوا}؛ أي: متلبسين {بِالْقِسْطِ} وجملة {أَوْفُوا} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة معطوفة على جملة {أَوْفُوا}. {وَلَا تَعْثَوْا} فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به. {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لفاعل {تَعْثَوْا} والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَوْفُوا}. {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}. {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر. {لَكُمْ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إن} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ (إن) على كونه فِعلَ شرط لها. {مُؤْمِنِينَ} خبره، وجواب (إن) معلوم ما قبلها تقديره: فهي خير لكم، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَا} الواو عاطفة. (ما) نافية أو حجازية. {أَنَا} مبتدأ أو اسمها. {عَلَيْكُمْ} متعلق {بِحَفِيظٍ}. {حفيظ} خبر المبتدأ أو خبر (ما) و (الباء) زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فَمَا لَبِثَ}؛ أي: فما تأخر، وأَبْطَأَ مجيؤه. {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} والعجل، ولدُ البقر، والحنيذُ المشوي على الحجارة المحماة في حفرة في الأرض من غير تنور. وفي "المختار": حَنَذَ الشاة شَوَاها، وجعل فَوْقَها حجارة محماة لينضجها، فهو حنيذ، وبابه ضرب, اهـ. وقيل: هو المشويُّ بحر الحجار من غير أن تمسَّه

النار، وهو فعيل بمعنى مفعول كما مر. {لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} لا تمتد للتناول. {نَكِرَهُمْ}، وفي "المختار" نكره بالكسر نكرًا بضم النون، وأنكره واستنكره كله بمعنى، اهـ. ويقال: نكرته، وأنكرته، واستنكرته إذا وجدتَه على غير ما تعهَد، ومنه قول الشاعر: فَأنْكَرَتْنِي ومَا كَانَ الَّذِيْ نَكرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا فجمع بين اللغتين، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر: إِذَا أَنْكَرَتْنِيْ بَلْدَةٌ أَوْ نَكَرْتُهَا ... خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِيْ عَلَيَّ سَوَادُ وقيل: يقال: أنكرت لما تراه بعينك، ونَكِرْتَ لما تراه بقلبك. قيل: وإنما استنكر منهم ذلك؛ لأنَّ عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم، ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بِشَر. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وأوجس القلبُ فَزَعًا إذا أحسَّ به. وفي "البيضاوي": الإيجاسُ: الإدراك. وقيل: الإضمار، اهـ. وفي "السمين": الإيجاس: حديث النفس، وأصله: من الدخول، كأنه دَاخله، والوجيس ما يَعْترِي النفسَ أوانَ الفزع، ووَجَسَ في نفسه كذا، أي: خَطَرَ بها يَجِسُ وَجْسًا، ووجُوسًا ووَجِيسًا، اهـ. {فَضَحِكَتْ} أصل الضحك: انبساط الوجه مِن سرُورَ يحصل للنفس، ولظُهُور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك، ويستعمل في السُّرور المجرد، وفي التعجب المجرد أيضًا. ثُم للعلماء في تفسير هذا الضحك قولان: أحدهما: أنه الضحك المعروف، وعليه أكثر المفسرين. والقول الثاني: أنه بمعنى حاضت في الوقت، كما قاله مجاهد، وعكرمة، وأنكر بعض أهل اللغة ذلك. قال الراغب: وقول مَنْ قال: حاضت، فليس ذلك تفسيرًا لقوله: فضحكت، كما تصوره بعض المفسرين، اهـ "خازن" بتصرف. {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} الوَراءُ فعالٌ، ولامه همزة عند سيبويه، وأبي علي الفارسي، وياء عند العامة، وهو من ظروف المكان بمعنى خلف، وقدام، فهو من الأضداد، وقد يستعار للزمان كما في هذا المكان، اهـ "روح المعاني". {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ} أصلها: يا ويلى وهي كلمة تُقَال حين يَفْجَأُ الإنسان أمر مهم من بلية، أو فَجِيعَة، أو فضيحة على جهة التعجب منه، أَو

الاستنكار له، أو الشكوى، وإيضاحُه أنه أضاف الويلَ إلى ياء النفس، فاستثقلت الياءِ على هذه الصورة، وقبلَها كسرة ففُتِحَ ما قَبلَها، فانقلبت الياءُ ألفًا؛ لأنها أخف من الياء، والكسرة، ورسمت بالياء، اهـ "كرخي". وفي "السمين" الظاهر كون الألفِ بدلًا من ياء المتكلم، ولذلك أمالَها أبو عمرو، وعاصم في رواية, وبها قرأ الحسن: (يا ويلتي) بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت، اهـ. {بَعْلِي} البعل: الزوج، وجمعه بعولة، ومعناه في الأصل، المستعلي على غيره كما مر في مبحث التفسير. {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: من قدرته وحكمته. {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} الحميدُ: هو الذي يُحْمَد على كل أفعاله، وهو المستحق؛ لأن يحمد في السراء والضراء، والشدة والرخاء. والمجيد: الواسع الكريم، وأصل المجد في كلامهم: السعة، اهـ "خازن". وفي "القاموس": ومجد كنصر، وكرم، مجدًا، ومجادةً فهو ماجد، ومجيد، وأمجده، ومجده، وعظَّمه، وأثنى عليه، اهـ. وقال الغزالي، رحمه الله: المجيد الشريف ذَاتُهُ، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكانَ شريفَ الذات إذا قارنه حُسْن الفعالِ يسمَّى مَجِيدًا. {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الروع بالفتح الخوف، والفزع، يقال: ارتاع من كذا إذا خاف منه، وبضم الراء القلبَ لكن القراءة بالفتح. {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} الحليمُ الذي لا يُحِبُّ المعاجلة بعقاب، والـ {أَوَّاهٌ} الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم. والمنيب الذي يرجع إلى الله في كل أمر. {سِيءَ بِهِمْ}؛ أي: وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم. {ذَرْعًا} الذرعُ، والذراع: منتهى الطاقَة، يقال: ما لي به ذرع، ولا ذراع؛ أي: ما لي به طاقة، ويقال: ضقت بالأمر ذرعًا، إذا صَعُبَ عليك احتماله. قال الأزهري: الذرعُ يوضع موضعَ الطاقة، والأصل فيه: أنَّ البعير يَذْرَعُ بيديه في سيره ذرعًا على قَدْرِ سعةِ خطوه، فإذا حُمِلَ عليه أكثر من طَوْقِه، ضاق ذرعه عن ذلك، وضَعُف، ومدَّ عُنُقَه، فجُعِلَ ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع، والطاقة، فمعنى: وضاق بهم ذرعًا؛ أي: لم يجد من ذلك المكروه مَخْلَصًا. وقال غيره: معناه: وضَاقَ بهم قَلْبًا، وصدرًا، ولا يعرف أصله إلَّا أن يقال: إنّ الذرع كنايةٌ عن الوُسْعِ، والعرب تقول: ليس هذا في يدي يعنون ليس

هذا في وسعي, لأن الذِّرَاعَ من اليد، ويقال: ضَاق فلان ذرعًا بكذا، إذا وقع في مكروه، ولا يطيق الخروجَ منه، وذلك أن لوطًا عليه السلام، لمَّا نَظَرَ إلى حُسْنِ وجوههم، وطيب رائحتهم، أشفَقَ عليهم من قومه، وخَافَ أن يَقْصدُوهم بمكروه، أو فاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم، اهـ "خازن". والـ {عَصِيبٌ} الشديد، الأذى، كأنه قد عُصِبَ به الشرُّ، والبلاء؛ أي: شُدَّ به مأخوذ من العصابة التي يشد بها الرأس، اهـ "خازن". {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يقال: هرع وأُهرع بالبناء للمفعول إذا حمل على الإسراع، وأعجل، فمعنى: {يُهْرَعُونَ} المبني للمفعول يساقون، ويُدْفَعون. وقال الكسائي: لا يكون الإهراعُ إلا إسراعًا مع رِعْدةٍ مِنْ بَرْدٍ، أو غَضَبٍ، أو حمًّى أو شهوةً. وفي "القاموس" والهَرَعُ محَرَّكٌ، وكغراب، والإهراع مشي في اضطراب وسرعة، وأقْبَلَ يُهْرَعُ بالضم، وأُهرع بالبناء للمجهول، فهو مُهْرَعٌ مَن غَضَب، أو خوف، وقد هَرعَ كفرح، ورجل هَرِعٌ سريع البكاء، اهـ. {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} في الآية سؤال كما مرَّ، وهو أن يقال: إن قولَه: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أفعَل تفضيلٍ فيقتضي أن يكونَ الذي يطلبونه من الرجال طاهرًا، ومعلوم أنه محرَّمٌ فاسدٌ نَجِسٌ لا طهارةَ فيه ألبتةَ، فكيف قال هن أطهر لكم؟. والجواب عن هذا السؤال أنَّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}، ومعلوم أن شجرةَ الزقوم لا خَيْرَ فيها، اهـ "خازن". {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}؛ أي: لا تخجلوني في شأن ضيفي، فإنه إذا خُزي ضَيفَ الرجل، أو جَارُه، فقد خزِيَ الرجُلُ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة، اهـ "كرخي". والضيفُ في الأصل: مصدر، ثم أطلق على الطارق لَيْلًا إلى المضيف، ولذلك يَقَعُ على المفرد، والمذكر، وضِدَّيْهِما بلفظ واحد، وقد يثنَّى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف، وضيوف، كأبيات، وبيوت، وضيفان كحوض وحيضان، اهـ "سمين". والـ {رَشِيدٌ} ذو الرُّشد والعقل. {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}؛ أي: على الدفع بنفسي. {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} من أرباب العصبيات القوية الذين يَحْمُونَ اللاجئين، ويُجِيرون المستجيرينَ. والـ {رُكْنٍ} بسكون الكاف وضمها: الناحيةُ مِن جبل وغيره، ويُجْمَعُ على أركان وأَرْكُن.

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} السري، بالضم، والإسراء في الليل كالسير في النهار. {بِأَهْلِكَ} وهم بنتاه فلم يخرج من القرية إلا هو وبنتاه فقط. والقطع من الليل الطائفة منه، والقطع هنا: نصف الليل؛ لأنه قطعة منه مساوية لباقيه. والسِّجِّيلُ الطين المتحجّر كما جاء في الآية الأخرى. {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} قال الراغبُ: هو حجر وطين مختلط، أصله فارسي فعرب. {مَنْضُودٍ} صفة لـ {سِجِّيلٍ} أي وضع بعضه على بعض، وأُعِدَّ لعذابهم. والنضد جعل الشيء بعضه فوق بعض، ومنه: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} أي متراكب، والمرادُ: وصف الحجارة بالكثرة. {مُسَوَّمَةً}؛ أي: لها سومة بالضم، أي علامة خاصَّة من التسويم، وهو العلامة. وفي "البيضاوي": مُسَوَّمة؛ أي: عليها اسم من يُرْمَى بها. وقيل: مُعَلَّمَة للعذاب. وقيل: مُعَلَّمة ببياض، أو حمرة، أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض. {عِنْدَ رَبِّكَ}؛ أَي: في علم ربك. {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} و (نقص) يتعدى لاثنين إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يحذف تقول: نقصت زيدًا حقه، ومن حقه، وهو هنا كذلك إذ المراد، ولا تنقصوا الناسَ من المكيال والميزان. ويجوز أن يكونَ متعديًا لواحد على معنَى لا تَقَالُّوا، وتطففوا، ويجوز أن يكونَ مفعولًا أول، والثاني: محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقديرُ: ولا تنقصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما، اهـ "سمين". والمكيال، والميزان: الآلة التي يوزن، أو يكال بهما، {وَلَا تَعْثَوْا} مِنْ عَثِيَ كفرح، فمصدره عِثي كعصي، وهو القياسي أو عثو كسمو، وهو سماعيٌّ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} وفي قوله: {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ}. ومنها: نداء غير العاقل في قوله: {يَا وَيْلَتَى} تنزيلًا لها منزلةَ العاقل.

ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}. ومنها: الطباق بين الروع والبشرى في قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} إلخ، لبيان الحامل له على المجادلة، وهو رِقَّةُ قَلْبِه وفَرْطُ رحمته. ومنها: الكناية في قوله: {جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} لأنه كنايةٌ عن العذاب الذي قضاه الله عليهم. ومنها: الكناية في قوله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} لأنه كناية عن ضيق الوسع، والطاقة. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شبه اليوم الذي اشتمل على الشر، والأذى بالرأس الذي عُصِب بالعصابة، بجامع الاشتمال في كل. ومنها: الاستفهام التوبيخي التعجبي في قوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}. قال الشريف الرضي: وهذه استعارة، والمراد به قومه، وعشيرته، جعلهم ركنًا له؛ لأنَّ الإنسان يلجأ إلى قبيلته، ويَستند إلى أعوانه كما يستند إلى ركن البناء الرَّصين، وجاء جواب لو محذوفًا تقديره: لَحُلْتُ بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذفُ ههنا أبلغ؛ لأنه يوهم بعظيم الجزاء، وغليظ النكال. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. ومنها: الطباق في قوله: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وحقُّ العبارة أن يقال: جَادَلنا.

ومنها: المجاز العقلي في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أُسند الإحاطةَ لليوم مع أنَّ اليَوْمَ ليس بِجِسْمٍ باعتبار أنَّ العذَابَ يكون فيه فهو من إسناد ما للحال إلى المحل: كنهاره صائم. ومنها: الإضافة (¬1) للتشريف في قوله: {بَقِيَّتُ اللَّهِ} كما في بيتِ الله، و {نَاقَةُ اللَّهِ}، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال، يستحق التشريفَ، كما ذكره في "روح البيان". ومنها: ذِكْرُ الخاصِّ ثم العام، ثم الأعَمَّ مبالغةً في النصح، ولطفًا في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى في قوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} إلى آخر الآية الثانية: حَيْثُ نُهوا (¬2) أولًا عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه، وهو نقص المكيال، والميزان, وفي التصريح بالنهي نعي على المنهي، وتعيير له، وأمروا ثانيًا بإيفائهما مصرَّحًا بلفظهما، ترغيبًا في الإيفاء، وبَعْثًا عليه، وجيء بالقسط، ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية، وهو الواجب؛ لأنَّ ما جاوزَ العَدْلَ فضل، وأمر مندوب إليه، ونهوا ثَالِثًا عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانَتْ مما تكال وتوزن، أو غير ذلك، ونهوا رابعًا عن الفساد في الأرض، وهو أعم من أن يكون نقصًا، أو غيره فبَدَأَهم أولًا بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله تعالى، ثُمَّ ارتقى إلى عام، ثم إلى أعم منه، وذلك مبالغة في النصح لهم، ولُطْفٌ في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى. ومنها: الزيادة والحَذْفُ في عِدّةِ مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}. المناسبة قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ ...} الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أمر شعيب لقومه بعبادة الله ¬

_ (¬1) المراغي.

وحدَه، وعدم النقص في الكيل والوزن .. ذكر هنا رَدَّهم على كلا الأمرين، فردوا على الأول، بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم، وأسلافهم، في التدين، والإيمان, ورَدُّوا على الثاني بأنهم أحرارٌ في أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحةَ فيها. ثم أعاد النصحَ لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح، وأنه يخشى أن يصيبَهم مثل ما أصابَ الأمم قبلَهم، كقوم نوح أو قوم هود، وما الأحداث التي اجتاحَتْ قوم لوط ببعيدَة عنكم، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم، عَلَّه أن يَرْحَمَكم فهو واسع الرحمة، محب لمن تَابَ وأناب إليه. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبتُها لما قَبْلَها: أنه لما أمرهم (¬1) شعيب بعبادة الله, وترك عبادة أوثانهم، وبإيفاء المكيال والميزان, رَدُّوا عليه على سبيل الاستهزاءِ والهُزْءِ بقولهم: {أَصَلَاتُكَ}، وكانَ كثيرَ الصلاة، وكان إذا صلى تغامزوا، وتضاحكوا، {تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} مقابلُ لقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أو أنْ نفعلَ في أموالنا ما نشاء مقابلٌ لقوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}. قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنهم (¬2) لما جادلوه أولًا بالتي هي أحسن، وعميَت عليهم العلل، وضاقَت بهم الحِيل، ولم يجدوا للمحاورة ثمرةً، تحولوا إلى الإهانة، والتهديد، وجعلوا كَلامَهُ من الهذيان، والتخليط الذي لا يفهم معناه، ولا تُدْرَكُ فحواه، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لمّا فرغ من ذكر قصة شعيب، صهر موسى، مع قومه .. أرْدفَ بذكر قصص موسى مع فرعون، وملأه، للإعلام بأنَّ عاقبةَ فرعون وأشراف قومه اللعنةُ والهلاك، ككفار أولئك الأمم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[87]

الظالمين، وإن كان عذابُ الخزي وهو الغرق في البحر .. لم يعم جَمِيعَ قومه، بل لَحِقَ من اتبع موسى، وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها في سورة الأعراف. قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ...} الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) قصص الأمم الماضية، والقرون السالفة مع الرسل الذين أُرسِلوا إليهم .. نَبَّه إلى ما في ذكرها من عظة واعتبار بقوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} فالسامعُ لها، والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، فيحمله ذلك على النظر فيها، والاعتبار بها، إلى ما في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بها من غير مطالعة كتب، ولا مُدَارَسَة مع معلم من عظيم الدلالة على نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ أنَّ هذا لا يكونُ إلا بوحي من العليّ الأعلى، أتاه به روح القدس الأمين. التفسير وأوجه القراءة 87 - وقوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} إلخ، مستأنفة (¬2) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب حين قال لهم ما قال؟ والاستفهام فيه للإنكار عليه، والاستهزاء؛ أي: قالوا: يا شعيب أصلاتك التي هي من نتاج الوسوسة، وفعل المجانين تأمرك بـ {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؛ أي: بأن نترك ما سارَ عليه آباؤنا جيلًا إثرَ جيل من عبادة الأوثان والأصنام، وإنما جعلوه مأمورًا مع أن الصَّادِرَ عنه إنما هو الأمر بعبادة الله، وغيرها من الشرائع؛ لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه، بل بوحي من ربه، ويبلِّغهم أنه مأمور بذلك، وإسنادُ الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات؛ لأنه كانَ كثيرَ الصلاة معروفًا بذلك، حتى إنهم كانوا إذا رأوه يُصلِّي تغامزوا، وتضاحكوا، فكانت هي من بين الشعائر ضُحْكة لهم. فقوله: {أَنْ نَتْرُكَ} فيه أنَّ الترك فعلهم، لا فعل شعيب، وهو المأمور، والإنسان يؤمر بفعل نفسه، أجيب عنه: بأنَّ الكلامَ على حذف مضاف، تقديره: هل هي تأمرك بتكليفك إيانا تَرْك عبادة ما يعبد آباؤنا، إلخ، والتكليف إذًا من فعله، ذكره في "الجمل". أجابوا بذلك أمره عليه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

السلام إيَّاهم بعبادة الله وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأوثان، وقوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} جواب عن أمره بإيفاء الحقوق، ونهيه عن البخس والنقص والعثي، معطوف على (ما) في قوله: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} و (أو) بمعنى (الواو) لأنَّ ما كَلَّفهم به شعيب، هو مجموع الأمرين: لا أحَدَهما. والمعنى: أي (¬1): أو أن نترك فِعلَنا ما نشاء في أموالِنا من التصرفات من التطفيف، وغيره من التنمية، والاستغلال، والتصرف في الكسب بما نستطيع من الحذق، والاحتيال، والخديعة، فما ذاك إلا حَجْزٌ على حريتنا، وتَحَكُّمٌ في إرادتنا، وذكائنا. والخلاصة: أنهم رَدُّوا عليه الناحِيَتَيْنِ الدينية، والدنيوية بما رأوا مِنْ شُبَهٍ مزيفة، وحجج عفنةٍ، والمعنى: أصلاتك تَأمُرَكَ أن نتركَ ما يعبدُ آباؤنا، وتأمركَ أن نترُكَ فِعْلَنَا في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والنقص والزيادة. وقال بعضهم: كان (¬2) يَنْهَاهم عن تقطيع أطراف الدراهم والدنانير، وقصها فأرادوا به ذلك، والمعنى ما نشاءُ من تقطيعها. فائدة: واعلم أنَّ أوَّلَ من استخرج الحديد، والفضة، والذهب من الأرض (هَوشنَكُ) في عصر إدريس عليه السلام، وكان ملكًا صالحًا داعيًا إلى الإِسلام وأول مَنْ وضع السكَّةَ على النقدين. (الضحاك). وإفسادُ السكة بأيِّ وجهٍ كان إفسادًا في الأرض، وسئل الحجاج عما يرجو به النجاةَ فذكر أشياء، منها: ما أفسدت النقود على الناس. وقرأ الجمهور: أصلواتك بالجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص، وابن وثاب (¬3): {أَصَلَاتُكَ} على التوحيد. وقرأ (¬4) الجمهور: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} بالنون فيهما كما فسرناه سابقًا. وقرأ الضحاك بن قيس ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح المعاني. (¬3) البحر المحيط وزاد المسير. (¬4) البحر المحيط.

[88]

الفهري، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي بالتاء فيهما على الخطاب. ورُويت عن أبي عبد الرحمن والمعنى: أصلاتك تأمرك أن تَفْعَلَ أنت في أموالنا ما تشاء. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة: {نفعل} بالنون، {ما تشاء} بالتاء على الخطاب. ورُويت عن ابن عباسٍ، والمعنى: أصلاتك تأمرك أن نَفْعَلَ نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت، وندع ما نشاؤه نحن، وما يجري به التراضي بيننا. والحاصل: أنَّ مَنْ قرأ بالنون فيهما فقَوْله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ} معطوف على قوله: {مَا يَعْبُدُ}؛ أي: أن نتركَ ما يعبد آباؤنا وفعْلنا في أموالنا ما نشاء. ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما، فمعطوفٌ على {أَنْ نَتْرُكَ}؛ أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلِك في أموالنا ما تشاء أو فعلِنا في أموالنا ما نشاء، و (أو) للتنويع، أي: تأمرك مرَّةً بهذا، ومرَّةً بهذا. وقيل: بمعنى الواو كما مر، والظاهر أن الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدم ذكره، ذكره أبو حيان في "البحر". ثم أتبعوا ذَلِك بما يدلُّ على السخرية، والهَزْءِ به فقالوا: {إِنَّكَ} يا شعيب {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ}؛ أي: الأحمق {الرَّشِيدُ}؛ أي: السفيه بلغة مدين كما في "ربيع الأبرار"؛ أي: أنت ذُو الجهالة والسفاهة في الرأي والغواية في الفعل، بهوس الصلاة، لكنهم عكسوا القضية، تهكمًا واستهزاءً، كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم، لاقتدى بك حاتم في سخائك، وللمستجهل، والمستخف فيقال: يا عالم، يا حليم، فهو إذًا (¬1) من قبيل الاستعارة التبعية، نزلوا التضادَ منزلةَ التناسب على سبيل الهزء، فاستعاروا الحِلم والرشد للسفه والغواية، ثُمَّ سَرَتِ الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد. وقيل: إنهم قالوا ذلك، لا على طريقة الاستهزاء، بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم؛ أي: كنتُ عندنا مشهورًا بأنك حليم رشيد، فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا. 88 - {قَالَ} شعيب {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني {إِنْ كُنْتُ} إيرادُ حرف الشك باعتبار حال المخاطبينَ {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}؛ أي: حجة واضحة، وبرهان نير من ¬

_ (¬1) روح المعاني.

مالك أمري، عَبَّر بها عما أتاه الله تعالى من النبوة والحكمة، ردًّا على مقالتهم الشنعاء في جعلهم أمرَهُ ونهيَه غير مستند إلى سند؛ أي: قال (¬1): يا قوم أخبروني عن شأني، وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربي، ومالك أمري فيما دعوتكم إليه، وما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، فكان وحيًا منه لا رأيًا مني. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ}؛ أي: من لدنه، ومن عنده تعالى، وبإعانته بلا كدّ مني، ولا تعب في تحصيله، اهـ "بيضاوي". {رِزْقًا حَسَنًا}؛ أي: كثيرًا، واسعًا، حلالًا، طيبًا، وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال، ولا ميزان، ولا بخس لِحقِّ أحد من الناس فما أَقُولُه لكم صادِرٌ عن تَجْرِبةٍ في الكسب الطيب، وما فيه من خير وبركة لا عَنْ آراء نظرية ممن ليسَتْ له خبرة، فماذا أقول لكم غير الذي قلت عن وحي من ربي، وعن تجربة في مالي؟ هل يسعني بعد هذا التقصير في التبليغ والكتمان لأوامر الله تعالى، وقيل: أراد (¬2) بالرزق النبوةَ والحكمةَ عَبَّر عنهما بذلك تنبيهًا على أنهما مع كونهما بينة، رزق حسن، كيف لا, وذلك مناط الحياة الأبدية له, ولأمته، وجوابُ الشرط محذوف لأنَّ إثباته في قصة نوح ولوط دَلَّ على مكانه, ومعنى الكلام ينادي عليه. والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنت نبيًّا على الحقيقة .. فهل يصح لي أن أتبعَكم، وأشوبَ الحلال بالحرام، ولا آمركم بتوحيد الله، وتركِ عِبَادَة الأصنام، والكفِّ عن المعاصي، والقيام بالقسط، والأنبياء لا يبعثونَ إلَّا لذلك؟. {وَمَا أُرِيدُ} بنهيي إياكم عن التطفيف {أَنْ أُخَالِفَكُمْ}؛ أي: مخالفتكم حال كوني مائلًا {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يقال (¬3): خالَفْتُ زيدًا إلى كذا، إذا قصدته، وهو مول عنك، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس؛ أي: لا أنهى عن شيء وأرتكبه من نقصان الكيل، والوزن؛ أي: أختارُ لكم ما أختارَ لنفسي، فإنه ليس ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح المعاني. (¬3) روح المعاني.

بواعظ يعظ الناسَ بلسانه دون عمله. قال في "الإحياء": أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا ابن مريم عِظْ نَفْسَك، فإن اتعظَتْ .. فعظ الناس، وإلا فاستحيي مني. والمعنى: أي وما أريد بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البَخْس والتطفيف أنْ أقصده بعد ما ولَّيْتم عنه فأستبدَّ به دونكم، مؤثرًا لنفسي عليكم، بل أنا مُسْتَمْسِكٌ به قبلكم. {إِنْ أُرِيدُ}؛ أي: ما أريد بما أباشره من الأمر والنهي {إِلَّا الْإِصْلَاحَ}؛ أي: إلَّا أَنْ أصلحكم بالنصيحة والموعظة {مَا اسْتَطَعْتُ}؛ أي: مِقْدَارَ ما استطعته من الإصلاح. قال في "بحر العلوم": (ما) مصدرية، واقعة موقع الظرف؛ أي: ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم، ودَفْعُ الفساد في دينكم، ومعاملاتكم مدةَ استطاعتي الإصلاحَ، وما دمت متمكنًا منه لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم. وفي ذلك (¬1) إيماءٌ إلى إثبات عقله، ورشده، وحكمته، وإبطال لتهكمهم، واستهزائهم بتلقيبهم إياه بـ {الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. {وَمَا تَوْفِيقِي}؛ أي: وما كوني موفَّقًا هاديًا نبيًّا مُرْشِدًا {إِلَّا بِاللَّهِ}؛ أي: إلَّا بتأييد الله سبحانه، وإقداري عليه، ومَنحي إياه، وهو مصدر من المبني للمفعول؛ أي: وما كوني موفَّقًا لتحقيق ما أقصده من إِصلاحكم. {إِلَّا بِاللَّهِ}؛ أي: إلا بتأييده ومعونته، بل الإصلاحُ من حيث الخلق مستندٌ إليه، وإنما أنا من مباديه الظاهرة، والتوفيق (¬2) يتعدَّى بنفسه، وباللام وبالباء، وهو تسهيل سبل الخير، وأصله موافقةُ فعل الإنسان القدرَ في الخير، والاتفاق هو: موافقةُ فعل الإنسان خيرًا كان أو شرًّا القَدَر. وقال في "التأويلات النجمية": التوفيقُ: اختصاص العبد بعناية أزلية، ورعاية أبدية، انتهى. والخلاصة (¬3): وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي، وما أَذَرُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح المعاني. (¬3) المراغي.

[89]

إلَّا بهداية الله تعالى ومعونته. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم {وَإِلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {أُنِيبُ}؛ أي: أرجع في كل ما نابني من الأمور، وأفوض جميعَ أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره. والمعنى عليه توكلت في أداء ما كلفني به من تبليغكم ما أرسلت به إليكم، لا على حولي ولا قوتي؟ وإليه أرجع في كل ما أهمَّني في الدنيا، وهو الذي يُجازيني على أعمالي في الآخرة. والخلاصة: أنه لا يرجو منهم أجرًا، ولا يَخْشَى منهم ضيرًا. وقيل: المعنى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} واعتمدت في ذلك معرضًا عما عداه، فإنه القادر على كل مقدور، وما عداه عاجزٌ محض في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، بمعزل عن رتبة الاستمداد به في الاستظهار {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وأرجع فيما أنا بصدده، في جميع أموري. فقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} إشارةٌ إلى معرفة المعاد. فعلى (¬1) العاقل أن يجتهدَ في طريق الحق بالأذكار النافعة، والأعمال الصالحة، إلى أن يصلَ إلى مقام التوحيد الحقيقي، ثم إذا وصل إليه اقتفى بأثر الأنبياء، وكمل الأولياء في طريق النصح، والدعوة، ولم يرد إلا الإصلاح، تكثيرًا للأتباع المحمدية، وتقويمًا لأركان العالَم بالعدل، ونَظْمًا للناس في سلك الرشاد، والله ولي الإرشاد، وهو المبدء، وإليه الرجوع والمعاد. 89 - {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ}؛ أي: لا يكسبنكم، ولا يحملنكم. وقرأ يحيى بن وثاب: {يُجرمنكم} بضم الياء من أجرم الرباعي، اهـ "قرطبي". {شِقَاقِي}؛ أي: شقاقكم وعداوتكم وبُغضكم إياي {أَنْ يُصِيبَكُمْ}؛ أي: على أن ينالكم عذاب {مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من الصيحة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} يعني: أنهم أُهلكوا بسبب الكفر، والمعاصي في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم، فإن لم تعتبروا ¬

_ (¬1) روح المعاني.

[90]

بمَنْ قبلهم من الأمم المعدودة، فاعتبروا بهم، ولا تكونوا مِثلَهم كَيْلا يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب. والمعنى: أي (¬1) لا تحملنكم عداوتي وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبَخْس الناس في المكيال والميزان, فيصِيبَكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الصرصر، أو قوم صالح من الرجفة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} زمانًا، ولا مكانًا؛ أي: إن لم تعتبروا بمن ذكرنَا قبلُ لقدم عهد، أو بُعْدِ مكان، فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأىً منكم، ومسمع، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وأنهم كانوا جيرانَ قوم لوط، وبلادهم قريبة من بلادهم، فإنَّ بلادَهم قريبة من مَدْيَن، وإهلاكهم أقربُ الإهلاكات التي عَرَفها الناس في زمان شعيب، وقد يكون المعنى: ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فاحذروا أن يَحلَّ بكم مثل ما حَلَّ بهم من العذاب؛ أي: وما معاملة قوم لوط من معاملتكم، وذنوبهم من ذنوبكم ببعيد؛ لأن الكفرَ كله من جنس واحد، وصفات الكفر قريب بعضها من بعض، قال الجوهري: القومُ يذكَّر ويؤنث، والبعيد من المصادر التي يستوي فيها المذكر، والمؤنث، والجمع، والمفرد، كالزفير، والصهيل، ولذلك أخبرَ عنه ببعيد، ثمَّ بعدَ ترهيبهم بالعذاب، أمَرَهُم بالاستغفار، والتوبة فَقَال: 90 - {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} من عبادة الأوثان، والأصنام {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من البخس، والنقصان في الكيل، والوزن، أو استغفروا بالإيمان، ثمَّ ارجعوا إليه بالطاعة {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى {رَحِيمٌ}؛ أي: كثير الرحمة للتائبين، والمستغفرين {وَدُودٌ}؛ أي: محب لهم؛ أي: فاعل بهم من اللطف، والإحسان كما يفعل البليغُ المودة بمن يوده. قال في "المفاتيح": الودود مبالغة الوَادّ، ومعناه: الذي يُحِبُّ الخيرَ لجميع الخلائِق، ويحسن إليهم في الأحوال كلها، وقيل: المحبُّ لأوليائه. ¬

_ (¬1) المراغي.

[91]

والمعنى (¬1): واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان، وبَخْسِ الناسِ حُقُوقَهم في المكيال والميزان, ثم ارجعوا إلى طاعته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، وقوله: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار، والتوبة؛ أي: إن ربّي رحيم بمَنْ تَابَ، وأناب إليه لا يعذّبه بعد التوبة، كثيرَ الود والمحبة، فيحب من يتوب ويرجع إليه. وفي الآية إرشاد إلى أنَّ النَدَمَ على فعل الفساد والظلم بالتوبة، واستغفار الرب سبحانه وتعالى من أسباب خير الدنيا وخَير الآخرة. 91 - وقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم شعيب استئناف بياني {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} الفقه: معرفةُ غرضِ المتكلم من كلامه؛ أي: لا نعرفُ ولا نَفْهَمُ {كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}؛ أي: كُلّ ما تقول من التوحيد، ومن إيفاء الكيل والوزن، وغير ذلك؛ قالوا ذلك استهانةً بكلامه، واحتقارًا به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يَعْبَأ بحديثه: ما ندري ما تقول، وإلا فشعيب كان يخاطبهم بلسانهم، وهم يَفْهَمُونه كلامَهُ، لكن لمَّا كان دعاؤه إلى شيءٍ خلاف ما كانوا عليه وآباءهم قالوا ما قالوا. والمعنى: أي ما نعلم (¬2) حقيقة كثير مما تقول لنا وتخبرنا به من بطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، ومجيء عذاب يحيط بنا، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابَتْ مَنْ قَبْلَنَا كان أمرها بيدك يصيب بها ربك من يشاء لأجلك. وقيل المعنى (¬3): أنك تأتينا بما لا عَهْدَ لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نَفقه ذلك؛ أي: لا نَفْهَمُه، كما نفهم الأمور الحَاضِرَةَ المشاهدةَ فيكون نفي الفقه على هذا حقيقةً لا مجازًا، وقيل: قالوا ذلك إعراضًا عن سماعه، واحتقارًا لكلامه مع كونه مفهومًا لديهم معلومًا عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقةً بل مجازًا كما مر. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ} يا شعيب {فِينَا}؛ أي: فيما بيننا {ضَعِيفًا}؛ أي: لا قوةَ لكَ ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفع، تقدر بها على أن تمنع نَفْسَكَ منا، وتتمكن بها من مخالفتنا, ولا تستطيع أن تمتنع منا، إن أردنا أن نَبْطِشَ بك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني (¬3) روح المعاني.

ومعنى ذلك أنه ليست لك قوَّةُ جسمانية، أو المعنى: كنتَ مَهِينًا ذليلًا فينا لا عِز لك، ولا شرفَ عندَنا، وهذا لا يتعلق بالقوة الجسمانية، فإن ضعيفَ الجسم قد يكون وافرَ الحرمة بين الناس، وهو الظاهر؛ لأنَّ الكفَرةَ كانوا يزدرون بالأنبياء، وبأتباعهم المؤمنين. وقيل: إنه كان مصابًا ببصره. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى: ضعيف؛ أي: قد ضَعف بذهاب بصره، كما يقال له: ضرير، أي: قد ضر بذهاب بصره. {وَلَوْلَا رَهْطُكَ}؛ أي: ولولا حرمة قومك، ومراعاةُ جانبهم، وقالوا: ذلك كرامةً لقومه, لأنهم كانوا على دِينهم لا خوفًا, لأن الرهط من الثلاثة إلى السبعة، أو التسعة، أو العشرة، وهم ألوفٌ فكيف يخافون منْ رهطه؛ أي: ولولا عشيرتك الأقربون {لَرَجَمْنَاكَ}؛ أي: لقَتَلْناك برمي الحجارة، حتى تُدْفن فيها، وقد يُوضَع الرجم موضع القتل، وإن لم يكن بالحجارة من حيثُ إنه سببه، ولأنَّ أوَّلَ القتل لبني آدم، وهو قتلُ قابيلَ لهابيل، لمَّا كان بالحجارة سَمَّى كُلَّ قتلٍ رَجَمًا, وإن لم يكن بها. وقال عمر رضي الله عنه (¬1): تَعلَّموا أنْسَابَكُم، تعرفوا بها أصولَكم، وتصلوا بها أرحامكم؛ قالوا: ولو لم يكن في معرفة الأنساب إلا الاحتراز بها من صولة الأعداء ومنازعة الأكفاء .. لكان تَعَلُّمها من أحزم الرأي، وأفضل الصواب، ألا ترى إلى قول قوم شعيب: ولولا رهطك .. لرجمناك فأبْقَوا عليه لرهطه، يقال: أبقيتُ لفلان إذا أرعيت عليه ورحمته. ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}؛ أي: وما (¬2) أنت بذي عزة، ومنعة تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعزُّ رَهطَك على قلتهم؛ لأنهم منَّا، وعلى ديننا الذي نبذتَه وَراء ظهرك، وأهَنْته ودعوتنا إلى تركه لبطلانه في زعمك. والمعنى: أي: وما أنت بمكرم محترم حتى تمنعنا عزتك من رجمك، بل رهطُك هم الأعزة علينا، لكونهم من أهل ديننا، فإنما نكف عنك ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) المراغي.

[92]

للمحافظة على حُرمتهم، وهذا دَيْدَنُ السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسبِّ والتهديد، وتقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر والاختصاص، وإن كان الخبر صفةً لا فعلًا، و {علينا} متعلق بـ {عزيز} وجاز لكون المعمول ظرفًا، والباء مزيدة. وفي الآية إشارة (¬1) إلى أنَّ مَنْ كَانَ على الله {بِعَزِيزٍ} فإنه ليس على الجاهل بعزيز، وذلك؛ لأنَّ العزةَ والشرفَ عند الجهلاء خُصوصًا في هذا الزمان الفاسدِ بالجاه والمال، لا بالدين والكمال، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، بل ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، يعني: إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحةٌ تكونون مقبولينَ مُطْلَقًا سواء كانت لكم صور حسنة، وأموال فاخرةً أم لا؟ وإلا فلا. 92 - فوبَّخهم شعيب على سفاهتهم، كما حكى سبحانه عنه {قَالَ} شعيب في جوابهم، والهمزة في قوله: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي} للاستفهام الإنكاري التوبيخي {أَعَزُّ عَلَيْكُمْ} وأهيب وأكرم عندكم {مِنَ اللَّه} سبحانه وتعالى حتى كَانَ امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم، وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره، وكان (¬2) الظاهرُ أن يقالَ مني إلا أنه قيل: من الله للإيذان بأنَّ تَهَاوُنَهُم به وهو نبي الله تهاوُنٌ بالله تعالى، وإنما أَنْكَر (¬3) عليهم أعَزَّيَّةَ رهطه منه تعالى مع أنَّ ما أثبتوه، إنما هو مطلق عزة رهطه، لا أعزيتهم منه تعالى مع الاشتراك في أصل العزة، لتكرير التوبيخ، حيث أنْكَرَ عليهم أوَّلًا بترجيح جانب الله تعالى، وثانيًا بنفي العزة بالمرة، والمعنى: أرهطي أعز عليكم من اللَّهِ سبحانه وتعالى، فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له حظًّا من العزة أصلًا. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} سبحانه وتعالى {وَرَاءَكُمْ}؛ أي: وراءَ ظهركم {ظِهْرِيًّا}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) روح المعاني. (¬3) روح البيان.

[93]

منبوذًا، أي: واستخفَفْتُم بربكم، فجعلتموه تعالى شيئًا منبوذًا وراءَ الظهر، منسيًّا لا يبالى به؛ أي: جعلتموه مِثْلَ الشيء المطروح وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة برسوله، لا تأتمرون لأمره، ولا تخافون عِقَابَهُ، ولا تعظِّمُونه حقَّ التعظيم، فلا تُبْقُون على الله، وتبقون على رهطي؛ أي: فلا تحفظونني، ولا ترحمونني لله تعالى، وتُراعُون نسبة قرابتي إلى الرهط، وتضيّعون نسبتي إلى الله بالنبوة، فكأنكم زَعَمْتُم أنَّ القومَ أعزُّ من الله، حيث تزعمون أنكم تركتم قتلي إكرامًا لرهطي، والله أولى بأن يُتَّبَعَ أمره، كأنه يقول: حِفْظكُم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي، وقيل: المعنى: واتخذتم أمْرَ الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم. والعربُ تقول لكل ما لا يُعْبَأُ بأمره: قد جَعَل فلانُ هَذَا الأمرَ بظهره، فالظهري منسوبٌ إلى الظهر، والكسر لتغيير النَّسب كقولهم في النسبة إلى أمس: إمسيُّ بكسر الهمزة، وإلى الدهر دُهْرِيُّ بضم الدال. {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال السيئة التي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه. {مُحِيطٌ} لا يخْفى عليه منها خافية، وإن جعلتموه منسيًّا، فيجازيَكم عليها، والإحاطة: إدراك الشيء بكماله، وإحاطةُ الله تعالى بالأعمال مَجَازٌ عن علمه. والمعنى (¬1): أي إن ربي سبحانه وتعالى محيط علمه بعملكم، فلا يَخْفَى عليه شيء منه، وهو مجازيكم عليه، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يَخْفى ما في ذلك من التهديد والوعيد. 93 - ثم هدَّدهم مرة أخرى فقال: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} كل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلى حالة كونكم {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ أي: موصوفين بغاية المكنة، والقدرة، والقوة؛ أي: على نهاية التمكن، وغايته في إيصال الضرر إليَّ، مِنْ مكن مكانةً فهو مكين، إذا تمكَّن من الشيء أبلغ التمكنِ، أو بمعنى المكان، كمقام، ومقامة، والمعنى: إعملوا ما شئتم على ناحيتكم، وجهتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة لي؛ أي: ويا قوم (¬2) اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعَصَبِيتكم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

وخلاصة ذلك: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة، وسائر ما لا خَيرَ فيه. وهذا كلامٌ مِن واثقٍ بقوته بربه، وضَعْفِ قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه، وتهديدهم له بقوتهم. {إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي حذف للاختصار، والاكتفاء أي عامل بقدر ما آتاني الله من القدرة، وعلى حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد. فكأنهم قالوا: ماذا يكون إذا عملنا على قوتنا. فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ} إما استفهامية؛ أي: أيُّنا، أو موصولة أيَّ تَعْرِفون الذي {يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}؛ أي: يذله ويُهينه أنا أم أنتم {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} في قوله، ومن هو صادق مني ومنكم. وفي "الفتوحات" فـ (من) موصولة في محل نصب؛ أي: سوفَ تعلمون الشقيَ الذي يأتيه عذاب يخزيه، والذي هو كاذب، وهذا أحسن من قول الفراء (من) استفهامية في موضع رفع بالابتداءِ على معنى: أيّنا لا يأتيه العذاب، وأيُّنا هو كاذب، وإنما كان أحسن لأنَّ (من) الثانية موصولة أيضًا، ولا توصل بالاستفهام، وعلم عرفانية، انتهى. وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزًا لهم. ولما أوعدوه (¬1)، وكذبوه .. أراد أن يَدفَع ذلك عن نفسه، ويَلْحَقه بهم، فسَلَك سبيل إرخاء العنان لهم وقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} من المعذب والكاذب مني ومنكم، وأينا الجاني على نفسه، والمخطىءُ في فعله، يريد أنَّ المعذَّب والكاذبَ أنتم لا أنا. قال الفراء: إنما جاء بهو في {من هو كاذب} لأنهم لا يقولون من قائم إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم فزَادوا (هو) ليكونَ جملة تقوم مقام فَعَل ويفعلُ، ذكره الشوكاني. فائدة: قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء في سورة الأنعام في قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وحذفها هنا، حيث قال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. قلت: إدخال الفاء وَصلٌ ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفي تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذَا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

عَمِلنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت على مَكَانَتِكَ. فقال: سوف تعلمون، يوصَل تارةً بالفاء، وتارةً بالاستئناف كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلَين وأبلغهما الاستئنافُ؛ لأنه أبلغ في باب الفصاحة، والتهويل، وهو بابٌ من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. {وَارْتَقِبُوا}؛ أي: انتظروا مآلَ ما أقولُ لكم من حلول ما أَعِدُكم به، سيظهر صِدْقُه {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}؛ أي: منتظر لما يقضِي الله به بيننا، وهو فعيل بمعنى الراقب. وعبارة القرطبي: {وَارْتَقِبُوا}؛ أي (¬1): انتظروا العذابَ والسخطةَ {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}؛ أي: فإني منتظر النصر والرحمةَ. وكان شعيب عليه السلام يسمَّى خطيب الأنبياء، لحسن محاورته مع قومه، وكمال اقتداره في مراجعته جوابَهم، وكان كثيرَ البكاء حتى عَمِيَ ثم رَدَّ الله عليه بصرَهُ، فأوحى إليه يا شعيب: ما هذا البكاءُ أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار؟ فقال: إلهي وسيدي إنك تعلم أني ما أبكي شوقًا إلى الجنة، ولا خوفًا من النار، ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك، فما أبالي ما الذي تصنع بي. فأوحى الله تعالى إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقًّا .. فهنيئًا لك لقائي، يا شعيب، لذلك أخْدَمْتُك موسَى ابنَ عِمرانَ كليمي. وهذه حال المقربين، فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم، وجعلوا الخَلْقَ وراءَ ظهورهم، خِلافَ ما عليه أهل الغفلة، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكَونين حُبًّا لله تعالى، وقصرًا للنظر عليه، وهم العبيد الأحرار، والناس في حَقِّهم على طبقات. فأما أهل الشقاءِ فلم يعرفوهم مَنْ هم، ولم يَرَوْهم أصلًا لانطماس بصيرتهم، وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف، ألا ترى إلى قوم شعيب، كيف حَجَبهم كونه أَعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته، وظنُّوا أن لهم أبصارًا ولا بصرَ له، ولذا عدوه ضعيفًا، ولم يعرفوا أنهم عميٌ في الحقيقة، وأن أبصارهم الظاهرةَ لا تستجلب لهم شرفًا، وأنَّ الحقَّ مع أهل الحق, سواء ساعدته الأسباب ¬

_ (¬1) القرطبي.

[94]

الصورية، والآلات الظاهرة أَوْ لا، فإن النَّاسَ مشتركون فيما يجري على ظواهرهم من أنواع الابتلاء، مفترقون فيما يَرِدُ على بواطنهم من أصناف النعماء، والله تعالى أرسلَ الأنبياء عليهم السلام إلى الناس الغافلين، ليفتحوا عيونَ بَوَاطِنَهم من نوم الغفلة، وَيدْعُوهم إلى الله تعالى ووصاله، ولقاءِ جماله، فمَنْ كان له منهم استعداد لهذا الانفتاح .. رضي بالتربيةِ والإرشاد، وقام في طريق الحق بالسعي والاجتهاد، ومَنْ لم يكن له منهم ذلك .. أبي واستكبر عن أخذ التلقين، وامتنع عن الوصول إلى حد اليقين، فبقي في الظلمات كالأعمى لا يَدْري أيْنَ يذهب، فيا أيها الأخوانُ ارجِعوا إلى رَبّكم مع القوافل الروحانية، فمِن قريب ينقطع الطريقُ، ولا يُوجد الرفيق. 94 - ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ كانَ صادقًا في وعيده لهم فَحَلَّ بهم سوء العذاب فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} الذي قَدّرناه في الأزل من العذاب، والهلاك لقوم شعيب، فالأمرُ: واحد الأمور {نَجَّيْنَا} رسولنا {شُعَيْبًا} قدم تنجيتَه إيذانًا بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب الجرائم، {و} نجينا {الذين آمنوا معه}، واتبعوا شعيبًا في الإيمان, وآمنوا كما آمنَ هو، فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم، {بِرَحْمَةٍ} أزلية صَدَرَتْ {مِنَّا} في حقهم، ومجرد فضل خاصٍّ بهم لا بسبب أعمالهم كما هو مَذْهَبُ أهل السنة. وقال بعضهم: هي الإيمان الذي وفقناهم له، يقول الفقيرُ (¬1): وجه هذا القول أنَّ العذابَ والهلاكَ الذي هو من باب العدل قد أضيف إلى الكفر والظلم، فاقتضى أن يضافَ الخلاصُ والنجاة الذي هو من باب الفضل إلى الإيمان, ولمَّا كانَ الإيمانُ والعمل الصالح أمرًا موقوفًا على التوفيق .. كان مجردَ فضل ورحمة فافهم. فائدة: قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: ما الحكمة في قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} بالواو في قصتي عاد ومدين، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} بالفاء في قصتي لوط وثمود؟ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[95]

قلتُ: قد وقعت جملةُ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} في قصة قوم لوط، وقصة قوم ثمود بعد ذكر الوعد، وذلك قوله في الأولى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، وقوله في الثانية {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}، فجِيءَ بالفاء التي للتسبب كما تقول: وعدته، فلما جاء الميعادُ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ. وأما قصتا عاد ومدين، فلم تَقَعا بتلك المنزلة؛ وإنما وقَعَتا مبتدأتين، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تعطف قصة على قصة، انتهى. {وَأَخَذَتِ}؛ أي: أهلكت {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسَهم بالإباء والاستكبار، عن قبول دعوة شعيب وغيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه حلال {الصَّيْحَةُ} فاعل، أخذَت، وأنَّث (¬1) الفعل هنا على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فذكّر على معنى الصياح؛ أي: أهلكَتْهم صيحةُ جبريل عليه السلام بقوله: (موتوا جميعًا)، وفي سورة الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها، وهذا في أهل قرية شعيب، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة، وهو نارٌ نزلت من السماء أحرقَتْهُم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أهلك الله أُمَّتَيْن بعذاب واحد، إلا قومَ صالح، وقومَ شعيب أهلكهم الله بالصيحة، غَيْرَ أنَّ قومَ صالح أخَذَتْهُم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحةُ من فوقهم. وذلك أنهم أصابهم حر شديد، فخَرَجُوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها، فَظَهَرَتْ لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقَتْ بالأشجار، وأَخذَتْ فيها النار، وصاح بهم جبريل، ورجفَتْ بهم الأرض، فماتوا كلهم، واحترقُوا، فذلك قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا}؛ أي: صاروا {فِي دِيَارِهِمْ}؛ أي في بلادهم أو مساكنهم {جَاثِمِينَ}؛ أي: ساقطينَ ميتينَ، لازمينَ لأماكنهم لا براحَ لهم منها؛ أي: لا زوالَ حالةَ كونهم 95 - {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}؛ أي: كأنهم لم يقيموا في ديارهم أحياء ¬

_ (¬1) القرطبي.

متصرفين، في أطرافها مترددينَ متقلبينَ في أكنافها. ثم دعا عليهم فقال: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ}؛ أي: هلاكًا لأهل مدين، وبعدًا من رحمة الله تعالى {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}؛ أي: كما هلكت من قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى بإنزال سَخَطِه بهِم، شَبَّه هلاكهم بهلاكهم, لأنهما أُهلِكَتَا بنوع من العذاب وهو الصيحة كما مرَّ آنفًا. والخلاصة (¬1): أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أرسلَ على كل من ثمود ومدين صاعقةً ذاتَ صوت شديد، فرجَفَتْ أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتهما أشد من الصاعقة التي أخذَتْ بني إسرائيل حين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}. وقد أحياهم الله تعالى عَقِبَها؛ لأنَّ هذه تربية لقوم بني إسرائيل في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذابَ خزي لمشركينَ ظالمينَ معاندِينَ أنجى الله نبِيَّ كل منهما، ومؤمنيهما قبلها. وقرأ أبو (¬2) عبد الرحمن السلمي، وأبو حيوة: {كما بَعُدت} بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب. والجمهور بكسرها. أرادت العرب: التفرقةَ بين البعد من جهة الهلاك، وبين غَيره فغيَّروا البناءَ. وقرأه السلمي جاءت على الأصل اعتبارًا لمعنى البُعْدِ من غير تخصيص، كما يقال: ذَهَبَ فلان ومَضَى، في معنى القرب. وفي الآية (¬3) إشارة إلى أن الكفرةَ وأهلَ الهوى، أفسدوا الاستعدادَ الروحانيَّ الفطريَّ، في طلب الدنيا، واستيفاء شهواتها، والاستكبار عن قبول الحق والهدى، وأدَّى تمردهم عن الحق، وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورةً ومعنًى. وأما صورة فظاهرٌ. وأما معنى: فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفلِ سافلي القطيعة فبَقَوا في نار الفرقة، لا يحيون، ولا يموتونَ، وما انتفعوا بحياتهم فَصاروا كالأموات، وكما أنَّ الصيحةَ من جِبْرِيلَ أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيَتْ المؤمنينِ لأنَّ أَنْفَاس الأنبياء، والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحلُّ صالحًا لطرح الروح فيه كجسد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[96]

الإكسير. وقد سبق أنَّ قومَ شعيب عدوه ضعيفًا فيما بينهم، وما عرفوا أنَّ اللَّهَ القويَّ معه، فعلى الصالحين أن يَعْتَبِرُوا بأحوال الصالحين، فإنهم قد أخَذُوا الدنيا، وآثَرُوها على الآخرة ثمَّ سلبهم الله أموالَهم، وديارَهم، كأن لم ينتفعوا بشيء، ولم يقيموا في دار. 96 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا {مُوسَى} بن عمرانَ حالةَ كونه متلبسًا {بِآيَاتِنَا} التسع التي هي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص الأموال والأنفس الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا. وقيل: المراد بالآيات التوراةُ، وبالسلطان، العصا، واليد؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالتوراة مع ما فيها من الأحكام، وأيدْناه بمعجزات قاهرة دالةٍ على صدق نبوته، ورسالته، وهذا القول ليس بسديد؛ لأنه قال: 97 - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملأه، ذكره أبو حيان في "البحر". {و} متلبسًا بـ {سلطان}؛ أي: برهان {مُبِينٍ}؛ أي: واضح هو نفس تلك الآيات فهو من قبيل عطف الصفة مع اتحاد الموصوف؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالأمر الجامع بين كونه آياتنا، وبين كونه سلطانًا له على صِدْقِ نبوته واضحًا في نفسه، أو مُوضِّحًا إياها، فإنَّ أبان جاء لازمًا ومتعديًا، كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}؛ أي: التوراة الجامعةَ بين كونِهَا كِتَابًا وحجةً تفرق بين الحق والباطل، ويجوز أن يرادَ بسلطان مبين الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطانًا؛ لأنَّ صاحب الحجة يَقْهَرُ مَنْ لا حجة معه كالسلطان يَقْهر غيره، اهـ "خازن". {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}؛ أي: أشراف قومه، ورؤسائهم، وتخصيص ملأه بالذكر مع عموم رسالته لقومه كافَّة لأصالتهم في الرأي، وتدابير الأمور، واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} في كل ما قَرَّره من الكفر بموسى، ورَدِّ ما جاءهم به من عند الله، وتشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم إلى نحو ذلك مما جاء في السور الأخرى مفصَّلًا؛ أي: فاتبع الملأ أَمْرَ فرعونَ وأطاعوا قولَه, حين قاله لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وخالفوا أَمْر موسى بالتوحيد, وقبول الحق, وإنما لم يصرِّح بكفر

[98]

فرعون بآيات الله تعالى للإيذان بوضوح حاله، فكأنَّ كُفْرَه وأمرُ ملأه بذلك محقق الوجود، غير محتاج إلى الذكر صريحًا، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملأه المترددين بين هاد إلى الحق، وداعٍ إلى الضلال فقوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} معطوف على مقدر؛ أي: فكفَر بها فرعونُ، وأمرهم بالكفر، فاتبعوا أمر فرعون؛ أي: أطاعوه. وإيراد (الفاء) للإشعار بمسارعتهم إلى الاتباع، فكأنه لم يَتَراخَ من الإرسال، والتبليغ بل وَقَعَا في وقت واحد. {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ}؛ أي: وما شأنه وتصرفه {بِرَشِيدٍ}؛ أي: بصالح حميد العاقبة، بل هو محض غيٍّ وضلالٍ، وظلم، وفساد، لغروره بنفسه، وكفرانه بربه، وطغيانه في حكمه، فإنه كان دهريًّا نافيًا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم، وعبوديته رعايةً لمصلحة العالَم. 98 - {يَقْدُمُ قَوْمَهُ}؛ أي: يتقدم فرعون قومه وأتباعه من الأشراف وغيرهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ويكونون تَبَعًا له كما كانوا تَابِعينَ له في الدنيا إلا مَنْ آمنَ {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}؛ أي: فيوردهم النارَ معه، ويُدْخِلُهم جَهنَّمَ. وقد وَرَدَ أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحًا ومساءً من كل يوم كما قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}؛ أي: إن فرعونَ كان قُدوةً لقومه في الضلال، وفي دخول البحر، والغرق في الدنيا، فكذلك يتقدَّمهُم في الآخرة في دخول النار والحرق. وعَبَّر بصيغة الماضي في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ} للدلالة على تحقق الوقوع، لا محالةَ؛ لأنَّ الماضِيَ متيقن الوجود {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}؛ أي: وبئس المَدْخَلُ المدخول فيه، والمَشْربُ الذي يشرب منه، والمخصوص بالذمِّ النارُ؛ لأنَّ واردَ الماء إنما يَرِدُه لِتبريد كبدِهِ، وإطفاء غُلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقًا. واعلم (¬1): أن الورودَ عبارة عن المجيء إلى الماء، والإيراد إحضار الغير، والمورود الماء فشبه فرعونَ بالفارط الذي يتقدم الواردَ إلى الماء، وأتباعَه بالواردة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[99]

والنارَ بالماء الذي يَرِدُونَه. 99 - {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ} الدنيا {لَعْنَةً}؛ أي: وأتبع الملأ الذين اتبعوا فرعونَ في هذه الدنيا طردًا وبُعْدًا عن الرحمة؛ أي: وألحقت بهم في هذه الدنيا لعنة عظيمة مِمَّنْ بَعْدَهم من الأمم {و} أتبعوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لعنةً أخرى، أيضًا مع اللعنة التي حَصَلَتْ لهم في الدنيا يَلْعَنُهم أهل الموقف جميعًا، فهي تابعة لهم حيثما سارُوا، ودائرة أينما دَاروا. والآية بمعنى قوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}. وفي "السمين" قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} معطوف على موضع في هذه، والمعنى: أنهم ألحقوا لعنةَ في الدنيا، وفي الآخرة، ويكون الوَقْفُ عليها تامًّا، ويبتدأُ بـ (بئس) اهـ. أي (¬1): فَكَما اتبعوا أَمْرَ فِرْعَونَ، أتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءً وفاقًا، أو يُلْعَنُون، ويُطردون من رحمة الله تعالى في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بما فيها من عذاب، فإن كُلَّ معذَّبٍ مَلْعونٌ مطرودٌ من الرحمة، كما أنَّ كلَّ مخذولٍ محرومٌ من التوفيق، والعناية كذلك، واكتفى ببيان حالهم الفظيع عن بيان حال فرعون. إذْ حِينَ كان حالُهم هكذا، فَمَا ظنك بحال من أغواهم، وألقاهم في هذا الضلال البعيد، وحيثُ كانَ شأنُ الأتباعِ أن تكون أعوانًا للمتبوع، جُعلت اللعنة رِفدًا لهم على طريقة التهكم. فقيل: {بِئْسَ الرِّفْدُ}؛ أي (¬2): العَونُ، والمرادُ به اللعنةُ الأولى {الْمَرْفُودُ}؛ أي: المعانُ باللعنة الثانية؛ أي: بئس اللعنةُ الأولى المُعانُ باللعنة الثانية عونهم، وهي اللعنة في الدارين. فاللعنة الأولى: عَوْنٌ لهم معاونةٌ باللعنة الثانية، وهذا على سبيل التهكم بهم، وإلا فاللعنة إذْلالٌ لهم، وإنزِالٌ بهم إلى الحضيض الأسفل. وسمِّيت اللعنة عَوْنًا لأنها إذا تَبِعَتْهم في الدنيا أَبْعَدَتْهم عن رحمة الله تعالى، وأعانَتْهم على ما هم فيه من الضلال. وسمِّيت رفدًا؛ أي: عونًا لهذا المعنى على سبيل التهكم. وسميت مُعَانًا لأنها أُردفَت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هَادِيَيْنِ إلى طريق الجحيم، اهـ "زاده". وقال الزجاج: كلُّ شيء جعلته عَوْنًا لشيء، وأسندْتَ به شيئًا، فقد رفدتَه، والمعنى: بئس العونَ المعان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[100]

رِفْدُهم، وهي اللعنة في الدارين، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدٌ للعذاب، ومددٌ له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وفي الآية بيان شقاء فرعون، وأنه لم ينفعه إيمانه حين الغرق، ولو نفَعه لما كان قائدَ قومه إلى النار. وفي الآيات (¬1) من العبرة أنَّ في البشر فراعنة كثيرينَ يغوون الناس، ويستعبدونهم، فيطيعونهم، ويذلون لهم ذل العبيد، ولا تفيدهم هدَايةُ القرآن شيئًا، ومنهم من يدعون الإِسلام، ولا يفهمون قولَ الله تعالى لرسوله في آية مبايعة النساءِ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعةَ لأحد في معصية اللَّهِ إنما الطاعة في المعروف". 100 - {ذَلِكَ} الخبر الذي قصصناه عليك يا محمَّد {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى}، والمدن؛ أي: بعضُ أخبار أهل القرى المهلكة من الأمم الماضية بما جَنَتْ أيدي أهلها من قوم نوح، ومَنْ بعدهم {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} في هذا القرآن، ونخبره لك لتتلوه على الناس فيكون فيه دلائل نبوتك، ويتلوه المؤمنون آناءَ الليل وأطراف النهار، إنذارًا وتبليغًا عَنَّا {مِنْهَا}؛ أي: من تلك القرى {قَائِمٌ}؛ أي: باق أثره وجدرانه كالزرع القائم على ساقه كديار عاد وثمود. {و} منها {حصِيد}؛ أي: عافي الأثر، وذاهبه كالزرع المحصود، كقُرى قوم لوط، وديار قوم نوح، فشَبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وما محي منها بالزرع المحصود. 101 - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}؛ أي: وما ظلمنا أَهْلَ تلك القرى بإهلاكنا إياهم بغير جُرْمٍ استحقوا به الهلاك، فالضمير عائد إلى الأهل المحذوف المضاف إلى القرى {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب ما يُوجب الهلاكَ منْ شركِهِم، وإفسادهم وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق، ولو بَقَوا زَمانًا ما ازدادوا إلا ظلمًا وفجورًا وفسادًا في الأرض، كما قال نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}. فإنهم أَكلوا رِزْقَ الله؛ وعبدوا غَيْرَه وكذبوا رسله. وفيه إشارة إلى أَنه تعالى أعطاهم استعدادًا روحانيًّا، وآلةً لتحصيل كمالات لا يدركها الملائكة المقربون, فاستعملوا تلك الآلة على وَفْقِ الطبيعة لا على حكم الشريعة، فعبَدُوا طاغوت الهوى، ووثَنَ الدنيا, ¬

_ (¬1) المراغي.

[102]

وأصنامَ شهواتها، فجاءهم الهلاك من أيدي الأسماء الجلالية. وقد بالغ رسلُهم في وعظهم وإرشادهم، فما زادهم ذلك إلا عتوًّا واستكبارًا، وأنذروهم بالنذر، فما زادهم ذلك إلّا إصرارًا وعنادًا، ثِقَةً منهم بأن آلهتهم تَدْفَعُ عنهم كُلَّ مُخوِّف وَتُبْعِدُ عنهم كل محذور جهلًا منهم بما كانوا يعملون. ومن ثَمَّ قال: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ}؛ أي: فما دَفَعَتْ بأس الله عنهم، ولا نَفَعَتْهُم {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ}؛ أي: يعبدونها ففيه حكايةُ حال ماضية {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: حالَةَ كونهم متجاوزينَ عبادةَ الله، ويطلبون منها أن تَدْفَعَ عنهم الضرَّ بنفسها، أو بشفاعتها {مِنْ شَيْءٍ} في موضع المصدر؛ أي: ما أغنت عنهم، ولا نفعَتْهُم شيئًا قليلًا من الإغناء {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} منصوب بـ {أغنت}؛ أي: ما أغنتهم شيئًا من الإغناء والنفع حين مجيء عذاب ربك، ونقمته، وهي المكافأة بالعقوبة. والمعنى: فما دفعَتْ عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئًا من العذاب، حين جاء عذابُ ربك. {وَمَا زَادُوهُمْ} الضمير المرفوع للأصنام، والمنصوب لعبدتها، وعبَّر عن الأصنام بواو العقلاء؛ لأنَّهم نَزَّلُوها مَنْزِلَةَ العقلاء في عبادتهم إياها، واعتقادهم أنها تنفع وتضر؛ أي: وما زادت الأصنام لعابديها {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}؛ أي: غَيْرَ إهلاك وتخسير، فإنهم إنما هلكوا بسبب عبادتهم لها، وكانوا يعتقدون في الأصنام جَلْبَ المنافع، ودَفْعَ المضارِّ فَزَالَ عنهم بسبب ذلك الاعتقاد منافع الدنيا والآخرة، وجَلَب ذلك إليهم مضارَّ الدنيا والآخرة، وذلك من أعظم الهلاك، وأشد الخسران. والمعنى: وما زادَتْهم الأصنامُ التي يعبدونها إلا هَلاكًا، وخسرانًا، وقد كانوا يَعْتَقِدُون أنها تُعِينُهم على تحصيل المنافع. ويقال: تببه تتبيبًا إذا أهلكه، وتبَّ فلانُ وتَبَّتْ يده خَسِرَ، أو هلك كما سيأتي في مباحث الصرف إن شاء الله تعالى. وقرىء (¬1): {آلهتهم اللاتي} بالجمع {ويدعون} بالبناء للمجهول. 102 - {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} قرأ (¬2) أبو رجاء، والجحدري: {وكذلك أخذَ ربُّك إذ أخذ} على أَنَّ أَخْذَ ربك فعل وفاعل، و (إذ) ظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله في إهلاك من تقدم من الأمم. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

وقرأ طلحة بن مصرف {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ}. قال ابن علية: وهي قراءة متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد، واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي. وقرأ غيرهما: {أَخْذ} على المصدر، والكاف في محل رفع على أنها خبر مقدم للمصدر المذكور بعدها؛ أي: ومثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه في الأمم الماضية أخذ ربك، وإهلاكه القرية أي قرية كانت. {إِذَا أَخَذَ} وأهلك {الْقُرَى}؛ أي: أهلها، وإنما أسندَ الإهلاك إلى القرى لِلأشعار بسريان أثره إليها. {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملة حالية من القرى، وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مقامهم في الأخذ أجريت عليها. وفائدتها: الإشعارُ بأنهم أخذوا بظلمهم وكفرهم ليكونَ ذلك عبرةً لكل ظالم. والمعنى: أي ومثل ذلك الأخذ المذكور بالعذاب، وعلى نَهجه وطريقِهِ أخذ ربك أهلَ القرى إذا أخَذَهم، وهم ظالمون أنفسَهم بالكفر، والإفساد؛ أي: إنَّ كُلَّ (¬1) من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركَهم في ذلك الأخذ، فذلك عقابٌ لا مفرَّ منه، ولا مَهْرَب. وفي هذا إنذارٌ وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة في كل زمان ومكان. {إِنَّ أَخْذَهُ} سبحانه وتعالى وإهلاكه للأمم {أَلِيمٌ شَدِيدٌ}؛ أي: وجيع قاسي لا يُرجَى منه الخلاص؛ أي: إنَّ عقوبته سبحانه وتعالى لمن ظلم عقوبة مؤلمة شديدة صعبة على المأخوذ والمعاقَب، لا يُرْجى مِنها الخلاص. روى البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذَا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، فليعتبر (¬2) الظالمون بهذا, ولا يغتروا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غَضَب ربهم، ونقمتَه، فربما كان ذلك إملاءً منه ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[103]

تعالى، واستدراجًا لهم. 103 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إنَّ فيما (¬1) نَزَل بالأمم الهالكة بذنوبهم، أو إنَّ فيما قصه الله سبحانه وتعالى من إهلاك تلك الأمم السبعة، وبيان سنته في عاقبة الظالمين. {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة بينة وموعظةً بالغةً، وحجةً ظاهرة. {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}؛ أي: لمن (¬2) أقر عذابَ الآخرة، وآمن به، وصدَّقه، وخافَ منه؛ لأنه يعتبر بتلك الأمم حيثُ يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة، وذلك لأنَّ القَصَص المذكورة فيها عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد حصَلَ الأول فيعلم العاقل أنَّ القادر على إنزال الأول قَادِرٌ على إنزال الثاني. وأمَّا مَنْ أنكر الآخرةَ، وأحال فَنَاءَ العالم، ولم يقل بالفاعل المختار، وجَعَلَ تِلك الوقائعَ لأسباب فَلَكِية اتفقت في تلك الأيام، لا لذنوب المهلكين فهو بمعزل من هذا الاعتبار، تبًّا لهم، ولما لهم من الأفكار. وعبارة أبي حيان هنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: فيما (¬3) قصَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى من أخبار الأمم الماضية، وإهلاكهم {لَآيَةً}؛ أي: لعلامة {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}؛ أي: أنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياءَ، وإشراكهم بالله، وهي دار العمل، فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أنَّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله، ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم فدلَّ على أنَّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شكَّ فيه، انتهت. والماديون في هذا العصر (¬4)، وفي عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون: إن الطوفانَ والصاعقةَ وخسفَ الأرض كل أولئك قد حَدَثَ بأسباب طبيعية لا بإرادة الله تعالى واختياره لتربية الأمم. ويكفي في الرد عليهم أن يقال: إنَّ حدوثَ هذه الأشياءِ وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن الكريم، والله تعالى أحدث هذه الأسبابَ في أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها, ولم تكن من قبيل المصادفات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

والدليل على ذلك أن أولئك الرسلَ أنذروا أقوامَهم بحدوثها قبل أن لم تكن، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين، والتحديد. وهكذا يفعل الله بالظالمين في كل زمان، وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن الكريم كما قال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. {ذَلِكَ} إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة؛ أي: ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}؛ أي: يوم يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون ليحاسبوا على ما عملوا، ثم يوفوا جزاءهم بالعدل والقسطاس {وَذَلِكَ} اليوم الذي يجمع فيه الناس الذي هو يوم القيامة؛ لأن اسم الإشارة عائد إلى يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له {يَوْمٌ مَشْهُودٌ} فيه؛ أي: يشهده الخلائق جميعًا من الإنس والجن، والملائكة، وغيرهم حيث (¬1) يشهد فيه أهل السموات والأرضين للموقف، لا يغيب عنه أحدٌ، فالمشهود هو الموقف، والشاهدون؛ أي: الحاضرون الخلائق، والمشهود فيه اليوم فاتسع فيه إجراءً للظرف مجْرَى المفعول به، بجعله مشهودًا، وإنما هو مشهود فيه، فاتسع فيه بأن وصل الفعل إلى ضميره، من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به، اهـ "سمين". قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت: أوثر اسم المفعول لما فيه من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد أن يكون ميعادًا مضروبًا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمةً، وهو أثبت أيضًا لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل. ومعنى: {مَشْهُودٌ} مشهود فيه، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءً له مجرى المفعول به على السعة كقوله: وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[104]

والمعنى: يشهد فيه الخلائق الموقفَ لا يغيب عنه أحد، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور، وإنما لم يجعل اليومَ مشهودًا في نفسه كما قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعِظم وغيره من بين الأيام، وكونه مشهودًا في نفسه لا يميزه إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودةً، انتهى. 104 - {وَمَا نُؤَخِّرُهُ}؛ أي: وما نؤخِّر ذلك اليومَ {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}؛ أي: إلا لأجل انقضاء أجل معلوم عدده. وانتهاء مدة معلومة في علمنا مضروبة بحسب ما تقتضيه الحكمة لا تزيد، ولا تنقض، وهي انتهاء مدة الدنيا، وكل شيء معدود محدود قريب، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى أحدًا من خلقه على معرفة ذلك اليوم. وفي (¬1) الآيات تهديد وتخويفٌ من الله تعالى، وحث على تصحيح الحال، وتصفيةِ البال وتزكية الأعمال، ومحاسبة النفوس قبل بلوغ الآجال، فإن العبد لا يحصد إلا ما يزرع، ولا يشرب إلا بالكأس التي يَسْقي، فعلى العاقل أن يتداركَ ما فاتَ ولا يضيع الأوقاتَ. 105 - والظرف في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} منصوب بقوله: {لَا تَكَلَّمُ} وفاعل (يأت) ضمير يعود على (اليوم) أي: حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله، وهو يوم القيامة، فلا يلزم أن يكونَ للزمان زمانٌ، وذلك لأن الحينَ مشتمل على ذلك اليوم، وغيره من الأوقات، ولا محذور في كون الزمان جزءًا من زمان آخر، ألا ترى أنَّ الساعةَ جزء من اليوم، واليوم من الأسبوع، والأسبوع من الشهر، والشهر من العام. و {يَأْتِ} بحذف الياء اجتزاءً عنها بالكسرة، كما قالوا: لا أدر ولا أُبال، وهو كثير في لغة هذيل. روي عن عثمانَ رضي الله عنه أنه عرض عليه المصحف، فوجد فيه حروفًا من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل .. ما وجد فيه هذه الحروف. فكأنه مَدَح هذيْلًا بالفصاحة. {لَا تَكَلَّمُ} بحذف إحدى التاءين؛ أي: لا تتكلم {نَفْسٌ} من الأنفس ¬

_ (¬1) روح البيان.

الناطقة بما ينفع، ويُنجي من جواب، أو شفاعة {إِلَّا بِإِذْنِهِ} سبحانه وتعالى إذ لا يملك أحد فيه قولًا، ولا فعلًا إلا بإذنه تعالى في التكلم. فالمأذون (¬1) من الكلام هو الجوابات الصحيحة, والممنوعُ منه هو ذكر الأعذار الباطلة كما قال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}، ويوم القيامة يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا. ففيه مواقف، وأزمنة، وأحوال، مختلفة يتكلمون في بعضها، ويتساءلون كما قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}. ولا يتكلمون في بعضها لشدة الهول، والفزع، وظهور آثار سطوة القهر، أو لعدم الإذن لهم في الكلام، كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}، ويُختم في بعضها على أفواههم، وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم، وبهذا التفصيل يجمع بينَ الآيات المتعارضة ظَواهِرُها. وقرأ الأعمش (¬2): {وما يؤخره} بالياء. وقرأ النحويان أبو عمرو، والكسائي، ونافع: {يأتي} بإثبات الياء وصلًا، وحذفَها وقفًا. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلًا ووقفًا، وهي ثابتة في مصحف أُبيٍّ. وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا. وسقطت في مصحف الإِمام عثمان رضي الله عنه. وقرأ الأعمش: {يأتون} وكذا في مصحف عبد الله، وإثباتها وقفًا ووصلًا هو الوجه. ووجه (¬3) حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعلَ السالمَ يوقف عليه كالمجزوم، فحذفت الياء، كما تحذف الضمة، ووجه قراءة مَنْ قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رَسْمَ المصحف كذلك. وَحَكى الخليل، وسيبويه: أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء، وتجتزىء بالكسر. وأنشد الفراء في حذف الياء: كَفَاكَ كَفٌّ مَا تَلِيْقُ دِرْهَمًا ... جُوْدًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، انتهى. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

{فَمِنْهُمْ}؛ أي: فممن يجمع في ذلك اليوم {شَقِيٌّ} وجبت له النار بموجب الوعيد، فهو مستحق للعذاب الأليم، الذي أوعدَ به الكافرون {وَسَعِيدٌ}؛ أي: ومنهم سعيد، وجَبَت له الجنة بمقتضى الوعد، فهو مستحق لما وعد به المتقون من الثواب، والنعيم الدائم، وتقديم الشقي على السعيد؛ لأن المقامَ مقام التحذير والإنذار، والأطفال والمجانين لا يدخلون في هذا التقسيم لعدم التكليف، ويدخل فيه من استوت حَسَناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم، ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنةَ؛ لأنهم فريق السعداءِ باعتبار العاقبة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث، كالأطفال والمجانين. روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، قلت: يا رسول الله، فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه، قال: "بل على شيء قد فرغ منه، وجَرَتْ به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وروي عن علي كرم الله وجهه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في جنازة فأخَذَ عودًا فجعل يَنْكتُ في الأرض، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}. والمراد أن الله يعلم الغيب، وأنه يعلم المستقبل كلَّه بجميع أجزائه، وأطرافه، ومنه عمل العاملين، وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل، وكتابته للمقادير، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، علَّمنا أنَّ الجزاء بالعمل، وأنَّ كُلًّا ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأنَّ ما وَهَبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير في تربية النفس، وتوجيهها إلى ما تعتقد أنَّ فيه سعادتَها وخَيْرُها. قال في "التبيان" (¬1): علامة الشقاوة خمسة أشياء: قساوة القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل، وقلة الحياء. وعلامة السعادة خمسة ¬

_ (¬1) روح المعاني.

أشياءٍ أيضًا: لين القلب، وكثرة البكاء، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وكثرة الحياء. وفي "التأويلات النجمية" {شَقِيٌّ} محكوم عليه بالشقاوة في الأزل، {وَسَعِيدٌ} محكوم عليه بالسعادة في الأزل، وعلامة الشقاء الإعراض عن الحق، وطلبه، والإصرار على المعاصي من غير ندم عليها، والحرص على الدنيا، حلالها وحرامها، واتباع الهوى، والتقليد، والبدعة. وعلامة السعادة: الإقبال على الله وطلبه، والاستغفار من المعاصي، والتوبة إلى الله، والقناعة باليسير من الدنيا، وطلب الحلال منها، واتباع السنة، واجتناب البدعة، ومخالفة الهوى، انتهى. الإعراب {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا شُعَيْبُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا شُعَيْبُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَصَلَاتُكَ} (الهمزة) للاستفهام الإنكاري الاستهزائي. (صلاتك) مبتدأ. {تَأْمُرُكَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على (صلاتك) والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَنْ نَتْرُكَ} ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول الترك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر، محذوف تقديره: بترك عبادة ما يعبد آباؤنا، الجار والمجرور متعلق بـ {تأمر}. {يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبد آباؤنا. {أَوْ} حرف عطف بمعنى الواو، التي للجمع. {أَنْ نَفْعَلَ} ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. {فِي أَمْوَالِنَا} متعلق به. {مَا نَشَاءُ} (ما) موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، وجملة {نفعل} في تأويل مصدر معطوف على {ما} في قوله: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} تقديره: أصلاتك تأمرك بترك عبَادة ما يعبد آباؤنا؛ أو بترك فعلنا في أموالنا ما نشاء. {نَشَاءُ} فعل مضارع،

وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما نشاؤه. {إِنَّكَ} ناصب واسمه. {لَأَنْتَ} {اللام} حرف ابتداء. {أنت} تأكيد للكاف أو ضمير فصل. {الْحَلِيمُ} خبر إن. {الرَّشِيدُ} صفة للحليم، وجملة إن في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معلَّلةً لما قبلها. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَرَأَيْتُمْ} فعل وفاعل، وهي هنا بمعنى: أخبروني فتنصب مفعولين، وقد حذفا معًا من النظم الكريم، وتقدير الأول أخبروني فياء المتكلم هي المفعول الأول، والثاني محذوف أيضًا تقديره: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقًا حسنًا أفأشوبه بالحرام، فالجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان، وجملة {أَرَأَيْتُمْ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {إِنْ كُنْتُ} جازم، وفعل ناقص واسمه. {عَلَى بَيِّنَةٍ} خبره، وجملة {كان} في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعلَ شرط لها. {مِنْ رَبِّي} صفة لـ {بينة}. {وَرَزَقَنِي} فعل ومفعول أول و (نون) وقاية، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة (كان). {مِنْهُ} جار ومجرور حال من {رزقًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {رِزْقًا} مفعول ثان. {حَسَنًا} صفة له، وجواب (إن) الشرطية محذوف، تقديره: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، ورزقني منه الرزقَ الحلالَ، والهداية، والنبوة، والمعرفة فهل يسعني مع هذه النعم العظيمة أن أخون في وجه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءَهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم، وذلك أنهم قالوا له: إنك لأنت الحليم الرشيد, والمعنى: فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه، وله عليه نعم

كثيرة، ذكره في "الخازن" وجملة (إن) الشرطية مَعَ جوابها المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَا أُرِيدُ} (الواو) عاطفة. (ما) نافية. {أُرِيدُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَرَأَيْتُمْ} على كونها مقولَ قال. {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على شعيب. {إِلَى مَا} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وما أريد مخالفتَكَم إلى ما أنهاكم عنه. {أَنْهَاكُمْ} فعل ومفعول. {عَنْهُ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. {إِنْ أُرِيدُ} (إن) نافية. {أُرِيدُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {الْإِصْلَاحَ} مفعول به. {مَا اسْتَطَعْتُ} {ما} مصدرية ظرفية. {اسْتَطَعْتُ} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: إن أريد إلَّا الإصلاحَ مدة استطاعتي. {وَمَا تَوْفِيقِي} (الواو) عاطفة. {ما} نافية. {تَوْفِيقِي} مبتدأ. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {بِاللَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: وما توفيقي إلا كائن بالله، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلَها على كونها مقولَ {قَالَ}. {عَلَيْهِ} جار ومجرور متعلق بما بعده. {تَوَكَّلْتُ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَإِلَيْهِ} جار ومجرور متعلق بما بعده. {أُنِيبُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة معطوفة على جملة {تَوَكَّلْتُ} على كونها مقول {قَالَ}. {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}. {وَيَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء معطوف على المنادى الأولى على كونها مقولَ {قَالَ}. {لا} ناهية. {يَجْرِمَنَّكُمْ} فعل ومفعول و (نون) توكيد في محل الجزم بـ {لا}. {شِقَاقِي} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول

{قَالَ} على كونها جوابَ النداءِ. {أَنْ يُصِيبَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول أول. {مِثْلُ} فاعل وهو مضاف. {مَا} مضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لجرم تقديره: ويا قوم لا يكسبنكم عداوتي إصابتكم عَذَاب مثل ما أصاب. {أَصَابَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {قَوْمَ نُوحٍ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة لـ (ما) أو صفة لها. {أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} معطوفان على {قَوْمَ نُوحٍ}. {وَمَا} (الواو) عاطفة. {ما} نافية أو حجازية. {قَوْمُ لُوطٍ} مبتدأ أو اسم {ما}. {مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} (الباء) زائدة. {بعيد} خبر المبتدأ، أو خبر لـ (ما) منصوب بفتحة مقدرة، والجملة الاسمية في محل النصب مقولُ {قَالَ}. وأتى {بِبَعِيدٍ} مفردًا، وإن كان خبرًا عن جمع لأحد أوجه: إما لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم لوط، وإما باعتبار زمان؛ أي بزمان بعيد، وإما باعتبار مكان؛ أي: بمكان بعيد، وإما باعتبار موصوف غيرهما؛ أي: بشيء بعيد، كذا قدره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكال من حيث إنَّ تقدير زمان يلزم فيه الإخبار بالزمان عن الجثة، وقال الزمخشري أيضًا: ويجوز أن يستوي في بعيد، وقريب، وقليل، وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي كالصهيل، والنهيق، ونحوهما، اهـ "سمين". {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَجْرِمَنَّكُمْ} على كونه مقول {قَالَ}. {ثُمَّ تُوبُوا} فعل وفاعل. {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَغْفِرُوا}. {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه. {رَحِيمٌ} خبره. {وَدُودٌ} خبر ثان، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا شُعَيْبُ} إلى قوله: {قَالَ} مقول محكي، وإن شئت قلتُ: {يَا شُعَيْبُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا} نافية. {نَفْقَهُ كَثِيرًا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها

جوابَ النداء. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرًا}، وجملة {تَقُولُ} صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تقوله. {وَإِنَّا} ناصب واسمه. {لَنَرَاكَ} (اللام) حرف ابتداء. {لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} فعل ومفعولان. {فِينَا} جار ومجرور حال من {ضَعِيفًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {مَا نَفْقَهُ} على كونها مقول {قَالَ}. {وَلَوْلَا} (الواو) عاطفة. {لولا} حرف امتناع لوجود. {رَهْطُكَ} مبتدأ والخبر محذوف وجوبًا تقديره: ولولا رهطك موجود {لَرَجَمْنَاكَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لولا} وجملة {لولا} معطوفة على ما قبلَها على كونها مقول {قَالَ}. {وَمَا أَنْتَ} (ما) حجازية أو تميمية. {أَنتَ} اسمها أو مبتدأ. {عَلَيْنَا} متعلق {بِعَزِيزٍ}. {عزيز} خبر (ما) أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}. {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة مستأنفة. {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي} إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} مقول محكي، وإن شئت .. قلت: {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَرَهْطِي} (الهمزة) للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ {رهطي أعزُّ} مبتدأ وخبر. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {أَعَزُّ}. وكذا يتعلق به {مِنَ اللَّهِ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} فعل وفاعل، ومفعول أول. {وَرَاءَكُمْ} ظرف، ومضاف إليه حال من {ظِهْرِيًّا}. {ظِهْرِيًّا} مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على الجملة الاسمية على كونها مقولَ {قَالَ}. {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {مُحِيطٌ}. وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ (ما) أو صفة لها. {مُحِيطٌ} خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} {وَيَا قَوْمِ} منادى معطوف على المنادى الأول.

{اعْمَلُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} جار ومجرور حال من (واو) {اعْمَلُوا} أي حالةَ كونكم موصوفينَ بغاية إمكاناتكم. {إِنِّي عَامِلٌ} ناصب واسمه وخبره والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {سَوْفَ} حرف تنفيس. {تَعْلَمُونَ} فعل وفاعل. {مَن} اسم موصوف في محل النصب مفعول به, لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا على كَوْنِها مقول {قَالَ}. {يَأْتِيهِ عَذَابٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة (من) الموصولة. وجملة {يُخْزِيهِ} صفة {عَذَابٌ}. {وَمَن} معطوف على {مَن} الأولى. وجملة {هُوَ كَاذِبٌ} صلة {من} الموصولة. {وَارْتَقِبُوا} فعل وفاعل معطوف على {اعْمَلُوا}. {إِنِّي} ناصب واسمه. {مَعَكُمْ} متعلق بـ {رَقِيبٌ}. {رَقِيبٌ} خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)}. {وَلَمَّا} {الواو} استئنافية. (لما) حرف شرط. {جَاءَ أَمْرُنَا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرطًا لـ (لما). {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لمَّا) وجملة (لمَّا) مستأنفة. {وَالَّذِينَ} معطوف على {شعيب}. {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {مَعَهُ} ظرف، ومضاف إليه حال من (واو) {آمَنُوا}. {بِرَحْمَةٍ} جار ومجرور متعلق بـ {نَجَّيْنَا}. {مِنَّا} صفة لـ {رَحْمَةٍ}. {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ} فعل ومفعول. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {الصَّيْحَةُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {نَجَّيْنَا}. {فَأَصْبَحُوا} (الفاء) عاطفة. {أصبحوا} فعل ناقص واسمه. {فِي دِيَارِهِمْ} متعلق بما بعده. {جَاثِمِينَ} خبر {أصبحوا}، وجملة {أصبحوا} معطوفة على جملة {أخذت}. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}. {كَأَنْ} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف تقديره: كأنهم. {لَمْ يَغْنَوْا} فعل وفاعل مجزوم بـ (لم). {فِيهَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر

{كَأَنْ} وجملة {كَأَنْ} في محل النصب حال من الضمير المستكن في {جَاثِمِينَ}؛ أي: أصبحوا جاثمين حالَ كونهم مماثلينَ لِمَنْ لَمْ يوجد، ولم يقم في مكان قط. {ألا} حرف تنبيه. {بُعْدًا} منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا تقديره: بعدت مدين بعدًا، والجملة مستأنفة. {لِمَدْيَنَ} متعلق بـ {بُعْدًا}. {كَمَا} (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. {بَعِدَتْ ثَمُودُ} فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور (بالكاف) الجار، والمجرور صفة لـ {بُعْدًا} تقديره: ألا بعدًا لمدينَ مثلَ بُعد ثَمودَ. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)}. {وَلَقَدْ} (الواو} استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا مُوسَى} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور حال من {مُوسَى}؛ أي: حالَة كونه متَلبِسًا {بِآيَاتِنَا}. {وَسُلْطَانٍ} معطوف على {آياتنا}. {مُبِينٍ} صفة {سلطان}. {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {أرسلنا}. {وَمَلَئِهِ} معطوف على {فِرْعَوْنَ}. {فَاتَّبَعُوا} فعل وفاعل. {أَمْرَ فِرْعَوْنَ} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر تقديره: فكَفَر بها فرعون، وأمرهم بالكفر فاتَّبعوا أمر فرعون. {وَمَا} {الواو} حالية. (ما) حجازية. {أَمْرَ فِرْعَوْنَ} اسمها، ومضاف إليه. {بِرَشِيدٍ} (الباء) زائدة. {رشيد} خبرها، ويصح أن يكونَ مبتدأً، وخبرًا على إهمال (ما)، والجملة في محل النصب حال من فرعون، والتقدير: حال كون فرعون غيرَ رشيد. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة مستأنفة على كونها معلِّلَةٌ لِما قبلها. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} متعلق بـ {يقدم}. {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود إلى فرعون، والجملة معطوفة على جملة {يَقْدُمُ}. {وَبِئْسَ} {الواو} استئنافية. {بئس الورد} فعل وفاعل.

{الْمَوْرُودُ} صفة لـ (الورد)، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا تقديره: وردهم هذا، وهو مبتدأ خبره جملة {بِئْسَ}، والجملة الاسمية مستأنفة؛ لأنها إنشائية. {وَأُتْبِعُوا} فعل، ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {فِي هَذِهِ} متعلق بـ {أتبعوا}. {لَعْنَةً} مفعول (ثان). {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف معطوف على الجار والمجرور في قوله: {فِي هَذِهِ} على كونه متعلقًا بـ {أتبعوا} مقدرًا؛ أي: وأتبعوا يوم القيامة لعنةً ثانيةً. {بِئْسَ الرِّفْدُ} فعل وفاعل. {الْمَرْفُودُ} صفة لـ {الرفد} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا هو المخصوص بالذم تقديره: رفدهم هذا. {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} خبر أول، والجملة مستأنفة. {نَقُصُّهُ} فعل ومفعول. {عَلَيْكَ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. {مِنْهَا} خبر مقدم. {قَائِمٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لوقوعها في جواب سؤال مقدر تقديره: ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟ فأجاب بقوله: منها: قائم ومنها حصيد. {وَحَصِيدٌ} مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنها حصيد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ}. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)}. {وَمَا} (ما) نافية. {ظَلَمْنَاهُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوفة على جملة {ظَلَمْنَاهُمْ}. {فَمَا} (الفاء) عاطفة. {ما} نافية. {أَغْنَتْ} فعل ماض. {عَنْهُمْ} متعلق به. {آلِهَتُهُمُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {ظَلَمُوا}. {الَّتِي} صفة لـ {آلِهَتُهُمُ}. {يَدْعُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونها. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور حال من (واو) {يَدْعُونَ}؛ أي: حالةَ كونهم متجاوزينَ الله إلى غيره. {مِنْ شَيْءٍ} (من) زائدة. {شَيْءٍ} منصوب على المفعولية المطلقة بـ {أَغْنَتْ}. {لَمَّا} حينية في محل النصب

على الظرفية متعلق بـ {أَغْنَتْ}. {جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه للمَا الحينية. {وَمَا زَادُوهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ}. {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} مفعول به، ومضاف إليه. {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}. {وَكَذَلِكَ} {الواو} استئنافية. {كذلك} خبر مقدم. {أَخْذُ رَبِّكَ} مبتدأ مؤخر؛ أي: ومثل ذلك الإهلاك المذكور في الأمم الماضية أخذ ربك، والجملة مستأنفة. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرطية في محل النصب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بالأخذ الذي هو المصدر. {أَخَذَ الْقُرَى} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف لـ {إِذَا}، وكل من المصدر والفعل تنازعا في {الْقُرَى} فأُعمل الفعل، وحذف الضمير من المصدر؛ لأنَّ الضمير هنا فضلة على حد قول ابن مالك: وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفعٍ أُوْهِلاَ والتقدير: وكذلك أخذ ربك إياها، إذا أخذ القرى، اهـ "جمل". {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من {الْقُرَى}. {إِنَّ أَخْذَهُ} ناصب واسمه. {أَلِيمٌ} خبره. {شَدِيدٌ} خبر بعد خبر، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إنَّ} حرف نصب. {فِي ذَلِكَ} خبر مقدم لها. {لَآيَةً} (اللام) حرف ابتداء. {آيةً} اسمها مؤخر، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {لِمَنْ} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر (إنَّ). {خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية صلة لـ {مَنْ} الموصولة. {ذَلِكَ} مبتدأ. {يَوْمٌ} خبره والجملة مستأنفة. {مَجْمُوعٌ} صفة لـ (يوم)، ولكنَّها سببية. {لَهُ} متعلق به. {النَّاسُ} نائب فاعل لـ {مَجْمُوعٌ} لأنه اسم مفعول يعمل عملَ الفعل المغير الصيغة. {وَذَلِكَ يَوْمٌ} مبتدأ وخبر.

{مَشْهُودٌ} صفة {يوم}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمَا} {الواو} مستأنفة. {ما} نافية. {نُؤَخِّرُهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {لِأَجَلٍ} متعلق بـ {نؤخر}. {مَعْدُودٍ} صفة {أَجَلٍ}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {تكلم} الآتي. {يَأْتِ} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفَةِ للتخفيف في اللفظ، واتباعًا لرسم المصحف العثماني في الخط منع من ظهورها الثقل, لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على اليوم، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِهِ} متعلق بـ {تَكَلَّمُ}. {فَمِنْهُمْ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه لا تكلم نفس في ذلك اليوم، وأردتم بيانَ طبقات الناس، وأحوالهم في ذلك اليوم، فأقول لكم. {مِنْهُمْ} خبر مقدم. {شَقِيٌّ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَسَعِيدٌ} مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد، والجملة معطوفة على جملة {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ}. التصريف ومفردات اللغة {الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، {الْحَلِيمُ} ذو الأناة، والتروي الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته، و {الرَّشِيدُ} الذي لا يأمر إلا بما استبانَ له من الخير والرشد. {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} قال الزمخشري: يقال: خَالَفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه، وأنت قاصده، ويلقاكَ الرجلُ صادرًا عن الماء، فتسأله عن صاحبه فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذَاهِب إليه واردًا، وأنا ذاهب عنه صادرًا، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم، اهـ "سمين". والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في قوله، أو فعله، أو حاله. {إِلَّا الْإِصْلَاحَ} وهو الإبلاغ والإنذار فقط، وأما إجباركم على الطاعة فلا

أستطيعُه، اهـ "خازن". {وَمَا تَوْفِيقِي} المصدر هنا من المبني للمفعول؛ أي: وما كوني موفقًا، اهـ شهاب. وأناب إلى الله رَجَعَ إليه. {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} بَابه ضرب كما في "المختار"، وينصب مفعولين كما مرَّ في مبحث الإعراب. وجَرمَ الذنبَ، أو المالَ كسبه. وفي "السمين" قوله: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} العامة على فتح ياء المضارعة من جَرَم ثلاثيًّا، وقرأ الأعمش بضمها من أجرم، وقد تقدَّم أنَّ جَرم يتعدى لواحد ولاثنين مثل كَسَب، فيقال: جَرَم زيد مالًا مثل كسبه، وجرمته دينًا؛ أي: كسبته إياه فهو مثل كَسَب، فتكون الكاف والميم المفعول الأول، والثاني: هو أن يصيبكم؛ أي: لا يكسبنكم عن عداوتي إصابة العذاب، وقد تقدم أنَّ جرم، وأجرم بمعنًى، أو بينهما فرق. ونسَبَ الزمخشري ضَمَّ الياء من يجرم لابن كثير كما مر في مبحث القراءة، اهـ. {شِقَاقِي} مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: شقاقكم إيَّايَ. {رَحِيمٌ وَدُودٌ}، {رَحِيمٌ}؛ أي: عظيم الرحمة للمستغفرين. {وَدُودٌ}؛ أي: كثير اللطف والإحسان إليهم، وهو صيغة مبالغة من ود الشيء يود ودًّا وودادًا وودادة إذا أحبه وآثره، والمشهور: وددت بكسر العين، وسمع وددت بفتحها، والودود: بمعنى فاعل؛ أي: يود عبادَه ويَرْحَمُهُم. وقيل: بمعنى مفعول بِمعنى أنَّ عباده يحبونه، ويواددون أولياءه فهم بمنزلة الموادِّ مجازًا، اهـ "سمين". {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا} الفقهُ: الفهمَ الدقيق المؤثر في النفس الباعث على العمل. {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} الرهط: قال ابن عطية: جماعة الرجل. وقيل: الرهط، والراهط: اسم لما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرِّجال. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى التسعة، ويجمع على أرهط، ويجمع أرهط على أَراهِطَ فهو جمع جمع. قال الرماني: وأصل الرهط الشَّد، ومنه الرهيط شدَّة الأكل، والراهط: اسم لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به، ويخبأ فيه ولده. اهـ "أبو حيان". ورهط الرجل عَشِيرَته الذين يستند إليهم، ويتقوى بهم. {لَرَجَمْنَاكَ}؛ أي لقتلناك بالرمي بالحجارة، وكانوا إذا قتلوا إنسانًا رجموه بالحجارة، والرَّجم بالحجارة أسوأُ القَتلات، وأشرها. وقيل: معنى لرجمناك: لشَتَمْنَاكَ، وأَغْلَظنَا لك القول. ومنه قول الجعدي: تَرَاجَمْنَا بِمُرِّ الْقَوْلِ حَتَّى ... نَصِيْرَ كَأنَّنَا فَرَسَا رِهَانِ

ويطلق الرجم على اللعن، ومنه: الشيطان الرجيم. {بِعَزِيزٍ}؛ أي: ذي عزة، ومنعَة، واتخذه {ظِهْرِيًّا} بالكسر والتشديد؛ أي: جعله نسْيًا مَنْسِيًّا لا يذكر كأنه غير موجود. والظهري بكسر الظاء: هو المنسوب إلى الظهر بفتحها، وهو من تغييرات النسب، كما قالوا: في أمس إمسي بكسر الهمزة كما مرَّ. وقيل: الضمير يعود على العصيان؛ أي: واتخذتم العصيانَ عونًا على عداوتي، فالظهريُّ على هذا بمعنى المعين المقوي. {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ أي: على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم، وإمكانكم يقال: مكن مكانة إذا تَمَكن أبلغَ تمكن. {وَارْتَقِبُوا}؛ أي: وانتظروا. {الصَّيْحَةُ} بوزن فعلة المرة؛ أي: صيحة العذاب. {جَاثِمِينَ}؛ أي: باركين على ركبهم منكبين على وجوههم. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} يقال غنِيَ بالمكان إذا أقام به. {أَلَا بُعْدًا} واعلم أن بُعَدًا وسحقًا، ونحوهما مصادر قد وضعت مواضعَ أَفْعَالِها التي لا يستعمل إظهارها، ومعنى (بُعْدًا) بعدوا؛ أي: هلكوا. وقوله: {لِمَدْيَنَ} بيان لمن نبه عليه بالبعد نحو: هيت لك، اهـ "روح البيان". {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} والجمهور على كسر العين من بعدت على أنها من بعد يبعد، من باب: طرب، بكسر العين، في الماضي وفتحها في المضارع، بمعنى هلك يهلك، أرادَتْ العرب أن تفرق بين البعد بمعنى الهلاك، وبين البعد الذي هو ضد القرب، ففرقوا بينهما بتغيير البناءِ، فقالوا: بَعُد بالضم من باب كرم، في ضد القرب، وبَعِدَ بالكسر من باب طرب، في ضد السلامة، والبعد بالضم، فالسكون مصدر لهما، والبَعَد بفتحتين، إنما يستعمل في مصدر مكسور العين. قال ابن الأنباري: ومن العرب من يسوي بين الهلاك، والبعد الذي هو ضد القرب فيقول فيهما: بَعِدَ يبعد، وبعد يبعد الأول من باب طرب، والثاني من باب شَرف، اهـ. {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} الآيات هي الآيات التسع المعدودة في سورة الإسراء، والمفصلة في سورة الأعراف وغيرها، والسلطان المبين هو ما أتاه الله من الحجة البالغة في محاوراته مع فرعون وملئه. والملأ: أشراف القوم وزعماؤههم. {وَمَاَ أَمرُ فِرْعَوْنَ}؛ أي: ما شأنه وتصرفه. {بِرَشِيدٍ}؛ أي: بذي رُشد وهدى. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} في "المختار" قدم يقدم كنصر ينصر قُدْمًا بوزن قفل،

وقدومًا أيضًا أي: تقدَّم. قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، اهـ. وفي "المصباح": وقدم الشيء بالضم قَدَمًا وزان عنب خلاف حدث فهو قديم، وقدم الرجل البلد يقدمه من باب تعب قدومًا، ومقدمًا بفتح الميم والدال، وقدمت القوم قدمًا من باب قتل مثل تقدمتهم، اهـ. {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}؛ أي: أدخلهم إياها. {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}، والوردُ: بلُوغُ الماء في مورده من نهر وغيره، والمورود الماءِ، والمرادُ به هنا النار. قال ابن السكيت: الوردُ هو ورودُ القوم الماءَ، والورد: الإبلُ الواردة، انتهى فيكون مصدرًا بمعنى الورود، واسم مفعول في المعنى كالطِحن بمعنى المطحون. {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} وفي "المختار": الرفد بالكسر العطاء، والصلة، والعونُ، وبفتحها المصدر فيقال: رَفَده إذا أعطاه، ورفده إذا أعانه، وبابهما ضَرَب، والإرفاد أيضًا الإعطاء والإعانة، اهـ. و (المرفود) المعطَى، ويقال: رفد الرجل يرفده رفدًا، ورفدًا إذا أعطاه، وأَعَانه من رَفَد الحائط إذا دَعَمَه. وذكر الماوردي: حكاية عن الأصمعي الرَّفد بالفتح القدح والرِّفْدُ بالكسر ما في القدح من الشراب، فكأنه ذم ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام. وقال الليث: أصل الرِّفد العطاء، والمعونة، ومنه، رفادة قريش. {وَحَصِيدٌ} والحصيدُ: بمعنى المحصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مريض ومرضى ومراض، اهـ "سمين". {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} وفي "السمين": التتبيب التخسير، يقال: تببه غيره، وتب هو بنفسه، فيستعمل لاَزِمًا ومتعدِّيًا، ومنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، اهـ. وفي "المصباح": التباب: الخسرانُ، وهو اسم من تببه بالتشديد، وتبَّتْ يده تتِب بالكسر خَسِرَتْ كناية عن الهلاك، وتبًّا له؛ أي: هَلاكًا واستتبَّ الأمرُ، إذا تَهَيَّأَ، اهـ. قال لبيد: وَلَقَدْ بُلِيْتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ ... يُبْلَى بعَوْدِ وَذَاكُمُ التَّتْبِيْبُ البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: اللف والنشر المرتَّب في قوله: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، فقولهم: {أَنْ نَتْرُكَ} رد لقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ}، وقولهم: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ} إلخ، رد لقوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ} إلخ. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} إذا أريد به الأَحْمَقُ السفيه نَزَّلُوا التضاد منزلة التناسب على سبيل الهزء، فاستعاروا الحلم والرشد للسفه، والغواية، ثم سرت الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد، ذكره في "روح البيان". ومنها: القصر في قوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَرَجَمْنَاكَ}؛ أي: لقتلناك من إطلاق السبب الذي هو الرجم بالحجارة، وإرادةِ المسبب الذي هو القتل، وإن لم يكن بالحجارة. ومنها: تقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر، والاختصاص في قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} وإن كان الخبر صفةً لا فعلًا. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} شبَّه الله سبحانه وتعالى بالشيء المرميِّ وراء الظهر، ولا يكترث به بجامع الإعراض في كل، والعرب تقول: لكل ما لا يعبؤُ بأمره، قد جعل فلانٌ هذا الأمر بظهره. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {مُحِيطٌ} , لأنَّ الإحاطةَ حقيقة في الأجسام كإحاطة الجدران، فإحاطَةُ الله بالأعمال مجاز عن علمها، وإدراكها بكمالها. ومنها: الإيجاز في قوله: {إِنِّي عَامِلٌ} لأنَّ الأصل عامل على مكانتي فَحَذَفَه للاختصار. ومنها: ما يسمى بالاستئناف البياني عند البلغاء في قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}

لأنه واقع في جواب سؤال مقدر كما قررناه في مبحث الإعراب. ومنها: إيراد المستقبل بلفظ الماضي في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} مبالغة في تحققه. وفيه أيضًا: الاستعارة المكنية؛ لأن الورودَ في الأصل يقال: للمرور على الماء للاستقاء منه، فشبه النارَ بماء يورد، وترك ذكر المشبه به، ورمَزَ إليه بشيء من لوازمه، وهو الورود، وإثبات الورود لها تخييلٌ، وشبه فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بـ (من) يتقدم على الواردين إلى الماء لِيَكْسِرَ العطش، فقَالَ في حق فرعونَ وأتباعه {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} على سبيل التهكم. وقوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} تأكيد له لأن الوِرْدَ إنما يُورَدُ لتسكين العطش، وتبريد الأكباد، وفي النار إلهاب للعطش، وتقطيعٌ للأكباد. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}؛ أي: كالزرع القائم على ساقه، وكالزرع المحصود بالمناجل، فشبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما عفى منها بالحصيد، اهـ "زاده" و"شهاب". ومنها: طباق السلب في قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}. ومنها: حكاية حال ماضية في قوله: {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ}؛ أي: عبدوها، لأن المرادَ بالدعاء العبادة. ومنها: المجاز المرسلُ {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى}؛ أي: أخذَ أهلَ القرى. ومنها: الطباق في قوله: {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الجمع في قوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، والتفريق في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} والتقسيم في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} إلخ، وهذه الثلاثة أيضًا من المحسنات البديعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}. المناسبة قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر العبرة في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا .. ذكر هنا العبرةَ بجزاءِ الآخرة للأشقياءِ والسعداء، فالأولون يصلون النار التي لهم فيها ¬

_ (¬1) المراغي.

شهيق وزفير، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفسُ وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. قوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، وأتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول - صلى الله عليه وسلم - أحوالَ الكفار من قومه، وأنَّهُمْ مُتَّبِعُوا آبائهم كحال من تقدَّم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال والفساد، تسليةً له - صلى الله عليه وسلم - في ضمن النهي له عن الامتراء في أنَّ ما يعبدونه غير نافع ولا ضار، ولا تأثيرَ له في شيء. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ...} الآيتين، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) ذكر مشركي مكة بأقوام غلب عليهم الكفرُ والجحود، ولم يؤمن إلا القليل منهم، فوفَّاهم جَزَاءَ أعمالهم في الدنيا، وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة، ذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتابَ فاختلفوا فيه، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب مثل هؤلاء. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين إصرارَ كفارِ مكةَ على إنكار التوحيد ونبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الذي أتى به، بيَّن أنَّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم؛ فليس ذلك ببدع ممن عاصرَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، وضَرَب لذلك مثلًا، وهو إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها، والكتاب هنا هو: التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض كما اختلف هؤلاء في القرآن. قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بينَ أمرَ المختلفينَ في التوحيد، والنبوة وأطنبَ في وعدهم، ووعيدهم .. أمرَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ تاب معه بالاستقامة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعِلْم والعمل والأخلاق الفاضلة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ...} الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أَمَر رسوله بالاستقامة، وعدم تجاوز ما رسمه الدين، وعدم الركون إلى أولي الظلم، أمره هنا بأفضلِ العبادات، وأجلِّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف. قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالَى لما (¬1) ذكر عاقبةَ الأمم المكذبةِ لرسلها في الدنيا والآخرة، وإنذارَ قومه - صلى الله عليه وسلم - بهم، وبين ما يجب عليه، وعلى مَن آمن به، وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتنابِ أهل الظلم والفساد .. ذكر هنا بيانَ السنن العامة في إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم، وأمثالهم ممن عصوا رسلَ ربهم، أن أنذَروهم عقابَه، ووَعَدهم إذا أطاعوهم ثوابَه. قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (¬2) قص قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين .. بيَّن هنا ما لذلك من فائدة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، وهي تثْبِيت الفؤادِ، والعظةُ، والاعتبار ثم أمَرَ رسولَه بالعبادة، والتوكل عليه، وعدم المبالاة بعداوة المشركينَ، والكيدِ له. أسباب النزول قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية، فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذه؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لجميع أمتي كلهم". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[106]

وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرًا، فقلت: إن في البيت أطيبَ منه، فدَخَلت معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتُ ذلك له، فقال: أخلفت غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلًا حتى أوحى الله إليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى قوله: {لِلذَّاكِرِينَ}. ووَرَد نحوه من حديث أبي أمامة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وبريدة، وغيرهم. التفسير وأوجه القراءة 106 - {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا}؛ أي: سَبقتَ لهم الشقاوة، وقُضِيَ لهم بالنار. وقرىء: {شَقُوا} بفتح الشين باتِّفاق السبعة بالبناء للفاعل. وقرأ الحسنُ بضم الشين بالبناء للمفعول. {فَفِي النَّارِ}؛ أي: فمستقرون في نار جهنم، وكأن سائلًا قال: ما شأنهم فيها؛ فقيل: {لَهُمْ فِيهَا}؛ أي: في نار جهنم {زَفِيرٌ}؛ أي: صوت شديد {وَشَهِيقٌ}؛ أي: صوت ضعيف، فالجملة إما مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كما قررنا، أو في محل النصب على الحال. قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، وهو المرتفع جدًّا قال: وزَعَم أهل اللغة من البصريين والكوفيينَ: أن الزفيرَ بمنزلة ابتداءِ صوت الحمير، والشهيقَ بمنزلة آخِره. وفيه (¬1): استعارة تصريحية كما سيأتي في مبحث البلاغة، فإن المرادَ تشبيه صراخهم بأصوات الحمير، فكما أنَّ الحميرَ لها أصوات منكرة، كذلك لهم أصوات منكرة في جهنم، كما يشاهد ذلك في الابتلاء في الدنيا، لا سِيّما عند الصلب أو الخنق أو ضرب العنق، أو قطع اليد، أو نحوها، فإن لبعض المجْرِمينَ حينئذ خوار كخوار البقر يتغير صوته، كما يتغير لونه، وحال الآخرة أشد من حال الدنيا ألْفَ مرَّةٍ. وقيل: الزفير إخراج النفس، والشهيق رَدُّ النفس. وقيل: الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق. وقيل غير ذلك مما لا طائلَ تحته. والمعنى (¬2): أي فأما الذينَ شقوا في الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[107]

الأشقياء، لفساد عقيدتهم الموروثة، وسوء القدوة في العمل حتّى أحاطت بهم خطيئاتُهم، وانطَفأَ نور الفطرة مِن أنفسهم، فلهم في النار التي هي مستقرهم، ومثواهم زفير، وشهيق من حَرَج صدورهم، وضيق أنفاسهم، وشدة كروبهم. ويكون الذين شَقُوا شاملًا للكفار، وعصاة المسلمين. 107 - وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في النار حال من الضمير المستكن في الظرف أعني قوله: {في النار}؛ أي: فأما الذين شقوا فمستقرون في النار، حالةَ كونهم ماكثينَ فيها مكث خلود، ودوام، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}؛ أي: مُدةَ دوام السموات التي تظلهم، ودوام الأرض التي تقلهم. فالمراد (¬1) سمواتُ الآخرة، وأرضها، وهي دائمة مخلدة، ويَدُلُّ عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}. وأن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقلٍّ، إما سماء يخلقها الله فتظلهم، أو يظلهم العرش، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض، ولا فسادَ في التشبيه بما لا يعرِف أكثر الخلق وجودَه، ولا مانع، ونظيره تشبيه الشيء بالكيمياء، أو بمدينة إرَم وغير ذلك. أو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: لا أفعلُه ما بدا كوكب، وما أضاءَ الفجر، وما تغنت حمامةٌ، والنصوص متظاهرة على تأبيدِ قرارهم فيها. وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} هو (¬2) استثناء من الخلود في عذاب النار، وذلك لأن أهل النار لا يخلدونَ في عذاب النار وحده، بل يعذَّبون بالزمهرير، وأنواع من العذاب سوى عذاب النار. والمعنى: خَالِدينَ فيها مدة دوام السموات والأرض، إلا الزمان الذي شاء ربك خروجهم فيه من النار إلى الزمهرير ونحوه، أو ما شاءَ بمعنى إلا من شاء ربك خروجهم من النار بعدما دخلوا، وهم قوم يخرجون من النار، ويدخلون الجنَّةَ فيقال لهم الجهنميون، وهو المستثنون من أهل الجنة أيضًا، لمفارقتهم إيَّاهَا بكونهم في النار أيّامًا فهؤلاء لم يشقوا شقاوةَ مَنْ يدخل النار على التأبيد، ولا سَعِدُوا سعادةَ مَنْ لا تمسه النار، وهو مروي عن ابن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

عباس، والضحاك، وقتادةَ وغيرهم رضي الله عنهم. فعلى (¬1) هذا القول يكون معنى الآية: فأمّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدينَ فيها ما دامتِ السموات والأرض إلا من شاء ربك أن يخرجهم منها، فيدخلهم الجنةَ فـ (ما) بمعني مَنْ. وقيل: إلا (¬2) ههنا بمعنى سوى كقولك: عليَّ ألف إلا الألفان القديمان، والمعنى حينئذ خالدينَ فيها؛ أي: دائمين في النار، كدوام السموات والأرض، منذ خلقت إلى أن تفنَى سوى ما شاء ربك من الزيادةِ التي لا آخرَ لها على مدة بقاء السموات والأرض. وحاصلُ هذا القول: أن إلَّا في المعنى، بمعنى حرف العطف، والاستثناء فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وزيادة على هذه المدة لا منتهى لها، اهـ "جمل". وقيل (¬3): هو استثناء من قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}. وقيل: (إلا) بمعنى الواو؛ أي: وقد شاء ربك خلودَ هؤلاء في النار، وخلود هؤلاء في الجنة فهو كقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: ولا للذين ظلموا. وقيل معناه: ولو شاء ربك لأخرجهم منها، ولكنه لم يشأْ لأنه حَكَم لهم بالخلود فيها، قاله الفراء. فهذه الأقوال في معنى الاستثناء ترجعُ إلى الفريقين، والصحيح هو القول الثاني الذي عليه ابن عباس رضي الله عنه، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ويشاء من إخراج من أراد من النار، وإدخالِهم الجنة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه، واقتضته حكمتُه، وما كان كذلك لم يكن إخلافًا لشيء مِنْ وعده، ولا من وعيده لخلود أهل النار فيها. فهذا على الإجمال في الفريقين (¬4)، فأما على التفصيل فقوله: إلا ما شاء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) الخازن. (¬4) الخازن.

[108]

ربك في جانب الأشقياء، يرجع إلى الزفير والشهيق، وتقريره: أن يفيدَ حصول الزفير والشهيق مع خلود؛ لأنه إذا دَخَل الاستثناء عليه، وجب أن يحصلَ فيه هذا المجموع، والاستثناء في جانب السعداء يكون بمعنى الزيادة يعني إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود. وقيل: إن الاستثناء الأول في جانب الأشقياء، معناه إلا ما شاء ربك من أن يخرجهم من حر النار إلى البرد والزمهرير، وفي جانب السعداء معناه إلا ما شاء ربك أن يرفَعَ بعضَهم إلى منازلِ أعلَى منازلِ الجنان، ودرجاتها. والقول الثاني هو المختار. 108 - {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} قرأ ابن (¬1) مسعود، وطلحة بن مصرف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: {سُعدوا} بضم السين وباقي السبعة، والجمهور بفتحها. فالضم من قولهم: سعده الله أي: أسعده فهو حينئذ متعدّ، والفتح من قولهم: سعد الرجل بمعنى قامت به السعادة، فهو حينئذ لازم. والمعنى (¬2): إنَّ الذينَ سبقت لهم السعادة من الله بموتهم على الإيمانِ، وإن سبقَ منهم الكفر في الدنيا، والمراد بالسعادة رضا الله تعالى عن العبدِ. وعلامة ذلك أن يكون العبد محبًّا لربه ساعيًا في مرضاته دائمَ الإقبال على طاعته راضيًا بأحكامه. {فَفِي الْجَنَّةِ}؛ أي: فمستقرون في الجنة حالةَ كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثينَ في الجنة مكث خلود {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}؛ أي: مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلهم يعني سموات الجنة وأرضها {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من مقدار موقفهم للحساب، أو مفارقتهم للجنة أيَّامَ عذابهم، فإن التأبِيدَ من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداءِ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء، أو المعنى خالدِينَ فيها مدةَ دوام السموات والأرض في الدنيا. والمعنى: قدر مكث السموات والأرض من أول الدنيا إلى آخرها. {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}؛ أي: غير ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لَها، فالمعنى خالدينَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الصاوي.

[109]

فيها أبدًا. ويدل على ذلك قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}. فالزيادة التي شاءها الله تعالى فسرت في آيات أخر بالخلود المؤبد. وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: يعطيهم الله ذلك الجزاء عطاء غير مقطوع ولا ممنوع، والمعنى أنه ممتد إلى غير نهاية. مأخوذ من جذَّ إذَا قطعه أو كسره، وهو كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: إن (¬1) هذا الجزاءَ هبة منه، وإحسانٌ دائم غَير مقطوع. وقد كثر وعد الله تعالى للمؤمنينَ المحسنينَ بأنه يزيدهم من فضله، وبأنه يُضاعِفُ لهم الحسنة بعشرة أمثالها، وبأكثر إلى سبع مئة ضعف، وبأنه يجزيهم بالحسنى، وبأحسنَ مما عملوا, ولم يُوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا، وبأنَّ السيئة بمثلها، وهم لا يُظلمون، وبأنه لا يَظْلِم أحدًا، وهذا الجزاء، وهو الخلود في النار أثر طبيعي لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد. 109 - وبعد أن شرحَ سبحانه أقاصيصَ عَبدةِ الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء أَنْذرَ أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين من قومه، بما حَلَّ بالأمم المهلكة من العذاب فقال: {فَلَا تَكُ} يا محمَّد أصله: لا تكنْ، حذفت النون لكثرة الاستعمال؛ أي: إذا تبين عندك يا محمَّد ما قصصت عليك من قَصَصِ المتقدمينَ وسوءِ عاقبتهم فلا تكن {فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} المشركون من أهل مكةَ من الأصنام؛ أي: لا تكن في شك في أن ما يعبدونه من الأصنام غير نافع ولا ضار، ولا تأثير له في شيء أو لا تكن في شك في بطلان عبادتهم لها، أو لا تكن في شك من سوء عاقبتهم، وكن على يقين في أنها ضلال سيء العاقبة. وهذا النهي له - صلى الله عليه وسلم - هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يشك في ذلك أبدًا. وكأنه قيل: لم لا أكون في شك؛ فأُحبيب لأنهم {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا} كان {يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: إن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم من قبل، في أنها لا تنفع ولا تضر، أو إن عبادتَهم لها كعبادةِ آبائهم من قبل في أنها ضلال باطلٌ؛ أي: فحالهم كحال آبائهم من غير تفاوت، ¬

_ (¬1) المراغي.

فهم على الباطل، والتقليد لا على الحق والتحقيق. وفيه (¬1): إشارةٌ على أنَّ أهلَ الفترة الذينَ عَبَدوا الأصنامَ من أهل النار، فإن الذَّم ينادي على ذلك. والمعنى (¬2): أنهم سواء في الشرك بالله، وعبادة غيره، فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في {كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} لحكاية الحال الماضية. والخلاصة (¬3): أي إذا كَانَ أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصناه عليك، فلا تكن في أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء في عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديلَ لها. وفي ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، ووعيد لقومه كما لا يخفى. ثم بيَّن حالَهم في عبادتهم وجزاءهم عليها فقال: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: لأنهم أشبهوا آباءَهم في الجهل والتقليد، فهم مقلدون لهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، وتوفية الشيءِ تأديته، وإعطاؤه على وجه التمام والضمير لهؤلاء الكفرة؛ أي: لمعطوهم حظهم المتعين لهم من العذاب الدنيوي والأخروي كما وفينا آباءهم أنصباءَهم المقدرةَ لهم حسب جرائمهم، فسيلحقهم مثل ما لَحَقَ بآبائهم، فإن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، فإن قيل: لا سبب عندنا إلا الله. قلنا: يكفينا السببية العادية، وهو ما يفضي إلى الشيء بحسب جريان العادة. وقوله: {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} حال مؤكدة من النصيب؛ لأنَّ التوفية تَقتضِي التكميلَ كقوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}. وفائدته مع دفع توهم التجوز: تقرير ذي الحال؛ أي: جعله مقررًا ثَابِتًا لا يظن أنه غيره؛ لأن التوفيةَ لا تستلزم عدمَ النقص، فقد يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقص، كما يجوز أن يوفَّى وهو كامل. وفي الآية ذَمٌّ للتقليد، وهو قبولُ قول الغير بلا دليل. وقيل: المعنى (¬4): وإنا لمعطوهم نصيبَهم من جزاءِ أعمالهم في الدنيا وافيًا تامًّا لا ينقص منه شيء، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل، فأعمال الخير التي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

[110]

يعملونها في الدنيا كبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإغاثة الملهوف يوفون جزاءَهم عليها بسعة الرزق، وكشف الضر جزاءً تامًّا وافيًا، ولا يجزون عليها في الآخرة، ومثل هذا الجزاء متاعٌ عاجل لا يلبث أن يزولَ. وقرأ (¬1) الجمهور: {لموفُّوهم} مشددًا من وفى، وقرأ ابن محيصن مخففًا من (أوفى). 110 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد آتينا وأعطينا موسى بن عمرانَ التوراة، وهو أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، وأما ما قبله من الكتب، فإنما كانت مشتملةً على الإيمان باللهِ وتوحيده، ومن ثم قيل لها: صحف، وإطلاق الكتاب عليها مجاز. {فَاخْتُلِفَ فِيهِ}؛ أي: في شأن ذلك الكتاب، وكونه من عند الله، فآمن به قوم من بني إسرائيل، وكفَرَ آخرون، كما اختلف قومكَ في القرآن، فلا تبال يا محمَّد باختلافهم فيما آتيناك من القرآن، ولا تحزَنَ عليه، واصبر على تكذيبهم كما صَبَر موسى على تكذيب قومه، فإنَّ ما وقع لك فقد وقع لمن قبلك، ففيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. ولمَّا قَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - غَنَائم حنين، وأطال بعض المنافقين الكلامَ في أنه لم يعدل في القسمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يَعْدِل إذَا لم يَعْدِل الله ورسولُه، رحمة الله على أخي موسى، لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر"، يعني أنَّ موسَى أصابه الأذى الكثير من جهة قومه، فصَبَر على أذاهم، فلم يجزَع فأنا أحق بالصبر منه؛ لأنَّ الجمعية الكمالية في ذاته - صلى الله عليه وسلم - أتم فحَظُّه من النفحات الإلهية والأخلاق الحميدة الربانية أكثرُ وأوفرُ. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: ولولا الحكم الأزليُّ بتأخير العذاب عن أمتك، أو عن قوم موسى إلى يوم القيامَةِ. قال بعضهم: الأظهر أن لا (¬2) تقيد بيوم القيامة، فإن أكْثَرَ طغاتهم نَزَلَ بهم العذاب يوم بدر، وفي غيره. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطلونَ ليتميزوا به عن المحقينَ. والكلمة هي كلمة القضاءِ بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى، بحسب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[111]

الحكمة الداعية إلى ذلك؛ أي: ولولا ما تقدم من قضاءِ الله سبحانه وتعالى بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، وإبقاءِ المعتصمينَ بالوحدةَ والاتفاق على هِدَايَتِه لأهلكهم كما أَهْلَكَ الذينَ ردوا دعوة الرسل جحودًا وعنادًا، وهذا من جملة التسلية له - صلى الله عليه وسلم -. ثمَّ وَصَفَهم بأنهم في شك من الكتاب فقال: {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإنَّ المكذبينَ بالكتاب من كفار قومك، أو من قوم موسى {لَفِي شَكٍّ} عظيم {مِنْهُ}؛ أي: من القرآن إن حمل على قوم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أو من التوراة إن حمل على قوم موسى عليه السلام {مُرِيبٍ}؛ أي: موقع في الريب، والاضطراب، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؛ لأنهم (¬1) إذا نظروا لآبائهم، وما كانوا عليه قالوا: لو كانَ ما هم عليه ضلالًا ما اجتَمَعوا عليه، وإذا نظروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته الظاهرة؛ قالوا: إنه لحق، وما جاء به صدق، فهم في شك، ولا شك أنه كفر، وكل هذا ناشىءٌ من الطبع على قلوبهم، وإلا فالحق ظاهرٌ لمن تدبَّره، اهـ "صاوي". وجاء في معنى الآية قوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}. والذين أورثوا الكتاب بعد مَن تَقدَّم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى، وقد عَرَض لهم من الشك والرَّيب في كتبهم ما لم يكُن في عهد سَلَفِهم؛ إذ أنَّ التوراةَ التي كتبها موسى عليه السلام، قد فقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان، والنصارى كانوا أشدَّ اختلافًا في كتبهم ومذاهبهم. 111 - {وَإِنَّ كُلًّا} من المختلفينَ في الكتاب المؤمنينَ منهم، والكافرين {لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (اللام) (¬2) الأولى موطئة للقسم، والثانية للتأكيد أو بالعكس، و (ما) مزيدة للفصل بين اللامين؛ أي: وإن (¬3) كلًّا من المختلفين فيه، والله ليعطينَهم ويؤدِّينَهم ربك يا محمَّد أَجْزِيَة أعمالهم تامًّا وافيًا كاملًا إن خَيرًا فخَيْرٌ، وإن شرًّا فشر إذ لا يَخْفَى عليه شيء منها. أو المعنى: وإنَّ جميعَهم، والله ليوفينهم ربك جزاءَ أعمالهم، قالوا: وأحسن ما قيل: إن أصلَ لمَّا لمًّا بالتنوين ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراح.

[112]

بمعنى جميعًا، نظير قوله تعالى: {أَكْلًا لَمًّا} فيكون توكيدًا لـ (كُلًّا)؛ أي: وإن كلًّا جميعًا من الخلائق، والله ليعطينَّهم ربك جزاء أعمالهم، {إنه}؛ أي: إن ربك سبحانه وتعالى {بِمَا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بما يعمل كل فرد من المختلفين من الخير أو الشر {خَبِيرٍ}؛ أي: عالم بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، فيجازي كلًّا بحسب عمله، وتوفية جزاءِ الطاعاتِ وعدٌ عظيمٌ، وتوفيةُ جزاء المعاصي وعَيدٍ عظيمٌ، والجملة تعليل لما قبلها، فعلى العاقلِ أن ينتبهَ من الغفلة، ويجانبَ ما يخالفَ أمر الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى لا يفوته منه شيء. وقرأ (¬1) الحرمِيَّان نافع وابن كثير، وأبو بكر: {وَإِنَّ كُلًّا} بتخفيف النون ساكنة. وقرأ الباقون بتشديد: (إنَّ). وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: {لَمَّا} بالتشديد هنا وفي يس والطارق. وأجمعت السبعة على نصب (كُلًّا). فَتُصوَّر في قراءتهم أربع قراءات: إحداها: تخفيفُ (إنْ) وتخفيف (لمَا) وهي قراءة الحرميان. والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. والثالثة: تخفيف (إن) وتشديد لمَّا، وهي قراءة أبي بكر. والرابعة: تشديد (إنَّ) وتخفيف لما، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو. وقرأ أبيٌّ والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، و {إنْ} بالتخفيف {كل} بالرفع {لمَّا} مشددًا. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: {وَإِن كلًّا لمَّا} بتشديد الميم وتنوينها ولم يتعرضوا لتخفيف (إنْ) ولا تشديدها. وقال أبو حاتم الذي في مصحف أبي: {وإن مِنْ كُلَّ إِلَّا لَيُوفِيَّنَهم}. وقرأ الأعمش: {وإنْ كلُّ إلا} وهو حرف ابن مسعود. فهذه أربعة وجوه في الشاذ. 112 - ثم أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}؛ أي: مثل الاستقامة التي أمرت بها في العقائد والأعمال ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والأخلاق، فإنَّ الاستقامةَ في العقائد اجتناب التشبيه، والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة، والنقصان، وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط، وهذا في غاية العسر؛ أي؛ إذا تبين عندك يا محمَّد أحوال القرون الأولى، وأن إخوانَك الأَنبياء، ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى، وصبروا، واستقاموا على طريقتهم المثلى إلى أن يأتِيَ أمر الله تعالى، فأقولُ لك دُم أنت أيضًا على الاستقامة على التوحيد، والدعوة إليه كما أمركَ اللَّهُ تعالى فيَدْخُلْ في ذِلك جميع ما أمره به، وجميع ما نهاه عنه؛ لأنه قد أَمَره بِتَجَنُّبِ ما نهاه عنه كما أَمَره بفعل ما تعبّده بفعله، وأمته أسوة في ذلك. ولهذا قال: {وَمَن تَابَ مَعَكَ}؛ أي: رَجَعَ من الكفر إلى الإِسلام، وشاركَكَ في الإيمان, وهو معطوف على الضمير في {فَاسْتَقِمْ} لأنَّ الفَصَل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقامَ التأكيد؛ أي: وليستَقِمْ مَنْ تاب معك. ومَا أعظمَ مَوْقِعَ هذه الآية، وأشدَّ أمرها، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهَّرةُ والذواتُ المقَدَّسة. ولهذا يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "شيبتنِي هود"؛ أي (¬1): ومَنْ تاب من الشرك، والكفر، وشارَكَك في الإيمان, هو المعني بالمعية، وإلا فليس لهم مصاحبة له في التوبة عما ذكر؛ إذ الأنبياء مَعْصُومون عن الكفر، وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحي، وبعده بالإجماع. {وَلَا تَطْغَوْا}؛ أي: ولا تَنْحَرِفوا عما حدَّ لكم بإفراط، وتفريط، فإنَّ كِلاَ طرفي قصد الأمور ذميم، وإنما سمِّي ذلك طغيانًا، وهو تجاوز الحد، تغليظًا أو تغليبًا لحال سائر المؤمنين على حاله - صلى الله عليه وسلم -. والطغيان (¬2) مجاوزة الحد. ولَمَّا أمَرَ الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بَيَّن أن الغلوَّ في العبادة، والإفراطَ في الطاعة، على وجه تخْرج به عن الحد الذي حدَّه، والمقدار الذي قدَّره ممنوع منه منهي عنه، وذلك كمن يصوم ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام، ويترك الحلالَ الذي أَذِنَ الله به، ورغَّب فيه. ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه: "أمَّا أَنَا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأنكح النساءَ فمَن رَغِبَ عن سنتي فليس مني". والخطاب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأمته تغليبًا لحالهم على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

حاله، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ أي: عالم بأعمالكم لا يخفَى عليه شيء منها، فيجازِيكم على ذلك، فاتقوه في المحافظة على حدوده، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي السابقين في الآية. وقرأ الحسن والأعمش: {بما يعملون} بالياء على الغيبة، ورُويت عن عيسى الثقفي. وحاصل معنى الآية (¬1): أي فالزم الصراطَ المستقيمَ الذي لا عوج فيه، واثبت عليه، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك، ولا تنحرفوا عما رُسِمَ لكم بتجاوز حدوده غلوًا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم. وفي هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية من عقائد، وعبادات، واجتناب الرأي، وبطلان التقليد فيها، وإيضاح هذا أنَّ تحكيمَ العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته، وفيما دون ذَلك من عَالَم الغيب كالملائكة، والعرش، والجنة، والنار تجاوز لحدوده، فإن أكبرَ العلماء والفلاسفة عقولًا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم، وأنفس ما دونَهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها، حتى الحشرات منها كالنحل والنمل، فأنَّى لهم أن يعرفوا كنهَ ذات الله تعالى وصفاته، أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله تعالى. ولما خرج متأخروا الأمة عن هدي سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زَاغُوا فكانوا {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}. فسَقَطَ بعضهم في خيال التشبيه، وبعضهم في خيال التعطيل، ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين، لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق في الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم، وبرأ رسولَه منهم. والواجب التزام كتاب الله تعالى، وما فسرته به سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من ¬

_ (¬1) المراغي.

[113]

العباداتِ العمليةِ والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب، والسنة على السنن القويم، دونَ تأويل، ولا تخريجٍ لهما على غير ما يفْهَم مِن ظاهرهما. أَما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة، وأمور المعاش من زراعات وتجارات، فهو أمر طبيعي لا يمكن الغنَى عنه، فلولاه لما تقدمت شؤون الحياة، ولَمَا حصل التنافس لدى أرباب المهن، والصناعاتِ، ولما جد كل يوم بدع جديد، ولكان الناس دائمًا على الفطرة الأولى، وأنَّى لعقل الإنسان أن يستمرَّ على حال واحدة، وقد أُوتيَ الخلافَةَ في الأرض، وحسْنَ استعمارها، وبهذا وحدَه فَضَلَ الملائكة، ولله في خلقه شؤون. وقد بيَّن سبحانه لنا المخرجَ إذا حَدث بيننا الخلاف في الدين فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآيةَ. وقد فسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء في اليمن: "بمَ تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: فبسنة رسوله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فأقره على ذلك. وهذا هو الاستقامة في الدين التي بها يرقى المرء إلى أعلى عليين. وقد حث الله رسوله عليها في هذه الآية وحَث موسَى وهارونَ عليها، فقال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}. ومَدَح من اتَّصَفوا بها، ووعدهم بالخير والفلاح في الآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}. وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: قلتُ: يا رسول الله قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم". {إِنَّهُ} تعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ أي: بصير بعملكم، ومحيط به، فيجزيكم به، فاتقوه أن يَطَّلع عليكم، وأنتم عاملون بخلاف أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}. 113 - {وَلَا تَرْكَنُوا}؛ أي: ولا تميلوا أدنى ميل؛ لأن الركونَ هو الميل اليسير,

والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ مَعَه {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: إلى الذين وُجد منهم الظلم بالجملة {فَتَمَسَّكُمُ} بسبب ذلك {النَّارُ} الأخروية، وإذا كان الركونُ إلى من صدر منهم ظلم مرة في الإفضاء إلى مساس النار هكذا فما ظنك بالركون إلى من صدر منهم الظلم مرارًا، ورسخوا فيه، ثمَّ بالميل إليهم كلَّ الميل {وَمَا لَكُمْ}، والحال: أن ما لكم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعالى {مِنْ أَوْلِيَاءَ}؛ أي: من أنصار ينقذونكم من النار، على أن يكونَ مقابلة الجمع بالجمع بطريق انقسام الآحاد على الآحاد، والجملة في محل النصب حال من مفعول {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}؛ أي: وأنتم على هذه الحالة، وهي انتفاء ناصركم. وقوله: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} جملة فعلية معطوفة على الاسمية قبلها، وكلمة {ثُمَّ} لاستبعاد نصرة الله تعالى إياهم مع استحقاقهم العذابَ بسبب ركونهم؛ أي: ثم لا ينصركم الله، ولا ينقذكم منها إذ سَبَقَ في حكمه أن يُعَذِّبكم، ولا يُبقي عليكم. وقرأ الجمهور: {تركنوا} بفتح الكاف، والماضي رَكِنَ بكسرها، وهي لغة قريش. وقال الأزهري: هي اللغة الفصحى. وعن أبي عَمرو بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء. وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو: {تَرْكُنوا} بضم الكاف مضارع رَكَن بفتحها، وهي لغة قيس، وتميم. وقال الكسائي: وأهلُ نجد، وشذَّ "يَرْكنُ" بفتح الكاف مضارع، رَكَن بفتحها. وقرأ ابن أبي عَبْلَة: {ولا تُرْكَنوا} مبنيًّا للمفعول من أركنه إذا أَمالَه. وقرأ ابن وثاب، وعلقمة والأعمش، وابن مصرف، وحمزة، فيما روي عنه: {فتمسَّكم} بكسر التاء على لغة تميم، ذكره أبو حيان. وقرأت العامة: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} بإثبات نون الرفع. وقرأ زيد بن علي، وعائشة بحذف نون الرفع عطفًا على (تمسكم) ذكره في "الجمل"؛ ومعنى الآية: أي: لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين، ولا من غَيرهم فَتَجْعَلُوهم رُكنًا لكم تعتمدون عليه، فتقروهم على ظلمهم، وتوالوهم في شؤونكم الحربية، وأعمالكم الدينية، فإن الظالمينَ بعضهم أولياء بعض.

وخلاصة ذلك: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم، فإن فَعَلتم ذلك أصابتكم النار، التي هي جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم، والاعتزاز بهم، والاعتماد عليهم، والركون إلى الظلم وأهله ظلم، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وليس لكم في هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير الله وليًّا ينقذكم، ويخلصكم من عذابه، ثم لا تنصرون؛ أي: لا ينصركم الله؛ لأن الذينَ يركنون إلى الظالمينَ يكونون منهم، وهو لا ينصر الظالمين، كما قال: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} بل تكون عاقبتكم الحرمانَ مما وعد الله رسله، ومن ينصره من المؤمنين. والخلاصة: أن الركونَ إلى الظالمينَ المنهي عنه، هو: الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم، ويصدونهم عن دينهم، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر الظلمَ هنا بالشرك، و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالمشركين. وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، ولو فرضنا أن سَبَبَ النزول هم المشركون، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن ابتلي بمخالطة الظلمة فليزن أَقْوالَهم وأفعالهم بميزان الشرع، فإنْ زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا، وطاعتهم واجبة على كل مَنْ دَخَل تحت أمرهم، ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن في معصية الله. فمن أمروه أن يدخُل في شيء من الأعمال التي وَلَّوْهُ كالمناصب الدينية ونحوها فَلْيَدْخُل فيه إذا وثق من نفسه القدرةَ على القيام به، إلى أنه يجب الأخذ على أيدي الظالمين عامةً، وعلى أئمة الجَور والأمراء خاصةً، ويجب تغيير المنكر أولًا باليد، فإن لم يستطع ذلك فباللسان، وإلا فبالقلب وذلك أضعف الإيمان. روى الإِمام أحمد، وأصحاب السنن, عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه قَامَ فحمد الله، وأثنى عليه ثمَّ قال: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} حتى أتى على آخر الآية، ألا وإن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه، أَلاَ وإني سمعت رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكَر بينهم، فلم ينكروه يوشِكَ أن

يعمَّهم اللَّهُ بعقابه". وفي الآية (¬1) أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ثم لا يرتَدِعُونَ عن الظلم والميل إلى أهله، ولا يتدبرون أنهم مؤاخَذون غير منصورين. وفي الحديث: "إياكم والظلمَ فإنه يخرِّب قلوبَكم". وفي تخريب القلب تخريب سائر الجسد، فالظالم يظلم على نفسه، حيث يخرب أعضاءه الظاهرة، والباطنة، وعلى الله حيث يخرب بنيانَ الله، ويغيِّرُه ويفسده، ولأنه إذا ظَلَمَ غيره، وآذاه، فقد ظَلَمَ على الله ورسوله وآذاه. والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا من الله، والمؤمنون مِنّي، فَمَنْ آذى مؤمنًا، فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد أَذَى الله تعالى". ودَخَل في الركون إلى الظالمينَ المداهنة والرضى بأقوالهم، وأعمالهم، ومحبة مصاحبتهم، ومعاشرتهم، ومد العَين إلى زهرتهم الفانية، وغبطتهم فيما أوتوا من القطوف الدانية، والدعاءِ لهم بالبقاء، وتعظيمُ ذِكرهم، وإصلاح دواتهم، وقلمهم، ودفعُ القلم أو الكاغد إلى أيديهم، والمشي خلفَهم، والتزيي بزيهم، والتَّشبهُ بهم وخياطة ثيابهم وحَلق رؤوسهم. وقد امتنع بعض السلف عن رَدِّ جواب الظلمة في السلام، وقد سئل سفيان الثوري عن ظالم أَشْرَفَ على الهلاك في بريه، هل يُسقَى شربةَ ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموتُ، فقال: دعه فإنه إعانة للظالم. وقال غيره: يسقى إلى أنْ يثوبَ إلى نفسه، ثم يعرِض عنه. وفي الحديث: "العلماء أُمناء الرسل على عباد الله، مَا لَمْ يُخَالِطُوا السلطانَ، فإذا فعلوا ذَلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم، واعتزلوهم"، فإذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّ الواجب عليك: أن تَعْتَزلَ عنهم بحيث لا تراهم، ولا يرونك إذ لا سلامة إلا فيه، وأن لا تفتشَ عن أمورهم، ولا تتقرب إلى من هو ¬

_ (¬1) روح البيان.

من حاشيتهم، ومتصل بهم من إمامهم، ومؤذنهم فضلًا عن غيرهم، من عمالهم وخدمهم، ولا تتأسفَ على ما يفوتُ بسبب مفارقتهم، وترك مصاحبتهم، واذكر كثيرًا قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا قرأ الرجل القرآنَ، وتفقه في الدين، ثم أتى بابَ السلطان تملقًا إليه، وطمعًا لما في يديه خَاضَ بقدرِ خطاه في نار جهنم". والحديث كأنه مأخوذ من الآية، فهما متطابقان معنًى كما لا يخفَى. ورُوي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى يوشع بن نون أني مهلِك من قومك أربعينَ ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، فقال: ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، فكانوا يؤاكلونهم، ويشاربونهم. وبهذا تبيَّن أن بُغْضَ الظَّلمةِ والغضبَ عليهم لله واجب، وإنما ظَهَرَ الفساد في الرعايا، وجميع أقطار الأرض، برًّا وبحرًا بفساد الملوك، وذلك بفساد العلماء أوَّلًا إذ لولا قُضاةُ السوء وعُلماءُ السوءِ لقل فساد الملوك، بل لو اتفقَ العلماء في كل عصر على الحق، ومنع الظلم، مجتهدينَ في ذلك، مستفرغين مجهودَهم، لما اجترأ الملوك على الفسادِ، ولاضمحل الظلم من بينهم رأسًا وبالكلية. ومن ثمَّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ هذه الأمة تحت يد الله وكنفه، ما لم يمالِىء قراؤها أمراءها". وإنما ذَكَر القراء؛ لأنهم كانُوا هم العلماء، ومَا كَانَ علمهم إلا بالقرآن، ومعانيهم إلا بالسنة، وما وراء ذلك من العلوم، إنما أحدثت بعدهم كذا في "بحر العلوم" للشيخ عليٍّ السمرقندي رحمه الله تعالى. وذكَرَ في "الإحياء": أنَّ من دخلَ على السلطان بلا دعوة، كان جاهلًا، ومن دعِيَ فلم يجِبْ كَانَ أَهْلَ بدعة. وتحقيق المقام: أنَّ الركونَ في الآية أسند إلى المخاطبين، والمخالطة، وإتيان الباب، والممالأة إلى العلماء والقراء، فكل منها إنما يكون مذمومًا إذا كان من قبل العلماء، وأمَّا إذا كان من جانب السلاطين والأمراء بِأنْ يكونوا مجبورينَ في ذلك مطالَبينَ بالاختلاط لأجل الانتفاع الديني .. فلا بَأسَ حينئذٍ بالمخالطة, لأنَّ المجبورَ المطالبَ مؤيد من عند الله تعالى، خَال عن الأغراض

[114]

النفسانية بِخِلافِ ما إذا كان مقارنًا بالأغراض النفسانية، فيكون موكولًا إلى نفسه فتختطفه الشياطين، نعوذ بالله سبحانه وتعالى من سخطه وغضبه. 114 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الاستقامةَ خَصَّ من أنواعها: إقامَةَ الصلاة لكونها رَأْسَ الإيمان وعمادَه، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} يا محمَّد أنت وأمتك؛ أي: أدِّها على الوجه القويم، وأَدِمْهَا {طَرَفَيِ النَّهَارِ}؛ أي: في طرفي النهار من كل يوم؛ أي: غدوة وعشية، فالصبح في الغدوة، والظهر والعصر في العشية، وانتصابه على الظرفية، لكونه مضافًا إلى الوقت، فيعْطَى حكم المضاف إليه، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: وفي ساعات من الليل قريبة من النهار، وهي المغرب والعشاء، وانتصابه أيضًا على الظرفية، لعطفه على طرفي النهار، وهيَ الساعات القريبة من النهار، من أزلفه إذا قربه، جمع زلفة كغرف جمع غرفة. والمراد بصلاة الغدوة، صلاة الصبح، وبصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي، وبصلاة الزلف المغرب والعشاء. وفيه دلالة بينة على إطلاق لفظ الجمع، وهو الزلف على الاثنين. فالآية مشتملة على الصلوات الخمس، ونظيرها قوله تعالى في سورة ق: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} أي بصلاة الصبح. {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}؛ أي: بصلاة العصر، والظهر، فالعصر أصل في ذلك الوقت، والظهر تَبَعٌ لها. {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: في بعض أوقاته {فَسَبِّحْهُ}؛ أي: بصلاتي المغرب والعشاء. وفسَّر بعضُهم طرفي النهار بالصبح والمغرب، ورجَّحه ابن جرير، وزُلَفَ الليل بالعشاء والتهجد. فإنه كان واجبًا عليه فيوافق قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ}. ثم بيَّن فائدةَ الأمر السابق وحكمتَه فقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ}؛ أي: إنَّ الأعمالَ الحسنة على الإطلاق، لا سيما الصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؛ أي: يكفِّرن الصغائر، ويذهبن المؤاخذة بها, لِمَا فيها من تزكية النفس وإصلاحها، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة في النفس، وإفْسَادَها لها, لا أنها تذهب السيئات نفسها؛ إذ هي قد وجدت بل مَا كانَ يترتب عليها من المؤاخذة

[115]

والمعاتبة. والمراد بالحسنات (¬1): ما يعم الأعمالَ الصالحة جميعًا، حتى ما كان منها تركًا لسيئة كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}. وجاء في الحديث الشريف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، وقوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكَفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". والمراد بالسيئات الصغائر؛ لأنَّ الكبائرَ لا يكفرها إلا التوبة، بدليل ما رواه مسلم: "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر". وقرأ (¬2) الجمهور: {وزلَفًا} بفتح اللام جمع زلفة كغرفة وغرف. وقرأ طلحة، وعيسى البصرة، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وابن القعقاع: {زُلُفًا} بضمها جمع زليف، أو كأنه اسم مفرد. وقرأ ابن محيصن، ومجاهد بإسكان اللام، وروي عنهما: (زَلْفَى) على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث. {ذَلِكَ} المذكور (¬3) من الوصايَا السابقة من الاستقامة والنهي عن الطغيان، والركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة في تلك الأوقات {ذِكْرَى}؛ أي: عِظة واعتبار {لِلذَّاكِرِينَ}؛ أي: للمتعظين بأوامر الله ونواهيه، فمن امتثلَ إلى أوامر الله تعالى، فاستقامَ وأقامَ .. فقد تحقَّقَ بحقيقة الحال والمقام؛ أي: ذلكَ المذكور موعظة للمتعظين الذين يراقبون الله، ولا ينسونَه، وخصهم بالذكر, لأنهم هم الذين ينتفعونَ بِها. 115 - {وَاصْبِرْ} يا محمَّد أنت وأمتك على تحمل مشاق التكاليف أمرًا أو نهيًا من الاستقامة وعدم الطغيان وغيرهما، {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: أجر المخلصينَ في أعمالهم الصالحة، فعلًا أو تركًا؛ أي: يوفيهم أجورَهم، ولا يضيع منها شيئًا، فلا يهمله، ولا يبخَسُه بنقص، وإنما عبَّر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[116]

عن ذلك بنفي الإضاعة، مع أنَّ عَدَمَ إعطاء الأجر ليس بإضاعة، حقيقة كيف لا والأعمال غيرُ موجبة للثواب، حتى يلزمَ من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره منه سبحانه من القبائح، وإبرازًا للإثابة في معرض الأمور الواجبة، وهو تعليل للأمر بالصبر. وعن أبي بكر الوراق قال: طلبنا أربعةَ أشياءَ سنينَ، فوجدناها في أربعة؛ طلبنا رضَى الله تعالى فوجدْنَاه في طاعته، وطلبنا السعة في المعيشة فوجدناها في صلاة الضحى، وطلبنا سلامة الدين فوجدناها في حفظ اللسان، وطلبنا نور القبر فوجدناه في صلاة الليل، فعلى العاقل السعي في طريق الطاعات، وتنوير القلب بنور العبادات، ذكره صاحبُ "الروح". والمعنى؛ أي (¬1): ووطن نفسَك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيتَ عنه في هذه الوصايا وفي غيرها، فإن الله لا يضيعْ أجرَ مَن أحسنَ عملًا، بل يوفيه ثوابَ عمله من غير بَخْسٍ له. وفي الآية إيماء إلى أنَّ الصبرَ من باب الإحسان. فائدة: وقد كانت (¬2) عادة القرآن على إجراء أكثر خطابات الأوامر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك قالَ: {فَاسْتَقِمْ} {وَاصْبِرْ} وأكثر خطابات النهي على الأمة، فلذلك قال: {وَلَا تَطْغَوْا}، {وَلَا تَرْكَنُوا} اعتبارًا للأصالة في الاتصاف، والتنزه والاجتناب فافهم. 116 - ولما بيَّن (¬3) سبحانه وتعالى ما حلَّ بالأمم الماضية من عذاب الاستئصالَ بيَّن هنا أن السَّبَب في ذلك أمران: الأول: عدم وجود مَنْ ينهى عن الفساد، الثاني: عدم رجوعهم عَمَّا هم فيه فقال: {فَلَوْلَا كَانَ} لولا تحضيضية مضمنة معنى النفي، وكان بمعنى وجد؛ أي: فهلا وجد {مِنَ الْقُرُونِ}؛ أي: من الأمم المهلكة الكائنة {مِنْ قَبْلِكُمْ} قال في "القاموس": القرون جمع قرن، والقرنُ مئة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الصاوي.

سنة، وهو أصح الأقوال الجارية في معنى القرن، وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم، وكلُّ أمة هَلَكَتْ، فلَم يبق منها أحد تُسمَّى قرناء. {أُولُو بَقِيَّةٍ}؛ أي: أصحاب عقل ورأي ودين وفضل. وسُمِّي الفضل والجودةُ بقيةً على أن يكون الهاء للنقل كالذبيحة؛ لأنَّ الرجلَ إنَّما يستبقي مما يكسبه عادة أجودَه، وأفضلَه، فصار مثلًا في الجوْدَةَ والفضل، يقال: فلان من بقية القوم؛ أي: من خيارهم، ومنه ما قيل في المَثل: في الزوايا خبايَا، وفي الرجال بقايَا؛ وإنما قيل: بقية, لأنَّ الشرائعَ والدولَ، ونحوَها، قوتها في أولهَا، ثم لا تزالُ تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف .. فهو بقية الصدر الأول. {يَنْهَوْنَ} نعت لأُولي؛ أي: ينهون قومهم المفسدين {عَنِ الْفَسَادِ} الواقع منهم {فِي الْأَرْضِ}، ويمنعونهم من ذلكَ لكونهم ممن جمع الله فيهم بينَ جودة العقل وقوة الدين. وفي قوله: {يَنْهَوْنَ} حكاية الحال الماضية، والمراد بالتحضيض في لولا: النفيُ، والاستثناءُ في قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} منقطع، والمعنى: ما كانَ من القرون المهلكة من قبلكم أُولو فضل ودين ينهون عن الفساد في الأرض إلّا قليلًا ممن أنجينا منهم؛ أي: من القرون المهلكة نَهَوا عن الفساد، فنجَوا، وهم أتباع الرسل، وسائرهم تركوا النهيَ، فهلكوا، و (من) في {ممن أنجينا} للبيان لا للتبعيضِ؛ لأنَّ جميعَ الناجينَ ناهُونَ. قيل: هؤلاء القليلُ: هم قوم يونس لقوله فيما مر: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}. والراجح أنهم أتباع الرسل، وأهل الحق من الأمم على العموم. والمعنى: فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أولو عقل ورأي وصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض، باتباع الهوى، والشهوات التي تفسد عليهم أنفسَهم، ومصالِحَهم، فيحولون بينهم، وبين الفساد، ومن سنة اللَّهِ أن لا يهلك قومًا إلا إذا عَمَّ الفساد والظلم أكثرهم. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}؛ أي: ولكنْ كَانَ هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم، منبوذينَ لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددينَ مع رسلهم بالإبعاد والأذى. وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} معطوف على مقدر يقتضيه

الكلام تقديره: إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد فَنَجَوا، واتبعَ الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بسبب مباشرتهم الفسادَ، وتركهم النهي عنه، فيكونُ العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم، والتسجيل عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك، لِمَا حَاقَ بهم من العذاب؛ أي: واتّبَعَ الذين تركوا النهيَ عن المنكرات، ما أنعموا فيه، واستدرجوا به من الشهوات، واشْتَغَلوا بتحصيل الرياسات، وأعرضوا عما وَرَاء ذلك من أمور الآخرة. {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}؛ أي: كافرينَ، فإن سبب استئصال الأمم المهلكة، فشو الظلم، وشُيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر. والمعنى: أي صاروا تابعينَ للنعم التي صاروا بها مترفينَ منعمين من خصب العيش، ورفاهية الحال، وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستغرقوا أعمارَهم في الشهوات النفسانية. وجملة: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} معطوفة على: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: اتبعوا شهواتِهم، وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، وهذا بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة، وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتباع الشهوات. وخلاصة ذلك (¬1): أنَّ العقولَ السليمةَ كافية لفهم ما في دعوة الرسل من الخير والصلاح، لو لم يمنع استعمال هِدَايَتِها الافتتانُ بالترف، والنعيم، بَدَلًا من القصد والاعتدال فيه، وشكر المنعم عليه، وقد هَدَتْ التجارب إلى أنَّ التَّرَفَ هو الباعث على الفسوق والعصيانِ، والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئًا في الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء، والعامَّةِ، فيكون ذلك سببًا في الهلاك بالاستئصال، أو في فقد العزة والاستقلال، وتلك هي سنة الله في خلقه، كما قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}. وفي الحديث (¬2): "إن الله لا يعذب العامةَ بعمل الخاصة، حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروا، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلكَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[117]

عذَّب الله العامَّةَ والخاصة"، فكل قوم لم يكن فيهم آمر بالمعروف، وناه عن المنكر، من أرباب الصدق، وهم مجتمعون على الفساد، أو لا يأتمرون بالأمر بالمعروف، ولا ينتهون بالنهي عن المنكر، فإنهم هالكون. وقرأت فرقة (¬1): {بَقِية} بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو: شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر وشيبة: {بُقْية} بضم الباء وسكون القاف، بوزن فعلة. وقرىء: (بَقْيَة) بوزن فَعْلَة للمرة من بقاه يبقيه، إذا رقبه وانتظره. وقرأ زيد بن علي: {إلا قليل} بالرفع لحظ أن التحضيض تضمن النفْيَ فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقرأ جعفر بن محمَّد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب "اللوامح"، وأبو عمرو في رواية الجعفي، {وأتبعوا} ساكنة التاء مبنيةً للمفعول على حذف مضاف؛ لأنه مما يتعدَّى إلى مفعولين؛ أي: جزاء ما أترفوا فيه. 117 - ثم بَيَّن سبحانه وتعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا محمَّد {لِيُهْلِكَ الْقُرَى} (اللام) لام الجحود عند البصريين، وينتصب الفعل بَعْدَهَا بإضمار أن، وهي متعلقة بخبر كانَ المحذوف؛ أي: مريدًا لإهلاك أهل القرى. وقال الكوفيون: {يهلك} خبرُ كَانَ زيدت اللام دلالةً على التأكيد. {بِظُلْمٍ} حال من الفاعل؛ أي: ظالمًا لها بغير ذنب، واستحقاق للهلاك، بل استحَالَ ذلك في الحكمة. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}؛ أي: غير ظالمينَ، حال من المفعول، والمراد تنزيه الله تعالى عن الظلم بالكلية، بتصويره بصورة مَا يستحيل صدوره عنه تعالى، وإلا فلا ظُلْمَ فيما فَعَلَ الله بعباده، كائنًا مَا كَانَ. والمعنى: وما كان الله سبحانَه وتعالى مريدًا لإهلاك أهل القرى حالةَ كونه ظَالِمًا لها بغير ذنب، ولا استحقاق إهلاك، حَالَةَ كون أهلها غيرَ ظالمين. وقيل قوله: {بِظُلْمٍ} متعلق بالفعل المتقدم، والمراد به الشرك. والمعنى: أي ما صح (¬2)، ولا استقام أن يهلك الله سبحانه وتعالى أَهلَ القرى بظلم وشرك يتلبسون به، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[118]

الحقوق، لا يظلمون الناسَ شيئًا، والمعنى: أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده، حتى ينضم إليه الفساد في الأرض كما أهلكَ قوم شعيب بنقص المكيال والميزان, وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قَوْم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء، وإنما لم يهلكهم بشركهم؛ لأن مكافَأَةَ الشرك النار لا ما دونَها. قال بعضهم: الملك يبقى مع الشرك، ولا يبقَى مع الظلم. وقيل: المعنى: وما كان ليهلكهم بِذُنُوبِهم، وهم مصلحون؛ أي: مخلصون في الإيمان. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) أنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ما داموا مصلحينَ في أعمالهم الاجتماعية، والعمرانية، والمدنية، فلا يبخسون النَّاسَ حقوقهم، كما فعل قوم شعيب، ولا يَبْطِشُون بالناس بطشَ الجبارين، كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار، كقوم فرعون؛ ولا يرتكبون الفواحشَ، ويقطعونَ السبيلَ، ويأتون في ناديهم المنكرَ، كقوم لوط بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفسادَ في الأعمال؛ والأحكام، ويفعلوا الظلمَ المدمر للعمران، ومن ثمَّ قالوا: الأمم تبقَى مع الكفر, ولا تبقَى مع الظلم والجَور. ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني، والديلميُّ، وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأَل عن تفسير هذه الآية فقال: "وأهلها ينصف بعضهم بَعْضًا". 118 - {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} يا محمَّد، جعلَ الناس أمةً واحدةً {لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: أهل (¬2) دين واحد، إما أهلَ ضلالة، أو أهل هُدًى. وقيل معناه: جَعَلَهم مجتمعينَ على الحق، غير مختلفينَ فيه، أو مجتمعينَ على دينِ الإسلام دونَ سائِر الأديان، بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد كما كانوا قبل الاختلاف. قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} ولكنه لم يَشَأْ ذَلِكَ. أي: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} أيها الرسول (¬3) الكريم الشديد الحرص على إيمان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[119]

قومك، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دَعوتك، واتباع هديك {لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: على دين واحد، بمقتضَى الغريزة والفطرة، لا اختيار لهم فيما يفعلون، فكانوا في حياتهم الاجتماعية، أشبَه بالنمل والنحل، وفي حياتهم الروحية أشبَه بالملائكة، مفطورينَ على طاعة الله، واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزيغ والجور، لكنه تعالى خلَقهم كاسبِين، لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مَجْبورين، ولا مضطرينَ وجعلهم متفاوتين في الاستعداد، وكسب العلم، وكانوا في أطْوَارِهم الأولى لا اختلافَ بينهم. ثم لما كثرت وتنوعت حَاجَاتهم، وكثرت مطالبهم، ظَهَرَ فيهم الاستعدادُ للاختلاف، ولكنه لم يشأْ ذلك، ولذلك قال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في ذات بينهم على أديان شتَّى أو لا يزالونَ مختلفينَ في الحق، أو دين الإِسلام. فقد اختلف أهله فيه اختلافًا كثيرًا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنين وسبعينَ فرقةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة". المراد بهذه الفرق، أهل البدع، والأهواء كالخوارج، والقدرية، والرافضةِ والمعتزلة، والمرادُ بالفرقة الواحدة: أهل السنة والجماعة، اهـ "خازن". أو لا يزالونَ مُخْتَلِفينَ في الرزق، فهذا غني، وهذا فقير، أو لا يزالون مختلفينَ في شؤونهم الدنيوية، والدينية بحسب استعدادهم الفطري، 119 - {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} بالهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا، أو إلا مَنْ رحم ربك من المختلفين في الحق، أو دين الإِسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله تعالى، وهو الحق الذي لا حقَّ غيره، أو إلا مَنْ رحم ربك بالقناعة. والأولى تفسير: {لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} بالمجتمعةِ على الحق، وحكم كتابه فيهم، وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة، ووحدتها، حتى يكون معنى الاستثناء في {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} واضحًا غير محتاج إلى تَكَلُّفٍ. {وَلِذَلِكَ}؛ أي: ولمشيئته تعالى فيهم الاختلافَ والتفرقَ في علومهم، ومعارفهم، وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار في الأعمال {خَلَقَهُمْ}؛ أي: خَلَقَ الناسَ كافَّةً، وبهذا كانوا خلفاء في الأرض، ومن ذلك اختلافهم في

الدين والإيمان, والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مَظْهرًا لأسرار خلقه الروحية، والجسدية، أو المادية، والمعنوية، فإنه جعل مصيرَ أهل الباطل إلى النار، ومصيرَ أهل الحق إلى الجنَّة. وقال ابن عباس: خَلَقهم في فَرِيقَيْنِ فريق يرحم فلا يختلف، وفريق لا يرحم فيختلفُ، فذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}. والخلاصة (¬1): أن الناس فريقان: فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتابَ الله حَكَمًا بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانت أمة وَاحِدَةً فرحمهم الله تعالى، ووقاهم شرَّ الاختلاف في الدنيا، وعذابَ الآخرة. وفريق اختلفوا في الدين كما اختلفوا في منافع الدنيا، فكان بأسهم بَيْنَهم شديدًا، فذاقوا عقابَ الاختلاف في الدنيا، وأعقبه جزاؤهم في الآخرة، فحُرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه تعالى لهم. فإن قلت: يعارض ما هنا أعني قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قولَه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. قلت: لا معارضة بَينَهما, لأنَّ ما هنا خَلَقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} معناه: ما خلقتهم إلا للأمر بالعبادة، وبهذا يزول الإشكال، تأمل. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}؛ أي: ثبت (¬2) قول ربك يا محمَّد للملائكة: وعزتي وجلالي {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}؛ أي: لأجعلنها ملأى حتى تقول قط قط بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث. وذلك بعد أن تمد أعناقَهَا، وتطلب الزيادة ليتجلى عليها بصفة الجلال، فتخضع وتذل وتقول: قَطْ قَطْ. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}؛ أي: من عصاتهما {أَجْمَعِينَ} لتأكيد العموم للنوعين، وإذا تمت وثَبَتَتْ امتنعَت من التغيير والتبديل؛ أي: قد سبق في قضائه وقَدَرِه وحكمته النافذة أن من خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النارَ، وأنَّ النارَ لا بد أن تملأَ من عالمي الجن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[120]

والإنس، الذين لا يهتدون بما أرسلَ به رسلَه، وبما أنزلَ عَلِيهم من كتبه لهداية المكلفين، والحكم بين المُخْتَلِفِينَ. 120 - ولما ذكر (¬1) الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قَصَصَ الأمم الماضية، والقرُونَ الخالية، وما جرَى لهم مع أنبيائهم .. خاطب نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ}؛ أي: وكل نبأٍ وخبر من أنباءِ الرسل المتقدمين من قبلك، وأخبارهِم مع قومهم، مما يحتاج إليه، وما جرى لهم من المحاجات، والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب، والأذى، وكيف نَصَر الله حِزبَهُ المؤمنين، وخذل أعداءَه الكافرين، نقصه عليك، ونخبره لك لفوائدَ، منها: ما ذكره بقوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} حتى يكون كالجبل لتقومَ بأعباء الرسالة، ونشر الدعوة لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين. وهو بدل من {كلًّا}؛ أي: نقص عليك من تلك الأنباء ما نقوي ونشد به قلبكَ، حتى يَزيدَ يقينك، وتطيبَ به نفسك، وتعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك، والإنسان إذا ابتليَ بمحنة وبلية، فرأى جماعةً يشاركونه فيها خف على قلبه بَلِيَّته كما يقال: البلية إذا عمت خفت وطابَتْ. وتثبيت (¬2) الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأتباعهم المؤمنين، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى. ففي هذا كله أسوة بهم؛ إذ المشاركة في الأمور الصَّعْبة تهوِّن ما يلقَى الإنسانُ من الأذى، ثم الإعلام بما جرَى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب، من غرق، وريح، ورجفة، وخسف، وغَيرِ ذلك فيه طمأنينة للنفس، وتأنيس بأن يُصِيبَ الله من كذَّب الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب كَمَا جَرَى لمكذبي الرسل، وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له، ولأتباعه، كما اتفقَ للرسل وأتباعِهم. ومنها: ما ذكره بقوله: {وَجَاءَكَ} يا محمَّد {فِي هَذِهِ} الأَنْبَاء المقصوصة عليك، أو في هذه السورة، {الْحَقُّ}؛ أي: البراهين الدالةَ على التوحيد، والنبوة {وَمَوْعِظَةٌ}؛ أي: تنفير للمؤمنين من الاغترار بالدنيا. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: إرشاد لهم إلى الاستعداد للآخرة؛ أي: وجاءك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[121]

في هذه السورة النبأ الحق، والخبرُ الصدق الذي هو مطابق لِمَا جرَى للأمم السابقة، ليسَ فيه تغيير، ولا تحريفٌ، كما يَنْقل شيئًا من ذلك المؤرخُون. فإن قلت (¬1): قد جاءه الحق في سور القرآن كُلِّها، فلِم خص هذه السورة بالذكر؟ قلت: لا يلزَمُ من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يَكُون قد جاءه الحق في غيرها من السور، بل القرآن كلُّه، حق يَحِقُّ تَدَبُّرُه، وصدقٌ يجب تصديقه، ولكن إنما خصَّها بالذكر، تشريفًا لها، ورفعًا لمنزلتها لكونها جمعت من قصص الأمم الماضية، ما لم يَكُن في غَيْرِها، وإنما عرفه، ونكر تَالِيَيهِ تفخيمًا له، لكونه يُطلَقُ على الله تعالى بخلاف تالييه، اهـ "كرخي". قال في "الإرشاد" (¬2): {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ}؛ أي: الأمر الجامع بين كونه حقًّا في نفسه، وكونهِ موعظةً، وذِكرى للمؤمنينَ، ولكون الوصف الأول حالًا له في نفسه، حلّي باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره، وتقديم الظرف أعني (في هذه) على الفاعل، أعني الحقَّ, لأنَّ المقصود بيان منافع السورة، لا بيان ذلك فيها, لا في غيرها؛ أي: لأن المقصودَ بيان اشتمالها على ذلك، لا بيان كونه موجودًا فيها دون غيرها. {وَمَوْعِظَةٌ}؛ أي: ونصيحة عظيمة للمؤمنين {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: وتذكرة لهم خَصَّهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بالموعظة، والتذكير بأيام الله، وعقوبته، والفرق بين الموعظة والتذكير: أنَّ المَوْعِظَةَ هي ما ينزجر به السامِعُ، ويمتنع من الاغترار بزخارف الدنيا, ولذاتها لأنه إذا رَأَى إهلاك الأمم السابقة مع قوتهم، وجلادتهم وسعةِ رزقهم أعرضَ عن الدنيا، والتذكير: ما يقبل السامع بالتدبر فيه إلى أمور الآخرة، والتزود لها؛ لأنه إذَا رأى نَصرَ المؤمنين، وكَوْنَ الدولة لهم، ونَجَاتهم مع الرسل، أقْبَل إلى أمور الآخرة، والتزود لها. وقيل: هما مرادفان. 121 - {وَقُلْ} يا محمَّد {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بهذا الحق، ولا يتعظون به، ولا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[122]

يتذكرون من أهل مكة، وغيرهم. {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ أي: على حَالَتِكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا، وهو الإيمان به، والاتعاظ والتذكير به 122 - {وَانْتَظِرُوا} بنا الدوائرَ والنوائبَ على ما يعدكم الشيطان {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أن ينزل بكم ما نَزَلَ بأمثالكم من الكفرة على ما وعد الرحمن. فهذا تهديد لهم؛ لأن الآيةَ منسوخة بآية السيف. والمعنى (¬1): {وَانْتَظِرُوا} بنا ما تتمنونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره، مما تحدِّثون به أنفسَكم، كما حكى الله عنهم في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}. {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أن ينزلَ بكم مثل ما نزلَ بأمثالكم من عقابه تعالى، بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، وأن يكفل لنا النصرَ والغلبة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. وقد أنجزَ وَعْدَه، ونصَرَ رسوله، وأيَّدَهُ، ونظير الآية قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. 123 - و (اللام) في قوله (¬2): {وَلِلَّهِ} للاختصاص {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الغيب في الأصل مصدر، وإضافة المصدر يفيد العموم، والإضافة فيه بمعنى في؛ أي: وعلم جميع ما غاب عنك يا محمَّد، وعن سائر الخلائق في السموات والأرض مختص بالله سبحانه وتعالى، فكيف يخفَى عليه أعمالكم؛ وهو المالك لجميع ما في السموات والأرض، المتصرف فيه كيف شاء، العالم بكل ما سيقع فيهما، والعالم بوقته الذي يقع فيه. وخص (¬3) ذكرَ الغيب مع كونه يعلم بما هو شاهد فيهما، لكونه من العلم الذي لا يُشَارِكهُ فيه غيره، وخص ذكرَ السموات والأرض مع كونه يعلم ما غاب في غيرهما من العرش والكرسي وغيرهما، لكونهما محسوسين للمخاطبين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

وقيل: إنَّ غيبَ السموات والأرض نزول العذاب من السماء، وطلوعه من الأرض، والأول أولى، وبه قال أبو علي الفارسي وغيره. {وَإِلَيْهِ} سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره {يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} بضم الياء، وفتح الجيم، أي يرد، وبفتح الياء، وكسر الجيم بمعنى يَعُود، ويصير أمور الخلائق كلها يوم القيامة، فيجازى كُلًّا بعمله خيرًا، أو شرًّا، فيرجع أمرك يا محمَّد، وأمُر الكفار إليه، فينتَقِم لَكَ منهم؛ أي: فأمركَ وأمرهم لا مَحَالةَ راجع إليه تعالى، ومَا شَاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن. وقرأ (¬1) نافع وحفص: {يُرْجَعُ} على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل. {فَاعْبُدْهُ}؛ أي: وإذا (¬2) كان أمر كل شيء يرجع إليه، فاعبده سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له وحدَه، وادعُ إلى طاعته، واتباع أمره بالحكمة، والموعظة الحسنة {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} تعالى فيما لا يدخلُ في مكنتك، واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، لكونه لا يدخلُ تحتَ كسبك، ولا تنالُه يدك، والتوكل لا يجدي نفعًا بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلّا بالتوكل، إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى. روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكيس مَنْ دان نفسه، وعمل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني". وخلاصة ذلك: امتَثِلْ ما أمرت به، وداوم على التبليغ والدعوة، وتوكل عليه في سائر أمورك، ولا تبال بالذين لا يؤمنون، ولا يضيق صدرك بهم. وقيل: معنى قوله: {فَاعْبُدْهُ}؛ أي (¬3): أطعه، واستقم على التوحيد أنت وأمتك {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}؛ أي: فوض إليه جميعَ أمورك، فإنه كافيك وعاصمك من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

شرهم، فعليك تبليغ ما أوحينا إليك، بقلب فسيح غير مبال بعداوتهم، وعتوهم وسفههم، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفَعُ بدونها. {وَمَا رَبُّكَ} يا محمَّد {بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}؛ أي: بساه (¬1) عما تعمل أنت أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته، والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، فيوفيكم جزاءكم في الدنيا والآخرة، ولا بغافل عما يعمل المشركون من الكيد لَكُمْ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وسيجزيهم على أعمالِهم يوم تجْزَى كل نفس بما كسبَتْ، وقد صدق وعدَه، ونَصَرَ عبده، وأظهر دِينَه على الدين كلِّه، أي: فالله تعالى عالم به غير غافل عنه؛ لأنَّ الغفلةَ والسهوَ لا يجوزان على مَنْ لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، فيجازي كلًّا منك ومنهم بِمُوجَب الاستحقاق. والجملة الأولى من هذه الآية (¬2): دلت على أن عِلْمَه تعالى محيط بجميع الكائنات، كلِّيّها وجُزّئِيِّها حاضرها وغائبها؛ لأنه إذا أحاط علمه بما غاب، فهو بما حضر محيط؛ إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية: دلَّت على القدرة النافذة، والمشيئة. والجملة الثالثة: دلَّت على الأمر بإفراد مَنْ هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلَّى بها العبدُ. والجملة الرابعة: دلَّتْ على أنَّ الأمر بالتوكل، وهِيَ آخرة الرُّتَبِ؛ لأنه بنور العبادة أبصرَ أنَّ جميعَ الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جَمِيعِها, لا يشركه في شيء منها. والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المُجَازَاةِ، فلا يضيع طاعةَ مطيع، ولا يهمل حالَ متمرد؛ أي: فإنه تعالى (¬3) لا يُضَيِّعُ طاعات المطيعينَ، ولا يهمل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

أحوالَ المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة، ويحاسبوا على النقير والقطمير، ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير. وعن كعب الأحبار (¬1): إنَّ فَاتِحَةَ التوراةِ، فاتحةُ سورة الأنعام، وخاتمتها خاتمةُ سورة هود، هذه الآية يعني: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. واعلم: أنَّ علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى، وأما إخبار الأنبياءِ والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، عن بعض المغيبات، فبواسطة الوحي، والإلهام، وتعليم الله تعالى، ومن هذا القبيل: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن حال العشرة المبشرة، وكذا عن حال بعض الناس. ثم إن (¬2) التوكّل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور، ومحله القلبُ، وحركة الظاهِرِ لا تنافي تَوَكُّلَ القلب بعدما تحقق عند العبد أنَّ التقدير من قبل الله تعالى، فإن تَعَسَّرَ شيءٌ، فبتقديره، فالواجب على كافَّةِ العباد أن يعبدوا اللَّهَ تعالى، ويعتمدوا عليه كل الاعتماد، لا عَلى الجاه والعقل، والأموال، والأولاد فإنَّ اللَّهَ تعالى خالق كل مخلوق، ورازق كلُّ مرزوق. وفي الحديث: "ما من زرع على الأرض، ولا ثمر على الأشجار، إلا وعليه مكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا رزقُ فلان بن فلان". وفي الحديث: "خَلَقَ الله الأرزاقَ قبل الأجسادِ بألف عام، فبسطها بين السماء والأرض, فضربتها الرياحُ، فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها، فمنهم من وَقَعَ رزقه في ألف موضع، ومنهم من وقع في مئة، ومنهم من وقع على باب داره، يَغْدُو وَيرُوحُ حتَّى يَأتِيه". وقرأ الصاحبان (¬3) - نافع وابن عامر - وحفص، وقتادة، والأعرجُ، وشيبة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وأبو جعفر، والجحدري: {تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب, لأنَّ قَبْلَه {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}. وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. واختلف عن الحسن، وعيسى بن عمر. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من قرأ سورةَ هود أعطي من الأجر عَشْرَ حسنات بعدد من صَدَّق بنوح، ومَنْ كذَّب به، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وكان يومَ القيامة من السعداء" إن شاء الله تعالى. خاتمة في بيان المقاصد الدينية التي اشتملت عليها هذه السورة قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين، ومبادئِهِ العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا إلا إذا سلك سبيلها، ونهج نهجَها، ومن ذلك: 1 - التوحيد وهو ضربان: أ - توحيد الأُلوهية، وهو أولُ ما دعا إليه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ودعا إليه كل رسول قَبْلَه، وهو عبادته تعالى وحده، وعدم عبادة أحد معه، كما قال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولي أو نبيٍّ أو شيطان أو ملك، إذا توجه العبد إليها توجهًا تعبديًّا ابتغاء النفع أو كشف الضر في غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس، كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام، أو الأوثان، إذ جميع ما عَدَا الله تعالى فهو عَبْدٌ، وملك له لا يتوجه بالعبادة إليه. ب - توحيد الربوبية؛ أي: اعتقاد أنَّ اللَّهَ وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مُقْتَضى حكمته، ونظام سنَّته، وتسخيره الأَسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركينَ من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأنَّ الربَّ الخالقَ المدبّر واحِدٌ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب بها إليه توسلًا، وطلبًا للشفاعة عنده. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

2 - إثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن بتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات، ودعوة مَن استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم، وإعانتهم على الإتيان بها، إن كانوا صادقين، وقوله بعد ذلك: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وما جاء في قوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}. 3 - جاءت آيات البعث والجزاء في القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان, والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب، والموعظة والجزاء، كما جاء في قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}، وقوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. 4 - إهلاكُ الأمم بالظلم كما جاء في قوله لخاتم رسله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. 5 - سنته تعالى في ضلال الناس وغوايتهم بأن يكونوا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية، والإصرار عليها إلى أن تتمكنَ من صاحبها، وتحيطَ به خطيئته حتى يفقد الاستعدادَ للهُدَى والرشاد. 6 - من طباع البشر العجل والاستعجالُ لِمَا يَطْلَبُ من النفع والخير، وما ينذر به من الشرِّ كما قال: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}. 7 - سنته تعالى في تكوين الخلق، وأنه كَانَ أطوارًا في أزمنة مختلفة، بنظام مُحْكَمٍ، ولم يكن شيء منه فجائيًّا بلا تقدير، ولا ترتيب كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فكلمة الخلق معناها: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقاديرَ متناسبة، ثم أريد بها الإيجاد التقديريُّ؛ فالسموات السبع المرئية للناظرين، والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط، والمركبات الغازية، والسائلة، والجامدة، كذلك والكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض، وحفظِ نظامِهِ بأنْ يبنَى بعضه على

بعض، وهو ما يسمِّيه العلماء: الجاذبِيَّةَ العامةَ، والجاذبية الخاصَّةَ. 8 - أنَّ الطغيانَ والركونَ إلى الظالمين من أمهات الرذائل، كما قال: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}. 9 - الاختلاف في طبائع البشر: فيه فوائد، ومنافع علمية وعملية لا تظهر مَزَايَاهُ بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق، والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدينَ لتكميل فطرتهم، والحكمِ بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مَجَالَ فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكمونه فيما يتنازعون فيه رحمتَه وثوابَه، والذِينَ يختلفون فيه سخْطَهُ وعِقَابَه. 10 - إتباع الإتراف، وما فيه من الفساد، والإجرام، ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجِبَ لهلاك الأمم، هو اتباع أكثرها, لِما أترِفُوا فيه من أسباب النعيم، والشهوات، واللذَّات، والمترفون هم مفسدوا الأمم، ومُهلكوها، وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن، من الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فكانوا مَثَلًا صالحًا في الاعتدال في المعيشة، أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الأتراف والنعمة، ففَتحوا الأمْصَارَ، وأقاموا دَوْلةً عزَّ على التاريخ أن يقيمَ مِثْلَها باتباع هدي القرآن، وبيان السنة له، وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، والعرفان، ثم أضَاعَها من خلف من بعدهم من متبعي الإتراف، وكيف ضلوا بعد أن استفادوا الفنونَ والعلومَ، والملكَ والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد. 11 - إقامة الصلاة في أوقاتها من الليل والنهار؛ لأنَّ الحسناتِ يذهبن السيئات، وأعظم الحسناتِ الروحيةِ الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح. 12 - النهي عن الفساد في الأرض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب. 13 - سننه تعالى في اختبار البشر؛ لإحسان أعمالهم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. 14 - أول اتباع الرسل والمصلحين الفقراءُ كما حكى عن قوم نوح {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}. 15 - التنازع بين رجال المال، ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة. 16 - منْ سُنَنِهِ تعالى جعل العاقبة للمتقين، وذلك هو الأساس الأعظم في فوز الجماعات الدينية، والسياسية، والأمم والشعوب في مقاصدها، وغلبها لخصومها ومناوئيها. 17 - بيان أنَّ الاختلافَ في الدين ضروري كما قال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}. 18 - بيان أنَّ نَهْيَ أولي الأحلام عن الفساد، يَحْفَظُ الأمة مِنَ الهلاك كما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}. الإعراب {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)}. {فَأَمَّا} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ أنَّ مراتب الناس اثنان إما شقي أو سعيد، وأردتَ بيانَ مآلهما .. فأقول لك. {أما} حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ} مبتدأ. {شَقُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {فَفِي} (الفاء) رابطة لجواب أمَّا واقعة في غير موضعها؛ لأنَّ موضعها موضع (أما). {في النارِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما) لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة أما من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {فِيهَا} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الاستقرار الذي تعلق به الخبرُ. {زَفِيرٌ} مبتدأ مؤخر. {وَشَهِيقٌ} معطوف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير

المستكن في الجار والمجرور قبله أعني قولَه: {فَفِي النَّارِ} أو حال من {النار} أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كَأن سائلًا سأَلَ حينَ أخبر أنهم في النار ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا وكذا، كذا في "الفتوحات". {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)}. {خَالِدِينَ} حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أعني قَولَه: {فَفِي النَّارِ}. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {مَا} مصدرية ظرفية. {دَامَتِ السَّمَاوَاتُ} فعل وفاعل؛ لأنَّ دام هنا تامة بمعنى بقِيَتْ. {وَالْأَرْضُ} معطوف عليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: مدة دوام السموات والأرض، والظرف المقدر متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {إِلَّا} أداة استثناء بمعنى غير. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. {شَاءَ رَبُّكَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه ربك. {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه. {فَعَّالٌ} خبره، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لِمَا} جار ومجرور متعلق بفعال، وقيل: (اللام) زائدة في مفعول الصفة تقويةً للعامل. {يُرِيدُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره لما يريده. {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}. {وَأَمَّا} {الواو} عاطفة. (أما) حرف شرط {الَّذِينَ} مبتدأ. {سُعِدُوا} فعل ونائب فاعل أو فعل وفاعل على اختلاف القرائتين، والجملة صلة الموصول. {فَفِي الْجَنَّةِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما)، وجملة (أما) معطوفة على جملة (أمّا) الأولى. {خَالِدِينَ} حال من الضمير المستكن في الخبر. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {ما} مصدرية ظرفية. {دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية. {إِلَّا} أداة استثناء بمعنى غير. {ما}

في محل النصب على الاستثناء. {شَاءَ رَبُّكَ} فعل وفاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها. {عَطَاءً} مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا تقديره، يعطيهم الله عطاءً؛ أي: إعطاءً؛ لأنه اسم مصدر لأعطى، ويصح كونه مفعولًا به إذا كان بمعنى معطَى، {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} صفة لـ {عَطَاءً}. {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}. {فَلَا} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ يا محمَّد ما قصصنا لك من قصص المتقدمين، وسوء عاقبتهم، وأردتَ بيانَ ما هو اللازم لك .. فأقول لك: لا تك في مرية {لا} ناهية جازمة. {تَكُ} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمِه سكون النون المحذوفة للتخفيفِ لكثرة استعمالِها؛ لأن أصلَه تكون، حذفت حركة النون للجازم، فالتقى ساكنان، ثمَّ حذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون للتخفيف، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {فِي مِرْيَةٍ} خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {مِرْيَةٍ}؛ أي: فلا تك في مرية ناشئة مما يعبد هؤلاء، أو في ما يعبد هؤلاء فمن بمعنى في. {يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره مما يعبده هؤلاء من الأصنام. {مَا} نافية. {يَعْبُدُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {كَمَا} (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. {يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلُ} جار مجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور، بالكاف تقديره: كعبادة آبائهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره، ما يعبدون إلا عبادة كائنة كعبادة آبائهم، من قبل في كونها ضلالًا، وتقليدًا لا أصلَ لها. {وَإِنَّا} ناصب واسمه. {لَمُوَفُّوهُمْ} خبره مرفوع (بالواو) لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنَّ مفردَه ليس بعلم ولا صفة، وإنما جمع للتعظيم والنون حذفت للإضافة، و (اللام) حرف ابتداء، وهو مضاف

إلى المفعول الأول. {نَصِيبَهُمْ} مفعول ثان له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ}. {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} حال مبينةٌ للنصيب الموفى، أو مؤكّدةٌ. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {فَاخْتُلِفَ} (الفاء) عاطفة. {اختلف} فعل ماض مغيّر الصيغة. {فِيهِ} جار ومجرور نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْنَا}. {وَلَوْلَا} {الواو} عاطفة. {لولا} حرف امتناع لوجود. {كَلِمَةٌ} مبتدأٌ سوغَ الابتداء بالنكرة وقوعُهُ بعد {لولا} أو وصفه بما بعده. {سَبَقَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كلمة. {مِنْ رَبِّكَ} متعلق به، والجملة الفعلية صفة {كَلِمَةٌ}، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك موجودة. {لَقُضِيَ} (اللام) رابطة لجواب {لولا}. {قضي} فعل ماض مغير الصيغة. {بَيْنَهُمْ} ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل الرفع نائب فاعل لـ {قضي}، وجملةُ {قُضِيَ} جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مع جوابها معطوفة على جملة {آتَيْنَا} على كَوْنِهَا جَوابَ القسم. {وَإِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {لَفِي شَكٍّ} (اللام) حرف ابتداء. {في شك} جار ومجرور خبر (إن). {مِنْهُ} جار ومجرور متعلق بـ {شك}. {مُرِيبٍ} صفة {شَكٍّ} وجملة (إن) معطوفة على جملة {آتَيْنَا}. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}. وحاصلُ ما في كلمتي (إن) و (لما) من القراءات السبعة أربع: تخفيفهما، وتشديدهما، وتخفيف (إن) مع تشديد (لمَّا)، وتخفيف (لمَّا) مع تشديد (إنَّ). فعلى القراءة الأولى: تقول في إعراب الآية (إن) مخففة من الثقيلة. {كُلًّا} اسمها منصوب بها. {لما} (اللام) حرف ابتداء، (ما) اسم موصول بمعنى الذين

في محل الرفع خبر (إن) المخففة. {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} (اللام) موطئة للقسم. (يوفين) فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محلٌّ لها من الإعراب. و (الهاء) ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل النصب مفعولٌ أول. {رَبُّكَ} فاعل. {أَعْمَالَهُمْ} مفعول ثان، والجملة جوابُ للقسم المحذوف لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه صلة (ما) الموصولة، والعائد ضمير المفعول الأول، والموصول مع صلته خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة، والتقدير: وإن كلًّا من الخلائق للذين والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ويجوز أن تكونَ (ما) نكرة موصوفة، والجملة القسمية مع جوابها صفة لـ (ما) الموصوفة، والتقدير: وإن كلا لخلق أو لفريق موصوفون يكون الله تعالى، وافيًا لهم أعمالهم والموصوف، وصفته خبر إن. وعلى القراءة الثانية: أعني تشديدهما (إن) حرف نصب. {كُلًّا} اسمها. {لما} أصله: لمن ما بدخول لام الابتداءِ على من الجارة، دخَلت على ما الموصولة، أو الموصوفة؛ أي: لمن الذين، والله ليوفينهم، أو لمن خلق، والله ليوفينهم، فَلَمَّا اجتمعت النون ساكنة قبل ميم ما، وجب إدغامها فيه، فقلبت ميمًا، وأدْغمت الميمُ في الميم، فصارَ في اللفظ ثلاثَ ميمات، فخفف اللفظ بحذف إحداها، فقلبت كسرة ميم من الجارة فتحةً لوقوعها بين فتحتين، فصار اللفظ لما: فيقال في إعرابه (اللام) حرف ابتداء. (من) حرف جر. (ما) موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ (من). {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} (اللام) موطئة للقسم. {يوفينهم ربك أعمالهم} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه صلة لـ (ما) إنْ قلنا: موصولةً، أو صفة لها؛ إن قلنا: موصوفةً، والعائد، أو الرابط ضمير المفعول الأول، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن، تقديره: وإن كُلًّا من الخلائق لكائنون من الذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم، أو لكائنون من مخلوق، أو فريق وَافٍ لهم ربك أعمالَهم، وجملة إن مستأنفة. وعلى القراءة الثالثة: أعني تخفيفَ (إنْ) مع تشديد (لَمَّا)، فإن المخففة

عاملة، وأصل: لما لمن. (ما) فعل به ما تقدم. وعلى القراءة الرابعة: أعني تخفيف (لَمَا) مع تشديد (إنَّ). (إنَّ) المشددة عاملة. و (اللام) للابتداء. و (ما) اسم موصول في محل الرفع خبرها. {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جملةٌ قسميةٌ صلة الموصول فتحصَّل مما ذكر أنَّ (إن) عاملة. (وما) موصولة، أو موصوفة في جميع الأوجه كلها. و (اللام) الثانية موطئة للقسم، والأولى لام الابتداء. فتأمل، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بخبير. {يَعْمَلُونَ} صلة لما أو صفة لها. {خَبِيرٌ} خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}. {فَاسْتَقِمْ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرَفْتَ يا محمَّد أحوالَ القرونَ الأولى مع أنبيائهم، وأن إخْوانَك المرسلين تحملوا الأذى من قومهم، فصبروا، واستقاموا على الطريقة المثلى، وأردت بيانَ ما هو اللازم لك؛ فأقول لكَ: {استقم}. {استقم} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَمَا} (الكاف) حرف جر. (ما) موصولة في محل الجر بالكاف. {أُمِرْتَ} فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره: كالاستقامة التي أمرت بها، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاستقم استقامة مثلَ الاستقامة التي أمرت بها. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. (من) اسم موصول في محل الرفع معطوف عل الضمير المستتر في {استقم} لوجود الفاصل. {تَابَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول. {مَعَكَ} ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المستتر في {تَابَ}. {وَلَا تَطْغَوْا} جازم وفعل، وفاعل معطوف على {استقم}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ}

وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ (ما) أو صفة لها. {بَصِيرٌ} خبر إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر، والنهي السابقين. {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}. {وَلَا تَرْكَنُوا} جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: {وَلَا تَطْغَوْا}. {إِلَى الَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {تَرْكَنُوا}. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {فَتَمَسَّكُمُ} (الفاء) عاطفة سببية. {تمسكم النار} فعل، ومفعول، وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والجملة الفعلية صلة أن، المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك، لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكم ركون إلى الذين ظلموا، فمس النار إياكم. {وَمَا} الواو حالية أو استئنافية. (ما) نافية. {لَكُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {مِن دُونِ اَللهِ} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. {مِنْ أَوْلِيَاءَ} مبتدأ مؤخر، و (من) زائدة، والتقدير: وما أولياء كائنون لكم حالَةَ كونهم من دون الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (كاف) المخاطبين في {تمسكم}؛ أي: فتمسكم النار حالَ انتفاء ناصركم، أو الجملة مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، أتى بثم تنبيهًا على تباعد الرتبة، اهـ "سمين". {لا} نافية. {تُنْصَرُونَ} فعل، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، عطفَ جملة فعلية على جملة اسمية. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}. {وَأَقِمِ} {الواو} استئنافية. {أقم الصلاة} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَاسْتَقِمْ}. {طَرَفَيِ النَّهَارِ} ظرف، ومضاف إليه منصوب بالياء متعلق بـ {أقم}. {وَزُلَفًا} منصوب على الظرفية معطوف على {طَرَفَيِ النَّهَارِ}. {مِنَ اللَّيْلِ} صفة له. {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} ناصب

واسمه. {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ذَلِكَ ذِكْرَى} مبتدأ وخبر. {لِلذَّاكِرِينَ} متعلق بـ {ذِكْرَى}، والجملة مستأنفة. {وَاصْبِرْ} فعل أمر معطوف على {أقم} وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {فَإِنَّ} (الفاء) تعليلية. {إن اللَّه} ناصب واسمه. {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنها مسوقة لتعليل المذكور قبلها. {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}. {فَلَوْلَا} (الفاء) استئنافية. {لولا} حرف تحضيض مضمن معنى النفي، لأنه لا يمكن تحضيضهم وتخويفهم بعد انقراضهم. {كَانَ} فعل ماض تام بمعنى وجد. {مِنَ الْقُرُونِ} متعلق بـ {كَانَ}. {مِنْ قَبْلِكُمْ} جار ومجرور صفة للقرون، لأنه اسم جنس محلى بأل، فهو بمنزلة النكرة. {أُولُو بَقِيَّةٍ} فاعل، ومضاف إليه. {يَنْهَوْنَ} فعل وفاعل. {عَنِ الْفَسَادِ} متعلق به. {فِي الْأَرْضِ} متعلق بالفساد؛ لأنَّ المصدرَ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة، فيكون في الظرف أولى، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الفساد ذكره في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لفاعل {كَانَ}. {إِلَّا قَلِيلًا} مستثنىً من الفاعل بملاحظة صفته. والمعنى (¬1): فما كان من القرون الماضية المهلَكة بالعذاب، جماعة أصحاب دين ينهون عن الفساد إلا قليلًا، وهم من أنجيناهم من العذاب، نَهَوْا عن الفساد، فالمستثنى منه القرونُ المهلكة بالعذاب، كما هو مقتضَى السياق، والمستثنى مَنْ أنجاه الله من العذاب، فاختلفَ الجِنسَ باعتبار الوصف المذكور. {مِمَّنْ} جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلًا}. {أَنْجَيْنَا} فعل وفاعل، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ممن أنجيناه. {مِنْهُمْ} جار ومجرور حال من الضمير المحذوف. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على مقدر تقديره: فلم يَنْهَوْا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {اتبع}. {أُتْرِفُوا} فعل ونائب فاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير. {فِيهِ} وهو متعلق بـ {أُتْرِفُوا}. {وَكَانُوا} فعل ناقص، واسمه. {مُجْرِمِينَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاتَّبَعَ}. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}. {وَمَا} {الواو} استئنافية. (ما) نافية. {كَانَ رَبُّكَ} فعل ناقص واسمه. {لِيُهْلِكَ} (اللام) حرف جر وجحود لسبقها بـ (كان) المنفية بـ (ما). {يهلك القرى} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِظُلْمٍ} جار ومجرور حال من فاعل {يهلك} أي حالَةَ كونه متلبسًا بظلم، أو متعلق بـ {يهلك}؛ أي: ما كان يهلك أهلَ القرى بظلم منهم؛ أي: بشرك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإهلاك القرى الجار والمجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ {كان} تقديره: وما كان ربك مريدًا لإهلاك القرى. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال {من القرى}. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}. {وَلَوْ} {الواو} استئنافية. (لو) حرف شرط. {شَاءَ رَبُّكَ} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لو). {لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً} فعل ومفعولان، و (اللام) رابطة لجواب (لو). {وَاحِدَةً} صفة لـ (أمة) وفاعل (جعل) ضمير يعود على الله، وجملة جعل جواب (لو)، وجملة (لو) مستأنفة. {وَلَا يَزَالُونَ} فعل مضارع ناقص واسمه. {مُخْتَلِفِينَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة (لو). {إِلَّا} أداة

استثناء. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من (واو) {يَزَالُونَ}. {رَحِمَ رَبُّكَ} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: منْ رحمه ربك. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. {وَلِذَلِكَ} جار ومجرور، متعلق بما بعده. {خَلَقَهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة (خلق). {لَأَمْلَأَنَّ} (اللام) موطئة للقسم. {أملأن} فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. {جَهَنَّمَ} مفعول به. {مِنَ الْجِنَّةِ} متعلق بـ (أملأن). {وَالنَّاسِ} معطوف على الجنة. {أَجْمَعِينَ} توكيدٌ لِمَا قبله، والجملة الفعلية جوابٌ لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع بدل من {كَلِمَةُ رَبِّكَ}. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}. {وَكُلًّا} مفعول مقدم لـ {نَقُصُّ}. {نَقُصُّ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {عَلَيْكَ} متعلق بـ {نقص}. {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} جار ومجرور صفة لـ {كلا}. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من {كُلًّا}. {نُثَبِّتُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. {بِهِ} متعلق بـ {نُثَبِّتُ}. {فُؤَادَكَ} مفعول به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. {وَجَاءَكَ} فعل ومفعول. {فِي هَذِهِ} متعلق به. {الْحَقُّ} فاعل. {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى} معطوفان على {الْحَقُّ}. {لِلْمُؤْمِنِينَ} تنازع فيه كل من {موعظة} {وَذِكْرَى}، وجملة {جاءك} معطوفة على جملة {نَقُصُّ}. {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}.

{وَقُلْ} {الواو} استئنافية. {قل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {لِلَّذِينَ} جار ومجرور متعلق بـ {قل}. {لَا يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول. {اعْمَلُوا} إلى قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ} مقول محكي، وإن شئت قلتَ: {اعْمَلُوا} فعل وفاعل. {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} متعلق بمحذوف حال من (واو) {اعْمَلُوا}؛ أي: حالةَ كونكم قارينَ وثابتين على حالتكم، وكفركم، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {إنا} ناصب واسمه. {عَامِلُونَ} خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل}. {وَانْتَظِرُوا} فعل، وفاعل معطوف على {اعْمَلُوا}. {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} ناصب، واسمه وخبره معطوف على {إِنَّا عَامِلُونَ}. {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}. {وَلِلَّهِ} جار ومجرور خبر مقدم. {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِلَيْهِ} متعلق بـ {يُرْجَعُ} الآتي. {يُرْجَعُ الْأَمْرُ} فعل، ونائب فاعل. {كُلُّهُ} توكيد للأمر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية. {فَاعْبُدْهُ} (الفاء) حرف عطف وتفريع. {اعبده} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {يُرْجَعُ}. {وَتَوَكَّلْ} فعل أمر معطوف على قوله: {فَاعْبُدْهُ}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَلَيْهِ} متعلق به. {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} حجازية أو تميمية. {رَبُّكَ} اسمها، أو مبتدأ. {بِغَافِلٍ} خبر المبتدأ، أو خبر (ما) و (الباء) زائدة. {عَمَّا} جار ومجرور متعلق {بِغَافِلٍ}. {تَعْمَلُونَ} صلة لـ (ما) أو صفة لها، والجملة معطوفة على جملة {فَاعْبُدْهُ}. التصريف ومفردات اللغة {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وفي "السمين": الزفير: أول صوت الحمار والشهيق آخره. وقال ابن فارس: الزفير: ضد الشهيق؛ لأن الشهيقَ رد النَّفَسِ، والزفير إخراج النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزَّفر، وهو الحمل على الظهر

لشدته. وقيل: الشهيق: النَّفَسُ الممتد مأخوذ من قولهم: جبل شاهِق؛ أي: عَالٍ. وقال الليث: الزفيرُ أن يملأَ الرجل صَدْرَهُ حَالَ كونِهِ في الغم الشديد من النفس ويُخْرِجُه، والشهيق: أن يَخْرِجَ ذلِكَ النَّفَسَ، وهو قريب من قولهم: تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءِ. وقال أبو العالية، والربيعَ بن أنس: في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير للحمار، والشهيق للبغل، اهـ. {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} عبارة "السمين": قَرأَ الأَخَوانِ وحفص: {سُعِدوا} بضم السين والباقونَ بفتحها، فالأُولَى من قولهم: سَعِدَهُ الله؛ أي: أَسْعَدَه. حكى الفراء عن هذيل، أنها تقول: سعده الله بمعنى أسعده. قال الأزهري: سَعِدَ فهو سعيد، كسَلِم فهو سليم، وسَعِد فهو مسعود. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال: سَعُدَ الرجل كما يقال: حَسُنَ. وقيل: سعده لغة مهجورة، وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخوين، اهـ. وفي "المصباح": سَعِدَ فلانٌ يسعد من باب تعب، في دين أو دنيا سَعْدًا، وبالمصدرِ سُمِّيَ، والفاعل سعيد، والجمع سعداء، ويُعَدَّى بالحركة في لغة، فيقال: سَعِدَه الله يَسْعَده بفتحتين فهو مسعود، وقرِىء في السبعة بهذه اللغة في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} بالبناء للمفعول، والأكثر أن يتعدَّى بالهمزة، فيقال: أسعده الله، وسَعُدَ بالضم خلافُ شَقِيَ، اهـ. {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، {عَطَاءً} اسم مصدر بمعنى إعطاء، والفعل أعطوا؛ أي: أَعطاهم الله سبحانه وتعالى إعطاء. وفي "السمين": عَطاءَ نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قَبْلَهُ؛ لأنَّ قَوْلَهُ: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ} يقتضي إعطاءً وإنعامًا، فَكَأنَّه قيل: يُعْطِيهم عَطَاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة: الإعطاء على وزن الإفعال، أو يكون مصدرًا على حذف الزوائد، كقوله: أنبُتَكُم من الأرض نباتًا، أو منصوب بمقدار موافق له؛ أي: فنبتم نباتًا، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتَ بمعنى نَاوَلْتَ، اهـ. {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} في "المختار": جذه كَسَرَهُ وقطَعَهُ، وبابه رَدَّ، والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسَّر منه، والضم أفْصَحُ، و {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}؛ أي: غير مقطوع، والجذاذات القراضات. {فَلَا

تَكُ} وحذفت النون من {تَكُ} لكثرة الاستعمال، ولأنَّ النونَ إذا وقعت طرفَ الكلام، لم يَبْقَ عند التلفظِ بها إلا مجردَ الغنَّةِ، فلا جَرَمَ أسْقَطُوها، اهـ "كرخي". {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}، {مُرِيبٍ} اسم فاعل من أراب إذا حَصَل الريب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا ريب، وقد تقدَّم نظيره. {وَلَا تَرْكَنُوا} من ركن يركن من باب علم يعلم. وفي"المصباح": ركنت إلى زيدٍ اعتمدتُ عليه، وفيه لغات: إحداها: من باب تَعِبَ، وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}. والثانية: ورَكَنَ رَكُونًا من باب قَعَدَ. قال الأزهري: وليست بالفصيحة. الثالثة: رَكَنَ يَرْكَنُ بفتحتين، وليست بالأصل بل من تداخل اللغتين؛ لأنَّ باب فعل يفعل بفتحتين شَرْطُه أن يكونَ حلقيّ العين أو اللام، اهـ. وفي "السمين": وقَالَ الراغب: والصحيح أنه يقال: ركن يركن بالفتح فيهما، ورَكِنَ يَرْكن بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي، والضم في المضارع، اهـ. والركون إلى الشيءِ الاعتماد عليه ورُكْنُ الشيء جانِبُه الأَقْوى، وما تَتَقوَّى به من مُلْك وجُنْدٍ وغيره، ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ}. {طَرَفَيِ النَّهَارِ} طرف الشيء الطائفة منه والنهايةُ، فَطَرَفَا النهار الغدوُّ والعشي. والزلَف واحدها زُلْفَة، وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار. وقرأ العامة: زُلَفًا بضم الزاي، وفتح اللام، وهي جَمْعُ زلفة بسكون اللام نحو غرف في جمع غرفة، وظلم في جمع ظُلْمَةٍ. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضم اللام للإتباع كما قالوا: بُسُر في بسْر بضم السين إتباعًا لضَمَّة الباء. وفي "القاموس": الزلفة الطائفة من الليل، والجمع زُلُف وزلفات كغرف وغرفات. والزلَفُ: ساعاتُ الليل الآخذةُ من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل، اهـ. {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ}، {لَوْلَا} كلمةٌ تفيد التحضيضَ والحثَّ على الفعل. و {الْقُرُونِ} واحدهم قرن، وهو الجيل من الناس، قيل: هو ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وشاع تقديره بمئة سنة كما مر. {أُولُو بَقِيَّةٍ} وقرأ العامة (بقِيَّة) بفتح

الباء، وتشديد الياء، وفيها وجهان: أحدهما: أنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة، ولذلك دخلت التاء فيها، والمراد بها حينئذ: جيد الشيء وخياره، وإنما قيل لجيده وخياره بَقِيةٌ من قولهم: فلان بقيةُ الناس، وبقية الكرام, لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجودَه وأفضله. والثاني: أنها مصدر بمعنى القويّ. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون البَقِيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقية بمعنى التقوى؛ أي: فَهَلَّا كَانَ منهم ذوو بقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سَخَطِ الله وعقابه. وقرأت فرقة (بقية) بتخفيف الياء، وهي اسم فاعل من بَقِيَ كشجية من شجِيَ، والتقدير: أولو طائفة بقية، أي باقية. وقيل: البقية ما يبقَى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرًا في الأنفع والأصلح؛ لأنَّ العادَةَ قد جَرَتْ بأنَّ الناسَ ينفقون أرْدَأ ما عندهم، ويستبقون الأجودَ. {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} يقال: أترفَتْهُ النَّعْمَة؛ أي: أبْطَرْتُهُ وأفسدَتُه. وفي "القاموس": الترفة بالضم: النعمة، والطعامُ الطَّيِّب، والشيء الظريفُ تَخُصُّ به صاحبَكَ، وَتَرِفَ كَفَرِحَ تنعَّم وأترفته النعمة أطغَتْه، أو نعمته كترفته تَتْرِيفًا وأترف فلانٌ أصَرَّ على المكر، والمُتْرَفُ كمُكْرَمِ المتروك يَصْنَعُ ما يشاء، ولا يمنَع، والمتنعمُ لا يَمْنَعُ من تنعمه، اهـ. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} والجنة والجن بمعنى واحد. وقال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة؛ وإن كَانَ الجِنُّ يقع على الواحد، فالجِنَّة جَمْعُه، انتهى. فيكون مما يكونُ فيه الواحد بغير هاءٍ، وجَمْعُهُ بالهاء لقول بعض العرب كمء للواحد وكمأة للجمع. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} القص تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}. والأنباء جمع نبأ كأسباب جمع سبب. والنَّبَأُ: الخَبَرُ الهَامُّ. {مَا نُثَبِّتُ بِهِ}؛ أي: نُقَوّي به، ونجعل. {فُؤَادَكَ} رَاسِخًا كالجبل. {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ أي: على تَمكنِكم، واستطاعتكم.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: اللف والنشرُ المرتَّب في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا}، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} شبَّه صراخَ أهل النار، وأنينَهم بأصوات الحمير بجامع الارتفاع، والشناعة، وعدم الفائدة في كلٍّ، فاستعار له اسمَ المشبه به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، كما في "روح البيان". ومنها: المبالغةُ في صيغةِ فعَّال في قوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. ومنها: الإظهارُ في مقام الإضمار في قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً} فحقُّ العبارة أن يقال: ما دامتا إلا ما شاء. ومنها: حكايةُ الحال الماضية في قوله: {إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}. ومنها: التأكيد لدفع توهم المجاز في قوله: {نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} أتى بغير منقوص لدفع توهم إرادة بعض النصيب. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}؛ لأنها كناية عن القضاء والقدر. ومنها: الإسناد المجازيُّ في قوله: {مُرِيبٍ} كما مرَّ. ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: {أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. ومنها: الطباق في قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، وفي قوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ}، وفي قوله: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}.

ومنها: التهديدُ والوعيدُ في قوله: و {اعْمَلُوا} {وَانْتَظِرُوا}. ومنها: القَصْرُ في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وفي قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تَمَّ ما يَسَّره الله سبحانه وتعالى لنا من تفسير سورة هود في أوائل ليلة الإثنين المباركة السابعة من شهر صفر المبارك من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة، سنة 7/ 2/ 1411 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله سبحانه وتعالى. وأشكره سبحانه وتعالى شكرًا بلا انصرام على ما وَفَّقني بابتداءِ هذا التفسير، وأسأله تعالى الإعانةَ لي على كماله وتمامه، والحمدُ لله أولًا وآخرًا. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة يوسف

فاتحة في سورة يوسف عليه السلام وتَقْدِمَة لتفسيرها رَأَينا أَنْ نقدِّم لك أيها القارئُ صورةً موجزةً تبيِّنُ لكَ حَالَ هذا النبي الكريم، والعِبرة من ذكْرِ قصته في القرآن العظيم لتكون ذِكرى للذاكرين، وسلْوةً للقارئين والسامعين. يوسف الصدِّيق مثلٌ كاملٌ في عِفَّتِهِ يوسف عليه السلام آيةٌ خالدةٌ على وَجْه الدهر تُتْلى في صحائفِ الكون بكرةً، وعشيًّا، تفسر طيبَ نِجَاره، وطَهَارَة إزاره، وعفَّتِه في شبابه، وقوته في دِينه، وإيثارَه لآخرته على دنياه، وأفْضَلُ هداية تمثِّلُ للنساء والرجال المثل العليا، والعفةَ والصيانةَ التي لا تتِم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله، ومراقبته له في السر والعَلَنِ، وسورته منقبة عظمى له، وآيةٌ بينة في إثبات عصمته، وأفضل مَثَلٍ عَمَليٍّ يقتدي به النساء، والرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسِيسَة على النفس من سلطان، ويسمع بأذنه تغلبَ الفضيلة في المؤمن على كلِّ رذيلة، بقوة الإرادة، ووازع الشرف، والعصمة، ففيها أحسنُ الأُسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شابٍّ كان من أجمل الناس صورةً وأكملهم بنيةً يخلُو بامرأةٍ ذات منصب وسلطان، وهي سَيّدةٌ له، وهو عَبْدُها يحملها الافتتان بجماله على أن تذل نَفْسَهَا له، وتَخُونَ بَعْلَها، فتراوده عن نفسه، وقد جرت العادة أن تَكُونَ النِّسَاء مطلوبات لا طالبات، فيسمعها من حكمته، ويُريها من كماله وعفَّتِه ما هو أفضل درس في الإيمان بالله، والاعتصام بحبله المتين، وفي حفظه أَمَانَةَ سيِّده الذي أحسنَ مثواه فيقول: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، فتشعر حينئذ بالذلِّ والمهانة، والتفريط في الشرف، والصيانة وتحقير مقام السيادة والكرامة.

إلا أنَّ فيها أعظمَ دليل على صبره وحِلمِهِ وأمانته، وعَدْلِهِ وحكمته، وعلمه، وعفوه، وإحسانه فَكَفَى شَاهِدًا على صبره أنَّ إخْوَتَهُ حَسَدُوه فَأَلْقَوه في غيابة الجبِّ، وأخرجَتْه السيارة، وباعوه بَيْع العبيد، وكادَتْ له امرأة العزيز، فزج في السجن، فصَبَرَ على أذى الأخوة، وكيد امرأة العزيز، ومكر النسوة إذْ عَلِمَ ما في الفاحشة من مفاسدَ، وما في العدل والإحسان من منافع، ومصالَحَ، فآثر الأعلى على الأَدْنَى، فاختار الدنيا في السجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أنْ نَجَّاه اللَّهُ ورفع قَدَرَهُ وأذل العزيزَ، وامرأتَه، وأقرَّتِ المرأة والنسوة ببراءته، ومكن له في الأرض، وكانت عاقبتُه النصر، والملك والحكم، والعاقبةُ للمتقين قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}. وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته: فقد ظهرت جليًّا حين تولَّى الحكم في مصر أيامَ السبع السنين العِجافِ التي أكلت الحَرْثَ والنسلَ، وكادَتْ توقع البلادَ في المجاعات، ثمَّ الهلاك المحقق لولا حكمته، وعدله بين الناس، والسَّيْرُ بينهم بالسويَّةِ، وعلى الصراط المستقيم بلا جَنَفٍ، ولا مَيْلٍ مع الهَوى. ما في قصص يوسف من عبرة إن في هذه القصة لعبرةً أيما عبرة لعلية القوم، وساداتهم رجالهم، ونسائهم، مجانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإنَّ امرأةَ العزيز لَمْ تكن من قبل غويَّةً، ولا كانَتْ في سِيرَتها غَيْرَ عادية، لكنها ابتُلِيَتْ بحب هذا الشاب الفاتن، الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلى بَيْنَه وبَيْنَ أهلِه، فأذلَّت نَفْسَها له بمراودته عن نفسه، فاستعصم، وأبَى، وآثر مرضاةَ ربِّه، فَشَاعَ في مصر ودورها، وقصورها، ذلها له وإباؤه عليها كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}. وقد ذكرنها بالوصف "امرأة العزيز" دُونَ الاسم الصريحِ استعظامًا لهذا الأمر منها, ولا سيما، وزوجها عزيزُ مصر، أو رئيس حُكُومَتِها، وقد طَلَبت الفَاحِشَة من مَمْلُوكِها، وفتاها الذي هو في بَيْتها، وتحت كنفها، وذلك أقبح

لوقوعها منها، وهيَ السَّيّدة، وهو المملوك، وهو التابع، وهي المَتْبُوعَةُ، وقد جَرَتِ العادة بأنَّ نفوس النِّسْوَةِ تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها هذه الذلة التي تشعر بالمُساواة لا بالسيادة، وبالضَّعةِ لا بالعظمة، ولله في خلقه شؤُونٌ. أما الأول: فقولهنَّ فيها: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}؛ أي: قد وَصَلَ حبه إلى شِغَافِ قلبها "الغشاء المحيط به" وغَاضَ في سويدائه كما قال شاعرهم: اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ حُبَّكِ مِنِّيْ ... فِيْ سَوَادِ الْفُؤَادِ وَسْطَ الشِّغَافْ وأما الثاني: فقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} فلمَّا سمعت بهذا المكر القوليّ قابلَتْهُنَّ عليه بمكر فعلي، فقد جمعتهن، وأخرجته عليهن فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة، فَراعَهن ذلك الحسن الفتان، وفي أيديهن مدى يقطعنَ بها مما يأكلنَه، فقطعن أَيْدِيَهُن، وهُنَّ لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء في قوله سبحانه: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}. فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هُتِكَ سِتْرُهَا، وكاشفت النسوة في أمرها، وتواطأن معها على كيدها، آثر عليه السلام الاعتقالَ في السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخَنَا {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}. وإنه ليستبين من هذا القَصص أنَّ امرأةَ العزيز كَانَتْ مالكة لقيادة زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيفَ شَاءَت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدًا للغَيْرة كأمثاله من كبراء الدنيا، صغار الأنفُس عبيد الشهوات. قال في "الكشاف" عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفَتْلها منه في الذروة والغارب وكان مِطْواعةً لها، وَجَملًا ذَلُولًا زمامه في يدها،

حتى أنساه ذلك ما عايَنَ من الآياتِ، وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الصغار به، كما أوعدته، وذلك لما أيِسَتْ من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذللَهُ السِّجْنُ ويسخره لها، اهـ. وإنا لنستخلصُ من هذه القصة الأمورَ التَّالِيةَ (¬1): 1 - أن النِّقَم قد تكون ذَرِيعةً لكثير من النعم، ففي بدء القصة أحداث كلها أتراح أعقبتها نتائج كلها أفراحٌ. 2 - أنَّ الأخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن، وأحقادٌ ربما تصل إلى تمنِّي الموت، أو الهلاك، أو الجوائح التي تكون مصدر النَّكَبات، والمصَائِبِ. 3 - أنَّ العفةَ والأمانةَ والاستقامةَ تكون مَصْدرَ الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة لمن اعتبرَ وتدبَّرَ، ونظَرَ بعين الناقد البصير. 4 - أن أُسها، ودعامَتَها هو خلوة الرجل بالمرأة فهي التي أثَارت طبيعتها، وأفضتْ بِها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها، وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدِّينُ خلْوةَ الرجلِ بالمرأة وسفَرَها بغير محرم. وفي الحديث: "ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما". وإنا لنَرَى في العصر الحاضِرِ أَنَّ الدَاءِ الدَّوِيَّ والفسادَ الخُلقِيَّ الذي وصل إلى الغاية، وكلنا نلمس آثارَهُ ونشاهد بَلْواه، ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء في المَراقصِ، والملاهِي، والاشتراك معهم في المفاسد، والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعبِ القمارِ في أنديةِ الخزيِ والعارِ، وسباحة النساء مع الرجال في الحمامات المشتركة. وبَعْدُ، فهل لهذه البلوى مَنْ يُفَرِّج كُرْبَتَها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامَه، وهل لهذه الجراح مِن آس، وهل لهذه الفوضى من علاج، وهل لهذه الطامة من يقوم بِحَمْلِ عَبْئِهَا عن الأمة، ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت ¬

_ (¬1) المراغي.

عاليًا بالنزوع عن تلك الغواية، ويَرُدُّ أَمْرَ المجتمع، والحرص على آدابه إلى ما قرَّرهُ الدينُ، وسار عليه سَلَفُ المسلمين المتقين، فيصلح أَمْرَهُ، وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة، تقوم على حِرَاسَةِ الدين في بلاد المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. سورة يوسف عليه السلام مَكّية كلها، قيل (¬1): إلَّا ثَلاثَ آيات من أولها، وقيل: نزلت ما بين مكة والمدينة، وقْتَ الهجرة. وهي مئة وإحدى عشرة آيةً وألف وتسع مئة وست وتسعون كلمةً، وسبعة آلاف، ومئة وستة وسبعون حرفًا. المناسبة: والمناسبة بينها وبين سورة هود (¬2): أنها متممة لِما فيها مِنْ قصص الرسل عليهم السلام، والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيًا من عند الله تعالى، دالًّا على رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلَها: أنَّ السَّابِقَ كَانَ قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوةَ والمحاجة فيها، وعاقبة مَن آمن مِنهُم، ومن كَذَّبوهم لإنذار مشركي مكة، ومَنْ تبعهم من العرب. وأمَّا هذه السورة فهي قصة نبيٍّ رُبِّيَ في غير قومه قبل النبوة، وهو صغير السنِّ حتى بلغ أشده، واكْتَهَل فنبىء، وأُرسل ودعا إلى دينه، ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم، فأحسنَ الإدارَةَ والسِّياسَةَ فيه، وكان خير قدوةٍ للناس في رسالته، وفي جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، وتصريف أمورها على أحسن ما يَصِلُ إليه العقل البشري، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة، وكانَ مِنْ حكمة الله أن يَجْمَعها في سورة واحدة، ومن ثَمَّ كَانَتْ أطْوَلَ قِصَّةٍ في القرآن الكريم. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}. المناسبة مناسبة هذه السورة لسورة هود من حيث البدايةُ أنه جاءت فاتحةُ هذه السورة كفاتحة سورة هود، أعني كلمة: {الر} إلخ خلا أنَّ القرآن وُصف هنا بالمبين، وفي هود بإحكام آياته، وتفصيلها: ذاك أنّ موضع هذه السورة قصص

نبي، تقلَّبَتْ عليه صروف الزمان، بَيْنَ نحوس وسُعود، كان في جميعها خير أسوة، وموضوعُ سورة هود أصول الدين، وإثباتُ الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وقَصَص الأنبياء المختلفة، فناسبها الوصف بالحِكْمةِ. ومن حيث النهاية أنَّ سُورةَ هود خُتِمَت بقوله {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} وهذه بُدِئَتْ بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}. وعبارة الشهاب هنا: لَما خُتِمت (¬1) سورة هود بقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ} إلخ .. ذُكِرت هذه السورة بعدها؛ لأنها من أنباءِ الرسل، وقد ذَكَر أوَّلًا ما لقي الأنبياء من قومهم، وذكر في هذه ما لقي يوسف من إخوته، لِيَعْلَمَ ما قاسوه من أذى الأجانب، والأقارب، فبينهما أتم المناسبة، والمقصود تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لاقاه من أذى الأقارب والأباعد، اهـ. وعبارة أبي حيان: ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها به أنَّ في آخر السورة التي قبلَها (¬2): {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقَى الأنبياء من قومهم، فأتبعَ ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصلَ للرسول - صلى الله عليه وسلم - التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب، وجاءَتْ هذه مطولة مستوفاةً فلذلك لم يتكرَّرْ في القرآن إلا ما أخبر بِه مُؤْمِنُ آل فرعون في سورة غافر. وحكمة قَصِّ القصص عليه - صلى الله عليه وسلم - ليتأسَّى (¬3) بهم، ويتخلَّق بأخلاقهم، فيكون جامعًا لكمالات الأنبياء. قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين أنَّ أخوة يُوسُفَ أجمعوا أَمرَهم على إلقائه في غيابة الجُبِّ، ونَفَّذُوا ذلك .. ذَكَر هنا طريقَ خَلاصِه من تلك المِحْنَةِ بمجيء قافلةٍ من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر، وباعوه في مصر بثمنٍ بَخْسٍ. ¬

_ (¬1) الشهاب. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الصاوي.

أسباب النزول وسبب نزول هذه السورة (¬1): أنَّ كفار مَكَّةَ أمرَتْهم اليهودُ أن يسألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر، فنَزَلَت هذه السورة. وقيل: سببه تسليةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما كَانَ يفعلُ به قومُهُ بما فعل أخوة يوسف به، وقيل: سألت اليهودُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يحدِّثَهم أمْرَ يعقوب، وولده وشَأْنَ يوسف. وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في سبب نزول هذه السورة قولان: أحدهما: ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمَّا أنزل الله القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلاه عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدَّثتنا، فأنزل الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}. القول الثاني: ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهودُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: حَدّثْنَا عن أمر يعقوب وولده، وشأنِ يوسف، فأنزل الله عز وجل: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} الآيات الكريمة. الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: أمَّا سورةُ يوسف، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومن فضائلها: ما رُوي (¬2) عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عَلِّمُوا أَرِقَّائِكم سورة يوسف، فإنه أيُّما مسلم أَمْلاها، وعَلَّمها أَهْله، وما مَلَكَتْ يمينه هون اللَّهُ عليه سكرات الموت، وأعطاه القُوَّة، وأن لا يَحْسُدَ مُسْلِمًا". كذا في "تفسير البيان"، وذلك أنَّ يوسُفَ عليه السلام ابتُلِي بحسد الإخوة، وشدائد البئر، والسجن، فأرسل اللَّهُ تعالى جبريل فسلاه، وهون عليه تلك الشدائِدَ بإيصاله إلى مقام الأُنس، والحضورِ، ثم أعطاه القوةَ، والعزةَ، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[1]

والسلطنةَ، فآل أمره إلى الصفاء بعد أنواع الجفاءِ، فمنْ حَافَظَ على تلاوة سورة يوسف، وتدبَّر في معانيها .. وَصَلَ إلى ما وصل يوسف إليه من أنواع السرور، كما قال عطاء رحمه الله تعالى: لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلَّا استراحَ، كما في "تفسير الكواشي": نسأل الله الراحةَ من جميع الحواشي. وقال خالد بن مَعْدان: سورةُ يوسفَ، وسورةُ مريم تَتَفكَّهُ بهما أَهْلُ الجنةِ في الجنة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الر}؛ أي: أنا الله أرَى، وأسمع سؤالَهُم إيَّاك يا محمدُ عن هذه القصة، ويقال: أَنَا الله أرى صنيعَ إخوة يوسف، ومعاملتهم معه، ويقال: أنا الله أرى ما يَرَى الخَلْقُ، وما لا يَرى الخَلْقُ، ويقال: {الر} تعديد للحروف على سبيل التحدي، فلا محل له من الإعراب، أو خبر مبدأ محذوف؛ أي: هذه السورة {الر}؛ أي: مسماة بهذا الاسم. والقول بأنَّ هذه الحروف المقطعة في أوائل السور من المتشابهات القرآنية التي لا يعلم معانِيهَا إلا الله تعالى، هو الطريق الأَسْلَمُ. والقول الأعلم لما فيه من تفويض الأمر إلى أهله. {تِلْكَ}؛ أي: هذه الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسمَّاة {الر} أشار إليها بإشارة البعيد تنزيلًا للبعد الرتبيّ، منزلةَ البعد الحِسِّيِّ، وهو مبتدأ خبره {آيَاتُ الْكِتَابِ}؛ أي: آياتٌ من القرآن الكريم {الْمُبِينِ}؛ أي: المظهر للحق من الباطل، فهو منْ أَبَانَ المتعدي. وَفِي "الخازن" المبين: أي: البين حلاله وحرامُه، وحدودُه وأحكامُه. وقال الزجَّاجُ: المبين للحق من الباطل، والحلال من الحرام، فهو من أبان بمعنى أظهر. وفي "بحر العلوم": الكتاب المبين هو اللوحُ المحفوظ، وإبانَتهُ أنه قد كتب وبيِّنَ فيه كل ما هو كائن. والمعنى: أيْ آيات هذه السورة هي آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه، والمظهر لما شاء الله تعالى من حقائق الدين، وأحكام التشريع، وخَفَايَا المُلْك، والملكوت، وأسرار النشأتين، والمرشد إلى مصالح الدنيا، وسبيل الوُصُولِ إلى سعادة الآخرة. 2 - {إِنَّا} نحن {أَنْزَلْنَاهُ} بعظمتنا وجلالتنا؛ أي: إنَّا أنزلنا هذا الكتاب المتضمِّنَ قِصَّةَ يُوسُفَ وغَيرهَا على هذا النبي العربي الأمي حالةَ كونه {قُرْآنًا}؛

أي: مجموعًا، أو مقروءًا {عَرَبِيًّا}؛ أي: منسوبًا إلى العرب لكونه نزل بلغتهم. والمعنى: أنَّ القرآن نَزَل بلغة العرب، فليس فيه شيء غير عربيّ. فإن قلت: قد ورد في القرآن شيء غير عربي كسجيل، ومشكاة، وإستبرق، وغير ذلك. أجيب (¬1): بأنَّ هذا مما توافقت فيه اللغات، والمراد: أنَّ تراكيبه، وأسالِيبَه عربية، وإن وَرَدَ فيه غير عربي، فهو على أسلوب العرب، والمرادُ أنَّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العربُ، ودارَتْ على ألسنتهم .. صارت عربية، فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها .. نسبت إليهم، فصارت لهم لغة؛ وإنما كان القرآن عربيًّا؛ لأنَّ تِلكَ اللُّغَةَ أفصح اللغات، ولأنها لُغَةُ أهل الجنة في الجنة. فَعَربِيًّا (¬2) نعت لِقرآنًا نعت نسبة لا نعت لزوم, لأنه كان قرآنًا قبل لزومه، فلَمَّا نزل بلغة العرب نسب إليها كما في "الكواشي". و {قُرْآنًا} حال موطئة؛ أي: توطئةً للحالِ التي هي عربيًّا؛ لأنه في نفسه لا يبين الهيئة، وإنما بينها ما بعده من الصفة، فإنَّ الحالَ الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، فكأنَّ الاسمَ الجامد، وطأ الطريقَ لما هو حال في الحقيقة بمجيئه قبلها موصوفًا بها كما في "شرح الكافية". وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} علة لكونه عربيًّا؛ أي: لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه، وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر، مُنَزَّلٌ من عند خالق القُوَى والقدر. وقال في "بحر العلوم": (لعلَّ) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ العرب معناه أو معنى الترجي؛ أي أنزلنا قرآنًا عربيًّا إرادة أن تعقله العرب، ويفهموا منه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ} انتهى. والمعنى (¬3): أي إنا أنزلنا هذا الكتابَ على النبي العربي، ليبيِّنَ لكم بلغتكم العربية، مَا لَمْ تكونوا تعلمونه من أحكام الدين، وأنباءِ الرسل، والحكمة، ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[3]

وشؤون الاجتماع، وأصول العُمْرَانِ وأدَب السِّيَاسَةِ لتعقلوا معانِيه، وتَفْهَموا ما ترشد إليه من مطالب الروح، ومداركِ العقل وتزكيةِ النفس، وإصلاح حَالِ الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم. 3 - {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يا محمَّد؛ أي: نخبرك ونحدثك {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}؛ أي: أحسن ما يقص به، ويتحدث عنه من الأنباء والأحاديث موضوعًا، وفائدةً لما يتضمنه من العبر والحكم. والمعنى: نحن نبين لك أخبارَ الأُممِ السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المراد خصوص قصة يوسف. {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}؛ أي: بسبب إيحائنا وإنزالنا إليك هذه السورةَ من القرآن الكريم؛ إذ هي الغاية في بلاغتها، وتأثيرها في النفس، وحسْنِ موضوعها، {وَإِنْ} أي والحال أن الشأن قد {كُنْتَ} يا محمَّد {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل إيحائنا هذا القرآن إليك {لَمِنَ الْغَافِلِينَ}؛ أي: لمن زمرة الغافلين عن هذا القصص؛ أي: من قومك الأميينَ الذينَ لا يَخْطُرُ في بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم، وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع، كيعقوب وأولاده، وهم في بَداوتهِم، ولا ما كان فيه المصريون الذين جاءَ إليهم يوسف مِنْ حضارة وترف، ولا ما حدث له في بعض بيوتات الطبقة الراقية، ولا حاله في سياسة الملك، وإدارة شؤون الدَّوْلَةِ وحُسْنِ تنظيمها. وقيل (¬1): كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها منْ ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطَّيْر، وسير الملوك، والممالك والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن، ومكرهن، مع ما فيها من ذِكْر التوحيد، والفقه، والسِّير، والسياسة، وحسن المَلَكَة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحِيل، وتدبير المعاشِ والمعاد، وحسن العاقبة في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب، والمحبوب، ومَرأى السنينَ وتعبيرِ الرؤيا والعجائبِ التي تصلح للدين والدنيا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقيل: كانت أحسنَ القصص؛ لأنَّ كُلَّ من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، انظر إلى يوسف، وأبيه، وإخوته، وامرأة العزيز، والمَلِك أسلم بِيُوسُفَ وحسن إسلامه، ومعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال. وقال بعضهم (¬1): لأنَّ يوسفَ عليه السلام، كان أحسنَ أبناءِ بني إسرائيل، ونسبه أحسن الأنساب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الكريمَ ابنَ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريم يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام". والكرم اسم جامع لكل ما يحمد به، واجتمع في يوسف مع كونه ابنَ ثلاثة أنبياء متراسلينَ شرف النبوة، وحسن الصورة، وعلم الرؤيا، ورياسةَ الدنيا، وحِياطةَ الرَّعايا في القحط، والبلايا، فأي رجل أكَرمَ مِنْ هذا. وقال بعضهم: لأنَّ دُعاءه كان أحْسنَ الأدعية {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وهو أول من تمنى لقاء الله تعالى بالموت. وقيل (¬2): {أحسَنَ} هنا ليست أفعلَ التفضيل بل هي بمعنى حَسَنَ كأنه قيل: حَسَنَ القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: القصص الحسن ومعنى: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} لم يكن لك شعور بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طَرَق سَمْعَكَ طرف منها. وقيل: إن بمعنى قَدْ، والمعنى، قد كنْتَ مِنْ قبلِ وحينا إليك من الغافلين عن هذه القصة. والغفلة عن الشيء هي: أن لا يخطر ذلك ببالِهِ؛ أي: لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تُخْطُر ببالك، ولم تَقْرَع سمعك قطُّ، وهو تعليل لِكَوْنِهِ موحًى، والتَّعْبِيرُ عن عدم العِلْم بالغفلةِ لإجلالِ شأنه - صلى الله عليه وسلم - كما في "الإرشاد" فليسَتْ هي الغفلة المتعارفَةُ بين الناس، ولله تعالى أَنْ يُخَاطِب حَبيبَه بما شاء ألاَ تَرى إلى قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} ونحوهما، فإنَّ مثلَ هذا التعبير إنما هو بالنسبة إلى الله تعالى، وقد تعارَفَهُ العربُ من غير أن يخطر ببالهم نقص، ويجب علينا حسن الأداء في مثل هذا المقام، رعاية للأدب في التعبير، وتقرير الكلام مع أنَّ الزمانَ وأَهْلَه قد مضى، وانقضَتِ الأيام والأنامُ، اللهم اجعلني فيمن هديتهم إلى لطائف البيان، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[4]

ووفقتهم لما هو الأدب في كل أمر وشأن إنك أنت المنان. 4 - واذكر يا محمَّد لقومك قِصَّةَ {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} بن يعقوب {لِأَبِيهِ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ويوسُف اسم عِبْرِيٌّ، ولذلك لا يجري فيه الصرف للعجمة والعلمية. وقيل: هو عَرَبِيٌّ، والأول أصحُّ، بدليل عدم صرفه. وسئل (¬1) أبو الحسن الأقطع عن يوسف، فقال: الأسَفُ أشدُّ الحزن، والأَسِيفُ: العَبْدُ، واجتمع في يوسف فسُمِّي به. والعبرِيُّ والعَبْرَانِيُّ: لغة إبراهيم عليه السلام، كما أنَّ السِّرْيَانِيَّ هي اللغة التي تَكَلَّمَ بها آدم عليه السلام. قال السيوطي: السِّريانيُّ منسوب إلى سُريانة، وهي أرض الجزيرة التي كان نُوحٌ وقَوْمُه قبل الغرق فيها، وكان لسانُهم سريانيًّا إلا رجلًا واحدًا يقال له: جُرْهم وكان لسانُه عَرَبِيًّا. وقرأ الجمهور (¬2): {يُوسُفُ} بضم السين. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف بكسرها مع الهمز مَكَانَ الواو، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين. {يَا أَبَتِ}؛ أي: يا أبي بكسر التاءِ في قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ونافع، وابن كثير، وهي عند البصريين، علامة التأنيث، ولَحِقَتْ في لفظ أب في النداء خَاصَّةً بدلًا من الياءِ، وأصْلُه: يا أبي، وكَسْرُها للدلالة على أنها عوض عن حرف يُناسِبُ الكسرَ. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرجُ بفتحها؛ لأنَّ الأصْلَ عندهم: يا أَبَتَا, ولا يجمع بين العوض والمعوَّض فيقال: يا أبتي. وأجاز الفراء: يا أبت بضم التاء. {إِنِّي رَأَيْتُ} في منامي في (¬3) النهار؛ لأنها منْ رَأى الحُلمية لا مِن رأى البصرية كما يدل عليه قوله: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ}، {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}؛ أي: نَجْمًا. وقرأ الحسنُ، وأبو جعفر، وطلحةُ بن سليمان: (أَحَدَ عْشَرَ) بسكون العين لتوالي الحركات وليَظْهَرَ جعل الاسمين اسمًا واحدًا. وقرأ الجمهور بفتحها على الأصل. {و} رأيتُ {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إنما أخَّرَهما عن الكواكب لإظهار مِزيتِهما وشرفهما كما في عطف جبريل، وميكائيل على الملائكة. وقيل: إنَّ الواوَ بمعنى مع، والكواكبُ تُفسَّر بإخوته، والشَمْسُ بأمه والقَمَرُ بأبيه. وجملةُ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}؛ أي: رأيت هؤلاء المذكورين سجَّدًا لي في المنام، جملةٌ مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها. كأنَّ سَائِلًا قال: كيف رأيتَ؟ وأجريت مُجْرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصفِ العقلاء، وهو كونُها ساجدةً كذا قال الخليلُ، وسيبويه، والعربُ تَجْمَع ما لا يعقل جَمْعَ مَنْ يعقل، إذا نزلوه مَنْزِلَتَهُ. قال في "الكواشي": الرؤيا في المنام، والرؤية في العين، والرأي في القلب. قال وَهْبٌ: رأى يُوسُفُ عليه السلام، وهو ابن سبع سنينَ أنَّ إحدَى عَشَرَةَ عصًا طِوالًا، كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، وإذا عَصًا صغيرة وثَبَتْ عليها حتى ابْتَلَعَتْها، فذكر ذلك لأبيه، فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثُمّ رَأَى وهو ابن ثنتي عشرة، أو سبع عشرة سنةً ليلة الجمعةِ، الشمسَ والقمرَ، والكواكبَ، تسجد له، فقصها على أبيه فقال: لا تَذْكُرْها لهم فيبغوا لك الغَوَائِلَ. رُوِيَ عن جابر رضي الله عنه: أنَّ يهودِيًّا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد! أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسفُ عليه السلام، فسَكَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَ جِبْرِيل عليه السلام، فأخْبَرَهُ بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم - لليهوديّ إذَا أخبرتك بذلك هل تُسْلِمُ؟ فقال: نعم. قال: جريانُ (¬1) والطارقُ، والذَيَّالُ وقابسُ، وعَمُودان، والفَلِيقُ، والمُصبِّحُ، والضَّرُوخُ، والفَرْغُ، ووثَّابُ، وذو الكَتِفَيْنِ رآها يوسفُ عليه السلام، والشمسَ والقمرَ، نزَلْنَ من السماء، وسَجَدْنَ له، فقال اليهوديُّ: إي والله إنها لأسمَاؤها، اهـ "بيضاوي". (جَريان) بفتح الجيم وكسر الراء المهملة، وتشديد الياء التحتية منقول من اسم (طوق القميص). (وقابس) بقاف، وموحدة وسين مقتبسُ النار (وعمودان) تثنية عمود (والفليق) نجم منفرد (والمصبح) ما يَطْلَعُ قبل الفجر، (والفرغ) بفاء وراء مهملة ساكنة، وغين معجمة، نجمٌ عند الدلو، و (وثاب) بتشديد المثلثة، سريعُ الحركة، و (ذُو الكتفين) تثنية كتف: نجم كبير، وهذه نجومٌ غير مرصودة، ¬

_ (¬1) البيضاوي.

خصَّتْ بالرؤيا لغيبتهم عنه، اهـ "شهاب". والمراد بالسجود هنا: سَجْدَة تحية، لا سجدة عبادة. وقال بعضهم: لفظ السجود: يُطْلَقُ على وضع الجبهة على الأرض، سواء كان على وجه التعظيم، والإكرام، أو على وَجْهِ العبادة، ويُطلق أيضًا على التواضع، والخضوع، وإنما أُجرِيَتْ مُجْرَى العقلاء في الضمير لوصفها بوصف العقلاء، وهو السجود، كما مرَّ. وأبو يوسف هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال بَعْضُ مَنْ مال إلى الاشتقاق في هذه الأسماء: إنما سمِّيَ يعقوبُ لأنَّ يعقوبَ وعيصًا كانا تَوْأمَيْنِ فاقتتلا في بطن أمهما حيث أراد يعقوب أن يَخْرُجَ فَمَنَعَه عَيْصٌ وقال: لئن خَرجت قبلي لأعترض في بطن أمي، فلأقتلنَّها فتأخَّر يعقوب، فخرج عيص فأَخَذَ يعقوب بعقب عيص، فخَرَجَ بَعْدَهُ فلهذا سمي به، وسمي الآخر عَيْصًا لمَّا عَصَى وخَرَجَ قبل يعقوب، وكان عيص رجلًا أشعر، وكان يعقوبُ أجْرَد، وكان عيص أحبَّهما إلى أبيه، وكان يعقوبُ أحبَّهما إلى أمه، وكان عَيْصٌ صاحبَ صيد، وكان يعقوبُ صَاحِبَ غنم، فلما كَبرَ إسحاق، وعَمِي قال لعيص يومًا: يا بنيَّ أطْعِمْني لَحْمَ صيد، واقْتَرِبْ مني أدع لك بدعاءٍ دعا لي به أبي هو دعاء النبوة، وكان لكل نبي دعوة مستجابة، وأخَّر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - دُعاءَه للشفاعة العظمى يوم القيامة، فخرج عَيْصٌ لطلب صيد، فقَالَتْ أمُّهُ ليعقوب: يا بنيَّ اذهب إلى الغنم فاذبح منها شَاةً ثم اشوها، والْبِسْ جِلْدَهَا، وقدِّمها إلى أبيك، قبل أخيك، وقُلْ له: أنا ابنك عيص لعله يدعو لك ما وَعَدَه لأخيك، فلما جَاءَ يعقوب بالشواء قال: يا أبت كُلْ، قال: مَنْ أنت؟ قال: أنا ابنك عيص؛ فمسَّه فقال: المس مَسُّ عَيْص والريحُ ريح يعقوب. قال بعضهم: والأسلم أن يقال: إنَّ أمه أحْضَرَتْ الشواء بين يدي إسحاق، وقالت: إنَّ ابْنَكَ جاءك بشواء، فادع له، فظَنَّ إسحاق أنه عيص، فأكل منه، ثم دَعَا لِمَنْ جاء به، أن يجعل الله في ذريته الأنبياءَ، والملوكَ فذهب يعقوب، وَلَمّا جاء عيصٌ قال: يا أبت قد جئتك بالصيد الذي أردتَ، فعلم إسحاق الحالَ، وقال: يا بنيَّ قد سبقك أخوك، ولكن بَقِيَتْ لك دعوة فهلم أدعو لك بها، فدعا أن يكون ذرِّيتُه عَدَدَ التراب، فأعطى الله تعالى له نَسْلًا كثيرًا،

وجملة الروم منْ ولده، رُوم، وكان إسحاق متوطِّنًا في كَنْعَان، وإسماعيل مقيمًا في مكة، فلما بَلَغَ إسحاق إلى مئة وثمانين من العمر، وحضرته الوفاة وصَّى سِرًّا بأن يخرج يعقوب إلى خاله في جانب الشام حذرًا من أن يقتله أخوه عَيْصٌ حسدًا, لأنه أقْسَمَ بالله في قصة الشواء أن يقتل يَعْقُوب فانطلق إلى خاله ليا بن ناهزَ، وأقام عنده وكان لخاله بنتان إحداهما لَيَّا، وهي كبراهما، والأُخرى راحيل، وهي صغراهما فخَطَبَ يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما فقال له: هل لك مالُ؟ قال: لا, ولكن أَعْمَلُ لك، فقال: نعم، صداقها أن تخدمني سبع سنين، فقال يعقوب: أَخْدُمُكَ سبع سنين على أن تزوجني راحيل، قال: ذلك بيني وبينك، فرعَى له يعقوب سبع سنين، فزوجه الكبرى, وهي لَيَّا، قال له يعقوب: إنك خَدَعْتَني، إنما أردتُ راحيل، فقال له خاله: إنَّا لا ننكح الصغيرةَ قبل الكبيرة، فهلم فاعمل سبع سنين، فأزوجك أختها - وكان الناس يجمعون بين الأختَين إلى أنْ بعَثَ الله موسى عليه السلام - فرَعَى له سبع سنين، أُخْرى فزوجه راحيل، فجمَعَ بينهما، وكان حاله حين جهَّزَهما دفع إلى كل واحدة منهما أَمَةً تخدمُها، اسمُ إحداهما، زلفة، والأخرى بَلْهَة، فوهبتا الأمتَين ليعقوب، فولدت ليا ستة بنين وبنتًا واحدة، رُوبِيلَ، شمعون، يهوذا، لاوي، يَسْجُر، زيالون، دنية. وولدت زلفة ابنَينِ دان، يغثالى، وولدت بُلْهَةُ أيضًا ابنين جاد، آشر. وبقيت راحيل عاقرًا سنينَ ثمَّ حملَتْ، وولدت يوسف. وليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنةً، وأراد يعقوب أن يُهاجِر إلى موطن أبيه إسحاق بكل الحواشي. وفي سنة الهجرة حَمَلَتْ راحيل ببنيامين، وماتت في نفاسها، ويوسف ابن سنتين، وكان أحبَّ الأولاد إلى يعقوب، وحين صار ابنَ سبع سنين، رَأَى المنام المذكور سابقًا فيما حكى الله تعالى بقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. واعلم: أنَّ يوسف رأى إخْوَته في صورة الكواكب, لأنه يُسْتَضاءُ بالأخوة، ويهدى بهم كما يهتدى بالكواكب، ورأى أباه وخَالَتَه ليا في صورة الشمس والقمر، وإنما قُلْنا خالته لأنه ماتت أمه في نفاس بنيامين كما مَرَّ. وسجودُهم له دخولهم تحت سلطنته، وانقيادهم له كما سيأتي في آخر القصة.

[5]

قال في "الإرشاد": ولا يَبْعُدْ أن يكونَ تأخيرُ الشمس والقمر إشارة إلى تأخُّرِ ملاقاتِه لهما عن ملاقاته لإخوته، ذَكَرَ هذه القصةَ صاحبُ "روح البيان". فائدة: والرؤيا ثلاثة أقسام: أَحدُها: حديث النفس كَمَنْ يكون في أمْرٍ أو حِرْفة يرى نَفْسَهُ في ذلك الأمر، وكالعاشق يرى مَعْشُوقَه ونحو ذلك. وثانيها: تخويف الشيطان بأن يَلْعَبَ بالإنسان فيريه ما يحزِنه، ومَنْ لعبه به الاحتلامُ الموجبُ للغسل، وهذان لا تأويلَ لهما. وثالثهما: بشرى من الله تعالى بأن يَأتِيَك ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب يعني من اللوح المحفوظ، وهو الصحيحُ، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلام. 5 - {قَالَ} يعقوب ليوسف في السرِّ، وهذا كلام مستأنف مبنيُّ على سؤالِ مَنْ قال: فماذا قال يعقوبُ بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة؟ فقيل: قال يعقوب: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} تصغيرُ ابن صغره للشفقة والمحبَّة وصِغر السن، فإنه كان ابن ثنتي عشرة سنة كما مَرَّ. وأصله يا بُنَيَّا الذي أصله: "يا بُنَيّي" فأُبدلت ياء الإضافةِ ألِفًا، كما قيل في يا غلامي، يا غلاما بناء على أنَّ الألِفَ، والفتحةَ أخفُّ من الياء والكسرة. وقرأ حفصٌ هنا، وفي لقمان، وفي الصافات: {يَا بَنِي} بفتح الياء. وابن كثير في لقمان: (يا بني لا تشرك). وقيل: (يا بني أقم) بإسكانها. وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي: (لا تَقُصُّ) مدغمًا وهي لغة تميم، والجمهور بالفك، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ الجمهور: {رُؤْيَاكَ} والرؤيا حيثُ وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي بالإمالة، وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز ذكره أبو حيان في "البحر". قال في "الإرشاد": ولمَّا عرف يعقوبُ من هذه الرؤيا، أنَّ يوسف يبلِّغه تعالى مَبْلَغًا جَلِيلًا من الحكمة، ويَصْطَفِيهِ للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فَعَلَ بآبائه الكرام .. خَافَ عليه حسدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانة لهم من ذلك وله

من معاناة المشاقِّ، ومقاساة الأحزان، وإن كانَ واثقًا من الله تعالى بأن سيحقق ذلك لا مَحَالَةَ وطَمَعًا في حصوله بلا مشقَّة: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ}؛ أي: لا تُخْبِرَ مَنَامَكَ كُلًّا، أو بعضًا، ولا تطلعها {عَلَى إِخْوَتِكَ}، وهم بَنُو علاته العشرة، كما هو المشهور، وأما شقيقه بنيامين فهو حادي الأحد عشر في الرؤيا، وإن لم يكن ممن تخشى مَضرَّتهُ، وكيدُه ليوسف {فَيَكِيدُوا لَكَ}؛ أي: فيفعلوا لأجلك، ولإهلاكك {كَيْدًا} خَفِيًّا عن فهمك لا تقدر على مدافعته، وهذا أوفق بمقام التحذير، وإن كانَ يعقوبُ يعلم أنهم ليسوا بقادرينَ على تحويلِ ما دلت الرؤيا على وقوعه. والكيد: الاحتيال للاغتيال، أو طَلَبُ إيصال الشر بالغير وهو غَيْرُ عالم به. وحاصل المعنى: أي قال يوسف لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ والقَمَرَ لي سجَّدًا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام تثِيرُها في النوم الهواجسُ والأفكار، وأنَّ يوسُفَ سَيَكُون له شأن عظيم، وسلطان يسود به أهلَه حتى أباه وأمه، وإخوته، وخَافَ أن يَسْمَعَ إخْوَتُهُ ما سمعه، ويفهموا ما فَهِمَه فيحسدوه، ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثمَّ نَهاه أن يقصَّ عليهم رؤياه، كما دل على ذلك قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}؛ أي: لا تخبر إخوتَك بما رأيتَ في منامك، خِيفَة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير، يحكمونه بالتفكير، والرؤية، ثم بَيَّن السببَ النفسيَّ لهذا الكيد بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: إنَّ الشيطانَ عدو لآدم وبنيه، قد أظهرَ لهم عداوتَه، فاحذَر، أن يُغريَ إخوتك بك بحسدهم لَكَ، إن أنْتَ قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينزغَ بَيْنَ الناس حين تعرض له داعية من هوى النفس، ولا سِيّما الحسد الغريزي في فطرة البشر، وقد أرْشَدَ إلى هذا يوسف بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}. وهذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ يوسفَ قال: كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة. فقيل: إنَّ الشَّيْطَانَ ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك، ولأبناءِ جنسك إذ أخرج أبويكم آدم وحواء من

[6]

الجنة، ونزع عنهما لباسَ النور، وحلف أنه ليعملن في نوع الإنسان كل حيلة، وليأتينهم من كل جهة وجانب، فلا يزال مجتهَدًا في إغواء إخوتك وإضلالهم، وحملهم على الإضرار بك، فَبِه عُلِمَ أنهم يَعْلَمُونَ تَأْويلَهَا فقال ما قال. قال بعض العارفين: بَرَّأ أبناءه من ذلك الكيد، فألحقه بالشيطان لِعِلْمه أن الأفعال كلَّها من الله تعالى، ولمَّا كان الشيطان مظهرًا لاسم المُضِلِّ أضَافَ الفعل السَّببيَّ إليه، وهذه الإضافة أيضًا كيد ومكر، فإن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة لا المظهر الشيطاني. 6 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على عُلُوِّ شأنك {يَجْتَبِيكَ} ويصطفيك {رَبُّكَ} بالنبوة والرسالة والملك؛ أي (¬1): مثل اجتبائك واختيارك من بين إخوتك، لمثل هذه الرؤيا العظيمة، الدالةِ على شرفِ وعز وكبرياء شأنك، فالكاف في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف، كما سيأتي في مبحث الإعراب. {يَجْتَبِيكَ}: أي: يَخْتَارُكَ، ويصطفيك لما هو أعظم منها، كالنبوة ويبرزُ مِصْداقُ تلكَ الرُّؤَيا في عالم الشهادة إذ لا بُدَّ لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة، وإن كانت الدنيا كلها خَيَالًا. وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ} كلام مستأنف غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو تعالى يعلمك, لأنَّ الظاهر أن يشبَّهَ الاجتباءُ بالاجتباءِ والتعليم غَيْرُ الاجتباء؛ أي: ويُعَلِّمُكَ {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}؛ أي: تعبير الرؤيا وتفسيرها، والأحاديث (¬2) جمع تكسير لحديث على غير قياس، وإنما سميت الرؤيا أحاديث؛ لأنها إما أحاديث الملك إن كانت صادقةً أو أحاديث النفس والشيطان إن لم تكن كذلك، وتسميتها تَأويلًا, لأنه يَؤُول أمرها إليه؛ أي: يرجع إلى ما يذكره المعبِّر من حقيقتها. وحاصل المعنى: أي وكما أراك (¬3) ربك الكواكبَ والشمس والقمرَ سجَّدًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

لك، يَجْتبيك ربك لنفسه، ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهي يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعيٍ منك، فتكون من المخلصين من عباده، ويعلمك من علمه اللدني تأويل الرؤيا وتعبيرها؛ أي: تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تؤول إليه في الوجود كما حكى الله قول يوسف لأبيه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}. وتعليم الله تعالى يوسفَ التأويلَ إعطاؤه إلهامًا، وكشفًا لما يُرادُ أو فِراسَةً خاصة فيها، أو علمًا أعمُّ من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبي السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} يا يوسف يجوز (¬1) أن يتعلَّق بقوله: {يتم} وأن يتعلَّق بـ {نِعْمَتَهُ}؛ أي: بأن يضمَّ إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك، ويَجْعَلُه تَتِمَّةً لها، وتوسيط التعليم لرعاية الوجود الخارجِيّ {وَعَلَى} كرر على ليمكن العطفُ على الضمير المجرور {آلِ يَعْقُوبَ} الآل (¬2) وإن كان أصله: الأهل إلَّا أنه لا يستعمل إلا في الأشراف بخلاف الأهل، وهم أهله من بيته، وغيرهم، فإن رؤيةَ يوسف إخوته كواكب يُهتدى بأنوارها من نعم الله عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة، فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل، إتمامًا لتِلْكَ النعمة؛ أي: ويتم (¬3) نعمته عليك باجتبائه إياكَ، واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك، وعلى أبيك، وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البَدْوِ وتبوئهم مقامًا كريمًا في مصر، ثم تسَلْسَل النبوة في أسباطهم حينًا من الدهر. وقوله: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ} صفة لمصدر محذوف تقديره أي: ويتم نعمته عليك إتمامًا كائنًا كإتمام نعمته على أبويك وهي نعمة الرسالة والنبوة، {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذا الوقت أو من قبلك. وقوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} عطف بيان لأبويك، والتعبير (¬4) عنهما بالأب مع كونهما أبا جَدّهِ، وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام. قال في "الكواشي": الجدُّ أب في الأصالة، يقال: فلان ابن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

فلان، وبينهما عِدَّةُ آباء، انتهى. أما إتمامها على إبراهيم فباتخاذه خليلًا، وبإنجائه من النار، ومنْ ذبح الولد. وأما على إسحاق فبإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه، وكُلُّ ذلك نعم جليلة، وقعت تتمةً لنعمة النبوة، ولا يجب في تحقيق التشبيه كون ذلك في جانب المشبَّهِ مِثل ما وقع في جانب المشبه به من كل وجه؛ أي: كما أتمَّ النِّعْمَة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك. وقَدَّم إبراهيم لأنه الأشرفُ منهما. وقد قال يعقوب ذلك لما كان يَعْلَمه من وَعدِ اللَّهِ لإبراهيم باصطفاء آله، وجعل النبوة، والكتاب في ذريته، وما عَلِمه من رُؤْيَا يوسف، وأنَّهُ الحَلَقَةُ الأولى في السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه. {إِنَّ رَبَّكَ} يا يوسف {عَلِيمٌ} بمَنْ يستحق الاجتباء {حَكِيمٌ} يضعُ الأشياءَ مواضعَها، والجملة مستأنفة (¬1) مقررة لمضمون ما قبلَها تَعْلِيلًا له؛ أي: فَعَلَ ذلك؛ لأنه عليم حكيم. وهذا كلام من يعقوب مع ولده يُوسُفَ تعبيرًا لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة، وما تقضيه المخايِلُ اليوسفيةُ. والمعنى: أي إن رَبَّك (¬2) يا يوسف عليم بمن يصطفيه، ومَن هو أهل للفضل، والنعمة فيُسَخِّر له الأسبابَ التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له، حكيم في تدبيره، فيفعل ما يشاء جريًا على سنن علمه وحكمته. وخلاصة ما تقدم: أنَّ يعقوبَ عليه السلام فَهِمَ من هذه الرؤيا فَهْمًا جُمَلِيًّا كُلُّ ما بُشِّر به ابنه يوسف الرائي، وأمَّا كيدُ إخوته به إذا قصَّها عليهم فقد استنبطه منْ طبع وعداوة الشيطان له، ثُمَّ قَفَّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه، ومن تأويل الأحاديث، وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس في رفعة قدره، وعلو مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبل. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[7]

وعزتي وجلالي 7 - {لَقَدْ كَانَ فِي} قصة {يُوسُفَ} بن يعقوب عليهما السلام {و} حكاية {إخوته} الأحد عشر {آيَاتٌ}؛ أي: علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله سبحانه وتعالى القاهرة، وحكمته الباهرة {لِلسَّائِلِينَ}؛ أي (¬1): لكل مَنْ سأل عن قصتهم، وعَرَفها، فإنَّ كِبَار أولاده يعقوب بعدما اتفقوا على إذْلال أصغر أولاده يوسف، وفعلوا به ما فَعَلُوا قد اصطفاه الله للنبوة والملك وجعلهم خَاضِعين له منقادينَ لحكمه، وأنَّ وبَالَ حسدهم قد انقلب عليهم، وهذا مِنْ أَجَلِّ الدلائل على قدرة الله القاهرة، وحِكمتِهِ الباهرة. والمعنى: والله (¬2) لقد كان في قصة يوسفَ وإخوته لأبيه عِبَرٌ أيُّما عِبر دالةٌ على قدرة الله، وعظيم حكمته، وتوفيق أقداره، ولطفه بِمَنِ اصطفى من عباده، وتربيته لهم وللسائلين عنها الراغبينَ في معرفة الحقائق، والاعتبار بها فإنهم هم الذين يعقلون الآيات، ويستفيدُون منها. تأمَّل يا أخي: تَرَ أنَّ إخوةَ يُوسُفَ لو لم يحسدوه لما ألقوه في غَيَابَةِ الجُبِّ، ولوْ لَم يلقوه فيها: لما وَصَلَ إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيزُ بصادق فراسته أمَانتَهُ وصِدْقَه لما أمنه على بيته، ورزقه، وأهله، ولو لم تُراوده امرأة العزيز عن نفسه، ويستعصم منها لما ظهرَتْ نزاهته، ولو لم تَفْشَلْ في كيدها وكيد صُويْحِبَاتِهَا لَمَا ألقي في السجن، ولو لم يُسْجَن ما عرَفه ساقي مَلِك مصر، وعَرَف صدقَه، في تعبير الرؤيا، وإرشادِ مَلكِ مصر إليه، فآمَنَ به، وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يَتَبوَّأْ هذا المَنْصِبَ ما أمكنه أن ينقذ أبَوَيْهِ وإخوتَه وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة، ويأتي بهم إلى مصر، فيشاركوه فيما ناله من عِزٍّ وبَذخٍ ورَخَاءِ عيشٍ، ونعيم عظيم، وما من مبدأ من هذه المبادىء إلَّا كان ظاهره شرًّا مستطيرًا، ثم انْتَهَى إلى عاقبة كانت خيرًا وفوزًا مبينًا. فتلك ضروب من آيات الله في القصة لمن يريد أن يَسْأَلَ عن أحداثها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[8]

الحسية الظاهرة، وعلومها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رُؤْيَا يُوسُفَ وعِلْمِهِ بكذبهم في دعوى أكل الذئب له، ومن شَمِّهِ لرِيحِ يُوسُفَ منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبةً إلى أرض كَنْعَانَ، ومن رؤيةِ برهان رَبِّهِ، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ومن عِلْمِهِ بأنَّ إلْقَاءَ قميصه على أبيه يُعيده بصيرًا بعد عَمى بَقِيَ كثيرًا من السنين. وقرأ مجاهد، وشِبْلٌ وأهلُ مكة، وابن كثير (¬1): {آيةٌ} علي الإفراد. وقرأ الجمهور: {آياتٌ}. وفي مصحف أُبي: {عبرةٌ للسائلين} مكانَ آية. 8 - {إِذْ قَالُوا}؛ أي: إن في شأن يوسف وإخوته لعبرة حين قالوا؛ أي: حِينَ قال بعض العشرة لبعضهم والله {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} الشقيقُ بِنْيَامِينُ بكسر الباء وفتحها فاللام في {لَيُوسُفُ} موطئة (¬2) للقسم كما قدرنا، أو لام الابتداء (¬3)، وفيها تأكيد، وتحقيقٌ لمضمون الجملة، أرادوا أنَّ زيادة مَحَبَّتِهِ لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وإنما قالوا هو وأخوه، وهم إخوته أيضًا؛ لأنَّ أمَّهُمَا كانت واحدةً اسمها راحيلُ كما مرَّ فهو شَقِيقُه. والشقيق: الأخُ من الأب والأم. وقد يقال: للأخ من الأب، لأنَّه شَقَّ مَعَكَ ظهْرَ أبيك، وللأخ من الأم لأنه شق معك بطن أمك. وفي "القاموس": الشقيق كأمير الأخِ كأنه شقَّ نسَبُه من نسبه، انتهى. وإنما لم يذكر (¬4) باسمه تلويحًا بأنَّ مدار المحبة إخوته ليوسف من الطرفين، الأب، والأم، فالمآل إلى زيادة الحُبِّ ليُوسُفَ ولذلك تعرضوا لقتله، وطرحه، ولم يتعرضوا لبنيامين. {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}؛ أي: أكْثرَ وأزيدُ مَحَبَّةً مِنَّا عند أبينا، وإنما قالوا هذه المقالَةَ: لأنه بلَغَتْهُم خَبر الرؤية، فأجمع رأيهُم على كيده. {و} الحال {نحن عصبة}؛ أي: والحال أنَّا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد قائمون بدفع المقاصد، والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع، والخيرات، وقائمون بمصالح ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي وغيره. (¬4) روح البيان.

الأب، فنحن أحِقَّاءِ بزيادةِ المحبة منهما، لفضلنا بذلك، وبكوننا أَكْبَرَ سِنًّا، وما معنى اختيار صغيرين ضعيفين على العشرة الأقوياءِ. والعصبة والعصابة: العشرة من الرجال فصاعدًا كما سيأتي في مَبْحَثِ مفردات اللغة. وإنما قيل (¬1): أحبُّ بالإفراد في الاثنين؛ لأن أفعلَ منْ لا يُفرَّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بَيْنَ المذكر والمؤنث، ولا بُدَّ من الفرق مع لام التعريف، وإذا أُضِيفَ جَازَ الأمران كما يُعرف من محله. والمعنى (¬2): أي إنَّ في شأنهم لعبرةً حين قالوا: ليوسُف وأخوه الشقيقُ بنيامينُ أحَبُّ إلَى أَبِينَا منا فهو يفضلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما، وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء، نَقُوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية. {إِنَّ أَبَانَا} في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما، وكونهما بمعزل من الكفاية، بالصغر، والقِلَّة {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: لفي خطأٍ بين ظاهر الحال بالنسبة إلى مصالح الدنيا، لا في الدين، وإلا لكفروا بذلك، نظروا إلى صورة يُوسُفَ، ولم يحيطوا علمًا بمعناه، فقالوا ما قالوا, ولم يعرفوا أنَّ يوسف أكبرُ منهم بحسب الحقيقة والمعنى؛ أي: إنَّ أبانا لقد أخطأ في إيثاره يوسفَ، وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضَلَّ طريق العدل والمساواة ضلالًا بينًا لا يَخْفَى على أحد، فكيف يفضل غُلامَيْنِ ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة، والكسب، والحماية عن الذمار. وفي الآية (¬3): من العبرة وجوبُ عِناية الوَالِدَين بمداراة الأولاد، وتربيتهم على المحبة، واتقاءِ وقوع التحاسد والتباغض بينهم، واجتناب تفضيل بعضهم على بعض، بما يعده المفضول إهانةً له، ومحاباة لأخيه بِالهَوى. قال بعض (¬4) ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

العارفين: مَال يعقوبُ إلى يوسفَ لظهور كمال استعداده الكليِّ في رؤياه حين رَأى أحد عشرَ كَوْكبًا والشَّمْسَ والقمرَ له ساجدين، فَعَلِمَ أبوه من رؤياه أنه يَرِث أباه وجده، ويجمعُ استعداداتِ إخْوتِهِ، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره، ولا يَصْبِرُ عنه فتَبالَغَ حَسَدُهم حتى حَمَلَهم على التعرُّض له. وقيل: لأنَّ اللَّهَ تعالى أَرادَ ابتِلاَءَهُ بمحبته إليه في قلبه، ثمَّ غيَّبَهُ عنه ليكون البلاء أشدَّ عليه، لغيرة المحبة الإلَهية، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه، والجمالُ والكمال في الحقيقة لله تعالى، فلا يَحْتَجِبُ أحدٌ بما سواه، ولا كيد أشدَّ من كيد الولد. ألا ترى أنَّ نوحًا عليه السلام دَعَا على الكفار فأغْرَقهم الله تعالى، فلَم يَحْتَرق قَلْبُه، فلما بلغَ وَلدُه الغرقَ صاح ولم يصبر وقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}. قيل: وإنما خَصَّ (¬1) يعقوبُ يُوسُفَ بمزيد المحبة والشفقة؛ لأنَّ أُمهُ ماتَتْ وهو صغير، أو لأنه رَأَى فيه من آيات الرشد، والنجابة ما لم يره في سائر إخوته، أو لأنه وإن كانَ صغيرًا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة، أعلى مما كان يَصْدُر عن سائر الأولاد. وكان (¬2) بنيامين أصْغَرَ من يُوسُفَ فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما، وموتِ أمهما، وحُبُّ الصغير, والشفقةُ عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنةِ الحسن: أي ابنيك أحبُّ إليك؟ قالت: الصغيرُ حتى يَكْبَرُ، والغائبُ حتى يَقدم، والمريضُ حتى يُفِيقَ. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديمًا وحديثًا، ومِنْ ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بَعَثَ بها إلى أولاده وهو في السجن: وَصَغِيْرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإنَّنِي ... أَطْوِيْ لِفُرْقَتِهِ جَوَى لَمْ يَصْغُرِ ذَاكَ المُقَدَّمُ في الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا ... كُفُؤًا لَكُمْ في الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ إنَّ الْبَنَانَ الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا ... وَالْحِلْيُ دُوْنَ جَمِيْعِهَا لِلْخِنْصَرِ وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ ... حُبُّ الْبَنِيْنِ وَلاَ كَحُبِّ الأَصْغَرِ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[9]

فإن قلت (¬1): والذي فَعَلَه إخوة يوسُفَ بيُوسُفَ هو محض الحسد، والحسدُ من أمهات الكبائر، وكذلك نسبةُ أبيهم إلى الضلال، هو مَحْضُ العقوق، وهو من الكبائر أيضًا، وكُلُّ ذلك قادحٌ في عصمة الأنبياء، فما الجواب عنه؟ قلت: هذه الأفعالُ إنَّمَا صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم، والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وَقْتُ حصول النبوة لا قبلها. وقيل: كانوا وَقْتَ هذه الأفعال مُراهِقينَ غَيْرَ بالغين، ولا تكليفَ عليهم قبل البلوغ، فعلى هذا لم تكن هذه الأفعالُ قادحة في عصمة الأنبياء، ولكنَّ هذا القول ليسَ بصحيح بدليل قولهم: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}. قال في "الكواشي" (¬2): لا وَقْفَ من السائلين إلى صالحينَ؛ لأن الكلامَ جملة محكية عنهم، انتهى؛ أي: للتعلق المعنويِّ بَيْنَ مقدم الكلام، ومؤخره إلَّا أن يكونَ مضطرًا بأن يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ، فحينئذ يجب عليه أن يَرجع إلى ما قبله، ويوصل الكلامَ بعضَه ببعض، فإن لم يفعل أثِمَ كما في بعض شروح الجزري، وقرىء: (مبين) 9 - {اقْتُلُوا يُوسُفَ} بكسر وضم، والمشهورُ: الكسر وَجْهُ الضم التبعية لعين الكلمة، وهي مضمومة؛ أي: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض اقتلوا يوسف حتى لا يَكُونَ لأبيه أمَلٌ في لقائه {أَوِ اطْرَحُوهُ}؛ أي: أو انْبُذُوه في أرض منكورة (¬3) مجهولة بعيدة عن العمران، لِيَهْلِكَ فيها أو يأكلَه السباع، وهو معنى تنكيرها وإبهامها لا أنَّ معناه أيُّ أرض كانت، ولذلك نُصِبَتْ نَصْبَ الظروف المبهمة، وهي ما لَيْسَ له حدود تحصره, ولا أقطارٌ تُحْوِيه. وفيه إشارة إلَى أنَّ التَّغْرِيبَ يُسَاوِي القَتْلَ كمَا في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}؛ أي: اطرحوه في أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه، إنْ هو سَلِمَ من الهلاك. {يَخْلُ} على الجزم في جواب الأمر؛ أي: يَخْلُص {لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} من شغله بيوسف، فيقبل عليكم بكليته، ولا يَلْتَفِتْ عنكم إلى غيركم، وتتوفر محَبَّتُه فيكم، فَذِكْرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه؛ ويجوز أن يُرادَ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[10]

بالوجه الذات؛ أي: يَخْلُ (¬1) لكم وجه أبيكم من شغله بيُوسُفَ، فيكن كل توجهه إليكم، وكُل إقباله عليكم بعد أن تخلو الديار ممن يَشْغَلُهُ عنكم ويشارككم في عطفه وحبه، {وَتَكُونُوا} بالجزم عطفًا على يخل {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد الفراغ من أمره؛ أي: وتكونوا من بعد قتله أو تغريبه في أرض بعيدة {قَوْمًا صَالِحِينَ} صَلُحَتْ حالكم عند أبيكم، أو تائبين إلى الله مما جئتم به، مُصْلِحِين لأعمالكم، بما يكفر إثمها مع عدم التصدِّي لمثلها، وبذا يَرْضَى عنكم أبوكم، ويرضى عنكم ربكم. 10 - {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من إخوة يوسف، وهو يهوذا. وقال قتادة: هو روبيل، وهو ابن خالته، وكَانَ أكْبَرُهُم سِنًّا، وأحسنهم رَأْيًا فيه. {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} نهاهم عن قتله، وقال: القتل كبيرة عظيمة، والأصح أنَّ قائلَ هذه المقالة هو: يهوذا؛ لأنه كان أقربهم إليه سِنًّا. {وَأَلْقُوهُ}؛ أي: اطرحوا يُوسُفَ {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}؛ أي: في أسفل الجب، والبئر، وقعرها، وظلمتها، والغيَابَةُ: كل موضع سَتَرَ شَيْئًا، وغَيَّبَهُ عن النظر، والجُبُّ: البئرُ الكبيرة غير مطوية بالحجارة. سُمِّيَ بذلك, لأنه جُبَّ: أي: قطع، ولم يطو، وغيابته: ما يغيب عن رؤية البصر من قعره. وأفاد ذكر الغيابةَ مع ذكر الجب أن المشيرَ أشار بطرحه في موضع من الجبِّ مظلم لا يراه أحد. وقرأ (¬2) الجمهور: {غَيابة} على الإفراد، ونافع: {غيابات} على الجمع، وابن هرمز: {غَيَّابَاتٍ} بالتشديد والجمع؛ وقرأ الحسن: (في غَيبَةِ) على صيغة المصدر. واختلفوا (¬3) في مكان ذلك الجب. فقال قتادة هو: بئرُ بيت المقدس، وقال وهب: هو في أرض الأُردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وقيل: بين مدين، ومصر، وإنما عَيَّنوا ذلك الجُبِّ للعلةِ التي ذكروها، وهي قولهم: {يَلْتَقِطْهُ}. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء: {تلتقطه} بتاء التأنيث أنث على المعنى؛ أي: تأخذه على وجه الصيانة من الضياع والتلف. فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع. {بَعْضُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

السَّيَّارَةِ}؛ أي: بعض طائفة تسير في الأرض. والسيارة جماعة المسافرين الذين يسيرون في الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها، وذلك أنَّ هذا الجبَّ كَانَ مَعروفًا يرد عليه كثير من المسافرين؛ أي: يأخذه بعض المسافرين، فيذهب به إلى ناحية أخرى، فتستريحون منه {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} بمشورتي، ولم يقطع القول عليهم، بل إنما عَرَضَ عليهم ذلِكَ تَأْلِيفًا لقلبهم، وحذرًا من نسبتهم له إلى الافتيات؛ أي: الاستبداد، والتفرد به. وفيه (¬1): إشارة إلى ترك الفعل، فكَأنَّه قال: لا تَفْعَلُوا شيئًا من ذلك، وإن عزمتم على إزالتِهِ من عند أبيه ولا بُدَّ فَافْعَلُوا هذا القدرَ؛ أي: إلقاءَه في البئر، والأولى أن لا تفعلوا شيئًا من القتل والتغريب. وحاصل المعنى (¬2): أي: قال قائل منهم: وهو رُوبيل، أو يهوذا، لا تقتلوا يوسفَ، وألقوه في قعر البئر، حيث يَغِيبُ خبره، فيلتقطه بعض المسافرين، ويأخذوه إلى حيث ساروا في الأقطار البعيدة، وبذا يَتِمُّ لكم ما تريدون، وهو إبعاده عن أبيه، إن كنتم فاعلينَ ما هو المقصدُ لكم بالذات إذ لا شكَّ أن قَتْلَهُ لا يَعْنيكم لذاته، فَعَلام تُسْخِطُون خَالِقَكُم باقتراف جريمة القتل، والغرض يَتِمُّ بدونها. قال محمَّد بن إسحاق (¬3): اشتمل فِعْلُهُم هذا على جرائمَ كثيرةً من قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم، وعفا الله عن ذلك كُلِّه، حتى لا ييأس أحدٌ من رحمة الله تعالى. وقال بعض أهل العلم: عَزَمُوا على قتله، وعَصَمَهُم الله تعالى رحمةً بهم، ولو فعلوا ذلك لَهَلَكُوا جميعًا، وكل ذلك كَانَ قَبْلَ أنْ نَبَّأهم اللَّهُ تعالى كما مر. فانظر إلى هؤلاء الإخوان الذين أَرْحَمُهُم له لا يَرْضى إلا بإلقاء يوسف في أسفل الجب، وهكذا إخوانُ الزمان، وأبناؤُه، فإنَّ ألسنتهم دائرة بكل شر، ساكتةٌ عن كل خير. فلما أجمعوا على التفريق بين يوسف، وبين والده بضرب من الحِيَل، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[11]

11 - {قَالُوا}؛ أي: قال إخْوَةُ يُوسُفَ لأبيهم يعقوب {يَا أَبَانَا} خاطبوه بذلك تحريكًا لسلسلة النسب بينه وبينهم، وتذكيرًا لرابطة الأخوة بينهم وبين يوسف، ليتَسَبَّبُوا بذلك إلى استنزاله عن رأيه في حفظه منهم، لما أحسَّ منهم بأمارات الحسد والبَغْيِ، فكأنهم قالوا: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا}؛ أي: أي عُذْر لك في ترك الأمن؛ أي: في الخوف {عَلَى يُوسُفَ} مع أنك أبونا، ونحن بنوك، وهو أخونا. وجملة قوله: {لَا تَأْمَنَّا} حال من معنى الفعل في {مَا لَكَ} كما تقول: ما لك قائمًا بمعنى: ما تصنع قائمًا. والاستفهام فيه للاستخبار والتقرير. وهذا الكلام مبني على مقدمات محذوفةٍ، وذلك أنهم قالوا أوَّلًا لِيُوسُفَ اخْرُج معنا إلى الصحراءِ إلى مواشينا، فنستبق ونَصيدُ، وقالوا له: سَلْ أباك أن يُرْسِلَكَ معنا، فسأله فتوقف يعقوبُ فقالوا له: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}؛ أي: أي شيء ثَبَتَ لكَ لا تَجْعَلُنا أُمَنَاءَ عليه مع أنه أخونا، وأنك أبونا، ونحن بَنُوكَ {و} الحال {إنا له لناصحون}؛ أي: لعاطفون عليه، قائمون بمصلحته، وبحفظه؛ أي: هم أظهروا عند أبيهم، أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، والجملة حال من مفعول {لَا تَأْمَنَّا}؛ أي: والحال إنَّا لمريدون له الخير، ومشفقون عليه، ليس فينا ما يخلُّ بالنصيحة والمِقَةِ. وقرأ (¬1) زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري وعمرو بن عبيد، بإدغام نون (تأمن) في نون الضمير من غير إشمام. وقَرأ الجمهور بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة فلا يَكُونُ إدغامًا مَحْضًا. وقرأ ابن هرمز بضم الميم فتكون الضمة منقولَةٌ إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتَها، وإدغام النون في النون. وقرأ أُبي والحسنُ وطلحةُ بن مصرف، والأعمش: (لا تأمننا) بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة. وقرأ ابن وثاب، وأبو رَزِين شذوذًا: (لا تِيْمُنَّا) على لغة تميم، وسَهَّل الهمزةَ بعد الكسرة ابن وثاب. 12 - وفي قوله: {أَرْسِلْهُ} دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائمًا؛ أي: أرسله {مَعَنَا غَدًا} إلى الصحراء {يَرْتَعْ}؛ أي: نتسع في أكل الفواكه، ونحوها؛ فإنَّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الرَّتْع هو الاتساع في الملاذِّ {وَيَلْعَبْ} بالاستباق، والانتضال تمرينًا لقتال الأعداءِ وبالإقدام على المباحات، لأجل انشراح الصدر لا للهو، وإنما سموه لعبًا لكونه على صُورته. قال (¬1) أبو الليث: لم يريدوا به اللعبَ الذي هو منهي عنه، وإنما أرادوا به المطايبة في المزاج في غير مأثم. وفيه دليل على أنه لا بأس بالمطايبة والتفرج. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أَنْ يَنَالَهُ مكروه؛ أي: نجتهد في حفظه غَايَةَ الاجتهاد حَتَّى نرده إليك سالمًا. والمعنى (¬2): أي أرسله مَعَنَا غَدَاةَ غدٍ حين نخرج كعادتنا إلى المَرْعَى في الصحراء، يشاركنا في الرياضة والأنس والسرور، وأكل الفواكه، والبقول، وغيرهما مما يَطِيبُ، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباقَ، والصراعَ والرَّمْىَ بالعصا، والسهام إن وجدت، وإنا لحافظوه من كل أذى يُصيبه. وقرأ (¬3) الجمهور: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء والجزم. وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو بالنون، والجزم وكسر العين الحرميان، نافع وابن كثير. واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحَذفِها. وروي عن ابن كثير: {ويلعب} بالياء وهي قراءةُ جعفر بن محمَّد. وقرأ العلاء بن سيابة: {يرتع} بالياء، وكسر العين مجزومًا محذوفَ اللام {وَيَلْعَبْ} بالياء، وضمَّ الباء خَبرَ مبتدأ محذوف؛ أي: وهو يلعبُ. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابنُ مُحَيْصِن بنون مضمومة مأخوذ من أرتعنا، {ونَلْعَب} بالنون وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء فيهما {يرتع ويلعب} والقراءتان على حذف المفعول أي يرتع المواشي شيء أو غيرها، وقرأ النخعي {نرتع} بنون {ويلعب}. بياء بإسنادِ اللعب إلى يوسف وحدَه لصباه، وكذلك جاء عن أبي إسحاق ويعقوب. وكل هذه القراءات الفعلان فِيهَا مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي: {يُرْتَع ويُلْعَب} بضم الياءين مبنيًّا للمفعول، ويخرِّجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، وهو ضمير غَدٍ، وكان أصله يرتع فيه، ويلْعَبُ فيه، ثم حذفَ واتسعَ فعُدِّيَ الفِعْلُ للضمير، فكان التقدير: يرتَعُهُ ويلعَبُهُ، ثمّ بَنَاهُ للمفعول فاستكن الضمير الذي كَانَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[13]

منصوبًا لكونه ناب عن الفاعل. 13 - {قَالَ}؛ أي: قالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لهم: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا}؛ أي: لَيُؤْلِمُ قَلْبي ذَهابُكُم به؛ لأني لا أصْبِرُ عنه ساعة {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} لكثرة الذئب في تلك الأرض {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} لاشتغالكم بالاتساع في الملاذ وبنحو التناضل. واللام (¬1) في قوله: {لَيَحْزُنُنِي} لام الابتداء، فإن قيل: لام الابتداء تُخَلِّصُ المضارعَ للحال عند جمهور النحاة، والذهابُ ههنا مستقبل، فيلزم تقدم الفعل على فاعله، مع أنه أَثَرُه .. قلنا: إنَّ التَّقْدِيرَ قصد أن تذهبوا به، والقصد حال، أو تصورُ ذَهابكم، وتوقعه، والتصور موجود في الحال، كما في العِلَّةِ الغائية، والحزن ألم القلب بفوت المحبوب، والخوف انزعاجُ النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأولَ إلى الذهاب به المفوِّت لاستمرار مصاحبته، ومُوَاصلته ليوسف. والثاني: إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب. ورُوِي أنَّه رأى في المنام كأنه على رأس جبل، ويوسف في صحراء فَهَجَمَ عليه أحد عَشَرَ ذِئْبًا، فغاب يُوسُفُ بينهن، ولذا حَذَّرَهم من أكل الذئب، ومَع ذلك فَقد دَفَعَهُ إلى إخوته؛ لأنه إذا جاء القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ. والحاصل (¬2): أن يعقوبَ اعتذرَ لهم بشيئين: أحدهما: عاجل في الحال، وهو ما يَلْحَقه من الحزن لمفارقته، وكان لا يصبر عَنْهُ. والثاني: خوفه عليه من الذئب إنْ غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلَّةِ اهتمامهم بحفظه، وعنايتهم، فيأكله ويَحْزُن عليه الحُزْنَ المؤبَّد. وخصَّ الذِّئبَ لأنه كان السَّبُع الغالب على قطره، أو لصِغَر يُوسُفَ، فخافَ عليه هذا السَّبعَ الحقير، وكان تنبيهًا على خوفه عليه، ما هو أعظم افتراسًا ولحقارة الذئب، خصَّهُ الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يَخْشَاهُ لَمَّا بَلَغَ مِنَ السِّنِّ: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[14]

وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِيْ وَأَخْشَىُ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا وكأنَّ يعقوبَ بقوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} لقنهم ما يقولونَ من العذر إذا جاؤُوا, وليس معهم يوسف فلقنوا ذلك، وجعلوه عُدَّةً للجواب. وقرأ زيد بن علي: {تَذْهَبُوا بِهِ} من أذهبَ الرباعي وخرِّج على زيادة باء به كما خرَّج بعضهم {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} في قراءة مَنْ ضَمَّ التاء وكَسر الباءِ؛ أي: تنبت الدهنَ وتذهبوه. وقرأ الجمهور: {الذِّئْبُ} بالهمز، وهي لغة الحجاز. وقرأ الكسائي وورش، وحمزة إذا وَقف بغير همز. وقَالَ نصرُ: سمعت أبا عَمرو لا يُهْمِزُ. 14 - {قَالُوا}؛ أي: قال إخوة يوسف لأبيهم، والله {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ}؛ أي: لئن أكَلَ يوسفَ الذئب، واختَطَفَهُ من بيننا في الصحراء {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}؛ أي: والحال إنَّا جماعة شديدةُ البأس، عشرة رجال تُكْفى بنا الخطوب، وتُدْفَع بنا مهمات الأمور {إِنَّا إِذًا}؛ أي: إذ عَجَزْنَا عن حفظ أخينا {لَخَاسِرُونَ}؛ أي: لهالكون (¬1) ضَعْفًا، وخورًا، وعجزًا، ولا غناءَ عندنا, ولا نَفْعَ ولا ينبغي أن يعتدَّ بِنَا، ويُرْكَنَ إلينا. وفي "الكواشي": مغبونون بترك حرمة الوالد، والأخ، وإنما اقتصروا على جواب خوفه على يوسف من أكل الذئب، ولم يجيبوا عن الاعتذار الأول الذي هو الحُزْنُ لأنه السبب القوي في المنع دونَ الحُزْنِ لِقِصَرِ مدَّته، بناء على أنهم يأتون به عن قَرِيبٍ. وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يلقن الخصم الحجةَ؛ لأنَّ إخوةَ يُوسُفَ كَانُوا لا يعلمونَ أنَّ الذِّئْبَ يأكل الناسَ، إلى أن قالَ ذلك يعقوب، ولقنهم العلة في كيد يوسف. وفي الحديث: "البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق، ما قال عبد لشيءٍ والله لا أفعله، إلَّا تَرَك للشيطان كل شيء فَولِعَ حتى يُوشِمَه". يُحْكَى أنَّ ابنَ السِّكِّيت من أئمة اللغة جَلَس مع المتوكل يومًا فجاء المعتزُّ والمؤيد ابنا المتوكل، فقال: أيهما أحبُّ إليك ابناي أم الحَسَنُ والحُسَيْنُ؟ قال: والله إنَّ قنبر خَادِمَ عليٍّ رضي الله عنه خَيرٌ منك، ومن ابنَيْك، فقال: سلوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

لِسَانه منْ قفاه، ففَعَلوا، فمات في تلك الليلة. ومِنَ العَجَبِ أنه أنشد قَبْلَ ذلك إلى المعتزِّ والمؤيد، وكان يعلِّمُهما فقال: يُصَابُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... ولَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ فِيْ الْقَوْلِ تَذْهَبُ عَثْرَتُه ... وَعَثْرَتهُ في الرِّجْلِ تَبْرَأ عَلَى مَهْل 15 - قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} مرتب على محذوف تقديره: ولما رَأَى يعقوب إلحاحَ إخوة يوسف في خروجه معهم إلى الصحراء، ومبالغتهم في العهد، واليمين، ورَأَى أيضًا ميل يوسف إلى التفرج، والتنزه معهم رضِيَ بالقضاء، فأرسله معهم. وهذا (¬1) المقدر معطوف على قوله سابقًا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَع} إلخ. قال الحسن: كان بين خروج يُوسُفَ من حجر أبيه إلى يوم التلاقي ثَمانُون سنة، لم تجفَّ فيها عَيْنا يعقوب، وما على الأرض أكْرَمُ على الله منه، اهـ خازن؛ أي: فلمَّا ذهبوا به من عند يعقوب {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ}؛ أي: عَزَمُوا، واتفقوا على أن يلقوه {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}؛ أي: في قَعْرِ البئر، وأسفلِه، وظلمته. وكان (¬2) على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوب بكنعان، التي هي من نواحي الأردن، حَفَره شداد حين عَمَر بلاد الأردن، وكَانَ أعلاه ضَيِّقًا، وأسفله وَاسِعًا. وجواب (لمَّا) محذوف تقديره: فعلوا به ما فعلوا من الإذاية. وقيل: جوابه: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}. وقيل: يكون تقدير الجواب جَعَلُوه فيها. وقيل: الجوابُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} و {الواو} مقحمة ومثلُه قَوْلُه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ}؛ أي: ناديناه {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ}؛ أي: وأوحينا إلى يوسف في الجب إزالةً لوحشته عن قلبه، وتبشيرًا له بما يؤول إليه أمره، وكَانَ ابنَ سبع سنين أو دونها. فاجتمع (¬3) مع كونه صغيرًا على إنزال الضرر به، عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة، قد نُزِعَتْ عنها الرحمة, وسلِبَتْ منها الرأفة، فإنَّ الطبعَ البشريَّ - دَعْ عنْكَ الدِّينَ - يتجاوز عن ذنب الصغير, ويغتفره لضعفه عن الدفع، وعَجْزِه عن أيسر شيء يُرادُ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

منه، فكَيْفَ بِصغيرٍ لا ذنبَ له، بل كيف بصغير هو أخٌ وله ولهم أب مثل يعقوب. فلقد أبعد مَن قال: إنهم كانوا أنبياءَ في ذلك الوقت فما هكذا عَملُ الأنبياءِ ولا فعل الصالحين. وفي هذا (¬1) دليل على أنه يجوز أن يوحِي الله إلى مَنْ كانَ صغِيرًا ويعطيه النبوةَ حينئذ كما وَقَع في عيسى، ويحيى بن زَكَرِيا. وقد قيل: إنه كان في ذلك الوقت قد بَلَغَ مبالغ الرجال، وهو بعيد جدًّا، فإن من كان قد بَلَغَ مبالِغَ الرجال لا يُخَاف عليه أن يَأْكُلَه الذِّئْبُ. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لتخبرن يا يوسف إخْوَتَك بصنيعهم هذا الذي فعلوه بك، بعد خُلُوصِكَ مما أرادوه بك من الكيد، وأنزلوه عليك من الضَّرَر. وجملة قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} في محل النصب على الحال من ضمير الغائبين في {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ}؛ أي: والحال أنهم لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف، لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بِك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه أولًا، وخلاف ما عهدوه منك. وسيأتي ما قاله لهم عند دُخولِهم عليه بَعْدَ أنْ صَارَ إليه ملك مِصْرَ. والمقصود مِن هذا الإيحاء تقويةُ قَلْبِهِ بأنه سَيَحْصُل له الخَلاص عن هذه المحنة، ويَصِيرُونَ تَحْتَ قهره وقدرَتهِ. والمعنى (¬2): أي فلما ذَهَبَ به إخوته من عند أبيه بعد مُرَاجعتهم له، وقد عَزَموا عَزْمًا إجماعِيًّا، لا تردُّدَ فيه على إلقائه في غيابة الجب، نفَّذُوا ذلِكَ، وحينئذ أوحينا إليه، وحيًا إلهاميًّا تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا لنفسه، لا تَحْزَنْ مِمَّا أنتَ فيه، فإنَّ لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجَتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرونَ بأنك يوسف. وقرأ (¬3) الجمهور: {لتنبئنهم} بتاء الخطاب. وابن عمر بياء الغيبة. وكذا في بعض مصاحفِ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

البصرة. وقرأ سَلَّام بالنون. فصل في ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه السلام (¬1) قال وهبٌ وغيرَهُ من أهل السيَرِ والأخبار: إنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ قالوا له: أما تشتاقُ أن تخرج معنا إلى مواشينا، فنَصِيد، ونستبقَ؟ قال: بلى، قالوا له: أنسأل أبَاكَ أن يرسلكَ معنا؟ قال يوسف: افعلوا، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إنَّ يُوسُفَ قد أحبَّ أن يخرج معنا إلى مَوَاشِينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيَّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخْوَتي اللِّين، واللُّطْفَ، فأحب أن تأذن لي، وكان يَعْقُوبُ يكره مُفَارَقتَهُ، ويحب مرضاتَهُ فأَذِنَ له، وأرْسَلَهُ معهم. فلمّا خَرَجُوا من عند يَعْقُوب، جعلوا يَحْمِلُونَه على رقابهم، ويَعْقُوبُ ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه، وصَارُوا إلى الصحراء أَلْقَوْهُ على الأرض، وأظهروا له ما في أنْفُسِهم من العداوة، وأَغْلَظوا له القَوْل، وجعلوا يضربونه. فجَعَل كلَّما جاء إلى واحد منهم، واستغاث به ضَرَبه. فلمَّا فَطِنَ لما عزموا عليه من قتله جعل يُنادِي يا أبتَاه يا يعقوبُ، لو رأيتَ يُوسُفَ، وما نزل من إخوته، لأحْزَنَكَ ذلك، وأبكاك يا أبتاه ما أسْرَعَ ما نسُوا عَهْدَك، وضيَّعوا وصيَّتَك، وجعل يبكي بُكاءً شديدًا. فأَخَذَهُ روبيل وجَلَد به الأرضَ، ثم جَثَمَ على صدره، وأراد قَتْلَه فقال له يوسف: مهلًا يا أخي لا تَقْتُلني. فقال له: يا ابنَ راحيل أنت صاحبُ الأحلام، قل لرؤياك تخلِّصُك من أيدينا, ولَوَى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فِيَّ وحل بيني وبينَ مَنْ يريد قتلي. فأدركته رحمة الأخوة ورَقَّ له، فقال يهوذا: يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أَهونُ لكم وأرفقُ به؟ فقالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجبِّ إمَّا أنْ يَمُوتَ أو يلتقِطه بَعْضُ السيارة، فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق، واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فتعَلَّقَ بشفيرها، فرَبطُوا يديه، ونَزعوا قَمِيصَهُ. فقال: يا إخوتاه ردوا عليَّ قميصي لأستتر به في الجبِّ، فقالوا: اُدْعُ الشمسَ والقمرَ ¬

_ (¬1) الخازن.

والكواكبَ تخلصكَ، وتؤنِسُك. فقال: إني لم أرَ شيئًا، فألقوه فيها، ثُمَّ قال: يا إخوتاه أتدعوني فيها فريدًا وحيدًا. وقيل: جعلوه في دلو ثمَّ أرسلوه فيها. فلمَّا بَلَغَ نصفَها ألقوه إرادةَ أن يموت، وكان في البئر ماءٌ فسَقَطَ فيه، ثم آوى إلى صخرة كانت في البئر، فقام عليها. وقيل: نزل عليه مَلَكٌ فحَلَّ يديه، وأَخْرَج له صخرةً من البئر فأجلسه عليها. وقيل: إنهم لما ألقوه في الجبِّ جَعَل يبكي فَنَادَوْهُ، فظن أنَّها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه فمَنَعهم يهوذا من ذلك، وقيل: إنَّ يعقوبَ لما بعثه مع إخوته أَخْرَجَ له قميص إبراهيم، الذي كساه الله إياه من الجنة، حين أُلقِيَ في النار، فجعله يعقوب في قصبة فضةٍ، وجعَلَها في عنق يوسف، فألبسه الملك إياه حينَ ألقِي في الجُبِّ فأضاءَ له الجُبَّ. وقال الحَسنُ: لمَّا ألقِيَ يُوسَفُ في الجب عذبَ ماؤُه، فكان يكفيه عن الطعام والشراب، ودَخَلَ عليه جبريل فأَنِسَ بِهِ. فلمَّا أمسى نهض جبريلُ ليذهب، فقال له: إذا خَرَجْتَ استَوْحَشْتُ. فقال له: إذا رهبتَ شيئًا فقل: يا صريخ المستصرخِين، ويا غَوثَ المستغيثين، ويا مفرِّج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري. فلما قالها يوسف حفَّته الملائكة، واستأنس في الجُبِّ. وقال محمَّد بن مسلم الطائِفيّ: لما ألقي يوسف في الجُب قال: يا شاهدًا غَيْرَ غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالِبًا غير مغلوب، اجعل لي فرجًا مما أنا فيه، فما بات فيه. وقيل: مكث في الجبِّ ثلاثَةَ أيَّامٍ، وكان إخْوَتُه يَرْعَوْنَ حَوْلَهُ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقيل (¬1): عَلَّم جبريلُ يوسفَ هذا الدعاء، أي في البئر: "اللهم يا كاشفَ كل كربة، ويا مجيبَ كل دعوة، ويا جابرَ كل كسير، ويا ميسرَ كل عسير، ويا صاحِبَ كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، يا من لا إلَه إلا أنت سبحانَكَ، أسألك أن تجعل لي فرجًا ومخرجًا، وأن تَقْذِفَ حُبَّكَ في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا ذكر غيرك، وأن تَحْفَظني وترحمني يا أرحم الراحمين". ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

وقال بعضهم: سَبَبُ ابتلاء يعقوبَ بفراق يوسف ما روي في الخبر أنه ذَبَح جَدْيًا بَيْنَ يدي أُمِّهِ فلم يَرْضَ اللَّهُ تعالى ذلك منه، وأَرَى دمًا بدم، وفرقةً بفرقة، لعظمةِ احترام شأن النبوة، ومن ذلك المقام: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقربين. وقال بعضهم (¬1): لما وُلِدَ يوسُفُ اشترى يعقوب له ظئرًا، وكان لها ابن رضيع، فباع ابْنَها تكثيرًا لِلَّبَنِ على يوسف، فبكَتْ وتضرَّعَت، وقالت: يا رب إنَّ يعقوبَ فَرَّق بيني وبين ولدي، ففرق بينه وبين ولده يوسف، فاستجاب الله دعاءها فلم يَصِلْ يعقوب إلى يُوسُفَ إلا بعد أن لَقِيَتْ تلك الجارية ابنَها. هذا بالنسبة إلى حال يعقوب وابتلائه، وأمَّا بالنسبة إلى يوسف، فقد حكي أنه أخَذ يومًا مرآةً فنظر إلى صورته، فأَعْجَبَه حسنه، وبهاؤه، فقال: لو كنتُ عَبْدًا فباعوني لما وجد لي ثمن، فابتليَ بالعبودية، وبِيعَ بثمن بَخْسٍ، وكان ذلك سببَ فِرَاقِهِ من أبيه. وفيه إشارة إلى أنَّ الجَمَال والكمالَ كلَّه لله تعالى. 16 - {و} لَمَّا طرحوا يوسف في الجب {جاءوا أباهم عشاء}؛ أي: رَجَعُوا إلى أبيهم، وَقْتَ العشاء في ظُلمة الليل، لِيَكُونُوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب. فَلَمَّا بَلَغُوا مَنْزِلَ يَعْقُوب جَعَلُوا {يَبْكُونَ}؛ أي: يَتَبَاكَوْن ويصرخون لأنهم لم يبكوا حقيقةً بل فعلوا فِعْلَ من يبكي ترويجًا لكذبهم، وتَنْفِيقًا لمكرهم، وغَدْرِهِم، فسمع أصواتَهم، ففَزعَ من ذلك، وقال: ما لكم يا بنيَّ هل أصابكم في غَنمِكم شيء؟ قالوا: الأمرُ أعظمُ، قال: فما هو؟ وأينَ يوسف؟ 17 - {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا} حالةَ كونِنَا {نَسْتَبِقُ}؛ أي يسابقُ بَعْضُنَا بعضًا في الرمي، أو العَدْوِ. وقيل: ننتضل (¬2) ويؤيده قراءةُ ابن مسعودَ: {ننتضل}. قال الزجاج: وهو نوعٌ من المسابقة. وقال الأزهري: النضالُ في السهام، والرِّهانُ في الخيل، والمسابقةُ تجمعهما. قال القشيري: {نستبق}؛ أي: في الرمي أو على الفرس، أو على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك للحرب. {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا}؛ أي: عند ثيابنا، وأزوادنا لِيَحْرُسَها {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} عَقِبَ ذلك من غير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

مضي زمان يعتاد فيه التفقدُ والتعهدُ؛ لأنَّ الفاءَ للتعقيب، وقد اعتذروا إليه بما خَافَه سابقًا عليه، ورُبَّ كلمة تقول لصاحبها دَعْنِي {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}؛ أي: بِمُصَدِّقٍ لنا في هذا العذر الذي أبدينا، والمقالة التي قُلْنَاها {وَلَوْ كُنَّا} عندك أو في الواقع {صَادِقِينَ}؛ أي موصوفين بالصدق، والثقة لِمَا قَدْ عَلِقَ بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزجاج: والمعنى: ولو كنَّا عندك من أهل الصدق، والثقة ما صدَّقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف، وكذا ذكره ابن جرير. فائدة: والفرق (¬1) بين الصدق والتصديق: والكذب والتكذيب: أنَّ الصدق: هو الإخبارُ عن الشيء على ما هو به. والكذب: الإخبارُ عنه على خلاف ما هو به. والتصديق باللسان: الإخبارُ بكون القائل صادقًا، وبالقلب: الإذعان والقبولُ لذلك. والتكذيب بخلاف ذلك. والمعنى (¬2): أي جَاؤُوه وقت العشاء حين خَالَطَ سوادُ الليل بياضَ النهار، حالَ كونهم يبكون لِيُقْنِعُوه بما يريدون، قائلين له: إنا ذهَبْنا من موضع اجتماعنا نَتَسَابَقُ، ونَتَرامَى بالنِّبَال، وتركنا يُوسُفَ عند ثِيَابنَا، وأزوادنا لِيَحْفَظَها، إذ لا يستطيع مجاراتِنَا في استباقنا الذي يرهقُ القوِيَّ، فَأكَلَه الذّئبُ إذ بَعُدْنَا عنه، ولم نسمع استغاثته، ولا صُراخَهُ ونحن نعلم أنك لا تُصدِّقُنَا, ولو كُنَّا عندك صادقين، فكيفَ وأنت تتهمنا في ذلك، ولك العذر في هذا لغرابة ما وقَعَ، وعجيب ما اتَّفَقَ لنا في ذلك الأمر. وقوله: {عِشَاءً} نصب على الظرف، أو من (¬3) العشوة، والعَشْوَةُ: الظلام، فجُمِعَ على فعال مثل رَاع ورُعاء، ويَكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن: {عُشى} على وزن دجى جمع عاش حَذف منه الهاء، كما حذفت في مالك وأصلُه مالكة. وعن الحسن: (عشيًّا) بالتصغير لعشي أي آخر النهار. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[18]

18 - {وَجَاءُوا}؛ أي: جاء إخوة يوسف {عَلَى قَمِيصِهِ}؛ أي: فَوقَ قميص يوسف، فهو منصوب على الظرفية، من قوله: {بِدَمٍ}؛ أي: جَاؤوا بدم فوقَ قميصه، أو على الحالية منه، والخلافُ في تقدُّم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفًا {كَذِبٍ} مصدر وصف به الدم مبالغةً كأنَّ مجيئَهم من الكذب نفسه، كما يقال للكذَّاب: هو الكذب بعينه، أو مصدرٌ بمعنى مفعول، أي مكذوب فيه؛ لأنه لم يَكُنْ دَمُ يوسف. وقرأ (¬1) الجمهور: {كذِبٍ} وَصْفًا للدم على سبيل المبالغة، كما قلنا آنِفا أو على حذف مضاف؛ أي: ذي كذب لمَّا كان دالًّا على الكذب وصف به، وإن كان الكَذِبُ صَادِرًا من غيره. وقرأ زَيْدُ بن علي: {كَذِبًا} بالنصب على الحال، فاحتمل أن يَكُونَ مصدرًا في موضع الحال، وأن يَكُونَ مَفْعُولًا لأَجْلِهِ. وقرأت عَائِشَةُ والحسن: {كَدِبٍ} بالدال المهملة، وفسِّر بالكدر. وقيل: الطَّرِيِّ. وقيل: اليابس. روي (¬2) أنهم ذَبَحُوا سخلةً ولَطَخُوه بدمها، وزَالَ عنهم أن يمزِّقُوه فلَمَّا سمع يعقوبُ بخبر يوسف، صاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه، وبكى حتى خَضِبَ وَجْهَه بدم القميص، قال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أَكَل ابني، ولم يمزِّقْ عليه قَمِيصَهُ. وقوله: {قَالَ} مستأنف استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما قال يعقوب؟ هل صدَّقهم فيما قالوا: أو لا؟ فقيل: {قَالَ} يعقوب جوابًا لهم لم يكن ذلك الذي أخْبَرْتُمُوه لي صدقًا {بَلْ سَوَّلَتْ} وزينتْ وسَهَّلَتْ {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والتسويل (¬3): تقدير شيء في الأنفس مع الطمع في إتمامه. قال الأزهري: كأن التسويلَ تفعيل من سؤال الأشياء، وهي الأمنية التي يطلبها فيزيَّن لطالبها الباطلُ وغَيْرُه. {أَمْرًا} من الأمور مُنْكرًا لا يُوصَفُ ولا يُعْرَفُ فصنعتموه بيوسف، استدلَّ يَعْقُوبَ على أنهم فَعلُوا بيوسف ما أرادوا، وأنهم كاذبون، بشيئين: بما عرف منْ حسدهم الشديد، وبسلامة القميص، حيث لم يَكُن فيه خرق ولا أثر نَاب؛ فقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ} ردٌّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

لقولهم: {أكله الذئبُ}، وبل للإعراض عمَّا قبله، وإثبات ما بعده على سبيل التدارك، نحو: جاء زيد بل عَمْرُو كما في "بحر العلوم"؛ أي: قال (¬1) يعقوب ليس الأمر كما تقولون: بل زيَّنَتْ لكم أنفسكم أمرًا غَيْرَ ما تَصِفُون. قيل: لَمَّا جاءوا على قميصه بدمِ جَدْيٍ ذهلوا عن خَرْقِ القميص. فلَمَّا رأى يعقوبُ القميصَ صحيحًا قال: كذبتم لو أَكَله الذئبُ لَخَرق قَمِيصَه. وقالَ بعضُهم: بل قَتَلَهُ اللُّصُّ. فقال: كيفَ قَتَلُوه وتَرَكُوا قَمِيصَه؟ وهم إلى قميصه أحْوَجُ منه إلى قَتْلِه. وقيل: إنهم (¬2) أتوه بذئب، وقالوا: هذا أكَلَه، فقال يعقوب: أيها الذِّئْبُ أنْتَ أكلت ولدي، وثمرة فؤادي، فأنطقه الله عَزَّ وَجَلَّ وقال: والله ما أكلْتُ ولدَكَ ولا رأيته قطُّ، ولا يَحِلُّ لنا أن نأكل لُحومَ الأنبياء. فقال يعقوب: فكيف وَقَعْتَ في أرض كنعان، قال: جئت لصلةِ الرحم قرابة لي فأخذوني، وأتوا بي إليك فأطْلَقَه يعقوب. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}؛ أي: فصبري صبر جميل، أو فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أولى من الجزع، والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه إلى أحد إلا إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإلا فقد فقال يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}. واعلم (¬3): أنَّ الصَّبْرَ إذا لم يكن فيه شكوى إلى الخلق، يَكُونُ جميلًا، وإذا كَان فيه مع ذلك شكوى إلى الخالق يكون أجمل لِمَا فيه من رعاية حق العبودية ظاهرًا، حيث أمسك عن الشكوى إلى الخلق، وباطنًا حيث قصَّرَ الشكوى على الخالق، والتفويض جميل، والشكوى إليه أجملُ. وأما (¬4) الهجرُ الجميلُ فهو الذي لا إيذاء معه. وأما الصَّفْحُ الجميل فهو الذي لا عِتَابَ بعده، وقد تحقق بجميعها كل من يوسف ويعقوب. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى هو {الْمُسْتَعَانُ}؛ أي: المطلوب منه العونُ، وهو ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) الصاوي.

[19]

إنشاء الاستعانة المستمرة {عَلَى مَا تَصِفُونَ}؛ أي: على تحمل المكاره التي تذكرونا في أمر يوسف، أو على إظهار حال ما تصفون من شأن يوسف، وبيان كونه كذبًا، وإظهار سلامته كأنه عَلِمَ منه الكذب، وكأن (¬1) الله تعالى قد قَضَى على يعقوبَ أن يُوصِلَ إليه تلك الغموم الشديدةَ، والهمومَ العظيمة، لِيَكْثُرَ رُجُوعُه إلى الله تعالى، وينقطِعَ تعلق فكره عن الدنيا فيصلَ إلى درجةٍ عاليةٍ في العبودية، لا يمكن الوصول إليها إلَّا بتحمل المِحَنِ الشديدة، والله أعلم. وقرأ (¬2) أبي والأشهب، وعيسى بن عمر: {فصبرًا جميلًا} بنصبهما، وكذا هي في مصحف أُبي، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي، ونَصبه على المصدر الخبريِّ، أي فاصبر صبرًا جميلًا. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصبُ في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يَحْسُن النَّصْبُ في قوله: شَكَا إِلَيَّ جَمَلِيْ طُوْلَ السُّرَى ... صَبْرًا جَمِيْلًا فَكِلاَنَا مُبْتَلَى ويروى صبر جميل في البيت، وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدَّر أن يعقوبَ رَجع إلى مخاطبةِ نَفْسِهِ، فكأنه قال: فاصبري يا نفسي صبرًا جميلًا. ومعنى الآية: أي إنهم جَاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدعون أنه دمه ليشهد بصدقهم، فكانَ دليلًا على كذبهم، ومن ثم قال: {عَلَى قَمِيصِهِ} ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعًا متكلفًا إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميصُ، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كلِّه لم يصدِّقْهم، وقال: هيهاتَ ليس الأمرُ كما تدَّعون بل سَهَّلَتْ لكم أنفسكم الأَمَّارةُ بالسوءِ أمرًا نكرًا، وزينته في قلوبكم فطَوَّعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، وإنّي أستعين به على أن يَكْفِيَنِي شَرَّ ما تصفون من الكذب. 19 - {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ}؛ أي: رفقة مسافرون تسير من جهة الشام، يريدون مِصْرَ فأخطؤوا الطريقَ، فانطلقوا يَهِيمُون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

الجب، وهي أرض دوثن بَيْنَ مدين ومصر، فنزَلُوا عليه {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ}؛ أي: بعثوا سَاقِيَهم ليطلب لهم الماء، وهو مَنْ يُهيِّىء الأرشية، والدِّلاءَ، فيتقدم الرفقة إلى الماء، يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي شعيب عليه السلام، وهو رجلٌ من العرب العاربة من أهل مدين، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ}؛ أي: فأرْخَى، وأنزل دلوه في جب يوسف ليأخذ الماء فتعلق يوسف به، فلم يقدر الساقي على نزعه وإخراجه من البئر فنَظَرَ فيه فرأى غُلامًا قد تعلق بالدلو، فنادى أصْحَابَهُ فـ {قَالَ يَا بُشْرَى}؛ أي: يا أصحابي. وقال الأعشى: إنه دعا امرأةً اسمها بشرى. وقال السديُّ: إنه نادى صاحبَهُ، واسمه بشرى كما قرأه. وعاصم والكسائي بغير ياء المتكلم بعد الألف المقصورة. وقال أبو علي الفارسي: والوجه أن يجعل البشرى اسمًا للبشارة، فنادى ذلك بشارةً لنفسه، كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت، وقتك، ولو كنت مِمَّنْ يخاطب لخوطبت الآنَ، ولأُمِرْتِ بالحضور، ويدلُّ على هذا قراءة الباقين، {يا بشرايَ} بفتح ياء المتكلم بعد الألف على الإضافة. قالوا: ما ذلك يا مالك؟ قال: {هَذَا غُلَامٌ} أحسن ما يكون من الغلمان، فكَانَ يوسُفُ حَسَنَ الوجه، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضخم العَيْنَين، مُسْتَوي الخلق، أبيض اللون، غَليظ الساعدين، والعضدين، والساقين، خَميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسَّم ظهر النور من ضواحكه، وإذا تكلم ظهر من ثناياه شعاع النور، ولا يستطيع أحد وَصْفَه. وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يُشْبِهُ آدم عليه السلام يَوْم خَلَقه الله تعالى قبل أن يصيب الخطيئةَ، اهـ خازن. فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثَلاثَةَ أيام {وَأَسَرُّوهُ}؛ أي: أسَرُوا يُوسُفَ وأخفوه حَالةَ كونه {بِضَاعَةً}؛ أي: مَتَاعًا للتجارة؛ أي: كَتَم الواردُ وأصحابه شأنَ يوسف من بقية القوم الذين معهم، وقالوا: إنه بضاعة استبضعناه، وحملناه لبعض أهل المال إلى مصر، وإنما قالوا ذلك خِيفَة أن يطلبوا منهم الشركة فيه، وذلك لأن الواردَ وأصحابَه قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه من الجُبِّ شاركونا فيه قَهْرًا. وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوبُ أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بِضَاعَةً عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. وقيل: إن إخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرّوا شأن يوسُفَ، يعني أنهم أخفوا أمر يوسف، وكونه أخًا لهم بل

[20]

قالوا: هو عبدٌ لنا أبَقَ. وصدقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعدوه بالقتل سرًّا من مالك بن ذعر، وأصحابِه. والقول الأول أصحُّ لأن مالك بن ذعر هو الذي أسره بضاعةً وأصحابه. والبضاعةُ: ما بُضِعَ من المال للتجارة، أي: قُطِعَ. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بما يعمل إخْوَة يُوسُفَ بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع، ولَمْ يَخْفَ عليه أسرارهم يعني من إرادة إهلاك يوسف، فجعل ذلك سببًا لنجاته، وتحقيقًا لرؤياه حتى يصيرَ ملك مصر بعد أَنْ كان عبدًا. قال أصحاب الأخبار (¬1): إنَّ يهوذا كان يأتي يوسُفَ بالطعام، فأتاه فلم يَجِدْه في الجبِّ فأخبر إخْوته بذلك، فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعْرٍ وأصحابه نزولًا قريبًا من البئر، فأتوهم، فإذا يوسف عندهم. فقالوا لهم: هذا عبدنا أبق منا، ويقال: إنهم هددوا يوسفَ حتى يكتم حالَه، ولا يعرفها أحد، وقال لهم مثل قولهم. 20 - ثم إنهم باعوه منهم كما قال: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}. وفي هذه الجملة (¬2) وعيد شديدٌ لمن كان فعله سببًا لما وقع فيه يوسف من المحن، وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسُفَ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم السلام. والمعنى (¬3): أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مَدْيَنَ إلى مِصْرَ فأرسلوا وَارِدَهُمْ الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء، فأرسل دَلْوه ودلاه في ذلك الجب فتعلق به يوسف. ولما خَرَجَ ورآه قال مُبشِّرًا جماعته السيارة: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} أي: آن وقت البشرى فاحضري، كما يقال: يَا أسفًا، ويا حسرتا، إذا وقع ما هو سبب لذلك، فاستبشرتْ به السيارة، وأخفوه من الناس لئلا يَدَّعِيهِ أحدٌ من أهل ذلك المكان لأن يَكُونَ بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والله عليم بما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

يعمله هؤلاء السيارة، وما يعمله إخوةُ يوسُفَ فلكل منهم مقصد خاص في يوسف، فالسيارة يدَّعون بالباطل، أنه عبد لهم فيتجرون فيه، وإخوةُ يوسف يريدون إخفاءه عن أبيه، ويدَّعُونَ أنَّ الذِّئبَ قد أكله، وذلك كيد بالباطل لِيُمْضِي فيه وفيهم حُكْمَهُ السابقَ في علمه، وليرى إخوةُ يوسُفَ ويُوسُفُ وأبوه قُدْرَتَه تعالى على تنفيذ ما أراد. وفي هذا تذكير من الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له على ما كان يلقى من قومه، وأقْرِبَائِه وأنسبائه المشركين من الأذى، فكأنه يقول له: اصبر على ما نالك في الله تعالى، فإني قادر على تغيير ذلك كما قدرت على تغيير ما لقِيَ يوسف من إخوته، وسيصير أمْرَكَ إلى العلو عليهم، كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم. {وَشَرَوْهُ}؛ أي: باعوه في مصر؛ أي: باع يوسف مالك بن ذعر وأصحابه في مصر بعد أن وَصلُوا إليها وهو من الأضداد. والضمير للوارد وأصحابه، أو الضمير لإخوة يوسف؛ أي: باع إخوة يُوسُفَ يُوسُفَ للوارد وأصحابه، ويحتمل أن يكونَ الشِّراء على معناه؛ أي: واشترى الوارد وأصحابه يُوسُفَ من إخوته إذ جعلوه عُرْضَةً للابتذال بالبيع والشراء؛ لأنهم لم يَعْرِفُوا حَالَهُ إما لأنَّ الله تعالى أغفلهم عن السؤال، ليقضي أَمْرًا كان مفعولًا، أو لأنهم سألوا عن حاله، ولم يفهموا لُغَته لكونها عِبْريةً، أي باعوه في مصر. {بِثَمَنٍ بَخْسٍ}؛ أي (¬1): مبخوس ناقص في نفسه لكونه زَيْفًا، وفي قدره لكونه قَلِيلًا فبخس هنا بمعنى مبخوس؛ لأنَّ الثَمَن لا يوسف بالمعنى المصدري، الذي هو النقص، ووصف بكونه مبخوسًا، إما لردائته وغشه، أو لنقصان وزنه، من بخسه حقه؛ أي: نقصه. وقال بعضهم: بثمن بخس؛ أي: حرام منقوص، لأن ثمن الحر حرام، انتهى. حمل البخس على المعنى لكون الحرام ممحوقَ البركات، والقولُ الأول هو الأصح. وقوله: {دَرَاهِمَ} بدل من ثمن أي لا دنانير {مَعْدُودَةٍ}؛ أي: قليلة غير موزونة، فهو بيان لقلته، ونقصانه مقدارًا بعد بيان نقصانه في نفسه، بقوله: {بَخْسٍ}؛ أي: زيف, لأنهم كانوا يَزِنُونَ الأوقية، وهي أربعون درهمًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

ويعدون ما دونها. فعن ابن عباس: أنها كانت عشرين درهمًا. وعن السدي: اثنين وعشرين درهمًا. وقال عكرمة: كانت أربعين درهمًا. {وَكَانُوا}؛ أي: البائعون {فِيهِ}؛ أي: في يُوسفَ {مِنَ الزَّاهِدِينَ}؛ أي: مِمَّنْ يرغب ويعرض عما في يده، فيبيعه بما طفَّ ونَقُصَ من الثمن؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به، لا يبالي بما باعه، ولأنه يخاف أن يَظْهَرَ له مستحق فينزعه من يده، فيبيعه من أول مساوم بأوكس ثَمن وأرخصه. وأصل (¬1) الزهد: قِلَّةُ الرغبةِ، يقال: زَهِدَ فلان في كذا، إذا لم يكن له فيه رغبةٌ. والضمير في قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} إن قلنا: إنه يرجع إلى إخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه، وأرادوا إبعاده عنهم، ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإن قلنا: إن قوله: {وَشَرَوْهُ} {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} يرجع إلى معنى واحد، وهو: أن الذين شَرَوْه كانوا فيه من الزاهدين، كان وجه زهدهم فيه: إظهار قلة الرغبة فيه، ليشتروه بثمن بخس قليل. ويحتمل أن يقالَ: إنَّ إخْوَتَهُ لما قالوا: إنه عبدنا، وقد أبق، أظْهَرَ المشترِي قِلَّةَ الرغبة فيه لهذا السبب. قال أصحاب الأخبار (¬2): ثمَّ إن مالك بن ذعر وأصحابَه لما اشتروا يُوسُفَ انطلقوا به إلى مصر، وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه، لا يأبق منكم، فذهبوا به حتى قدموا مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما دخلوا مصرَ لقِيَ قِطْفِيرٌ - صاحب أمر الملك -، وكان على خزائن مِصرَ مالِكَ بن ذعر فاشترى يوسُفَ منه بعشرين دينارًا، وزوج نعل، وثوبين أبيضين. وقال وهب بن منبه: قَدِمَتِ السيارة بيوسف مِصْرَ، ودخلوا به السوقَ يُعرضونه للبيع، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبًا، ووزنه فضة، ووزنه مِسْكًا وحَرِيرًا. وكان وزنه أربع مئة رطل. وكان عمره يومئذ ثلاث عَشَرةَ سنةً، أو سبع عشرة سنة. فابتاعه قطفير - وكان يسمَّى العزيز - بهذا الثمن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

والمعنى (¬1): أي وباعه السيارة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله أو الدراهم القليلة التي تعد عدًّا، ولا توزن وزنًا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية أربعين درهمًا، فَما فَوقَها، ويعدون ما دونها، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود. وفي سِفرِ التكوين أو التوراة: إنَّ إخْوَتَه قرروا بيعه للإسماعيليِّينِ؛ أي: للعرب، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين، وباعوه لهم. وكانَ الذين باعوه أو الراغبين عنه الذين يبغونَ الخلاصَ منه، لئلا يَظْهَرَ مَنْ يطالبهم به؛ لأنه حُرٌّ، والثَّمَنُ، يكن مَقْصُودًا حِينَ بيعه، ومِنْ ثمَّ قَنِعوا بالبخس منه. الإعراب {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}. {الر} تقدم البحث في إعرابه ومعناه. {تِلْكَ} مبتدأ. {آيَاتُ الْكِتَابِ} خبر ومضاف إليه. {الْمُبِينِ} صفة لـ {الْكِتَابِ} والجملة مستأنفة. {إِنَّا} واسمه. {أنْزَلْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول. {قُرْآنًا} حال موطئة من ضمير المفعول في {أَنْزَلْنَاهُ}، ولكن بعد تأويله بمشتق، في حَالَةَ كونه مقروءًا؛ أي: مجموعًا. {عَرَبِيًّا} صفة {قُرْآنًا} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) والجملة مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه. وجملة {أتعْقِلُونَ} خبره، وجملة {لعلَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {نَحْنُ} مبتدأ. {نَقُصُّ} وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْكَ} متعلق به. {أَحْسَنَ اَلقَصَصِ} ومفعول مطلق، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {بِمَا} (الباء) حرف جر وسبب. (ما) مصدرية. {أَوْحَيْنَا} فعل وفاعل. {إِلَيْكَ} متعلق به. {هَذَا} في محل النصب مفعول {أوْحَيْنَا}. {الْقُرْآنَ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية (ما) ¬

_ (¬1) المراغي.

مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بإيحائنا إليك هذا القرآن، الجار والمجرور متعلق بـ {نَقُصُّ}. {وَإِنْ كُنْتَ} {الواو} حالية. (من) مخففة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا؛ أي: وإنه. (كنتَ) فعل ناقص واسمه. {مِنْ قَبْلِهِ} متعلق بـ (كنت). {لَمِنَ} (اللام) حرف ابتداء. {مِنَ الْغَافِلِينَ} جار ومجرور خبر (كان) وجملة (كان) في محل الرفع خبر (إن) المخففة، وجملة (إن) المخففة في محل النصب حال أو (كاف) {عَلَيْكَ}. {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ}. {إذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ {نَقُصُّ} أو باذكر محذوفًا. {قَالَ يُوسُفُ} فعل وفاعل. {لِأَبِيهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ (إذ). {يَا أَبَتِ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {يَا أَبَتِ} (يا) حرف نداء. {أبت} منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المعوضة عنها قال التأنيث للتفخيم، مَنَعَ أو ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة لمناسبة التاء؛ لأن التاء لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا {أب} مضاف وياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث في محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا وتاء التأنيث حرف لا محل لها أو الإعراب مبنية على الفتح، وإنما حركت لِكَونها على حرف واحد، وكانت الحركة فتحةً تحريكًا لها بحركة أصلها الذي هو الياء في بعض لغاتها، وجملة النداء في محل النصب مقول قال، اهـ "هدية أولي الإنصاف في إعراب المنادى المضاف". {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. {إِنِّي} ناصب واسمه. {رَأَيْتُ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداء. {أَحَدَ عَشَرَ} عدد مركب في محل النصب على المفعولية الأولى، مبني على فتح الجزأين بنيَ الجزء الأول لشبهه بالحرف، شبهًا افتقاريًّا لافتقاره إلى الجزء الثاني، في دلالته على المعنى المراد، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف، شبهًا

معنويًّا لتضمنه معنى حرف العطف، وإنما حركا ليعلم أو لهما أصْلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحةً للخفة مع ثقل التركيب، {كَوْكَبًا} تمييز لـ {أَحَدَ عَشَرَ} منصوب به. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} معطوفان على {أَحَدَ عَشَرَ}. {رَأَيْتُهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مؤكدة للجملة الأولى توكيدًا لفظيًّا. {لِي} جار ومجرور متعلق بـ {سَاجِدِينَ}. {سَاجِدِينَ} مفعول ثان لـ {رَأَيْتُ}. وفي "الفتوحات"، قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها جملة كررت للتوكيد، لما طال الفصل بالمفاعيل، كررت كما كررت أنكم في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} كذا قاله الشيخ. والثاني: أنه ليس بتأكيد، وإليه نحا الزمخشري فإن قال: فإن قلت: ما معنى تكرار {رَأَيْتُهُمْ}. قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال، وقَعَ جوابًا له، كأنَّ يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: {إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} كيف رأيتَها سائلًا عن حال رؤيتها فقال: رأيتهم لي ساجدين؟. قلت: وهذا أظهر لأنه متى دار الكلام بين الحَمْل على التأكيد، أو التأسيس، فَحَمْلُه على الثاني أولى، اهـ "سمين". {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)}. {قَالَ} فعل وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {يَا بُنَيَّ} إلى قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {يَا بُنَيَّ} بالفتح منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحةٌ مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف المحذوفة، تلك الألف للتخفيف، {بني} مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه. وبالكسر منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، وجملة النداء في محل النصب مقول

{قَالَ}. {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} فعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {عَلَى إِخْوَتِك} جار ومجرور متعلقان بـ {لا تقصص} {فَيَكِيدُوا} (الفاء) عاطفة سببية. {يكيدوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. {لَكَ} متعلق به، أو حال أو {كَيْدًا}. {كَيْدًا} منصوب على المصدرية، أو مفعول به، والجملة الفعلية صلة أو المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد أو الجملة التي قبلَها أو غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن قصك رؤياك إياهم فكيدهم إياك. {إِنَّ الشَّيْطَانَ} ناصب واسمه. {لِلْإِنْسَانِ} متعلق بـ {عَدُوٌّ} {عَدُوٌّ} خبر {إنَّ}. {مُبِينٌ} صفة عدو، وجملة إن في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}. {وَكَذَلِكَ} {الواو} عاطفة. كذلك جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} فعل ومفعول وفاعل والتقدير: ويجتبيك ربك للنبوة والرسالة اجتباءً مثل اجتبائه إياك بهذه الرؤية، والجملة معطوفة على جملة النداء السابق على كونا مقول {قَالَ}. {وَيُعَلِّمُكَ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يعلمك} على كونِها مقول {قَالَ}. {عَلَيْكَ} متعلق بـ {يتم} أو بـ {نِعْمَتَهُ}. {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} جار ومجرور معطوف على عليك، وكرَّر (على) ليمكن العطف على الضمير المجرور كما هو مذهب البصريين. {كَمَا} (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. {أَتَمَّهَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى أَبَوَيْكَ} جار ومجرور متعلق به. {مِن قَبْلُ} جار ومجرور متعلق به أيضًا. {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} يجوز أن يكونا بدلًا من أبويك، أو عطفَ بيان، أو على إضمار أعني، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدوية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور (بالكاف) تقديره:

كإتمامها على أبويك من قبل الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ويتم نعمته عليك إتمامًا مثلَ إتمامه إيَّاها على أبويك من قبلُ. {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه. {عَلِيمٌ} خبره. {حَكِيمٌ} خبر ثان له، وجملة إن مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)}. {لَقَدْ} (اللام) موطئة لقسم محذوف. {قد} حرف تحقيق. {كاَنَ} فعل ماض ناقص. {فِي يُوسُفَ} جار ومجرور خبر مقدم لـ (كان) على اسمها. {وَإِخْوَتِهِ} معطوف على {يُوسُفُ}. {آيَاتٌ} اسم (كان) مؤخر. {لِلسَّائِلِينَ} جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وجملة {كَانَ} جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة. {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)}. {إِذ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره اذكر {إِذْ قَالُوا}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذ} إليها. {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} إلى قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} مقول محكي لـ {قَالُواْ}، وإن شئت قلت: {يُوسُفُ} (اللام) موطئة للقسم، أو حرف ابتداءٍ على الخلاف المار فيه. {يوسف} مبتدأ. {وَأَخُوه} معطوف عليه. {أَحَبَّ} خبر المبتدأ. {إلَى أَبِينَا مِنَّا} يتعلقان به، ولم تحصل المطابقة بين المبتدأ، والخبر؛ لأن الخبر هذا اسم تفضيل مجرد، وهو يلزم الذكير والتوحيد. قال ابن مالك: وَإِنْ لِمَنكُوْرٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا ... أُلْزِمَ تَذْكِيْرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا و {أحَبُّ} مصوغ من حب المبني للمفعول، وهو سماعي، ولو جاء على القياس ليوصل إليه بأشدَّ ونحوه. قال ابن مالك: وَأَشْدِدَ أوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهَهُمَا ... يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوْطِ عَدِمَا والجملة الاسمية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُواْ}. {وَنَحْنُ} {الواو} واو الحال. {نحن عصبة} مبتدأ وخبر، والجملة

في محل النصب حال من ضمير المتكلمين في {مِنَّا}. {إِنَّ أَبَانَا} ناصب واسمه ومضاف إليه. {لَفِي} (اللام) حرف ابتداء. {فِي ضَلَالٍ} خبر {إنَّ}. {مُبِينٍ} صفة {ضَلَالٍ}، وجملة إنَّ مستأنفة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)}. {اقْتُلُوا يُوسُفَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَوِ} حرف عطف، وتمييز. {اطْرَحُوهُ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اقْتُلُوا}. {أَرْضا} منصوب على الظرفية أو بنزع الخافض. {يَخْلُ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذفُ حرف العلة. {لَكُم} متعلق به. {وَجْهُ أَبِيكُمْ} فاعل، ومضاف إليه. {وَتَكُونُوا} فعل ناقص واسمه معطوف على {يَخْلُ}. {مِنْ بَعْدِهِ} متعلق به. {قَوْمًا} خبر {تكونوا}. {صَالِحِينَ} صفة {قَوْمًا}. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}. {قَالَ قَائِلٌ} فعل وفاعل. {مِنْهُمْ} صفة قائل، والجملة مستأنفة. {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} إلى قوله {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} فعل وفاعل، ومفعول به مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة في محل النصب مقول (قَالُوا). {وأَلْقُوهُ} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على جملة {لَا تَقْتُلُوا}. {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بالطلب السابق. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم فاعلين فافعلوا هذا القدر؛ في: إلقاءه في البئر، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول {قالَ}. {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)}.

{قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَبَانَا مَا لَكَ} إلى قوله: {قَالَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا} منادى مضاف منصوب بالألف، وجملة النداء في محل النصب، مقول {قَالوُا}. {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {لَكَ} جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جوابَ النداء. {لَا} نافية. {تَأْمَنَّا} فعل مضارع مرفوع بضمة ظاهرة على النون المدغمة في نون (نا). (نا) ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على {يعقوب}. {عَلَى يُوسُفَ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من كاف المخاطب، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الخبر. {وَإنَّا} ناصب واسمه. {لَهُ} متعلق بـ {ناصحون}. {لناصحون} (اللام) حرف ابتداء. (ناصحون) خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب على الحال من مفعول {تَأْمَنَّا}. {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. {أرْسِلْهُ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَعَنَا} حال من مفعول {أَرْسِلْهُ}. {غَدًا} منصوب على الظرفية متعلق بـ {أرسل}. {يَرْتَعْ} مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {وَيَلْعَبْ} معطوف عليه. {وَإِنَّا} ناصب واسمه. {لَهُ} متعلق بما بعده. {لَحَافِظُونَ} خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إنّ في محل النصب حال من (هاء) {أرْسِلْهُ}. {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} إلى قوله {قَالوُا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي} ناصب واسمه. {لَيَحْزُنُنِي} فعل مضارع ومفعول، و (نون) وقاية و (اللام) حرف ابتداء. {أَنْ تَذْهَبُوا} فعل وفاعل منصوب بـ (أن) المصدرية. {بِهِ} متعلق به، وجملة {تذهبوا} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، ليحزن تقديره: ليحزنني ذهابكم

به، وجملة {يحزن} في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقولُ {قَالَ}. {وَأَخَافُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ياء المتكلم في {يحزنني}. {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فعل ومفعول وفاعل منصوب بأن المصدرية، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ {أخاف}؛ أي: والحال أني أخاف أكل الذئب إياه. {وَأَنْتُمْ} مبتدأ. {عَنهُ} متعلق بـ {غَافِلُونَ}. {غَافِلُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (هاء) {يأكله} ولكنها حال سببية. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَئِنْ} (اللام) موطئة للقسم. (إن) حرف شرط. {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} فعل ومفعول، وفاعل في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونِه فعل شرط لها. {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من (هاء) {أَكَلَهُ}. {إِنَّا} ناصب واسمه. {إذًا} حرف جواب وجزاء، ولكن لا عمل لها لدخولها على الجملة الاسمية. {لَخَاسِرُونَ} خبر (إنَّ) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إن جوابَ القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب إن الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن أكله الذئب، فإنا إذًا لخاسرون، وجملة الشرط معترضةٌ بين القسم، وجوابه، وجملةُ القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}. {فَلَمَّا} (الفاء) عاطفة على محذوف تقديره: فأرسلَه معهم، فلما ذهبوا به، وذلك المقدر معطوف على قوله سابقًا. {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} كما في "الجمل". {لَمَّا} حرف شرط غير جازم. {ذَهَبُوا} فعل وفاعل. {بهِ} متعلق به، والجملة فعل شرط لـ (لما). {وَأَجْمَعُوا} فعل وفاعل معطوف على {ذَهَبُوا}. {أَنْ يَجْعَلُوهُ} ناصب يفعل، وفاعل، ومفعول أول. {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} جار ومجرور في محل

المفعول الثاني، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ {وَأَجْمَعُوا} تقديره: وأجمعوا جعلهم إياه في غيابة الجب، وجواب (لما) محذوف تقديره: فعلوا به، ما فعلوا من الأذى، وجملة (لما) معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {وَأَوْحَيْنَا} فعل وفاعل معطوف على جواب (لما) المحذوف. {إِليهِ} متعلق به. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} (اللام) موطئة للقسم. {تنبئنهم} فعل ومفعول. {بِأَمْرِهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {هَذَا} بدل من {أمرهم} أو صفة له، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملةُ القسم في محل النصب مفعول {أَوْحَيْنَا}. {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ}. {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}. {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {عِشَاءً} منصوب على الظرفية متعلق به. {يَبْكُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {جاءوا}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَبَانَا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {إِنَّا} ناصب واسمه {ذَهَبْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل رفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداءِ. {نَسْتَبِقُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {ذَهَبْنَا}. {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {ذَهَبنَا}. {عِندَ متاعنا} ظرف، ومضاف إليه، متعلق بـ {تركنا}. {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} فعل ومفعول وفاعل معطوف على {تركنا}. {وَمَا} {الواو} عاطفة. (ما) حجازية أو تميمية. {أنتَ} في محل الرفع اسمها أو مبتدأ. {بِمُؤْمِنٍ} خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة. {لَّنَا} متعلق بـ {مؤمن}، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {فَأَكَلَهُ} على كونها مقول القول. {وَلَوْ كُنَّا

صَادِقِينَ} {الواو} عاطفة على محذوف تقديره: من كنا غير صادقينَ فما أنت بمؤمن لنا. (لو) حرف شرط. {كُنَّا صَادِقِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ (لو) لا محل لها من الإعراب، وجواب (لو) محذوف تقديره: ولو كنا صادقين، لاتهمتنا في هذه القصة، وجملة لو الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة في محل النصب حال من ضمير (لنا) تقديره: وما أنت بمؤمن لنا حَالَةَ كَوْنِنا صَادِقينَ وغَيْرَ صادقين. {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}. {وَجَاءُوا} فعل وفاعل. {عَلَى قَمِيصِهِ} ظرف بمعنى فوق في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف حال من {دم}. {بِدَمٍ} متعلق بـ {جاؤوا}. {كَذِبٍ} صفة {دم} ولكنه في تأويل مشتق تقديره: مكذوب، والتقدير: {وجاؤوا} بدم حَالَه كونه فوق قميصه، وجملة {جاؤوا} مستأنفة. {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {بَل} حرف ابتداء وإضراب إبطالي. {سَوَّلَتَ} فعل ماض، وتاء تأنيث. {لَكُمْ} متعلق به. {أَنْفُسُكُمْ} فاعل. {أَمْرًا} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَصَبْرٌ} (الفاء) حرف عطف وتفريع. {صبر} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فصبري صبر جميل. {جَمِيلٌ} صفة {صبر}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {سَوَّلَتْ} {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}. {عَلَى مَا} جار ومجرور متعلق بـ {الْمُسْتَعَانُ}. {تَصِفُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره على ما تصفونه. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)}. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول، و (الفاء) عاطفة، والجملة معطوفة على جملة {جاءت}.

{فأَدْلَى دَلْوَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الوارد، والجملة معطوفة على جملة {أرسلوا}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الوارد، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: يا بشرى بالقصر منادى نكرة مقصودة. وفي قراءة: {يا بشراي} بالياء منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {هَذَا غُلَامٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {وَأَسَرُّوهُ} فعل وفاعل، ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}. {بِضَاعَةً} معمولٌ لمحذوف، هو حال من (واو) (أسروه) تقديره: (وأسروه) حالَةَ كونهم جَاعِلِيه بضاعةً، أي شيئًا مُتَموَّلًا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {يَعْمَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره بما يعملونه. {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}. {وَشَرَوْهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على (أسروه). {بِثَمَنٍ} متعلق به. {بَخْسٍ} صفة لـ (ثمن) على تأويله بمشتق تقديره: مبخوس، أي: منقوص. {دَرَاهِمَ} بدل من (ثمن). {مَعْدُودَةٍ} صفة لـ {دَرَاهِمَ}. {مِنَ الزَّاهِدِينَ} فعل ناقص واسمه. {فِيهِ} جار ومجرور متعلق بـ {الزَّاهِدِينَ}. {مِنَ الزَّاهِدِينَ} جار ومجرور خبر (كان)، وجملة (كان) معطوفة على جملة {أشَرَوْهُ}. التصريف ومفردات اللغة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}، {الْمُبِينِ} اسم فاعل من أبان المتعدي، وسيأتي في قوله: {عَدُوٌّ مُبِينٌ} أنه من اللازم، فهو من أبَانَ بمعنى أظهَرَ أي: المُظْهِرُ للحق من الباطل، والحلال من الحرام. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} والعربي منسوب للعرب، لأنه نزل بلغتهم، وواحدُ العرب عربي كما أن واحد الروم رومي، اهـ "سمين".

واختلف العلماء هل يمكن أن يقالَ في القرآن شيء غير عربي. قال أبو عبيدة: ومن قال فيه شيء غير عربي، فقد أعظم على الله القول، واحتجَّ بهذه الآية: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة: أنَّ فيه عن غير العربي مثل: {سِجِّيلٍ} و {المشكاة} و {اليم} و {استبرق} ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح المختار؛ لأن هؤلاء أعلمُ عن أبي عبيدة بلسان العرب، وكلا القولين صواب إن شاء الله تعالى. ووجه الجمع بينهما أنَّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب، ودارَتْ على ألسنتهم صارت عربيةً فصيحةً، وإن كانت غير عربيةٍ في الأصل، لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم، وصارت لهم لغةً فظَهَر بهذا البيان صحة القولين، وأمكن الجمع بينهما، اهـ "خازن". {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} قص من باب: ردَّ والمصدر قَصَصًا بالفك، وقصًّا بالإدغام. وفي "المصباح": قَصَصْتُ الخَبَرَ قَصًّا من باب قتل، حدثته على وجهه، والاسم القصص بفتحتين، وقصصت الأثر: تتبعته، اهـ. وفي "البيضاوي": القصص هنا بمعنى المفعول كالنقض والسلب بمعنى المنقوض والمسلوب، اهـ. {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وأحسن يجوز أن يكون أفعلَ تفضيل على بابه، وأن يكونَ لمجرد الوصف بالحسن، ويكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها؛ أي: القصص الحسن. وفي "الخازن": أصل القصص في اللغة من قصَّ الخبر، إذا تتبعه، وإنما سميت الحكاية قِصَّةً لأن الذي يَقُصُّ الحديثَ يذكر تلك القصة شيئًا فشيئًا. والمعنى: نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المرادُ خُصوص قصة يوسف، وإنما كانت أحسنَ القصص لما فيها من الحكم، والنكت، وسير الملوك، والمماليك، والعلماء، ومَكْرِ النساء، والصبر على الأذى، والتجاوز عنه أحسنَ التجاوز وغير ذلك من الفوائد الشريفة. {يَا أَبَتِ} بكسر تاء التأنيث اللفظي التي هي عوض عن ياء المتكلم المحذوفة. وأصله: يا أبي فحذفت الياءُ، وأتي بالتاء عوضًا عنها، ونقلت كسرة ما قبل الياء، وهو الباء للتاء، ثم فتحت الباءُ على القاعدة في فتح ما قبل تاء التأنيث، وبفتح التاء، والأصل عليه: يا أبيَ، بكسر الباء؛ وفتح الياء؛ ففتحت

الباءُ ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلَها، ثم حذفت الألف، وعوَّض عنها تاءُ التأنيث، وفُتحت للدلالة على أنَّ أصلَها الألف المنقلبة عن الياء. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لُحوقُ تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حَمامَةٌ ذكر وشاة ذكرٌ ورجل رَبْعَةٌ وغلام يفعة. قلت: يعني أنها جيء بها لمجرد تأنيث اللفظ كما في الألفاظ المستشهد بها، ثم قال الزمخشري. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأن التأنيثَ والإضافةَ يتناسبان في أن كلَّ واحد منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره. قلت: وهذا قياس بعيد لا يعمل به عند الحذاق، فإنه يسمى الشبهَ الطَّرْدِيَّ في يعني أنه شَبهٌ في الصورة، اهـ "سمين". {لِي سَاجِدِينَ} والسجودُ هنا: منْ سَجْدَ البعير إذا خَفضَ رَأْسَهُ لراكبه حين ركوبه، وكان من عادة الناس في تحية التعظيم بفِلَسْطين، ومصر، وغيرهما، الانحناء مُبَالغَةً في الخضوع والتعظيم، وقدِ استعمله القرآن في انقياد كل المخلوقات لإرادة الله، وتسخيره، ولا يكون السجود عِبَادةً إلا بالقصد، والنية للتقرب إلى من يعتقد أنَّ له عليه سُلْطانًا غَيْبِيًّا فوق سلطان الأسباب المعهودة. {رُؤْيَاكَ} الرؤيا مصدر رَئِيَ في المنام رؤيا على وزن فعلى، كالسقيَا والبشرى، وألفه للتأنيث، ولذلك لم يصرف. {فَيَكِيدُوا لَكَ} يقال: كاد له الأمر إذا دبَّر الكَيْدَ لأجله لمضرته، أو لمنفعته كما قال {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}. وفي "الفتوحات" قوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} كاد يَتَعدَّى بنفسه كما في قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} وعدي هنا باللام لتضمُّنِه معنَى فعل يتعدى باللام، ولذا قال الشارح: يحتالوا في هلاك. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: فيكيدوك كما قال: فكيدوني جميعًا؟ قلت: ضُمِّنَ معنى فعل يتعدى باللام؛ ليفيدَ معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون أفيد، وأبلغ، في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر، و {كَيْدًا} مفعول به أي يصنعوا لك كيدًا أي أمرًا يكيدونك به، اهـ "سمين". {عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: بَين العداوةَ وظاهرها فهو من أبان اللازم. {وَكَذَلِكَ

يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}، والاجتباء من جبيت الشيء إذ حصلته لنفسك، اهـ بيضاوي. وفي "الخازن" واجتباءُ العبدَ تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد، وذلك مختص بالأنبياء، وببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين، اهـ. ومنه: جبيت الماء في الحوض، أي: جمعته، ومعنى اجتباء الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف، وتعديد نِعَمِ الله عليه. {تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} والتأويل: الإخبار بما يؤول إليه الشيء في الوجود. والأحاديث جمع تكسير لحديثٍ فقيل لواحد: ملفوظ به، هو حديث، ولكنه شَذَّ جَمْعُه على أحاديثَ، وله نظائر في الشدود، كأباطيلَ، وأفاظيعَ، وأعاريضَ في باطل، وفظيعٍ وعريضٍ. وزَعَمَ أبو زيد أن له واحدًا مقدرًا، وهو أحدوثة، ونحوه، وليس باسم جمع؛ لأن هذه الصيغة مختصة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزموا ذَلِكَ فيما لم يصرح له بمفرد من لفظه نحو: عباديد، وشَمَاطِيطَ، وأبابيلَ، ففي أحاديث أولى، اهـ سمين. ومعنى تأويل الأحاديث تعبيرُ الرؤيا، فالمراد بالرؤيا ما يرى في النوم، وسمي أحاديث؛ لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقةً وأحاديث الشيطان، والنفس إن كانت كاذبةً، اهـ بيضاوي. {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا} أحب أفعل تفضيل، وهو مبني من حبَّ المبنيّ للمفعول، وهو شاذ، وإذا بنيت أفعل التفضيل من مادة الحب، والبغض تَعدَّى إلى الفاعل المعنوي بإلى، وإلى المفعول المعنوي باللام، أو بقي فإذا قلتَ: زيد أحبُّ إليَّ من بَكْرٍ كانَ معناه أنك تحب زيدًا أكثرَ من بكر، فالمتكلم هو الفاعلُ، وكذلك إذا قلت هو أبغض إليّ منه، كانَ معناه أنت المبغض، وإذا قلتَ: زيدٌ أحب لي من عمرو، أو أحب في منه كان معناه: إنَّ زيدًا يحبني أكثر من عمرو، وعلى هذا جاءت الآية الكريمة فإنَّ الأبَ هو فاعل المحبة، اهـ سمين. وقوله: وهو شاذ يُشْكِلُ عيه وقوعَه في القرآن إلا أن يجابَ بأنه شاذ قياسًا، فصيح استعمالًا لوروده في أفصح الفصيح، تأمل. {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} والعصبة: ما زاد على عشرة. وعن ابن عباس ما بين عشرة وأربعين. وقيل: الثلاثة نَفَرٍ فإذا زادوا إلى تسعة فهم رهط، فإذا بلغوا العشرة فَصَاعِدًا فعُصْبَةٌ. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل: من عشرة إلى خمسة عشرَ. وقيل: ستة. وقيل: تسعة، والمادة تدل على الإحاطة من العصابة

لإحاطتها بالرأس، اهـ سمين. ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر، والرهط، وقد كانت الإخوة عشرةً. {غَيَابَتِ الْجُبِّ} قال الهروي: والغيابة: سدٌّ أو طاقٌ في البئر، قريبُ الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: الغيابة تكون في قعر الجب؛ لأن أسفله واسع، ورأسه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري: هي غوره، وما غاب منه عن عين الناظر، وأظلم من أسفله. والجب: البئر التي لم تُطْوَ، ويقال لها: قبل الطيي رَكِيَّةٌ فإذا طويت قيل لها: بئر سمِّيت جُبًّا إما لكونها محفورة في جيوب الأرض؛ أي: ما غلظ منها، وإما لأنها قطعت في الأرض قطعًا، ومنه الجب في الذكر. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} والالتقاط: أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق، أو من حيث لا يحتسب، ومنه اللقطة. واللقيط: يعني: يأخذه بعض المسافرينَ فيَذْهَبُ به إلى ناحية أخرى، فيستريحوا منه، اهـ "خازن". والسيارة: الجمع الذين يسيرون في الطريق، جمع سيار؛ أي: المبالغ في السير، اهـ خطيب. وفي "المختار": السيارة القافلة، اهـ. {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا} وفي "السمين": وقرأ العامة: تأمنا بالإخفاء؛ أي: إخفاءِ النون عند النون المتحركة. والإخفاء: هو عبارة عن تضعيف الصوت بالحركة، والفصل بين النونين؛ لأنَّ النونَ تسكن رأسًا، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغامًا .. وقرأ بعضهم ذلك بإشمام، وهو عبارة عن ضم الشفتين إشارة إلى حركة الفعلِ مع الإدغام الصريح، كما يشير إليه الواقف. وفيه: عُسْرٌ كَبِيرٌ، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام وقبل كَمَالِه. وقرأ أبو جعفر بالإدغام الصريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك بالإظهار مبالغةً في بيان إعراب الفعل، وللمحافظة على حركة الإعراب. واتفق الجمهور على الإخفاء أو الإشمام كما تقدم تحقيقه، اهـ. {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} جمع ناصح، والناصح: المشفق المحب للخير. وعبارة "الخازن" هنا: المراد بالنصح هنا القيام بالمصلحة، وقيل: البر والعطف، والمعنى: وإنا لعاطفون عليه قائمون بمصلحته، وبحفظه. {غَدًا} وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله غَدْوٌ فحُذفت لامه، وقد جاءَ تامًّا ذكره أبو حيان. {نرتع} الجمهور على أنَّ العين آخِر الفعل يقال:

رَتَعَ فلان في ماله، إذا أنْفَقَهُ في شهواته. والأصل في الرتع أكل البهائم في الخصب، زمن الربيع، ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير. والرَّتع: الاتساع في الملاذ، والتمتع في أكل الفواكه، ونحوها فمنهم من يسكن آخره على الجواب، ومنهم من يَضُمَّه على أن تكون حالًا مقدرة. ويقرأ: {نَرْتَعِ} بكسر العين، وهو نفتعل من رَعَى، أي نَرْعَى ماشيَتَنا، أو نأكلُ نحن ذكره أبو البقاء. {ونلعب} والمراد باللعب لعب المسابقة، والانتضال بالسهام، ونحوهما مما يتدرب له لمقاتلة الأعداء، وتعليم فنون الحرب. قال الراغب: يقال: لَعب فلان، إذا كان فعلُهُ غيرَ قاصد به مقصدًا صحيحًا. {لَيَحْزُنُنِي} والحزن: ألم القلب بفراق المحبوب، أو وقوع مكروه. {وَأَخَافُ} والخوف: ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه. {الذِّئْبُ} والذئب: سبع معروف، ويجمع على أذؤب، وذئاب، وذؤبان، وأرض مَذابة كثيرة الذئاب، وتذائيت الرياح جاءت من هنا ومن هنا فعل الذئاب. {عِشَاءً} فيه وجهان: أحدهما: أنه ظرف أي وَقْتَ العشاء. والثاني: أن يكون جمع عائش كقائم، وقيامٍ ويقرأُ بضم العين. والأصل: عُشَاة مثل غازٍ وغُزَاة، فحذفت الياء، وزيدت الألف عِوَضًا منها، ثم قلبت الألف همزةً. ويجوز أن يكونَ جمع فاعل على فِعَالٍ كما جمع فعيل على فعال كمرِيضٍ ومِرَاضٍ. {عِنْدَ مَتَاعِنَا} المتاع في اللغة كل ما انتفع به، وأصله النفع الحاضر، وهو اسم مصدر من متع تمتعًا كالسلام من سلم. {بِدَمٍ كَذِبٍ} فيه وصف الدم بالمصدر على سبيل المبالغة، فكأنَّه نَفْسَه صار كَذِبًا، والفاعل والمفعول يسمَّيان بالمصدر كما يقال: ماء سكب؛ أي: مسكوبٌ والفاعل كقوله: {إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} وكما سموا المصدرَ بهما قالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} اهـ كرخي. وقرىء: {بدم كدب} بالدال المهملة، والكدب: الكدر، وقيل: الطَّرِيُّ. {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}؛ أي: زينت وسهّلت. وأصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه. قال صاحب "الكشاف": سَوَّلَتْ: سَهَّلَتْ من السول بالتحريك، وهو الاسترخاء في العصب، ونحوه؛ أي: سَهَّلت لكم أنْفُسكُم أمرًا عَظِيمًا، فعلتموه

بيوسف، وهوَّنْتمُوه في أنفسكم وأعينكم. {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ}، والوارد: الذي يَرِدُ الماءَ، ليستَقِي للقوم. {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} في "المختار" الدَّلْو: الذي يُسْتَقى بها، ودَلَى الدلو إذا نَزَعها، وبابه عَدَا وأدلاها أرسلها في البئر. وفي "القاموس": ودَلَوْتُ الدَّلْوَ ودليتها أرسلتها في البئر، ودلَّاها جَذَبَها لِيُخرِجَها، والدلو مؤنث، وقد يذكر، اهـ. ويصَغَّر على دلية ويجمع على أدل ودلاءً ودُلًى. {وَأَسَرُّوهُ}؛ أي: أخْفَوْه من الناس {بِضَاعَةً} والبضاعة: القِطْعَةُ من المال يفْرز للاتجار به من بَضَعْتُه إذا قَطَعْتُه، ومنه المَبْضَعُ. {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وشُري الشيء: إذا باعَهُ واشتراه إذا ابْتَاعَهُ. والبَخْسُ: النَّاقِصُ والمَعيب كما قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} والمراد هنا: الحرامُ أو الظلمُ لأنه بيع حر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} تنزيلًا لبعد مرتبته في الكمال، وعُلو شأنه مَنْزِلَةَ البُعْدِ الحسّيِّ. ومنها: الاستعارة في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في (¬1) "بحر العلوم": لعلَّ مُستعار لمعنى الإرادة لملاحظة العرب معنى الإرادة، أو الترجي في لَعَلَّ؛ أي: أنزلناه قرآنًا عربيًّا، إرَادَةَ أن تَعْقِلَه العربُ، ويفهموا منه ما يَدْعُوهم إليه، فلا يكون لهم حُجَّةً على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به. ومنا: جناسُ الاشتقاق في قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}. ومنها: التعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة في قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} لإجلال شأنه عليه السلام كما في "الإرشاد" فليست هي الغفلة المتعارفة بين الناس. ومنها: عَطْفُ الخاصِ على العام في قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لإظهار ¬

_ (¬1) روح البيان.

شَرَفِهِمَا على سائر الطوالع كعطف الروح على الملائكة في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}. ومنها: إجراءُ غير العقلاء مُجْرَى العقلاء في ضمير {رَأَيْتُهُمْ} لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}. ومنها: التنكير للإبهام في قوله: {أَرْضًا}؛ أي: أرضًا مجهولةً. ومنها: الاكتفاء في قوله: {آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}؛ أي: ولغيرهم، فالسائلون هم اليهود ففيه اكتفاء، وهو ذِكْرُ أحد متقابلين، وحذفُ الآخر لعلمه من المذكور. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} وفي قوله: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَرْتَعْ} لأنَّ الرتع حقيقةٌ في أكل البهائم في الخصب من الربيع، ويُستعَار للإنسان إذا أريد به الأكلُ الكثير كما مر. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ}. ومنها: التنكير في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} للدلالة على عظم ذلك الأمر؛ أي: أمرًا عظيمًا. ومنها: الحذفُ والزيادةُ في عدَّةَ مواضِعَ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْر ...} الآيتين، هاتان الآيتان مبدأُ قَصَصِ يوسف في بيت العزيز الذي اشتراه، وفيها بيان تمكين الله له، وتعليمه تأويلَ الأحاديث، وإيتائه حُكْمًا وعِلْمًا وشهادة من الله له بأنه من زمرة المتقين. قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانَه وتَعالى لما ذكر (¬1) وَصِيَّة العزيز لامرأته بإكرام مثواه، وعَلَّلَ ذلك بحُسن الرَّجاء فيه، ثم بَيَّن عنايتَه سبحانَه به وتمهيدَ سبل كماله بتمكينه في الأرض، ذَكَرَ هنا مراودةَ امرأته له، ونظرها إليه بغير العينِ، التي نَظَرَ بها زَوْجُها إليه، وأرَادَتْ مِنه غير ما أراده هو، وما أرَادَ الله من فَوْقِهِمَا، وأعدت العُدَّةَ لِذلكَ فغَلَّقَتْ الأبوابَ، فهرب منها إلى باب المخْدَع، فقدَّتْ قَمِيصَه من خَلْف، ووَجَدَا زَوْجَها بالباب الخارجي، فبادرَت إلى اتهامه بإرادة السوء إلى أن استبانت براءته. قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ...} الآيات، مناسبتُها لما قبلها، بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة مخَادَعَتَها ليوسُفَ عن نفسه، وتغليقَها الأبواب، وهرَبه منها إلى الباب، وجَذْبِهَا لقميصه، ورؤيةِ سَيِّدها لذلك الحادث، واتهامها لِيُوسُفَ بإرادة السوء منها. ذكر هنا تبرئةَ يوسف لنفسه، وحكم قريبِها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثمَّ علم الزوج ببراءةِ يُوسُفَ وثبوتِ خطيئتها. قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ...} الآيات، ناسبتها لما قبلها: بعد أن ذكر سبحانه تحقيقَ زوجها في الحادث، وحكم أحد أقاربها بما رَأى وقد استبانَ منه براءةَ يُوسُفَ، ذكر هنا أنَّ الأَمْرَ قد استفاض في بيوت نساء الوزراء، والكُبراء، فأحْبَبْنَ أن يَمْكُرْنَ بها لِتُرِيَهن هذا الشابَّ الذي فتنها جماله، وأذلَّها عَفَافُهُ وكماله حتَّى راودَتْه عن نفسه وهو فَتَاها، ودَعَتْهُ إلى نفسها فردَّها وأَبَاهَا خشيةَ لله، وحفظًا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يَخُونَه في أعز شيء لديه، علَّه بعد هذا يَصْبُو إليهن، ويَجْذِبُه جمالهن، ويكون له فيهن رَأيٌ غير ما رآه فيها، فإنه قد ألِفَ جَمَالها قبل أن يَبْلُغ الأشدَّ، وكان يَنْظُرَ إليها نظرةَ العبدِ إلى سيدته، أو الولد إلى والدته. ¬

_ (¬1) المراغي.

[21]

التفسير وأوجه القراءة 21 - {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ}؛ أي: اشترى يوسف {مِنْ مِصْرَ}؛ أي: في مصر لم يبين الكتاب الكريمُ اسم الذي اشتراه في مصر، ولا منصبه، ولا اسمَ امرأته؛ لأن ذلك لا يهم في العبرة من القصة، ولا يزيد في العظة، ولكن لَقَّبه النسوة فيما يأتي {العزيز} وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولَّى إدارة الملك في مصر. والظاهر أنه لقب أكبر وُزراء الملك. قال في "القاموس": العزيز: المَلِكُ لغلبته على أهل مملكته، ولَقَبُ مَنْ مَلَكَ مصر مع الإسكندرية، انتهى. وبيانُ كَوْنِه من مصر للإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين، بما ذكر من الثمن البخس كما في "الإرشاد". فالذي (¬1) اشتراه في مصر هو قطفير خَازِنُ الملكِ الريَّان بن الوليد، وكان صَاحِبَ جنوده، ورئيسَ الشرطة، وحامِيةِ الملك، وناظر السجون، وقد آمن الملك بيوسف، ومات في حياة يُوسُفَ عليه السلام، فملك بَعْدَه قابوس بن مصعب، فدعاه يُوسُفُ إلى الإِسلام فأبى. وكانَ من نَسْلِهِ فرعونُ موسى. واشترى ذلك الوزيرُ يُوسُفَ، وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عَشَرَة سنة، واستوزره رَيَّان بن الوليد، وهو ابنُ ثلاثين سنَةً. وآتاه الله المُلْكَ والحكمةَ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وتوفي وهو ابن مئة وعِشْرِين سنةً. وهو أول من عملَ القراطيس. وقوله: {لِامْرَأَتِهِ} متعلق بـ (قال) لابـ (اشترى)؛ أي: قال لامرأته رَاعِيلَ بنتَ رعائيل، ولقبها (¬2) زُليخا بضم الزاي المعجمة، وفتح اللام والمد مصغرًا كما في "عين المعاني" والمشهور في الألسنة فتح الزاي، وكسر اللام. {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}؛ أي: اجعلي محلَّ إقامته كريمًا حَسَنًا مَرْضِيًّا. والمعنى: أحسني تعهده في المطعم، والمشرب وغيرهما. فهو كناية عن إكرام نفسه، إحسان تعهده كما يقال: المقام العالي ويكنى به عن السلطان. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: يُكْنَى عن الشريف بالجَنابِ، والحضرة، والمجلس، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

فيقال: السلامُ على حضرته المباركة، ومجلسه الشريف، والمرادُ به السلامُ عليه، لكن يُكْنَى عنه بما يتعلَّق به نوع التعلق إجلالًا، انتهى. وخُلاصة ما قال (¬1): أحسِنِي تعَهُّدَهُ وانظرِي فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتَمِّهِ. ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أفرسُ الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} الآية، وأبو بكر رضي الله عنه حين استَخْلَفَ عُمَر بنَ الخطاب رضي الله عنه. ثمَّ بَيَّنَ عِلَّةِ إكرامه برجائه فيه، وعظيم أمله في جليل مساعدته، فقال: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا}؛ أي: عَلَّه أن يَنْفَعَنا في أمورنا الخاصة إذا تدرَّبَ فيها، وعَرَفَ مَوارِدَها ومصَادِرَها، أو شؤون الدولة العامة، لِمَا يلوح عليه من مخايل الذكاء والنَّجَابة. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}؛ أي: نتبناه، ونقيمه مقَامَ الولد فَيَكُون قُرة عَيْنٍ لنا، ووارثًا لمالنا، ومَجْدنا إذا تمَّ رشده، ونَضَج عقله. وفي الآية إيماء إلى شيئين: 1 - أنَّ العزيز كان عقيمًا. 2 - أنه كان صادق الفراسة، ثاقب الفكر. فقد استدل من كمال خُلُقه وخَلْقِهِ على أنَّ حُسْنَ عشرته، وكرمَ وَفادته، وشرفَ تربيته مما يُكمل استعدادَه الفطرِيّ. فالتجارب دلَّتْ على أنه لا يفسد الأخلاقَ شيء أكثر مما تُفْسِدُها البيئة الفاسدة، وسوء القدوة. والمعنى: أكرمي إقامتَه عندنا بحسن العشرة، نرجو من الله أن ينفَعَنا فيما نحتاج إليه، ويكفينا بَعْضَ المهمات، أو نتبناه، ونُقيمه مقام الولد، ولم يكن لنا ولدٌ. وكان العزيز هذا لا يأتي النساء أو عَقِيمًا. فالمراد من نفعه أحدُ أمرين: إمَّا الرِّبحُ فيه إذا باعوه، أو معاونتُه لهم إن أبقَوه، وهذان غَيْرَ اتخاذه ولدًا. ويَجُوز ¬

_ (¬1) المراغي.

[22]

أن تكونَ {أو} مَانِعَة خُلُوٍّ فتجوِّزَ الجمع، اهـ "فتوحات". {وَكَذَلِكَ}؛ أي: وكما نجينا يوسف من القتل، والجبِّ وجَعَلْنَا في قلب الوزير حُنوًّا عليه {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أعطينا له مَكَانَةً؛ أي: رتبة عالية في أرض مصر. وهي أربعونَ فَرْسَخًا في أربعين فرسخًا. وقوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ} معطوف على محذوف متعلق بـ {مَكَّنَّا}؛ أي: وكذلك مكنا ليوسف في أرض مصر، وجعلناه وجيهًا بين أهلها، ومحبَّبًا في قلوبهم، لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز، وليتصرَّف فيها بالعدل، ولنعلِّمه {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}؛ أي: تعبير بعض المنامات، التي أعظمها رؤيا الملك، وصاحبي السجن {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، و {الهاء} عائدة على الله؛ أي: غالب على أمر يريده لا يرده شيء، ولا ينازِعُه أحدٌ فيما شاء، ويحكم في أمر يوسف وغيره، بل إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم الكفار {لَا يَعْلَمُونَ}، أنَّ الأمر كله لله، وأن قَضَاءَ الله غالب، فمن تأمل في أحوال الدنيا عَرَف ذلك؛ أي: فما حدث من إخوة يوسف له، وما فعله مسترقوه، وبائِعُوه، وما وَصَّى به الذي اشتراه امرأتَه من إكرام مثواه، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث، ومنْ دخولِهِ السجنَ، قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكينَ في الأرض، ولكنَّ أكثرَ الناس يأخذون الأمورَ بظواهرها، كما زَعَم إخوة يوسف أنه لو أُبْعِدَ يوسفُ عنهم خَلا لهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قومًا صالحين. وقوله: {أَكْثَرَ النَّاسِ} إيماء إلى أنَّ الأقل يعلمون ذلك، كيعقوب عليه السلام، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره. فهذه أقواله السَّابقةُ واللاحقةُ صريحة في ذلك، ولكن عِلْمُه إجمالي لا تفصيليٌّ، إذ لا يحيطُ بما تخبئه الأقدارُ. 22 - وبعد أن بيَّن سبحَانَه أنَّ إخوةَ يوسف أساؤوا إليه، وصَبَرَ على تلك الشدائد حتى مكَّنَ الله له في أرض مصر، بيَّن هنا أنه أتاه الحُكْمَ والعلم حين استكمال سن الشباب، وبلوغ الأشد، وأنَّ ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه في سيرته فقال عزَّ اسمه: {وَلَمَّا بَلَغَ} يوسف {أَشُدَّهُ}؛ أي: سن رشده وكمال قوته،

باستكمال نموه البدني والعقليّ. وقال أهل التفسير: أي منتهى اشتداد جسمه، وقوته واستحكام عقله، وتمييزه، وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين. {آتَيْنَاهُ}؛ أي: وَهَبْنَاه {حُكْمًا} صَحِيحًا فيما يعرض له من مَهامّ الأمور، ومشكلات الحوادث مقرونًا بالحق والصواب {وَعِلْمًا} لَدُنِيًّا، وفكرِيًّا بما ينبغي أن تسير عليه الأمور. وقدَّرَ (¬1) الأطباء هذه السنَّ بخمس وعشرين سَنةً. وقد أثبت علماء الاجتماع أنَّ الاستعدادَ الإنسانيَّ يظهر رُوَيْدًا رُوَيْدًا حتى إذا ما بلغ المرء خَمْسًا وثلاثين سنة وَقَف عند هذا الحد، ولم يظهر فيه شيء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن. ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة. وفي "روح البيان" (¬2): والعقلاء ضبطوا مراتبُ أعمار الناس في أربع: الأولى: سن النشوء والنَّماء، ونهايته إلى ثلاثين سنة. والثانية: سن الوقوف وهو سن الشباب ونهايته إلى أن تتم أربعون سنةً من عمره. والثالثة: سن الكهولة، وهو سن الانحطاط اليسير الخفيّ، وتمامه إلى ستين سنة. والرابعة: سنِّ الشيخوخة، وهو سنُّ الانحطاط العظيم الظاهر، وتمامه عند الأطباء إلى مِئةً وعشرين سنة. والأشُدُّ: غاية الوصول إلى الفطرة الأولى. وعبارةُ "الخازن" {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي (¬3) منتهى شبابه، وشدته، وقوته قال مجاهد: ثلاثةٌ وثلاثون سنة. وقال الضحاك: عِشْرُون سنةً. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال الكَلْبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنةً. وسُئِلَ مالك عن الأَشُدِّ فقال: هو الحُلُم. {آتَيْنَاهُ}؛ أي: آتينا يُوسُفَ بعد بلوغ الأشد، {حُكْمًا}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

نبوة {وَعِلْمًا}؛ أي: فقهًا في الدين. وقيل: حُكْمًا يعني إصابة في القول، وعَلمًا، بتأويل الرؤيا انتهت. وقال القشيري: مِنْ جملة الحكم الذي آتاه الله نُفوذُ حكمه على نفسه حتى غَلَبَ شَهْوَتَه، فامْتَنَع عمَّا راودته زُليخَا عن نفسه، ومَنْ لا حُكْمَ له على نفسه لم يَنفُذْ حُكْمُه على غيره. قال الإِمام نقلًا عن الحسن: كان يوسفُ نبيًّا من الوقت الذي أُلْقِيَ فيه في غيابة الجب لقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ} ولذا لم يقُلْ هُنا: ولمَّا بلغ أشدَّه واستوى، كما قال في قصة موسى؛ لأنَّ موسى أوحي إليه عند منتهى الأشدّ والاستواء وهو أربعون سنةً، وأوحي إلى يوسف عند أوله، وهو ثمان عشرة سنةً. وعن الحسن: مَنْ أَحسَنَ عبادةَ ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهالِه، وفيه إشارة إلى أنَّ المطيع تُفْتَحُ له ينابيع الحكمة، وتنبيه على أنَّ العطِيَّة الإلهية تَصِلُ إلى العبد، وإن طَالَ العَهْدُ إذا جاءَ أوانُها فلطالبِ الحق أن ينتظر إحسانَ الله تعالى، ولا ييأس منه. {وَكَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب الذي جَزَيْنا يوسف {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: كلَّ مَنْ يُحْسِنُ في عمله، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعارٌ بعَلِيّة الإحسان له، وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما أتاه الحكمَ والعلم لكونه مُحْسِنًا في أعماله، متقيًا في عنفوان أمره، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. قال بعضهم: نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب، والإرادة والاجتهاد، والرِّيادة فمَنْ أدْخل نَفسَه في زمرة أهل الإحسان جزاه الله تعالى بأَحْسَنِ الجزاء، وأحبه كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فمن أحبَّه الله تعالى نَالَ سَعَادةَ الدَّارَيْنِ. والمعنى: أي ومثل ذلك الجزاءِ العظيمِ نُجازِي به المتحلِّينَ بصفة الإحسان الذين لم يدنِّسُوا أنْفُسَهم بسيئات الأعمال، فنُؤتيهم نصيبًا من الحكم بالحق، والعدل، وعلمًا يظهره القولُ الفصلُ إذ يكون لذلك الإحسانِ تأثيرٌ في صفاء عقولهم وجَودةِ أفْهَامِهم وفقههم لحقائق الأشياء غيرَ ما يستفيدون بالكسب من غيرهم، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين في أعمالهم المتبعين لأهوائهم، وطاعة

[23]

شهواتهم. 23 - {وَرَاوَدَتْهُ}؛ أي: راودَتْ يوسفَ وطلبته المرأة {الَّتِي هُوَ}؛ أي: يوسف {فِي بَيْتِهَا}؛ أي: في سَكَنِها ومَنْزِلها أن يحابيَ لها {عَنْ نَفْسِهِ} ويمكنَ لها من نفسه بالمواقعة عليها، والمجامعة بها. يقال: راودَ فلان جاريتَهُ عن نفسِهَا، وراودته هي عن نَفْسِهِ إذا حاول كل واحد منهما الوطءَ والجماعَ، وهي مفاعلة. وأصلها: أن تكونَ من الجانبين فجُعِلَ السببُ هنا في أحد الجانبين قائمًا مقامَ المسبب، فكأن يوسُفَ عليه السلام - لمَّا كان ما أعطيه من كمال الخلق، والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مُراود لها، وإنما قال {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} ولم يقُل امرأة العزيز أو زليخا قَصَدًا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة، والمحافظة على الستر عليها. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} عليها، وعلى يُوسُفَ؛ أي: أطبقَتْها، وكانت سبعةً، لأنَّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية، أو إنها أغْلَقَتْها لشِدّةِ خوفِها. {وَقَالَتْ} ليوسف {هَيْتَ}؛ أي: هلمَّ إليَّ، وأَقْبِلْ وبَادِرْ، أو تهيأت {لَكَ} لتستمتع بي وتجامعني. والمعنى: وخادعَتْ امرأة العزيز يُوسُفَ عن نفسه، وراوغته ليريدَ منها ما تريد هي منه، مُخالفًا لإرادته، وإرادة ربه، والله غالبٌ على أمره. قال في "الكشاف": كأنَّ المعنى خادعَتْه عن نفسه؛ أي: فعلت ما يفعلُ المُخادِعُ لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده، وهو يحتال أن يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، اهـ. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}؛ أي: وأحْكَمَتْ إغلاق بابِ المخدعَ الذي كَانَا فيه، وباب البهو الذي يكون أمامَ الغُرَفِ في بيوت العظماء، وباب الدار الخارجيِّ ورُبَّما كان هناك غيرُها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}؛ أي: وقالَتْ: هلم أقْبِلْ وزيدت كلمةٌ {لَكَ} لبيان المخاطب كما يقولونَ سقيًا لك، ورَعْيًا لك. وهذا الأسلوب هو الغاية في الاحتشام في التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراءٍ، وتهييج مما تقتضيه الحالُ، وما نُقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب فمثل هذا لا يُعْلَمُ إلا من الله، أو من الرواية الصحيحة عنها، أو عنه، ولا يستطيع أن يدَّعِي ذلك أحدٌ. وقرأ (¬1) نافع وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر: {هَيْتَ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفح التاء. والحلوانيُّ عن هشام كذلك إلَّا أنه هَمَّزَ وقال: {هِئْتَ}. وكذلك قرأ علي، وأبو وائل، وأبو رجاء، ويحيى، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وطلحة، والمقرىء، وابنُ عباس، وأبو عامر في رواية عنهما، وأبو عمرو في رواية , وهشام في رواية, كذلك إلا أنهم ضَمُّوا التَّاء، وزيد بن علي، وابنُ أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهَّلاَ الهمزة. وذكر النَّحاس أنه قرئ بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة، وكسر التاء. وقرأ ابن كثير، وأهل مكة بفتح الهاء، وسكون الياء، وضم التاء. وباقي السبعة أبو عَمرو والكوفيون، وابنُ مسعود، والحسن، والبصريون، كذلك إلا أنهم فتحوا التاءَ. وابن عباس، وأبو الأسود، وابن أبي إسحاق وابنُ مُحيصن، وعيسى البصرة كذلك. وعن ابن عباس: {هييتَ} مثل حييت. فهذه تسع قراءات هي فيها اسمُ فعل إلّا قراءة ابن عباس الأخيرة، فإنها فعل مبني للمفعول، مسهَّلُ الهمزة من هيأت الشيءَ، وإلا مَنْ ضَمَّ التاءَ، وكَسر الهاء سَوَاءٌ هَمَّز أم لم يُهَمِّزْ فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء، أو كسرها، ويحتمل أن يكونَ فِعْلًا واقِعًا عن ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئَتَهُ على مثال: جاء يجيء، أو بمعنى تهيأت يقال: هَيْتَ وتَهَيأتَ بمعنى واحد. فإذا كانَ فِعْلًا تعلقت اللام بِهِ. وفي هذه الكَلِمةِ لغات أُخر، أعرضنا عنها صَفْحًا خوف الإطالة. وانتصب {مَعَاذَ اللَّهِ} على المصدر بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أعوذ باللهِ سبحانه وتعالى؛ عياذًا مما تدعينني إليه، وألْتَجِىء إليه، وأعْتَصِمُ به مما تريدين مني من فعل السوء فهو يعيذني أن أَكُون من الجاهلين، كما سيأتي من قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. وجملة: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقربُ إلى فهم امرأة العزيز، والضميرَ للشأن؛ أي: إنَّ الشَّأْنَ والحالَ ربي وسيِّدِيّ، ومالك رقبتي يعني العزيزَ قد أحسن معاملتي في إقامتي عندك، وأحسن مثوايَ، وإقامتي حيث أمرك، وأوصاك بقولهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} فكيف أخونه في أهله، وأجيبُك إلى ما تريدين من ذلك، فلا أجزيه على إحسانه

[24]

بالإساءة. والأصحَّ أنَّ الضمير في {إِنَّهُ} أن يعود على الله سبحانه وتعالى، والمعنى: أي: إنَّ الله ربِّي أحسن مثوايَ إذ نجَّاني من الجبِّ، وأقامني في أحسن مقام، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربي، ولا بمعنى السيد؛ لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكًا له، وجملة قوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها. والفلاحُ: الظفرُ أي: إنَّ الشأنَ والحال لا يَسْعَدَ ولا يظفر الظالمون لأنفسهم وللناس بجناية وتعد على الأعراض، لا في الدنيا ببلوغ الإمامَةِ والرياسةِ، ولا في الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى، ودخول جنات النعيم. وقيل: المعنى: لا يُفْلِحُ المجازون الإحسانَ بالإساءةِ. وقيل: المعنى: لا يُفْلِحُ الزناة. وفي هذا إيماء (¬1) إلى الاعتزاز بربه، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضمر نار الغيظ في صدرها. وقرأ (¬2) أبو الطفيل والجحدري: {مثوي} كما قرأ: {يا بشرى} وما أحسنَ هذا التنصل من الوقوع في السوء، استعاذَ أولًا بالله الذي بيده العصمةُ وملكوتُ كل شيءٍ. ثم نبَّه على أنَّ إحسانَ الله، أو إحسان العزيز الذي سَبَقَ منه لا يُناسِبُ أن يجازيَ بالإساءة. ثمَّ نفَى الفلاح عن الظالمين، وهو الظفر، والفوز بالبغية، فلا يناسب أن أكون ظالِمًا أضع الشيء في غير موضعه، وأَتَعَدَّى ما حَدَّه الله تعالى لي. 24 - {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد همَّتْ زُليخًا بيوسف عليه السلام، وقصدَتْ مخالطةَ يوسف، ومجامَعَتَهُ إياها؛ أي: قَصدَتْها (¬3) وعَزَمَتْ عليها عَزْمًا جازمًا، بَعدما باشرَتْ مَباديها من المراودة، وتغليق الأبوابِ، ودَعْوته إلى نفسها بقولها: هَيْتَ لك، ولعلَّها تصدَّتْ هنالك لأفعال أُخَر من بَسْطِ يدِهَا إليه، وقَصْد المعانقة، وغير ذلك مما يضطره إلى الهرب، نحو الباب، والتأكيدُ لِدَفْعِ ما عسى يتوهم من اختصاص إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الزواجر {وَهَمَّ بِهَا}؛ أي: وقَصَدَ يُوسُفُ بمخالطتها؛ أي: مال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب ميلًا جبليًّا، لا يكادُ يَدْخُل تحت التكليف لا قصدًا اختياريًّا؛ لأنه كما أنه برىء من ارتكاب نفس الفاحشة، والعمل الباطل كذلك برىء من الهَمِّ المحرَّم، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همِّها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشُبهةٍ به. ولقد أشير إلى تَبَايُنِهِمَا بأنه لم يقُلْ: ولقدْ هَمَّا بالمخالطة، أو همَّ كلٌّ منهما بالآخر. قال بعضهم (¬1): الهمّ قسمان: هم ثابت، وهو هم اقترن بعزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز، فالعبدُ مأخوذ به، وهم عارض، وهو الخطرة، وحديث النفس من غير اختيار، ولا عَزْم مثلُ هَمِّ يوسف عليه السلام، والعبد غَيرُ مَأخُوذ به ما لم يتكلم أو يعمل. {لَوْلَا أَنْ رَأَى} يوسفُ وعلِمَ وأيقن {بُرْهَانَ رَبِّهِ}؛ أي: حُجَّةَ ربه، وأدلّتَه الدالة على كمال قُبْحِ الزنى. والمراد برؤيته لها: كمال إيقانه ومشاهدته لها مشاهدة واصلةً إلى مرتبة عين اليقين، التي تتجلَّى هناك حقائق الأشياء بصورها الحقيقية. وجوابُ لولا محذوف تقديره: لولا مشاهدتُه وعِلْمُه بُرْهانَ ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجِبْلّي فوقَع في الزنا، لكنه حيثُ كانَ البرهانُ الذِي هو الحكم والعلم حاضرًا لديه حُضورَ من يراه بالعين، فلم يَهُمَّ به أصلًا. ومن المعلوم أنَّ (لولا) حرف امتناع لوجود، فالمعنى امتنع وانتفى جِماعُه لها, لوجود رؤيته البرهان. وفي "السمين" المعنى: لولا رؤيته برهانَ رَبِّهِ لهَمَّ بها ,لكنه امتنع همه بها لوجود رؤية ربه، فلم يَحْصُلْ منه هم ألبتة كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك فالمعنى: إنَّ الإكرامَ امتنع لوجود زيد. وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يُورد هنا، وهو كيف يليق بنبيٍّ أن يهُمَّ بامرأة، اهـ. والحاصل (¬2): أن هذا البرهانَ عندَ المحققينَ المثبتينَ لعصمة الأنبياء هو حُجَّةُ الله تعالى في تحريم الزنا، والعِلْمُ بما على الزاني من العقاب. أو المرادُ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

برؤية البرهان حُصُولُ الأخلاق الحميدةِ وتذكير الأحوال الرَّادِعَةِ لهم عن الإقدامِ على المنكرات. وقيل: إن البرهانَ النبوةُ المانعة من إتيان الفواحش. وقيل: إنه عليه السلام رأى مكتوبًا في سقف البيت: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وأمّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف، فقالوا: إنه رَأى يعقوب عاضًّا على إبهامِه، أو هَتَفَ هاتفٌ، وقال له: لا تَعْمَل عمل السفهاء، واسمك في ديوان الأنبياء، أو تمثل له يعقوب فضَرَبَ في صدره، فخَرَجَتْ مَنِيُّه من أنامله. وقيل: غير ذلك مما يطولُ ذِكرُه. والحاصل: أنه رأى شيئًا حال بينه وبين ما همَّ به. وعبارة المراغي هنا: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}؛ أي (¬1): ولقد همَّت بأن تبطِشَ به إذا عصَى أمرَهَا، وخالف مُرادَها، وهي سيدتُه وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكُلَّما أَلَحَّتْ عليه ازدَاد عتُوًّا واستكبارًا معتزًّا عليها بالديانة، والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده، وهو سيدها ولا عِلاجَ لهذا إلا تذليله بالانتقام. وهذا ما شرَعَتْ في تنفيذه أو كادَتْ بأَن همَّتْ بالتنكيل به. {وَهَمَّ بِهَا} لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}؛ أي: ولكنه رَأى من ربه في سريرة نفسه ما جَعَلَهُ يمتنع من مُصاولَتِها، واللُّجوء إلى الفرار منها. والخلاصة: أنَّ الفارق بين همِّها وهَمِّه أنها أرادت الانتقامَ منه شفاء لِغَيْظِها إذ فَشَلَتْ فيما تريدُ، وأهينَتْ بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادَتْ، وأراد هو الاستعداد للدِّفاع عن نفسه، وهَمَّ بها حين رأى أَمارَةَ وُثُوبِهَا عليه، فكان مَوقفهما موقف المواثَبةِ والاستعداد للمضاربة، ولكِنَّهُ رأى منْ برهان ربه وعِصْمَتِه ما لم تَرَ مِثله؛ إذ ألهمه أنَّ الفرارَ من هذا الموقف هو الخير الذي به تتمُّ حكمته فيما أعده له، فاستبقا بابَ الدارَ، وكانَ من أمرِهِمَا ما يأتي بيانه فيما بَعْدُ. ¬

_ (¬1) المراغي.

هذا خُلاصةُ رأي نَقَله ابن جرير، وأيَّده الفَخْرَ الرازيُّ وأبو بكر الباقلاني. وَيرَى غَيْرُهم من المفسرين أنَّ المعنى أنها همَّتْ بفعل الفاحشة، ولم يكن لها معارض، ولا ممانع، وهم هو بمثل ذلك، ولولا أنْ رأى برهان رَبّه لاقْتَرَفها. وقد فنده بعض العلماء لوجوه (¬1): 1 - أنَّ الهَمَّ لا يكون إلَّا بفعل للهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تَهُمَّ به، وإنما نَصِيبُها منه قبولهْ مِمَّنْ يطلبه منها بتمكينه منه. 2 - أنَّ يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمَّى قبولها لطلبه، ورضاها بتمكينه همًّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل مِن وسائله ومقدماته. 3 - أنه لو وَقَعَ ذلك لوجب أن يقال: ولقد همَّ بها وهمَّتْ به؛ لأنَّ الهمَّ الأُولَى هو المقدم بالطبع، وهو الهم الحقيقيُّ، والهم الثاني متوقِّفٌ عليه. 4 - أنه قد عَلِم من هذه القصة أنَّ هذه المرأةَ كانت عازمة على ما طلبته طلبًا جازمًا، ومصرةً عليه، فلا يصح أن يُقَالَ: إنها همَّتْ به، إذ الهمُّ مقاربةُ الفعل المتردد فيه، بل الأنسبُ في معنى الهمِّ هو ما فسَّرْناه به أوَّلًا وذلك لإرادة تأديبه بالضَّرْبِ، انتهت. والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى الإراءة المدلول عليها بقوله: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك، وهذه الكاف مع مجرورها في محلِّ نصب بفعل محذوف، واللامُ في قوله: {لِنَصْرِفَ} متعلقة بذلك المحذوف، والتقدير: أَريناه مثلَ ذلك الإراءَةِ أو ثَبَّتْنَاه مثلَ ذلك التثبيت. {لِنَصْرِفَ عَنْهُ}؛ أي: عن يُوسُفَ وندفَع عنه {السُّوءَ}؛ أي (¬2): مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة {وَالْفَحْشَاءَ}؛ أي: الزنا. وقيل (¬3): السوء كل ما يَسُوؤُه، والفحشاء كل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

أمرٍ مُفرطِ القُبح. وقيل: السوءُ الخيانة للعزيز في أهله، والفحشاء الزنا. وقيل: السوء الشهوة، والفحشاءُ المباشرة. وقيل: السوءُ الثناءُ القبيح، والأوْلَى الحمل على العموم فيدخُلُ فيه ما يدل عليه السياق دخولًا أوَّليًّا. وفي هذه الجملة (¬1) آيةٌ بَيِّنَةٌ وحجة قاطعة على أنه لم يقع منه هَمٌّ بالمعصية، ولا توجُّهٌ إليها قط، وإلا لقِيلَ: لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجَّه إليه ذلك من خارج، فصرفه تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة، والعصمة كما في "الإرشاد". وجملة قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} تعليل لما قبلها؛ أي: صَرَفنا عنه السوءَ والفحشاءَ؛ لأنَّ يُوسُفَ عليه السلام من جملة عِبَادِنا الذين أخْلَصناهم لطاعتنا، بأن عَصَمْنَاهُم مما هو قادح فيها. وفي هذا دليل على أنَّ الشَّيطانَ لم يجد إلى إغوائه سبيلًا، ألا ترى إلى قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} قال في "بحر العلوم". واعلم أنه تعالى شهد ببراءته من الذنب، ومَدَحه بأنه من المحسنين، وأنه من عباده المخلصين، فوَجَبَ على كل أحد أن لا يتوقَّفَ في نزاهته، وطهارة ذيله، وعِفَّته وتثبته في مواقع العثار. قال الحسن: لم يَقُصَّ الله تعالى عليكم ما حكى من أخبار الأنبياء تعْييرًا لهم، لكن لئلا تَقنَطُوا من رحمته؛ لأنَّ الحُجَّةَ للأنبياء ألزم، فإذا قبلت توبتهم، كان قبولها من غيرهم أسْرَعَ. وعدَمُ ذكر توبة يوسف دليلٌ على عدم معصيته؛ لأنه تعالى ما ذكر معصيةً عن الأنبياء، وإن صَغُرت إلا وذكر تَوبتَهم واستغفارَهم منها كآدم ونوح، وداود، وإبراهيم، وسليمان، عليهم السلام. وقرأ الأعمش: {ليُصْرفَ} بياء الغيبة عائدًا على ربه. وقرأ العربيان: أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير: {المخلِصين} إذا كان فيه أن حيث وَقَع في القرآن بكسر اللام؛ أي: الذين أخلصوا دِينَهم، وعَمَلَهم لله تعالى. وقرأ باقي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

السبعة بفتح اللام من جماعتنا {المخلَصين} وهم آباؤه الذين أخلَصهم رَبُّهم وصفَّاهم واختارهم لطاعته، وصفاهم من الشوائب، وقال فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)}. 25 - {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}؛ أي: تسابق يوسُفُ وزليخا إلى الباب البراني الذي هو المخرج من الدار، ولذلك وَحَّدَ بعد الجمع فيما سلف. وفي الكلام حذف حرف الجر، وإيصال الفعل إلى المفعول، والأصل تَسابَقا إلى الباب، أو ضُمِّن الفعلُ معنى فعل آخر يتعدَّى بنفسه كابتدار الباب. وهذا الكلام متصل بقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وما بينَهُما اعتراض، أمَّا يُوسُفُ فلِلفرار منها، وأمَّا هي فلتَصُدَّه عن الفتح والخروج؛ أي: تسابقا إلى الباب، ففَرَّ يوسف من أمامها هاربًا إليه، طالبًا النجاة منها مرجحًا الفرارَ على الدفاع الذي لا تُعْرَفُ عاقبته وتبعته هيَ تبغي إرجاعه حتى لا يَفْلتَ من يدها، وهي لا تَدْرِي إذا هو خرَج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقولُ، ولا ما يفعل لكنها أدركته. {و} جذبته بردائه و {قدت}؛ أي: شقَّت {قَمِيصَهُ}؛ أي: قميص يوسف {مِنْ دُبُرٍ} وخَلْفِه فانشق طُولًا نصفين، وهو القَدُّ كما أنَّ الشَّقَّ عرضًا هو: القط؛ أي: جذبَتْ قَمِيصَه من ورائِهِ فانْشَق إلى أسفله، وأكثر ما يُستعمل القد فيما كان طُولًا. والقط بالطاء فيما كان عرْضًا وقَعَ ذلك منها عندما فَرَّ يُوسُفُ لمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبه، فأرادت أن تَمْنَعَهُ من الخروج بجذبها لقميصه. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا}؛ أي: وَجَدا زوْجَها {لَدَى الْبَاب}؛ أي: عند الباب البراني مقبلًا ليدخُلَ أو كان جالسًا مع ابن عمٍّ لزليخا يقال له: يَمْليخا. وقد كان النساء في مصر يلقَّبْنَ الزوجَ بالسيد، وإنما لم يَقُلْ سَيِّدَهُما، لأنَّ مِلْكَهُ لِيُوسُفَ لم يكن صحيحًا، فلم يكن سيدًا له؛ لأن استرقاق يُوسُفَ غير شرعي. وهذا كلامُ ربه العلم بأمره، لا كلام من اسْتَرَقَّه. وقوله: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مُقدَّرٍ، فكأنه قيل: فماذا وَقَع منهما عندما ألفيا سيدها لدى الباب؟ فقيل:

قَالَتْ مُنزِّهةَ نفسَها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا من الزنا ونحوه، و {ما} نافية؛ أي: ليس جزاؤه {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: لَيسَ جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم مثل الضرب بالسوط، ونحوه. أو استفهامية؛ أي: أي شيء جزاؤه إلا السجن، أو العذاب الأليم كما تقول مَنْ في الدار إلَّا زيد؛ أي: قَالَتْ هذه المقالة طَلَبًا منها للحيلة، وللستر على نفسها، فنَسَبَتْ ما كان منها إلى يُوسُفَ، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل؛ أي: وحينَئِذٍ خرجَتْ مما هي فيه بمكرها، وكيدها، وقالت لزوجها متنصِّلةً من جرمها، وقاذفةً لِيُوسُفَ: ما جزاءُ من أراد بأهلك شيئًا يسوؤُك صغيرًا كَانَ أو كبيرًا إلا سجن يعاقب به، أو عذابٌ مؤلم موجع يؤدبه، ويلزمه الطاعة. قال الرازي: وفي هذا القول ضروب من الحِيَلَ: 1 - إيهام زوجها أنَّ يوسفَ قدِ اعتدى عليها بما يسوؤها ويسوؤه. 2 - أنَّها لم تصرح بجرمِهِ حتى لا يشتد غضبه، ويَقْسو في عقابه، كأن يبيعه أو يُقْصِيه عن الدار، وذلك غير ما تريد. 3 - أنها هدَّدَتْ يُوسُفَ وأنذرته بما يعلم منه أن أَمْرَهُ بِيَدِها ليخضع لها ويُطِيعَها. 4 - أنها قالت: إلا أن يُسْجَن والمراد منه: أن يُسْجَنَ يومًا أو أقلَّ على سبيل التخويف فحسبُ، أما الحبس الدائِمُ، فكان يقال فيه: يجب أن يُجْعَلَ من المسجونين ألا ترى أنَّ فِرْعَوْنَ حينَ هَدَّدَ موسى قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. وجملة القول في هذا: أنَّ يوسف عليه السلام كَانَ قوي الإرادة لا يمكن غَيْرُه أن يحتال عليه، ويَصْرِفَه عن رأيه، ويجعلَه خاضعًا له، ومن ثم لم تستطع امرأةُ العزيز أن تُحوِّل إرادتَه إلى ما تريد بمراودتها, ولا عَجَب في ذلك فهو في وِراثتِه الفطرية، والمكتسبة، ومقام النبوة عن آبائه الأكرمينَ، وما اختصَّه به ربه من تربيته، والعناية به، وما شهد له به من العرفان، والإحسان, والاصطفاء، وما صَرَفَ عنه من دواعي السوء، والفحشاء في مكان مكين، وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوروه به من

[26]

الصور البَشِعَةِ الدالة على الميل إلى الفجور، إنما هو من فعل زنادقة اليهود، لِيُلَبِّسوا على المسلمين دينهم، ويشوهوا به تفسيرَ كلام ربهم، ولا يَغُرَّنَّك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة، والتابعين، فهي موضوعة عليهم، ولا ينبغي أنْ يُعْتَدَّ بها؛ لأن نُصوصَ الدِّين تنبذها إلى أنه من علم الغيب في قصة لم يعلم الله رسولَه غير ما قصه عليه في هذه السورة، وكَفَى بهذا دلالة على وضعها. ثم قال العزيزُ لزليخا: من أراد بأهلي سوءًا، قالت زُليخا: كنت نائمةً في الفراش، فجَاءَ هذا الغلام العبراني، وكشف عن ثيابي، وراودني عن نفسي، فالتفت العزيز إلى يُوسُفَ وقال: يا غلام هذا جزائي منك حيث أحسنت إليك، وأنت تحزنني 26 - {قَالَ} يوسف دَفعًا عن نفسه، وتنزيهًا لعرضه {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}؛ أي: طالبتني للمواقعة لا أني أردت بها سوءًا كما قالت؛ أي: هي طلبتني فامتنعتُ، وفرَرَتُ كما ترى. ولم يَقُل هذه ولا تلك لفرط استحيائه، وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة، ولم يكن يوسف يريد أن يهتكَ سَتْرَها, ولكن لما لَطَّخَتْ عرضه احتاجَ إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، فصرَّحَ بالأمر فقال: هي طَالَبَتْنِي لِلمُواتَاة. وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه: 1 - أن يوسف كَانَ مولى لها، وفي مَجْرى العادة: أنَّ المولى لا يجرؤ أن يتسلَّط على سيدته، ويَتَشدَّد إلى مثل هذا. 2 - أنهم رَأوا يُوسُفَ يعدو عَدْوًا شديدًا ليخرجَ، ومن يطلب امراْةً لا يَخْرُجُ على هذا النحو. 3 - أنهم رأَوا الزينة قد بدَتْ على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجهِ يوسف. 4 - أنهم لم يشاهدوا من أخلاق يُوسُفَ في تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة، أو يقوِّي الظنَّ عليه بأنه هو الطالبُ لا الهاربُ. وقد أظهر الله تعالى لبراءته ما يقوِّي تلك الدلائل الكثيرةَ التي تظاهَرَتْ على أن بدء الفتنة كانت منها لا منه، وأنها هي المذنبة لا هو.

فقال العزيز ليوسف: مَا أقبل قولك إلا ببرهان. وفي رواية نظر العزيز إلى ظاهر قول زليخا وتظلمها، فأمر بأن يُسْجَن يوسُفَ، وعند ذلك دعا يوسفَ بإنزال البراءة، وكان لزليخا خال له ابن في المهد ابن ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ستة على اختلاف الروايات، فَهبَط جبريل إلى ذلك الطفل، وأجلسه في مهده، وقال له: اشهد ببراءة يوسف، فقام الطفل من المهد وجعل يَسْعى حتى قام بين يدي العزيز، وكان في حجراته كما قال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا}؛ أي: ابن خالها الذي كان صبيًّا في المهد، وإنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها ليكونَ أوْجَبَ للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. واستدلَّ على أنَّ هذا الشاهدَ كانَ صبيًّا في المهد بما نقل عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكلَّم أربعةٌ وهم صغار، ابنُ ماشطة بنت فرعون، لَمَّا أَسْلَمَتْ، أخبرتَ البنت أباها بإسلامها، فأمر بإلقائها، وإلقاء أولادها في النقرة المتخذة من النحاس المحماة، فلما بلغت النوبة إلى آخر ولدها، وكان مُرْضَعًا قال: اصبري يا أماه فإنك على الحق، وشاهد يوسف، وصاحبُ جُريج، وعيسى بن مريم". وبما روى عن أبي هريرة قال: عيسى بن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جريجّ، تكَلَّموا في المهد. وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، والأول قد ضعفه رجال الحديث، إلا أنه لو نطَقَ الطفل بهذا لكان قولُه كافيًا في تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص؛ لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه في المهد من الدلائل اليقينية، وأيضًا لو كانَ كذلك لما كان هناك داعٍ إلى قوله: {مِنْ أَهْلِهَا} الذي ينفي التحاملَ عليها، ويمتنع إرادة الضر بها. وأيضًا، فإن لفَظَ الشاهد لا يقع عُرْفًا إلا على من تقدَّمَتْ معرفته لما يَشْهَدُ وإحاطته به. أي: وشهد شاهد من أهلها، فقال: أيها العزيز: إن عندي في أمرك هذا ما لَك فيه فرَجٌ ومخرجٌ، انظر إلى قميص الغلام العبرانيِّ {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ}؛ أي: شقَّ من قدام {فَصَدَقَتْ}؛ أي: فقد صدقت المرأة {وَهُوَ مِنَ

[27]

الْكَاذِبِينَ} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي} لأنه إذا طلبها دفعته عن نفسها، فشقَّتْ قميصَه من قدام، أو يُسْرعُ خَلْفَها لِيُدْرِكَها فيتعثر بذيله فينشق جيبه، 27 - {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ}؛ أي: من خلف {فَكَذَبَتْ}؛ أي: فقد كذبت المرأة في دعْواها {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي} لأنه يدل على أنَّها تَبِعَتْهُ فاجتذَبَت ثَوْبَهُ فقدَّتْه، وقوله (¬1): {وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} جملتان مؤكدتان لأنَّ من قوله: {فَصَدَقَتْ} يعلم كذبه، ومن قوله: {فَكَذَبَتْ} يعلم صدقه، وفي بناءِ "قُدَّ" للمفعول ستر على مَنْ قَدَّه. وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف {قُطَّ من دبر} أي شُقَّ. وقال ابن عطية: وقرأت فرقة {قُطّ}. وقرأ زيد بن علي: {أو عذابًا أليمًا} وقدره الكسائي أو يعذُّب عَذابًا أليمًا. وقرأ الجمهور: {مِنْ قُبُلٍ} و {مِنْ دُبُر} بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بتسكينها، وبالتنوين وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجارود بن أبي سَبْرة بخلاف عنه: {من قبل ومن دبر} بثلاث ضمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضًا في رواية عنهم بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوهما غايةً نحو من قبل، ومعنى الغَايَةِ: أن يصيرَ المضاف غايةَ نَفْسِهِ بعدما كان المضاف إليه غَايَتَه. والأصل: إعرابهما لأنهما اسمان متمكنان، ولَيْسا بظرفين. وقال أبو حاتم: هذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومن دُبره. وأما التنكير فمعناه: من جهة يقال لها: قبل، ومن جهة يقال لها: دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: {من قبل ومن دبر} بالفتح كأن جعَلَهُما عَلَمين للجهتين، فَمَنَعهما الصرفَ للعلمية والتأنيث. والمعنى (¬2): أي وحَكم ابن عم أو خال لها مستدلًّا بما ذكر، وكان عَاقِلًا حَصيفَ الرأي، فقال: قد سَمِعْنَا جلبةً وضوضاء، ورأينا شق القميص، إلا أنا لا ندري أيكما كان قُدَّامَ صاحبه، فإن كان شق القميص من قُدَّام فصدقت في دعواها، أنه أراد بها سوءًا؛ إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[28]

بتلابيبه، فجَاذَبَها فانقد قميصه، وهما يتنازعان، ويتصارعان، وهو من الكاذبين، في دَعواه أنها راودته فامتنعَ وفرَّ هاربًا، فتبعته وجذبته تريد إرجاعه، وإن كَانَ قميصه قُدَّ من الخَلْف فكذبت في دعواها، أنه هجم عليها يريد ضَرْبَها، وهو من الصادقين في قوله: أنه فرَّ هاربًا منها. 28 - {فَلَمَّا رَأَى} العزيز {قَمِيصَهُ} أي: قميص يوسف {قُدَّ} وشق {مِنْ دُبُر}؛ أي: من وراءَ وخلف، وعلم براءة يوسف وصدقه {قَالَ}؛ أي: العزيز {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ الأمر الذي وقع فيه التشاجر {مِنْ كَيْدِكُنَّ}؛ أي: من جنس حيلتكنَّ ومكركن أيها النساء، لا من غيركن، فخَجَلَتْ زليخا، وتعميم الخطاب للتنبيه على أنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ لهن عريق {إِنَّ كَيْدَكُنَّ} ومَكْرَكُنّ يا معشرَ النساء {عَظِيمٌ} فإنه ألصق، وأعْلَقُ بالقلب، وأشد تأثيرًا في النفس؛ أي: من كيد الرجال؛ لأنَّ لهن في هذا الباب من الحِيَلِ ما لا يكون للرجال، ولأنَّ كَيْدَهُنَّ في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولأنَّ الشيطان يوسوس مسارقة، وهن يواجههن به الرجال، فالعظم بالنسبة إلى كيد الشيطان. وقال بعض العلماء: إنّي أخاف من النساءِ ما لا أخاف من الشيطان، فإنه تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} وقال للنساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}. وإنما وَصَف كَيْدَ النِّساءِ بالعِظم، وَكَيد الشيطان بالضَّعْفِ؛ لأن كَيْدَ النساء أقوى بسبب أنهن حبائل الشيطان، فكيدهن مقرونٌ بكيد الشيطان فهما كيدان، بخلاف كيد الشيطان دونهن فكيد واحد. والمعنى (¬1): أي فلمَّا نظر العزيز إلى القميص، ورأَى الشقَّ من الخلف أيقَنَ بصدق قوله، واعتقد كَذِبَها، وقال: إن هذا محاولة للتنصل من جُرْمِهَا باتِّهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء، فهو سنة عامة فيهن، فهن يجتهدن في التبري من خطاياهن، ما وجدن إلى ذلك سبيلًا، وكيد النساء عظيم، لا قبَلَ للرجال به، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفَعُوها قدر المستطاع، ولا شك أنَّ هذه شهادة من ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

قريب لها, يُتَّهَمُ بالتحامل عليها, ولا بظلمها، وتجريحها برَمْيِها بما هي منه براء. 29 - ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله: يا {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} الأمر الذي جَرَى، واكتمه، ولا تتحدث به حتى لا يشيع فيعيروني. ثم أقبلَ عليها بالخطاب فقال: {وَاسْتَغْفِرِي} أنتِ يا زليخا {لِذَنْبِكِ} الذي صدر منك وثَبَتَ عليك؛ أي: توبي إلى الله تعالى ممَّا رَمَيْتِ يُوسُفَ به وهُو بريء منه. فإنْ قلت: إنَّهم قوم مشركون، فلا يعرفون ذَنْبَهُم مع خالقِهِم، فما الذنب الذي يطلب منه الاستغفار؟ أُجِيبَ: بأن المرادَ بالذنب خِيَانتها لزوجها. {إِنَّكِ كُنْتِ} بسبب ذلك {مِنَ الْخَاطِئِينَ}؛ أي: من جملة القوم الذين تَعَمَّدُوا للخطيئة والذنب، يقال: خطىء إذا أذنب عَمْدًا. والجملة (¬1): تعليل لما قَبْلَها من الأمر بالاستغفار، ولم يقل من الخَاطِئَات تغليبًا للمذكر على المؤنث كما في قوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}. وقيل: إن القائلَ لِيُوسُفَ ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حَكَمَ بينهما. والمعنى (¬2): أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذا الكيد، الذي حصل، ولا تتحدَّثْ به كي لا ينتشر أمرُه بين الناس، ولا تَخَفْ من تهديدها، وكيدها لك، وأنتِ أيتها المرأة توبي إلى ربك واستغفري لذنبك، إنك كنت من زمرة المجرمين، الذين يتعمدون ارتكابَ الخَطايا، ويجترحُون السيئات، وهم مُصِرُّون عليها. قيل (¬3): وَكَان العزيز رَجُلًا حَلِيمًا فاكتفى بهذا القدر في مؤاخذتها. وقيل: إنه كانَ قليلَ المغيرة بل قال في "البحر": إنَّ تُرْبَةَ مصر تقتضي ذلك، ولهذا لا يَنْشأُ فيها الأسد، ولو دَخَل فيها لا يَبْقى. ورُوي أنَّه حَلَفَ أن لا يدخل عليها إلى أربعين يومًا، وأخرج يوسف من عندها، وشغله في خِدْمَتِه وبقِيَتْ زُليخا لا تَرَى يُوسُفَ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[30]

30 - {وَقَالَ نِسْوَةٌ}؛ أي: جماعة من النساء {فِي الْمَدِينَةِ} ظرف لـ {قَالَ}؛ أي: أشَعْنَ الأمر في مصر، أو صفةٌ للنسوة، وكنَّ خَمْسًا امرأة الخبَّاز، وامرأةَ السَّاقِي، وامرأة صاحب الدواب، وامرأةُ صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنِّسوة اسم جمع لامرأة، وتأنيثه غير حقيقي، ولذا لم يُلْحِق فعلَه تاءَ التأنيث. يقال فيه: نسوة بضم النون، وهي قراءةُ الأعمش، والفضل، وسليمان. ويقال: نسوة بكسر النون، وهي قراءة الباقين، ذكره الشوكاني. ولم (¬1) يشر الكتاب الكريم إلى عَدَدهنّ، ولا إلى صفاتهن؛ لأنَّ العِبْرةَ ليست في حاجة إلى ذلك، والذي يقتضيه العُرْفُ، ومجرى العادة أنه عَمَلُ جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة، يُعْهَدُ منهن في العُرف أن يأتَمِرْنَ، ويتفقن على الاشتراك في مثل هذا المكر؛ إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى، لا تتجه أنظارُهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة، ولا إلى مشاركتها في سلب عشيقها, ولا إلى التمتع بجماله الساحر، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقلَ من بيت إلى بيت بوساطة الخَدم، ويكون الشغلَ الشاغلَ للنساء في مجالسهن الخاصَّة، وسمَرِهِنّ في البيوت، وخلاصَتُهُ: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا}؛ أي: تطالب غُلامَها بمواقعته لها، وتحتال في ذلك، وتُخادعه {عَنْ نَفْسِهِ}، وهو يمتنعُ منها. وتُرْسَم امرأةُ هذه بالتاء المجرورة، وأمَّا بالنطق فوقف عليها ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء. وأما في الوصل فبالياء للجميع، اهـ خطيب. والعزيزُ بلسان العرب، الملك، والمراد به (¬2): قِطْفير، وزير الرَّيان، وبامرأته زليخا, ولم يصرِّحْنَ باسمها على ما عليه عادة الناس عند ذكر السلطان، والوزير، ونحوهما، وذكر من يَتْبَعهم من خواص حُرَمهم. وقال بعضهم: صرَّحْنَ بإضافتها إلى العزيز، مبالغةً للتشنيع؛ لأنَّ النُّفوسَ أقبل إلى سماع أخبار ذوي الأخْطار وما يجري لهم. وهذا كلام يقال (¬3) للإنكار والتعجب منْ حصوله لوجوه عدَّة: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

1 - أنها امرأة العزيز الأكبر في الدولة، ولها المنزلة السَّامِيةُ بين نساء العظماء. 2 - أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها. 3 - أنها قد بَلَغَ بها الأمر أنْ جادَتْ بعفتها، فكانت هي المراوِدة، والطالبةُ لا المراوَدةَ المطلوبة. 4 - أنها وقد شاع ذكرا في المدينة، لم ينثن عزمها عمَّا تريد بل لا تزال مجدَّةً في نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها كما يفيد ذلك قولن: {تُرَاوِدُ} وهو فعل يدل على الاستمرار في الطلب. ثم أكدن هذا الإنكارَ بقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}؛ أي: قد شَقَّ (¬1) فتاها شِغَاف قلبها من جهة الحب، والشغاف: جلدة محيطة بالقلب، يقال لها غلاف القلب. والمعنى (¬2): أنَّ حبه دَخَلَ الجلدةَ حتى أصاب القلبَ، وقيل: إن حُبَّه قد أحاط بقلبها، كإحاطة الشغاف بالقلب. وقال الكلبي: حَجَبَ حبه قَلْبَها حتى لا تَعْقِلَ شيئًا سواه. والمعنى: أي قد شَقَّ حبه شغاف قلبها؛ أي: غِلافَهُ المحيط به، وغاصَ في سويدَائِه فَمَلَكَ عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها, ولا بما يصيرُ إليه حالها. وقرأ (¬3) ثابت البناني: {شغِفها} بكسر الغين المعجمة، والجمهور بفتحها. وقرأ الحسن: {قد شغُفها} بضم الغين المعجمة كما ذكره الشوكاني. وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمَّد بن علي، وابنه جعفر بن محمَّد، والشعبي، وعوف الأعرابي بفتح العين المهملة، وكذلك قتادةُ، وابن هرمز، ومجاهد، وحميد، والزهرى بخلاف عنهم. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[31]

ورُوِيَ عن ثابت البناني، وابن رجاء كسر العين المهملة. قال ابن زيد: الشَّغَفُ في الحُبِّ، والشَّعَفُ في البُغْضِ. وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين المعجمة في الحبِّ، والشعف الجنُونُ، والمشعوف المجنون. وأدْغَمَ النحويان أبو عمرو، والكسائي، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دَالَ (قَدْ) في شين (شَغَفَها). ثم زدنَ ذلكَ تأكيدًا بقولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: في خطأ بينٍ ظاهرٍ، حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفافِ، والستر وأحبَّت فتاها؛ أي: إنا لنعلم أنها غَائِصَة في مَهَاوِي الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد. ولم يكن قولهن هذا إنكارًا للمنكر، ولا كرهًا للرذيلة، ولا نصرًا للفضيلة، بل قلنه مَكْرًا وحيلةً ليصل الحديث إليها، فيَحْمِلها ذلك على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن، ما يكون فيه معذرة لها، فيما فعلتْ، وذلك منهن مَكْر ولا رأيٌ، وقد وصلنَ إلى ما أردْنَ. وهذه الجملة (¬1) مُقرِّرَة لمضمونِ ما قبلها. والمعنى: {إِنَّا لَنَرَاهَا} أي: نَعْلَمُها في فعلها هذا، وهي المراودة لفتاها {فِي ضَلَالٍ} عن طريق الرشد والصواب، {مُبِين}؛ أي: واضح لا يلتبس على مَنْ نظَر فيه، وإنما لم يقلْنَ (¬2): إنها لفي ضلال مبينٍ إشعارًا بأنَّ ذلكَ الحكمَ غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم، ورأي، مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، ولذا ابْتَلاهن الله تعالى بما رَمَيْنَ به الغيرَ؛ لأنه ما عَيَّر واحد أخاه بذنب إلَّا ارتكبه قبْلَ أن يَمُوتَ. 31 - {فَلَمَّا سَمِعَتْ} امرأة العزيز {بِمَكْرِهِنَّ}؛ أي: باغتيابهن إياها، وسوءِ قولهن، وقولهن: امرأة العزيز عَشقَتْ عبدها الكِنعانِيَّ، وهو مَقَتَها. وسميت الغيبة مكرًا لاشتراكهما في الإخْفاءِ. {أَرْسَلَتْ} امرأة العزيز {إِلَيْهِنَّ}؛ أي: إلى نسوة المدينة تدعوهن للضيافة إكرامًا لهن، ومكرًا بهن، ولتُعْذَر في يوسف، لعلمِها أنهن إذا رأينَهُ دهشن وافتتنَّ به. قيل: دَعَتْ أربعين امرأةً، منهن الخَمْس المذكوراتُ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

{وَأَعْتَدَتْ}؛ أي: أحْضرَتْ وهيَّأتْ {لَهُنَّ مُتَّكَأً}؛ أي: ما يتكئنَ عليه من النمارق والوسائد وغيرها عند الطعام، والشراب، كعادة المترفهين، ولذلك نهي عن الأكل بالشمال أو متكأ. وهذا إنْ (¬1) قُرِىءَ: مُتَّكَأً بالتشديد، فإن قرئ بالتخفيف مُتْكَأً، كان معناه: الأترج أو الزماورد بالضم، وهو طعام من البيض واللحم، معرب كما سيأتي في مبحث القراءة؛ لأنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام، والشراب، والحديث. {وَآتَتْ}؛ أي: أعطَتْ {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ}؛ أي: من تلك النسوة الحاضرات {سِكِّينًا} لأجل أكل الفاكهة واللحم؛ لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم، وكانت تِلْكَ السَّكَاكِين تسمَّى خناجرَ. {وَقَالَتِ}؛ أي: زليخا ليوسف وهنَّ مشغولات بإعمال الخناجر في الطعام {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}؛ أي: أبرز لهن، ومرَّ عليهن، فإنَّ يوسُفَ عليه السلام ما قَدر على مخالفتها خوفًا منها. وحاصل المعنى: أي فلمَّا (¬2) سمعت مقالتَهن التي يردنَ بها إغضابَها حتى تريَهُنَّ يُوسُفَ إبداء لمعذرتها فيسألن ما يَبْغِينَ من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تَسْمَعَ ذلك لما اعتيدَ بَيْنَ الخَدم من التواصل والتزاور وهن ما قلنَه إلا لتَسمَعه، فإنْ لم يَتمَّ لهن ما أردن احتلن في إيصاله، وقد كان ما أرَدْنَ كما قال: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا}؛ أي: مَكَرت بهن كما مكرن بها، ودعتْهُنَّ إلى الطعام في دارها، وهيأت لهن ما يتكئنَ عليه من كراسي، وأرائكَ كما هو المعروفُ في بيوت العظماء. وكان ذلك في حجرة المائدة، وأعطت كلَّ واحدة منهن سكينًا، وخَنْجرًا، لِتَقْطَعَ بها ما تأكل من لحم وفاكهة. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}؛ أي: وأمرته بالخروج عليهن. وفي هذا إيماء إلى أنه كان في حجرة في داخل حجرة المائدة التي كنَّ فيها محجوبًا عنهن، وقد تَعَمَّدَتْ إتْمامًا للحيلَةِ والمكر بهن أن يفجأهُنَّ، وهن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

مشغولات بما يقطعنه، ويأكلنه عِلْمًا منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدَّهْشَةِ. وقد تم لها ما أرادَتْ كما يُشير إلى ذلك قوله: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} هذا مرتَّب على محذوف تقديره: فَخَرج عليهن فلما رأينه أكبرنه؛ أي: فلمَّا رأتِ النسوة يوسفَ أكبَرْنَه؛ أي: أعظمنَ (¬1) يُوسُفَ ودهشن عند رؤيته من شدَّةِ جماله، وكان يوسُف قد أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن. وقال عكرمة: كان فَضْلُ يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ليلة أُسْرِيَ بي إلى السماء، يوسفَ كالقمر ليلةَ البدر" ذكر البغوي بغير سند. وقيل (¬2): معنى: أكبرن؛ أي: حِضْنَ، والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام؛ أي: حِضْنَ له من شدة الشَّبَقِ، وأيضًا إنَّ المرأة إذا فَزِعَت فربما أسقطَتْ ولدَها، فحاضَتْ ويقال: أكبرت المرأة؛ أي: دخلَت في الكبر، وذلك إذا حاضَتْ لأنها بالحيض تَخرُج من حَدِّ الصغر إلى الكبر. وقال الإِمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهًا آخرَ، وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأيْنَ عليه نُورَ النبوة، وسِيمَا الرسالة، وآثارَ الخضوع والإخبات، وشاهدن فيه مهابةً وهيبةً ملكيةً، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان ذلك الجمالُ العظيم مقرونًا بتلك الهيبة والهيئة، فتعجبن من تلك الحالة، فلا جَرَمَ أكبرنَه، وأعظمنه، ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن. قال: وحمل الآية عى هذا الوجه أولى، انتهى. {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}؛ أي: جرحن أيديهن حتى سال الدَّمُ، ولم يَجِدْن الألمَ لفرط دهشتهن، وشغل قلوبِهِنَّ بيوسف؛ أي؛ فلمَّا رأينه أعظمنه فقطَّعْنَ أيديَهُنَّ بدلًا من تقطيع ما يأكلن ذهولًا عمَّا يعملن؛ أي: فجرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن، وخُرُوج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

يشعرن بما عَمِلْنَ، ولا ألِمْنَ لما نالهن من أذى، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير في كلامهم، فيقولون: كنت أقْطَعُ اللحمَ فقطعْتُ يدي، يريدون فأخطأتها، فَجَرحْتُ يدي حتى كدتُ أقطعها. ولم تقطع (¬1) زليخَا يديها؛ لأنّ حَالَها انتهت إلى التمكين في المحبة، كأهل النِّهايات، وحال النسوة كانت في مقام التَّلْوين كأهل البِدايات، فلكل مقام تَلَوُّنٌ وتمكنٌ وبداية ونهاية. {وَقُلْنَ}؛ أي: النِّسْوَةُ {حَاشَ لِلَّهِ}؛ أي: تنزيهًا، وبراءة لله سبحانه وتعالى من كل النقائص. وحَاشَ كلمة وُضِعَتْ موضِعَ المصدر، فمعناه التنزيه، والبراءةُ بدليل قراءة أبي السماك: حاشًا لله بالتنوين واللام لبيان المبرأ، والمنزه كما في {سقيًا لك}. {مَا هَذَا} الغلام {بَشَرًا}؛ أي: ليس هذا آدميًّا مثلنا؛ لأن من الجمالَ غيرُ معهود للبشر {إِنْ} نافية بمعنى ما؛ أي: ما {هَذَا} الغلام {إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} على الله فإن (¬2) الجمعَ بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمةِ البالغةِ من خواصِّ الملائكة، أو لأنَّ جَمَالَهُ فوقَ جَمَال البشر، ولا يَفُوقه فيه إلا المَلَكُ، وقَصَرْنَهُ (¬3) على الملكِيَّة مع علمهن أنه بشر؛ لأنَّه ثَبَتَ في النفوس أنه لا أكمل ولا أحسن خلقًا من المَلَك، يعني رَكَزَ في العقول أن لا حيَّ أحسنَ من الملك، كما ركزَ فيها أن لا أقبح مِنَ الشيطان. ولذلك لا يزال يشبَّه بهما كل متناه في الحسن والقبح، وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال. وروي أنه كان يُوسُفُ إذا مشى في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه، كما يُرى نور الشمس من السماء عليها، وكان يُشْبِهُ آدمَ يوم خلقه ربه؛ وكانت أمه رَاحِيلُ وجدَّتُه سَارَة جميلتين جدًّا. أي: وقلن على سبيل (¬4) التعجب والتنزيه لله تعالى، ما صَحَّ أن يكونَ هذا الشخص الذي لم يُعْهَد مثاله في جماله، وعفَّتِه من النوع الإنساني إن هو إلَّا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

ملك تمثَّلَ في تلك الصورة البديعة، التي تخبل العقولَ، وتدهِشُ الأبصارَ. رُوِيَ عن زيد بن أسلم من مفسِّري السلف: أعطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا "ثمر من نوع الليمون الحامض كبيرٌ مستطيلٌ يؤكَلَ بعد إزالة قشرته" وعسلًا فكن يحززنَ بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلَمَّا قيل له: اخرج عَلَيْهِنَّ خَرَجَ، فلما رأينَه أعظمنه، وتَهَيَّمْنَ به حتى جعلن يحززن أيْدِيَهُن بالسكين، وفيها الترنجُ، ولا يعقلنَ ولا يحسبنَ، إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبَتْ عقولهن مما رأينَ، وقلْنَ حاش لله ما هذا بشرًا؛ أي: ما هكذا يكون البشرُ ما هذا إلا ملك كريم. وقرأ (¬1) الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: {متَّكى} مشددَ التَّاءِ من غير همز على وزن متقى، فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيفُ الهمز كما قالوا في توضأت: توضيتُ. والثاني: أن يَكُونَ مفتعلًا من أوكيت السقاءَ إذا شددتَه؛ أي: ما يشتددنَ عليه إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: {مُتْكًا} بوزن مفعلًا من تكأَ يَتْكَأَ إذا اتَّكَأَ. وقرأ الحسن، وابن هرمز: {متكاءً} بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّدَتْ منها الألفُ كما قال الشاعر: أُعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلاَتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ وقرأ ابن عباسَ، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وأبان بن تغلب {مُتْكئًا} بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف. وجاء كذلك عن ابن هرمز. وقرأ عبد الله، ومعاذ، كذلك إلا أنهما فَتَحَا الميم. وقرأ الجمهور: {حَاشَ لِلَّهِ} بغير ألف بعد الشين، والله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو: {حاشا لله} بألف ولام جر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: {حَشَى} على وزن رمى، {لله} بلام الجر. وقرأ الحسن: {حاش} بسكون الشين وصلًا، ووقفًا، وبلام الجر. وقرأ أبي وعبد الله: {حاش الله} بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عمرو، قاله صاحب "اللوامح". وقرأ الحسن: {حاش الإله} قال ابن عطية: محذوفًا من حاشى. وقرأ أبو السمال: {حاشا للَّه} بالتنوين كرعيًا لِلّهِ. فأما القراءات {للَّه} بلام الجر في غير قراءة أبي السمال، فلا يجوز أن يكون ما قبلها مِن حَاشَى، أو حاشَ، أو حَشَى، أو حَاشَ حرف جر؛ لأنَّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرُّف فيها بالحذف. وأصل التصريف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرِّد وغيره، كابن عطية، أنه يتعيَّن فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يُوسُفَ؛ أي: حاشى يوسف أن يفارِقَ ما رَمَتْهُ به زليخا، وعلى هذا تكون اللامُ في {لله} للتعليل؛ أي: جانَبَ يوسف المعصيةَ لأجل طاعةِ الله. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها على المصدرية انتصابَ المصدر الواقع بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه قَالَ تنزيهًا لله، ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال: {حاشا} منونًا. وعلى هذا القول يتعلَّق لله بمحذوف على البيان كَلام لَكَ بعد سقيًا، ولم ينوَّن في القراءات المشهورة مراعاةً لأصله الذي نقِل منه، وهو الحرف. وأما قراءةُ الحسن، وأبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى فاعله، كما قالوا: سبحانَ الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود، فقال أبو علي: إنَّ حاشى حرفُ استثناء، كما قال الشاعر: حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ انتهى. وأما قراءة حاش بالتسكين ففيها جَمْعٌ بين ساكنين، وقد ضعَّفوا ذلك. وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: {ما هذا بشراء} على أنَّ الباء حرف جر، والشين مكسورة، فالشراء حينئذ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ما هذا بعبد يُشْتَرى. وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: {إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وتابَعهُما عبد الوارث عن أبي عَمْرو على ذلك، وزَادَ عليهما: {إلا ملك} بكسر اللام، واحد الملوك فهم نفَوا بذلك عنه ذل المماليك، وجعلوه في حيِّزِ الملوك، والله أعلم، انتهى. ونسب ابن عطية كسْرَهَا للحسن، وابن الحويرث اللذَين قرآ: {بشرى}.

[32]

32 - {قَالَتْ} امرأة العزيز للنسوة لما رأين يوسفَ ودهشْنَ عند رؤيته {فَذَلِكُنَّ}، والخطاب في (كن) للنسوة، والإشارة في ذا ليوسف، ولم تَقُلْ فهذا مع أنه حاضر رفعًا لمنزلته في الحسن، واسم الإشارة مبتدأ، والموصول خبرَه، وهو {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}؛ أي: فذلكن الخارج الذي ظَهَرَ لكم هو الغلام الذي لمتنَّنِي؛ وعيبتُنَّنِي في شأنه ومحبته. وإنما قالت ذلك لإقامة عُذْرِهَا عندهن، حِينَ قلْنَ إنَّ امرأة العزيز قد شَغَفَها فَتَاها الكنعانيُّ حبًّا، وإنما قالت فذلكن الخ، بعدما قام من المجلس، وذهَبَ {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ}؛ أي: والله لقد راودتْه، وطلَبْت منه أَن يمكنني {عَنْ نَفْسِهِ} حسبما قلتن وسمعتن {فَاسْتَعْصَمَ}؛ أي: فامتنعَ من ذلك الفعل الذي طلبته منه، وإنَّما صرحت بذلك لأنَّها علمت أنه لا مَلامَةَ عليها منهن، وإنهن قد أصابَهُنَ ما أصابها عند رؤيته؛ أي: طلَب العصمةَ من الله مبالِغًا في الامتناع؛ لأنه يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنَّه في عصمة، وهو مجتهد في الاستزادة منها. وفيه برهان نيِّرٌ على أنه لم يصدر عنه شيء مخل باستعصامه، بقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} من الهم وغيره. {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ}؛ أي: والله لئن لم يَفْعَلْ يُوسُفُ {مَا آمُرُهُ} به مستقبلًا من قضاء شهوتي كما لم يفعله ماضيًا والله {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون الثقيلة آثَرَتْ بِناء الفعل للمفعول (¬1) جَرْيًا على رَسْمِ الملوك؛ أَي: واللهِ ليعاقبنَّ على إباءه بالسجن والحبس {وَلَيَكُونًا} بالنون الخَفِيفَة، وإنما كتبت الألف إتباعًا لخط المصحف مثل {لَنَسْفَعًا} على حكم الوقف يعني أنَّ النون الخفيفة يبدل منها في الوقف الألف لشبهها بالتنوين، كقول الأعشى: وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا {مِنَ الصَّاغِرِينَ}؛ أي: من الأذلاء المقهورين في السجن، وهو من (¬2) صغر بالكسر، والصغيرُ من صَغُرَ بالضم؛ أي: والله لَيَكُونَنْ يُوسُفُ من الصاغرين المهانين في السجن، فإن زوجي لا يخالف لي رغبةً ولا يَعْصِيني في أمر وسيعاقبه بما أريد؛ ويُلْقِيهِ في غَيَابَاتِ السجون، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه؛ وجعلِه كولده. وقرأت فرقة: {وليكوننَّ} بالنون المشددة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[33]

وفي ذلك (¬1) إيماء إلى أنها ستشدِّد العقوبةَ عليه أكثرَ مما توعَّدت به أولًا، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخفِّ صورة، وأقلِّها وعذاب بأهون أنواعه، وألطفها كحَبْسٍ في حجرة الدار، أو لَطْمة على خَدَّيْهِ تُزِيلُ منها الاحمرار. وهنا أَنْذرَتْهُ بسجن مؤكَّد، وذل وصغار تأباه الأنفسُ الكريمةُ كنفس يوسف عليه السلام، فأشق الأعمال أهْوَنُ على كِرامِ الناس من الهوانِ والصَّغَارِ. وفي هذا التهديد ليُوسُفَ من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما كان مِنْ حقه أن يجعلَ يُوسُفَ يَخَافُ من تنفيذ إرادتها، ويثبتَ لديه عَدَم غيرته عليها، كما هو الحالُ لدى كثير من العظماء المُتْرفينَ العاجزين عن إحصان أزواجهم، والمحرومين من نِعْمَةِ الأولاد منهن، ورُبَّما تكون مُبَالَغَتُها في تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما في قَلْبها منه من غل، وجَوى بظهور كذبها، وصدقه، وتصميمِه على عِصْيَان أمرها, ولتُظْهِرَ لِيُوسُفَ أنها ليسَت في أمرها على خِيفةٍ من أحد، فتضيِّقَ عليه، ولينصَحْنَه في موافقتها، ويرشِدنَه إلى الخلاص من عذابها. 33 - فلمَّا سمع يوسف مقالَتَها هذه، وعَرَف أنها عُزْمَةٌ منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز، قال مناجيًا لربه سبحانه وتعالى: {رَبِّ السِّجْنُ}؛ أي: قال: يا ربي أنت العلم بالسر، والنجوى، والقدير، على كشف تلك البلوى؛ إنَّ دُخُولَ السجن الذي هدَّدَتْ به، والمكث في بيئة المجرمين على شَظْفِ العيش، ورقة الحال {أَحَبُّ إِلَيّ}؛ أي: أحبُّ عندي {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}؛ أي: مما تدعو إليه أولئك النسوة في مُؤَأتَاتِها التي تؤدِّي إلى الشقاءِ، والعذاب الأليم؛ أي: من الاستمتاع بها في ترف القصور والاشتغال بحبها عن حبِّك، وبقُرْبها عن قربك. وفي قوله: {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} إيماءٌ إلى أنهن خوفنه مُخَالفَتَها، وزيَّنَ له مطاوعتَها، فقلنَ لهُ: أطع مولاتَك، وأنِلها ما تهوَى لتكفى شرَّها، وتأمَنَ عقوبتَها. إن قلتَ هو مجاب الدعوة فلِمَ طَلَب النجاة بالسِّجْنِ ولم ¬

_ (¬1) المراغي.

يطلُبِ النجاةَ العامَّة؟ أجيب: بأنه اطَّلَعَ على أنَّ السِّجْنَ محتمٌ عليه، فدعا به، لأن النبيَّ لا ينطِقُ عن الهوى ذكره "الصاوي". وقرأ عثمان (¬1)، ومولاه طارقٌ، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: {السَّجْنِ} بفتح السين، وهو مصدر سجن؛ أي: حبسُهم إيَّايَ في السجن أحب إليّ، وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه من التفضيل؛ لأنه لم يحب (¬2) ما يَدْعُونَهُ إليه قط، وإنما هذان شران فآثر أحدَ الشرين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقَّةٌ، وفي الآخر لَذَّة لكن لما يترتَّبُ على تلك اللذة من معصية الله، وسوء العاقبة لَمْ يُخْطُرْ له ببال. وإسناد (¬3) الدعوة إليهن جميعًا؛ لأنهن خَوَّفْنَه من مخالَفَتِها، وزيَّنَّ له مُطاوَعَتها أو دَعَوْنَهُ إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتلي بالسجن لقوله: {هذا} وإنما كان الأولى له أن يسأل الله العافِيَة من شرها, ولذلك رَدَّ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ كان يسأل الصبرَ. {وَإِلَّا تَصْرِفْ}؛ أي: وإنْ لم تصرف وتدفع {عَنِّي} يا إلهي {كَيْدَهُنَّ} ومكرهن؛ أي: وإن لم تبعد عني شِراكَ كيدهن، وتثبتني على ما أنا عليه من العصمة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} مجزوم على أنه جواب الشرط؛ أي: أمِلْ إلى موافقتهن على أهوائهن، وأقَعُ في شباكِ صيدهن، وأرتَعُ في حمأة غوايتهن، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه، وسلكَ سبيل المرسلينَ من قبله في فزعهم إلى مولاهم، لينيلهم الخيرات، ويُبعُدَ عنهم الشرور، والموبقات، وإظهارَهم أن لا طاقةَ لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغةً في استدعاء لطفه، وعظيم كرمه ومنِّه. {وَأَكُنْ}؛ أي: وأصر {مِنَ الْجَاهِلِينَ}؛ أي: من الذين لا يعملون بعِلْمهم؛ لأنَّ من لا جدوى لعلمه فهو ومَنْ لا يعلم سواء؛ أي: من السفهاءِ الذين تستخِفُّهم الأهواء والشهوات، فيَجْنَحُون إلى ارتكاب الموبقات، واجتراح السيئات، فمَنْ يعِشْ بين هؤلاءِ النسوة الماكرات المترفات، لا مهربَ له من الجهل إلّا أن تَعْصِمَهُ بما هو فوقَ الأسباب، والسنن العادية. وقرىء (¬4): {أصب إليهن} من صبب صبابةً فأنا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي. (¬4) البحر المحيط.

[34]

صَبَبٌ، والصَّبَابَةُ: إفراطَ الشوق، كأنه ينْصَب فيما يَهْوَى. وقرأه الجمهور: {أَصْبُ} من صبا إلى اللهو ويصبو صبًا، صبوًا، ويقال: صَبَا يَصْبا صِبًّا والصِّبا بالكسر اللهو واللعبُ. وفي هذه الجملة الشرطية إيماء إلى أنه ما صَبَا إليهن، ولا أحبَّ أن يَعِيشَ معهن، بل سأَلَ ربه أن يُدِيمَ له ما عوَّده من كشف السوء عنه في قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}. 34 - {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ}؛ أي: فأجاب له ربُّه دعاءه، الذي تضمنه قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} الخ، فإنَّ فيه التجاءً إلى الله تعالى، جَرْيًا على سننِ الأنبياء والصالحينَ في قَصر نيل الخيرات، وطلبِ النجاة من الشرور، على جناب الله تعالى، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكتُ، فكأنه قال: اللهم اصرف عني كَيْدَهن. {فَصَرَفَ} الله سبحانه وتعالى {عَنْهُ}؛ أي: عن يوسف {كَيْدَهُنَّ}؛ أي: كيدَ تلك النسوةَ، ومكْرَهُن، وعَصَمُه من الجهل والسفه، باتباع أهوائهن حَسْبَ دعائِه، وثبَّتَهُ على العصمة والعفة حتى وطَّنَ نَفْسَه على مشقة السجن {إِنَّهُ} تعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء مَنْ تَضرَّعَ إليه، وأخلص الدعاءَ له {الْعَلِيمُ} بصدق إيمانهم، وبما يُصْلِح أحوالهم. وفي هذا إرشاد إلى أنَّ ربه حَرَسه بعنايته في جميع أطواره، وشُؤُونه وربَّاه أكْمَلَ تربية، ما خَلاهُ ونَفْسَه في أهون أموره. وهذه الجملةُ تعليلٌ (¬1) لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه؛ أي: إنَّه هو السميع لدعوات الداعينَ له، العلم بأحوال الملتجئينَ إليه. 35 - {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ}؛ أي: ثم ظهر العزيز وامرأته ومَنْ يُهِمُّه أمْرهُمَا من أصحابه المتصدِّين للحل والعقد رأي، أي: ظَهَرَ لهم من الرأي ما لم يظهر لهم من قبلُ. وثُمَّ تدلُّ على تغيُّرِ رأيهم في حقه. {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ}؛ أي: منْ بعد أنْ رأوا الآيات، والشواهدَ الدالة على بَراءة يوسفَ وصدقه كشهادة الصبي، وقَدِّ القميص من دُبر، وقطع النساء أيديَهن، وذهاب عقولهن عند رؤيته؛ أي: ظَهَرَ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

لهم سجنُه بعد هذه الآيات، قائلين: والله {لَيَسْجُنُنَّهُ}؛ أي: لَيَسْجُنُنَّ يوسُفَ في السجن {حَتَّى حِينٍ}؛ أي: إلى حين انقطاع مقالة الناس في المدينة، وهذا باديَ الرأي عند العزيز، وخواصِّه، وأمَّا عندها فحتى يُذَلِّلَهُ السجنُ، ويُسَخِّره لها؛ ويَحْسب الناس أنه المجرمَ فلبث في السجن خَمْسَ سنين، أو سبع سنين، ولا دَلالَةَ في الآية على تعيين مدة حبسه؛ لأنَّ الحينَ عند أهل اللغة وقْتٌ من الزمان غير محدود، ويقع على القصير منه والطويل؛ أى (¬1): إن زليخَا لما أيِسَتْ من يُوسُفَ بجميع حِيَلها كي تحملَه على موافقة مرادها، قالت لزوجها: إنَّ هذا العَبْدَ العِبْرانِيَّ فَضَحني في الناس، يقول لهم: إنى راودتُه عن نفسه، فإمَّا أنْ تأذَن لي فأخرج وأعتذرَ إليهم، وإما أن تَسْجُنه فسَجَنَه؛ لأنه كان مِطْواعًا لها. وقرأ الحسن: {لتسجننه} بالتاء على خطاب بعضهم، العزيزَ، ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ (¬2) ابن مسعود: {عَتى} بإبدالِ حاءِ حتى عينًا، وهي لغة هذيل، وأقرأ بذلك فكَتَبَ إليه عُمَرُ يَأْمُرُه أن يُقرِىءَ بلغة قريش {حَتَّى} لا بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. والمعنى (¬3): أي ثُمَّ ظهر للعزيز وامرأتِه، ومَنْ يهمه أمْرَهُمَا كالشاهد الذي شهِدَ عليها من أهلها من الرأي ما لم يكن ظاهرًا لهم من قبلُ. بعد أنْ رأوا من الآيات ما اختبَرُوه بأنفسهم، وشهدوه بأعينهم، ممَّا يدلُّ على أنَّ يوسف لم يكن إنسانًا كالذين عرفوا في أخلاقه، وعفَّتِه، واحتقاره للشهوات، واللذات التي يَتَمتع بها سكانُ القصور. وفي إيمانه بأنَّ ربه لن يَتْرُكَهُ بل يكلؤه بعين عنايته، ويَحْرُسَه بوافر رعايته، وقد اسْتبَانَ لهم ذلك من وجوه: 1 - إنَّ افتتانَ سيدته في مراودته وجَذْبها خَلَسات نَظَرِه لم تؤثِّر في ميل قلبه إيها، بل ظلَّ معرِضًا عنها، مُتَجَاهِلًا لها حتى إذا ما صَارَحَتْهُ بما تريد، استعاذَ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

بربه، ورَبِّ آبائه، وعَيَّرَها بالخيانة لزوجها. 2 - أنها لَمَّا غَضِبَت وهمَّتْ بالبطش به، هَمَّ بمقاومتها، والبطشِ بها, ولم يمنعه إلّا ما رأى في دَخِيلةِ نفسه من برهان ربه، الذي يَدُلُّ على أنَّ ربَّه صارف السوء والفحشاء. 3 - أنها حين اتهمته بالتعدِّي عليها شَهِدَ شاهدٌ من أهلها، أنَّها كاذبةٌ في اتهامها إياه، وهو صادقٌ فيما ادَّعاه من مراودتها إياه عن نفسه، بدلالة القميص على ذلك. كلُّ هذا أثبتَ لهم أنَّ بَقَاءَه في هذه الدار بَيْنَ رَبَّتِهَا وصَدِيقَاتِهَا مَثارُ فتنة تدرك غَايتها، وأنَّ الحِكْمَة هو تنفيذُ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره، وكَفِّ ألسنة الناس عنها في أمره، وأقسموا ليسجننه حتى حين، دُونَ تقييد بزمن معين، ليَرَوا ماذا يكون فيه من تأثير السجن، وحديث الناس عنه. وفي تنفيذ هذا العزم، دَلالةٌ على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها، تَقُودُه كيف شاءَتْ، حتى فَقَدَ الغَيْرةَ عليها، فهو يَجري وراءَ هواها، ويستجلب رِضَاها، حتى أنساه ذلك، ما رَأَى من الآيات وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الهَوَان، والصَّغار به، حتى أيست من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذلِّلَهُ السجنُ لأمرها، ويَقِفَ به عند مشيئتِها، والله أعلم. الإعراب {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}. {وَقَالَ الَّذِي} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {اشْتَرَاهُ} فعل ومفعول. {مِنْ مِصْر} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول. {لِامْرَأَتِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} إلى قوله: {وَكَذَلِكَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئتَ قلت: {أَكْرِمِي} فعل وفاعل. {مَثْوَاهُ} مفعول به، ومضاف إليه؛ والجملة في محل النصب مقول

{قَالَ}. {عَسَى} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على يوسف. {أَنْ يَنْفَعَنَا} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يوسف، وجملة {يَنْفَعَنَا} في تأويل مصدر منصوب على كونه خَبَر {عَسَى} ولكنه في تأويل اسم الفاعل تقديرُهُ: عسى نَفْعُه إيانا؛ أي: نَافِعًا لنا، وجملة {عَسَى} مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولَ القول. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} فعل ومفعولان معطوف على {يَنْفَعَنَا} وفاعله ضمير يعود على المشترَى، والتقديرُ: عسى نَفْعُهُ إيانا، أو اتخاذُنا إياه ولدًا؛ أي: عسى هو نافعًا لنا، أو مُتخَذًا لنا ولدًا. {وَكَذَلِكَ} {الواو} استئنافية. {كذلك} جار ومجرور صفةٌ لمصدر محذوف، تقديره: تمكينًا مثل ذلك التمكين السابق من اجتبائه، وإنجائه من القَتْل والجُبِّ. {مَكَّنَّا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِيُوسُفَ} متعلق بـ {مَكَّنَّا}. وكذلك قوله: {فِي الْأَرْضِ} متعلق به. {وَلِنُعَلِّمَهُ} {الواو} عاطفة على محذوف متعلق بـ {مَكَّنَّا} تقديره: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، لينشأ منه ما جَرَى بينه وبين امرأة العزيز، وليتصرَّفَ فيها بالعَدْل. {لنعلمه} {اللام} حرف جر وتعليل. {نعلمه} فعل، ومفعول أول منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: وكذلك مكنَّا له في الأرض لتصرُّفه فيها بالعدل، ولتعليمنا إياه تأويلَ الأحاديث. {وَاللَّهُ غَالِبٌ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {عَلَى أَمْرِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {غَالِبٌ}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ناصب واسمه. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر {لكنَّ}، والجملة الاستدراكية معطوفةٌ على الجملة التي قبلها. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}. {وَلَمَّا} {الواو} استئنافية. {لَمَّا} حرف شرط غير جازم. {بَلَغَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {أَشُدَّهُ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {بَلَغَ}، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} فعل وفاعل ومفعولان. {وَعِلْمًا} معطوف على {حُكْمًا} والجملة الفعلية جواب {لمَّا}، وجملةُ {لما}

مستأنفة. {وَكَذَلِكَ} {الواو} عاطفة. {كذلك} جار ومجرور صفةٌ لمصدر محذوف. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: ونجزي المحسنين جزاء مثل جزائنا ليوسف، والجملة معطوفة على جملة {لما}. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}. {وَرَاوَدَتْهُ} {الواو} استئنافية. {راودته} فعل ومفعول. {الَّتِي} فاعل، والجملة مستأنفة. {هُوَ} مبتدأ. {فِي بَيْتِهَا} جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {عَنْ نَفْسِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {راودت}. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة {راودت}. {وَقَالَتْ} فعل ماض والفاعل ضمير يعود على زليخا {هَيْتَ لَكَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {هَيْتَ} بفتح الهاء، والتاء اسم فعل أمر بمعنى أقبِلْ وتعَالَ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًّا، وفاعله ضمير يعود على يوسف، وجملة اسم الفعل في محل النصب مقولُ {قَالَ}. {لَكَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الخطاب كائن لك، أو معكَ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. وفي "السمين": {لَكَ} متعلق بمحذوف على سبيل البيان، كأنها قالت: أقول لك أو الخِطابُ لك كهي، في سَقْيًا لك، ورَعْيًا لك، اهـ. فائدة في لغات {هيت}: وفي "الفتوحات": {هَيتَ} بفتح الهاء، والتاء ككيف ولَيْت و {هِيْتَ} بكسر الهاء وفتح التاء كقِيلَ وغِيضَ، و {هَيْتُ} بفتح الهاء وضم التاء، كحيثُ و {هئْتُ} بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وفتح التاء أو ضمها. وهذه خمسُ قراءات، وكلها سبعية، وكلُّها لغات في هذه الكلمة، وهي في كلها اسم فعل أمر بمعنى هَلُمَّ؛ أي: أقبل وتعال، اهـ شيخنا. فمن فَتَحَ التاء بناها على الفتح للتخفيف نحو: أيْنَ وكيف، ومن ضمَّها كابن كثير، فقد شَبَّهَها بحيثُ. ومَنْ كَسَرَها فعلى أصل التقاء الساكنين، اهـ "سمين". وذكر فيها قراءات أربعٌ أُخَرُ شاذة كما مرَّتْ في مبحث القراءة.

{قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على يوسفَ، والجملة مستأنفة. {مَعَاذَ اللَّهِ} منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا تقديره: أعوذ بالله معاذًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُ رَبِّي} ناصب واسمه وخبره، والضمير يعود على الباري جَلَّ وعلا , والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونِها تعليلًا لما قبلَها. {أَحْسَنَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {رَبِّي}. {مَثْوَايَ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال لازمة من ربي. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، والضمير للشأن. وجملة: {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة إنَّ في محل النصب قول {قَالَ}. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {هَمَّتْ} فعل ماض، وفاعلُه يعود على زليخا. {بِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القَسمِ مستأنفة. {وَهَمَّ} فعل ماض. {بِهَا} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة {هَمَّتْ}. {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود. {أن} حرف نصب ومصدر. {رَأَى} فعل ماض وفاعله ضمير على يوسف، {رَأَى} بصرية. {بُرْهَانَ رَبِّهِ} مفعول به، ومضاف إليه، وجملة {رَأَى} في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه، والخَبرُ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودة، وجوابُ {لولا} محذوف تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه موجودةٌ لقَدْ همَّ بها، وجملةُ {لولا} مستأنفةٌ، والمعنى: انتفَى وامتنع جماعه لها لوجود رؤية برهان ربه. {كَذَلِكَ} جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: أريناه برهانَ ربه، {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}. {لِنَصْرِفَ} {اللام} حرفُ جر وتعليل. {نصرف} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْهُ} متعلق به. {السُّوءَ} مفعول به. {وَالْفَحْشَاءَ} معطوف عليه، والجملة

في تأويل مصدر مجرور باللام، و {اللام} متعلقة بذلك المحذوف، والتقدير: أرَيناه كذلك لصرفنا عنه السوءَ والفحشاءَ. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {مِنْ عِبَادِنَا} جار ومجرور خبر {إن}. {الْمُخْلَصِينَ} صفة لـ {عِبَادِنَا}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} {استبقا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الباب} منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى الباب أو ضمن استبقَ معنى ابتدر. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة {استبقا}. {مِنْ دُبُرٍ} جار ومجرور متعلق بـ {قدت}. {وَأَلْفَيَا} فعل وفاعل، وهو من أخوات ظن. {سَيِّدَهَا} مفعول أول. {لَدَى الْبَابِ} ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل المفعول الثاني لألْفَى تقديره: وألفيَا سيدها كائنًا لدى الباب، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة {استبقا}. {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {قَالَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفة. {مَا جَزَاءُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَتْ} وإن شئت قلت: {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {جَزَاءُ} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ}. ويجوز أن تكون {مَا} نافية. {جَزَاءُ} مبتدأ {جَزَاءُ} مضاف. {مَنْ} اسم موصول في محل الجر، مضاف إليه. {أَرَادَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِأَهْلِكَ} متعلق به. {سُوءًا} مفعول به، والجملة صلةُ {من} الموصولة. {إِلَّا} أداة استثناء. {أَنْ يُسْجَنَ} ناصب وفعل مغير، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء إن قلنا: {ما} استفهامية، أو مرفوع على الخبر إن قلنا: {ما} نافية، تقدير ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءًا إلّا السِّجْن. {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} معطوف على المصدر المؤول من الفعل على كونه خَبَرَ المبتدأ فـ (أو) للتنويع. {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ

قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {هِيَ} مبتدأ {رَاوَدَتْنِي} فعل ومفعول، و {نون} وقاية. {عَنْ نَفْسِي} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، والجملة الفعلية في محل الرفع خَبرِ المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} فعل وفاعل معطوف على {قَالَ}. {مِنْ أَهْلِهَا} جار ومجرور صفة لـ {شَاهِدٌ}. {إن} حرف شرط. {كَانَ قَمِيصُهُ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونه فِعل شرط لها. {قُدَّ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على قميص. {مِنْ قُبُلٍ} متعلق بـ {قد}، وجملة {قد} في محل النصب خبر {كَانَ}. {فَصَدَقَتْ} الفاء رابطة الجواب جوازًا، وقيل: إنه على تقدير: قد؛ أي: فقد صدقت لِيَكُونَ من المواضع التي تَجِبَ فيها الفاء. {صدقت} فعل ماض في محل الجزم على كونه جوابَ الشرط، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول لقول محذوف حال من {شَاهِدٌ}، تقديره: وشهد شاهد من أهلها حَالةَ كونه قائِلًا: إن كانَ قميصه قد من قبل .. فصدقت. {وَهُوَ} مبتدأ. {مِنَ الْكَاذِبِينَ} جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة {صدقت}. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)}. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} جازم وفعل ناقص واسمه. وجملة {قُدَّ} في محل النصب خبر {كَانَ}. {مِنْ دُبُر} متعلق بـ {قُدَّ}. وجملة {فَكَذَبَتْ} جواب الشرط، والجملة الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة الشرط الأولى. {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} مبتدأ وخبر معطوف على جملة {كذبت}. {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)}. {فَلَمَّا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفْصَحَت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ ما شَهِدَ الشاهدُ وأردتَ بيانَ ما قال العزيز. فأقولُ لك.

{لَمَّا} حرف شرط غير جازم. {رَأَى قَمِيصَهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على العزيز. {قُدَّ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على قميصه، والجملة في محل النصب حال من قميصه؛ لأنَّ {رَأَى} بصرية، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب. {مِنْ دُبُر} متعلقا بـ {قُدَّ} {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على العزيز، وجملة {قَالَ} جواب لمَّا، وجملةُ {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} مقول محكي، وإن شئت قلت: إنه ناصب واسمه. {مِنْ كَيْدِكُنَّ} خبره، وجملة إنَّ في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ} ناصب واسمه ومضاف إليه. {عَظِيمٌ} خبره، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}. {يُوسُفُ} منادى مفرد العلم حُذِف منه حرف النداء للتخفيف، وجملةُ النداء في محل النصب مقولُ {قَالَ}. {أَعْرِضْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {عَنْ هَذَا} متعلق به، وجملة {أَعْرِضْ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جوابَ النداء. {وَاسْتَغْفِرِي} فعل وفاعل. {لِذَنْبِكِ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أَعْرِضْ}. {إِنَّكِ} ناصب واسمه. {كُنْتِ} فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْخَاطِئِينَ} خبره، وجملة (كان) في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها تعليلًا لما قبلَها. {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)}. {وَقَالَ نِسْوَةٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فِي الْمَدِينَةِ} جار ومجرور صفة لـ {نِسْوَةٌ}. {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} مبتدأ، ومضاف إليه. {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المرأة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَنْ نَفْسِهِ} متعلق بـ {تُرَاوِدُ}. {قَدْ} حرف

تحقيق. {شَغَفَهَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الفتى. {حُبًّا} تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال عن الفتى. {إِنَّا} ناصب واسمه. {لَنَرَاهَا} {اللام} حرف ابتداء. {نرى} فعل مضارع. (ها) مفعوله، وفاعله ضمير يعود على النسوة. {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} متعلق بـ {نرى} وهو في محل المفعول الثاني، وجملة {لَنَرَاهَا} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة (إن) مستأنفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}. {فَلَمَّا} {الفاء} عاطفة. {لما} حرف شرط غير جازم. {سَمِعَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. {بِمَكْرِهِنَّ} جار ومجرور متعلّق به , والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {أَرْسَلَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. {إِلَيْهِنَّ} متعلق بـ {أرسل}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملةُ لَمَّا معطوفة على جملة قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ}. {وَأَعْتَدَتْ} فعل ماض. {لَهُنَّ} متعلق به. {مُتَّكَأً} مفعول به، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلَتْ}. {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ} فعل، ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلَتْ}. {مِنْهُنَّ} صفة لـ {واحدة}. {سِكِّينًا} مفعول ثان. {وَقَالَتِ} فعل ماض معطوف على {أَرْسَلَتْ}، وفاعله ضمير يعود على المرأة. {اخْرُجْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {عَلَيْهِنَّ} تعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}. {فَلَمَّا} (الفاء) عاطفة. {لما} حرف شرط. {رَأَيْنَهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {أَكْبَرْنَهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ {لَمَّا} والجملة معطوفة على جملة {لمَّا} الأولى. {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنّ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَكْبَرْنَهُ}. {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.

{وَقُلْنَ} فعل وفاعل معطوف على {أَكْبَرْنَهُ}. {حَاشَ لِلَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {حَاشَ} فعل ماض بمعنى بعد وتنزَّه، ويتصرَّفُ منه المضارع أحاشِي، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق بـ {حَاشَ} و (اللام) فيه للتعليل، والمعنى: بَعُدَ يوسفُ عن المعصية لأجل طاعة الله تعالى، وخَوْفِه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْنَ}. {مَا} نافية تعمل عمل {ليس}. {هَذَا} اسمها. {بَشَرًا} خبَرُها، والجملة في محل النصب مقول {قلن}. {إِنْ} نافية. {هَذَا} مبتدأ. {إلا} أداة استثناء مفرغ. {مَلَكٌ} خبر المبتدأ. {كَرِيمٌ} صفة {مَلَكٌ}، والجملة الاسمية في حل النصب مقول {قُلْنَ}. {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}. {قَالَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفةٌ. {فَذَلِكُنَّ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَذَلِكُنَّ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أَفْصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا رأيتن ما رأيتن، وأردتُنَ بَيَانَ ما شغلني فأقولُ لَكُنَّ {ذَلِكُنَّ}. {ذلكن} مبتدأ. {الَّذِي} خبره. {لُمْتُنَّنِي} فعل وفاعل، وفعول ونون وقاية. {فِيهِ} متعلق به، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل النصب، مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذَا المقدرة في محل النصب مقولُ {قَالَتْ}. {وَلَقَدْ} {الواو} عاطفة. {اللام} موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {رَاوَدْتُهُ} فعل وفاعل ومفعول. {عَنْ نَفْسِهِ} هو متعلق به، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَذَلِكُنَّ}. {فَاسْتَعْصَمَ} {الفاء} عاطفة. {استعصم} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف , والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ} {وَلَئِنْ} {الواو} عاطفة. {اللام} موطئة للقسم. {إن} حرف شرط جازم. {لَمْ يَفْعَلْ} جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على يوسف والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن}

على كونِها فِعْلَ شرطِ لها. {مَا} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {آمُرُهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، وجواب الشرط محذوف دَلَّ عليه جواب القسم تقديره: ولئن لم يفعل ما آمره يسجن، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه. {لَيُسْجَنَنَّ} (اللام) موطئة للقسم مؤكدةً للأولى. {يسجنن} فعل مضارع مغير الصيغة في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونائب فاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة القسم الأول، على كونه مقولًا لـ {قالت}. {وَلَيَكُونًا} {الواو} عاطفة. {اللام} موطئة للقسم. {يكونا} فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألِفًا للتخفيف، واسمها ضمير يعود على يوسف. {مِنَ الصَّاغِرِينَ} جار ومجرور خبرها، والجملة جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله {لَيُسْجَنَنَّ}. {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {رَبِّ السِّجْنُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {السِّجْنُ أَحَبُّ} مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب مقول القولِ على كونها جَوابَ النداءِ. {إِلَيَّ} جار ومجرور متعلق بـ {أَحَبُّ}. {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {أَحَبُّ} أيضًا. {يَدْعُونَنِي} فعل وفاعل و (نون) وقاية ومفعول به؛ لأنه فعل مضارع مبني على سكون الواو، والنون الأولى للنسوة فاعل، والثانية: نون وقاية، وهو مثل النسوة يَعْفُون، فالواو ليست ضميرًا بل لام كلمة. {إِلَيْهِ} متعلق به، وهو العائد على {ما} الموصولة، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَإِلَّا} {الواو} عاطفة. {إلا} {إِنْ} حرف شرط جازم مبني

بسكون على النون المدغمة في لام {لا} لا نافية. {تَصْرِفْ} فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {عَنِّي} متعلق بـ {تصرف}. {كَيْدَهُنَّ} مفعول به. {أَصْبُ} فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وعلامةُ جزمه حذفُ حرف العلة. {إِلَيْهِنَّ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود يوسف، وجملة الشرط في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} على كونها مقول {قَالَ}. {وَأَكُنْ} فعل مضارع ناقص معطوف على {أَصْبُ} واسمها ضمير يعود على يوسف. {مِنَ الْجَاهِلِينَ} خبرها. {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}. {فَاسْتَجَابَ} (الفاء) حرف عطف وتفريغ. {استجاب} فعل ماض. {لَهُ} متعلق به. {رَبُّهُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة قال. {فَصَرَفَ} (الفاء) حرف عطف وتفريع. {صرف} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْهُ} متعلق به. {كَيْدَهُنَّ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {استجاب}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {هُوَ} ضمير فصل. {السَّمِيعُ} خبره الأول. {الْعَلِيمُ} خبر ثان، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقةٌ لتعليل ما قبلها. {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب. {بَدَا} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على السجن المعلوم من قوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ} كما في "البحر". {لَهُمْ} جار ومجرور متعلق به. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلق به أيضًا، وجملة {بَدَا} معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: تَشَاوَرُوا في شأن يوسف، ثمَّ بدا لهم السجن من بعد ما رأوا الآيات. {مَا} مصدرية. {رَأَوُا الْآيَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد رؤيتهم الآيات الدالة على صدق يوسف. {لَيَسْجُنُنَّهُ} (اللام) موطئة للقسم. {يسجننه} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو} المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة. {حَتَّى

حِينٍ} جار ومجرور متعلق بـ {يسجنن}، والجملة الفعلية جوابُ القسم المحذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ثم بدا لهم السجن حالَةَ كونهم قائلين: ليسجننه حتى حين. التصريف ومفردات اللغة {مَثْوَاهُ} المثوى: اسم لمكان الثواء والإقامة، يقال: ثويَ بالمكان من باب: رِضي إذا أقام به؛ أي: أحْسَن تعهدَه. {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ}؛ أي: جعلنا له مَكَانةً رفيعةً، ودرجة عاليةً في أرض مصر؛ أي: جَعَلْنَاهُ على خزائنها، ومَكَّنَ يَتَعَدَّى بنفسه على حد قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} و (باللام) كما هنا، والمراد نعطيه مكانةً ورتبةً عاليةً في الأرض. {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}؛ أي: بعض تعبير الرؤيا التي عَمَدَتْها رؤيا الملك، وصاحبي السجن. {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}؛ أي: لا يمنع عما يشاء، ولا يُنازَع فيما يريد. {أَشُدَّهُ} والأشُدُّ: هو وقت رشده، وكمال قوته، باستكمال نموه الجسمانيِّ، والعَقْلِيِّ، ثم يكون بعده النقصانُ، قيل: هو ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل غير ذلك. وفي "الفتوحات": في الأشد ثلاثةُ أقوال: أحدُها: وهو قول سيبويه أنه جمعٌ مفرده شدَّةُ نحو: نعمة وأَنْعُم. والثاني: قول الكسائي أنَّ مفرده شُدّ بزنة قُفل. الثالث: أنه جمعٌ لا واحِدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخَالَفه الناس في ذلك، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبْطُ على الشيء والعَقْدُ عليه. قال الراغب: وفيه تنبيه على أنَّ الإنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوَّى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يُزايله، اهـ "سمين". ولم يَقُلْ هنا: واستوى كما قال في شأن موسى في سورة القصص؛ لأنَّ موسى كان قد بلغ أربعين سنة، وهي مدة النبوة، فقدِ استوى وتهيأ لحمل أسرار النبوة. وأما يُوسُفُ فلم يكن يوسف إذ ذاك قد بلَغَ هذا السن, اهـ شيخنا، اهـ "فتوحات". {حُكْمًا وَعِلْمًا} والحكم: هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان

مصر. والعلم: هو العلم بالحكم الذي يحكمه. وقيل: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم هو النبوة، والعلم هو العلم بالدين. وقيل: علم الرؤيا. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} المراودة: الإرادةُ والطلبُ برفق ولين. وقيل: هي مأخوذةٌ من الرَّود؛ أي: الرفق، والتأني، ويقال: أَرْوِدْنِي بمعنى أمهلني. وقيل: المراودة مأخوذة من راد يَرُود إذا جَاءَ، وذهب، كأن المعنى أنها فعلَتْ في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لِمَنْ يطلُب الماءَ والكلأ. وقد يُخَصُّ بمحاولة الوقاع، فيقال: راود فلان جَارِيتَهُ عن نفسها، وراودته هي عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحد منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تَكونَ من الجانِبَيْنِ فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قَائِمًا مقام المسبَّب، فكأنَّ يُوسُفَ عليه السلام - لما كان ما أعطيه من كمال الخَلْقِ والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مراود. ويجوز أن يُرادَ بصيغة المفاعلة مجردُ المبالغَةِ. وقيل (¬1): الصِّيغَةُ على بابها بمعنى أنَّها طلبت منه الفعلَ، وهو طَلَب منها الترْك، وقال الراغب: المراودة أن تنازعَ غيرك في الإرادة، فتريد منه غيرَ ما يريد، كما قالَ إخوة يوسف {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ}؛ أي: نحتالُ عليه، ونخدعه عن إرادته، ليرسل بنيامين معنا، اهـ. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}، وفي هذه (¬2) الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال: غلق الأبوابَ، ولا يقال: غلَّق البابَ، بل يقال: أغلق البابَ، وقد يقال: أغلق الأبوابَ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا ... حَتَّى أَتَيْتُ أبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارِ قيل: وكانت الأبواب سبعةً. {هَيْتَ لَكَ} بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها وكسرها، اسمُ فعل بمعنى هَلُمَّ وأقبل وبَادِرْ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث، فالفتحُ للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيهًا يحيثُ، وإذا بين باللام نحو: هَيْتَ لك، فهو صوتٌ قائمٌ مَقامَ المصدر، كأفّ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

له؛ أي: لَكَ أقول هذا، وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مَقَامَ مصدر الفعل، فيكون اسمَ فعل، إما خبر؛ أي: تهيأت، وإما أمرٌ؛ أي: أقْبلْ. وقال في "الصحاح": يُقال: هوت به، وهيت به إذا صَاحَ به، ودَعاهُ، ومنه قول الشاعر: يَحْدُوْ بِهَا كُلُّ فَتَى هَيَّاتُ وقد روي عن ابن عباس، والحسن، أنَّها كلمةٌ سريانية معناها، أنها تَدْعُوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حورانَ، وقعت إلى أهل الحجاز، معناها: تَعَالَ. قال أبو عبيدة: فسألت شَيْخًا عَالِمًا منْ حورانَ فذكر أنها لُغَتُهم. {مَعَاذَ اللَّهِ} مصدر منصوب بفعل محذوفٍ، وجوبًا على أنه نائب عن فعله مضاف إلى اسم الله سبحانه؛ أي: أعوذ بالله مَعاذًا ممَّا تدعونني إليه، كسبحانَ الله بمعنى أسبِّح اللهَ، ويقال: عَاذ يعوذ عِيَاذًا، وعياذةً ومعاذًا، وعوذًا، اهـ "سمين". والمعنى: أعُوذ وأتحصَّن بالله من أن أكونَ من الجاهلينَ الفاسِقِينَ. وقال في "روح البيان": هو من جملة المصادر التي ينصبُها العربُ بأفعال مضمرة، ولا يستعمل إظهارُها كقولهم: سبحانَ اللهِ، وغفرانَكَ وعونك، اهـ. {وَلَقَدْ هَمَّتْ}؛ أي: هَمَّتْ (¬1) وقصدت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته، ويَرُدَّ عنفها بمثله. وفي "الشهاب" قال الإِمام: المراد بالهمِّ؛ أي: بهم يوسفَ في الآية: خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع كالصائم، يَرَى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكنه يَمْنَعُه دينُه عنه، اهـ. {المخلِصين} بكسر اللام؛ أي: مُخْلصين أعمالهم لله تعالى، وبفتحها هم الذين أخلصهم الله تعالى، واجتباهم واخْتَارَهم لطاعته. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}؛ أي: تَسَابَقَا إلى الباب، وقصد كل منهما سَبْقَ الآخر إليه، فهو ليخرج، وهي لِتَمْنَعَه من الخروج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}؛ أي: قطعته، وشقته طولًا من خلف، فهو من المضاعف المعدى من باب شدَّ. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا}؛ أي: وَجداه، والسيد (¬2): ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

فيعل من سَادَ يسودُ يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم، وفَيْعَل: بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة. {وَقَالَ نِسْوَةٌ} والنسوة (¬1): اسمُ جمع لا واحد له من لفظه، بل من معناه، وهو امرأةٌ وتأنيثها غير حقيقي، بل باعتبار الجماعةِ، ولذلك لم يَلْحَقْ فعلَها تاء التأنيث، والمشهور كسر نونها. ويجوز ضمها في لغة ونقلها أبو البقاء قراءة ولم أحفظه وإذا ضُمَّت نونه كان اسمَ جمعَ بلا خِلاف. والنساء: جمع كثرة أيضًا، ولا واحدَ له من لفظه، اهـ "سمين". {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} وألف الفتى منقلبة عن ياءٍ، لقولهم: فَتَيانِ، والفتوة شاذ؛ أي: رَقِيقَها وعَبْدَها. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} والشِّغَافُ: الغلاف المحيط بالقلب، ويقال: شَغَفْتُ فلانًا إذا أَصَبْتَ شِغَافَ قلبه كما يقال: كبدته إذا أصبتَ كبده. وفي "المصباح": شَغَفَ الهوى قَلْبَه شغفا من باب نَفَع، والاسم الشَّغَفُ بفتحتين بلَغَ شغافه بالفتح، وهو غشاؤه، وشغفه المال زين له فأحَبَّهُ فهو مشغوف به، اهـ. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}، والضلال: الحيدة عن طريق الرشد، وسنَنِ العَقل. {بِمَكْرِهِنَّ}؛ أي: بِقَوْلِهِنّ وسمِّي ذلك مكرًا لأنهن كن يردن إغْضَابَها كي تعرض عَليهنَّ يُوسُفَ لتبديَ عُذْرَهَا فَيَفُزْنَ بمشاهدته. {وَأَعْتَدَتْ}؛ أي: أعدَّتْ وهيَّأتْ. {مُتَّكَأً} والمتكأ: ما يجلس عليه من كراسي، وأرائك. وأصل (¬2) الكلمة: موتكأ لأنه من توكأت، فأبدلت الواو تاءً وأدغمت. ويجوز أن يكون من أوكيت السِّقَاءَ: فتكونُ الألفُ بدلًا من الياءِ, ووزنُه مفتعل من ذلك ذكره أبو البقاء. {أَكْبَرْنَهُ}؛ أي: أعظمنَه ودَهِشْن من جماله الرائع. {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}؛ أي: جَرَحْنَها. {حَاشَ لِلَّهِ}؛ أي: تنزيهًا لله أن يكون هذا المخلوقُ العجيبُ من جنس البشر، قال أبو البقاء: {حَاشَ لِلَّهِ} يقرأ بألفين، وهو الأصل، والجمهور على أنه هنا فعل ماض، وقد صُرِّفَ منه أحاشي، وأيَّدَ ذلك دخول اللام على اسم الله تعالى، ولو كان حرفَ جر لَمَا دَخَل على حرف جر، وفاعلُه مضمر تقديره: حَاشَى يوسفُ؛ أي: بَعُدَ من المعصية لخوفِ الله تعالى. وأصل الكلمة: حاشَيْتُ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري.

الشيءَ، فَحَاشَا صَارَ في حاشيةٍ أي ناحيةٍ. وقال بعضهم: هي حرف جر، و (اللام) زائدة، وهو ضعيف, لأنَّ موضعَ مثلِ هذا ضرورةُ الشعر، اهـ. {استعصم}؛ أي: اعتصَمَ وامتنعَ، فالسين فيه زائدة، أو المعنى: استمسك بعروة عصمتِه التي ورثها عمَّن (نَشَؤُا) عليها. {رَبِّ السِّجْنُ} بكسر السين اسمٌ للمكان، والمحبوبُ له، دخوله لا ذاته؛ أي: دخول السجن. {أَحَبُّ إِلَيَّ}؛ أي: عندي. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} الصبوة الميلُ إلى الهوى، ومنه ريح الصَّبَا لأن النَّفْسَ تستطِيبُها، وتميل إليها، اهـ "بيضاوي". وفي "المصباح": صَبَا يَصْبُو صَبْوًا من باب قعد، وصَبْوةً أيضًا مثل شَهْوَةٍ إذا مَالَ. {فَاسْتَجَابَ لَهُ}؛ أي: أجاب دُعاءَه فالسين والتاء زَائِدتان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآياتُ أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الكناية في قوله: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} لأنه كناية عن إحسان تعهده. ومنها: التشبيه المجمل في قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ}. ومنها: إطلاق العامّ وإرادةُ الخاصِّ في قوله: {الْأَرْضِ} لأنَّ المرادَ أرض مصر. ومنها: الكناية في قوله: {أَشُدَّهُ} لأنّه كناية عن استكمالِ زمان قوته ورُجولته. ومنها: التشبيهُ في قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ومنها: العدول (¬1) عن ذكر اسمها في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} للمحافظة على الستر، أو للاستهجان بذكره. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ومنها: إيراد الموصول لتقرير المراودَةِ، فإنَّ كونَه في بيتها مما يَدْعُو إلى ذلك. قيل لواحدة: ما حَمَلَكِ على ما أنت عليه ممّا لا خَيْرَ فيه؟ قالت: قُرْبُ الوِسَادِ وطُولُ السَّوَادِ، ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام، فإنَّ عَدَمَ ميله إليها مع دوام مشاهدته لِمَحَاسِنِها، واستعصائِه عليها مع كونه تحت مِلكها، ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة، اهـ أبو السعود. ومنها: ذكر الخاص بعد العام اهتمامًا بشأنه في قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}. ومنها: الحَصْرُ في قوله: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ومنها: الطباق بين قوله: {قُبُلٍ} و {دبر}، وبين {صدقت} و {كذبت}، وبين {الْكَاذِبِينَ} و {الصَّادِقِينَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين {صدقت} و {الصَّادِقِينَ}، وبين {كذبت} و {الْكَاذِبِينَ}. ومنها: تغليبُ الذكور على الإناث في قوله: {مِنَ الْخَاطِئِينَ} ومقتضَى السياق أن يقال من الخاطئات. ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} حيث استعار المكر للغِيْبة بجامع الاختِفاءِ في كل منهما. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} شبَّهَ الجُرْحَ بالقطع بجامع الإيلام في كلٍّ، فاستعارَ لفظ القطع للجرحِ، ثمَّ اشتقَّ من القطع بمعنى الجرح، قطَّعْنَ بمعنى جَرَحْنَ على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الحصْرُ في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}. ومنها: التأكيد في قوله: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا}. ومنها: الجناس المغاير بين {يسجنن} و {السِّجْنُ}.

ومنها: التشنيع، والتقبيحُ في قوله: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} لأن في إضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع؛ لأنَّ النفوسَ أميل لسماع أخبار ذوي الجاه. ومنها: الإتيانُ بالمضارع في قوله: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} للدلالة على أنَّ ذلك سَجيَّةٌ لها؛ لأنَّ المضارعَ يفيد التجدد، والاستمرارَ. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} شبه يوسفَ بالملك، بجامع الحُسن، والجمال في كل ثمَّ استعار له اسم الملك على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: الإشارة إلى القريب باسم إشارة البعيد في قوله: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} تنزيلًا لبُعْدِ مرتبته عن غيره منزلة البعد الحسِّي. ومنها: الدلالة على فَخَامَةِ شأن المشار إليه في قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}؛ لأنَّ ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المؤخر، على أن يكونَ عبارة عن التمكين، في قلب العزيز، أو في منزله، وكون ذلك تَمْكينًا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها, لا عن تمكين آخر يشبه به، فالكاف مقحم للدلالة على فَخَامة شأنِ المشار إليه، إقحامًا، لا يترك في لغة العرب، ولا في غيرها، ومن ذلك قولهم: مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ؛ أي: مثل ذلك التمكين البديع، مكنا ليوسف في الأرض، وجعلناه محبًّا في قلب العزيز، ومكْرمًا في منزله، ليترتَّب عليه ما ترتب بما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ذكره في "روح البيان". ومنها: الحَذْفُ والزيادةُ في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}. المناسبة قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات

لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) وتعالى لمَّا ذكر مكْر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأةِ العزيز بهن حتى قَطَعْنَ أيدِيَهُنَّ، وقلنَ في يوسف ما قلنَ من وصف جماله، ثم إظهارُ امرأة العزيز المعذرةَ لنفسها، فيما فعلتْ وعزمَها على سجنه إن لم يكن مطواعًا لها، ثمَّ حمايةُ الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبيرُ مُؤَامرة بين العزيز وامرأته وأهلها على إدخاله السجن، مع كل ما رَأوا من الآياتِ حتى ينسَى الناس هذا الحديث، وتَسكُن تلك الثائرة في المدينة .. ذَكَرَ هنا تَنْفِيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به، إذ آتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يُعَبِّرَ لكل حالمٍ عمّا يراه، ويُخْبرَ كلَّ أحد عما يسأله عنه، مما لم يكن حاضرًا لديه، وما سيأتي له من طعام، وشراب، ونحوِ ذلك. ثمَّ ذكَر قولَ يُوسُفَ إنَّ هذا كلَّه نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ. قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (¬2) يوسف لمّا ذَكَرَ ما هو عليه من الدين الحنيفي .. تلطَّفَ في حُسْنِ الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفَتَيين من عبادة الأصنام فَنَاداهما باسم الصحبة في المكانِ الشَّاقِّ الذي تَخْلُص فيه المودةُ، وتتمحض فيه النصيحةُ. وعبارة المراغي هنا (¬3): بعد أن أبطلَ يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سَلَفَ، وذكر أنه قد اتبعَ ملةَ آبائه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب, وبيَّن أنَّ هذا فضلٌ من الله تعالى، ومنة منه عليهم، وعلى سائر الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالقَ، لهذه النعم، فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به شيئًا .. دَعَاهُما إلى التوحيد الخالص، وأيدَهُ يالبرهان الذي لا يَجدُ العقل محيصًا من التسليم به، والإقرار بصحته قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} الآيتين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[36]

قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا ...} الآيتين، مناسبتُهما لما قبلهما: أنَّ يُوسُفَ (¬1) لمَّا أَلْقَى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما .. ناداهما ثانيًا لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب. قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ...} الآيات، مناسبتُها لما قبلها: أنه لما دنا فَرَج يُوسُفَ عليه السلام .. رأى ملك مصر الريان بن الوليد رُؤيا عجيبةً هالته فرأى سبع بقراتٍ سمانٍ, الخ. التفسير وأوجه القراءة 36 - {وَدَخَلَ مَعَهُ}؛ أي: مع يوسف {السِّجْنَ فَتَيَانِ}، وفي الكلام (¬2) حذفٌ تقديره: فسجنوه فدخلَ معه السجنَ غلامان. و (مع) تدلُّ على الصحبة واستحداثِها، فدلَّ على أنهم سَجَنُوا الثَّلاثَةَ في ساعةٍ واحدةٍ. ولمَّا دخل يُوسُفُ السِّجنَ، استمالَ النَّاس بحسن حديثه وفضله ونَبْلِهِ. وكان يسلِّي حَزِينَهم، ويعود مريضَهم، ويسأل لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأَحبَّه الفتيان، ولزماه، وأحبَّه صاحب السجن، والقيِّمُ عليه، وقال له: كُنْ في أيِّ البيوت شئت، فقال له يوسف: لا تحبَّني يرحمك الله، فلقد أدخلت عليَّ المحبة مضرات أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبَّني أَبي، فامتحِنت بمحبته، وأحبَّتنِي امرأة العزيز، فامتحنت بمحبتها بما ترَى. وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إنَّي أُعبِّر الرؤيا، وأُجيدُ - أي: ودخل (¬3) معه السجنَ غلامان مملوكان مِنْ غلمان ملك مصر الأعظم، وهو الريَّانُ بن الوليد بن نَزْوَانَ العِملِيقِ، أحدهما خَبَّازه، وصاحب طعامه، والآخرُ سَاقِيه، وصاحب شرابه، وكان قد غَضِبَ عليهما المَلِكُ فحبسهما. وكان السَّببُ في ذلك أنَّ جماعةً من أشراف مصر أرادوا المَكْرَ بالمَلِكِ واغتياله، وقتله، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

فضمنوا لهذين الغلامين مالًا على أن يَسُمَّا المَلِكَ في طعامِه وشرابِه، فأجابا إلى ذلك، ثمَّ إنَّ الساقيَ ندم، فرجَعَ عن ذلك، وقَبِلَ الخبَّازُ الرَّشْوةَ، وسَمَّ الطعامَ. فلما حضر الطعامُ بين يدي الملك قال السَّاقي: لا تأكل أيها الملك، فإنَّ الطَّعامَ مسموم. وقال الخبَّاز: لا تَشْرَبْ فإنَّ الشَّرَاب مسموم. فقال للساقي: إِشْرَبْ، فَشَرِبَه به فلم يضره. وقال للخباز: كل من طعامك، فأَبَى. فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت. فأمر الملك بحبسهما فحبسَا مع يُوسُفَ. وكان يُوسُفُ لما دخَلَ السِّجْنَ جَعَل ينشر علمه، ويقول: إني أعبِّر الأحلامَ فقال أحد الغُلامين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني، فتَرَائيَا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رَأيَا رؤيا حقيقةً. قال ابن مسعود: ما رأيا شيئًا إنما تحالما لِيُجَرِّبا يُوسُفَ، وقال قوم: بل كانَا قد رأيا رؤية حقيقةً فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألَهما عن شأنهما، فذَكَرا أنهما غُلامانِ للملك، وقد حبَسهما، وقد رَأَيا رؤيا قد غمتهما، فقال يوسف قصَّا عليَّ ما رأيتما فقصا عليه ما رأياهُ. فذلك قولُه تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا}؛ أي: أحد الفتيين، وهو صاحب شراب الملك، اسمه سَرْهَم، أو مَرْطَش؛ أي: قال أحَدُهما ليوسف: {إِنِّي أَرَانِي}؛ أي: رأيت نفسي {أَعْصِرُ خَمْرًا}؛ أي: أعصِرُ عِنَبًا، فيصيرُ خَمرًا، وأسقِي المَلِكَ. وسمَّى العِنَبَ خَمَرًا باعتبار ما يؤول إليه. إذ الخَمْرُ لا يُعْصَرُ. وقيل: إنَّ عَربَ غسان وعُمَان يسمون العِنَبَ خَمْرًا. رُوي أنه قال: رأيت حَبْلَةً من كرم حسنةً، لها ثلاثة أغصان، فيها عناقيدُ، فكنت أعصرها، وأسقي. وقرأ أبي وعبد الله: {أعصر عنبًا} وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سَوادَ المصحف، والثابتُ عنهما بالتواتر قرائتهما: {أَعْصِرُ خَمْرًا}. وفي مصحف عبد الله: {فوق رأسي ثَرِيدًا تأكل الطير منه} وهو أيضًا تفسير لا قراءة ذكره في "البحر". {وَقَالَ الْآخَرُ} وهو الخباز، واسمه بُرْهَمُ، أو رَأْسَانُ {إِنِّي أَرَانِي}؛ أي: رأيت نفسي كأني {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الخبز. وفوق بمعنى على؛ أي: على رأسي. ومثله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} كما في

[37]

"التبيان". وقد روي أنه قال: رأيتُ أني أَخْرجُ من مطبخ الملك، وعلى رأسي ثلاثُ سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمرُ هذه الرؤيا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا. والإحسان هنا بمعنى العلم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فيسليهم، ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجَروا، فقالوا: بارك الله فيك، يا فتى، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك، فمَنْ أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفيِّ الله يعقوبُ بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. فقال له عامل السجنِ: لو استطعت خلَّيْتُ سبيلك، ولكني أُحْسِن جِوارَكَ فكن في أيِّ بيوت السجن شئت. فلمَّا (¬1) قصَّا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبِّرها لهما حينَ سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما: وأعرض (¬2) عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة، والنبوة والدعاء إلى التوحيد. وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أنَّ دَرَجَتهُ في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدَا فيه، وذلك أنهما طَلَبَا منه علم التعبير، ولا شكَّ أنَّ هذا العلم مبني على الظن، والتخمين، فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين، وذلك مما يعجز الخلق عنه، وإذا قدَرَ على الإخبار عن المغيبات، كان أقْدَرَ على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة؛ لأنه علم أنَّ أحدهما سيصلب، فأراد أن يُدخِلَهُ في الإِسلام، ويخلِّصه من الكفر، ودخول النار، فأظْهَرَ له المعجزة لهذا السبب. 37 - {قَالَ} يوسف {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في اليقظة في منزلكما على حسب عادتكما، المطَّرِدَةِ {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا} وأخبرتكما {بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: بقدَرَهِ ولونه، والوقت الذي يصل إليكما فيه، والاستثناء (¬3) مفرَّغ من أعمِّ الأحوال؛ أي: لا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حالَ ما نبأتكما؛ أي: بينت لكما ماهيَتَهُ وكيفيته {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}؛ أي: قبل أن يَصِلَ إليكما، وأيُّ طعام أكلتم، وكم أكلتم؟ ومتى أكلتم؟ وهذا مِثْلُ معجزة عيسى عليه السلام، حيث قال: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. فقالا ليوسف عليه السلام: هذا من علم العرَّافِينَ والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن، ولا عرَّاف، وإنما ذلك مما علَّمنِيه رَبي، كما سيأتي بيانه. وقيل: أراد به في النوم، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة. والمعنى (¬1): أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به، وهو عند أهله، وبما يريدون من إرساله، وما ينتهي إليه بعد وصولِهِ إليكما. روي أنَّ رِجَالَ الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعامًا مسمومًا، يقتلونهم به، وأنَّ يوسف أراد هذا من كلامه. وفي ذلك إيماء إلى أنه أُوتي عِلم الغيب، وهذا يجري مجرى قول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. ومن هذا يعلم أن وحيَ الله جاءَهُ وهو في السجن، وبذلك تَحَقَّقَ قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}. كما أنَّ وَحْي الإلهام جَاءه حين إلقائه في غيابة الجب، كما تقدم ذكره. وكأنه سبحانه جَعَلَ في كلَّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وفي كلِّ ما ظاهره بلاءً نِعْمةً. {ذَلِكُمَا}؛ أي: ذلك الذي أنبأتكما به أيها الفَتَيان. {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}؛ أي: بعض ما علمني ربي سبحانه بوحي، وإلهام منه، لا بكهانة ولا عرافة، ولا يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل، ويَشْتَبِهُ فيه الصواب بالخطأ. وذلك (¬2) أنه لما نَبَّأَهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قَبْلَ أن يَأتِيَهُما ويَصِفُه لهما، ويقول: اليومَ يأتيكما طعام من صفته كيت وكيتَ، قالا هذا من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

فعل العرافين، والكهَّان، فمن أيْنَ لك هذا العلم، فقال: ما أنا بكاهن؛ وإنما ذلك العلم مما علمني ربي. وفيه دلالة على أنه له علومًا جَمَّةً ما سَمِعاه قِطْعةً من جملتها، وشعبة من دَوْحَتها. وكأنَّه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلوم البديعة؟ فقيل: {إِنِّي}؛ أي: لأني {تَرَكْتُ}؛ أي: رفضتُ من أول أمري {مِلَّةَ قَوْمٍ}؛ أي: دينَ قوم؛ أيَّ قوم كانوا من قوم مصر وغيرهم {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: لا يُصَدِّقُون بوحدانية الله تعالى. والمراد بالقوم (¬1) هنا: الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هم بينهم، فقد كانوا يعبدون آلهةً منها الشمس، وعجلهم، وفراعنتهم، وكان التوحيد خاصًّا بحكمائهم وعلمائهم. ومعنى تركها أنه تَركَ دخولها، واتباعَ أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها. وفي ذلك لفت لأنظارهما لأن يَتْرُكَا تلك الملةَ التي هم عليها. والمعنى: إني بَرِئْتُ من ملة مَنْ لا يصدق بالله، ولا يقرُّ بوحدانيته، وأنه خَالِقُ السموات والأرض وما بينهما. وعبارة "روح البيان" هنا: والمراد (¬2) بتركها، الامتناع عنها رَأْسًا، لا تركها بعد ملابستها، وإنما عَبَّرَ بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ} وما فيها من الجزاء {هُمْ كَافِرُونَ}؛ أي: هم مختصون بذلك دون غيرهم، لإفراطهم في الكفر باللهِ تعالى. والمعنى: أي: وهم يكفرون (¬3) بالآخرة، والحساب، والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياةَ الآخرة على صور مبتدعةٍ، منها: أنَّ فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة، ويَرجع إليهم الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا، ومن ثَمَّ كانوا يَضَعُونَ معهم في مقابرهم جواهرهم، وحليهم، ويبنون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[38]

الأهرام لحفظ جثَّتِهم، وما معهم، ولهم معتقدات أُخرى في تلك الحياة، لا تشاكل ما جاء منها على ألسنة الرسل عليهم السلامُ. 38 - قوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} معطوف على (تركت). وقرأ (¬1) الأشهب العقيلي والكوفيون: {آبائي} بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو، وسماهم جميعًا آباء؛ لأنَّ الأجدادَ آباء، وقدَّمَ الجد الأعلى ثم الجدَّ الأقرب، ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده، ثم تلقاها عنه إسحاق، ثم يعقوبُ. وفي ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه في الإيمان بالله، والتوحيد، وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال؛ أي: واتبعت ملةَ آبائي الذين دعوا إلى التوحيد، الخالص، وهم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. وعَرَّف (¬2) شرَفَ نَسَبِه، وأنه من أهل بيت النبوة، لتتقوى رغبتهما في الاستماع منه، والوثوق عليه، وكان فضل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب أمرًا مشهورًا في الدنيا، فإذا ظَهَرَ أنه ولدهم عظموه، ونظروا إليه بعين الإجلال وأخذوا منه. ولذلك جوِّز للعالم إذا جهلت منزلته في العلم، أن يَصِفَ نَفْسَه، ويعلم الناسَ بفضله حتى يعرف، فيقتبس منه، وينتفع به في الدين، وفي الحديث: "إنّ الله يسألُ الرجلَ عن فضل علمه كما يسأل عن فضل ماله". وقدم ذكر ترك ملة الكفرة على ذكر أتباعه لملة آبائه, لأن التخليَة بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة. وفيه إشارة إلى أنَّ الاتباعَ سبب للفوز بالكمالات، والظفر بجميع المرادات. ثم بيَّن أساسَ الملة التي وَرِثَها عن أولئك الآباءِ الكرام، فكانت يقينًا له بقوله: {مَا كَانَ}؛ أي ما صحَّ، وما استقام، فضلًا عن الوقوع {لَنَا} معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا، ووفور علومنا {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيء كان من ملك أو جنيِّ أو إنسي فضلًا عن الجماد الذي لا يضر ولا ينفع؛ أي (¬3): لا ينبغي لنا مَعْشرَ الأنبياء أن نشرك بالله شيئًا فنتخذه ربًّا مدبرًا معه، ولا إلَهًا معبودًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[39]

من الملائكة، أو البشر كالفراعنة فضلًا عمَّا دونهما من البقر، كالعجل أو من الشمس والقمر أو ما يُتَّخَذُ من التماثيل والصور لهذه الآلهة. {ذَلِكَ} التوحيد المدلول عليه بقوله: {مَا كَانَ لَنَا} إلخ ناشئ {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} بالوحي {وَعَلَى النَّاسِ} كافَةً بواسطتنا، وإرسالنا لإرشادهم؛ إذ وجود القائد للأعمى رحمة من الله أيُّ رحمة. والمعنى: أي عدم الإشراك من فضل الله علينا؛ إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته، وألوهيته بوحيه وآياته في الأنفس والآفاق. وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوةَ، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرف الغواية والضلال. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} المبعوث إليهم {لَا يَشْكُرُونَ} نِعَم الله عليهم فيشركون به أرْبابًا وآلهة من خلقه يذلون أنفسَهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم، أو أدنى منهم. 39 - والإضافة في قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} من باب (¬1) الإضافة إلى الظرف؛ إذ الأصل: يا صاحبين لي في السجن، ويجوز أن يكونَ من باب الإضافة إلى التشبيه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: أصحاب النار، اهـ "سمين". والاستفهام في قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} تقريري؛ أي: لطلب الإقرار بجواب الاستفهام؛ أي: أقروا واعلموا أنَّ الله هو الخير، اهـ "جمل". ومعنى التفرق هنا (¬2): هو التفرق في الذوات، والصفات، والعدد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة، وغير ذلك، وجماد، وحيوان، وحي وميت. والمعنى: هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته، وصفاته الذي لا ضدَّ له ولا نِدَّ ولا شريك القهار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند، أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) الشوكاني.

[40]

الحجةَ القاهرة على طريق الاستفهام, لأنهما كانا ممن يَعبُد الأصنام، وقد قيل: إنه كان بَيْنَ أيديهما أصنامٌ يعبدونها، عند أن خاطبهما بهذا الخِطَاب. وعبارة المراغي: وهذا الاستفهام لتقرير ما يذكر بعده، وتوكيده، والمرادُ بالتفرق التفرقُ في الذوات، والصفات المعنوية التي يَنْعتونهم بها، والصفات الحسية التي يصوِّرها لهم بها الكَهَنة والرؤساء من رسوم منقوشة وتماثيل منصوبة في المعابد والهياكل. والمعنى (¬1): أأرباب كثيرون متفرِّقون شأنهم التنازعُ والاختلاف في الأعمال، والتدبير الذي يُفْسِدُ النظام خير لكما, ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر، وجلب النفع، وكلِّ ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب، أم اللَّهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمد الذي لا ينارع ولا يعارض في تصرفه، وتدبيره، وله القدرة التامَّةُ، والإرادةُ العامَّةُ، وهو المسخر لجميع القوى، والنواميس الظاهرة التي تَقُوم بها نظم العوالم السماوية، والأرضية، من نور وهواء وماء، والغائبة عنا كالملائكة، والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها، هو سبب عبادتها، والقولُ بربوبيتها, ولا شكَّ أنَّ الجوابَ عن هذا مما لا يختلف فيه عاقلٌ، فلا خيرَ في تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرًّا ولا نفعًا في السموات والأرض. 40 - ثم بين لهما أنَّ ما يعبدونه، ويسمونه آلهة إنما هي جَعْلٌ منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تَلَقَّاها خلف عن سلف، ليس لها مستندٌ من العقل، ولا الوحي السماويّ فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: ما تعبدون من دون الواحد القهار {إِلَّا أَسْمَاءً} لمسميات {سَمَّيْتُمُوهَا}؛ أي: وضعتموها {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} من قِبَلِكُم وتحملتموها صفات الربوبية، وأعمالها، وما هي بأرباب تَخْلُق، وترزق وتضر وتنفعُ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: ما أنزل الله حجةً وبرهانًا على أحد من رسله بتسميتها أربابًا، حتى يقالَ: إنكم تتبعونها تعبدًا له وحده، وطاعةً لرسله. ¬

_ (¬1) المراغي.

والخلاصة: أنها تسمية لا دليلَ عليها من نقل سماوي، فتكونُ أصلًا من أصول الإيمان, ولا دليل عليها من عقل، فتكون من نتاج الحجة والبرهان. وقيل المعنى (¬1): ما تعبدون من دون الله تعالى إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم آلهةً من عند أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجردَ الأسماء لكونها جمادات لا تَسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا}؛ أي: بتلك التسمية {مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: من حُجَّةٍ تدل على صحتها، وإنما قال: ما تعبدون على خطاب الجَمع، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قَصَدَ خطاب صاحبي السجن، ومَنْ كان على دينهم. ومفعول سَمَّيتموها، الثاني محذوف كما قدرناه آنِفًا؛ أي: آلهةً من عند أنفسكم. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}؛ أي: ما الحكم (¬2) الحق في الربوبية، والعبادة إلا لله سبحانه وتعالى وحده، يوحيه لِمَن اصطفاه من رسله، ولا يمكن بشرًا أن يَحْكُم فيه بهواه، ورأيه، ولا بعَقْله، واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه. وهذه قاعدة اتفقت عليها كلُّ الأديان دونَ اختلاف الأمكنة والأزمان. ثمَّ بيَّنَ ما حَكَمَ به الله تعالى فقال: {أَمَرَ} سبحانه وتعالى على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بـ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} سبحانه وتعالى؛ أي (¬3): أمَرَ ألَّا تعبدوا غَيْرَه، ولا تَدْعُوا سِوَاه، فله وحده اركعوا، واسجدوا، وإليه وحده توَجَّهوا حنفاءَ غير مشركين به شيئًا من مَلَك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس، ولا قمر، ولا نجم، ولا شجر، ولا حيوان كالعِجْل (أبِيسُ) لدى المصريين؛ لأنَّ (¬4) العبادَة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمَنْ حَصَلَ منه نهاية الإنعام، وهو الله تعالى؛ لأنَّ منه الخلق والإحياء، والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة، وجهاتُ إحسانه إلى الخلق غير متناهية، فالمؤمن الصادق الإيمان, لا يذِلُّ ولا يَخْضَعُ لأحد غير الله تعالى مما خلق بدعاء ولا استغاثة، ولا طلب فرج من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) المراح.

[41]

ضيق، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شيء، وأن كلَّ ما سواه فهو خاضع لسلطانه، ولا يملك لنفسه، ولا لغيره غير ما أعطَاه من القوى، فإليه وحده المَلْجَأُ في كل ما يعجز عنه الإنسانُ، أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير في الجزاء على الأعمال يومَ يقوم الحساب والمعنى أنه (¬1) أمركم بتخصيصه بالعبادة دُونَ غيره مما تزعمون أنه معبودٌ. ثم بين لهم أنَّ عبَادَته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره، فقال: {ذَلِكَ}؛ أي: تخصيصه بالعبادة {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: المستقيم الثابت؛ أي: إنَّ تَخْصِيصَه بالعبادة هو الدينُ الحق، الذي لا عِوَج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلَّتْ عليه براهينُ العقل والنقل. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ ذلك هو الدين الحق المستقيم، الذي لا اعْوِجَاجَ فيه، لا ما سَارُوا عليه تبعًا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد، بأرباب متفرقين لجهلهم بتلك البراهين. 41 - ولما فرغ يوسف عليه السلام من بيان الحق لهما في مسألة التوحيد، وعبادة الله تعالى وحدَه، شرع في تعبير رؤياهما فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} الإضافة فيه بمعنى في؛ أي: يا صاحبين لي في السجن {أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الساقي الذي رأى أنه يعصِرُ خَمْرًا، ولم يعينه ثقةً بدلالة الحال، ورعايةً لِحُسْن الصحبة، أو لكراهةِ التصريح للخبَّاز بأنه الذي سَيُصلب {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}؛ أي: فيسقي سيده، ومالكَ رقبته خَمْرًا. وقد رُويَ أنَّ يُوسُفَ قال له في تعبير رؤياه: ما أحْسنَ ما رأيتَ؟ أمَّا الكرمة فهي الملك، وحسنها حسن حالك عنده برجوعك إلى منزلتك الأولى، بل إلى أحسنَ منها، وأما الأغصان الثلاثة: فثلاثة أيام، تَمْضي في السجن، ثم تخرج، وتعود إلى عملك. وقرأ الجمهور: {فَيَسْقِي رَبَّهُ} من سقَى، وفرقة: {فيسقي} من أسقى، وهما لغتان بمعنى واحد. وقال ابن عطية: وقرأ عكرمة والجحدري: {فيُسْقَى ربه خمرًا} بضم الياء، وفتح القاف؛ أي: ما يرويه، ذكره أبو حيان. {وَأَمَّا الْآخَرُ} وهو الخبَّاز الذي رَأَى أنه يحمل خبزًا تأكل الطير ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[42]

منه {فَيُصْلَبُ}؛ أي: فيقتل صَلْبًا {فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ} الكواسر، كالحدأة، والرخمة، ونحوهما {مِنْ رَأْسِهِ} رُوي أنه عليه السلام قال له: بئس ما رأيتَ؟ أمَّا خروجك من المطبخ، فخُروجُك من عملك، وأما السلال الثلاث فَثلاثَةَ أيامٍ تمُرُّ ثم يُوجه الملك إليكَ عند انقضائهن، فيصلبك فتأكل الطير من رأسك. وفي "الكواشي": أكْلُ الطير من أعلاها إخراجه في اليوم الثالث، انتهى. {قُضِيَ}؛ أي: نُفذَ وفرغ، وأتِمَّ، وأحكِم {الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}؛ أي: تطلبان فتواهُ، وتأويلَه، وهو ما رأياه من الرؤيين. وإسناد (¬1) القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله، وهو نَجَاةُ أحدهما، وهلاك الآخر؛ لأنه في الحقيقة عَيْنُ ذلك المآل، وقد ظَهر في عالم المثال بتلك الصورةِ؛ أي: تَمَّ الأمر الذي تسألان عنه، رأيتما أو لم تَرَيَا، فكما قلتما، وقُلْتُ لكما كذلك يكونُ. رُوِيَ أنَّه لمَّا عَبَّر رؤياهما جَحَدا، وقَالا: ما رأينا شَيئًا فأخْبَرَ أنَّ ذلك كائن صدقتما، أو كذبتما, ولعَلَّ الجحودَ من الخباز؛ إذ لا داعي إلى جحود الساقي إلَّا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه، فكان الأمر كما عبَّر يُوسُف. قال ابن مسعود (¬2) رضي الله عنه: فلما سمعا تعبيرَ يوسف عليه السلام، وقَولَه ذلك قالا: ما رأينا شيئًا، إنما كنا نَلْعَبُ قال يوسف: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}؛ أي: فُرغَ من الأمر الذي سألتما عنه، ووجب حُكْمُ الله عليكما بالذي أخبرتكما به، رأيتما شيئًا أم لم تَرَيا. 42 - {وَقَالَ} يوسف عليه السلام {لِلَّذِي ظَنَّ}؛ أي: يوسف؛ أي: عِلمَ وتَحَقَّق، فالظَّنُّ بمعنى العلم، والظان (¬3) هو يوسف عليه السلام؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الساقي، وهلاك الخَبَّاز، وهكذا قال جمهور المفسرين. وقيل: الظن على ظاهره، ومعناه: لأنَّ عابِرَ الرؤيا إنما يَظُنُّ ظَنًّا، والأُولى أَولى، وأنسبُ بحال الأنبياء، ولا سيما وقد أخبَر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلَعه الله على شيء مِنْ علم الغيب كما في قوله: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

تُرْزَقَانِهِ} الآية. {أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا}؛ أي قال يوسف للرجل الذي ظَنَّهُ نَاجِيًا من القتل منهما؛ أي: من صاحبيه، وهو الساقي. وجملة قوله: {اذْكُرْنِي} أيُّها الساقي {عِنْدَ رَبِّكَ}؛ أي: سيدك الملك الأكبر، هي مقول القول؛ أي: اذكر حالي عند سيدك، فقل له: إنَّ في السجن غلامًا مَحبوسًا، مظلومًا، طال حبسه نحوَ خمسِ سنينَ. يعني أمره بأن يذكره عند سيده، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير، والاطلاع على شيء من علم الغيب. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ}؛ أي: فأنسى الشيطان الساقي {ذِكْرَ رَبِّهِ}؛ أي: أن يذكر يوسُفَ عند الملك؛ أي: أنسَى الشيطان بوسوسته الساقيَ ذكره ليوسف عند الملك، فالإنساء في الحقيقة لله تعالى، وهذا قول عامَّة المفسرين، قالوا: لأنَّ صَرْفَ وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي، حتى أنساه ذكرَ يوسف أولى من صرفها إلى يوسف. وقيل: الضمير في أنساه عائد على يوسف. والمعنى: أن الشيطان أنْسَى يوسفَ ذكرَ ربه عَزَّ وَجَلَّ حتى طَلَب الفَرَجَ من مخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام، فإنَّ الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة في الشريعة، إلا أنه لما كان يوسف في أشرف المراتب، والمقامات، وهي منصب النبوة، والرسالة، لا جَرَمَ صارَ يوسف مؤاخذًا بهذا القدر من الاستعانة، فإنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن قلتَ (¬1): كيف تمَكَّن الشيطان من يوسف حين أنساه ذكر ربّه؟. قلت: بشغل الخاطر، وإلقَاءِ الوسوسة، فإنه قد صحَّ في الحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرى الدم"، فأما النِّسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر، وإزالته عن القلب بالكلية، فلا يقدر عليه. وبالجملة: فالأولى بالصدِّيقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، ولذلك جوزي يُوسُفُ بسنتين في الحبس كما قال: {فَلَبِثَ} يوسف {فِي السِّجْنِ} بسبب ذلك القول {بِضْعَ سِنِينَ}؛ أي: سبعَ سنينَ خَمْسًا منها قبل ذلك القول، وثنتين بعده، هذا هو الصحيح. وقيل: لَبِثَ ¬

_ (¬1) الخازن.

[43]

بعد هذا القول سبعَ سِنين، وقَبْلَه خمسًا، فالجملة اثنتا عشرةَ سنةً. وهذه الجملة تؤيِّدَ (¬1) عَوْدَ الضمير في أنساه إلى يوسف، ويؤيِّد عوده إلى الذي نجا منهما قوله فيما سيأتي: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي سنة. والمعنى: وقال يوسف (¬2) للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند سيدك الملك، بما رأيتَ مني، وما سمعتَ، وعلمت من أمري عَلَّه ينصفني ممَّنْ ظلمني، ويخرجني من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به من دَعْوَتِهِ إياهم إلى التوحيد، وتأويله للرؤيا، وإنبائهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب، وغيرهما، قبل إتيانه، وفُتْيَاه التي أفتى بها {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}؛ أي: فأنسى الشيطانُ ذلك الساقيَ النَّاجيَ تذكر إخبار ربه؛ أي: أن يَذْكُرَ يوسف للملك {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} منسيًّا مظلومًا. والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثرُ ما يطلق على السبع، وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف. وقيل: ثنتا عشرة سَنَةً. وقيل: أربع عشرةَ سنةً. وقيل: خَمس سنينَ. رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها 43 - ولما دنا فرج يوسف عليه السلام، وأراد الله عَزَّ وَجَلَّ إخراجَه من السجن رأى مَلِكَ مِصْرَ الأكبر رُؤيا عجيبةً هالته، وذلك أنه رَأَى في منامه سَبعَ بقرات سمان، قد خَرَجْنَ من البحر، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيبَهن سبع بقرات عجاف، في غاية الهزال، فابتلع العِجافُ السمانَ، ودَخَلْن في بطونهن، ولم ير منهن شيء، ولم يتبين على العجاف منها شيء، ورأى سنبلات خضرًا قد انعَقَد حبها، وسبعَ سنبلات أخر اليابسات، قد استحصدت، فالتوت يابسات على الخُضْر، حتى علون عليهن، ولم يبقَ من خضرتها شيء، فجَمَع السحرة والكهنة والمعبّرين، وقص عليهم رؤياه التي رآها فذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ}؛ أي: ملك مصر الأكبرُ، وهو الريَّانُ بن الوليد الذي كَانَ العزيز، وزيرًا له، {إِنِّي أَرَى} في المنام عَبَّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية، وكذلك قوله الآتي: {يَأْكُلُهُنَّ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

قال: إني رأي فيما يَرَى النائم رُؤْيا جَلِيَّةً كأني أراها الآن {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} جمع سمين، وسمينة خرجن من نهر يابس في إثرهن سبع عجاف؛ أي: مهازيلُ {يَأْكُلُهُنَّ}؛ أي: يأكل تلك السمان {سَبْعٌ عِجَافٌ}؛ أي: فابتلعت العجاف السمان. والعجاف: جمع عجفاءَ على غير قياس. وقياس جمعه: عُجْفٌ؛ لأنَّ فَعْلاَءَ وأفْعل لا يجمع على فعال كما سيأتي في مبحث الصرف إن شاء الله تعالى، ولكنه عَدَلَ عن القياس حَمْلًا على سمان. {و} إني رأيت {سبع سنبلات} جمع سنبلة، وهي ما يكون فيه الحب كسنبلة الحنطة {خُضْرٍ} قد انعَقَدَ حبها جمع خضراء، وهي التي لم تبلغ أوانَ الحصاد {و} رأيت سبعًا {أُخَرَ يابسات} قَدْ أدركت، وبلغت أوانَ الحصاد جمع يابسة، واليابس من السنبل ما آن حصاده، فالْتَوَتْ اليابساتُ على الخضر، حتى غلبن عليها، واستغنى عن بيان حالها، بما قصَّ مِنْ حال البقرات. فلما (¬1) استيقظ من منامه، اضطرب بسبب أنَّهُ شاهَدَ أنَّ الناقص الضعيفَ، استولى على الكامل القوي، فشهدت فطرته بأنَّ هذه الرؤيا صورة شر عظيم، يقع في المملكة إلا أنه ما عَرَفَ كَيفية الحال فيه، فاشتاقَ ورغِبَ في تحصيل المعرفة بتعبير رؤياه، فجمع أعْيَانَ مملكته من العلماء والحكماء، وكذا الكهنة والمنجمين، وأخْبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا؛ ليكون ذلك سببًا لخلاص يُوسُفَ من السجن، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} والأشراف من قومي المعبرون للرؤيا فهو خطاب للأشراف من العلماء، والحكماء، أو للسحرة، والكهنة، والمنجمين، وغيرهم {أَفْتُونِي} وأجيبوا لي {فِي} تأويل {رُؤْيَايَ} هذه؛ أي: عبِّروها لي وبيِّنوا حكمَها، وما تؤول إليه من العاقبة {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}؛ أي: إن كنتم تعلمون تعبيرَ جنس الرؤيا، وتفسيرَ المنام؛ أي: عبروها (¬2) لي إنْ كنتم تعبرون الرؤيا، وتبينونَ المعنى الحقيقيَّ المرادَ من المعنى المثاليّ، فيكون حالكم حالَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[44]

من يعبرُ النَّهْرَ من ضفةٍ إلى أخرى. وأصلُ العبارة (¬1): مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شَاطِئَه، فعابرُ الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها. قال الزجاج: (اللام) في (للرؤيا) للتبيين؛ أي: إن كنتم تعبرون، ثمّ بَيَّن فقال: (للرؤيا). وقيل: هي للتقوية وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفَواصل. 44 - وجملة قوله: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قال الملأ للملك؟ فقيل: قالوا، إلخ. والأضْغَاثُ (¬2): جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما. والأحلامُ: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقةَ لها، كما يكون من حديث النفس، ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من أو من قبيل إضافة لجين الماء، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رُؤْيَا واحدة مبالغةً منهم، في وصفها بالبطلان، ويجوز أن يَكُونَ رأى مع هذه الرؤية غيرها مما لم يَقُصَّه الله تعالى علينا، أو لتضمنها أشياءً مختلفةً من السبع السمان، والسبع العجاف: والسنابل السبع: الخضر والأخر اليابسات؛ أي: قالوا هذه الرؤيا أضْغَاثُ أحلام؛ أي: أخالِيطُ الأحلام وأباطيلها وأكاذيبها من حديث نفس أو وسوسة شيطانٍ؛ أي: هذه أحلام مختلطَةُ ورؤيا كاذبة، لا حقيقةً، ولا معنى لها {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ}؛ أي: بتعبير المنامات الباطلة التي لا أصل لها {بِعَالِمِينَ}؛ لأنه لا تأويلَ لها، وإنما التأويل للمنامات الصادقةِ لا لأنَّ لها تأويلًا، ولكن لا نعلمه. قال الزجاج: المعنى: بتأويل الأحلام المختلَطَة، نفُوا عن أنفسهم عِلْمَ ما لا تأويلَ له، لا مطلقَ العلم بالتأويل. وقيل: إنَّهُم نَفَوْا عن أنفسهم عِلْمَ التعبير مطلقًا، ولم يَدَّعُوا أنه لا تعبيرَ لهذه الرؤيا. وقيل: إنهم قَصدوا مَحْوَها من صدرِ المَلِكِ حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه مِنْ نَفْيِ العلم حقيقةً. ويجوز (¬3) أن يكون ذلك اعترافًا منهم بقصور علمهم، وأنَّهم لَيسوا بِنَحَارِير في تأويل الأحلام، مع أنَّ لها تأويلًا فكأنهم قالوا: هذه الرؤيا مختلطة من أشياء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[45]

كثيرة، والانتقال فيها من الأمور المخَيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية، ليس بسهلٍ، وما نحن بمتبحِّرين في علم التعبير، حتى نهتدي إلى تعبير مثلها، ويَدُلُّ على قصورهم قول الملك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، فإنه لو كان هنا متبحِّر: لبت القولَ بالإفتاء، ولم يعلِّقْه بالشرطِ، وهو اللائحُ بالبال، وعلى تقديرِ تبحرهم عَمى اللَّهُ عليهم، وأَعْجَزَهم عن الجواب؛ ليصير ذلك سببًا لخلاص يوسف من الحبس، وظهور كماله وفَضْلِهِ. وقرأ (¬1) أبو جعفر بالإدغام في (الرؤيا) وبَابُه (بعد) قلب الهمزة واوًا، ثمَّ قلبها ياءً لاجتماع الواو والياء، وقد سَبَقَتْ إحداهما بالسكون، ونصُّوا على شُذُوذِه؛ لأنَّ الواوَ هي بدلٌ غيرُ لازم و (اللام) في {لِلرُّؤْيَا} مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله، إذا تقدَّمَ عليه، فلو تأخَّرَ لم يَحْسُن ذلك بخلاف اسم الفاعل، فإنه لِضَعْفِهِ قد تَقوَّى بها، فتقول: زيد ضاربٌ لعمرٍو فصيحًا. وقد كان حديث الملك في رؤياه، مع كهنته، وعلمائه، ورجال دولته، مذكرًا للذي نجا من الفَتَيَيْنِ بِيُوسُفَ، وحُسْنِ تعبيره للرؤيا بعد أن مضَى على ذلك مدَّةً من الزمان، كما يشير إلى هذا ما بعده. 45 - {وَقَالَ الَّذِي نَجَا} وخرج من السجن {مِنْهُمَا}؛ أي: من صاحبي يوسف، وهو السَّاقي {و} الحال أنه قد {ادَّكَرَ}؛ أي: قد تذكَّر يوسفَ وما قاله {بَعْدَ أُمَّةٍ}؛ أي: بعد مدة طويلة من الزمان. وادّكر: أصله: إذْتكر، فقلبت التاء دَالًا، والذال دالًا، وأدغمت كما سيأتي في مباحث الصرف. أي: تذكَّر (¬2) الناجي منهما يوسفَ، وتأويلَه رؤياه، ورؤيا صاحبه، وطَلَبَه أن يَذْكُره عند الملك، فجَثى بين يَدَي الملك؛ أي: جَلَس النَّاجِي على ركبتيه، قُدَّامَ الملك فقال للملك: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: أنا أُخبركم {بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: بتأويل هذا المنام الذي أَشْكَلَ عليكم وتعبيره. خَاطبه بلفظِ الجمع تعظيمًا له {فَأَرْسِلُونِ}؛ أي: فابعثون إلى السجن، فإن فيه رجلًا حكيمًا من آل يعقوب، يقال له: يُوسُفُ يعرِفُ تعبير الرؤيا، قد عَبَّر لنا قبلَ ذلِكَ فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فاعتذَرَ إليه، فاسْتَفْتَاه فيما عَجَزُوا عنه، 46 - وقال: يا {يُوسُفُ}، ويا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

{أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}؛ أي: أيها البالغ غاية الكمال في الصدق، وإنما وَصَفَهُ بذلك، لأنه جَرَّب أحوالَه، وعرف صِدْقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه. وجملةُ مجيء الرسول ليوسف في السجن أربعَ مرات، الأولى في قوله: {فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ}، والثانية في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، والثالثة في قوله: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} إلخ، والرابعة في قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} إلخ؛ أي: يا يُوسُفُ البالغُ غَايَةَ الكمال بصدقك في أقوالك وأفعالك، وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام {أَفْتِنَا}؛ أي: أخْبِرنَا، وبيّنَ لنا {فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}؛ أي: أخْبِرْنا في رؤيا مَنْ رَأَى في منامه سبع بقرات سمان، يَبْتَلِعهُنَّ سبعُ بقرات مهازِيلُ، وفي رؤيا مَن رأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خضر، وسبعًا أخرى يابسات، فإنّ الملِكَ قَدْ رَأَى هذه الرؤيا، وعَجَز المعبّرون عن تعبيرها. ففي قوله (¬1): {أَفْتِنَا} مع أن المستفتي واحد إشعارٌ بأن الرؤيا لَيْسَتْ له، بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة، وأنه في ذلك سَفِيرٌ، ولم يُغَيّر لفظ الملك، وأصاب فيه، إذ قد يكون بعض عبارات الرؤيا متعلقة باللفظ {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ}؛ أي: إلى الملك ومَنْ عنده من الملأ، وأعود إليهم بفَتْوَاك {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما تأتي به في تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فَضْلَكَ ومعرفِتَكَ فنَّ التعبير، فيطلبوك ويُخَلِّصوك من محنتك. والمعنى: أفتِنا (¬2) في هذا المنام الذي رآه الملك، وإنّي لأرجو أن يحقِّقَ اللَّهُ أمَلَكَ بالخروج من السجن، وانتفاعَ المَلِكِ وملئه بفضلك، وعِلْمِك، وإنَّما لم يبتَّ الكلامُ فيهما لأنه لم يكن جازمًا بالرجوع، فرُبَّما اخْتَرَمَتْهُ المنية دونه، ولا يُعْلِمهم. ذكره "البيضاوي". وقرأ (¬3) الجمهورُ: {وَادَّكَرَ} بالدال المهملة المشدَّدة. وقرأ الحسن: {واذكر} بإبدال التاء ذالًا، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشْهَبُ العقيليُّ: {بعد إمَّة} بكسر الهمزة؛ أي: بعدَ نعمة أنْعَم الله عليه بالنجاة من القَتْل. وقال ابن عطية: بعد نعمةٍ أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي

[47]

من السجن، والإمَّةُ النِّعْمَةُ قال الشاعر: أَلاَ لاَ أَرَى ذَا إِمَّةٍ أَصْبَحَتْ بِهِ ... فَتَتْرُكُهُ الأيَّامُ وَهِيَ كَمَا هِيَا قال الأعلم: الإمَّةُ النِّعمة، والحالُ الحَسَنَةُ. وقرأ ابنُ عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادةُ، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عَمرو: {بعد أَمَةٍ} بفتح الهمزة، والميم مخففةً، وهاءٍ، والأَمَهُ: النِّسيانُ. وكذلك قرأ ابنُ عُمَرَ، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم. وقرأ عِكْرَمة، وأيضًا مجاهد، وشبيل بن عزرة: {بعد أَمَهٍ} بسكون الميم مصدر أمَهَ على غير قياس. وقال الزمخشري: ومَنْ قرأ بسكون الميم فَقَدْ أخطأ، انتهى. وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى القرَّاء. وقرأ الحسن: {أنا آتيكم} مضارعٌ آتى مِن الإتْيان، وكذا في مصحف أُبيٍّ. وقرأ يعقوب: {فأرسلوني} بالياء. 47 - وجملة قوله: {قَالَ تَزْرَعُونَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعةٌ في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال يوسف في التأويل؟ فقيل: قال يوسفُ لهم: تزرعون إن شاء الله تعالى في المستقبل. {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}؛ أي: متواليةً متتابعةً، فدأبًا مصدرٌ واقع موقعَ الصفة؛ أي: دائبةً متواليةً فهو مصدرٌ دَأَب في العمل، إذا جَدَّ فيه، وتعبَ، أو واقع موقِعَ الحال من فاعل {تَزْرَعُونَ} بمعنى دائبين؛ أي: مُستَمَرِّينَ على الزراعة على عادتكم بجِدٍّ واجتهاد. وقرأ حفص: (دَأَبًا) بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وهما مصدران لدأب. والفرق بين الحرثِ والزرع أنَّ الحرثَ إلقاء البذْر، وتهيئة الأرضِ، والزرعُ مراعاتُه، وإنباتُه. فعَبَّر يوسف عليه السلام السبعَ البقراتِ السمانَ بسبع سنين فيها، خصبٌ والعجافَ بسبع سنين فيها جَدْبٌ. وهكذا عبَّر السبع السنبلات الخضرَ، والسبع السنبلات اليابسات، واستَدَلَّ بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله: {فَمَا حَصَدْتُمْ} وقطعتم من الزروع في كل سنة من السنين المُخْصِبة {فَذَرُوهُ}؛ أي: فاتركوا ذلك المحصودَ {فِي سُنْبُلِهِ}؛ أي: كَوافرِهِ، وبقَصَبِهِ ليكون القصب عَلَفًا للدوابِّ، ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[48]

تَدُوسوه، وتفصلوه عن سنبله، لئلا يأكله السُّوسُ كما هو شأن غلال مصر، ونواحيها، فإن ذلك أبقى له على طول الزمان. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} في هذه السنين المخصبة؛ فإنه لا بدَّ لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها، وقتَ حاجتكم إليه، واقتصر على استثناء المَأْكُول دونَ ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم؛ لأنه قد علم من قوله: {تَزْرَعُونَ}. وفيه إرشاد منه عليه السلام إلى التقليل في الأكل. وقرأ السلمي: {مما يأكلون} بالياء على الغيبة؛ أي: يأكل الناس، وهذا تأويل السبع السمان، والسبع الخضر. 48 - {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعدِ السبع السنين المخصِبَة {سَبْعٌ شِدَادٌ}؛ أي: سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس، وهذا تأويل السبع العجاف، والسبع اليابسات، {يَأْكُلْنَ}؛ أي: يأكل أهلُهُنَّ؛ أي: يأكل أهل السبع الشداد فيهن {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}؛ أي: ما ادَّخرتم لأجلهن مِن الحبوب المتروكة في سَنَابِلِها. وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، فهو من باب نهارُه صائمٌ؛ أي: تأكلون الحَبَّ المزروعَ وَقْتَ السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}؛ أي: مما تَحْبِسُون من الحب لتزرعوا به, لأن في استبقاء البذر تحصين الأَقْوات. وقال أبو عبيدة: معنى تُحْصِنُون تُحْرِزُون. وقيل: تَدَّخِرُون للبَذْرِ. والمعنى واحدٌ: فَأَكْلُ ما جُمِع أيامَ السنين المخصبة في السنين المجدبة، تأويل ابتلاع العجاف السمان. 49 - {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ما ذُكِرَ من السنين المجدبات {عَامٌ}؛ أي: سنة {فِيهِ}؛ أي: في ذلك العام {يُغَاثُ النَّاسُ}؛ أي: يمطر الناسُ، وينقذون فيه من كرب الجدب بالغيث {وَفِيهِ}؛ أي: وفي ذلك العام {يَعْصِرُونَ} ما منْ عادته أن يُعْصَر كالعنب، والقصب، والزيتون، والسمسم، ونحوها من الفواكه لِكَثْرَتِها. وقيل: معنى {يَعْصِرُونَ}: يَحْلِبون الضُّروعَ. وقيل معناه: يمطرون. وقيل معناه: ينجون من الشدة. وعلى هذين المعنيَيْنِ يقرأ بالبناء للمفعول. قال

[50]

أبو حيان (¬1): والجمهور على أنه من عَصَر النباتَ كالعنب، والقصب، والفجل، وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة، والحلب منه, لأنه عَصْرٌ للضروع. وروي أنهم لم يَعْصِرُوا شيئًا مدة الجدب، انتهى. وهذا مِن (¬2) مدلولات المَنام, لأنه لما كانت العجاف سبعًا دَلَّ ذلك على أنَّ السِّنينَ المجدبة لا تزيدُ على هذا العدد. فالحاصلُ بعده: هو الخِصبُ على العادة الإلهية حيث يُوسِّع الله سبحانه وتعالى على عباده بعد تضييقه عليهم. وقيل: إنَّ الإنباءَ بهذا العام زَائِدٌ على تأويل الرؤيا, ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلَّا بِوَحي من الله عَزَّ وَجَلَّ. وقرأ (¬3) الأخوان حمزة، والكسائي: {تعصرون} بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة. وقَرأ جعفر بن محمَّد، والأعرج، وعيسى البصرة: {يُعصَرون} بضم الياء، وفتح الصاد مبنيًّا للمفعول. وعن عيسى أيضًا: {تعصرون} بالتاء على الخطاب مبنيًّا للمفعول، ومعناه: يُنْجَونَ من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}. وحكى النقاش أنه قُرِىء: {يعصرون} بضم الياء وكسر الصاد، وشدِّها من عَصَّر مشددًا للتكثير. وقرأ زيد بن علي: {وفيه تعصرون} بكسر التاء، والعين، والصاد، وشدها وأصلُه تعتصرون فأدغم التاء في الصاد، ونقَلَ حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاءِ لحركة العين، واحتمل أن يكونَ من اعتصر العنبَ، ونحوَه، ومن اعتصر بمعنى نجا. 50 - فلما رجع الساقي إلى المَلِك وأخْبَره بما ذكره يوسف استَحْسَنَه المَلِك {وَقَالَ الْمَلِكُ}؛ أي: ملك مصر، وهو رَيَّان بن الوليد {ائْتُونِي بِهِ}، أي: جيئوني بيُوسُفَ عليه السلام كي أستمع كَلاَمَه مِنْ فمه، وأعْرِفُ دَرَجَة عَقْلِهِ، وأعلم تفضيلَ رَأْيِهِ {فَلَمَّا جَاءَهُ}؛ أي: يوسف {الرَّسُولُ}؛ أي: رسول الملك، وهو الساقي، وبلغه أمر الملك، وطلب إليه إنفاذه {قَالَ} يوسف للرسول {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}؛ أي: سيدك قبل شخوصي إليه، ومثولي بَيْنَ يديه {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} والبَالُ هو (¬4) الأمر الذي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

يَبْحَثُ عنه، ويُهْتَمُّ به؛ أي: واسأله عن حال النسوة اللاتي قطَّعْنَ أيدِيَهُنَّ ليعرِفَ حَقِيقةَ أمره؛ إذ لا أحبُّ أن آتيه، وأنا متَّهَمٌ بقضيَّةٍ عوقبت من أجلِهَا بالسجن، وقد طال مكثِي فيه دُونَ تعرف الحقيقة، ولا البحث في صميم التهمة. ولم يذكر (¬1) سيدته تأدُّبًا ومراعاةً لحقها، واحترازًا من مكرها، حيث اعتقدَها مقيمةً في عَدْوَةِ العَداوة، وأما النسوة فقد كان يَطْمَعُ في صَدْعهن بالحقِّ وشهادتهن بإقرارها، بأنها رَاوَدَتهُ عن نفسِهِ {فَاسْتَعْصَمَ}. قال العلماء (¬2): إنما أبَى يُوسُفَ عليه السلام أن يخرجَ من السجن، إلا بعد أن يتفحَّص المَلِكُ عن حاله مع النسوة. لتنكشفَ حقيقة الحال، عنده لا سيما عند العزيز، ويَعلم أنه سجِنَ ظُلمًا، فلا يقدِر الحاسد إلى تقبيح أمره، وليظْهَر كمال عقله، وصبْرِه ووقَارِه، فإن مَنْ بَقِيَ في السجن ثنتي عشرة سنةً إذا طلبه الملك، وأمر بإخراجه، ولم يبادر إلى الخروج، وصَبَرَ إلى أن تتبين براءتَهُ من الخيانة في حق العزيز، وأهله دَلَّ ذلك على براءته من جميع أنواع التُّهَمِ. وفي الحديث: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فلا يقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَم". ومنه قال عليه السلام للمارين به في معتكفه وعنده بعض نساءه: "هِيَ فُلانةُ" نفيًا للتهمة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اسْتَحْسَنَ حَزْمَ يُوسُفَ وصَبْره حين دعاه الملك، فلم يُبَادِر إلى الخروج حيث قال عليه السلام: "لقد عَجِبْتُ من يوسُفَ وكرمه، وصبْرِه، والله يَغْفِرُ له حينَ سُئل عن البقرات العِجاف والسمانِ، ولو كنتُ مَكَانَه ما أخبرتهم حتى اشْتَرطت أن يُخْرِجوني، ولقد عَجِبْتُ حين أتاه الرسول فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، الآية. ولو كنت مكانَه ولبثتُ في السجن ما لَبث .. لأسْرَعْتُ الإجابة، وبادَرْتُهم الباب، وما ابتغيت العذرَ، إنه كان حليمًا ذَا أناة". الحِلْمُ، بكسر الحاء: تأخير مكافأة الظُلّم، والأَناة على وزن القَنَاة: التأني وترك العجلة. قال ابن الملك: هذا ليس إخبارًا عن نبينا عليه الصلاة والسلام بتَضَجُّره، وقلة صبره، بل فيه دلالة على مدح صبر يوسف، وترك الاستعجال بالخروج، لِيَزُولَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

عن قلب الملك ما كان مُتَّهَمًا به من الفاحشة، ولا يُنْظَر إليه بعين مشكوكة، انتهى. وقال الطَّيبِي: هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التواضع لا أنه كان مستعجلًا في الأمور غير متأن، والتَّواضُعُ لا يصغِّر كبيرًا، ولا يَضعُ رفيعًا، بل يُرحِّب لصاحبه فَضلًا، ويُورِثُه جَلالًا وقدرًا. {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى، أو إن سيدي (¬1) ومربي، وهو ذلك الملك، قاله ابن عطية، ورُدَّ عليه. {بِكَيْدِهِنَّ}؛ أي: بمكرهن {عَلِيمٌ} حين، قلنَ لي: أطع مَوْلاَتَكَ. وفيه استشهاد بعلم الله على أنهن كِدْنَه، وأنه بريء من التهمة كأنه قيل: احمله على التعرف، يتبيَّنُ له براءة ساحتي، فإنَّ الله يعلم أنَّ ذلك كان كيدًا منهن. والمعنى: أنه (¬2) تعالى هو العالم بخفيات الأمور، وهو الذي صرَف عنِّي كيدهُن، فلم يَمْسَسْنِي منه سوء. وقد دلَّ هذا التمهل، والتأني من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور: 1 - جميلُ صبره، وحُسْنُ أناته، ولا عَجَب، فمِثْلُه ممَّن لقيَ الشدائد جدير به أن يكون صبورًا حليمًا، ولا سيما ممن ورَثَ النبوة كابرًا عن كابر، وقد وَرد في "الصحيحين" مرفوعًا: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدَّاعي"، وفي رواية أحمد: "لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغَيْتُ العُذْرَ". 2 - عِزَّة نفسه وصون كرامته، إذ لم يَرْضَ أن تكون التهمة بالباطل عالقةً به، فطلب إظهار براءته، وعفَّتِه عن أن يَزِنَ بريبة، أو تَحُومَ حول اسمه شائبة السوء. 3 - أنه عَفَّ عن اتهام النسوة بالسوء، والتصريح بالطعن عليهن، حتى يتحقق الملك بنفسه، حِينَ ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي، ويعلمُ ذلك ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[51]

منهن حينَ الإجابة. 4 - أنه لم يذكر سيدَتَهُ معهن، وهي السبب في تلك الفتنة الشَّعواء وَفاءً لزوجها ورحمةً بها، وإنما اتَّهمها أولًا دِفاعًا عن نفسه، حين وَقَفَ موقفَ التهمة لدى سيدها، وبعد أن طَعنَتْ فيه. وقرأ (¬1) أبو حيوة، وأبو بكر، عن عاصم في رواية {النُّسوة} بضم النون وقرأت فرقة {اللائي} بالياء وكلاهما جمع التي. ومعنى قوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}؛ أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى عَالِمُ بصنيعهنّ، وما احتَلْنَ في هذه الواقعة من الحِيل العظيمة؛ فلمَّا أبي يُوسُفُ أن يَخْرُجَ من السجن، قبل تبين الأمر رَجَعَ الرسول إلى المَلِكِ، فأخبره بما قال يوسف عليه السلام، فأمر الملك بإحضارهنَّ، وكانت زليخا معهن، 51 - فلما حَضَرْنَ {قَالَ} الملك لهن {مَا خَطْبُكُنَّ}؛ أي: ما شأنكن وأمركن {إِذْ رَاوَدْتُنَّ} وطالبتن {يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} والخطب: الشَّأْنُ (¬2) العظيم الذي يقع فيه التخاطب، إما لغرابته، وإما لإنكاره، ومنه قولُه تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}، وعن موسى عليه السلام: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}. وإنما (¬3) خاطَبَ الملكُ جميعَ النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأةُ العزيز، وَحْدَها لِيَكُون أسْتَر لها. وقيل: إنَّ امرأة العزيز راودته عن نفسه، وَحْدَها وسَائِر النسوة أمَرْنَه بطاعتها، فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب؛ أي: فلمَّا اجْتَمَعْنَ بأمره سألهن بقوله: ما خطبكن الذي حَمَلَكُنَّ على مراودته عن نفسه، هل كان عن ميل منه إليكن؟ وهل رأيتُنَّ منه مواتاة واستجابةً بعدها؟ وماذا كان السببُ في إلقائِهِ في السجن مع المجرمين؟ {قُلْنَ}؛ أي: جماعةُ النسوة مجيبات للملك {حَاشَ لِلَّهِ}؛ أي: مَعاذًا وتنزيهًا لله تعالى عن كلِّ ما لا يليقُ به. وأصله: حَاشَا بالألف فحُذِفَت للتخفيف، وهو في الأصل حَرفٌ وضِعَ هنا موضعَ المصدر؛ أي: التنزيه، و (اللام) لبيان من يبرأ، وينزَّهُ وقد سبقَ في هذه السورة، فهو تنزيه له ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[52]

تعالى، وتعجب من قدرته على خَلْقٍ عَفيفٍ مِثله. {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}؛ أي: خيانَةٍ في شيء من الأشياء؛ أي: تَنْزِيهًا لله سبحانه وتعالى، ما عَلِمْنَا على يوسف سوءًا، ولا ذَنْبًا يَشِينَهُ ويسوؤه لا قليلًا، ولا كثيرًا في شيء من الأشياء. {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} زُليخَا {الْآنَ}؛ أي: في هذا الوقت الحاضر {حَصْحَصَ الْحَقُّ}؛ أي: ظَهَرَ، وتَبَيَّنَ أنه مع يوسف بعد أن كانَ خَفِيًّا؛ أي: إنَّ الحقَّ في هذه القضية كان في رَأْي مَنْ بَلَغهم موزَّع التبعة بيننا معشر النسوة، وبين يُوسُفَ لكل منَّا حِصَّة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظَهَرَ الحق في جانب واحد، لا خَفَاءَ فيه، وهُنَّ قد شَهِدْنَ بما علِمْنَ شهادة نَفْي، وها أنا ذَا أشهد على نفْسِي شهادةَ إيجاب بقولي: {أَنَا رَاوَدْتُهُ} وطلبته {عَنْ نَفْسِهِ} لا أنَّه راودني بل اسْتَعْصَمَ، وأعرض عني {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإنَّ يوسف {لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله: حين افتريت عليه {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. وإنَّما أقرَّت زُليخَا واعترفت بذنبها، وشَهِدَتْ ببراءة يوسف من الذنب، مُكَافأةً ليوسف على فعله، حيثُ تَرَكَ ذِكْرَهَا، وقال: ما بال النسوة اللَّاتي قَطَّعْنَ أيديهن، مع أنَّ الفِتَنَ كُلَّها إنما نشأت من جهَتِها، وقد عَرَفَتْ أنَّ ذلك لرعاية حقها, ولتعظيمها, ولإخفاء الأمر عليها. وفي هذا الاعتراف شهادةٌ مُريحة من امرأة العزيز، ببراءة يوسف من كلِّ الذنوب، وطهارته من كلِّ العيوب. 52 - {ذَلِكَ} الاعترافُ منّي بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علِمْتُهُ منه {لِيَعْلَمَ} يوسف {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أَنَلْ من أمانته، أو أطْعَنَ في شَرَفِه، وعفَّتِه بالغيبة، بل صرَّحَت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه، فاستعصم، وها أنا ذا أُقِر بهذا أمام الملك، ورجال دولته، وهو غائب عنَّا، وإن كنتُ قد قلت فيه ما قلت في حضرته، ثمَّ بالغت في تأكيد هذا القول فقالت {و} ليعلم يوسف {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}؛ أي: لا ينفذه، ولا يسدِّدُهُ بل يبطله، ويُزْهِقُهُ، وتكون عاقبته الفَضِيحَةُ، والنَّكال، ولقد كِدنا له، فصرف رَبّهُ عنه كيدنا، وسجَّنَّاه فبَرَّأه الله تعالى، وفَضَحَ مكرنا حتى شَهِدْنَا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب، والمقام المنيف، ببراءته من كل

العيوب، وسلامته من كل سوء. وعلى الجملة فالتحقيقُ أسْفَرَ عن أنَّ يُوسُفَ كان مثلَ الكَمال الإنساني في عفته ونزاهته، لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأنَّ امرأة العزيز أقرَّتْ في خَاتِمَةِ المطاف بذنبها في مجلس الملك، إيثارًا للحق، وإثباتًا لبراءة يُوسُفَ عليه السلام. تنبيه: واختلفَ المفسِّرون في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} على قولين (¬1): أحدهما: أنه من قول المرأة، وهو الظاهر كما جَرَيْنا عليه في حَلِّنا سابقًا. ووجه هذا القول: أنَّ هذا كلام متَّصِلٌ بما قبله، وهو قول المرأة: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}، ثم قالت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلخ. والمعنى عليه (¬2): كما تقدَّم ذلك الإقرار، والاعتراف بالحق، ليعلم يوسُفُ أنّي لم أخنه في غيبته، وهو في السجن، ولم أكذب عليه بذنب، وهو بريء منه، بل قلت: أنا راودته عن نفسه، ثم اعتذرت عمَّا وقعت فيه، ممَّا يقع فيه البشرُ من الشهوات بقولها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. والنفوسُ مائِلةٌ إلى الشهوات، أمَّارةٌ بالسوء. وقال الزمخشري: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} مع ذلك من الخيانة، فإني قَدْ خنته حين قذفته وقلتُ: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ} تريد الاعتذارَ لما كان منها؛ بأنَّ كل نفس لأمارة بالسوء إلّا نفسًا رَحِمَها الله تعالى بالعصمة، إنَّ ربي غفورٌ رحيمٌ، استغفرت ربَّها واسْتَرْحَمْتُهُ ممَّا ارتَكَبْت. والقول الثاني: أنه من كلام يُوسُفَ عليه السلام اتصلَ بقول امرأة العزيز: أنا راودتُه عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين، لذلك مع غموض فيه؛ لأنه ذَكَرَ كلامَ إنسان، ثمَّ أتْبَعَه بكلام إنسان آخر، من غير فصل بين الكلامين. وقال الفراء: ولا يبعد وصْلُ كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلَّتِ القرينة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

الفارقة لكل منهما إلى ما يليق به. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} هذا من قول الملأ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} هذا من قول فرعون. ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هذا من كلام بلقيس {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} من قوله عَزَّ وَجَلَّ تصديقًا لقولها. ومعنى الآية على هذا القول {ذَلِكَ}؛ أي: طَلَب (¬1) البراءة أو ذلك التثبتُ، والتَّشَمُّرُ لظهور البراءة {لِيَعْلَمَ} أي العزيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في حرمه؛ لأنَّ المعصية خيانة {بِالْغَيْبِ}؛ أي: بظهر الغيب، وهو حال من الفاعل؛ أي: لم أخنْهُ، وأنا غائِبٌ عنه خفي على عينه، أو من المفعول؛ أي: وهو غائب عني خفي عن عيني، أو ظرف؛ أي: بمكان الغيب؛ أي: وراءَ الأستار والأبواب المغلَقة. {وَأَنَّ اللَّهَ}؛ أي: وليعلم العزيز أنَّ الله سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي} ولا ينفذ، ولا يسدِّد، ولا يتمِّم {كَيْدَ الْخَائِنِينَ} بل يبطله، ويزهقه كما لم يسدد كَيْدَ امرأته، حتى أقرت بخيانة أمانة زوجها، وسُمِّي فعل الخائن كيدًا؛ لأنَّ شأنَه أنْ يُفْعَلَ بطريق الاحتيال، والتلبيس، فمعنى هداية الكيد، إتمامُه وجعله مؤدِّيًا إلى ما قُصِدَ به. وفيه تعريض، بامرأة العزيز في خِيَانَتِها أمانَتَهُ، وبنفس العزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسِ يوسف بعدما رأوا آيات نَزَاهَتِه. ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته، وأنه لو كان خائنًا .. لمَا هَدَى الله أمره وأحسن عاقِبَتَهُ. وفيه إشارة إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى يُوصِلُ عبادَه الصَّادِقين بعد الغمِّ إلى السرور، ويُخرِجُهم من الظلمات إلى النور. وفي (¬2) الآية دلالة على أنَّ الخيانة من الصفات الذميمة، كما أنَّ الأمانَةَ من الخصال المحمودة. ثمَّ أراد (¬3) يُوسُفُ أن يَتَوَاضَعَ لله، ويهضم نفسه لئلا يكون مُزَكِّيِّا لها, ولحالها في الأمانة مُعْجِبًا، وليبيِّنَ أنَّ ما فيه من الأَمانةِ ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله، ولُطْفِهِ، وعصمته فقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} من الزلل، وما أشهدُ لها بالبراءة بالكلية، ولا أزكِّيها {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} بالعصمةِ {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وعلى هذا القول الأخير: اختلفوا (¬1) أيْنَ كان يُوسُفُ حين قال هذه المقالة على قولين؛ أحدهما: أنَّه كان في السجن، وذلك أنَّه لمّا رَجَعَ إليه رسولُ الملك، وهو في السجن، وأَخْبره بجواب امرأة العزيز، للْمَلِك حينئذ قال: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج. والقولُ الثاني: أنه قال هذه المقالَةَ عند حضوره عند الملك، وهذه روايةُ عطاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما، والله أعلم. الإعراب {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}. {وَدَخَلَ} {الواو} عاطفة. (دخل) فعل ماض. {مَعَهُ} ظرف، ومضاف إليه متعلق به. {السِّجْنَ} منصوب على الظرفية متعلق به. {فَتَيَانِ} فاعل مرفوع بالألف، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فسجنوه، ودَخَل معه السجن. {قَالَ أَحَدُهُمَا} فعل وفاعل، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئتَ قلت: {إِنِّي} ناصب واسمه. {أَرَانِي} فعل ومفعول أول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على أحدهما. {أَعْصِرُ خَمْرًا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على أحدهما، وجملة {أَعْصِرُ} في محل النصب مفعول ثاني لـ {أَرَى} الحلمية، وجملة {أَرَانِي} في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَقَالَ الْآخَرُ} فعل وفاعل، معطوف على قال الأول. {إِنِّي} ناصب واسمه. {أَرَانِي} فعل ومفعول أول و (نون) وقاية وفاعله ضمير يعود على الآخر. {أَحْمِلُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الآخر. {فَوْقَ رَأْسِي} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {أَحْمِلُ}. {خُبْزًا} مفعول لـ {أَحْمِلُ}. {تَأْكُلُ الطَّيْرُ} فعل وفاعل. {مِنْهُ} متعلق به، وجملة ¬

_ (¬1) الخازن.

{تَأْكُلُ} صفة لـ {خُبْزًا}، ولكنّها صفةٌ سببية، وجملة {أَحْمِلُ} في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَانِي}، وجملة {أَرَانِي} في محل الرفع خبر {إِنِّي}، وجملة {إِنِّي} في محل النصب مقول {قَالَ}. {نَبِّئْنَا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يوسف. {بِتَأْوِيلِهِ} متعلِّق به، والجملة مستأنفة. {إِنَّا} ناصب واسمه. {نَرَاكَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الفتيين. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان، أو حال من (الكاف)، وجملة {نَرَاكَ} في محل الرفع خَبر (إنَّ)، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} إلى قوله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلتَ: {لا} نافية. {يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {تُرْزَقَانِهِ} فعل ونائب فاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {طَعَامٌ}. {إلا} أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. {نَبَّأْتُكُمَا} فعل وفاعل ومفعول. {بِتَأْوِيلِهِ} متعلِّق به، والجملة في محل الجر بإضافة المستثنى المحذوف، والتقدير: لا يأتيكما طعام ترزقانه في حال من الأحوال إلا في حال تنبئني إياكما بتأويله. {قَبْلَ} منصوب على الظرفية. {أَنْ يَأْتِيَكُمَا} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الطعام، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: قبل إتيانه إياكما، والظرفُ متعلق بـ {نَبَّأْتُكُمَا}. {ذَلِكُمَا} مبتدأ. {مِمَّا} جار ومجرور خبرُ المبتدأ، والجملة مستأنفة. {عَلَّمَنِي رَبِّي} فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما علَّمنِيه ربي، والجملة صلةٌ لـ (ما) أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابطُ الضمير المحذوف. {إِنِّي} ناصب واسمه. {تَرَكْتُ} فعل وفاعل. {مِلَّةَ قَوْمٍ} مفعول، ومضاف إليه، وجملةُ {تَرَكْتُ} في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة على كونها مقولَ {قَالَ}. {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} متعلق به والجملة في محل الجر

صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَهُمْ} مبتدأ. {بِالْآخِرَةِ} متعلق بـ {كَافِرُونَ}. {هُمْ} الثاني تأكيد للأول. {كَافِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة {لَا يُؤْمِنُونَ} على كونها صفةً لـ {قَوْمٍ}. {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. {وَاتَّبَعْتُ} فعل وفاعل. {مِلَّةَ آبَائِي} مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {تَرَكْتُ} على كونها خبرًا لـ (إن). {إِبْرَاهِيمَ} بدل من {آبَائِي} بدل تفصيل من مجمل مجرور بالفتحة. {وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} معطوفان على {إِبْرَاهِيمَ}. {مَا} نافية. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {لَنَا} خبرها مقدم على اسمها. {أَنْ نُشْرِكَ} ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {بِاللَّهِ} متعلق بـ {نُشْرِكَ}. {مِنْ شَيْءٍ} مفعول {نُشْرِكَ} و (من) زائدة، وجملة {نُشْرِكَ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} والتقدير: ما كان إشراكُنَا بالله شيئًا كائنًا لنا، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {عَلَيْنَا} متعلق بـ {فَضْلِ اللَّهِ}. {وَعَلَى النَّاسِ} معطوف على {عَلَيْنَا}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ناصب واسمه. وجملة {لَا يَشْكُرُونَ} خبر {لكن} والجملة معطوفة على جملة قوله: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، وهو من إضافة الوصف إلى الظرف؛ أي: يا صاحبين لي في السجن، أو من باب الإضافة إلى الشبيه بالمفعول، والمعنى: يا ساكني السجن. {أَأَرْبَابٌ} (الهمزة) للاستفهام التقريري. {أرباب} مبتدأ. {مُتَفَرِّقُونَ} صفة له، والجملة

في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {خَيْرٌ أَمِ} عاطفة متصلة. {اللَّهُ} معطوف على {أرباب}. {الْوَاحِدُ} صفة أولى للجلالة. {الْقَهَّارُ} صفة ثانية له. {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}. {مَا} نافية. {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل. {مِنْ دُونِهِ} متعلق به، والمستثنى منه محذوف تقديره: ما تعبدون من دونه شيئًا. {إِلَّا} أداة استثناء. {أَسْمَاءً} منصوب على الاستثناء. {سَمَّيْتُمُوهَا} فعل وفاعل ومفعول أول. {أَنْتُمْ} تأكيد لتاء المخاطبين، ليُعْطَفَ عليه ما بعده. {وَآبَاؤُكُمْ} معطوف على (تاء) الفاعل والمفعول الثاني لـ {سميتم} محذوف تقديره: سميتموها آلهةً، وجملة {سَمَّى} في محل النصب صفة لـ {أسماء}. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (ما) نافية. {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {بِهَا} متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {مِنْ سُلْطَانٍ} مفعول {أَنْزَلَ} و {من} زائدة. {إِنِ الْحُكْمُ} {إن} نافية. {الْحُكْمُ} مبتدأ. {إلا} أداة استثناء مفرغ. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَمَرَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة على كَوْنِها مقول {قَالَ}. {أَلَّا تَعْبُدُوا} {أن} حرف نصب ومصدر. {لا} نافية. {تَعْبُدُوا} فعل وفاعل منصوب بـ (أن). {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {إِيَّاهُ} ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول {تَعْبُدُوا}، وجملة {تَعْبُدُوا} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أمَرَ بعدم عِبَادَتِكم إلَّا إياه. {ذَلِكَ} مبتدأ. {الدِّينُ} خبره. {الْقَيِّمُ} صفة لـ {الدِّينُ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ناصب، واسمه. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}.

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَمَّا} حرف شرط وتفصيل. {أَحَدُكُمَا} مبتدأ، ومضاف إليه. {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} فعل ومفعولان، و (الفاء) رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها، وفاعله ضمير يعود على الأحد. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {أما} لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}. {وَأَمَّا} {الواو} عاطفة. {أما} حرف شرط. {الْآخَرُ} مبتدأ. {فَيُصْلَبُ} (الفاء) رابطة لجواب {أما}. {يصلب} فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على {الآخر} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {أما}، وجملة {أما} معطوفة على جملة {أما} الأولى. {فَتَأْكُلُ} (الفاء) عاطفة. {تأكل الطير} فعل وفاعل. {مِنْ رَأْسِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة (يصلب). {قُضِيَ الْأَمْرُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {الَّذِي} في محل الرفع صفة لـ {الأمر}. {فِيهِ} متعلق بما بعده. {تَسْتَفْتِيَانِ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير فيه. {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}. {وَقَالَ} {الواو} عاطفة. {قال} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ}. {لِلَّذِي} جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {ظَنَّ} فعل ماض ناسخ، وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة الموصول. {أَنَّهُ نَاجٍ} ناصب واسمه وخبره. {مِنْهُمَا} جار ومجرور حال من الضمير المستتر في {نَاجٍ}؛ أي: حَالَة الناجي من جملة الاثنين، وجملة (أن) في تأويل مصدر سَادٍّ مسدَّ مفعولي {ظَنَّ} تقديره:

وقال للذي ظن نجاته حَالَةَ كونه منهما. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {اذْكُرْنِي} فعل ومفعول و (نون) وقاية وفاعله ضمير يعود على {الناجي}. {عِنْدَ رَبِّكَ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} (الفاء) عاطفة. {أنساه الشيطان} فعل ومفعول أول وفاعل. {ذِكْرَ رَبِّهِ} مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}. {فَلَبِثَ} (الفاء) عاطفة. {لبث} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {فِي السِّجْنِ} متعلق بـ {لبث} والجملة معطوفة على جملة {أنساه}. {بِضْعَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {لبث} بضع مضاف. {سِنِينَ} مضاف إليه. {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}. {وَقَالَ الْمَلِكُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنِّي أَرَى} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي} ناصب واسمه. {أَرَى} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الملك. {سَبْعَ بَقَرَاتٍ} مفعول به، ومضاف إليه. {سِمَانٍ} صفة لـ {بَقَرَاتٍ}. {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ} فعل ومفعول وفاعل. {عِجَافٌ} صفة لـ {سَبْع} وجملة {يَأْكُلُهُنَّ} في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَى} وجملة {أَرَى} في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ} معطوف على {سَبْعَ بَقَرَاتٍ}. {خُضْرٍ} صفة لـ {سُنْبُلَاتٍ}. {وَأُخَرَ} معطوف على {سَبْعَ} لا على {سُنْبُلَاتٍ} ويكون، قد حُذِفَ اسمُ العدد من قوله: {وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} والتقدير: وسبعًا آخر، وإنما حذفَ لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، اهـ "سمين". {يَابِسَاتٍ} صفة لـ {أُخر}. {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. {يا} حرف نداء. {أي} منادى نكرة مقصودة. {ها} حرف تنبيه زائد. {الْمَلَأُ} صفة لـ {أي} وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَفْتُونِي}

فعل وفاعل ومفعول، و (نون) وقاية. {فِي رُؤْيَايَ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونِها جوابَ النداء. {إن} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فعلَ شرط لها. {لِلرُّؤْيَا} (اللام) زائدة في المفعول. {الرؤيا} مفعول مقدم لـ {تَعْبُرُونَ}. {تَعْبُرُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان}، وجواب {إن} الشرطية محذوفٌ معلوم ممَّا قبله تقديره: إن كنتم تعبرون الرؤيا، فأفتوني في رؤياي، وجملة {إن} الشرطية في محلَّ النصب مقول {قال}. {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} إلى قوله: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا} مقول محكي، لـ {قَالُوا}، وإن شئتَ قلت: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه أضغاث أحلام، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما} نافية حجازية، أو تميمية. {نَحْنُ} اسمها أو مبتدأ. {بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما بعده. {بِعَالِمِينَ} خبر {ما} الحجازية أو خبر المبتدأ و {الباء} زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} على كونها مقول {قَالُوا}. {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)}. {وَقَالَ الَّذِي} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَالُوا}. {نَجَا} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {مِنْهُمَا} جار ومجرور حال من فاعل {نَجَا}. {وَادَّكَرَ} {الواو} واو الحال. {ادكر} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي نَجَا}. {بَعْدَ أُمَّةٍ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {ادكر}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نَجَا}. {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ} إلى قوله: {تَزْرَعُونَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت:

{أَنَا} مبتدأ. {أُنَبِّئُكُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي نَجَا}. {بِتَأْوِيلِهِ} مفعول ثان، و (الباء) زائدة، والجملة الفعلية في محل الرفع خَبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَرْسِلُونِ} (الفاء) عاطفة. (أرسلوا) فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو} فاعل، والنون للوقاية و (ياء) المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة (نون) الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ}. {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}. {يُوسُفُ} منادى مفرد العلم حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَيُّهَا} منادى نكرة مقصودة حذفت منه حرف النداء للتخفيف. {الصِّدِّيقُ} صفة لـ {أي} وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {أَفْتِنَا} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جَوابَ النداء. {فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {أَفْتِنَا}. {سِمَانٍ} صفة لـ {بَقَرَاتٍ}. {يَأْكُلُهُنَّ} فعل ومفعول. {سَبْعٌ} فاعل. {عِجَافٌ} صفة لـ {سَبْعٌ}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {سَبْعٌ}، ولكنها سببية، أو في محل النصب حال من {سَبْعٌ}. {وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ} معطوف على {سَبْعِ بَقَرَاتٍ}. {خُضْرٍ} صفة لـ {سَبْعِ}. {وَأُخَرَ} معطوف على {سَبْعِ} على كونه صفة لمحذوف تقديره: وسبعًا أخر مجرور بالفتحة للوصفية، والعدل؛ لأنه معدول عن الآخَر. {يَابِسَاتٍ} صفة لـ {أُخر}. {لَعَلِّي} ناصب واسمه. {أَرْجِعُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي نَجَا}. {إِلَى النَّاسِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لَعَلِّي} وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قال} على كونها مسوقة لتعليل قوله {أَفْتِنَا}. {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبره، وجملة {لعلَّ} في محل النصب مقول {قال} على كونها مسوقة لتعليل الترجي قبلها.

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {تَزْرَعُونَ} إلى قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ} فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {دَأَبًا} مصدر واقع موقع الصفة، فهو صفة لـ {سَبْعَ سِنِينَ}؛ أي: سبع سنين متواليةً متتابعة، أو واقع موقِع الحال، فهو حال من (واو) {تَزْرَعُونَ}؛ أي: حَالَة كونكم متدائبين؛ أي: مستمرين في الزراعة في تلك السبع. {فَمَا حَصَدْتُمْ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنَّكم تزرعون سَبْعَ سنين، وأرَدْتُم بَيَانَ ما تفعلون بالمحصود من الزرع، فأقول لكم: {ما حصدتم}. {مَا} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما على الخلاف المذكور في محله. {حَصَدْتُمْ} فعل، وفاعل في محل الجزم بما، والرابط محذوف تقديره: فما حصدتموه. {فَذَرُوهُ} {الفاء} رابطة الجواب. {ذروه} فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم على كونه جواب الشرط. {فِي سُنْبُلِهِ} متعلق به، وجملة {ما} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قال}. {إلا} أداة استثناء. {قَلِيلًا} منصوب على الاستثناء. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلًا}. {تَأْكُلُونَ} فعل وفاعل صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: مما تأكلونه. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)}. {ثُمَّ} حرف عطف. {يَأْتِي} فعل مضارع. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} متعلق بـ {يَأْتِي}. {سَبْعٌ} فاعل. {شِدَادٌ} صفة أولى له. {يَأْكُلْنَ} فعل وفاعل، والجملة صفة ثانية لـ {سَبْعٌ} ولكنها صفة سببية، وجملة {يَأْتِي} في محل النصب معطوفة على جملة {تَزْرَعُونَ} على كونها مقول {قَالَ}. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَأْكُلْنَ}. {قَدَّمْتُمْ} فعل وفاعل. {لَهُنَّ} متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}

أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قدمتموه لهن. {إلا} أداة استثناء. {قَلِيلًا} منصوب على الاستثناء. {مِمَّا} جار ومجرور صفة لـ {قَلِيلًا}. {تُحْصِنُونَ} فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تحصنونه. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}. {ثُمَّ} حرف عطف. {يَأْتِي} فعل مضارع. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} متعلق به. {عَامٌ} فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {ثُمَّ يَأْتِي} الأول. {فِيهِ} متعلق بـ {يُغَاثُ}. {يُغَاثُ النَّاسُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {عَامٌ}. {وَفِيهِ} متعلق بـ {يَعْصِرُونَ}. وجملة {يَعْصِرُونَ} في محل الرفع معطوفة على جملة {يُغَاثُ}. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}. {وَقَالَ الْمَلِكُ} فعل، وفاعل معطوف على محذوف تقديره: فلما رجع الساقي إلى الملك، وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك، وقال: ائتوني به، كما مرَّ في مبحث التفسير. {ائْتُونِي بِهِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {ائتوني} فعل وفاعل، ومفعول. {بِهِ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا} {الفاء} عاطفة. {لما} حرف شرط غير جازم. {جَاءَهُ الرَّسُولُ} فعل ومفعول، وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على محذوف تقديره: فرجع الرسول إلى يوسف من عند الملك ليخرجه من السجن، فلما جاءه الرسول، قال يوسف: ارجع إلى ربك. {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} إلى قوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {ارْجِعْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِلَى رَبِّكَ} متعلق به. {فَاسْأَلْهُ} {الفاء} عاطفة. {اسأله} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة

{ارْجِعْ}. {مَا بَالُ النِّسْوَةِ} {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {بَالُ النِّسْوَةِ} خبر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {سأل}. {اللَّاتِي} صفة لـ {النسوة}. {قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ رَبِّي} ناصب واسمه. {بِكَيْدِهِنَّ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ} خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الملك، والجملة مستأنفة. {مَا خَطْبُكُنَّ} إلى قوله: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} مقول محكي، لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {ما} اسم استفهام للاستفهام الاستخباري في محل الرفع مبتدأ. {خَطْبُكُنَّ} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {خَطْبُكُنَّ} لأنه في معنى الفعل إذ المعنى ما فعلتن، وما أردتن به في ذلك الوقت، اهـ "سمين". {رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ} فعل وفاعل ومفعول. {عَنْ نَفْسِهِ} متعلق بـ {رَاوَدْتُنَّ}، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذ}. {قُلْنَ} فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} مقول محكي لـ {قُلْنَ} وإن شئت قلت {حَاشَ} فعل ماض بمعنى بَعُدَ مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخفيف لكثرة الاستعمال، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق به، ولكنه على حذف مضاف، والتقدير: حاش يوسف عن المعصية لطاعة الله تعالى وخوفه كما ذكره أبو البقاء، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا} نافية. {عَلِمْنَا} فعل وفاعل {عَلَيْهِ} متعلق به. {مِنْ} زائدة. {سُوءٍ} مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}

إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {الْآنَ} ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ {حَصْحَصَ}. {حَصْحَصَ الْحَقُّ} فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتِ}. {أَنَا} مبتدأ. {رَاوَدْتُهُ} فعل وفاعل ومفعول. {عَنْ نَفْسِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَتِ}. {وَإِنَّهُ} {الواو} عاطفة. {إنه} ناصب واسمه. {لَمِنَ} {اللام} حرف ابتداء. {مِنَ الصَّادِقِينَ} جار ومجرور خبر {إن} والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية المذكورة قبلها. {ذَلِكَ} مبتدأ. {لِيَعْلَمَ} {اللام} حرف جر وتعليل. {يعلم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على يوسف على القول، بأنه من كلام زليخا، وهو الظاهر من السياق، أو يعود على العزيز إن قلنا: إنه من كلام يوسف، وفيه تكلف ظاهر كما مرت الإشارة إليه، في مبحث التفسير. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ذلك الاعتراف كائن مني لكي يعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب. {أَنِّي} ناصب واسمه. {لَمْ أَخُنْهُ} جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة في محل الرفع خبر (أن) وجملة (أن) في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم} تقديره: ذلك ليعلم يوسف عدم خيانتي إياه في الغيب. {بِالْغَيْبِ} جار ومجرور إما حال من فاعل {أَخُنْهُ} تقديره: حَالَةَ كوني غَائِبًا عن عينيه أو من المفعول تقديره: حَالَةَ كونه غَائِبًا عن عيني، ويجوز أن تكون (الباء) ظرفية متعلقة بـ {أَخُنْهُ}؛ أي: لم أخنه في مكان الغيب، ذكره "السمين". {وَأَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} المذكورة قبلها على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم} تقديره: ذلك الاعتراف {لِيَعْلَمَ} يوسف عدمَ خيانتي إياه، في الغيب، وعدم هداية الله تعالى كَيدَ الخائنين؛ أي: عَدَمَ إتمامه لهم مرادَهم من الكيد والمكر.

التصريف ومفردات اللغة {وَدَخَلَ مَعَهُ}؛ أي: في صحبته؛ أي: صَاحَبَاهُ في الدخول فَدَخَلَ الثلاثةُ في وقت واحد. {فَتَيَانِ} تثنية فتى قلبت ألفه ياء في التثنية، لكونها أصله؛ لأنه من فتِيَ بوزن رَضِيَ بمعنى شَبَّ، وذلك يدل على أنهما عبدان للملك الأكبر. ويحتمل أن يكون الفتى اسمًا للخادم، وإن لم يكن مملوكًا. {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}؛ أي: عِنبًا فسمَّاه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود. {خُبْزًا} الخُبْزُ معروف، وجمعه خبز ومعانيه خبَّازٌ. {الطَّيْرُ} اسم جنس مفرده الطائر. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}؛ أي: أَخبرنا بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا، والإحسان هنا: بمعنى العلم. وكذا قال الفراء: إن مَعْنَى {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} من العالمين الذين أحسنوا العِلْمَ. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا، إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى أهل السجن. {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ} التَّرْكُ هنا عبارةٌ عن عدم التلبُّس بالشيء من أول الأمر، وعدم الالتفات إليه بالكلية، اهـ "خازن". {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}؛ أي: مُصَاحبين للسجن لطول مقامهما فيه. وقيل: المرادُ يا صاحبي في السجن؛ لأن السِّجْنَ ليس بمصحوب، بل مصحوب فيه، وأنَّ ذلك من باب يا سارق الليلة، وعلى الأول من باب قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، {أَصْحَابَ النَّارِ}. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}؛ أي: من أجناس مختلفة من حيوان، أو جماد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة. {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} السجن: المَحْبَسُ. والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، قاله قتادة. وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة. وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة. وقال الفراء: ولا يُذْكَر البِضع إلا مع العشرات، ولا يُذْكَر مع مئة ولا ألف. {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} جمع سمينة، ويُجمع سَمِينٌ أيضًا عليه يقال: رِجالٌ سِمَانٌ كما يقال: نساء كرام، ورجال كرام. والسِّمَنَ مصدر سَمِن، يَسْمَنُ من باب فَرِح فهو سمين، فالمصدر واسم الفاعل جاءا على غير قياس، إذ قياسُهُما سَمْنًا بالفتح، فهو سَمِنٌ نحو: فَرِحَ فَرَحًا فهو فَرِح. وفي "المصباح": سَمِنَ يسمن من باب تَعِبَ، وفي لغة: من

باب قتل إذا كَثُر لَحْمُهُ وشَحْمُه، ويتعدى بالهمزة والتضعيف. {عِجَافٌ} جمع عجفاء جمعًا سماعِيًّا، والقياسُ عُجْف كحمراء وحُمْر على حد قول ابن مالك: فُعْلٌ لِنَحْوِ أحْمَرٍ وَحَمْرَا لكنه حُمِل على سمان, لأنه نَقِيضُه كما ذكره "البيضاوي". والعجفاء: المهزولة جِدًّا. {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} عبَر الرؤيا إذا فَسَّرها من باب نصر، ينصر، ويستعمل أيضًا بالتشديد، كعلَّم يعلِّم تَعْلِيمًا، اهـ شيخنا؛ أي: إن كنتم عَالِمين بعبارة الرؤيا، وهي الانتقالُ من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالُها من العبور، وهو المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها بالتشديد تعبيرًا، واللام للبيان أو لتقوية العامل، اهـ "بيضاوي". وفي "السمين": وحقيقةُ عَبَرْتُ الرؤيا ذَكَرْتُ عَاقِبَتَها وآخِرَ أمرها كما تقول: عَبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ أخر عرضه، اهـ. وفي "المصباح": عبرت النهر عَبْرًا من باب قتل، وعُبُورًا أيضًا إذا قطعته إلى الجانب الآخر، وعَبَرْت الرؤيا عَبْرًا أيضًا، وعبارةً إذا فسرتها، وبالتثقيل مبالغةً، وفي التنزيل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} اهـ. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}؛ أي: هي تخاليط المنامات الباطلة التي لا معنَى لها جمع ضغث، وأصله: ما جمِعَ وحُزِم من أخلاط النبات، كالحزمة من الحشيش، فاستعير للرؤيا الكاذبة، والأحلام: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها، والإضافةُ على معنى منْ؛ أي: هي أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تؤولُ إليها، والأضغاث: جمع ضِغْثٍ بكسر الضاد، وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنسًا واحدًا أو أجناسًا مختلطة، وهو أصغر من الحزمة وأكبر من القبضة. {وَادَّكَرَ} أصله: إذْتَكَرَ بوزن افْتَعَلَ من الدَّكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال، فأبدلت دالًا، فاجتمع متقاربان، فأبدل الأولُ من جنس الثاني، وأدغم، وكذا الحكمُ في (مدّكر) كما سيأتي في صورته إن شاء الله تعالى. {بَعْدَ أُمَّةٍ} بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونة، وهيَ المدة الطويلة. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وغيره: (بعد أَمَهٍ) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهاء منونةٌ والأَمهُ: هو النسيان يقال: أمَهَ يأْمَهُ أَمَهًا، وأَمْهًا، والسكونُ غيرُ مقيس، والمعنى: {بَعْدَ أُمَّةٍ}؛ أي: بعد حين، وهو سنتان، أو سبع، أو تسع، وسمِّي الحين من الزمان، أمة لأنه

جماعة أيّامٍ؛ والأمَّةُ: الجماعة، اهـ "خازن". {دَأَبًا} قرأ حفص بفتح الهمزة والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَبَ يَدْأَبُ؛ أي: دَاومَ على الشيء ولازمه، وهذا كما قالوا: ضَأَنَ وضَأْن ومعَز ومعْز، بفتح العين وسكونها، وأصل معنى الدأب التعب، ويُكنى به عن العادة المستمرة، لأنها تنشأ عن مداومة العمل اللازم له التعبُ، اهـ "شهاب". {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} وفي "المصباح": وسُنبُل بضم الفاء والعين، الواحدة سُنْبلةً، والسبل مثله، الواحدة سَبَلَة، مثل قَصَب وقَصَبَة، وسَنْبَل الزرع أخرج سُنْبُلَهُ وأسبل أخرج سبله، اهـ. {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} من الغيث على أنَّ الألف منقلبة عن ياءٍ، أو من الغوث على أنها منقلبة عن واو. والغيث مصدر غاث الله البلادَ يغيثها غيثًا، إذا أنزل بها الغيثَ، وهو المطر، والغوث الفرجُ، وزوالُ الهم، والكرب، وعلى هذا يكون فعله رُباعِيًّا يقال: استغاثَ اللهَ، فأغاثه؛ أي: أنْقَذَه من الكرب الذي هو فيه، كالحقط، اهـ "زاده". وفي "السمين": قوله: يغاث الناس، يجوز أن تَكُونَ الألف عن واو، وأن تكونَ عن ياء إمَّا من الغَوْثِ، وهو: الفَرَجُ، وفعلُه رباعي، يقال: أغاثنا الله من الغيث، اهـ. وفي "المصباح" أغاثه إغاثةً إذا أَعانَهُ، ونَصَره، فهو مُغِيث والغوث اسم منه، واستغاث به فأَغَاثَه، وأَغاثهم الله برحمته، كَشَفَ شدتَهم، وأغاثَنا المطر من ذلك فهو مغيث، وأغاثنا الله بالمَطر، والاسم الغِيَاث بالكسر، اهـ. وفيه أيضًا: الغَيْثُ المطرُ وغاث الله البلاد غَيثًا من باب ضَرب، أنزلَ بها الغيثَ، ويبنى للمفعول: فيقال: غِيثتِ الأرضُ تُغاثُ، وغاث الغيث الأرض غيثًا، من باب ضرَبَ نزل بها. وسمى النَّبَات غَيْثًا تسمية باسم السبب، ويقال: رعينا الغيثَ، اهـ. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} بكسر الصاد من باب ضرب كما في "المصباح" و"القاموس". {مَا خَطْبُكُنَّ} والخطب الأمر والشأن الذي فيه خطر، وهو في الأصل مصدر خطب يخْطُب، وإنما يُخْطَبُ في الأمور العظام، اهـ "سمين". وفي "المختار": الخَطْبُ: الأمر، تقول: ما خَطْبُك. قال الأزهري: أي: ما أمْرُكَ، وتقول: هذا خطب جليل، وخَطْبُ يسير، وجمعه خُطُوب، اهـ. {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}؛ أي: ظَهَرَ ووضح، وتبيَّنَ بعد خفاء، قاله الخليل. قال بعضهم: هو

مأخوذ من الحصة، والمعنى: بانَتْ حصة الحق من حصة الباطل، كما تتميز حصحص الأراضي وغيرها. وقيل بمعنى: ثَبَتَ واستَقَرَّ. وقال الراغب: حَصْحَصَ الحق، وذلك بانكشاف ما يغمِزُه وحص، وحصحص، نحو: كف، وكَفْكَفَ وحصه قَطَعَه إما بالمباشرة، وإما بالحكم، والحصة القطعة من الجملة، وتُسْتَعمل استعمالَ النصيب، اهـ "سمين". {لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}؛ أي: لا ينفذه، ولا يُمضيه، ولا يسدِّده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعلَ على الكَيْدِ مبالغةٌ، اهـ "بيضاوي". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} لأنه أطْلَقَ الخمر على العنب، باعتبار ما يؤول إليه، كما يطلق الشيء على الشيء، باعتبار ما كان كقوله تعالى: {وءاتُواْ الْيَتامَي}. ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: {إِنِّي أَرَانِي} في الموضعين حكايةً للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتني، وكذا قول الملك: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} فيه حكايةٌ للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتُ. ومنها: الطّباق بين قوله: {سِمَانٍ}، وقوله: {عِجَافٌ}، وبين قوله: {خُضْرٍ}، وقوله: {يَابِسَاتٍ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} فإنَّها من أبلغِ الاستعارة وألْطفها، فإن الأضغاثَ حقيقةُ في المختلط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، فشبَّه اختِلاطَ الأحلام، وما فيها من المحبوب، والمكروه، والخير، والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرةٍ. ومنها: براعة الاستهلال في قوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} حيث قدَّم الثناء قبل السؤال، طَمَعًا في إجابة مطلبه. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} لأن السِّنينَ لا تأكل،

وإنما يأكل الناسُ ما إدخروه فيها، فهو من باب الإسناد إلى الزمان كقول الفصحاء نهار الزاهد صائم، وليلُه قائم. ومنها: التأكيد في قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، وفي قوله: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}. ومنها: الحصر في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} وفي غير ذلك. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}، وفي قوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}. ومنها: المجاز في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}؛ لأن هدايةَ الكيد مجاز عن تنفيذه، وإمضائه، أو المراد لا يَهْدِي الخَائِنين بسبب كيدِهم، فأوقع الهدايةَ المنفيةَ على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزًا للمبالغة؛ لأنه إذا لم يهد السببُ علمَ منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى، اهـ "شهاب". ومنها: الزيادة والحذفُ في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد كلامه * * * ¬

(¬1) إلى هنا تَمَّ ما أردنا إيرادَهُ من تفسير الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم، وكان الفراغُ من تأليفه ليلةَ الخميس المباركة، الخامس عشر من ربيع الأول، الشهر الثالث من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكَى التحية، والحمد لله في هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأل الله الإعانةَ على الكمال والتمام، وأن يُضَاعِفَ لنا البركةَ في أعمارنا إلى تمامه، ونشره بين المسلمين، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا دائمًا إلى يوم الدين. تمَّ المجلد الثالث عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن في تاريخ 15/ 3/ 1411 هـ ويليه المجلد الرابع عشر وأوّلُه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} الآية.

شعرٌ وَقُلْ بِذُلٍّ رَبِّ لا تَقْطَعْنِي ... عَنْكَ بقَاطِعٍ وَلاَ تحْرِمْنِي منْ سِرِّكَ الأبْهَى الْمُزِيلِ لِلْعَمَى ... وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ يَا رحِيْمَ الرُّحَمَا آخرُ والْحمْدُ للهِ عَلَى مَا أَوْلَى ... فَنِعْمَ مَا أَوْلَى ونِعْمَ الموْلَى

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مسجله ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم ببلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان. أما بعد: فيقول العبد المعترف بذنبه وخطأه المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف الندى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلاءه، وأعاذه وإياهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه، سميُّ محمد الأمين الهرري: إني لما فرغت من تفسير الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم .. عزمت - إن شاء الله سبحانه وتعالى - على الشروع في تفسير الجزء الثالث عشر، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كل أمير وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل كالنيرين لغير كليل. ومع خطر هذا الأمر، فالأمد قصير وفي العبد تقصير، وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشارب وإن كانت ماء

الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب العاهات؟ وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ هيهات. اللَّهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه كما تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات صحائف أعمالي بحق كتابك الكريم، واجعل قراري في جنات النعيم، ولم أكن بدعائك رب شقيًّا بكرةً وعشيًّا ما دمت حيًّا، فلك الحمد في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. والله أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنها من تتمة إقرار امرأة العزيز، كما اختاره أبو حيان في "البحر"، ويؤيده عطفه على ما قبله، وقد جُعِلَت أول الجزء الثالث عشر؛ لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددي دون المعاني.

قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه بعد (¬1) انتهاء التحقيق في أمر النسوة، وظهور براءة يوسف عليه السلام من كل سوء .. طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفي له بما اشترط لمجيئه، فلما جاءه وسمع كلامه .. فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة في السجن، ومن علمه وفهمه في تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته في مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولى أسمى المناصب، وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبًا أو فقيرًا أو مملوكًا كما تشير إلى ذلك الآيتان. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنه سبحانه وتعالى لما (¬2) ذكر إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينًا أمينًا، وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدراية والإحكام .. ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه، وجعله وزيرًا في دولته يتصرف في شؤونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه، وذلك جارٍ على سنن الله في خلقه، فلن ينال الرياسات العليا والمناصب الرفيعة إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرًا على ضبط الأعمال، وإقامة النظام، وحسن السياسة والكياسة في تصريف الأمور. قوله تعالى {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ...} الآيات، جاء (¬3) في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين وَلِي الوزارة .. طفق يعد العدة، ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة، وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سنين الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد، وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها، ولا سيما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[53]

أقربها إليها، وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال، وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها .. أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر، ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد فضة، ويشتروا به قمحًا؛ لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم، فنفذوا ما أراد، وكان بينهم وبين يوسف عليه السلام ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في كتابه الكريم. التفسير وأوجه القراءة 53 - وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ...} الآية. إن كان من كلام زليخا كما هو الراجح والظاهر من السياق. .. فمعناه أي: وما أبرىء نفسي ولا أنزهها عن السوء، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية بدعوى عدم خيانتي إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب، وقلت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأودعته السجن، وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك، وكأنها بذلك تريد التنصل مما كان. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}؛ أي: إن (¬1) جنس النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء؛ لما فيها من دواعي الشهوات الجسمية، والأهواء النفسية بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات، وما يوسوس الشيطان ويزينه لها من النزغات، ومن ذلك أن حرضت زوجي على سجن يوسف، وقد كان ذلك مما يسوؤه، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزن بالريبة كما يسوء زوجي؛ إذ لا يرضى أن يكون عرضة مضغة للأفواه، وحديث الناس في أنديتهم وأسمارهم {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}؛ أي: إلا نفسًا رحمها ربي وعصمها، فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام. ثم عللت ما سلف بقولها: {إِنَّ رَبِّي} هو سبحانه وتعالى {غَفُورٌ}؛ أي: عظيم المغفرة وكثيرها، فيغفر ما يعتري النفوس البشرية بمقتضى طباعها؛ إذ ركب فيها الشهوات الجسمية، والأهواء النفسية {رَحِيمٌ}؛ أي: مبالغ في الرحمة لها ¬

_ (¬1) المراغي.

بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك. وعلى القول بأنه من كلام يوسف عليه السلام، فمعنى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}؛ أي: (¬1) لا أنزهها عن السوء، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية. قاله تواضعًا لله تعالى، وهضمًا لنفسه الكريمة، لا تزكية لها وعجبًا بحاله في الأمانة، ومن هذا القبيل قوله عليه السلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أو تحدثًا بنعمة الله تعالى عليه في توفيقه وعصمته؛ أي: لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي، ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله تعالى. واللام في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ} للجنس؛ أي: إن جنس النفوس التي من جملتها نفسي في حدّ ذاتها {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} تأمر بالقبائح والمعاصي؛ أي: لأنها أشد استلذاذًا بالباطل والشهوات، وأميل إلى أنواع المنكرات، ولولا ذلك .. لما صارت نفوس أكثر الخلق مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل؛ لقضاء الشهوات وما صدرت منها الشرور أكثر. ومن ما هنا وجب القول بأن كل من كان أوفر عقلًا، وأجل قدرًا عند الله .. كان أبصر بعيوب نفسه، ومن كان أبصر بعيوبها .. كان أعظم اتهامًا لنفسه، وأقل إعجابًا. {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}؛ أي: إلا نفسًا رحمها ربي من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك، ومن جملتها نفسي ونفوس سائر الأنبياء ونفوس الملائكة. أما الملائكة فإنه لم تركَّب فيهم الشهوة. وأما الأنبياء فهم وإن ركبت هي فيهم، لكنهم محفوظون بتأييد الله تعالى معصومون. فـ {مَا} موصولة بمعنى من، وفيه إشارة إلى أن النفس من حيث هي كالبهائم. والاستثناء من {النَّفْسَ}، أو من الضمير المستتر في {أمارة} كأنه قيل: إن النفس لأمارة هي بالسوء إلا نفسًا رحمها ربي، فإنها لا تأمر بالسوء، أو بمعنى الوقت؛ أي: هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها، ودل على عموم الأوقات صيغة المبالغة في أمارة. يقال في اللغة: أمرت النفس بشيء فهي آمرة، وإذا أكثرت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[54]

الأمر فهي أمارة {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ} للهمّ الذي هممت به {رَحِيمٌ} لمن تاب إليه. وقد قيل (¬1): إن هذا من قول العزيز، وهو بعيد جدًّا، ومعناه: وما أبريء نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته. 54 - {وَقَالَ الْمَلِكُ} الريان بن الوليد بعد ما وفي ليوسف ما طلب من سؤال النسوة: {ائْتُونِي بِهِ}؛ أي: بيوسف؛ أي: أحضروه إليّ من السجن {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}؛ أي: أجعله خالصًا لنفسي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصًا للعزيز. والاستخلاص: طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة؛ أي: اجعله خالصًا لي وموضع ثقتي، فلا يشاركه أحد في إدارة ملكي، ولا تكون وساطة بينه وبيني، وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم. فجاءه الرسول، فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابًا جددًا، وقم إلى الملك، فقام وودع أهل السجن، فدعا له أهل السجن، ودعا لهم، وقال في دعائه: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عنهم الأخبار، ثم اغتسل ولبس ثيابًا حسانًا، ولما خرج من السجن كتب على بابه: هذا بيت البلوى، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. فأتى الملك ودخل عليه فسلم عليه بالعربية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له يوسف بالعبرانية، فقال له: وما هذا اللسان أيضًا؟ قال يوسف: هذا لسان آبائي. وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا، ولم يعرف هذين اللسانين، وكان كلما تكلم بلسان أجابه يوسف به، وزاد عليه بالعربية والعبرانية، فأعجب الملك أمره مع صغر سنه؛ إذ كان عمره يومئذ ثلاثين سنة. فقال: أيعلم هذا رؤياي ولم يعلمها السحرة والكهنة وأقعده قدامه، وقال: لا تخف، وألبسه طوقًا من ذهب، وثيابًا من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك. وقوله: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} مرتب على محذوف تقديره: فأتوه به، فلما كلمه؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[55]

أي: فلما كلم يوسف الملك، وشاهد منه الملك ما شاهد من الرشد والدهاء، وهو جودة الرأي {قَالَ} له الملك: {إِنَّكَ} أيها الصديق {الْيَوْمَ لَدَيْنَا}؛ أي: عندنا وبحضرتنا {مَكِينٌ}؛ أي: ذو مكانة سامية، ومنزلة رفيعة عالية {أَمِينٌ}؛ أي: ذو أمانة تامة، فأنت غير منازع في تصرفك، ولا متهم في أمانتك، وأنت مؤتمن عندنا على كل شيء، واليوم (¬1) ليس بمعيار لمدة المكانة، بل هو آن التكلم. والمراد تحديد مبدئهما احترازًا عن احتمال كونهما بعد حين. وفي هذا إيماء (¬2) إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه وآدابه وجميع شمائله، فيقدره من يعرف أقدار الرجال، ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم. والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان؛ لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما، ومن حاشية الوزير من حين قدم مصر، ومن محادثته صاحبيه في السجن. وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته، وكانوا من العرب القحطانيين، ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية، فالمصرية والعبرانية والسريانية. وكان ملوك مصر وكبراء حكامها في ذلك العهد من أولئك العرب، وهم الذين يسمون بالرعاة، ويقول المؤرخون: إن ملك مصر في ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان. فلما سمع يوسف من الملك قوله: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}. 55 - {قَالَ}: يوسف للملك {اجْعَلْنِي} أيها الملك واليًا {عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} وأموالها التي تخزن وتدخر فيها؛ أي: ولني أمر الأرض التي أمرها إليك، وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض. والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي تخزن فيه غلات الأرض ونحوها. طلب (¬3) يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

الإيمان باللهِ وترك عبادة الأوثان. وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيبًا فيما يرومه، وتنشيطًا لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه، وجعلها منوطة به، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن طلب الولاية، والمنع من تولية من طلبها، أو حرص عليه. وحاصل المعنى: فلما كلم الملك يوسف قال الملك في كلامه ليوسف: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}، فماذا (¬1) ترى أيها الصديق؟ {قَالَ} يوسف: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعًا كثيرًا، وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام، فإذا جاءت السنون المجدبة .. بعنا الغلات، فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك، ومن لي بهذا الشغل؟ فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}؛ أي: ولني أمر خزائن أرض مصر {إِنِّي حَفِيظٌ} لما وليتني، ولجميع مصالح الناس {عَلِيمٌ} بوجوه التصرف في الأموال، وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني. وقيل معنى {حَفِيظٌ}: كاتب {عَلِيمٌ}: حاسب. والخلاصة: (¬2) وَلِّني خزائن أرضك كلها، واجعلني مشرفًا عليها لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل. ثم ذكر سبب طلبه، فقال: {إِنِّي حَفِيظٌ}؛ أي: شديد الحفظ لما يخزن فيها، فلا يضيع شيء منه، أو يوضع في غير موضعه {عَلِيمٌ} بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به. فإن قلت: كيف مدح يوسف عليه السلام نفسه بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، والله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}. قلت: إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوصل به إلى غير ما يحل، فهذا هو القدر المذموم في تزكية النفس. أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير .. فلا يكره ذلك ولا يحرم، بل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[56]

يجب عليه ذلك. مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع ولا يعرف به، فإنه يجب عليه أن يقول: "أنا عالم" لينتفع الناس بعلمه، ذكره في "الفتوحات". وقد طلب إدارة الأمور المالية؛ لأن سياسة الملك وتنمية العمران، وإقامة العدل فيه تتوقف عليها، وقد كان مضطرًا إلى تزكية نفسه في ذلك حتى يشق الملك به، ويركن إليه في تولية هذه المهام. وما أضاع كثيرًا من المماليك في هذه القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير في النظام المالي، وتدبير الثروة وحفظها في الدولة والأمة. 56 - {كذَلِكَ} معمول للتمكين الآتي؛ أي: ومثل ذلك التمكين في أنعمنا عليه من تقريبنا إياه إلى الملك، وإنجائنا إياه من غم الحبس في ذكرنا أسبابه ومقدماته {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ}؛ أي: جعلنا له مكانة ومرتبة، أو مكانًا ومنزلًا {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر حالة كونه {يَتَبَوَّأُ} وينزل {مِنْهَا}؛ أي: من أرض مصر {حَيْثُ يَشَاءُ} ويريد؛ أي: ينزل منها حيث أراد، ويتخذه مباءةً ومنزلًا. وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله. وقد استدل (¬1) بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقرأ الحسن وابن كثير وشيبة (¬2): {حيث نشاء} - بالنون - مسندًا إلى الله تعالى. وقرأ الجمهور بالياء. والظاهر: أن قراءة الياء يكون فيها فاعل {يَشَاءُ}: إما ضميرًا يعود على يوسف، ومشيئته معلقة بمشيئة الله تعالى؛ إذ هو نبيه ورسوله، وإما ضميرًا يعود على الله سبحانه وتعالى؛ أي: حيث يشاء الله تعالى، فيكون فيه حينئذٍ التفات من التكلم إلى الغيبة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

واعلم: أن التمكين الحاصل ليوسف له أسباب ومقدمات مهدت له؛ لأن إخوة يوسف لو لم يحسدوه .. ما ألقوه في غيابة الجبّ، ولو لم يلقوه .. لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وصدقه وأمانته .. لما أمنه على بيته وأهله وماله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم .. لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحباتها .. ما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن .. لما عرفه ساقي الملك وعرف علمه وفضله وصدقه في تعبير الرؤيا، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي .. ما عرفه الملك ولم يجعله على خزائن الأرض، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها، وبإذن الله كانت سببًا للوصول إلى ما يليها، فكلها في بدايتها كانت شرًّا وخسرًا، وفي عاقبتها فوزًا ونصرًا مبينًا، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر. فكما مكن (¬1) له في ذلك مكن له في أرض مصر، وقد جيء به مملوكًا، فأصبح مالكًا ذا نفوذ وأمر ونهي لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره، وصار الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده الله تعالى له من تحليته بالصبر واحتمال الشدائد، والأمانة والعفة، وحسن التصرف والتدبير. روي (¬2): أنه لما تمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة .. دعاه الملك، فتوجه وأخرج خاتم الملك، وجعله في أصبعه، وقلده بسيفه، وجعل له سريرًا من ذهب مكلّلًا بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشًا، وضرب له عليه حلة من استبرق، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال الملك: قد وضعته إجلالًا لك وإقرارًا بفضلك، وأمره أن يخرج فخرج متوجًا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك الأكبر إليه ملكه، وأمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

ومات قطفير بعد ذلك، فزوجه عليه السلام الملك امرأته زليخا، فلما دخل يوسف عليها قال لها: أليس هذا خيرًا مما كانت تريدين؟ قالت له: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي وعصمك الله، فأصابها يوسف عليه السلام فوجدها عذراء، فولدت له ذكرين أفراثم وميشا، فاستولى يوسف عليه السلام على ملك مصر، وأقام فيها العدل، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنين القحط الطعام في السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفي الثانية بالحلى والجواهر، وفي الثالثة بالدواب، وفي الرابعة بالجواري والعبيد، وفي الخامسة بالضياع والعقار، وفي السادسة بأولادهم، وفي السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدًا له عليه السلام، فقال أهل مصر: ما رأينا كاليوم ملكًا أجل وأعظم من يوسف، فقال يوسف للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكان يوسف لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطًا بين الناس، ومات الملك في حياة يوسف عليه السلام. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا}؛ أي: بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم {مَنْ نَشَاءُ} من عبادنا بمقتضى ما وضعنا من السنن في الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية، ومراعاة النظم الاجتماعية والفضائل الخلقية {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} لأن (¬1) إضاعة الأجر؛ إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة؛ أي: ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن. أي: (¬2) ولا نضيع أجر من أحسنوا في أعمالهم بشكران هذه النعم، بل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[57]

نأجرهم عليها سعادة وهناءة، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها. أما من يسيؤون التصرف فيها .. فتصيبهم المنغصات، وتتوالى عليهم المكدرات، فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين، وذووا الخيلاء والبطر يكونون محتقرين، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شيء، وإن نالهم منه شيء يكون هينًا عليهم، وهم عليه صبر. وفي الآية (¬1) إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف عليه السلام على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، بل كان جزاؤه ما مكن له في الأرض لدى ملك مصر. 57 - {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ}؛ أي: وعزتي وجلالي لأجرهم في الآخرة، فاللام فيه موطئة للقسم، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة، وأجرهم فيها هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها؛ وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها، ولا تنقضي مدتها؛ أي: ولأجر الآخرة وثوابها {خَيْرٌ} وأفضل من أجر الدنيا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الله تعالى، ويخافونه بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات. وفي الآية (¬2) إيماء إلى أن الذي أعد الله سبحانه وتعالى ليوسف عليه السلام في الآخرة من الأجر والثواب الجزيل أفضل مما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الملك. وقد ثبت (¬3): أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والمعنى (¬4): أي: إن أجر الآخرة؛ وهو نعميها يكون للمؤمنين المتقين، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك، فإن ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيها من مال وجاه وزينة، ولا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

[58]

شبهة في أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل الله عليهم أعظم؛ إذ هم أعطوا حقها من الشكر، وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته. روى الشيخان عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال فقراء المهاجرين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور - واحدها دثر بالفتح المال الكثير - بالدرجات العلى، والنعيم المقيم قال: "ما ذاك"؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". 58 - {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} إلى مصر من أرض كنعان؛ ليمتاروا حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر من القحط والجوع، وكان قد حلّ بآل يعقوب ما حلّ بأهلها، فدعا أبناءه ما عدا بنيامين؛ وهم عشرة، فقال لهم: يا بني قد بلغني أن بمصر ملكًا صالحًا يبيع الطعام، فتجهزوا إليه، واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه، فخرجوا حتى قدموا مصر {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ}؛ أي: على يوسف، وهو في مجلس ولايته؛ لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره {فَعَرَفَهُمْ} يوسف حين دخلوا عليه بلا تردد، ولا شك؛ لأنه فارقهم وهم رجال، ولم يزل عددهم وشكلهم وزيهم عالقًا بخياله؛ لنشوئه بينهم، ولا سيما ما قاساه منهم في آخر عهده بهم وربما كان عمال يوسف عليه السلام وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه، وأخبروه بأوصافهم، والبيئة التي رحلوا منها {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}، لنسيانهم له بطول العهد، وتغير شكله بدخوله في سن الكهولة، ولأنهم فارقوه صبيًّا يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجبّ، ودخلوا عليه الآن، وهو رجل عليه أبهة الملك؛ أي: عظمته ورونق

[59]

الرئاسة؛ أي: زينتها، وعنده الخدم والحشم. وقيل: إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر ولبس تاجه وتطوق بطوقه. وقيل: كانوا بعيدًا عنه، فلم يعرفوه. وقيل: غير ذلك. فكل (¬1) ذلك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه، ولا سيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك، أو طوحت به طوائح الأيام، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها .. لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض في العادات، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي. فالمعنى (¬2): فدخلوا على يوسف عليه السلام، وهو في مجلس ولايته، فعرفهم يوسف بأول نظرة نظر إليهم لقوة فهمه {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا يعرفونه لطول المدة، فبين أن ألقوه في الجبّ ودخولهم عليه أربعون سنة على ما قيل، فكلموه بالعبرانية، فقال لهم: من أنتم وأي شيء أقدمكم بلادي؟ فقالوا: قدمنا لأخذ الميرة، ونحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد، فقال: لعلكم عيون تطلعون على عوراتنا، وتخبرون بها أعداءنا، فقالوا: معاذ الله، قال: من أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ كبير صديق، نبي من أنبياء الله تعالى اسمه يعقوب، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، فهلك منا واحد، فقال: كم أنتم ههنا؟ قالوا: عشرة، قال: أين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك؛ لأنه أخوه الشقيق، قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونًا، وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد، فيشهد لنا، قال: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين؟ فأنا أكتفي بذلك منكم، قالوا: إن أبانا يحزن لفراقه، قال: فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به، فاقترعوا فيما بينهم، فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيًا في يوسف في أمر الجبّ، فتركوه عنده، فأمر بإنزالهم وإكرامهم. 59 - {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ} يوسفُ عليه السلام وشيَّعهم وأعطاهم {بِجَهَازِهِمْ}؛ أي: بما يحتاجون إليه في سفرهم؛ أي: فلما أوقر يوسف إبلهم بالميرة وأصلحهم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

بالزاد وما يحتاج إليه المسافر. قال ابن عباس (¬1): حمل لكل واحد منهم بعيرًا من الطعام، وأكرمهم في النزول، وأحسن ضيافتهم، وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم. قال الأزهري (¬2): القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة. وقال أبو حيان: وقرىء بكسر الجيم قلت: وقراءة الكسر شاذة وليست بمتواترة. ومعنى {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}؛ أي: ولما هيأ لهم جهازهم وأهبة سفرهم ومؤنته - يقال: جهزت المسافر بالتشديد: هيأت له جهازه، وجهاز السفر: أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة؛ أي: ولما أوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله من الميرة والطعام، وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد، وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم {قَالَ} يوسف عليه السلام: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ}؛ أي: جيئوني بأخيكم {مِنْ أَبِيكُمْ} هو شقيقه بنيامين إذا رجعتم، لتمتاروا مرة أخرى، لأعلم صدقكم فيما قلتم: إن لنا أخًا من أبينا عند أبينا، وسبب (¬3) ذلك أن يوسف ما كان يعطي لأحد إلا حمل بعير، وقد كان إخوته عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال، فقالوا: إن لنا أبًا شيخًا كبيرًا وأخًا آخر بقي معه، وإن أباهم لتقادم سنه وشدة حزنه لا يستطيع الحضور، وإن أخاهم بقي في خدمة أبيه، ولا بدّ لهما من شيء من الطعام، فجهز لهما بعيرين آخرين، وقال: جيئوني بأخيكم لأراه وأصدقكم فيما قلتم. وإنما (¬4) قال: {بِأَخٍ لَكُمْ} ولم يقل بأخيكم بالإضافة مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم، فإنه فرق بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك. فإنك في التعريف تكون عارفًا بالغلام دون التنكير لأنك جاهل به. فالتعريف (¬5) يفيد نوع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة، وجائز أن تخبر عمن تعرفه إخبار النكرة، فتقول: قال رجل لنا وأنت تعرفه؛ لصدق إطلاق النكرة على المعرفة. {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ}؛ أي: أني أتمه ولا أبخس منه شيئًا، وأزيدكم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط. (¬5) الخازن.

[60]

حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وحملًا آخر لأبيكم؛ لأنهم قالوا: إن لنا أبًا شيخًا كبيرًا، وأخًا آخر بقي معه؛ لأن يوسف لا يزيد لأحد على حمل بعير. والهمزة فيه للاستفهام التقريري، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، وجاء بصيغة الاستقبال في قوله: {أُوفِي} مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقًا به وتصديقًا لقوله، فقال: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} لمن نزل بي؛ أي؛ والحال أني خير المضيفين وأفضلهم لمن استضافه كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف عليه السلام: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}؛ لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ولم يقل ذلك يوسف على طريق الامتنان، بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به. والمعنى: وأنا مع إيفاء الكيل خير المكرمين لضيوفه، وقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بالزاد الكافي لكم مدة سفركم، فلا تنسوا ما أمرتكم به من الإتيان بأخيكم. 60 - ثم توعدهم إن لم يأتوه به، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ}؛ أي: بأخيكم من أبيكم إذا رجعتم مرة أخرى {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي}؛ أي: فلا طعام يكال لكم عندي؛ أي: فلا أبيعكم شيئًا من الطعام فيما بعد، وأما في الحال .. فقد أوفاهم كيلهم {وَلَا تَقْرَبُونِ}؛ أي؛ ولا تقربوا بلادي ولا تدخلوها فضلًا من الإحسان إليكم في الإنزال والضيافة. يعني (¬1): ولا ترجعوا ولا تقربوا بلادي، وهذا هو نهاية التخويف والترهيب؛ لأنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام، ولا يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من العود .. كان قد ضيق عليهم. وقيل معناه (¬2): لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده. و {تَقْرَبُونِ}: مجزوم: إما على أن {لا} ناهية، أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا، ولا تقربوا، 61 - فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم فـ {قَالُوا سَنُرَاوِدُ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[62]

عَنْهُ أَبَاهُ}؛ أي: سنطلبه من أبيه، ونحتال على أن ننتزعه من يده، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه. وقيل معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه؛ أي: سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في ذلك. وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ما أمرتنا به غير مفرطين ولا متوانين فيه من أن نجيئك بأخينا، فإنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام، ولا يمكن إلا من عنده. وعبروا (¬1) بما يدل على الحال تنبيهًا على تحقق وقوعه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)}. وقيل معناه: وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به ولا نتعاظمه. 62 - {وَقَالَ} يوسف {لِفِتْيَانِهِ}؛ أي: لغلمانه الكيالين؛ أي: الموكلين على خدمة الكيل، جمع فتى؛ وهو المملوك شابًا كان أو شيخًا {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالًا وجلودًا {فِي رِحَالِهِمْ}؛ أي: في أمتعتهم من حيث لا يشعرون؛ أي: دسوها في جواليقهم وذلك بعد أخذها وقبولها، وإعطاء بدلها من الطعام، ووكّل بكل رَحْلٍ واحدًا من غلمانه يدس فيه البضاعة التي اشتري بها الطعام الذى في هذا الرحل. والمراد (¬2) بالبضاعة هنا: هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالًا وأدمًا، فعل يوسف ذلك تفضلًا عليهم. وقيل: فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن. قاله الفراء. وقيل: فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام. وقيل: إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام. وقرأ الأخوان (¬3) - حمزة والكسائي - وحفص عن عاصم وخلف العاشر: {لِفِتْيَانِهِ} - بالنون - واختار هذه القراءة أبو عبيد، ومثل هذه القراءة في مصحف عبد الله بن مسعود، وقرأ باقي العشرة وشعبة عن عاصم: {لفتيته} واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما. قال النحاس {لِفِتْيَانِهِ} مخالف للسواد الأعظم ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع، وأيضًا فإن فتية أشبه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) زاد المسير والبحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. قال الزجاج: الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك. وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. قلت: وكلتا القراءتين متواترتان ولا انقطاع في إسناد إحداهما. والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيانه. قال أبو حيان: فالكثرة على مراعاة المأمورين، والقلة على مراعاة المتأولين، فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم إليه. ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا}؛ أي: البضاعة {إِذَا انْقَلَبُوا} ورجعوا {إِلَى أَهْلِهِمْ}؛ أي: دسوا بضاعتهم ودراهمهم التي اشتروا بها الطعام في أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام؛ لكي يعرفوا بضاعتهم إذا رجعوا إلى أبيهم؛ أي: لكي يعرفوا لنا حق إكرامهم بإعادتها إليهم، وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانًا بلا ثمن إذا هم رجعوا إلى أهلهم، وفتحوا متاعهم فوجودها فيه. فجعل (¬1) علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم. ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلينا طمعًا في برنا، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع، فإنهم إذا عرفوا ذلك، وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن وأن ما دفعوه عوضًا عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم .. نشطوا إلى العود إليه ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد، والحاجة إلى الطعام، وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه، فلا يتم تعليل ردها بغير ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[63]

63 - {فَلَمَّا رَجَعُوا}؛ أي: فلما رجع إخوة يوسف غير شمعون من مصر {إِلَى أَبِيهِمْ} في كنعان {قَالُوا} لأبيهم قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع: {يَاأَبَانَا} إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة، لو كان رجلًا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب عليه السلام: إذا رجعتم إلى ملك مصر فاقرؤوا عليه مني السلام، وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر عنده، وأخبروه بالقصة، ثم قالوا: يا أبانا {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}؛ أي: ميرة الطعام وكيله من مصر؛ أي: حكم ملك مصر بأنه سيمنع منا الكيل والميرة في المستقبل بعد هذه المرة إن لم نذهب إليه معنا بأخينا بنيامين، وهو إشارة إلى قول يوسف: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}. والمراد بالكيل هنا: الطعام لأنه يكال، وفي هذه الجملة دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه عليه السلام. ثم ذكروا له ما أمرهم به، فقالوا: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} بنيامين إلى مصر. وفيه إيذان بأن مدار المنع عدم كونه معهم إن أرسلته معنا {نَكْتَلْ} بسببه، ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا، ونكون قد وفينا له ما شرط علينا، والعرب تقول: كِلْتَ له الطعام، إذا أعطيته، واكتلت منه وعليه، إذا أخذت منه، أو توليت الكيل بنفسك {وَإِنَّا لَهُ}؛ أي: لأخينا بنيامين {لَحَافِظُونَ} في ذهابه وإيابه من أن يصيبه سوء أو مكروه، ضامنون برده إليك، وكأنهم (¬1) كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفًا عليه من أن يحدث مثل ما حدث ليوسف عليه السلام بدافع الحسد من قبل، فكان جوابه لهم ما حكى الله سبحانه عنه بقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (¬2): {نَكْتَلْ} - بالنون -؛ أي: إن أرسلته معنا اكتلنا نحن، وإلا فقد منع منا الكيل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف العاشر: {يكتل} - بالياء -؛ أي: إن أرسلته معنا يكتل أخونا ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني.

[64]

بنيامين، وإلا فقد منع منه الكيل. واختار (¬1) أبو عبيد القراءة الأولى، قال: ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده؛ أي: يكتال أخونا بنيامين لنفسه مع اكتيالنا. 64 - وجملة قوله: {قَالَ} يعقوب {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} مستأنفة في جواب سؤال مقدر، والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي، والكاف في قوله: {إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}: نعت مصدر محذوف، وآمن: فعل مضارع، والأمن والائتمان بمعنى واحد، والاستفهام فيه إنكاري؛ أي: (¬2) قال لهم يعقوب عليه السلام: كيف آمنكم علي بنيامين، وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وأنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف، وضمنتم لي حفظه، فما فعلتم، فإذا لم يحصل الأمن والحفظ هناك، فكيف يحصل ما ههنا؟ فأنتم لا يوثق لكم بوعد، ولا يطمأن منكم إلى عهد، فما أشبه الليلة بالبارحة. والمعنى (¬3): ما أمنكم علي بنيامين إلا أمنًا كأمني إياكم على أخيه يوسف من قبل بنيامين، وقد قلتم في حقه ما قلتم، ثم فعلتم به ما فعلتم، فلا أثق بكم ولا بحفظكم، وإنما أفوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: {فَاللَّهُ} سبحانه وتعالي {خَيْرٌ} مني ومنكم من جهة كونه {حَافِظًا} لبنيامين مرتب على محذوف تقديره: فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم، فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} من أهل السموات والأرضين، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع علي مصيبتين، وهذا كما ترى ميل منه إلى الإذن والإرسال؛ لما رأى فيه من المصلحة وشدة الحاجة إلى ذلك؛ ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف. وفيه من التوكل على الله ما لا خفاء فيه. قال كعب: لما قال يعقوب: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} قال الله تعالى: وعزتي لأردن عليك كليهما بعدما توكلت علي، فينبغي أن يتوكل على الله، ويعتمد على حفظه دون حفظ ما سواه، فإن ما سواه محتاج في حفظه إلى الأسباب والآلات، والله تعالى غني بالذات مستغن من الوسائط في كل الأمور، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) زاد المسير.

[65]

وفي جميع الحالات، ولذا حفظ يوسف في الجبّ. ومعنى الآية: أن حفظ الله تعالى إياه خير من حفظهم له لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} .. وقع له من الامتحان ما وقع. وقرأ (¬1) ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {حِفْظًا} والمعنى: خير حفظًا من حفظكم. وقرأ حمزة الكسائي، وحفص عن عاصم وخلف العاشر: {خَيْرٌ حَافِظًا} - بألف -. وقرأ الأعمش شذوذًا: {خير حافظ} على الإضافة؛ أي: فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ. وقرأ أبو هريرة: {خير الحافظين}، كذا نقل الزمخشري، وهي رواية شاذة. وقال ابن عطية وقرأ ابن مسعود: {فالله خير حافظًا وهو خير الحافظين}، وهي رواية شاذة أيضًا. 65 - {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ}؛ أي: أوعيتهم التي وضعوا فيها الميرة بحضرة أبيهم {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ}؛ أي: ثمن الميرة الذي دفعوه ليوسف {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} تفضلًا وإحسانًا من يوسف عليه السلام؛ والمعنى: ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كان أعطوه من بضاعة ونقدٍ ثمنًا لما اشتروه من الطعام؛ إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها في رحالهم، وهم لا يعلمون ذلك. وجملة قوله: {قَالُوا} لأبيهم مستأنفة (¬2) في سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقيل: قالوا لأبيهم - ولعله كان حاضرًا عند الفتح كما في "الإرشاد"، ويؤيده ما في القصص من أن يعقوب عليه السلام قال لهم: يا بني قدموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة، فقدموا أحمالهم، وفتحوها بين يديه، فرأوا بضاعتهم في رؤوس أحمالهم، فقالوا عند ذلك - {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي}؛ أي: أي شيء نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته في الحوائج، وقد كانوا حدثوا أباهم بذلك على ما روي أنهم قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، وقد أنزلنا خير منزل وأكرم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وفادتنا، ولو كان رجلًا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته، ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم: {هَذِهِ} الموجودة في الأوعية {بِضَاعَتُنَا} أي: ثمن ميرتنا حالة كونها {رُدَّتْ إِلَيْنَا}؛ أي: حالة كونها مردودة إلينا تفضلًا من حيث لا ندري بعدما منَّ علينا بالمنن العظام، هل من مزيد على هذا فنطلبه؟ أرادوا الاكتفاء به في استيجاب الامتثال لأمره، والالتجاء إليه في استجلاب المزيد، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل منه علينا. وقرأ (¬1) علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش: {ردت} - بكسر الراء - نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة، وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع. وقرأ عبد الله وأبو حيوة: {ما تبغي} - بالتاء - على خطاب يعقوب، وروتها عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي رواية شاذة وليست بمتواترة، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}، أي: ونأتي بالطعام إلى أهلنا ونجلبه لهم برجوعنا إلى ذلك الملك بتلك البضاعة، وهذا معطوف على محذوف، والتقدير: فنستعين بهذه البضاعة ونمير أهلنا برجوعنا إليه. يقال: مار أهله يميرهم ميرًا إذا أتاهم بالميرة؛ وهي الطعام المجلوب من بلد إلى بلد، ومثله امتار. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية شاذة عنه: {ونمير} - بضم النون - مِن أمار الرباعي. {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين في الذهاب والإياب من الجوع والعطش وسائر المكاره {وَنَزْدَادُ} بسبب إرساله معنا {كَيْلَ بَعِيرٍ}؛ أي: حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة يكال لنا لأجل أخينا؛ لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير اقتصادًا وعدلًا بين الناس، وكأنه قيل: أي حاجة إلى الازدياد، فقيل: في {ذَلِكَ}؛ أي: ما يحمله بعيرنا {كَيْلٌ يَسِيرٌ}؛ أي: مكيل قليل لا يقوم بأودنا؛ أي: أي قوتنا، أو المعنى: {ذَلِكَ}؛ أي: إن حمل البعير {كَيْلٌ يَسِيرٌ}؛ أي: كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد؛ أي: زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له؛ أي: لكونه يسيرًا لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[66]

واختار الزجاج هذا المعنى. 66 - {قَالَ} لهم أبوهم يعقوب {لَنْ أُرْسِلَهُ}؛ أي: أخاكم بنيامين، ولن أطلقه معكم إلى مصر بعد ما عاينت منكم ما عاينت {حَتَّى تُؤْتُونِ}؛ أي: حتى تعطوني {مَوْثِقًا}؛ أي: عهدًا مؤكدًا باليمين مأذونًا فيه {مِنَ} جهة {اللَّهِ} تعالى؛ لأن توكيد العهود به مأذون فيه من جهته تعالى، فهو إذن منه تعالى. وقوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} جواب القسم، والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}؛ أي: إلا أن تغلبوا، فلا تطيقوا ذلك، أو إلا أن تهلكوا جميعًا من أعم الأوقات، والمعنى: لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله تعالى لترجعن به ولتردنه إليَّ في كل الأوقات إلا وقت الإحاطة بكم، وكونهم (¬1) محاطًا بهم؛ إما كناية عن كونهم مغلوبين مقهورين بحيث لا يقدرون على الإتيان به البتة، أو كناية عن هلاكهم وموتهم جميعًا، وأصله من العدو، فإن من أحاط به العدو يصير مغلوبًا عاجزًا عن تنفيذ مراده، أو هالكًا بالكلية، ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر وهو قولهم: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولًا في حق يوسف عليه السلام: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فابتلي من ناحية هذا القول حيث قالوا: {أَكَلَهُ الذِّئْبُ}، وقال هنا: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} فابتلي أيضًا بذلك، وأحيط بهم، وغلبوا عليه كما سيأتي. وقوله {فَلَمَّا آتَوْهُ}؛ أي: أعطوه {مَوْثِقَهُمْ}؛ أي: عهدهم ويمينهم في طلبه منهم قبله حذف تقديره: فأجابوه إلى ما طلبه، فلما آتوه موثقهم .. {قَالَ} يعقوب: {الله} سبحانه وتعالى {عَلَى مَا نَقُولُ}؛ أي: على ما قلناه من طلبي الموثق منكم، وإعطائكم لي ما طلبته منكم {وَكِيلٌ}؛ أي: مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خان في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا. ولما تجهَّز (¬2) أولاد يعقوب للمسير إلى مصر .. خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[67]

واحد 67 - {وَقَالَ} ناصحًا لهم: {لَا تَدْخُلُوا} مدينة مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} من أبوابها الأربعة {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}؛ أي: مختلفة؛ أي: من طرق شتى وسكك مختلفة مخافة العين، فإن العين والسحر حق؛ أي: كائن أثرهما في المعين والمسحور، وصاهم بذلك في هذه الكرة؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة مشتهرين في مصر بالقربة عند الملك، فخاف عليهم، إن دخلوا جماعة واحدة أن يصابوا بالعين، ولم يوصهم في الكرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ مغمورين بين الناس غير متجملين تجملهم في الثانية، وكان الداعي إليها خوفه علي بنيامين {وَمَا أُغْنِي}؛ أي: وما أدفع {عَنْكُمْ} بتدبيري {مِنَ} قضاء {اللَّهِ} تعالى وتدبيره {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيئًا فـ {مِنَ} زائدة لتأكيد النفي، فإن الحذر لا يمنع القدر. ولم يرد به إلغاء الحذر بالمرة (¬1)، كيف لا وقد قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال {خُذُوا حِذْرَكُمْ} بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من العزيز القدير، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه. وإنما قال: {مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} (¬2) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلًا .. كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلًا نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين .. أمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة. والمعنى: ولا أدفع عنكم ولا أجلب إليكم نفعًا بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع .. لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئًا قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[68]

وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم: يمنع من الاتصال بالناس دفعًا لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته. وقيل: ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم صرّح يعقوب عليه السلام بأنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى، فقال: {إِنِ الْحُكْمُ}؛ أي: ما الحكم مطلقًا {إِلَّا لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره، ولا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء، فلا يحكم أحد سواه بشيء من السوء وغيره {وَعَلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْتُ}؛ أي: اعتمدت في كل ما آتي وأذر. وفي هذا (¬1) إيماء إلى أن الأخذ في الأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافي التوكل. وقد جاء في الخبر: "اعقلها وتوكل". {وَعَلَيْهِ} سبحانه وتعالى دون أحد سواه {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} على العموم، لا على أمثالهم من المخلوقين، ولا على أنفسهم، ويدخل فيه أولاده دخولًا أوليًّا؛ أي: فليثق الواثقون. والفاء (¬2) فيه لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. وقال البيضاوي: جمع (¬3) بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لأفادة التسبب فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم، انتهى. فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدة، ويهيىء من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى الله تعالى، ويطلب منه التوفيق والمعونة في إنجازه، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه، أو ما لا تصل إليه يده. 68 - {وَلَمَّا دَخَلُوا}؛ أي: ولما دخل أخوة يوسف المدينة {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ}؛ أي: من المكان في أمرهم أبوهم الدخول منه، وهي الأبواب المتفرقة، والجار (¬4) والمجرور في موضع الحال؛ أي: دخلوا متفرقين {مَا كَانَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي. (¬4) روح البيان.

رأي يعقوب ودخولهم متفرقين {يُغْنِي عَنْهُمْ}؛ أي: يدفع عنهم {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من جهته تعالى {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيئًا مما قضاه الله تعالى عليهم، والجملة جواب لـ {مَا} فقد (¬1) وقع عليهم قضاء الله تعالى حيث نسبوا إلى السرقة، وأخذ منهم بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام. {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}؛ أي: لكن (¬2) الدخول على صفة التفرق أظهر حاجةً في قلب يعقوب عليه السلام، وهي خوفه عليهم من إصابة العين، وهذا تصديق الله تعالى لقول يعقوب: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. ولفظة {حَاجَةً} منصوبة (¬3) بإلا؛ لكونها بمعنى لكن، و {قَضَاهَا} بمعنى: أظهرها، ووصى بها خبر لكن، والمعنى: إن رأي يعقوب عليه السلام في حق بنيه، وهو أن يدخلوا من الأبواب المتفرقة، واتباع بنيه له في ذلك الرأي ما كان يدفع عنهم شيئًا مما قضاه الله تعالى عليهم، ولكن يعقوب عليه السلام أظهر بذلك الرأي ما في نفسه من الشفقة والاحتراز من أن يعانوا؛ أي: يصابوا بالعين، ووصى به؛ أي: لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطر من غير اعتقاد أن للتدبير تأثيرًا في تغيير التقدير، وأما إصابة العين، فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم، لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضية عليهم. وعبارة "الجمل" هنا: وتقرير انقطاع الاستثناء أن المستثنى منه شيء قضاه الله وأراده، والمستثنى شيء لم يرده الله؛ وهو إصابة العين لهم، فهذا لم يرده الله، ولم يقضه؛ إذ لو أراده لوقع مع أنه لم يقع ولم يحصل، هذا تقرير الانقطاع. انتهت. {وَإِنَّهُ}؛ أي: إن يعقوب عليه السلام {لَذُو عِلْمٍ} جليل {لِمَا عَلَّمْنَاهُ} بالوحي ونصب الأدلة، ولذلك قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}؛ لأن العين لو قدر أن تصيبهم أصابتهم وهم متفرقون، كما تصيبهم وهم مجتمعون؛ أي: وإنه (¬4) لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء لما أعطيناه من علم الوحي، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

وتأويل الرؤيا الصادقة، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه في كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه، ويبلغ به إلى غايته، ثم يتوكل بعد ذلك على الله في تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أسرار القدر، ويزعمون أن الحذر يغني عن القدر، أو المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعي في تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد، وبين الاتكال على الله؛ وهو ما فعله يعقوب عليه السلام، ولا يكفي تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه، أو المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن يعقوب عليه السلام بهذه الصفة والعلم، أو لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب؛ لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه. وقرأ الأعمش شاذًا: {مما علمناه} ذكره أبو حيان. الإعراب {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَمَا} (و): حالية. {ما}: نافية. {أُبَرِّئُ نَفْسِي}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا كما هو الراجح، أو على يوسف، والجملة في محل النصب حال من فاعل القول المحذوف تقديره: قلت ذلك الاعتراف ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب حالة كوني غير مبرئة نفسي من السوء. {إِنَّ}: حرف نصب. {النَّفْسَ}: اسمها. {لَأَمَّارَةٌ}: (اللام): حرف ابتداء. {أمارة}: خبر {إِنَّ}. {بِالسُّوءِ}: متعلق به، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل النفي المذكور قبلها. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: اسم موصول بمعنى نفسًا في محل النصب على الاستثناء. {رَحِمَ رَبِّي}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: إلا نفسًا رحمها ربي بالعصمة كيوسف عليه السلام. {إِنَّ رَبِّي}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ}: خبر أول لـ {إِنَّ}. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}.

{وَقَالَ الْمَلِكُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}: مقول محكي لـ {قَالَ}. وإن شئت قلت: {ائْتُونِي}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به. {بِهِ} متعلق به والجملة في محل النصب مقول {قال}. {أَسْتَخْلِصْهُ}: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق. {لِنَفْسِي}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلِكُ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا}: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فأتوه به فلما كلّمه. {لما}: حرف شرط غير جازم. {كَلَّمَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلِكُ}، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لمّا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلِكُ}، والجملة الفعلية جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لمَّا} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {إِنَّكَ الْيَوْمَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية تنازع فيه كل من {مَكِينٌ أَمِينٌ}. {لَدَيْنَا}: في محل النصب على الظرفية المكانية مضاف إلى الضمير تنازع فيه أيضًا كل من الاسمين. {مَكِينٌ}: خبر أول لـ {إِنَّ}. {أَمِينٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {اجْعَلْنِي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {اجْعَلْنِي}: فعل ومفعول أول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على {الْمَلِكُ}، والجملة في محل النصب مقول {وَقَالَ}. {عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بالمفعول الثاني المحذوف لـ {جعل} تقديره: اجعلني واليًا على خزائن الأرض، أو متعلق بـ {اجْعَلْنِي} على تضمينه معنى ولّني. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {حَفِيظٌ عَلِيمٌ}: خبران له. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}. {كذَلِكَ} (الواو): استئنافية. {كذلك}: صفة لمصدر محذوف معمول

لـ {مَكَّنَّا} تقديره: ومكنا ليوسف في الأرض تمكينًا مثل التمكين في ذكرناه من إخراجه من السجن وتقريبه إلى الملك. {لِيُوسُفَ}: متعلق بـ {مَكَّنَّا}. وكذلك يتعلق به {فِي الْأَرْضِ}. وفي "الفتوحات" قوله: {لِيُوسُفَ} يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة بـ {مَكَّنَّا} على أن يكون مفعول {مَكَّنَّا} محذوفًا تقديره: مكنا ليوسف الأمور، أو على أن يكون المفعول به {حَيْثُ} كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك. اهـ. "سمين". {يَتَبَوَّأُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {يوسف}. {مِنْهَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {يوسف}، وفي "الخازن": إن هذه الجملة في المعنى تفسير للتمكين. {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بـ {يَتَبَوَّأُ}. {يَشَاءُ}؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {يوسف}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. وفي "السمين" قوله: {يَتَبَوَّأُ} هذه جملة حالية من {يوسف}، ومنها يجوز أن يتعلق بـ {يَتَبَوَّأُ}، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {حَيْثُ}، و {حَيْثُ} يجوز أن يكون ظرفًا بـ {يَتَبَوَّأُ}، ويجوز أن يكون مفعولًا به. اهـ. {نُصِيبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِرَحْمَتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة مستأنفة. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {نَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من نشاءه. {وَلَا}: (الواو): عاطفة. {لا}: نافية. {نُضِيعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {نُصِيبُ}. {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}. {وَلَأَجْرُ} (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. {أجر الآخرة}: مبتدأ ومضاف إليه. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}. {آمَنُوا}: فعل

وفاعل صلة الموصول. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَتَّقُونَ} خبره، وجملة {كان} معطوفة على جملة الصلة. {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا {فَدَخَلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {جاء}. {عَلَيهِ}: متعلق بـ {دخل}. {فَعَرَفَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}، والجملة معطوفة على جملة {دخلوا}؛ لأن العاطف هنا حرف مرتب. {وَهُمْ}: مبتدأ. {لَهُ}: متعلق بما بعده. {مُنْكِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {عرف} والتقدير: فعرفهم يوسف حالة كونهم جاهلين له. {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}. {وَلَمَّا} (الواو): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {جَهَّزَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {بجهازهم}: متعلق به. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}، والجملة الفعلية جواب {لما}، وجملة {لما} مستأنفة. {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ}: مقول محكي لـ {قَالَ}. وإن شئت قلت: {ائْتُونِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية. {بِأَخٍ}: متعلق به والجملة في محل النصب مقول قال. {لكُم}: جار ومجرور صفة لـ {أخٍ}. {مِنْ أَبِيكُمْ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، أو صفة ثانية لـ {أخٍ}. {أَلَا}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لا}: نافية. {تَرَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أنِّي}: ناصب واسمه. {أُوفِي الْكَيْلَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {رأى} إن كانت علمية، أو منصوب على المفعولية لـ {رأى} إن كانت بصرية، تقديره: ألا ترون إيفائي الكيل. {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {أن} على كونها سادة مسد مفعول رأى. {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}.

{فَإِنْ} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان شأنكم إذا لم تأتوني به .. فأقول لكم {إن لم تأتوني به}: {إن}: حرف شرط جازم. {لَمْ}: حرف نفي وجزم {تَأْتُونِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ {لَمْ}، وجزمه بحذف النون. {بِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَلَا}: (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {لا}: نافية. {كَيْلَ}: في محل النصب اسمها. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر {لا} النافية، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لا. {وَلَا تَقْرَبُونِ}: جاز ومجزوم بحذف النون، وهذه النون نون الوقاية، وحذفت ياء المتكلم تخفيفًا، وجملة قوله: {وَلَا تَقْرَبُونِ} في محل الجزم معطوفة على جملة {لا} النافية على كونها جوابًا لـ {إن}: الشرطية، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ ...} إلى آخر الآية: قول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {سَنُرَاوِدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف. {عَنهُ}: متعلق به. {أَبَاهُ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَفَاعِلُونَ} خبره، واللام: حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}. {وَقَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {لِفِتْيَانِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، وجعل هنا بمعنى دس فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. {فِي رِحَالِهِمْ}:

متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قال}. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه. {يَعْرِفُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل}: في محل النصب مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قال}. {إِذَا}: ظوف لما يسقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {انْقَلَبُوا}: فعل وفاعل. {إِلَى أَهْلِهِمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بـ {انْقَلَبُوا}، والتقدير: لعلهم يعرفونها وقت انقلابهم إلى أهلهم. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَرْجِعُونَ} في محل الرفع خبر، {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قال} مسوقة لتعليل ما قبلها؛ أي: ولعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع كما في "البيضاوي". {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}. {فَلَمَّا}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره، إذا عرفت ما قال يوسف لهم، وما عاهد عليهم من الإتيان بالأخ، وما قالوا له من مراودته من أبيه، وأردت بيان ما قالوا لأبيهم بعد ما رجعوا إلى بلادهم .. فأقول لك، {لَمَّا رَجَعُوا}، {لما}: حرف شرط غير جازم. {رَجَعُوَا}: فعل وفاعل. {إِلَى أَبِيهِمْ} متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {ما}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} في محل النصب مقول الجواب إذا المقدرة. {يَا أَبَانَا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مُنِعَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة. {مِنَّا}: متعلق به. {الْكَيْلُ}: نائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {فَأَرْسِلْ} (الفاء): عاطفة تفريعية، {أرسل}: فعل أمر؛ وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {مَعَنَا}: متعلق به، أو حال من {أَخَانَا}. {أَخَانَا}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {نَكْتَلْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَهُ}: متعلق بما بعده. {لَحَافِظُونَ}: خيره،

واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {أرسل} على كونها مقول {قَالُوا}. {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {هَلْ آمَنُكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ}: حرف الاستفهام الإنكاري. {آمَنُكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ}. {إلّا}: أداة استثناء مفرغ. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه. {ما}: مصدرية. {أَمِنْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {عَلَى أَخِيهِ}: متعلق به. وكذا قوله: {مِنْ قَبْلُ}: متعلق به أيضًا. والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كأمني إياكم على أخيه من قبل، الجر والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: هل آمنكم عليه إلا أمنًا كائنًا كأمني إياكم على أخيه من قبل. {فَاللهُ} (الفاء): عاطفة لقول محذوف على فعل محذوف تقديره: فتوكل يعقوب على الله، ودفعه إليهم، فقال الله خير حافظًا، {الله خير}: مبتدأ وخبر. {حَافِظًا}: حال من الضمير المستكن في {خَيْر}، أو تمييز منصوب باسم التفضيل، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ} على كونها مقولًا لذلك القول المحذوف. {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}. {وَلَمَّا} (الواو): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول لـ {وجد}. {رُدَّتْ}: فعل ماضي مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على البضاعة. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب

مفعول ثان لـ {وجد} أو حال من البضاعة، وجملة {وَجَدُوا} جواب {لما}، وجملة {لما} مستأنفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَبَانَا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَا}: استفهامية في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا. {نَبْغِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة موضحة لجملة قوله: {مَا نَبْغِي}. {رُدَّتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على البضاعة. {إِلَيْنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {بِضَاعَتُنَا}. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: نستعين بها ونمير أهلنا ذكره في "الفتوحات". {وَنَحْفَظُ أَخَانَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة معطوفة على ما قبلها. {ذَلِكَ كَيْلٌ}: مبتدأ وخبر. {يَسِيرٌ}: صفة {كَيْلٌ}. {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {لَنْ}: حرف نفي ونصب. {أُرْسِلَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَعَكُمْ}: حال من مفعول {أُرْسِلَهُ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تُؤْتُونِ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، وعلامة نصبه حذف النون: لأن أصله حتى تؤتونني، والنون المذكورة نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول أول. {مَوْثِقًا}: مفعول ثان. {مِنَ اللَّهِ} صفة لـ {مَوْثِقًا}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى تقديره: إلى إيتائكم إيايّ موثقًا من الله، والجار والمجرور متعلق بـ {أرسل}.

{لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}. {لَتَأْتُنَّنِي}: {اللام}: موطئة للقسم. {تأتنني}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والنون المشددة: نون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، والنون الأخيرة: نون الوقاية، و (الياء): ضمير المتكلم: في محل النصب مفعول به مبني على السكون. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مقول لقول محذوف تقديره: حتى تؤتون موثقًا من الله قائلًا: والله لتأتنني به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أو من أعم العلل. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُحَاطَ}: فعل مضارع مغير، الصيغة منصوب بـ {أَن}. {بِكُمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المستثنى المحذوف تقديره: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا العلة الإحاطة بكم. {فَلَمَّا}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه أبى من الإرسال معهم حتى يؤتوه موثقًا من الله، وأردت بيان قوله وحاله بعد أخذ الميثاق منهم .. فأقول لك: لما أتوه. {لما}: حرف شرط غير جازم. {آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة شرط لـ {لما}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ}: مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: {اللَّهُ}: مبتدأ. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {وَكِيلٌ}. {نَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب ومن معه، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: على ما نقوله. {وَكِيلٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ

مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. {وَقَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة معطوفة على جملة {قال} الأولى. {يَا بَنِيَّ}: إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا بَنِيَّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {لَا تَدْخُلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {لَا تَدْخُلُوا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {وَادْخُلُوا}: فعل وفاعل. {مِنْ أَبْوَابٍ}: متعلق به. {مُتَفَرِّقَةٍ}: صفة لـ {أَبْوَابٍ}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَا تَدْخُلُوا}. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {أُغْنِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {عَنْكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {وَادْخُلُوا}. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {شَيْءٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِنْ}: زاندة. {شَيْءٍ}: مفعول {أُغْنِي}؛ أي: أغني عنكم شيئًا من قضاء الله تعالى. {إِن}: نافية مهملة لانتقاض نفيها بـ {إِلَّا}. {الْحُكْمُ}: مبتدأ. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول (قال). {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {تَوَكَّلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَعَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {فَلْيَتَوَكَّلِ}: {الفاء}: سببية كما مر في مبحث التفسير نقلًا عن "روح البيان"، و (اللام): حرف جزم وطلب. {يتوكل المتوكلون}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. {وَلَمَّا}: (الواو): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {دَخَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور متعلق بـ {دَخَلُوا}. {أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر

مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر فيها يعود على دخولهم من أبواب متفرقة. {يُغْنِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الدخول. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {شَيْءٍ}. {مِنْ شَيْءٍ}: مفعول {يُغْنِي} وجملة {يُغْنِي}: في محل النصب خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} جواب {لِمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لِمَا} مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء بمعنى لكن؛ لأن الاستثناء منقطع. {حَاجَةً}: منصوب على الاستثناء. {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة أولى لـ {حَاجَةً}. {قَضَاهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، وجملة {قَضَاهَا}: في محل النصب صفة ثانية لـ {حَاجَةً}. {وَإِنَّهُ}: (الواو): استئنافية. {إن}: ناصب واسمه. {لَذُو عِلْمٍ}: (اللام): حرف ابتداء. {ذو علم}: خبر {إن} مرفوع بالواو، والجملة مستأنفة. {لِمَا}: (اللام): حرف جر وتعليل. {ما}: مصدرية. {عَلَّمْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لتعليمنا إياه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: وإنما كان ذا علم لتعليمنا إياه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ}. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}؛ أي: كثيرة الأمر لصاحبها بالسوء؛ أي: شأنها الأمر بالسوء لميلها إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها وكفها عن ذلك. والسوء: الفعل القبيح. والأمارة: صيغة مبالغة تدل على الكثرة. {إِلَّا مَا رَحِمَ} {مَا}: واقعة على نفس من النفوس، فلذلك كانت بمعنى. {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}؛ أي: أجعله خالصًا لنفسي، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك، فهو من باب استفعل السداسي، ولكنه بمعنى أفعل، فالسين والتاء فيه زائدتان، وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه؛ لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة، ولا يشاركهم فيها أحد من الناس.

{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}؛ أي: ذو مكانة ومنزلة أمين؛ أي: مؤتمن على كل شيء، فهما صفتان مشبهتان من مكن على وزن كرم، وأمن على وزن فرح، يقال: مكن فلان عند فلان إذا اتخذ عنده مكانة؛ أي: منزلة؛ وهي الحالة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقيل: المكانة: المنزلة والجاه، والمعنى قد عرفنا أمانتك ومنزلتك، وصدقك وبرائتك مما نسبت إليه، ومكين: كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا. اهـ. "خازن". وفي "المصباح": مكن فلان عند السلطان مكانة - وزان ضخم ضخامة - إذا عظم عنده وارتفع، فهو مكين، ومكنته من الشيء: جعلت له عليه سلطانًا وقدرةً، فتمكن منه، واستمكن: قدر عليه، وله مكنة؛ أي: قوة وشدة، وأمكنته منه بالألف مثل مكنته، وأمكنني الأمر سهل وتيسر. اهـ. {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}؛ أي: ولّني على خزائن الطعام والأموال، وأراد بالأرض أرض مصر. {إِنِّي حَفِيظٌ} للخزائن {عَلِيمٌ} بوجوه مصالحها. وقيل: حفيظ لما استودعني عليم لما وليتني. وقيل: حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جعلنا له سلطانًا. {فَعَرَفَهُمْ} المعرفة والعرفان: معرفة الشيء بتفكر في أثره، وضده الإنكار. {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ}؛ أي: وفر ركائبهم بما جاءوا لأجله. {بِجَهَازِهِمْ} وجهاز السفر: أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة، ومثله جهاز الميت والعروس بالكسر والفتح، وبهما قرئ، والمتواتر هو الفتح. وفي "المصباح": وجهزت المسافر بالتثقيل: هيأت له بجهازه، وجهاز السفر أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة - بالفتح والكسر - لغة قليلة. اهـ. {أَلَا تَرَوْنَ} أصله تريون، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها؛ وهو فتحة الراء، فصار ترون بوزن تفعون. {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} يقال: أوفى الشيء إذا جعله وافيًا تامًّا. {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}؛ أي: خير المستضيفين للضيوف وأكثرهم قرى.

{وَلَا تَقْرَبُونِ} وفي القاموس - قرب - ككرم، وقرب كسمع قربًا وقربانًا - بالضم - وقِربانًا - بالكسر - دنا فو قريب للواحد والجمع. اهـ. والمعنى هنا: لا تدنوا مني؛ أي: من بلادي؛ أي: لا تدخلوها فضلًا عن وصولكم إلي. اهـ. شيخنا. {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ}؛ أي: نخادع ونستميل برفق. {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}؛ أي: لقادرون على تلك المراودة. {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ}؛ أي: لغلمانه الكيالين {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ}، أي: التي اشتروا بها الطعام الذي في هذا الرحل، وكانت نعالًا وأدمًا. وقيل: دراهم، والبضاعة: المال في يستعمل للتجارة. {فِي رِحَالِهِمْ}: جمع رحل، وهو ما يوضع على ظهر الدابة، وفوقه متاع الراكب وغيره، والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. {إِذَا انْقَلَبُوا}؛ أي: رجعوا. {نَكْتَلْ}: أصله نكتيل بوزن نغتنم، فتحركت الياء التي هي عين الكلمة، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه الآن نفتل، وبحسب الأصل، نفتعل. اهـ. "شيخنا". {هَلْ آمَنُكُمْ} أصله: أأمنكم بهمزتين، فقلبت الثانية ألفًا على القاعدة. {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا الزمان. {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ}؛ أي: رحالهم؛ أي: الأوعية التي وضعوا فيها الميرة. {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ}؛ أي: التي دفعوها له؛ وهي ثمن الميرة. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}؛ أي: نجلب لهم المِيرة - بالكسر - وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد {كَيْلَ بَعِيرٍ}؛ أي: حمل جمل، فكيل بمعنى: مكيل. {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}، أي: قليل لا يكثر على سخائه كما جاء في قوله: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}، أو سهل لا عسر فيه كما في قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}. {مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} والموثق العهد المؤكد باليمين، وقيل: العهد بإشهاد الله

عليه. اهـ. "خازن". {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}؛ أي: إلا أن تغلبوا على أمركم، إلا أن تهلكوا، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبًا، وتقول العرب: أحيط بفلان إذا هلك، أو قارب هلاكه. {عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}؛ أي: مطلع رقيب، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المبالغة في قوله: {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لم يقل: آمرة مبالغة في وصف النفس بكثرة الدفع في المهاوي والقود إلى المغاوي؛ لأن فَعَّالًا من أبنية المبالغة. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وهم المحسنون للتوصل إلى وصفهم بالإيمان والتقوى بعد وصفهم بالإحسان مبالغة في مدحهم. ومنها: التضمين في قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ضمن جهز معنى أكرم، فلذلك عداه بالباء؛ أي: ولما أكرمهم بجهازهم؛ أي: بتحصيله لهم. ومنها: الجناس المغاير بين {الْكَيْلَ} وبين {نَكْتَلْ} في قوله: {يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ}، والمماثل في قوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}، وفي قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ومنها: التشبيه في قوله: {إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ}؛ أي: إلا ائتمانًا كائتماني لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذا بائتمانه لهم على ذاك. اهـ. "سمين". ومنها: الكناية في قوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}؛ لأن الإحاطة حقيقة في إحاطة العدو، وهو هنا كناية عن الهلاك؛ أي: إلا أن تهلكوا.

ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} لما فيه من الإسناد إلى السبب؛ لأنه الآمر. ومنها: الطباق بين عرف وأنكر في قوله: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}. ومنها: الإطناب في قوله: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} وهو زيادة اللفظ على المعنى المراد؛ وفائدته: تمكين المعنى من النفس ورسوخه فيها، وفيه أيضًا من المحسنات البديعية ما يسمى طباق السلب. ومنها: القصر في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، وقوله: {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. ومنها: الإتيان بصيغة الاستقبال في قوله: {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} مع أنه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم؛ للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة. ومنها: التعبير عما في المستقبل بالماضي في قوله {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}؛ لأنه يراد به المنع في المستقبل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[69]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}. التفسير وأوجه القراءة 69 - {وَلَمَّا دَخَلُوا}؛ أي: ولما دخل إخوة يوسف {عَلَى يُوسُفَ} في مجلسه الخاص به بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم {آوَى} يوسف وضمّ {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى نفسه في الطعام والمنزل والمبيت {أَخَاهُ} الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب، أو فوق ما كان يتوقع من الحنوِّ عليه

والعناية التي خصه بها. قال المفسرون (¬1): لما دخل إخوة يوسف على يوسف عليه السلام .. قالوا: أيها الملك هذا أخبرنا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فقد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم نُزلهم، ثم إنه أضافهم وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيدًا، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًّا .. لأجلسني معه، فقال لهم يوسف عليه السلام، لقد بقي هذا وحده، فقالوا: كان له أخ، فهلك. قال لهم: فأنا أجلسه معي، فأخذه فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكله، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك، وقال كل اثنين منكم ينامان على فراش واحد، فبقي بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام عندي على فراشي، فنام بنيامين مع يوسف على فراشه، فجعل يوسف يضمه إليه، ويشمّ ريحه، ويشمّ ريح أبيه منه حتى أصبح، فلما أصبح قال لهم: إني أرى هذا الرجل وحيدًا ليس معه ثان، وسأضمه إلي فيكون معي في منزلي، ثم إنه أنزلهم وأجرى عليهم الطعام، فقال رويبل: ما رأينا مثل هذا قط، فلما خلا به .. قال له يوسف: ما اسمك؟ قال: بنيامين. قال: وما بنيامين؟ قال: ابن المشكّل، وذلك أنه لما ولدته أمه هلكت. قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى. قال: فهل لك من ولد؟ قال: لي عشرة بنين. قال: فهل لك من أخ لأمك؟ قال: كان لي أخ، فهلك. قال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال بنيامين: ومن يجد أخًا مثلك أيها الملك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام، وقام إليه وعانقه و {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} يوسف الذي فقدتموه صغيرًا {فَلَا تَبْتَئِسْ}؛ أي: فلا تحزن، وقال أهل اللغة: تبتئس تفتعل من البؤس؛ وهو الضرر والشدة، والابتئاس: اجتلاب الحزن والبؤس؛ أي: فلا تحزن ولا تتأسف {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى من الضرر والأذى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمع بيننا بخير؛ أي: فلا تلتفت إلى ما صنعوه بنا فيما تقدم من أعمالهم المنكرة، ولا يلحقن بك بعد الآن بؤس؛ أي: مكروه ولا شدة ¬

_ (¬1) الخازن.

[70]

بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لي ولك، وأمره أن لا يخبرهم، بل يخفي الحال عنهم. وقال بنيامين: أنا لا أفارقك أبدًا. قال يوسف عليه السلام: قد علمت اغتمام والدك بي، فإذا حبستك عندي ازداد غمه، ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك، فإني لا أفارقك. قال يوسف عليه السلام: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك معهم. قال: فافعل ما شئت، 70 - فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ} يوسف وهيأهم {بِجَهَازِهِمْ}؛ أي: بأهبة سفرهم؛ أي: فلما هيأ يوسف لهم ما يحتاجون إليه للسفر، وحمل لهم أحمالهم من الطعام على إبلهم، وعبّر (¬1) هنا بالفاء إشارة إلى طلب سرعة سيرهم وذهابهم إلى بلادهم؛ أي: لأن الغرض منه قد حصل، وقد عرفت حالهم بخلاف المرة الأولى، كان المطلوب فيها طول مدة إقامتهم؛ ليتعرف الملك حالهم. {جَعَلَ} يوسف عليه السلام {السِّقَايَةَ}؛ أي: المشربة - بكسر الميم - وهي صاع من ذهب مرصع بالجواهر؛ أي: على بالرصائع، وهي حلق يحلى بها، الواحدة رصيعة وكان يشرب فيه الملك، فيسمى سقاية باعتبار أول حاله، وصاعًا باعتبار آخر أمره؛ لأن الصاع آلة الكيل يسع أربعة أمداد. فالسقاية إناء يشرب منه، جعلها يوسف مكيالًا؛ لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب فيها، أو كال بها لإخوته إكرامًا لهم، وكانت من ذهب، وقيل: من فضة، وكان الشرب في إناء الذهب والفضة مباحًا في الشريعة الأولى، فالسقاية والصُّواع اسم لإناء كما مر آنفًا؛ أي: دس يوسف مشربته التي كان يشرب فيها {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} الشقيق بنيامين؛ أي: في وعاء طعامه. والمعنى: فلما قضى لهم حاجتهم، ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه. وفي قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ} إيماء إلى أنه وضعها بيده، ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني؛ لئلا يطلعوا على مكيدته. ثم ارتحلوا راجعين إلى بلادهم، فأمهلهم يوسف حتى خرجوا من العمران، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ولما انفصلوا عن مصر نحو الشام .. أرسل يوسف وراءهم من استوقفهم، فاستوقفهم فوقفوا {ثُمَّ أَذَّنَ} ونادى {مُؤَذِّنٌ}؛ أي: مناد من فتيان يوسف، قيل: اسمه أفراييم كما في "روح البيان"؛ أي: نادى منادٍ برفع صوته مرارًا كثيرة قائلا: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}؛ أي: أيتها القافلة التي فيها الأحمال ويا أصحاب الإبل التي عليها الأحمال. والعير (¬1) في الأصل: كل ما يحمل عليه من الإبل والحمير والبغال، سمي بذلك؛ لأنه يعير؛ أي: يذهب ويجيء، والمراد هنا: أصحاب الإبل ونحوها. {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} صواعنا فقفوا لنفتشكم. وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري شذوذًا: {وجعل السقاية في رحل أخيه ثم أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذن}. وفي نقل ابن عطية {وجعل السقاية} - بزيادة واو - دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} وثم تنتفي المهلة بين جعل السقاية والتأذين، ذكره أبو حيان. والخلاصة: افتقد فتيان يوسف عليه السلام السقاية (¬2)؛ لأنها الصواع الذي يكيلون به للمتارين، فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك؛ أي: كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود في كل زمان ومكان قائلًا: أيتها العير إنكم لسارقون؛ أي: يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى نفتشها في رحالكم. فإن قلت: (¬3) هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أم لا؟، فإن كان بأمره، فكيف يليق بيوسف مع علو منصبه، وشريف رتبته من النبوة والرسالة أن يتهم أقومًا، وينسبهم إلى السرقة كذبًا مع علمه ببراءتهم عن تلك التهمة التي نسبوا إليها؟ قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة: أحدها: أن يوسف لما أظهر لأخيه أنه أخوه قال: لست أفارقك، قال: لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق، قال: رضيت بذلك، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[71]

فعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام، بل قد رضي به، فلا يكون ذنبًا. الثاني: أن يكون المعنى: إنكم لسارقون ليوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام، فهو من المعاريض، وإنَّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب. الثالث: يحتمل أن يكون المنادي ربما قال ذلك على سبيل الاستفهام، وعلى هذا التقدير لا يكون كذبًا. والرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف، وهو الأقرب إلى ظاهر الحال؛ لأنهم لمَّا طلبوا السقاية، فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم .. غلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها، فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم. اهـ. "خازن". 71 - {قَالُوا}؛ أي: قال أخوة يوسف للمؤذن ومن معه {و} قد وقفوا و {أقبلوا عليهم}؛ أي: والحال أنهم قد التفتوا إلى جماعة الملك المؤذن وأصحابه {مَاذَا} تعدمون، وأي شيء {تَفْقِدُونَ}؛ أي: تطلبون، وما الذي ضاع منكم. والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، تقول: فقدت الشيء إذا عدمته بأن ضل عنك لا بفعلك. وقرأ السلمي شذوذًا (¬1): {تَفْقِدُونَ} - بضم التاء - من أفقدته إذا وجدته فقيدًا، نحو أحمدته إذا وجدته محمودًا، وضَعَّف هذه القراءة أبو حاتم. قال أهل الأخبار (¬2): لما وصل الرسل إلى إخوة يوسف قالوا لهم: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم، ونوف إليكم الكيل ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟؛ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ}؛ أي: عطفوا على المؤذن وأصحابه، وقالوا ما الذي تفقدون، والفقدان: ضد الوجود. 72 - {قَالُوا}؛ أي: قال المؤذن وأصحابه في جوابهم {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

أي: نطلب إناء الملك الذي كان يشرب فيه ويكيل به، وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالًا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت؛ أي: نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك، وقرأ الجمهور (¬1): {صُوَاعَ} بزنة غراب بضم الصاد بعدها واو مفتوحة بعدها ألف بعدها عين مهملة. وقرأ أبو حيوة والحسن وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك إلا أنه كسر الصاد. وقرأ أبو هريرة ومجاهد: {صاع} - بغير واو - وعلى وزن ناب، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء: {صوع} على وزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطبان: {صرع} - بضم الصاد - وقرأ أبيّ: {صياع}. وكلها لغات في الصاع. وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب "اللوامح" {صواغ} - بالغين المعجمة - على وزن غراب. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه يحذف الألف، ويسكن الواو. وقرأ زيد بن علي: {صوغ} مصدر صاغ، وصواغ وصوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك. فهذه ثمان قراءات في هذا الحرف كلها لغات، والمتواتر منها واحدة وهي قراءة الجمهور، وهذا اللفظ يذكر ويؤنث، ويجمع الصواع على صيعان كغراب وغربان، والصاع على أصوع. قال المؤذن: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ}؛ أي: بالإناء من عند نفسه مظهرًا له قبل التفتيش {حِمْلُ بَعِيرٍ}؛ أي: حمولة جمل من الطعام أجرة له وجعلًا. {وَأَنَا بِهِ}؛ أي: بذلك الحمل {زَعِيمٌ}؛ أي: كفيل ضامن أؤديه إليه؛ لأن الإناء كان من الذهب، وقد اتهمني الملك. وفي "البحر": {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ}؛ أي: ولمن دل على سارقه وفضحه {حِمْلُ بَعِيرٍ}؛ أي: وسق بعير من طعام جعلًا لمن حصله. وفي قوله: {حِمْلُ بَعِيرٍ} دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير (¬2). وهذه الآية (¬3): تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها في قوله: " .. الحميل غارم" والحميل: الكفيل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[73]

فإن قلت: كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئًا؟ قلت: لَمْ يكونوا سراقًا في الحقيقة، فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون جعالة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان، فيحمل عليه. 73 - {قَالُوا}؛ أي: إخوة يوسف متعجبين من مقالة الرسل {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم من السرقة، والتاء بدل من الواو مختصة باسم الله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} فيه معنى القسم، فهو تأكيد للقسم قبله؛ أي: والله لقد علمتم وعرفتم يا أصحاب يوسف {مَا جِئْنَا} نحن في هذه البلدة {لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لنفعل الفساد في أرض مصر بمضرة الناس ولنسرق فيها، فإنه من أعظم الفساد {وَمَا كُنَّا سَارِقِين}؛ أي: ما كنا نوصف بالسرقة قط. والمعنى: (¬1) ما أعجب حالكم؛ أنتم تعلمون علمًا جليًّا من ديانتنا وفرط أمانتنا، أننا بريئون مما تنسبون إلينا فكيف تقولون لنا إنكم لسارقون؟ لأنه (¬2) قد ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع النَّاس، ولأنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلوا أخذها. وإنما حكموا بعلمهم ذلك (¬3)؛ لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العمل بأحوالهم الغائبة. قال المفسرون (¬4): إن إخوة يوسف حلفوا على أمرين: أحدهما: أنهم ما جاؤوا لأجل الفساد في الأرض. والثاني: أنهم ما جاؤوا سارقين، وإنما قالوا هذه المقالة؛ لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم، وهم أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم؛ لئلا تؤذي زرع الناس، ومن كانت هذه صفته .. فالفساد في حقه ممتنع. وأما الثاني وهو أنهم ما كانوا سارقين، فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، ولم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) الخازن.

[74]

يستحلوا أخذها، ومن كانت هذه صفته. . فليس بسارق، فلأجل ذلك قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ}، 74 - فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة {قَالُوا}؛ أي: قال أصحاب يوسف؛ وهو المنادي وأصحابه: {فَمَا جَزَاؤُهُ}؛ أي: أي فما جزاء السارق. قال النسفي: الضمير للصواع، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: فما جزاء سرقة الصواع عندكم وفي شريعتكم {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم: {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}؛ أي: إن كنتم كاذبين في جحودكم ونفي كون الصواع فيكم. 75 - {قَالُوا}؛ أي: قال إخوة يوسف: {جَزَاؤُهُ}: مبتدأ {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ}: خبره، ولكنه على تقدير مضاف في الطرفين؛ أي: جزاء سرقة الصواع هو استرقاق من وجد الصواع في رحله سنة، ثم يخلى سبيله، فهذه شريعتهم. يعني (¬1) جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه، فيسترقه سنة، وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق، وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا، فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق، فلذلك ردّ الحكم إليهم. والمعنى: إن جزاء السارق أن يستعبد سنة للمسروق منه جزاء له على جرمه وسرقته، وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ}؛ أي: فاسترقاق ذلك السارق سنة هو جزاء سرقة الصواع لا غير، تقرير للحكم المذكور، وتأكيد له بإعادته كما تقول: حق الضيف أن يكرم فهو حقه، والقصد من الأول: إفادة الحكم، ومن الثاني: إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا؛ أي: فهذه (¬2) الجملة بمعنى التي قبلها. {كَذَلِك}؛ أي: مثل ذلك الجزاء المذكور بقوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} والمراد به: استرقاق السارق {نَجْزِي} في شريعتنا وحكمنا {الظَّالِمِينَ} للناس بالسرقة لأمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابًا للسراق؛ أي: نحكم ونفتي باسترقاق كل سارق؛ لأنه شرعنا المقرر ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

[76]

فيما بيننا؛ أي: مثل (¬1) هذا الجزاء الأوفى نجزي الظالمين بالسرقة، قالوا ذلك ثقة بكمال برائتهم منها، وهم عما فعل بهم غافلون، وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم. وهذه الجملة (¬2) من بقية كلام إخوة يوسف، وقيل: من كلام أصحاب يوسف جوابًا لقول إخوته ذلك، فردوا لتفتيش أوعيتهم إلى يوسف عليه السلام من المكان (¬3) الذي لحقهم فيه جماعة الملك، وتقدم أنهم وصلوا إلى خارج مصر، وقيل: إلى بلبيس. اهـ. "شيخنا". 76 - {فَبَدَأَ} يوسف بعد ما رجعوا إليه {بِأَوْعِيَتِهِمْ}؛ أي: بتفتيش أوعية الأخوة العشرة التي تشتمل عليها رحالهم {قَبْلَ} تفتيش {وِعَاءِ أَخِيهِ} الشقيق بنيامين؛ لنفي التهمة وابتعادًا عن الشبهة بطريق الحيلة. روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه .. قال: ما أظن هذا أخذ شيئًا، فقال إخوة يوسف: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا. وقرأ الحسن: {من وعاء} - بضم الواو - وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير: {من إعاء} - بإبدال الواو المكسورة همزة - كما قالوا إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولًا همزةً وهاتان القراءتان شاذتان. وأنث الضمير الراجع إلى الصواع في قوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} نظرًا لمعنى السقاية، أو لكون الصواع يذكر ويؤنث؛ أي: ثم بعد أن فرغ يوسف من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه، فاستخرجها {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ}؛ أي: أخرج الصواع والسقاية من رحل أخيه بنيامين، فقال له فرَّجك الله كما فرجتني. فلما وجد الصاع مدسوسًا في رحل بنيامين (¬4)، واستخرج منه نكسوا رؤوسهم وانقطعت ألسنتهم، فأخَذوا بنيامين مع ما معه من الصواع، وردوه إلى يوسف، وأخذوا يشتمونه بالعبرانية، وقالوا له: يا لص ما حملك على سرقة صاع الملك، ولا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل، فقال بنيامين: بل ما ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

لقي إبنا راحيل البلاء إلا منكم، فأما يوسف فقد علمتم ما فعلتم به، وأما أنا فسرقتموني؛ أي: نسبتموني إلى السرقة قالوا: فمن جعل الإناء في متاعك؟ أليس قد خرج من رحلك؟ قال: إن كنتم سرقتم بضاعتكم الأولى وجعلتموها في رحالكم، فكذلك أنا سرقت الصاع وجعلته في رحلي، فقال روبيل: لقد صدق، وأراد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف، فذكر وصيته له فسكت. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الكيد العجيب والتدبير الخفي، وهو عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم، وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا {كِدْنَا لِيُوسُفَ}؛ أي: (¬1) صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه. والكيد في الأصل عبارة عن المكر والخديعة، وهو أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه. أي: مثل (¬2) ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف من استرقاق السارق حكمنا به ليوسف، والمعنى: كما ألهمنا إخوة يوسف أن احكموا أن جزاء السارق أن يسترق .. كذلك ألهمنا يوسف ما فعله من دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته. والكيد (¬3) مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حقه سبحانه على النهاية لا على البداية. وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعًا ثابتًا. وقوله: {مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} بنيامين {فِي دِينِ الْمَلِكِ}؛ أي: في دين ملك مصر وحكمه قضائه وشريعته التي كان عليها استئناف تعليل لما صنعه الله تعالى من الكيد ليوسف، أو تفسير له كأنه قيل: لماذا فعل يوسف ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعل في دين ملك مصر في أمر ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

السارق؛ أي: في حكمه وقضائه إلا بما فعل. بل كل دين الملك وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته. وحاصله: أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفًا لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأرادوه حتى وجد السبيل إليه؛ وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله تعالى وتدبيره، وهو معنى قوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}؛ أي: لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله تعالى وهو حكم أبيه، فالاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: لم يكن يتمكن من أخذه وضمه إليه في دين الملك بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد، وإلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه. قال الكواشي: لولا شريعة أبيه لما تمكن من أخذ أخيه. انتهى. ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر؛ لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله تعالى .. بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته، فقال: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}؛ أي: إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة؛ لأن ذلك كله كان إلهامًا من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ}؛ أي: نرفع إلى درجات كثيرة ورتب عالية من العلم {مَنْ نَشَاءُ} رفعه في العلم من عبادنا حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف على إخوته في العلم، والمعنى: نرفع درجات من نشاء بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك. وانتصاب (¬1) {دَرَجَاتٍ}: إما على المصدرية؛ أي: نرفع رفع درجات، وإما على الظرفية؛ ¬

_ (¬1) المراغي.

أي: في درجات، أو بنزع الخافض؛ أي: إلى درجات. والمعنى (¬1): أي: نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والإيمان، نريه وجوه الصواب في بلوغ المراد كما رفعنا درجات يوسف على إخوته في كل شيء. وفي هذا (¬2) إيماء إلى أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم، وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها. وقرأ الكوفيون حمزة والكسائي وعاصم وابن محيصن (¬3): {نَرفَع} - بنون - {دَرَجَاتٍ} - منونًا - {من يشاء} - بالنون -. وباقي السبعة كذلك إلا أنهم أضافوا {دَرَجَاتٍ}. وقرأ يعقوب بالياء في: {يرفع} و {يشاء}؛ أي: يرفع الله تعالى درجات من يشاء رفع درجاته. وقرأ عيسى البصرة شاذًا: {نَرْفَع} - بالنون - {دَرَجَاتٍ} - منونًا - {من يشاء} - بالياء -. قال صاحب "اللوامح": وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها. وقال ابن عطية، وقرأ الجمهور: {نَرْفَع} على ضمير المعظم، وكذلك {نَشَاءُ}. وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء؛ أي: الله تعالى. انتهى. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}؛ أي: وفوق كل صاحب علم من الخلائق {عَلِيمٌ}؛ أي: من هو أوسع وأكثر منه إحاطة بالعلم، وأرفع درجة منه فيه إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شيء علمًا، وهو فوق كل ذي علم. يعني: ليس من عالم إلا وفوقه أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى، وعليم صيغة مبالغة، أو المعنى: وفوق كل ذي علم من العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عَزَّ وَجَلَّ، ذكره النسفي. وخلاصة ذلك: أن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان أعلم منهم. وقرأ عبد الله شاذًا (¬4): {وفوق كل ذي عالم} فخرَّجت على زيادة ذي، أو على أن قوله: {عالم} مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الخازن.

[77]

وفوق كل ذي شخص عالم. قال ابن الأنباري (¬1): يجب أن يتهم العالم نفسه، ويستشعر التواضع لمواهب ربه سبحانه وتعالى، ولا يطمع نفسه في الغلبة؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. انتهى. 77 - ولما خرج الصواع من رحل بنيامين .. افتضح الإخوة ونكسوا رؤوسهم و {قَالُوَا} تبرئة لساحتهم {إِنْ يَسْرِقْ} بنيامين .. فلا عجيب لسرقته {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ}؛ أي: أخ لبنيامين يريدون به يوسف {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل سرقته الآن، فالسرقة جاءت لهما وراثة من أمهما؛ إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفي قولهم هذا إيماءٌ إلى أن الحسد لا يزال كامنًا في قلوبهم لاختلاف الأمهات، ولمزيد محبة الأب لهما، وأتوا (¬2) بـ {إِن} المفيدة للشك؛ لأن ليس عندهم تحقق سرقته بمجرد إخراج الصاع من رحله، وبالمضارع لحكاية الحال الماضية. وأصح ما قيل في سرقة يوسف (¬3): ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعًا قال: "سرق يوسف عليه السلام صنمًا لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته". وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته - وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام - كانت إليها منطقة إسحاق؛ إذ كانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته، فكان معها، فلم يحب أحد شيئًا من الأشياء كحبها إياه بحيث لا تصبر عنه، فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها، فأتاها فقال: يا أخية سلِّمي إلى يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فوالله ما أنا بتاركته، فدعه عندي أيامًا أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام، فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

أصابها، فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام مشدودةً عليه تحت ثيابه، فقالت: إنه سرقها مني، فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت، وكان حكمهم أن من سرق يُسترق، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عندها. وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية. {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ}؛ أي: فأضمر يوسف مقالتهم هذه، أعني قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ} في نفسه، ولم يجبهم عنها، لا أنه أسرها في بعض أصحابه كما في قوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}؛ أي: أكن الحزازة الحاصلة مما قالوا في نفسه وقلبه. والحزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه كما في "القاموس". {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}؛ أي: لم يظهرها لهم ولم يؤأخذهم بها لا قولًا ولا فعلًا صفحًا عنهم وحلمًا، كأنه قيل: فماذا قال في نفسه عند تضاعيف ذلك الإسرار؟ فقيل: {قَالَ} يوسف في نفسه {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}؛ أي: أقبح منزلة في السرقة حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء، وهذه الجملة تفسير لما أسرَّه يوسف؛ أي: (¬1) قال في نفسه: أنتم شر في مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه بالسرقة؛ إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك والرق، وقلتم لأبيكم: قد أكله الذئب .. إلخ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): عوقب يوسف بثلاث: حين همَّ بزليخا فسجن، وحين قال: اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[78]

إنكم لسارقون فردوا عليه، فقالوا: فقد سرق أخ له من قبل. {وَاللَّه} سبحانه وتعالى {أَعْلَم} منكم {بما تصفون} ـه به من السرقة؛ أي: أعلم بحقيقة ما تذكرون من أمر يوسف يوجب عود مذمة إليه أم لا؟ لأنه سبحانه وتعالى هو العلم بحقائق الأمور، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه؛ أي: والله أعلم أسرق أخ له أم لا، فـ {أعلم} على ما قررناه على معناه التفضيلي، فإن قيل: لم يكن فيهم علم، والتفضيل يقتضي الشركة .. قلنا: يكفي الشركة بحسب زعمهم، فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسم، ألا ترى إلى قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} على سبيل الجزم كما في "الحواشي السعدية". وقيل: إن المفاضلة ليست على بابها، والمعنى عليه: والله تعالى أعلم؛ أي: عالم علمًا بالغًا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، بل إنما هو افتراء علينا، فالصيغة لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه على علمهم، كيف لا وليس لهم بذلك من علم. روي: أنهم كلموا العزيز في إطلاق بنيامين، فقال روبيل: أيها الملك لتردن إلينا أخانا، أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل في مصر، وقامت شعور جسده، فخرجت من ثيابه، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون، خلا أنه إذا مس من غضب واحد منهم .. سكن غضبه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فمسه. ويروى: خذ بيده فمسه، فسكن غضبه، فقال روبيل: إن هنا لبذرًا من بذر يعقوب، فقال يوسف: مَنْ يعقوب؟ ولما رأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وأرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين، فيرجعوا به إلى أبيهم؛ لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه 78 - و {قَالُوا} له مستعطفين {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}؛ أي: يا أيها الملك {إِنَّ لَهُ أَبًا}؛ أي: إن لبنيامين {أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا}؛ أي: طاعنًا في سن الكبر لا يكاد يستطيع فراقه، وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف في قصصه ومن تعلقه به {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}؛ أي: بدله على وجه الاسترهان أو الاسترقاق،

[79]

فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة عنده. ثم عللوا رجاءهم في إجابته بقولهم: {إِنَّا نَرَاكَ} أيها الملك {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلينا في ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا، فأتم إحسانك إلينا بهذه النعمة، فما الإنعام إلا بالإتمام، أو المعنى: إن من عادتك الإحسان مطلقًا، فاجر على عادتك ولا تغيرها، فنحن أحق الناس بذلك. 79 - فأجابهم يوسف عن مقالتهم هذه بقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} من إضافة المصدر إلى المفعول به؛ أي: نعوذ باللهِ معاذًا من {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ}؛ أي: إلا من وجدنا صواعنا عنده مدسوسًا في رحله، وهو بنيامين لأنا قد أخذناه بفتواكم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} فلا يسوغ لنا أن نخل بموجبها. ولم يقل (¬1): إلا من سرق متاعنا اتقاءً للكذب؛ لأنه يعلم أنه ليس بسارق {إِنَّا إِذًا} أي: إذا أخذنا غير من وجد متاعنا عنده، وأخذنا بريئًا بمذنب ولو برضاه {لَظَالِمُونَ} من وجهين: مخالفة شرعكم ونص فتواكم، ومخالفة شريعة الملك. قال في "بحر العلوم": {إِذًا} جواب لهم وجزاء؛ لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا، هذا ظاهره، وأما باطنه فهو أن الله أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها الله في ذلك، فلو أخذت غيره لكنت ظالمًا وعاملًا بخلاف الوحي، فصرت ظالمًا لنفسي. 80 - {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا}؛ أي: فلما يئس إخوة يوسف غاية اليأس بدلالة صيغة الاستفعال، واستحكم اليأس في أنفسهم {مِنْهُ}؛ أي: من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم، وأنه إن فعل غيره يكون ظالمًا بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر {خَلَصُوا}؛ أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم حالة كونهم {نَجِيًّا}؛ أي: متناجين متحدثين في تدبير أمرهم، ومتشاورين على أي صفة يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم إذا رجعوا. وقرأ البزّي عن ابن كثير (¬2): {اسْتَيْأَسُوا} بوزن استفعلوا من أيس مقلوبًا من يئس، ومعناهما واحد. ودليل القلب كون ياء أيس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

لم تنقلب ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وخلاصة ذلك (¬1): أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل .. غادر كل منهم رحله، وانضم بعضهم إلى بعض، وأدنى رأسه من رأسه، وأرهفوا آذانهم للنجوى. والمعنى: فلما أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه، وقيل: أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم .. خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم {قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السن وهو روبيل، أو في العقل وهو يهوذا، أو رئيسهم وهو شمعون، وكانت له الرياسة على إخوته كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب والرجوع إلى أبيهم جملة، ولم يرض ذلك، فقال منكرًا عليهم: {أَلَمْ تَعْلَمُوا} والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قال كبيرهم قد علمتم أيها القوم يقينًا {أنَّ أَبَاكُمْ} يعقوب {قَدْ أَخَذَ} وجعل {عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} تعالى؛ أي: عهدًا مؤكدًا باليمين من الله لتردنه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم، وكونه من الله لإذنه فيه. والجار والمجرور في قوله: {وَمِنْ قَبْلُ}؛ أي: ومن قبل هذا متعلق بـ {فَرَّطْتُم} الآتي، و {مَا} في قوله: {مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} زائدة؛ أي: ومن (¬2) قبل أخذكم العهد في شأن بنيامين قصرتم في شأن يوسف، ولم تفوا بوعدكم على النصح والحفظ له، أو مصدرية عطفًا على مفعول {تَعْلَمُوا}؛ أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله وتفريطكم السابق في شأن يوسف، أو ترككم ميثاقه في حق يوسف، أو موصولة عطفًا على مفعول {تَعْلَمُوا} أيضًا؛ أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقًا من الله في شأن بنيامين، والذي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة من قبل تقصيركم في بنيامين، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[81]

{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ}؛ أي: فلن أفارق أرض مصر ذاهبًا منها {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} بتركها وبترك بنيامين فيها والرجوع إليه، ضمن (¬1) {أَبْرَحَ} معنى المفارقة، فعدي إلى المعفول، و {أَبْرَحَ} هنا تامة لا ناقصة؛ لأن الأرض لا تحمل على المتكلم، وكأن أيمانهم معقودة على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بالخروج منها على وجهٍ لا يؤدي إلى نقض الميثاق، أو بخلاص أخي من يد العزيز بسبب من الأسباب كأن يتركه العزيز لي بإلهام منه تعالى، أو بسبب آخر {وَهُو} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وأفضلهم؛ لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للأقدار، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه السلام، ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التهمة عن أنفسهم، 81 - فقال: {ارْجِعُوا} يا إخوتي {إِلَى أَبِيكُمْ} يعقوب دوني {فَقُولُوا} له متلطفين بخطابكم: {يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ} بنيامين {سَرَقَ} صواع الملك من ذهب فيما يظهر لنا، فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر في مصر عملًا بشريعتنا؛ إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها. وقرأ الجمهور: {سَرَقَ} - ثلاثيًّا مبنيًّا للفاعل - إخبارًا بظاهر الحال. وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية: {سَرَقَ} - مبنيًّا للمفعول - لم يقطعوا عليه بالسرقة، بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة. وقرأ الضحاك: {سارق} اسم فاعل، وما عدا قراءة الجمهور شاذ وليس بمتواتر. {وَمَا شَهِدْنَا} عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة، بل ما شهدنا عليه بالسرقة {إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وشاهدنا؛ إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} فنعلم أنه سيسرق حين أعطيناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك وأعطيناك العهد الموثق علينا، أو المعنى: وما كنا للغيب عالمين، فما ندري أحقيقة الأمر كما شاهدنا، أم هي بخلافه؛ لأن حقيقة الأمر غير معلومة لنا؛ فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، فلعل الصواع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[82]

{و} قولوا لأبيكم: أرسل إلى أهل مصر 82 - و {اسأل} أهل {الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا} نمتار {فِيهَا} عن كنه هذه القصة؛ ليتبين لك صدقنا، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا، واسأل {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}؛ أي: واسأل أصحاب العير والإبل الذين كانوا يمتارون معنا وجئنا معهم، وهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرناك به سواء أسألت غيرنا، أم لم تسأل؛ إذ أن من عادتنا الصدق، فلا نخبرك إلا به، ولا نظنك في مرية من هذا، فرجع الأخوة التسعة إلى أبيهم، فقالوا له ما قال كبيرهم، فلم يصدقهم فيما قالوا، 83 - بل {قاَلَ} لهم أبوهم يعقوب عليه السلام {بَلْ سَوَّلَتْ} وزينت {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}؛ أي: كيدًا آخرًا، وهو إخراج بنيامين عني إلى مصر طلبًا للمنفعة، فعاد من ذلك ضرر فنبذتموه، ومما يقوي ذلك عندي أنكم لقنتم ذلك الملك حكم شريعتنا، وأفتيتموه بأن جزاء السارق أن يؤخذ ويسترق، وإلا فما يعرف الملك أن السارق يؤخذ بسرقته؛ لأن ذلك إنما هو من دين يعقوب لا من دين الملك، ولولا فتواكم وتعليمكم لما حكم الملك ذلك {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}؛ أي: فحالي على ما نالني من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية فيه لأحد، بل أشكوا إلى الله وحده وأعلق رجائي به. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى أن يرجع إليَّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره، وإنما قال يعقوب هذه المقالة؛ لأنه لما طال حزنه واشتد بلائه، ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجًا ومخرجًا عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْعَلِيمُ} بفقدي لهم وحزني ووجدي عليهم، وله فينا حكمة بالغة {الْحَكِيمُ} في أفعاله فيبتلي ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته في تدبير خلقه، وقد جرت سنته أنَّ الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجًا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}.

[84]

84 - {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به؛ أي: وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين، فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه، وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف، فعند ذلك أعرض عنهم. وقال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}؛ أي: يا حزني ويا حسرتي على يوسف أقبلي إلي فهذا وقتك، والحال مقتضية لك، فقد كنت أنتظر أن يأتوني من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملي وحلّ محله ذهاب ابني المسلي عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه؛ لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك. قال الزجاج: الأصل يا أسفي فأبدل من الياء ألفًا لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع، وقيل: شدة الحزن. قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرًا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روي عن سعيد بن جبير (¬1): أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعالَ يا أسفي وأقبل إلي. {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}؛ أي: أصابت عينيه غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليمًا معافى، أو المعنى: انقلب سواد عينيه بياضًا من كثرة البكاء. قيل: إنه زال إدراكه بحاسَّة البصر بالمرة. وقيل: كان يدرك إدراكًا ضعيفًا من كثرة البكاء، فإن الدمع يكثر عند غلبة البكاء، فتصير العين كأنها بيضاء من بياض الماء الخارج منها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

{فَهُوَ كَظِيمٌ}؛ أي: مكظوم مملوء غيظًا وغضبًا على أولاده يردد حزنه في جوفه، ولا يتكلم بسوء، أو مملوء حزنًا ممسك له كاتم له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ؛ أي: وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، من كظم السقاء إذا سده على ما فيه. والحزن: عرض طبيعي للنفس ولا يذم شرعًا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو أن يفعل ما لا يرضي الله تعالى، ومن ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت ولده إبراهيم، وقد جعلت عيناه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! "يا ابن عوف إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى، فقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون". رواه الشيخان وغيرهما. فائدة: وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فقال هذه شكاية وإظهار جزع، فلا يليق بعلو منصبه ذلك، وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض؛ لأن يعقوب عليه السلام شكا إلى الله لا منه، فقوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} معناه: يا رب ارحم أسفي على يوسف. وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ، وتخليصه: يا إلهي ارحم أسفي، أو أنت رائي أسفي، أو هذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى سواه في المعنى، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم؛ لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل. فلما كان قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه، وقيل: إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته .. قال: يا أسفا على يوسف؛ أي: أشكو إلى الله شدة أسفي على يوسف، ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}. وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه.

الإعراب {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)}. {وَلَمَّا} (الواو): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {دَخَلُوا}؛ فعل وفاعل. {عَلَى يُوسُفَ}: متعلق به، والجملة فعل شرط {لما}. {آوَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {أَخَاهُ}: مفعول به، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {قَال}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفُ}. والجملة مستأنفة، أو بدل من جملة {آوَى}. {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب وإسمه. {أَنَا}: ضمير فصل، أو مؤكد لياء المتكلم. {أَخُوكَ}: خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَال}. {فَلَا}: (الفاء): حرف عطف وتفريع، {لا}: ناهية جازمة: {تَبْتَئِسْ}: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير يعود على أخي يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} على كونها مقول قَالَ. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَبْتَئِسْ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبر كان، وجملة {كان}: صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره، بما كانوا يعملونه ويصح كون {ما} مصدرية. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}. {فَلَمَّا}: (الفاء): حرف عطف وتعقيب، ومر في مبحث التفسير علة الإتيان بالفاء هنا. {لما}: حرف شرط غير جازم {جَهَّزَهُمْ}. فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {بِجَهَازِهِمْ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {جَعَلَ السِّقَايَةَ}: فعل ومفعول به؛ لأن {جَعَل} هنا بمعنى وضع، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {فِي رَحْلِ أَخِيهِ}: جا ومجرور ومضاف إليه

متعلق به، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على جملة {لما} في قوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} {ثُمَ}: حرف عطف وتراخ. {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}: فعل وفاعل معطوف على {جَعلَ}. {أَيتُها}: منادى نكرة مقصودة حذف منه حرف النداء، والهاء حرف تنبيه زيد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف حال من {مُؤَذِّنٌ} تقديره: حالة كونه قائلًا أيتها العير إنكم لسارقون. {الْعِيرُ} بدل {إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}: ناصب واسمه وخبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف على كونها جواب النداء. {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَأَقْبَلُوا}: {الواو}: واو الحال. {أَقْبَلُوا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا}. {مَاذَا تَفْقِدُونَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {مَاذَا}: استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، أو {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {تَفْقِدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تفقدونه. {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}: فعل ومفعول به ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على أصحاب يوسف، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَلِمَنْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {جَاءَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {من}. {بِهِ}: متعلق بـ {جَاءَ}، والجملة صلة الموصول. {حِمْلُ بَعِيرٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَأَنَا} مبتدأ. {بِهِ}: متعلق بما بعده {زَعِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَاللَّهِ}: (التاء): حرف جر وقسم مختص بلفظ الجلالة. {الله}: مقسم به مجرور بتاء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: أقسم تالله، وجملة القسم مع جوابه الآتي في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَقَد}: {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {عَلِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية. {جِئْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعول علم؛ لأنه بمعنى عرف تقديره: لقد علمتم عدم مجيئنا لنفسد في الأرض. {لِنُفْسِد}: {اللام}: لام كي. {نفسد}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على أخوة يوسف. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {كُنَّا سَارِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها تقديره: وعدم كوننا سارقين. {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَمَا جَزَاؤُهُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَمَا}: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: قد سمعنا قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين، {مَا جَزَاؤُهُ}: {ما}: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. {جَزَاؤُهُ}: خبر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}، ويحتمل كون الفاء زائدة. {إِن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ كَاذِبِينَ}: فعل ناقص واسمه، وخبره في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتم كاذبين فما جزاؤه. {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ} إلى آخر الآية

مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {جَزَاؤُهُ}: مبتدأ أول. {مَن}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ ثان، وخبره جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف. {وُجِدَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على الصواع. {فِي رَحْلِهِ}: متعلق به. {فَهُوَ}: (الفاء): رابطة لجواب {مَن} الشرطية. {هُوَ جَزَاؤُهُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: في محل الرفع خبر المبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. وفي "السمين" قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ} فيه أوجه: أحدها: أن يكون {جَزَاؤُهُ}؛ مبتدأ، والضمير للسارق، و {مَن} شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، والفاء: رابطة الجواب للشرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و {مَن} وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأول. والثاني: أن يكون {جَزَاؤُهُ} مبتدأ، والهاء تعود للمسروق، و {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و {مَن} بمعنى الذي، والتقدير: وجزاء الصواع الذي وجد في رحله. والثالث: أن يكون {جَزَاؤُهُ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: والمسؤول عنه {جَزَاؤُهُ}، ثم أفتوا بقولهم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}. اهـ. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، والعامل فيه ما بعده. {نَجْزِي الظَّالِمِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والتقدير: نجزي الظالمين جزاء مثل ذلك الجزاء المذكور، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}. {فَبَدَأَ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال إخوة يوسف، وما قال أصحاب يوسف، وأردت بيان ما فعل يوسف بهم .. فأقول لك: {بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ}: {بدأ}: فعل ماض، وفاعله

ضمير يعود على {يُوسُف}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِأَوْعِيَتِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {بدأ}. {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {بدأ} أيضًا. {ثُمَّ}: حرف عطف. {اسْتَخْرَجَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باستخراج، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {بدأ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف معمول لما بعده. {كِدْنَا}: فعل وفاعل. {لِيُوسُفَ}: متعلق به، والتقدير: كدنا ليوسف كيدًا مثل ذلك الكيد المذكور، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {مَا}: نافية. {كاَنَ}: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على {يوسف}. {لِيَأخُذَ}: (اللام): حرف جر وجحود. {يأخذ أخاه}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود. {فِي دِينِ الْمَلِكِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كاَنَ} على مذهب البصريين تقديره: ما كان يوسف مريدًا لأخذ أخيه في دين الملك، ومتمكنًا منه في حكمه، وهذه الجملة تعليق لما صنعه الله ليوسف من الكيد، أو تفسير له. ذكره الشوكاني وغيره. {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأحوال. {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة مستثنى المحذوف إليه، والتقدير: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله سبحانه وتعالى. {نَرْفَعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {دَرَجَاتٍ مَنْ}: مفعول به ومضاف إليه إذا قرأناه بلا تنوين، وإذا قرأناه بالتنوين {دَرَجَاتٍ} منصوب بنزع الخافض. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {نَشَاءُ}: صلة {مَنْ} الموصولة، والتقدير: نرفع من نشاء رفعه من عبادنا في درجات. {وَفَوْقَ كُلِّ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {ذِي عِلْمٍ} مضافان {عَلِيمٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ

وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنْ}: حرف شرط. {يَسْرِقْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية، وفاعله ضمير يعود علي بنيامين. {فَقَدْ}: (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {سَرَقَ أَخٌ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {لَهُ}: جار ومجرور صفة لـ {أَخٌ}. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {سَرَقَ}، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {فَأَسَرَّهَا} (الفاء): عاطفة. {أسرها يوسف}: فعل ومفعول به. {فِي نَفْسِهِ} متعلقان به {وَلَمْ يُبْدِهَا} جازم وفعل مجزوم ومفعول به، والجملة معطوفة على {فَأَسَرَّهَا} {لَهُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفُ}، والجملة معطوفة على جملة {فَأَسَرَّهَا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفُ}، والجملة مستأنفة. {أَنْتُمْ شَرٌّ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شيء قلت: {أَنْتُمْ شَرٌّ}: مبتدأ وخبر. {مَكَانًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، وجملة {تَصِفُونَ}: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تصفونه. {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه. {الْعَزِيزُ}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إنَّ}: حرف نصب. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {أَبًا}: اسم {إِنَّ} مؤخر. {شَيْخًا}: صفة لـ {أَخٌ}. {كَبِيرًا}: صفة

لـ {شَيْخًا}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {فَخُذْ}: (الفاء): عاطفة تفريعية. {خذ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {يوُسُفُ}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إن}. {أَحَدَنَا}: مفعول به. {مَكَانَهُ}: ظرف متعلق بـ {خذ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {نَرَاكَ}: فعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: متعلق به، ويصح كونها علمية، والجار والمجرور في محل المفعول الثاني، وفاعل نرى ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالُوا} مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفُ}، والجملة مستأنفة. {مَعَاذَ اللَّهِ} إلى آخر الآية: محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت {مَعَاذَ اللَّهِ} منصوب. على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: نعوذ بالله معاذ؛ أي: نتعوذ بالله تعوذًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنْ نَأْخُذَ}: ناصب وفعل منصوب به، وفاعله ضمير يعود على {يوُسُفُ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: نعوذ بالله من أخذنا. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {وَجَدْنَا مَتَاعَنَا}: فعل وفاعل ومفعول. {عِنْدَهُ}: متعلق به، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء ملغاة لا عمل لها؛ لعدم دخولها على الفعل. {لَظَالِمُونَ}: خبر {إن}، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَال} مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ}. {فَلَمَّا}: (الفاء): استئنافية. {لما}: حرف شرط غير جازم. {اسْتَيْأَسُوا}: فعل وفاعل، فعل شرط لـ {لما}. {مِنْهُ}: متعلق به. {خَلَصُوا}: فعل وفاعل جواب {لما}. {نَجِيًّا}: حال من فاعل {خَلَصُوا}، وجملة {لما}: مستأنفة،

وإنما أفردت الحال مع كون صاحبها جمعًا؛ لأن فعيلًا يستوي فيه المذكر والمؤنث. والجميع وغيره. {قَالَ كَبِيرُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ} إلى قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} مقول محكي، وإن شئت قلت {أَلَمْ تَعْلَمُوا}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لَمْ تَعْلَمُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنَّ أَبَاكُمْ}: ناصب واسمه. {قَدْ أَخَذَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الأب. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {مَوْثِقًا}: مفعول به. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة له، وجملة {أَخَذَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله في شأن بنيامين. {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. {وَمِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرَّطْتُم}. {مَا}: زائدة، أو مصدرية. {فَرَّطْتُم}: فعل وفاعل. {في يُوسُف}: متعلق به، والجملة صلة لـ {مَا} المصدرية. {ما} مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر مؤول من جملة {أَنَّ} تقديره: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا من الله في شأن بنيامين، وتفريطكم في شأن يوسف من قبل بنيامين. {فَلَنْ أَبْرَحَ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم وأردتم بيان شأني وحالي .. فأقول لكم، {لَنْ أَبْرَحَ}: ناصب وفعل منصوب، و {أَبْرَحَ} هنا تامة، وفاعله ضمير يعود على الكبير. {الْأَرْضَ}: مفعول به؛ لأنه في معنى لن أفارق الأرض، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَأْذَنَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى. {لِي}: متعلق به. {أَبِي}: فاعل. {أَوْ يَحْكُمَ اللَّه}: فعل وفاعل معطوف على {لِي}. {لِي}: متعلق به، وجملة {يَأْذَنَ} في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {أَبْرَحَ}، والتقدير: فلن أبرح الأرض إلى إذن أبي لي، أو حكم الله لي. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل

النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لما قبلها. {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}. {ارْجِعُوا}: فعل وفاعل. {إِلَى أَبِيكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَال}. {فَقُولُوا}: (الفاء): عاطفة. {قولوا}: فعل وفاعل معطوف على {ارْجِعُوا}. {يَا أَبَانَا} إلى آخر الآية: مقول {قولوا}، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قولوا}. {إِنَّ ابْنَكَ}: ناصب واسمه. {سَرَقَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الابن، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قولوا} على كونها جواب النداء. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {شَهِدْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها جواب النداء. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهِدْنَا}. {عَلِمْنَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا بما علمناه، وعلم بمعنى عرف. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {لِلْغَيْبِ}: متعلق بما بعده. {حَافِظِينَ}: خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها جواب النداء. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الأب، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها جواب النداء. {الَّتِي} صْفة لـ {الْقَرْيَةَ}. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {فِيهَا}: خبره، وجملة كان صلة الموصول. {وَالْعِيرَ}: معطوف على {الْقَرْيَةَ}. {الَّتِي}: صفة للعير. {أَقْبَلْنَا}: فعل وفاعل. {فِيهَا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَصَادِقُونَ}: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَاسْأَلِ} على كونها مقول {قولوا}.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {بَلْ سَوَّلَتْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {بَل}: حرف إضراب وابتداء. {سَوَّلَتْ}: فعل ماضٍ. {لَكُمْ}: متعلق به. {أَنْفُسُكُمْ}: فاعل. {أَمْرًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم وأردتم بيان حالي لكم .. فأقول لكم: {صبر جميل}: {صبر}: خبر مبتدأ محذوف. {جَمِيلٌ}: صفة له تقديره: فصبري صبر جميل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَسَى اللَّهُ} لهُ: فعل ناقص واسمه، وهو من أفعال الرجاء. {أَنْ يَأْتِيَنِي}: ناصب وفعل ونون وقاية ومفعول به. {بِهِمْ}: متعلق به. {جَمِيعًا}: حال من ضمير {بِهِمْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسَى}، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ ليصح الإخبار تقديره: عسى الله آتيًا بهم جميعًا. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْعَلِيمُ}: خبر أول له. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان له، وجملة {إن} في محل النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}. {وَتَوَلَّى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {قال}. {وَقالَ}: فعل ماضٍ معطوف على {تولى}، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}: مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت {يا}: حرف نداء. {أسفى}: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحة، منع مع ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، {أسفى}: مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا في محل الجر مضاف إليه. {عَلَىَ

يُوسُفَ} يُوسُفَ: متعلق بـ {أَسَفَى}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ}: فعل وفاعل. {مِنَ الْحُزْنِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {قال}، أو حال من فاعل {قال}. {فَهُوَ}: (الفاء): عاطفة تعليلية، {فَهُوَ كَظِيمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَابْيَضَّتْ}. التصريف ومفردات اللغة {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}؛ أي: ضم إليه في الطعام والمنزل والمبيت كما مر في مبحث التفسير. وأصل آوى: أأوى بهمزتين ثانيتهما ساكنة على وزن أفعل الرباعي، فقلبت الثانية ألفًا ثلاثية أوى يأوي بوزن رمى يرمي إذا رق له ورحمه. {فَلَا تَبْتَئِسْ}؛ أي: فلا تحزن، والابتئاس: اجتلاب البؤس والشقاء، وهو من باب افتعل الخماسي. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}؛ أي: هيأهم بأهبة السفر. {جَعَلَ السِّقَايَةَ} والسقاية - بكسر أوله - وعاء يسقى به، وبه يكال للناس، ويقدر بكيلة مصرية (1/ 12 من الأردب المصري) - وهو الذي عبر عنه بصواع الملك، فيسمى سقاية باعتبار أول حاله، وصاعًا باعتبار آخر أمره؛ لأن الصاع آلة الكيل، وهو أربعة أمداد، والأردب المصري يسع اثني عشر صاعًا. {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} والرحل هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}؛ أي: نادى مرارًا كثيرة بدليل صيغة التفعيل؛ لأنه من التأذين، وهو تكرار الأذان، والإعلام بالشيء، وكان ذلك النداء مع رفع الصوت قائلًا {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}؛ أي: يا أصحاب العير، والعير في الأصل: كل ما يحمل عليه من الإبل والحمير والبغال، سمي بذلك؛ لأنه يعير؛ أي: يذهب ويجيء، والمراد منه هنا أصحاب الإبل ونحوها. وفي "المصباح": العير - بالكسر - اسم للإبل التي تحمل الميرة في الأصل، ثم غلب على كل قافلة. اهـ. {وَأَقْبَلُوا}؛ أي: والحال أنهم؛ أي: إخوة يوسف أقبلوا عليهم؛ أي: على جماعة الملك المؤذن وأصحابه؛ أي: التفتوا إليهم وخاطبوهم بما ذكر كما مر.

{مَاذَا تَفْقِدُونَ}؛ أي: أي شيء ضاع منكم؟ والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه كما في "البيضاوي" من فقد من باب ضرب. {صُوَاعَ الْمَلِكِ} فالصاع والصواع لغتان معناهما واحد؛ وهو آلة الكيل، وتقدم أنه هو السقاية. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر: نَشْرَبُ الخَمْرَ بِالصُّوَاعِ جَهَارَا {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} والحمل - بكسر الحاء - هنا هو ما يحمله البعير من الطعام. {وَأَنَا بِهِ}؛ أي: يحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية. {زَعِيمٌ}؛ أي: كفيل أجعله جزاءً لمن يجيء به. {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} والكيد: التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدي إلى باطنه المراد منه، واعلم أن الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهذا في حق الله تعالى محال إلا أنه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب، وهو أن أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهاية الأغراض لا على بداياتها، فالكيد: السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إيقاع الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه، ولا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى. اهـ. "كرخي". {دِينِ الْمَلِكِ} شرعه الذي يدين الله تعالى به. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يقرأ شاذًا: {ذي عالم} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مصدر كالباطل. والثاني: أن ذي زائدة، وقد جاء مثل ذلك في الشعر كقول الكميت: إِلَيْكُمْ ذَوِيْ آلِ النَبِيِّ والثالث: أنه أضاف الاسم إلى المسمى، وهو محذوف تقديره: ذي مسمى عالم كقول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

أي: مسمى السلام. ذكره أبو البقاء. {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} سرق - من باب ضرب - أخذ الشيء من حرز مثله خفية. وقد سبق بيان سبب نسبة السرقة إلى يوسف في مبحث التفسير. وقولهم: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا}؛ أي: كبير القدر، ولم يريدوا كبر السنن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيخ ذكره "القرطبي". {مَعَاذَ اللَّهِ} مصدر ميمي من عاذ يعوذ عوذًا ومعاذًا. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا}؛ أي: يئسوا مثل عجيب واستعجب وسخر واستسخر، فالسين والتاء زائدتان للمبالغة كما في "البيضاوي" و"القرطبي"، وفي "السمين": {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا} استفعل هنا بمعنى فعل المجرد، يقال: يئس واستيأس بمعنى نحو عجيب واستعجب، وسخر واستسخر. وقال الزمخشري: زيادة السين والتاء للمبالغة نحو ما مر في استعصم. {خَلَصُوا}؛ أي: اعتزلوا عن مجلس يوسف، وانفردوا عنه، وانحازوا على حدة. وفي "المصباح": خلص يخلص خلوصًا من باب قعد؛ أي: انفصل. {نَجِيًّا}: حال من فاعل {خَلَصُوا} كما مر؛ أي: اعتزلوا حالة كونهم متناجين؛ أي: متحدثين في التشاور في شأن هذه القضية، وهو لفظ يوسف به من له نجوى، واحدًا كان أو جماعة مؤنثًا أو مذكرًا، فهو كعدل، ويجمع على أنجية، قال لبيد: وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةً الإِفَاقَةِ عَالِيًا ... كَعْبِي وَأَرْدَافُ الملُوْكِ شُهُوْدُ وقال آخر: إِني إِذَا مَا القَوْم كَانُوْا أنْجِيَهْ ... وَاضْطَرَبَ القَوْمُ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَهْ هُنَاكَ أوْصِيْنِيُ وَلا توْصِي بِيَهْ وفي "الكرخي" قوله: {نَجِيًّا} حال من فاعل {خَلَصُوا}؛ أي: اعتزلوا في هذه الحالة متناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ إما لأن النجي فعيل

بمعنى فاعل كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}؛ أي: مناجيًا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقًا، يقال: هم خليطك وعشيرك؛ أي: مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق وبابه، فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والذميل، وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوى بمعناه قال الله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورة في رجل عدل وبابه. اهـ. {قَالَ كَبِيرُهُمْ}؛ أي: رأيًا وتدبيرًا وعلمًا؛ وهو شمعون. قاله مجاهد، أو كبيرهم في السنن، وهو روبيل. قاله قتادة، وقيل: في العقل والرأي؛ وهو يهوذا ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}. {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ}: {أَبْرَحَ} هنا تامة ضمِّنت معنى أفارق، فالأرض مفعول به، ولا يجوز أن تكون تامة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر وذهب، ومعنى الظهور والذهاب لا يصل إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة في تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز ذهبت الأرض. وقد جاء شيء لا يقاس عليه. واعلم أنه لا يجوز في أبرح أن تكون ناقصة؛ لأنه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ومن الأرض مبتدأ وخبر، ألا ترى أنك لو قلت: أنا الأرض، لم يجز من غير في بخلاف: أنا في الأرض. اهـ. "كرخي". {الْقَرْيَةَ}: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعًا، ويستعمل في كل واحد منهما. قاله الراغب. {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ}؛ أي: زينت وخيلت لكم {أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}؛ أي: كيدًا آخر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}؛ أي: فشأني صبر جميل؛ أي: حسن، أو صبر جميل أولى بي وأليق. واعلم: أن الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم لمجريه عليه؛ وهو العليم الحكيم، ويقتدي بيعقوب وسائر النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقال سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد

أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}؛ أي: يا حزني عليه، والأسف أشد الحزن على ما فات، ومنه قول كثير: فَيَا أَسَفًا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ ... وَلِلنَّفْس لَما سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرًا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. {فَهُوَ كَظِيمٌ}؛ أي: مملوء غيظًا على أولاده ممسك له في قلبه لا يبثه لأحد، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم؛ أي: المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه قوله: فَإِنْ أكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ ... فَإنِّيْ اليَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي وقال الزجاج: معنى كظيم محزون. وعن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. وفي "المصباح": كظمت الغيظ كظمًا - من باب ضرب - وكظومًا أمكست على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} وفي قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}؛ لأن المراد منه أصحاب الإبل ونحوها، والعلاقة فيه المجاورة كما في "السمين". ومنها: التعريض في قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} لما فيه من التعريض إلى

سرقتهم يوسف من أبيه. ومنها: التخصيص في قوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} بعد التعميم في قوله: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}؛ لأن هذه الجملة من كلام المؤذن؛ لأنه هو الذي كفل وضمن. ومنها: ذكر الخاص بعد العام إشعارًا بأنه المقصود من العام في قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} بعد قوله: {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ}. ومنها: التأكيد في قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ}؛ لأن هذه الجملة بمعنى قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ}، فهي مؤكدة لها. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ}؛ لأن حق العبارة: ثم استخرجها منه. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} وفي قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}؛ لأن صيغة المضارع في كلا الموضعين لاستحضار الصورة الماضية كما في "روح البيان". ومنها: الجناس المماثل في قوله: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}. ومنها: التنكير في قوله: {أَخٌ لَهُ} لغرض الإبهام. ومنها: الطباق في قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا}. ومنها: الإطناب في قوله: {شَيْخًا كَبِيرًا} لغرض الاستعطاف؛ لأن كبر السن معلوم من لفظ الشيخ. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: أهلها، والعلاقة فيه المحلية، وفي قوله: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}؛ أي: أصحابها، والعلاقة فيه

المجاورة كما مر قريبًا. ومنها: نداء غير العاقل تنزيلًا له منزلة العاقل في قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظي الأسف ويوسف في قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وقال الزمخشري: والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعًا غير مستعمل، فيملح ويبدع، ونحوه {اثَّاقَلْتُمْ}، {أَرَضِيتُمْ}، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} انتهى. ويسمى هذا تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ذكره أبو حيان. ومنها: الكناية في قوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاه}؛ لأنه كناية عن فقدان البصر وذهابه عنه. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فإنه غيا الأمر بغايتين؛ إحداهما خاصة؛ وهي إذن أبيه، والثانية عامة؛ لأن إذن أبيه له في الانصراف من حكم الله تعالى. اهـ. "كرخي". ومنها: جناس الاشتقاق بين {يَحْكُمَ} و {الْحَاكِمِينَ} في قوله: {حَتَّى} {يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[85]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}. التفسير وأوجه القراءة 85 - {قَالُوا}؛ أي: قال أولاد يعقوب الذين جاؤوا عن مصر وعن معهم عن أولاد الأولاد الحاضرين عند يعقوب حين قال يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}؛ أي: والله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به، ولا تفتر عن حبه {حَتَّى تَكُونَ}؛ أي: تصير بذلك {حَرَضًا}؛ أي: مريضًا مشرفًا على الهلاك {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}؛ أي: من الميتين.

وخلاصة ذلك (¬1): أنك الآن في بلاءٍ شديد، ويخاف أن يحصل لك ما هو أكثر وأشد، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف، وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه، وإنما (¬2) قالوا له ذلك؛ لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك. وأصل {تَاللَّهِ تَفْتَأُ}؛ أي: والله لا تفتأ ولا تزال، فلا (¬3) محذوفة في جواب القسم للتخفيف لعدم الالتباس؛ لأنه لو كان الجواب مثبتًا .. للزمه اللام ونون التوكيد عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين، وذلك نظير قول العرب: والله أقصدك أبدًا، يعنون: لا أقصدك. وقال الفراء إن (لا) مضمرة؛ أي: لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح، وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجًا على ما قاله قول امرئ القيس: فَقُلْتُ يَمِيْنَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوْا رَأسِيْ لَدَيْكِ وَأوْصَالي يريد: لا أبرح. وقالت الخنساء: فَأقْسَمْتُ آسَى عَلَى هَالِكٍ ... أوَ أسْألُ نَائِحَةً مَالَهَا أرادت: لا آسى. وقال الآخر: لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْـ ... ـعُرْفِ وَلا الحَامِلُوْنَ مَا حَمَلُوْا تَاللهِ أَنْسَى مُصِيْبَتي أبَدَا ... مَا أسْمَعَتْنِي حَنِيْنَهَا الإِبِلُ وقرأ أبو عمران وابن محيصن وأبو حيوة شذوذًا (¬4): {قالوا باللهِ} - بالباء - وكذلك كل قسم في القرآن، ويقال: فتىء وفتا لغتان فيه، (¬5) ولا يستعملان إلا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان. (¬4) زاد المسير. (¬5) القرطبي.

[86]

مع الجحد. قال الشاعر: فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تَرَفَّعُ أي: ما برحت. {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر: سَرَ هَمِّي فَأمْرَضَنِيْ ... وَقَدْمَا زَادَنِي مَرَضَا كَذَاكَ الحُبُّ قَبْلَ الْيَوْ ... مِ مِمَّا يُوْرِثُ الْحَرَضَا وقال عبد الله بن عمر العرجي (¬1): إِنِّيْ امْرُؤٌ لَجَّ بِيْ حُبٌّ فَأحْرَضَنِيْ ... حَتَّى بَلِيْتُ وَحَتَى شَفَّنِيْ السَّقَمُ ومعنى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا}؛ أي: (¬2) تالفًا، وقال ابن عباس ومجاهد: دنفًا؛ أي: ملازمًا للمرض، وقال قتادة: هرمًا، والضحاك: باليًا داثرًا، ومحمد بن إسحاق: فاسدًا لا عقل لك. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض. وقال ابن زيد: الحرض الذي قد ردَّ إلى أرذل العمر. وقال الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. وقال المؤرِّخ: ذائبًا من الهم. وقال الأخفش، ذاهبًا، وابن الأنباري: هالكًا، وكلها متقاربة. 86 - فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {قَالَ} يعقوب عليه السلام، وهذه الجملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال يعقوب لهم حين قالوا له ما قالوا؟ فقيل: قال يعقوب جوابًا لأولاده اللائمين له: لا تلوموني يا أولاد على حزني وبكائي، وأنا لم أشك إليكم حزني ولا إلى أحد من خلق الله، بل {إِنَّمَا أَشْكُو} وأظهر {بَثِّي}؛ أي: ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) القرطبي.

شديد حزني وهمي {وَحُزْنِي}؛ أي: وقليل حزني {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى ملتجئًا إلى جنابه متضرعًا لدى بابه في دفعه. وقد (¬1) ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب .. كان ذلك حزنًا، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثًا، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه. والحزن (¬2): أعم من البث، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية، فيكون المعنى: لا أذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله، لا مع غيره من الناس. وقيل: البث الهم، وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وقرأ الجمهور: {حُزْني} - بضم الحاء وسكون الزاي -. وقرأ (¬3) الحسن وعيسى: {وحَزَني} - بفتحتين -. وقرأ قتادة بضمتين، وما عدا قراءة الجمهور شاذ. فإن قيل (¬4): لِمَ قال يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، ثم قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، وقال: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}؟ فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟ قيل: ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها، وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} لأنه شكا منه إليه، وبكى منه عليه، فهو المعذور لديه؛ لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير، وترك الركون إلى الغير، وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة: كُلُّ شَيءٍ مِنَ الملِيْحِ مَلِيْحُ ... لَكنِ الصَّبْرُ عَنْهُ غَيْرُ مَلِيْحِ وقيل أيضًا: وَالصَّبْرُ عَنْكَ فَمَذْمُوْمٌ عَوَاقِبُهُ ... وَالصَّبْرُ فِي سَائرِ الأَشْيَاءِ مَحْمُوْدُ وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب، فلا يزال يعرض حاله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

وافتقاره إلى حضرته، ولسان العشق لسان التضرع والحكاية، لا لسان الجزع والشكاية، فشكاية العارف الواقف في صورة الشكوى حكاية حاله وتضرعه وافتقاره إلى حبيبه. وروى الحاكم (¬1) - أبو عبد الله - في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كان ليعقوب أخ مؤاخ" فقال له ذا يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك، وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوّس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؛ فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب؛ أما ترحم الشيخ الكثير أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليَّ ريحانتاي أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يقعوب إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، إصنع طعامًا للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وهل تدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؛ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديًا فنادى ألا من أراد الغداء من المساكين .. فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائمًا أمر مناديًا فنادى من كان صائمًا .. فليفطر مع يعقوب. وقال وهب بن منبِّه (¬2): أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لما عاقبتك، وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقًا، وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) زاد المسير.

[87]

فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكًا؟ فقد أجاب المفسرون عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى وهو الأظهر. والثاني: لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله شدة فاقتهم. والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور. والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء، وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيمًا، ولا يقدر على دفع سببه. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: أعلم (¬1) من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة {مَا لَا تَعْلَمُونَ} ـه أنتم، وقيل: أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل: أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل: أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون، فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي. والخلاصة (¬2): أي وأنا أعلم في ابتلائي بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فاعلم أنه حي يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقَّ، وتحسبون أني بحزني ساخط على قضاء الله تعالى في شيء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلًا هو بالغه، وإني لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم في يوسف من قبل وبأخيه الذي كان يسليني عنه من بعده. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق، وأنني سأسجد له. 87 - وقال السدي (¬3): لما أخبره أولاده بسيرة الملك .. أحست نفسه، فطمع وقال: لعله يوسف، فقال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا} إلى مصر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وارجعوا إليها {فَتَحَسَّسُوا}؛ أي: فتعرفوا {مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} بنيامين، وابحثوا فيها من خبرهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما. فقوله: {اذْهَبُوا} أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها. وقوله: {فَتَحَسَّسُوا} أمر بالتحسس وهو الاستقصاء والطلب بالحواس، ويستعمل في الخير والشر. والتحسس - بمهملات - طلب الشيء بالحواس مأخوذ من الحس أو من الإحساس. وقرىء (¬1) بالجيم كالذي في الحجرات {وَلَا تَجَسَّسُوا} وهو أيضًا التطلب. وفي "الإحياء" بالجيم: في تطلع الأخبار، وبالحاء: في المراقبة بالعين، وقال في "إنسان العيون" أما بالحاء: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وأما بالجيم: أن يفحص عنها بغيره، وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى. والمعنى: اذهبوا فتعرفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه، وإنما (¬2) خصهما ولم يذكر الثالث، وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض واحتبس بمصر؛ لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها؛ لأنه إنما أقام مختارًا. {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}؛ أي: ولا تقنطوا من فرجه سبحانه وتعالى وتنفيسه عن النفس هذا الكرب بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب. وقرأ (¬3) الجمهور: {تَيْأَسُوا}، وفرقة: {تَيْأَسُوا}. وقرأ الأعرج: {تَئَسُوا} - بكسر التاء - والقراءتان اللتان عدا قراءة الجمهور شاذتان. واليأس والقنوط: انقطاع الرجاء. و {رَوْحِ اللَّهِ} - بفتح الراء -: رحمته وفرجه وتنفيسه؛ أي: إزالته الكرب عن النفس. قال ابن عطية: وكان معنى هذه القراءة: لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه يرجى حضوره، ومن هذا قول الشاعر: وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع ومن هذا قول عبيد بن الأبرص: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[88]

وكُلُّ ذِيْ غَيْبةِ يؤُوْبُ ... وَغَائِبُ الْموْتِ لاَ يَؤوْبُ وقال الزمخشري: {من رَوْحِ اللَّهِ} - بالضم - أي: من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى. {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشأن والحال {لَا يَيْأَسُ} ولا يقنط {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} ورحمته {إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} بالله سبحانه وتعالى وبقدرته وسعة رحمته (¬1)، ويجهلون ما لله في عباده من حكم بالغة ولطف خفي، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر، أو جلب خير بخعوا أنفسهم - انتحروا - همًّا وحزنًا، أما المؤمن حقًّا فلا تقنطه المصائب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، يعني: أن المؤمن يصبر عند البلاء، وينتظر الفرج والرحمة، فيسأل به خيرًا، ويحمد الله عند الرخاء، والكافر بضد ذلك. ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء. وقرأ أبي شذوذًا: {من رحمة الله}. 88 - وقوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} فيه حذف واختصار (¬2)، والتقدير: فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر، فذهبوا كما أمرهم أبوهم ليتحسسوا من يوسف وأخيه {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ}؛ أي: على يوسف عليه السلام {قَالُوا} ليوسف {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}؛ أي: أيا أيها الملك الممتنع القادر الغالب {مَسَّنَا}؛ أي: أصاب إيانا {وَأَهْلَنَا}؛ أي: وعيالنا وأولادنا وهم من خلفوهم {الضُّرُّ}؛ أي: الفقر والحاجة، والهزال والضعف؛ لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام، وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب، مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه؛ ليروا تأثير الشكوى فيه، فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجح أنه هو يوسف، فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه، وقالوا: {وَجِئْنَا} إليك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[89]

{بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ}؛ أي: ببضاعة رديئة وأمتعة خسيسة يحتقرها التجار، ويدفعونها احتقارًا لها {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ}؛ أي: فأتمه لنا كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك، ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن ردائتها {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} فيخلف ما ينفقون، يضاعف لهم الأجر. قال الضحاك: لم يقولوا إن الله يجزيك إن تصدقت علينا؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن، بل لتيقنهم كفره على عادة ملوك مصر في ذلك الوقت، فعبروا بهذه العبارة المحتملة. وقد بالغوا في الضراعة والتذلل لما كانوا يرون من تأثير ذلك في ملامح وجهه، وجرس صوته، ومغالبة دمعه، وقد قيل: كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء، والصدقة محرمة على الأنبياء، وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الكلام (¬1) دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كا يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة. وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز. روي (¬2): أن يعقوب أمر بعض أولاده، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء؛ أما جدي إبراهيم فإنه ابتلي بنار النمروذ، فصبر وجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما أبي إسحاق فابتلي بالذبح، فصبر ففداه الله بذبح عظيم، وأما أنا فابتلاني الله بفقد ولدي يوسف فبكيت عليه حتى ذهب بصري، ونحل جسمي، وقد كنت أتسلى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك، وزعمت أنه سارق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره، وأظهر نفسه لأخوته. 89 - ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر رد يوسف عليهم بقوله: {قَالَ} يوسف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

عليه السلام لأخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ} والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، وقيل: {هَلْ} بمعنى قد؛ أي: هل تذكرون {مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} من إلقائه في الجبّ، وبيعه بثمن بخس، وتفريقه عن أبيه {و} ما فعلتم بـ {أخيه} بنيامين من إدخال الغم عليه بفراق أخيه الشقيق، وما كان يناله من جهتهم من الاحتقار والإهانة حتى كان لا يقدر أن يكلمهم. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب من عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيمًا له، ورفعًا من قدره، وعلمًا بأن ذلك كان بلاءً له من الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ليزيد في درجته عنده؛ أي: ما أعظم ما فعلتم بيوسف وأخيه، فهل تبتم عن ذلك بعد علمكم بقبحه؟ فهو سؤال عن الملزوم، والمراد لازمه، وهذا استفهام (¬1) يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه، وهذا كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت، وهل تعرف من خالفت؟ ولم يرد بهذا نفس الاستفهام، ولكنه أراد تفظيع الأمر وتعظيمه. ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه. {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} ظرف لفعلتم؛ أي: فعلتم وقت جهلكم عقبى فعلكم ليوسف من خلاصه من الجب، وولايته السلطنة، وإنما (¬2) كان كلامه هذا شفقة عليهم، وتنصحًا لهم في الدين، وتحريضًا على التوبة، لا معاتبته وتثريبًا إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه. روي: أنه لمَّا قرأ كتاب يعقوب بكى وكتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى يعقوب إسرائيل الله من ملك مصر أما بعد: أيها الشيخ فقد بلغني كتابك وقرأته، وأحطت به علمًا، وذكرت فيه آباءك الصالحين، وذكرت أنهم كانوا أصحاب البلايا، فإنهم إن ابتلوا وصبروا ظفروا، فاصبر كما صبروا والسلام. فلما قرأ يعقوب الكتاب قال: والله ما هذا كتاب الملوك، ولكنه كتاب الأنبياء، ولعل صاحب الكتاب هو يوسف. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[90]

واعلم (¬1): أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. قال صاحب "الكشاف" في تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين، وكان حليمًا موفقًا، فكلمهم مستفهمًا على معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فـ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ} أقبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني: هل علمتم قبحه، فتبتم إلى الله منه، لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحًا لهم في الدين، لا معاتبة وتثريبًا إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه في ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويستنفي المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسمحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها. اهـ. وكان سؤاله (¬2) إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه هو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداية إلى النهاية مصدقًا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه في غيابة الجبّ من قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. إذ يبعد أن يعرف هذا سواه. 90 - ولما أرادوا أن يثبتوا من ذلك ويستيقنوا به وجهوا إليه سؤالًا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع وقالوا: {أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ}؛ أي: قالوا هل من المؤكد قطعًا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه، وهو يعرفهم، ويكتم نفسه، والاستفهام فيه للتقرير. قرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن (¬3): {أَإِنَّكَ} على لفظ الخبر بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة، ويبعد حمله على الخبر المحض. وقرأ (¬4) نافع: {أينك} - بفتح الألف غير ممدودة وبالياء -. وقرأ أبو عمرو: {آينك} - بمد الألف وبالياء - وهو رواية قالون عن نافع. والباقون: {أإنك} بهمزتين وكل ذلك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراح.

على الاستفهام؛ لأنهم فهموا من فحوى كلامه عليه السلام، أو من إبصار ثناياه وقت تبسمه عند تكلمه بذلك. وقال: من قرأ على الخبر إن الأخوة لم يعرفوا يوسف حتى رفع التاج عن رأسه، فرأوا في قرنه علامة تشبه الشامة البيضاء كما كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك. {قالَ} يوسف عليه السلام جوابًا لهم {أَنَا يُوسُفُ} الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله تعالى فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجبّ، ثم صرت إلى ما ترون {وَهَذَا}؛ أي: بنيامين {أَخِي}؛ أي: شقيقي الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أي: أنعم الله تعالى علينا، فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة وآنسنا بعد الوحشة، وخلصنا مما ابتلينا به. وقيل: منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة. وقيل: منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين؛ لأنه أخي لا أخوكم. قال بعض العلماء (¬1): إنما أظهر الاسم في قوله: {أَنَا يُوسُفُ} ولم يقل أنا هو تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته له، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك؛ فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني، وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجبّ، ثم بعتموني بأبخس الأثمان، ثم صرت إلى ما ترون، فكان تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها. ولهذا قال: {وَهَذَا أَخِي} وهم يعرفونه؛ لأنه قصد به أيضًا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني، ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون، وهو قوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بكل عز وخير في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشأن والحال {مَنْ يَتَّقِ} الله سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات {وَيَصْبِر} على المحن والبلايا والإذاية {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُضِيعُ} ولا يبطل {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بالتقوى والصبر؛ ¬

_ (¬1) الخازن.

أي: لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع المضمر لاشتماله على المتقين والصابرين. وقيل المعنى: من يتق مولاه ويصبر على بلواه. وقيل: من يتق الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس. وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن. والمعنى (¬1): أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره في الدنيا، ثم يؤتيه أجره في الآخرة. وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين لله، وبأن من كان مطيعًا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعًا لنزغات الشيطان .. فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة إلا من تاب وعمل صالحًا، ثم اهتدى. وقرأ (¬2) قنبل ابن كثير: {من يتقي} - بالياء - وصلًا ووقفًا. فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغةً، وقيل غير ذلك. وقرأ الباقون بحذفها وصلًا ووقفًا، والإعراب على قراءتهم ظاهر واضح. تنبيه: فإن قيل: لِمَ لَمْ يعرف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة وجاه، فيكون في ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك: ما أجاب به ابن القيم في كتابه "الإغاثة الكبرى" قال رحمه الله تعالى: لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه سنَّة الله تعالى في الغايات العظيمة الحميدة إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابًا من المحن والبلايا والمشاق، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[91]

فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ، والبعث والنشور، والموقف والحساب والصراط، ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه، وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام، فهو سبحانه وتعالى يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}. وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب، وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، والنار وحفها بالشهوات. اهـ. 91 - {قَالُوا}؛ أي: قال إخوة يوسف له {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى واختارك وفضلك {عَلَيْنَا} بالعلم والحلم والفضل والعقل والملك {وَإِنْ كُنَّا}؛ أي: وإن الشأن والحال كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك {لَخَاطِئِينَ}؛ أي: لآثمين متعمدين للخطيئة غير متقين الله؛ ولا عذر لنا فيها عند الله، ولا عند الناس، وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار. 92 - وبعد أن قدموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا ولذلك {قَالَ} يوسف عليه السلام: {لَا تَثْرِيبَ}؛ أي: لا لوم ولا تعنيف ولا تقريع ولا تعيير {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم الذي هو مظنته، ولكن لكم عندي الصفح والعفو، وهو إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى. والتثريب (¬1): تفعيل من الثرب، وهو الشحم الذي يغشي الكرش، ومعناه: إزالة الثرب، فكأن التعيير والاستقصاء في اللوم يذيب جسم الكريم وثربه لشدته عليه كما في "الكواشي". وقال ابن الشيخ: سمي التقريع تثريبًا تشبيهًا له بالتثريب في اشتمال كل منهما على معنى التمزيق، فإن ¬

_ (¬1) روح البيان.

التقريع يمزق العرض، ويذهب ماء الوجه، و {اليوم} منصوب بالتثريب؛ أي: لا تثريب عليكم اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بسائر الأيام؟ والمراد باليوم الزمان مطلقًا كقوله: الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا ... وَالْيَوْمَ نَتْبَعُ مَنْ كَانُوْا لَنَا تَبَعَا كأنه أريد بعد اليوم. ثم ابتدأ، فقال: {يَغْفِرُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ويعفو {لَكُمْ} عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. وفي "الخازن" (¬1): وفي محل قوله: {الْيَوْمَ} قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى ما قبله، فيكون التقدير: لا تثريب عليكم اليوم، والمعنى: إن هذا اليوم هو يوم التثريب والتقريع والتوبيخ، وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}، ويبتدأ بقوله: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}. والقول الثاني: أن اليوم متعلق بقوله: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}، ويبتدأ بـ {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} بشرهم بقوله: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم، فيجازي، محسنهم، ويغفر لمسيئهم؛ لأن (¬2) رحمة الراحمين أيضًا برحمته، أو لأن رحمتهم جزء من رحمته تعالى، والمخلوق إذا رحم فكيف الخالق. قال في "بحر العلوم" الذنب للمؤمن سبب للوصلة، والقرب من الله تعالى، فإنه سبب لتوبته، وإقباله على الله تعالى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[93]

وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ، ألم تر قول يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} وقال يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. وقد تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت، وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: "ما تظنون أني فاعل بكم"؟ قالوا: نظن خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} فخرجوا كأنما نشروا من القبور". أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة. 93 - روي (¬1): أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، فعند ذلك أعطاهم قميصه، وقال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الذي على بدني أو بيدي {فَأَلْقُوهُ}؛ أي: فألقوا هذا القميص {عَلَى وَجْهِ أَبِي} حين وصولكم إليه دون تأخير {يَأْتِ بَصِيرًا}؛ أي: يصير بصيرًا على أن {يأت} هي التي من أخوات (كان)، قال الفراء: يرجع بصيرًا. وقال السدي: يعد بصيرًا، وقيل: معناه يأت إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى. وقد علم هذا؛ إما بوحي من الله تعالى، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما إصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس، فإذا ألقي عليه قميصه شرح صدره، وسر أعظم السرور، وقوي بصره، وزالت عنه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتي بعد. {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} من الرجال والنساء والذراري وغيرهم. وقد روي أن أهله كانوا سبعين رجلًا وامرأة وولدًا. فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء، وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع. روي (¬2) أن يهوذا حمل القميص، وقال: أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه، فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، ومعه سبعة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[94]

أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتاه، وكانت المسافة ثمانين فرسخًا. قيل (¬1): هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار، وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيبه وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره؛ لأن فيه ريح الجنة، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شقي، ولا مبتلى إلا عوفي. 94 - {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ}؛ أي: ولما انفصلت عير بني يعقوب عن حدود مصر، وخرجت منها قافلة إلى أرض الشام {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوب عليه السلام لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}؛ أي: لأشم رائحة يوسف كما عرفتها في صغره. وفي "التبيان" هاجت الريح، فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخًا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص انتهى. وهذا موافق لما سبق من أنه كان في القميص ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلا عوفي، فالخاصية في ريح الجنة لا في ريح يوسف كما ذهب إليه "البيضاوي". وأما الإضافة في قوله: {رِيحَ يُوسُفَ} فللملابسة كما لا يخفى {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ}؛ أي: لولا أنا تنسبوني إلى الفند، وهو الخرف ونقصان العقل وفساد الرأي من هرم. وجواب {لَوْلَا} محذوف تقديره: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني فيما أقول لكم، فوجد ريحه من ثمانية أيام. وفي رواية من ثمانين فرسخًا، والمراد: من مسافات بعيدة جدًّا. والفند (¬2): وهو نقصان العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة؛ إذ لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها؛ أي: نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم. واعلم: أن الخرف لا يطرأ على الأنبياء والورثة؛ لأنه نوع من الجنون الذي هو من النقائص، وهم مبرأون مما يشين بهم من الآفات. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[95]

95 - {قَالُوا}؛ أي: قال حاضروا مجلسه {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ}؛ أي: لفي خطئك {الْقَدِيمِ}؛ أي: الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حي يرجى لقاؤه، وقد قرب ولا غرو فللخلي أن يقول في الشجي ما شاء، فأذنه عن العذَّل صماء: سَلْوَتِيْ عَنْكُمُ احْتِمَالٌ بَعِيْدٌ ... وَافْتِضَاحِيْ بِكُمْ ضَلاَلٌ قَدِيْمُ كُلُّ مَنْ يَدَّعِيْ الْمَحَبَّةَ فِيْكُمُ ... ثُمَّ يَخْشَى الْمَلاَمَ فَهُوَ مُلِيْمُ قال قتادة في تفسيرها (¬1): {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}؛ أي: من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه. اهـ. قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها له. 96 - و {أَنْ} في قوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} صلة؛ أي: زائدة لتأكيد (¬2) الفعلين واتصالهما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان من غير فاصل وقت؛ أي: فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف، وهو الذي حمل إليه قميصه الملطخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة {أَلْقَاهُ}؛ أي: ألقى البشير القميص وطرحه {عَلَى وَجْهِهِ}؛ أي: على وجه يعقوب {فَارْتَدَّ} يعقوب؛ أي: عاد ورجع يعقوب من فوره {بَصِيرًا}؛ أي: ذا بصر كما كان قبل فراق يوسف. والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، وهو من الأفعال الناقصة؛ أي: عاد ورجع بصيرًا بعدما كان قد عمي، ورجعت قوته وسروره بعد الضعف والحزن، بل قد قيل: إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرًا ما شفى السرور من الأمراض، وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك، وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعي من ربه بصدق ما يقول، كما قال سبحانه: {قَالَ} لهم يعقوب: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا بني حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتجسس، ونهيتكم عن اليأس من روح الله: - والاستفهام فيه تقريري - {إِنِّي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أَعْلَمُ} بالوحي {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا بالخطرات من الأوهام {مَا لَا تَعْلَمُونَ} من حياة يوسف وإنزال الفرج، وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرًا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. وروي (¬1) أنه سأل البشير كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟ قال: على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة. نبذة في تعليل شم يعقوب رائحة يوسف (¬2) أثبت العلم حديثًا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلًا إلى أوروبا، وهي مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام، وهي بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منهما شمًّا. فالكلب ذو حاسة قوية في الشم حتى ليدربه الآن رجال الشرطة، ويستخدمونه في حوادث الإجرام من قتل وسرقة، لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلم، فيشم المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلًا قويًّا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلًا قاطعًا في بعض الدول. والروائح منها القوي والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواص عالم الغيب، لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر. وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به؛ لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد. وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه، أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا: إنه لشدة تفكره في أمر ولده، وتذكره لرائحته حين كان يضمه ويشمه شعر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[97]

بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى .. لم يكن ذلك مجانبًا للصواب ولا معارضًا للعقل، ولا ناقضًا لما يثبته العلم، أو قلنا: بأن نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك .. لا نبعد عن العقل، ولا عن العلم؛ إذ لا خلاف بين العلماء في أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه. وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث في كنهه أو صفته ما دام ذلك داخلًا في حيز الإمكان. 97 - وقوله: {قَالُوا يَا أَبَانَا} مرتب على محذوف تقديره: ولما رجع أولاد يعقوب من مصر، ووصلوا إلى أبيهم إثر مجيء البشير قالوا يا أبانا: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ أي: اسأل الله سبحانه وتعالى، واطلب منه أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}؛ أي: متعمدين لهذه الخطيئة عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قومًا صالحين، الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه. وإنما سألوه المغفرة (¬1)؛ لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لا يسقط المأثم عنهم إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلمًا في نفسه أو ماله، أو غير ذلك ظالمًا له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها، والله أعلم. وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء .. فليحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه". ¬

_ (¬1) القرطبي.

[98]

98 - {قَالَ} يعقوب لهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}؛ أي: في مستقبل الزمان أطلب لكم من ربي مغفرة ذنوبكم، وعدهم بالاستغفار لهم في مستأنف الزمان، وعلل هذا بـ {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}؛ أي: بأن ربه واسع المغفرة والرحمة لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء. قال الزجاج (¬1): أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار. وقيل: أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل: أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم. وجملة: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تعليل لما قبله كما مر آنفًا. وعن الشعبي (¬2): {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قال: أسأل يوسف، إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي، فإن عفو المظلوم شرط المغفرة، فأخر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف، فلما قدموا عليه في مصر قام إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة، وكانت ليلة عشوراء، فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر جزعي على يوسف، وقلة صبري منه، واغفر لأولادي ما أتوا به أخاهم، وقام يوسف خلفه يؤمِّن، وقام إخوته خلفهما أذلة خاشعين، فأوحى الله تعالى إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين، ثم لم يزل يدعو لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة إلى أن حضرت الوفاة. وقال في "روح البيان": سوف وعسى ولعل في وعد الأكابر والعظماء يدل على صدق الأمر وجده، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وترك استعجالهم، فعلى ذلك جرى وعد يعقوب كأنه قال: إني أستغفر لكم ربي لا محالة، وإن تأخر كما في "بحر العلوم". فائدة: والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة: 1 - أن حال أبيهم معهم حال المربي المرشد للمذنب، لا حال المنتقم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[99]

الذي يخشى أذاه، وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هين لديه حتى يعجل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم. 2 - أن ذنبهم لم يكن موجهًا إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم إلا أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره. 3 - أن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية، وأعمال كان لها خطرها، فلا يمحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس والأرجاس التي باضت وفرخت فيها. فلا يحسن بعدئذ من المربي الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه، حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبث في الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه، ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته. 4 - أن حال يوسف معهم كان حال القادر، بل المالك القادر مع مسيء ضعيف لديه عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلًا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم في ذلك أحسن الأسوة. وفي هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا في وجل مما سيحل بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا في قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابًا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عامًّا، والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك، وهو العليم الحكيم. تأويل رؤيا يوسف من قبل 99 - وقوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه {آوَى} يوسف وضم {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}؛ أي: أباه وخالته

وأعتنقهما، فإن أمه ماتت في نفاس أخيه بنيامين، فمعنى بنيامين بالعبراية ابن الوجع؛ لأن يامين معناه الوجع، ولما ماتت أمه راحيل .. تزوج أبوه بخالته ليا والرابة، وهي موطؤة الأب، تدعى أمًا؛ لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب. وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية، ورجحه ابن جرير، وخالفه أكثر المفسرين كما بينا. وفيه حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام، وتقدير المعنى: فبعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف في مصر، وأنه الحاكم المفوض المستقل في أمرها .. أبلغوه أن يدعوهم كلهم للإقامة معه في مصر والتمتع بحضارتها، فرحلوا حتى بلغوها، ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم في الطريق في جمع حافل احتفاء بهم .. ضم إليه أبويه واعتنقهما. روي (¬1): أن يوسف وجه إلى أبيه جهازًا كثيرًا ومئتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فتوجه مع أولاده وأهاليهم إلى مصر على رواحلهم، فلما قربوا من مصر أخبر بذلك يوسف، فاستقبله يوسف والملك الريان - في أربعة آلاف من الجند، أو ثلاث مئة ألف فارس - والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، ومع كل واحد من الفرسان جنة من فضة وراية من ذهب، فتزينت الصحراء بهم واصطفُّوا صفوفًا، وكان الكل غلمان يوسف ومراكبه، ولما صعد يعقوب تلًّا ومعه أولاده وحفدته؛ أي: أولاد أولاده ونظر إلى الصحراء مملوءة من الفرسان مزينة بالألوان نظر إليهم متعجبًا، فقال له جبريل: انظر إلى الهواء، فإن الملائكة قد حضرت سرورًا بحالكم كما كانوا محزونين مدة لأجلك، ثم نظر يعقوب إلى الفرسان، فقال: أيهم ولدي يوسف؟ فقال جبريل: هو ذاك الذي فوق رأسه ظلة، فلم يتمالك أن أوقع نفسه من البعير، فجعل يمشي متوكئًا على يهوذا، فقال جبريل: يا يوسف إن أباك يعقوب قد نزل لك، فانزل له، فنزل من فرسه وجعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر، فلما تقاربا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب به؛ لأنه أفضل وأحق، فابتدأ به ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فتعانقا وبكيا سرورًا وبكت ملائكة السموات وماج الفرسان بعضهم في بعض، وصهلت الخيول وسبَّحت الملائكة، وضرب بالطبول والبوقات، فصار كأنه يوم القيامة قال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك، نسأل الله الثبات على الإيمان إنه الكريم المنان - آمين -. {وَقَالَ} يوسف لجميع أهله قبل أن يدخلوا مصر: {ادْخُلُوا مِصْرَ} للإقامة بها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى دخولكم حالة كونكم {آمِنِينَ} من الجوع والخوف وسائر المكاره قاطبة على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدًا؛ لأنهم كانوا قبل ولاية يوسف يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بإجازتهم لكونهم جبابرة. قيل (¬1): المراد بالدخول الأول في قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} أرض مصر، وذلك حين استقبلهم، ثم قال: {ادْخُلُوا مِصْرَ} يعني البلد. وقيل: إنه أراد بالدخول الأول دخولهم مصر، وأراد بالدخول الثاني الاستيطان بها؛ أي: ادخلوا مصر مستوطنين فيها. والمشيئة في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} متعلقة بالدخول والأمن معًا كقولك للغازي: إرجع سالمًا غانمًا إن شاء الله، فالمشيئة متعلقة بالسلامة والغنم معًا. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله تعالى. والمعنى: أي (¬2) وقال لهم يوسف: ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله تعالى آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سني القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة في كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم، وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم. وهذا من شأن المؤمنين، ولا سيما الأنبياء والصديقون. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[100]

100 - {وَرَفَعَ} يوسف {أَبَوَيْهِ} عند نزولهم بمصر، وكانوا اثنين وسبعين رجلًا وامرأة، وكانوا حين خرجوا منها مع موسى عليه السلام ست مئة ألف وخمس مئة وبضعًا وتسعين، أو سبعين رجلًا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرية ألف ألف ومئتي ألف. {عَلَى الْعَرْشِ}؛ أي: على السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه يوسف؛ أي: أجلسهما معه على سرير الملك تكرمة لهما فوق ما فعله لإخوته، واشتركوا في دخول دار يوسف، لكنهم تباينوا في الإيواء، فانفرد الأبوان بالجلوس معه على سرير الملك، لبعدهما من الجفاء، كذا غدًا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فيه في دخول الجنة، ولكنهم يتباينون في بساط القربة، فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالالتواء. {وَخَرُّوا}؛ أي: سقط أبوا يوسف وإخوته على الأرض {لَهُ}؛ أي: لأجل ملاقاة يوسف واجتماعهم معه {سُجَّدًا}؛ أي: حالة كونهم مقدرين السجود بوضع الجبهة شكرًا لله تعالى على نعمة الاجتماع معه، وكان يوسف كالقبلة لهم كما سجدت الملائكة لآدم، فإن الله تعالى أمر يعقوب بالسجود لحكمة خفية، وذلك لإزالة الاستعلاء والتكبر عن قلوب إخوته؛ لأنهم لو لم يفعلوا ذلك السجود؛ لظهرت الأحقاد القديمة بعد كمونها، فالسجود لإزالتها، وكان ذلك جائزًا في ذلك الزمان. فلما جاءت هذه الشريعة نسخت تلك الفعلة، فقوله: {سُجَّدًا} حال مقدرة كما أشرنا إليه في الحال؛ لأن السجود إنما يكون بعد الخرور. وقيل: المراد بالسجود هنا: الانحناء لا وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: أهوى أبوا يوسف وإخوته عن القيام والانتصاب تحية وتكرمة له حالة كونهم سجدًا؛ أي: منحنين بظهورهم، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء في عهدهم كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير. والرفع في قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} مؤخر عن الخرور في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ}؛ إذ السجود له كان قبل الصعود على السرير في أول الملاقاة؛ لأن ذلك هو وقت التحية إلا أنه قدم لفظًا؛ للاهتمام بتعظيمه لهما، والترتيب الذكري لا يجب كونه

على وفق الترتيب الوقوعي، وليصل به ذكر كونه تعبير رؤياه {وَقَالَ} يوسف لأبيه يعقوب: {يَا أَبَتِ}؛ أي: يا أبي {هَذَا} السجود منكم {تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ}؛ أي: تصديق منامي التي رأيتها وقصصتها عليك {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا الوقت في زمن الصبا يريد قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. {قَدْ جَعَلَهَا}؛ أي: قد جعل تلك الرؤية {رَبِّي حَقًّا}؛ أي: صدقًا في اليقظة واقعًا بعينها؛ أي: قد جعلها ربي حقيقة واقعة، واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتي الأحد عشر، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر، ولا بدع في ذلك. فهذه الأسرة هي التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين، فكانت خير أسر البشر جميعًا. قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عامًا. {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} ربي وأكرمني وأنعم علي {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} والحبس، وسما بي إلى عرش الملك، إنما ذكر إخراجه من السجن، ولم يذكر إخراجه من الجبّ؛ لئلا تخجل إخوته، ولأن خروجه من السجن كان سببًا لصيرورته ملكًا، ولوصوله إلى أبيه وإخوته، ولزوال التهمة عنه، وكان ذلك من أعظم نعمه تعالى عليه، ولأن عهده بالسجن أقرب من الجبّ. فائدة: قال لقمان الحكيم رضي الله عنه: خدمت أربعة آلاف نبي، واخترت من كلامهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة .. فاحفظ قلبك، وإن كنت في بيت الغير .. فاحفظ عينيك، وإن كنت بين الناس .. فاحفظ لسانك، واذكر اثنين وانس اثنين، أما اللذان تذكرهما فالله والموت، وأما اللذان تنساهما إحسانك في حق الغير وإساءة الغير في حقك. ذكره في "روح البيان". {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}؛ أي: من البادية، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية، وهي أرض كنعان بالشام. وقال علي بن طلحة؛ أي: من فلسطين. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ} وأفسد {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} بالحسد، وحمل بعضنا على بعض، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرمًا منه وتأدبًا؛ أي: وقد أحسن بي ربي من بعد أن أفسد الشيطان ما بيني وبين إخوتي من عاطفة

الأخوة، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم، وهيج الحسد والشر {إِنَّ رَبِّي} سبحانه وتعالى {لَطِيفٌ}؛ أي: عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده مدبر {لِمَا يَشَاءُ} في خلقه من خفايا الأمور بحكمته البالغة، وقدرته القاهرة، وقيل: معناه: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور رفيق، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى حصول شيء .. سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول عند العقول .. فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء في الجبّ يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزج في غيابات السجن، ومن ذا إلى السيادة والملك. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف إذا رفق به. وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور. ذكره الشوكاني. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها {الْحَكِيمُ} الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة، فيجازي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين. الإعراب {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {تَاللَّهِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم والله، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {تَفْتَأُ}: فعل مضارع ناقص من أخوات زال منفي بلا المحذوفة؛ لأن جواب القسم الخالي من اللام ونون التوكيد .. يجب كونه منفيًّا، فلا بدّ من تقدير لا معه، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت يعود على يعقوب. {تَذْكُرُ يُوسُفَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {تَفْتَأُ}، وجملة {تَفْتَأُ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب

بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، واسمه ضمير يعود على يعقوب. {حَرَضًا}: خبره. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}: فعل ناقص وخبره معطوف على {تَكُونَ} الأولى، واسمه ضمير يعود على يعقوب أيضًا، وجملة {تَكُونَ} الأولى، صلة أن المضرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى كونك حرضًا، أو كونك من الهالكين، الجار والمجرور متعلق بـ {تَذْكُرُ}. {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} إلى قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر. {أَشْكُو بَثِّي}: فعل ومفعول. {وَحُزْنِي}: معطوف على {بَثِّي}، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَشْكُو}. {وَأَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق به. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {أعلم}؛ لأنه بمعنى عرف. {لَا تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة {أعلم}: في محل النصب معطوفة على جملة {أَشْكُو}. {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}. {يَا بَنِيَّ}: {يا}: حرف نداء. {بني}: منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، لأن أصله: يا بنين لي، حذفت النون للإضافة، واللام للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اذْهَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {فَتَحَسَّسُوا}: (الفاء): عاطفة. {تحسسوا}: فعل وفاعل معطوف على {اذْهَبُوا}. {مِنْ يُوسُفَ}: متعلق به. {وَأَخِيهِ}: معطوف

على {يُوسُفَ}. {وَلَا تَيْأَسُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية معطوف على قوله: {فَتَحَسَّسُوا}. {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لَا يَيْأَسُ}: فعل مضارع مرفوع. {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}: متعلق به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْقَوْمُ}: فاعل. {الْكَافِرُونَ}: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} مسوق لتعليل ما قبلها. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}. {فَلَمَّا} (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فخرجوا من عند أبيهم، فذهبوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف. {لما}: حرف شرط غير جازم. {دَخَلُوا} فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما}: معطوفة على الجملة المحذوفة. {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء. {أيّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الْعَزِيزُ}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا} {مَسَّنَا}: فعل ومفعول. {وَأَهْلَنَا}: معطوف على ضمير المفعول. {الضُّرُّ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {وَجِئْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {مَسَّنَا}. {بِبِضَاعَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جئنا}. {مُزْجَاةٍ}: صفة لـ {بضاعة}. {فَأَوْفِ}: (الفاء): عاطفة. {أوف}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. {لَنَا}: متعلق به. {الْكَيْلَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَجِئْنَا}. {وَتَصَدَّقْ}: فعل أمر معطوف على {أوف}، وفاعليه ضمير يعود على يوسف. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قال} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {هَلْ عَلِمْتُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التوبيخي. {عَلِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأنه بمعنى عرف. {فَعَلْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِيُوسُفَ}: متعلق به. {وَأَخِيهِ}: معطوف على {يوسف}، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما فعلتموه. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان. {أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، والظرف متعلق بـ {فَعَلْتُمْ}. {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} مقول محكي، وإن شئت قلت {أَإِنَّكَ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {إنك}: ناصب واسمه. {لَأَنْتَ}: (اللام): حرف ابتداء. {أنت يوسف}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، ويجوز أن يكون {أنت}: ضمير فصل، ولا يجوز أن يكون توكيدًا لاسم {إن}؛ لأن هذه اللام لا تدخل على التوكيد. اهـ. "سمين"، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفُ}، والجملة مستأنفة. {أَنَا يُوسُفُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَنَا يُوسُفُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَهَذَا أَخِي}: مبتدأ وخبر معطوف على جملة قوله: {أَنَا يُوسُفُ}. {قَدْ مَنَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْنَا}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {يَتَّقِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على

كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {وَيَصْبِرْ}: معطوف عليه. {فَإِنَّ}: (الفاء): رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا. {إن الله}: ناصب واسمه. {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط بين جملة الشرط وبين جوابها؛ إما العموم في {الْمُحْسِنِينَ}، وإما الضمير المحذوف؛ أي: المحسنين منهم، وإما لقيام أل مقامه، والأصل محسنهم، فقامت أل مقام ذلك الضمير، وجملة {مَنْ} الشرطية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}، وهذا الإعراب على قراءة الجمهور في {يَتَّقِ}. وأما قراءة قنبل فاختلف الناس فيها على قولين: أجودهما: أن إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب. والثاني: أنه مرفوع غير مجزوم، و {مَنْ} موصولة، والفعل صلتها، فلذلك لم تحذف لامه. اهـ. "سمين"، وحذفت الضمة في {يصبر} على هذه القراءة فرارًا من ثقل توالي الحركات، أو نوى الوقف عليه وأجرى الوصل مجرى الوقف. {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم والله، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {آثَرَكَ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل. {عَلَيْنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب القسم. {وَإِنْ}: (الواو): عاطفة. {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {كُنَّا لَخَاطِئِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة {كان}: في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة معطوفة على جواب القسم.

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} إلى قوله: {أَجْمَعِينَ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {لَا}: نافية. {تَثْرِيبَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْكُمُ}: خبر {لَا}. {الْيَوْمَ}: خبر ثان لها، أو متعلق باسم {لَا}، وجملة {لَا}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {يَغْفِرُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}. {اذْهَبُوا}: فعل وفاعل. {بِقَمِيصِي}: متعلق به على أنه مفعول به، أو حال من واو {اذهبوا}. {هَذَا}. بدل من {قميصي}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَلْقُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اذْهَبُوا}. {عَلَى وَجْهِ أَبِي}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ألقوه}. {يَأْتِ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {بَصِيرًا}: حال من فاعل {يَأْتِ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأْتُونِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية معطوف على {ألقوه}. {بِأَهْلِكُمْ}: متعلق به أو حال من واو الفاعل. {أَجْمَعِينَ}: توكيد لـ {أهلكم}. {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)}. {وَلَمَّا} (الواو): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {فَصَلَتِ الْعِيرُ}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لما}. {قَالَ أَبُوهُمْ}: فعل وفاعل جواب {لما}، وجملة {لما}: مستأنفة. {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَأَجِدُ}: (اللام): حرف ابتداء. {أجد ريح يوسف}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على أبيهم، وجملة وجد في

محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تُفَنِّدُونِ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأن أصله: تفندونني، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: لولا تفنيدكم موجود، وجواب {لَوْلَا} محذوف تقديره: لولا تفنيدكم لي موجود لصدقتموني؛ أي: امتنع تصديقكم لي لوجود تفنيدكم لي، وجملة {لَوْلَا}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {تَاللَّهِ إِنَّكَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {لَفِي}: (اللام): حرف ابتداء. {في ضلالك}: جار ومجرور خبر {إن}. {الْقَدِيمِ}: صفة لـ {ضَلَالِكَ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب القسم. {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}. {فَلَمَّا}: (الفاء): استئنافية. {لما}: حرف شرط. {أَنْ}: زائدة. {جَاءَ الْبَشِيرُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {أَلْقَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الْبَشِيرُ}. {عَلَى وَجْهِهِ}: متعلق به، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما}: مستأنفة. {فَارْتَدَّ}: (الفاء): عاطفة. {ارتد}: فعل ماضٍ ناقص من أخوات صار، واسمه ضمير يعود على يعقوب. {بَصِيرًا}: خبره، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَلْقَاهُ}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {أَلَمْ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لم}: حرف جزم. {أَقُلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وفاعله ضمير يعود

على يعقوب. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} إلى آخر الآية: مقول محكي. لـ {أَقُلْ}، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {أَقُلْ}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {أَعْلَمُ}، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه. {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَبَانَا} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {يَا أَبَانَا}: منادى منصوب بالألف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {اسْتَغْفِرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {لَنَا}: متعلق به {ذُنُوبَنَا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا} على كونها جواب النداء. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا خَاطِئِينَ}: فعل ماض ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها تعليلًا لما قبلها. {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {أَسْتَغْفِرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. {لَكُمْ}: متعلق به. {رَبِّي}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْغَفُورُ}: خبر أول لـ {إن}. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. {فَلَمَّا}: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فرحل يعقوب وأولاده إلى

مصر. {فلما دخلوا}: {لما}: حرف شرط غير جازم. {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لما}. {عَلَى يُوسُفَ}: متعلق به. {آوَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {أَبَوَيْهِ}: مفعول به، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما}: معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَقَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}، والجملة معطوفة على جملة {آوَى}. {ادْخُلُوا مِصْرَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل. {مِصْرَ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {إن}: حرف شرط جازم. {شَاءَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {اللَّهُ}: فاعل، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن شاء الله ادخلوا مصر، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {آمِنِينَ}: حال من فاعل {ادْخُلُوا}. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}. {وَرَفَعَ} (الواو): عاطفة. {رفع أبويه}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}. {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {آوَى}. {وَخَرُّوا}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به. {سُجَّدًا}: حال مقدرة من فاعل {وَخَرُّوا}، والجملة معطوفة على جملة {آوَى}. {وَقَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {يُوسُفَ}، والجملة معطوفة على جملة {خروا}. {يَا أَبَتِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَبَتِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}. {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من {رُؤْيَايَ}. {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}: فعل ومفعول أول وفاعل ومفعول ثان؛ لأن جعل هنا بمعنى صير، والجملة في محل النصب حال مقدرة من {رُؤْيَايَ}. {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ

الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. {وَقَدْ} (الواو): حالية، أو عاطفة. {قد}: حرف تحقيق. {أَحْسَنَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الرب. {بِي}: جار ومجرور بمعنى إليّ متعلق بـ {أَحْسَنَ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {رَبِّي}، أو معطوفة على جواب النداء. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {أَحْسَنَ}. {أَخْرَجَنِي}: فعل ومفعول ونون وقاية. {مِنَ السِّجْنِ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَجَاءَ}: فعل ماضٍ معطوف على {أَخْرَجَنِي}، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِكُمْ}: متعلق به. {مِنَ الْبَدْوِ}: متعلق به أيضًا. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله. {أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. {بَيْنِي}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {نَزَغَ}. {وَبَيْنَ إِخْوَتِي}: ظرف ومضاف إليه معطوف على الظرف قبله. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لما قبلها. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {لَطِيفٌ}؛ لأنه بمعنى مدبر. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: لما يشاءه. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْعَلِيمُ}: خبر أول. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} (¬1) مضارع فتىء من أخوات كان الناقص، قال أوس بن حجر: فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تُرْفَعُ وقال أيضًا: فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوْبُ وَتَدَّعِيْ ... وَيَلْحَقُ مِنْهَا لاَحِقٌ وَتَقَطَّعُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ويقال فيها: فتأ على وزن ضرب، وأفتأ على وزن أكرم، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ، فتكون تامة، ورددنا عليه ذلك في "شرح التسهيل". ذكره أبو حيان، فتفتأ هنا بمعنى لا تزال. {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} والحرض (¬1): المشفي على الهلاك: يقال: حرض فهو حرض - بكسر الراء - حرضًا - بفتحها - وهو المصدر، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، وأحرضه المرض فهو محرض. قال الشاعر: أَرَى الْمَرْءَ كَالأَزْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا ... كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ فِيْ الدِّيَارِ مَرِيْضُ ويقال: رجل حُرُض - بضمتين - كجنب وشلل. وفي "المصباح": حرض حرضًا - من باب تعب - أشرف على الهلاك، فهو حرض. اهـ. وقولهم: يستوي فيه المفرد وغيره؛ أي: المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، تقول: هو حرض وهما حرض وهم حرض وهي حرض. اهـ. "كرخي". وفي "الشوكاني": الحَرَض - بفتحتين - مصدر يستوي فيه المفرد وغيره، والصفة المشبهة حَرِض - بكسر الراء - كدنف ودنف. قال النحاس: وحكى أهل اللغة: أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض؛ أي: أحمق. وقال الأخفش: الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى {مِنَ الْهَالِكِينَ} من الميتين. اهـ. {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} البث في (¬2) الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل في إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم والشر. والبث (¬3): ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته؛ أي: فرقته، فسميت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

المصيبة بثًّا مجازًا. قال ذو الرمة: وَقَفْتُ عَلَى رَبْع لِمَيَّةَ يَا فَتَى ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِيْ عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيْهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلَّمُنِيْ أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ {فَتَحَسَّسُوا}؛ أي: تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر. والتحسس (¬1): طلب الخبر بالحاسة، وهو قريب من التجسس - بالجيم -، وقيل: إن التحسس - بالحاء - يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشر، ومنه الجاسوس، وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس. {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}؛ أي: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء، فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتف به، فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضًا أنه قال: الروح الاستراحة من غم القلب. وقال أبو عمرو: الروح الفرج، وقيل: الرحمة، ويقال: أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب. {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} البضاعة: هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته إذا جعلته بضاعة. وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال (¬2): أحدها: كانت دراهم. والثاني: كانت متاعًا رثًّا كالحبل والغرارة. والثالث: كانت أقطا. والرابع: كانت نعالًا وأدمًا. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) زاد المسير.

والخامس: كانت سويق المقل. والسادس: كانت حبة الخضراء وصنوبرًا. والسابع: كانت صوفًا وشيئًا من سمن. {مُزْجَاةٍ}؛ أي: مردودة يردها كل بائع على المشتري لردائتها. وفي "القاموس": زجاه إذا ساقه ودفعه كزجاة وأزجاه، وبضاعة مزجاة: قليلة، أو لا يتم صلاحها. اهـ. وفي "المصباح": زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب: تسوقه رفيقًا، يقال: أزجاه بوزن أرضاه، وزجاه بالتثقيل كزكّاه. اهـ. {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} جمع خاطئ، والخاطىء: هو الذي يأتي بالخطيئة عمدًا، والمخطىء من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطأته: قلت له: أخطأت. وفي "الخازن": يقال: خطىء إذا كان عن عمد، وأخطأ إذا لم يكن عن عمد، ولهذا قيل هنا: خاطئين، ولم يقل: مخطئين. اهـ. {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: لا تعيير ولا توبيخ؛ أي: لا أوبخكم ولا أقرعكم اليوم. اهـ. "خازن". وفي "المصباح": ثرب عليه يثرب - من باب ضرب -؛ إذا عتب ولام عليه، وبمضارعه الذي بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فسميت المدينة باسمه. قال السهيلي: وَثرَّب - بالتشديد - مبالغة وتكثير، ومنه قوله تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}. والثَرْبُ - وزان قلس - شحم رقيق على الكرش والأمعاء. اهـ. وفي "المختار": عتب عليه وجد، وبابه ضرب ونصر. اهـ. وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم، والمعنى: أي: لا تعداد للذنوب ولا توبيخ عليكم، يقال: ثرب فلان على فلان إذا بكته بفعله، وعدد عليه ذنوبه. اهـ. "كرخي". {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} يقال: فصل عن البلد إذا انفصل وجاوز حيطانه {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ}؛ أي: تنسبوني إلى الفند، وهو فساد الرأي وضعف العقل والخرف من الكبر. وفي "السمين": التفنيد الإفساد يقال: فندت فلانًا؛ أي: أفسدت رأيه ورددته. وفي "المختار": الفَنَد - بالتحريك الكذب وهو أيضًا ضعفُ الرأي من

الهرم، والفعل منه أفند، والتفنيد: اللوم وتضعيف الرأي. اهـ. وفي "القاموس": الفَنَد - بالتحريك - الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض، والخطأ في القول والرأي، والكذب كالإفناد، ولا تقل: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن ذات رأي أبدًا، وفنده تفنيدًا كذبه وعجزه، وخطأ رأيه كأفنده. اهـ. وقال في "الكشاف": التفنيد النسبة إلى الفند؛ وهو الخرف وإنكار العقل من الهرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي، فتفند في كبرها؛ لأن نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم كما مر. {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}؛ أي: ضمهما إليه واعتنقهما أصله: أأوى من باب أفعل الرباعي، فقلبت الهمزة الثانية ألفًا، فصار أوى. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}؛ أي: أصعدهما عليه، والعرش، كرسي تدبير الملك، لا كل سرير يجلس عليه الملك. {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}؛ أي: أهوى أبواه وإخوته إلى الأرض، وسقطوا له ساجدين. {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}؛ أي: من البادية، والبدو: هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني: يظهر، والبدو خلاف الحضر، والبادية خلاف الحاضرة، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية. اهـ. "خازن". وفي "القرطبي": وقيل: كان يعقوب تحول إلى البادية وسكنها، وإن الله تعالى لم يبعث نبيًّا عن أهل البادية. اهـ. {مِنْ بَعْدِ}. {أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ} في "المختار": نزغ الشيطان بين القوم: أفسد، وبابه قطع. اهـ. وفي "الخازن": وأصل النزغ: الدخول في أمر لإفساده، اهـ. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} وفي "البيضاوي": لطيف لما يشاء؛ أي: من أحوال خلقه؛ أي: لطيف التدبير له؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها. اهـ. يعني: إن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته إذا أراد شيئًا سهل أسبابه، فيطلق عليه اللطيف؛ لأن ما يلطف يسهل نفوذه. اهـ. "شهاب".

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة، وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع: فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}؛ لأنه في تقدير: لا تفتأ وهو من قبيل التورية كما في "الصاوي". ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي قوله: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}، وفيه أيضًا الإظهار في مقام الإضمار؛ لأن حق العبارة: إنه لا ييأس منه. ومنها: الاستعارة في قوله: {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} استعير الروح؛ وهو تنسيم الريح الذي يلذ شميمها، ويطيب نسيمها للفرج الذي يأتي بعد الكرية واليسر الذي يأتي بعد الشدة. ومنها: وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} حق العبارة: إن الله يجزيك، عدلوا إلى الظاهر لشكهم في إيمانه، فعبروا بهذه العبارة المحتملة. ومنها: الجناس المغاير بين {تصدق} و {الْمُتَصَدِّقِينَ}. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} والاستفهام التقريرى في قوله: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ}. ومنها: الإتيان بالاسم الظاهر بدل الضمير في قوله: {أَنَا يُوسُفُ} لم يقل: أنا هو، بل عدل إلى هذ الظاهر تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك، فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وحق العبارة: فإن الله لا يضيع أجرهم.

ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ} أكدوا كلامهم بالقسم وبإن وباللام وبإسمية الجملة، وهذا الضرب من الخبر يسمى إنكاريًّا لتتابع أنواع المؤكدات. ومنها: الاعتراض بالجملة الشرطية بين الحال وصاحبها في قوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} لغرض التبرك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله. ومنها: التغليب في قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}؛ لأن المراد بهما الأب والأم، فهو من باب التغليب. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[101]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}. التفسير وأوجه القراءة 101 - ولمّا أتمّ الله (¬1) سبحانه نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة، وبما خوله من الملك وعلمه من العلم .. تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}؛ أي: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له في الأرض: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي}؛ أي: (¬2) أعطيتني بعض الملك؛ أي: بعضًا منه عظيمًا، وهو ملك مصر، إذ لم يكن له ملك كل الدنيا، وجعلتني متصرفًا فيها بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم، ولم يكن لي فيها حاسد ولا باغٍ؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد والملك. ضابطها هي عبارة (¬1) عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير. روي (¬2): أن يعقوب أقام مع يوسف في مصر أربعًا وعشرين سنة، وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج، فوافق يوم وفاة عيص، فدفنا في قبر واحد، وكانا ولدا في بطن واحد، وكان عمرهما مئة وسبعًا وأربعين كما في تفسير أبي الليث، فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثًا وعشرين سنة، وكان عمره مئة وعشرين سنة، فلما جمع الله شمله وانتظمت أسبابه، واطردت أحواله، ورأى أمره على الكمال .. علم أنه أشرف على الزوال، وأن نعيم الدنيا لا يدوم على كل حال، قال قائلهم: إِذَا تَمَّ أَمْرٌ دَنَا نَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيْلَ تَمّ فسأل الله تعالى الموت على الإسلام وحسن العاقبة، والخاتمة الصالحة، فقال: يا رب قد أعطيتني ملك مصر {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ}؛ أي: بعضًا من تعبير الرؤيا؛ لأنه لم يؤت جميع علم التأويل على التفصيل؛ سواء أريد به مطلق العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا. وقيل: {مِنْ} (¬3) للجنس كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}. وقيل: زائدة؛ أي: آتيتني الملك، وعلمتني تأويل الأحاديث؛ أي: ويا رب قد علمتني ما أعبر عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة، فتقع كما قلت وأخبرت. قال ابن الكمال (¬4): الأحاديث مبني على واحده المستعمل، وهو الحديث كأنهم جمعوا حديثًا على أحدثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع. والمراد بالأحاديث: الرؤى جمع الرؤيا، وتأويلها بيان ما تؤول هي إليه في الخارج، وعلم التعبير من العلوم الجليلة، لكنه ليس من لوازم النبوة والولاية، فقد يعطيه الله تعالى بعض خواصه على التفصيل، وبعضهم على الإجمال. {فَاطِرَ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: يا خالق السموات والأرض وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير، إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه كما سيأتي في مبحث التصريف. {أَنْتَ وَلِيِّي}؛ أي: أنت متولي أموري ومصلح جميع مهماتي، أو ناصري على من عاداني وأرادني بسوء، أو أنت سيدي وأنا عبدك، وإن نعمك لتغمرني وتشملني {في الدنيا} سأتمتع بها بفضلك ورحمتك في {الآخرة} ولا حول لي في شيءٍ منهما ولا قوة {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}؛ أي: توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، واقبضني إليك مسلمًا؛ لأنه من إتمام النعمة، وأتم لي وصية آبائي وأجدادي {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}. واختلف العلماء (¬1): هل هو طلب الوفاة في الحال، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه سأل الله الوفاة في الحال. قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف. قال أصحاب هذا القول: إنه لم يأت عليه أسبوع بعد هذا الدعاء حتى توفاه الله. والقول الثاني: - وعليه الجماهير -: أنه سأل الوفاة على الإسلام، ولم يتمن الموت في الحال. قال الحسن: إنه عاش بعد هذه الدعوة سنين كثيرة. وعلى هذا القول يكون معنى الآية: توفني إذا توفيتني على الإسلام، فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال. قال بعض العلماء: وكلا القولين محتمل؛ لأن اللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب، وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاد له ولا زوال. {وَأَلْحِقْنِي} يا رب {بِالصَّالِحِينَ}؛ أي: بآبائي المرسلين إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك في النعمة والكرامة، فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ ¬

_ (¬1) الخازن.

[102]

عَلَيْهِمْ}؛ أي: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فإن قلت: (¬1) كيف قال يوسف ذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلمًا؟. فالجواب: إما أنه حصل له حالة غلب عليه الخوف فيها، فذهل عن ذلك العلم، أو أنه دعا بذلك مع علمه إظهارًا للعبودية، والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليمًا لغيره، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، والمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى. اهـ. "كرخي". 102 - {ذَلِكَ} المذكور من نبأ يوسف يا محمد {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}؛ أي: من الأخبار التي غاب عنك علمها {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} على لسان جبريل، وهو خبر ثان لقوله: {ذَلِكَ} {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {لَدَيْهِمْ}؛ أي: عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ}؛ أي: حين عزموا على إلقاءهم يوسف في غيابة الجبّ، فإن الإجماع العزم على الأمر، يقال: أجمعت الأمر وعليه {وَهُمْ يَمْكُرُونَ}؛ أي: والحال أنهم يحتالون بيوسف ليقتلوه وبأبيه يعقوب ليرسله معهم؛ أي: ذلك (¬2) الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي. وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه. ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور، فيكون معجزًا؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يطالع الكتب، ولم يأخذ عن أحد من البشر، وما كانت بلده بلد العلماء، فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزًا. وإنما نفي الحضور وانتفاؤه معلوم بغير شبهة تهكمًا بالمنكرين للوحي من قريش وغيرهم (¬3)؛ لأنه كان معلومًا عند المكذبين علمًا يقينًا أنه عليه السلام ليس من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا قرأ على أحد، ولا سمع منه، وليس من علم قومه، فإذا أخبر به لم يبق شبهة في أنه من جهة الوحي لا من عنده، فإذا أنكروه تهكم بهم، وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرين أنه لا سماع له من أحد ولا قراءة، ولا حضور ولا مشاهدة لمن مضى من القرون الخالية. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[103]

ومعنى الآية: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}؛ أي: إن نبأ (¬1) يوسف وأبيه يعقوب وإخوته، وكيف مكن ليوسف في الأرض، وجعل له العاقبة والنصر، وآتاه الملك والحكمة، فساس ملكًا عظيمًا، وأحسن إدارته وتنظيمه، وكان خير قدوة للناس في جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه في غيابة الجبّ، كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره، ولكنا نوحيه إليك لنثبت به فؤادك، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم في سبيل الله، وأعرضوا عن الجاهلين .. فازوا بالظفر وأيدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم. ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}؛ أي: وما كنت (¬2) حاضرًا عندهم ولا مشاهدًا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف في غيابة الجبّ يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه، وهذا كقوله تعالى بعد سياق قصة موسى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} الآية، وقوله في هذه القصة: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...} الآية. وفي "الخازن": وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان أميًّا لم يقرأ الكتب، ولم يلق العلماء، ولم يسافر إلى غير بلده الذي نشأ فيه، ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن تركيب وأفصح عبارة، فعلم أن إتيانه - صلى الله عليه وسلم - بها بوحي من الله تعالى. اهـ. 103 - وخلاصة هذا: أن الله تعالى أطلع رسوله على أنباء ما سبق؛ ليكون فيها عبرة للناس في دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} عام لأهل مكة وغيرهم {وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات الدالة على صدقك لهم. والحرص: طلب الشيء باجتهاد في إصابته {بِمُؤْمِنِينَ} لعنادهم وتصميمهم على الكفر؛ أي: وما أكثر الناس من مشركي مكة وغيرهم ولو حرصت على أن يؤمنوا بك، ويتبعوا ما جئتهم به من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[104]

عند ربك بمصدقيك ولا متبعيك. قال الرازي: إن كفار قريش وجماعة من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف على سبيل التعنت، فلما أخبرهم على وفق ما في التوراة .. أصروا على كفرهم، ولم يسلموا، فتأسف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحزن على عدم إيمانهم، فعزاه الله سبحانه وتعالى بهذه الآية: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} وكأنها إشارة إلى ما ذكر الله تعالى بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. فإن قلت (¬1): فما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه؟ قلتُ: فائدته تمييز من له استعداد ذلك؛ لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما. فإن قلت: لم كان الكفرة أكثر مع أن الله تعالى خلق الخلق للعبادة؟ .. قلت: المقصود ظهور الإنسان الكامل، وهو واحد كألف. 104 - {وَمَا تَسْأَلُهُمْ} يا محمد {عَلَيْهِ}؛ أي: على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك وعلى تبليغ القرآن {مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: من مال يعطونك كما يفعله حملة الأخبار ونقال الآثار. والمراد: إنا أرخينا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغًا بلا أجر. وقرأ بشر بن عبيد: {وما نسألهم} - بالنون -؛ أي: وما (¬2) تسأل يا محمد هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته، وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله سبحانه وتعالى. والخلاصة: أنك لا تسألهم على ذلك مالًا ولا منفعة، فيقولوا: إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك من أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حاله من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرًا على التبليغ والهدى. والقرآن مليء بنحو هذا كما في سورتي هود والشعراء وغيرهما. وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرًا، فقد كان حقًّا عليهم أن يعلموا أنك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[105]

إنما تدعوهم إليه اتباعًا لأمر ربك ونصيحة منك لهم {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربك {إِلَّا ذِكْرٌ}؛ أي: إلا تذكير وموعظة وإرشاد {لِلْعَالَمِينَ} كافة لا لهم خاصة، وبه يهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. وفي الآية إيماء إلى عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -. 105 - {وَكَأَيِّنْ} في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بمعنى: كم الخبرية مبتدأ، خبره جملة {يَمُرُّونَ} الآتي؛ أي: وكثير من آيات وعلامات دالة على توحيد الله تعالى، وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر، ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار كائنة في السموات والأرض. وجملة قوله: {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} خبر {وَكَأَيِّنْ} أي: يمر أكثر الناس على تلك الآيات ويشاهدونها {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}؛ أي: والحال أنهم عن الاعتبار بتلك الآيات معرضون ولا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، وهم غافلون عما فيها من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء، فأحسن تدبيره. وبالجملة (¬1) فما في السموات والأرض من عجائب وأسرار، وإتقان وإبداع؛ ليدل أتم الدلالة على العلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة التامة. والذين يشتغلون بعلم ما في السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره، يمتعون عقولهم بلذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة في لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل؛ إذ الفكر وحده، وإن كان مفيدًا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة. والمشهور في {كأين} عندهم أنه (¬2) مركب، من كاف التشبيه ومن أي، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[106]

وتلاعبت العرب به، وجاءت فيه لغات كثيرة كما مر. وذكر صاحب "اللوامح" أن الحسن قرأ في الشاذ: {وَكَأَيِّنْ} - بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد - وجاء كذلك عن ابن محيصن في الشاذ فهي لغة انتهى. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد: {وَالْأَرْضِ} - بالرفع على الابتداء - وما بعده خبر. وقرأ السدي: {وَالْأَرْضِ} - بالنصب وهو من باب الاشتغال -؛ أي: ويطوون الأرض يمرون عليها؛ أي على آياتها وما أودع فيها من الدلالات ومع ذلك لا يعتبرون. وقرأ عبد الله: {وَالْأَرْضِ} - برفع الضاد - ومكان {يَمُرُّونَ} {يمشون}، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك، وما عدا قراءة الجمهور شاذ. 106 - {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ}؛ أي: وما يصدق ويقرُّ أكثر الناس بوحدانية الله تعالى وبألوهيته، وبكونه الخالق الرازق المحيي المميت في حال من الأحوال {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} بالله تعالى؛ أي: إلا في حال إشراكهم بالله تعالى في عبادتهم سواه من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر، فالكافرون مقرون بوجود الله تعالى، لكنهم يثبتون له شريكًا في المعبودية. قال ابن عباس (¬1): فأهل مكة قالوا: ربنا الله وحده لا شريك له والملائكة بناته. وقال عبدة الأوثان والأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده. وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا. وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك معه. وقال ابن عباس أيضًا (¬2): وأهل مكة كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؛ وهذا هو الشرك الأعظم إذ يعبد مع الله غيره. وفي "صحيح مسلم" أنهم كانوا إذا قالوا: لبيك لا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[107]

شريك لك .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد قد"؛ أي: حسب حسب لا تزيدوا على هذا. وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود. قلت يا رسول الله: أيّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة .. عرف كيف طرأ الشرك على الأمم وسرى في عبادتهم سريان السم في الدسم. 107 - والهمزة في قوله: {أَفَأَمِنُوا} للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أغفل هؤلاء المشركون عن مكر الله تعالى فأمنوه ولم يخافوا {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} في الدنيا {غَاشِيَةٌ}؛ أي: عقوبة تغشاهم وتشملهم {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} تعالى {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} والقيامة {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة من غير سبق علامة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بإتيانها غير مستعدين لها؛ أي: أفأمن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ربهم، ويشركون به في عبادتهم غيره تعالى أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم وكفرهم بربهم، فيخلّدهم في نار جهنم. والآية كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}. وقوله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}. وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لَقِحَتِهِ - الناقة ذات الدر - فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته - لقمته - إلى فيه فلا يطعمها". والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم، فلا يشعرون إلا وقد أتتهم. والحكمة في إبهام وقتها أن الفائدة لا تتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها في هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم، فيلتزموا الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي.

[108]

108 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {هَذِهِ} الطريقة والملة التي أنا عليها من توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام، مبتدأ خبره: {سَبِيلِي}؛ أي: ملتي وسنتي ومنهاجي وطريقتي، وجملة قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}؛ أي: أدعو الناس بهذه الملة إلى توحيد الله والإيمان به حالة كوني {عَلَى بَصِيرَةٍ} وحجة واضحة، وبرهان قاطع. وضمير {أَنَا} تأكيد لفاعل {أَدْعُو}، ولذلك عطف عليه قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}؛ أي: أدعو إلى توحيد الله بهذه الملة، ويدعو إليه من اتبعني وآمن بي وصدقني، وهذا (¬1) قول الكلبي وابن زيد قالا: حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكِّر بالقرآن، وقيل: تم الكلام عند قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ثم استأنف {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يعني: أنا على بصيرة وحجة واضحة ومن اتبعني أيضًا على بصيرة. قال ابن عباس: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية، وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن. وقال ابن مسعود: ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم، فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم. والآية كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. وقرأ عبد الله شذوذًا: {قل هذا سبيلي} - على التذكير - والسبيل: يذكر ويؤنث. {و} قل يا محمد: {سبحان الله}؛ أي: أسبح الله سبحانه وتعالى تسبيحًا، وأنزهه تنزيهًا عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء والأضداد والأنداد، ومن أن يكون معبود سواه، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}. وقل يا محمد: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أشركوا بالله غيره تعالى، والمعنى: أنا بريء من أهل الشرك به لست منهم، ولا هم مني. وهذا معطوف على: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} عطف جملة على جملة. ¬

_ (¬1) الخازن.

[109]

109 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد {إِلَّا رِجَالًا} مثلك لا ملائكة، فهذا رد لقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} قالوا ذلك تعجبًا وإنكارًا لنبوته - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: كيف يتعججون من إرسالنا إياك، والحال أن من قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك ولم يتعجبوا منهم، فكيف تعجبوا من إرسالك؛ لأن الاستفادة منوطة بالجنسية، وبين البشر والملك مباينة من جهة اللطافة والكثافة، ولو أرسل ملك .. لكان في صورة البشر كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}. وقس عليه الجن؛ فلا يكون من الجن رسول إلى البشر. وفي عبارة الرجال دلالة على أنَّ الله تعالى ما بعث رسولًا إلى الخلق من النسوان؛ لأن مبنى حالهن على التستر، ومنتهى كمالهن هي الصديقية لا النبوة، فمنها آسية ومريم وخديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن. وجملة قوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} صفة أولى لـ {رَجُلًا}؛ أي: نوحي إليهم على لسان الملك كما نوحي إليك. وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} صفة ثانية له، وكأن (¬1) تقديم هذه الصفة على ما قبلها أكثر استعمالًا؛ لأنها أقرب إلى المفرد؛ أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لغلبة الجهل والقسوة والجفاء عليهم. والمراد بالقرية: الحضر خلاف البادية، فتشمل المصر الجامع وغيره؛ لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلًا من أهل البوادي. قال الحسن: لم يبعث نبيٌّ من بدو ولا من الجن ولا من النساء. والمعنى: كيف تعجَّبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك!. فإن قلت: (¬2) إن قوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعارضه قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}؛ لأنه يقتضي أن يعقوب وأولاده كانوا من أهل البادية. قلت: لم يكن يعقوب وأولاده من أهل البادية، بل خرجوا إليها لمواشيهم. وقرأ أبو (¬3) عبد الرحمن وطلحة وحفص: {نُوحِي} - بالنون وكسر الحاء - مبنيًّا ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

للفاعل موافقًا لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا}. وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنيًّا للمفعول. والهمزة في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف وتقديره: أغفلوا عن مكرنا، فلم يسيروا في الأرض؛ أي: أفلم يسر هؤلاء المشركون من أهل مكة ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له {فَيَنْظُرُوا} فيما وطئوا من البلاد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن كانوا قبلهم من الأمم الماضية كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا حتى ينزجروا عما هم فيه من التكذيب، وإلا يحيق بهم مثل ما حاق بهم؛ لأن التماثل في الأسباب يوجب التماثل في المسببات، ثم رغب في العمل للآخرة، فقال: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وهو من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ أي: إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله، واتقوا الشرك به، وارتكاب الآثام والمعاصي خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل، والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها. فإن نعيمها (¬1) البدني أكمل من نعيم الدنيا لدوامه وثباته، ولخلوه من المنغصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته. ويحتمل أن يكون قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة، والذي قدمنا تخريج كوفي، وهذا الأخير تخريج بصري. وقرىء شاذًا: {وللدار الآخرة}. وإنما (¬2) أضاف الدار إلى الآخرة مع أن المراد بالدار هي الجنة؛ وهي نفس الآخرة؛ لأن العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم: حق اليقين، والحق: هو اليقين نفسه. اهـ. "خازن". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[110]

والهمزة في قوله: {أفلا تعقلون} للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أتعرضون يا أهل مكة عن إعمال فكركم في هذا، فلا تعقلون أنها خير لهم من الحياة الدنيا، فتتوسلوا إليها بالإيمان؛ أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم. وقرأ الجمهور (¬1): {أفلا يعقلون} - بالياء - مراعاة لقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}. وقرأ الحسن وعلقمة والأعرج وعاصم وابن عامر ونافع: {تعقلون} بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرًا لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم. 110 - ثم ذكر سبحانه وتعالى تثبيتًا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق وانتظار الفرج كما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون في تكذيبهم، فقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} {حَتَّى}: غاية لمحذوف دل عليه السياق تقديره: لا يغررهم (¬2) تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير رادع {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال المكسورة، والمعنى عليه: وظن القوم أن الرسل قد أخلفوا في وعدهم بالنصر؛ أي: أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها. وقال الواحدي معناه: وظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم، وإهلاك أعدائهم، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. وقرأ الباقون: بالتشديد. والمعنى عليه: وظن الرسل وأيقنوا أنهم قد كذبتهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاؤوا به من الله تعالى، وارتدوا عن الإيمان بهم، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو أحسن الوجوه، وقالت: إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح وروح البيان.

خافوا من أن يكذبهم الذين قد آمنوا بهم. وحاصل المعنى على قراءة التخفيف؛ أي: وما (¬1) أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، فكذبوا بما جاءوهم به، وردوا ما أتوا به من عند ربهم، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم؛ لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وظنت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} لهم بهلاك أعدائهم فجأة، وهذه الجملة جواب {إِذَا} في قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}. والمعنى: إن (¬2) زمان الإمهال قد تطاول عليهم حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا بغتة بغير سبق علامة. وهذه سنة الله تعالى في الأمم يرسل إليهم الرسل بالبينات (¬3)، ويؤيدهم بالمعجزات حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل، واستشعروا بالقنوط من تمادي التكذيب وتراخي النصر .. جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذابُ بغتة كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادًا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}. وفي هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم .. حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل، كما قال في سورة القمر {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)}. وقد نصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ...} الآية: هم أتباعُ الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عليهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم .. جاءهم نصر الله عند ذلك. وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة ونحوه عن ابن عباس قال: يئس الرسل أن يستجيبوا لهم، وظن قومهم أنَّ الرسل كذبوهم بما جاؤوهم به جاءهم نصرنا. ونحوه عن ابن مسعود قال: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "سورة يوسف": {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة، اهـ. {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون التابعون لهم، وإنما لم يعينهم؛ للدلالة على أنهم هم الذين يستحقون النجاة لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب (¬1): {فَنُجِّيَ} - بنون واحدة وجيم مشددة مكسورة وفتح الياء - فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و {مَنْ} الموصولة نائب فاعله. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء شذوذًا، وخرج على أنه ماض مبني للمجهول، ولكن سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء كقراءة من قرأ: {ما تطعمون أهاليكم} - بسكون الياء - ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع في الشاذ، والمعنى على هذه: فنجي الرسل ومن آمن معهم من أقوامهم؛ لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال في طهارة النفوس وزكائها هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم، كما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. وقرأ باقي العشرة: {فَنُنْجِي} - بنونين أولاهما مضمومة وثانيتهما ساكنة وبياء ساكنة - مضارع أنجى الرباعي، وفاعله ضمير يعود على الله، والموصول مفعول به؛ أي: فننجي نحن من نشاء نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[111]

نصر بن عاصم والحسن وأبو حيوة وابن السميقع ومجاهد وعيسى وابن محيصن: {فنجا} جعلوه مخفف الجيم فعلًا ماضيًا مبنيًّا للفاعل، وفاعله {مَنْ} الموصولة. وقال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن: {فنَجَّى} - بشد الجيم - فعلًا ماضيًا مبنيًّا للفاعل على معنى: فنَجَّى النصر من نشاء، وفاعله النصر المعلوم من السياق وهي قراءة شاذة. وذكر الداني أن المصاحف متفقة على كتابتها بنون واحدة. وفي "التحبير" أن الحسن قرأ شذوذًا: {فَنُنَجّي} - بنونين الثانية مفتوحة والجيم مشددة والياء ساكنة - مضارع نجى المضعف. وقرأ أبو حيوة شاذًا: {من يشاء} - بالياء -؛ أي: فنجي من يشاء الله نجاته، ومن يشاء نجاتهم هم المؤمنون لقوله تعالى: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: ولا يرد عذابنا عن القوم المشركين إذا نزل بهم. وقرأ الحسن شذوذًا: {بأسه} بضمير الغائب؛ أي: بأس الله. وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ولا يُمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا، فكفروا باللهِ وكذبوا رسله، وما أتوهم به من عند ربهم. وقد جرت سنة الله أن يبلغ الرسل أقوامهم، ويقيموا عليهم الحجة، وينذروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون ويصر المعاندون، فينجي الله الرسل ومن آمن من أقوامهم، ويهلك المكذبين، ولا يخفى ما في الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 111 - واللامُ في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ}: موطئة للقسم. {فِي قَصَصِهِمْ} - بفتح القاف -: مصدرُ قصَّ الخبر؛ إذا حدث به؛ أي: قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم السلام وخبرهم. وقرىء شاذًا بكسر القات جمع قصة؛ أي: قصص الأنبياء وأممهم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان في قصص يوسف مع أبيه وإخوته وخبرهم {عِبْرَةٌ} أي: عظة عظيمة {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة الراجحة والأفكار الثاقبة؛ لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم في النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.

وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف عليه السلام بعد إلقائه في غيابة الجبّ، وإعلاء أمره بعد وضعه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس، والتمكين له في الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية؛ أي: إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد - صلى الله عليه وسلم - وإعلاء كلمته وإظهار دينه، فيخرجه من بين أظهركم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له في البلاد، ويؤيده بالجند والرجال والأتباع والأعوان، وإن مرت به الشدائد وأتت دونه الأيام والحوادث، وإن الإخبار بهذه القصة جارٍ مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إن الله تعالى قال في أول هذه السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وقال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فدل على أن هذه القصة من أحسن القصص، وأن فيها عبرة لمن اعتبرها وتأملها، وكان في أول السورة وآخرها مناسبة. {مَا كَانَ} هذا القرآن المشتمل على هذا المقصوص {حَدِيثًا يُفْتَرَى} ويختلق من عند البشر؛ لأن الذي جاء به من عند الله تعالى؛ وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه أن يفتريه ويختلقه من عند نفسه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخالط العلماء، ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز، فدل ذلك على صدقه، وأنه ليس بمفتر، فهو دليل ظاهر وبرهان قاهر على أنه جاء بطريق الوحي والتنزيل، ومن ثم قال: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: ولكن كان هذا القرآن مصدق الذي كان قبله من الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى من السماء على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور؛ أي: تصديق ما عندهم من الحق فيها لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدق لما عندهم من خرافات فاسدة وأوهام باطلة؛ لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه في الدين والدنيا؛ أي: إن في هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والقصص والمواعظ والأمثال، وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم {و} كان {هدى} إلى

كل خير لمن تدبره وأمعن في النظر فيه، وتلاه حق تلاوته، فهو مرشد إلى الحق، وهادٍ إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح في الدين والدنيا {و} كان {رحمة} خاصة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} به في دينهم ودنياهم؛ لأنهم هم الذين ينتفعون به. وقيل المعنى: {وَهُدًى}؛ أي: سبب هداية في الدنيا {وَرَحْمَةً}؛ أي: سببًا لحصول الرحمة في الآخرة، والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارًا في عقائدهم وعباداتهم، مساوين للمؤمنين في حقوقهم ومعاملاتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل. وانتصاب الأربعة بعد {لكن} للعطف على خبر {كَانَ}. وقرأ حمران ابن أعين وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب "اللوامح" وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: {تصديق وتفصيلُ وهدى ورحمةٌ} - برفع الأربعة -؛ أي: ولكن هو تصديق وهذه القراءة شاذة. والجمهور بالنصب على إضمار كان؛ أي: ولكن كان تصديق الخ. الإعراب {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قاَلَ}. {قَدْ} حرف تحقيق. {آتَيْتَنِي} فعل وفاعل ومفعول أول ونون وقاية. {مِنَ}: حرف جر وتبعيض. {الْمُلْكِ}: مجرور بـ {مِنَ}: الجار والمجرور متعلق بـ {آتَيْتَنِي} على كونه مفعولًا ثانيًا له؛ لأنه بمعنى أعطى، وقيل: {مِنَ} زائدة، وقيل المفعول الثاني محذوف تقديره: عظيمًا من الملك كما ذكره أبو البقاء. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {وَعَلَّمْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْتَنِي}. {مِنْ}: زائدة. {تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}: مفعول ثان

ومضاف إليه. وفي "السمين": و {مِنَ} في {مِنَ الْمُلْكِ}، وفي {مِنْ تَأْوِيلِ} للتبعيض، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: شيئًا عظيمًا من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف، وقيل: زائدة، وقيل: لبيان الجنس. {فَاطِرَ}: نعت لـ {رَبِّ}، أو بدل، أو عطف بيان منه، أو منصوب بإضمار أعني، أو على كونه منادى ثانيًا. {السَّمَاوَاتِ}: مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف عليه. {أَنْتَ وَلِيِّي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلق بـ {وَلِيِّي}. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}. {تَوَفَّنِي}: فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله. {مُسْلِمًا}: حال من المفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَلْحِقْنِي}: فعل ومفعول ونون وقاية. {بِالصَّالِحِينَ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تَوَفَّنِي}. {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {نُوحِيهِ}: فعل ومفعول. {إِلَيْكَ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من المبتدأ، أو من الضمير في الخبر، ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا لذلك كما في "السمين". {وَمَا} (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه. {لَدَيْهِمْ}: ظرف ومضاف إليه خبر كان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} على كونها معللة للخبرين. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بكان. {أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَهُمْ}: (الواو): واو الحال. {هم}: مبتدأ، وجملة {يَمْكُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {أَجْمَعُوا}. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)}. {وَمَا} (الواو): استئنافية. {ما}: حجازية أو تميمية. {أَكْثَرُ النَّاسِ}:

اسمها أو مبتدأ {بِمُؤْمِنِينَ}: خبرها، أو خبر المبتدأ والباء زائدة، والجملة مستأنفة. {وَلَوْ}: (الواو): اعتراضية. {لو}: حرف شرط. {حَرَصْتَ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو}، وجواب {لو} محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره: ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في دعوتهم لا يؤمنون، وجملة {لو}: معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين {ما} وخبرها. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما} نافية {تَسْأَلُهُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {مِنْ أَجْرٍ}: مفعول ثان لسأل، و {مِنْ}: زائدة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ}. {إِنْ}: نافية. {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {ذِكْرٌ}: خبر المبتدأ. {لِلْعَالَمِينَ}: متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}. {وَكَأَيِّنْ} (الواو): استئنافية. {كأين}: اسم بمعنى كم الخبرية؛ أي: بمعنى عدد كثير في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. {مِنْ}: زائدة. {آيَةٍ}: تمييز {كأين} منصوب. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صفة لـ {آيَةٍ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {يَمُرُّونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَهُمْ}: (الواو): حالية. {هم}: مبتدأ. {عَنْهَا}: متعلق بـ {مُعْرِضُونَ}. {مُعْرِضُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَمُرُّونَ}، والمعنى: وآيات كثيرة كائنة في السموات والأرض مارون عليها حالة كونهم معرضين عنها. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}. {وَمَا} (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُ}، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {وَهُمْ مُشْرِكُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يُؤْمِنُ}.

{أَفَأَمِنُوا}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف. (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أغفل هؤلاء المشركون عن مكر الله تعالى فأمنوا. {أمنوا}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ}: ناصب وفعل ومفعول وفاعل. {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {غَاشِيَةٌ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أفأمنوا إتيان غاشية من عذاب الله إياهم. {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ} على كونها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: أو إتيان الساعة إياهم. {بَغْتَةً}: حال من {السَّاعَةُ}؛ أي: باغتة. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يشعُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {تَأْتِيَهُمُ}. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. {هَذِهِ سَبِيلِي} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَذِهِ سَبِيلِي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَدْعُو}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَدْعُوا}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {عَلَى بَصِيرَةٍ}: جار ومجرور خبر مقدم. {أَنَا}: مبتدأ مؤخر. {وَمَنِ}: الموصولة معطوفة على المبتدأ، وجملة {اَتَّبَعَنِي}: صلة {من} الموصولة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. وفي "السمين": قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} يجوز أن يكون مستأنفًا؛ وهو الظاهر، وأن يكون حالًا من الياء، و {عَلَى بَصِيرَةٍ}: حال من فاعل {أَدْعُوا}؛ أي: أدعو إلى الله حالة كوني كائنًا على بصيرة، وقوله: {وَمَنِ اَتبَعَنِي}: عطف على فاعل {أَدْعُوا}، ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: {وَمَنِ اَتبَعَنِي} يدعو أيضًا، ويجوز أن يكون {عَلَى بَصِيرَةٍ} وحده حالًا، و {أَنَا}: فاعل به، {وَمَنِ اَتَّبَعَنِي}: عطف عليه، ومفعول {أَدْعُوا} يجوز

أن لا يراد، ويجوز أن يقدر؛ أي: أدعو الناس. اهـ. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} (الواو): عاطفة. {سُبْحَانَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وأسبح سبحان الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {هَذِهِ سَبِيلِي} على كونها مفسرة لها. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {هَذِهِ سَبِيلِي}. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. {وَمَا} (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {رِجَالًا}: مفعول به. {نُوحِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب صفة أولى لـ {رجال}. {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}: جار ومجرور صفة ثانية لـ {رِجَالًا}، والأكثر استعمالًا عندهم تقديم هذه الصفة الثانية على الأولى؛ لأنها أقرب إلى المفرد منها كما تقدم تحريره في المائدة. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. {أَفَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف. (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أغفلوا عن مكرنا فلم يسيروا. {لم يسيروا}: جازم وفعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. {فَيَنْظُرُوا}: (الفاء): عاطفة. {ينظروا}: فعل وفاعل معطوف على {يَسِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ} مقدّم عليه وجوبًا. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ الَّذِينَ}: اسمها ومضاف إليه، وجملة {كَانَ}: في محل النصب مفعول لـ {ينظروا} معلق عنها باسم الاستفهام. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}: (الواو): استئنافية. (اللام): حرف ابتداء، {دار الآخرة}: مبتدأ ومضاف إليه. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور

متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أتعرضون يا أهل مكة عن إعمال فكركم في خيرية الآخرة على الدنيا. {لا}: نافية {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}. {حَتَّى}: حرف ابتداء لدخولها على الجملة، وغاية لكونها غاية لمحذوف وتقديره: لا يغررهم تماديهم فيما هم من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {وَظَنُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتَيْأَسَ}. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {قَدْ كُذِبُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن تقديره: وظنوا تكذيبهم. {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا}: من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حَتَّى} متعلقة بمحذوف تقديره: فإن من قبلهم أمهلوا إلى مجيء نصرنا وقت يأس الرسل عن نصرهم، وظن الأتباع كونهم مكذوبين. {فَنُجِّيَ}: (الفاء): عاطفة. {نُجِّيَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {جاء}. {نَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من نشاء نجاته من عبادنا. {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا}: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {عَنِ الْقَوْمِ}: متعلق به. {الْمُجْرِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.

{لَقَدْ}: (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص. {فِي قَصَصِهِمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ}: {عِبْرَةٌ} اسم {كَانَ} مؤخر، وجملة {كَانَ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: جار ومجرور متعلق بـ {عِبْرَةٌ}؛ لأنه اسم مصدر من اعتبر الخماسي. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أو على هذا القصص المذكور في يوسف وإخوته. {حَدِيثًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {يُفْتَرَى}: صفة لـ {حَدِيثًا}، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {وَلَكِنْ}: (الواو): عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {تَصْدِيقَ الَّذِي}: خبر لـ {كَانَ} المحذوفة مع اسمها، ومضاف إليه؛ أي: ولكن كان هذا القرآن تصديق الذي بين يديه، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}: معطوف على {تَصْدِيقَ} على كونه خبرًا لـ {كَانَ} المحذوفة. {وَهُدًى وَرَحْمَةً}: معطوفان عليه أيضًا. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور تنازع فيه كل من {هدى} و {رحمة} على كونه صفة لهما، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قوم}، أو صفة لـ {رحمة} فقط. التصريف ومفردات اللغة {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}؛ أي: بعض الملك، والمراد بذلك البعض: ملك مصر؛ إذ لم يملك جميع أقطار الأرض إلا أربعة: إثنان مسلمان: إسكندر، وسليمان بن داود واثنان كافران: بختنصر وشداد بن عاد، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعد يوسف مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا من دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام. اهـ. "أبو السعود". والملك عبارة عن الاتساع في الشيء المقدور لمن له السياسة التدبير كما مر. {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق:

أوجده وأبدعه. {أَنْتَ وَلِيِّ}؛ أي: معيني ومتولي أمري {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}؛ أي: اقبضني إليك مسلمًا. {وَلَوْ حَرَصْتَ} وفي "المصباح": حرص عليه حرصًا - من باب ضرب - إذا اجتهد، والاسم الحِرص - بكسر الحاء - وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا - من باب تعب لغة -، إذا رغب رغبة مذمومة. اهـ. {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ} و {كَأَيِّنْ} هنا بمعنى كم الخبرية التي بمعنى عدد كثير وإن وردت للاستفهام، والآية هنا بمعنى الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته. {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا}؛ أي: يشاهدونها ولا يعبئون بها. {مُعْرِضُونَ}؛ أي: لا يعتبرون بها. {غَاشِيَةٌ} والغاشية: العقوبة تغشاهم وتعمهم {بَغْتَةً} فجأة {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} البصيرة: الحجة الواضحة، وقيل: هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل. اهـ. "خازن". {وَظَنُّوا} الظن هنا: إما بمعنى اليقين، وإما معنى الحسبان والتقدير. {بَأْسُنَا} والبأس العقاب. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} والقَصَص - بفتح القاف -: مصدر قَصَّ إذا تتبع الأثر والخبر، والمراد هنا المقصوص المحكي بدليل القراءة الشاذة: {قِصصهم} - بكسر القاف - كما في "الجمل". {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} المراد بالعبرة: التأمل والتفكر. وفي "الخازن": معنى الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والمراد منه التأمل والتفكر. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} والألباب: العقول واحدها لبّ، وسمي بذلك؛ لكونه خالص ما في الإنسان من قواه. وقال الشوكاني: والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل: هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطريق المعلوم إلى الطريق المجهول، وأولوا الألباب: هم ذووا العقول السليمة

الذين يعتبرون بعقولهم، فيدرون ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع من بعد المدة التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الرسل الذين قص حديثهم، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع: فمنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} فإنه إنما أعطي ملك مصر فقط، لا ملك الأرض كلها كما مر. ومنها: في قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} ما يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي؛ وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحدًا ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته .. لم تقع شبهة في أنه ليس منه، بل من وحي الله تعالى إليه، ذكره أبو حيان. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ}؛ لأنه بمعنى الماضي. ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله: {وَلَوْ حَرَصْتَ} لاعتراضها بين {مَا} الحجازية وخبرها، وجيء بهذا الاعتراض؛ لإفادة أن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى وحده. ومنها: حكاية الحال الماضية أيضًا في: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}؛ لأنه بمعنى الماضي. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}.

ومنها: إضافة الشيء إلى نفسه في قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}؛ لأنه أضاف الدار إلى الآخرة مع أن المراد بالدار هي الجنة، وهي نفس الآخرة؛ لأن العرب تفعل ذلك لإفادة التأكيد، كما في قولهم: حق اليقين، مع أن المراد بالحق هو اليقين نفسه كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

موضوعات هذه السورة جملة ما في هذه السورة من الموضوعات تسعة وثلاثون موضوعًا: 1 - قص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب. 2 - نهي يعقوب لولده عن قصه قصصه على إخوته. 3 - تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه في غيابة الجبّ. 4 - ادعاؤهم أنَّ الذئب قد أكله. 5 - عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له. 6 - بيعها إياه في مصر بثمن بخس لعزيز مصر. 7 - وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه. 8 - مراودة المرأة له عن نفسه، وإعداد الوسائل لذلك. 9 - تمنعه من ذلك إكرامًا لسيده الذي أكرم مثواه. 10 - قدها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد الفاحشة. 11 - شهادة شاهد من أهلها بما يجلي الحقيقة. 12 - افتضاح أمرها في المدينة لدى النسوة. 13 - تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها. 14 - إدخاله السجن اتباعًا لمشيئتها. 15 - تعبيره رؤيا فتيين دخلا معه السجن. 16 - رؤيا الملك وطلبه تعبيرها. 17 - إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف، وأنه نعم المعبر لها. 18 - طلب الملك إحضاره من السجن، واستخلاصه لنفسه. 19 - توليته رئيسًا للحكومة ومهيمنًا على ماليتها. 20 - مجيء إخوة يوسف إليه، وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم.

21 - إرجاع البضاعة التي جاؤوا بها. 22 - إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموقف لأبيهم. 23 - طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة. 24 - إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه. 25 - أذان المؤذن أن العير قد سرقوا. 26 - قول الإخوة: إن أخاه قد سرق من قبل. 27 - طلبُ الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه. 28 - وجود غشاوة على عيني يعقوب من الحزن. 29 - تعريف يوسف بنفسه لإخوته. 30 - حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرًا. 31 - طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم. 32 - رفع يوسف أبويه على العرش. 33 - قول يوسف لأبيه: هذا تأويل رؤياي من قبل. 34 - دعاؤه بحسن الخاتمة. 35 - في هذا القصص إثبات لنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. 36 - تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حَدَث لمن قبلهم. 37 - لم يرسل الله تعالى إلا رجالًا وما أرسَل ملائكة. 38 - نصر الرسل بعد الاستيئاس. 39 - في قصص الرسل أو يوسف وإخوته عبرة لأولي الألباب. والله أعلم * * *

سورة الرعد

سورة الرعد سورة الرعد مكية (¬1) إلا آيتين فهما مدنيتان، وهما قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} الآية، وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}. وقيل: مدنية سوى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآيتين. وآياتها ثلاث - أو خمس - وأربعون آية، وكلماتها ثمان مئة وخمس وخمسون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وخمس مئة وستة أحرف. وسميت بالرعد؛ لذكره فيها. فضلها: ومن فضائلها أن قراءتها عند المحتضر تسهل خروج الروح. وقد أخرج (¬2) ابن أبي شيبة والمروزي في "الجنائز" عن جابر بن زيد قال: كان يُستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد؛ فإن ذلك يخفف عن الميت، وإنه أهون لقبضه، وأيسر لشأنه. المناسبة: ومناسبةُ هذه السورة لما قبلها من وجوه (¬3): 1 - أنه سبحانه وتعالى أجمل في السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}، ثم فصلها هنا أتم تفصيل في مواضع منها. 2 - أنه أشار في سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر في سالفتها. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

3 - أنه ذكر في كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين، وفي ذلك تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت لقلبه. 4 - جاء في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وفي أول هذه السورة قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله تعالى (¬1): في سورة الرعد من المنسوخ آيتان فقط؛ آيةٌ مُجمع على نسخها، وآيةٌ مختلف في نسخها. فالمجمع على نسخها قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا} الآية (40) منسوخة بآية السيف. الآية الثانية قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} الآية (6) منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية (48، 116) النساء. والظلم هاهنا: الشرك. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}. المناسبة قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه قد مر لك في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، ووصفه في هذه الآية بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ...} الآية، كما مرّ آنفًا.

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) في الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون .. أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد، فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر، وأحوال الأرض جبالها وأنهارها، وأزهارها ونخيلها وأعنابها، واختلاف ثمراتها، وتنوع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء قدير. وعبارة أبي حيان هنا: ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس .. ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد، وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل، ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والحكمة انتهت. قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك من خلق السموات بلا عمد، وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى، ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم .. ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسًا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه .. لا يعجز عن إعادته في خلق جديد، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ}. قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[1]

خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتتها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتناثر في بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع، وبعضه الآخر حدأة، أو نسر، وحينًا يأكل السمك قطعة منه، وأخرى يجري بها الماء وتدفن في بلد آخر .. أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم الأجنة في بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض، ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى. أسباب النزول قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) الطبراني وغيره عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عامر: يا محمَّد ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم"، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: "ليس ذلك لك ولا لقومك"، فخرجا، فقال عامر لأربد: إني أشغل منك وجه محمَّد بالحديث، فأضربه بالسيف، فرجعا فقال عامر: يا محمَّد قم معي أكلمك، فقام معه ووقف يكلمه، وسل أربد السيف، فلما وضع يده على قائم سيفه - يبست، والتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم .. أرسل الله على أربد صاعقة فقتله، فأنزل الله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} إلى قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {المر} اسم للسورة خبر لمحذوف؛ أي: هذه السورة مسماة بهذا الاسم. وقيل (¬2): إن هذه الحروف في أوائل السور حروف تنبيه كـ (ألا) ونحوها، وتقرأ بأسمائها، فيقال: ألف لام ميم را، فلا محل لها من الإعراب، كما قيل: إن كل سورة بدئت بهذه الحروف فيها انتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه. وقال ابن عباس (¬3): معناه أنا الله أعلم وأرى ما لا يعلم الخلق وما لا ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

يرى من فوق العرش إلى ما تحت الثرى، فتكون الألف واللام مختصرتين من أنا الله الدالين على الذات، والميم والراء من أعلم وأرى الدالين على الصفة. وفي "التبيان" الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمَّد، والراء: الرسل؛ أي: أنا الله الذي أرسل جبريل إلى محمَّد بالقرآن، وإلى الرسل بغيره من الكتب الإلهية والصحف الربانية. {تِلْكَ}؛ أي: هذه الآيات المشتملة عليها هذه السورة {آيَاتُ الْكِتَابِ}؛ أي: آيات من الكتاب العزيز والقرآن الكريم البالغ حدّ الكمال المستغني عن الوصف من بين الكتب السماوية، الجدير بأن يختص باسم الكتاب، وأشار إليها بإشارة البعيد تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي. وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} مبتدأ خبره {الْحَقُّ}؛ أي: وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال، فكأنه سبحانه وتعالى بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم، فأثبته للقرآن جميعه، فلا تختص به سورة دون أخرى. وهذا الأسلوب جارٍ على سنن العرب في تخاطبهم (¬1)، فقد قالت فاطمة الأنمارية، وقد سئلت عن بنيها، أي بنيك أفضل؟ ربيعة بل عمارة بل قيس بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين .. أجملت القول، وأثبتت لهم الفضل جميعًا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن، ويجحدون (¬2) بحقيقته لإفراطهم في العناد، وخروجهم عن طريق السداد، وعدم تفكرهم في معانيه، وإحاطتهم بما فيه، وكفرهم به لا ينافي كونه حقًّا منزَّلًا من عند الله تعالى، فإن الشمس شمس، وإن لم يرها الضرير، والشهدُ شهدٌ وإن لم يجد طعمه المرور، والتربية إنما تفيد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[2]

المستعد والقابل دون المنكر والباطل. والمعنى (¬1): ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان، والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا في الدنيا والآخرة، وقد سلك المسلمون سبيلها في عصورهم الأولى، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وامتلكوا أكثر المعمور في ذلك الحين، وثلُّوا عروش كسرى والروم، ودانت لهم الرقاب، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق، وأخذٍ على يد الظالم لإنصاف المظلوم، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم إلى السماكين، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه، وألقوها ورائهم ظهريًّا، فحاق بهم ما كانوا يكسبون، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة، تابعين بعد أن كانوا متبوعين {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والآية بمعنى قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}. 2 - ثم ذكر سبحانه وتعالى أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته؛ بعضها سماوي، وبعضها أرضي، وذكر من الأولى ثلاثة أمور: الأول منها: ما ذكره بقوله: {اللَّهُ}؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة أيها العباد هو الإله {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} السبع؛ أي: خلقها (¬2) مرفوعة بينها وبين الأرض مسيرة خمس مئة عام، لا أن تكون موضوعة فرفعها؛ أي: خلقها ورفعها {بِغَيْرِ عَمَدٍ} ودعائم وأساطين {تَرَوْنَهَا}؛ أي: ترون أيها العباد تلك العمد، فالضمير راجع إلى العمد، والجملة صفة لها؛ أي: خلق السموات حالة كونها خالية من عند مرئية، وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعًا؛ أي: لا عمد لها فلا ترى، ويحتمل أن يكون لانتفاء الرؤية فقط بأن يكون لها عماد غير مرئي؛ وهو القدرة، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته، فكأنها عماد لها، أو العدل؛ لأن بالعدل قامت السماوات والأرض؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

العلويات والسفليات. ويدل (¬1) على كون {تَرَوْنَهَا} صفة لـ {عَمَدٍ} قراءة أبيّ شذوذًا: {ترونه} فعاد الضمير مذكرًا على لفظ {عَمَدٍ}؛ إذ هو اسم جمع لعمود، وقياس جمعه عمد - بضمتين - كرسول ورسل. ويجوز أن يكون {تَرَوْنَهَا} جملة مستأنفة، فالضمير راجع إلى {السَّمَاوَاتِ} كأنه قيل: ما الدليل على أن السماوات مرفوعة بغير عمد؟ .. فأجيب أنكم ترونها غير معمودة. والمعنى (¬2): أنه تعالى خلق السماوات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها. وقرأ الجمهور (¬3): {عَمَدٍ} - بفتحتين -، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب شذوذًا {عُمُدٍ} بضمتين كقراءة أبيّ. والثاني منها: ما ذكره بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وكلمة (¬4) {ثُمَّ} لبيان تفاضل الخلقين وتفاوتهما، فإن العرش أفضل من السماوات، لا للتراخي في الوقت لتقدمه عليها. وفي "السمين": ثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب؛ لأن الاستواء على العرش غير مرتب على رفع السماوات اهـ؛ أي: ثم (¬5) استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان، والاستواء على العرش صفة ثابتة لله تعالى بلا كيف نعتقدها ولا نعطلها، لا نكيفها ولا نمثلها كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى. والثالث منها: ما ذكره بقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؛ أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد. وقال في "بحر العلوم" معنى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان. (¬5) المراغي.

تسخيرهما: كونهما نافعتين للناس حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، وينوران لهم في الليل والنهار، ويدرآن الظلمات، ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات. {كُلٌّ} منهما {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: يسير إلى وقت معلوم، فاللام بمعنى إلى؛ وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر. وقيل: المراد بالأجل المسمى: درجاتهما: ومنازلهما التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها؛ وهي سنة للشمس وشهر للقمر، فللشمس والقمر منازل كل منهما يغرب في كل ليلة في منزل، ويطلع في منزل آخر حتى ينتهي إلى أقصى المنازل. والمعنى: أي وذلل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما يراد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير في منازله إلى وقت معين، فالشمس تقطع فلكها في سنة، والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وبقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} كما سبق إيضاح هذا في سورتي "يونس" و"هود". قال بعضهم: وهذا المعنى هو الحق في تفسير الآية كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنه. وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؛ أي: أمر العالم وحده؛ أي: يقضي سبحانه وتعالى، ويدبر أمر ملكوته من الإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب، ورفع قوم ووضع آخرين، وغير ذلك؛ أي: إنه تعالى يتصرف في ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه، فهو يحيي ويميت، ويوجد ويعدم، ويغني ويفقر، وينزل الوحي على من يشاء من عباده، وفي ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شيء بوضع خاص وصفةٍ معنية لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شيء عن تدبير آخر، كما هو شأن المخلوقات في هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضًا على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته.

{يُفَصِّلُ}؛ أي: يبين سبحانه وتعالى {الْآيَاتِ}؛ أي: البراهين الدالة على وحدته في ألوهيته وربوبيته، وكمال قدرته، وعجيب حكمته التي منها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما إلى أجل مسمى. وقرأ النخعي وأبو رزين وأبان بن تقلب عن قتادة شذوذًا: {ندبر الأمر نفصل} بالنون فيهما. وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، ووافق في {نفصل} بالنون الخفاف وعبد الواحد عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص شذوذًا. وقال صاحب "اللوامح": جاء عن الحسن والأعمش شذوذًا: {نفصل} بالنون فقط ذكره في "البحر" أبو حيان. والمعنى (¬1): أي: يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض، فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة في حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه، ولا تجد معدلًا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهي العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها واختلال لحركاتها {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}. وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقي فيها الحب، ثم يسقيها ويضع فيها السماد، ويوالي سقيها حتى تؤتي أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة .. باء صاحب الزرع بالخسران، فلم يحصل على شيء، أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنصب الذي فعله. وقيل (¬2): إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

من العجائب، وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم، وهذا قد تقدم ذكره. والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته. ثم أبان سبحانه وتعالى أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة، والحكمة الشاملة جاء لحكمة اقتضتهما: وهي الإيقان بالبعث لفصل القضاء، ومجازاة كل عامل بما عمل {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}؛ أي: يبين (¬1) الله سبحانه وتعالى الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته؛ لكي توقنوا وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت؛ لأن من قدر على إيجاد الإنسان من العدم قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه: استيقن وأيقن بمعنى: علم؛ أي (¬2): لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه. قال في "بحر العلوم": {لعل} (¬3) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، والمعنى عليه؛ أي: يفصل الآيات إرادة أن تتأملوا وتنظروا فيها، فتستدلوا بها عليه وعلى وحدته وقدرته وحكمته، وتتيقنوا أن من قدر على خلق السموات والأرض والعرش، وتسخير الشمس والقمر مع عظمها، وتدبير الأمور كلها .. كان على خلق الإنسان مع مهانته، وعلى إعادته وجزائه أقدر. وخلاصة هذه العبرة (¬4): أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب في الجوّ بلا عمد، ودبر الأمور بغاية الإحكام والدقة، ولم يشغله شأن عن شأن .. ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[3]

إلى الأجساد، ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لا فناء بعدها، وإذا أيقنتم بذلك .. وليتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان، وأخلصتم العبادة للواحد الديان، وائتمرتم بوعده ووعيده، وصدقتم برسله، وبادرتم إلى اتباع أوامره، وتركتم ما نهى عنه، ففزتم بسعادة الدارين. فائدة: قال بعضهم (¬1): لا غنية للمؤمن عن ست خصال: أولاها: علم يدله على الآخرة. والثانية: رفيق يعينه على طاعة الله تعالى، ويمنعه عن معصيته. والثالثة: معرفة عدوه والحذر منه. والرابعة: عبرة يعتبر بها في آيات الله، وفي اختلاف الليل والنهار. والخامسة: إنصاف الخلق؛ لئلا يكونوا له يوم القيامة خصماء. والسادسة: الاستعداد للموت ولقاء الرب قبل نزوله كيلا يكون مفتضحًا يوم القيامة. وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى الدلائل السماوية على وحدانيته تعالى وكمال قدرته .. أردفها بالأدلة الأرضية، وذكر منها عدة أمور: 3 - الأول منها: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ}؛ أي: بسطها طولًا وعرضًا، ووسعها؛ أي: جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض؛ لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها، وبما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، ويسيرون في أكنافها يبتغون رزق ربهم منها. والمعنى: أنشأها ممدودة بسيطة، لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها، وهذا يدل على كونها مسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة أن الأرض كرة لا شك في كرويتها عندهم لما عندهم من الأدلة على ذلك، ويجمع بينها بأن يقال: ¬

_ (¬1) روح البيان.

إن كونها بسيطة لا ينافي كرويتها؛ لأن جميع الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها يشاهد كالسطح، ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح، والله تعالى أصدق قيلًا وأبين دليلًا من أصحاب الهيئة. والثاني منها: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا}؛ أي: في الأرض {رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثابتة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره أثبته، جمع راسية، والتاء فيه للمبالغة كما في علامة؛ إذ لا يقال: جبال راسية والمعنى (¬1): وجعل فيها جبالًا ثابتةً أوتادًا للأرض؛ لئلا تضطرب فتستقر ويستقر عليها، وكان اضطرابها من عظمة الله تعالى. قال ابن عباس - رضي الله عنه - كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض. وقال في "القاموس": أبو قبيس جبل بمكة سمي برجل حداد من مذحج كمجلس؛ لأنه أول من بنى فيه، وكان يسمى الأمين؛ لأن الركن كان مستودعًا فيه. اهـ. قال في "إنسان العيون": وكان أول جبل وضع عليها أبا قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها، مع أن أفضلها كما قال السيوطي: أُحد؛ لقوله عليه السلام: "أُحُد يحبنا ونحبه" وهو بضمتين جبل بالمدينة. والثالث منها: ما ذكره بقوله: {وَأَنْهَارًا}؛ أي: وجعل فيها أنهارًا ومياهًا جاريةً لمنافع الإنسان والحيوان، فَيسقي الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال، ويجعلها لنفسه طعامًا وفاكهةً، ويكون منها مادة حياته في طعامه وشرابه وغذائه. وإنما ضمها (¬2) إلى الجبال، وعلق بها فعلًا واحدًا من حيث إن الجبال أسباب لتولدها، وذلك أن الحجر جسم صلب، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل .. احتبست هناك، فلا تزال تتزاحم وتتضاعف حتى تحصل بسبب الجبل مياه عظيمة، ثم إنها لكثرتها وقوتها تنقب الجبل، وتخرج وتسيل على وجه الأرض. ومن الأنهار العظيمة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الفرات؛ وهو نهر الكوفة، ودجلة؛ وهو نهر بغداد، وسيحان - بفتح السين المهملة -؛ وهو نهر المصيصة، وسيحون؛ وهو نهر بالهند، وجيحان - بفتح الجيم -؛ وهو نهر أذنة في بلاد الأرمن، وجيحون؛ وهو نهر بلخ، والنيل؛ وهو نهر مصر. والرابع منها: ما ذكره بقوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} متعلق بقوله: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} اثنين تأكيد للزوجين، كما هو دأب العرب في كلامهم؛ أي: وجعل سبحانه وتعالى في الأرض من كل أنواع الثمرات زوجين زوجين؛ أي: صنفين صنفين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والأصفر والأحمر، والصغير والكبير. أو المعنى (¬1): جعل من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين، ذكرًا وأنثى حين تكونها، فقد أثبت العلم حديثًا أن الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب إلا من اثنين: ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة، كأغلب الأشجار؛ وقد يكون عضو التذكير في شجرة، وعضو التأنيث في شجرة أخرى، كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة؛ إما أن يكونا معًا في زهرة واحدة كالقطن، وإما أن يكون كل منهما في زهرة منفردة كالقرع مثلًا. وعبارة "الشوكاني" هنا: أي: جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين؛ إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء: يعني بالزوجين: الذكر والأنثى، والأول أولى. اهـ. والخامس منها: ما ذكره بقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} قرأ الجمهور: {يُغْشِي} من أغشى الرباعي. وقرأ حمزة (¬2) والكسائي وأبو بكر: {يغشِّي} - بالتشديد - من غشى المضعف؛ أي: يجعل سبحانه وتعالى الليل غاشيًا وساترًا يغشى ويستر بظلمته ضوء النهار، فيذهب بظلمته ضوء النهار؛ أي: يجعل النهار مستورًا بالليل ويغطيه بظلمته، ولم يذكر العكس اكتفاء بأحد الضدين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

والمعنى: أي يلبس (¬1) النهار ظلمة الليل، فيصير الجو مظلمًا بعد أن كان مضيئًا، فكأنه وضع عليه لباسًا من الظلمة، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار، فيصير الجو مضيئًا بعد أن كان مظلمًا، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار، أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} وقال أيضًا: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. قال البيضاوي: يلبسه مكانه، فيصير الجو مظلمًا بعدما كان مضيئًا يعني: أن الإغشاء: إلباس الشيء الشيء، ولما كان إلباس الليل النهار وتغطية النهار به غير معقول؛ لأنهما متضادان لا يجتمعان، واللباس لابدّ أن يجتمع مع اللابس .. قدر المضاف وهو مكانه، ومكان النهار هو الجو، وهو يلبس ظلمة الليل، ففيه استعارة تبعية كما سيأتي في مبحث البلاغة. وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد في رأي العين في كل صباح ومساء، وفي كل حين ووقت .. ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به، وعقل يهتدي به إلى وجه الصواب، وينتقل من النظر في الأسباب إلى مسبباتها، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من عجائب خلق الله تعالى، وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلائل وحججًا {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: لقومٍ يتفكرون فيها ويتأملون، ويعتبرون بها، فيعلموا أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فني منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له تعالى، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغي أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبي أو غير أولئك ممن سلب النفع والضرّ، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ ¬

_ (¬1) المراغي.

شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}، وقد روي: تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله. ومعنى {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن (¬1) في كل من الأرض والجبال والأنهار والثمار والملوين (¬2) {لَآيَاتٍ} تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره. أما في الأرض فمن حيث هي ممدودة مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للماشين في مناكبها، وغير ذلك مما فيها من العيون والمعادن والدواب مثلًا. وأما الجبال فمن جهة رسوها وعلوها، وصلابتها وثقلها، وقد أرسيت الأرض بها كما يرسى البيت بالأوتاد. وأما الأنهار فحصولها في بعض جوانب الجبال دون بعض لا بد أن يستند إلى الفاعل المختار الحكيم. وأما الثمار فالحبة إذا وقعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض .. ربت وكبرت، وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها، فتخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، وتخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض. وهذا من العجائب؛ لأن طبيعة تلك الحبة واحدة، وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد، ثم إنه خرج من أحد جانبي تلك الحبة جرمٌ صاعد إلى الهواء ومن الجانب الآخر منها جرم غائص في الأرض، ومن المحال أن يتولد من طبيعة واحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم، ثم إن الشجرة النابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشبًا، وبعضها يكون نورة، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضًا يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع. فالجوز له أربعة أنواع من القشور: قشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللب، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز واللوز رطبًا، وأيضًا قد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القدير. وأما الملوان فلا يخفى ما في اختلافهما ووجودهما من الآية؛ أي: الدلالة الواضحة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون، والتفكر: تصرف القلب في طلب معاني الأشياء، وكما أن في العالم الكبير أرضًا وجبالًا ومعادن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الملوان: الليل والنهار.

[4]

وبحارًا وأنهارًا، وجداول وسواقي، فكذلك في الإنسان الذي هو العالم الصغير مثله، فجسده كالأرض، وعظامه كالجبال، ومخه كالمعادن، وجوفه كالبحر، وأمعاؤه كالأنهار، وعروقه كالجداول، وشحمه كالطين، وشعره كالنبات، ومنبت الشعر كالتربة الطيبة، ورأسه كالعمران، وظهره كالمفاوز، ووحشته كالخراب، وتنفسه كالرياح، وكلامه كالرعد، وأصواته كالصواعق، وبكاؤه كالمطر، وسروره كضوء النهار، وحزنه كظلمة الليل، ونومه كالموت، ويقظته كالحياة، وولادته كبدء سفره، وأيام صباه كالربيع، وشبابه كالصيف، وكهولته كالخريف، وشيخوخته كالشتاء، وموته كانقضاء مدة سفره، والسنون من عمره كالبلدان، والشهور كالمنازل، والأسابيع كالفراسخ، وأيامه كالأميال، وأنفاسه كالخطى، فكلما تنفس نفسًا كان يخطو خطوةً إلى أجله، فلابد من التفكر في هذه الأمور. 4 - والسادس منها: ما ذكره بقوله: {وَفِي الْأَرْضِ} خبر مقدم لقوله. {قِطَعٌ} جمع قطعة، وهي الجزء؛ أي: بقاع مختلفة في الأوصاف {مُتَجَاوِرَاتٌ}؛ أي (¬1): متقاربات متلاصقات بعضها طيبة تنبت شيئًا، وبعضها سبخة لا تنبت، وبعضها قليلة الريع، وبعضها صلبة، وبعضها كثيرة الريع، وبعضها رخوة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، ولولا تخصيص قادرٍ حكيمٍ موقعٍ لأفعاله على وجهٍ دون وجه .. لم يكن كذلك لاشتراك تلك القطع وانتظامها في جنس الأرضية. والمعنى؛ أي (¬2): وفي الأرض بقاع متجاورات متدانيات يقرب بعضها من بعض وتختلف بالتفاضل مع من تجاورها، فمن سبخة لا تنبت شيئًا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات، ومن صالحه للزرع دون الشجر إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك. ومنها الرخوة التي لا تكاد تتماسك، وهي تجاور الصلبة التي لا تفتتها المعاول وأدوات التدمير، وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره في خلقه. قيل: وفي الكلام حذف (¬3)؛ أي: قطع متجاورات وغير متجاورات كما في ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: وتقيكم البرد قيل: والمتجاورات المدن وما كان عامرًا، وغير المتجاورات الصحارى وما كان غير عامر. {وَجَنَّاتٌ}. قرأ الجمهور بالرفع عطفًا على {قِطَعٌ}. وقرأ الحسن شذوذًا بالنصب على إضمار فعل؛ أي: وجعل فيها جنات. وقيل: عطفًا على {رَوَاسِيَ}؛ أي: وفي الأرض بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ}؛ أي: من أشجار الكرم جمع عنب. وسمت (¬1) العرب العنب الكرم؛ لكرم ثمرته وجودتها وكثرة حمله وتذلُّله للقطف ليس بذي شوك ولا بشاق المصعد، ويؤكل غضًّا ويابسًا. وأصل الكرم: الكثرة، والجمع للخير، وبه سمي الرجل كرمًا لكثرة خصال الخير فيه. واعلم: أن (¬2) قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان أولى بهذا الاسم، ولذا قال عليه السلام: "لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن". قال ابن الملك: سبب النهي: أن العرب كانوا يسمون العنب وشجرته كرمًا؛ لأن الخمر المتخذة منه تحمل شاربها على الكرم، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه التسمية؛ لئلا يتذاكروا به الخمر، ويدعوهم حسن الاسم إلى شربها، وجعل المؤمن وقلبه أحق أن يتصف به لطيبه وذكائه، والغرض منه تحريض المؤمن على التقوى، وكونه أهلًا لهذه التسمية. {وَزَرْعٌ} بالرفع عطف على {جَنَّاتٌ} وتوحيده؛ لأنه مصدر في أصله. وذكر سبحانه (¬3) الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه في الخارج يكون كذلك كثيرًا، ومثله في قوله سبحانه: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}؛ أي: وفي الأرض زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون غذاء للإنسان والحيوان. {و} فيها {نخيل صنوان} جمع صنو؛ أي: نخيل مجتمعات يجمعها أصل واحد، وتتشعب فروعها منه؛ أي: تثبت من أصلٍ واحد ثلاث نخلات فأكثر؛ أي: مجتمع أصول الأربعة في أصل واحد. قال أبو عبيدة: صنوان جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدًا، ثم يتفرع فيصير نخيلًا، ثم يحمل عليه، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير. {و} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

نخيل {غير صنوان}؛ أي: غير مجتمعات في أصل واحد؛ أي: متفرقات مختلفة الأصول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص (¬1): {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} برفع هذه الأربع عطفًا على {جنات}. وقرأ الباقون بالجر عطفًا على {أَعْنَابٍ}. وقرأ الجمهور: {صِنْوَانٌ} - بكسر الصاد فيهما -. وقرأ مجاهد والسلمي وزيد بن علي شذوذًا بضمها. وقرأ الحسن وقتادة وهو شاذ أيضًا بفتحها، وبالفتح هو اسم للجمع كالسعدان، ولا فرق في تثنيته وجمعه إلا بكسر النون في المثنى وبما يقتضيه الإعراب في الجمع. {يُسْقَى} كل واحد مما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} في الطبع، لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار. والماء (¬2) ضابطه: هو جسم رقيق مائع به حياة كل نام. وقيل في حده: هو جوهر سيال به قوام الأرواح، ومعنى {بِمَاءٍ وَاحِدٍ}: ماء مطر، أو ماء بحر، أو ماء نهر، أو ماء عين، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض. {و} مع وجود أسباب التشابه {نفضل} بمحض قدرتنا {بَعْضَهَا}؛ أي: بعضًا منها {عَلَى بَعْضٍ} آخر {فِي الْأُكُلِ}؛ أي: في الثمر المأكول منها، فيكون (¬3) طعم بعضها حلوًا، والآخر حامضًا، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق، مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه؛ لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا لسببين؛ إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تُسقى به، فإذا كان المكان متجاورًا وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحدًا .. لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المفضل من أحوال القطع والجنات {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات كثيرة ظاهرة {لِقَوْمٍ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[5]

يَعْقِلُونَ}؛ أي: يستعملون عقولهم في التدبر، وخص التفضيل في الأكل، وإن كانت متفاضلة في غيره؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات، ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال والألوان والروائح والمنافع، وما يجري مجرى ذلك؛ أي: إن (¬1) فيما فضل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل، فمن ير خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتلاصقة مع أنها تسقى بماء واحد، وتتشابه وسائل نموها .. يجزم حتمًا بأن لذلك صانعًا حكيمًا قادرًا مدبرًا لا يعجزه شيء، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك؛ فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار. وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن علي ويعقوب (¬2): {يُسْقَى} - بالياء -؛ أي: يسقى ما ذكر، وباقي العشرة بالتاء، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة، أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم، ولقوله: {وَنُفَضِّلُ} بالنون. وحمزة والكسائي بالياء وابن محيصن بالياء في {يُسْقَى} وفي {نُفَضِّلُ}. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث شذوذًا: {ويفضل} - بالياء وفتح الضاد - {بعضها} - بالرفع -. قال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أول من نقط المصاحف، وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها، و {الْأُكُلِ} - بضم الهمزة - المأكول، كالنقض بمعنى المنقوض، وبفتحها المصدر. 5 - {وَإِنْ تَعْجَبْ} بتحقيق الباء وإدغامها في الفاء قراءاتان سبعيتان كما في "الخطيب". والعجب: تغير النفس برؤية المستبعد في العادة. وقال القرطبي: العجب: تغير النفس بما تخفي أسبابه، وذلك في حق الله تعالى محال، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. اهـ. "كرخي"؛ أي: وإن تعجب يا محمَّد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}؛ أي: فأعجب منه تكذيبهم بالبعث وقولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا}؛ أي: أنبعث إذا كنا ترابا؟ {أَإِنَّا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: أنعاد خلقًا جديدًا بعد الموت كما كنا قبله؟ والاستفهام في الموضعين للإنكار. وقيل المعنى (¬1): أي إن عجبت يا محمَّد إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السموات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة، فقولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عجب؛ أي: عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل المعنى (¬2): أي وإن تعجب يا محمَّد من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد، فعجب قولهم؛ أي: فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بدأة ذي بدء، وتصويرهم في الأرحام، وتدبير شوؤنهم حالًا بعد حال. وقد تكرر هذا الاستفهام الإنكاري في أحد عشر موضعًا في تسع سور من القرآن، في الرعد والإسراء في موضعين، والمؤمنون والنحل والعنكبوت والسجدة والصافات والواقعة والنازعات، وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستعباد. وفي "الفتوحات": يجوز (¬3) في هذه الجملة الاستفهامية وجهان: أحدهما: وهو الظاهر: أنها منصوبة المحل لحكايتها بالقول. والثاني: أنها في محل رفع بدلًا من قولهم، وبه بدأ الزمخشري، وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم، ويكون بدل كل من كل؛ لأن هذا هو نفس قولهم: و {إِذَا} هنا ظرف محض، وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها مقدر يفسره: {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديره: أئذا كنا ترابًا نبعث أو نحشر، ولا يعمل فيها {خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ لأن ما بعد {إن} وكذا ما بعد أداة الاستفهام لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضًا {كُنَّا}؛ لإضافتها إليها، والتقدير: أنبعث في خلق جديد وقت كوننا ترابًا. ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافًا منتشرًا. فقرأ (¬1) ابن كثير وأبو عمرو: {آيذا كنا ترابًا آينا} جميعًا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع: {آيذا} مثل أبي عمرو واختلف عنه في المد، وقرأ: {إنا لفي خلق جديد} مكسورة على الخبر، وقرأ عاصم وحمزة: {أَإِذَا كُنَّا} {أَإِنَّا} - بهمزتين فيهما -، وقرأ ابن عامر: {إذا كنا ترابًا} مكسورة الألف من غير استفهام {أَإِنَّا} يهمز ثم يمد ثم يهمز على وزن عاعنا. وروي عن ابن عامر شاذًا أيضًا: {أَإِذَا} بهمزتين لا ألف بينهما. ثم الوجه (¬2) في قراءة من استفهم في الأول والثاني قصد المبالغة في الإنكار، فأتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيدًا له، والوجه في قراءة من أتى به مرة واحدة حصول المقصود به؛ لأن كل جملة مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى. اهـ. "سمين". ثم وصف أولئك المنكرين للبعث بأوصاف ثلاثة، فقال: {أُولَئِكَ} المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعدما عاينوا الآيات الباهرة وكذبوا رسوله هم {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}؛ أي: تمادوا على عنادهم وكفرهم بربهم، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له؛ لأن الإله لا يكون عاجزًا؛ أي: هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه {وَأُولَئِكَ} الكفار {الْأَغْلَالُ} كائنة {فِي أَعْنَاقِهِمْ} يوم القيامة عند العرض للحساب، توضع الأغلال في أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)}. والأغلال: جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق يغلون بها يوم القيامة. وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق، والمعنى عليه: وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر في الحق، واتباع طريق الهدى، والبعد عن الهوى كما قال: ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الفتوحات.

[6]

كَيْفَ الرَّشَادُ وَقَدْ خُلِّفْتُ فِيْ نَفَرٍ ... لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأقْيَادُ {وَأُولَئِكَ} المقيدون بالأغلال في أعناقهم هم {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: سكان النار دار الذل والهوان ملازموها {هُمْ فِيهَا}؛ أي: في النار {خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبدًا لا يتحولون عنها ولا يبرحون بها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سوء الأعمال، وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام. وتوسيط (¬1) ضمير الفصل وتقديم {فِيهَا} يفيد الحصر؛ أي: هم الموصوفون بالخلود في النار لا غيرهم، وإن خلودهم إنما هو في النار لا في غيرها، فثبت أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار. 6 - وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - في إنكار عذاب يوم القيامة .. ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له: جئنا به وائتنا وطلبوا منه إنزاله، وهذا ما أشار إليه بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} الاستعجال (¬2): طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته؛ أي: يطلب مشركو مكة منك يا محمَّد العجلة {بِالسَّيِّئَةِ} والعقوبة التي هددتهم بها إن لم يؤمنوا، وسميت العقوبة سيئة؛ لأنها تسوؤهم {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} متعلق بالاستعجال؛ أي: قبل العافية والإحسان إليهم بالإمهال؛ أي: يطلبون منك الإتيان بالعقوبة المهلكة لهم قبل انقضاء الزمان المقدر لعافيتهم وسلامتهم. وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدد مشركي مكة تارة بعذاب يوم القيامة، وتارة بعذاب الدنيا، وكلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وقالوا: متى تجيئنا به، فيطلبون العقوبة والعذاب والشر بدل العافية والرحمة والخير استهزاء منهم، وإظهارًا أن الذي يقوله لا أصل له، ولذا قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والله تعالى صرف عن هذه الأمة عقوبة الاستئصال، وأخر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

تعذيب المكذبين إلى يوم القيامة، فذلك التأخير هو الحسنة في حقهم، فهؤلاء طلبوا منه عليه السلام نزول تلك العقوبة، ولم يرضوا بما هو حسنة في حقهم. واعلم: أن (¬1) استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة هو استعجالهم بالكفر والمعاصي قبل الإيمان والطاعات، فإن منشأ كل سعادة ورحمة هو الإيمان الكامل والعمل الصالح، ومنشأ كل شقاوة وعذاب هو الكفر والشرك والعمل الفاسد. وجملة قوله: {وَقَدْ خَلَتْ} حال من واو {يَسْتَعْجِلُونَكَ}؛ أي: يستعجلونك بالعقوبة حالة كونهم قد خلت ومضت {مِنْ قَبْلِهِمُ}؛ أي: من قبل هؤلاء المشركين {الْمَثُلَاتُ}؛ أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين لرسلهم كالخسف والمسخ والرجفة، فما لهم لم يعتبروا بها، فلا يستهزئوا، جمع مَثُلَه بفتح الثاء وضمها؛ وهي العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه، وهو الجريمة. وفي "التبيان": {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}؛ أي: العقوبات المهلكات يماثل بعضها بعضًا. والمعنى: أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين، فمن أمة مسخت قردة، وأخرى أهلكت بالرجفة، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك. وقرأ الجمهور (¬2): {الْمَثُلَاتُ} - بفتح الميم وضم الثاء - ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عمير في رواية الأعمش وأبو بكر بضمهما، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء، وكل هذه القراءة عدا قراءة الجمهور شاذ. {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ}؛ أي: لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم حالة كونهم {عَلَى ظُلْمِهِمْ}؛ أي: ظالمين أنفسهم بالمعاصي، أو المعنى: وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده، فتارك فضيحته بها في يوم القيامة، ولولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[7]

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعاقب من يشاء منهم حين يشاء، فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال. أي: وإن ربك (¬1) يا محمَّد ليعاقب في الآخرة عقابًا شديدًا لمن يجترح السيئات، وهو متمادٍ في غوايته سادر (¬2) في آثامه، وقد يعجل له قسطًا منه في الدنيا، ويكون جزاءً له على ما سولت له نفسه، كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف، ومرض مزمن، وفقر مدقع، وذل وهوان بين الناس. وفي المقامرين من خراب عاجل وإفلاس في المال والذل بعد العز. وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيستوفي قطه هناك نارًا تكوى بها الجباه والجنوب، وتبدل الجلود غير الجلود، وقد قرن المغفرة بالعقاب في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم؛ ليعتدل الرَّجاء والخوف كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ...} إلخ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدًا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد". 7 - وبعد (¬3) أن ذكر طعنهم في نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لقوله بالحشر والمعاد، ثم طعنهم فيه؛ لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال .. ذكر أنهم طعنوا فيه؛ لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبينة كما فعل الرسل من قبله، فقال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مكة تعنتًا وجحودًا {لَوْلَا}؛ أي: هلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ}؛ أي: على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {آيَةٌ}؛ أي: علامة دالة على صدقه ونبوته {مِنْ رَبِّهِ} إن كان صادقًا فيما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) قوله سادر: المتحير وهو أيضًا الذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع اهـ مختار. (¬3) المراغي.

يدعيه من النبوة كعصا موسى وناقة صالح وإحياء عيسى للموتى، وذلك أنهم لم يقتنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و {لَوْلَا} (¬1) تحضيضية بمعنى هلا، والتنوين في {آيَةٌ} للتعظيم؛ أي: آية جلية يستعظمها من يدركها في بادئ نظره. والمعنى: ويقول الذين كفروا تعنتًا وعنادًا: هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، فيجعل لنا الصفا ذهبًا، ويزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجًا وأنهارًا، وقد طلبوا ذلك ظنًّا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل في باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون عليهم السلام. وقد رد الله عليهم الشبهة بقوله في آية أخرى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}؛ أي: إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوا بها أهلكناهم بذنوبهم، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال. ولما كان (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - راغبًا في إجابة مقترحاتهم حُبًّا في إيمانهم .. بين وظيفته التي أرسل لأجلها، فقال: {إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمَّد {مُنْذِرٌ}؛ أي: رسول مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون، ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات، ولو أجيبوا إلى ما اقترحوا لأدى ذلك إلى إتيان ما لا نهاية له؛ لأنه كلما أتى بمعجزة طلبها واحد منهم .. جاء آخر منهم، فطلب منه معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء. والمعنى: أن (¬3) وظيفتك التي بعثت لها هي الإنذار من سوء مغبة - عاقبة - ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

{وَلِكُلِّ قَوْمٍ}؛ أي: ولكل أمة من الأمم {هَادٍ} لهم إلى سبيل الخير؛ أي: نبي له هداية مخصوصة، وشريعة لائقة بهم مخصوص (¬1) بمعجزة من جنس ما هو الغالب عليهم، يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب. ولما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقهم. ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما يناسب الطب؛ وهو إحياء الموتى وإبراء الأبرص والأكمه. ولما كان الغالب في زمان نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الفصاحة والبلاغة جعل معجزته فصاحة القرآن، وبلوغه في باب البلاغة إلى حدّ خارج عن قدرة الإنسان، فإذا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أقرب إلى طريقهم وأليق بطباعهم، فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى. أو المراد بالهادي: هو الله تعالى؛ أي: إنما أنت منذر، وليس لك هدايتهم ولكل قوم من الفريقين هاد يهديهم: هادٍ لأهل العناية بالإيمان والطاعة إلى الجنة، وهاد لأهل الخذلان بالكفر والعصيان إلى النار. وهذا القول الأخير مروي (¬2) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والنخعي. والمعنى: إنما عليك الإنذار يا محمَّد، والهادي هو الله تعالى يهدي من يشاء. والقول الأول مروي عن عكرمة في رواية أبي الضحى، والمعنى عليه: إنما أنت منذر وأنت هادٍ. وحاصل المعنى: أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبيل الخير فطره الله تعالى على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة في كل زمان كي لا يترك الناس سدى، وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل، ويؤيده - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". ووقف ابن كثير (¬3) على {هَادٍ} و {واقٍ} حيث وقعا، وعلى {وَالٍ} هنا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن بتصرف. (¬3) البحر المحيط.

[8]

و {باقٍ} في النحل بإثبات الياء، وباقي السبعة بحذفها. وفي "الإقناع" لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد الوقف على جميع الباب لابن كثير بالياء، وهذا لا يعرفه المكيون. وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء، وبين أن يقف بحذفها، والباب هو كل منقوص منون غير منصرف؛ أي: غير مجرور. 8 - {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى}؛ أي: الشيء الذي تحمله كل أنثى في بطنها من حين العلوق إلى الولادة من علقة أو مضغة، ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، صبيح أو قبيح، شقي أو سعيد، طويل العمر أو قصيره، كما قال سبحانه: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}. {و} يعلم سبحانه وتعالى {ما تغيض الأرحام} من الغيض؛ وهو النقص؛ أي: يعلم سبحانه ما تنقصه الأرحام {وَمَا تَزْدَادُ}؛ أي: وما تزيده في الجثة والمدة والعدد، واختلفوا في ذلك، فقيل: المراد نقص خلقة الحمل وزيادته، كنقص أصبع أو زيادتها. وقيل المراد: نقص مدة الحمل عن تسعة أشهر أو زيادتها، وقيل المراد: نقص في عدد الولد وزيادته، فقد يكون الولد واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة. قال أهل التفسير (¬1): غيض الأرض الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصانًا في الولد؛ لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم، فإذا خرج الدم نقص الغذاء، فينقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم. وقيل: إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء، وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة، فإن رأت خمسة أيام دمًا .. وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل. وقيل: النقصان السقط، والزيادة تمام الخلق. ¬

_ (¬1) الخازن.

وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وغالبه تسعة أشهر، وأكثره أربع سنين عند الشافعي وخمس سنين عند مالك. وفي "إنسان العيون" (¬1) وقع الاختلاف في مدة حمله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: بقي في بطن أمه تسعة أشهر كاملًا، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، فيكون ذلك آية، كما أن عيسى عليه السلام ولد في الشهر الثامن كما قيل به مع نص الحكماء على أن من يولد في الشهر الثامن لا يعيش، بخلاف التاسع والسابع والسادس الذي هو أقل مدة الحمل. وقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك (¬2): أن الولد عند استكماله سبعة أشهر تحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس، فإن خرج عاش، وإن لم يخرج استراح في البطن عقيب تلك الحركة المضعفة له، فلا يتحرك في الشهر الثامن، لذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر، فإذا تحرك للخروج وخرج، فقد ضعف غاية الضعف، فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه، وعلى فرض أن يعيش يكون مغلولًا لا ينتفع بنفسه، وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس، وهو طبع الموت. والأرحام: جمع رحم، وهو مبيت للولد في البطن ووعاؤه. واعلم أن رحم المرأة عضلة وعصب وعروق، ورأس عصبها في الدماغ، وهي على هيئة الكيس، ولها فم بإزاء قبلها، ولها قرنان شبه الجناحين تجذب بهما النطفة، وفيها قوة الإمساك لئلا ينزل من المني شيء. وقد أودع الله تعالى في ماء الرجل قوة الفعل، وفي ماء المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة الممتزجة باللبن. {وَكُلُّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة من الزيادة والنقصان، وخروج الولد والمكث {عِنْدَهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: في علمه {بِمِقْدَارٍ}؛ أي: مقدر بقدر وحدٍّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه لقوله تعالى: {إِنَّا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}. وفي "بحر العلوم"؛ أي: مقدر مكتوب في اللوح معلوم قبل كونه قد علم حاله وزمانه ومتعلقه. وفي "التبيان"؛ أي: بحد لا يجاوزه من رزق وأجل 9 - {عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تعالى عالم كل ما يطلق عليه اسم الغيب؛ وهو ما غاب عن الحس، فيدخل فيه المعلومات والأسرار الخفية والآخرة. وقال بعضهم (¬1): كل ما ورد في القرآن من إسناد الغيب إلى الله تعالى إنما هو بالنسبة إلينا، إذ لا غيب بالنسبة إلى الله تعالى؛ أي (¬2): هو تعالى عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثًا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة، بل ترى بالمنظار المعظم - التليسوب - ومنها الجراثيم - المكروبات - التي تولد كثيرًا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها، أو يتعذر في كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفي بعد حين كجراثيم الجدري والحصبة ونحوها، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}. {و} عالم {الشهادة}؛ أي: كل ما يطلق عليه اسم الشهادة؛ وهو ما حضر للحس، فيدخل فيه الموجودات المدركة والعلانية والدنيا؛ أي: عالم كل ما تشاهدونه وترونه بأعينكم {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. {الْكَبِيرُ}؛ أي: هو تعالى العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء الذي يجل عما وصفه به الخلق من صفات المخلوقين، أو الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه {الْمُتَعَالِ}؛ أي: المستعلي على كل شيء بقدرته وجبروته، وهو وحده له التصرف في ملكوته. وفي "الكواشي" المترفع عن صفات المخلوقين وقول المشركين. وفي هذا (¬3) إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[10]

ذلك لمصلحة لا يدركها البشر، فيخفى عليه سرها، وفي معنى الآية قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}. وقرأ زيد بن علي: {عالم الغيب} - بالنصب -، وأثبت ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو في رواية ياء {الْمُتَعَالِ} وقفًا ووصلًا، وهو الكثير في لسان العرب، وحذفها الباقون وصلًا ووقفًا؛ لأنها كذلك رسمت في الخط. واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي، وأجاز غيره حذفها مطلقًا، ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وإن تعاقب التنوين، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب. ذكره أبو حيان في "البحر". 10 - ولما ذكر تعالى أنه عالم الغيب والشهادة على العموم .. ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين، فقال: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} في نفسه، فلم يظهره على أحد {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}؛ أي: أظهره لغيره. وقال ابن (¬1) عباس: أي: سواء ما أضمرته القلوب وما أظهرته الألسنة، فهو تعالى يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير أو شر، فإسرار القول ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره .. فـ {من} (¬2) مبتدأ خبره {سواء}، و {مِنْكُمْ} حال من ضمير {سَوَاءٌ}؛ لأنه بمعنى مستو، ولم يثن الخبر مع أنه خبر عن شيئين، وهما الشخصان المرادان بـ {من}. والمعنى: مستو في علم الله تعالى من أضمر القول في نفسه، ومن أظهره بلسانه منكم أيها الناس؛ أي: من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفظ به، أو جهر به وأظهره؛ فهو سواء عند الله تعالى يسمعه ولا يخفى عليه شيء منه، كما قال: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}. {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ}؛ أي: وسواء في علم الله تعالى من هو مختف مستتر بظلمة الليل {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}؛ أي: ومن هو ماشٍ في سربه وطريقه ظاهر بضوء النهار، فكلاهما في علم الله تعالى سواء. وروي عن ابن عباس في تفسير ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[11]

ذلك: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أري الناس أنه بريء من الإثم. ومعنى الآية: سواء ما أضمرت به القلوب، أو نطقت به الألسن، وسواء من أقدم على القبائح مستترًا في ظلمات الليل، أو أتى بها ظاهرًا في النهار .. فإن علمه تعالى محيط بالكل. 11 - {لَهُ}؛ أي: لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب، أو لعالم الغيب والشهادة، أو لكل إنسان {مُعَقِّبَاتٌ}؛ أي: ملائكة حفظة يتعاقبون عليه ويتناوبون به، يعقب وينوب بعضهم بعضًا في المجيء إلى من ذكر، وحفظه من المضار وكتب أعماله {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: من قدام ذلك الإنسان ومن ورائه حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضار، ويراقبون أحواله لا يفارقونه، كما يتعاقب عليه ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلان حافظان وكاتبان كما جاء في الحديث الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون". وإذ علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصي عليه أعماله كان حذرًا من وقوعه في المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون، ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات، كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحيي منه من البشر، وهو أيضًا إذا علم أن كل عمل له في كتابٍ مدخر يكون ذلك رادعًا له داعيًا إلى تركه. وقال الصاوي: وهذه الآية من تدبرها وعمل بمقتضاها أورثته الإخلاص في أعماله، فيستوي عنده إسرار العبادة وإظهارها ليلًا أو نهارًا، والمراقبة؛ لأنه إذا علم أن هذه الأشياء مستوية عنده ولا يخفى عليه شيء منها .. فلا يستطيع أن يقدم على ما نهي عنه ظاهرًا ولا باطنًا انتهى. وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل

بعد أن أثبته الدين، وبعد أن كشف العلم أن كثيرًا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئًا إلا تحصيه. فقد أصبحت المياه والكهرباء في المدن تعد بالآلات - العدادات -، فالمياه التي يشربونها والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعد كما يعد الدرهم والدينار. وكذلك هناك آلات تحصي المسافات التي تقطعها السيارات في سيرها، وأخرى تحصي تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها، وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبًا عنا كان في ذلك تصديق أيما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرون إلا بما يرونه رأي العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل: الدين والعقل في الإِسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان. والمعنى: له (¬1) ملائكة يتعاقب بعضهم بعضًا كائنون من أمام الإنسان ووراء ظهره؛ أي: يحيطون به من جوانبه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: يحفظون من ذكر؛ أي: من بأسه ونقمته إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب من ذنبه أو ينيب، أو يحفظونه من المضار التي أمر الله بالحفظ منها. قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما يأتيه منهم شيء يريده إلا قال: وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. أو المعنى: هم يحفظونه (¬2) بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فـ {من} بمعنى الباء، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابًا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته حكمته، فجعل الجفن سببًا لحفظ العين مما يدخل فيها فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابًا، فجعل الملائكة أسبابًا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح. وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كرامًا كاتبين، وإن كنا لا ندري ما قلمهم وما مدادهم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وكيف كتابتهم، وأين محلهم، وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كافٍ في الثواب والعقاب عليها، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام .. كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب. وقرأ عبيد بن زياد على المنبر (¬1): {له المعاقب}، وهي قراءة أبيّ وإبراهيم. وقال الزمخشرى: وقرىء: {له معاقيب}. قال أبو الفتح: هو تكسير {معْقب} - بسكون العين وكسر القاف - كمطعم ومطاعم ومقدم ومقاديم، وكأن معقبًا جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء عوضًا عن الهاء المحذوفة في معاقبة. وقرىء: {له معتقبات} من اعتقب. وقرأ أبي من بين يديه ورقيب من خلفه. وقرأ ابن عباس: {ورقباء من خلفه} وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ له: {معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه}. وينبغي حمل هذه القراءات على التفسير لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون فهي كلها شاذة. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمَّد: {يحفظونه بأمر الله}. وتدل هذه القراءة الشاذة على كون {مِنْ} بمعنى الباء السببية في قراءة: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والأمن والنعمة والرزق، ولا يزيله عنهم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}؛ أى: حتى يتركوا ما يلزمهم من الشكر، وينقلبوا من الأحوال الجميلة إلى القبيحة. وعبارة "البيضاوي": أن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة. والمعنى (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية، فيزيلها عنهم ويذهبها حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم، فعند ذلك تحل نقمته بهم، وهو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا}؛ أي: هلاكًا وعذابًا {فَلَا مَرَدَّ لَهُ}؛ أي: فلا راد له عنهم؛ أي: لم تغن المعقبات شيئًا، فلا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه؛ أي: وإذا أراد الله بقوم سوءًا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا في الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، ولا يرد ما قدره لهم. وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة، وطلب العقاب قبل الثواب، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له. والخلاصة: أنه ليس من الحكمة في شيء أن يستعجلوا ذلك، ولما (¬1) كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله: {سُوءًا} وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئًا منها .. فلا مرد له، فذكر السوء مبالغة في التخويف. {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: وما لهؤلاء القوم الذين أراد الله هلاكهم من دون الله سبحانه وتعالى {مِنْ وَالٍ}؛ أي: وال يلي أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئًا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلًا عن دفعه عن غيرها. والوالي من أسمائه تعالى، وهو من ولي الأمور وملك الجمهور، والولاية: تنفيذ القول على الغير شاء الغير أم لا، ولله در الأعرابي الذي رأى صنمًا يبول عليه الثعلب، فثارت به حميته، فأمسكه وكسره إربًا إربًا، وقال: أَرَبٌّ يَبُوْلُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسَهَ ... لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الإعراب {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}. {المر} قد تقدم الكلام في هذه الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وإن قلنا إنه اسم للسورة فهو مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه السورة اسمها آلمر، وعلة بنائه شبهه بالحرف شبهًا وضعيًّا، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير: آلمر هذا المذكور بقولنا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}. {تِلْكَ}: اسم إشارة يشار به إلى آيات هذه السورة في محل الرفع مبتدأ. {آيَاتُ الْكِتَابِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِي}: (الواو): عاطفة. {الذي}: مبتدأ. {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول. {مِنْ رَبِّكَ}: متعلق أيضًا بـ {أُنْزِلَ}. {الْحَقُّ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَلَكِنَّ}: (الواو): عاطفة. {لكن}: حرف نصب واستدراك. {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها ومضاف إليه، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ}: في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على الجملة التي قبلها. {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}. {اللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: جار ومجرور ومضاف حال من {السَّمَاوَاتِ}. {تَرَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ {عَمَدٍ}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {اسْتَوَى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {رَفَعَ}. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ}: فعل ومفعول. {وَالْقَمَرَ}: معطوف على {الشَّمْسَ} وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة

معطوفة على جملة {اسْتَوَى}. {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بصفة محذوفة تقديره: كل منهما. {يَجْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {كُلٌّ}. {لِأَجَلٍ}: جار ومجرور متعلق به. {مُسَمًّى}: صفة {لِأَجَلٍ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؛ أي: حالة كون كل منهما جاريًا إلى أجل مسمى. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {اسْتَوَى}؛ أي: ثم استوى على العرش حالة كونه يدبر الأمر، أو الجملة مستأنفة. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة {يُدَبِّرُ}. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه. {بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تُوقِنُونَ}، وجملة {تُوقِنُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل}: تعليلية مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {مَدَّ الْأَرْضَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {وَجَعَلَ}: فعل ماض معطوف على {مَدَّ}، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {فِيهَا}: متعلق بـ {جَعَلَ}؛ لأنه بمعنى خلق. {رَوَاسِيَ}: مفعول به بـ {جَعَلَ}. {وَأَنْهَارًا}: معطوف على {رَوَاسِيَ}. {وَمِنْ} (الواو): عاطفة. {من كل الثمرات}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلَ} المذكور بعده. {جَعَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {جَعَلَ}. {زَوْجَيْنِ}: مفعول لـ {جَعَلَ}. {اثْنَيْنِ}: صفة مؤكدة لـ {زَوْجَيْنِ}، وجملة {جَعَلَ}: معطوفة على جملة {جَعَلَ} الأول. {يُغْشِي اللَّيْلَ}: فعل ومفعول أول. {النَّهَارَ}: مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من ضمير الفاعل في الأفعال التي قبله، أعني: رفع وسخر، ويدبر ويفصل، ومد وجعل كما ذكره أبو البقاء. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور

خبر {إِنَّ} مقدم على اسمها. {لَآيَاتٍ}: (اللام): ابتداء. {آيَاتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور صفة لـ {آيات}. وجملة {يَتَفَكَّرُونَ} صفة لـ {قوم}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. {وَفِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {قِطَعٌ}: مبتدأ وخبر. {مُتَجَاوِرَاتٌ}: صفة لـ {قِطَعٌ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَجَنَّاتٌ}: معطوف على {قِطَعٌ}. {مِنْ أَعْنَابٍ}: صفة لـ {جَنَّاتٌ}. {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ}: معطوفان على {قِطَعٌ}. {صِنْوَانٌ}: صفة لـ {نَخِيلٌ} مرفوع بالضمة الظاهرة؛ لأنه جمع تكسر لـ {صنو}. {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: معطوف على {صِنْوَانٌ} على كونه صفة لـ {نخيل}. {يُسْقَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على المذكور من {جنات} وما بعدها. {بِمَاءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُسْقَى}. {وَاحِدٍ}: صفة لـ {ما}، والجملة الفعلية صفة لـ {جنات} وما بعدها، أو حال منها. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَى بَعْضٍ}: متعلق به، وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: {فِي الْأُكُلِ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَآيَاتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر، واللام حرف ابتداء. {لِقَوْمٍ}: صفة لـ {آيَاتٍ}، وجملة {يَعْقِلُونَ} صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. {وَإِنْ} (الواو): استئنافية. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {تَعْجَبْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {فَعَجَبٌ}: (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، {عَجَبٌ}: خبر مقدم. {قَوْلُهُمْ}: مبتدأ وخبر، ولا بد من حذف صفة لتتم الفائدة؛ أي: فعجب؛ أي: عجب قولهم، ويجوز أن يكون عجب مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة حينئذٍ ما ذكرته من الوصف المقدر، ولا يضر

حينئذٍ كون خبره معرفة. اهـ. "سمين"، والجملة الاسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لـ {إِنْ} الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية: مستأنفة استئنافًا نحويًّا لا محل لها من الإعراب. {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}: مقول محكي لقولهم، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية متعلق بمحذوف معلوم مما بعده تقديره: أنبعث إذا كنا ترابًا. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {تُرَابًا}: خبرها، وجملة كان في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} تقديره: أنبعث وقت كوننا ترابًا لا نبعث حينئذٍ، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لقولهم. {أَإِنَّا}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {لَفِي خَلْقٍ}: جار ومجرور خبره، واللام حرف ابتداء. {جَدِيدٍ}: صفة لـ {خَلْقٍ}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول لقولهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل. {بِرَبِّهِمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَأُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {الْأَغْلَالُ}: مبتدأ ثان. {فِي أَعْنَاقِهِمْ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأولى مع خبره معطوفة على جملة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ}. {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}: مبتدأ وخبر معطوف على جملة {أُولَئِكَ} الأولى. {هُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}. {خَالِدُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {أَصْحَابُ النَّارِ}. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِالسَّيِّئَةِ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: متعلق بـ {يَسْتَعْجِلُونَكَ}، أو حال من {السَّيِّئَةِ}. {وَقَدْ خَلَتْ}: (الواو): حالية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ}: فعل

ماضٍ. {مِنْ قَبْلِهِمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَتْ}. {الْمَثُلَاتُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {يستعجلونك}. {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه. {لَذُو مَغْفِرَةٍ}: خبره ومضاف إليه، (واللام): حرف ابتداء. {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {مَغْفِرَةٍ}، وجملة {إن}: مستأنفة. {عَلَى ظُلْمِهِمْ}: جار ومجرور حال من {النَّاسِ}. وقال أبو البقاء: والعامل فيها {مَغْفِرَةٍ} بمعنى أنه العامل في صاحبها، والتقدير: حالة كونهم ظالمين أنفسهم بالمعاصي، فيجوز العفو قبل التوبة؛ لأن قوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}؛ أي: حال اشتغالهم بظلم. اهـ. "كرخي". {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة {إن} الأولى. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}. {وَيَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: مقول محكي لـ {يقول}، وإن شئت قلت: {لَوْلَا}: حرف تحضيض. {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {آيَةٌ}: نائب فاعل لـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّهِ}: صفة لـ {آيَةٌ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {يقول}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {أَنْتَ مُنْذِرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ}: جار ومجرور خبر مقدم. {هَادٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها. {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}؛ لأنه بمعنى عرف. {تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى}: فعل وفاعل ومضاف إليه مجرور بالفتحة المقدرة؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث المقصورة، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تحمله كل أنثى. {وَمَا}: معطوف على

{مَا} الأولى. {تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تغيضه الأرحام. {وَمَا}: معطوفة أيضًا على {مَا} الأولى. {تَزْدَادُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْأَرْحَامُ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تزداده الأرحام. {وَكُلُّ شَيْءٍ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه صفة لـ {شَيْءٍ}، أو صفة لـ {كل} كما ذكره أبو البقاء. {بِمِقْدَارٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}. {عَالِمُ الْغَيْبِ}: خبر المبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب. {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف على {الْغَيْبِ}، والجملة مستأنفة. {الْكَبِيرُ}: صفة لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ}، أو خبر لمحذوف. {الْمُتَعَالِ}: صفة لـ {الْكَبِيرُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للوقف؛ لأنه رأس آية، ولولا ذلك لكان الجيد إثباتها، ذكره أبو البقاء، وحذفت في الخط تبعًا للفظ. {سَوَاءٌ}: خبر مقدم. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في {سَوَاءٌ}؛ لأنه بمعنى مستو. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. {أَسَرَّ الْقَوْلَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَمَنْ جَهَرَ}: (الواو): عاطفة. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على {مَنْ} الأولى. {جَهَرَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {بِهِ}: متعلق به، والتقدير: من أسر القول ومن جهر به مستويان في علمه تعالى حالة كونهما كائنين منكم. {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ}: (الواو): عاطفة. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على {مَنْ} الأولى. {هُوَ مُسْتَخْفٍ}: مبتدأ وخبر. {بِاللَّيْلِ}: متعلق بـ {مُسْتَخْفٍ}، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَسَارِبٌ}: معطوف على {مُسْتَخْفٍ}. {بِالنَّهَارِ}: متعلق به، والتقدير: ومن هو مستتر بظلام الليل، ومن هو ظاهر بضوء النهار مستويان في علمه تعالى.

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مُعَقِّبَاتٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُعَقِّبَاتٌ}. {وَمِنْ خَلْفِهِ}: معطوف عليه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف صفة لـ {مُعَقِّبَاتٌ}، ويجوز أن يتعلق بـ {يَحْفَظُونَهُ}؛ أي: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. فإن قلت: كيف يتعلق حرفان متحدان لفظًا ومعنىً بعامل واحد، وهما {مِنْ} الداخلة على {بَيْنِ يَدَيْهِ} و {مِنْ} الداخلة على {أَمْرِ اللَّهِ}؟ .. فالجواب أن {مِنْ} الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما مر، وسيأتي في مبحث الصرف. اهـ. "سمين". {يَحْفَظُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ {مُعَقِّبَاتٌ}، أو حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا}: نافية. {يُغَيِّرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {بِقَوْمٍ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {حَتَّى يُغَيِّرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى. {مَا}: مفعول به. {بِأَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، والجار والمجرور متعلق بقوله: {لَا يُغَيِّرُ}. {وَإِذَا}: (الواو): استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَرَادَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرطها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {بِقَوْمٍ}: متعلق بـ {أَرَادَ}. {سُوءًا}: مفعول به لـ {أَرَادَ}. {فَلَا}: (الفاء): رابطة لجواب إذا وجوبًا، {لا}: نافية تعمل عمل إن. {مَرَدَّ}: في محل النصب اسمها. {لَهُ}: جار ومجرور خبر {لا}، والجملة الاسمية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: مستأنفة. {وَمَا لَهُمْ} الواوا: عاطفة. {مَا}: حجازية أو تميمية. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر {مَا}

مقدم على اسمها، أو خبر مقدم للمبتدأ. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. {مِنْ}: زائدة. {وَالٍ}: اسم {مَا} مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والتقدير: وما والٍ كائنًا، أو كائن لهم حالة كونه كائنًا من دونه تعالى، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها جواب {إذا}. التصريف ومفردات اللغة {بِغَيْرِ عَمَدٍ} العمد: السواري والأساطين، واحدها عمود كأدم وأديم، وقرىء: {عُمُد} - بضمتين - فيكون جمع عماد كشهب وشهاب، وكتب وكتاب، أو جمع عمود كرسل ورسول هذا في الكثرة، ويجمعان في القلة على أعمدة كما في "البحر". {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ} والتسخير: التذليل والطاعة. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} والتدبير: التصريف للأمور على وجه الحكمة. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} والتفصيل: التبيين، والآيات هي الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر. {تُوقِنُونَ} واليقين: العلم الثابت الذي لا شك فيه. {مَدَّ الْأَرْضَ}؛ أي: بسطها طولًا وعرضًا. قال الأصم: المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} والراسي: الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل، واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو وتثبت بها، وتمسكها من الاضطراب. {وَأَنْهَارًا}: واحدها نهر؛ وهو المجرى الواسع من الماء؛ أي: مياهًا جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد: جعل فيها مجاري الماء. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} والثمرات: جمع ثمرة، والثمرة: غلة الشجر ومنافعه، والعرب تسمي الاثنين زوجين، والواحد من الذكور زوجًا لأنثاه، والأنثى زوجًا وزوجة لذكرها؛ أي: جعل من كل نوع من أنواع الثمرات

الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين؛ إما في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو والحامف، أو في القدر كالكبير والصغير, أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}؛ أي: يستر النهار بالليل، ومعنى تغطية هذا بذلك: الإتيان به مكانه؛ أي: الإتيان به بدله، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية، وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرًا باعتبار أن ظهوره في الأرض، فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلًا. اهـ. "أبو السعود". {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، والفكر: هو تصرف القلب في طلب الأشياء. وقال صاحب "المفردات" الفكر: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك الإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب، ولهذا روي: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله؛ إذ الله منزه أن يوصف بصورة. اهـ. "خازن". {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ}؛ أي: بقاع جمع قطعة. {مُتَجَاوِرَاتٌ}؛ أي: متقاربات. {وَنَخِيلٌ} والنخل والنخيل بمعنى، والواحد نخلة. اهـ. "مختار". لكن النخل يذكر ويؤنث، والنخيل مؤنث لا غير كما في "المصباح". {صِنْوَانٌ} جمع كثرة لصنو، وجمعه في القلة أصناء كحمل وأحمال، والعامة على كسر الصاد. والصنو الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو ومنه الحديث: "عم الرجل صنو أبيه" وجمعه في لغة الحجاز صَنوان - بفتح الصاد - وهو اسم جمع لا جمع تكسير؛ لأنه ليس من أبنيته، فالصنوان: هي النخلات يجمعها أصل واحد، وتتشعب فروعها ذكره في "البحر". {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} - بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف - المأكول. اهـ. "مصباح". والمراد به هنا الثمر والحب، فالثمر من النخيل والأعناب، والحب من الزرع.

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} والعجب: تغير النفس حين رؤية ما يستبعد في مجرى العادة؛ أي: حقيق بالعجب قولهم الخ. {جَدِيدٍ} ضد الخلق والبالي، ويقال: ثوب جديد؛ أي: كما فرغ من عمله، وهو فعيل بمعنى مفعول، كأنه كما قطع من النسج، ذكره أبو حيان في "البحر". {الْأَغْلَالُ} جمع غُل بالضم، وهو طوق من حديد يجعل في العنق. اهـ. "خازن". {الْمَثُلَاتُ} - بفتح فضم - جمع مثلة - بفتح فضم - كسَمُرة؛ وهي العقوبة التي تترك في المعاقب أثرًا قبيحًا كصلم أذن، أو جدع أنف، أو سمل عين. {لَذُو مَغْفِرَةٍ} والغفر هنا: الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} والمراد بالآية هنا الآيات الحسية، كقلب عصا موسى حية وناقة صالح. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} والهادي: القائد الذي يقول الناس إلى الخير، كالأنبياء والحكماء والمجتهدين. {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} الغيض: النقصان، يقال: غاض الماء وغضته كما قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ}. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} والمراد بالعندية؛ عندية علم يعني: أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه. اهـ. "خازن". {بِمِقْدَارٍ}؛ أي: بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، والغائب: ما غاب عن الحس، والشاهد: الحاضر المشاهد {الْكَبِيرُ}: العظيم الشأن. وفي "الخازن": الكبير: الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه. والمتعالى: المستعلي على كل شيء بقهره وجبره {سَوَاءٌ مِنْكُمْ}؛ أي: مستو منكم. {مَنْ أَسَرَّ} أسرَّ الشيء إذا أخفاه في نفسه، والمستخفي المبالغ في

الاختفاء، والسارب الظاهر من قولهم: سرب إذا ذهب في سربه؛ أي: طريقه. وفي "المصباح": سرب في الأرض سروبًا - من باب قعد - ذهب، وسرب الماء سروبًا وسرب المال سربًا من باب قتل، رعى نهارًا بغير راع؛ فهو سارب، وسرب تسمية بالمصدر، والسرب أيضًا: الطريق، ومنه يقال: حل سربه؛ أي: طريقه. والسرب - بالكسر - النفس، وهو واسع السرب؛ أي: رخي البال، ويقال: واسع الصدر بطيء الغضب. والسَرَب - بفتحتين - بيت في الأرض لا منفذ له؛ وهو الوكر. اهـ. {مُعَقِّبَاتٌ}؛ أي: ملائكة تعتقب في حفظه، وكلاءته، واحدها معقبة من عقبة؛ أي: جاء عقبه. وفي "السمين": وفي معقبات احتمالان: أحدهما: أن يكون جمع معقبة بمعنى معقب، والتاء للمبالغة كعلَّامة ونسَّابة؛ أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات ونسابات. والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف كجمل وجمَّال وجمالات. اهـ. {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ}؛ أي: قدامه. {وَمِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: من ورائه. {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: بأمره وإعانته، و {مِنْ} بمعنى الباء السببية. {فَلَا مَرَدَّ لَهُ}؛ أي: فلا ردَّ، فهو مصدر ميمي بمعنى الراد. {مِنْ وَالٍ}؛ أي: ناصر فـ {من} زائدة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ} تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي؛ للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها. ومنها: الدلالة على التفخيم بإدخال آل على الكتاب؛ أي: تلك آيات

الكتاب العجيب الكامل في إعجازه وبيانه. ومنها: الكناية في قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؛ لأنه كناية عن تذليلهما لما يراد منهما؛ وهو انتفاع الخلق بهما حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ينوران لهم في الليل والنهار، ويدرآن الظلمات، ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} شبه إحداث ظلمة الليل في الجو الذي هو مكان الضوء بإغشاء الأغطية الحسية على الأشياء الظاهرة بجامع الستر في كل، فأطلق اسم الإغشاء والإلباس على ذلك الإحداث، فاشتق منه يغشي بمعنى يحدث على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: التأكيد في قوله: {اثْنَيْنِ}؛ لأنه تأكيد لزوجين. ومنها: الاكتفاء في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} لأن في الكلام حذفًا على ما قيل؛ أي: قطع متجاورات وغير متجاورات كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد. ومنها: الاستفهام الإنكاري المفيد لكمال الاستبعاد في قوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا}. ومنها: تكرير الهمزة في قوله: {لَفِي خَلْقٍ}: لتأكيد الإنكار بالبعث. ومنها: التكرار في قوله: {أُولَئِكَ}، وفي قوله: {أَإِنَّا}. ومنها: تقديم الظرف في قوله: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ}، وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}. ومنها: الحصر في قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ لأن توسيط ضمير الفصل وتقديم {فِيهَا} يفيد الحصر؛ أي: هم الموصوفون بالخلود في النار لا غيرهم، وإن خلودهم إنما هو في النار لا في غيرها، فثبت أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، ذكره في "روح البيان".

ومنها: العدول عن الإضمار إلى الموصول ذمًّا لهم بكفرهم بآيات الله التي تخر لها الجبال، حيث لم يرفعوا لها رأسًا، ولم يعدوها من جنس الآيات، وقالوا: {لَوْلَا} ... الخ. اهـ. "أبو السعود". ومنها: الطباق في قوله: {تَغِيضُ} و {تَزْدَادُ}، وفي قوله: {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، وفي قوله: {أَسَرَّ} و {جَهَرَ}، وفي قوله: {مُسْتَخْفٍ} و {وَسَارِبٌ}؛ لأن السارب الظاهر، وكلها من المحسنات البديعية اللفظية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}. المناسبة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ...} الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) خوف عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم، فلا يدفعه أحد .. أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينًا، وتشبه العذاب والنقم حينًا آخر. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن كل من في السماوات والأرض خاضع لقدرته منقاد لإرادته بالغدو والآصال، وفي كل وقت وحين، طوعًا أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط والمراغي.

كرهًا بحسب ما يريد .. أَعاد الكلام مع المشركين؛ ليلزمهم الحجة، ويقنعهم بالدليل، ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته تعالى وشمول قدرته وإرادته، وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره. قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ضرب مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر .. ضرب مثلين للحق في ثباته وبقائه، وللباطل في اضمحلاله وفنائه، ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء، وما أعد لكل منهما يوم القيامة، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعي تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم والعقل الراجح والفكر الثاقب. أسباب النزول قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬1) النسائي والبزار عن أنس - رضي الله عنه - قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تعالى فقال: إيش ربك الذي تدعوني إليه؟ أمن حديد، أم من نحاس، أو من فضة، أو من ذهب؟ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره فأعاد الثانية والثالثة، فأرسل الله عليه صاعقة، فأحرقته، ونزل هذه الآية: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ...} إلى آخرها. وروي في أسباب نزولها: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر، فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله: أما والله لأملأنها عليك خيلًا جردًا، ورجالًا مردًا، فقال له رسول الله: "يأبى الله عليك وابنا قيلة" - الأنصار من الأوس والخزرج - ثم أنهما همّا بالفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل أحدهما يخاطبه، والآخر ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[12]

يستلّ سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا في أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله تعالى على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر، فخرجت فيه غدة كغدة البكر، فآوى إلى بيت سلولية، وجعل يقول: يا غدة كغدة البكر وموت في سلولية حتى مات، وأنزل الله في مثل ذلك: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ...}. التفسير وأوجه القراءة 12 - {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} أيها الكفار المكذبون لرسولنا، وهو لمعان يظهر من خلال السحاب، وأسند (¬1) الإراءة إلى ذاته؛ لأنه الخالق في الأبصار نورًا يحصل به الرؤية للخلائق حالة كونكم {خَوْفًا}؛ أي: خائفين (¬2) من وقوع الصواعق، وخراب البيوت بالمطر {و} حالة كونكم {وَطَمَعًا}؛ أي: طامعين في نزول الغيث وحصول بركته، أو حالة كون البرق ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له في نفع كالحراث. فإن (¬3) المطر يكون لبعض الأشياء ضررًا ولبعضها رحمة، فيخاف منه المسافر ومن في خزينته التمر والزبيب، ومن له بيت لا يكف المطر، ويطمع فيه المقيم وأهل الزرع والبساتين، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل، وبالمطر يحصل الوطر. والمعنى: أنه (¬4) سبحانه وتعالى يسخر البرق، فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن في جرينه التمر والزبيب للتجفيف، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقي زرعه، وهكذا حال كل شيء في الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه في أوانه، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه {و} هو الإله الذي {يُنْشِئُ}؛ أي: يخلق ويوجد {السَّحَابَ} ويرفع الغمام المنسحب في الجو؛ أي: يبتدىء إنشاء السحاب؛ أي: خلقه. وفيه دلالة على أن السحاب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[13]

يعدمه الله تعالى، ثم يخلقه جديدًا، والسحاب اسم جنس، والواحدة سحابة، ولذلك وصف بقوله: {الثِّقَالَ} بالمطر، جمع ثقيلة، وقيل: جمع له كما في "الخازن". والسحاب: غربال (¬1) الماء. قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: السحاب: الغيم فيه ماء، أو لم يكن فيه ماء، ولهذا قيل: سحاب جهام؛ وهو الخالي من الماء، وأصل السحب الجرّ، وسمي السحاب سحابًا؛ إما لجر الريح له، أو لجره الماء، أو لانجراره في سيره. واختلف (¬2) في أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، أو يخلقه الله في السحاب فيمطر. وفي "حواشي ابن الشيخ": السحاب: جسم مركب من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية، وهذه الأجزاء المائية المشوبة بالأجزاء الهوائية إنما حدثت وتكونت في جو الهواء بقدرة المحدث القادر على ما شاء، والقول بأن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، فثقلت فرجعت إلى الأرض باطل؛ لأن الأمطار مختلفة، فتارة تكون قطرتها كبيرة، وتارة تكون صغيرة، وتارة متقاربة، وتارة متباعدة، وتارة تدوم زمانًا طويلًا، وتارة لا تدوم، فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة، وهذا طبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد أن يكون ذلك بتخصيص الفاعل المختار، وأيضًا فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثرًا عظيمًا، ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة، فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل المختار لا الطبيعة والخاصية انتهى. والمعنى: وهو الذي يوجد السحاب منشأة جديدة ممتلئة ماء، فتكون ثقيلة قريبة من الأرض 13 - {و} هو سبحانه وتعالى الإله الذي {يُسَبِّحُ الرَّعْدُ}؛ أي: يسبحه وينزهه، ويقدسه من النقائص، ملك الرعد حالة كونه ملتبسًا {بِحَمْدِهِ} سبحانه وتعالى. قيل: الرعد: اسم ملك موكل بالسحاب، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح، يسوق بصوته السحاب كما يسوق الحادي الإبل بحداثه، فإذا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

سبح أوقع الهيبة على الخلق كلهم حتى الملائكة. وقيل: هو صوت الإله الذي يتولد عند ضرب السحاب بها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن اليهود سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرعد ما هو؟ فقال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب، ومعه مخاريق؛ أي: آلات من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله"، قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: "زجره السحاب" أخرجه الترمذي وغيره وصححه. وقيل: الرعد: صوت السحاب، وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى. وعن ابن عباس (¬1) - رضي الله عنهما - أنه قال: من سمع صوت الرعد، فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابه صاعقة فعلى دينه، وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وكان يقول: إن الوعيد لأهل الأرض شديد. وفي الحديث: "البرق والرعد وعيد لأهل الأرض، فإذا رأيتموه فكفّوا عن الحديث وعليكم بالاستغفار". والخلاصة: أي أن (¬2) في صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه عن الشريك والعجز، كما يدل صوت المسبح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير. ونحو الآية قوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول: "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك". وأخرج ابن مردويه عن أبي ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هبت الريح أو صوت الرعد .. تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه، ثم يقول للرعد: "سبحان من سبحت له"، وللريح: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا". {و} هو سبحانه وتعالى الإله الذي تسبح جميع {الْمَلَائِكَةُ} الكرام {مِنْ خِيفَتِهِ}؛ أي: من خوفه سبحانه وتعالى وهيبته وجلاله، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد والأنداد. {وَالْمَلَائِكَةُ} معطوف على {الرَّعْدُ} عطف عام على خاص، وإنما (¬1) أفرد {الرَّعْدُ} بالذكر مع دخوله في {الْمَلَائِكَةُ} تشريفًا له على غيره من الملائكة، فهو كقوله: {وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل}؛ أي: ويسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وهيبته وجلاله، وذلك لأنه إذا سبح الرعد - وتسبيحه ما يسمع من صوته - لم يبق ملك إلا رفع صوته بالتسبيح، فينزل المطر والملائكة خائفون من الله تعالى، وليس خوفهم كخوف بني آدم، فإنه لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره، ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء أصلًا. {وَ} هو سبحانه وتعالى الإله الذي {يُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} وينزلها من السماء {فَيُصِيبُ بِهَا}؛ أي: بتلك الصواعق {مَنْ يَشَاءُ} إصابته بها من عباده فيهلكه. والصواعق (¬2) جمع صاعقة؛ وهي نار لا دخان لها تسقط من السماء وتتولد في السحاب، وهي أقوى نيران هذا العالم، فإنها إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان تحت البحر، والصاعقة تصيب المسلم وغيره ولا تصيب الذاكر. يقول الفقير: لعل وجهه أن الصاعقة عذاب عاجل، ولا يصيب إلا الغافل، وأما الذاكر فهو مع الله ورحمته، وبين الرحمة والغضب تباعد. وقولهم: تصيب المسلم - يشير إلى أن المصاب بالصاعقة على حاله من الإيمان والإسلام، ولا أثر لا فيه كما في اعتقاد بعض العوام. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

وجملة قوله: {وَهُمْ}؛ أي: هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل {يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} تعالى؛ أي: يخاصمون في الله، وينازعون في شأنه وفيما وصفه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كمال العلم والقدرة والتفرُّد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب جملة مستأنفة، أو في محل الحال مِنْ مَنْ وأعاد عليها الضمير جمعًا باعتبار معناها كما في "السمين". {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْمِحَالِ}؛ أي: شديد (¬1) المماحلة والمكايدة والمعاقبة لأعدائه؛ أي: شديد الأخذ بالعقوبة يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابًا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه، ولا قوة على رده، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقضيه الحكمة كما صح في الحديث: "إن ربك لا يهمل ولكن يمهل" ومثل الآية قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}، وقوله: {ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}. قال ابن جرير في تفسير ذلك (¬2): والله شديد في عقوبة من طغى عليه، وعتا وتمادى في كفره؛ أي (¬3): شديد المكر والكيد لأعدائه يهلكهم من حيث لا يحتسبون، من محل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف في استعمال الحيلة واجتهد فيه، فالجملة حال من الجلالة. وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آيةً .. سلاه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوة، بل تخطوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء، وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الطبري. (¬3) روح البيان.

[14]

قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد .. فهون عليك ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. وقرأ الجمهور (¬1): {الْمِحَالِ} - بكسر الميم -، وقرأ الضحاك والأعرج شذوذًا: {المَحَال} - بفتح الميم - وفسرت هذه القراءة بالحول. 14 - {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره، وتقديم (¬2) الخبر لإفادة التخصيص، دعوة الحق؛ أي: الدعاء الحق على أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والدعوة بمعنى العبادة، والحق بمعنى الحقيق اللائق الغير الباطل، والمعنى: إن الدعوة التي هي التضرع والعبادة قسمان: ما يكون حقًّا وصوابًا، وما يكون باطلًا وخطأ. فالتي تكون حقًّا منها مختصة به تعالى لا يشاركه فيها غيره، أو له الدعوة المجابة على أن يكون الحق بمعنى الثابت الغير الضائع الباطل، فإنه الذي يجيب لمن دعاه دون غيره. قال في "المدارك": المعنى: إن الله يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطي السائل الداعي سؤاله، فكانت دعوة ملابسة لكونه حقيقًا بأن يوجه إليه الدعاء بخلاف ما لا ينفع دعاؤه. وعبارة الشوكاني هنا: إضافة (¬3) الدعوة إلى الحق للملابسة؛ أي: الدعوة الملابسة للحق والصدق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه، كما يقال كلمة الحق، والمعنى: إن له تعالى دعوة مجابة واقعة في موقعها, لا كدعوة من دونه. وقيل: هو الله سبحانه وتعالى. والمعنى: إن لله سبحانه دعوة المدعو الحق، وهو الذي يسمع فيجيب. وقيل: المراد بدعوة ها هنا: كلمة التوحيد والإخلاص والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له، وإنه شرعها وأمر بها. وقيل: دعوة الحق، دعاؤه سبحانه عند الخوف، فإنه لا يدعى فيه سواه، كما قال تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}. وقيل: الدعوة: العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق انتهت. وفي هذا (¬4) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} مبتدأ، خبره جملة قوله: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}؛ أي: والأصنام الذين يدعوهم المشركون ويتضرعون إليهم من دونه تعالى متجاوزين إليهم، فحذف العائد، أو والكفار الذين يدعون الأصنام من دونه تعالى، فحذف المفعول لا يجيبونهم؛ أي: لا يجيب الأصنام. وعبر عن الأصنام بضمير العقلاء؛ لمعاملتهم إياها معاملة العقلاء؛ أي: لا تجيب الأصنام لداعيها بشيء مما يريدونه من نفع أو ضر. والاستثناء في قوله: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} استثناء مفرغ من عام المصدر؛ أي: لا يستجيبونهم استجابةً إلا استجابةً مثل استجابة الماء لمن يبسط ويمد يديه إليه {لِيَبْلُغَ} الماء {فَاهُ}؛ أي: يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ليصل إلى فمه {وَمَا هُوَ}؛ أي: الماء {بِبَالِغِهِ}؛ أي: ببالغ فيه؛ لأنه جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فيه، وكذا ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم، ففي الكلام تشبيه مركب تمثيلي، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والمعنى: أنه تعالى شبه من يعبد الأصنام بالرجل العطشان الذي يرى الماء بعينه من بعيد، فهو يشير بكفيه إلى الماء ويدعو بلسانه، فلا يأتيه أبدًا، هذا معنى قول مجاهد - وعن عطاء: كالعطشان الجالس على شفير البئر، فلا يبلغ إلى قعر البئر ليجر الماء ولا الماء يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء، ودعاؤه له، ولا هو يبلغه. اهـ "خازن". {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} لأصنامهم {إِلَّا فِي ضَلَالٍ}؛ أي: إلا (¬1) في ضياع وخسار وبطلان؛ لأن الآلهة لا تقدر على إجابتهم، وأما دعاؤهم له تعالى فالمذهب جواز استجابته، وقد أجاب الله دعاء إبليس وغيره، ألا ترى أن فرعون كان يدعو الله في مكانٍ خال عند نقصان النيل فيستجيب الله دعاؤه ويمده، فإذا كان الله لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

يضيع دعاء الكافرين، فما ظنك بالماء. أو المعنى (¬1): وما عبادة الكافرين إلا في ضياع لا منفعة فيها؛ لأنهم إن عبدوا الأصنام لم يقدروا على نفعهم، وإن عبدوا الله لم يقبل منهم لإشراكهم. وقرأ الجمهور: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} - بالياء -، وقرىء بالتاء. وقرىء على هذه القراءة الشاذة: {كَبَاسِطٍ كَفَّيْهِ} - بتنوين باسط - ويكون في قوله: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ} التفات. 15 - ثم بين عظيم قدرته تعالى، فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {يَسْجُدُ} حقيقة بوضع الجبهة على الأرض {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة وأرواح الأنبياء والمؤمنين {و} من في {الأرض} من الملائكة والمؤمنين من الثقلين {طَوْعًا}؛ أي: حالة كونهم طائعين مختارين في حالة السعة والرخاء {و} حالة كونهم {كرها}؛ أي: كارهين حالة الشدة والضرورة. أو المعنى: والله يعبد من في السماوات ومن في الأرض من الملائكة وبعض المؤمنين من الثقلين حالة كونهم طائعين بسهولة ونشاط، وحالة كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين. وقوله: {كَرْهًا} راجع لمن {فِى الْأَرْضِ} فقط. {و} يسجد لله سبحانه وتعالى {ظلالهم}؛ أي: ظلال من في السماوات والأرض بالعرض؛ أي: تبعًا لذي الظل؛ أي: ظلال من له ظل منهم، وهو الإنس لا الجن ولا الملك؛ إذ لا ظل لهما. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}؛ أي: في البكر والعشايا، فالباء بمعنى في الظرفية متعلقة بـ {يَسْجُدُ}، ويجوز أن يراد بالسجود معناه المجازي، وهو انقيادهم لأحداث ما أراده الله فيهم شاؤوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص، ونقلها من جانب إلى جانب، فالكل مذلل ومسخر تحت الأحكام والتقدير، والغدو: جمع غداة؛ وهي البكرة. والآصال: جمع أصيل؛ وهو العشي من حين زوال الشمس إلى غيبوبتها كما في "بحر العلوم". وقال في "الكواشي" وغيره الأصيل: ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ أي: يسجد في هذين الوقتين، والمراد بهما الدوام؛ لأن السجود سواء أريد به حقيقته، أو الانقياد والاستسلام لا اختصاص له بالوقتين، وتخصيصهما - مع أن انقياد الظلال ¬

_ (¬1) المراح.

وميلانها من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاط الشمس، وقصرها بسبب ارتفاعها - لا يختص بوقت دون وقت، بل هي مستسلمة منقادة لله تعالى في عموم الأوقات؛ لأن الظلال إنما تزداد وتعظم فيهما. وقيل: لأنهما طرفا النهار، فيدخل وسطه فيما بينهما. وجاء (¬1) بـ {مَن} في قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تغليبًا للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعًا لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت ونحو ذلك. فصل وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة. وقد سبق (¬2) في آخر الأعراف ما يتعلق بسجدة التلاوة، فارجع إليه إن شئت. وأما سجدة الشكر؛ وهي أن يكبر ويخر ساجدًا مستقبل القبلة، فيحمده تعالى ويشكره، ويسبح ثم يكبر، فيرفع رأسه. وقال الشافعي: يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم كحدوث ولد، أو نصر على الأعداء ونحوه، وعند دفع نقمة كنجاة من عدو أو غرق ونحو ذلك. وعن أبي حنيفة ومالك: أن سجود الشكر مكروه، ولو خضع فتقرب لله تعالى بسجدة واحدة من غير سبب فالأرجح أنه حرام. قال النواوي: ومن هذا ما يفعله كثير من الجهلة الضالين من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعًا بكل حال، سواء كان إلى القبلة، أو لغيرها، وسواء قصد السجود لله، أو غفل، وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر كذا في الفتح القريب. وقرأ أبو مجلز: {والإيصال}. قال ابن جنّي هو مصدر أصل؛ أي: دخل في الأصيل، كما تقول: أصبح؛ أي: دخل في الإصباح. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[16]

16 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: من مالك السماوات والأرض، ومن مدبرهما وخالقهما؟ فسيقولون: الله؛ لأنهم مقرون بأن الله خالق السماوات وما فيها والأرض وما فيها، فهذا أجابوك بذلك فـ {قُلِ} أنت يا محمد: {اللَّهُ} رب السماوات والأرض ومالكهما وخالقهما ومتولي أمرهما؛ إذ لا جواب لهم سواه؛ لأنه البين الذي لا مراء فيه؛ أي: قل لهم (¬1): الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك؛ للإشارة إلى أنه هو وهم سواء في ذلك الجواب الذي لا محيص منه، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. وقيل (¬2): لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه، وقال: أحب أنت، فأمره الله أن يجيبهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ}؛ أي: قل يا محمد الله خالقهما وربهما. وقيل: إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة؛ لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {اللَّهُ}، فكأنهم قالوا ذلك أيضًا، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله: {قُلِ} يا محمد للمشركين {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ} تعالى {أَوْلِيَاءَ} وآلهة يعني الأصنام، فالهمزة فيه للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعلمتم أن ربهما هو الذي ينقاد لأمره من فيهما كافة، فاتخذتم من دونه تعالى أصنامًا {أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ} أولئك الأولياء {لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}؛ أي: لا يستطيعون لأنفسهم جلب نفع إليها ولا دفع ضرر عنها، وإذا عجزوا عن جلب النفع إلى أنفسهم، ودفع الضرر عنها .. كانوا عن نفع الغير ودفع الضرر عنه أعجز، ومن هو كذلك، فكيف يعبد ويتخذ وليًّا وهذا تجهيل لهم وشهادة على غباوتهم وضلالتهم التي ليس بعدها ضلال. وفي "روح البيان" الهمزة (¬3) للإنكار، والفاء للاستبعاد؛ أي: أبعد إقراركم هذا وعلمكم بأنه تعالى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

صانع العالم ومالكه اتخذتم من دونه تعالى أصنامًا، وعبدتم من غيره تعالى أولياء وأربابًا، لا يستجلبون لأنفسهم نفعًا ولا يدفعون عنها ضررًا، فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير ودفع المضرة عن الغير، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه، وهو منكر بعيد من مقتضى العقل. وخلاصة ذلك (¬1): أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم تتخذون من دونه أولياء هم غاية في العجز، وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببًا في الاعتراف بالوحدانية، وهو علمكم بذلك سببًا في إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}. ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا للمشركين الذين يعبدون الأصنام، والمؤمنين الذين يعترفون بأن لا رب غيره ولا معبود سواه، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله لهم، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى} في دينه وهو الكافر {وَالْبَصِيرُ} فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. والكلام على التشبيه (¬2)؛ أي: فكما لا يستوي الأعمى والبصير في الحس، كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه، وقدرته مع الموحد العالم بذلك. والمعنى: أي قل لهم (¬3) مصوِّرًا سخيف آرائهم مفنِّدًا قبيح معتقداتهم: هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئًا ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل، والبصير الذي يهدي الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتبعه، ويعرف الهدى فيسلكه لا يستوي هو وإياكم، وأنتم لا تعرفون حقًّا ولا تبصرون رشدًا. ثم ضرب مثلًا للكفر والإيمان بقوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} و {أَمْ} هنا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

منقطعة تقدر ببل وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل (¬1) أهل تستوي الظلمات التي لا ترى فيها الطريق، فتسلك {وَالنُّورُ} الذي يبصر به الأشياء ويجلو ضوؤه الظلام؟ لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان، فكذلك الكفر باللهِ صاحبه منه في حيرة يضرب أبدًا في غمرة لا يهتدي إلى حقيقة، ولا يصل إلى صواب، والإيمان باللهِ صاحبه منه في ضياء، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه ويعاقبه على إساءته، ويرزقه من حيث لا يحتسب ويكلؤه بعنايته في كل وقت وحين، فهو يفوض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب وتعددت في نظره مدلهمات الحوادث. والكلام (¬2) على التشبيه أيضًا؛ أي: فكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي الشرك والإنكار، والتوحيد والمعرفة، ووحد النور وجمع الظلمة؛ لأن طريق الحق واحد والباطل طرقه كثيرة، كشرك اليهود وشرك النصارى وشرك عبدة الأوثان وشرك المجوس وغيرها بخلاف التوحيد. وقرأ (¬3) الأخوان حمزة والكنسائي وأبو بكر: {أم هل يستوي} - بالياء - والجمهور: {تستوي} بالتاء الفوقية. و {أَمْ} في قوله: {أَمْ هَلْ} منقطعة تتقدر بـ {بل} والهمزة على المختار، والتقدير: بل أهل تستوي، و {هَلْ} وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع، فقد جامعتها في قول الشاعر: أهْلٌ رَأوْنَا بِوَادِيْ ... الفَقْرِ ذِيْ الأكَمِ وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}. ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة؛ لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة، لذلك ذكره أبو حيان في "البحر". و {أَمْ} في قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وجملة {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} صفة لـ {شُرَكَاءَ}؛ أي: بل أجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه وتعالى شركاء وآلهة يستحقون العبادة معه تعالى خلقوا؛ أي: خلق أولئك الشركاء سماوات وأرضين وشمسًا وقمرًا وجبالًا وبحارًا وجنًّا وإنسًا كخلقه تعالى إياهن؛ أي: خلقوا مخلوقًا مماثلًا لما خلقه الله تعالى. {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: فاشتبه (¬1) عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء، ونعبدهم كما يعبد، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلًا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق. وهذا الاستفهام إنكاري (¬2)؛ أي: ليس الأمر كذلك حتى يشتبه عليهم الأمر، بل إذا تفكروا بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء، والشركاء مخلوقون له أيضًا لا يخلقون شيئًا حتى يشتبه خلق الله بخلق الشركاء، وإذا كان الأمر كذلك .. فقد لزمتهم الحجة؛ وهو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}. والمعنى؛ أي: بل (¬3) أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله خلقًا كخلقه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك، أم أن بكم الجهل والبعد عن الصواب؛ إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع من الجهل بحقيقة المعبود ومن يجب له التذلل والخضوع والإنابة والزلفى والإخبات إليه، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضره، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل. ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت بها، فقال: {قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين مبيِّنًا لهم وجه الحق {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من الأجسام والأعراض، لا خالق غير الله فيشاركه في العبادة؛ أي: الله خالقكم وخالق أوثانكم، وخالق كل شيء مما يصح أن يكون ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[17]

مخلوقًا. وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من العموم الذي يراد به الخصوص؛ لأن الله تعالى خلق كل شيء وهو غير مخلوق. قال الزجّاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقًا، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق انتهى. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْوَاحِدُ}؛ أي: الفرد الذي لا ثاني له {الْقَهَّارُ}؛ أي: الغالب على كل شيء سواه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع. 17 - ثم ضرب سبحانه مثلًا آخر للحق وذويه وللباطل ومنتحليه، فقال: {أَنْزَلَ} سبحانه {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب {مَاءً}؛ أي: مطرًا كثيرًا، والتنوين (¬1) فيه للتكثير أو للنوعية {فَسَالَتْ}؛ أي: فجرت بذلك الماء {أَوْدِيَةٌ}؛ أي: أنهار كثيرة {بِقَدَرِهَا}؛ أي: بحسب مقدار تلك الأودية في الصغر والكبر، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر الماء. والأودية جمع وادٍ كنادٍ وأندية، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. وفي قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع؛ أي: سال ماؤها، ومعنى بقدرها؛ أي: بقدر مائها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. وفي "روح البيان": {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ أي: مطرًا ينحدر منها إلى السحاب، ومنه إلى الأرض، وهو رد لمن زعم أنه يأخذه من البحر ومن زعم أن المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، وعن ابن (¬2) عباس - رضي الله عنهما - أن تحت العرش بحرًا ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله فيغربله، فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

معلوم ووزن معلوم إلا ما كان يوم الطوفان من ماء، فإنه نزل بغير كيل ولا وزن انتهى. شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر (¬1)؛ إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب؛ إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ}؛ أي: حمل ورفع السيفُ الجاري في الوادي {زَبَدًا}؛ أي: غشاء {رَابِيًا}؛ أي: منتفخًا مرتفعًا فوق الماء طافيًا عليه. والزبد: اسم لكل ما علا وجه الماء من رغوة وغيرها، سواء حصل بالغليان والاضطراب أو بغيره، وهذا هو المثل الأول ضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل. والمعنى (¬2): أي أنزل من السحاب مطرًا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها في الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدًا عاليًا مرتفعًا فوقه طافيًا عليه، وقد تم المثل الأول. ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} خبر مقدم لقوله: زبد مثله، و {عَلَيْهِ} متعلق بـ {يُوقِدُونَ}، والإيقاد: جع النار تحت الشيء ليذوب، و {فِي النَّارِ} حال من الضمير في {عَلَيْهِ}؛ أي: ومما يوقد الناس عليه من جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد، حالة كونه ثابتًا في النار ليذوب ويخلص عن الخبث. وقوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} مفعول لأجله؛ أي: لأجل طلب اتخاذ زينة من حليٍّ كالسوار والطوق، أو اتخاذ متاع كالأواني والقدور وغيرها من آلات الحرب والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال {زَبَدٌ}؛ أي: وسخ وخبث {مِثْلُهُ}؛ أي: مثل زبد الماء ووسخه في أن كلًّا منهما شيء من الأكدار، المعني؛ أي: وزبد مثل زبد السيل كائن وناشىء من الجواهر التي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

يوقدون عليها النار {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين {يَضْرِبُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ويبين {الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}؛ أي: الإيمان والكفر؛ أي: يبين مثلهما وشبههما في الثبات والاضمحلال؛ أي: وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والجوهر وزبديهما، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل لا ثبات له ولا دوام أمام الحق. ثم فصل هذا بقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ} من الماء والجوهر {فَيَذْهَبُ جُفَاءً}؛ أي: مضمحلًا متلاشيًا لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ أي: فينعدم مرميًّا؛ أي: يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من الماء الصافي والجوهر الخالص {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يبقى ويثبت في الأرض، فالماء يثبت بعضه في منافعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار والجوهر، يصاغ من بعضه أنواع الحلي، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات، فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة. والمعنى (¬1): أي فأما الزبد الذي يعلو السيل .. فيذهب مرميًّا في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر، وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الحديد والنحاس والذهب والفضة يذهب ولا يرجع منه شيء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة .. فيمكث في الأرض، فالماء نشربه ونسقي به الأرض، فينبت جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان. والذهب والفضة نستعملهما في الحلي وصك النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها في متاعنا من الحرث والحصد، وفي المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك. واعلم: أن وجه (¬2) المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل، والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة: أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدًا رابيًا فوقه، وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة, فإنَّ أصله من المعادن التي تنبت في الأرض، فيخالطها التراب، فإذا أذيب صار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

ذلك التراب الذي خالطها خبثًا مرتفعًا فوقها. وقال الزجاج: مثلُ المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الذهب والفضة وسائر الجواهر؛ لأنها كلها تبقى منتفعًا بها. ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. اهـ. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الضرب العجيب {يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}؛ أي: يبين الله أمثال الحق والباطل، فيجعلها في غاية الوضوح؛ أي: ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم، وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والكفر والإيمان نضرب لهم الأمثال، ونبين لهم الأشباه في كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى، فيسلكوها، وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا بين الناس كما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به". وروى أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم عن النار: هلم عن النار، فتغلبوني فتقتحمون فيها".

[18]

وقرأ الجمهور (¬1): {بِقَدَرِهَا} - بفتح الدال -، وقرأ الأشهب العقيلي وزيد بن علي وأبو عمرو في رواية شذوذًا بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة: {يوقدون} بالياء على الغيبة؛ أي: يوقد الناس. وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة {توقدون} بالتاء على الخطاب. وقرأ رؤبة شاذًا: {جفالًا} باللام بدل الهمزة من قولهم: جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته، وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنه كان يأكل الفأر بمعنى: أنه كان أعرابيًّا جافيًا. وعن أبي حاتم أيضًا: لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن. 18 - ولما فرغ سبحانه وتعالى (¬2) من بيان شأن كل من الحق والباطل في الحال والمآل وأتم البيان .. شرع يبين حال أهلهما مآلًا ترغيبًا فيهما، وترهيبًا وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير، وتنفيرًا عن سلوك طرق الباطل والشر، فقال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ}؛ أي: للمؤمنين الذي أجابوا ربهم في الدنيا إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله {الْحُسْنَى}؛ أي: المثوبة الحسنة في الآخرة والمنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة المقرونة بالإجلال؛ وهي الجنة، وسميت بذلك؛ لأنها في نهاية الحسن؛ أي: للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنصب؛ الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال والآية بمعنى قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}. {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} سبحانه وتعالى دعوته إلى التوحيد؛ أي: والأشقياء الذين لم يجيبوا دعوته تعالى إلى التوحيد على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يطيعوه ولم يمتثلوا أوامره، ولم ينتهوا عما نهى عنه، وعاندوا الحق واستمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه. {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

نقودها وأمتعتها وضياعها؛ أي: لو ثبت كون جميع ما في الأرض لهم من أصناف الأموال التي يتملكها العباد، ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء {و} أن {مثله}؛ أي: مثل ما في الأرض جميعًا لهم حالة كونه كائنًا {مَعَهُ}؛ أي: كائنًا مع ما في الأرض ومنضمًا إليه {لَافْتَدَوْا بِهِ}؛ أي: بمجموع ما ذكر، وهو ما في الأرض ومثله؛ أي: لجعلوا ما في الأرض ومثله فداء أنفسهم من العذاب الأليم؛ لأن محبوب كل إنسان ذاته، فإذا كانت نفسه في ضور وكان مالكًا لكل شيء فإنه يرضى أن يجعل جميع ملكه فداء لها؛ لأنه حب ما سواها ليكون وسيلة إلى مصالحها. والحال: أن للذين لم يستجيبوا لربهم أنواعًا من العذاب: الأول منها: أنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما في الأرض جميعًا ومثله معه فديةً لأنفسهم .. لفعلوا, ولو فادوا به .. لم يقبل منهم، فإن المحبوب أولًا لكل إنسان هو ذاته، وما سواها فيحبه لكونه وسيلةً إلى مصالحها، فإذا كان مالكًا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه؛ وفي هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم في ذلك اليوم ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر. والثاني منها: ما ذكره بقوله: {أُولَئِكَ} المعاندون الذين لم يستجيبوا لربهم {لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ}؛ أي: قبيح الحساب وشديد المناقشة؛ فيناقشون على الجليل والفقير والحقير، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الحساب السيء، وهو أن يحاسب الرجل على كل ما عمل من الذنوب، ولا يغفر له شيء منه، والمناقشة في الحساب أن يستقصي فيه بحيث لا يترك منه شيء، يقال: ناقشه الحساب إذا عاسره فيه واستقصى فلم يترك قلبي، ولا كثيرًا. وفي الحديث: "من نوقش الحساب عذب". وقال النواوي: هذا لمن لم يحاسب نفسه في الدنيا، فيناقض بالصغيرة والكبيرة، فأما من تاب وحاسب نفسه .. فلا يناقش كما في "الفتح القريب" ذلك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرىء الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون

[19]

عما يقربهم إلى الله زلفى، فباؤوا بالخسران والهوان والنكال. والثالث منها: ما ذكره بقوله: {وَمَأْوَاهُمْ}؛ أي: مقرهم في الآخرة بعد المناقشة والحساب {جَهَنَّمُ}؛ أي: نار جهنم. فإن قلت: هلا قيل: ومأواهم النار؟ قلت: لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا، ويحتمل أن يكون جهنم هي أبعد النار قعرًا، من قولهم: بئر جهنم بعيدة القعر. قال بعضهم: جهنم: لفظ معرب، وكأنه في الفرس: جَهْ نم. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}؛ أي: وبئس المسكن مسكنهم في الآخرة، والمخصوص بالذم هي؛ أي: جهنم وقيل المهاد: الفراش، يعني: وبئس الفراش يفرش لهم في جنهم، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم، وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا في لذاتهم، فحقت عليهم كلمته {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. ونزل في حمزة - رضي الله عنه - وأبي جهل كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - 19 - قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وأبي جهل بن هشام، فالأول هو حمزة أو عمار رضي الله عنهما، والثاني أبو جهل، وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصًا كما في "الخازن". والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري الاستبعادي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف كما هو مذهب الزمخشري، والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر، فمن يعلم ويصدق أن القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق كحمزة بن عبد المطلب أو عمار رضي الله عنهما كمن هو أعمى قلبه، فينكر القرآن كأبي جهل؛ أي: لا يستوي من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من عنده هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء، ومن لا يعلم ذلك فهو أعمى لا يهتدي إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرًا في ظلمات الجهل وغياهب الضلالة. قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء قوم كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله. اهـ. والمعنى: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأن الأعمى لا يهتدي لرشد وربما وقع في

مهلكة وكذلك الكافر والجاهل لا يهتديان للرشد، وهما واقعان في المهلكة. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: إنما يتعظ ذوو العقول السليمة الصحيحة، وهم الذين ينتفعون بالمواعظ والأذكار؛ أي: ما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها ويصل إلى لبها وسرها إلا أولو العقول السليمة والأفكار الرجيحة. والمعنى: لا يقبل نصح القرآن ولا يعمل به إلا ذوو العقول الصافية من معارضة الوهم. الإعراب {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}: فعل ومفعولان؛ لأنه من رأى البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود إلى الموصول، والجملة صلة الموصول. {خَوْفًا وَطَمَعًا}: حالان من الكاف في {يُرِيكُمُ}؛ أي: حال كونكم خائفين وطامعين، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشري؛ لعدم اتحاد الفاعل يعني: أن فاعل الإراءة وهو الله تعالى غير فاعل الخوف والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل العلة، وهذا يمكن أن يجاب عنه بأن المفعول في قوة الفاعل، فإن معنى يريكم: يجعلكم رائين فتخافون وتطمعون. اهـ. "سمين". {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ}: فعل ومفعول. {الثِّقَالَ}: صفة لـ {السَّحَابَ}، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة {يُرِيكُمُ} على كونها صلة الموصول. {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}. {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ}: فعل وفاعل. {بِحَمْدِهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الصلة، والعائد ضمير {بِحَمْدِهِ}. {وَالْمَلَائِكَةُ}: معطوف على {الرَّعْدُ}. {مِنْ خِيفَتِهِ}: متعلق بـ {يسبح} أيضًا. {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة.

{فَيُصِيبُ}: (الفاء): عاطفة. {يصيب}: فعل مضارع معطوف على {يرسل}، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {بِهَا}: جار ومجرور متعلق به. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يصيب}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يشاءه. {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُجَادِلُونَ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب حال من {مَن} الموصولة، وأعاد عليها الضمير جمعًا باعتبار معناها. اهـ. "سمين". {فِي اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من لفظ الجلالة. {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}. {لَهُ}: خبر مقدم. {دَعْوَةُ الْحَقِّ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والأصنام الذين يدعونهم. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَدْعُونَ} أو حال من الضمير المحذوف. {لَا يَسْتَجِيبُونَ}: فعل وفاعل. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق به. {بِشَيْءٍ}: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من عام المصدر. {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله. {إِلَى الْمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {باسط} الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لا يستجيبون لهم استجابةً إلا استجابةً مثل استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه. {لِيَبْلُغَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يبلغ فاه}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود إلى {الْمَاءِ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره؛ لبلوغ الماء فاه، والجار والمجرور متعلق بـ {باسط}. {وَمَا}: (الواو): حالية. {ما}: نافية، أو حجازية. {هُوَ}: مبتدأ، أو اسمها. {بِبَالِغِهِ}: خبر المبتدأ، أو خبرها، والباء زائدة، والجملة الاسمية في محل

النصب حال من فاعل {يبلغ}. وفي "السمين": {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في {هو} ثلاثة أوجه: أحدما: أنه ضمير {الْمَاءِ}، والهاء في {بِبَالِغِهِ} للفم؛ أي: وما الماء ببالغ فيه. والثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في {بِبَالِغِهِ} لـ {الْمَاءِ}؛ أي: وما الفم ببالغ الماء؛ إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال، فنسبة الفعل إلى كل واحد وعدمها صحيحان. والثالث: أن يكون {هُوَ} ضمير {الباسط}، والهاء في {بِبَالِغِهِ} لـ {الْمَاءِ}؛ أي: وما باسط كفيه إلى الماء يبلغ الماء. اهـ. {وَمَا}: (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {دُعَاءُ الْكَافِرِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {فِي ضَلَالٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)}. {وَلِلَّهِ} (الواو): استئنافية. {لله}: جار ومجرور متعلق بـ {يَسْجُدُ}. {يَسْجُدُ مَنْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَنْ} الموصولة, {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {طَوْعًا وَكَرْهًا}: حالان من {مَن} الموصولة، ولكنه في تأويل مشتق؛ أي: حالة كونهم طائعين وراضين بالسجود، وحال كونهم كارهين؛ أي: غير راضين به. {وَظِلَالُهُمْ}: معطوف على {مَن} الموصولة. {بِالْغُدُوِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَسْجُدُ}، والباء بمعنى في الظرفية. {وَالْآصَالِ}: معطوف على {الغدو}. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام التقريري في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا للزومها صدر الكلام. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}،

والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: رب السماوات والأرض الله، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الله رب السماوات والأرض، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}، وجملة القول مستأنفة. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَفَاتَّخَذْتُمْ} إلى قوله: {قُلْ}: مقول محكي لـ {قُلْ}، وإن شئت قلت: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف كما مر، والتقدير: أعلمتم أن ربهما هو الذي ينقاد لأمره من فيهما كافة. {فَاتَّخَذْتُمْ}: فعل وفاعل. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور حال من الفاعل؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله إلى غيره، أو متعلق باتخذ؛ أي: من غيره تعالى والمفعول الأول لاتخذ محذوف تقديره: فاتخذتم الأصنام من دونه أولياء. {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان، وجملة {اتخذتم} في محل النصب مقول {قُلِ}. {لَا يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل. {لِأَنْفُسِهِمْ}: متعلق به. {نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}: مفعول به لـ {يَمْلِكُونَ}، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {أَوْلِيَاءَ}. {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري {هَلْ}: حرف تحقيق بمعنى قد. {تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ}: فعل وفاعل. {وَالنُّورُ}: معطوف على {الظُّلُمَاتُ}، والجملة الفعلية مستأنفة. فائدة: وقال في "الفتوحات": قوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي} هذه {أَمْ} المنقطعة، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم، وقد تقدم ذلك محررًا وقد يتقوى بهذه الآية من يرى تقديرها ببل فقط بوقوع هل بعدها، فلو قدرناه ببل والهمزة .. لزم اجتماع حرفي معنى واحد، فنقدرها وحدها، ولقائل أن يقوله: لا نسلم أن {هَلْ} هذه استفهامية، بل هي بمعنى قد، وإليه ذهب جماعة، فقد ثبت مجيؤها بمعنى قد إن لم تجامعها الهمزة، كقوله تعالى: {هَلْ

أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}؛ أي: قد أتى، فهنا أولى والسماع. قد ورد بوقوع هل بعد أم وبعدمه، فمن الأول هذه الآية، ومن الثاني ما بعدها من قوله: {أَمْ جَعَلُوا}: انتهى. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار. {جَعَلُوا}: فعل وفاعل، والمفعول الأول محذوف. {لِلَّهِ}: متعلق بـ {شُرَكَاءَ}؛ أو حال ثانٍ. {شُرَكَاءَ}؛ مفعول ثان، والتقدير: أم جعلوا الأصنام شركاء لله، والجملة مستأنفة. {خَلَقُوا}: فعل وفاعل، الجملة صفة لـ {شُرَكَاءَ}. {كَخَلْقِهِ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: خلقًا كائنًا كخلقه. {فَتَشَابَهَ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {تشابه الخلق}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقُوا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ خَالِقُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {وَهُوَ الْوَاحِدُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {الْقَهَّارُ}: صفة لـ {الْوَاحِدُ}، أو خبر ثان. {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}. {أَنْزَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق به. {مَاءً}: مفعول به. {فَسَالَتْ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {سالت أودية}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَنزَلَ}. {بِقَدَرِهَا}: متعلق بـ {سالت} أو صفة لـ {أَوْدِيَةٌ}. {فَاحْتَمَلَ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {احتمل السيل} فعل وفاعل. {زَبَدًا}؛ مفعول به. {رَابِيًا}: صفة لـ {زَبَدًا}، والجملة مفرعة معطوفة على جملة {سالت}. {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}. {وَمِمَّا}: (الواو): عاطفة. {مما}: جار ومجرور خبر مقدم. {يُوقِدُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {يُوقِدُونَ}، أو حال من الضمير في {عَلَيْهِ}. {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}: مفعول لأجله، ومضاف إليه. {أَوْ مَتَاعٍ}: معطوف على {حِلْيَةٍ}. {زَبَدٌ}: مبتدأ مؤخر.

{مِثْلُهُ}: صفة لـ {زَبَدٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَنْزَلَ}. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَالْبَاطِلَ}: معطوف على {الْحَقَّ}، والتقدير: يضرب الله الحق والباطل ويبينهما ضربًا مثل ضرب الأمور الأربعة: الماء والجوهر والزبدين، وتبيينًا مثل تبيينها، والجملة الفعلية مستأنفة. {فَأَمَّا}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت الأمثال والأمور المذكورة، وأردت بيان عاقبتها .. فأقول لك أما، {أما}: حرف شرط وتفصيل. {الزَّبَدُ}: مبتدأ. {فَيَذْهَبُ}: (الفاء): رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما}، {يذهب}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الزَّبَدُ}. {جُفَاءً}: حال من ضمير الفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب {أما}، لا محل لها من الإعراب، وجملة أما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وأمَّا}: (الواو): عاطفة. {أما} حرف شرط وتفصيل. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {يَنْفَعُ النَّاسَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة لـ {مَا}. {فَيَمْكُثُ}: (الفاء): عاطفة. {يمكث}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {ما}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}: فعل وفاعل ومفعول، والتقدير: ضربًا مثل هذا الضرب العجيب يضرب الله سبحانه وتعالى أمثال الحق والباطل ويبينها، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتأكيد جملة قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}. {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {اسْتَجَابُوا}: فعل وفاعل صلة

الموصول. {لِرَبِّهِمُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْحُسْنَى}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {لَمْ يَسْتَجِيبُوا}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {لَوْ}: حرف شرط. {أَنَّ}: حرف نصب. {لَهُم}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {أَنَّ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب اسم {أَنَّ}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}. {جَمِيعًا}: حال من ضمير الصلة، أو من {مَا}. {وَمِثْلَهُ}: معطوف على اسم {أَنَّ}. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه حال من {مثله}، والتقدير: لو أن ما في الأرض ومثله كائنان لهم، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون ما في الأرض مثله معه كائنًا لهم، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ}. {لَافْتَدَوْا}: (اللام): رابطة لجواب {لَوْ}. {افتدوا}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب {لَوْ}: الشرطية وجملة {لَوْ} الشرطية: في محل الرفع خبر أول للمبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {لَهُمْ}: خبر مقدم للمبتدأ الثاني. {سُوءُ الْحِسَابِ}: مبتدأ ثان مؤخر عن خبره، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول في محل الرفع خبر ثان لقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا}. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثالث لقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا}. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا تقديره: وبئس المهاد هي؛ أي: جهنم، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}. {أَفَمَنْ} (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر، {من يعلم}: {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله

ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول. {أَنَّمَا}: {أن}: حرف نصب ومصدر. {ما}: اسم موصول في محل النصب اسم {أن}. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {مِنْ رَبِّكَ}: يتعلق به أيضًا، أو حال من ضمير النائب، والجملة الفعلية صلة {ما} الموصولة. {الْحَقُّ}: خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: أفمن يعلم كون ما أنزل إليك من ربك الحق. {كَمَنْ}: جار ومجرور خبر {من} الموصولة في قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {هُوَ أَعْمَى}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية صلة الموصول. {إِنَّمَا}: أداة حصر ونفي بمعنى ما النافية وإلا المثبتة. {يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}: البرق (¬1): ما يرى من النور لامعًا خلال السحاب، من برق الشيء بريقًا إذا لمع. {الرَّعْدُ}: هو الصوت المسموع خلال السحاب. وفي "المصباح": رعدت السماء رعدًا - من باب قتل - ورعودًا لاح منها الرعد. اهـ. وسببهما على ما بين في العلوم الطبيعية أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفتي الكهربائية حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما، فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوي شديد، فذلك النور هو البرق، والصوت هو الرعد الذي نشاء من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها. {الصَّوَاعِقَ}: جمع صاعقة، وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية، والأرض بكهربائية أخرى، والهواء يفصل بينهما، فإذا قاربت السحب وجه ¬

_ (¬1) المراغي.

الأرض تنقض الشرارة الكهربائية منها، فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل. {السَّحَابَ الثِّقَالَ} والسحاب (¬1) اسم جنس واحده سحابة، فلذلك وصف بالجمع، وهو الثقال جمع ثقيلة ككريمة وكرام. {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ}: من المجادلة، وأصلها من الجدل، وهو شدة الخصومة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله كأن المجادلين يقتل كل منهما الآخر عن رأيه. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}؛ أي: شديد المماحلة والمكايدة لأعدائه، يقال: محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك، وتمحل إذا تكلف في استعمال الحيلة، ولعل أصله المحل بمعنى القحط. وقيل (¬2): فعال من المحال بمعنى القوة، فالميم أصلية. وقيل: أصله مفعل من الحول، أو الحيلة أُعل على غير قياس، ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال. اهـ. "بيضاوي". وقوله: وقيل مفعل؛ أي: والميم على هذا زائدة، وقوله: أعل على غير قياس؛ إذ القياس فيه صحة الواو كمحور ومرود ومقود؛ لأنا شرط قلب الواو ألفًا فتح ما قبلها. اهـ. "شهاب". وفي "القاموس" (¬3): والمِحال - ككتاب - الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والعذاب والعقاب والعداوة، والمعادلة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، ومحل به - مثلث الحاء محلًا ومحالًا - كاده بسعاية إلى السلطان، وماحله مماحلةً ومِحالًا قاواه حتى يتبين أيهما أشد. اهـ. {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} من إضافة (¬4) الموصوف لصفته؛ أي: الدعوة الحق المطابقة للواقع. اهـ. شيخنا. {لَا يَسْتَجِيبُونَ}؛ أي: لا يجيبون، فالسين والتاء زائدتان. {وَظِلَالُهُمْ} والظلال: جمع ظل؛ وهو الخيال الذي يظهر للجرم، فسجود (¬5) الظلال ميلها من جانب إلى جانب بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، يقال: سجدت ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البيضاوي. (¬3) القاموس. (¬4) الفتوحات. (¬5) القرطبي.

النخلة إذا مالت. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} والغدو: جمع غداة كقني جمع قناة، وهي البكرة أول النهار. والآصال: جمع أصيل، والأُصل: جمع أَصيل: وهو ما بين العصر إلى الغروب. {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} الأودية: جمع وادٍ؛ وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء، والفرجة بين الجبلين، وقد يراد به الماء الجاري فيه. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلًا جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل، فجمع على أفعلة مثل: جريب وأجربة، كما أن فعيلًا حمل على فاعل فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. {بِقَدَرِهَا}؛ أي: بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرًا وكبرًا. قال الواحدي: والقدر: مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع كثر. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ}؛ أي: حما فافتعل هنا بمعنى المجرد. {زَبَدًا رَابِيًا} والزبد: ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالحبب، وما يعلو القدر عند غليانها، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه. {يُوقِدُونَ عَلَيْهِ} وفي "المصباح": وقدت النار وقدًا - من باب وعد - ووقودًا، والوَقود - بالفتح -: الحطب، وأوقدتها إيقادًا، ومنه على الاستعارة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}؛ أي: كلما دبروا مكيدة وخديعة أبطلها، وتوقدت النار: اتقدت. والوَقَد - بفتحتين -: النار نفسها، والموقد: موضع الوقود مثل المجلس لموضع الجلوس، واستوقدت النار استوقدتها يتعدى ولا يتعدى. وفي "الخازن": الإيقاد: جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء المذوب. اهـ. {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} والحلية (¬1): ما يعمل للنساء مما يُتزين به من الذهب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والفضة. والمتاع: ما يُتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني والمساحي وآلات الحرب وقطاعات الأشجار والسكك وغير ذلك. فالمراد بالحلية: ما يُتزين به، وبالمتاع ما يُتمتع به؛ أي: يُنتفع به. {جُفَاءً} قال ابن (¬1) الأنباري: والجفا: المتفرق، يقال: جفأت الريح السحاب؛ أي: قطعته وفرَّقته، وقيل: الجفاء ما يرمي به السيل، ويقال: جفأت القدر بزبدها تجفأ من باب قطع، وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام وفي همزة جفاء وجهان: أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة كما رأيت. والثاني: أنها بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء، وفي نظر؛ لأن مادة جفا يجفو لا يليق معناها هنا، والأصل عدم الاشتراك. اهـ. "سمين". فالمراد بالجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه. {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}؛ أي: أجابوا في الدنيا إلى التوحيد، فالسين والتاء فيه زائدتان. والحسنى مؤنث الأحسن، كالفضلى مؤنث الأفضل، وهو صفة الموصوف محذوف؛ أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وسميت بذلك؛ لأنها في نهاية الحسن. {لَافْتَدَوْا بِهِ}؛ أي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب. {لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ}؛ أي: لهم الحساب السيء، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة، وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع: ¬

_ (¬1) الفتوحات.

فمنها: الطباق بين {خَوْفًا وَطَمَعًا}. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ} قيل المراد بهؤلاء الملائكة أعوان ملك السحاب، جعل الله تعالى مع الملك الموكل بالسحاب المسمى بالرعد أعوانًا من الملائكة، وقيل: المراد جميع الملائكة، وهو أولى. اهـ. "خازن". ومنها: الالتفات في قوله: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ} على قراءة {والذين تدعون} - بالتاء الفوقية - وحق العبارة لا يستجيبون لكم، وإن كانت هذه القراءة شاذة. ومنها: التشبيه (¬1) المركب التمثيلي في قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} شبه حال الأصنام مع من دعاهم من المشركين؛ وهو عدم استجابتهم دعاء المشركين، وعدم فوز المشركين من دعائهم الأصنام شيئًا من الاستجابة والنفع بحال الماء الواقع بمرأى من العطشان الذي يبسط إليه كفيه يطلب منه أن يبلغ فاه وينفعه من احتراق كبده، ووجه الشبه عدم استطاعة المطلوب منه إجابة الدعاء، وخيبة الطالب عن نيل ما هو أحوج إليه من المطلوب، وهذا الوجه كما ترى منتزع من عدة أمور. ومنها: إسناد السجود إلى الظلال في قوله: {وَظِلَالُهُمْ} تبعًا لصاحبها. ومنها: الطباق بين الغدو والآصال في قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وفيه أيضًا إطلاق الطرفين وإرادة الكل. ومنها: القصر في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ}. ومنها: الطباق في قوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا}. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والإنكاري التوبيخي في قوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومنها: الطباق في قوله: {نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} وفي قوله: {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} وفي قوله: {الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}. ومنها: التشبيه في قوله: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} وفيه أيضًا الجناس المغاير. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} لأن المعنى: هل يستوي من هو كالأعمى ومن هو كالبصير؛ أي: فكما (¬1) لا يستوي الأعمى والبصير في الحس، كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه وقدرته مع الموحد العالم بذلك. وكذا قوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} وارد (¬2) على التشبيه أيضًا؛ أي: فكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي الشرك والإنكار والتوحيد والمعرفة. وقيل: فيه الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنه استعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان, وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل، والبصير للمؤمن العاقل. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {قُلِ اللَّهُ}؛ أي: الله خالق السماوات والأرض. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} الآية. شبه تعالى الحق والباطل بتشبيه رائع يسمى التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه فيه منتزع من متعدد، فمثل الحق بالماء الصافي الذي يستقر في الأرض، والجوهر الصافي من المعادن الذي به ينتفع العباد، ومثل الباطل بالزبد والرغوة التي تظهر على وجه الماء، والخبث من الجوهر الذي لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} من إسناد ما للحال إلى المحل، كما يقال: جرى النهر، والأصل: جرت المياه في الأودية. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات.

ومنها: تنكير (1) الأودية في قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} إشعارًا بالمناوبة؛ لأن المطر ينزل في البقاع على المناوبة فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض. ومنها: تعريف السيل في قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ}؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو {فَسَالَتْ}، وهو لو ذكر لكان نكرةً، فلما أعيد ... أعيد بلفظ التعريف، نحو رأيت رجلًا، فأكرمت الرجل. اهـ. "سمين". ومنها: السلف والنشر المشوش في قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} فإنه يرجع إلى الباطل الذي ذكر أخيرًا في قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} وفي قوله: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فإنه راجع إلى الحق المذكور أولًا. ومنها: التأكيد في قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} فإن فيه تفخيمًا لشأن هذا التمثيل وتأكيدًا لقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}. ومنها: طباق السلب في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا}. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} شبه الجهل والكفر بالعمى بجامع عدم الاهتداء في كلٍّ، فاشتق من العمى بمعنى الجهل والكفر أعمى بمعنى الجاهل الكافر على سبيل الاستعارة التبعية. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}. المناسبة قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} إلى قوله: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ضرب الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء، ولا يقف لدى غاية .. بين أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان, وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أوصاف المتقين وما أعد لهم

عنده في دار الكرامة بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق .. بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال، وأتبع الوعد بالوعيد، والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة في مثل هذا {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه، ولم يقر بوحدانيته، وأنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة .. بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر، على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسَّع على الكافر استدراجًا، وضيَّق على المؤمن زيادةً في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها، وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آيةً دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جناتٍ تجري من تحتها الأنهار. قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر طلبهم من رسوله - صلى الله عليه وسلم - الآيات، كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهما من النبيين والمرسلين، وبين أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد الله هدايتهم، فلا يجديهم ذلك فتيلًا ولا قطميرًا .. ذكر هنا أن محمدًا ليس ببدع من الرسل، وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم وأجابوهم إلى ما طلبوا, ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعًا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابًا تسير به الجبال على أماكنها، أو تشقق به الأرض، فتجعل أنهارًا وعيونًا .. لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما ¬

_ (¬1) المراغي.

[20]

اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك؛ لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على استهزائهم به. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي: قال: قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا ...} الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت نبيًّا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها - إسمي الجبلين - هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سير بالقرآن الجبال، قطع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت. وقال الزبير بن العوام (¬2): قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر لنا الأرض أنهارًا فنزرع، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم، أو يصير هذه الصخرة ذهبًا، فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فقد كان للأنبياء آيات، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}. التفسير وأوجه القراءة 20 - {الَّذِينَ} الموصولات موصلاتها مبتدآت خبرها قوله الآتي: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

[21]

الدَّارِ}: {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}: مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: بما عاهدوا لله وعقدوه على أنفسهم من الشهادة والاعتراف بربوبيته حين قالوا في عالم الذر بلى شهدنا. {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}؛ أي: العهد المؤكد باليمين؛ أي: لا يخلفون ذلك العهد الذي بينهم وبين ربهم الذي وثقوه وأكدوه بالأيمان، وكذا عهودهم بينهم وبين الناس، فهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها. ويحتمل (¬1) أن يكون الأمر بالعكس، فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله؛ وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...} الآية. والمعنى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}؛ أي: الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم في هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعًا من القرآن عناية بأمره واهتمامًا بشأنه {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}؛ أي: العهد الذي وثقوه وأكدوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل. وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب". 21 - {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ} مفعوله محذوف تقديره: ما أمرهم الله {بِهِ} من الإيمان والرحم وغيرهما، وقوله: {أَنْ يُوصَلَ} بدل من الضمير المجرور؛ أي: أمرهم بوصله، ومعنى وصل الإيمان (¬2): أن يؤمنوا بجميع الكتب والرسل ولا يفرقوا بين أحد منهم. وفي "المراح" وصل ما أمر الله به (¬3): هو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراح.

وعيادة المريض وشهود الجنائز، وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة، ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها. ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة. وعن الفضيل: أن العبد لو أحسن الإحسان كله، وكانت له دجاجة، فأساء إليها .. لم يكن من المحسنين. وهذه الآية يندرج فيها أمور (¬1): الأول: صلة الرحم، واختلف في حدّ الرحم التي يجب صلتها، فقيل: كل ذي رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات، وقيل: هو عام في كل ذي رحم محرمًا كان أو غير محرم، وارثًا كان أو غير وارث، وهذا القول هو الصواب. قال النواوي: وهذا أصحّ، والمحرم من لا يحل له نكاحها على التأبيد لحرمتها، فقولنا: على التأبيد احتراز عن أخت الزوجة، وقولنا: لحرمتها احتراز عن الملاعنة، فإن تحريمها ليس لحرمتها، بل للتغليظ. والثاني: الإيمان بكل الأنبياء عليهم السلام، فقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض قطعٌ لما أمر الله به أن يوصل. والثالث: موالاة المؤمنين، فإنه يستحب استحبابًا شديدًا زيارة الإخوان والصالحين والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي للزائر أن تكون زيارته على وجه لا يكرهون، وفي وقت يرتضون، فإن رأى أخاه يحب زيارته ويأنس به أكثر زيارته والجلوس عنده، وإن رآه منشغلًا بعبادة أو غيرها، أو رآه يحب الخلوة يقل زيارته حتى لا يشغله عن عمله، وكذا عائد المريض لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يأنس به المريض، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة كما مر آنفًا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والرابع: مراعاة حقوق كافة الخلق حتى الهرة والدجاجة. والمعنى: أي: والذين (¬1) يصلون الرحم التي أصرهم الله تعالى بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، ويحسنون إلى المحاويج وذوي الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة، ويصلون المؤمنين بسبب قرابة الإيمان بالإحسان إليهم ونصرتهم والشفقة عليهم، وإفشاء السلام وعيادة المرضى، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران، والرفقة في السفر إلى غير ذلك مما مر آنفًا. وأكثر المفسرين على أن المراد بالوصل هنا صلة الرحم. واعلم (¬2): أن قطع الرحم حرام، والصلة واجبة، ومعناها: التفقد بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل، وعدم النسيان، وأقله التسليم وإرسال السلام والمكتوب، ولا توقيت فيها في الشرع، بل العبرة بالعرف والعادة كذا في "شرح الطريقة" وصلة الرحم سبب لزيادة الرزق. وزيادة العمر، وهي أسرع أثرًا كعقوق الوالدين، فإن العاق لهما لا يمهل في الأغلب، ولا تنزل الملائكة على قوم فيهم قاطع رحم. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في صلة الرحم وقطيعتها عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: "أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، أو قال: "بتته". أخرجه أبو داود والترمذي. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يُنْسَأ له في أثره، فليصل رحمه". أخرجه البخاري، صلة الرحم: ميرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم، وضدُّه: القطع. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[22]

قوله: "وأن يُنْسَأ له في أثره" الأثر هنا: الأجل، وسمي الأجل أثرًا؛ لأنه تابع للحياة وسابقها، ومعنى ينسأ: يؤخر، والمراد به تأخير الأجل، وهو على وجهين: أحدهما: أن يبارك الله له في عمره، فكأنما قد زاد فيه. والثاني: أن يزيده في عمره زيادة حقيقية، والله يفعل ما يشاء. وعن جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنة قاطع". متفق عليه. زاد في رواية: قال سفيان: يعني قاطع رحم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الواصل بالمكافىء، الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها". أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر". أخرجه الترمذي. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}؛ أي: وعيده عمومًا، والخشية (¬1): خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. والمعنى: إنهم يخشون ربهم خشيةً تحملهم على فعل المأمورات واجتناب المنهيات، ويخافونه خوف مهابة وإجلال. {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}؛ أي: استقصاءه خصوصًا، فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا؛ أي: ويخافون مناقشة ربهم إياهم في الحساب وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم، فهم لرهبتهم جادون في طاعته محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه، و {سُوءَ الْحِسَابِ}؛ أي: شديده: وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا. 22 - {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} على ما تكرهه النفوس من أنواع المصائب ومخالفة الهوى من مشاق التكاليف؛ أي: والذين صبروا (¬2) على فعل العبادات وعلى ثقل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

الأمراض والمضار والغموم وعلى ترك المشتهيات {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}؛ أي: طلبًا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب النفس زينة وعجبًا، فكما أن العاشق يرضى بضرب معشوقه لالتذاذه بالنظر إلى وجهه، فكذلك العبد يرضى بالمحنة لاستغراقه في معرفة الله تعالى ومحبته. وإنما (¬1) قيد الصبر بقوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}؛ لأن الصبر ينقسم إلى نوعين: الأول: الصبر المذموم؛ وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل، وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر، فليس ذلك داخلًا تحت قوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} لأنها لغير الله تعالى. النوع الثاني: الصبر المحمود؛ وهو أن يكون الإنسان صابرًا لله تعالى راضيًا بما نزل به من الله طالبًا في ذلك الصبر ثواب الله محتسبًا أجره على الله، فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} يعني: صبروا على ما نزل بهم تعظيمًا لله تعالى، وطلبًا لرضوانه سبحانه، وجاءت (¬2) الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصولين قبل بلفظ المضارع في قوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ}، {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ} وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، وقيل: إن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائمًا، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين وما عطف عليهما؛ لأن حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها؛ ولذلك لم تأت صلة الصبر في القرآن إلا بصيغة الماضي؟ إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} المفروضة؛ أي: داوموا على إقامتها؛ أي: أدوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله تعالى مع تمام أركانها ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

وهيئاتها احتسابًا لوجهه، وأفردها (¬1) بالذكر تنبيهًا على كونها أشرف من سائر العبادات، ولا يمتنع إدخال النوافل فيها {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: وأنفقوا بعض ما زرقناهم {سِرًّا} فيما بينهم وبين ربهم لمن لم يعرف بالمال، أو لمن لا يتهم بترك الزكاة، أو عند إعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرًا أو في التطوع {وَعَلَانِيَةً} بحيث يراهم الناس لغير ذلك سواء كان الإنفاق واجبًا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب والفقراء وفي الزكاة، أو مندوبًا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب. وقال الحسن (¬2): والمراد بهذا الإنفاق الزكاة المفروضة، فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة، فالأولى أن يؤديها سرًّا، وإن كان متهمًا بترك أداء الزكاة، فالأولى أن يؤديها علانية، وقيل: إن المراد بالسر: ما يخرج من الزكاة بنفسه، والمراد بالعلانية: ما يؤديه إلى الإمام، وقيل: المراد بالسر: صدقة التطوع، وبالعلانية: الزكاة الواجبة، وحَمْلُهُ على العموم أولى كما فسرنا ذلك آنفًا، وانتصابهما (¬3) على الحال؛ أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين، أو على الظرف؛ أي: وقتي سر وعلانية، أو على المصدر؛ أي: إنفاق سر وعلانية كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. واعلم: أن الله تعالى أسند الإنفاق إليهم، وإعطاء الرزق إلى ذاته تعالى، تنبيهًا على أنهم أمناء الله فيما أعطاهم ووكلاؤه، والوكيل دخيل في التصرف لا أصيل، فينبغي له أن يلاحظ جانب الموكل لا جانب نفسه ولا جانب الخلق، وقد قالوا: من طمع في شكر أو ثناء فهو بياع لا جواد؛ لأنه اشترى المدح بماله، والمدح لذيذ مقصود في نفسه، والجود. هو بذل الشيء من غير غرض. {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي: يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه، كما في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشر بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[23]

الذنب بالتوبة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور. قال عبد الله بن المبارك (¬1): هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية. قلت: إنما هي تسع خلال، فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الخلال من أعمال البر .. ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب، فقال تعالى: {أُولَئِكَ} الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية في الشرف والكمال هم الذين {لَهُمْ} {عُقْبَى الدَّارِ}؛ أي: العقبى الحسنة والمرجع الحسن والمسكن الطيب في الدار الآخرة، وسميت الدار الآخرة عقبى؛ لأنها عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. والعقبى: مصدر (¬2) كالعاقبة، والمراد بالدار الدنيا وعقباها الجنة، وقيل: المراد بالدار: الدار الآخرة وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعاصين. 23 - ثم بين هذه العقبى، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من {عُقْبَى الدَّارِ}؛ أي: لهم جنات عدن، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: تلك العقبى هي جنات عدن وإقامة مؤبدة، والعدن: أصله الإقامة، ثم صار علمًا لجنة من الجنان، ولكن المراد به هنا المعنى العام، وجملة قوله: {يَدْخُلُونَهَا} صفة لـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: تلك العقبى جنات عدن يدخلونها؛ أي: يدخل هؤلاء الموصوفون بالصفات السابقة تلك الجنات، ويخلدون فيها لا يخرجون منها بعد الدخول أبدًا. ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين، فقال: {وَمَنْ صَلَحَ} معطوف على الضمير المرفوع في {يَدْخُلُونَهَا} وإنما ساغ للفصل بالضمير؛ أي: يدخل تلك الجنات هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة، ويدخلها معهم من صلح وآمن معهم كما آمنوا {مِنْ آبَائِهِمْ}؛ أي: من أصولهم، وإن علوا ذكورًا كانوا أو إناثًا. قال في "بحر (¬3) العلوم" وآبائهم: جمع أبوي كل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[24]

واحد منهم، كأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم، والمعنى: أنه يلحق بهم الصلحاء من أبويهم {و} من {أَزْوَاجِهِمْ} اللاتي متن في عصمتهم ونكاحهم سواء متن قبلهم أم لا {و} من {وَذُرِّيَّاتِهِمْ} وأولادهم وإن لم يبلغوا مبلغ فضلهم تبعًا لهم وتعظيمًا لشأنهم، وتكميلًا لفرحهم؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة، وإن لم يعملوا مثل أعمالهم. والمعنى: أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحًا لتقرَّ بهم أعينهم، ويزدادوا سرورًا برؤيتهم حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم في الدنيا، فيشكرون الله على الخلاص منها. وفي الآية إيماء (¬1) إلى أنه في ذلك اليوم لا تجدي الأنساب إن لم يسعفها العمل الصالح، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم، فقال: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} من أبواب المنازل التي يسكنونها في قدر (¬2) كل يوم وليلة ثلاث مرات بالهدايا وبشارات الرضا؛ أي: وتدخل عليهم الملائكة من ها هنا وهنا للتسليم عليهم والتهنئة بدخول الجنة والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والمرسلين. 24 - وجملة قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} محكية لقول محذوف تقديره: أي: قائلين لهم سلام عليكم؛ أي: أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم {بِمَا صَبَرْتُمْ} متعلق بـ {عَلَيْكُمْ}، أو بمحذوف؛ أي: هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات وترك المحرمات وعلى المحن والمتاعب والآلام التي لاقيتموها في دار الحياة الدنيا {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}؛ أي: نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها، والمخصوص بالمدح الجنة؛ أي: فنعمت الجنة التي أعقبت وعوضت لكم عن الدار التي عملتم فيها هذه الأعمال الصالحة وهي دار الدنيا. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

[25]

وقرأ الجمهور (¬1): {جَنَّاتُ} بالجمع، وقرأ النخعي شذوذًا: {جنة} بالإفراد، وروي عن ابن كثير وأبي عمرو {يدخلونها} مبنيًّا للمفعول وهي رواية شاذة. وقرأ ابن أبي عبلة شذوذًا: {ومن صلح} - بضم اللام -، وقرأ الجمهور بفتحها وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي: {وذريتهم} بالتوحيد، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر شاذًا: {فنعم} - بفتح النون وكسر العين - وهي الأصل. وقرأ ابن وثاب شاذًا: {فنَعْمَ} - بفتح النون وسكون العين - وتخفيف فعل لغة تميمية، والجمهور {فَنِعْمَ} - بكسر النون وسكون العين - وهي أكثر استعمالًا. 25 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات .. ذكر بعده أحوال الأشقياء وما لهم من العقوبات، فقال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ} مبتدأ خبره قوله الآتي: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}؛ أي: والكفار الذين يخلفون عهد الله سبحانه وتعالى ويتركون وفاء عهده المأخوذ عليهم بالطاعة والإيمان {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}؛ أي: من بعد توكيد ذلك العهد بالإقرار والقبول في عالم الذر، وهو العهد الذي جرى بينهم؛ إذا أخرجهم من ظهر آدم وعاهدهم على التوحيد والعبودية، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}. ونقضه (¬2): إما بأن لا ينظروا فيه، فلا يمكنهم العمل بموجبه، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته، ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته. وقوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}؛ أي: من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ}؛ أي: ويتركون وصل ما أمر الله سبحانه بوصله من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاؤوا بالحق، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وقطعوا الرحم وموالاة المؤمنين، وكانوا حربًا على المؤمنين وعونًا للكافرين، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين، كما جاء في الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وجاء أيضًا: "المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقي الأعضاء بالسهر والحمى". ولم يتعرض هنا لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة (¬1)؛ لدخولها في النقض والقطع {وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ} بظلمهم لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى، وبظلمهم لغيرهم بدعوتهم إلى الشرك وانتهاب أموالهم واغتصابها بلا حق، وتهييج الفتن بين المسلمين، وإثارة الحرب عليهم وإظهار العدوان لهم. وفي الحديث (¬2): "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وهي إيقاع الناس في الاضطراب والاختلال والاختلاف والمحنة والبلية بلا فائدة دينية، وذلك حرام؛ لأنه فساد في الأرض وإضرار للمسلمين وزيغ وإلحاد في الدين. فمن الفتنة أن يغري الناس على البغي والخروج على السلطان، وذلك لا يجوز وإن كان ظالمًا؛ لكونه فتنة وفسادًا في الأرض، وكذا معاونة المظلومين إذا أرادوا الخروج عليه، وكذا المعاونة له لكونه إعانة على الظلم، وذلك لا يجوز. ومنها: أن يقول للناس ما لا تصل عقولهم إليه، وفي الحديث: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم". ومنها أن يذكر للناس ما لا يعرفه بكنهه ولا يقدر على استخراجه، فيوقعهم في الاختلاف والاختلال، والفتنة والبلية، كما هو شأن بعض الوعاظ في زماننا. ومنها: أن يحكم أو يفتي بقول مهجور أو ضعيف أو قوي يعلم أن الناس لا يعلمون به، بل ينكرونه أو يتركون بسببه طاعة أخرى كمن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء: لا تجوز الصلاة بدون التجويد وهم لا يقدرون على التجويد، فيتركون الصلاة رأسًا، وهي جائزة عند البعض، وإن كان ضعيفًا فالعمل به واجب. وكمن يقول للناس: لا يجوز البيع والشراء والاستقراض بالدراهم والدنانير ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[26]

إلا بالوزن؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص عليها بالوزن، فهو وزني أبدًا وإن ترك الناس فيه الوزن، فهذا القول قوي في نفسه، وهو قول الإِمام أبي حنيفة ومحمد مطلقًا. وقول أبي يوسف في غير ظاهر الرواية وهي خروجها عن الوزنية بتعامل الناس إلى العددية، فهذه الرواية وإن كانت ضعيفة فالقول بها واجب ولازم فرارًا من الفتنة، فيجب على القضاة والمفتين والوعاظ معرفة أحوال الناس وعاداتهم في القبول والرد والسعي والكسل ونحوها، فيكلمونهم بالأصلح والأوفق لهم حتى لا يكون كلامهم فتنة للناس، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يجب على الآمر والناهي معرفة أحوال الناس وعاداتهم وطبائعهم ومذاهبهم؛ لئلا يكون فتنة للناس وتهييجًا للشر، وسببًا لزيادة المنكر وإشاعة المكروه. ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسوا به أنفسهم، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات الذميمة {لَهُمُ} بسبب تلك الصفات المذكورة {اللَّعْنَةُ} في الآخرة؛ أي: الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى ورضوانه {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}؛ أي: الدار السيئة القبيحة، وهي جهنم دار البوار جزاء وفاقًا لما اجترحوه من السيئات وأتوا به من الشرور والآثام، فاللعنة وسوء العاقبة لاصقان بهم لا يعدوانهم إلى غيرهم، وفيه تنفير للمسلمين عن هذه الخصال الثلاث، وأن لا ترفع همتهم حول ذلك الحمى. 26 - ولما كان (¬1) كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق، فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى وحده هو الذي {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسعه في الدنيا {لِمَنْ يَشَاءُ} بسطه وتوسيعه عليه {وَيَقْدِرُ}؛ أي: يضيق الرزق على من يشاء من عباده، ويعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء. كأنه قيل (¬2): لو كان من نقض عهد الله ملعونين في الدنيا ومعذبين في الآخرة .. لِمَ فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا. فقيل: إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو متعلق بمجرد مشيئة الله، فقد يضيق على المؤمن امتحانًا لصبره ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وتكفيرًا لذنوبه ورفعًا لدرجاته، ومن هذا القبيل ما وقع لأكثر الأصحاب - رضي الله عنهم - من المضايقة، ويوسع على الكافر استدراجًا، ومنه ما وقع لأكثر كفار قريش من التوسعة، ثم إن الله تعالى جعل الغنى لبعضهم صلاحًا، وجعل الفقر لبعضهم صلاحًا، وقد جعل في غنى بعضهم فسادًا كالفقر، وفي الكل حكمة ومصلحة. والمعنى: الله (¬1) سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق في جمع المال وله من الحيلة في الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان ولا كفر، ولا صلاح ومعصية، ويقدر على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة، وليس بالحُوَّل (¬2) القُلَّب في استنباط أسبابه ووسائله، وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البر والفاجر، كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء. ثم ذكر أن مشركي مكة بطروا بغناهم، فقال: {وَفَرِحُوا}؛ أي: وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق من مشركي مكة وغيرهم {بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: ببسط الرزق عليهم في الحياة الدنيا، وعدوه أكبر متاع لهم، وأعظم حظوة عند الناس. والفرح (¬3): لذة في القلب لنيل المشتهى؛ أي: فرحوا بها فرح بطر وأشر، لا فرح شكر وسرور بفضل الله وأنعامه عليهم. وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام. قال في "شرح الحكم" عند قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} إنما لم يؤمر العبد برفض الفرح جملة؛ لأن ذلك من ضرورات البشر التي لا يمكن رفعها، بل ينبغي صرفها للوجه اللائق بها، وكذا جميع الأخلاق كالطمع والبخل والحرص والشهوة والغضب لا يمكن تبدلها، بل يصح أن تصرف إلى وجه لائق بها حتى لا تنصرف إلا فيه انتهى. وقيل: في هذه الآية تقديم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) قوله بالحول القلب: الحُوَّل بوزن سُكَّر، أي: بصير بتحويل الأمور وتدبيرها وتقليبها وهو حُوَّل قُلَّب اهـ مختار. (¬3) روح البيان.

وتأخير، والتقدير: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا، فيكون {فْرَحُوا} معطوفًا على {يفسدون}. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: وما نعيم الحياة الدنيا الفاني {فِي الْآخِرَةِ}؛ أي: بالنسبة إلى نعيم الآخرة الباقي {إِلَّا مَتَاعٌ}؛ أي: إلا شيء قليل ونزر يسير سريع الزوال يتمتع به قليلًا، فهو كزاد الراعي يتزود بها إلى الآخرة، وعجالة الراكب؛ وهي ما يتعجل به من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك، فلا حق لهم في البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها، وانتفعوا به من خيراتها، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال. و {في} في قوله: {فِي الْآخِرَةِ} ليست (¬1) ظرفًا لـ {الْحَيَاةُ} ولا لـ {الدُّنْيَا}؛ لأنهما لا يقعان فيها، بل هي حال، والتقدير: وما الحياة القريبة إلى الزوال حالة كونها كائنة في جنب حياة الآخرة؛ أي: بالقياس والنسبة إليها إلا متاع، فـ {في}: للمقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق. وأخرج الترمذي عن المستورد قال (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع"، وأشار بالسبابة. وأخرج الترمذي عن ابن مسعود وصححه قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال: "ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها". قال في "الحكم العطائية" (¬3): إن أردت أن لا تعزل، فلا تتول ولايةً لا تدوم لك، وكل ولايات الدنيا كذلك، وإن لم تعزل عنها بالحياة عزلت عنها بالممات، قال: وقد جعل الله الدنيا محلًا للأغيار ومعدنًا لوجود الأكدار تزهيدًا لك فيها حتى لا يمكنك استناد إليها ولا تعريج عليها. وقد قيل: إن الله تعالى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[27]

أوحى إلى الدنيا: تضيقي وتشدَّدي على أوليائي، وترفَّهي وتوسَّعي على أعدائي، تضيَّقي على أوليائي حتى لا يشتغلوا بك عني، وتوسَّعي على أعدائي حتى يشتغلوا بك عني، فلا يتفرَّغوا لذكري انتهى. فغاية (¬1) متاع الدنيا أنها مثل القصعة والقدح والقدر ينتفع بها، ثم تذهب، والعاقل لا يفرح بما يفارقه عن قريب ويورثه حزنًا طويلًا، وإن حدثته نفسه بالفرح به يكذبها. قال الشاعر: وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لاَ يَرَى مَا يَسُوْؤُهُ ... فَلاَ يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدَا 27 - ولما أبان سبحانه وتعالى أنهم قد انخدعوا بالسراب واكتفوا بالحباب - نفاخات الماء التي تعلوه - ... ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - الآيات، فقال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ثبتوا واستمروا على كفرهم وعنادهم من أهل مكة وغيرهم {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ}؛ أي: هلا أنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {آيَةٌ}؛ أي: علامة عظيمة ومعجزة باهرة كائنة {مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: من رب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من العصا وإحياء الموتى ونحوهما؛ لتكون دليلًا وعلامة على صدقه. والمعنى (¬2): أي ويقول الذي كفروا من أهل مكة هلَّا أنزل على محمَّد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين، كسقوط السماء عليهم كسفًا، أو تحويل الصفا ذهبًا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجًا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابرتهم قد ادعو أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان، أو التي لا تقبل شكًّا ولا جدلًا، ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له في هداية ولا ضلال، بل الأمر كله بيده، فقال: {قل} يا محمَّد لهؤلاء الكفرة المعاندين {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[28]

إضلاله باقتراح الآيات تعنتًا بعد تبين الحق وظهور المعجزات، فلا تغنى عنه كثرة المعجزات شيئًا إذا لم يهده الله تعالى {وَيَهْدِي} سبحانه تعالى {إِلَيْهِ}؛ أي: من أقبل إلى الحق ورجع عن العناد، فضمير {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الحق أو إلى الإِسلام، أو إلى جنابه تعالى {مَنْ أَنَابَ}؛ أي: من أقبل إلى الحق ورجع عن العناد: فضمير {إِلَيْهِ} راجع إلى الحق، أو من (¬1) رجع إلى الله التوبة والإقلاع عما كان عليه. وأصل الإنابة: الدخول في نوبة الخبر. والمعنى (¬2): أي إنه لا فائدة لكم في نزول الآيات إن لم يُرد الله تعالى هدايتكم، فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده، وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيىء لكم من أمره رشدًا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه؛ لتظفروا بالحسنى في الدارين. والخلاصة: أن في القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها، وكان لكم فيه مرشدًا أيما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين في الضلالة لا تلوون على شيء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح؛ لسوء استعدادكم وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدي ولو جاءته كل آية كما قال: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}. 28 - أما (¬3) من أقبلوا إلى الله وتأملوا في دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

بالحسنى، وحاصلون على السعادة في الدنيا والآخرة، وهم من أشار إليهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} محله النصب على البدلية من قوله: {مَنْ أَنَابَ} أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين آمنوا بالله وبرسوله وبكل ما جاء به {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: تسكن قلوبهم وتستأنس {بِذِكْرِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: هم الذين آمنوا بالله وبرسوله، واطمأنت واستأنست قلوبهم بذكر الله سبحانه بألسنتهم كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتوحيد، أو بسماع ذلك من غيرهم؛ أي: إذا سمعوا ذكر الله أحبوه واستأنسوا به، فالمؤمنون يستأنسون بالقرآن وذكر الله الذي هو الاسم الأعظم ويحبون استماعها، والكفار يفرحون بالدنيا، ويستبشرون بذكر غير الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}. وقيل (¬1): المراد بالذكر هنا الطاعة، وقيل: بوعد الله، وقيل: بذكر رحمته، وقيل: بذكر دلائله الدالة على توحيده. {أَلَا}؛ أي: انتبهوا من غفلتكم واعلموا أنه {بِذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {تَطْمَئِنُّ}. وتستأنس {اَلقُلُوبُ}؛ أي: قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها؛ أي: ألا بذكر الله وحده لا بغيره تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهي بمعنى قوله في الآية الأخرى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. فإن قلت (¬2): أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} والوجل استشعار الخوف وحصول الاضطراب، وهو ضد الطمأنينة، فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة، وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحدة؟ قلت: إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة إنما تكون عند ذكر الوعد والثواب، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[29]

وعقابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه؛ أي: فالمؤمنون (¬1) إذا ذكروا عقاب الله، ولم يأمنوا من وقوعهم في المعاصي وجلت قلوبهم، كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد، وزال منها القلق والوحشة كما قال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وفي الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء؛ إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها، 29 - ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الذين جمعوا بين الإيمان بالقلب والعمل الصالح بالجوارح، وهو مبتدأ خبره {طُوبَى لَهُمْ}؛ أي: لهم عند ربهم في الآخرة حالة طيبة وعيشة طيبة ومثوبة حسنى وفرح وسرور، وقيل: طوبى: شجرة في الجنة، وقيل: هي الجنة. {و} لهم {حسن مآب}؛ أي: ولهم عند ربهم مآب حسن ومرجع حسن ومنقلب طيب ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهو الجنة. وفي هذا من الترغيب في طاعته والتحذير من معصيته ومن شديد عقابه ما لا خفاء فيه. وخلاصة ذلك: أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء في الحديث: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقرأ بكرة الأعرابي شذوذًا (¬2): {طِيبى} - بكسر الطاء - لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنه فعلًا كحمر. وقرىء شذوذًا: {وَحُسْنُ مَآبٍ} - بفتح النون ورفع مآب - فـ {حسن}: فعل ماضٍ أصله، وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح، أو الذم، كما قالوا: حسن ذا أدبًا. وقرأ الجمهور: {وَحُسْنُ مَآبٍ} بالرفع على أنه معطوف على {طُوبَى}. وقرأ عيسى الثقفي بالنصب، وخرَّج ذلك ثعلب على أنه معطوف على {طُوبَى} وأنها في موضع نصب على المصدرية كسَقْيًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[30]

لك، وحسن مآب معطوف عليها. 30 - {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل إرسالنا الرسل إلى أممهم قبلك وإعطائنا إياهم كتبًا تتلى عليهم {أَرْسَلْنَاكَ} وبعثناك يا محمَّد {فِي أُمَّةٍ}؛ أي: إلى جماعة كثيرة. فـ {فِي} (¬1) هنا بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}. وفي "بحر العلوم" وإنما عدى الإرسال بـ {فِي} وحقه أن يعدى بإلى؛ لأن الأمة موضع الإرسال؛ أي: أرسلناك إلى أمة {قَدْ خَلَتْ} مضت وتقدمت {مِنْ قَبْلِهَا}؛ أي: من قبل هذه الأمة التي أرسلناك إليها، فالضمير عائد على أمة باعتبار لفظها {أُمَمٌ}؛ أي: قد مضت من قبل هذه الأمة أمم كثيرة وقرون عديدة قد أرسلنا إليهم رسلنا من قبلك، فليس ببدع إرسالك إلى أمتك، فكيف ينكرون رسالتك، ثم علل الإرسال، فقال: {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ}؛ أي: على أمتك، فالضمير راجع إلى {أُمَّةٍ} باعتبار معناها، ولو عاد إلى لفظها، لقال: لتتلو عليها؛ أي: أرسلناك إليهم لكي تقرأ على تلك الأمة الكتاب العظيم {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وهو القرآن وما فيه من شرائع الإِسلام وتزينهم بحلية الإيمان، فإن المقصود (¬2) من نزول القرآن هو العمل بما فيه، وتحصيل السيرة الحسنة لا التلاوة المحضة والاستماع المجرد، فالعامي المتعبد راجل سالك، والعالم المتهاون راكب نائم. وجملة قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} حال من {أُمَّةٍ}؛ أي: أرسلناك إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، والحال أنهم؛ أي: أن أمتك يكفرون وينكرون باللهِ الواسع الرحمة، ولا يعرفون قدر رحمته وإنعامه عليهم بإرسالك وإنزال الكتاب العظيم عليهم، والضمير في {وَهُمْ} عائد على {أُمَّةٍ} من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لكان التركيب: وهي تكفر بالرحمن. اهـ. "سمين". والمعنى: أي كما (¬3) أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلًا فكذبوهم، كذلك أرسلناك في هذه الأمة لتبليغهم رسالة الله إليهم، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم. وخلاصة ذلك: أننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك، وأعطيناهم كتبًا تتلى عليهم أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم، فلماذا يقترحون غيره {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}؛ أي: والحال أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه ووسعت كما شيء رحمته، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتًا، أو أثبتوا له الشركاء. وروي أنَّ أبا جهل سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الحجر يدعو ويقول "يا الله يا رحمن"، فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمدًا يدعو إلهين يدعو الله، ويدعو آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعني به: مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة؟ وهي بلدة في البادية، فنزلت هذه الآية. {قُل} لهم يا محمَّد {هُوَ}؛ أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته {رَبيِّ}؛ أي: خالقي ومتولي أموري. وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر بعد خبر؛ أي: هو جامع لهذين الوصفين من الربوبية والألوهية، فلا مستحق للعبادة سواه. ومعنى: {لَاَ إلَهَ إلَّا هُوَ} هو الواحد المختص بالإلهية، فلا يستحق العبادة له والإيمان به سواه. والمعنى: قل لهم يا محمَّد إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقي ومتولي أمري ومبلغي مراتب الكمال، لا رب غيره ولا معبود سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية حين صالح قريشًا كتب في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، قال: "لا اكتبوا كما يريدون" اهـ. {عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْتُ} واعتمدت في جميع أموري، وإليه أسندت أمري في العصمة من شركم والنصرة عليكم {وَإِلَيْهِ} تعالى

[31]

لا إلى غيره {مَتَابِ}؛ أي: توبتي، وهو مصدر ميمي لتاب يتوب، وأصله (¬1) متابي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ولكنها حذفت اجتزاء عنها بالكسرة؛ أي: مرجعي ومرجعكم فيرحمني وينتقم لي منكم، والانتقام من الرحمن أشد، ولذا قيل: نعوذ بالله من غضب الحليم. وفي هذا (¬2): بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطف سبيل؛ إذا أمر بها عليه السلام وهو منزه عن اقترات الذنوب، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر. 31 - {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا}؛ أي: ولو ثبت أن كتابًا من الكتب السماوية {سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}؛ أي: نقلت بتلاوته عن أماكنها، وأذهبت عن وجه الأرض بقرائته عليها، كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ}؛ أي: أو شقت الأرض بتلاوته عليها، وجعلت أنهارًا وعيونًا، كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}؛ أي: أو كلم أحد به الموتى في قبورهم بأن أحياهم بقرائته عليهم، فتكلم معهم كما وقع لعيسى عليه السلام، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لو ثبت أمر من هذه الأمور الثلاثة لكتاب من الكتب السماوية لثبت لهذا الكتاب العظيم، ولهذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله في الأنفس والآفاق، ولما اشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم في الدار الفانية والدار الباقية، واشتمل عليه من قوانين العمران التي تكون خيرًا لمتبعيها وفوزًا لسالكيها، ويجعل منهم خير أمة أخرجت للناس. أو التقدير: لو ثبت أمر من هذه الأمور الثلاثة لكتاب من الكتب السماوية .. لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن وهذا بمعنى قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. خلاصة ذلك (¬1): لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة؛ لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدوه آية، واقترحوا غيره. ولا يخفى ما في هذا من تعظيم شأنه الكريم، ووصفهم بسخف العقل وسوء التدبير والرأي، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغي أن يؤبه لها ولا يلتفت إليها؛ لأنها صادرة عن التشهي والهوى والتمادي في الضلال، والمكابرة والعناد، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح، وتأمل في حقائقها، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار. ويجوز أن يكون المعنى: لو أن كتابًا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة .. لما آمنوا به لفرط عنادهم وعلوهم في مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. {بَلْ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْأَمْرُ} الذي يدور (¬2) عليه فلك الأكوان {جَمِيعًا} وجودًا وعدمًا إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، فله التصرف في كل شيء، وله القدرة على ما أراد، وهو قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك؛ لعلمه بأنه لا تنفعهم الآيات، وأن قلوبهم لا تلين بذلك، ولا يجدي هذا فائدة في إيمانهم. والمعنى: بل مرجع الأمور كلها بيد الله تعالى ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد فما له من مضل. وهذه الجملة إضراب (¬3) عن ما تضمنته لو من معنى النفي؛ أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) البيضاوي.

شكيمتهم، ويؤيد ذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} والهمزة فيه داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و {يَيْأَسِ} هنا بمعنى يعلم و {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والتقدير: أغفل الذين آمنوا كون الأمر جميعًا لله تعالى، فلم يعلموا أن الشأن والحال لو شاء الله سبحانه وتعالى هداية الناس أجمعين لهداهم جميعًا من غير أن يشاهدوا الآيات التي اقترحوها، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع في العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، ولكنه لم يشأ هداية جميع الناس. وقيل (¬1): إن الإياس على معناه الحقيقي؛ أي: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعًا في إيمانهم. وحاصله: أن في معنى الآية قولين: أحدهما: أن يئس بمعنى علم. والقول الثاني: أنه من اليأس المعروف، وتقدير القولين ما تقدم. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالرحمن وهم كفار مكة {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا}؛ أي: بسبب ما صنعوا وفعلوا من كفرهم وأفعالهم الخبيثة {قَارِعَةٌ}؛ أي: داهية ومصيبة تقرعهم وتفجأهم، وتفزعهم من القتل والأسر والحرب والجدب. وأصل القرع: الضرب والصدع. وتلخيصه (¬2): ولا يزال كفار مكة معذبين بقارعة من البلايا والرزايا {أَوْ تَحُلُّ} القارعة؛ أي: تنزل {قَرِيبًا}؛ أي: مكانًا قريبًا {مِنْ دَارِهِمْ} مكة فيفزعون فيها، ويقلعون ويتطاير عليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها، ويجوز أن يكون {تَحُلُّ} خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حل بجيشه قريبًا من دارهم حيث حاصر أهل الطائف، وحيث حل بالحديبية في عامها. وقيل هذا وعيد للكفار على العموم، لا خصوص أهل مكة {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}؛ أي: حتى ينجز الله سبحانه وتعالى وعده الذي وعدك فيهم بظهورك عليهم وفتحك أرضهم وقهرك إياهم بالسيف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}؛ أي: لا يترك وفاء الوعد الذي وعده لعباده؛ لامتناع الخلف في حقه تعالى؛ لكونه نقصًا منافيًا للألوهية، وكمال الشيء، فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة؛ أي: إن الله تعالى منجزك ما وعدك من النصر عليهم؛ لأنه لا يخلف وعده كما قال: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}. والميعاد (¬1): بمعنى الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة، والوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري (¬2)، وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره: وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو زيد المزني وعلي بن نديمة وعبد الله بن يزيد: {أفلم يتبين} من بينت كذا إذا عرفته وهه قراءة شاذة وليست متواترة، وتدل هذه القراءة الشاذة على أن معنى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب، وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ مجاهد وابن جبير: {أو يحل} بالياء على الغيبة وهي قراءة شاذة أيضًا، واحتمل أن يكون عائدًا على معنى القارعة، وهو أوضح، راعى فيه التذكير؛ لأنها بمعنى البلاء أو العذاب، أو تكون الهاء في {قَارِعَةٌ} للمبالغة فهو بمعنى قارع، واحتمل أن يكون عائدًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أو يحل الرسول قريبًا. وقرىء شذوذًا أيضًا: {من ديارهم} بالجمع وهي واضحة. الإعراب {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}. {الَّذِينَ} مع ما عطف عليه: مبتدأ أول، خبره جملة قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}، أو بدل من {أُولُو الْأَلْبَابِ}، أو نعت له، وجملة قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}: مستأنفة. {يُوفُونَ}: فعل وفاعل. {بِعَهْدِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة صلة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الموصول. {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يُوفُونَ}. {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول معطوف على الموصول الأول. {يَصِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {أَمَرَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، ومفعوله محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يُوصَلَ}: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من ضمير به، والتقدير: والذين يصلون ما أمر الله بوصله. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَصِلُونَ}. {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَصِلُونَ}. {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول. {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}: يجوز أن يكون مفعولًا له، وهو الظاهر، وأن يكون حالًا؛ أي: مبتغين، والمصدر مضاف لمفعوله. اهـ. "سمين". ولكن الكلام على حذف مضاف؛ أي: ابتغاء ثوابه ورضاه. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {صَبَرُوا}. {وَأَنْفَقُوا}: فعل وفاعل معطوف {صَبَرُوا}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْفَقُوا}. {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف الذي قدرناه آنفًا. {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}: حالان من فاعل {وَأَنْفَقُوا}، ولكنه على تأويله بالمشتق تقديره: وأنفقوا حالة كونهم مسرين ومعلنين، أو على المصدرية؛ أي: إنفاق سر وعلانية، أو على الظرفية؛ أي: وقتي سر وعلانية. ذكره في "روح البيان" كما تقدم. {وَيَدْرَءُونَ}: فعل وفاعل

معطوف على {صَبَرُوا}. {بِالْحَسَنَةِ}: متعلق به. {السَّيِّئَةَ}: مفعول به. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم لما بعده. {عُقْبَى الدَّارِ}: مبتدأ ثالث ومضاف إليه، والجملة من المبتدأ الثالث وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)}. {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي جنات عدن، والجملة في محل الرفع بدل من {عُقْبَى الدَّارِ}، أو عطف بيان منه. {يَدْخُلُونَهَا}: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ {جَنَّاتُ}، ولكنها سببية. {وَمَنْ} {الواو} للمعية {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على المرفوع في {يَدْخُلُونَهَا}، وإنما ساغ العطف بلا توكيد، لوجود الفصل بالضمير المنصوب. {صَلَحَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مِنْ}، والجملة صلة الموصول. {مِنْ آبَائِهِمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {صَلَحَ}. {وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}: معطوفان على {آبَائِهِمْ}. {وَالْمَلَائِكَةُ}: مبتدأ. {يَدْخُلُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، وكذا قوله: {مِنْ كُلِّ بَابٍ}: يتعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو الجملة الاسمية مستأنفة. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}. {سَلَامٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل {يَدْخُلُونَ}، والتقدير: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب حالة كونهم قائلين: سلام عليكم. {بِمَا}: (الباء): حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية: {صَبَرْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب صبركم في الدنيا على مشاق

التكاليف، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}: (الفاء): عاطفة. {نعم}: فعل ماضٍ لإنشاء المدح. {عُقْبَى الدَّارِ}: فاعل ومضاف إليه، وجملة {نعم}: في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف هو مخصوص بالمدح تقديره: جنات عدن، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} على كونها مقولًا لقول محذوف. {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر مبتدأ أول. {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْقُضُونَ}. {وَيَقْطَعُونَ مَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَنْقُضُونَ}. {أَمَرَ الله}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. {أَنْ يُوصَلَ}: ناصب وفعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من الضمير المجرور. {وَيُفْسِدُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَنْقُضُونَ}. {في الْأَرْضِ}: متعلق به. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {لَهُمْ}: خبر مقدم لما بعده. {اللَّعْنَةُ}: مبتدأ ثالث، والجملة من المبتدأ الثالث في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول معطوفة على جملة قوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ}: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}: مبتدأ وخبر معطوف على جملة قوله: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}. {الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}. {الله}: مبتدأ. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْسُطُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره:

لمن يشاء البسط له. {وَيَقْدِرُ}: فعل مضارع معطوف على {يَبْسُطُ}. {وَفَرِحُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بِالْحَيَاةِ}: متعلق به. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةُ}. {وَمَا الْحَيَاةُ}: (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {الْحَيَاةُ}: مبتدأ. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةُ}. {في}: حرف جر ومقايسة بمعنى الباء. {الْآخِرَةِ}: مجرور بها، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من المضاف المحذوف الواقع مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مَتَاعٌ}: خبر المبتدأ، والتقدير: وما نعيم الحياة الدنيا حالة كونه مقاسًا بنعيم الآخرة إلا متاع. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}. {وَيَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا. {أُنْزِلَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {آيَةٌ}: نانب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {آيَةٌ}؛ أي: آية كائنة من ربه، والجملة من الفعل المغير ونائب فاعله في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللهَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {يُضِلُّ مَنْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قُلْ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إضلاله. {وَيَهْدِي}: فعل مضارع معطوف على {يُضِلُّ}، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}. {أَنَابَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}.

{الَّذِينَ} بدل من {مَنْ} في قوله: {مَنْ أَنَابَ} بدل كل من كل، أو عطف بيان منه. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {بِذِكْرِ اللهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَطْمَئِنُّ}. {أَلَا}: حرف تنبيه. {بِذِكْرِ اللهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما بعده. {تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {طُوبَى}: مبتدأ ثان، وجاز الابتداء به: إما لأنه علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل له. اهـ. "سمين". {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني. {وَحُسْنُ مَآبٍ}: معطوف على {طُوبَى}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة. {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول. {في أُمَّةٍ}: جار ومجرور متعلق به، والتقدير: أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالًا مثل إرسالنا الرسل السالفة إلى أممهم، والجملة الفعلية مستأنفة. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ}: فعل ماض. {مِنْ قَبْلِهَا}: جار ومجرور متعلق به. {أُمَمٌ}: فاعل {خَلَتْ}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {أُمَّةٍ}، ولكنها صفة سببية. {لِتَتْلُوَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {تَتْلُوَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة؛ لأنه فعل معتل الواو، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {عَلَيْهِمُ}: متعلق به. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَتْلُوَ}، وجملة {تَتْلُوَ}: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لتلاوتك عليهم الذي أوحينا إليك، الجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَاكَ}.

{أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: الذي أوحينا إليك. {وَهُمْ} (الواو): حالية أو استئنافية. {وَهُمْ}: مبتدأ. {يَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل. {بِالرَّحْمَنِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {أُمَّةٍ}، أو من الضمير في {عَلَيْهِمُ}. {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {هُوَ رَبِّي} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هُوَ رَبِّي}: مبتدأ وخبر أول، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَا}: نافية. {إِلَهَ}: في محل النصب اسم {لَا}، وخبر {لَا} محذوف جوازًا تقديره: موجود. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {تَوَكَّلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثالث للمبتدأ، أو مستأنفة. {وَإِلَيْهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَتَابِ}: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة مناسبة لياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}. {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}. {وَلَوْ} (الواو): استئنافية. {لَوْ}: حرف شرط. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {قُرْآنًا}: اسمها. {سُيِّرَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة. {بِهِ}: متعلق به. {الْجِبَالُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}. {أَوْ قُطِّعَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة. {بِهِ}: متعلق به. {الْأَرْضُ}: نائب فاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {سُيِّرَتْ}. {أَوْ كُلِّمَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {بِهِ}: متعلق به. {الْمَوْتَى}: نائب فاعل والجملة معطوفة على

جملة {سُيِّرَتْ}. وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف بعد {لَوْ} الشرطية، والجملة المحذوفة مع فاعلها المنسبك من {أَنَّ}: فعل شرط لـ {لَوْ}، وجوابها محذوف تقديره: لو ثبت تسيير الجبال بكتاب من الكتب السماوية، أو تقطيع الأرض به، أو تكليم الموتى به .. لثبت كونه هذا القرآن، أو لما آمنوا به، وجملة {لَوْ} الشرطية: مستأنفة. {بَل}: حرف إضراب. {لِلَّهِ}: خبر مقدم. {الْأَمْرُ}: مبتدأ مؤخر. {جَمِيعًا}: حال من {الْأَمْرُ}، أو من الضمير المستكن في الخبر، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَفَلَمْ}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَيْأَسِ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والتقدير أغفلوا عن كون الأمر لله جميعًا، فلن يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {أَنَّ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا؛ أي: أنه {لَوْ} حرف شرط. {يَشَاءُ الله}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لَوْ}. {لَهَدَى}: اللام: رابطة لجواب {لَوْ} {هَدَى النَّاسَ}: فعل ومفعول. {جَمِيعًا}: حال من الناس وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية: في محل الرفع خبر {أَنْ}: المخففة: وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي يئس؛ لأنه بمعنى علم، والتقدير: أفلم يعلم الذين آمنوا هداية الله الناس جميعًا لو شاء هدايتهم، ولكنه لم يشأ هدايتهم جميعًا لحكمة اقتضت ذلك. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ}: فعل ناقص واسمه. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {تُصِيبُهُمْ}: فعل ومفعول. {بِمَا}: (الباء): حرف جر وسبب. {مَا}: مصدرية. {صَنَعُوا}: فعل وفاعل صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (الباء) تقديره: تصيبهم بسبب صنعتهم القبيحة، الجار والمجرور متعلق بـ {تُصِيبُهُمْ}. {قَارِعَةٌ}: فاعل {تُصِيب}، وجملة

{تُصِيبُهُمْ}: في محل النصب خبر (زال)، وجملة زال مستأنفة. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم. {تَحُلُّ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {قَارِعَةٌ}، أو على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تصيب} على كونها خبر (زال). وفي "حاشية الصاوي على الجلالين" قوله: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا}: معطوف على {قَارِعَةٌ}، والمعنى: تصيبهم بما صنعوا قارعة، أو حلولك قريبًا من دارهم، والعطف يقتضي المغايرة، فالمراد بالقارعة غير حلوله، وإن كان من أعظم القوارع انتهى. {قَرِيبًا}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {تَحُلُّ}؛ لأنه صفة لمكان محذوف. {مِنْ دَارِهِمْ}: متعلق بـ {قَرِيبًا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، بمعنى: إلى تقديره إلى إتيان وعد الله، الجار والمجرور متعلق بـ {تُصِيبُهُمْ}، أو بـ {تَحُلُّ}. {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} والفرق بين العهد والميثاق أن العهد (¬1): جميع ما عهد الله عليهم من أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده على ألسنة الرسل وفي الكتب السماوية، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه. والميثاق: هو ما أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...} الآية. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحساب} قال أبو هلال العسكري (¬2): الفرق بين الخوف والخشية أن الخوف: يتعلق بالمكروه نفسه وبمنزل المكروه، يقال: خفت زيدًا وخفت المرض، كما قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، وقال {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} والخشية: تتعلق بمنزل المكروه، فتقول: خشيت الله، ولا يسمى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان بزيادة.

الخوف من نفس المكروه خشية، فلا تقول: خشيت المرض، بل تقول: خفت المرض، ولهذا قال: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، والإضافة في {سُوءَ الْحِسَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الحساب السيء، وهو؛ أي: الحساب السيء: المؤاخذة بكل ما عملوه. {وَالَّذِينَ صَبَرُوا}، والصبر: حبس النفس على أنواع البلايا والمصائب وعلى مخالفة الهوى بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات. واعلم أن مواد الصبر كثيرة: منها: الصبر على العمى، وفي الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - أي العينين، وسميتا بذلك؛ لأنهما أحب الأشياء إلى الشخص - فصبر على البلاء راضيًا بقضاء الله تعالى عوضته منهما الجنة" والأعمى: أول من يرى الله تعالى يوم القيامة. ومنها: الصبر على الحمَّى وصداع الرأس وموت الأولاد والأحباب، وغير ذلك من أنواع الابتلاء. ومنها: الصبر على الصوم، فإن فيه صبرًا على ما تكرهه النفس من حيث أنها مألوفة بالأكل والشرب والصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله عليه السلام: "الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان" ذكره في "روح البيان". {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} والابتغاء: كناية عن الإخلاص، وهو إخلاص العمل للخالق عن ملاحظة المخلوق رياءً وسمعةً وعجبًا وزينةً. {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}؛ أي: يدفعونها بها، فيجازون الإساءة بالإحسان، أو يتبعون السيئة بالحسنة، فتمحوها. اهـ."بيضاوي". وقوله: يدفعونها بها كدفع (¬1) شتم غيرهم بالكلام الحسن، وإعطاء من حرمهم، وعفو من ظلمهم، ووصف من قطعهم. اهـ. "زادة". {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} فيه ذكر الموصوف مع حذف صفته (¬2)، والإضافة فيه ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) الفتوحات بتصرف.

على معنى في؛ أي: العقبى المحمودة في الدار الآخرة، فالعقبى المحمودة هي الجنة، والدار الآخرة أعم منها؛ لأنها تشمل الجنة والنار، والدليل على هذا النعت المحذوف قوله في المقابل: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. اهـ. شيخنا. وقيل: المراد بالدار: دار الدنيا وعقباها؛ أي: عاقبتها هي الجنة اهـ. وفي "الخطيب" والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر. اهـ. {جَنَّاتُ عَدْنٍ} في "المصباح": عدن بالمكان عدنًا وعدونًا - من بابي ضرب وقعد - إذا أقام فيه، ومنه جنات عدن؛ أي: جنات إقامة، واسم المكان معدن، وزان مجلس؛ لأن أهله يقيمون عليه الصيف والشتاء، أو لأن الجوهر الذي خلقه الله فيه عدن ربه اهـ. {وَأَزْوَاجِهِمْ}: جمع زوج، ويقال للمرأة الزوج والزوجة، والزوج أفصح. {الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يقال: قَدَر زيد إذا قتر وضيق على عياله، وفي "المصباح": وقدر الله الرزق يقدره من باب ضرب، ويقدره من باب نصر. وقرأ السبعة بكسر الدال فهو أفصح. {إِلَّا مَتَاعٌ}؛ أي: متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء. وقيل: المتاع (¬1) واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما. وقيل: المعنى شيء قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع، فلا بد له من زوال. وقيل: زاد كزاد الركب يتزود به منها إلى الآخرة. {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}؛ أي: رجع عن العناد، وأقبل على الحق. وفي "القاموس": ناب إلى الله تعالى كأناب، والإضلال (¬2) خلق الضلالة في العبد، والهداية خلق الاهتداء، والدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب مطلقًا، وقد يسند كل منهما إلى الغير مجازًا بطريق السبب، والقرآن ناطق بكلا المعنيين، فيسند الإضلال إلى الشيطان في مرتبة الشريعة، وإلى النفس في مرتبة الطريقة، إلى الله في مرتبة الحقيقة كذا ذكره في "روح البيان". ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: تسكن عن القلق والاضطراب وتخشع. {بِذِكْرِ اللهِ}؛ أي: عند ذكر الله؛ أي: عند ذكر وعده بالخير والثواب، فالكلام على حذف مضاف كما قدرناه. وعبارة "الشهاب": {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ}؛ أي: لا تضطرب للمكاره لأنسبها بالله واعتمادها عليه. اهـ. وفي "أبي السعود" وقيل: تطمئن قلوبهم بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو بذكره تعالى أنسًا به وتبتلًا إليه. اهـ {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ}؛ أي: بذكره وحده دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنيويات. اهـ. "أبو السعود". {طُوبَى لَهُمْ}؛ أي: لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور، فهو مصدر من الطيب كبشرى ورجعى وزلفى، فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى. وقولنا: من الطيب فيه دلالة على أنه يائي، وأصله طيبى، قلبت الياء واوًا لوقوعها ساكنة إثر ضمة، كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر. اهـ. "شيخنا". {وَحُسْنُ مَآبٍ}، والمآب: المرجع والمنقلب. {قَدْ خَلَتْ}؛ أي: مضت. {مَتَابِ}؛ أي: توبتي ومرجعي. {قُطِّعَتْ}؛ أي: شققت. {يَيْأَسِ}؛ أي: يعلم، وهو لغة هوازن. وفي "المختار": واليأس: القنوط، وقد يئس من الشيء من باب فهم، وفيه لغة أخرى يئس ييئس - بالكسر فيهما -، وهو شاذ، ويئس أيضًا بمعنى علم في لغة النخع، ومنه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا}. اهـ. وفيه أيضًا أيس من الأمر لغة في يئس، وبابهما فهم. اهـ {قَارِعَةٌ}؛ أي: رزية تقرع القلوب وتفجؤها، أو تقرعهم؛ أي: تهلكهم وتستأصلهم. وفي "المختار": قرع الباب من باب قطع، والقارعة الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية.

{لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} والميعاد: مصدر ميمي بمعنى الوعد، كالميلاد بمعنى الولادة، والميثاق بمعنى التوثقة كما مر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد في قوله: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}؛ لأن عطفه على ما قبله من قبيل التوكيد، كما في "الجمل"؛ لأن عدم النقض يستلزمه الوفاء. ومنها: الطباق بين {سِرًّا} {وَعَلَانِيَةً}، وبين {الْحَسَنَةِ} و {السَّيِّئَةَ}، وبين {يَبْسُطُ} و {وَيَقْدِرُ}، وبين {يُضِلُّ} و {وَيَهْدِي} للتضاد بين كل من اللفظين منها، وبين {الدُّنْيَا} و {الْآخِرَةِ} أيضًا. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {إِلَّا مَتَاعُ} لحذف الأداة ووجه الشبه فيه؛ أي: إلا مثل المتاع الذي يستمتع به الإنسان في الحاجات المؤقتة في سرعة الزوال. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}؛ لأن حق العبارة ألا به تطمئن، وفيه أيضًا التكرار. ومنها: الحصر في قوله: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وفي قوله: {إِلَّا مَتَاعُ}. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} إفادة للتجدد والاستمرار؛ لأن الطمأنينة تتجدد بعد الإيمان حينًا بعد حين. اهـ. "شهاب". وفي الكرخي المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه الآية. اهـ. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ}.

ومنها: التغليب في قوله: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}؛ لأن تذكير كلم خاصة دون الفعلين قبله؛ لأن الموتى تشتمل على المذكر الحقيقي، فكان حذف التاء لتغليبه أحسن، والجبال والأرض ليسا كذلك. اهـ. "كرخي". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما كان الكفار يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه، ويتأذى منه .. أنزل الله تسليةً له على سفاهة قومه قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآية. قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ...} الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) ما أعده للكافرين من العذاب ¬

_ (¬1) المراغي.

والنكال في الدنيا والآخرة .. أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته - صلى الله عليه وسلم -، كقولهم: إنه كثير الزوجات ولو كان رسولًا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء. وخلاصة الجواب: أن محمدًا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم: إنه لو كان رسولًا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوض إلى الله، إن شاء أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه. وقولهم: إن ما يخوفنا من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد، فليس بنبي ولا صادق فيما يقول، فأجيبوا عن ذلك بقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}؛ أي: لكل حادث وقتًا معينًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدعون. قوله تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ...} الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به، وطلبوا استعجال السيئة التي توعَّدهم بها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتمنى وقوع بعض ما توعدوا؛ ليكون زاجرًا لغيرهم .. ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء، فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به، وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها، وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال. ثم بين أن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم، ولم ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

يكن مكرهًا ليضيرهم شيئًا، فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب لمن حسن العاقبة. ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته، وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفي شهادته غنى عن شهادة أي شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه في كتبهم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ ...} قال الكلبي (¬1): عيرت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: ما نرى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيًّا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ...}. التفسير وأوجه القراءة 32 - وقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} .. إلخ. تسلية (¬2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه بالآيات، والتنكير في {رُسُلٍ} للتكثير، والإملاء (¬3): الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان؛ أي: مدة طويلة منه في دعة وراحة وأمن كالبهيمة في المرعى؛ أي: وعزتي وجلالي لقد استحقر واستهين وأوذي وكذب برسل كثيرة من قبلك؛ أي: استهزأ بهم قومهم كما أن قومك يا محمَّد استهزؤوا؛ أي: إن (¬4) يستهزىء بك هؤلاء المشركون من قومك، ويطلبوا منك الآيات تكذيبًا لما جئتهم به .. فاصبر على أذاهم، وامض لأمر ربك، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم. ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين، فقال: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: فأمهلت للمستهزئين الذين كفروا بالله وبرسله، وأطلت لهم مدة من الزمان في أمن وسعة وراحة؛ أي: فتركتهم ملاوة؛ أي: مدة من الزمان في أمن ودعة وراحة، كما يملي للبهيمة في المرعى {ثُمَّ} بعد الإملاء ¬

_ (¬1) أسباب النزول. (¬2) البيضاوي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[33]

والإمهال والاستدراج {أَخَذْتُهُمْ} بالعقوبة والعذاب الذي أنزلته بهم. والاستفهام في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} للتقريع (¬1) والتهديد، أو التعجيب؛ أي: فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزؤوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم؛ أي: على أي حالة وقع عقابي لهم، هل كان ظلمًا لهم أو كان عدلًا؛ أي: هو واقع موقعه أي: هو عدل، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا محمَّد. والمعنى: كيف (¬2) رأيت يا محمَّد ما صنعت بمن استهزأ برسلي، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوبتهم إلا أنه علم بالتحقيق، فكأنه رأى عيانًا. وفي "بحر العلوم": فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم، فتشاهدون أثر ذلك، وهذا تعجيب من شدة أخذه لهم؛ سلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن استهزائهم به وأذاهم وتكذيبهم واقتراحهم الآيات بأن له في الأنبياء أسوة، وأن جزاء ما يفعلون به ينزل بهم كما نزل بالمستهزئين بالأنبياء جزاء ما فعلوا. وفيه إشارة إلى أن من أمارات الشقاء الاستهزاء بالأنبياء والأولياء. والخلاصة (¬3): أي ثم أحللت بهم عذابي ونقمتي حين تمادوا في غيهم وضلالهم، فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم، ألم أذقهم أليم العذاب، وأجعلهم عبرة لأولي الألباب؟ وقد صدق الله وعده ونصر رسوله على عدوه، فدخل في دين الله من دخل، ومن أبى قتل، ودانت العرب كلها له، وانضوت تحت لوائه، وحقت عليهم كلمة ربك. 33 - وفي هذا: تعجيب مما حلّ بهم، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى. ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الحجاج عليهم، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، وكيف أنها وصلت إلى حدّ لا ينبغي لعاقلٍ أن يقبله ولا يرضى به، فقال: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري داخلة (¬4) على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) الصاوي.

و {من} الموصولة مبتدأ خبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، دل على ذلك المحذوف قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} نظير قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} تقديره: كمن قسا قلبه يدل عليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}، وقد جاء مبينًا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} وقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}. وتقدير الكلام هنا: أعميتم (¬1) وسويتم بين الله وبين خلقه، فمن هو قائم ورقيب على كل نفس وحافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر، ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت، ويعاقبها إن أساءت وهو الله سبحانه وتعالى وحده، كمن ليس بقائم عليها، بل هو عاجز عن نفسه، ومن كان عاجزًا عن نفسه فهو عن غيره أعجز، وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ أي: ليسا مستويين، بل القائم على كل نفسٍ بما كسبت هو المستحق للألوهية والربوبية، لا الأصنام التي لا تضر ولا تنفع. ومعنى القيام (¬2): التولي لأمور خلقه والتدبير للأرزاق والآجال، وإحصاء الأعمال للجزاء، يقال: قام فلان بفلان إذا كفاه وتولاه. والمعنى: أي أفمن هو (¬3) قائم بحفظ أرزاق الخلق، ومتولي أمورهم، وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر، ولا يعزب عن شيء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرًّا ولا تجلب لهم نفعًا. وخلاصة ذلك: أنه لا عجيب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأي العين كمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن اتخاذه ربًّا يُرجى نفعه أو يُخشى ضره. ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

ثم أكد هذا بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}؛ أي: وجعل المشركون الأصنام شركاء لله سبحانه وتعالى، والظاهر أن هذه الجملة مستأنفة جيء بها للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره يعني (¬1): إن الكفار سووا بين الله وبين الأصنام، واتخذوها شركاء له في العبادة، وإنما تكون سواء وشركاء فيها لو كانت سواء وشركاء في القيام على كل نفس، فما أعجب كفرهم وإشراكهم وتسويتهم مع علمهم التفاوت بينهما؛ أي: تعجبوا من ذلك. وقيل (¬2): الواو للحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس صالحة وطالحة، والحال أنهم جعلوا له شركاء كمن هو ليس كذلك، فأقيم الظاهر وهو لفظ الجلالة مقام المضمر تقريرًا للإلهية وتصريحًا بها. وقيل {وَجَعَلُوا} معطوف على {اسْتُهْزِئَ} بمعني: ولقد استهزؤوا وجعلوا لله شركاء. وقال أبو البقاء: هو معطوف على {كَسَبَتْ}؛ أي: وجعلهم لله شركاء. اهـ. "سمين"؛ أي: وجعلوا لله شركاء عبدوها معه تعالى من أصنام وأوثان وأنداد. ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ، فقال: {قل} لهم يا محمَّد {سَمُّوهُمْ} أي: بينوا (¬3) شركاءكم بأسمائهم وصفوهم بصفاتهم، فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة، يشير إلى أن الأسماء مأخذها من الصفات، فإن لم تروا منهم شيئًا من صفات الله، فكيف تسمونهم!؟. وفي هذا: تبكيت لهم وتوبيخ؛ لأنه إنما يقال هذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت يعني: أنه أحقر من أن يسمى. وقيل: إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديدًا لهم. وقيل: سموهم من هم وما أسماؤهم، فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، فإنما يسمى من ينفع ويضر. و {أَمْ} في قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} منقطعة تقدر ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

أي: بل أتنبئون الله سبحانه وتعالى وتخبرونه {بِمَا لَا يَعْلَمُ} الله سبحانه وتعالى وجوده في {الْأَرْضِ} ولا في السموات من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها. وفي هذا نفي لوجودها؛ لأنها لو كانت موجودة لعلمها الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وإنما خص (¬1) الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض؛ لأنهم ادعوا له شريكًا في الأرض {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر وهذل من القول من غير أن تكون له حقيقة ولا معنى. وقيل المعنى: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه، فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاؤوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه، فقل لهم: سموهم، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكًا. وقيل معنى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي: بزائل من القول باطلٍ، وقيل: يكذب من القول، وقيل: معنى {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: بحجة من القول ظاهرة على زعمهم. وخلاصة حجاجه على المشركين (¬2): نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على أحقية عبادتها، فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} زاد ذلك إيضاحًا، فقال: وليتهم إذا أشركوا بربهم - الذي لا ينبغي أن يشرك به - أشركوا به من له حقيقة واعتبار، ومن ينفع ويضر، لا من لا اسم له فضلًا عن المسمى، بل من لا يعرف له وجود في الأرض ولا في السماء، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه، ثم زاد على ذلك، فقال: وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل، وما هي إلا أصوات جوفاء كثيرة المباني خالية عن المعاني، وما هي إلا كالألفاظ المهملة التي هي أجراس لا تدل على مكان، ولا يتكلم بها عاقل تنفرًا منها واستقباحًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وقوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إضراب عن محاجتهم بالكلية، فكأنه يقول: لا يفيد فيهم الاحتجاج؛ أي: دع هذا (¬1) الحجاج وألق به جانبًا، فإنه لا فائدة فيه؛ لأنه زين له مكرهم وكيدهم لاستسلامهم للشرك وتماديهم في الضلال. والمكر (¬2): صرف الغير عما يقصده بحيلة، والمزين هو الله تعالى؛ لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق، لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه، فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا الله سبحانه وتعالى، ويدل على هذا سياق الآية، وهو قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. اهـ. "خازن". {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} - بضم الصاد -؛ أي: وصرفوا عن سبيل الحق بما زين لهم من صحة ما هم عليه؛ أي: صدهم الله تعالى أو صدهم الشيطان وبفتحها؛ أي: صدوا غيرهم ومنعوهم عن سبيل الحق، أو عن المسجد الحرام. {وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}؛ أي: ومن يرد الله سبحانه وتعالى إضلاله وخذلانه لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي .. فلا هادي له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة، ونحو الآية قوله: {وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا}. وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}. وقرأ الحسن شاذًا (¬3): {تنبئونه} من أنبأ. وقرأ مجاهد شذوذًا أيضًا: {بل زَيَّن} على البناء للفاعل {مكرهم} بالنصب. والجمهور: {زُيِّنَ} على البناء للمفعول {مَكْرُهُمْ} بالرفع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {وصدوا} هنا وفي غافر بضم الصاد مبنيًّا للمفعول فالفعل متعدٍ. وقرأ باقي السبعة بفتحها فاحتمل التعدي واللزوم؛ أي: صدوا أنفسهم أو غيرهم، وقرأ ابن وثاب: {وصِدوا} - بكسر الصاد - وهي كقراءة {رِدت إلينا} - بكسر الراء -، كلاهما شاذ. وفي "اللوامح": نسب الكسائي لابن يعمر {وصِدوا} بالكسر لغة وأما في المؤمن فالبكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق شاذًا أيضًا: {وصدٌ} بالتنوين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[34]

عطفًا على مكرهم. وقرأ الجمهور (¬1): {هَادٍ} بدون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة، وقرىء بإثباتها على اللغة القليلة. 34 - ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المشركين {عَذَابٌ} شاق {في} هذه {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ}؛ أي: ولتعذيب الله سبحانه إياهم في الدار الآخرة {أَشَقُّ}؛ أي: أشد من تعذيبه إياهم في الدنيا، وأصعب لشدته ودوامه. ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم، فقال: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ}؛ أي: من عذابه {مِنْ وَاقٍ}؛ أي: حافظ ومانع حتى لا يعذبوا، فـ {مِنْ} الثانية زائدة، والأولى متعلقة بـ {وَاقٍ}؛ أي: وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره. 35 - ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى .. ذكر ما أعده للمؤمنين، فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} مبتدأ خبره محذوف؛ أي: صفة الجنة والبساتين التي وعد الله بها المتقين بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له كائنة هي فيما قصصنا وقرأنا عليك يا محمَّد حالة كونها {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل؛ أي: مقدرًا جريان أنهارها تحتها؛ أي: صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل كائنة فيما نقصه ونتلوه ونقرؤه عليكم. وقوله: {تَجْرِي} .. إلخ تفسير (¬2) لذلك المحذوف، وقيل: إن قوله: {تَجْرِي} هو نفس الخبر. اهـ. من "البيضاوي". ووجه الأخير أن المثل هنا بمعنى الصفة، فهو كقولك: صفة زيد أنه طويل، ويجوز أن يكون {تَجْرِي} مستأنفًا. اهـ. من "السمين". وقرأ علي وابن مسعود: {مثال الجنة} على الجمع؛ أي: صفاتها وفي "اللوامح": علي السلمي: {أمثال الجنة} جمع: مثل ذكره أبو حيان وكلتا القراءتين شاذتان. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات.

[36]

{أُكُلُهَا}؛ أي: ما يؤكل فيها ويشرب من الفواكه والمطاعم والمشارب {دَائِمٌ} لا ينقطع ولا يمنع بخلاف ثمر الدنيا؛ أي: دائم بحسب نوعه، فكل شيء أكل يتجدد غيره لا بحسب شخصه، إذا عين المأكول لا ترجع. وقوله: {وَظِلُّهَا} مبتدأ حذف خبره؛ أي: وظل (¬1) تلك الجنة دائم لا ينسخ في الدنيا بالشمس؛ لأنه لا شمس في الجنة ولا حر ولا برد، فالمراد بدوام الظل دوام الاستراحة، وإنما عبر عنه به لندرة الظل عند العرب، وفيه معظم استراحاتهم في أرضهم. وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث بين أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم، فقال: {تِلْكَ} الجنة التي بلغك وصفها، وسمعت بذكرها {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ} الله تعالى بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ أي: مآلهم وعاقبة أمرهم. ثم بين عاقبة الكافرين بعد ما بين عاقبة المتقين، فقال: {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ}؛ أي: وعاقبة الكافرين بالله تعالى هي {النَّارُ} الأخروية لا غيرها بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام، فالتقوى طريق إلى الجنة، والكفر طريق إلى النار أعاذنا الله منه ومنها. وفي الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين، وإقفاله بالرتاج على الكافرين. 36 - ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين: فئة فرحت بنزول القرآن، وفرقه أنكرته وكفرت ببعضه، فقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} وأعطيناهم {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة والإنجيل يريد المسلمين من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلًا: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة {يَفْرَحُونَ} ويسرون {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}؛ أي: بجميع ما أنزل إليك وهو القرآن كله؛ لأنه من فضل الله ورحمته على العباد، ولا شك أن المؤمن الموقن يسره ما جاء إليه من باب الفضل والإحسان، لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}. {وَمِنَ الْأَحْزَابِ}؛ أي: ومن أحزابهم وجماعتهم الذين تحزبوا وتجمعوا واتفقوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة ككعب بن الأشرف وأتباعه، والسيد ¬

_ (¬1) روح البيان.

والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما وسائر المشركين، وهو مبتدأ خبره قوله: {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}؛ أي: بعض ما أنزل إليك من القرآن، وهو ما لا يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم. فإن قلت: إن (¬1) الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله، فكيف قال: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}.؟ قلتُ: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته؛ لأنه قد ورد فيه آيات دالة على توحيد الله وإثبات قدرته لا ينكرون ذلك أبدًا. والقول الثاني: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون كما مر فرحوا بالقرآن، لكونهم آمنوا به وصدقوه {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يعني: بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}. وقيل: كان ذكر الرحمن قليلًا في القرآن في الابتداء، فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظة الرحمن في القرآن .. فرحوا بذلك، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يعني: مشركي مكة {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} وذلك لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} وإنما قال: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن. ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب في شأنه - صلى الله عليه وسلم - .. بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين، فقال: {قُل} يا محمَّد في جواب المنكرين {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ}؛ أي: إنما أمرت (¬2) فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وأوحده ولا أشرك به شيئًا، وهو العمدة في الدين، لا سبيل لكم إلى إنكاره، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[37]

وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم، فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام؛ لأن الله الحكيم ينزل بحسب ما يقتضيه صلاح أهل العالم، كالطبيب يعامل المريض بما يناسب مزاجه من التدبير والعلاج. وقد اتفق (¬1) القراء على نصب {وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} عطفًا على {أَعْبُدَ}. وقرأ أبو خليد عن نافع: {وَلَا أُشْرِكَ} بالرفع على القطع؛ أي: وأنا لا أشرك به، وجوز أن يكون حالًا؛ أي: أن أعبد الله غير مشرك. والمعنى: أي (¬2): قل لهم صادعًا بالحق، ولا تكترث بمن ينكره: إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وحده، ولا أشرك به شيئًا سواه، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره، وأطبقت عليه الشرائع والكتب، كما قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}. وذلك ما دلت الدلائل التي في الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له، والاعتراف به، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته وإخلاص العبادة له وحده، لا إلى غيره {أَدْعُو} الناس أو أخصه بالدعاء والنداء إليه في جميع مهامي {وَإِلَيْهِ} سبحانه وتعالى وحده {مَآبِ}؛ أي: مآبي ومرجعي ومصيري ومرجعكم للجزاء لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء، فأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم، فلا معنى لإنكار المخالف فيه. وهذه الآية جامعة لشؤون النشأة الأولى والآخرة، فقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ} توحي إلى ما جاء به التكليف، وقوله: {إِلَيْهِ أَدْعُو} تشير إلى مهام الرسالة، وقوله: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة، 37 - ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلًا بلغات أقوامهم، فقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: وكما أرسلنا من قبلك المرسلين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وأنزلنا عليهم الكتب بلغة أممهم، أو مثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: أنزلنا عليك القرآن حالة كونه {حُكْمًا}؛ أي: حاكمًا يحكم في كل شيء يحتاج إليه العباد على مقتضى الحكمة والصواب، فالحكم مصدر بمعنى الحاكم، ولما (¬1) كان جميع التكاليف الشرعية مستنبطًا من القرآن كان سببًا للحكم، فأسند إليه الحكم إسنادًا مجازيًّا، ثم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وقيل معنى: {حُكْمًا}؛ أي: محكمًا لا يقبل النسخ والتغيير {عَرَبِيًّا}؛ أي: مترجمًا بلسان العرب؛ أي: بلسانك ولسان قومك، ليسهل عليهم فهم معناه، وحفظه على ظهر القلب. وانتصاب (¬2) {حُكْمًا} على أنه حال موطئة، و {عَرَبِيًّا} صفته، والحال الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال، فكأن الاسم الجامد وطأ الطريق لما هو حال في الحقيقة؛ لمجيئه قبلها موصوفًا بها. وروي أنه لما كان المشركون يدعونه - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع ملة آبائهم المشركين، وكان اليهود يدعونه إلى الصلاة إلى قبلتهم؛ أي: بيت المقدس بعد ما حول عنها .. نزل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن اتبعت يا محمَّد أهواء هؤلاء الأحزاب من اليهود والمشركين التي يدعونك إليها لتقرير دينهم ابتغاء مرضاتهم، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم في شيء مما يعتقدونه جعل ما يدعونه إليه من الدين الباطل، والطريق الزائغ هوى، وهو ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد والاشتهاء من غير سند مقبول ودليل معقول؛ لكونه هوى محضًا. {بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الذي علمه الله إياه والدين المعلوم صحته بالبراهين {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من عذابه {مِنْ وَلِيٍّ} يلي أمرك وينصرك {وَلَا} من {وَاقٍ} يفيك ويحفظك من عذابه، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا لأمته. والمعنى (¬3): أي ليس لك من دون الله ولي ولا ناصر ينصرك، فينقذك منه إن هو أراد عقابك، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك، فاحذر أن تتبع أهوائهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[38]

وتنهج نهجهم، وقد تقدم أن مثل هذا من قبيل قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين، لا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيج. 38 - ونزل لما عابت (¬1) اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكثرة النساء، فقالوا: لو كان نبيًّا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا رسلًا بشرًا مثلك {مِنْ قَبْلِكَ} يا محمَّد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}؛ أي: نساء وأولاد كما هي لك، فإذا جاز ذلك في حقهم، فلم لا يجوز مثله أيضًا في حقك؟ وهو جواب لقول اليهود ما نرى لهذا الرجل همةً إلا في النساء والنكاح، ولو كان نبيًّا لاشتغل بالزهد والعبادة، وقد كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة أولاد؛ أربع إناث، وثلاثة ذكور. والمعنى: أي وكما أرسلناك رسولًا بشريًّا كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات ويولد لهم. وفي "الصحيحين" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفية التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين، وناهيك بأم المؤمنين عائشة، وفيها يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء". ومن ثمَّ كانت أكثر من حدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي هريرة، وأكثر من حدّث عن شمائله وأخلاقه في السر والعلن، ومنها علم المسلمون كثيرًا من أحكام دينهم، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا، وكانت تحاجهم وتجادلهم وتلزمهم الحجة، ولا يجدون معدلًا عن التسليم لرأيها. وروي (¬2): أنه كان لداود عليه السلام مئة امرأة منكوحة وثلاث مئة سرية، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

ولابنه سليمان عليه السلام ثلاث مئة امرأة مهرية وسبع مئة سرية، فكيف يضر كثرة الأزواج لنبينا عليه الصلاة والسلام. وروي أن المشركين طعنوا في نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات، فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} من الرسل الكرام وما صح لواحد منهم، ولم يكن في وسعه {أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ} تقترح عليه {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وأمره وإرادته، لا باختيار نفسه ورأيه، فإنهم عبيد مربوبون منقادون، وهو جواب لقول المشركين: لو كان رسولًا من عند الله لكان عليه أن يأتي بأي شيء طلبنا منه من المعجزات ولا يتوقف فيه، وفيه إشارة إلى أن حركات عامة الخلق وسكناتهم بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن حركات الرسل وسكناتهم بإذن الله ورضاه. أي: وما (¬1) كان في وسع رسول من الرسل أن يأتي من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن في الإتيان بها حكمًا ومصالح لعباده، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر، وغناء لمن تفكر وتدبر، ولكنهم أبوا إلا التمادي في الغواية والضلال. والآيات المقترحة لا تأتي إلا على مقتضى الحكمة في أزمان يعلمها الله، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس، ولا صلاح فيما اقترحوه، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره، وأن يجعل له مهد ينام فيه، كذلك لا حكمة في إنزال الآيات التي اقترحوها، وهذا إيضاح قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ} ووقت {كِتَابٌ}؛ أي: حكم (¬2) مكتوب مفروض فيه يليق بصلاح حال أهله، فإن الحكمة تقتضي اختلاف الأحكام على حسب اختلاف الأعصار والأمم، وهو جواب لقولهم: لو كان نبيًّا ما نسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل. وقال الشيخ في "تفسيره" .. أي: لكل شيء قضاه الله تعالى وقت مكتوب معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه، أو لا يتقدم ولا يتأخر عنه. اهـ. ففي الكلام تقديم وتأخير؛ أي: لكل (¬3) كتاب أجل؛ أي: لكل أمر كتبه الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[39]

أجل معين ووقت معلوم، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها، ولا عذاب مما خوفوا به بحاصل في غير وقته، ولا نبوة بحاصلة في غير الزمان المقدر لها، فموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام جاؤوا في أزمنة رأى الله الصلاح في وجودهم فيها، لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم كلها كتبت في آجال ومدد معينة، لا تقديم فيها ولا تأخير، ونحو الآية قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}. فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتبت أعماله ووضعت عماله في حجر معينة، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة في أوقات معينة، ولهم مناهج يتبعونها، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل، فالدنيا قد جعل الله لها نظامًا على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلق بها علمه، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب، وظهر النبات والحيوان، وتعاقب الموت والحياة، وظهرت نجوم وفنيت أخرى، ونبت زرع وحصد آخر، ومات نبي وقام آخر، وامتد دين وانتشر وتقلص دين ونسخ. 39 - وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى، وذلك تابع لما في المنهج الأصلي، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها، كما ينسخ زرع بزرع وليل بنهار، وقوم بقوم ودين نبي بآخر في ميقاته المعين في علمه تعالى، وهذا ما عناه سبحانه وتعالى بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} محوه {وَيُثْبِتُ} ما يشاء إثباته، فينسخ (¬1) ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما هو خير منه أو مثله، ويترك ما تقتضيه حكمته غير منسوخ، أو يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها، بل هي داخلة فيما سلف (¬1): 1 - قال الحسن: يمحو الله أو جاء أجله، ويثبت أو بقي أجله. 2 - وقال عكرمة والسدي: يمحو الله القمر ويثبت الشمس، كما قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}. 3 - وقال الربيع: يقبض الله الأرواح بين النوم، فيميت أو يشاء ويمحوه، ويرجع من يشاء فيثبته. 4 - وقال آخرون: يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ولا يبدله. 5 - وقال آخرون: يمحو الله المحن والمصائب بالدعاء. وقيل: يمحو الآباء ويثبت الأبناء. وقيل: يمحو ما يشاء منو القرون، ويثبت ما يشاء منها. وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. وظاهر النظم القرآني (¬2): العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وهذا القول أولى كما تفيده ما في قوله: {مَا يَشَاءُ} من العموم. {وَعِنْدَهُ} سبحانه وتعالى {أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصله (¬3) الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، وهو العلم الأزلي الأبدي السرمدي القائم بذاته، وقد أحاط بكل شيء علمًا بلا زيادة ولا نقصان، وكل شيء عنده بمقدار. وقيل: {أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصله (¬4) وهو اللوح المحفوظ، فالمراد أو الآية أنه يمحو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[40]

ما يشاء مما في اللوح المحفوظ، فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه، فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "جف القلم" وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه، وقيل: إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم (¬1): {وَيُثْبِتُ} مخففًا من أثبت، وباقي السبعة مثقلًا من {ثَبَت}. 40 - {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ} يا محمد {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في حياتك، والجواب محذوف تقديره: فذاك شافيك من أعدائك، ودليل على صدقك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}؛ أي: نقبضنك قبل أن نريك ذلك. وهذه الجملة شرط ثان لعطفه على الشرط قبله، وجوابه أيضًا محذوف تقديره: فلا تقصير منك ولا لوم عليك. وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} تعليل لهذا المحذوف؛ أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم، والبلاغ اسم مصدر أقيم مقام التبليغ {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} لا عليك؛ أي: أن نحاسبهم يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، فننتقم منهم أشد الانتقام، فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم. والمعنى: أي إن أريناك (¬2) أيها الرسول في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين باللهِ من العقاب على كفرهم، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك لا طلب صلاحهم ولا فسادهم، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}. وهذا تسلية من (¬3) الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته .. فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك. والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنكر أولئك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[41]

المشركون من أهل مكة وغيرهم نزول ما وعدناهم أو شكوا في ذلك، ولم يروا {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ}؛ أي: أرض الكفرة من مكة وغيرها؛ أي: يأتي أمرنا أَرض الكفرة حالة كوننا {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}؛ أي: ننقص أرض الكفرة من أطرافها ونواحيها بالفتوح على المسلمين منها شيئًا فشيئًا، فما زاد (¬1) في بلاد الإِسلام باستيلائهم عليها جبرًا وقهرًا نقص من ديار الكفرة، والله تعالى إذا قدر على جعله بعض ديار الكفرة للمسلمين .. فهو قادر على أن يجعل الكل لهم، أفلا يعتبرون؛ أي: أأنكر (¬2) أهل مكة نزول ما وعدناهم ولم يروا أنا نأخذ أرضهم نفتحها من نواحيها للمسلمين شيئًا فشيئًا، ونلحقها بدار الإِسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء، أليس هذا من ذلك. والخلاصة: أي أشك (¬3) أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات ولم يروا أنا نأتي الأرض، فنفتحها لك أرضًا بعد أرض، ونلحقها بدار الإِسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء، أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله ونذيرًا بما سيحل بهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة لو تدبروا، فما لهم عن التذكرة معرضين، 41 - ونحو الآية قوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقرأ الضحاك: {ننقِّصها} مثقلًا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم. {وَاللهُ} سبحانه وتعالى {يَحْكُمُ} في خلقه ما يشاء من الأزل إلى الأبد (¬4)، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي هذا ويميت هذا، ويغني هذا ويفقر هذا، وقد حكم بعزة الإِسلام وعلوه على الأديان. وجملة قوله: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}؛ أي: لا لراد لحكمه في محل النصب على الحال؛ أي: والله يحكم حالة كونه نافذًا حكمه خاليًا عن المعارض والمناقض. ومعنى المعقب: الذي يعقب الشيء بالرد والإبطال. والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وقيل: جملة {لَا} معترضة. {وَهُوَ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[42]

سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته على السرعة، فعما قريب (¬1) سيحاسبهم في الآخرة كفاء ما دنسوا به أنفسهم، وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم في الدنيا بالقتل والأسر، فلا تستبطىء عقابهم، فإنه آت لا محالة وكل آت قريب. 42 - ثم بين أن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فقال: {وَقَدْ مَكَرَ} الكفار {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل، فكادوهم وكفروا بهم، فنمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى كما مكر أولئك بك في دار الندوة حيث أرادوا قتلك، ثم دارت الدائرة على الظالمين وأهلك الله الظالمين. والمكر: إيصال المكروه للممكور به خفية من حيث لا يشعر. وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصبير بأن العاقبة له لا محالة حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ} لا اعتداد بمكر غيره، وهذا تعليل لمحذوف تقديره: فلا عبرة بمكرهم ولا تأثير له. ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: {يَعْلَمُ} سبحانه {مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشر، فيجازيها على ذلك، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها .. كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم أو حيث لا يشعرون. وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق، فلا يضر إلا بإرادته. اهـ. فإثباته لهم باعتبار الكسب، ونفيه عنهم باعتبار الخلق، فلا يَرد كيف أثبت لهم مكرًا ثم نفاه عنهم بقوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}؛ وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمان له من مكرهم. اهـ. "كرخي". ومكر الله سبحانه وتعالى صفة ثابتة له تعالى نثبته ولا نعطله، لا نمثله ولا نكيفه. وقيل: مكر (¬2) الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. والمعنى: يعلم (¬3) سبحانه وتعالى ما تكسب كل نفس، فيعصم أولياءه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[43]

ويعاقب الماكرين بهم، ليوفي كل نفس جزاء ما كسبت. وفي هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين. ثم أكد هذا التهديد بقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّار} إذا قدموا إلى ربهم يوم القيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة، ويدخلون النار {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}؛ أي: لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في الدار الآخرة، وإن جهلوا ذلك من قبل؛ أي: سيعلم (¬1) جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو الدار الآخرة، أو فيهما. وقيل: المراد بالكافر: أبو جهل. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (¬2): {الكافر} بالإفراد والمراد به الجنس. وقرأ الباقون: {الْكُفَّارُ} بالجمع جمع تكسير، وابن مسعود شاذًا: {الكافرون} جمع سلامة. وأبي شاذًا أيضًا: {الذين كفروا}. وقرأ جناح بن حبيش: {وسيعلم الكفار} مبنيًّا للمفعول من أعلم؛ أي: وسيخبر وهي شاذة أيضًا. 43 - وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقف من اليمن، فقال له عليه السلام: "هل تجدني في الإنجيل رسولًا"؟ قال: لا، فأنزل الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ويقول المشركون أو جميع الكفار {لَسْتَ} يا محمد {مُرْسَلًا} من عند الله إلى الناس. أي: ويقول الجاحدون لنبوتك الكافرون برسالتك: لست مرسلًا من عند الله، أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان، وتصلح حال المجتمع البشري، وتمنع عنه الظلم والفساد، فأمر الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {كَفَى بِاللهِ} سبحانه وتعالى من جهة كونه {شَهِيدًا}؛ أي: شاهدًا {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو يعلم صحة رسالتي وصدق دعوتي، ويعلم كذبكم. أي: قل حسبي الله شاهدًا بتأييد رسالتي وصدق مقالتي؛ إذ أنزل علي هذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

الكتاب الذي أعجز البشر قاطبةً أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، والمراد بشهادة الله تعالى: إظهار المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}؛ أي: وكفى شهيدًا بيني وبينكم من عنده علم الكتاب السماوي، وهم من أسلم من أهل الكتابين التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وسلمان الفارسي وتميم الداري وآصف بن برخيا، فكل من كان عالمًا بالتوراة والإنجيل علم أن محمدًا مرسل من عند الله تعالى. وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك. وقيل: المراد (¬1) بالكتاب القرآن، ومن عنده علم منه هم المسلمين. وقيل: المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه وتعالى، واختار هذا الزجاج. وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره. و {مَنْ} في قراءة (¬2) الجمهور في موضع خفض عطفًا على لفظ {الله}، أو موضع رفع عطفًا على موضع {الله}؛ إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولًا، ونحو هذا مما يدل عليه لفظة {شَهِيدًا} ويراد بذلك الله تعالى. وقرىء شذوذًا (¬3): {بمن} بدخول الباء على {من} عطفًا على {بِاللهِ}. وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمر وابن أبي إسحاق ومجاهد والحكم والأعمش: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} بجعل {من} حرف جر وجر ما بعده به، وارتفاع {علم} بالابتداء، والجار والمجرور في موضع الخبر. وقرأ علي أيضًا وابن السميقع والحسن بخلاف عنه: {وَمَنْ عِنْدَهُ} بجعل {من} حرف جر، {علِم الكتاب} بجعل {عُلِمَ} فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و {الكتاب} رفع به. وقرىء شذوذًا أيضًا: {ومِنْ عندِه} بحرف جر، {عُلِّم الكتاب} مشددًا مبنيًّا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

للمفعول، و {الكتاب} رفع به أيضًا، والضمير في {عنده} في هذه القراءات الثلاث عائد على {الله} تعالى، و {من} لابتداء الغاية، أي: ومن عند الله سبحانه وتعالى حصل علم القرآن؛ لأن أحدًا لا يعمله إلا من تعليمه. ولما (¬1) أمر الله سبحانه نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته، ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن، ولا يعلم العبد كون القرآن معجزًا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره .. بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله تعالى. خلاصة ما في هذه السورة (¬2) ترى مما تقدم في تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية: 1 - إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السماوات والأرض، والجبال والأنهار، والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله، وهذا تفصيل لما أجمله في السورة قبلها من قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}. 2 - إثبات البعث ويوم القيامة، والتعجب من إنكارهم له. 3 - استعجالهم العذاب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أنه واقع بهم لا محالة، كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة. 4 - بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه، وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله. 5 - ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابي. 6 - بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

ويخافون سوء الحساب، وأقاموا الصلاة وأنفقوا في السر والعلن، وبيان مآلهم يوم القيامة. 7 - بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون في الأرض، وبيان مآلهم. 8 - إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله. 9 - وصف الجنة التي وعد بها المتقون، وبيان أنها مآل المتقين، ومآل الكافرين النار وبئس القرار. 10 - بيان أن كثيرًا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن؛ إذ يرون فيه تصديقًا لما بين أيديهم من الكتاب. 11 - بيان مهمة الرسول، وأن خلاصة ما جاء به عبادة الله وحده وعدم الشرك به، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر، وأن إليه تعالى المرجع والمآب. 12 - بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه؛ ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها. 13 - تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم. 14 - أن جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان لهم أزواج وذرية. 15 - أن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا، وإنما هي بإذن الله وإرادته. 16 - بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هي محو وإثبات، وموت وحياة، فيزيل الله قومًا ويوجد آخرين، وكل ذلك محفوظ في علم الله الذي لا تغيير فيه ولا تبديل. 17 - أن مهمة الرسول إنما هي التبليغ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله تعالى، ولا يعني الرسول أن يحصل في زمنه أو بعد وفاته. 18 - أو انتقام الله من المكذبين قد بدأ حياة الرسول بقتل أعدائه

وأسرهم وتشريدهم في البلاد. 19 - أن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم، وكان النصر حليف المتقين، ونكل الله بالقوم الظالمين. 20 - إلحاف الكافرين في إنكار رسالته - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الله تعالى شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم وتبشيرها بها. الإعراب {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}. {وَلَقَدِ} (الواو): استئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {اسْتُهْزِئَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {بِرُسُلٍ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور صفة لـ {رُسُلٍ}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فَأَمْلَيْتُ}: {الفاء}): عاطفة. {أَمْلَيْتُ}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتُهْزِئَ}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {أَخَذْتُهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أمليت}. {فَكَيْفَ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت استهزاءهم بالرسل فإملائي لهم فأخذي إياهم .. فأقول لك يا محمد: كيف كان عقابي إياهم، هل هو واقع محله أم لا؟. {كَيْفَ}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي مع التقريع لهم في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليه وجوبًا. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {عِقَابِ}: اسمها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف: {عِقَابِ}: مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة {كَانَ}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ في الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}.

{أَفَمَنْ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، و {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، خبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، دل على ذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}. {هُوَ}: مبتدأ. {قَائِمٌ}: خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول، والتقدير: أعميتم وسويتم بين الله وبين خلقه، فمن هو قائم على كل نفس كائن كمن ليس كذلك، لا ليسوا مستويين، والجملة المحذوفة مستأنفة. {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَائِمٌ}. {بِمَا}: جار ومجرور حال من {كُلِّ نَفْسٍ}؛ أي: حالة كونها ملتبسة بما كسبت. {كَسَبَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {كُلِّ نَفْسٍ}، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبته. {وَجَعَلُوا}: فعل وفاعل، وهو يتعدى إلى مفعولين أولهما محذوف تقديره: وجعلوا الأصنام شركاء لله. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {شُرَكَاءَ}. {شُرَكَاءَ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من {كُلِّ نَفْسٍ} كما مر في مبحث التفسير. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية مستأنفة. {سَمُّوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأنه بمعنى اذكروا أسماءهم أو صفوهم، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {تُنَبِّئُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول مرفوع بثبوت النون. {بِمَا}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، والجملة مستأنفة. {لَا يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللهِ}: {في الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط المفعول المحذوف تقديره: بما لا يعلمه في الأرض ولا في السماوات. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل التي للإضراب الإبطالي كما في "الصاوي"، وهمزة الاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: بل أتسمونهم بظاهر من القول. {بِظَاهِرٍ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني للفعل المحذوف. {مِنَ الْقَوْلِ}: جار ومجرور لـ {ظَاهِرٍ}؛ أي: بل أتسمون تلك الأصنام بلفظ خالٍ عن المعنى، والجملة المحذوفة مستأنفة.

{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. {بَل}: حرف ابتداء وإضراب. {زُيِّنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {مَكْرُهُمْ}: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {وَصُدُّوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {زُيِّنَ}. {عَنِ السَّبِيلِ}: متعلق به. {وَمَنْ}: {الواو}): استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُضْلِلِ اللهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرطٍ لها، والرابط محذوف تقديره: ومن يضلله الله. {فَمَا}: (الفاء): رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا. {ما}: تميمية أو حجازية. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ، أو لـ {مَا} الحجازية. {مَنْ} زائدة. {هَادٍ}: مبتدأ مؤخر، أو اسم {ما} مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: مستأنفة. {هادٍ} بثبوت الياء وحذفها وقفًا سبعيتان، وفي الرسم محذوفة لا غير كالوصل. {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فِي الْحَيَاة}: جار ومجرور صفة لعذاب الدنيا، صفة لـ {الْحَيَاةِ}. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ}: (الواو): عاطفة. (اللام): حرف ابتداء، {عَذَابُ الْآخِرَة}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَشَقُّ}: خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَاقٍ}. {مِنْ}: زائدة. {وَاقٍ}: مبتدأ مؤخر، والتقدير: وما واقٍ أو عذاب الله كائن لهم، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}. {مَثَلُ الْجَنَّةِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {الَّتِي}: صفة لـ {الْجَنَّةِ}. {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف

تقديره: وعدها المتقون، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: مثل الجنة التي وعدها المتقون كائن فيما يتلى عليك، والجملة مستأنفة. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية مفسرة لذلك المحذوف، أو مستأنفة. {أُكُلُهَا دَائِمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مفسرة أو مستأنفة. {وَظِلُّهَا}: مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه تقديره: وظلها دائم، والجملة معطوفة على جملة {أُكُلُهَا دَائِمٌ}. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}. {وَالَّذِينَ}: (الواو): استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان صلة الموصول. {يَفْرَحُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَفْرَحُونَ}. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَمِنَ الْأَحْزَابِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {يُنْكِرُ بَعْضَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة الموصول. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا أُمِرْتُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت {إِنَّمَا}: أداة حصر. {أُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي. {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: إنما أمرت بعبادة الله، الجار والمجرور متعلق بـ {أُمِرْتُ}. {وَلَا أُشْرِكَ}: فعل مضارع معطوف على {أَعْبُدَ}. {بِهِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والتقدير: أمرت بعبادة الله وعدم الإشراك به. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَدْعُوْ}. {أَدْعُو}: فعل

مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أُمِرْتُ}. {وَإِلَيْهِ} (الواو): عاطفة. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَآبِ}: مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوف اجتزاء عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف. {مَآبِ}: مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {أُمِرْتُ}. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ}. {وَكَذَلِكَ} (الواو): استئنافية. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والتقدير: وأنزلنا هذا القرآن عليك إنزالًا مثل إنزالنا الكتب السالفة على الرسل المتقدمة عليك، والجملة مستأنفة. {حُكْمًا}: حال موطئة من ضمير المفعول، ولكنه في تأويل حاكمًا. {عَرَبِيًّا}: صفة لـ {حُكْمًا}. {وَلَئِنِ}: (الواو): اسئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط. {اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {بَعْدَمَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اتَّبَعْتَ}. {جَاءَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {مِنَ الْعِلْمِ}: حال من فاعل {جَاءَكَ}، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {مَا}: نافية. {لَكَ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {وَلِيٍّ}. {مِنْ} زائدة. {وَلِيٍّ}: مبتدأ مؤخر. {وَلَا وَاقٍ}: معطوف على {وَلِيٍّ} والتقدير: ما ولي ولا واق من الله كائن لك، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره، وإن اتبعت أهوائهم بعد ما جاءك من العلم .. فما لك من الله من ولي ولا واق، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.

{وَلَقَدْ} (الواو): استنئافية. (اللام): موطئة للقسم. {قَد}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا رُسُلًا}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور صفة لـ {رُسُلًا}، أو متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أرْسَلْنَا}. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}. {أَزْوَاجًا}: مفعول به؛ لأن جعل هنا بمعنى خلق. {وَذُرِّيَّةً}: معطوف على {أَزْوَاجًا}. {وَمَا كَانَ}: (الواو): استئنافية. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لِرَسُولٍ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَأْتِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}. {بِآيَةٍ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {رسول}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} تقديره: وما كان الإتيان بآية من الآيات كائنًا لرسول من الرسل إلا بإذن الله، والجملة مستأنفة. {لِكُلِّ أَجَلٍ}: جار ومجرور خبر مقدم. {كِتَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. {يَمْحُو اللَّهُ مَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاءه. {وَيُثْبِتُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {يَمْحُو}. {وَعِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {أُمُّ الْكِتَابِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. {وَإِنْ} (الواو): استئنافية. {إن}: حرف شرط جازم. {مَا}: زائدة. {نُرِيَنَّكَ}: فعل مضارع ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {بَعْضَ الَّذِي}: مفعول ثان ومضاف إليه. {نَعِدُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة

الموصول، وجواب الشرط محذوف تقديره: فذاك شافيك من أعدائك، وجملة الشرط مستأنفة. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}: فعل ومفعول في محل الجزم معطوف على {نُرِيَنَّكَ} على كونه شرطًا ثانيًا، وفاعله ضمير يعود على الله، وجواب الشرط محذوف أيضًا تقديره: فلا تقصير منك ولا لوم عليك. {فَإِنَّمَا}: (الفاء): تعليلية للجواب المحذوف. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {عَلَيْكَ}: خبر مقدم. {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. {أَوَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف. {لم}: حرف نفي وجزم. {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} والتقدير: أأنكروا نزول ما وعدناهم، أو شكوا في ذلك ولم يروا أنا نأتي الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. {أَنَّا}: ناصب واسمه. {نَأْتِي الْأَرْضَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى تقديره: أولم يروا إتياننا الأرض حالة كوننا ننقصها. {نَنْقُصُهَا}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ أَطْرَافِهَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {نَأْتِي}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَحْكُمُ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {لَا}: نافية. {مُعَقِّبَ}: في محل النصب اسمها. {لِحُكْمِهِ}: متعلق به، وخبرها محذوف تقديره: موجود، وجملة {لَا}: في محل الرفع معطوفة على جملة {يَحْكُمُ} على كونها خبر المبتدأ. {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}. {وَقَدْ} (الواو): استئنافية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {مَكَرَ الَّذِينَ}: فعل

وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. {فَلِلَّهِ}: (الفاء): تعليلية. {لله}: خبر مقدم. {الْمَكْرُ}: مبتدأ مؤخر. {جَمِيعًا}: حال من الضمير المستكن في الخبر، والجملة الاسمية في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على {الله}، والجملة مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {مَا}؛ لأنه بمعنى عرف. {تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تكسبه كل نفس. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِمَنْ}: (اللام): حرف جر. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور خبر مقدم. {عُقْبَى الدَّارِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي علم معلق عنها باسم الاستفهام. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}. {وَيَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَسْتَ مُرْسَلًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {كفى بالله} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {كَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل، و (الباء): زائدة. {شَهِيدًا}: تمييز لفاعل {كَفَى}، والجملة في محل النصب مقول القول. {بَيْنِي}: ظرف متعلق بـ {شَهِيدًا}. {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف عليه. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على فاعل {كَفَى}. {عِنْدَهُ}: خبر مقدم. {عِلْمُ الْكِتَابِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة {مَنْ} الموصولة. التصريف ومفردات اللغة {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ} ومعنى الاستهزاء (¬1): الاستحقار والاستهانة، والأذى ¬

_ (¬1) روح البيان.

والتكذيب. {فَأَمْلَيْتُ} والإملاء: الإمهال وأن يترك ملاءة من الزمان؛ أي: مدة طويلة منه في دعة وراحة وأمن، كالبهيمة في المرعى؛ أي: أطلت لهم المدة في أمن وسعة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية. {ثُمَّ} بعد الإملاء والاستدراج أخذتهم بالعقوبة. {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ}؛ أي: رقيب ومتول للأمور. {تُنَبِّئُونَهُ}؛ أي: تخبرونه. {بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: بباطل منه لا حقيقة له في الواقع. {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} بتخيلهم أباطيل، ثم ظنهم إياها حقًّا والمكر (¬1): صرف الغير عما يقصده بحيلة، والحيلة (¬2): ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} والصد: المنع، والسبيل: هو سبيل الحق وطريقه؛ أي: منعوا عن طريق الهدى. وقرىء بفتح الصاد؛ أي: منعوا الناس عنه. وقد يستعمل صد لازمًا بمعنى أعرض؛ أي: أعرضوا عنه. {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وأصل العذاب (¬3) في كلام العرب من العذب، وهو المنع، يقال: عذبته عذبًا إذا منعته، وسمي الماء عذبًا؛ لأنه يمنع العطش، وسمي العذاب عذابًا؛ لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره من مثل فعله. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ}؛ أي: أشد وأصعب لدوامه، وهو عذاب النار، وعذاب نار القطيعة وألم البعد وحسرة التفريط في طاعة الله وندامة الإفراط في الذنوب والمعاصي، والحصول على الخسارات والهبوط من الدرجات ونزول الدركات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) قسطلاني على البخاري. (¬3) روح البيان.

{مِنْ وَاقٍ}؛ أي: حافظ ومانع حتى لا يعذبوا. {وَاقٍ}: اسم فاعل من وقى يقي فهو واق بوزن قاض، أصله: واقي استثقلت الحركة على الياء، ثم حذفت فالتقى ساكنان وهما الياء والتنونين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، فصار واقٍ، فإعراب واق إعراب منقوص، فهو بحركة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} المثل: الصفة والنعت. قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال: مثلت لك كذا؛ أي: صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها. اهـ. "الشوكاني". {أُكُلُهَا} والأكل - بضمتين - ما يؤكل من طعامها. {دَائِمٌ}؛ أي: لا ينقطع ولا يمنع منه بخلاف ثمر الدنيا، والمراد بدوام الأكل: الدوام بالنوع لا الدوام بالجزء والشخص، فإنه إذا فنى منه شيء جيء ببدله، وهذا لا ينافي الهلاك لحظة، كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} على أن دوامه مضاف إلى ما بعد دخول الجنة كما يقتضيه سوق الكلام عند هلاك كل شيء قبل الدخول لا ينافي وجوده وبقاءه بعده. {وَظِلُّهَا} دائم، والظل: واحد الظلال، والظلول والأظلال. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} والعقبى: مصدر كالبشرى والرجعى؛ أي: مآلهم ومنتهى أمرهم. {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} والأحزاب واحدهم حزب: وهو الطائفة المتحزبة؛ أي: المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك. والمآب: المرجع. الواقي: الحافظ. {لِكُلِّ أَجَلٍ} والأجل: الوقت والمدة. {كِتَابٌ} والكتاب: الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة، والمراد بالأجل: أزمنة الموجودات، فلكل موجود زمان يوجد فيه محدود ولا يزاد عليه ولا ينقص، والمراد بالكتاب: صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ. والمحو:

ذهاب أثر الكتابة. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصله: وهو علم الله تعالى، أو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. والأم (¬1): أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمًّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، والعندية عندية علم، والكتاب هو المذكور أولًا بقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} على القاعدة المشهورة عند البلغاء أن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى. {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ} مضارع أرى البصرية تعدى إلى مفعولين بالهمزة، وأكد بالنون الثقيلة. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} والبلاغ: اسم مصدر لبلغ تبليغًا أقيم مقام المصدر، كالأداء مقام التأدية؛ أي: تبليغ الرسالة وأداء الأمانة لا غير. {مِنْ أَطْرَافِهَا} والأطراف: الجوانب. {لَا مُعَقِّبَ} والمعقب: الذي يكر على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق: معقب؛ لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب. {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والمكر: إرادة المكروه في خفية. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ}؛ لأن حق العبارة، وجعلوا له، فأقيم الظاهر مقام المضمر تقريرًا للألوهية وتصريحًا بها. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ}. قال الطيبي (¬2): في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

أولها: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} كمن {ليس كذلك} احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم على القياس الفاسد؛ لفقد الجهة الجامعة لهما. ثانيهما: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} من وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه. ثالثها: {قُلْ سَمُّوهُمْ}؛ أي: عينوا أسماءهم، فقولوا: فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني، كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجودًا فسمه؛ لأن المراد بالاسم العلم. رابعها: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ} احتجاج من باب نفي الشيء أعني: العلم بنفي لازمه، وهو المعلوم، وهو كناية. خامسها: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} احتجاج من باب الاستدراج، والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكر. المعنى: أتقولون بأفواهكم من غير روية وأنتم الباء، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه. سادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها .. كان الاحتجاج المذكور مناديًا على نفسه بالإعجاز، وأنه ليس من كلام البشر. اهـ. ومنها: الاكتفاء في قوله: {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ولا في السماوات، وإنما خص الأرض، بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض؛ لأنهم ادعوا له شريكًا في الأرض. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}؛ أي: وظلها دائم حذف منه الخبر بدليل السياق. ومنها: المقابلة في قوله: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} وهو من المحسنات البديعية.

ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا}. ومنها: تنكير {رُسُلًا} للدلالة على الكثرة. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} وفي قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} وكلاهما قصر إضافي من باب قصر الموصوف على الصفة؛ أي: ليس لك من الصفات إلا صفة التبليغ. ومنها: التهييج (¬1) والإلهاب والبعث للسامعين على الثبات على الدين، والتصلب فيه، لئلا يزل زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} وإلا فالرسول معصوم من اتباع أهوائهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان من شدة الشكيمة بمكان. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ}؛ أي: يأتيها أمرنا وعذابنا. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ}. ومنها: الالتفات في قوله: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} من التكلم إلى الغيبة لما في (¬2) بناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة، وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة. فائدة: فسر بعضهم قوله تعالى: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أن نقصانها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير والصلاح، وهذا مروي عن مجاهد وابن عباس في رواية عنه، وأنشد بعضهم (¬3): ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) أبو السعود. (¬3) ابن كثير.

الأرَضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا ... مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ كَالأرْضِ تَحْيَا إَذَا مَا الْغَيثُ حَلَّ بِهَا ... وإِنْ أَبَى عَادَ في أَكْنَافِهَا الْتَلَفُ والله سبحانه وتعالى أعلم (¬1) * * * ¬

_ (¬1) وقد حصل الفراغ من تفسير سورة الرعد بتوفيق الله تعالى وتيسيره قبيل الغروب، في اليوم الخامس من شهر الله رجب الفرد من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة (5/ 7/ 1411 هـ) من الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية وصلى الله سبحانه وتعالى وسلم على سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم عليه السلام سورة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مكية كلها، كما (¬1) أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه أيضًا عن الزبير، وحكاه القرطبي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها مدنيتين. وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار}. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس قال: وهي مكية إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهي: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} .. الآيتين. نزلتا في قتلى بدر من المشركين. التسمية: سميت بسورة إبراهيم (¬2)؛ لذكر قصته فيها. فإن قلت: إن قصة إبراهيم قد ذكرت في غير هذه السورة: الأنبياء والبقرة. قلت: إن علة التسمية لا تقتضي اطراد التسمية، بل التسمية أمر توقيفي. وآياتها إحدى، أو اثنتان، أو أربع، أو خمس وخمسون آية، ففي آياتها أربعة أقوال. وكلماتها (¬3) ثمان مئة وإحدى وستون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وأربع مئة وأربعة وثلاثون حرفًا. المناسبة: ومناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها من وجوه (¬4): 1 - أنه قد ذكر سبحانه في السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكمًا عربيًّا، ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا. 2 - أنه ذكر في السورة السالفة قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وهنا ذكر أن الرسل قالوا: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الصاوي. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

3 - ذكر هناك أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتوكل على الله وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جلّ شأنه. 4 - اشتملت تلك السابقة على تمثيل الحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضًا. 5 - ذكر هناك رفع السماء بغير عمد، ومدّ الأرض، وتسخير الشمس والقمر، وذكر هنا نحو ذلك. 6 - ذكر هناك مكر الكفار، وذكر مثله هنا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك. الناسخ والمنسوخ: وقال أبو (¬1) عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة إبراهيم عند جميع المفسرين محكمة ليس فيها منسوخ إلا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فإنه قال: فيها آية منسوخة، والجمهور على خلاف قوله، وهي قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} نسخت بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} في سورة النحل آية (18) انتهى. فضلها: ومن فضائلها ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬2): "من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد" رواه ابن مردويه والثعلبي والواحدي، وهو موضوع كما ذكره العراقي. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ. (¬2) الخازن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة للسورة قبلها واضح جدًّا (¬1)؛ لأنه ذكر في السورة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قبلها: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}، ثم ذكر قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، ثم قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، فناسب هذه قوله في هذه السورة: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} وأيضًا، فإنهم لما قالوا في السورة السابقة على سبيل الاقتراح: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، وقيل له: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} .. أنزل في هذه السورة: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ وهي الضلال. {إِلَى النُّور}: وهو الهدى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما بين أنه أرسل نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن في هذا الإرسال نعمة له ولقومه .. أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء، وتفصيل ما لاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد؛ لما في ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد: وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه (¬2) لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله .. ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقم الله تعالى. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} ... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما ذكر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة، ورفع عنهم من نقمة، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر ووعيده بالعذاب لمن كفر، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم، وأنه غني عن حمدهم، وحمد من في الأرض جميعًا، يذكرهم بأيام الله فيمن قبلهم من الأمم السالفة والأجيال البائدة بأسلوب طلبي ومقال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[1]

جلي .. فذكر القول أولًا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم، ودحض ما تمسكوا به من الترهات والأباطيل. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ...}، الآية، سبب نزولها: أن قريشًا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الر} (¬1) يشير بالألف إلى القسم بآلائه ونعمائه، وباللام إلى لطفه وكرمه وبالراء إلى القرآن، يعني،: قسمًا بآلائي ونعمائي إن صفة لطفي وكرمي اقتضت إنزال القرآن وهو كتاب ... إلخ، وتقدم في سورتي يونس وهود طريقة قراءته، والمعنى: المراد منه بها أغنى عن إعادته هنا. وقوله: {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن المشتمل على هذه السورة وغيرها كتاب {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يا محمد بواسطة جبرائيل حالة كونه حجة على رسالتك بإعجازه. ثم بين المصلحة في إنزال الكتاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} كافةَ بدعائك وإرشادك إياهم إلى ما تضمَّنه الكتاب من العقائد الحقَّة والأحكام النافعة. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؛ أي: من أنواع الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والنفاق والشك والبدعة إلى نور الإيمان والإخلاص واليقين والسنة {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}؛ أي: بحوله وقوته؛ أي: لا سبيل له إلى ذلك إلا به، وإنما قال: {رَبِّهِمْ}: لأنه تعالى مربيهم، ولم يقل: بإذن ربك، ليعلم أن هذه التربية من الله تعالى، لا من النبي عليه السلام. واعلم (¬2): أن الدعوة عامة، والهداية خاصة كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإذن الله شامل لجميع الناس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[2]

في الظلمات، إذ المقصود من إيجاد العوالم وإنشاء النشآت كلها ظهور الإنسان الكامل، وقد حصل وهو الواحد الذي كالألف وهو السواد الأعظم، فلا تقتضي الحكمة إتفاق الكل على الحق؛ لأن لله تعالى جمالًا وجلالًا لابدّ لكليهما من أثر. والمعنى: هذا القرآن الذي نتلوه عليك كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول؛ لتنقذ (¬1) الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصَّر به أهل الجهل والعمى سبيل الرشاد والهدى بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات المرشدة إلى النظر في حقائق الكون الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له، وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع وكشف التفسير، وفيها أيضًا سعادة البشر وصلاحهم في الدنيا والآخرة بإذن ربهم، وتوفيقه ولطفه بهم لإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح. وقوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من قوله: {إِلَى النُّورِ} بتكرير العامل وإضافة الصراط إلى العزيز، وهو الله على سبيل التعظيم له، والمراد به: دين الإِسلام، فإنه طريق موصل إلى الجنة والقربة والوصلة، والعزيز: الغالب الذي ينتقم لأهل دينه من أعدائهم، والحميد: المحمود الذي يستوجب بذلك الحمد من عباده. والمعنى: لتخرج الناس إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم؛ وهو العزيز الذي لا يغالب المحمود في جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه. ونحو الآية قوله تعالىِ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ ...} الآية، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ...} الآية. وقوله: {اللَّهِ} بالجر عطف بيان لـ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}؛ لأنه علم للذات الواجب الوجود الخالق العالم، 2 - وقوله: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الموجودات من العقلاء وغيرهم صفة للجلالة؛ ¬

_ (¬1) المراغي.

أي: هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقًا وتصرفًا وتدبيرًا. وفيه (¬1) إشارة إلى أن سير السائرين إلى الله لا ينتهي بالسير في الصفات وهو العزيز الحميد، وإنما ينتهي بالسير في الذات وهو الله، فالمكونات أفعاله، فمن بقي في أفعاله لا يصل إلى صفاته، ومن بقي في صفاته لا يصل إلى ذاته، ومن وصل إلى ذاته وصولًا بلا اتصال ولا انفصال، بل وصولًا بالخروج من أنانيته إلى هويته تعالى ينتفع به في صفاته وأفعاله، قال الملّا الجامي رحمه الله تعالى: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلا مَا ... عَلَّمْتَ وَأَلْهَمْتَ لَنَا إِلْهَامًا وهذه (¬2) الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان المنفرد بالعظمة والسلطان قد كررت في كثير من سور الكتاب الكريم للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون في المسلمين حكماء ربانيون يتفهمون حقائق هذا الكون، ويدركون أسرار بدائعه، ويستخرجون للناس ما في باطن الأرض، وينتفعون بما في ظاهرها، ويتأملون وما في السماوات من بديع الصنع وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان في مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما. وجاء في سورة يوسف توبيخًا للغافلين، وحثًّا لهمم المستبصرين: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ومع كل هذا فوا أسفًا رأينا كثيرًا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوي عليه من المقاصد والمرامي، ولو كان ذلك كافيًا؛ لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيًا في الشبع، والنظر إلى الماء كافيًا في الري. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (¬3): {الله} - بالرفع - على أنه خبر مبتدأ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

[3]

محذوف؛ أي: هو الله المتصف بملك ما في السماوات وما في الأرض. وقرأ باقي العشرة والأصمعي عن نافع: {الله} - بالجرّ - على أنه بدل في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء وعلى أنّه عطف بيان على قول الزمخشري؛ لكونه من الأعلام الغالبة كالنجم على الثريا؛ لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، فلا يصح وصف ما قبله به؛ لأن العلم لا يوصف به. وقيل: يجوز إن يوصف به من حيث المعنى. وقال أبو عمرو: إن قراءة الجر محمولة على التقديم والتأخير، والتقديم: إلى صراط الله العزيز الحميد، وكان يعقوب إذا وقف على الحميد رفع، وإذا وصل خفض. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على {وَمَا فِي الْأَرْضِ}. ثم توعد سبحانه الذين جحدوا آياته وكفروا بوحدانيته، فقال: {وَوَيْلٌ} الويل (¬1): الهلاك والدمار، وهو مبتدأ خبره {لِلْكَافِرِينَ} بالكتاب، وأصله: النصب كسائر المصادر إلا أنه لم يشتق منه فعل، لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه، فيقال: ويل لهم كسلام عليكم {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} {مِنْ}: لبيان الجنس صفة لـ {وَوَيْلٌ}، أو حال من ضميره في الخبر، أو ابتدائية متعلقة بالويل على معنى: إنهم يولون ويصيحون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا إليه، ويقولون: يا ويلاه كقوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}. والمعنى: أي وهلاك (¬2) ودمار بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك ولم يستجب دعوتك بإخلاص التوحيد لخالق السماوات والأرض، وترك عبادة من لا ليملك لنفسه شيئًا، بل هو مملوك له تعالى؛ لأنه بعض ما في السماوات ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث: 3 - 1 {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} الموصول في محل الجر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

بدل من {الكافرين} أو صفة له، والاستحباب: استفعال من المحبة؛ أي: وويل وهلاك بعذاب شديد كائن للكافرين الذين يختارون الحياة الدنيا ويوثرونها على الحياة الآخرة الأبدية، فإن المؤثر للشيء على غيره، كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من غيره. قال ابن عباس (¬1) - رضي الله عنهما -: يأخذون ما تعجل فيها تهاونًا بأمر الآخرة، وهذا من أوصاف الكافر الحقيقي، فإنه يجد ويجتهد في طلب الدنيا وشهواتها، ويترك الآخرة بإهمال السعي في طلبها، واحتمال الكلفة والمشقة في مخالفة هوى النفس وموافقة الشرع، فينبغي للمؤمن الحقيقي أن لا يرضى باسم الإسلام، ولا يقنع بالإيمان التقليدي، فإنه لا يخلو عن الظلمات بخلاف الإيمان الحقيقي، فإنه نور محض وليس منه تغيير أصلًا. والمعنى: أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها، ويقترفون الآثام ويرتكبون الموبقات، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقربهم إلى الله زلفى، وينسون يومًا تجازى فيه كل نفس بما عملت، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤييه ومن في الأرض جميعًا. 2 - {وَيَصُدُّونَ} الناس ويمنعونهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن قبول دينه الذي شرعه لعباده، وجملة {يصدون} وكذلك {وَيَبْغُونَهَا} معطوفتان على {يَسْتَحِبُّونَ}؛ أي: ويمنعون من تتجه عزائمهم إلى الإيمان باللهِ، واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه أن يؤمنوا به ويتبعوه؛ لما زين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان، والبعد عن كل ما يقرب إلى الرحمن. وقرأ الحسن شذوذًا (¬2): {وَيُصِدُّونَ} مضارع أصد الداخل عليه همزة النقل، من صد اللازم صدودًا. 3 - {وَيَبْغُونَهَا}؛ أي: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الضمير {عِوَجًا}؛ أي: ويطلبون لها زيغًا واعوجاجًا وميلًا عن الحق؛ لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم؛ أي: يقولون لمن يريدون صده وإضلاله: إنها سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة. والمعنى: أي (¬1) ويطلبون لها الزيغ والعوج، وهي أبعد ما تكون من ذلك، ويقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم وزائغ عن الحق واليقين، وإنك لتسمع كثيرًا من الملحدين يقول: إن القوانين الإِسلامية في الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة، وإنها تصلح للأمم العربية في البادية، لا للأمم التي أخذت قسطًا عظيمًا من الحضارة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. فتلك شريعة دانت لها أمة غيرت وجه البسيطة (¬2)، وملكت ناصية العالم ردحًا من الزمان، وكانت مضرب الأمثال في العدل وترك الجور، وثلت عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتلكت بلادهم، وأزالت عزهم وسلطانهم إلى أن غير أهلها معالمها، فأركسهم الله بما كسبوا، فبدل عزهم ذلًّا وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها. واجتماع هذه الخصال الثلاثة نهاية الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالقبائح المذكورة {فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عن طريق الحق؛ أي: ضلوا ووقعوا عنه بمراحل، فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال. والبعد في الحقيقة من أحوال الضال (¬3)؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله مجازًا للمبالغة، وفي جعل الضلال محيطًا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة؛ أي: فهم باختيارهم لأنفسهم حيث العاجلة، وصدهم عن الدين وابتغائهم له الزيغ والعوج في ضلال بعيد عن الحق، لا يرجى لهم فلاح، وأنى لهم ذلك وقد كبوا على وجوههم، وزين لهم الفساد والغي، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[4]

فيرون حسنًا ما ليس بالحسن، وقبيحًا ما ليس بالقبيح. 4 - ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم كي لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ}؛ أي: وما أرسلنا رسولًا من الرسل قبلك إلى أمة من الأمم من قبل قومك {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}؛ أي: إلا متلبسًا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم {لِيُبَيِّنَ} ذلك الرسول {لَهُمْ}؛ أي: لقومه ويفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم، وهو يتلى عليهم، فأي عذر لهم في أن لا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام وحلال وحرام وإصلاح لنظم المجتمع ليسعدوا في حياتهم الدنيا والآخرة. ولفظ اللسان يستعمل فيما هو بمعنى العضو وبمعنى اللغة، والمراد هنا: هو الثاني؛ أي: بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم. فإن قلت: لم يُبعثْ (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعًا بدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى، وقوله: {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة، فكيف يمكن الجمع؟ قلتُ: بُعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب وبلسانهم، والناس تبع للعرب، فكان مبعوثًا إلى جميع الخلق؛ لأنهم تبع للعرب، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - يبعث الرسل إلى الأطراف والنواحي، فيترجمون لهم بألسنتهم، ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم. والنبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - وإن أرسل إلى الناس جميعًا ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيره، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم حتى يصير مفهومًا لهم كما فهموه، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبينه لكل قوم بلسانهم ... لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحًا لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدعي ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها، وقد يفضي ذلك إلى التحريف والتصحيف بسبب الدَّعاوي الباطلة التي يقع فيها المتعصبون. وقيل (¬1): يحتمل أنه أراد بـ {قَوْمِهِ} أهل بلده وفيهم العرب وغير العرب، فيدخل معهم من كان من غير جنسهم في عموم الدعوى. وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه، وكانت دعوته خاصة، وكان كتابه بلسان قومه .. وكان أقرب لفهمهم عنه، وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه، وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب واحدًا بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات .. كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه، وجميع حدوده وأحكامه. قلتُ: هذا الإشكال لا يأتي من أول الأمر؛ لأن معنى الآية: وما أرسلنا قبلك يا محمد من رسول من الرسل الكرام قبلك إلى أمة من الأمم الذين قبل أمتك إلا بلغة قومه؛ ليبين لهم؛ لأن ذلك الرسول مرسل إلى قومه خاصة كما أشرنا إليه في الحل بخلاف رسالتك، فإنها عامة وأنت سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وأمتك خير الأمم وأفضلهم، فأردنا أن نجمع أمتك على كتاب واحد منزل بلسان هو سيد الألسنة وأشرفها وأفضلها إعطاء للأشرف الأشرف، وذلك هو اللسان العربي الذي هو لسان قومه، ولسان أهل الجنة، فكان سائر الألسنة تابعًا له كما أن الناس تابع للعرب انتهى. وفي "الفتوحات": والأولى (¬2) أن يحمل القوم على من أرسل إليهم الرسول أيًّا كان، وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خصوص عشيرة رسولهم، وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من سائر القبائل وأصناف الخلق وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية؛ لأنه لم يتفق أنه خاطب أحدًا من أهلها، ولو خاطبه لكلمه بها، تأمل. انتهى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

وقرأ أبو السمال وأبو الجوزاء وأبو عمران الجوني شذوذًا (¬1): {بلسن قومه} بإسكان السين، قالوا: هو كالريش والرياش. وقال صاحب "اللوامح" واللسن: خاص باللغة، واللسان قد يقع على العضو وعلى الكلام. وقال ابن عطية مثل ذلك، قال اللسان في هذه الآية يراد به اللغة، ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه: لسن. وقال أبو رجاء وأبو المتوكل والجحدري شذوذًا أيضًا: {لسن} بضم اللام والسين، وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرىء شاذًا أيضًا بضم اللام وسكون السين مخففًا كرسل ورسل. وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر في عدم فهم شرائعه .. ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته، فقال: {فَيُضِلُّ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَنْ يَشَاءُ} إضلاله؛ أي: يخلق فيه الكفر والضلال لمباشرة الأسباب المؤدية إليه {وَيَهْدِي} سبحانه وتعالى {مَنْ يَشَاءُ} هدايته؛ أي: يخلق فيه الإيمان والاهتداء لاستحقاقه له لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق. وجملة قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ} استئناف إخبار، ولا يجوز نصبه عطفًا على ما قبله؛ لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا للإضلال. قال الزجاج: لو قرئ بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز. اهـ. "سمين". والخلاصة (¬2): أي إن الناس فريقان: فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام، فاتبع سبيل الرشاد، وفريق رانت على قلبه الغواية والضلالة بما اجترح من الآثام، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته، لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على كل شيء، فلا يغالب في مشيئته {الْحَكِيمُ} في صنعه الذي لا يفعل شيئًا من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغة، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة في خلقه والنواميس التي وضعها لصلاح ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[5]

حال عباده وضلالهم {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. وفيه (¬1) أن ما فوض إلى الرسل إنما هو تبليغ الرسالة، وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. 5 - ثم لما بين سبحانه وتعالى أن المقصود من بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور .. أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا ذلك. وخصّ موسى (¬2) بالذكر؛ لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة المحمدية، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا}؛ أي: وكما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب؛ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعزتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران إلى بني إسرائيل، وأيدناه بآياتنا التسع التي سلف ذكرها في سورة الأعراف في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} الآية. وأمرناه بـ {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؛ أي: وأمرناه بأن يدعو قومه إلى الإيمان بالله وتوحيده؛ ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان. وقال أبو السعود (¬3): الآيات معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل، والمراد: إخراجهم بعد مهلك فرعون من الكفر والجهالات التي أدتهم إلى أن يقولوا: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة إلى الإيمان باللهِ وتوحيده وسائر ما أمروا به انتهى. ولما (¬4) كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوثًا إلى الناس كافة .. قال تعالى في حقه: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} ولم يقل: لتخرج قومك كما قال في موسى عليه السلام أن أخرج قومك وخصص. وقال هنالك: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وطواه هنا؛ لأن الإخراج بالفعل قد تحقق في دعوته - صلى الله عليه وسلم -، فكانت أمته أمة دعوة واجابة، ولم يتحقق في دعوة موسى، إذ لم يجبه القبط إلى أن هلكوا، وإن أجابه بنو إسرائيل، والعمدة في رسالته كان القبط. {و} أمرناه بأن {وَذَكِّرْهُمْ}؛ أي: ذكر قومك وعظهم مرغِّبًا لهم في ثواب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) أبو السعود. (¬4) روح البيان.

الله بتذكيرهم {بِأَيَّامِ اللَّهِ}؛ أي: بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في الأمم السابقة؛ ليكون في ذلك حافزًا لهم على العمل، ويكون لهم بمن سلف أسوة، وذكرهم وعظهم مخوفًا لهم بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود؛ ليكون لهم في ذلك مزدجر، وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بهم. والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وأيام الله (¬1) في جانب موسى عليه السلام، منها ما كان محنة وبلاء، وهي الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم، وإنزاله المنّ والسلوى عليهم. وفي "تفسير ابن جرير": {بِأَيَّامِ اللَّهِ}؛ أي: بأنواع عقوباته الفائضة، ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة، فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه اهـ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} التذكير بأيام الله، أو في نفس أيام الله {لَآيَاتٍ} عظيمة أو كثيرة؛ أي: لدلائل دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته {لِكُلِّ صَبَّارٍ}؛ أي: كثير الصبر على المحن والبلايا {شَكُورٍ}؛ أي: كثير الشكر على المنح والعطايا؛ لأنه (¬2) إذا سمع بما نزل على من قبله من النبلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. اهـ. "بيضاوي". كأنه (¬3) قال: لكل مؤمن كامل؛ إذ الإيمان نصفان: نصفه صبر، ونصفه شكر، وتخصيص الآيات بهم؛ لأنهم المنتفعون بها، لا لأنها خافية عن غيرهم، فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل، وتقديم الصبر لكون الشكر عاقبته. وعبارة "الكرخي": وتقديم الصبار على الشكور؛ لتقدم متعلق الصبر، أعني: البلاء على متعلق الشكر، أعني: النعماء وكون الشكر عاقبة الصبر. اهـ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) روح البيان.

[6]

قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أمر المؤمن كله عجب لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا، إن أصابته ضبراء صبر، فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرًا له". وفي هذا (¬1) إيماء إلى أن الإنسان في هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدًا؛ لأنه: إما في مكروه يصبر عليه، وإما في محبوب يشكر عليه، والوقت في هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدي فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا، فقد كفرنا النعمة وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل، وليخف على وقت يضيع، ثم بعده عذاب سريع. 6 - ولما سمع موسى أمر ربه امتثله، وأخذ يذكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل: يا قوم {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: تذكروا إنعام الله سبحانه وتعالى عليكم {إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}؛ أي: وقت إنجائه إياكم من فرعون وآله؛ أي: قومه حين كانوا {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}؛ أي: يذيقونكم أشد العذاب، ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال {وَيُذَبِّحُونَ} تذبيحًا كثيرًا {أَبْنَاءَكُمْ} المولودين صغارًا {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}؛ أي: ويبقون نسائكم وبناتكم في الحياة ذليلات في الخدمة مستضعفات فيها، وهذا رزء من أشد الأرزاء، وأعظم أنواع البلاء. قال شاعرهم: وَمِنْ أعْظَمِ الرُّزْءِ فِيْمَا أرَى ... بقَاَءُ الْبَنَاتِ وَمَوْتُ الْبَنِيْنَا وفي الكرخي: فإن قيل (¬2): استحياء النساء كيف يكون ابتلاء؟ قلنا: كانوا يستخدمونهن بالاستعباد والإرقاق، ويفردونهن عن الأزواج، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

وذلك من أعظم المضار والابتلاء؛ إذ الهلاك أسهل من هذا. اهـ. وقوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} من عطف (¬1) الخاص على العام؛ كأن التذبيح لشدته وفظاعته وخروجه عن مرتبة العذاب المعتاد جنس آخر، ولو جاء بحذف الواو كما في البقرة والأعراف .. لكان تفسيرًا للعذاب، وبيانًا له، وإنما فعلوا ذلك؛ لأن فرعون رأى في المنام أن نارًا أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت بيوت القبط دون بيوت بني إسرائيل، فخوفه الكهنة، وقالوا له: إنه سيولد منهم ولد يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فشمر عن ساق الاجتهاد، وحسر من ساق العناد، وأراد أن يدفع القضاء وظهوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فإن قلت (¬2): قال في سورة البقرة {يُذَبِّحُونَ} بغير واو، وقال هنا: {وَيُذَبِّحُونَ} بزيادة واو، فما الفرق بين الوضعين؟ قلتُ: إنما حذفت الواو في سورة البقرة؛ لأن قوله: {يُذَبِّحُونَ} تفسير لقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، كما تقول: جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم، وأما دخول الواو هنا في هذه السورة؛ فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح كالأعمال الشاقة وبالتذبيح أيضًا، فقوله: {وَيُذَبِّحُونَ} نوع آخر من العذاب، لا أنه تفسير للعذاب. {وَفِي ذَلِكُمْ} المذكور من أفعالهم الفظيعة {بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}؛ أي: محنة عظيمة لا تطاق واقعة من ربكم. فإن قلت: كيف يكون فعل أن فرعون بلاء من ربهم؟ قلتُ: تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا بهم ما فعلوا بلاء من الله تعالى واختبار منه، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء، والمراد بالبلاء حينئذ: النعمة؛ لأن الابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة، كما قال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[7]

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} والمعنى حينئذٍ: وفي ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة واقعة لكم من ربكم. وقرأ ابن محيصن (¬1): {وَيَذْبَحُونَ} بالتخفيف مضارع ذبح الثلاثي. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه حذف الواو. 7 - وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} من كلام موسى معطوف على {نِعْمَةَ اللَّهِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه: تذكروا إنعام الله عليكم، واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده إعلامًا بليغًا، فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن شكرتم ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه .. لأزيدنكم من نعمي عليكم نعمةً إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم. قيل: شكر الموجود صيد المفقود. وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب. وأصل الشكر (¬2): تصور النعمة وإظهارها، وحقيقته الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وتوطين النفس على هذه الطريقة. وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل، كلما مرن عليه ازداد قوة (¬3)، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت، وإن أهملت ذهبت. أخرج البخاري في "تاريخه": والضياء في "المختارة": عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ألهم خمسة لم يحرم خمسة" وفيها، "من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة". والخلاصة: أن من شكر الله على ما رزقه .. وسع عليه في رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته .. زاد في طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة .. زاده الله صحة إلى نحو أولئك من النعم. {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} نعمي وجحدتموها، فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[8]

وقابلتموها بالنسيان والكفران، والجواب محذوف تقديره: لأعذبنكم على ذلك الكفران، ويكون قوله: {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} تعليلًا للجواب المحذوف، وإنما (¬1) حذف الجواب هنا وصرح به في جانب الوعد؛ لأن من عادة الكرام التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد، فما ظنك بأكرم الأكرمين حيث لم يقل: إن عذابي لكم؛ أي: إن عذابي لشديد بحرمانكم منها، وسلبكم ثمراتها في الدنيا والآخرة، فتعذبون في الدنيا بزوالها، وفي الآخرة بعذاب لا قبل لكم به. وفي الحديث: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه". 8 - ثم بين سبحانه وتعالى أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم، أما المعبود المشكور فهو متعالٍ عن أن ينتفع بالشكر، أو يضره الكفر، فلا جرم قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا} نعمه تعالى ولم تشكروها {أنْتُمْ} يا بني إسرائيل {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} من الثقلين {جَمِيعًا} حال من المعطوف والمعطوف عليه {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى تعليل للجواب المحذوف؛ أي: إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم، فإن الله تعالى {لَغَنِيٌّ} عن شكركم وشكر غيركم {حَمِيدٌ}؛ أي: محمود في ذاته وصفاته وأفعاله لا تفاوت له بإيمان أحد ولا كفره، وإن لم يحمده أحد، بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده. والمعنى (¬2): أي وإن تجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليكم ويفعل مثل فعلكم من في الأرض جميعًا، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم إذ حرمتموها من مزيد الإنعام، وعرضتموها للعذاب الشديد، وإن الله غنيٌ عن شكركم وشكر غيركم، وهو المحمود وإن كفر به من كفر، وهذا كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} .. الآية، وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد ومخايل الإصرار على الكفر والفساد، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب، ولا التعريض ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

[9]

بالترهيب. وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم، وتعظيم لله تعالى، وكذلك في ذكر هاتين الصفتين. وقرأ ابن مسعود: {وإذ قال ربكم} كأنه فسر قوله: تأذن؛ لأنه بمعنى: أذن؛ أي: أعلم، وأعلم يكون بالقول. 9 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} للتقرير المضمن للتوبيخ، والخطاب فيه يحتمل أن يكون من موسى لقومه تذكيرًا لم بالقرون الأولى وأخبارهم ومجيء رسل الله إليهم، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد - صلى الله عليه وسلم - تحذيرًا لهم عن مخالفته، والنبأ: الخبر العظيم الشأن. وقوله: {قَوْمِ نُوحٍ} بدل من الموصول، أو عطف بيان منه {وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} معطوفات على {قَوْمِ نُوحٍ}؛ أي: ألم يأتكم يا بني إسرائيل، بل أتاكم أخبار الأمم الذين من قبلكم؛ أي: ألم يأتكم قوم نوح أغرقوا بالطوفان حيث كفروا ولم يشكروا نعم الله، وخبر عاد قوم هود أهلكوا بالريح الصرصر، وخبر ثمود قوم صالح أهلكوا بالصيحة، وخبر الذين من بعدهم؛ أي: من بعد هؤلاء المذكورين من قوم إبراهيم وأصحاب مدين، والمؤتفكات وغير ذلك. وجملة قوله: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} معترضة بين المفسر بفتح السين: وهو {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وتفسيره: وهو {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}، أو حال من {الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، أو من الضمير المستكن في {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ لوقوعه صلة؛ أي: حالة كون تلك الأمم لا يعلم عددهم لكثرتهم، ولا يحيط بذواتهم وصفاتهم وأسمائهم وسائر ما يتعلق بهم إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه انقطعت أخبارهم وعفت آثارهم. وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبًا أبًا إلى آدم (¬1)، وكذا في حق النبي عليه السلام؛ لأن أولئك الآباء لا يعلمهم أحد إلا الله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعني: أنهم يدعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد. وجملة قوله: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} مستأنفة مسوقة لبيان النبأ المذكور في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كأنه (¬2) قيل: وما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روض البيان. (¬3) الفتوحات.

خبرهم؛ أي: ما قصتهم وما شأنهم، فقال: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}؛ أي: جاءت تلك الأمم المذكورة رسلهم بالمعجزات الظاهرة والبينات الباهرة، وبين كل رسول لأمته طريق الحق ودعاهم إليه؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ}؛ أي: جعلت الأمم أيدي أنفسهم {فِي أَفْوَاهِهِمْ} ليعضوها غيظًا مما جاءت به الرسل؛ لنفرتهم عن استماع كلامم؛ إذ سفَّهوا أحلامهم وشتموا أصنامهم، وقد فعلت العرب مثل ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}، أو المعنى (¬1): وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إلى الرسل؛ أي: كفوا عن هذا الكلام واسكتوا. وقال أبو عبيدة والأخفش (¬2): وَنِعَمَّا قالا: "هو مثلٌ، والمراد: أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في فيه". {وَقَالُوا}؛ أي: قال الكفار للرسل: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} من البينات على زعمكم؛ أي: إنا كفرنا بما زعمتم أن الله تعالى أرسلكم به من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ}؛ أي: وإننا لكائنون في شك عظيم {مِمَّا تَدْعُونَنَا}؛ أي: في حقيَّة ما تدعوننا إليه من الإيمان باللهِ وحده وترك ما سواه، وجملة ما جئتم به من الشرائع. {مُرِيبٍ}؛ أي: موجب للريب والقلق والاضطراب وعدم طمأنينة النفس، فـ {مُرِيبٍ} صفة توكيدية. وخلاصة مقالهم: أنهم جاحدون نبوتهم قاطعون بعدم صحتها، لأن ما جاؤوا به من التعاليم والشرائع مما يشك في صدقه، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله. فإن قلت (¬3): إنهم قالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم، فكيف يقولون ثانيًا: وإنا لفي شك، والشك دون الكفر، أو داخل فيه؟ قلتُ: إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل، فكأنهم حصل لهم شبهة توجب ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[10]

لهم الشك، فقالوا: إن لم ندع الجزم في كفرنا، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في ذلك. أو يقال في الجواب (¬1): إنهم كانوا فرقتين: إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت، أو يقال: المراد بقولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به؛ أي: المعجزات والبينات، وقولهم: مما تدعوننا إليه: الإيمان والتوحيد. وحاصله: أن كفرهم بالمعجزات وشكهم في التوحيد، فلا تخالف. اهـ. شيخنا. وقرأ طلحة (¬2): {مِمَّا تَدْعُونَنَا} بإدغام نون الرفع في الضمير، كما تدغم في نون الوقاية في مثل {أَتُحَاجُّونِّي}. 10 - فردت الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {قَالَتْ} لهم {رُسُلُهُمْ أَفِي} وجود {اللهِ} سبحانه وتعالى ووحدانيته {شَكٌّ} وريب، وكيف يتصور ذلك لا شك في وجوده ووحدانيته؛ لأن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فالاعتراف به ضروري لدى كل ذي رأي حصيف كما جاء في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام فيه للإنكار المضمن للتوبيخ والتقريع؛ أي: أفي وحدانيته سبحانه شك، وهي في غاية الوضوح والجلاء، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الأدلة الموصلة إلى ذلك، ومن ثم ذكرت الرسل بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه وتعالى ووحدانيته، فقالوا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم؛ أي: هو سبحانه الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

ومليكه، وقد جاء هذا الوصف في محاورات الأنبياء جميعًا، وهو نفس الوصف الذي جاء في أول السورة على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذا يعلم أن كل نبي جعل مطمح نظره توجه النفوس إلى علوم السماوات والأرض. وقرأ زيد بن علي (¬1): {فَاطِرِ} نصبًا على المدح. ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم: {يَدْعُوكُمْ} سبحانه وتعالى إلى الإيمان به وتوحيده بإرساله إيانا لنخرجكم من ظلمات الوثنية إلى نور الوحدانية وإخلاص العبادة له، وهو الواحد القهار {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}؛ أي: ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم. فحرف {من} صلة، وقيل: إنها ليست صلة، بل هي تبعيضية؛ أي: يدعوكم إلى الإيمان؛ لمغفرة بعض ذنوبكم، وهي الذنوب التي بينكم وبين ربكم من الكفر والمعاصي، لا المظالم وحقوق العباد. والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم (¬2)، يرى أن كل موضعٍ ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ {من}، كقوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، وقوله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}؛ لأنه يخاطبهم في أمر الإيمان وحده. وفي المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجيء بدون ذكر {مِنْ}، كقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها. {وَيُؤَخِّرْكُمْ}؛ أي: يؤخر موتكم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معين عند الله تعالى؛ أي: إلى وقت سماه الله وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد، وإخلاص العبادة للواحد القهار. ثم حكى الله سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل، وهو يتضمن ثلاثة أشياء: 1 - {قَالُوا}؛ أي: قالت الأمم مجيبين للرسل {إِنْ أَنْتُمْ}؛ أي: ما أنتم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

في الصورة والهيئات {إِلَّا بَشَرٌ} آدميون {مِثْلُنَا} تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب، فلا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة وأطلعكم الله على الغيب، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا إلى أنه لو كان الأمر كما تدعون .. لوجب أن تخالفونا في الحاجة إلى الأكل والثرب وقربان النساء وما شاكل ذلك، ولو شاء الله أن يرسل إلى البشر رسلًا .. لأرسل من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم من حيث عدم التدنس بالشهوات وما يتبعها. 2 - {تُرِيدُونَ} أيها المدعون بالرسالة {أَنْ تَصُدُّونَا}؛ أي: أن تصرفونا بتخصيص العبادة باللهِ {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؛ أي: عن عباد ما استمر آباؤنا على عبادته؛ وهو الأصنام من غير شيء يوجبه لا حجة لكم على ما تدعون، وليس من حصافة العقل أن تترك أمرًا قبل أن يقوم الدليل على خطئه. وقرأ طلحة شاذًا (¬1): {أَنْ تَصُدُّونَا} بتشديد النون جعل أن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلا بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، ولكنه هنا لم يعملها، بل ألغاها كما ألغاها من قرأ شذوذًا أيضًا: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} برفع {يتم} حملًا على {ما} المصدرية أختها. {فَأْتُونَا} أي: إن لم يكن (¬2) الأمر كما قلنا، بل كنتم رسلًا من جهة الله كما تدعونه فأتونا {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: ببرهان ظاهر وحجة واضحة تدل على صدقكم وفضلكم، واستحقاقكم لتلك الرتبة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبًا عن جد، كأنهم لم يعتبروا ما جاءت به رسلهم من الحجج والبينات، واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتًا ولجاجًا. فكأنهم قالوا: أما ذكر السماوات والأرض وعجائبهما (¬3)، فلسنا نحفل بهما، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[11]

لهم بما هو خارج عن طور معتادهم، وحينئذ يعظمونه ويبجلونه، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئًا خارقًا للعادة، وإذًا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا كقلب العصا حية، ونقل الجبال وما أشبه ذلك. 11 - وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة .. حكى عن الأنبياء جوابهم عنها، فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة؛ لأن هذا منصب يمنُّ الله به على من يشاء من عباده، كما لا يمنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وأن يحرم الجمع العظيم منه، وهذا ما أشار إليه بقوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} زاد (¬1) لفظ {لَهُمْ} هنا لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك في الله، فإن ذلك عام، وإن اختص بهم ما يعقبه؛ أي: قالوا لهم معترفين بالبشرية ومشيرين إلى منة الله عليهم {إِنْ نَحْنُ}؛ أي: ما نحن {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ أي: إلا آدميون مثلكم كما تقولون لا ننكره {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه تعالى {يَمُنُّ}؛ أي: يتفضل بالنبوة والوحي {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ويصطفي من يشاء منهم لهذا المنصب العظيم الشريف. وفيه (¬2) دلالة على أن النبوة عطائية كالسلطنة، لا كسبية كالولاية والوزارة. وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا، وما اقترحتموه من الآيات، فأمره إلى الله إن شاء أظهره، وهو زائد على قدر الكفاية، وذلك ما أومؤوا إليه بقولهم: {وَمَا كَانَ}؛ أي: وما صح وما استقام {لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ}؛ أي: بحجة من الحجج فضلًا عن السلطان البين، ولا بشيء من الأشياء، ولا سبب من الأسباب {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته، فإنه أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى إن شاء كان، وإلا فلا، تلخيصه إنما نحن عبيد مربوبون، وليس ذلك في قدرتنا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[12]

والخلاصة (¬1): أي وليس لنا مع ما خصنا الله به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن الله به لنا في ذلك. وبعد (¬2) أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون، فقال لهم الأنبياء: إنا لا نخاف تهديدكم ولا وعيدكم، بل نتوكل على الله ونعتمد عليه، ولا نقيم لما تقولون وزنًا، ولا نابه به، وهذا ما إشار إليه سبحانه بقوله حكاية عنهم: {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى وحده دون ما عداه مطلقًا {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في دفع شرور أعدائهم عنهم، وفي الصبر على معاداتهم؛ أي: وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله تعالى، فلنتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم. وقرأ الحسن شذوذًا بكسر لام الأمر في قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ} وهو الأصل ذكره في "البحر". وهذا أمر (¬3) منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون ما عداه، وكأن الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصدًا أوليًّا، 12 - ولهذا قالوا: {وَمَا لَنَا}؛ أي: وأي عذر ثبت لنا في {أَلَّا نَتَوَكَّلَ} ونعتمد {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى في دفع شروركم عنا {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}؛ أي: والحال أنه تعالى أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين، وهو موجب للتوكل عليه ومستدع له. وقرأ الجمهور: {سُبُلَنَا} بضم السين والباء وقرأ أبو عمرو بسكون الباء. والمعنى: أي: وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة، وأوجب علينا سلوك طريقها، وأرشدنا إلى طريق النجاة، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها. ولمَّا كانت أذية الكفار مما يوجب الاضطراب القادح في التوكل .. قالوا على سبيل التوكيد القسمين مظهرين لكمال العزيمة {وَلَنَصْبِرَنَّ}؛ أي: ونقسم لكم بالله تعالى لنصبرن {عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} في أبداننا وأعراضنا، أو بالتكذيب، ورد الدعوة والإعراض عن الله والعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

وهو جواب قسم محذوف. والمعنى: أي: ولنصبرن على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه، وندعوكم لعبادة الله وحده؛ ليكون ذلك منا شكرًا على نعمة الهداية. ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل، وبيان أن إيذائهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم، فقالوا: {وَعَلَى اللَّهِ}؛ أي: والتوكل على الله والاعتماد عليه، لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}؛ أي: فليثبت المتوكلون وليدوموا على التوكل عليه، وليحتملوا كل أذى في جهادهم، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى، ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات. قال ابن الجوزي: وإنما نص هذا وأمثاله على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ليقتدي بمن قبله في الصبر، وليعلم ما جرى لهم. اهـ. ومن عنده (¬1) مال أو علم فلينفع به الناس، وليكن كالنهر يسقي الزرع، والشمس تضيء العباد، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا، فهم هداة بطباعهم، ولذاتهم في قلوبهم، ومنهم تنتقل إلى الناس. فإن قلت (¬2): كيف كرر الأمر بالتوكل، وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت: نعم، التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل، والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته، فحصل الفرق بين التوكلين. والمعنى (¬3): فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل المسبب عن الإيمان، فالأول لإحداث التوكل، والثاني للثبات عليه، فلا تكرار. وقيل معنى الأول: إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، ومعنى الثاني: إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. اهـ. "شوكاني". والتوكل تفويض الأمر إلى من يملك الأمور كلها، وقالوا: المتوكل من إن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية، فعلى هذا إذا وقع الإنسان من شدة، ثم سأل غيره خلاصه لم يخرج عن حدّ التوكل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله تعالى. فائدة: ومن لطائف هذه الآية الكريمة (¬1): ما روى المستغفري عن أبي ذر رفعه "إذا آذاك البرغوث فخذ قدحًا من ماء، واقرأ عليه سبع مرات: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ...} الآية، ثم قل: إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا سبع مرات على الماء، ثم رشه حول فراشك، فإنك تبيت آمنًا من شرهم". وقال بعضهم: إن مما أخذ الله على الكلب إذا قرئ عليه: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} لم يؤذ، ومما أخذ الله على العقرب أنه إذا قرئ عليها: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} لم تؤذ، وكذلك الحية. الإعراب {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}. {الر}: على القول بأنه اسم للسورة: إما مبتدأ خبره محذوف تقديره: الر هذا محله، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الر، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: إقرأ الر، أو مفعول لاسم فعل محذوف تقديره: هاك الر؛ لأنه من قبيل أسماء التراجم، وإن قلنا: إنه من قبيل الأعداد المسرودة فلا محل له من الإعراب. {كِتَابٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا القرآن الذي أنزل عليك يا محمد كتاب أنزلناه إليك، والجملة مستأنفة. {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ {كِتَابٌ}. {لِتُخْرِجَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {لِتُخْرِجَ النَّاسَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ¬

_ (¬1) روح البيان.

لإخراجك الناس به، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلْنَاهُ}. {مِنَ الظُّلُمَاتِ}: متعلق بـ {تُخْرِجَ}، وكذا قوله: {إِلَى النُّورِ}: متعلق به {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تُخْرِجَ} أيضًا، أو متعلق بمحذوف حال من فاعل {تُخْرِجَ} تقديره: حالة كونك مأذونًا لك من ربهم. {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {إِلَى النُّورِ}. {الْحَمِيدِ}: نعت لـ {الْعَزِيزِ}. {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)}. {اللَّهِ}: بالجر: بدل من {الْعَزِيزِ} بدل كل من كل على القاعدة (¬1): إن نعت المعرفة إذا تقدم على المنعوت يعرب بحسب العوامل، ويعرب المنعوت بدلًا، أو عطف بيان، والأصل: إلى صراط الله العزيز الحميد .. الخ، فالصفات ثلاثة تقدم منها ثنتان، وبقيت الثالثة مؤخرة. اهـ. شيخنا. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة. {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. {وَوَيْلٌ}: مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الدعاء. {لِلْكَافِرِينَ}: خبره. {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}: في موضع رفع صفة لـ {وَيْلٌ} بعد الخبر، وهو جائز، ولا يجوز (¬2) أن يتعلق بـ {وَيْلٌ} من أجل الفصل بينهما بالخبر. وقال أبو السعود: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} تعلق بـ {وَيْلٌ} على معنى يولون ويضجون منه قائلين: يا ويلاه كقوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}. اهـ. كما مر، والجملة الاسمية جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)}. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) العكبري.

{الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل (¬1) الجر صفة {لِلْكَافِرِينَ}، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو في موضع رفع بإضمارهم. وفي "الفتوحات" قوله: أو في محل جر صفة، هذا الإعراب معترض (¬2)، لما فيه من الفصل بين النعت والمنعوت بأجنبي، وهو قوله: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الذي هو بيان للمبتدأ الأجنبي من الخبر، وعلى هذا الإعراب يكون قوله: {أُولَئِكَ ...} إلخ: مستأنفًا، والأولى أن يعرب {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} الخ مبتدأ ويكون قوله: {أُولَئِكَ ...} إلخ: خبره. اهـ. شيخنا. {يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةَ}. {عَلَى الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يَسْتَحِبُّونَ}. {وَيَصُدُّونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَسْتَحِبُّونَ}. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق به. {وَيَبْغُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَصُدُّونَ}. {عِوَجًا}: حال من ضمير المفعول، كما في "أبي البقاء". {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {فِي ضَلَالٍ}: خبره. {بَعِيدٍ}: صفة لـ {ضَلَالٍ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}. {وَمَا}: (الواو): استئنافية. {مَا}: نافية. {أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ}: فعل وفاعل ومفعول، و {مِنْ}: زائدة، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِلِسَانِ قَوْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {رَسُولٍ}؛ أي: إلا حالة كونه متكلمًا بلغة قومه. {لِيُبَيِّنَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يُبَيِّنَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. {لَهُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولٍ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}؛ أي: لتبيينه لهم. {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. ¬

_ (¬1) أبو البقاء. (¬2) الفتوحات.

{فَيُضِلُّ} (الفاء): استئنافية. {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فيضل الله من يشاء إضلاله. وفي "الجمل" قوله: {يُضِلُّ اللَّهُ} بالرفع هو استئناف (¬1) إخبار، ولا يجوز نصبه عطفًا على {لِيُبَيِّنَ}؛ لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا للإضلال. قال الزجاج: لو قرئ بنصبه على أن اللام لام العاقبة .. جاز. اهـ. "سمين". وجملة قوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} معطوفة على جملة قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ}. {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، أو صفة لـ {الْعَزِيزُ}. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}. {وَلَقَدْ}: (الواو): استئنافية. (اللام): موطئة للقسم. {قَدْ}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور حال من {مُوسَى}: أي حالة كونه متلبسًا بآياتنا، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة. {أَنْ} مصدرية. {أَخْرِجْ}: فعل أمر في محل نصب بـ {أن} المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. {قَوْمَكَ}: مفعول به. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: جاران ومجروران متعلقان بـ {أَخْرِجْ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا بإخراج قومك من الظلمات، الجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، وهذه المقدرة للتعدية، والباء في بآياتنا للحال، فلا اتحاد في المعنى، ويجوز أن تكون {أَنْ} مفسرة؛ لأن الضابط موجود، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، و {أَرْسَلْنَا} فيه معنى قلنا. {وَذَكِّرْهُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {أَخْرِجْ}، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. {بِأَيَّامِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ذكر}. {إِنَّ}: ¬

_ (¬1) الفتوحات.

حرف نصب وتوكيد. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبرها مقدم على اسمها. {لَآيَاتٍ}: (اللام): حرف ابتداء. {آيَاتٍ}: اسمها مؤخر. {لِكُلِّ صَبَّارٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {آيَاتٍ}. {شَكُورٍ}: صفهَ {صَبَّارٍ}: وجملة {أَنْ}: مستأنفة. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}. {وَإِذْ}: (الواو) استئنافية. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى لقومه، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل. {لِقَوْمِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ}؛ لأنه بمعنى إنعام الله عليكم، والجملة في محل النصب مقول القول. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ} بالمعنى المذكور، أو بدل اشتمال منها كذلك اهـ. "بيضاوي". {أَنْجَاكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَنْجَاكُمْ}. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. {يَسُومُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {سُوءَ الْعَذَابِ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {آلِ فِرْعَوْنَ}، أو حال من ضمير المخاطبين. {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب معطوف على {يَسُومُونَكُمْ}: وكذا {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف أيضًا على {يَسُومُونَكُمْ}. {وَفِي ذَلِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {بَلَاءٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة أولى لـ {بَلَاءٌ}. {عَظِيمٌ}: صفة ثانية، والجملة الاسمية مستأنفة.

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}. {وَإِذْ}: (الواو): عاطفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على {نِعْمَةَ اللَّهِ}، والتقدير: واذكر إذ قال موسى لقومه: اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا إذ تأذن ربكم، أو معطوف على {إِذْ أَنْجَاكُمْ}، تقديره: اذكروا نعمة الله عليكم حين أنجاكم وحين تأذن ربكم. {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه {إذ}. {لَئِنْ}: (اللام): موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط. {شَكَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {لَأَزِيدَنَّكُمْ}: (اللام): موطئة للقسم مؤكدة للأولى. {أَزِيدَنَّكُمْ}: فعل مضارع ومفعول في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وإذ تأذن ربكم، وقال: لئن شكرتم .. الخ، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن شكرتم أزدكم، وجملة الشرط معترضة لاعتراضها بين القسم وجوابه لا محل لها من الإعراب. {وَلَئِنْ}: (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط. {كَفَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده تقديره: لأعذبنكم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأول على كونها مقولًا لقول محذوف، وجواب الشرط محذوف أيضًا تقديره: إن كفرتم أعذبكم، وجملة الشرط معترضة أيضًا. {إِنَّ عَذَابِي}: ناصب واسمه. {لَشَدِيدٌ}: خبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لعليل الجواب المحذوف. {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}. {وَقَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنْ تَكْفُرُوا} إلى الآخر: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنْ تَكْفُرُوا}: جازم وفعل وفاعل. {أَنْتُمْ}: تأكيد لضمير الفاعل؛ ليعطف عليه ما بعده. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل

الرفع معطوف على فاعل {تَكْفُرُوا}. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة الموصول. {جَمِيعًا}: حال مؤكدة لكل من المعطوف والمعطوف عليه. {فَإِنَّ}: (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية، {إنا الله}: ناصب واسمه. {لَغَنِيٌّ}: (اللام): حرف ابتداء، {غَنِيٌّ}: خبره. {حَمِيدٌ}: صفة {غَنِيٌّ}، أو خبر بعد خبر، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}. {أَلَمْ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لَمْ}: حرف جزم. {يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ}: فعل ومفعول وفاعل ومضاف إليه مجزوم بـ {لم}، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة الموصول. {قَوْمِ نُوحٍ}: بدل من الموصول بدل تفصيل من مجمل. {وَعَادٍ وَثَمُودَ}: معطوفان على {قَوْمِ نُوحٍ}. {وَالَّذِينَ}: معطوف أيضًا على {قَوْمِ نُوحٍ}. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور صلته. {لَا يَعْلَمُهُمْ}: فعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {اللَّهُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الَّذِينَ}، أو من الضمير المستكن في {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ لوقوعه صلة. {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ}: حال من {رُسُلُهُمْ}، والجملة الفعلية مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: وما خبرهم؛ أي: ما قصتهم وما شأنهم؟ فقيل: جاءتهم رسلهم .. إلخ، وهذه الجملة في المعنى تفسير لـ {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {جَاءَتْهُمْ}. {فِي أَفْوَاهِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {رَدُّوا}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {رَدُّوا}. {إِنَّا كَفَرْنَا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كَفَرْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول قال. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {كَفَرْنَا}. {أُرْسِلْتُمْ}: فعل ونائب فاعل.

{بِهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَفِي شَكٍّ}: (اللام): حرف ابتداء. {فِي شَكٍّ}: جار ومجرور خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {شَكٍّ}. {تَدْعُونَنَا}: فعل وفاعل ومفعول. {إِلَيْهِ}: متعلق به، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها. {مُرِيبٍ}: صفة لـ {شَكٍّ}. {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {قَالَتْ رُسُلُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلهم؟ فأجيب بأنهم: قالوا .. الخ. {أَفِي اللَّهِ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري. {فِي اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {شَكٌّ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول قال. وفي "السمين": يجوز في {شَكٌّ} وجهان: أظهرهما: أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام. والثاني: أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور قبله، والأول أولى؛ لأنه يلزم على الثاني الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو المبتدأ بخلاف الأول، فإن الفاصل ليس أجنبيًّا؛ إذ هو فاعل، والفاعل كالجزء من رافعه. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ}: صفة للجلالة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. {يَدْعُوكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من الجلالة. {لِيَغْفِرَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يغفر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ}: متعلق به. {مِنْ}: زائدة. {ذُنُوبِكُمْ}: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: لغفرانه لكم ذنوبكم. {وَيُؤَخِّرَكُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَغْفِرَ لَكُمْ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَى أَجَلٍ}: متعلق بـ {يُؤَخِّرَكُمْ}. {مُسَمًّى}: صفة لـ {أَجَلٍ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت:

{إِنْ}: نافية. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بَشَرٌ}: خبر المبتدأ. {مِثْلُنَا}: صفة لـ {بَشَرٌ}؛ لأنه بمعنى مماثل لنا، والإضافة فيه لا تفيد التعريف؛ لأنه من الأسماء المتوغلة، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {تُرِيدُونَ}: فعل وفاعل والجملة صفة ثانية لـ {بَشَرٌ}، أو مستأنفة. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَصُدُّونَا}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه حذف النون: والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: تريدون صدنا. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَصُدُّون}. {كَانَ}: زائدة. {يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}: فعل وفاعل والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما كان يعبده آباؤنا {فَأْتُونَا}: الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم رسلًا من عند الله كما تدعون. {أْتُونَا}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن الشرطية على كونا جوابًا لها. {بِسُلْطَانٍ}: متعلق به. {مُبِينٍ}: صفة لـ {سُلْطَانٍ}، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. {قَالَتْ} فعل ماضٍ. {لَهُمْ}: متعلق به. {رُسُلُهُمْ}: فاعل، والجملة مستأنفة. {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إلى قوله {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}: مقول محكي لـ {قَالَتْ}: وإن شئت قلت: {إن}: نافية. {نَحْنُ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بَشَرٌ}: خبر المبتدأ. {مِثْلُكُمْ}: صفة لـ {بَشَرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {وَلَكِنَّ اللَّهَ} (الواو): عاطفة {لَكِنَّ}: حرف نصب واستدراك. {اللَّهَ}: اسمها. {يَمُنُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {عَلَى مَنْ}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {يَمُنُّ}: في محل الرفع خبر {لكن} وجملة {لَكِنَّ}: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول {قَالَتْ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير على يعود على {اللَّهَ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: على من يشاءه. {مَنْ يَشَاءُ}: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف.

{وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لَنَا}: جار ومجرور خبر {كَانَ} مقدم على اسمها. {أَنْ نَأْتِيَكُمْ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرسل. {بِسُلْطَانٍ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} تقديره: وما كان الإتيان إياكم بلسطان كائنًا لنا، وجملة {كَانَ} معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَتْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِإِذْنِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {نَأْتِيَكُمْ} تقديره: وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا حالة كوننا ملتبسين بإذن الله. {وَعَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {فَلْيَتَوَكَّلِ} (الفاء): زائدة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلنا لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فنقول لكم {ليَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، (اللام): لام الأمر. {يتوكل المؤمنون}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. {لَنَا}: جار ومجرور خبره، والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها على كونها مقول {قَالَتْ}. {أَلَّا} {أن}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية. {نَتَوَكَّلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على الرسل. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: في عدم توكلنا على الله، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {وَقَدْ}: (الواو): حالية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {هَدَانَا سُبُلَنَا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة في محل النصب حال من الجلالة؛ أي: حالة كونه هاديًا إيانا سبلنا، {وَلَنَصْبِرَنَّ}: (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. {نَصْبِرَنَّ}: فعل مضارع مبني على

الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الرسل، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَتْ}. {عَلَى}: حرف جر. {مَا}: مصدرية. {آذَيْتُمُونَا}: فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية مع {مَا} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره: على إيذائكم إيانا، الجار والمجرور متعلق بـ {نَصْبِرَنَّ}. {وَعَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}: فعل وفاعل، و (الفاء): زائدة، و (اللام): لام الأمر، أو (الفاء): فاء الفصيحة، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ}. التصريف ومفردات اللغة {الظُّلُمَاتِ} الضلالات، والنور: الهدى، فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات: وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور: وهو لفظ مفرد، وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة، وأما طرق العلم والإيمان فليس إلا واحدًا. اهـ. "خازن". {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}؛ أي: بتيسيره وتوفيقه. {الْعَزِيزِ} الغالب الذي لا يغالب. {الْحَمِيدِ} المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلًا، وبحمد عباده له أبدًا. {وَوَيْلٌ}؛ أي: هلاك ودمار، والويل: نقيض الوأل؛ وهو؛ أي: الوأل: النجاة اهـ. "أبو السعود". وقوله: وهو نقيض الوأل بالهمز، وفي "المختار: الموئل الملجأ، وقد وأل إليه إذا لجأ، وبابه وعد، ووؤلًا بوزن وجود. اهـ. ثم قال: والويل واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال .. لا نماعت من حره. اهـ. وقيل: الويل هنا بمعنى التأوه. {يَسْتَحِبُّونَ}: من الاستحباب: وهو استفعال من المحبة، والمعنى: يختارون الحياة الدنيا. {سَبِيلِ اللَّهِ}: دينه الذي ارتضاه لعباده. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}؛ أي: يطلبون لها عوجًا؛ أي: زيغًا واعوجاجًا، والعوج .. بكسر العين في المعاني، وبفتحها في الأعيان.

{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وفي "القاموس": وأيام الله نعمه، ويوم أيْوَم شديد وآخر يوم في الشهر. اهـ. وفي "المختار": وربما عبروا عن الشدة باليوم. اهـ. ويقال: أيام الله وقائعه في الأمم السابقة، ويقال: فلان عالم بأيام العرب؛ أي: بحروبها وملاحمها. {يَسُومُونَكُمْ}؛ أي: يذيقونكم ويكلفونكم. وفي "بحر العلوم": {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} من سام السلعة إذا طلبها، والمعنى: يذيقونكم أو يبغونكم شدة العذاب، ويريدونكم عليه، والسوء مصدر ساء يسوء: وهو اسم جامع للآفات كما في "التبيان"، والمراد: جنس العذاب السيء، أو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، والاستهانة بهم وغير ذلك مما لا يحصر. {بَلَاءٌ}؛ أي: ابتلاء واختبار. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}؛ أي: آذن وأعلم، وتأذن بمعنى آذن، كوعد بمعنى أوعد، غير أنه أبلغ؛ لما في التفعل من التكلف والمبالغة. اهـ. "بيضاوي". {إِنَّا كَفَرْنَا} إن مخففة من الثقيلة، وأدغمت نونها في نون نا الذي هو اسمها، ويصح أن تكون المشددة، فلما اتصلت، بنون الضمير اجتمع ثلاثة أمثال، فحذفت واحدة منهن لتوالي الأمثال، والمحذوف إما الثانية من نوني إن المشددة، وإما نون الضمير، وكذا يقال في قوله: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ}. {مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل، فهو مسند لواو الجماعة، ونا مفعول به، وهذا بخلاف ما في سورة هود من قوله: {مِمَّا تَدْعُونَنَا} فإن ذلك مسند لمفرد: وهو ضمير صالح عليه السلام، فهو مرفوع بضمة مقدرة على الواو، منع من ظهورها الثقل، والفاعل ضمير يعود على صالح تقديره: أنت، ونا: مفعول به اهـ. شيخنا. {مُرِيبٍ}؛ أي: موقع في الريبة، وهي اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر، يقال: أربته إذا فعلت أمرًا أوجب ريبةً وشكًّا.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} حيث استعار الظلمات للكفر والضلال بجامع عدم الاهتداء إلى المقصود، واستعار النور للهدى والإيمان بجامع الاهتداء إلى المقصود. وفي قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} حيث استعار السبيل الذي هو محل المرور لدين الله بجامع الاهتداء إلى المقصود. ومنها: المجاز في قوله: {فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} حيث وصف الضلال بالبعد للمبالغة؛ لأن البعد من صفات الضال، فهو نظير قولهم جد جده، وداهية دهياء، ويجوز أن يكون المعنى: في ضلال ذي بعد، أو فيه بعد، فإن الضال قد يضل عن الطريق مكانًا قريبًا، وقد يضل بعيدًا، وفي جعل الضلال محيطًا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ}، وفي قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. ومنها: الطباق بين {يضل} و {يهدي}، وبين {شَكَرْتُمْ} و {كَفَرْتُمْ}. ومنها: الالتفات في قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ}؛ لأن فيه التفاتًا عن التكلم إلى الغيبة، فكان حق العبارة: فنضل من نشاء. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}؛ لأن المراد بأيام الله نعمه، ووجهه أن العرب تتجوز بنسبة الحدث إلى الزمان مجازًا، فتضيفه إليه كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم، ومكر الليل. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}؛ لأن إضافة الصراط إلى العزيز؛ وهو الله على سبيل التعظيم له، والمراد به دين الإِسلام، فإنه طريق موصل إلى الجنة والقوية والوصلة.

ومنها: المبالغة في قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. {وَمِنْهَا}: التخصيص بعد التعميم في قوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}؛ لأنه داخل في سوء العذاب. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأنه شبه ترك قتلهن بالإحياء بجامع الإبقاء في كل. ومنها: الكناية في قوله: {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}؛ لأنها كناية عن تعذيبهم. ومنها: استعمال اللفظ العام في المعنى الخاص في قوله: {بِلِسَانِ قَوْمِهِ}؛ لأن لفظ اللسان يستعمل بمعنى العضو، وبمعنى اللغة، والمراد هنا هو المعنى الثاني؛ أي: بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم. ومنها: الاستفهام الحريري في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ}؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: قالوا لهم. ومنها: الالتفات في قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} عن الغيبة إلى التكلم كما في "الفتوحات". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) ما دار من الحوار والجدل بين ¬

_ (¬1) المراغي.

الرسل وأقوامهم، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق، ومن كان له قلب يعي به الحكمة وفصل الخطاب .. ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب في الخصومة، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين: إما الخروج من الديار، وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد، فأوحى الله تعالى إلى أنبيائه أن العاقبة لكم، وستدور عليهم الدائرة، وستحلون في ديارهم، وسيعذبون في الآخرة بنار جهنم، ويرون ألوانًا من العذاب لا قبل لهم بها. قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ما سيلاقيه الكافرون في هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها .. بين هنا أن ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح في يوم عاصفٍ، فذهبت به في كل ناحية، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئًا، ثم بين أن ذلك اليوم آتٍ لا ريب فيه، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتي بخلق سواهم، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه. قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يلقاه الأشقياء في ذلك اليوم من العذاب، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت في الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئًا .. ذكر هنا محاورةً بين الأتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين، وما يحدث في ذلك الوقت من الخجل لهم، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ في بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل. قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ...} الآية، مناسبة (¬2) هذه الآية ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[13]

لما قبلها: أنه لما ذكر محاورة الأتباع لرؤسائهم الكفرة .. ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الأنس، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما (¬1) بين الله سبحانه وتعالى حال الأشقياء ومآل أمرهم، وما يلاقونه من الشدائد والأهوال في نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصًا، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من الفوز عند ربهم .. ضرب لذلك مثلًا يبين حال الفريقين، ويوضح الفرق بين الفئتين، وبه ألبس المعنويات لباس الحسيات؛ ليكون أوقع في النفس وأتم لدى العقل، والأمثال عند العرب هي المهيع المسلوك والطريق المتبع لإيضاح المعاني إذا أريد تثبيتها لدى السامعين، والقرآن الكريم مليء بها، والسنة النبوية جرت على منهاجه، فكثيرًا ما تتبع المسائل الهامة بضرب الأمثال لها؛ لتستقر في النفوس وتنقش في الصدور. التفسير وأوجه القراءة 13 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: الغالون في الكفر {لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا}؛ أي: من مدينتنا وديارنا {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} عاد هنا بمعنى (¬2): صار، والظرف خبره؛ أي: لتصيرن داخلين في ملتنا، فإن الرسل لم يكونوا في ملتهم قط إلا أنهم لما لم يظهروا المخالفة لهم قبل الاصطفاء .. اعتقدوا أنهم على ملتهم، فقالوا ما قالوا على سبيل التوهم، أو بمعنى رجع، والظرف صلة، والخطاب لكل رسول ومن آمن به، فغلَّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد؛ أي: لتدخُلن في ديننا وترجعن إلى ملتنا. وفي "الخازن": فإن قلت: هذا (¬3) يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها؟ قلت: معاذ الله، ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

العرب، وفيه وجه آخر: وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوهم إلى الله، فقالوا لهم: لتعودن في ملتنا ظنًّا منهم أنهم كانوا على ملتهم، ثم خالفوهم، وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشَؤُوا على التوحيد لا يعرفون غيره. وهذا كله تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام. والمعنى: أي (¬1): وقال الذين كفروا باللهِ لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان: لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من الآية، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} .. الآية، وكما قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} .. الآية. وقال إخبارًا عن مشركي قريش: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}. وخلاصة هذا: ليكونن أحد الأمرين لا محالة: إما إخراجكم، وإما صيرورتكم في ملتنا ملة الآباء والأجداد، وهي عبادة الآلهة والأوثان، وقد مكن لهم في ذلك أنهم كانوا كثرة، وكان أهل الحق قلة كما جرت بذلك العادة في كل زمان ومكان، فإن الظلمة يكونون متعاونين متعاضدين، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق، كما هو شأن المعتز بقوته الذي لا يخشى اعتراضًا ولا خلافًا. والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا في ملتهم، ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم، لكنهم لما نشؤوا بين ظهرانيم، وكانوا من أهل تلك البلاد، ولم يظهروا في أول أمرهم مخالفة لهم .. ظنوا أنم كانوا على دينهم، أو يكنون (¬2) المعنى في عودهم إلى ملتهم: سكوتهم عنهم وكونهم أغفالًا عنهم لا يطالبونهم بالإيمان باللهِ وما جاءت به الرسل. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[14]

ولما تمادت الأمم في الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم .. أوحى الله إليهم بإهلاك من كفر بهم، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم، كما أشار إلى ذلك بقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى الرسل {رَبُّهُمْ}؛ أي: مالك أمرهم عند تناهي كفر الكفرة بحيث انقطع الرَّجاء عن إيمانهم، وقال: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}؛ أي: المشركين، فإن الشرك لظلم عظيم فلا تخافوهم {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ}؛ أي: أرض الظالمين وديارهم {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من (¬1) بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا}، وفي الحديث: "من آذى جاره ورثه الله داره". وقرأ أبو حيوه (¬2): {ليهلكن الظالمين وليسكننكم} بياء الغيبة اعتبارًا بقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} إذ لفظ لفظ الغائب، 14 - وجاء في قوله: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ} بضمير الخطاب تشريفًا لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل، والعودة في ملتهم .. أقسم تعالى على إهلاكهم، وأيُّ إخراج أعظم من الإهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدًا، وأقسم أيضًا على إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. والمعنى (¬3): أي فأوحى الله تعالى إلى رسله قائلًا لهم: لنهلكن من تناهى في الظلم من المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبةً لهم على قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا}. وفي ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه، كما صبر من كان قبله من الرسل، وبيان بأن عاقبة من كفر به الهلاك، وعاقبته النصر عليهم، كما قال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. {ذَلِكَ} الإسكان {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي}؛ أي (¬4): خاف مقامي بين يدي يوم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) الخازن.

[15]

القيامة، فأضاف قيام العبد إلى نفسه؛ لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم: ندمت على ضربي إياك، وندمت على ضربك مثله. والخوف (¬1): غم يلحق لتوقع المكروه؛ أي: ذلك المذكور من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ثابت لمن خاف مقامي وموقفي، وهو موقف الحساب؛ لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة {وَخَافَ وَعِيدِ} بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة؛ أي: وخاف وعيدي بالعذاب، وعقابي وعذابي الموعود للكفار على أن يكون الوعيد بمعنى الموعود، والمعنى: أن ذلك ثابت وحق لمن جمع بين الخوفين؛ أي: حق للمتقين كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وهذه الآية تدل على أن الخوف من الله غير الخوف من وعيده؛ لأن العطف يقتضي التغاير. اهـ. "كرخي". والمعنى: أي (¬2) هكذا أفعل بمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخاف وعيدي، فاتقاني بطاعتي وتجنب سخطي، أنصره على من أراد سوءًا وبقي به مكروهًا من أعدائي، وأورثه أرضه ودياره، وأثبت الياء (¬3) هنا وفي "ق" في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وصلًا، وحذفها وقفًا ورش عن نافع، وحذفها الباقون وصلًا ووقفًا اهـ. "سمين". 15 - ثم بين أن كلًّا من الفريقين - الأمم والرسل - طلبوا المعونة والتأييد من ربهم، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَاسْتَفْتَحُوا}؛ أي: واستفتحت الرسل على أممها؛ أي: استنصرت الله عليها واستفتحت الأمم على أنفسها، كما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فهو معطوف (¬4) على {فَأَوْحَى}. والضمير: إما للرسل؛ أي: استنصروا الله وسألوه الفتح والنصرة على أعدائهم، أو للكفار وذلك أنهم (¬5) لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا عليهم بالعذاب اهـ. "خازن". والعامة على أن يكون {اسْتَفْتَحُوا} فعلًا ماضيًا، وفي ضميره أقوال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات. (¬4) روح البيان. (¬5) الفتوحات.

[16]

أحدها: أنه عائد على الرسل الكرام، ومعنى الاستفتاح؛ الاستنصار، كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وقيل: طلب الحكم من الفتاحة؛ أي: الحكم بين الخصمين. الثاني: أن يعود على الكفار؛ أي: استفتح أمم الرسل عليهم، كقوله {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}. وقيل: عائد على الفريقين؛ لأن كلًّا طلب النصر على صاحبه. وقيل: يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف، وأما على غيره من الأقوال، فهو عطف على قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ}. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن؛ واستفتحوا بكسر التاء الثانية على لفظ الأمر أمرًا للرسل بطلب النصرة، وهي مقوية لعوده في المشهور على الرسل، والتقدير: قال لهم لنهلكن، وقال لهم استفتحوا. اهـ. "سمين". ثم ذكر مآل المشركين وبين أن النصر للمتقين، فقال: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}؛ أي: وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه، فهو معطوف (¬1) على محذوف تقديره: واستفتحوا فنصروا عند استفتاحهم، وظفروا بما سألوا، وأفلحوا وخاب وخسر وهلك عند نزول العذاب قومهم الجبارون المعاندون، والجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا، والعنيد: المعاند للحق والمجانب له. وإنما قيل: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ذمًّا لهم وتسجيلًا عليهم بالتجبر والعناد، لا أن بعضهم ليسوا كذلك، وأنه لم تصبهم الخيبة. 16 - وقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} جملة في محل جر صفة لـ {جَبَّارٍ}، ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و {جَهَنَّمُ} فاعل به؛ أي: من وراء (¬2) ذلك الجبار العنيد؛ أي: قدامه وأمامه جهنم؛ أي: هي له بالمرصاد تنتظره ليسكنها مخلدًا فيها أبدًا، ويعرض عليها في الدنيا غدوًا وعشيًّا إلى يوم التناد، وهذا (¬3) وصف حال كل جبار عنيد، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[17]

وهو في الدنيا؛ أي: بين يديه وقدامه جهنم، فإنه صعد لجهنم واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة، أو من وراء حياته وهو ما بعد الموت، فيكون وراء بمعنى خلف، كما قال الكاشفي. ثم بين شرابه فيها، فقال: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}؛ أي: ليس له في النار شراب إلا ماءٌ يخرج من جوفه، وقد خالطه القيح والدم، وخص بالذكر؛ لأنه آلم أنواع العذاب، فهو معطوف على مقدّر جوابًا عن سؤال سائل، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ويسقى {مِنْ مَاءٍ} مخصوص لا كالمياه المعهودة، {صَدِيدٍ}: هو القيح المختلط بالدم، أو ما يسيل من أجساد أهل النار وفروج الزناة، وهو عطف بيان لماء، أبهم أولًا ثم بين بالصديد تعظيمًا وتهويلًا لأمره، وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه، أو صفة عند من لا يجيز عطف البيان في النكرات وهم البصريون، فإطلاق الماء عليه لكونه بدله في جهنم. وقيل (¬1): صديد بمعنى مصدود عنه؛ أي: لكراهته يصد عنه، فيكون مأخوذًا من الصد بمعنى الإعراض. 17 - ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب، فقال: {يَتَجَرَّعُهُ} استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه؛ أي: يتحساه ويشربه مرة بعد مرة لا بمرة واحدة، بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}؛ أي: لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلًا عن الإساغة، بل يغص به ولا يقدر على ابتلاعه من شدة كراهته ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، كما قال: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، وقالا: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}. وعن أبي أمامة (¬2) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: "يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شعر به قطع أمعاءه حتى تخرج عن دبره، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

قال: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، وقال: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} " أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. قوله: "وقعت فروة رأسه"؛ أي: جلدة رأسه، وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}؛ أي: وتأتيه (¬1) أسباب الموت من كل جهة من الجهات، أو من كل موضع من مواضع بدنه حتى من أصول شعره، وإبهام رجله. وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتًا لشدتها. {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}؛ أي: والحال أنه ليس بميت حقيقة فيستريح. وقيل: تعلق نفسه في حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله تعالى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}. والمعنى: أي وتحيط (¬2) به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات، من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت لكنه لا يموت كما قال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال: {وَمِنْ وَرَائِهِ}؛ أي: ومن وراء ذلك الصديد؛ أي: من أمامه أو من بعده {عذَابٌ غَلِيظٌ}؛ أي: عذاب شديد؛ أي: وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ؛ أي: مؤلم أغلظ من الذي قبله، وأمر لا يعرف كنهه؛ أي: يستقبل كل وقت عذابًا أشد وأشق مما كان قبله، كما قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} ففي قوله: {عَذَابٌ غَلِيظٌ} رفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد، كما في عذاب الدنيا. وقيل: الضمير يعود إلى {كُلُّ جَبَّارٍ}. والمعنى (¬3): أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب شديد أشد مما هو عليه لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[18]

ينقطع ولا يخف بسبب الاعتياد، كما في عذاب الدنيا. 18 - {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: صفتهم وحالهم العجيبة الشأن التي هي كالمثل في الغرابة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} كقولك صفة زيد ماله منهوب، أو خبره محذوف؛ أي: فيما يتلى عليكم مثلهم. وقوله: {أَعْمَالُهُمْ} جملة مستأنفة مبنية على سؤال من يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد؛ أي: صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم وإعتاق رقاب وفداء أسير وقرى ضيف وبر والد وإغاثة ملهوف {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ}؛ أي: ذرت {بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ريحه؛ أي: شديد الريح، فحذف الريح ووصف اليوم بالعصوف مجازًا، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكنة، وإنما السكون لريحها. وقرأ نافع وأبو جعفر: {الرياح} بالجمع، والجمهور بالإفراد. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن شذوذًا: {في يومِ عاصفٍ} على إضافة يوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف ذكره في "البحر". والمعنى (¬1): أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها في الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به في يوم عاصف، فنسفته ولم تبق له أثرًا، فهم يوم القيامة لا يجدون شيئًا ينفعهم عند الله تعالى فينجيهم من عذابه؛ إذ لم يكونوا يعملونها لله خالصة، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان. ثم أكد نفي فائدتها لهم إذ ذاك، فقال: {لَا يَقْدِرُونَ} يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُوا} وعملوا في الدنيا من أعمال الخير {عَلَى شَيْءٍ} ما؛ أي (¬2): لا يجدون يوم القيامة أثرًا مما عملوا في الدنيا من ثواب، أو تخفيف عذاب، كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح، وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان. ونحو الآية: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}. {ذَلِكَ} المذكور الذي (¬1) دلّ عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم؛ أي: كفرهم وأعمالهم المبنية عليه، وعلى التفاخر والرياء مع حسبانهم محسنين، وهو جهل مركب وداء عضال، حيث زين لهم سوء أعمالهم، فلا يستغفرون منها ولا يتوبون بخلاف عصاة المؤمنين، ولذا قال: {هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} صاحبه عن طريق الحق والصواب بمراحل، أو نيل الثواب، فأسند البعد الذي هو من أحوال الضال إلى الضلال الذي هو فعله مجازًا مبالغة؛ أي: ذلك (¬2) السعي والعمل على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب. والمعنى: ذلك المذكور من عملهم هو الضياع البعيد عن نيل الثواب والخسران الكبير. شبه الله سبحانه وتعالى صنائع الكفار (¬3) - من الصدقة وصلة الرحم وعتق الرقاب وفك الأسير، وإغاثة الملهوفين وإطعام الجائع وعقر الإبل للأضياف ونحو ذلك مما هو من باب المكارم - في حبوطها وذهابها هباءً منثورًا، لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان وكونها لوجهه، برماد طيرته الريح العاصف، فكما لا ينتفع بذلك الرماد المطير، كذلك لا ينتفع بالأعمال المقرونة بالكفر والشرك، ففيه رد أعمال الكفار وأعمال أهل الأهواء والبدع؛ لاعتقادهم السوء، فدل على أنَّ الأعمال مبنية على الإيمان، وهو على الإخلاص، وورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه؛ لأنه لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[19]

19 - ثم ذكر دليل وحدانيته، فقال: {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم يا محمد {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَلَقَ} وأنشأ وأبدع {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}؛ أي (¬1): متلبسًا بالحكمة البالغة وعلى الوجه الصحيح الذي ينبغي أن يخلقا عليه، لا باطلًا ولا عبثًا، والخطاب فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: أمته بدليل قوله: {يُذْهِبْكُمْ} والأمة أمة الدعوة، والرؤية رؤية القلب. {إِنْ يَشَأْ} الله سبحانه وتعالى إعدامكم أيها الناس {يُذْهِبْكُمْ}؛ أي: يعدمكم بالكلية {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: يخلق بدلكم خلقًا آخر من جنسكم آدميين، أو من غيره خيرًا منكم وأطوع لله 20 - {وَمَا ذَلِكَ}؛ أي: إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم {عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}؛ أي: بمتعذر أو متعسر، بل هو هين عليه يسير، فإنه قادر لذاته على جميع الممكنات، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ومن هذا شأنه حقيق أن يؤمن به ويعبد ويرجى ثوابه ويخشى عقابه، والآية تدل على كمال قدرته تعالى وصبوريته، حيث لا يؤاخذ العصاة على العجلة. وفي "الصحيحين": "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله! إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم". ثم إن (¬2) تأخير العقوبة يتضمن حكمًا، منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر، فعلى العاقل أن يخشى الله تعالى على كل حال، فإنه ذو القهر والكبرياء والجلال. والمعنى: ألم (¬3) تعلم أيها الرسول الكريم أن الله سبحانه وتعالى أنشأ السماوات والأرض بالحكمة البالغة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ولم يخلقهما عبثًا ولا باطلًا، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير .. فهو قادر على أن يفنيكم ويأتي بخلق جديد سواكم، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه. ومثل الآية قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[21]

وخلاصة ذلك: أنهم بعدوا في الضلال وأمعنوا في الكفر بالله مع وضوح الآيات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخشى عقابه. وقرأ السلمي شاذًا (¬1): {ألم ترْ} - بسكون الراء - ووجهه أنه أجري الوصل مجرى الوقف، وفيه توجيه آخر؛ وهو أنَّ (ترى) حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القوم ولو تر ما زيد، كما حذفت ياء (لا أبالي) في (لا أبال)، فلما دخل الجازم تخيل أن الراء هي آخر الكلمة، فسكنت للجازم، كما قالوا في لا أبالي: "لم أبل" تخيلوا اللام آخر الكلمة. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وخلف العاشر: {خالق} اسم فاعل {والأرضِ} بالخفض. وقرأ باقي العشرة: {خَلَقَ} فعلًا ماضيًا و {وَالْأَرْضَ} بالفتح. 21 - {وَبَرَزُوا}؛ أي: برزت الخلائق كلها برها وفاجرها {لِلَّهِ} الواحد القهار حالة كونهم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين في براز من الأرض وصعيد واحد، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدًا؛ أي: خرج الموتى من قبورهم يوم القيامة واجتمعوا في أرض المحشر للقاء الله ومحاسبته على أعمالهم عند النفخة الثانية حين تنتهي مدة لبثهم في بطن الأرض. وقرأ زيد بن علي في الشاذ (¬2): {وبُرِّزوا} - مبنيًّا للمفعول وبتشديد الراء - من برز المضعف. {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} في الرأي وهم السفلة {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن عبادة الله وهم أكابرهم {إِنَّا كُنَّا} في الدنيا {لَكُمْ تَبَعًا} في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم؛ أي: فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى وحده وعن اتباع الرسل، وصدوا عنهما: إنا كنا تابعين لكم في الدنيا تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فننتهي {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا}؛ أي: دافعون عنا في هذا اليوم {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: بعض شيء من عذاب الله، فـ {مِنْ} (¬3) الأولى للبيان واقعة موقع الحال قدمت على صاحبها؛ لكونه نكرة، والثانية ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

للتبعيض واقعة موقع المفعول؛ أي: بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى. ويجوز أن تكونا للتبعيض؛ أي: بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى، والإعراب ما سبق. ويحتمل أن تكون الأولى مفعولًا والثانية مصدر؛ أي: فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء، والفاء للدلالة على سببية الإتباع للإغناء. والاستفهام فيه (¬1) للتوبيخ لهم والعتاب على استغوائهم؛ لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم؛ أي: فهل تدفعون عنا اليوم شيئًا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا في الدنيا. وقد حكى الله تعالى رد أولئك السادة عليهم بقوله: {قَالُوا}؛ أي: المستكبرون جوابًا عن معاتبة الأتباع، واعتذارًا عما فعلوا بهم: يا قوم {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى الإيمان ووفقنا له {لَهَدَيْنَاكُمْ} إلى طريق الرشاد، ولكن ضللنا فأضللناكم؛ أي: اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا؛ أي (¬2): لو أرشدنا الله تعالى وأضاء لنا أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته لأرشدناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم. والخلاصة: أي لو خلصنا الله من العقاب، وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة، ودفعنا عنكم بعض العذاب، ولكن سد الله عنا طريق الخلاص. ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} العذاب {أَجَزِعْنَا}؛ أي: أصحنا وتضرعنا مما لقينا {أَمْ صَبَرْنَا} على ذلك؛ أي: الصياح، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء؛ أي: سواء (¬3) علينا أجزعنا في طلب النجاة من ورطة الهلاك والعذاب، والجزع عدم الصبر على البلاء، أم صبرنا على ما لقينا انتظارًا للرحمة؛ أي: مستو علينا الجزع والصبر في عدم الإنجاء، ففيه إقناط الضعفاء، والهمزة وأم لتأكيد التسوية ونحوه: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[22]

ولما كان عتاب الأتباع من باب الجزع ذيلوا جوابهم ببيان أن لا جدوى في ذلك، قالوا: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: من منجًا، ومهرب؛ أي: ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا. وخلاصة ذلك (¬1): سيان الجزع والصبر، فلا نجاة لنا من عذاب الله، ومثل هذه الآية قوله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)}، وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}. 22 - ولما ذكر سبحانه وتعالى المناظرة التي ستكون بين الأتباع والرؤساء .. أردفها بالمناظرة التي ستكون بين الشيطان وأتباعه؛ فقال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} الذي أضل الضعفاء والمستكبرين؛ أي: يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبًا في محفل الأشقياء من الثقلين {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: حين أحكم وفرغ من أمر الخلائق بالحساب والمجازاة بأن استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وقد قالوا له: اشفع لنا، فإنك أضللتنا؛ أي: قال: إبليس مخاطبًا أتباعه من الإنس بعد أن حكم الله بين عباده، فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {وَعَدَكُمْ} على ألسنة رسله {وَعْدَ الْحَقِّ} والصدق بالبعث وجزاء كل عامل على عمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ووعده حق وخبره صدق، فصدق في وعده إياكم، فوفى لكم بما وعدكم به {وَوَعَدْتُكُمْ} وعد الباطل بأن لا بعث ولا جزاء ولا جنة ولا نار، ولئن كانا فالأصنام شفعاؤكم، ولم يصرح ببطلانه لما دل عليه قوله: {فَأَخْلَفْتُكُمْ} موعدي، فحذف المفعول الثاني؛ أي: نقضته، والإخلاف (¬2) حقيقة هو عدم إنجاز من يقدر على إنجاز وعده، وليس الشيطان كذلك، فقوله: {أَخْلَفْتُكُمْ} يكون مجازًا جعل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

تبين خلف وعده كالإخلاف منه، كأنّه كان قادرًا على إنجازه وأنى له ذلك؛ أي: كذبت عليكم وتبين خلف وعدي إذ لم أقل إلا بهرجًا من القول وباطلًا منه، فاتبعتموني وتركتم وعد ربكم، وهو وليكم ومالك أمركم، ونحو الآية قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: تسلط وقهر فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، وأجبركم عليهما؛ أي: وما كان لي قوة وتسلط تجعلني ألجئكم إلى متابعتي على الكفر والمعاصي {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ}؛ أي: إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}؛ أي: أجبتموني؛ أي (¬1): ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني أسرعتم إلى إجابتي واتبعتم شهوات النفوس وأطعتم الهوى، وخضتم في مسالك الردى. قال في (¬2) "بحر العلوم": لقائل أن يقول: قول الشيطان هذا مخالف؛ أي: معارض لقول الله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}، فما حكم قول الشيطان أحق هو أم باطل على أنه لا طائل تحته في النطق بالباطل في ذلك المقام انتهى. يقول الفقير: جوابه بأنه يجمع بينهما بأن نفي السلطان بمعنى القهر والغلبة لا ينافي إثباته بمعنى الدعوة والتزيين، فالشيطان ليس له سلطان بالمعنى الأول على المؤمنين والكافرين جميعًا، وله سلطان بالمعنى الثاني على الكفار فقط كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} وأما المؤمنون وهم أولياء الله، فيتولون الله بالطاعة، فهم خارجون عن دائرة الإتباع بوسوسته. والخلاصة: أن السلطان المنفي هنا هو بمعنى القهر والغلبة، والمثبت هو السلطان بمعنى الوسوسة والتزيين. {فَلَا تَلُومُونِي}؛ أي: ولا تعاتبوني فيما وعدتكم بالباطل حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والقهر؛ لأني خلقت لهذا، ولأني عدو مبين لكم، وقد حذركم الله عداوتي حيث قال: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

{لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} ومن تجرد للعداوة لا يُلام إذا دعا إلى أمر قبيح {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} حيث أجبتموني باختياركم حيث دعوتكم بلا دليل، فما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، وقد سمعتم دلائل الله وحججه، وجاءتكم الرسل فصدقتموني فيما كذبتكم، وكذبتم الله فيما صدقكم، وكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي الباطل، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ}؛ أي: بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، فأزيل صراخكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}؛ أي: بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال، يعني: لا ينجي بعضنا بعضًا من عذاب الله. والإصراخ (¬1): الإغاثة، وإنما تعرض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغةً في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذانًا بأنه أيضًا مبتلى بمثل ما ابتلوا به، ومحتاج إلى الإصراخ، فكيف من إصراخ الغير. وقرأ الجمهور: {بِمُصْرِخِيَّ} بفتح الياء وتشديدها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة (¬2): {بِمُصْرِخِيِّ} بكسر الياء. وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء؛ فإنه قل من سلم منهم من الوهم. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة، لكنه قل استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع. {إِنِّي كَفَرْتُ} اليوم {بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ}؛ أي: بإشراككم إياي مع الله في الطاعة {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا اليوم؛ أي: في الدنيا بمعنى: تبرأت منه واستنكرته؛ أي: إني جحدت اليوم أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم؛ أي: في الدنيا، وهذا كقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}. قال في الإرشاد (¬3): يعني إن إشراككم لي باللهِ هو الذي يطمعكم في نصرتي لكم بأن كان لكم علي حق حيث جعلتموني معبودًا، وكنت أود ذلك وأرغب فيه، فاليوم كفرت بذلك ولم أحمده ولم أقبله منكم، بل تبرأت منه ومنكم، فلم يبق بيني وبينكم علاقة. وقوله: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من تمام (¬4) كلام إبليس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح والمراغي.

[23]

قطعًا لأطماع أولئك الكفار عن الإغاثة والنجاة من النار، فالوقف على {مِنْ قَبْلُ} حسن، أو ابتدأ كلام من حضرة الله تعالى إيقاظًا للسامعين وخصالهم على النظر في عاقبة أمرهم والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيتوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيّهم، ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته، فالوقف على {مِنْ قَبْلُ} تام كما هو عند أبي عمرو. والظالمون هم الشيطان ومتبعوه من الإنس؛ لأن الشيطان وضع الدعوة إلى الباطل في غير موضعها، وإنهم وضعوا الإتباع في غير موضعه. ولما جمع سبحانه فريقي السعداء والأشقياء في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} وبالغ في وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة .. ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم في ذلك اليوم، فقال: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صدقوا الله ورسوله، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: عملوا بطاعته، فانتهوا إلى أمره ونهيه، والمدخلون هم الملائكة؛ أي: وأدخلت الملائكة الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؛ أي بساتين تسيل من تحت أشجارها وقصورها الأنهار الأربعة {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين فيها أبدًا لا يتحولون عنها ولا يزولون منها {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ {أُدْخِلَ}؛ أي: ادخلوها بإذن ربهم؛ أي: أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم وإذنه وتوفيقه ولطفه وهدايته، هذا على قراءة الجمهور؛ لأنهم قرؤوا: 23 - {وَأُدْخِلَ} على البناء للمفعول. وقرأ الحسن شاذًا: {وأُدخِلُ} على صيغة المتكلم والبناء للفاعل؛ أي: وأنا أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعلى هذه القراءة فقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ {تَحِيَّتُهُمْ}؛ أي: تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم تعظيمًا لشأنهم وعناية بأمرهم. {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} التحية (¬1): دعاء بالتعمير، وإضافتها إلى الضمير من إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: تحييهم الملائكة في الجنات بالسلام من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

الآفات، أو يحيي المؤمنون بعضهم بعضًا بالسلام، واللام تحية المؤمنين في الدنيا أيضًا، وأصله صدر من أبينا آدم عليه السلام لما روى وهب بن منبه أن آدم لما رأى ضياء نور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأل الله عنه، فقال: هو نور النبي العربي محمد من أولادك، فالأنبياء كلهم تحت لوائه، فاشتاق آدم إلى رؤيته، فظهر نور النبي عليه السلام في أنملة مسبِّحة آدم، فسلم عليه، فرد الله سلامه من قبل النبي عليه السلام، فمن هنا بقي السلام سنة لصدوره عن آدم، وبقي رده فريضة، لكونه عن الله تعالى. 24 - ولما شرح الله سبحانه وتعالى أحوال الأشقياء وأحوال السعداء (¬1) .. ضرب مثلًا فيه حكم هذين القسمين، فقال جلّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد وتنظر بعين قلبك، فتعلم (¬2) علم يقين بإعلامي إياك، فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل معه غيره، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، فيكون المعنى: ألم تر أيها الإنسان {كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً}؛ أي: كيف جعل الله تعالى كلمة طيبة - وهي لا إله إلا الله - مثلًا. وقيل (¬3): هي كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة إلى الله قاله الزمخشري. وضرب هنا بمعنى جعل وصير، فهو متعد إلى اثنين {كَلِمَةً} المفعول الأول، وأخرت عن المفعول الثاني، وهو {مَثَلًا} لئلا تبعد عن صفتها، و {مَثَلًا} المفعول الثاني بمعنى جعلها مثلًا، وعلى هذا {كَشَجَرَةٍ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي كشجرة طيبة كما قاله ابن عطية، وأجازه الزمخشري، و {كَيْفَ} منصوب على الحال من المفعول الثاني الذي هو {مَثَلًا}، والتقدير: ألم تر ضرب الله مثلًا حالة كونه كيف؛ أي: حال كونه مسؤولًا عن حاله من غرابته. والاستفهام في {كَيْفَ} للتعجب، وفي {أَلَمْ تَرَ} للتقرير. والمثل عبارة عن قولٍ في شيء يشبه قولًا في شيء آخر بينما مشابهة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن. (¬3) الفتوحات.

[25]

لتبيين أحدهما من الآخر وتصويره، وقيل هو على قول سائر المفسرين تشبيه شيء بشيء آخر. اهـ. "خازن". وهذا المعنى هو المراد هنا. والمعنى: ألم تعلم يا محمد كيف جعل الله سبحانه وتعالى وصير كلمة طيبة مثلًا؛ أي: شبها لشيء آخر، وهي؛ أي: الكلمة الطيبة {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} في الإثمار وهي النخلة. وقرىء شاذًا: {كلمةٌ طيبةٌ} بالرفع قال أبو البقاء على الابتداء و {كَشَجَرَةٍ} خبره. انتهى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو؛ أي: المثل كلمة طيبة، وكشجرةٍ نعت لكلمة ذكره في "البحر". وجملة قوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} مع ما عطف عليها صفة لـ {شَجَرَةٍ}؛ أي: أسفلها ذاهب بعروقه في الأرض متمكن فيها. {وَفَرْعُهَا}؛ أي: أعلاها ورأسها طالع ثابت {فِي السَّمَاءِ}؛ أي: في الهواء 25 - {تُؤْتِي أُكُلَهَا}؛ أي: تعطي هذه الشجرة ثمرها {كُلَّ حِينٍ}؛ أي: كل وقت (¬1) وقته الله تعالى لإثمارها، وهي السنة الكاملة؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة، ومدة إطلاعها إلى وقت صرامها ستة أشهر. وقيل المعنى (¬2): تؤتي أكلها كل وقت وكل ساعة ليلًا أو نهارًا شتاء أو صيفًا، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم كل وقت {بِإذنِ رَبِّهَا}؛ أي: بإرادة خالقها وتيسيره وتكوينه، فكذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان، وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل وقت وحين يعمل خيرًا بأمر ربه. وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون ثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك التوحيد يكون ثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى شبه (¬3) الكلمة الطيبة: وهي الإيمان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

الثابت في قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء، وتنال بركته وثوابه في كل وقت وحين بالشجرة الطيبة المثمرة الجميلة المنظر الشذية الرائحة التي لها أصل راسخ في الأرض به يؤمن قلعها وزوالها، وفروعها متصاعدة في الهواء، فيكون ذلك دليلًا على ثبات الأصل ورسوخ العروق، على بعدها عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية، فتأتي الثمرة نقية خالية من جميع الشوائب، وتثمر في كل حين بأمر ربها، وإذنه، وإذا اجتمع لهذه الشجرة كل هذه المميزات كثر رغبة الناس فيها. وخلاصة ذلك: أنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها في الأرض وعلت أغصانها إلى السماء، وهي ذات ثمر في كل حين ذاك أن الهداية إذا حلت قلبًا فاضت منه على غيره وملأت قلوبًا كثيرة، فكأنها شجرة أثمرت كل حين؛ لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وكل قلب يتلقى عما يشاكله ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار في الهشيم، أو سريان الكهرباء في المعادن، أو الضوء في الأثير. وقد روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: لا إله إلا الله، وأن الشجرة الطيبة هي: النخلة. وعن ابن عمر قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحات ورقها لا صيفًا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئًا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النخلة"، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تتكلم، قلت: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم، أو أقول شيئًا، قال: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا). رواه البخاري. ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه، فقال: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الْأَمْثَالَ} والأشباه ويبينها {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}؛ أي: يتفكرون في أحوال المبدأ والمعاد، وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، ويتعظون؛ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير، فإنه تصوير للمعاني بصور المحسوسات وتقريب لها من الحسن؛ لأن أنس النفوس بها أكثر، فهي تخرج المعنى من خفي إلى جلي ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، وبها يطبق المعقول على المحسوس، فيحصل العلم التام

[26]

بالشيء الممثل له، فتكون عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ. 26 - {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}؛ أي: صفة كلمة قبيحة وهي كلمة الكفر بأنواعه، ويدخل (¬1) فيها كل كلمة قبيحة من الدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ونحوهما {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}؛ أي: كمثل شجرة رديئة؛ أي: صفتها كصفتها، ويدخل فيها كل ما لا يطيب أكلها ولا ينتفع بها. قيل: هي شجرة الحنظلة، وقيل: الكمأة، وقيل: الطحلبة، وقيل: هي الكشوث - بالضم - وآخره مثلثة، وهي شجرة (¬2) لا ورق لها ولا عروق في الأرض، أو هي نبت (¬3) يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض. وقرىء (¬4): {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ} بالنصب عطفًا على {كَلِمَةً طَيِّبَةً}. {اجْتُثَّتْ}؛ أي: اقتلعت واستؤصلت {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} لكون عروقها في وجه الأرض؛ أي: ليس (¬5) لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض، فتسميتها شجرة للمشاكلة، فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة {مَا لَهَا}؛ أي: لهذه الشجرة {مِنْ قَرَارٍ}؛ أي: من (¬6) ثبات على الأرض؛ لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر ليس فيه خير، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح، ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة؛ أي: ومثل (¬7) كلمة الكفر وما شاكلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحو مما ليس له أصل ثابت في الأرض، بل عروقها لا تتجاوز سطحها، وقد اقتلعت من فوق الأرض؛ لأن عروقها قريبة منه ولا عروق لها في الأرض، فكما أن هذه لا ثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت، بل هو زائل ذاهب وثمره مر كريه كالحنظل، وفي الحقيقة تسميتها شجرة مجاز، لأن الشجرة ما له ساق، والنجم ما لا ساق له، وهي من النجم، فتسميتها شجرة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراح. (¬6) الخازن. (¬7) المراغي.

[27]

للمشاكلة، وما أقوى الحق وأثبته وأكثر نفعه للناس، فهو ثابت الدعائم متين الأركان. والخلاصة: أن أرباب النفوس العالية، وكبار الفكرين هم أصحاب الكلمة الطيبة، وعلومهم تعطي أممهم نعمًا ورزقًا في الدنيا، وهي مستقرة في نفوسهم، وفروعها ممتدة إلى العوالم العلوية والسفلية، وتثمر كل حين لأبناء أمتهم ولغيرهم، فيهتدي بها المؤمنون، وما أشبههم بالنخلة التي لها أصل مستقر وفروع عالية وثمر دائم، ويأكل الناس منها صيفًا وشتاء، وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلدون في العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل. 27 - وبعد أن وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بما سلف .. أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم في الدنيا والآخرة، فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ وصدقوا بوحدانيته وبما جاءت به رسله على دينهم، وهذا راجع للمثل الأول، وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ}. إلخ. راجع للمثل الثاني: {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الذي ثبت عندهم بالحجة، وتمكن في قلوبهم، وهو قول: لا إله إلا الله. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: قبل (¬1) موتهم، فإذا ابتلوا وافتتنوا في الحياة الدنيا .. ثبتوا عليه، ولم يرجعوا عنه، ولو عذبوا أنواع العذاب كمن تقدمنا من الأنبياء والصالحين مثل زكريا ويحيى، والذين قتلهم أصحاب الأخدود، والذين مشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {و} يثبتهم على دينهم الحق {فِي الْآخِرَةِ}؛ أي: في القبر عند سؤال منكر ونكير، وفي سائر المواطن وقت المسألة يوم القيامة، والقبر من الآخرة، فإنه أول منزل من منازل الآخرة. وقيل: {في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني (¬2): في القبر عند السؤال {وَفِي الْآخِرَةِ} يعني: يوم القيامة عند البعث والحساب، وهذا القول واضح. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

والمعنى: أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف من مدة حياتهم إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم، كما جرى لبلال وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد الموت في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة حين يقال له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإِسلام ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي مواقف القيامة فلا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم، ولا تدهشهم الأهوال. أخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيّك؟ قال: نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل" أخرجه أبو داود. وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره وفي جوابه لهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضعها نسأل الله التثبيت في القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه إنه على ما يشاء قدير. وعلى هذا (¬1): فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة قبل الموت، وبالآخرة ما بعد الموت من القبر ويوم القيامة والعرض للحساب. وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: يضلهم (¬2) عن حجتهم التي هي القول الثابت، فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا. والمراد بالظالمين هنا الكفرة؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت. وقيل: كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة، فإنه لا يثبت في مواقف الفتن، ولا يهتدي إلى الحق. وقيل معنى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: يخلق (¬3) الله في الكفرة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

والمشركين الضلال، فلا يهديهم إلى الجواب بالصواب، كما ضلوا في الدنيا، ثم ذكر سبحانه أنه يفعل ما يشاء من التثبيت والخذلان، لا راد لحكمه ولا يسأل عما يفعل، فقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى في عباده {مَا يَشَاءُ} ويريد من تثبيت وإضلال؛ أي: خلق ثبات في بعضٍ، وخلق ضلالٍ في آخرين من غير اعتراض عليه. وأخرج (¬1) ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أقعد، فقيل له: من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئًا، وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليهم شيئًا، فذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}؛ أي: وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها في عباده بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالًا وإضلال من كان منكم مهتديًا، فإن بيده تعالى تصريف خلقه وتدبيرهم وتقليب قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء من إرشاد وإضلال، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فسبحانه من حكيم عليم. الإعراب {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}. {وَقَالَ اَلَذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لِرُسُلِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بقالوا. {لَنُخْرِجَنَّكُمْ} إلى قوله: {فَأَوْحَى}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ}: (اللام): موطئة للقسم. {نُخْرِجَنَّكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {مِنْ أَرْضِنَا}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الكفار، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة ¬

_ (¬1) المراغي.

القسم في محل النصب مقول قالوا: {أَوْ}: حرف عطف وتخيير. {لَتَعُودُنَّ}: (اللام): موطئة للقسم. {تَعُودُنَّ}: فعل مضارع ناقص؛ لأنه من أخوات صار مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين في محل الرفع اسمها، والنون المشددة حرف تأكيد. {في مِلَّتِنَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر عاد تقديره: أو لتعودن داخلين في ملتنا، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة القسم الأول على كونها مقولًا لقالوا. {فَأَوْحَى}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {أَوْحَى}: فعل ماضٍ. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به. {رَبُّهُمْ}: فاعل، والجملة معطوفة مفرغة على جملة قالوا. {لَنُهْلِكَنَّ}: (اللام): موطئة للقسم. {نُهْلِكَنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الله. {الظَّالِمِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وقال لنهلكن الظالمين. {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}. {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ} (الواو): عاطفة. (اللام): موطئة للقسم. {نُسْكِنَنَّكُمُ}: فعل مضارع، ومفعول به مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْأَرْضَ}: منصوب على الظرفية متعلق به. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَنُهْلِكَنَّ} على كونها مقولًا لقول محذوف. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {لِمَنْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف. {خَافَ مَقَامِي}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول، {وَخَافَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة معطوفة على جملة {خَافَ} الأول. {وَعِيدِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف.

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)}. {وَاسْتَفْتَحُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ}: فعل وفاعل. {عَنِيدٍ}: صفة لـ {جَبَّارٍ}، والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره: واستفتحوا فنصروا وسعدوا وربحوا، وخاب كل جبار عنيد. {مِنْ وَرَائِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {جَهَنَّمُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجر صفة ثانية لـ {جَبَّارٍ}، ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و {جَهَنَّمُ}: فاعل به. {وَيُسْقَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {جَبَّارٍ}. {مِنْ مَاءٍ}: متعلق به. {صَدِيدٍ}: عطف بيان، أو بدل من {مَاءٍ}، والجملة في محل الجر معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها صفة لـ {جَبَّارٍ}، عطف جملة فعلية على جملة فعلية. {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (7)}. {يَتَجَرَّعُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {جَبَّارٍ}، والجملة في محل الجر صفة لـ {مَاءٍ}، أو مستأنفة. {وَلَا يَكَادُ}: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على {الجبار}. {يُسِيغُهُ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الجبار}، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كاد، وجملة كاد في محل النصب حال من فاعل {يَتَجَرَّعُهُ}، أو من مفعوله، أو منهما جميعًا، وقيل: كاد هنا صلة لا عمل لها. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل. {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بيأتي، والجملة معطوفة على جملة {يتجرعه}. {وَمَا} (الواو): حالية. {ما}: حجازية، أو تميمية. {هُوَ}: في محل الرفع اسمها، أو مبتدأ، {بِمَيِّتٍ}؛ خبرها، أو خبره، والباء زائدة، والجملة في محل النصب حال من ضمير {يَأْتِيهِ}. {وَمِنْ وَرَائِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {غَلِيظٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ}، أو مستأنفة.

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}. {مَثَلُ الَّذِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِرَبِّهِمْ}: متعلق به، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: مثل الذين كفروا بربهم كائن فيما يتلى، والجملة الاسمية مستأنف. {أَعْمَالُهُمْ}: مبتدأ. {كَرَمَادٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره: وما ذلك المثل، فقال: مثل أعمالهم كرماد. وفي "السمين" قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...} إلخ فيه أوجه: أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة في قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؛ فقيل: كيت وكيت. والثاني: أن يكون {مَثَلُ}: مبتدأ أول، و {أَعْمَالُهُمْ}: مبتدأ ثان، و {كَرَمَادٍ}: خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. والثالث: أن يكون {مَثَلُ} مبتدأ، و {أعْمَالُهُمْ}: بدل منه بدل اشتمال، و {كَرَمَادٍ} الخبر اهـ. {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة لـ {رَمَادٍ}. {في يَوْمٍ عَاصِفٍ}: جار ومجرور وصفة متعلق بـ {اشْتَدَّتْ}. {لَا يَقْدِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة كما ذكره أبو البقاء. {مِمَّا}: جار ومجرور حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما كسبوه. {عَلَى شَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَقْدِرُونَ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {هُوَ}: ضمير فصل. {الضَّلَالُ}: خبر. {الْبَعِيدُ}: صفة لـ {الضَّلَالُ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}.

{أَلَمْ}: الهمزة: للاستفهام التقريري. {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَ}، أو حال من فاعل {خَلَقَ}، أو من المفعول؛ أي: حال كونه متلبسًا بالحق، وجملة {خَلَقَ}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى. {إِنْ يَشَأْ}: جازم وفعل مجزوم على كونه فعل شرط لـ {أَنَّ} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}. {يُذْهِبْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}، وجملة {إنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَيَأْتِ}: فعل مضارع معطوف على {يُذْهِبْكُمْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللهِ}. {بِخَلْقٍ}: متعلق بـ {يَأْتِ}. {جَدِيدِ}: صفة {خَلْقٍ}. {وَمَا} الواو عاطفة {ما}: حجازية، أو تميمية. {ذَلِكَ}: اسمها، أو مبتدأ. {عَلَى اللهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَزِيزٍ}. {بِعَزِيزٍ}: خبرها، أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}. {وَبَرَزُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: متعلق به. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {بَرَزُوا}. {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ}: فعل وفاعل، و (الفاء): حرف عطف وترتيب، والجملة معطوفة على جملة {بَرَزُوا}. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} إلى قوله: {قَالوا}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بما بعده. {تَبَعًا}: خبر كان، وجملة كان في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال}. {فَهَلْ}: (الفاء): حرف عطف وتفريع.

وفي "روح البيان"، و (الفاء): للدلالة على سببية الإتباع للاعتناء. اهـ. {هل}: حرف للاستفهام التوبيخي. {أَنْتُمْ مُغْنُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول {قال}. {عَنَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُغْنُونَ}. {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {شَيْءٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِن}: زائدة. {شَيْءٍ}: مفعول {مُغْنُونَ}؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفصيح الصحيح. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {هَدَانَا اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}. {لَهَدَيْنَاكُمْ}: (اللام): رابطة لجواب {لَوْ}. {هَدَيْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {سَوَاءٌ}: خبر مقدم لمبتدأ متصيد من الجملة التي بعدها. {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق به؛ لأنه بمعنى مستو. {أَجَزِعْنَا}: (الهمزة): لتأكيد التسوية. {جَزِعْنَا}: فعل وفاعل. {أَمْ}: متصلة عاطفة. {صَبَرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {جَزِعْنَا}، وجملة {جَزِعْنَا} مع ما عطف عليه: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدا مؤخرًا لـ {سَوَاءٌ}، والتقدير: جزعنا وصبرنا مستو علينا، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَا}: حجازية، أو تميمية. {لَنَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {مَا}، أو للمبتدأ. {مِنْ}: زائدة. {مَحِيصٍ}: اسم {مَا} مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والتقدير: ما محيص كائنًا لنا، أو كائن لنا. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَمَّا}: حينية في محل النصب على الظرفية. {قُضِيَ الْأَمْر}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ {قَالَ}. {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه.

{وَعَدَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {وَعْدَ الْحَقِّ}: منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قال}. و {وَوَعَدْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جمة {إِنَّ} على كونها مقول {قال}. {فَأَخْلَفْتُكُمْ}: (الفاء): عاطفة. {أخلفتكم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَعَدْتُكُمْ}. {وَمَا}: (الواو): عاطفة. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لِيَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {سُلْطَانٍ}؛ لأنه بمعنى تسلط. {مِنْ سُلْطَانٍ}: اسم {كَانَ} مؤخر، و {من}: زائدة، والتقدير: وما كان سلطان عليكم كائنًا لي، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أخلفتكم} على كونها مقول {قال}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {دَعَوْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، والتقدير: وما كان لي عليكم من سلطان إلا دعوتي إياكم، فالاستثناء منقطع؛ لأن دعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثنى منه؛ أي: لكن دعوتكم فاستجبتم لي. {فَاسْتَجَبْتُمْ}: (الفاء): عاطفة. {استجبتم}: فعل وفاعل معطوف على {دَعَوْتُكُمْ}. {لِيَ}: جار ومجرور متعلق به. {فَلَا}: (الفاء): حرف عطف وتفريع. {لا}: ناهية جازمة. {تَلُومُونِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}. {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله {فَلَا تَلُومُونِي}. {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}. {مَا}: نافية، أو حجازية. {أَنَا}: مبتدأ، أو اسم {مَا}. {بِمُصْرِخِكُمْ}: خبر المبتدأ، أو خبر {مَا}، والباء: زائدة، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {وَمَا}: الواو: عاطفة. {ما}: حجازية، أو تميمية. {أَنْتُمْ}: اسم {ما}، أو مبتدأ. {بِمُصْرِخِيَّ}: (الياء): زائدة. {مُصْرِخِيَّ}: خبر {مَا}

الحجازية منصوب، وعلامة نصبه الياء الممنوعة لاشتغال المحل بالياء المجلوبة لحرف جر زائد، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، لأن أصله ما أنتم بمصرخين لي كما سيأتي في مباحث الصرف، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {كَفَرْتُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}، {بِمَا}: (الباء): حرف جر. {ما}: مصدرية. {أَشْرَكْتُمُونِ}: فعل ماض مبني على السكون؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك، التاء ضمير لجماعة المخاطبين في محل الرفع فاعل، الميم: حرف دال على الجمع، الواو: حرف زائد لإشباع حركة الميم، والنون: نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَشْرَكْتُمُونِ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {كَفَرْتُ}، والتقدير: إني كفرت بإشراككم إياي بالله من قبل. {إِنَّ الظَّالِمِينَ}: ناصب واسمه. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة له وجملة الابتداء في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ}: في محل النصب مقول {قال} إن قلنا: إنه من تمام كلام إبليس اللعين، أو مستأنفة إن قلنا: إنه من كلام الله. {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}. {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الوصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {جَنَّاتٍ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {أُدْخِلَ}. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {الْأَنْهَارُ}: متعلق به. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ}، ولكنها سببية. {خَالِدِينَ}: حال من اسم

الموصول الواقع نائب فاعل لـ {أُدْخِلَ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَلِدِينَ}. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أُدْخِلَ}. {تَحِيَّتُهُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: جار ومجرور حال من ضمير الغائبين. {سَلَامٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من مرفوع {أدخل}. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}. {أَلَمْ تَرَ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لمْ تَرَ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام تعجبي في محل النصب على الحال من المفعول الثاني الذي هو {مَثَلًا}. {ضَرَبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل بمعنى: صير يتعدى إلى مفعولين. {مَثَلًا}: مفعول ثان. {كَلِمَةً}: مفعول أول، وأخرت عن المفعول الثاني، وهو {مَثَلًا}، لئلا تبعد عن صفتها. {طَيِّبَةً}: صفة لـ {كَلِمَةً}، والتقدير: ألم تر كيف صير كلمة طيبة مثلًا حالة كون ذلك المثل كيف؛ أي: حالة كونه مسؤولًا عن حاله من غرابته وإحكامه وتوضيحه، وجملة {ضَرَبَ}: في محل النصب سادة مسد مفعولي رأى. {كَشَجَرَةٍ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أي: الكلمة الطيبة كائنة كشجرة طيبة، والجملة الاسمية جملة مفسرة للمثل، لا محل لها من الإعراب. {طَيِّبَةٍ} مضاف إليه {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ {شجرة}. {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها صفة لـ {شجرة}. {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}. {تُؤْتِي}: فعل مضارع بمعنى تعطي، وفاعله ضمير يعود على {شَجَرَةٍ}. {أُكُلَهَا}: مفعول ثان لأتى، والأول محذوف تقديره تؤتي أصحابها أكلها. {كُلَّ حِينٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {تُؤْتِي}، وجملة {تُؤْتِي}: في محل الجر صفة لـ {شجرة}. {بِإِذْنِ رَبِّهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تُؤْتِي}. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.

{لِلنَّاسِ}: متعلق به. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {يَتَذَكَّرُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)}. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ}: مبتدأ ومضاف إليه. {خَبِيثَةٍ}: صفة لـ {كلمةٍ}. {كَشَجَرَةٍ}: جار ومجرور خبر مبتدأ، والجملة مستأنفة. {خَبِيثَةٍ}: صفة أولى لـ {شجرة}. {اجْتُثَّتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {شجرة}. {مِن فَوْقِ اَلأَرضِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {شجرة}. {مَا}: نافية. {لَهَا}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ قَرَارٍ}: مبتدأ مؤخر، و {مِنْ}: زائدة، والجملة الاسمية في محل الجر صفة لـ {شجرة}، أو في محل النصب حال من الضمير في {اجْتُثَّتْ}، وهذه الجملة بمنزلة التعليل. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِالْقَوْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُثَبِّتُ}. {الثَّابِتِ}: صفة لـ {القول}. {فِي الْحَيَاةِ}: متعلق بـ {يُثَبِّتُ} أيضًا. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}. {وَفِي الْآخِرَةِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُثَبِّتُ}. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُثَبِّتُ}. {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاء، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} من عاد بمعنى صار؛ أي: لتصيرن داخلين في ملتنا، أصله لتعودونن، حذفت نون علامة الرفع لتوالي الأمثال وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، فصار لتعودن، والملة: الدين والشريعة.

{مَقَامِي} والمقام: موقف الحساب. وفي "السمين": وفي {مَقَامِي} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مقحم، وهو بعيد، إذ الأسماء لا تقحم. الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل، قال الفراء: مقامي مصدر مضاف لفاعله؛ أي: قيامي عليه بالحفظ. الثالث: أنه اسم مكان، قال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب، كقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، والمقام - بفتح الميم -: مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة. {وَخَافَ وَعِيدِ}؛ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار على أن يكون الوعيد بمعنى الموعود. والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والوعيد: الاسم من الوعد. {وَاسْتَفْتَحُوا}؛ أي: استنصروا الله تعالى ودعوا عليهم بالعذاب، من الاستفتاح استفعال من الفتح. وفي "القاموس": والفتح كالفِتاحة - بضم الفاء وكسرها -: الحكم بين الخصمين. اهـ. أي: طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء. {وَخَابَ}؛ أي: هلك، وقيل: خسر. {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، والجبار: العاتي المتكبر عن طاعة الله، والعنيد: المعاند للحق المخالف له، وقيل: الجبار في صفة الإنسان، يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها، وهو صفة ذم في حق الإنسان. وقيل: الجبار الذي لا يرى فوقه أحدًا. وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه. وقيل: العنيد هو المعوض عن الحق. وقيل: هو المعجب بما عنده، وهو فعيل بمعنى مفاعل؛ أي: بمعنى معاند، كالخليط بمعنى المخالط. اهـ. "كرخي". وقال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي، وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى. {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}؛ أي (¬1): من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه، على أن ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وراء هنا بمعنى بعد، ومنه قول النابغة: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيْبَةً ... وَلَيْس وَرَاءَ الله لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أي: ليس بعد الله، ومثله قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}؛ أي: ومن بعده كذا، قال الفراء: وقيل: {وَمِنْ وَرَائِهِ}؛ أي: من أمامه. قال أبو عبيد هو من أسماء الأضداد، ومنه قول الشاعر: وَمِنْ وَرَائِكَ يَوْمٌ أَنْتَ بَالِغُهُ ... لاَ حَاضِرٌ مُعْجِزٌ عَنْهُ وَلاَ بَادِيْ وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك، سواء كان خلفك أو قدامك. اهـ. {صَدِيدٍ}: هو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطًا بالقيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. {يَتَجَرَّعُهُ}؛ أي: يكلف (¬1) على جرعه وبلعه مرة بعد مرة، وتجرع من باب تفعل الخماسي، وفيه احتمالات: أحدها: أنه مطاوع جرعته بالتشديد، نحو علمته فتعلم. والثاني: أن يكون للتكلف نحو تحلم؛ أي: يتكلف جرعه، ولم يذكر الزمخشري غيره. ومعنى التكلف أن الفاعل يتعافى ذلك الفعل ليحصل بمعاناته، كتشجع، إذ معناه: استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها لتحصل. ذكره في "روح البيان". والثالث: أنه دال على المهلة نحو تفهمته؛ أي: يتناوله شيئًا فشيئًا بالجرع، كما يتفهم شيئًا فشيئًا بالتفهيم. والرابع: أنه بمعنى جرعه المجرد نحو: عدوت الشيء وتعديته. اهـ. "سمين". {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}؛ أي: ولا يقارب أن يسيغه فضلًا عن الإساغة، بل يغض به، والسواغ انحدار الشراب في الخلق بسهولة وقبول نفس، يقال: ساغ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الشراب إذا جاز الخلق بسهولة، وقال بعض المفسرين: إن كاد هنا صلة، والمعنى: يتجرعه ولا يسيغه. اهـ. {كَرَمَادٍ} والرماد معروف، وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة رمد، وفي القلة على أرمد. اهـ. "سمين". وقال ابن عيسى (¬1): الرماد هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع على رمد في الكثرة، وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء، قالوا: أرمداء ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون. {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ومعنى اشتدت به الريح، حملته بشدة وسرعة، والعصف: شدة الريح، وصف به زمانها مبالغة، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والحر والبرد فيهما لا منهما. {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ}: جمع (¬2): ضعيف، والضعف خلاف القوة، وقد يكون في النفس، وفي البدن، وفي الحال، وفي الرأي، والمناسب للمقام هو الأخير، فإنه لو كان في رأيهم قوة لما اتبعوهم في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}: جمع تابع، كخدم جمع خادم، وحرس جمع حارس، ورصد جمع راصد، وهو المستن بآثار من يتبعه؛ أي: تابعين لكم في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم مطيعين لكم فيما أمرتمونا به. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا}؛ أي: دافعون عنا، يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {أجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} الجزع (¬3): عدم احتمال الشدة، وعدم الصبر على البلاء، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر: جَزِعْتُ وَلَمْ أجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعَا ... وَعَذَّبْتُ قَلْبًا بِالْكَوَاكِبِ مُوْلَعَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وفي "المصباح": وجزع الرجل جزعًا - من باب تعب - فهو جزع وجزوع مبالغة إذا ضعف من حمل ما نزل به، ولم يجد صبرًا وأجزع غيره. {مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: من منجأ (¬1) ولا مهرب من عذاب الله، يقال: حاص فلان عن كذا؛ أي: فر وزاغ يحيص حيصًا وحيوصًا وحيصانًا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وفي "المختار": حاص عنه إذا عدل وحاد، وبابه باع وحيوصًا ومحيصًا ومحاصًا وحيصًا بفتح الياء، يقال: ما عنه محيص؛ أي: محيد ومهرب، والانحياص مثله. اهـ. وهو يحتمل أن يكون مكانًا كالمبيت، ومصدرًا كالمغيب. {وَعْدَ الْحَقِّ}؛ أي: وعدًا من حقه أن ينجز، أو وعدًا أنجزه. اهـ. "بيضاوي". وفي "السمين": يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته؛ أي: الوعد الحق، وأن يراد بالحق صفة الباري تعالى؛ أي: وعدكم الله تعالى وعده، وأن يراد بالحق البعث والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة. اهـ. {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}؛ أي: أجبتموني، فالسين والتاء زائدتان {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} المصرخ (¬2): المغيث. قال الشاعر: فَلاَ تَجْزَعُوْا إِنِّي لَكُمْ غَيْرَ مُصْرِخٍ ... وَلَيْسَ لَكُمْ عَنِّي غَنَاءٌ وَلاَ نَصْرُ والصارخ المستغيث، يقال: صرخ يصرخ صرخًا وصراخًا وصرخة. قال سلامة بن جندل: كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيْبِ واصطرخ بمعنى صرخ وتصرخ إذا تكلف الصراخ، واستصرخ استغاث، فقال: استصرخني فأصرخته، والصريخ مصدر كالصهيل، ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد. وفي "المصباح": صرخ يصرخ - من باب قتل - صراخًا فهو صارخ، وصريخ إذا صاح وصرخ، فهو صارخ إذا استغاث، واستصرخته، استغثت به فأغاثني فهو صريخ؛ أي: مغيث ومصرخ على القياس. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أصله بمصرخين (¬1) لي جمع مصرخ، كمسلمين جمع مسلم، فياء الجمع ساكنة وياء الإضافة كذلك، فحذفت الام للتخفيف والنون للإضافة، فالتقى ساكنان وهما الياءان، فأدغمت ياء الجمع في ياء الإضافة، ثم حركت ياء الإضافة بالفتح على القراءة المشهورة طلبًا للخفة وتخلصًا من توالي ثلاث كسرات، وكسرت على غير المشهورة على أصل التخلص من التقاء الساكنين، أو اتباعًا لكسرة الخاء. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} المثل (¬2): قول في شيء يشبه بقول في شيء آخر لما بينهما من المشابهة، ويوضح الأول بالثاني ليتم انكشاف حاله به. {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}؛ أي: ضارب بعروقه في الأرض {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}؛ أي: في جهة العلو، والفرع: الغصن من الشجرة، ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع أيضًا: الشعر، يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال امرؤ القيس بن حجر: وَفَرْعٌ يُغَشِّي المَتْنَ أسوَدُ فَاحِمُ {تُؤْتِي أُكُلَهَا}؛ أي: تعطي ثمرها. {كُلَّ حِينٍ}؛ أي: كل وقت، والحين في اللغة (¬3): الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هنا، فقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا: سنة كاملة؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر يعني: من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضًا. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر يعني: أن مدة حصلها باطنًا وظاهرًا ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران يعني: من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أمس: {كُلَّ حِينٍ} يعني: كل غدوة وعشية؛ لأن ثمرة النخلة تؤكل أبدًا ليلًا ونهارًا صيفًا وشتاءً، فيؤكل منها الجمار ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت. اهـ. "خازن". {بِإِذْنِ رَبِّهَا}؛ أي: بإرادة خالقها. {اجْتُثَّتْ}؛ أي: استؤصلت وأخذت جثتها من الجث؛ وهو القطع باستئصال، فهو صفة لشجرة، ومعنى اجتثت، قلعت جثتها؛ أي: شخصها وذاتها من فوق الأرض، والجثة: شخص الإنسان قاعدًا وقائمًا. وقال لقيط الإياري: هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا آتٍ ومن سمعا ويقال (¬1): اجتثثت الشيء إذا قلعته، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجثثت الشيء قلعته، والمعنى: على التشبيه؛ أي: كأنها اجتثت، وكأنها غير ثابتة بالكلية، وكأنها ملقاة على وجه الأرض. {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}؛ أي: استقرار عليها يقال: قر الشيء قرارًا نحو ثبت ثباتًا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} تسجيلًا عليهم باسم الظلم، فإن الشرك لظلم عظيم. ومنها: الذم في قوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} تسجيلًا (¬2) عليهم باسم التجبر والعناد، لا أنهم بعضهم ليسوا كذلك، وأنه لم تصبهم الخيبة. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

ومنها: الإبهام ثم البيان في قوله: {مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أبهم الماء أولًا، ثم بيَّن بالصديد تعظيمًا وتهويلًا لأمره، وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه. ومنها: المبالغة في قوله: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}؛ أي: لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلًا عن الإساغة، بل يغص به. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ}؛ لأنه مجاز عن أسبابه، ففيه إطلاق المسبب وإرادة السبب. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ}، {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، شبه (¬1) الله سبحانه وتعالى صنائع الكفار - جمع صنيعه - من الصدقة وصلة الرحم وعتق الرقاب وفك الأسير وإغاثة الملهوف ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباءً منثورًا لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى وتوحيده، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف، ووجه الشبه أن الريح العاصف تطير الرماد، وتفرق أجزائه بحيث لا يبقى له أثر، فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لا يبقى لها أثر، وقد بين مقصوده ومحصله بقوله: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}؛ لأن العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. ومنها: فذلكة التمثيل والتشبيه في قوله: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} لأن العصف اشتداد الريح وُصف به زمانه للمبالغة كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. ¬

_ (¬1) البيضاوي وزاده.

ومنها: فذلكة التمثيل والتشبيه في قوله: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} فأسند البعد الذي هو من أحوال الضال إلى الضلال الذي هو فعله مجازًا مبالغة. ومنها: الطباق في قوله: {يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}. ومنها: إيثار (¬1) صيغة الماضي في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} وإن كان معناه الاستقبال؛ للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن كل (¬2) ما أخبر الله عنه فهو حق وصدق كائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، وكذا في قوله: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} دلالة على أن وقوعه محقق. ومنها: الطباق بين {الضُّعَفَاءُ} و {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ}. ومنها: الطباق في {جَزِعْنَا} و {صَبَرْنَا}. ومنها: إيثار صيغة الماضي في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} وإن كان معناه مستقبلًا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}. ومنها: التجوز في قوله: {فَأَخْلَفْتُكُمْ}؛ لأن الإخلاف (¬3) حقيقة هو عدم إنجاز من يقدر على إنجاز وعده، وليس الشيطان كذلك، فقوله: {أخلفتكم}، يكون مجازًا جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه، كأنه كان قادرًا على إنجازه، وأنى له ذلك. ومنها: الاستعارة في قوله: {بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ} شبه طاعته باتباعه فيما زينه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

لهم بإشراكه مع الله بجامع الاتباع في كل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية كما في "الشهاب". ومنها: طباق السلب في قوله: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. ومنها: الاستفام التعجبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وقوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}. ومنها: الطباق في قوله: {أَصْلُهَا}، {وَفَرْعُهَا}، وفي {طَيِّبَةٍ}، {خَبِيثَةٍ}. ومنها تغيير (¬1) الأسلوب في قوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} .. الخ. حيث لم يقل: وضرب الله مثلًا كلمة خبيثة .. الخ للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان. اهـ. "أبو السعود". ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} حيث شبه النجم؛ وهو ما لا ساق له بالشجر، وهو ما له ساق بجامع أن كلًّا منهما نبات، فاستعار له اسم الشجر، وقيل: تسميتها شجرة للمشاكلة. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا}. ومنها: الإظهار (¬2) في مقام الإضمار في قوله: {يُضِلُّ اللَّهُ} وفي قوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ} لتربية المهابة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

قال الله سبحانه جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}. المناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم .. ذو السبب في إضلالهم. وعبارة "المراغي" هنا: مناسبتها لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) الأمثال بيانًا لحالي الفريقين، وذكر ما يليه من التوفيق في الدارين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

للسعداء، وما ينال الأشقياء من الخذلان والإضلال جزاء ما كسبت أيديهم من تدسيتهم لأنفسهم باجتراحهم للشرور والآثام، وبين أن كل ذلك يفعله على حسب ما يرى من الحكمة والمصلحة .. ذكر (¬1) هنا الأسباب التي أوصلتهم إلى سوء العاقبة معجبًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما صنعوا من الأباطيل التي لا تكاد تصدر ممن له حظ من الفكر والنظر، ولم تكن هذه الطامة خاصة بهم، بل كانت فتنة شعواء عمتهم جميعًا {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرًا، والشكر جحدًا، وإنكارًا، وليت البلية كانت واحدة، بل أضافوا إليها أخرى، فاتخذوا لله الأنداد والشركاء، ثم تلبثوا بضلال غيرهم، فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة: فَلَوْ كَانَ هَمٌّ وَاحِدٌ لاحْتَمَلْتُهُ ... وَلَكِنَّهُ هَمٌّ وَثَانٍ وَثَالِثُ ومن ثم كانت عاقبتهم التي لا مرد لها العذاب الأليم في جهنم وبئس المصير، ثم بين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هؤلاء لا تجدي فيه العظة، فذرهم يتمتعوا في هذه الحياة حتى حين، ثم لا بد لهم من النصيب المحتوم. قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم له أندادًا، وهددهم .. أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإِسلام: الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة. وعبارة المراغي هنا (¬3): بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا .. أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة في التمتع بها، والجد في مجاهدة النفس والهوى ببذل النفس والمال في كل ما يرفع شأنهم ويقربهم من ربهم، وينيلهم الفوز لديه في يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال الكافرين لنعمه حين بدلوا الشكر بالكفر، واتخذوا لله أندادًا، فكان جزاؤهم جهنم وبئس المهاد، ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة شكرًا لربهم على ما أوتوا من النعم، وحثًّا لهم على الجهاد في سبيل كمالهم ورقيهم، ببذل النفس والنفيس، وهو المال لتكمل لهم السعادة في الدارين .. شرع بذكر الأدلة المنصوبة في الآفاق والأنفس التي توجب على عباده المثابرة على شكره ودوام الطاعة له، ويذكر النعم الجسام التي يتقلبون في أعطافها آناء الليل وأطراف النهار؛ ليكون في ذلك حث لهم على التدبر فيما يأتون وفيما يذرون، وفيه عظيم الدلالة على وجوب شكر الصانع لها، كما فيه أشد التقريع للكافرين الذين أعرضوا عن النظر والتفكر في تلك النعم، فكان هذا داعية كفرها وجحودها وغمطها وكنودها. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر (¬1) سبحانه وتعالى الأدلة على أن لا معبود سواه، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه إذ بدلوا نعمة الله كفرًا وعبدوا الأوثان والأصنام .. ذكر هنا أن الأنبياء جميعًا حثوا على ترك عبادة الأصنام، فإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه؛ وهو أبوهم نعى على قومه عبادتها، وطلب إلى الله أن يجنبه وبنيه ذلك، فإنها كانت سببًا في ضلال كثير من الناس، وشكر الله على أن وهب له على كبره ولديه إسماعيل وإسحاق، ثم ختم مقاله بأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين ذنوبهم عند العرض والحساب. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ...} الآيات، قال أبو حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وجعلوا لله أندادًا؛ وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[28]

اتخذوا آلهة من دون الله، وكان عن نعم الله عليهم، وإسكانه إياهم حرمه ... أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأن يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة، وهي الصلاة لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام، فيزدجروا ويرجعوا عنها. أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عطاء بن يسار قال (¬1): نزلت هذه الآية في الذين قتلوا يوم بدر قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ ...} الآية. وقد ذهب (¬2) جمهور المفسرين إلى أن الآية نزلت في كفار مكة، وقيل: نزلت في الذين قاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، وقيل: نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم وبني أمية، وقيل: إنها عامة في جميع المشركين، وقيل غير ذلك. التفسير وأوجه القراءة 28 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب، والخطاب فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح له؛ أي: هل رأيت يا محمد عجبًا مثل عجب هؤلاء المذكورين؛ أي: ألم تنظر يا محمد {إِلَى} حال الكفار {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}؛ أي: جعلوا بدل شكر نعمة الله التي هي إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم {كُفْرًا}؛ أي: جحدًا وتكذيبًا له، وشكرها الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما جاء به، وهم أهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن، ووسع عليهم أبواب رزقه، وشرفهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين، فقتلوا وأسروا يوم بدر؛ لأن (¬3) شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرًا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر، وبدلوه تبديلًا {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} الذين تابعوهم على الكفر ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني. (¬3) النسفي.

[29]

وأنزلوهم {دَارَ الْبَوَارِ}؛ أي: دار الهلاك جهنم: عطف بيان {يَصْلَوْنَهَا}؛ أي: يقاسون حرها؛ أي: حالة كونهم يدخلونها يوم القيامة مقاسين لحرها؛ أي: أنزل (¬1) بعض قريش المطمعون يوم بدر - وهم بنو أمية وبنو المغيرة - أتباعهم، وهم بقية قريش بسبب إضلالهم إياهم وإرشادهم إلى طريقة الشرك دار الهلاك التي هي جهنم يوم القيامة حالة كون كلهم من الأتباع والمتبوعين يدخلون جهنم مقاسين لحرها كفاء ضلالهم وإضلالهم، وعدم (¬2) التعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه، إذ هو فرعه {وَبِئْسَ الْقَرَارُ}؛ أي: وقبح المستقر والمنزل لهم يوم القيامة، والمخصوص بالذم جهنم دارًا لهم. والمعنى: أي ألم (¬3) تعلم وتعجب من قوم بدلوا شكر النعمة غمطًا لها، وجحودًا بها كأهل مكة الذين أسكنهم الله حرمًا آمنًا يجبي إليه ثمرات كل شيء، وجعلهم قوام بيته، وشرفهم بإرسال رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من بينهم، فكفروا بتلك النعمة، فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دأبًا، وأسروا يوم بدر وصفدوا في السلاسل والأغلال، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنون بهم ويحتفظون بمواضيعهم ليوم كريهة وسداد ثغر. {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}؛ أي: وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لا هلاك بعده. 29 - ثم بين هذه الدار، فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}؛ أي: هذه الدار هي جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها وبئس المستقر هي لمن أراد الله به النكال والوبال، 30 - وقوله: {وَجَعَلُوا} عطف على {أحل} داخل معه في حكم التعجب؛ أي: جعلوا في اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد {لِلَّهِ} الفرد الأحد الذي لا شريك له في الأرض ولا في السماء {أَنْدَادًا}؛ أي: أشباهًا في التسمية حيث سموا الأصنام آلهة، أو في العبادة، أو في الربوبية {لِيُضِلُّوا} قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَنْ سَبِيلِهِ} القويم الذي هو التوحيد، ويوقعوهم في ورطة الكفر والضلال، وليس الإضلال (¬4) غرضًا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[31]

حقيقيًّا لهم من اتخاذ الأنداد، ولكن لما كان نتيجة له كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمني نتيجة المجيء شبه بالغرض، وأدخل اللام عليه بطريقة الاستعارة التبعية، ونسب الإضلال الذي هو فعل الله تعالى إليهم؛ لأنهم سبب الضلالة حيث يأمرون بها ويدعون إليها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬1): {لِيُضِلُّوا} هنا، و {ليضل} في الحج ولقمان والروم بفتح الياء؛ أي: ليضلوا بأنفسهم عن سبيل الله، وتكون اللام للعاقبة؛ أي: ليتعقب جعلهم لله أندادًا ضلالهم؛ لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه. وقرأ باقي السبعة بضمها؛ أي: ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أندادًا. والمعنى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}؛ أي (¬2): واتخذوا لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس له كفوًا أحد أندادًا وشركاء من الأصنام والأوثان أشركوهم به في العبادة، كما قالوا في الحجّ: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}؛ أي: لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم الصد والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف، والوقوع في حمأة الكفر والضلال. ولما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم هذه الهنات الثلاث تبديل النعمة واتخاذ الأنداد والأمثال وإضلال قومهم، 31 - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد: سيروا على ما أنتم عليه، فإنه لا فائدة في نصحكم وإرشادكم وعاقبتكم النار بقوله: {قُلْ} يا محمد تهديدًا لهؤلاء الضالين المضلين {تَمَتَّعُوا}؛ أي (¬3): انتفعوا والتذوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها كفران النعم العظام، وعبادة الأوثان والأصنام، والسعي في إضلال الناس والصد عن سبيله. ثم بين جزاءهم المحتوم، فقال: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ} يوم القيامة؛ أي: إن مرجعكم وموثلكم فيه {إِلَى النَّارِ} المؤبدة ليس إلا، فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك، أو يقتضيه من أحوالكم، كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. وسمى الله تعالى ذلك تمتعًا (¬1)؛ لأنهم تلذذوا به، وأحسوا بغبطة وسرور، كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم، وهذا الأسلوب التهكمي يستعمل في التخاطب كثيرًا، فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه، ثم لا يرى منه إلا تماديًا في الإعراض عن أوامره واتباعًا لشهواته، فيقول له: كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول، وكما يقال لمن سعى في مخالفة السلطان، إصنع ما شئت، فإن مصيرك إلى السيف. ودلت الآيتان على أمور: الأول: أنَّ الكفران سبب لزوال النعمة بالكلية، كما أن الشكر سبب لزيادتها. والثاني: أنَّ القرين السوء يجر المرء إلى النار، ويحله دار البوار، فينبغي للمؤمن المخلص السني أن يجتنب عن صحبة أهل الكفر والنفاق والبدعة حتى لا يسرق طبعه اعتقادهم السوء وعملهم السيء. ولهم كثرة في هذا الزمان. والثالث: أن جهنم دار القرار للأشرار، وشدة حرها مما لا يوصف. وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم في اللذات أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر خُلَّصَ عباده بإقامة العبادات البدنية، وأداء الفرائض المالية، فقال: {قُلْ} يا محمد {لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: أقيموا (¬2) الصلاة الواجبة على وجهها وأدوها كما طلب ربكم، وداوموا عليها، فهي عماد الدين وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي المصباح للمؤمن يستضيء به للقرب من ربه. و {عبادي} يقرأ بثبوت الياء مفتوحة وبحذفها لفظًا لا خطأ، والقراءتان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

سبعيتان، ويجريان في خمس مواضع من القرآن هذا، وقوله في سورة "الأنبياء": {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وقوله في "العنكبوت": {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، وقوله في "سبأ": {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقوله في سورة "الزمر": {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. اهـ. "شيخنا". {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}؛ أي: وتصدقوا بعض ما أعطيناكم من الرزق والعطاء، وأدوا الزكاة الواجبة شكرًا له على نعمه الجزيلة، ورأفةً بعباده الفقراء، وسدًّا لخلتهم، وإيجادًا للتضامن والتعاون بين الأخوة في الدين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. {سِرًّا}؛ أي: خفية {وَعَلَانِيَةً}؛ أي: جهرًا؛ أي: أنفقوها إنفاق سر وخفية في صدقة التطوع، وإنفاق جهر وعلانية في صدقة الواجب. قيل: أراد (¬1) بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة، وقيل: أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر، وحمله على العموم أولى؛ ليدخل فيه إخراج الزكاة والإنفاق في جميع وجوه البر، والمراد: حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا، كما هو صنيع الكفرة، وإنما خصهم (¬2) بالإضافة تنويهًا لهم وتنبيهًا على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. وهذان الفعلان (¬3): إما مجزومان في جواب أمر محذوف؛ أي: قل لهم أقيموا الصلاة، فإن قلت لهم ذلك .. يقيموا الصلاة، أو مجزومان بلام أمرٍ مقدر؛ أي: ليقيموا الصلاة؛ أي: الواجبة. قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ} قال في "الإرشاد": الظاهر أن {مِنْ} متعلقة بـ {يُنْفِقُوا} {يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لَا بَيْعٌ فِيهِ} فيبتاع المقصر ما يتلافى تقصيره به، وتخصيص (¬4) البيع بالذكر؛ لاستلزام نفيه نفي الشراء {وَلَا خِلَالٌ} فيه؛ أي: ولا مخالة وصداقة فيه، فيشفع له خليل، والمراد بالمخالة المنفية: المخالة بسبب ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

[32]

ميل الطبع ورغبة النفس، فلا يعارض قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}؛ لأن الواقع فيما بينهم المخالة لله، أو من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، وإنما ينتفع فيه بالطاعة التي من جملتها إقامة الصلاة والإنفاق لوجه الله تعالى وادخار المال، وترك إنفاقه إنما يقع غالبًا للتجارات والمهاداة، فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. والمعنى (¬1): أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدى المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة أعني (¬2): {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، ويمكن أن يكون فيها أيضًا تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيرًا ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء. والخلاصة (¬3): وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدي فيه صداقة، فلا يشفع خليل لخليل، ولا يصفح عن عقابه لمخالته لصديقه، بل هناك العدل والقسط، كما قال جل جلاله: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وقال أيضًا: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}. 32 - ولما (¬4) أطال سبحانه وتعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، كان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل بذلك .. ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وذكر عشرة أنواع من "الدلائل" فذكر أولًا إبداعه وإنشاءه السماوات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل وأبرزها في جملة مستقلة، ليدل وينبه على أن كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد. وفي "الفتوحات" (¬1): ذكر لهذا الموصول سبع صلات تشتمل على عشرة أدلة على وحدانية الله تعالى، ولفظ الجلالة مبتدأ، أو الموصول خبره. والمعنى: الله الذي يستحق منكم العبادة هو الإله الذي أبدع واخترع وأوجد السماوات السبع على غير مثال سبق، وأوجد ما فيها من الأجرام العلوية، وخلق الأرض وما فيها من المخلوقات، وقدم السماوات على الأرض؛ لأنها بمنزلة الذكر من الأنثى، وبدأ بذكر خلق السماوات والأرض؛ لأنهما أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع المختار القادر الحكيم. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب، فإن كل ما علاك سماء، أو من الفلك، فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب، ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص، وهذا القول أرجح عند بعضهم؛ لأن الله تعالى زاد بيان نعمه على عباده، فبين أولًا خلق السماوات والأرض، ثم أشار إلى ما فيها من كليات المنافع، لكنه قدم وأخر كتأخير تسخير الشمس والقمر؛ ليدل على أن كلا من هذه النعم نعمة على حدة، ولو أريد السحاب لم يوجد التقابل التام وأيًّا ما كان، فـ {مِنَ} ابتدائية {مَاءً}؛ أي: نوعًا من أنواع الماء، وهو المطر، فتنكير الماء هنا للنوعية {فَأَخْرَجَ بِهِ}؛ أي: فأنبت بذلك الماء الذي أودع فيه القوة الفاعلية، كما أنه أودع في الأرض القوة القابلية {مِنَ الثَّمَرَاتِ} المتنوعة {رِزْقًا لَكُمْ} يا بني آدم تعيشون به، وهو بمعنى المرزوق شامل للمطعوم والملبوس، وهو مفعول به لـ {أخرج} و {من} للتبيين حال منه، كقولك: أنفقت من الدراهم ألفًا؛ أي: رزقًا هو الثمرات، و {لَكُمْ} صفة له. وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به، كأنه قيل: أنزل من ¬

_ (¬1) روح البيان.

السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات؛ ليكون بعض رزقكم. والمعنى (¬1): الله الذي خلق لكم السماوات والأرض هنا أكبر خلقًا منكم، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون وتقدم تفصيل هذا في مواضع متعددة من كتابه الكريم، وأنزل من السماء غيثًا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت لكم رزقًا تأكلون منه وتعيشون به. ولما ذكر (¬2) الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر وإخراج الثمر، لأجل الرزق والانتفاع به من ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء؛ لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات وغيرها من بلد إلى بلد آخر فهي من تمام نعمة الله على عباده، فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ}؛ أي: وذلل لكم السفن - جمع ذلك بمعنى سفينة - بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك {لِتَجْرِيَ}؛ أي: تلك الفلك والسفن {بِأَمْرِهِ}؛ أي: بإرادته إلى حيث توجهتم وانطوى (¬3) في تسخير الفلك تسخير البحار وتسخير الرياح. وفي "أنوار المشارق": يجوز ركوب البحر للرجال والنساء عند غلبة السلامة، كذا قال الجمهور، وكره ركوبه للنساء؛ لأن الستر فيه لا يمكنهن غالبًا ولا غض البصر عن المتصرفين فيه، ولا يؤمن من انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال. والمعنى: أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها وجعلها طافية على وجه الماء تجري عليه بأمره تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم؛ لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}؛ أي: المياه العظيمة الجارية في الأنهار العظام تشق الأرض شقًّا من قطر إلى قطر، وتسخيرها: جعلها معدة لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون منها جداول تسقون بها زروعكم وحدائقكم وما أشبه ذلك. ولما (¬4) كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزرع والثمرات ولا في الشراب أيضًا .. ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون؛ لأجل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان. (¬4) الخازن.

[33]

هذه الحاجة، فهو من أعظم نعم الله على عباده. قال في "بحر العلوم": اللام فيها للجنس أو للعهد أشير بها إلى خمسة أنهار: سيحون: نهر الهند، وجيحون: نهر بلخ، ودجلة والفرات: نهري العراق، والنيل: نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وسخرها للناس، وجعل فيها منافع لهم في أصناف معاشهم، وسائر الأنهار تبع لها، وكأنها أصولها. انتهى. 33 - {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} حالة كونهما {دَائِبَيْنِ}؛ أي: دائمين في الحركة متصلين في سيرهما لا ينقطعان ولا يفتران؛ أي: لا يضعفان بسبب سيرهما في فلكهما ومقرهما: وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر إلى انقضاء عمر الدنيا وقيام الساعة، كما قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} وقال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. والمعنى: وسخر لكم الشمس والقمر حالة كونهما دائبين؛ أي (¬1): مجدين في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما يصلحان الأرض والأبدان والنبات، لا يفتران أصلًا، ويفضل الشمس على القمر؛ لأن الشمس معدن الأنوار الفلكية من البدور والنجوم، وأصلها في النورانية، وأن أنوارهم مقتبسة من نور الشمس على قدر تقابلهم وصفوة أجرامهم. {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان بالزيادة والنقصان؛ والإضاءة والإظلام، والحركة والسكون فيما، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه في أمور دنياكم، ولإنضاج الثمار، والليل لتسكنوا فيه ولعقد الثمار، كما جاء في الآية الأخرى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

ذلك، فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا، فيقصر، كما قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}. واختلفوا في الليل والنهار أيهما أفضل (¬1). قال بعضهم: قدم الليل على النهار؛ لأن الليل لخدمة المولى، والنهار لخدمة الخلق، ومعارج الأنبياء عليهم السلام كانت بالليل، ولذا قال الإِمام النيسابوري: الليل أفضل من النهار. 34 - ولما ذكر (¬2) الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم .. بين بعد ذلك أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر: حيث قال: {وَآتَاكُمْ}؛ أي: وأعطاكم مصلحة لكم {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}؛ أي: بعض جميع ما سألتموه، فإن الموجود من كل صنف بعض ما قدره الله تعالى، فـ {من} للتبعيض. وقال الأخفش (¬3): أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئًا، فحذف شيئًا، وقيل: المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى. قاله ابن الأنباري، وقيل: {من} زائدة؛ أي: آتاكم كل ما سألتموه. وقيل: للتبعيض؛ أي: آتاكم بعض كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية (¬4): {من كلٍ} - بالتنوين - وهي شاذة؛ أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات، و {ما} موصولة مفعول ثان؛ أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به؛ أي: آتاكم من كل شيء الذي سألتموه. ويجوز أن تكون {ما} نافية؛ أي: آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له. والمعنى: أي هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم من كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

الذي هو حقيق أن تسألوه، سواء أسألتموه أم لم تسألوه؛ لأن هذه الدنيا قد وضع الله تعالى فيها منافع يجهلها الناس، وهي معدة لهم، فلم يسأل الله أحد في الأمم الماضية أن يعطيهم الطائرات والمغناطيس والكهرباء، بل خلقها وأعطاها للناس بالتدريج، ولم يزل عجائب ستظهر لمن بعدها. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} التي أنعم بها عليكم بسؤال وبغيره {لَا تُحْصُوهَا}؛ أي: لا تطيقوا حصرها (¬1) وعدها ولو إجمالًا لكثرتها وعدم نهايتها. وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. وأصل الإحصاء أن الحساب كان إذا بلغ عقدًا معينًا من عقود الأعداد وضعت له حصاة ليحفظ بها، ثم استؤنف العدد. والمعنى: لا توجد له غاية فتوضع له حصاة. والنعم على قسمين: نعمة المنافع؛ لصحة البدن والأمن والعافية، والتلذذ بالمطاعم والمشارب والملابس والمناكح والأموال والأولاد، ونعمة دفع المضار من الأمراض والشدائد، والفقر والبلاء، وأجل النعم استواء الخلقة، وإلهام المعرفة. والمعنى: أي (¬2) لا تطيقوا عد أنواعها فضلًا عن القيام بشكرها وفي "صحيح البخاري" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم لك الحمد غير مكفي، ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا". وأثر عن الشافعي أنه قال: الحمد لله الذي لا يؤدِّي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها. وقال شاعرهم: لَوْ كَانَ جَارِحَةٌ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ ... تُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنٍ لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِيْ إِذْ شَكَرْتُ بِهِ ... إِلَيْكَ أبْلَغَ في الإِحْسَانِ وَالْمِنَنِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: إن جنس الإنسان {لَظَلُومٌ}؛ أي (¬3): لبليغ في الظلم يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو بوضعها في غير موضعها، أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان. {كَفَّارٌ}؛ أي: شديد الكفران لها، أو ظلوم في الشدة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[35]

يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع، واللام في الإنسان للجنس. والمعنى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}؛ أي: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرًا لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك واضع للشكر في غير موضعه ذاك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق إخلاص العبادة له، فعبد هو غيره، وجعل له أندادًا ليضل عن سبيله، وذلك هو ظلمه وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه. فإن قلت (¬1): لم ختم الآية هنا بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وختمها في سورة النحل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فما الفرق بين الختمين؟ قلتُ: إن الله سبحانه وتعالى لما قدم هنا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} وذكر بعده: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} فكان ذلك نصًّا على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك بجعل الأنداد له تعالى .. ناسب أن يختم الآية هنا بذم من وقع ذلك منه، فقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}. وأما في النحل، فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها، وقال بعد ذلك: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}؛ أي: أفمن أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لا يقدر على الخلق، وعلى كل شيء منه .. ناسب أن يذكر هنا وهناك من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضًا على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به، وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق في أنه يغفر زلَلَه السابق، ويرحمه. ذكره أبو حيان. 35 - {و} اذكر يا محمد لقومك مذكرًا لهم بأيام الله قصة {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} الخليل عليه السلام في مناجاته لربه حين فرغ من بناء البيت {رَبِّ} المحسن إلي بإجابة دعائي {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} مكة المشرفة بلدًا {آمِنًا}؛ أي: ذا أمن ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

يأمن فيه أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف والمكاره، كالقتل والغارة والأمراض المنفرة من البرص والجذام ونحوهما، فإسناد الأمن إلى البلد مجاز؛ لوقوع الأمن فيه، وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد. والغرض من سياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع (¬1): بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة، وقيل: إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة وقيل: لقصد الدعاء إلى التوحيد وإنكار عبادة الأصنام. وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده؛ لأنه إذا انتفى الأمن لم يفزغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا. فإن قلت (¬2): لم قال في سورة البقرة: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} بالتنكير وقال هنا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} بالتعريف، فأي فرق بين الموضعين؟ قلتُ: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن فيها أهلها ولا يخافون، وذلك قبل بناء البيت حين وضع هاجر وإسماعيل في مكان البيت، وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: وهو بلد مخوف، فاجعله آمنًا، وذلك بعد بناء البيت. والحاصل: أن هذا الدعاء وقع مرتين (¬3) مرة قبل بنائها ومرة بعده، ولذلك كتب الكرخي في سورة البقرة ما نصه: ونكر البلد هنا وعرّفه في إبراهيم؛ لأن الدعوة هنا كانت قبل جعل المكان بلدًا، فطلب من الله أن يُجعل ويُصيَّرَ بلدًا آمنًا، وهناك كانت الدعوة بعد جعله بلدًا. والخلاصة: أن الفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن. وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرمًا لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) الفتوحات.

[36]

كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ}. {وَاجْنُبْنِي} يا رب؛ أي: باعدني {و} باعد {بَنِيَّ} وذريتي عن {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} والأوثان؛ أي: ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن الأصنام، وقد استجيب دعاؤه في بعض بنيه دون بعض ولا ضير في ذلك. قيل: أراد (¬1) بنيه من صلبه، وكانوا ثمانية، وقيل: أراد من كان موجودًا حال دعوته من بنيه وبني بنيه، وقيل: أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد القول الأول ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنمًا، والصنم: هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه؛ أي: واجعلنا في جانب بعيد من عبادتها؛ أي: ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإِسلام، والبعد عن عبادة الأصنام، وإلا فهو معصوم عن عبادتها، وكذا بعض بنيه معصومون كإسماعيل وإسحاق. قال بعضهم (¬2): رأى إبراهيم قومًا يعبدون الأصنام، فخاف على بنيه فدعا. والجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها، وأمر الناس بعبادتها، وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأوثان، وكان إبراهيم يعرفه، فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده، فعصم أولاده الصلبية من ذلك، وهي المرادة من قوله: {وَبَنِيَّ} فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هو ولا أحفاده. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي شذوذًا (¬3): {وأجنبني} بقطع الهمزة على أنه من أجنب الرباعي. 36 - وقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} تعليل لقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وأما إعادة النداء بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ ...} إلخ فلتأكيد النداء الأول، وكثرة الابتهال والتضرع إليه، وأنث الأصنام؛ لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث؛ أي: وإنما سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن؛ لأنهن؛ أي: لأن الأصنام أضللن كثيرًا من الناس. أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل؛ لأنها سبب لضلالهم، فكأنها أضلتهم؛ أي: يا رب إن الأصنام أزلن كثيرًا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن، وكفروا بك {فَمَنْ تَبِعَنِي} من الناس على ما أنا عليه من الإيمان بك، وإخلاص العبادة لك، والبعد عن عبادة الأوثان {فَإِنَّهُ مِنِّي}؛ أي: من أهل ديني، ومستن بسنتي، وجارٍ على طريقتي. جعل أهل ملته كنفسه مبالغة. {وَمَنْ عَصَانِي} وخالف أمري، فلم يتابعني، ولم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} له؛ أي: فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه، وهدايته إلى الصراط المستقيم. قيل: قال هذا (¬1) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به، كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري. وقيل: المراد هنا: عصيانه فيما دون الشرك. وقيل: إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك. فصل واعلم: أنه قد توجه على هذه الآية إشكالات، وهي من وجوه (¬2): الأول: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمنة، ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم قد أغاروا عليها، وأخافوا أهلها. الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون من عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك، فما الفائدة في قوله: اجنبني عن عبادتها؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضًا أن يُجنب بنيه عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام. وقد يجاب عنها بوجوه كثيرة، فالجواب عن الوجه الأول من وجهين: أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام لما فرع من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى، ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". أخرجاه في "الصحيحين". وأجيب عنه بأن قوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}، يعني: إلى قرب القيامة وخراب الدنيا. وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين. الوجه الثاني: أن يكون المراد: اجعل أهل هذا البلد آمنين، وعلى هذا الوجه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة .. أمن على نفسه وماله من ذلك، وحتى أن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت، فإذا دخلت الحرم .. أمنت واستأنست لعلمها أنه لا يهيجها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها. وأما الجواب عن الوجه الثاني فمن وجوه أيضًا: الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة، والتثبيت، فهو كقوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}. والوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء هضمًا للنفس، وإظهارًا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدًا لا يقدر على نفع نفسه

[37]

بشيء لم ينفعه الله به، فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء. وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات، فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد منهم أحد صنمًا قط. الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم. الوجه الثالث: قال الواحدي دعا لمن أذن الله أن يدعو له، فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من بنيه من عبد الصنم، فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص. الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال في آخر هذه الآية: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه، فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه اهـ من "الخازن". 37 - ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} كرر النداء (¬1) رغبة في الإجابة وإظهارًا للتذلل والالتجاء إلى الله تعالى، وأتى بضمير جماعة المتكلمين؛ لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه في قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} و {مِنْ ذُرِّيَّتِي} قال الفراء (¬2): {مِنَ} للتبعيض؛ أي: بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن سيولد له، فإن إسكانه متضمن إسكانهم. وقال ابن الأنباري: أنها زائدة؛ أي: أسكنت ذريتي. والأول أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل، وهو بعض ولده. {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}؛ أي: بواد ليس فيه زرع وهو وادي مكة؛ لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد، فإنها حجرية لا يوجد فيها زرع ولا ماء. وفي "بحر العلوم": وأما في زماننا فقد رزق الله أهله ماء جاريًا، وإنما لم يقل غير ذي ماء؛ لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وعلم بالوحي أنه سيكون فيها ماء كثير، والله أعلم. وقوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ظرف لـ {أَسْكَنْتُ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

والإضافة فيه للتشريف؛ أي: الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره؛ لأنه عظيم الحرمة حرم الله التعرض له بسوء يوم خلق السماوات والأرض، وحرم فيه القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام. وقيل غير ذلك. فإن قلت (¬1): كيف قال عند بيتك المحرم، ولم يكن هناك بيت حينئذٍ، وإنما بناه إبراهيم بعد ذلك؟ .. قلت: يحتمل أن الله عَزَّ وَجَلَّ أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتًا قد كان في سالف الزمان، وأنه سيعمر، فلذلك قال: عند بيتك المحرم. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: عند بيتك الذي كان، ثم رفع عند الطوفان. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان. والمعنى: أي يا رب إني أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع، وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلت ما حوله حرمًا لمكانه. {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} كرر النداء (¬2) لإظهار كمال العناية بما بعده، واللام فيه لام كي متعلقة بـ {أَسْكَنْتُ}؛ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم متوجهين إليه متبركين به بدلالة قوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} على أنه لا غرض له دنيوي في إسكانهم عند البيت المحرم، وتخصيص الصلاة بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها، ولأن بيت الله لا يسعه إلا الصلاة وما في معناها وهي الأصل في إصلاح النفس، وكان قريش يمتنعون عن ذلك لزيادة كبرهم. {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ}؛ أي: قلوب بعض الناس {تَهْوِي إِلَيْهِمْ}؛ أي: تسرع إلى ذريتي بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، وتحن إليهم لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وتطير نحوهم محبة، و {مِنَ} في قوله: {مِنَ النَّاسِ} للتبعيض. وقيل: زائدة، ولا (¬3) يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

إليهم، لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مرادًا .. لقال: تهوي إليه، والأفئدة: جمع فؤاد؛ وهو القلب عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه. قال مجاهد: لو قال إبراهيم عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال ابن جبير: لَحجَّتهُ اليهود والنصارى. وقرأ هشام في المتواتر بخلف عنه (¬1): {أفئيدة} بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر .. حمل بعض العلماء هذه القراءة على أن هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا عن الهمزة، وقرىء: {آفدة} على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل من أفد؛ أي: دنا وقرب، وأن يكون جمع فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا. وقرىء: {أفدَةَ} على وزن فعلة، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد. وقراءة أم الهشيم: {أفودة} بالواو المكسورة بدل الهمزة. وقرأ زيد بن علي: {إفادة} على وزن إشارة، وما عدا قراءة الجمهور وهشام شاذ. وقرأ الجمهور (¬2): {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} - بكسر الواو من باب ضرب -؛ أي: تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقًا. وقرأ مسلمة بن عبد الله شاذ: {تهوي} بضم التاء مبنيًّا للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازم. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومجاهد شذوذًا أيضًا: {تهوي} - بفتح الواو مضارع هوى من باب فرح - بمعنى أحب وإلى زائدة، فيكون بمعنى، تحبهم. {وَارْزُقْهُمْ}؛ أي: ذريتي الذين أسكنتهم هناك، أو هم ومن يساكنهم من الناس، وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين كما في قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[38]

آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} اكتفاء بذكر إقامة الصلاة {مِنْ} أنواع الثمرات كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزروع، فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار. وقيل: يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة، فهو كقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} وقد حصل (¬1) كلاهما حتى أنه يجتمع في مكة الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. روى عن ابن عباس أن الطائف وهي على ثلاث مراحل، من مكة كانت من أرض فلسطين، فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة .. رفعها الله ووضعها رزقًا للحرم. والمعنى: أي وارزق ذريتي الذين أسكنتهم في مكة من أنواع الثمار بأن تجبي إليهم ذلك من شاسع الأقطار، وقد استجاب الله ذلك كما قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا}. {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نعمك التي أنعمت بها عليهم؛ أي: رجاء أن يشكروا تلك النعم بإقامة الصلاة، وأداء واجبات العبودية. وفي هذا (¬2) إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، وفي دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة، وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة، ومن ثم من الله عليه بالقبول وإعطاء المسؤول، وقد أجاب دعائه، فألهم الناس الحج في آلاف السنين، وإلى ما شاء الله تعالى، لا في مدى حياته فحسب، ولا بدع في ذلك، فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعًا. 38 - والنداء المكرر في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}؛ أي: أنت تعلم ما تخفي وتسر قلوبنا حين سؤالك ما نسأل، وما نعلن ونظر من دعائنا فنجهر به (¬3)، دليل التضرع واللجوء إلى الله تعالى، وقدم ما نخفي على ما نعلن؛ للدلالة على أنهما مستويان في علمه سبحانه. والمراد: ربنا إنك تعلم السر كما تعلم العلن، علمًا لا تفاوت فيه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) النسفي.

[39]

والمعنى (¬1): إنك تعلم أحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا، وأنت أرحم بنا منا، فلا حاجة بنا إلى الدعاء والطلب إنما ندعوك إظهارًا للعبودية لك، وتخشعًا لعظمتك، وتذلّلًا لعزتك، وافتقارًا إلى ما عندك. وقيل: معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع، وما نعلن يعني: من البكاء. وقيل: {مَا نُخْفِي} يعني: من الحزن المتمكن في القلب: {وَمَا نُعْلِنُ} يعني: ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله، قالت: إذًا لا يضيعنا. {وَمَا يَخْفَى} دائمًا (¬2)؛ إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى {عَلَى اللَّهِ} علام الغيوب سبحانه وتعالى {مِنْ} للاستغراق {شَيْءٍ} ما {فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}؛ لأنه العالم بعلم ذاتي تستوي نسبته إلى كل معلوم لا عارض ولا كسبي، ليختص بمعلوم دون معلوم كعلم البشر والملك، تلخيصه لا يخفي عليك شيء ما في أي مكان، فافعل بنا ما هو مصلحتنا، فالظرف متعلق بـ {يَخْفَى}، أو شيء ما كائن فيهما على أنه صفة لـ {شَيْءٍ}، وهذا على القول بأنه من كلام إبراهيم عليه السلام، قاله تحقيقًا لقوله الأول وتعميمًا بعد التخصيص، وقيل: هو من كلام الله تعالى قاله تصديقًا لإبراهيم عليه السلام، وهو اعتراض بين كلامي إبراهيم، فالوقف على {نُعْلِنُ} حسن كالوقف على {فِي السَّمَاءِ}، والمعنى عليه: وما يخفى على الله شيء من الأشياء الموجودة كائنًا ما كان، وإنما ذكر السماوات والأرض؛ لأنها المشاهدة للعباد، إلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية. 39 - ثم حمد الله تعالى على بعض نعمه الواصلة إليه، فقال: {الْحَمْدُ} والشكر {لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ}؛ أي: مع كبر سني. فـ {عَلَى} هنا (¬3) بمعنى مع، وهو في موقع الحال؛ أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظامًا للنعمة وإظهارًا لشكرها؛ لأن زمان الكبر زمان العقم {إِسْمَاعِيلَ} ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

سمي إسماعيل؛ لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولدًا، ويقول: إسمع يا إيل، وإيل هو الله، فلما رزق به سماه به كما في "معالم التنزيل". وقال في "إنسان العيون": معناه بالعبرانية: مطيع الله روي أنه ولد له إسماعيل، وهو ابن تسع وتسعين سنة. {وَإِسْحَاقَ} اسمه بالعبرانية: الضحاك كما في "إنسان العيون" روي أنه ولد له إسحاق، وهو ابن مئة وثنتي عشرة سنة، وإسماعيل يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة. {إِنَّ رَبِّي} ومالك أمري {لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}؛ أي: لمجيب الدعاء من قولهم سمع الملك كلامه إذا اعتد به وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول. والمعنى: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك. وفيه بأنه دعاه ربه وسأل منه الولد، ما قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه، ليكون من أجل النعم وأجلاها، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ ...} إلخ. والظاهر (¬1): أن هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام لم تقع منه في زمان واحد، وإنما حكى الله عنه ما وقع منه في أزمان مختلفة، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجودًا حالة دعائه؛ إذ ترك هاجر والطفل بمكة، فالظاهر أن حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق. فإن قلت: كيف (¬2) جمع بين إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في وقت واحد، وإنما بشر بإسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عندما بشر بإسحاق، وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه؛ لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} إذا ثبت هذا، فيكون قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} في وقت آخر. والله أعلم بحقيقة الحال. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

[40]

40 - ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظًا عليها غير مهمل لشيء منها حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}؛ أي: معدلًا (¬1) لها بأركانها وشروطها وآدابها، من أقمت العود إذا قومته، أو مواظبًا عليها، من قامت السوق إذا نفقت؛ أي: راجت أو مؤديًّا لها محافظًا عليها في أوقاتها، والاستمرار يستفاد من العدول من الفعل إلى الاسم حيث لم يقل: اجعلني أقيم الصلاة. {وَ} اجعل {مِنْ ذُرِّيَّتِي} من يقيم الصلاة، وإنما أدخل لفظة {مِنْ} التي هي للتبعيض في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}؛ لأنه علم بإعلام الله تعالى إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة، فلهذا قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وأراد بهم المؤمنين من ذريته. والمعنى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}؛ أي (¬2): رب اجعلني مؤديًّا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها علي، واجعل أيضًا بعض ذريتي مقيمي الصلاة، وقد خصّ الصلاة من بين فرائض الدين؛ لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى في تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم، ويدخل في ذلك دعاءه في هذا المقام دخولًا أوليًّا حيث قال: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا، فاسمع ندائي {وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}؛ أي (¬3): واستجب دعائي هذا المتعلق باجعلني، واجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنام، ولذلك جيء بضمير الجماعة في قوله: {رَبَّنَا}. وقرأ (¬4) ورش وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر: {وتقبل دعائي} بياء في الوصل. والبزي ويعقوب وصلًا ووقفًا، ويقف عليها بالهمزة الباقون. {دُعَاءِ} بغير ياء في الحالين. قال أبو علي: الوقف والوصل بياء هو القياس، والإشمام جائز لدلالة الكسرة على الياء. 41 - ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه مما يستحق أن يغفره الله، وإن لم يكن كبيرًا؛ لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر، فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي}؛ أي: ما فرط مني من ترك الأولى في باب الدين وغير ذلك مما لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) زاد المسير.

يسلم منه البشر. ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه حيث قال: {وَلِوَالِدَيَّ}؛ أي: واغفر لوالدين لي ذنوبهما واهدهما إلى صراطك المستقيم. وقد قيل (¬1): إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه، كما في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. وقيل: كانت أمه مسلمة. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. ثم استغفر للمؤمنين حيث قال: {و} اغفر {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمنات كلهم، وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذريته أو لم يكن منهم. وقيل: أراد المؤمنين من ذريته فقط، واكتفى بذكر (¬2) مغفرة المؤمنين دون مغفرة المؤمنات؛ لأنهن تبع لهم في الأحكام، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة، جيء بضمير الجماعة في قوله: {رَبَّنَا} وفي الحديث: "من عمم بدعائه المؤمنين والمؤمنات استجيب له". فمن السنة أن لا يخص نفسه بالدعاء قال في "الأسرار المحمدية": اعلم أنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء بأن يذكر على صيغة الإفراد، لا على صيغة الجمع. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤم عبد قومًا، فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم"، رواه ثوبان. بل الأولى أيضًا إن كان منفردًا أن يأتي بصيغة الجمع، فينوي نفسه وآباءه وأمهاته وأولاده وإخوانه وأصدقاءه المؤمنين الصالحين، فيعممهم بالدعاء، وينالهم بركة دعائه. {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}؛ أي: يوم (¬3) يبدو ويظهر فيه محاسبة أعمال المكلفين. وقيل: يوم يقوم الناس فيه للمحاسبة والمجازاة على أعمالهم، فاكتفى بذلك؛ أي: بذكر الحساب عن ذكر الناس، لكونه مفهومًا عند السامع، والأول أولى وهذا دعاء المؤمنين بالمغفرة، والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. والمعنى (¬4): أي ربنا اغفر لي ما فرط مني من الذنوب ولأبوي. وقد روي عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة، واستغفاره لأبيه عن موعدة وعدها إياه، فلما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ} .. الآية. وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك في أمرك ونهيك يوم تحاسب عبادك، فتجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقرأ (¬1) ابن مسعود والنخعي والزهري وابن يعمر: {وَلِوَالِدَيَّ} - بغير ألف وبفتح اللام - يعني: إسماعيل وإسحاق يدل عليه ذكرهما قبل ذلك، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة، وقال: إن في مصحف أبي بن كعب {ولأبوي}. وقرأ عاصم الجحدري: {ولوُلْدي} - بضم الواو وسكون اللام - فاحتمل أن يكون جمع ولد، كأُسد في أسد، ويكون قد دعا لذريته، وأن يكون لغة في الولد، كما قالوا: العَدَم والعُدْم. وقرأ مجاهد وابن جبير: {ولوالدي} - بإسكان الياء - على إرادة الأب وحده، كقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي}. وقرأ يحيى بن يعمر والجوني: {ولولدَي} بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد، وما عدا قراءة الجمهور شاذ وليس بمتواتر. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}. {أَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام التعجبي. {لم}: حرف جزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وهو من رؤية البصر، عداه بـ {إِلَى} تضمينًا له بمعنى النظر، وفاعله ضمير يعود على محمد. {إِلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول؛ أي: هل رأيت عجبًا مثل هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرًا. {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول. {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {بَدَّلُوا}. {دَارَ الْبَوَارِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَحَلُّوا}. {جَهَنَّمَ}: عطف بيان من {دَارَ الْبَوَارِ}. {يَصْلَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب ¬

_ (¬1) زاد المسير والبحر المحيط.

حال من {قَوْمَهُمْ}، أو من {جَهَنَّمَ}، أو من الـ {دَارَ}. {وَبِئْسَ الْقَرَارُ}: فعل وفاعل، وهو لإنشاء الذم، والمخصوص محذوف وجوبًا تقديره: هي؛ أي: {جَهَنَّمَ}، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}. {وَجَعَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {بَدَّلُوا} فهو من جملة الصلة المتعجب منها. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْدَادًا}. {أَنْدَادًا}: مفعول ثان لجعل، والأول محذوف تقديره: وجعلوا الأصنام أندادًا لله. {لِيُضِلُّوا}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يضلوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. {عَنْ سَبِيلِهِ}: متعلق بـ {يضلوا}، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلُوا}، والتقدير: وجعلوا لله أندادًا لإضلالهم الناس عن سبيله. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {تَمَتَّعُوا ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {تَمَتَّعُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول. {فَإِنَّ}: (الفاء): تعليلية؛ لتعليلها القلة المفهومة من {تَمَتَّعُوا}، {إن}: حرف نصب. {مَصِيرَكُمْ}: اسمها. {إِلَى النَّارِ}: خبرها، وجملة {إن}: في محل النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِعِبَادِيَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قُلْ}. {الَّذِينَ}: صفة {لِعِبَادِيَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم في جواب الطلب لفعل محذوف واقع مفعولًا لـ {قُلْ} تقديره: قل لعبادي أقيموا الصلاة .. يقيموا؛ أي: إن قلت لهم: أقيموا الصلاة .. يقيموا. {وَيُنْفِقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يُقِيمُوا}، وفي "الفتوحات" قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ ...} إلخ. مفعول {قُلْ}

محذوف يدل عليه جوابه؛ أي: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا، وقوله: {يُقِيمُوا} {وَيُنْفِقُوا} مجزومان في جواب الأمر؛ أي: إن قلت لهم: أقيموا الصلاة وأنفقوا .. الخ: يقيموا وينفقوا. اهـ. شيخنا. وفي "البيضاوي": ويجوز أن يقدرا بلام الأمر؛ ليصح تعلق القول بهما. اهـ؛ أي: ليقيموا الصلاة ولينفقوا. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُوا}. {رَزَقْنَاهُم}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما رزقناهم إياه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إياه. {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}: منصوبان على المفعولية المطلقة؛ أي: إنفاق سر وعلانية، أو على الحالية من فاعل {يُنْفِقُوا}؛ أي: مسرين ومعلنين، أو على الظرفية؛ أي: وقتي سر وعلانية. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُوا}. {أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بالإضافة، والتقدير: وينفقوا من قبل إتيان يوم. {لَا}: نافية تعمل عمل ليس. {بَيْعٌ}: اسمها مرفوع. {فِيهِ}: جار ومجرور خبر لا؛ أي: لا بيع موجودًا فيه. {وَلَا خِلَالٌ} معطوف على {بَيْعٌ}، وجملة {لَا}: في محل الرفع صفة لـ {يَوْمٌ}. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}. {اللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: فعل ومفعول ومعطوف، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة الموصول. {وَأَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {مَاءً}: مفعول به لـ {أَنْزَلَ}. {فَأَخْرَجَ}: (الفاء): عاطفة. {أخرج}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. والجملة معطوفة على {أنزل}. {بِهِ}: متعلق بـ {أخرج}. {مِنَ الثَّمَرَاتِ}: جار ومجرور حال من {رِزْقًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {رِزْقًا}: مفعولُ {أَخْرَج}. {لَكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {رِزْقًا}.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}. {وَسَخَّرَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَ}. {لَكُمْ}: متعلق بـ {سَخَّرَ}. {الْفُلْكَ}: مفعول {سَخَّرَ}. {لِتَجْرِيَ}: (اللام): لام كي، {تجري}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على {الْفُلْكَ}. {فِي الْبَحْرِ}: متعلق بـ {تجري}. {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تجري}؛ أي: حالة كونها متلبسة بأمره، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لجريانها في البحر بأمره، الجار والمجرور متعلق بـ {سخر}. {وَسَخَّرَ}: فعل ماض معطوف على {خَلَقَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {لَكُمْ}: متعلق به. {الْأَنْهَارَ}: مفعول به. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)}. {وَسَخَّرَ}: فعل ماض معطوف على {خَلَقَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {لَكُمْ}: متعلق به. {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: مفعولان لـ {سخر}. {دَائِبَيْنِ}: حال من {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}. {وَسَخَّرَ}: فعل ماض معطوف على {خَلَقَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {لَكُمُ}: متعلق به. {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}: مفعولان لـ {سخر}. {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}. {وَآتَاكُمْ}: فعل ومفعول أول معطوف على {خَلَقَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {مِنَ}: حرف جر وتبعيض، أو زائد في المفعول الثاني. {كُلِّ}: مجرور بـ {مِنْ}، الجار والمجرور متعلق بـ {آتَاكُمْ}، والمفعول الثاني محذوف تقديره: وآتاكم شيئًا من كل ما سألتموه. {كُلِّ}: مضاف. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه، ويجوز أن تكون {مَا}: مصدرية {سَأَلْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والضمير فيه عائد إلى الله تعالى، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره ما

سألتموه تعالى إياه، والمصدر المؤول من الفعل على كون {ما} مصدرية هو المفعول الثاني لـ {آتاكم} تقديره: وآتاكم مسؤولكم. {وَإِنْ تَعُدُّوا}: جازم وفعل وفاعل. {نِعْمَتَ اللَّهِ}: مفعول به. {لَا تُحْصُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول جواب الشرط، وجملة الشرط مستأنفة. {إِنَّ الْإِنْسَانَ}: ناصب واسمه. {لَظَلُومٌ}: (اللام): حرف ابتداء، {ظلوم}: خبر {إِنَّ}. {كَفَّارٌ}: صفته، أو خبر ثان، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}. {وَإِذْ}: (الواو): استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد إذ قال؛ أي: قصة إذ قال إبراهيم. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} إلى قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف حذف حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اجعَل هَذَا}: فعل دعاء، ومفعول أول. {الْبَلَدَ}: بدل من إسم الإشارة، أو عطف بيان منه، وفاعله ضمير يعود على الله. {آمِنًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب للنداء. {وَاجْنُبْنِي}: فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله. {وَبَنِيَّ}: معطوف على ياء المتكلم، والجملة معطوفة على جملة {اجْعَلْ}. {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم وذريته، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: من عبادتنا الأصنام، الجار والمجرور متعلق بـ {اجْنُبْنِي}. {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُنَّ}: ناصب واسمه. {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنَ النَّاسِ}: صفة لـ {كَثِيرًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. ({فمَنَ}: (الفاء): تفصيلية.

{من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {تَبِعَنِي}: فعل ومفعول ونون وقاية في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {فَإِنَّهُ}: (الفاء): رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {إنه}: ناصب واسمه. {مِنِّي}: جار ومجرور خبره، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من}: الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَنْ}: (الواو): عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب. {عَصَانِي}: فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها فعل شرط لـ {من}، {فَإِنَّكَ}: (الفاء): رابطة لجواب {من}. {إنك}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ}: خبر أول له. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، أو صفة لـ {غَفُورٌ}، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط محذوف تقديره: رحيم له، وجملة {من}: الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {من} الأولى. {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أَسْكَنْتُ}: فعل وفاعل. {مِنْ ذُرِّيَّتِي}: جار ومجرور متعلق به، و {مِنْ} تبعيضية، والمفعول محذوف، والتقدير: ذرية بعض ذريتي، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {بِوَادٍ}: متعلق بـ {أَسْكَنْتُ}. {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}: صفة ومضاف إليه. {عِنْدَ بَيْتِكَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَسْكَنْتُ}. {الْمُحَرَّمِ}: صفة للبيت. {رَبَّنَا}: منادى مضاف مؤكد للنداء الأول. {لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإقامتهم الصلاة، الجار والمجرور متعلق بـ {أَسْكَنْتُ}. {فَاجْعَلْ}: (الفاء): عاطفة تفريعية. {اجعل}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. {أَفْئِدَةً}: مفعول أول لجعل. {مِنَ النَّاسِ}: صفة

لـ {أَفْئِدَةً}. {تَهْوِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {أَفْئِدَةً}. {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تَهْوِي}: وجملة {تَهْوِي} في محل النصب مفعول ثان لـ {اجعل}، وجملة {اجعل}: في محل النصب معطوفة على جملة {إن} في قوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ} على كونها مقول {قَالَ} مع كونها جواب النداء. {وَارْزُقْهُمْ}: فعل ومفعول. {مِنَ الثَّمَرَاتِ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اجعل}. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَشْكُرُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {تَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {مَا}: في محل النصب مفعول {تَعْلَمُ}؛ لأنه بمعنى عرف. {نُخْفِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إبراهيم} وسائر العباد، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما نخفيه. {وَمَا نُعْلِنُ}: معطوف على {مَا نُخْفِي}، {وَمَا}: (الواو): اعتراضية، أو عاطفة. {مَا}: نافية. {يَخْفَى}: فعل مضارع. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به. {مِنْ شَيْءٍ}: فاعل {يَخْفَى}، و {مِنْ}: زائدة. {فِي الْأَرْضِ}: صفة لـ {شَيْءٍ}، أو متعلق بـ {يَخْفَى}. {وَلَا فِي السَّمَاءِ}: معطوف على {فِي الْأَرْضِ}، والجملة الفعلية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب إن قلنا: إنها من كلام الله؛ لاعتراضها بين كلامي إبراهيم، أو في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَ} إن قلنا: إنها من كلام إبراهيم. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}.

{الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر صفة للجلالة. {وَهَبَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة الموصول. {لِيَ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَهَبَ}. {عَلَى اَلكِبَرِ}: جار ومجرور حال من ياء المتكلم، و {عَلَى} بمعنى: مع، التقدير: وهب لي حالة كوني مصاحبًا بالكبر. {إِسْمَاعِيلَ}: مفعول {وَهَبَ}. {وَإِسْحَاقَ}: معطوف عليه. {إِنَّ رَبِّي}: ناصب واسمه. {لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}: خبره ومضاف إليه، واللام: حرف ابتداء، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}. {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}: فعل ومفعولان ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}: جار ومجرور صفة لمحذوف معطوف على المفعول الأول لجعل، والتقدير: رب اجعلني وبعضًا من ذريتي مقيم الصلاة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَتَقَبَّلْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. {دُعَاءِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر تقديره: ربنا فاسمع ندائي وتقبل دعائي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اغْفِرْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {لِيَ}: متعلق بـ {اغْفِرْ}. {وَلِوَالِدَيَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على {لِيَ}. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ}: معطوف عليه أيضًا. {يَومَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {اغْفِرْ}. {يَقُومُ الْحِسَابُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}.

التصريف ومفردات اللغة {دَارَ الْبَوَارِ}؛ أي: الهلاك، يقال: رجل بسائر وقوم بور، كما قال: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} ومنه قول الشاعر: فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ أَبْطَالَ حَرْبٍ ... غَدَاةَ الْحَرْبِ إِذْ خِيْفَ الْبَوَارُ وفي "المصباح": بار الشيء يبور بورًا - بالضم - هلك، وبار الشيء بوارًا إذا كسد. {يَصْلَوْنَهَا}؛ أي: يقاسون حرها، يقال: صلى النار صليًّا قاسى حرها كتصلاها، والمرادَ بيصلونها: الدخول مع المقاساة لشدة حرها، وإلا فمطلق الدخول قد استفيد من قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ}. وفي "المصباح": صلى الله بالنار، وصليها، صلى - من باب تعب -: وجد حرها، والصِّلاء - وزان كتاب -: حر النار، وصليت اللحم أصليه - من باب رمى - إذا شويته. اهـ. {أَنْدَادًا} والأنداد: الشركاء جمع ند، وهو المثل الشبيه. {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ}؛ أي: مرجعكم ومردكم، والمصير: مصدر (¬1) صار التامة بمعنى: رجع. {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} اسما مصدر لأسر وأعلن الرباعيين. {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ}؛ أي: فدية. {وَلَا خِلَالٌ} الخلال: المخالة والصداقة، وفي "القرطبي" الخلال (¬2): جمع خلة كقلة وقلال. قال الشاعر: فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الْخِلاَلِ وَلاَ قَالِي {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} السماء: السحاب، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء، مشتق من السمو؛ وهو الارتفاع، وسمي السحاب سماء لارتفاعه. {مِنَ الثَّمَرَاتِ}: جمع ثمر، والثمر: اسم يقع على ما يحصل من الشجر، وقد يقع على الزرع أيضًا بدليل قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

{رِزْقًا} والرزق: كل ما ينتفع به مأكولًا كان أو مشروبًا أو غيرهما. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} التسخير: التيسير والإعداد، والفلك: السفن. {دَائِبَيْنِ}: الدأب: العادة المستمرة دائمًا على حالة واحدة، ودأب في السير إذا داوم عليه، ودأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة، كما قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}. وفي "المختار": دأب في عمله جد وتعب، وبابه قطع وخضع فهو دائب بالألف لا غير، والدائبان: الليل والنهار، والدأب - بسكون الهمزة - العادة والشأن وقد يحرك. اهـ. وفي "القاموس": دأب في عمله - كمنع - دأبًا، ويحرك ودؤوبًا بالضم جد وتعب. اهـ. {وَآتَاكُمْ}: أعطاكم. {لَا تُحْصُوهَا}: لا تطيقوا إحصاءها وحصرها من أحصى الرباعي، والإحصاء: العد بالحصى، وكان العرب يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع. {ظَلُومٌ}؛ أي: كثير الظلم لنفسه بإغفال شكر النعمة. {كَفَّارٌ}؛ أي: شديد الكفران والجحود لها. {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} يقال: جنبته كنصرته وأجنبته وجنبته؛ أي: أبعدته، والمعنى: بعدني وإياهم. وفي "الفتوحات" يقال (¬1): جنبه شرًّا وأجنبه إياه ثلاثيًّا ورباعيًّا: وهي لغة نجد، وجنَّبه إياه مشددًا: وهي لغة الحجاز وهو المنع، وأصله من الجانب، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل في البعد مطلقًا. وقال الراغب: وقوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} من جنبته عن كذا؛ أي: أبعدته منه. وقيل: من جنبت الفرس كأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بإلطاف منه وأسباب خفية، وأن نعبد على حذف حرف الجر؛ أي: عن أن نعبد. اهـ. "سمين". وفي "القاموس": والجنب: محركة أن يجنب فرسًا إلى فرسه في السباق، فإذا فاز المركوب تحول إلى المجنوب. اهـ. وفي "المصباح": وجنبت الرجل الشر جنوبًا - من باب قعد - أبعدته عنه، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وجنبته بالتثقيل مبالغة. اهـ. وفي "المختار": وجنبه الشيء - من باب نصر - وجنبه الشيء تجنيبًا بمعنى؛ أي: نحاه عنه، ومنه قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} اهـ. {وَبَنِيَّ} أصله: وبنين لي، حذفت النون للإضافة واللام للتخفيف، فأدغمت يا علامة الإعراب في ياء المتكلم. {بِوَادٍ}؛ أي: في وادٍ، والوادي: المنخفض بين الجبلين. {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}؛ أي: لا يصلح للإنبات؛ لأنه أرض حجرية لا تنبت شيئًا. {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} الأفئدة (¬1): جمع فؤاد، وهو القلب عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه، وقيل: هو جمع وفد، والأصل: أوفدة فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: واجعل وفودًا من الناس تهوي إليهم. {تَهْوِي إِلَيْهِمْ}؛ أي: تسرع شوقًا وحبًّا إليهم. قال الأصمعي: يقال (¬2): هوى يهوي - من باب رمى - هويًا إذا سقط من عُلوٍ إلى سُفلٍ. وقال الفراء: تهوي إليهم تريدهم، كما تقول: رأيت فلانًا يهوي نحوك، معناه يريدك. وقال أيضًا: تهوي: تسرع إليهم. وقال ابن الأنباري: معناه: تنحط إليهم وتنحدر وتنزل، هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف. وأما أقوال المفسرين فيه، فقد تقدمت في مبحث التفسير. {لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}؛ أي: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك، وإضافة (¬3) السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله: لسميعٌ الدعاء، وقد ذكر سيبويه فعيلًا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا رحيم أباه. وفي "البيضاوي": وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله، أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز، وهذا الأخير بعيدٌ جدًّا. قال أبو حيان: والظاهر (¬4) إضافة سميع إلى المفعول، وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي. (¬4) البحر المحيط.

ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه. وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه، وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول وفعال ومفعال وفعل، وهذا مذكور في علم النحو، ويمكن أن يقال في هذا: ليس ذلك إضافة من نصب، فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو: هذا ضارب زيد أمس. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} فإنه تعجيب (¬1) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل التي لا تكاد تصدر عمن له أدنى إدراك. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {نِعْمَتَ اللَّهِ}؛ أي: شكر نعمة الله. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} لما فيه من الإسناد إلى السبب؛ لأنه أسند (¬2) الإحلال وهو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}؛ لأنه ليس الإضلال غرضًا حقيقيًّا لهم من اتخاذ الأنداد، ولكن لما كان نتيجة له كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمني نتيجة المجيء، شبه بالغرض وأدخل اللام عليه بطريق الاستعارة التبعية، ونسب الإضلال الذي هو فعل الله تعالى إليهم؛ لأنهم سبب الضلالة حيث يأمرون بها ويدعون إليها. ومنها: التهديد والوعيد لأولئك الضالين المضلين في قوله: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان.

ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرف عباده بهذه الياء، وهي خير لهم من الدنيا وما فيها؛ لأن فيها إضافة إلى نفسه، والإضافة تدل على العتق. ومنها: الطباق في قوله: {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}. ومنها: التكرار في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ} في أربعة مواضع. ومنها: الاستغراق المفاد من قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ}؛ لأن المفرد المضاف يفيد الاستغراق. ومنها: المبالغة في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}؛ لأن فعول وفعال من صيغ المبالغة. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}؛ أي: آمنًا أهله؛ لأن إسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه، وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد. ومنها: جمع الأصنام في قوله: {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} ليشتمل على كل صنم عبد من دون الله؛ لأن الجمع المعرف باللام يشمل كل واحد من الأفراد كالمفرد باتفاق جمهور أئمة التفسير والأصول والنحو. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا} لأن (¬1) نسبة الإضلال إليها مجاز من باب نسبة الشيء إلى سببه. اهـ. "كرخي"؛ أي: فهذا مجاز؛ لأن الأصنام جمادات وحجارة لا تعقل شيئًا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الضلال بعبادتها أضيف إليها، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم، وإنما فتنوا وغروا بسببها. اهـ. "خازن". ومنها: الطباق في قوله: {تَبِعَنِي} و {عَصَانِي}. وفي {نُخْفِي} و {نُعْلِنُ}. وفي {الْأَرْضِ} و {السَّمَاءِ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ومنها: التكرار في قوله: {رَبَّنَا} وفي قوله: {رَبِّ} لتأكيد الكلام. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}. قال (¬1) الشريف الرضي: وهذه من محاسن الاستعارة، وحقيقة الهوي: النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط، والراد: تسرع إليهم شوقًا، وتطير إليهم حبًّا، ولو قال: تحنّ إليهم. لم يكن فيه من الفائدة ما في التعبير بـ {تَهْوِي إِلَيْهِمْ}؛ لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}؛ أي: يوم (¬2) يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ {يَقُومُ} الذي هو حقيقة في قيام الرجل، للدلالة على أنه في غاية الاستقامة، كما يقال: قامت الحرب على ساق. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} إن قلنا: إنه من كلام الله معترض بين كلامي إبراهيم؛ لأن حق العبارة حينئذٍ أن يقال: وما يخفى علي من شيء. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تلخيص البيان. (¬2) الشوكاني.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن جزاء من بدلوا نعمة الله كفرًا، وجعلوا له الأنداد جهنم يصلونها وبئس المهاد، وطلب إلى عباده المؤمنين مجاهدة النفس والهوى وإقامة فرائض الدين .. ذكر هنا تسلية لرسوله وتهديدًا للظالمين من أهل مكة أن تأخيرهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية ليس بإهمال للعقوبة، ولا لغفلة عن حالهم، وإنما كان لحكمة اقتضت ذلك، وهم مرصدون ليوم شديد الهول له من الأوصاف ما بين بعد، وعليك أيها الرسول أن تنذر الناس بقرب حلوله، وأنهم في ذلك اليوم سيطلبون المرد إلى الدنيا ليجيبوا دعوة الداعي، وهيهات هيهات. صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ ... ردَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى في الْحِلاَبِ وقد كان لكم معتبر في تلك المساكن التي تسكنونها، فإنها كانت لقوم أمثالكم كفروا بأنعم الله، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا إن وعد الله لرسله لا

[42]

يخلف وهو ناصرهم وخاذل أعدائه، كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا}، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ومحاسبهم في يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، يوم يخرجون من قبورهم للحساب أمام الواحد القهار، وترى حال المجرمين يجل عن الوصف، وهذا الذي قصصته عليكم تبليغ وإنذار؛ ليتذكر به ذوو العقول الراجحة، وليعلموا أن الله واحد لا شريك له. التفسير وأوجه القراءة 42 - {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ}؛ أي: ولا تظنن الله سبحانه وتعالى يا محمد أو أيها المخاطب {غَافِلًا}؛ أي: ساهيًا {عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} من ظلمهم، فلا ينتقم منهم، والظالمون أهل مكة وغيرهم من كل أهل شرك وظلم، وهو خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: دم على ما كنت عليه من عدم حسبانه تعالى غافلًا عن أعمالهم، ولا تحزن بتأخير ما يستحقونه من العذاب الأليم. {تَحْسَبَنَّ} قرئ بفتح السين وكسرها قراءتان سبعيتان، وكذا يقال: في قوله الآتي: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}. اهـ. شيخنا. والغفلة (¬1): معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور. وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله محال، فلا بدّ من تأويل الآية، فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه، بل ينتقم ولا يتركه مغفلًا. قال سفيان بن عيينة: فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت: تعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غافلًا وهو أعلم الناس به أنه لم يكن غافلًا حتى قيل له: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}؟ قلتُ: إذا كان المخاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففيه وجهان: أحدهما: التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلًا، فهو ¬

_ (¬1) الخازن.

كقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وكقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}؛ أي: اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني: أن المراد بالنهي عن حسبانه غافلًا: الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه شيء، وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم. والمعنى: ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم، ولكن يعاملهم معالمة الرقيب الحفيظ عليهم، والمحاسب لهم على الصغير والكبير، والنقير والقطمير. وفي الآية وعند كظيم للظالمين وتسلية للمظلومين، وإن كان المخاطب غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا إشكال فيه ولا سؤال؛ لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله، فمن جوز أن يحسبه غافلًا فلجهله بصفاته. والخلاصة على الوجه الأول: ولا تحسبن الله يا محمد غافلًا عما يعمل الظالمون؛ أي (¬1): تاركًا عقوبة المشركين بما عملوا، والمراد تثبته - صلى الله عليه وسلم - على ما كان عليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحسب الله غافلًا، والمقصود: تنبيهه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم .. للزم عليه تعالى أحد الأمور الثلاثة: إما أن يكون غافلًا عن ذلك الظالم، أو عاجزًا عن الانتقام، أو راضيًا بذلك الظلم، وكل ذلك محال عليه تعالى، فامتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم. ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم، وفيه من الهول ما يحير اللب واللبيب، ويدهش العقل والعقيل، فقال: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ}؛ أي: إنما يمهلهم بلا عذاب الاستئصال، ويمتعهم بكثير من لذات الحياة، ولا يعجل عقوبتهم {لِيَوْمٍ}؛ أي: إلى يوم شديد الهول {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}؛ أي: ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف ولا تتحرك أجفانهم من الفزع والاضطراب والدهشة؛ أي: أعينهم مفتوحة لا تتحرك (¬2) أجفانهم من هول ما يرونه، يعني أن تأخيره للتشديد والتغليظ، لا للغفلة عن أعمالهم. ولا لإهمالهم، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[43]

ومعنى شخوص البصر حدّة النظر، وعدم استقراره في مكانه، واللام في قوله: {لِيَوْمٍ} تعليل للنهي؛ أي: لا يؤخر عذابهم إلا لأجل يوم هائل. وقيل: بمعنى إلى التي للغاية. وقرأ طلحة بن مصرف شذوذًا (¬1): {ولا تحسب} بغير نون التوكيد، وكذا: {فلا تحسب الله مخلف وعده رسله}. وقرأ عبد الرحمن السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم وعباس بن الفضل وهارون العتكي ويونس بن حبيب عن أبي عمرو شذوذًا أيضًا: {نؤخرهم} بنون العظمة، والجمهور بالياء؛ أي: إنما يؤخرهم الله سبحانه وتعالى، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ}، 43 - وقوله: {مُهْطِعِينَ} حال مقدرة من مفعول {يُؤَخِّرُهُمْ}؛ أي: يؤخرهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار حالة كونهم مهطعين في ذلك اليوم؛ أي: مسرعين إلى الداعي وإجابته ومقبلين عليه بالخوف والذل والخضوع، كإسراع الأسير والخائف والداعي للخلائق هو إسرافيل حيث يدعو إلى الحشر. وعبارة المحلي في سورة ق: {وَاسْتَمِعْ} يا مخاطب {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} وهو إسرافيل {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} من السماء، وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة: إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. اهـ. وحالة كونهم {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}؛ أي: رافعيها إلى السماء مع إدامة النظر إليها من غير التفات إلى شيء ولا ينظر أحد إلى أحد {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}؛ أي: لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا في كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف؛ أي: لا تضم من شد الفزع والخوف. وقال في "الكواشي": أصل الطرف تحريك الجفون في النظر، ثم سميت العين طرفًا مجازًا. والمعنى: أنهم لا يلتفتون ولا ينظرون مواقع أقدامهم لما بهم من الدهشة انتهى. {وَأَفْئِدَتُهُمْ}؛ أي: قلوبهم {هَوَاءٌ}؛ أي: صفر خالية من العقل والفهم؛ لفرط الحيرة والدهشة، كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل، والهواء (¬2): الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به، فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النسفي.

[44]

لا قوة في قلبه ولا جراءة. وقيل: جوف لا عقول لهم. ومعنى الآية (¬1): إن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئًا ولا تعقل من شدة الخوف. وفي "الكواشي": تلخيصه: الأبصار شاخصة، والرؤوس مقنعة، والقلوب فارغة زائلة لهول ذلك اليوم، ثبتنا الله وإياكم فيه، والآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعزية للمظلوم، وتهديد للظالم، وحصول هذه الصفات الخمسة عند المحاسبة. 44 - ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب، فقال: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ}؛ أي: خوف الناس جميعًا يا محمد {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}؛ أي: خوفهم من عذاب يوم يأتيهم العذاب؛ أي: خوفهم هذا اليوم، وهو يوم القيامة؛ لأنه يوم إتيان العذاب، وإنما (¬2) اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب؛ لأن المقام مقام تهديد. وقيل: المراد به يوم موتهم، فإنه أول أوقات إتيان العذاب حيث يعذبون بالسكرات. وقيل: المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، والأول أولى، وهذا الإنذار للكفرة أصالة، وللمؤمنين تبعية، وإن لم يكونوا معذبين، وانتصاب {يَوْمَ} على أنه مفعول ثان لـ {وَأَنْذِرِ}. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم بالشرك والتكذيب. قيل: المراد بـ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هنا هم الناس المذكورون؛ أي: فيقولون، والعدول من الإضمار إلى الإظهار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم، هذا إذا كان المراد بالناس هم الكفار، وعلى تقدير كون المراد بهم من يعم المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم؛ وهم الكفار. {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا ردنا إلى الدنيا و {أَخِّرْنَا}؛ أي: أمهلنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؛ أي: إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد. قال بعضهم: لعل في التركيب تضمينًا كما أشرنا إليه، والتقدير: ردنا إلى ذي أجل قريب؛ أي: قليل وهو الدنيا مؤخّرًا عذابنا، أو المعنى: أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك. وقوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ} جواب الأمر؛ أي: إن أخرتنا نجب دعوتك لعبادك على ألسنة رسلك إلى توحيدك وطاعتك. {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} المرسلين منك إلينا، فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال، وإنما جمع الرسل؛ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[45]

لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة، فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عندما قالوا هذه المقالة، فقال: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ}، فالهمزة فيه للاستفهام التقريري التوبيخي التبكيتي داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، ويكون ذلك المحذوف على ما عطف عليه مقولًا لقول محذوف، والتقدير: فيقال (¬1) لهم توبيخًا وتبكيتًا: ألم تؤخروا في الدنيا، ولم تكونوا أقسمتم من قبل؛ أي: من قبل هذا اليوم؛ أي: حلفتم إذ ذاك بألسنتكم تكبرًا وغرورًا {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}؛ أي: ما لكم انتقال من دار الدنيا وارتحال منها إلى دار أخرى للمجازاة إنكارًا للبعث والنشور، أو بألسنة حالكم حيث استغرقتم في الشهوات وأخلدتم إلى الحياة الدنيا، وأملتم بعيدًا ولم تحدثوا بأنفسكم بالانتقال عن هذه الحال، فكأنكم لا تموتون. وجواب القسم جملة قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وإنما (¬2) جاء بلفظ الخطاب في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} لمراعاة {أَقْسَمْتُمْ}، ولولا ذلك لقال: ما لنا من زوال. وقيل: قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}. 45 - وجملة قوله: {وَسَكَنْتُمْ ...} إلخ. معطوف على {أَقْسَمْتُمْ}؛ أي: أولم تكونوا أقسمتم وسكنتم؛ أي: استقررتم ونزلتم {فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ}؛ أي: منازل الذين {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالشرك والمعاصي، كعاد وثمود وغيرهما غير محدثين لأنفسكم بما لقوا من العذاب بسبب ما اكتسبوا من السيئات {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ}؛ أي: وظهر لكم بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد. وفاعل {تَبَيَّنَ} ما دلت عليه الجملة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

المذكورة بعده؛ أي: تبين لكم فعلنا العجيب بهم، وليست (¬1) جملة {كَيْفَ فَعَلْنَا} فاعلًا لـ {تَبَيَّنَ}؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، ولأن {كَيْفَ} لا يكون إلا ظرفًا أو خبرًا أو حالًا، بل فاعله ما دلت هي عليه دلالة واضحة؛ أي: وظهر لكم فعلنا العجيب بهم من الإهلاك والعقوبة جزاء على شركهم وفسادهم. {وَضَرَبْنَا لَكُمُ}؛ أي: وبينا لكم في القرآن العظيم {الْأَمْثَالَ}؛ أي: صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها، وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم، ومآلكم على مآلهم، وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى حلول العذاب الآجل، فترتدعوا عما كنتم عليه من الكفر والمعاصي يعني: أنكم سمعتم هذا كله في الدنيا، فلم تعتبروا، فلو رجعتم بعد هذا اليوم .. لا ينفعكم الموعظة أيضًا. والمعنى (¬2): وأقمتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم واطمأننتم فيها، وسرتم سيرة من قبلكم في الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم، ولم تعتبروا بأيام الله فيهم، وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم. الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل، فهيهات هيهات قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل في سم الخياط. وقرأ الجمهور (¬3): {وَتَبَيَّنَ} فعلًا ماضيًا، وفاعله ضمير يعود على ما يفهم من الجملة الاستفهامية المذكورة بعده؛ أي: وتبين لكم فعلنا العجيب. وقرأ السلمي شذوذًا: {ونُبَيِّنُ} بضم النون ورفع النون الأخيرة مضارع بين، ويكون على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ كذلك إلا أنه جزم النون عطفًا على {أوَلَمْ تَكُونُوا}؛ أي: ولم نبين فهو مشارك له في التقرير. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[46]

فائدة: واعلم أنه ينبغي للمؤمن أن يكثر ذكر الموت، فإنه لا غنية للمؤمن عن ست خصال (¬1): أولاها: علم يدله على الآخرة. والثانية: رفيق يعينه على طاعة الله، ويمنعه عن عصية الله. والثالثة: معرفة عدوه والحذر منه. والرابعة: عبرة يعتبر بها. والخامسة: إنصاف الخلق؛ لكيلا تكون له يوم القيامة خصماء. والسادسة: الاستعداد للموت قبل نزوله؛ لكيلا يكون مفتضحًا يوم القيامة. 46 - ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذة بالقذة، فقال: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} الجملة في محل النصب على الحال؛ أي: فعلنا بالذين ظلموا ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حدّ محدود بحيث لا يقدر عليهم غيرهم، والمكر: الخديعة. {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}؛ أي: وعند (¬2) الله جزاء مكرهم الذي فعلوه، أو: وعند الله مكتوب مكرهم، فهو مجازيهم، أو عند الله مكرهم الذين يمكرهم به على أن يكون المكر مضافًا إلى المفعول. قيل: المراد بهم قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين هموا بقتله أو نفيه. وقيل: والمراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء، فاتخذ لنفسه تابوتًا، وربط قوائمه بأربعة نسور. والخلاصة (¬3): عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه فرأيهم آفن؛ إذ هم سلكوا طريقًا كان ينبغي البعد عنها بعد أن استبان فسادها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

ثم ذكر أن عاقبة مكرهم الخسران والبوار، فقال: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} {إن}: نافية {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} واللام: فيه مكسورة، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وهي لام الجحود الواقعة بعد الكون المنفي على قراءة الجمهور. قال ابن جرير: الاختيار قراءة الجمهور؛ أي: وما (¬1) كان مكرهم لتزول به آيات الله وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات. والخلاصة: تحقير شأن مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات الثابتة ثبوت الجبال، فليس بمزيل شيئًا منها مهما قوي، وكان غاية في المتانة والعظم. وقيل: {إنّ}. {إن} زائدة، واللام: لام الابتداء مفتوحة، والفعل بعدها مرفوع. والمعنى (¬2): وكان مكرهم في العظم والشدة لتزول وتتحرك منه الجبال الظاهرة؛ أي: مسوى لإزالة الجبال عن مقارها معدًّا لذلك. قال في "الإرشاد"؛ أي: وإن كان مكرهم في غاية المتانة والشدة، وعبر عن ذلك بكونه مسوى ومعدًا لذلك؛ لكونه مثلًا في ذلك. وقرأ الجمهور (¬3): {وَإِنْ كَانَ} بالنون. وقرأ عمر وعلي وعبد الله وأبيّ وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي شذوذًا: {وإن كاد} بالدال بدل النون {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأولى ورفع الثانية. وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي كذلك إلا أنهم قرؤوا {وَإِنْ كَانَ} بالنون فعلى هاتين القرائتين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، و (اللام): هي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فـ {إن} نافية، واللام بمعنى إلا، فمن قرأ: {كاد} - بالدال - فالمعنى أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم ولا يقع الزوال. وعلى قراءة {كَانَ} - بالنون - يكون زوال الجبال قد وقع، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته، وهو بحيث يزول منه الجبال وتتقطع عن أماكنها، ويحتمل أن يكون معنى {لِتَزُولَ}: ليقرب زوالها، فيصير المعنى، كمعنى قراءة كاد، ويؤيد هذا التأويل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[47]

ما ذكره أبو حاتم من أن في قراءة أبيّ: {ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال}. وينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه. وقرأ الجمهور باقي السبعة: {وَإِنْ كَانَ} بالنون، {مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ} - بكسر اللام الأولى ونصب الأخيرة -. ورويت هذه القراءة عن علي أيضًا، وعلى هذه القراءة تكون {إن} نافية و (اللام): المكسورة؛ لتأكيد النفي، والمعنى: ومحال (¬1) أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر. فالجملة على هذا المعنى حال من الضمير في {مَكَرُوا} لا من قوله: {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}؛ أي: مكروا، والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال. وأما على (¬2) قراءة الكسائي ومن معه: {لِتَزُولَ} - بفتح اللام الفارقة ورفع الفعل - فالجملة حينئذ حال من قوله: {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}؛ أي: وعند الله المكر بهم، والحال أن مكرهم في غاية القوة بحيث تزول منه الجبال. 47 - {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بتعذيب الظالمين ونصر المؤمنين؛ أي: ما وعدهم سبحانه بقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. وأصله (¬3): مخلف رسله وعده، وقدم المفعول الثاني إعلامًا بأن لا يخلف وعده أحدًا، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه، والوعد: عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها، والمعنى: دم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا. وهذه الجملة تفريع (¬4) على قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعدما وعدنا رسلهم بإهلاكهم، فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا: فـ {مُخْلِفَ}: إما متعد لاثنين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح.

[48]

مضاف لمفعوله الثاني؛ وإما متعد لواحد مضاف لمفعوله، و {رُسُلَهُ}، مفعول لـ {وَعْدِهِ}. وقرىء شاذًا (¬1): {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بجر رسله ونصب وعده. قال الزمخشري: وهذه القراءة في الضعف كقراءة من قرأ: {قتل أولادهم شركائهم} لما فيها من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وتقدم الكلام عليها مشبعًا في سورة الأنعام. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب لا يماكر ولا يغالبه أحد {ذُو انْتِقَامٍ} ينتقم لأوليائه في أعدائه، وفي "القاموس": انتقم منه إذا عاقبه، والجملة تعليل للنهي. والمعنى (¬2): أن الله سبحانه وتعالى عزيز؛ أي: غالب على أمره لا يمتنع منه من أراد عقوبته قادر على كل من طلبه لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله وكذبهم وجحد بنبوتهم وأشرك به، واتخذ معه إلهًا غيره، 48 - ثم ذكر زمان الانتقام، فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}؛ أي: إنه تعالى ذو انتقام من أعدائه، يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر، ثم ترجع أرضًا أخرى بعد ذلك، وتبدل السماوات غير السماوات بانتشار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها، {وَالسَّمَاوَاتُ} معطوف على {الْأَرْضُ}، وإنما قدم تبديل الأرض لقربها هنا، ولكون تبديلها أعظم أثرًا بالنسبة إلينا اهـ "كرخي". وقرىء شاذًا: {نبدل} بالنون، {الأرض} بالنصب؛ {وَالسَّمَاوَاتُ} معطوف على الأرض. وعلى هذا التفسير فالظرف متعلق بـ {انْتِقَامٍ}، ويحتمل أن يكون متعلقًا باذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمتك قصة يوم تبدل هذه الأرض المعروفة أرضًا أخرى غير معروفة، وتبدل السماوات غير السماوات، ويكون الحشر وقت التبديل عند الظلمة دون الجسر؛ أو يكون الناس على صراط. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط". وروي عن ابن مسعود وأنس - رضي الله عنهما - من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطيء عليها أحد خطيئة، ولا بدع في أن تكون أرضًا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقًا جديدًا. وفي "الخازن": ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين (¬1): أحدها: أنه تبدل صفة الأرض والسماء، لا ذواتهما. فأما تبديل الأرض فيتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها: وهو أن تدكدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب وتمد مد الأديم. وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها وقمرها، ويكوران، وكونها تارة كالدهان وتارة كالمهل، وبهذا القول قال جماعة من العلماء، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد". أخرجاه في "الصحيحين". العفراء - بالعين المهملة - البيضاء إلى حمرة. ولهذا شبهها بقرصة النقي وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة، كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة. وقوله: ليس بها علم لأحد يعني: ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدل به. والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء، وهذا قول جماعة من العلماء، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل. فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية، لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الأرض من فضة والسماء من ذهب. ¬

_ (¬1) الخازن.

وقال أبي بن كعب في معنى التبديل بأن تفسير الأرض نيرانًا والسماء جنانا. وقال أبو هريرة وسعد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل من تحت قدميه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار سبحانه بيده، كما يتكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة". أخرجاه في "الصحيحين" بزيادة فيه. فإن قلت: إذا فسرت التبديل بما ذكرت، فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها؟ قلتُ: وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولًا صفتها مع بقاء ذاتها، كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها، ثم بعد ذلك تبدل تبديلًا ثانيًا، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها، كما تقدم أيضًا، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط". أخرجه مسلم. وروى ثوبان أن حبرًا من اليهود سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: "هم في الظلمة دون الجسر" ذكره البغوي بغير سند. ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه انتهى. وقوله: {وَبَرَزُوا} معطوف على {تُبَدَّلُ}؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة يوم برز الخلائق وخرجوا جميعًا من قبورهم {لِلَّهِ}؛ أي: لحكم الله تعالى وقضائه، والوقوف بين يديه للحساب؛ أي: خرجوا من قبورهم للقاء الله. {الْوَاحِدِ} الذي لا ثاني له ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند. {الْقَهَّار}؛ أي: الغالب الذي يقهر عباده على ما يريد ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقرأ زيد بن علي شذوذًا: {وَبَرَزُوا} - بضم الباء وكسر الراء مشددة - جعله مبنيًّا للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم لا بالنسبة إلى تكرير الفعل. ذكره في "البحر".

[49]

وعبر (¬1) عن المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه، كما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وفي (¬2) هذا من تهويل الخطب ما لا يخفى؛ لأنهم إذا وقفوا عند ملك عظيم قهار لا يشاركه سواه في سلطانه كانوا على خطر، إذ لا منازع له ولا مغيث سواه، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار. 49 - وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارًا بين عجز المجرمين وذلتهم، فقال: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: وتبصر يا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أيها المخاطب الكافرين {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ برزوا لله الواحد القهار حالة كونهم {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}؛ أي: مشدودين في الأغلال والقيود؛ أي: حالة كون بعضهم يقرن مع بعض الأصفاد بحسب مشاركتهم في العقائد الفاسدة، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم، أو قرنت أيديهم وأرجهلهم إلى رقابهم بالأغلال والأصفاد - جمع صفد - القيود والأغلال، والجار والمجرور متعلق بـ {مُقَرَّنِينَ}، أو حال من ضميره. 50 - {سَرَابِيلُهُمْ} جمع سربال؛ أي: قمصانهم {مِنْ قَطِرَانٍ} تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل، وخصّ القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته. والقطران (¬3): هو عصارة الأبهل والأرز ونحوهما. وقال بعضهم: هو ما يتحلب من الأبهل، فيطبخ فتهناء به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحدته، وقد تصل حرارته إلى الجوف، وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار يطلى به جلود أهل النار، يعود طلاؤه لهم كالسرابيل، ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الموحش، ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}؛ أي: تعلو وجوههم وتضربها النار وتحيط بها، وخصّ الوجوه (¬4) بالذكر مع أن ذلك يكون لسائر الجسم لأنها أشرف ما في البدن وفيها الحواس المدركة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[51]

فهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات والجملة في محل نصب على الحال أيضًا. 51 - وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ} متعلق بمحذوف تقديره: يفعل ذلك بهم ليجزي سبحانه وتعالى {كُلَّ نَفْسٍ} مجرمة جزاء {مَا كَسَبَتْ} من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقًا لعملها {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيتمه في أعجل ما يكون من الزمان. قيل: يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك، فلا يشغله حساب عن حساب، فيوفى الجزاء بحسبه، ولا يظلمهم ولا يزيدهم على عقابهم الذي يستحقونه. وقرأ (¬1) علي وأبو هريرة وابن عباس وعكرمة وابن جبير وابن سيرين والحسن بخلاف عنه وسنان بن سلمة بن المخنق وزيد بن علي وقتادة وأبو صالح والكلبي وعيسى الهمذاني وعمرو بن فائد وعمرو بن عبيد {من قَطِرٍ} بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء {آن} بوزن عان، وهي قراءة شاذة وليست متواترة، وجعلوا كلمتين، والقطر: النحاس، والآني: اسن فاعل من أنى يأنى؛ أي: تناهى في الحرارة كقوله: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}. وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: {من قَطْران} - بفتح القاف وإسكان الطاء - بزنة سكران وهي قراءة شاذة أيضًا. وقرأ الجمهور: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ} بالنصب وقرىء بالرفع، فالأول على نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} فهو على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز جعل ورود الوجه على النار غشيانًا. وقرىء: {وتغشى وجوههم} بمعنى تتغشى. 52 - {هَذَا} القرآن الذي أنزل إليك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ}؛ أي: مبلغ (¬2) للناس إلى مراتب السعادة، وموصل لهم إليها، فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل. وميل: المعنى {هَذَا} القرآن الذي أنزل إليك يا محمد بما فيه من فنون العظات والقوارع {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ}؛ أي: كفاية لهم في الموعظة والتذكير. قال في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

"القاموس": البلاغ: كسحاب الكفاية. وقوله: {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}: معطوف على محذوف مع متعلقه تقديره: أنزل إليك ليبلغهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، ولينذروا به؛ أي: وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره عما فيه هلاكهم وشقاؤهم {وَلِيَعْلَمُوا} بما فيه من الحجج والبراهين {أَنَّمَا هُوَ}؛ أي: الله سبحانه وتعالى {إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: معبود منفرد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له، فيعبدوه ولا يعبدوا إلهًا غيره من الدنيا والهوى والشيطان وما يعبدون من دون الله؛ أي: وليعلموا بما فيه ويستدلوا على وحدانية الله تعالى {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ أصحاب العقول الكاملة، والأفهام الثاقبة، والعقائد الصحيحة فهو عظة لمن اتعظ وعبرة لمن اعتبر. وقيل (¬1): هذه اللامات متعلقة بـ {بَلَاغٌ}؛ أي: هذا القرآن بلاغ للناس؛ أي: كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله تعالى فيه من الحجج والبراهين ووحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لا شريك له، وليتعظ به أصحاب العقول التي تعقل وتدرك، وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب؛ لأنهم هم الذين يجدي فيهم التذكر. واعلم: أنه (¬2) سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي: الغاية والحكمة في إنزال الكتب، وتكميل الرسل للناس واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى. وقرأ (¬3) مجاهد وحميد شذوذًا: {ولتنذروا} بتاء مضمومة وكسر الذال كأن البلاغ لعموم المخاطبين. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي: {ولينذروا} بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به، فاستعد له قالوا: ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال، ولم يعرف له أصل. وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها (¬4)، وكثيرًا ما جاء في سور القرآن حتى إن بعضهم زعم أن قوله: {وَلِيُنْذَرُوا بِه} معطوف على قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

وجملة ما هذه السورة من الموضوعات ثمانية: 1 - هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسماوات والأرض. 2 - ذم الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا، ويصدون عن الدين القويم. 3 - بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم؛ ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي. 4 - التذكير بأيام الله تعالى ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم؛ ليكون في ذلك تسلية لرسوله وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار. 5 - وعيد الكافرين على كفرهم، وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك. 6 - وعد المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك. 7 - دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرًا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب. 8 - بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتضت ذلك، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف. الإعراب {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}. {وَلَا} (الواو): استئنافية. {لا}: ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا}: فعل ومفعولان في مجل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {غَافِلًا}. {يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما يعمله. {إِنَّمَا}؛ أداة حصر {يُؤَخِّرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة

مستأنفة لتعليل ما قبلها. {لِيَوْمٍ} متعلق بـ {يُؤَخِّرُهُمْ}. {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}: فعل وفاعل فيه متعلق بـ {تَشْخَصُ}، والجملة في محل الجر صفة لـ {يَوْمٍ}، ولكنها صفة سببية. {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}. {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: حالان من المضاف المحذوف؛ إذ التقدير: أصحاب الأبصار، أو تكون (¬1) الأبصار دلت على أربابها، فجاءت الحال من المدلول عليه، ويجوز أن يكونا مفعولين لفعل محذوف تقديره: تراهم مهطعين مقنعي رؤوسهم، والإضافة في قوله: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} غير محضة؛ لأنه مستقبل أو حال. {لَا يَرْتَدُّ}: فعل مضارع. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به. {طَرْفُهُمْ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير في {مُقْنِعِي}، أو بدل من {مُقْنِعِي}، أو مستأنفة. {وَأَفْئِدَتُهُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {إِلَيْهِمْ}، والعامل فيه (¬2) إما {يَرْتَدُّ}، وإما ما قبله من العوامل، وأفرد {هَوَاءٌ} وإن كان خبرًا عن جمع؛ لأنه في معنى فارغة، ولو لم يقصد ذلك .. لقيل: أهوية؛ ليطابق الخبر مبتدأه. اهـ. "سمين". ومعنى الآية: أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئًا، ولا تعقل من شدة الخوف. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} فـ {يَوْمَ} مفعول ثان لـ {وَأَنْذِرِ}، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: أهوال يوم وشدائده، فهو مفعول به لا مفعول فيه؛ إذ لا إنذار في ذلك اليوم وإنما الإنذار يقع في الدنيا اهـ شيخنا. {فَيَقُولُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على {يَأْتِيهِمُ}. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل صلة ¬

_ (¬1) العكبري. (¬2) الفتوحات.

الموصول. {رَبَّنَا أَخِّرْنَا} إلى قوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول على كونه جواب النداء. {أَخِّرْنَا} فعل وفاعل {إِلَى أَجَلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَخِّرْنَا}. {قَرِيبٍ}: صفة {أَجَلٍ}. {نُجِبْ دَعْوَتَكَ}: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الظالمين. {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}: فعل ومفعول معطوف على {نُجِبْ}، وفاعله ضمير يعود على الظالمين. {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}. {أَوَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف، ويكون ذلك المحذوف مع ما عطف عليه مقولًا لقول محذوف، فيقال لهم: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم؟ {لم تكونوا}: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {لم}. {أَقْسَمْتُمْ}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {تكون}، وجملة {تكون} في محل النصب معطوفة على ذلك المحذوف على كونها مقولًا للقول المحذوف، وجملة القول المحذوف مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {مَا} نافية حجازية، أو تميمية. {لَكُمْ}: خبرها، أو خبر المبتدأ مقدم. {مِنْ}: زائدة. {زَوَالٍ}: اسمها مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}. {وَسَكَنْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {أَقْسَمْتُمْ}. {فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {سكنتم}. {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {وَتَبَيَّنَ}: فعل ماض، وفاعله محذوف معلوم مما بعده تقديره: فعلنا بهم، والجملة معطوفة على جملة {أَقْسَمْتُمْ}، ولا يصح (¬1) ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أن يكون {كَيْفَ فَعَلْنَا} فاعلًا لـ {تبين}؛ لأن الاستفهام له الصدارة، وقال بعض الكوفيين: إن جملة {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} هو الفاعل وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلًا. {لَكُمُ} متعلقان به {كَيْفَ}: اسم استفهام تعجيب في محل النصب على التشبيه بالمفعول به لـ {فَعَلْنَا} مبني على الفتح. {فَعَلْنَا}: فعل وفاعل. {بِهِمْ}: متعلق به، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَضَرَبْنَا}: فعل وفاعل. {لَكُمُ}: متعلق به. {الْأَمْثَالَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}. {وَقَدْ} (الواو): استئنافية. {قد}: حرف تحقيق. {مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {مَكْرُهُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {مَكَرُوا}. {وَإِنْ} (الواو): استئنافية. {إن}: نافية. {كَانَ مَكْرُهُمْ}: فعل ناقص واسمه. {لِتَزُولَ} (اللام): حرف جر وجحود. {تزول}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق به. {الْجِبَالُ}: فاعل مرفوع، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وإن كان مكرهم لزوال الجبال منه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كَانَ} تقديره: وإن كان مكرهم صالحًا لزوال الجبال منه، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}. {فَلَا}: (الفاء): تفريعية. {لا تحسبن الله}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} وما بينهما جمل معترضة. {مُخْلِفَ وَعْدِهِ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {رُسُلَهُ}: مفعول به لـ {وَعْدِهِ}؛ لأنه مصدر مضاف لفاعله، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}: ناصب واسمه وخبره. {ذُو انْتِقَامٍ}: صفة لـ {عَزِيزٌ}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد لأمتك قصة يوم تبدل الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ}: فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول. {غَيْرَ الْأَرْضِ}: مفعول ثان لـ {تُبَدَّلُ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {وَالسَّمَاوَاتُ}: معطوف على {الْأَرْضِ}. {وَبَرَزُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على {تُبَدَّلُ}. {لله}: جار ومجرور متعلق بـ {برزوا}. {الْوَاحِدِ}: صفة للجلالة. {الْقَهَّارِ}: صفة ثانية للجلالة، أو صفة لـ {الْوَاحِدِ}. {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)}. {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ}: فعل ومفعول به؛ لأن {ترى} بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {ترى}. {مُقَرَّنِينَ}: حال من {الْمُجْرِمِينَ}. {فِي الْأَصْفَادِ}: متعلق به. {سَرَابِيلُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {مِنْ قَطِرَانٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {مُقَرَّنِينَ}، أو من {الْمُجْرِمِينَ}، أو من {مُقَرَّنِينَ}. {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، الجار والمجرور متعلق بـ {برزوا}، وما بينهما اعتراض، أو بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك بهم للجزاء. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {يجزي}. {كَسَبَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نَفْسٍ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كسبته. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}. {هَذَا بَلَاغٌ}: مبتدأ وخبر. {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {بَلَاغٌ}، والجملة مستأنفة. {وَلِيُنْذَرُوا}: (الواو): عاطفة على محذوف تقديره: أنزل إليك هذا القرآن ليبلغهم إلى مراتب السعادة. و (اللام): حرف جر وتعليل. {ينذروا}: فعل ونائب فاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل تقديره: أنزل إليك لتبليغهم إلى مراتب السعادة ولإنذارهم به، والجملة المحذوفة مستأنفة. {بِهِ} متعلقان به {وَلِيَعْلَمُوا} (الواو): عاطفة. {ليعلموا}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يعلموا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولعلمهم، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {أَنَّمَا} {أن}: حرف نصب ومصدر. {ما}: كافة لكلها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {هُوَ إِلَهٌ}: مبتدأ وخبر. {وَاحِدٌ}: صفة {إِلَهٌ}، والجملة الاسمية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم تقديره: وليعلموا كون المعبود إلهًا واحدًا لا شريك له، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَلِيَذَّكَّرَ} (الواو): عاطفة. و (اللام): حرف جر وتعليل. {يذكر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل {يذكر}. {أُولُو الْأَلْبَابِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه منصوب بأن مضمرة، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولتذكر أولي الألباب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}. التصريف ومفردات اللغة {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} قال الفراء: يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى يشخص - من باب ذهب - شخوصًا إذا بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة. {مُهْطِعِينَ}؛ أي: مسرعين إلى الداعي اسم فاعل (¬1) من أهطع الرباعي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

يهطع إهطاعًا إذا أسرع. وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع، ومنه قول الشاعر: بِدَجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أرَاهُمْ ... بِدَجْلَةَ مُهْطِعِيْنَ إِلَى السَّمَاءِ وقيل: المهطع الذي يديم النظر. قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعًا يعني الإسراع مع إدامة النظر، وقيل: المهطع الذي لا يرفع رأسه. وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع. وقيل: هو الساكت. قال النحاس: والمعروف في اللغة: أهطع إذا أسرع. وفي "المختار": أهطع الرجل إذا مدّ عنقه وصوب رأسه، وأهطع في عدوه إذا أسرع. {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}؛ أي: رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء وإقناع الرأس رفعه وأقنع صوته إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: إن إقناع الرأس نكسه. وقيل: يقال أقنع إذا رفع رأسه وأقنع إذا طأطأ ذلة وخضوعًا، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة. قال الشاعر: أنْغَضَ نَحْوِيْ رَأسَهُ وَأقْنَعَا ... كَأَنَّمَا أبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا وفي "السمين" (¬1): والإقناع: رفع الرأس وإدامة النظر من غير التفات إلى غيره. قاله القتبي. اهـ. وفي "القاموس": وأقنعه: أرضاه ورأسه نصبه ورفعه أولًا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، وجعل طرفه موازيًا. {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}؛ أي: لا ترجع إليهم أبصارهم، وأصل الطرف تحريك الأجفان، وسميت العين طرفًا؛ لأنه يكون بها، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة: وَأَغُضُّ طَرْفِيْ مَا بَدَتْ لِيْ جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِي جَارتِيْ مَأوَاهَا وفي "السمين": والطرف في الأصل مصدر، والطرف أيضًا: الجفن، يقال: ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ما طبق طرفه؛ أي: جفنه على الآخر، والطرف أيضًا تحريك الجفن. اهـ. {وَأَفْئِدَتُهُمْ}؛ أي: قلوبهم جمع فؤاد. {هَوَاءٌ}؛ أي: خالية (¬1) من العقل والفهم، لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق: قلبه هواء؛ أي: لا قوة ولا رأي له، كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب: أَلاَ أَبْلِغْ أبَا سفيانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءٌ وفي "المختار": الهواء ممدودًا ما بين السماء والأرض، والجمع أهوية، وكل خال هواء. اهـ. وإنما أفرد هواء مع كونه خبرًا عن جمع؛ لأنه في معنى فارغة، ولو لم يقصد ذلك .. لقيل: أهوية، ليطابق الخبر مبتدأه اهـ. "سمين". ومعنى الآية: أن القلوب يومئذٍ زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته. {مِنْ زَوَالٍ}؛ أي: من انتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء. {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}؛ أي: بينا لكم (¬2) أنهم مثلكم في الكفر واستحقاق العذاب. {وَبَرَزُوا}؛ أي: خرجوا من قبورهم. {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}؛ أي: مشدودين في القيود والأغلال جمع مقرن والمقرن من جمع في القرن، وهو الحبل الذي يربط به. وروي أن كل كافر يقرن مع شيطانه في سلسلة. والأصفاد جمع صَفَد - بفتحتين -: وهو القيد. والأغلال جمع غُل - بضم الغين -: وهو طوق من حديد، يقال: صفده يصفده صفدًا - من باب ضرب - إذا قيده، والاسم الصفد، وصفّده مشددًا للتكثير. اهـ. "سمين". {سَرَابِيلُهُمْ}: السرابيل: القمص، واحدها: سربال، ومنه قول كعب بن مالك: تَلْقَاكُمُ عُصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ فِيْ الْهَيْجَا سَرَابِيْلُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

يقال: سربلته إذا ألبسته السربال. {مِنْ قَطِرَانٍ} والقطران؛ دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت، كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت وهو الهنأ: يقال: هنأت البعير أهنؤه بالهنأ إذا طلبته بالهنأ؛ وهو أسود اللون منتن الريح. وفي "السمين": القطران: ما يستخرج من شجر فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب؛ ليذهب جربها لحدته، وفيه لغات {قطران} - بفتح القاف وكسر الطاء - وهي قراءة العامة المتواترة، {قَطْران} بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. و {قِطْران} - بكسر القاف وسكون الطاء - بزنة سرحان، ولم يقرأ بها فيما علمت. وقرأ جماعة {من قطر} - بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء (آن) بوزن عان، وجعلوها كلمتين كما مر في مبحث القراءة وقد مر أيضًا أن هذه القراءات شاذة عدا قراءة الجمهور {قَطِران}. {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}؛ أي: تعلوها وتحيط بها. {هَذَا بَلَاغٌ} والبلاغ: اسم مصدر لبلغ تبليغًا، فهو بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مبلغ للناس إلى مراتب السعادة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التهديد في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، والأصل: وأفئدتهم كالهواء، لفراغها من جميع الأشياء، فصار التشبيه بليغًا. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق عليه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، حيث شبه شرائع الإِسلام ومعجزات

الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجبال بجامع الثبات والقرار في كل. ومنها: الإظهار مقام الإضمار في قوله: {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا} لتقدم المرجع في قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ}. ومنها: العدول عن المضارع إلى الماضي في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} بدل: ويبرزون؛ للدلالة على تحقق الوقوع مثل: {أتى أمر الله} فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي. ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} فقد افتتحت هذه السورة بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ... الخ، فهو من المحسنات البديعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين آمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا قد تم تفسير الجزء الثالث عشر من تفسير حدائق الروح والريحان منتصف اليوم الخامس والعشرين من شهر الله رجب الفرد من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة سنة 25/ 7/ 1411 هـ من الهجرة النبوية على صاحبها أفصل الصلوات وأزكى التحيات في مكة المكرمة في المسفلة حارة الرشد. والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وسرًّا وجهرًا على إتمام تفسير هذا الجزء الثالث عشر، لقد بذلنا جهدنا وطاقتنا على حسب القوى البشرية في تلخيصه وتهذيبه وتنقيحه، فرحم الله امرأ نظر فيه بعين الإنصاف فسامح، ووقوف في التصحيح على خطأ فأصلح، وأعوذ بالله من حاسد إذا حسد وبغى، وأستغفره - جل اسمه - من قلم زلَّ وسهى، أو حرف شيئًا عن موضعه وطغى، وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تمَّ المجلد الرابع عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان"، ويليه المجلد الخامس عشر، وأوله سورة الحجر.

وما أحسن قول القائل: العَفوُ يُرْجَى مِنْ بَنِيْ آدَمِ ... فَكَيفَ لاَ يُرجَى مِنَ الرَّبِّ فإنَّه أرأفُ بي منهم ... حسبي به حسبي به حسبي آخرُ سبحانك لا علم لنا ... إلا ما أَلْهمتَ لنا آخرُ يا مَنْ مَلَكوت كُلِّ شَيءٍ بِيَدِه ... طُوْبَى لِمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْزًا لِغَدِهْ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وما أصَدْقَ قولَ القائل سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ... إِلاَ ما أَلْهَمْتَ لَنَا لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلاَنا ... عَلَى مَا أسْعَفتَ لَنَا شعر آخر عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ لاَ تَطْلُبْ مُكَاثَرَةً ... فَالْقَصْدُ أَفْضَلُ شَيءٍ أَنْتَ طَالِبُهُ فَالْمَرْءُ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا ... وَلاَ يُفَكِّرُ مَا كَانَتْ عَوَاقِبُهُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَتْ عَنْهُ وَفَارَقَهَا ... تَبَيَّنَ الْعُيْنَ فَاشْتَدَّتْ مَصَائِبُهُ ولقَدَ أجَادَ مَنْ قال لَوْ عِشْتُ عَامٍ ... في سَجْدَةٍ لَرَبَى شُكْرًا لِفَضْلِ يَوْمٍ ... لَمْ أَقْضِ بِالتَّمَامِ وَالْعَامُ أَلْفُ شَهْرٍ ... وَالشَّهْرُ أَلْفُ يَوْمِ وَالْيَوْمُ أَلْفُ حِيْنٍ ... وَالْحِيْنُ أَلْفُ عَامِ آخر وَلاَ تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمُ مِنْكَ أَرْفَعُ فَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وَحِرْزٍ وَرِفْعَةٍ ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ

سورة الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظةً وشفاء لما في الصدور، وجعَلَه مَنْهلًا عذبًا للورود والصدور، أظهره من مقام الجمع والتنزيه والنون، فألزمه حجة لأهل الظواهر والبطون، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد وآله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم ممن تخلق بالقرآن في كل زمان، ما تعاقب الملوان وطلع المرزمان. أما بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء الثالث عشر من القرآن .. أخذت في تفسير الجزء الرابع عشر منه بتوفيق الله سبحانه وتعالى وتيسيره. اللهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، فلك الحمد في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سورة الحجر وهي كلها مكية بإجماع المفسرين، وهي تسع وتسعون آية، وكلماتها: ست مئة وأربع وخمسون كلمة، وألفان وسبع مئة وستون حرفًا. فائدة: أطول كلمة في القرآن: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} لأنها أحد عشر حرفًا، وأما: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} فعشرةٌ. اهـ "روح البيان".

المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من السورة من وجوهٍ (¬1): 1 - أنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها، من وصف الكتاب المبين. 2 - أنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة، وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين، كما كانت السالفة كذلك. 3 - أن في كل منهما وصف السموات والأرض. 4 - أن في كل منهما قصصًا مفصلًا عن إبراهيم عليه السلام. 5 - أن في كل منهما تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم، وكانت العاقبة للمتقين. فضلها: ومما ورد في فضلها: ما (¬2) روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ سورة الحِجر .. كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - " والله أعلم. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحجر جملة ما فيها من المنسوخ خمس آيات (¬3): الآية الأولى: قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الآية (3) نسخت بآية السيف. الآية الثانية: قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الآية (85) نسخت بآية السيف. الآية الثالثة: قوله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الآية (88) نسخت بآية السيف. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) الناسخ والمنسوخ.

الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} الآية (89) نسخ معناها أو لفظها بآية السيف. الآية الخامسة: قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الآية (94) نصفها محكم ونصفها منسوخ بآية السيف. انتهى. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}. المناسبة مناسبة أوَّل هذه السورة لآخر التي قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) في آخر السورة التي قبلها أشياء من أحوال القيامة، من تبديل السموات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأن ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار .. ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة وودادتهم لو كانوا مسلمين. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ...} الآية، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) استهزاء الكفار به - صلى الله عليه وسلم -، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة .. سلَّاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن المرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا هدَّد (¬2) الكافرين وبالغ في ذلك أيما مبالغة .. شرع يذكر بعض مقالاتهم في محمد - صلى الله عليه وسلم - المتضمنة للكفر بما جاء به، ثم يذكر ما هم فيه من جحود وعناد، بلغا مدى تنكر معه المشاهدات، ويدعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات، ثم ذكر سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليةً له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعًا، فهذا دأب كل محجوج، فكثيرٌ من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها، فلك أسوة بهم في الصبر على سفاهتهم وجهلهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬3) شديد جحودهم، وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئًا، حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات، ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات .. أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا في غنى عن كل هذا، فإن في السماء وبروجها العالية، وشموسها الساطعة وأقمارها النيِّرة، وسيَّاراتها الدائرة، وثوابتها الباسقة، عبرة لمن اعتبر، وحجة لمن اعتبر، وحجةً لمن ادكر، فهلَّا نظروا إلى الكواكب وحسابها ونظامها ومداراتها، وكيف حدثت بها الفصول والسنون، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة، وأوقات معلومة لا تغيير فيها ولا تبديل، فبأمثال هذا يكون اليقين، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين، ويشتد أزر سيد المرسلين، وهلَّا رأوا الأرض كيف مدت، وثبتت جبالها، وأنبتت نباتها بمقادير معلومة موزونة في عناصرها وأوراقها وأزهارها وثمارها، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان، أفلا يعتبرون بكل هذا؟ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[1]

قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بيَّن سبحانه وتعالى فيما سلف أنه أنزل النبات وجعل لنا فيه معايش في هذه الحياة .. أتبعه هنا بذكر ما هو كالسبب في ذلك، وهو أنه تعالى مالك كل شيء وأن كل شيء سهلٌ عليه، يسيرٌ لديه، فإن عنده خزائن الأشياء من النبات والمعادن النفيسة والمخلوقات البديعة مما لا حصر له. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما رواه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}. وأخرج ابن مردويه عن داود بن صالح أنه سأل سهل بن حنيفة الأنصاري عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أأنزلت في سبيل الله؛ قال: لا، ولكنَّها في صفوف الصلاة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الر} تقدم القول في بيان معاني هذه الحروف ومبانيها، فذكرنا أنها حروف تنبيه بمنزلة ألا ويا، وينطق بأسمائها ساكنة، فيقال: {ألف لام را}، وقيل (¬2): اسم للسورة، وعليه الجمهور؛ أي: هذه السورة مسماة بـ {الر}، {تِلْكَ}؛ أي: هذه السورة العظيمة الشأن {آيَاتُ الْكِتَابِ}؛ أي: آيات من الكتاب المنزل عليك، الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق، على ما يدل عليه اللام؛ أي: بعض من جميع المنزل عليك، أو من جميع المنزل إذ ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

[2]

ذاك، أو آيات من اللوح المحفوظ، {و} آيات من {قرآن} عظيم الشأن {مُبِينٍ}؛ أي: مظهرٍ للحق من الباطل، والرشد من الغيّ، والحلال من الحرام، فهو من أبان المتعدِّي، ويمكن أن يجعل من اللازم؛ أي: الظاهر أمره في الإعجاز، أو الواضحة معانيه للمتدبرين، أو البين للذين أنزل عليهم؛ لأنه بلغتهم وأساليبهم. وعطف القرآن على الكتاب من عطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لأن المقصود منهما واحد؛ أي: هذه السورة آيات من الكلام الجامع بين صفتي الكتابية والقرآنية، ذكره في "روح البيان". وتنكير القرآن للتفخيم كتعريف الكتاب. 2 - {رُبَمَا} رب ها هنا للتكثير، كما في "مغني اللبيب"؛ أي: كثيرًا، {يَوَدُّ} ويتمنى في الآخرة {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقرآن وبكونه من عند الله تعالى {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}؛ أي: كونهم مسلمين في الدنيا، مستسلمين لأحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه. وإنما دخلت (¬1) رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي؛ لأن المترقب في أخباره تعالى كالواقع المتحقق، فكأنه قيل: ربما ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين؛ أي: منقادين لحكمه، مذعنين له من جملة أهله، وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة، والمراد: أنه لما انكشف لهم الأمر، واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإِسلام، لا دين غيره .. حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي لمجرد التحسر والتندم، ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله تعالى. وقيل: كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين. وقيل: عند خروج عصاة الموحدين من النار. والظاهر: أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت، مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم. وبالجملة: فهذا إخبار (¬2) من الله سبحانه عن الكفار بأنهم سيندمون في الآخرة على ما كانوا عليه من الكفر، ويتمنون أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتمع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة .. قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإِسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار .. قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا"، قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}. قال الزجاج: إن الكافر كلما رأى حالًا من أحوال العذاب، ورأى حالًا من أحوال المسلم .. ود أن لو كان مسلمًا. وقصارى ذلك (¬1): قد يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين، حينما يعاينون العذاب وقت الموت والملائكة باسطوا أيدهم، أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون، وفي الموقف حينما يرون هول العذاب، وقد انصرف المسلمون إلى الجنة، وسيقوا هم إلى النار، والمسلمون المذنبون عذبوا بذنوبهم ثم خرجوا منها، وبقي الكافرون في جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي (¬2): {رُبَّما} مشددة، وقرأ نافع وعاصم وعبد الوارث: {رُبَما} مخففة، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي: {رُبَتَما} بزيادة تاء، قال الفراء: أسدٌ وتميمٌ يقولون: {رُبَّمَا} بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: {رُبَما} بالتخفيف، وتيم الرباب يقولون: {رَبَما} بفتح الراء، وقيل إنما قرئت بالتخفيف لما فيها من التضعيف، والحروف المضاعفة قد تحذف نحو: (إن) و (لكن) فإنهم قد خففوها، قال الزجاج: يقولون: رُبَّ رجل جاءني، بالتشديد، ورُبَ رجل جاءني بالتخفيف، وإنما زيدت (ما) مع (ربَّ) ليليها الفعل، وقال الأخفش: أدخل (ما) مع (ربَّ) ليتكلم بالفعل بعدها، فرب (¬3) للتكثر باعتبار مرات التمني، وللتقليل باعتبار أزمان الإفاقة، فأزمان إفاقتهم قليلة بالنسبة لأزمان الدهشة، وكونها للتقليل أبلغ في التهديد، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير والبحر المحيط. (¬3) المراح.

[3]

ومعناه: أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرًا لك عن هذا العمل، فكيف كثيره، وأيضًا أنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في القليل. فائدة: وقال عبد الله بن المبارك: ما خرج أحد من الدنيا من مؤمن وكافر إلا على ندامة وملامة لنفسه، فالكافر لما يرى من سوء ما يجازى به، والمؤمن لرؤية تقصيره في القيام بموجب الخدمة وترك الحرمة وشكر النعمة اهـ. 3 - {ذَرْهُمْ}؛ أي: دع الكفار يا محمد، واتركهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصحية، لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك، والآية منسوخة بآية القتال كما في "بحر العلوم". {يَأْكُلُوا} كالأنعام {وَيَتَمَتَّعُوا} بدنياهم وشهواتها؛ أي: إن تركتهم على حالهم، يأكلوا كما تأكل الأنعام، ويأخذوا حظوظهم من دنياهم. فتلك أخلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرة. والمراد (¬1): دوامهم على ذلك لا إحداثه، فإنهم كانوا كذلك، وهما أمران بتقدير اللام، لدلالة {ذَرْهُمْ} عليه، أو جواب أمر على التجوز؛ لأن الأمر بالترك يتضمن الأمر بهما؛ أي: دعهم وبالغ في تخليتهم وشأنهم، بل مرهم بتعاطي ما يتعاطون. {وَيُلْهِهِمُ}؛ أي: الكفار؛ أي: يشغلهم عن اتباعك أو عن الاستعداد للمعاد، {الْأَمَلُ}؛ أي: التوقع لطول الأعمار، وبلوغ الأوطار، واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة والمال إلا خيرًا، وفي: {يلههم} ثلاث قراءات: كسر الهاء والميم، وضمهما، وكسر الهاء وضم الميم، وأما الهاء الأولى فمكسورة لا غير اهـ. شيخنا ذكره في "الجمل". وهذا (¬2) تهديدٌ لهم؛ أي: دعهم عما أنت بصدده من الأمر والنهي لهم، فهم لا يرعوون أبدًا، ولا يخرجون من باطل، ولا يدخلون في حق، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل، والتمتع بزهرة الدنيا، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

والمعنى: أي (¬1) دعهم أيها الرسول في غفلاتهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، ويتمتعون بلذات الدنيا وشهواتها، وتلهيهم الآمال عن الآجال، فيقول الرجل منهم: غدًا سأنال ثروة عظيمة، وأحظى بما أشتهي، ويعلو ذكري، ويكثر ولدي، وأبني القصور، وأكثر الدور، وأغرس البساتين، وأقهر الأعداء، وأفاخر الأنداد، إلى نحو ذلك مما يغرق فيه من بحار الأماني والآمال وطلب المحال. ثم علل الأمر بتركهم بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم إذا هم عاينوا سوء جزائهم، ووخامة عاقبتهم، وفي هذا وعيد بعد تهديد، وإلزام لهم بالحجة، ومبالغة في الإنذار، وإيماء إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق المؤمنين. والخلاصة (¬2): اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل، ونحوه من متاع الدنيا، ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين، وانكشف الأمر، ورأوا العذاب يوم القيامة، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا، والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر كما مرَّ. أخرج أحمد والطبراني والبيهقي: عن عمرو بن شعيب مرفوعًا قال: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ولهلك آخرها بالبخل والأمل"، وروي عن الحسن أنه قال: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وروي عن علي أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق. قال بعضهم: الأمل (¬3) إرادة الحياة للوقت للتراخي بالحكم والجزم، أعني: بلا استثناء ولا شرط صلاح، وهو مذموم في الشرع جدًّا، وغوائله أربع: الكسل في الطاعة وتأخيرها، وتسويف التوبة وتركها، وقسوة القلب بعدم ذكر الموت، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[4]

والحرص على جمع الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة. وبعد أن هدد من كذب الرسول بقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} ذكر سر تأخر عذابهم إلى يوم القيامة، وعدم التعجيل به، كما فعل بكثير من الأمم السالفة 4 - فقال: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ}، أي: وما أهلكنا قرية من القرى، بنوع من أنواع العذاب، بالخسف بها وبأهلها، كما فعل ببعضها، أو بإخلائها من أهلها بعد إهلاكهم، كما فعل بأخرى {إِلَّا وَلَهَا} في ذلك الشأن؛ أي: لتلك القرية {كِتَابٌ}؛ أي: أجل مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ، واجب المراعاة بحيث لا يمكن تبديله؛ لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له {مَعْلُومٌ} لا ينسى ولا يغفل، حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر. وخلاصة ذلك (¬1): أننا لو شئنا لعجلنا لهم العذاب، فصاروا كأمس الدابر، ولكن لكل أجلٍ كتاب، وشأننا الإمهال لا الإهمال، فـ {كِتَابٌ} (¬2): مبتدأ، خبره الظرف، والجملة حال من قرية، لأنها وإن كانت نكرة قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة، لا سيما بعد تأكده بكلمة {مِنْ}. والمعنى: وما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتابٌ؛ أي: أجلٌ مؤقتٌ لهلاكها، قد كتبناه، لا نهلكها قبل بلوغه، معلوم لا نغفل عنه، حتى تمكن مخالفته بالتقدم والتأخر، و {الواو} للفرق بين كون هذه الجملة حالًا أو صفة؛ لأنها تعينها للحالية، أو صفة للقرية المقدرة، التي هي بدل من المذكورة على المختار، فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة؛ أي: وما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم، وتوسيط الواو حينئذٍ بين الصفة والموصوف - وإن كان القياس عدمها - للإيذان بكمال الالتصاق بينهما، من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط. 5 - وبعد أن بين (¬3) سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[6]

لهلاكهم، بحسب ما هو مكتوب في اللوح .. بين أن كل أمة منهم ومن غيرهم لها أجلٌ، لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه، فقال: {مَا تَسْبِقُ} ما نافية {مِنْ} زائدة؛ أي: ما تسبق أمة من الأمم الهالكة وغيرهم {أَجَلَهَا} المضروب لها، المكتوب في اللوح المحفوظ؛ أي: لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها المكتوب لها، {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}؛ أي: وما يتأخرون عنه، فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب، وإنما حذف (¬1) الجار والمجرور .. لأنه معلوم مما قبله، ولرعاية الفواصل، والإتيان بصيغة الاستفعال، للإشعار بعجزهم عن ذلك، مع طلبهم له، وأما تأنيث ضمير أمة في أجلها وتذكيره في يستأخرون .. فللحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، قال الفراء: إنما قال {أَجَلَهَا} لأن الأمة لفظها مؤنث، وإنما قال: {يَسْتَأْخِرُونَ} إخراجًا له على معنى الرجال. انتهى ذكره في "زاد المسير". وهذه الجملة (¬2) مبينة لما قبلها، فكأنه قيل: إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء، فإن لكل أمة وقتًا معينًا في نزول العذاب، لا يتقدم ولا يتأخر، وفي هذا تنبيه (¬3) لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك، وزجر لهم بأن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتروا به، فالهلاك مدخر لهم لا يتقدم ولا يتأخر. 6 - ولما فرغ من تهديد الكفار .. شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر، وتماديهم في الغي، مع تضمنه لبيان كافرهم بمن أنزل عليه الكتاب، بعد بيان كفرهم بالكتاب فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: مشركوا مكة وكفار العرب لغاية تماديهم في العتو والغي مخاطبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال (¬4) مقاتل: نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة. انتهى. {يَا أَيُّهَا} الرجل {الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ} والقرآن في زعمه، وعلى وفق ما يدعيه، نادوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التهكم، ولذا اتهموه بالجنون بقولهم: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}؛ أي: إنك بسبب هذه الدعوى التي تدعيها، من كونك رسولًا لله، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[7]

مأمورًا بتبليغ أحكامه لمجنون؛ أي: مسلوب العقل، فإنه لا يدَّعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلًا، فقولهم هذا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو كقول فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، وإنما نسبوه (¬1) إلى الجنون لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر منه عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي، فظنوا أن ذلك جنون، فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون، وقيل: إن الرجل إذا سمع كلامًا مستغربًا من غيره .. فربما نسبه إلى الجنون، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولًا من عند الله، وأتى بهذا القرآن العظيم .. أنكروه، ونسبوه إلى الجنون، وإنما قالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} على طريق الاستهزاء، وقيل: معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه واعتقاده، واعتقاد أصحابه وأتباعه، إنك لمجنون في ادعائك الرسالة، وقرأ (¬2) زيد بن علي: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ماضيًا مخففًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ: {يا أيها الذي أُلقي إليه الذكرُ} وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرًا؛ لأنها مخالفة لسواد المصحف. والمعنى: أي وقالوا استهزاء وتهكمًا: يا أيها الرجل الذي زعم أنه نزل عليه القرآن إن ما تقوله أملاه عليك الجنون، وليس له معنى معقول، وهو مخالف لآرائنا، بعيد من معتقداتنا، فكيف نقبل ما لا تقبله العقول، ولا ترضاه الفحول من رجالاتنا الفخام، وعشائرنا العظام. 7 - {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} {لَوْ مَا}: حرف (¬3) تحضيض بمعنى هلَّا، مركب من (لو) المفيدة للتمني، ومن (ما) المزيدة، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلةُ هي عليه. والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك، ويعضدوك على إنذارك، وقيل: المعنى لو ما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك، كما أتت الأمم المكذبة لرسلهم، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك الرسالة، فإن قدرة الله على ذلك مما لا ريب فيه، وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك؛ أي: إن كان (¬4) ما تدعيه حقًّا وقد أيدك الله، وأرسلك .. فما منعك أن تسأله أن ينزل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[8]

معك ملائكة من السماء، يشهدون بصدق نبوتك. وخلاصة لك (¬1): أنَّ من يخالف آراءنا إما مجنون، وإما له سلطان عظيم من ربه، وحينئذٍ فماذا يمنعه أن يقويه بالملائكة ليشهدوا بصدقه، ونحو الآية قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} إلى نحو ذلك من الآيات، 8 - وقد أجاب الله سبحانه وتعالى عن اقتراحهم فقال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}؛ أي: ما (¬2) ننزل الملائكة إلا بالحكمة والفائدة، وليس في نزول الملائكة من السماء وأنتم تشاهدونهم فائدة لكم؛ لأنكم إذا رأيتموهم قلتم إنهم بشر، لأنكم لا تطيقون رؤيتهم إلا وهم على الصورة البشرية، إذ هم من عالم غير عالمكم، وإذا قالوا نحن ملائكة كذبتموهم؛ لأنهم على صورتكم، فيحصل اللبس، ولا تنتفعون بهم، وإلى هذا أشار في سورة الأنعام بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}. والمعنى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}؛ أي: لا بما قلتم واقترحتم من إخبارها لكم بصدقه، وقال الزمخشري: ما ننزل الملائكة إلا تنزيلًا متلبسًا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانًا تشاهدونهم، ويشهدون لكم بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنكم حينئذٍ مصدقون عن اضطرار، وقرأ (¬3) الحرميان: نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو وابن عامر: {ما تنزل} مضارع تنزل؛ أي: ما تتنزل {المَلاَئِكَةُ} بالرفع. وقرأ أبو بكر ويحيى بن وثاب: {ما تنزل} بضم التاء وفتح النون والزاي، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي، وحفص وابن مصرف: {مَا نُنَزِّلُ} بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الزاي، وقرأ زيد بن علي: {ما نزل} ماضيًا مخففًا مبنيًّا للفاعل {الملائكة} بالرفع. {وَمَا كَانُوا إِذًا}؛ أي: إذ نزلت عليهم الملائكة فلم يؤمنوا {مُنْظَرِينَ}؛ أي: مؤخرين ساعة؛ أي: ولو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[9]

والمعنى: أي إن (¬1) في نزول الملائكة ضررًا لهم لا محالة، لأنا نهلكهم ولا نؤخرهم، إذ قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنهم إذا اقترحوا آية وأنزلناها عليهم، ولم يؤمنوا بها، يكون العذاب في إثرها، فلو أنا أنزلناهم ولم يؤمنوا بهم ... لحق عليهم عذاب الاستئصال، ولم ينظروا ساعة من نهار، وقال الشوكاني: في الكلام حذف، والتقدير: ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة، وما كانوا إذًا منظرين، فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة. انتهى. و {إِذًا} حرف جواب (¬2) وجزاء لشرط مقدر، وهي مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين، ثم ضم إليه إن فصار: إذ إن، ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها، فمجيء لفظة إنْ .. دليل على إضمار فعل بعدها، والتقدير: وما كانوا إذ إنْ كان ما طلبوه منظرين، والإنظار التأخير. والمعنى: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا مؤخرين بعد نزولهم طرفة عين، كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابًا، وبإيمان بعض ذراريهم. 9 - ثم أجاب سبحانه عن قولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ورد إنكارهم تنزيل الذكر واستهزاءهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسلَّاه على ذلك بقوله: {إِنَّا نَحْنُ} لعظم شأننا، وعلو جنابنا، و (نحن) ليست بفصل؛ لأنها ليست بين اسمين، {نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}؛ أي: نحن (¬3) نزلنا ذلك الذكر والقرآن الذي أنكروه، وأنكروا نزوله عليك، ونسبوك بسببه إلى الجنون، وعموا منزله، حيث بنوا الفعل للمفعول، إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له، وفعل لا فاعل له؛ أي: وليس إنزاله عليك بزعمك، كما اعتقدوا أنه مختلق من عنده. اهـ شيخنا. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} في كل وقت وزمان من كل ما لا يليق به، كالطعن فيه، والمجادلة في حقيته، والتكذيب له، والاستهزاء به، والتحريف والتبديل والزيادة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[10]

والنقصان ونحوها، وأما الكتب المتقدمة فلما لم يتول حفظها، واستحفظها الناس، أعني: الربانيين والأحبار .. تطرق إليهم الخلل، وفي هذا وعيد (¬1) شديد للمكذبين به، المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الضمير في: {لَهُ} لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأول أولى بالمقام. والمعنى: أي إنما (¬2) أنتم قوم ضالون مستهزئون بنبينا، وليس استهزاؤكم بضائره؛ لأنا نحن نزلنا القرآن ونحن حافظوه، فقولوا أنتم إنه مجنون، ونحن نقول إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص والتغيير والتبديل والتحريف والمعارضة والإفساد والإبطال، وسيأتي في مستقبل الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه، ويدعون الناس إليه، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم وآداب وعلوم، تناسب ما تستخرجه العقول من المخترعات، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء، فيستنير بها العارفون ويهتدي بهديها المفكرون، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون. 10 - ثم سلَّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من سفه قومه، وادعائهم جنونه، بأن هذا دأب الأمم المكذبة لرسلها من قبل، فلقد أصابهم مثل ما أصابك من قومك، فاستهزؤوا بهم كما استهزأ قومك بك، فنصرنا رسلنا وكبتنا أعداءهم، وسيكون أمرك وأمرهم كذلك، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا رسلًا كائنة {مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد، وحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه {فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: في شيع الأمم الأولين؛ أي: الأقدمين، وفرقهم وأحزابهم وطوائفهم، جمع شيعة: وهي الفرقة (¬3) المتفقة على طريقة ومذهب، سموا بذلك لأن بعضهم يشايع بعضًا ويتابعه، من شايعه إذا تبعه، ومنه الشيعة: وهم الذين شايعوا عليًّا، وقالوا: إنه الإِمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء، والأصل: في الشيع الأولين، ومن ثم حذف الموصوف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[11]

وذكر صفته عند البصريين؛ أي: في شيع الأمم الأولين، ومعنى إرسالهم فيهم: جعل كل منهم رسولًا فيما بين طائفة منهم، ليتابعوه في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين. والمعنى: نبأنا رجالًا فيهم، وجعلنا رسلًا فيما بينهم. اهـ "بيضاوي". 11 - {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ}؛ أي: وما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها {إلَّا كَانُوا بِهِ}؛ أي: بذلك الرسول {يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: إلا كانت تلك الشيعة يستهزئون بذلك الرسول الذي أتى إليهم، كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء عليهم السلام، والجملة (¬1) في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير المفعول في يأتيهم؛ أي: وما يأتيهم رسول من الرسل إلا حالة كونهم مستهزئين به، أو في محل الرفع صفة لرسول، فإن محله الرفع على الفاعلية؛ أي: وما يأتيهم (¬2) إلا رسول كانوا يستهزئون به، أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ على المحل. والمعنى: أي إننا أرسلنا قبلك رسلًا لأمم قد مضت، وما أتى أمةً رسولٌ إلا كذبوه واستهزؤوا، لما جرت به العادة من أن فعل الطاعات وترك اللذات مستثقلٌ على النفوس، إلى أنهم يدعونهم إلى ترك ما ألفوا من المعتقدات الخبيثة، وترك عبادة الأوثان الباطلة، وذلك مما يشق على النفوس، إلى أن الرسول قد يكون فقيرًا، لا أعوان له ولا أنصار ولا مال ولا جاء، فلا يتبعه الرؤساء وذوو البأس والقوة، بل يعملون على مشاكسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، إلى أن الله يخذلهم، ويلقي دواعي الكفر في قلوبهم بحسب السنن التي سنها لعباده، 12 - كما يرشد إلى ذلك قوله: {كَذَلِكَ}؛ أي: كإدخالنا الاستهزاء في قلوب الأولين {نَسْلُكُهُ}؛ أي: نسلك الاستهزاء وندخله {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} من مشركي مكة، ومن شايعهم في الاستهزاء والتكذيب، على معنى أنه يخلقه ويزينه في قلوبهم، والسلك إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط؛ أي: الإبرة، حالة كون المجرمين من أهل مكة 13 - {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ}؛ أي: بالذكر والقرآن. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والمعنى (¬1): أي مثل ذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم، وبما جاؤوا به من الكتب، نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين من أهل مكة وغيرهم، حالة كونهم مكذبين بالذكر، غير مؤمنين به، لأنهم كانوا يعتقدون أنه من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - لا من عند الله تعالى. وقال ابن عطية (¬2): الضمير في {نَسْلُكُهُ} عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول الحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد، ويكون الضمير في: {بِهِ} يعود أيضًا على ذلك الاستهزاء نفسه، وتكون {الباء} سببية؛ أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في: {نَسْلُكُهُ} عائدًا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر، وهو القرآن؛ أي: نسلكه في قلوب المجرمين مكذبًا به مستهزءًا، ويكون الضمير في: {بِهِ} عائدًا عليه أيضًا، ويحتمل أن يكون الضمير في: {نَسْلُكُهُ} عائدًا على الاستهزاء والشرك، والضمير في: {بِهِ} يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين. انتهى. والمعنى: أي (¬3) كذلك نلقيه في قلوب المجرمين مستهزءًا به غير مقبول لديهم؛ لأنه ليس في نفوسهم استعداد لتلقي الحق، ولا تضيء نفوسهم بمصابيح هدايته الربانية، كما كانت حال الأمم الماضية حين ألقيت عليهم الكتب المنزلة من الملأ الأعلى. {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: قد مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم، حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء؛ أي: وقد جرت سنة الله في الأولين ممن بعث إليهم الرسل أن يخذلهم، ويدخل الكفر والاستهزاء في قلوبهم، ثم يهلكهم، وتكون العاقبة للمتقين، والنصر حليف رسله والمؤمنين، ذلك أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي في ذلك. والخلاصة (¬4): هكذا نفعل باللاحقين كما فعلنا بالسابقين، ويستهزىء بك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

[14]

المجرمون، ولا يؤمنون بكتابنا وسيحل بهم مثل ما حل بالأولين، وننصرك عليهم بعد حين، كما قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}. 14 - ثم حكى الله سبحانه وتعالى إصرارهم على الكفر، وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا}؛ أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة {بَابًا مِنَ السَّمَاءِ}، أي: بابًا من أبوابها المعهودة، ومكناهم من الصعود إليه، أو بابًا (¬1) مَّا، لا بابًا من أبوابها المعهودة كما قيل، ويسرنا لهم الرقي والصعود إليه {فَظَلُّوا فِيهِ} أي: في ذلك الباب؛ أي: فصاروا {يَعْرُجُونَ}؛ أي: يصعدون في ذلك الباب بآلةٍ أو بغير آلةٍ، حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد، ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل: الضمير في: {فَظَلُّوا} للملائكة؛ أي: فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب، والكفار يشاهدونهم، وينظرون صعودهم من ذلك الباب .. 15 - {لَقَالُوا}؛ أي: لقال هؤلاء الكفار المعاندون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، لفرط عنادهم، وزيادة عتوهم وتشكيكهم في الحق: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}، أي: سدت من باب الإحساس، أو حبست عن النظر وحيرت، أو غشيت وغطيت، ثم أضربوا عن قولهم {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} حيث قالوا: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} قد سحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة، كما قال تعالى حكايةً عنهم: {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}، تلخيصه: لو أوتوا بما طلبوا .. لكذبوا، لتماديهم في الجحود والعناد، وتناهيهم في ذلك. كما في "الكواشي". وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبيتون القول بذلك، وأن ما يرونه لا حقيقة له، وإنما هو أمر خيل إليهم بنوع من السحر، قالوا كلمة إنما تفيد الحصر في المذكور آخرًا، فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير، فكأنهم قالوا: سكرت أبصارنا لا عقولنا، فنحن وإن تخايلت بأبصارنا هذه الأشياء، لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه، ثم قالوا: بل نحن، كأنهم أضربوا عن الحصر في الأبصار، وقالوا بل جاوز ذلك إلى عقولنا بسحر سحره لنا؛ أي: ولو فتحنا على ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

هؤلاء المعاندين بابًا من السماء فظلوا في ذلك الباب يصعدون، فيرون من فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب .. لقالوا - لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة -: إنما سدت أبصارنا، فما نراه تخيل لا حقيقة له، وقد سحرنا محمد بما يظهر على يديه من الآيات. وقرأ الأعمش وأبو حيوة (¬1): {يَعْرِجُون} بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود، وقرأ الحسن ومجاهد وابنُ كثير: {سُكِّرَتْ} بتخفيف الكاف مبنيًّا للمفعول، وقرأ باقي السبعة .. بشدها مبنيًّا للمفعول، وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيًّا للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران، لقلة تصوره ما يراه، وقرأ أبان بن تغلب: {سُحرت أبصارنا}، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوةً، لمخالفتها لسواد المصحف. 16 - ولما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم، وعجز أصنامهم .. ذكر قدرته الباهرة، وخلقه البديع، ليستدل بذلك على وحدانيته فقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا {فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}؛ أي: قصورًا وبيوتًا وطرقًا ومنازل، ينزلها السيارات السبع في السموات السبع، والمراد بها هنا: منازل الشمس والقمر، والنجوم السيارة ومواضع سيرها، وهي البروج الاثنا عشر المشهورة، المختلفة الهيئات والخواص، وأسماؤها: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وقد جمع تلك الأبراج بعضهم في بيتين فقال: حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ ... وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَةَ الْمِيْزَانِ وَرَمَى عَقْرَبٌ بَقَوْسٍ لِجَدْيٍ ... نَزَحَ الْدَّلْوُ بِرْكَةَ الْحِيْتَانِ والبروج: جمع برج، والمراد بها: منازل وطرق تسير فيها الكواكب السبعة السيارة، وقد جمعها (¬2) بعضهم في بيت واحد على ترتيب وجودها في السماء، مبتدئًا من السابعة، فقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الصاوي.

زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ فزحل في السماء السابعة، والمشتري في السادسة، والمريخ في الخامسة، والشمس في الرابعة، والزهرة في الثالثة، وعطارد في الثانية، والقمر في الأولى؛ أي: في سماء الدنيا، والعرب تعدُّ المعرفة بمواقع النجوم في منازلها من أجلِّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، {وَزَيَّنَّاهَا}؛ أي: وزينا السماء بتلك البروج؛ أي: وجعلنا الكواكب زينة السماء، تظهر للناظرين إليها؛ أي: المتأملين فيها بأبصارهم وبصائرهم، فيستدلون بها على قدرة صانعها ووحدته. والمعنى: أي وزينا السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والكواكب، سياراتٍ كانت أو ثوابت، وسميت (¬1) السيارة لسرعة حركاتها، وسميت الثابتة الثوابت إما لثبات أوضاعها أبدًا، وإما لقلة حركاتها الثابتة وغاية بطئها، فإن السماويات ليست بساكنة، وحركات الثوابت على رأي أكثر المتأخرين درجة واحدة في ست وستين سنة شمسية، وثمان وستين سنة قمرية، فيتم برجًا في ألف سنة، ودورة في أربعة وعشرين ألف سنة، وتسمى الثوابت بالكواكب البيابانية إذ يهتدى بها في الفلاة، وهي البيابانية بالعجميَّة، والكواكب الثابتة بأجمعها على الفلك الثامن، وهو الكرسي، وفوقه الفلك الأطلس؛ أي: فلك الأفلاك وهو العرش، سمي بالأطلس لخلوه عن الكواكب، تشبيهًا له بالثوب الأطلسي الخالي من النقش، ثم حركة الأفلاك بالإرادة، وحركة الكواكب بالعرض، إذ كل منها مركوز في الفلك كالكرة المنغمسة في الماء، والكواكب التي أدركها الحكماء بأرصادهم ألف وتسع وعشرون، فمنها سيارة ومنها ثوابت، والكل مما أدركوا، ومما لم يدركوا زينة السماء، كما أن في الأرض زينة لها. {لِلنَّاظِرِينَ}؛ أي (¬2): لكل من ينظر إليها، فمعنى التزيين ظاهر، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها، وحكمة مدبرها، فتزيينها: ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بها، وأما غيرهم فنظرهم كلا نظر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[17]

والخلاصة: أي (¬1) ولقد خلقنا في السماء نجومًا كبارًا ثوابت وسيارات، وجعلناها وكواكبها بهجة لمن تأمل، وكرر النظر فيما يرى من عجائبها الظاهرة وآياتها الباهرة، التي يحار الفكر في دقائق صنعتها، وقدرة مبدعها، ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}. 17 - {وَحَفِظْنَاهَا}؛ أي: وحفظنا السماء {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}؛ أي: مرمي بالنجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها، ويوسوس في أهلها، ويتصرف في أهلها، ويقف على أحوالها، فيلاحظ في الكلام معنى الإضافة، أي: من دخول كل شيطان، إذ الحفظ لا يكون من ذات الشيطان. وفي كلمة {مِنْ} ها هنا دلالة على أن اللام في الشيطان الرجيم في الاستعاذة لاستغراق الجنس. كما في "بحر العلوم". والمعنى: أي ومنعنا كل شيطان رجيم من القرب منها، كما قال في آية أخرى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}؛ أي: وحفظناها من كل شيطان خارج من الطاعة برميه بالشهب، كما تحفظ المنازل من متجسس يخشى منه الفساد. 18 - {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}؛ أي: إلا من اختلس الكلام المسموع بسرعة، وأخذه سرًّا، {فَأَتْبَعَهُ}؛ أي: تبعه ولحقه {شِهَابٌ}؛ أي: لهب محرق، وهي شعلة نار ساطعة {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر أمره للمبصرين، فالاستثناء إما متصل؛ أي: إلا من استرق السمع، ويجوز أن يكون منقطعًا؛ أي: ولكن من استرق السمع ... إلخ. والمعنى (¬2): حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئًا من الوحي وغيره، إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله، أو تخبله، ومعنى فأتبعه: تبعه ولحقه وأدركه، والشهاب الكوكب، أو النار المشتعلة الساطعة، وسمي الكوكب شهابًا؛ لبريقه شبه النار، والمبين: الظاهر للمبصرين، يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي" واختلف (¬3) في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) القرطبي.

الشهاب: يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، وقال الحسن وطائفةٌ: يقتل، فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم، فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استقروه من السمع إلى غيرهم من الجن، قال ذكره الماوردي، ثم قال: والقول الأول أصح، ومما يجب (¬1) التنبيه له: أن هذا حكاية فعل قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال قبل أن يبعثه الله تعالى، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كثر الرجم، وزاد زيادة ظاهرة، حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق رأسًا وبالكلية. ويعضده ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات كلها، فلما ولد عيسى عليه السلام .. منعوا من ثلاث سموات، ولما ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - .. منعوا من السموات كلها بالشهب. وما يوجد اليوم من أخبار الجن على ألسنة المخلوقين، إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض، مما لا نراه نحن، كسرقة سارقٍ، أو خبية من مكان خفيّ ونحو ذلك، وإن أخبروا بما سيكون كان كذبًا. كما في "أكمام المرجان". وخلاصة قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}؛ أي: لكن من أراد اختطاف شيء من علم الغيب، مما يتحدث به الملائكة في الملأ الأعلى .. تبعه كوكب مشتعل نارًا ظاهرًا للمبصرين فأحرقه، ولم يصل إلى معرفة شيءٍ مما يدبر في ملكوت السموات، وبهذا المعنى قوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}. وبعد فالكتاب الكريم أخبرنا بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئًا من أخبار الغيب، مما لدى الملائكة الكرام، فسلطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك ولا نمعن في النظر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[19]

لندرك حقيقته، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة، تجعلنا نؤمن به إيمانًا مبنيًّا على البرهان بوسائله المعروفة، وليس لنا إلا التصديق بما جاء في الكتاب، وأوحي إلى النبي الكريم، والبحث وراء ذلك لا يقفنا على علمٍ صحيحٍ، بل على حدس وتخمين لا حاجة للمسلم به للإطمئنان في دينه، فالأحرى به أن يعرض عنه، لئلا يحيد عن القصد، ويضل عن سواء السبيل. 19 - وبعد أن ذكر الدلائل السماوية على وحدانيته .. أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}؛ أي: ومددنا الأرض وبسطناها على وجه الماء العذب، وجعلناها (¬1) ممتدة الطول والعرض والعمق، ليمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل، وهذا فيما يظهر في مرأى العين، فلا يدل على نفي الكروية عن الأرض، لأن الكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وفي "الخازن": وزعم (¬2) أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء، وبعضها خارج عن الماء، وهو الجزء المعمور منها، واعتذروا عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بأن الكرة إذا كانت عظيمة .. كان كل جزء منها كالسطح العظيم، فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة، وأنها كروية، والله أعلم بمراده، وكيف مد الأرض. انتهى. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا}؛ أي: خلقنا في الأرض وجعلنا فيها جبالًا {رَوَاسِيَ}؛ أي: ثوابت لا تتحرك خوف أن تضطرب الأرض بسكانها، كما قال في آيات أخرى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}. والمعنى (¬3): وجعلنا في الأرض رواسي بقدرتنا الباهرة، وحكمتنا البالغة، وذلك بأن قال لها: كوني فكانت، فأصبحت الأرض، وقد أرسيت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا، فلم يدر أحدٌ مم خلقت. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[20]

{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} وأنشأنا وأوجدنا في الأرض {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} من أنواع النباتات {مَوْزُونٍ}؛ أي: مقدر معلوم، فعبر (¬1) عن ذلك بالوزن، لأنه مقدار تعرف به الأشياء، وقيل: معنى موزون: مقسوم، وقيل: معدود، وقيل: الضمير راجع إلى الجبال؛ أي: وأنبتنا في الجبال؛ أي: وأنبتنا في الجبال من كل شيء موزون، من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وقيل: موزون بميزان الحكمة، ومقدر بقدر الحاجة، وقيل: الموزون المحكوم بحسنه، كما يقال: كلام موزون؛ أي: حسن. 20 - {وَجَعَلْنَا لَكُمْ} أيها العباد {فِيهَا}؛ أي: في الأرض {مَعَايِشَ}؛ أي: أسبابًا تعيشون بها، من المطاعم والمشارب والملابس، وغيرها مما يتعلق به البقاء، جمع: معيشةٍ، وقيل: هي الملابس، وقيل: هي التصرف في أسباب الرزق في مدة الحياة، والقول الأول أظهر؛ أي: إن (¬2) أنواع معايشكم من غذاء وماء ولباس ودواء، قد سخَّرناها لكم في الأرض، فلا السمك في البحر غذيتموه، ولا الطير في الجو ربيتموه، ولا غيرهما من أشجار الجبال والغابات وحيوان البر والبحر خلقتموه. {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} معطوف (¬3) على معايش؛ أي: وجعلنا لكم في الأرض معايش، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين، وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى، وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم، باعتبار استقلاله بالكسب، ولهذا الظن ذكرهم بهذا العنوان؛ لرد حسبانهم أنهم يكفون موؤناتهم، ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياكم، أو معطوف على محلِّ {لَكُمْ} وهو النصب؛ أي: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، فيكون من عطف الجار والمجرور على الجار والمجرور، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في {لَكُمْ} لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجار؛ أي: وجعلنا لكم فيها من لستم رازقيه من العيال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني وروح البيان. (¬3) المراغي.

[21]

والمماليك والخدم والدواب، وفي هذا إيماء إلى أن الله يرزقهم وإياهم، لا أنهم يرزقون منهم، وفي ذلك عظيم المنة، وجزيل الفضل والعطاء وواسع الرحمة لعباده. وخلاصة هذا: أنه سبحانه يسر لكم أسباب المكاسب وصنوف المعايش، وسخر لكم الدواب التي تركبونها، والأنعام التي تأكلونها، والعبيد التي تستخدمونها، فكل أولئك رزقهم على خالقهم لا عليكم، فلكم منها المنفعة، ورزقها على الله تعالى، وهذا في غاية الامتنان. وقرأ الجمهور: {مَعَايِشَ} بالياء، وقرأ الأعرج، وخارجة عن نافع: {مَعائش} وبالهمز، وهي شاذَّةٌ كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. 21 - {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} إن نافية، وما مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة (من)، ومع لفظ (شيء) المتناول لكل الموجودات، الصادق على كل فرد منها، والخزائن: جمع خزانة، وهو المكان الذي يحفظ نفائس الأموال، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره تعالى على كل مقدور؛ أي: وما كل الممكنات {إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}؛ أي: إلا هي مقدورةٌ لنا ومملوكة، نخرجها من العدم إلى الوجود، بمقدار معلوم كيف نشاء، أو المراد بالخزائن: مفاتيحها؛ أي: وما شيء من أرزاق العباد إلا عندنا مفاتيحه، نعطيها كيف نشاء من البسط والقبض. والخلاصة: أي ما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده، والإنعام به متى أردنا دون أن يكون تأخير ولا إبطاء، فخزائن ملكنا مليئة بما تحبون من النفائس، غير محجوبة عن الباحث الساعي إلى كسبها من وجوهها، بحسب السنن التي وضعناها، والنظم التي قدرناها، ولا يمنعها مانع، ولا يستطيع دفعها دافع، فهي تحت قبضة الطالب إذا أحسن المسعى، وأحكم الطلب، كما قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. {وَمَا نُنَزِّلُهُ}؛ أي: وما ننزل ذلك الشيء من السماء إلى الأرض، أو نوجده للعباد {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}؛ أي: إلا بمقدار معلوم وحساب معين، والقدر بمعنى المقدار.

[22]

والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يوجد للعباد شيئًا من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبسًا ذلك الإيجاد بمقدار معين (¬1)، حسبما تقتضيه مشيئته، على مقدار حاجة العباد إليه، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}، وقد فسر الإنزال بالإعطاء؛ أي (¬2): وما نعطي ذلك الشيء إلا بقسطٍ محدودٍ، نعلم أن فيه الكفاية لدى الحاجة، وفيه الرحمة بالعباد، كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقد جرت عادة القرآن بأن يسمي ما يصل إلى العباد بفضل الله وجوده إنزالًا، كما قال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وجملة قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ} معطوفة على مقدر - أي: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ننزله، وما ننزله - أو في محل النصب على الحال. وقرأ الأعمش (¬3): {وما نرسله} مكان {وَمَا نُنَزِّلُهُ}، والإرسال أعم، وهي قراءة تفسير ومعنى، لا أنها لفظ قرآن، لمخالفتها سواد المصحف، وفي "روح البيان": {وَمَا نُنَزِّلُهُ}؛ أي: ما نوجد وما نكوِّن شيئًا من تلك الأشياء متلبسًا بشيء من الأشياء إلا بقدر معلوم؛ أي: إلا متلبسًا بمقدار معين، تقتضيه الحكمة، وتستدعيه المشيئة التابعة لها، وفي "تفسير أبي الليث": {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}؛ أي: مفاتيح رزقه، ويقال: خزائن المطر، {وَمَا نُنَزِّلُهُ}؛ أي: المطر {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}؛ أي: إلا بكيل ووزن معروف. 22 - {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} معطوف على {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} وما بينهما اعتراض، والرياح: جمع ريح، وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور. اهـ "خطيب"، واللواقح: جمع لاقحة؛ أي: حاملة لأنها تحمل الماء إلى السحاب، فهي ملقحة، يقال: ناقة ملقحة إذا حملت الولد؛ أي: وأرسلنا الرياح وأنشأناها حالة كونها لواقح وحوامل للماء إلى السحاب، فهي حالة مقدرة، وقال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

ابن مسعود: يرسل الله الريح وينشؤها، فتحمل الماء فتمجه في السحاب، ثم تمر به فتدره كما تدر الملقحة، ثم تمطر، وقال أبو عبيد: يبعث الله الريح المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المؤلفة، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض، فتجعله ركامًا، ثم يبعث اللواقح فتلقحه. اهـ "خطيب". وقرأ حمزة (¬1): {الريح} بالإفراد، وقرأ من عداه: {الرِّيَاحَ} بالجمع، وعلى قراءة حمزة تكون اللام في الريح للجنس، وقالوا: الرياح للخير، والريح للشر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا". والمعنى: أي إن (¬2) من فضله سبحانه وتعالى على عباده وإحسانه إليهم أن أرسل إليهم الرياح لواقح، ويكون ذلك على ضروب: 1 - أن يرسلها حاملات للسحاب، فتلقح بها الأشجار بما تنزل عليها من الأمطار، فتغيرها من حال إلى حال، فتعطيها حياة جديدة، إذ تزدهر أزهارها، وتثمر أغصانها، بعد أن كانت قد ذبلت وصوحت، وأصبحت في مرأى العين كأنها ميتة لا حياة فيها، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}. 2 - أن يرسلها ناقلة لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث، لتخرج الثمر والفواكه للناس. 3 - أن يرسلها لتزيل عن الأشجار ما علق بها من الغبار، لينفذ الغذاء إلى مسامها، فيكون ذلك رياضة للشجر والزرع، كرياضة الحيوان. {فَأَنْزَلْنَا} بعد ما أنشانا بتلك الرياح سحابًا ماطرًا {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من جانب العلو، فإن كل ما علاك فهو سماء، وهو الظاهر هنا، لا الفلك يعني من السحاب {ماء}؛ أي: بعض ماء المطر، كما يفيده التنكير، فإنه معلوم عند الناس علمًا يقينيًّا أنه لم ينزل من السماء الماء كله، بل قدر ما يصلون به إلى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[23]

المنفعة، ويسلمون معه من المضرة {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}؛ أي: جعلنا ذلك المطر سقيًا لكم ولدوابكم وأراضيكم، قال أبو علي: يقال: سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي، وأسقيته نهرًا؛ أي: جعلته شربًا له، وعلى هذا {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أبلغ من سقيناكموه، لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدًّا لهم، يرتفقون به متى شاؤوا، وهي أطول كلمة في القرآن، وحروفها أحد عشر، وحروف {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} عشرة. {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ}؛ أي: لذلك المطر المنزل {بِخَازِنِينَ}؛ أي: بقادرين على إيجاده وخزنه في السحاب، وجمعه فيه، وإنزاله، بل نحن القادرون على إيجاده وجمعه في السحاب وإنزاله، وقيل: المعنى: وما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون، بل نحن نخزن ونجمع في هذه المخازن، ونحفظه فيها، لنجعله لكم سقيًا، ويكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه، مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور. والمعنى: أي فأنزلنا من (¬1) السماء مطرًا، فأسقيناكم ذلك المطر لشرب زرعكم ومواشيكم، وفي ذلك استقامة أمور معايشكم، وتدبير شؤون حياتكم إلى حين، كما قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}؛ أي: ولستم بخازنين الماء الذي أنزلته فتمنعوه من أن أسقيه من أشاء؛ لأن ذلك بيدي، وهو خاضع لسلطاني، إن شئت حفظته، وإن شئت غار في باطنها ويتخلل طبقاتها، فلا أبقي منه شيئًا ينفع الناس والحيوان، ويسقي الزرع الذي عليه عماد حياتكم. والخلاصة (¬2): نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب، وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين. 23 - وبعد أن ذكر نظم المعيشة في هذه الحياة .. ذكر إحياء الإنسان وإماتته فقال: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي} بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة، وتقديم (¬3) الضمير للحصر، وهو إما تأكيد للأول، أو مبتدأ خبره الفعل، والجملة خبر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[24]

لـ {إنَّا}، ولا يجوز كونه ضمير الفصل، لأنه لا يقع إلا بين الاسمين، {وَنُمِيتُ} بإعدامها وإزالتها عنها، وقد يعم الإحياء والإماتة لما يشمل الحيوان والنبات، والله تعالى يحيي الأرض بالمطر أيام الربيع؛ ويميتها أيام الخريف، ويحيي بالإيمان وميت بالكفر؛ أي: إنا نحن نوجد الحياة في المخلوقات، ونسلبها عنها متى شئنا، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته تعالى، وأنه القادر على البعث والنشور، والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه، وتقضيه مشيئته، ولهذا قال: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}؛ أي: للأرض ومن عليها، لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع وجوده، {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أَي: نحن الباقون بعد فناء الخلق، المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي، والمعنى (¬1): أي وإنا لنحيي من كان ميتًا إذا أردنا، ونميت من كان حيًّا إذا شئنا، ونحن نرث الأرض ومن عليها، فنميتهم جميعًا، ولا يبقى حي سوانا، ثم نبعثهم كلهم ليوم السحاب، فيلاقي كل امرئٍ جزاء ما عمل، إن خيرًا وإن شرًّا. 24 - ثم أقام الدليل على إمكان ذلك، وأثبت قدرته عليه فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمنا منكم أيها العباد ولادة وموتًا؛ يعني: الأولين من زمان آدم إلى هذا الوقت (¬2)، واستقدم بمعنى تقدَّم، كما سيأتي في مبحت التصريف، وكذلك استأخر بمعنى تأخر فيما سيأتي، واللام فيه موطئة للقسم كما فسرنا، وكذا اللام في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} منكم موطئة له؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمنا من تأخر منكم ولادة وموتًا، يعني الآخرين إلى يوم القيامة، وقيل: من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل: من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل: المراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء، وقيل: المستقدمون هم الأمم المتقدمون على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمستأخرون: هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: المستقدمون مَنْ قُتل في الجهاد، والمستأخرون من لم يُقتل. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[25]

والمعنى (¬1): أي ولقد علمنا من مضى منكم، وأحصيناهم وما كانوا يعلمون، ومن هو حي، ومن سيأتي بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم، ولا أكمالكم، فليس بالعسير علينا جمعكم يوم التناد للحساب والجزاء، يوم ينفخ في الصور. 25 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {هُوَ} سبحانه وتعالى لا غيره {يَحْشُرُهُمْ}؛ أي: يحشر الخلائق في عرصات القيامة، فيجمع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة، من أطاعه منهم ومن عصاه، ويجازي كلًّا بما عمل، بحسب ما وضع من السنن وقدَّر من ارتباط المسببات بأسبابها، وجعل لكل عمل جزاءً له، فهو المتولي لذلك القادر عليه لا غيره، كما يفيده ضمير الفصل من الحصر، وقرأ (¬2) الأعمش: {يَحْشِرهم} بكسر الشين. ثم أكد هذا وزاده إيضاحًا فقال: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {حَكِيمٌ}؛ أي: (¬3) بالغ الحكمة، متقن في أفعاله، فإنها عبارة عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والإتيان بالأفعال على ما ينبغي، وهي صفة من صفاته تعالى، لا من صفات المخلوقين. وما يسميه الفلاسفة الحكمة هي المعقولات، وهي من نتائج العقل، والعقل من صفات المخلوقين، فكما لا يجوز أن يقال لله العاقل، لا يجوز للمخلوق الحكيم، إلا بالمجاز لمن آتاه الحكمة، كما في "التأويلات النجمية". {عَلِيمٌ} واسع العلم، وسع علمه كل شيء، ولعل تقديم صفة الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء (¬4) فهو تعالى يفعل ما يشاء على مقتضى الحكمة والعدل، وما يؤيده من سعة العلم والفضل. الإعراب {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}. {الر}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة {الر}؛ أي: مسماة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

بهذه اللفظة إن قلنا إنه عَلَمٌ على السورة، وإلا فلا محلَّ لها من الإعراب، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَقُرْآنٍ}: معطوف على {الْكِتَابِ}: وسوغ العطف التغاير في اللفظ مع زيادة الصفة، {مُبِينٍ}: صفة {قرآن}. {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}. {رُبَمَا}: حرف جر وتكثير، ولكن بطل عملها لدخول {ما} الكافة عليها، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية ما الكافة؛ لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها، {يَوَدُّ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وسوغ دخول رب على المضارع مع أنها مختصة بالماضي كونه بمنزلة الماضي في تحقق الوقوع، من حيث إنه من أخبار الله تعالى، وهي صدق لا تتخلف، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، {لَوْ} مصدرية، {كَانُوا مُسْلِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كان} صلة {لَوْ} المصدرية {لَوْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: كثيرًا يود الذين كفروا كونهم مسلمين. ويحتمل كون {لَوْ} حرف شرط وامتناع، جوابها محذوف، وكذا مفعول الود محذوف، والتقدير: ربما يود الذين كفروا النجاة لو كانوا مسلمين لسروا بذلك أو تخلصوا مما هم فيه. {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. {ذَرْهُمْ} فعل أمر ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {يَأْكُلُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون، وكذا تقول في {يَتَمَتَّعوا}، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب {وَيَتَمَتَّعُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يَأْكُلُوا}. {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}: فعل ومفعول، معطوف على {يَأْكُلُوا} على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء؛ لأنه من ألهى يلهي {فَسَوْفَ} {الفاء}: تعليلية، {سوف}: حرف تنفيس واستقبال، {يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {ذَرْهُمْ}.

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل {مِنْ قَرْيَةٍ}: مفعول به، و {مِن}: زائدة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {وَلَهَا} {الواو}: واو الحال، {لها}: خبر مقدم، {كِتَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {مَعْلُومٌ}: صفة {كِتَابٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {قَرْيَةٍ}، وسوَّغ مجيء الحال منها دخول من الزائدة عليها، والتقدير: وما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال كون أجل معلوم لهلاكها، {مَا}: نافية، {تَسْبِقُ}: فعل مضارع، {مِنْ أُمَّةٍ}: فاعل، و {مِنْ} زائدة لتأكيد النفي، {أَجَلَهَا}: مفعول به، والجملة مستأنفة، {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {تَسْبِقُ}، ومتعلق {يَسْتَأْخِرُونَ} محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: عنه ولوقوعه فاصلة، وحمل (¬1) على لفظ {أُمَّةٍ} في قوله: {أَجَلَهَا}، فأفرد وأنث، وعلى معناها في قوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} فجمع وذكر. {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}. {وَقَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {يَا أَيُّهَا الَّذِي} إلى قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل النصب مقول قال، {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أي}، {نُزِّلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَيْهِ}: متعلق به، {الذِّكْرُ}: نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}: ناصب واسمه وخبره، و {اللام} حرف ابتداء، والجملة في محل النصب مقول قال، على كونها جواب النداء، {لَوْ مَا}: حرف تحضيض بمعنى هلَّا، {تَأْتِينَا}: فعل ومفعول، {بِالْمَلَائِكَةِ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في ¬

_ (¬1) الفتوحات.

محل النصب مقول قال، {إن}: حرف شرط، {كُنْتَ}: فعل واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر كان، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، معلوم مما قبلها تقديره: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فأتنا بالملائكة، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول قال. {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. {مَا}: نافية {نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، حال من فاعل {نُنَزِّلُ}؛ أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا تنزيلًا ملتبسًا بالحق {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: نافية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {إِذًا}: حرف جواب وجزاء، ولكن لا عمل لها، لعدم دخولها عل الفعل، {مُنْظَرِينَ}: خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة {نُنَزِّلُ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {نَحْنُ}: تأكيدٌ لاسم {إنَّ} أو مبتدأ، ولا يصح كونه ضمير فصل لعدم وقوعه بين اسمين، {نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في فصل الرفع خبر {إن} أو خبر المبتدأ، وجملة {إن} مستأنفة. {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة {إنا}: ناصب واسمه {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بما بعده، {لَحَافِظُونَ}: خبر {إن} و {اللام} حرف ابتداء، وجملة {إن} معوفة على جملة {إنَّ} الأولى. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: رسلًا، {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة للمفعول المحذوف، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية

{يَأْتِيهِمْ}: فعل ومفعول، {مِنْ رَسُولٍ} ومن زائدة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَد أَرسَلنَا} على كونها جواب القسم، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ} خبر كان، وجملة كان في محل النصب حال مقدرة من مفعول {يَأْتِيهِمْ} تقديره: وما يأتيهم رسول إلا حالة كونهم مستهزئين به، ويجوز (¬1) أن تكون صفة لرسول فيكون في محلها وجهان؛ الجر باعتبار المحل، وإذا كانت حالًا فهي حال مقدرة. {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}. {كَذَلكَ}: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف، {نَسْلُكُهُ} فعل ومفعول، {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين سلكًا مثل يسلكه في قلوب أولئك الكفرة، والجملة الفعلية مستأنفة، {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من {الْمُجْرِمِينَ} أو جملة مفسرة لقوله: {كَذَلِكَ} لا محل لها من الإعراب {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية {لو}: شرطية، {فَتَحْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {بَابًا} مفعول به، {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور صفة لـ {بَابًا}، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ}. {فَظَلُّوا} {الفاء}: عاطفة، {ظَلُّوا} فعل ناقص واسمه، {فِيهِ}: متعلق بحسب بعدها، وجملة {يَعْرُجُونَ} في محل النصب خبر ظل، وجملة {ظَلُّوا} معطوفة على جملة {فَتَحْنَا} على كونها فعل شرط لـ {لَوْ}. ({لَقَالُوا} {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{قالوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب لـ {لَوْ}، وجملة {لو} مستأنفة {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {إنَّمَا}: أداة حصر، {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}. {بَل}: حرف إضراب وابتداء، {نَحْنُ قَوْمٌ}: مبتدأ وخبر، {مَسْحُورُونَ}: صفة لـ {قَوْمٌ} مرفوع بالواو، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا}. {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق، {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {فِي السَّمَاءِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {جَعَلْنَا} إن كان جعل بمعنى خلق، و {بُرُوجًا}: مفعول به، ويجوز (¬1) أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون مفعوله الأول {بُرُوجًا}، ومفعوله الثاني الجار والمجرور، فيتعلق بمحذوف اهـ "سمين"، {وَزَيَّنَّاهَا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {جَعَلْنَا}. {لِلنَّاظِرِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {زينا}. {وَحَفِظْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {جَعَلْنَا}. {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {حفظنا}. {رَجِيمٍ}: صفة لـ {شَيْطَانٍ}. {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}. {إِلَّا}: أداة استثناء {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، {اسْتَرَقَ السَّمْعَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ}، والجملة صلة {مَنِ} الموصولة {فَأَتْبَعَهُ} الفاء: عاطفة {أتبعه}: فعل ومفعول، {شِهَابٌ}: فاعل، {مُبِينٌ}: صفة لـ {شِهَابٌ}، والجملة معطوفة على جملة الصلة، والعائد ضمير المفعول في {أتبعه}. وفي "أبي السعود" قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} (¬2) ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) أبو السعود.

محله النصب على الاستثناء المتصل، إن فسر الحفظ بمنع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق، والوقوف على: ما فيها في الجملة، أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع من دخولها، والتصرف فيها. {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}. {وَالْأَرْضَ}: منصوب على الاشتغال، بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، وبسطنا الأرض مددناها، بسطنا الأرض: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنَا} على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {مَدَدْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب، {وَأَلْقَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة وبسطنا الأرض، {فِيهَا}: متعلق بـ {ألقينا}، {رَوَاسِيَ} مفعول به لـ {أَلْقَيْنا}. {وَأَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على بسطنا، {فِيهَا}: متعلق بـ {أَنْبَتْنَا} والمفعول محذوف، تقديره: ضروبًا، {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة للمفعول المحذوف، {مَوْزُونٍ} صفة لـ {شَيْءٍ}. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل بمعنى وضعنا، معطوف على بسطنا الأرض، {لَكُمْ}: متعلق بـ {جعلنا}، {فِيهَا}: جار ومجرور حال {مَعَايِشَ}، {مَعَايِشَ}: مفعول به، {وَمَن}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {مَعَايِشَ}، {لَسْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {لَهُ}: جار ومجرور، متعلق بما بعده، {بِرَازِقِينَ}: خبر ليس، والباء زائدة. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية {إنْ} نافية، {مِنْ شَيْءٍ}: مبتدأ و {مِنْ} زائدة، وسوَّغ الابتداء بالنكرة وقوعه في سياق النفي، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {عِنْدَنَا}: ظرف ومضاف إليه، خبرٌ مقدم، {خَزَائِنُهُ}: مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية: {نُنَزِّلُهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، {إِلَّا}: أداة استثناء

مفرغ، {بِقَدَرٍ}: متعلق بـ {نزل}، {مَعْلُومٍ}: صفة لـ {قدر}، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية. {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}. {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {جَعَلْنا}. {لَوَاقِحَ}: حال من {الرِّيَاحَ}، {فَأَنْزَلْنَا} {الفاء}: عاطفة، {أنزلنا}: فعل وفاعل معطوف على {أرسلنا}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أنزلنا}، {مَا}: مفعول به بـ {أنزلنا}، {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والواو حرف متولد من إشباع حركة الميم، والجملة معطوفة على جملة {أنزلنا}، {وَمَا} {الواو}: حالية، {مَا}: حجازية أو تميمية {أَنْتُمْ}: اسم {مَا}، أو مبتدأ، {لَهُ}: متعلق بما بعده، {بِخَازِنِينَ}: خبر {ما}، أو خبر المبتدأ، والباء زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير المخاطبين. {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}. {وَإِنَّا} {الواو}: استئنافية، {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَنَحْنُ} {اللام}: حرف ابتداء {نحن}: مبتدأ، {نُحْيِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {وَنُمِيتُ}: فعل مضارع معطوف على {نُحْيِي}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على كونها خبرًا لـ {إنَّ}، {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق {عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ}: فعل ومفعول، {مِنْكُمْ}: حال من {الْمُسْتَقْدِمِينَ}، أو متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا} {الواو}: عاطفة {لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبله، {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {هُوَ}

مبتدأ، وجملة {يَحْشُرُهُمْ} خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره في محل الرفع خير {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {إِنَّهُ حَكِيمٌ}: ناصب واسمه وخبره، {عَلِيمٌ}: خبر ثان لـ {إنَّ} أو صفة لـ {حَكِيمٌ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {رُبَمَا يَوَدُّ} ربما بضم الراء وتخفيف الباء وتشديدها: كلمة (¬1) تدل على أن ما بعدها قليل الحصول أو كثيره، فإذا قيل: ربما زارنا فلان .. دل على أن حصول الزيارة منه قليل، ولكنها هنا للتكثير كما في "مغني اللبيب"، قال أبو حاتم (¬2): أهل الحجاز يخففونها، ومنه قول الشاعر: رُبَّما ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيْلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلاَءِ وتميمٌ وربيعة يثقلونها، وقد تزاد التاء الفوقية، وأصلها: أن تستعمل في القليل، وقد تستعمل في الكثير، وقد جمع (¬3) معناها وشروطها بعضهم في بيتين فقال: خَلِيْلَيَّ لِلتَّكْثِيْرِ رُبَّ كَثِيْرَةٌ ... وَجَاءَتْ لِتَقْلِيْلٍ وَلَكِنَّهُ يَقِلّ وَتَصدِيْرُهَا شَرْطٌ وَتَأخِيْرُ عَامِلٍ ... وَتَنْكِيْرُ مَجَرُوْرٍ بِهَا هَكَذَا نُقِلْ وقيل: هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع، لا في كلها لشغلهم بالعذاب، قيل: و {ما} هنا لحقت رب لتهيئها للدخول على الفعل، {يَوَدُّ} مضارع ودد من باب فعل المسكور، يقال وددت لو تفعل كذا - بالكسر ودًّا بالضم والفتح وودادًا وودادة بالفتح فيهما -؛ أي: تمنيت وددت لو أنك تفعل كذا مثله اهـ "مختار". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات القيومية.

{ذَرْهُمْ}: هذا (¬1) الأمر لا يستعمل له ماض إلا قليلًا استغناء عنه بترك، بل يستعمل منه المضارع نحو: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ومن مجيء الماضي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوا الحبشة ما وذرتكم". {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} الهاء الأولى من بنية الفعل، والثانية مفعول به، يقال ألهاه كذا إذا شغله، ولهى هو عن الشيء يلهى إذا شغل، ومنه قولهم لهيت عن الشيء ألهى لهيًا إذا أعرضت عنه، والأمل التوقع في طول الحياة، وبلوغ الأوطار، واستقامة الأحوال، وفي" المصباح" أملته أملًا - من باب طلب - ترقبته، وأكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله. {لَوْ مَا} مثل هلَّا، كلمة تفيد الحث والحض على فعل ما يقع بعدها، وفي "السمين" لَوْ ما حرف تحضيض كهلا وتكون أيضًا حرف امتناع لوجود، وذلك كما أن لولا مترددة بين هذين المعنيين، وقد عرف الفرق بينهما، وهو أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرًا، والامتناعية لا يليها إلا الأسماء لفظًا أو تقديرًا عند البصريين، واختلف فيها هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟، فقال الزمخشري: لو ركبت تارةً مع لا وتارةً مع ما لمعنيين، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختلف أيضًا في لوما هل هي أصل بنفسها؟، أو فرع من لولا، وأن الميم مبدلة من اللام؟. {فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} والشيع جمع شيعة، وهي الجماعة المتفقة على مبدأ واحد في الدين والمعتقدات، أو المذاهب والآراء، من شاعه إذا تبعه، وأصله الشياع، وهو الحطب الصغار توقد به الكبار، وفي"المصباح": الشيعة الاتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسمًا لجماعةٍ مخصوصة، والجمع شيع مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع. {نَسْلُكُهُ}؛ أي: ندخله، يقال: سلكت الخيط في الإبرة؛ أي: أدخلته فيها، وفي" المختار": السلك بالكسر الخيط، وبالفتح مصدر سلك في الشيء ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية.

فانسلك؛ أي: أدخله فيه فدخل، وبابه نصر قال تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وأسلك لغة فيه، ولم يذكر في الأصل سلك الطريق إذا ذهب فيه، وبابه دخل، وأظنه سها عن ذكره؛ لأنه مما لا يترك قصدًا. {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}؛ أي: يصعدون، يقال: ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار، وهو من أخوات كان الناقصة. {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}؛ أي: سدت ومنعت من الإبصار بالتخفيف والتشديد سبعيتان كما مر، فعلى التخفيف يقال سكرت النهر سكرًا - من باب قتل - سددته، والسكر بالكسر ما يسدُّ به اهـ "مصباح" وقولنا بالتشديد؛ أي: لأجل التكثير والمبالغة اهـ "زاده". {مَسْحُورُونَ}. أي: سحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، بظهور ما أبداه من الآيات. {بُرُوجًا} البروج واحدها برج، وهي النجوم العظام، ومنها نجوم البروج الاثني عشر المعروفة في علم الفلك؛ أي: منازل ومحال وطرقًا تسير فيها الكواكب السيارة. {لِلنَّاظِرِينَ}؛ أي: المفكرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها، وحكمة مدبرها، وفي "السمين": والنظر هنا عينيٌّ، وقيل قلبيٌّ، وحذف متعلقة ليعم. {حفظناها}؛ أي: منعناها. {رَجِيمٍ} والرجيم؛ أي: المرجوم المرمي بالرجام؛ أي: الحجارة، والمراد بالرجيم هنا المرميُّ بالنجوم. {إلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} والاستراق: افتعال من السرقة، وهي أخذ الشيء خفية، شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى، والمسترق المستمع خفية، كما في "القاموس"، والسمع المراد به هنا ما يسمع، واستراق السمع اختلاسه سرًّا. {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} يقال: تبعت القوم تبعًا وتباعةً - بالفتح -؛ أي: مشيت خلفهم، أو مروا بك فمضيت معهم، وأتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، والشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن السحاب في الجوِّ، واختلف المفسرون في المراد من الشهاب هنا على قولين:

أحدهما: أن الذي ينزل على الشيطان نفس الكوكب فيصيبه، ثم يرجع إلى مكانه. والقول الثاني: أن الشهاب الذي يصيب الشيطان شعلة نار تنفصل من الكوكب، وتسميتها بالشهاب مجاز لانفصالها منه اهـ من "الخازن". وأما المبين فمعناه البين الواضح الظاهر، {مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها ومهدناها للسكنى، {رَوَاسِيَ} جمع راسية وهي الجبال الثوابت، يقال وما يرسو رسوًا ورسوًّا، إذا ثبت كأرسى. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} بالياء التصريحية، لأنه من العيش فالياء أصلية، فوجب تصريحها، وذلك لأنها في المفرد أصلية؛ لأن مفرده معيشة من العيش، والمد في المفرد. لا يُقْلب همزًا في الجمع إلا إذا كان زائدًا في المفرد، كما قال ابن مالك: وَالْمَدُّ زيدَ ثَالِثًا فِي الوَاحِدِ ... هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلاَئِدِ؟ وهذا في قراءة الجمهور، وقرىء بالهمز على التشبيه بشمائل، وقد ذكر في الأعراف وهي شاذة اهـ "كرخي". {خَزَائِنُهُ} الخزائن جمع خزانةٍ، وهي المكان الذي تحفظ فيه نفائس الأموال للحفظ، والمراد مفاتيحها، {الرِّيَاحَ} جمع ريح، وهو جسم لطيف منتشر في الهواء كما مر في مبحث التفسير، {لَوَاقِحَ} وفي اللواقح أقوال: أحدها: أنها جمع ملقح، لأنه من ألقح يلقح فهو ملقح، فجمعه ملاقح، فحذفت الميم تخفيفًا، يقال ألقحت الريح السحاب، كما يقال ألقح الفحل الأنثى، وهذا قول أبي عبيدة. والثاني: أنها جمع لاقح، يقال: لقحت الريح إذا حملت الماء، وقال الأزهري: حوامل تحمل السحاب، كقولك ألقحت الناقة إذا حملت الجنين في بطنها، فشبهت الريح بها. والثالث: أنها جمع لاقح على النسب، كلابن وتامر؛ أي: ذات لقاح، قاله الفراء. اهـ "سمين". وفي "المختار": ألقح الفحل الناقة، والريح السحاب،

ورياح لواقح، ولا تقل ملاقح، وهو من النوادر، وفي "القاموس": وألقحت الرياح، فهي لواقح وملاقح. {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}؛ أي: جعلناه لكم سقيًا لمزارعكم ومواشيكم، تقول العرب إذا سَقَت الرجل ماء أو لبنًا .. سقيته، وإذا أعدوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته .. قالوا أسقيته، أو أسقيت أرضه أو ماشيته. {الْوَارِثُونَ} جمع وارث، وجمعه هنا للتعظيم، لأنه لا تاني له تعالى، والوارث في الأصل من يتخلف الميت في تملك تركته، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى؛ لأنه مالك للموجودات بأسرها، أصالة لا خلافة، فوجب جعله مستعارًا لمعنى الباقي بعد فناء خلقه، تشبيها له بوارث الميت في بقائه بعد فنائه اهـ "زاده". {الْمُسْتَقْدِمِينَ} اسم فاعل من استقدم بمعنى تقدم، فالسين زائدة، وكذا {الْمُسْتَأْخِرِينَ} من استأخر بمعنى تأخر، {يَحْشُرُهُمْ}؛ أي: يجمعهم، من حشر من باب نصر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تعريف الكتاب وتنكير القرآن في قوله: {آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} للدلالة على التفخيم والتعظيم، كما ذكره "البيضاوي". ومنها: عطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله: {آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} إشعارًا بأنه الكلام الجامع بين الكتابية والقرآنية، كما في "روح البيان". ومنها: الإتيان بلفظ الغيبة في قوله: {كَانُوا مُسْلِمِينَ} نظرًا إلى أنه مخبر عنهم، ولو نظر إلى الحكاية لقيل: لو كنا مسلمين. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} فالمراد أهلها وهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحال، فالمجاز حينئذٍ في الظرف، ويصح أن يكون من مجاز الحذف.

ومنها: إيراد الفعل على صيغة جمع المذكر في قوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} للحمل على معنى أمة مع التغليب، ولرعاية الفواصل، ولذلك حذف الجار والمجرور، وفيه الإتيان بصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك، مع طلبهم له. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ}. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} لأن (¬1) كلمة إنما تفيد الحصر في المذكور آخرًا، فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير، فكأنهم قالوا: سكرت أبصارنا لا عقولنا، كما في "الجمل". ومنها: الدلالة على التكثير والمبالغة في: {سُكِّرَتْ} على قراءة التشديد، وهي قراءة الجمهور. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} شبه اختطافهم الكلام المسموع بسرعة بأخذ المال خفية، فاستعار له الاستراق بمعنى الاختطاف، فاشتق منه استرق بمعنى اختطف، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} لأن الشهاب حقيقة في شعلة نار ساطعة، فاستعاره للكوكب. ومنها: المجاز في قوله {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} لأنه بمعنى معلوم المقدار، فيكون (¬2) إطلاق الوزن عليه مجازًا؛ لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن كما في "الخازن". ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} (¬3) شبَّه الجبال الرواسي - استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا - بحصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن، وما هو إلا تصوير لعظمته، وتمثيل لقدرته، وأن كل فعل عظيم يتحير فيه الأذهان، فهو هين عليه. ومنها: الاستعارة التخييلية في قوله: {إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} (¬4) شبهت ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

مقدوراته تعالى في كونها مستورة عن علوم العالمين، ومصونة من وصول أيديهم، مع كمال افتقارهم إليها، وكونها مهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه، بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها .. وجدت بلا تأخير، بنفاس الأموال المخزونة السلطانية، فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَوَاقِحَ} حيث شبهت الريح التي تجيء بالخير - من إنشاء سحاب ماطرٍ - بالحامل، كما شبه بالعقيم ما ليس كذلك. ومنها: الاستعارة في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ}؛ لأن السماء حقيقة في الفلك، فاستعارها للسحاب بجامع العلو في كل. ومنها: التنكير في قوله: {مَاءً} إشعار بأن النازل بعض الماء لا كله، بل قدر ما يصلون به إلى المنفعة، ويسلمون معه من المضرة. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي} أكد بالجملة الاسمية، وبإن، وبالضمير. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {نَحْنُ الْوَارِثُونَ} حيث استعار الوارث الباقي بعد فناء الميت، للباقي بعد فناء الخلق كلهم، بجامع حصول البقاء في كلٍّ، بعد فناء غيره. ومنها: الطباق بين: {نُحْيِي} {وَنُمِيتُ}، وبين: {الْمُسْتَقْدِمِينَ} و {الْمُسْتَأْخِرِينَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {خَزَائِنُهُ} و {خَازِنِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نبه (¬1) على منتهى الخلق، وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه .. نبههم على مبدأ أصلهم آدم، وما جرى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى، وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة، عقب ذكر الأمانة والإحياء، والرجوع إليه تعالى، وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة وذكر الموازين فيه، ويأتي ذكرها في الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه، فحيث ذكر منتهى هذا الخلق .. ذكر مبدأهم، وقصته مع عدوه إبليس، ليحذرهم في كيده، ولينظروا ما جرى له معه، حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة، إلى الأرض قر التكليف، فيتحرزوا في يده. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ما أعد لأهل النار .. ذكر ما أعد لأهل الجنة، ليظهر تباين ما بين الفريقين، ولما كان حال المؤمنين معتنىً به .. أخبر أنهم في جنات وعيون، وجعل ما يستقرن فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا، ولذلك جاء: {أدخلوها} على قراءة الأمر؛ لأن من استقر في الشيء .. لا يقال له أدخل فيه، وجاء حال الغاوين موعودًا به في قوله: {لموعدهم} لأنهم لم يدخلوها. وعبارة "المراغي" هنا: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬2) لما ذكر حال أهل الغواية، وبين أنهم في نار جهنم، يخلدون فيها أبدًا، وأنم يكونون في طبقات بعضها أسفل من بعض، بمقدار ما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من المعاصي .. أردفه بذكر حال أهل الجنة، وما يتمتعون به في نعيم مقيم، ووفاق بعضهم مع بعض، لا ضغن بينهم ولا حقد، وهم يتحدثون على سرر متقابلين، ولا يجدون مس التعب والنصب، ولا يخرجون منها أبدًا. قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ...} الآيات، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر ما أوعد به أهل الغواية في يوم القيامة من دخول جهنم، وذكر أنها دركات لأولئك الغاوين، بحسب اختلاف أحوالهم، بمقدار ما دنسوا به أنفسهم، من اتخاذ الأنداد والشركاء، وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم أعقبه بذكر ما أعد لعباده المؤمنين، من الجنات والعيون، والنعيم المقيم، والراحة التي لا نصب بعدها ولا تعب، وجلوس بعضهم مع بعض يتنادمون، ويتجاذبون أطراف الأحاديث، وهم في سرور وحبور على سرر متقابلين .. أردف ذلك فذلكة وخلاصة لما سبق، فأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأن عذابه مؤلم لمن أصروا على المعاصي، ولم يتوبوا منها، ثم فصل ذلك الوعد والوعيد فذكر البشارة لإبراهيم بغلام عليم. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬2) الثعلبي عن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)} فر ثلاثة أيام هاربًا من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} فوالذي بعثك بالحق قطعت قلبي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)}. قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عليِّ بن الحسين: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر يعني قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قيل: وأي غل؟ قال: غلُّ الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل عليٌّ يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ...} الآيتان، سبب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[26]

نزولهما: ما أخرجه (¬1) الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفرٍ من أصحابه يضحكون، فقال: "أتضحكون والنار بين أيديكم؟ " فنزلت هذه الآية {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}، وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اطلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: "لا أراكم تضحكون، ثم أدبر، ثم رجع القهقرى، فقال: "إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر .. جاء جبريل فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول لك لم تقنط عبادي؟ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. التفسير وأوجه القراءة 26 - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا وأوجدنا {الْإِنْسَانَ}؛ أي: آدم سمي إنسانًا لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي اهـ "خازن" أو (¬2) خلقنا هذا النوع الإنساني بأن خلقنا أصله وأول فردٍ من أفراده خلقًا بديعًا منطويًا على خلق سائر أفراده إنطواءً إجماليًّا. {مِنْ صَلْصَالٍ}؛ أي: من طين يابس غير مطبوخ، يصلصل؛ أي: يصوت عند نقره، وإذا طبخ؛ أي: مسته النار .. فهو فخار؛ أي: خلقنا آدم من صلصال كائن {مِنْ حَمَإٍ}؛ أي: من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء {مَسْنُونٍ} صفة حمأ؛ أي: منتنٍ، أو مصور بصورة آدمي، من سنة الوجه، وهي صورته، أو مصبوب من سنَّ الماء إذا صبه؛ أي: مفرغ على هيئة الإنسان، كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب، كالرصاص والنحاس ونحوهما، كأنه سبحانه أفرغ الحمأ، فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس، إذا نقر صوَّت، ثم غيره إلى جوهر آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. قال المفسرون (¬3): خلق الله آدم عليه السلام من طين، فصوره وتركه في ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[27]

الشمس أربعين سنة، فصار صلصالًا كالخزف، ولا يدري أحد ما يراد به، ولم يروا شيئًا من الصور يشبهه، إلى أن نفخ فيه الروح. والمعنى (¬1): وعزتي وجلالي لقد خلقنا أول فرد من أفراد الإنسان من طين يابس، يصلصل ويصوت إذا نقر، أسود متغير مفرغ في قالب ليجف، ويبس كالجواهر المذابة التي تصب في القوالب، ونحو الآية قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} وقد جاء خلق آدم على أطوار مختلفة، وكان أوَّلًا ترابًا، كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ثم كان طينًا كما قال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} ثم كان صلصالًا من حمأ مسنون، كما جاء في هذه الآية، وإنما خلقه على ذلك ليكون خلقه أعجب وأتم في الدلالة على القدرة. 27 - {وَالْجَانَّ} منصوب على الإشتغال {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل خلق آدم عليه السلام، قال ابن عباس (¬2): الجان أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، وقال قتادة: هو إبليس، وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين، وفي الجن مسلمون وكافرون، يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات إبليس، وقال وهب: إن من الجن من يولد له، ويأكلون ويشربون، وهم بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هو بمنزلة الريح، لا يتوالدون ولا يشربون ولا يأكلون، وهم الشياطين، والأصح (¬3) أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سموا جنًّا لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم: جن الليل إذا ستر، والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر. {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}؛ أي: من نار هي السموم، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع؛ أي: النار السموم، كما ذكره في "البحر"؛ أي: "من" نار هي الريح الحارة، النافذة في مسام الإنسان من لطفها وقوة حرارتها فتقتله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) الخازن.

والمسام ثقب الشعر في البدن، وتعمُّ جميع ثقبه كالفم والمنخر والأذن، فإن السموم في اللغة الريح الحارة، والريح الحارة فيها نار، والفرق بين السموم والحرور: أن السموم الريح الحارة التي تكون في النهار، والحرور الريح الحارة التي تكون بالليل، وقد تكون بالنهار، وقال أبو صالح: السموم نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء والحجاب، فإذا حدث أمر .. خرقت الحجاب، فهوت إلى ما أمرت به، فالهدة التي تسمعون من خرق ذلك الحجاب، وقيل: من نار السموم؛ أي: من نار جهنم، وقال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءًا من السموم التي خلق منها الجانُّ، وتلا هذه الآية، وقال ابن عباس: كان إبليس من حيٍّ من الملائكة يسمون الجان، خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وخلقت الملائكة من النور، وذكر (¬1) خلق الإنسان والجان في هذا الموضع للدلالة على القدرة الإلهية، وبيان أن القادر على النشاة الأولى قادر على النشأة الأخرى. وقدم (¬2) خلق الإنسان على الجان، مع أنه خلق قبله تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله، وكان بين خلق آدم والجن ستون ألف سنة، واتفق أهل العلم من أهل التحقيق على أن عالم الملك مقدم خلقه على عالم الجان، وعالم الجان مقدم على عالم الإنسان، وانتقل ملك الدنيا إلى آدم، ليحصل له الاعتبار بالسابقين، ويظهر له الفضل على الكل بتأخيره عن جميع المخلوقات، لأنه كالخاتم على الباب، وهو خاتم المخلوقات، ونتيجة الكائنات، ونسخة الكليات من المحسوسات والمعقولات، وبه تم كمال الوجود، لتحققه بوصفي الجمال والجلال، واللطف والقهر، بخلاف الملك فإنه مخلوقٌ على جناح واحد هو اللطف، ولم يكن قبل آدم خلق من التراب، فخلق آدم منه ليكون عبدًا خضوعًا وضوعًا ذلولًا مائلًا إلى السجود؛ لأنه مقام العبودية الكاملة، فكل جنس يميل إلى جنسه، ولهذا تواضع آدم لله، واستكبر إبليس عن التواضع، فأبى وعلا وتكبر، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[28]

فمال إلى جنسه؛ لأنه خلق من نار. والمعنى (¬1): أي وخلقنا هذا الجنس من نار الريح الحارة، التي لها لفح وتقتل من أصابته، وعلينا أن نؤمن بأن الجن خلقت من النار، ولكنا لا نعرف كُنْهَ ذلك ولا حقيقته، فذلك ما لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحي، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {والجَأْن} بالهمز، ذكره في "البحر". 28 - وبعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان الأول في معرض الاستدلال على قدرته .. ذكر ما قاله للملائكة في شأنه فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ}؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} {لِلْمَلَائِكَةِ} الذين كانوا (¬2) في الأرض، وهم كانوا عشرة آلاف، كذا قالوا، والظاهر العموم وعدم التخصيص، لأنه تخصيص بلا مختص ولا نص {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا}؛ أي: إني أخلق آدميًّا ظاهر البشرة غير مستورها بالشعر، لأنه جسم كثيف ظاهر الجلد، والبشر مأخوذ من البشرة، وهي ظاهر الجلد، وعبر باسم الفاعل الدال على التحقيق إشعارًا بتحققه {مِنْ صَلْصَالٍ} أي من طينٍ يابسٍ مصوت عند نقره، متعلق بـ {خَالِقٌ}، أو صفة لـ {بَشَرًا}؛ أي: بشرًا كائنًا من صلصال كائن {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}؛ أي: من طين أسود منتن. شاورهم الله سبحانه وتعالى بصورة الامتحان، ليميز الطيب؛ أي: الملك من الخبيث؛ أي: إبليس، فسلم الملك وهلك إبليس، ولذلك قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وقيل: أخبرهم سبحانه بتكوين آدم قبل أن يخلقه، ليوطنوا أنفسهم على فناء الدنيا، وزوال ملكوتها، كما قال تعالى لآدم {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} والسكنى لا تكون إلا على وجه العارية، ليوطن نفسه على الخروج من الجنة 29 - {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}؛ أي: سويت خلقه، وعدلت صورته الإنسانية، وكملت أجزاءه. {وَنَفَخْتُ}؛ أي: وأجريت وأدخلت {فِيهِ}؛ أي: في ذلك الإنسان المسوى {مِنْ رُوحِي} {مِنْ} زائدة؛ أي: نفخت فيه روحي، أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) تنوير المقباس.

[30]

تبعيضية أي: نفخت فيه روحًا هي بعض الأرواح التي خلقتها؛ أي: أدخلتها وأجريتها فيه، والإضافة في روحي للتشريف، كبيت الله، وناقة الله، كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله تعالى، قال القرطبي: والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم، انتهى. والنفخ (¬1) إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها، فإذا كملت استعداده، وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي من أمري .. {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}؛ أي: فاسقطوا وخروا، حالة كونكم ساجدين تجاه ذلك الإنسان سجود تحية وإكرام، لا سجود عبادة وتعظيم، بأن تسجدوا لله متوجهين لآدم، كالقبلة تشريفًا له، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته بما يشاء وكيف يشاء، وفي قوله: {فَقَعُوا} (¬2) دليل على أنه ليس المأمور به مجرد الإنحناء كما قيل؛ أي: اسقطوا له ساجدين، امتثالًا لأمر الله تعالى، وتحية لآدم وتكريمًا له، واسجدوا لله على أنه عليه السلام بمنزلة القبلة، حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته وحكمته 30 - {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح، وجعل فيه الحياة، فسجد له الملائكة {كُلُّهُمْ} بحيث لم يشذ منهم أحد أرضيًّا كان أو سماويًّا {أَجْمَعُونَ} بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن السجود، بل سجدوا مجتمعين دفعة واحدة، ولا ريب في أن السجود معًا أكمل أصناف السجود فيحمل عليه، 31 - {إِلَّا إِبْلِيسَ} كان (¬3) بينهم مأمورًا معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب، كقولك: رأيتهم إلا هذا، وجملة قوله {أَبَى} إبليس وامتنع {أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}؛ أي: أن يكون مع الملائكة الذين أمروا بالسجود، {فسجدوا} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبي ذلك واستكبر عنه؛ أي: عدم سجوده لم يكن من تردده، بل من إبائه واستكباره، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا، فيتصل به ما بعده؛ أي: لكن إبليس أبي أن يكون معهم في السجود لآدم استكبارًا واستعظامًا لنفسه، وحسدًا لآدم ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان. (¬3) الكشاف.

[32]

فحقت عليه كلمة الله تعالى. 32 - وجملة قوله: {قَالَ} الله عَزَّ وَجَلَّ {يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ}؛ أي: أَيُّ عذر لك {أَلَّا تَكُونَ}؛ أي: في أن لا تكون {مَعَ السَّاجِدِينَ} لآدم، مستأنفة أيضًا، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله سبحانه وتعالى لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا (¬1) الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ. والمعنى: أيُّ غرض لك في الامتناع من السجود، وأيُّ سبب حملك على أن لا تكون مع الساجدين لآدم من الملائكة وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها. فإن قلت: كيف (¬2) يعقل هذا الخطاب، مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب، وأشرف المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة؟ قلتُ: إن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصبًا عاليًا إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام، فأما إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا اهـ. "كرخي". 33 - {قَالَ} إبليس، وهو استئناف بياني أيضًا {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} واللام لتأكيد النفي؛ أي: ينافي حالي، ولا يستقيم مني، ولا يليق بي وأنا جوهر روحاني أن أسجد {لِبَشَرٍ}؛ أي: لجسم كثيف {خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ}؛ أي: من طين يابس كائن {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}؛ أي: من طين أسود منتن، جعل (¬3) العلة لترك سجوده كون آدم بشرًا مخلوقًا من صلصال من حمأ مسنون، زعمًا منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرًا منه، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، وقال في موضع آخر: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} 34 - فأجاب الله سبحانه عليه بقوله: {قَالَ} الله تعالى لإبليس اللعين: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي: من الجنة، أو من السماء، أو من زمرة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني.

[35]

الملائكة، أمر إهانة وإبعاد، كما في قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ}، وخروجه (¬1) من الجنة لا ينافى دخولها بطريق الوسوسة، وكذا يستلزم خروجه من السموات أيضًا {فإنك رجيم}؛ أي: مطرود من رحمة الله، ومن كل خير وكرامة، من الرجم بالحجارة؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة، أو من الرجم بالشهب، وهو كناية عن كونه شيطانًا؛ أي: من الشياطين الذين يرجمون بالشهب، والفاء في قوله: {فَاخْرُجْ} واقعة في (¬2) جواب شرط مقدر؛ أي: فحيث عصيت وتكبرت فأخرج منها، وفي قوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليلة. 35 - {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ}؛ أي: الطرد والإبعاد عن الرحمة، أو إن عليك لعنتي كما في سورة ص، فأل عوض عن المضاف إليه، فاختلاف العبارة للتفنن فلا اعتراض. {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي يوم الجزاء؛ أي: إنك مدعو عليه باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الحساب، من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم .. عذب عذابًا ينسى اللعن معه، فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل، بسبب أن شدة العذاب تذهل، أو المعنى: عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرًّا عليك لازمًا لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وجعل يوم القيامة غاية للعنةٍ لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت؛ لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين للمبالغة، كما في قوله تعالى: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} في التأبيد، ويؤيده وقوع اللعن في ذلك اليوم كما قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهو لعن مقارن بالعذاب الأليم، نسأل الله الفوز والسلامة. فإن قلت (¬3): إن حرف إلى لانتهاء الغاية، فهل ينقطع اللعن عنه يوم الدين، الذي هو يوم القيامة؟ قلتُ: لا بل يزداد عذابًا إلى اللعنة التي عليه، كأنه قال تعالى: وإن عليك اللعنة فقط إلى يوم الدين، ثم تزداد بعد ذلك عذابًا دائمًا مستمرًا لا انقطاع له. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

وحاصل معنى قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} الآيات؛ أي (¬1): واذكر أيها الرسول لقومك، حين نوه ربكم بذكر أبيكم آدم في ملائكته قبل خلقه، وتشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عن السجود له، من بين سائر الملائكة حسدًا وعنادًا واستكبارًا بالباطل، فقال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} إلخ. وحكي عنه في آية أخرى أنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، وتقدم هذا القصص في سورة الأعراف، وقلنا هناك: إن الأمر بالسجود أمرٌ تكليفي، وأنه قد وقع حوار بين إبليس وربه، ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، إذ جعل الملائكة - وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم - مسخرين لآدم وذريته، وجعل هذا النوع الإنساني مستعدًا للانتفاع بالأرض كلها، لعلمه بسنن الله فيها، وعمله بهذا السنن فانتفع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها، وبذا أظهر حكمة الله في خلقها، واصطفى بعض أفراده بوحيه ورسالته، وجعلهم مبشرين ومنذرين، وجعل الشيطان عاصيًا متمردًا على الإنسان وعدوا له، وجعل النفوس البشرية وسطًا بين النفوس الملكية، المفطورة على طاعة الله، وإقامة سننه في صلاح الخلق، وبين أرواح الجن الذين يغلب على شرارهم الشياطين التمرد والعصيان. وقد ذكر سبحانه حجاج إبليس، وذكر سبب امتناعه عن السجود لآدم بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، والنار خير من الطين، وأشرف منه، والشريف لا يعظم من دونه، ولو أمره ربه بذلك. وفي هذا ضروب من الجهالة (¬2)، وأنواع من الفسق والعصيان، فإنه: 1 - اعترض على خالقه بما تضمنه جوابه. 2 - احتج عليه بما يؤيد اعتراضه. 3 - جعل امتثال الأمر موقوفًا على استحسانه وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق، وترفع عن مرتبة العبودية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[36]

4 - استدل على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمر اعتباريُّ، تختلف فيه الآراء، كما أن الملائكة خلقوا من النور، وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالًا لأمر ربهم. 5 - قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة والطاعة لربهم. 36 - {قَالَ} إبليس - عليه لعنة الله -: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي}؛ أي: أخرني، وأمهلني، ولا تمتني، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}؛ أي: آدم وذريته، للجزاء بعد فنائهم، والبعث إحياء الميت، كالنشر، والفاء (¬1) واقعة في شرط مقدر دل عليه قوله: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي إذا جعلتني رجيمًا .. فأمهلني، وأخرني إلى يوم يبعثون، وهو يوم القيامة، أراد الملعون بذلك السؤال أن لا يذوق الموت لاستحالته بعد يوم البعث، وأن يجد فسحة لإغوائهم؛ ويأخذ منهم ثأره، 37 - فأجابه إلى الثاني دون الأول كما قال تعالى: {قَالَ} الله سبحانه وتعالى {فَإِنَّكَ} يا لعين {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}؛ أي: من المؤجلين الذين أخرت آجالهم أزلًا، ودل على أن ثمة منظرين غير إبليس، وهم الملائكة، فهم ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يموتون إلى آخر الزمان، وأما الشياطين فذكور وإناث يتوالدون، ولا يموتون بل ينظرون كما أنظر إبليس، وأما الجن فيتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون. 38 - ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها فقال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}؛ أي: المعين عند الله تعالى، لا يتقدم ولا يتأخر، وهو وقت موت الخلق عند النفخة الأولى، ثم لا يبقى بعد ذلك حي إلا الله تعالى أربعين سنة، إلى النفخة الثانية، وأراد اللعين بهذا السؤال أنه لا يموت أبدًا؛ لأنه إذا أمهل إلى يوم البعث الذي هو وقت النفخة الثانية لا يموت بعد ذلك؛ لانقطاع الموت حين النفخة الأولى، فعلم أنه إذا أمهل إلى يوم البعث .. أمهل إلى الأبد، فأجابه الله تعالى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

بقوله: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} يعني الوقت الذي يموت فيه جميع الخلائق، وهو وقت النفخة الأولى، فتموت فيها، ثم تبعث مع الناس، فمدة موته أربعون سنة، وهي ما بين النفختين، ولم تكن إجابة الله له في الإمهال إكرامًا له، بل زيادة في شقاوته وعذابه اهـ "خازن". 39 - {قَالَ} إبليس {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} {الباء} للقسم و {ما} مصدرية، وجواب القسم قوله: {لَأُزَيِّنَنَّ}؛ أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن {لَهُمْ}؛ أي: لذرية آدم، المعاصي والشهوات واللذات، فالمفعول محذوف {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في الدنيا التي هي دار الغرور، كما في قوله: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} لأن الأرض محل متاعها ودارها، وفي "التِبْيان": أُزين لهم المقام في الأرض، كي يطمئنوا إليها، وإقسامه بعزة الله المفسرة بسلطانه كما في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ} لا ينافي إقسامه بهذا الإغواء، فإنه فرع من فروعها، وأثر من آثارها، فلعله أقسم بهما جميعًا، فحكى تارة قسمه بصفة فعله وهو الإغواء، وأخرى بصفة ذاته وهي العزة، والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به، فلا يلتفتون إلى غيرها {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ}؛ أي: ولأحملنهم {أًجْمَعِينَ} على الغواية والضلالة 40 - {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ}؛ أي: من ذرية آدم؛ أي: إلا عبادك {المُخْلَصِينَ} منهم، الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من شوائب الشرك الجلي والخفي، فلا يعمل فيهم كيدي، فإنهم أهل التوحيد الحقيقي، على بصيرة من أمرهم ويقظة، وكفاك في شرف الصدق أن اللعين ما رضي لنفسه الكذب حتى استثنى المخلصين. والمعنى (¬1): أي قال إبليس: رب بسب إغوائك إياي وإضلالي لأزينن لذرية آدم، وأحببن إليهم المعاصي، وأرغبهم فيها، ولأغوينهم كما أغويتني وقدرت علي ذلك، إلا من أخلص منهم لطاعتك، ووفقته لهدايتك، فإن ذلك مما لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وقرأ الكوفيون ونافع والحسن والأعرج (¬2): {المخلَصين} بفتح اللام، ومعناه: أي اللذين أخلصهم الله تعالى للطاعة، بالتوفيق والعصمة، وعصمهم من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[41]

كيد إبليس، فلا يؤثر فيه تزييني، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسرها، في كل القرآن؛ أي: إلا من أخلص العمل لله، ولم يشرك فيه غيره ولا رأى به؛ أي: الذين أخلصوا دينهم عن كل شائب يناقض التوحيد، قال أحمد ابن حنبل - رحمه الله تعالى -: أعداؤك أربعة: 1 - الدنيا، وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة. 2 - والشيطان، وسلاحه الشبع وسجنه الجوع. 3 - والنفس، وسلاحها النوم وسجنها السهر. 4 - والهوى، وسلاحه الكلام وسجنه الصمت. 41 - قال الله تعالى لإبليس: {هَذَا} الإخلاص الذي يكون في عبادي {صِرَاطٌ}؛ أي: طريق {عَلَيَّ} مراعاته وحفظه، لا سبيل لك عليه، وقيل: علي بمعنى إلى؛ أي: هذا الإخلاص طريق إليَّ؛ أي: يؤدي إلى كرامتي وثوابي {مُسْتَقِيمٌ}؛ أي: قويم لا عوج فيه. ولا انحراف، وقرأ الضحاك (¬1)، وإبراهيم، وابن سيرين، وأبو رجاء، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد وعمرو بن ميمون، وعمارة ابن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب: {عَلَيُّ} بكسر السلام وبالرفع والتنوين على أنه صفة لـ {صِرَاطٌ}؛ أي: هذا الإخلاص طريق رفيع عالٍ، لارتفاع شأنه، مستقيم لا عوج فيه، وهذه القراءة على أن الإشارة إلى الإخلاص، فإيثار (¬2) حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة، والشهادة باستعلاء من ثبت عليه، فهو أدل على التمكين من الوصول، ومو تمثيل؛ إذ لا استعلاء لشيء على الله تعالى، 42 - والإضافة في قوله: {إِنَّ عِبَادِي} إضافة تشريف؛ أي: إن عبادي المخلصين الذين ذكرتهم {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على إغوائهم {سُلْطَانٌ}؛ أي: قدرة أصلًا؛ أي: لا تسلط لك عليهم، بإيقاعهم في ذنب يهلكون به، ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور، لوقوع التوبة عنه، وقيل المراد بعبادي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[43]

العموم، ليصح الاستثناء منه في قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}؛ أي: إن عبادي سواء كانوا مخلصين، أو لم يكونوا مخلصين ليس لك عليهم تسلط، وتصرف بالإغواء، إلا من اتبعك باختيارهم من الغاوين؛ أي: الضالين، فإن له عليهم سلطانًا، بسبب كونهم منقادين له فيما يأمرهم به، وفيه إشارة إلى أن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان، بمعنى القهر والجبر، بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم، فيسلط عليهم بالوسوسة والتزيين. والمعنى: إن عبادي لا سلطان لك على أحد منهم، سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، لكن من اتبعك باختياره .. صار من أتباعك، وقال سفيان بن عيينة: ليس لك عليهم قوة ولا قدرة على أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي. والخلاصة (¬1): أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانًا، بقوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فأكذبه الله بقوله: {إِنَّ عِبَادِي} إلخ. 43 - {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} سجن الله في الآخرة، {لَمَوْعِدُهُمْ}؛ أي: لمكان وعد المتبعين الغاوين {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير، والعامل (¬2) الإضافة يعني الاختصاص، لا اسم مكان فإنه لا يعمل، أو حال منه؛ أي: وإنَّ جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، وهي مقرهم وبئس المهاد، جزاء ما اجترحوا من السيئات، وكفاء ما دنسوا به أنفسهم من قبيح المعاصي. و {جَهَنَّمَ}: معرب، فارسي الأصل، وفي "تفسير الفاتحة" للفناري: سميت جهنم لبعد قعرها، يقال: بئر جهنام؛ أي: بعيدة القعر، وقعرها خمس وسبعون مئة من السنين، وهي أعظم المخلوقات، سجن الله في الآخرة، 44 - {لَهَا}؛ أي: لجهنم {سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}؛ أي: سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والضلالة، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: بأنها جهنم، والسعير، ولظى، والحطمة، وسقر، والجحيم، والهاوية، وهي أسفلها، وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها؛ أي: لها سبعة أبواب، كل باب فوق باب، على قدر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

الطبقات، لكل طبقة باب. {لِكُلِّ بَابٍ} من تلك الأبواب المنفتح على طبقة من الطبقات. وقوله: {مِنْهُمْ}؛ أي: من الأتباع الغواة حالٌ من قوله: {جُزْءٌ مَقْسُومٌ}؛ أي: قدر معلوم وضرب معين مفرز من غيره، حسبما يقتضيه استعداده، قال ابن جريج: النار سبع دركات، وهي جهنم ثم لظى ثم السعير ثم الجحيم ثم الهاوية، فأعلاها للعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات، ثم ما بعدها تحتها وهكذا، ولا ريب أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه لا يبقى مخلدًا في جهنم، فتبقى جهنم خالية، وأما الطبقات السافلة فأهلها خالدون، واختلفت الروايات في ترتيب طبقات النار، وفي الأكثر جهنم أوَّلها، وفيما بعدها اختلاف أيضًا، وليس في هذا كله أثر مرفوع يمكن أن يركن إليه ويجعل حجة فيه، وقيل: خلق (¬1) الله تعالى للنار سبعة أبواب، دركات بعضها تحت بعضٍ، وللجنة ثمانية أبواب، درجات بعضها فوق بعض؛ لأن الجنة فضل، والزيادة في الفضل والثواب كرم، وفي العذاب جور، وقيل: الأذان سبع كلمات، والإقامة ثمان، فمن أذن وأقام .. غلقت عنه أبواب النيران، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية. وفي "الخطيب": تنبيه: تخصيص (¬2) هذا العدد، لأن أهلها سبع فرق، وقيل جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة، من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل؛ لأنها مصادر السيئات، فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينيها مصادر الحسنات بشرط النية، والنية من أعمال القلب .. زادت الأعضاء واحدًا، فجعلت أبواب الجنة ثمانية. والمعنى: أن الله تعالى يجزيء أتباع إبليس سبعة أجزاء، فيدخل كل جزء وقسم دركة من النار، والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة، فلذلك اختلفت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخطيب.

[45]

مراتبهم في النار. 45 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}؛ أي: إن الذين اتقوا الله وخافوا عقابه، فأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه يمتعون {فِي جَنَّاتٍ} وبساتين، تجري من تحتها الأنهار {وَعُيُونٍ}؛ أي: وأنهار من ماء غير أسنٍ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه أي: مستقرون فيها، لكل واحد منهم جنة وعين، على ما تقضِ قاعدة مقابلة الجمع بالجمع، ويقال لهم عند وصولهم إلى الباب: ادخلوها بسلام آمنين، والقائل هو الله تعالى، أو بعض ملائكته؛ أي: ادخلوا الجنة، حالة كونكم متلبسين بسلام من الآفات والمنغصات، آمنين من سلب تلك النعم التي أنعم بها ربكم عليكم، وأكرمكم بها، تخافون إخراجًا ولا فناءً ولا زوالًا، أو مسلِّمين بعضكم على بعض، أو مسَلَّمَا عليكم من الملائكة، أو من الله عز وجل. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام (¬1): {وعيون} بضم العين، وباقي السبعة بكسرها، 46 - وقرأ الحسن {أَدْخلُوها} ماضيًا مبنيًّا للمفعول من الإدخال، وقرأ يعقوب في رواية رويسٍ كذلك، وبضم التنوين، وعنه فتحه، وما بعده أمر على تقدير: أدخلوها إياهم، من الإدخال، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة، وتسقط الهمزة في القراءتين، وقرأ الجمهور: {ادْخُلُوهَا} أمرٌ من الدخول، فعلى قراءتي الأمر ثَم محذوف؛ أي: يقال لهم، أو يقال للملائكة. 47 - {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ}؛ أي: أخرجنا ما في قلوبهم {مِنْ غِلٍّ}؛ أي: من حقد وحسد وبغض وعداوة كامنة، كانت بينهم في الدنيا، وصفيناهم منها، وقوله: {إِخْوَانًا} حال (¬2) من الضمير في {جَنَّاتٍ}؛ أي: إن المتقين مستقرون في جنات وعيون، حالة كونهم إخوة في المحبة والمودة والتعاطف، وزاد في هذه السورة {إِخْوَانًا} لأنها نزلت في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما سواها عام في المؤمنين، وحالة كونهم {عَلَى سُرُرٍ} مكللة بالجواهر، جمع سرير، وقيل هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، وحالة كونهم {مُتَقَابِلِينَ}؛ أي: يقابل بعضهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[48]

بعضًا، وينظر بعضهم وجه بعض، لدوران الأسرة بهم؛ أي إنهم (¬1) إذا اجتمعوا وتلاقوا، ثم أرادوا الانصراف .. يدور سرير كل واحد منهم بحيث يسير راكبه مقابلا بوجهه لمن كان عنده، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير، وهذا أبلغ في الأنس والإكرام. اهـ شيخنا. والمعنى: وأخرجنا (¬2) ما في صدور هؤلاء المتقين - الذين ذكرت صفتهم - من الحقد والضغينة من بعضهم لبعض، روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من غلٍّ، ثم قرأ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}. 48 - والخلاصة: أن الله طهر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غلٍّ، وألقى فيها التواد والتحاب والتصافي، حالة كونهم {لَا يَمَسُّهُمْ}؛ أي: لا يمس المتقين ولا يصبهم {فِيهَا}؛ أي: في الجنة {نَصَبٌ}؛ أي: تعب (¬3) وإعياء، لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة؛ لأنها نعيم خالص، ولذة محضة، تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوًا وعفوًا، روى الشيخان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب". {وَمَا هُمْ مِنْهَا}؛ أي: عن الجنات والعيون {بِمُخْرَجِينَ} أبد الآباد؛ لأن تمام النعمة بالخلود؛ أي: وهم خالدون فيها أبدًا لا يبرحونها، يشعرون بلذة النعيم ودوامه، فهم في خلود بلا زوال، وكمال بلا نقصان، وفوز بلا حرمان. والخلاصة (¬4): أن المسرة بالنعيم لا تتم إلا إذا توافرت فيه أمور: 1 - أن يكون مقرونًا بالتعظيم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)}. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[49]

2 - أن يكون خالصًا من شوائب الضرر، روحانية كانت كالحقد والحسد والغضب، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}، أو جسمانية كالإعياء والتعب، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ}. 3 - أن يكون دائمًا غير قابل للزوال، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وفي هذا (¬1) الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعمته، وتكدر لذته. 49 - ثم قال سبحانه وتعالى بعد أن قص علينا ما عنده للمتقين من الجزاء العظيم والأجر الجزيل {نَبِّئْ} يا محمد {عِبَادِي}؛ أي: أعلمهم وأخبرهم بـ {أَنِّي أَنَا} وحدي، فهو لقصر المسند على المسند إليه {الْغَفُورُ}؛ أي: الكثير المغفرة لذنوبهم {الرَّحِيمُ}؛ أي: الكثير الرحمة لهم، كما حكمت به على نفسي، إن رحمتي سبقت غضبي، اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة، وانغمسوا في بحار الرضا والمحبة. ثم إنه لما أمر رسول الله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة .. أمر بأن يذكر لهم شيئًا مما يضمن التخويف والتحذير، حتى يجتمع الرَّجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير، ليكونوا راجين خائفين فقال: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}؛ أي: الكثير الإيلام. والمعنى (¬2): أخبر أيها الرسول عبادي أنني أنا الذي أستر ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها، وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم، بأن لا أعذبهم بعد توبتهم منها، وفي قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي} إيماء إلى أنه ينبىء كل من كان معترفًا بعبوديته، فيشمل ذلك المؤمن المطيع والعاصي، ولا يخفى ما في ذلك من تغليب جانب الرحمة من قبله تعالى على جانب العقاب، ومن الأمر لهم بالإنابة والتوبة، وأخبرهم أيضًا بأن عذابي لمن أصر على المعاصي، وأقام عليها، ولم يتب منها، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[50]

هو العذاب المؤلم الموجع، الذي لا يشبهه عذاب آخر، وفي هذا تهديد شديد وتحذيرٌ لخلقه أن يقدموا على معاصيه. وفي هذه الآية لطائف (¬1): منها: أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه بقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي} وهذا تشريف وتعظيم لهم، ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء .. لم يزد على قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} فكل من اعترف على نفسه بالعبودية لله تعالى فهو داخل في هذا التشريف العظيم. ومنها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا ذكر الرحمة والمغفرة .. بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة، أولها: قوله: {أَنِّي} وثانيها: {أَنَا}، وثالثها: إدخال الألف واللام في: {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة، 50 - ولما ذكر العذاب .. لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} على سبيل الإخبار. ومنها: أنه سبحانه وتعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يبلغ عباده هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة لعباده، ثم ذكر سبحانه قصصًا تقدم مثله بأسلوب آخر في سورة هود. 51 - وبدأ قصص إبراهيم عليه السلام فقال: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)} الخليل عليه السلام، وهذا معطوف على ما قبله؛ أي: وأخبر يا محمد عبادي عن قصة ضيف إبراهيم، وقرأ أبو حيوة: {ونبِّيْهم} بإبدال الهمزة ياء، وأصل الضيف الميل، يقال: ضفت إلى كذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولًا بك، وصارت صفة الضيافة متعارفة في القرى، وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم، وقد يجمع فيقال: أضياف وضيوف وضيفان، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى ليبشروا إبراهيم بالولد، ويهلكوا قوم لوط، وفيهم جبريل وميكائيل عليهما السلام، ¬

_ (¬1) الخازن.

[52]

52 - وانتصاب {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} بفعل مضمر معطوف على {نَبِّئْ عِبَادِي}؛ أي: واذكر لهم دخولهم عليه، {فَقَالُوا} عند دخولهم عليه: {سَلَامًا}؛ أي: نسلم عليك سلامًا، {قَالَ} سلام عليكم، فما لبثت أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه .. نكرهم، وأوجس منهم خيفة، وقال إبراهيم للضيف {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}؛ أي: إنا خائفون منكم؛ لأنهم (¬1) دخلوا عليه بلا إذن، وفي وقت لا يجيء في مثله طارق، أو لأنه حين قرب إليهم العجل الحنيذ لم يأكلوا منه، والضيف إذا لم يأكل مما يقدم له من الطعام .. يظن أنه لم يأت لخير، ويؤيد هذا قوله في سورة هود: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}، والوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه 53 - {قَالُوا}؛ أي: قال الضيوف الملائكة لإبراهيم: {لَا تَوْجَلْ}؛ أي: لا تخف يا إبراهيم منَّا، وقوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} استئناف (¬2) في معنى التعليل، للنهي عن الوجل، فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن، كيف لا وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانًا طويلًا، والبشارة هي الإخبار بما يظهر سرور المخبر به؛ أي: لا تخف يا إبراهيم منا لأنا جئناك بالبشرى {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}؛ أي: بولد هو إسحاق، ذو علم وفطنة وفهم لدين الله، وسيكون له شأن، لأنه سيصير نبيًّا، ونحو الآية قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} وقيل: معناه عليم في صغره، حليم في كبره. وقرأ الجمهور (¬3): {لَا تَوْجَلْ} مبنيًّا للفاعل، وقرأ الحسن بضم التاء مبنيًّا للمفعول من الإيجال، وقرىء {لا تَاجَلْ} بإبدال الواو ألفًا، كما قالوا تابة في توبة، وقرىء {لا تواجل} من واجله بمعنى أوجله، 54 - ثم قال إبراهيم متعجبًا من مجيء ولد من شيخ وعجوز: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} وأثر فيَّ. والاستفهام (¬4) فيه للتعجب والاستبعاد عادة، و {عَلَى} بمعنى مع؛ أي: مع مس الكبر وإصابته إياي؛ أي: إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر، وأمر عجيب من بين الهرمين، وهو حال؛ أي: أبشرتموني حالة كوني كبير السن، أو بمعنى بعد؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

[55]

أي: بعد ما أصابني الكبر والهرم، وقرأ الأعرج: {بشرتموني} بغير همزة الاستفهام، وقرأ ابن محيصن {الكُبْر} بضم الكاف وسكون الباء؛ أي: بشرتموني بذلك مع مس الكبر وتأثيره فيَّ، وتلك حال تنافي هذه البشرى، وقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجيب واستبعاد مؤكد للأول، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه، فلذلك استفهم، واستنكر أن يولد له، ولو علم أنهم رسل الله ... ما تعجب ولا استنكر، ولا سيما قد رأى من آيات الله عيانًا كيف أحيى الموتى؛ أي فبأي (¬1) أعجوبة تبشرون إذ لا سبيل في العادة إلى مثل ذلك، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرف أيعطى هذا الولد مع بقائه على حاله من الشيخوخة التامة، أو يرجع شابًّا ثم يعطي الولد، لما جرت به العادة من أن الولد لا يكون إلا حين الشباب، و {ما} في قوله: {فَبِمَ} هي ما الاستفهامية، دخلها معنى التعجب، حذفت ألفها في حالة الجر فرقًا بينها وبين ما الموصولة؛ وقرأ (¬2) الحسن: {تُبَشِّرُونِّي} بنون مشددة وياء المتكلم، أدغم نون الرفع في نون الوقاية، وابن كثير بشدها مكسورة دون ياء، ونافع بكسرها مخففة، وغلطه أبو حاتم، وقال: هذا يكون في الشعر اضطرارًا، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية، وكسر نون الرفع للياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، وقرأ باقي السبعة بفتح النون، وهي علامة الرفع، قال الحسن: فبم تبشرون على وجه الاحتقار وعدم المبالاة بالمبشرات، لمضي العمر واستيلاء الكبر، وقال مجاهد: عجب من كبره وكبر امرأته، فأجابوه مؤكدين ما بشروه به، تحقيقًا لما قالوا، وليكون بشارة بعد بشارة بما بينه سبحانه. 55 - {قَالُوا}؛ أي: قال ضيف إبراهيم له {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ}؛ أي: بشرناك بما يكون حقًّا لا محالة فيه، وإنَّا لنعلم أن الله قد وهب لك غلامًا، {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}؛ أي: فلا تكن يا إبراهيم من الآيسين، الذين يقنطون وييئسون من فضل الله ورحمته، فييأسوا من خرق العادة، بل أبشر بما بشرناك به، واقبل البشرى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[56]

والخلاصة (¬1): أنه عليه السلام استعظم نعمة الله عليه، فاستفهم هذا الاستفهام التعجبي المبني على السنن التي أجراها الله بين عباده، لا أنه استبعد ذلك على قدرة الله، فهو أجل من ذلك قدرًا، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشرًا بغير أبوين، فكيف من شيخ عجوز فانٍ وعجوز عاقر، وقرأ الجمهور (¬2): {الْقَانِطِينَ} بإثبات الألف، وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ورويت عن أبي عمرو: {من القانطين} من قنط يقنط من باب فرح، 56 - والاستفهام في قوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ} إنكاري؛ أي: قال إبراهيم للضيف لا يقنط ولا ييأس {مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}؛ أي: إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، فلا يعرفون سعة رحمته، وكمال علمه وقدرته، وغفل عن رجاء الله الذي لا يخيب من رجاه فضلَّ بذلك عن الرأي القيم، وهذا كقول يعقوب: {لَا يَايْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. وخلاصة مقاله (¬3): أنه نفى القنوط من نفسه على أتم وجه، فكأنه قال: ليس بي قنوط من رحمته تعالى، لكن حالي تنافي فيض تلك النعم الجليلة التي غمرني بها، وتوالي المكرمات التي شملت آل هذا البيت، وقرأ النحويان (¬4) أبو عمرو والكسائي والأعمش: {ومن يَقْنِط} هنا وفي الروم والزمر بكسر النون من باب ضرب، وباقي السبعة بفتحها من باب فرح، وقرأ زيد بن علي والأشهب: بضمها من باب نصر. 57 - وبعد أن تحقَّق عليه السلام مصداق هذه البشرى، ورأى أنهم أتوا مختفين على غير ما عهد عليه ملك الوحي، سألهم عن أمرهم، ليزول عنه الوجل، كما بينه الله سبحانه وتعالى {قَالَ} إبراهيم للضيف {فَمَا خَطْبُكُمْ}؛ أي: فما أمركم وشأنكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، والاستفهام استخبار، والخطب الأمر الخطير، والشأن العظيم؛ أي: قال (¬5) لهم: ما الأمر العظيم الذي جئتم لأجله سوى البشرى، وكأنه عليه السلام فهم من مجرى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط. (¬5) المراغي.

[58]

حديثهم في أثناء الحوار أن ليست هذه البشرى هي المقصودة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا؛ لأنهم كانوا عددًا، والبشارة لا تحتاج إلى مثل هذا العدد، ومن ثم اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم - عليهما السلام -، وأيضًا لو كانت البشارة هي المقصودة لابتدؤوا بها، 58 - فأجابوه بما بينه سبحانه وتعالى {قَالُوا}؛ أي: الملائكة لإبراهيم {إنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} متناهين، وهم قوم لوط، واكتفوا بهذا القدر من الجواب؛ لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لهلاكهم وإبادتهم، 59 - ومما يرشد إلى هذا الفهم قولهم {إِلَّا آلَ لُوطٍ}؛ أي: إلا أتباع لوط في الدين {إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} فلن نهلكهم، بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نُعَذِّبَ به قوم لوط، وهو قلب مدائنهم، فالاستثناء (¬1) متصل من الضمير في {مُجْرِمِينَ}؛ أي: أرسلنا إلى قوم أجرموا جميعًا إلا آل لوط، يريد أهله المؤمنين، فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم. والمعنى: إنَّا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط، لنهلك الأولين وننجي الآخرين، واكتفى بنجاة (¬2) الآل لأنهم إذا نجوا وهم تابعون فالمتبوع وهو لوط أولى بذلك. لوط: هو ابن هاران بن تارخ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، كان قد آمن به، وهاجر معه إلى الشام، بعد نجاته من النار، واختتن لوط مع إبراهيم وهو ابن ثلاث وخمسين، وإبراهيم ابن ثمانين أو مدّة وعشرين سنة، فنزل إبراهيم فلسطين، وهي البلاد التي بين الشام ومصر، منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها، ونزل لوط الأردن، وهي كورة بالشام، فأرسل الله لوطًا إلى أهل سدوم بالدال، وكانت تعمل الخبائث، فأرسل الله إليهم ملائكة للإهلاك، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي {لَمُنَجُّوهُمْ} بالتخفيف من أنجا، وقرأ الباقون بالتشديد من نجى، واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم، والتنجية والإنجاء التخلص مما وقع فيه غيرهم، 60 - {إِلَّا امْرَأَتَهُ} استثناء من الضمير في {منجوهم}، وليس استثناء من استثناء، كما في "البحر" واسمها واهلة، {قَدَّرْنَا}؛ أي: قضينا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وحكمنا {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}؛ أي: الباقين مع الكفرة في العذاب، لتهلك معهم، وأسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم، وهو قول الله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص، كما يقول خاصة الملك أمرنا بكذا، والآمر هو الملك، وقرأ أبو بكر والمفضل: {قَدَّرْنَا} بالتخفيف ها هنا، وفي النمل، وباقي السبعة بالتشديد، وقال الهروي: هما بمعنى، وكُسِرَتْ {إِنَّهَا} إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه، وإما لترتبه عليه، والغابرين جمع غابر، والغابر الباقي والأغبار بقايا اللبن. الإعراب {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)}. {وَلَقَدْ} (الواو) استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {مِنْ صَلْصَالٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقْنَا}. {مِنْ حَمَإٍ}: جار ومجرور، صفة لـ {صَلْصَالٍ}، {مَسْنُونٍ}: صفة {حَمَإٍ}. {وَالْجَانَّ}: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وأنشأنا الجان خلقناه، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}، {خَلَقْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، {مِنْ قَبْلُ}: حال من ضمير {خَلَقْنَاهُ}، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَقْنَا}، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الوسطى. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية {إذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، {قَالَ رَبُّكَ}؛ فعل وفاعل، {لِلْمَلَائِكَةِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه

لـ {إذ} {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} إلى {سَاجِدِينَ}: مقول محكيٌّ، وإن شئت قلت: {إِنِّي خَالِقٌ}: ناصب واسمه وخبره {بَشَرًا}: مفعول {خَالِقٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} {مِنْ صَلْصَالٍ}: جار مجرور، متعلق بـ {خَالِقٌ} {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}: جار ومجرور وصفة، متعلق بمحذوف صفة لـ {صَلْصَالٍ} {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {سَوَّيْتُهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، {وَنَفَخْتُ}: فعل وفاعل، معطوف على {سَوَّيْتُهُ} {فِيهِ} متعلق بـ {نفخت}، {مِنْ رُوحِي}: مفعول {نفخت}، و {مِنْ} زائدة، {فَقَعُوا لَهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطيّة، {قَعُوا}: فعل وفاعل، {لَهُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {سَاجِدِينَ} {سَاجِدِينَ}: حال من فاعل {قعوا}، وجملة {قَعُوا} جواب {إذا} الشرطية، وجملة {إذا} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} على كونها مقول {قَالَ}. {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)}. {فَسَجَدَ} {الفاء} حرف عطف وتفريع، {سجد الْمَلَائِكَةُ}: فعل وفاعل، {كُلُّهُمْ}: توكيد أول، {أَجْمَعُونَ}: توكيد ثان، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} على كونها مقول {قَالَ} {إِلَّا}: أداة استثناء، {إِبْلِيسَ}: منصوب على الاستثناء، متصل أو منقطع على الخلاف فيه، {أَبَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إِبْلِيسَ}، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية عدم السجود، {أَنْ يَكُونَ}: ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على {إِبْلِيسَ} {مَعَ السَّاجِدِينَ}: ظرف ومضاف إليه، خبر {يَكُونَ} وجملة {يَكُونَ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَبَى} تقديره: أبى كونه مع الساجدين. {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة

{يَا إِبْلِيسُ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {يَا إِبْلِيسُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ} {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع مبتدأ، {لَكَ}: جار ومجرور، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {أَلَّا} {أن}: حرف نصب ومصدر، {لا} نافية، {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أنْ} واسمها ضمير يعود على {إبليس}، {مَعَ السَّاجِدِينَ}: خبر {تَكُونَ}، وجملة {تَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: ما لك في عدم كونك مع الساجدين، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}. والجملة مستأنفة {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {لَمْ أَكُنْ}: جازم ومجزوم، وهي من الأفعال الناقصة، واسمها ضمير يعود على {إبليس} {لِأَسْجُدَ} {اللام}: حرف جر وجحود {أسجد}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، {لِبَشَر}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: لم أكن لسجودي لبشر، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {أَكُن} تقديره: لم أكن مريدًا لسجودي لبشرٍ، هذا على مذهب البصريين، كما مر مرارًا، وجملة {أَكُن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {خَلَقْتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، {مِنْ صَلْصَالٍ}: متعلق بـ {خَلَقْتَهُ}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة {لِبَشَرٍ} {مِنْ حَمَإٍ}: صفة لـ {صَلْصَالٍ}، {مَسْنُونٍ}: صفة لـ {حَمَإٍ}. {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {فَاخْرُجْ مِنْهَا} إلى قوله: {الدِّينِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {فَاخْرُجْ} {الفاء} رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: فحيث عصيت وتكبرت فاخرج، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ}، {اخرج}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {إبليس} {مِنْهَا}: متعلق بـ {اخرج}، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}: ناصب واسمه

وخبره، و {الفاء}: تعليلية، وجملة {إنَّ} في محل نصب مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وَإِنَّ} حرف نصب {عَلَيْكَ} خبر {إن} مقدم، {اللَّعْنَةَ}: اسمها مؤخر، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إنَّ} التي قبلها {إِلَى يَوْمِ الدِّين}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {إنَّ}. {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36 {قَالَ} فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة، {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} إلى آخر الآية مقول {قَالَ}، وإن شئت قلت {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَأَنْظِرْنِي} {الفاء}: واقعة في جواب شرط مقدر دل عليه قوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا فأنظرني، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ}، {أنظرني} فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: متعلق به، وجملة {يُبْعَثُونَ} في محل الجر مضاف إليه. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلة مستأنفة، {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} مقول محكي وإن شئت قلت: {الفاء}: تعليلية لجملة محذوفة معلومة من السياق، تقديرها لا تطمع إنظارك إلى يوم يبعثون؛ لأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إنك}: ناصب واسمه، {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}: جار ومجرور، خبره، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة للجملة المحذوفة. {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {الْمُنْظَرِينَ}، {الْمَعْلُومِ}: صفة لـ {الْوَقْتِ}. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة، {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} إلى {قَالَ} مقول محكي، وإن شئت قلت {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {بِمَا} {الباء}: حرف جرٍّ

وقسم {ما}: مصدرية، {أَغْوَيْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول، ونون وقاية، الجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بباء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسمت بإغوائك إياي، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ} {لَأُزَيِّنَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم {أُزينن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول على كونها جواب القسم، {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور، حال من ضمير {لَهُمْ}. {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} {الواو} عاطفة، {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} {اللام}: موطئة للقسم، {أغوينهم}: فعل ومفعول ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} على كونها جواب القسم، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير المفعول، {إِلَّا}: أداة استثناء، {عِبَادَكَ}: منصوب على الاستثناء، {مِنْهُمُ}: متعلق بما بعده، {الْمُخْلَصِينَ}: صفة لـ {عِبَادَكَ}. {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {هَذَا صِرَاطٌ} إلى قوله: {جُزْءٌ مَقْسُومٌ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت {هَذَا صِرَاطٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {عَلَيَّ}: جار ومجرور، صفة أولى لـ {صِرَاطٌ} وعليَّ بمعنى إلى، والتقدير: هذا صراط موصل إليَّ، {مُسْتَقِيمٌ}: صفة ثانية له. {إِنَّ عِبَادِي}: ناصب واسمه، {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص {لَكَ}: خبره مقدم، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بما بعده، {سُلْطَانٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء، {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، {اتَّبَعَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} الموصولة، {مِنَ الْغَاوِينَ}: حال من فاعل {اتَّبَعَكَ} والجملة الفعلية صلة الموصول.

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ}: ناصب واسمه وخبره، و {اللام} حرف ابتداء، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير الغائبين، وجملة {إنَّ} في محل النصب معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى، {لَهَا}: جار ومجرور، خبر مقدم، {سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو في محل الرفع خبر ثان خبر لـ {إِنَّ} {لِكُلِّ بَابٍ}: جار ومجرور ومضاف خبر مقدم {مِنْهُمْ} جار ومجرور حال من {جُزْءٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرًا مقدمًا أعني قوله: {لِكُلِّ بَابٍ} {جُزْءٌ}: مبتدأ مؤخر، {مَقْسُومٌ}: صفة {جُزْءٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}، والتقدير: سبعة أبواب كائنة هي لها حالة كون كل باب منها له جزء مقسوم منهم. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}: ناصب واسمه، {فِي جَنَّاتٍ}: خبره، {وَعُيُونٍ}: معطوف على {جَنَّاتٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {ادْخُلُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم ادخلوها، {يَمَسُّهُمْ}: جار ومجرور حال أول من فاعل {ادْخُلُوهَا}، تقديره: حالة كونكم ملتبسين بسلام، {آمِنِينَ}: حال ثانية، {وَنَزَعْنَا مَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {فِي صُدُورِهِمْ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {مِنْ غِلٍّ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، {إِخْوَانًا}: حال من ضمير الغائبين؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه، فيجوز مجيء الحال من المضاف إليه، {عَلَى سُرُرٍ}: حال من الضمير في {إِخْوَانًا} {مُتَقَابِلِينَ}: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، {لَا يَمَسُّهُمْ}:

فعل ومفعول، {فِيهَا}: متعلق به، أو حال من ضمير المفعول، {نَصَبٌ}: فاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في {مُتَقَابِلِينَ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: حجازية أو تميمية، {هُمْ}: مبتدأ، أو اسم {ما} {مِنْهَا}: متعلق بما بعده، {بِمُخْرَجِينَ}: خبر المبتدأ، أو خبر {ما}، والباء زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَا يَمَسُّهُمْ}. {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}. {نَبِّئْ عِبَادِي} فعل وفاعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة، {أَنِّي}: ناصب واسمه {أَنَا}: تأكيد لضمير النصب، أو ضميره فصل، أو مبتدأ، {الْغَفُورُ}: خبر أول لـ {أن}، {الرَّحِيمُ}: خبر ثان، أو صفة لـ {الْغَفُورُ}، وجملة {أنَّ} في تأويل مصدر ساد مسدَّ مفعولي {نَبِّئْ} الثاني والثالث؛ لأنه يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والتقدير: نبىء عبادي كوني الغفور الرحيم، أو مجرورة بحرف جر محذوف؛ أي: بأني أنا الغفور. {وَأَنَّ} {الواو}: عاطفة، {أن عذابي}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْعَذَابُ} خبر {أن} {الْأَلِيمُ}: صفة لـ {الْعَذَابُ}، وجملة {أن} في محل النصب معطوفة على جملة {أنَّ} الأولى. {وَنَبِّئْهُمْ}: فعل ومفعول أول، {عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {نَبِّئْ} الأولى. {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد إذ دخلوا، {دَخَلُوا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة في محل الجر

مضاف إليه، لـ {إِذْ}، {فَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {دَخَلُوا} {سَلَامًا}: مفعول {قالوا} لأنه بمعنى ذكروا، أو منصوب بفعل مضارع مقدر؛ أي: نسلم عليك سلامًا، أو ماضي؛ أي: سلمنا عليك سلامًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مفعول {قالوا}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة، {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّا}: ناصب واسمه، {مِنْكُمْ}: متعلق بما بعده، {وَجِلُونَ}: خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَا تَوْجَلْ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا تَوْجَلْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {إِنَّا}: ناصب واسمه، {نُبَشِّرُكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الملائكة، {بِغُلَامٍ}: متعلق بـ {نُبَشِّرُكَ}، {عَلِيمٍ}: صفة {غلام}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معللة لما قبلها. {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة، {أَبَشَّرْتُمُونِي}: إلى قوله {قَالُوا} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {أَبَشَّرْتُمُونِي} {الهمزة} للاستفهام التعجبي {بشرتموني}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية، والواو حرف زائد من إشباع حركة الميم، والجملة في محل النصب مقول {قال}، {عَلَى}: حرف جر بمعنى مع، {أَنْ}: حرف نصب، {مَسَّنِيَ الْكِبَرُ}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية، في محل النصب مبنيٌّ على الفتح، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى}، تقديره: على مس الكبر إياي؛ أي: مع مس الكبر إياي، الجار والمجرور حال من ياء {بشرتموني}؛ أي: أبشرتموني حالة كوني كبير السن، {فَبِمَ} {الفاء} عاطفة، {الباء}: حرف جر، {م}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بما بعده، {تُبَشِّرُونَ}: فعل وفاعل، مرفوع وعلامة

رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، على قراءة كسر النون، والنون المذكورة نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم اجتزاءً عنها بكسر النون، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة الاستفهام الأول، على كونها مقولًا لـ {قال}. {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} مقولٌ محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت {بَشَّرْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول، {بِالْحَقِّ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {فَلَا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا}: ناهية جازمة، {تَكُنْ}: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، واسمها ضمير يعود على إبراهيم، {مِنَ الْقَانِطِينَ}: خبر {تَكُنْ}، وجملة {تَكُنْ} في محل النصب معطوفة على جملة {بَشَّرْنَاكَ}، على كونها مقول {قَالُوا}. {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة {وَمَن يَقنَطُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {الواو}: استئنافية، {مَنْ} اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، {يَقْنَطُ}: فعل مضارع، {مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَقْنَطُ}، {إلا}: أداة استثناء مفرغ، {الضَّالُّونَ}: فاعل {يَقْنَطُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، وعلى هذا الوجه فلا ضمير في {يَقْنَطُ} والرابط للخبر بالمبتدأ {الهاء} من {رَبِّهِ}، وهذا الإعراب على ما قاله: ابن عنقاء، كما ذكره صاحب "الكواكب الدرية"، وأما على مذهب الجمهور ففي {يَقْنَطُ} ضمير مستتر يعود على {مَنْ} {الضَّالُّونَ}: بدل من فاعل {يَقْنَطُ} المستتر فيه بدل كل من كل، ولم يؤت معه بضمير؛ لأن قوة تعلق المستثنى بالمستثنى منه تغني عن الضمير، كما قاله الفاكهي، وابن عنقاء، والعصاميُّ.

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة، {فَمَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم زيادة محاورتي لكم .. فأقول لكم {ما خطبكم}، {ما}: اسم استفهام للاستفهام الإستخباري في محل الرفع مبتدأ، {خَطْبُكُمْ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدر، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَيُّهَا} منادي نكرة مقصودة، {الْمُرْسَلُونَ}: صفة لـ {أيُّ} تابع للفظه. {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أُرْسِلْنَا}: فعل ونائب فاعل، {إِلَى قَوْمٍ} متعلق به، {مُجْرِمِينَ}: صفة {قَوْمٍ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {آلَ لُوطٍ}: منصوب على الاستثناء، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {لَمُنَجُّوهُمْ}: خبر {إن} مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم، و {الهاء} مضاف إليه، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير {منجوهم}، {إِلَّا امْرَأَتَهُ}: استثناء من ضمير {منجوهم} منصوب، {قَدَّرْنَا}: فعل وفاعل، {إِنَّهَا}: ناصب واسمه، {لَمِنَ الْغَابِرِينَ}: خبر {إنَّ} و {اللام} حرف ابتداء، وجملة {إنّ} في محل النصب مفعول {قَدَّرْنَا}، ولكنها معلقة عنها باللام، وجملة {قَدَّرْنَا} مستأنفة مسوقة لتعليل الاستثناء قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ}؛ أي: طين يابس، يصلصل ويصوت إذا

نقر، أي: صدم وضرب بجسم آخر، وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار، وقال أبو عبيدة (¬1): الصلصال الطين إذا خلط بالرمل وجف، وقال أبو الهيثم: الصلصال صوت اللجام وما أشبهه، وهو مثل القعقعة في الثوب، وقيل: التراب المدقق، وصلصل الرمل إذا صوت، وصلصال بمعنى مصلصل، كالقضقاض، أي: المقضقض وهو فيه كثير، ويكون هذا النوع من المضعف مصدرًا، فتقول: زلزل زلزالًا بالفتح وزلزالًا، ووزنه عند البصريين: فعلان، وهكذا جميع المضاعف حروفه كلها أصول، لا فعفع خلافًا للفراء، وكثير من النحويين، ولا فعفل خلافًا لبعض البصريين وبعض الكوفيين، ولا أن أصله فعّل بتشديد العين، أبدل من الثاني حرف من جنس الحرف الأول، خلافًا لبعض الكوفيين، وينبني على هذه الأقوال وزن صلصال. {مِنْ حَمَإٍ}؛ أي: من طين تغير واسود من مجاورة الماء له، واحدته حمأة، وقال الليث (¬2): الحمأ طين أسود منتن واحدته حمأة بتحريك الميم، ووهم في ذلك، وقالوا: لا نعرف في كلام العرب الحمأة إلا ساكنة الميم، قاله أبو عبيدة والأكثر، قال أبو الأسود: يَجِيءُ بِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا ... يَجِيءُ بِحَمْأةِ وَقَلِيْلِ مَاءِ وعلى هذا لا يكون حمأ بينه وبين مفرده ثاء التأنيث لاختلاف الوزن، قال ابن (¬3) السكيت: تقول منه حمات البئر حمأً بالتسكين .. إذا نزعت حمأتها، وحمئت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها، وأحميتها إحماء ألقيت فيها الحمأة، قال أبو عبيدة: الحمأ بسكون الميم مثل الحمأة، يعني بالتحريك، والجمع حمءٌ، مثل تمرةٍ وتمرٍ، والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سُمِّي به. {مَسْنُونٍ} والمسنون قال الفراء هو المتغير، وأصله من سننتُ الحجر على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

الحجر إذا حككته، وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين ويكون منتنًا، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان: ثُمَّ حَاصَرْتُهَا إلى الْقُبَّةِ الْحَمْـ ... ـرَاءِ تَمْشِيْ في مَرْمَرٍ مَسْنُوْنِ أي: محكوك، ويقال: أسن الماء إذا تغير ومنه قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}، وقوله: {مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، وكلا الاشتقاقين يدل على التغير؛ لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتنًا، وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب سننت الماء على الوجه إذا صببته، والسن الصب، وقال سيبويه: المسنون المصور، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة: تُرِيْكَ سُنَّةَ وَجْه غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ ولا نَدَبُ وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم، من قولهم وجه مسنون إذا كان فيه طولٌ، والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بل صار طينًا، فلما أنتن .. صار حمأ مسنونًا، فلما يبس .. صار صلصالًا، فأصل الصلصال هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما. {وَالْجَانَّ}؛ أي: هذا (¬1) الجنس، كما أن الإنسان يراد به ذلك، فإذا أريد بالإنسان آدم .. أريد بالجان أبو الجن، وإبليس أبو الشيطان، وهما نوعان يجمعهما وصف الاستتار عنا، وسمي جانًّا لتواريه عن الأعين، يقال جن الشيء إذا ستره، فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم. {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} السموم الحرٌّ المفرط (¬2) من نار أو شمس أو ريح، يدخل في المسام فيقتل، والمسام هي ثقب البدن، جمع سمٍّ بكسر السين على غير قياس، كمحاسن جمع حسنٍ، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: من نار ذات سموم؛ أي: صاحبة حرارة شديدة قاتلة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

{بَشَرًا}؛ أي: إنسانًا، وسمي بذلك لظهور بشرته؛ أي: ظاهر جلده. {سَوَّيْتُهُ}؛ أي: أتممت خلقه، وهيأته لنفخ الروح فيه. {وَنَفَخْتُ} والنفخ إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، ويراد به هنا إضافة ما به الحياة إلى المادة القابلة لها. {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أمر من وقع يقع من باب وضع إذا سقط وخر، وحذفت الواو من الأمر على حد قول ابن مالك: فأمر أو مضارع من كوعد احذف ... إلخ. {إِلَّا إِبْلِيسَ} من أبلس (¬1) إذا يئس وتحير، ومنه إبليس أو هو أعجمي. {فإنَّك رجيمٌ}؛ أي: مرجوم مطرود من كل خير وكرامة، وفي "المصباح": الرجم بفتحتين الحجارة، والرجم القبر، سمي بذلك لما يجتمع عليه من الأحجار، ورجمته رجمًا من باب قتل ضربته بالرجم اهـ. وفي "القاموس": الرجم اللعن والشتم والطرد والهجران اهـ. {اللَّعْنَةَ} الإبعاد على سبيل السخط {يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي: يوم الجزاء، {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهو يوم النفخة الثانية، {فَأَنْظِرْنِي}؛ أي: أمهلني وأخرني ولا تمتني، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}. هو يوم النفخة الأولى حين يموت الخلائق، {والإغواء} الإضلال يقال غوى غواية إذا ضل في نفسه، وأغوى إذا أضل غيره؛ أي: دعاه إلى غواية. {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ}؛ أي: هذا صراط حق لا بد أن أراعيه وأحفظه {مُسْتَقِيمٌ}؛ أي: لا انحراف فيه، فلا يعدل عنه إلى غيره، {سُلْطَانٌ} والسلطان التسلط والتصرف بالإغواء، {سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}؛ أي: سبع طبقات، {جُزْءٌ مَقْسُومٌ}؛ أي: فريق معين مفروز من غيره. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} هم الذين اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب من الصغائر تكفرها الصلوات وغيرها. {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين، {وَعُيُونٍ}؛ أي: أنهار جارية {بِسَلَامٍ}؛ أي: بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، {مِنْ غِلٍّ} الغل الحقد ¬

_ (¬1) روح البيان.

الكامن في القلب، يطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد، فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل، لأنها كامنة في القلب. {عَلَى سُرُرٍ} السرر جمع سرير، وهو مجلس عال رفيع موطأ للسرور، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرور، قال ابن عباس؛ أي: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية اهـ "خازن". {لَا يَمَسُّهُمْ}؛ أي: لا يصيبهم، {نَصَبٌ}: والنصب الإعياء والتعب، {نَبِّئْ عِبَادِي} تقول أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم، {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)} والأفصح في كلمة الضيف أن لا تثنى ولا تجمع حين تستعمل للمثنى والجمع والمؤنث، بل تستعمل بلفظ واحد لكل ذلك. {لَا تَوْجَلْ} والوجل اضطراب النفس لخوفها من توقع مكروه يصيبها. {عَلِيمٍ}؛ أي: ذي علم كثير. {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ}؛ أي: بالأمر المحقق الذي لا شك في وقوعه، {وَمَنْ يَقْنَطُ} يقال قنط من كذا إذا يئس من حصوله، وفي "المختار": القنوط اليأس، وبابه جلس ودخل وطرب وسلم، فهو قانط وقنوط. {إِلَّا الضَّالُّونَ} الكفار الذين لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته. {فَمَا خَطْبُكُمْ}؛ أي: أمركم وشأنكم الذي لأجله أرسلتم، {قَدَّرْنَا}؛ أي: قضينا وكتبنا، يقال قضى الله عليه كذا، وقدره عليه أي: جعله على مقدار الكفاية في الخير والشر، وقدر الله الأقوات جعلها على مقدار الحاجة. {مِنَ الْغَابِرِينَ}؛ أي الباقين مع الكفار ليهلكوا معهم، وأصله من الغبرة، وهي بقية اللبن في الضرع، وفي "المختار": غير الشيء بقي وغبر أيضًا مضى، وهو من الأضداد وبابه دخل. البلاغة وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: المقابلة في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}، وقوله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}. ومنها: التكرار في قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {مِنْ رُوحِي}. ومنها: جمع تأكيدين في قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} للمبالغة وزيادة تقرير الشيء في الذهن، وشدة الاعتناء به. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}. ومنها: التعبير (¬1) بصيغة اسم الفاعل في قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} إشعارًا بتحقق وقوعه واستمراره. ومنها: الكناية في قوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} لأنه إما (¬2) كناية عن الطرد والإبعاد؛ لأن يطرد يرجم بالحجارة على أثره، أو كناية عن كونه شيطانًا من الشياطين الذين يرجمون بالشهب. منها: جناس الاشتقاق بين: {أنظرني} و {المنظرين}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أغويتني} و {أغوينهم}. منها: إيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} لتأكيد الاستقامة، والشهادة باستعلاء من ثبت عليه، فهو أدل على التمكين من الوصول وهو تمثيل، إذ لا استعلاء لشيء على الله تعالى. ومنها: الإضافة في قوله: {إِنَّ عِبَادِي} للتشريف ولتفخيم شأنهم. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ}؛ أي: يقال لهم ادخلوها. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ}؛ أي: في قلوبهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فهو من إطلاق المحل وإرادة الحال؛ لأن الصدور محل القلوب. ومنها: التنوين في قوله: {نَصَبٌ} للتقليل لا غير؛ أي: أيُّ شيء منه. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} مع قوله: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} فقد قابل بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم، وهذا من المحسنات البديعية. ومنها: القصر في قوله: {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فهو (¬1) من قصر المسند على المسند إليه. ومنها: الاستفهام التعجبيُّ في قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين: {الْقَانِطِينَ} و {يَقْنَطُ} وبين {الْمُرْسَلُونَ} {وَأَرْسَلْنَا}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} فأسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازًا، وهو فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص؛ لأنهم رسل الله، أرسلوا بأمره تعالى، كما يقول خاصة الملك: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. المناسبة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وقعالى لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأن عذابه مؤلم لمن أصروا على المعاصي، ثم فصل ذلك

الوعد والوعيد، فذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بغلام عليم .. ذكر هنا (¬1) إهلاك قوم لوط بما اجترحوا من كبرى الموبقات وفظيع الجنايات، بفعلهم فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، حتى صاروا كالأمس الدابر، وأصبحوا أثرًا بعد عين، وذكر إهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب جزاء ظلمهم بشركهم بالله، ونقصهم للمكاييل والموازين، فانتقم الله منهم بعذاب يوم الظلة، وإهلاك أصحاب الحجر وهم ثمود الذين كذبوا صالحًا، وكانوا ذوي حول وطول، وغنى ومال وقوة وبطش، فأعرضوا عن آيات ربهم حينما جاءتهم على يدي رسوله، فأخذتهم الصيحة وقت الصباح، ولم يغن عنهم ما لهم من دون الله شيئًا حين جاء أمره. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في القصص السالف إهلاك الأمم المكذبة لرسلها، وعذابها بشيء من أنواع العذاب كفاء ما دنسوا به أنفسهم، من فظائع الشرك وأنواع المعاصي، التي تقوض دعائم الإخلاص لبارىء النسم، وتهد أركان نظم المجتمع بعبادة الأصنام والأوثان وتطفيف الكيل والميزان، وإتيان الفاحشة التي تشمئز منها النفوس، وتنفر منها الأذواق السليمة .. أرشد (¬2) هنا إلى أنهم بعملهم هذا قد تركوا ما قد قضت به الحكمة الإلهية في خلق السموات والأرض، من عبادة خالقهما وطاعته، واستقرار نظم المجتمع على وجه صالح صحيح، ودأبوا على عبادة غيره من الأصنام والأوثان، فكان من العدل تطهير الأرض منهم دفعًا لشرورهم، وإصلاحًا لمن يأتي بعدهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر على أذى قومه، وأن يصفح عنهم الصفح الجميل .. أردف ذلك بذكر ما أولاه من النعم، وما أغدق عليه من الإحسان، ليسهل عليه الصفح، ويكون فيه سلوة له على احتمال الأذى، فذكر أنه آتاه السبع المثاني - الفاتحة - والقرآن العظيم الجامع لما فيه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

هدى البشر، وصلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وبعد أن ذكر له تظاهر نعمه عليه .. نهاه عن الرغبة في الدنيا ومد العينين إليها، يتمنى ما فيها من متاع، ونهاه عن الحسرة على الكفار إن لم يؤمنوا بالقرآن، وبما جاء به، وأمره بالتواضع لفقراء المسلمين بإنذاره قومه المشركين، بتبليغهم ما أمر به الدين وما نهى عنه، بالبيان الكافي والإعذار الشافي، وبيان عاقبة أمرهم بتحذيرهم أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين - اليهود والنصارى - الذين جعلوا القرآن أقسامًا، فآمنوا بما وافق التوراة، وكفروا بما عدا ذلك، ويبين لهم أن ربهم سيسألهم عن جريرة أعمالهم. ثم أمره (¬1) أن يعلن ما أمر به من الشرائع، ولا يلتفت إلى لوم المشركين وتتريبهم له، ولا يبالي بما سيكون منهم، فالله تعالى كفاه أمر المستهزئين به، وأزال كيدهم، وإذا ساوره ضيق الصدر من سماع سفههم واستهزائهم كما هو دأب البشر .. فليسبح ربه وليحمده، وليكثر المطاعة، فالعبد إذا حزبه أمر نزع إلى طاعة ربه، وقد كفل سبحانه أن يكشف عنه ما أهمه. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} الجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر، كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء به، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن يغوث، والحرث بن قيس، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان سبب هلاكهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} الآية، سبب نزول هذه الآية: أن سبع قوافل أقبلت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها أنواع من البر والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال تعالى: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خيرٌ لكم من هذه القوافل السبع، ويدل على ¬

_ (¬1) النسفي.

[61]

صحة هذا قوله تعالى بعدها: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} كما في "أسباب النزول" للإمام الواحديّ، ذكره ابن الجوزي، ولكن هذا القول ضعيف لأن السورة مكية. التفسير وأوجه القراءة 61 - قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)} جملة مستأنفة (¬1) لبيان إهلاك من يستحق الهلاك، وتنجية من يستحق النجاة، فلفظة آل زائدة بدليل قوله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} 62 - {قَالَ} لوط مخاطبًا لهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}؛ أي: لا أعرفكم بل أنكركم، وإنما (¬2) قال لوط هذه المقالة لأنهم دخلوا عليه وهم في زيِّ شبان مردان حسان الوجوه، فخاف أن يهجم عليهم قومه، فلهذا السبب قال هذه المقالة، وقيل إن النكرة ضد المعرفة، فقوله إنكم منكرون يعني لا أعرفكم، ولا أعرف من أي الأقوام أنتم، ولأي غرض دخلتم عليَّ؛ أي: فلما خرج الملائكة المرسلون من عند إبراهيم، وسافروا من قريته إلى قرية لوط، وكان بينهما أربعة فراسخ، ودخلوا عليه .. أنكرهم لوط ولم يعرفهم، وقال لهم من أيِّ الأقوام أنتم، ولأي غرض جئتم، وإني أخاف أن تمسوني بسوء، ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}، وعبارة البيضاوي: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} تنكركم نفسي، وتنفر عنكم، مخافة أن تطرقوني بشبرٍ اهـ. قيل: وإنما قال لهم هذه (¬3) المقالة لأنه لم يشاهد من المرسلين حين مقاساة الشدائد ومعاناة المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون إعانة ولا مساعدة فيما يأتي ويذر، حين تجشم الأهوال في تخليصهم، فأنكر خذلانهم له، وتركهم نصره حين المضايقة، التي حلت به بسببهم، حتى اضطر إلى أن يقول: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} كما جاء في سورة هود، لأن القصة سيقت هنا مختصرةً، 63 - وذكرت هناك مبسوطة {قَالُوا}؛ أي: قالت الرسل في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي.

[64]

جواب لوط: ما جئناك بما تنكرنا لأجله {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ}؛ أي: بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك، ويشفيك من عدوك، وهو العذاب الذي توعدتهم به، فيشكون فيه قبل مجيئه؛ أي: بل جئناك بالعذاب الذي يشكُّون فيه. والمعنى: قالت الرسل مخاطبين لوطًا: ما جئناك يا لوط بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه، وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه، فأنى لك بعد هذا أن تعتريك مساءة وضيق ذرعٍ. وخلاصة ما أرادوا أن يقولوا (¬1): ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم، بل جئناك بما يدمرهم ويهلكهم من العذاب الذي كنت تتوعدهم به، وهم يكذبونك، واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا: جئناك بعذابهم، لإفادة ذلك شيئين: تحقق عذابهم، وتحقق صدقه عليه السلام، بعد أن كابد منهم كثيرًا من الإنكار والتكذيب. 64 - {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ}؛ أي: باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد، وهو العذاب النازل بهم لا محالة، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في ذلك الخبر الذي أخبرناك من إهلاكهم؛ أي: وجئناك بالأمر المحقق المتقن، الذي لا مجال فيه للامتراء والشك، وهو العذاب الذي كتب وقدر لقوم لوط، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به. 65 - ثم شرعوا يرتبون له مبادئ النجاة قبل حلول العذاب بقومه، فقالوا له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}؛ أي: فاذهب بهم، من السرى وهو السير في الليل {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: في طائفة من الليل؛ أي: في بعض منه والمراد بأهله ابنتاه، فلم يخرج من قريته إلا هو وابنتاه، قيل: ومعهم امرأته الصالحة، وفي "القرطبي" في سورة هود: فخرج لوط وطوى الله الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم؛ أي: فسر (¬2) ببنتيك وامرأتك الصالحة في جزء من الليل عند السحر، {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}؛ أي: امش خلفهم، لأجل أن تطمئن عليهم، وتعرف أنهم: ناجون، جمع دبر وهو من كل شيء عقبه ومؤخَّره؛ أي: وكن على إثرهم لتسوقهم وتسرع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[66]

بهم، وتطلع على أحولهم، فلا تفرط منهم التفاتة استحياء منك، ولا غيرها من الهفوات، قال في "برهان القرآن": لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم .. علم نجاتهم، ولا يخفى عليه حالهم. {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ}؛ أي: منك ومنهم {أَحَدٌ} إلى ورائه إذا سمع الصيحة لئلا تراعوا من عظيم ما نزل بهم من البلاء، أو جعل (¬1) الالتفات كناية عن مواصلة السير، وترك التواني والتوقف؛ لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفة ولم يقل هنا {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}، كما في سورة هود اكتفاءً بما قبله، وهو قوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ}. {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}؛ أي: سيروا إلى المكان الذي أمركم بالذهاب إليه، وهو الشام أو مصر، أو زعر وهي قرية بالشام، وقيل الأردن، وقيل إلى حيث يأمركم جبريل، وذلك أن جبريل أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة، ما عمل أهلها عمل قوم لوط اهـ "خازن". 66 - {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}؛ أي: وأوحينا (¬2) إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه، وفرغنا منه، ثم إنه سبحانه وتعالى فسر ذلك الأمر الذي قضاه بقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ}؛ أي: أن آخر هؤلاء المجرمين {مَقْطُوعٌ}؛ أي: مهلك حالة كونهم {مُصْبِحِينَ}؛ أي: داخلين في الصباح؛ أي: إن هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم بالعذاب وقت الصبح؛ أي: يتم استئصالهم حال ظهور الصبح، حتى لا يبقى منهم أحد، وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولًا وفسره ثانيًا تفخيمًا له، وتعظيمًا لشأنه، وقرأ الأعمش (¬3) وزيد بن علي: {إنَّ دابر} بكسر الهمزة، لمَّا ضمن {قضينا} بمعنى أوحينا، فكان المعنى أعلمنا، علق الفعل فكسر إن، أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء فمعناه القول، كسر إن يؤيِّده قراءة عبد الله: {وقلنا إن دابر} وهي قراءة تفسير لا قرآنٍ، لمخالفتها سواد المصحف، والمعنى: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[67]

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: فسر بأهلك، ابنتيك، أو هما وامرأتك الصالحة، على الخلاف فيه في بقيةٍ من الليل، {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}؛ أي: وكن وراء أهلك الذين تسري بهم وعلى أثرهم لتذود عنهم، وتسرع بهم، وتراقب أحوالهم، حتى لا يتخلف منهم أحد لغرض فيصيبه عذاب. {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} فيرى ما ينزل بقومه فيرق قلبه لهم، وليوطن نفسه على الهجرة، ويطيب نفسًا بالانتقال إلى المسكن الجديد، ثم أكدوا هذا النهي بقولهم: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}؛ أي: واذهبوا حيث يأمركم ربكم، غير ملتفتين إلى ما ورائكم، كالذي يتحسر على مفارقة وطنه، فلا يزال يلوي له أخاديده. والخلاصة: أنهم أمروا بمواصلة السير، ونهوا عن التواني والتوقف، ليكون ذلك أقطع للعوائق وأحق بالإسراع للوصول إلى المقصد الحقيقيّ، وهو بلاد الشام. ثم بين العلة في الأمر بالإسراع السريع فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}؛ أي: وأوحينا إليه أن ذلك الأمر مقضي مبتوت فيه، ثم فصل ذلك فقال: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}؛ أي: إن آخر قومك وأولهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، ولا يبقى منهم أحدٌ، ونحو الآية: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 67 - ثم شرع يذكر ما صدر من القوم حين علموا بقدوم الأضياف، وما ترتب عليه مما أشير إليه أولًا على سبيل الإجمال فقال: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ}؛ أي؛ أهل مدينة لوط المسماة بسذوم - بسين مهملة فذال معجمة، وأخطأ (¬1) من قال بمهملة - وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور، ومدائن قوم لوط كانت أربعًا، وقيل سبعًا، وأعظمها سذوم، وفي "درياق الذنوب" لابن الجوزي: كانت خمسين قرية؛ أي: جاء أهل مدينة سذوم إلى منزل لوط حالة كونهم {يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: يبشر (¬2) بعضهم بعضًا بأضياف لوط، والاستبشار إظهار الفرح والسرور؛ أي: يظهرون الفرح والسرور بأضياف لوط طمعًا في ارتكاب الفاحشة منهم، وقالوا: نزل بلوط ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الخازن.

[68]

ثلاثة أضياف من المُرد ما رأينا قط أصبح وجهًا ولا أحسن شكلًا منهم، فذهبوا إلى دار لوط طلبًا منه لأولئك المرد، 68 - فقال لهم لوط {إِنَّ هَؤُلَاءِ} المرد {ضَيْفِي}؛ أي: أضيافي، وحق على الرجل إكرام ضيفه، وأفرد الضيف لأنه مصدر كما مر، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفًا لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مرد حسان الوجوه، فلذلك طمعوا فيهم {فَلَا تَفْضَحُونِ}؛ أي: فلا تظهروا عاري عندهم، فإن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء .. كان ذلك إهانة فيَّ. والمعنى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ}؛ أي (¬1): وجاء أهل مدينة سذوم حين سمعوا أن ضيفًا قد ضافوا لوطًا، حالة كونهم {يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعًا في ركوب الفاحشة منهم، وفي هذا إيماء إلى فظاعة فعلهم، إذ هم خالفوا ما جرى به العرف وركب في الأذواق السليمة، من إكرام الغريب وحسن معاملته، وقصدوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، وقد تقدم في سورة هود أن هذا المجيء قبل قول الملائكة: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} فما في سورة هود على الترتيب الواقعي، وما هنا على خلافه، إلا أن يقال إن الواو لا تقتضي ترتيبًا اهـ شيخنا. وفي "الكرخي": وذكر القصة في هود بترتيب الوقوع، وهنا أخر ذكر مجيئهم عن قول الرسل: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)} مع تقدمه، ليستقل الأول ببيان كيفية نصرة الصابرين والثاني بتساوي الأمم، ذكره في "الفتوحات": روي أن امرأة لوط أخبرتهم بأنه نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح منهم وجهًا ولا أحسن شكلًا، فذهبوا إلى دار لوط طلبًا لهم، مظهرين اغتباطًا وسرورًا بهم، ثم أخبر عن مقالة لوط لقومه حين رآهم يقصدون به السوء. {قَالَ} لوط لقومه {إِنَّ هَؤُلَاءِ} الذين جئتموهم، تريدون منهم الفاحشة {ضَيْفِي}؛ أي: أضيافي {فَلَا تَفْضَحُونِ} فيهم وأكرموني بترك التعرض لهم بمكروه، 69 - ثم زاد النهي توكيدًا بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: وخافوا الله فيَّ وفي أنفسكم، أن يحل بكم عقابه في مباشرتكم لما يسوءني، أو في ركوب الفاحشة، واحفظوا ما أمركم به ونهاكم ¬

_ (¬1) المراغي.

[70]

عنه، {وَلَا تُخْزُونِ}؛ أي: ولا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لمن أجرتهم، بمثل تلك الفعلة القبيحة من الخزي وهو الهوان، وهذه الجملة آكد في الغرض من سابقتها، إذ التعرض للجار بعد حمايته والذب عنه أجلب للعار، ومن ثم عبر عن لجاجهم، ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي، وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك، وقد أثبت (¬1) يعقوب ياء تفضحوني ولا تخزوني في الوصل والوقف، 70 - ثم أبانوا له أنه السبب في الفضيحة وفي هذا الخزي، كما ذكره الله سبحانه بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم لوط الذين جاؤوا إليه {أَوَلَمْ نَنْهَكَ} يا لوط {عَنِ الْعَالَمِينَ}؛ أي: عن أن تضيف أحدًا من العالمين، أو تؤويه في قريتنا، إذ هم كانوا يتعرضون لكل غريب بالسوء، وكان لوط ينهاهم عن ذلك على قدر حوله وقوته، ويحول بينهم وبين من يتعرضون له، وكانوا قد نهوه عن التعرض لهم في مثل ذلك، وخلاصة مقالهم: أن ما ذكرت من الخزي والفضيحة أنت مصدره، والجالب له، فلولا تعرضك لنا .. ما أصابك ما أصابك. قال في "الإرشاد": قوله: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ} الهمزة (¬2) فيه للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نقدم إليك وألم ننهك عن التعرض لهم بمنعهم عنا، وكانوا يتعرضون لكل واحد من الغرباء بالسوء، وكان عليه السلام يمنعهم عن ذلك بقدر وسعه، وهم ينهونه عن أن يجير أحدًا، أو يوعدونه بقولهم: لئن لم تنته يا لوط .. لتكونن من المخرجين، وفي "الشوكاني" وغيره: إن الاستفهام للإنكار، وليس بصواب، لعدم صدق ضابط الإنكاري عليه، بل التقريري يصدق عليه لأنه حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} ولما رآهم (¬3) لوط متمادين في غيِّهم، لا يرعوون عن غوايتهم، ولا يقلعون عما هم عليه .. 71 - {قَالَ} لوط لقومه {هَؤُلَاءِ} النساء الموجودات بيننا {بَنَاتِي}؛ أي: بنات قومي فأزوجهن إياكم، أو تزوجهوهن؛ أي: قال لوط لقومه تزوجوا النساء، ولا تفعلوا ما قد ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[72]

حرم الله عليكم من إتيان الرجال، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما أمركم به، منتهين إلى أمري، وقد سمى نساء قومه بناته، لأن رسول الأمة كالأب من حيث الشفقة والتربية، رجالهم بنوه، ونسائهم بناته، كما قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} شك في قبولهم لقوله، كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم، وما أظنكم تفعلون، ذكره في "البحر". أو (¬1) أراد بناته الصلبية؛ أي: فتزوجوهن ولا تتعرضوا للأضياف، وقد كانوا من قبل يطلبونهن ولا يجيبهم، لخبثهم وعدم كفاءتهم لهن، لا لعدم مشروعية المناكحة بين المسلمات والكفار، فإن نكاح المؤمنات من الكفار كان جائزًا، فأراد أن يقي أضيافه ببناته كرمًا وحميةً؛ أي: فتزوجوا بناتي، وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد إن يزوجهما ابنتيه إيْثا وزعورا، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم، فإن الله تعالى خلق النساء للرجال، لا الرجال للرجال. وفي الآيات فوائد: الأولى: أن إكرام الضيف ورعاية الغرباء من أخلاق الأنبياء، وهو من أسباب الذكر الجميل، وفي الحديث: "من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وقرى الضيف .. دخل الجنة" كما في "الترغيب". والثانية: أنه لا بد لكل مؤمن متق أن يسد باب الشر بكل ما أمكن له من الوجوه، ألا ترى أن لوطًا عليه السلام لما لم يجد مجالًا لدفع الخبيثين .. عرض عليهم بناته بطريق النكاح، وإن كانوا غير أكفاء دفعًا للفساد. والثالثة: أن محل التمتع هي النساء لا الرجال، كما قالوا: ضرر النظر في الأمرد أشد، لامتناع الوصول إليه في الشرع، لأنه لا يحل الاستمتاع بالأمرد أبدًا. 72 - {لَعَمْرُكَ}؛ أي: لحياتك يا محمد قسمي؛ أي: أقسمت لك بحياتك {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن قوم لوط {لَفِي سَكْرَتِهِمْ}؛ أي: لدائمون في سكرتهم وغوايتهم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[73]

أو شدة غلمتهم، التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه، والصواب الذي يشار به إليهم، من ترك البنين إلى البنات، حالة كونهم {يَعْمَهُونَ}؛ أي: يتحيرون في غوايتهم ويتمارون، فكيف يسمعون النصح. وقرأ الأشهب (¬1): {سُكرتهم} بضم السين، وابن أبي عبلة: {سَكَراتِهم} بالجمع، والأعمش: {سَكْرِهم} بغير تاء، وأبو عمرو في راوية الجهضمي: {أنَّهم} بفتح همزة {أنَّهم}، والعمر (¬2) والعُمْر بالفتح والضم واحد، وهو البقاء، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف، لأن الحلف كثير الدوران على ألسنتهم، ولذلك حذفوا الخبر تقديره: لعمرك قسمي، كما حذفوا الفعل في قولهم: تالله. وقال القاضي عياض: اتفق (¬3) أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جلَّ جلاله، بمدة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشريفًا له، قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه وتعالى بحياةِ أحدٍ غير محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أكرم البرية عنده تعالى، قال ابن العربي: ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط؟ قال القرطبي: ما قاله حسن، وذكر صاحب "الكشاف" وأتباعه: أن هذا القسم هو من الملائكة على تقدير القول والمعنى عليه؛ أي: قالت الملائكة للوط وحياتك أيها الرسول إن قومك لفي ضلالتهم التي جعلتهم حيارى، لا يعرفون ما أحاط بهم من البلاء، ولا ماذا يصيبهم من العذاب المنتظر، لما أصابهم من عمى البصيرة، فهم لا يميزون الخطأ من الصواب، ولا الحسن من القبيح. 73 - ثم ذكر سبحانه عاقبة أمرهم فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ}؛ أي: فأخذت قوم لوط وأهلكتهم {الصَّيْحَةُ} العظيمة، أو صيحة جبريل عليه السلام، حال كونهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[74]

{مُشْرِقِينَ}؛ أي: داخلين وقت شروق الشمس وطلوعها، وكان ابتداء (¬1) العذاب حين أصبحوا كما قال: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} وتمامه حين أشرقوا، لأن جبريل قلع الأرضين بهم، ورفعها إلى السماء ثم هوى بها نحو الأرض، ثم صاح بهم صيحة عظيمة، فالجمع بين مصبحين ومشرقين باعتبار الابتداء والانتهاء فمقطوع على حقيقته، فإن دلالة اسمي الفاعل والمفعول على الحال، وحال القطع هو حال المباشرة لا حال انقضائه، لأنه مجاز حينئذٍ، وذلك بأن تقول مقطوع بمعنى يقطع عن قريب، وقيل (¬2): أراد شروق الفجر، وقيل: كان أول العذاب عند شروق الفجر، وامتد إلى طلوع الشمس، والمعنى؛ أي: فنزل بهم العذاب المنتظر، وأخذتهم الصاعقة وقت الشروق، وكان ابتداؤها من الصبح، وانتهاؤها حين الشروق، ومن ثم قال أولًا {مُصْبِحِينَ} وقال هنا {مُشْرِقِينَ}، وأخذ الصيحة قهرها لهم وتمكنها منهم، ومن ثم يقال للأسد أخيذ. 74 - ثم بين سبحانه كيفية أخذها لهم ولقريتهم فقال: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا}؛ أي: عالي المدينة وأعلاها وظاهرها أولًا أو عالي قرى قوم لوط {سَافِلَهَا}؛ أي: أسفلها وباطنها وتحتها مقلوبة، وذلك بأن رفعناها إلى قريب من السماء على جناح جبريل، ثم قلبناها عليهم، فصارت منقلبة بهم، وكانت قراهم (¬3) أربعة، فيها أربع مئة ألف مقاتل، وقوله: {عَالِيَهَا} مفعول أول لجعلنا، لأنه بمعنى صيرنا، و {سَافِلَهَا} مفعول ثان له، وهو أدخل في الهول والفظاعة من العكس. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أهل المدينة؛ أي: وأنزلنا عليهم في تضاعيف ذلك قبل تمام الإنقلاب، أو على من كان منهم خارجا عن المدينة، بأن كان غائبًا في سفر أو غيره {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}؛ أي: من طين مطبوخ بالنار متحجر مكتوب عليه اسم من يرمى به، فهلكوا بالخسف والحجارة، وفي "الكواش": وأمطرنا على شذاذهم؛ أي: على من غاب عن تلك البلاد، والمعنى (¬4): أي: فجعلنا عالي المدينة - وهو ما على وجه الأرض - سافلها، فانقلبت عليهم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

[75]

وأمطرنا عليهم أثناء ذلك حجارة من طين متحجر، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود. وخلاصة ذلك: أنه تعالى أرسل عليهم ثلاثة أنوع من العذاب: 1 - الصيحة المنكرة الهائلة والصوت المفزع المخيف. 2 - أنه قلب عليهم القرية فجعل عاليها سافلها. 3 - أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل. 75 - ثم ذكر أن في هذا القصص عبرة لمن اعتبر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من القصة من تعرض قوم لوط لضيف لوط طمعًا فيهم، وقلب المدينة على من فيها، وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم {لَآيَاتٍ}؛ أي: لعلامات يستدل بها على حقية الحق، وعبرات يعتبر بها، {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}؛ أي: للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته. أي: إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والعذاب لدلالات للمفكرين، الذين يصبرون ما يحدث في الكون من عظات وعبر، ويستدلون بذلك على ما يكون لأهل الكفر والمعاصي من عقاب بئيس بما كانوا يكسبون. أخرج البخاري في "التاريخ"، والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه؛ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى" ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} والفراسة (¬1) ما يوقعه الله في قلوب الصلحاء، فيعلمون بذلك أحوال الناس بالحدس والظن (¬2) ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق، وقد صنف الناس في القديم والحديث كتبًا في ذلك، وبعض العلماء يجعلها دليلًا يحكم به، كما فعل إياس بن معاوية؛ كان قاضيًا ذكيًّا في عهد التابعين، 76 - ثم لفت أنظار أهل مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا، فقال: {وَإِنَّهَا}، أي: قوى قوم لوط {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[77]

أي (¬1): لطريق ثابت يسلكه الناس، ويرون آثار تلك البلاد بين مكة والشام تندرس بعد، فاتعظوا بآثارهم يا قريش إذا ذهبتم إلى الشام؛ لأنها في طريقكم، والمعنى؛ أي: وإن هذه المدينة مدينة سدوم، التي أصابها ما أصابها من العذاب لطريق واضحة لا تخفى على السالكين، فآثارها باقية إلى اليوم، لم تندثر ولم تخف، فالذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثارها، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} 77 - ثم أيْأَسَ من اعتبارهم بها، إذ هي لا يعبر بها إلا المؤمنون، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي (¬2): إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطًا وأهله {لَآيَةً}؛ أي: لدلالة جلية واضحة، وعبرة عظيمة {لِلْمُؤْمِنِينَ} المصدقين بالله ورسله، إذ هم يعرفون أن ذلك إنما كان انتقامًا من الله لأنبيائه من أولئك الجهال، الذين عصوا أمر ربهم، وكفروا برسله، ولم يرعووا عن غيهم وضلالهم، بعد إنذارهم ونصحهم. أما الذين لا يؤمنون باللهِ فيجعلون ذلك حوادث كونية، لأسباب فلكية وشؤون أرضيةٍ، جَعلت الأرض تنهار لحدوث فراغ في بعض أجزائها، كما يشاهد اليوم في البلاد ذات البراكين من اختفاء بلاد في باطن الأرض، وابتلاع الأرض لها، كما حدث في مدينة مسينا بإيطاليا سنة 1909، وظهور جزائر في وسط المحيطات لم تكن من قبل. وإفراد (¬3) الآية هنا بعد جمعها فيما سبق، لما أن المشاهد ها هنا بقية الآثار لا كل القصة، كما فيما سلف، وقال في "برهان القرآن": ما جاء في القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين، وهم مقرون بوحدانية الله تعالى .. وحد الآية. انتهى. وفي الآيات فائدتان: الأولى: مدح الفراسة، وهي الإصابة في النظر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[78]

والثانية: أن في إهلاك الأمم الماضية وإنجاء المؤمنين منهم إيقاظًا وانتباهًا ووعدًا ووعيدًا وتأديبًا لهذه الأمة المعتبرين، فاعتبروا بأحوالهم، واجتنبوا عن أفعالهم، وابكوا فهذه ديار الظالمين ومصارعهم، وفقنا الله وإياكم للهدى وعصمنا من أسباب الجهل والردى، وسلمنا من شرور النفوس، فإنها شر العدى، وجعلنا من المنتفعين بوعظ القرآن، والمعتبرين بآيات الفرقان، ما دام الروح في البدن وقام في المقام والوطن. 78 - وبعد أن ذكر قصص قوم لوط .. أتبعه بقصص قوم شعيب - عليهما السلام - فقال: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، والأيكة الغيضة، وهي جماع الشجر، أي: وإنه كان أصحاب بقعة الأشجار المجتمعة، وهم قوم شعيب - عليه السلام - وكانوا يسكنونها، وكان عامة أشجارهم الدوم، وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها، وقال أبو عبيدة: الأيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكة، {لَظَالِمِينَ} أنفسهم وغيرهم بتكذيبهم رسل الله تعالى؛ أي: إن أصحاب الأيكة كانوا بجبلتهم ظالمين كفارًا، ليس لديهم استعدادٌ للإيمان بالله ورسله، أرسل الله تعالى إليهم وإلى أهل مدين شعيبًا فكذبوه، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهم شعيبًا عليه السلام". 79 - {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر والمعاصي؛ أي؛ فأهلكناهم وعاقبناهم لما كذبوا شعيبًا، روي أن (¬1) الله سبحانه وتعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيام، حتى أخذ بأنفاسهم، وقربوا من الهلاك، فبعث الله لهم سحابة كالظلة، فالتجأوا إليها واجتمعوا تحتها، للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها نارًا فأحرقتهم جميعًا، فهو عذاب يوم الظلة، ونعم ما قيل، والشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم {وَإِنَّهُمَا}؛ أي: وإن مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}؛ أي: لبطريق واضح يأتمون به في سفرهم، ويهتدون به في مسيرهم؛ أي: يمر أهل مكة عليهما في سفرهم إلى الشام للتجارة، وقال الفراء والزجاج: سمي الطريق ¬

_ (¬1) المراح.

[80]

إمامًا لأنه يؤتم ويتبع، وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة ومدين؛ لأن شعيبًا كان ينسب إليهما. 80 - ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)} والحجر (¬1) بكسر الحاء وسكون الجيم اسم لأرض ثمود قوم صالح - عليه السلام - بين المدينة والشام، عند وادي القرى التي كانوا يسكنونها، وكانوا عربًا، وكان صالح - عليه السلام - من أفضلهم نسبًا، فبعثه الله إليهم رسولًا - وهو شاب - فدعاهم حتى شمط، ولم يتبعه إلا قليل مستضعفون، وقال (¬2): {الْمُرْسَلِينَ} ولم يرسل إليهم إلا صالح لأن من كذب واحدًا من الرسل .. فقد كذب الباقين، لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل: كذبوا صالحًا ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل: كذبوا صالحًا ومن معه من المؤمنين. أي: وعزتي وجلالي لقد كذب ثمود نبيهم صالحًا - عليه السلام - ومن كذب رسولًا من رسل الله .. فكأنما كذب الجميع، لاتفاق كلمتهم على التوحيد، والأصول العامة التي لا تختلف باختلاف الأمم والأزمان 81 - {وَآتَيْنَاهُمْ}؛ أي: وآتينا ثمود وأريناهم {آيَاتِنَا}؛ أي: حججنا الدالة على نبوة صالح - عليه السلام - الناقة وغيرها، وقيل الآية: الناقة فقط، وإنما جمعها لأن فيها آيات جمة، كخروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها وكثرة لبنها، وإنما (¬3) أضاف الآية إليهم وإن كانت لصالح؛ لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات {فَكَانُوا عَنْهَا}؛ أي: عن تلك الآيات {مُعْرِضِينَ}؛ أي: تاركين لها، غير ملتفتين إليها، ولا معتبرين بها، ولهذا عقروا الناقة، وخالفوا ما أمرهم به نبيهم 82 - {وَكَانُوا}؛ أي: وكان قوم صالح {يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ}؛ أي: ينجرون وينقرون {بُيُوتًا} ومساكن من الجبال بالمعاويل ويثقبونها فيها حالة كونهم {آمِنِينَ} فيها من الانهدام، ونقب اللصوص وتخريب الأعداء، لوثاقتها، ومن الموت لاغترارهم بطول الأعمار، فهي حال مقدرة، أو من العذاب والحوادث لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

[83]

الجبال تحميهم منه، وقرأ الجمهور (¬1): {يَنْحِتُونَ} بكسر الحاء وقرأ الحسن وأبو حيوة بفتحها، وقرىء: {بيوتًا} بضم الباء وكسرها سبعيتان. 83 - ثم ذكر ميقات هلاكهم فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}؛ أي: أهلكتهم صيحة من السماء فيها صوت صاعقةٍ، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم حالة كونهم {مُصْبِحِينَ}؛ أي: داخلين في وقت الصبح؛ أي: فأخذتهم صيحة الهلاك حين كانوا في صحوة اليوم الرابع من اليوم الذي أوعدوا فيه بالعذاب، كما جاء في قوله: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وفي (¬2) سورة الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: الزلزلة، ولعلها من لوازم الصيحة المستشبعة لتموج الهواء تموجًا شديدًا، يفضي إليها، فهي مجاز عنها، وقوله {مُصْبِحِينَ} حال من الضمير المنصوب؛ أي: داخلين في وقت الصبح ذهب اليوم الرابع، وهو يوم الأحد، والصبح يطلق على زمان ممتد إلى الضحوة، وأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت، وفي الثالث اسودت؛ فلما كملت الثلاثة .. صح استعدادهم للفساد والهلاك، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه العداء. 84 - {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}؛ أي: فما دفع عنهم ما نزل بهم من عذاب الله {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من نحت البيوت وجمع الأموال، وكثرة العدد وجمع العدد، بل خروا جاثمين هلكى حين حل بهم قضاء الله تعالى، روي (¬3) أن صالحًا - عليه السلام - انتقل بعد هلاك قومه إلى الشام بمن أسلم معه، فنزلوا رملة فلسطين، ثم انتقل إلى مكة فتوفي بها، وهو ابن ثمان وخمسين سنةً، وكان أقام في قومه عشرين سنة، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر وهو ذاهب إلى تبوك قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه، أسرع السير حتى جاوز الوادي، متفق عليه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[85]

وأخرج (¬1) ابن مردويه عن عمر قال: نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، وعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور، وعلف العجين للإبل، ثم ارتحل عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: "إني أخشى عليكم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، فلا تدخلوا عليهم". 85 - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: وما بين جنس السموات والأرضين، ولو أراد بين أجزاء المذكور .. لقال بينهن، وفيه إشارة إلى أن أصل السموات واحدة عند بعضهم، ثم قست كذا في "الكواشي". {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: إلا (¬2) خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة لا باطلًا وعبثًا، أو للحق والحكمة، والباء توضع موضع اللام، يعني لينظر عبادي إليهما فيعتبروا، والمراد بالحق ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، كما في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وقيل المراد بالحق الزوال؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائلٌ، {وَإِنَّ السَّاعَةَ} أي (¬3): القيامة لتوقعها كل ساعة كما في "المدارك" وقال ابن مالك: هي اسم لوقت تقوم فيه القيامة، سمي بها لأنها ساعة خفية يحدث فيها أمرٌ عظيم، وقال ابن الشيخ سميت الساعة ساعةً لسعيها إلى جانب الوقوع، ومسافتها الأنفاس. {لَآتِيَةٌ} أي: لكائنة لا محالة، فينتقم الله سبحانه لك يا محمد فيها من أعدائك، وهم المكذبون، ويجازيك على حسناتك ويجازيهم على سيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا ليجازي كل محسن بإحسانه، وكل مسيء بإساءته، وفيه وعيد للعصاة وتهديد لهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[86]

ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يصفح عن قومه فقال: {فَاصْفَحِ} يا محمد واعف وأعرض عن المكذبين من قومك، وتجاوز عن إساءتهم {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}؛ أي: الإعراض الجميل، والعفو الحسن، وتحمل أذيتهم، ولا تعجل بالانتقام منهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وهذا منسوخ بآية السيف. 86 - وخلاصة ذلك (¬1): خالقهم بخلق حسن، وتأن عليهم واحلم وأنذرهم، وادعهم إلى ربك قبل أن تقاتلهم {إن ربك} الذي يبلغك يا محمد إلى غاية الكمال {هُوَ الْخَلَّاقُ} لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق {الْعَلِيمُ} بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها، فلا يخفى عليه شيء مما جرى بينك وبينهم، فهو حقيق بأن تَكِل جميع الأمور إليه، ليحكم بينك وبينهم، وقد علم أن الصفح الجميل أولى بهم، إلى أن يحكم السيف بينك وبينهم، وفي الآية (¬2) أمر بالمخالقة بالخلق الحسن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، وأرجح الناس حلمًا، وأعظم الناس عفوًا، وأسخى الناس كفًّا. 87 - {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطيناك يا محمد سبع آيات تسمى بالمثاني، وهي الفاتحة، سميت بذلك لأنها تثنى وتكرر في كل ركعة من الصلاة، وهذا قول عمر وعليّ وابن مسعود وأبي هريرة، والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، لما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها"، أو لأنها قسمت قسمين: ثناء ودعاء، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، وأعطيناك أيضًا {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}: وأكرمناك به، فهو معطوف على سبعًا من المثاني، ويكون من عطف العام على الخاص؛ لأن الفاتحة بعض من القرآن، وتخصيص الفاتحة بالذكر من بين القرآن الكريم لمزيد فضلها، على نحو ما جاء في قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}، وقيل (¬3): السبع المثاني هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[88]

والمائدة والأنعام والأعراف، والسابعة الأنفال والتوبة، لأنهما كسورة واحدة، إذ ليس بينهما تسمية، روي هذا القول عن ابن عباس، وقيل: المراد بالسبع المثاني السبعة الأحزاب، فإنها سبع صحائف، وعلى القول الأول وجه تسمية الفاتحة مثاني؛ لأنها تثنى؛ أي: تكرر في كل صلاة كما مرَّ، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية: أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها، وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها، وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاووس وأبو مالك وهو راوية عن ابن عباس، واستدلوا بقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكية، وأكثر السبع الطوال مدنية، وظاهر قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} أنه قد تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية. 88 - ثم لما بين الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدِّينية .. نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال: {لَا تَمُدَّن عَينَيكَ}؛ أي: نظر عينيك، ولا تطمح ببصرك طموح راغب، ولا تدم نظرك {إِلَى مَا مَتَّعْنَا}؛ أي: إلى ما أعطينا به {أَزْوَاجًا}؛ أي: رجالًا {مِنْهُمْ}؛ أي الكفرة من متاع الدنيا وزخارفها، فإن ما في الدنيا بالنسبة إلى ما أعطيت مستحقر؛ أي (¬1): لا تتمنين أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعًا للأغنياء من اليهود والنصارى والمشركين، فإن من وراء ذلك عقابًا غليظًا، والخطاب وإن كان موجَّهًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو تعليم لأمته كما تقدم مثله، يؤيد هذا ما سبق في أسباب نزول الآية، وإن كان ضعيفًا، من أنه أتت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير إلخ، وخلاصة ذلك لقد أوتيت النعمة العظمى، التي إذا قيست بها كل النعم كانت حقيرةً، فقد أوتيت سبع آيات هي خير من السبع القوافل، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الكفرة؛ أي: لا تحزن ولا تتأسف لأجل عدم إيمانهم حيث (¬2) لم يؤمنوا، ولم ينتظموا في سلك أتباعك، ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين؛ لأن تَقْدُيري عليهم الكُفْرُ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يود أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[89]

يؤمن به كل من بعث إليه، ويتمنى لمزيد شفقته عدم إصرار الكفار على كفرهم، وبعد أن نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ}؛ أي: ألن جانبك وحالك {لِلْمُؤْمِنِينَ} وتواضع لمن معك من المؤمنين وارفق بهم، ولا تجف بهم، ولا تغلظ عليهم (¬1)، مستعار من خفض الطائر جناحه، ونحو الآية قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقوله في صفة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. 89 - ثم بين وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَقُلْ} لهم يا محمد {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}؛ أي: المنذر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله، إن لم يؤمنوا؛ أي (¬2): أنا النذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تماديهم في غيهم، كما حل بمن تقدم من الأمم المكذبة لرسلها، فانتقم الله منهم لإنزال العذاب بهم. وفي "الصحيحين": عن أبي موسى الأشعري إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"، 90 - وقوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)} هو (¬3) من قول الله تعالى، لا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، متعلق بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} لأنه بمعنى أنزلنا؛ أي: أنزلنا عليك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، إنزالًا مماثلًا لإنزال الكتابين التوراة والإنجيل، على اليهود والنصارى المقتسمين؛ أي: 91 - {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ} المنزل عليك يا محمد {عِضِينَ}؛ أي: أجزاء؛ أي: الذين اقتسموا القرآن وجزؤوه وجعلوه أجزاءً، فآمنوا ببعضه الذي وافق كتابيهما، وكفروا بعضه وهو ما خالفهما، أخرج هذا المعنى البخاري وسعيد بن منصور ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس من عدة طرق، والموصول (¬1) مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم؛ أي: قسموا القرآن إلى حق وباطل، حيث قالوا عنادًا وعدوانًا: بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، والغرض بيان المماثلة بين الإتيانين لا بين متعلقيهما، كما في الصلاة الإبراهيمية، فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله الفائضة على إبراهيم وآله أتم وأكمل مما فاض على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذلك للتقدم في الوجود، فليس في التشبيه إشعارٌ بأفضلية المشبه به من المشبه، فضلًا عن إيهام أفضلية ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أوتي ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله. وفي "القرطبي": واختلف في المقتسمين على أقوال سبعة (¬2): الأول: قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلًا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها، يقولون لمن سلكها لا تغتر بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحرٌ، وربما قالوا شاعرٌ، وربما قالوا كاهنٌ، وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم شر ميتةٍ، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكمًا على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. قال صدق أولئك. الثاني: قال قتادة: هم قوم كفار من قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرًا، وبعضه سحرًا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. الثالث: قال ابن عباس: هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، الرابع: قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك. الخامس: قال قتادة: اقتسموا كتابهم ففرقوه وبدَّدوه. السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح تقاسموا على قتله، فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

[92]

السابع: قال الأخفش: هم قوم أقسموا أيمانًا تحالفوا عليها، وقيل إنهم العاص بن وائل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وشيبة بن الحجاج، ذكره الماوردي بحروفه. 92 - وبعد أن بين وظيفة الرسول، ذكر أن الحساب على الأعمال موكولٌ إلى الله سبحانه، لا إليه فقال: {فَوَرَبِّكَ}؛ أي؛ فأقسمت لك يا محمد بربك الذي ربَّاك بالوحي {لَنَسْأَلَنَّهُمْ}؛ أي (¬1): لنسألن أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم، سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استعلام، بأن يقال لم فعلتم كذا وكذا، فلا يعارض قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)}؛ أي: لا يسألون أي شيء فعلتم ليعلم ذلك من جهتهم؛ لأن المنفي في هذه الآية سؤال استعلام، لأن سؤال الاستعلام محال على الملك العلام، ويجوز أن يكون السؤال مجازًا من المجازاة، لأنه سببها؛ أي: فوربك لنسألن الكفرة {أَجْمَعِينَ} يوم القيامة 93 - {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} في الدنيا من قول وفعل وتركٍ، والمعنى (¬2)؛ أي: فلنسألن الكفار جميعًا يوم القيامة، سؤال تأنيبٍ وتوبيخٍ لهم على ما كانوا يقولون ويفعلون فيما بعثناك به إليهم، وفيما دعوناهم إليه من الإقرار بي وبتوحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان. 94 - وبعد أن ذكر أن وظيفته التبليغ، شدد عليه في الجهر به جهد المستطاع فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}؛ أي: فاجهر بإبلاغ ما أمرت بتبليغه من الشرائع وأظهره، وافرق بين الحق والباطل {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: وأعرض عن الاهتمام باستهزائهم، ولا تبال بهم، ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وتبليغ الرسالة، ولا تخفهم، فإن الله كافيكهم وحافظك منهم، وهذا ليس بمنسوخ؛ لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم، 95 - ولمَّا (¬3) كان هذا الصدع شديدًا عليه، لكثرة ما يلاقيه من أذى المشركين. ذكر أنه حارسه وكالئه منهم، فلا يخشى بأسهم فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}؛ أي: إنا كفيناك يا محمد شر المستهزئين وضررهم، الذين يسخرون منك ومن القرآن، وهم طائفة من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[96]

المشركين لهم قوةٌ وشوكةٌ، كانوا كثيري السفاهة والأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين يرونه أو يمر بهم، أفناهم الله تعالى، وأبادهم وأزال كيدهم، وقد اختلف في عدتهم، فقوم يقولون: هم خمسة الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديُّ بن قيس، والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب، وقد ماتوا جميعًا بأهون الأسباب، فتعلق بثوب الوليد سهم فتكبر أن يبعده، فأصاب عرقًا في عقبه فمات، ومات العاص بشوكةٍ في أخمص قدمه، وأصاب عديَّ بن قيس مرضٌ في أنفه فمات، وأصيب الأسود بن عبد يغوث بداءٍ وهو قاعدٌ في أصل شجرةٍ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وعمي الأسود بن عبد المطلب. وقوم يقولون: هم سبعةٌ من أشراف قريش ومشركيها. 96 - ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}؛ أي: هم الذين اتخذوا مع الله إلهًا آخر، يعبدونه من دون الله تعالى، وفي وصفهم بهذا الوصف تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهوينٌ للخطب عليه، إذ أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء بمقام النبوة، بل تعدوا إلى الإشراك بربهم المدبر لأمورهم، والمحسن إليهم، ثم توعدهم على ما كانوا يصنعون فقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم حين يحل بهم عذاب ربهم، يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. 97 - وبعد أن سلّاه بكفاية شرهم ودفع مكرهم، ذكر تسلية أخرى فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} يا محمد {بِمَا يَقُولُونَ}؛ أي: بما يقول المشركون من الأقوال الكفرية الاستهزائية، المتضمنة للطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسحر والجنون والكهانة والكذب، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الجبلية البشرية، والمزاج الإنساني، 98 - ثم أمره (¬1) سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: {فَسَبِّحْ} يا محمد ونزه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به حالة كونك متلبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: متلبسًا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[99]

بحمده وثنائه {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}؛ أي: المصلين، فإنك إذا فعلت ذلك .. كشف الله همك، وأذهب غمك، وشرح صدرك، 99 - ثم أَمره بعبادة ربه؛ أي: بالدوام عليها بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} إلى غاية هي قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}؛ أي: الموت المتيقن، قال الزجاج: المعنى (¬1) اعبد ربك أبدًا؛ لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت .. لجاز إذا عبد الإنسان مرةً أن يكون مطيعًا، فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمره بالإقامة على العبادة أبدًا ما دام حيًّا، والمعنى (¬2)؛ أي: إذا نزل بك الضيق ووجهت نفسك فافزع إلى ربك، ونزهه عما يقولون، حامدًا له على توفيقك للحق، وهدايتك إلى سبيل الرشاد، وصلِّ آناء الليل وأطراف النهار، فإن في مناجاة ربك ما يقربك إلى حضرة القدس، ويسمو نفسك إلى الملا الأعلى كما ورد في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، ودم على ما أتت عليه، طالبًا المزيد من فضله، حتى يأتيك الموت، فهناك الجزاء بلا عملٍ، وهنا العمل ولا جزاء، وقصارى ذلك: أنه تعالى أرشده إلى كشف ما يجده في نفسه من الغم بفعل الطاعات، والإكثار من العبادات، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر واشتدَّ عليه خطب .. فزع إلى الصلاة، روى أحمد عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " وفي هذه (¬3) دلالة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على المرء ما دام ثابت العقل، روى البخاري عن ابن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع .. فقاعدًا، فإن لم تستطع .. فعلى جنب"، اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. الإعراب {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

{فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فخرجوا من عند إبراهيم، وسافروا من قريته إلى قرية لوط، فلما دخلوا قريته، وجاءوا إليه .. قال لوط، {لمَّا}: حرف شرط غير جازم {جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لمَّا} لا محل لها من الإعراب {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {لُوطٍ}، والجملة جواب {لمَّا}، وجملة {لمَّا} معطوفة على ذلك المحذوف، {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ}: ناصب واسمه وخبره، {مُنْكَرُونَ}: صفة {قَوْمٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بَلْ جِئْنَاكَ} إلى قوله: {وَقَضَيْنَا} مقولٌ محكي، وإن شئت قلت: {بَلْ}: حرف ابتداء وإضراب عن محذوف، إضرابًا إبطاليًّا تقديره: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، {جِئْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} {كَانُوا} فعل ناقص واسمه {فِيهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَمْتَرُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير {فِيهِ}. {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}. {وَأَتَيْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من فاعل {أَتَيْنَاكَ}، تقديره: حالة كوننا متلبسين بالحق، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {بَلْ جِئْنَاكَ} على كونها مقول {قَالُوا}. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}: ناصب واسمه وخبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب حال ثانية من فاعل {أتيناك}. {فَأَسْرِ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {أسر}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة في محل النصب معطوفة على قوله {وَأَتَيْنَاكَ}. {بِأَهْلِكَ}: جار ومجرور، حال

من فاعل {أسْر}؛ أي: فأسر حالة كونك متلبسًا بأهلك، {بِقِطْعٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أسر} و {الباء} بمعنى في؛ أي: في قطعٍ، {مِنَ اللَّيْلِ}: جار ومجرور صفة لـ {قطع}، {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَسْرِ}، {وَلَا يَلْتَفِتْ}: فعل مضارع، {مِنْكُمْ}: حال من {أَحَدٌ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَحَدٌ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَسْرِ}، {وَامْضُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {فَأَسْرِ}. {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بـ {امْضُوا} {تُؤْمَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}. {وَقَضَيْنَا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {قَضَيْنَا} {ذَلِكَ}: مفعول، {الْأَمْرَ}: بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان منه، {أَنَّ}: حرف نصب، {دَابِرَ هَؤُلَاءِ}: اسمها ومضاف إليه، {مَقْطُوعٌ}: خبر {أَنَّ} {مُصْبِحِينَ}: حال من الضمير المستتر في {مَقْطُوعٌ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على البدلية من اسم الإشارة، أو من الأمر، تقديره: وقضينا إليه ذلك الأمر قطع دابر هؤلاء مصبحين، أو مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وقضينا إليه ذلك الأمر بقطع دابر هؤلاء {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {يَسْتَبْشِرُونَ} في محل النصب حال من {أهْلُ الْمَدِينَةِ}. {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة، {إِنَّ هَؤُلَاءِ} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} ناصب واسمه، {ضَيْفِي}: خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا} ناهية جازمة، {تَفْضَحُونِ}: فعل مضارع

مجزم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، و {الواو}: فاعل و {النون}: نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة على قراءة الجمهور اجتزاءً عنها بكسرة النون مبني على السكون، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إِن}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {إِن} {وَلَا تُخْزُونِ}: جازم وفعل وفاعل، ونون وقاية ومفعول محذوف على قراءة الجمهور، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِن} كونها مقول {قَالَ}. {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ} {الهمزة} للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نقدم لك ولم ننهك، {لَمْ نَنْهَكَ}: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم لوط {عَنِ الْعَالَمِينَ} متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة {هَؤُلَاءِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}: جازم وفعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ {إن}، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم فاعلين قضاء الشهوة فيما أحل الله .. فتزوجوا بناتي، والجملة الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَعَمْرُكَ} {اللام}: حرف ابتداء {عمرك}: مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف وجوبا لسد جواب القسم مسده والتقدير: لعمرك قسمي، وجملة القسم مستأنفة، {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه {لَفِي} {اللام}: حرف ابتداء {فِي سَكْرَتِهِمْ}: جار ومجرور خبر {إنَّ} وجملة {إن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة {يَعْمَهُونَ} في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور.

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)}. {فَأَخَذَتْهُمُ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت استمرارهم في غوايتهم، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول: أخذتهم الصيحة {أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} فعل ومفعول وفاعل، {مُشْرِقِينَ}: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {فَجَعَلْنَا} {الفاء}: عاطفة {جعلنا}: فعل وفاعل، {عَالِيَهَا}: مفعول أول، {سَافِلَهَا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {فَأَخَذَتْهُمُ}. {وَأَمْطَرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {جعلنا}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به {حِجَارَةً}: مفعول به، {مِنْ سِجِّيلٍ}: صفة لـ {حِجَارَةً}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)}. {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: صفة لآيات، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَإِنَّهَا}: ناصب واسمه {لَبِسَبِيلٍ} {اللام}: حرف ابتداء؛ {بِسَبِيلٍ}: جار ومجرور خبره، {مُقِيمٍ}: صفة {سبيل}، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى، {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء {لِلْمُؤْمِنِينَ}: صفة {لَآيَةً}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية، {إِنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن {كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، {لَظَالِمِينَ}: خبره، و {اللام} حرف ابتداء، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة مستأنفة. {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)

وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)}. {فَانْتَقَمْنَا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت كونهم ظالمين، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول لك انتقمنا، {انتقمنا} فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَإِنَّهُمَا}: ناصب واسمه {لَبِإِمَامٍ} {اللام}: حرف ابتداء، {بإمام}: جار ومجرور خبر {إن} {مُبِينٍ}: صفة {إمام}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {انْتَقَمْنَا} على كونهم مقولًا لجواب إذا المقدرة، {وَلَقَدْ}: {الواو} استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب {الْمُرْسَلِينَ}: مفعول به، {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا}: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَذَّبَ}. {فَكَانُوا} {الفاء}: عاطفة {كانوا}: فعل ناقص واسمه، {عَنْهَا}: متعلق بما بعده، {مُعْرِضِينَ}: خبر {كان} وجملة {كان} معطوفة على جملة {آتيناهم}. {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَنْحِتُونَ} خبره، {مِنَ الْجِبَالِ}: حال مقدرة من {بُيُوتًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {بُيُوتًا}: مفعول، {آمِنِينَ}: حال من فاعل {يَنْحِتُونَ} وجملة {كان} معطوفة على جملة قوله: {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، {فَأَخَذَتْهُمُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وظلمهم، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك {أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} فعل ومفعول وفاعل، {مُصْبِحِينَ}: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة، {فَمَا} {الفاء}: عاطفة {ما}: نافية {أَغْنَى}: فعل ماض، {عَنْهُمْ} متعلق به، {مَا}: اسم موصول، أو موصوفة في محل الرفع فاعل،

والجملة الفعلية معطوفة على جملة {فَأَخَذَتْهُمُ} {كاَنُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يكسبونه. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية {ما} نافية، {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {ما} أو صفة لها، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق. {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}. {وَإِنَّ} {الواو}: استئنافية {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} ناصب واسمه وخبره، و {اللام} حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، {فَاصْفَحِ} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الساعة آتية، وأن الله ينتقم من أعدائك .. فأقول لك اصفح، {اصْفَحِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، {الصَّفْحَ}: منصوب على المفعولية المطلقة، {الْجَمِيلَ}: صفة لـ {الصَّفْحَ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {هُوَ}: ضمير فصل، {الْخَلَّاقُ}. خبر {إِنَّ}. {الْعَلِيمُ} صفة له، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {آتَيْنَاكَ سَبْعًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم

المحذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة، {مِنَ الْمَثَانِي}: صفة لـ {سَبْعًا}، {وَالْقُرْآنَ}: معطوف على {سَبْعًا}، {الْعَظِيمَ}: صفة {القرآن}، {لَا تَمُدَّنَّ} {لَا}: ناهية جازمة، {تَمُدَّنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لَا} مبني على الفتح، والنون نون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {عَيْنَيْكَ}: مفعول به، {إِلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمُدَّنَّ}، {مَتَّعْنَا}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق به، {أَزْوَاجًا}: مفعول به {مِنْهُمْ}: صفة لـ {أَزْوَاجًا}، وجملة {مَتَّعْنَا} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {وَلَا تَحْزَنْ}: جازم وفعل مجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله {لَا تَمُدَّنَّ}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {وَاخْفِضْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على محمد، {جَنَاحَكَ}: مفعول به، {لِلْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {اخْفِضْ} والجملة الفعلية معطوفة على جملة النهي. {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}. {وَقُلْ}: فعل أمر معطوف على {اخْفِضْ}، وفاعله ضمير يعود على محمد، {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}: مقولٌ محكيٌّ، وإن شئت قلت: {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَنَا}: ضمير فصل، أو تأكيد لياء المتكلم، {النَّذِيرُ}: خبر {إنَّ}. {الْمُبِينُ}: صفةٌ له، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قل} {كَمَا} {الكاف}: صفة لمصدر محذوف معمول لآتيناك سبعًا من المثاني؛ لأنه بمعنى أنزلنا، {ما}: مصدرية، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}: متعلق به، والجملة الفعلية صفةٌ لمصدر محذوف، تقديره: ولقد أنزلنا عليك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم إنزالًا مثل إنزالنا على المقتسمين، {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْمُقْتَسِمِينَ}. {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، {فَوَرَبِّكَ} {الفاء}: استثنائية، {وربك} جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بربك يا محمد، وجملة القسم مستأنفة، {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} {اللام}: موطئة للقسم، {نسألنهم}: فعل ومفعول أول، ونون

توكيد، وفاعله ضمير يعود على الربِّ، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير المفعول، والجملة الفعلية جواب القسم. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {نَسْأَلَنَّ} وهو في محل المفعول الثاني، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفةٌ لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عمّا كانوا يعملونه. {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}: {فَاصْدَعْ} الفاء فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك. اصدع بما تؤمر، {اصدع}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمدٍ، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {تُؤْمَرُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما تؤمر به، {وَأَعْرِضْ}: فعل أمر معطوف على اصدع، وفاعله ضمير يعود على محمد، {عَنِ الْمُشْرِكِينَ}: متعلق به، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)}. {الَّذِينَ}: صفة للمستهزئين، {يَجْعَلُونَ} فعل وفاعل، {مَعَ اللَّهِ}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لجعل، {إِلَهًا}: مفعول أول، {آخَرَ}: صفة له، والجملة صلة الموصول، {فَسَوْفَ} {الفاء}: استئنافية، {سوف}: حرف استقبال وتنفيس، {يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم، والجملة مستأنفة، ويحتمل كون {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} خبره، والفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من

معنى الشرط، {وَلَقَدْ}: {الواو}، {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق {نَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب القسم المحذوف، {أَنَّكَ}: ناصب واسمه {يَضِيقُ صَدْرُكَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَضِيقُ}، وجملة {يَقُولُونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما يقولونه. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. {فَسَبِّحْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك ... فأقول لك سبح بحمد وبك، {سبح}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بِحَمْدِ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل {سبح} تقديره: حالة كونك متلبسًا بحمد ربك، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، {وَكُنْ} فعل أمر ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على محمد، {مِنَ السَّاجِدِينَ}: خبر {كُنْ}، وجملة {كُنْ} في محل النصب معطوف على {سبح} {وَاعْبُدْ رَبَّكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {سبح}، {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فعل ومفعول وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، والتقدير: وأعبد ربك إلى إتيان اليقين، الجار والمجرور معلق بـ {اعْبُدْ}. التصريف ومفردات اللغة {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: اذهب بهم ليلًا، والقطع من الليل الطائفة منه، كما قال: افتحي البَابَ وانظُري في النُّجُوم ... كم علينا مِن قِطْعِ لَيلٍ بَهِيمِ {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}؛ أي: كن على أثرهم لتسرع بهم، وتطلع على أحوالهم،

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} أوحينا {دَابِرَ} آخر {مَقْطُوعٌ}؛ أي: مهلك مستأصل، {أَهْلُ الْمَدِينَةِ} والمدينة هي سذوم على وزن فعول - بالذال المعجمة - مدينة قوم لوط، والاستبشار إظهار السرور، والفضيحة إظهار ما يوجب العار، يقال: فضحه كمنعه يمنعه فضيحة وفضحًا إذا كشف مساويه، وأظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه، وفي "المختار": فضحه فافتضح كشف مساويه، وبابه قطع، والاسم الفضيحة والفضوح أيضًا بضمتين اهـ. {وَلَا تُخْزُونِ}؛ أي: لا تذلون، من الخزي وهو الهوان، أو ولا تخجلون فيهم، من الخزاية وهي الحياء اهـ "بيضاوي". {لعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} والعمر والعمر بالفتح والضم الحياة، وإذا أريد به القسم تفتح عينه، وقيل والعمر بالفتح لغة في العمر بضمتين، فهما بمعنى واحد، وهو مدة عيش الإنسان؛ أي: مدة حياته في الدنيا، لكن لم يرد القسم في كلام العرب إلا بالضبط الأول؛ أي: فتح اللام وفتح العين المهملة اهـ شيخنا، وفي "السمين": لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا، و {إِنَّهُمْ} وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي أو يميني إنهم ... إلخ، والعمر بالفتح والضم هو البقاء، إلا إنهم التزموا الفتح في القسم، قال الزجاج: لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بعمرك، وفي "الدر المنثور" وعمرك بفتح العين وسكون الميم لغة في العمر بضمهما، وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح. {لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}؛ أي: في غوايتهم وضلالهم يتحيرون، ويقال عمه يعمه من باب تعب، إذا تحير، كما في "المختار". {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} والصيحة الصاعقة، وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة، أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير، {مُشْرِقِينَ}؛ أي: داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس وطلوعه، و {السجيل} الطين المتحجر، وهو معرب لا عربيٌّ في المشهور، وفي "القاموس": السجيل كسكيت حجارة كالمدر معرب. سَنْكِ وكل اهـ. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}؛ أي: للمتفكرين، يقال توسمت في فلان كذا؛ أي:

عرفت وسمه فيه؛ أي: أثره وعلامته، وتوسم الشيء تحيره وتفرسه، وفي "السَّمين" قوله: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} من التوسم تفعل من الوسم، والوسم أصله التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البقر أو غيره، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك، وفيه معنى التثبت، وقيل: أصله استقصار التعرف، تقول توسمت؛ أي: تعرفت مستقصيًا وجوه التعرف، وقيل هو تفعل من الوسم وهو العلامة، ويقال توسمت في فلان خيرا إذا ظهرت لي منه علاماته، قال عبد الله بن رواحة يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيْكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}؛ أي: لبطريق واضح معلم ليس بخفيّ ولا زائل الآثار، يسلكه الناس ويرون آثار القرى فيه "بيضاوي"، {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} والأيكة الغيضة، وهي الشجر الملتف بعضه على بعض، وقد كانت في مكان كثير الأشجار كثير الغبار، وكان عامة شجرهم المقل؛ أي: الدوم، وفي "المختار": الأيك الشجر الكثير الملتف، الواحدة أيكة مثل تمر وتمرة، فمن قرأ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} فهي الغيضة، ومن قرأ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} فهي اسم القرية، وقيل هما مثل مكة وبكَّة، {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}؛ أي: لبطريق واضح، وأصل الإِمام ما يؤتم سمي به الطريق لأنه يؤتم ويتبع؛ أي: لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده اهـ "خازن"، و {أَصْحَابُ الْحِجْرِ} هم ثمود، والحجر واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه، وآثاره باقية يمر عليها ركب الشام في ذهابه إلى الحجاز، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرًا، ومنه حجر الكعبة المشرفة. {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} هي الناقة، وفيها آيات كثيرة: كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها كما مر، {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ}؛ أي: يخرقون فيها بيوتًا بالمعاويل، حتى تصير مساكن من غير بنيان يسكنونها زمن الشتاء، والنحت في كلام العرب البري والنجر، يقال تحته ينحته بالكسر نحتًا - من باب ضرب - إذا براه ونقبه، والجبال جمع جبل، قال في "القاموس": الجبل محركة كل وتد للأرض عظم وطال، فإن انفرد فأكمة، أو قنة {بيُوُتًا} جمع بيت، وهو اسم مبنى

مسقف، مدخله من جانب واحد، بني للبيتوتة، سواء كان حيطانه أربعة أو ثلاثةٌ، والدار تطلق على العرصة المجردة، بلا ملاحظة البناء معها ذكره في "روح البيان". و {الصَّفْحَ} ترك التثريب واللوم، والصفح الجميل ما خلا من العتب {مِنَ الْمَثَانِي} جمع مثنى من التثنة، وهو التكرير والإعادة، {لَا تَمُدَّنَّ} يقال مد عينيه إلى مال فلان: اشتهاه وتمناه، {أَزْوَاجًا} جمع زوج، وهو الصنف، وخفض الجناح يراد به التواضع واللين، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه .. بسط جناحه، والجناحان من الإنسان جانباه، و ({النَّذِيرُ} المخوف بعذاب الله من لا يؤمن به. {عِضِينَ}؛ أي: أجزاء، واحدها عضةٌ من عضيت الشاة، جعلتها أعضاء وأقسامًا، وفي "البيضاوي" عضين جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة، من عضى الشاة إذا جعلها أعضاءً وأجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعرٌ وبعضه سحرٌ وبعضه كهانةٌ ونحو ذلك، وقيل هو مأخوذ من عضته إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وفي "المختار": قال الكسائيُّ: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون، مثل عزة وعزون، قال الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)} قيل ونقصان الواو، وهو من عضوته؛ أي: فرقته؛ لأن المشركين فرقوا أقاويلهم فيه، فجعلوه كذبًا وسحرًا وكهانة وشعرًا، وقيل نقصانه الهاء، وأصله عضهةٌ؛ لأن العضة والعضين في لغة قريش السحر، يقولون للساحر عاضه، ومنه قول الشاعر: أعُوْذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تِ في عُقَدِ الْعَاضِهِ الْعَضِهِ وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء، لما لحقها من الحذف، فجعلوا ذلك عوضًا عما لحقها من الحذف، ومما يؤيد أن معنى عضين التفريق قول رؤبة: وَلَيسَ دِينُ الله بِالعِضِيْنِ

أي: بالمفرق، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}؛ أي: اجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا، {يَضِيقُ صَدْرُكَ} أن ينقبض من الحسرة والحزن، {السَّاجِدِينَ} المصلين، {الْيَقِينُ} الموت، وسمي به لأنه أمر متيقن لا شك فيه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الكناية في قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} لأنه كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف؛ لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفةٍ. ومنها: ترك الاستثناء هنا، حيث لم يقل: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، اكتفاءً بما قبله وهو قوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ}. ومنها: الكناية في قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} كنى به عن عذاب الاستئصال. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}، وجناس الاشتقاق في قوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ}. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ}؛ لأن الجائي بعضهم لا كلهم. ومنها: إطلاق الضيف على الملائكة بحسب اعتقاده - عليه السلام - لكونهم في زيِّ الضيف في قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} حيث استعار السكرة التي هي زوال العقل من الشراب لغوايتهم وضلالتهم، بجامع عدم التمييز بين الصواب والخطأ في كل منهما. ومنها: الطباق في قوله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} حيث استعار الإِمام بمعنى

المقتدى به للطريق الواضح، بجامع الاهتداء في كل منهما. ومنها: إطلاق الجمع على المفرد في قوله: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا}؛ لأن المراد بها الناقة، تنزيلًا لها منزلة الجمع؛ لأن فيها آيات كثيرة وخوارق عديدة، كما مر في مبحث التفسير. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {آيَاتِنَا}. ومنها: المبالغة في قوله: {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} حيث شبه إلانة الجانب بخفض الجناح، بجامع العطف والرقة في كلٍ، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وهذا من أبلغ الاستعارات، لأن الطائر إذ كف عن الطيران بجناحيه .. خفض جناحيه. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}؛ أي: من المصلين لما فيه من إطلاق البعض وإرادة الكل. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ}؛ لأن العبادة عامة شاملة للتسبيح والسجود وغيرهما. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بمعاني كتابه وأسرار تنزيله * * *

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الحكم والأحكام 1 - وصف القرآن الكريم. 2 - الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون. 3 - استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبهم لما يرونه من الآيات. 4 - إقامة الأدلة على وجود الله بما يرونه من الآيات في خلق السموات والأرض وفي الإنسان. 5 - عصيان إبليس أمر ربه في السجود لآدم، وذكر الحوار بينه وبين ربه، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين. 6 - بيان حال أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. 7 - قصص بعض الأنبياء، وذكر ما أهلك الله به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها. 8 - بيان أن الحكمة في خلق السموات والأرض هي عبادة الله تعالى وحده، وإقامة العدل والنظام في المجتمع. 9 - ذكر ما أنعم الله به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم. 10 - نهي نبيه والمؤمنين عن تمني زخرف الدنيا وزينتها. 11 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين. 12 - التذكير بنعمة الله عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين. 13 - الأمر بالدعوة للدين جهرًا والصدع بها، وعدم المبالاة بالمشركين. 14 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفي كتابه الكريم (¬1). ¬

_ (¬1) فرغنا من تفسير هذه السورة بعون الله وتوفيقه في ليلة الثلاثاء، أوائلها الليلة الثانية عشرة من شهر شعبان المعظم، من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة من الهجرة النبوية.

سورة النحل

سورة النحل سورة النحل مكية (¬1) إلا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة في قتل حمزة - رضي الله عنه - قاله ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، إلى قوله: {يَعْلَمُونَ}، وقال قتادة: هي مكية إلا خمس آيات، وهي قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخر السورة، زاد مقاتل قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} الآية، وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} الآية، وقيل: كان يقول لسورة النحل سورة النِّعم، لكثرة تعداد النعم فيها، وهي مئة وثمان وعشرون آية، وألفان وثمان مئة وأربعون كلمة، وسبعة آلاف وسبع مئة وسبعة أحرف. والمقصود من هذه السورة (¬2): الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار، منزه عن شوائب النقص، وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحلة لما ذكر من شأنها في دقة الفهم، من ترتيب بيوتها ورحبها وسائر أمرها، من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها، وجعله شفاءً، مع أكلها من الثمار النافعة والضارة، وغير ذلك من الأمور، ورسمها بالنعم واضح اهـ "خطيب". المناسبة: ووجه المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها (¬3): أنه لما قال في السورة السالفة: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} كان ذلك تنبيهًا إلى حشرهم يوم القيامة، وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا، فقيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

تَسْتَعْجِلُوهُ}، وأيضًا فإن قوله في آخرها: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} شدد الالتئام بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. الناسخ والمنسوخ فيها: قال الإِمام أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: وجملة المنسوخ في هذه السورة خمس آيات: أولاهن: قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} الآية (67)، نسخت بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} الآية (33) من سورة الأعراف، يعني الخمر، وقيل بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الآية (91) أي: انتهوا. الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} الآية (82)، نسخت بآية السيف. الآية الثالثة: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} الآية (106)، نسخت بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية (106) من سورة النحل، وقيل بآية السيف. الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ} الآية (125). والخامسة: قوله تعالى: {وَاصْبِرْ} (128) نسخت كلتاهما بآية السيف، مع الاختلاف فيهما. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}. المناسبة وقد سبق لك بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة السالفة فراجعه. قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) ...}

الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) أنه منزه عن الشريك والولد، وأنه لا إله إلا هو، وأمر بتقواه وإخلاص العبادة له .. ذكر هنا أدلة التوحيد، واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام بأسلوب بديع، جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم، ونبّه بذلك إلى أن كل واحد من هذا كاف في صرف المشركين عمّا هم عليه من الشرك. وكلما بصَّرهم طائفة مما يرون ويشاهدون .. بكتهم على ما يقولون ويفعلون، وبيَّن لهم كفرانهم نعمتي الرعاية والهداية، فاحتج على وجوده بخلق الأجرام الفلكية، ثم ثنى بذكر أحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر أحوال الحيوان، ثم ربع بذكر أحوال النبات، ثم اختتم القول بذكر أحوال العناصر الأربعة. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب. ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاشٌ، ثم بالنيرين الذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمَّا ذكر الاستدلال بما ذرأ في الأرض .. ذكر ما امتن به من تسخير البحر، ومعنى تسخيره كونه يتمكن الناس من الانتفاع به، للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه. قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل (¬3) على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

وجود الإله القادر الحكيم على أحسن ترتيب وأكمل نظام، وكان في ذلك تفصيل وإيضاح لأنواع النعم، ووجوه الإحسان، وأردف ذلك بتبكيت الكفار، وإبطال شركهم وعبادتهم غير الله من الأصنام والأوثان، لما يلزم ذلك من المشابهة بينه تعالى وبينها، ثم أردف ذلك بيان أن لهذا الخالق نعمًا لا تحصى على عباده، وأنهم مهما بالغوا في الشكر واجتهدوا في العبادة .. فليسوا ببالغين شيئًا مما يجب عليهم نحوه، ولكنه يستر عليهم ما فرط من كفرانها، ويرحمهم بفيض النعم عليهم، مع عدم استحقاقهم لها، ثم أعقب هذا بذكر خواص الألوهية، وهي علم السر والنجوى والخلق، وهذه الأصنام ليس لها شيء من ذلك فهي مخلوقة لا خالقة، ولا شعور لها بحشر ولا نشر، ومن هذا كله يعلم أن الإله واحد لا شريك له، ثم ذكر الأسباب الداعية إلى الإشراك، وهي تحجر القلوب وإنكار التوحيد، فهي لا ترغب في الثواب ولا ترهب العقاب، وتستكبر عن عبادة الواحد الديان، لا جرم بقيت مصرة على ما كانت عليه من الجهل والضلال. أسباب النزول قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): أنه لما نزل قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} .. قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعلمون حتى ننظر، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء .. قالوا ما نرى شيئًا، فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} فأشفقوا، وارتقبوا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام .. قالوا: يا محمد ما نرى شيئًا مما تخوفنا به، فأنزل الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فوثب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورفع الناس رؤوسهم، ونزل: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنوا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج (¬2) ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. ذعر ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي. (¬2) لباب النقول.

[1]

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نزلت {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} فسكتوا، وأخرج عبد الله بن الإِمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر ابن أبي حفص قال: لما نزلت {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} .. قاموا، فنزلت {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي (¬1): دنا واقترب ما وعدتم به أيها الكفرة؛ أي: أتى العذاب الموعود لكم أيها الكفرة {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}، أي: أمر الله ووقوعه، إذ لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء، لكنه حمل على الحقيقة، ونهوا عنه بضرب من التهكم. الاستعجال طلب الشيء قبل حينه، وقيل أمر الله يوم القيامة، وعبَّر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه، والحاصل (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئًا .. نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي: قد حصل حكم الله بنزول العذاب من الأزل إلى الأبد، وإنما لم يحصل المحكوم به؛ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين. {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}؛ أي: فلا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت، ولما قالت الكفرة: إنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله، من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة إلا أنَّا نعبد هذه الأصنام، فإنها شفعاؤنا عند الله، فهي تشفع لنا عنده، فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به، بسبب شفاعة هذه الأصنام، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له وتقديسًا عن الصاحبة والولد {وَتَعَالَى}؛ أي: تبرأ وترفع {عمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن إشراكهم به غيره، أو عما يشركون به تعالى من الأصنام والأوثان، فنزه الله تعالى نفسه عن شركة الشركاء، وأن يكون لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، وقرأ حمزة والكسائي: {أَتَى} بالإمالة ذكره في "زاد المسير". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

وقرأ الجمهور: {تَسْتَعْجِلُوهُ}: بالتاء على الخطاب، وهو خطاب للمؤمنين، أو خطاب للكفار على معنى قل لهم: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}، وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}، وقر ابن جبير: بالياء نهيًا للكفار، والظاهر عود الضمير في: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} على الأمر؛ لأنه هو المحدث عنه، وقيل يعود على الله؛ أي: فلا تستعجلوا الله بالعذاب، أو بإتيان يوم القيامة، كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}، وقرأ حمزة والكسائي: {تُشْرِكون} بتاء الخطاب، وباقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وابن وضاح وأبو رجاء والحسن: بالياء على الغيبة، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء من تحت، وبالتاء من فوق معًا الأعمش وأبو العالية وطلحة وأبو عبد الرحمن وابن وثاب والجحدري. وعبارة "المراغي" هنا: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}؛ أي: قرب عذاب المشركين وهلاكهم، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ، وقضائه الغالب على كل شيء، فهو يأتي في الحين الذي قدره وقضاه، ونظم سبحانه المتوقع في صورة المحقق، إيذانًا بأنه واجب الوقوع، والشيء إذا كان بهذه المثابة يسوغ في عرف التخاطب أن يعد واقعًا، ومعنى قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدر في علمه تعالى. وفي هذا (¬1): تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلامٌ منه لهم بقرب عذابهم وهلاكهم الذي لا بد منه، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: تبرأ الله تعالى عن الشريك والشفيع الذي يدفع الضر عنكم، وفي هذا رد لمقالهم حين قالوا: لئن حكم الله علينا بإنزال العذاب في الدنيا أو في الآخرة .. لتشفعن لنا هذه الأصنام التي نعبدها من دونه. وخلاصة هذا: أن تلك الجمادات الخسيسة التي جعلتموها شركاء لله وعبدتموها هي أحقر الموجودات، وأضعف المخلوقات، فكيف تجعلونها شريكةً لله في التدبير والشفاعة في الأرض والسموات. ¬

_ (¬1) المراغي.

[2]

2 - ولمَّا (¬1) أخبرهم - أعني الكفار - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الله تعالى أنه قد قرب، ونهاهم عن الاستعجال .. ترددوا في الطريق التي علم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فأخبر أنه علم به بالوحي على ألسن رسل الله تعالى من ملائكته، فقال: {يُنَزِّلُ} الله سبحانه وتعالى {الْمَلَائِكَةَ}؛ أي (¬2): جبريل لأن الواحد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسًا تعظيمًا لشأنه ورفعًا لقدره، أو هو ومن معه من حفظة الوحي؛ لأنه قد ينزل بالوحي مع غيره حالة كونهم متلبسين {بِالرُّوحِ}؛ أي: بالوحي الذي من جملته القرآن، على طريق الاستعارة، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، وقال بعضهم الباء بمعنى مع؛ أي: ينزل الملائكة مع جبريل، وقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} بيان للروح الذي أريد به الوحي؛ أي: حالة كون الروح والوحي من أمره وحكمه وشرعه، أو هو متعلق بينزل، و {مَنْ} بمعنى الباء السببية؛ أي: بسبب أمره، وأجل إرادته؛ أي: ينزل الملائكة بالوحي من أمره {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}؛ أي: على من يصطفيه من عباده للنبوة والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق، وقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا} بدل من الروح؛ أي: ينزل الله سبحانه وتعالى ملائكته بالوحي من أمره على من يريد من عباده المصطفين الأخيار حالة كونهم متلبسين بأنهم أنذروا؛ أي: بأن قولوا يا ملائكتي للأنبياء: أعلموا الناس أيها الأنبياء {أَنَّهُ}؛ أي: الشأن {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} الواحد القهار الملك الجبار {فَاتَّقُونِ}؛ أي: فخافوا أيها الناس عقابي بالإتيان بعبادتي، والمخاطبون بالإنذار الأنبياء الذين نزلت عليهم الملائكة، والآمر هو الله تعالى، والملائكة نقلة للأمر، والإنذار التخويف من المحذور. وتقدير هذا الكلام: (¬3) أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده، ويأمر الله ذلك العبد الذي نزلت عليه الملائكة بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد، كلفهم بمعرفة التوحيد وبالعبادة له، وبين أنهم إن فعلوا .. فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا .. وقعوا في شر الدنيا والآخرة، فبهذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[3]

الطريق صار ذلك العبد مخصوصًا بهذه المعارف من دون سائر الخلق، فقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} إشارة إلى الأحكام الأصولية، وقوله تعالى: {فَاتَّقُونِ} إشارة إلى الأحكام الفرعية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬1): {يُنَزِّلُ} بإسكان النون وتخفيف الزاي، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {يُنَزِّلُ} بالتشديد، وقرأ زيد بن علي والأعمش وأبو بكر: {تُنَزَّلُ} مشددًا مبنيًّا للمفعول {المَلائِكَةُ}، وقرأ الجحدري كذلك إلا أنه خفَّف، وقرأ الحسن وأبو العالية والأعرج والمفضَّل عن عاصم ويعقوب: {تَنَزَّلُ} بفتح التاء مشددًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن أبي عبلة: {نُنزِّلُ} بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، قال ابن عطية: وفيهما شذوذ كثير. انتهى. وشذوذهما أن ما قبله وبما بعده ضمير غيبة، ووجه بأنه التفات. وقرىء {ليُنْذرُوا أنَّه} وقرأ يعقوب {فاتَّقُوني} بالياء، ذكره "النسفيُّ"، وفي الآية إيماء (¬2) إلى أن الوحى من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ويؤيد ذلك قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فقد بدأ بذكر الملائكة؛ لأنهم الذين يتلقون الوحي من الله بلا وساطة، وذلك الوحي هو الكتب، وهم يوصلون هذا الوحي إلى الأنبياء، لا جرم جاء الترتيب على هذا الوضع. 3 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: خلق سبحانه وتعالى وأنشأ وأوجد العالم العلوي، وهو السموات، والعالم السفلي، وهو الأرض بما حوت على غير مثال سابق؛ أي: خلق الأجرام العلوية والآثار السفلية خلقًا متلبِّسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكمة والمصلحة على نهج تقتضيه الحكمة، ولم يخلقهما عبثًا منفردًا بخلقهما لم يشركه في إنشائهما وإحداثهما شريك، ولم يعنه على ذلك معين {تَعَالَى} الله سبحانه عن ذلك، إذ ليس في قدرة أحد سواه أن ينشىء السموات والأرض، فلا تليق العبادة إلا له، تقدس سبحانه {عمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن إشراكهم أو عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[4]

شركه الذي يجعلونه شريكًا له من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد، فينبغي للسالك أن يوحد الله تعالى ذاتًا وصفةً وفعلًا، وقرأ الأعمش: {فتعالى} بزيادة فاء، ولما احتج (¬1) سبحانه بخلق السموات والأرض على حدوثهما .. قال بعده: {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فالقائلون بقدم السموات والأرض، كأنهم أثبتوا لله شريكًا في القدم، فنزَّه تعالى نفسه عن ذلك، وبين أنه لا قديم إلا هو، فالمقصود من قوله أولًا {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} إبطال قول من يقول إن الأصنام تشفع للكفار في دفع عقاب الله عنهم، والمقصود ها هنا إبطال قول من يقول: أجسام السموات والأرض قديمة، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن أن يشاركه غيره في القدم، ويقال: قبل أن يخلق الأرض كان موضع الأرض كله ماء، فاجتمع الزبد في موضع الكعبة، فصارت ربوة حمراء كهيئة التل، وكان ذلك يوم الأحد، ثم ارتفع بخار الماء كهيئة الدخان حتى انتهى إلى موضع السماء، وما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام، كما بين المشرق والمغرب، فجعل الله درّةً خضراء فخلق منها السماء، فلما كان يوم الاثنين .. خلق الشمس والقمر والنجوم، ثم بسط الأرض من تحت الربوة {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكمة والمصلحة، لا بالباطل والعبث، ونعم ما قيل: إِنَّما الْكَوْنُ خَيَالٌ ... وَهْوَ حَقٌّ فِي الْحَقِيْقَهْ 4 - ثم لما كان النوع الإنساني أشرف أنواع المخلوقات السفلية .. قدمه وخصه بالذكر، فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}؛ أي: بني آدم لا غير؛ لأن أبويهم لم يخلقا من النطفة، بل خلق آدم من التراب، وحواء من الضلع الأيسر منه، {مِنْ نُطْفَةٍ}؛ أي: من جماد يخرج من حيوان، وهو المني، فنقله أطوارًا إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح، وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار، فعاش فيها {فَإِذَا هُوَ}؛ أي: الإنسان بعد خلقه على هذه الصفة، وأتى بالفاء إشارة إلى سرعة نسيانهم ابتداء خلقهم {خَصِيمٌ}؛ أي: بليغ الخصومة شديد الجدل، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر الخصومة واضحها، ¬

_ (¬1) المراح.

[5]

وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به عن الباطل، الآية تدل: (¬1) على وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة، قالوا: خلق الله تعالى جوهر الإنسان من تراب أولًا ثم من نطفة ثانيًا، وهم ما ازدادوا إلا تكبرًا، وما لهم والكبر بعد أن خلقوا من نطفة قذرة؟! والمعنى: أي (¬2) خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من نطفة؛ أي: من ماء مهين خلقًا عجيبًا في أطوار مختلفة، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تم خلقه، ونفخ فيه الروح، فغذاه ونماه ورزقه القوت، حتى إذا استقل ودرج نسي الذي خلقه خلقًا سويًّا من ماء مهين، بل خاصمه فقال: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وعبد ما لا يضر ولا ينفع {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفًا بالذم، ذكره أبو حيان في "البحر". 5 - ولمَّا ذكر (¬3) الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان .. ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته، ولمَّا كان أعظم ضرورات الإنسان الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان .. بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام فقال: {وَالْأَنْعَامَ}؛ أي: الإبل والبقر والغنم والمعز، جمع نعم، وهي الأجناس الأربعة، المسماة بالأزواج الثمانية، اعتبارًا للذكر والأنثى، فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام، وانتصابها بفعل مضمر يفسره قوله: {خَلَقَهَا لَكُمْ}؛ أي: خلق الله سبحانه وتعالى الأنعام المذكورة لمنافعكم ومصالحكم يا بني آدم، وكذا سائر المخلوقات، فإنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم لا لها، يدل عليه قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وأمَّا الإنسان فقد خلق له تعالى كما قال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وقرىء: {الأنعامُ} بالرفع شاذًّا، كما ذكره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[6]

أبو البقاء، حالة كون تلك الأنعام {فِيهَا دِفْءٌ}؛ أي: ما يتدفأ به من البرودة ويستحسن من اللباس المتخذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها، {و} حالة كونها فيها {منافع} أخرى غير الدفء، من نسلها ودرها وركوبها، والحراثة بها وثمنها وأجرتها {و} حالة كونها {منها}؛ أي: من لحومها وشحومها وأكبادها وكروشها وغير ذلك أصالةً، وغالبًا {تَأْكُلُونَ} يا بني آدم (¬1)، بخلاف القُبل والدبر والذَّكر والخصيتين والمرارة والمثانة ونخاع الصلب والعظم والدم فإنها حرام، وتقديم الظرف لرعاية الفاصلة، أو لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها من الطيور وصيد البر والبحر .. فعلى وجه التداوي، أو التفكه والتلذذ، فيكون القصر إضافيًّا بالنسبة إلى سائر الحيوانات، حتى لا ينتقض بمثل خبز ونحوه من المأكولات المعتادة. وقرأ الزهري وأبو جعفر (¬2): {دِفْءٌ} بضم الفاء وشدِّها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء ثم حذفها ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في الوقف، وقرأ زيد بن عليّ {دفٌ} بنقل الحركة وحذف الهمزة دون تشديد الفاء، وقال صاحب "اللوامح" قرأ {دفٌ} بضم الفاء من غير همزٍ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة، ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفًا. وخص منفعة (¬3) الأكل بالذِّكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها، بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر، 6 - {وَلَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في هذه الأنعام مع ما فُصِّل من أنواع المنافع {جَمَالٌ}؛ أي: زينةٌ في أعين الناظرين إليها ووجاهة عندهم {حِينَ تُرِيحُونَ}؛ أي: حين تردونها بالعشي من مسارحها إلى منازلها، التي تأوي إليها {وَحِينَ تَسْرَحُونَ}؛ أي: وحين تخرجونها من مراحها إلى مسارحها بالغداة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[7]

وخصص هذين الوقتين بالذكر لأن الأفنية تتزين بها، ويتجاوب رغاؤها في الإبل، وثغاؤها في الشاة حين الذهاب والإياب. فيعظم أربابها في أعين الناظرين إليها، وقدم المَرَاح على السَّرَاح مع تأخرها في الوجود لأن الجمال فيها أظهر، وجلب السرور فيها أكمل، ففيها حضور بعد غيبه، وإقبال بعد إدبار، على أحسن ما يكون، إذ تكون ملأى البطون حافلة الضروع. وفي "الخازن" (¬1): فإن قلت: لِمَ قدمت الإراحة على التسريح؟ قلتُ: لأن الجمال في الإراحة، وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح؛ لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون، حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها، بخلاف تسريحها إلى المرعى، فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية، فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة أكثر منه من التسريح، فوجب تقديمه، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: {حِيْنًا} فيهما بالتنوين وفك الإضافة، وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد، كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي}. 7 - {و} هذه الأنعام {تَحْمِلُ} أيضًا {أَثْقَالَكُمْ}؛ أي: أمتعتكم وأحمالكم، والمراد بها هنا الإبل خاصة، جمع ثقل بفتحتين وهو متاع المسافر {إِلَى بَلَدٍ} بعيدٍ غير بلدكم أيًّا ما كان، فيدخل فيه إخراج أهل مكة متاجرهم إلى اليمن ومصر والشام {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ}؛ أي: بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه؛ أي: واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل؛ لو لم تخلق الإبل فرضًا، والاستثناء في قوله (¬2): {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}؛ أي: إلا بتعب الأنفس، فضلًا عن استصحابها معكم؛ أي: عن أن تحملوها على ظهوركم إليه مفرغ من أعم الأشياء؛ أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بكلفةٍ ومشقةٍ وجهدٍ شديدٍ وعناءٍ وتعبٍ، والشقُّ نصف الشيء، والمعنى على هذا: لم تكونوا بالغيه إلا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[8]

بنقصان بقوة النفس وذهاب نصفها، ونحو الآية قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}، وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}. وقد امتن الله (¬1) سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، {إِنَّ رَبَّكُمْ} سبحانه وتعالى {لَرَءُوفٌ}؛ أي: عظيم الرأفة والرفق بكم {رَحِيمٌ}؛ أي: عظيم الإنعام عليكم، ومن ثم أسبغ عليكم نعمه الجليلة، ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة، ومن رأفته ورحمته بكم أن خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)}. وقال أبو حيان: وناسب (¬2) الامتنانَ بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم اهـ. وقرأ الجمهور (¬3): {بِشِق} بكسر الشين، وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمر بن ميمون وابن أرقم: بفتحها، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وهما مصدران معناهما المشقة، وقيل الشق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، 8 - وقوله: {وَالْخَيْلَ} عطف على الأنعام؛ أي: وخلق الله سبحانه وتعالى لكم الخيل {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} تعليلٌ بمعظم منافعها، وإلا فالانتفاع بها بالحمل أيضًا مما لا ريب في تحققه {و} جعلها لكم {زينة} تتزينون بها إلى ما لكم فيها من منافع أخرى. وقرأ الجمهور (¬4): {وَالْخَيْلَ} وما عطف بالنصب، عطفًا على قوله: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

{وَالْأَنْعَامَ}، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز أكل الخيل، خلافًا لمن استدل بذلك، كأبي حنيفة كما يأتي بيانه، والخيل اسم جنس للفرس لا وحد له من لفظه كالإبل، وسمي الخيل خيلًا لاختيالها في مشيها، والخيل نوعان: عتيق وهجين، والفرق بينهما: أن عظم البرذون أعظم من عظم الفرس، وعظم الفرس أصلب وأنقل، والبرذون أجمل من الفرس، والفرس أسرع منه، والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذون بمنزلة الشاة، فالعتيق ما أبواه عربيان، سمي بذلك لعتقه من العيوب، وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة، كما سميت الكعبة بالبيت العتيق لسلامتها من عيب الرق؛ لأنه لم يملكها مالك قط، والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية، وخلق الله الخيل من ريح الجنوب، وكان خلقها قبل آدم - عليه السلام - لأن الدواب خلقت يوم الخميس، وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر، والذكر من الخيل خلق قبل الأنثى لشرفه، كآدم وحواء، وأول من ركب الخيل إسماعيل - عليه السلام - وكانت وحوشًا، ولذلك قيل لها العراب، وفي الحديث: "اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل"، وكان له - صلى الله عليه وسلم - سبعة أفراس، وروي أن موسى عليه السلام قال للخضر: أيُّ الدواب أحب إليك، قال: الفرس والحمار والعير، لأن الفرس مركب أولي العزم من الرسل، والعير مركب هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام، والحمار مركب عيسى والعزير - عليهما السلام - فكيف لا أحب شيئًا أحياه الله بعد موته قبل الحشر. والبغال جمع بغل وهو مركب من الفرس والحمار، ويقال أول من استنتجتها قارون، وله صبر الحمار وقوة الفرس، وهو مركب الملوك في أسفارهم، ومعبرة الصعاليك في قضاء أوطارهم، وعن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنَّ البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام - فدعا عليها فقطع الله نسلها، وهذه الرواية تستدعي أن يكون استنتاجها قبل قارون؛ لأن إبراهيم مقدم على موسى بأزمنة كثيرة، وإذا بخر البيت بحافر البغل الذكر .. هرب منه الفأر وسائر الهوام، كما في "حياة الحيوان"، وكان له - صلى الله عليه وسلم - بغال ست، والحمير جمع حمار، وكان

له - صلى الله عليه وسلم - من الحمر اثنان: يعفور وعفير، والعفرة الغبرة، والحمار من أذل خلق الله تعالى كما قال الشاعر: وَلاَ يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إلا الأذَلَّانِ عِيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوْطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَدُ ثم علل (¬1) سبحانه وتعالى خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا} وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها؛ لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم، كالتحميل عليها، وعطف {زينة} على محل {لِتَرْكَبُوهَا} لأنه في محل نصب على أنه علةٌ لخلقها، ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق {لِتَرْكَبُوهَا} لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن، وهو الخالق، والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر المقصود، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية؛ لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات. فصلٌ في ذكر الاختلاف في لحوم الخيل وقد استدل (¬2) بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقةٌ لهذه المصلحة دون غيرها، قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل، قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزًا .. لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب؛ لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما، والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله: {لِتَرْكَبُوهَا}؛ لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب، وأيضًا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل .. لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية، والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكًا للقائلين بالتحريم .. لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعةً لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، واحتجوا (¬1) على إباحة لحوم الخيل بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه، وفي رواية قالت: ذبحنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا ونحن في المدينة فأكلناه، أخرجه البخاري ومسلم، وبما روي عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل، وفي رواية قال: أكلنا زمن خيبر لحوم الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي، متفق عليه، وهذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، وكنا قد أصابتنا مخمصة، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل. وقال البغوي (¬2): ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها: تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنَّة مبنية للكتاب، ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتًا عنه .. دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم، فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل، وتحريم لحوم البغال والحمير فأخذنا بها جمعًا بين النصين، والله أعلم. {وَيَخْلُقُ} سبحانه وتعالى {مَا لَا تَعْلَمُونَ} أيها العباد؛ أي: ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات، غير ما عدده هنا من أنواع الحشرات والهوام في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[9]

أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر، ولم يسمعوا به، مما يهدي إليه العلم، وتستنبطه العقول، كالقطر البرية والبحرية، والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى بلد آخر، ومن قطر إلى قطر، والمطاود الهوائية التي تسير في الجو، والغواصات التي تجري تحت الماء، إلى نحو أولئك مما تعجبون منه، ويقوم مقام الخيل والبغال والحمير في الركوب والزينة. والتعبير (¬1) هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة بالنسبة إلى ما ظهر؛ لأنه تعالى قد خلق ما لا يعلم به العباد، 9 - وبعد أن شرح سبحانه دلائل وحدانيته، أرشد إلى أنه كفيل ببيان الطريق السوي لمن أراده، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}؛ أي: وعلى الله سبحانه وتعالى بموجب رحمته وبمقتضى وعده المحتوم، لا واجب عليه إذ لا يجب عليه شيءٌ، بيان قصد المسبيل؛ أي: بيان الطريق المستقيم، الموصل من سلكه إلى الحق والتوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ونحو الآية قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}. والقصد (¬2): مصدر بمعنى اسم الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد؛ أي: مستقيم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: إلى سبيل القصد؛ أي: المستوي المستقيم، أو المعنى: وعلى الله قاصد السبيل؛ أي: هداية قاصد الطريق المستقيم، بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع. {وَمِنْهَا}؛ أي: من السبل سبيل {جَائِرٌ}؛ أي: طريق مائلٌ عن الاستقامة، معوج زائغ عن الحق، فالسبيل القاصد هو الإِسلام، والجائر منها هو غيره من الأديان الأخرى، سماويةً كانت كاليهودية والنصرانية، أو أرضية كالوثنية والمجوسية. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وخلاصة هذا (¬1): أن ثمة طرقًا تسلك للوصول إلى الله، وليس يصل إليه منها إلا الطريق الحق، وهي الطريق التي شرعها ورضيها وأمر بها، وهي طريق الإِسلام له، والإخبات إليه وحده، كما أرشد إلى ذلك بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} وما عداها فهو جائزٌ، وعلى الله بيان ذلك، ليهتدي إليه الناس، ويبتعدوا عن سواه. ثم أخبر سبحانه: بأن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته، فقال: {وَلَوْ شَاءَ} الله سبحانه وتعالى أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلة إليه .. {لَهَدَاكم} الله سبحانه وتعالى {أَجْمَعِينَ}؛ أي: لفعل ذلك، ولكن لم يشأ؛ لأن مشيئته متابعة للحكمة الداعية إليها، ولا حكمة في تلك المشيئة؛ أي (¬2): ولو شاء سبحانه لجعلكم كالنمل والنحل في حياتكم الاجتماعية، أو جعلكم كالملائكة مفطورين على العبادة وتقوى الله، فلا تتجه نفوسكم إلى المعصية، ولا تسعى إلى الشر، ولكنه شاء أن يجعلكم تعملون أعمالكم باختياركم، وتسعون إليها بعد بحثها وفحصها من سائر وجوهها، ثم ترجحون منها ما تميل إليه نفوسكم، وما ترون فيه الفائدة لكم، كما قال عز من قائل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}؛ أي: طريق الخير والشر {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. والمعنى (¬3): ولو شاء أن يهديكم جميعًا إلى الطريق الصحيح والمنهج الحق .. لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته إراءة الطريق والدلالة، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافرٌ، ولا يستحقُّ النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمنًا، والبعض كافرًا، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. فإن قلت (¬4): لِمَ غير أسلوب الكلام في قوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ}؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[10]

قلت: ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان كما تزعم المجبرة .. لقيل: وعلى الله قصد السبيل، وعليه جائرها، أو عليه الجائر، وقرأ عبد الله: {ومنكم جائر} عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه. 10 - وبعد أن ذكر سبحانه نعمته عليهم بتسخير الدواب والأنعام، شرع بذكر نعمته عليهم في إنزال المطر فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي أَنْزَلَ} بقدرته القاهرة {مِنَ السَّمَاءِ} إلى السحاب ومنه إلى الأرض {مَاءً} عذبًا؛ أي: نوعًا منه وهو المطر، وفي "بحر العلوم": تنكيره للتبعيض؛ أي: بعض الماء، فإنه لم ينزل من السماء الماء كله {لَكُمْ} أيها الآدميون ولكلِّ حيٍّ {مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الماء المنزل {شَرَابٌ}؛ أي: ما تشربونه، والظرف (¬1) الأول وهو لكم خبرٌ مقدم لشرابٌ، والثاني حال منه، ومن تبعيضية، قال الخطيب: وإن قيل: ظاهر هذا أن شرابنا ليس إلا من المطر .. أجيب بأنه تعالى لم ينف أن نشرب من غيره، وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب الذي تحت الأرض من جملة ماء المطر أسكن هناك، بدليل قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ}، {وَمِنْهُ}؛ أي: ومن ذلك المنزل {شَجَرٌ} فـ {من} ابتدائية؛ أي: ومنه وبسببه يحصل شجر ترعاه المواشي، والمراد به: ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا {فِيهِ}؛ أي: في ذلك الشجر {تُسِيمُونَ}؛ أي: ترعون مواشيكم، قدم الشجر على الزرع وعلى ما بعده لحصوله بغير صنع من البشر. وقرأ زيد بن علي (¬2): {تُسِيمُونَ} بفتح التاء، فإن سمع متعديًا .. كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازمًا .. فتأويله على حذف مضاف تسيمون؛ أي: تسيم مواشيكم لما ذكر. والمعنى (¬3): أي إن الذي خلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

ومصالحكم هو الإله الذي أنزل المطر من السماء عذبًا زلالًا تشربون منه، وتسقون أشجاركم ونباتكم التي تسيمون فيها أنعامكم وفيها ترعى. 11 - ثم استأنف (¬1) إخبارًا عن منافع الماء، فقال جوابًا لمن قال: هل له منفعة غير ذلك؟ {يُنْبِتُ} الله سبحانه وتعالى {لَكُمْ} أيها العباد؛ أي: ينبت لمصالحكم ومنافعكم {بِهِ}؛ أي: بما أنزل من السماء {الزَّرْعَ} الذي هو أصل الأغذية وعمود المعاشر، قال في "بحر العلوم": الزرع كل ما استنبت بالبذر مسمى بالمصدر وجمعه زروع. قال كعب الأحبار: لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام .. جاء ميكائيل بشيء من حيث الحنطة وقال: هذا رزقك ورزق أولادك، قم فاضرب الأرض، وابذر البذر، قال: ولم يزل الحب من عهد آدم إلى زمن إدريس كبيضة النعام، فلما كفر الناس .. نقص إلى بيضة الدجاجة، ثم إلى بيضة الحمامة، ثم إلى قدر البندقة، ثم إلى قدر الحمصة، ثم إلى المقدار المحسوس الآن، يقال: إن اليوم لا يأكل الحنطة ولا يشرب الماء، أما الأول: فلأن آدم عصى بالحنطة ربه، وأما الثاني: فلأن قوم نوح أهلكوا بالماء. وقرأ أبو بكر (¬2): {نُنْبِتُ} بنون العظمة، وقرأ الزهري {نُنَبِّتُ} بالتشدد، قيل للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية، وقرأ أُبيٌّ: {يَنْبُت} من نبت، ورفع الزرع وما عطف عليه، {و} ينبت لكم بذلك الماء {الزيتون} الذي هو إدام من وجه، وفاكهة من وجه، قال في "إنسان العيون": شجرة الزيتون تعمِّر ثلاثة آلاف سنة، وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، {و} وينبت لكم {النخيل} والنخيل والنخل بمعنى واحد، وهو اسم جمع، والواحدة نخلة كالثمرة والثمر، وفي الحديث: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من فضل طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران، فأطعموا نسائكم الولَّد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمرٌ"، كما في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

"المقاصد الحسنة"، {و} ينبت لكم {الأعناب} جمع عنب، وإنما جمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة، وفيه إشارة: إلى أن تسمية العنب كرمًا لم يكن بوضع الواضع، ولكنه كان من الجاهلية، كأنهم قصدوا به الاشتقاق من الكرم؛ لكون الخمر المتخذة تحثُّ على الكرم والسخاء، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يسموه بالاسم الذي وضعه الجاهلية، وأمرهم بالتسمية اللغوية بوضع الواضع حيث قال: "لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب والحبلة" ثم بين قبح تلك الاستعارة بقوله: "إنما الكرم قلب المؤمن" يعني أن ما ظنوه من السخاء والكرم فإنما هو من قلب المؤمن لا من الخمر؛ إذ أكثر تصرفات السكران عن غلبةٍ من عقله، فلا يعتبر ذلك العطاء كرمًا ولا سخاء؛ إذ هو في تلك الحالة كصبي لا يعقل السخاء، ويؤثر بماله سرفًا وتبذيرًا، فكما لا يُحمل ذلك على الكرم، فكذا إعطاء السكران، كذا في "أبكار الأفكار". وخصص هذه الأنواع الأربعة بالذكر للإشعار بفضلها وشرفها، وفي "البحر": وخص (¬1) الأربعة بالذكر؛ لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع، وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله، والائتدام به، وبدهنه والإطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأن ثمرته من أطيب الفواكه، وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة. ثم عمَّم فقال (¬2): {و} ينبت لكم {من كل الثمرات}؛ أي: بعض كلها، وأتى بلفظ {من} التي للتبعيض؛ لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أُنبت في الأرض بعضٌ من كلها للتذكرة. ويحتمل كون المراد {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} التي يحتملها هذه النشأة الدنيوية، وترى بها، وهي الثمرات المتعارفة عند الناس بأنواعها وأصنافها، فتكون كلمة {مِنْ} صلة كما في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} على رأي الكوفية وهو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

اللائح الواضح. والمعنى: أي ينبت لكم بالماء الذي أنزله من السماء زرعكم وزيتونكم ونخيلكم وأعنابكم، ومن كل الثمرات غير ذلك أرزاقًا لكم، وأقواتًا نعمةً منه عليكم، وحجة على من كفر به، ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل .. أعقبه بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} تنبيهًا على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أنَّ تفصيل ما خُلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر، وختم ذلك تعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في إنزال الماء، وإنبات ما فصل {لَآيَةً} عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية، لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: لقوم يعتبرون مواعظ الله، ويتفكرون فيها، حتى تطمئن قلوبهم بها، وينبلج نور الإيمان فيها يضيء أفئدتهم، ويزكي نفوسهم، فإن (¬1) من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أسفلها، فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، وينشق أعلاها إن كانت منتكسة في الوقوع ويخرج منه ساق فينمو، ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار، على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع، وعلى نواةٍ قابلةٍ لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية، مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية، والتأثيرات العلوية بالنسبة إلى الكل .. علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال، فضلًا عن أن يشاركه أخس الأشياء في صفاته التي هي الألوهية، واستحقاق العبادة، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب، قالوا: الذكر طريق والفكر وسيلة المعرفة التي هي أعظم الطاعات، ولله (¬2) در القائل: تَأمَّلْ في رِياضِ الْوَرْدِ وَانْظُرْ ... إلى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[12]

عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ ... عَلَى أَهْدَابِهَا ذَهَبٌ لسَبِيْكُ عَلَى قَضْبِ الزَبَرَّجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ 12 - {وَسَخَّرَ} سبحانه وتعالى {لَكُمُ}؛ أي: لمنامكم ومعاشكم، ولعقد الثمار وإنضاجها {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان خلفةً، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قال (¬1) بعضهم: الليل ذكر كآدم، والنهار أنثى كحواء، والليل من الجنة، والنهار من النار، ومن ثمة كان الأنس بالليل أكثر، {و} سخر لكم {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} تسخرًا في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة، وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه، كل ذلك لمصالحكم ومنافعكم، وليس المراد بتسخير هذه لهم تمكنهم من تصريفها كيف شاؤوا، كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} ونظائره، بل هو تصريفه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم، لا أن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم. {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} مبتدأ وخبر؛ أي: سائر النجوم في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوها مسخرات؛ أي: مذللات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خلقت له {بِأَمْرِهِ}؛ أي: بإرادته ومشيئته، وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الملوين والقمرين، لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص، بل ذكر على وجه يفيد كونها تحت ملكوته تعالى، من غير دلالة على شيء آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث، إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار. والمعنى (¬2): أي ومن نعمه تعالى عليكم مضافةً إلى النعم التي سلف ذكرها أن سخر لكم الليل والنهار، يتعاقبان خلفةً، لمنامكم واستراحتكم وتصرفكم في معايشكم وسعيكم في مصالحكم، وسخر لكم الشمس والقمر يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافة، وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزرع وإنضاج الثمرات وتلوينها، إلى نحو ذلك من الآثار والمنافع التي ربطها سبحانه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

بوجودهما، وبهما يعرف عدد السنين والشهور، وفي ذلك صلاح معايشكم، وسخر لكم النجوم بأمره وإرادته، تجري في أفلاكها بحركة مقدرة لا تزيد ولا تنقص، لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} التسخير المتعلق بما ذكر مجملًا ومفصلًا {لَآيَاتٍ} باهرة ودلالات واضحة متكاثرة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} حجج الله، ويفتحون عقولهم للنظر والاستدلال، ويفهمون ما نبههم إليه بها، ويعتبرون، وعبر هنا (¬1) بالعقل، وفي خاتمة الآية السابقة بالتفكر، من قبل أن الآثار العلوية متعددة، ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية ظاهرة لا تحتاج إلا إلى العقل من غير تفكر ولا تأمل، بل تدرك بالبديهة، بخلاف الآثار السفلية من الزرع والنخيل والأعناب فهي تحتاج في دلالتها على وجود الصانع إلى فكر وتدبر ونظر شديد، وجمع الآيات هنا ليطابق قوله: {مُسَخَّرَاتٌ}، وفي "البحر": وجمع (¬2) الآيات هنا، وذكر العقل وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر؛ لأن فيما قبل استدلالًا بإنبات الماء، وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنا متعدد، ولأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وقد ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات، خمس بالإفراد، واثنتان بالجمع، قال الكرماني: ما جاء بلفظ الإفراد فلوحدة المدلول، وهو الله تعالى، وما جاء منها بلفظ الجمع فلمناسبة مسخرات اهـ. والأوَلَى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها، كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار، وللأفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانًا وتنبيهًا على جواز الأمرين، وحسن كل واحد منهما. فائدة: قال أهل العلم (¬3): العقل جوهر مضيء، خلقه الله في الدماغ، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[13]

وجعل نوره في القلب، يدرك الغائبات بالوسائط، والمحسوسات بالمشاهدة، وهو للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له فهو ميت، وهو بمنزلة قلب البهائم، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أحسن الناس عقلًا؟ قال: "المسارع إلى مرضاة الله تعالى، والمجتنب عن محارم الله تعالى"، قالوا أخف حلمًا من العصفور، قال حسان بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -: لاَ بَأسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُوْلٍ وَمِن عِظَمٍ ... جِسْمُ الْبِغَالِ وَأحْلاَمُ الْعَصَافِيْرِ وقرأ ابن عامر: {والشمس} وما بعده بالرفع على الابتداء، والخبر {مسخرات}، وقرأ حفص: و {النجوم} {مسخراتٌ} برفعهما، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف. {والرِّياحُ} {مسخراتٌ} بدل و {النجومُ} {مسخرات} وهي مخالفة لسواد المصحف، والظاهر في قراءة نَصْبِ الجميع أنَّ {والنجومُ} معطوف على ما قبله، و {مسخرات} حالٌ مؤكدة من الجميع. 13 - وقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} معطوف على الليل والنهار رفعًا ونصبًا؛ أي: وسخر لكم سبحانه وتعالى ما خلق لكم في الأرض، من عجائب الأمور ومختلف من حيوان ونبات ومعادن حالة كونه: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} وهيئات من خضرة وبياض وحمرة وسواد، وغير ذلك على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها وخواصِّها {إنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من التسخيرات ونحوها، أو إن في اختلاف ما في الأرض {لآيَةً} دالة على أن من هذا شأنه واحد لا شريك له {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} آلاء الله ونعمه، فيشكرونه على ما أنعم، ويخبتون إليه على ما تفضل به وأحسن، فإن ذلك غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يفضل عنه من العلوم الضرورية. وختم هذا بقوله (¬1): {يَذَّكَّرُونَ} ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كأن علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان، فقيل يذكرون؛ أي: يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[14]

قيل: وإنما (¬1) خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية .. فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك .. فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفي، والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كلًّا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر، لاعتبارات ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن، لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة، والله أعلم بأسرار كتابه. 14 - وبعد أن ذكر أنواع النعم في البر شرع يفصل نعمه في البحر، فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي سَخَّرَ} وذلل لكم {الْبَحْرَ} العذب والملح، والبحر: الماء الكثير، أو الملح فقط؛ أي: جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد. قال بعضهم (¬2): هذه البحور على وجه الأرض ماء السماء النازل وقت الطوفان، فإن الله تعالى أمر الأرض بعد هلاك القوم فابتلعت ماءها، وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض، وأما البحر المحيط فغير ذلك، بل هو جزر عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده، ويجوز ركوب البحر بشرط علم السباحة وعدم دوران الرأس، وإلا فقد ألقى نفسه إلى التهلكة، وأقدم على ترك الفرائض، وذلك للرجال والنساء، كما قاله الجمهور، وكره ركوبه للنساء، لأن حالهن على الستر، وذا متعسر في السفينة، لا سيما في الزورق وهي السفينة الصغيرة. امتن الله (¬3) سبحانه وتعالى بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه، واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده، مع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتمامًا للحجة، وتكميلًا للإنذار، وتوضيحًا لمنازع الاستدلال ومناطات البرهان ومواضع النظر والاعتبار. ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}؛ أي: وهو تعالى الذي سخر لكم البحر لتصطادوا منه؛ أي: من حيوانه، فهو على حذف مضاف {لَحْمًا}؛ أي: سمكًا طريًّا، أي: رطبًا؛ أي: سخر لكم لتأكلوا سمكًا رطبًا تصطادونه منه أي من حيوانه. والتعبير (¬1) عن السمك باللحم مع كونه حيوانًا، لانحصار الانتفاع به في الأكل، وفي وصفه (¬2) بالطراوة والرطوبة تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، وبما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضًا إيماء إلى كمال قدرته تعالى في خلقه الحلو الطري في الماء المر الذي لا يشرب. وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا". فالمراد منه ميتة البحر في الحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" هو ما لفظه، لا ما مات فيه من غير سبب، {و} سخر لكم البحر أيضًا ({لتستخرجوا منه}؛ أي: من جواهره {حِلْيَةً}؛ أي: زينة {تَلْبَسُونَهَا}؛ أي: تتزينون أنتم ونساؤكم بها، والمراد بالحلية المذكور في الآية اللؤلؤ المخلوق في صدفه العائش في البحار، ولا سيما المحيط الهندي، والمرجان الذي ينبت في قيعانها، لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فهما حلالان للرجال والنساء، ولا حاجة لما تكلَّفه جماعة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَهَا} بقوله: تلبسه نساؤهم؛ لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهًا بهن، وقد ورد الشرع بمنعه، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان. {وَتَرَى الْفُلْكَ}؛ أي: وتبصر أيها المخاطب السفن حالة كونها {مَوَاخِرَ}؛ أي: جواري {فِيهِ}؛ أي: في البحر؛ أي: لو حضرت أيها المخاطب لرأيت السفن جواري في البحر، تجري جريًا وتشقه شقًّا بحيزومها ومقدمها، مقبلة مدبرة، من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم، لجلب ما هناك إلى هنا، وما هنا إلى هناك، ومن ثم قال: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: لتطلبوا فضل الله ورزقه، بركوبه للتجارة، وهذا معطوف على {تستخرجوا} وما بينهما اعتراض، أو معطوف على علةٍ محذوفةٍ؛ أي: لتنتفعوا بذلك، ولتطلبوا من سعة رزقه بركوبه للتجارة، فإن تجارته أربح. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي (¬1): تعرفون حقوق نعمه الجليلة، فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام، من حيث إنه جعل المهالك سببًا للانتفاع وتحصيل المعاش. والمعنى (¬2): أي ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم، إذ جعل ركوب البحر مع كونه مظنة للهلاك سببًا للانتفاع وحصول المعاش، مع عدم الحاجة إلى الحل والترحال والاستراحة والسكون، ولله در القائل: وَإنَّا لَفِي الدُّنْيَا كَرَكْبِ سَفِيْنَةٍ ... نُظَنُّ وُقُوْفًا وَالزَّمَانُ بِنَا يَسْرِيْ وفي "الشوكاني" هنا: قيل (¬3): ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر، من حيث إن فيها قطعًا لمسافةٍ طويلةٍ مع أحمال ثقيلة، من غير مزاولة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[15]

أسباب السفر، بل من غير حركة أصلًا، مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون ما فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوسٍ، وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له. 15 - ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد الموجبة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى، وآيةٍ أخرى فقال: {وَأَلْقَى} الله سبحانه وتعالى ونصب بقدرته القاهرة {في الْأَرْضِ} هي (¬1) كروية الشكل، محلها وسط العالم، وسميت بالأرض لأنها تأرض؛ أي: تأكل أجساد بني آدم. {رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت من غير سبب ولا ظهير ولا معين، كأنهن حصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن في الأرض، فهو تصوير لعظمته وتمثيلٌ لقدرته، وإن كل عسير، فهو عليه يسير. أي (¬2): وجعل فيها رواسي، بأن قال لها كوني فكانت، فأصبحت الأرض وقد أرسيت وأثبتت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا، فلم يدر أحد مم خلقت، من رسا الشيء إذا ثبت جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة جبال، كراهية {أَنْ تَمِيدَ} وتتحرك الأرض {بِكُمْ} أيها العباد الأرضيون، على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون، والميد: الاضطراب والميل يمينًا وشمالًا، يقال: ماد الشيء يميد ميدًا إذا تحرك، ومنه سميت المائدة. والمعنى: كراهية أن تميد بكم وتضطرب، وقد خلق الله الأرض مضطربة لكونها على الماء، ثم أرساها بالجبال، وهي ستة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعون جبلًا، سوى التلول على ما قاله الجغرافيون، على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، فالأرض بلا جبال كاللحم بلا عظام، فكما أن وجود الحيوان وجسده إنما يستمسك بالعظم، فكذا الأرض إنما تقوم بالرواسي، ألا ترى أن سطيحًا الكاهن لم يكن في بدنه عظم سوى القفا، لكونه من ماء المرأتين، وكان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

لا يستمسك وإنما يخرج في السنة مرة ملفوفًا في خرقة، أو موضوعًا على صحيفة من فضة {و} جعل سبحانه وتعالى في الأرض {أنهارًا} لأن (¬1) في {ألقى} معنى الجعل، إذ الإلقاء جعل مخصوص، وهي جمع نهر، ويحرك وهو مجرى الماء، وذلك مثل الفرات نهر الكوفة، ودجلة نهر بغداد، وجيحون نهر بلخ، وجيحان نهر أذنة في بلاد الأرمن، وسيحون نهر الهند، وسيحان نهر المصيصة، والنيل نهر مصر، وغيرها من الأنهار الجارية في أقطار الأرض. وحاصل المعنى: أي (¬2) وألقى سبحانه وتعالى في الأرض جبالًا ثوابت، لتقر الأرض ولا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيشٌ بسبب ذلك، كما قال: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} وما الأرض إلا كسفينةٍ على وجه البحر، فإذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة .. تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى الأسباب، وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة .. استقرت على حال واحدة، فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت. {و} جعل فيها {أنهارًا} تجري من مكان إلى آخر رزقًا للعباد، وهي تنبع في مواضع وهي رزق لأهل مواضع أخرى، فهي تقطع البقاع والبراري، وتخترق الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخر لأهلها أن تنتفع بها، كما يشاهد في نهر النيل إذ ينبع من أواسط أفريقية، ويمر بجبال ووهاد في السودان، ويستفيد منه الفائدة الكبرى أهل مصر دون سواها، وكل ذلك بتقدير اللطيف الخبير، وذكر الأنهار عقب الجبال، لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال كما في "الخازن" {و} كذلك جعل سبحانه وتعالى في الأرض {سبلًا} وطرقًا مختلفة، نسلك فيها من بلاد إلى بلاد أخرى، وقد تحدث ثلمة في الجبل لتكون ممرًا طريقًا، كما قال تعالى في وصف الجبال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا ...} الآية، جمع سبيل، وهو الطريق وما وضح. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: لكي تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

ومنازلكم، أو إرادة أن تهتدوا بها في أسفاركم، فلعل مستعارة لمعنى الإرادة كما في "روح البيان". قال بعضهم (¬1): خذوا الطريق ولو دارت، واسكنوا المدن ولو جارت، وتزوجوا البكر ولو بارت؛ أي: ولو كانت البكر بورًا؛ أي: فاسدة هالكة لا خير فيها. 16 - {و} كذلك جعل سبحانه وتعالى في الأرض {علامات}؛ أي: معالم ودلائل، يهتدي ويستدل بها السابلة في النهار، وهم القوم المختلفة على الطريق من جبال كبار وآكام صغار، وسهول ومياه وأشجار وريح، كما قال الإِمام الرازي: رأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرقات، حتى إذا ضلوا الطريق، كانت تلك العلامات عونًا لهم، وهدتهم إلى السبيل السوي في البر والبحر. {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري أو البحار، حيث لا علامة غيره، ولعل (¬2) الضمير لقريش، فإنهم كانوا كثيري التردد للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وصرف النظم عن سنن الخطاب، وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء يهتدون، فالاعتبار بذلك ألزم لهم، والشكر عليه أوجب عليهم، والمراد بالنجم الجنس، أو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، وذلك لأنها تعلم بها الجهات ليلًا لأنها دائرة حول القطب الشمالي، فهي لا تغيب، والقطب في وسط بنات نعش الصغرى، والجدي هو النجم السابع من بنات النعش الصغرى، والفرقدان هما النجمان الأولان من النعش الصغرى، وهما من النعش، والجدي من البنات، ويقرب من بنات نعش الصغرى بنات نعش الكبرى، وهي سبعة أيضًا أربعة نعش وثلاث بنات، وبإزاء الأوسط من البنات السهى: وهو كوكب خفي صغير كانت الصحابة - رضي الله عنهم - تمتحن فيه أبصارهم، كذا في "التكملة" لابن عساكر، وفي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

"الخطيب": ولما كانت الدلالة من النجم أنفع الدلالات وأعمها، وأوضحها برًّا وبحرًا ليلًا ونهارًا .. نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة، لإفهام العموم، لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وليس كذلك فقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ}؛ أي: الجنس هم؛ أي: أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم، وقدم الجار تنبيهًا على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل: المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات لنعش، وقيل: الضمير لقريش لأنهم كثير الأسفار للتجارة، مشهورون بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في طرقكم وقبلتكم، ثم كفوا، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم. قيل: أول من نظر في النجوم والحساب إدريس النبي - عليه السلام - قال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان. وفي الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم أصل في معرفة الأوقات والطرق والقبلة، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة، قال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: لتكون زينةً للسماء، ومعالم للطرق، ورجومًا للشياطين، فمن قال غير ذلك، فقد تكلم بما لا علم له به. وقرأ الجمهور (¬1): {وَبِالنَّجْمِ} بفتح النون وسكون الجيم على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب {وبالنجم} بضم النون والجيم، ومراده النجوم فقصره بحذف الواو منه، أو هو جمع، كسقف وسقف، وفي "زاد المسير": وقرأ (¬2) الحسن والضحاك وأبو المتوكل ويحيى بن وثاب: {وبالنجم} بضم النون وإسكان الجيم، وقرأ الجحدري {وبالنجم} بضم النون والجيم، وقرأ مجاهد: {وبالنجوم} بواو على الجمع. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

[17]

وقال الأخفش (¬1): ثم الكلام عند قوله: {وَعَلَامَاتٍ}، وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول. 17 - ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته .. أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} وعبارة "الخازن" هنا: ولما ذكر الله (¬2) عَزَّ وَجَلَّ من عجائب قدرته، وغرائب صنعته، وبديع خلقه، ما ذكر على الوجه الأحسن، والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرته تعالى ووحدانيته، وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جميعًا .. قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته، واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} يعني: هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان وهو الله تعالى الخالق {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئًا ألبتةً؛ لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها، ويترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الله الخالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية يقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} يعني: هذا القدر ظاهر غير خاف على أحد، فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر، بل مجرد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكر انتهت. والهمزة في قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} للاستفهام (¬3) الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد ظهور دلائل التوحيد تتصور المشابهة والمشاركة - فمن يخلق هذه المصنوعات العظيمة - وهو الله تعالى - كمن لا يخلق شيئًا منها - وهو الأصنام؟! وعبر عنها بمن التي للعقلاء لأنهم سموها آلهةً فأجريت مجرى العقلاء، أو للمشاكلة لأنه قابله بالخالق وجعله معه كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ}. وفي "الكرخي": وهذا من عكس التشبيه، إذ مقتضى الظاهر أن يقال: أفمن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن (¬3) روح البيان.

[18]

لا يخلق كمن يخلق، فخولف في خطابهم؛ لأنهم بالغوا في عبادتها، حتى صارت عندهم أصلًا في العبادة، وصار الخالق فرعًا فجاء الإنكار على وفق ذلك مجاراة على معتقدهم. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تلاحظون القدرة الباهرة للخالق سبحانه، والعجز الظاهر للأصنام، فلا تذكرون ذلك فتعرفون فساد ما أنتم عليه يا أهل مكة، فإنه بوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر. ومعنى الآية: أي أفمن (¬1) يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم، وينعم هذه النعم العظيمة .. كمن لا يخلق شيئًا ولا ينعم نعمًا صغيرة ولا كبيرة؟ أفلا تذكرون هذه النعم، وهذا السطان العظيم، والقدرة على ما شاء من الحكمة، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع ضرًّا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه من عبادتها، وإقراركم لها بالألوهية. وخلاصة هذا: الإنكار عليهم، ورميهم بالجهل، وسوء التقدير، وقلة الشكر لمن أنعم عليهم بما لا يحصى من النعم، مع وضوح ذلك وقلة احتياجه إلى تدبر وتفكر وإطالة نظر، بل يكفي فيه تنبه العقل ليعلم أن العبادة لا تليق إلا للمنعم بكل هذه النعم، أما هذه الأصنام التي لا فهم لها ولا قدرة ولا اختيار، فلا تنبغي عبادتها ولا الاشتغال بطاعتها. قال قتادة في الآية: الله هو الخالق الرازق، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، التي لا تخلق شيئًا، ولا تملك لأهلها ضرًّا ولا نفعًا اهـ. 18 - وبعد أن نبههم سبحانه إلى عظمته، ذكرهم بنعمه عليهم، وإحسانه إليهم فقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى الفائضة عليكم مما لم يذكر {لَا تُحْصُوهَا} أي (¬2): لا تطيقوا إحصاءها وحصرها، وضبط عددها ولو إجمالًا، فضلًا عن القيام بشكرها، يقال: أحصاه؛ أي: عده كما في "القاموس"، وأصله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أن الحساب كان إذا بلغ عددًا وضعت له حصاة، ثم استؤنف العدد. والمعنى: لا توجد له غاية فتوضع له حصاة، وهذه الجملة تذكير إجمالي بنعمه تعالى، بعد تعداد طائفة منها، وكان الظاهر إيرادها عقبها تكملة لها، على طريقة قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ذكره أبو السعود. والمعنى: أي وإن تعدوا نعم الله تعالى لا تضبطوا عددها، فضلًا عن أن تستطيعوا القيام بشكرها، فإن العبد مهما أتعب نفسه في طاعته، وبالغ في شكران نعمه، فإنه يكون مقصرًا، فنعم الله تعالى كثيرة، وعقل المخلوق قاصر عن الإحاطة بها، ومن ثم فهو يتجاوز عن ذلك التقصير، وإلى ذلك أشار بقوله: {إنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَغَفُورٌ}؛ أي: لستور فيستر عليكهم تقصيركم في القيام بشكرها، ويتجاوز عنه، {رَحِيمٌ}؛ أي: كثير الرحمة بكم، عظيم النعمة عليكم، لا يقطعها عنكم فيفيض عليكم نعمه مع استحقاقكم للقطع والحرمان، بسبب ما أنتم عليه من أصناف الكفر والعصيان، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها، ومن أفظع ذلك وأعظمه جرمًا المساواة بين الخالق والمخلوق، وتقديم (¬1) وصف المغفرة على نعت الرحمة لتقدم التخلية على التحلية. قال بعض الحكماء (¬2): إن أي جزء من البدن إذا اعتراه الألم نغص على الإنسان النعم، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الألم، وهو سبحانه يدبر جسم الإنسان على الوجه الملائم له، مع أنه لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر نعمه عليه، أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها انتهى. واعلم (¬3): أنه لو صرف جميع عمر الإنسان إلى الأعمال الصالحة، وإقامة الشكر .. لما كافىء نعمة الوجود، فضلًا عن سائر النعم، ولله در القائل: لَوْ عِشْتُ ألْفَ عَامٍ ... في سَجْدَةٍ لِرَبِّي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[19]

شُكرًا لِفَضلِ يَوْمٍ ... لَم أَقْضِ بِالتَّمَامِ وَالْعَامُ ألْفُ شَهرٍ ... وَالشَّهْرُ أَلفُ يَوْمِ وَالْيَومُ أَلْفُ حِيْنِ ... وَالْحِيْنُ ألفُ عَامِ اللهم ربنا يا ربنا هذه نواصينا بيدك، خاضعة لعظم نعمك، معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشيء منها، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك فتجاوز عنا، واغفر لنا، وأسبل ذيول سترك على عوراتنا، فإنك إلا تفعل .. نهلك لتقصيرنا في شكر نعمك، فكيف بما فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك، والانتهاء عن مناهيك. الْعَفوُ يُرجَى مِن بَنِي آدمَ ... فَكَيفَ لاَ يُرجَى مِنَ الرَّبِّ فَإنَّهُ أرْأفُ بِي مِنْهُمُ ... حَسْبِي بِهِ حَسْبِي بِهِ حَسْبِي 19 - وبعد (¬1) أن أبطل عبادة الأصنام، من قبل أنها لا قدرة لها على الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر، وهو أن الإله يجب أن يكون عليمًا بالسرِّ والعلانية، وهذه الأصنام جماد لا معرفة لها بشيء، فكيف تجمل عبادتها، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ}؛ أي: ما تضمرون في قلوبكم من العقائد والأعمال، {وَمَا تُعْلِنُونَ}؛ أي: وما تظهرونه منهما؛ أي: يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سركم وعلنكم، فحقه أن يتقى ويحذر، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه، أو المعنى: والله يعلم ما تسرون يا كفار مكة من المكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما تعلنون؛ أي: تظهرونه من أذاه. والمعنى: أي والله سبحانه وتعالى يعلم ما تسرونه في ضمائركم وتخفونه عن غيركم، وما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم، فيجازيكم به يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء منكم بإساءته، وهو سائلكم عما كان منكم من الشكر في الدنيا على النعم التي أنعمها عليكم فيها، ما أحصيتم منها وما لم تحصوا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[20]

20 - ثم وصف سبحانه هذه الأصنام بصفات تجعلها بمعزل عن استحقاق العبادة، تنبيهًا إلى كمال حماقة المشركين، وأنهم لا يفهمون ذلك إلا بالتصريح دون التلويح فقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ}؛ أي: والأوثان التي تعبدونها، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله، فإن (¬1) معنى {دُونِ} أدنى مكان من الشيء، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل من تجاوز حدًّا إلى حدٍّ، وتخطى حكمًا إلى حكم، والموصول مبتدأ خبره {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من الأشياء أصلًا؛ أي: ليس من شأنهم ذلك؛ لأنهم عجزة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}؛ أي: شأنهم ومقتضى ذاتهم المخلوقية، لأنها ذوات ممكنة مفتقرة في ماهيتها ووجدانها إلى الموجد، قال في "القاموس": الخالق هو المتفرد في صفاته المبدع للشيء، المخترع على غير مثال سبق، فإن قلت: قوله تعالى في الآية السابقة: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئًا، فقوله هنا لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية، فما فائدة التكرار؟ قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئًا فقط، والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئًا وأنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادةً في المعنى، وهو فائدة التكرار، ذكره في "الخازن". والمعنى: والآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تخلق شيئًا، بل هي مخلوقة، فكيف يكون إلهًا ما كان مصنوعًا، وغيره هو الذي دبر وجوده؟ ونحو الآية قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}. 21 - {أَمْوَاتٌ} جمع ميت خبر ثان للموصول؛ أي: هي جمادات لا حياة فيها، ولم يقل موات؛ لأنهم صوروا على شكل من تحله الروح، وفي "القاموس": الموات كغراب وكسحاب ما لا روح فيه، وأرضٌ لا مالك لها {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} جمع حيّ ضدُّ الميت؛ أي: غير قابلين للحياة، كالنطفة والبيضة فهي أموات على الإطلاق، والمعنى؛ أي: هي أمواتٌ ولا تعتريها الحياة بوجه، فلا تسمع ولا ¬

_ (¬1) روح البيان.

تبصر ولا تعقل، وفائدة (¬1) قوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} بيان أن بعض ما لا حياة فيه قد تدركه الحياة بعد، كالنطفة التي ينشئها الله تعالى حيوانًا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها، أما هذه الأصنام من الحجارة والأشجار، فلا يعقب موتها حياة، وذلك أتم في نقصها. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؛ أي: وما تدري هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله متى تبعث عبدتها، فالضمير في يشعرون للأصنام، وفي يبعثون لعبدتها، وقيل: يجوز أن يكون الضمير في يبعثون للآلهة؛ أي: وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام، ويخلق لها أرواحًا معها شياطينها، فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذه قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ولا يخفى ما في ذلك من التهكم بها، لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة لدى كل أحد، فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير، كما أن فيه تهكمًا بالمشركين من قبل أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، وفيه تنبيه إلى أن البعث من لوازم التكليف؛ لأنه جزاء على العمل من خير أو شر، وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية. وقرأ الجمهور (¬2) بالتاء من فوق في: {تُسرون} و {تعلنون} و {تدعون}، وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، على معنى قل لهم، وقرأ عاصم في مشهوره {يَدْعون} بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله {يَعْلَمُ الذي تُبدون وما تكتمون} و {تدعون} بالتاء من فوق في الثلاثة، وقرأ طلحة {ما يُخفون} و {ما يُعلنون} و {تدعون} بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور: ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير لا على أنها قرآنٌ، وقرأ محمد اليمانيُّ {يُدْعون} بضم الياء وفتح العين مبينًا للمفعول، وقرأ أبو عبد الرحمن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[22]

{إيَّان} بكسر الهمزة، وهي لغة قومه سليم. 22 - ولمَّا أبطل (¬1) طريق عبدة الأصنام، وبين فساد مذهبهم .. صرح بالمدعى، ولخص النتيجة بعد إقامة الحجة فقال: {إِلَهُكُمْ}؛ أي: معبودكم الذي يستحق العبادة، وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء {إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: معبود واحد، لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكًا سواه، ثم ذكر الأسباب التي لأجلها أصر الكفار على الشرك وإنكار التوحيد فقال: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وأحوالها من البعث والجزاء وغير ذلك؛ أي: فالذين لا يصدقون بوعد الله ووعيده، ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ}؛ أي: جاحدة لما قصصناه عليكم من قدرة الله وعظمته، وجزيل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلَّا له، والألوهية ليست لشيء سواه، فلا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد، تقليدًا لما مضى عليه آباؤهم من الشرك به، كما حكى سبحانه عنهم قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} والمعنى؛ أي: وهم قوم لا يزال الاستكبار عن اعتراف الوحدانية والتعظيم عن قبول الحق دأبهم، كما أن الإنكار سجيتهم. 23 - ثم ذكر وعيدهم على أعمالهم فقال: {لَا جَرَمَ} كلمة مركبة من كلمتين حرفٍ وفعلٍ، فقد ركبت لا مع جرم وجعل كلمةً واحدة، وتلك الكلمة مصدر بمعنى حقًّا، أو فعل بمعنى حقَّ وثبت، وقوله {أَنَّ اللَّهَ} إلخ فاعل بفعل ذلك المصدر المأخوذ من لا جرم، وذلك المصدر منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: حقَّ حقًّا وثبت ثبوتًا {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} عنك من أقوالهم وأفعالهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من ذلك؛ أي: حق وثبت أن الله يعلم ما ¬

_ (¬1) المراغي.

يسر هؤلاء المشركون من إنكارهم لما قصصته عليك، واستكبارهم على الله تعالى، ويعلم ما يعلنون ويظهرون من كفرهم به وافترائهم عليه، ثم علل سوء صنيعهم بشدة استكبارهم فقال: {إِنَّهُ} تعالى {لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}؛ أي: لا يحب هؤلاء الذين يستكبرن عن توحيده، وعن الاستجابة لأنبيائه ورسله، بل يبغضهم أشد البغض وينتقم منهم أعظم الانتقام. وقرأ عيسى الثقفي: {إنَّ} بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع عما قبله، والمعنى (¬1): أنه لا يحب جنس المستكبرين، سواء كانوا مشركين أو مؤمنين، والاستكبار رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق، والفرق بين المتكبر والمستكبر أن التكبر عام لإظهار الكبر الحق، كما في أوصاف الله تعالى، فإنه جاء في أسمائه الحسنى الجبَّار المتكبر، وفي قوله عليه السلام: "التكبُّر على المتكبر صدقةٌ"، ولإظهار الكبر الباطل كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، والاستكبار إظهار الكبر باطلًا كما في قوله تعالى في حق إبليس {اسْتَكْبَرَ} ومنه ما في هذا المقام. أخرج مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمص الناس". وفي "الصحيح": "إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم" وقال العلماء: كل ذنب يمكن ستره وإخفاؤه إلا التكبر، فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله ذكره القرطبي، وحكى أنه (¬2) افتخر رجلان عند موسى - عليه السلام - بالنسب والحسب، فقال أحدهما: أنا فلان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

ابن فلان حتى عد تسعةً، فأوحى الله تعالى إليه قل له: هم في النار، وأنت عاشرهم، وأنشد بعضهم: وَلاَ تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إلا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قومٌ هُمُ مِنْكَ أَرفَعُ فَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وَحِرْزٍ وَرِفْعَةٍ ... فَكَمْ مَات مِنْ قَوْمٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ فعليك بالتواضع وعدم الفخر على أحدٍ، فإن التواضع باب من أبواب الجنة، والفخر باب من أبواب النار، واللازم فتح أبواب الجنان وسد أبواب النيران، وتحصيل الفقر المعنوي الذي لمس الفخر في الحقيقة إلا به، فإنه لا يليق المرء بدولة المعنى ورياسة الحال وسلطنة المقام إلا بتحلية ذاته بحلية التواضع وزينة الفناء، اللهم اجعلنا من أهل التواضع لا من أرباب التملق، واجعلنا من أصحاب التحقق بعد التخلق. الإعراب {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}. {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {لاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {سُبْحَانَهُ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، أو سبحوه سبحانًا، والجملة مستأنفة، {وَتَعَالَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة معطوفة على جملة التسبيح، {عَمَّا} {عَنْ}: حرف جر، {ما} اسم موصول، أو موصوفة في محل الجر بـ {عَنْ}، أو {ما} مصدرية، {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عمَّا يشركونه به من الأصنام، أو صلةٌ {ما} المصدرية، تقديره: عن إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ {تَعَالَى} أو بـ {سُبْحَانَهُ} على سبيل التنازع، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}،

والجملة مستأنفة، {بِالرُّوحِ}: جار ومجرور حال من {الْمَلَائِكَةَ} أي: حالة كونهم مُتلَبسِينَ بالروح والوحي {مِنْ أَمْرِهِ}: جار ومجرور حالٌ من {الرُّوح} {عَلَى مَنْ يَشَاءُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَزِّلُ}، {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: على من يشاؤه، {مِنْ عِبَادِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من الموصول أو من العائد المحذوف. {أَنْ}: مفسرة بمعنى: أي، {أَنْذِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة مفسرة للروح، بمعنى الوحي الدال على القول، وإن شئت قلت: {أَنْ}: مصدرية، {أَنْذِرُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية مبني على حذف النون، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من {الرُّوحِ} تقديره: ينزل الملائكة بالروح من أمره، ينزل الملائكة بإنذارهم للناس، {أنَّه} {أن}: حرف نصب، و {الهاء}: ضمير الشأن في محل النصب، {لَاَ}: نافية تعمل عمل إن {إلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَاَ} محذوف جوازًا تقديره: لا إله موجود، {إِلَاَ}: أداة استثناء مفرغ، {أَنَا}: ضمير رفع منفصل في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَاَ}، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر {أنَّ}، وجملة {أنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَنْذِرُوا} تقديره: أن أنذروا عدم كون إله غيري. {فَاتَّقُونِ} {الفاء} (¬1): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء، وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له في الألوهية، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {اتقوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويحتمل كون الفاء تفريعية كما في "الشهاب". ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف، تقديره: خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة، لا بالعبث، أو في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ}؛ أي: حالة كونه محقًّا، {تعالى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال ثانية من فاعل {خَلَقَ}؛ أي: خلق السموات حالة كونه متعاليًا عن النقائص، {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَعَالَى}، وجملة {يُشْرِكُونَ} صلةٌ لـ {ما}، أو صفةٌ لها، أو صلة {ما} المصدرية، كما مر آنفًا {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة مستأنفة، {مِنْ نُطْفَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَ}، {فَإذَا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب {إذا}: حرف مفاجأة {هُوَ خَصِيمٌ}: مبتدأ وخبر {مُبِينٌ}: صفة {خَصِيمٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)}. {وَالْأَنْعَامَ}: مفعول بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وأوجد الأنعام، والجملة مستأنفة، {خَلَقَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محلَّ لها من الإعراب. {لَكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {خَلَق} {فِيهَا}: خبر مقدم، {دِفْءٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب حالٌ من {الْأَنْعَامَ}، أو من الضمير المنصوب، {وَمَنَافِعُ}: معطوف على {دِفْءٌ} {وَمِنْهَا}: متعلق بما بعده، وجملة {تَأْكُلُونَ} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فِيهَا دِفْءٌ}. {وَلَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {فِيهَا} جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أو حال من {جَمَالٌ}، {جَمَالٌ}: مبتدأ مؤخر،

والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فِيهَا دِفْءٌ}، {حِينَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، وجملة {تُرِيحُونَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ}، والظرف متعلق بـ {جَمَالٌ} لأنه بمعنى تجمل، أو صفة له، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} معطوف على {حِينَ تُرِيحُونَ}. {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)}. {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الأنعام}، والجملة مستأنفة، {إِلَى بَلَدٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تحمل}. {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ}: جازم وفعل ناقص واسمه وخبره ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {بَلَدٍ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} جار ومجرور ومضاف إليه، حال من الضمير المستكن في {بَالِغِيهِ} مشقوقًا عليكم. {إِنَّ رَبَّكُمْ}: ناصب واسمه، {لَرَءُوفٌ} خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، {رَحِيمٌ}: صفة {رؤوف}، أو خبر ثان، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)}. {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} معطوفات على {الأنعام}. {لِتَرْكَبُوهَا} {اللام} حرف جر وتعليل {تركبوها}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، والجار والمجرور متعلق بـ {خَلَق}؛ أي: وخلق الخيل والبغال والحمير لركوبكم إياها، {وَزِينَةً}: مفعول (¬1) مطلق لفعل محذوف، معطوف على {لِتَرْكَبُوهَا}؛ أي: وخلقها لتركبوها، ولتتزينوا بها زينة، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي: وللزينة، وقيل التقدير: وجعلها زينةً، ويقرأ بغير واو، وفيه الوجوه المذكور، وفيها وجهان آخران: ¬

_ (¬1) العكبري.

أحدهما أن يكون مصدرًا في موضع الحال من الضمير في {تركبوا}. والثاني: أن تكون حالًا من الهاء؛ أي: لتركبوها تزينًا بها، {وَيَخْلُقُ مَا}: فعل ومفعول، وفاعل ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {لَا تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط المفعول المحذوف؛ أي: ما لا تعلمونه. {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}. {وَعَلَى اللَّهِ}: خبر مقدم، {قَصْدُ السَّبِيلِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى: وعلى الله بيان السبيل القصد وهو الإِسلام، والقصد بمعنى المقصود كما في "الجَمَل"، {وَمِنْهَا}: خبر مقدم، {جَائِرٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وهو صفة لموصوف محذوف؛ أي: ومنها سبيل جائر، والسبيل: تذكر وتؤنث، {وَلَوْ}: حرف شرط، {شَاءَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، {لَهَدَاكُمْ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ}، {هداكم}: فعل ومفعول، وفعله ضمير يعود على {اللَّهِ}. {أَجْمَعِينَ} تأكيد لضمير المفعول، والجملة جواب {لو}، وجملة {لو} مستأنفة. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة، {أَنْزَلَ}: فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على الموصول، {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {مَاءً}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ} أو صفة لـ {مَاءً}، {مِنْهُ}: خبر مقدم، {شَرَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ {مَاءً} أو مستأنفة و {من} في قوله: {منه} ابتدائية، ويصح أن يكون {لَكُمْ} خبرًا مقدمًا لـ {شَرَابٌ}، {وَمِنْهُ}: حال من الضمير المستكن في الخبر كما في "روح البيان" و {مِنْ} فيه

تبعيضية على هذا الوجه، {وَمِنْهُ}: خبر مقدم، وهي هنا سببية، {شَجَرٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {فِيهِ}: متعلق بما بعده، {تُسِيمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صفة لـ {شَجَرٌ}. {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}. {يُنْبِتُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {لَكُمْ}: متعلق بـ {يُنْبِتُ} وكذا تعلق به قوله {بِهِ}، أي: بسببه، {الزَّرْعَ}: مفعول به، {وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ}: معطوفات على الزرع. {وَمِنْ} {الواو}: عاطفة، و {مِنْ} زائدةٌ على رأي الكوفيين، {كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: معطوف على {الزَّرْعَ}، أو {وَمِنْ} اسم بمعنى بعض معطوف على {الزَّرْعَ} على رأي البصريين، {كُلِّ الثَّمَرَاتِ} مضاف إليه كذا في "روح البيان". {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، و {اللام} حرف ابتداء، {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور صفةٌ {لَآيَةً}، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ}: صفة لـ {لِقَوْمٍ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}. {وَسَخَّرَ}: فعل ماض، وفعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {لَكُمُ}: متعلق به، {اللَّيْلَ}: مفعول به، {وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: معطوفات على {اللَّيْلَ}، {وَالنُّجُومُ} عل قراءة النصب معطوف على {اللَّيْلَ} أيضًا، {مُسَخَّرَاتٌ}: حال من الجميع، {بِأَمْرِهِ}: متعلق بـ {مُسَخَّرَاتٌ}، وعلى قراءة الرفع {النجوم}: مبتدأ، {مُسَخَّرَاتٌ}، خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم لـ {لَآيَاتٍ} اسمها مؤخر، و {اللام} حرف ابتداء، {لِقَوْمٍ}: صفة لـ {لَآيَاتٍ}، وجملة {يَعْقِلُونَ} صفة لـ {لِقَوْمٍ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة.

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}. {وَمَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوفة على {اللَّيْلَ} على ما ذكره الزمخشري، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: وخلق لكم ما ذرأ لكم، على ما ذكره أبو البقاء، {ذَرَأَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {لكم}: متعلق به، وكذا يتعلَّق به قوله: {في الأرض}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما ذرأ لكم في الأرض {مُخْتَلِفًا} حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف، {أَلْوَانُهُ}: فاعل {مُخْتَلِفًا}، {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها، {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَةً}، {يَذَّكَّرُونَ}: صفة لـ {لِقَوْمٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {سَخَّرَ الْبَحْرَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {لِتَأْكُلُوا} {اللام}: لام كي، {تأكلوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {مِنْهُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تأكلوا} و {من} لابتداء الغاية، {لَحْمًا}: مفعول به، {طَرِيًّا}: صفة {لَحْمًا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لأكلكم منه، الجار والمجرور متعلق بـ {سَخَّرَ}، {وَتَسْتَخْرِجُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {تأكلوا}، {مِنهُ}: متعلق به، {حِلْيَةً}: مفعول به، {تَلْبَسُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة لـ {حِلْيَةً}، {وَتَرَى الْفُلْكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، {مَوَاخِرَ}: حال من {الْفُلْكَ} لأن رأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد {فِيهِ}: متعلق بـ {مَوَاخِرَ} والجملة الفعلية معترضة، لاعتراضها بين

المعطوف الذي هو {لتبتغوا} والمعطوف عليه الذي هو {لِتَأْكُلُوا}، {وَلِتَبْتَغُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ}، {وَلَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبره، وجملة {لعلَّ} معطوفة على جملة {لِتَأْكُلُوا} لأنها تعليلية. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}: {وَأَلْقَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللهِ}، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {سَخَّرَ}، أو مستأنفة، {رَوَاسِيَ}: صفة لمفعول محذوف؛ أي: جبالًا رواسي، ولم ينون لأنه اسم لا ينصرف، لكونه على زنة مفاعل، {أَن}: حرف نصب ومصدر، {تَمِيدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} وفاعله ضمير يعود على {الْأَرْضِ}، {بِكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر الواقع مفعولًا لأجله، والتقدير: وألقى في الأرض رواسي خشية ميدها وتحركها بكم، {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا}: معطوفان على {رَوَاسِيَ}، ولكنه على تأويل {ألقى} بمعنى خلق، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَهتَدُونَ} خبره، وجملة {لعلَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَعَلَامَاتٍ}: معطوف على {رَوَاسِيَ} أيضًا، {وَبِالنَّجْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَهْتَدُونَ}، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَهْتَدُونَ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}. {أَفَمَن} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتتصور المشابهة والمشاركة بين الخالق وغيره بعد ظهور الدلائل، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {يَخلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول،

{كَمَن}: جار ومجرور خبر المبتدأ، {لَا يَخْلُقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، {أفَلَا} {الهمزة}: للاستفام التوبيخي داخلةٌ على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {لا}: نافية، {تَذَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: ألا تلاحظون القدرة الباهرة للخالق سبحانه والعجز الظاهر للأصنام فلا تذكرون ذلك، فتعرفون فساد ما أنتم عليه، كما مرَّ في مبحث التفسير. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)}. {وَإِن} {الواو}: استئنافية، {إِن تعدوا نعمة الله}: جازم وفعل وفاعل ومفعولي ومضاف إليه، مجزوم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {لَا تُحْصُوهَا}: ناف وفعل وفاعل ومفعول، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {لَغَفُورٌ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، {رَحِيمٌ}: صفة {غفور} أو خبر ثان، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة {مَا}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف، {تُسِرُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يعلم ما تسرون، {وَمَا تُعْلِنُونَ}: معطوف على {مَا تُسِرُّونَ}، ويجري فيه من الإعراب ما جرى فيه. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، العائد محذف تقديره: والأصنام الذين يدعونهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {يَدْعُونَ}؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله في دعائهم إلى

الأصنام، {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُخْلَقُونَ} خبر أول له، {أَمْوَاتٌ}: خبر ثان له، والجملة مستأنفة مؤكدة لما قبلها، {غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: صفة مؤكدة لـ {أَمْوَاتٌ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة: {ما}: نافية، وجملة {يَشْعُرُونَ} معطوفة على جملة قوله {يُخْلَقُونَ} على كونها خبرًا ثالثًا لهم، {أَيَّانَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح، والظرف متعلق بـ {يُبْعَثُونَ}، {يُبْعَثُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في موضع نصب بـ {يَشْعُرُونَ}؛ لأنه معلق عنها باسم الاستفهام، إذ معناه العلم كما ذكره في "البحر". {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)}. {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ}: مبتدأ وخبر، {وَاحِدٌ}: صفة لازمة له والجملة مستأنفة، {فَالَّذِينَ}: مبتدأ أول، و {الفاء}: استئنافية، {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق به، {قُلُوبُهُمْ}: مبتدأ ثان، {مُنْكِرَةٌ}: خبر له، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير {قُلُوبُهُمْ}؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه. {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}. {لَا جَرَمَ}: اسم مركب تركيب خمسة عشر، وبعد التركيب صار معناها معنى فعلٍ، وهو حق، فإذًا نقول في إعرابها: {لَا جَرَمَ}: فعل ماض بمعنى حق مبني على الفتح، {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {لَا جَرَمَ}، والتقدير: حق وثبت علم الله، ما يسرون وما يعلنون {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}، وجملة {يُسِرُّونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يسرونه، {وَمَا يُعْلِنُونَ} معطوف على {مَا يُسِرُّونَ}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة

مسوقة لتعليل ما قبلها. وفي "الشهاب": في هذه اللفظة أعني {لَا جَرَمَ} خلاف بين النحاة، فذهب الخليل وسيبويه والجمهور إلى أن {جرم} اسم مركب مع {لا} تركيب خمسة عشر، وبعد التركيب صار معناها معنى فعلٍ، وهو حق، وما بعدها مرتفع بالفاعلية بمجموع لا جرم لتأويله بالفعل، أو بمصدر قائم مقامه، وهو حقًّا على ما ذكره أبو البقاء، وقيل: هو مركب أيضًا - كلا رجل - وما بعدها خبر، ومعناها لا محالة ولا بد، وقيل: إنه على تقدير جارٍّ؛ أي: من أن الله إلخ انتهى. وقيل: إن لا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة، وجرم بمعنى حق ووجب اهـ: "زاده"، وقد تقدم لها مزيد بسط في سورة هود فراجعه. التصريف ومفردات اللغة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي: قرب ودنا، ويقال في مجرى العادة لما يجب وقوعه: قد أتى وقد وقع، فيقال لمن طلب مساعدة حان مجيؤها: جاءك الغوث، و {أَمْرُ اللَّهِ}: عذابه للكافرين أو يوم القيامة. {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} الاستعجال طلب الشيء قبل وقته، كما في "الخازن"، وهو من استفعل السداسي. {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ}: الوحي، وهو قائم في الدين مقام الروح من الجسد، فهو محيي القلوب التي أماتها الجهل. {أَنْ أَنْذِرُوا} والإنذار (¬1) الإعلام، خلا إنه مختص بإعلام المحذور، من نذر بالشيء من باب فرح إذا علمه فحذره، وأنذره بالأمر إنذارًا إذا أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه، كذا في "القاموس"؛ أي: أعلموا الناس أيها الأنبياء. {فَاتَّقُونِ}؛ أي: خافوا عقابي، لمخالفة أمري وعبادة غيري. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}؛ أي: غير آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ} والنطفة القطرة من الماء، ¬

_ (¬1) روح البيان.

يقال: نطف رأسه ماء؛ أي: قطر وقيل هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل، اهـ "سمين". وفي "المصباح" نطف (¬1) الماء ينطف - من باب قتل - سال، وقال أبو زيد: نطفت القربة تنطف وتنطف نطفانًا إذا قطرت، والنطفة ماء الرجل والمرأة، وجمعها نطف ونطاف، مثل برمة وبرم وبرام، والنطفة أيضًا الماء الصافي قل أو كثر، ولا فعل للنطفة؛ أي: لا يستعمل لها فعل من لفظها اهـ. وفي "المختار": أن نطف من باب قتل وضرب اهـ، والمراد (¬2) بالنطفة هنا مادة التلقيح. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} والخصيم بمعنى المخاصم، كالخليط بمعنى المخالط، والعشير بمعنى المعاشر، والمراد به هنا المنطيق المجادل عن نفسه المنازع للخصوم، والمبين المظهر للحجة، أو المفصح عما في ضميره بمنطقه. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل اهـ. الدفءُ: السخانة، والمراد به هنا ما يستدفأ به من الأكسية المتخذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها. {وَمَنَافِعُ} والمراد بها درها وركوبها، والحرث بها، وحملها للماء ونحو ذلك. {جَمَالٌ} والجمال ما يتجمل به ويتزين، والجمال الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها، قال في "القاموس": الجمال الحسن في الخلق والخلق، وتجمل: تزين، وجمله: زينه، وفي الحديث (¬3): "جمال الرجل فصاحة لسانه"، وفي حديث آخر: "الجمال صواب المقال، والكمال حسن الفعال". {حِينَ تُرِيحُونَ} من الإراحة، وهي رد المواشي بالعشي إلى مراحها؛ أي: مأواها بالليل؛ أي: تردونها بالعشي؛ أي: آخر النهار من المرعى إلى مراحها ¬

_ (¬1) المصباح. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

ومباركها، يقال أراح الماشية إذا ردها إلى المراح بضم الميم، وهو موضع إراحة الإبل والبقر والغنم. {تَسْرَحُونَ}؛ أي: تخرجونها غدوة؛ أي: أول النهار من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها، من سرح الراعي الإبل إذا رعاها وأرسلها في المرعى، من باب قطع وخضع، وفي "المصباح": سرحت الإبل سرحًا من باب نفع وسروحًا أيضًا، رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدى، وسرَّحتها بالتثقيل مبالغة وتكثير اهـ. {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} والأثقال (¬1) جمع ثقل بفتح الثاء والقاف، كأسباب وسبب، أو جمع ثقل بكسر فسكون كحمل وأحمال، وهو متاع المسافر من طعام وغيره وما يحتاج إليه من آلاته، وسُمِّي ثقلًا لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم. {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} والشق بالكسر والفتح الكلفة والمشقة، وشق الأنفس مشقتها وتعبها، وقال الجوهري الشق المشقة ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}، وحكى أبو عبيدة: بفتح الشين وهما بمعنًى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدرًا من شققت عليه أشق شقًّا، والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية؛ أي: لم تكون بالغيه إلَّا بذهاب نصف النفس من التعب. {وَالْخَيْلَ} اسم جنس لا واحد له من لفظه، بل من معناه وهو فرس، وقيل جمع خائل كضان جمع ضائن، وسميت خيلًا لاختيالها في مشيها. {وَالْبِغَالَ} جمع بغل، وهو متولد بين الخيل والحمار. {قَصْدُ السَّبِيلِ} والقصد الاستقامة، يقال سبيل قصدٌ وقاصدٌ إذا أداك إلى مطلوبك، وفي "السمين": والقصد مصدر يوصف به، فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد؛ أي: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه اهـ. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{جَائِرٌ}؛ أي: مائل عن المحجة منحرف عن الحق. {وَمِنْهُ شَجَرٌ} والمراد بالشجر هنا مطلق النبات، سواء كان له ساق أم لا اهـ "شيخنا"، فالشجر في الأصل ما له ساق قوي، والنجم ما لا ساق له قوي. {تُسِيمُونَ}؛ أي: ترعون دوابكم من أسام الماشية، ويقال سومها، إذا جعلها ترعى، وفي "الخازن": تقول أسمت السائمة إذا خليتها ترعى، وسامت إذا رعت حيث شاءت اهـ ويقال: سامت السائمة تسوم سومًا رعت فهي سائمة، وأسمتها؛ أي: أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى، قال أخذ من السومة وهي العلامة؛ لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها. {النَّخِيلَ} والنخل بمعنى واحد، وهو اسم جمع والواحدة نخلة كالثمرة والثمر. {الأعناب} جمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة. {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا خلقهم، فهو ذارىء، ومنه الذرية وهي نسل الثقيلين. {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}؛ أي: أصنافه {لَحْمًا طَرِيًّا} وفي "السمين": الطراوة ضد اليبوسة؛ أي: غضًّا طريًّا، ويقال طريت كذا؛ أي: جددته اهـ، وفي "المصباح": طرو الشيء بالواو وزان قرب فهو طرىء؛ أي: غض بين الطراوة، وطرىء وزان تعب، فهو طرىء بين الطراوة، وطرأ فلان علينا يطرأ مهموزًا بفتحتين طروًّا أطلع، فهو طارئ، وطرأ الشيء يطرأ أيضًا طرآنًا مهموزًا حصل بغتة فهو طارئ، وأطريت العسل بالياء طراء عقدته، وأطريت فلانًا مدحته بأحسن ما فيه، ويقال بالغت في مدحه، وجاوزت الحد، وقال السرقسطي: في باب الهمز والياء: أطرأته مدحته وأطريته أثنيت عليه اهـ. {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وفي "المصباح": حلي الشيء بعيني وبصدري يحلى - من باب تعب - حلاوةً، إذا حسن عندي وأعجبني، وحليت المرأة حليًّا ساكن اللام

لبست الحلي، وجمعه حليٌّ، والأصل على فعول مثل فلس وفلوس، والحلية بالكسر الصفة، والجمع حلي مقصورًا، وتضم الحاء وتكسر، وحلية السيف زينته، قال ابن فارس: ولا تجمع، وتحلت المرأة لبست الحلي واتخذته، وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي واتخذته لها لتلبسه، وحليت السويق جعلت فيه شيئًا حلوًا حتى حلا اهـ. {مَوَاخِرَ}؛ أي: ترى السفن شواق للماء تدفعه. بصدرها، ومخر السفينة شقها الماء بصدرها، قال الجوهري: مخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، قال ابن جرير: المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد بكونه في ماء اهـ. وفي "المختار": مخرت السفينة من باب قطع ودخل إذا جرت تشق الماء مع صوت، ومنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}؛ أي: جواري. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت، يقال رسا يرسو إذا ثبت وأقام. {أنْ تَمِيدَ بِكُمْ}؛ أي: أن تميل بكم، وفي "المختار": ماد الشيء يميد ميدًا من باب باع، ومادت الأغصان والأشجار تمايلت، وماد الرجل تبختر اهـ. {وَعَلَامَاتٍ} جمع علامة ففي "المصباح": وأعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة، وأعلمت الثوب جعلت له علمًا من طراز وغيره، وهو العلامة، وجمع العلم أعلام مثل سبب وأسباب، وجمع العلامة علامات، وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرفها اهـ. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} يقال شعر به كنصر وكرم شعرًا وشعورًا علم به وفطن له وعقله، وأيان مركب من أي التي للاستفهام وأن بمعنى الزمان، فلذلك كان بمعنى متى؛ أي سؤالًا عن الزمان كما كان أين سؤالًا عن المكان، فلما ركِّبا وجعلا اسما واحدًا بنيا على الفتح كبعلبك، ذكره في "روح البيان".

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} إشعارًا بتحقق وقوعه. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} إلى الغيبة في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} تحقيرًا لشأنهم وحطًّا لدرجتهم عن رتبة الخطاب. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بِالرُّوحِ} حيث شبه الوحي بمعنى الموحى به الذي من جملة التوحيد بالروح، بجامع أن الروح به إحياء الجسد، والوحي به إحياء القلوب من الجهالات، فاستعير له لفظ الروح على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} إلى الخطاب في قوله: {فَاتَّقُونِ} مخاطبةً لهم بما هو المقصود، وإيماء إلى أن التقوى هي المقصود من الإنذار. ومنها: التعبير بآخر الأمر عن أوله في قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} ويسمى مجاز الأول كقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} إلى الخطاب في قوله: {خَلَقَهَا لَكُمْ} فيقضي أن المخاطب مطلق بني آدم، المندرجين تحت الإنسان تأمل. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَمَنَافِعُ}. ومنها: القصر في قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فيكون القصر فيه إضافيًّا إلى سائر الحيوانات، حتى لا ينتقض بمثل الخبز ونحوه من المأكولات المعتادة. ومنها: الطباق بين: {تُرِيحُونَ} {تَسْرَحُونَ}. ومنها: صفة المبالغة في قوله: {خَصِيمٌ مُبِينٌ}.

ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. ومنها: الإسناد إلى العام في قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ}؛ أي: الأنعام مرادًا به الخاص وهو الإبل. ومنها: المجاز في قوله: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} لأنه حقيقة في النصف والجانب، فاستعير للمشقة والتعب، كما تقول: لن تناله إلا بقطعة من كبدك على المجاز. ومنها: الإجمال بعد التفصيل في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. ومنها: المجاز في قوله: {وَمِنْهُ شَجَرٌ} لأن المراد بالشجر هنا مطلق النبات سواء كان له ساق أْم لا، وهو حقيقة فيما كان له ساق. ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ومنها: الإسناد العقلي في قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} لما فيه من إسناد حال السالك وهو القصد إلى السبيل، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، كما ذكره في "روح البيان". ومنها: تنكير ماء في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} للدلالة على التبعيض، أي: بعض الماء، فإنه لم ينزل من السماء الماء كله. ومنها: الطباق بين: {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}. ومنها: التفنن في قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وفي قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وفي قوله: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} كما مر في مبحث التفسير. ومنها: التلويح في قوله: {لَحْمًا طَرِيًّا} المراد به السمك، عبر عنه باللحم مع كونه حيوانًا، للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل كما في "الإرشاد"، وللإيذان بعدم احتياجه للذبح كسائر الحيوانات غير الجراد. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}؛ أي: يلبسها نساؤكم لكم، فهي حلية لكم، بهذا الاعتبار كذا قالوا.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} لأن الإلقاء حقيقة في الرمي والطرح، فاستعاره للخلق والوضع والجعل، فكان الجبال الرواسي حصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن في الأرض، فهو تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته، وإن كل عسير فهو عليه يسير. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لأن لعل فيهما مستعار لمعنى الإرادة كما في "روح البيان". ومنها: الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وبالنجم هم يهتدون} لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص وليس كذلك، والمعنى: بالنجم هم؛ أي: أهل الأرض كلهم لا خصوص قريش. ومنها: التشبيه المقلوب في قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} لأن حق العبارة أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق. ومنها: الاستفهام الإنكاري فيه. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. ومنها: جمع المؤكدات وصفة المبالغة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. ومنها: الإطناب في قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تأكيدًا لسفاهة من عبد الأصنام، ومثله: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. ومنها: الطباق بين {تُسِرُّونَ} و {تُعْلِنُونَ}. ومنها: طباق السلب في قوله: {أفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) ...}

الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل (¬1) التوحيد، ونصب البراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام .. أردف ذلك بذكر شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وبين أنهم ليسوا ببدع في هذه المقالة، فقد سبقتهم أمم قبلهم، فأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم في الدنيا، وسيخزيهم يوم القيامة بما فعلوا، ثم ذكر أنهم حين يشاهدون العذاب يستسلمون ويقولون ما كنا نعمل من سوء، ولكن الله عليم بهم وبما فعلوا، ولا مثوى لأمثال هؤلاء المتكبرين إلا جهنم وبئس المثوى هي. قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) بين أحوال المكذبين بالله ورسوله، الذين ينكرون وحيه ويقولون إن محمدًا قد لفق أساطير الأولين وتراهاتهم، ونقلها للناس، وادعى أنها من رب الأرض والسموات، وذكر ما سينالهم من النكال والوبال، إذ يدخلون جهنم خالدين فيها كفاء ما اجترحت أيديهم من الآثام وكسبته من المعاصي .. أردف ذلك بوصف المؤمنين الذين إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا، وذكر ما أعده لهم من الخير والسعادة في جنات تجري من تحتها الأنهار جزاءً وفاقًا لما أحسنوا من العمل، وأتوا به من جميل الصنع. قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬3): أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم وَعَدَ من وصف القرآن بالخيرية .. بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون من حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد، أو أمر الله بعذاب الاستئصال. وعبارة "المراغي" هنا: مناسبة هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

طعن المشركين في القرآن بنحو قولهم إنه أساطير الأولين، وإنه قول شاعر، ثم هددهم بضروب من التهديد والوعيد، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به .. قفى على ذلك ببيان أن الكفار لا يزدجرون عن أباطيلهم إلا إذا جاءتهم الملائكة قابضة أرواحهم، أو يأتيهم عذاب الاستئصال، فلا يبقى منهم أحدًا، ثم أتبعه ببيان أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم، فقد فعل من قبلهم مثل فعلهم، فأصابهم الهلاك جزاء ما فعلوا، وما ظلمهم الله ولكن هم قد ظلموا أنفسهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) أن هؤلاء المشركين لا يزدجرون إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد والوعيد، أو أتاهم عذاب الاستئصال، كما حدث لمن قبلهم من الأمم جزاء استهزائهم برسل الله تعالى .. قفى على ذلك ببيان أنهم طعنوا في إرسال الأنبياء جملة، وقالوا إنا مجبورون على أعمالنا فلا فائدة من إرسالهم، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئًا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئًا مما حرمنا ... لكان الأمر كما أراد، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم، لا من عند الله تعالى. وقد رد الله عليهم مقالهم، بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة، وما على الرسل إلا التبليغ، وليس عليهم الهداية، ولم يترك الله أمةً دون أن يرسل إليها هاديًا يأمر بعبادته، وينهاهم عن الضلال والشرك، فمنهم من استجاب دعوته، ومنهم من أضلَّه الله على علم، فحقت عليهم كلمة ربك، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم أمرهم بالضرب في الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين، الذين أخذوا بذنوبهم، ثم ذكر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئًا، فإن الله لا يخلق الهداية جبرًا وقسرًا فيمن يختار الضلالة لنفسه، ¬

_ (¬1) المراغي.

كما لا يجد أحدًا يدفع عنه بأس الله ونقمته. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) حجتهم، وقولهم إنه لا حاجة إلى الأنبياء جميعًا لأنا مجبورون فيما نفعل، وأنه لو شاء الله أن نهتدي لكان دون حاجة إلى إرسال الأنبياء، ورده عليهم بأن الحاجة إليهم إنما هي في تبليغ ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولا يلزمون أحدًا بإيمانٍ ولا كفرٍ ... أردف هذا بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا إنما نحتاج إلى الأنبياء لو كان لنا عودة إلى حياة جديدة بعد الموت فيها ثواب وعقاب، ولكن العودة إلى حياة أخرى غير ممكنة ولا معقولة، ذاك أن الجسم إذا تفرق وذهبت أجزاؤه كل مذهب .. امتنع أن يعود بعينه ليحاسب ويعاقب، فرد الله عليهم ما قالوا بأن هذا ممكن وقد وعد عليه وعدًا حقًّا، وأنه فعل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، والعاصي من المطيع، وأيضًا فإيجاده تعالى للأشياء لا يتوقف على سبق مادة ولا آلةٍ، بل يقع ذلك بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافعٌ ولا مانعٌ. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)} الآية، قيل سبب نزولها (¬2): أن النضر بن الحارث سافر من مكة إلى الحيرة، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال، فجاء إلى مكة فكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه فنزلت الآية. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما يتكلم به: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) لباب النقول.

[24]

والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، وأقسم جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ...} الآية. وأخرج (¬1) هؤلاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله: سبَّني ابن آدم، ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}، وقلت: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}، وأما سبه إياي فقال: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}، وقلت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}. التفسير وأوجه القراءة 24 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} روي أنه اجتمعت (¬2) قريش فقالوا: إن محمدًا رجل حلو اللسان، إذا كلم رجلًا .. ذهب بقلبه، فانظروا ناسًا من أشرافكم، فابعثوهم في كل طريق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده .. ردوه عنه، فخرج ناس منهم من كل طريق، فكان إذا جاء وافد من القوم ينظر ما يقول محمد فنزل بهم .. قالوا له: هو رجل كذاب ما يتبعه إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيه، وأما أشياخ قومه وأخيارهم فهم مفارقوه، فيرجعه أحدهم، وإذا كان الوافد ممن هداه الله .. يقول: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم .. رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل فأنظر ما يقول، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ما يقول لهم فيقولون خيرًا، فذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المشركين المستكبرين المقتسمين طرق مكة من قبل الوفود، أو وفود الحاج في الموسم. {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}؛ أي: أي شيء أنزل ربكم على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو ما الذي أنزل ربكم على محمد {قَالُوا}؛ أي: قال أولئك المشركون المقتسمون طرق مكة للوافدين الذين سألوهم عن محمد وعما أنزل عليه: {أَسَاطِيرُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[25]

الْأَوَّلِينَ}؛ أي: هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم على محمد هو أساطير الأولين؛ أي: أحاديث الأمم الماضية وأخبارهم العاطلة، وأكاذيبهم الباطلة، التي غرر بهم الناس واستمال قلوبهم بها، وليس من الإنزال في شيء، وليس فيه شيء من العلوم والحقائق. وقرأ الجمهور (¬1): برفع {أَسَاطِيرُ} فاحتمل أن يكون التقدير: المذكور أساطير أو المنزل أساطير، وقرىء شاذًا: {أساطير} بالنصب على معنى ذكرتم أساطير، أو أنزل أساطير، على سبيل التهكم والسخرية؛ لأن التصديق بالإنزال ينافي أساطير، وهم يعتقدون أنه ما نزل شي، ولا أنَّ ثم منزلٌ. والمعنى: أي (¬2) وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين أي شيء أنزله ربكم؟ قالوا: لم ينزل شيئًا إنما الذي يتلى علينا أساطير الأولين؛ أي: هو مأخوذ من كتب المتقدمين، ونحو الآية قوله حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} وكانوا يفترون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقوالًا مختلفة، فتارة يقولون: إنه ساحرٌ، وأخرى إنه شاعر أو كاهن، وثالثة إنه مجنون، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي كما حكى عنه الكتاب الكريم: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)}؛ أي: ينقل ويحكى، فتفرقوا معتقدين صحة قوله، وصدق رأيه، قبحهم الله تعالى. وكان المشركون يقتسمون مداخل مكة، ينفرون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سألهم وفود الحاج يقولون هذه المقالة، 25 - ثم بين عاقبة أمرهم فقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ}؛ أي: قالوا (¬3) هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وآثامهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم {كَامِلَةً} لم يكفر منها شيءٌ بمصيبة أصابتهم في الدنيا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب، كما يكفر بها أوزار المؤمنين، فإن ذنوبهم تكفر عنه من الصلاة إلى الصلاة، من رمضان إلى رمضان، ومن الحج إلى الحج، وتكفر بالشدائد والمصائب؛ أي: المكروهات من الآلام والأسقام، والقحط حتى خدش العود وعثرة القدم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف ليحملوا، فاللام (¬1) في قوله: {لِيَحْمِلُوا} للتعليل كما فسرنا، وقيل إن اللام هي لام العاقبة؛ لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به، كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، وقيل هي لام الأمر والأوزار جمع وزرٍ: الآثام. قال الإِمام الرازي: وقوله: {كَامِلَةً} يدل (¬2) على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلًا في حق الكل .. لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفاء بهذا التكميل فائدة، {و} ليحملوا {من أوزار الذين يضلونهم}؛ أي (¬3): بعض أوزار من ضل بإضلالهم، وهو وزر الإضلال والتسبب للضلال؛ لأنهما شريكان، هذا يضله وهذا يطاوعه، فيتحاملان الوزر، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى .. كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة .. كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" أخرجه مسلم، ومعنى الآية والحديث (¬4): أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنة حسنة أو قبيحة فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها .. فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه، حتى يكونه ذلك الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدلٍ، ويدل عليه قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)}، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. قال الواحديُّ: ولفظة {مِنْ} (¬5) في قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفخر الرازي. (¬3) روح البيان. (¬4) الخازن. (¬5) الواحدي.

[26]

ليست للتبعيض؛ لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"، ولكنها للجنس؛ أي: وليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الفاعل؛ أي: يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وبما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلة الإضلال، أو من المفعول؛ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ. وفائدة (¬1) التقييد بهذا الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذوي لب، وإنما يتبعهم الأغبياء، والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذرًا، إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيق بالاتباع وبين المبطل، {أَلَا} حرف تنبيه {سَاءَ} من أفعال الذم بمعنى بئس، والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهمًا يفسره {مَا يَزِرُونَ} والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: بئس شيئًا يزرونه؛ أي: يحملونه، والمخصوص بالذم فعلهم ففيه وعيدٌ وتهديد لهم. واعلم: أنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد، إذ كل نفس تحمل ما اكتسب هي، لا ما كسبت غيرها، إذ ليس ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية، وأما حمل وزر الإضلال فهو حمل وزر نفس؛ لأنه مضاف إليه لا إلى غيره، فعلى العاقل أن يجتنب من الضلال والإضلال في أمور الشريعة، فمن حمل القرآن على الأساطير، ودعا الناس إلى القول بها، فقد ضل وأضل، وكذا في جميع أمور الشريعة. 26 - ثم بين لهم أن غائلة مكرهم عائدةٌ إليهم، ووبال ذلك لاحقٌ بهم، كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم، فقال: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل كفار قريش، والمكر الخديعة؛ أي: قد مكر أهل مكة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم، وصار المكر سببًا لهلاكهم لا لهلاك غيرهم؛ لأن من حفر لأخيه جبًّا وقع فيه منكبًا، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم -، بأن مكرهم سيعود ¬

_ (¬1) روح البيان.

عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم. قال في "المدارك": الجمهور عل أن المراد به - نمروذ بن كنعان - وكان من أكبر ملوك أهل الأرض في زمن إبراهيم عليه السلام، حين بنى الصرح ببابل، وكان قصرًا عظيمًا طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه فرسخان ليقاتل عليه من في السماء بزعمه، ويطلع على إله إبراهيم عليه السلام، فهبت ريح فقصفت وألقت رأسه في البحر، وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته، ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع، فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لسانًا، فلذلك سميت بابل، وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، وهذا قول مردود؛ لأن التبلبل يوجب الاختلاط والتكلم بشيء غير مستقيم، فأما أن يوجب إحداث لغات مضبوطة الحواشي فباطل، وإنما اللغات تعليم من الله تعالى. قلت (¬1): هكذا ذكره البغوي، وفي هذا نظر؛ لأن صالحًا عليه السلام كان قبلهم، وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عربًا منهم جرهم، الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية، وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قديم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الله أعلم، وقيل حمل قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على العموم أولى، فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين، الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير. {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ}؛ أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم، قال المفسرون: أرسل الله ريحًا فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي فهلكوا والبنيان (¬2) البناء والجمع أبنية، والقواعد جمع قاعدة، وقواعد البيت أساسه وأساطينه وسواريه، ما سيأتي في مباحث التصريف؛ أي: قصد الله سبحانه وتعالى وأراد تخريب بنائهم من جهة أصوله وأساسه، وأتاه أمره وحكمه وبأسه، أو من جهة الأساطين والسواري التي بنوا عليها بأن ضعفت وزلزلت، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

{فَخَرَّ}؛ أي: سقط {عَلَيْهِمُ السَّقْفُ}؛ أي: سقف بنائهم {مِنْ فَوْقِهِمْ} فأهلكهم، وقوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} للتأكيد؛ لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم، وقيل (¬1) جاء بفوقهم وعليهم، للإيذان بأنهم كانوا تحته، فإن العرب لا تقول سقط علينا البيت وليسوا تحته، روي أنه هبت عليه ريحٌ هائلة فألقت رأسه في البحر، وخر الباقي عليهم، ولما سقط الصرح تبلبلت الألسن من الفزع يومئذٍ، فتكلموا ثلاثة وسبعين لسانًا، فلذلك سميت ببابل، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية كما مر. هذا (¬2) إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ، وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني، وهو حملها على العموم .. كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى، وأهل الحق من عباده .. أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانًا شديدًا ودعموه، فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم سقف بنيانهم، فأهلكهم، شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، وإبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله تعالى إياها أسبابًا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانًا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت تلك الأساطين، فسقط عليهم السقف، فهلكوا، فو مثل ضربه الله تعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس: من حفر لأخيه قليبًا وقع فيه قريبًا. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ}، أي: وجاءهم الهلاك بالريح {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} بإتيانه منه، بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، أو أنهم اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولد البلاء منها بأعيانها. والمعنى: أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير الأولين سيأتيهم في الدنيا من العذاب مثل ما أتاهم، من جهة لا تخطر ببالهم. وخلاصة ذلك: أن الله تعالى أحبط أعمالهم، وجعلها وبالًا عليهم ونقمة لهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[27]

وقرأ الجمهور (¬1): {بُنْيَانَهُمْ}، وقرأت فرقة {بنْيَتُهم} وقرأ جعفر: {بَيْتهُم} والضحاك: {بيوتهم}، وقرأ الجمهور: {السَّقْفُ} مفردًا، والأعرج {السقف} بضمتين، وزيد بن علي ومجاهد بضم السين فقط، وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في: {وبالنجم}، وقرأت فرقة ({السَّقُف} بفتح السين وضم القاف، وهي لغة في السقف ولعل السقف مخفف منه، ولكنه كثر استعماله، كما قالوا في رجل رجل وهي لغة تميمية. 27 - وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر في الدنيا من العذاب والهلاك .. بين حالهم في الآخرة فقال: {ثُمَّ} بعد ما عجل لهم العذاب في الدنيا إن ربك: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} ويذلهم ويهينهم بعذاب أليم؛ أي (¬2): يذل أولئك المفترين والماكرين والذين من قبلهم جميعًا بعذاب الخزي على رؤوس الأشهاد. وفيه (¬3) إشهار بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة، لأن الخزي هو العذاب مع الهوان، وأصل الخزي ذل يستحيى منه، وثم لتفاوت ما بين الجزاءين {وَيَقُولُ} لهم حين ورودهم عليه، على سبيل الاستهزاء والسخرية والتوبيخ، والفضيحة لهم، فهو إلى آخره بيان للإخزاء {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ} تزعمون في الدنيا أنهم شركائي، وكنتم {تُشَاقُّونَ}؛ أي: تخاصمون الأنبياء والمؤمنين {فِيهِمْ}؛ أي: في شأنهم، بأنهم شركاء أحقاء، حين بينوا لكم بطلانها، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا وتتولونهم، والولي ينصر وليه، والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم في شأنهم، وزعمهم أنهم شركاء حقًّا، حين بينوا لهم ذلك، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والتوبيخ والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانهم لا يوجب غيبتهم حقيقةً، بل يكفي ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به، من عنوان الإلهية، فليس هناك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

[28]

شركاء ولا أماكنها، والخلاصة أنه لا شركاء ولا أماكن لهم. وقرأ الجمهور (¬1): شركائي ممدودًا مهموزًا مفتوح الياء، وقرأت فرقة كذلك تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه مقصورًا، وفتح الياء هنا خاصةً بوزن هداي، وروي عنه ترك الهمز في القصص، وقرأ الجمهور {تشاقون} بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة، وقرأت فرقة بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. ثم ذكر مقال الأنبياء والمرسلين في شأنهم يوم القيامة بقوله: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من أهل الموقف، وهم الأنبياء - صلوات الله عليهم - والمؤمنون الذين أوتوا علمًا بدلائل التوحيد، وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد، فيجادلونهم ويتكبرون عليهم؛ أي: يقولون توبيخًا لهم وإظهارًا للشماتة بهم {إِنَّ الْخِزْيَ}؛ أي: الفضيحة والذل والهوان {اليوم} في هذا اليوم، الذي يفصل فيه القضاء، متعلق بالخزي، وإيراده (¬2) للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق. {وَالسُّوءَ}؛ أي: العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ} باللهِ تعالى وبآياته ورسله، وهو قصر للجنس الادّعائي، كأن ما يكون من الذل وهو العذاب لعصاة المؤمنين لعدم بقائه، ليس من ذلك الجنس، ومرادهم بهذه المقالة الشماتة، وزيادة الإهانة للكافرين وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله. 28 - ثم بين الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب، هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم، فقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين، وفائدة هذا النعت تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت، دون من آمن منهم، ولو في آخر عمره؛ أي: إن الخزي والسوء على الكافرين الذين استمروا على الكفر حتى تقبض ملائكة الموت أرواحهم؛ أي: عزرائيل وأعوانه حالة كونهم {ظَالِمِي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[29]

أَنْفُسِهِمْ} ومعرضيها للعذاب المخلد، باستمرارهم عل كفرهم واستكبارهم عن طاعة الملك الجبار، وتبديلهم فطرة الله تبديلًا وأي ظلم للنفس أشد من الكفر (¬1)، وقرأ حمزة والأعمش: {يتوفاهم} بالياء من أسفل في الموضعين، وقرىء بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها، وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، ذكره في "البحر". ثم ذكر حالهم حينئذٍ من الخضوع والمذلة فقال: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} عطف على قوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} والسلم بالتحريك الاستسلام؛ أي: فيلقون الاستسلام والانقياد في الآخرة، حين عاينوا العذاب، ويتركون المشاقة والمخاصمة، وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من التكبر، والعلو وشدة الشكيمة قائلين: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} في الدنيا {مِنْ سُوءٍ}؛ أي: من شرك، قالوا ذلك منكرين لصدوره عنهم قصدًا لتخليص نفوسهم من العذاب؛ أي: أسلموا (¬2) وأقروا لله بالعبودية، حين عاينوا العذاب عند الموت، قائلين ما كنا نشرك بربنا أحدًا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة، ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. {بَلَى} رد عليهم من قبل الله تعالى، أو من قبل الملائكة، أو من قبل أولي العلم، وإثبات لما نفوه؛ أي: فتقول الملائكة بلى كنتم تعملون أعظم الشرك وأقبح الآثام و {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الشرك، فهو يجازيكم عليه، وهذا أوانه فلا يفيدكم إنكاركم وكذبكم على أنفسكم 29 - والفاء في قوله: {فَادْخُلُوا} للتعقيب {أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}؛ أي: كل صنف بابه المعدُّ له؛ أي: فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانًا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي، حالة كونكم {خَالِدِينَ فِيهَا} أبدًا إن (¬3) أريد بالدخول حدوثه .. فالحال مقدرة، وإن أريد مطلق الكون فيها .. فمقارنة، والفاء في قوله {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن قبول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[30]

التوحيد، وسائر ما أتت به الأنبياء، عاطفة على فاء التعقيب، واللام للتأكيد تجري مجرى القسم، والمثوى المنزل والمقام والمخصوص بالذم محذوف، وهو جهنم؛ أي: فوالله لبئس وقبح مثوى المتكبرين عن توحيد الله، وطاعة الرسل، والمخصوص بالذم جهنم؛ أي: فلبئس (¬1) المقيل والمقام دار الذل والهوان، لمن كان متكبرًا عن اتباع الرسل، والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم، وما أفظعها من دار وصفها ربنا بقوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. وذكرهم بعنوان (¬2) التكبر للإشعار بعلته لثوابهم وإقامتهم فيها، والمراد المتكبر عن التوحيد، أو كل متكبر من المشركين والمسلمين. فائدة: قال الشيخ علي السمرقندي في تفسيره المسمى بـ "بحر العلوم": التكبر ينقسم على ثلاثة أقسام: التكبر على الله تعالى، وهو أخبث أنواع الكبر وأقبحها، وما منشأه إلا الجهل المحض، ثم التكبر على الرسل من تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وهذا كالتكبر على الله تعالى في الوقاحة واستحقاق العذاب السرمديِّ، والثالث التكبر على العباد، وهو بأن يستعظم نفسه، ويستحقر غيره، فيأبى عن الانقياد لهم، ويدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم ويستنكف عن مساواتهم، وهو أيضًا قبيح، وصاحبه جاهل كبير يستأهل سخطًا عظيمًا لو لم يتب، وإن كان دون الأولين للدخول تحت عموم قوله: {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، وأيضًا من تكبر على أحد من عباد الله فقد نازع الله في ردائه وفي صفةٍ من صفاته، قال أبو صالح حمدان بن أحمد القصار - رحمه الله تعالى -: من ظن أن نفسه خيرٌ من نفس فرعون فقد أظهر الكبر. 30 - ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء فقال: {وَقيِلَ} روي (¬3) أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام موسم الحج من يأتيهم بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون الذين اقتسموا طرق مكة، وأمروه بالانصراف، وقالوا: إن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

لم تلقه كان خيرًا لك، فإنه ساحر كاهن كذاب مجنون، فيقول: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن استطلع أمر محمد وأراه، فيلقرأ صحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبرونه بصدقه، فذلك قوله: {وَقِيلَ}، أي: من طرق الوافدين {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} عن الكفر والشرك، وهم المؤمنون المخلصون {مَاذَا}؛ أي: أي شيء، فهو مفعول قوله: {أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}؛ أي: أي شيء أنزل ربكم على محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ {قَالُوا}؛ أي: قال المتقون في جواب سؤال الوافد: أنزل ربنا {خَيْرًا}. وهو اسم جامع لكل خير ديني ودنيوي وأخروي ظاهري معنوي، وفي تطبيق الجواب بالسؤال إشارة إلى أن الإنزال واقع، وأنه نبي حق، وقرأ زيد بن علي {خَيْرٌ} بالرفع: أي: المُنْزَلُ خيرٌ، كما في "البحر". قال الثعلبي: فإن (¬1) قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وانتصب في قوله: {خَيْرًا}؟ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين، والمؤمنون آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرًا اهـ. والمعنى: أي وقيل للذين خافوا عقاب ربهم: أي شيء أنزله ربكم؟ قالوا: أنزل خيرًا وبركة ورحمة لمن اتبع دينه، وآمن برسوله، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قيل: هذا من كلام الله عن وجل، وقيل: هو حكاية لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلًا من {خَيْرًا} وعلى الأول يكون كلامًا مستأنفًا مسوقًا للمدح للمتقين. والمعنى: للذين أحسنوا أعمالهم وأخلصوا، وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنه أحسن الحسنات وأسُّ الديانات. {فِي هَذِهِ} الدار {الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}؛ أي: مثوبة حسنة مكافأة فيها بإحسانهم، وهي عصمة الدماء والأموال، واستحقاق المدح والثناء والظفر على الأعداء {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}؛ أي: ولثوابهم فيها {خَيْرٌ} مما أوتوا في الدنيا من المثوبة، أو ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[31]

المعنى (¬1): دار الآخرة خيرٌ من الدنيا على الإطلاق، فإن الآخرة كالجوهر والدنيا كالخزف، وقيمة الجوهر أرفع من قيمة الخزف، بل لا مناسبة بينهما أصلًا. {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}؛ أي: وعزة الله وجلاله لنعم وحسن دار المتقين دار الآخرة، فالمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما قبله عليه، وقال الحسن: دار المتقين الدنيا لأنهم منها يتزودون للآخرة، والقول (¬2) الأول أولى، وهو قول جمهور المفسرين؛ 31 - لأن الله فسر هذه الدار بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} عدن علم على طبقة من طبقات الجنة الثمانية؛ أي: لهم بساتين عدن حال كونهم {يَدْخُلُونَهَا} حال كونها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت منازلها وأشجارها {الْأَنْهَارُ} الأربعة على أن يكون المنبع فيها بشهادة مِنْ، {لَهُمْ} خبر مقدم {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات حال من المبتدأ المؤخر، وهو قوله {مَا يَشَاءُونَ} ويحبون من أنواع المشتهيات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، قال البيضاوي: في تقديم الظرف تنبيهٌ (¬3) على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة اهـ. قال بعضهم: إن قلت (¬4) هل يجوز للمرء أن يشتهي في الجنة اللواطة، وقد ذهب إليه من لا وقوف له على جلية الحال؟ فالجواب: أن الاشتهاء المذكور مخالف لحكمة الرب الغفور، ولو جاز هو .. لجاز نكاح الأمهات فيها، على تقدير الاشتهاء، وإنه مما لا يستريب عاقل في بطلانه، ألا ترى أن المذكور وكذا الزنى واللواطة والكذب ونحوها، كان حرامًا مؤبدًا في الدنيا في جميع الأديان، لكونه مما لا تقتضي الحكمة حله، بخلاف الخمر ونحوها، ولذا كانت هي أحد الأنهار الجارية فيها، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا يستطيب ما استخبثته الطباع السليمة. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الجزاء الأوفى {يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} والمراد بالمتقين كل من يتقي الشرك، وما يوجب النار من المعاصي، والموصول في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) بيضاوي. (¬4) روح البيان.

[32]

32 - قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله؛ أي: يقبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم حال كونهم {طَيِّبِينَ}؛ أي: طاهرين (¬1) من الكفر والشرك، مبرئين عن العلائق الجسمانية، متوجهين إلى حضرة القدس، فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت. وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن (¬2): {جنات عدن} بالنصب على الاشتغال؛ أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع على أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر، وقرأ زيد بن عليّ: {ولِنعْمَةُ دارِ} بتاءِ مضمومةٍ، ودارٍ مخفوضٍ بالإضافة، فيكون نعمة مبتدأ وجنات الخبر. وقرأ السلمي: {تدخلونها} بتاء الخطاب، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع: {يدخلونها} بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة. وقرأ الأعمش وحمزة (¬3):) {تَتَوَفَّاهُمُ} في هذا الموضع، وفي الموضع الأول بالياء التحتية، وقرأ الباقون: لمثناة الفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلًا بما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشًا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. وجملة قوله: {يَقُولُونَ} حالٌ من الملائكة؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم على وجه التعظيم والتبشير {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} لا يحيق بكم بعد مكروه، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} التي أعدها لكم ربكم، ووعدكموها، والمراد دخولهم له في وقته، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبب (¬4) ثباتكم على التقوى والطاعة والعمل وإن لم يكن موجبًا للجنة؛ لأن الدخول فيها محض فضل الله إلا أن الباء دلت على أن الدرجات إنما تنال بالأعمال وصدق الأحوال، فإن المراد من دخول ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[33]

الجنة إنما هو اقتسام المنازل بحسب الأعمال. وفي "تفسير المراغي": والمراد (¬1) من قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} البشارة بالدخول فيها بعد البعث، إذا أريد الدخول بالأرواح والأبدان، فإن أريد الدخول بالأرواح فحسب، كان ذلك حين التوفي كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار"، أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: "إذا أشرف العبد المؤمن على الموت .. جاءه ملك الموت، فقال: السلام عليك يا وليَّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة"، 33 - 33 والاستفهام في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} إنكاري؛ أي: ما ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، أى: ملك الموت وأعوانه لقبض رواحهم بالتهديد والتعذيب، لمواظبتهم على الأسباب الموجبة له المؤدية إليه، فكأنهم يقصدون إتيانه ويترصدون لوروده، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقةً لأنهم لا يصدقونه {أَوْ} إلا أن {يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}، أي: عذابه في الدنيا المستأصل لهم، كما فعل بأسلافهم من الكفار، فيرسل عليهم الصواعق، أو يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا تهديد لهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا. وخلاصة هذا: حثهم على الإيمان بالله ورسوله، والرجوع إلى الحق قبل أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من السالفين المكذبين لرسلهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (¬2): {إلا أن يأتيهم الملائكة} بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. ثم ذكر أنهم ليسوا بأول من كذب بالرسل فقال: {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب والاستهزاء {فَعَلَ الَّذِينَ} خلوا {مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم فأصابهم العذاب المعجل. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بذلك، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم {وَلَكِنْ كَانُوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[34]

أنفُسَهُمْ يَظلِمونَ} بالكفر والمعاصي المؤدية إلى ذلك، فكذبوا الرسل فاستحقوا ما نزل بهم. والمعنى (¬1): أي وما ظلمهم الله تعالى بإنزال العذاب بهم؛ لأنه أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاؤوا به. 34 - ثم أعقبه بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} معطوف على قوله: {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وما بينهما اعتراض، وقيل (¬2) في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله ... إلخ. والمعنى: فأصابهم بحكم عدل جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة، على طريقة تسمية المسبب باسم سببه، إيذانًا بفظاعته، لا على حذف لمضاف، فإنه يوهم أن لهم أعمالًا غير سيئاتهم، {وَحَاقَ بِهِمْ}؛ أي: أحاط بهم ونزل من الحيق الذي هو إحاطة الشر كما في "القاموس"؛ أي: نزل بهم على وجه الإحاطة. {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب الموعود؛ أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون أو عقاب استهزائهم. 35 - {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} بالله من أهل مكة، فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى، معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى عدم عبادتنا لشيءٍ غيره {مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ} تعالى {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: ما عبدنا من دونه شيئًا من الأصنام {نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} الذين اقتدينا بهم في ديننا {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: ولو شاء الله تعالى عدم تحريمنا شيئًا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .. ما حرمنا من دونه شيئًا من ذلك. والمعنى: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضي عبادتنا لها، ولا حرمنا ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

حرمنا من البحائر والسوائب والوصائل ونحو ذلك إلا لأنه قد رضي ذلك منا، ولو كان كارهًا لما فعلنا .. لهدانا إلى سواء السبيل، أو لعجل لنا العقوبة وما مكننا من عبادتها. والخلاصة (¬1): فإشراكنا بالله الأوثان وتحريمنا الأنعام والحرث بمشيئته تعالى، وهو راضٍ بذلك، وحينئذٍ فلا فائدة في مجيئك إلينا، بالأمر والنهي في إرسالك إلينا، وقد رد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الفعل الشنيع {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم، فأشركوا بالله، وحرموا حله، وعصوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ، وهدوهم إلى الحق. واستن هؤلاء سنتهم، وسلكوا سبيلهم في تكذيب الرسول، واتباع أفعال آبائهم الضلال. ثم بين خطاهم فيما يقولون ويفعلون فقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: فهل (¬2) على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم، من أمره ونهيه، إلا إبلاغ الرسالة، وإيضاح طريق الحق، وإظهار أحكام الوحي، التي منها أن مشيئة الله تعالى تتعلق بهداية من وجه همته إلى تحصيل الحق، كما قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاؤوا أو أبوا، فإن ذلك ليس من شأنهم، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك. والاستفهام في قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ} إنكاري؛ أي: ليست (¬3) وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغًا واضحًا، وإطلاع الخلق على بطلان الشرك وقبحه، لا إلجاءهم إلى قبول الحق، وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا. وقصارى ذلك (¬4): أن الثواب والعقاب لا بُدَّ فيهما من أمرين، تعلق مشيئته ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[36]

تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه، وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريًّا لا اختياريًّا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرًا، فليس من وظيفتهم لا في كثير ولا قليل. ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، وجعلت سببًا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه، فقال: 36 - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا في كل أمة من الأمم التي سلفت قبلكم {رَسُولًا} خاصًّا بهم، كما بعثناك في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، و {أن} في قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إما مصدرية (¬1)؛ أي: بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول؛ أي: قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله وحده لا شريك له، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: واتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال، أو واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا، والطاغوت هو الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلالة، وذلك لإلزام الحجة، وقطع المعذرة، مع علمه أن منهم من لا يأتمر بالأوامر ولا يؤمن، و {الفاء} في قوله: {فَمِنْهُمْ} فاء (¬2) الفصيحة؛ أي: فبلغوا ما بعثوا به من الأمر، بعبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت، فتفرقوا، فمنهم؛ أي: فمن هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله، {مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته، واجتناب الطاغوت، أو خلق (¬3) فيه الاهتداء إلى الحق الذي هو عبادته واجتناب الطاغوت، بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئي إلى تحصيله {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}؛ أي: وجبت وثبتت عليه الضلالة إلى حين الموت، لعناده وإصراره على الكفر، وعدم صرف قدرته، فلم يخلق فيه الاهتداء، ولم يرد أن يطهر قلبه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

قال الزجاج (¬1): أعلم الله تعالى أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإضلال والهداية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الطاغوت، وأنهم بيع ذلك فريقان: فمنهم من هدى، ومنهم من حقت عليهم الضلالة، فكان في ذلك دليلٌ على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته، فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا للبعض، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا. وإجمال القول (¬2): أن المشيئة الشرعية للكفر منتفية؛ لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، والمشيئة الكونية وهي تمكين عباده من الكفر، وتقديره لهم بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه، لا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجةٌ ناصعةٌ وحكمة بالغة. ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}؛ أي: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله، ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم، والعمل بما جاؤوا به، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله، وكذبوا وسله، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم بعقابه، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. و {الفاء} في قوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفتم التفريق المذكور، وأردتم معرفة عاقبة من حقت عليهم الضلالة .. فأقول لكم سيروا وسافروا يا معشر قريش، إذ الكلام معهم في أكناف الأرض ونواحيها {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}؛ أي: كيف كان آخر أمر المكذبين لرسلهم، من عاد وثمود، ومن سار بسيرتهم ممن حقت عليهم الضلالة، لعلكم تعتبرون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[37]

حين تشاهدون من منازلهم وديارهم آثار الهلاك والعذاب، وفي الإتيان (¬1) بالفاء الدالة على التعقيب في قوله: {فَانْظُرُوا} إشارة إلى وجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى الإقلاع عن الضلال. والمعنى (¬2): أي فسيروا في الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون، والبلاد التي كانوا يعمرونها، كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم، ممن حقت عليهم الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم، لعلكم تعتبرون بما حل بهم. ثم خاطب سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - مسليًا له على ما يراه من جحود قومه، وشديد إعراضهم، ومبالغتهم في عنادهم، مع أسفه عليهم، وعظيم رغبته في إيمانهم، ومبينًا أن الأمر بيد الله، وليس له من الأمر شيءٌ فقال: {إِنْ تَحْرِصْ} يا محمد {عَلَى هُدَاهُمْ}؛ أي: على هداية قومك؛ أي: إن تطلب هداية قريش بجهدك .. لا ينفعهم حرصك على إيمانهم وهدايتهم، إذا كان الله تعالى يريد إضلالهم بسوء اختيارهم، وتوجيه عزائمهم إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم، وجملة قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} معللة لجواب الشرط الذي قدرناه؛ أي: لأنه تعالى لا يخلق الهداية قسرًا فيمن يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}؛ أي: وما لهم ناصرٌ ينصرهم من الله إن إراد عقوبتهم، كما قال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}؛ أي: وليس لهم أحدٌ يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة من دفع العذاب عنهم. ومجمل القول (¬3): أنَّ من اختار الضلالة ووجه همته إلى تحصيل أسبابها، فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرًا وإلجاءً؛ لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار. 37 - وقرأ النخعي (¬4): {وإن} بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة {تَحْرِصْ} بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، وقرأ الجمهور بالكسر مضارع حرص ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[38]

بالفتح، وهي لغة الحجاز، وقرأ الحرميان نافع وابن كثير، والعربيان أبو عمرو وابن عامر، والحسن والأعرج ومجاهد وشيبة وشبل ومزاحم الخراساني والعطاردي وابن سيرين: {لَا يَهْدِي} مبنيًّا للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله، والفاعل في {يُضِلُّ} ضمير الله، والعائد على مَنْ محذوف، تقديره: من يضله الله، وقرأ الكوفيون وابن مسعود وابن المسيب وجماعة: {يَهْدي} مبنيًّا للفاعل، والظاهر أن في يهدي ضميرًا يعود على الله ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء: إن هدى يأتي بمعنى اهتدى، يكون لازمًا، والفاعل من؛ أي: لا يهتدي من يضله، وقرأت فرقة منهم عبد الله: {لا يهدي} بفتح الياء وكسر الهاء والدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، انتهى. وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى .. لم تكن ضعيفةً؛ لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديًا من أصله، وفي مصحف أبي: {لا هادي لمن أضلَّ}، وقال الزمخشري: وفي قراءة أبيٍّ فإن الله لا هادي لمن يضل، ولمن أضل، وقرىء يضل بفتح الياء. 38 - ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: حلف الذين أشركوا {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: غاية أيمانهم، وإذا حلف الرجل بالله .. فقد حلف جهد يمينه، فإن الكفار كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيمًا .. حلفوا باللهِ تعالى، وهذا عطف على قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إعلامًا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث وقوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} مصدر في موضع الحال وقوله: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} من عباده مقسم عليه؛ أي: حلف (¬1) هؤلاء المشركون بالله حالة كونهم جاهدين ومبالغين في أيمانهم، حتى بلغوا غاية شدتها ووكادتها، قائلين: لا يبعث الله يوم القيامة من يموت من عباده، فإنهم يجدون في تقولهم أن الشيء إذا صار عدمًا محضًا لا يعود بعينه، بل العائد يكون شيئًا آخر، ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ ردّ بقوله: {بَلَى} إثباتٌ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

لما بعد النفي، أي: بلى يبعثهم الله تعالى بعد الموت {وَعْدًا} مصدر مؤكد لنفسه، وهو ما دل عليه بلى، فإن البعث موعد من الله تعالى {عَلَيْهِ} إنجازه لامتناع الخلف في وعده، أو لأن البعث مقتضى حكمته {حَقًّا} صفة أخرى للوعد، والتقدير: بلى يبعثهم الله وعد بذلك وعدًا حقًّا واجبًا عليه إنجازه بمقتضى حكمته، وقيل هما مصدران مؤكدان للجملة المقدرة؛ أي: وعد (¬1) ذلك وعدًا ثابتًا عليه، وحق ذلك حقًّا، أي: ثبت ذلك ثبوتًا على الله، فينجزه لامتناع الخلف في وعده {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}؛ أي: أهل مكة {لَا يَعْلَمُونَ} أنهم يبعثون، وأن ذلك يسير عليه سبحانه، غير عسير، لقصور نظرهم بالمألوف، فيتوهمون امتناع البعث، ولجهلهم بشؤون الله تعالى، من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال، وعدم وقوفهم على سرِّ التكوين. وقرأ الضحاك (¬2): {بلى وعد عليه حق} والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد، والمعنى؛ أي: بلى (¬3) سيبعثه الله بعد مماته، وقد وعد ذلك وعدًا حقًّا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بشؤون الله وصفات كماله، من علم وقدرة وحكمة ونحوها، يعلمون أن وعد الله لا بد من نفاذه، وأنه باعثهم بعد مماتهم يوم القيامة أحياء، ومن قبل هذا جرؤوا على مخالفة الرسل، ووقعوا في الكفر والمعاصي. 39 - ثم ذكر سبحانه الحكمة في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} و {اللام} متعلقة بـ {يبعثهم} المقدر بعد بلى، أي: بلى يبعث الله كل من يموت مؤمنًا كان أو كافرًا، ليبين لمنكري البعث، وقوله: {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} في موضع نصب على أنه مفعول يبين؛ أي: ليبين للمشركين الذين ينكرون البعث الأمر الذي يختلفون فيه مع المؤمنين، من أمر الدين بتعذيبهم، وإثابة المؤمنين، مما جاءت به الرسل وخالفتهم فيه أممهم، فيمتاز الخبيث من ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[40]

الطيب، والمطيع من العاصي، والظالم من المظلوم، إلى نحو أولئك ممن كان مدار دعوة الرسل عليه، وأنكرته الأمم الذي أرسلوا إليهم، ويجزي الذين أساؤوا بما علموا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسن، وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوف على {لِيُبَيِّنَ}؛ أي: بلى يبعثهم ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين جحدوا وقوع البعث والجزاء {أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} في قولهم: لا يبعث الله من يموت، وسيدعون إلى نار جهنم دعا، وتقول لهم الزبانية: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} هذا (¬1) إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضى له، من حيث الحكمة، وهو التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، والثواب والعقاب. 40 - ثم أخبر سبحانه عن كامل قدرته، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فقال: {إِنَّمَا} و {ما} فيه كافة {قَوْلُنَا} مبتدأ {لِشَيْءٍ}؛ أي: أي شيء كان مما عز وهان، متعلق بـ {قَوْلُنَا} على أن اللام للتبليغ، كهي في قولنا: قلت له قم فقام، فإن قلت: فيه دليل على أن المعدوم شيءٌ؛ لأنه سماه شيئًا قبل كونه. قُلْتُ: التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى، لا أنه كان شيئًا قبل ذلك. وفي "التأويلات النجمية": في الآية دلالة على أن المعدوم الذي في علم الله إيجاده شيء، بخلاف المعدوم الذي في علم الله عدمه أبدًا، {إِذَا أَرَدْنَاهُ} ظرف لـ {قَوْلُنَا}؛ أي: وقت إرادتنا لوجوده {أَنْ نَقُولَ لَهُ} خبر المبتدأ {كُن}؛ أي: احدث وابرز من العدم إلى الوجود، لأنه من كان التامة بمعني الحدوث التام، {فَيَكُونُ} ذلك الشيء ويحدث، عطف على مقدر؛ أي: فنقول ذلك فيكون، أو جواب لشرط محذوف؛ أي: فإذا قلنا ذلك .. فهو يكون ويحدث عقيب ذلك، وهذا الكلام مجازٌ عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا آمر ولا مأمور، حتى يقال إنه يلزم أحد ¬

_ (¬1) روح البيان.

المحالين إما خطاب المعدوم، أو تحصيل الحاصل؛ أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له احدث فهو يحدث بلا توقف. والمعنى: أي (¬1) إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت. فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائه ولا بعثه؛ لأنا إذا أردنا ذلك .. فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه ولا كلفة علينا، ونحو الآية قوله: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}، وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. وخلاصة هذا: أنه تعالى مثل حصول المقدورات وفق مشيئته، وسرعة حدوثها حين إرادته سرعة حصول المأمور حين أمر الآمر، وقوله دون هوادة ولا تراخ، ولكن العباد (¬2) خوطبوا بذلك على قدر عقولهم، ولو أراد الله خلق الدنيا وما فيها في قدر لمح البصر .. لقدر على ذلك، فالمعنى: إنما إيجادنا لشيء عند تعلق إرادتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة {فَيَكُونُ} رفعًا، وكذلك في كل القرآن، وقرأ ابن عامر والكسائي: {فيكون} نصبًا، قال مكيٌّ بن إبراهيم: من رفع قطعه عما قبله. والمعنى: فهو يكون، ومن نصب عطفه على يقول. والله أعلم. الإعراب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ} فعلٌ ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: متعلق به، {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}: نائب فاعل محكي، وإن شئت قلت: {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، {أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

فاعل لـ {قِيلَ} وإن شئت قلت: {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا} اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبرٌ، {أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجمل صلة لـ {ذا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما الذي أنزله ربكم، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ} وجملة {قِيلَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} وجملة {إذا} مستأنفة {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبرٌ ومضاف إليه لمبتدأ محذوف تقديره: المنزل أساطير الأولين، وسموه منزلًا على سبيل التهكم، أو على سبيل التقدير {لِيَحْمِلُوا} {اللام}: حرف جر وعاقبة {يحملوا أوزارهم} فعل وفاعل ومفعول، منصب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي {كَامِلَة}: حال من الأوزار، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {يحملوا}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: قالوا لصيرورة عاقبتهم حملهم أوزارهم يوم القيامة، {وَمِنْ أَوْزَارِ}: معطوف على {أَوْزَارَهُمْ}، و {وَمِنْ} إما زائدة أو تبعيضية، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، {يُضِلُّونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، إما حال من فاعل {يُضِلُّونَهُمْ}، أو من مفعوله كما مر {أَلَا}: حرف تنبيه {سَاءَ}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، لشبهه بالمثل، تقديره: هو يعود على الشيء المبهم الذي يفسره التمييز، {مَا}: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز لفاعل {سَاءَ}، {يَزِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {مَا}، والرابط محذوف تقديره: ألا ساءَ الشيء شيئًا يزورنه، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: حملهم هذا، وجملة {سَاءَ} جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)}. {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار

ومجرور صلة الموصول، {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {مَكَرَ} و {الفاء} للعطف والتعقيب {مِنَ الْقَوَاعِدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أتى}، {فَخَرَّ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {خر}: فعل ماض، {عَلَيْهِمُ}: متعلق به، {السَّقْفُ}: فاعل {مِنْ فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {خَرَّ} والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أتى}. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ}، {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أتى}، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {يوم القيامة} ظرف متعلق بما بعده، {يخزيهم}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} {وَيَقُولُ}: فعل مضارع معطوف على {يُخْزِيهِمْ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {أَيْنَ شُرَكَائِيَ}: إلى قوله: {قَالَ الَّذِينَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَيْنَ} اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا، {شُرَكَائِيَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقول} {الَّذِينَ} في محل الرفع صفة لـ {شُرَكَائِيَ}: {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تُشَاقُّونَ} في محل النصب خبر {كان} {فِيهِمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تُشَاقُّونَ}، وجملة {كان} صلة الموصول، {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أُوتُوا الْعِلْمَ}: فعل مغير ونائب فاعل ومفعول ثان؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين، أولهما صار نائب فاعل، لـ {أُوتُوا} والأصل قال الذين آتاهم الله العلم، والجملة الفعلية صلة الموصول، {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ} إلى قوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّ الْخِزْيَ}: ناصب واسمه،

{الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {الْخِزْيَ}؛ لأنه مصدر فيه الألف واللام، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور الواقع خبرًا؛ لأن كما ذكره أبو البقاء، {وَالسُّوءَ}: معطوف على {الْخِزْيَ}، {عَلَى الْكَافِرِينَ} خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}، {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْكَافِرِينَ}، {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، صلة الوصول، {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}: حال من ضمير الغائبين، ومضاف إليه، {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على جملة قوله {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أو على {تَتَوَفَّاهُمُ}، و {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، ويجوز أن يكون مستأنفًا، والفاء حينئذٍ استئنافية، ذكره أبو البقاء {مَا} نافية {كُنَّا} فعل ناقص واسمه {نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فعل ومفعول، و {مِنْ} زائدة، وفاعله ضمير يعود على المشركين، وجملة {نَعْمَلُ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} في محل النصب مقولٌ لقول محذوف، حال من فاعل {ألقوا}؛ أي: فألقوا السلم قائلين: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}. {بَلَى}: حرف جواب لإثبات ما بعد حرف النفي قائمة مقام الجواب المحذوف، تقديره: بلى كنتم تعملون أقبح الشرك وأشد الآثام، والجملة الجوابية مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الجواب المحذوف {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبر {كان} وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كنتم تعملونه. {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}. {فَادْخُلُوا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {ادخلوا}: فعل وفاعل، {أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {ادخلوا}، أو منصوب على التشبيه بالمفعول به، والجملة معطوفة على الجواب تقديره: بلى كنتم تعملون أشد الشرك وأقبح الآثام فادخلوا أبواب جهنم، {خَالِدِينَ}: حال مقدرة من فاعل {ادخلوا} {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {فَلَبِئْسَ} الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {اللام}؛ موطئة للقسم، {بئس مثوى المتكبرين}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله:

{فَادْخُلُوا}؛ أي: فادخلوا أبواب جهنم فيقال فيكم: والله لبئس مثوى المتكبرين، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: جهنم. {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)}. {وَقِيلَ} {الواو}: استئنافية، {قيل}: فعل ماض مغير الصيغة، {لِلَّذِينَ}: متعلق به، {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} نائب فاعل محكي لـ {قيل}، وجملة {قيل} مستأنفة، وإن شئت قلت: {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، {أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}، وإن شئت قلت {مَاذَا} مبتدأ وخبر، وجملة {أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} صلة لـ {ذا} الموصولة، كما مر نظيره فراجعه، {قَالُوا}: فعل وفاعل، الجملة مستأنفة، {خَيْرًا}: مفعول لفعل محذوف تقديره: أنزل خيرًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا، {لِلَّذِينَ} جار ومجرور خبر مقدم، {أَحْسَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصولة {فِي هَذِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَحْسَنُوا}، {الدُّنْيَا}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عنه {حَسَنَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب بدل من {خَيْرًا}، أو جملة مفسرة له {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}: مبتدأ ومضاف إليه، و {اللام} حرف ابتداء {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} {وَلَنِعْمَ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم المحذوف، {نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، والتقدير: والله لنعم دار المتقين، وجملة القسم معطوفة على الجملة التي قبلها، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي. {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)}. {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف تقديره: لهم جنات عدن، والجملة مستأنفة، وفيه أوجه أخر تركناها خوف الإطالة، {يَدْخُلُونَهَا}: فعل

وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، {تَجْرِي}: فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به، {الْأَنْهَارُ} فاعل، وجملة {تَجْرِي} في محل النصب حال من مفعول {يَدْخُلُونَهَا} {لَهُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم {فِيهَا}: جار ومجرور، متعلق بـ لاستقرار الذي تعلق به الخبر، {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، {يَشَاءُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما يشاؤونه ويشتهونه والجملة الاسمية في محل النصب حال ثانية من مفعول {يَدْخُلُونَهَا}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، {يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والتقدير: يجزى الله المتقين جزاء مثل الجزاء الذي ذكرناه، والجملة الفعلية مستأنفة. {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {الْمُتَّقِينَ}. {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، {طَيِّبِينَ} حال من المفعول في {تَتَوَفَّاهُمُ}، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من {الْمَلَائِكَةُ} {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} إلى آخر الآية: مقولٌ محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {سَلَامٌ}: مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض الدعاء، {عَلَيْكُمُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}: فعل وفاعل مفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ادْخُلُوا}، و {الباء} سببية، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجعله {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه، ويصح أن تكون مصدريةً؛ أي: بعملكم. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)}.

{هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: ناصب وفعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: هل ينتظرون إلا إتيان الملائكة إياهم، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَأْتِيَهُمُ}؛ أي: ما ينتظرون إلا إتيان الملائكة، أو إتيان أمر ربك، {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، {فَعَلَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور، صلة الموصول، والجملة مستأنفة، والتقدير: فعل الذين من قبلهم فعلًا مثل فعل هؤلاء المشركين من قومك، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}: ناف وفعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية معترضة لاعتراضها بين المعطوف الذي هو {فَأَصَابَهُمْ} والمعطوف عليه الذي هو {فَعَلَ}، و {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول مقدم لـ {يَظْلِمُونَ} وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} معطوفة على جملة قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)}. {فَأَصَابَهُمْ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {أَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا}: فعل ومفعول وفاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وما بينهما اعتراض اهـ "سمين "، وجملة {عَمِلُوا} صلةٌ لـ {مَا} أو صفة لها، {وَحَاقَ}: فعل ماض، {بِهِمْ}: متعلق به، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة {أصابهم}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل،

والجملة صلة الموصول، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} إلى قوله: {كَذَلِكَ} مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت قلت: {لَوْ}: حرف شرط {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، {مَا}: نافية، {عَبَدْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْ دُونِهِ}: حال من {شَيْءٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مِنْ شَيْءٍ}: مفعول {عَبَدْنَا}، و {مِن} زائدة وجملة {عَبَدْنَا} جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قال}. {نَحْنُ}: تأكيد لضمير الفاعل في {عَبَدْنَا}، {وَلَا آبَاؤُنَا}: معطوف على ذلك الضمير، {وَلَا حَرَّمْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {عَبَدْنَا}، {مِنْ}: زائدة، {دُونِهِ}: ظرف حال من ضمير {حَرَّمْنَا}؛ أي: حالة كوننا دونه؛ أي: دون الله؛ أي: مستقلين بتحريمه، كما في "الجَمَلِ". {مِنْ شَيْءٍ}: مفعول {حَرَّمْنَا} و {مِنْ} زائدة. {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، {فَعَلَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل {مِنْ قَبْلِهِمْ}: صلة الموصول، والجملة مستأنفة، والتقدير: فعل الذين من قبلهم فعلًا مثل فعل هؤلاء المشركين، {فَهَلْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت فعل هؤلاء، وفعل الذين من قبلهم، وأردت بيان ما على الرسل .. فأقول لك: هل على الرسل، {هَلْ}؛ حرف استفهام، للاستفهام الإنكاري، {عَلَى الرُّسُلِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، {المبين}: صفة لـ {الْبَلَاغُ} والجملة الاستفهامية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {بَعَثْنَا}: فعل وفاعل، {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه،

متعلق بـ {بَعَثْنَا}. {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {أَنِ} مصدريةٌ أو مفسرة {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية مع {أَنِ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: بعبادة الله، الجار والمجرور متعلق بـ {بَعَثْنَا}. {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اعْبُدُوا}، {فَمِنْهُمْ} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت بعثنا في كل أمة رسولًا، وأردت بيان حال أممهم .. فأقول لك: منهم مَنْ هدى الله، {منهم}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَنْ}: نكرة موصوفة كما في "العكبري" أو موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {هَدَى اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجله صفة لـ {مَنْ} المَوْصُوفةِ، أو صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: من هداهم الله، {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم، {مَنْ}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها {حَقَّتْ}: فعل ماض، {عَلَيْهِ}: متعلق به، {الضَّلَالَةُ}: فاعل، والجملة صلة لـ {مَنْ} أو صفة لها. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. {فَسِيرُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم التفريق المذكور، وأردتم معرفة حال من حقت عليه الضلالة .. فأقول لكم {سيْروا}: فعل وفاعل، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {سيروا}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {فَانْظُرُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {انظروا}: فعل وفاعل معطوف على {سيروا}، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها، وهي معلقة لـ {انظروا} عن العمل فيما بعده، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب مفعول {انظروا}.

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}. {إِنْ}: حرف شرط، {تَحْرِصْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد، {عَلَى هُدَاهُمْ}: متعلق به، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، تقديره: فلا ينفعهم حرصك، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة، {فَإِنَّ اللَّهَ} {الفاء} تعليلية للجواب المحذوف، {إن الله}: ناصب واسمه، {لَا يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي} {يُضِلُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يُضِلُّهُ {وَمَا}: {الواو} عاطفة، {ما}: حجازية أو تميمية {لَهُمْ}: خبر {ما} مقدم، أو خبر المبتدأ، {مِنْ نَاصِرِينَ}: اسمها مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، و {مِنْ} زائدة، والجملة معطوفة على جملة {إن}. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}. {وَأَقْسَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {أقسموا} {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: منصوب على المصدرية، واقع موقع الحال، كما مر في مبحث التفسير، {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ من}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، واقع حالًا من فاعل {أقسموا}؛ أي: وأقسموا باللهِ جهد أيمانهم قائلين {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} {يَمُوتُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول، {بَلَى}: حرف جواب لإثبات ما بعد النفي، نائب عن الجواب المحذوف، تقديره: بلى يبعثه الله تعالى، والجملة المحذوفة مستأنفة، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدر، تقديره: وعد ذلك وعدًا، وحق ذلك حقًّا، {عَلَيْهِ}: جار ومجرور صفةٌ

لـ {وَعْدًا}، {وَلَكِنَّ} {الواو} عاطفة {لكن}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر {لكن}، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة الجوابية المحذوفة. {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)}. {لِيُبَيِّنَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {يبين}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كَي، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {لَهُمُ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتبيينه لهم، الجار والمجرور متعلق بالجواب المقدر بعد بلى؛ أي: بلى يبعثهم الله لتبيينه لهم، {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول يبين، {يَخْتَلِفُونَ}: فعل وفاعل {فِيهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولعلم الذين كفروا، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ}، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {كَانُوا كَاذِبِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {أنَّ}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم}. {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}. {إِنَّمَا} {إن}: حرف نصب، و {ما}: كافة، {قَوْلُنَا}: مبتدأ أو مضاف إليه، {لِشَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَوْلُنَا}، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في حل النصب على الظرفية، مبني على السكون، {أَرَدْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} تقديره: وَقْتَ إرادتنا إياه، والظرف متعلق بـ {قَوْلُنَا}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {نَقُولَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفعله ضمير يعود على {اللهُ} {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَقُولَ}، {كُنْ}: مقول محكي لـ {نَقُولَ}، وإن شئت قلت: {كُنْ}: فعل أمر تام بمعنى أحدث، وفاعله ضمير يعود على

الشيء، والجملة في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ} وجملة {نَقُولَ} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية، تقديره: إنما قولنا لشيء وقت إرادتنا إياه قولنا له كن، والجملة الاسمية مستأنفة، {فَيَكُونُ} {الفاء}: عاطفة، {يكون} فعل مضارع تام، وفاعله ضمير يعود على {شيء}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة مقدرة تدل عليها الفاء، تقديره: فنقول ذلك فيكون، ويجوز أن يكون جوابًا لشرط محذوف، تقديره: فإذا قلنا ذلك فهو يكون، كذا في "الفتوحات" وغيرها، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الأساطير جمع أسطورة، كأحاديث جمع أُحدوثة، وأضاحيك جمع أضحوكة، وأعجايب جمع أعجوبة، وأراجيح جمع أرجوحة، وهي الأكاذيب والأباطل والترهات، وقال في "القاموس": الأساطير الأحاديث التي لا نظام لها، جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور، وبالهاء في الكل اهـ. {أَوْزَارَهُمْ} والأوزار الآثام، واحدها وزر كأحمال وحمل، والوزر الثقل والحمل الثقيل، {سَاءَ مَا يَزِرُونَ}؛ أي: بئس شيئًا يحملونه، {قَدْ مَكَر} والمكر صرف غيرك مما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات. {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد}؛ أي: أهلكه وأفناه، كما يقال أتى عليه الدهر، والبنيان البناء يجمع على أبنية، والقواعد جمع قاعدة، وقواعد البيت أساسه، أو أساطينه ودعائمه وعمده، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} والسقف يجمع على سقوف، وهو القياس، وعلى سُقُفٍ وسُقْفٍ، وفُعَلٌ وفُعْلٌ، محفوظان في فَعْلٍ، وليسا مقيسين فيه، {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}؛ أي: تخاصمون وتنازعون الأنبياء وأتباعهم في شأنهم، وأصله أن كلا من المتخاصمين في شق وجانب غير شق الآخر، وعبارة "الخازن": المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شقِّ غير شق صاحبه، والمعنى: ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان اهـ. وأصل الخزي ذل يستحي منه، وأصل {تُشَاقُّونَ} تشاققون بوزن تفاعلون، {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} والسلم بالتحريك الاستسلام؛ أي: فيلقون

الاستسلام والانقياد في الآخرة حين عاينوا العذاب، ويتركون المشاقة، {بَلَى}: حرف يجاب به لإثبات ما بعد النفي. {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} المثوى المنزل والمقام، {وَحَاقَ بِهِمْ}؛ أي: وأحاط بهم جزاؤه ونزل، من الحيق الذي لا يستعمل إلا في الشر، كما في "القاموس": الحَيْقُ ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، والمراد أن أصل معناه الإحاطة مطلقًا، لكنه خص في الاستعمال بإحاطة الشر، فلا يقال حاقت به النعمة، بل النقمة اهـ. "شهاب"، وفي "المختار": حاق به الشي أحاط به، وبابه باع ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} اهـ. {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} والبلاغ اسم مصدر بمعنى الإبلاغ اهـ "شهاب"؛ أي: ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغًا واضحًا، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والطاغوت فعلوت من الطغيان، كالجبروت الملكوت من الجبر والملك، وأصله طغيوت فقدم اللام على العين، وتاؤه زائدة دون التأنيث، واختلف في الطاغوت، فقال بعضهم كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقال الحسن: الطاغوت الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعوا إليه مما نهي عنه شرعًا، ولما كان ذلك الارتكاب بأمر الشيطان ووسوسته سمي ذلك عبادة للشيطان اهـ. "زاده"، وهو من الطغيان يذكر ويؤنث اهـ "مصباح"، ويقع على الواحد كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، وعلى الجمع كقوله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} والجمع الطواغيت اهـ "مختار"، ومن إطلاقه على الجمع ما هنا، والحاصل: أنَّ الطاغوت كلُّ ما عبدُ من دون الله تعالى، من شيطان وكاهن وصنم، وكل من دعا إلى ضلال. {مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} حقت وجبت وثبتت بالقضاء السابق في الأزل لإصراره على الكفر والعناد، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} في "المصباح": حرص عليه حرصًا من باب ضرب إذا اجتهد، والاسم الحرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب شرب أيضًا، وحرص حرصًا من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة اهـ. وفي "السمين": قرأ العامة: {إِنْ تَحْرِصْ} بكسر الراء مضارع حرص بفتحها،

وهي اللغة العالية لغة الحجاز، وقرأ الحسن: {تَحْرص} بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة لبعضهم اهـ. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الإقسام والقسم محركة اليمين بالله، وسمي الحلف قسمًا لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدَّق ومكذب، والجهد بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاعة، يقال جهد الرجل في كذا - كمنع - جدَّ فيه وبالغ واجتهد، وجهد أيمانهم؛ أي: غاية اجتهادهم فيها، وبلى كلمة جوابٍ كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي، فتثبت ما بعده، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}؛ أي: وعد ذلك وعدًا عليه حقًّا؛ أي: ثابتًا متحققًا لا شك فيه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق بين {أَوْزَارَهُمْ} وبين {يَزِرُونَ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} شبهت حال أولئك الماكرين بحال قوم بنوا بنيانًا شديد الدعائم فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم، بطريق الاستعارة التمثيلية، ووجه الشبه أن ما عدوه سببًا لبقائهم عاد سببًا لفنائهم، كقولهم: من حفر حفرة لأخيه سقط فيها. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} وهو قصر للجنس الادعائي، كأن ما يكون من الذل - وهو العذاب - لعصاة المؤمنين لعدم بقائه ليس من ذلك الجنس. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {قَالُوا خَيْرًا}؛ أي: قالوا: أنزل خيرًا. ومنها: الجناس المغاير بين {أحسنوا} و {حسنة} في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.

ومنها: الطباق بين الدنيا والآخرة. ومنها: الجناس أيضًا بين {اتَّقَوْا} و {الْمُتَّقِينَ} في هذه الآية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}؛ أي: جزية أعمالهم السيئة على طريقة تسمية المسبب باسم سببه، إيذانًا بفظاعته، لا على حذف مضاف، فإنه يوهم أنَّ لهم أعمالًا غير سيئاتهم، ذكره في "روح البيان". ومنها: الإطناب في قوله: {مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. ومنها: الطباق في قوله: {هَدَى اللَّهُ} و {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}، وفي قوله: {لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} لأن الأوزار حقيقة في الأحمال الثقيلة، فاستعاره للآثام. ومنها: الكناية في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} لأنه كناية عن إرادة تخريبه. ومنها: التأكيد في قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} لأن السقف لا يخرُّ إلا من فوق. ومنها: المقابلة بين قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} وبين قوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}. ومنها: الجناس المماثل بين قوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} وبين قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وفي قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. ومنها: المجاز في قوله: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} لأنه مجاز عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله، وتمثيل الغائب، وهو تأثير قدرته في المراد بالشاهد،

وهو أمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير امتناعٍ وتوقف، ولا افتقارٍ إلى مزاولة عمل، واستعمال آلة، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا آمرٌ ولا مأمور، حتى يقال إنه يلزم أحد المحالين: إما خطاب المعدوم، أو تحصيل الحاصل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}. المناسبة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما

قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى (¬1) أن الكفار أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة، وتمادوا في الغيِّ والضلالة ومن هذه حالة فليس بالعسير عليه أن يقدم على إيذاء المؤمنين بألوان من الإيذاء، حتى يضطروهم إلى الهجرة من الديار، ومفارقة الأهل والأوطان .. ذكر هنا حكم تلك الهجرة، وبين ما لهؤلاء المهاجرين من حسناتٍ في الدنيا، وأجرٍ في الآخرة، من جزاء أنهم فارقوا أوطانهم، وصبروا وتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، وفي هذا ترغيب لغيرهم في الهجرة، واحتمال كل أذى في سبيل الله احتسابًا للأجر. وقال ابن عطية (¬2): لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بالله بأنَّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم .. ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى، والظاهر أن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنًا ما كانوا فيشمل أولهم وآخرهم. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬3) ما قاله المشركون من أنهم لا حاجة لهم إلى الأنبياء؛ لأن الحاجة إليهم إنما تدعو لو كانت هناك حياةٌ أخرى يحاسبون فيها، وهم لا يصدقون بها، وليس من المعقول أن تكون .. أردف ذلك بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا: هب الله أرسل رسولًا، فليس من الجائز أن يكون بشرًا، فالله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدًا من البشر، فلو بعث إلينا رسولًا لبعثه ملكًا، ثم أجاب عن هذه الشبهة: بأن سنة الله أن يبعث رسله من البشر، وإن كنتم في شكٍّ من ذلك فاسألوا أهل الكتاب عن ذلك، ثم هدّدهم أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون، أو يأتيهم بعذاب من السماء فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

يأخذهم طائفة بعد أخرى، ثم أعقب هذا بما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي على أتمِّ نظام، وأحكم تقدير. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) قدرته على تعذيب الماكرين، وإهلاكهم بأنواع من الأخذ .. ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم، وخضوعه ضد حال الماكرين لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره. قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬2) في الآيات السالفة أنَّ كل ما سواه من جماد وحيوان وإنس وجن وملك منقادٌ له، وخاضعٌ لسلطانه .. أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين أن كل ما سواه فهو ملكه، وأنه مصدر النعم كلِّها، وأن الإنسان يتضرع إليه إذا مسه التفسير، فإذا كشفه عنه .. رجع إلى كفره، وأنَّ الحياة الدنيا قصيرة الأمد، ثم يعلم الكفار بعدئذٍ ما يحل بهم من النكال والوبال جزاءً لهم على سيء أعمالهم، وقبيح أقوالهم، وعبارة أبي (¬3) حيَّان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك .. نهى أن يشرك به، ودلَّ النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة، ولمَّا كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه، فيراد به الجنس، نحو: نعم الرجل زيدٌ، ونعم الرجلان الزيدان، أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهين اثنين، وقيل إلهٌ واحدٌ، ولمَّا نهى عن اتخاذ الإلهين واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة .. أخبر تعالى أنه إله واحد، كما قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة، ثم أمرهم بأن يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما بيَّن (¬1) سخف أقوال أهل الشرك .. أردف ذلك بذكر قبائح أفعالهم التي تمجها الأذواق السليمة. قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر، ونسبة التوالد له .. بيّن تعالى أنه يُمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارًا لفضله ورحمته. وعبارة "المراغي": مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما حكى (¬3) عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح أفعالهم .. بين هنا حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه يمهلهم بالعقوبة إظهارًا لفضله ورحمته، ولو أخذهم بما كسبت أيديهم ما ترك على ظهر الأرض دابة، أما الظالم فبظلمه، وأما غيره فبشؤمه كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لكنه سبحانه يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى، ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما كان يناله من أذى عشيرته بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد أرسلنا رسلًا إلى أمم من قبلك فكذبوهم، ذلك بهم أسوة، فلا يحزننك تكذيبهم، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها (¬4): ما أخرجه ابن جرير عن داود بن أبي هند قال: نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} إلى قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في أبي جندل بن سهيل. وقال ابن الجوزي (¬5): قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ} اختلفوا فيمن نزلت فيه على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) لباب النقول. (¬5) زاد المسير.

[41]

أحدها: أنها نزلت في ستةٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرت وعابس وجبير موليان لقريش، أخذهم أهل مكة فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإِسلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند. والثالث: أنهم جميع المهاجرين أو أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاله قتادة. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا ...} الآية، قال (¬1) المفسرون في سبب نزول هذه الآية هذه لما أنكر مشركو قريش نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا فهلا بعث إلينا ملكًا .. نزلت هذه الآية. قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): أنَّ رجلًا من المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربًّا واحدًا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. التفسير وأوجه القراءة 41 - {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا}؛ أي: فارقوا أهاليهم وديارهم وأوطانهم، من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة {فِي اللَّهِ}؛ أي: في شأن الله ورضاه وفي حقه والتمكين من طاعته، وقيل: {فِي} بمعنى اللام مع حذف مضاف؛ أي: لإظهار دين الله ونصرته {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وعذِّبوا وأُهينوا في مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}؛ أي: لننزلنهم {فِي الدُّنْيَا} تبوئةً {حَسَنَةً}؛ أي: تنزيلًا طيبًا في أرض طيبة كريمة، فهو صفة لمصدر محذوف، أو مبأة حسنه ومنزلًا طيبًا، وهي المدينة المنورة حيث آواهم أهلها ونصروهم، يقال (¬3) بوَّاه منزلًا أنزله، والمباءة المنزل، فهي منصوبة على الظرفية، أو على أنها مفعول ثان من كان لنبوئنهم بمعنى لنعطينهم، وهم (¬4) ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) زاد المسير. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم، فهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وعلى هذا يكون نزول الآية في أصحاب الهجرتين، فيكون نزولها في المدينة بين الهجرتين، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نزلت هذه الآية في ستةٍ من الصحابة: صهيب وبلال وعمار وخبَّاب وعابس وجبير، أخذهم المشركون يعذبونهم ليرجعوا عن الإِسلام إلى الكفر، فأما بلال فيخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر، ويشدونه ويجعلون على صدره الحجارة، وهو يقول: أحد أحد، فاشتراه منهم أبو بكر وأعتقه، وأما صهيب فقال: أنا رجل كبير، من كنت معكم ... لم أنفعكم، وإن كنت عليكم .. لم أضركم فافتدى منهم وهاجر، وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة أو كلمة الكفر، فتركوا عذابهم ثم هاجروا، فبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإِسلام، كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم، فلذلك غلبوا على أهل مكة وعلى العرب قاطبةً، وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر - رضي الله عنه - كان إذا أعطى رجلًا أو المهاجرين عطاءً قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكبر. والمعنى: أي (¬1) والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم وذهبوا إلى بلاد أخرى احتسابًا لأجر الله ونيلًا لمرضاته، أو بعد ما نالهم أو الكفار أو أذى في أنفسهم وأموالهم، لنسكننهم في الدنيا مساكن حية يرضونها، إذ هم لمَّا تركوا مساكنهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله .. عوَّضهم الله خيرًا منها في الدنيا، فمكَّن لهم في البلاد، وحكَّمهم في رقاب العباد، وصاروا أمراء وحكامًا، وكان كل منهم للمتقين إمامًا. ثم أخبر سبحانه أنَّ ثوابه لهم في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ} المعد لهم في مقابلة الهجرة {أَكْبَرُ} مما يعجل لهم في الدنيا؛ أي: ولثواب الله إياهم على هجرتهم من أجله في الآخرة أكبر وأعظم من الأجر الكائن في الدنيا؛ لأنَّ ثوابه إياهم هنالك الجنة، التي لا يفنى ¬

_ (¬1) المراغي.

[42]

نعيمها ولا يزول خيرها، وفي "المدارك" الوقف لازم عليه لأنّ جواب قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} محذوف، والضمير للكفار؛ أي: لو علم الكفار أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين .. لوافقوهم في الدين، ويجوز (¬1) أن يعود إلى المهاجرين. والمعنى: لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدَّ الله لهم في الآخرة .. لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى المشركين. 42 - هؤلاء المهاجرون هم {الَّذِينَ صَبَرُوا} على أذية الكفار، ومفارقة الأهل والوطن، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ} خاصة {يَتَوَكَّلُونَ}؛ أي: يعتمدون في أمورهم، منقطعين إليه، معرضين عما سواه، مفوضين الأمر كله إليه تعالى، والتعبير (¬2) بصيغة المضارع لاستحضار صورة توكلهم البديعة، وجملة التوكل معطوفة على الصلة أو في محل النصب على الحال. والمعنى: أي (¬3) هؤلاء هم الذين صبروا على ما نالهم من أذى قومهم ولم يرجعوا القهقرى، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه، وعلى بذل الروح في ذات الله، وعلى احتمال الغربة بين ناس لم تجمعهم بهم ألفة نسبٍ ولا جوارٍ في دار، وقد فوضوا أمرهم إلى ربهم الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن كل ما سواه. 43 - وسبب قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ}؛ لأن مشركي قريش لما بلَّغهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسالة، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى .. أنكروا ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، ولو أراد أن يبعث إلينا رسولًا .. لبعث من الملائكة الذين عنده، فنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمَّد إلى الأمم الماضية رسلًا للدعوة إلى توحيدنا، {إِلَّا رِجَالًا}؛ أي: إلا ذكورًا بالغين آدميين لا نساءً، إذ مبنى أحوالهن على الستر، والنبوة تقتضي الظهور، ولا صبيانًا لعدم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

كمالهم، ونبوة عيسى في المهد لا تنافيه إذ الرسالة أخص، قال ابن الجوزي اشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء، ولا ملائكة لاختلاف الجنس، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}؛ أي: إلى الملائكة أو إلى الأنبياء {نُوحِي إِلَيْهِمْ} على ألسنة الملائكة في الأغلب وأكثر الأمر، وفيه (¬1) إشارة إلى أن الرسالة النبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرَّجال الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله. والمعنى (¬2): أي وما أرسلنا من قبلك رسلًا إلى أممهم للدعوة إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا إلا رجالًا من بني آدم نوحي إليهم لا ملائكة، ومجمل القول: إنا لم نرسل إلى قومك إلا مثل الذين كنا نرسلهم إلى من قبلهم من الأمم؛ أي: رسلًا من جنسهم وعلى منهاجهم، روى الضحاك عن ابن عباس: الله لمَّا بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. أنكر العرب ذلك وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فأنزل الله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} الآية، ونحو الآية قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، وقوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)}، وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}. وقرأ الجمهور (¬3): {يُوحَى} بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها، وقرأ عبد الله والسلمي وطلحة وحفص عن عاصم: بالنون وكسرها. ولمَّا (¬4) كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل .. صرف الخطاب إليهم، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: {فَاسْأَلُوا} يا معشر قريش إن شككتم في ذلك {أَهْلَ الذِّكْرِ}؛ أي: أهل العلم بذلك؛ أي: علماء أهل الكتاب، ليخبروكم أن الله تعالى لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرًا، وكانوا يشاورونهم في بعض الأمور، ولذلك أحالهم إلى هؤلاء للإلزام؛ أي: فإذا أخبروكم بذلك .. زالت الشبهة من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

[44]

قلوبكم، {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أنَّ الرسل من البشر. والمعنى: أي فاسألوا (¬1) أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى، أبشرًا كانت الرسل إليهم أم ملائكةً؟ فإن كانوا ملائكةً .. أنكرتم، وإن كانوا بشرًا فلا تنكروا أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا، 44 - وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجالًا؛ أي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا متلبسين بالمعجزات الباهرة، الدالَّة على صدق من يدعي الرسالة، كعصا موسى، وناقة صالح، ومتلبسين بالكتب المشتملة على التكاليف الشرعية، التي يبلغونها من الله تعالى إلى العباد، كالتوراة والإنجيل، والبينات جمع بينة، وهي المعجزة الواضحة، والزبير جمع زبور، وهو الكتاب بمعنى المزبور؛ أي: المكتوب. أي: وما أرسلنا رسلًا من قبلك إلا رجالًا متلبسين بالأدلة والحجج، التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، وبالكتب التي تشمل على التكاليف والشرائع التي يبلغونها من الله إلى العباد. وقيل: في الكلام (¬2) تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبير إلا رجالًا، وقيل: يتعلق بمحذوف دلَّ عليه المذكور؛ أي: أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل: متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء زائدة؛ أي: إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبير، وقيل: متعلق بنوحي؛ أي: نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل: منصوب بتقدير: أعني، والباء زائدة. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ}؛ أي: وأنزلنا عليك يا محمَّد القرآن منجمًا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، وإنما سمّاه ذكرًا لأن فيه مواعظ وتنبيهًا للغافلين؛ يعني: أنه سبب (¬3) الذكر، فأطلق عليه اسم المسبب، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} كافةً العرب والعجم {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع، وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب، حسب أعمالهم الموجبة لذلك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[45]

على وجه التفصيل بيانًا شافيًا، كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيما نُزِّل إليهم، فينتبهوا لما فيه من العبر، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب. والمعنى: أي (¬1) وأنزلنا إليك القرآن تذكيرًا وعظةً للناس، لتُعرِّفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع، وأحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب جزاء عنادهم مع أنبيائهم وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام، وتفصل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم في الاستعداد والفهم لأسرار التشريع، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: وتوقعًا منك وانتظارًا لتفكرهم في هاتيك الأسرار والعبر، وإبعادًا لهم عن سلوك سبيل الغابرين من المكذبين، حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم. 45 - ثم حذرهم وخوفهم مغبة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} والهمزة (¬2) فيه للاستفهام التوبيخي التقريعي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف المنسحب عليه النظم الكريم؛ أي: أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه، الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب، ولم يتفكروا في ذلك؛ أي: ألم يتفكروا {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} اهـ "أبي السعود". والتقدير: أيُعْرِضُ الذين فعلوا المكرات السيئات برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة من تقييده أو قتله، أو إخراجه من مكة كما ذكر في الأنفال، ومكروا بأصحابه حين راموا صدهم عن الإيمان عن التذكر في هذا الذكر المشتمل على أنباء الأمم المهلكة؛ أي: أأعرض هؤلاء الماكرون عن التفكر فيه فأمنوا {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ}؛ أي: أن يغور الله بهم الأرض، حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى، كما فعل بقارون وأصحابه، والإنكار (¬3) موجه إلى المعطوفين معًا. وذكر بعضهم أن الكركي لا يطأ الأرض بقدميه بل بإحداهما، فإذا وطئها .. لم يعتمد عليها خوفًا أن تخسف الأرض، فإذا لم يأمن الطير من الخسف .. فما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) أبي السعود. (¬3) روح البيان.

[46]

بال الإنسان العاقل يمشي على الأرض وهو غافل انتهى. {أَوْ} أمنوا أن {يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ}؛ أي: عذاب الاستئصال {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} به؛ أي: من جهة لا تخطر ببالهم، فيهلكهم بغتةً كما فعل بقوم لوط وغيرهم، 46 - {أَوْ} أمنوا أن {يَأْخُذَهُمْ} الله سبحانه بالعقوبة {فِي تَقَلُّبِهِمْ}؛ أي: في حالة تحركهم في أسفارهم إقبالًا وإدبارًا، فهو حال أو المفعول؛ أي: حالة كونهم متقلِّبين في أسفارهم، والتقلب الحركة إقبالًا وإدبارًا اهـ "شهاب"، فإنَّه سبحانه (¬1) وتعالى قادر على أن يهلكهم في السفر، كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل: المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل: في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل: في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، وقيل غير ذلك. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: فإذا أخذهم بالعقوبة بأيِّ سبب وفي أيِّ حالةٍ .. فما هم بناجين من عذاب الله القهار، سابقين قضاءه بالهرب والفرار على ما يوهمه التقلب والسير في الديار. 47 - {أَوْ} أمنوا أن {يَأْخُذَهُمْ} الله سبحانه وتعالى بالعذاب حالة كونهم {عَلَى تَخَوُّفٍ} وتوقع؛ أي: مخافة من وقوع العذاب، بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه، غير غافلين عنه، بأن يهلك قومًا قبلهم فيتخوفوا، فيأتيهم الله به وهم متخوفون، وقيل: معنى {عَلَى تَخَوُّفٍ}؛ أي: على تنقصٍ، قال ابن الأعرابي: أي تنقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات. والمعنى (¬2): أو يأخذهم على أن ينقصهم شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، ولا يهلكهم في حالة واحدة، فيكون المراد مما قبله عذاب الاستئصال، ومنه الأخذ شيئًا فشيئًا، والمراد بذكر الأحوال الثلاث بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأيِّ وجهٍ كان، لا الحصر فيها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[48]

{فَإِنَّ رَبَّكُمْ}، أيها العباد، {لَرَءُوفٌ} بكم حيث لا يعاجلكم بالعقوبة، ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها، {رَحِيمٌ} بكم حيث لا يأخذكم في الحال ويتوب عليكم في المآل، ويجازي توبتكم بالفضل والنوال، ولمَّا (¬1) كان تعالى قادرًا على هذه الأمور، ولم يعاجلهم بها .. ناسب وصفه بالرأفة والرحمة. وحاصل المعنى: أي (¬2) أفأمن الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة وراموا صد أصحابه عن الإيمان بالله تعالى أن يصيبهم بعقوبة من عنده: 1 - إمَّا بأن يخسف بهم الأرض، ويبيدهم من صفحة الوجود، كما فعل بقارون من قبل. 2 - وإما بأن يأتيهم بعذاب من السماء فجأة من حيث لا يشعرون، كما صنع بقوم لوط. 3 - وإمَّا بأن يأخذهم بعقوبة وهم في أسفارهم يكدحون في الأرض ابتغاء الرزق، وما هم بممتنعين عليه فائتين له بالهرب والفرار كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ". 4 - وإمَّا بأن يخيفهم أوَّلًا، ثم يعذبهم بعد ذلك، بأن يهلك طائفة فتخاف التي تليها، حتى يأتي عليهم جميعًا، ويكون هذا أشد عليهم إيلامًا ووحشة، وختم الآية بما ختم به لبيان أنه لم يأخذهم بعذاب معجل، بل أخذهم بحالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل، وفي ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها تلافي التقصير، وهذا من آثار رحمته بعباده. 48 - ثم ذكر آثار قدرته على خلقه فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة (¬3) فيه للإنكار المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والرؤية هي البصرية المؤدِّية إلى التفكر، والضمير لكفار مكة؛ أي: ألم ينظروا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

ويروا {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} تعالى {مِنْ شَيْءٍ} بيان لـ {ما} الموصولة؛ أي: من كل شيء له ظل، {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}؛ أي: يتقلص ويتحول وينتقل ظلاله شيئًا فشيئًا من جانب إلى جانب، وتدور من موضع إلى موضع، حسبما تقتضيه إرادة الخالق، وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} متعلق بـ {يَتَفَيَؤُأ}؛ أي: عن جهة أيمانها وشمائلها؛ أي: عن (¬1) جانبي كل واحد منها، أو عن يمين الفلك وهو جهة المشرق، وعن شمائل الفلك وهي جهات المغرب، وأفرد اليمين باعتبار لفظ ما، وجمع الشمائل باعتبار معناها، وقيل إنما (¬2) وحد اليمين وجع الشمائل لأن مذهب العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يلغى واحد ويكتفى بأحدهما، كقوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، وقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كذا في الأسئلة المقحمة. والحاصل: أن الهمزة في: {أَوَلَمْ يَرَوْا} للإنكار، كما مرَّ آنفًا، وهي داخلة في الحقيقة على النفي، وإنكار النفي نفيٌ له، ونفي النفي إثبات. والمعنى: قد رأى هؤلاء الذين مكروا السيئات من أهل مكة أمثال هذه الصنائع، فما لهم لم يتفكروا فيه، ليظهر لهم كمال قدرته تعالى وقهره، فيخافوا منه حالة كون تلك الظلال {سُجَّدًا لِلَّهِ}؛ أي: ساجدين لله، دائرين على مراد الله تعالى في الامتداد والتقلص وغيرهما، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيُّؤ، وقوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} حال من الضمير المستتر في {سُجَّدًا}، فهي حال متداخلة؛ أي: خاضعون صاغرون من الدخور وهو الصغار والذل؛ أي: والحال أن أصحابها من الأجرام داخرة؛ أي: صاغرة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به؛ أي: ألم ينظر (¬3) أهل مكة ولم يروا بأبصارهم إلى جسم قائم له ظل من جبل وشجر وبناء يرجع ظلاله من المشرق ومن المغرب واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، وهم داخرون؛ أي: منقادون لقدرة الله تعالى وتدبيره، ولما وصفت الظلال بالانقياد لأمره ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[49]

تعالى .. أشبهت العقلاء، فعبّر عنها بلفظ من يعقل، لأن الدخور من خصائصهم، أو لأن من جملة ذلك من يعقل فغلب. والخلاصة: أي (¬1) ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من الأجسام القائمة كالأشجار والجبال، التي تتفيَّأ ظلالها وترجع من موضع إلى موضع عن اليمين والشمائل، فهي في أوَّل النهار على حالٍ، ثم تتقلص، ثم تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، مائلةً من جانب إلى جانب ومن ناحيةٍ إلى أخرى صاغرة منقادة لربها خاضعة لقدرته. وقرأ السُّلمي والأعرج والأخوان حمزة والكسائي (¬2): {أولم تروا} بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الإخبار، وإما على معنى قل لهم، إذا كان خطابًا خاصًّا، وقرأ باقي السبعة: بالياء على الغيبة، واحتمل أيضًا أن يعود الضمير على الذين مكروا، واحتمل أن يكون إخبارًا عن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم، وقرأ أبي عمرو وعيسى ويعقوب: {تَتَفَيّؤُ} بالتاء على التأنيث، وباقي السبعة بالياء. وقرأ الجمهور: {ظِلَالُهُ} جمع ظل، وقرأ عيسى: {ظُلَلُه} جمع ظُلَّة، كحُلَّةٍ وحُلَلٍ، والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطة رؤية العين. 49 - ثم ذكر ما هو كالدليل لما سلف فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى وحده لا لغيره، فالقصر (¬3) فيه قصر قلب وإفراد كما سيأتي في مبحث البلاغة، {يَسْجُدُ}؛ أي: يخضع وينقاد، قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة وعبادةٍ كسجود المسلم، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من العلويات قاطبةً، ودخل فيه الشمس والقمر والنجوم {وَمَا فِي الْأَرْضِ} كائنًا ما كان {مِنْ دَابَّةٍ} بيان لما في الأرض؛ أي: من كل دابة تدب عليها، فإن قوله تعالى: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[50]

{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يدل (¬1) على اختصاص الدابة بما في الأرض؛ لأنَّ ما في السماء لا يخلق بطريق التوالد، وليس لهم دبيبٌ، بل لهم أجنحة يطيرون بها، والظاهر أن الطيران لا ينافي الدبيب، وقد قيل إن في السماء خلقًا يدبون ودبيبه لا يستلزم كونه مخلوقًا من الماء المعهود، إذ من الماء كل شيء حيٍّ، فيكون {مِنْ دَابَّةٍ} بيانًا لما في السماء والأرض، و {ما} عام للعقلاء وغيرهم، وفي "الأسئلة المقحمة": أن ما لا يعقل أكثر عددًا ممن يعقل، فغلب جانب ما لا يعقل لأنه أكثر عددًا، {وَالْمَلَائِكَةِ} معطوف على ما في السموات، عطف جبريل على الملائكة تعظيمًا وإجلالًا، {وَهُمْ}؛ أي: والحال أيُّ الملائكة مع على شأنهم {لَا يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: لا يتعظمون عن عبادته والسجود له، بل يتذللون، فكل شيء بين يدي صانعه ساجدٌ بسجود يلائم حاله، كما أن كل شيء يسبح بحمده تسبيحًا يلائم حاله، فتسبيح بعضهم بلسان القال، وتسبيح بعضهم بلسان الحال، والله يعلم لسان حالهم، كما يعلم لسان قالهم، وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. والمعنى: أي ولله (¬2) يخضع ما في السموات وما في الأرض مما يدب عليها، وكذلك ملائكته الذين في السماء، وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له، 50 - {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}؛ أي: مَالِكَ أمرهم، والجملة حال من الضمير في: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} {مِنْ فَوْقِهِمْ}، حال من ربهم؛ أي: يخافونه تعالى خوف هيبةٍ وإجلال، وهو فوقهم بالقهر لقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه}، أو يخافون أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، فهو متعلق بـ {يَخَافُونَ} {وَيَفْعَلُونَ}؛ في: الملائكة {مَا يُؤْمَرُونَ}؛ أي: ما يأمرهم الخالق به من الطاعات والتدبيرات، من غير تثاقل عنه وتوانٍ فيه، فبواطنهم وظواهرهم مبرأة من الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة، وفيه أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبين الخوف والرجاء. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[51]

وحمل (¬1) هذه الجمل على الملائكة أولى من حمله على جميع من تقدم ذكره، لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده. والمعنى: أي (¬2) يخاف هؤلاء الملائكة والدواب التي في الأرض ربهم، الذي هو من فوقهم بالقوة والقهر، أن يعذبهم إن عصوه، ويفعلون ما أمرهم به، فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه، ونحو الآية قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. ومجمل القول: أنه تعالى نبه إلى أنه لعظمته وكبريائه تدين له المخلوقات بأسرها، جمادها ونباتها وحيوانها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها. 51 - ولما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له خاضعة لجلاله .. أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: {وَقَالَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى لجميع المكلفين {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} تأكيد لما فهم من إلهين من التثنية، يعني نفسه والأصنام {إِنَّمَا هُوَ} سبحانه وتعالى {إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: معبود واحد لا شريك له في ذاته وصفاته، ولا شبيه له في أفعاله. وقد قيل (¬3): إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله بواحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين، إنما هو واحد إلهٌ، وقيل: إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل: إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الوحدانية، مع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية. وعبارة "النسفي" هنا: فإن قلت (¬1): إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص، فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان. قلتُ: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دالٌ على شيئين، على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما هو العدد .. شفع بما يؤكد، فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. {فَإِيَّايَ} لا غيري {فَارْهَبُونِ}؛ أي: فخافون؛ أي: إن كنتم راهبين شيئًا .. فارهبوني لا غيري، فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السموات والأرض، فالفاء واقعة في جواب شرط محذوف. والمعنى: أي (¬2) وقال الله سبحانه لعباده لا تتخذوا لي شريكًا ولا تعبدوا سواي، فإنكم إذا عبدتم معي غيري .. جعلتموه لي شريكًا، ولا شريك لي إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذاك، فاتقوني وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي بإشراككم بي غيري، أو عبادتكم سواي. وإنَّما ذكر (¬3) العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه للدلالة على أنَّ المنهي عنه هي الاثنينية، وإنها منافية للألوهية، كما أن وصف الإله بالوحدة في قوله: {إنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} للدلالة على أنَّ المقصود إثبات الواحدانية، وأنها من لوازم الألوهية، أما الألوهية فغير منكرة ولا منازع فيها، كما مر ذلك آنفًا عن الشوكاني والنسفي. والخلاصة: أنه تعالى أخبر أنه لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له وحده. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[52]

52 - ثم لما قرر سبحانه وحدانيته وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه .. ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه، فقال: وله سبحانه وتعالى خلقًا وملكًا {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة وغيرهم {وَ} ما في {الْأَرْضِ} من الجن والإنس وغيرها {وَلَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الدِّينُ}؛ أي: الطاعة والانقياد من كل شيء في السموات والأرض وما بينهما، {وَاصِبًا} حال من {الدِّينُ}؛ أي: حالة كون الدين واصبًا؛ أي: واجبًا لله على خلقه، ثابتًا دائمًا لا زوال له، لأنه الإله وحده الواجب أن يرهب منه، والهمزة في قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} للتوبيخ والتقريع المضمن للإنكار (¬1) داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أي أبعد العلم بما ذكر من التوحيد واختصاص الكل به خلقًا وملكًا غير الله تطيعون فتتقون. والمعنى: أي فبعد (¬2) أن علمتم هذا ترهبون غير الله، وتحذرون أن يسلبكم نعمةً، أو يجلب لكم أذى، أو ينزل بكم نقمة إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم، وأفردتم الطاعة له، وما لكم نافع سواه، وإجمال ذلك أنكم بعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كل ما سواه فهو في حاجة إليه في وجوده وبقائه، كيف يعقل أن يكون لامرىء رغبة أو رهبةً من غيره تعالى. 53 - ولما بين أن الواجب أن لا يتقى غير الله .. ذكر أنه يجب أن لا يشكر إلا هو فقال: {وَمَا بِكُمْ}؛ أي: أي شيء يلابسكم ويصاحبكم {مِنْ نِعْمَةٍ}؛ أي: نعمة كانت على اختلاف أنواعها كالغنى وصحة الجسم والخصب ونحوها {فَمِنَ اللَّهِ}؛ أي: فهي من قبل الله تعالى، فـ {ما} شرطية (¬3) أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإن ملابسة النعمة بهم سبب للإخبار بأنها منه تعالى، لا لحصولها منه، والنعمة (¬4) إما دينية، وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية، كالعادات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه. ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}؛ أي: الفقر والبلاء في جسدكم والقحط ونحوها مساسًا يسيرًا، {فَإِلَيْهِ}؛ أي: فإلى الله لا إلى غيره {تَجْأَرُونَ}؛ أي: تتضرعون في كشفه، فلا كاشف له إلا هو، والجؤار (¬1): رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ} الله تعالى {الضُّرَّ} الذي نزل بكم وأزاله {عَنْكُمْ}؛ أي: إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر، {إِذَا فَرِيقٌ}؛ أي: جماعة {مِنْكُمْ} وهم كفاركم {بِرَبِّهِمْ} الذي كشف عنهم الضر {يُشْرِكُونَ} فيجعلون معه إلهًا آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء، حيث يضعون الإشراك باللهِ الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، و {اللام} في قوله: {لِيَكْفُرُوا} بعبادة غيره {بِمَا آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: بما أعطيناهم من نعمة كشف الضر عنهم {لام} كي؛ أي: لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى (¬2) كأنَّ هذا الكفران منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرضٌ لهم، ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية، ففي {اللام} استعارة تبعية كما سيأتي، وقوله: {لِيَكْفُرُوا} من الكفران، وقيل: {اللام} للعاقبة، يعني: ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفران. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب: {فَتَمَتَّعُوا} بما أنتم فيه من ذلك بقية آجالكم؛ أي: فعيشوا وانتفعوا بمتاع الحياة الدنيا أيامًا قليلةً، وهو أمر تهديد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم، وما يحل بكم في هذه الدار، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. وحاصل معنى الآيات (¬3): أي {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} في أبدانكم من عافيةٍ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[54]

وصحةٍ وسلامة، وفي أموالكم من نماءٍ وزيادةٍ {فَمِنَ اللَّهِ}؛ أي: فالله هو المنعم بها عليكم، والمتفضل بها لا سواه، فبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، فيجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم المتواصلة، وإحسانه الدائم الذي لا ينقطع، ولقد أجاد من قال: أحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوْبَهُمُ ... فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}؛ أي: ثم إذا أصابكم في أبدانكم سقم ومرض، أو حاجة عارضة أو شدة وجهد في العيش ووسائل الحياة. {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}؛ أي: فإليه تصرخون بالدعاء، وتستغيثون به ليكشف ذلك عنكم، علمًا منكم أنه لا يقدر على إزالة ذلك إلا هو، 54 - {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ}؛ أي: ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من مرض في أبدانكم، أو شدةٍ في معاشكم بتفريج البلاء عنكم .. إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكًا في العبادة، فيعبدون الأوثان، ويذبحون لها الذبائح شكرًا لغير من أنعم بالفرج وأزال من الضر. 55 - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: قيضنا لهم ذلك لتكون عاقبة أمرهم أن يجحدوا نعم الله عليهم، وأنه هو المسدي لها، وأنه هو الكاشف للنقم عنهم، وقد فعلوا ذلك لسوء استعدادهم وخبث طويتهم، وبما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، فجحدوا فضل الملك الديان، وإحسان صاحب الطول والإحسان، ثم توعدهم على سوء صنيعهم، وأبان لهم عاقبة أمرهم فقال: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ أي: فتمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقت لحياتكم وتمتعكم فيها، وبعدئذٍ ستصيرون إلى ربكم فتعلمون عند لقائه وبال ما كسبت أيديكم، وسوء مغبة أعمالكم، وتندمون حين لا ينفع الندم. وقرأ أبو العالية (¬1): {فَيُمْتَعُوا} بالياء من تحت مضمومة مبنيًّا للمفعول ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[56]

ساكن الميم، وهو مضارع متع مخففًا، وهو معطوف على ليكفروا، وقرأ: {فسوف يعلمون} بالياء على الغيبة وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتمتع هنا بالحياة الدنيا ومآلها إلى الزوال. 56 - ثم حكى سبحانه نوعًا آخر من قبائح أعمالهم {وَيَجْعَلُونَ}؛ أي: كفار مكة بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم، وبعد ما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به {لِمَا لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي للأصنام التي لا يعلم الكفار حقيقتها وقدرها الخسيس، ويعتقدون فيها أنها تنفع وتضر، وتشفع عند الله تعالى، وقيل: المعنى: أنهم؛ أي: الكفار يجعلون للأصنام وهم - أي الأصنام - لا يعلمون شيئًا لكونهم جمادات، ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام، وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريًا على اعتقاد الكفار فيها. وحاصل المعنى: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئًا {نَصِيبًا}؛ أي: حظًّا وجزءًا {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}؛ أي: من الأموال التي رزقناهم إياها من الزرع والأنعام وغيرهما تقربًا إليها، {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} وهي؛ أي: الأصنام لا تشعر أجعلوا لها نصيبًا وحظًّا في أنعامهم وزروعهم أم لا، {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ} أيها الكفار يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا، وتختلقونه من الكذب على الله تعالى بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها؛ أي: أقسم لأسألنكم عما افتريتموه واختلقتموه من الباطل، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة تكون كفاء كفرانكم نعمي وافترائكم عليَّ، ونحو الآية: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}. 57 - ثم ذكر نوعًا آخر من قبائحهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى {الْبَنَاتِ}؛ أي: وينسب بعض الكفار البنات إلى الله سبحانه، ويقولون: الملائكة بنات الله، وهم خزاعة وكنانة، وإنَّما (¬1) أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ¬

_ (¬1) الخازن.

[58]

لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم، {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيها له تعالى عن البنات والبنين، وعن كل ما لا يليق به من صفات الحدوث، نزه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة، ولا أفهام مستقيمة، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل، وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم، {و} يجعلون {لهم}؛ أي: لأنفسهم {مَا يَشْتَهُونَ}؛ أي: ما يحبونه؛ أي: ويختارون لأنفسهم الأولاد الذكور، على أنَّ {ما} في محل النصب بالفعل المقدر، ويجوز أن تكون في محل رفع بالابتداء، والظرف المقدم خبره، والجملة حالية، وأنكر النصب الزجاج، وأجازه الفراء. والمعنى: أي (¬1) ولقد بلغ من جهل هؤلاء المشركين وعظيم أباطيلهم أنهم يجعلون لمن خلقهم، ودبر شؤونهم، واستحق شكرهم على جزيل نعمائه البنات، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله، كما قال عزَّ اسمه: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} وعبدوها مع الله، وقد أخطؤوا في ذلك خطأ كبيرًا، وضلوا ضلالًا بعيدًا، إذ نسبوا إليه الأولاد، ولا أولاد له، وأعطوه منها أخسها وهي البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، بل لا يرضون إلا البنين، كما قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}، وقال: {أألَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)}. 58 - قال ابن عباس: يقول سبحانه: تجعلون لي البنات ترضونهن لي ولا ترضونهن لأنفسكم، ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ}؛ أي: أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات، {بِالْأُنْثَى}؛ أي: بولادة أنثى؛ أي: أُخبر بولادة أنثى له {ظَلَّ وَجْهُهُ}؛ أي: صار وجهه {مُسْوَدًّا}؛ أي: متغيِّر (¬2) اللون بما يحصل له من الغم وانكسار القلب، وليس المراد السواد الذي هو ضد البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[59]

والتغير الذي يحصل بسبب الغم، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غمًّا وحزنًا، قاله الزجاج، وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال: وهو قول الجمهور، والأولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير، وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي. وجملة قوله: {وَهُوَ كَظِيمٌ} في محل نصب على الحال؛ أي: ظل وجهه مسودًّا، والحال أنه مملوء غضبًا على المرأة، لأجل ولادتها الأنثى، ومن هنا (¬1) أخذ المعبرون من رأى أو روئي له أن وجهه اسودَّ، فإن امرأته تلد أنثى، أو ممتلىءٌ من الغم غيظًا وخنقًا، قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، 59 - {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ}؛ أي: يتغيب ويختفي ويستتر من قوله، {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}؛ أي: من أجل سوء المبشر به، ومن أجل تعييرهم له بها، والتعبير عنها بـ {ما} لإسقاطها عن درجة العقلاء؛ أي: يختفي (¬2) منهم من أجل كراهية الأنثى التي بشر وأخبر بها، من حيث كونها لا تكتسب، وكونها يخاف عليها الزنا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بأمرته .. اختفى عن القوم، إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرًا .. فرح به، وإن كان أنثى .. حزن ولم يظهر للناس أيَّامًا، يدبر فيها ماذا يصنع بها، وذلك قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ} تذكير الضمير باعتبار لفظ {ما}؛ أي: أيمسك ذلك المولود ويتركه {عَلَى هُونٍ}؛ أي: مع ذُلٍّ وتعيير يلحقه بسببها؛ أي: يحفظ ما بشر به من الأنثى، ويتركه بلا دفْنٍ مع رضاه بذل نفسه، فقوله: {عَلَى هُونٍ} إمَّا (¬3) حال من الفاعل؛ أي: يمسكها مع رضاه بهوان نفس، أو من المفعول، أي: يمسكها مهانة ذليلة للعمل والاستقاء والخدمة، {أَمْ يَدُسُّهُ} ويخفيه {فِي التُّرَابِ} بالوأد؛ أي: دفنها حية؛ أي: إذا بشر حدهم بالأنثى .. يكون مترددًا بين أمرين، إما أن يمسكه على هون، وإما أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

يدسه في التراب، فيفعل ما ظهر له من الأمرين، فالعرب (¬1) كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها، وهم كانوا يفعلون ذلك تارةً للغيرة والحمية، وتارةً خوفًا من الفقر ولزوم النفقة، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن يهجر بعضهم البيت الذي فيه المرأة إذا ولدت أنثى، {أَلَا} حرف تنبيه {سَاءَ} لإنشاء الذم؛ أي: انتهبوا واستمعوا ما أقول لكم: ساء وقبح {مَا يَحْكُمُونَ}؛ أي: ما يحكم هؤلاء المشركون في حق الله تعالى، وفي حق أنفسهم، حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه، وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم، والمخصوص بالذم حكمهم هذا. والمعنى: أي وإذا (¬2) بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى .. ظل وجهه مسودًا كئيبًا من الهم، ممتلئًا غيظًا وخنقًا من شدة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من الناس خجلًا واستحياءً، ولا يود أن يراه أحد من مساءته بما بشِّر بها، ويدور بخلده أحد أمرين: إما أن يمسكها ويبقيها بقاء ذلة وهوان، فلا يورثها ولا يعني بها، بل يفضل الذكور عليها، وإما أن يدسها في التراب، ويدفنها وهي حية، وذلك هو الوأد المذكور، في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)}. ومعنى قوله: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}؛ أي: بئس (¬3) ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، فإنهم بالغوا في استنكاف من البنت من وجوه: 1 - اسوداد الوجه. 2 - الاختفاء من القوم من شدة نفرتهم منها. 3 - أنهم يقدمون على قتلها ووأدها خشية العار، أو خوف الجوع والفقر. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[60]

قرأ الجحدري (¬1): {أيمسكها على هوان أم يدسها} بالتأنيث عودًا على قوله: بالأنثى، أو على معنى ما بُشِّر به، ووافقه عيسى على قراءة، هوان على وزن فعال، وقرأت فرقة: {أيمسكه} بضمير التذكير {أم يَدُسُّها} بضمير التأنيث، وقرأت فرقة: {على هون} بفتح الهاء، وقرأ الأعمش: {على سوء}، وهي عندي تفسير لا قراءة، لمخالفتها السواد المجمع عليه. 60 - ثم جعل تذييلا لما تقدم قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: للذين لا يصدقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين الذين ذكرت قبائحهم {مَثَلُ السَّوْءِ}؛ أي: الصفة القبيحة من حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم، وتفضيلهم للذكور للاستظهار بهم، ووأدهم للبنات خشية العار أو الفقر، وذلك يومئ إلى العجز والقصور والشح البالغ أقصى غاية. {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى {الْمَثَلُ الْأَعْلَى}؛ أي: الصفة العليا العجيبة الشأن، وهي صفة الألوهية المنزهة عن صفات المخلوقين، وهي أنه الواحد المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلَّا هو، وله صفات الكمال والجلال من القدرة والعلم والإرادة ونحو ذلك، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: المنيع الذي لا يغالب، فلا يضره نسبتهم إليه ما لا يليق به، {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة. 61 - ثم لمَّا حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم .. بين سعة كرمه وحلمه، حيث لم يعاجلهم بالعقوية، ولم يؤاخذهم بظلمهم فقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ} فاعل هنا بمعنى فعل؛ أي: ولو أخذ الله سبحانه وتعالى {النَّاسَ}؛ أي: الكفار أو جميع العصاة {بِظُلْمِهِمْ}؛ أي: بسبب كفرهم ومعاصيهم .. {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا}؛ أي: على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله: {مِنْ دَابَّةٍ}؛ لأنها ما يدب على الأرض، وتقول العرب (¬2): فلان أفضل من عليها، وفلان أكرم من تحتها، فيردون الكناية إلى الأرض والسماء من غير سبق ذكر، لظهور الأمر بين يدي كل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[62]

متكلم وسامع، ولم يقل على ظهرها احترازًا من الجمع بين الظاءين في كلام واحد، وهو {لَوْ} وجوابه، فإنه ثقيل في كلام العرب. والمعنى: أي ولو يؤاخذ الله كفار بني آدم وعصاتهم بكفرهم ومعاصيهم .. ما ترك على ظهر الأرض دابةً تدب عليها، بل أهلكها بالكلية، بشؤم ظلم الظالمين، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فهلاك الدواب بآجالها، وهلاك الناس عقوبة. وأخرج البيهقي وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلًا يقول: إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: لا والله، بل إن الحبارى في وكرها لتموت من ظلم الظالم. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم .. لأصاب العذاب جميع الخلائق، حتى الجُعْلان في جحرها، ولأمسكت السماء عن الإمطار، ولكن أخرهم بالعفو والفضل، ثم تلا هذه الآية. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ}؛ أي: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة الكفرة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، بل يمهلهم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى أجل معين معلوم، سماه الله وعينه لعذابهم أو لأعمارهم؛ كي يكثر عذابهم، أو يتوالدوا ويتناسلوا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} المسمى {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجل؛ أي: لا يستأخرون، وصيغة استفعل هنا للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له، {سَاعَةً}؛ أي: أقصر وقت، وهو مثل في القلة، {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} عليه ساعة؛ أي: لا يتقدمون عليه، وإنما (¬1) تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجيء الأجل مبالغة في عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع. والمعنى: فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم .. لا يتأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون، ولا يتقدمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم، 62 - {وَيَجْعَلُونَ لِلَّه} سبحانه ¬

_ (¬1) روح البيان.

وتعالى، أي: يجعل هؤلاء المشركون لله تعالى وينسبون إليه سبحانه {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة، {و} مع ذلك {تصف}؛ أي: تقول {أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} مفعول تصف، وهو أي ذلك الكذب: {أَنَّ لَهُمُ} عند الله تعالى {الْحُسْنَى}؛ أي: العاقبة الحسنى، وهي الجنة على تقدير وجودها إن كان البعث حقًّا، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، فلا ينافي قولهم: لا يبعث الله من يموت، فإنه يكفي في صحته الفرض والتقدير، وجملة أنَّ مع معموليها بدل كل من {الْكَذِبَ}. والمعنى: ويكذبون (¬1) فيما يدعون، إذ يزعمون أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، وهي الجنة على تقدير وجودها، فقد روي أنهم قالوا إن كان محمدٌ صادقًا في البعث .. فلنا الجنة بما نحن عليه، فرد الله عليهم مقالهم بقوله: {لَا جَرَمَ}؛ أي: حق وثبت {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}؛ أي: كون عذاب النار لهم بدل ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى، {و} لا جرم {أنهم مفرطون}؛ أي: مقدمون إلى النار معجلون إليها، أو متروكون منسيون فيها. وقرأ (¬2) الحسن ومجاهد: {باختلاف ألسنتْهم} بإسكان التاء، وهي لغة تميم، جمع لسانًا المذكر، نحو حمار وأحمرة، وفي التأنيث ألسن كذراع وأذرع، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: {الكذب} بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارفٍ وشرفٍ، ولا ينقاس وعلى هذه القراءة {أنَّ لهم} مفعول تصف، وقر الحسن وعيسى بن عمر: {إنَّ لهم} بكسر الهمزة، وإنَّ جواب قسم أغنت عنه لا جرم، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو رجاء وشيبة ونافع وأكثر أهل المدينة: {مُفْرِطُونَ} بكسر الراء، من أفرط حقيقةً؛ أي: متجاوزين الحد في معاصي الله، وباقي السبعة والحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس ونافع في رواية: بفتح الراء، من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة، من فرط إلى كذا تقدم إليه، وقرأ أبو جعفر: {مفرَّطون} مشدد من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[63]

فرط؛ أي: مقصرون مضيعون، وعنه أيضًا فتح الراء وشدها؛ أي: مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم. 63 - ثم بين (¬1) سبحانه أنَّ هذا الصنيع الذي صدر من قريش قد حدث مثله من الأمم السالفة في حق أنبيائهم، فقال مسلِّيًا رسوله على ما كان يناله من الغم بسبب جهالاتهم: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: والله لقد أرسلنا رسلًا من قبلك إلى أممهم بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك من الدعاء إلى توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، وخلع الأنداد والأوثان {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: فحسن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، من الكفر بالله والتكذيب بالرسل وعبادة الأوثان، فكذبوا رسلهم، وردوا عليهم ما جاءوا به من عند ربهم، وما كان ناصرهم فيما اختاروا إلا الشيطان، {فَهُوَ}؛ أي: الشيطان {وَلِيُّهُمُ}؛ أي: ناصرهم وقرينهم ومتولي أمورهم {الْيَوْمَ}؛ أي: في الدنيا بإغوائهم وإضلالهم، وبئس الناصر والقرين، {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}، هو عذاب النار حين ورودهم إلى ربهم، إذ لا تنفعهم إذ ذاك ولاية الشيطان، كما لا تنفعهم في الدنيا، وعبارة "الشوكاني" هنا: ويحتمل (¬2) أن يكون اليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الولي بمعنى الناصر، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلًا في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصرًا فيه .. لزم أن لا نصرة من غيره، ويحتمل يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأول: أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. والثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية، والمراد تزيين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[64]

الشيطان لكفار قريش، فيكون الضمير في {وليهم} لكفار قريش؛ أي فهو ولي هؤلاء اليوم، أو على حذف. (*) الإعراب {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {هَاجَرُوا}: فعل وفاعل، وجملة {هَاجَرُوا} صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {فِي اللَّهِ}: جار ومجرور متعلقان بالفعل {هَاجَرُوا} وحرف الجر {فِي} للتعليل؛ أي: لإقامة دين الله {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلقان بحال {مَا} مصدرية. {ظُلِمُوا}: فعل وفاعل و {مَا} المصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف إلى بعد؛ أي: من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} اللام: موطئة للقسم {نبوئنهم}: فعل ومفعول به، وجملة {نبوئنهم} خبر اسم الموصول {وَالَّذِينَ}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور متعلقان بحال {حَسَنَةً}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ثبوته حسنة، فهي نائب مفعول مطلق، ولك أن تقربها مفعولًا ثانيًا لـ {نبوئنهم} لتضمن معناه نعطينهم، فتكون صفة لمحذوف، أي: دارًا حسنة {وَلَأَجْرُ}: {الواو} حالية، و {اللام} للابتداء {أجر}: مبتدأ {الْآخِرَةِ}: مضاف إليه {أَكْبَرُ}: خبر {لَوْ} شرطية {كَانُوا} ماض ناقص، والواو اسمها وجملة {يَعْلَمُونَ} خبره، وجملة {كان} فعل شرط لـ {لَوْ}، وجواب {لَوْ} محذوف، تقديره: لوافقوهم في الدين، وجملة {لَوْ} مستأنفة. {الَّذِينَ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين، والجملة مستأنفة، وجملة {صَبَرُوا} صلة الموصول، {وَعَلَى رَبِّهِمْ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَتَوَكَّلُونَ} معطوف على {صَبَرُوا}. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: تفسير آية رقم 64 غير موجود بالمطبوع

{وَمَا أَرْسَلْنَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {رِجَالًا}: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، {نُوحِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللهِ}. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، وجملة {نُوحِي} صفة لـ {رِجَالًا}. {فَاسْأَلُوا} {الفاء}: واقعة في جواب شرط مقدر، تقديره: إن شككتم فيما ذكر .. فاسألوا أهل الذكر، {اسألوا أهل الذكر}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجزم بالشرط، وجملة الشرط المقدر مستأنفة. {إِن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} خبره، وجملة {كان} في محل الجزم بـ {أن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف تقديره: إن كنتم لا تعلمون ذلك فإنهم يعلمونه، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}. {بِالْبَيِّنَاتِ}: جار ومجرور صفة لـ {رِجَالًا} {وَالزُّبُرِ}: معطوف على البينات؛ أي: رجالًا متلبسين بالبينات الزبر، وهذا أحسن الأعاريب فيه، السالم من الاعتراض كما ذكره الزمخشري، {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: متعلق به، {الذِّكْرَ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا} {لِتُبَيِّنَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تبين}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {لِلنَّاسِ}: متعلق به، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، وجملة {تبين} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتَبِيينِكَ للناس، الجار والمجرور متعلق بـ {أنزلنا} {نُزِّلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}، {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {نُزِّلَ}، وجملة {نُزِّلَ} صلةٌ لـ {مَا} أو صفة لها، {وَلَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ} خبره، وجملة {لعل} في محل جر بلام التعليل المقدرة، تقديره: ولإرادة تفكرهم فيه؛ لأن

لعلَّ مستعارة هنا لمعنى الإرادة، والجار المقدر معطوف على الجار والمجرور في قوله: {لِتُبَيِّنَ} والتقدير: وأنزلنا إليك الذكر لتبيينك لهم ولإرادة تفكرهم فيه. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}. {أَفَأَمِنَ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا في الذكر فَأَمِنَ الذين مكروا السيئات إلخ، {أمن الذين}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، {مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ}: ناصب وفعل وفاعل {بِهِمُ}: متعلق به، {الْأَرْضَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا به لأمن؛ أي: أفامنوا خسف الله تعالى بهم الأرض، {أَوْ}: حرف عطف وتنويع {يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على {يَخْسِفَ} والتقدير: أو إتيان العذاب إياهم. {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَأْتِيَهُمُ} {حَيْثُ} مضاف وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} في محل الجر مضاف إليه لحيث. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَخسِفَ}، وفاعله ضمير يعود على {الْعَذَابُ}، {فِي تَقَلُّبِهِمْ}: جار ومجرور، حال من ضمير المفعول؛ أي: أو يأخذهم حال كونهم متقلبين في أسفارهم {فَمَا}: {الفاء}: واقعة في جواب شرط مقدر، تقديره: فإذا أخذهم بالعقوبة بأي سبب {ما}: حجازية، {هُم}: اسمها، {بِمُعْجِزِينَ}: خبرها، والجملة الاسمية جواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَخسِفَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} {عَلَى تَخَوُّفٍ}: جار ومجرور، حال من ضمير المفعول، تقديره: حالة كونهم خائفين، {فَإِنَّ رَبَّكُمْ} {الفاء}: تعليلية لمحذوف تقديره:

إنما لم يعاجلكم الله بهذه العقوبات لأن ربكم إلخ، {إن ربكم لرؤوف}: ناصب واسمه وخبره و {اللام} حرف ابتداء، {رَحِيمٌ}: صفة {رؤوف}، أو خبر ثان لـ {إنَّ} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ذلك المحذوف. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، والجملة المحذوفة مستأنفة {لم يروا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، {إِلَى مَا}: جار ومجرور متعلق به، ضمنه معنى نظر فعداه بـ {إِلَى} {خَلَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلى ما خلقه الله، {مِنْ شَيْءٍ}: جار ومجرور، حال من {مَا} أو من الضمير المحذوف، {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}: فعل وفاعل، والجملة صفة لـ {شَيْءٍ}، {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}: متعلق بـ {يَتَفَيَّأُ} {سُجَّدًا}: حال من الظلال، {لِلَّهِ}: متعلق بـ {سُجَّدًا} {وَهُمْ دَاخِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستتر في {سُجَّدًا}، فهي حال متداخلة. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}. {وَلِلَّهِ} الواو: استئنافية، {لله}: جار ومجرور متعلق بـ {يَسْجُدُ} {يَسْجُدُ مَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور، صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، {مِنْ دَابَّةٍ}: حال من {وَمَا فِي الْأَرْضِ} {وَالْمَلَائِكَةُ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} عطف خاص على عام، {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الْمَلَائِكَةُ}. {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من ضمير {يَسْتَكْبِرُونَ} {مِنْ

فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور، حال من {رَبَّهُمْ}، {وَيَفْعَلُونَ مَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَخَافُونَ}، {يُؤْمَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يؤمرون به. {* وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}. {وَقَالَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ}: إلى آخر الآيات مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، واتخذ هنا يتعدى إلى مفعول واحد، لأنه بمعنى لا تعبدوا، {اثْنَيْنِ}: صفة مؤكدة لـ {إِلَهَيْنِ}، والجملة في محل النصب مقول {قال}، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {هُوَ إِلَهٌ}: مبتدأ وخبر، {وَاحِدٌ}: صفة {إِلَهٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قال} {فَإِيَّايَ} {الفاء}: واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم راهبين شيئًا فإياي فارهبون، {إياي}: ضمير نصب منفصل في محل النصب بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: فإياي ارهبوا، والجملة المحذوفة جواب الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول {قال} {فَارْهَبُونِ}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {النون}: نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، {وَلَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {لَا تَتَّخِذُوا} على كونها مقول {قال}، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَا} الموصولة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، و {وَلَهُ الدِّينُ}: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قال}، {وَاصِبًا}: حال من {الدِّينُ} {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} {الهمزة}: فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف،

والتقدير: أبعد العلم بما ذكر من التوحيد غير الله تطيعون فتتقون، {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، وتلك المحذوفة في محل النصب مقول {قال}. {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}. {وَمَا} {الواو} عاطفة، {ما} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {بِكُم}: جار ومجرور صلة {ما} الموصولة؛ أي: وما وصل بكم، {مِنْ نِعْمَةٍ}: جار ومجرور حال من {ما} أو من الضمير المُسْتَكِنِ في الظرف، {فَمِنَ اللَّهِ} {الفاء}: زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بأسماء الشروط في العموم {من الله}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلها، على كونها مقول {قال} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {مَسَّكُمُ الضُّرُّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إذا}، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {فَإِلَيْهِ} {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} جوازًا، {إليه}: متعلق بما بعده، وجملة {تَجْأَرُونَ} جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول {قال}. {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {كَشَفَ الضُّرَّ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به {عَنْكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ولكن ما بعد {إِذَا} الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وفي "السمين": وفي الآية دليل على أن إذا الشرطية لا تكون معمولة لجوابها، لأن ما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها اهـ. {إذَا}: حرف فجأة رابطة الجواب بالشرط وجوبًا، {فَرِيقٌ}: مبتدأ، {مِنْكُمْ}: صفته، {بِرَبِّهِمْ}: متعلق بما بعده، وجملة {يُشْرِكُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها مقول

{قال}. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}. {لِيَكفُرُوا} {اللام}: لام كي، {يكفروا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكفرانهم بما أعطيناهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يُشْرِكُونَ} {آتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {فَتَمَتَّعُوا} {الفاء}: رابطة لجواب إذا المقدرة، تقديره: إذا عرفت يا محمَّد حالهم هذا وأردت بيان ما تقول لهم .. فأقول لك قل لهم تمتعوا إلخ {تمتعوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {فَسَوْفَ} {الفاء}: عاطفة، {سوف}: حرف استقبال وتنفيس، {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف تقديره: عاقبة ما تصيرون إليه، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {تمتعوا}. {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}. {وَيَجْعَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وفي "أبي السعود": لعلها معطوفة على ما سبق بحسب المعنى: يفعلون ما يفعلون من اللجوء إلى الله تعالى عند مس الضر، ومن الإشراك به عندك كشفه ويجعلون إلخ اهـ، {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يجعلون}، {لَا يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: للأصنام التي لا تعلم عبادتهم إياها، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها، {نَصِيبًا}: مفعول {يجعلون}، {مِمَّا}: جار ومجرور، صفة لـ {نَصِيبًا}، {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقناهم إياه، {تَاللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالله، وجملة القسم المحذوف مستأنفة، {لَتُسْأَلُنَّ} {اللام}: موطئة للقسم، {تسألن}: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع

وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، أصله: لتسألونن، و {واو} الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {عَمَّا}: جار ومجرور، متعلق بـ {تسألن} على كونه مفعولًا ثانيًا لسأل، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَفتَرُونَ} خبره، وجملة كان صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عما كنتم تفترونه، {وَيَجْعَلُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يجعلون} الأول، {لِلَّهِ}: متعلق به، {الْبَنَاتِ} مفعول {يجعلون}، {سُبْحَانَهُ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: أسبِّحُ الله سبحانًا، وجملة التسبيح جملة معترضة، {وَلَهُم}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَّا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، وجملة {يَشْتَهُونَ} صلة لـ {مَّا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشتهونه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {يجعلون}. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {بُشِّرَ أَحَدُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة فعل شرط لـ {إذا}، {بِالْأُنْثَى} متعلق بـ {بُشِّرَ}، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} فعل ناقص واسمه وخبره، {وَهُوَ كَظِيمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير {وَجْهُهُ}، وجملة {ظَلَّ} جواب {إذا} وجملة {إذا} مستأنفة. {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}. {يَتَوَارَى}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {أَحَدُهُمْ}، والجملة مستأنفة، أو في حل النصب حال من ضمير {وَجْهُهُ}، {مِنَ الْقَوْمِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَوَارَى}، وكذا يتعلق به قوله: {مِنْ سُوءِ} فلا يعترض بامتناع تعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد لاختلاف معناهما، فإن الأولى

للابتداء، والثانية للعلة؛ أي: من أجل سوء ما بشر به اهـ "سمين"، {سُوءِ}: مضاف، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه، {بُشِّرَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {أَحَدُهُمْ}. {بِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {أَيُمْسِكُهُ} {الهمزة}: حرف استفهام يطلب بها وبأم تعيين أحد الأمرين، {يمسكه}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {أَحَدُهُمْ} {عَلَى هُونٍ}: جار ومجرور، إما حال من فاعل {يمسكه}؛ أي: حالة كون الأحد متلبسًا بهون نفسه وذلها، أو حال من الفعول؛ أي: حالة كون الأنثى متلبسة بهون وذل، وجملة {يمسكه} في محل النصب معمول لمحذوف حال من فاعل {يَتَوَارَى}، والتقدير: يتوارى ذلك الأحد من الناس حالة كونه مفكرًا، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، {أَمْ}: عاطفة متصلة، {يَدُسُّهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {أحد}. {فِي التُّرَابِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أيُمْسِكُهُ}. {أَلَا}: حرف تنبيه، {سَاءَ}. فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على شيء تقديره: ساء الشيء، {مَا}: نكرة موصوفة في محل النصب تمييز لفاعل {ساء}، وجملة {يحكمونَ} صفة لـ {مَا}، والرابط محذوف تقديره: ساء الشيء شيئًا يحكمونه، وجملة {سَاءَ} في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا تقديره: حكمهم هذا، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صلة الموصول، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}. {مَثَلُ السَّوْءِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَلِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {الْمَثَلُ}: مبتدأ مؤخر، {الْأَعْلَى}: صفة لـ {الْمَثَلُ}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {الْحَكِيمُ}: صفة أو خبر ثان. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية {لو}: حرف شرط، {يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} فعل وفاعل ومفعول، {بِظُلْمِهِمْ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، {مَّا}:

نافية، {تَرَكَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {عَلَيْهَا}: متعلق به، {مِنْ دَابَّةٍ}: مفعول به لـ {تَرَكَ} و {مِنْ} زائدة، والجملة الفعلية جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} مستأنفة، {وَلَكِنْ} حرف استدراك، {يُؤَخِّرُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {إِلَى أَجَلٍ}: متعلق به، {مُسَمًّى}: صفة {أَجَلٍ}، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة {لو} الشرطية. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى وأردت بيان حالهم وقت مجيء الأجل .. فأقول لك إذا جاء أجلهم، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {جَاءَ أَجَلُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {لَا يَسْتَأْخِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {سَاعَةً} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَسْتَأْخِرُونَ}، وجملة {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} معطوفة على جملة {لَا يَسْتَأْخِرُونَ}. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}. {وَيَجْعَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لِلَّهِ}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جعل} {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {جعل}، وجملة {يَكْرَهُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يكرهونه، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ}: فعل وفاعل، {الْكَذِبَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يجعلون}، {أَنَّ}: حرف نصب، {لَهُمُ}: خبرها مقدم، {الْحُسْنَى}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلًا من المفعول أعني {الْكَذِبَ}؛ أي: وتصف ألسنتهم الكذب كون الحسنى لهم، أو مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: وهو كون الحسنى لهم، {لَا جَرَمَ}: مركب مزجي بمعنى حق كما في

"الفتوحات"، {أَنَّ}: حرف نصب، {لَهُمُ}: خبرها مقدم، {النَّارَ}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لـ {جَرَمَ}، والتقدير: حق كون النار لهم، والجملة الفعلية مستأنفة، {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}، {تَاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، وجملة القسم مستأنفة، {لَقَدْ} {اللام}: موطئة لقسم، {قد}: حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، {إِلَى أُمَمٍ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {مِنْ قَبْلِكَ}: جار ومجرور صفة لـ {أُمَمٍ}، {فَزَيَّنَ} {الفاء}: عاطفة {زين}: فعل ماض، {لَهُمُ}: متعلق به، {الشَّيْطَانُ}: فاعل، {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة مفرَّعة على جملة {زيّن}، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {وَلَهُمْ}، {وَلَهُمْ عَذَابٌ}: خبر ومبتدأ، {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتَابَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم العلل، {لِتُبَيِّنَ} {اللام} لام كي، {تبين}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {لَهُمُ}: متعلق به، {الَّذِي}: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: وما أنزلنا عليك الكتاب لعلة من العلل إلا لتبيينك لهم الذي اختلفوا فيه، {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {فِيهِ}: متعلق به، {وَهُدًى وَرَحْمَةً}: معطوفان على محل {لِتُبَيِنَ}، {لِقَوْمٍ}: تنازع فيه {هدى ورحمة}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قومٍ}.

التصريف ومفردات اللغة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}؛ أي: لننزلنهم (¬1) في الدنيا مباءة حسنة، وهي المدينة المنورة، يقال بوأه منزلًا أنزله فيه، والمباءة المنزل، فهي منصوبة على الظرفية، أو على أنها مفعول ثان إن كان لنبوأنهم في معنى لنعطينهم، {أَهْلَ الذِّكْرِ}؛ أي: علماء أهل الكتاب {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} البينات جمع بينة، وهي المعجزات الدالة على صدق الرسول، والزبر جمع زبور بمعنى مزبور؛ أي: مكتوب، كرسل جمع رسول، وهي كتب الشرائع والتكاليف التي يبلغها الرسل إلى العباد، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ}؛ أي: القرآن سمي به لأنه تذكير وتنبيه للغافلين، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ أي: لتوضح لهم ما خفي عليهم من أسرار التشريع بيانًا شافيًا، وصيغة التفعيل في الفعلين يدل على تكرار البيان والنزول كما هو كذلك، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} والمكر السعي بالفساد خفية، والسيئات جمع سيئة، وهي الأعمال التي تسوؤهم عاقبتها، {يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ}؛ أي: يغورها ويزيلها من الوجود وهم على سطحها، يقال: خسف (¬2) المكان يخسف خسوفًا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفًا؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}، وخسف هو في الأرض وخسف به، {تَقَلُّبِهِمْ}؛ أي: في أسفارهم وسيرهم في البلاد البعيدة، للسعي في أرزاقهم، كما قال: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)} وفي "القاموس": تقلب في الأمور تصرف كيف شاء انتهى، {بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار، {عَلَى تَخَوُّفٍ} والتخوف التنقص، من قولهم: تخوفت الشيء إذا تنقصته، والمراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلًا حتى يأتي عليها الفناء جميعًا، قال في "القاموس" تخوف الشيء تنقصه، ومنه {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

تَخَوُّفٍ} انتهى، وقال لبيد: تَخَوَفَّهَا نُزوْليْ وَارْتِحَالِيْ أي: تَنَقَّص لحمَها وشحمَها. ولقي رجل أعرابيًّا فقال: يا فلان ما فعل دَينك؟ فقال: تخوفته، يعني تنقصته. {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}؛ أي: ينتقل من جانب إلى آخر، وفي "السمين": والتفيُّؤ (¬1) تفعل من فاء يفيء إذا رجع، وفاء قاصر فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة، كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيَّأ، فهو لازمٌ، واختلف في الفيء، فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية هنا، وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظلٌ فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيء، فالظل أعم، وقيل بل يختص الظل بما كان قبل الزوال، والفيء بما بعده، فالفيء لا يكون إلا بالعشي، وهو ما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة، وهو ما لم تنله اهـ. {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} واليمين والشمائل جانبا الشيء الكثيف من الجبال والأشجار وغيرها، والشمائل جمع شمال بالكسر ضد اليمين، وبالفتح الريح التي مهبها بين مطلع الشمس وبنات نعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، كما في "القاموس". {سُجَّدًا لِلَّهِ} جمع ساجد كشاهد وشهد وراكع وركع، وفي المختار": سجد إذا خضع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، وبابه دخل اهـ، والمراد بالسجود هنا الانقياد والخضوع، من قولهم: سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ومنه قوله: وَاسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوْءِ في زَمَانِهِ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَهُمْ دَاخِرُونَ}؛ أي: صاغرون منقادون، واحدهم داخرٌ، وهو الذي يفعل ما تأمره به شاء أو أبي، يقال دخر كمنع وفرح دخورًا ودخرًا إذا صغر وذل وأدخره كما في "القاموس". {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}؛ أي: عقابه {مِنْ فَوْقِهِمْ}؛ أي: بالقهر والغلبة، كما قال: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}؛ أي: ثابتًا واجبًا دائمًا لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص وقال الفراء: {وَاصِبًا} معناه دائمًا، ومنه قول الدُّؤلي: لاَ أَبْتَغِيْ الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ ... بِذَمٍّ يَكُوْنُ الدَّهْرَ أجْمَعَ وَاصِبَا يقال: وصب الشيء يصب وصوبًا فهو واصب إذا دام، ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب والإعياء، وفي "المصباح": وصب الشيء بالفتح وصوبًا دام، ووصب الدين وجب، وفي "القاموس": ووصب بالفتح يصب بالكسر وصوبًا دام وثبت كأوصب، وعلى الأمر. {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} والضر المرض والبلاء والحاجة والقحط، وكل ما يتضرر به الإنسان، {تَجْأَرُونَ} من جأر يجأر جؤارًا، وأصل الجؤار صياح الوحش، ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، وفي "الفتوحات": الجؤار بوزن زكام رفع الصوت بالدعاء في كشف المضار، وفي "القاموس": جأر - كمنع - جأرًا وجؤارًا بوزن غراب، رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات جؤارًا طال، والأرض طال نبتها اهـ. {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}؛ أي: صار من الظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها، أو هو بمعناه يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارًا؛ أي: دام النهار كله مسودًّا؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، ويتأخر إخبار المولود إلى النهار، وخصوصًا بالأنثى، فيظل نهاره مسودًّا، واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير. {وَهُوَ كَظِيمٌ} في "المصباح": كظمت الغيظ كظمًا - من باب ضرب - وكظومًا، إذا أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ، وفي التنزيل:

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} وربما قيل: كظمت على الغيظ، وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم، وكظم البعير كظومًا لم يجتر، وقال الأخفش: الكظيم هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغم، مأخوذ من الكظامة، وهو سد فم البئر، قاله علي بن عيسى. {يَتَوَارَى}؛ أي: يختفي ويتغيب، وقد كان من عادتهم في الجاهلية أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر .. ابتهج، وإن أخبر بأنثى .. حزن وبقي متواريًا أيامًا يدبر فيها ما يصنع، {هُونٍ}؛ أي: يحفظه ويحبسه، كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، {هُونٍ} الهون الهوان والذل بلغة قريش، وحكي عن الكسائي: أنه البلاء والشدة، قالت الخنساء: نُهِيْنُ النُّفُوْسَ وَهَوْنُ النُّفُوْسِ ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا {أَمْ يَدُسُّهُ} يقال: دس الشيء في الشيء إذا أخفاه، {مَثَلُ السَّوءِ}؛ أي: الصفة السوىء، وهي احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للبنات، خوف الفقر والعار، والمثل بمعنى الصفة، والسوء بمعنى السؤى، بوزن موسى، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}؛ أي: الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ} فاعل هنا بمعنى فعل الثلاثي؛ أي: أخذ، {لَا يَسْتَأْخِرُونَ}؛ أي: لا يتأخرون، وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له، {سَاعَةً}؛ أي: أقصر وقت، وهي مثل في قلة المدة كما مر، {لَا جَرَمَ}: تركيب مزجي من {لا} و {جَرَم}، ومعناه الفعل؛ أي: حق وثبت، {وَأَنَهُم مُفْرَطُونَ}؛ أي: مقدمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطته إذا قدمته في طلب الماء، أو متروكون في النار، من أفرطت فلانًا خلفي إذا خلفته ونسيته خلفك، والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء، والفُرَّاط المتقدمون في طلب الماء، والوُرَّاد المتأخرون، ومنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنا فرطكم على الحوض"؛ أي: متقدَّمكم، قال القطاميُّ: فَاسْتَعْجَلُوْنَا وَكَانُوْا مِنْ صحَابَتِنَا ... كَمَا تَعجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ

وفي "المختار": وفرط القوم سبقهم إلى الماء، فهو فارط، والجمع فراط بوزن كُتَّان، وبابه نصر، وأفرطه إذا تركه، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}؛ أي: متروكون في النار منسيون، وأفرط في الأمر؛ أي: جاوز فيه الحدَّ. اهـ، وفي "القاموس": وأفرط فلانًا تركه وتقدمه، وجاوز الحد، وأعجل بالأمر، {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}؛ أي: منسيون متروكون في النار، أو مقدّمون معجلون إليها، وقرىء بكسر الراء؛ أي: مجاوزون لما حد لهم اهـ، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ}؛ أي: ناصرهم ومساعدهم {الْيَوْمَ}؛ وفي "الفتوحات": لفظ اليوم المعرف بأل إنما يستعمل حقيقة في الزمان الحاضر المقارن للتكلم، كالآن وحينئذٍ، فلفظ اليوم في الآية يحتمل أنه إشارةٌ إلى وقت تزيين الشيطان الأعمال للأمم الماضية، فيحتاج لتأويل، بأن يقال: إنه على حكاية الحال الماضية، حيث عبر عن الزمان الماضي بلفظ اليوم الموضوع للزمن الحاضر، ويحتمل أنه إشارةٌ إلى يوم القيامة، فيحتاج إلى التأويل أيضًا، بأن يقال: إنه على حكاية الحال الآتية حيث عبر عن الزمان الذي سيحصل بما هو موضوع للحاضر المقارن، ويحتمل أن يشار إلى مدة الدنيا من حيث هي، وعلى هذا لا حاجة إلى تأويل أصلًا؛ لأنّ مدة الدنيا كالوقت الحاضر، بالنسبة للآخرة، فتلخص أن الاحتمالات ثلاثة، وأنه يحتاج إلى التأويل على الأول والثاني دون الثالث، وفي "أبي السعود": {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ}؛ أي: قرينهم اليوم؛ أي: يوم زين لهم الشيطان أعمالهم فيه، على طريقة حكاية الحال الماضية، أو في الدنيا، أو يوم القيامة على طريقة حكاية الحال الآتية، وهي حال كونهم معذّبين في النار اهـ. ومثله في "البيضاوي". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير عن الماضي بصيغة المضارع في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لاستحضار صورة توكلهم البديعة، وفيه ترغيب لغيرهم في طاعة الله عز وجل.

ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} لأن فعولًا وفعيلًا من صيغ المبالغة. ومنها: الطباق في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}. ومنها: قصر القلب أو الإفراد في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ}؛ أي: له تعالى وحده لا لغيره استقلالًا واشتراكًا. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} و {وَالْمَلَائِكَةُ} زيادة في التعظيم والتبجيل للملائكة الأطهار. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله {وَقَالَ اللَّهُ} إلى التكلم في قوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} لتربية المهابة والرهبة في القلوب مع إفادة القصر؛ أي: لا تخافوا غيري؛ لأنه أبلغ في الرغبة من قوله: فإيّاه فارهبوه، فإن الترهيب في التكلم المنتقل إليه أزيد، ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ...} إلخ كما في "الكرخي". ومنها: إيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء في غيرهم في قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} لأن الدخور من خصائصهم تنزيلًا له منزلتهم. ومنها: الطباق في قوله: {يَسْتَقْدِمُونَ} و {يَسْتَأْخِرُونَ}. ومنها: الاعتراض في قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)} فلفظة سبحانه معترضة لتعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح. ومنها: التهديد والوعيد في قوله: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. ومنها: الكناية في قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} لأنه كناية عن كونها كاذبة، قال الشهاب: وهذا من بليغ الكلام وبديعه؛ أي: ألسنتهم كاذبة كقولهم: عينها تصف السحر؛ أي: ساحرة، وقدها يصف الهيف؛ أي: هيفاء. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. ومنها: التأكيد في قوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} فإن لفظ اثنين تأكيد لما فهم من

إلهين من التثنية. ومنها: الحصر في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لأن لعل هنا مستعارٌ لمعنى الإرادة. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}، وفي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. ومنها: الطباق بين النعمة والضر في قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}. ومنها: التأكيد بالقسم في قوله: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}. ومنها: الكناية في قوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} لأن اسوداد الوجه كناية عن شدة الاغتمام. ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: {مَثَلُ السَّوْءِ}، لأن معناه الصفة السؤى. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} إن أريد باليوم زمن تزيين الأعمال للأمم الماضية، حيث عبر عن الزمن الماضي بلفظ اليوم الموضوع للزمن الحاضر، ويمكن كونه من حكاية الحال الآتية كما مَرَّ في مبحث التصريف. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وعد (¬1) المؤمنين بجنات تجري من تحتها ¬

_ (¬1) المراغي.

الأنهار، وأوعد الكافرين بنار تلظى جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الإشراك بربهم، ونسبة البنات إليه، وافترائهم عليه ما لم ينزّل به سلطانًا .. عاد إلى ذكر دلائل التوحيد من قبل أنه قطب الرحى في الدين الإِسلامي، وفي كل دين سماوي؛ ويليه إثبات النبوّات والبعث والجزاء، فبين أنه أنزل المطر من السماء لتحيا به الأرض بعد موتها، وثنى بإخراج اللبن عن الأنعام، وثلث باتخاذ الخمر لخلٍّ، والدبس من الأعناب والنخيل، وربع بإخراج العسل من النحل وفيه شفاء للناس، وقد بين ذلك كيف ألهم النحل بناء البيوت والبحث عن أرزاقها من كل فجٍّ. وقال ابن عطية: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أمره بتبيين (¬1) ما اختلف فيه .. قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون، والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسببٌ لبقائها، ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتًا بالجهل، وكذلك ختم بقوله: {يَسْمَعُونَ} هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بقوم يبصرون وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد. ولمَّا ذكر إحياء الأرض بعد موتها .. ذكر ما ينشأ عن المطر، وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشىء عن المطر، ونبَّه على العبرة العظيمة، وهو خروج البن من بين فرث ودم. ¬

_ (¬1) ابن عطية. (¬2) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬1) عجائب أحوال الحيوان وما فيها من نعمةٍ للإنسان، كالأنعام التي يتخذ من ضرعها اللبن، والنحل التي يشتار منها العسل، ويؤخذ منها الشمع للإضاءة .. أردف ذلك بيان أحوال الناس، فذكر مراتب أعمارهم، وأن منهم من يموت وهو صغير، ومنهم من يعمر حتى يصل إلى أرذل العمر، ويصير نسَّاء لا يحفظ شيئًا، وفي ذلك دليل على كمال قدرته تعالى ووحدانيته، ثم ثنى بذكر أعمال أخرى لهم، وهي تفضيل بعضهم على بعض في الرزق، فقد يرى أكيس الناس وأكثرهم عقلًا وفهمًا يفني عمره في طلب القليل من الدنيا وقيل أن يتيسر له، بينا يرى أقل الناس علمًا وفهمًا تتفتح له أبواب السماء، ويأتيه الرزق من كل صوب، وذلك دليل على أن الأرزاق قد قسمها الخلاق العليم، كما قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ومِن الدَّليلِ على القَضَاءِ وكَوْنِه ... بُؤْسُ اللَّبِيب وطِيْبُ عَيْشِ الأحْمِق ثم ثلث بذكر نعمةٍ ثالثةٍ عليهم إذ جعل لهم أزواجًا من جنسهم، وجعل لم من هذه الأزواج بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات، كالثمار والحبوب والأشربة، أو من الحيوان على اختلاف أنواعها، وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل .. ذكر ما نبَّهنا به على قدرته التّامة وعلمه الواسع ولذلك ختم بقوله: {عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا (¬2) بين دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف. أردف ذلك الرد على عابدي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الأوثان والأصنام، فضرب لذلك مثلين يؤكد بهما إبطال عبادتها: أوَّلهما: العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والحر الكريم الغني الكثير الإنفاق سرًّا وجهرًا، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان في نظر العقل سواء مع تساويهما في الخلق والصورة البشرية، وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغي أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر. والثاني: مثل رجلين أحدهما: أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبءٌ ثقيلٌ على سيده، وثانيهما: حول قلب ناطق كامل القدرة، أيستويان لدى أرباب الفكر أو استوائهما في البشرية، وإذًا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين في الألوهية والعبادة. وقال أبو حيان: مناسبة ضرب هذا المثل (¬1): أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله تعالى غيره، وهو لا يجلب نفعًا ولا ضرًّا لنفسه ولا لعابده .. ضرب لهم مثلًا قصة عبدٍ في ملك غيره عاجز عن التصرف، وحر غني متصرف فيما آتاه الله، فإذا كان هذان لا يستويان عندكم، مع كونهما من جنس واحد ومشتركين في الإنسانية، فكيف تشركون بالله وتسوون به من هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره، مع تباين الأوصاف، وأن موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن لعاقل أن يشبِّه به غيره. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬2) سبحانه وتعالى لمَّا مثل نفسه عَزَّ وَجَلَّ بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومستحيل أن يكون كذلك إلَّا إذا كان كامل العلم والقدرة .. أردف ذلك بما يدل على كمال علمه، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له، وبما يدل على كمال قدرته، فذكر أن قيام الساعة في السرعة كلمح البصر أو أقرب، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده، وأنه الفاعل المختار، فذكر منها خلق الإنسان في أطواره المختلفة، ثم الطير المسخّر بين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[65]

السماء والأرض، وكيف جعله يطير بجناحين في جو السماء، ما يمسكه إلَّا هو بكامل قدرته. أسباب النزول قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ...} الآية، أخرج (¬1) ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} قال نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله: {رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} قال: نزلت في عثمان ومولى له، كان يكره الإِسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): أنَّ كفار مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، وقال ابن السائب: المراد بالغيب ها هنا قيام الساعة. التفسير وأوجه القراءة 65 - {وَاللهُ} سبحانه وتعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} إلى السحاب ومنه إلى الأرض {مَاءً} أي نوعًا خاصًّا من الماء، وهو المطر {فَأَحْيَا بِهِ}؛ أي: بسبب المطر {الْأَرْضَ} بأنواع النباتات {بَعْدَ مَوْتِهَا} ويبسها؛ أي: بعد أن كانت يابسة لا حياة بها، وما تفيده (¬3) الفاء من التعقيب العادي لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهملة، لأن التعقيب في كل شيء بحسبه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض الميتة به {لَآيَةً}؛ أي: لعلامة دالة على وحدانيته تعالى، وعلمه وقدرته وحكمته، إذ الأصنام وغيرها لا تقدر على شيء {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر وإنصاف، فكأن من ليس كذلك أصم لا يسمع، فالمراد سمع القلوب ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) زاد المسير. (¬3) روح البيان.

[66]

لا سمع الآذان. وقال بعضهم: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ أي: قرآنًا وهو سبب حياة المؤمنين فأحيا به القلوب الميتة بالجهل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} القرآن بسمع يسمع به كلام الله من الله، فإن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدًا، ولا يسمع كلامه إلا من أكرمه الله بسمع يسمع كلامه، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}. وعلامة (¬1) السامعين لكلام الله تعالى المتحقِّقين في سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله تعالى من جهة سماعه؛ أعني من التكليف المتوجه على الأذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم، والذكر والثناء على الحق تعالى، والموعظة الحسنة والقول الحسن، ومن علامتهم أيضًا التصامم عن سماع الغيبة والبهتان، والسوء من القول، والخوض في آيات الله، والرفث والجدال، وسماع القينات والملاهي، وكل محرم حجر الشارع عليك سماعه، نسأل الله تعالى أن يحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وجوارحنا من كل ما يبعدنا عن الله تعالى. والحاصل (¬2): أنَّ الله سبحانه وتعالى نبَّه عباده إلى الحجج الدالة على توحيده، وأنه لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء سواه، فبين أن ذلك المعبود هو الذي أنزل من السماء مطرًا، فأنبت به أنواعًا مختلفة من النبات في أرض ميتة يابسة، لا زرع فيها ولا عشب، إن في ذلك الإحياء بعد الموت لدليلًا واضحًا وحجةً قاطعة على وحدانيته تعالى، وعلمه وقدرته لمن يسمع هذا القول سماع تدبر وفهم لما يسمع، إذ لا عبرة بسماع الآذان، فهو بسماع الحيوان أشبه. 66 - وبعد ذكر نزول الماء من السماء .. ذكر خروج اللبن من الضرع، وفيه أكبر الأدلة على قدرة القادر فقال: {وَإِنَّ لَكُمْ}، أيها الناس {فِي الْأَنْعَامِ} جمع نعم بالتحريك، وهي الأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز، {لَعِبْرَةً}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

أي: لعظةً عظيمة دالة على باهر قدرتنا، إذا تفكرتم فيها، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، وجملة قوله: {نُسْقِيكُمْ} مستأنفة مسوقة لبيان تلك العبرة؛ أي: وتلك العبرة أنَّنا نسقيكم {مِمَّا فِي بُطُونِهِ}؛ أي: من بعض ما في بطون المذكور من الأنعام، فمن للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونه، والضمير يعود إلى المذكور؛ أي: في بطون ما ذكرنا من الأنعام، وفي سورة المؤمنين رجع إلى لفظ الأنعام، وهنا إلى المذكور، وقال المبرد (¬1): هذا فاشٍ في القرآن كثيرٌ مثل قوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} يعني هذا الشيء الطالع، وكقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)}، وقال ابن العربي: يجوز التذكير في الأنعام باعتبار معنى الجمع، والتأنيث باعتبار معنى الجماعة، فذكر الضمير هنا نظرًا إلى معنى الجمع، وأنثه في سورة المؤمنون نظرًا إلى معنى الجماعة، وقيل غير ذلك. وقرأ ابن مسعود (¬2) بخلاف عنه، والحسن وزيد بن علي وابن عامر وأبو بكر ونافع وأهل المدينة: {نَسْقِيكم} هنا وفي: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} بفتح النون، مضارع سقى يسقي، وهي لغة قريش، وباقي السبعة بضمها، من أسقى يسقي وهي لغة حمير، وجميع القراء على هاتين القراءتين، وقرأ أبو جعفر: {يُسْقِيكم} بياء مضمومة، والضمير عائد على الله، وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة، منهم أبو جعفر، على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وهاتان القراءتان ضعيفتان، وقال الزجاج (¬3): سقيته وأسقيته بمعنى واحد، وفي "الأسئلة المقحمة": يقال أسقيته إذا جعلت له سقيًا دائمًا، وسقيته إذا أعطيته شربةً، وقيل: إذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي .. يقال سقيته، وإذا كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له .. قيل: أسقاه، وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} {مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {نُسقيكم} لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء، والفرث وكذا الثفل بضم الثاء المثلثة وسكون الفاء فضالة العلف وووثه في الكرش، والكرش - وزان كبد - للحيوان بمنزلة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

المعدة للإنسان، وقوله: {لَبَنًا}: مفعول ثان لـ {نُسْقِيكم}؛ أي: نسقيكم من بين فرثها ودمها لبنًا، {خَالِصًا}؛ أي: صافيًا ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}؛ أي: سهل المرور في حلوق الشاربين له، حالة كونه بعض ما في بطون الأنعام، وقرأت فرقة {سَيِّغًا} بوزن هين، وقرأ عيسى بن عمر: {سَيْغًا} مخففًا من سيغ كهين المخفف من هين، ذكره في "البحر"، قيل: لم يُغَص أحدٌ باللبن قط وليس في الطعام والشراب أنفع منه، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "إذا أكل أحدكم طعامًا ... فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه، وإذا شرب لبنًا .. فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم شيئًا أنفع في الطعام والشراب منه". قال في "الكواشي" (¬1): المعنى خلق الله اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم، وذلك أن الكرش إذا طبخت العلف .. صار أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا خالصًا لا يشوبه شيء، وأعلاه دمًا، وبينه وبينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى، لا يختلط أحدهما بالآخر بلون ولا طعم ولا رائحة، مع شدة الإتصال، ثم تسلط الكبد على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها: فتجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش، ثم ينحدر. فإن قلت (¬2): إن الدم واللبن لا يتولدان في الكرش، إذ البهائم إذا ذبحت لم يوجد في كرشها لبنٌ ولا دم. قلتُ: المراد كان أسفله مادة الفرث، وأوسطه مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم، فالمنحدر إلى الضروع مادة اللبن لا مادة الدم، وقول بعضهم: إن الدم ينحدر إلى الضروع فيصير لبنًا ببرودة الضرع، بدليل أن الضرع إذا كانت فيه آفة .. يخرج منه الدم مكان اللبن، مدفوعٌ بأنه يجوز أن يتلون اللبن بلون الدم بسبب الآفة، وهو اللائح بالبال، ومن بلاغات الزمخشري: كما يحدث بين الخبيثين ابنٌ لا يؤبن ... الفرث والدم يخرج منهما اللبن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[67]

أي: كما أن اللبن الطيب الطاهر يخرج من بين الخبيثين اللذين هما الفرث والدم، بحيث لا يشوبه شيء من أوصافهما مع كمال الاتصال والاكتناف، كذلك يخرج الابن الطيب الطاهر الذي لا يعاب بشيء أصلًا من بين الأبوين الخبيثين، بحيث لا يوجد فيه شيء من أوصافهما الخبيثة، وسئل شقيق عن الإخلاص؟ فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم. ومعنى الآية (¬1): أي وإن لكم أيها الناس لعظةً في الأنعام دالة على باهر قدرتنا، وبديع صنعنا، وواسع فضلنا ورحمتنا بعبادنا، فإننا نسقيكم مما في بطونها من اللبن الخالص من شائبات المواد الغريبة، السهل التناول اللذيذ الطعم، وهو متولد من بين فرث ودم. فإنَّ الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما، حتى إذا هضم المأكول .. تحول بإذنه تعالى عصارةً نافعة للجسم، وفضلات تطرد إلى الخارج، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسري في عروق الجسم لحفظ الحياة، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي في الضرع، فتحولها إلى لبن، وهكذا في الجسم غددًا أخرى كالغدد الأنفية للمخاط، والغدد المنوية التي تحول الدم إلى مادة التلقيح، والغدد العينية للدمع، والغدد الفموية للبصاق. 67 - وبعد أن ذكر سبحانه اللبن، وبين أنه جعله شرابًا سائغًا للناس، ثلث بذكر ما يتخذ من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله، ونسقيكم أيها الناس من ثمرات النخيل والأعناب؛ أي: من عصيرهما، ونطعمكم من ثمارهما، وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} كلام مستأنف مسوق لبيان ذلك الإسقاء والإطعام، والتقدير: أي وذلك الإسقاء والإطعام أنكم تتخذون منه؛ أي: مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب، أو من عصيرهما سكرًا؛ أي: خمرًا وتكرير {منه} تأكيد للظرف الأول، وتذكير الضمير نظرًا إلى كونه بمعنى المذكور، أو لكونه راجعًا إلى المضاف المحذوف، كما قدرناه، وقال في "القاموس": السكر محركة الخمر، ¬

_ (¬1) المراغي.

[68]

ونبيذ يتخذ عن الخمر اهـ. فإن قلت (¬1): الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إنَّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وهذا الجواب أولى ما قيل في هذا المقام. أي: وذلك الإسقاء والإطعام أنكم تتخذون وتجعلون مما ذكر سكرًا وخمرًا، {و} تتخذون من ثمارها {رزقًا حسنًا}؛ أي: طيبًا كالتمر والزبيب والدبس والخل. قال بعضهم (¬2): انظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة الناس .. أخبر عن نفسه بقوله: {نُسْقِيكُمْ}، ولما كان السكر والرزق الحسن .. يحتاج إلى معالجة من الناس قال: {تَتَّخِذُونَ}، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإسقاء والإطعام {لَآيَةً} باهرة على قدرته تعالى {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يستعملون عقولهم في الآيات بالنظر والتأمل، فيعلمون أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى، ولما كان مفتتح الكلام: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} .. ناسب الختم بقوله: {يَعْقِلُونَ} لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول، كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ذكره في "البحر". 68 - ولمَّا ذكر (¬3) الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته، من إخراج اللبن من بين فرث ودم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب .. ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحلة، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ} يا محمَّد {إِلَى النَّحْلِ}؛ أي: إلى ذباب العسل وزنبوره؛ أي: ألهمها وقذف في قلبها ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

وعلمها بوجه لا يعلمه إلا هو تعالى، نظير قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}. والخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر، يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته وقدرته. وأصل الوحي الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد، ويقال الكلمة الإلهية التي يلقيها الله تعالى إلى أنبيائه وحيٌ، وإلى أوليائه إلهامٌ، وتسخير الطير لما خلق له وحي، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}؛ أي: أنه تعالى سخَّرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة، التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتًا على شكل مسدس من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال .. لكان فيما بينها خلل، ولما حصل المقصود، فألهمها الله سبحانه وتعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس، الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة. وألهمها الله تعالى أيضًا أن تجعل عليها أميرًا كبيرًا نافذ الحكم فيها، وهي تطيعه وتمتثل أمره، ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة، ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها، كذا حكاها الجوهري، وألهمها (¬1) الله سبحانه وتعالى أيضًا أن جعلت على باب كل خلية بوابًا، لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها، وألهمها الله تعالى أيضًا أنها تخرج من بيوتها وتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والفطنة .. دل ذلك على الإلهام الإلهي، فكان ذلك شبيهًا بالوحي، فلذلك قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقرأ ابن وثاب: {النَّحل} ¬

_ (¬1) الخازن.

بفتح الحاء ذكره في "البحر". أي: وألهم (¬1) ربك النحل، وألقى في روعها وعلَّمها أعمالًا يتخيل منها أنها ذوات عقول، وقد تتبع علماء المواليد أحوالها، وكتبوا فيها المؤلفات بكل اللغات، وخصصوا لا مجلات تنشر أطوارها وأحوالها، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور: 1 - أنها تعيش جماعات كبيرة، قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة، وتسكن كل جماعة منها في بيت خاص يسمى خلية. 2 - أن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة أو اليعسوب، وهي أكبرهم جثة، وأمرها نافذٌ فيهم، وعدد يتراوح بين أربع مئة نحلة وخمس مئة يسمى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفًا إلى خمسين ألف نحلة، ويسمى الشغالات أو العاملات. 3 - تعيش هذه الفصائل الثلاث في كل خلية عيشةً تعاونية على أدق ما يكون نظامًا، فعلى الملكة وحدها وضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها، فهي أم النحل، وعلى الذكور تلقيح الملكات، وليس لها عمل آخر، وعلى الشغالة خدمة الخلية، وخدمة الملكات، وخدمة الذكور، فتنطلق في المزارع طول النهار لجمع رحيق الأزهار، ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا يتغذى به سكان الخلية صغارًا وكبارًا، وتفرز الشمع الذي تبني به بيوتًا سداسية الشكل، تخزن في بعضها العسل، وفي بعض آخر منها تربي صغار النحل، ولا يمكن المهندس الحاذق أن يبني مثل هذه البيوت حتى يستعين بالآلات كالمسطرة والفرجار، قال الجوهري: ألهمها الله تعالى أن تبني بيوتها على شكل سداس حتى لا يحصل فيه خللٌ ولا فرجةٌ ضائعة، كما عليها أن تنظف الخلية، وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها أيضًا الدفاع عن الملكة وحراستها من الأعداء، كالنمل والزنابير وبعض الطيور. ¬

_ (¬1) المراغي.

[69]

ثم فسر سبحانه ما أوحى به إليها بقوله: {أَنِ اتَّخِذِي}؛ أي: بأن اتخذي لنفسك، فأن مصدرية، وأتى (¬1) بصيغة التأنيث لأن النحل يذكر ويؤنث {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}؛ أي: أوكارًا ومساكن تأوي إليها، وتسمي ما تبنيه لتعسل فيه بيتًا تشبيهًا ببناء الإنسان، لما في بيوته المسدسة المتساوية بلا بركارٍ ولا مسطر من الحذاقة وحسن الصنعة، التي لا يقوى عليها حذاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. و {مِنَ} (¬2) للتبعيض، لأنها لا تبني في كل جبل، وكذا قوله: {وَمِنَ الشَّجَرِ} لأنها لا تبني في كل شجر، وكذا في قوله: {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} لأنها لا تبني في كل ما يعرشه الناس؛ أي: يرفعه من الأماكن لتعسل فيها، وهذا إذا كان لملاكٍ، وقال بعضهم: ومما يعرشون من كرم أو سقفٍ أو جدران أو غير ذلك، والظاهر أن {مِنَ} بمعنى في، إذ لا معنى لكونها تبني من بناء الناس، بل الظاهر أنها تبني في بنائهم، ويكون المراد من بنائهم الكوار، ومن بنائها بيتها الذي تمج فيه العسل، فإن المشاهد أنها تبني لها بيتًا داخل الخلية من الشمع، ثم تمج فيه العسل شيئًا فشيئًا. والمعنى: أي اجعلي لك بيوتًا في الجبال تأوين إليها، أو في الشجر، أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها، وقرأ السلمي وعبيد بن نضلة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء في {يعرشون}، وباقي السبعة: بكسرها، وهما لغتان، يقال يعرش بالكسر، ويعرش بالضم، مثل يعكف ويعكف ذكره في "البحر". 69 - ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من هم المقيل الأكل ثنى به، ولما كان عامًّا في كل ثمر .. ذكره بحرف التراخي، إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسره لها، فقال: {ثُمَّ كُلِي}، وأشار إلى كثرة الرزق بقوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فيها للتكثير؛ أي: ثم كلي أيتها النحل من كل ثمرة تشتهينها حلوة أو حامضة أو مرة، أو غير ذلك، فهو عام مخصوص بالعادة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقوله: {فَاسْلُكِي} جواب شرط محذوف؛ أي: فإذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك .. فاسلكي؛ أي: فادخلي {سُبُلَ رَبِّكِ} في الجبال وفي خلال الشجر؛ أي: طرق ربك التي ألهمك وعرفك الرجوع فيها إلى مكانك من الخلية بعد بعدك عنها، حال كون السبل {ذُلُلًا}؛ أي: مسهلة لك، وإن كانت وعرة في نفسها، جمع ذلول؛ أي: موطأة للسلوك مسهلة لك، وذلك أنها إذا أجدب عليها ما حولها .. سافرت إلى المواضع البعيدة في طلب النجعة، ثم ترجع إلى بيوتها من غير التباس وانحراف، وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها .. لما هدت إلى ذلك. والمعنى (¬1): أي فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها وتدخلي فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك، وإن توعرت، ولا تضلي عن العودة منها وإن بعدت. وبعد أن خاطب النحل أخبر الناس بفوائدها، لأن النعمة لأجلهم، فقال: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا}؛ أي: من بطون النحل بالقيء {شَرَابٌ}؛ أي: عسلٌ لأنه مشروب، وذلك أن النحل تأكل الأجزاء اللطيفة الطلية الحلوة الواقعة على أوراق الأشجار والأزهار، وتمص من الثمرات الرطبة والأشياء العطرة، ثم تقيء في بيوتها ادخارًا للشتاء، فينعقد عسلًا بإذن الله تعالى. أي: يخرج من بطونها عسلٌ {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} من أبيض (¬2) وأخضر وأصفر وأسود، بسبب اختلاف سنَّ النحل، فالأبيض يلقيه شباب النحل، والأصفر كهولها، والأحمر شيبها، وقد يكون الاختلاف بسب اختلاف لون النور، قال حكيم يونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا وهي بيوتها، قالوا: وكيف النحل في خلاياها؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالًا إلا نفته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان ويفني العسل، وإنما يعمل النشيط لا الكسل، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: مثل المؤمن النحلة تأكل طيِّبا وتصنع طيّبًا، ووجه المشابهة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

بينهما حذق النحل وفطنته وقلة أذاه، ومنفعته وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، وطاعته لأميره، وأن للنحل آفات تقطه عن عمله، منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفاتٌ تغيره عن عمله، ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السفه، ونار الجوى. وجمهور المفسرين (¬1) على أنَّ العسل يخرج من أفواه النحل، وقيل: من أسفلها، وقيل: لا يدرى من أين يخرج منها، {فِيهِ}؛ أي: في ذلك الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل {شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}؛ أي: شفاءٌ وعافيةٌ لهم من الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه، يعني أنَّ العسل من جملة الأشفية المشهورة النافعة لأمراض الناس، وليس المراد أنه شفاء كل مرض، كما قال في "حياة الحيوان": قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} لا يقتضي العموم لكل علة، وفي كل إنسان، لأنه نكرةٌ في سياق الإثبات، بل المراد أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال. وللعسل أسماء كثيرة (¬2)، منها الحافظ الأمين؛ لأنه يحفظ ما يودع فيه، فيحفظ الميت أبدًا، واللحم ثلاثة أشهر، والفاكهة ستة أشهر، وكل ما أسرع إليه الفساد إذا وضع في العسل .. طالت مدة مقامه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في إخراج الله سبحانه وتعالى من بطون النحل الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس {لَآيَةً}؛ أي: لحجةً ظاهرة دالة على القدرة الربانية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا؛ أي: لدلالةً واضحة على أن من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها، واتخاذها البيوت في الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها أخرج مما فيه شفاء للناس، هو الواحد القهار، الذي ليس ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك، ولا تصح الألوهية إلَّا له. فصل روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أخي استطلق بطنه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْقِه عسلًا" فسقاه عسلًا ثم جاء فقال: يا رسول الله سقيته عسلًا فما زاده إلا استطلاقًا، قال: "اذهب اسقه عسلًا" فذهب فسقاه عسلًا ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلًا" فذهب فسقاه عسلًا فبرىء كأنما نُشِط من عقال. وعلل (¬1) هذا بعض الأطباء الماضين، قال: كان لدى هذا الرجل فَضُلاتٌ في المعدة، فلما سقاه عسلًا .. تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أنّ هذا يضره، وهو فائدة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، وكلما سقاه حدث مثل هذا، حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده عليه السلام. وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسلٍ، أو كيَّة بنار، وأنهى أمتي عن الكَيّ". وروي عن (¬2) عوف بن مالك أنه مرض فقال ائتوني بماء فإن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} ثم قال ائتوني بعسل، وقرأ الآية، ثم قال ائتوني بزيت من شجرة مباركة، فخلط الجميع ثم شربه فشفي، وكان بعضهم يكتحل بالعسل، ويتداوى به من كل سقم، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به .. نفع من نزول الماء في العين، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والتلطخ به يقتل القمل، والمطبوخ منه نافع للسموم، ولعقه علاجٌ لعضة الكلب، وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء والحلاوة واللين. كيف يتكون العسل؟ تمتص (¬1) الشغالة رحيق الأزهار فينزل ويجتمع في كيسٍ في بطنها، وهناك يمتزج بعصارة خاصة فيتحول إلى عسل، ولله در أبي العلا إذ يقول: وَالنَّحْلُ يَجْنِي الْمُرَّ مِنْ زَهْرِ الرُّبَا ... فيَعُودُ شَهْدًا فِيْ طَرِيْقِ رُضَابِهِ ثم تعود النحلة إلى الخلية، فتفرز العسل من فمها في البيوت الشمعية، التي خصصت بتخزين العسل، وكلما امتلأ بيت منها غطاه النحل بطبقة من الشمع، وانتقل إلى بيت آخر. شمع النحل: تفرز الشغالة صفحات رقيقة صلبة من الشمع، تخرجها من بين حلقات بطنها، ثم تمضغها بفيها حتى تلين ويسهل تشكيلها بحسب ما تريد، فتستعملها في بناء بيوتها السداسية الشكل. فوائد النحل: 1 - نأخذ منها العسل الذي هو غذاءٌ لذيذ الطعم، يحوي مقدارًا كبيرًا من المواد المفيدة للجسم. 2 - نأخذ منها الشمع الذي تصنع منه شموع الإضاءة. 3 - تساعد على تلقيح الأزهار فتكون سببًا في زيادة الثمار وجودة نوعها. وقال الزجاج: سميت نحلًا لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج منها، إذ النحلة العطية، وكفاها شرفًا قول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وكلُّ ذباب في النار إلا ذباب العسل. ¬

_ (¬1) المراغي.

قال في "عجائب المخلوقات": يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، وفيه أوحى ربك إلى النحل صنعة العسل، قال في "حياة الحيوان": يحرم أكل النحل، وإن كان العسل حلالًا، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام، ويكره قتلها، وأما بيعها في الكوارة فصحيح إن يشاهد جميعها، وإلا فهو بيع غائب، فإن باعها وهي ظاهرة ففي "التتمة": يصح؛ وفي "التهذيب" عكسه، وقال أبو حنيفة: لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات، ويجوز بيع دود القزِّ من الذي يصنع به، وفي الحديث: "أول نعمة ترفع من الأرض العسل". قال القشيري (¬1) - رحمه الله -: إنَّ الله تعالى أجرى سنته بأن يخفي كل عزيز في شيء حقير، جعل الإبريسم في الدود، وهو أصغر الحيوانات وأضعفها، والعسل في النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدر في الصدف وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر، وأودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر، وكذلك أودع المعرفة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفيهم من يخطيء، وفيهم من يعصي، ومنهم من يعرف، ومنهم من يجهل أمره اهـ. وإنما (¬2) خص سبحانه وتعالى النحل بالوحي، وهو الإلهام والرشد من بين سائر الحيوانات، لأنها أشبه شيء بالإنسان، لا سيما بأهل الخلوة والاعتزال، فإن من دأبهم وهجيراهم أن يتخذوا من الجبال بيوتًا اعتزالًا عن الخلق وتبتلًا إلى الله تعالى، كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك حيث كان يتحنث إلى حراء أسبوعًا وأسبوعين وشهرًا، وإن من شأنهم النظافة في الموضع والملبوس والمأكول، كذلك النحل من نظافتها تضع ما في بطنها على الحجر الصافي، أو على خشب نظيف، لئلا يخالطه طين أو تراب، ولا تقعد على جيفة ولا على نجاسة، احترازًا عن التلوث، كما يحترز الإنسان عنه، وثمرات البدن الأعمال الصالحة، وثمرات النفوس الرياضات والمجاهدات ومخالفة الهوى، وثمرات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[70]

القلوب ترك الدنيا وطلب العقبى، والتوجه إلى حضرة المولى إلى غير ذلك، فهذه كلها أغذية الأرواح، والله تعالى قال للنحل: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال مثله للسالكين: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}. 70 - ولمَّا ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة .. أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال: {وَاَللهُ} المحيط بكل شيء علمًا وقدرة {خَلَقَكُمْ}؛ أي: أوجدكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود، ولم تكونوا شيئًا، {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}؛ أي يقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم، على اختلاف الأعمار صبيانًا وشبانًا وكهولًا، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، وقوله: {وَمِنْكُمْ} معطوف على مقدر، تقديره: فمنكم من يموت حال قوته، ومنكم {مَنْ يُرَدُّ} ويعاد قبل وفاته {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}؛ أي: إلى أخسه وأردئه وأحقره، وهو الهرم والخرف، الذي يعود فيه كهيئته الأولى في أوان طفوليته، ضعيف البنية ناقص القوة والعقل وقليل الفهم، وليس له حد معلوم في الحقيقة؛ لأنه رب ابن ستين انتهى إلى أرذل العمر، ورب ابن مئة لم يرد إليه، وقال قتادة: إذا بلغ تسعين سنة .. يتعطل عن العمل والتصرف والاكتساب والحج والغزو ونحوها، ولذا دعا محمَّد بن علي الواسطي لنفسه فقال: يَا رَبِّ لاَ تُحْيِنيْ إلى زَمَنٍ ... أَكُوْنُ فِيْهِ كَلًّا عَلَى أَحَدٍ خُذْ بِيَدِيْ قَبْل أن أقُوْلَ لِمَنْ ... ألْقَاهُ عِنْدَ الْقِيَامِ خُذْ بِيَدِي وسأل (¬1) الحجاج رجلًا شيخًا كيف طعمك؟ قال: إذا أكلت ثقلت، وإذا تركت ضعفت، فقال: كيف نومك؟ قال: أنام في المجمع، وأسهر في المهجع، فقال: كيف قيامك وقعودك؟ قال: إذا قعدت تباعدت عني الأرض، وإذا قمت لزمتني، فقال: كيف مشيك؟ فقال: تعقلني الشعرة، وتعثرني البعرة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ ¬

_ (¬1) روح البيان.

أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)}، واعلم (¬1) أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولاها سن النشوِّ، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب، وثالثها سن الإنحطاط اليسير، وهو سن الكهولة، ورابعها سن الانحطاط الظاهر، وهو سن الشيخوخة. والمعنى (¬2): أي والله سبحانه وتعالى أوجدكم أيها الناس، ولم تكونوا شيئًا أنتم ولا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى، ثم وقت أعماركم بآجال مختلفة، فمنكم من تعجل وفاته، ومنكم من يهرم ويصير إلى أرذل العمر وأخسه، فتنقص قواه، وتفسد حواسه، ويكون في عقله وقوته كالطفل كما قال: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}. أخرج البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات". وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ باللهِ أن يرد إلى أرذل العمر. ثم علل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله: {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ} ذلك المردود {بَعْدَ عِلْمٍ} كان قد حصل له {شَيْئًا} من العلم، لا كثيرًا ولا قليلًا، أو شيئًا من المعلومات، إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم، وقيل: المراد بالعلم هنا العقل، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك، فاللام في لكيلا جارة للمصدر، دخلت على كي الناصبة، وهي متعلقة بيرد. والمعنى (¬3): أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان العقل وسوء الفهم، وفي النسيان؛ أي: وإنما (¬4) رده إلى أرذل العمر ليعود جاهلًا كما كان حين طفولته وصباه، لا يعلم شيئًا مما كان يعلمه في شبابه؛ لأن، الكبر قد أضعف عقله وأنساه، فلا يعلم شيئًا مما كان يعلم، وقد انسلخ من عقله بعد أن كان كامل العقل. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

[71]

وخلاصة ذلك: أنه يكون نسَّاء، فإذا كسب علمًا في شيء .. لم يلبث أن ينساه، ويزول من ساعته، فيقول لك: من هذا فلانٌ، فلا يمكث إلا هنيهةً ثم يسألك عنه مرةً أخرى. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ}، بمقادير أعماركم {قَدِيرٌ} على كل شيء، يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني. والمعنى: أي إن الله (¬1) سبحانه عليم بكل شيء، فيعلم وجه الحكمة في الخلق والتوفي، والرد إلى أرذل العمر، ولا ينسى شيئا من ذلك، وهو قدير على كل شيء، فلا يعجزه شيء أراده. ومجمل القول: أن ما يعرض في الهرم من ضعف القوة والقدرة وانتفاء العلم يتنزه عن مثله المولى سبحانه جلَّ شأنه، فهو كامل العلم، تامُّ القدرة، لا يتغير شيءٌ منهما بمرور الأزمنة، كما يتغير علم البشر وقدرتهم. 71 - ولمَّا ذكر سبحانه تفاوت الناس في الأعمار .. ذكر تفاوتهم في الأرزاق فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وحده {فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}؛ أي: فاوت بينكم في الرزق، كما فاوت بينكم في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وقوة البدن وضعفه، فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي أُلوفًا مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، والرزق (¬2) ما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان من المطعومات والمشروبات، وفيه تنبيه على أن غنى المكثر ليس من كياسته ووفور عقله وكثرة سعيه، ولا فقر المقل من بلادته نقصان عقله وقلة سعيه، بل من الله تعالى ليس إلا: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وحاصل المعنى: أي (¬1) والله تعالى جعلكم متفاوتين في أرزاقكم، فمنكم الغنيُّ، ومنكم الفقير، ومنكم المملوك، ومنكم المالك، وأعطاكم من الرزق أكثر مما أعطى مماليككم، ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب، فكثيرًا ما نرى الحول القلب، لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد، بينما ترى الأحمق يتقلب في نعيم العيش وزخرف الدنيا، ولله در سفيان بن عيينة - رحمه الله - إذ يقول: كَمْ مِنْ قوِيٍّ قوِيٌّ فِيْ تَقَلُّبهِ ... مُهَذَّبُ الرَّأي عَنْهُ الرِّزْقُ مُنْحَرِفُ وَمِنْ ضَعِيْفٍ ضَعِيفُ العَقْلِ مُخْتَلِطٌ ... كَأَنَّهُ مِنْ خلِيج الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا}؛ أي: فليس (¬2) الموالي الذين فضلوا في الرزق على المماليك {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ}؛ أي: بمعطي رزقهم الذي رزقهم إياه، أصله رادِّين، سقطت النون للإضافة، {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وأيديهم؛ أي: على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية، "فهم"؛ أي: الملاك والمماليك {فِيهِ}؛ أي: في الرزق {سَوَاءٌ}؛ أي: مستوون، لا مزية لبعضهم على بعض، وفي الفاء دلالة على ترتب التساوي على الرد؛ أي: يردون عليهم ردًّا مستتبعًا للتساوي في التصرف، والتشارك في التدبير، وإنما يردون عليهم منه شيئًا يسيرًا. والحاصل: أنهم لا يجعلون ما رزقناهم من الأموال وغيرها شركةً بينهم وبين مماليكهم، بحيث لا يرضون بمساواة مماليكهم لأنفسهم، وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية، فما بالهم كيف جعلوا مماليكه تعالى ومخلوقاته شركاء له، مع كمال علوه، فأين التراب ورب الأرباب. أي: فما الذين (¬3) فضلوا بالرزق وهم الموالي بجاعلي رزقهم من الأموال وغيرها شركةً بينهم وبين مماليكهم، بحيث يساوونهم في التصرف فيها، ويشاركونهم في تدبيرها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والخلاصة: أنَّ الله جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أكثر من ما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، وتتساووا وإياهم في الملبس والمطعم والمسكن، لكنكم لم ترضوا بهذه المساوة، مع أنهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز وجل، فما بالكم تشركون باللهِ فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبودية بعض عباده، بل أخس مخلوقاته، وهذا مثل ضربه سبحانه لبيان قبح ما فعله المشركون من عبادة الأصنام والأوثان تقريعًا لهم، وكانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك. ونحو الآية قوله: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. والهمزة في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} للاستفهام التوبيخي التقريعي المضمن للإنكار (¬1)، وداخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد علمهم بأن الرازق هو الله تعالى يشركون به، فيجحدون نعمته، حيث يتخذون له شركاء، فإن الإشراك يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله تعالى، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، فالله تعالى يدعو عباده بهذه الآية إلى التوحيد، ونفي الشرك، حتى يتخلصوا من الشرك والظلمات، ويتشرفوا بالتوحيد والأنوار العاليات. وقرأ الجمهور: {يَجحَدُونَ} بالياء على الغيبة، وقرأ أبو (¬2) بكر عن عاصم وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه: {تجحدون} بالتاء على الخطاب، وقراءة الغيبة أولى لأنها ظاهر السّياق. والمعنى على قراءة الخطاب: أنكم أيها المالكون لستم برادي رزقكم على مماليككم، بل أنا الذي أرزقكم وإياهم، فلا تظنوا أنكم تعطونهم شيئًا، وإنما هو رزقي أجريه على أيديكم، أنتم وهم جميعًا سواء لا مزية لكم على مماليككم. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط.

[72]

72 - ثم ذكر ضروبًا أخرى من ضروب نعمه على عباده، تنبيهًا إلى جليل إنعامه بها، إذ هي زينة الحياة فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى وحده {جَعَلَ لَكُمْ} أيها الرجال {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: من جنسكم {أَزْوَاجًا}؛ أي: نساء وزوجات، لتأنسوا بها وتقيموا بذلك جميع مصالحكم، ويكون أولادكم أمثالكم، ومن هنا أخذ بعض العلماء أنه يمتنع أن يتزوج المرؤ امرأة من الجن، إذ لا مجانسة بينهما، فلا مناكحة، وأكثرهم على إمكانه، ويدل عليه أن أحد أبوي بلقيس كان جنيًّا، قال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك، فتزوج امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكت، فولدت له بلقيس، وفيه حكايات أخر في "آكام المرجان"، فإن قيل (¬1): غلبة عنصر النار في الجن تمنع من أن تتكون النطفة الإنسانية في رحم الجنية لما فيها من الرطوبات، فتضمحل ثمة لشدة الحرارة النيرانية، وقس عليه نكاح الجني الإنسية. قلت: إنهم وإن خلقوا من نار .. فليسوا بباقين على عنصرهم الناري، بل قد استحالوا عنه بالأكل والشرب والتوالد والتناسل، كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك، على أن الذي خلق من نار هو أبو الجن، كما خلق آدم أبو الإنس من تراب، وأما كل واحد من الجن غير أبيهم فليس مخلوقًا من النار، كما أن كل واحد من بني آدم ليس مخلوقًا من تراب، وذكروا أيضًا جواز المناكحة بين الإنسان وإنسان البحر، كما قال في "حياة الحيوان" إن في بحر الشام في بعض الأوقات من شكله شكل إنسان، وله لحيةٌ بيضاء، يسمونه شيخ البحر، فإذا رآه الناس .. استبشروا بالخصب. قال الأطباء (¬2): والتفاوت بين الذكر والأنثى، أنَّ الذكر أسخن مزاجًا، والأنثى أكثر رطوبة، فالمني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم .. كان الولد ذكرًا تامًّا في الذكورة، وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

الرحم .. كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم .. كان الولد ذكرًا في طبيعة الإناث، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم .. كان الولد أنثى في طبيعة الذكور والله أعلم. {وَجَعَلَ لَكُمْ} سبحانه وتعالى {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}؛ أي: من نسائكم وزوجاتكم؛ أي: جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره {بَنِينَ} وبنات، ولم يذكر (¬1) البنات لكراهتهم لهن، فلم يمتن عليهم إلا بما يحبونه، {وَحَفَدَةً} جمع حافد وحفيد، والحفيد ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى، وولد البنت كذلك، وتخصيصه بولد الذكر، وتخصيص ولد الأنثى بالسبط، عرف طارىءٌ على أصل اللغة، والمعنى؛ أي: جعل لكم من زوجاتكم بنين وحفدة؛ أي: أولاد البنين ذكروًا كانوا أو إناثًا، وأولاد البنات كذلك، فيعم كل من المضاف والمضاف إليه لما هو معلوم أنَّ لفظ الولد يعم الذكر والأنثى، بخلاف لفظ الابن اهـ. شيخنا، وسيأتي البسط في معنى الحفيد في مباحث التصريف. والمعنى: أي والله سبحانه جعل لكم أزواجًا من جنسكم تأنسون بهن، وتقوم بهن جميع مصالحكم، وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم منهن بنين وحفدةً؛ أي: أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ أي: من لذيذ المطاعم والمشارب، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات، كالعسل ونحوه، و {مِن} للتبعيض، لأن كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها. والهمزة في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكفرون باللهِ الذي شأنه ذلك المذكور، فيؤمنون بالباطل حيث حرموا على أنفسهم طيبات ¬

_ (¬1) المراغي.

[73]

أحلها الله لهم، مثل البحيرة والسائبة والوصيلة، وأباحوا لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب؛ أي: لِمَ يحكمون بتلك الأحكام الباطلة؛ أي: أيكفرون بتوحيد الله تعالى، فيؤمنون بنفع الباطل الذي هو الأصنام، فإنهم يزعمون ذلك على ما حكي عنهم بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، فالباطل (¬1) هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع، وقيل: الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما. {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ}؛ أي: وبإنعام الله عليهم بتحليل الطيبات وتحريم الخبائث {يَكْفُرُونَ}؛ أي: يجحدون، أو المراد (¬2) بالباطل الأصنام وما يفضي إلى الشرك، وبنعمة الله الإِسلام والقرآن وما فيه من التوحيد والأحكام، وذكر الجملة الأخيرة هنا بزيادة (¬3) هم فيها، وفي العنكبوت بدونها؛ لأنَّ ما هنا اتصل بقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلخ، وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغيبة فقال: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} فلو ترك هم لالتبست الغيبة بالخطاب، بأن تبدل الياء تاءً اهـ "كرخي". وقرأ الجمهور (¬4): {يُؤْمِنُونَ} بالياء، وهو توقيف للرسول - صلى الله عليه وسلم - على إيمانهم بالباطل، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها، وقرأ السلمي: بالتاء ورويت عن عاصم، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم. 73 - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه تعالى {مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا}؛ أي: أصنامًا لا تقدر رزقًا لهم وإعطاءً شيئًا من خزائن السموات والأرض، فلا تقدر على إنزال القطر من السموات لإحياء الميت من الأرضين، ولا تملك لهم رزقًا منها، فلا تقدر على إخراج شيء من نباتها ولا ثمارها، ولا على شيء مما ذكر في سالف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات. (¬4) البحر المحيط.

[74]

الآيات، مما أنعم الله به على عباده، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} معطوف على صلة {مَا}؛ أي: ويعبدون من دون الله ما لا يستطيعون، أي: أصنامًا لا تستطيع ولا تقدر أن تتملك شيئًا من أرزاق السموات والأرض لنفسها، فضلًا عن الإعطاء لهم؛ لأنها جماد، وفائدة (¬1) قوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أن من لا يملك شيئًا قد يكون في استطاعته أن يتملكه بوجه من الوجوه، فبين بذلك أن هذه الأصنام لا تملك، وليس في استطاعتها تحصيل الملك. و {مَا} في قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ} عبارة (¬2) عن الأصنام، فهي مفردة لفظًا جمع معنىً، فقوله: {لَا يَمْلِكُ} فيه مراعاة لفظها، وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فيه مراعاة معناها، وهو معطوف على {لَا يَمْلِكُ} فهو من الصلة، وجمع جمع العقلاء في قوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} بناء على زعمهم الباطل، وقيل يجوز أن يكون الضمير في {يَسْتَطِيعُونَ} للكفار؛ أي: لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياءً متصرفين فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرف. وقوله: {رِزْقًا} مفعول {يَمْلِكُ}، وهو اسم مصدر بمعنى الإعطاء، و {شَيْئًا} مفعوله؛ أي: ما لا يملك ولا يقدر رزقًا وإعطاءً لهم شيئًا من أرزاق السموات والأرض، 74 - وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو النتيجة له فقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}؛ أي: فلا (¬3) تجعلوا أيها المشركون لله سبحانه وتعالى الأمثال والأشباه، ولا تشبهوه بخلقه، فإنه لا مثيل له ولا شبيه، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية: أي لا تجعلوا معي إلهًا غيري فإنه لا إله غيري، ثم هددهم على عظيم جرمهم، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ} كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} حقيقته ولا مقدار عقابه، ومن ثم صدر ذلك منكم، وتجاسرتم عليه، ونسبتم إلى الأصنام ما لا يصدر منها، ولا هي منه في قليل ولا كثير، وقال الزجاج (¬4): لا تجعلوا لله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[75]

مثلًا لأنه واحدٌ لا مثل له، وكانوا يقولون: إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك، فنهوا عن ذلك. 75 - وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فساد ما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} وضرب المثل (¬1) تشبيه حال بحال، وقصةٍ بقصةٍ؛ أي: ذكر سبحانه وأورد شيئًا يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكًا له من الأصنام، وليس المراد حكاية ضرب الماضي، بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه؛ أي: ذكر لكم شيئًا تميزون به بين الخالق والمخلوق الذي أشركتموه به من الأصنام، {عَبْدًا مَمْلُوكًا} بدل من مثلًا، وتفسيرٌ له، والمثل في الحقيقة حالة العبد العارضة له من المملوكية والعجز التام، وبحسبها جعل نفسه مثلًا، ووصفه بالمملوكية ليخرج عنه الحُرُّ لاشتراكهما في كونهما عبدًا لله تعالى {لَا يَقْدِرُ} ذلك العبد {عَلَى شَيْءٍ} من التصرفات، وصفه بعدم القدرة ليميزه عن المكاتب والمأذون له، اللذين لهما التصرف في الجملة {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ} {مَنْ} نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولة معطوفة على {عَبْدًا}، كأنه قيل وحرًّا رزقناه بطريق الملك ليطابق عبدًا {مِنَّا}؛ أي: من جانبنا الكبير المتعال وجهتنا {رِزْقًا حَسَنًا}؛ أي: حلالًا طيبًا، أو مستحسنًا عند الناس مرضيًّا، لكونه رزقًا كثيرًا مشتملًا على أشياء مستحسنة نفيسة، تروق الناظرين إليها، والفاء في قوله: {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ} لترتيب (¬2) الإنفاق على الرزق؛ أي: فذلك الحر ينفق منه؛ أي: من ذلك الرزق الحسن {سِرًّا وَجَهْرًا}؛ أي: في حال السر وفي حال الجهر، والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر، والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوُونَ} للإنكار، وجمع (¬3) الضمير للإيذان بأن المراد مما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين، لا فردان متعينان منهما؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

أي: هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات، مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله تعالى من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه. وحاصل المعنى (¬1): أنه كما لا يستوي عندكم عبدٌ مملوك لا يقدر من أمره على شيء، ورجل حر قد رزقه الله تعالى رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وقيل: المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن، والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل: العبد هو الصنم، والثاني عابد الصنم، والمراد: أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف؛ لأن الأول جماد، والثاني إنسان. والخلاصة: أي إنَّ مثلكم (¬2) في إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوى بين عبدٍ مملوك عاجز عن التصرف وحرٍ مالك مالًا ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كما يريد، والفطرة السليمة تشهد بأنهما ليسا مستوين في التبجيل والاحترام، مع استوائهما في الخلق والصورة، فكذلك لا ينبغي لعاقل أن يسوي بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء ألبتة. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} اعتراض (¬3)؛ أي: كل الحمد لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأنه معطي جميع النعم، لا يستحقه أحد غيره، فضلًا عن استحقاق العبادة، فكيف تستحق الأصنام منه شيئًا، ولا نعمة منها أصلًا لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل: أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل: أراد قُلْ الحمد لله، والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[76]

لمن رزقه رزقًا حسنًا، وقيل: أراد الحمد لله على إقامة هذه الحجة، ذكره "الشوكاني" {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن كل الحمد لله وحده، فيسندون نعمه تعالى إلى غيره، ويعبدونه لأجلها، وبعض الكفار يعلمون ذلك، وأما لا يعلمون سبب الحمد عنادًا كقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}. ونفي العلم (¬1) عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليها، أو يتركون الحق عنادًا مع علمهم به، فكانوا كمن لا علم له، وخص الأكثر بنفي العلم إما لكونه يريد الخلق جميعًا وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد: أكثر المشركين لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم. والمعنى: أي الحمد الكامل لله خالصًا دون ما تدعون من دونه من الأصنام، فإيَّاه فاحمدوا دونها، ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن الحمد لله وحده، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد. 76 - ثم ضرب مثلًا أخر يدل على ما يدل عليه المثل الأول على وجه أظهر وأوضح، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على أوضح وجه وأظهره، و {رَجُلَيْنِ} بدل من مثلًا، ولكن على حذف مضاف؛ أي: مثل رجلين؛ أي: بين الله صفة رجلين {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} وهو من ولد أخرس، ولا بد أن يكون أصمَّ {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} من الكلام؛ أي: لا يقدر (¬2) على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره، بحدس أو فراسة لقلة فهمه، وسوء إدركه، وعدم قدرته على النطق {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}؛ أي: ثقيل على وليه وقرابته، وعيال على من يلي أمره ويعوله، ووبالٌ على إخوانه، وقد يسمى اليتيم كلًّا لثقله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

على من يكفله، وهو بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه، بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلق {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}؛ أي: حيثما يرسله مولاه في أمره وكفاية مهم، وهو بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح مولاه، ولو كانت مصلحة يسيرة ... {لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}؛ أي: لا يأتي بنجح وفلاح ومطلوب؛ لأنه أخرس عاجز لا يحسن شيئًا، ولا يفهم ولا يفهم، والآخر ناطق (¬1) قادر خفيف على مولاه، أينما يوجهه يأت بخير، فحذف هذا الآخر المقابل المتصف بالصفات الأربع السابقة، للدلالة عليه بقوله: {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} إلخ، والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} للإنكار؛ أي: هل يستوي ويماثل هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع {وَمَنْ يَأْمُرُ} الناس {بِالْعَدْلِ} والخير؛ أي: هل يستوي هذا الموصوف بالصفات الأربع، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات ذو رشد وديانة، يأمر الناس بالعدل والخير {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: على دين قويم وسيرة صالحة، فيجب (¬2) أن يكون الآمر بالعدل عالمًا قادرًا مستقيمًا في نفسه، حتى يتمكن من الأمر بالعدل، وهذا مثلٌ ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه، ويشملهم به من آثار رحمته وألطافه، وللأصنام التي هي أموات جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كل على عابديها؛ لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة، وقيل: كلا المثلين للمؤمن والكافر، والمؤمن هو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، والكافر هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير، فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر، وقيل: هي على الخصوص، فالذي يأمر بالعدل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على صراط مستقيم، والذي يأمر بالظلم وهو أبكم أبو جهل. والمعنى: أي (¬3) ضرب الله سبحانه مثلًا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه، مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم، فلا يقدر على شيء ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[77]

مما يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو عيال على من يعوله ويلي أمره، حيثما يرسله مولاه في أمر لا يأت بنجح ولا كفاية مهم، وثانيهما رجل سليم الحواس عاقل ينفع نفسه وينفع غيره، ويأمر الناس بالعدل، وهو على سيرة صالحة ودين قويم، هل يستويان، كذلك الصنم لا يسمع شيئًا ولا ينطق؛ لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع، لا يقدر على نفع من خدمه، ولا دفع ضُرٍّ عنه، وهو كلٌّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه، وهو لا يعقل ما يقال له، فيأتمر بالأمر، ولا ينطق فيأمر وينهى، هل يستوي هو ومن يأمر بالحق ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، وهو مع أمره بالعدل على طريق مستقيم لا يعوج عن الحق ولا يزول عنه. وقرأ عبد الله وعلقمة وابن وثاب ومجاهد وطلحة (¬1): {يُوَجِّهْ} بهاء واحدة ساكنة مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله ضمير يعود على الأبكم، وعن عبد الله أيضًا: {يُوَجِّهْهُ} بهائين بتاء الخطاب، والجمهور: بالياء والهائين، وعن علقمة وطلحة: {يُوَجِّهْهُ} بكسر الجيم وهاءٍ واحدة مضمومة، قال صاحب "اللوامح": فإن صح ذلك فإن الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارًا من التضعيف، لأن اللفظ به صعب مع التضعيف. 77 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر المثلين .. مدح نفسه بقوله: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالًا ولا إشراكًا، وكان كفار قريش يستعجلون وقوع القيامة استهزاءً، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ أي: ولله سبحانه لا لغيره {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: علم ما غاب عن العباد فيهما، قال في "الإرشاد": فيه إشعار بأن علمه سبحانه حضوري، فإن تحقق الغيوب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك لم يقل: علم غيب السموات والأرض. وقد أخبر (¬2) سبحانه وتعالى في هذه الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية، ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل: الغيب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

هنا علم قيام الساعة، ووجه (¬1) ارتباط هذه الآية بما قبلها: أنه تعالى مثل بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومعلوم أن أحدًا لا يكون كذلك إلا إذا كان كاملًا في العلم والقدرة، فبين بقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كونه كاملًا في العلم، وبين كمال قدرته بقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ}؛ أي: وما أمر قيام الساعة وشأنه في سرعته وسهولته، والساعة؛ أي: القيامة هي (¬2) إماتة الأحياء، فيكون بالنفخة الأولى، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، وتبديل صور الأكوان أجمعين يكون بالنفخة الثانية، وقيل: الساعة (¬3) هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب، سمي بها لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم؛ أي: وما شأن قيام القيامة التي هي من الغيوب في سرعة المجيء {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}؛ أي: إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}؛ أي: بل أرض قيام الساعة أقرب من طرف العين في السرعة، بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل في الآن الذي تبتدأ فيه الحركة، يعني أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، في أسرع من لمح البصر، وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. وحاصل معنى الآية: أي ولله سبحانه علم ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض، مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين، التي لا سبيل إلى إدركها حسًّا ولا إلى فهمها عقلًا {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ}؛ أي: وما شأنها في سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأنه إنما يكون بقول كن، ونحو الآية قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}؛ أي: فيكون ما يريد كطرف العين. ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) أبو السعود. (¬3) الخازن.

[78]

والخلاصة: أن قيام الساعة ومجيء القيامة، التي ينتشر فيها الخلق للوقوف في موقف الحساب كنظرة من البصر وطرفة من العين في السرعة، وخصَّ قيام الساعة من بين الغيوب لأنه قد كثرت فيه المماراة في جميع الأزمنة والعصور، ولدى كثير من الأمم، فأنكره كثير من البشر، وجعلوه مما لا يدخل في باب الممكنات، ثم ذكر ما هو كالبرهان على إمكان حدوثها وسرعة وقوعها فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ أي: إن الله قادر على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيءٌ أراده، فهو قادر على إقامتها في أقرب من لمح البصر، 78 - ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إيَّاهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى وحده {أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} حالة كونكم {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}؛ أي: حالة (¬1) كونكم غير عالمين شيئًا أصلًا من أمور الدنيا والآخرة، ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح، ولا مما كانت ذراتكم تعلم من فهم خطاب ربكم إذ قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، ولا مما علمت إذ قالت بالجواب بلى، ولا مما تعلم الحيوانات حين ولادتها من طلب غذائها، ومعرفة أمها، والرجوع إليه، والاهتداء إلى ضروعها، وطريق تحصيل اللبن منها، ومشيها خلفها، وغير ذلك مما تعلم الحيوانات، وتهتدي إليه، ولا يعلم الطفل منه شيئًا ولا يهتدي إليه، وهنا تم الكلام (¬2)، لأن الإنسان خلق في أول الفطرة ومبدئها خاليًا عن العلم والمعرفة، لا يهتدي سبيلًا، ثم ابتدأ فقال: {وَجَعَلَ} سبحانه وتعالى {لَكُمُ} أيها الناس {السَّمْعَ} يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة، وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وقدم السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي، ولذا ابتلي بعض الأنبياء بالعمى دون الصمم، كشعيب عليه السلام، أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر، ألا ترى أن الوليد يتأخر انفتاح عينيه عن السمع، وإفراده باعتبار كونه مصدرًا في الأصل، {و} جعل لكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

{الْأَبْصَارَ} لتبصروا بها عجائب مصنوعاته وغرائب مخلوقاته، فتستدلوا بها على وحدانيته، جمع بصر، وهي محركة حسِّ العين، {و} جعل لكم {الْأَفْئِدَةَ} لتعملوا بها، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته تعالى، جمع فؤاد، وهو (¬1) وسط القلب، وهو من القلب كالقلب من الصدر، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة. قال في "بحر العلوم": استعملت في هذه الآيات وفي سائر آيات وردت فيها في الكثرة؛ لأن الخطاب في جعل لكم، وأنشأ لكم عام، والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة، بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء، وتدركوها بأفئدتكم، فتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساس، فيحصل لكم علومٌ بديهية، تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل الكسبية. واعلم: أن قوله: {وَجَعَلَ} عطف على {أَخْرَجَكُمْ}، وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور عن الإخراج، لما أن مدلول الواو وهو الجمع مطلقًا لا الترتيب، على أن أثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الإخراج كما في "الإرشاد"، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا الله تعالى على نعمة هذه الآلات، وشكرها استعمالها فيما خلقت لأجله، من استماع كلام الله تعالى، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحكم أوليائه، وما ليس فيه ارتكاب منهي، ومن النظر إلى آيات الله سبحانه، والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعلمه وقدرته، فمن استعملها في غير ما خلقت لأجله .. فقد كفر جلائل نعم الله تعالى، وخان في أماناته. وقرأ حمزة (¬2): {أُمَّهَاتِكُمْ} بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور والزمر والنجم، والكسائي: بكسر الهمزة فيهن، والأعمش: بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى: بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب. انتهى، وإنما كانت أصوب لأن كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة .. زال الاتباع بخلاف قراءة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[79]

ابن أبي ليلى، فإنه أقرَّ الميم على حركتها. ومعنى الآية: أي والله (¬1) جعلكم تعلمون ما لا تعلمون، بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم، فرزقكم عقولًا تفقهون بها، وتميزون الخير من الشر، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص، فتتعارفون وتميزون بعضها من بعض، والأشياء التي تحتاجون إليها في هذه الحياة، فتعرفون السبل وتسلكونها للسعي على الأرزاق والسِّلع، لتختاروا الجيد، وتتركوا الردي، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: إرادة أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته. 79 - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على كمال قدرته فقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} والاستفهام فيه تقرير (¬2) لمن ينظر إليهن، وتعجيب من شأنهن، والطير جمع طائر؛ أي: ألم ينظر هؤلاء المشركون من قومك بأبصارهم إلى الطير ليستدلوا بها على قدرة الله تعالى حالة كونها {مُسَخَّرَاتٍ}؛ أي: مذللات للطيران بما خلق الله لهن من الأجنحة والأسباب المساعدة لهن، كرقة (¬3) قوام الهواء، وإلهامها بسط الجناح وقبضه، كما يفعل السابح في الماء {فِي جَوِّ السَّمَاءِ}؛ أي: مذلَّلات للطيران في الهواء، بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر، والجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض، وهو الهواء، قال كعب الأحبار: إن (¬4) الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلًا، ولا ترفع فوق ذلك {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو عن السقوط {إِلَّا اللَّهُ} عَزَّ وَجَلَّ بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسادها مع رقة الهواء يقتضي سقوطها، إذ لا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها تمسكها، ولو سلبها ما أعطاها من قوة الطيران .. لم تقدر على النهوض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) الخازن.

ارتفاعًا، وقد كان العلماء قديمًا يعلمون تخلخل الهواء في الطبقات العالية في الجوّ، وهي نظرية لم تدرس في العلوم الطبيعية إلا حديثًا. وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة والأعمش وابن هرمز (¬1): {ألم تروا} بتاء الخطاب، وباقي السبعة: بالياء، قال ابن عطية: واختلف عن الحسن وعيسى الثقفي وعاصم وأبي عمرو. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التسخير على تلك الصفة {لَآيَاتٍ} ظاهرات تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله سبحانه، وبما جاءت به رسله من الشرائع، التي شرعها الله تعالى على ألسنتهم - عليهم الصلاة والسلام - أو لقوم يصدقون أنَّ إمساكهن من الله تعالى، فإنه تعالى أعطى الطير جناحًا يبسطه مرة ويكسره مرةً أخرى وأذنابًا خفيفة، وخلق الهواء خلقة رقيقة، يسهل الطيران بسبب خرقه، ولولا ذلك لما أمكن الطيران. والمعنى: أن في (¬2) ذلك التسخير في الجو والإمساك فيه لدلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لا حظَّ للأوثان والأصنام في الألوهية لمن يؤمن باللهِ، ويقر بوجدان ما تعاينه أبصارهم، وتحسه حواسهم، وخصص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها، وإن كانت هي آيات لجميع العقلاء. الإعراب {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {أَنْزَلَ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {مَاءً}: مفعول به لـ {أَنْزَلَ}، {فأحيا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {أحيا}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {أَنْزَلَ}، {بِهِ} متعلق بـ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{أَحْيَا} {الْأَرْضَ}: مفعول به لـ {أحيا} {بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {أحيا}، {إنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداءٍ، {لِقَوْمٍ} صفة لـ {لَآيَةً}، وجملة {يَسْمَعُونَ} صفة لـ {لِقَوْمٍ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}. {وَإِنَّ} {الواو}: استئنافية، {إِنَّ}: حرف نصب، {لَكُمْ}: جار ومجرور، خبرها مقدم على اسمها، {فِي الْأَنْعَامِ}: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {لَعِبْرَةً}: اسمها مؤخر و {اللام} فيه حرف ابتداء وجملة {إن} مستأنفة، {نُسْقِيكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنها تفسيرٌ لـ {لَعِبْرَةً}، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم .. إلخ، ويجوز (¬1) أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والجملة جواب لذلك السؤال؛ أي: هي؛ أي: العبوة نسقيكم، ويكون كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، {مِمَّا}: جار ومجرور حال من {لَبَنًا} الآتي، {فِي بُطُونِهِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها، {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نُسْقِيكُمْ}، {وَدَمٍ}: معطوف على {فَرْثٍ}، {لَبَنًا}: مفعول ثان لـ {نُسْقِيكُمْ}، {خَالِصًا}: صفة أولى لـ {لَبَنًا}، {سَائِغًا}: صفة ثانية له، {لِلشَّارِبِينَ}: متعلق بـ {سَائِغًا}. {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}. {وَمِنْ} {الواو}: عاطفة، {مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف دل عليه السياق، تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل ونطعمكم منها، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَالْأَعْنَابِ}: معطوف على {النَّخِيلِ}، {تَتَّخِذُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا مسوقة لبيان كيفية الإسقاء والإطعام {مِنْهُ}: متعلق بـ {تَتَّخِذُونَ}، وهو في محل المفعول الثاني، {سَكَرًا}: مفعول {تَتَّخِذُونَ}، {وَرِزْقًا}: معطوف على {سَكَرًا}، {حَسَنًا}: صفة {وَرِزْقًا}، {إِنَّ} حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، و {اللام} حرف ابتداء، وجمله {إِنَّ} مستأنفة، {لِقَوْمٍ} صفة {آية}، وجملة {يَعْقِلُونَ} صفة {قوم}. {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا}. {وَأَوْحَى رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِلَى النَّحْلِ}: متعلق به، {أَنِ}: حرف مصدر أو تفسير، {اتَّخِذِي}: فعل وفاعل، في محل النصب بـ {أَنِ} المصدرية، مبني على حذف النون، {مِنَ الْجِبَالِ}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، {بُيُوتًا}: مفعول لـ {اتَّخِذِي}، وجملة {اتَّخِذِي} مع {أَنِ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأوحى ربك إلى النحل باتخاذها من الجبال بيوتًا، أو جملة مفسرة للإيحاء لا محل لها من الإعراب، {وَمِنَ الشَّجَرِ}: معطوف على قوله: {مِنَ الْجِبَالِ}، وكذا قوله: {وَمِمَّا}: معطوف عليه، {يَعْرِشُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ومما يعرشونه. {ثُمَّ}: حرف عطف {كُلِي}: فعل وفاعل، معطوف على {اتَّخِذِي {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: متعلق به، {فَاسْلُكِي} {الفاء} عاطفة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كُلِي}. {سُبُلَ رَبِّكِ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {اسلكي}، {ذُلُلًا}: حال من السبل، أو من الضمير في {اسْلُكِي}؛ أي: حالة كون النحل منقادة لأربابها. {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. {يَخْرُجُ}: فعل مضارع، {مِنْ بُطُونِهَا}: متعلق به، {شَرَابٌ} فاعل، {مُخْتَلِفٌ} صفة أولى لـ {شَرَابٌ}، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، أو حال

من فاعل {اسلكي} ولكن فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، {أَلْوَانُهُ} فاعل {مُخْتَلِفٌ}. {فِيهِ}: خبر مقدم، {شِفَاءٌ}: مبتدأ مؤخر، {لِلنَّاسِ}: متعلق به، أو صفة له، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة ثانية لـ {شَرَابٌ}. {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {لِقَوْمٍ}، صفة {آية}، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ} صفة {قوم}. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {خَلَقَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}، {وَمِنْكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوف، تقديرها: فمنكم من يبقى على قوة جسده وعقله حتى يموت ومنكم من يُرَد {يُرَدُّ} مضارع مغير الصيغة {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُرَدُّ}، {لِكَيْ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {كي}: حرف نصب ومصدر، {لَا}: نافية، {يَعْلَمَ}: فعل مضارع منصوب بـ {كي}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {بَعْدَ عِلْمٍ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يَعْلَمَ}، {شَيْئًا}: مفعول به لـ {يَعْلَمَ} أو للمصدر على سبيل التنازع، والجملة الفعلية مع {كي} المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعدم علمه شيئًا، الجار والمجرور متعلق بـ {يُرَدُّ}، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ}: ناصب واسمه وخبره، {قَدِيرٌ}: خبر ثان لـ {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {فَضَّلَ بَعْضَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {عَلَى بَعْضٍ}: متعلق بـ {فَضَّلَ}، وكذا يتعلق به قوله: {فِي الرِّزْقِ}،

والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {فَمَا} {الفاء}: عاطفة {ما}: حجازية، {الَّذِينَ}: في محل الرفع اسمها، وجملة {فُضِّلُوا} صلة الموصول، {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ}: خبرها ومضاف إليه، و {الباء} زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ}، {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بِرَادِّي}. {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}: صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: على ما ملكته أيمانهم، {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} مبتدأ وخبر، و {الفاء} عاطفة، و {فِيهِ}: متعلق بـ {سَوَاءٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المنفية في قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا}، {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {بنعمة الله}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بما بعده، وجملة {يَجْحَدُونَ} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والتقدير: أيشركون به فيجحدون نعمته، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {جَعَلَ} في محل الرفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، {لَكُم}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}، {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: حال من {أَزْوَاجًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَزْوَاجًا}: مفعول أول لـ {جعل}. {وَجَعَلَ}: فعل ماض، معطوف على {وَجَعَلَ} الأول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {لَكُم}: في محل المفعول الثاني له، {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}: حال من {بَنِينَ}، {بَنِينَ}: مفعول أول لـ {جعل} {وَحَفَدَةً}: معطوف عليه، {وَرَزَقَكُمْ}: فعل ومفعول، معطوف على {جَعَلَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، {أَفَبِالْبَاطِلِ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {بالباطل}: جار ومجرور متعلق بما بعده، {يُؤْمِنُونَ}: فعل

فاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكفرون بالله الذي شأنه هذا فيؤمنون بالباطل، {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَكْفُرُونَ} خبره، والتقدير: وهم يكفرون بنعمة الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يُؤْمِنُونَ}. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)}. {وَيَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل {يعبدون}؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْبُدُونَ}، {لَا}: نافية، {يَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، {لَهُمْ}: متعلق بـ {يَمْلِكُ}، {رِزْقًا}: مفعول {يَمْلِكُ}، وجملة {يَمْلِكُ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، {مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: متعلق بـ {رِزْقًا} لأنه اسم مصدر بمعنى إعطاءً، {شَيْئًا}: مفعول {رِزْقًا} لأنه مصدر يعمل عمل الفعل، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على جملة {لَا يَمْلِكُ} على كونها صلة الموصول. {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}. {فَلَا} {الفاء} فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم إنعام الله عليكم بهذه النعم المذكورة، وعجز الأصنام عنها، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم لا تضربوا لله الأمثال، {لَا تَضْرِبُوا}: فعل وفاعل وجازم، {لِلَّهِ}: متعلق به، {الْأَمْثَالَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَأَنْتُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنَّ}. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {عَبْدًا}: بدل من {مَثَلًا} بدل كل من كل، {مَمْلُوكًا}: صفة أولى لـ {عَبْدًا}، وجملة {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} صفة ثانية لـ {عَبْدًا}، {وَمَن}: اسم موصول أو نكرة موصوفة في محل النصب معطوف على {عَبْدًا}، {رَزَقْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لـ {من} الموصولة، أو صفة لها إن كانت موصوفة، {مِنَّا}: حال من {رِزْقًا}، {رِزْقًا}: مفعول ثان، {حَسَنًا}: صفة {رِزْقًا}، {فَهُوَ} {الفاء}: عاطفة، {هو}: مبتدأ، {يُنْفِقُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {مِنْهُ}: متعلق بـ {يُنْفِقُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، {سرا وجهرا}: إما منصوبان على المصدرية؛ أي: إنفاق سر وجهر، أو حالان من فاعل {يُنْفِقُ}، {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري {يَسْتَوُونَ}: فعل وفاعل، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {بَلْ}: حرف عطف وإضراب للإضراب الانتقالي {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ والجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {وَضَرَبَ} الأول، {رَجُلَيْنِ}: بدل من {مَثَلًا}، {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب صفة {رَجُلَيْنِ}، {لَا يَقْدِرُ}: فعل مضارع {عَلَى شَيْءٍ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {أَبْكَمُ} والجملة في محل الرفع صفة لـ {أَبْكَمُ}، {وَهُوَ كَلٌّ}: مبتدأ وخبر، {عَلَى مَوْلَاهُ}: متعلق بـ {كَلٌّ} والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَقْدِرُ} {أَيْنَمَا}: اسم شرط جازم يجزم فعلين في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط، {يُوَجِّهْهُ}: فعل مضارع ومفعول به، مجزوم بـ {أَيْنَمَا} على كونه جواب شرطٍ لها؛ وفاعله ضمير يعود على الأبكم.

{لَا يَأْتِ} مضارع مجزوم وهو جواب الشرط و {لَا} نافية {بِخَيْرٍ}: متعلق بـ {يَأْتِ}، وجملة الشرط مع جوابه في محل الرفع صفة ثانية لـ {أَبْكَمُ}، {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري، {يَسْتَوِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {أَبْكَمُ}، {هُوَ}: تأكيد للضمير المستتر في {يَسْتَوِي}، وجملة {يَسْتَوِي} جملة إنشائية مستأنفة، {وَمَن} عطف على الفاعل المستتر في {يَسْتَوِي} والشرط موجود وهو العطف بالضمير المنفصل وهو لفظ {هو} {يَأْمُرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن} الموصولة، {بِالْعَدْلِ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول {وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَى صِرَاطٍ}: خبره، {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صِرَاطٍ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستتر في {يَأْمُرُ}. {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}. {وَلِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {وَمَاَ} {الواو}: عاطفة {ما}: نافية مهملة لانتقاض نفيها بإلا، {أَمْرُ السَّاعَةِ}: مبتدأ ومضاف إليه {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {كَلَمْحِ الْبَصَرِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {أَوْ}: حرف عطف بمعنى بل الإضرابية، {هُوَ أَقْرَبُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بما بعده {قَدِيرٌ}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {أَخْرَجَكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أخرج} والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة عل جملة {أخرج}. {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}

فعل مضارع ومفعول به، والجملة في محل نصب حال من الكاف أي: غير عالمين شيئًا {وَجَعَلَ} عطف على {أَخْرَجَكُمْ} والفاعل تقديره هو. {لَكُمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ}، وهو في محل المفعول الثاني له، {السَّمْعَ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}: معطوفان عليه، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبره، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}. {أَلَمْ يَرَوْا} {الهمزة} فيه للاستفهام التقريري التعجبي، {لم}: حرف جزم، {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، {إِلَى الطَّيْرِ}: متعلق به، عداه بإلى لتضمينه معنى النظر، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، {مُسَخَّرَاتٍ}: حال من {الطَّيْرِ}، {فِي جَوِّ السَّمَاءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {مُسَخَّرَاتٍ}. {مَا}: نافية {يُمْسِكُهُنَّ}: فعل ومفعول {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {اللَّهُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثانية من {الطَّيْرِ}، {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام} حرف ابتداء، {لِقَوْمٍ}: صفة {آيات}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {لِقَوْمٍ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} والمراد بحياة الأرض إنباتها الزرع والشجر، وإخراجها الثمر {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ} قال الفراء والزجاج: النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد، ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، وقد جاء بالوجهين هنا، وفي سورة النور. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان (¬1): ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أحدهما أن يكون تكسير نعم، كالأجبال في جبل. والثاني: وأن يكون اسمًا مفردًا مقتضيًا لمعنى الجمع، كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله: في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُوْنَهُ وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وإنه في معنى الجمع، وفي "البيضاوي": الأنعام اسم جمع وقيل جمع نعم اهـ. {لَعِبْرَةً} والعبرة الاعتبار والعظة، وهو مصدر بمعنى العبور، أطلق على ما يعبر به إلى العلم مبالغة في كونه سببًا للعبور اهـ "زاده"، وفي "الشهاب": وأصل (¬1) معنى العبر والعبور التجاوز من محل إلى آخر، فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر، لكنه صار حقيقة في عرف اللغة اهـ. {نُسْقِيكُمْ} قال الزجاج: سقيته وأسقيته بمعنى واحد اهـ. كما مر {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} والفرث كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش اهـ. وإذا خرج من الكرش لا يسمى فرثًا اهـ. "خازن" بل يسمى روثًا، {خَالِصًا}؛ أي: مصفى من كل ما يصحبه من مواد أخرى، {سَائِغًا}؛ أي: سهل المرور في الحلق، يقال: ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه، قال تعالى: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}. {سَكَرًا} والسَّكر بفتحتين فيه أقوال (¬2): أحدها: أنه من أسماء الخمر. الثاني: أنه في الأصل مصدر، ثم سمي به الخمر، يقال سكر - من باب طرب وفرح - يسكر سكرًا بفتحتين، وسكرًا بضم فسكون. الثالث: أنه اسمٌ للخلِّ بلغة الحبشة، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اسم للعصير ما دام حلوًا، كأنه سمي بذلك لمآله لذلك لو ترك، وفي "القاموس": السكر محركة: الخمر، ونبيذ يتخذ من التمر، وقال بعضهم: السكر الخمر، والرزق الحسن الخل، الرُّب الطلاء الخاشر، والتمر والزبيب ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) الشهاب. (¬2) الفتوحات.

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}؛ أي: ألهمها وعلمها وأرشدها، {بُيُوتًا}؛ أي: أوكارًا، وأصل البيت مأوى الإنسان، واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه، لما فيه من دقة الصنع وجميل الهندسة {يَعْرِشُونَ} بكسر الراء وضمها من بابي ضرب ونصر، كما في "المختار"، وفي "القاموس": وعرش يعرش بني عريشًا، كأعرش وعرش بالتشديد اهـ. ويعرشون؛ أي: يرفعون من الكروم والسقوف، والسبل الطرق واحدها سبيل، والذلل جمع ذلول؛ أي: منقادة طائعة، والشراب العسل مختلف ألوانه؛ أي: من أبيض إلى أصفر إلى أسود بحسب اختلاف المرعى، {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردؤه وأخسه، يقال رذل الشيء يرذل رذالةً، وأرذله غيره، قال تعالى حكاية عما قاله قوم شعيب له: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}، والحفدة: أولاد الأولاد، على ما روي عن الحسن والأزهري جمع حافد، ككتبةٍ وكاتب، من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل، يقال منه حفد يحفد من باب ضرب حفدًا وحفودًا وحفدانًا إذا أسرع، كما جاء في القُنوت: "وإليك نسعى ونحفد". {رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} رزق السماء المطر، ورزق الأرض النبات والثمار التي تخرج منها، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}؛ أي: لا تجعلوا له الأنداد والنظراء، فهو كقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، وضرب (¬1) المثل للشيء ذكر الشبيه له، ليوضح حاله المبهمة، ويزيل ما عرض من الشك في أمره، {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} والبكم محركًا الخرس، وهو إمَّا ناشيءٌ من صمم خلقي، وإما لسبب عارض، ولا علة في أذنيه فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم؛ لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له، وليس كل أبكم يكون أصم صممًا طبيعيًّا، فإن بعض البكم لا يكونون صمًّا، وفي "القاموس" (¬2): البكم محركًا الخرس كالبكامة، أو مع عيٍّ وبله، أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر، وبكم كفرح فهو أبكم وبكيمٌ، والجمع بكم، وبكم ككرم امتنع عن الكلام تعمدا اهـ. والكل الغليظ الثقيل، من قولهم: من كَلَّتِ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) القاموس.

السكين، إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل عن الأمر ثقل عليه فلم يستطع عمله. {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}؛ أي: يرسله في وجهٍ معين من الطريق، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: طريق عادل غير جائرٍ، {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} والساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، وفي "الخازن": لمح البصر انطباق جفن العين وفتحه، والجفن طرف العين اهـ. وفي "البيضاوي": {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}؛ أي: إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها اهـ. وهذا يقتضي أنَّ اللمح معناه إغماض العين، والذي في كتب اللغة أنَّ معناه فتح العين والإبصار بها، ففي "المصباح": لمحت الشيء لمحًا من باب نفع نظرت إليه باختلاس البصر، وألمحته بالألف لغةٌ، ولمحته بالبصر صوبته إليه، ولمح البصر امتد إلى الشيء اهـ. {وَالْأَفْئِدَةَ} واحدها فؤاد، وهي القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن، والجو: الفضاء بين السماء والأرض. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} حيث (¬1) شبه تهييج القوى النامية في الأرض وإحداث نضارتها بالنباتات بالإحياء، وهو إعطاء الحياة، وهي صفةٌ تقتضي الحس والحركة، وشبه يبوستها بعد نضارتها بالموت بعد الحياة، فاشتق منه أحيا بمعنى أحدث نضارتها على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الطباق في هذه الآية بين: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} وبين {مَوْتِهَا}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومنها: المجاز في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} لأن العبرة حقيقةٌ في العبور الذي هو التجاوز من محل إلى آخر، فإطلاقه على ما يعتبر به مجازٌ، لكونه سببًا في العبور من الجهل إلى العلم، لكنه صار حقيقةً في عرف اللغة كما في "الجمل". ومنها: الاستعارة في قوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} حيث (¬1) شبه ما تبنيه لتعسل فيه ببناء الإنسان بجامع الحفظ في كل، فاستعار لفظ بيت على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: الجناس الناقص بين {كُلِي} و {كُلّ} في قوله: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ومنها: الإضافة في قوله: {سُبُلَ رَبِّكِ} إشارةٌ إلى كمال عنايته وعظيم إحسانه في تربيتها وإرشادها. ومنها: الالتفات (¬2) من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} ولو جاء على الكلام الأول لقيل من بطونك. ومنها: مجاز الأول في قوله: {شَرَابٌ}؛ أي: عسل يؤول إلى كونه مشروبًا للناس. ومنها: التنكير في قوله: {شِفَاءٌ} إشعارًا بالتبعيض، لأنه إنما يكون شفاءً لبعض الأمراض كالأمراض البلغمية، ويجوز أن يكون للتعظيم كما في "البيضاوي". ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} في مواضع عديدة اعتناءً بمقتضى السياق. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. ومنها: الاستفهام التوبيخي التقريعي في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الجمل.

ومنها: تقديم الصلة على الفعل في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} إمَّا (1) للاهتمام، أو لإيهام التخصيص مبالغة أو للمحافظة على الفواصل. ومنها: الطباق بين {يُؤْمِنُونَ} و {يَكْفُرُونَ} في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. ومنها: الإطناب في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وفي قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}، وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} فالآية تمثيل للصنم بالأبكم الذي لا ينتفع منه بشيء أصلًا مع القادر السميع البصير، فشتان ما بين الرب والصنم. ومنها: الطباق بين {سِرًّا وَجَهْرًا}. ومنها: الإتيان بضمير الجمع في قوله: {هَلْ يَسْتَوُونَ} نظرًا إلى تعدد أفراد كل فريق، لأن مقتضى السياق أن يقال: هل يستويان بضمير التثنية. ومنها: الحصر في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ} قال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في لمح البصر، أو في زمن أقرب منه، بل المراد بيان سرعة تأثير القدرة متى تعلقت الإرادة بشيء اهـ. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا أقام (¬1) الأدلة على توحيده .. أردف ذلك بذكر ما أنعم به على عباده، فجعل لهم بيوتًا يَأْوُوُن إليها، وتكون سكنًا لهم، وجعل لهم من جلود الأنعام بيوتًا يستخفون حملها في أسفارهم ويجعلونها خيامًا في السفر والحضر، وجعل لهم في الجبال الحصون والمعاقل، وجعل لهم الثياب التي تقيهم الحر، والدروع والجواشن من الحديد لتقي بعضهم أذى بعض في الحرب. وقصارى هذا: أنه امتن على عباده فبدأ بما يخص المقيمين بقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}، ثم بما يخص المسافرين منهم ممن لهم قدرة على ضرب الخيام بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا}، ثم بمن لا قدرة لهم على ذلك ولا يأويهم إلا الظلال بقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا}، ثم بما لا بد منه لكل أحد بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ ...} إلخ، ثم بما لا غنى عنه في الحروب بقوله: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}. وقال أبو حيان (¬2): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما مَنَّ به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم .. ذكر هنا ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجة عن دوابهم، من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (¬3) حال هؤلاء المشركين، وأنهم عرفوا نعمة الله، ثم أنكروها .. قفى على ذلك بوعيدهم، فذكر حالهم يوم القيامة، وأنهم يكونون أذلاء لا يؤذن لهم في الكلام لتبرئة أنفسهم، ولا يمهلون، بل يؤخذون إلى العذاب بلا تأخير، وإذا رأوا معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والأدميين .. قالوا: هؤلاء معبوداتنا، فكذبتهم تلك المعبودات، واستسلموا لربهم، وانقادوا له، وبطل ما كانوا يفترونه، ثم ذكر ذلك اليوم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

وهوله وما منح نبيه من الشرف العظيم، وأنه أنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما أشكل عليهم من مصالح دينهم ودنياهم، ويهديهم سواء السبيل، وفيه البشرى للمؤمنين بجنات النعيم. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما بالغ في الوعد للمتقين والوعيد للكافرين، وعاد وكرر في الترهيب والترهيب إلى أقصى الغاية .. أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وضروب التكاليف التي رسمها الدين، وحث عليها، لما فيها من إصلاح حال النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب، ثم ضرب الأمثال لمن يحيد عنها وينفر من فعلها، ثم أبان أن أمر الهداية والإضلال بيده، وأنه قد قدَّر بحسب استعداد النفوس للصلاحِ والغواية، وأنه سيجازي يوم القيامة كل نفس بما كسبت: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حذر من نقض العهود والأيمان على الإطلاق .. حذر في هذه الآية من نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان به واتباع شرائعه جريًا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، وأبان لهم أنَّ كل ذلك زائلٌ، وما عند الله باقٍ لا ينفد، ثم هو بعد يجزيهم الجزاء الأوفى. أسباب النزول قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن مجاهد أن أعرابيًّا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقرأ عليه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} قال: ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[80]

نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك يقول: نعم، حتى بلغ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فولَّى الأعرابيُّ فأنزل الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}. قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن بريدة قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 80 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {جَعَلَ لَكُمْ} أيها الناس {مِنْ بُيُوتِكُمْ} المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر، وهو تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة {سَكَنًا} فعل (¬1) بمعنى مفعول، كالقبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض؛ أي: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم؛ أي: والله سبحانه وتعالى هو الإله الذي جعل لكم أيها الناس من بيوتكم التي هي من الحجر والمدر مسكنًا تقيمون فيه، وأنتم في الحضر، {وَجَعَلَ لَكُمْ} سبحانه {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ} جمع نعم بالفتح، وهو مخصوص بالأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز {بُيُوتًا} أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة، وهي الخيام والقباب والأخبية والفساطيط من الأنطاع والأدم. واعلم (¬2): أنَّ المساكن على قسمين: أحدهما: ما لا يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما. والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي الخيام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله: {تَسْتَخِفُّونَهَا}؛ أي: تجدونها خفيفة، يخف عليكم نقضها وحملها ونقلها، {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}؛ أي: وقت ترحلكم وسفركم، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عَمرو (¬1): {ظعنكم} بفتح العين، وباقي السبعة: بسكونها، وهما لغتان، وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشَّعْر والشَّعَر لمكان حرف الحلق. {و} تستخفونها {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}؛ أي: وقت نزولكم في الضرب والبناء؛ أي: وجعل لكم قبابًا وفساطيط من جلود الأنعام وأشعارها وأصوافها وأوبارها، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم، وحين إقامتكم بها، وذلك (¬2) أن بعض الناس كالسودان يتخذون خيامهم من الجلود، اهـ شيخنا. وفي "البيضاوي": ويجوز أن يتناول المتخذة من الصوف والوبر والشعر، فإنها من حيث إنها نابتةٌ على جلودها، يصدق عليها أنها من جلودها اهـ. {و} جعل لكم {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} جمع صوف ووبر وشعر، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وإنما (¬3) ذكر الأصواف والأوبار والأشعار، ولم يذكر القطن والكتان، لأنهما لم يكونا ببلاد العرب اهـ "كرخي"؛ أي: وجعل سبحانه لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز {أَثَاثًا}؛ أي: ما يتمتع به في البيت خاصةً من الفرش والبسط والغطاء والوطاء، {وَمَتَاعًا}؛ أي: جميع ما تتمتعون به في البيت وخارجه من الفرش والأكسية واللباس والحبال والدلاء والإناء، فعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص، وقيل (¬4): إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان، ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، وفي "السمين": وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما اهـ. ومعنى {إِلَى حِينٍ}؛ أي: إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت أو إلى القيامة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات. (¬4) الشوكاني.

[81]

81 - ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيامٌ أو أبنية يستظل بها، لفقر أو لعارض آخر، فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جبال مثلًا .. نبَّه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُم} سبحانه {مِمَّا خَلَقَ}؛ أي: من غير صنع من جهتكم {ظِلَالًا}، أي: تستظلون به من شدة الحر، كالغمام والجبال والأشجار وغيرها، امتنَّ سبحانه بذلك لما أن تلك الديار غالبة الحرارة، ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد .. نبَّه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}؛ أي: أماكن تستكنون وتستترون فيها من الحر والبرد والمطر، من الكهوف والغيران والسروب، جمع كِنٍّ، وهو ما يستكن به من المطر ونحوه، فقد جعلها الله سبحانه عُدَّةً للخلق يأوون إليها، ويتحصنون بها، ويعتزلون عن الخلق فيها، قال عطاء (¬1): إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم، ألا ترى أنه تعالى قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} وما جعل من السهول أعظم منه، ولكنهم كانوا أصحاب جبال، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ}، جمع سربال، وهو كل ما يلبس؛ أي: وجعل لك ثيابًا من القطن والكتان والصوف وغيرها، {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} في الصيف، والبرد في الشتاء؛ أي: تدفع عنكم ضرر الحر والبرد، وخص الحر بالذكر اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، لعلمه منه لأن ما يقي من الحر .. يقي من البرد، أو لأن الوقاية منه كانت أهم عندهم من الوقاية من البرد، لغلبة الحر في بلادهم، أو لتقدمه في قوله تعالى: {فِيهَا دِفءٌ}. {و} جعل لكم {سَرَابِيلَ}؛ أي: دروعًا وجواشن من حديد {تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}؛ أي: تدفع عنكم ضرر السلاح في الحروب الواقعة بينكم؛ أي: تقيكم وتحفظكم من بأس السلاح وأذاه حين الحرب، وحين يتقدم القرن إلى قرنه للمصاولة والطعن والضرب، والرمي بالنِّبال؛ أي: تدفع البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب، والبأس (¬2) الشدة في الحرب والقتل والجراحة كما في "التبيان"، وأوَّل من عمل الدرع داود - عليه السلام - فإن الله تعالى ألان له الحديد كالشمع كما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[82]

قال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} وصحب لقمان داود شهورًا، وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها، فلما أتمها لبسها، وقال: نعم لبس الحرب أنت. {كَذَلِكَ}؛ أي: إتمامًا مثل إتمامنا عليكم هذه النعم التي تقدمت {يُتِمُّ} سبحانه وتعالى {نِعْمَتَهُ} الظاهرة والباطنة {عَلَيْكُمْ} يا معشر قريش {لَعَلَّكُمْ} تتفكرون فيها وتنظرون إليها، و {تُسْلِمُونَ}؛ أي: تستسلمون لأوامرنا، وتنقادون لرسولنا فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ أي: أتمها عليكم، وأعطاها لكم تامة، إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، والأنفسية والآفاقية، فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به وحده، وتذروا ما كنتم به تشركون، وتنقادوا لأمره. والمعنى: أي كما (¬1) خلق هذه الأشياء لكم، وأنعم بها عليكم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ويجعلكم ملوكًا وأمراء فيما تفتحون من البلاد والأصقاع، ويجعل رائدكم فيما تعملون وجه الله، وإصلاح الأمم والشعوب كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}. {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}؛ أي: توقعًا للنظر فيما أسبغ عليكم من النعم، فتعرفون حق المنعم بها، فتؤمنون به وحده، وتذرون ما أنتم به مشركون، فتسلمون من عذابه، فإن العاقل إذا أسدي إليه المعروف .. شكر من أنعم به عليه. وقرأ ابن عباس (¬2): {تتم} بتاء مفتوحة {نعمته} بالرفع، أسند التمام إليها اتّساعًا، وعنه {نِعْمَتَهُ} جمعًا، وقرأ {لعلكم تسلمون} بفتح التاء واللام، من السلامة والخلاص، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب، أو تسلمون من الشرك وأما {تسلمون} في قراءة الجمهور فمعناه: تؤمنون، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى المفضي إلى الإيمان والانقياد. 82 - وبعد أن عدد ما أنعم به عليهم من النعم .. ذكر ما يتبع معهم إذا هم أصرُّوا على عنادهم واستكبارهم، ولم تنفعهم الذكرى فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، فعل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[83]

ماض أو مضارع حذفت منه إحدى التائين، وفي صيغة (¬1) التفعل إشارة إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله، والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة؛ أي: فإن أعرضوا عن الإِسلام، ولم يقبلوا منك ما جئتهم به من التوحيد، واستمروا على تكذيبك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}؛ أي: فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغ {الْمُبِينُ}؛ أي: الموضح أو الواضح، وقد فعلته بما لا مزيد عليه، وليس عليك غير ذلك. والمعنى: أي فإن (¬2) استمروا على إعراضهم ولم يقبلوا ما أُلْقِي إليهم من البينات .. فلا يضيرك ذلك، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنك قد أديت رسالتك كاملة غير منقوصة، وما هي إلا البلاغ الموضِّح لمقاصد الدين، وبيان أسراره وحكمه، وقد فعلته بما لا مزيد عليه، وجملة القول: إتهم إن أعرضوا وتولوا .. فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، فإنما عليك البلاغ فحسب، وصرف الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسلية له، 83 - ثم بين أن سبب هذا التولي والإعراض لم يكن الجهل بهذه النعم، بل كان العتو والاستكبار والإنكار لها، فقال: {يَعْرِفُونَ}؛ أي: يعرف بعض المشركين {نِعْمَتَ اللَّهِ} المعدودة في هذه السورة، ويعترفون ويقرون بأن هذه النعم كلها من الله تعالى {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} بأفعالهم، حيث يعبدون غير منعمها، أو بقولهم إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسب كذا، والمعنى (¬3): ثم استبعاد الإنكار بعد حصول المعرفة. أي: إنهم يعرفون أنَّ هذه النعم كلها من الله تعالى، ثم هم ينكرونها بأفعالهم، إذ لم يخصوا المنعم بها بالعبادة والشكر، بل شكروا غيره معه، إذ قالوا: إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام، {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}؛ أي؛ المنكرون بقلوبهم، غير المعترفين بما ذكر من النعم، أو الكافرون بالله، وأقلهم الجاهلون، وعبر (¬4) هنا بالأكثر عن الكل، أو أراد بالأكثر العقلاء دون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[84]

الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهلٍ، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}. والمعنى: أي إن (¬1) أكثرهم جاحدٌ معاند يعلم صدق الرسول ولا يؤمن به، عتوًا واستكبارًا، وقليل منهم كان يجهل صدقه، ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله، لأنه لم ينظر في الأدلة النظر الصحيح، الذي يؤدي إلى الغاية، أو لم يعرف الحق لنقص في العقل، فهو لا يسلك سبيله، أو لم يصل إلى حد التكليف، فلا تقوم عليه حجة. 84 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون .. أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ}؛ أي: نحيي ونخرج من القبور، ويرجع إلى معنى نجيء ونأتي كما سيأتي، وهو يوم القيامة؛ أي: واذكر يا محمَّد لهؤلاء المشركين قصة يوم نحشر {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}؛ أي: قصة يوم نأتي من كل أمة من الأمم بشهيد ورسول، يشهد لهم بالإيمان لمن آمن منهم، ويشهد عليهم بالكفر والمعاصي على من كفر، {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} منهم من الاعتذار، وفي كثرة الكلام، ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمته تعالى، إذ لا عذر لهم، و {ثم} هنا (¬2) للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكلي، وهو عندما يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء - عليهم السلام - فهي للتراخي الرتبي، والعذر في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، أو فعلت ولا أعود، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: ولا الكفار يسترضون فيه؛ أي: لا يطلب منهم إرضاء ربهم بالتوبة والطاعة؛ أي: لا يطلب منهم العتبى؛ أي: الرجوع إلى طاعة الله تعالى؛ أي: لا يقال لهم أرضوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[85]

ربكم، ولا يطلب منهم ما يوجب العتبى، وهي الرضا، وذلك (¬1) لأن الرضا إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح، والآخرة دار الجزاء لا دار العمل والتكليف، والدنيا مزرعة الآخرة، فكل بذر فسد في الأرض، وبطل استعداده لقبول التربية، ولم يتم أمر نباته إذا حصد وحصل في البيدر، لا يفيده أسباب التربية، لتغيير أحواله، فالأرواح بذور في أرض الأشباح، ومربيها ومنبتها وثمرها أعمال الشريعة بشرط الإيمان، ومفسدها ومبطلها ومغيرها عن أحوالها الكفر وأعمال الطبيعة، والموت حصادها، والقيامة بيدرها. وحاصل المعنى: أي وخوِّف أيها الرسول هؤلاء المشركين، يوم نبعث من كل أمةٍ شاهدًا عليها بما أجابت داعي الله، وهو رسولها الذي أرسل إليها، إما بالإيمان وطاعة الله، وإما بالكفر والعصيان. {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ثم لا يسمع كلام الكافرين بعد شهادة أنبيائهم، ولا يلتفت إليه، إذ في تلك الشهادة ما يكفي للفصل في أمرهم والقضاء عليهم، والله عليم بما كانوا يفعلون، ولكن في تلك الشهادة تأنيبٌ لهم، وتوبيخ على ما اجترحوا من الفسوق والعصيان والكفر بربهم الذي أنعم عليهم، ونحو الآية قوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم؛ أي: غضبه بالتوبة وصالح العمل، فالآخرة دار جزاءٍ لا دار عملٍ، والرجوع إلى الدنيا ما لا يكون بحال. 85 - {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر {الْعَذَابَ}؛ أي: العذاب الذي يستوجبونه بظلمهم، وهو عذاب جهنم بعد شهادة الشهداء عليهم .. صاحوا وطلبوا من مالك الخازن تخفيف العذاب، {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} ذلك العذاب بعد الدخول {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: لا يمهلون قبله ليستريحوا، فعذابهم يكون دائمًا لأن التوبة هناك غير موجودة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[86]

أي: وإذا عاين هؤلاء الذين كذّبوا وجحدوا نبوة الأنبياء - وهم من - كانوا على نهج قومك من المشركين - عذاب الله .. فلا ينجيهم منه شيء، إذ لا يؤذن لهم بالاعتذار فيعتذرون، فيخفف عنهم بهذا العذر الذي يدعون، ولا يرجؤون بالعقاب، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، وإنما ذلك وقت الجزاء على الأعمال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. ونحو الآية قوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}. الثبور: الهلاك. 86 - ثم أخبر سبحانه عن إلقاء المشركين تبعة أعمالهم على معبوداتهم فقال: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ أي: إذا أبصروا يوم القيامة {شُرَكَاءَهُمْ}؛ أي: الأصنام التي يسمونها شركاء الله تعالى، وأوثانهم التي عبدوها .. {قَالُوا}؛ أي: قال المشركون يا {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ} الأصنام {شُرَكَاؤُنَا}؛ أي: آلهتنا التي جعلناها شركاء لك في الدنيا {الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو} هم ونعبدهم {مِنْ دُونِكَ}؛ أي: متجاوزين عبادتك؛ أي: هؤلاء الذين كنا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية، وهذا (¬1) اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، والتماس بتوزيع العذاب بينهم. أي: وإذا رأى هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دونه من الأوثان والآلهة التي عبدوها .. قالوا: هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك، والذين كنا ندعوهم آلهةً من دونك، وربما يكونون قد قالوا هذه المقالة طمعًا في توزيع العذاب بينهم، أو إحالة الذنب عليهم، تعللًا بذلك واسترواحًا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[87]

ثم ذكر تبرء آلهتهم منهم، وهم أحوج ما يكونون إلى نصرتهم، لو كانوا ينصرون {فَأَلْقَوْا} أي: شركاؤهم {إلَيْهِمُ}؛ أي: إلى المشركين {الْقَوْلَ} والجواب، يقال: ألقيت إلى فلان كذا؛ أي: قلت؛ أي: أنطقهم الله تعالى فأجابوهم بالتكذيب، وقالوا لهم: {إِنَّكُمْ} أيها المشركون {لَكَاذِبُونَ} في إدِّعائكم أننا شركاء لله، إذ ما أمرناكم بعبادتنا، وكنا مشغولين بتسبيح الله وطاعته، فارغين عنكم وعن أحوالكم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. أي: فبادر (¬1) شركاؤهم بالجواب إلى المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة، وإنكم عبدتمونا حقيقةً، بل إنما عبدتم أهواءكم. والمعنى: أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول، والمقصود (¬2) من إعادتها وبعثها أن تكذب الكفار، ويراها الكفار، وهي في غاية الذلة والحقارة فيزدادون بذلك غمًّا وحسرةً. ونحو الآية قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}. 87 - {وَأَلْقَوْا} أي: المشركون {إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ}؛ أي: الاستسلام والانقياد لحكمه بعد الاستكبار عنه في الدنيا؛ أي: أسرع (¬3) المشركون إلى الله يومئذٍ؛ أي يوم إذ تخاصموا مع آلهتهم، وهو يوم القيامة؛ أي: أسرعوا إلى الله بالانقياد والاستسلام لحكمه، فأقروا بالبراءة عن الشركاء، وبربوبية الله، بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه، لما عجزوا عن الجواب، لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم، لانقطاع التكليف. وروى يعقوب عن أبي عمرو: {السلم} بسكون اللام، وقرأ مجاهد: بضم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) المراح.

[88]

السين واللام. فإن قلت: كيف (¬1) أثبت للأصنام نطقا هنا، ونفاه عنهما في قوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}؟ فالجواب: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها، والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم، ودفع العذاب عنهم، فلا تنافي اهـ "كرخي". {وَضَلَّ}؛ أي: ضاع وبطل وذهب وزال {عَنْهُمْ}؛ أي: عن المشركين {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: افتراؤهم من أنَّ لله شركاء أنهم ينصرونهم ويشفعون لهم، وذلك حين كذَّبوهم وتبرؤوا منهم، أو ذهب (¬2) وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه افتراءً على الله، فلا ناصر لهم ولا معين ولا شفيع، ولا ولي مما كانوا يزعمونه في الدنيا، كما قال تعالى حكايةً عنهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. 88 - وبعد أن ذكر عذاب المضادِّين .. بيّن عذاب الضالين المضلين فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا} في أنفسهم {وَصَدُّوا}؛ أي: منعوا غيرهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن طريق الحق، وهي طريق الإِسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها، وحملوهم على الكفر {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا} بحيَّاتٍ (¬3) وعقارب وجوع وعطش وزمهرير وغير ذلك {فَوْقَ الْعَذَابِ} بالنار، فيخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة البرد إلى النار. أي (¬4): زادهم الله عذابًا لأجل الإضلال لغيرهم، فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل: زدنا القادة عذابًا فوق عذاب أتباعهم؛ أي: أشد منه، وقيل: إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك، {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}؛ أي: بسبب إفسادهم بذلك الصد. والمعنى: أي (¬5) الذين جحدوا نبوتك، وكذبوك فيما جئتم به من عند ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراغي.

[89]

ربك، وصدوا عن الإيمان بالله ورسوله من أراده .. زدناهم عذابًا فوق عذابهم الذي يستحقونه بكفرهم، بسبب استمرارهم على الإفساد بالصد عن سبيل الله. وخلاصة ذلك: أنهم يعذبون عذابين، عذابًا على الكفر، وعذابًا على الإضلال وصد الناس عن اتباع الحق، وفي الآية دليلٌ على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم فيها. 89 - ثم خاطب سبحانه عبده ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ}؛ أي: واذكر يا محمَّد لقومك قصة يوم نبعث ونحشر {فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}؛ أي: نبيًّا يشهد {عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: من (¬1) جنسهم، إتمامًا للحجة وقطعًا للمعذرة، لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم، ولوط - عليه السلام - لمَّا تأهل فيهم وسكن فيما بينهم .. كان منهم، وفي قوله: {عَلَيْهِمْ} إشعارٌ بأن شهادة أنبيائهم على الأمم تكون بمحضرٍ منهم، وهذا تكرير لما سبق لزيادة التهديد اهـ "أبو السعود"، وعبارة "الخطيب": ثم كرر سبحانه وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجهٍ يزيد على ما أفهمته الآية السابقة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} إلخ اهـ، وقيل معنى: {شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: أعضاؤهم (¬2) فالله تعالى ينطق عشرةً من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه، وهي العينان والأذنان والرجلان واليدان والجلد واللسان. وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ} معطوف على {نبعث}: أي: واذكر يوم جئنا بك يا محمَّد، وهو يوم القيامة؛ أي: يوم نأتي بك حالة كونك {شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}؛ أي: على قومك وأمتك، بما أجابوك وبما عملوا فيما أرسلناك به إليهم، وعبر بالماضي إشارةً إلى تحقق وقوعه، وتم الكلام هنا، ثم استأنف بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ} يا محمَّد {الْكِتَابَ} الكامل في الكتابية، الحقيق بأن يخص به اسم الجنس، وهو القرآن الكريم؛ أي: نزلناه عليك في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، كما يفيده صيغة التفعيل، حالة كونه: {تِبْيَانًا}؛ أي: بيانًا بليغًا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

فالتّبيان (¬1) أخص من مطلق البيان، على القاعدة: أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا، {لِكُلِّ شَيْءٍ} يتعلق (¬2) بأمور الدين، ومن ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم، أو لكل (¬3) شيء يحتاج إليه الناس من أمر الشريعة، إما بتبيينه في نفس الكتاب، أو بحالته على السنة، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} أو بإحالته على الإجماع كما قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، أو على القياس كما قال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس، فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: فاندفع ما قيل كيف قال الله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: ونحن نجد كثيرًا من أحكام الشريعة لم يعلم بالقرآن نصًّا، كعدد ركعات الصلاة، ومدة المسح، والحيض، ومقدار حد الشرب، ونصاب السرقة وغير ذلك، ومن ثم اختلفت الأئمة في كثير من الأحكام. اهـ "كرخي". {و} حالة كونه {هدى} للعباد؛ أي: هاديًا لهم من طريق الضلال إلى طريق الرشاد، {و} حالة كونه {رحمة} للعالمين إنسهم وجنهم، فإنَّ حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم، لا من جهة الكتاب، {وبشرى}؛ أي: بشارةً بالجنة {للمسلمين} خاصة؛ لأنهم المنتفعون بذلك، فهو متعلق بالبشرى، وهو متعلق من حيث المعنى بهدىً ورحمةً أيضًا. والمعنى (¬4): أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانًا لكل ما بالناس إليه حاجةٌ، من معرفة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، والهدى من الضلالة، ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرم حرامه، وبشرى لمن أطاع الله وأناب إليه بجزيل الثواب في الآخرة وعظيم الكرامة. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات. (¬4) المراغي.

[90]

ووجه (¬1) ارتباط هذا بما قبله بيان أن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك يوم القيامة عن ذلك، كما قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}، وقال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}، وقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}؛ أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادُّك إليه وسائلك عن أداء ما فرض، وتبيان (¬2) القرآن لأمور الدين إما مباشرة، وإما بيان الرسول، وقد أمرنا سبحانه باتباع هذا البيان في قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} الآية، وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أوتيت القرآن ومثله معه"، وإما ببيان الصحابة والعلماء المجتهدين له، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" وقد كان كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاجتهد الأئمة، ووطَّئوا طرق البحث في أمور الدين لمن بعدهم، واستنبطوا من الكتاب والسنة مذاهب وآراء في العبادات ومعاملات الناس بعضهم مع بعض، ودونوا تشريعًا ينهل منه المسلمون في كل جيلٍ، ويرجع إليه القضاة ليحكموا بين الناس بالعدل، وكان أجلَّ تشريع أخرج للناس كما اعترف بذلك أرباب الديانات الأخرى، وكذلك من لم يتدين منهم بدين. 90 - ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء .. ذكر عقبه آيةً جامعة لأصول التكليف كلها تصديقًا لذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَأْمُرُ} كُمْ في هذا الكتاب الكريم الذي أنزله إليك أيها الرسول {بِالْعَدْلِ}؛ أي: بالإنصاف، وهو قبول الحق والعمل به، ولا إنصاف أعظم وأجمل من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه، والشكر له على إفضاله، وحمده وهو أهل للحمد، ومنع ذلك عمن ليس له بأهل، فالأوثان والأصنام لا تستحق شيئًا منه، فمن الجهل عبادتها وحمدها، وهي لا تنعم فتشكر، ولا تنفع فتعبد، ومن ثم وجب أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أخرج ابن أبي حاتم عن محمَّد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل، فقلت: بخٍ سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبًا، ولكبيرهم ابنًا، وللمثل منهم أخًا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتكون من العادين. {و} يأمركم بـ {الإحسان} إلى من أساء إليكم، وأعلى مراتب الإحسان الإحسان إلى المسيء، وقد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن الشعبي أنه قال: قال عيسى ابن مريم - عليه السلام -: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وقد صح من حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإحسان أن تبعد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وفي "الشوكاني": وقد اختلف (¬1) أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، وقيل: العدل الفرض والإحسان النافلة، وقيل: العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية، وقيل: العدل الإنصاف والإحسان التفضل، والأول تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين، وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب، كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله تعالى في العبادات وغيرها وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسَّر الإحسان بأن يعبد الله العبدُ حتى كأنه يراه، كما مر آنفًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهذا هو معنى الإحسان شرعًا انتهى. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} والقربى مصدر بمعنى القرابة؛ أي: صاحب القرابة لكم؛ أي: ويأمركم الله سبحانه وتعالى في هذا الكتاب المنزل عليك بإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه من المال والدعاء بالخير، وهو داخل في الإحسان، وإنما أفرده بالذكر اهتمامًا بشأنه، وإظهارًا لجلالة صلة الرحم، وتنبيهًا على فضيلتها، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام، وترغيب في التصدق عليهم، والرحم (¬1) عام في كل رحم محرمًا كان أو غير محرم، وارثًا كان أو غير وارث، من أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات وغير ذلك، وقطع الرحم حرام موجب لسخط الله، وانقطاع ملائكة الرحمة عن بيت القاطع، والصلة واجبةٌ باعثةٌ على كثرة الرزق وزيادة العمر، سريعة التأثير، ومعناها التفقد بالزيادة والإهداء والإعانة بالقول والفعل، وعدم النسيان، وأقله التسليم وإرسال السلام أو المكتوب، ولا توقيت فيها في الشرع، بل العبرة بالعرف والعادة. {وَيَنْهَى} كم سبحانه وتعالى {عَنِ الْفَحْشَاءِ}؛ أي: عن الذنوب المفرطة في القبح، قولًا أو فعلًا، كالكذب والبهتان، والاستهانة بالشريعة، والزنى واللواطة ونحوها، وقيل: الفحشاء هي الغلو في الميل إلى القوة الشهوانية، كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع في مال الناس، {و} عن {المنكر}؛ أي: وعما تنكره النفوس الزاكية والعقول الكاملة السليمة، ولا ترتضيه من المساويء الناشئة من الغضب، كالضرب والقتل والتطاول على الناس، وفي "التأويلات": المنكر كل ما ينكر به عليك، من إضلال أهل الحق وإغوائهم، وإحداث البدع وإثارة الفتن، كما في أهالي هذا الزمان خصوصًا أصحاب الملاهي، {و} عن {البغي} والظلم والاستيلاء على الناس، والتعدي على حقوقهم، والتطاول عليهم بلا سبب، وتجسس عيوبهم، وغيبتهم، والطعن عليهم، والتجاوز من الحق إلى الباطل ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[91]

وخلاصة ما سلف (¬1): أن الله سبحانه يأمر بالعدل، وهو أداء القدر الواجب من الخير، والإحسان وهو الزيادة في الطاعة، والتعظيم لأمر الله، والشفقة على خلقه، ومن أشرف ذلك صلة الرحم، وينهى عن التغالي في تحصيل اللذات الشهوانية التي يأباها الشرع والعقل، وعن الإفراط في اتباع دواعي الغضب، بإيصال الشر إلى الناس وإيذائهم، وتوجيه البلاء إليهم، وعن التكبر على الناس، والترفع عليهم، وتصعير الخد لهم. {يَعِظُكُمْ} الله سبحانه وتعالى، يذكركم بما ذكره في هذه الآية من الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة، فإنها كافيةٌ في باب الوعظ والتذكير، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ أي: لإرادة أن تتعظوا، فتأتمروا بالأوامر، وتنتهوا عن المناهي، فتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى، وما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم. وقد أمر (¬2) الله سبحانه في هذه بثلاثة أشياء، ونهى عن ثلاثة أشياء، وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين، وجميع الخصال المحمودة والمذومة، ولذلك قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذا يقرؤها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة، لتكون عظةً جامعة لكل مأمور ومنهي، كما في "المدارك"، وقال السيوطي في "كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل": أول من قرأ في آخر الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إلخ عمر بن عبد العزيز، ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: يقرأ في آخر الخطبة، وكان عمر بن الخطاب يقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} إلى قوله: {مَا أَحْضَرَتْ}، وكان عثمان بن عفان يقرأ آخر سورة النساء {يَسْتَفتونَكَ} الآية، وكان علي بن أبي طالب يقرأ: الكافرون والإخلاص، ذكر ذلك ابن الصلاح، وأول من قرأ في الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية المهديُّ العباسيُّ، وعليه العمل في هذا الزمان؛ أي: في الخطب المطولة. 91 - وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال في الآية الأولى .. ذكر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

بعضها على سبيل التخصيص فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}؛ أي: استمروا (¬1) على الإيفاء بعهد الله سبحانه وتعالى، وعهد الله هو البيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام، فإنها مبايعة لله تعالى لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} والمبايعة من جهة الرسول هو الوعد بالثواب، ومن جهة الآخر التزام طاعته، وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهًا بالمعاوضة المالية، ثم هو عام لكل عهد يلتزمه الإنسان باختياره، لأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم، {إِذَا عَاهَدْتُمْ}؛ أي: إذا عاقدتم بيعة الله وعهده مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وواثقتموه باليمين، والعهد: العقد والميثاق، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}؛ أي: ولا تحنثوا الأيمان التي تحلفون بها عند المعاهدة؛ أي: لا تحنثوا في الحلف {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}؛ أي: بعد توثيقها وتشديدها وتغليظها بذكر اسمه تعالى، كما في "بحر العلوم"، وهذا القيد لموافقة الواقع، حيث كانوا يؤكدون أيمانهم في المعاهدة بما ذكر حينئذٍ، فلا مفهوم له، فلا يختص النهي عن النقض بحيالة التوكيد، بل نقض اليمين منهي عنه مطلقًا اهـ "أبو السعود"، أو يراد بالتوكيد القصد، ويكون احترازًا عن لغو اليمين، وهي الصادرة من غير قصد للحلف، وقال القرطبي: وإنما قال بعد توكيدها فرقًا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين اهـ. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}؛ أي: والحال أنكم قد جعلتم الله سبحانه وتعالى شاهدًا ورقيبًا عليكم، لأن (¬2) الكفيل مراعٍ لحال المكفول به مهيمن عليه، فإن (¬3) حلف باللهِ فقد جعل الله كفيلًا بالوفاء بسبب ذلك الحلف؛ أي: لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهدٌ علينا بالوفاء، {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من النقض والوفاء، فيجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وفي هذا ترغيب وترهيب، والمعنى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}؛ أي: وأوفوا (¬4) بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقًّا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل في ذلك كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

[92]

عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، ومن ثم قال ميمون بن مهران: من عاهدته وفِّ بعهده مسلمًا كان أو كافرًا، فإنما العهد لله تعالى. {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}؛ أي: ولا تخالفوا ما عاقدتم فيه الأيمان، وشددتم فيه على أنفسكم، فتحنثوا فيه وتكذبوا، وتنقضوه بعد إبرامه، وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه راعيًا يرعى الموفي منكم بالعهد، والناقض له بالجزاء عليه، ثم وعد وأوعد فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} في العهود التي تعاهدون الله الوفاء بها، والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبُّرون فيها، أم تنقضونها، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، وسائلكم عنه، وعما عملتم فيه، فاحذروا أن تلقوه وقد خالفتم أمره ونهيه، فتستوجبوا منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه. أخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر (¬1): أنَّ الآية نزلت في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان من أسلم يبايع على الإِسلام، فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، فلا تحملنكم قلة محمَّد وأصحابه، وكثرة المشركين، أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإِسلام، وإن كان في المسلمين قلة وفي المشركين كثرة. 92 - ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال: {وَلَا تَكُونُوا} أيها المؤمنون في نقض العهد {كَالَّتِي}؛ أي: كالمرأة التي {نَقَضَتْ}؛ أي: حلت وفكت، والنقض في البناء والحبل وغيره ضد الإبرام، كما في "القاموس" {غَزلَهَا}؛ أي: مغزولها؛ أي: ما غزلته وفتلته من صوف وقطن وغيرهما، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقض؛ أي: حلته وفكته من بعد إبرام ذلك الغزل وإحكامه، فجعلته {أَنْكَاثًا} حال من غزلها، جمع نكث بمعنى منكوث، كحمل وأحمال؛ أي: منكوثًا، وهو كل ما ينكث فتله؛ أي: يحل غزلًا كان أو حبلًا، والمعنى جعلته طاقات نكثت فتلها؛ أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون في نقضكم أيمانكم ¬

_ (¬1) المراغي.

بعد توكيدها وإعطائكم ربكم العهود والمواثيق كمن تنقض غزلها بعد إبرامه، وتنفشه بعد أن جعلته طاقات، حماقةً منها وجهلًا. قال السُّدِّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت غزلًا .. نقضته بعد إبرامه، وقال الكلبي ومقاتل: هي ريطة (¬1) - بفتح الراء والطاء المهملتين بينهما تحتية ساكنة - بنت عمرو بن سعد القرشية المكية، وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسةٌ، وكانت قد اتخذت مغزلًا قدر ذراع، وسنارةً مثل الأصبع، وهي بكسر السين الحديدة في رأس المغزل، وفلكةً عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر أو الوبر، وتأمر جواريها بالغزل، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار .. أمرتهن بنقض جميع ما غزلت، فكان هذا دأبها، والمعنى: إن هذه المرأة لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقض العهد، لا تركه ولا حين عاهد وفى. والخلاصة (¬2): أنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد فتله وإبرامه، تحذيرًا للمخاطبين وتنبيهًا إلى أنَّ هذا ليس من فعل العقلاء، وصاحبه في زمرة الحمق من النساء، وجملة قوله: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} حال من (¬3) الضمير في: {لا تكونوا}؛ أي: لا تكونوا مشابهين بامرأةٍ شأنها هذا، حال كونكم متخذين أيمانكم دخلا ومفسدةً وخديعة بينكم، بسبب {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ}؛ أي: جماعة قريش {هِيَ أَرْبَى}؛ أي: أزيد عَددًا وعُددًا وأوفر مالًا {مِنْ أُمَّةٍ} أي: من جماعة المؤمنين. أي: ولا تكونوا (¬4) كالتي نقضت غزلها، حالة كونكم تجعلون أيمانكم - التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم - خديعةً وغرورًا، ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا وأعز نفرًا، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[93]

عليها في كل حال. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز نفرًا، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرًا، فنهوا عن ذلك، وقيل: هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم، فينقضوا بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والظبي وإن كان واحدًا فهو خير من قطيع الخنزير. ومحل {هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} نصب على كونه خبر كان، وفي "المدارك": {هِيَ أَرْبَى} مبتدأ وخبر في موضع الرفع صفة لأمة، و {أُمَّةٍ}: فاعل {تكون} وهي تامة، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى. {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}؛ أي: بأن تكون أمة هي أربى من أمة؛ أي: يعاملكم بذلك معاملة من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال، والضمير في {بِهِ} إما عائد على المصدر المنسبك من {أَنْ تَكُونَ} أو على الوفاء بالعهد. ثم أنذر وحذر من خالف الحق وركن إلى الباطل فقال: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: وعزتي وجلالي ليبينن لكم ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه، لمجازاة كل فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته {مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا من إقرار المؤمن بوحدانية ربه، ونبوة نبيه، والوحي إلى أنبيائه، وتكذيب الكافر بذلك كله، وهذا إنذار وتخويف من مخالفة ملة الإِسلام ودين الحق، فإنها مؤدية إلى العذاب الأبدي. 93 - وبعد أن أبان أنه كلَّفهم بوفاء العهد، وتحريم نقضه .. أتبعه ببيان أنه قادر على جمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى مشيئة قسر وإلجاء، {لَجَعَلَكُمْ} أيها الناس {أُمَّةً وَاحِدَةً} متفقة على الإِسلام {وَلَكِنْ} لم يشأ ذلك لكونه مزاحمًا للحكمة الإلهية، بل شاء اختلافكم لحكمة لا يعلمها إلا هو، ولذلك {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} إضلاله بخذلانه إياه عدلًا منه، {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته بتوفيقه إياه فضلًا منه، وذلك مما

[94]

اقتضته الحكمة الإلهية، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. والمعنى: أي (¬1) ولو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة، ولم يجعل لهم اختيارًا فيما يفعلون، فكانوا في حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفي حياتهم الروحية أشبه بالملائكة، مفطورين على طاعة الله، واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزِّيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مفطورين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم، فللإنسان اختيار أوتيه بحسب استعداده الأزلي، وهو مجبور فيه، والثواب والعقاب يترتبان على هذا الاختيار، الذي يشاهد، وتكون عاقبته الجنة أو النار. {و} عزتي وجلالي {لتسألن} جميعا أيها الناس يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة، لا سؤال استفهام واستفسار {عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الوفاء والنقض ونحوهما، فتجزون به، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعقاب المسيء بإساءته، أو يغفر له، 94 - ثم لما نهاهم (¬2) سبحانه عن نقض مطلق الأيمان. نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة، فقال: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ}؛ أي: ولا تجعلوا أيمانكم أيها المؤمنون {دَخَلًا}؛ أي: مكرًا وخديعة وغدرًا {بَيْنَكُمْ} فتغروا بها الناس، فيسكنوا إلى أيمانكم ويأمنوا إليكم، ثم تنقضونها، وإنما كرر (¬3) هذا المعنى تأكيدًا عليهم، وإظهارًا لعظم أمر نقض العهد. قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام، نهاهم عن نقض عهده، لأن الوعيد الذي بعده، وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} لا يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان به وبشريعته {فَتَزِلَّ} نصب في جواب النهي؛ أي: فتسقط {قَدَمٌ}؛ أي: أقدامكم أيها المؤمنون عن محجة الحق {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها، ورسوخها فيها بالإيمان، وإفراد (¬4) القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

[95]

عزت أو هانت محذورٌ عظيمٌ، فكيف بأقدامٍ كثيرةٍ؛ أي: فتزلوا عن طاعة الله، فإن من نقض عهد الإِسلام فقد سقط عن الدرجات العالية، ووقع في الضلالة. {وَتَذُوقُوا السُّوءَ}؛ أي: العذاب السيء في الدنيا {بِمَا صَدَدْتُمْ}؛ أي: بصدودكم وخروجكم أو بصدكم ومنعكم غيركم {عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الذي ينتظم بالوفاء بالعهود والإيمان، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنةً لغيره، {وَلَكُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديد بنقضكم العهد. ومعنى الآية: أي (¬1) ولا تجعلوا أيمانكم خديعة تغرون بها الناس، والمراد نهي المخاطبين بذلك الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، ذلك أنهم بايعوا رسول الله - على الله عليه وسلم - على الإِسلام. وحلفوا على ذلك أوكد الإيمان، ثم نقضوا ما فعلوا لقلة أهله وكثرة أهل الشرك، فنهوا عن ذلك. قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الآية؛ أي: إنكم بعملكم هذا النقض تكونون قد وقعتم في محظورات ثلاثة: 1 - أنكم تضلون وتبعدون عن محجة الحق والهدى بعد أن رسخت أقدامكم فيها. 2 - أنكم تكونوا قدوة لسواكم، وتستنون سنةً لغيركم فيها صد عن سبيل الحق، ويكون لكم بها سوء العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال والجلاء عن الديار. 3 - أنكم ستعاقبون في الآخرة أشد العقاب جزاء ما اجترحتم من مجانفة الحق والإعراض عن أهله، والدخول في زمرة أهل الشقاء والضلال. 95 - ثم أكد هذا التحذير بقوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ}؛ أي: لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى وبيعة رسوله - على الله عليه وسلم - {ثَمَنًا قَلِيلًا}، من الدنيا؛ أي: لا تستبدلوا بها عوضًا يسيرًا؛ أي: لا تأخذوا في مقابلة نقضه عوضًا حقيرًا، وهو ما كانت قريش يعدون ¬

_ (¬1) المراغي.

[96]

ضعفة المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد من حطام الدنيا، {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} مما يعدونكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تفاوت ما بين العوضين أوفوا بعهدكم واحذروا عن نقضه. والمعنى: أي ولا تأخذوا في مقابلة نقض العهد عوضًا يسيرًا من الدنيا، وقد كان هذا حال قوم ممن أسلموا بمكة، زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جزعًا مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم للمؤمنين وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم به من البذل والعطاء إن هم رجعوا إلى دينهم، فنبههم الله تعالى بهذه الآية، ونهاهم عن أن يتبدلوا الخير العميم والنعيم المقيم في الآخرة بما وعدوهم به من عرض الدنيا وزينتها. ثم بين سبحانه قلة ما أخذوا وعظيم ما تركوا بقوله: {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: إن ما خبأه الله لكم وادخره من جزيل الأجر والثواب هو خير لكم من ذلك العرض القليل في الدنيا، إن كنتم من ذوي العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، التي تزن الأمور بميزان الفائدة، وتقدر الفرق بين العوضين. 96 - ثم بين وجه خيريته ورجاحة شأنه بقوله: {مَا عِنْدَكُمْ} أيها الناس من أعراض الدنيا وإن كثرت {يَنْفَدُ}؛ أي: يفنى وينقضي {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى من خزائن رحمته الدنيوية والآخروية {بَاقٍ} لا نفاد له ولا انتهاء ولا انقضاء، وهو حجة على الجهمية القائلين بأن نعيم الجنة يتناهى: ينقطع، ويصح الوقف عليه بثبوت الياء وبحذفها مع سكون القاف، وهما سبعيتان؛ أي: إن ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها تنفد وتنقضي، وإن طال الأمد وجل العدد، وما في خزائن الله باق لا نفاد له، فلما عنده تعالى فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. ثم رغب سبحانه المؤمنين في الصبر على ما التزموه من شرائع الإِسلام فقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي لنعطينَّ ولنثيبن {الَّذِينَ صَبَرُوا} على إذاية المشركين، وعلى مشاق التزام تكاليف الإِسلام التي من جملتها الوفاء

[97]

بالعهود والمواثيق {أَجْرَهُمْ} الخاص بهم بمقابلة صبرهم على الأمور المذكورة، وهو مفعول ثان لنجزين {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي (¬1): لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق التكليف وجهاد الكافرين، والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء، بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات، قيل: وإنما خصّ أحسن أعمالهم لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل: المعنى ولنجزينهم بجزاءٍ أشرف وأوفر من عملهم، كقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم، على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها، من الجزاء الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن، بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن كذا قيل، قال أبو حيان: والذي (¬2) يظهر أن المراد بالأحسن هنا الصبر؛ أي: ولنجزين الذين صبروا بصبرهم؛ أي: بجزاء صبرهم، وجعل الصبر أحسن الأعمال، لاحتياج جميع التكاليف إليه، وهو أس الأعمال الصالحة ورأسها، فكان الأحسن لذلك، وقرأ عاصم وابن كثير: {ولنجزين} بالنون وباقي السبعة بالياء. وفي الآية (¬3): عدةٌ جميلةٌ باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية. 97 - ثم رغبهم في المثابرة على أداء الطاعات وعمل الواجبات الدينية فقال: {مَنْ عَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} أيَّ عمل كان قوليًّا أو فعليًّا، وهو ما كان لوجه الله تعالى ورضاه، ليس فيه هوى ولا رياء، والفرق بينهما أن الهوى بالنسبة إلى النفس والرياء بالنسبة إلى الخلق، حال كون ذلك العامل {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}؛ أي: من رجل أو امرأة، بينه (¬4) بالنوعين ليعمُّهما الوعد الآتي، ولا يتوهم التخصيص بالذكور بناء على كثرة استعمال لفظ {مِنْ} فيهم، وأن الإناث لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات إلا بطريق التغليب أو التبعية {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن ذلك العامل {مُؤْمِنٌ} مخلص، قيده به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} في الدنيا {حَيَاةً طَيِّبَةً} فيعيش عيشًا طيبًا لأنه إن كان موسرًا فظاهر، وإن كان معسرًا يطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم في الآخرة، كالصائم يطيب نهاره بملاحظة نعيم ليله، بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسرًا فلا يدعه الحرص وخوف القوت أن يتهنأ بعيشه، واللام في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} لام قسم، وكذا في قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ}؛ أي: ونعطين أولئك العاملين في الآخرة {أَجْرَهُمْ} الخاص بهم وثوابهم الجزيل {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بما كانوا يعملون من الصالحات، وإنما أضيف (¬1) إليه الأحسن للإشعار بكمال حسنه، وقد قدَّمْنا قريبًا تفسير الجزاء بالأحسن في حق الصابرين فراجعه، ووحَّد (¬2) الضمير في {لنحيينه} وجمعه في {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} حملًا على لفظ {مِنْ} وعلى معناه، وروي (¬3) عن نافع: {وليجزينهم} بالياء بدل النون التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. والمعنى: أي (¬4) من عمل صالح الأعمال، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه، وهو مصدق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم .. فلنحيينه حياة طيبة تصحبها القناعة بما قسم الله له، والرضا بما قدره وقضاه، إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره، والله محسن كريم لا يفعل إلَّا ما فيه المصلحة، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال فلا يقيم لها في نفسه وزنًا، فلا يعظم فرحه بوجدانها، ولا غمه بفقدانها، ثم هو بعد ذلك يجزى في الآخرة أحسن الجزاء، ويثاب أجمل الثواب، جزاء ما قدم من عمل صالح، وتحلى به من إيمان صادق، أما من أعرض عن ذكر الله تعالى، فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا .. فهو في عناء ونكد، إذ يكون شديد الحرص والطمع في الحصول على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

لذات الدنيا، فإن أصابته محنة أو بلاءٌ .. استعظم أمره، وعظمت أحزانه، وكثر غمه وكدره، وإذا فاته شيء من خيراتها .. عبس وبسر، وامتلأ قلبه أسى وحسرةً، لأنه يظن أن السعادة كل السعادة في الحصول على زخرف هذه الحياة والتمتع بمتاعها، فإذا هو لم ينل منه ما يريد .. فقد حرم كل ما يحلم به ويقدِّره من وافر السعادة وعظيم الخير، والإنسان بطبعه جزوعٌ هلوع منوعٌ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)}. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو فيقول: "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليَّ كل غائبة لي بخير". وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قد أفلح من هدي إلى الإِسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به". وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه"، والله سبحانه وتعالى أعلم. الإعراب {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {جَعَلَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلَ}، {مِنْ بُيُوتِكُمْ}: جار ومجرور متعلق به أيضًا، وهو في محل المفعول الثاني، أو حال من {سَكَنًا}؛ لأنه صفة نكرةٍ قدمت عليه {سَكَنًا}: مفعول أول وفي "الفتوحات": قوله {سَكَنًا} يجوز (¬1) أن يكون مفعولًا أول على أن الجعل بمعنى التصيير، والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق فيتعدى لواحد انتهى، {وَجَعَلَ}: فعل ماض ¬

_ (¬1) الفتوحات.

معطوف على {جَعَلَ} الأول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {لَكُمْ}: متعلق به على كونه مفعولًا ثانيًا له، {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ}: متعلق به أيضًا، {بُيُوتًا}: مفعول أول، أو مفعول به إن كان {جَعَلَ} بمعنى خلق، {تَسْتَخِفُّونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة لـ {بُيُوتًا}، {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تستخفون}، {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، معطوف على الظرف الأول، {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلَ} المقدر {وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} معطوف على {أَصْوَافِهَا}، {أَثَاثًا} معطوف على {سَكَنًا}، وقد فصل (¬1) بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور وهو قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا}، وليس بفصل مستقبح كما زعم في "الإيضاح" لأنَّ الجار والمجرور مفعول، وتقديم مفعول على مفعول قياسي، {وَمَتَاعًا} معطوف على {أَثَاثًا} {إِلَى حِينٍ}: جار ومجرور صفة لـ {أَثَاثًا وَمَتَاعًا}؛ أي؛ منتفعين بهما إلى حين انقضاء الحاجة إليهما. {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {جَعَلَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {لَكُمْ}: متعلق بـ {جعل}، {مِمَّا}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، {خَلَقَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما خلقه، {ظِلَالًا}: مفعول {جَعَلَ}. {وَجَعَلَ}: معطوف على {جَعَلَ} قبله، {لَكُمْ}: متعلق به، {مِنَ الْجِبَالِ}: متعلق به أيضًا، وهو في محل المفعول الثاني لجعل، {أَكْنَانًا}: مفعول أول لـ {جعل}، {وَجَعَلَ}: معطوف على {وَجَعَلَ} أيضًا، {لَكُمْ}: متعلق به، {سَرَابِيلَ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {سَرَابِيلَ}، والجملة صفة لـ {سَرَابِيلَ}، {سَرَابِيلَ} معطوف على {سَرَابِيلَ} الأولى، {تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {سَرَابِيلَ}، والجملة صفة لـ {سَرَابِيلَ}. ¬

_ (¬1) العكبري.

{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة، والتقدير: يتم نعمته عليكم إتمامًا مثل إتمامه عليكم النعمة المذكورة، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تُسْلِمُونَ} خبره، وجملة {لَعَلَّ} مستأنفةٌ مسوقةً لتعليل ما قبلها. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}. {فإن} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بلَّغتهم ما أرسلت به إليهم، وأردت بيان حكم ما إذا أعرضوا عنه .. فأقول لك {إِنْ تَوَلَّوْا} {إن} حرف شرط، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا تَبْخَع نَفَسَك حسراتٍ عليهم، والجملة الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، {فَإِنَّمَا} {الفاء}: تعليلية، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {عَلَيْكَ}: خبر مقدم، {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، {الْمُبِينُ}: صفة لـ {البلاغ}، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية، والتقدير: فإن تولوا فلا قصور عليك في حقهم لعدم كون غير البلاغ عليك؛ أي: ليست هدايتهم عليك. {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {يَعْرِفُونَ}، {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}. {وَيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، تقديره: واذْكُر يوم نبعث،

{نَبْعَثُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم} {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نبعَثُ}، {شَهِيدًا}: فعول به، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {لَا}: نافية، {يُؤْذَنُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُؤْذَنُ}، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على {نَبْعَثُ}، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَلَا} {الواو} عاطفة، {لا}: نافية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُسْتَعْتَبُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على {لَا يُؤْذَنُ}. {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {رَأَى الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {ظَلَمُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {الْعَذَابَ} مفعول به {فَلَا} {الفاء} وابطة لجواب {إذَا} جوازًا {لا} نافية، {يُخَفَّفُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عَنْهُمْ}: متعلق به، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْعَذَابَ}، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، {وَلَا هُمْ} مبتدأ، وجملة {لا ينُظَرُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {لا يخفف}. {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)}. {وَإِذَا}: ظرف لما يستقبل، {رَأَى الَّذِينَ}: فعل وفاعل، فعل شرط لـ {إذا} {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {شُرَكَاءَهُمْ}: مفعول به لـ {رأى} لأنها بصرية، {قَالُوا}: فعل وفاعل، جواب {إذا} وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} الأولى. {رَبَّنَا}: إلى قوله: {فَأَلْقَوْا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال}،

{هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {الَّذِينَ}: صفة لـ {شُرَكَاؤُنَا}، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {نَدْعُو} خبره، وجملة {كان} صلة الموصول، {مِنْ دُونِكَ}: جار ومجرور حال من فاعل {نَدْعُو}؛ أي: حالة كوننا متجاوزين بعبادتنا إلى غيرك، {فَأَلْقَوْا} {الفاء}: عاطفة، {ألقوا}: فعل وفاعل، معطوف على {قَالُوا}، {إِلَيْهِمُ}: متعلق بـ {ألقوا} {الْقَوْلَ}: مفعول به، {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {لَكَاذِبُونَ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقالوا إنكم لكاذبون. {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)}. {وَأَلْقَوْا}: فعل وفاعل، معطوف على {فَأَلْقَوْا}، {إلَى اَللهِ}: متعلق به، وكذا يتعلق به الظرف في قوله: {يَوْمَئِذٍ}، {السَّلَمَ}: مفعول به، {وَضَلَّ}: فعل ماض، {عَنْهُمْ}: متعلق به، {مَا}: مصدرية، {كَانُوا}: فعل واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: وضل عنهم افتراؤهم. {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلته، {وَصَدُّوا}: فعل وفاعل، معطوف {كَفَرُوا}. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {وَصَدُّوا}، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا}: فعل وفاعل ومفعولان، {فَوْقَ الْعَذَابِ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {عَذَابًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يُفْسِدُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إفسادهم، الجار والمجرور متعلق بـ {زِدْنَا}.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. {وَيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم، {نَبْعَثُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نَبْعَثُ}، {شَهِيدًا}: مفعول به، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: صفة {شَهِيدًا}، {وَجِئْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {نَبْعَثُ}، {بِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَجِئْنَا}، {شَهِيدًا}: حال من ضمير {بِكَ}، {عَلَى هَؤُلَاءِ}: متعلق بـ {شَهِيدًا}. {وَنَزَّلْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتَابَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة، {تِبْيَانًا}: حال من {الْكِتَابَ} أو مفعول لأجله، {لِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {تِبْيَانًا}، {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى}: معطوفات على {تِبْيَانًا} {لِلْمُسْلِمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {بشرى}، وهو متعلق من حيث المعنى بهدى ورحمة أيضًا اهـ "سمين". {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَأْمُرُ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {بِالْعَدْلِ}: متعلق بـ {يَأْمُرُ}. {وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}: معطوفان عليه، {وَيَنْهَى}: فعل مضارع معطوف على {يَأْمُرُ}، {عَنِ الْفَحْشَاءِ}: متعلق به، {وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}: معطوفان على {الْفَحْشَاءِ}، {يَعِظُكُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {يَأْمُرُ} {وَيَنْهَى}، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَذَكَّرُونَ} خبره، وجملة {لعلَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}.

{وَأَوْفُوا}: فعل وفاعل، مستأنف، {بِعَهْدِ اللهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل مجرد من معنى الشرط متعلق بـ {أَوْفُوا}، {عَاهَدْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أوفوا}، {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَنْقُضُوا}، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ} فعل وفاعل ومفعول أول، {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، {كَفِيلًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {تَنْقُضُوا}، {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}، وجملة {تَفْعَلُونَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تفعلونه. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}. {وَلَا تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ {لا} الناهية، {كَالَّتِي}: جار ومجرور خبرها، وجملة {تَكُونُوا} معطوفة على جملة {تَنْقُضُوا}، {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نَقَضَتْ} {أَنْكَاثًا}: حال من {غَزْلَهَا}، أو مفعول ثان لـ {نَقَضَتْ} إذا كان بمعنى صَيَّرَتْ، أو منصوب على المفعولية المطلقة لأنه موافق لعامله في المعنى، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا}: فعل وفاعل ومفعولان، {بَيْنَكُمْ}: ظرف متعلق بـ {دَخَلًا}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من واو {تَكُونُوا}؛ أي: حالة كونكم متخذين أيمانكم دخلًا بينكم، {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ}: ناصب وفعل ناقص واسمه، {هِيَ}: مبتدأ، {أَرْبَى}: خبره، {مِنْ أُمَّةٍ}: متعلق بـ {أَرْبَى}، والجملة الاسمية في محل النصب خبر {تَكُونَ}، وجملة {تَكُونَ} مع {إِنَّ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام المقدرة؛ أي: لأجل كون أمة أربى

وأكثر من أمة، الجار والمجرور متعلق بـ {تتخذون}، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {يَبْلُوكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة، {بِهِ}: متعلق به {وَلَيُبَيِّنَنَّ} {الواو}: استئنافية، و {اللام} موطئة للقسم، {يبينن} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {لَكُمْ} متعلق به، وكذا يتعلق به {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول لـ {يبين}. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، {فِيهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {تَخْتَلِفُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلةٌ لـ {مَا} أو صفة لها. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} {لَجَعَلَكُمْ} {اللام}: رابطة لجواب {لَؤ} الشرطية، {جعلكم أمة}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {وَاحِدَةً}: صفة لـ {أُمَّةً}، والجملة الفعلية جواب لـ {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة، {وَلَكِنْ} {الواو} عاطفة، {لكن}: حرف استدارك، {يُضِلُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة {ألَوْ} الشرطية، {يَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إضلاله، وجملة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} معطوفة على جملة {يُضِلُّ}، {وَلَتُسْأَلُنَّ} {الواو} استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {تسألن}: فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع بثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو} المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل، وهو المفعول الأول لِسَأَل، لأنَّ أصله لَتُسْألُوْنَنَّ، {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {تسألن} وهو في محل المفعول الثاني لـ {سأل}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص

واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عمّا كنتم تعملونه. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا}: فعل وفاعل ومفعولان، {بَيْنَكُمْ}: متعلق بـ {دَخَلًا}، والجملة مستأنفة، {فَتَزِلَّ} {الفاء}) عاطفة سببية {تَزِلَّ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، {قَدَمٌ}: فاعل، {بَعْدَ ثُبُوتِهَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَزِلَّ} {وَتَذُوقُوا السُّوءَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {تزل}، وجملة {تزل} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر مُتصيِّد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، والتقدير: لا يكن اتخاذكم أيمانكم دخلًا بينكم فزلة قدم بعد ثبوتها وذوقكم السوء، {بِمَا صَدَدْتُمْ} {الباء}: حرف جر وسبب {ما}: مصدرية {صَدَدْتُمْ}: فعل وفاعل، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع {ما} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: بسبب صدكم عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ {تذوقوا}، {وَلَكُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {عَظِيمٌ}: صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تذوقوا}. {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}. {وَلَا تَشْتَرُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا تَتَّخِذُوا}، {بِعَهْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تشتروا}، {ثَمَنًا}: مفعول به، {قَلِيلًا}: صفة {ثَمَنًا}، {إِنَّمَا} {إن}: حرف نصب، {ما}: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسمها، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {ما} أو صفة لها، {هُوَ} ضمير فصل، {خَيْرٌ}: خبر {إنَّ} {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ} وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما

قبلها، وفي رسم {إِنْ} هذه اختلاف بين المصاحف العثمانية، ففي بعضها وصلها بـ {ما}، وفي بعضها فصلها عنها، كما ذكره ابن الجزري بقوله: وخُلْفُ الأنفَالِ ونَحْلٍ وَقَعا {إِنْ}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، وجملة {تَعْلَمُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجواب {إِنْ} محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون تفاوت ما بين العوضين فأوفوا بعهد الله واحذروا نقضه، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}. {مَا}: مبتدأ، {عِنْدَكُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف صله لـ {مَا}، {يَنْفَدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، وجملة {يَنْفَدُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} مبتدأ وصلته، {بَاقٍ}: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَلَنَجْزِيَنَّ} {الواو}؛ استئنافية، {اللام}: موطئة للقسم، {نجزين}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {أَجْرَهُمْ}: مفعول {نجزين}، {بِأَحْسَنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نجزين} و {الباء} بمعنى على، {أحسن} مضاف، {مَا}: موصولة في محل الجر مضاف إليه، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {عَمِلَ}: فعل ماض، وفاعله

ضمير يعود على {مَنْ}، {صَالِحًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها فعل شرط لها، {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}: جار ومجرور، حال من فاعل {عَمِلَ}، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {عَمِلَ} أيضًا، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، و {اللام} موطئة للقسم، {نحيين}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، و {الهاء} مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {حَيَاةً}: مفعول مطلق، {طَيِّبَةً}: صفة لـ {حَيَاةً}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم جواب {مَنْ} الشرطية، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} {الواو} عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {نجزينهم أجرهم} فعل ومفعولان ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأول، على كونها جواب {مَنْ} الشرطية، {بِأَحْسَنِ}: متعلق بـ {نجزين}، و {الباء} بمعنى على، {أحسن} مضاف، {مَا}: في محل الجر مضاف إليه، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} صلة لـ {مَا} أو صفة لها نظير ما تقدم. التصريف ومفردات اللغة {سَكَنًا}؛ أي: مسكنًا، وقال أهل اللغة: السكن فَعَلٌ بمعنى مفعول، كالقبض والنفض بمعنى المقبوض والمنفوض اهـ "سمين"؛ أي: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم. {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} والظَّعْنُ بسكون العين وفتحها: السَّيْرُ في البادية لِنُجْعَةٍ أو طلب ماءٍ أو مَرْتَعٍ، والأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، والأثاث متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها، ولا واحد له من لفظه، والمتاع ما يستمتع وينتفع به في المتجر والمعاش، وقال في "القاموس": الأثاث متاع البيت بلا واحد، أو المال أجمع، والواحدة أثاثة، والمتاع ما تمتعت به من الحوائج، والجمع أمتعة اهـ.

{إِلَى حِينٍ}؛ أي: إلى مدة من الزمان، فإنها لصلابتها تبقى مدةً مديدةً، أو إلى انقضاء آجالكم، {ظِلَالًا} جمع ظل، وهو ما يستظل به؛ أي: أشياء تستظلون بها من الحر، كالغمام والشجر والجبل وغيرها، {أَكْنَانًا}، جمع كن، وهو ما يستكن به؛ أي: مواضع تستكنون فيها من الكهوف والغِيران والسُّروب في الجبل، وفي "المختار": الكن: السترة، والجمع أكنان، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} والأكنة الأغطية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} الواحد كنان، وقال الكسائي: كن الشيء ستره وبابه ردَّ اهـ، وفي "القاموس": الكِن بالكسر وقاء كل شيء وستره، كالكنة والكنان بكسرهما، والكن البيت جمعه كنان وأكنة، وكنه كنا وكنونًا، وأكنه وكننه واكتنه ستره، واستكن: استتر كاكتن، والكنة جناح يخرج من حائط، أو سقيفة فوق باب الدار، أو ظلة هنالك أو مخدع اهـ. {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} جمع سربال، وهو القميص من القطن والكتَّان والصوف وغيرها، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وسرابيل الحرب الجواشن والدروع، والبأس الشدة في الحرب والقتل والجراحة كما في "التبيان" ويراد به هنا الحرب. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} فعل ماض من باب تفعل، أو مضارع حذفت منه إحدى التاءين، وفي صيغة التفعل إشارةٌ إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله، والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلفٍ ومعالجةٍ، ذكره في "روح البيان". {إلَّا الْبَلَاغُ} البلاغ اسم مصدر لبلغ بمعنى التبليغ، الذي هو مصدر بلغ المضعف، {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} الأمة الجيل من الناس، وشهيد كل أمة نبيها، {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يقال استعتبه وأعتبه إذا رضي عنه، واستعتبت فلانًا يعني أعتبته؛ أي: أزلت عتباه، واستفعل بمعنى أفعل غير مستنكر، قالوا: استدنيت فلانًا وأدنيته بمعنى واحد، وقيل: السين على بابها من الطلب بمعنى لا يطلبون عتباهم؛ أي: رجوعهم إلى الدنيا، وفي "المختار": عتب عليه وجد - وبابه ضرب ونصر -

ومعتبًا أيضًا بفتح التاء، والتعتب كالعتب، والاسم المعتبة بفتح التاء وكسرها، قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وعاتبه معاتبة وعتابًا، وأعتبه سره بعد ما ساءه، والاسم منه العتبى، ويقال استعتبه فأعتبه؛ أي: استرضاه فأرضاه انتهى. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: يمهلون ويؤخرون {شُرَكَاءَهُمْ} والشركاء الأصنام والأوثان والشياطين والملائكة، {نَدْعُو} نعبد، {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أصله فألقيوا، لأنه من ألقى تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا فالتقى ساكنان الألف والواو ثم حذفت الألف فصار فألقوا، و {السَّلَمَ} الاستسلام والانقياد، {وَضَلَّ} ضاع وبطل، والمراد بهؤلاء أمته الحاضر منهم عصر التنزيل، ومن بعدهم إلى يوم القيامة. {تِبْيَانًا}؛ أي: بيانًا لأمور الدين إمَّا نصًّا فيها، أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين في كل عصر، وهو مصدر بين بيانًا وتبيينًا وتبيانًا، زيدت التاء للمبالغة، ولم يجيء من المصدر على هذه الزنة إلَّا لفظان هذا والتلقاء، وفي الأسماء كثير نحو التمساح والتمثال. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} و {العدل} لغة المساواة في كل شيء بلا زيادة ولا نقصان فيه، والمراد به هنا المكافأة في الخير والشر، {وَالْإِحْسَانِ} مقابلة الخير بأكثر منه، والشر بالعفو عنه، {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}؛ أي: إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، {والفحشاء} ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع والسرقة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة، {وَالْمُنْكَرِ} ما تنكره العقول من دواعي القوة الغضبية، كالضرب الشديد والقتل، والتطاول على الناس، {وَالْبَغْيِ} الاستعلاء على الناس، والتجبر عليهم بالظلم والعدوان، والوعظ: التشبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد، والعهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد، ونقض اليمين: الحنث فيها، وأصله فك أجزاء الجسم بعضها من بعض، و {تَوْكِيدِهَا} توثيقها، والتشديد فيها بزيادة الأسماء والصفات فيها، والتوكيد مصدر وكد يوكد

بالواو، وفيه لغة أخرى: أكد يؤكد بالهمزة، ومعناه التقوية، وهذا كقولهم: ورخت الكتاب وأرخته، وليست الهمزة بدلًا من واو كما زعم أبو إسحاق، لأن الاستعمالين في المادتين متساويان، فليس ادعاء كون أحدهما أصلًا أولى من الآخر، وتبع مكيُّ الزجاج في ذلك ثم قال: ولا يحسن أن يقال الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال في أحد إنَّ أصله وحدٌ، فالهمزة بدل من الواو، يعني أنه لا قائل بذلك، وتبعه الزمخشري أيضًا، وتوكيدها مصدر مضاف لمفعوله اهـ "سمين"؛ أي: بعد توكيدكم لها. {كَفِيلًا}؛ أي: شاهدًا ورقيبًا، و {الغزل} ما غزل من صوف وقطن ونحوهما، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} القوة هنا الإبرام والإحكام، {أَنْكَاثًا} والأنكاث جمع نكث بكسر النون، كأحمال وحمل، وهو ما ينكث فتله وينقض بعد غزله، وفي "المصباح": نكث الرجل العهد نكثًا - من باب قتل نقضه ونبذه - فانتكث مثل نقضه فانتقض، ونكث الكساء وغيره نقضه أيضًا، والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانيًا، والجمع أنكاث مثل حمل وأحمال اهـ. {دَخَلًا} والدَّخل بفتحتين المكر والخديعة والفساد، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحًا فهو دخل، والدخل ما يدخل في الشيء وليس منه، وأصل الدخل العيب. والعيب ليس من الشيء الذي يدخل فيه اهـ شيخنا، ويراد به هنا أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى}؛ أي: أكثر وأوفر عدادا وعددًا، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} زلَّة القدم بعد ثبوتها: مثلٌ يقال لمن وقع في محنة بعد نعمة، وبلاءٍ بعد عافية، {بِمَا صَدَدْتُمْ} إما من صدَّ اللازم؛ أي: بامتناعكم منها، أو من صَدْ المتعدي؛ أي: بمنعكم غيركم، وفي "المصباح": صددته عن كذا صدًّا، من باب قتل، منعته وصرفته، وصددت عنه أعرضت، وصد من كذا يصد من باب ضرب وضحك اهـ. {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} والنفاد الفناء والذهاب، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادًا ونفودًا، وأما نفذًا بالمعجمة ففعله نفذ بالفتح، ينفذ بالضم، ويقال:

أنفذ القوم، إذا فني زادهم اهـ "سمين"، والحياة الطيبة: هي القناعة وعدم الحرص على لذات الدنيا لما في ذلك من الكد والعناء. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ} إن قلنا: إن المراد بالبيوت المتخذة من جلودها الخيام المتخذة من الصوف والوبر والشعر .. فهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، من حيث إنها نابتة على جلودها، فيصدق عليها أنها من جلودها، كما أشار إليه في "الجَمَل". ومنها: الطباق في قوله: {يَعْرِفُونَهُ}، وقوله: {يُنْكِرُونَهَا}، وفي قوله: {ظَعْنِكُمْ} و {إقَامَتِكُمْ}، وفي قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. ومنها: الاكتفاء في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد، والاكتفاء عندهم ذكر أحد متقابلين وحذف الآخر لعلمه من المذكور. ومنها: الحصر في قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} لزيادة التهديد. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} إن قلنا: إنه ماض مسند إلى ضمير الغائب، ويصح أن يكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين، وأصله تتولوا، فهو حينئذٍ على الظاهر، فلا التفات فيه. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} أمر بثلاثة ونهى عن ثلاثة، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأنه في قوله: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} بعد لفظ الإحسان الذي هو عام فيه وفي غيره.

ومنها: إيثار صيغة الاستقبال في قوله: {يَأْمُرُ} {وَيَنْهَى} لإفادة التجدد والاستمرار كما ذكره "أبو السعود". ومنها: حذف متعلقات العدل والإحسان والبغي؛ ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به إليه ويُبغى فيه. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن الترجِّي والتمني ليس مرادًا من لعل، لأن ذلك محالٌ على الله سبحانه وتعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تذكروا طاعته اهـ "كرخي". ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية، شبه تعالى من يحلف ثم لا يفي بعهده بالمرأة التي تغزل غزلًا ثم تنقضه، في القبح وعدم النفع بعمله. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استعار القدم للرسوخ في الدين، والتمكن فيه، لأن أصل الثبات يكون بالقدم، ولما كان الزلل عن محجة الحق يشبه زلل القدم وانزلاقها عن محلها .. عبر عنه بالإنزلاق الحسي على طريقة الاستعارة التصريحية. ومنها: إفراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أيَّ قدم كانت عزت أو هانت محذورٌ عظيم، فكيف بأقدام كثيرة اهـ "أبو السعود". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}.

المناسبة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم .. أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعمالهم من وساوس الشيطان. وعبارة أبي حيان (¬2): مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وذكر أشياء مما بيّن في الكتاب، ثم ذكر قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} ذكر ما يصون به القارئ قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعاذة منه إذا أخذ في القراءة، فإن كان الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظًا فالمراد أُمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث: "إنَّ ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات". قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬3) بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن .. أردف ذلك بذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر منها شبهتين: 1 - أنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعةً ماضية، فيعيرون محمدًا بذلك. 2 - أنهم قالوا: إنَّ ما جاء به إنما هو تعليم من البشر، من بعض أهل الكتاب، لا من الله، فأبطل هذه الشبهات بأنه كلام عربي مبين، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمي، فكيف يعلمه الكلام العربي الفصيح، الذي أعجز العرب قاطبةً أن يأتوا بمثله. قوله تعالى: {منْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬4) في الآيات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

السالفة أن قريشًا كفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولوا عليه الأقاويل، فوصفوه بأنه مفتر، وأن الكتاب الذي جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله، ثم هدّدهم على ذلك أعظم تهديد .. أردف ذلك ببيان حال من يكفر بلسانه وقلبه مليء بالإيمان. قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فيما سلف حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحكم بأنه استحق غضب الله وعذابه الأليم يوم القيامة، ثم ذكر حال من أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه مليءٌ بالإيمان .. أردف ذلك بذكر طائفة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم، فوافقوا المشركين على الفتنة في الدين والرجوع إلى دين أبائهم وأجدادهم، ثم فروا وتركوا بلادهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله وطلب غفرانه، وانتظموا في سلك المسلمين وجاهدوا معهم الكافرين فحكم ربهم بقبول توبتهم، ودخولهم في زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم يوم العرض والحساب. قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما هدد الكافرين بالعذاب الشديد في الآخرة .. أردف ذلك الوعيد بآفات الدنيا من جوع وفقر وخوف شديد، بعد أمن واطمئنان وعيش رغد. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ الله ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬2) حال من كفروا بأنعم الله، وكذبوا رسوله، وأنه قد حل بهم العذاب من جوع وخوف، بسبب ظلمهم لأنفسهم، وصدهم عن سبيل الله .. قفى على ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب، وشكرهم لنعمة الله عليهم، وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى، كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم، ثم بين ما حرمه من المآكل، وأنَّ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين، لا بالهوى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

والتشهي، لأن ذلك افتراء على الله، ومن يفتر عليه لا يفلح، وأنَّ ما حرم على اليهود قد ذكره فيما نزل عليه من قبل في سورة الأنعام، وأنَّ من يعمل السوء لعدم تدبره في العواقب كغلبة الشهوة عليه، ثم يتوب من بعد ذلك ويصلح أعماله فإن الله غفور لزلاته رحيم له، فيثيبه على طاعته. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما (¬1) أخرجه ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم قَينًا بمكة اسمه بَلْعَام، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله سبحانه قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ...} الآية، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، أحدهما يقال له يسارٌ والآخر جبرٌ، وكانا صيقليين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر بهما فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت هذه الآية {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ...} الآية. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهاجر إلى المدينة .. أخذ المشركون بلالًا وخبابًا وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. حدثه، فقال: "كيف كان قلبك حين قلت، أكان منشرحًا بالذي قلت"، قال: لا، فأنزل الله سبحانه {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...}. وأخرج (¬2) عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة: أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[98]

فأدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم، فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإِسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} إلى آخر الآية، قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} فكتبوا إليهم بذلك، إن الله قد جعل لكم مخرجًا، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم، ثم نجا من نجا، وقتل من قتل الحديث. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن شريك وهو ثقة. وأخرج (¬1) ابن سعد في "الطبقات" عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 98 - {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}؛ أي: فإذا أردت قراءة القرآن. عبّر (¬2) عن الإرادة بالقراءة على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب، إيذانًا بأنَّ المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}؛ أي: فاسأل الله سبحانه وتعالى أن ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

يُعيذك ويحفظك {مِن} وساوس {الشَّيْطَانِ}؛ أي: البعيد عن الخير {الرَّجِيمِ}؛ أي: المرجوم بالطرد واللعين؛ أي: من وساوسه وخطراته، كيلا يوسوسك عند القراءة، فإن ناصية كل مخلوق بيده سبحانه، أو قل: أعوذ بالله من الشيطان، وهو المختار من الروايات الأربع عشرة الواردة في ألفاظ الاستعاذة. والخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به الأمة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الشيطان، وإنما خُصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - به لتعتبر الأمة، وتنتبه إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم فغيره أولى بها وأخق، ولمَّا (¬1) كان الشيطان ساعيًا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، وكانت الاستعاذة بالله مانعةً من ذلك .. أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان. وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة: "قال: الله أكبر كبيرًا ثلاثًا والحمد لله ثلاثًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا ثلاثًا، أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته، قال: نفخته الكبر، ونفثته السحر، وهمزته الموتة" أخرجه أبو داود، الموتة الجنون. والفاء في قوله (¬2): {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} للتعقيب، فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أبي هريرة، وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري، قالوا: لأن قارئ القرآن يستحق ثوابًا عظيمًا، وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا، فإذا استعاذ بعد القراءة .. اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصًا، فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن .. فاستعذ باللهِ، ومثله قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} إلخ، لأن الوسوسة إنما تحصل ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[99]

في أثناء القراءة، فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب عنه الوسوسة أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها. ومذهب عطاء أن الاستعاذة تجب عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، لأن الأمر للوجوب واتفق سائر الفقهاء على أنَّ الاستعاذة سنةٌ في الصلاة وغيرها، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف في أوائل سورة الفاتحة. والاستعاذة (¬1): الاعتصام باللهِ والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته، والمراد من الشيطان إبليس، وقيل: هو اسم جنس يطلق على جميع المَرَدةِ من الشياطين، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إيَّاهم على ذلك. والمعنى (¬2): إذا قصدت الشروع في قراءة القرآن .. فاسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذك فيها من وساوس الشيطان الرجيم، لئلا يلبس عليك قراءتك، ويمنعك من التدبر التفكر فيها، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} لماذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة مع عصمته منه، فما بالك بسائر أمته. ثم بين أن الناس فريقان: 99 - فريق لا تسلط له عليهم، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشيطان أو الشأن {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ}؛ أي: تسلط وولاية {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} بربهم، وصدقوا بوحدانيته وقدرته {وَعَلَى رَبِّهِمْ} لا على غيره {يَتَوَكَّلُونَ}، أي: يعتمدون، وإليه يفوضون أمورهم دينًا ودنيا؛ أي: إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله تعالى، ويفوضون أمورهم إليه، وبه يعوذون، وإليه يلتجئون، فلا يقبلون ما يوسوس به، ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته، وعن سفيان الثوري أنه قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه ليحفظهم الله تعالى من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[100]

وساوسه، التي ربما جرتهم إلى الوقوع في صغائر الآثام إذا وقعت على سبيل الندرة أو الغفلة. ولما أمر (¬1) القارئ بأن يسأل الله تعالى أن يعيذه من وساوسه، وتوهم منه أن له تسلطًا وولايةً على إغواء بني آدم كلهم .. بيَّن الله تعالى أن لا تسلط له على المؤمنين المتوكلين، فقوله: {إِنَّهُ} إلخ في معرض التعليل للأمر بالاستعاذة، وإشار إلى أن مجرد القول لا ينفع، بل لا بد لمن أراد أن لا يكون للشيطان سبيل عليه أن يجمع بين الإيمان والتوكل. 100 - والفريق الثاني الذين عناهم بقوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}؛ أي: تسلطه بالغواية والضلالة، وغلبته بدعوته المستتبعة للاستجابة، لا سلطانه بالقسر والإلجاء، فإنه مُنْتَفٍ عن الفريقين، لقوله تعالى حكايةً عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وقد أفصح عنه قوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}؛ أي: إنما تسلطه وغلبته على الذين يتخذونه وليًّا، ويجعلونه ناصرًا لهم، فيحبونه ويطيعونه، ويستجيبون دعوته، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ}؛ أي: بسبب إغوائه وإضلاله {مُشْرِكُونَ}؛ أي: يشركون بربهم غيره في العبادة والطاعة، وقيل: الضمير في {بِهِ} عائد إلى الله؛ أي: والذين هم مشركون به تعالى غيره من الأصنام وسائر معبوداتهم. 101 - {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}؛ أي: وإذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلًا منها بأن نسخناها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} من (¬2) التغليظ والتخفيف في مصالح العباد، وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد، فالمصالح تدور وهذه الجملة معترضة، لاعتراضها بين الشرط، وهو {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً} وجوابه وهو {قَالُوا} لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء في التبديل، وللتنبيه على فساد رأيهم؛ أي: والله أعلم بما ينزل أولًا وآخرًا من الأحكام والشرائع، التي هي مصالح، ورب شيء يكون مصلحةً في وقت يكون مفسدةً في وقت آخر، فينسخه ويثبت مكانه ما يكون مصلحة لخلقه؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

أي: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكمًا آخر {قَالُوا}؛ أي: الكفار من أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمَّد {مُفْتَرٍ}؛ أي: مختلقٌ من عند نفسك، كاذب على الله، متقول عليه بما لم يقل، حيث تزعم أنه أمرك بشيء، ثم تزعم أنه أمرك بخلافه، فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} شيئًا من العلم أصلًا، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ، فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحةٌ مؤقتة بوقتٍ، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب، ومنهج العدل والرفق واللطف، وأقلهم يعلم الحكمة في النسخ، ولكن ينكر عنادًا، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها .. تقول كفار قريش: والله ما محمَّد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر، وغدًا ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى الآية: أي (¬1) وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى - والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه - قال المشركون المكذبون لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنت يا محمَّد متقوِّل على الله، تأمر بشيء، ثم تنهى عنه، وأكثرهم لا يعلمون ما في التبديل من حكم بالغة، وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادًا واستكبارًا. وفي قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} توبيخ لهم، وإيماءٌ إلى أن التبديل لم يكن عن الهوى، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه ثم إذا أعاده مرةً أخرى .. نهاه عن ذلك الدواء، وأمره بضده، أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض. وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان، والأحوال الملابسة، ¬

_ (¬1) المراغي.

[102]

وقد يطرأ ما يغيِّرها ويستدعي وضع تشريع آخر، يكون أصلح للأحوال المفاجئة، والمشاهدة تدل على صدق هذا فإنا نرى القوانين الوضعية تغير آنًا بعد آن، إذا جد ما يستدعي ذلك. 102 - ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه فقال: {قُل} لهم يا محمَّد {نَزَّلَهُ}؛ أي: نزل هذا القرآن المدلول عليه بذكر آية، وفي {ينزل} (¬1) و {نزَّل} تنبيه على أن إنزاله كان مدرجًا بحسب الوقائع {رُوحُ الْقُدُسِ}؛ أي: الروح المطهر من الأدناس البشرية، وهو جبريل - عليه السلام -، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كحاتم الجود، وطلحة الخير، وقرأ ابن كثير: {نزله روح القدس} بالتخفيف كما في "البيضاوي"، {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و {بِالْحَقِّ} في موضع الحال؛ أي: نزله حالة كونه متلبسًا بكونه حقًّا ثابتًا موافقًا للحكمة البالغة المقتضية له، بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخا وفيه دلالة على أن النسخ حق. {لِيُثَبِّتَ} الله سبحانه وتعالى، أو (¬2) جبريل مجازًا {الَّذِينَ آمَنُوا} على الإيمان، بأن القرآن كلام الله، فإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال .. رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم، على أن الله تعالى حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب {وَهُدًى} من الضلالة {وَبُشْرَى} بالجنة {لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحكمه تعالى، وهما معطوفان على محل {لِيُثَبِّتَ} فهما منصوبان باعتبار لفظه المقدّر عليه الإعراب، ومجروران باعتبار المصدر المؤول، والتقدير: تثبيتًا لهم وهداية وبشارة، أو لتثبيت الذين آمنوا وهدايتهم وبشارتهم، وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار، وقرىء (¬3): {لِيُثَبِّتَ} مخففًا من أثبت الرباعي. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[103]

وحاصل معنى الآية: أي قل لهم (¬1) يا محمَّد قد جاء جبريل من عند ربي بما أتلوه عليكم، واقتضته الحكمة البالغة من تثبيت المؤمنين، وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلةٍ قاطعةٍ، وبراهين ساطعةٍ على وحدانية خالق الكون، وباهر قدرته، وواسع علمه، وحث على النظر في ملكوت السموات والأرض، وتشريع يرقى بالأمم في أخلاقها وآدابها ومعارفها إلى مستوى لا تدانيها فيه أمةٌ أخرى. والخلاصة: أنه نافع كل النفع لهم في دينهم ودنياهم، فإذا هم رأوا ذلك .. رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم، كما أن فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذب النفوس ويكبح جماع الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم، وفي هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا كما مر، فهم متزلزلون ضالون، لهم خزيٌ ونكالٌ في الدنيا والآخرة. 103 - ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد نعلم علمًا مستمرًا نحن أن كفار مكة يقولون جهلًا منهم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}؛ أي: إنما يعلم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هذا الذي يتلوه علينا بشرٌ من بني آدم، وليس بالوحي من عند الله تعالى كما يدَّعي، وكلمة إنما أداة حصر؛ أي: لا يعلم محمدًا القرآن إلا بشرٌ، لا جبريل كما يدَّعي، وأدخل (¬2) قد على الجملة القسمية توكيدًا لعلمه بما يقولون، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعد والوعيد لهم، وذكر ابن الحاجب أنهم نقلوا قد إذا دخلت على المضارع من التقليل إلى التحقيق، كما أن ربما في المضارع نقلت من التقليل إلى التحقيق. قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا، أحدهما يقال له يسارٌ، والآخر جبرٌ، وكانا يصنعان السيف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر عليهما، ويسمع ما يقرآنه، فالمراد بالبشر هنا ذانك الغلامان، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

فرد الله تعالى عليهم وكذبهم في قيلهم، فقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} مبتدأ وخبر، وكذا ما بعده، والإلحاد الإمالة عن الصواب، من ألحد فلان إذا مال قوله عن الصواب، والأعجمي هو الذي لا يفصح، وإن كان عربيًّا، والعجمي هو المنسوب إلى العجم، وإن كان فصيحًا كما سيأتي، والمعنى لغة البشر والرجل الذي يميلون إليه القول عن الاستقامة، ويشيرون إليه أنه يعلم محمدًا أعجمية غير بينة، {وَهَذَا} القرآن الكريم {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}؛ أي: لغةٌ عربيةٌ ذات بيان وفصاحة، فكيف يصدر تعليم محمَّد عن أعجم، يعني أن القرآن معجز بنظمه، كما أنه معجز بمعناه، لاشتماله على الإخبار عن الغيب، فإن زعمتم أن بشرًا يعلمه معناه، فكيف يعلمه هذا النظم الذي أعجز جميع أهل الدنيا، لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل. وخلاصة هذا (¬1): أن ما يسمعه محمَّد من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن كلام عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه، هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ؛ لأنَّ ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، هو معجز من حيث اللفظ، إلا أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس، والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددًا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانًا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقي، سمع منه أخبارًا بلغة أعجمية، لعله لم يكن يعرف معناها، وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم أنتم أفصح الناس بيانًا، وأقواهم حجة وبرهانًا، وأقدرهم على الكلام نظمًا ونثرًا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟ وفي التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة والخرافات الساذجة أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز ونهاية السخف: فدعهم يزعمون الصبح ليلًا ... أيعمى الناظرون عن الضياء ¬

_ (¬1) المراغي.

[104]

وقرأ الحسن (¬1): {اللسان الذي} بتعريف اللسان بأل، والذي صفتُه، وقرأ حمزة والكسائي: {يُلْحِدُونَ} بفتح الياء والحاء من لحد ثلاثيًّا، وهي قراءة عبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش ومجاهد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن القعقاع: {يُلْحِدُونَ} بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعيًّا، وهما بمعنى واحد. 104 - ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: لا يصدقون بأن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى، بل يقولون فيها ما يقولون، فيقولون تارة إنها مفتريات، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين، {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}، سبحانه وتعالى ولا يرشدهم إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات، ودنسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات، {وَلَهُمْ} في الآخرة إذا وردوا إلى ربهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم موجع، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتكذيب لآيات الكتاب، ولما نسبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإفتراء بقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 105 - ردَّ الله عليهم بقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} ويختلقه، والتصريح (¬2) بالكذب للمبالغة في بيان قبحه، والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه، وفاعل يفتري هو قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} لأنه لا يترقب عقابا عليه ليرتدع عنه، وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء ألبتة؛ أي: إنما يتخرص الكذب، ويتقول الباطل الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته، التي نصبها في الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابًا، ولا يخشون على الكذب عقابًا، وهذه صفاتكم أيها المشركون، لا صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[106]

ومن ثم حكم عليهم بالكذب حكمًا صريحًا فقال: {وَأُولَئِكَ} الموصفون بما ذكر من عدم الإيمان بآيات الله، وهم رجال قريش القائلون لك أيها الرسول إنما أنت مفتر {هُمُ الْكَاذِبُونَ} على الحقيقة، لا أنت، أو الكاملون في الكذب، إذ لا كذب أعظم من تكذيب آيته، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل، فاللام للجنس والحقيقة، ويدَّعي قصر الجنس في المشار إليهم مبالغة في كمالهم في الكذب، وعدم الاعتداد بكذب غيرهم، وهذا تصريح بنسبة الكذب إليهم بعد التعريض، ليكون ميسم خزي وعارٍ لهم. 106 - {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ}؛ أي: من تلفظ بكلمة الكفر {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} به تعالى، كابن حنظلٍ وطعمة بن أبيرق وأمثالهما، فعليه غضب من الله، فمن موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} وأجبر على التلفظ بكلمة الكفر بأمر لا طاقة له به (¬1)، كالتخويف بالقتل والضرب الشديد، والإيلامات القوية، كالتحريق بالنار، مما يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه فتلفظ بها {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}؛ أي: والحال أن قلبه مطمئن مليءٌ بالإيمان، لم تتغير عقيدته، فليس على هذا المكره غضب من الله، لأنه لم يكفر وفي هذا دليل على أن الإيمان المنجي المعتبر عند الله تعالى هو التصديق بالقلب. فإن قلت: (¬2) المكره على الكفر ليس بكافر، فلا يصح استثنائه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ}؟ قلت: المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما شابه ما يظهر من الكافر طوعًا .. صح هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة. والله أعلم. {وَلَكِنْ مَنْ} لم يك كذلك بل {شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}؛ أي: انشرح به قلبًا، وطاب به نفسًا، واعتقده {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم {مِنَ اللَّهِ} تعالى وعقوبة شديدة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: عذاب شديد، والعذاب والعقاب الإيجاع الشديد، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[107]

وتقديم الظرف فيهما للاختصاص، كما سيأتي في مبحث البلاغة، وللدلالة على أنهم أحقاء بغضب الله وعذابه العظيم، لاختصاصهم بعظيم الجرم وهو الارتداد. ومعنى الآية: أي إنَّ من (¬1) كفر بالله بعد الإيمان والتبصر .. فعليه غضب من الله، إلا إذا أكره على ذلك وقلبه مليءٌ بالإيمان بالله، والتصديق برسوله، فلا تثريب عليه، كما فعل عمار بن ياسر. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: ولكن غضب الله وشديد عقابه لمن طابت أنفسهم بالكفر، واعتقدوه طائعين مختارين، لعظيم جرمهم وكبير إثمهم. 107 - ثم بين سبب هذا الغضب فقال: {ذَلِكَ} الغضب من الله والعذاب العظيم {بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}؛ أي: سبب أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة، {و} بسبب {أن الله} سبحانه وتعالى {لَا يَهْدِي} إلى الإيمان، وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسر وإلجاء {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} في علمه المحيط، فلا يعصمهم (¬2) من الزيغ وما يؤدِّي إليه من الغضب والعذاب العظيم، ولولا أحد الأمرين: إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وإمَّا عدم هداية الله تعالى للكافرين هداية قسر، بأن آثروا الآخرة على الدنيا، أو بأن هداهم الله تعالى هداية قسر .. لما كان لذلك الغضب العظيم، والعذاب الشديد، لكن الثاني مخالف للحكمة، والأول مما لا يدخل تحت الوقوع. أي: وبسبب أنَّ الله لا يوفق من يجحد آياته، ويصر على إنكارها، لأنه قد فقد الاستعداد لسبل الخير، بما زينت له نفسه، وسولت له من عظيم الجرم وكبير الإثم، فأصبح قلبه مليئًا بما يشغله عن دواعي الإيمان بما يمليه عليه الشيطان 108 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من القبائح هم {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وختمها بخاتم الرين والضلال، فلا يؤمنون ولا يهتدون {و} طبع على {سَمْعِهِمْ} وأصمه، فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، {و} على {أبصارهم} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[109]

وأعماها، فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر متعظ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}؛ أي: الساهون عما أعد لأمثالهم من أهل الكفر، 109 - {لَا جَرَمَ}؛ أي: حق حقًّا وثبت ثبوتًا {أَنَّهُمْ}؛ أي: أنَّ هؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة {فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها، وضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد، ولله در من قال: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير واجب فما المرء في هذه الحياة إلا كالتاجر يشتري بطاعة ربه سعادة الآخرة، فإذا لم يفعل من ذلك شيئًا .. خسرت تجارته، وعاد ذلك عليه بالوبال والنكال في جهنم وبئس القرار، وقد حكم (¬1) الله تعالى على هؤلاء الكافرين بستة أشياء: 1 - استوجبوا غضب الله. 2 - استحقوا عقابه العظيم. 3 - أنهم استحبوا الحياة الدنيا. 4 - أن الله حرمهم من الهداية للطريق القويم. 5 - أنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. 6 - أنه جعلهم سبحانه من الغافلين. قال مجاهد: أول من أظهر الإِسلام سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار وسمية، أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة، وقال الآخرون: ما أرادوا به منهم إلا بلالًا، فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد، حتى ملوا فكتفوه، فجعلوا في عنقه حبلًا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه ¬

_ (¬1) المراغي.

[110]

فتركوه، وقال عمار: كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال، فإن نفسه هانت عليه فتركوه وقال خباب: لقد أوقدوا لي نارًا ما أطفأها إلّا ودك دهن ظهري. 110 - وكلمة ثم في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} للدلالة (¬1) على تباعد حال هؤلاء - يعني الذين نزلت الآية فيهم - عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، وقوله: {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} متعلق بخبر إنَّ الآتي، والتقدير: ثم إن ربك يا محمَّد لغفور رحيم للذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وهم عمار وصهيب وخباب وسالم وبلال وغيرهم، {مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا}؛ أي: عذبوا على الارتداد، وأكرهوا على تلفظ كلمة الكفر، فتلفظوا بما يرضيهم؛ أي: الكفرة مع اطمئنان قلوبهم، {ثُمَّ جَاهَدُوا} في سبيل الله {وَصَبَرُوا} على مشاق الجهاد، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}؛ أي: من بعد المهاجرة والجهاد والصبر تأكيد لـ {إنَّ} الأولى واسمها ومتعلقها، وقوله: {لَغَفُورٌ} بما فعلوا من قبل، خبر لـ {إِنَّ} الأولى؛ أي: لستور عليهم، محاءٌ لما صدر منهم، {رَحِيمٌ} منعم عليهم من بعد بالجنة، جزاء على تلك الأفعال الحميدة والخصال المرضية، واعلم (¬2) أن المهاجرة مفاعلة من الهجرة، وهي الانتقال من أرض إلى أرض، والمجاهدة مفاعلة من الجهد، وهو استفراغ الوسع، وبذل المجهود في طلب المقصود، قال في "التعريفات": المجاهدة في اللغة المحاربة، وفي الشرع: محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها مما هو مطلوب في الشرع انتهى. وحاصل معنى الآية: أي إن ربك (¬3) أيها الرسول للذين هاجروا من ديارهم، وتركوا مساكنهم وعشائرهم من أهل الشرك، وانتقلوا عنهم إلى ديار الإِسلام من بعد ما فتنهم المشركون، الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل هجرتهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف، وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، إنَّ ربك من بعد أفعالهم هذه لذو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[111]

ستر على ما كان منهم، من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون، وللإيمان معتقدون، رحيم بهم أي: يعاقبهم عليها مع إنابتهم إليه وجميل صنعهم من بعد. وقرأ الجمهور (¬1): {فتنوا} مبنيًّا للمفعول؛ أي: بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر، وقرأ ابن عامر: {فُتِنُوا} مبنيًّا للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول، كما فعل عمار. 111 - وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} منصوب على الظرفية برحيم، والمعنى: إن ربك لغفور رحيم بهؤلاء يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها، وتحاج عنها إلخ، أو على المفعول به، وناصبه اذكر محذوفًا؛ أي: اذكر يا محمَّد قصة يوم تأتي كل نفس، وهو يوم القيامة، حالة كونها {تُجَادِلُ} وتخاصم وتدافع {عَنْ نَفْسِهَا}؛ أي: عن ذاتها، فالنفس (¬2) الأولى بمعنى الجملة، والثانية بمعنى العين والذات، والمعنى: اذكر يا محمَّد أو يا كل من يصلح للخطاب يوم (¬3) يأتي كل إنسان حالة كونه يجادل ويخاصم عن ذاته، يسعى في خلاصها بالاعتذار عما أسلفت في الدنيا من عمل، كقولهم: {هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} و {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، لا يهمه شأن غيرها من ولد ووالد وقريب، فيقول: نفسي نفسي، وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، حتى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقال: رب نفسي؛ أي: أريد نجاة نفسي. {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} برةٍ أو فاجرةٍ؛ أي: تعطى كل نفس وافيًا كاملًا {مَا عَمِلَتْ}؛ أي: جزاء ما عملت، بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارًا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، وإيثار الإظهار على الإضمار للإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية، وإن كانتا في يوم واحد {وَهُمْ}؛ أي: والحال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[112]

أن كل الخلائق {لَا يُظْلَمُونَ} في جزاء أعمالهم؛ أي: لا ينقصون أجورهم، ولا يعاقبون بغير موجب، ولا يزاد في عقابهم على ذنوبهم. أي وتعطى (¬1) كل نفس جزاء ما عملت في الدنيا من طاعة أو معصية، فيجزى المحسن بما قدَّم من إحسان، والمسيء بما أسلف من إساءة، ولا يعاقب محسن ولا يثاب مسيء. والخلاصة: أن كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كما قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وعن ابن عباس (¬2) - رضي الله عنهما -: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، يقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد خلقتني كالخشب، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي، قال: فيضرب لهما مثلًا، مثل أعمى ومقعد دخلا حائطًا وفيه ثمارٌ، فالأعمى لا يبصر الثمار، والمقعد لا ينالها، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، فعليهما العذاب، كذا في "تفسير السمرقندي". 112 - وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} ضرب إما مضمن (¬3) معنى جعل، فتكون {قَرْيَةً} مفعوله الأول و {مَثَلًا} مفعوله الثاني، وإنما تأخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها، ويجوز أن يكون {وَضَرَبَ} على بابه غير مضمن، ويكون {مَثَلًا} مفعوله، و {قَرْيَةً} بدلًا منه، وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، كما قيل إنها أيلة: بلدة بين ينبع ومصر كما في "الكواشي"، أو المراد قرية غير معينة، بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

كسني يوسف"، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولًا أوليًّا، وأيضًا يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها عن مثل عاقبتها. أي: وجعل الله سبحانه وتعالى قرية {كَانَتْ آمِنَةً}؛ أي: ذات (¬1) أمن من كل مخوف {مُطْمَئِنَّةً}؛ أي: متوطنة، لا ينتقلون عنها إلى غيرها لحسنها وبهائها، وجملة {كَانَتْ} صفة أولى لقرية؛ أي: جعل سبحانه أهل هذه القرية مثلًا لأهل مكة خاصةً، أو لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، ففعلوا ما فعلوا، فبدل بنعمتهم نقمةً، ودخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًّا، وجملة قوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} صفة ثانية لقرية، وتغير سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيان رزقها متجدد، وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمرٌ؛ أي: يأتيها زرق أهلها وأقواتهم حالة كونه: {رَغَدًا}؛ أي: واسعًا {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} من نواحيها من البر والبحر متعلق بيأتي، {فَكَفَرَتْ}؛ أي: كفر أهل تلك القرية {بِأَنْعُمِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: بنعمه جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر، وإيثار جمع القلة للإيذان بأن كفران نعمة قليلة حيث أوجب هذا العذاب، فما ظنك بكفران نعم كثيرة، روي أن أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز كما في "الكواشي"، قال بعضهم: الخبز هو الأصل بين النعم الإلهية، ولذا أمر آدم عليه السلام الذي هو أصل البشر بالحراثة، فمن كفر به .. فقد كفر بجميع النعم وتعرض لزوالها. {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: أذاق أهلها، وأصل الذوق بالفم ثم استعير فوضع موضع الابتلاء والاختبار كما في "تفسير أبي الليث" {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}؛ أي: أذاقها الجوع والخوف، المشبهين باللباس بجامع الاشتمال في كل، حتى أكلوا ما تغوطوه، لأن الجزاء من جنس العمل، قال في "الأسئلة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[113]

المقحمة": كيف سمى الجوع لباسًا؟ قيل: لأنه يظهر من الهزال وشحوب اللون وضيق الحال ما هو كاللباس، وقال في "الإرشاد": شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم باللباس الغاشي للابس، فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}؛ فيما قبل من الكفران، والضمير فيه عائد على المحذوف في قوله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً}؛ أي: قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولًا على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} ذكره في "البحر". وقرأ الجمهور (¬1) {والخوف} بالجر عطفًا على الجوع، وروى العباس عن أبي عمرو {والخوف} بالنصب عطفًا على {لباس}، قال صاحب "اللوامح": ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله: ولباس الخوف، وقرأ عبد الله: {فأذاقها الله الخوف والجوع} ولا يذكر لباس، والذي أقوله: أن هذا تفسير المعنى؛ لأن المنقول منه مستفيضًا مثل ما في سواد المصحف، وفي مصحف أبي بن كعب: {لباس لخوف والجوع} بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله: {كَانَتْ آمِنَةً}، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقًا وغربًا، ولذلك المستفيض من أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة. 113 - والظاهر أن الضمير في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} عائد على ما عاد عليه في قوله: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}؛ أي: ولقد جاء أهل تلك القرية وهي مكة أو غيرها على الخلاف المذكور أولًا {رَسُولٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من جنسهم، يعرفونه بأصله ونسبه، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة الكفران، {فَكَذَّبُوهُ} في رسالته {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} المستأصل غبَّ ما ذاقوا نبذة من ذلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[114]

{وَهُمْ ظَالِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم ظالمون بالكفران والتكذيب، حيث جعلوا الأول موضع الشكر والثاني موضع التصديق، وفي هذا إيماء (¬1) إلى تماديهم في الكفر والعناد، وإلى أن ترتب العذاب على التكذيب جري على سنة الله تعالى كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وهكذا حال أهل مكة فإنهم كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم، ولا يمر بهم طيف من الخوف، ولا يزعج قلوبهم مزعج، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء، من جميع الأقطار من بر وبحر، فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق، قال بعضهم من بحر الرجز: ثَلاَثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَه ... الأَمْنُ والصِحَّةُ والكفايَة وقد جاءهم رسول من أنفسهم، فأنذرهم وحذَّرهم، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بدعاء رسول - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فاضطروا إلى أكل الجيف، والكلاب الميتة، والعظام المحرقة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب، وقد جعل الله الجوع والخوف اللذين خالط ضررهما أجسامهم لباسًا لهم لأن أثرهما وضررهما قد أحاط بهم من كل جانب، فأشبها اللباس الذي يغطي الجسم ويحيط به، وجعل إصابتهم بهما إذاقة دلالة على شدة تأثيرهما الشديد الذي حدث فيهم، كما يكون ذلك حين ذوق شيء مر بشع كريه، إذ يجد الذائق تقززًا واشمئزازًا. 114 - ثم لمَّا (¬2) وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة .. أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم وغيرها، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبِّب عن ترك الكفر، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ} والفاء فيه فاء الفصيحة، والخطاب للمؤمنين على الراجح؛ أي: إذا عرفتم أيها المؤمنين ما حلَّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[115]

بأهل تلك القرية من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم، وأردتم بيان ما هو الأصلح واللازم لكم .. فأقول لكم: كلوا واشربوا يا معشر المؤمنين ما رزقكم الله تعالى وأعطاكموه حالة كونه {حَلَالًا طَيِّبًا}؛ أي: لذيذًا تستطيبه النفوس السليمة من بهائم الأنعام التي أحلها لكم، وذروا الخبائث من الميتة والدم، {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}؛ أي: واشكروه على ما أنعم به عليكم، بتحليله ما أحل لكم، وبسائر نعمه المتظاهرة عليكم {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ} لا غيره {تَعْبُدُونَ}؛ أي: تخصونه بالعبادة، فتطيعونه فيما يأمركم به، وتنتهون عما ينهاكم عنه، والمراد بذلك الحث على اتباع أوامره والمداومة عليها. 115 - وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات .. بين لهم ما حرَّم عليهم فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} ربكم {الْمَيْتَةَ}؛ أي: أكلها، وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية إلا السمك والجراد، {وَالدَّمَ} المسفوح؛ أي: المصبوب من العروق، فيجمدونه ويأكلونه، وأما المختلط باللحم فمعفو عنه، والأولى غسله، {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}؛ أي: أكل لحمها، وجميع أجزائها، {وَمَا أُهِلَّ} ورفع الصوت {لِغَيْرِ اللَّهِ}؛ أي: باسم غير الله كالصنم والولي {بِهِ}؛ أي: عند ذبحه، كقول أهل الجاهلية باللات والعزى، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته. والخلاصة (¬1): أنَّ ما سمي عليه غير الله تعالى عند الذبح سواء كان صنمًا أو وثنًا أو روحًا خبيثًا من جنٍّ، أو روحًا طيبًا من إنس كالنبي والولي حيًّا أو ميتًا، فأكله حرام لما جاء في الحديث: "ملعونٌ مَنْ ذبح لغير الله" سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم؛ لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى، فمن ذبح للسيد البدوي، أو لإبراهيم الدسوقي، أو للسيدة زينب، أو للحسين العروسيِّ، أو للأبادر الهرري مثلًا لا يجوز أكل هذا الذبيح، فهذه (¬2) الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[116]

لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شيء من هذه المحرمات فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ}؛ أي: فمن احتاج حاجةً شديدةً إلى تناول شيء من هذه المحرمات، لمجاعة حلت به، وضرورة دعته إلى أخذ شيء منها حالة كونه {غَيْرَ بَاغٍ} على مضطر آخر {وَلَا عَادٍ}؛ أي: ولا متعد قدر الضرورة وسد الرمق، وقيل (¬1): معناه غير باغ على الوالي، ولا متعد على الناس، بالخروج لقطع الطريق، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية، وجواب من الشرطية محذوف، تقديره: فالله لا يؤاخذه على ذلك، وجملة قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل لذلك المحذوف؛ أي: لأن الله سبحانه وتعالى غفور له، يستر له ما صدر منه من الهفوات، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك. أمَّا ما حرَّموه من غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوه، مما تقدم في سورة الأنعام، فهو محض افتراءٍ على الله، وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة والمائدة والأنعام، وفيها حصر المحرمات في هذه الأربع فحسب. 116 - ثم أكد حصر المحرمات في هذه الأربع، ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال: {وَلَا تَقُولُوا} يا أهل مكة {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ}؛ أي: في شأن (¬2) ما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، في قولكم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} من غير ترتيب ذلك الوصف على ملاحظةٍ وفكرٍ، فضلًا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه، فاللام بمعنى في متعلقة بتقولوا وما موصولة، وقوله: {الْكَذِبَ} مفعول به لتقولوا؛ لأنه بمعنى تذكروا، وقوله: {هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} بدل منه، فالمعنى: لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام في شأن ما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة من غير استناد إلى دليل، فقدم عليه كونه كذبًا، وأبدل منه هذا حلال وهذا حرام مبالغةً في كذبهم، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ذلك مجرَّد وصف باللسان؛ لا حكم عليه، وفي الآية تنبيهٌ للقضاة ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) روح البيان.

والمفتين كيلا يقولوا قولًا بغير حجة وبرهان. وقال الكسائي والزجاج (¬1): {ما} هنا مصدريةٌ، وانتصاب الكذب بلا تقولوا؛ أي: لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجةٍ ولا بينةٍ، وقرأ الحسن (¬2) وابن عمر وطلحة والأعرج وابن أبي إسحاق وابن عبيد ونعيم بن ميسرة: {الكذب} بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلًا مِنْ {ما} والمعنى الذي تصفه ألسنتكم الكذب، وأجاز الزمخشري وغير أن يكون {الكذب} بالجر صفةً لما المصدرية، قال الزمخشري: كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب، وقرأ معاذ وابن أبي عبلة وبعض أهل الشام: {الكُذُب} بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب، قال صاحب "اللوامح": أو جمع كاذب أو كذاب انتهى، وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب {الكُذَبَ} بفتح الباء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمع كتاب، وقال صاحب "اللوامح": وجاء عن يعقوب الكُذُب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ومثله كتابٌ وكتبٌ. والمعنى: أي (¬3) ولا تقولوا هذا حلالٌ، وهذا حرام بالرأي والهوى، فلا تقولوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومحرمٌ على أزواجنا، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ. وخلاصة ذلك: لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب، وتصويرها له دون استناد إلى دليل، وكان ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخصٌ عالمٌ بحقيقته ومحيط بكنهه، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح، واللام في قوله: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} لام العاتبة، لا لام الغرض والعلة، لأن الافتراء لم يكن غرضًا، متعلقة بتقولوا؛ أي: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبًا، من غير أن يكون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[117]

ذلك منه، فالله لم يحرم من ذلك ما تحرمون، ولا أحل كثيرًا مما تحللون، وإجمال ذلك: لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله حلالًا وحرامًا فتكونوا كاذبين عليه، لأن مدار الحل والحرمة عليه ليس إلا حكمه تعالى. عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا، وقد صدق، فكل من أفتى بخلاف ما في كتاب الله وسنة رسوله - لجهله بما فيهما - فقد ضل وأضل من يفتيهم، ولله در القائل: كبَهِيْمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَها ... أَعْمَى على عِوَجِ الطَّريقِ الحَائِرِ أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجلٌ يقول: إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا، فيقول الله عز وجل: كذبت، أو يقول إن الله حرَّم كذا أو أحل، فيقول الله له: كذبت. ثم أوعد المفترين وهدَّدهم أشد التهديد فقال (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ}؛ أي: يتخرصون ويتقولون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في أمورهم صغيرها وكبيرها {لَا يُفْلِحُونَ}؛ أي: لا يفوزون بخير في المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم، إذ هم متى عرفوا بالكذب .. مَجَّهُمُ الناس، وانصرفوا عنهم، وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين، ويكونون مضرب الأمثال في الهوان والصغار، إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة. 117 - ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئًا مذكورًا إذا قيس بالمضارِّ التي تستجم منه فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة، تنقطع عن قريب {وَلَهُم} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} يردون إليه في الآخرة. والمعنى: أي إنَّ المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك في الدنيا لا يُعْتَدُّ بها في نظر العقلاء، إذا وزن بينها وبين المضار التي في الآخرة، فما متاع الدنيا ¬

_ (¬1) المراغي.

[118]

إلا ظلُّ زائلٌ، ثم يفنى، ويبقى لهم العذاب الأليم، حين مصيرهم إلى ربهم بما اجترحوا من السيئات، ودنسوا به أنفسهم من أوضار الإثم والفجور والكذب على بارئهم، الذي خلقهم وصورهم فأحسن صورهم، ونحو الآية قوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. 118 - وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإِسلام، أتبعه ببيان ما خصَّ به اليهود من المحرمات فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: وعلى (¬1) اليهود خاصة، دون غيرهم من الأولين والآخرين {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} يا محمَّد بقولنا: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية، و {مِنْ قَبْلُ} متعلق بقصصنا؛ أي: من قبل نزول هذه الآية، أو بحرمنا؛ أي: من قبل التحريم على هذه الأمة؛ أي: وحرمنا من قبلك أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام، بقولنا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}. ثم بين السبب في ذلك التحريم عليهم فقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتحريم ذلك عليهم، بل جزيناهم ببغيهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ أي: ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم، وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم، وانتهاك حرماته، فعوقبوا بهذا التحريم، كما قال في آية أخرى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، وفي هذا إيماءٌ (¬2) إلى أنَّ ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدًا، وبه يعلم الفرق في التحريم بينهم وبين غيرهم، فإنه لهم عقوبةٌ، ولنا للمضرَّة فحسب. 119 - ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبلها الله منهم، ويغفر زلَّاتهم رحمةً منه وفضلًا فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد {لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ} وارتكبوا السيئات من الكفر والمعاصي، متعلق بخبر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

إن المذكور في آخر الآية، وهو {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وإن الثانية تكرير (¬1) على سبيل التأكيد لطول الكلام ووقوع الفصل، كما مر نظيره في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الآية، وقوله: {بِجَهَلَةٍ} حال من فاعل عملوا؛ أي: حالة كونهم متلبسين بجهالة، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ من يرتكب الذنوب قلَّما يفكِّر في العاقبة، لغلبة الشهوة عليه، أو لجهالة الشباب والطيش التي تحمله على انتهاك حرمات الله تعالى، كالقتل للغيرة أو للعصبية، كما جاء في الخبر: "اللهم إني أعوذ بك من أن أجهل، أو يجهل عليَّ "، وقال عمرو بن كلثوم: أَلاَ لاَ يَجْهَلنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينا {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ما عملوا السوء، والتصريح به مع دلالة {ثُمَّ} عليه للتأكيد والمبالغة، {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم، أو دخلوا في الصلاح بأن آمنوا وأطاعوا الله {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}؛ أي: من بعد التوبة كقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} في أنَّ الضمير عائد إلى مصدر الفعل، {لَغَفُورٌ} ذلك السوء؛ أي: ستورٌ له محاءٌ {رَحِيمٌ} يثيب على طاعته تركًا وفعلًا، وتكرير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} لتأكيد الوعد، وإظهار كمال العناية بإنجازه كما مرَّ، وتقدير الكلام: ثم إن ربك لغفور رحيم للذين عملوا السوءَ بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا؛ أي: لما (¬2) بالغ الله سبحانه وتعالى في تهديد المشركين على أنواع قبائحهم من إنكار البعث والنبوة، وكون القرآن من عند الله تعالى، وتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرَّمه .. بيَّن سبحانه أنَّ أمثال تلك القبائح لا تمنعهم من قبول التوبة، وحصول المغفرة والرحمة إذا ندموا على ما فعلوا، وآمنوا بالله، فالله يخلصهم من العذاب. فعلى العاقل (¬3) أن يرجع عن الإعراض عن الله، ويقبل عليه بصدق الطلب، وإخلاص العمل، والتوبة بمنزلة الصابون، فكما أن الصابون يزيل الأوساخ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

الظاهرة، فكذلك التوبة تزيل الأوساخ الباطنة؛ أعني: الذنوب. والمقصود من هذه الآية: بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظٌ جامع لكل فعل قبيح، فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي، وكل ما لا ينبغي، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح، فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية فإنما يصدر عنه بسبب جهله، إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب، أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أنَّ فعل السوء إنما يصدر بجهالة. الإعراب {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {فَاسْتَعِذْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطية، {استعذ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، {بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ} جاران ومجروران، متعلقان به، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، {الرَّجِيمِ}: صفة للشيطان، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، والضمير للشأن، أو للشيطان كما مرَّ، {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لَهُ}: خبر {لَيْسَ} مقدمٌ، {سُلْطَانٌ}: اسمه مؤخر، {عَلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {سُلْطَانٌ} لأنه مصدر بمعنى التَّسلُّط، وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إِنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل جملة محذوفة هي جواب الأمر، تقديره: فإن استعذت كفيت شره اهـ شيخنا، {آمَنُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {وَعَلَى رَبِّهِمْ}: جار ¬

_ (¬1) الخازن.

ومجرور، متعلق بما بعده، وجملة {يَتَوَكَّلُونَ} معطوفة على جملة الصلة، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {سُلْطَانُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه، {عَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {يَتَوَلَّوْنَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول، {وَالَّذِينَ}: في محل الجر معطوف على الموصول الأول، {هُمْ}: مبتدأ، {بِهِ}: متعلق بما بعده، {مُشْرِكُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}. {وَإِذَا بَدَّلْنَا} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {بَدَّلْنَا آيَةً}: فعل وفاعل ومفعول، {مَكَانَ آيَةٍ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {بَدَّلْنَا} والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معترضة، لاعتراضها بين الشرط وجوابه، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {يُنَزِّلُ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما ينزله، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا} مستأنفة، {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}: مقول محكي لـ {قَالُوا}، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أَنْتَ مُفْتَرٍ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {بَلْ}: حرف إضراب، {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية جملة إضرابية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {نَزَّلَهُ}: فعل ومفعول، {رُوحُ الْقُدُسِ}: فاعل مرفوع، ومضاف إليه، {مِنْ رَبِّكَ}:

متعلق به، وكذا يتعلق به قوله: {بِالْحَقِّ}، أو حال من مفعول {نَزَّلَهُ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لـ {قُلْ}. {لِيُثَبِّتَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {رُوحُ الْقُدُسِ}، {الَّذِينَ} في محل النصب مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لِتَثْبِيتِه الذين آمنوا، الجار والمجرور متعلّق بـ {نَزَّلَ}، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَهُدًى وَبُشْرَى}: معطوفان على محل {لِيُثَبِّتَ}؛ أي: تثبيتًا وهدايةً وبشارةً، أو معطوفان على لفظه باعتبار المؤول؛ أي: لتثبيتهم وهدايتهم وبشارتهم، {لِلْمُسْلِمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {بشرى} أو تنازع فيه هو و {هُدًى}. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية و {اللام} موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {نَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَقُولُونَ} خبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادٍّ مسدَّ مفعولي علم، {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}: مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}، وإن شئت قلت: {إِنَّمَا}: أداة حصر، {يُعَلِّمُهُ}: فعل ومفعول أول، {بَشَرٌ}: فاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إنما يعلمه هذا القرآن بشر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}، {لِسَانُ الَّذِي}: مبتدأ ومضاف إليه، {يُلْحِدُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {إِلَيْهِ}: متعلق به، {أَعْجَمِيٌّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَهَذَا لِسَانٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {عَرَبِيٌّ}: صفة {لِسَانٌ}، {مُبِينٌ} صفة {عَرَبِيٌّ} أو صفة ثانية لِـ {لِسَانٌ}. {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صلة الموصول، {بِآيَاتِ

اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَلَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ أَلِيمٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على جملة {لَا يَهْدِيهِمُ}، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} فعل ومفعول، {الَّذِينَ}: فاعل والجملة مستأنفة، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صلة الموصول، {بِآيَاتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {وَأُولَئِكَ}: مبتدأ {هُمُ}: ضمير فصل، {الْكَاذِبُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، أو الخبر جملة الجواب أو الشرط أو هما، {كَفَرَ}: فعل ماض، {بِاللَّهِ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَفَرَ}، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فعليه غضب من الله، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من الجواب المحذوف، {أُكْرِهَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ}: مبتدأ وخبر، {بِالْإِيمَانِ}: متعلق بـ {مُطْمَئِنٌّ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من نائب فاعل، {أُكْرِهَ}. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}. {وَلَكِنْ} {الواو}: استئنافية، {لكن}: حرف استدراك {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب أو الشرط، {شَرَحَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {بِالْكُفْرِ}: متعلق به، {صَدْرًا}: مفعول به، {فَعَلَيْهِمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، {عليهم} جار ومجرور، خبر مقدم، {غَضَبٌ}: مبتدأ مؤخر، {مِنَ اللَّهِ}: صفة لـ {غَضَبٌ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مِنَ} الشرطية، علي كونها جوابًا لها، ويجوز أن

تكون {مِنَ} موصولة، وجملة {مِنَ} الشرطية جملة استدراكية مستأنفة {وَلَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {عَظِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ {بِأَنَّهُمُ}: جارٌ وناصب واسمه، الجار والمجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، {عَلَى الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {اسْتَحَبُّوا}، {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ}: فعل ومفعول، {الْكَافِرِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في محل الجر معطوفة على جملة {أَنَّ} الأولى. {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {طَبَعَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {عَلَى قُلُوبِهِمْ} متعلق به، {وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}: معطوفان على {قُلُوبِهِمْ}، والجملة الفعلية صلة الموصول {وَأُولَئِكَ} مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْغَافِلُونَ} خبر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، {لَا جَرَمَ}: فعل ماض بمعنى حقَّ، مركَّبٌ من حرف وفعل تركيبًا مزجيًّا مبنيٌّ على الفتح، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {فِي الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {الْخَاسِرُونَ}، {هُمُ}: ضمير فصل؛ {الْخَاسِرُونَ}: خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لجرم، والتقدير: حق خسرانهم في الآخرة، والجملة الفعلية مستأنفة. {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}.

{ثُمَّ}: حرف عطف للترتيب الذكري، وبمعنى واو الاستئناف، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، متعلق بخبر {إِنَّ} الآتي في آخر الآية، وهو قوله: {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {هَاجَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {هَاجَرُوا}، {مَا}: مصدرية، {فُتِنُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد فتنتهم، {ثُمَّ جَاهَدُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {هَاجَرُوا}، {وَصَبَرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {جَاهَدُوا}، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصبٌ واسمه، {مِنْ بَعْدِهَا}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} الثانية، تقديره: إنَّ ربك لغفور رحيم {مِنْ بَعْدِهَا}، وجملة {إنَّ} أعني هذه الثانية مؤكدة لجملة {إِنَّ} الأولى، {لَغَفُورٌ} {اللام}: حرف ابتداء، {غفور} خبر أول لـ {إِنَّ} الأولى، {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، أو صفة لـ {غفور}، وجملة {إِنَّ} الأولى معطوفة على جملة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أو مستأنفة. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}. {يَوْمَ}: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم تأتي، أو ظرف متعلق بـ {رَحِيمٌ} في قوله: {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {تُجَادِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {كُلُّ نَفْسٍ}، {عَنْ نَفْسِهَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ}، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {تَأْتِي}؛ أي: ويوم توفَّى كل نفس، {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ {وَتُوَفَّى}، {عَمِلَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {كُلُّ نَفْسٍ}، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما عملته، {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حالٌ من {كُلُّ نَفْسٍ}.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}. {وَضَرَبَ اللَّهُ} {الواو}: استئنافية، {وَضَرَبَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {مَثَلًا}: مفعول ثان لـ {ضرب}، لأنه بمعنى جَعَل، {قَرْيَةً} مفعول أول لِـ {ضَرَبَ}، وأُخِّرت لتتصل بصفاتها، والجملة الفعلية مستأنفة، {كَانَتْ آمِنَةً}: فعل ناقص وخبره، واسمه ضميرٌ يعود على {قَرْيَةً} {مُطْمَئِنَّةً}: خبر ثان لـ {كان}، وجملة {كان} في محل النصب صفة لـ {قَرْيَةً}، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا}: فعلٌ ومفولٌ به وفاعلٌ {رَغَدًا}: حال من الرزق، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ {قَرْيَةً}. {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يأتي}، {فَكَفَرَتْ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {كفرت}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {قَرْيَةً}، والجملة معطوفة على جملة {يأتي}، {بِأَنْعُمِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كفرت} {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، {لِبَاسَ الْجُوعِ}: مفعول ثان لـ {أذاق}، {وَالْخَوْفِ}: معطوف على {الْجُوعِ}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {كفرت}، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أذاق}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَصْنَعُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلةٌ لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يصنعونه. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {جَاءَهُمْ رَسُولٌ}: فعل ومفعول وفاعل، {مِنْهُمْ}: صفة لـ {رَسُولٌ}، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. {فَكَذَّبُوهُ} {الفاء}: عاطفة، {فَكَذَّبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {جاء} {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {كذبوه}، {وَهُمْ ظَالِمُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول {أَخَذَهُمُ}.

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}. {فَكُلُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أيها المؤمنون حال أهل هذه القرية، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم .. فأقول لكم: كُلُوا مما رزقكم الله، {كلوا}: فعل وفاعل، {مِمَّا}: جار ومجرور متعلّق بـ {كُلُوا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والجملة صلةٌ لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقكموه الله، وهو المفعول الثاني لـ {رزق} {حَلَالًا}: حال من الضمير المحذوف، {طَيِّبًا}: صفة {حَلَالًا}. {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {كلوا} {إِن} حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {إِيَّاهُ}: مفعول مقدم لما بعده، وجملة {تَعْبُدُونَ} خبر {كان} وجواب {إنْ} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له سبحانه، وجملة {إنْ} الشرطية مستأنفة. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {حَرَّمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {عَلَيْكُمُ}، متعلق بـ {حَرَّمَ}، {الْمَيْتَةَ}: مفعول به لـ {حَرَّمَ}، {وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}: معطوفان على {الْمَيْتَةَ}، {وَمَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوفة على {الْمَيْتَةَ} أيضًا، {أُهِلَّ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لِغَيْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {أُهِلَّ}، {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، و {الباء} بمعنى عند؛ أي: عند ذبحه، {فَمَنِ} {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم تحريم ما ذكر عليكم وأردتم بيان حكم ما إذا اضطررتم إليه .. فأقول

لكم: من اضطر {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {اضْطُرَّ}: فعل ماض مغير الصغية، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَن}، والجملة في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {غَيْرَ بَاغٍ}: حال من الضمير المستتر في {اضْطُرَّ}، {وَلَا عَادٍ}: معطوف على {بَاغٍ}، وجواب {مَن} الشرطية محذوف، تقديره: فالله لا يؤاخذه بذلك، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {فَإِنَّ اللَّهَ} {الفاء}: تعليلية للجواب المحذوف {إن الله غفور}: ناصب واسمه وخبره، {رَحِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية. {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}. {وَلَا تَقُولُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لِمَا} {اللام}: حرف جر بمعنى في، {ما}: اسم موصول في محل الجر باللام، {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: لما تصفه وتذكره ألسنتكم، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقُولُوا}. {الْكَذِبَ}: مفعولٌ به لـ {تَقُولُوا} لأنه بمعنى تذكروا، {هَذَا حَلَالٌ}. مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب بدل من {الْكَذِبَ} {وَهَذَا حَرَامٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {هَذَا حَلَالٌ}، والتقدير: ولا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتكم من البهائم الكذب هذا حلال وهذا حرام، {لِتَفْتَرُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، {الْكَذِبَ}: مفعول {تفتروا}، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لافترائكم الكذب على الله، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقُولُوا}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يَفْتَرُونَ}: فعل وفاعل، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، {الْكَذِبَ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، وجملة {لَا يُفْلِحُونَ} خبر {إِنَّ}، وجمله {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {مَتَاعٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: منفعتهم

في الدنيا متاعٌ، {قَلِيلٌ}: صفة {مَتَاعٌ}، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَلَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}. {وَعَلَى الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَرَّمْنَا} الآتي، وجملة {هَادُوا} صلة الموصول، {حَرَّمْنَا مَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {قَصَصْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْكَ} متعلق به، {مِن قبلُ}: متعلق بـ {حرمنا} أو بقصصنا، وجملة {عَلَيْكَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما قصصناه عليك، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}: نافٍ وفعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة، {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به لما بعده، وجملة {يَظْلِمُونَ} خبر {كَانُوا}، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}. {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}. {ثُمَّ}: حرف عطف للترتيب الذكري، أو بمعنى واو الاستئناف، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بخبر {إِنَّ} الآتي في آخر الآية، وهو قوله: {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، والتقدير: ثم إن ربك لغفور رحيم للذين عملوا، {عَمِلُوا السُّوءَ}: فعل وفاعل ومفعول، {بِجَهَالَةٍ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، {ثُمَّ تَابُوا}: فعل وفاعل، معطوف على جملة الصلة، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَابُوا}، {وَأَصْلَحُوا}: معطوف على {تَابُوا}، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {مِنْ بَعْدِهَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} الثانية، تقديره: إن ربك لغفور رحيم لهم من بعدها، وجملة {إِنَّ} الثانية مؤكدة لجملة {إِنَّ} الأولى {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} اللام المزحلقة وخبران لـ {إن}. والله أعلم.

التصريف ومفرادت اللغة {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}؛ أي: أردت قراءته، كما تقول إذا أكلت فقل: باسم الله، وإذا سافرت فتأهب {الرَّجِيمِ} فعيل بمعنى مفعول؛ أي: المرجوم المبعد من رحمة الله، {سُلْطَانٌ} مصدر بمعنى التسلط، وهو الاستيلاء والتمكن بالقهر اهـ. "شهاب" {يَتَوَلَّوْنَهُ} والتولي الطاعة، يقال: توليته؛ أي: أطعته، وتوليت عنه؛ أي: أعرضت عنه. {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً} التبديل رفع شيء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية نسخها بآية أخرى، {رُوحُ الْقُدُسِ} والقدس - بضم الدال وسكونها - الطهارة، والمراد به اسم المفعول، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: الروح المقدس؛ أي: المطهر، وهو جبريل عليه السلام، سمي بذلك لأنه ينزل بالقدس؛ أي: بما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكمة المقتضية له، {يُلْحِدُونَ} والإلحاد الميل، يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه سمي العادل عن الحق مُلْحِدًا، ومنه لحد القبر، لأنه حفرةٌ مائلةٌ عن وسطه، {أَعْجَمِيٌّ} الأعجمي الذي لم يتكلم بالعربية، وقال الراغب: الأعجم من في لسانه عجمة، عربيًّا كان أو غير عربي، اعتبارًا بقلة فهمه، والأعجمي منسوب إليه اهـ. "سمين"، ويقال: رجل أعجم، وامرأة عجماء، إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما، ومن ذلك زياد الأعجم، كان عربيًّا في لسانه لكنةٌ، والحاصل أن الأعجمي هو الذي لا يفصح وإن كان عربيًّا، والعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا كما في "روح البيان". {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ}؛ أي: تلفظ وتكلم بالكفر، أو فعل فعلًا مكفرًا، سواء كان مختارًا في ذلك أو مكرهًا عليه، فالاستثناء متصل اهـ شيخنا، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ}؛ أي: على التلفظ بكلمة الكفر، {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} من الاطمئنان، وهو سكون النفس بعد انزعاجها، والمراد الثبات على ما كان عليه بعد ازعاج الإكراه، {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}؛ أي: فتحه به واعتقده، وطاب به نفسًا، {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: آثروها وقدموها على الآخرة، {مِنْ بَعْدِ مَا

فُتِنُوا} أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل في المحنة والابتلاء يصيب الإنسان، {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}؛ أي: تدفع وتسعى في خلاصها، والنفس الأولى الجثة والبدن، النفس الثانية عينها وذاتها، وتوفى تعطى، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} والمثل عبارةٌ عن قول يشبه قولًا في شيء آخر بينهما مشابهةٌ، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، {كَانَتْ آمِنَةً} من الغارات لا تهاج ولا تقلق؛ أي: ذات أمن، يأمن فيها أهلها أن يغار عليهم، {مُطْمَئِنَّةً}؛ أي: ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. {رَغَدًا} يقال: رغد العيش رغادة اتسع ولسان، فهو رغدٌ ورغيدٌ، ورغد رغدًا من باب تعب لغةٌ، فهو راغدٌ، وهو في رغد من العيش؛ أي: رزق واسع، وأرغد القوم بالألف أخصبوا، والرغيدة الزبد اهـ "مصباح" {بِأَنْعُمِ اللَّهِ} جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، أو جمع نعم، كبؤسٍ وأبؤس اهـ "بيضاوي"، والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر، ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد، وهي بمعنى النعمة، وهي "المصباح": والنعماء وزان الحمراء مثل النعمة، وجمع النعمة نعمٌ، مثل سدرة وسدر، وأنعم أيضًا مثل أفلس، وجمع النعماء أنعم، مثل البأساء يجمع على أبؤس اهـ. {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} يقولون: له وجه يصف الجمال، وعينٌ تصف السحر، يريدون أنه جميل، وأن عينه تفتن من رآها، لأنه لما كان وجهه منشأ الجمال وعينه منبعًا للفتنة والسحر .. كان كلٌّ منهما كأنه إنسانٌ عالمٌ بكنههما، محيطٌ بحقيقتهما، يصفهما للناس أجمل وصف، ويعرفهما أتم تعريف، وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} إذ جعل الكذب كأنه حقيقةٌ مجهولةٌ، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها، كان ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب هي حقيقته، ومنبعه الذي يعرف منه، {بِجَهَالَةٍ} والجهالة هنا الطيش وعدم التدبر في العواقب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان

والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} حيث عبر عن الإرادة بالقراءة على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب، إيذانًا بأنَّ المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}. ومنها: المقابلة بين قوله: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أو بين قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقوله: {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا}. ومنها: الاعتراض في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه، لبيان الحكمة الإلهية في النسخ، وفيه أيضًا الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وذكر الاسم الجليل لتربية المهابة في النفس. ومنها: الطباق بين {أَعْجَمِيٌّ} و {عَرَبِيٌّ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} حيث استعار اللسان الذي هو حقيقةٌ في الجارحة للغة والكلام، كقول الشاعر: لِسَانُ السُّوْءِ تَهْدِيْهَا إلَيْنَا ... وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: {رُوحُ اَلْقُدُسِ}. ومنها: التعريض في قوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} لأنَّ فيه تعريضًا بحصول أضداد ذلك لغيرهم من الكفار كما في "البيضاوي". ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهي اسمية الجملة، وضمير الفصل، وتعريف الطريقين، وفيه أيضًا التأكيد بالتكرار بين {الْكَذِبَ} و {الْكَاذِبُونَ} وبين الموصول وهو: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} واسم الإشارة وهو {أُولَئِكَ} إذ ما صدقهما واحد كما في "الفتوحات"، وفيه أْيضًا

الجناس الماثل بين {الْكَذِبَ} و {الْكَاذِبُونَ}. ومنها: تقديم الظرف في قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إفادةً للاختصاص، وللدلالة على أنهم أحقاء بغضب الله وعذابه العظيم لاختصاصهم بعظم الجرم، وهو الارتداد. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} حيث شبه ذلك اللباس من حيث الكراهية بالطعم المر البشع، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الإذاقة على طريقة الاستعارة المكنية. ومنها: إضافة المشبه به إلى المشبه في قوله: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} كالإضافة في لجين الماء. ومنها: الطباق بين {حَلَالٌ} و {حَرَامٌ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}. المناسبة مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما زيَّف (¬1) مذاهب المشركين في إثبات الشركاء والأنداد لله، وفي طعنهم نبوَّة الأنبياء والرسل، بنحو قولهم: لو أرسل الله رسلًا لأرسل ملائكة، وفي تحليلهم أشياء حرمها الله تعالى، وتحريم أشياء أحلها الله تعالى، وبالغ في رد هذه المعتقدات .. ختم السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به، ليصير ذكر طريقته حاملًا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم بأمر نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - باتباعه، ثم بجعل الأسس التي يبني عليها دعوته هي الحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بالحسنى، ثم بأمره باللين في العقاب إن أراده، أو بترك العقاب وهو أفضل للصابرين، ثم بأمره بجعل الصبر رائده في جميع أعماله، ونهيه من الحزن على كفر قومه، وأنهم لم يجيبوا دعوته، وأنهم يمكرون به، فالله ينصره عليهم، ويكفيه أذاهم، فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقين، والخذلان للعاصين الخائنين. ¬

_ (¬1) المراغي.

وعبارة "أبي حيَّان" هنا: لمَّا أبطل (¬1) الله سبحانه وتعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتحليل ما حرَّم، وتحريم ما أحل، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم - عليه السلام - مقرين بحسن طريقته، ووجوب الاقتداء به .. ذكره في آخر السورة، وأوضح منهاجه، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام، ليكون ذلك حاملًا لهم على الاقتداء به، وأيضًا فقد أجرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم وحال قريش. انتهى. أسباب النزول قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬2) الحاكم والبيهقي - في "الدلائل" - والبزَّار عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ...} إلى آخر السورة، فكفَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمسك عما أراد، وكفَّر عن يمينه، وأخرج الترمذي وحسّنه، والحاكم عن أبيِّ بن كعب قال: لمَّا (¬3) كان يوم أحد أُصيب من الأنصار أربعةٌ وستون، ومن المهاجرين ستةٌ منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر .. لنزيدن على عدتهم مرتين، فلما كان يوم فتح مكة .. أنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا ...} الآية، فقال رجلٌ: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُفُّوا عن القوم إلا أربعة" هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب، وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولًا بمكة، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا يوم الفتح تذكيرًا من الله لعباده. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول. (¬3) زاد المسير ولباب النقول.

[120]

التفسير وأوجه القراءة 120 - {إنَّ إِبْرَاهِيمَ} الخليل عليه السلام {كَانَ} على انفراده {أُمَّةً} لكماله في صفات الخير، وجمعة الفضائل، وهو رئيس أهل التوحيد، ولأنه كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كانوا كفارًا، والأمة في الأصل الجماعة الكثيرة، وسمي إبراهيم أمة لأنه قد جمع من الفضائل والكمالات ما لو تفرق لكفى لأمةٍ، ألا ترى أبا نواس إذ يقول لهارون الرشيد مادحًا: وَلَيْس عَلَى الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فيْ وَاحِدِ فالله سبحانه وتعالى مدح عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء بجملةٍ من صفات الكمال: 1 - أنه وحده كان أمة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - إنه كان عنده عليه الصلاة والسلام من الخير ما كان عند أمة، فهو رئيس الموحدين كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر في النجوم، ودرس الطبيعة الكونية، ليطمئن قلبه بالإِسلام. 2 - أنه كان {قَانِتًا}؛ أي مطيعًا {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى قائمًا بأمره. 3 - أنه كان {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، متبعًا له لا يفارقه ولا يحيد عنه. 4 - أنه عليه السلام {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في أمر من أمور دينهم، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر، فهو الذي قال للملك في عصره: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وكسر الأصنام، حتى ألقوه لأجلها في النار فكانت عليه بردًا وسلامًا. وبالجملة: فقد كان غارقًا في بحار التوحيد، مستغرقًا في حب الإله المعبود، وفي ذلك رد على كفار قريش، إذ قالوا: نحن على ملة إبراهيم، وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا: عزير ابن الله، مع زعمهم أنَّ إبراهيم كان على مثل ما هم عليه، ونحو الآية قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا

[121]

مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}. 121 - 5 أنه كان {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}؛ أي: لأنعم الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}؛ أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به، وفي هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الله، فأصابهم الجوع والخوف، كما تقدم ذكره في المثل السابق، روي أن إبراهيم - عليه السلام - كان لا يتغذى إلا مع ضيفٍ، فلم يجد ذات يوم ضيفًا، فأخَّر غذاءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فأظهروا أنَّ بهم علَّة الجذام، فقال: الآن يجب عليَّ مؤاكلتكم، فلولا عزَّتكم على الله تعالى .. لما ابتلاكم بهذا البلاء. 6 - أنه تعالى {اجْتَبَاهُ} واصطفاه واختاره للنبوة والرسالة، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}. 7 - {و} أنه تعالى {هداه} في الدعوة {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى طريق موصل إلى الله تعالى، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه. 122 - 8 {و} نحن {آتيناه}؛ أي: أعطيناه {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}؛ أي: ولدًا صالحًا، وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان، فجميع أهل الملل يترضون عن إبراهيم، ولا يكفر به أحدٌ؛ أي: إنه سبحانه حببه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفرة قريش لا فخر لهم إلّا به، وقد أجاب الله دعاءه في قوله {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}. 9 - {وَإِنَّهُ} عليه السلام {فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة؛ أي: إنه في الآخرة في زمرة الصالحين، وهو معهم في الدرجات العلى من الجنة إجابةً لدعوته حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)}. 123 - وبعد أن وصف إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغاية في علو المرتبة، أخبر أنه أمر نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - باتباعه فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أيها

[124]

الرسول مع علو طبقتك، وسمو مرتبتك، وما في {ثُمَّ} من التراخي (¬1) في الرتبة للتنبيه على أنَّ أجلَّ ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول ملته؛ أي: أوحينا إليك يا محمَّد وقلنا لك: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل، فأنت متبع له، وسائرٌ على طريقته، وقومك ليسوا كذلك، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم، وانتصاب (¬2) {حَنِيفًا} على الحال من إبراهيم، وجاز مجيءٌ الحال منه لأنَّ الملة كالجزء منه، وقد تقرر في علم النحو أنَّ الحال من المضاف إليه جائزٌ إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه، أو كان يزعم أو كالجزء. أي: أوحينا إليك باتباع ملَّة إبراهيم (¬3) في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإتيان الدلائل مرةً بعد أخرى، بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن حالة كون إبراهيم {حَنِيفًا}؛ أي: مائلًا من الباطل إلى الحق {و} الحال أنه {مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان قدوة الموحدين، وهو تكريرٌ لما سبق لزيادة تأكيد، وتقريرٌ لنزاهته - عليه السلام - عمَّا هم عليه من عقيدةٍ وعملٍ. 124 - ثم نعى على اليهود ما اختلفوا فيه، وهو يوم السبت فقال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ}؛ أي (¬4): إنما جعل وبال يوم السبت، وهو المسخ قردةً {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}؛ أي: في السبت فأحلوا الصيد فيه تارةً، وحرَّموه أخرى، وكان من الحتم عليهم أن يتفقوا فيه على كلمةٍ واحدةٍ، بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه، كما أنَّ وبال التحريم والتحليل من المشركين من عند أنفسهم واقعٌ عليهم لا محالة، وقرأ الحسن وأبو حيوة: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} بفتح الجيم والعين، و {السَّبْتُ} بنصب التاء والفاعل ضمير الله، أو المعنى إنما جعل السبت؛ أي: إنما (¬5) فرض تعظيم يوم السبت والتخلِّي فيه للعبادة، وترك الصيد، فتعدية جعل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) المراغي. (¬5) روح البيان.

بعلى لتضمينه معنى فرض، والسبت يومٌ من أيام الأسبوع بمعنى القطع والراحة، فسمي به لانقطاع الأيام عنده، إذ هو آخر أيام الأسبوع، وفيه فرغ الله من خلق السموات والأرض، أو لأن اليهود يستريحون فيه من الأشغال الدنيوية، ويقال: أسبتت اليهود إذا عظمت سبتها، وكان اليهود يدعون أن السبت من شعائر إبراهيم، وشعائر ملته التي أمرت يا محمَّد باتباعها حتى يكون بينه - عليه السلام - وبين بعض المشركين علاقةٌ في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وقد اختلف (¬1) العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعيَّنه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه، وقالوا: إنَّ السبت أفضل، فقال الله له: دَعْهم وما اختاروا لأنفسهم، فاختلافهم في السبت كان اختلافًا على نبيِّهم، وقيل إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم من الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت، لأنَّ الله سبحانه فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد، لأنَّ الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كلًّا منهم ما أدى إليه اجتهاده، وعين لهذه الأمة الجمعة، من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلًا منه ونعمةً. وبعد ما اختارت اليهود يوم السبت ابتلاهم الله تعالى بتحريم الصيد فيه، فافترقوا فرقتين: فرقةٌ مطيعة لأمر الله فتركوا الصيد فيه فنجوا من المسخ، وفرقةٌ مخالفةٌ لأمر الله فاصطادوا فمسخهم قردةً. انتهى. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنَّ اليهود كانوا يزعمون أنَّ السبت من شرائع إبراهيم - عليه السلام - فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه، ولم يجعله على إبراهيم، ولا على غيره، {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد {لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}؛ أي: ليفصل بين الفريقين المختلفين فيه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من شأن السبت وغيره؛ أي: يفصل ما بينهما من الاختلاف، فيجازى كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب، فيجازي المطيع بالثواب، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[125]

والمخالف بالعقاب، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما وقع في الدنيا من مسخ إحدى الفريقين، وإنجاء الأخرى بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيءٌ لا يعتد به، وإيراد (¬1) هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه إنذارٌ للمشركين، وتهديدٌ لهم بما في مخالفة الأنبياء من عظيم الوبال والنكال، كما ذكر مثل القرية فيما سلف، إلا أنَّ فيه حثًّا على إجابة الدعوة التي تضمنها سابق الكلام، وأمروا بها في لاحقه، 125 - ثم فصل سبحانه ما أمر باتباع إبراهيم فيه فقال: {ادْعُ} يا محمَّد الناس كافةً، حذف المفعول إيذانًا بالعموم من سبيل الشيطان {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} ودينه، وهو الإِسلام الموصل إلى الجنة والزلفى {بِالْحِكْمَةِ}؛ أي: بالحجة (¬2) القطعية المفيدة للعقائد الحقة، المزيحة لشبهة من دعي إليها فهي لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق {و} بـ {الموعظة الحسنة}؛ أي: الدلائل الإقناعية، والحكايات النافعة فهي لدعوة عوامهم، يقال: وعظه يعظه عظة وموعظة إذا ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب، فاتَّعظ كما في "القاموس"، {وَجَادِلْهُمْ}؛ أي: ناظر معانديهم وخاصمهم {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة، من الرفق اللين، واختيار الوجه الأيسر، واستعمال المقدمات المشهورة، تسكينًا لشغبهم، وإطفاءً للهبهم، كما فعله الخليل - عليه السلام - والآية دليل على أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا. فالناس على ثلاثة أقسام (¬3): الأول: أصحاب العقول الصحيحة، الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها. والثاني: أصحاب النظر السليم، الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

والثالث: الذين تغلب على طباعهم المخاصمة، لا طلب العلوم اليقينية، فقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ...} إلخ، معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالدلائل القطعية اليقينة، حتى يعلموا الأشياء بحقائقها، وهم خواص الصحابة وغيرهم، وادع عوام الخلق بالدلائل الإقناعية الظنية، وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة، وتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل، وهي التي تفيد إفحامهم وإلزامهم، والجدل ليس من باب الدعوة، بل المقصود منه قطع الجدل عن باب الدعوة لأنها لا تحصل به. أي: ولما أمر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - باتباع إبراهيم .. بيَّن الشيء الذي أمره بمتابعته فيه، وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن. ومجمل المعنى (¬1): أي ادع أيها الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إلى شريعته التي شرعها لخلقه بوحي الله الذي يوحيه إليك، وبالعبر والمواعظ التي جعلها في كتابه حجةً عليهم، وذكرهم بها في تنزيله، كالذي عدده في هذه السورة، وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها، بأن تصفح عما نالوا به عرضك من أذى، وترفق بهم بحسن الخطاب، كما قال في آية أخرى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} الآية، وقال آمرًا موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}، ثم توعد سبحانه ووعد فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمَّد {هُوَ أَعْلَمُ} منك ومن المخلوقين، أو هو العالم لا غيره {مَنْ يَضِلُّ} وأعرض {عَنْ سَبِيلِهِ} سبحانه التي أمرك بدعوة الخلق إليها وعن قبولها {وَهُوَ} سبحانه {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} إليها، والقابلين لها؛ أي (¬2): إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، وحصول الهداية لا يتعلق بك، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة، وباهتداء النفوس المشرقة الصافية، فيجازي كلًّا منهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[126]

بما يستحقه، فكأنه (¬1) قيل: إن ربك أعلم بهم، فمن كان فيه خيرٌ .. كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه .. عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد باردٍ. أي: إنَّ ربك أيها الرسول هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره، وأعلم بمن كان منهم سالكًا قصد السبيل ومحجة الحق، وهو مجازيهم جميعًا حين وردوهم إليه بحسب ما يستحقون. وخلاصة ذلك: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريق المثلى، وهي الدعوة بالتي هي أحسن، وليس عليك غيرها، أمَّا الهداية والضلال والمجازاة عليها فإلى الله سبحانه لا إلى غيره، وإذ هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء، لما ينطوي بين جنبيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة، وهو كافٍ في هداية المهتدين، وإزالة عذر الضالين. 126 - ولما أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، وبين طريقها، وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يحمل أكثرهم على إيذاء الداعي، إما بقتله، أو بضربه، أو بشتمه، كما أن الداعي يدعوه طبعه إلى تأديب أولئك السفهاء تارةً بالقتل، وأخرى بالضرب .. لا جرم أمر سبحانه المحقين برعاية العدل والإنصاف في العقاب، وترك الزيادة فيه فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ}؛ أي: وإن أردتم أيها المؤمنون معاقبة من ظلمكم {فَعَاقِبُوا}؛ أي: فجازوه {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}؛ أي: بمثل ما فعل بكم من القتل والضرب والشتم، ولا تزيدوا عليه، لأنَّ الزيادة ظلم، سمي الفعل الأول عقوبةً، والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام ومشاكلته، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فالثانية ليست بسيئة، والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه .. فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[127]

وقرأ الجمهور: {عاقبتم} بالألف والتخفيف فيهما، وقرىء بالتشديد فيهما من غير ألف. روي: أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد، بقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حمزة مبقور البطن، فقال: "أمَّا والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك"، فنزلت، فكفر عن يمينه، وكف عما أراد، ولا خلاف في تحريم المثلة، لورود الأخيار بالنهي عنها، حتى بالكلب العقور. {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} وعفوتم، وتركتم المعاقبة بالمثل {لَهُوَ} بضم الهاء وسكونها قراءتان سبعيتان، والضمير يرجع إلى مصدر صبرتم، والمراد بالصابرين المخاطبون؛ أي: ولئن صبرتم لصبركم {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}؛ أي: خير لكم، فوضع (¬1) الصابرين موضع الضمير ثناءً من الله عليهم؛ لأنهم صابرون على الشدائد، يعني: ولئن عفوتم وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم .. كان ذلك العفو والصير خيرًا من استيفاء القصاص، وفيه أجرٌ للصابرين العافين؛ أي: وإن (¬2) عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم .. فلكم في العقاب إحدى طريقين: 1 - أن تعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة. 2 - أن تصبروا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب، وتصفحوا عنه، وتحتسبوا عند الله ما نالكم به من الظلم، وتكلوا أمركم إليه، والله يتولى عقوبته، والصبر خير للصابرين من الانتقام، لأنَّ الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه. والخلاصة: أنكم إن رغبتم في القصاص - فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه، فإنَّ الزيادة ظلمٌ، والظلم لا يحبه الله، ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم .. ذلك خيرٌ وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم، ويأخذ بثأر المظلوم. 127 - ثم أمر رسوله بالصبر صراحةً بعد أن ندب إليه غيره تعريضًا، لأنه أولى ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

الناس بعزائم الأمور، لزيادة علمه بشؤونه تعالى فقال: {وَاصْبِرْ} يا محمَّد على ما أصابك منهم من أذى في الله، ومن إعراض عن الدعوة {وَمَا صَبْرُكَ} يا محمَّد إن صبرت {إِلَّا بِاللَّهِ}؛ أي: إلا بمعونة الله تعالى، وحسن توفيقه، ومشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تنتهي إلى عواقب محمودةٍ، والاستثناء (¬1) مفرغ من أعم الأشياء؛ أي: وما صبرك حاصلًا ومصحوبًا بشيء من الأشياء إلا بتوفيقه لك، وفي هذا تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتهوين لمشاق الصبر عليه، وتشريفٌ له بما لا مزيد عليه، ثم نهاه عن الحزن فقال: {وَلَا تَحْزَنْ} يا محمَّد {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الكافرين في إعراضهم عنك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله؛ أي: ولا تحزن على إعراض المشركين الذين يكذبونك وينكرون ما جئتهم به {وَلَا تَكُ} يا محمَّد {فِي ضَيْقٍ} وهمٍّ وغمٍّ {مِمَّا يَمْكُرُونَ}؛ أي: من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان؛ أي: ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل بنسبتك إلى السحر والكهانة والشعر، احتيالًا وخديعةً لمن أراد الإيمان بك، وصدًّا عن سبيل الله، والمعنى: لا تهتم بمكرهم. وقصارى ذلك: أنَّه (¬2) نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغهم وحي الله وتنزيله، كما قال: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ...} الآية. فالله كافيك أذاهم، وناصرك عليهم، ومؤيدك ومظهرك عليهم، فمهما حاولوا إيصال الأذى بك .. فإن الله مبعده عنك، ومحبط ما صنعوا، وهم لا يشعرون. وقرأ الجمهور (¬3): {ضَيْقٍ} بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها، قال ابن السكيت: هما سواء، يعني المفتوح والمكسور، وقال الفراء: الضيق بالفتح: ما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[128]

ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر: ما يكون في الذي يتسع مثل الدار والثوب، وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب؛ لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه، ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه. 128 - ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}؛ أي: اجتنبوا الكفر والمعاصي على اختلاف أنواعها؛ أي: معهم بالولاية والتوفيق والفضل والحفظ {و} مع {الذين هم محسنون} بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إنَّ الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام. وفي الحديث: "إن للمحسن ثلاث علامات: يبادر في طاعة الله، ويجتنب محارم الله، ويحسن إلى من أساء إليه". والمعنى: أي (¬1) إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفًا من عقابه، والذين يحسنون رعاية فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته فيما أمرهم به وفي ترك ما نهاهم عنه. ونحو الآية قوله تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصّديق وهما في الغار فيما حكى الله عنه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. وقصارى ذلك: أنَّ الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم، فلم يحزنوا لفوت مطلوب، ولم يفرحوا لنيل محبوب، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه، وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك". والمعنى (¬2): إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

والرحمة .. فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، قال بعض العلماء: كمال الطريق صدقٌ مع الحق، وصلحٌ مع الخلق، وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم بن حيان عند الموت: أوصِ، فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، والله أعلم اهـ "خازن". والله سبحانه نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا للفقه في دينه، ويفتح لنا خزائن أسراره بحرمة كتابه وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمي، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. الإعراب {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)}. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ}: ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، {أُمَّةً} خبر {كَانَ} {قَانِتًا}: صفة أولى لـ {أُمَّةً}، {لِلَّهِ}: متعلق به، {حَنِيفًا}: صفة ثانية لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَمْ يَكُ}: جازم وفعل ناقص مجزوم، واسمه ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب حال مؤكدة من الضمير المستكن في {حَنِيفًا}. {شَاكِرًا}: صفة ثالثة لـ {أُمَّةً}، {لِأَنْعُمِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {شَاكِرًا} {اجْتَبَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، والجملة مستأنفة، {وَهَدَاهُ}: فعل ومفعول، معطوف على {اجْتَبَاهُ}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ}، {إِلَى صِرَاطٍ}: متعلق بـ {هدى} أو بـ {اجتبى} على سبيل التنازع، {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صِرَاطٍ}. {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)}.

{وَآتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {في الدُّنْيَا}: متعلق به، {حَسَنَةً}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {اجْتَبَاهُ}، {وَإِنَّهُ} {الواو}: عاطفة {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه، {في الْآخِرَةِ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الخبر الآتي، {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور خبر {إنَّ} و {اللام} حرف ابتداءٍ، وجملة {إن} معطوفة على جملة {آتيناه}. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اجْتَبَاهُ} {أَنِ} مصدرية أو مفسرة، {اتَّبِعْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَنِ} المصدرية، مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}: مفعول به لـ {اتَّبِعْ}، {حَنِيفًا}: حال من {إِبْرَاهِيمَ}، وجملة {اتَّبِعْ} مع {أَنِ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، والتقدير: ثم أوحينا إليك باتباع ملة إبراهيم حنيفًا، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة مستأنفة أو في محل النصب معطوفة على {حَنِيفًا}. {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}. {إِنَّمَا} أداة حصر، {جُعِلَ السَّبْتُ}: فعل ونائب فاعل. وهو متعد إلى واحد؛ لأنه بمعنى فرض، والجملة مستأنفة، {عَلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {جُعِلَ}، {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {فِيهِ}: متعلق بـ {اخْتَلَفُوا}، {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لَيَحْكُمُ} {اللام}: حرف ابتداء، {يحكم}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب سبحانه، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يَحْكُمُ}، وكذا يتعلق به {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وجملة {يحكم} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {جَعَلَ}، {فِيمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {يحكم}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِيهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَخْتَلِفُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة

لها. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}. {ادْعُ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: ادع الناس، والجملة مستأنفة، {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {ادْعُ} {بِالْحِكْمَةِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {ادْعُ}؛ أي: حالة كونك متلبسًا بالحكمة، {وَالْمَوْعِظَةِ}: معطوف على {الحكمة}، {الْحَسَنَةِ}: صفة لـ {الموعظة}، {وَجَادِلْهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {ادْعُ} {بِالَّتِي}: متعلق بـ {جادل} {هِيَ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {أَعْلَمُ}: خبر {إِنَّ}، {بِمَنْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {ضَلَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة الموصول، {عَنْ سَبِيلِهِ}: متعلق بـ {ضَلَّ} {وَهُوَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على خبر {إِنَّ}، {بِالْمُهْتَدِينَ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية، {إن}: حرف شرط، {عَاقَبْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {فَعَاقِبُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {عاقبوا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، مبني على حذف النون، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، {بِمِثْلِ مَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {عاقبوا}، {عُوقِبْتُمْ}: فعل ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق به والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، و {اللام} موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {صَبَرْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه

فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: فهو خير لكم، {لَهُوَ} {اللام}: زائدة، زيدت لتأكيد لام القسم، {هو خير}: مبتدأ وخبر، {لِلصَّابِرِينَ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة الشرط قبلها. {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}. {وَاصْبِرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {وَمَا} {الواو}: اعتراضية، {ما}: نافية، {صَبْرُكَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِاللَّهِ}: جار ومجرور، خبر المبتدأ؛ أي: وما صبرك إلا حاصلٌ بمعونة الله وفضله، والجملة معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين، {وَلَا تَحْزَنْ}: جازم ومجزوم، معطوف على {وَاصْبِرْ}، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تَحْزَنْ}، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد، {فِي ضَيْقٍ}: خبرها، والجملة معطوفة على جملة {وَلَا تَحْزَنْ}، {مِمَّا} مكرهم بك، الجار والمجرور متعلق بـ {ضَيْقٍ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {مَعَ الَّذِينَ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، {هُمْ مُحْسِنُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} حكى (¬1) ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: إنَّ هذا مثل قول العرب فلانٌ رحمة، وفلان علامة ونسابة، يقصدون بهذا التأنيث ¬

_ (¬1) الفتوحات.

التناهي في المعنى الذي يصفونه به، والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد، كقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} وإنما ناداه جبريل وحده. وإنما سمي إبراهيم - عليه السلام - أمةً لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة، ومنه قول الشاعر: وَلَيْسَ عَلَى الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِيْ وَاحِدِ ثم للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال (¬1): أحدها: قول ابن مسعود الأمة معلم الناس الخير، يعني أنه كان معلمًا الخير، يأتم به أهل الدنيا. الثاني: قال مجاهد: إنه كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمةً وحده، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في زيد بن عمرو بن نفيل: "يبعثه الله أمة وحده"، وإنما قال فيه هذه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. الثالث: قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه ويرضونه، وقيل الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به، وكان إبراهيم - عليه السلام - إمامًا يقتدى به، دليله قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وقيل: إنه - عليه السلام - هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق، وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم - عليه السلام - أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله تعالى اهـ "خازن". وحاصل ما ذكر له من الصفات تسعة بل عشرة، إذ قوله: (ثُمَّ أَوحَينا إِلَيْكَ ...} إلخ، يرجع لوصف إبراهيم وتعظيمه بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباعه اهـ شيخنا. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{قَانِتًا} والقانت: المطيع لله القائم بأمره، {حَنِيفًا} والحنيف: المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، {اجْتَبَاهُ} اصطفاه واختاره للنبوة والخلة، {حَسَنَةً} والحسنة هي محبة أهل الأديان جميعًا له إجابة لدعوته لربه {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}. {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الملة (¬1) اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء - عليهم السلام - من أمللت الكتاب إذا أمليته، وهو الدين بعينه، لكن باعتبار الطاعة له. وتحقيق ذلك: أن الوضع مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى .. يسمى ملة، ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به .. يسمى دينًا، وقال الراغب: الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي - عليه السلام - ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه وتعالى، ولا إلى آحاد الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، والمراد بملته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفًا بالصراط المستقيم اهـ "أبو السعود". {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا}؛ أي: إنما فرض تعظيم السبت، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد فيه على اليهود الذين اختلفوا فيه، والسبت في الأصل مصدر سبت يسبت - من باب ضرب - سبتًا، بمعنى قطع، ثم سمي به يومٌ من أيام الأسبوع لانقطاع الأيام عنده، إذ هو آخر أيام الأسبوع، يجمع على أسبت وسبوت، وقال الزمخشري: سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. {بِالْحِكْمَةِ} والحكمة المقالة المحكمة المصحوبة بالدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الدلائل الظنية المقنعة للعامة، والجدل: الحوار والمناظرة لإقناع المعاند، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} والعقاب في أصل اللغة: المجازاة على أذى سابق، ثم استعمل في مطلق العقاب. ¬

_ (¬1) أبو السعود.

{وَلَا تَكُ} أصله ولا تكن، حذفت النون تخفيفًا لكثرة استعماله، بخلاف لم يصن، ولم يخن ونحوهما، ومعنى كثرة الاستعمال أنهم يعبرون بكان ويكون عن كل الأفعال، فيقولون: كان زيدٌ يقول، وكان زيد يجلس، فإن وصلت بساكنٍ ردت النون وتحركت نحو: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ} و {أمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} والضيق بفتح الضاد وكسرها: الغم وانقباض الصدر، وفي "المصباح": ضاق الشيء ضيقًا، من باب سار، والاسم الضيق بالكسر، وهو خلاف اتسع، فهو ضيقٌ، وضاق صدره حرج، فهو ضيق أيضًا اهـ. أي: ولا تك في ضيق صدر من مكرهم، فهو من الكلام المقلوب الذي يسجع عليه عند أمن الالتباس، لأن الضيق وصف، فهو يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه، وفيه لطيفةٌ أخرى وهو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَآَتَيناَهُ} إذ مقتضى السياق أن يقال: وآتاه؛ أي: الله المذكور في قوله: {قَانِتًا لِلَّهِ}، ونكتة الالتفات زيادة الاعتناء بشأنه اهـ شيخنا. ومنها: الطباق بين {الدُّنْيَا} و {الْآخِرَةِ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عما هم عليه من عقد وعمل. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا}. ومنها: الطباق بين قوله {بِمَنْ ضَلَّ} وقوله: {بِالْمُهْتَدِينَ}.

ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {كَانَ أُمَّةً}؛ أي: كان بنفسه كالأمة والجماعة الكثيرة لجمعه أوصاف الكمالات التي تفرقت في الخلق، كما في قول أبي نواس. ومنها: المزاوجة والمشاكلة في قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} لأنه سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء، على طريقة المشاكلة والمزاوجة، لأن تسمية الأذى الابتدائي معاقبةً من باب المشاكلة، لأنها في وضعها الأصلي تستدعي أن تكون عقيب فعل، نعم العرف جار على إطلاقها على ما يعذب به أحدٌ، وإن لم يك جزاء فعل. ومنها: التصريح بالصبر في قوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} بعد التعريض له في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} حثًّا عليه على الوجه الآكد. ومنها: جناس الاشتقاق بين {صَبَرْتُمْ} و {الصَّابِرِينَ}، وبين {اصْبِرْ} {وَمَا صَبْرُكَ}. ومنها: الكلام المقلوب في قوله: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} لأن الضيق وصف يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة ومجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الآداب والأحكام خمس وعشرون موضوعًا: 1 - استعجال المشركين للساعة. 2 - ذكر الأدلة على أنه جل وعلا المتفرد بخلق العالم العُلوي والسفلي وخلق الإنسان. 3 - الامتنان على عباده بخلق الأنعام، وما فيها من المنافع من أكلٍ وحمل أثقالٍ إلى البلاد البعيدة. 4 - النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان. 5 - إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما أتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون. 6 - احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل، بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم، فلا فائدة في إرسالهم، وقد رد عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار، لا خلق الهداية والإيمان. 7 - إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت، ومن الناس من استجاب لدعوتهم، ومنهم من حقت عليه الضلالة. 8 - إنكار المشركين للبعث والنشور، وحلفهم على ذلك، وتكذيب الله تعالى لهم فيما يقولون. 9 - إنكار بعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رجلٌ لا ملكٌ، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعًا كانوا رجالًا لا ملائكة. 10 - إنذار المشركين بعذاب الخسف. 11 - جعلهم الملائكة بنات الله مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى. 12 - رحمة الله بعباده، وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو أخذهم ما ترك

على ظهر الأرض دابة. 13 - ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب، والعسل من النحل. وأيضًا تفاضل الناس في الأعمار والأرزاق. وأيضًا ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله. 14 - الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر، وتسخير الطير في جو السماء، وجعل البيوت سكنًا، وجعله لنا سرابيل تقي الحر، وسرابيل تقي بأس العدو. 15 - جعل الأنبياء شهداء على أممهم، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، وعدم قبول معذرتهم. 16 - الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والأمر بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك. 17 - الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وبيان أن سلطانه على المشركين. 18 - تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن في شريعة من قبله من الأنبياء، وادعائهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومي، وردَّ الله عليهم ذلك. وأنه لا ضير على من كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، دون من شرح بالكفر صدرًا. 19 - دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل نفس بما عملت. 20 - ذكر ما حرمه الله تعالى من المطاعم، والنهي عن تقولهم على الله بغير علم. وذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم. 21 - مدح إبراهيم - عليه السلام - ووصفه بصفات لم يوصف بها نبيٌّ غيره، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباعه، وسلوك طريقته في العقاب والصبر على الأذى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

ولقد أجاد من قال: سبحانك لا علم لنا ... إلَّا ما أَلْهَمْتَ لَنَا لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلاَنَا ... عَلى مَا أَسْعَفْتَ لَنَا شعر يَا رَب لا تُحْينِي إلى زَمَنٍ ... أكُونُ فيه كَلًّا على أَحَدِ خُذْ بيدي قَبلَ أنْ أقُوْلَ لِمَنْ ... أَلْقَاهُ عِنْدَ القِيَامِ خُذْ بِيَدِي ¬

_ (¬1) الحمد لله على إفضاله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على محمَّد وآله، ما تطارد الجديدان، وتطاول المدى والزمان. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك في اليوم الثامن والعشرين منه، يوم السبت وقت الشروق، منتصف الساعة الأولى منه، من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مثة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، بتاريخ سنة 28/ 9/ 1411 هـ. تم المجلد الخامس عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجد السادس عشر، وأوله سورة الإسراء.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الإسراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظةً وشفاءً لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي فسر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وصحبه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم ممن تخلّق بالقرآن في كل زمان، ما تطاول المدى وطلع المرزمان. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء الرابع عشر من القرآن بعون الله وتوفيقه .. أردت الشّروع في تفسير الجزء الخامس عشر منه، مستمدًا منه التيسير والتوفيق؛ لأقوم الطريق فقلت. سورة الإسراء سورة الإسراء - وتسمى سورة بني إسرائيل، وسورة سبحان -: مكية، إلّا ثماني آيات، من قوله سبحانه: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إلى قوله: {سُلْطانًا نَصِيرًا} فتلك الآيات الثمانية مدنية. وهذا (¬1) قول قتادة. وقال مقاتل: فيها من المدني قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ}، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ}، وقوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ}، وقوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ} والتي تليها. ¬

_ (¬1) الخازن.

وعدد آياتها: مئة وعشر آيات، وقيل: وإحدى عشرة آية وكلماتها ألف وخمس مئة وثلاث وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ستة آلاف، وأربع مئة وستون حرفًا: فضلها: ومما ورد في فضلها: ما روي (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين، كان له قنطار في الجنة» والقنطار: ألف أوقية، ومئتا أوقية. وأخرج أحمد (¬2)، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عائشة، أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يقرأ كل ليلة سورة بني إسرائيل والزمر). وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - وجملة المنسوخ في سورة بني إسرائيل ثلاث آيات: أولاهن: قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما} إلى قوله: {كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} الآية نسخ بعض حكمها، وبقي البعض على ظاهره، فهو في أهل التوحيد محكم، وبعض حكمها في أهل الشرك منسوخ بقوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. الآية الثانية: قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} نسختا بآية السيف. الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} إلى قوله: {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}، الآية نسخت بالآية التي في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ...} الآية. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

المناسبة: ووجه (¬1) مناسبة هذه السورة لسورة النحل، وذكرها بعدها في أمور: 1 - أنه سبحانه وتعالى ذكر في سورة النحل اختلاف اليهود في السبت، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم في التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: (إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل). 2 - أنه لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، ونهاه عن الحزن، وضيق الصدر من مكرهم في السُّورة السالفة .. ذكر هنا شرفه، وعلوّ منزلته عند ربه. 3 - أنه لما ذكر في السورة السالفة نعمًا كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم .. ذكر هنا أيضًا نعمًا خاصةً وعامّةً. 4 - ذكر هناك أن النحل {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ} وهنا ذكر {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. 5 - أنه في تلك أمر بإيتاء ذي القربى، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المساكين، وابن السبيل. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (¬1): أنّه تعالى لما أمر نبيّه بالصبر، ونهاه عن الحزن عليهم، وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب، والسحر، والشعر، وغير ذلك مما رموه به .. أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه، وفضله، وعلو منزلته عنده تعالى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

قوله تعالى: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية الأولى: أنه أكرم عبده، ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس .. أردف ذلك بذكر ما أكرم به موسى عليه السلام قبله من إعطائه التوراة، وجعله هدى لبني إسرائيل ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى، ثمّ قفّى على ذلك ببيان أنّهم ما عملوا بهديها بل أفسدوا في الأرض، فسلّط الله عليهم البابليين، أثخنوا فيهم، وقصدوهم بالقتل، والنهب، والسلب، ثم أزال عنهم هذه المحنة، وأعاد لهم الدولة، وأمدهم بالأموال، والبنين، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا، ثم عادوا إلى عصيانهم، وقتلوا ذكريا، ويحيى - عليهما السلام - فَسَلَّط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى، فأعمل فيهم السيف، وسلب، ونهب، وجاس خلال ديارهم، فدخل بيت المقدس مرّة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال، وأهلك ما أهلك، مما قد جمعوه وكنزوه، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب في الآخرة بنار جهنم، وبئس السجن هي لمن عصى الله وخالف أوامر دينه تعالى. قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين، فأكرم محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالإسراء، وأكرم موسى بالتوراة، وجعلها هدى لبني إسرائيل، ثم بيّن أنهم لم يعملوا بها، فحل بهم عذاب الدنيا والآخرة .. قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم، وبيان أنه يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبشر المؤمنين بالأجر والثواب العظيم، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان، وأنه خلق عجولا قد يدعو على نفسه بالشر، أي: بالموت، والهلاك، والدمار، واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير. وعبارة أبي حيان هنا: لما ذكر (¬2) تعالى من اختصه بالإسراء، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آتاه التوراة، وهو موسى عليه السلام، وأنها هدًى لبني إسرائيل، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وذكر ما قَضَى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم، كان - ذلك رادعًا لمن عقل عن معاصي الله، فذكر ما شرف الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من القرآن الناسخ لحكم التوراة، وكل كتاب إلهي، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم -. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر الهداية، والإرشاد بالقرآن الكريم .. قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات، والدلائل التي في الآفاق، وهي برهان نيّر لا ريب فيه، وطريق بيّن لا يضل من ينتحيه. قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا بين فيما سلف حال كتابه الذي يحوي النافع والضارّ من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان، وشقاؤه في دينه ودنياه .. قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلّا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما في الكتاب الأول، أو تركه لذاك، فمن أخذ به اهتدى، ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه، ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلِّغون رسالات ربهم رحمة بهم، ورأفة عليهم. أسباب النزول قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ...} الآية، قال أبو القاسم سليمان الأنصاري (¬2): لما وصل محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الدرجات العالية، والمراتب الرفيعة، في المعارج أوحى الله إليه يا محمد، بم شرفك الله سبحانه وتعالى؟ قال: «يا رب بنسبتي إليك بالعبودية» فأنزل الله فيه {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...} الآية انتهى. قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...} الآية، سبب نزولها: ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[1]

أخرجه (¬1) ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: «هم من آبائهم»، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثمّ سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وقال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ}؛ أي: تبرأ عن الشريك والولد والصاحبة، الإله الذي سير بعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَيْلًا}؛ أي: في جزء قليل من الليل {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}؛ أي: من حرم مكّة من بيت أم هانىء بنت أبي طالب {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}؛ أي (¬2) إلى المسجد الأبعد من الأرض أي من أرض الحجاز وأقرب إلى السماء، وهو مسجد بيت المقدس، ورجع من ليلته في نحو ثلاث ساعات، وسمي أقصى؛ لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام؛ أي أبعد بالنظر إلى من بالحجاز. قال النحويون (¬3): {سُبْحانَ} اسم علم للتسبيح، وانتصابه على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، فالمقصود منه التنزيه والتبعيد له تعالى عن السوء في الذات والصفات، والأفعال والأسماء، والأحكام، فالتعجيب مقصود منه أيضا؛ أي: تعجبوا أو اعجبوا من قدرة الله تعالى على هذا الأمر الغريب، والمعنى: ما أبعد الإله الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص، ولذا لا يستعمل إلّا فيه تعالى، والإسراء سير الليل. وفائدة ذكر الليل، مع أنه معلوم من ذكر الإسراء: الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة، ومعنى أسرى به: صيره ساريا في الليل، وقوله: {بِعَبْدِهِ}؛ أي بروحه وجسده على المعتمد، وقال (¬4): {بِعَبْدِهِ}؛ دون نبيه، أو حبيبه؛ لئلا تضل به أمته، كما ¬

_ (¬1) لباب لنقول. (¬2) المراح. (¬3) الفتوحات. (¬4) الفتوحات.

ضَلَّتْ أمة المسيح حيث ادَّعته إلهًا، أو لأن وصفه بالعبودية المضاف إلى الله تعالى أشرف المقامات والأوصاف. لا تدعني إلّا بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} {من} ابتدائية قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، وقال عامة المفسرين أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار أم هانىء، فحملوا المسجد الحرام على مكة، أو الحرم لإحاطة كل منهما بالمسجد الحرام، أو لأن الحرم كلّه مسجد، وكان (¬1) الإسراء به ببدنه في اليقظة بعد البعثة، وكان قبلها في المنام كما أنه رأى فتح مكة سنة ست وتحقق سنة ثمان اهـ كرخي، والحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس دون العروج به من مكة، لأنه محشر الخلائق، فيطؤه بقدمه، ليسهل على أمته يوم وقوفهم ببركة أثر قدمه، أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء، فأراد الله تعالى أن يشرفهم بزيارته - صلى الله عليه وسلم -، وليخبر الناس بصفاته، فيصدّقوه في الباقي اهـ كرخي، وقيل (¬2): الحكمة في إسرائه - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، ليحصل له العروج إلى السماء مستويًا من غير تعريج، لما روي عن كعب أنّ باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا وقيل: الحكمة في ذلك، أنّ الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في الحديث الصحيح، فهي أفضل الأرض بعد الحرمين، وأول إقليم ظهر فيه ملكه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل غير ذلك. ثمّ ذكر سبحانه الغاية التي أسري برسوله - صلى الله عليه وسلم - إليها فقال: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، أي القاصي، وهو بيت المقدس، وأول من بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة كما في «المواهب» فهو أول ما بني على الأرض بعد الكعبة، وسمّي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، ولم يكن حينئذ وراءه مسجد، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله: {الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} ونواحيه بالثمار، والأنهار، والأنبياء، والصالحين، فقد بارك الله سبحانه وتعالى حول المسجد الأقصى ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراح.

ببركات الدنيا، فهي ليست إلا حول الأقصى، وأما في الداخل فالبركة في كل من المسجدين، بل هي في الحرم أتم، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما اهـ شيخنا، أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم، وأقواتهم، وحروثهم، وغروسهم، وفي قوله: {بارَكْنا} بعد قوله: {أَسْرى} التفات من الغيبة إلى التكلم، ثم ذكر العلّة التي أسرى به لأجلها فقال: {لِنُرِيَهُ}، أي لكي نري عبدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ آياتِنا}، أي من عبرنا (¬1) وأدلتنا ما فيه البرهان الساطع، والدليل القاطع على وحدانيّتنا، وعظيم قدرتنا، والمراد بها، ما أراه الله تعالى في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة، في جزء قليل من الليل، وقرأ الجمهور {لِنُرِيَهُ} بالنون، وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقرأ الحسن: {ليريه} بالياء، فيكون الالتفات في {آياتِنا}، {إِنَّهُ} أي إنّ الذي أسرى بعبده {هُوَ السَّمِيعُ} لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في إسراء محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس، أو بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول محمد - صلى الله عليه وسلم - وقول أولئك المشركين {الْبَصِيرُ} بما يفعلون، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عنه شيء في الأرض، ولا في السماء، فهو محيط به علمًا، ومحصيه عددًا، وهو لهم بالمرصاد، وسيجزيهم بما هم له أهل أو بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله، وذاتهم وأفعالهم، ويقال (¬2): معنى هذه الجملة {إِنَّهُ}؛ أي: إنّ هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا، البصير لذاتنا، فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا، والقبول لأوامرنا، البصير بصرا، وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه - صلى الله عليه وسلم - وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}. تحقيق ما قيل في الإسراء والمعراج اعلم (¬3): أن هاهنا أمرين: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

1 - إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وهذا هو الذي ذكر في هذه السورة. 2 - العروج به، والصعود إلى السماء الدنيا، ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس، ولم يذكر ذلك هنا، وسيأتي بيانه في سورة النجم، ونفصل القول فيه تفصيلًا إن شاء الله سبحانه وتعالى هناك. آراء العلماء في الإسراء وهاهنا أمور: مكان الإسراء، زمانه، هل كان الإسراء بالروح والجسد، أو بالروح فحسب. 1 - يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام، وقيل: أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب. 2 - أما زمانه: فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والجسد، يقظة لا منامًا، ولهم على ذلك أدلة: أ - أن التسبيح والتعجب في قوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن، ولم يكن مستعظمًا. ب - أنه لو كان منامًا ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا، ولما قالت أم هانىء لا تحدث الناس فيكذبوك، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق، وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها - لم أعرفها حق المعرفة - فكربت كربًا مّا كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به» الحديث.

ج - أن قوله {بِعَبْدِهِ} يدل على مجموع الروح والجسد. د - أن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في قوله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} هي: رؤيا أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا في المشاهدة الحسية. ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا: وكبّر للرّؤيا وهشّ فؤاده ... وبشّر قلبا كان جمّا بلابله هـ - أن الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن الكريم أنَّ الرِّياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة، في الأوقات القليلة، فقد قال تعالى في صفة سير سليمان عليه السلام: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ}، وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، في مقدار لمح البصر، كما قال تعالى: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس، جاز لدى جميعهم. ويرى آخرون من الناس أن الإسراء كان بالروح فحسب، ولهم على ذلك حجج: أ - أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رؤيا من الله صادقة، وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ، كان من المشركين، فلا يقبل خبره في مثل هذا. ب - أن بعض آل أبي بكر رضي الله عنه قال: كانت عائشة تقول: ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أسري بروحه، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة، ولم تكن زوجا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ج - أن الحسن قال في قوله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا ...} الآية. إنها رؤيا منام رآها والرؤيا تختص بالنوم. قال أبو جعفر الطبري: الصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر

الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ الله حمله على البراق، حتى أتاه به، وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه من الآيات ما أراه، ولا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجّة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة، من بني آدم، أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر، أو أقلّ. وبعد: فإن الله إنّما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، إلا أن الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله أسرى به على دابة، يقال لها: البراق، ولو كان الإسراء بروحه .. لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اهـ. والخلاصة: أن الذي عليه المعول عند جمهرة المسلمين، أنه أسري به - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا منامًا، من مكة إلى بيت المقدس، راكبًا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله يصلي في قبلته، تحية المسجد ركعتين، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلسٍ. إلمامةٌ في المعراج يرى بعض العلماء أن عروج النبي - صلى الله عليه وسلم - السموات السبع، كان بجسده وروحه يقظة لا منامًا لدليلين: أ - آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده، والعبد مجموع الروح والجسد، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما. ب - الحديث المروي في الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم، وغيرهما، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات العلا، ثمّ إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.

وأنكره آخرون، وأثبتوا أنَّ المعراج كان بالروح فحسب لوجوه: 1 - أنَّ الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة. 2 - أنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات، وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدل به على صدقه في ادّعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه فيه أحد، ولا يشاهده فيه مشاهد، فإنّ ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم. 3 - أن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة، مستحيلٌ، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي، أو يتنفس فيه. 4 - أن حديث المعراج اشتمل على أشياء في غاية البعد: أ - شق بطنه، وتطهيره بماء زمزم، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب من العقائد الزائغة، والأخلاق المذمومة. ب - ركوب البراق ولا حاجة له بذلك؛ لأن العالم العلوي في غنى عن ذلك. ج - أنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ولم يزل محمد - صلى الله عليه وسلم - يتردد بين الله وموسى عليه السلام إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام، وهذا غير جائز، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه يقتضي نسخ الحكم قبل العمل به، وهذا بداء محال على الله سبحانه وتعالى. د - لم يقل أحد من المسلمين بأنّ الأنبياء أحياء بأجسادهم في العالم العلوي، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية، والتخاطب، والكلام معهم، والصلاة بهم من الأمور الروحية، لا الجسمية، إذ لا يعقل غير هذا، وبهذا يثبت المعراج الروحي لا الجسماني. ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة، والله

تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى، ككل معجزات الأنبياء، من انقلاب العصا حية، ثم عودتها في مدة قصيرة عصًا صغيرةً كما كانت. عظة وذكرى إنا لنقف قليلًا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورًا هي الغاية في العظة والاعتبار: 1 - أنّ هاتين الرحلتين: الرحلة الأرضية «الإسراء» والرّحلة السماوية «المعراج» حدثتا في ليلة واحدة، قبل الهجرة بسنة، ليمحص الله المؤمنين، ويبين منهم صادق الإيمان، ومن في قلبه منهم مرض فيكون الأول خليقًا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، والإنضواء تحت لوائه، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام، وتكاليف شاقّة من حروب دينية، وقيام بدعوة عظيمةٍ، تستتبع همة قعساء، وإنشاء دولة تبتلع المعمور في ذلك الحين شرقًا، وغربًا. 2 - أنّ الله تعالى أطلع رسوله على ما في هذا الكون أرضيةً وسماويةً من العظمة والجلال ليكون درسًا عمليًا لتعليم رسوله بالمشاهدة، والنظر، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التّعليم، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة، أو يجلس إلى معلم، أو يسيح في أرجاء المعمورة، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء، فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم الّتي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها، إلا بضرب من التخيّل والتوهم، فأنى لنا أن نصل إلى ذلك، وقد حبس عنّا الكثير من العلم، ولم نؤت إلا قليله {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. 3 - أن ما يجدُّ كل يوم من ضروب المخترعات والتوصل بها إلى طي المسافات بوسائل الطيارات، وقطع المحيطات في قليل الساعات من قارّة إلى قارّة، ومن قطر إلى قطر، ليجعلنا نعتقد أنّ ما جاء في وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة. 4 - أن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم، فما يخيل إلينا من

[2]

العوائق العلمية من صعوبة الوصول إلى الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، فهو إنّما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجسام المشاهدة في عالم الحس، وإن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشريّ إلى تحديدها، وإبداء الرأي فيها، وإنها لفوق مستوى إدراكه فأجدر بنا أن لا نطيل البحث فيها، ولا التعمق في استقصاء آثارها. 5 - أن ما جاء في الحديث من أن الرّسول - صلى الله عليه وسلم - صلّى إمامًا بالأنبياء في عالم السموات ليرشد إلى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء بشريعة، ختمت الشرائع السالفة كلها، وأتمتها، ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه، وصاروا مؤتمِّين به. 6 - أن في هذا مغزى جديرًا بطول التأمل والتفكير، وهو أن جميع الأنبياء كانوا في وفاقٍ ووئام في الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم، الذي أرسلهم أفلا يجدر بمتّبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة، والقانون الذي جاءت به، هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس، كما هو المتبع في القوانين الوضعيّة، فإنّ الذي يجب العمل به هو القانون الأخير، وهو يلغي جميع ما سبقه. 2 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى تشريف محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالإسراء، ذكر عقبه تشريف موسى عليه السلام، بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه السلام إلى الطور، وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى، فقال: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}؛ أي: وأعطينا موسى التوراة جملة واحدة بعد ما أسريناه إلى الطور. {وَجَعَلْناهُ}؛ أي: وجعلنا ذلك الكتاب {هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: هاديًا (¬1) لأولاد يعقوب، يهتدون إلى الحق، والصواب بما فيه من الأحكام، وأن في قوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا} زائدة على قراءة التاء الفوقانية، و {لا} ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والجملة: مقول لقول محذوف، والتقدير: وقلنا لهم: لا تتخذوا {مِنْ دُونِي}؛ أي: غيري، وهو أحد مفعولي {تَتَّخِذُوا} و {من} زائدة؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

أي: وقلنا لهم لا تتّخذوا غيري {وَكِيلًا}؛ أي: وليًا، ونصيرًا تكلون إليه أموركم، وعلى قراءة التحتانية {أن} مصدرية، ولا نافية، ولام التعليل مقدرة، والمعنى: وجعلناه هدى لبني إسرائيل لئلا يتّخذوا من دوني وكيلًا يكلون إليه أمورهم. والمعنى: أي (¬1) وأعطينا موسى التوراة، وجعلنا فيها هداية لبني إسرائيل، وقلنا لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلا، ووليّا ونصيرا تكلون إليه أموركم، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبيّ أرسله، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن لا يعوّلوا في أمر إلا عليه. وقرأ ابن عباس (¬2)، ومجاهد، وقتادة، وعيسى، وأبو رجاء، وأبو عمرو من السبعة: {يتخذوا} بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل أنّ موسى أوتي التوراة بمسيره إلى الطور، كما أسري بمحمد إلى بيت المقدس. 3 - ثم نبّه إلى عظيم شرف بني إسرائيل، وإتمام نعمته عليهم، ليكون في ذلك تهييج لهم، وبيان لعظيم المنّة عليهم، فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ}؛ أي: يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة، لا تتخذوا من دوني وكيلًا، والمراد: تأكيد الحمل على التوحيد، بتذكير إنعامه عليهم في ضمن إنجائه آباءهم من الغرق في سفينة نوح، قال في «الكواشي»: هذا منة على جميع الناس، لأنّهم كلّهم من ذرية من أنجي في السفينة من الغرق، والمعنى: كانوا مؤمنين فكونوا مثلهم، واقتفوا بآثار آبائكم {إِنَّهُ}؛ أي: إن (¬3) نوحا عليه السلام {كانَ عَبْدًا شَكُورًا}؛ أي: كثير الشكر في مجامع حالاته، وكان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء .. أجاعني، وإذا شرب قال: الحمدُ لله الذي سقاني، ولو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[4]

شاءَ .. أظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء .. جرَّدني، وإذا تغوَّط .. قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية، ولو شاء .. حبسه. والمعنى: أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته، وأنجاه من غرق الطوفان بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أنتم من حفدة أبنائه، فتشبّهوا بأبيكم، واقتدوا به، فإنه كان عبدًا شكورًا؛ أي: مبالغًا في الشكر بصرفه كلّ ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، فاللّسان لذكر الله، والعقل للفكر فيما خلق الله والبصر للتأمل فيما صنع الله، وهكذا بقية الحواس، وأعضاء الجسم. أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهنيّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ نوحًا كان إذا أمسى، وأصبح قال: سبحان الله حين تمسون، وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض، وعشيًا وحين تظهرون». وأخرج ابن جرير، والبيهقي، والحاكم عن سلمان الفارسي قال: «كان نوح إذا لبس ثوبًا، أو أطعم طعامًا حمد الله تعالى، فسمي عبدًا شكورًا»، وفي هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره، وفيه حثٌّ للذرية على الاقتداء به، وزجرٌ لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر. وقرأ زيد بن ثابت (¬1)، وأبان بن عثمان، وزيد بن علي، ومجاهد في رواية، بكسر ذال {ذرية} وقرأ مجاهد أيضا بفتحها، وعن زيد بن ثابت {ذرية} بفتح الذال، وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعلية، كمطية، وقرىء ذرية بالرفع شاذا على تقديرهم ذرية، أو على البدل من الضمير في {يتخذوا} على القراءة بالياء لأنه غيب، 4 - ثمّ بيّن سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بالتوراة، وجعلها هدًى لهم، لكنهم لم يهتدوا بها فقال: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: أوحينا إليهم، وأعلمناهم، وأخبرناهم {فِي} ما آتيناهم من {الْكِتابِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التوراة، وكان إنزالها على نبيهم موسى، كإنزالها عليهم، لكونهم قومه وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمعنى، وقضينا: أي: حكمنا على بني إسرائيل في اللوح المحفوظ، قضاء مبتوتا، وحكما مقطوعًا، و {اللام} في قوله: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ}: موطئة لقسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لتفسدن في أرض الشام، وبيت المقدس، أو أرض مصر بالمعاصي والظلم {مَرَّتَيْنِ}؛ أي: إفسادتين: أولاهما: مخالفة أحكام التوراة، وقتل شعياء، وحبس أرمياء، وثانيتهما: قتل زكريا، ويحيى، وقصد قتل عيسى عليهم السلام؛ أي: لتفسدن فيها إفسادًا بعد إفساد {وَلَتَعْلُنَّ}؛ أي: ولتستكبرنّ فيها عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس {عُلُوًّا كَبِيرًا} أي استكبارا مجاوزا الحد، أو ظلمًا فاحشًا، وهذه {اللام} كاللام التي قبلها، والمعنى أي وأوحينا (¬1) إلى بني إسرائيل فيما أنزلناه في التوراة على موسى، فأعلمهم به، لتعصن الله، ولتخالفنّ أمره مرتين، أولاهما: تغيير التوراة، وقتل شعيا عليه السلام، وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والثانية: قتل زكريا، ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام. وقيل: سبب قتل زكريا أنّهم اتهموه بمريم، قيل: قالوا: حين حملت مريم ضيّع بنت سيّدنا حتى زنت، فقطعوه بالمنشار في الشجرة. ولتستكبرن في الأرض عن طاعة الله تعالى، ولتبغن على الناس، ولتظلمنّهم ظلمًا شديدًا تفرطون فيه، وتبلغون أقصى الغاية. وقرأ الجمهور (¬2): {فِي الْكِتابِ} بالإفراد، والظاهر أن يراد به التوراة، وقرأ أبو العالية، وسعيد بن جبير {في الكتب} على الجمع، فاحتمل أن يراد به الجنس، وقرأ الجمهور: {لَتُفْسِدُنَّ} بضم التاء، وكسر السين من أفسد الرباعي، وقرأ ابن عباس، ونصر بن علي، وجابر بن زيد: {لتفسدن} بضم التاء، وفتح السين مبنيًا للمفعول؛ أي يفسدكم غيركم، فقيل: من الإضلال، وقيل: من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[5]

الغلبة، وقرأ عيسى: {لتفسدن} بفتح التاء، وضم السين، أي فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي، وقرأ الجمهور: {عُلُوًّا} بوزن عتوًا، وقرأ زيد بن علي: {عليًا كبيرًا}، ولكن التصحيح في فعول المصدر أكثر من الإعلال كقوله: وعتوا عتوًّا كبيرًا، بخلاف الجمع، فإن الإعلال فيه هو المقيس. 5 - {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما}؛ أي: وعد عقاب أولى المرتين؛ أي: فإذا حان وقرب وقت العقاب الموعود به في أولى الإفسادتين {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ}؛ أي: سلّطنا عليكم لمؤاخذتكم بجناياتكم {عِبادًا لَنَّا} قيل (¬1): هم بختنصر، وجنوده، وقيل: جالوت وجنوده، وقيل: جند من بابل، وأكثر ما يقال: عباد الله، وعبيد الناس، والإضافة (¬2) فيه لبيان كونهم مظاهر الاسم المذلّ المنتقم القهّار، كما يفيده مقام العظمة، لا للتشريف، فإن الكافر ليس من أهله، {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}؛ أي: أصحاب قوة في الحروب، وبطش عند اللقاء، وهذا كقولهم: ظل ظليل؛ لأن البأس يتضمن الشدة؛ أي ذوي قوة وبطش في الحروب {فَجاسُوا}؛ أي: جاس أولئك العباد، وترددوا {خِلالَ الدِّيارِ}؛ أي: خلال دياركم وأوساطها، من الجوس، وهو التردد خلال الدور والبيوت في الغارة؛ أي: مشوا في وسط المنازل، أو في أوساطها للقتل والأسر، والغارة، وطافوا بينها لينظروا هل بقي منهم أحد لم يقتلوه، فقتلوا علماءهم، وكبارهم، وحرّقوا التوراة، وخرّبوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفا، وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضًا مما جرت السنة الإلهية، {وَكانَ} ذلك؛ أي: وعد عقابهم في المرة الأولى، فالضمير في، {وَكانَ} عائد على وعد أولاهما، وفي «الجمل»: {وَكانَ}؛ أي: البعث المذكور، وجوس الأعداء {وَعْدًا مَفْعُولًا}؛ أي: وعدًا لا بد منه أن يفعل. والمعنى: أي (¬3) فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود، أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادًا لنا أولي بطش شديد في الحروب، قيل: هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأوغلوا في البلاد، وترددوا بين الدور، والمساكن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[6]

للقتل والسلب والنهب، وقتلوا علماءكم، وكبراءكم، وأحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وسبوا منكم عددًا كثيرًا، وكان ذلك وعدا نافذًا لا مردّ له؛ أي: وعدًا منجزًا. وقرأ الجمهور (¬1): {فَجَاسُوا} بالجيم، وقرأ أبو السمال وطلحة: {فَحَاسُوا} بالحاء المهملة، وقرىء {فتجوَّسوا} على وزن تكسّروا بالجيم، وقرأ (¬2) الحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل، وأبو رزين خلل الديار بفتح الخاء، واللام، من غير ألف بالإفراد فيجمع على خلال كجبل وجبال، ويجوز أن يكون خلال مفردا كالخلل وهو: وسط الديار وما بينها 6 - {ثُمَّ} بعد عقوبة أولاهما {رَدَدْنا لَكُمُ} يا بني إسرائيل؛ أي: أعدنا لكم {الْكَرَّةَ}؛ أي الدولة والغلبة والرّجعة {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مئة سنة، حين تبتم ورجعتم من الإفساد، والعلو، وذلك حين قتل داود جالوت، وقيل: حين قتل بختنصّر. تلخيصه: بعد ظفرهم بكم أظفرناكم بهم، والكرّة في الأصل المرة، و (عليهم) متعلق بها؛ لأنه يقال كر عليه إذا عطف عليه {وَأَمْدَدْناكُمْ}؛ أي: قويناكم، وأعطيناكم {بِأَمْوالٍ} كثيرة بعد ما نهبت أموالكم {وَبَنِينَ} عديدة بعد ما سبيت أولادكم؛ أي بسطنا عليكم رزق الأموال، والأولاد حتّى عاد أمركم كما كان {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}؛ أي: رجالًا وعددًا مما كنتم عليه أولًا، أو أكثر عددًا ورجالًا من عدوكم، أو أكثر خروجًا إلى الغزو؛ لأنّ النفير يكون مصدرًا بمعنى الخروج إلى الغزو، والنّفير من ينفر مع الرجل من عشيرته. والمعنى: أي ثم (¬3) رجعت لكم الدولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد، والعلو، فغزوتم البابليّين واستنقذتم الأسرى، والأموال، ورجع الملك إليكم، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت، وصرتم أكثر عددًا، وأعظم قوة مما كنتم قبل، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراغي.

[7]

وذلك بفضل طاعته تعالى، والإخبات إليه، 7 - ومن ثمّ قال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ}؛ أي: أفعالكم، وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم {أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}؛ أي: لغرض أنفسكم؛ لأن ثواب ذلك عائد إليكم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أفعالكم، وأقوالكم فأوقعتموها، لا على الوجه المطلوب منكم، {فَلَها}؛ أي: فعليها؛ أي (¬1): إحسان الأعمال وإساءتها، كلاهما مختص بكم، لا يتعدى ثوابها ووبالها إلى غيركم، فـ {اللام} على أصلها، وهو الاختصاص قال (¬2) في تفسير «النيسابوري» قال أهل الإشارة: إنه أعاد الإحسان مرتين ولم يذكر الإساءة إلا مرّة، إشارة إلى أنّ جانب الرحمة أغلب، ويجوز أن يترك تكريرها استهجانًا لها. والمعنى: أي (¬3) {إِنْ أَحْسَنْتُمْ} فأطعتم الله، ولزمتم أمره، وتركتم نهيه {أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} لأنكم تنفعوها بذلك في دنياها وآخرتها، أما في الدنيا: فإنّ الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء، ويرد كيده في نحره، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم قوة إلى قوتكم، وأما في الآخرة: فإن الله يثيبكم جنّات تجري من تحتها الأنهار، ويرضى عنكم {وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وإن أسأتم، فعصيتم ربكم، وفعلتم ما نهاكم عنه، فإلى أنفسكم تسيؤون، لأنكم تسخطونه، فيسلّط عليكم في الدنيا أعداءكم، ويمكّن منكم من يبغي بكم السوء، ويلحق بكم في الآخرة العذاب المهين {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي: وعد عقوبة المرة الآخرة - أي: الثانية - أي: حان وقت ما وعد به من عقوبة المرة الآخرة من الإفسادين، والمرة الآخرة هي قصدهم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريّا ويحيى فسلط الله عليهم الفرس والرّوم فسبوهم وقتلوهم. وجواب {إذا} محذوف دل عليه جواب إذا الأولى؛ أي: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادًا لنا {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ}؛ أي: ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة، وتتبيّن في وجوهكم الكآبة، والحزن. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

وقيل: المراد بالوجوه: السادة منهم؛ أي: ليحزنوكم بالقتل والسبي حزنًا يظهر في وجوهكم. وقرأ الجمهور (¬1): {لِيَسُوؤُا}؛ أي: قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: ليسوؤوا بلام كي، وياء الغيبة، وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين؛ وبالهمز بين الواوين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر، عن عاصم {ليسوء وجوهكم} بالياء، وهمزة مفتوحة على الإفراد، والفاعل المضمر عائد على الله تعالى، أو على الوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة، وقرأ علي بن أبي طالب، وزيد بن علي، والكسائي: {لنسوء} بالنون التي للعظمة، وفيها ضمير يعود على الله، وقرأ أبي {لنسوءن} بلام الأمر، والنون التي للعظمة، ونون التوكيد الخفيفة آخرا، وعن علي أيضا {لنسوءن} و {ليسوءن} بالنون والياء، ونون التوكيد الشديدة، وهي لام القسم، ودخلت لام الأمر في قراءة أبيّ على المتكلم، كقوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} وجواب إذا هو الجملة الأمرية، على تقدير الفاء وفي مصحف أبيّ {ليسىء} بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس {ليسوء وجهكم} على الإفراد، ومعنى {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ}؛ أي: ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم، وخصت المساءاة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة. وقوله: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} معطوف على {لِيَسُوؤُا}؛ أي: وليدخلوا مسجد بيت المقدس، فيخرّبوه {كَما دَخَلُوهُ} في المرة الأولى {وَلِيُتَبِّرُوا}؛ أي: وليدمّروا ويهلكوا، ويهدّموا، ويخرّبوا {ما عَلَوْا}؛ أي: ما غلبوا عليه من بلادكم، أو مدة علوّهم {تَتْبِيرًا}؛ أي: تدميرًا، ذكر المصدر إزالة للشك، وتحقيقًا للخبر. ومعنى الآية: أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرتي إفسادكم في الأرض، بعثنا أعداءكم ليجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً في وجوهكم «فإن الأعراض النفسية تظهر في الوجوه، فالفرح يظهر فيها النضارة، والإشراق، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة» {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} قاهرين ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[8]

فاتحين مذلين لكم كما دخلوه أول مرّة، وليهلكوا ما ادخرتموه وخزنتموه، تتبيرًا شديدًا فلا يبقون منه شيئًا. والذي أثبته اليهود في تواريخهم (¬1): أن الذي أغار عليهم أولًا وخرب بيت المقدس هو بختنصر، وكان ذلك زمن إرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأوثان والأصنام، فحبسوه في بئر، وجرحوه، وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم، وكان بين الإغارتين على ما قيل نحو من خمس مئة سنة، وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلّق به غرض كبير؛ لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم .. سلط الله عليهم من ينتقم منهم، مرة بعد أخرى، وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولًا وثانيًا. 8 - {عَسى رَبُّكُمْ}؛ أي: حقق ربكم يا بني إسرائيل {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامه منكم في المرة الثانية، بإمداده إياكم في الأموال، والأولاد، إن تبتم توبةً أخرى، وانزجرتم عن المعاصي، فتابوا فرحمهم، {وَإِنْ عُدْتُمْ} مرة ثالثة إلى المعاصي {عُدْنا} إلى عقوبتكم. قال أهل السير (¬2): ثمّ إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي، وهو تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتمان ما ورد من بعثه في التوراة، والإنجيل فعاد الله إلى عقوبتهم، على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة. والمعنى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي، وقد حقق الله لهم وعده، فكثر عددهم، وأعزهم بعد الذلة، وجعل منهم الملوك والأنبياء، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا}؛ أي: وإن عدتم لمعصيتي، ومخالفة أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل، والسبي، وإحلال الذل والصغار بكم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[9]

وقد عادوا فعاد الله عليهم، بعقابه، فقد كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهموا بقتله، فسلطه الله عليهم، فقتل قريظة، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين، فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون، ولا ملك لهم ولا سلطان. {وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}؛ أي (¬1): محبسًا ومقرًا يحصرون فيه لا يستطيعون الخروج، منها أبد الآباد، فهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي (¬2): حاصرة لهم، ومحيطة بهم، فصرف من حاصرة إلى حصير، كما صرف مؤلم إلى أليم، وتذكيره إما لكونه بمعنى النّسبة، كلابن وتامر، أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول، أو بالنظر إلى لفظ (جهنم) إذ ليس فيه علامة التأنيث، وعن الحسن: حصيرا؛ أي: بساطا، وفراشا، كما يبسط ويفرش الحصير المرمول، والحصير: المنسوج، وإنّما سمّي الحصير؛ لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض. واعلم: أن جهنم عصمني الله وإياكم عنها من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة يسجن فيه المعطلة؛ أي: نفاة الصانع والمشركون، والكافرون، والمنافقون، وأهل الكبائر من المؤمنين، ثمّ يخرج بالشفاعة وبالامتنان الإلهي من جاء النص الإلهي فيه؛ أي (¬3): إنه تعالى جعل جهنّم للكافرين به بساطًا، ومهادًا كما قال: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} وقال ابن عباس وغيره: جعلناها سجنًا محيطًا بهم حابسًا لهم لا رجاء لهم في الخلاص منه. وخلاصة ذلك: أن لهم في الدنيا ما تقدّم وصفه من العذاب، وفي الآخرة ما يكون محيطا بهم من عذاب جهنم، فلا يتخلصون منه أبدًا، وفي الكرخي: والمعنى: أن عذاب الدنيا، وإن كان شديدًا، إلا أنه قد يتفلّت بعض الناس عنه، والذي يقع فيه يتخلّص إما بالموت، أو بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة، فإنه يكون محيطًا بهم، لا رجاء في الخلاص منه اهـ. 9 - {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ} الذي آتيناك يا محمد {يَهْدِي} الناس كافةً لا فرقةً ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراغي.

[10]

مخصوصةً منهم، كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى {لِلَّتِي}، أي للطريقة التي {هِيَ أَقْوَمُ} الطرائق وأسدها، وأصوبها، أي يهدي إلى الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق، والملل، وهي ملة الإسلام، أو يهدي للحالة التي هي أقوم من غيرها من الحالات، وهي توحيد الله، والإيمان برسله، والمراد (¬1) بهدايته لها: كونه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به، لا تحصيل الاهتداء بالفعل، فإنّه مخصوص بالمؤمنين {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ} التي شرحت فيه، {أَنَّ لَهُمْ}؛ أي: بأنّ لهم بمقابلة تلك الأعمال {أَجْرًا كَبِيرًا}؛ أي: ثوابًا عظيمًا بحسب الذات، وبحسب التضعيف عشر مرات فصاعدًا. 10 - وقوله: {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} معطوف على جملة يبشّرُ بإضمار يخبر؛ أي: وإن هذا القرآن الذي أنزل عليك يخبر ويبين بأن الذين لا يؤمنون {بِالْآخِرَةِ}، وأحكامها المشروحة في القرآن من البعث، والحساب، والجزاء، وأنكروا وجودها {أَعْتَدْنا لَهُمْ}؛ أي: هيأنا لهم في الآخرة {عَذابًا أَلِيمًا} وهو عذاب جهنم، ويجوز أن يكون معطوفا على {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} فالمعنى أنه يبشّر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم، وعقاب أعدائهم، فإنّ المرء يستبشر ببلية عدوّه، وقرأ الجمهور {وَيُبَشِّرُ} مشدّدًا مضارع بشّر المشدد، وقرأ عبد الله، وطلحة، وابن وثاب، والأخوان: {ويبشر} مضارع بشر المخفف. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى مدح (¬2) في هذه الآية كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ووصفه بصفات ثلاث: 1 - أنه يرشد من اهتدى به للسبيل التي هي أقوم السبل، وهي ذلك الدين القيم، والملة الحنيفية السمحاء التي أهم دعائمها: الإخبات لله، والإنابة إليه، واعتقاد أنّه واحد لا شريك له، وأنه صاحب الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[11]

2 - أنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال، فيأتمرون بما أمر به، وينتهون عما نهاهم عنه، بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدموا لأنفسهم من عمل صالح. 3 - أنه ينذر الذين لا يصدقون بالميعاد، ولا يقرون بالثواب والعقاب في الدنيا، فلا يتحاشون ركوب المعاصي، بالعذاب الأليم الموجع جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر، واجتراح الآثام، ويدخل في هؤلاء أهل الكتاب، لأن بعضهم ينكر الثواب والعقاب الجسمانيين، وبعضهم يقول: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، وإطلاق البشارة على العقاب من قبيل التهكم كما في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}. 11 - وبعد أن بين حال الهادي، وهو الكتاب الكريم بيّن حال المهدي، وهو الإنسان فقال: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ}. قال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن بعض من لا يؤمن بالآخرة، كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة، كقول النضر بن الحارث {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ...} الآية، والمراد بالإنسان: الجنس لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده؛ أي ويدعو الله سبحانه الإنسان عند غضبه بالشر والضرر على نفسه، وأهله وماله وولده {دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ} في الإلحاح، أي دعاء مثل دعائه لهم بالخير، والرزق، والعافية، والرحمة ويستجاب له، فلو استجيب له إذا دعاه باللّعن كما يجاب له بالخير لهلك أو المعنى (¬2): إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع ضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه مغترا بظاهر الأمور، غير متفحّص عن حقائقها وأسرارها. روي: أن النضر بن الحارث قال: (اللهم انصر خير الحزبين، اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك ...) إلى آخره، فأجاب الله دعاءه، وضربت رقبته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[12]

يوم بدر. وحذفت الواو من {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} في رسم المصحف اتباعًا لخط اللفظ لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها، كقوله: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} ونحو ذلك. {وَكانَ الْإِنْسانُ} بحسب جبلته {عَجُولًا}؛ أي: كثير العجل يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، ولا ينظر عاقبته، ولا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه، فالإنسان (¬1) عجولٌ قولًا وفعلًا يتمادى في الأعمال الموجبة للشر والعذاب، وفي الأثر: «المؤمن وقاف والمنافق وثاب». وروي أن آدم قال لأولاده: كل عملٍ تريدون أن تعملوا فقفوا له ساعة، فإني لو وقفت ساعة .. لم يكن أصابني ما أصابني. وقال أعرابي: إياكم والعجلة، فإن العرب تكنِّيها أمَّ الندامات. قيل: العجلة من الشيطان، إلا في ستة مواضع: أداء الصلاة إذا دخل الوقت، ودفن الميت إذا حضر، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، وإطعام الضيف إذا نزل، وتعجيل التوبة إذا أذنب. 12 - ولما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد، أكّدها بدليل آخر من عجائب صنعه، وبدائع خلقه، فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} قدم الليل؛ لأن فيه تظهر غرر الشهور، ولأنه الأصل؛ أي: جعلناهما بسبب تعاقبهما، واختلافهما في الطول والقصر {آيَتَيْنِ} دالتين على وجود الصانع القدير، ووحدته، إذ لا بد لكل متغير من مغير، وإنما قال (¬2): {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} بالتثنية، ولم يقل آية كما قال في موضع آخر {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} بالإفراد لأن الليلَ والنهار ضدان بخلاف عيسى ومريم، وقيل: لأن عيسى ومريم كانا في وقت واحد، والشمس والقمر آيتان، لأنهما في وقتين، ولا سبيل إلى رؤيتهما معا بصفتهما الرئيسية؛ أي (¬3): جعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على تمام علمنا، وكمال قدرتنا، فلما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

بين سبحانه وتعالى أن هذا القرآن يدل على الطريق الأقوم ذكر الدلائل الدالة على وحدته تعالى وهو عجائب العالم العلوي والسفلي، فالقرآن نعم الدين، ووجود الليل والنهار نعم الدنيا، فلولاهما .. لما حصل للخلق الراحة، والكسب، والقرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، فكما أنّ المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الزمان لا يحصل الانتفاع به إلا بالليل والنهار، و {الفاء} في قوله: {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ} تفسيرية (¬1)، والإضافة بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود؛ أي: فمحونا الآية التي هي الليل، والمحو في الأصل إزالة الشيء الثابت، والمراد هنا إبداعها، وخلقها ممحوة الضوء مطموسة كما في قولهم: سبحانه من صغّر البعوض، وكبّر الفيل؛ أي: أنشأهما وخلقهما كذلك، بقرينة أن محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئًا، {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ}؛ أي: الآية التي هي النهار {مُبْصِرَةً}، أي: مضيئةً تبصر فيها الأشياء وصفها بحال أهلها. ويجوز أن تكون الإضافة في الموضعين حقيقية، فالمراد بآية الليل والنهار القمر والشمس، والمعنى حينئذ {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ}، وهي القمر، أي (¬2) طمسنا نورها؛ لأنه يبدو في أول الأمر على صورة الهلال، ثمّ لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرًا كاملًا ثم يشرع في الانتقاص قليلًا قليلًا إلى أن يعود إلى المحاق {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ} وهي الشمس {مُبْصِرَةً}؛ أي مضيئة ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة، فالإضاءة سبب لحصول الإبصار. روي (¬3): أن الله تعالى خلق كلاًّ من نور القمر والشمس سبعين جزءًا، ثمّ أمر جبريل فمسح بجناحه ثلاث مرّات فمحا من القمر تسعة وستّين جزأ، فحولها إلى الشمس ليتميّز الليل من النهار، إذ كان في الزمن الأول لا يعرف الليل والنهار، فالسواد الذي في القمر أثر المحو، وهذا السواد في القمر بمنزلة الخال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الأحمدية قمريا ظهر عليه أثر السيادة على النجوم، وهو السواد، لأنه سيد الألوان، كما ظهر على الحجر المكرم الذي خرج من الجنة أبيض أثر السيادة بمبايعة الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وجعل الله شهورنا قمرية لا شمسية تنبيها من الله للعارفين أن آياتهم ممحوة من ظواهرهم، مصروفة إلى بواطنهم، فاختصوا من بين جميع الأمم الماضية بالتجليات الخاصة. وحاصل المعنى: أي وجعلنا الليل والنهار دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أما في الدّين: فلأن كلّا منهما مضاد للآخر، ومخالف له مع تعاقبهما على الدوام، وهذا من أقوى الأدلة على أنه لا بد لهما من فاعل مدبر، يقدرهما بمقادير مخصوصة، وأما في الدنيا فلأن مصالحها لا تتم إلا بهما، فلولا الليل .. لما حصل السكون، والراحة، ولولا النهار .. لما حصل الكسب، والتصرف في وجوه المعاش {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ}؛ أي: فمحونا آية هي الليل؛ أي: جعلنا الليل ممحو الضوء، مطموسه مظلمة لا يستبين فيه شيء، كما لا يستبين ما في اللوح الممحو، روي ذلك عن مجاهد، {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ}؛ أي: وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة، و {مُبْصِرَةً} يبصر فيها أهلها، وقرأ قتادة، وعلي بن الحسين {مبصرة} بفتح الميم، والصاد، وهو مصدر: أقيم مقام الاسم، وكثر ذلك في صفات الأمكنة، كقولهم: أرض مسبعة، ومكان مضبّة. وقوله: {لِتَبْتَغُوا} متعلق بقوله (¬1) {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} أي لتطلبوا لأنفسكم في بياض النهار {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي رزقًا من ربكم، وسماه فضلًا؛ لأن إعطاء الرزق لا يجب على الله، وإنما يفيضه بحكم الربوبية، إذ غالب تحصيل الأرزاق، وقضاء الحوائج، يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

أو المعنى: فعلنا (¬1) ذلك لتطلبوا في الليل والنهار فضل ربكم من الرزق الحلال بالكسب، ومن الثواب الجزيل بأداء الطاعات والاحتراز عن المنهيات. وفي التعبير (¬2) عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء مع ذكر صفة الربوبية الدالة على الوصول إلى ذلك شيئًا فشيئًا، دلالة على أنه ليس للمرء في تحصيل الرزق سوى الطلب بالأسباب العادية، وفي الخبر «يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك»، وقيل في هذا المعنى: ولقد علمت وما الإشراق من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني وقوله: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} متعلق بكلا الفعلين أعني {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} لا بأحدهما فقط، كالأول؛ إذ لا يكون علم عدد السنين، والحساب إلا باختلاف الجديدين، ومعرفة الأيام، والشهور، والسنين والفرق (¬3) بين العدد، والحساب أنّ العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء، والحساب إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله، من حيث يتحصل بطائفة معينة، منها حد معيّن منه له اسم خاص، فالسنة مثلا إن وقع النّظر إليها من حيث عدد أيامها، فذلك هو العدد، وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها، وتحصلها من عدة أشهر، قد يحصل كل شهر من عدّة أيام، قد يحصل كل يوم من عدة ساعات، قد تحصلت كل ساعة من عدة دقائق، فذلك هو الحساب. والمعنى: أي فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة، لتعلموا بمحو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرةً عدد السنين، التي تتوقف عليها مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب، أي حساب الأشهر، والليالي والأيام، وغير ذلك مما نيط به شيء من تلك المصالح في معرفة أوقات المعاش، كآجال الدّيون، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[13]

وأوقات الزّراعة، وأوقات الدّين كأوقات الصلاة والحج والصوم اهـ شيخنا؛ إذ لو كان الزمان كله نسقًا واحدًا .. لما عرف شيء من هذا كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}. {وَكُلَّ شَيْءٍ} لكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد {فَصَّلْناهُ} لكم في القرآن {تَفْصِيلًا} بيِّنًا، وبيناه لكم تبيينًا واضحًا لا يلتبس، وعند ذلك تنزاح العلل، وتزول الأعذار، ليهلك من هلك عن بينة، ولهذا قال: {وَكُلَّ إِنسانٍ}. والخلاصة: وكل (¬1) شيء تفتقرون إليه في المعاش والمعاد، بيناه في القرآن بيانًا بليغًا لا التباس معه، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا، فليتّبع العاقل ما أدركه؛ أي: لحقه علمه، وليفوض ما جهله منه إلى ذي العلم، 13 - {وَكُلَّ إِنسانٍ} مكلف مؤمنًا كان أو كافرًا، ذكرًا أو أنثى، عالمًا أو أميًا، سلطانًا أو رعيةً، حرًا أو عبدًا، {أَلْزَمْناهُ}؛ أي: ألزقناه {طائِرَهُ}؛ أي: عمله الصادر عنه باختياره، حسبما قدّر له من خير أو شر، كأنّما طار إليه من عش الغيب ووكر القدر وقلّدناه {فِي عُنُقِهِ}، وذكر العنق كناية عن شدة اللزوم، أي: ألزمناه عمله كلزوم القلادة في عنقه، بحيث لا يفارقه عمله أبدًا؛ فإن كان خيرًا .. كان زينة له، كالطوق، وإن كان شرا .. كان شينا له، كالغل على رقبته، وقرىء {عُنُقِهِ} بسكون النون؛ ذكره في «البحر». وإنما كنّى عن العمل بالطير (¬2)؛ لأن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل، اعتبروا أحوال الطير، فهل يطير متيامنًا، أو متياسرًا، أو صاعدًا إلى الجو، إلى غير ذلك، فيستدلون بكل واحد منها على الخير والشر، والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم، سمي نفس الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[14]

وقيل: المراد بالطائر صحيفة الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة، فإذا مات العبد طويت تلك الصحيفة، وجعلت معه في قبره حتى تخرج له يوم القيامة، وقيل: المراد بالطائر: كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير. قال الفخر الرازي: والتحقيق في هذا الباب (¬1): أنه تعالى خلق الخلق، وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والفهم، والعلم والعمر، والرزق والسعادة، والشقاوة، والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك المقدار، وينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إليه ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدّرة كأنّها تطير إليه، وتصير إليه، فلهذا المعنى لا يبعد أن يعبّر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله تعالى: {أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} كناية عن أن كل ما قدره الله ومضى في علمه حصوله له، فيما علمه فهو لازم له، واصل إليه، غير منحرف عنه، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» اهـ، ملخصا. {وَنُخْرِجُ لَهُ}؛ أي: لكل إنسان {يَوْمَ الْقِيامَةِ} والبعث للحساب، {كِتابًا} مسطورا فيه عمله نقيرًا، وقطميرًا، وهو مفعول {وَنُخْرِجُ}. {يَلْقاهُ} الإنسان أي: يجده، ويراه {مَنْشُورًا}؛ أي مفتوحا بعد ما كان مطويًّا، ليمكنه قراءته، صفتان لـ {كِتابًا} أو الأول صفة، والثاني حال. قال الحسن (¬2): بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان، فهما عن يمينك، وعن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الذي عن شمالك، فيحفظ سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة. 14 - ويقال له: {اقْرَأْ كِتابَكَ}؛ أي: كتاب عملك، فهو على تقدير القول، وعن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئًا {كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}؛ أي: كفى اليوم نفسك من جهة كونها حسيبًا عليك، و {الباء} زائدة، واليوم ظرف لـ {كَفى} و {حَسِيبًا} تمييز لفاعل {كَفى} و {على} صلته، لأنه بمعنى الحاسب، ¬

_ (¬1) الفخر الرازي. (¬2) روح البيان.

وتذكيره مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص، وفوّض تعالى حساب العبد إليه، لئلا ينسب إلى الظلم، ولتجب الحجة عليه باعترافه. وقال الحسن: أنصف من أنصفك، أنصف من جعلك حسيب نفسك اهـ. وقرأ الجمهور (¬1) - ومنهم أبو جعفر -: {وَنُخْرِجُ} بالنون مضارع أخرج الرباعي كتابا بالنصب، وعن أبي جعفر أيضًا، {ويخرج} بالياء مبنيًا للمفعول {كِتابًا} بالنصب؛ أي: ويخرج الطائر كتابًا، وعنه أيضًا {كتاب} بالرفع على مفعول ما لم يسمّ فاعله، وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد {ويخرج} بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتابًا إلّا الحسن، فقرأ {كتاب} على أنه فاعل {يخرج} وقرأت فرقة {ويخرج} بضم الياء، وكسر الراء؛ أي: ويخرج الله، وقرأ الجمهور {يَلْقاهُ} بفتح الياء وسكون اللام، وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والجحدري، والحسن بخلاف عنه: {يلقّاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وحاصل معنى الآية: أي وألزمنا كل امرىء عمله، الذي يصدر منه باختياره، بحسب ما قدر له من خير أو شر، لا ينفك عنه بحال، والعرب تضرب المثل للشيء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع في العنق، فيقولون: جعلت هذا في عنقك؛ أي: قلّدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به، وخصّوا العنق؛ لأنه يظهر عليه ما يزين المرء، كالقلائد والأطواق، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق «الحبال تجر بها الدواب». وخلاصة هذا: أن كل إنسان منكم معشر بني آدم ألزمناه نحسه وسعده، وشقاءه وسعادته بما سبق في علمنا أنه صائر إليه، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا، فيه أعماله التي كسبها في الدنيا، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف في تلك الحياة، فيقال له: اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا، وكان الملكان يكتبانه، ويحصيانه عليك، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا، تحسب عليك أعمالك فتحصيها، لا نبتغي عليك شاهدًا غيرها، ولا نطلب محصيًا سواها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[15]

15 - وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للّتي هي أقوم، وأن الأعمال لازمة لأصحابها .. بيّن أن منفعة العمل، ومضرته راجعة إلى عامله، فقال: {مَنِ اهْتَدى} بهداية القرآن، وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه {فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}؛ أي: فإنّما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره، ممن لم يهتد {وَمَنْ ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}؛ أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل من صاحبه. وقال البيضاوي (¬1): لا ينجي اهتداؤه غيره، ولا يردي ضلاله سواه؛ أي: في الآخرة، وإلا ففي حكم الدنيا يتعدى نفع الاهتداء، وضرر الضلال إلى الغير، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. والمعنى: أي من (¬2) استقام على طريق الحق، واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل، وسار على غير هدى، وكفر بالله، ورسوله، وبما جاء به من عند ربه من الحق، فلا يضر إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقّةً لغضب الله، وأليم عذابه، ثم زاد الجملة الثانية توكيدا، بقوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ}؛ أي: ولا تحمل نفس آثمةٌ، ولا غير آثمةٍ {وِزْرَ أُخْرى}؛ أي: إثم نفس أخرى، بطيبة النفس، حتى يمكن تخلّص النفس الثانية من إثمها، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس، ولكن يحمل عليها إثم غيرها بالقصاص. فإن قلت: ورد في الحديث: «من سنّ سنّةً سيئةً .. فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فمقتضاه: أنه يحمل وزره فيكون معارضًا لهذه الآية؟ أجيب: بأنّ المراد بالوزر الذي يحمله في الحديث: وزر التّسبّب، ولا شك أنّ التسبب من فعل الشخص، ومع ذلك فلا ينقص من وزر الفاعل شيء، فالمتسبب الفاعل يعاقب على فعله وتسببه، والفاعل بلا تسبب يعاقب على فعله فقط، ذكره الصاوي. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

وفي هذا قطع لأطماعهم الفارغة؛ إذ كانوا يزعمون أنّهم إن لم يكونوا على الحقّ فالتّبعة على أسلافهم الذين قلدوهم، روي عن ابن عباس: أنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم، ولا معارضة بين هذه الآية وبين قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ}؛ فإن الدعاة إلى الضلال، عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك، ولا يرفع عنهم منها شيئًا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده. ثم ذكر عنايته ورحمته بهم، فقال: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ}؛ أي: وما صحّ (¬1) وما استقام منا، بل استحال في عاداتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب أحدًا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل، {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولًا} يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، ويقيم الحجج ويمهد الشرائع، قطعا للمعذرة، وإلزاما للحجّة، وفيه دلالة على أن البعثة واجبة لا بمعنى الوجوب على الله، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضي ذلك لما فيه من المصالح والحكم، والمراد بالعذاب المنفيِّ هو العذاب الدنيوي، وهو من مقدمات العذاب الأخرويّ، فجوزوا على الكفر والمعاندة بالعذاب في الدارين وما بينهما أيضًا وهو البرزخ، وفي هذا دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل اهـ. خازن؛ أي (¬2): وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم. وخلاصة ذلك: أن سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن لا نعذب أحدًا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروي على فعل شيء أو تركه، إلا إذا أرسلنا رسولًا يهدي إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع، وتبلغه دعوته. وعبارة الشوكاني هنا: ولمَّا ذكر الله سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

والضال بضلاله، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبيّن سبحانه أنه لم يتركهم سدًى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر: أنّه لا يعذبهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة، إلّا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا: هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة، انتهت. قلت: ومعنى الآية: وما كنا معذبين أحدًا في الدنيا، فلا يعارضه حديث «أبي وأبوك في النار» أو يقال: إنه أحاديث أحاد، فلا يعارض النص القطعيّ. وقال ابن الجوزي: ومعنى (¬1) {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}؛ أي: حتى نبيّن لهم ما به نعذب، وما من أجله ندخل الجنة، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلًا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك .. لم يقطع عليه بالنار، قال: وقيل معناه: أنه لا يعذب في ما طريقه السمع إلا بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب، ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها لم يلزمه قضاء شيء منها؛ لأنها لا تلزمه إلّا بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه: قصة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة، ولم يستأنفوا. ولو أسلم في دار الإسلام، ولم يعلم بفرض الصلاة .. فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى النّاس يصلون في المساجد، بأذانٍ وإقامة، وذلك دعاء إليها. الإعراب {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}. {سُبْحانَ} منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبح الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة، وهو مضاف، {الَّذِي} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، {أَسْرى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود ¬

_ (¬1) زاد المسير.

على الموصول {بِعَبْدِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به {لَيْلًا} منصوب على الظرفية، ومتعلق به أيضًا {مِنَ الْمَسْجِدِ} متعلق به أيضًا {الْحَرامِ} صفة لـ {الْمَسْجِدِ}. {إِلَى الْمَسْجِدِ} متعلق به أيضًا {الْأَقْصَى} صفة أولى لـ {الْمَسْجِدِ}، والجملة الفعلية صلة الموصول {الَّذِي} اسم موصول صفة ثانية لـ {الْمَسْجِدِ} {بارَكْنا} فعل وفاعل {حَوْلَهُ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {بارَكْنا} {لِنُرِيَهُ} {اللام} حرف جر وتعليل، {نريه} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، ورأى بصرية {مِنْ آياتِنا} جار ومجرور متعلق بـ {نري} والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإراءتنا إياه من آياتنا، الجار والمجرور متعلق بـ {أَسْرى} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل {السَّمِيعُ} خبره {الْبَصِيرُ} خبر ثان له، وجملة {إنّ} مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل ما قبلها. {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}. {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} فعل وفاعل، ومفعولان لأن (آتى) بمعنى أعطى، والجملة مستأنفة، {وَجَعَلْناهُ هُدىً} فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {وَآتَيْنا} {لِبَنِي إِسْرائِيلَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {هُدًى} وهو بمعنى هاد. {أَلَّا} {أن} زائدة {لا} ناهية جازمة {تَتَّخِذُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية {مِنْ} زائدة {دُونِي} بمعنى غيري، مفعول أول لـ {تَتَّخِذُوا}. {وَكِيلًا} مفعول ثان لها، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: لا تتخذوا ... إلخ، وجملة القول المحذوف معطوف على {جَعَلْناهُ}. {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}. {ذُرِّيَّةَ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء؛ أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، وجملة النداء مقول لذلك القول المحذوف {مَنْ} اسم موصول بمعنى الذي في محل جر بالإضافة. {حَمَلْنا} فعل وفاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من حملناهم {مَعَ نُوحٍ} ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف، أو متعلق بـ {حَمَلْنا} أو جواب النداء محذوف تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح، كونوا كما كان نوح في العبودية، والانقياد، وفي كثرة الشكر لله

بفعل الطاعات، {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماضٍ ناقص واسمه ضمير يعود على نوح {عَبْدًا} خبر {كانَ}. {شَكُورًا} صفته، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الجملة المحذوفة. {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}. {وَقَضَيْنا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به، و {قضى} يتعدى بنفسه، أو بعلى، وإنما عدّاه هنا بـ {إِلى} لتضمنه معنى أوحينا {فِي الْكِتابِ}: متعلق به أيضًا، ومتعلق القضاء محذوف دل عليه قوله: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ} والتقدير: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب بإفسادهم في الأرض مرتين {لَتُفْسِدُنَّ}: {اللام} موطئة للقسم {تفسدن} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والأصل: لتفسدونن، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تفسدن}، ومفعول الإفساد محذوف تقديره: لتفسدن الأديان في الأرض {مَرَّتَيْنِ}: منصوب على المصدرية، والعامل فيه من غيره، لأنه بمعنى: لتفسدن إفسادتين {وَلَتَعْلُنَّ}: {الواو} عاطفة و {اللام} موطئة للقسم، (تعلن) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل {عُلُوًّا}: منصوب على المصدرية {كَبِيرًا}: صفة له، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم المذكور قبلها. {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}. {فَإِذا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم لتفسدون في الأرض مرتين، وأردتم بيان ما يترتب على كلتا المرتين من العقوبة، فأقول لكم: إذا جاء وعد أولاهما الخ {إذا} ظرف لما يستقبل

من الزمان، {جاءَ وَعْدُ أُولاهُما}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {بَعَثْنا}: فعل وفاعل عَلَيْكُمْ: متعلق به {عِبادًا}: مفعول به {لَنا}: صفة {عِبادًا}. {أُولِي بَأْسٍ}: صفة ثانية لـ {عِبادًا}. {شَدِيدٍ} صفة بأس وجملة {بَعَثْنا} جواب {إذا}، وجملة {إذا} مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {فَجاسُوا} فعل وفاعل معطوف على {بَعَثْنا} {خِلالَ الدِّيارِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {جاسوا}. {وَكانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على البعث {وَعْدًا} خبرها. {مَفْعُولًا} صفته، وجملة {كانَ} مستأنفة. {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {رَدَدْنا} فعل وفاعل معطوف على {بَعَثْنا} {لَكُمُ} متعلق بـ {رَدَدْنا} {الْكَرَّةَ} مفعول {رَدَدْنا} {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {رَدَدْنا} أو بـ {الْكَرَّةَ}. {وَأَمْدَدْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {رَدَدْنا} {بِأَمْوالٍ} متعلق بـ {رَدَدْنا} {وَبَنِينَ} معطوف على أموال {وَجَعَلْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول {أَكْثَرَ} مفعول ثان {نَفِيرًا} تمييز، والجملة الفعلية معطوفة على {أَمْدَدْناكُمْ}. {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}. {إِنْ} حرف شرط جازم، {أَحْسَنْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {أَحْسَنْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه جوابًا لها {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {أَحْسَنْتُمْ}، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} جازم وفعل، وفاعل. فَلَها {الفاء} رابطة لجواب الشرط، وجوبًا {لها} جار ومجرور خبر مقدم لمبتدأ محذوف تقديره: فلها الإساءة لا لغيرها، والتعبير باللام لمشاكلة ما قبلها، وإلا فحق المقام أن يكون على، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب الشرط، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية قبلها، {فَإِذا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كون إساءتكم عليكم، وأردتم بيان ما

يترتب عليها من العقوبة، فأقول لكم: إذا جاء {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: بعثناهم عليكم، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، و {اللام} حرف جر وتعليل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير، بعثناهم عليكم لإساءتهم وجوهكم، والجار والمجرور متعلق بالجواب المحذوف، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {لِيَسُوؤُا} {كَما} {الكاف} حرف جر وتشبيه، {ما} مصدرية {دَخَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، والتقدير: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} دخولًا مثل دخولهم، إياه أول مرة، {أَوَّلَ مَرَّةٍ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {دخلوا} {وَلِيُتَبِّرُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، معطوف على {لِيَسُوؤُا} {ما} اسم موصول في محل النصب على المفعولية، أو ما مصدرية ظرفية {عَلَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} إن قلنا: موصولة، والعائد محذوف تقديره، ما علوه أو صلة ما لمصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر، إليه تقديره؛ وليتبروا مدة علوهم {تَتْبِيرًا} منصوب على المفعولية المطلقة {لِيُتَبِّرُوا}. {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}. {عَسى} فعل ماض بمعنى حقق {رَبُّكُمْ} فاعل {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: حقق ربكم رحمته إياكم، إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي {وَإِنْ عُدْتُمْ} جازم وفعل وفاعل {عُدْنا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {وَجَعَلْنا} فعل وفاعل {جَهَنَّمَ} مفعول أول {لِلْكافِرِينَ} متعلق بما بعده {حَصِيرًا} مفعول ثان لـ {جعل} والجملة الفعلية: مستأنفة.

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}. {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد {هذَا} في محل النصب اسمها {الْقُرْآنَ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، {يَهْدِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْقُرْآنَ} ومفعوله محذوف تقديره: الناس كافّة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {لِلَّتِي} جار ومجرور متعلق بـ {يَهْدِي} {هِيَ أَقْوَمُ} مبتدأ، وخبر، والجملة صلة الموصول، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الْقُرْآنَ}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَهْدِي} {الَّذِينَ} اسم موصول صفة لـ {الْمُؤْمِنِينَ} {يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {إِنَّ} حرف نصب ومصدر {لَهُمْ} خبرها مقدم {أَجْرًا} اسمها مؤخر {كَبِيرًا} صفة {أَجْرًا} وجملة {إِنَّ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ {يُبَشِّرُ} والتقدير: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بكون أجر كبير لهم. {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11)}. {وَأَنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه {لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول {أَعْتَدْنا} فعل وفاعل {لَهُمْ} متعلق به {عَذابًا} مفعول به {أَلِيمًا} صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}، والرابط ضمير {لَهُمْ}، وجملة {أَنَّ} مع اسمها وخبرها في محل الجر بحرف جر محذوف، معطوف على جملة {إِنَّ} الأولى، والتقدير: ويبشر المؤمنين بشيئين: بكون أجر كبير لهم، وبكون عذاب أليم للذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا شكّ أنّ ما يصيب أعداءهم سرور لهم، أو في محل الجر بحرف جر محذوف، متعلق بعامل محذوف تقديره: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابًا أليمًا. {وَيَدْعُ} {الواو} استئنافية {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وتقول في تطبيق إعرابه: {يَدْعُ} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الواو المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين، وخطًّا تبعًا للفظ منع من ظهورها

الثقل؛ لأنه فعل معتل بالواو، {بِالشَّرِّ} جار ومجرور متعلق بـ {يَدْعُ} {دُعاءَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة لـ {يَدْعُ} {بِالْخَيْرِ} متعلق به، ولكنه على التشبيه، والتقدير: ويدع الإنسان بالشر دعاء كدعائه بالخير في الإلحاح، والإكثار، {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12)}. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة مستأنفة {فَمَحَوْنا} {الفاء} تفسيرية {محونا} فعل، وفاعل {آيَةَ اللَّيْلِ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنَا}. وفي «أبي السعود»: و {الفاء} في {محونا} تفسيرية؛ لأن المحو المذكور، وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقب جعل الليل والنهار آيتين، بل هما من جملة ذلك الجعل، ومتمماته. اهـ. {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ} فعل وفاعل، ومفعول أول {مُبْصِرَةً} مفعول ثان لـ {جعل} والجملة معطوفة على جملة {محونا} {لِتَبْتَغُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، {فَضْلًا} مفعول به {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور صفة {فَضْلًا} والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، والجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}؛ أي: وجعلنا آية النهار مبصرة لابتغائكم فضلًا من ربكم، {وَلِتَعْلَمُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {عَدَدَ السِّنِينَ} مفعول به، {وَالْحِسابَ} معطوف على عدد السنين، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بكلا الفعلين، أعني {محونا} {وَجَعَلْنَا}؛ والتقدير: فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة لمعرفتكم عدد السنين والحساب، {وَكُلَّ شَيْءٍ}: منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وبينا كل شيء فصلناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {فَصَّلْناهُ} فعل وفاعل ومفعول {تَفْصِيلًا} منصوب على المصدرية، والجملة الفعلية جملة مفسّرة لا محلّ لها من الإعراب. {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا 13 اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}.

{وَكُلَّ} {الواو} استئنافية {كُلَّ} منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وألزمنا كل إنسان ألزمناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {إِنسانٍ} مضاف إليه {أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محلّ لها من الإعراب، {فِي عُنُقِهِ}: جار ومجرور متعلق، بـ {أَلْزَمْناهُ وَنُخْرِجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ} متعلق به {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف متعلق به أيضًا {كِتابًا}: مفعول به، وجملة {نُخْرِجُ} معطوفة على جملة {أَلْزَمْناهُ} {يَلْقاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {كِتابًا} {مَنْشُورًا} صفة ثانية لـ {كِتابًا} أو حال من ضمير {يَلْقاهُ}. {اقْرَأْ كِتابَكَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ويقال له: اقرأ كتابك {كَفى بِنَفْسِكَ} فعل وفاعل، و {الباء} زائدة، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف أيضًا، {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {كَفى} {عَلَيْكَ} متعلق بما بعده {حَسِيبًا} تمييز لفاعل {كَفى}. {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. {مَنِ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {اهْتَدى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} والجملة في محل الجزم بـ {مَنِ} على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّما} {الفاء} رابطة لجواب {مَنِ} الشرطية جوازًا {إنما} أداة حصر {يَهْتَدِي} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} لِنَفْسِهِ متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ {مَنِ} الشرطية على كونها جواب شرط لها، وجملة {مَنِ} الشرطية مستأنفة {وَمَنْ} اسم شرط مبتدأ، والخبر جملة الجواب {ضَلَّ} فعل شرط لها {فَإِنَّما يَضِلُّ} جواب شرط لها {عَلَيْها} متعلق به، وجملة {مَنِ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنِ} الأولى. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {وِزْرَ أُخْرى} مفعول به، ومضاف إليه، {وَما} {الواو} عاطفة ما نافية {كُنَّا مُعَذِّبِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَزِرُ}. {حَتَّى} حرف جر وغاية {نَبْعَثَ}

فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله، {رَسُولًا} مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره؛ وما كنا معذبين إلى بعثنا رسولا. الجار والمجرور متعلق بـ {مُعَذِّبِينَ}. التصريف ومفردات اللغة {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} {سُبْحانَ} مصدر سماعي لسبح المشدد؛ أو اسم مصدر له، أو مصدر قياسي لسبح المخفف، فإنّه يقال: سبح في الماء، وفيه: معنى البعد، والتنزيه، فيه بعد عن النقائص، وعلى كل، فهو علم جنس للتنزيه، والتقديس، ويقال: أسرى وسرى بمعنى سار في الليل، وهما لازمان، لكن مصدر الأول: الإسراء، ومصدر الثاني: السُّرى بضم السين كهدى، فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء، ومعنى أسرى به صيّره ساريًا في الليل {الْكِتابَ} هو التوراة {وَكِيلًا}؛ أي: كفيلًا تكلون إليه أموركم {شَكُورًا}؛ أي: كثير الشكر {وَقَضَيْنا}؛ أي: أعلمنا بالوحي {لَتَعْلُنَّ}، أي لتستكبرن عن طاعة الله. {مَرَّتَيْنِ} والمرتان: تثنية مرة، وهي الواحدة من المر؛ أي المرور على حد قوله: وفعلة لمرة كجلسة، وفي «القاموس»: مرّ مرًا، ومرورًا جاز وذهب كاستمر ومره جاز عليه، والمرة: الفعلة الواحدة، والجمع مرّ بالضم، ومرار بالكسر، ومرر كعنب، ولقيه ذات مرة لا يستعمل إلا ظرفًا، وذات المرار؛ أي: مرارًا كثيرة، وجئته مرًا، أو مرين؛ أي: مرة أو مرتين اهـ. {وَعْدُ أُولاهُما}، والوعد الموعود به، وهو العقاب، فهو مصدر واقع موقع مفعول، وتركه الزمخشريّ على حاله، لكن بحذف مضاف؛ أي: وعد عقاب أولاهما اهـ سمين {فَجاسُوا}، وفي «القاموس» الجوس بالجيم طلب الشيء بالاستقصاء، والتردد خلال الديار، والبيوت، والطواف فيها كالجوسان، والاجتياس وبابه قال: اهـ ثم قال: والحوس بالحاء المهملة: الجوس اهـ وفي «السمين» {فَجاسُوا} عطف على {بَعَثْنا}، أي: ترتب على بعثنا إياهم هذا و (الجوس) بفتح

الجيم وضمها: مصدر جاس، يجوس، والمعنى هنا: تردّدوا لطلبكم بالفساد {خِلالَ الدِّيارِ}. قال في «القاموس» الخلل منفرج ما بين الشيئين، ومن السحاب: مخارج الماء كخلاله، وخلال الديار أيضًا ما حوالي جدرها، وما بين بيوتها انتهى. قالوا: يجوز أن يكون مفردًا بمعنى الوسط، أو جمع خلل بمعنى الأوساط، مثل جبلٍ، وجبالٍ، وجَملٍ، وجمالٍ والديار: جمع دار، وهو المحل يجمع البناء، والعرصة، والمعنى مشوا في وسط المنازل، أو أوساطها للقتل والأسر، والغارة فقتلوا علماءهم وكبارهم، وحرّقوا التوراة، وخرّبوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفًا، وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضا مما جرت به السنة الإلهية. {أُولِي بَأْسٍ} والبؤس، والبأس، والبأساء: الشدّة والمكروه، كما قال الراغب. إلّا أنّ البؤس كثر استعماله في الفقر، والحرب، والبأس، والبأساء، في النّكاية بالعدو {الْكَرَّةَ} وهي في الأصل مصدر: كرّ يكرّ إذا: رجع، والكرّة: الدولة والغلبة، وأصل الكرّ: العطف والرجوع {نَفِيرًا} والنفير والنافر، من ينفر مع الرجل من عشيرته، وأهل بيته {تَتْبِيرًا} والتتبير: الإهلاك، وهي كلمة نبطيّة كما روي عن سعيد بن جبير، وكل شيء كسرته وفتته .. فقد تبّرته. {ما عَلَوْا}؛ أي: ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، أصله: عليوا تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان فحذفت الألف. فصار علوّا بوزن فعوا {حَصِيرًا} الحصير المحبس، والسّجن، والمقر. يحصرون فيه، لا يستطيعون الخروج منها أبد الآباد، فهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: حاصرة لهم، ومحيطة بهم، كما مر في مبحث التفسير، وفي «الشهاب» قوله: محبسًا، أي: مكان الحبس المعروف، فإن كان حصيرًا، اسم مكان. فهو جامد لا يلزم تذكيره، ولا تأنيثه، وإن كان بمعنى حاصرًا؛ أي: محيطًا بهم، وفعيل بمعنى فاعل، يلزم مطابقته، فكأن يقال: حصيرة، فإما لأنه على النسب كلابن، وتامر، أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول، أو لأنّ تأنيث جهنّم غير حقيقي، أو لتأويلها بمذكر كالسجن والحبس اهـ. {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ}، والقياس: أن تثبت واو يدع لأنه مرفوع؛ إلا أنه لما وجب

سقوطها لفظًا لاجتماع الساكنين، سقطت في الخط أيضًا على خلاف القياس، ونظيره: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)} اهـ زاده والمراد بالإنسان: الجنس: لأن أحدًا من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها .. لكان تركها أصلح في الدين والدنيا اهـ كرخي. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} وإنما ذكر المصدر لأجل تأكيد الكلام، وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقًا على الوجه الذي لا مزيد عليه اهـ. كرخي {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ}؛ أي: عمله سمي به، إمّا لأنه طار إليه من عشّ الغيب، وإمّا لأنه سبب الخير والشر كما قالوا: طائر الله لا طائرك؛ أي: قدر الله الغالب الذي يأتي بالخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به، وتتيمّن؛ إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطّير، ويسمّونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به، وسمّوه سانحا، وإن مر من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسمّوه بارحًا. {كِتابًا} هو صحيفة عمله {مَنْشُورًا}؛ أي: غير مطوي {حَسِيبًا}، أي: حاسبًا، أي: عادًا له يعد عليه أعماله، وهو تمييز، و {عَلَيْكَ} متعلق به، وهو إما بمعنى الحاسب، أو بمعنى الكافي اهـ من البيضاوي وفي «السمين» قوله: {حَسِيبًا} فيه وجهان: أحدهما: أنه تمييز، قال الزمخشري: وهو بمعنى حاسب، كضريب بمعنى ضارب، وصريم بمعنى صارم، ذكرهما سيبويه، و {عَلَيْكَ} متعلق به من قولك: حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي، ووضع موضع الشهيد، فعدّي بعلى؛ لأنّ الشّاهد يكفي المدّعي ما أهمه، فإن قلت: لم ذكر حسيبًا؟ قلت: لأنه بمنزلة الشاهد، والقاضي، والأمين وهذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلًا حسيبًا، ويجوز أن تؤول النفس بمعنى الشخص كما يقال: ثلاثة أنفس: والثاني: أنه منصوب على الحال، وذكر لما تقدّم، وقيل: حسيب بمعنى محاسب كخليط، وجليس بمعنى مخالط، ومجالس اهـ {وِزْرَ أُخْرى}، والوزر: الإثم، والذنب يقال منه: وزر يزر فهو وازر، وهي وازرة، أي: نفس وازرة، وقال في «القاموس» الوزر بالكسر الإثم، والثّقل، والحمل الثقيل انتهى.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعجيب المستفاد من قوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} لأن فيه معنى التعجب، فكأنه قال: تعجبوا أو اعجبوا من قدرة الله تعالى على هذا الأمر العجيب. ومنها: الإضافة للتشريف، والتكريم في قوله: {بِعَبْدِهِ}. ووصفه بالعبودية؛ لأنّ هذا المقام أشرف المقامات، والعبودية أشرف أوصاف الإنسان كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وممّا زادني شرفًا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثُّرَيَّا دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيَّرت أحمد لِيْ نبيَّا ومنها: التأكيد بـ {لَيْلًا}، إذ الإسراء في لسان العرب لا يكون إلّا ليلًا حتى لا يتخيل أنه كان نهارًا. ومنها: التنكير في {لَيْلًا} لإفادة تقليل مدة الإسراء، في جزء من الليل، قيل: قدر أربع ساعات، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: أقل من ذلك، وذلك لأن التّنكير قد يكون للتقليل، والتقليل والتبعيض: متقاربان، فاستعمل في التبعيض، ما هو للقليل. اهـ كرخي. وهذا بخلاف ما لو قيل: أسرى بعبده الليل .. فإن التركيب مع التعريف يفيد استغراق السّير لجميع أجزاء الليل. اهـ شيخنا. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله: {بارَكْنا} و {لِنُرِيَهُ}، ثم التفت منه إلى الغيبة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ} إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح ففي الكلام التفاتان، وقرأ الحسن ليريه بالياء من تحت، أي: الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعة التفاتات، وذلك أنه التفت أولًا من الغيبة في قوله: {الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله: {بارَكْنا}، ثمّ التفت ثانيًا من التكلم في {بارَكْنا} إلى الغيبة في

(ليَريه) على هذه القراءة، ثم التفت ثالثًا من هذه الغيبة إلى التكلم في {آياتِنا}، ثمّ التفت رابعًا من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ} على الصحيح في الضمير أنه لله تعالى وأما على قول نقله أبو البقاء أن الضمير في {إِنَّهُ هُوَ} للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلا يجىء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفات واحد، وفي قراءة الحسن ثلاثة، وهذا موضع غريب، وأكثر ما ورد الالتفات ثلاث مرّات على ما قاله الزمخشري في قول امرىء القيس: تطاول ليلك بالإثمد ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}. ومنها: التعبير عن المستقبل بالماضي في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ} لأن الرّدّ لم يقع وقت الإخبار، لكن لتحقّقه عبّر بالماضي. ومنها: الطباق بين {أَحْسَنْتُمْ} و {أَسَأْتُمْ}. ومنها: المجاز العقليُّ في قوله: {آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً}؛ لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه، فهو من إسناد الشيء إلى زمانه، ومنها: التأكيد في قوله: {فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} ذكر المصدر، وهو قوله: {تَفْصِيلًا} لأجل تأكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقًّا على الوجه الذي لا مزيد عليه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} استعير الطّائر لعمل العبد، بجامع الانتقال في كل، فكما أن الطائر ينتقل من عشه، ووكره، ينتقل عمل العبد من عش الغيب، والقدر، إلى العبد. ومنها: الطباق بين {ضَلَّ} و {مَنِ اهْتَدى}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {اقْرَأْ كِتابَكَ}؛ أي: يقال له، يوم القيامة: اقرأ كتابك. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا (33)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا إذا أرسل إليهم رسولًا يبلغ رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة .. أعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب العبد واختياره، وأنّ هذا واقع بتقدير الله تعالى وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلّت العقوبة بعذاب الاستئصال كما فعل بكثير من الأمم التي

من بعد نوح كعاد، وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثمّ قسم العباد قسمين: قسم يحبّ الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار، وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة، ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور، مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه؛ إذ ليس عطاؤه بممنوع من أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعضٍ في أرزاق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من درجات التفاوت في الدنيا، وأبعد مدى. قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنّ الناس فريقان (¬1): فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله تعالى، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة، وأن يكونوا مؤمنين، لا جرم فصّل الله في هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم. ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنّهما السبب الظاهر في وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوي القربى حقوقهم، ثمّ بالأمر بإصلاح أحوال المساكين، وأبناء السبيل؛ لأن في إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلّهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفّى على ذلك بالنهي عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء، وعدم ارتباكه في معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففي صلاحهم صلاحها، ثمّ علّمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبيّن أنّ الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثمّ تلا هذا بالنهي عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب وفقدان النسل أو قلّته ووقوع الشّغب والقتال بين الناس دفاعًا عن ¬

_ (¬1) المراغي.

العرض، ثم بالنهي عن القتل لهذا السبب عينه. وقال أبو حيان: قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا ...} مناسبة (¬1) اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث إنه تعالى هو الموجد حقيقة، والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده وإيجاد رزقه، وهما ساعيان في مصالحه. قوله سبحانه تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى ...} الآية، لما أمر الله تعالى ببر الوالدين .. أمر بصلة القرابة. وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ...} الآية، لمّا بيّن الله تعالى أنه هو المتكفّل بأرزاق العباد حيث قال: إن ربّك يبسط الرّزق لمن يشاء ويقدر .. أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد. قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ...} الآية، لما نهى الله تعالى عن قتل الأولاد .. نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا، واستلزم ذلك النّهي عن الزنا. قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ...} الآية، لمّا نهى الله عن قتل الأولاد، وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة .. نهى عن قتل النفس، فانتقل من الخاص إلى العامّ، والظاهر أنّ هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله: {وَقَضى رَبُّكَ} كاندراج {أَلَّا تَعْبُدُوا} انتهى. أسباب النزول قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا أنزلت {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...} الآية. دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة فأعطاها فدك. قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأنّ الآية مدنية، والمشهور خلافه، وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله. قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه سعيد بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول.

[16]

منصور عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، ظنوا ذلك من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ}، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت فيمن كان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - من المساكين. قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزّ، وكان معطيا كريما، فقسمه بين الناس، فأتاه قوم فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها ...} الآية. وأخرج ابن مردويه، وغيره عن ابن مسعود، قال: جاء غلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: «ما عندنا شيء اليوم» قال: فتقول لك: أكسني قميصك، فدفعه إليه، فجلس في البيت حاسرًا فأنزل الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}. وأخرج أيضًا عن أبي أمامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: «أنفق ما على ظهر كفي» فقالت: إذن لا يبقى شيء، فأنزل الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ...} الآية. وظاهر ذلك أنّها مدنية. التفسير وأوجه القراءة 16 - ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل، فقال: {وَإِذا أَرَدْنا}؛ أي: وإذا (¬1) دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بعذاب الاستئصال أَمَرْنا على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها {مُتْرَفِيها} أي منعميها ورؤسائها وكبارها وملوكها بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة، والمترف كمكرم من أبطرته النعمة، وسعة العيش والترفة (¬2) بالضم النعمة والطّعام الطيّب، وخصهم بالذكر مع توجّه الأمر إلى الكل؛ لأنهم الأصول في الخطاب، والباقي أتباع لهم، وقرأ (¬3) ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

الجمهور {أَمَرْنا} من الأمر الذي هو ضد النهي، وقرأ (¬1) علي بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق، وأبو رجاء وعيسى بن عمر، وسلّام، وعبد الله بن أبي يزيد، والكلبي {آمرنا} بالمد، وجاء كذلك عن ابن عباس، والحسن، وقتادة وأبي العالية، وابن هرمز، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، وهو اختيار يعقوب، ومعناه: كثّرنا يقال: أمر الله القوم، وآمرهم، ومعنى {آمرنا} مترفيها: أي كثّرنا أغنياءها، وفساقها، وقرأ ابن عباس، وأبو عثمان النهدي السدي، وزيد بن علي، وأبو العالية {أمّرنا} بتشديد الميم، وروي ذلك عن علي، والحسن، والباقر، وعاصم، وأبي عمرو ومعناه (¬2) جعلنا جبابرتها وفسّاقها أمراء. {فَفَسَقُوا}؛ أي: فخرجوا عما أمرهم الله تعالى به من الإيمان والطاعة، وعملوا المعاصي {فِيها}، أي: في تلك القرية {فَحَقَّ}؛ أي فوجب، وثبت {عَلَيْهَا}؛ أي: على أهل تلك القرية. {الْقَوْلُ} بالعذاب، أي: ثبت عليهم قضاؤنا بالعذاب، وتحقق موجبه بحلول العذاب بهم، إثر ما ظهر فسقهم وطغيانهم، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم، وقيل: القول هو {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وهؤلاء في النار، ولا أبالي. ذكره في «البحر». والمعنى: أي فثبت عليها ما توعدناهم به على لسان رسولنا من الإهلاك {فَدَمَّرْناها} بتدمير أهلها، وتخريب ديارها {تَدْمِيرًا}، والتدمير: الإهلاك مع طمس الأثر، وهدم البناء، والمعنى: فأهلكناها إهلاك الاستئصال كفاء فسقهم، وطغيانهم، وبطرهم إهلاكًا عظيمًا، لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه. وقيل (¬3): في تفسير {أَمَرْنا} بأنه مجاز عن السبب الحامل لهم على الفسق، وهو إدرار النعم عليهم، بأن صبّ عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق. وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[17]

ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه وحلّق بأصبعيه، الإبهام والتي تليها، قالت زينب: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث»، متفق عليه. قوله: «ويل للعرب» كلمة تقال لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها، وقوله: إذا كثر الخبث؛ أي: الشر. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بهلاك أيّ قرية بعذاب الاستئصال، لما ظهر منها من المعاصي، ودنّست به أنفسها من الآثام، لم نعاجلها بالعقوبة، بل نأمر مترفيها بالطاعة؛ فإذا فسقوا عن أمرنا، وتمرّدوا حقّ عليهم العذاب جزاءً وفاقًا لاجتراحهم السيئات، وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش، فدمرنا تلك القرية تدميرًا، لم يبق منها ديّارًا ولا نافخ نار، وخص المترفين بالذكر كما مرّ لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعًا لهم، وأن العامة والدهماء يقلّدونهم فيما يفعلون، ولأنهم أسرع إلى الفجور، وأقدر على الوصول إلى سبله. 17 - ثم ذكر سبحانه: أنّ هذه عادته الجارية مع القرون الخالية. فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنا}، {وَكَمْ} هنا خبرية بمعنى عدد كثير مفعول {أَهْلَكْنا} و {مِنَ الْقُرُونِ} تبيين لإبهام {كَمْ}. وتمييزٌ له كما يميز العدد بالجنس، والقرون (¬2) جمع قرن، والقرن مدة من الزمن يخترم فيها المرء، والأصح أنه مئة سنة، والمراد به هنا، كل أمّة هلكت، فلم يبق منها أحد، وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم؛ أي: وكثيرًا من الأمم الماضية {أَهْلَكْنا} {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} عليه السلام؛ أي: من بعد زمنه كعاد، وثمود، ومن بعدهم، ولم يقل من بعد آدم لأن نوحا أول نبي بالغ قومه في تكذيبه وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهو الاستئصال بالطوفان. والمعنى (¬3): أي وقد أهلكنا أممًا كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

حين جحدوا آيات الله تعالى، وكذّبوا رسله، وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور، والآثام، ولستم بأكرم على الله منهم، فاحذروا أن يحلّ بكم من العقاب مثل ما حل بهم، وينزل بكم من سخطه مثل ما نزل بهم. وفي هذا من الوعيد لمكذبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مشركي قريش، وتهديدهم بشديد العذاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله ما لا يخفى. روي عن الشعبي أنه قال (¬1): خرج أسد وذئب وثعلب، يتصيّدون، فاصطادوا حمار وحش، وغزالا، وأرنبا، فقال الأسد للذئب: اقسم لنا، فقال: حمار الوحش للملك، والغزال لي، والأرنب للثعلب، قال: فرفع الأسد يده، وضرب رأس الذئب ضربة، فإذا هو منجدل بين يدي الأسد، ثم قال للثعلب: اقسم هذه بيننا، فقال: الحمار يتغدى به الملك، والغزال يتعشى به، والأرنب ما بين ذلك، فقال الأسد: ويحك ما أقضاك من علّمك هذا القضاء؟ فقال: القضاء الذي نزل برأس الذئب، ولذلك قيل: العاقل من وعظ بغيره. ثم خاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما هو ردع للناس كافة فقال: {وَكَفى بِرَبِّكَ}، أي كفى كون ربك يا محمد {بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، أي: من جهة كونه خبيرا، أي: عالما ببواطن الأمور، وحقائقها، بصيرًا: أي: عالما بظواهرها، وشواهدها، فيعاقب عليها، وتقديم (¬2) الخبير مع أنه مضاف إلى الغيوب والأمور الباطنة، والبصير مضاف إلى الأمور الظاهرة، كالشهيد لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادىء الأعمال الظاهرة وفيه (¬3) إشارة إلى أنّ البعث والأمر، وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب، فإن ذلك حاصل قبل ذلك، وإنما هو لقطع الأعذار، وإلزام الحجة من كل وجهٍ. وفي الآية (¬4): بشارةٌ عظيمة لأهل الطاعة، وتخويف شديد لأهل المعصية؛ لأن العلم التّامّ، والخبرة الكاملة، والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[18]

مستحقه، بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك، والمراد بكونه سبحانه خبيرًا بصيرًا: أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهرًا وباطنًا لا تخفى عليه منها خافية. والمعنى: أي (¬1) وحسبك - أيها الرسول - بالله خبيرًا بذنوب خلقه، فلا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك، ولا أفعال غيرهم، بل هو عليم بجميع أعمالهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون. 18 - ثم قسّم سبحانه عباده إلى قسمين: محب للعاجلة، ومحب لأعمال الآخرة، فذكر الأول منهما بقوله: {مَنْ كانَ} منكم أيها العباد {يُرِيدُ} بأعمال البر التي عملها {الْعاجِلَةَ}؛ أي: المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة فقط: أي ما فيها من فنون مطالبها، فيدخل فيه الكفرة، والفسقة، والمراؤون، والمنافقون، والمهاجر للدنيا، والمجاهد لمحض الغنيمة والذكر، وطالب العلم لغرض الوظيفة، والمحمدة، والشهرة والاسم، كما ابتلي به كثير من طلبة عصرنا، وقد بيّنا ما يتعلق بعلم من ذكّر وضده في كتابنا «سلّم المعراج على خطبة المنهاج»، فراجعه إن شئت. {عَجَّلْنا لَهُ}؛ أي: لذلك المريد {فِيها}؛ أي: في تلك العاجلة، ثمّ قيّد المعجّل بقيدين: الأول: قوله: {مَا نَشَاءُ} تعجيله له من نعيمها، لا كل ما يريد؛ فإن الحكمة لا تقتضي وصول كلّ طالب إلى مرامه ومطلوبه، ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة، يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنّون ما لا يصلون إليه، ومن حكمته سبحانه: أنه (¬2) يبتلي بعض العباد بالطلب من غير حصول المطلوب، وبعضهم يبتلي به مع حصول المطلوب المشروط به، إما مقارنا لطلبه، وإما بعده، لأن وقت الطلب قد يفارق وقت حصول المطلوب، فيحصل الطلب في وقت، والمطلوب في وقت، وبعضهم لا يبتلي بالطلب، بل يصل إليه الفيض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

بلا طلب، فالأول طلب ولا شيء، والثاني طلب وشيء، والثالث: شيء ولا طلب. والقيد الثاني: قوله: {لِمَنْ نُرِيدُ}؛ أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا. وجملة {لِمَنْ نُرِيدُ} بدل من الضمير في {له} بإعادة الجار بدل البعض من الكل؛ لأن الضمير يرجع إلى {من} الموصولة المفيدة للعموم. وهذه الآية مقيِّدة للآيات المطلقة كقوله سبحانه: {وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها} وقوله: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)}. وقرأ الجمهور (¬1): {ما نَشاءُ} بالنون، وروي عن نافع {ما يشاء} بالياء، فقيل: الضمير في يشاء يعود على الله، وهو من باب الالتفات، فقراءة النون والياء سواء، وقيل: يجوز أن يعود على {من} العائد عليها الضمير في {له} وليس ذلك عامًّا بل لا يكون له ما يشاء إلا آحاد أراد الله لهم ذلك، ثم بعد هذه الطلبة الفارغة، والإرادة الخالية، التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال سبحانه: {ثُمَّ} بعد انتقاله إلى الآخرة {جَعَلْنا لَهُ}؛ أي: لذلك المريد في الآخرة مكان ما عجّلنا له في الدنيا بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة، وإخلاصه عن الشوائب {جَهَنَّمَ} وما فيها من أصناف العذاب حالة كونه {يَصْلاها}؛ أي: يدخلها حال من الضمير المجرور {مَذْمُومًا} من عند الخلق؛ أي: ملوما مهانا بالذمّ؛ لأن الذمّ اللوم، وهو خلاف المدح والحمد، يقال: ذممته، وهو ذميم غير حميد كما في «بحر العلوم» {مَدْحُورًا} عند الخالق؛ أي: مطرودًا من رحمة الله تعالى مبعدا عنها، فإنّ الدّحر الطرد، والإبعاد. فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلّا ما قدره الله سبحانه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[19]

له، فأين حال هذا الشقي من حال المؤمن التقيّ، فإنه ينال من الدنيا ما قدره الله له وأراده بلا هلع منه، ولا جزع، مع سكون نفسه، واطمئنان قلبه، وثقته بربّه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة. والمعنى: أي من (¬1) كان غرضه، وطلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى، وإيّاها يبتغي، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا من ربه على ما يعمل، يعجّل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الرزق، وسعة العيش، ثمّ يصليه حين مقدمه عليه في الآخرة جهنّم مذمومًا على قلّة شكره، وسوء صنيعه فيما سلف، مبعدًا من رحمته مطرودًا من إنعامه. وقد اشتمل هذا العقاب على ثلاثة أمور: 1 - الدوام والخلود، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها}؛ أي: يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه. 2 - الإهانة والاحتقار، وإلى ذلك الإشارة بقوله: {مَذْمُومًا}. 3 - البعد والطّرد من رحمة الله دائمًا، فلا يتخلّل ذلك راحة، ولا يعقبه خلاص، وإلى هذا أشار بقوله: {مَدْحُورًا} وفي قوله: {لِمَنْ نُرِيدُ} إشارة إلى أن الفوز بالدنيا، لا يحصل لكل من يريدها، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثمّ هم يبقون محرومين من الدين والدنيا. وفي هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا، وربما فاتتهم أيضًا، 19 - وذكر الثاني من القسمين بقوله: {وَمَنْ أَرادَ} بأعماله الصالحة الدار {الْآخِرَةَ}، أي: ثوابها، وما فيها من النعيم المقيم بأن يؤثرها على الدنيا، ويعقد إرادته بها {وَسَعى لَها}، أي للآخرة {سَعْيَها}؛ أي: السعي اللائق بها، وهو الإتيان بما أمر به، والإنتهاء عما نهي عنه خالصًا لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من غير ابتداع ولا هوى لا التقرب ¬

_ (¬1) المراغي.

بما يخترعون بآرائهم وخرافاتهم، وفائدة (¬1) اللام: اعتبار النية، والإخلاص، فإنها للاختصاص. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}؛ أي: والحال أنه مؤمن إيمانًا صحيحًا لا شرك معه، ولا تكذيب، فإنه العمدة، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه، إلا إذا كان من المؤمنين {فَأُولئِكَ} الجامعون الشرائط الثلاثة المذكورة من إرادة الآخرة، والسعي الجميل لها، والإيمان؛ أي: أولئك المريدون للآخرة السّاعون لها سعيها، المؤمنون بالله إيمانًا صحيحًا، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله: {كانَ سَعْيُهُمْ}؛ أي: عملهم {مَشْكُورًا}؛ أي: مقبولًا عند الله سبحانه وتعالى بحسن القبول مثابًا عليه، فإن شكر الله الإثابة على الطاعة، وقيل: مضاعفًا إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر (¬2) سبحانه في كون السعي مشكورًا أمورًا ثلاثة: 1 - أن يريد بعمله ثواب الآخرة، ونعيمها؛ فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل، كما قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى}، وجاء في الحديث «إنما الأعمال بالنيات» إلى أنّ استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه، والإخبات والخشوع له. 2 - أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات، لا من الأعمال الباطنة كعبادة الأوثان، والكواكب، والملائكة. 3 - أن يكون ذلك وهو مؤمن، فإنّ أعمال البرّ لا توجب الثّواب إلا إذا وجد الإيمان. والخلاصة: أن من أراد الآخرة، ولها عمل، وإياها طلب، فأطاع الله، وطلب ما يرضيه، وهو مصدّق بثوابه، وعظيم جزائه على سعيه لها، شكر الله له جزيل سعيه، وآتاه حسن المثوبة، كفاء ما قدّم من صالح العمل، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فراديس جنانه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[20]

فائدة: واعلم (¬1) أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مركّبًا من الدنيا والآخرة، ولكلّ جزءٍ منهما ميل وإرادة إلى كله؛ ليتغذّى منه، ويتقوّى، ويتكمّل به، ففي جزئه الدنيوي وهو النفس طريق إلى دركات النيران، وفي جزئه الأخروي وهو الروح طريقٌ إلى درجات الجنان، وخلق القلب من هذين الجزئين، وله طريق إلى ما بين إصبعي الرحمن، إصبع اللطف، وإصبع القهر فمن يرد الله به أن يكون مظهر قهره أزاغ قلبه، وحوّل وجهه إلى الدنيا، فيريد العاجلة، ويربّي بها نفسه إلى أن تبلّغه إلى دركات جهنم البعيدة، ويصلى نار القطيعة، ومن يرد الله به أن يكون مظهر لطفه أقام قلبه وحوّل وجهه إلى عالم العلو، فيريد الآخرة، ويسعى لها سعيها، وهو الطلب بالصدق، وهو مؤمن بأن من طلبه وجده، فأولئك كان سعيهم في الوجود مشكورًا من الموجد في الأزل. 20 - ثم بيّن سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال: {كُلًّا}؛ أي: كل واحد من الفريقين مريد الدنيا، ومريد الآخرة، فهو منصوب بقوله: {نُمِدُّ}؛ أي: نمد ونزيد كلّا من الفريقين بالعطاء مرّة بعد أخرى، بحيث يكون الآنف مددًا للسالف لا نقطعه منه، وقوله: {هؤُلاءِ} بدل من {كُلًّا} و {هؤُلاءِ} عطف عليه؛ أي: نمد هؤلاء الذين يريدون الدّنيا وهؤلاء الذين يريدون الآخرة {مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ}؛ أي: من معطاه الواسع الذي لا تناهي له، لأنّ العطاء اسم لما يعطى فهو متعلق بـ {نُمِدُّ}، فالله تعالى يوسّع عليهما في الرزق من الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز، والزينة في الدنيا، وهذا (¬2) الإمداد المذكور ليس على طريق الاستيجاب والاستحقاق بالسعي والعمل الصالح، بل بمحض التفضّل {وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ} يا محمد؛ أي: معطاه في الدنيا {مَحْظُورًا}؛ أي: ممنوعًا من كل أحد، مؤمنًا كان أو كافرًا، لأن الكلّ مخلوقون في دار العمل، فأزاح تعالى العذر عن الكل، وأوصل تعالى متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح، فيرزق المؤمنين، والكافرين، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، بل هو فائض على البرّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[21]

في الدنيا والآخرة، وعلى الفاجر في الدنيا فقط، وإن وجد منه ما يقتضي الحظر، وهو الفجور والكفر. والمعنى: أي (¬1) إنّ كلّا من الفريقين مريدي العاجلة، ومريدي الآجلة الساعي لها سعيها، وهو مؤمن يمده ربّه بعطائه، ويوسّع عليه الرزق، ويكثر له الأولاد والأموال وغيرهما من زينة الدنيا، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه، مؤمنا كان أو كافرا فكلّهم مخلوق في دار العمل، فوجب إزالة العذر، ورفع العلة، وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم، ثمّ تختلف أحوال الفريقين، ففريق العاجلة إلى جهنم، وبئس المهاد، وفريق الآجلة إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، ونعم عقبى الدار. 21 - والخطاب في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار و {كَيْفَ} في محل النصب على الحالية، بفضَّلنا لا بانظر، لأنّ أسماء الاستفهام مما يلزم الصدارة فلا يتقدّم عليها عاملها، وهذه الجملة مقررة لما مر من الإمداد، وموضحة له، والمعنى انظر يا محمد بنظر الاعتبار، كيف فضّلنا بعض العباد على بعض، فيما أمددناهم من العطايا الدنيوية، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقتصر العقول عن إدراكها؛ أي: انظر إلى عطائنا للفريقين في الدنيا كيف فضلنا بعضهم على بعض، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن، وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، ومنعناه من كافر آخر، ولهذا حكم وأسباب بيَّنها سبحانه بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ} وقوله: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}. {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ}؛ أي: ولدرجات الآخرة أكبر، وأعظم من درجات الدنيا؛ فإن درجات الآخرة باقية غير متناهية، ونعم الدنيا فانية متناهية {وَ} ¬

_ (¬1) المراغي.

[22]

للآخرة {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}؛ أي: ولتفاضلهم في الآخرة، وتفاوتهم فيها أكبر من تفاوتهم في الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات السفلى في جهنم مصفّدا بالسلاسل والأغلال، ومنهم من يكون في الدرجات العليا في نعيم وحبور، وكل فريق يتفاوتون فيما بينهم، وقرىء {أكثر} بالثاء المثلثة ففي «الصحيحين»: «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل علّيّين كما ترون الكوكب الغابر في السماء» وفيهما: «إنّ الله تعالى أمدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وروى ابن عبد البر عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي - وكان أحد الأشراف في الجاهلية -، وأبو سفيان بن حرب، ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب، وبلال، وأهل بدر - وكان يحبّهم - فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: - وكان أعقلهم - أيّها القوم: إنّي والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا - يعني إلى الإسلام - فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكبر. وعن بعضهم أنه قال: أيّها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة، وهي أكبر وأفضل. 22 - ثم لمّا أجمل سبحانه أعمال البر في قوله: {وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أخذ في تفصيل ذلك مبتدئًا بأشرفها الذي هو التوحيد. فقال: {لا تَجْعَلْ} أيها الإنسان {مَعَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {إِلهًا آخَرَ} {فَتَقْعُدَ}، أي: فتصير {مَذْمُومًا}، أي: مستحقّا للذم عند الملائكة والمؤمنين {مَخْذُولًا} أي مستحقًا للخذلان والذل والهوان عند الله سبحانه وتعالى، والخطاب (¬1) فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أمّته، فإنّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[23]

بعضهم قالوا: الأصل في الأوامر هو - صلى الله عليه وسلم -، وفي النواهي أُمَّته، وقيل: هو على إضمار القول، والتقدير: قل لكل مكلف: لا تجعل إلخ، وانتصاب (¬1) {مَذْمُومًا مَخْذُولًا} إمّا على خبريّتهما لـ {تقعد} إن قلنا: إنها من أفعال التصيير، وإما على الحال، إن قلنا: إنها على بابها بمعنى المكث؛ أي: فتصير جامعًا بين الأمرين الذم لك من الله، ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو تمكث حال كونك جامعًا بين الأمرين. والمعنى (¬2): أي لا تجعل - أيها الإنسان - مع الله سبحانه شريكًا في ألوهيته وعبادته، ولكن أخلص له العبادة، وأفرد له الألوهة فإنه لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه. إنّك إن تجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه تصر ملومًا على ما ضيّعت من شكر الذي أنعم عليك بنعمه، وشكر من لم يولك نعمة مخذولًا لا ينصرك ربّك بل يكلك إلى من عبدته معه ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا. وحاصل ما ذكره في هذه الآيات من أنواع التكاليف خمسة وعشرون نوعًا بعضها أصلي، وبعضها فرعيّ، وقد بدئت بالأصل في قوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ ...} الخ وختمت به أيضًا في قوله: {ولا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} {فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وسيأتي تعدادها في آخرها، إن شاء الله تعالى. 23 - وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان، وهو التوحيد أتبعه بذكر شعائره، وشرائعه، وهي الأمور الآتية، فقال: {وَقَضى رَبُّكَ}؛ أي: وأمر ربك يا محمد كلّ مكلف أمرًا جزمًا، وحكما قطعا، وحتمًا مبرمًا {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}؛ أي: بأن لا تعبدوا غيره إذ العبادة نهاية التعظيم، فلا تستحقّ إلا لمن له غاية العظمة، ونهاية الإنعام، والإفضال على عباده، ولا منعم إلا هو سبحانه، وإنّما قال (¬3): {رَبُّكَ} خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل ربكم مع كونه مقتضى السّياق؛ لأنه مخصوص بالتربية أصالة والأمة تبعٌ له في هذا الشأن. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {وَقَضَى} فعلًا ماضيًا من القضاء، وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارىء {وقضاء ربك} بقاف، وضاد بالمد، والهمز والرفع، وخفض اسم الرب، مصدر قضى مرفوعًا على الابتداء، وأن لا تعبدوا خبره، وقرأ أبيّ بن كعب، وابن عباس، وابن جبير، والنخعيّ وأبو المتوكل، وميمون بن مهران: {ووصى ربك} من التوصية وهذا خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه، وقرأ بعضهم {وأوصى} من الإيصاء، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف، والمتواتر هو: {قَضى} وهو المستفيض عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهم في أسانيد القرّاء السبعة. {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}؛ أي: وقضى ربّك بأن تحسنوا إلى الوالدين، إحسانًا كاملًا وتبروهما برًا واسعًا؛ ليكون الله معكم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} فإن إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة، فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ومع ذلك لا تحصل المكافأة؛ لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة «إن البادىء بالبرّ لا يكافأ». وقد أمر الله سبحانه بالإحسان إليهما للأسباب الآتية (¬2): 1 - شفقتهما على الولد، وبذل الجهد في إيصال الخير إليه، وإبعاد الضر عنه جهد المستطاع، فوجب مقابلة ذلك بالإحسان إليهما، والشكر لهما. 2 - أنّ الولد قطعة من الوالدين كما جاء في الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «فاطمة بضعة مني». 3 - أنهما أنعما عليه، وهو في غاية الضعف، ونهاية العجز، فوجب أن يقابل ذلك بالشكر حين كبرهما، كما قال الشاعر العربي يعدد نعمه على ولده وقد عقّه في كبره: غذوتك مولودًا ومنتك يافعًا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهلُ إذا ليلةٌ ضافتك بالسُّقم لم أبت ... لسقمك إلّا سَاهرًا أتململُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) المراغي.

كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي ... طرقت به دوني فعينيَّ تهملُ تخاف الرَّدى نفسي عليك وإنّها ... لتعلم أنَّ الموت وقتٌ مؤجّلُ فلمّا بلغت السِّنَّ والغاية الّتي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمِّلُ جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً ... كأنّك أنت المنعم المتفضِّلُ فليتك إذ لم ترع حقَّ أبُوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعلُ قيل (¬1): ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولِّد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الوالدين قرينا لتوحيد الله وعبادته، من الإعلان بتأكد حقهما، والعناية بشأنهما ما لا يخفى وكذلك جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترنا بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ}. والخُلاصةُ: أنه لا نعمة تصل إلى الإنسان أكثر من نعمة الخالق عليه، ثمّ نعمة الوالدين، ومن ثم بدأ بشكر نعمته أوّلًا بقوله: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ثمّ أردفها بشكر نعمة الوالدين بقوله: وبالوالدين إحسانا، ثم فصّل ما يجب من الإحسان إليهما بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما}، وكلمة (¬2) {إِمَّا} مركبة من {إن} الشرطية، و {ما} المزيدة لتأكيدها، ولذلك حلّ الفعل نون التوكيد، ومعنى {عِنْدَكَ} في كنفك وكفالتك، وأحدهما فاعل للفعل، وتوحيد ضمير الخطاب في {عِنْدَكَ}، وفيما بعده مع أنّ ما سبق على الجمع، للاحتراز عن التباس المراد، فإنّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه، ونهرهما، ولو قوبل الجمع بالجمع أو بالتثنية .. لم يحصل هذا المراد فإن قلت: كيف خص الله سبحانه حال الكبر بالإحسان إلى الوالدين، وهو واجب في حقهما على العموم؟. قلت: إنّ هذا وقت الحاجة في الغالب، وعند عدم الحاجة إجابتهما ندب، وفي حالة الحاجة واجب، ذكره في «روح البيان». ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

والمعنى: إن يبلغ أحد الوالدين أو كلاهما سن الكبر والشيخوخة، والعجز، والضعف، والحال أنّهما عندك في منزلك، وكفالتك؛ أي: والحال أنهما في حال يلزمك فيه القيام بأمرهما في المعيشة، ككبر سنهما، وعجزهما عن الكسب، وغير ذلك {فَلا تَقُلْ} أيها الولد لأحدهما، أو {لَهُما}؛ أي للوالدين كلامًا رديئًا، وقولًا خشنًا كقولك لهما {أُفٍّ}؛ أي: أنا أتضجر من شيء يصدر منكما، كظهور رائحة تؤذيك منهما، بل أكرمهما واخدمهما كما خدماك في مثل هذه الحالة؛ أي: لا تقل لهما كلاما رديئا إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك كما أنهما لا يستقذران منك حين كنت تخرأ أو تبول، والتقييد بحالة الكبر، خرج مخرج الغالب؛ لأن الولد غالبا إنما يتهاون بوالديه عند حصول الكبر لهما كما مر، والأصح أنّ أُفٍّ اسم فعل مضارع مدلوله لفظ الفعل؛ أي: لا تقل: أنا أتضجّر من شيء يصدر منكما، وقال مجاهد: إنّ معناه إذا رأيت منهما في حال الكبر، الغائط، أو البول اللذين رأيا منك في حال الصغر، فلا تقذرهما، وتقول: أف، انتهى. والآية أعمّ من ذلك، وقرأ الجمهور (¬1) {يَبْلُغَنَّ} بنون التوكيد الشديدة، والفعل مسند إلى {أَحَدُهُما} وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي {إما يبلغان} بألف التثنية، ونون التوكيد الثقيلة، وهي قراءة السلمي، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، والجحدري، فقيل: الألف علامة تثنية، لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وقيل: الألف ضمير الوالدين، و {أَحَدُهُما} بدل من الضمير، و {كِلاهُما} عطف على {أَحَدُهُما}، والمعطوف على البدل بدل. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، ونافع، وحفص، {أُفٍّ} بالكسر والتشديد، مع التنوين، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر كذلك بغير تنوين، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، بفتح الفاء مشددة من غير تنوين، وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين، وقرأ أبو السمال {أف} بضم الفاء من غير تنوين، وقرأ زيد بن علي {أفًا} بالنصب والتشديد والتنوين، وقرأ ابن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[24]

عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في {أُفٍّ}. {وَلا تَنْهَرْهُما}؛ أي: لا تزجرهما بإغلاظ إذا كرهت منهما شيئًا؛ أي: لا تغلظ لهما في الكلام، والمراد (¬1) من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} المنع من إظهار الضّجر بالقليل أو الكثير، ومن قوله: {وَلا تَنْهَرْهُما} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه {وَقُلْ لَهُما} بدل التأفيف والنهر {قَوْلًا كَرِيمًا}؛ أي: قولًا لينًا حسنًا، بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم، كأن (¬2) يقول: يا أبتاه، ويا أمّاه كدأب إبراهيم عليه السلام، إذ قال لأبيه: يا أبت مع ما به من الكفر، ولا يدعوهما بأسمائهما، فإنه من الجفاء، وسوء الأدب، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجهر لهما بالكلام، بل يكلمهما بالهمس والخضوع إلا لضرورة الصّمم والإفهام، ولا يسبّ والدي رجلٍ فيسب ذلك الرجل والديه، ولا ينظر إليهما بالغضب 24 - {وَاخْفِضْ لَهُما} أي ألن لهما {جَناحَ الذُّلِّ}؛ أي: حالك الليّن المذلول المتواضع، واخضع لهما حتّى لا تمتنع عن شيء أحباه ويسرهما {مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أي: من أجل فرط رحمتك لهما، وشدة شفقتك عليهما، ورقة قلبك لهما، بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار، لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف، للسيد الفظ الغليظ؛ أي: في التّواضع والتملق. ويقبّل رجل أمّه (¬3)، ويباشر خدمتهما بيده، ولا يفوّضها إلى غيره؛ لأنه ليس بعار للرجل أن يخدم معلمه، وأبويه وسلطانه، وضيفه، ولا يؤمه للصلاة، وإن كان أفقه منه؛ أي: أعلم بالفقه من الأب، ولا يمشي أمامهما إلا أن يكون لإماطة الأذى عن الطريق، ولا يتصدّر عليهما في المجلس، ولا يسبق عليهما في شيء؛ أي: في الأكل والشرب والجلوس، والكلام وغير ذلك. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

وفي الحديث «ما من ولد ينظر إلى الوالد وإلى والدته نظر مرحمة إلّا كان له بها حجّة وعمرة» قيل: وإن نظر في اليوم ألف مرة قال: «وإن نظر في اليوم مئة ألف» كما في «خالصة الحقائق» وقلت: فيه مقال. قال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة، وإذا بعث إليه منها ليحمله .. فعل، ولا يناوله الخمر، ويأخذ الإناء منه إذا شربها، وعن أبي يوسف إذا أمره أن يوقد تحت قدره، وفيها لحم الخنزير، أوقد كما في «بحر العلوم» ولا ينتسب إلى غير والديه استنكافا منهما، فإنّه يستوجب اللعنة، وقرأ الجمهور (¬1): {من الذل} بضم الذال، وقرأ ابن عباس، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، والجحدريّ وابن وثّاب بكسر الذال. ثمّ كأنه قال له سبحانه: ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها {وَ} لكن {قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما}؛ أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولو خمس مرات في اليوم والليلة، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين .. لأن من الرحمة أن يهديهما إلى الإسلام، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ما زال إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبيّن له أنه عدو لله تبرّأ منه، يعني ترك الدعاء، ولم يستغفر له بعد ما مات على الكفر، كذا في «تفسير أبي الليث» وفي الحديث «إذا ترك العبد الدعاء للوالدين ينقطع عنه الرزق في الدنيا» سئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت، فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه، لأمرت به الأبوين. ويعضّده قوله عليه السلام: «إنّ الله ليرفع درجة العبد في الجنة، فيقول: يا رب أنّى لي هذا، فيقول: باستغفار ولدك» وفي الحديث «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كان بارًا». والكاف في قوله {كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} في محل النصب على أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: قل في الدعاء لهما: رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

رحمة مثل رحمتهما عليَّ، وتربيتهما وإرشادهما إيايَّ في حال صغري، وفاء بوعدك للراحمين، ويجوز أن تكون الكاف تعليلية؛ أي لأجل تربيتهما لي. روي أنّ رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ أبوي بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا منّي في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما؟ قال: «لا فإنّهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما». وحاصل معنى الآيتين: أي إذا (¬1) وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز، وصَارَا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله: وجب عليك أن تشفق عليهما وتحنو لهما، تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويتجلّى بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية: 1 - أن لا تتأفَّف من شيءٍ تراه من أحدهما أو منهما ممّا يتأذَّى به النَّاس، ولكن أصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه كما صبرًا عليك في صغرك. 2 - أن لا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به، وفي هذا منع من إظهار الضّجر القليل، أو الكثير. 3 - أن تقول لهما قولًا حسنًا، وكلامًا طيبًا، مقرونًا بالاحترام والتعظيم، ممّا يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه، ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما، ولا تحدق فيهما بنظرك. 4 - أن تتواضع لهما، وتتذلل وتطيعهما فيما أمراك مما لم يكن معصيةً لله، رحمةً منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما، وذلك منتهى ما يكون من الضّراعة، والمسكنة ولله در الخفاجي إذ يقول: يا من أتى يسأل عن فاقتي ... ما حال من يسأل من سائله ما ذلَّة السُّلطان إلّا إذا ... أصبح محتاجًا إلى عامله وقوله: {مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أي: أن يكون ذلك التذلل رحمةً بهما، لا من أجل ¬

_ (¬1) المراغي.

امتثال الأمر وخوف العار فقط، فتذكر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما، وقد مثّل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته؛ فإنه يخفض له جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. 5 - أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولو خمس مرات في اليوم والليلة، كفاء رحمتهما لك في صغرك، وجميل شفقتهما عليك، وبالجملة فقد بالغ سبحانه في التوصية بهما، من وجوه كثيرة، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معًا. وبر الأم مقدّم على بر الأب (¬1)؛ لما روى الشيخان أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثمّ من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك». ولا يختص برهما بحال الحياة، بل يكون بعد الموت أيضًا، فقد روى ابن ماجة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما» فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما. والخلاصة: أنه سبحانه بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق، وتقف عندها شعورهم، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثمّ شفّعهما بالإحسان إليهما، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضّجر، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها، وأن يذلّ ويخضع لهما، ثمّ ختمها بالدعاء لهما، والترحم عليهما، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بها مقرونة بوحدانيّته، وعدم الشرك به. ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين (¬1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك، فأدناك» متفق عليه. وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة». أخرجه مسلم. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يجزي ولد والده إلّا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيّ والداك؟» قال: نعم، «قال: ففيهما فجاهد» متفق عليه. وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين» أخرجه الترمذي مرفوعًا، وموقوفًا، وهو أصح. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت: فضيِّع ذلك الباب، أو احفظه» أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح. وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة لوقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «برّ الوالدين» قلت: ثمَّ؛ أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله تعالى» أخرجه مسلم. 25 - ولما كان بر الوالدين عسيرًا حذّر من التهاون فيه. فقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ}؛ أي: بما في ضمائركم من قصد البر والتقوى، وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهةً واستثقالًا {إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ}؛ أي: قاصدين الصلاح، والبرّ دون العقوق، والفساد، فلا يضرّكم ما وقع منكم من الهفوة والزلة في حالة الغضب {فَإِنَّهُ} تعالى {كانَ لِلْأَوَّابِينَ}؛ أي: الرجاعين إليه بالتوبة مما فرط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر، {غَفُورًا} لما وقع منهم من نوع تقصير، أو ¬

_ (¬1) الخازن.

[26]

إذاية فعليةٍ أو قوليةٍ في حق الوالدين. والمعنى: أي (¬1) ربكم أيها الناس: أعلم منكم بما وقع في نفوسكم من تعظيمكم أمر آبائكم، وأمهاتكم، والبرّ بهم، ومن الاستخفاف بحقوقهم، والعقوق بهم، وهو مجازيكم على حسن ذلك وسيئه، فاحذروا أن تضمروا لهم سوءًا، وتعتقدوا لهم في نفوسكم عقوقًا، فإن أنتم أصلحتم نيّاتكم فيهم وأطعتم ربّكم فيما أمركم من البر بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلّةٍ في واجب لهم عليكم، فإنه تعالى يغفر لكم ما فرط منكم، فهو غفّارٌ لمن يتوب من ذنبه، ويرجع من معصيته إلى طاعته، ويعمل بما يحبه ويرضاه .. وفي هذا: وعد لمن أضمر البرّ بهم، ووعيد لمن تهاون بحقوقهم، وعمل على عقوقهم. وقيل: المعنى (¬2) ربّكم أعلم منكم بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم، أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البر والعقوق، اندراجًا أوليًا، وهذا المعنى أولي اعتبارًا بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيّده، إن تكونوا قاصدين الصلاح والتوبة من الذنب والإخلاص في الطاعة .. فلا يضركم ما وقع منكم من الذنب الذي تبتم عنه، {فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ}؛ أي: الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص، {غَفُورًا} لما فرط منهم من قول، أو فعل، أو اعتقاد فمن تاب .. تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله، رجع الله إليه. 26 - وبعد أن أمر بالبر بالوالدين أمر بالبر بأصناف ثلاثة أخرى، فقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى}؛ أي: وأعط - أيها المكلف - القريب منك من جهة الأب أو الأم، وإن بعد {حَقَّهُ} من صلة الرّحم بالمال أو بالمودة، والزيارة وحسن العشرة، وإن كان محتاجا إلى النفقة .. فأنفق عليه ما يسد حاجته. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

واعلم: أنه (¬1) لا يجب على الفقير إلّا نفقة أولاده الصغار الفقراء، ونفقة زوجته غنيةً أو فقيرةً مسلمة أو كافرةً، وأما الغني - وهو صاحب النصاب الفاضل عن الحوائج الأصلية ذكرًا كان أو أنثى -: فيجب عليه نفقة الأبوين، ومن في حكمهما من الأجداد والجدات إذا كانوا فقراء، سواء كانوا مسلمين أو كافرين، وهذا إذا كانوا أهل ذمة، فإن كانوا حربا .. فلا تجب نفقتهم وإن كانوا مستأمنين، وتجب نفقة كل ذي رحم محرم مما سوى الوالدين، إن كان فقيرًا صغيرًا، أو أنثى، أو زمنًا، أو أعمى أو لا يحسن الكسب لخرقه، فإن كان قادرًا عليه لا تجب نفقته اتفاقًا، أو لكونه من الشرفاء والعظماء، وتجب نفقة الأبوين مع القدرة على الكسب ترجيحًا لهما على سائر المحارم، وطالب العلم إذا لم يقدر على الكسب لا تسقط نفقته عن الأب كالزمن، وكذا نفقة البنت البالغة غير المزوّجة، ونفقة الإبن الزمن البالغ على الأب، وإذا كان للفقير أب غنيّ وابن غني، فالنفقة على الأبوين، ولا نفقة مع اختلاف الدين إلا بالزوجية - كما سبق - والولاء، فنفقة الأصول الفقراء مسلمين أو لا على الفروع الأغنياء، ونفقة الفروع مسلمين أو لا على الأصول الأغنياء، فلا تجب على النصراني نفقة أخيه المسلم، ولا على المسلم نفقة أخيه النصراني، لعدم الولاء بينهما، ويعتبر في نفقة قرابة الولاء أصولًا أو فروعًا الأقرب فالأقرب، وفي نفقة ذي الرحم يعتبر كونه أهلا للإرث، ولا تجب النفقة لرحم ليس بمحرم اتفاقا كأبناء الأعمام، بل حقهم صلتهم بالمودة، والزيارة، وحسن المعاشرة، والتفصيل في باب النفقة في كتب الفروع، فأرجع إليها، ووجوب نفقة كل ذي رحم محرم إذا كانوا فقراء على مذهب أبي حنيفة، وقال (¬2) الشافعي: لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده، أو ولد على والديه فحسب. وقوله: {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} معطوف على {ذَا الْقُرْبى}؛ أي: وأعط - أيها المكلّف - من اتصف بالمسكنة أو بكونه من أبناء السبيل حقه، والمراد (¬3) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[27]

به في هذه الآية التصدق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة، والمسكين هو من له شيء من المال أو الكسب يقع موقعا من كفايته، ولا يكفيه تمام حاجته، والفقير من له شيء من المال أو الكسب لا يقع موقعًا من كفايته، أو لا شيء له أصلًا. {وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافر لغرض في غير معصية المنقطع عن ماله، فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده، وقد بسطنا الكلام على الأصناف الثلاثة في سورة التوبة فراجعها. ولما أمر الله سبحانه بما أمر به من الإنفاق نهى عن التبذير، وهو صرف المال في غير مصارفه، وتفريقه كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، كما يفرّق البذر في الأرض، وقال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وهو حرام فقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}؛ أي: ولا (¬1) تفرق أيها الإنسان ما أعطاك الله من مال في معصيته، تفريقا بإعطائه من لا يستحقه أو بإنفاقه في المحرمات كالمناهي والملاهي، أو بإنفاقه رئاءً وسمعةً، 27 - ثم نبه سبحانه على قبح التبذير بإضافته إلى الشياطين فقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ}؛ أي: إنّ المسرفين بإنفاق أموالهم في غير مصارفها {كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ} أي: أتباعهم وأصدقاءهم؛ لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، تقول العرب: لكل من لازم سنّة قوم واتبع أثرهم هو أخوهم؛ أي: إنّ المفرقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته إخوان الشياطين، وقرناؤهم في الدنيا والآخرة كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ}، أي: قرناءهم من الشياطين {وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ}؛ أي: لنعمة ربه التي أنعم بها عليه {كَفُورًا} أي جحودا لا يشكره عليها، بل يكفرها بترك طاعته، وارتكابه معصيته، وكذا إخوانه المبذرون أموالهم في معاصي الله، لا يشكرون الله على نعمه عليهم، بل يخالفون ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

أمره، ولا يستنون سنّته، ويتركون الشكران عليها، ويتلقونها بالكفران، وقرأ الحسن والضحاك (¬1): {إخوان الشيطان} على الإفراد، وكذا ثبت في مصحف أنس. قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاهًا أو مالًا فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفورًا لنعمة الله؛ لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل اهـ، وفي ذكر وصف الشيطان بالكفران دون ذكر سائر أوصافه بيان لحال المبذر؛ لأنه لما صرف نعم الله عليه في غير موضعها كفر بها ولم يشكرها، كما أنّ الشيطان كفر بهذه النعم. وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب، والنهب، والغارة، ثم ينفقونها في التفاخر، وحب الشهرة، وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام، وتوهين أهله، وإعانة أعدائه، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم. 28 - {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} تقدم قريبًا أن أصل إِمَّا هذه مركب من {إن} الشرطية، و {ما} الإبهامية، وأنّ دخول نون التوكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي: وإن أعرضت - يا محمد أو أيها المكلف - عن هؤلاء الذين أُمرت أن تؤتيهم؛ أي عن ذي القربى والمسكين، وابن السبيل حياءً من التصريح بالرد لكونك كنت فقيرًا في وقت طلبهم منك {ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: لانتظار مجيىء رزق من ربك ترجوه، أن يأتيك فتعطيهم، وقيل (¬2): معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك، فوضع الابتغاء موضع الفقد، لأن الفقد سبب للابتغاء، فأقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق؛ لأن فاقد الرزق مبتغ له؛ أي: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك. {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، أي قولًا سهلًا لينًا كالوعد الجميل، أو الاعتذار المقبول؛ أي: عدهم وعدًا طيبًا تطيب به قلوبهم، وقيل: هو أن يقول: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي.

[29]

رزقنا الله وإياكم من فضله. والمعنى: أي (¬1) وإن أعرضت عن ذوي القربى والمسكين، وابن السبيل، وأنت تستحي أن ترد عليهم انتظار فرج من الله ترجو أن يأتيك، ورزق يفيض عليك فقل لهم قولًا لينًا جميلًا، وعدهم وعدًا تطيب به قلوبهم. قال الحسن: أمر أن يقول لهم: «نعم وكرامةً، وليس عندنا اليوم شيء، فإن يأتنا نعرف حقكم». وفي هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون، وكيف يردون، ولقد أحسن من قال: إلّا يكن ورقٌ يومًا أجود به ... للسَّائلين فإنّي ليِّن العودِ لا يعدم السَّائلون الخير في خلقي ... إمّا نوالٌ وإمَّا حسن مردودِ 29 - ثم بيّن سبحانه الطريق المثلى في إنفاق المال فقال: {وَلا تَجْعَلْ} أيها الإنسان {يَدَكَ مَغْلُولَةً}؛ أي: مضمومة {إِلى عُنُقِكَ} مجموعة معه في الغل، وهو: بضم الغين طوق من حديد يجعل في العنق؛ أي: لا تمسك يدك عن الإنفاق في الحق، والخير كالمغلولة يده إلى عنقه، لا يقدر على مدها؛ أي: لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك. {وَلا تَبْسُطْها}؛ أي: لا تمدها في الإنفاق {كُلَّ الْبَسْطِ} فتعطي جميع ما عندك في وجوه صلة الرحم، وسبيل الخيرات؛ أي: لا تتوسّع (¬2) في الإنفاق توسّعًا مفرطًا بحيث لا يبقى في يدك شيء، وروي عن قالون {كل البصط} بالصاد ذكره في «البحر» {فَتَقْعُدَ}؛ أي: فتصير {مَلُومًا} عند الله تعالى؛ لأنّ المسرف غير مرضي عنده تعالى، وعند أصحابك فهم يلومونك على تضييع المال بالكلية، وإبقاء الأهل والولد في الضر، وتبقى ملوما عند نفسك بسبب سوء تدبيرك، وترك الحزم في مهمّات معاشك، أو ملومًا على البخل من الواجبات. {مَحْسُورًا}؛ أي: نادمًا على ما فرط منك من الإنفاق أو منقطعًا لا شيء عندك تنفقه، أو منقطعًا عنك الأحباب بسبب ذهاب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

الأسباب من (¬1): حسره السفر إذا أثَّر فيه أثرا بليغًا، أو عاريا من حسر رأسه، ولا تشكل هذه الآية على ما ورد من فعل السلف الذين خرجوا عن أموالهم في محبة الله ورسوله وصاروا فقراء؛ لأن النهي محمول على من كان يعقبه النّدم والتحسّر، بخلاف السّلف، فلم يوجد منهم التحسر. والمعنى: أي لا تكن (¬2) بخيلًا منوعًا لا تعطي أحدًا شيئًا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فإنك إن بخلت كنت ملومًا مذمومًا عند الناس، كما قال زهير: وَمَنْ يكُ ذا مالٍ فيبخل بماله ... على قومه يُستغنَ عنه ويُذْمَمِ ومذمومًا عند الله لحرمان الفقير والمسكين من فضل مالك، وقد أوجب الله عليك سدّ حاجتهما بإعطاء زكاة أموالك. وإن أسرفت في أموالك فسرعان ما تفقدها فتصبح معسرًا بعد الغنى، ذليلًا بعد العزة، محتاجًا إلى معونة غيرك بعد أن كنت معينًا له، وحينئذٍ تقع في الحسرة التي تقطع نياط قلبك، ويبلغ منك الأسى كلّ مبلغ، ولكن أنّى يفيد ذلك، وقد فات ما فات، فلا ينفع النّدم، ولا تجدي العظة والنصيحة. وخلاصة ذلك: اقتصد في عيشك، وتوسّط في الإنفاق، ولا تكن بخيلًا، ولا مسرفًا. روى أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» وروي عن أنس مرفوعًا «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهمُّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين»، وقيل: «حسن التدبير مع العفاف خيرٌ من الغنى مع الإسراف». وإجمال المعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة عن ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

[30]

الانبساط، ولا تَتَوسَّع في الإنفاق، فتصير نادمًا مغمومًا، وعاجزًا عن الإنفاق لا شيء عندك، فتكون كالدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا وإعياء. 30 - ثم سلّى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله تعالى، ولكن لمشيئة الخالق الرزاق فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} أيها الرسول {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ} البسط عليه من عباده، ويوسّعه عليه وَيَقْدِرُ؛ أي: يضيّق على من يشاء التضييق عليه بحسب السنن التي وضعها لعباده في كسب المال، وحسن تصرفهم في جمعه بالوسائل والنظم التي وضعها في الكون؛ أي: يوسعه على بعض، ويضيّقه على بعض، لحكمةٍ بالغةٍ لا لكون من وسّع له رزقه مكرمًا عنده، ومن ضيّقه عليه مهانًا لديه. فعلى العاقل (¬1): التسليم لأمر الله تعالى، والرضى بقضائه، والصّبر في موارد القبض، والشكر في مواقع البسط، والإنفاق مهما أمكن، ثمّ علّل ما ذكره من البسط للبعض، والتضييق على البعض بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كانَ بِعِبادِهِ}؛ أي: ببواطن عباده، {خَبِيرًا} وبظواهرهم {بَصِيرًا} فيعلم ما يسرّون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافيةٌ، فهو الخبير بأحوالهم، البصير بكيفية تدبيرهم، في أرزاقهم. والمعنى: أنّ (¬2) ربّك ذو خبرة بعباده فيعلم من الذي تصلحه السِّعة في الرزق، ومن الذي تفسده، ومن الذي يصلحه الإقتار والضّيق، ومن الذي يفسده، وهو البصير بتدبيرهم وسياستهم فعليك أن تعمل بما أمرك به، أو نهاك عنه من بسط يدك فيما تبسط فيه، وفيمن تبسطها له، وفي كفها عمن تكفها عنه، فهو أعلم بمصالح العباد منك، ومن جميع الخلق، وأبصرهم بتدبير شؤونهم. وقصارى ذلك: أنكم إذا علمتم أنّ شأنه تعالى البسط والقبض، وأمعنتم النظر في ذلك وجدتم أنّ من سننه تعالى الاقتصاد، فاقتصدوا واستنوا بسننه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[31]

31 - وبعد أن بيّن أنه تعالى الكفيل بالأرزاق، وهو الذي يبسط ويقدر، نهاهم عن قتل الأولاد خشية الفقر، فقال: {وَلا تَقْتُلُوا} يا معاشر العرب {أَوْلادَكُمْ}، ولا تئدوا بناتكم بدفنها حيّةً {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}؛ أي: لأجل خوف فقر وفاقة في المستقبل إن تركتموهم حية؛ أي: لا تقتلوهم مخافة فقر، ولا لغير مخافة فـ {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} لا أنتم، أي: نرزقهم (¬1) من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيطرأ عليكم ما تخشونه من الفقر، فلا تخافوا الفقر لعلمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم، وقد كان العرب في جاهليتهم يقتلون البنات لعجزهم عن الكسب وقدرة البنين عليه بالغارات، والسّلب والنّهب، ولأنّ فقرهم ينفر الأكفاء عن الرغبة فيهنّ فيحتاجون إلى تزويجهن لغير الأكفاء، وفي ذلك عار أيُّما عار عليهم، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} خطاب للموسرين بدليل قوله: خشية إملاق، ولذلك قدّم الأولاد، وما تقدّم في الأنعام خطابٌ للمعسرين، ولذلك قدم ذكر الآباء وأخّر ذكر الأولاد ذكره الصاوي. والحاصل: أن الحكمة في تقديم رزق الأبناء على رزق الآباء في قوله هنا: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء حيث قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. أنّ قتل الأولاد هنا كان خشية وقوع الفقر بسببهم، فقدّم تعالى رزق الأولاد، وفي الأنعام كان قتلهم بسبب فقر الآباء فعلًا، فقدّم رزق الآباء، فلله در التنزيل ما أدق أسراره، فقتل (¬2) الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظنّ بالله تعالى، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول: ضد التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني: ضد الشفقة على خلق الله وكلاهما مذمومٌ غاية الذم، قال بعضهم: والذي حملهم على قتل الأولاد البُخلُ وطولُ الأمل. والخلاصة: أن الأرزاقَ بيد الله، فكما يفتح خزائنَه للبنينَ، يفتحها للبنات، فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن، ومن ثُمَّ قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ}؛ أي: إنَّ قتل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[32]

الأولاد لخوف فقر، ولا لغيره {كانَ خِطْأً كَبِيرًا}؛ أي: ذنبًا عظيمًا، وإثمًا فظيعًا لما فيه من انقطاع التناسل، وزوال هذا النوع من الوجود. وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا، وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك». وقرأ الأعمش وابن وثَّاب (¬1): {ولا تُقَتِّلوا} بالتضعيف، وقرىء {خِشْيَةَ} بكسر الخاء، وقرأ الجمهور {خِطْأً} بكسر الخاء، وسكون الطاء، وقرأ ابن كثير بكسرها، وفتح الطاء، والمدّ، وهي قراءة طلحة، وشبل، والأعمش، ويحيى، وخالد بن إلياس، وقتادة، والحسن، والأعرج، بخلاف عنهما. وقال النحاس: لا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا، وقرأ ابن ذكوان {خَطأً} على وزن نبأ، وقرأ الحسن {خَطَاءً} بفتحهما، والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جني، وقال أبو حاتم: هي غلط غير جائز، ولا يعرف هذا في اللغة، وقرأ أبو رجاء، والزهري، كذلك إلا أنّهما كسرا الخاء فصار مثل ربا، وكلاهما من خطىء في الدين، وأخطأ في الرّأي، وجاء عن ابن عامر خطأ بالفتح، والقصر مع إسكان الطاء، وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر. 32 - ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل، وفي الزنا داعٍ من دواعي الإسراف أتبعه به، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} أيها المكلفون بمباشرة مقدماته من اللمس، والقبلة والنظرة، والمعانقة والغمزة. وفي النهي (¬2) عن قربانه بمباشرة مقدماته نهيٌ عنه بالأولى؛ فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حرامًا .. كان المتوسّل إليه حرامًا، بفحوى الخطاب، والزنا: الأكثر فيه القصر، ويمد لغة لا ضرورةً هكذا نقل اللغويون. وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن بالمدّ قال أبو عبيدة: وقد يمدّ الزنا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

في كلام أهل نجد. قال الفرزدق: أَخَضَبْتَ فِعْلَكَ للزِّناء وَلَمْ تَكُنْ ... يَوْمَ اللِّقَاء لِتَخْضِبَ الأَبْطَالَا ثم علل النهي عن الزنا بقوله: {إِنَّهُ} أي: إن الزنا {كانَ فاحِشَةً}؛ أي: فعلة قبيحة ظاهرة القبح، لاشتماله على فساد الأنساب، وعلى التقاتل، فإن الإنسان لا يعرف أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره؟ فلا يقوم بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل، وخراب العالم، {وَساءَ} الزنا، وقبح من جهة كونه {سَبِيلًا}؛ أي طريقًا إلى النار، والمخصوص بالذم طريقه. ولا خلاف في كونه من الكبائر، وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم. والحاصل: أن الزنا اشتمل على مفاسدَ كثيرةٍ (¬1)، أهمها: 1 - اختلاط الأنساب، واشتباهها وإذا شك المرء في الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أم من غيره؟ لا يقوم بتربيته، ولا يستمر في تعهده، وذلك مما يوجب إضاعة النسل، وخراب العالم كما مر آنفًا. 2 - فتح باب الهرج والمرج، والاضطراب بين الناس دفاعًا عن العرض، فكم سمعنا بحوادث قتلٍ كان مبعثها الإقدام على الزّنا حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل: فتّش عن المرأة. 3 - أن المرأة إذا عرفت بالزنا، وشهرت به استقذرها كل ذي طبع سليم، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها، ولا يتم السّكن والازدواج الذي جعله الله مودّةً، ورحمة بين الناس بقوله: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}. 4 - أنه ليس المقصد من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكةً ¬

_ (¬1) المراغي.

[33]

للرجل في ترتيب المنزل، وإعداد مهامه من مطعوم، ومشروب، وملبوس، وأن تكون حافظة له قائمة بشؤون الأولاد، والخدم، وهذه المهامّ لا تتم على وجه الكمال إلّا إذا كانت مختصة برجل واحد منقطعة له دون غيره من الناس. وإجمال ذلك: أن الزّنا فاحشة، وأيّ فاحشة لما فيه من اختلاط الأنساب، والتقاتل، والتناحر، دفاعا عن العرض، وأنه سبيل سيّىء من قبل أنه يسوّي بين الإنسان والحيوان في عدم اختصاص الذّكران بالإناث. 33 - وبعد أن نهى عن قتل الأولاد للسبب المتقدم، نهى عن القتل مطلقًا، فقال: {وَلا تَقْتُلُوا} أيها العباد {النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى قتلها بالإسلام والعهد {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا قتلًا متلبسًا بالحق، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدًا، كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان، وغيرهما، عن ابن مسعود «لا يحل دم امرىء يشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه، المفارق للجماعة». فالمراد بالتي حرّم الله التي جعلها معصومة بعصمة الدين، أو عصمة العهد، والمراد بالحق الذي استثناه، هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل من إحدى الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث السابق؛ أي: لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق، أو إلا متلبسين بالحق. ولتحريم (¬1) القتل حكم (¬2): 1 - أنه إفساد، فوجب تحريمه لقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}. 2 - أنه ضرر، والأصل في المضارة الحرمة لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار». 3 - أنه إذا أبيح القتل زال هذا النوع من الوجود، ففتك القوي بالضعيف، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وحدث الاضطراب في المجتمع، فلا يستقيم للنّاس حال، ولا ينتظم لهم معاش. {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}؛ أي بغير سبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعًا {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ}؛ أي: لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين {سُلْطانًا}؛ أي: تسلّطًا واستيلاءً على القاتل، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدّية. ثم لما بيّن إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم المقتول، أو ما هو عوضٌ عن القصاص، نهاه عن مجاوزة الحد فقال: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}؛ أي: لا يتجاوز ما أباحه الله له، فيقتل بالواحد اثنين، أو جماعة كما كانوا يفعلون في الجاهلية؛ إذ كانوا يقتلون القاتل، ويقتلون معه غيره، إذا كان رجلًا شريفًا، وأحيانًا لا يرضون بقتل القاتل، بل يقتلون بدله رجلًا شريفًا، أو يمثّل بالقاتل أو يعذبه. وفي الآية: إيماء إلى أن الأولى للولي أن لا يقدم على استيفاء القتل، وأن يكتفي بالدية أو يعفو. ثم علل النهي عن السرف فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إن ولي المقتول {كانَ مَنْصُورًا} من جهة الله سبحانه وتعالى؛ أي: إنّ الله سبحانه نصر الولي بأن أوجب له القصاص، أو الدية، وأمر الحكّام أن يعينوه على استيفاء حقه، فلا يبغي ما وراءه، ولا يطمع في الزيادة على ذلك. وقد يكون المعنى: إنّ المقتول ظلمًا منصور في الدنيا بإيجاب القود له على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النار لقاتله، وهذه الآية أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية. وقرأ الجمهور (¬1): {فَلا يُسْرِفْ} بياء الغيبة، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي، وزيد بن علي، وحذيفة، وابن وثاب، والأعمش، ومجاهد، بخلاف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عنه، وجماعة بتاء الخطاب، والظاهر: أنه على خطاب الولي، فالضمير له، وقال الطبري الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -: والأئمة من بعده، أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى. وقال ابن عطيّة، وقرأ أبو مسلم السراج، صاحب الدعوة العباسيَّة {فلا يسرفُ} بضم الفاء على الخبر، ومعناه النهي، وقد يأتي الأمر، والنهي بلفظ الخبر، ثم قال: وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبيّ {فلا تسرفوا في القتل، إنّ وليّ المقتول كان منصورًا} والأولى حملها على التفسير لا على القراءة لمخالفتها سواد المصحف، ولأن المستفيض عنه {إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا} كقراءة الجماعة. الإعراب {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16)}. {وَإِذا} {الواو} استئنافية {إِذا} ظرفٌ لما يستقبل من الزمان، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {أَرَدْنا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها {أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ {أَرَدْنا} تقديره: وإذا أردنا إهلاك قرية من القرى {أَمَرْنا} فعل وفاعل {مُتْرَفِيها} مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محلّ لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة مسوقة لبيان الأسباب التي تهلك بها القرى {فَفَسَقُوا} {الفاء} عاطفة {فسقوا} فعل وفاعل فِيها متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أَمَرْنا}. {فَحَقَّ} {الفاء} عاطفة حق فعل ماض {عَلَيْهَا} متعلق به {الْقَوْلُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {فسقوا} لا على جملة {أَمَرْنا} لأن العاطف هنا مرتب {فَدَمَّرْناها} {الفاء} عاطفة {دمرناها} فعل وفاعل ومفعول {تَدْمِيرًا} منصوب على المفعولية المطلقة، مؤكد لعامله، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}. {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}.

{وَكَمْ} {الواو} استئنافية {كَمْ} خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب على المفعولية بـ {أَهْلَكْنا} {أَهْلَكْنا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنَ} حرف جر وبيان لكنها زائدة في تمييز {كَمْ} الخبرية {الْقُرُونِ} مجرور بـ {مِنَ} الجار والمجرور متعلق بـ {أَهْلَكْنا} {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} جار ومجرور حال {مِنَ الْقُرُونِ} أو متعلق بـ {أَهْلَكْنا} وجاز تعلّق حرفي جرّ متّحدي اللفظ بعامل واحد، لاختلاف معناهما؛ لأن الأولى، للبيان، والثانية: لابتداء الغاية، كما ذكره الكرخي، {وَكَفى بِرَبِّكَ} فعل وفاعل، و {الباء} زائدة في فاعل {كَفى}، والجملة مستأنفة {بِذُنُوبِ عِبادِهِ} جار ومجرور، مضاف إليه متعلق بما بعده على سبيل التنازع {خَبِيرًا بَصِيرًا} تمييزان لنسبة {كَفى} كما في «الفتوحات». {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما {كانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَنْ} {يُرِيدُ الْعاجِلَةَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}؛ والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كانَ} {عَجَّلْنا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة {لَهُ} جار ومجرور متعلق بـ {عَجَّلْنا} {فِيها} متعلق به أيضًا، أو حال من ما الموصولة المذكورة بعده {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول {عَجَّلْنا}. {نَشاءُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: ما نشاء تعجيله، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط، الضمير المحذوف {لِمَنْ} جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {لَهُ} بدل بعض من كل {نُرِيدُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعوله محذوف تقديره: لمن نريد التعجيل له، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} الموصولة، {ثُمَّ جَعَلْنا} {ثُمَّ} حرف عطف لتراخي المدة {جَعَلْنا} فعل وفاعل معطوف على {عَجَّلْنا} {لَهُ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني

لـ {جَعَلْنا}. {جَهَنَّمَ} مفعوله الأول {يَصْلاها} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على مريد العاجلة، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير له {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} حالان من فاعل يصلى. {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط {أَرادَ الْآخِرَةَ} فعل ومفعول في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {وَسَعى} فعل ماض في محل الجزم معطوف على {أَرادَ}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {لَها} متعلق به {سَعْيَها} منصوب على المفعولية المطلقة، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {سَعى} {فَأُولئِكَ} {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية {أولئك} اسم إشارة للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ {كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فعل ناقص، واسمه وخبره، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}. {كُلًّا} مفعول مقدم لـ {نُمِدُّ} والتنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل واحد من {الفريقين} نُمِدُّ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {هؤُلاءِ} بدل من {كُلًّا} بدل تفصيل من مجمل {وَهَؤُلاءِ} معطوف على {هؤُلاءِ} الأول {مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {نُمِدُّ}، والجملة الفعلية مستأنفة {وَما} {الواو} عاطفة {ما} نافية {كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ}. {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}. {انْظُرْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب على الحال؛ أي: انظر

فضلنا بعضهم على بعض كائنًا على أيّ حالةٍ، أو كيفيّةٍ، أو على التشبيه بالظرف منصوب، بـ {فَضَّلْنا} وهي معلقة لـ {انْظُرْ} بمعنى تفكر، {فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {عَلى بَعْضٍ} متعلق بـ {فَضَّلْنا}، وجملة {فَضَّلْنا} في محل النصب مفعول {انْظُرْ} معلقة عنها بـ {كَيْفَ} {وَلَلْآخِرَةُ} {الواو} استئنافية، و {اللام} حرف ابتداء، أو قسم {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ} مبتدأ وخبر {دَرَجاتٍ} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية مستأنفة، أو جواب لقسم محذوف، {وَأَكْبَرُ} معطوف على {أَكْبَرُ}. {تَفْضِيلًا} منصوب على التمييز. {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}. {لا تَجْعَلْ} جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على محمد أو على كل مخاطب، والجملة الفعلية مستأنفة {مَعَ اللَّهِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف مفعول ثان، لـ {تَجْعَلْ} {إِلهًا} مفعول أول لـ {تَجْعَلْ} {آخَرَ} صفة له، والتقدير: لا تجعل إلها آخر كائنا مع الله {فَتَقْعُدَ} {الفاء} عاطفة سببية {تقعد} فعل مضارع من أخوات صار، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على المخاطب، {مَذْمُومًا} خبر أول لها {مَخْذُولًا} خبر ثان لها، والجملة الفعلية صلة، أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن جعلك مع الله إلهًا آخر، فقعودك مذمومًا مخذولًا. {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}. {وَقَضى رَبُّكَ} {الواو} استئنافية {قَضى رَبُّكَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان منزلة الوالدين، {أَلَّا} {أن} إما مصدرية، وعليها فـ {لا} نافية {تَعْبُدُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} وعلامة نصبه حذف النون {أَلَّا} أداة استثناء مفرغ {إِيَّاهُ} في محل النصب مفعول {تَعْبُدُوا}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، {وَقَضى} بمعنى أمر كما مر؛ والتقدير: وقضى ربك بعدم عبادة غيره سبحانه، وإما مفسرة؛ لأن {وَقَضى} فيه معنى

القول، دون حروفه، أو مخفّفةً من الثقيلة، فـ {لا} على هذين الوجهين ناهيةٌ جازمة، {تَعْبُدُوا} مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف النون، والجملة الفعلية إما مفسرة لا محلّ لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر {أن} المخففة، {وَبِالْوالِدَيْنِ} جار ومجرور متعلق بفعل محذوف جوازًا تقديره: وأحسنوا بالوالدين {إِحْسانًا} منصوب على المفعولية المطلقة بذلك الفعل المحذوف، وإنما علّقنا الجار والمجرور بالفعل المحذوف دون المصدر لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا (23)}. {إِمَّا} {إن} حرف شرط زيدت عليها {ما} تأكيدًا لها {يَبْلُغَنَّ} فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة {عِنْدَكَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الفاعل {الْكِبَرَ} مفعول به {أَحَدُهُما} فاعل {أَوْ كِلاهُما} معطوف على أحدهما مرفوع بالألف، لأنه ملحق بالمثنى، والتقدير: إن يبلغ أحدهما، أو كلاهما الكبر حالة كونه أو كونهما كائنين عندك؛ أي: في منزلك، أو كفالتك، {فَلا تَقُلْ} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا {لا تقل} جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الولد {لَهُما} جار ومجرور متعلق بـ {تَقُلْ} {أُفٍّ} مقول محكي لـ {تَقُلْ} وإن شئت قلت: {أُفٍّ} اسم فعل مضارع بمعنى أتضجّر، وفاعله ضمير يعود على المتكلم، وجملة اسم الفعل في محل النصب مقول {تَقُلْ}، وجملة {لا تقل} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مستأنفة، {وَلا تَنْهَرْهُما} جازم، وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الولد، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة {لا تقل} على كونها جوابًا لـ {إن} الشرطية، {وَقُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على الولد {لَهُما} متعلق به {قَوْلًا} منصوب على المفعولية المطلقة {كَرِيمًا} صفة لـ {قَوْلًا} والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة {لا تقل}. {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا (24)}.

{وَاخْفِضْ} فعل أمر في محل الجزم معطوف على قوله: {وَقُلْ لَهُما} وفاعله ضمير يعود على الولد {لَهُما} متعلق به، {جَناحَ الذُّلِّ} مفعول به، ومضاف إليه {مِنَ الرَّحْمَةِ} جار ومجرور متعلق بـ {اخْفِضْ} فمن للتعليل؛ أي: من أجل الرحمة أو للابتداء؛ أي: إن هذا الخفض ناشىء من الرحمة المركوزة في الطبع، ويصح كونه حالًا من {جَناحَ الذُّلِّ}. {وَقُلْ} معطوف على {وَقُلْ} الأولى {رَبِّ ارْحَمْهُما ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف {ارْحَمْهُما} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء {كَما} {الكاف} حرف جر وتشبيه، أو للتعليل {ما} مصدرية صفة. {رَبَّيانِي} فعل وفاعل ومفعول، و (نون) وقاية، لأن الألف ضمير تثنية {صَغِيرًا} حال من (ياء) المتكلم، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: رب ارحمهما رحمة مثل تربيتهما إيّاي حالة كوني صغيرًا، أو رحمة مثل رحمتهما إياي حالة كوني صغيرًا أو ارحمهما لأجل تربيتهما إياي حالة كوني صغيرًا. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر {بِما} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} والجملة مستأنفة {فِي نُفُوسِكُمْ} جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها {إِنْ} حرف شرط {تَكُونُوا} فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية صالِحِينَ خبر {تَكُونُوا} وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف تقديره: فلا يضركم ما وقع منكم من الهفوة في حالة الغضب، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة، {فَإِنَّهُ} {الفاء} تعليلية {إنه} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله {لِلْأَوَّابِينَ} متعلق بما بعده {غَفُورًا} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجر بلام التعليل المقدرة، مسوقة لتعليل الجواب المحذوف.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)}. {وَآتِ ذَا الْقُرْبى} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على المكلف {حَقَّهُ} مفعول ثان، والجملة مستأنفة {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} معطوفان على {ذَا الْقُرْبى}. {وَلا تُبَذِّرْ} جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على المكلف. {تَبْذِيرًا} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَآتِ}. {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} ناصب واسمه {كانُوا} فعل ناقص واسمه {إِخْوانَ الشَّياطِينِ} خبره، ومضاف إليه، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل النهي السابق {وَكانَ} {الواو} عاطفة أو حالية {وَكانَ الشَّيْطانُ} فعل ناقص واسمه {لِرَبِّهِ} جار ومجرور متعلق بما بعده {كَفُورًا} خبر {كانَ} وجملة {كانَ} إما معطوفة على جملة {إِنَّ} أو في محل النصب حال من {الشَّياطِينِ}. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}. {وَإِمَّا} {الواو} استئنافية {إِمَّا} {إن} حرف شرط، {ما} زائدة، {تُعْرِضَنَّ} فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على المكلف {عَنْهُمُ} متعلق به {ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ} مفعول لأجله منصوب بفعل الشرط أو جوابه، {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور صفة أولى لـ {رَحْمَةٍ}. {تَرْجُوها} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ {رَحْمَةٍ} أو حال من {رَحْمَةٍ} لتخصصه بالصفة، {فَقُلْ} {الفاء} رابطة لجواب الشرط، وجوبًا {قل} فعل أمر في محل الجزم، بـ {إن} على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على المخاطب {لَهُمْ} متعلق به {قَوْلًا} منصوب على المفعولية المطلقة {مَيْسُورًا} صفة لـ {قَوْلًا}. {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}.

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} فعل، ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة مستأنفة {إِلى عُنُقِكَ} جار ومجرور متعلق بـ {مَغْلُولَةً} {وَلا تَبْسُطْها} فعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، {كُلَّ الْبَسْطِ} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ}. {فَتَقْعُدَ} {الفاء} عاطفة سببية (تقعد) فعل مضارع من أخوات صار الناقصة منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية، واسمها ضمير يعود على المخاطب {مَلُومًا} خبر أول لها {مَحْسُورًا} خبر ثان لها، وجملة (تقعد) في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن بسط يدك فقعودك ملومًا محسورًا. {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}. {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}. {لِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {يَشاءُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة الفعلية صلة {من} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء البسط له، {وَيَقْدِرُ} في محل الرفع معطوفة على جملة {يَبْسُطُ} {إِنَّهُ} ناصب، واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله {بِعِبادِهِ} جار ومجرور متعلق بما بعده، على سبيل التنازع {خَبِيرًا بَصِيرًا} خبران لـ {كانَ} وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا (31)}. {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} فعل وفاعل، ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} مفعول لأجله، ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة نَحْنُ مبتدأ، وجملة نَرْزُقُهُمْ خبره وَإِيَّاكُمْ معطوف على {الهاء}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {إِنَّ قَتْلَهُمْ} ناصب واسمه كانَ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على القتل {خِطْأً} خبر {كانَ}. {كَبِيرًا} صفة

{خِطْأً}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل النهي السابق. {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32)}. {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الزنا {فاحِشَةً} خبرها، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَساءَ} فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا يعود على الزنا {سَبِيلًا} تمييز لفاعل {وَساءَ}، وجملة {وَساءَ} في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، هو مخصوص بالذم تقديره هو يعود على الزنا، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محلّ لها من الإعراب. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا (33)}. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {الَّتِي} صفة لـ {النَّفْسَ} {حَرَّمَ اللَّهُ} قتلها فعل وفاعل، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {بِالْحَقِّ} جار ومجرور متعلق بـ {تَقْتُلُوا} أو بمحذوف حال من فاعل {تَقْتُلُوا}؛ أي: إلّا حالة كونكم ملتبسين بالحق، {وَمَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. {قُتِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ} {مَظْلُومًا} حال من نائب الفاعل في {قُتِلَ} {فَقَدْ} {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {قد} {قد} حرف تحقيق {جَعَلْنا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها {لِوَلِيِّهِ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنا} {سُلْطانًا} مفعول أول له، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة {فَلا} {الفاء} عاطفة {لا} ناهية {يُسْرِفْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {وليه}. {فِي

الْقَتْلِ} متعلق به، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الولي {مَنْصُورًا} خبرها، وجملة {كانَ} من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {أَمَرْنا مُتْرَفِيها} والمترفون: هم المنعّمون من الملوك والعظماء، وفي «القاموس» التّرفه بالضم: النعمة، والطعام الطيِّب: والشيء الظريف، تخص به صاحبك، وترف كفرح تنعّم وأترفته النّعمة أطغته، أو نعّمته كترفّته تتريفًا، والمترف كمكرم المتروك، يصنع ما يشاء، ولا يمنع، والمتنعّم لا يمنع من تنعّمه، وتترّف تنعّم، وفي «أساس البلاغة» أترفته النّعمة أبطرته، وأترف فلان، وهو مترف وأعوذ بالله من الإتراف، والإسراف، واستترفوا تعفرتوا، وطغوا، ولم أزل معهم في ترفة، أي: في نعمة {فَفَسَقُوا}؛ أي: خرجوا عن الطاعة، وتمرّدوا {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}؛ أي: وجب لها العذاب {تَدْمِيرًا}، والتدمير: الإهلاك مع طمس الأثر. {مِنَ الْقُرُونِ} جمع قرن، والقرن: القوم يجمعهم زمان واحد، وقد حدّد بأربعين سنة وثمانين سنة، وبمئة، وبغير ذلك {الْعاجِلَةَ} الدار الدنيا. {يَصْلاها}؛ أي: يقاسي حرّها {مَدْحُورًا}؛ أي: مطرودًا مبعدًا من رحمة الله، وفي «القاموس» الدحر: الطّرد والإبعاد، والدفع كالدحور، وهو داحرٌ ودحور، وفي «المختار» دحره يدحره من باب: خضع طرده اهـ. {مَحْظُورًا}؛ أي: ممنوعًا عمّن يريده {فَتَقْعُدَ} قعد يجوز أن تكون على بابها، فينتصب ما بعدها على الحال، ويجوز أن تكون بمعنى صار فينتصب ما بعدها على الخبرية، وإليه ذهب الفراء، والزمخشري اهـ «سمين» {مَذْمُومًا}؛ أي: ممن يستحق الذّمّ من الملائكة والمؤمنين {مَخْذُولًا}؛ أي: من الله، لأنك أشركت معه ما لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا. {وَقَضى} قيل: بمعنى أوصى، وقيل بمعنى حكم، وقيل: بمعنى أوجب، وقيل: بمعنى ألزم. اهـ «سمين» {أُفٍّ} يقرأ بالتنوين للدلالة على التنكير؛ أي: لا تقل لهما أتضجّر وأقلق من كل فعل لكما، وبعدمه للدلالة على التعريف؛ أي:

لا تقل لهما أتضجر من فعل خاص من أفعالكما اهـ. شيخنا. فصل في أُفّ والأصح: أن أُفّ اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، وفيه: أربعون لغة، وحاصلها: أن الهمزة إمّا أن تكون مضمومةً، أو مكسورةً، أو مفتوحةً، فإن كانت مضمومة .. فاثنتان وعشرون لغةً. وحاصل ضبطها: أنها إمّا مجرّدة عن اللواحق، أو ملحقة بزائد، والمجردة إما أن يكون آخرها ساكنًا، أو متحركًا، والمتحركة إمّا أن تكون مشددةً، أو مخففةً، وكلٌّ منهما مثلّث الآخر مع التنوين، وعدمه، فهذه اثنتا عشرة لغة، والساكنة إما مشدّدةً أو مخفّفةً فهذه سبع عشرة، وإن كان حرف مدّ فهو إمّا واو، أو ياء، أو ألف، والفاء فيهن: مشددةً، والألف إما مفخّمة أو بالإمالة المحضة، أو بين بين، فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة، وإن كانت مكسورة فإحدى عشرة مثلثة الفاء، مخففة مع التنوين، وعدمه، فهذه ست لغات، وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيها مع التنوين وعدمه، فهذه أربع لغات: والحادية عشرة: أفّي بالإمالة، وإن كانت مفتوحة، فالفاء مشددة مع الفتح، والكسر، والتنوين وعدمه، والخامسة أف بالسكون، والسادسة أفّي بالإمالة، والسابعة: أفاه بهاء السكت، فهذه السبع مكملة للأربعين، وقد قرىء من هذه اللغات بسبع، ثلاث في المتواتر، وأربع في الشواذ، وقراءة حفص، وهي قراءتنا {أُفٍّ} بالكسر، والتنوين مع التشديد {وَلا تَنْهَرْهُما}، وفي «السمين» والنهر: الزجر بجرحٍ، وغلظة، وأصله الظهور، ومنه النهر لظهوره، وقال الزمخشري: النهي، والنّهر، والنّهم أخوات اهـ. {قَوْلًا كَرِيمًا}؛ أي: جميلًا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في جنسه، يقال: إنّه كريمٌ {وَاخْفِضْ لَهُما} وخفض الجناح يراد به: التواضع، والتذلل {مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أي: من فرط رحمتك عليهما {لِلْأَوَّابِينَ} جمع أوّاب، والأواب الذي ديدنه الرجوع إلى الله، والالتجاء إليه حين الشدّة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} والتبذير: إنفاق المال في غير موضعه {إِخْوانَ الشَّياطِينِ}؛ أي: أمثالهم في الشّرارة، فإن التّضييع، والإتلاف شر، أو أصدقاؤهم، وأتباعهم لأنهم

يطيعونهم في الإسراف، والصرف في المعاصي، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنّة قوم: هو أخوهم {لِرَبِّهِ كَفُورًا}؛ أي: جحودًا لنعمة ربه، فما ينبغي أن يطاع؛ لأنه يدعو إلى مثل عمله اهـ من «الخازن» والبيضاوي وعبارة الكرخي والمراد من هذه الأخوة: التّشبّه بهم في هذا الفعل القبيح؛ لأنّ العرب يسمّون اللازم للشيء أخًا له فيقولون: فلان أخو الكرم، والجود وأخو الشعر إذا كان مواظبًا على هذه الأفعال اهـ. و {الابتغاء} الطلب و {الرحمة} الرزق و {الميسور} السّهل اللّيّن {والمغلولة} المقيدة بالغل، وهو بضم الغين طوق من حديد، يوضع في اليدين، والعنق فمعنى مغلولة إلى عنقك، أي: مضمومةً إليه مجموعة معه في الغل، والمراد به هنا: الإمساك عن الإنفاق في الخيرات {وَلا تَبْسُطْها}؛ أي: لا تتوسع في الإنفاق {مَلُومًا}؛ أي: مذموما من الخلق والخالق {مَحْسُورًا}؛ أي نادمًا، أو منقطعًا بك لا شيء عندك من حسرة السفر، إذا أثر فيه فهو محسور؛ أي: منقطع عن السير إعياءً، وكلالًا، والإملاق الفقر. قال الشاعر: وإنّي على الإملاق يا قوم ماجدٌ ... أعدّ لأضيافي الشُّواء المُضهَّبَا {خِطْأً} والخطأ كالإثم، وزنًا، ومعنًى فقال فيه: خطئًا بكسر الخاء، وسكون الطاء على وزن مثل، وخطأ بفتحتين على وزن شبه، وخطاء بكسر الخاء، وفتح الطاء، وبالمد على وزن قتال ففيه ثلاث قرآت كلها سبعية اهـ شيخنا فعلى الأولى: فهو مصدر لخطىء من باب علم، وعلى الثانية: اسم مصدر لأخطأ رباعيا، وعلى الثالثة: هو مصدر لخاطأ، وهو وإن لم يسمع، لكنه سمع تخاطأ اهـ من «البيضاوي». ومجيء تخاطأ يدل على وجود (خاطأ)؛ لأن تفاعل مطاوعٌ فاعل كباعدته فتباعد، وناولته فتناول اهـ زاده {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} في «المصباح». قربت الأمر أقربه من باب تعب، وفي لغة من باب قتل قربانا بالكسر دانيته، ومن الأول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} ويقال منه أيضًا: قربت المرأة قربانا كناية عن الجماع، ومن الثاني: لا تقرب الحمى؛ أي: لا تدن منه اهـ. والعامة على قصر الزنا، وهي اللغة الفاشية، وقرىء بالمد، وفيه وجهان:

أحدهما: أنّه لغة في المقصور. والثاني: أنه مصدر زانأ يزانىء كقاتل قتالا؛ لأنه يكون من اثنين اهـ. «سمين» (والفاحشة) الفعلة القبيحة الظاهرة القبح {سُلْطانًا} السلطان التسلط والاستيلاء {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}؛ أي: فلا يتجاوز الحد المشروع فيه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها}؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا باطل فبقي أن يكون مجازا عن التوسعة في العيش، واسترسالهم في المعاصي، وفيه أيضًا المجاز بالحذف، لأنه لم يذكر المأمور به إيجازا في القول واعتمادًا على بداهته للسامع؛ أي: أمرناهم بالطاعة. ومنها: التزام ما لا يلزم في قوله: {مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها}، وهو التزام حرف أو حرفين فصاعدا قبل الروي على قدر طاقة الشاعر، أو الكاتب من غير كلفةٍ فقد التزم في قوله: {مُتْرَفِيها} و {فِيها} {الفاء} قبل ياء الردف، ولزمت الياء، وسيأتي الكثير منه في القرآن، وهو من أرشق الاستعمالات. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا}، وفي قوله: {وَسَعى لَها سَعْيَها} وفي قوله: {الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ}. ومنها: الطباق بين {الْعاجِلَةَ} و {الْآخِرَةَ}. ومنها: اللفُّ والنَّشْرُ المرتّب في قوله: {هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} فهؤلاء الأولى للفريق الأول، أي: مريد الدنيا، وهؤلاء الثانية للفريق الثاني، أي: مريد الآخرة. ومنها: الإجمال ثمّ التفصيل في قوله: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ}

لأنها جرت في الفعل بعد جريانها في المصدر، حيث شبهت إلانة الجانب بخفض الجناح، بجامع العطف. والرقة في كلٍّ، واستعير الخفض للإلانة، واشتق منه اخفض بمعنى ألن أو الاستعارة الأصلية في الجناح، حيث شبه الجانب بالجناح، واستعير للجانب. ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في قوله: {جَناحَ الذُّلِّ} لأن المصدر، وهو {الذُّلِّ} بمعنى الذليل، وفي السمين، قوله: {جَناحَ الذُّلِّ} فيه استعارة بليغة، وذلك أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع، واللين اهـ ويصحّ كونها استعارة مكنية، بأن شبّه الذلّ بطائر، له جناحٌ، وحذف الطّائر ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الجناح على سبيل الاستعارة، المكنية. ومنها: التشبيه في قوله: {كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} حيث شبه حال البخيل في امتناعه عن الإنفاق بحال من يده مغلولة إلى عنقه، فهو لا يقدر على التصرف في شيءٍ، وشبه حال المسرف المبذّر المتلاف بحال من يبسط يده كل البسط، فلا يبقي شيئًا في كفه، ولا يدّخر شيئًا ينفعه في الحاجة، ليخلص إلى نتيجة مجدية، وهي التوسط بين الأمرين، والاقتصاد الذي هو وسط بين الإسراف، والتقتير، وقد طابق في الاستعارة بين بسط اليد، وقبضها من حيث المعنى، لأنّ جعل اليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض. ومنها: اللّفّ والنّشر المرتب في قوله: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} لأن قوله: {مَلُومًا} راجع إلى البخل، وقوله: {مَحْسُورًا} راجع إلى الإسراف، أي: يلومك الناس إن بخلت وتصبح مقطوعًا إن أسرفت. ومنها: الطباق بين {يَبْسُطُ} و {يَقْدِرُ}. ومنها: الإطناب في قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا

يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا} فإن معنى هذه الآية جاء موجزًا في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} لكن الأول إطناب، والثاني إيجاز، وكلاهما موصوف بالمساواة فالإطناب في اصطلاح البيانيين: هو زيادة اللفظ على المعنى، لفائدة، فإذا لم تكن في الزيادة فائدة، تسمى تطويلًا إن كانت الزيادة .. غير متعينة، وحشوًا إن كانت متعينةً. ومنها: الزيادة والحذف في عِدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلّ وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا (52)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لما نهى (¬1) عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «فَإنَّ دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرامٌ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عليكم»، ولمّا كان اليتيم ضعيفًا عن أن يدفع عن ماله لصغره .. نص على النهي عن قربان ماله. قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أنه سبحانه وتعالى لما نهى عن إتلاف مال اليتيم .. أردفه (¬1) بالأمر بوفاء العهد، وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته، ثم بإيفاء الكيل والميزان لما في حسن التعامل بين الناس من توافر المودة، والمحبّة بينهم، وهذا ما يرمي إليه الدّين لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع. قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬2) بثلاثة أشياء .. أتبع ذلك بثلاثة مناه: {وَلا تَقْفُ} {وَلا تَمْشِ} {وَلا تَجْعَلْ} أي: أردف ذلك بالنّهي (¬3) عن تتبع ما لا علم لك به من قول، أو فعل، فلا تتّبع ما يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم، ولا تشهد على شيء لم تره، ولا تكذب فتقول في شيء لم تسمعه إنك قد سمعته، ولا في شيء لم تره إنّك قد رأيته، ثمّ بالنهي عن مشية الخيلاء، والمرح لما فيهما من الصلف الذي لا يرضاه الله تعالى، ولا الناس، ثمّ ختم ذلك ببيان أنّ تلك الأوامر، والنواهي من وحي الله وتبليغه، لا من عند نفسه، أمر بها، ونهى عنها لأنها أسس سعادة الدارين، وعليها تبنى العلاقات بين الأفراد والأمم على نظم صحيحة، لا تكون عرضة للاضطراب، وفقدان الثقة في معاملاتهم. قوله تعالى: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما نبه (¬4) على جهل من أثبتوا له شريكًا، واتخذوا له ندًا ونظيرًا .. أردف ذلك بالتنديد، والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من تحتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم مع علمهم بعجزهم، ونقصهم، وأعطوا لله البنات، مع علمهم بأنّه الموصوف بالكمال، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له، ثمّ أتبعه ببيان أنه قد ضرب في القرآن الأمثال، ليتدبروا ويتأمّلوا فيها، ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورًا عن الحق، وقلّة طمأنينة إليه، ثمّ أردفه ببيان أنه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى .. لطلبت لأنفسها قربة إلى الله، وسبيلًا إليه، ولكنّها لم تفعل ذلك، وكيف تقرّبكم إليه، وكل ما في السموات والأرض يسبح بحمده، بدلالة أحواله على توحيده، وتقديسه، وكمال قدرته، ولكنكم لجهلكم وغفلتكم لا تدركون دلالة تلك الدلائل. قوله تعالى: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه سبحانه وتعالى لما أنهى الكلام في مقام الألوهية، وجدالهم بالّتي هي أحسن، بضرب الأمثال لهم، وإقامة الحجة عليهم، وإيضاح السبيل لهم .. أردف هنا بالكلام في مقام النبوة، والنعي عليهم في عدم فهمهم للقرآن، والنفور منه، والهزء به، وضربهم الأمثال للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقولهم فيه تارةً إنه ساحرٌ، وأخرى إنه مجنون وحينًا إنه شاعر. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ...} الآية، أخرج (¬2) ابن المنذر عن ابن شهاب، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا القرآن على مشركي قريشٍ، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ...} الآيات. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ أبا سفيان، والنّضر بن الحارث، وأبا جهل وغيرهم، كانوا يجالسون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يومًا: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر فنزلت هذه الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[34]

التفسير وأوجه القراءة 34 - {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} فضلًا عن أن تتصرّفوا فيه، والخطاب فيه لأولياء اليتيم {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: إلا بالخصلة، والطريقة التي هي أحسن الخصال، والطرائق، وهي حفظه واستثماره، وإرباحه {حَتَّى} غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء {يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}؛ أي: قوّته؛ أي: خمس عشرة سنة، أو ثماني عشرة سنة، وهو مفرد جاء على وزن الجمع كآنك، ولا نظير لهما كما في «القاموس» والمراد (¬1) ببلوغ الأشد كمال عقله، ورشده، بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر، والمعنى؛ أي: لا تقربوا مال اليتيم، ولا تتصرفوا فيه إلا بالطريق التي هي أحسن الطرق، وهي طريقة حفظه وتثميره، بما يزيد به حتى يبلغ اليتيم أشده، وتستحكم قوة عقله وشبابه، فإذا بلغ أشده، واستحكم عقله، كان لكم أن تدفعوه إليه، أو تتصرفوا فيه بإذنه؛ لأنه إذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة، ولمّا نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام، ولا في غيره، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فكانت لهم فيها رخصةٌ، ونظير الآية قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا وَبِدارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. وبعد أن نهى عن الزنا والقتل، وأكل مال اليتيم .. أتبعها بثلاثة أوامر: فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}، أي (¬2): أتموا بالعهد سواء جرى بينكم وبين ربكم، أو بينكم وبين غيركم من الناس، أي وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به، وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها في البيوع، والإجارة، ونحوها، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، ويدخل في ذلك ما بين العبد وربّه، وما بين العباد بعضهم مع بعض، والوفاء به: القيام بحفظه على الوجه الشرعيِّ، والقانون المرضيّ {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[35]

عنه، فيسئل النَّاكث، ويعاقب عليه يوم القيامة؛ أي: إنّ الله سبحانه وتعالى سائل ناقض العهد عن نقضه إيَّاه، فيقال للناكث على سبيل التبكيت والتوبيخ: لم نكثت عهدك، وهلا وفيت به؟ كما يقال لوائد الموءودة بأيّ ذنب قتلت؟ وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ} والمخاطبة لعيسى والإنكار على غيره، أو مطلوبًا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به 35 - {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}. أي: أتمّوه، ولا تخسروه {إِذا كِلْتُمْ} لغيركم؛ أي (¬1): وقت كيلكم للمشترين، وتقييد الأمر بذلك، لأن التطفيف هناك، وأمّا وقت الاكتيال على النّاس، فلا حاجة إلى الأمر بالتّعديل قال تعالى: {إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} فالخطاب فيه للبائعين، وأخذ من هذا بعضهم أنّ أجرة الكيال على البائع؛ لأنها من تمام التسليم، وكذلك عليه أجرة النقّاد للثمن، وهو كذلك كما هو مقرر في الفروع اهـ شيخنا. والمعنى: أي وأتموا الكيل للناس، ولا تخسروهم، إذا كلتم لهم حقوقهم من قبلكم، فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم، ولم تفوا الكيل {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ}؛ أي: وزنوا بالميزان المعتدل بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين، فيقع الجور، أو الحيف لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات، والبيع والشراء، ومن ثم بالغ الشارع في المنع من التطفيف، والنقصان سعيًا في إبقاء الأموال لأربابها، والقسطاس هو كل (¬2) ما يوزن به صغيرًا كان أو كبيرًا، من ميزان الدّرهم إلى ما هو أكبر منه، وقيل هو القبان. وقرأ ابن كثير (¬3)، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر {القسطاس} بضم القاف، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بكسر القاف، وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صادًا. {ذلِكَ}؛ أي: إيفاؤكم بالعهد، وإيفاؤكم من تكيلون له، ووزنكم بالعدل، لمن توفون له {خَيْرٌ} لكم في الدنيا من نكثكم وبخسكم في الكيل والوزن، لأن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

[36]

ذلك مما يرغّب الناس في معاملتكم، وحب الثناء عليكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}؛ أي: وأجمل عاقبة لما يترتّب على ذلك من الثواب في الآخرة، والخلاص من العقاب الأليم، وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة، والبعد عن الخيانة، أقبلت عليهم الدنيا، وحصل لهم الثروة والغنى وكان ذلك سبب سعادتهم في الدنيا، فقوله: {تَأْوِيلًا} تفعيل من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره. 36 - وبعد أن ذكر سبحانه أوامر ثلاثةً نهى عن مثلها فقال: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: ولا تتبع أيها المرء ما لا علم لك به ولا ظنّ من قول أو فعل، من قولك: قفوت فلانا إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشّعر؛ لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنهم يتّبعون آثار أقدام الناس؛ أي: لا تكن (¬1) في اتباع ما لا علم لك به من قول، أو فعل، كمن يتبع مسلكًا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده، وذلك (¬2) دستورٌ شامل لكثير من شؤون الحياة، ومن ثمّ قال المفسرون فيه أقوالا كثيرة: 1 - قال ابن عباس: لا تشهد إلّا بما رأت عيناك وسمعته أذناك، ووعاه قلبك. 2 - قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم. 3 - وقيل: المراد النهي عن القول بلا علم، بل بالظن والتوهم كما قال: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وفي الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». 4 - وقيل: المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم تقليدًا لأسلافهم، واتّباعًا للهوى كما قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

قال الشوكاني: وأقول (¬1): إنّ هذه الآية قد دلّت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن، كالعمل بالعام، وبخبر الواحد، والعمل بالشهادة، والاجتهاد في القبلة، وفي جزاء الصيد، ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها، ومن عموم {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} إلا ما قد قام دليلٌ على جواز العمل به فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود دليل في الكتاب والسنة، فقد رخّص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن: «بم تقضي؟» قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد»، قال: فبسنة رسول الله قال: «فإن لم تجد»، قال: أجتهد رأيي. وهو حديث صالح للاحتجاج به. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة، ولكنه قصّر صاحب الرأي عن البحث، فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولًا أوليًا؛ لأنه محض رأي في شرع الله، وبالناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه، وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم تدع إليه حاجة على أنّ الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنّما هو رخصة للمجتهد، يجوز له أن يعمل به، ولم يَدُلَّ دليل على أنه يجوز لغيره العمل به، وينزله منزلة مسائل الشرع. وقد قيل: إن هذه الآية خاصَّة بالعقائد، ولا دليل على ذلك أصلًا، ثم علّل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ}؛ أي: كل واحد من هذه الأعضاء الثلاثة، فهو إشارة إلى الأعضاء المذكورة، فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولةً عن أحوالها شاهدة على أصحابها {كانَ عَنْهُ}؛ أي: عن نفسه، وعما فعل به صاحبه {مَسْؤُلًا}؛ أي: إنّ الله سبحانه سائل هذه الأعضاء عما فعل بها صاحبها يوم القيامة. ومعنى سؤال هذه الجوارح (¬2): أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه؛ لأنها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

آلات، والمستعملُ لها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير .. استحق الثّواب، وإن استعملها في الشر .. استحقَّ العقاب، وقيل: إنّ الله سبحانه ينطق هذه الأعضاء عند سؤالها، فتخبر عمّا فعله صاحبها كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)} وفي الخبر: عن شكل بن حميد قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا نبي الله علّمني تعويذًا أتعوّذ به، فأخذ بيدي ثمّ قال: قل: «أعوذ بك من شر سمعي، وشر بصري وشر بصري وشر قلبي، وشرٍّ منّي» يريد الزنا. قال علي السمرقندي: واعلم (¬1) أنّ المراد بالنهي: النهي عن اتباع كلّ ما فيه جهل مما يتعلق بالسمع، والبصر، والقلب، كأنه تعالى قال: لا تسمع كل ما لا يجوز سماعه، ولا تبصر كل ما لا يجوز إبصاره، ولا تعزم على كل ما لا يجوز لك العزم عليه؛ لأن كلّ واحد منها يسأله الله تعالى ويجازيه، ولم يذكر اللسان مع أنه من أعظمها؛ لأن السّمع يدل عليه، لأنه ما يكب الناس على مناخرهم في نار جهنّم إلّا حصائد ألسنتهم، وتلك الحصائد من قبل المسموعات اللازمة للسمع. انتهى وقرأ الجمهور (¬2) {وَلا تَقْفُ} بحذف الواو، للجازم مضارع قفا كعدا، وقرأ زيد بن علي: {ولا تقفو} بإثبات الواو، كما قال الشاعر: هجوت زبان ثُمَّ جئت معتذرًا ... من هجو زبَّان كأن لم تهجو ولم تَدَعُ وإثبات الواو، والياء، والألف مع الجازم لغة لبعض العرب، وضرورة لغيرهم، وقرأ معاذ القارىء {وَلَا نَقُفْ} مثل تقل من قاف، يَقُوف، تقول العرب: قفت أثره، وقفوت أثره، وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما، كجبذ وجذب، وقرأ الجراح العقيلي، {والفواد} بفتح الفاء والواو، وقلبت الهمزة واوًا بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح، وهي لغة في الفؤاد، ¬

_ (¬1) بحر العلوم. (¬2) البحر المحيط.

[37]

وأنكرها أبو حاتم وغيره. 37 - {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ} التقييد لزيادة التقرير {مَرَحًا}؛ أي: ولا تمش - أيها الإنسان - متبخترًا متمايلًا كمشي الجبارين فتحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها، بدوسك، وشدة وطئك لها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محوط بنوعين من الجماد أنت أضعف منهما، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر، ولقد أحسن من قال: ولا تمش فوق الأَرض إلّا تواضعًا ... فكم تحتها قومٌ هم منك أرفعُ وإن كنت في عزٍّ وحرزٍ ومنعةٍ ... فكم مات من قومٍ هم منك أمنعُ والمرح (¬1): قيل: هو شدة الفرح، وقيل: التكبر في المشي، وقيل: تجاوز الإنسان قدره، وقيل: الخيلاء في المشي، وقيل: البطر، والأشر وقيل: النشاط، والظاهر: أنّ المراد به هنا الخيلاء والفخر، والمرح: مصدر وقع حالا، أي ذا مرح، وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها، أو على ما هو معتمد عليها تأكيدا، وتقريرا كما ذكرنا آنفًا. وخلاصة ذلك (¬2): تواضع ولا تتكبّر فإنك مخلوقٌ ضعيفٌ محصور بين حجارة وتراب، فلا تفعل فعل القوي المقتدر، ولا يخفى ما في الآية من التقريع، والتهكم، والزجر لمن اعتاد ذلك. وقرأ الجمهور: {مَرَحًا} بفتح الراء على المصدر، وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {إِنَّكَ} أيها المرء {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ}؛ أي: إنك لن تشق الأرض، ولن تثقبها بمشيك عليها، وشدة وطئك فيها تكبرا حتى تبلغ آخرها، وفيه تهكم بالمختال المتكبر. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ} التي هي بعض أجزاء الأرض {طُولًا}؛ أي: في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[38]

الطول حتى يمكنك أن تتكبَّر عليها؛ أي: لن يبلغ طولك الجبال حتّى يكون عظم جثّتك حاملًا لك على التكبر، فالتكبر إنما يكون بالقوة، وعظم الجثّة وكلاهما غير موجود لديك، فما الحامل لك على ما أنت فيه، وأنت أحقر من كل من الجمادين، وكيف يليق بك الكبر. فطولا منصوب على التمييز؛ أي: لن يبلغ طولك الجبال؛ أي: تطاولك، واستعلاؤك، وقال الزجاج: {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ}؛ أي: لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها، وشدة وطئك عليها {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}؛ أي: بتطاولك، وهو تهكم بالمختال وقرأ الجراح الأعرابي (¬1) {لَنْ تَخْرِقَ} بضم الراء قال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة 38 - {كُلُّ ذلِكَ} المذكور من الخصال الخمس والعشرين من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} إلى هنا فهو نهي عن اعتقاد أن مع الله إلهًا آخر، وهو أولاها، والثانية والثالثة قوله: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} فهو أمر بعبادة الله ونهي عن عبادة غيره، والبواقي ظاهرة بعد الأوامر، والنواهي {كانَ سَيِّئُهُ}؛ أي: السيىء القبيح منه، وهو المنهيات منها، وهو أربع عشرة خصلة، فإنّ المأمور به حسن وهو إحدى عشرة، ثلاث مستترة، وثمان ظاهرة كما في «بحر العلوم» {عِنْدَ رَبِّكَ} يا محمد {مَكْرُوهًا} أي: مبغوضا، والمراد به المبغوض المقابل للمرضى لا ما يقابل المراد، ووصف ذلك بمتعلق الكراهة، مع أن البعض من الكبائر، للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الانتهاء عن ذلك وتأكده. والمعنى (¬2): كل ما ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي، وهي الخمس والعشرون السالفة، كان السيىء منه، وهو ما نهي عنه منها من الجعل مع الله إلهًا آخر، وعبادة غيره، والتأفف، والتبذير، وغل اليد، وقتل الأولاد خشية الإملاق مكروها عند ربك؛ أي: مبغوضًا عنده تعالى، وإن كان مرادًا له تعالى بالإرادة التكونية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن» وهذه الإرادة لا تستدعي الرضا منه سبحانه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[39]

تتمة: واعلم أنا نعد لك الخصال الخمس والعشرين التي وردت الإشارة إليها بقوله تعالى: {كُلُّ ذلِكَ ...} على ترتيبها المذكور في الآيات، وهذا إحصاؤها بذلك الترتيب: 1 - {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ}. 2 و3 - قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ ...} إلى آخر الآية لاشتماله على تكليفين، وهما عبادة الله، والنهي عن عبادة غيره. 4 - {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}. 5 - {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ}. 6 - {وَلا تَنْهَرْهُما} 7 - {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا}. 8 - {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ}. 9 - {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما}. 10 - {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ}. 11 - {وَالْمِسْكِينَ}. 12 - {وَابْنَ السَّبِيلِ}. 13 - {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}. 14 - {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. 15 - {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً}. 16 - {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ}. 17 - {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ}. 18 - {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى}. 19 - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ}. 20 - {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}. 21 - {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}. 22 - {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}. 23 - {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ}. 24 - {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. 25 - {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}. وقرأ الحرميان (¬1) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو، وأبو جعفر، والأعرج {سيئة} بالنصب والتأنيث، وقرأ باقي السبع، والحسن، ومسروق {سَيِّئُهُ} بضم الهمزة مضافًا فـ {الهاء} ضمير المذكر الغائب، وقرأ عبد الله {سيئاته} بالجمع مضافا للهاء، وعنه أيضًا {سيئات} بغير هاء، وعنه أيضًا {كان خبيثه}. 39 - ثم بيّن وجوب امتثال تلك الأوامر، وترك تلك النواهي، فقال: {ذلِكَ} المذكور في الآيات السابقة، أي: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الرذائل الذميمة التي جملتها خمس وعشرون خصلةً {مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ}؛ أي: بعض ما أوحى إليك ربك من فقه الدين، ومعرفة أسراره، حالة كونه: {مِنَ الْحِكْمَةِ} التي هي معرفة الحق لذاته، والخير للعمل به اهـ. «بيضاوي» فالتوحيد من القسم الأول، وباقي التكاليف من القسم الثاني اهـ «زاده» ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[40]

أو حالة (¬1) كونه من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ، والفساد {وَلا تَجْعَلْ} أيها المكلف {مَعَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى}؛ أي: ترمى {فِي} نار {جَهَنَّمَ} حالة كونك {مَلُومًا} عند نفسك وعند الناس وعند الملائكة {مَدْحُورًا}؛ أي: مطرودًا مبعدًا من رحمة الله تعالى، ومن كل خير، كرر هذه (¬2) الآية مع ما سلف للتنبيه على أن التوحيد رأس الدين، ورأس الحكمة، وهو مبتدأ الأمر، ومنتهاه، وقد رتب عليه أولًا آثار الشرك في الدنيا، فقال: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} ورتّب عليه هنا نتيجته في العقبى فقال: {فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وقد علمت فيما تقدم لك أنّ مثل هذا الخطاب إما موجهٌ إلى الإنسان عامة، وإما إلى الرسول خاصةً، والمراد أمته، والكلام من وادي قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة. فائدة: والفرق (¬3) بين المذموم والملوم، وبين المخذول والمدحور، أن المذموم معناه: من يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ، وأنّ الملوم معناه من يقال له لم فعلت هذا الفعل القبيح، وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم، وأنّ المخذول هو: الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو: المبعد المطرود عن كل خير، 40 - ولمّا أمر بالتوحيد، ونهى عن إثبات الشريك لله، أتبعه بذكر فساد طريقة من أثبت الولد له تعالى، فقال: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ}، والخطاب (¬4) فيه للقائلين بأن الملائكة بنات الله. وكان المشركون يستنكفون من البنات، فيختارون لأنفسهم الذكور، ومع ذلك ينسبون إليه تعالى الإناث، فأنكر الله ذلك منهم. و {الهمزة} فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلةٌ على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفضّلكم ربكم على جنابه ونفسه أيها المشركون، فأصفاكم واختاركم، وخصّكم بالبنين، أفضل الأولاد {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا}؛ أي: واختار لنفسه من الملائكة إناثًا التي هي أخس الأولاد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن بتصرف. (¬4) روح البيان.

[41]

وأدناها - بحسب زعمكم -، وهذا خلاف الحكمة، وما عليه عقولكم، وعادتكم، فإنّ العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشَّوب والنَّقص ويكون أردأها وأدناها للسادات. وعبر عن البنات بالإناث إظهارًا لجهة خساستهن؛ لأنّ الأنوثة أخسُّ أوصاف الحيوان. والمعنى (¬1): أفْضَّلكم على جنابه، فخصَّكم ربّكم بالذكور من الأولاد، واتخذ من الملائكة إناثًا، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهنَّ، وتقتلونهن، فتجعلون له ما لا ترضون لأنفسكم. وخلاصة ذلك: أنّهم جعلوا الملائكة إناثًا، ثم ادعوا أنّهن بنات الله، ثمّ عبدوهن، فأخطؤوا في الأمور الثلاثة، خطأً عظيمًا، ومن ثمّ قال: {إِنَّكُمْ} أيها المشركون {لَتَقُولُونَ} بإضافة الولد إليه تعالى {قَوْلًا عَظِيمًا} أي: قولا فظيعا لا يجترىء عليه أحد؛ حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام المتجانسة السّريعة الزوال، ثمّ تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد، وتفضّلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان. ونحو الآية قوله تعالى {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا (95)}. 41 - ولما كان هذا الكلام غايةً في الوضوح والبيان، ولا يخفى فهمه على إنسان، ثمّ هم بعد ذلك، أعرضوا عنه نبّه إلى ذلك فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد صرّفنا وبيّنا وكررنا في هذا القرآن الكريم الآيات والحجج، وضربنا لهم الأمثال وحذرناهم، وأنذرناهم {لِيَذَّكَّرُوا} ويتعظوا، فيقفوا على بطلان ¬

_ (¬1) المراغي.

[42]

ما يقولون، فإنّ التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس، وهم مع ذلك لا يعتبرون، ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر، بل {وَما يَزِيدُهُمْ} التذكير {إِلَّا نُفُورًا} وفرارًا، وهربًا من الحق، وبعدًا منه وإعراضًا عنه. وقرأ الجمهور (¬1): {صرّفنا} بتشديد الراء، أي: لم نجعله نوعًا واحدًا، بل وعدًا، ووعيدًا، ومحكمًا، ومتشابهًا، وأمرًا، ونهيًا، وناسخًا، ومنسوخًا، وأخبارًا، وأمثالًا مثل تصريف الرياح وتقليبها من صبا، ودبور وجنوب، وشمال، ومفعول {صَرَّفْنا} على هذا المعنى محذوف، وهي هذه الأشياء أي: صرّفنا الأمثال، والعبر والحكم والأحكام والأعلام، وقرأ الحسن بتخفيف الراء. وقال صاحب «اللوامح»: هو بمعنى قراءة الجمهور. قال لأن فعل، وفعّل ربّما تعاقبا على معنى واحد، وقال ابن عطية على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله، وقرأ الجمهور {ليذَّكَّرُوا} بتشديد الذال والكاف المفتوحتين، أو {لِيَتَذَكَّروا} من التذكر، فأدغمت التاء في الذال، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي، وطلحة، وابن وثاب، والأعمش، {ليذْكُروا} بسكون الذال وضم الكاف من الذكر، أو الذكر، أي ليتّعظوا، ويعتبروا. 42 - ثم ردّ على هؤلاء الذين يشركون بربهم، ويتخذون الشفعاء والأنداد، وندّد عليهم، وسفّه أحلامهم فقال {قُلْ} أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر لإظهار بطلان ما هم عليه من الشرك من جهة أخرى {لَوْ كانَ مَعَهُ} سبحانه وتعالى {آلِهَةٌ} أخرى {كَما يَقُولُونَ}؛ أي: كما يقول المشركون قاطبة، والكاف في محل النصب على أنّها صفة لمصدر محذوف، أي: كونًا مشابهًا بما يقولون، والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة، وقرأ ابن كثير، وحفص {يَقُولُونَ} بالياء التحتية على الغيبة، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب للقائلين بأنّ مع الله آلهة أخرى {إِذًا} حرف جواب وجزاء قال الزمخشري: {إِذًا} دالّة على أنّ ما بعدها، وهو {لَابْتَغَوْا} جواب لمقالة المشركين، وجزاء لـ {لَوْ} اهـ «سمين». ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[43]

{لَابْتَغَوْا}، أي: لابتغت تلك الآلهة، وطلبت {إِلى ذِي الْعَرْشِ}، أي: إلى صاحب الملك والسرير، أي: إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا بالمغالبة والممانعة؛ أي: ليغالبوه، ويقهروه، ويدفعوا عن أنفسهم العيب والعجز كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض. يشير إلى أن الآلهة لا يخلو أمرهم: من أنّهم كانوا أكبر منه، أو كانوا أمثاله، أو كانوا أدنى منه، فإن كانوا أكبر منه طلبوا طريقًا إلى إزعاج صاحب العرش، ونزع الملك قهرا وغلبة، ليكون لهم الملك لا له كما هو المعتاد من الملوك 43 - {سُبْحانَهُ}؛ أي: تنزه (¬1) الله بذاته تنزّهًا حقيقيًا عما يقولون من أنّ معه آلهة أخرى {وَتَعالى} عطف على ما تضمنه المصدر، قبله، أي: تنزه وتعالى، أي: ترفّع بصفاته {عَمَّا يَقُولُونَ} من أنّ له بناتًا {عُلُوًّا} واقع موقع تعاليًا كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا (17)}؛ أي: إنباتًا {كَبِيرًا}؛ أي: تعالى عما يقولون من الأقوال الشّنيعة، والفرية العظيمة، علوًّا كبيرًا؛ أي: تعاليًا لا غاية وراءه، كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غايات الوجود، وهو الوجوب الذاتي، وما يقولون: من أن له تعالى شركاء وأولادًا في أبعد مراتب العدم، أعني الامتناع، ووصف (¬2) العلوّ بالكبر مبالغةً في النزاهة، وتنبيها على أن بين الواجب لذاته، والممكن لذاته، وبين الغنيّ المطلق، والفقير المطلق، مباينةٌ لا تعقل الزيادة عليها، والمعنى: تنزيهًا لله، وعلوًا له عما يقولون أيّها القوم من الفرية والكذب، فهو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. قوله: {كَما يَقُولُونَ}، وقوله: {عَمَّا يَقُولُونَ} يقرأ (¬3) بالياء التحتية فيهما، وبالتاء الفوقية فيهما، وبالياء التحتية في الأول، والتاء الفوقية في الثاني، فالقراءات الثلاثة كلها سبعية، وعلى الأخيرة يكون في الكلام التفات اهـ شيخنا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

[44]

44 - ثم بيّن سبحانه عظمة ملكه وكبير سلطانه فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ}؛ أي: تنزه الله تعالى السموات السبع، والأرض عن كل نقص بدلالة أحوالها على توحيد الله تعالى، وقدرته، ولطيف حكمته، فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح النطقي، {وَ} يسبحه تعالى أيضًا {مَنْ فِيهِنَّ}؛ أي: من في السموات والأرض من المخلوقات؛ أي: تنزهه عمّا يقول هؤلاء المشركون، وتعظمه، وتشهد له بالوحدانية، في ربوبيته، وألوهيته كما قال أبو نواس: وفيْ كلّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنَّه واحدُ والمكلف العاقلُ (¬1) يسبح ربه إما بالقول كقوله: «سبحان الله» وإما بدلالة أحواله على توحيده وتقديسه، وغير العاقل لا يسبّح إلا بالطريق الثاني، فهي تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى، ووحدانيته، وقدرته وتنزهه عن الحدوث، فإنّ الأثر يدل على مؤثره. ومعنى التسبيح (¬2): تنزيه الحق، وتبعيدُه عن نقائص الإمكان، والحدوث، إمّا بلسان الحال، الدال على وجود الخالق، وقدرته وحكمته، كتسبيح السموات والأرض، وإما بلسان القال الناطق بما يسمع كتسبيح من فيهن من الملائكة، والجن والإنس، فالتسبيح مشترك بين اللفظ الدّال عليه، وبين مثل الحدوث والإمكان، الدّالّ على تنزيهه تعالى عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث. وقرأ النحويان (¬3): أبو عمرو والكسائي، وحمزة وحفص {تُسَبِّحُ} بالتاء من فوق، وباقي السبعة بالياء، وفي بعض المصاحف {سبحت له السماوات} بلفظ الماضي، وتاء التأنيث، وهي قراءة عبد الله، والأعمش، وطلحة بن مصرّف. ثم أكّد ما سلف بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: وما من شيء من المخلوقات {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} تعالى، أي: يدل بإمكانه وحدوثه دلالةً واحدةً على وجوب وجوده تعالى، ووحدته وقدرته، وتنزهه عن لوازم الحدوث. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

والمعنى (¬1): وما من شيء من الأشياء حيوانًا كان أو نباتًا، أو جمادًا إلا ينزهه تعالى متلبسًا بحمده بلسان الحال عما لا يليق بذاته تعالى من لوازم الإمكان. والخلاصة: أن كل الأكوان بأسرها شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة {وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ}، أيها المشركون، ولا تفهمون {تَسْبِيحَهُمْ} ما عدا من يسبح بلغتكم، ولسانكم، والفقه (¬2): عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه؛ أي: ولكن لا تفهمون أيّها المشركون تلك الدّلالة، لأنّكم لما جعلتم مع الله آلهةً، فكأنكم لم تنظروا، ولم تفكروا؛ إذ النّظر الصحيح، والتفكير الحق، يؤدي إلى غير ما أنتم عليه، فأنتم إذًا لم تفقهوا التسبيح، ولم تستوضحوا الدلالة على الخالق. فإنّ الكفار (¬3)، وإن كانوا مقرّين بألسنتهم بإثبات إله العالم، لم يتفكروا في أنواع الدلائل، ولم يعلموا كمال قدرته تعالى، فأستبعدوا كونه تعالى قادرًا على النشر، والحشر، فهم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد؛ لأنهم أثبتوا لله شركاء، وزوجًا وولدًا. وقرىء {لا يُفَقَّهونَ} على صيغة المبني للمفعول مع فتح الفاء، وتشديد القاف {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كانَ حَلِيمًا} على جهلكم، وإشراككم، فمن حلمه أن أمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء جهلكم بهذا التسبيح بإشراككم به سواه، وعبادتكم معه غيره، والحلم (¬4): تأخير مكافأة الظالم بالنسبة إلى الخالق، والطمأنينة عند سورة الغضب بالنسبة إلى المخلوق {غَفُورًا} لمن تاب منكم ورجع إلى التوحيد، ومن مغفرته لكم أنّه لا يؤاخذ من تاب منكم. أخرج أحمد وابن مردويه، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ نوحًا عليه ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

[45]

السلام، لما حضرته الوفاة، قال لابنيه: - آمركما بسبحان الله وبحمده؛ فإنّها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء -». تنبيه: وهذا المعنى الذي ذكرناه من أنّ المراد من تسبيح كل شيء: الدَّلالة على الخالق ما عليه الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، ومن يليهم من أهل الظاهر، وهم الذين لهم عين واحدة، وسمع واحد، وقال الشيخ علي السمرقندي - رحمه الله - في «بحر العلوم»: ذهب السلف الصالح، إلى أنّ التسبيح في الآية في المحلّين محمول على حقيقته، وهو الأصح، فإنه إن كان كلام الجماد مسلما، فينبغي أن يكون تسبيحه أيضًا مسلّما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّي لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن» وعن ابن مسعود، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، على أنَّ شهادة الجوارح والجلود مما نطق به القرآن الكريم، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)}. كان داود إذا سبح جاوبتهُ الجبالُ بالتسبيح، وقال مجاهد (¬1): كُلُّ الأشياء تسبح الله حيًّا كان أو جمادًا، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده. وعن المقداد بن معديكرب: إنَّ التُّراب يسبح ما لم يبتلَّ، والخريزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، والورق ما دام على الشجر، والماءَ ما دام جاريًا، والثوب ما دام جديدًا، فإذا اتسخ ترك التسبيح، والوحش، والطير إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح، وفي الحديث عن السدي: «ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير إلا بما يضيّع من تسبيح الله» كما في تفسير «المدارك للنسفي». 45 - ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن، وما يقع من سامعيه فقال: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}؛ أي: وإذَا قرأت أيُّها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين، الذين لا يصدقون بالبعث، ولا يقرُّون بالثواب، والعقاب، {جَعَلْنا بَيْنَكَ} يا محمد {وَبَيْنَ} هؤلاء المشركين {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا} ¬

_ (¬1) روح البيان.

[46]

يحجبهم من أن يدركوك على ما أنْتَ عليه من النبوة، ويفهموا قدرك الجليل، ولذلك اجترؤوا على أن يقولوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} ويمنعوا قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم، فينتفعوا به، عقوبة منّا لهم على كفرهم، وتدسيتهم لأنفسهم، واجتراحهم الجرائم، والمعاصي التي تظلم القلوب، وتضع عليها الأغشية، وتستر عنها فهم حقائق القرآن، ومراميه، وأسراره وأحكامه، وحكمه، ومواعظه، وعبره؛ أي: أنهم (¬1) لإعراضهم عن قراءتك، وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجابٌ يمرون بك ولا يرونك، ذكر هذا المعنى الزجّاج وغيره. ومعنى {مَسْتُورًا}؛ أي: ساترًا يسترك عنهم، قال الأخفش: أراد ساترًا، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول، كما تقول إنك لمشؤومٌ وميمونٌ، وإنما هو شائم، ويامن وقيل: معنى مستورًا ذا ستر كقولهم: سيلٌ مفعمٌ؛ أي: ذو إفعام من أفعمت الإناء؛ أي: ملأته، وقيل: حجابًا لا تراه الأعين، فهو مستور عنها، وقيل: حجاب من دونه حجابٌ، فهو مستور بغيره، والمعنى حجابًا محجوبًا وقيل: المراد بالحجاب المستور الطّبع والختم. 46 - ثمّ بين السّبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: على قلوب هؤلاء المشركين {أَكِنَّةً}؛ أي: أغطيةً، وموانع كثيرةً جمع كنان، وهو الغطاءُ {أَنْ يَفْقَهُوهُ}؛ أي: كراهية (¬2) أن يفهموا القرآن على كنهه، ويعرفوا أنه من عند الله تعالى، فهو مفعول لأجله، ولكنه على حذف مضاف، هذا على رأي الكوفيين، أو لئلّا يفقهوا القرآن ويفهموا ما فيه من الأوامر، والنواهي، والحكم والمعاني، هذا على مذهب البصريين لقلة حذف {لا} بالنسبة إلى حذف المضاف، وهذا تمثيل (¬3) لتجافي قلوبهم عن الحق، ونبوِّها عن قبوله، واعتقاده كأنها في غلف وأغطية، تحول بينها وبينه، وتمنع من نفوذه فيها. {وَ} جعلنا {فِي آذانِهِمْ وَقْرًا} أي صممًا، وثقلًا مانعًا عن سماعه اللائق به، وهذا تمثيل لمجّ أسماعهم للحقّ ونبوها عن الإصغاء إليه، كأنّ بها صممًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) بحر العلوم.

[47]

يمنع عن سماعه، ولَمَّا (¬1) كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى حقّ فهمه، وإدراك اللفظ حقَّ إدراكه. ومن قبائح المشركين: أنهم كانوا يحبّون أن يذكر محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - آلهتهم كما يذكر الله سبحانه، فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس، ولهذا قال الله سبحانه: {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ} يا محمد {فِي الْقُرْآنِ} وأنت تتلوه حالة كونه {وَحْدَهُ} أي واحدا غير مشفوع به آلهتهم؛ أي: منفردا غير مقرون به آلهتهم؛ أي: إذا قلت: لا إله إلا الله، ولم تقل: واللات والعزّى، فهو (¬2) مصدر وقع موقع الحال، أصله تحده وحده فحذف الفعل الذي هو الحال، وأقيم المصدر مقامه {وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ}؛ أي: رجعوا على أعقابهم، وانفضّوا من حولك، وهربوا ونفروا {نُفُورًا} وهو مصدر كالقعود، أو جمع نافر؛ أي: أعرضوا ورجعوا على أعقابهم حالة كونهم نافرين استكبارًا واستعظامًا لأن يذكر الله وحده. والحاصل: أنّ الكفّار (¬3) عند استماع القرآن كانوا على حالتين، فإذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله، بقوا متحيرين لا يفهمون منه شيئًا، وإذا سمعوا آيةً فيها ذكر الله تعالى وذمّ الشرك بالله تركوا ذلك المجلس، ولا يستطيعون سماع القرآن، 47 - {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ}؛ أي: بالسبب والغرض الذي يستمعونك {بِهِ}؛ أي: لأجله من الاستخفاف والهزء بك وبالقرآن، فالباء بمعنى اللام؛ أو للملابسة متعلّقةٌ بمحذوف حال من الواو، وفي يستمعون؛ أي: يستمعونك حالة كونهم ملابسين بذلك السبب، وهو الهزء المذكور {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ظرف لأعلم، وفائدته: تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع المذكور منهم يتعلق به العلم، وكذا قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى}؛ أي: ذوو نجوى؛ أي: أصحاب مناجاةٍ، ومحادثة بينهم ظرف لأعلم لكن (¬4) لا من حيث تعلّقه بما به الاستماع، بل بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم، ونجوى مصدر أو جمع نجيّ؛ أي: نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

[48]

مضمرون له، وهو الهزء والسخرية بك، وبالقرآن، وبقولهم حين هم متناجون، متحدّثون فيما بينهم من قول بعضهم: إنه مجنون، وبعضهم إنه كاهن، وقوله: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} بدل من إذ هم نجوى، ووضع {الظَّالِمُونَ} موضع المضمر؛ للدلالة على أنّ هذا القول منهم ظلم، وتجاوز عن الحد، وفيه: دليل على أن من يتناجون به غير ما يستمعون به؛ أي: نحن أعلم إذ يقول الظالمون بعضهم لبعض عند تناجيهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ}؛ أي: ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضًا {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}؛ أي: إلا رجلًا سحر فجن، فمن ظلمهم وضعوا اسم المسحور موضع المبعوث. والمعنى: أي نحن (¬1) أعلم بالغرض الذي يستمعون إليك لأجله، وهو الهزء، والسخرية، والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به، ويتسارون به، فبعضهم يقول: مجنونٌ، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: ما اتبعتم إلّا رجلًا قد سحر فاختلط عليه عقله، وزال عن حد الاستواء، وهل من خير لكم في اتباع أمثاله المجانين 48 - {انْظُرْ} يا محمد؛ أي: تأمّل، وفكّر أيها الرسول {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ}؛ أي: كيف جعلوا لك الأشباه ومثّلوا لك الأمثال حيث شبهوك بالمسحور مثلًا، فقالوا: هو مسحور، وهو شاعر مجنون، {فَضَلُّوا} في كل ذلك عن سواء السبيل. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى طريق الحق لضلالهم عنه، وبعدهم منه، والاستفهام فيه للتعجيب، فكأنّه قال: تعجب من ضربهم الأمثال لك، وفي هذا من الوعيد وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى. والمعنى: فضلّوا عن طريق الصواب في جميع ذلك القول، فلا يستطيعون سبيلًا وطريقًا موصلًا إلى الطعن الذي تقبله العقول، ويقع التصديق له، لا أصل الطعن، فقد فعلوا منه ما قدروا عليه، أو فضلّوا (¬2) عن الحق، والرشاد، فلا يستطيعون سبيلًا إليه؛ لأنهم بالغوا في الضلالة والإنكار، وكانوا مستمعين بالهوى، فيستمعون الأساطير، والسحر، والشعر، ولو استمعوا كلام الله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[49]

وصفاته، ولانحراف مزاجهم، وحصول المرض في قلوبهم، كانوا يتنفّرون عند استماع ذكر الواحد الأحد، بالوحدانية، والحدة، ولا يجدون حلاوة التوحد، بل يجدون منه المرارة لسوء المزاج. ومن هذا القبيل إكباب أهل الهوى في كل عصر على استماع الملاهي، والأخبار والأساطير، وقيل وقال، معرضين عن كلام الله الملك العليِّ الكبير، بل وأكثرهم لا يريد إلا المحادثة الدنيويَّة، والمذاكرة العرفيَّة والتعدي إلى أعراض الناس، والاتباع إلى ما يوسوس به الوسواس الخناس، والقدح في شأن أهل الحق الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، فيا مصيبةً ابتلي بها المسلمون عامّةً وخاصّةً من تتبع اليهود والنصارى، والمسابقة فيه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. 49 - ولما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النُّبُوَّات حكى شبهتهم في أمر المعاد، فقال: {وَقالُوا}؛ أي: وقال الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي مكة، وغيرهم على سبيل الإنكار، والاستبعاد، وقد نسوا بداية خلقهم من تراب، بل إنهم خلقوا من لا شيء كقوله تعالى: {خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}؛ أي: قالوا: {أَإِذا كُنَّا}؛ أي: أنبعث ونعاد إذا كنّا {عِظامًا} في قبورنا، لم نتحطم ولم نتكسّر بعد مماتنا {وَ} كنّا {رُفاتًا}؛ أي: عظاما متكسّرة مدقوقة مفتتة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بعد مصيرنا فيها، وقد بلينا فتكسّرت عظامنا، وتقطعت أوصالنا؛ أي: أئنا لمخلوقون {خَلْقًا جَدِيدًا} كما كنا قبل الممات، نصب على المصدر من غير لفظه، أو على الحالية على أنّ الخلق بمعنى المخلوق. وإذا في قوله (¬1): {أَإِذا} متمحضة للظرفية، وهو الأظهر، والعامل فيها: ما دل عليه مبعوثون لا نفسه، لأنّ ما بعد إن، والهمزة، واللام لا يعمل فيما قبلها، وهو نبعث، أو نعاد كما قدّرنا في الحلّ، وهو محل الاستفهام الإنكاري؛ أي: حياتنا بعد الموت محال منكرٌ لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من التنافي، ¬

_ (¬1) المراغي.

[50]

وتقييده بالوقت المذكور، ليس لتخصيصه به، فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت، وإن كان البدن على حاله، بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له. ومثل الآية قوله تعالى حكايةً عنهم: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظامًا نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) وقوله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}. 50 - وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم ويعرفهم قدرته على بعثه إيّاهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقًا جديدًا على أي حال كانوا، عظامًا أو رفاتًا أو حجارةً أو حديدًا أو خلقًا مما يكبر في صدورهم، فقال: {قُلْ} يا محمد جوابًا لهم {كُونُوا} أيها المشركون المنكرون للإعادة {حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا} 51 - {أَوْ خَلْقًا} آخر {مِمَّا يَكْبُرُ} ويعظم {فِي صُدُورِكُمْ}؛ أي: في قلوبكم من قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها، فإنكم مبعوثون، ومعادون لا محالة. والمعنى (¬1): لو تكونون حجارة مع أنها لا تقبل الحياة بحالٍ أو حديدًا مع أنه أصلب من الحجارة، أو خلقًا آخر غيرهما كائنًا من الأشياء التي تعظم في اعتقادكم عن قبول الحياة، كالسموات والأرض، فلا بدّ من إيجاد الحياة فيكم، فإنّ قدرته تعالى لا تعجز عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظامًا ممزّقةً، وقد كانت طريّةً موصوفةً بالحياة من قبل، والشّيء أقبل لما اعتيد فيه مما لم يعتد {فَسَيَقُولُونَ} تماديا في الاستهزاء {مَنْ} الذي {يُعِيدُنا} ويبعثنا بعد الموت؛ أي: من الذي يقدر على إعادة الحياة إلينا، إذا صرنا كذلك؟ وقد نسوا مبدأهم فلزمهم نسيان معيدهم. {قُلِ} إرشادا لهم إلى طريقة الاستدلال يعيدكم الإله القادر العظيم {الَّذِي فَطَرَكُمْ} وأنشأكم واخترعكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} على غير مثال سبق، وكنتم ترابًا ما شمّ رائحة الحياة، فهو المبدىء ¬

_ (¬1) المراح.

[52]

والمعيد؛ أي: فالذي ابتدأ خلقكم أوّل مرة من غير مثال، يعيدكم إلى الحياة بالقدرة التي ابتدأكم بها، فكما لم تعجز تلك القدرة عن البداءة لا تعجز عن الإعادة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ} أي: يحركون جهتك {رُؤُسَهُمْ} تعجبًا وإنكارًا، وتكذيبًا لقولك، يقال: أنغض إذا حرك كالمتعجب، أي: يحركون رؤوسهم إلى فوق، وإلى أسفل هزءا وسخرية {وَيَقُولُونَ} استهزاء {مَتى هُوَ}، أي: متى الإحياء والإعادة التي وعدتنا؟ فهو سؤال عن وقت البعث بعد تعيين الباعث {قُلِ} جوابًا لهم {عَسى أَنْ يَكُونَ} ذلك البعث والإعادة؛ أي: حقّ ووجب كونه {قَرِيبًا} إذ كل ما هو آت قريب، أو لأنه مضى أكثر الزمان، وبقي أقله، وعسى في الأصل: للطمع، والإشفاق، وفي كلامه تعالى: للوجوب، يعني: أنه قرب وقته فقد قرب ما يكون فيه من الحساب والعقاب. 52 - اذكروا {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} سبحانه وتعالى من الأجداث كما دعاكم من العدم إلى المحشر على لسان إسرافيل بالنداء الذي يسمعه جميع الخلائق، وهو النفخة الأخيرة، فإن (¬1) إسرافيل ينادي: أيتها الأجسام البالية، والعظام النخرة، والأجزاء المتفرقة، عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه. {فَتَسْتَجِيبُونَ} منها استجابة الأحياء، وتوافقون الداعي فيما دعاكم إليه حالة كونكم متلبسين {بِحَمْدِهِ} تعالى؛ أي: حامدين لله تعالى على قدرته على البعث، كما قال سعيد بن جبير: إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، فيقدّسونه، ويحمدونه حين لا ينفعهم ذلك، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث. {وَتَظُنُّونَ} عندما ترون الأهوال الهائلة {إِنْ لَبِثْتُمْ}؛ أي: ما مكثتم في القبور، أو في الدنيا {إِلَّا قَلِيلًا} كالذي مرّ على قرية؛ أي: تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا زمنًا قليلًا بالنسبة إلى لبثكم بعد الإحياء وذلك (¬2) لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفًا من السنين عدّ ذلك قليلًا بنسبة مدة القيامة، والخلود في الآخرة، وقيل: إنهم يستحقرون مدّة الدنيا في جنب ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

القيامة، ونحو الآية قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)} وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} وقوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} قال الحسن: المراد تقريب وقت البعث، فكأنك بالدنيا، ولم تكن، وبالآخرة، ولم تزل. الإعراب {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34)}. {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} فعل وفاعل، ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} {إِلَّا} أداة استثناء، مفرغ من أعم الأحوال؛ أي لا تقربوه بحال من الأحوال إلا بالخصلة، أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه وصيانته، واستغلاله لمصلحة اليتيم {بِالَّتِي} جار ومجرور، متعلق بـ {تَقْرَبُوا} {هِيَ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول {حَتَّى} حرف جر، وغاية {يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة، وفاعله ضمير يعود على {الْيَتِيمِ} والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى بلوغه أشده الجار والمجرور متعلق بـ {تَقْرَبُوا}، أو متعلق بما فهم من الاستثناء، من جواز قربانه، تقديره: فأقربوه (¬1) بالخصلة التي هي أحسن، إلى أن يبلغ أشده، فلا تقربوه بعد ذلك، لأن التّصرّف له حينئذ، {وَأَوْفُوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَلا تَقْرَبُوا}. {بِالْعَهْدِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَوْفُوا} {إِنَّ الْعَهْدَ} ناصب واسمه {كانَ مَسْؤُلًا} فعل ناقص، وخبره واسمه ضمير مستتر فيه يعود على العهد، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)}. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد من معنى الشرط متعلق بـ {أَوْفُوا}. {كِلْتُمْ} فعل وفاعل معطوف على {أَوْفُوا}. {وَزِنُوا} فعل وفاعل معطوفة على جملة {أَوْفُوا} {بِالْقِسْطاسِ} متعلق به {الْمُسْتَقِيمِ} صفة لـ {القسطاس}. {ذلِكَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر. {وَأَحْسَنُ} معطوف على {خَيْرٌ} {تَأْوِيلًا} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36)}. {وَلا} ناهية جازمة {تَقْفُ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، وهو الواو لأنه من قفا يقفو من باب عَدَا وسمَا، وفاعله ضمير يعود على المخاطب. {ما} موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} {لَيْسَ} فعل ناقص {لَكَ} جار ومجرور خبر {لَيْسَ} مقدم {بِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {عِلْمٌ} {عِلْمٌ} اسم ليس مؤخر، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، {إِنَّ السَّمْعَ} ناصب واسمه {وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ} معطوفان عليه {كُلُّ أُولئِكَ} مبتدأ، ومضاف إليه {كانَ} فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {كُلُّ}. {عَنْهُ} متعلق بما بعده {مَسْؤُلًا} خبر {كانَ} وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37)}. {وَلا تَمْشِ} جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {تَمْشِ} {مَرَحًا} حال من فاعل تمش، ولكنه على تقدير مضاف أي ذا مرح؛ أي: مارحًا {إِنَّكَ} ناصب

واسمه {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ} ناصب، وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب {طُولًا} تمييز محول عن الفاعل؛ أي: ولن يبلغ طولك الجبال، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ}. {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}. {كُلُّ ذلِكَ} مبتدأ، ومضاف إليه {كانَ سَيِّئُهُ} فعل ناقص، واسمه {عِنْدَ رَبِّكَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بما بعده {مَكْرُوهًا} خبر {كانَ}، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ذلِكَ مبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {مِمَّا} خبر {أَوْحى} فعل ماض {إِلَيْكَ} متعلق به {رَبُّكَ} فاعل، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف؛ تقديره: مما أوحاه إليك ربك، {مِنَ الْحِكْمَةِ} جار ومجرور حال من العائد المحذوف، أو من نفس الموصول؛ أي: ذلك مما أوحاه إليك ربّك حالة كونه كائنًا من الحكمة التي هي معرفة الحق لذاته، والخير للعمل به. {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}. {وَلا تَجْعَلْ} جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب {مَعَ اللَّهِ} ظرف، ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ {جعل} {إِلهًا} مفعول أول {آخَرَ} صفة له، والجملة معطوفة على جملة {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً}. {فَتُلْقى} {الفاء} عاطفة سببية. {تلقى} فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بأن مضمرة، وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، ونائب فاعله ضمير يعود على المخاطب {فِي جَهَنَّمَ} متعلق به، {مَلُومًا مَدْحُورًا} حالان من نائب فاعل {تلقى}، وجملة {تلقى} في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن جعلك مع الله إلهًا آخر، فإلقاؤك في جهنم ملومًا مدحورًا.

{أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}. {أَفَأَصْفاكُمْ} {الهمزة} للإستفهام التوبيخي، المضمَّن للإنكار، داخلة على محذوف و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف {أصفاكم} {رَبُّكُمْ} فعل ومفعول وفاعل {بِالْبَنِينَ} متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أخصكم ربكم بالبنين فأصفاكم بهم، واتخذ من الملائكة إناثا، والجملة المحذوفة مستأنفة، {وَاتَّخَذَ} {الواو} عاطفة {اتَّخَذَ} فعل ماض متعدّ لمفعولين {مِنَ الْمَلائِكَةِ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني {إِناثًا} مفعول أول له، والجملة معطوفة على جملة {أصفاكم} ويجوز أن تكون حالًا {من ربكم} على تقدير قد و {الواو} حينئذ واو الحال {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه {لَتَقُولُونَ} فعل وفاعل، و {اللام} حرف ابتداء {قَوْلًا} مفعول مطلق {عَظِيمًا} صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة. {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية و {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {صَرَّفْنا} فعل وفاعل {فِي هذَا} متعلق به، {الْقُرْآنِ} بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية جواب القسم، لا مَحَلَّ لها من الإعراب {لِيَذَّكَّرُوا} {اللام} حرف جر، وتعليل {يذكروا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام التعليل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: لتذكرهم الجار والمجرور متعلق بـ {صَرَّفْنا} {وَما} {الواو} حالية {ما} نافية {يَزِيدُهُمْ} فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على القرآن {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {نُفُورًا} مفعول ثان لـ {يزيد}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من القرآن. {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لَوْ كانَ

مَعَهُ آلِهَةٌ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط غير جازم {كانَ} فعل ماض ناقص {مَعَهُ} ظرف، ومضاف إليه، خبر {كانَ} {آلِهَةٌ} اسمها مؤخر، وجملة {كانَ} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، {كَما} {الكاف} حرف جر وتشبيه، {ما} موصولة في محل الجر بـ {الكاف} {يَقُولُونَ} فعل وفاعل صلة {ما} الموصولة، الجار والمجرور، صفة لمصدر محذوف تقديره: قل لو كان معه آلهة كونًا مشابهًا لما يقولون {إِذًا} حرف جواب وجزاء، دالّة على أنّ ما بعدها جواب لمقالة المشركين، وجزاءً لفعل شرط {لَوْ} مهملة لا عمل لها {لَابْتَغَوْا} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} {ابتغوا} فعل وفاعل {إِلى ذِي الْعَرْشِ} متعلق بـ {أبتغوا} أو حال من {سَبِيلًا}. {سَبِيلًا} مفعول {ابتغوا} وجملة {ابتغوا} جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ} {سُبْحانَهُ} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب مقول {قُلْ} {وَتَعالى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {سُبْحانَهُ} {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {تَعالى} {يَقُولُونَ} فعل وفاعل صلة لـ {ما}، والعائد محذوف تقديره: عما يقولونه {عُلُوًّا} مفعول مطلق لـ {تَعالى} لأنه مصدر واقعٌ موقع التعالي {كَبِيرًا} صفة له. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}. {تُسَبِّحُ} فعل مضارع {لَهُ} متعلق به {السَّماواتُ} فاعل {السَّبْعُ} صفة لـ {السَّماواتُ} {وَالْأَرْضُ} معطوف على {السَّماواتُ} {وَمَنْ} اسم موصول في محل الرفع معطوف على {السَّماواتُ} {فِيهِنَّ} جار ومجرور صلة من الموصولة، والجملة الفعلية مستأنفة، {وَإِنْ} {الواو} عاطفة أو مستأنفة {إِنْ} نافية {مَنْ} زائدة {شَيْءٍ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة، تقدم النفي عليه، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {يُسَبِّحُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {شَيْءٍ} {بِحَمْدِهِ} جار ومجرور حال من فاعل {يُسَبِّحُ}، أي: حالة كونه ملتبسًا بحمده، والجملة الفعلية

في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ} عطف اسمية على فعلية، أو مستأنفة {وَلكِنْ} {الواو} حالية {لكِنْ} حرف استدراك مهمل {لا} نافية {تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يُسَبِّحُ}. {إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا} ناصب واسمه وخبره الأول {غَفُورًا} خبر ثان له، وجملة {إن} مستأنفة. {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا (45)}. {وَإِذا} {الواو} استئنافية {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالشرط، أو بالجواب أو هما {جَعَلْنا} فعل وفاعل {بَيْنَكَ} ظرف، ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنا} {وَبَيْنَ الَّذِينَ} ظرف، ومضاف إليه معطوف على الظرف الأول {لا يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل صلة الموصول {بِالْآخِرَةِ} متعلق به {حِجابًا} مفعول أول لـ {جَعَلْنا} {مَسْتُورًا} صفة {حِجابًا}، وجملة {جَعَلْنا} جواب {إِذا} لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة. {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا}. {وَجَعَلْنا} فعل وفاعل معطوف على قوله {جَعَلْنا بَيْنَكَ} {عَلى قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنا} {أَكِنَّةً} مفعول أول له، {أَنْ يَفْقَهُوهُ} ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، تقديره: كراهية فقههم إياه أو مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: من فقههم إياه، الجار والمجرور متعلق بـ {أَكِنَّةً} {وَفِي آذانِهِمْ} جار ومجرور معطوف على قوله: {عَلى قُلُوبِهِمْ} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {جَعَلْنا} {وَقْرًا} معطوف على {أَكِنَّةً} على كونه مفعولًا أولًا لـ {جَعَلْنا}. {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا}.

{وَإِذا} {الواو} استئنافية {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {ذَكَرْتَ رَبَّكَ} فعل وفاعل ومفعول {فِي الْقُرْآنِ} متعلق بـ {ذَكَرْتَ} {وَحْدَهُ} حال من ربك لأنه في تأويل النكرة، أي منفردًا، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {وَلَّوْا} فعل وفاعل {عَلى أَدْبارِهِمْ} متعلق به، أو حال من فاعل، {وَلَّوْا نُفُورًا} مفعول مطلق معنوي، لـ {وَلَّوْا}، أو حال من فاعل {وَلَّوْا} أي: نافرين على أنه جمع نافر، وجملة {وَلَّوْا} جواب إذا لا محلّ لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)}. {نَحْنُ أَعْلَمُ} مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة {بِما} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} {يَسْتَمِعُونَ} فعل وفاعل، صلة الموصول بِهِ متعلق به، و {الباء} سببية، والمعنى: ما يستمعون بسببه، أو لأجله، وهو الهزء بك، وبالقرآن، {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {يَسْتَمِعُونَ} محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {إِلَيْكَ} متعلق بـ {يَسْتَمِعُونَ} {وَإِذْ} ظرف لما مضى من الزمان معطوف على {إِذْ} الأولى على كونه متعلقًا بـ {أَعْلَمُ}، {هُمْ نَجْوى} مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} {إِذْ} بدل من {إِذْ} في قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى} بدل كل من كل، {يَقُولُ الظَّالِمُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {إِنْ} نافية {تَتَّبِعُونَ} في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ} {إِلَّا} أداة حصر {رَجُلًا} مفعول به {مَسْحُورًا} صفة لـ {رَجُلًا}. {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}. {انْظُرْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب على الحال، والعامل فيه {ضَرَبُوا}، وهي معلقة لـ {انْظُرْ} للعمل في لفظ ما بعدها، {ضَرَبُوا} فعل وفاعل {لَكَ} متعلق به {الْأَمْثالَ} مفعول به، وجملة {ضَرَبُوا} في محل النصب

سادّة مسد مفعول {انْظُرْ}. فَضَلُّوا {الفاء} عاطفة {ضلوا} فعل، وفاعل معطوف على {ضَرَبُوا} {فَلا} {الفاء} عاطفة {لا} نافية {يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {ضلوا} لأن العاطف مرتب، {وَقالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على {ضَرَبُوا} {أَإِذا كُنَّا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَإِذا} {الهمزة} للإستفهام الإنكاري الابتعادي، لاستبعاد ما يتساءلون عنه، إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، متعلق بمحذوف دلّ عليه {مبعوثون} {كُنَّا عِظامًا} فعل ناقص، واسمه وخبره، {وَرُفاتًا} معطوف على {عِظامًا} والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذا} والتقدير: أنبعث وقت كوننا عظامًا ورفاتًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قالُوا}، ولا يجوز أن يتعلّق إِذا بـ {مبعوثون} لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، وكذا ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، ويجوز أن تكون {إِذا} شرطية، والجواب حينئذ الفعل الذي تعلقت به {إذا} {أَإِنَّا} الهمزة للاستفهام، الإنكاري الاستبعادي، {إِنَّا} ناصب واسمه {لَمَبْعُوثُونَ} خبره، واللام حرف ابتداء {خَلْقًا} حال من الضمير المستكن في {مبعوثون} {جَدِيدًا} صفته ولكنه على تأويله بالمشتق؛ أي: مخلوقين، أو مفعول مطلق من معنى الفعل، لا من لفظه أي: نبعث بعثًا جديدًا. {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {كُونُوا حِجارَةً} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {كُونُوا حِجارَةً} فعل ناقص واسمه وخبره. {أَوْ حَدِيدًا} {أَوْ خَلْقًا} معطوفان على {حِجارَةً}، وجملة {كُونُوا} في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِمَّا} جار ومجرور صفة {خَلْقًا}. {يَكْبُرُ} فعل مضارع {فِي صُدُورِكُمْ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة {لما} أو صفة لها، {فَسَيَقُولُونَ} {الفاء} عاطفة، و {السين}

حرف استقبال، {يقولون} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قُلْ} {مَنْ يُعِيدُنا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يُعِيدُنا} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {يقولون}. {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}. {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {الَّذِي} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، خبره محذوف تقديره: الذي فطركم أول مرة يعيدكم، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو الذي فطركم أوّل مرة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلِ}. {فَطَرَكُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرف متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول {فَسَيُنْغِضُونَ} {الفاء} عاطفة، و {السين} حرف استقبال {ينغضون} فعل وفاعل {إِلَيْكَ} متعلق به {رُؤُسَهُمْ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {قُلِ} {وَيَقُولُونَ} فعل وفاعل معطوف على {فَسَيُنْغِضُونَ}. {مَتى} اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، {هُوَ} مبتدأ مؤخر، تقديره: كائن {مَتى هُوَ} أي البعث، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ (يقولون). {قُلِ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {عَسى} فعل ماض من أفعال الرجاء، ترفع الاسم، وتنصب الخبر، واسمها ضمير مستتر فيه، تقديره: هو يعود على البعث {أَنْ} حرف نصب {يَكُونَ} فعل مضارع ناقص منصوب بأن، واسمها ضمير يعود على البعث {قَرِيبًا} خبر {يَكُونَ}، وجملة {يَكُونَ} في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسى} تقديره: عسى كونه {قَرِيبًا}، ولكنه في تأويل اسم الفاعل ليصح الإخبار؛ أي: عسى كائنا قريبا، ويصح كون عسى تامة، والتقدير: عسى كونه قريبا، و {عَسى} هنا للتحقق كما مرّ.

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا: يوم يدعوكم كما ذكره أبو البقاء وأبو السعود، أو متعلق بـ {يَكُونَ} {يَدْعُوكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه، لـ {يَوْمَ} {فَتَسْتَجِيبُونَ} {الفاء} عاطفة {تستجيبون} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {يَدْعُوكُمْ}. {بِحَمْدِهِ} جار ومجرور حال من {الواو} في {تستجيبون}، أي: فتجيبون حال كونكم حامدين لله على كمال قدرته، {وَتَظُنُّونَ} {الواو} حالية {تَظُنُّونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تستجيبون}؛ أي: حالة كونكم ظانّين {إِنْ} {إِنْ} نافية معلقة للظن عن العمل فيما بعدها، وقلّ من ذكر {إِنْ} النافية في أدوات تعليق هذا الباب، ذكره في «الفتوحات» {لَبِثْتُمْ} فعل وفاعل {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {قَلِيلًا} منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَبِثْتُمْ} لأنه صفة لزمان محذوف أي إلّا زمانا قليلا أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف أي لبثًا قليلًا، وجملة {إِنْ لَبِثْتُمْ} في محل النصب سادة مسد مفعولي الظن. التصريف ومفردات اللغة {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وفي الكرخي: والمراد بالأشد هاهنا بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده؛ القيام بمصالح ماله، فحينئذ تزول ولاية غيره عنه، فإن بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه اهـ والأشدّ: مفرد بمعنى القوة، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع شدة بكسر الشين، وقيل: جمع شد كذلك، وقيل: جمع شد بفتحها، وعلى كلّ، فالمراد به القوة؛ أي: حتى يبلغ قوته، والمراد بها هنا بلوغه عاقلًا رشيدًا، وإن كان الأشد في الأصل عبارة عن بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، اهـ شيخنا. {بِالْقِسْطاسِ} هو روميٌّ عُرِّبَ، ولا يقدح ذلك في عربية القرآن؛ لأن العجميَّ إذا استعملته العرب، وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب، والتعريف،

والتنكير، ونحوها .. صار عربيّا، والقسطاس بضم القاف وكسرها، القرسطون؛ أي: القبان، وقيل: كل ميزان صغر، أو كبر، و {الْمُسْتَقِيمِ} العدل {تَأْوِيلًا} والتأويل: ما يؤول إليه الشيء، وهو عاقبته. ومآله {مَرَحًا} والمرح: الفخر، والكبر، وفي «المصباح» مرح مرحًا، فهو مرح مثل فرح فرحًا وزنًا ومعنًى، وقيل: المرح أشد الفرح اهـ. {وَلا تَقْفُ}؛ أي: ولا تتبع، يقال: قفا أثره من بابي عدا، وسما هو مأخوذ من القفا، كأنه يقفو الأمور يتّبعها ويتعرّفها، {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ} أي أخصّكم وخلّصكم، والإصفاء جعل الشيء خالصًا له، والتصفية في الأصل: معناها التّخليص، ولكنه هنا ضمّن معنى خصّكم لأجل تعلق البنين به، وفي «الأساس» - يعني أساس البلاغة - ومن المجاز: أصفيته المودة، وأصفيته بالبر آثرته، واختصصته. {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ}، وأصفى عياله بشيء يسير، أرضاهم به، وألفه منقلبه عن واو؛ لأنه من صفا يصفو {وَلَقَدْ صَرَّفْنا}؛ أي: بيّنا وأوضحنا، ولها معان كثيرة بالتشديد، يقال صرفه بمعنى صرفه مع مبالغة، وصرف الشيء باعه، وصرف الدّراهم بدّلها، وصرف الخمر شربها صرفًا؛ أي: غير ممزوجة، وصرف الكلام اشتق بعضه من بعض، وصرفه في الأمر فوض الأمر إليه، وصرف الماء أجراه، وصرّف الله الرّياح: أجراها من وجه إلى وجه. {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ}: {وَحْدَهُ}: اعلم: أنّ {وَحْدَهُ} لم يُستعمل إلا منصوبًا، إلا ما ورد شاذًا، قالوا: هو نسيجٌ وحده، وعيير وحده، وجحيشٌ وحده. فأما نسيج وحده، فهو مدح، وأصله أنّ الثّوب إذا كان رفيعًا، فلا ينسج على منواله غيره، فكأنّه قال: نسيج أفراده، يقال هذا للرجل: إذا أفرد بالفضل، وأما عيير وحده، وجحيش وحده فهو تصغير عير، وهو الحمار: يقال للوحش والأهلي، وجحيش وحده، وهو ولد الحمار، فهو ذمٌّ يقال للرجل المعجب برأيه لا يخالط أحدًا في رأي ولا يدخل في معونة أحد، ومعناه ينفرد بخدمة نفسه،

وأما قولك جاء وحده: فوحده حال من فاعل جاء المستتر فيه، وهو معرفة بالإضافة إلى الضمير، فيؤوّل بنكرة من لفظه، أو من معناه؛ أي: متوحدًا، أو منفردًا، وتقول: مررت به وحده، ومررت بهم وحدهم، فوحده مصدر في موضع الحال، كأنه في معنى إيحاد جاء على حذف الزوائد، كأنك قلت أوحدته بمروري إيحادا، أو إيحاد في معنى موحد؛ أي: منفرد فإذا قلت مررت به، وحده فكأنّك قلت: مررت به منفردًا، ويحتمل عند سيبويه أن يكون للفاعل والمفعول. {حِجابًا مَسْتُورًا} الحجاب والحجب: المنع من الوصول إلى الشيء، والمراد الحاجب والمستور، أي: الساتر كما جاء عكسه من نحو {ماءٍ دافِقٍ}، أي: مدفوق فاسم المفعول بمعنى اسم الفاعل {أَكِنَّةً} والأكنة الأغطية واحدها كنان {وَقْرًا} والوقر الصّمم، والثّقل في الآذان المانع من السماع، {نُفُورًا} مفعول مطلق لـ {وَلَّوْا} لتفاوت معناهما، لأن النفور الإدبار مع الانزعاج، ويجوز أن يكون جمع نافر كقاعد، وقعود وشاهد وشهود، اهـ من «الشهاب» و «البيضاوي» {مَسْحُورًا}؛ أي: مخبول العقل فهو كقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} {فَضَلُّوا}؛ أي: جاروا عن قصد السبيل {رُفاتًا} والرّفات ما تكسّر وبلي من كل شيء، وما بولغ في دقّه، وتفتيته، وهو اسم مفرد لأجزاء ذلك الشيء المفتت، وقال الفرّاء: هو التراب، يؤيده أنه تكرر في القرآن ترابا وعظاما، والرّفات والحطام بمعنى، ويقال: رفت الشيء يرفته بالكسر من باب: ضرب؛ أي: كسره، والفعال يغلب في التفريق، كالحطام والرقاق والفتات، وفي «القاموس» «وتاج العروس»: رفته يرفته بالضم، ويرفته بالكسر إذا كسره ودقه وانكسر واندق وانقطع لازم ومتعد. {فَسَيُنْغِضُونَ}؛ أي: يحركون رؤوسهم، في «المختار»: نَغَضَ رأسه من باب نصر، وجلس؛ أي: تحرك وأنغض رأسه حركه كالمتعجب من الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} ونغض فلان رأسه؛ أي: حركه يتعدى ويلزم اهـ وفي «اللسان يقال: أنغض رأسه ينغضها؛ أي: حركها إلى فوق، وإلى أسفل إنغاضًا فهو منغض، وأمّا نغض ثلاثيًا ينغض بالفتح، وينغض بالضم، فبمعنى

تحرك لا يتعدَّى يقال: نغضت سنه إذا تحرّكت تنغض نغضًا اهـ. {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}؛ أي: تجيبون الداعي. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا} إذا جعلنا ضمير مسؤولًا راجعًا إلى العهد، وينسب إليه السؤال على طريق الاستعارة بالكناية، بأن يشبه العهد بمن نكث عهده، ونسبة السؤال إليه تخييل. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}، ولو جرى على ما تقدم لقيل: كنت عنه مسؤولًا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ}، وقوله: {قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} للتنبيه على أنّ التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وعلى أنّه رأس الحكمة وملاكها. ومنها: الفرض والتقدير في قوله: {لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ}. ومنها: التنكيت في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} والتنكيتُ، هو قصدُ المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره ممّا يسد مسدّه لنكتة في المذكور، ترجح مجيئه على سواه، فقد خص سبحانه {تَفْقَهُونَ} دون تعلمون لما في الفقه من الزيادة على العلم؛ لأنه التصرف في المعلوم بعد علمه، واستنباط الأحكام منه، والمراد الذي يقتضيه معنى الكلام التفقه في معرفة التسبيح من الحيوان البهيم، والنبات، والجماد، وكلَّ ما يدخل تحت لفظة شيء مما لا

يعقل، ولا ينطق، إذ تسبيح ذلك بمجرد وجوده الدالّ على قدرة موجده وحكمته. ومنها: الاستفهام الإنكاريّ في قوله: {أَإِذا كُنَّا عِظامًا} وتكرير {الهمزة} في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لتأكيد الإنكار، وكذلك تأكيده بـ {إن} و {اللام} للإشارة إلى قوّة الإنكار. ومنها: التعجيز والإهانة في الأمر في قوله: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}. ومنها: التخيير في هاتين الآيتين، وهو أن يؤتى بقطعةٍ من الكلام، وقد عطف بعضها على بعض بأداة التخيير. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} تسجيلًا عليهم بصفة الظلم؛ إذ مقتضى السياق أن يقال: إذ يقولون ... الخ. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا (69)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه (¬1) لما قدَّم ما نسَب الكفار لله تعالى من الولد، ونُفُورهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عن كتاب الله، إذا سمعوه، وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إلى أنه مسحور، وإنكار البعث، كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين، ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم، ومعاملتهم بما عاملوهم ... فأمر الله تعالى نبيّه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار، واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم، فعلى هذا يكون المعنى: قل لعبادي المؤمنين يقولوا للمشركين الكلم التي هي أحسن، وقيل: المعنى: يقولوا؛ أي: يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن؛ أي: يعظّم بعضهم بعضًا. وعبارة المراغي (¬1) هنا قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أقام الحجج على إبطال الشرك فقال: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} الآية، وذكر الأدلة على صحّة البعث، والجزاء .. فقال: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ....}. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر عباده المؤمنين بأن يحاجوا مُخَالفيهم، ويجادلوهم باللين، ولا يغلّظوا لهم في القول، ولا يشتموهم، فإنّ الكلمة الطّيّبة تجذب النفوس، وتميل بها إلى الاقتناع، كما يعلم ذلك الذين تولوا النصح والإرشاد من الوعاظ، والساسة، والزعماء في كل أمة، ثمّ ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم: ربكم العليم بكم إن شاء عذبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرح بأنهم من أهل النار؛ فإنّ ذلك مما يهيّج الشرّ، مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بيّن لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام، فما عليه إلا البلاغ، والإنذار، والله هو العليم بمن في السموات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء، ممن يراه أهلًا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواءً في مراتب الفضل والكمال، وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنها (¬2) عود على بدء في تسفيه آراء المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة، والجنّ والمسيح، وعزيرًا؛ إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويخافون عذابه، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فادعوني وحدي لأني أنا المالك لنفعكم وضرّكم دونهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

ثم بيّن أنّ قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإمّا بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها، وتسليط المسلمين عليهم بالسّبي، واغتنام الأموال، وأخذ الجزية، ثمّ أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ...} إلخ. إلا أنّه لو جاء بها، ولم يؤمنوا .. لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أو لم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم، وعقروا الناقة، ثم قفّى على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينصره، ويؤيّده، ثمّ أتبع ذلك بأنّ أمر الإسراء كان فتنةً للناس وامتحانًا لإيمانهم، كما كان ذكر شجرة الزقوم في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)} كذلك ثم تلا هذا بذكر تماديهم في العناد، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم، ازدادوا تماديًا، وطغيانًا، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها .. لم ينتفعوا بها، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها من وجهين (¬1): أحدهما: أنه لمّا نازعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النبوة، واقترحوا عليه الآيات، كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من النبوة، والدرجة الرفيعة .. فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود. والثاني: أنه لما قال: {فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا} بيّن سبب هذا الطغيان، وهو قول إبليس {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬2) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في محنة في قومه، إذ كذبوه وتوعَّدوه حين حدَّثهم بالإسراء، وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه، وعاندوه، واقترحوا عليه الآيات حسدًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

على ما آتاه الله من النبوة، وكبرًا عن أن ينقادوا إلى الحق .. بيَّن أنَّ هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت، ألا ترى أن آدم عليه السلام كان في محنة شديدة من إبليس، وأنّ الكبر والحسد هما اللذان حملاه على الخروج من الإيمان، والدخول في الكفر، والحسد بلية قديمة، ومحنة عظيمة للخلق. انتهت. قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى (¬1) لما ذكر وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم، وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته، وتسويله، ذكر ما يدلّ من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحرا، وبرا، وأنه تعالى متمكن بقدرته ممّا يريده، وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر في الآية السالفة أنه هو الحافظ الكالىء للعبد المؤمن من غواية إبليس، وأنه لا يستطيع أن يمسّه بسوء، قفّى على ذلك بذكر بعض نعمته تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران، لا بالكفران، وهو الذي يرى دلائل قدرته في البر والبحر، فهو الذي يزجي له الفلك في البحر لتنقل له أرزاقه، وأقواته من بعيد المسافات، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة، إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه، وعبد الأصنام والأوثان، فهل يأمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبًا من الريح في البر، أو قاصفًا من الريح في البحر، فيغرقه بكفره، أفلا يفرده بالعبادة، ويخبت له كفاء تلك النعم المتظاهرة عليه. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجنيون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله عز وجل {قُلِ ¬

_ (¬1) لباب النقول.

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم والطبراني وغيرهما، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحّي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت تؤتهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: بل أستأني بهم، فأنزل الله عز وجل {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ...} الآية. وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن الزبير نحوه بأبسط منه. قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه أبو يعلى عن أم هانىء أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أسري به ... أصبح يحدث نفرًا من قريش، يستهزئون به، فطلبوا منه آيةً فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصّة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه، وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح يومًا مهمومًا فقيل له: ما لك يا رسول الله؟ لا تهتمّ، فإنّ رؤياك فتنة لهم، فأنزل الله {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. وأخرج ابن جرير، من حديث سهل بن سعد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث يعلى بن مرّة، ومن مرسل سعيد بن المسيب نحوها، وأسانيدها ضعيفة. قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ...} الآية، أخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس، قال: لما ذكر الله الزقّوم خوّف به هذا الحيَّ من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزقُّوم الذي يخوفكم به محمدٌ؟ قالوا: لا، قال: الثريد بالزبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنّها زقمًا، فأنزل الله ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[53]

{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا}، وأنزل {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)}. التفسير وأوجه القراءة 53 - {وَقُلْ} يا محمد {لِعِبادِي} المؤمنين إذا أردتم إتيان الحجّة على المخالفين، فأذكروها غير مخلوطة بالشتم والسب، فيقابلونهم بمثله، ولا يخاشنوهم بل {يَقُولُوا} لهم الكلمة {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كأن يقولوا لهم: يهديكم الله، ولا يتخاشنوا معهم في الكلام، كأن يقولوا لهم: إنكم من أهل النار، فإنه يهيّجهم إلى الشر؛ أي: وقل لعبادي يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشّتم والسّبّ والأذى، ونظير الآية قوله: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وقوله: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} روي أنّ الآية نزلت في عمر بن الخطاب، ذلك أنّ رجلا شتمه، فسبّه عمر وهمّ بقتله، فكادت تثير فتنة، فأنزل الله الآية، ثمّ علّل ذلك بقوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}؛ أي: يفسد ويلقي العداوة بينهم؛ أي: إنّ الشيطان يفسد بين المؤمنين والمشركين، ويهيّج الشرّ بينهم، فينتقل الحال من الكلام إلى الفعال، ويقع الشر والمخاصمة، ومن ثمّ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإنّ الشّيطان ينزغ في يده، فربما أصابه بها، وفي الحقيقة: المعلل محذوف يعلم بطريق المفهوم، تقديره: ولا يقولوا غير الأحسن، وهو القول الخشن على النفوس، لأنّ الشيطان ينزغ بينهم. روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرة من النار» وروي أيضًا عن رجل من بني سليط قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في رفلةٍ - جماعة - من النّاس فسمعته يقول: «والمسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ووضع يده على صدره» ثم بيّن سبب نزغ الشيطان

[54]

للإنسان بقوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ} في قديم الزمان {لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا}؛ أي: ظاهر العداوة؛ أي: إن بين الشيطان والإنسان عداوة قديمةً، مستحكمة لا يريد صلاحهم أصلًا، بل يريد هلاكهم، وقد أبان عداوته، إذ أخرج أباهم من الجنة، ونزع عنه لباس النور، كما قال تعالى حكايةً عن الشيطان: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} وقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ}. وقرأ طلحة (¬1): {ينزغ} بكسر الزاي. قال أبو حاتم: لعلها لغة، والقراءة بالفتح، وقال صاحب «اللوامع» هي لغة، وقال الزمخشري هما لغتان، نحو: {يَعرِشون}، و {يَعرِشون} 54 - ثم فسر سبحانه التي هي أحسن بما علمهم النصفة - من الإنصاف - بقوله: {رَبُّكُمْ} أيها المشركون {أَعْلَمُ بِكُمْ}، أي: بعاقبتكم منَّا {إِنْ يَشَأْ} سبحانه {يَرْحَمْكُمْ} بأن يوفّقكم للإيمان، والمعرفة إلى أن تموتوا فينجيكم من العذاب {أَوْ إِنْ يَشَأْ} سبحانه {يُعَذِّبْكُمْ} بأن يميتكم على الكفر فيعذّبكم، إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم، فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل، لئلا تصيروا محرومين من السعادات الأبدية. والمعنى: أي (¬2) ربكم أيها القوم هو العليم بكم، إن يشأ رحمتكم بتوفيقكم للإيمان، والعمل الصالح .. يرحمكم، وإن يشأ يعذّبكم بأن يخذلكم عن الإيمان فتموتوا على شرككم، وفي هذا إيماء إلى أنّه لا ينبغي للمؤمنين أن يحتقروا المشركين، ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار، ويعيّروهم بذلك، فإن العاقبة مجهولة، ولا يعلم الغيب إلا الله، إلى أنّ ذلك مما يجر إلى توليد الضغينة في النفوس، بلا فائدة، ولا داع يدعو إليها، وهذا تفسير (¬3) للتي هي أحسن، وما بينهما اعتراض؛ أي: قولوا لهم: هذه الكلمة، وما يشاكلها، ولا تصرّحوا بأنهم من أهل النار، فإنه مما يهيّجهم على الشر، هذا ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[55]

وتبعه البيضاوي، وأبو السعود، وقال الجمهور: المراد بالتي هي أحسن: المحاورة الحسنة بحسب المعنى، والرحمة الإنجاء من كفار مكة، وأذاهم، والتعذيب تسليطهم عليهم، فيكون الخطاب في ربكم للمؤمنين. ثم وجّه خطابه إلى أعظم الخلق ليكون من دونه أسوة له فقال: {وَما أَرْسَلْناكَ} يا محمد رقيبا {عَلَيْهِمْ} حفيظًا لأعمالهم {وَكِيلًا} عليهم؛ أي موكولًا إليك أمورهم، ومفوّضًا إليك شؤونهم تجبرهم على الإيمان؛ أي: وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا تقسر الناس على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك بشيرًا ونذيرًا، فدارهم ولا تغلظ عليهم، ومر أصحابك بذلك، فإن ذلك هو الذي يؤثّر في القلوب، ويستهوي الأفئدة، 55 - ثم انتقلَ من علمه تعالى بهم إلى علمه بجميع خلقه، فقال: {وَرَبُّكَ} يا محمد {أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: بأحوالهم الظاهرة والباطنة، فيختار منهم لنبوته والفقه في دينه، من يراه أهلا لذلك، ويفضل بعضهم على بعض لإحاطة علمه، وواسع قدرته، ونحو الآية قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وهذا أعم من قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} لأنّ هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته، وذلك خاص ببني آدم أو ببعضهم. وفي هذا: ردٌّ عليهم حين قالوا: يبعد كل البعد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا، وأن يكون أولئك الجوع العراة كصهيب، وبلال، وخباب، وغيرهم أصحابه دون الأكابر، والصناديد من قريش، ولا يجوز (¬1) إطلاق لفظ يتيمٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لإشعاره بالتحقير حتى أفتى بعض المالكية بقتل قائله كما في «الشِّفاء» وفي ذكر (¬2) من في السموات ردّ لقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} وفي ذكر من في الأرض ردّ لقولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ أي: من إحدى القريتين مكة والطائف كالوليد بن المغيرة المخزومي، وعروة بن مسعود الثقفي، وقيل غيرهما. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

وهذا كالتوطئة لقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ}؛ أي: وعزتي، وجلالي لقد فضلنا ورفعنا بعض النبيين والمرسلين على بعض آخر منهم، بما لهم من الفضائل النفسية، والمزايا القدسيّة، وإنزال الكتب السماويّة، فخصصنا كلّا منهم بفضيلة ومزية، ففضلنا إبراهيم باتخاذه خليلًا، وموسى بالتكليم، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن الذي أعجز البشر، والإسراء والمعراج؛ أي: إن (¬1) هذا التّفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة، وبمن دونه، وبمن يستحق مزيد الخصوصية، بتكثير فضائله، وفواضله، ونحو الآية قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ}، ولا خلاف في أنّ أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورة الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أفضل من بقيتهم، ولا خلاف في أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم، ثمّ إبراهيم، فموسى، فعيسى عليهم السلام، ثمّ ذكر ما فضّل به داود، فقال: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا}؛ أي: كتابًا مزبورًا؛ أي: إن تفضيل داود لم يكن بالملك، بل كان بما آتاه الله من الكتاب، وأفرده بالذكر، لأنه ذكر في الزبور فضل محمد، وأنه خاتم النبيين، وأمته خير الأمم، وكون الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}. قال الزجاج؛ أي: فلا تنكروا تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - وإعطاءه القرآن، فقد أعطى الله داود زبورًا. اهـ. وفي هذا (¬2): رد لقول اليهود: لا نبيّ بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة، فإذا أعطى الله موسى التوراة، فلا يبعد أن يعطي داود زبورًا، وعيسى الإنجيل، ومحمدًا القرآن، ولا يبعد أن يفضل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلق، فكيف تنكر اليهود ذلك وكفّار قريش فضل محمد، وإعطاءه القرآن. والزبور (¬3) كتاب أنزل على داود يشتمل على مئة وخمسين سورةً، أطولها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) الفتوحات.

[56]

قدر ربع من القرآن، وأقصرها قدر سورة {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وكلها دعاء لله، وتحميد وتمجيد وتسبيح، ليس فيها حلالٌ ولا حرامٌ، ولا فرائضٌ ولا حدودٌ، ولا أحكامٌ، وقرأ حمزة {زبورًا} بضم الزاي. ذكره البيضاوي. ونكّر زبورا هنا (¬1)، وعرفه في الأنبياء حيث قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ} لأنهما واحد كعباس والعباس، وفي قوله: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا} إشارة إلى أن فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على داود، بقدر فضل القرآن على الزبور. 56 - {قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين والكفار قاطبة {ادْعُوا} عند حلول الشدائد بكم الأشخاص {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة {مِنْ دُونِهِ} تعالى، وعبدتموهم متجاوزين الله تعالى كعيسى، ومريم، وعزير وطائفة من الملائكة، وطائفة من الجن، وذلك أن (¬2) الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو لهم فأنزل الله عز وجل {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة مِنْ دُونِهِ وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله: {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} فإنّ هذا لا يليق بالجمادات {فَلا يَمْلِكُونَ}؛ أي: فلا يملك أولئك المعبودون، ولا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ} النازل بكم، وإزالته {عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} له، ونقله إلى غيركم، أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، والمعبود الحقّ هو الذي يقدر على كشف الضر، وعلى تحويله من حالٍ إلى حال، ومن مكان إلى مكان، فوجب القطع بأنّ هذه التي تزعمونها آلهةً ليست بآلهة. والمعنى (¬3): أي قل - يا محمد - لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أربابٌ وآلهةٌ من دونه، حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم؟ أو تحويله عنكم إلى غيركم، إنهم لا يقدرون على دفع شيءٍ من ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[57]

57 - ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضار، فقال: {أُولئِكَ} مبتدأ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} صفته، وضمير الصلة محذوف؛ أي: يدعونهم وخبر المبتدأ {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، والوسيلة القربة بالطاعة والعبادة؛ أي (¬1): أولئك الآلهة الذين يدعوهم المشركون من المذكورين، أعني: عيسى، ومريم وعزيرًا، يبتغون؛ أي: يطلبون لأنفسهم الوسيلة إلى ربهم؛ أي: القرب إلى ربهم بالطاعة والعبادة، و {أي}: في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} موصولة بدل من (واو) {يَبْتَغُونَ}؛ أي: يبتغي الذي هو أقرب منهم إلى الله القرب إليه بالعبادة، والطاعة، فكيف بمن دونه من غير الأقرب، قال في «الكواشي»: أو {أَيُّهُمْ} استفهام مبتدأ خبره أقرب، والجملة معمول لمحذوف، والتقدير: يبتغون ويطلبون القرب إليه تعالى، لينظروا أيّ المعبودين أقرب إليه تعالى، فيتوسلوا به، والمعنى؛ أي (¬2): هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم، يطلبون مجتهدين إلى ربهم، ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والعبادة، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}؛ أي: إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه ويبتغي إليه الوسيلة، والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم شأن أعلاهم، وأدناهم .. فكيف تعبدونهم. والخلاصة: آلهتهم أيضًا يطلبون القرب إليه تعالى {وَيَرْجُونَ} بفعلهم الطاعة، {رَحْمَتَهُ} تعالى {وَيَخافُونَ} بمخالفة أمره {عَذابَهُ} تعالى كدأب سائر العباد، فأين هم من كشف الضر؟ فضلا عن الإلهية، ثمّ ذكر العلّة في خوفهم من العذاب، فقال: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ} يا محمد {كانَ مَحْذُورًا}؛ أي: حقيقًا بأن يحذره كلّ أحد حتى الرسل والملائكة، فضلًا عن غيرهما، وإن لم يحذره العصاة لكمال غفلتهم بل يتعرضون له، وتخصيصه بالتعليل لما أنّ المقام مقام التحذير من العذاب، فعلى العاقل أن يترك الاعتذار، ويحذر من بطش القهار. وقرأ الجمهور (¬3): {يَدْعُونَ} بياء الغيبة، وابن مسعود، وقتادة بتاء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[58]

الخطاب، وزيدُ بن علي بياء الغيبة مبنيًا للمفعول، وقرأ الجمهور {إِلى رَبِّهِمُ} بضمير الجمع الغائب، وقرأ ابن مسعود {إلى ربك} بالكاف خطابًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -. 58 - ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها، فقال: {وَإِنْ} نافية {مِنْ} استغراقية {قَرْيَةٍ} قال أبو السعود: المراد بها القرية الكافرة؛ أي: ما من قرية من قرى الكفّار {إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها}؛ أي: مخربوها البتة بالخسف بها، أو بإهلاك أهلها بالكلية حين ارتكبوا من عظائم المعاصي الموجبة لذلك {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ}؛ لأن (¬1) الهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة، ولا هو بطريق العقوبة، وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا. {أَوْ مُعَذِّبُوها}؛ أي: معذبوا أهلها على الإسناد المجازي {عَذابًا شَدِيدًا} بالقتل والقحط، والزلازل، ونحوها من البلايا الدنيوية، والعقوبات الأخروية؛ لأن التعذيب مطلق عمّا قُيِّد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة، وكثير من القرى العاصية قد أخرت عقوباتها إلى يوم القيامة، هذا ما ذهب إليه أبو السعود، ولا يخفى أن هذا التعميم لا يناسب سوق الآية، وقيد القبلية معتبرٌ في الشق الثاني أيضًا، وهو لا ينافي العذاب الشديد الواقع بعد يوم القيامة، فالوجه: حمل الإهلاك على الاستئصال، والتعذيب: على أنواع البلية التي هي أشد من الموت. والمعنى (¬2): أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء، ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب بسبب ذنوبهم، وخطاياهم، كما قال سبحانه عن الأمم الماضية: {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وقال: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْرًا (9)}، وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ} الآية، {كَانَ ذلِكَ} المذكور من الإهلاك والتعذيب {فِي الْكِتابِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ، أو في علم الله {مَسْطُورًا}؛ أي: مثبتًا، أو مكتوبًا لم يغادر منه شيء إلا بيّن فيه كيفياته وأسبابه الموجبة له، ووقته المضروب له. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[59]

وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب؛ فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر، وما هو كائن إلى يوم القيامة». 59 - وكان كفار قريش يقولون: يا محمد إنّك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سُخِّرت له الريح، ومنهم من كان يحي الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك، ونصدّقك .. فادع ربَّك أن يجعل لنا الصّفا ذهبا، فأجاب الله عن هذه الشّبهة بقوله: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} {الباء} زائدة، وأن المصدرية في محل النصب بـ {مَنَعَنا} على كونه مفعولا ثانيا له؛ أي: وما (¬1) صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحتها قريش من إحياء الموتى، وقلب الصّفا ذهبا، ورفع جبال مكة لتنبسط الأرض، وتصلح للزراعة، وإجراء الأنهار لتحصل الحدائق ونحو ذلك، و {أن} في قوله: {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} في محل رفع على المفعولية والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء؛ أي: وما منعنا عن إرسالها شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين، الذين هم أمثالهم في الطبع، كعاد، وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا تكذيب أولئك واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنّتنا، وقد قضينا أن لا نستأصلهم؛ لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن، ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ} معطوف على معلوم من السياق كأنه (¬2) قيل: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون، حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرة، فكذبوها، وآتينا ثمود الناقة حالة كونها {مُبْصِرَةً} بكسر الصاد؛ أي: مبيّنة مظهرة لنبوة صالح {فَظَلَمُوا} أنفسهم بتكذيبهم. {بِهَا} وأقبلوا أنفسهم للهلاك بعقرها؛ أي: لم يكتفوا بمجرد الكفر بها، بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر، وظلموا أنفسهم، وعرضوها للهلاك بسبب عقرها، ولعلّ تخصيصها بالذكر، لأنّ آثار ديارهم الهالكة باقية في ديار العرب، قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم، ومعنى الآية؛ أي (¬3): إنّه تعالى لو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

أظهر تلك المعجزات القاهرة، ثمَّ لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم .. لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هي سنتنا في الأمم السّالفة، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون لأن الله علم أن فيهم من سيؤمنون، أو يؤمن أولادهم، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، ولم يظهر لهم تلك المعجزات. والخلاصة: أنه ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها، وكذّب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله في عباده. وأخرج البيهقي في «الدلائل» عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم» فقالوا: لا نريدها. ثمّ بيّن: أنَّ الآيات التي التمسوها هي مثل آية ثمود، وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها، فاستحقّوا العذاب، فكيف يتمنّى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح، كما قال: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها} وهذا معطوف على محذوف كما سبق آنفا؛ أي: وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات، فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة، دالّةً على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها، فكفروا بها، ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله تعالى، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر. وقرأ الجمهور (¬1): {ثَمُودَ} ممنوع الصرف، وقال هارون: أهل الكوفة ينوّنون ثمود في كل وجه، وقال أبو حاتم: لا تنوّن العامّة والعلماء بالقرآن ثمود في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة، ونحن نقرؤها بغير ألف انتهى. وانتصب مبصرةً على الحال، وهي قراءة الجمهور، وقرأ زيد بن عليّ {مبصرةٌ} بالرفع على إضمار مبتدأ؛ أي: هي مبصرةٌ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز، لما كانت يبصرها الناس، والتقدير: آيةٌ مبصرةٌ، وقرأ قوم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[60]

بفتح الصاد، اسم مفعول؛ أي: يبصرها الناس، ويشاهدونها، وقرأ قتادة: بفتح الميم والصاد، مفعلة من البصر؛ أي: محل إبصار، أجراها مجرى صفات الأمكنة، نحو: أرض مسبعة، ومكان مضبّة. {وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ} المقترحة {إِلَّا تَخْوِيفًا} من نزول العذاب المستأصل على المقترحين، فإن لم يخافوا ذلك، نزل أو بغير المقترحة، كالمعجزات، وآثار القرآن، إلّا تخويفًا بعذاب الآخرة، فإنّ أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة كرامة لك. أو المعنى؛ أي: إنّ الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذكرون، فيرجعوا. ذكر المؤرخون أنّ الكوفة رجفت - زلزلت - في عهد ابن مسعود، فقال: أيها النّاس إنّ ربّكم يستعتبكم فأعتبوه، وروي أنّ المدينة زلزلت في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرات، فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ، وفي الحديث الصحيح: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنّهما لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، ولكن الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره» ثم قال: «يا أمّة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمّته» يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم .. لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرًا»، 60 - ثم قال سبحانه محرّضًا رسوله على إبلاغ رسالته، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس. {وَإِذْ قُلْنا لَكَ} أي: واذكر يا محمد إذ أوحينا إليك {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} أي: علمًا وقدرةً فهم في قبضته فامض لأمرك، ولا تخف أحدًا؛ أي: واذكر إذ أوحينا إليك أنّ ربك هو القادر على عباده، وهم في قبضته، وتحت قهره، وغلبته، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه، وقدره، وقد عصمك من أعدائك، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وخلاصة ذلك: أن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته وتظهر دينه قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه، ويؤيّد هذا قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)}.

{وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ}؛ أي: أريتها ليلة الإسراء {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} أي إلّا امتحانًا، واختبارًا للناس، فأنكرها قوم وكذبوا بها، وكفر كثير ممن كان قد آمن به، وازداد المخلصون إيمانًا، والمراد بالرؤيا: ما عاينه عليه السلام ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء، والتعبير عن ذلك بالرؤيا: إمّا لأنه لا فرق بينه وبين الرؤيا كما في «الكواشي» الرؤيا تكون نومًا ويقظةً كالرؤية، أو لأنها وقعت بالليل، وتقضت بالسرعة، كأنها منامٌ، أو لأن الكفرة قالوا: لعلّها رؤيا، فتسميتها رؤيا على قول المكذبين، قال في «الحواشي السعدية»: قد يقال: تسميتها رؤيا على وجه التشبيه والاستعارة لما فيها من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات. انتهى. وقوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} معطوف على الرؤيا، والمراد بلعنها فيه: لعن طاعمها على الإسناد المجازي، أو إبعادها عن الرحمة، فإنّ تلك الشجرة التي هي الزقوم، تنبت في أصل الجحيم، في أبعد مكان من الرحمة؛ أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة؛ أي: الملعون آكلها المذكورة في القرآن، أو المذمومة، أو المؤذية؛ لأن العرب تقول لكل طعام ضار ملعون، إلا فتنة واختبارا للنّاس، فإنهم حين سمعوا {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)} اختلفوا: فقوم ازدادوا إيمانًا، وقوم ازدادوا كفرًا، كأبي جهل إذ قال: إنّ ابن أبي كبشة - يعني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - توعّدكم بنار تحرق الحجارة، ثمّ يزعم أنها تنبت شجرة، وتعلمون أنّ النار تحرق الشجر ولقد ضلوا في ذلك ضلالًا بعيدًا، حيث كابروا قضيّة عقولهم، فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا يضرّها، ويشاهدون المناديل المتّخذة من وبر السمندل تلقى في النار، ولا تؤثر فيها، والسمندل: هي دويبة في بلاد الترك، يتخذ من وبره مناديل، فإذا اتسخت طرحت في النار، فيذهب وسخها، وتبقى هي سالمة لا تعمل فيها النّار، قال في «الكشاف»: وقد فات هؤلاء أنّ في الدنيا أشياء كثيرةٌ لا تحرقها النار. والخلاصة: أنّ هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة {وَنُخَوِّفُهُمْ}؛ أي: ونخوف كفّار مكّة بمخاوف الدنيا، والآخرة {فَما يَزِيدُهُمْ} التخويف {إِلَّا

[61]

طُغْيانًا كَبِيرًا} وعتوًا متجاوزًا الحدّ؛ أي: إلا تماديًا في الطغيان والضلال، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها .. لم يزدادوا بها إلّا تمرّدًا، وعنادًا، واستكبارًا في الأرض، وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة، من عذاب الاستئصال، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم، إلى حلول الطامة الكبرى، والكلام مسوق لتسليته - صلى الله عليه وسلم - على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة، إلى إنزال الآيات المقترحة، لمخالفتها للحكمة من الحزن، لطعن الكفار، إذ ربّما يقولون: لو كنت رسولًا حقًا .. لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء والمرسلين. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} عطفًا على الرؤيا، فهي مندرجة في الحصر؛ أي: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، والشّجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس، وقرأ زيد بن علي برفع {وَالشَّحَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} على الإبتداء، والخبر محذوف تقديره: كذلك؛ أي: فتنة وقرأ الأعمش {ويُخَوّفُهم} بياء الغيبة، والجمهور بنون العظمة. 61 - وذكر سبحانه وتعالى قَصَصَ آدم مع إبليس في سبع سور: البقرة، الأعراف، الحجر، الإسراء، الكهف طه، ص، وقد تقدم الكلام فيها فيما سلف من تلك السور، وها نحن نفسرها في هذه السورة {وَ} اذكر يا محمد لقومك قصّة {إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ}، أي: قصّة وقت قولنا للملائكة {اسْجُدُوا لِآدَمَ} تحيّة، وتكريمًا لما له من الفضائل المستوجبة لذلك. وفي الحقيقة (¬2): كانت السجدة للحق تعالى، وكان آدم بمثابة الكعبة قبلةً للسجود، {فَسَجَدُوا}؛ أي: سجدت الملائكة كلهم أجمعون من غير تباطؤ، أداء لحقه عليه السلام، وامتثالا لأمره تعالى، فدل ائتمارهم بأوامر الحق، والانتهاء عن نواهيه على السعادة الأزليّة، {إِلَّا إِبْلِيسَ} فإنه أبى واستكبر فدل استكباره ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[62]

وإباؤه على الشقاوة الأزلية، إذ الأبد مِرآةُ الأزل، يظهر فيها صورةُ الحال سعادةً وشقاوةً. قال في «بحر العلوم»: استثني (¬1) إبليس من الملائكة وهو جنّيّ؛ لأنه قد أمر بالسجود معهم، فغلّبوا عليه تغليب الرجال على المرأة، في قولك: خرجوا إلا فلانة، ثُمَّ استثني الواحد منهم استثناء متصلًا. {قالَ}؛ أي: إبليس اعتراضًا، وعجبًا، وتكبرًا، وإنكارًا عندما وبَّخه الله تعالى بقوله: {يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} {أَأَسْجُدُ}، وأنا مخلوق من العنصر العالي، وهو النار {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}؛ أي: لمن خلقته من طين؛ أي: ما صح مني أن أسجد له واستحال ذلك مني، لأنَّ الاستفهام فيه إنكاري، فهو بمعنى النفي. وحاصل المعنى: أي (¬2) واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس، استكبر وأبى أن يسجد له افتخارًا عليه، واحتقارًا له، وقال: أأسجد لمن خلقته من الطين، وأنا مخلوق من النار، كما جاء في الآية الأخرى {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فكفر بنسبة ربه إلى الجور بتخيّله أنه أفضل من آدم من قبل وأنّ الفروع ترجع إلى الأصول، وأنّ النّار - التي هي أصله - أكرم من الطين الذي هو أصل آدم، وقد فاته أنّ الطّين أنفع من النار، ولئن سلم غير هذا، فالأجسام كلّها من جنس واحد، والله هو الذي أوجدها من العدم، ويفضل بعضها على بعض، بما يحدث فيها من الأعراض، فاستحقّ اللعن والطرد والبعد. 62 - {قالَ}؛ أي: إبليس أيضًا بعد الاستنظار لربه، جرأة وكفرا، والربّ يحلم وينظر {أَرَأَيْتَكَ}؛ أي: أخبرني يا إلهي {هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}، أي: أخبرني عن هذا الذي فضّلته علي، لم فضلته علي، وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين، وهل يوجد ما يدعو إلى تفضيله عليّ، وهذا كلام قاله على وجه التعجب والإنكار؛ أي: ¬

_ (¬1) السمرقندي. (¬2) المراغي.

[63]

قال إبليس بعدما لعن وطرد وأبعد إظهارا للعداوة، وإقدامًا على الحسد: وعزتك وجلالك {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ}؛ أي: لئن أنظرتني حيًّا إلى يوم القيامة {لَأَحْتَنِكَنَّ}؛ أي: لأستأصلنّ ولأغوينّ {ذُرِّيَّتَهُ} وأولاده، ولأستولين عليهم استيلاء قويًا بالإغواء والإضلال، أو لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها {إِلَّا قَلِيلًا} منهم لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، وهذا القليل هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} وإنما (¬1) أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره، لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده، وتنفق لديهم وسوسته، إلا من عصم الله تعالى، ويؤيّد هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} فإنه يفيد، أنه قال ما قاله هنا اعتمادًا على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} وقيل: علم ذلك من طبع البشر؛ لما ركّب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزما، كما روي عن الحسن. وقرأ ابن كثير (¬2)، ونافع وأبو عمرو {وأخرتني} بياءٍ في الوصل، ووقَفَ ابن كثير بالياء، وقرأ ابن عامرٍ، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في وصل ولا في وقفٍ، هذا كله في حرف هذه السورة، أَمَّا الذي في المنافقون في قوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} فالياء ثابتة للكل لثبوتها في الرسم الكريم، اهـ «سمين». 63 - ثمّ ذكر سبحانه أنه أجابه إلى النّظرة، وأخره إلى يوم الوقت المعلوم بقوله: {قالَ} الله سبحانه وتعالى لإبليس اللعين: {اذْهَبْ} على طريقتك السوء بالإغواء والإضلال، أو امض لشأنك الذي اخترته، ولما سولته لك نفسك، وقد أخرتك، وهذا كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) زاد المسير.

[64]

وفي «بحر العلوم» (¬1): ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيءِ، بَلْ معناه: امض لما قصدته، أو طردت له، تخلية بينه وبين ما سولت له نفسه، أو هو على وجه الإهانة والتهديد، تقول لمن لا يقبل منك: اذهب وكن على ما اخترت لنفسك. {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} على الضلالة {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ}؛ أي: جزاؤك وجزاؤهم، فغلّب المخاطب رعاية لحق المتبوعية، {جَزاءً مَوْفُورًا} نصب على المصدرية بإضمار فعله؛ أي: تجزون جزاء مكملًا من وفر الشيء إذا كمل. والمعنى: فمن أطاعك من ذرية آدم، وضلَّ عن الحق، فإن جزاءك على دعائك إياهم، وجزاءهم على اتباعهم لك وخلافهم أمري جزاءٌ موفور، لا ينقص لكم منه شيءٌ بما تستحقون من سيء الأعمال، وما دنّستم به أنفسكم من قبيح الأفعال، 64 - ثم قال تعالى مهددًا له: {وَاسْتَفْزِزْ}؛ أي: استزل واستخف وأزعج وحرك {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ}؛ أي: من ذرية آدم استزلاله وإزعاجه {بِصَوْتِكَ}؛ أي: بوسوستك ودعائك إلى معصية الله تعالى، وقيل: أراد بصوتك الغناء، والمزامير، واللهو واللعب {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: وصح على من استطعت من ذرية آدم مصحوبًا {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}؛ أي: بأعوانك وأنصارك الركاب والمشاة. فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو ماش في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده، وفي «الكواشي» (¬2): جلب وأجلب واحدٌ بمعنى: الحث والصياح؛ أي: صح عليهم بأعوانك، وأنصارك من راكب وراجل من أهل الفساد، والخيل الخيّالة بتشديد الياء، وهي أصحاب الخيول، والرّجل بالسكون بمعنى الراجل، وهو من لم يكن له ظهر يركبه. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: إن خيلًا ورجلًا من الجن والإنس، فما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس. ¬

_ (¬1) السمرقندي. (¬2) روح البيان.

وقال الزجاج (¬1): أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك، فالإجلاب: الجمع و {الباء} في بخيلك زائدة، وقال أبو زيد: فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله. {وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ} بحملهم على كسبها أو جمعها من الحرام، والتصرّف فيها على ما لا ينبغي من الربا، والإسراف، ومنع الزكاة وغير ذلك، وقال الحسن: مرهم أن يكسبوها من خبيثٍ، وينفقوها في حرام. {وَ} شاركهم في {الْأَوْلادِ} بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة، والوأد، والإشراك كتسميتهم بعبد اللات، وعبد العزى، وعبد مناة، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة، والحرف الذميمة، والأفعال القبيحة. وقال الشوكاني: أمّا المشاركة في الأموال (¬2): فهي كل تصرف فيها يخالف ميزان الشرع سواء كان أخذًا من غير حق، أو وضعًا في غير حق، كالغصب والسرقة، والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام، وجعلها بحيرةً وسائبة، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا، وتسميتهم بعبد اللات، وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر، وأفعال السوء، ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات، وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشّيطان للمجامع إذا لم يسمّ. اهـ. وقرأ الجمهور (¬3): {ورَجْلِك} بفتح الراء وسكون الجيم، وهو اسم جمع واحده راجلٍ كركبٍ، وراكب، وقرأ الحسن وأبو عمرو - في رواية - وحفص بكسر الجيم - قال صاحب - «اللّوامح»: بمعنى الرجال، وقرأ قتادة وعكرمة {ورجالك} وقرىء {ورجَّل لك} بضم الراء وتشديد الجيم {وَعِدْهُمْ} المواعيد الباطلة، والأماني الكاذبة، وأخبرهم الأخبار العاطلة الغارة لهم كشفاعة الآلهة، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح القدير. (¬3) البحر المحيط.

[65]

والاتكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة بتطويل الأمل، وإخبارهم أن لا جَنَّةَ ولا نارَ ونحو ذلك. وخلاصة ذلك (¬1): أنه يُغويهم بأن لا ضرر من فعل هذه المعاصي، فإنه لا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، وإنها سبيل اللذَّة والسُّرور، ولا حياة للإنسان إلّا بها، فتفويتها غبنٌ وخسرانٌ وقال الشاعر: خذوا بنصيبٍ من سرورٍ ولذّةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصَّرم وينفِّرهم من الطاعة بأن لا فائدة فيها، إذ لا رجعة بعد هذه الحياة، فهي عبثٌ محضٌ. فهذه بعض تلبيسات الشيطان، وهذه خدعة. قال في «بحر العلوم» (¬2): هذه الأوامر المذكورة كلّها واردة على طريق التهديد كقوله للعصاة: اعملوا ما شئتم، وقيل: على سبيل الخذلان والتخلية اهـ. {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا}؛ أي: إلا باطلًا؛ أي: وما يخبرهم من الأماني الكاذبة، إلّا خبرا باطلًا عاطلًا، لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله شيئًا إذا نزل بهم، فمواعيده خدعة. يزينها لهم، ويلبّسها ثوب الحق كما قال إبليس إذ حصحص الحقّ يوم يقضي ربّك بالحق: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. 65 - وهذه الجملة (¬3) اعتراض واقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان {إِنَّ عِبادِي} الذين أطاعوني، فاتّبعوا أمري، وعصوك {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على إغوائهم وإضلالهم {سُلْطانٌ} أي: تسلّطٌ وقدرةٌ، فلا تقدر أن تغويهم، وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإني قد وفقتهم بالتوكّل عليّ فكفيتهم أمرك، والإضافة في قوله: عبادي للتشريف، وفيه تعريضٌ بأنّ من تبعه ليس منهم. {وَكَفى بِرَبِّكَ}؛ أي: مالك أمرك ومغويك وخاذلك يا إبليس من جهة كونه: {وَكِيلًا} أي: حافظًا لهم، فهم يتوكلون عليه، ويستمدون منه العون في الخلاص من إغوائك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) السمرقندي. (¬3) المراح.

[66]

ووسوستك، وفي الآية إيماءٌ إلى أنّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز (¬1) بنفسه عن مواقع الضلال؛ لأنه لو كان الإقدام على الحق والإحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه .. لوجب أن يقال: وكفى بالإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان، فلما لم يقل ذلك، بل قال: وكفى بربك وكيلًا .. علمنا أنّ الكلّ من الله تعالى، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوّة على طاعة الله إلّا بقوته. اه كرخي. 66 - وقوله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} تعليل (¬2) لكفايته، وبيانٌ لقدرته على عصمة من توكل عليه في أموره، وهذا شروع في تذكير بعض النعم عليهم، حملًا لهم على الإيمان. اه شيخنا {رَبُّكُمُ} مبتدأ خبره {الَّذِي}؛ أي: مالككم هو القادر الحكيم الذي {يُزْجِي} ويجري ويسوق بقدرته الكاملة {لَكُمُ}؛ أي: لمنافعكم {الْفُلْكَ}؛ أي: السفن فِي الْبَحْرِ قال في «القاموس»: البحر الماء الكثير، {لِتَبْتَغُوا}؛ أي: لتطلبوا {مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: من رزق هو فضل من قبله؛ أي: لتبتغوا الرّبح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم. اهـ بيضاوي. و {مِنْ} زائدة في المفعول {إِنَّهُ كانَ} أزلا وأبدا {بِكُمْ رَحِيمًا} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه، وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه، فالمراد: الرّحمة الدنيوية، والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة. والمعنى: أي إنّ ربكم أيها القوم، هو القادر الحكيم، الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة، أو بالآلات البخارية، أو الكهربائية لتسهيل نقل أقواتكم، وحجاجكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها، والعكس بالعكس، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر، ابتغاء للرزق أو للسياحة، ورؤية مظاهر الكون على اختلاف الأصقاع، مما يرشد على باهر القدرة، ووافر النعمة عليكم، إنه كان بكم رحيمًا، إذ سهل ما فيه الفوائد المرجوّة لكم في هذه الحياة، 67 - ثم خاطب الكفار، بقوله: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}؛ أي: الشدّة، وخوف ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) زاده.

[68]

الغرق {فِي الْبَحْرِ ضَلَّ}، وذهب، وغاب عن أوهامكم وخواطركم {مَنْ تَدْعُونَ}؛ أي: كلّ من تدعون، وتستغيثون به من حوادثكم، من الأصنام وغيرها. {إِلَّا إِيَّاهُ}؛ أي: إلا الله تعالى، وحده، فإنّكم لا تذكرون سواه، ولا يخطر ببالكم غيره؛ لأنه القادر على إغاثتكم ونجاتكم. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل (¬1): {ضل من يدعون} بالياء، والمعنى؛ أي: وإذا نالتكم شدّة جهد في البحر، ذهب عن خواطركم كل من تدعونه، وترجون نفعه من صنم، أو جن، أو ملك، أو بشر، أو حجر، فلا تذكرون إلا الله، ولا يخطر على بالكم سواه، لكشف ما حل بكم. وخلاصة ذلك: أنكم مسّكم الضر دعوتم الله منيبين إليه، مخلصين له الدين {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ}؛ أي: أجاب دعاءكم، وأنجاكم من هول البحر وشدته، وأخرجكم {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}؛ أي: عن الإيمان والإخلاص، والطاعة، ورجعتم إلى عبادة الأوثان، وكفرتم النّعمة وهو قوله تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ}؛ أي: جنس الإنسان {كَفُورًا}؛ أي: كثير الكفران للنعمة، ولم يقل (¬2): وكنتم كفورا ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، والمعنى: أي (¬3) ومن عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه، وأغاثكم، وأجاب دعاءكم، ونجّاكم من هول ما كنتم فيه في البحر، أعرضتم عن الإخلاص، ورجعتم إلى الإشراك به كفرا منكم بنعمته، ثمّ علل هذا الإعراض بقوله: {وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا}؛ أي: وكانت سجية الإنسان وطبيعته أن ينسى النّعم ويجحدها إلا من عصمه الله تعالى. وخلاصة ما سلف: أنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته، وحين الرخاء تعرضون عنه، 68 - ثمّ حذر من كفران نعمته فقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ} و {الهمزة} فيه للاستفهام الإنكاري. و {الفاء} عاطفة على محذوف، والخطاب فيه للسابق ذكرهم، والتّقدير: أنجوتم فأمنتم أيها الناجون المعرضون ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

عن صنع الله الذي نجاكم من أن يخسف الله سبحانه وتعالى ويقلب جانب البر وناحيته الذي كنتم عليه حالة كون ذلك الجانب مصحوبا بكم، فيحصل بخسفه إهلاككم، و {بِكُمْ} حال من جانب البر، وهو مفعول به لخسف، والمعنى: إنّ الجهات كلّها له، وفي قدرته برًّا كان أو بحرًا، بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله، وهو الخسف لأنه يغيّب تحت الثرى كما أنّ الغرق يغيّب تحت الماء .. اهـ خازن. قال الزمخشري (¬1): و {الفاء} للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم انتهى، وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أنّ {الفاء} و {الواو} في مثل هذا التركيب للعطف على محذوفٍ بين الهمزة وحرف العطف، وأنّ مذهب الجماعة أن لّا محذوف هناك، وأنّ الفاء والواو للعطف على ما قبلها، وأنه اعتني بهمزة الاستفهام، لكونها لها صدر الكلام، فقدمت، والنية التأخير، وأن التقدير: أفأمنتم، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة. {أَوْ} أمنتم {أن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} من فوقكم {حاصِبًا}؛ أي: ريحًا ترمي الحصباء، وهي الحصى الصغار، يرجمكم بها فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر، وقيل: أي أو يمطر عليكم حصباء كما أرسلها على قوم لوط، وأصحاب الفيل، {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}؛ أي: حفظيا يحفظكم من ذلك، وناصرا يصرفه عنكم، فإنه لا رادّ لأمره الغالب. والمعنى: أي أفحسبتم (¬2) أنكم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقام الله وعذابه، فهو إن شاء .. خسف بكم جانب البر وغيّبه في أعماق الأرض، وأنتم عليها، وإن شاء .. أمطر عليكم حجارةً من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط، ثمّ لا تجدون من تكلون إليه أموركم، فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا. وخلاصة ذلك: إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[69]

فوقكم بريح يرسلها عليكم، فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر. 69 - و {أَمْ} في قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ} منقطعة تقدر بـ {بل} وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أأمنتم {أَنْ يُعِيدَكُمْ} الله سبحانه وتعالى {فِيهِ}؛ أي: في البحر بعد خروجكم إلى البر وسلامتكم {تارَةً}؛ أي: مرة {أُخْرى} بخلق دواعٍ وأسباب تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه، فإسناد (¬1) الإعادة إليه تعالى مع أنّ العود إليه باختيارهم باعتبار خلق تلك الدواعي الملجئة، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لاقوه في التارة الأولى، بحيث لولا الإعادة لما عادوا، وأوثرت كلمة (في) على كلمة (إلى) المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه. {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} وأنتم في البحر {قاصِفًا}، أي: شديدًا {مِنَ الرِّيحِ} كاسرًا لما مر عليه، والقاصف من الريح هي التي لا تمر بشيء إلا قصفته؛ أي: كسرته، وجعلته كالرميم، وذكّر قاصفا؛ لأنه ليس بإزائه ذكر فجرى مجرى حائض كما في «الكواشي» {فَيُغْرِقَكُمْ} سبحانه بعد كسر فلككم كما ينبىء عنه عنوان القصف {بِما كَفَرْتُمْ}؛ أي: بسبب إشراككم وكفرانكم، لنعمة الإنجاء {ثُمَّ لا تَجِدُوا} ناصرًا {لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ}؛ أي: بإغراقكم {تَبِيعًا}؛ أي: ثائرًا، ولا طالبًا يطالبنا بثأر إغراقكم، أو بصرفه عنكم، والمعنى؛ أي: أم أمنتم أيها المعرضون عنّا بعدما اعترفتم بتوحيدنا في البحر، حتى خرجتم إلى البر، أن يعيدكم فيه مرّة أخرى فيرسل عليكم ريحا تقصف السّواري، وتغرق المراكب بسبب كفركم، وإعراضكم عن الله، ثمّ لا تجدوا لكم نصيرا يعينكم، ويأخذ بثأركم، وقال قتادة في تفسيرها: أي: لا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء ممّا فعلنا، يريد أنكم لا تجدون ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا، أو دركا للثأر من جهتنا، وفي معنى الآية قوله: {فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)}، وفي الآية وعيد أيما وعيد، فكأنه قيل: ننتقم منكم من غير أن يكون لكم نصيرٌ يدفع عنكم شديد بأسنا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقرأ ابن كثير (¬1)، وأبو عمرو، {نخسف} و {أو نرسل} و {أن نعيدكم} و {فنرسل} و {فنغرقكم} خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة، وقرأ مجاهد، وأبو جعفر، فتغرقكم بتاء الغائبة مسندًا إلى الريح، وقرأ الحسن، وأبو رجاء، فيغرقكم بياء الغيبة وفتح الغين، وشدّ الراء عداه بالتضعيف، والمقرىء لأبي جعفر كذلك إلّا بتاء الغيبة، وقرأ حميد بالنون، وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن، وقرأ الجمهور من الريح بالإفراد، وأبو جعفر من الرياح جمعًا، والله أعلم. الإعراب {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}. {وَقُلْ} {الواو} عاطفة أو استئنافية {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على ما سبق من الأوامر، ليستكمل التعاليم التي بها قوام أمورهم، أو مستأنفة {لِعِبادِي} جار ومجرور متعلق به، {يَقُولُوا} فعل مضارع بمعنى يذكروا .. مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون، و {الواو} فاعل {الَّتِي} في محل النصب على المفعولية على كونها صفة للموصوف المحذوف، تقديره: يقولوا الكلمة التي هي أحسن، والمراد بالكلمة: الكلمة اللغوية، على حد قول ابن مالك: وكلمة بها كلام قد يؤم {هِيَ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، {إِنَّ الشَّيْطانَ} ناصب واسمه {يَنْزَغُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطانَ} {بَيْنَهُمْ} ظرف، ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {إِنَّ الشَّيْطانَ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الشيطان {لِلْإِنْسانِ} جار ومجرور متعلق بـ {عَدُوًّا} {عَدُوًّا} خبر {كانَ} {مُبِينًا} صفة لـ {عَدُوًّا}، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وجملة {إِنَّ} مسوقة لتعليل قوله: {يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {بِكُمْ} متعلق بـ {أَعْلَمُ} {إِنْ يَشَأْ} جازم وشرط مجزوم، وفاعله ضمير يعود على الرب {يَرْحَمْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة الشرطية مستأنفة {أَوْ} حرف عطف وتفصيل {إِنْ يَشَأْ} جازم وفعل مجزوم وفاعله ضمير يعود على الرب {يُعَذِّبْكُمْ} فعل ومفعول مجزوم على كونه جواب الشرط، والجملة الشرطية معطوفة على الشرطية الأولى {وَما} {الواو} عاطفة {ما} نافية {أَرْسَلْناكَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة الشرط {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {وَكِيلًا} {وَكِيلًا} حال من الكاف في {أَرْسَلْناكَ} أي: وما أرسلناك إليهم حالة كونك موكولًا إليه أمرهم فتحاول هدايتهم. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا}. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} {بِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} {فِي السَّماواتِ} جار ومجرور صلة {من} الموصولة {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّماواتِ} {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية و {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مستأنفة {عَلى بَعْضٍ} جار ومجرور متعلق بـ {فَضَّلْنا} {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {فَضَّلْنا}. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56)}. {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {ادْعُوا الَّذِينَ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {ادْعُوا الَّذِينَ} فعل

وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ} {زَعَمْتُمْ} فعل وفاعل ومفعولا {زعم} محذوفان للعلم بهما، تقديره؛ زعمتموهم آلهةً، وجملة زعم صلة الموصول {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور حال من الموصول، لأن في الكلام تقديمًا، وتأخيرًا، تقديره: قل ادعوا الذين من دونه، زعمتم أنهم شركاء لله، فلا يرد السؤال، كيف قال من دونه مع أنّ المشركين، ما زعموا غير الله إلها دون الله، بل مع الله على وجه الشركة اهـ كرخي. {فَلا} {الفاء} استئنافية {لا} نافية {يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} فعل وفاعل {عَنْكُمْ} متعلق بـ {كَشْفَ}، والجملة الفعلية مستأنفة، {وَلا} {الواو} عاطفة لا نافية {تَحْوِيلًا} معطوف على {كَشْفَ الضُّرِّ}. {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا (57)}. {أُولئِكَ} مبتدأ واقع على الذين زعموهم آلهة من العقلاء {الَّذِينَ} بدل من {أُولئِكَ}، أو عطف بيان عليه {يَدْعُونَ} فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونهم {يَبْتَغُونَ} فعل وفاعل {إِلى رَبِّهِمُ} متعلق بـ {الْوَسِيلَةَ} {الْوَسِيلَةَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ويجوز لك أن تعرب الذين هو الخبر، وجملة {يَبْتَغُونَ} حال من فاعل {يَدْعُونَ}. {أَيُّهُمْ} أي: اسم موصول في محل الرفع بدل من فاعل {يَبْتَغُونَ} و {الهاء} مضاف إليه {أَقْرَبُ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو أقرب والجملة صلة الموصول، ويجوز أن تعرب {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} على الابتداء، والخبر على جعل أيّ استفهامية، والجملة الاسمية في محل النصب على إسقاط الخافض على إضمار فعل التعليق، تقديره: ينظرون في أيهم أقرب، وجملة الفعل المعلق حال من فاعل {يَبْتَغُونَ}. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَبْتَغُونَ} {وَيَخافُونَ عَذابَهُ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَرْجُونَ}. {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ} ناصب واسمه، ومضاف إليه {كانَ مَحْذُورًا} فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على العذاب، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل جملة الخوف.

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (58)}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية {إِنْ} نافية {مِنْ} زائدة {قَرْيَةٍ} مبتدأ {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {نَحْنُ مُهْلِكُوها} مبتدأ، وخبر {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ} متعلق بـ {مُهْلِكُوها}، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة {أَوْ مُعَذِّبُوها} معطوف على {مُهْلِكُوها} {عَذابًا} مفعول مطلق لـ {مُعَذِّبُوها} {شَدِيدًا} صفة {عَذابًا}. {كانَ ذلِكَ} فعل ناقص واسمه {فِي الْكِتابِ} متعلق بـ {مَسْطُورًا} {مَسْطُورًا} خبر {كانَ} وجملة {كانَ} مستأنفة. {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)}. {وَما} {الواو} عاطفة أو استئنافية {ما} نافية {مَنَعَنا} فعل ومفعول أول {أَنْ نُرْسِلَ} ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على الله، ومفعول الإرسال محذوف، تقديره: نرسل رسولًا {بِالْآياتِ} جار ومجرور متعلق بـ {نُرْسِلَ} أو حال من المفعول المحذوف، تقديره: أن نرسل رسولًا حالة كونه ملتبسا بالآيات، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ (منع) تقديره؛ وما منعنا إرسال رسول بالآيات {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {أَنْ كَذَّبَ} ناصب ومنصوب {بِهَا} متعلق به {الْأَوَّلُونَ} فاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لـ {منع} تقديره: وما منعنا إرسال رسول بالآيات إلا تكذيب الأولين بها، وجملة {منع} معطوفة على جملة قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أو مستأنفة. {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة مستأنفة {مُبْصِرَةً} حال من {النَّاقَةَ}. {فَظَلَمُوا} {الفاء} عاطفة {ظلموا} فعل وفاعل {بِهَا} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْنا}. وَما {الواو} حالية {ما} نافية {نُرْسِلَ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {بِالْآياتِ} متعلق بـ {نُرْسِلَ} أو حال من المفعول المحذوف كما مر نظيره آنفًا {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {تَخْوِيفًا} مفعول لأجله منصوب بـ {نُرْسِلَ}؛ أو حال من فاعل {نُرْسِلَ} أي حالة كوننا مخوفين بها، أو من {الآيات} أي: مخوفًا بها.

{وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. {وَإِذْ} {الواو} استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى متعلق بمحذوف تقديره: واذكر لقومك قصة إذ قلنا لك {قُلْنا} فعل وفاعل {لَكَ} جار ومجرور متعلق بـ {قُلْنا}، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه {أَحَاطَ} فعل ماض {بِالنَّاسِ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {أَحاطَ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْنا} {وَما} {الواو} استئنافية {ما} نافية {جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة {الَّتِي} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {أَرَيْناكَ} {أَرَيْناكَ} فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره أريناكها، وهو العائد على الموصول، وجملة {أَرَيْناكَ} صلة الموصول {إِلَّا} أداء استثناء مفرغ {فِتْنَةً} مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا} {لِلنَّاسِ} جار ومجرور صفة لـ {فِتْنَةً}. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا}. {وَالشَّجَرَةَ} معطوف على {الرُّؤْيَا}. {الْمَلْعُونَةَ} صفة لـ {الشَّجَرَةَ}. {فِي الْقُرْآنِ} جار ومجرور حال من {الشَّجَرَةَ}؛ أي: حالة كونها مذكورة في القرآن، {وَنُخَوِّفُهُمْ} {الواو} استئنافية {نُخَوِّفُهُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {فَمَا} {الفاء} عاطفة {ما} نافية {يَزِيدُهُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على التخويف {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {طُغْيانًا} مفعول ثان {كَبِيرًا} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نخوف}. {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}. {وَإِذْ} {الواو} استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر قصّة إذ قلنا للملائكة {قُلْنا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {لِلْمَلائِكَةِ} متعلق بـ {قُلْنا} {اسْجُدُوا لِآدَمَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {اسْجُدُوا} فعل وفاعل {لِآدَمَ} متعلق به، والجملة في محل

النصب مقول {قُلْنا} {فَسَجَدُوا} {الفاء} عاطفة {سجدوا} فعل وفاعل معطوف على {قُلْنا} {إِلَّا} أداة استثناء {إِبْلِيسَ} منصوب على الاستثناء {قالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {إِبْلِيسَ} والجملة في محل النصب حال من {إِبْلِيسَ} {أَأَسْجُدُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {أَسْجُدُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {إِبْلِيسَ} والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {لِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {أَسْجُدُ} {خَلَقْتَ} فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: لمن خلقته {طِينًا} حال من من الموصولة، والعامل فيه {أَسْجُدُ} أو من العائد المحذوف، والعامل {خَلَقْتَ} أو منصوب بنزع الخافض أي: من طين أو مفعول منه، منصوب بـ {خَلَقْتَ} كقوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ}؛ أي: من قومه؛ لأن قومه مفعول به كما ذكرنا في مبحثه. {قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {إِبْلِيسَ}، والجملة مستأنفة {أَرَأَيْتَكَ} إلى قوله: {قالَ} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {أرايت} فعل وفاعل، و {الكاف} حرف دال على الخطاب لتأكيد الخطاب المفهوم من {التاء}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} {هذَا} في محل النصب مفعول أول لـ {رأيت} {الَّذِي} صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه {كَرَّمْتَ} فعل وفاعل {عَلَيَّ} متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: كرمته عليّ والمفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتَكَ} محذوف لدلالة الصلة عليه، ولا بد من كونه جملة استفهامية، والتقدير: أخبرني عن هذا الذي كرمته علي، بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته علي؛ أي: تقديره أرأيتك هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي، ولم يجبه الله تعالى عن هذا السؤال، استصغارًا لأمره، واحتقارًا لشأنه، فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثمَّ ابتدأ بالقسم فقال: {لَئِنْ} {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {أَخَّرْتَنِ} فعل وفاعل، ومفعول ونون وقاية في محل الجزم

بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أَخَّرْتَنِ} {لَأَحْتَنِكَنَّ} {اللام} موطئة للقسم مؤكدة للأولى {أحتنكن} فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنا يعود على إبليس {ذُرِّيَّتَهُ} مفعول به {إِلَّا} أداة استثناء {قَلِيلًا} مستثنى من الذرية منصوب بإلا على الاستثناء، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ} وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: إن أخرتني أحتنك ذريته إلّا قليلا وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه في محل النصب مقول {قالَ}. {قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا (63)}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {اذْهَبْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {اذْهَبْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {فَمَنْ} {الفاء} استئنافية {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما {تَبِعَكَ} فعل ومفعول في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {مِنْهُمْ} جار ومجرور حال من ضمير الفاعل في {تَبِعَكَ} {فَإِنَّ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية {إن جهنم جزاؤكم} ناصب واسمه وخبره، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة {جَزاءً} منصوب على المفعولية المطلقة بالمصدر المذكور قبله، أو بفعل محذوف تقديره: تجزون جزاء {مَوْفُورًا} صفة لـ {جَزاءً}. {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا (64)}. {وَاسْتَفْزِزْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اذْهَبْ} {مَنِ} اسم موصول في محل النصب مفعول

به {اسْتَطَعْتَ} فعل وفاعل، ومفعوله، محذوف تقديره: من استطعت استفزازه، والجملة صلة {مَنِ} الموصولة، والعائد الضمير المحذوف {مِنْهُمْ} جار ومجرور حال من {مَنِ} الموصولة، أو من العائد المحذوف {بِصَوْتِكَ} جار ومجرور متعلق بـ {اسْتَفْزِزْ} {وَأَجْلِبْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة معطوفة على جملة {اذْهَبْ} {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَجْلِبْ} {بِخَيْلِكَ} جار ومجرور حال من فاعل {أَجْلِبْ}؛ أي: حالة كونك مصحوبًا بخيلك، {وَرَجِلِكَ} معطوف على خيلك، {وَشارِكْهُمْ} فعل ومفعول معطوف على {اذْهَبْ} وفاعله ضمير يعود على إبليس فِي {الْأَمْوالِ} متعلق بـ {شارِكْهُمْ}، {وَالْأَوْلادِ} معطوف على الأموال، {وَعِدْهُمْ} فعل ومفعول معطوف على {اذْهَبْ} وفاعله ضمير يعود على إبليس، {وَما} {الواو} حالية، أو اعتراضية {ما} نافية {يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ} فعل ومفعول وفاعل {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {غُرُورًا} منصوب على المفعولية المطلقة لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا وعدا غرورا؛ أي: باطلا، والجملة المنفية في محل النصب حال من فاعل، {عِدْهُمْ}، وفي الكلام التفات أو جملة معترضة لا محلَّ لها من الإعراب لاعتراضها بين الجمل التي خاطب الله بها إبليس. اهـ كرخي. {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}. {إِنَّ عِبادِي} ناصب واسمه {لَيْسَ} فعل ماض ناقص {لَكَ} خبر {لَيْسَ} مقدم {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {سُلْطانٌ} {سُلْطانٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر؛ أي: ليس سلطان عليهم كائنًا لك، وجملة {إِنَّ} مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قالَ} {وَكَفى بِرَبِّكَ} فعل وفاعل و {الباء} زائدة في فاعل {كَفى} {وَكِيلًا} منصوب على التمييز لنسبة {كَفى} إلى فاعله، وجملة {كَفى} في محل النصب مقول {قالَ}. {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)}. {رَبُّكُمُ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل كفايته،

وبيان قدرته على عصمة من توكل عليه في أموره. اهـ زاده. {يُزْجِي} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الموصول {لَكُمُ} متعلق به {الْفُلْكَ} مفعول به {فِي الْبَحْرِ} حال من الفلك، والجملة الفعلية صلة الموصول {لِتَبْتَغُوا} {اللام} حرف جر وتعليل {تبتغوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي {مِنْ فَضْلِهِ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لابتغائكم من فضله الجار والمجرور متعلق بـ {يُزْجِي} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على الرب {بِكُمْ} متعلق بـ {رَحِيمًا} {رَحِيمًا} خبر {كانَ} وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها فهي تعليل ثان لقوله: {يُزْجِي}. {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا (67)}. {وَإِذا} {الواو} عاطفة {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {مَسَّكُمُ الضُّرُّ} فعل ومفعول، وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {فِي الْبَحْرِ} جار ومجرور حال من كاف المخاطبين تقديره: حالة كونكم في البحر {ضَلَّ} فعل ماض {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع فاعل ضل، وجملة {تَدْعُونَ} صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من تدعونه {إِلَّا} أداة استثناء {إِيَّاهُ} في محل النصب على الاستثناء من {مَنْ} الموصولة، وجملة {ضَلَّ} جواب {إِذا} لا محلّ لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة قوله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} {الفاء} عاطفة على محذوف تقديره: ولما دعوتموه تعالى نجاكم إلى البر {لما} حرف شرط غير جازم {نَجَّاكُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية فعلُ شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب {إِلَى الْبَرِّ} جار ومجرور حال من ضمير المخاطبين؛ أي: حَالَة كونكم، واصلين إلى البر، أو متعلق بـ {نَجَّاكُمْ} {أَعْرَضْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} لا

محلّ لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، {وَكانَ} {الواو} استئنافية {كانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {أَعْرَضْتُمْ}. {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)}. {أَفَأَمِنْتُمْ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، {أمنتم} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والتقدير: أنجوتم فأمنتم، والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب {أَنْ يَخْسِفَ} ناصب وفعل منصوب وفاعله ضمير يعود على الله {بِكُمْ} جار ومجرور حال من {جانِبَ الْبَرِّ} {جانِبَ الْبَرِّ} مفعول به: والتقدير أن يخسف جانب البر حالة كونه مصحوبًا بكم، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية، في تأويل مصدر مجرور، بحرف جر محذوف، تقديره: أفأمنتم من خسف الله تعالى جانب البرّ {بِكُمْ} الجار والمجرور متعلق بـ {أمنتم} {أَوْ يُرْسِلَ} معطوف على {يَخْسِفَ}، وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَيْكُمْ} متعلق به {حَاصِبًا} مفعول به {ثُمَّ} حرف عطف {لا} نافية {تَجِدُوا} فعل وفاعل معطوف على {يُرْسِلَ} {لَكُمْ} حال من {وَكِيلًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {وَكِيلًا} مفعول به لـ {وجد} فهو من وجدان الضالة يتعدى لمفعول واحد. {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا (69)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل، وهمزة الاستفهام الإنكاري {أَمِنْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ} أو مستأنفة، ويجوز أن تكون {أَمْ} متصلة؛ أي: أي الأمرين كائن {أَنْ يُعِيدَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، {فِيهِ} متعلق بـ {يعيد} {تارَةً} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {يعيد} أيضًا {أُخْرى} صفة لـ {تارَةً}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: أم أمنتم إعادتَه إيَّاكم فيه مرةً

أخرى {فَيُرْسِلَ} {الفاء} عاطفة {يرسل} معطوف على {يعيد} وفاعله ضمير يعود على الله {عَلَيْكُمْ} متعلق به {قاصِفًا} مفعول به {مِنَ الرِّيحِ} جار ومجرور، صفة لـ {قاصِفًا} {فَيُغْرِقَكُمْ} {الفاء} عاطفة {يغرقكم} فعل ومفعول معطوف على {يرسل} وفاعله ضمير يعود على الله {بِمَا} {الباء} حرف جر وسبب {ما} مصدرية {كَفَرْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء} الجار والمجرور متعلق بـ {يغرق}؛ أي: فيغرقكم بسبب كفركم، {ثُمَّ} حرف عطف {لا} نافية، {تَجِدُوا} فعل وفاعل معطوف على {يغرقكم} {لَكُمْ} جار ومجرور حال من {تَبِيعًا} لأنه كان في الأصل صفة لـ {تَبِيعًا} فقدّم عليه على حد قول أبي الطيب المتنبي: لَوْلا مفارقةُ الأَحْبَاب مَا وَجَدَتْ ... لَهَا المَنَايَا إلَى أَرْوَاحِنَا سُبُلَا فقوله: لها متعلق بمحذوف حال من سُبلًا لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، ولا يجوز تعلقه بوجدت، لأن وجد لا يتعدى باللام، وإنما يتعدَّى بنفسه، و {عَلَيْنا} متعلق بمحذوف حال من {تَبِيعًا} أيضًا، و {بِهِ} متعلق بـ {تَبِيعًا} {تَبِيعًا} مفعول لـ {تَجِدُوا}، ويجوز أن يتضمن {تَبِيعًا} بمعنى {نَاصِرًا} فيكون {عَلَيْنَا} متعلق به؛ أي: ناصرًا علينا، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} يقال: نزغ بينهم من باب نفع، إذا أفسد، وأغرى، ووسوس أي يفسد ويهيج الشر والمراء بينهم فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد، وازدياد الفساد، وفي «القاموس»: ونزغه كمنعه طعن فيه، واغتابه {وَكِيلًا}، والوكيل: هو المفوض إليه الأمر. {زَبُورًا} والزبور: اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام، وتعريف الزبور تارةً، وتنكيره أخرى إمّا لأنه في الأصل فعول بمعنى المفعول، كالحلوب أو مصدر بمعناه كالقبور، وإما لأن المراد إيتاء داود زبورا من الزبر فيه ذكره - صلى الله عليه وسلم - اهـ. {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الزعم بتثليث الزاي: القول المشكوك في صدقه: وقد يستعمل بمعنى الكذب، حتى قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله ورد فيه

«زعم» فهو كذب {لَا يَمْلِكُونَ}؛ أي: لا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ} {وَلا تَحْوِيلًا}؛ أي: إزالته عنكم، أو تحويله، ونقله عنكم إلى غيركم {الْوَسِيلَةَ} القرب إليه تعالى بالطاعة والعبادة {مَحْذُورًا}، أي يحذره، ويحترس منه كل أحد {فِي الْكِتابِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ {مَسْطُورًا}؛ أي: مكتوبًا اسم مفعول من سطر - من باب نصر - سطرًا بالسكون، وسطرًا بالتحريك، وجمع السطر بالسكون أسطر كفلس، وأفلس وجمع السطر بالتحريك: أسطارٌ كسبب، وأسباب {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ}؛ والآيات هي ما اقترحته قريش من جعل الصَّفا ذهبًا. {مُبْصِرَةً}؛ أي: ذات بصيرة، لمن يتأملها، ويتفكر فيها {فَظَلَمُوا بِها}؛ أي: فكفروا بها، وجحدوا {أَحاطَ بِالنَّاسِ}، أي: أحاطت بهم قدرته فلا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا {الرُّؤْيَا} والرؤيا هي ما عاينه - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به من العجائب. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}، أي: المؤذية، وهي شجرة الزقوم، وللعلماء في معنى الملعونة ثلاثة أقوال: أحدها: المذمومة. قاله ابن عباس. والثاني: الملعون آكلها، ذكره الزجَّاج، وقال: إن لم يكن في القرآن ذكر لعنها، ففيه لعن آكلها، قال: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار ملعون، وأما قوله: {فِي الْقُرْآنِ} فمعناه التي ذكرت في القرآن، وهي مذكورةٌ في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)}. والثالث: أن معنى الملعونة المبعدة عن منازل أهل الفضل. ذكره ابن الأنباري. وفي هذه الشّجرة أيضًا ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها شجرة الزقوم، رواه عكرمة. والقول الثاني: أنَّ الشَّجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر يعني الكشوثي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا. قال الجوهري: الكشوث نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر: هُو الْكَشُوْثُ فَلا أَصْلٌ وَلا ورقٌ ... وَلا نَسِيمٌ وَلا ظلٌّ ولا ثمرُ

والقول الثالث: أنّ الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيب ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير»، وهي أخبث الشجر المرّ، وهي تنبت بتهامة؛ وتنبت في الآخرة في أصل الجحيم، أي قعرها، وتكون طعام أهل النار {لَأَحْتَنِكَنَّ}؛ أي: لأستأصلنّ ذرّيته بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها أكلًا مأخوذ من الحنك، وقيل: معنى لأحتنكنّ لأسوقنهم، وأقودنهم حيث شئت من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وفي «المختار» حنك الفرس جعل في فيه الرسن، وبابه نصر، وضرب، وكذا احتنكه، واحتنك الجراد الأرض أكل ما عليها، وأتى على نبتها، وقوله تعالى حاكيًا عن إبليس: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} قال الفراء: لأستولين عليهم، والحنك المنقار يقال: أسود مثل حنك الغراب، وأسود حانك مثل حالك، والحنك ما تحت الذقن من الإنسان وغيره، ويقال: حنك الدابّة، واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه {اذْهَبْ}؛ أي: امض لشأنك، فقد خليتك، وما سولت لك نفسك {مَوْفُورًا}؛ أي: مكملًا لا يدخر منه شيء من قولهم: فر لصاحبك عرضه فرة؛ أي: أكمله له، قال الشاعر: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوْفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ {وَاسْتَفْزِزْ} يقال: أفزه الخوف، واستفزه؛ أي: أزعجه، واستخفه، وفي «القاموس» «والتاج»: فزّ يفزّ فزًّا من باب شد انفرد، وفز عنه تنحَّى، وعدل واستفزه أزعجه، وأخرجه من داره، وقتله. {بِصَوْتِكَ}؛ أي: بدعائك إلى معصية الله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} أي: صح عليهم من الجلبة، وهي الصياح، ويقال: أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول، والمعنى: صح وصوِّت عليهم حال كونك ملتبسًا، ومصحوبًا بجنودك الركاب، والمشاة، والخيل تطلق على النوع المعروف، وعلى الراكبين لها، والمراد هنا الثاني، أعني الفرسان كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته لأصحابه: يا خيل الله اركبي. وقيل: معنى {أَجْلِبْ} اجمع، والباء زائدة؛ أي: أجلب عليهم خيلك، واجمع، وفي «المختار» وجلب على فرسه يجلب جلبًا بوزن طلب يطلب طلبًا،

صاحَ بهِ من خلفه، واستحثه للسبق، وكذا أجْلب عليه اهـ. وهذا يقتضي زيادة الباء، ويكون المعنى عليه، و {حث} و {أسرع} عليهم جندك خيلًا ومشاةً، لتدركهم، وتتمكن منهم فليتأمل {وَرَجِلِكَ} اسم جمع لراجل بمعنى الماشي، كصحب اسم جمع لصاحب، وقرىء في السبعة، ورجلك بكسر الجيم، وهو مفرد بمعنى الجمع فهو بمعنى المشاة، وفي «القاموس»: الرجل الراجل. والرّاجل من يمشي على رجليه لا راكبًا، وجمعه رجلٌ ورجّالة، ورجّالٌ، ورجال، ورجالى، ورجالى ورجلان، ويقال: جاءت الخيالة، والرّجّالة، وأغار عليهم بخيله ورجله، والخيل الخيّالة {غُرُورًا}، والغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق {وَكِيلًا} والوكيل: الحافظ، والرّقيب {يُزْجِي}؛ أي: يسوق حينا بعد حين يجري، ويسير وفي «القاموس» زجاه ساقه، ودفعه كزجاه، وأزجاه اهـ. ومنه قول الشاعر: يَا أَيُّهَا الرَّاكبُ الْمُزْجِيْ مَطِيَّتَهُ ... سَائل بنيْ أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ {لَكُمُ الْفُلْكَ}، وفي «المختار» الفلك السفينة، واحدٌ وجمعٌ يذكَّر ويؤنث قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فأفرد، وذكّر، وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} فأنَّث، ويحتمل الإفراد، والجمع، وقال: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع فكأنّه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب، فيذكَّر، وإلى السفينة فيؤنث اهـ. {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}، والمراد بالضر هنا: خوف الغرق بتقاذف الأمواج {ضَلَّ}؛ أي: غاب عن ذكركم {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ}، والخسف: والخسوف دخول الشيء في الشيء، يقال: عين خاسفةٌ إذا غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة؛ أي: غائرة الماء، وخسفت الشمس؛ أي: احتجبت، وكأنّها غارت في السحاب. {حَاصِبًا} الحاصب: الريح الّتي تحصب؛ أي: ترمي بالحصباء والحصباء: الحجارة الصغيرة، واحدتها حصبة كقصبة، وفي «المصباح»: وحصبته حصبًا من باب: ضرب، وفي لغة من باب قتل رميته بالحصباء اهـ قال أبو عبيدة والقتيبي: الحصب الرمي، أي: ريحًا شديدة حاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغار، وقال الزجاج: الحاصب التّراب الذي فيه حصباء فالحاصب ذو الحصباء كاللابن، والتّامر، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد

حاصبٌ، ومنه قول الفرذدق: مُستقبلينَ جِبالَ الشَّامِ تَضربُنَا ... بحَاصبٍ كنديف القطنِ منثورُ {تارَةً أُخْرى} بمعنى مرّة، وكرّةً فهو مصدر، ويجمع على تيرة، وتارات، وألفها يحتمل أن تكون عن واو أو عن ياء اهـ سمين {قاصِفًا} والقاصف: الرّيح تقصف الشّجر وتكسره يقال: قصفه يقصفه من باب ضرب يضرب وقيل: القاصف الريح التي لها قصيف، وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف؛ أي: تتكسَّر، وقيل: التي لا تمرّ بشيء إلّا قصفته. {تَبِيعًا} التَّبيع - كأمير -: المطالب قال الشماخ: يصف عقابًا: تَلوذُ ثعالبُ الشَّرقين منها ... كَمَا لاذَ الغَريم من التَّبيع أي: تهرب منها ثعالب الشرقين - بمعنى المشرقين - كما هرب، والتجأ الغريم؛ أي: المدين من التبيع؛ أي: الدَّائن المطالب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة للتشريف في قوله: {وَقُلْ لِعِبادِي}؛ لأن المراد بهم المؤمنون. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ}؛ لأنّ مقتضى السّياق أن يقال: إنه. ومنها: الاعتراض بقوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ...} إلى آخر الآية بين قوله: {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} لأن قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} بيان لـ {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. ومنها: الطباق بين {يَرْحَمْكُمْ} و {يُعَذِّبْكُمْ}. ومنها: التخصيص في قوله: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا} بعد التعميم في قوله:

{وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} ردًا على اليهود، حيث زعموا أنه لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَلا تَحْوِيلًا}؛ أي: ولا تحويل الضرّ عنكم إلى غيركم، لدلالة ما قبله عليه. ومنها: المقابلة اللّطيفة بين الجملتين {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ}، ويخافون عذابه. ومنها: الإظهار في قوله: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ} للتهويل، وكان مقتضى المقام أن يقال: إنه لتقدم المرجع. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ...} الخ؛ لأنّ المنع هنا مجاز عن الترك؛ لأنه محال في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه لا يمنعه مانع عن إرادته، فكأنه قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلّا تكذيب الأولين. ومنها: المجاز العقليّ في قوله: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} لأنه لما كانت الناقة سببًا في إبصار الحق، والهدى نسب إليها الإبصار، ففيه مجاز عقليّ علاقته السببية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ} حيث شبه الرؤية البصريّة بالرؤيا الحملية، لما فيها من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات، فاستعار لها لفظ الرؤيا الّتي هي حقيقة في الحلمية على طريقة الاستعارة التّصريحية الأصلية. ومنها: الجناس المغاير بين لفظي {الرُّؤْيَا} و {أَرَيْناكَ}. ومنها: الإسناد المجازيّ في قوله: {الْمَلْعُونَةَ} لأنّ المعنى: الملعون طاعمها. ومنها: المجاز المرسل في استعمال الرؤية بمعنى الإخبار في قوله: {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} لأنها سببه، فالعلاقة فيها السببية.

ومنها: الاستعارة التمثيليةُ في قوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} حيث مثل حال الشيطان في تسلطه على من يغويه بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء لاستئصالهم. ومنها: الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا}، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما تعدهم إلا غرورًا، ولكنه عدل عن ذلك تهوينًا لأمره، واستصغارًا لأمر الغرور الذي يعدهم به. ومنها: المجاز العقلي في نسبة الغرور، إلى الوعد على حد قوله: نهاره صائم، وليله قائم. ومنها: التذييل في قوله: {إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا}؛ لأنه كالتعليل لما سبق من تسيير السفن، وتسخيرها في البحر. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وفي قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسارًا (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا (91)}. المناسبة قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما امتنّ به عليهم من إزجاء الفلك في البحر، ومن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تنجيتهم من الغرق ... تمم ذكر المنّة بذكر تكرمتهم، ورزقهم، وتفضيلهم. أو يقال: لما هددهم بما هدد به من الخسف، والغرق، وأنهم كافرو نعمته .. ذكر ما أنعم به عليهم، ليتذكّروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عما كانوا فيه من الكفر، ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النّعم وتعدادها هز لشكرها؛ أي: حثٌّ على شكرها. قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1)، لما ذكر أحوال بني آدم في الدنيا، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، وفضّلهم عليهم تفضيلًا .. فصّل في هذه الآيات تفاوت أحوالهم في الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضّلال، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر، والتلبيس ثمّ قفى على ذلك ببيان أنّ سنّته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها، لا بدّ أن يصيبها الوبال والنكال. قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمّا عدد نعمه على بني آدم، ثمّ ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة .. أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع، والتلبيس على سيّد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة، ذكره في «البحر». قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر كيدهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يرومون به .. أمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه، وأن لا يشغل قلبه بهم، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات، والمعاد، والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان، وهي الصلاة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) كيد الكفّار واستفزازهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوه من أرضه، وسلّاه بما سلّاه به .. أمره بالإقبال على ربّه بعبادته، لينصره عليهم، ولا يبالي بسعيهم، ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم، وشرّهم، ويجعل يده فوق أيديهم، ودينه عاليا على أديانهم، ثمّ وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود، ثمّ بيّن أن ما أنزل عليه من كتاب ربه فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية، والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرين خسارة وضلالًا، لأنه كلّما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرًا وعتوًا. قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن، وبزيادة خسار للظالم .. عرّض بما أنعم به، وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك أعرض عنه، وبعّد بجانبه عنه اشمئزازًا له، وتكبرًا عن قرب سماعه، وتبديلًا مكان شكر الإنعام كفره. قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما (¬2) امتنّ على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، وذكر أنه شفاء للناس، وأنه ثبته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثمّ أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأنّ اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به، وسألوا تعنتا عن شيء لم يأذن الله بالعلم به لعباده .. امتنّ عليه ببقاء ذلك الكتاب، وحذّره من فتنة الضالين، وإرجاف المرجفين، وهو المعصوم من الفتنة، فإنّه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه، ولكن رحمة بالناس تركه في الصدور، وفي هذا تحذيرٌ عظيم للهداة والعلماء، وهم غير معصومين من الفتنة بأن يباعد بينهم وبين هدي الدين بمظاهرتهم للرؤساء، والعامة، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظًا لزعامتهم على الناس. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

ثم ذكر أنّ القرآن وحيٌ يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام، والآداب التي يحتاج إليها البشر في معاشهم، ومعادهم، وكثيرٌ من الناس جحدوا فضله عتوًا وكبرًا. قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) إنعامه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، وبإنزال وحيه عليه .. ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنّه من أكبر النعم عليه، والفضل الذي أبقى له ذكرًا إلى آخر الدهر، ورفع له قدرا به في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما (¬2) أقام الدليل على إعجاز القرآن، ولزمتهم الحجة، وغلبوا على أمرهم .. أخذوا يراوغون، ويقترحون الآيات، ويتعثرون في أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها، آمنوا به وصدَّقوا برسالته. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...} الآيات، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه ابن مردويه، وابن أبي حاتم، من طريق إسحاق عن محمد ابن أبي محمد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج أميّة بن خلف، وأبو جهل بن هشام، ورجال من قريش، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، تعالى تمسّح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرقّ لهم، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} إلى قوله: {نَصِيرًا}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

قلت: هذا أصحُّ ما ورد في سبب نزولها، وإسناده جيد، وله شاهد. وعن سعيد بن جبير، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا، فحدّث نفسه، وقال: «ما علي أنْ أُلمّ بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، والله يعلم إني لها كاره»، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية. قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا (80)}، وهذا صريح في أنّ الآية مكية، وأخرجه ابن مردويه بلفظ أصرح منه. قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود، قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهو متوكِّىء على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيىء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنّه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه، فلما انجلى عنه قال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}، قال الأعمش: هي كذا قراءتنا. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قالت قريش لليهود: علمونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوهُ عن الروح، فنزلت {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}. قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلّا قليلًا، وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} قال الحافظ بن كثير ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البخاري.

(ج 3/ ص 60) في الكلام على الحديث الأول: وهذا الحديث يقتضي فيما يظهر بادىء الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أنّ السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنّها قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية. قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن إسحاق، وابن جرير من طريق سعيد، أو عكرمة عن ابن عباس قال: أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سلّام بن مشكم في عامة من يهود، سماهم، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وإنّ هذا الذي جئت به لا نراه متناسقًا كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابًا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الآية. قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ...} الآيات، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من بني عبد الدار، وأبا البحتريّ والأسود بن عبد المطلب، وربيعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحجّاج اجتمعوا فقالوا: يا محمد: ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد سببت الآباء، وعبت الدّين، وسفّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالا، وإن كنت إنما تطلب الشّرف فينا .. سوّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك ربّما يأتيك رئيًا تراه قد غلب، بذلنا أموالنا ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[70]

في طلب العلم، حتّى نبرئك منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم مبشرا، ونذيرا» قالوا: فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنّه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا منّا، ولا أقلّ مالا، ولا أشدّ عيشا منا، فلتسأل لنا ربك الذي بعثك، فليسير عنّا هذه الجبال التي ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا، فإن لم تفعل .. فسل ربّك ملكا يصدّقك بما تقول وأن يجعل لنا جنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، نعينك بها على ما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش، فإن لم تفعل فأسقط السماء كما زعمت أنّ ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وقام معه عبد الله ابن أبي أمية، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله، فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجّل ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثمّ ترقى فيه، وأنا أنظر، وحتى تأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة، فيشهدوا لك أنّك كما تقول: فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزينا، فأنزل الله عليه ما قاله عبد الله ابن أبي أمية {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله: {بَشَرًا رَسُولًا}. التفسير وأوجه القراءة 70 - {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ}؛ أي: وعزتي، وجلالي، لقد شرفنا بني آدم قاطبة، وكرمناهم في أنفسهم تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم، بالصورة (¬1) والقامة المعتدلة، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، والعلم والنطق، وتناول الطعام باليد، وغير ذلك. قال ابن عباس: هو أنهم يأكلون بالأيدي، وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض، وقال أيضًا: بالعقل، ¬

_ (¬1) المراح.

وقيل: أكرم الرّجال باللحى، والنساء بالذوائب، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء، وأعظم (¬1) خصال التكريم العقل، فإنّ به تسلطوا على سائر الحيوانات، وميّزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم، والمشارب، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد، وقيل: تكريمهم، هو: أن جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منهم. {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ} على الدواب والقطر والسيارات {وَ} في {الْبَحْرِ} على البواخر، والسفن وفي الهواء على الطائرات، والمطاود واحدها منطاد، وهذا تخصيص لبعض أنواع التكريم {وَرَزَقْناهُمْ}؛ أي: أعطيناهم {مِنَ الطَّيِّباتِ}؛ أي: من لذيذ المطاعم، والمشارب، وسائر ما يستلذونه وينتفعون به، {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا} هم {تَفْضِيلًا} عظيمًا؛ أي: على كثير من الخلق بالغلبة، والشرف، والكرامة، فعليهم أن لا يشركوا بربهم شيئًا، ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره من الأصنام والأوثان، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام. واعلم: (¬2) أنّ الله سبحانه وتعالى قال في أوّل الآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ}، وفي آخرها {وَفَضَّلْناهُمْ} ولا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل، وإلا لزم التكرار، والأقرب أن يقال في الفرق: أنّ الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقيّةٍ، ذاتية طبيعيةٍ، مثل: العقل والنطق، والخط، وحسن الصورة. ثم إنه سبحانه عرّفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، فالأول: هو التكريم، والثاني: هو التفضيل. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[71]

والخلاصة: أن في الآية حثا للإنسان على الشكر، وألا يشرك بربه أحدًا؛ لأنه سخر له ما في البر والبحر، وكلأه بحسن رعايته، وهداه إلى صنعة الفلك لتجري في البحر، ورزقه من الطيبات وفضله على كثير من المخلوقات. 71 - {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}؛ أي: اذكر يا محمد لأمتك، أهوال يوم ندعو كل أناس بإمامهم؛ أي بكتابهم الذي فيه أعمالهم، التي قدّموها، ولا ذكر للأنساب حينئذ؛ لأنها مقطوعة، فلا يقال: يا ابن فلان، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، كما قال تعالى: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ}. والخلاصة (¬1): أن المعوّل عليه يومئذ الأعمال، والأخلاق، والآراء، والعقائد النفسية، التي تغرس في النفوس، لا الأنساب؛ لأن الأولى باقية، والثانية فانية، ويؤيد هذا قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} وعلى هذا القول ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقيل (¬2): معنى {بِإِمامِهِمْ}؛ أي: بمن اقتدوا به؛ أي: بنبيهم كأن يقال: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى؛ يا أمة عيسى، يا أمة محمد، فيقوم أهل الحقّ الذين اتّبعوا الأنبياء، فيأخذون كتبهم بأيمانهم، وكأن يقال: يا أتباع فرعون، يا أتباع نمروذ، يا أتباع أبي جهل، وبه قال الزجاج، وقال الضحاك، وابن زيد: بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، وقيل: بمذاهبهم، فيقال: يا حنفي، يا شافعيُّ، يا معتزليُّ، يا قدريُّ، ونحو ذلك. وقرأ الجمهور (¬3): {يَوْمَ نَدْعُوا} بنون العظمة، وقرأ الحسن ومجاهد {يدعو} بياء الغيبة؛ أي: يدعو الله، وقرأ أبو عمران الجونيّ {يوم يدعى} بياء مضمومة، وفتح العين، وبعدها ألف «كل» بالرفع على أنه نائب فاعل {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ}؛ أي: فمن أعطي صحيفة أعماله {بِيَمِينِهِ}؛ أي: من جهة يمينه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

[72]

وهم السعداءُ، وفي إيتاء الكتاب من جهة اليمين تشريف لصاحبه، {فَأُولئِكَ} الجمع باعتبار معنى {من} قيل: ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل، أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الإنفراد، {يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ} الذي أوتوه قراءة ظاهرةً مسرورين، فرحينَ بما فيه من الحسنات، ونحو الآية قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19)} {وَلا يُظْلَمُونَ}، أي: لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم، {فَتِيلًا}؛ أي: قدر فتيل بل يؤتونها مضاعفة، والفتيل هو ما يفتل بين أصبعين من الوسخ، أو القشرة التي في شقّ النواة، أو أدنى شيء، فإنّ الفتيل مثل في القلة والحقارة، وقد ثبت في علم الكيمياء أنّ وزن الذّرّات التي تدخل في كل جسم بنسب معيّنة، فلو أنّ ذرة واحدة في عنصر من العناصر الداخلة في تركيب؛ أي: جسم من النبات، أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدّرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق، وخالق الدنيا هو خالق الآخرة، فالظّلم مستحيل هناك، كما استحال هنا في نظم الطّبيعة، فما أجلّ قدرة الله سبحانه، وما أعظم حكمته في خلقه. 72 - ولم يذكر الأشقياء، وإن كانوا يقرؤون كتبهم أيضًا، لأنهم إذا قرؤوا ما فيها لم يفصحوا به خوفا وحياء، وليس لهم شيء من الحسنات ينتفعون به، ولكنه سبحانه ذكر ما يدل على حالهم القبيح فقال: {وَمَنْ كانَ} من المدعوين المذكورين {فِي هذِهِ} الدنيا {أَعْمى}؛ أي: أعمى القلب لا يهتدي إلى رشده، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} لا يرى طريق النّجاة، ويستولي الخوف والدهشة على قلبه، فيثقل لسانه عن قراءة كتابه {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}؛ أي: بل هو أخطأ عن سبيل النجاة في الآخرة من الأعمى في الدنيا، لزوال الاستعداد، وتعطل الأسباب والآلات، وفقدان المهلة. قال النّيسابوري (¬1): لا خلاف أن المراد بعمى الدنيا عمى القلب، وأما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)}، وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب، وقيل: المراد بالآخرة عمل الآخرة؛ أي: فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى، وقيل: المراد من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا، فهو عن نعم الآخرة أعمى، وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى، وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله، فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل: إنّ قوله: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} أفعل تفضيل، أي: أشد عمى، وهذا مبنيٌّ على أنه من عمى القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين. والمعنى: أي (¬1) ومن كان في دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد، ولا يتأمّل حجج الله وبيناته التي وضعها في صحيفة الكون، وأمر بالتأمل فيها فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضلُّ سبيلا منه في الدنيا؛ لأنّ الرّوح الباقي بعد الموت، هو الروح الذي كان في هذه الحياة الدنيا، وقد خرج من الجسم، وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبيّ، وكما يثمر النّخل الثمر، والأشجار الفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه، قد خرج بجميع صفاته، وأخلاقه، وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه، وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هنا ساهيًا لاهيًا، فهناك يكون أكثر سهوًا ولهوًا، وأبعد مدى في الضلال لأنّ آلات العلم والعمل قد عطّلت، وبقي فيه مناقبه ومثالبه، ولا قدرة على الزيادة في الأولى ولا النّقص في الثانية. وقرأ (¬2) حمزة، والكسائي وخلف وأبو بكر عن عاصم {أعمى} في الموضعين بالإمالة؛ أي: بكسر الميم، وقرأ يعقوب، وابن كثير، ونافع، وابن عامر {أعمى} في الموضعين بفتح الميم؛ أي: بغير إمالة، وقرأ أبو عمرو {في هذه أعمى} بكسر الميم؛ أي: بالإمالة {فَهُوَ فِي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

[73]

الْآخِرَةِ أَعْمَى} بفتحها مفخّمًا؛ أي: بغير إمالة (¬1)؛ لأن أفعل التفضيل تمامه بمن كانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلمة، فلا يقبل الإمالة، وأما الأول فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف، فقبلت الإمالة. 73 - وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق في الآخرة، وشرح أحوال السعداء، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم، فقال: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} و {إن} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية؛ أي: وإنّ الشّأن والحال قد قارب المشركون بخداعهم أن يوقعوك في الفتنة بصرفك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}؛ أي: عما أوحيناه إليك من الأحكام من الأمر والنهي والوعد والوعيد {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ}؛ أي: لتختلق وتتقوّل وتكذب علينا غير الذي أوحيناه إليك، ممّا اقترحوا عليك. {وَإِذًا}؛ أي: ولو اتبعت أهواءهم، وفعلت ما طلبوا منك، وعزتي وجلالي {لَاتَّخَذُوكَ}؛ أي: لجعلوك {خَلِيلًا}؛ أي: صديقا، ووليا لهم، وكنت وليًا لهم، وخرجت عن ولايتي، و {إذا} حرف جواب وجزاء، يقدّر بـ {لو} الشرطية كما أشرنا إليه في الحل، وعبارة «السّمين»: {إذًا} حرف جواب وجزاء، ولهذا تقع أداة الشرط موقعها، وقوله: {لَاتَّخَذُوكَ} جواب قسم محذوف، تقديره؛ أي: وإن افتتنت وافتريت والله لاتخذوك، وهو مستقبل في المعنى، لأن إذا تقتضي الاستقبال إذ معناها المجازاة، وقوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}؛ أي: في (¬2) ظنّهم لا أنهم قاربوا إذ هو عليه السلام معصوم أن يقاربوا فتنته عمّا أوحي إليه، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه، من تبديل الوعد وعيدًا، أو الوعيد وعدًا، ذكره أبو حيان. 74 - {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ}؛ أي: ولولا تثبيتنا إياك على الحق وعصمتنا لك عما دعوك إليه موجود {لَقَدْ كِدْتَ} وقاربت {تَرْكَنُ} وتميل {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى مرادهم {شَيْئًا قَلِيلًا} من الركون الذي هو أدنى ميلٍ فنصبه على المصدرية؛ أي: ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط.

[75]

لقاربت (¬1) أن تميل إلى اتّباع مرادهم شيئًا يسيرًا من الميل اليسير، لقوة خداعهم، وشدة احتيالهم، لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب من أدنى مراتب الركون إليهم، فضلا عن نفس الركون، وهذا صريح في أنه عليه السلام ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليلٌ على أنّ العصمة بتوفيق الله وعنايته وحفظه، وقرأ قتادة، وابن أبي إسحاق، وابن مصرّف {تركن} بضم الكاف مضارع ركن بفتحها. وخلاصة ذلك: أنك كنت على أهبة الرّكون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم في التحيّل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون فضلا عن أن تركن إليهم، 75 - ثم توعّده على ذلك أشد الوعيد، فقال: {إِذًا}؛ أي: لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة والله {لَأَذَقْناكَ} يا محمّد {ضِعْفَ} عذاب {الْحَياةِ}؛ أي: الدنيا {وَضِعْفَ} عذاب {الْمَماتِ}، أي: الآخرة؛ أي (¬2): ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة، فهو - صلى الله عليه وسلم -، لو ركن إليهم .. يكون عذابه ضعف عذاب غيره على مثل هذا الفعل؛ لأن الذّنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلّاتهم أشدّ من عقاب العامّة، لأنهم يتبعونهم، ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ}. وكان أصل الكلام (¬3): عذابًا ضعفًا في الحياة وعذابًا ضعفًا في الممات بمعنى مضاعفًا، ثم حذف الموصوف، وأقيمت مقامه الصفة، وهو الضعف، ثمّ أضيفت إضافة موصوفها، فقيل: ضعف الحياة، وضعف الممات كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة، وأليم الممات. وخلاصة ذلك (¬4): أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على الركون همك، لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة، ولصار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[76]

عذابك مثلَيْ عذاب المشرك في الدنيا، ومثلي عذابه في الآخرة، وقد ذكروا في حكمة هذا أنّ الخطير إذا ارتكب جرمًا وخطأ خطيئةً يكون سببًا في ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به، فكأنه سنّ ذلك، وقد جاء في الحديث: «من سن سنةً سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» أخرجه مسلم وغيره. {ثُمَّ} بعد إذاقتنا إيّاك ضعف العذاب {لا تَجِدُ لَكَ}؛ أي: لنفسك {عَلَيْنا نَصِيرًا} يدفع عنك العذاب أو يرفعه عنك روي عن قتادة أنه قال: لما نزل قوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلخ قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» فينبغي للمؤمن أن يتدبرها حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بأهداب دينه، ويقول كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» قال النيسابوري (¬1): اعلم أنّ القرب من الفتنة لا يدلّ على الوقوع فيها، والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة 76 - {وَإِنْ كادُوا}؛ أي: وإنّ الشّأن والحال قارب أهل مكة، {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم، وينزعونك بسرعة {مِنَ الْأَرْضِ} التي أنت فيها، وهي أرض مكة، {لِيُخْرِجُوكَ مِنْها} بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك، وقد وقع ذلك بعد نزول الآية، وصار ذلك سببا لخروجه - صلى الله عليه وسلم - حتى هاجر بأمر ربه، بعد أن هموا به. فإن قلت (¬2): أليس أخرجوه بشهادة قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}؟ قلت: لم يتحقق الإخراج بعد نزول هذه الآية، ثم وقع بعده حيث هاجر عليه السلام بإذن الله تعالى، وكانوا قد ضايقوه قبل الهجرة ليخرج، وقوله: {وَإِذًا}؛ أي: ولئن أخرجوك، والله {لا يَلْبَثُونَ}؛ أي: لا يمكثون في الدنيا، أو تلك الأرض {خِلافَكَ}؛ أي: بعد إخراجك {إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: إلّا زمانًا قليلًا، وقد كان الأمر كذلك؛ فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته عليه السلام، لثمانية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[77]

عشر شهرًا من ذلك التاريخ (¬1). معطوف على {لَيَسْتَفِزُّونَكَ}؛ أي: لا يبقون بعد إخراجك إلا زمنًا قليلًا ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعًا. وقال أبو حيان (¬2): {لَا يَلْبَثُونَ} جواب قسم محذوف؛ أي: والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون، ولذلك لم تعمل إذًا لأنها توسطت بين قسم مقدر والفعل، فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون {لَا يَلْبَثُونَ} خبرًا لمبتدأ محذوف، يدل عليه المعنى تقديره: وهم إذًا لا يلبثون، فوقعت إذًا بين المبتدأ وخبره، فألغيت اهـ. وقرأ (¬3) عطاء ابن أبي رباح {لا يلبثون} بضم الياء وفتح اللام، والباء مشددة، وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء، وقرأ أبي {وإذًا لا يلبثوا} بحذف النون أعمل إذًا فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم: وكذا هي في مصحف عبد الله محذوف النون، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، {خلفك} بمعنى بعدك، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {خِلافَك} قال الأخفش: {خِلافَكَ} في معنى خلفك وبعدك، وقال ابن الأنباري {خِلافَك} بمعنى مخالفتك، والمعنى عليه على مخالفتك، فسقط حرف الخفض، ومما يدل على أنّ {خِلَاف} بمعنى بعد قول الشاعر: عَفَتِ الدِّيَار خِلَافَهَا فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيْرَا يقال: شطبت المرأة الجريد: إذا شققته لتعمل منه الحصير، قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة، وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل {خُلَّافُك} بضم الخاء وتشديد اللام، ورفع الفاء، وقرأ عطاء ابن أبي رباح {بعدك} مكان {خلفك}، والأحسن أن يُجعل تفسيرا لخلفك لا قراءة لأنها تخالف سواد المصحف، 77 - وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا} منصوب على المصدرية؛ أي: سننّا ذلك الإهلاك سنة كسنّتنا في أقوام من قد أرسلنا {قَبْلَكَ} يا محمد {مَنْ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير والشوكاني والبحر المحيط.

[78]

رُسُلِنا}؛ أي: عادةً كعادتنا فيهم، فسنة الله تعالى فيهم أن يهلك كلّ أمة أخرجت رسولهم من بين أظهرهم، فالسنة لله تعالى، وإضافتها إلى الرسل؛ لأنها سنّت لأجلهم كما يدلّ عليه قوله: {وَلا تَجِدُ} يا محمد {لِسُنَّتِنا}؛ أي: لعادتنا بإهلاك مخرجي الرسل من بينهم {تَحْوِيلًا}؛ أي تغييرًا عما كانت عليه أوّلا؛ فإن ما أجرى الله به العادة لا يمكن لأحد سواه أن يغيره، ولا أن يحوله. والمعنى (¬1): أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا، وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم، أن يأتيهم العذاب، ولولا أنه - صلى الله عليه وسلم - رسول الرحمة، لجاءهم من النّقم ما لا قبل لهم به، ومن ثم قال تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية. 78 - ولما ذكر سبحانه الإلهيات المعاد والجزاء .. أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهي الصلاة فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ} يا محمد؛ أي: أدّ الصّلاة المفروضة عليك، وعلى أمتك {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}؛ أي: بعد دلوك الشمس، وزوالها {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ}؛ أي: إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربع: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء {وَ} أقم {قُرْآنَ الْفَجْرِ}؛ أي: صلاة الصبح بالنصب عطفا على مفعول، أقم، أو على الإغراء، أي إلزم، وسميت قرآنًا؛ لأنه ركنها كما تسمى ركوعًا وسجودًا، فالآية تدل على تفسير الدلوك بالزوال جامعة للصلوات الخمس. وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين (¬2): أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر، وابنه، وأبو هريرة، وأبو برزة، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، واختاره ابن جرير. والقول الثاني: أنه غروب الشمس، قاله علي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وروي عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[79]

وقد (¬1) بيّنت السنة المتواترة من أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم، ممّا تلقوه عنه خلفًا عن سلف، قرنًا بعد قرن، وقد تقدّم في سورة البقرة، أنّ المراد بإقامة الصلاة: أداؤها على الوجه الذي سنه الدين، والنهج الذي شرطه من توجيه القلب إلى مناجاة الرب، والخشية منه في السر والعلن، مع اشتمالها على الشرائط والأركان التي أوضحها الأئمة، المجتهدون، والصلاة لب العبادة، لما فيها من مناجاة الخالق، والإعراض عن كلّ ما سواه، ودعائه وحده، وهذا هو مخّ كلّ عبادة، وفي الحديث «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك». {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ}؛ أي: إنّ صلاة الصبح {كَانَ مَشْهُودًا} يشهده ويحضره ملائكة الليل، وملائكة النهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل، وأوّل ديوان النهار. وقد يكون المراد كما قال الرازي: أنّ الإنسان يشهد فيه آثار القدرة، وبدائع الحكمة في السموات والأرض، فهناك الظلام الحالك الذي يزيله النور الساطع، وهناك يقظه النوم بعد الخمود، والغيبوبة عن الحس إلى نحو ذلك من مظاهر القدرة، في الملك، والملكوت، فكلّ العالم يقول بلسان حاله أو مقاله: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والروح). 79 - {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: وبعض ساعات الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ}؛ أي: بالقرآن؛ أي: فاسهر بتلاوته في قيام الليل، وأزل به الهجود، والنوم، أو المعنى {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: وبعض ساعات الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ}؛ أي: فصل بالقرآن حالة كون تلك الصلاة {نافِلَةً}؛ أي: فريضة زائدة على الصلوات الخمس خاصة. {لَكَ} دون أمتك يعني فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك، كما روي عن عائشة - رضي الله عنها - «ثلاث هن عليّ فريضة، وهن سنة لكم: الوتر، والسواك، وقيام الليل». وقيل: إنّ الوجوب صار منسوخًا في حقه كما في ¬

_ (¬1) المراغي.

حق الأمة، فصار قيامُ الليل نافلةً؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: {نافِلَةً لَكَ} ولم يقل: عليك. فإن قلت: ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: فائدة التخصيص: أن النَّوافل كفارات لذنوب العباد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت له نافلةً، وزيادة في رفع الدرجات. ويجوز أن تكون {نافِلَةً} مصدرًا كالعافية والعاقبة فتكون مفعولًا مطلقًا، والمعنى فتنفل نافلة لك. فصل في الأحاديث الواردة في قيام الليل عن المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتتكلف هذا، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، وما تأخّر، قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» متفق عليه. وعن زيد بن خالد الجهني قال: لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الليلة فتوسدت عتبته، أو فسطاطه (فقام فصلّى ركعتين خفيفتين، ثمّ صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثمّ صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثمّ أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة) أخرجه مسلم، وأبو داود، وهذا لفظ أبي داود. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» متفق عليه.

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ويقرأ أحدكم خمسين آيةً قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذّن من صلاة الفجر، وتبيّن له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة) متفق عليه؛ وعنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) أخرجه البخاري. وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: (قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف، وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء، والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام، فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة النساء) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة) أخرجه الترمذي. وعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة - رضي الله عنها - كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل، قالت: (كان ينام أوله ويقوم آخره، فيصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذّن المؤذن، وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج) متفق عليه. وعن أنس بن مالك قال: (ما كنا نشاء أن نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليل مصليًا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائمًا إلّا رأيناه) أخرجه النسائي، زاد في رواية غيره، قال: (وكان يصوم من الشهر حتى نقول: لا يفطر منه شيئًا، ويفطر حتى نقول: لا يصوم منه شيئًا). {عَسَى}؛ أي: حق وثبت ووجب {أَنْ يَبْعَثَكَ} ويقيمك {رَبُّكَ} يا محمد في الآخرة، {مَقامًا مَحْمُودًا}، أي: قيامًا محمودًا يحمدك فيه كل الخلائق من الأولين والآخرين، وخالقهم تبارك وتعالى، فعسى هنا تامة، وجملة أن المصدرية

[80]

مع مدخولها فاعله، قال ابن جرير: قال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي يقومه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة للشفاعة للناس؛ ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من الأهوال في ذلك اليوم. أخرج النسائي، والحاكم، وجماعة عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: «يجمع الله الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاةً عراةً كما خلقوا قيامًا لا تكلم نفس إلا بإذنه ينادى يا محمد فيقول: لبَّيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله سبحانه وتعالى. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة، والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته .. حلت له شفاعتي». وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذٍ، آدم فمن سواه .. إلا تحت لوائي» الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا» متفق عليه. 80 - {وَقُلْ} يا محمد داعيًا ربك {رَبِّ أَدْخِلْنِي} في كل (¬1) مقام تريد إدخالي فيه في الدنيا وفي الآخرة {مُدْخَلَ صِدْقٍ}؛ أي: إدخالًا صادقًا؛ أي: يستحق الداخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، {وَأَخْرِجْنِي} من كل ما تخرجني منه {مُخْرَجَ صِدْقٍ}؛ أي: إخراجًا صادقًا؛ أي: يستحق الخارج منه أن يقال له: ¬

_ (¬1) المراغي.

أنت صادق في قولك وفعلك. وقيل المعنى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} في المدينة {مُدْخَلَ صِدْقٍ}، أي: إدخالًا مرضيًا {وَأَخْرِجْنِي} من مكة إلى المدينة {مُخْرَجَ صِدْقٍ}؛ أي: إخراجًا مرضيًا، وذلك (¬1) حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة كما قاله ابن عباس، والحسن، أو المعنى: وأخرجني من المدينة إلى مكة غالبًا عليها بفتحها. وقيل: الأكمل مما سبق أن يقال: ربّ أدخلني في الصلاة، وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص، وحضور قلبي بذكرك، ومع القيام بلوازم شكرك. والأكمل من ذلك أن يقال: رب أدخلني في القيام بأداء مهمات شريعتك، وأخرجني بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة والأعلى مما سبق أن يقال: رب أدخلني في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك، ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول، ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الفرد المنزه عن التغيرات، وقيل: المعنى رب أدخلني القبر إدخالًا مرضيًا وأخرجني منه عند البعث إخراجًا مرضيًا ملقى بالكرامة. وخلاصة ذلك (¬2): رب أدخلني إدخالًا مرضيًا كإدخالي للمدينة مهاجرًا، وإدخالي مكة فاتحًا، وإدخالي في القبر حين الموت، وأخرجني إخراجًا محفوظًا بالكرامة والرضا، كإخراجي من مكة مهاجرًا، وإخراجي من القبر للبعث. وقرأ الجمهور (¬3): {مُدْخَلَ} و {مُخْرَجَ} بضم ميمهما، وهو مقيس في مصدر أفعل الرباعي نحو أكرمته مكرمًا؛ أي: إكرامًا، وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وحميد، وإبراهيم ابن أبي عبلة بفتحهما، وقال صاحب «اللوامح» وهما مصدران من دخل وخرج، لكنه جاء من معنى أدخلني، وأخرجني، المتقدمين دون لفظهما، ومثلهما {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا} ويجوز أن يكونا اسم المكان، وانتصابهما على الظرف، وقال غيره: منصوبان مصدرين على تقدير فعل؛ أي: أدخلني فأدخل مدخل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[81]

صدق، وأخرجني فأخرج مخرج صدقٍ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود، قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح. ثم سأل الله القوة بالحجة والتسلط على الأعداء فقال: {وَاجْعَلْ لِي} يا إلهي {مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: من خزائن نصرك ورحمتك {سُلْطانًا}؛ أي: برهانًا وقهرًا {نَصِيرًا} (¬1) ينصرني على أعداء الدين، أو ملكًا، وعزًّا ناصرًا للإسلام مظهرًا له على الكفر، فأجيبت دعوته بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فإن {حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} أو المعنى: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا}، أي (¬2): حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل: اجعل لي من لدنك ملكًا وعزًا قويًا، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا. 81 - ثم أمره أن يخبر بالإجابة بقوله: {وَقُلْ} يا محمد للمشركين مهددًا لهم قد {جاءَ الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه، ولا قبل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع، {وَزَهَقَ الْباطِلُ} أي اضمحل باطلهم، وهلك إذ لا ثبات له مع الحق كما قال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا}؛ أي: مضمحلًا لا ثبات له في كل آن، والحق كان ثابتًا في كل آن، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح، وكان حول البيت ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا}: - {جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ}. وفي رواية للطبراني، والبيهقي عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء، ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها، فيخر لوجهه فيقول: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} حتى مر عليها كلها، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[82]

من صفر فقال: «يا عليُّ ارم به» فصعد فرمى به فكسره 82 - {وَنُنَزِّلُ} عليك يا محمد {مِنَ الْقُرْآنِ} بيان (¬1) مقدم على المبيّن اعتناء بشأنه، فإنّ كل القرآن في تقويم دين المؤمنين واستصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى {ما هُوَ شِفاءٌ}؛ أي: ما به يستشفى من الجهل والضلالة، وتزول به أمراض الشك والنفاق والزّيغ والإلحاد {وَ} ما هو أيضًا {رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} به الذين يعملون بما فيه من الفرائض، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، فيدخلون الجنّة وينجون من العذاب. واختلف أهل العلم في معنى كونه {شِفاءٌ} على قولين (¬2): الأول: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها، وذهاب الرّيب، وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. القول الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظّاهرة بالرقى، والتعوذ، ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه، وقرأ الجمهور {وَنُنَزِّلُ} بالنون ومجاهد بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص، وقرأ زيد بن علي {شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ} بنصبهما ويتخرج النصب على الحال، وخبر {هُوَ} قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بنصب {مطويات} ثم لمّا ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرة عليهم، فقال: {وَلا يَزِيدُ} القرآن كله، أو بعض منه الكافرين {الظَّالِمِينَ}؛ أي: الواضعين للأشياء في غير موضعها، الذين وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشكّ والارتياب موضع اليقين والاطمئنان؛ أي: لا يزيدهم مع كونه في نفسه شفاءً من الأسقام {إِلَّا خَسارًا}؛ أي: إلّا خسرانًا سرمديًا، وهلاكًا أبديًا بكفرهم وتكذيبهم له، لأنهم كلما سمعوا آيةً منه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[83]

ازدادوا بعدًا عن الإيمان، وازدادوا كفرًا بالله تمردًا وعنادًا؛ لأنه قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما قال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} وقال أيضًا: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)}. وفي الآية (¬1): إيماء إلى أنّ ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك. 83 - ثمّ نبه سبحانه وتعالى على قبح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة، فقال: {وَإِذا أَنْعَمْنا}؛ أي: أحسنا وأفضنا {عَلَى الْإِنْسانِ}؛ أي: على هذا الجنس بالنّعم التي توجب الشكر كالمال والعافية، والفتح والنصر، وفعل ما يريد {أَعْرَضَ} عن شكرنا عليها، وعن طاعتنا، وعبادتنا، أو اغتر بها غافلًا عن شكرنا، وطاعتنا {وَنَأى}؛ أي: تباعد عن أمرنا لاويا {بِجانِبِهِ} وعطفه عن اتباعه مستكبرًا عن قبول الحق، معجبا بنفسه، معاديا لأهل الحق غير مقتد بهم، تعظما لنفسه كديدن المستكبرين من أهل الدنيا، وعبارة «الخازن» هنا؛ أي: تباعد عنا بنفسه، وترك التّقرّب إلينا بالدعاء، وقيل: معناه تكبر وتعظّم، انتهت. وهو (¬2) تأكيد للإعراض؛ لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه؛ أي: ناحيته، والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه، ويولّيه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا: الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويُراد بالنأي بجانبه: التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[84]

وقرأ الجمهور (¬1) {وَنَأى} بفتحتين بلا إمالة، وقرأ حمزة، والكسائي بالإمالة فيهما، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط، وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر {ناء} مثل باع بتأخير الهمزة، قيل: هو مقلوب {نَأى} فمعناه بَعُدَ، وقيل: معناه نهض بجانبه، وقال الشاعر: حَتَّى إِذَا مَا الْتَأَمَتْ مَفَاصِلُهْ ... وَنَاءَ فِيْ شَقِّ الشِّمَالِ كَاهِلُهْ أي: نهض متوكئًا على شماله {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ}؛ أي: وإذا أصابته الجوائح، وانتابته النوائب من فقر أو مرض، أو نازلة من النوازل، وفي إسناد (¬2) المساسِ إلى الشر بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة، إيذان بأنَّ الخير مرادٌ بالذات والشر ليس كذلك {كَانَ يَؤُسًا}؛ أي: شديد اليأس من روح الله وفضله، والمعنى (¬3): أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي، وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك، استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين مذمومة. وهذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة، ولا ينافيه قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال: لا منافاة بين الآيتين، فقد يكون مع شدة يأسه، وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه. 84 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {كُلٌّ}؛ أي: كل إنسان منا ومنكم {يَعْمَلُ} عمله {عَلَى شاكِلَتِهِ}؛ أي: على طريقته التي تشاكل وتوافق حاله التي جبل، وطبع عليها من الهدي والضلال، قال في «القاموس» الشّاكِلَة الشكل، والشكل المثل والنّظير والناحية، والنية، والطريقة، والمذهب انتهى. وقيل: الطبيعة، وقيل: الدين، والمعنى: أنّ كلّ إنسان يعمل عمله على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وطبع عليها، وهذا ذم للكافر، ومدح للمؤمن {فَرَبُّكُمْ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[85]

الذي برأكم على هذه الطبائع المختلفة، وابتلاكم بهذه الأديان المختلفة {أَعْلَمُ} منا ومنكم {بِمَنْ هُوَ أَهْدى} وأسدّ، وأصوب، وأوضح {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا، ودينًا فيؤتيه أجره موفورًا، وأعلم بمن هو أضل سبيلًا فيعاقبه بما يستحق؛ أي: يعلم المهتدي، والضال فيجازي كلاًّ بعمله؛ لأنه الخالق لكم، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع، وما اختلفتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة، ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم، والقنوط عند النقم. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن الأعمال دلائل الأحوال، فمن وجد نفسه في خير وطاعة وشكر، فليحمد الله تعالى كثيرًا، ومن وجدها في شر وفسق، وكفران، ويأس فليرجع قبل أن يخرج الأمر من يده. وبمعنى الآية قوله سبحانه: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)} ولا يخفى ما في هذه الآية من تهديد شديد، ووعيد للمشركين. 85 - ولما أجرى الكلام في ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عن الروح فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ}؛ أي: ويسألك اليهود يا محمد {عَنِ} حقيقة {الرُّوحِ} الذي يحيا به البدن، هل هو جسماني أو نوراني، أو عن صفته أقديم هو أم حادث؟. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحدًا من خلقه، ولن يعط علمه أحدًا من عباده، ولذا قال: {قُلِ} لهم يا محمد في جواب سؤالهم {الرُّوحِ} الذي هو سبب حياة البدن بنفخه فيه {مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ أي: شأن من شؤونه تعالى، وفعل من أفعاله، أحدث بتكوينه وخلقه وإبداعه من غير مادة، وقد استأثر بعلمه، لا يعلمه إلا هو سبحانه؛ لأنكم لا تعلمون إلّا ما تراه حواسكم، وتتصرف فيه عقولكم، ولا تعلمون من المادة إلّا بعض أوصافها، كالألوان، والحركات للبصر، والأصوات للسمع، والطعوم للذوق، ¬

_ (¬1) روح البيان.

والمشمومات للشم، والحرارة والبرودة للمس فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادي كالروح. وقال القرطبي: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، أي: هو أمر عظيم، وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهمًا له وتاركًا تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه، مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحقّ تعالى أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز، انتهى. أو المعنى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ أي: شيء من الأشياء التي استأثر الله سبحانه بعلمها، ولم يعلم بها أحدًا من عباده، وقيل: معنى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ أي: من وحيه، وكلامه لا من كلام البشر، فعلى هذا المراد بالروح المسؤول عنه القرآن، والقول الأول هو الظاهر الحق. وفي هذه الآية (¬1) ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ماهيته، وإيضاح حقيقته أبلغ زجر، ويردعهم أعظم ردع، وما أحسن قول أحمد بن رسلان في «زبده»: والرُّوحُ مَا أَخْبَرَ عَنْهَا الْمُصْطَفَى ... فَنُمْسِكُ المَقَالَ عَنْهَا أَدَبَا وقد أطالوا البحث في هذا المقام بما لا يقتضيه الحال، وغالبه بل كله من فضول الكلام الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا، وقد حكى بعض المحقّقين أنّ أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر ومئة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ، والتعب العاطل عن النفع بعد أن عملوا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه، ولم يطلع عليه أنبياءه، ولا أذن لهم بالسؤال عنه، ولا في البحث عن حقيقته فضلا عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب!! حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه، ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله سبحانه بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

ثم أكد عدم علم أحد بها بقوله: {وَما أُوتِيتُمْ}؛ أيها الناس: مؤمنكم ولا كافركم؛ أي: وما أعطيتم {مِنَ الْعِلْمِ} بالنسبة إلى علم الله تعالى، {إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: إلا علمًا قليلًا تستفيدونه من طرق الحواس الخمس الظاهرة، السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس؛ أي: إن علمكم الذي علمكم الله سبحانه ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظًا من العلم وافرا، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام. وخلاصة ذلك (¬1): أنه ما أطلعكم من علمه إلّا على القليل، والذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر بعلمه تبارك وتعالى، ولم يطلعكم عليه. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش (¬2): {وما أوتوا} بضمير الغيبة عائدًا على السائلين. تنبيه: اختلف في المراد بالروح في هذه الآية على ثلاثةِ أقوالٍ: الأول: أنّ المراد بالروح هنا القرآن، وهو المناسب لما تقدمه من قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ} ولما بعَده من قوله: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} ولأنه سمّي به في مواضع متعددة من القرآن كقوله: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا} وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}، ولأن به تحصل حياة الأرواح والعقول، إذ به تحصل معرفة الله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، ولا حياة للأرواح إلا بمثل هذه المعارف. والثاني: أن المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام، وهو قول الحسن، وقتادة، وقد سُمِّي جبريل في مواضع عدّةٍ من القرآن بالروح كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ} وقوله: {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا} ويؤيد هذا أنه قال في هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[86]

الآية {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقال جبريل {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} فهم قد سألوا الرسول كيف جبريل في نفسه، وكيف يقوم بتبليغ الوحي. والثالث: أنّ المراد بالروح هنا الذي يحيا به بدن الإنسان، وهذا قول الجمهور، ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضًا للدلالة على خسارة الظالمين، وضلالهم، وأنهم مشتغلون عن تدبّر الكتاب، والانتفاع به إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سدّ الطريق على معرفته، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفر من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه، وقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنّه يوحى إليه، ثم قال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، 86 - ولما ذكر سبحانه أنه ما أتاهم من العلم إلّا قليلا .. بيَّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل .. لفعل، فقال: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} و {اللام} الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية {لام} الجواب، وهذا الجواب ساد مسد جوابي القسم، والشرط، والمعنى: وعزتي وجلالي لو شئنا لنمحون بالقرآن الذي أوحينا إليك يا محمد من الصدور والمصاحف، ولا نترك له أثرًا، وبقيت كما كنت أولًا لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان {ثُمَّ} بعد ذهابه ومحوه {لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا} لا تجد لنفسك برده علينا {عَلَيْنا وَكِيلًا} أي كفيلًا يرده عليك، وناصرًا لك علينا ينصرك فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيمًا لك يمنعنا من فعل ذلك بك، وعبارة البيضاوي هنا، أي: لا تجد من يتوكل علينا باسترداده مسطورًا محفوظًا اهـ؛ أي: من يتعهد، ويلتزم استرداده بعد رفعه كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه اهـ «شهاب». وهذا (¬1) الكلام وارد على سبيل الفرض، والمحال يصح فرضه لغرض، فكيف ما ليس بمحال؟ 87 - {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: إلا أن يرحمك ربك، فيرد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[88]

عليك، كأن رحمته تتوكل وتتكفل بالرد عليك، فالاستثناء متصل، وفي «السمين» في الاستثناء قولان: أحدهما: أنه استثناء متصل؛ لأن الرحمة تندرج في قوله: {وَكِيلًا}؛ أي: إلّا رحمة فإنها إن نالتك فلعلّها تسترده عليك، والثاني أنه منقطع فيقدر بـ {لكن} عند البصريين، وبـ {بل} عند الكوفيين، والمعنى (¬1): أي: لكن أبقيناه إلى قرب قيام الساعة رحمة من ربك، فعند ذلك يرفع من الصدور والمصاحف. {إِنَّ فَضْلَهُ} ولطفه سبحانه وتعالى {كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}؛ أي: عظيمًا إذ أرسلك للناس بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليك الكتاب وأبقاه في حفظك، ومصاحفك، وفي حفظ أتباعك، ومصاحفهم، وصيرك ولد آدم وختم بك النبيين والمرسلين وأعطاك المقام المحمود، وغير ذلك، 88 - ثمّ نبه إلى شرف القرآن العظيم، وكبير خطره، فقال: {قُلْ} يا محمد للذين لا يعرفون جلالة قدر التنزيل، بل يزعمون أنه من كلام البشر، والله {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ}، أي: اتّفقوا، وتعاونوا {عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ} في البلاغة وكمال المعنى، وحسن النظم، والإخبار عن الغيب، وفيهم العرب العرباء، وأرباب البيان، وأهل التحقيق {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}؛ أي: بمثل القرآن؛ أي: لا يأتون بكلام مماثل مشابه له في صفاته البديعة، وهو (¬2) جواب قسم محذوف، دلّ عليه {اللام} الموطئة له في قوله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ} وساد مسد جزاء الشرط، ولولاها .. لكان جوابًا له بغير جزم، لكون الشرط ماضيا، وإنما (¬3) أظهر في مقام الإضمار، ولم يكتف بأن يقول: لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور، لدفع توهم أن يكون له مثل، وللإشعار بأنّ المراد نفي المثل على أي صفة كان. والمعنى: قل يا محمَّد لمن يزعمون أن القرآن من كلام البشر متحديًا لهم، والله لئن اجتمعت الإنس والجن والملائكة كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في البلاغة، وحسن النّظم، وكمال المعنى .. لا يقدرون على الإتيان ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[89]

بمثله {وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}؛ أي: مظاهرًا ومعاونًا في الإتيان بمثله؛ أي: لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض، ولو تعاونوا وتظاهروا، فإنّ هذا غير ميسور لهم، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له، ولا مثيل. وتخصيص الثقلين بالذكر؛ لأن المنكر في كونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرهما قادر على المعارضة 89 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنا}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد رددنا وكرّرنا وبيّنا بوجوه مختلفة توجب زيادة بيان {لِلنَّاسِ}، أي: لأهل مكة {فِي هذَا الْقُرْآنِ} المنعوت بالنعوت الفاضلة {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}؛ أي: من كلّ معنى بديع يشبه المثل في الغرابة ليتلقوه بالقبول. والمعنى (¬1): وعزتي وجلالي، لقد رددنا القول في هذا القرآن بوجوه مختلفة، وكرّرنا الآيات والعبر، والترغيب، والترهيب، والأوامر، والنواهي، وأقاصيص الأولين، والجنة والنار، ليدبروا آياته، ويتّعظوا بها {فَأَبى} وامتنع {أَكْثَرُ النَّاسِ} من أهل مكة، {إِلَّا كُفُورًا}؛ أي: إلّا الجحود والإنكار، والثبات على الكفر، والإعراض عن الحق، وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وأظهر في مقام الإضمار، حيث قال: {فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ} توكيدًا، أو توضيحًا، وقرأ الجمهور {صَرَّفْنا} بتشديد الراء، والحسن بتخفيفها ذكره في «البحر» وإنما (¬2) جاز الاستثناء المفرغ من الموجب مع أنّه لا يصح ضربت إلا زيدًا، لأن لفظة أبى هنا تفيد النفي، فيؤوَّل بالمنفيِّ فكأنه قيل: فلم يرضوا، ولم يقبلوا، ولم يختاروا إلا كفورًا. وفي الآية فوائد: منها: أنّ القرآن العظيم أجلُّ النعم وأعظمها، فوجب على كل عالم وحافظ أن يقوم بشكره، ويحافظ على أداء حقوقه، قبل أن يخرج الأمر من يده. 90 - ولما تم الإقناع بالحجة وقطعت ألسنتهم، وأفحموا، ولم يجدوا وسيلة للردّ، أرادوا المراوغة والمشاغبة باقتراح الآيات، وذكروا من ذلك ستّة أنواع: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات بتصرف.

[91]

ذكر الأول منها سبحانه بقوله: {وَقالُوا}؛ أي: قال مشركو مكة، ورؤساؤهم كأبي سفيان، والنضر بن الحارث {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يا محمد؛ أي: لن نصدّقك، ولن نعترف لك بنبوتك ورسالتك، {حَتَّى تَفْجُرَ}؛ أي: تشقّق {لَنا مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: من أرض مكة {يَنْبُوعًا}؛ أي: عينًا كثيرة الماء ينبع ماؤها، ولا يغور ولا ينقطع، وهو يفعول من نبع الماء و {الياء} زائدة كيعبوب من عب الماء إذا كثر. والمعنى (¬1): وقال رؤساء مكة وصناديدها قول المبهوت المحجوج المتحير: لن نصدقك حتى تستنبط لنا عينًا من أرضنا، تدفق بالماء أو تفور، وذلك سهلٌ يسير على الله، لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)}، وقال أيضًا {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} الآية، وقرأ حمزة والكسائي، وعاصم {حَتَّى تَفْجُرَ} مخففًا مثل تقتل، وقرأ الباقون بالتشديد من {فجر} المضعف، ولم يختلفوا في {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ} أنها مشددة، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار، وهي جمع. 91 - وذكر الثاني منها بقوله: {أَوْ تَكُونَ لَكَ} وحدك {جَنَّةٌ}؛ أي: بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة؛ أي: بستان كائن {مِنْ نَخِيلٍ} من أشجار {عِنَبٍ} وعبر بالثمرة، لأن الانتفاع بغيرها من الكرم قليل {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ} والسواقي وتجريها أنت بقوة {خِلالَها}؛ أي: وسطها {تَفْجِيرًا} كثيرًا، والمراد إما إجراء الأنهار وسطها عند سقيها، أو إدامة إجرائها كما ينبىء عنه الفاء لا ابتداؤه. وقال في «القاموس»: خلال الدار، ما حوالي جدورها، وما بين بيوتها، وخلال السحاب مخارج الماء. انتهى، والمعنى: أو يكون لك بستانٌ فيه نخيلٌ وعنبٌ تفجر الأنهار خلاله تفجيرًا لسقيه. ¬

_ (¬1) المراغي.

الإعراب {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية: و {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {وَحَمَلْناهُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كَرَّمْنا} {فِي الْبَرِّ} جار ومجرور متعلقان بـ {حملنا} {وَالْبَحْرِ} {الواو} حرف عطف. {الْبَحْرِ}: اسم معطوف على {الْبَرِّ} {وَرَزَقْناهُمْ}: {الواو} حرف عطف {رزقنا} فعل وفاعل {هم} ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به. وجملة {رَزَقْناهُمْ} معطوفة على {كَرَّمْنا}. {مِنَ الطَّيِّباتِ} متعلق بـ {رزقنا} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {رزقنا}؛ لأنه بمعنى أعطيناهم، {وَفَضَّلْناهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول معطوف على {كَرَّمْنا} {عَلى كَثِيرٍ} متعلق بـ {فضلنا} {مِمَّنْ} جار ومجرور صفة لـ {كَثِيرٍ} {خَلَقْنا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة لـ {من} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: خلقناهم {تَفْضِيلًا} مفعول مطلق لـ {فضلنا}. {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، {نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ} فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه، لـ {يَوْمَ} {بِإِمامِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نَدْعُوا} {فَمَنْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت دعاءنا إياهم، وأردت بيان حالهم بعد ذلك .. فأقول لك: {من} اسم شرط في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما هو مقرر في كتب النحو، {أُوتِيَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}، وهو المفعول الأول لـ {أُوتِيَ} {كِتابَهُ} مفعول ثان لـ {أُوتِيَ} لأنه بمعنى أعطي

{بِيَمِينِهِ} متعلق بـ {أُوتِيَ} {فَأُولئِكَ} {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا {أولئك} مبتدأ {يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية، في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة استئنافًا، بيانيًا، {وَلا يُظْلَمُونَ} فعل ونائب فاعل معطوف على {يَقْرَؤُنَ} {فَتِيلًا} منصوب على المفعولية، المطلقة، لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: ظلمًا قدر فتيل. {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة مَنْ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَنْ} {فِي هذِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {كَانَ} {أَعْمى} خبر {كَانَ}. {فَهُوَ} {الفاء} رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية {هو} مبتدأ {فِي الْآخِرَةِ} جار ومجرور حال من المبتدأ، أو من الضمير في {أَعْمى}. {أَعْمى} خبر المبتدأ، {وَأَضَلُّ} معطوف على {أَعْمَى}. {سَبِيلًا} تمييز محول من المبتدأ، منصوب بـ {أَضَلُّ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جَوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)}. {وَإِنْ} {الواو} استئنافية {إِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: وإنه {كادُوا} فعل ناقص واسمه، وهو من أفعال المقاربة {لَيَفْتِنُونَكَ} {اللام} حرف ابتداء {يفتنونك} فعل وفاعل، ومفعول {عَنِ الَّذِي} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كاد}، وجملة {كاد} في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة مستأنفة، {أَوْحَيْنا} فعل وفاعل {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف

تقديره: أوحيناه إليك {لِتَفْتَرِيَ} {اللام} حرف جر وتعليل {تفتري} فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد {عَلَيْنا} متعلق به، {غَيْرَهُ} مفعول به، والجملة الفعلية، صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لافترائك علينا غيره، الجار والمجرور متعلق بـ {يفتنون} {وَإِذًا} {الواو} عاطفة {إِذًا} حرف جواب وجزاء مقدر بـ {لو} الشرطية؛ أي: ولو فعلت ذلك الافتراء {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} {اللام} موطئة للقسم {اتخذوك خليلا} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه، جواب لو المقدرة، والتقدير: ولو فعلت ذلك الافتراء، والله لا تخذوك خليلا، وجملة لو المقدرة معطوفة على جملة، قوله: {وَإِنْ كادُوا}. {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}. {وَلَوْلا} {الواو} استئنافية {لَوْلا} حرف امتناع لوجود {أَنْ} حرف نصب ومصدر {ثَبَّتْناكَ} فعل وفاعل ومفعول في محل النصب بأن المصدرية، وجملة {أَنْ} المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر مرفوعٍ على الابتداء، والخبر محذوف تقديره؛ ولولا تثبيتنا إياك موجود {لَقَدْ} {اللام} رابطة لجواب لولا قد حرف تحقيق {كِدْتَ} فعل ناقص، واسمه {تَرْكَنُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد {إِلَيْهِمْ} متعلّق به {شَيْئًا} مفعولٌ مطلقٌ لأنه بمعنى الركون {قَلِيلًا} صفة لـ {شَيْئًا}، وجملة {تَرْكَنُ} في محل النصب خبر {كاد} وجملة {كاد} جواب {لَوْلا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْلا} مستأنفة. {إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا (75)}. {إِذًا} حرف جواب وجزاء، مقدرة، بـ {لو} الشرطية؛ أي: ولو ركنت إليهم .. {لَأَذَقْناكَ} {اللام} موطئة للقسم {أذقناك} فعل وفاعل، ومفعول أول {ضِعْفَ الْحَياةِ} مفعول ثان، ومضاف إليه {وَضِعْفَ الْمَماتِ} معطوف عليه، والجملة الفعلية، جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم جواب {لو} المقدرة، وجملة {لو} المقدرة مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف {لا} نافية {تَجِدُ} فعل

مضارع، وهو من وجد الضالة، وفاعله ضمير يعود على محمد {لَكَ} جار ومجرور متعلق بـ {تَجِدُ} {عَلَيْنا} متعلق بـ {نَصِيرًا}. {نَصِيرًا} مفعول {تَجِدُ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أذقناك}. {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77)}. {وَإِنْ} {الواو} عاطفة {إِنْ} مخففة من الثقيلة {كادُوا} فعل ناقص واسمه {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} {اللام} حرف ابتداء {يستفزونك} فعل وفاعل ومفعول {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كاد}، وجملة {كاد} في محل الرفع خبر إن المخففة، وجملة إن المخففة معطوفةٌ على جملة قوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} {لِيُخْرِجُوكَ} اللام حرف جر، وتعليل {يخرجوك} فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن المضمرة بعد لام كي {مِنْها} متعلق به، وجملة أن المضمرة مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإخراجك {مِنْها} الجار والمجرور متعلق بـ {يستفزونك} {وَإِذًا} {الواو} عاطفة {إِذًا} حرف جواب، وجزاء، مقدر بـ {لو} الشرطية، تقديره: ولو أخرجوك {لا} نافية {يَلْبَثُونَ} فعل وفاعل {خِلافَكَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَلْبَثُونَ}، لأنه بمعنى بعدك كما مر {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {قَلِيلًا} منصوب على المفعولية المطلقة، لأنه صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا لبثًا قليلًا، وجملة {يَلْبَثُونَ} جواب لقسم محذوف، تقديره؛ والله لا يلبثون، وجملة القسم المحذوف جواب لو المقدرة، وجملة لو المقدرة، معطوفة على جملة {وَإِنْ كادُوا}. {سُنَّةَ} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: سن الله ذلك سنة، والجملة المحذوفة مستأنفة، واختار الفراء نصبها بنزع الخافض؛ أي: كسنة الله في من قد أرسلنا قبلك، واختار بعضهم أن ينصب بفعل محذوف، تقديره: اتّبع: سنة من قد أرسلنا قبلك فالأوجه ثلاثة: {سُنَّةَ} مضاف {مَنْ} اسم موصول مضاف إليه، {قَدْ أَرْسَلْنا} فعل وفاعل صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من قد أرسلناه {قَبْلَكَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {أَرْسَلْنا} {مِنْ رُسُلِنا}

حال من العائد المحذوف، أو من {مَنْ} الموصولة، {وَلا} {الواو} عاطفة لا نافية {تَجِدُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد لـ {لِسُنَّتِنا} متعلق بـ {تَحْوِيلًا} {تَحْوِيلًا} مفعول به لـ {تَجِدُ} والجملة الفعلية معطوفة على جملة {سن} المحذوفة. {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا (78)}. {أَقِمِ الصَّلاةَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لِدُلُوكِ} {اللام} ظرف بمعنى بعد متعلق بـ {أَقِمِ} أو حرف جر وتعليل متعلق به، وإنما جر بـ {اللام} لعدم اتّحاد الفاعل، ففاعل القيام المخاطب، وفاعل الدلوك، {الشَّمْسِ} وزمنهما مختلفٌ أيضًا، فزمن الإقامة متأخر عن زمن الدلوك، {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} متعلق بـ {أَقِمِ} أو حال من الصلاة؛ أي: أقمها ممتدة إلى غسق الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} معطوف على {الصَّلاةَ}؛ أي: وأقم صلاة الصبح، أو منصوب على الإغراء؛ أي: إلزم قرآن الفجر، أي: صلاتها. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} ناصب واسمه ومضاف إليه {كَانَ} في محل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {قُرْآنَ الْفَجْرِ} {مَشْهُودًا} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلَها. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا (79)}. {وَمِنَ اللَّيْلِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق، معطوف على {أَقِمِ} و {مِنَ} تبعيضية، والتقدير: واسهر بعض ساعات الليل {فَتَهَجَّدْ} {الفاء} عاطفة {تهجد} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بِهِ} متعلق به وجملة {تهجد} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، أعني قولنا، واسهر {نافِلَةً} حال من الصلاة المعلومة من السياق، {لَكَ} جار ومجرور صفة لـ {نافِلَةً}، أي: صل به الصلاة حالة كون الصلاة {نافِلَةً لَكَ}. {عَسَى} فعل ماض تام بمعنى حق، ووجب، وثبت {أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} ناصب، وفعل ومفعول وفاعل {مَقَامًا} مفعول مطلق معنوي، لـ {يَبْعَثَكَ} لأنه بمعنى يقيمك {مَحْمُودًا}

صفة لـ {مَقَامًا} وجملة {يبعث} صلة {أَنْ} المصدرية {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لـ {عَسَى} تقديره: عسى بعث ربك إياك مقامًا محمودًا؛ أي: إقامته إياك من القبر، أو في الآخرة قيامًا محمودًا. {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا (80)}. {وَقُلْ} {الواو} استئنافية {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {رَبِّ أَدْخِلْنِي ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ} {أَدْخِلْنِي} فعل دعاء ونون وقاية ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله {مُدْخَلَ} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مصدر ميمي لـ {دخل} وإضافته لـ {صِدْقٍ} من إضافة الموصوف إلى صفته، أو للبيان، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء، {وَأَخْرِجْنِي} فعل دعاء، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله {مُخْرَجَ صِدْقٍ} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَاجْعَلْ} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {أَدْخِلْنِي}. {لِي} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لا جعل {مِنْ لَدُنْكَ} حال من {سُلْطانًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {سُلْطانًا} مفعول أول لـ {جعل} {نَصِيرًا} صفة له. {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (81)}. {وَقُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} {جاءَ الْحَقُّ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {جَاءَ الْحَقُّ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَزَهَقَ الْباطِلُ} فعل وفاعل معطوف على {جَاءَ الْحَقُّ}. {إِنَّ الْباطِلَ} ناصب واسمه {كَانَ زَهُوقًا} فعل ناقص، وخبره واسمه ضمير يعود على {الْبَاطِلُ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا (82)}.

{وَنُنَزِّلُ} {الواو} استئنافية {نُنَزِّلُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {مِنَ الْقُرْآنِ} حال من {ما} الموصولة على أنه بيان مقدم، ويجوز أن تكون لابتداءِ الغاية، أو تبعيضية فهي حينئذٍ متعلقة بـ {نُنَزِّلُ} كما اختاره أبو حيان {ما} اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به {هُوَ شِفاءٌ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها {وَرَحْمَةٌ} معطوف على {شِفَاءٌ} {لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ {شِفَاءٌ} أو بـ {وَرَحْمَةٌ} على سبيل التنازع، {وَلا} {الواو} حالية {لا} نافية {يَزِيدُ الظَّالِمِينَ} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على القرآن، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {خَسَارًا} مفعول ثان له، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {ما} الموصولة. {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا (83)}. {وَإِذا} {الواو} عاطفة إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان {أَنْعَمْنا} فعل، وفاعل {عَلَى الْإِنْسانِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض مضاف إليه لإذا على كونها فعل شرط لها، {أَعْرَضَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْإِنْسانِ}، والجملة جواب {إِذا} لا محلّ لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة قوله: {وَنُنَزِّلُ}. {وَنَأى} فعل ماض معطوف على {أَعْرَضَ}. {بِجانِبِهِ} متعلق به، {وَإِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {مَسَّهُ الشَّرُّ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الإنسان، {يَؤُسًا} خبره، وجملة {كَانَ} جواب {إذا}، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إِذا} الأولى. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، كل يعمل إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {كُلٌّ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة، قصد العموم، {يَعْمَلُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {كُلٌّ}. {عَلَى شَاكِلَتِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قُلْ}. {فَرَبُّكُمْ} {الفاء}

تعليلية، أو استئنافية {ربكم أعلم} مبتدأ، وخبر {بِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {هُوَ أَهْدى} مبتدأ وخبر {سَبِيلًا} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب بأفعل التفضيل، والجملة الاسمية صلة {من} الموصولة. {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}. {وَيَسْئَلُونَكَ} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة، أو معترضة {عَنِ الرُّوحِ} متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ {سأل} {قُلِ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {الرُّوحِ} مبتدأ {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ} {وَمَا} {الواو} عاطفة {ما} نافية {أُوتِيتُمْ} فعل، ونائب فاعل {مِنَ الْعِلْمِ} متعلق به إِلَّا أداة استثناء مفرغ، {قَلِيلًا} مفعول ثان، لـ {أُوتِيتُمْ} والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية، أعني قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}. {وَلَئِنْ} {الواو} عاطفة و {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط جازم {شِئْنا} فعل وفاعل في محل الجزم، بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرطٍ لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: ذهبنا به على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم، من حذف جواب المتأخر منهما استغناءً عنه بجواب المتقدم، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه {لَنَذْهَبَنَّ} {اللام} واقعة في جواب القسم، مؤكدة للأولى، زيدت بعد الشرط، إشعارا بأنّ الجواب المذكور للقسم لا للشرط {نذهبن} فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح والنون المشددة للتوكيد، وفاعله ضمير يعود على الله {بِالَّذِي} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على

جملة قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} {أَوْحَيْنا} فعل وفاعل {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره، بالذي أوحيناه إليك {ثُمَّ} حرف عطف بمعنى الواو {لا} نافية {تَجِدُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {لَنَذْهَبَنَّ}. {لَكَ} جار ومجرور حال من {وَكِيلًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {بِهِ} متعلق بـ {تَجِدُ} {عَلَيْنا} متعلق بـ {وَكِيلًا}. {وَكِيلًا} مفعول به لـ {تَجِدُ}؛ أي: لا تجد من يتوكل لك علينا؛ أي: من ينصرك علينا باسترداده بعد رفعه {إِلَّا} أداة استثناء {رَحْمَةً} مستثنى من {وَكِيلًا} منصوب على الاستثناء، أو على البدل من {وَكِيلًا} ويجوز أن يكون منقطعًا، و {إِلَّا} بمعنى لكن، فيعرب {رَحْمَةً} مفعولًا من أجله، والتقدير: حفظناه عليك للرحمة، أو مفعولًا مطلقًا، والتقدير: لكن رحمناك رحمةً {مِنْ رَبِّكَ} صفة لـ {رَحْمَةً} {إِنَّ فَضْلَهُ} ناصب واسمه، {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الفضل {عَلَيْكَ} حال من {كَبِيرًا} لأنه كان صفة لـ {كَبِيرًا} و {كَبِيرًا} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللام} موطئة للقسم، {إن} حرف شرط جازم {اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {وَالْجِنُّ} معطوف على {الْإِنْسُ} {عَلَى} حرف جر {أَنْ يَأْتُوا} ناصب وفعل وفاعل {بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ} جار ومجرور ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره على إتيانهم بمثل هذا القرآن الجار والمجرور متعلقان بـ {اجْتَمَعَتِ} أو حال من فاعل {اجْتَمَعَتِ}، أي: متظاهرين، ومتعاونين على ذلك، وجواب الشرط محذوفٌ على القاعدة المشهورة عندهم، تقديره: قل إن اجتمعت الإنس والجن على ذلك لا يأتون به، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه، على كونها مقولا لـ {قُلْ} {لا يَأْتُونَ}

فعل وفاعل {بِمِثْلِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قُلْ} {وَلَوْ} {الواو} عاطفة على مقدر تقديره: لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم الخ، وقد حذف المعطوف عليه، حذفًا مطّردًا لدلالة المعطوف دلالةً واضحةً عليه، فإن الإتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر، فلأن ينتفى عند عدمه أولى، وعلى هذه النكتة، يدور ما في {إن} و {لَوْ} الوصليَّتين من التأكيد، {لَوْ} حرف شرط، {كَانَ بَعْضُهُمْ} فعل ناقص، واسمه {لِبَعْضٍ} متعلق بـ {ظَهِيرًا} {ظَهِيرًا} خبر {كَانَ} وجواب {لَوْ} محذوف معلوم مما قبلها تقديره: ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. لا يأتون بمثله، وجملة {لَوْ} مع جوابها في محل النصب معطوفة على المحذوف الذي قدرناه سابقًا، والجملة المحذوفة في محل النصب حال من فاعل {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} على كل حال مفروض، ولو في هذه الحال المنافية لعدم الإتيان بمثله فضلًا عن غيرها، وفيه حسم لأطماعهم الفارغة، في روم تبديل بعض آياته ببعض، ذكره أبو السعود، والمعنى: لا يأتون بمثله حَالة كونهم غيرَ متظاهرينَ، وكونهم متظاهرين {كَانَ} فعل ماض ناقص {بَعْضُهُمْ} اسمها {لِبَعْضٍ} متعلق بـ {ظَهِيرًا}. {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {صَرَّفْنا} فعل وفاعل {لِلنَّاسِ} متعلق بـ {صَرَّفْنا} وكذا قوله: {فِي هذَا الْقُرْآنِ} يتعلق به أيضًا {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} {مِنْ} زائدة، {كُلِّ مَثَلٍ} مفعول {صَرَّفْنا} على مذهب الكوفيين، من جواز زيادة من في الإثبات، وعلى مذهب البصريين مفعول {صَرَّفْنا} محذوف: تقديره البينات، والعبر، ومن كل مثل بيان، لذلك المحذوف، والجملة الفعلية، جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {فَأَبى} {الفاء} عاطفة {أبى أكثر الناس} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {صَرَّفْنا} {إِلَّا} أداة استثناء، مفرغ لأن {أبى} متأول بالنفي كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورًا {كُفُورًا} مفعول به لـ {أبى}.

{وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا (91)}. {وَقالُوا} {الواو} عاطفة {قالُوا} فعل وفاعل معطوف على {أبى} {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} مقول محكي لـ {قالُوا}، وإن شئت قلت: {لَنْ نُؤْمِنَ} ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على المشركين، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} {لَكَ} جار ومجرور متعلق بـ {نُؤْمِنَ} {حَتَّى}، حرف جر وغاية {تَفْجُرَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد {حَتَّى}، وفاعله ضمير يعود على محمد {لَنَّا} متعلق بمحذوف حال من {يَنْبُوعًا} {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق بـ {تَفْجُرَ} {يَنْبُوعًا} مفعول به، وجملة {تَفْجُرَ} صلة {أن} المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره، إلى فجر ينبوع لنا من الأرض، الجار والمجرور متعلق بـ {نُؤْمِنَ} {أَوْ} حرف عطف وتنويع {تَكُونَ} فعل ناقص معطوف على {تَفْجُرَ}. {لَكَ} خبرها مقدم {جَنَّةٌ} اسمها مؤخر {مِنْ نَخِيلٍ} صفة لـ {جَنَّةٌ} {وَعِنَبٍ} معطوف على {نَخِيلٍ}. {فَتُفَجِّرَ} {الفاء} عاطفة {تفجر الأنهار} فعل ومفعول معطوف على {تَكُونَ} وفاعله ضمير يعود على محمد {خِلالَها} منصوب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف حال من {الْأَنْهارَ}؛ أي: كائنةً خلالها {تَفْجِيرًا} منصوب على المفعولية المطلقة. التصريف ومفردات اللغة {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} من حملته حملًا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لا تخسف بهم الأرض، ولم يغرقهم الماء اهـ «بيضاوي». أو من حملته على كذا، إذا، أعطيته ما يركبه، وعليه فالمحمول عليه، محذوفٌ يقال: حملته على فرسٍ إذا، أعطيته إياها ليركبها. {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ} وفي «القاموس»: الأناس جمع الناس، وفي «المصباح»: الإنسان من الناس اسم جنس يقع على المذكر، والمؤنث، والواحد، والجمع، والأناس قيل: فعال بضم {الفاء}، لكن يجوز حذف الهمزة تخفيفًا غير قياسٍ، فيبقى ناس اهـ. فعلى هذا ناس وزنه عال، لأن الفاء التي

هي الهمزة، قد حذفت اهـ. {بِإِمامِهِمْ}؛ أي: كتابهم، فهو كقوله: وَ {كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} {فَتِيلًا} والفتيلُ: الخيط المستطيلُ في شق النّواة طولًا، وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، التافه، ومثله النّقير والقطمير. {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لولا: هي كلمة موضوعة للدلالة على امتناع جوابها، لوجود شرطها، وفي «المصباح»: ركنت على زيد اعتمدت عليه، وفيه لغات: إحداها من باب تعب وعليه قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} والثانية: ركن ركونًا من باب قعد، والثالثة: ركن يركن بفتحتين فيهما، وليست بالأصل بل من تداخل اللغتين؛ لأن شرط باب فعل يفعل بفتحتين أن يكون حلقي العين أو اللام اهـ والرّكون إلى الشيء، الميل إلى ركن منه {ضِعْفَ الْحَياةِ}؛ أي: عذابًا مضاعفًا في الحياة الدنيا {وَضِعْفَ الْمَماتِ}؛ أي: عذابًا مضاعفًا في الممات في القبر، وبعد البعث. {نَصِيرًا}؛ أي: معينًا يدفع عنك العذاب {لا يَلْبَثُونَ}؛ أي: لا يبقون {خَلْفَكَ} بعدك {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا}؛ أي: سنتنا بك؛ أي: عادتنا فيك سنة الرّسل قبلك {تَحْوِيلًا}؛ أي: تغييرًا. {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} دلوك الشمس: زوالها: عن دائرة نصف النهار، والدُّلوك مصدر دلكت الشمس، وفيه ثلاثة أقوال: أشهرها: أنه الزَّوالُ، وهو نصف النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب، قال الزمخشري: واشتقاقه من الدلك؛ لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، قلت: وهذا يفهم أنه ليس بمصدر، لأنه جعله مشتقًا من المصدر. والثالث: أنه الغروب، وقال الراغب: دلوك الشمس ميلها للغروب اهـ. وفي «المصباح» دلكت الشيء دلكًا من باب قتل مرسته بيدك، ودلكت الشمس، والنجوم دلوكًا من باب قعد، زالت عن الاستواء ويستعمل في الغروب أيضًا، وفي «القاموس»: دلكت الشمس دلوكًا غربت، أو اصفرت، ومالت أو زالت عن كبد السماء.

{إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} والغسق: دخول أول الليل، قاله ابن شميل، وقيل: هو سواد الليل وظلمته، وأصله من السيلان، يقال: غسقت العين؛ أي: سال دمعها فكأنّ الظّلمة تنصب على العالم، وتسيل عليهم، ويقال: غسقت العين امتلأت دمعًا، وغسق الجرح امتلأ دمًا، فكأنّ الظلمة ملأت الوجود، وسالت عليهم، ويقال: غسق الليل، وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى، وأدجى، وغبش وأغبش نقله الفراء اهـ «سمين». {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا}؛ أي: إنّ صلاة الصبح تشهده شواهد القدرة، وبدائع الحكمة، وبهجة العالم العلويّ والسفليّ فمن ظلام حالك، أزاله ضوء ساطع، ونور باهر، ومن نوم وخمود إلى يقظة، وحركة وسعي إلى الأرزاق، فسبحان الواحد الخلاق، فهل هناك منظر أجمل في نظر الرّائي من ظهور ذلك النور، ينفلت من خلال الظلام الدامس يدفعه بقوّة ليضيء العالم، بجماله، ويقظة النوام، وحركتهم على ظهر البسيطة، وقد كانوا في سكون، فهي حياة متجددة بعد موت، وغيبوبة للحواسّ {فَتَهَجَّدْ} التهجد الاستيقاظ من النوم للصلاة {نافِلَةً}؛ أي: فريضةً زائدةً على الصلوات الخمس المفروضة عليك، والمعروف في كلام العرب: أن الهجود عبارة عن النوم، بالليل، يقال: هجد فلان، إذا نام بالليل، ثم لما رأينا في عرف الشرع، أنّه يقال لمن انتبه بالليل من نومه، وقام إلى الصلاة: إنه متهجّد وجب أن يقال: سمي ذلك متهجدًا من حيث إنه ألقى الهجود اهـ. وفي «السمين»: والتهجد ترك الهجود، وهو النّوم وتفعّل يأتي للسلب نحو تحرّج، وتأثّم اهـ. والمقام المحمود: مقام الشفاعة العظمى، حين فصل القضاء حيث لا أحد إلّا، وهو تحت لوائه - صلى الله عليه وسلم - {مُدْخَلَ صِدْقٍ} و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} المدخل والمخرج بضم الميم، فيهما مصدران ميميان بمعنى الإدخال، والإخراج، فهما كالمجرى، والمرسى وإضافتهما للبيان، أو من إضافة الموصوف إلى صفته، اهـ «سمين». وفُسِّر الصدق بالمرضى، لأنَّ الصّدق من أوصاف العقلاء، فإذا وصف به غيرهم كان دالًا على أنه مرضي اهـ «شهاب». {سُلْطانًا نَصِيرًا} والسلطان الحجة البينة

والنصير الناصر والمعين وفي «السمين» يجوز أن يكون بمعنى فاعل للمبالغة، وأن يكون بمعنى مفعول، أي: منصورًا به {وَزَهَقَ الْباطِلُ} في «المختار»: زهقت نفسه خرجت، ومنه قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} وزهق الباطل؛ أي: زال واضمحلَّ، وبابهما خضع، وزهقت من - باب تعب - زهوقًا لغة فيه عند بعضهم اهـ. {وَنَأى بِجانِبِهِ} النأي بالجانب أن يوليه عطفه، ويوليه ظهره، وأراد به الاستكبار؛ لأن ذلك ديدن المستكبرين، وفي «المصباح»: ونأى نأيا - من باب سعى - إذا بعد، ويتعدى بنفسه، وبالحرف، وهو الأكثر فيقال: نأيته، ونأيت عنه، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أنأيته {شَاكِلَتِهِ} مذهبه، وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى، والضلالة من قولهم: طريق ذو شواكل وهي الطريق التي تتشعب منه، والمعنى: كل إنسان يعمل حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفةً طاهرةً، صدرت عنه أفعالٌ جميلة، وإن كانت نفسه كدرةً خبيثةً، صدرت عنه أفعالٌ خبيثةٌ فاسدةٌ {يَؤُسًا}؛ أي: شديد اليأس، والقنوط من رحمة الله، {أَهْدى}؛ أي: أسد طريقًا وأقوم منهجًا {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا}؛ أي: ملتزمًا استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكّل عليه، {ظَهِيرًا}؛ أي: معينًا في تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله {صَرَّفْنا}؛ أي: كرّرنا، وردّدنا {إِلَّا كُفُورًا}؛ أي: جحودًا {يَنْبُوعًا} والينبوع بفتح الياء عين كثيرة الماء لا ينقطع ماؤها، ووزنه يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر؛ أي: كثر موجه، ومنه: البحر الزّاخر اهـ «بيضاوي»، «وشهاب». {جَنَّةٌ}؛ أي: بستان تستر أشجاره ما تحتها من الأرض. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {الْبَرِّ}، و {الْبَحْرِ} في قوله: {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.

ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} حيث استعير الإمام الذي هو حقيقة في الذي يتقدَّم الناس في الصلاة، لكتاب الأعمال؛ لأنه يرافق الإنسان، ويتقدمه يوم القيامة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} يضرب مثلًا للقلة؛ أي: لا ينقصون من ثواب أعمالهم مقدار الخيط الذي في شق النواة. ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} الخ بعد ذكر كتاب الأعمال. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {أذقناك}. ومنها: الطباق في قوله: {ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ}. وفيه: الحذف أيضًا، فقد حذف العذاب تكريما لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الأصل موصوف؛ أي: عذابًا ضعفًا في الحياة، وعذابًا ضعفًا في الممات، ثمّ حذف الموصوف، وأقيمت الصّفة مقامه، وهو الضعف، ثمّ أضيفت الصفة إضافة الموصوف، فقيل: ضعف الحياة، وضعف الممات. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} حيث أطلق الجزء على الكل؛ أي: قراءة الفجر، والمراد بها: الصّلاة، لأنّ القراءة جزء منها، فالعلاقة الجزئية. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، لمزيد الاهتمام، والعناية في قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} بعد قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}. ومنها: الاستخدام في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} حيث ذكر القرآن أوّلًا بمعنى صلاة الصبح، وأعيد عليه الضمير بمعنى القرآن المشهود، والاستخدام عند البديعيّين ذكر الشيء بمعنى، وعود الضمير عليه بمعنى آخر.

ومنها: المقابلة اللطيفة بين {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} و {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، وبين {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين أدخلني، ومدخل، وأخرجني، ومخرج. ومنها: التذييل في قوله: {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا}، وهو: أن يذيّل النَّاظم والناثر كلامه بعد تمامه، وحسن السكوت عليه بجملة تحقّق ما قبلها من الكلام، وتزيده توكيدًا، وتجري منه مجرى المثل، لزيادة التحقيق، وهذه الآية من أعظم الشواهد عليه، فالجملة الأخيرة هي التذييل الذي خرج مخرج المثل السائر. ومنها: إسناد الخير إلى الله، والشر لغيره في قوله: {أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ}، {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ} لتعليم الأدب مع الله تعالى. لطيفة: ذكر أنّ عالمًا ممن ينكر المجاز، والاستعارة في القرآن الكريم جاء إلى شيخ فاضل عالم منكرًا عليه دعوى المجاز في القرآن، وكان ذلك السائل المنكر أعمى فقال له الشيخ: ما تقول في قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}؛ هل المراد بالعمى الحقيقة؟ وهي عمى البصر، أم المراد به المجاز، وهو عمى البصيرة، فبهت السائل، وانقطعت حجته. ومنها: الزيادة والحذف في عدة موضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}. المناسبة قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ...} الآيات، مناسبة (¬1) هذه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمّت إليه معجزات أخر، وبينات واضحة، فلزمتهم الحجة، وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت، المحجوج، فقالوا: ما حكاه الله عنهم من الآيات المذكورة. ثم حكى عنهم شبهة أخرى (¬1)، وهي استبعادهم أن يرسل الله بشرًا رسولًا، فأجابهم بأنّ أهل الأرض لو كانوا ملائكةً .. لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه. ثم سلّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقي من قومه، بأن الهداية، والإيمان بيد الله تعالى، ولا قدرة له على شيء من ذلك {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ} وسيلقون جزاءهم نار جهنم بما كسبت أيديهم، ودنسوا به أنفسهم، من الكفر، والفجور، والمعاصي، وإنكار البعث والحساب، وهم يعلمون أنّ الذي خلق السموات والأرض، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى، ثمّ بيّن أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا من إجراء الأنهار والعيون، وتكثير الأموال، واتساع المعيشة .. لما كان هناك من فائدة، ولما أوصلوا النفع إلى أحد، فالإنسان بطبعه شحيح بخيل. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ...} الآية، مناسبة (¬2) هذه الآية لما قبلها: أن المشركين لما قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم، وتتسع عليهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله .. لبقوا على بخلهم، وشُحِّهم، ولما أقدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا، فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا، هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية، وقاله العسكري. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله (¬3) سبحانه وتعالى، لما ذكر فيما سلف ما اقترحوه من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

الآيات، وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقترحوا على الله شيئًا، ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم، وأعظم منه، ولم يجد فرعون وقومه شيئًا، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج .. أهلكناكم، كما أهلك فرعون بالغرق، وفي ذلك تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر ما جرى لموسى مع فرعون، وما جوزي به فرعون وقومه. قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا أبان أنّ القرآن معجز دال على صدق الرسول بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...} الآية، ثمّ حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا معجزات أخرى، وأجابهم ربّهم بأنه لا حاجة إلى شيء سواه، وبأن موسى أتى فرعون وقومه بتسع آيات، فجحدوا بها، فأهلكوا، فلو أتاكم محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك المعجزات التي اقترحتموها، ثم كفرتم بها، أنزل عليكم عذاب الاستئصال، ولم يكن ذلك من الحكمة التي أرادها لعلمه أن منكم من يؤمن، ومنكم من لا يؤمن، ولكن سيظهر من نسله من يكون مؤمنًا. عاد هنا إلى تعظيم حال القرآن، وجلالة قدره، وبيان أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه أنزله على نبيه مفرّقا، ليسهل حفظه، وتعرف دقائق أسراره، وأنكم سيان، آمنتم به أو لم تؤمنوا، فإن من قبلكم من أهل الكتاب إذا تلي عليهم خروا له سجدًا وبكيا، ثم أردف ذلك ببيان أنكم إن ناديتم الله، أو ناديتم الرحمن، فالأمران سواء، ثمّ قفّى على ذلك بطلب التوسط في القرآن في الصلاة بين الجهر والخفوت، ثم أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول حين الدعاء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ ...} الآية، أخرج (¬1) ابن مردويه وغيره عن ابن ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[92]

عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكّة ذات يوم، فدعا، فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء، ينهانا أن ندعوا إلهين، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}. قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري وغيره، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نزلت هذه الآية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه، رفع صوته بالقرآن، وكان المشركون إذا سمعوا القرآن سبّوه ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ}؛ أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلا تُخافِتْ بِها} عن أصحابك، فلا تسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}، وأخرج البخاري، وغيره أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها نزلت في الدعاء. وأخرج ابن جرير وغيره، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جهر بالقرآن، وهو يصلي تفرقوا، وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض ما يتلو، وهو يصلّي، استرق السّمع دونهم فرقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم، فلم يستمع، فإن خفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته .. لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل الله عليه {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيتفرّقوا عنك {وَلا تُخافِتْ بِها} فلا يستمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}، وهذا لفظ ابن جرير، ولا تنافي بين هذه الأسباب إذ يحتمل أنّ المشركين يسبون القرآن، ومن جاء به، ويؤذون من رأوه يستمع للقرآن كما أنه يحتمل أنّ المراد {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بدعائك فى الصلاة، ورواية: أنّ ذلك في التشهد، كما عند ابن جرير (ج 15/ ص 187) مبينة لموضعه، والله أعلم. التفسير وأوجه القراءة 92 - والثالث منها: ما ذكره بقوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ}؛ أي: أو

حتّى تسقط علينا جرم السماء إسقاطًا مماثلًا لما زعمت في قولك: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ} والكاف في قوله: {كَما زَعَمْتَ} في محل النصب صفة لمصدر محذوف، كما قدرنا، وقوله: {كِسَفًا} جمع كسفة، كقطع، وقطعة، لفظًا، ومعنًى حال من السماء. وخلاصة ذلك: لن نؤمن لك يا محمد حتى تسقط علينا جرم السماء، حالة كونها متقطعة قطعا عقوبة لنا إسقاطًا مماثلًا لما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ} وقيل: هو ما في هذه السورة من قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا} ونحو الآية قوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ}، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)}. وقرأ الجمهور (¬1): {أَوْ تُسْقِطَ} بتاء الخطاب مضارع أسقط {السَّماءَ} نصبًا، وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري {أو تَسْقُطَ} بتاء الغيبة مضارع سقط {السماء} رفعا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (¬2): {كسفًا} بسكون السين في جميع القرآن، إلا في الرّوم (48) فإنهم حركوا السين، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين، وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها. قال الزجاج: من قرأ {كسَفًا} بفتح السين جَعَلَها جمع كسفة، وهي القطعة، ومن قرأ {كِسْفًا} بتسكين السين فكأنهم قالوا: أسقطها طبقًا علينا، واشتقاقه من كسفت الشيء: إذا غطيته، يعنون أسقطها علينا قطعة واحدة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

[93]

والرابع منها: ما ذكره بقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ}؛ أي: أو حتى تأتيَ لنا بالله سبحانه وتعالى حالة كونه قبيلًا أي مقابلًا مواجهًا مرئيًا لنا {وَ} بـ {الملائكة} حالة كونهم {قَبِيلًا}؛ أي: مقابلين مواجهين مرئيين لنا، فالقبيل بمعنى المقابل، كالعشير (¬1) بمعنى المعاشر، فهو حالٌ من الجلالة، وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها؛ أي: والملائكة قبيلًا، وقيل (¬2): هو جمع القبيلة؛ أي: تأتي بأصناف الملائكة قبيلةً قبيلةً، قاله مجاهد وعطاءً، وقيل (¬3): قبيلا؛ أي: كفيلًا من قبله بكذا، إذا كفله، والقبيل والزّعيم، والكفيل بمعنى واحد. وقال الزمخشري: {قَبِيلًا}؛ أي: كفيلًا بما تقول شاهدًا لصحته، والمعنى أو تأتي بالله قبيلًا، والملائكة قبيلًا، وقرأ الأعرج {قُبُلًا} من المقابلة. وخلاصة ذلك: أي أو تأتي لنا بالله، والملائكة، نقابلهم معاينةً ومواجهةً، ونحو الآية قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا}. 93 - والخامس منها: ما ذكره بقوله: {أَوْ} حتى {يَكُونَ لَكَ} يا محمد {بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}؛ أي: من ذهب وفضةٍ كامل الحسن، وقرأ الجمهور {مِنْ زُخْرُفٍ} (¬4)، وقرأ عبد الله بن مسعود {من ذهب} ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد، وإنما هي تفسير. وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف؛ حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. والسادس منها: ما ذكره بقوله: {أَوْ} حتى {تَرْقى} وتصعد {فِي} معارج {السَّماءِ} ومدارجها وسلالمها، ونحن ننظر إليك، فحذف المضاف يقال: رَقَى في السلم وفي الدرجة، من باب رقِيَ رقيًا، أي: صعد وعلا صعودًا وعلوًّا، والظاهر أن السّماء هنا هي المظلة، وقيل: المراد: إلى مكان عالٍ، وكلُّ ما علا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

[94]

وارتفع يسمى سماء {وَلَنْ نُؤْمِنَ} بك؛ أي: لن نصدقك {لِرُقِيِّكَ}؛ أي: لأجل رقيك، وصعودك فيها، وحدك، فـ {اللام} للتعليل، أو لن نصدّق رقيّك، وصعودك فيها فـ {اللام} صلة أي زائدة. {حَتَّى تُنَزِّلَ} منها {عَلَيْنا كِتابًا} من الله فيه تصديقك {نَقْرَؤُهُ} نحن بلغتنا على نهج كلامنا، من غير أن يتلقّى من قبلك، وكانوا يقصدون بمثل هذه الاقتراحات اللجاج والعناد، ولو كان مرادهم الاسترشاد .. لكفاهم ما شاهدوا من المعجزات؛ أي: ولمّا ظهر لهم كون القرآن معجزا .. التمسوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستّة أنواع من المعجزات، فأمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم، والتنزيه للرب سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد متعجبًا من مقترحاتهم، ومنزهًا ربك من أن يقترح عليه أحد، أو يشاركه في القدرة، قرأ (¬1) نافع وعاصم وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي {قُلْ} وقرأ، ابن كثير، وابن عامر {قال} وكذلك في مصاحف أهل مكة والشام، {سُبْحانَ رَبِّي}؛ أي: أنزِّه رَبِّي عن أن يكون له إتيان وذهابٌ، وأتعجب من اقتراحاتهم والاستفهام في قوله: {هَلْ كُنْتُ} للإنكار بمعنى النفي؛ أي: ما كنت {إِلَّا بَشَرًا} لا ملكًا حتى أصعد إلى السماء، {رَسُولًا}؛ أي: مأمورًا من قبل ربي بتبليغ الرسالة كسائر الرسل، لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله سبحانه على أيديهم من الآيات، بحسب ما تقتضيه المصلحة من غير تفويض إليهم فيه، ولا تحكم منهم عليه. وخلاصة ذلك (¬2): قل أن يتقدم أحدٌ بين يديه سبحانه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء .. أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء .. لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم، أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل، 94 - ثم أعقب ذلك ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي.

[95]

بشبهة أخرى، وهي استبعادهم أن يكون من البشر رسولٌ فقال: {وَما مَنَعَ النَّاسَ}؛ أي: وما منع مشركي مكّة، وهم من حكيت أباطيلهم من {أَنْ يُؤْمِنُوا} بك، ويصدّقوا رسالتك {إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى}؛ أي: القرآن؛ أي: ما منعهم من الإيمان بك حين مجيء الوحي المقرون بالمعجزات، التي تستدعي الإيمان بنبوتك، وبما نزل عليك من الكتاب، {إِلَّا أَنْ قالُوا}؛ أي: إلا قولهم جهلا {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} إنكارًا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر، واعتقادًا منهم بأن الله سبحانه لو بعث رسولًا إلى الخلق .. لوجب أن يكون من الملائكة، و {بَشَرًا} حال من رَسُولًا كما في «الكشاف» ونحو الآية قوله تعالى: {أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ...} الآية وقوله: {ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا ...} الآية. وقال فرعون وملؤه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} وكذلك قالت الأمم لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} 95 - فأجابهم الله سبحانه عن هذه الشبهة ذاكرًا وجه الحق منبهًا إلى المصلحة بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد من جهتنا جوابًا لقوله: {لَوْ كَانَ} ووجد {فِي الْأَرْضِ} بدل من {كَانَ} فيها من البشر {مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} عليها بالأقدام، كما يمشي البشر حالة كونهم {مُطْمَئِنِّينَ}؛ أي: مستقرين فيها ساكنين بها كما يسكن البشر من غير أن يعرجوا إلى السماء، وعبارة «الجمل»: أي مستوطنين فيها لا يظعنون عنها إلى السماء اهـ. {لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الملائكة الساكنين في الأرض {مِنَ السَّماءِ مَلَكًا} حال من {رَسُولًا} ليبيّن (¬1) لهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين؛ لأن الجنس إلى الجنس يميل، ولما كان سكان الأرض بشرًا وجب أن يكون رسولهم بشرًا، ليمكن الإفادة والاستفادة، وهم جهلوا أنّ التجانس يورث التّآنس، والتخالف يوجب التنافر. أي: لنزلنا (¬2) عليهم من السماء رسلًا من الملائكة للهداية، والإرشاد، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[96]

وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلُّمُه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثم لم نبعث إليهم ملائكةً، بل بعثنا خواصّ البشر؛ لأنّ الله قد وهبهم نفوسًا زكيّة، وأيدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحيةً ملكيةً بها يستطيعون أن يتلقوا من الملائكة، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربهم إلى عباده. وإجمال القول في ذلك: أنه لو جعل الرسل ملائكةً .. لما استطاع الناس التخاطب معهم، ولما تمكنوا من الفهم منهم، فلزم أن يجعلوا بشرا حتى يستطيعوا أداء الرسالة، كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)} وقد ثبت أن جبريل عليه السلام، جاء في صورة دحية الكلبيّ مرارًا عدة، فقد صح أنّ أعرابيًا جاء وعليه وعثاء السفر، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأجابه عليه السلام بما أجابه، ثم انصرف، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم». 96 - ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد فقال: {قُلْ} لهم يا محمد من جهتك {كَفى بِاللَّهِ} وحده {شَهِيدًا} على أني بلّغت ما أرسلت به إليكم، وأنّكم كذبتم وعاندتم، وقال: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، ولم (¬1) يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة الكلية، وقيل: إنّ إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق. أي قل (¬2): إنّ الله تعالى لما أظهر المعجزة، وفق دعواي، كان ذلك شهادة منه على صدقي، ومن شهد له الله .. فهو صادق، فادعاؤكم أنّ الرسول يجب أن يكون ملكا تحكم منكم وتعنُّتٌ. وخلاصة ذلك: أن الله شاهد عليَّ وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[97]

كاذبًا عليه .. لانتقم منّي أشد الانتقام كما قال سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} ثم علل كونه سبحانه شهيدًا كافيًا بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كَانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا}؛ أي: عالمًا ببواطن أحوالهم، {بَصِيرًا}؛ أي: عالمًا بظواهرها؛ أي: أنه سبحانه محيط بأحوال عباده الظاهر منها، والباطن، وأعلم بمن يستحق الإحسان، والرّعاية، ومن هو أهل للشقاء والضلال، فيجازي كلًا بما يستحق، وفي هذا إيماء إلى أنه ما دعاهم إلى إنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم - إلّا الحسد، وحب الرياسة، والتكبّر عن قبول الحق، كما أنّ فيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من الإصرار والعناد، والإمعان في إيذائه، 97 - ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته، فقال: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} ابتداء كلام ليس بداخل تحت الأمر؛ أي: ومن يرد الله سبحانه هدايته {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} إلى الحقّ، كل مطلوب {وَمَنْ يُضْلِلْ}؛ أي: ومن يرد إضلاله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ} ينصرونهم {مِنْ دُونِهِ} تعالى، ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه، أو إلى طريق النجاة، وقوله: {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} حملًا على لفظ {مَنْ} وقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ} حملًا على المعنى، ووجه المناسبة في ذلك، والله أعلم: أنّه لما كان الهدى شيئًا واحدًا غير متشعِّب السبل، ناسبه التوحيد، ولما كان الضلال له طرق متشعبة، نحو {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ناسبه الجمع ذكره في «الفتوحات» والخطاب في قوله: {فَلَنْ تَجِدَ} إما للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح له. أي: ومن يهد الله للإيمان به، وتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فهو المهتدي إلى الحق، المصيب سبيل الرشد، ومن يضلله لسوء اختياره، وتدنيسه نفسه، وركوبه في الغواية والعصيان، كهؤلاء المعاندين، فلن تجد لهم أنصارا ينصرونهم من دونه تعالى، ويهدونهم إلى الحق، ويمنعون عنهم العذاب الذي يقتضيه ضلالهم. وقوله: {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قرأه (¬1) نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، ¬

_ (¬1) زاد المسير.

وحذفاها في الوقف، وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين. {وَنَحْشُرُهُمْ}؛ أي: ونجمعهم {يَوْمَ الْقِيامَةِ} في موقف الحساب بعد تفرقهم في القبور حالة كونهم مسحوبين {عَلى وُجُوهِهِمْ}، أو ماشين عليها، فإنّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. وعن أنس رضي الله عنه أنّ رجلا قال: يا رسول الله: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ} أيحشر الكافر على وجهه؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة»، قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربّنا. متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر النّاس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاةً، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم» قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك». أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض. وقوله: {عُمْيًا} حال من ضمير وجوههم جمع أعمى؛ أي: حالة كونهم لا يبصرون ما يسر أعينهم {وَ} حالة كونهم {بُكْمًا}؛ أي: لا ينطقون ما يقبل منهم، جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق {وَ} حالة كونهم {صُمًّا}؛ أي: لا يسمعون ما يلذ مسامعهم، جمع الأصم، وهو الذي لا يسمع، وهذه (¬1) هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر، وعدم النطق، وعدم السمع، مع كونهم مسحوبين على وجوههم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه. والمعنى: أي (¬2) ونجمعهم في موقف الحساب بعد تفرقهم في القبور عميًا، وبكمًا، وصمًا، كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون، ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة لا يبصرون ما تقر به أعينهم، ولا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[98]

يسمعونَ ما يلذ لمسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، كما قال: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} ثم من وراء ذلك {مَأْواهُمْ}؛ أي: المكان الذي يأوون إليه، ويسكنون فيه؛ أي: منزلهم ومسكنهم {جَهَنَّمُ}، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة لا محل لها أي ثم بعد أن يتمّ حسابهم يكون منقلبهم ومصيرهم جهنم. {كُلَّما خَبَتْ} جهنم؛ أي: كلما سكن لهبها، بأن أكلت جلودهم، ولحومهم، ولم يبق ما تتعلق به وتحرقه {زِدْناهُمْ سَعِيرًا}؛ أي: زدناها لهبًا، وتوقدًا بهم، بأن نعيدهم إلى ما كانوا عليه فتستعر وتتوقد، وكأن هذا عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء، بتكرارها مرة بعد أخرى، ليروها عيانا حيث أنكروها برهانًا، وأدغم التاء في {خَبَتْ} في زاي {زِدْناهُمْ} أبو عمرو، والأخوان، وورش، وأظهرها الباقون يقال: خبت النّار تخبو خبوًا، إذا خمدت، وسكن لهبها. قال ابن قتيبة: ومعنى {زِدْناهُمْ سَعِيرًا} تسعرًا، وهو التلهب فإن قلت: (¬1) إن في خبو النار تخفيفًا لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ}؟. قلت: إنّ المراد بعدم التَّخفيف أنَّه لا يتخلَّل زمان محسوسٌ بين الخبو والتسعر، وقيل: إنّها تخبو من غير تخفيف عنهم، من عذابها، 98 - ثمّ بيّن علة تعذيبهم، لعله يرجع منهم من قضي بسعادته، فقال: {ذلِكَ} العذاب {جَزاؤُهُمْ} الذي أوجبه الله لهم، واستحقوه عنده، والباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا} للسببية؛ أي: بسبب كفرهم بها، فلم يصدقوا بالآيات التنزيلية، ولا تفكروا في الآيات التكوينية، واسم الإشارة مبتدأ، خبره، {جَزاؤُهُمْ} و {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} خبر آخر، ويجوز (¬2) أن يكون {جَزاؤُهُمْ} مبتدأً ثانيًا، وخبره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ الأول، {وَقالُوا} منكرين لقدرتنا أشدّ الإنكار {أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا}؛ أي: ترابًا رميمًا، و {الهمزة} فيه للاستفهام الإنكاري، و {خَلْقًا} في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} مصدر من غير لفظه؛ أي: بعثًا جديدًا، أو حال؛ أي: مخلوقًا جديدًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[99]

والمعنى (¬1): أي ذلك العذابُ الذي جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم هو جزاؤهم الذي يستحقونه على تكذيبهم بالبينات والحجج الّتي جاءتهم، وعلى استبعادهم وقوع البعث، وقولهم: أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى، والهلاك، والتفرق في أرجاء الأرض نعاد مرة أخرى؟ استنكارًا منهم، وتعجبًا من أن يحصل ذلك، 99 - ثم استدل على البعث، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} {الهمزة} فيه للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يعلموا {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} من غير مادّةٍ مع عظمهما، {قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في الصغر على أن المثل مقحم، والمراد بالخلق: الإعادة؛ أي: من هو قادر على خلق هذا، فهو على إعادة ما هو أدنى منه أقدر. والمعنى: أي ألم يعلموا ولم يتدبّروا أنّ الذي خلق السموات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق، وأقامهما بقدرته قادرٌ على أن يخلق أمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وكيف لا يقدر على إعادتهم، والإعادة أهون من الابتداء؟. وبعد أن أثبت أنّ البعث أمر ممكن الوجود في نفسه .. أردف ذلك بأن لحصوله وقتًا معلومًا عنده، فقال: {وَجَعَلَ لَهُمْ}؛ أي: لإعادتهم، وقيامهم من قبورهم {أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ}؛ أي: غير مرتاب فيه؛ أي: أجلًا مضروبًا، ومدة مقدرة لا بدّ من انقضائها، لا يعلمها إلا هو، كما قال: {وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)} وجملة {جَعَلَ} معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} بنفسها، فليس داخلًا في حيز الاستفهام، أو مستأنفة، لأنه في قوة قد رأوا لأن الاستفهام تقريريٌّ، والمعنى (¬2) قد علموا أنّ من قدر على خلق السموات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، وجعل لهم ولبعثهم أجلًا محققًا، لا ريب فيه هو يوم القيامة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[100]

وقيل (¬1): في الكلام تقديم وتأخير، أي: أولم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض، وجعل لهم أجلًا لا ريب فيه؛ قادر على أن يخلق مثلهم. {فَأَبَى الظَّالِمُونَ}؛ أي: أبى المشركون، وامتنعوا من الانقياد للحق، ولم يرضوا {إِلَّا كُفُورًا}؛ أي: إلا جحودًا به، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، للحكم عليهم بالظلم، ومجاوزة الحد؛ أي: وبعد إقامة الحجة عليهم، أبوا إلا تماديا في ضلالهم، وكفرهم مع وضوح الحجة، وظهور المحجة، 100 - ثمّ بيّن السّبب في عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا .. لبقوا على شحهم، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {لَوْ} تملكون {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}؛ أي: خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات، وأنتم مرفوع بفعل يفسره المذكور، على أنّ الضمير المنفصل بدل من الضمير المتصل، وهو {الواو} لا مبتدأ؛ لأن {لو} لا تدخل إلا على الفعل، والأصل لو تملكون أنتم تملكون كما قدّرنا آنفًا {إذا}؛ أي: لو ملكتموها {لَأَمْسَكْتُمْ} ما ملكتم عن الإنفاق {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ}؛ أي: مخافة الفقر، فلا فائدة في إسعافكم بذلك المطلوب الذي التمستموه. أو معنى {لَأَمْسَكْتُمْ} لبخلتم (¬2)، من قولك للبخيل ممسك، فلا يقدّر له مفعول، {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ}؛ أي: مخافة عاقبة الإنفاق، وهو النفاد {وَكانَ الْإِنْسانُ}؛ أي: جنسه {قَتُورًا}؛ أي: بخيلًا منوعًا بطبعه، لأن يبني أمره على الحاجة، والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل، فالبخل والحرص من الصفات المذمومة، فلا بدّ من تطهير النفس عنهما، وتحليتها بالسّخاء والقناعة، وترك طول الأمل، فإن الشّيطان يستعبد البخيل، ولو كان مطيعًا، وينأى عن السخيِّ، ولو كان فاسقًا، وجنس الإنسان، وإن كان قتورًا مخلوقًا على القبض واليبوسة كالتراب، إلا أن من أفراده خواص متخلقين بصفات الله تعالى، ومتحققين بأسرار فعاله. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

له راحةٌ لو أنَّ مِعْشَارَ جُودها ... على البرِّ كَان البرُّ أَنْدى من البحرِ الراحة: باطن الكف، والمعشار بمعنى العشر. وعبارة المراغي هنا: المراد من الإنفاق هنا: الفقر، كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وروي نحوه عن قتادة، وإليه ذهب الراغب فقال: يقال: أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة: أنفق، وأملق، وأعدم، وأصرم بمعنى. أي: قل لهم أيها الرسول: لو أنكم تملكون التصرف في خزائن الله، لأمسكتم خشية الفقر؛ أي: خشية أن تزول وتذهب، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا، وقصارى ذلك، أنّكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها .. لبقيتم على الشح والبخل، وفي هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه - صلى الله عليه وسلم - من بساتين، وعيون تنبع، لا بخلا منه، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا، ولا رقيّ للإنسان إلا على هذا المنوال، فهو يوسع الرزق على قوم، ويضيقه على آخرين، على مقتضى الحكمة والمصلحة، ومن ثمّ لم ينزل ما اقترحتموه. {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا}؛ أي: بخيلًا منوعًا بطبعه، كما قال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}؛ أي: لو أنّ لهم نصيبًا في ملك الله .. لما أعطوا أحدًا شيئًا، ولا مقدار نقير. وإجمال المعنى (¬1): أن الله لم يجب محمدًا إلى ما طلبتم، لا هوانًا لنبيه، ولا لأنه ليس بنبي، ولا بخلًا - حاشاه - بل لحكمة منه، فربّما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس، فأما أنتم فمنعكم يجري على طريق البخل، فلو سلّم لكم السموات والأرض، وادارستموها لم تفهموا إلا الإمساك، ومن ثمّ لا يسلمكم مفاتيح خزائنه، لئلّا تمسكوا المال لأنفسكم، ولا تنفعوا خلقه. ¬

_ (¬1) المراغي.

[101]

101 - {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أعطينا موسى بن عمران عليه السلام {تِسْعَ آياتٍ}؛ أي: معجزات {بَيِّناتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على صحة نبوته، وصدقه وصحة ما جاء به من عند الله، حين أرسل إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها كما قال تعالى: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} وقال: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}. وقد ذكر سبحانه في كتابه العزيز ستّ عشرة معجزةً لموسى عليه السلام: 1 - أنّه أزال، العقدة من لسانه؛ أي: أذهب العجمة عن لسانه، وصار فصيحًا. 2 - انقلاب العَصَا حيّةً. 3 - تلقّف الحيّة حبالهم وعصيّهم على كثرتها. 4 - اليد البيضاء. 5 - الطوفان. 6 - الجراد. 7 - القمّل. 8 - الضفادع. 9 - الدم. 10 - شق البحر. 11 - انفلاق الحجر في قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ}. 12 - إظلال الجبل في قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}. 13 - إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه. 14 و15 - الجدب ونقص الثمرات في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ}.

16 - الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة. وقد اختلفوا (¬1) في المراد من هذه التسع، أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، من طرق عدة، عن ابن عباس: أنها العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون، ونقص الثمرات. وقيل: المراد بالآيات الأحكام، فقد أخرج أحمد، والبيهقي، والطبراني، والنسائي، وابن ماجه: أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبَّلا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبي، قال: «فما يمنعكما أن تسلما»؟ قالا: إن داود دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعول في الآية، ثمّ خاطب نبيّه فقال: {فَاسْأَلْ} يا محمد {بَنِي إِسْرائِيلَ} الذين كانوا في عصرك، وآمنوا بك كعبد الله بن سلام وأصحابه عن قصة موسى فيما جرى بينه، وبين فرعون وقومه، لتزيد طمأنينتك، ويقينك، ولتعلم أنّ ذلك أمر محقق ثابت عندهم في كتابهم، وليظهر صدق ما ذكرته عند المشركين، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد، وهذه (¬2) الجملة اعتراضية بين العامل الذي هو {آتَيْنا}، والمعمول الذي هو {إِذْ جاءَهُمْ}؛ أي: حين جاء موسى بني إسرائيل الذين كانوا في زمانه عليه السلام، وهذا الظرف متعلق بـ {آتينا}؛ أي: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات حين جاء موسى بني إسرائيل، فأظهر ما أتيناه من الآيات عند فرعون، وبلّغه ما أرسل به {فَقالَ لَهُ}؛ أي: لموسى عليه السلام: {فِرْعَوْنُ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[102]

اللعين {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا}؛ أي: مغلوب العقل، مخلّطًا عليه أمره، أو مطبوبا؛ أي: سحروك، أو ساحرًا (¬1) بغرائب أفعاله، قاله الفراء وأبو عبيدة، فوضع المفعول موضع الفاعل، كما تقول: هذا مشؤوم، وميمون، أي شائمٌ ويامن. وقيل: إن (إذ) تعليلية لا ظرفيّة، معللة للسؤال؛ أي: فاسألهم يا محمد يخبروك، لأنّه جاءهم؛ أي: جاء آباءهم بهذه الآيات، وأبلغها فرعون فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مخلّط العقل، ومن ثمّ ادعيت ما ادعيت مما لا يقول مثله كامل العقل حصيف الرأي. وقيل: جملة قوله: {فَسْئَلْ} ليست معترضةً بل هي مقول لقول محذوف تقديره: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} فـ {قلنا} له {اسأل} فرعون {بَنِي إِسْرائِيلَ}؛ أي: فك أولاد يعقوب من يده وأسره، أي: سلهم يا موسى من فرعون؟ وقل له: أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم، والظرف في قوله: {إِذْ جاءَهُمْ} متعلق بذلك القول المحذوف، أو بـ {اسأل}؛ أي: حين جاء موسى بني إسرائيل، وفرعون وقومه. وقرأ الجمهور (¬2): {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ} بصيغة الأمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لموسى عليه السلام، كما مر تفصيله، وقرأ ابن عبّاسٍ، وابن نهيك (فسأل بني إسرائيل) على صيغة الماضي؛ أي: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، فسأل موسى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل إذ جاءهم ... الخ. 102 - {قالَ} موسى لفرعون، والله {لَقَدْ عَلِمْتَ} يا فرعون {ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ}؛ أي: ما أنزل علي هذه الآيات التسع التي أريتكها، وأوجدها {إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ومالكهما حالة كونها {بَصائِرَ}؛ أي: دلالات يستدل بها على قدرة الله تعالى، ووحدانيته، وحجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لي على ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) زاد المسير.

[103]

صدقي وصحة قولي: إني رسول الله، بعثني بها رب السموات والأرض، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها، وهي بصائر لمن استبصر بها، وهدًى لمن اهتدى بها، يعرف من رآها أنّ من جاء بها فهو محق، وأنّها من عند الله، لا من عند غيره، إذ كانت معجزةً لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض، وقرأ (¬1) الجمهور {لَقَدْ عَلِمْتَ} بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون، وتبكيته في قوله عنه: إنه مسحور؛ أي: لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر، ولا أني خدعت في عقلي، بل علمت أنه ما أنزلها إلّا الله سبحانه، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ رب السموات والأرض، إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته، فقال له: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ينبهه على نقصه، وإنه لا تصرف له في الوجود، وقرأ علي بن أبي طالب، وزيد بن علي، والكسائي {علمت} بضم التاء، أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون، بل هو يعلم أنّ ما أنزل هؤلاء الآيات إلا الله، قال (¬2) أبو عبيد: المأخوذ به عندنا قراءة الجمهور، أعني فتح التاء، وهو الأصح للمعنى؛ لأن موسى لا يقول: علمت أنا، وهو الداعي، وروي نحو هذا عن الزجاج. {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}؛ أي: مصروفًا عن الخير، مطبوعًا على الشر، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؛ أي: ما صرفك أو هالكًا فإن الثبور الهلاك، وقرأ (¬3) أبي {وإن إخالك يا فرعون لمثبورا} وهي إن المخففة، واللام الفارقة 103 - {فَأَرادَ} فرعون من نتائج ظنه الكاذب {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ}؛ أي: أن يخرج موسى، وبني إسرائيل {مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: من أرض مصر بقتلهم واستئصالهم بحيث لا يبقي منهم أحدًا فعكسنا عليه مكره {فَأَغْرَقْناهُ}؛ أي: فرعون في البحر {وَمَنْ مَعَهُ} من جنده من القبط {جَمِيعًا} فأخرجناه من أرضه أفظع إخراج، ونجينا موسى وقومه من نتائج ظنه الصادق 104 - {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد إغراق فرعون وقومه {لِبَنِي إِسْرائِيلَ}، أي: لأولاد يعقوب، {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} التي أراد أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

[105]

يستفزّكم منها، وهي أرض مصر، إن صح أنهم دخلوها بعده، أو الأرض مطلقًا، أو أرض الشام، وهي الأرض المقدّسة التي وعدتم بها {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}؛ أي: البعث بعد الموت؛ أي: البعث الموعود في الدار الآخرة، {جِئْنا بِكُمْ}؛ أي: أحييناكم، وجئنا بكم من قبوركم إلى المحشر، حالة كونكم {لَفِيفًا}؛ أي: مختلطين أنتم وهم فيختلط جميع الخلق المسلم والكافر، والبر والفاجر، ثمّ نحكم بينكم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم. 105 - {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ}؛ أي: وحالة كون هذا القرآن ملتبسًا بالحق، والحكمة المقتضية لإنزاله، وهي هداية الخلق، وقطع أعذارهم، أنزلناه عليك يا محمد {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}؛ أي: وحالة كونه ملتبسًا بالدين الحق من العقائد الصحيحة، والأحكام الحقة، نزل عليك يا محمد، أو المعنى: وبالحق أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر جملة واحدة، وبالحق نزل عليك منجّمًا بحسب الوقائع. وهذا الكلام (¬1) مرتبط في المعنى بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الخ، وهذا على أسلوب العرب حيث ينتقلون في كلامهم من سياق المقصود إلى غيره المناسب له، ثمّ يرجعون لما كانوا بصدده اهـ شيخنا، وفي الخطيب أنه معطوف على {وَلَقَدْ صَرَّفْنا} وقيل معنى قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ}؛ أي (¬2): وأنزلنا عليك القرآن متضمنًا للحق، ففيه أمر بالعدل، والإنصاف، ومكارم الأخلاق، ونهي عن الظلم والأفعال الذميمة، وذكر براهين الوحدانية، وحاجة الناس إلى الرسل لتبشيرهم، وإنذارهم، وحثهم على صالح الأعمال انتظارًا ليوم الحساب، والجزاء، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}؛ أي: ونزل إليك محفوظًا محروسًا، لم يشب بغيره، فلم يزد فيه، ولم ينقص (¬3)، وقد يكون المراد، ونزل إليك مع الحق، وهو شديد القوى، الأمين المطاع في الملأ الأعلى جبريل عليه السلام، وبعد أن مدح الكتاب، مدح من أنزل عليه، فقال: {وَما أَرْسَلْناكَ} أيها الرسول إلى من أرسلناك ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[106]

إليهم من عبادنا {إِلَّا مُبَشِّرًا} بالجنة من أطاعنا، فانتهى إلى أمرنا؛ أي: إلا هاديًا {وَنَذِيرًا} أي: ومنذرا لمن عصانا بالعقاب، فهؤلاء الجهال الذين اقترحوا عليك تلك المعجزات، وتمردوا عن قبول دينك، لا شيء عليك من كفرهم. 106 - {وَقُرْآنًا} منصوب بفعل مضمر يفسره قوله: {فَرَقْناهُ}؛ أي: وأنزلنا عليك قرآنًا فرقناه؛ أي: فصلناه وبيناه، وقيل: فرقنا به بين الحق والباطل، وقيل: معناه أنزلناه نجوما لم ينزل مرة واحدة، بدليل قوله: لتقرأه على الناس، وقد بدىء بإنزاله ليلة القدر، في رمضان، ثمّ أنزل نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع. وقرأ الجمهور (¬1): {فَرَقْناهُ} بتخفيف الراء أي: بينا حلاله وحرامه، قاله ابن عباس، وعن الحسن: فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقال الفراء: أحكمناه، وفصلناه كقوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} وقرأ أبي، وعبد الله، وعليّ وابن عباس، وأبو رجاء، وقتادة، والشعبيُّ وحميد، وعمر بن فائد، وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر، وعكرمة، والحسن بخلاف عنه بشد الراء، أي: أنزلناه نجمًا بعد نجم، وفصلناه في النجوم، وقيل: معنى {فرقناه} بالتشديد فرقنا آياته بين أمر، ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ، وأمثال، وقصص وأخبار، مغيبات أتت، وتأتي، وقرأ أبي وعبد الله {فرقناه عليك} بزيادة عليك ثم ذكر سبحانه العلة لقوله: فرقناه فقال: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ}؛ أي: أنزلناه مفرّقًا لتقرأه على الناس على مكث؛ أي: على مهل، وتأن وتؤدة، شيئًا فشيئًا، فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم؛ أي: وحكمة نزوله هكذا بعضه إثر بعض أن تقرأه على الناس بتؤدة وتأن ليسهل عليهم حفظه، ويكون ذلك أعون على تفهم معناه، وقد (¬2) اتفق القراء على ضمّ الميم في {مكث} إلا ابن محيصن، فإنه قرأ بفتح الميم، وهما لغتان {وَنَزَّلْناهُ} في ثلاث وعشرين سنة {تَنْزِيلًا} على قانون الحكمة، وحسب الحوادث، وجوابات السائلين، وفائدة قوله: {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} بعد قوله: {فَرَقْناهُ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[107]

بيان أنّ ذلك التنزيل لمقتض - وهو التنزيل بحسب الحوادث - للمصلحة، لأنهم لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا، ولم يطيقوا، 107 - ثمّ هددهم سبحانه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لك {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} {آمِنُوا بِهِ}، أي آمنوا إن شئتم بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. {أَوْ لا تُؤْمِنُوا} إن شئتم، فإن إيمانكم به لا يزيده كمالًا، وامتناعكم عنه لا يورثه نقصًا. ثم علل عدم المبالاة بهم، واحتقار شأنهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وأعطوه مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل نزول القرآن؛ أي: وإن تكفروا به أيها المشركون، فإنّ العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل نزول القرآن، وعرفوا أنّ الله سيبعث نبيًا في آخر الزمان، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام، {إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} هذا القرآن {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ}؛ أي: يسقطون على وجوههم حالة كونهم، {سُجَّدًا}؛ أي: ساجدين لله سبحانه وتعالى شكرًا له على إنجاز وعده بإرسالك، وهذه الآية من عزائم السّجدات، وإنما قيّد (¬1) الخرور وهو السقوط بكونه للأذقان؛ أي: عليها لأنّ الذقن، وهو مجتمع اللحيين، أوّل ما يحاذي الأرض، قال الزجاج: لأنّ الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود، فأول ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن. وقيل المراد تعفير اللحية في التراب، فإن ذلك غاية الخضوع، وإيثار اللام في {للأذقان} للدلالة على الاختصاص، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بالأذقان. والخلاصة (¬2): أنكم إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، وفيه تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وازدراء لشأنهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[108]

وحاصلها (¬1): أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم، ولا معرفة بكتب الله، ولا بأنبيائه، فلا تبال بذلك، فقد آمن به أهل العلم، وخشعوا له، وخضعوا عند تلاوته عليهم، خضوعًا ظهر أثره البالغ بكونهم يخرّون على أذقانهم سجّدًا لله. 108 - {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول الذين أوتوا العلم في سجودهم {سُبْحانَ رَبِّنا}؛ أي: تنزيهًا لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب، أو تنزيهًا له عن خلف وعده الذي في الكتب السالفة ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنزال القرآن عليه {إِنْ كانَ} {إِنْ} مخففة من الثقيلة أي: إن الشّأن والحال كان {وَعْدُ رَبِّنا} بإنزال القرآن، وبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، {لَمَفْعُولًا}؛ أي: منجزًا آتيًا كائنًا لا محالة واقعًا البتة؛ لأن الخلف نقص، والنّقص عليه تعالى محال، وقيل: الظاهر (¬2) أنّ المراد بالوعد، وعد الآخرة كما يدل عليه سياق الآية، من قصة موسى، وفرعون، وما قبلها من قصة قريش في إنكار البعث، والله أعلم. 109 - ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال: {يَخِرُّونَ}؛ أي: ويخر الذين أوتوا العلم، ويسقطون {لِلْأَذْقانِ}؛ أي: على أذقانهم للسجود، لما أثر فيهم، من مواعظ القرآن حالة كونهم {يَبْكُونَ} من خشية الله تعالى، وكرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السبب؛ فإن الأوّل: لتعظيم الله تعالى وتنزيهه، والثاني: للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم، ومزيد خشوعهم، ولهذا قال: {وَيَزِيدُهُمْ}؛ أي: سماع القرآن، أو القرآن بسماعهم له، أو البكاء، أو السجود، أو المتلو. {خُشُوعًا}؛ أي: تواضعًا لله كما يزيدهم علمًا، ويقينًا بالله تعالى؛ أي: يزيدهم لين قلب، ورطوبة عين، فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن، وفي «الفتوحات»: وتكرر الخرور لاختلاف حاليه بالبكاء والسجود، وجاءت الحال الأولى اسمًا لدلالته على الاستمرار، والثانية فعلًا لدلالته على التجدد والحدوث اهـ «سمين». ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[110]

وقد جاء في مدح البكاء من خشية الله تعالى أخبار كثيرةٌ (¬1): فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى». وأخرج مسلم، والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم». وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما عن عبد الأعلى التميمي، أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه .. لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه؛ لأنّ الله تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ}. 110 - ثم رد على المشركين المنكرين إطلاق اسم الرحمن عليه عز وجل فقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ}؛ أي: قل يا محمد لمشركي قومك الذين أنكروا اسم الرحمن، ادعوا الله؛ أي: سموا أيها القوم معبودكم الحقّ باسم الله إن شئتم، أو باسم الرحمن، إن شئتم؛ أي: قولوا في دعائه إن شئتم: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن {أَيًّا ما تَدْعُوا}؛ أي: أي اسم من هذين الاسمين تدعوه به، فهو من أسمائه {فَلَهُ}؛ أي: لأنّ له سبحانه أسماء هي {الْأَسْماءُ} الكثيرة، {الْحُسْنى} لدلالتها على الكمال والجلال فمعنى حسن أسماء الله تعالى كونها مفيدة لمعاني التّحميد، والتّقديس، والتمجيد، والتّعظيم؛ أي: فبأي اسمين منهما تسمونه فهو حسن، لأنّ كل أسمائه حسنى؛ إذ فيها التعظيم، والتقديس لأعظم موجود، وهو خالق السموات والأرض، وهذان الاسمان منها. قال البيضاوي: والدعاء (¬2) في الآية بمعنى التسمية، وهو يتعدى إلى مفعولين، حذف أولهما استغناء عنه، وأو للتخيير، والتنوين في أيا، عوض عن المضاف إليه، و {ما} صلة لتأكيد ما في أي من الإبهام، والضمير في {فَلَهُ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

للمسمى، لأن التسمية له، لا للاسم، وكان أصل الكلام: أيًّا ما تدعوا فهو حسن وضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة، وللدلالة على أنها إذا حسنت أسماؤه كلها، حسن هذان الاسمان اهـ. فمعنى (¬1) {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ}؛ أي: سموا المعبود بحق بالله، أو بالرحمن، فإنهما من الأسماء الحسنى، وإذا حسنت أسماؤه كلّها، فهذان الاسمان منها، والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل، لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء، كما في «القاموس»: وجملتها تسعة وتسعون اسمًا كما في الحديث الصحيح، بروايات متعددة عن علي، وأبي هريرة رضي الله عنهما «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ...» إلى آخر ما سرده الترمذي في جامعه، وقد شرحناها كلها شرحًا شافيًا، في كتابنا «هدية الأذكياء على طيبة الأسماء» وهو مطبوع منتشر فراجعه إن شئت. وقرأ طلحة بن مصرف (¬2): {أيا من} فاحتمل أن تكون {من} زائدة على مذهب الكسائي، واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ. ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتوسط في القراءة، فلا يجهر صوته، ولا يخافت به، فقال: {وَلا تَجْهَرْ} يا محمد {بِصَلاتِكَ}؛ أي: لا ترفع بقراءتك في الصلاة في المسجد الحرام، فيسمعها المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به {وَلا تُخافِتْ بِها}؛ أي: بقراءة صلاتك؛ أي: لا تسرها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، فهو على حذف المضاف، للعلم بأن الجهر، والمخافتة من نعوت الصوت، لا من نعوت الصلاة؛ لأن الصّلاة أفعال، وأذكار، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ}؛ أي: واطلب بين الجهر والمخافتة {سَبِيلًا}؛ أي: أمرًا وسطًا، فإنّ خير الأمور أوساطها، والتعبير (¬3) عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمرٌ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[111]

يتوجّه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون، فيوصلهم إلى المطلوب، روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يخفت، ويقول: أناجي ربي وقد علم حاجتي، وعمر - رضي الله عنه - يجهر بها، ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يرفع قليلًا وعمر أن يخفض قليلًا. 111 - ولما أمر الله سبحانه رسوله أن لا يناديه إلا بأسمائه الحسنى، علمه كيفية التّحميد بقوله: {وَقُلِ} أيها الرسول في ثناء ربك {الْحَمْدُ} اللائق، والشكر الدائم مستحق {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى، ذي الجلال والإكرام، {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ} ولم يجعل لنفسه {وَلَدًا} ذكرًا ولا أنثى، لأن الولادة من صفات الأجسام والحوادث لا غير، وهو ردّ على اليهود والنصارى وبني مدلج حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا {وَ} الذي {لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}؛ أي: في ملك العالم؛ أي: في الألوهية، فإن الكل عبيده، والعبد لا يصلح أن يكون شريكًا لسيده في ملكه، وهو رد على الثنوية القائلين بتعدد الإله {وَ} الذي {لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ}؛ أي: ناصر ينصره {مِنَ الذُّلِّ}، والهوان؛ أي: لم يوال أحدًا من أجل مذلة به، ليدفعها بموالاته، فإنّه محال أن يذل فيحتاج إلى أحد يتعزز به، ويدفع عنه المذلة، إذ له العزّة كلها، فليس له مذلّة، ولا له احتياج إلى وليّ يدفع الذل عنه، وهو رد على المجوس والصابئين في قولهم: لولا أولياء الله لذل الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفي «الأسئلة المقحمة»: كيف (¬1) جعل عدم الولد علة استحقاق الحمد؟. الجواب: إن هذا ليس بتعليل لوجوب الحمد، إنّما هو بيان من يقع له الحمد، كما تقول: الحمد لله، الأول الآخر، الحمد لله رب العالمين انتهى. وفي «الكشاف»: كيف رتب الحمد على نفي الولد، والشريك، والذل، أي: مع أنه لم يكن من الجميل الاختياري؟. قلت: إنَّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمةٍ فهو الذي ¬

_ (¬1) روح البيان.

يستحق جنس الحمد، وقال بعضهم: وترتيب الحمد على عدم اتخاذ الولد؛ لأنّ من كان هذا وصفه فهو القادر ولا شكّ على إسباغ النعم، وإيلائها، أما صاحب الولد، فهو مستهدف للتّلهي بولده عن غيرهم، والاشتغال بهم عن سواهم {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}؛ أي: عظمه تعظيمًا، أو قل: الله أكبر من اتخاذ الولد، والشريك، والولي. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بثلاث صفات (¬1): 1 - أنه لم يتخذ ولدًا، فإنّ من اتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه، تنزه ربنا عن ذلك، ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام في كل الحالات، فلا يستحق الحمد على الإطلاق. 2 - أنه ليس له شريك في الملك؛ إذ لو كان له ذلك، لم يعرف أيهما المستحق للحمد، والشكر، ولكان عاجزًا ذا حاجة إلى معونة غيره، ولم يكن منفردًا بالملك والسلطان. 3 - أنه لم يكن له ولي من الذل؛ أي: لم يوال أحدًا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته. والخلاصة: أنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه، وليس له شريك يقف أعماله في الملك، ولا ناصر يدفع العدو المذل له، وإذا تنزه ربنا عن ذلك، فقد أمن الناس نضوب موارده، وأصبحت أبوابه مفتحة لكل قاصد، فلتغترف - أيها العبد - من مناهله، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك، ولا دينك، ولو كنت ابن نبيٍّ من الأنبياء، أو عظيم من العظماء. ومعنى {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}؛ أي: وعظّم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول، أو فعل، وأطعه فيما أمرك به، ونهاك عنه، وتكبيره تعالى وتنزيهه يكون: 1 - بتكبيره في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل موجود. ¬

_ (¬1) المراغي.

2 - بتكبيره في صفاته، باعتقاد أنّه مستحق لكل صفات الكمال، منزّهٌ عن صفات النقص. 3 - بتكبيره في أفعاله، فتعتقد أنه لا يجري شيء في ملكه إلّا وفق حكمته، وإرادته. 4 - بتكبيره في أحكامه، بأن تعتقد أنه ملكٌ مطاع، له الأمر والنهي، والرّفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه، يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء. 5 - تكبيره في أسمائه، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة. ثم ينبغي للعبد بعد أن يبالغ في التكبير، والتنزيه، والتحميد، والطاعة، مقدار عقله وفهمه، أن يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره، وأعضاءه لا تفي بخدمته، فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده، وعزته، وروي أن قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، والتكبير (¬1): أكبر لفظة للعرب في معنى التعظيم، والإجلال، وأكد بالمصدر تحقيقًا له، وإبلاغًا في معناه، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى، واختتمت به. روى أحمد في «مسنده» عن معاذ الجهني: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «آية العز {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}» الآية، وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء» وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم ابن أبي أمية، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ...} إلى آخر السورة. وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلّم أهله هذه الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ...} إلى آخرها، الصغير من أهله والكبير. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وأسأل الرحمة قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، إنه تعالى ناشر العظام، بعد الموت، وسامع الصوت، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم آمين. الإعراب {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92)}. {أَوْ} حرف عطف وتنويع {تُسْقِطَ السَّماءَ} فعل ومفعول به معطوف على {تَفْجُرَ} وفاعله ضمير يعود على محمد {كَما} {الكاف} حرف جر {ما} مصدرية، {زَعَمْتَ} فعل وفاعل ومفعول الزعم محذوف تقديره: كما زعمت إسقاطها، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: أو تسقط السماء إسقاطًا كائنًا كزعمك؛ أي: كالإسقاط الذي زعمته، {عَلَيْنا} جار ومجرور متعلق بـ {تُسْقِطَ} {كِسَفًا} حال من {السَّماءَ} {أَوْ تَأْتِيَ} فعل مضارع معطوف على {تُسْقِطَ} وفاعله ضمير يعود على محمد {بِاللَّهِ} متعلق بـ {تَأْتِيَ}، {وَالْمَلائِكَةِ} معطوف على الجلالة {قَبِيلًا} حال من الجلالة {وَالْمَلائِكَةِ}. {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ}. {أَوْ يَكُونَ} فعل ناقص معطوف على {تَفْجُرَ}. {لَكَ} خبره مقدم {بَيْتٌ} اسمه مؤخر {مِنْ زُخْرُفٍ} جار ومجرور صفة لـ {بَيْتٌ} {أَوْ تَرْقى} فعل مضارع معطوف على {تَفْجُرَ} منصوب بفتحة مقدرة، للتعذر، وفاعله ضمير يعود على محمد {فِي السَّماءِ} جار ومجرور متعلق بـ {تَرْقى} {وَلَنْ} {الواو} عاطفة {لَنْ نُؤْمِنَ} ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على المشركين، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ} {لِرُقِيِّكَ} جار ومجرور متعلق بـ {نُؤْمِنَ} و {اللام} إما تعليلية، أو بمعنى {الباء} السببية {حَتَّى} حرف جر وغاية، {تُنَزِّلَ} منصوب بأن مضمرةً، وفاعله ضمير يعود على محمد {عَلَيْنا} متعلق به {كِتابًا} مفعول به، وجملة {نَقْرَؤُهُ} صفة لـ {كِتابًا}،

وجملة {تُنَزِّلَ} في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره: إلى تنزيلك علينا {كِتابًا} {نَقْرَؤُهُ} والجار والمجرور متعلق بـ {نُؤْمِنَ}. {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {سُبْحانَ رَبِّي ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {سُبْحانَ رَبِّي} منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قُلْ}. {هَلْ} حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، {كُنْتُ} فعل ناقص واسمه {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {بَشَرًا} خبر كنت أو حال و {رَسُولًا} نعت أو خبر ثان لـ {كُنْتُ}، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}. {وَمَا} {الواو} استئنافية {ما} نافية {مَنَعَ النَّاسَ} فعل ومفعول أول {أَنْ يُؤْمِنُوا} ناصب وفعل، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {مَنَعَ} تقديره: وما منع الناس إيمانهم {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {يُؤْمِنُوا} {جاءَهُمُ الْهُدى} فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ {إِذْ} تقديره: وما منع الناس إيمانهم، وقت مجيء الهدى إياهم {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {أَنْ} حرف نصب ومصدر {قَالُوا} فعل وفاعل في محل النصب، بأن المصدرية، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية، لـ {مَنَعَ} تقديره: وما منع الناس إيمانهم وقت مجيء الهدى إياهم، إلا قولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت: {أَبَعَثَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري {بَعَثَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {بَشَرًا} حال من {رَسُولًا} لأنه نعت نكرة قدمت عليها، {رَسُولًا} مفعول به، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.

{قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط {كَانَ} فعل ناقص {فِي الْأَرْضِ} جار ومجرور خبر {كَانَ} {مَلائِكَةٌ} اسمها مؤخر، وجملة {كانَ} فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلّ لها من الإعراب {يَمْشُونَ} فعل وفاعل، والجملة صفة لـ {مَلائِكَةٌ} {مُطْمَئِنِّينَ} حال من فاعل {يَمْشُونَ} {لَنَزَّلْنا} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية، {نزلنا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ} {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {نزلنا} وكذا {مِنَ السَّماءِ} متعلق به أيضًا {مَلَكًا} حال من {رَسُولًا} {ورَسُولًا} مفعول {نزلنا}. {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {كَفَى بِاللَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {كَفى بِاللَّهِ} فعل وفاعل، و {الباء} زائدة في فاعل {كَفى} {شَهِيدًا} تمييز لفاعل {كَفى}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}، {بَيْنِي} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدًا} {وَبَيْنَكُمْ} معطوف على {بَيْنِي} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماض ناقص، وفاعله ضمير يعود على الجلالة {بِعِبادِهِ} متعلق بـ {خَبِيرًا} {خَبِيرًا بَصِيرًا} خبران لـ {كانَ} وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها تعليلية. {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97)}. {وَمَنْ} {الواو} استئنافية {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، أو في محل النصب، مفعول مقدم لـ {يَهْدِ} {يَهْدِ اللَّهُ} فعل وفاعل مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {فَهُوَ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية، وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية، {هو} مبتدأ {الْمُهْتَدِ} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة

اتباعًا لرسم المصحف العثماني، لأنه اسم منقوص، والجملة الاسمية في محل الجزم، بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {وَمَنْ} {الواو} عاطفة {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب كما مر آنفًا {يُضْلِلْ} فعل مضارع، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {فَلَنْ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لكونه مقرونًا بـ {لن} {تَجِدَ} فعل مضارع منصوب بـ {لن} وفاعله ضمير يعود على محمد {لَهُمْ} متعلق بـ {أَوْلِياءَ} وراعى في الضمير معنى {مَنْ} وفي قوله: {فَهُوَ} لفظها {أَوْلِياءَ} مفعول به لـ {تَجِدَ} {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور حال {من أولياء} وجملة {لن تجد} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى على كونها مستأنفةً {وَنَحْشُرُهُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة {يَوْمَ الْقِيامَةِ} ظرف متعلق به {عَلى وُجُوهِهِمْ} حال من {الهاء} في {نَحْشُرُهُمْ} {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} أحوال أيضًا من ضمير {نَحْشُرُهُمْ} {مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة {كُلَّما} اسم شرط غير جازم، في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بالجواب الآتي {خَبَتْ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {جَهَنَّمُ}، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّما} {زِدْناهُمْ سَعِيرًا} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب {كُلَّما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّما} مستأنفة. {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}. {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {بِأَنَّهُمْ} {الباء} حرف جر {أنهم} ناصب واسمه {كَفَرُوا} فعل وفاعل {بِآياتِنا} متعلق به، وجملة {كَفَرُوا} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب كفرهم {بِآياتِنا} الجار والمجرور متعلق بـ {جَزاؤُهُمْ}، ويجوز أن يكون {جَزاؤُهُمْ} بدلًا من {ذلِكَ} و {بِأَنَّهُمْ} هو الخبر، {وَقالُوا} فعل وفاعل معطوف على {كَفَرُوا} {أَإِذا كُنَّا} إلى آخر الآية مقول {قالُوا} وإن شئت قلت:

الهمزة للاستفهام الإنكاري، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط {كُنَّا} فعل ناقص واسمه {عِظامًا} خبره، {وَرُفاتًا} معطوف عليه، والجملة في محل الخفض بـ {إِذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {أَإِنَّا} الهمزة للاستفهام الإنكاري مؤكدة، للأول {إِنَّا} ناصب واسمه {لَمَبْعُوثُونَ} خبر {إن} و {اللام} حرف ابتداء {خَلْقًا} حال من الضمير المستكن في {مبعوثون} {جَدِيدًا} نعت له ولك أن تجعل {خَلْقًا} مفعولًا مطلقًا من معنى الفعل؛ أي: نبعث بعثًا جديدًا، وجملة {أَإِنَّا} جواب إذا الشرطية، وجملة إذا الشرطية في محل النصب مقول {قالُوا}. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة} فيه للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: ألم يتفكروا، ولم يروا، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محلّ لها من الإعراب، أو مستأنفة {لَمْ يَرَوْا} فعل وفاعل، وجازم، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {الَّذِي} صفة للجلالة {خَلَقَ السَّماواتِ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّماواتِ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، {قادِرٌ} خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعول، {رأى} {عَلى} حرف جر {أَنْ يَخْلُقَ} ناصب وفعل منصوب وفاعله ضمير يعود على الله {مِثْلَهُمْ} مفعول به، وجملة {أَنَّ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلى} تقديره: على خلقه مثلهم الجار، والمجرور متعلق بـ {قادِرٌ} {وَجَعَلَ} {الواو} عاطفة {جَعَلَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُمْ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني، لـ {جَعَلَ} {أَجَلًا} مفعول أول، لـ {جَعَلَ} {لا} نافية {رَيْبَ} في محل النصب اسمها {فِيهِ} خبرها، وجملة {لا رَيْبَ} في محل النصب صفة لـ {أَجَلًا}، أي: أجلًا غير مرتاب فيه، وجملة {جَعَلَ} معطوفة على جملة قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} لأنه في تقدير: قد رأوا، والمعنى: قد علموا بالدلائل العقليلة، أن من قدر على خلق السموات والأرض

هو قادر على خلق أمثالهم، وجعل لهم أجلًا محققًا لا ريب فيه، {فَأَبَى} {الفاء} عاطفة {أبى الظالمون} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {جَعَلَ} {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ لأن {أبى} متأول بالنفي، فكأنه قيل: فلم يرضوا {كُفُورًا} مفعول به. {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (100)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط {أَنْتُمْ} تأكيد للضمير المتصل بالفعل المحذوف، وجوبًا بعد {لَوْ} الشرطية يفسره المذكور بعده على سبيل الاشتغال تقديره: لو تملكون {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فعل وفاعل {أَنْتُمْ} تأكيد لضمير الفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلّ لها من الإعراب، {تَمْلِكُونَ} فعل وفاعل، والجملة مفسرة للمحذوفة، لا محل لها من الإعراب، وفي «الفتوحات» قوله: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أنّ المسألة من باب الاشتغال، فـ {أنتم} مرفوع بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر، لأن {لَوْ} لا يليها إلا الفعل ظاهرًا، أو مضمرًا فهي كـ {إِنْ} في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والأصل: لو تملكون فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه، فانفصل الضمير، وهو الواو إذ لا يمكن بقاؤه متصلًا بعد حذف رافعه. والثاني: مرفوع بـ {كان} وقد كثر حذفها بعد {لَوْ} التقدير: لو كنتم تملكون، فحذف كان فانفصل الضميرُ وتملكون في محل نصب بكان المحذوف، وهو قول ابن الصائغ اهـ «سمين» {خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} مفعول به، ومضاف إليه، {إِذًا} حرف جواب وجزاء مهمل {لَأَمْسَكْتُمْ} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية {أمسكتم} فعل وفاعل، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} مفعول لأجله، ومضاف إليه {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} فعل ناقص واسمه وخبره و {الواو} فيه حالية، وجملة {كانَ} في محل النصب حال من فاعل {أمسكتم}.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا (101)}. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية {اللام} موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق {آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ} فعل وفاعل ومفعولان، ومضاف إليه {بَيِّناتٍ} صفة {آياتٍ} والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {فَسْئَلْ} {الفاء} فاء الفصيحة، إن كان الخطاب لمحمدٍ، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إيتاءنا الآيات لموسى، وأردت استخبار بني إسرائيل عنها .. فأقول لك: {اسأل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد {بَنِي إِسْرائِيلَ} مفعول أول، والثاني محذوف تقديره: عنها، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذ المقدرة، وجملة إذ المقدرة، مستأنفة، وإن كان الخطاب لموسى، فـ {الفاء} عاطفة لقول محذوف؛ تقديره: فقلنا له: اسأل فرعون بني إسرائيل، {اسأل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {مُوسى} والمفعول الأول محذوف تقديره: فاسأل فرعون {بَنِي إِسْرائِيلَ} مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، والقول المحذوف معطوف على جملة {آتَيْنا}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {آتَيْنا} على الوجه الأول، وبالقول المقدر على الوجه الثاني {جاءَهُمْ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذ} {فَقالَ} {الفاء} عاطفة {قال} فعل ماض {لَهُ} متعلق به {فِرْعَوْنُ} فاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {جاء} {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا} مقول محكي لـ {قال}، وإن شئت قلت: {إِنِّي} ناصب، واسمه {لَأَظُنُّكَ} {اللام} حرف ابتداء {أظنك} فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على فرعون، {يا مُوسى} منادى مفرد العلم، وجملة النداء معترضة بين مفعولي ظن على أنها مقول {مَسْحُورًا} مفعول ثان لظن، وجملة الظن في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}. {قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}.

{قالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة {لَقَدْ عَلِمْتَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {لَقَدْ} {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق، {عَلِمْتَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قالَ} {ما} نافية {أَنْزَلَ} فعل ماض {هؤُلاءِ} في محل النصب مفعول به {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {رَبُّ السَّماواتِ} فاعل، ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّماواتِ} {بَصائِرَ} حال من {هؤُلاءِ}؛ أي: أنزلها بصائر، وإنما احتجنا إلى هذا التقدير؛ لأن ما بعد إلا لا يكون معمولًا لما قبلها، وأجازه بعضهم، فهي حال من هؤلاء، وجملة {أَنْزَلَ} من الفعل، والفاعل، سادة مسد مفعولي {علم} معلقة عنها بما النافية، {وَإِنِّي} {الواو} عاطفة {إِنِّي} ناصب، واسمه {لَأَظُنُّكَ} {اللام} حرف ابتداء {أظنك} فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على موسى {يا فِرْعَوْنُ} منادى مفرد العلم {مَثْبُورًا} مفعول ثان لـ {ظن}، وجملة {ظن} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {عَلِمْتَ} على كونها جواب القسم. {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)}. {فَأَرادَ} {الفاء} عاطفة {أراد} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قالَ} {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على فرعون {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: فأراد استفزازهم من الأرض {فَأَغْرَقْناهُ} {الفاء} عاطفة {أغرقناه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أراد} {وَمَنْ} {الواو} واو المعية {مِنَ} اسم موصول في محل النصب على كونه مفعولًا، ويجوز عطفه على الضمير {مَعَهُ} ظرف اعتباري، متعلق بمحذوف صلة لـ {مِنَ} الموصولة {جَمِيعًا} حال من {مِنَ} الموصولة. {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا}. {وَقُلْنا} فعل وفاعل معطوف على {أغرقنا}. {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {قُلْنا} {لِبَنِي إِسْرائِيلَ} متعلق به أيضًا {اسْكُنُوا الْأَرْضَ}

مقول محكي، وإن شئت قلت: {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} فعل وفاعل ومفعول به، على السعة، والجملة في محل النصب مقول القول {فَإِذا} {الفاء} عاطفة {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الخفض، بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها {جِئْنا} فعل وفاعل {بِكُمْ} متعلق به {لَفِيفًا} حال من ضمير المخاطبين، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة إذا في محل النصب معطوفة على جملة {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} على كونها مقول {قُلْنا}. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)}. {وَبِالْحَقِّ} {الواو} استئنافية {بِالْحَقِّ} متعلق بـ {أَنْزَلْناهُ}، أو حال من الفاعل، أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق أو من المفعول،؛ أي: حالة كونه ملتبسًا بالحق {أَنْزَلْناهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، {وَبِالْحَقِّ} متعلق بـ {نَزَلَ} أو حال من فاعل {نَزَلَ}؛ أي: ملتبسًا بالحق {نَزَلَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على القرآن، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلْناهُ} {وَما} {الواو} عاطفة {ما} نافية {أَرْسَلْناكَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلْناهُ} {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مُبَشِّرًا} حال من كاف المخاطب {وَنَذِيرًا} معطوف عليه. {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)}. {وَقُرْآنًا} {الواو} عاطفة {قُرْآنًا} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: وفرقنا قرآنًا، والجملة المحذوفة، معطوفة على جملة {أَنْزَلْناهُ} {فَرَقْناهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جملة مفسرة للمحذوف، لا محلَّ لها من الإعراب، {لِتَقْرَأَهُ} {اللام} حرف جر وتعليل {تقرأه} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد {عَلَى النَّاسِ} متعلق به {عَلى مُكْثٍ} جار ومجرور حال من الفاعل، أي: حالة كونك متمهلًا، ومتأنيًا، وقارئًا شيئًا بعد شيء، رعايةً لمصالح العباد، ومعايشهم، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لقراءتك إياه {عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} {وَنَزَّلْناهُ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {فَرَقْناهُ}، {تَنْزِيلًا} منصوب

على المفعولية المطلقة، والجملة معطوفة على جملة {فَرَقْناهُ}. {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (107)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {آمِنُوا بِهِ} إلى قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {آمِنُوا} فعل وفاعل {بِهِ}، متعلق به {أَوْ} حرف عطف، وتفصيل {لا} ناهية جازمة {تُؤْمِنُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {آمِنُوا}، وجملة {آمِنُوا بِهِ} في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى مرفوع على كونه مبتدأ خبره محذوف، تقديره: إيمانكم به، وعدم إيمانكم به سواء، عندنا، لا نبال بكم، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ} {إِنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه {أُوتُوا الْعِلْمَ} فعل ونائب فاعل ومفعول ثان {مِنْ قَبْلِهِ} ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية صلة الموصول {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {يُتْلى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على القرآن {عَلَيْهِمْ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، {يَخِرُّونَ} فعل وفاعل {لِلْأَذْقانِ} متعلق به {سُجَّدًا} حال من فاعل {يَخِرُّونَ}، وجملة {يَخِرُّونَ} جواب إذا لا محلّ لها من الإعراب، وجملة {إِذا} من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر، {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول {قُلْ} أي: إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منكم. {وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَخِرُّونَ}. {سُبْحانَ رَبِّنا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {يَقُولُونَ} وإن شئت قلت: {سُبْحانَ رَبِّنا} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: نسبح ربنا تسبيحًا {إِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: إنّه {كانَ وَعْدُ رَبِّنا} فعل ناقص واسمه {لَمَفْعُولًا}

{اللام} حرف ابتداء {مفعولا} خبر {كانَ} وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إِنْ} وجملة {إِنْ} في محل النصب مقول {يَقُولُونَ} {وَيَخِرُّونَ} فعل وفاعل معطوف على {يَخِرُّونَ} الأول {لِلْأَذْقانِ} متعلق به {يَبْكُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَخِرُّونَ} {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على القرآن، أو البكاء، أو السجود، والجملة في محل النصب على الحال، معطوفة على {يَبْكُونَ} أو حال من فاعل {يَبْكُونَ}. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110)}. {قُلِ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {ادْعُوا اللَّهَ} إلى قوله: {الْحُسْنى} مقول محكي، وإن شئت قلت: {ادْعُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ} {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على ادعوا الله {أَيًّا} اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بـ {تَدْعُوا} {ما} زائدة زيدت تأكيدًا للإبهام المفهوم من أيًا، ونوّنت؛ أي تعويضًا عما فاتها من الإضافة، {تَدْعُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {أَيًّا} على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون، وجواب الشرط محذوف تقديره: فهو حسن دل عليه ما بعده، وجملة الشرط مع جوابه، في محل النصب مقول {قُلِ}. {فَلَهُ} {الفاء} رابطة الجواب، {له} خبر مقدم {الْأَسْماءُ} مبتدأ مؤخر، {الْحُسْنى} صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم على كونها {جوابًا} لـ {أي} {وَلا} {الواو} عاطفة {لا} ناهية جازمة {تَجْهَرْ} مجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {قُلِ}. {بِصَلاتِكَ} متعلق بـ {تَجْهَرْ}. {وَلا تُخافِتْ} جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد {بِها} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة النهي، {وَابْتَغِ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {قُلِ} {بَيْنَ ذلِكَ} ظرف، ومضاف إليه متعلق به، {سَبِيلًا} مفعول به. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}.

{وَقُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول، {الَّذِي} صفة للجلالة {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} جازم، وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول .. {وَلَمْ يَكُنْ} فعل ناقص، وجازم {لَهُ} خبره مقدم {شَرِيكٌ} اسمه مؤخر {فِي الْمُلْكِ} متعلق بـ {شَرِيكٌ}، وجملة {يَكُنْ} معطوفة على جملة الصلة، {وَلَمْ يَكُنْ} جازم، وفعل ناقص، {لَهُ} خبره مقدم {وَلِيٌّ} اسمه مؤخر {مِنَ الذُّلِّ} متعلق بـ {وَلِيٌّ} والجملة معطوفة على جملة الصلة، {وَكَبِّرْهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد {تَكْبِيرًا} مفعول مطلق مؤكد لعامله، والجملة معطوفة على جملة {قُلِ}. التصريف ومفردات اللغة {كِسَفًا} يقرأ (¬1) بفتح السين وسكونها فمن فتح السين: جعله جمع كسفة نحو قطعة، وقطع، وكسرة، وكسر، ومن سكن جعله جمع كسفة، أيضًا على حدّ سدرة وسدر، وقمحةٍ وقمحٍ، وجوّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أنه جمع على فعل بفتح العين، وإنما سكّن تخفيفًا، وهذا لا يجوز، لأنّ الفتحة خفيفةٌ يحتملها حرف العلة، حيث يقدّر فيه غيرها، فكيف بالحرف الصحيح؟. والثاني: أنه فعل بمعنى مفعول كطحن بمعنى مطحون، فصار في السكون ثلاثة أوجه: وأصل الكسف: القطع، يقال: كسفت الثّوب قطعته، وفي الحديث: في قصة سليمان مع الصافنات الجياد، أنه كسف عراقيبها، أي: قطعها، وقال الزجاج: كسف الشّيء بمعنى غطاه، قيل: ولا يعرف هذا لغيره، وانتصابه على الحال، فإن جعلناه جمعًا كان على حذف مضاف، وإن جعلناه فعلًا بمعنى مفعول لم يحتج إلى تقدير، وحينئذ فيقال: لم لم يؤنّث؟ ويجاب بأنّ تأنيث السماء غير حقيقي، أو بأنها في معنى السقف. اهـ سمين. {لِرُقِيِّكَ} والرّقيّ: الصعود، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

يقال: رقي بالكسر يرقى بالفتح، رقيًّا على فعول، والأصل: رقوى فأُدغم بعد قلب الواو ياءً، ورقيًا بزنة ضرب اهـ «سمين». وقوله: بالكسر؛ أي: في المحسوسات كما هنا، وأما في المعاني: فهو من باب سعى يقال: رقى في الخير والشرّ، يرقى بفتح القاف في الماضي، والمضارع، وأمّا رقى المريض بمعنى عوّذه، فهو من باب رمى يقال: رقاه يرقيه إذا عوذه، وتلا عليه شيئًا من القرآن، وفي «المصباح»: رقيته أرقيه - من باب رمى - رقيًا عوّذته بالله، والاسم الرقيا: بوزن فعلى، والمرة رقية، والجمع رقى، مثل مدية ومدى، ورقيت في السلم، وغيره أرقى - من باب تعب - رقيًا على زنة فعول ورقيًا على زنة فلس أيضًا، ورقا الطائر يرقو ارتفع في طيرانه اهـ. {زُخْرُفٍ}، أي: ذهب، وهو المراد هنا، ولها معان شتّى منها حسن الشيء، وزخرف الكلام أباطيله المموّهة، وزخرف الأرض ألوان نباتها، والجمع زخارف، وزخرف الشّيء حسّنه وزيّنه، والكلام موّهه بالكذب {كُلَّما خَبَتْ} أي: سكن لهبها، وأصل خبت خبوت بوزن قعدت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف، وتاء، التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فوزنه الآن فعت بوزن رمت، لحذف لامه وفي «القاموس» في باب الواو: وخبت النار، والحرب خبوًا وخبوًّا سكنت وطفئت وأخبيتها أطفأتها اهـ وفي «المصباح» خبت النار خبوًا من باب قعد خمد لهبها، ويعدى بالهمزة، وفي «السمين»: وخبت النار تخبوا إذا سكن لهبها، فإذا ضعف جمرها قيل: خمدت فإذا طفئت بالجملة، قيل: همدت وكل من خمدت، وهمدت من باب: قعد كما في «المصباح»: والسعير اللهب {وَرُفاتًا}؛ أي: ترابا وفي «القاموس»: رفته يرفته ويرفته كسره، ودقه، وانكسر، ودقّ لازم متعد، وانقطع كأرفت إرفاتًا في الكلّ، وكغراب الحطام اهـ. {بَصائِرَ}؛ أي: عبرًا وبيّنات جمع بصيرة {مَثْبُورًا}؛ أي: هالكًا أو مصروفًا عن الخير، وفي «المصباح»: وثبر الله الكافر ثبورًا من باب قعد أهلكه وثبر، هو يتعدى، ويلزم قوله {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ} في «القاموس»: فزّعني عدل، والظبي فزع وفز فلان عن موضعه، من باب ضرب فزازًا أزعجه، واستفزه استخفه، وأخرجه

من داره وأفززته أفزعته اهـ. {لَفِيفًا} قيل: هو مصدر لف، يلفُّ لفيفًا نحو النذير، والنكير، من لفّ الشيء يلفه لفًا، والألفّ المتداني الفخذين أو عظيم البطن، وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمعنى: جئنا بكم جميعًا، واللّفيف أيضًا الجمع العظيم من أخلاط شتّى من شريف، ودنىء، ومطيع، وعاص، وقوي، وضعيف، وكل شيء خلطته بغيره فقد لففته. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} والحقّ هو الثابت الذي لا يزول، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك، كدلائل التوحيد، وتعظيم الملائكة، ونبوة الأنبياء، وإثبات البعث، والقيامة، وفي «الشهاب»: والحقّ فيهما ضد الباطل، لكن المراد بالأول: الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله، وبالثاني: ما يشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها اهـ. و {فَرَقْناهُ}؛ أي: أنزلناه مفرّقًا منجّمًا {عَلى مُكْثٍ} والمكث «بالضم والفتح» التّؤدة، والتّأنّي، والمكث أيضًا التّطاول في المدة {لِلْأَذْقانِ} جمع ذقن، وهو مجتمع اللّحيين. {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} الحسنى مؤنّث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل، لا مؤنث الأحسن، المقابل لامرأة حسناء، كما في «القاموس»: يعني: أنّ أحسن لا يستعمل بمعنى أصل الفعل، وإنما استعمل بمعنى التفضيل، والحسنى بالضم ضدّ السّوءى، وقد وصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة، كقوله: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة للجمع .. لكان التركيب الحسن على وزن الأخر، كقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه، ويوصف بوصف المؤنثات، وإن كان المفرد مذكرا اهـ. {وَلا تُخافِتْ بِها}؛ أي: ولا تسر بها، يقال: خفت الصوت من بابي ضرب، وجلس إذا سكن، ويعدّى بالباء، فيقال: خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه، وخافت بقراءته، مخافتة إذا لم يرفع صوته بها، وخفت الزرع، ونحوه مات فهو خافت اهـ. «مصباح» و «مختار». وفي «السمين»: والمخافتة المسارة بحيث لا يسمع الكلام، وضربته حتّى خفت؛ أي: لم يسمع له صوت اهـ. تخافت القوم إذا تساروا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}، أي: مشارك له في ملكه، وسلطانه، وربوبيته؛ فهو فعيل بمعنى مفاعل، كالعشير بمعنى المعاشر، والمثيل بمعنى المماثل، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}، والوليّ الناصر، ينصره، ويمنعه، ويحفظه من إذلال من يذله، والذل: الهوان والصّغار. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الحصر في قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}. ومنها: التكرار في قوله: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}. ومنها: الطباق بين {مَنْ يَهْدِ} {وَمَنْ يُضْلِلْ} وبين {مُبَشِّرًا} {وَنَذِيرًا} وبين {تَجْهَرْ} و {تُخافِتْ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} اهتمامًا بأمر الحشر. ومنها: الجناس الناقص بين {مَحْسُورًا} و {مَثْبُورًا} لتغير بعض الحروف. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} في مقابلة قول فرعون {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} للتفخيم، فإنه لو ترك الإظهار وعدل إلى الإضمار كما يقتضيه السياق فقال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} لم يكن فيه من الفخامة ما فيه الآن، ويسميه بعضهم بالتصريح. ومنها: الاستطراد في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} على قاعدة أسلوب كلامهم، وهو: أن يستطرد المتكلم بذكر شيء لم يسق له كلامه، أولًا ثمّ يعود إلى كلامه الأول، فقد ذكر سبحانه أوّلًا القرآن، وأنّ الإنس والجنّ عاجزون عن الإتيان بمثله، وفصاحته وبلاغته، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ثمّ انتقل إلى ما في منطوياته من مثل، وعبر، وبصائر، وانساق الكلام إلى تعنت الكافرين،

وتماديهم في اللجاج، وصدودهم في الغي، والمكابرة، وطمس الحقائق، وإنكار الوقائع، ثمّ أورد شاهدًا على ذلك ما لاقاه موسى من مكابرة فرعون وملئه، وضرب مثلًا في المغبّة التي نالها فرعون ومن معه ثمّ عاد إلى الموضوع الذي شرع فيه، وهو كون القرآن نازلًا بالحق، وإليه هادفًا. ومنها: القصر الإضافي في قوله: {إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} والقصر: هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، وينقسم إلى حقيقي، وإضافي فالحقيقي ما كان الاختصاص فيه بحسب الحقيقة، والواقع نحو لا: كاتب في المدينة، إلا علي، والإضافي ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة إلى شيء معين، نحو ما علي إلّا قائم؛ أي: له صفة القيام، لا صفة القعود، و {ما} هنا كذلك، لأنّ المعنى: ما أرسلناك إلّا بصفة التبشير، والإنذار، لا بصفة الهداية، لأنّ الهداية، والإضلال علينا. ومنها: التكرير المعنوي في قوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا} وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ} فقد كرر الخرور للذقن، وهو السقوط: على الوجه لاختلاف الحالين، فالأول خرورهم في حال كونهم ساجدين، والثاني خرورهم في حال كونهم باكين. ومنها: الإتيان بالحال الأول اسمًا وهو قوله: {سُجَّدًا} للدلالة على الاستمرار، والحال الثانية، فعلا، وهي قوله: {يَبْكُونَ} للدلالة على التجدد والحدوث، فكأنّما بكاؤهم يتجدد بتجدد الأحوال الطارئة، والعظات المتتالية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ}؛ أي: بقراءة صلاتك من إطلاق الكل، وإرادة الجزء، والعلاقة الجزئية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} حيث استعار السبيل الذي هو محلّ المرور للصوت الوسط، بين الجهر، والمخافتة بجامع أنّ كلًا منهما أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون فيوصلهم إلى المطلوب. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما حوته هذه السورة من الموضوعات 1 - الإسراء من مكة إلى بيت المقدس. 2 - تاريخ بني إسرائيل في حالتي الارتقاء والانحطاط. 3 - حكم وعظات للأمة الإسلامية، يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها، كما ذهبت دولة بني إسرائيل. 4 - بيان أنّ كل ما في السموات، والأرض مسبح لله تعالى. 5 - الكلام في البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه. 6 - الرد على المشركين الذين اتّخذوا مع الله آلهة من الأوثان، والأصنام. 7 - الحكمة في عدم إنزال الآيات التي اقترحوها على محمد - صلى الله عليه وسلم -. 8 - قصص سجود الملائكة لآدم، وامتناع إبليس من ذلك. 9 - تعداد بعض نعم الله على عباده. 10 - طلب المشركين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يوافقهم في بعض معتقداتهم، وإلحافهم في ذلك. 11 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة، والتهجّد في الليل. 12 - بيان إعجاز القرآن، وأنّ البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله. 13 - قصص موسى مع فرعون. 14 - الحكمة في إنزال القرآن منجمًا. 15 - تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك والناصر والمعين. والله أعلم * * *

سورة الكهف

سورة الكهف مكية كلها، قال القرطبي: في قول جميع المفسرين، وروي عن فرقة: أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: {صَعِيدًا جُرُزًا}، وقيل (¬1): إلا قوله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} والقول الأول أصح، وهي مئة وإحدى عشرة آيةً، وكلماتها ألف وخمس مئة وسبع وسبعون كلمةً، وحروفها ستة آلاف وأربع مئة وستون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أن سورة الإسراء افتتحت بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في سائر الكلام، في نحو {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، ونحو: سبحان الله وبحمده. 2 - تشابه ختام السالفة وافتتاح هذه فإن كلًا منهما حمد. 3 - أنه ذكر في السّابقة قوله: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} والخطاب فيها لليهود، وذكر هنا قصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام، وهي تدل على كثرة معلومات الله التي لا تحصى، فكانت كالدليل على ما تقدم. 4 - أنه جاء في السورة السابقة {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا} ثم فصّل ذلك هنا بقوله: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} إلى قوله: {وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضًا (100)}. فضلها: وقد ورد في فضلها أحاديث (¬3): ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

منها: ما أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال». وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال». وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن البراء قال: قرأ رجل سورة الكهف، وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة - أو سحابة - قد غشيته، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اقرأ فلان، فإن السكينة نزلت للقرآن» وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير، كما بينه الطبراني. وأخرج الترمذي، وصححه عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال»، وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث. وأخرج ابن مردويه، والضياء - في «المختارة» - عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ الكهف يوم الجمعة .. فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم منه». وأخرج الطبراني في «الأوسط» والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، والضياء عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ سورة الكهف، كانت له نورًا من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثمّ خرج الدجال .. لم يضره». وأخرج الحاكم، وصححه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة .. أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وأخرجه البيهقي أيضًا في «السنن» من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ سورة الكهف في يوم

الجمعة، سطع له نورٌ من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيءُ له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض، ولكاتبها من الأجر مثل ذلك، ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه، بعثه الله من أيّ الليل شاء؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «سورة أصحاب الكهف». وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة». وفي الباب أحاديث، وآثار، وفيما أوردناه كفاية مغنية. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ»: وقد أجمع المفسرون على أن لا منسوخ في سورة الكهف، إلا السدي وقتادة فإنهما قالا: فيها آية واحدة، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية (29) ناسخها قوله تعالى: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} انتهى. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (¬1): أنه لما قال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

نَزَلَ} وذكر المؤمنين به أهل العلم، وأنه يزيدهم خشوعًا، وأنه تعالى أمر بالحمد له، وأنه لم يتخذ ولدًا: أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج، القيم على كل الكتب، المنذر من قال اتخذ الله ولدًا، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن، ثم استطرد إلى حديث كفار قريش، والتفت من الخطاب في قوله: وكبّره تكبيرا، إلى الغيبة في قوله: {عَلى عَبْدِهِ} لما في {عَبْدِهِ} من الإضافة المقتضية تشريفه، ولم يجىء التركيب: أنزل عليك. أسباب النزول سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألاهم فقالوا: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هي؟ فأقبلا حتى قدما على قريش، فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال: أخبركم غدًا بما سألتم عنه، ولم يقل: إن شاء الله .. فانصرفوا فاستلبث الوحي خمسة عشر يومًا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف كفار قريش، وقالوا: إنّ محمّدًا قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه، فشقّ ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا انقضى الأمد، جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها، فجاءه جبريل بسورة أهل الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وبيان أمر الفتية، والرجل الطوّاف، وأنزل بعد ذلك {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...} الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول والبحر المحيط.

[1]

وروي في هذا السبب (¬1): أنّ اليهود قالت: إن أجابكم عن الثلاثة، فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين، وأمسك عن الأخرى فهو نبي، فأنزل الله سورة أهل الكهف، وأنزل بعد ذلك {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، وأخرج (¬2) ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والنضر بن الحارث، وأميّة بن خلف، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النّصيحة، فأحزنه حزنا شديدا، فأنزل الله سبحانه {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْحَمْدُ}؛ أي: المدح والثناء والشكر كله مستحق {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى؛ لأن وجود كلّ شيء نعمة من نعمه تعالى، فلا منعم إلا هو، قال (¬3) القيصري رحمه الله تعالى: الحمد قوليٌّ، وفعليٌّ، وحاليٌّ، أما القولي: فحمد اللسان، وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان أنبيائه عليهم السلام، وأما الفعلي: فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى، وتوجهًا إلى جنابه الكريم، وأما الحالي: فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية، والعملية، والتخلق بالأخلاق الإلهية؛ لأن النّاس مأمورون بالتخلق بلسان الأنبياء، صلوات الله عليهم، لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم {الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه (¬4) إشعارٌ بأنّ شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل، لا كما زعمت النصارى في حق عيسى - عليه السلام - {الْكِتابَ}؛ أي القرآن الحقيق باسم الكتاب. علّم (¬5) سبحانه عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان. (¬5) الشوكاني.

[2]

بالموصول يشعر بعليّة ما في حيز الصلة لما قبله، ووجه كون إنزال الكتاب - وهو القرآن - نعمة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كونه اطّلع بواسطته على أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة، والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبّده الله وتعبّد أمّته بها، وكذلك العباد، كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم، لمثل ما ذكرناه في النبي - صلى الله عليه وسلم -، و {الواو} في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ}؛ أي: الكتاب {عِوَجًا}؛ أي: اختلافًا في اللفظ، وتناقضًا في المعنى، أو ميلًا عن الحق، حاليّة، فالجملة حال أولى من الكتاب كما قاله الأصبهاني، ولكنها حال سببية؛ أي (¬1): أنزله غير جاعل له عوجًا؛ أي شيئًا من العوج بنوع اختلال في النظم، وتناف في المعنى، أو عدول عن الحق إلى الباطل. والخلاصة: لا خلل في لفظه، ولا في معناه، واختار حفصٌ عن عاصم السكت على عِوَجًا وهو وقفةٌ لطيفةٌ من غير تنفس لئلا يتوهّم أنّ ما بعده صفة له، 2 - وقوله: {قَيِّمًا}؛ أي: مستقيمًا معتدلًا لا إفراط فيه، ولا تفريط، أو قيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال حال ثانية من الكتاب مؤكدة للأولى، فهي حال مترادفة، أو من الضمير في {لَهُ} فهي متداخلة. ومعنى لا إفراط فيه؛ أي: فيما اشتمل عليه من التكاليف، حتى يشق على العباد، ومعنى لا تفريط فيه؛ أي: بإهمال ما يحتاج إليه، حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}. وقال العلماء (¬2) باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب قيمًا، ولم يجعل له عوجًا، وقال الكرماني: إذا جعلته حالًا - وهو الأظهر - فليس فيه تقديم ولا تأخير، والصحيح أنهما حالان من الكتاب الأولى جملة، والثانية مفرد، انتهى ذكره في «البحر»، وقرأ أبو رجاء وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش، قيما بكسر القاف وفتح الياء، وقرأ الجمهور {قَيِّمًا} بتشديد الياء وفتح القاف، كما سبق في سورة الأنعام. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير.

[3]

{لِيُنْذِرَ} ويخوف؛ أي: أنزل على عبده الكتاب لينذر الكتاب أو محمد بما فيه الذين كفروا بالله ورسوله، فحذف (¬1) المفعول الأول، اكتفاءً بدلالة القرينة، واقتصارًا على الغرض المسوق إليه، {بَأْسًا}؛ أي: عذابًا {شَدِيدًا} صادرا مِنْ {لَدُنْهُ}؛ أي: من عنده تعالى، نازلًا من قبله بمقابلة كفرهم وتكذيبهم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، أو عذاب النار في العقبى، أو كلاهما، وإنما قال: {مِنْ لَدُنْهُ}؛ لأنه هو المعذب دون الغير {وَيُبَشِّرَ} ذلك الكتاب، أو محمدٌ {الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: المصدّقين {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ}؛ أي: الأعمال الصالحة وهي ما كانت لوجه الله تعالى {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة {أَجْرًا حَسَنًا} وثوابًا جسيما هو الجنة، وما فيها من النعيم 3 - حالة كونهم {ماكِثِينَ فِيهِ}؛ أي: في ذلك الأجر الحسن {أَبَدًا} من غير انقطاع، وانتهاء وتغير حال، نصب على الظرفية لـ {ماكِثِينَ} وتقديم الإنذار على التبشير، لتقدم التّخلية على التحلية. وقرأ أبو بكر (¬2): {من لدنه} بإسكان الدال إسكان الباء من سبع مع إشمامها الضمّ، ليدل على أصله، وكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء للإتباع، وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضمّ الدال وسكون النون، وقرأ (¬3) حمزة والكسائي {يبْشر} بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الشين، وقرأ الجمهور (¬4): {وَيُبَشِّرَ} بالنصب عطفًا على {لِيُنْذِرَ} وقرىء بالرفع. والمعنى: حمد الله سبحانه نفسه على إنزاله كتابه العزيز إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أعظم نعمةٍ أنزلها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وجعله كتابًا مستقيمًا لا اعوجاج فيه، ولا زيغ، بل يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم. وخلاصة ذلك: أنه تعالى أنزل الكتاب على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - مستقيمًا لا ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[4]

اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضًا، وبعضه يشهد لبعضٍ، ولا اعوجاج فيه، ولا ميل عن الحق. {لِيُنْذِرَ بَأْسًا}؛ أي: ليخوف الذين كفروا به عذابًا شديدًا، صادرًا من عنده تعالى؛ أي: نكالًا في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}، أي: ويبشر المصدّقين الله ورسوله، الذين يمتثلون أوامره ونواهيه بأن لهم ثوابًا جزيلًا منه على إيمانهم به، وعملهم الصالح في الدنيا، وذلك الثواب الجزيل هو الجنة التي وعدها الله المتقين، خالدين فيها أبدًا، لا ينتقلون منها ولا ينقلون. 4 - {وَيُنْذِرَ} الكتاب أو محمدٌ أيضًا خاصة {الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} بأسًا شديدًا من لدنه ذكر (¬1) المنذرين دون المنذر به، بعكس الأول استغناءً لتقديم ذكره؛ أي: وليحذر من بين هؤلاء الكفار من قالوا هذه المقالة الشّنعاء: إن الله اتّخذ ولدًا، وهؤلاء ثلاث طوائف: 1 - المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله. 2 - اليهود القائلون: عزيرٌ ابن الله. 3 - النصارى القائلون: المسيح ابن الله. 5 - وإنما خص هؤلاء مع دخولهم في الإنذار السّابق لفظاعة حالهم، وشناعة كفرهم وضلالها {ما لَهُمْ}؛ أي: ما لهؤلاء القائلين {بِهِ}؛ أي: باتخاذه تعالى ولدا {مِنْ عِلْمٍ}؛ أي: برهان وحجة بل هو قول لم يصدر عن علم يؤيده، ولا عقل يظاهره، {وَلا لِآبائِهِمْ}؛ أي: ولا لأسلافهم الذين قلدوهم في تلك المقالة به علم؛ أي: على اتّخاذه تعالى ولدًا برهانٌ وحجةٌ؛ أي: وكذلك ليس لآبائهم الذين قالوا مثل هذه المقالة، وهم القدوة لهم به من علم، والمعنى: أي: ليس لهم، ولا لأحد من أسلافهم الذين قلّدوه علم بهذا القول، أهو صواب أو خطأ، بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر ونظر فيما يجوز على الله، ويمتنع، و {مِنْ عِلْمٍ} مرفوع على الابتداء، و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي {كَبُرَتْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) النسفي.

عظمت مقالتهم هذه في الكفر، لما فيها من التّشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه إلى ولد يعينه، ويخلفه، إلى غير ذلك من الزيغ من جهة كونها {كَلِمَةً} تمييز، وتفسير للضمير المبهم الذهني في كبرت مثل ربه رجلًا {تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} صفة للكلمة تفيد استعظام اجترائهم على التفوه بها، والمراد بتلك الكلمة هي قولهم: اتخذ الله ولدا فـ {كَلِمَةً} (¬1) بالنصب على التمييز، وبالرفع على الفاعلية فعل النصب يكون فاعل {كَبُرَتْ} مضمرًا مفسرًا بما بعده، وهو للذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: كبرت الكلمة كلمة خارجة من أفواههم، والمخصوص بالذم تلك المقالة الشنعاء، والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب؛ أي: ما أكبرها كلمة {إِنْ يَقُولُونَ}؛ أي: ما يقولون في هذا الشأن {إِلَّا كَذِبًا}؛ أي: إلّا قولًا كذبًا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق فـ {كَذِبًا} صفة لمصدر محذوف. والمعنى: أي (¬2) عظمت مقالتهم هذه في الكفر، حيث لم يكتفوا بخطورها بالبال، وترددها في الصدور، بل تلفّظوا بها على مرأى من الناس ومسمع، وكثير مما يوسوس به الشيطان، وتحدّث به النفس لا يتلفظ به، بل يكتفى بما يعتقده القلب، فكيف ساغ لهم أن يتجرّؤوا على التلفظ بهذا المنكر، الذي لا مستند له من عقل ولا نقل. ثم أكد هذا الإنكار، وبيّن أنه كما لا علم لهم ولا لآبائهم به لا علم لأحد به، لأنه لا وجود له، وما هو إلا محض اختلاف بقوله: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}؛ أي: ما يقولون إلّا قولًا لا حقيقة له بحال، وقرىء (¬3) {كبرت} بسكون الباء، وهي في لغة تميم، وقرأ (¬4) الجمهور {كَلِمَةً} بالنصب، وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة {كلمة} بالرفع، قال الفراء: من نصب أضمر؛ أي: كبرت تلك ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) زاد المسير.

[6]

الكلمة كلمة، ومن رفع لم يضمر شيئًا كما تقول: عظم قولك، وقال الزجاج: من نصب فالمعنى كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولدًا، وكلمة منصوب على التمييز، ومن رفع فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم اتّخذ الله ولدًا، ومعنى قوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ}؛ أي: إنّها قول بالفم، لا صحّة لها، ولا دليل عليها. ذكره ابن الجوزي. 6 - {فَلَعَلَّكَ} يا محمد {باخِعٌ}، أي: مهلك {نَفْسَكَ} وقاتلها {عَلى آثارِهِمْ}؛ أي: على إعراضهم وتوليهم عن الإيمان بك؛ أي: فلعلك يا محمد متبع نفسك وراءهم أو مجهدها، أو متعبها، أو مهلكها، وقاتلها غمًا وهمًا على تولّيهم، وإعراضهم عن الإيمان بك، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ}؛ أي: بهذا القرآن، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه الترجّي تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا الحديث فلا تبال بهم، ولا تحزن عليهم، ولا تذهب نفسك {أَسَفًا} عليهم، وحزنا على عدم إيمانهم، فهو مفعول له، لـ {باخِعٌ} أو مصدر في موضع الحال، والأسف أشد الحزن كما في «القاموس». وقرأ الجمهور (¬1) {باخِعٌ} بالتنوين {نَفْسَكَ} بالنصب، وقرىء {باخع نفسك} بالإضافة، والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا} وفي «الصحاح» الحديث ضد القديم، ويُستعمل في قليل الكلام وكثيره. والحاصل: أن لعل (¬2) هنا للاستفهام الإنكاري، المتضمن معني النهي، أي لا تبخع نفسك من بعد توليهم عن الإيمان، وإعراضهم عنه أسفا وحسرة عليهم؛ أي: إنك قد اشتد وجدك عليهم، وبلغت حالًا من الأسى والحسرة، صرت فيها أشبه بحال من يحدث نفسه أن يبخعها أسى وحسرة عليهم، وما كان من حقك أن تفعل ذلك إن عليك إلا البلاغ وليس عليك الهداية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[7]

وقد جاء مثل هذا النهي في آيات كثيرة، كقوله: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} وقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}. وخلاصة ذلك: أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنّما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم أسًى وحسرةً، فإنما أنت منذرٌ ولست عليهم بمسيطر، إن عليك إلا البلاغ، 7 - ثم ذكر سبحانه سبب إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ بالبشارة والنذارة، وهو أنه تعالى جعل ما على الأرض زينة لها ليختبر المحسن والمسيء، ويجازي كلًا بما يستحقّ، فقال: {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ} من حيوان، ونبات، ومعادن {زِينَةً لَها}، ولأهلها {لِنَبْلُوَهُمْ}؛ أي: لنعاملهم معاملة من يختبر حتى يظهر {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} في ترك الدنيا، ومخالفة هوى نفسه، طلبًا لله ومرضاته؛ أي: أيهم أطوع لله، وأشدّ استمرارًا على خدمته، وأيهم أقبح عملًا في الإعراض عن الله وما عنده من الباقيات الصالحات، والإقبال على الدنيا وما فيها من الفانيات الفاسدات. قال في «الإرشاد» (¬1): أي استفهامية مرفوعة بالابتداء، و {أَحْسَنُ} خبرها، و {عَمَلًا} تمييز، والجملة في محل النصب معلقة لفعل البلوى لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته؛ أي: إنّا (¬2) جعلنا ما على الأرض زينة لها، لنختبر حالهم في فهم مقاصد تلك الزينة، والاستدلال بها على وجود خالقها، والإخبات إليه، والطاعة له فيما أمر به، والبعد عما نهى عنه، فتقوم الحجة عليهم، فمن اعتبر بتلك الزينة، وفهم حكمتها، حاز المثوبة، ومن اجترأ على مخالفة أمره، ولم يفهم أسرارها ومقاصدها استحق العقوبة. وخلاصة ذلك: أنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها، لنعاملهم معاملة من يختبرون، فنجازي المحسنين بالثواب، والمسيئين بالعقاب، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات أعمالهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[8]

روي: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدنيا نضرة حلوة، والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون» وقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض». وروى البخاري أنّ عمر كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللهم إني أسألك أن ننفقه في حقه. 8 - {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ} فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا، {ما عَلَيْها} أي: ما على الأرض من المخلوقات قاطبة {صَعِيدًا}، أي: ترابا {جُرُزًا}؛ أي: لا نبات فيه، وسنةٌ جرزٌ لا مطر فيها؛ أي: وإن الأرض وما عليها بائد فان، وإن المرجع إلى الله، فلا تأسى، ولا تحزن لما تسمع وترى، ونحو الآية {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26)} وقوله: {فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107)}. وإجمال المعنى: أنّ ما على الأرض سيصير ترابًا ساذجًا بعد ما كان يتعجّب من بهجته النظارة، وتسر برؤيته العيون، فلا تحزن لما عاينت من تكذيب هؤلاء، لما أنزل عليك من الكتاب، فإنا جعلنا ما على الأرض من مختلف الأشياء زينة لها لنختبر أعمال أهلها، فنجازيهم بحسب ما هم أهل له، وإنا لمفنون ذلك بعد حين، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه قيل: لا تحزن فإنّا ننتقم لك منهم. وخلاصة النظم: لا تحزن يا محمد ممّا وقع من هؤلاء من التكذيب، فإنّا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا، فمجازوهم إن خيرًا .. فخيرٌ، وإن شرًا .. فشرٌ. ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب روي أنّ النّصارى عظمت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، حتى عبدوا الأصنام، وأكرهوا النّاس على عبادتها، وأصدر الملك دقيانوس الأوامر المشددة في ذلك، ومعاقبة من يخالفه، وأراد أن يلزم فتيةٌ من أشراف قومه عبادتها، وتوعّدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على دينهم، فنزع ثيابهم، وحليّهم، ولكنّه رحم شبابهم، فأمهلهم لعلهم يتوبون إلى رشدهم، وهكذا ذهب الملك إلى مدن أخرى، ليحث أهلها على عبادتها، وإلا قتلوا.

أمّا الفتية: فإنهم انطلقوا إلى كهف قريب من مدينتهم، أفسوس أو طرسوس، في جبل يدعى نيخايوس، وأخذوا يعبدون الله فيه حتى إذا هجم عليهم دقيانوس وقتلهم ماتوا طائعين، وقد كانوا سبعة، فلما مرّوا في الطريق إلى الكهف، تبعهم راع ومعه كلبه فجلسوا هناك يعبدون الله، وكان من بينهم امرؤ يدعى تمليخا يبتاع لهم طعامهم، وشرابهم، يبلغهم أخبار دقيانوس الذي لا يزال مجدًا في طلبهم، حتى إذا عاد من مطافه، ووصل إلى مدينتهم، بحث عن هؤلاء العباد والنساك ليذبحهم، أو يسجدوا للأصنام، فسمع بذلك تمليخا بينما كان يشتري لهم الطعام خفيةً، فأخبرهم، فبكوا ثمّ ضرب الله على آذانهم، فناموا، وتذكرهم دقيانوس، فهدد آباءهم، إن لم يحضروهم، فدلوه عليهم، وقالوا: إنّهم في الكهف، فتوجه إليهم، وسده عليهم ليموتوا هناك، وينتهي الأمر على ذلك. وقد كان في حاشية الملك رجلان يكتمان إيمانهما، وهما: بيدروس، وروناس فكتبا قصة هؤلاء الفتية سرا في لوحين من حجر، وجعلاهما في تابوت من نحاس، وجعلا التّابوت في البنيان، ليكون ذلك عظة واعتبارًا، وذكرى لمن سيجيىء من بعد. ثم مضت قرون يتلو بعضها بعضًا، ولم يبق لـ: دقيانوس ذكرٌ ولا أثر، وبعدئذٍ ملك البلاد ملك صالح يسمى بيدروس، دام ملكه (68) سنة، وانقسم الناس في شأن البعث والقيامة فرقتين، فرقة مؤمنة به، وأخرى كافرة، فحزن الملك لذلك حزنًا شديدًا، وضرع إلى الله أن يري الناس آية يرشدهم بها إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد خطر إذ ذاك ببال راع يسمى أولياس، أن يهدم باب الكهف، ويبني به حظيرة لغنمه، فلما هدمه استيقظوا جميعًا، فجلسوا مستبشرين، وقاموا يصلون، ثم قال بعضهم لبعض: كم لبثتم نيامًا؟ قال بعضهم: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وقال آخرون: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الورق الفضة {هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا} وليحضر لنا جانبًا منه، فذهب تمليخا، كما اعتاد من قبل ليشتري لهم الطعام، وهو متلطف

في السؤال مختف حذرًا من دقيانوس. وبينما هو ماش سمع اسم المسيح ينادى به في كل مكان، فحدّث نفسه، وقال: عجبا لم لم يذبح دقيانوس هؤلاء المؤمنين، وبقي حائرًا دهشًا، وقال: ربما أكون في حلم، أو لعل هذه ليست مدينتنا، فسأل رجلًا ما اسم هذه المدينة؟ قال: أفسوس، وفي آخر مطافه تقدم إلى رجل، فأعطاه ورقًا ليشتري به طعامه، فدهش الرجل من نوع هذا النقد، الذي لم يره من قبل، وأخذ يقلبه ويعطيه إلى جبرته، وهم يعجبون منه، ويقولون له: أهذا من كنز عثرت عليه؟ فإنّ هذه الدّراهم من عهد دقيانوس، وقد مضت عليه حقبة طويلة، ثمّ أخذوه، وقادوه إلى حاكمي المدينة، فظنّ في بادىء الأمر أنهم ساقوه إلى دقيانوس، ولكن لما عرف أنه لم يؤت به إليه، زال عنه الكرب، وجفت مدامعه، ثمّ سأله حاكما المدينة - وهما: أريوس، وطنطيوس - أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ وبعد حوار بينه وبينهما، ذكر لهما خبر الفتية، ودقيانوس، وأنّ حديثهما كان أمس وإن كان لديكما ريب من أمري فها هو ذا الكهف، فاذهبا معي لتريا صدق ما أقول، فسارا معه حتّى وصلا إلى باب الكهف، وتقدّمهما تمليخا فأخبرهما بالحديث كله، فداخلهما العجب حين علما أنهم ناموا تسعا وثلاث مئة سنة، وأنّهم أفاقوا ليكونوا آية للناس. ثم دخل أريوس فرأى تابوتًا من نحاس مختومًا بخاتم، وبداخله لوحان مكتوبٌ عليهما قصّة هؤلاء الفتية، وكيف هربوا من دقيانوس حرصًا على عقيدتهم، ودينهم، فسد عليهم بالحجارة، ولما رأى أريوس، ومن معه هذا القصص، خروا لله سجدًا، وأرسلوا بريدًا إلى ملكهم أن عجل واحضر لترى آية الله في أمر فتية بعثوا بعد أن ناموا تسعًا وثلاث مئة سنة، ثمّ سار الملك، ومعه ركب من حاشيته وأهل مدينته حتى أتوا مدينة أفنوس، وكان يوما مشهودًا، وحين رأى الفتية خر ساجدًا لله تعالى، ثمّ اعتنقهم، وبكى، وهم لا يزالون يسبحون ثمّ قال الفتية له: أيّها الملك، نستودعك الله، ونعيذك من شر الإنس والجن، ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم، وقبضت أرواحهم، فأمر الملك أن يجعل كل منهم في

[9]

تابوت من ذهب، وحين جنّ الليل، ونام، رآهم في منامه يقولون له: اتركنا كما كنّا في الكهف، ننام على التراب، حتى يوم البعث، فأمر الملك أن يوضعوا في تابوت من ساج، وأن لا يدخل عليهم أحد بعد ذلك، وأن يبنى على باب الكهف مسجد يصلّي فيه الناس، وجعل لهم ذلك اليوم عيدا عظيما. ذلك هو القصص الذي جعله النصارى دليلًا على البعث، أمّا القرآن الكريم، فإنه يقول: إن آياتي على البعث، وإعادة الأرواح بعد الموت ليست مقصورة على هذا القصص وحده، فآياتي عليه لا تعد ولا تحصى، فاقرؤوا صحائف هذا الوجود، ولا تقصروا أمركم على صحائف أهل الكهف والرقيم، واجعلوا أنظاركم تتجه إلى ما حواه الكون، لا إلى ما كتب في القصص، والحكايات، وإن كانت فيها الدلائل والآيات. إجمال القرآن لقصص أصحاب الكهف 9 - وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ} {أم}: هي (¬1) المنقطعة المقدرة بـ {بل}، والهمزة التي للإنكار مع ملاحظة معنى النهي فيها عند الجمهور، وبـ {بل} وحدها عند بعضهم، والتّقدير: بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى {بل} في الأصل، والمعنى أنّ القوم لما تعجّبوا من قصّة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الامتحان قال سبحانه: بل أظننت يا محمد {أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ} الكهف الغار الواسع في الجبل، فإن لم يكن واسعا فغار {وَ} أصحاب {الرَّقِيمِ} هو كلبهم بلغة الروم قال في «القاموس»: الرقيم - كأمير: قرية أصحاب الكهف، أو جبلهم، أو كلبهم، أو الوادي، أو الصّحراء، أو لوح رصاص أو حجري نقش ورقّم فيه نسبهم، وأسماؤهم، ودينهم ومم هربوا، وجعل على باب الكهف، فالرقيم عربيٌّ، فعيل بمعنى مفعول؛ أي: بل أظننت يا محمد أنهم {كانُوا} في بقائهم على الحياة مدة طويلة من الدهر {مِنْ آياتِنا}؛ أي: من بين آياتنا، ودلائل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[10]

قدرتنا {عَجَبًا}؛ أي: آية ذات عجب وضعًا موضع المضاف، أو وصفًا لذلك بالمصدر مبالغة، والعجيب ما خرج عن حد أشكاله، ونظائره وهو خبر لكانوا، و {مِنْ آياتِنا} حال منه. والمعنى (¬1): أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادات، ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات، فإن لله تعالى آيات عجيبة، قصتهم عندها كالنزر الحقير؛ أي: لا تحسب (¬2) أيّها الرسول أنّ قصّة أصحاب الكهف والرقيم، المذكورة في الكتب السّالفة حين استمروا أحياء أمدًا طويلًا عجيبةٌ بالإضافة إلى ما جعلناه على ظهر الأرض من الزينة، فليست هي بالعجب وحدها من بين آياتنا، بل زينة الأرض وعجائبها أبدع وأعجب من قصة أصحاب الكهف، فإذا وقف علماء الأديان الأخرى لدى أمثالها، دهشين حائرين، فأنا أدعوك وأمتك إلى ما هو أعظم منها، وهو النظر في الكون وعجائبه من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر، والكواكب، إلى نحو أولئك من الآيات الدالة على قدرة الله، وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه، قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصّة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله؛ لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم. 10 - وقوله: {إِذْ أَوَى} ظرف لـ {عَجَبًا} أو مفعول لاذكر محذوفًا؛ أي (¬3): اذكر يا محمد قصّة حين صار وأتى، وانضم، والتجأ {الْفِتْيَةُ} والشبان من أشراف الروم، أكرههم دقيانوس ملكهم على الشرك، فأبوا، وهربوا {إِلَى الْكَهْفِ} هو جيروم في جبلهم بنجلوس، واتّخذوه مأوى، والفتية جمع فتى، وهو الشاب القوي الحدث {فَقالُوا}؛ أي: قالت الفتية في دعائهم: {رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: أعطنا من عندك، أي من خزائن رحمتك الخاصّة المكنونة عن عيون أهل المعاداة، فمن ابتدائية متعلقة بـ {آتنا} {رَحْمَةً} خاصة تستوجب المغفرة والأمن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[11]

من الأعداء {وَهَيِّئْ لَنا}؛ أي: يسر لنا، وأصلح ورتِّب، وأتمم لنا {مِنْ أَمْرِنا} الذي هو مهاجرة الكفار، والمثابرة على الطاعة {رَشَدًا}؛ أي: إصابةً للطريق الموصل إلى المطلوب، واهتداء إليه، وكلا الجارّين متعلق بـ {هَيِّئْ} لاختلافهما في المعنى. أي: اذكر أيها الرسول حين أوى أولئك الفتية إلى الكهف، هربًا بدينهم من أن يفتنهم عباد الأصنام، والأوثان، وقالوا: إذ ذلك ربنا يسر لنا بما نبتغي من رضاك، وطاعتك رشدا من أمرنا وسدادا إلى العمل الذي نحب، وارزقنا المغفرة، والأمن من الأعداء. 11 - {فَضَرَبْنا} فعقب هذا القول {ضربنا} وألقينا {عَلَى آذانِهِمْ} حجابًا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة من نومهم حالة كونهم مستقرين {فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}؛ أي: سنين ذوات عدد كثيرة، وهي ثلاث مئة وتسع سنين، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة، وقيل (¬1): منه التقليل؛ لأنّ الكثير قليل عند الله سبحانه 12 - {ثُمَّ} بعد تلك السنين الكثيرة {بَعَثْناهُمْ}؛ أي: أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشّبيهة بالموت، وفيه دليل على أن النّوم أخو الموت في اللوازم من البعث، وتعطيل الحياة، والالتحاق بالجمادات، {لِنَعْلَمَ} ونختبر {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ}؛ أي: أي الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير، والتفويض، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أحد الحزبين الفتية، والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكًا بعد ملك، وذلك لأنّ اللام للعهد، ولا عهد لغيرهم، والتّصحيح ما سيأتي قريبا، وأيّ مبتدأ خبره قوله: {أَحْصى} فعل (¬2) ماض، وهو الصحيح لا أفعل تفضيل، لأنّ المقصود بالاختبار إظهار عجز الكل عن الإحصاء رأسًا لا إظهار أفضل الحزبين وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما؛ أي ضبط {لِما لَبِثُوا}؛ أي للبثهم فما مصدرية {أَمَدًا}؛ أي: غاية وزمنًا، فالمراد بالأمد هنا المدة، وهو مفعول به {لأحصى}، والجار ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[13]

والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة؛ أي: لنختبر أي الحزبين أحصى وضبط أمدًا ومدة للبثهم فيظهر لهم عجزهم، ويفوّضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرّفوا حالهم، وما صنع الله بهم من حفظ أبدانهم، وأديانهم، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه، ويستبصروا أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم، وآية بيّنة لكفارهم، وقرأ (¬1) أبو الجوزاء وأبو عمران، والنخعي {ليعلم} بضم الياء على ما لم يسمّ فاعله، ويعني بالحزبين المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف؛ أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد، أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر، والظاهر أنّ المراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف، لا أهل المدينة؛ لأنهم لمّا تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا، ويدل عليه قوله تعالى: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، فالحزبان هما: هذان، وكأنّ الذين قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول اهـ من «الفتوحات». وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والزهري (¬2): {وهيء} {ويهيء} بيائين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر، عن عاصم، و {هي} لنا {ويهي} لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً، واحتمل أن يكون حذفها، فالأول: إبدالٌ قياسي، والثاني: مختلف فيه، ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزومًا. وقرأ أبو رجاء {رُشْدا} بضم الراء وإسكان الشين، وقرأ الجمهور {رَشَدًا} بفتحهما، قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية، فإنها كافية. 13 - ثم شرع في تفصيل ما أجمل ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط.

[14]

في قوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}؛ أي: نخبرك يا محمد، ونبين لك {نَبَأَهُمْ}؛ أي: خبر أصحاب الكهف، والرقيم {بِالْحَقِّ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: نقص قصًا متلبسًا بالحق والصدق، وفيه إشارة إلى أن القصاص كثيرا ما يقصون بالباطل، ويزيدون، وينقصون، ويغيرون القصّة كل واحد يعمل برأيه، موافقا لطبعه وهواه، وما يقص بالحق إلا الله تعالى، ثمّ فصّل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن أصحاب الكهف والرقيم {فِتْيَةٌ}؛ أي: شبان أحداث {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} بالتحقيق لا بالتقليد، صفة لفتيةٌ، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال {وَزِدْناهُمْ هُدًى} على {هُدًى} بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله، والزهد في الدنيا، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقد جرت (¬1) العادة أن الفتيان أقبل للحق، وأهدى للسبل من الشيوخ الذين قد عتوا، وانغمسوا في الأديان الباطلة، ومن ثمّ كان أكثر الذين استجابوا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شبانًا، وبقي الشّيوخ على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل، ونحو الآية قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)}، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، وقوله: {لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ}. تنبيه: في أي زمان كان قصص أهل الكهف؟ رجّح ابن كثير أن قصص أهل الكهف كان قبل مجيء النصرانيّة لا بعدها، كما رواه كثير من المفسرين متبعين ما أثر عن العرب، والدليل على ذلك أنّ أحبار اليهود، كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، فقد روي عن ابن عباس، أنّ قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء الفتية، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، وفي هذا أعظم الأدلّة على أنّ ذلك كان محفوظا عند أهل الكتاب، وأنّه مقدّم على النصرانية. 14 - {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ}، أي: قوّينا قلوبهم بالصبر على هجر الأهل، والأوطان، وفراق الخلان، والأخدان، والجراءة على إظهار الحق، والرد على ¬

_ (¬1) المراغي.

[15]

دقيانوس الجبار، وألهمناهم قوة العزيمة، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان، {إِذْ قامُوا} ظرف منصوب بربطنا؛ أي: ربطنا على قلوبهم حين قاموا بين يدي الجبار دقيانوس إذ عاتبهم على تركهم عبادة الأصنام، فإنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبّت الله تعالى هؤلاء الفتية، حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى، وصرحوا بالبراءة من الشركاء، {فَقالُوا}؛ أي: قالت الفتية {رَبُّنا}؛ أي: مالكنا، وخالقنا {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: رب العالم، ومالكه، وخالقه، والصنم جزء من العالم، فهو مخلوق لا يصلح للعبادة {لَنْ نَدْعُوَا}؛ أي: لن نعبد أبدًا {مِنْ دُونِهِ} سبحانه وتعالى {إِلهًا}؛ أي: معبودًا آخر لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، والعدول عن أن يقال: (ربًا) للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة. أي: لن ندعو من دون رب السموات والأرض إلهًا لا على طريق الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك، إذ لا رب غيره، ولا معبود سواه، وقد أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الألوهية، والخلق، وبالجملة الثانية إلى توحيد الربوبية والعبادة، وعبدة الأصنام يقرون بتوحيد الأولى، ولا يقرون بتوحيد الثانية، بدليل قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وقوله سبحانه حكاية عنهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}، وكانوا يقولون في تلبيتهم في الحج: لبّيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثم علّلوا عدم دعوتهم لغيره تعالى بقولهم: {لَقَدْ قُلْنا}؛ أي: والله لئن عبدنا غيره تعالى لقد قلنا: {إِذًا}؛ أي: حين عبدنا غيره قولًا {شَطَطًا} كذبًا وزورًا، وإذا حرف جواب وجزاء مهمل، يقدر بـ {لو}، أي: لو دعونا من دونه إلها، والله لقد قلنا قولًا خارجًا عن حد العقول مفرطًا في الظلم. وفي هذا: إيماء إلى أنّهم دعوا لعبادة الأصنام، وليموا على تركها، 15 - ثم حكى سبحانه عن أهل الكهف مقالة بعضهم لبعض فقال: {هؤُلاءِ} مبتدأ، وفي التعبير باسم الإشارة تحقير لهم. {قَوْمُنَا} عطف بيان يعنون أهل بلدهم.

[16]

{اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} سبحانه وتعالى خبر المبتدأ {آلِهَةً}؛ أي: أصناما يعبدونها {لَوْلا} حرف تحضيض؛ أي: هلا {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على عبادة الأصنام {بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ}؛ أي: بحجة واضحةٍ تصلح للتمسك بها، وفيه تبكيت لهم، لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال. أي: إن قومنا هؤلاء، وإن كانوا أكبر منا سنًا وأكثر تجربةً، قد أشركوا مع الله غيره، فهلا أتوا بحجة بينة على صدق ما يقولون، كما أتينا على صدق ما ندّعي بالأدلة الظاهرة، وإنّهم لأظلم الظالمين، فيما فعلوا، وفيما افتروا، ومن ثمّ قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ}؛ أي: من أشد ظلمًا {مِمَّنِ افْتَرى} واختلق {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، والاستفهام فيه إنكاري بمعنى النفي؛ أي: لا أظلم ممن افترى على الله الكذب، ونسب إليه الشريك، وزعم أن له ولدًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فإنّ (¬1) الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد. والمعنى: أنّه (¬2) أظلم من كلّ ظالم، وعذابه أعظم من كل عذاب؛ لأن الظّلم موجب للعذاب، فيكون الأعظم للأظلم، 16 - ثم قال بعض الفتية لبعض منهم، وقت اعتزالهم عن قومهم {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ} وعبادتهم {إِلَّا اللَّهَ}، أي: إلّا عبادته سبحانه وتعالى، أو وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله؛ أي: وإذ أردتم اعتزالهم، ومفارقتهم، واعتزال الشيء الذي يعبدونه {إِلَّا اللَّهَ} أي: إلا عبادته. وعلى التقديرين: فالاستثناء متصل على تقدير كونهم مشركين كأهل مكة، ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان، {فَأْوُوا}؛ أي: التجئوا {إِلَى الْكَهْفِ}، وصيروا إليه، واجعلوه مأواكم. قال الفراء (¬3): هو جواب إذ، ومعناه اذهبوا إليه، واجعلوه مأواكم، وقيل: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[17]

هو دليل على جوابه؛ أي: إذ اعتزلتموهم اعتزالًا اعتقاديًا، فاعتزلوهم اعتزالًا جسمانيًّا، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف، وفيه إشارةٌ إلى أن الاعتزال الاعتقادي يوجب الاعتزال الجسماني، {يَنْشُرْ لَكُمْ}؛ أي: يبسط لكم ويوسع عليكم {رَبُّكُمْ}؛ أي: مالك أمركم {مِنْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: من تفضّله، وإنعامه في الدارين {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ}؛ أي: يسهل لكم {مِنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين {مِرْفَقًا}؛ أي: ما ترتفقون، وتنتفعون به غدًا، وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم عن شوب الشك، وقوة وثوقهم. أي: وإذ (¬1) فارقتموهم، وخالفتموهم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم بأبدانكم، والجؤوا إلى الكهف، وأخلصوا لله العبادة في مكان تتمكنون منها بلا رقيب، ولا حسيب، وإنّكم إن فعلتم ذلك، فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارين، ويسهّل لكم من أمر الفرار بدينكم، والتوجّه إليه في عبادتكم ما ترتفقون وتنتفعون به، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيّا إلا وهو شابّ. وقرأ {قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ 60}، {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ} {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} وقرأ (¬2) أبو جعفر، والأعرج وشيبة، وحميد، وابن سعدان، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر، في رواية الأعشى، والبرجميّ، والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون، بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع والمحيض، فإن قياسه الفتح، وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء؛ أي: رفقًا. 17 - ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف، فقال: {وَتَرَى الشَّمْسَ} يا محمد، أو يا من يصلح للخطاب ويتأتى منه الرؤية، وليس المراد به الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس {إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ} أي تتزاور وتتنحّى وتميل بحذف إحدى التائين، من الزور بفتح الواو، وهو الميل {عَنْ كَهْفِهِمْ} الذي .. أووا إليه، فالإضافة لأدنى ملابسة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

{ذاتَ الْيَمِينِ}؛ أي: جهة (¬1) ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره؛ أي: جانبه الذي يلي المغرب، فلا يقع عليهم شعاعها، فيؤذيهم؛ لأنّ الكهف كان جنوبيًا؛ أي: كانت ساحته داخلة في جانب الجنوب، أو زوّرها الله عنهم، وصرفها على منهاج خرق العادة، كرامةً لهم، وحقيقتها: الجهة ذات اسم اليمين؛ أي: الجهة المسماة باسم اليمين، {وَإِذا غَرَبَتْ}؛ أي: تراها عند غروبها. {تَقْرِضُهُمْ}، أي: تقطعهم وتتركهم {ذاتَ الشِّمالِ}؛ أي: جهة ذات شمال الكهف، أي: جانبه الذي يلي المشرق، وجملة قوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنهم في فجوة متسع من ذلك الكهف، ووسطه، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده. وخلاصة ذلك (¬2): أنهم طول نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا في غروبها، إذ كان باب الكهف في مقابلة بنات نعش، فهو إلى الجهة الشمالية، والشمس لا تسامت ذلك أبدًا، لأنّها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان، وكل بلاد بعده إلى جهة الشّمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها، فيكون الظلّ مائلًا جهة الشمال طول السنة، كما يعلم ذلك من علم الفلك، وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف في ناحية الشرق، لمّا دخل إليه شيء منها حين الغروب، ولو كان من ناحية الجنوب، لما دخل منها شيء حين الطلوع ولا الغروب، وما تزاور الفيء لا يمينًا ولا شمالًا، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال، ولا تزال فيه إلى الغروب. تنبيه: وهنا إشكالٌ لأنه قد تقدّم في القصة أنّ الملك الظالم الذي فرّوا منه بنى على باب الكهف سدًّا، وقال: لكي يموتوا جوعًا وعطشًا، وأنّ السد استمرّ عليهم مدة لبثهم نيامًا، وأنّ الملك الصالح اجتمع بهم حين تيقّظوا، وبنى على باب الغار مسجدًا، بعد موتهم، وصريح هاتين الآيتين يردّ هذا ويبطله، إذ لو كان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

باب الغار قد سدّ كما ذكر، لم يستقم قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ} إلخ فليتأمّل وليحرّر، وقرأ (¬1) الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: {تزَّاورَ} بإدغام تاء تتزاور في الزاي، وقرأ الكوفيون، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وأحمد بن جبير الأنطاكي، بتخفيف الزاي، إذا حذفوا التاء، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر، وقتادة، وحميدٌ، ويعقوب، عن العمري {تَزْوَرُّ} على وزن تحمر، وقرأ الجحدريُّ، وأبو رجاء، وأيّوبٌ السختيانيُّ، وابن أبي عبلة، وجابر، وورد عن أيوب {تَزْوَارُّ} على وزن تحمار، وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل {تَزْوَأَرُّ} بهمزة قبل الراء، على وزن قولهم: ادهأمَّ واشْعَأل فرارًا من التقاء الساكنين، وكلّها بمعنى الزور، بمعنى الميل، وقرأ الجمهور {تَقْرِضُهُمْ} بالتاء، وقرأت فرقة بالياء؛ أي: يقرضهم الكهف، وللمفسرين (¬2) في تعيين مكان الكهف أقوال، فقيل: هو قريب من إيلياء - بيت المقدس - ببلاد الشام، وقال ابن إسحاق عند نينوى ببلاد الموصل، وقيل: ببلاد الروم، ولم يقم إلى الآن الدّليل على شيء من ذلك، ولو كان لنا في معرفة ذلك فائدة دينية .. لأرشدنا الله إليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت شيئًا يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار، إلا وقد أعلمتكم به». وخلاصة ذلك: أي إن هدايتهم إلى التوحيد، ومخالفتهم قومهم، وآباءهم، وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته، بحيث تزاور الشمس عنهم طالعةً، وتقرضهم غاربة، وإخبارك بقصصهم، كل ذلك {مِنْ آياتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى الكثيرة في الكون الدالّة على كمال قدرته، وعلى أنّ التّوحيد هو الدين الحق، وعلى أن الله يكرم أهله. والمعنى (¬3): أي ما صنع الله بهم من تزاور الشمس وقرضها حالتي الطلوع والغروب، مع كونهم في موقع شعاعها من آيات الله العجيبة الدالة على كمال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[18]

علمه، وقدرته، وحقّية التوحيد، وكرامة أهله عنده، ثمّ بيّن أن هدايتهم إلى التوحيد كانت بعناية الله ولطفه، فقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ}؛ أي: من يوفّقه الله للاهتداء بآياته، وحججه إلى الحق، كأصحاب الكهف. {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الذي أصاب سبيل الحق، وفاز بالحظ الأوفر في الدارين، فلن يقدر على إضلاله أحد، والمراد: إما الثناء عليهم، بأنهم المهتدون، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفّقه الله للاستبصار بها، كأصحاب الكهف، وقوله: {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} بدون ياء في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وهي لا تثبت فيه، وأما في النطق فعند الوقف تحذف عند الجميع، وعند الوصل بعض السبعة يحذفها، وبعضهم يثبتها اهـ شيخنا. وفي هذا (¬1): إيماء إلى أن أصحاب الكهف أصابوا الصّواب ووفّقوا لتحقيق ما أمّلوا من نشر الرحمة عليهم، وتهيئة المرفق لهم، {وَمَنْ يُضْلِلْ}؛ أي: ومن يضلله الله لسوء استعداده، وصرف اختياره إلى غير سبل الهدى والرشاد، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}؛ أي: ناصرا يهديه إلى الحق، كدقيانوس وأصحابه؛ أي: فلن تجد له أبدًا خليلًا، ولا حليفًا يرشده لإصابة سبل الهداية، ويخلصه من الضلال؛ لأن التّوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء من عباده، ويخذل من يشاء، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإرشادٌ له إلى أنه لا ينبغي له أن يحزن على إدبار قومه عنه، وتكذيبهم إياه، فإن الله لو شاء .. لهداهم وآمنوا. 18 - {وَتَحْسَبُهُمْ}؛ أي: وتحسب أيها الرسول أو أيّها المخاطب أصحاب الكهف، وتظنّهم لو رأيتهم {أَيْقاظًا}؛ أي: منتبهين لانفتاح أعينهم على هيئة الناظر {وَهُمْ رُقُودٌ}؛ أي: نيام جمع راقد كقاعد، وقعود؛ أي: والحال أنهم راقدون نائمون؛ أي: ولو رأيتهم .. لظننتهم في حال يقظة لانفتاح أعينهم، كأنهم ينظرون إلى من أمامهم، والحال أنهم: نائمون لما بهم من الحال الخاصة بالنوم، كاسترخاء المفاصل، والأعضاء، ولا سيما العينان والوجه {وَنُقَلِّبُهُمْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

ونقلب هؤلاء الفتية في حال رقدتهم بأيدي الملائكة، أو بيد القدرة {ذاتَ الْيَمِينِ} نصب على الظرفية؛ أي: جهة تلي أيمانهم {وَذاتَ الشِّمالِ}؛ أي: جهة تلي شمائلهم، كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم، على طول الزمان؛ أي: نحوّلهم في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن، ومرّة للجنب الأيسر، كي ينال روح النّسيم جميع أبدانهم، ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث، والمراد بذات اليمين وذات الشمال هنا يمينهم وشمالهم أنفسهم، بخلاف ما تقدم، فإنّ المراد به يمين الكهف وشماله كما مر {وَكَلْبُهُمْ}؛ أي: وكلب أولئك الفتية، وهو كلب راع قد تبعهم على دينهم، واسمه قطمير {باسِطٌ ذِراعَيْهِ} حكاية حال ماضية؛ أي: وكلبهم ملق يديه على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين {بِالْوَصِيدِ}؛ أي: بموضع الباب من الكهف والذراع (¬1) من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى قال في «القاموس»: الوصيد الفناء والعتبة. انتهى قال السدي: الكهف لا يكون له عتبة، ولا باب، وإنما أراد أنّ الكلب منه موضع العتبة من البيت {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} أي: على أهل الكهف، أي: لو شاهدت يا محمد، أو أيها المخاطب في رقدتهم التي رقدوها في الكهف {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ}؛ أي: لأدبرت {فِرارًا} منهم، والفرار الهرب، وهو منصوب على المصدرية من معنى ما قبله، إذ التولية، والفرار معناهما واحد؛ أي: ولّيت توليةً، وفررت فرارًا. {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}؛ أي: ولملئت (¬2) نفسك حين اطّلاعك عليهم خوفًا وفزعًا، فكل من رآهم فزع منهم فزعًا شديدًا لأنّ الله سبحانه قد ألبسهم هيبة ووقارًا كي لا يصل إليهم واصل ولا تلمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الحين الذي أراد أن يجعلهم فيه عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج عليهم من عباده، وليعلموا أنّ وعد الله حق، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها. وقرأ الجمهور (¬3): {وَنُقَلِّبُهُمْ} بالنون مزيد اعتناء الله بهم، حيث أسند ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) زاد المسير.

[19]

التقليب إليه تعالى، وأنّه الفاعل ذلك، وحكى الزمخشريّ أنه قرىء {ويقلِّبهم} بالياء مشدّدًا؛ أي: يقلبهم الله، وقرأ أبو رجاء {وتقلبهم} بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة مضارع قلب مخففًا، وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة: {ونقلبهم} مثلها إلا أنه بالنون، وقرأ الحسن فيما حكى ابن جني، و {تقلبهم} مصدر تقلب منصوبًا بفعل مقدر، كأنه قيل: وترى، أو تشاهد، تقلبهم، وعنه أيضًا أنه قرأ كذلك إلّا أنه ضم الباء فهو مصدرٌ مرتفعٌ بالابتداء، قاله أبو حاتم، وقرأ أبو جعفر الصادق {وكالبهم}؛ أي: صاحب كلبهم كما تقول لابن، وتامر؛ أي: صاحب لبن وتمر. وقرأ ابن وثّاب، والأعمش، وأبو حصين {لو اطلعت} بضم الواو، وصلًا، وقرأ الجمهور بكسرها، وقد ذكر ضمها عن شيبة، وأبي جعفر، ونافع، وقرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، {وَلَمُلِئْتَ} خفيفةً مهموزة، وقرأ ابن عباس، وابن كثير، ونافع، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، {وَلَمُلِئْتَ} بتشديد اللام مهمزا، وقرأ أبو جعفر، وشيبة بتشديد اللام، وإبدال الياء من الهمزة، وقرأ الزهريّ بتخفيف اللام والإبدال، وتقدم الخلاف في {رُعْبًا} في آل عمران، وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى 19 - {وَكَذلِكَ}؛ أي: وكما (¬1) أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مر الأيام بقدرتنا. {بَعَثْناهُمْ} من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا في خلقنا، ليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه، من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار، إذا تبيّنوا طول الزمان عليهم، بهيئتهم حين رقدوا، و {لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ}؛ أي: وليقع التساؤل بينهم، والاختلاف، والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال، وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة السؤال لا ينفي غيرها، وإنّما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة قوله: قالَ {قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} مبيّنة لما قبلها من التساؤل بينهم؛ أي: كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا: ¬

_ (¬1) المراغي.

ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة. أي: وكذلك بعثناهم لتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضًا، فيقول قائل منهم لأصحابه: كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم {قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}؛ أي: قال بعضهم جوابًا عن سؤال من سأل منهم: لبثنا يومًا أو بعض يوم، ظنًا منهم أنّ الأمر كذلك، قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يومًا، فلما رأوا الشّمس قالوا: أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، {قالُوا}؛ أي: قال (¬1) بعض آخر منهم بما سنح لهم من الأدلة، أو بإلهام من الله {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ}؛ أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم؛ لأنها متطاولة ومقدارها مبهم، وإنما يعلمها الله تعالى، وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وهذا من الأدب البارع في الرد على الأولين بأحسن أسلوب، وأجمل تعبير، وحين علموا أنّ الأمر ملتبسٌ عليهم، عدلوا إلى الأهم في أمرهم، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ}؛ أي: بدراهمكم {هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وهي: طرسوس - بفتح الراء - كما جزم بذلك فخر الدين الرازي، قالوه إعراضًا عن التعمق في البحث عن مدة لبثهم؛ لأنه ملتبسٌ لا سبيل لهم إلى علمه، وإقبالًا على ما يهمهم بحسب الحال، كما ينبىء عنه {الفاء}، والورق: الفضة مضروبةً أو غير مضروبة. وفي قولهم: {هذِهِ} إشارة (¬2) إلى أنّ القائل كان قد أحضرها ليناولها، بعض أصحابه، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم، ونحوها لمن خرج من منزله، لا ينافي التّوكّل على الله كما جاء في الحديث «اعقلها وتوكّل» وقرأ أبو (¬3) عمرو، وحمزة، وأبو بكر، والحسن، والأعمش، واليزيديّ، ويعقوب في رواية، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان: {بوَرْقِكُم} بإسكان الراء، وقرأ باقي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[20]

السبعة، وزيد بن عليّ بكسرها، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو، وإسكان الراء، وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعن ابن محيصن أيضًا كذلك إلا أنه كسر الراء ليصحّ الإدغام، وقال الزمخشري: وقرأ ابن محيصن أيضًا كذلك إلا أنه كسر الراء ليصحّ الإدغام، وقال الزمخشري: وقرأ ابن كثير {بورقكم} بكسر الراء، وإدغام القاف في الكاف انتهى، وهو مخالفٌ لما نقل النّاس عنه، وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو، وسكون الراء دون إدغام، وقرأ عليّ بن أبي طالب {بوارقكم} على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر، وجائل. {فَلْيَنْظُرْ} ذلك الأحد {أَيُّها}؛ أي: أي أهل المدينة {أَزْكى طَعامًا}؛ أي: أطيب طعامًا وأحل مكسبًا، قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبًا أو أرخص سعرًا، وقيل (¬1): يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام؛ أي: فليبصر أي الأطعمة أجود وألذ {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ}؛ أي: بقوت، وطعام، وهو ما يقوم به بدن الإنسان، {مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الأزكى طعامًا {وَلْيَتَلَطَّفْ}؛ أي: وليترفق في دخول المدينة، وفي شرائه، وفي إيابه منها، {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ}؛ أي: ولا يخبرن بمكانكم {أَحَدًا} من أهلها، 20 - ثمّ ذكروا تعليل الأمر والنهي السالفين بقولهم: {إِنَّهُمْ}؛ أي: ليبالغ في التلطف وعدم الإشعار لأن أهل المدينة {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}؛ أي: إن يطلعوا عليكم، ويظفروا بكم، والضمير (¬2) للأهل المقدر في أيّها {يَرْجُمُوكُمْ}؛ أي: يقتلوكم بالرّجم، وهو الرمي بالحجارة، إن دمتم على ما أنتم عليه، وهو أخبث القتلة، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا خصّه من بين أنواع ما يقع به القتل، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ}؛ أي: يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله تعالى، أو يدخلوكم فيها كرهًا من العود بمعنى الصيرورة؛ أي (¬3): إن الكُفَّار إن علموا بمكانكم، ولم تفعلوا ما يريدون منكم، بل ثبتم على إيمانكم، إمّا أن يقتلوكم رميًا بالحجارة، وكان ذلك هو المتسع في الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير في الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن في الدولة، وإما أن يعيدوكم إلى ملة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

آبائكم التي هم مستمسكون بها، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا}؛ أي: وإن دخلتم في دينهم، وملّتهم، ولو بالإكراه، والإلجاء لن تفوزوا بخير {أَبَدًا}، أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة، والاستمرار عليها، فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم، والخذلان الذي لا خذلان بعده. وفي «الكرخي»: واستشكل الحكم عليهم بعدم الفلاح، مع الإكراه المستفاد من {إِنْ يَظْهَرُوا} إذ المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه، لخبر «رفع عن أمّتي» الخ، وأجيب بأنّ المؤاخذة به كانت في غير هذه الشريعة بدليل {وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} وخبر «رفع عن أمتي» الخ اهـ وقرأ الحسن، {وليتلطف} بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال، {وليُتلَطَّفْ} بضم الياء مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو صالح، ويزيد بن القعقاع، وقتيبة {ولا يشعرن بكم أحد} ببناء الفعل للفاعل، ورفع {أحدٌ} وقرأ زيد بن عليّ {يظهروا} بضم الياء مبنيًّا للمفعول. الإعراب {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {الَّذِي}: صفة للجلالة {أَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول {عَلى عَبْدِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ} {الْكِتابَ}: مفعول به {وَلَمْ}: {الواو} عاطفة {لَمْ يَجْعَلْ}: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ}: جار ومجرور، في محل المفعول الأول {عِوَجًا}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة {قَيِّمًا}: حال من ضمير له، وهي حال مؤكدة، ويجوز أن تكون {الواو} حالية، والجملة الفعلية حال أولى من {الْكِتابَ} {قَيِّمًا}: حال ثانية منه متداخلة، والتقدير: أنزله غير جاعل له عوجًا قيمًا. {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}.

{لِيُنْذِرَ}: {اللام} حرف جر وتعليل {ينذر}: منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على {الْكِتابَ} و {ينذر} يتعدى إلى مفعولين أولهما محذوف، تقديره: لينذر الذين كفروا به {بَأْسًا}: مفعول ثان له {شَدِيدًا}: صفة لـ {بَأْسًا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} والجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ} والتقدير: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب لإنذاره الذين كفروا به بأسًا شديدًا، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على الكتاب، والجملة معطوفة على جملة {ينذر} {الَّذِينَ}: صفة للمؤمنين {يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {أَنَّ}: حرف نصب {لَهُمْ}: جار ومجرور، خبرها، مقدم {أَجْرًا} اسمها مؤخر {حَسَنًا}: صفة {أَجْرًا} وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {يُبَشِّرَ} على رأي من يرى أن {يُبَشِّرَ} يتعدى لمفعولين، وقيل: هو في تأويل مصدر، منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف متعلق بـ {يُبَشِّرَ} والتقدير: ويبشرُ المؤمنين بكون أجر حسن لهم، {ماكِثِينَ}: حال من {الهاء} في {لَهُمْ} {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ماكِثِينَ} و {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {ماكِثِينَ} أيضًا. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ}: فعل ومفعول أول معطوف على {يُنْذِرَ} الأول وفاعله ضمير يعود على محمد {قالُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والمفعول الثاني محذوف تقديره بأسًا شديدًا {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا} {ما} نافية {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {بِهِ} متعلق بـ {عِلْمٍ} {مِنْ} زائدة {عِلْمٍ}: مبتدأ مؤخر، {وَلا} {الواو} عاطفة {لا} زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، {لِآبائِهِمْ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في {لَهُمْ} والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتقرير جهالتهم، وأنهم

يقولون ما لا يعرفون، {كَبُرَتْ}: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مبهم مستتر فيه وجوبًا مفسر بالنكرة، المذكورة {كَلِمَةً}: منصوب على التمييز لفاعل {كبر}، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: تلك الكلمة، وجملة {كَبُرَتْ} في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالذم المحذوف، والجملة الاسمية جملة إنشائية، سيقت لإنشاء الذم، لا محلّ لها من الإعراب، {تَخْرُجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على كلمة {مِنْ أَفْواهِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَخْرُجُ} والجملة صفة لـ {كَلِمَةً} {إِنْ}: نافية {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {كَذِبًا}: صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا قولًا كذبًا. {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. {فَلَعَلَّكَ}: {الفاء}: استئنافية {لعل}: حرف ترج ونصب، وهي من أخوات إن و {الكاف} اسمها {باخِعٌ}: خبرها {نَفْسَكَ}: مفعول به لـ {باخِعٌ} وفاعله ضمير يعود على محمد {عَلى آثارِهِمْ} متعلق بـ {باخِعٌ} وجملة {لعل} مستأنفة. {إِنْ}: حرف شرط {لَمْ يُؤْمِنُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها {بِهذَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُوا} {الْحَدِيثِ}: بدل من اسم الإشارة {أَسَفًا}: مفعول لأجله منصوب بـ {باخِعٌ} أو منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال، وجواب الشرط محذوف دل عليه الترجي، والتقدير: إن لم يؤمنوا بهذا الحديث، فلا تحزن، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وجملة الشرط مستأنفة. {إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه {جَعَلْنا}: فعل وفاعل، وجملة {جَعَلْنا} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المقصود من الترجي، {ما}: في محل النصب مفعول أول لـ {جعل} {عَلَى الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صلة لها {زِينَةً}: مفعول ثان لـ {جعل} وإن كان بمعنى خلقنا، فتكون {زِينَةً} حالًا من ما الموصولة {لَها}: جار ومجرور، صفة

لـ {زِينَةً}. {لِنَبْلُوَهُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل {نبلوهم} فعل ومفعول منصوب بـ {أن} مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، {أَيُّهُمْ}: {أي}: اسم استفهام مبتدأ و {الهاء}: مضاف إليه {أَحْسَنُ}: خبر المبتدأ {عَمَلًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي {نبلو} لأنه في معنى نعلم، وقد علّق عن العمل بـ {أي} الاستفهامية، ويجوز أن تكون {أي} موصولة بمعنى الذي وتعرب بدلًا من {الهاء} في {نبلوهم} والتقدير: لنبلو الذي هو أحسن، و {أَحْسَنُ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو {أَحْسَنُ} والجملة صلة {لأي} الموصولة، وتكون الضمة في {أي} ضمة بناء؛ لأن شرطه موجود، وهو أن تضاف، ويحذف صدر صلتها، وجملة {نبلوهم} في تأويل مصدر مجرور بـ {لام} التعليل الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنا} والتقدير: إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لبلاء من عليها أيهم أحسن عملًا. {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبًا (9)}. {وَإِنَّا}: {الواو}: عاطفة {إِنَّا}: ناصب واسمه {لَجاعِلُونَ}: خبره مرفوع بـ {الواو} و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {جاعلون} {عَلَيْها} صلة لـ {ما} أو صفة لها {صَعِيدًا}: مفعول ثان لـ {جاعلون}. {جُرُزًا}: صفة لـ {صَعِيدًا}. {أَمْ}: منقطعة تقدر بـ {بل}، وبهمزة الإنكار، {حَسِبْتَ}: فعل وفاعل {أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ}: ناصب واسمه، ومضاف إليه {وَالرَّقِيمِ}: معطوف على {الْكَهْفِ}. {كانُوا}: فعل ناقص واسمه {مِنْ آياتِنا} حال من {عَجَبًا} {عَجَبًا}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {أنّ} وجملة {أنّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب، وجملة حسب مستأنفة، والاستفهام المستفاد من أم للإنكار، والنفي، واليس المراد نفي العجب عن قصة أهل الكهف، فهي عجب كما ذكرنا، ولكن القصد نفي كونها أعجب الآيات.

{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدًا (10)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر إذ أوى {أَوَى الْفِتْيَةُ}: فعل وفاعل والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ {إِذْ} والجملة المحذوفة مستأنفة {إِلَى الْكَهْفِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوَى}. {فَقالُوا}: {الفاء} عاطفة {قالوا} فعل وفاعل معطوف على {أَوَى} {رَبَّنا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالوا} {آتِنا}: فعل ومفعول أول لأنه بمعنى أعطنا، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قالوا} على كونها جواب النداء {مِنْ لَدُنْكَ}: جار ومجرور حال من {رَحْمَةً}. {رَحْمَةً}: مفعول ثان لـ {رَبَّنا} {وَهَيِّئْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله {لَنا} متعلق بـ {هَيِّئْ}، والجملة معطوفة على جملة {آتِنا}. {مِنْ أَمْرِنا}: جار ومجرور حال من {رَشَدًا}. {رَشَدًا}: مفعول به. {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}. {فَضَرَبْنا}: {الفاء}: عاطفة {ضربنا}: فعل وفاعل معطوف على {قالوا} {عَلَى آذانِهِمْ} متعلق به، ومفعول {ضربنا} محذوف تقديره: حجابًا مانعًا من السماع، {فِي الْكَهْفِ}: حال من ضمير آذانهم، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، {سِنِينَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، وعلامة نصبه الياء والظرف متعلق بـ {ضربنا}. {عَدَدًا}: نعت لـ {سِنِينَ} لأنه فعلٌ بمعنى مفعول، أي: سنين معدودة. {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَدًا (12)}. {ثُمَّ}: حرف عطف {بَعَثْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {ضربنا} {لِنَعْلَمَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، أو عاقبة {نعلم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مع أن

المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلمنا أي الحزبين إلخ الجار والمجرور متعلق بـ {بعثنا} {أَيُّ}: اسم استفهام مبتدأ مرفوع {الْحِزْبَيْنِ}: مضاف إليه، {أَحْصى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {أَيُّ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي علم؛ لأنها معلقة عنها باسم الاستفهام {لِمَا}: اللام حرف جر {ما} مصدرية {لَبِثُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} الجار والمجرور متعلق بمحذوف نعت لـ {أَمَدًا} ولكنه لما قدّم عليه جعل حالا {أَمَدًا}: مفعول أحصى، والتقدير: أحصى أمدا للبثهم. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدًى (13)}. {نَحْنُ}: مبتدأ {نَقُصُّ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {نَقُصُّ} {نَبَأَهُمْ}: مفعول به {بِالْحَقِّ}: حال من فاعل {نَقُصُّ} أو من مفعوله، وهو النبأ، و {الباء} للملابسة {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لسرد قصتهم {آمَنُوا}: فعل وفاعل {بِرَبِّهِمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية صفة لـ {فِتْيَةٌ}. {وَزِدْناهُمْ هُدًى}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا (14)}. {وَرَبَطْنا}: فعل وفاعل معطوف على {زِدْناهُمْ} {عَلى قُلُوبِهِمْ}: متعلق بـ {رَبَطْنا} {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {رَبَطْنا} {قامُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {فَقالُوا}: {الفاء}: عاطفة {قالوا}: فعل وفاعل معطوف على {قامُوا} {رَبُّنا}: مبتدأ {رَبُّ السَّماواتِ}: خبر. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ} والجملة الاسمية في محل النصب

مقول {قالوا} {لَنْ نَدْعُوَا}: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور حال من {إِلهًا}. {إِلهًا}: مفعول {نَدْعُوَا}. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {قُلْنا} فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالوا}. {إِذًا}: حرف جواب، وجزاء، مهمل دال على شرط مقدر، تقديره: إن دعونا إلهًا من دونه .. لقد قلنا قولًا شططا. {شَطَطًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر، محذوف؛ أي: قولًا ذا شطط، أي إفراط وظلم. {هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}. {هؤُلاءِ}: مبتدأ. {قَوْمُنَا}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل {مِنْ دُونِهِ}: حال من {آلِهَةً}. {آلِهَةً}: مفعول ثان لـ {اتَّخَذُوا}، والأول محذوف تقديره: اتخذوا الأصنام آلهة من دونه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قالوا}، وهذه الجملة إخبار في معنى الإنكار، ويجوز أن يكون {قَوْمُنَا}: هو الخبر، و {اتَّخَذُوا}: حالًا. وفي «السمين»: و {اتَّخَذُوا}: يجوز أن يتعدى لواحد، بمعنى عملوا؛ لأنهم نحتوها، بأيديهم، ويجوز أن يكون متعديًا لاثنين بمعنى صيّروا، {مِنْ دُونِهِ} هو الثاني قدم و {آلِهَةً} هو الأول، وعلى الوجه الأول، يجوز في {مِنْ دُونِهِ} أن يتعلق بـ {اتَّخَذُوا}، وأن يتعلق بمحذوف حالًا من {آلِهَةً} إذ لو تأخر .. لجاز أن يكون صفة {لآلهة} اهـ. {لَوْلا}: حرف تحضيض مضمن معنى الإنكار، {يَأْتُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: حال من {سلطان} {بِسُلْطانٍ}: متعلق بـ {يَأْتُونَ} {بَيِّنٍ}: صفة لـ {سلطان}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا}. {فَمَنْ}: {الفاء} استئنافية {من}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع، مبتدأ {أَظْلَمُ}: خبره {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا} على

كونها مستأنفة {افْتَرى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة صلة الموصول {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {افْتَرى} {كَذِبًا}: مفعول به لـ {افْتَرى}. {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}. {وَإِذِ}: {الواو}: عاطفة {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل مضاف إليه، لـ {إِذِ} {وَما يَعْبُدُونَ}: {الواو} عاطفة {ما} معطوف على {الهاء} في {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} إن كانت موصولةً، أو موصوفةً، ويصح كونها مصدرية، والتقدير: وعبادتهم. {يَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: وما يعبدونه {إِلَّا}: أداة استثناء {اللَّهَ}: مستثنى متصل من {ما} أو من العائد المحذوف على تقدير: كونهم مشركين، ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان، {فَأْوُوا}: فعل وفاعل و {الفاء} رابطة لجواب {إِذِ} الشرطية، وجوبًا كما قاله الفراء، نظير قولك: إذ فعلت فافعل كذا {إِلَى الْكَهْفِ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب {إِذِ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذِ} الشرطية من شرطها وجوابها في محل النصب، معطوف على جملة قوله: {هؤُلاءِ قَوْمُنَا} على كونها مقولًا لـ {قالوا}. {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}. {يَنْشُرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق {لَكُمْ}: متعلق به {رَبُّكُمْ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا} على كونها جواب الطلب {مِنْ رَحْمَتِهِ}: جار ومجرور، صفة لمفعول محذوف تقديره: نجاحًا من رحمته، {وَيُهَيِّئْ}: فعل مضارع معطوف على {يَنْشُرْ}. {لَكُمْ}: متعلق بـ {يُهَيِّئْ} {مِنْ أَمْرِكُمْ}: حال من {مِرْفَقًا} لأنه صفة نكرة تقدمت عليها {مِرْفَقًا}: مفعول به. {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}. {وَتَرَى الشَّمْسَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على

أيّ مخاطب، والجملة مستأنفة {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {تَرَى} ويجوز أن تكون شرطية متعلّقة بما بعدها {طَلَعَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الشَّمْسَ}، والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ {إِذا} {تَزاوَرُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الشمس، {عَنْ كَهْفِهِمْ}: متعلق به {ذاتَ الْيَمِينِ}: ظرف، ومضاف إليه، والإضافة فيه من إضافة المسمى إلى الاسم، والظرف متعلق بـ {تَزاوَرُ}، وجملة {تَزاوَرُ}: في محل النصب حال من الشمس، أي: وترى الشمس وقت طلوعها، متزاورة عن كهفهم، ذات اليمين؛ أي: جهة يمين الكهف، {وَإِذا غَرَبَتْ}: ظرف مجرد عن معنى الشرط، أضيف إلى الجملة، معطوف على قوله: {إِذا طَلَعَتْ} على كونه متعلقا بـ {تَرَى} {تَقْرِضُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الشَّمْسَ}. {ذاتَ الشِّمالِ}: ظرف متعلق بـ {تقرض}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {تَزاوَرُ} على كونها حالًا من {الشَّمْسَ} {وَهُمْ}: مبتدأ {فِي فَجْوَةٍ}: خبره {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {فَجْوَةٍ}، والجملة في محل النصب حال من هاء {تَقْرِضُهُمْ}. {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}. {ذلِكَ} مبتدأ {مِنْ آياتِ اللَّهِ}: خبره، والجملة مستأنفة {مِنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما {يَهْدِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {مِنْ} على كونه فعل الشرط لها، {فَهُوَ}: {الفاء} رابطة الجواب {هو} {الْمُهْتَدِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم بـ {مِنْ} على كونها جوابٌ لها، والجملة الشرطية مستأنفة، {وَمَنْ}: {الواو} عاطفة {مِنْ} اسم شرط مبتدأ، والخبر جملة الجواب كما مر آنفًا، {يُضْلِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مِنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله {فَلَنْ} {الفاء} رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {لن}. {لن تجد}: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على من يصلح للخطاب، {لَهُ} متعلق به

وَلِيًّا: مفعول به لـ {تَجِدَ} لأنه من وجد بمعنى أصاب {مُرْشِدًا}: صفة {وَلِيًّا}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مِنْ} على كونها جواب شرط لها، وجملة {مِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مِنْ} الأولى. {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}. {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا}: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة، {وَهُمْ}: {الواو} حالية {هُمْ}: مبتدأ {رُقُودٌ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من ضمير {تَحْسَبُهُمْ} {وَنُقَلِّبُهُمْ}: {الواو} عاطفة {نُقَلِّبُهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله سبحانه، {ذاتَ الْيَمِينِ}: ظرف متعلق بـ {نُقَلِّبُهُمْ} {وَذاتَ الشِّمالِ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {تَحْسَبُهُمْ} {وَكَلْبُهُمْ}: {الواو} حالية {كَلْبُهُمْ}: مبتدأ {باسِطٌ}: خبره {ذِراعَيْهِ}: مفعول {باسِطٌ} {بِالْوَصِيدِ} متعلق بـ {باسِطٌ} والجملة الاسمية في محل النصب حال من (هاء) {نُقَلِّبُهُمْ} {لَوِ} شرطية مبنية على سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال بحركة التخلص من التقاء الساكنين، {اطَّلَعْتَ}: فعل وفاعل فعل شرط، لـ {لَوِ} {عَلَيْهِمْ} متعلق به {لَوَلَّيْتَ}: {اللام} رابطة لجواب {لَوِ}. {وليت} فعل وفاعل جواب شرط لـ {لَوِ} {مِنْهُمْ} متعلق بـ {فِرارًا} {فِرارًا}: مفعول مطلق من معنى الفعل قبله؛ لأنه مرادفه في المعنى، ويجوز أن يعرب مصدرًا في موضع الحال، أي فارًا، وجملة {لَوِ} الشرطية مستأنفة، {وَلَمُلِئْتَ}: {الواو} عاطفة، {اللام}: واقعة في جواب {لَوِ}، {ملئت} فعل ونائب فاعل {مِنْهُمْ} متعلق بـ {رُعْبًا} {رُعْبًا}: تمييز محول عن نائب الفاعل، ورجح أبو حيان أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ {ملئت}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ}. {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}. {وَكَذلِكَ} {الواو} استئنافية {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف

تقديره: بعثناهم بعثًا كائنًا كإنامتنا إياهم المدة الطويلة في كون كل منهما آية من آياتنا {بَعَثْناهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة {لِيَتَساءَلُوا}: {اللام} حرف جر، وتعليل {يتساءلوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرةً بعد لام كي {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف حال، من {واو} الفاعل تقديره: حالة كونهم متنازعين بينهم، والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وكذلك بعثناهم لتساؤلهم بينهم {قالَ قائِلٌ}: فعل، وفاعل {مِنْهُمْ}: صفة لـ {قائِلٌ}، والجملة الفعلية مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، مسوقة لبيان التساؤل بينهم، {كَمْ} اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {لَبِثْنا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قائِلٌ} {يَوْمًا}: ظرف متعلق بـ {لَبِثْنا} {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: معطوف على {يَوْمًا} و {أَوْ} فيه للشك {قالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ}: مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قالُوا} {بِما} متعلق بـ {أَعْلَمُ} {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما لبثتموه {فَابْعَثُوا}: {الفاء} عاطفة على محذوف {ابعثوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فاتركوا التساؤل، وخذوا فيما هو أهم وأجدى، لنا في موقفنا هذا، فابعثوا {أَحَدَكُمْ}: مفعول به {بِوَرِقِكُمْ} متعلق بـ {ابعثوا} أو حال من أحدكم، والباء للملابسة؛ أي: ملتبسًا بها، ومصاحبًا لها {هذِهِ}: صفة لـ {ورقكم} {إِلَى الْمَدِينَةِ} متعلق بـ {ابعثوا}. {فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}. {فَلْيَنْظُرْ}: {الفاء} عاطفة و {اللام} لام الأمر {ينظر} فعل مضارع مجزوم بـ {لام} الأمر، وفاعله ضمير يعود على الأحد، والجملة معطوفة على جملة {فَابْعَثُوا} على كونها مقولا لـ {قالُوا} {أَيُّها} {أي} اسم استفهام؛ مبتدأ مرفوع، و {الهاء} ضمير المؤنثة، مضاف إليه {أَزْكى}: خبر المبتدأ {طَعامًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل

النصب سادة مسد مفعولي {ينظر} معلق عنها باسم الاستفهام، ويجوز أن يكون، أي: اسمًا موصولًا في محل النصب مفعول {ينظر}، والضمة فيه ضمة بناء لا إعراب {أَزْكى}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أيها هو أزكى طعامًا كما مر نظيره، في {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. {فَلْيَأْتِكُمْ}: {الفاء} عاطفة، و {اللام} لام الأمر {يأتي} فعل مضارع مجزوم بـ {الام} الأمر، وعلامة جزمه حذف الياء، وفاعله ضمير يعود على {الأحد}، و {الكاف} في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَلْيَنْظُرْ}. {بِرِزْقٍ} متعلق بـ {يأت} {مِنْهُ} صفة لـ {رزق} {وَلْيَتَلَطَّفْ}: {الواو} عاطفة و {اللام} لام الأمر {يتلطف} فعل مضارع مجزوم بـ {لام} الأمر، وفاعله ضمير يعود على {الأحد}، والجملة معطوفة على جملة {فَلْيَأْتِكُمْ} {وَلا}: {الواو} عاطفة {لا} ناهية جازمة، {يُشْعِرَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {الأحد} {بِكُمْ} متعلق بـ {يُشْعِرَنَّ} {أَحَدًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ}. {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه {إِنْ}: حرف شرط جازم، {يَظْهَرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {يَظْهَرُوا} {يَرْجُمُوكُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول مجزوم، بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جواب شرط لها؛ {أَوْ يُعِيدُوكُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول معطوف على {يَرْجُمُوكُمْ} {فِي مِلَّتِهِمْ} متعلق بـ {يُعِيدُوكُمْ} أي: يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالُوا} على كونها مستأنفة «مسوقة» لتعليل قوله: {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} {وَلَنْ}: {الواو} عاطفة {لَنْ} حرف نصب {تُفْلِحُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {لَنْ} {إِذًا}: حرف جواب وجزاء مهمل، مقدر بـ {أن} أو بـ {لو} الشرطيتين {أَبَدًا}: ظرف مستغرق للزمان المستقبل منصوب بفتحة ظاهرة متعلق بـ {تُفْلِحُوا}، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب.

التصريف ومفردات اللغة {عِوَجًا} وفي «القاموس» وغيره من معاجم اللغة، عوج بكسر الواو، ويعوج بفتحها - من باب تعب - عوجًا، العود، ونحوه انحنى، والإنسان ساء خلقه، فهو أعوج، والعوج بكسر، ففتح الاسم من عوج: الالتواء، وعدم الاستقامة، ولم تفرّق هذه المعاجم بينهما، وفي «الأساس» - يقصد أساس البلاغة -: يقال في العود: عوج بفتحتين، وفي الرأي عوج بكسر، ففتح ففرّق بينهما، وهذا هو الحق بدليل الآية، فالعوج بكسر ففتح في المعاني، كالعوج بفتحتين في الأعيان، فالعوج في الآية بكسر، ففتح، الانحراف، والميل عن الاستقامة، فلا خلل في لفظه، ولا تناقض في معناه. قَيِّمًا؛ أي: مستقيما (¬1) معتدلًا، لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف، حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه بإهمال ما تمس الحاجة إليه، أو قيّمًا بمصالح العباد، فيكون وصفا للكتاب بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو قيمًا على الكتب السابقة، مصدقًا لها شاهدًا بصحتها. وفي «القاموس» و «التاج» و «اللسان»: القيم (¬2) على الأمر متوليه، كقيم الوقف، وغيره، وقيم المرأة زوجها، وأمر قيم مستقيم، والديانة القيمة؛ المستقيمة، وفي التنزيل: {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ أي: دين الأمة القيمة، ويتعدى بـ {الباء} وبـ {على} {والبأس الشديد} العذاب في الآخرة {مِنْ لَدُنْهُ} أي من عنده. {باخِعٌ نَفْسَكَ}، أي: قاتلها ومهلكها قاله ابن عباس، وأنشد قول لبيد: لعَلَّكَ يومًا إن فَقَدْتَ مَزارَهَا ... عَلَى بُعْدهِ يومًا لنفسكَ باخعُ يقال: بخع الرجل نفسه يبخعها - من باب نفع - بخعًا، وبخوعًا أهلكها وجدًا. وقال الليث (¬3): بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده، وأنشد قول الفرزدق: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) القاموس واللسان. (¬3) البحر المحيط.

ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيءٍ نحته عن يديهِ المقاديرُ أي: نحَّته بشد الحاء فخفف. {عَلى آثارِهِمْ}؛ أي: من بعدهم؛ أي: من بعد توليهم عن الإيمان، وتباعدهم عنه. {صَعِيدًا}؛ أي: ترابًا، أو فتاتًا يضمحلُّ بالرياح، لا اليابس الذي يرسب. {جُرُزًا} بضمتين والجرز: الذي لا نبات فيه فهو حائل البهجة، باطل الزينة، ويقال (¬1): سنة جرزٌ، وسنون أجرازٌ لا مطر فيها، وأرضٌ جرز، وأرضون أجرازٌ لا نبات بها، وجرزت الأرض إذا ذهب نباتها بقحط، أو جراد، وجرز الجراد الأرض أكل ما فيها، والجروز المرأة الأكولة: قال الرّاجز: إنَّ العجوز حيَّةٌ جروزا ... تأكل كُلَّ ليلةٍ قفيزَا اهـ «سمين». وجرزه الزمان اجتاحه. {أَمْ حَسِبْتَ} أم: حرف يدل على الانتقال من كلامٍ إلى آخر. وهو بمعنى {بل}، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أحسبت والخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد غيره كما سبق نظيره. {أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ} والكهف النَّقبُ المُتَّسع في الجبل فإن لم يكن متّسعًا، فهو غار، والجمع كهوف في الكثرة، وأكهف في القلّة {وَالرَّقِيمِ} لوح حجري رقمت فيه أسماؤهم كالألواح الحجرية المصرية، التي يذكر فيها تاريخ الحوادث، وتراجم العظماء، وفي «القاموس» الرّقيم: الكتاب المرقوم، ورقم يرقم من باب نصر الكتاب بيّنه، وأعجبه بوضع النقط، والحركات، وغير ذلك ورقم الثوب خططه، والبعير كواه، والخبز نقشه، ويقولون: فلانٌ يرقم على الماء لمن يكون ذا حذق في الأمور. {عَجَبًا} والعجب: كل ما يتعجب منه لحسنه، أو قبحه، والتعجب انفعال يحدث في النفس، عند الشعور بأمرٍ خفي سببه، ولهذا يقال: إذا ظهر السّبب ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بطل العجب، ولا يطلق على الله أنه متعجب إذ لا شيء يخفى عليه. {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ}، أي نزلوه، وسكنوه، والتجؤا إليه، يقال: أوى إلى منزله من باب شرب إذا نزله بنفسه، وسكنه، والمأوى لكل حيوان سكنه. اهـ من «المصباح» و «القاموس». والفتية جمع فتيّ كصبي وصبية اهـ «بيضاوي» وفي «المصباح» مثله، وفي «القاموس» وفتيٌ كغني، الشاب من كل شيء اهـ. وقد كانوا من أبناء أشراف الروم، وعظمائهم لهم أطواق وأسورة من الذهب. {وَهَيِّئْ لَنا}؛ أي: يسر لنا {رَشَدًا}: والرشد بفتحتين، وضم فسكون: الهداية إلى الطّريق الموصل للمطلوب {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ}؛ أي: أنمناهم نومًا شديدًا من ضربت على يده، إذا منعته من التصرف، وإرادة هذا المعنى على طريق الاستعارة التبعية، كما سيأتي في مبحث البلاغة {عَدَدًا}؛ أي: ذوات عدد، والمراد: التكثير؛ لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبًا. {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ}؛ أي: أيقظناهم، وأثرناهم من نومهم {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} والحزبان: هما الحزب القائل: لبثنا يومًا، أو بعض يوم، والحزب القائل: ربكم أعلم بما لبثتم. {أحصى أمدا} فعل ماض لا اسم تفضيل، كما قيل: يقال: أحصى الشيء إذا حفظه، وضبطه، قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي ليس بقياس اهـ. والأمد مدّةٌ لها حد ونهاية، {نَبَأَهُمْ} النّبأ الخبر العظيم {بِالْحَقِّ}، أي: بالصدق {وَرَبَطْنا} والربط: الشدُّ، وربطت الدابة: شددتها بالرباط، والمربط الحبل، وربط الله على قلبه؛ أي: قوّى عزيمته {إِذْ قامُوا}؛ أي: وقفوا بين يدي ملكهم الجبار، دقيانوس {إِلهًا}؛ أي: معبودًا آخر لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، شَطَطًا وقال الفراء: إشتط في الشؤم جاوز القدر، وشط المنزل إذا بعد شطوطًا، وشط الرجل، وأشط جار، وشطّت الجارية شطاطًا، وشطاطة طالت.

{اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}؛ أي: نحتوا أصنامًا وعبدوها، والسّلطان الحجّة. والبيّن: الواضح {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} والاعتزال والتعزل تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب. {مِرْفَقًا} بكسر الميم، وفتح الفاء، وبالعكس، وقد قرىء بهما ما ترتفقون به من غداء وعشاء، أي: تنتفعون قال في «أساس البلاغة»: (وارتفقت به) انتفعت ومالي فيه مرفقٌ ومرفقٌ، وما فيها مرفقٌ من مرافق الدار نحو المتوضأ، والمطبخ، وقيل: بالكسر في الميم لليد وبالفتح للأمر، وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر حكاه الأزهري عن ثعلب. {تَزاوَرُ}؛ أي: تمايل: أصله تتزاور: فخفف بإدغام التاء في الزاي، أو حذفها {تَقْرِضُهُمْ}: تقطعهم، وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة مأخوذ من معنى القطيعة قال الكسائي: يقال: قرضت المكان إذا عدلت عنه، ولم تقربه {فَجْوَةٍ}: متّسع من الفجاء، وهو تباعد ما بين الفخذين، ويقال: رجل أفجأ، وامرأة فجواء وجمع الفجوة، فجاء لقصعة وقصاع {أَيْقاظًا}: جمع يقظ بضم القاف وكسرها، وهو المنتبه، وجمعه أيقاظ كعضد، وأعضاد، ويقاظ كرجل، ورجال. ورجل يقظان، وامرأة يقظى {وَهُمْ رُقُودٌ}: جمع راقد، أي: نائم كقعود وقاعد، وجلوس وجالس {الوصيد}: فناء الكهف {رُعْبًا}؛ والرعب: الخوف يملأ الصدر. {بِوَرِقِكُمْ} الورق بفتح {الواو} وكسر الراء {الفضة} مضروبة كانت أو غير مضروبة {أَيُّها أَزْكى} أي: أطيب وأجود، وفي «القاموس»: زكا يزكو زكاء وزكوًا الزرع نما، والأرض طابت. والزكيّ ما كان ناميًا طيّبًا صالحًا {وَلْيَتَلَطَّفْ}؛ أي: يتكلف اللطف في المعاملة، كي لا تقع خصومة تجر إلى معرفته، {وَلا يُشْعِرَنَّ}؛ أي: لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم، {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}؛ أي: إن يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التكرير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} فإنّ نفي العوج معناه: إثبات الاستقامة، وإنما جنح إلى التكرير: لفائدة منقطعة النظير، وهي التأكيد والبيان، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، مجمع على استقامته، ومع ذلك، فإن الفاحص المدقق قد يجد له أدنى عوج، فلما أثبت له الاستقامة، أزال شبهة بقاء ذلك الأدنى، الذي يدق على النظرة السطحية الأولى. ومنها: المطابقة في هذه الآية فقد طابق سبحانه بين العوج، والاستقامة، فجاء الكلام حسنًا، لا مجال فيه لمنتقد. ومنها: الطباق بين {يُبَشِّرَ} و {لِيُنْذِرَ} وبين {يَهْدِ} و {يُضْلِلْ} وبين {أَيْقاظًا} و {رُقُودٌ} وبين {ذاتَ الْيَمِينِ} و {ذاتَ الشِّمالِ}. ومنها: نفي الشيء بإيجابه في قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} وله تسمية أخرى وهي عكس الظاهر، وهو من مستطرفات علم البيان، وهو أن تذكر كلامًا يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف، وهي نفي للموصوف أصلًا، ولقائل أن يقول: إنّ اتّخاذ الله ولدًا هو في حد ذاته محال، فكيف ساغ قوله: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}؟ قلنا: إن الولد في حدّ ذاته محالٌ لا يستقيم تعلق العلم به، ولكنه ورد على سبيل التهكم، والاستهزاء بهم. ومنها: الإطناب بذكر الخاص في قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ} بعد ذكر العام في قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} لشناعة دعوى الولد لله. وفيه من بديع الحذف، وجليل الفصاحة حذف المفعول الأول في قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا}؛ أي: لينذر الكافرين بأسًا شديدًا، ثم ذكر المفعول الأول، وحذف الثاني في قوله {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)}؛ أي: عذابًا شديدًا، فحذف العذاب لدلالة الأول عليه، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني

عليه، وهذا من ألطف الفصاحة، فيكون في الكلام احتباك. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ} حيث شبّه حاله - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين، وهو آسف من عدم هدايتهم بحال من فارقته أحبته، فهمّ بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجدًا وحزنًا عليهم. ومنها: المجاز في قوله: {صَعِيدًا جُرُزًا} فإن الجرز حقيقة في الأرض التي قطع نباتها، فجعله هنا وصفا لما عليها من النبات، فكأنّه مجازٌ، علاقته المجاورة ذكره في «الفتوحات». ومنها: الاستعارة التصريحية التّبعيّة في قوله: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان، ثمّ استعير الضرب للإنامة، ثم اشتقّ من الضرب بمعنى الإنامة {ضربنا} بمعنى: أنمنا على طريق الاستعارة التّصريحية التبعية. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} للتنصيص على وصفهم، وسنهم، فكانوا في سن الشباب مردًا، وكانوا سبعة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا. ومنها: الطباق المعنوي بين {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} {ثُمَّ بَعَثْناهُمْ} لأن معنى الأول: أنمناهم، والثاني: أيقظناهم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ} لأن الربط في الأصل: هو الشد بالحبل، والمراد هنا: شددنا على قلوبهم، كما تشد الأوعية، بالأوكية؛ أي: قوينا على قلوبهم، بالصّبر على هجر الأوطان، والفرار بالدين إلى الكهوف، والغيران، وافتراش صعيدها، وجسرناهم على قول الحق، والجهرية أمام دقيانوس الجبار. ومنها: الجناس الناقص بين {قامُوا} و {قالوا}. ومنها: التشبيه في قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا}؛ لأن التشبيه هنا جاءت الأداة فيه فعلًا من أفعال الشك واليقين، تقول: حسبت زيدًا في جرأته الأسد،

وعمرًا في جوده الغمام، وفي الآية: تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بالأيقاظ في بعض صفاتهم، لأنه قيل: إنّهم كانوا مفتّحي العيون في حال نومهم. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} لأن اسم الفاعل هنا بمعنى الماضي، وعمل في ذراعيه النصب على إرادة حكاية الحال الماضية، كما قاله الكسائي، ومن تبعه؛ أي: إنه تقدّر الهيئة الواقعة في الزمن الماضي، واقعة في حال التكلم، والمعنى: يبسط ذراعيه، فيصح وقوع المضارع موقعه بدليل أن الواو في {وَكَلْبُهُمْ} واو الحال، ولذا قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ} بالمضارع الدالِّ على الحال، ولم يقل وقلبناهم بالماضي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (23) ...} الآيتين (¬1)، جاءت هاتان الآيتان إرشادًا، وتأديبًا من الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه بأنه إذا أراد أن يخبر عن شيء سيفعله في مستقبل الأيام، أن يقرن قوله بمشيئة علّام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما سيكون. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[21]

وجاءتا معترضتين أثناء القصة؛ لما تضمّنتاه من تعليم عباده تفويض الأمور كلها إليه، سبحانه، وبيان أنه لا يحدث في ملكه إلا ما يشاء. قوله تعالى: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر قصص أهل الكهف، ودل اشتمال القرآن عليه على أنه وحي من علام الغيوب .. أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمواظبة على درسه وتلاوته، وأن لا يكترث بقول القائلين له ائت بقرآن غير هذا، أو بدّله، ثمّ ذكر ما يلحق الكافرين من النكال، والوبال يوم القيامة، وما ينال المتقين من النعيم المقيم، كفاء ما عملوا من صالح الأعمال. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ ...} الآيتين، روي أن هاتين الآيتين نزلتا حين سألت قريشٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: «غدا أخبركم» ولم يستثن - لم يقل إن شاء الله - فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يومًا، فشق ذلك عليه، وكذبته قريش. قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ...} سبب نزوله: ما أخرجه ابن مردويه، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في أميّة بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنده سلمان، فقال عيينة: إذا نحن أتيناك فأخرج هذا، وأدخلنا، فنزلت الآية. التفسير وأوجه القراءة 21 - {وَكَذلِكَ}؛ أي: وكما أنمناهم، وبعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا ليتساءلوا بينهم، فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى، ومعرفة حسن دفاع

الله عن أوليائه {أَعْثَرْنا}؛ أي: أطلعنا {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أحوال أهل الكهف الفريق الذين كانوا في شك من قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وفي مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى {لِيَعْلَمُوا}؛ أي: ليعلم الفريق الذين أعثرناهم على أحوالهم العجيبة، وهم الملك ورعيته {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} تعالى بالبعث للروح، والجثة معا {حَقٌّ}؛ أي: صدق لا شك فيه، بطريق أن القادر على إنامتهم مدة طويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى، قال بعض العارفين: اليقظة بعد النوم علامة على البعث بعد الموت. {وَ} ليوقنوا {أَنَّ السَّاعَةَ}؛ أي: القيامة مع ما فيها من الحساب والجزاء آتية {لا رَيْبَ فِيها}؛ أي: لا شك في مجيئها، إذ لا حجّة لمن أنكرها إلا الاستبعاد، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم، وعلمهم به مما يخفف من غلوائهم، ويكبح جماح إنكارهم، ويردهم إلى رشدهم. ذلك أن حال هؤلاء الفتية في تلك الحقبة الطويلة، وقد حبست عن التصرف نفوسهم، وعطلت مشاعرهم وحواسهم، وحفظت من التحلل والتفتت أبدانهم، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب، ثمّ رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها، وأطلقت النّفوس من عقالها، وأرسلت إلى تدبير أبدانها، فرأت الأمور كما كانت، والأعوان هم الأعوان، ولم تنكر شيئًا عهدته في مدينتها، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف في شؤونها، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم، وحبست نفوسهم، من واد واحد في الغرابة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل، أو معاندٌ، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني، ولا يبقى بعد ذلك شك في أن وعد الله حق، وأنّ الله سيبعث من في القبور، فيرد عليهم أرواحهم، ويجازيهم جزاء وفاقًا بحسب أعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير. والظرف في قوله: {إِذْ يَتَنازَعُونَ} متعلق بـ {أَعْثَرْنا}؛ أي: وكذلك أعثرنا الناس - بيدروس وقومه - على أصحاب الكهف، حين يتنازعون، أي: يتنازع الناس

بعضهم بعضًا فيما {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}؛ أي: في (¬1) أمر بعثهم، فمن مقر به وجاحد له، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد، ففرح الملك، وفرحوا بآية الله على البعث، وزال ما بينهم من الخلاف في أمر القيامة، وحمدوا الله إذ رأوا ما رأوا ممّا يثبتها ويزيل كل ريب فيها. والمعنى: أي (¬2) أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل: في أمر أصحاب الكهف، في قدر مكثهم، وفي عددهم، وفيما يفعلونه بهم بعد أن اطلعوا عليهم {فَقالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أصحاب الكهف {بُنْيانًا} يسترهم عن أعين الناس لئلا يتطرق الناس إليهم، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم، وهم أحياء أمات الفتية، فانقسموا في شأنهم فريقين: فريق يقول: نسد عليهم باب الكهف، ونذرهم حيث هم، وفريق يقول: نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول في الرأي، كما سيأتي. ثم قال سبحانه حاكيًا لقول المتنازعين فيهم، وفي عددهم، وفي مدة لبثهم، وفي غير ذلك مما يتعلق بهم، {رَبُّهُمْ}؛ أي: رب أصحاب الكهف {أَعْلَمُ بِهِمْ}؛ أي: أعلم بعددهم، وبمدة لبثهم من هؤلاء المتنازعين فيهم، قالوا ذلك تفويضًا للعلم إلى الله سبحانه، وقيل: هذه الجملة معترضةٌ من كلام الله تعالى، ردًّا لقول الخائضين فيهم، ممن أعثروا عليهم، أو ممن كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، في بيان أنسابهم، وأسمائهم، وأحوالهم، ومدة لبثهم؛ أي: دعوا ما أنتم فيه من التنازع، فإنّي أعلم بهم منكم. وقال بعض المفسرين (¬3): والظرف في قوله: {إِذْ يَتَنازَعُونَ} متعلق بـ {اذكر} مقدرًا، وقال: هو الأظهر، والأنسب لترتيب {الفاء} الآتية عليه، ويكون كلامًا منفصلًا عما قبله، ويؤيّده أن الإعثار، ليس في زمن التنازع، بل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

قبله، والمتنازعون هم: قوم بيدروس، والمعنى: أي: واذكر يا محمد قصة حين يتنازع قوم بيدروس فيما بينهم، في تدبير أمر أصحاب الكهف، حين توفاهم الله ثانيا بالموت كيف يخفون مكانهم، وكيف يستر الطريق إليهم، {فَقالُوا}؛ أي: بعض أهل المدينة {ابْنُوا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على باب كهفهم {بُنْيانًا} كي لا يعلم أحد تربتهم، وتكون محفوظة من تطرق الناس، كما حفظت تربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحظيرة، قائلين: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}؛ أي: بحالهم وشأنهم، لا حاجة إلى علم الغير بمكانهم. ويمكن (¬1) أن يجاب عن صاحب هذا القول، بأن يقال: إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم، قرنا بعد قرن، منذ أووا إلى الكهف، إلى وقت الإعثار، ويؤيد ذلك، أن خبرهم كان مكتوبًا على باب الغار، كتبه بعض المعاصرين، وهم من المؤمنين الذين يخفون إيمانهم من دقيانوس ملكهم كما قاله المفسرون. {قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ}؛ أي: على أمر أهل الكهف، وتدبير شأنهم، وهم (¬2): الملك والمسلمون، أو أولياء أصحاب الكهف، أو رؤساء البلد، وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي {غُلِبُوا} بضم الغين، وكسر اللام ذكره في «البحر». {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}؛ أي: لنبنيّن على باب كهفهم مسجدًا يصلي فيه المسلمون، ونستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد، قال الزجاج: وهذا يدل على أنّه لما ظهر أمرهم، غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنّ المساجد للمؤمنين؛ أي: كانت الكلمة لهم، وكان كلامهم هو النافذ، لأن ملك الوقت كان من جملتهم، وكان مسلمًا، وأما الملك الذي خرجوا هاربين منه .. فقد مات في مدة نومهم. اهـ شيخنا. فصل وقد ذكر العلماء: أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه، أشدّ النهي، حتى ذكر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[22]

ابن حجر في كتابه «الزواجر»: أنه من الكبائر، لما روي في صحيح الأخبار من النهي عن ذلك، روى أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله تعالى زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك». وروى الشيخان، وأحمد، والنسائي، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق يوم القيامة». وروى أحمد والطبراني: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة. اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وثبتهم في أمر دينهم، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم، حذو القذّة بالقذّة، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون في الصدر الأول وما بعده، فرجاله هم الأسوة، وقد صحّ أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما وجد قبر دانيال في عهده بالعراق، أمر أن يسوى بالأرض، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها من الأخبار. 22 - ولما ذكر سبحانه القصة، ونزاع المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقص علينا ما دار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخلاف في عدد أصحاب الكهف. فقال: {سَيَقُولُونَ} الخ، والضمائر (¬1) في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب والمسلمين، لكن لا على وجه إسناد كل قول إلى كل منهم، بل على التوزيع، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحاب الكهف، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارًا بما سيجري بينهم من اختلافهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قيل: وإنما أتى (¬1) بالسين في هذا، لأن في الكلام طيًّا وإدماجًا، تقديره: فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم سيقولون، ولم يأت بهم في باقي الأفعال، لأنها معطوفة على ما فيه السين، فأعطيت حكمه من الاستقبال. اهـ «سمين»؛ أي: سيقول عبيد الله (¬2) اليهود لك يا محمد عند سؤالك إياهم عن عدد أصحاب الكهف: هم؛ أي: أصحاب الكهف: {ثَلاثَةٌ}؛ أي: ثلاثة أشخاص، وقرأ ابن محيصن، {ثلاث} بإدغام الثّاء في التاء، وحسن ذلك لقرب مخرجهما، وكونهما مهموسين؛ لأنّ الساكن الذي قبل (الثّاء) من حروف اللين فحسن ذلك، ذكره في «البحر»، وجملة قوله: {رابِعُهُمْ}؛ أي: جاعلهم أربعة، بانضمامه إليهم، {كَلْبُهُمْ} في محل نصب على الحال من (ثلاثة)؛ أي: حالة كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم. {وَيَقُولُونَ}؛ أي: النصارى، وإنما لم يأت بالسين فيه؛ اكتفاء بعطفه على ما هي فيه: هم {خَمْسَةٌ}؛ أي: أصحاب الكهف خمسة أشخاص، وقرأ شبل بن عباد، عن ابن كثير، بفتح ميم خمسة، وهي لغة كعشرة، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم، وبإدغام التاء في السين، وعنه أيضًا: إدغام التنوين في السين، بغير غنة ذكره في «البحر». وجملة قوله: {سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} في محل نصب على الحال من خمسة؛ أي: حالة كونه جاعلهم ستة كلبهم بانضمامه إليهم، {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}؛ أي: يقول كلا الفريقين ما قالوا من العدد رجمًا بالغيب، أي: ظنًّا بالغيب؛ أي: بما خفي عنهم من غير دليل، ولا برهان، وانتصابه على الحالية من الضمير في الفعلين معًا؛ أي: يقول كلا الفريقين ما قالوا حالة كونهم راجمين بالغيب؛ أي: ظانين بالخبر الخفي عنهم، أو على المصدرية منهما، فإن الرجم والقول واحد؛ أي: يرجمون ذلك رجمًا بالغيب؛ أي: يقولونه قولًا بالغيب. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

والحاصل: أن المقصودين بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين، القائلين بأنهم ثلاثة، والقائلين بأنهم خمسة، {وَيَقُولُونَ}؛ أي: المسلمون هم {سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وقرىء: {وثامنهم كالبهم}؛ أي: صاحب كلبهم، وهذا هو الحقّ، بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنّهما رجم بالغيب، فأرشد ذلك إلى أن الحال في الأخير بخلافه، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس، بطريق التلقن من الوحي؛ لأن الوحي مقدم على المقالة المذكورة على ما يدل عليه السين، فعرفوا ذلك بإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عليه السلام. و {الواو} (¬1) الداخلة على الجملة الثالثة هي {الواو} التي تدخل على الجملة الواقعة صفة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالًا عن المعرفة، في قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، وفائدتها: توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه {الواو} هي التي أذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأوّلين قوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، وأتبع القول الثالث قوله: {قُلْ} يا محمد - تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين -: {رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} منكم؛ أي: عالم بعدد أصحاب الكهف، وقد أخبركم بها، بقول: سبعة، وثامنهم كلبهم. والمعنى: هو سبحانه أقوى علمًا، وأزيد في الكيفية، فإنّ مراتب اليقين متفاوتة في القوة، ولا يجوز أن يكون التفضيل بالإضافة إلى الطائفتين الأوليين، إذ لا شركة لهما في العلم، اهـ «كرخي» ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال: {ما يَعْلَمُهُمْ}؛ أي: ما يعلم ذواتهم فضلًا عن عددهم، أو ما يعلم عددهم فهو على حذف مضاف، {إِلَّا قَلِيلٌ} من الناس قد وفقهم الله تعالى، وهم القائلون: هم سبعة، وثامنهم كلبهم. ¬

_ (¬1) النسفي.

روى قتادة عن ابن عباس أنه قال: أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى، كانوا سبعة سوى الكلب. وفي هذا (¬1): دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد، بل المهم الاعتبار بذلك القصص، وبما يكون نافعا لعقولنا، وتطهيرا لأخلاقنا، ورقيا في حياتنا الدنيوية، والأخروية، وفي «الفتوحات»: المثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية بالمعنى الذي عرفته، وفي حق القليل العالمية، فلا تعارض، وهذا هو الحق، لأنّ العلم بتفاصيل كائنات العالم وحوادثه في الماضي والمستقبل لا يحصل إلا عند الله تعالى، أو عند من أخبره الله تعالى عنها، اهـ رخى». وبعد أن ذكر سبحانه هذا القصص نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن شيئين: المراء في أمرهم، والاستفتاء في شأنهم، فقال: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ}، والفاء لتفريع (¬2) النهي على ما قبله؛ أي: إذا عرفت جهل أصحاب القولين الأولين، فلا تجادلهم، ولا تنازعهم {فِيهِمْ}؛ أي: في شأن أصحاب الكهف {إِلَّا مِراءً ظاهِرًا}؛ أي: إلّا جدالًا ظاهرًا غير متعمق فيه، ونزاعًا سهلًا لينًا، وهو أن تقصّ عليهم ما في القرآن من غير تكذيب لهم، في تعيين العدد، ولا تصريح لهم بجهلهم، وتفضيح لهم، فإنه ممّا يخل بمكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها، ولا يترتب على ذلك كبير فائدة؛ لأن المقصد من القصة هو العظة والاعتبار، ومعرفة أن البعث حاصل لا محالة، وهذا لا يتوقف على عدد معين، بل تقول هذا التعيين لا دليل عليه، ونحو الآية قوله: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ}؛ أي: ولا تسأل في شأن أصحاب الكهف {مِنْهُمْ أَحَدًا}؛ أي: أحدًا من أهل الكتاب، فإنّهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجمًا بالغيب من غير استناد إلى دليل قاطع، ولا نص صريح، وقد جاءك ربك بالحق الذي لا مرية فيه، فهو الحكم المقدم على كل ما تقدم من الكتب والأقوال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

السالفة، وفي الآية (¬1) دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم. 23 - وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ} نهي تأديب؛ أي: ولا تقولنّ يا محمد {لِشَيْءٍ}؛ أي: لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، {إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ} الشيء {غَدًا}؛ أي: فيما يستقبل من الزمان مطلقًا، فيدخل فيه الغد، وهو اسم لليوم الذي بعد يومك، دخولًا أوليًا، فإنّه نزل حين قالت اليهود لقريش، سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فسألوه - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ائتوني غدًا أخبركم» ولم يستثن؛ أي: لم يقل إن شاء الله، وتسميته استثناءً لأنه يشبه الاستثناء في التخصيص، فأبطأ عليه الوحي أيامًا حتى شق عليه، وكذبته قريش، وقالوا ودّعه ربه وأبغضه، كما مر في أسباب النزول، 24 - {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}؛ أي: إلّا قائلًا إن شاء الله تعالى، فهو استثناء مفرّغٌ من النهي؛ أي: لا تقولن لشيء: إنّي فاعل ذلك غدًا في حال من الأحوال، إلّا في حال تلبسك بالتعليق بالمشيئة على الوجه المعتاد، كأن تقول: إن شاء الله. والمعنى: أي ولا تقولنّ أيها الرّسول لشيء: إنّي سأفعل ذلك غدًا إلّا أن تقول: إن شاء الله، ذاك أنه ربّما مات المرء قبل مجيء الغد، أو ربما عاقه عائق عن فعله، فإذا لم يقل: إن شاء الله .. صار كاذبًا في ذلك الوعد، ونفر الناس منه. قال ابن الجوزي (¬2): وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب، إذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله: في قصة موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا}، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه اهـ. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} يا محمد؛ أي: واذكر مشيئة ربّك؛ أي: قل إن شاء الله {إِذَا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

[25]

نَسِيتَ} المشيئة، أولًا؛ أي (¬1): واذكر مشيئة ربّك إذا فرط منك نسيان، ثم تذكرت ذلك، وهذا أمر بالتدارك حين التذكر سواء أطال الفصل أم قصر. أو المعنى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} بالتسبيح والاستغفار، وغيرهما {إِذا نَسِيتَ} كلمة المشيئة، وهذا مبالغة في الحث على ذكر هذه الكلمة. وقد حقق الله سبحانه له ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وخلاصة ذلك: اطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدك إليه خيرًا، ومنفعة في ضمن ما ألقى إليك من الأوامر، والنواهي، وقد استجاب الله دعاءه، فهداه فيما أنزل عليه ما هو خير منفعة، وأجدى فائدة للمسلمين، في دنياهم وآخرتهم، وآتاهم من الخير العميم ما جعلهم به خير أمة أخرجت للناس، وقيل (¬2): الإشارة إلى قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ}؛ أي: عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر، بدل هذا المنسيّ، وأقرب منه رشدًا، وأدنى منه خيرًا ومنفعة، والأولى أولى. 25 - ثم بيّن سبحانه ما أجمل في قوله: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)} فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ}؛ أي: لبث الفتية في كهفهم أحياء نيامًا حين ضربنا على آذانهم، {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} فقط؛ أي: ثلاث مئة سنةٍ فقط، على حساب أهل الكتاب الذين علّموا قومك السؤال عن شأنهم؛ لأنّ السّنين عندهم شمسيّةٌ {وَازْدَادُوا تِسْعًا}؛ أي: وازداد أصحاب الكهف في لبثهم تسع سنوات على ثلاث مئة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، فجملة ما لبثوا في كهفهم على حساب قومك، ثلاث مئة سنة وتسع سنوات، لأنّ السنين عندهم قمريةٌ، ولا شك (¬3) أنّ في هذا البيان معجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - النبي الأمي، الذي لم يقرأ، ولم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[26]

يكتب، ولم يدرس الحساب، ولا الهندسة ولا الفلك، فمن أين له أن كل مئة سنة شمسية، تزيد ثلاث سنين قمرية، وكلّ ثلاث وثلاثين سنةً شمسيةً تزيد سنةً قمريةً، وكل سنة شمسية تزيد عشرة أيامٍ، وإحدى وعشرين ساعةً، وخمس ساعة على السنة القمرية. والسنة الشمسية (¬1): مدّة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من ذلك البرج، وذلك ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم. والسنة القمرية: اثنا عشر شهرًا قمريًا، ومدتها ثلاث مئة وأربعة وخمسون يومًا وثلث يوم، وقرأ الجمهور {مِائَةٍ} بالتنوين، فسنين بدل أو عطف بيان لثلاث مئة لا تمييز (¬2)، وإلا لكان أقل مدة لبثهم عند الخليل ست مئة سنة، لأن أقلّ الجمع عنده اثنان، وعند غيره تسع مئة، لأن أقله ثلاثة عندهم، هذا على قراءة {مئةٍ} بالتنوين، وأمّا على قراءة الإضافة، فأقيم الجمع مقام المفرد؛ لأنّ حق المئة أن يضاف إلى المفرد، وجه ذلك: أن المفرد في ثلاث مئة درهم في المعنى جمع، فحسن إضافته إلى لفظ الجمع، كما في الأخسرين أعمالًا فإنه ميّز بالجمع. وقرأ حمزة (¬3)، والكسائي، وطلحة، ويحيى، والأعمش، والحسن، وابن أبي ليلى، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي: {مئة} بغير تنوين مضافًا إلى سنين، أوقع الجمع موقع المفرد، كما مر آنفًا، وقرأ أُبيٌّ {سنة} وكذا في مصحف عبد الله، وقرأ الضحاك: {سنون} بالواو على إضمار، هي سنون، وقرأ الحسن، وأبو عمرو، في رواية اللؤلؤي عنه {تسْعا} بفتح التاء كما قالوا عشر، 26 - ثم أكد أن المدّة المضروبة على آذانهم، هي هذه المدة، فقال: {قُلِ} لهم يا محمد إذا نازعوك فيما ذكرنا: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منكم {بِما لَبِثُوا}؛ أي: بمدة لبثهم، وقد أخبرنا بمدّته، فهو الحق الذي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

لا يحوم حوله شك، وقال البغويُّ: وهذه الجملة مرتبة على محذوف تقديره: إن الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا، فإن نازعوك فيها فأجبهم، و {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا}؛ أي: بالزمان الذي لبثوا فيه، لأن علم الخفيّات مختص به تعالى، ولذلك قال: {لَهُ} سبحانه وتعالى خاصة {لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، أي: علم ما غاب عن أهل الأرض، والسموات فيهما، يعني: أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها، فإنه العالم وحده به، فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف، لا يعزب عنه علم شيء منه، فسلّموا له علم ما لبثت به الفتية في الكهف، وإذا علم الخفي فيهما، فهو بعلم غيره أدرى. ومن ذلك العلم الغائب على كثير من العقول، حساب السنة الشمسية والقمرية، فقد غيّبه الله عن بعض الناس، ولم يطلع عليه إلّا العارفين بحساب الأفلاك، ومن ثم يعجبون من أمر نبيهم، ويعلمون أنّ هذا مبدأ زينة الأرض وزخرفها. وفائدة تأخير بيان مدة لبثهم (¬1): الدلالة على أنهم تنازعوا فيها أيضًا، كما تنازعوا في عددهم على أن هذا البيان من الغيب الذي أخبر الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة له، وجاء قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا} تذييلًا لسابقه ليكون محاكيًا قوله في حكاية عددهم {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}. ثم زاد في المبالغة والتأكيد، فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال: {أَبْصِرْ بِهِ} سبحانه وتعالى {وَأَسْمِعْ} به تعالى؛ أي: ما أبصر الله سبحانه وتعالى بكل موجود، وأسمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهذا أمر عظيم من شأنه أن يتعجّب منه، وقد ورد مثل هذا في الحديث «سبحانك ما أحلمك عمن عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك». فأفاد هذا التركيب التعجب من علمه سبحانه وتعالى، ودل على (¬2) أن شأنه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[27]

سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين، وأنّه يستوي في علمه الغائب والحاضر، والخفي والظاهر، والصغير والكبير، واللطيف والكثيف، وكأن أصله: ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء، و {الباء} زائدة عند سيبويه، وخالفه الأخفش، والبحث عنه مقرر في علم النحو، وسنذكر طرفًا منه في مبحث الإعراب، وقرأ عيسى {أسمع به وأبصر} على الخبر فعلًا ماضيًا لا على التعجب؛ أي: أبصر عباده بمعرفته، وأسمعهم، و {الهاء} كناية عن الله تعالى {ما لَهُمْ}؛ أي: ما لأهل السموات والأرض، وقيل: لأهل الكهف، وقيل: لمعاصري محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفار {مِنْ دُونِهِ} سبحانه وتعالى {مِنْ وَلِيٍّ} يلي أمورهم، وناصر ينصرهم، ومدبر يدبر شؤونهم، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه تعالى، وفي هذا بيان لغاية قدرته، وأن الكلّ تحت قهره. {وَلا يُشْرِكُ} سبحانه وتعالى {فِي حُكْمِهِ} وقضائه، أو في علم غيبه {أَحَدًا} من مخلوقاته، فله خاصة الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك، تعالى الله وتقدست أسماؤه. أي: لا (¬1) يجعل الله تعالى أحدًا من الموجودات العلوية والسفلية شريكًا لذاته العلية في قضائه الأزلي إلى الأبد، لعزته وغناه، قال الإمام: المعنى أنه تعالى لما حكى أنّ لبثهم هو هذا المقدار .. أراد أنه ليس لأحد أن يقول بخلافه، انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {وَلا يُشْرِكُ} بالياء على النفي، وقرأ مجاهد بالياء، والجزم قال يعقوب: لا أعرف وجهه. وقرأ ابن عامر، والحسن، وأبو رجاء وقتادة، والجحدري، وأبو حيوة، وزيد، وحميد بن الوزير، عن يعقوب، والجعفي، واللؤلؤي، عن أبي بكر، {ولا تشرك} بالتاء والجزم على النهي، والمعنى: ولا تشرك أيها الإنسان 27 - {وَاتْلُ}، أي: واقرأ يا محمد {ما أُوحِيَ إِلَيْكَ؛} أي: ما أنزل إليك {مِنْ كِتابِ رَبِّكَ}؛ أي: من القرآن بيان للموحى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

إليه، للتقرب إلى الله تعالى بتلاوته، والعمل بموجبه، والاطلاع على أسراره، ولا تسمع لقولم، {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ}، والفرق (¬1) بين التلاوة والقراءة: أن التلاوة قراءة القرآن متابعة كالدراسة، والأوراد الموظفة، والقراءة أعم؛ لأنها جمع الحروف باللفظ لا اتباعها، قيل (¬2): ويحتمل أن يكون معنى قوله: {وَاتْلُ} واتبع أمرًا، من التّلوّ لا من التلاوة. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}؛ أي: لكلمات الله سبحانه وتعالى؛ أي: لا مغير للقرآن؛ أي: لا قادر على تبديله، وتغييره غيره تعالى كقوله: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ} فهو عامّ مخصوصٌ فافهم، فإن قلت (¬3): موجب هذا أن لّا يتطرق النسخ إليه؟. قلت: النسخ في الحقيقة ليس بتبديل؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ المغاير، فكيف يكون تبديلا، وقيل: معناه لا مغير بما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه، وقيل: معناه لا مغيّر بأوامره ونواهيه، وبوعده لأولياه، ووعيده لأعدائه. {وَلَنْ تَجِدَ} أبد الدهر، وإن بالغت في الطلب {مِنْ دُونِهِ} تعالى {مُلْتَحَدًا}؛ أي: ملجأً وحرزًا تعدل إليه عند نزول بلية، قال الزجاج: لن تجد معدلًا عن أمره ونهيه، أي: إنك إن لم تتبع القرآن وتتله، وتعمل بأحكامه لن تجد معدلًا تعدل إليه، ومكانًا تميل إليه. وحاصل معنى الآية: أي (¬4) واتل أيها الرسول الكتاب الذي أوحي إليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من أمر ونهي، وإن أحدًا لا يستطيع أن يغير ما فيه من وعيد لأهل معاصيه، ومن وعد لأهل طاعته، فإن أنت لم تتبعه، ولم تأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد المخالفين حدوده، فلن تجد من دونه موئلًا، ولا ملجأ تلتجىء إليه؛ إذ قدرة الله محيطةٌ بك، وبجميع خلقه، لا يقدر أحدٌ على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

[28]

الهرب من أمر أرادهُ به. وفي (¬1) أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه، وإخباره أنه لا مبدّل لكلماته، إشارةٌ إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف، وتحريف أخبارهم، وهذه الآية آخر قصّة أهل الكهف. 28 - ثمّ شرع سبحانه في نوع آخر، كما هو دأب الكتاب العزيز فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}؛ أي: احبسها وثبتها مصاحبة {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}، ويذكرونه {بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ}؛ أي: في أول النهار وآخره، والمراد الدوام؛ أي: مداومين على الدعاء في جميع الأوقات، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير، والعشي لطلب عفو التّقصير، وقال ابن عمر، ومجاهدٌ، وإبراهيم: {وَالْعَشِيِّ} إشارة إلى الصلوات الخمس، وقال قتادة: إلى صلاة الفجر، وصلاة العصر. وقرأ نصر بن عاصم، ومالك بن دينار، وأبو عبد الرحمن، وابن عامر: {بالغدوة} بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو قال النّحّاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول: الغدوة، وجملة قوله: {يُرِيدُونَ} بدعائهم في تلك الأوقات {وَجْهَهُ} تعالى، ورضاه، حال من الضمير المستكن في يدعون؛ أي: يدعون ربهم حالة كونهم مريدين بدعائهم، وعبادتهم، وجهه تعالى ورضاه، لا شيئًا آخر من أعراض الدنيا. والمعنى: أي احبس نفسك وثبتها مع فقراء الصحابة، كعمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، وابن مسعود، وأضرابهم ممن يدعون ربّهم بالغداة والعشي بالتسبيح، وصالح الأعمال، ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون عرضًا من أعراض الدنيا، ولا شيئًا من لذاتها ونعيمها. روي: أن عيينة بن حصن الفزاري، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم، وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقه، ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات ¬

_ (¬1) الشوكاني.

مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم النّاس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لهم مجلسًا، فنزلت هذه الآية كما مر في أسباب النزول، ونحو الآية قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، ومقال هؤلاء شبيه بمقالة قوم نوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} ثم أمره سبحانه بمراقبة أحوالهم فقال: {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ}؛ أي: ولا تلتفت عيناك، ولا تنصرف ولا تمل {عَنْهُمْ} إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، وهذا نهيٌ (¬1) للعينين، والمراد صاحبهما، يعني نهيه عليه السلام عن الازدراء بفقراء المسلمين، لرثاثة زيهم، طموحًا إلى زيّ الأغنياء، وقيل: معناه: لا تحتقرهم عيناك، حالة كونك يا محمد {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا}؛ أي: تطلب مجالسة الأغنياء والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، وفي إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا تحقير لشأنها، وتنفير عنها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ} على نسبة الفعل إلى العينين، وقرأ الحسن: {تعد} عينيك بالتشديد، والتخفيف من عدّى أو أعدى، وقرأ الأعمش، وعيسى: {وَلا تَعْدُ} بالتشديد {وَلا تُطِعْ} يا محمد، أي: لا توافق في تنحية الفقراء عن مجلسك، {مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا}؛ أي: من جعلنا قلبه غافلًا عن ذكرنا، كعيينة بن حصن، وقيل: أميّة بن خلف، والغفلة: معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور؛ أي: جعلنا قلبه في فطرته الأولى غافلًا عن الذكر، ومختومًا عن التوحيد، كرؤساء قريش، وفيه تنبيه على أنّ الدّاعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات، وانهماكه في المحسوسات، حتى خفي عليه أن الشّرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة؛ أي: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، أي: عن توحيدنا {وَاتَّبَعَ هَواهُ}؛ أي: شهوته في عبادة الأصنام {وَكانَ أَمْرُهُ} وشأنه، وعملُه {فُرُطًا}؛ أي: ضائعًا لا ينتفع به في الدنيا والآخرة. وفي «التأويلات النجمية»: وكان أمره في متابعة الهوى هلاكًا وخسرانًا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو البقاء.

[29]

وقيل: متجاوزًا عن حدّ الاعتدال، وقرأ أبو مجلز (¬1)، وعمر بن فائد، وموسى الأسوأريّ، وعمرو بن عبيد {أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} بفتح لام أغفلنا، ورفع باء القلب بإسناد الإغفال إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة والمجازاة. ومعنى الآية {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ} الخ؛ أي (¬2): ولا تصرف بصرك، ونفسك عنهم رغبة في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون. وخلاصة ذلك: النهي عن احتقارهم، وصرف النظر عنهم إلى غيرهم، لسوء حالهم وقبح بزتهم، روي أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - لما نزلت الآية - «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه» ثم هذا النهي بقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا} الخ؛ أي: ولا تطع في تنحية الفقراء عن مجلسك من جعلنا قلبه غافلًا عن ذكر الله وتوحيده، لسوء استعداده، واتباع شهوته، وإسرافه في ذلك غاية الإسراف، وتدسيته نفسه حتى ران الكفر والفسوق والعصيان على قلبه، وتمادى في اجتراح الآثام والأوزار، 29 - وبعد أن أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يلتفت إلى قول أولئك الأغنياء، الذين قالوا: إن طردت أولئك الفقراء آمنّا بك، أمره أن يقول لهم ولغيرهم على طريق التهديد والوعيد، هذا هو الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {وَقُلِ} أيها الرسول لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتّبعوا أهواءهم، هذا الذي أوحي إلي هو {الْحَقُّ} حالة كونه كائنًا {مِنْ} عند {رَبِّكُمْ} ومالك أمركم، لا من قبل نفسي، وهو الذي يجب عليكم اتّباعه، والعمل به، فقد جاء الحقّ، وانزاحت العلل، فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم، ما شئتم مما فيه النّجاة أو الهلاك، {فَمَنْ شاءَ} أن يؤمن به ويدخل في غمار المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يصلح أن يكون معذرة له، {فَلْيُؤْمِنْ} به، لأن الحقّ قد وضح، واختفى الباطل {وَمَنْ شاءَ} أن يكفر به، وينبذه وراء ظهره، {فَلْيَكْفُرْ}، ولست بطارد - لأجل أهوائكم - من كان للحق متبعًا، وبالله وبما أنزل عليّ مؤمنًا، فالله تعالى لم يأذن لي في طرده لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار، وهذه الجملة وردت مورد تهديد، لا مورد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

تخيير، ولذلك عقّبه بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ}. وخلاصة ذلك (¬1): أنّني في غنى عن متابعتكم، وإنني لا أبالي بكم، ولا بإيمانكم، وأمر ذلك إليكم، وبيد الله التوفيق، والخذلان، والهدى، والضلال، وهو لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يضره كفر الكافرين كما قال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقرأ (¬2) أبو السمال قعنب {وقل الحَقُّ} بفتح اللام، حيث وقع. قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية انتهى. وعنه أيضًا ضم اللام حيث وقع كأنّه إتباع لحركة القاف، وقرأ أيضًا الحقّ بالنصب، قال صاحب «اللّوامح» هو على صفة المصدر المقدر؛ لأنّ الفعل يدل على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة كنصبه إيّاه نكرة، والتقدير: وقل القول الحقّ، وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر. ولما هدد السامعين بأن يختاروا لأنفسهم ما يجدونه غدًا عند الله، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والمعاصي، والوعد على الأعمال الصالحة، وبدأ بالأول فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنا} راجع (¬3) لقوله: {وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الخ راجع لقوله: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ} فهو لف ونشر مشوش؛ أي: إنّا أعددنا وهيأنا، {لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: للكافرين {نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها}؛ أي: نارًا عظيمةً عجيبةً، أحاط بهم سورها، وجدرانها، وفسطاطها، فلا مخلص لهم منها؛ أي: إنا قد أعددنا لمن ظلم نفسه، وأنف من قبول الحق، ولم يؤمن بما جاء به الرسول نارًا، يحيط بهم لهيبها، المستعر من كل جانب، كما يحيط السّرادق والفسطاط بمن حل فيه، فلا مخلص منه، ولا ملجأ إلى غيره، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقّق، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} من العطش؛ أي: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة، وهم في النار، فيطلبوا الماء لشدة ما هم فيه من العطش لحر جهنم، كما قال في سورة الأعراف حكاية عنهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} {يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ}، أي: كدري ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

[30]

الزيت، أو كالفضّة المذابة {يَشْوِي الْوُجُوهَ} وينضجها، والشيُّ: الإنضاج بالنار من غير إحراق، كما سيأتي في مبحث التصريف؛ أي: إذا قرب إلى الفم ليشرب سقطت فروة وجهه؛ أي: يؤتى لهم بماء غليظ كدريّ الزّيت وعكره؛ إذا قرب إليهم للشرب سقطت جلود وجوههم، ونضجت من شدّة حره. روى أحمد، والترمذي، والبيهقي، والحاكم عن أبي سعيد الخدري: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «المهل كعكر الزيت» - بفتحتين - ما بقي في أسفل الإناء، «فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» وعن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت. والمعنى: أنّه ينضج به جميع جلودهم. {بِئْسَ الشَّرابُ} ذلك الماء الموصوف؛ لأن المقصود بشرب الماء تسكين الحرارة، وهذا يبلغ في الإحراق مبلغًا عظيمًا، فالمخصوص بالذم محذوف تقديره: هو؛ أي: ذلك الماء المستغاث به كما قدرنا {وَساءَتْ} النار، وقبحت {مُرْتَفَقًا}؛ أي (¬1): متكأ، ومنزلًا، وأصل الارتفاق نصب المرفق، تحت الخد، وهو تمييز محول عن الفاعل، والأصل: قبح مرتفقها، فحوّل الإسناد إلى النار، ونصب مرتفقًا على التمييز مبالغة وتأكيدًا؛ لأن ذكر الشيء مبهمًا ثمّ مفسرًا أوقع في النفس من أن يفسّر أولًا، وأعربه بعضهم مصدرًا بمعنى الارتفاق، فعبر عن الإضرار والعذاب بالمرتفق الذي هو المنتفع به، أو نفس الانتفاع على سبيل المشاكلة، لقوله في الجنة: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} وإلّا فأي ارتفاق في النار؟! والمعنى: أي ما أقبح هذا الشراب الذي هو كالمهل، فهو لا يطفىء غلة، ولا يسكن حرارة الفؤاد، بل يزيد فيها إلى أقصى غاية، وما أسوأ هذه النار منزلًا ومرتفقًا، ومجتمعًا للرفقة مع الكفار والشياطين، وجاء في الآية الأخرى {إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (66)} 30 - ثم ثنى بذكر السعداء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بالحقّ الذي أوحي إليك، {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} من الأعمال؛ أي: جمعوا بين عمل القلب، وعمل الأركان، والصالحات؛ جمع صالحة وهي (¬2) في الأصل صفة، ثمّ غلب استعمالها فيما حسّنه الشرع من الأعمال، فلم تحتج إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[31]

موصوف، ومثلها الحسنة فيما يتقرب به إلى الله تعالى. {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ} منهم {عَمَلًا} مفعول أحسن، والتنوين فيه للتقليل، والأجر: الجزاء على العمل؛ أي: لا نبطل ثواب من أخلص منهم عملًا، ووضع الظاهر موضع المضمر، إذ حق العبارة أن يقال: إنّا لا نضيع أجرهم، للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم، إذ به يستحق ارتفاع الدرجات، والشرف، والرّتب، وقرأ عيسى الثقفي {إنا لا نضيِّع} من ضيع عداه بالتضعيف، والجمهور من أضاع عدوه بالهمزة. والمعنى: أي (¬1) إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فالله لا يضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال، ولا يظلمهم على ذلك نقيرًا ولا قطميرًا، 31 - ثمّ بيّن ما أعدّ لهم من النعيم بقوله: 1 - {أُولئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة، {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: بساتين إقامة وخلود، يعني تخلد هي، ويخلد فيها صاحبها، ويجوز (¬2) أن يكون العدن: اسمًا لموضع معين من الجنة، وهو وسطها، وأشرف مكان فيها، وقوله: جنّات لفظ جمع، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46)} ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62)}، ويمكن أن يكون نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة. 2 - {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ}؛ أي: من تحت مساكنهم، وقصورهم {الْأَنْهارُ} الأربعة من الخمر، واللبن، والعسل، والماء العذب، وذلك لأن أفضل البساتين في الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار؛ أي: إنّه لهم جنات يقيمون فيها، تجري من تحت غرفها الأنهار. 3 - {يُحَلَّوْنَ فِيها}؛ أي: يلبسون في تلك الجنات، وحكى الفراء {يَحْلَوْنَ} بفتح الياء وسكون الحاء، وفتح اللام من حليت المرأة، إذا لبست الحلي، وهي ما تتحلى وتتزين به من ذهب وفضة وغير ذلك من الجواهر. {مِنْ أَساوِرَ} قيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

{مِنْ} زائدة بدليل سقوطها في سورة {هَلْ أَتى} {وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وقيل: ابتدائية، وأساور جمع أسورة، وهي جمع سوار، وهي زينة تلبس في الزند من اليد، وهي من زينة الملوك، يعني في الزمن الأول، وتنكيرها لتعظيم حسنها، قال في «بحر العلوم» (¬1): وتنكير أساور للتكثير والتعظيم، {مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ} بيانية صفة لأساور، وتنكيره لتبعيده من الإحالة به، وظاهر (¬2) الآية: أنها جميعها من ذهب، وجاء في آية أخرى {مِنْ فِضَّةٍ}، وفي أخرى {مِنْ ذَهَبٍ}، ولؤلؤ فيجمع بينها بأنهم يحلون بالأساور الثلاثة، إما على سبيل المعاقبة، أو على سبيل الجمع كما تفعله نساء الدّنيا، فيكون في الواحد منهم سوار من ذهب، وآخر من فضة، وآخر من لؤلؤ، وقرأ أبان عن عاصم، من: {أسوره} من غير ألف، وبزيادة هاء، وهو جمع سوار. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» أخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما. 4 - {وَيَلْبَسُونَ} فيها {ثِيابًا خُضْرًا}؛ أي: ذوات خضرة؛ لأن (¬3) الخضرة أحسن الألوان، وأكثرها طراوة، وأحبها إلى الله تعالى، ولأنها هي اللون الموافق للبصر، وقرأ أبان: {ويلبسون} بكسر الباء وعبارة «المراغي» هنا: واختير اللون الأخضر، لأنه أرفق بالأبصار، ومن ثمّ جعله الله لون النبات والأشجار، وجعل لون السماء الزرقة؛ لأنه نافع لأبصار الحيوان أيضًا، وقد قالوا: أربعة مذهبة للهم والحزن: الماء، والخضرة، والبستان، والوجه الحسن، {مِنْ سُنْدُسٍ} بيان لتلك الثياب، صفة لها، وهو ما رق من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ منه، والدّيباج: الثوب الذي سداه ولحمته إبريسم وحرير، وإنما جمع بين النوعين للدلالة على أن لبسهما مما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وقرأ ابن محيصن: {واستبرقَ} بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلًا ماضيًا على وزن استفعل من البريق، ويكون استفعل فيه موافقًا للمجرد الذي هو برق، ذكره في «البحر». ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) السمرقندي. (¬3) المراغي.

فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي {يُحَلَّوْنَ} بالبناء للمفعول، وفي اللباس: {يَلْبَسُونَ} بالبناء للفاعل؟ قلنا: بنى في الأول للمفعول إيذانًا (¬1) بكرامتهم، وأن غيرهم يفعل بهم ذلك، ويزينهم به، بخلاف اللبس، فإن الانسان يتعاطاه بنفسه شريفا أو حقيرا، وقدم التحلي على اللباس؛ لأنه أشهى للنفس اهـ «سمين». وقال بعضهم: لا شك (¬2) أن لباس السّتر يلبسه المرء بنفسه، ولو كان سلطانا .. فلذا أسند إليه، وأما لباس الزينة فغيره يزيّنه به عادة كما يشاهد في السلاطين والعرائس، ولذا أسند إلى غيره على سبيل التعظيم والكرامة. 5 - {مُتَّكِئِينَ فِيها}؛ أي: حالة كونهم متكئين في الجنة، وجالسين فيها، {عَلَى الْأَرائِكِ} والسرر متربعين عليها، وفي «الجمل»: متّكئين: حال عاملها محذوف؛ أي: ويجلسون متكئين؛ أي: متربعين ومضطجعين جمع أريكة، وهي: السّرير في الحجال، ولا يسمى السرير وحده أريكة، إلّا إذا كان في الحجال والحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزيّن بالثياب للعروس، وخص (¬3) الاتكاء؛ لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرّتهم؛ أي: يتكئون فيها على سرر مزدانة بالستور، وفي هذا دليل على منتهى الراحة والنعيم، كما يكون ذلك في الدنيا، وأصل {مُتَّكِئِينَ} موتكئين؛ لأنه من اتكأ، أصله: أوتكأ، كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت الآية (¬4) على خمسة أنواع من الثواب كما أشرنا إليها بالأرقام، الأول: لهم جنات عدن، الثاني: تجري من تحتهم ... إلخ، الثالث: يحلّون فيها، الرابع: ويلبسون ثيابًا ... إلخ، والخامس: متكئين فيها ... إلخ اهـ شيخنا. {نِعْمَ الثَّوابُ} الذي أثابهم الله به بأنواعه الخمسة المتقدمة، والثواب فاعل والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هي؛ أي: الجنات {وَحَسُنَتْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات.

الجنات {مُرْتَفَقًا}؛ أي: مقرًا، ومنزلًا، ومجتمعا لعباده الصالحين، وقيل: {حَسُنَتْ}؛ أي: الأرائك {مُرْتَفَقًا}؛ أي: متكأً ومقعدًا، ومنزلًا للاستراحة. والمعنى: أي نعمت الجنة لهم جزاءً وفاقًا على جميل أعمالهم، وحسنت منزلًا، ومقيلًا، ونحو الآية {أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (76)}. الإعراب {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. {وَكَذلِكَ}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة {كَذلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف {أَعْثَرْنا}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أعثرنا عليهم قومهم، {عَلَيْهِمْ} متعلق به، والتقدير: أعثرنا عليهم إعثارًا مثل: إنامتنا إياهم، وبعثنا إياهم، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ}. {لِيَعْلَمُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يعلموا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لعلمهم أن وعد الله حق، الجار والمجرور متعلق بـ {أَعْثَرْنا}. {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي علم؛ أي: ليعلموا حقية وعد الله، {وَأَنَّ السَّاعَةَ}: ناصب واسمه {لا}: نافية {رَيْبَ} اسمها {فِيها}: جار ومجرور خبرها، وجملة {لا} في محل الرفع خبر {أَنَّ} المشددة، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر معطوف على مصدر أن الأولى تقديره: ليعلموا حقية وعد الله، وعدم وجود الريب في الساعة، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {أَعْثَرْنا} {يَتَنازَعُونَ}: فعل وفاعل في محل الجر، مضاف إليه، لـ {إِذْ}. {بَيْنَهُمْ} متعلق به {أَمْرَهُمْ}: مفعول به منصوب بـ {يَتَنازَعُونَ} لأن تنازع إذا كان بمعنى التجاذب ينصب مفعولًا وقيل: منصوب بنزع الخافض أي في أمرهم.

{فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}. {فَقالُوا}: {الفاء} عاطفة {قالوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَعْثَرْنا} {ابْنُوا عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {قالَ} مقول محكي لـ {قالوا}، وإن شئت: قلت {ابْنُوا}: فعل أمر وفاعل {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {ابْنُوا} {بُنْيانًا}: مفعول به ومنصوب على المصدرية، والجملة في محل النصب مقول {قالوا} {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر {بِهِمْ} متعلق بـ {أَعْلَمُ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا} إن كان من كلامهم، أو جملة مستأنفة، إن قلنا إنه من كلام الله {قالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {غَلَبُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {عَلى أَمْرِهِمْ} متعلق بـ {غَلَبُوا} {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {اللام} موطئة للقسم {نتخذن} فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور حال من {مَسْجِدًا}. {مَسْجِدًا}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ}. {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. {سَيَقُولُونَ} {السين} حرف استقبال أتى بها للإشارة إلى أنّ النزاع في أمرهم، حصل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: في المستقبل البعيد بالنسبة لقصتهم، {يقولون} فعل وفاعل، والضمير يعود إلى الخائضين في قصتهم، زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب والمؤمنين، والجملة الفعلية مستأنفة، قال أبو حيان: وجاء (¬1) بسين الاستقبال؛ لأنه كان في الكلام طيٌّ، وإدماج، والتقدير: فإذا أجبتهم عن سؤالهم، وقصصت عليهم قصة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم إذا سألتهم، سيقولون، ولم يأت بالسين فيما بعده؛ لأنه معطوف على المستقبل، فدخل في ¬

_ (¬1) الفتوحات.

الاستقبال، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال، الذي هو صالح له، {ثَلاثَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلاثة أشخاص، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول القول {رابِعُهُمْ}: مبتدأ {كَلْبُهُمْ}: خبره، والجملة في محل الرفع، صفة لـ {ثَلاثَةٌ}؛ أي: هم ثلاثة، موصوفون بكون جاعلهم، أربعة كلبهم بانضمامه إليهم، {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {سَيَقُولُونَ} {خَمْسَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم خمسة أشخاص، والجملة في محل النصب مقول القول {سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}: مبتدأ، وخبر، والجملة في محل الرفع، صفة لـ {خَمْسَةٌ} تقديره: هم خمسة أشخاص، موصوفون بكون جاعلهم ستة كلبهم بانضمامه إليهم {رَجْمًا}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: يرجمون ذلك رجمًا بالغيب؛ أي: يرمون رميًا بالخبر الخفي المظنون، أو على الحال من فاعل يقولون، أي: يقولون ذلك حالة كونهم راجمين بالغيب؛ أي: قائلين بما غاب عنهم، {بِالْغَيْبِ}: جار ومجرور متعلق بـ {رَجْمًا}، {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {سَيَقُولُونَ} {سَبْعَةٌ}: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم سبعة أشخاص، {وَثامِنُهُمْ}: {الواو} زائدة، زيدت تشبيهًا (¬1) للجملة الواقعة صفة للنكرة، بالجملة الواقعة حالًا عن المعرفة، في نحو قولك: جاء زيد، ومعه رجل آخر، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، ودلالة على أن اتصافه بها، أمر ثابت، مستقر في الأذهان، وهذا القول ما اختاره الزمخشري، وابن هشام من الأقوال المتلاطمة في هذه {الواو} التي لا طائل تحتها. {وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع صفة لـ {سَبْعَةٌ} تقديره: ويقولون هم سبعة أشخاص، موصوفون بكون جاعلهم ثمانية كلبهم بانضمامه إليهم. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {رَبِّي ¬

_ (¬1) الفتوحات.

أَعْلَمُ}: مبتدأ، وخبر {بِعِدَّتِهِمْ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة في محل النصب مقول القول، {ما} نافية {يَعْلَمُهُمْ}: فعل، ومفعول {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {قَلِيلٌ} فاعل، والجملة مستأنفة، {فَلا}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط، مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه لا يعلمهم إلا قليل منهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: لا تمار فيهم، ويصحّ أن تكون {الفاء} تفريعية، كما في «روح البيان» كما مر عنه {لا} ناهية جازمة {تُمارِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على محمد {فِيهِمْ} متعلق به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مِراءً}: مفعول مطلق {ظاهِرًا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَلا}: {الواو} عاطفة، {لا} ناهية جازمةٌ {تَسْتَفْتِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله {فَلا تُمارِ} {فِيهِمْ} متعلق به، {مِنْهُمْ}: حال من {أَحَدًا} لأنه صفة نكرة، قدمت عليها {أَحَدًا}: مفعول به. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}. {وَلا} {الواو} عاطفة، أو استئنافية، {لا} ناهية جازمة {تَقُولَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله، {فَلا تُمارِ} أو مستأنفة {لِشَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُولَنَّ}؛ أي: لأجل شيء تقدم عليه، وتهتم به، وقيل: {اللام} بمعنى في {إِنِّي}: ناصب واسمه {فاعِلٌ} خبره {ذلِكَ}: مفعول فاعل {غَدًا}: منصوب على الظرفية متعلق بفاعل {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: لا تقل لشيء في حال من الأحوال، إلا في حال تلبسك بالتعليق، بالمشيئة {أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكن

على حذف مضاف، والتقدير: لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله، فحذف الوقت، وهو مراد، أو على الحال، والتقدير: لا تقولنّ أفعل غدا إلّا حالة كونك قائلًا إن شاء الله، أو إلا حالة كونك متلبسًا بقول إن شاء الله كما في «العكبري». {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا}. {وَاذْكُرْ} {الواو}: عاطفة {اذْكُرْ رَبَّكَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَقُولَنَّ} {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، {نَسِيتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذا} تقديره: واذكر مشيئة ربّك وقت نسيانك إياها، عند تذكرك بها، {وَقُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة اذكر {عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، واسمها ضمير مستتر فيها: تقديره: هو يعود على الرب، والأولى أن يكون {رَبِّي} اسمها مؤخرًا، {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يَهْدِيَنِ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، وفاعله لفظة {رَبِّي} أو ضمير يعود على الرب لتقدمه رتبة، {لِأَقْرَبَ} متعلق بـ {يَهْدِيَنِ} {مِنْ هذا} متعلق بـ {أقرب} {رَشَدًا}: تمييز {لِأَقْرَبَ} أي: لشيء أقرب إرشادًا للناس، أو مفعول مطلق؛ أي: يهديني هدايةً فيكون ملاقيًا لعامله بهذا المعنى، والأول أقرب، وجملة يهديني مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الخبرية، لـ {عَسَى}، ولكنه في تأويل اسم الفاعل، ليصحّ الإخبار به، والتقدير: وقل عسى ربي هاديا لي لأقرب من هذا رشدًا. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ}. {وَلَبِثُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} {فِي كَهْفِهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {لَبِثُوا} {ثَلاثَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَبِثُوا} {مِائَةٍ} مضاف إليه، {سِنِينَ} عطف بيان لثلاث مئة،

ولا يصح أن يكون تمييزًا؛ لأن تمييز المئة يجرّ، وجره بالإضافة والتنوين مانع منها، نعم قرىء في السبعة بالإضافة، وعليه فـ {سِنِينَ} تمييز غير أنه قليل؛ لأن تمييز المئة، الكثير فيه الإفراد، كما قال ابن مالك: ومئة والألف للفرد أَضِفْ ... ومئةٌ بالجمع نزرًا قد رَدِفْ {وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}. {وَازْدَادُوا تِسْعًا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {لَبِثُوا} {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {اللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} {لَبِثُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بالزمن الذي لبثوه {لَهُ} خبر مقدم {غَيْبُ السَّماواتِ} مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ}، والجملة مستأنفة {أَبْصِرْ}: فعل تعجب، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، والباء في {بِهِ} زائدة في الفاعل إصلاحًا للفظ {وَأَسْمِعْ}: معطوف على {أَبْصِرْ}، وجملة التعجب جملة إنشائية، لا محلّ لها من الإعراب. {ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}. {ما}: نافية {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم {مِنْ دُونِهِ}: حال من ولي {مِنْ} زائدة {وَلِيٍّ}: مبتدأ مؤخر مرفوع، تقديرا، والجملة الاسمية مستأنفة {وَلا} {الواو} عاطفة {لا} نافية {يُشْرِكُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {فِي حُكْمِهِ}، متعلق بـ {يُشْرِكُ} {أَحَدًا}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية. {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}. {وَاتْلُ} {الواو} استئنافية {اتْلُ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به

{أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أُوحِيَ} {مِنْ كِتابِ رَبِّكَ}: جار ومجرور حال من {ما} الموصولة {لا} نافية {مُبَدِّلَ} في محل النصب اسمها {لِكَلِماتِهِ}: جار ومجرور خبر {لا}، وجملة لا في محل النصب حال من {رَبِّكَ} لأن المضاف كالجزء من المضاف إليه، {وَلَنْ تَجِدَ} {الواو} عاطفة {لَنْ تَجِدَ}: ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على محمد {مِنْ دُونِهِ}: حال من {مُلْتَحَدًا} {مُلْتَحَدًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {لا} على كونها حالا من {رَبِّكَ}. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا}. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاتْلُ}. {مَعَ الَّذِينَ}: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {اصْبِرْ} {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {بِالْغَداةِ} متعلق بـ {يَدْعُونَ} {وَالْعَشِيِّ}: معطوف على {الغداة} {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الموصول، أو من فاعل {يَدْعُونَ} {وَلا تَعْدُ}: جازم ومجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة {عَيْناكَ}: فاعل وعلامة رفعه الألف، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} {عَنْهُمْ} متعلق بـ {تَعْدُ} {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ}: فعل ومفعول به، ومضاف إليه {الدُّنْيا} صفة لـ {الْحَياةِ} وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المخاطب في {عَيْناكَ} لأن المضاف جزء من المضاف إليه. {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}. {وَلا تُطِعْ} {الواو}: عاطفة {لا تُطِعْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ} {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به {أَغْفَلْنا قَلْبَهُ}: فعل وفاعل ومفعول {عَنْ

ذِكْرِنا} متعلق به، والجملة صلة من الموصولة، {وَاتَّبَعَ هَواهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}؛ والجملة معطوفة على {أَغْفَلْنا} {وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}: فعل ناقص واسمه، وخبره، وجملة {كَانَ}: معطوفة على جملة {أَغْفَلْنا} على كونها صلة لـ {مَنْ} الموصولة. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها}. {وَقُلِ}: {الواو} عاطفة {قُلِ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ}. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى قوله: {فَلْيَكْفُرْ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {الْحَقُّ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره؛ هذا الذي أوحي إليّ الحقّ {مِنْ رَبِّكُمْ}: حال من الحق، والجملة في محل النصب مقول القول، لـ {قُلِ} {فَمَنْ شاءَ}: {الفاء} استئنافية، أو فصيحة {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {شَاءَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {فَلْيُؤْمِنْ}: {الفاء} رابطة لجواب من الشرطية، وجوبًا لكونه جملة طلبيّةً و {اللام} لام أمر وجزم {يؤمن}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلِ} على كونها مستأنفة، أو مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}: جملة شرطية معطوفة على جملة من الأولى، {إِنَّا}: ناصب واسمه {أَعْتَدْنا}: فعل وفاعل {لِلظَّالِمِينَ} متعلق به {نارًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {أَحاطَ}: فعل ماض {بِهِمْ} متعلق به {سُرادِقُها}: فاعل وجملة {أَحَاطَ} في محل النصب صفة لـ {نارًا}؛ ولكنها صفة سببية. {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}.

{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا}: {الواو} استئنافية {إِنْ يَسْتَغِيثُوا}: جازم وفعل وفاعل مجزوم على كونه فعل شرط، وعلامة جزمه حذف النون {يُغاثُوا}: فعل، ونائب فاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف النون {بِماءٍ} متعلق بـ {يُغاثُوا} {كَالْمُهْلِ}: صفة أولى لـ {ماء}، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {يَشْوِي}: فعل مضارع {الْوُجُوهَ}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الماء}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {ماء} أو حال منه لتخصصه بالصفة {بِئْسَ الشَّرابُ}: فعل وفاعل وهو من أفعال الذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هو أي: ذلك الماء المستغاث به، وجملة {بِئْسَ} في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف، والجملة الاسمية، جملة إنشائية لا محلّ لها من الإعراب، {وَساءَتْ}: فعل ماض، وهي لإنشاء الذم، وفاعله ضمير يعود على النار، {مُرْتَفَقًا}: تمييز محول عن فاعل {ساء} والأصل: ساء مرتفقها فحول الإسناد من المضاف إلى المضاف إليه، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فجيء بضمير الرفع، فاستتر في الفعل، ثم جيء بالمضاف المحذوف تمييزًا، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: النار، والجملة معطوفة على جملة {بِئْسَ}. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} {إِنَّا}: ناصب واسمه {لا}: نافية {نُضِيعُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {أَجْرَ}: مفعول به {مَنْ}: مضاف إليه {أَحْسَنَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {عَمَلًا}: مفعول به، أو تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر، {إن}، وجملة {إن} في محل الرفع خبر أول، لـ {إِنَّ} الأولى، والرابط الضمير المستتر في أحسن أو، الرابط تكرر الظاهر بمعناه، لأن حقّ العبارة أجرهم، ويجوز أن تكون جملة {إِنَّا لا نُضِيعُ} معترضةً وخبر، {إِنَّ} الأولى جملة {أُولئِكَ}.

{أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}. {أُولئِكَ}: مبتدأ أول {لَهُمْ}: خبر مقدم للمبتدأ الثاني، {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الرفع خبر ثان، لـ {إِنَّ} الأولى أعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، أو خبر لها، إن قلنا: جملة {إِنَّا لا نُضِيعُ} معترضة {تَجْرِي}: فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهِمُ} متعلق به {الْأَنْهارُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {جَنَّاتُ}؛ أو في محل النصب حال من {جَنَّاتُ} {يُحَلَّوْنَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان، لـ {أُولئِكَ} فِيها متعلق بـ {يُحَلَّوْنَ} أو حال من واو {يُحَلَّوْنَ} أي: حالة كونهم كائنين فيها {مِنْ أَساوِرَ} {مِنْ} زائدة. {أَساوِرَ}: مفعول ثان لـ {يُحَلَّوْنَ}، وهو ممنوعٌ من الصرف لصيغة منتهى الجموع، أو جار ومجرور صفة لـ {أَساوِرَ}. {مِنْ ذَهَبٍ} صفة لـ {أَساوِرَ} {وَيَلْبَسُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُحَلَّوْنَ}. {ثِيابًا}: مفعول به {خُضْرًا}: صفة أولى لـ {ثِيابًا} {مِنْ سُنْدُسٍ}: جار ومجرور صفة ثانية لـ {ثِيابًا} أو حال من {ثِيابًا} لتخصصه بالصفة، {وَإِسْتَبْرَقٍ}: معطوف على {سُنْدُسٍ} {مُتَّكِئِينَ}: حال إما من الضمير في {تَحْتِهِمُ} أو من الضمير في {يُحَلَّوْنَ} أو {يَلْبَسُونَ} {فِيها}: جار ومجرور حال أيضًا من الضمير في {يُحَلَّوْنَ}، أو {يَلْبَسُونَ} وهي حال متداخلة {عَلَى الْأَرائِكِ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ} {نِعْمَ الثَّوابُ}: فعل وفاعل وهو من أفعال المدح، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي؛ أي: الجنات، والجملة الفعلية خبر للمخصوص بالمدح، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {وَحَسُنَتْ}: فعل ماض لإنشاء المدح، معطوف على نعم، وفاعله ضمير يعود على الجنات {مُرْتَفَقًا}: تمييز لفاعل {حسن} محول عن الفاعل، والتقدير: حسن مرتفقها، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هي؛ أي: الجنات.

التصريف ومفردات اللغة {أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} أطلعنا عليهم قومهم، وأظهرناهم، وأعثر يتعدى بالهمزة، وأصل العثار في القدم، وفي «الأساس»: وعثر على كذا اطلع عليه، وأعثره على كذا أطلعه، وأعثره على أصحابه دلّه عليهم، ويقال للمتورط: وقع في عاثور، وفلان يبغي صاحبه العواثير، وأصله حفرة تحفر للأسد، وغيره يعثر بها، فيطيح فيها، ويقال: عثر عثورا، وعثارا: إذا سقط لوجهه، ويقال في المثل: «من سلك الجدد أمن العثار» ثم استعمل في الاطلاع على أمر من غير طلب له. {وَأَنَّ السَّاعَةَ} والساعة: يوم القيامة، حين يبعث الله الخلائق جميعًا للحساب والمجازاة، والتنازع والتّخاصم {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}؛ أي: رميًا بالخبر الخفي، وإتيانًا به، والرجم القول بالظن والحدس، ويقال: لكل ما يخرص رجم فيه، وحديث مرجوم، ومرجّم، وفي «المصباح» الرّجم بفتحتين الحجارة، ورجمته رجما من باب قتل، ضربته بالرجم، وهي الحجارة الصغار، ورجمته بالقول، رميته بالفحش، قال تعالى: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}؛ أي: ظنًا: من غير دليلٍ، ولا برهان، كقول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب: ومَا الحرب إلّا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم أي: المظنون، والغيب ما غاب عن الانسان، فالمراد أن يرمي الانسان ما غاب عنه، ولا يعرفه بالحقيقة، كما يقال: فلان يرمي بالكلام رميًا؛ أي: يتكلم من غير تدبر، والمراد هنا القول بالظن والتخمين. {فَلا تُمارِ فِيهِمْ}؛ أي: لا تجادل، يقال: مارى يماري مماراةً، ومراءً؛ أي: جادل وفي «القاموس» مارى مراء ومماراةً جادل، ونازع، ولاج وتماريا تجادلا وامترى في الشيء شك، والمرية بكسر الميم، والمرية الجدل؛ يقال: ما في ذلك مرية، أي: جدل وشك. {مُلْتَحَدًا}؛ أي: ملتجأ تجنح إليه لائذًا، إن هممت بالتبديل للقرآن، وفي «المصباح» قال أبو عبيدة: ألحد إلحادًا جادل، ومارى، ولحد جار، وظلم،

وألحد في الحرم، استحل حرمته وانتهكها، والملتحد بالفتح اسم الموضع، وهو: الملجأ. وفي «القاموس»: التحد عن الدين بمعنى ألحد، والتحد إلى كذا مال، والتحد إلى فلان التجأ {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} في «المختار» الصبر: حبس النفس عن الجزع، وبابه: ضرب وصبره حبسه، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} اهـ. {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ}؛ أي: لا تنصرف يقال: عداه إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طوره، وجاءني القوم عدا زيدًا، فحق الكلام، أن يقال: بالنصب؛ أي: لا تعد عينيك، وإنما عدل إلى الرفع لأنه أراد صاحب العينين، فهو من المجاز كما سيأتي في البلاغة {فُرُطًا} بضمتين؛ أي: مجاوزًا الحدّ. قال ابن عطية: الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط، والتضييع للذي يجب أن يلزم، ويحتمل: أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف اهـ «سمين». والظاهر: أنه مصدر أفرط كما في «المختار» وعبارته: وأفرط في الأمر: جاوز فيه الحدّ اهـ. وعليه فيكون مصدرًا سماعيًا، لا قياسيًا، وفي «المختار» أيضًا: وأمرٌ فرطٌ بضمتين؛ أي: مجاوز فيه الحد، ومنه قوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} اهـ ثمّ قال: وفرط إليه منه قول سبق، وبابه نصر اهـ. {إِنَّا أَعْتَدْنا}؛ أي: أعددنا، وهيأنا {لِلظَّالِمِينَ} الذين اختاروا الكفر بالله، والجحد له، والإنكار لأنبيائه نارًا عظيمة {أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها}؛ أي: اشتمل عليهم، والسّرادق واحد السرادقات، قال الجوهري: وهي التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف؛ أي: قطن فهو سرادق، ومنه قول رؤبة: يا حكم بن المنذر بن جارود ... سرادق المجد عليك ممدود وفي «الفتوحات»: والسرادق قيل: هو ما أحاط بشيء، كالمضرب والخباء، وقيل للحائط المشتمل على شيء: سرادق، قاله الهرويّ، وقيل: هو الحجرة، تكون حول الفسطاط، وقيل: هو ما يمد على صحن الدار، وقال الراغب: السّرادق فارسيّ معرب، وليس في كلامهم اسم مفرد، ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا، وقيل: هو دخان يحيط بالكفار، قبل دخول النار، وقيل: حائط من نار يطيف بهم، وفي «الكشاف»: شبه ما يحيط بهم من النار

بالسرادق، وهو الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط اهـ. {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} الياء فيه منقلبةٌ عن واو، إذ الأصل يستغوثوا، فنقلت كسرة الواو للساكن قبلها، ثم قلبت ياء لمناسبة الكسرة. {المهل} بضم الميم اسم يجمع معدنيات الجواهر، كالفضة، والحديد، والصفر، ما كان منها ذائبًا، والقطران الرقيق، والزيت الرقيق، والسم، والقيح، أو صديد الميت خاصة، وما يتحات عن الخبز من الرماد، وقيل: هو كعكر الزّيت؛ أي: ما بقي في الإناء منه. والخلاصة: هو اسم جامع لكل المستقذرات التي تغشى منها النفس، وتتألم وتنفر {يَشْوِي الْوُجُوهَ}؛ أي: ينضجها إذا قدم ليشرب لشدة حرّه، والشيّ: الإنضاج بالنار من غير إحراق، {مُرْتَفَقًا}؛ أي: متّكأً يقال: بات فلان مرتفقا؛ أي: متّكئا على مرفق يده، وأصل الارتفاق الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد، وهي هيئة المتحزن والمتحسر {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: جنات إقامة، واستقرار، يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه، واستقر، ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه. {أَساوِرَ} جمع أسورة، والأسورة جمع سوار، كأحمرة جمع حمار، فالأساور جمع الجمع. {السندس} ما رق من الديباج، {الاستبرق} ما غلظ من الديباج، والاستبرق يونانيّةٌ والسندس فارسية، وقيل: هندية {مُتَّكِئِينَ} أصله موتكئين من اتّكأ أصله، اوتكأ، والاتكاء: التحامل على الشيء {عَلَى الْأَرائِكِ} جمع أريكةٍ، وفي «القاموس»: الأريكة - كسفينة - سرير في حجلة، أو كل ما يتكأ عليه من سرير، ومنصّة، وفراش، أو سرير متخذ مزين في قبة، أو بيتٍ، فإن لم يكن فيه سريرٌ .. فهو حجلة، والجمع أرائك اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله تعالى: {يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} فقد شبّه

أمرهم بشيء كثر النزاع حوله، ثم حذف ذلك الشيء، واستعير النّزاع القائم حوله. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} فقد شبه الغيب، والخفاء بشيء يرمى بالحجارة، واستعير الرجم له. وفي «الفتوحات»: والرجم بمعنى الرمي، وهو: استعارة للتكلم بما لم يطّلع عليه لخفائه، عنه تشبيها له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضًا اهـ. ومنها: صيغة التعجب في قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}. ومنها: المجاز العقليَّ في قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ}؛ لأنه أسند فعل عدا، أي: تجاوز إلى العينين، ومن حقه: أن يسندهما إليه؛ لأن عدا متعد بنفسه، وإنّما جنح إلى المجاز؛ لأنه أبلغ من الحقيقة، فكأنّ عينيه ثابتتان في الرنوّ إليهم، وكأنما أدركتا ما لا تدركان، وأحستا بوجوب النظر، إلى هؤلاء، وصبر النفس، ورياضتها على ملازمتهم، وقيل: هو من باب التضمين، فقد ضمّن عدا معنى نبا، وعلا من قولهم: نبت عينه عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به. ومنها: الطباق في قوله: {بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} وبين قوله: {فَلْيُؤْمِنْ} {فَلْيَكْفُرْ}. ومنها: المشاكلة (¬1) في قوله: {يُغاثُوا} إذ لا إغاثة لهم بالماء المذكور، بل إتيانهم به، وإلجاؤهم لشربه غاية الإضرار، والإغاثة هي الانقاذ من الشدة، فكأنّه قال: يضروا ويعذبوا بماء. الخ وعبر عن هذا الإضرار بالإغاثة مشاكلة لقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} اهـ شيخنا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا}، وفي قوله: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِرًا}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا}. ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ} فإنه راجع ¬

_ (¬1) الفتوحات.

لقوله {وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}، وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} فإنه راجع لقوله: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ}. ومنها: التهكم في قوله: {يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ} فقد سمى أعلى أنواع العذاب إغاثةً، والإغاثة هي: الإنقاذ من العذاب تهكما بهم، وتشفيًا منهم، والتهكم: فن طريف من فنونهم. ومنها: التشبيه (¬1) المؤكد في قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} فقد شبه النار المحيطة بهم، بالسرادق المضروب على من يحتويهم، وأضيف السّرادق إلى النار، فذلك هو التشبيه المؤكّد، وهو أن يضاف المشبّه إلى المشبه به، كقول بعضهم: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء فقد أضاف الأصيل، وهو المشبه إلى الذهب، وهو المشبّه به، كما أضاف الماء الذي هو المشبه إلى اللجين، الذي هو المشبه به. ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: {بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} لذكر الأداة، ووجه الشبه، وقيل: وجه الشّبه فيه الثخن والرداءة في كلٍ كما في «الفتوحات». ومنها: المقابلة البديعة بين الجنة في قوله: {نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}، والنار في قوله: {بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا} فقد ذكر الارتفاق في النار مقابلةً كقوله: فيما بعد في وصف الجنة {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إعراب القرآن.

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا أمر (¬1) نبيّه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين، الذين طلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - طرد هؤلاء الصعاليك، ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

وأن يعيّن لهم مجلسًا، وللسادة مجلسًا آخر، حتى لا يؤذوهم بمناظرهم وروائحهم المستقذرة، وحتّى لا يقال: إنّ السّادة ومواليهم يجتمعون في صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفي ذلك امتهان لكبريائهم، وخفض من عزتهم .. أردف ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغي أن يكون موضع فخار؛ لأنه ظل زائل، وأنه كثيرًا ما يصير الفقير غنيًا، والغني فقيرًا، وإنّما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر وعمدة التفاضل، هو: طاعة الله وعبادته، والعمل على ما يرضيه في دار الكرامة، حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا (¬1) أبان أن الدنيا ظل زائل، وأنه لا ينبغي أن يغترّ أحد بزخرفها ونعيمها، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله، وانتظار مثوبته في جنات تجري من تحتها الأنهار .. أردف ذلك بذكر أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من أخطار وأهوال، وأنه لا ينجي منها إلّا اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين. التفسير وأوجه القراءة 32 - قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} هذا المثل ضربه الله تعالى لمن يتعزز ويفتخر بالدنيا، ويستنكف عن مجالسة الفقراء، فهو على هذا متّصل بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} {وَاضْرِبْ} هنا بمعنى اجعل، يتعدى إلى مفعولين {لَهُمْ} متعلّق به {مَثَلًا} مفعول ثان، {رَجُلَيْنِ} مفعول أول، أي واجعل يا محمد رجلين موصوفين بالصفات الآتية، {مَثَلًا} وشبها لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ، وللمؤمنين المكابدين لمشاق الفقر؛ أي: مثل حال هؤلاء الكافرين والمؤمنين بحال (¬2) رجلين شريكين في بني إسرائيل، أحدهما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا، أو تمليخا، لهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانًا قد اشترى أرضا بألف دينار، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال هذا: اللهمّ إن فلانًا بنى دارًا بألف دينار، وإنّي اشتريت منك دارًا في الجنة، بألف دينار، فتصدّق بها، ثم تزوّج صاحبه امرأة، وأنفق عليها ألف دينار، فقال هذا: اللهمّ إني أخطب إليك امرأةً من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بها، ثمّ إن صاحبه اشترى خدمًا، ومتاعًا بألف دينار، فقال هذا: اللهم إني أشتري منك خدمًا ومتاعًا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة، فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف، فجلس على طريق، حتى مر به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه صاحبه، فعرفه فقال له: فلان؟ قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتعينني بخير، قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصّدقين، فطرده ووبخه على التصدق بماله، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى فنزل في شأنهما قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}؛ أي: واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين المتقلبين في نعم الله، والمؤمنين المكابدين لمشاق الفقر، مثلا رجلين؛ أي: اجعل مثل الفريقين مثل رجلين {جَعَلْنا لِأَحَدِهِما}، وهو الكافر: {جَنَّتَيْنِ}؛ أي: بستانين {مِنْ أَعْنابٍ}؛ أي: من كروم متنوعة، فإطلاق الأعناب عليها مجاز، ويجوز أن يكون بتقدير المضاف؛ أي: من أشجار أعناب، والأعناب جمع عنب، وهو ثمر الكرم {وَحَفَفْناهُما}؛ أي: أحطنا البستانين {بِنَخْلٍ}؛ أي: جعلنا النّخل محيطة بالجنتين ملفوفا بها، كرومهما {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما}؛ أي: وجعلنا وسط البستانين {زَرْعًا} ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة على الشكل الحسن، والترتيب الأنيق. وخلاصة ذلك (¬1): أن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهي متواصلة ¬

_ (¬1) المراغي.

[33]

متشابكة، فلها منظرٌ ورواءٌ حسنٌ ووضعٌ أنيقٌ يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر. روي: أن أخوين من بني إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وأنفق المؤمن ما ورثه في وجوه الخير وطاعة الله، وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا في كتابه، وسواء أصحت الرواية أم لم تصحّ، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها. 33 - وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم في النعيم قد عصوا ربهم، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ}؛ أي: كل من البستانين {آتَتْ أُكُلَها}؛ أي: أعطت وأخرجت ثمرها كل عام، وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل وإفراد (¬1) الضمير في {آتَتْ} للحمل على لفظ المفرد، قال الحريري: ولا يثنى خبر كلا إلا بالحمل على المعنى {وَلَمْ تَظْلِمْ}؛ أي: ولم تنقص {مِنْهُ}؛ أي: من أكلها وثمرها {شَيْئًا} في سائر الأعوام على خلاف ما يعهد في الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعوامًا، وتقل أعوامًا أخرى، فقوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}؛ أي: في بعض السنين بل في كل سنة يأتي ثمرها وافيًا. وقرأ الجمهور (¬2): كلتا الجنتين، وفي مصحف عبد الله {كلا الجنتين}، أتى بصيغة التذكير، لأن تأنيث الجنتين مجازي، ثمّ قرأ {آتت} فأنّث، لأنه ضمير مؤنّث، فصار نظير قولهم: طلع الشّمس، وأشرقت، وقال الفراء في قراءة ابن مسعود: {كل الجنتين آتى أكله} انتهى. فأعاد الضمير على كل {وَفَجَّرْنا}؛ أي: أجرينا وشققنا {خِلالَهُما}؛ {خِلالَهُما}؛ أي: وسط الجنتين {نَهَرًا} ليسقيهما دائما من غير انقطاع، وقرأ (¬3) الجمهور، {وَفَجَّرْنا} بتشديد الجيم للمبالغة، وقال الفراء: إنما شدد {وَفَجَّرْنا} وهو نهر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[34]

كله، أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد، وهو أغزر الشرب، وقرأ الأعمش وسلّام، ويعقوب، وعيسى بن عمر، بتخفيف الجيم، وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر، والتشديد في سورة القمر، أظهر لقوله {عُيُونًا} وقوله {نَهَرًا} وانتصب {خِلالَهُما}؛ أي: وسطهما على الظرف لأنه كان النهر يجري من داخل الجنتين، وقرأ الجمهور (¬1) {نَهَرًا} بفتح الهاء، وقرأ أبو السمال، والفياض بن غزوان، وطلحة بن سليمان بسكون الهاء؛ أي: وشققنا وسط الجنتين نهرًا كبيرًا، تتفرع منه عدة جداول، ليدوم سقيهما، ويزيد بهاؤهما، وتكثر غلتهما. ولعل (¬2) تأخير ذكر تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل مع أن الترتيب الخارجي على العكس، للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل، وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، ولو عكس لانفهم أنّ المجموع خصلة واحدة، بعضها مرتب على بعض، فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقّف على السقي كقوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} 34 - {وَكانَ لَهُ}، أي: لصاحب الجنّتين {ثَمَرٌ}؛ أي: أنواع من المال غير الجنتين من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى، والثّمر بفتحتين جمع ثمرة، وهي المجني من الفاكهة، وذكرها وإن كانت الجنة لا تخلو عنها إيذان بكثرة الحاصل له في الجنتين من الثمار وغيرها، وقال ابن (¬3) عباس وقتادة: الثمر: - يعني إذا قرىء بضمتين - جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك، وقال النابغة: مهلًا فداءٌ لَكَ الأَقوامُ كلُّهمُ ... وما أثمَّرُ من مالٍ ومن ولد وقال مجاهد: يراد بها: الذهب والفضّة خاصة، وقال ابن العلاء: الثمر المال. وخلاصة ذلك: أنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

ثاغيها، وراغيها، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه، وخدمه، ولا يستعصي عليه شيء من مسرات الدنيا ومباهجها، ولذاتها ونعيمها. وقرأ الأعمش (¬1)، وأبو رجاء، وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفًا، أو جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وقرأ أبو جعفر، والحسن، وجابر بن زيد، والحجاج، وعاصم، وأبو حاتم، ويعقوب عن رويس عنه، بفتح الثاء والميم فيهما، وقرأ رويس عن يعقوب: ثمر بضمهما، {وثمره} بفتحهما، وأما الثُّمُرُ بضمتين فقد مر تفسيره آنفًا عن ابن عباس وغيره، وأما من قرأ بالفتح فلا اتكال عليه، لأنّه يعني به حمل الشجر، وقرأ أبو رجاء في رواية {ثمر} بفتح الثاء وسكون الميم، وفي مصحف أبيّ {وآتيناه ثمرا كثيرا} وينبغي أن يجعل تفسيرًا. وبعد أن تم له الأمر، وقعد على سنام العز والكبرياء، داخله الزهو والخيلاء {فَقالَ}؛ أي: صاحب الجنّتين {لِصاحِبِهِ} وأخيه المؤمن الذي جعل مثلا للفقراء المؤمنين {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنّ صاحب الجنتين {يُحاوِرُهُ}؛ أي: يراجع صاحبه، ويكلّمه بالكلام الذي فيه الافتخار بالمال، والخدم، وإنكار البعث والإشراك بالله، من حار إذا رجع {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا} وعن (¬2) محمد بن الحسن رحمه الله: المال كل ما يتملكه الإنسان من دراهم، أو دنانير، أو ذهب، أو فضة، أو حنطة، أو خبز، أو حيوان، أو ثياب، أو سلاح، أو غير ذلك، {وَأَعَزُّ نَفَرًا}؛ أي: أكثر حشمًا، وأعوانًا، وأولادًا ذكورًا لأنهم الذين ينفرون معه دون الإناث، والنفر بفتحتين من الثلاثة إلى العشرة من الرجال، ولا يقال فيما فوق العشرة، وقال صاحب «روح البيان»: لاح لي ههنا إشكال، وهو أنه إن حمل أفعل على حقيقته في التفضيل، يلزم أن يكون الرجلان المذكوران مقدرين لا محقّقين أخوين، لأنه على تقدير التحقيق يقتضي أن لا يكون لأحدهما مال أصلا كما يفصح عنه البيان السابق، وقد أثبت هاهنا الأكثرية للكافر، والأقلية للمؤمن، وجوابه يستنبط من السؤال، والله أعلم بحقيقة الحال انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[35]

والمعنى: أي (¬1) فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره، وراجعه الحديث: أنا أكثر منك مالًا كما ترى، من جنّاتي، وزروعي المختلفة، وأعزّ عشيرةً، ورهطًا تقوم بالذب عني، ودفع خصومي، وتنفر معي عند الحاجة إلى ذلك. 35 - ثم زاد فخرًا على صاحبه المسلم، وأراه عيانًا ما يتمتع به من المناظر البهيجة في تلك الجنان التي لا تفنى في زعمه، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله: {وَدَخَلَ} صاحب الجنتين {جَنَّتَهُ}؛ أي: بستانه مع صاحبه المؤمن يطوف به فيها، ويريه حسنها، ويعجبه منها، ويفاخره بها. وأفرد الجنة (¬2) لأن المراد ما هو جنته، وهي ما متّع به من الدنيا تنبيهًا على أنه لا جنّة له غيرها، ولا حظ له في الجنة التي وعد بها المتقون، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنّ صاحب الجنتين {ظالِمٌ لِنَفْسِهِ}؛ أي: ضار لها بعجبه، واعتماده على ماله، وبكفره بالمبدأ والمعاد، وهو أقبح الظلم، كأنه قيل: فماذا قال إذ ذاك؟ {قالَ} صاحب الجنتين استئناف بيانيّ لسبب الظلم، {ما أَظُنُّ} كثيرًا ما يستعار الظن للعلم، لأنّ الظن الغالب يداني العلم، ويقوم مقامه في العادات والأحكام ومنه: المظنة للعلم {أَنْ تَبِيدَ} وتفنى، وتهلك، وتنعدم، من باد إذا ذهب وانقطع {هذِهِ} الجنة يعني جنتيه {أَبَدًا}؛ أي: دهرا فلطول أمله، وتمادي غفلته، واغتراره بمهلته، قال ذلك بمقابلة موعظة صاحبه، وتذكيره، بفناء جنته، والاغترار بها وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات. والأبد: الدهر (¬3) كالأمد وانتصابه على الظرف، والمراد هنا: المكث الطويل، وهو مدّة حياته، لا الدوام المؤبّد إذ لا يظنّه عاقل لدلالة الحسّ والحدس على أنّ أحوال الدنيا ذاهبة باطلة. 36 - {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ}؛ أي: القيامة التي هي عبارة عن وقت البعث ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

{قائِمَةً}؛ أي: كائنة حاصلة فيما سيأتي، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ}؛ أي: والله لئن رجعت {إِلى رَبِّي} بالبعث على الفرض، والتقدير: كما زعمت أن الساعة آتية فليس فيه دلالة على أنه كان عارفا بربه، مع أن العرفان لا ينافي الإشراك، وكان كافرًا مشركًا. قال في «البرهان» (¬1): قال تعالى هنا: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي} وفي «حم» {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي} لأن الرد يتضمّن كراهة المردود، ولما كان في الكهف، تقديره: ولئن رددت عن جنتي هذه التي ما أظن أن تبيد أبدًا إلى ربي كان لفظ الرد الذي يتضمن الكراهة أولى هنا، وليس في «حم» ما يدل على كراهته، فذكر بلفظ الرّجع ليقع في كل سورة ما يليق بها. انتهى. {لَأَجِدَنَّ} يومئذ {خَيْرًا مِنْها}؛ أي: من هذه الجنة {مُنْقَلَبًا} تمييز محول عن المبتدأ؛ أي: مرجعًا، وعاقبةً، ومدار هذا الطّمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنّما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي، وكرامته عليه سبحانه، وهو معه أينما توجه، ولم يدر أن ذلك استدراج. وحاصل معنى الآيتين: أي ودخل (¬2) هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب، وأشجار، ونخيل، ومعه صاحبه هاتين الجنتين، وطاف به فيهما مفاخرا، وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: - ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدًا، ولا تخرب كما قال: وهو شاك في المعاد إلى الله والبعث والنشور، ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان في كل ذلك ظالمًا لنفسه، إذ وضع الشيء في غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرًا لتلك النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرًا به منكرًا لما جاء به الوحي وأقرته جميع الشرائع. وخلاصة ذلك: أنه لحقه الخسار من وجهين: 1 - ظنه أن تلك الجنة لا تهلك، ولا تبيد مدى الحياة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[37]

2 - ظنه أن يوم القيامة، لن يكون ثمّ تمني أمنية أخرى كان في شك منها، فقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ} إلخ؛ أي: والله لئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، والذي جرّأه على هذا الطّمع، وعلى تلك اليمين الفاجرة، اعتقاده أنّ الله إنما حباه بما حباه به في الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال. وخلاصة ذلك: أنه لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة، ما هو أفضل منها، قال ذلك طمعًا، وتمنيًا على الله، وادعاءً للكرامة عنده تعالى كما مرّ. وقرأ ابن الزبير، وزيد بن علي، وأبو بحرية، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وحميد، وابن مناذر، ونافع، وابن كثير، وابن عامر، {لأجدنّ خيرا منهما} بالتثنية وعود الضمير على الجنتين، وكذا في مصاحف مكة، والمدينة، والشام، وقرأ الكوفيون، وأبو عمرو {مّنها} على الإفراد، وعود الضمير على الجنة المدخولة، وكذا في مصاحف الكوفة، والبصرة، 37 - ثمّ ذكر سبحانه جواب المؤمن له، فقال: {قالَ لَهُ}؛ أي: لصاحب الجنتين {صاحِبُهُ}؛ أي: أخوه المؤمن، وهو استئناف بياني كما سبق {وَهُوَ} أي: والحال أنّ صاحبه المؤمن {يُحاوِرُهُ}؛ أي: يجاوب الكافر، ويخاطبه بالتوبيخ على شكه في حصول البعث. قال في «الإرشاد»: وفائدة هذه الجملة الحالية: التنبيه من أوّل الأمر على أن ما يتلوه كلامٌ معتنى بشأنه مسوق للمحاورة، وقرأ أبيٌّ: {وهو يخاصمه} وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ذكره في «البحر». {أَكَفَرْتَ} حيث قلت: ما أظن الساعة قائمةً، فإنه شك في صفات الله وقدرته، وقرأ ثابت البناني، ويلك أكفرت، وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار، لا قراءة ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، {بِالَّذِي خَلَقَكَ}؛ أي (¬1): في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام. {مِنْ تُرابٍ} فإنّه متضمن بخلقه منه، إذ هو أنموذج مشتمل إجمالًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[38]

على جميع أفراد الجنس، وهمزة الاستفهام فيه للتقرير والإمكان بمعنى ما كان ينبغي أن تكفر، ولم كفرت بمن أوجدك من تراب أولًا {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}؛ أي: من منيّ في رحم أمك، ثانيًا، وهي مادتك القريبة {ثُمَّ سَوَّاكَ}؛ أي: جعلك معتدل الخلق والقامة حال كونك {رَجُلًا}؛ أي: إنسانًا ذكرًا بالغا مبلغ الرجال، قال في «القاموس» الرّجل: بضم الجيم وسكونها: معروف، وإنما هو إذا احتلم وشب. والمعنى: أي (¬1) قال له صاحبه المؤمن واعظًا، وزاجرًا عمّا هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب، إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثمّ يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرًا سويًّا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة، فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادرٌ على أن يخلقك مرة أخرى. والخلاصة: كيف تجحدون ربّكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جليّة، يعلمها كلّ أحد من نفسه، فما من أحد إلّا يعلم أنه كان معدومًا، ثمّ وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنها مثله، 38 - وقد أشار إلى ذلك بقوله: {لكِنَّا}؛ أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية، وأقول: {هُوَ}، أي: الشأن {اللَّهُ رَبِّي}؛ أي: مالكي وخالقي. أصل {لكِنَّا} لكن (¬2) أنا فحذفت الهمزة بنقل حركتها إلى نون لكن أو بدون نقل على خلاف القياس، فتلاقت النّونان، فكان الإدغام، وأثبت جميع القراء ألفها في الوقف، وحذفوها في الوصل غير ابن عامر، فإنه أثبتها في الوصل أيضًا لتعويضها عن الهمزة أو لإجراء الوصل مجرى الوقف، و {هُوَ}: ضمير الشأن مبتدأ خبره {اللَّهُ رَبِّي}، وتلك الجملة خبر (أنا) والعائد منها إليه ياء الضمير في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[39]

{رَبِّي} والاستدراك من قوله: {أَكَفَرْتَ} كأنّه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد، فوقع لكن بين جملتين مختلفتين في النفي والإثبات. وقرأ الكوفيون (¬1)، وأبو عمرو وابن كثير، ونافع في رواية ورش، وقالون {لكن} بتشديد النون بغير ألف في الوصل، وبألف في الوقف، وأصله، ولكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى نون لكن، وحذفت الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر، وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية المستملى، وزيد بن عليّ، والحسن، والزهري، وأبو بحريّة، ويعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية، وكردم، وورش في رواية، وأبو جعفر بإثبات الألف وقفا، ووصلا، أما في الوقف، فظاهر، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام، وغيرهم في الاضطرار، فجاء على لغة بني تميم، وعن أبي جعفر حذف الألف وصلا ووقفا، وذلك من رواية الهاشمي، ودل إثباتها في الوصل أيضًا على أن أصل ذلك: لكن أنا، ويدلّ على ذلك أيضًا قراءة فرقة {لكننا} بحذف الهمزة، وتخفيف النونين، وقرأ أبيّ والحسن {لكن أنا هو الله ربي} على الانفصال، وفكه من الإدغام، وتحقيق الهمز، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود، وحكاها الأهوازي عن الحسن. وقد قرىء (¬2) {لكن هو الله ربي} و {لكن أنا لا إله إلا هو ربي} {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} فهو المعبود وحده لا شريك له، وفيه إيذان بأنّ كفره كان بطريق الإشراك؛ لأن صاحبه لما عجّز الله عن البعث، فقد جعله مساويا لخلقه في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة، فقد أثبت الشريك، 39 - ثم زاد في عظة صاحبه، فقال له: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}؛ أي: وهلّا حين دخلت بستانك، فلولا تحضيضية بمعنى هلا {قُلْتَ} عند إعجابك بها {ما شاءَ اللَّهُ} ما موصولة خبر مبتدأ، محذوف أي الأمر هو الذي شاء الله {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}؛ أي: لا قوّة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله تعالى وإقداره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي.

[40]

والمراد بهذا الكلام (¬1): تحضيضه على الإعتراف بأن جنّته، وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها على حالها عامرة وإن شاء أفناها وجعلها خربةً؛ أي: هلا قلت ذلك اعترافًا بعجزك، وبأن ما تيسر لك من عمارتها، وتدبيرها، إنما هو بمعونته تعالى، وإقداره وفي الحديث «من رأى شيئًا فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوّة إلا بالله، لم تضرّه العين». وفي الحديث أيضًا «من رأى أحدًا أعطي خيرًا من أهل أو مالٍ فقال عنده: ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. لم ير فيه مكروهًا». والمعنى: أي وهلا (¬2) إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها، ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال، والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله، وفضله، وهلا قلت لا قوّة إلا بالله إقرارًا بأنّ ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده. وبعد أن نصح الكافر بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله، وكبير سلطانه، أجابه عن افتخاره بالمال، والنفس وردّ على قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا} وخدمًا في الدنيا أصله: إن ترني، والرؤية إما بصرية فـ {أَقَلَّ} حال، وإما علمية فهو مفعول ثان، والأول ياء المتكلم المحذوفة، وأنا على كلا التقديرين. تأكيد للياء. وقرأ الجمهور (¬3): {أَقَلَّ} بالنصب مفعولًا ثانيًا لـ {تَرَنِ} إن كانت، علميةً أو حالًا إن كانت بصريةً، وقرأ عيسى بن عمر، {أقل} بالرفع على أن تكون {أَنَا} مبتدأ، و {أقل} خبره، والجملة في موضع مفعول {تَرَنِ} الثاني: إن كانت علمية، وفي موضع الحال إن كانت بصرية، ويدل قوله: {وَوَلَدًا} على أن قول صاحبه {وَأَعَزُّ نَفَرًا} عنى به الأولاد إذ قابل كثرة المال بالقلة، وعزة النفر بقلة الولد 40 - {فَعَسى رَبِّي}؛ أي: فلعل ربي {أَنْ يُؤْتِيَنِ}، أي: أن يعطيني أصله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[41]

يؤتيني {خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} هذه في الآخرة بسبب إيماني، لأن الجنة الدنيوية فانية، والأخروية باقية، والجملة جواب الشرط {وَيُرْسِلَ عَلَيْها}؛ أي: على جنتك في الدنيا {حُسْبانًا}؛ أي: عذابًا يرميها به {مِنَ السَّماءِ} من برد أو صاعقة أو نار قال في «القاموس» الحسبان: بالضم جمع حساب، والعذاب، والبلاء، والشّرّ، والصّاعقة، وإنما توقع (¬1) في حقه العذاب لعلمه بأنّ الكفران مؤد إلى الخسران، وأن الإعجاب سبب للخراب كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} فكلامه هذا جواب عن قول صاحبه المنكر للبعث: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا}. {فَتُصْبِحَ} الإصباح هنا بمعنى الصيرورة؛ أي: فتصير جنتك {صَعِيدًا زَلَقًا}؛ أي: أرضًا ملساء لا نبات فيها، بحيث تزلق الرجل فيها لكفرك، ف زَلَقًا مصدر أريد به المفعول مبالغة؛ أي: فتصبح جنتك بعد إرسال الله عليها حسبانًا أرضًا ملساء تزلق فيها الأقدام لملاستها، باستئصال نباتها وأشجارها، وجوز القرطبي أن يكون {زَلَقًا} من زلق رأسه، إذا حلقه، والمراد: أنه لا يبقى فيها نبات كالرأس المحلوق، فـ {زَلَقًا} بمعنى مزلوق أيضًا 41 - {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها}؛ أي: ماء جنّتك معطوفة على الجملة التي قبلها {غَوْرًا}؛ أي: غائرًا داخلًا في الأرض ذاهبا فيها، لا تناله الأيدي، ولا الدلاء، فأطلق هذا المصدر مبالغة. وقرأ الجمهور (¬2): {غَوْرًا} بفتح الغين، وقرأ البرجمي {غورا} بضم الغين، وقرأت فرقة بضم الغين، وهمز الواو، ويعنون بواو بعد الهمزة فيكون {غؤورا} كما جاء في مصدر غارت عينه {غؤورا} {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ}؛ أي: فلن تقدر {لَهُ}؛ أي: للماء الغائر، {طَلَبًا} فضلًا عن وجدانه ورده، قال في «الجلالين»: لا يبقى له أثر تطلبه به؛ أي: لن تستطيع طلب الماء الغائر، فضلًا عن وجوده وردّه، ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل، وقيل (¬3): المعنى فلن تستطيع طلب غيره عوضًا عنه. والمعنى: أي (¬4) إن ترني أيها الرّجل أفقر منك فإني أرجو الله أن يقلب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[42]

الآية، ويجعل ما بي بك، ويرزقني الغنى، ويرزقني لإيماني جنّة خيرًا من جنتك، ويسلبك بكفرك نعمته، ويخرّب جنّتك بأن يرسل عليها مطرا من السماء، يقلع زروعها، وأشجارها، أو يجعل ماءها يغور في الأرض، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه. وخلاصة ذلك: أن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر، إما بآفة سماويّةٍ، أو بآفة أرضيةٍ، وهي غور مائها، وكلتاهما تتلف الشجر والزرع والكرم، 42 - ثمّ أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} قد قدمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره؛ أي: أهلك ثمر بستانه بالكلية، وجميع أمواله مأخوذ (¬1) من أحاط به العدو لأنّه إذا أحاط به فقد غلبه، واستولى عليه، فيهلكه، فهو معطوف على مقدر، كأنه قيل: فوقع بعض ما توقّعه من المحذور، وأهلك أمواله المعهودة التي هي جنتاه وما حوتاه وأحيط بثمره. {فَأَصْبَحَ}؛ أي: صار صاحب الجنّتين {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ظهرًا لبطن، ويضرب إحداهما على الأخرى تأسفًا وتحسرًا كما هو عادة النادمين فإن النادم يضرب يديه واحدةً على الأخرى، قال السمرقندي (¬2) تقليب الكفين، وعض الكف، والأنامل، واليدين، وأكل البنان، وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الندم والحسرة؛ لأنها من روادفها فتطلق الرّادفة على المردوف، فيرتقي الكلام به إلى الذروة العليا، ويزيد الحسن بقبول السامع. انتهى ولكونه في معنى النّدم عداه تعديته بعلى، كأنّه قيل: فأصبح يندم {عَلى ما أَنْفَقَ} وصرف {فِيها}؛ أي: في عمارتها وإصلاحها من الأموال، ولعل (¬3) تخصيص الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنّه إنّما يكون على الأفعال الاختيارية، يقول الفقير الظاهر: أن الإنفاق إنما هو لتملكها، فالتّحسر على ماله مغن عن التحسر على الجنة؛ لأنّها بدله، وهذا شائع في العرف كما يقول بعض النّادمين: قد صرفت لهذا كذا، وكذا مالًا، وقد آل أمره إلى الهلاك متحسرًا على المال المصروف، وجملة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) بحر العلوم. (¬3) روح البيان.

[43]

قوله: {وَهِيَ}، أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل {خاوِيَةٌ}؛ أي: خالية ساقطة، في محل نصب على الحال، يقال: خوت الدار خويّا، إذا تهدمت، وخلت من أهلها؛ أي: ساقطة {عَلى عُرُوشِها}؛ أي: على دعائمها المصنوعة للكروم سقطت عروشها على الأرض، وسقط فوقها الكروم، وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع لكونها العمدة، قيل: أرسل الله تعالى عليها نارا فأحرقتها، وغار ماؤها، وجملة قوله: {وَيَقُولُ} معطوفة على يقلّب، أي: ويقول صاحب الجنة {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}؛ أي: يقول ذلك الكافر: تأسفًا على تلف ماله يا قوم أتمنى عدم إشراكي بالله أحدًا من المخلوقات، كأنّه تذكر موعظة أخيه، وعلم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه، فتمنى أن لا يكون مشركًا، فلم يصبه ما أصابه حين لا ينفعه التّمني، ولمّا (¬1) كانت رغبته في الإيمان لطلب الدنيا لم يكن قوله هذا توبة وتوحيدًا؛ لخلوه عن الإخلاص. والمعنى (¬2): أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا}، فأصبح يقلب كفّيه ندمًا، وأسفًا على ضياع نفقته الّتي أنفقها في عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدًا. والخلاصة: أنه لما أنفق عمره في تحصيل الدنيا، وأعرض عن الدين، ثمّ ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا، ومن ثمّ عظمت حسرته، وقال: {لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} 43 - {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ}، أي: لذلك الكافر {فِئَةٌ}؛ أي: جماعة {يَنْصُرُونَهُ}؛ أي: يقدرون على نصره بدفع الهلاك، أو على رد المهلك والإتيان بمثله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى فإنه وحده القادر على نصره بذلك لا غير، لكنه لا ينصره لاستحقاقه الخذلان بكفره ومعاصيه، {وَما كانَ مُنْتَصِرًا}؛ أي: ممتنعًا بقوته عن انتقامه سبحانه. والمعنى: أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[44]

ويقدرون على دفع الجوائح عنه، أو ردّ المهلك له من دون الله تعالى، فإنّ الله هو الذي يقدر وحده على نصره، وما كان منتصرًا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته. وخلاصته: أنه لا يقدر على نصره إلا الله، ولا ينصره غيره، من عشيرةٍ وولدٍ، وخدمٍ وحشمٍ، وأعوانٍ كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه. وقرأ الأخوان (¬1) - حمزة والكسائي - ومجاهد، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وأيوب، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير: {ولم يكن} بالياء، لأنّ تأنيث الفئة مجاز، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والحسن، وأبو جعفر، وشيبة {وَلَمْ تَكُنْ} بالتاء، وقرأ ابن أبي عبلة {فئة تنصره} على اللفظ. 44 - {هُنالِكَ} أي: في مثل ذلك الوقت، وفي تلك الحال، وفي مثل ذلك المقام {الْوَلايَةُ}؛ أي: النصرة {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى وحده، ولا يقدر عليها أحد {الْحَقِّ}، أي: الثّابت الوجود، أزلًا، وأبدًا، وهو تقرير لقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. والمعنى: أي في مثل تلك الشدائد والمحن، النصرة لله وحده، لا يقدر عليها غيره، أو المعنى (¬2) ينصر في مثل تلك الأحوال أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم، كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وحقق ظنه وترك عدوه مخذولًا مقهورًا، ويؤيّد هذا المعنى قوله: {هُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرٌ ثَوابًا}؛ أي (¬3): إثابة في الآخرة لمن آمن به، والتجأ إليه {وَخَيْرٌ عُقْبًا}؛ أي: عاقبة في الدنيا لمن رجاه، وعمل لوجهه، وقيل: المعنى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا}؛ أي (¬4): أفضل جزاءً لأهل طاعته، لو كان غيره يثيب {وَخَيْرٌ عُقْبًا}؛ أي: عاقبة طاعته، خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير إثابةً وعاقبةً. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) الخازن.

وقرأ ابن كثير (¬1)، ونافع، وابن عامر، وعاصم {الولاية} بفتح الواو بمعنى الموالاة والصلة، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، وابن وثاب، وشيبة، وابن غزوان، عن طلحة، وخلف وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، {الولاية} بكسر الواو، وهي بمعنى الرئاسة والرعاية، وقرأ النحويان: أبو عمرو، والكسائي، وحميد، والأعمش، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، واليزيدي، وابن عيسى الأصبهانيّ {الحَقُّ} برفع القاف، صفة للولاية، وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفًا لله تعالى، وقرأ أُبيٍّ {هنالك الولاية الحق لله} برفع الحقّ صفة لـ {الْوَلايَةُ} وتقديمها على قوله {لِلَّهِ}، وقرأ أبو حيوة، وزيد بن علي، وعمرو بن عبيد، وابن أبي عبلة، وأبو السمال، ويعقوب عن عصمة، عن أبي عمرو لله الحق بنصب الحق قال الزمخشري على التأكيد «والمدح». قال أبو علي (¬2): من كسر قاف {الْحَقِّ} جعله من وصف الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة لـ {الْوَلايَةُ} فإن قيل: لم نعت الولاية، وهي مؤنثة بالحق، وهو مصدر؟ فعنه جوابان: ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنّ تأنيثها ليس حقيقيًا، فحملت على معنى النصر، والتقدير: هنالك النصر لله الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصّياح في قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}. والثاني: أن الحقّ مصدرٌ يستوي في لفظه المذكر والمؤنث، والاثنان والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حقٌّ، ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار هو. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي {عقبا} بضم القاف، والتنوين، وقرأ عاصم، وحمزة، والحسن، والأعمش، {عقبا} بسكون القاف، والتنوين، وعن عاصم {عقبى} بألف التأنيث المقصورة على وزن رجعى. قال أبو علي: ما كان على {فُعُل} جاز تخفيفه بسكون عينه، كالعنق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

[45]

والطّنب. قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى والعاقبة بمعنًى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره. 45 - وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم وكانت سبب شقائهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ضرب مثلًا لدار الدنيا عامّة في سرعة فنائها، وعدم دوام نعميها. فقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك وبيّن لهم {مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا}؛ أي: صفتها العجيبة في فنائها، وبيّن لهم ما يشبهها في زهرتها، ونضارتها، وسرعة زوالها؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يعكفوا عليها، ولا يعرضوا عن الآخرة بالكليّة، وقوله: {كَماءٍ} استئناف (¬1) لبيان المثل؛ أي: هي كماء {أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ} ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء وحده، بل بمجموع ما في حيز الأداة؛ أي: صفتها، وحالها وهيئتها كصفة، وحال وهيئة ماء أنزلناه من السحاب {فَاخْتَلَطَ بِهِ}؛ أي: بذلك الماء؛ أي: التف وتكاتف، وتراكم بسبب ذلك الماء {نَباتُ الْأَرْضِ} أشجارها، وزروعها، وحشيشها، حتى خالط بعضه بعضًا، وصار في المنظر في غاية الحسن والنضارة {فَأَصْبَحَ} ذلك النبات؛ أي: فصار ذلك النبات الملتف إثر بهجته، ونضارته {هَشِيمًا}؛ أي: مهشومًا مكسورًا ليبسه، من الهشم، وهو: كسر الشيء الرخو {تَذْرُوهُ الرِّياحُ}؛ أي: تحمله، وتفرقه، وتطيّره وتذهبه وتعدمه، يقال: ذرت الريح الشيء، وأذرته، وذرته أطارته وأذهبته، وذرا هو بنفسه، ويقال: ذرى الحنطة: إذا نقّاها في الريح كما في «القاموس»، وهذه الآية مختصرة من قوله: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ} الآية. شبه الدنيا في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال بحال نبات اخضرّ والتف، وأزهر، ثمّ صار هشيمًا متفتتًا تنثره الرياح ذات اليمين وذات الشمال، ومن ثمّ ينبغي أن لا يغترن أهلها بها، ولا يفخرن ذوو الأموال الكثيرة بأموالهم، ولا يستكبرن بها على غيرهم، فإنّما هي ظلٌّ زائلٌ، وضيفٌ راحل، وفي الحديث ¬

_ (¬1) روح البيان.

[46]

«الدنيا كسوق قام ثمّ انفض». وقرأ ابن مسعود، وأبي وابن عباس، وابن أبي عبلة (¬1): {تذريه} بضم التاء وكسر الراء، بعدها ياء ساكنة، وهاء مكسورة من أذرى الرباعيّ إلا أنّ ابن مسعود فتح التاء، وقرأ (¬2) زيد بن علي، والحسن، والنخعي، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن محيصن، وخلف، وابن عيسى، وابن جرير {الريح} على الإفراد، وقرأ الجمهور {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} بالجمع {وَكانَ اللَّهُ} سبحانه ذو الكمال والجلال {عَلى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه من الإنشاء والإبقاء، والإفناء {مُقْتَدِرًا}؛ أي: قادرًا لا يعجزه شيء، والمقتدر مفتعل من قدرت؛ أي: وكان (¬3) الله ذو الجلال والجمال قادرًا على كل شيءٍ إنشاءً وفناءً وإعادة فهو يوجد الأشياء، ثم ينميها ثم يفنيها، وما حال الدنيا إلا هذه الحال، فهي تظهر أوّلًا ناضرةً ظاهرةً، ثمّ تتزايد قليلًا قليلًا، ثمّ تأخذ في الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك، والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها، أو يفخر به، أو يصعّر خدّه استكبارًا، 46 - ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، إثر بيان حالها بما مرّ من المثل، فقال: {الْمالُ وَالْبَنُونَ} اللذان يفتخر بهما الناس، لا سيّما رؤساء العرب وأغنياؤهم، {زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}؛ أي: شيءٌ يتزينون به في الحياة الدنيا، ويفنى عنهم عن قريب، وليسا من زاد الآخرة، فيقبح بالعاقل أن يفتخر بهما، والزّينة (¬4) مصدر في الأصل، أطلق على المفعول مبالغة، كأنهما نفس الزينة، وقدم (¬5) المال على البنين مع كونهم أعزّ منه لدى جميع الناس من قبل أنّ الزينة به أتمّ، ولأنه يمدّ الآباء والأبناء في كل حين، ولأنه مناط ببقاء النفس والأولاد، وبذا يبقى النوع الإنساني، ولأنّ الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم، ولأنه زينة بدونهم، دون العكس، فإنّ من له بنون ولا مال له، فهو في بؤس وشقاء. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان. (¬5) المراغي.

روي عن علي - رضي الله عنه -: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. وهذا (¬1) رد على الأغنياء والرؤساء الذين يفتخرون بالمال والغنى والأبناء، فأخبرهم سبحانه أنّ ذلك مما يتزين به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى: {أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال أيضًا: {إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}، ولهذا عقّب هذه الزينة الدنيوية بقوله: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ}؛ أي: والأعمال الصالحة التي تبقى ثمراتها أبد الآباد من الصلاة، والصوم، والزكاة، وأعمال الحج، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة البائسين وذوي الحاجات، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ونحو ذلك من الكلم الطيب، {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} في الآخرة من الفانيات الفاسدات، من المال والبنين؛ أي: أفضل لصاحبها من هذه الزينة بالمال والبنين في الآخرة. {ثَوابًا} وجزاء، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها {وَخَيْرٌ أَمَلًا}؛ أي: رجاء (¬2) حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كلّ ما كان يؤمله في الدنيا، وأما ما مر من المال والبنين: فليس لصاحبه أمل يناله. يعني أن (¬3) هذه الأعمال الصّالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل ممّا كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} والظاهر أنّ الباقيات الصالحات كلّ عمل خير، فلا وجه لقصرها على الصلاة، كما قاله بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعضٌ آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث الآتية ببعض الأعمال الصالحة بخصوصها لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها. وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم، وصححه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[47]

«استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟: قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله». وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهنّ يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة». وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا «خذوا جنّتكم قيل: يا رسول الله من أي عدوّ قد حضر؟ قال: بل جنتكم من النار، قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، معقبات، ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات». 47 - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد، أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ}، وقرأ (¬1) نافع، وحمزة، والكسائي، والأعرج، وشيبة، وعاصم، وابن مصرف، وأبو عبد الرحمن، {نُسَيِّرُ} بنون العظمة {الْجِبالَ} بالنصب، وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو، والحسن، وشبل، وقتادة، وعيسى، والزهري وحميد، وطلحة، واليزيدي، والزبيري، عن رجاله، عن يعقوب {تسير} بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنيًا للمفعول، {الجبال} بالرفع، وعن الحسن كذلك إلّا أنه بضم الياء المثناة من تحتها، وقرأ ابن محصين، ومحبوب عن أبي عمرو {ويوم تسير الجبال} من سار الثلاثي، وقرأ أبي {ويوم سيرت الجبال} بصيغة الماضي المبني للمجهول. أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة يوم نسير الجبال، ونقلعها، ونزيلها من أماكنها، وتسير في الجو على هيآتها كما تسير السحاب، أو تسير أجزاؤها بعد أن نجعلها هباء منبثًا، والمراد بتذكيره: تحذير المشركين، مما فيه من الدواهي {وَتَرَى} يا محمد أو يا كلّ من يصلح للرؤية {الْأَرْضَ}؛ أي جميع جوانبها حالة كونها {بارِزَةً}؛ أي: ظاهرة منكشفة ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[48]

نبات {وَحَشَرْناهُمْ}؛ أي: والحال أنا قد جمعنا الخلائق من الأولين والآخرين من كل جانب إلى الموقف. {فَلَمْ نُغادِرْ}؛ أي: لم نترك {مِنْهُمْ أَحَدًا} تحت الأرض إلا وقد جمعناهم لذلك اليوم، يقال: غادره: وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، ومنه: الغدير، وهو ماء غادره السيل، وتركه في الأرض الغائرة، أي: المنخفضة. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬1): لم جيء بـ {حَشَرْناهُمْ} ماضيا بعد {نُسَيِّرُ} و {تَرَى}؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك انتهى. والأولى أن تكون {الواو} واو الحال، لا واو العطف، والمعنى: وقد حشرناهم؛ أي: يوقع التسيير في حالة حشرهم، وقيل: {وَحَشَرْناهُمْ}، {وَعُرِضُوا}، {وَوُضِعَ الْكِتابُ} مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقيق وقوعه. وقرأ عمرو بن العاص وابن السميفع وأبو العالية (¬2): {وترى الأرض بارزة} بضم التاء، والضاد، وقرأ أبو رجاء العطاردي، كذلك إلا أنه فتح ضاد الأرض. وقرأ الجمهور (¬3): {نُغادِرْ} بنون العظمة وقتادة {تغادر} على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك، أو بفتح الدال وبالياء مبنيًا للمفعول و {أحد} بالرفع، وعصمة كذلك، والضحاك {نغدر} بضم النون، وإسكان الغين، وكسر الدال. 48 - {وَعُرِضُوا}؛ أي: الخلائق يوم القيامة يعني المحشورين {عَلى رَبِّكَ} كعرض الجند على السلطان ليقضى بينهم حالة كونهم {صَفًّا}؛ أي: مصفوفين كل أمة وزمرة صف. والمعنى (¬4): صفوفًا يقف بعضهم وراء بعض، غير متفرقين، ولا مختلطين، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، ليحكم فيهم بما أراد، لا ليعرفهم، مقولًا لهم وعزتي وجلالي {لَقَدْ جِئْتُمُونا} أيها العباد حالة كونكم كائنين {كَما خَلَقْناكُمْ} خلقا {أَوَّلَ مَرَّةٍ} حفاة عراة غرلًا، بلا أموال، وأعوان، وبنين كما ورد في الحديث، وعن عائشة - رضي الله عنها - قلت: يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: «عراة حفاة» قلت: والنّساء؟ قال: «نعم» قلت: يا رسول الله نستحي؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشد من ذلك، لن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ} إضراب وانتقال من كلام إلى كلام آخر للتقريع، والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث؛ أي: بل زعمتم، وقلتم أيها المشركون المنكرون للبعث، والزعم الادعاء بالكذب، {أن} مخففة من الثقيلة؛ أي: بل زعمتم في الدنيا أنه {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ} في الآخرة أبدًا {مَوْعِدًا}؛ أي: وقتًا ننجز فيه ما وعدناه لكم على ألسنة الأنبياء من البعث والمحاسبة، والمجازاة خيرًا أو شرًّا. والحاصل: أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أحوال يوم القيامة أمورًا: 1 - {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ}؛ أي: واذكر أيها الرسول قصّة يوم نقلع الجبال من أماكنها، ونسيرها في الجو كالسحاب، ونجعلها هباء منثورا كما قال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107)}؛ أي: تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض سطحًا مستويًا لا عوج فيه، ولا وادي، ولا جبل، وقال: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} وقال: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)}. 2 - {وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً}؛ أي: وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة إذ لم يبق على وجهها شيء من العمائر ولا شيء من الجبال، ولا شيء من الأشجار، فليس عليها ما يسترها، فيكون جميع الخلائق ضاحين لربهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهذا هو المراد من قوله: {لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107)}.

[49]

3 - {وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}؛ أي: وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم، فلم نترك منهم أحدًا لا صغيرًا، ولا كبيرًا، كما قال: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} وقال: {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. ولما ذكر سبحانه حشر الخلق .. بيّن كيفية عرضهم على ربهم فقال: 4 - {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}؛ أي: يعرض الخلق كلهم على الله صفًّا واحدًا، كما قال: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا أيها الناس، أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أوّل مرة فرادى، حفاةً، عراةً، لا شيء معكم من المال، والولد، ونحو الآية قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ} وفي هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث، الذين يفخرون في الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار. أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ينادي يوم القيامة: يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم، ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب». وفي الحديث الصحيح: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ...» والحديث له بقية. 5 - 49 {وَوُضِعَ الْكِتابُ} معطوف على «عرضو» والمراد (¬1) بالكتاب، صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع: إما حسي بأن توضع صحيفة كل واحد في يده، السعيد في يمينه، والشقي في شماله، أو في الميزان، وإما عقلي، أي: أظهر عمل كل واحد من خير أو شر بالحساب الكائن في ذلك اليوم، وقرأ زيد بن علي {ووضع} مبنيًا للفاعل {الكتاب} بالنصب، والفاعل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الله أو الملك، أي: وضع (¬1) في هذا اليوم الرهيب، كتاب كل إنسان في يده اليمنى، إن كان مؤمنًا، وفي يده اليسرى إن كان كافرًا، فقد تطايرت الكتب إلى أيدي الخلائق مثل الثلج {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: المشركين والمنافقين {مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}؛ أي: خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة؛ أي: يحصل لهم خوف العقاب من الله بذنوبهم، وخوف الفضيحة عند الخلق بظهور الجرائم لأهل الموقف، {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول المجرمون عند وقوفهم على ما في الكتاب من السيئات، نقيرًا، وقطميرًا، تعجبًا من شأنه {يا وَيْلَتَنا}؛ أي: يا هلكتنا احضري وتعالي فهذا أوانك، يدعون على أنفسهم بالويل، لوقوعهم في الهلاك (¬2)، منادين لهلكتهم التي هلكوا بها من بين الهلكات، مستدعين لها ليهلكوا ولا يروا هول ما لاقوه، فإن الويل والويلة الهلكة. {مالِ هذَا الْكِتابِ} قال البقاعي (¬3): رسم لام الجر وحده إشارةٌ إلى أنهم صاروا من قوة الرعب، وشدة الكرب، يقفون على بعض الكلمة؛ أي: أي شيء لهذا الكتاب حالة كونه {لا يُغادِرُ}، ولا يترك {صَغِيرَةً} من السيئات {وَلا كَبِيرَةً} من الذنوب تصدر عن جانيها، وقدّم الصغيرة اهتمامًا بها، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى. {إِلَّا أَحْصاها}؛ أي: إلّا عدها، وضبطها، وحواها، وأثبتها، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الصّغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة، وعن سعيد بن جبير: الصغيرة: المسيس، والكبيرة الزنا؛ وهذا (¬4) الإحصاء لا يعارض قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...} الآية، إذ لا يلزم من العد عدم التكفير، إذ يجوز أن تكتب الكبائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثمّ تكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو عليه اهـ كرخي. {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا} في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا {حاضِرًا}، أي مكتوبًا مثبتًا في كتابهم، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} من خلقه، فلا ينقص من حسنات أحد أجره الذي يستحقه، ولا يزيد على سيئات ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات.

أحد، فيكتب ما لم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله، فيكون إظهارا لمعدلة القلم الأزلي. بل يعفو (¬1) ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، فإنه سبحانه وعد بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة، وإنه قد يغفر له ما سوى الكفر، ومن ثم لا يعذب أحدًا بما لم يعمله، ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه، ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه، ولم يرتضه. ونحو الآية قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)}. وخلاصة ذلك: أن الجزاء نتيجة العمل، والعمل مرسوم في قوالب حافظة له، فليس يمكن رفعه، ولا دفعه، ولا يكون الجزاء عليه ظلما، كما لا تعد التخمة بعد الأكل الكثير ظلمًا، ولا المرض بعد الشرب من الماء الآسن المملوء بالجراثيم والأدران ظلمًا، وإنما تلك مسببات لأسباب كلّ عاقل يعلم أنّها نتيجة حتمية لها. الإعراب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (32)}. {وَاضْرِبْ} {الواو}: استئنافية، {اضْرِبْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {لَهُمْ}: متعلق بـ {اضْرِبْ} {مَثَلًا}: مفعول ثان لـ {اضْرِبْ} لأنه بمعنى اجعل {رَجُلَيْنِ}: مفعول أول له؛ أي: واجعل رجلين مثلًا، وشبها لهم، وفي «روح البيان» {مَثَلًا رَجُلَيْنِ} مفعولان لـ {اضْرِبْ} أولهما ثانيهما، لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان اهـ {جَعَلْنا}: فعل وفاعل {لِأَحَدِهِما}: مفعول ثان لـ {جَعَلْنا} {جَنَّتَيْنِ}: مفعول أول له {مِنْ أَعْنابٍ}: صفة لـ {جَنَّتَيْنِ}، ¬

_ (¬1) المراغي.

والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {رَجُلَيْنِ} ولكنها سببية، {وَحَفَفْناهُما}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {جَعَلْنا} {بِنَخْلٍ}: متعلق بـ {حففنا} {وَجَعَلْنا}: فعل وفاعل {بَيْنَهُما}: ظرف في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنا} {زَرْعًا}: مفعول أول له، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنا لِأَحَدِهِما}. {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}. {كِلْتَا}: مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنه اسم مقصور {الْجَنَّتَيْنِ}: مضاف إليه {آتَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {كِلْتَا} {أُكُلَها}: مفعول ثان لـ {آتَتْ}، والأول محذوف تقديره: آتته أكلها؛ لأن {آتى} هنا بمعنى أعطى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ وقد روعي لفظ {كِلْتَا} فأتى الخبر مفردًا، وروعيت التثنية المعنوية في قوله: {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا}، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ {جَنَّتَيْنِ} في قوله: {جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ} أو مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، {وَلَمْ تَظْلِمْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على {كِلْتَا} {مِنْهُ}: حال من {شَيْئًا}، لأنه صفة نكرة قدمت عليها {شَيْئًا}: مفعول به لـ {تَظْلِمْ}، أو مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {آتَتْ} {وَفَجَّرْنا}: فعل وفاعل معطوف على {آتَتْ} {خِلالَهُما}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {فَجَّرْنا} {نَهَرًا}: مفعول به، {وَكانَ}: الواو: عاطفة {كَانَ}: فعل ماض ناقص {لَهُ}: خبرها مقدم {ثَمَرٌ}: اسمها مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ}. {فَقالَ}: {الفاء}: عاطفة {قال} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنتين {لِصاحِبِهِ} متعلق بـ {قال}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَانَ} {وَهُوَ}: {الواو} حالية {هُوَ} مبتدأ، وجملة {يُحاوِرُهُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل قال {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَنَا أَكْثَرُ}: مبتدأ وخبر {مِنْكَ}: متعلق بـ {أَكْثَرُ} {مالًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، {وَأَعَزُّ نَفَرًا}: معطوف على {أكثر مالا}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال}.

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا (35)}. {وَدَخَلَ}: {الواو} عاطفة {دَخَلَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنتين {جَنَّتَهُ}: مفعول به على السعة، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}، {وَهُوَ}: {الواو} حالية {هُوَ ظالِمٌ}: مبتدأ وخبر {لِنَفْسِهِ}: {اللام} زائدة لـ {نفسه} مفعول به لـ {ظالِمٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل، {دَخَلَ}: {قالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الظلم، وهو الأحسن، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في {ظالِمٌ}؛ أي: وهو ظالم في حال كونه قائلًا كذا في «الجمل». {ما} نافية {أَظُنُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الداخل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} {أَنْ تَبِيدَ هذِهِ}: ناصب وفعل وفاعل {أَبَدًا}: ظرف زمان متعلق بـ {تَبِيدَ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي {أَظُنُّ} تقديره: ما أظن بيد هذه الجنة وهلاكها أبدًا. {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا (36)}. {وَما} {الواو}: عاطفة {ما} نافية {أَظُنُّ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الداخل، والجملة معطوفة على جملة قوله {ما أَظُنُّ} {السَّاعَةَ قائِمَةً}: مفعولان لـ {أَظُنُّ} {وَلَئِنْ}: {الواو} عاطفة، و {اللام} موطئة للقسم {إن} حرف شرط {رُدِدْتُ}: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {إِلى رَبِّي}: متعلق به {لَأَجِدَنَّ}: {اللام} واقعة في جواب القسم مؤكدة للأولى {أجدن} فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الداخل {خَيْرًا}: مفعول به لأنه من وجد بمعنى أصاب {مِنْها}: متعلق بـ {خَيْرًا} {مُنْقَلَبًا}: تمييز لـ {خَيْرًا} منصوب به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {ما أَظُنُّ} على كونها مقول {قالَ}، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم كما هي القاعدة على حدّ قول ابن مالك:

واحذف لدى اجتماعِ شَرطٍ وَقَسَمْ ... جَوابَ ما أَخَّرتَ فهو مُلتزَمْ التقدير: إن رددت إلى ربي أجد خيرًا منها منقلبًا، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه. {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}. {قَالَ}: فعل ماض {لَهُ}: متعلق به {صاحِبُهُ}: فاعل، والجملة مستأنفة، {وَهُوَ}: مبتدأ، وجملة {يُحاوِرُهُ}: خبره والجملة الاسمية في محل النصب حال من صاحبه، {أَكَفَرْتَ} إلى قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَكَفَرْتَ}: {الهمزة} للاستفهام التوبيخي {كَفَرْتَ} فعل وفاعل {بِالَّذِي}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {خَلَقَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، {مِنْ تُرابٍ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {مِنْ نُطْفَةٍ}: جار ومجرور معطوف على الجار، والمجرور قبله. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {سَوَّاكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة {رَجُلًا}: حال من (كاف) الخطاب، ولكنه جامد مؤول بمشتق تقديره: كاملًا، ويجوز أن يعرب مفعولًا ثانيًا لـ {سَوَّاكَ}. {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا (39)}. {لكِنَّا} أصله لكن أنا هو الله {لكن} حرف استدراك استدرك به على قوله: {أَكَفَرْتَ}: {أنا} ضمير المتكلم مبتدأ أول {هُوَ}: ضمير شأن مبتدأ ثان {اللَّهُ}: مبتدأ ثالث {رَبِّي}: خبر لثالث، وجملة الثالث خبر للثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول في محل النصب مقول {قالَ} {وَلا}: {الواو} استئنافية {لا} نافية {أُشْرِكُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الرجل المؤمن منهما {بِرَبِّي} متعلق بـ {أُشْرِكُ} {أَحَدًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {وَلَوْلا}: الواو استئنافية {لَوْلا}: حرف تحضيض

بمعنى هلا {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {قُلْتَ} {دَخَلْتَ}: فعل وفاعل {جَنَّتَكَ}: مفعول به على السعة، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {قُلْتَ}: فعل وفاعل والتّقدير: ولولا قلت وقت دخولك جنتك، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} {ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} مقول محكي لـ {قُلْتَ}، وإن شئت قلت: {ما} موصولة في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الذي أعطيته هو ما شاءه الله، وأراده لا بحولي، وقوتي، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْتَ} {شاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره ما شاءه الله {لا} نافية تعمل عمل إن {قُوَّةَ}: في محل النصب اسمها {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {بِاللَّهِ}: خبر لا، وجملة {لا} في محل النصب مقول {قُلْتَ} {إِنْ}: حرف شرط {تَرَنِ} فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة النون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزأ عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول أول لـ {ترى} {أَنَا} تأكيد لياء المتكلم المحذوفة {أَقَلَّ}: مفعول ثان لـ {تر} {مِنْكَ}: متعلق بـ {أَقَلَّ} {مالًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل {وَوَلَدًا}: معطوف على {مالًا}. {فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)}. {فَعَسَى}: {الفاء} رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة جامديةً {عسى} فعل ماض من أفعال الرجاء {رَبِّي}: اسمها {أَنْ} حرف مصدر {يُؤْتِيَنِ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول أول {خَيْرًا}: مفعول ثان لـ {أتى} {مِنْ جَنَّتِكَ}: متعلق بـ {خَيْرًا} والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرا لـ {عسى}، ولكنه في تأويل مشتق، والتقدير، فعسى ربي آتيًا إياي خيرًا من جنتك، وجملة {عسى} في محل الجزم جواب لـ {إِنْ} الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية في

محل النصب مقول {قالَ} {وَيُرْسِلَ}: معطوف على {يُؤْتِيَنِ}، وفاعله ضمير يعود على {رَبِّي} {عَلَيْها}: متعلق بـ {يُرْسِلَ} {حُسْبانًا}: مفعول به {مِنَ السَّماءِ}: صفة لـ {حُسْبانًا} {فَتُصْبِحَ}: {الفاء} عاطفة {تصبح} فعل مضارع معطوف على {يُرْسِلَ} هي فعل من الأفعال الناقصة، واسمها ضمير يعود على {جَنَّتِكَ} {صَعِيدًا}: خبر {أصبح} منصوب {زَلَقًا}: صفة لـ {صَعِيدًا}. {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)}. {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا}: فعل ناقص واسمه، وخبره معطوف على قوله: {فَتُصْبِحَ} {فَلَنْ} {الفاء} عاطفةٌ {لن} حرف نصب {تَسْتَطِيعَ}: منصوب بـ {لن}، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة {لَهُ}: متعلق بـ {طَلَبًا} {طَلَبًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يُصْبِحَ}. {وَأُحِيطَ}: {الواو} عاطفة على محذوف تقديره: فانقضت الصواعق على جنته، وغارت المياه فيها، وأحيط بثمره، {أُحِيطَ}: فعل ماض مغير الصيغة {بِثَمَرِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {فَأَصْبَحَ}: {الفاء} عاطفة {أصبح} فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على صاحب الجنة {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، {عَلى ما} جار ومجرور متعلق بـ {يُقَلِّبُ} لأنه ضمنه معنى يندم، وجملة {يُقَلِّبُ}: في محل النصب خبر {أصبح}، وجملة {أصبح}: معطوفة على جملة {أُحِيطَ}. {أَنْفَقَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة {فِيها}: متعلق بـ {أَنْفَقَ}، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: على ما أنفقه فيها، {وَهِيَ خاوِيَةٌ}: مبتدأ وخبر {عَلى عُرُوشِها}: متعلق بـ {خاوِيَةٌ} والجملة في محل النصب حال من ضمير {فِيها} {وَيَقُولُ}: فعل مضارع معطوف على {يُقَلِّبُ} وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، {يا لَيْتَنِي} إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت قلت: {يا} حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف تقديره: يا قوم {لَيْتَنِي}: {ليت} حرف تمني ونصب، والنون للوقاية لأنّها تقي حركة البناء الأصلي عن الكسر، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها

{لَمْ أُشْرِكْ}: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة {بِرَبِّي}: متعلق بـ {أُشْرِكْ} {أَحَدًا}: مفعول به، وجملة {أُشْرِكْ}: في محل الرفع خبر {ليت}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}. {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة {لَمْ تَكُنْ} جازم ومجزوم، {لَهُ}: خبر مقدم لـ {تَكُنْ} {فِئَةٌ}: اسمها مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {أُحِيطَ}. {يَنْصُرُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة لـ {فِئَةٌ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من فاعل {ينصرون} وذكّرت الصفة، وجمعت لأن الفئة تتضمن الجمع، وهو يتضمن الذكور والإناث، {وَما} {الواو} عاطفة {ما} نافية {كانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على صاحب الجنة {مُنْتَصِرًا}: خبرها، والجملة معطوفة على جملة {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ}. {هُنالِكَ}: اسم إشارة يشار به إلى المكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، واللام لبعد المشار إليه، و {الكاف} حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {الْوَلايَةُ}: مبتدأ {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والتقدير: الولاية مستحقة مستقرة لله هنالك لا لغيره، والجملة الاسمية مستأنفة {الْحَقِّ}: بالجر صفة للجلالة، وبالرّفع صفة لـ {الْوَلايَةُ}؛ أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو الحق، {هُوَ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر {ثَوابًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بأفعل التفضيل، {وَخَيْرٌ عُقْبًا}: معطوف على {خَيْرٌ ثَوابًا} و {عُقْبًا} بمعنى عاقبة. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}. {وَاضْرِبْ} {الواو}: استئنافية {اضْرِبْ}: فعل أمر بمعنى اذكر، وفاعله ضمير يعود على محمد {لَهُمْ}: متعلق به {مَثَلَ الْحَياةِ}: مفعول به {الدُّنْيا}: صفة لـ {الْحَياةِ}؛ أي: واذكر لهم صفة الحياة الدنيا، والجملة مستأنفة {كَماءٍ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي كماء، والجملة مستأنفة استئنافًا

بيانيًا، ويجوز أن يكون {مَثَلَ الْحَياةِ}: مفعولًا أول {كَماءٍ}: مفعولًا ثانيًا؛ أي: واجعل لهم مثل الحياة الدنيا مثل ماء، {أَنْزَلْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول {مِنَ السَّماءِ}: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة لـ {ماء} {فَاخْتَلَطَ}: {الفاء} عاطفة {اختلط}: فعل ماض {بِهِ} متعلق به {نَباتُ الْأَرْضِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلْناهُ}. {فَأَصْبَحَ}: {الفاء} عاطفة {أصبح} فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على نبات الأرض {هَشِيمًا}: خبر {أصبح}، والجملة معطوفة على جملة {اختلط} {تَذْرُوهُ الرِّياحُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ {هَشِيمًا}، {وَكانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه {عَلى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {مُقْتَدِرًا} {مُقْتَدِرًا}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}. {الْمالُ}: مبتدأ {وَالْبَنُونَ}: معطوف عليه {زِينَةُ الْحَياةِ}: خبر، ومضاف إليه {الدُّنْيا}: صفة للحياة، والجملة مستأنفة {وَالْباقِياتُ}: مبتدأ {الصَّالِحاتُ}: صفة لـ {وَالْباقِياتُ} {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ {عِنْدَ رَبِّكَ}: متعلق بـ {خَيْرٌ} {ثَوابًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَخَيْرٌ}: معطوف على خير {أَمَلًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل. {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}. {وَيَوْمَ} {الواو} استئنافية {يَوْمَ}: ظرف متعلّق بمحذوف تقديره: واذكر لهم يوم نسير الجبال؛ أي: قصته وهوله، والجملة المحذوفة مستأنفة، {نُسَيِّرُ الْجِبالَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ} {وَتَرَى الْأَرْضَ}: فعل ومفعول به لأن {تَرَى} بصرية {بارِزَةً}: حال من {الْأَرْضَ}: وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَحَشَرْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نُسَيِّرُ الْجِبالَ} ولكنه على تقدير قد لكونه فعلًا ماضيًا؛

أي: ويوم نسير الجبال حالة كوننا حاشرين إياهم، {فَلَمْ}: {الفاء} عاطفة {لم} {نُغادِرْ}: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله {مِنْهُمْ}: حال من {أَحَدًا}. {أَحَدًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {وَحَشَرْناهُمْ}: لأنه ماض معنى بسبب لم. {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}. {وَعُرِضُوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {وَحَشَرْناهُمْ}. {عَلى رَبِّكَ}: متعلق به {صَفًّا}: حال من {الواو} في {عُرِضُوا} أي: حالة كونهم مصفوفين {لَقَدْ}: {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {جِئْتُمُونا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول لقول محذوف حال من {واو} عُرِضُوا: والتقدير: وعرضوا على ربك صفا حالة كونهم مقولًا لهم لقد جئتمونا {كَما}: {الكاف} حرف جر وتشبيه {ما} مصدرية {خَلَقْناكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {أَوَّلَ مَرَّةٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {خَلَقْناكُمْ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} تقديره: كخلقنا إياكم أول مرة، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لقد جئتمونا مجيئًا مشابهًا بخلقنا إياكم أول مرة حفاة عراة غرلا. {بَلْ} حرف إضراب وانتقال مفيد للتوبيخ {زَعَمْتُمْ}: فعل وفاعل {أَلَّنْ} {أن} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن {لن} حرف نفي ونصب، {نَجْعَلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن} وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني {مَوْعِدًا}: مفعول أول لـ {جعل} إذا كان بمعنى صير، وإذا كان الجعل مجرد الإيجاد كانت لكم متعلقة به و {مَوْعِدًا}: هو المفعول به و {مَوْعِدًا} أي مكانًا، وزمانًا تبعثون فيه، وجملة {نَجْعَلَ}: في محل الرفع خبر أن المخففة، وجملة {أن} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم، والتقدير: بل زعمتم عدم جعلنا لكم موعدا تبعثون فيه. {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}.

{وَوُضِعَ الْكِتابُ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {وَعُرِضُوا} {فَتَرَى}: {الفاء} عاطفة {ترى} فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير يعود على محمد {الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ}: مفعولان لـ {ترى} إن كانت علمية، {مُشْفِقِينَ}: حال إن كانت بصرية، والجملة معطوفة على جملة {وُضِعَ} {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُشْفِقِينَ} {فِيهِ}: جار ومجرور، صلة لـ {ما}، أو صفة لها {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا {يا وَيْلَتَنا} إلى قوله: {وَوَجَدُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا} حرف نداء {وَيْلَتَنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {لِهذَا}: جار ومجرور خبره {الْكِتابُ}: بدل من اسم الإشارة، والجملة في محل النصب مقول القول {لا}: نافية {يُغادِرُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكتاب {صَغِيرَةً}: مفعول به {وَلا كَبِيرَةً}: معطوف عليه، وجملة {لا يُغادِرُ}: في محل النصب حال من الكتاب، والعامل فيه، الجار والمجرور، لقيامه مقام الفعل، أو الاستقرار الذي تعلق به الجار {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أَحْصَاهَا}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الْكِتابُ}، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {صَغِيرَةً} و {كَبِيرَةً} ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني، لأن {يُغادِرُ} بمعنى يترك، ويترك قد يتعدى لاثنين اهـ «سمين». {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. {وَوَجَدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {وَوُضِعَ} {ما} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ {وَجَدُوا} {عَمِلُوا}: فعل وفاعل صلة {ما} الموصولة أو صفة {ما} الموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما عملوه {حاضِرًا}: مفعول ثان لـ {وجد} {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {جَنَّتَيْنِ}: تثنية جنة، والجنة البستان سميت بذلك لاجتنان أرضها، واستتارها بظل الشجر، وكل مادة (جـ ن ن) تفيد الخفاء، والاستتار كالجنين،

والجن، والمجنون لاستتار عقله، وجن الليل؛ أي: أظلم إلى نحو ذلك {مِنْ أَعْنابٍ}؛ أي: كروم منوعة، جمع عنب، والعنبة الحبة، وفي «القاموس» وغيره: عنب الكرم صار ذا عنب، والعنب ثمر الكرم، وجمعه أعناب، والحبة منه عنبة {وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ}؛ أي: جعلنا النّخل محيطًا بكل منهما يقال: حفه القوم إذا طافوا به، وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله، فتزيده الباء مفعولًا ثانيًا كقولك: غشية، وعشيته به، والمعنى: جعلنا النخل محيطًا بهما مطبقا بحفافيهما؛ أي: جانبيهما، ومنه قوله تعالى: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} {أُكُلَها}؛ أي: ثمرها {وَلَمْ تَظْلِمْ}؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا {نَهَرًا} والنّهر: بالتحريك لغة في النهر بالسكون، وهو مجرى الماء العذب {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}؛ أي: أنواع من المال يقال: ثمر فلان ماله، وأثمره، إذا نماه، قال الحارث بن كلدة: ولقد رأيت معاشرا ... قد أثمروا مالًا وولدَا وفي «البيضاوي»: مأخوذ من ثمر ماله بالتشديد إذا كثّره، وفي «المصباح» الثمر بفتحتين، والثمرة مثله، فالأول مذكّرٌ، ويجمع على ثمارٍ، مثل جبلٍ، وجبال، ثم يجمع الثمار على ثمر، مثل كتابٍ وكتب، ثمّ يجمع على أثمارٍ مثل عنق، وأعناق، والثاني مؤنث، والجمع منه: ثمرات مثل قصبة وقصبات، والثمر: هو الحمل الذي تخرجه الشجرة، وسواءٌ أكل أو لا، فيقال: ثمر الأراك، وثمر العوسج، وثمر الدّوم، وهو المقل كما يقال: ثمر النخل، وثمر العنب، قال الأزهري: وأثمر الشجر أطلع ثمره، أول ما يخرجه فهو مثمر، ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثمرة اهـ. وفي «الأساس» {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}؛ أي: مال وانظر ثمر مالك، ونماءه، ومال ثمر؛ أي: مبارك فيه، وأثمر القوم، وثمروا ثمورًا، كثر مالهم، وثمر ماله، يثمر كثر، وفلان مجدود ما يثمر له مال، والمراد في الآية أنه كان إلى جانب الجنتين الموصوفتين الأموال الدائرة من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه والصاحب المصاحب لك {يُحاوِرُهُ}؛ أي: يجادله، ويراجعه الكلام بالوعظ، والدعاء؛ إلى الإيمان بالله والبعث {نَفَرًا} والمراد من النفر الخدم، والحشم حشم الرجل خدمه ومن يغضب له سموا بذلك لأنهم يغضبون له والأعوان {تَبِيدَ} تفنى وتهلك {مُنْقَلَبًا}؛ أي: مرجعًا، وعاقبةً، وهو اسم مكان من الانقلاب

{سَوَّاكَ}، أي: عدلك، وكملك إنسانا {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أصل التركيب: لكن أنا هو الله ربي دخله نقل، وحذف كما مر في مبحث التفسير. {إِنْ تَرَنِ} {أَنْ يُؤْتِيَنِ} كلاهما رسم بدون ياء؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في النطق: فبعض السبعة يثبتها، وبعضهم يحذفها كما مر {حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ}؛ أي: مطرًا عظيمًا يقلع زرعها، وأشجارها يحتمل إما أن يكون مصدرًا كالغفران، والبطلان، وإما أن يكون جمع حسبانة؛ أي: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء كما في «الشهاب». {صَعِيدًا زَلَقًا} والصّعيد وجه الأرض، الزّلق الأملس؛ أي: أرضًا ملساء لا تثبت عليها القدم، وفي «القاموس» الزلق بفتحتين، والزّلق بفتح فسكون أرض ملساء، ليس بها شيء، وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها، وأشجارها بالذهاب، والإهلاك، فلم يبق له أثر اهـ. بيضاوي. {غَوْرًا} مصدر غار في الأرض، أي: ذهب فلا سبيل إليه، فهو بمعنى الفاعل؛ أي: غائرًا في الأرض لا يدرك، فهو مصدر وصف به مبالغة {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}؛ أي: بأمواله من النقد، والمواشي وغيرهما، يقال: أحاط به العدو إذا استولى عليه، وغلبه ثمّ استعمل في كل إهلاك. {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} هذا أسلوب في اللّغة يفيد النّدامة والحسرة فإن من عظمت حسرته، يصفق بإحدى يديه على الأخرى متأسفًا متلهفًا، {وَهِيَ خاوِيَةٌ}؛ أي: ساقطةٌ يقال: خوت الدّار، وخويت خيًا، وخويًا تهدمت، وخلت من أهلها {عَلى عُرُوشِها} واحدها عرش، وهي الأعمدة التي توضع عليها الكروم، وفي «المصباح»: العرش شبه بيت من جريد، يجعل فوقه الثمام، والجمع عروش مثل فلس وفلوس، والعريش مثله، وجمعه عرش بضمتين كبريد، وبرد، وعريش الكرم، ما يعمل مرتفعًا يمتد عليه الكرم، والجمع عرائش أيضًا اهـ. وفي «الشهاب»: العروش جمع عرش، وهو ما يصنع ليوضع عليه الكرم، فإذا سقط .. سقط ما عليه اهـ. {مُنْتَصِرًا}؛ أي: ممتنعًا بقوة عن انتقام الله {الْوَلايَةُ} بفتح الواو، وبكسرها الملك والقهر والسلطنة {عُقْبًا}؛ أي: عاقبة {مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} المثل الصّفة

{هَشِيمًا} أي: يابسًا متفرق الأجزاء، وقال الزمخشري: الهشيم ما تهشم، وتحطّم الواحدة هشيمة، وقال ابن قتيبة: كل ما كان رطبًا ويبس فهو هشيم، ويقال: صارت الأرض هشيمًا؛ أي: صار ما عليها من النبات والشجر قد يبس وتكسر {تَذْرُوهُ}؛ أي: تفرقه وتنشره، وذرت الريح التراب وأذرت العين دمعها، وعيناه تذريان الدّموع، وطعنته فأذريته عن فرسه، وأذراه الفرس عن ظهره رمى به، وذرا حد نابه انسحقت أسنانه، وسقطت أعاليها، وبلغني عنه ذروٌ من قولٍ؛ أي: طرف منه، وأخذ في ذروٍ من الحديث، إذا عرّض، ولم يصرح، قال صخر بن حبناء: أتاني عن مغيرة ذرو قولٍ ... وعن عيسى فقلت له كذاك {مُقْتَدِرًا}؛ أي: كامل القدرة، فهو مفتعل من قدر للمبالغة {بارِزَةً}؛ أي: ظاهرةٍ إذ لم يبق على وجهها شيء من العمائر، ولا من الجبال والأشجار {وَحَشَرْناهُمْ}؛ أي: سقناهم إلى الموقف من كل أوب {فَلَمْ نُغادِرْ}؛ أي: لم نترك يقال غادره، وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر، وهو ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السيل؛ أي: تركه من الماء في الغديرة؛ أي: في الحفرة، والغديرة الشّعر الذي نزل حتى طال، والجمع غدائر، ومنه قوله: غدائره مستشزرات إلى العلا. والمفاعلة هنا: ليست على بابه؛ أي: ليس فيها مشاركةٌ {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ}؛ أي: أحضروا لفصل القضاء {صَفًّا}؛ أي: مصطفين، وهو في الأصل مصدر يقال فيه: صف يصف صفًا من باب شد، واختلف هنا في {صَفًّا} هل هو مفردٌ وقع موقع الجمع إذ المراد صفوفًا، أو فيه حذف؛ أي: صفًا صفًا كما في آية أخرى {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} {مَوْعِدًا}؛ أي: وقتًا ننجز فيه ما وعدنا من البعث، وما يتبعه {وَوُضِعَ الْكِتابُ}؛ أي: جعل كتاب كل عامل في يد صاحبه حين الحساب {مُشْفِقِينَ}؛ أي: خائفين من أشفق إذا خاف {يا وَيْلَتَنا}؛ أي: يا هلكتنا أقبل فهذا أوانك والويل: الهلاك {أَحْصاها}؛ أي: عدها وضبطها {حاضِرًا}؛ أي: مسطورًا في كتاب كل منهم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ}؛ أي: لا يتجاوز ما حده من الثّواب والعقاب.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ} لأنّ وجه الشبه منتزع من متعدد. ومنها: التتميم - ويقال له التمام - في قوله: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا} لأن وصف الجنّتين أولًا باشتمالهما على أعناب، ونخيل ثم تمم ذلك بقوله: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا} لئلا يتوهّم أنّ الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب، ولتكون كلٌّ من الجنّتين جامعة للأقوات والفواكه، متواصلة العمار على الشكل الحسن، والترتيب الأنيق، ثم تمم ذلك أيضًا بقوله: {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا} للدلالة على ديمومة الانتفاع بهما، فإن الماء هو سر الحياة، وعامل النمو الأول في النباتات، وإذن فقد استكمل هذا الرجل كلّ الملاذ، واستوفى ضروب النّعم ثم تمم ذلك أيضًا بقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها} لاستحضار الصورة التامة للانتفاع بالموارد. ومنها: الاحتراس بقوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} لأنه احتراس به من أن يكون ثمة نقص في الأكل الذي آتته. ومنها: الكناية في قوله: {آتَتْ أُكُلَها} لأنّه كناية عن تمامها، ونموها دائمًا، وأبدًا فليست على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها في بعض السنين، وينقص في بعض. ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ} الخ لأن (¬1) حاصل ما قاله الكافر من القول الشنيع ثلاث مقالات: الأولى: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا ...} إلخ الثانية: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ...} إلخ الثالثة: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ...} إلخ، وقد تعقبه المؤمن في الثلاثة على سبيل اللف، والنشر المشوش، فوبخه على الأخيرة، بقوله: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي ¬

_ (¬1) الفتوحات.

خَلَقَكَ ...} إلخ، ووعظه، ونصحه على الثانية بقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ...} إلخ وقرعه على الأولى بقوله: فعسى ربي، الخ اهـ شيخنا. ومنها: الكناية في قوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} لأنه كناية عن التّحسر والندم، لأن النادم يضرب بيمينه على شماله. ومنها: المبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل في قوله: {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا}؛ أي: غائرًا. ومنها: التشبيه التّمثيلي المقلوب في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ...} إلى آخر الآية، أما التشبيه التمثيلي: فهو تشبيه الحياة الدنيا، وما فيها من زخارف بالنبات الذي اختلط به الماء الهاطل من السماء، فربا والتفّ وزها، ورف، وأمّا التشبيه المقلوب: فقد كان من حق الكلام أن يقول: فاختلط بنبات الأرض، ووجهه: أنه لمّا كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه، عكس للمبالغة في كثرته. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {يا وَيْلَتَنا} نداء الويلة قائم على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل: يا هلاكنا أقبل، فهذا أوانك. ومنها: الجمع في قوله: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}، وهو أن يجمع المتكلِّم بين شيئين أو أكثر في حكم واحد، وهو واضح في الآية، ومنه في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح آمنًا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» فجمع الأمن ومعافاة البدن، وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها، أي: بأسرها. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ردّه على أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بأموالهم وأعوانهم، وقالوا: كيف نجلس مع هؤلاء، ونحن من أنساب شريفة، وهم من أنساب وضيعة، ونحن أغنياء، وهم فقراء .. أردف ذلك بذكر عصيان إبليس لأمره تعالى بالسجود لآدم؛ لأن الذي حداه إلى ذلك هو كبره وافتخاره عليه بأصله ونسبه، إذ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فأنا أشرف منه أصلًا ونسبًا فكيف أسجد له، تنبيهًا على أنّ هذه الطريقة السّالفة هي بعينها طريقة إبليس، ثمّ حذّر سبحانه منها في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ ¬

_ (¬1) المراغي.

وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وقد تكرر ذكر هذه القصة في مواضع من الكتاب الكريم، وهي في كل موضع سيقت لفائدة غير ما جاءت له في المواضع الأخرى على اختلاف أساليبها وعباراتها، ولا عزو فهي من نسج العليم الخبير. وعبارة أبي حيان هنا: ذكروا (¬1) في ارتباط هذه الآية بما قبلها: أنه تعالى لمّا أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمجالسة الفقراء، وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول - صلى الله عليه وسلم - طردهم عنه، وذلك لما جبلوا عليه من التكبر، والتكثر بالأموال والأولاد، وبشرف الأصل والنّسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك .. ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر، والافتخار بالأصل الذي خلق منه، وهذا الذي ذكروه في الارتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وأما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا، والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لمّا ذكر يوم القيامة، والحشر، وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم، واتخاذ شركاء مع الله، ناسب ذكر إبليس، والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله، تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر شبهات المبطلين، ورد عليها بأدلة لا تدحض، وبرهانات لا ترد .. قفّى على ذلك ببيان أن في القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكّر وتدبر، وألقى السمع، وهو شهيد، لكنها القلوب قد تحجرت، والأفئدة قد قست، فلا تنفع فيها الذكرى، ولا تستجيب لوعظ الواعظ، ونصيحة المذكر، ولو آخذهم ربهم بما كسبوا ... لأرسل عليهم العذاب معجلًا، ولم يبق منهم على ظهر الأرض أحدًا، ولكنه الغفور ذو الرحمة، فجعل لهلاكهم موعدا، لعلهم يتوبون إلى رشدهم ويرعوون عن غيّهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[50]

التفسير وأوجه القراءة 50 - ثمّ إنه تعالى عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصّة آدم، واستكبار إبليس فقال: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصّة وقت قولنا للملائكة: {اسْجُدُوا} يا ملائكتي {لِآدَمَ} سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، وكان ذلك مشروعًا في الأمم السالفة، ثم نسخ بالسلام {فَسَجَدُوا}؛ أي: فسجدت الملائكة جميعًا، امتثالًا لأمر الله وطاعة لطلبه السجود {إِلَّا إِبْلِيسَ} اللعين فإنه أبى واستكبر، ولم يسجد، وكأنه قيل: ما باله لم يسجد؟ فقيل: {كانَ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: كان أصله جنيًا خلق من نار السموم، ولم يكن من الملائكة، فلهذا عصى، فالجملة مستأنفةٌ مسوقة لبيان سبب عصيانه. وإنّما صح (¬1) الاستثناء المتّصل لأنه أمر بالسجود معهم، فغلبوا عليه في قوله {فَسَجَدُوا} ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلًا كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لا مرأة بين الرجال. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}؛ أي: خرج عن طاعته بترك السجود، فالأمر على حقيقته جعل عدم امتثاله للأمر خروجًا عنه، ويجوز أن يكون المراد المأمور به، وهو السجود، والفاء للسببية لا للعطف؛ أي: كونه من الجن سبب فسقه، ولو كان ملكا .. لم يفسق عن أمر ربه؛ لأن الملك معصوم دون الجن والإنس. والمعنى (¬2): واذكر - أيها الرسول - لقومك وقت قولنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية وتكريم اعترافًا بفضله، واعتذارًا عما قالوه في شأنه من نحو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} فسجدوا كلهم أجمعون امتثالًا إلا إبليس، ثم بيّن السّبب في عصيانه، ومخالفته للأمر فقال: {كانَ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: إن الذي منعه من السجود أنّه كان جنّيًا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورًا بينهم متّصفًا بصفاتهم، بدليل أنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، ولأنه أثبت له في هذه الآية ذريةً ونسلًا، والملائكة لا ينسلون، ولأن الملائكة لا يستكبرون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وهو قد استكبر {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}؛ أي: فصار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله للملائكة المعدود هو في عدادهم، إذ لولا الأمر ما تحقق إباؤه. ثم حذر سبحانه من اتباعه بعد أن استبان من حاله ما استبان فقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} {الهمزة} للإستفهام الإنكاري التعجبي داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد علمكم يا بني آدم بصدور الفسق من إبليس تتبعونه، وتتخذونه {وَذُرِّيَّتَهُ}؛ أي: أولاده وأتباعه {أَوْلِياءَ}، أي: أصدقاء {مِنْ دُونِي} تطيعونهم بدل طاعتي مجاوزين عني إليهم؛ أي (¬1): ذلك الاتخاذ منكر غاية الإنكار، حقيق بأن يتعجب منه، والمراد بالولاية هنا: اتباع الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها، فلا يرد كيف قال ذلك، مع أنّ الشيطان وذرّيته ليسوا أولياء بل أعداء، لأنّ الأولياء هم الأصدقاء، ذكره في «الفتوحات». {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن إبليس وذريّته {لَكُمْ عَدُوٌّ}؛ أي: أعداء فحقهم أن تعادوهم لا أن توالوهم شبه بالمصادر للموازنة كالقبول. وحاصل المعنى (¬2): كيف تصنعون هذا الصنع، وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم من لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدو لكم، يترقب حصول ما يضركم في كل حين {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: للكافرين {بَدَلًا} من الله، إبليس وذريته، تمييز لفاعل {بِئْسَ} البدل للكافرين بالله، والمخصوص بالذم إبليس وذرّيته، أي: اتخاذهم إبليس وذريته أولياء من دونه وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم المتفضل عليهم بما لا يحصى من الفواضل؛ أي: بئس (¬3) البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) النسفي.

[51]

51 - ثم بيّن السبب في عدم استحقاق إبليس وذريته هذه الولاية في أنفسهم بعد بيان خباثة أصلهم، فقال: {ما أَشْهَدْتُهُمْ}؛ أي: ما أحضرت إبليس وذريته {خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لأعتضد بهم في خلقهما، وأشاورهم في تدبير أمرهما، حيث خلقتهما قبل خلقهم، وفيه (¬1) ردّ لمن يدّعي أن الجن يعلمون الغيب؛ لأنهم لم يحضروا خلق السموات والأرض حتى يطّلعوا على مغيّباتهما، {وَلا} أشهدتهم {خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعضهم، كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. والمعنى: أي (¬2) ما أحضرت إبليس وذريّته خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فكيف تطيعونهم، وتعبدون الأصنام من دوني، وهم عبيد أمثالكم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. وقصارى ذلك (¬3): ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما خصّصتهم بخصائص لا تكون لسواهم، حتى يقتدي الناس بهم، فأنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ليس لي في ذلك شريك ولا وزير. {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ}؛ أي: الشّياطين الذين يضلون الناس عن الدين، والأصل (¬4) متخذهم، فوضع المظهر موضع المضمر، ذمًا لهم وتسجيلًا عليهم بالإضلال، {عَضُدًا}؛ أي: أعوانًا في شأن الخلق وفي شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي، بناء على الشركة في بعض الأحكام الربوبية، وقال في «القاموس»: العضد النّاصر، والمعين، وهم عضدي وأعضادي، انتهى. والمعنى: ما استعنت على خلق السموات والأرض بهم، ولا شاورتهم، وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعوانًا، ووحّد العضد لموافقة الفواصل؛ أي: وما كنت متّخذ من لا يهدون إلى الحق أعوانًا وأنصارًا، لأنهم يضلون، فمتبعهم يحور عن قصد السبيل، ولا يصل إلى هدى فكيف اتبعوهم وعبدوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[52]

الأصنام على مقتضى وسوستهم، حتى يكونوا قدوة للناس. وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر، وهو يخطب (¬1): {أفتتخذونه وذريته} بفتح الذال، وقرأ الجمهور {ما أَشْهَدْتُهُمْ} بتاء المتكلم، وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والسختياني وعون العقيلي، وابن مقسم {ما أشهدناهم} بنون العظمة، وقرأ أبو جعفر، والجحدري، والحسن، وشيبة، {وما كنت} بفتح التاء خطابًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال الزمخشري: والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. انتهى. وقرأ علي بن أبي طالب {متخذًا المضلين} أعمل اسم الفاعل، وقرأ عيسى بن عمر {عضدًا} بسكون الضاد خفف فعلًا كما قالوا: رجل وسبع، في رجل وسبع، وهي لغة عن تميم، وعنه أيضًا بفتحتين، وقرأ شيبة، وأبو عمرو في رواية هارون، وخارجة، والخفّاف عضدًا بضمتين، وعن الحسن عضدًا بفتحتين، وعنه أيضًا بضمتين، وقرأ الضحاك عضدًا بكسر العين، وفتح الضاد، وقرأ عكرمة (¬2) بضم العين وإسكان الضاد، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد كما مرّ ففي عضد ثمان لغات: أفصحها فتح العين، وضمّ الضاد، وبها قرأ الجمهور. واعلم (¬3): أنّ الله سبحانه وتعالى منفرد في الألوهية، والكل مخلوق له، وقد خلق الملائكة والجنّ والإنس، فباين بينهم في الصورة والأشكال والأحوال. قال سعيد بن المسيب: الملائكة ليسوا بذكور، ولا إناث، ولا يتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون، والجن يتوالدون، وفيهم ذكور وإناث، ويموتون، والشّياطين ذكور وإناث، ويتوالدون، ولا يموتون، بل يخلدون في الدنيا، كما خلّد فيها إبليس، وإبليس: هو أبو الجن، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض بيضة فتفلق البيضة عن جماعةٍ من الشياطين. 52 - ثم أخبر سبحانه عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

تقريعًا لهم وتوبيخًا، فقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ}؛ أي: واذكر يا محمد قصة يوم يقول الله سبحانه وتعالى للكفار توبيخًا وتعجيزًا، وهو يوم القيامة، وقال بعضهم: يقول على ألسنة الملائكة، والأظهر هو الأول، لأنه قد ثبت أنّ الله تعالى يتجلّى يوم القيامة للخلق، مسلمهم وكافرهم، بصور شتّى، حتى يرونه بحسب ما اعتقدوه في هذه الدار، فلا يبعد كلامه معهم أيضًا، لأنه كلام بالغيب والتوبيخ، لا بالرضى والتشريف، كما كلم إبليس بعد اللعن والطرد على ما سبق في سورة الحجر والتشريف، كما كلم إبليس بعد اللعن والطرد على ما سبق في سورة الحجر ونحوها. وقرأ الجمهور (¬1): {وَيَوْمَ يَقُولُ} بالياء؛ أي: الله مناسبة لقوله: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا} وقرأ الأعمش، وطلحة، ويحيى، وابن أبي ليلى، وحمزة، وابن مقسم، {نقول} بنون العظمة مناسبة لقوله: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ} الخ. أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين أهوال يوم يقول الله عز وجل للكفار توبيخًا لهم وتقريعًا: {نادُوا شُرَكائِيَ} أضافهم إليه، على زعمهم تهكمًا بهم، وتقريعًا، أي: نادوا آلهتكم التي قلتم إنهم شركائي، وقرأ الجمهور {شركائي} ممدودًا مضافًا للياء، وابن كثير، وأهل مكة مقصورًا مضافًا لها أيضًا، ذكره في «البحر». {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} وادّعيتم أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم، ويمنعوكم من عذابي، والمراد بهم كل من عبد من دون الله تعالى {فَدَعَوْهُمْ}؛ أي: نادوهم للإغاثة، ذكر كيفية دعوتهم في آية أخرى {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا}؛ أي: فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء، {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}؛ أي: فلم يغيثوهم، أي لم يدفعوا عنهم ضرًا، ولا أوصلوا إليهم نفعًا، إذ لا إمكان لذلك، فهو لا ينافي إجابتهم صورة ولفظًا، كما قال: حكاية عن الأصنام، إنها تقول: {ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ}. {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين المشركين وآلهتهم {مَوْبِقًا}؛ أي (¬2): حاجزًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[53]

بعيدًا، أو واديًا في جهنم من قيح ودم، وذلك أن المشركين الذين اتّخذوا من دون الله آلهة: الملائكة، وعزيرا، وعيسى ومريم، عليهم السلام. دعوا هؤلاء فلم يجيبوهم استهانةً بهم، واشتغالًا بأنفسهم، ثم حيل بينهم، فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنّم، وأدخل عزيرًا وعيسى ومريم الجنّة، وسار الملائكة إلى حيث أراد الله من الكرامة، وحصل بين الكفار ومعبوديهم هذا الحاجز وهو ذلك الوادي. وعلى هذا فهو اسم مكان، ويحتمل كونه مصدرًا من وبق يبق وبوقا، كوثب وثوبا أو من وبق يوبق وبقًا كفرح يفرح فرحًا إذا هلك أي: مهلكًا يشتركون فيه، وهو النار، وقال الفراء: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ}؛ أي: تواصلهم في الدنيا {مَوْبِقًا}؛ أي: هلاكًا في الآخرة، فالبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} في سورة الأنعام على قراءة من ضم النون، ومفعول أول لـ {جَعَلْنا} وعلى الوجه الأول مفعولٌ ثان. 53 - {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: الكافرون {النَّارَ} من مكان بعيد {فَظَنُّوا}؛ أي: أيقنوا {أَنَّهُمْ مُواقِعُوها}؛ أي: واردوها (¬1)، وداخلوها، ومخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير لشدة ما يسمعون من تغيظها، وزفيرها كقوله تعالى: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}، والمكان (¬2) البعيد، قيل: مسيرة خمس مئة سنة، والظن هنا بمعنى اليقين، والمواقعة المخالطة بالوقوع فيها، وقيل: إن الكفّار يرون النار من مكان بعيد، فيظنون ذلك ظنًا {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها}؛ أي: عن النار {مَصْرِفًا}؛ أي: مهربًا ومعدلًا يعدلون إليه، ومكانًا ينصرفون إليه، أو انصرافًا عنها، لأن النّار أحاطت بهم من كل مكان. وفي مصحف عبد الله (¬3): {ملاقوها} مكان مواقعوها، وقرأه كذلك الأعمش، وابن غزوان، عن طلحة، والأولى جعله تفسيرًا لمخالفته سواد ¬

_ (¬1) الواحدي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[54]

المصحف، وعن علقمة أنه قرأ {ملافُّوها} بالفاء مشددة من لففت، وأجاز أبو معاذ {مصرفا} بفتح الراء، وهي قراءة زيد بن علي جعله مصدرا، كالمضرب، لأن مضارعه يصرف على وزن يفعل كيضرب. 54 - ولما ذكر (¬1) سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك، وضرب لهم الأمثال الواضحة، وحكى بعض أحوال الآخرة فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد كررنا وبيّنا وذكرنا على وجوه كثيرة من النظم {فِي هذَا الْقُرْآنِ} الكريم {لِلنَّاسِ}؛ أي: لمصلحتهم ومنفعتهم {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}؛ أي: من كل نوع من أنواع الأمثال، كمثل الرجلين المذكورين، ومثل الحياة الدنيا، ليتذكروا ويتعظوا، أو من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي في الغرابة والحسن كالمثل ليتلقوه بالقبول؛ فلم يفعلوا، والمعنى؛ أي: ولقد وضحنا للناس كل ما هم في حاجة إليه من أمور دينهم، ودنياهم، ليتذكروا فينيبوا، ويعتبروا، ويزدجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله، وعبادة الأوثان؛ لكنهم لم يقبلوا ذلك، ولم يرعووا عن غيّهم وعنادهم، واستكبارهم وعتوهم. {وَكانَ الْإِنْسانُ}؛ أي: جنس الإنسان بحسب جبلته، ومقتضى طبيعته {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}؛ أي: مراء وخصومة، تمييز؛ أي: أكثر (¬2) الأشياء التي يتأتى منها الجدل، كالجن والملك؛ أي: جدله أكثر من جدل كل مجادل، لا ينبي إلى حق، ولا يزدجر لموعظة، والمراد بذلك خصومة الأمم لأنبيائهم، وردهم عليهم ما جاؤوا به كما حكى الله عنهم من قولهم: {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} وقولهم: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}. أخرج الشيخان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن علي كرم الله وجهه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصليان» فقلت: يا رسول الله؛ إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[55]

شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» والجدل: هاهنا شدة الخصومة بالباطل، لاقتضاء خصوصية المقام ذلك، وإلا فالجدل لا يلزم أن يكون بالباطل قال تعالى: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وخلاصة ذلك: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل لما أتيه من سعة الحيلة، وقوة المعارضة، واختلاف النزعات، والأهواء، وقوة العزيمة إلى غير حد فلو اتجه إلى سبيل الخير، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه ارتقى إلى حظيرة الملائكة، ولو نزعت نفسه إلى اتباع وساوس الشيطان انحط إلى الدرك الأسفل، ولحق بأنواع الحيوان، يفعل ما يشاء، غير مقيّد بوازع من الدين، ولا زمام من العقل، وصادق العزيمة، 55 - ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم ذكر علة ذلك فقال: {وَما مَنَعَ النَّاسَ}؛ أي: لم يمنع أهل مكة من {أَنْ يُؤْمِنُوا} بالله تعالى، ويتركوا الشرك الذي هم عليه {إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} وهو الرسول الكريم الداعي، والقرآن العظيم الهادي {وَ} من أن {يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} من أنواع الذّنوب {إِلَّا} انتظار {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: سنة الله، وعادته في الأمم الماضية، وهو الاستئصال لما كان تعنتهم مفضيًا إليه، جعلوا كأنهم منظرون له. {أَوْ} انتظار أن {يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ}؛ أي: عذاب الآخرة حال كونه {قُبُلًا}؛ أي: أنوعًا، جمع قبيل، أو عيانًا لهم؛ أي: معاينًا. والمعنى: أي (¬1) وما منع هؤلاء المشركين من أن يؤمنوا بالله حين جاءتهم البينات الواضحة، والدّلالات الظاهرة، وعلموا صحّة ما تدعوهم إليه، وأن يستغفروا ربهم بالتوبة عما فرّط منهم من الذنوب، إلا تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم يطلبون أحد أمرين: 1 - إما عذاب الاستئصال بنحو قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ}. 2 - وإمّا أن تأتيهم بأنواع من العذاب، والبلاء يتلوا بعضها بعضًا حين ¬

_ (¬1) المراغي.

[56]

وجودهم في الدنيا كقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}، وقولهم: {ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. وقرأ الحسن (¬1)، والأعرج، والأعمش، وابن أبي ليلى، وخلف، وأيوب، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، والكوفيون بضم القاف والباء فاحتمل أن يكون بمعنى قبلًا، لأنّ أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، وأن يكون جمع قبيل كسبيل، وسبل، أي: يجيئهم العذاب أنواعًا، وألوانًا، وقرأ باقي السبعة، ومجاهد، وعيسى بن عمر {قِبلًا} بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه عيانا، وقرأ أبو رجاء، والحسن أيضًا بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف {قبل} على لغة تميم، وذكر ابن قتيبة: أنه قرىء بفتحتين، وحكاه الزمخشري، وقال: مستقبلًا، وقرأ أبي بن كعب، وابن غزوان عن طلحة {قَبِيلًا} بفتح القاف، وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل. فحاصل معنى الآية (¬2): أنهم لا يؤمنون، ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة، أو معاينته. 56 - ولما كان مجيء ذلك بيد الله وأمره مفوّض إليه لا إلى الرسول، نبه إلى ذلك بقوله: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال {إِلَّا مُبَشِّرِينَ} للمؤمنين والمطيعين بالثواب، والدرجات {وَمُنْذِرِينَ} للكافرين، والعاصين بالعقاب، والدركات، فإنّ طريق الوصول إلى الأول والحذر عن الثاني مما لا يستقل به العقل، فكان من لطف الله ورحمته أن أرسل الرّسل لبيان ذلك. والمعنى: أي (¬3) وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله ورسوله بجزيل ثوابه في الآخرة، وينذروا أهل الكفر به وتكذيب رسله بعظيم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[57]

عقابه، وأليم عذابه، ولم نرسلهم ليقترح عليهم الظالمون من أممهم الآيات بعد ظهور المعجزات، ويطلبوا منهم ما لا قبل لهم به، ثم ذكر أن من شأن المشركين كثرة الجدل للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} كلام مستأنف، فالوقف على {وَمُنْذِرِينَ}، أي: يجادلون ويخاصمون الرسل المبشرين والمنذرين {بِالْباطِلِ} حيث يقولون: {ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا} {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} ويقترحون آيات بعد ظهور المعجزات، تعنّتًا {لِيُدْحِضُوا}؛ أي: ليزيلوا {بِهِ}؛ أي: بالجدال {الْحَقَّ} الذي مع الرسل عن مقره ومركزه، ويبطلوه. مأخوذٌ من إدحاض القدم، وهو إزلاقها عن موطنها، والدحض الزلق؛ أي: ويجادل أولئك المشركون بالباطل كقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرنا عن فتية ذهبوا أوّل الدهر ما شأنهم؟ وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مما يقصد منه التعنت وإزالة الحقّ الذي جاء به الرسل عليهم السلام، لا كشف حقيقة تفيد في دين أو دنيا. وخلاصة ذلك: أن الرّسل ما أرسلوا للجدل والشغب بالباطل، بل بعثوا للبشارة والإنذار، وأنتم تجادلون بالباطل لتدحضوا الحق الذي جاءكم به رسولي. {وَاتَّخَذُوا آياتِي} الدالة على الوحدة والقدرة ونحوهما {وَما أُنْذِرُوا}؛ أي: خوّفوا به من العذاب {هُزُوًا}؛ أي: سخرية يعني موضع استهزاء (¬1) فيكون من باب الوصف بالمصدر مبالغة، يقرأ بالواو، وبالهمز سبعيتان، والمعنى؛ أي: واتخذوا الحجج الّتي أحجّ بها عليهم، وكتابه الذي أنزل إليهم، والنذر التي أنذروا بها من العذاب والعقاب، استهزاء وسخريةً كقولهم: {وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} وقولهم: {لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا}. 57 - ولما حكى عنهم خبيث أحوالهم، وصفهم بما يوجب الخزي والنّكال ¬

_ (¬1) روح البيان.

فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} استفهام إنكاري مضمن للتوبيخ؛ أي: من أشد ظلمًا {مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ}؛ أي: وعظ بالقرآن الكريم فقوله: {ذُكِّرَ} قد روعي لفظ {من} في خمسة مواضع هذا أولها، وروعي معناها في خمسة أولها: قوله {عَلى قُلُوبِهِمْ}. اهـ شيخنا. {فَأَعْرَضَ عَنْها}؛ أي: فصرف عنها، ولم يتدبرها، ولم يتفكرها {وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} من الكفر والمعاصي، وتغافل عنها، ولم يتفكر في عاقبتها، ولم ينظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء، ولما كان (¬1) الإنسان يباشر أكثر أعماله بيديه غلّبت الأعمال باليدين على الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو ممّا عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدين له: ما قدمت يداك، قال بعضهم: أحق الناس تسمية بالظلم من يرى الآيات فلا يعتبر بها، ويرى طريق الخير فيعرض عنها، ويرى مواقع الشر فيتّبعها، ولا يجتنب عنها. وحاصل المعنى: أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودل بها على سبيل الرشاد، وهدي بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها، ولم يتدبّرها، ولم يتّعظ بها، ونسي ما عمله من الكفر والمعاصي، أي: لم يتفكر في عواقبه، ومن ثم لم يتب منها، ولم ينب إلى ربه. ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}؛ أي: أغطية جمع كنان، كأزمّة وزمام كراهية {أَنْ يَفْقَهُوهُ}؛ أي: أن يفقهوا ما ذكر من آيات الله تعالى، وتذكير الضمير وتوحيده باعتبار معنى القرآن، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم كراهة أن يقفوا على كنه الآيات، أو المعنى: جعلنا على قلوبهم أغطية مانعة من أن يفهموا القرآن فيتبعوه، وتلك الأغطية ما ران على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم {وَ} جعلنا {فِي آذانِهِمْ وَقْرًا}؛ أي: ثقلًا وصممًا يمنعهم عن استماعه، وفيه: إشارة إلى أن أهل اللّغو والهذيان لا يصيخون إلى القرآن. والمعنى: أي إن (¬2) ذلك الإعراض منهم بسبب أنّا جعلنا على قلوبهم أغطية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[58]

كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به، وجعلنا في آذانهم ثقلًا لئلّا يسمعوه، والمراد: أنه لا يدع شيئًا من الخير يصل إليها، فهي لا تعي شيئًا من الآيات إذا تليت عليها، ذلك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد بما دنّسوا به أنفسهم من قبيح الأفعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر، والفسوق، والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شيء مما يسمع سماع تدبّر واتّعاظ، ولا إلى القلب شيء مما يقال فيعيه وينتفع به، كما قال: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)} وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)} وقد تكرر هذا المعنى في غير موضع من الكتاب الكريم. ثم ذكر سبحانه أثر هذا الختم على القلوب {وَإِنْ تَدْعُهُمْ} يا محمد {إِلَى الْهُدى}؛ أي: إلى طريق الفلاح، وهو دين الإسلام {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}؛ أي: لن يوجد منهم اهتداء أبدًا، أي: مدة التكليف كلها البتة إن دعوتهم إلى الهدى؛ لأنه محال منهم، وتقييده (¬1) بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم، أي: ومهما كررت أيها الرّسول من الدعوة إلى الحق حرصًا منك على نجاتهم، وخشية نزول البلاء بهم، فلن يستجيبوا لك، ولن يهتدوا بهديك، لأن الله قد كتب عليهم الضلال بسوء أعمالهم، وقبح طواياهم، فأنى يفيد النصح وتجدي العظة، ويرق القلب. وخلاصة المعنى (¬2): كأنه - صلى الله عليه وسلم - حرصًا منه على هداهم قال: مالي أدعوهم رجاء أن تنكشف تلك الأكنّة، وتمزّق بيد الدعوة، فقيل له: وأنى لك ذلك {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} وقد جاءت هذه الآية في قومٍ علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة. 58 - ثم بيّن أنّه سبحانه لا يعجل العقوبة لعباده على ما يجترحون من الفسوق والآثام رجاء أن ينيبوا إليه فقال: {وَرَبُّكَ} يا محمد مبتدأ، خبره {الْغَفُورُ}؛ أي: البيلغ في المغفرة، وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

ذنوبه من الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه من الدنس {ذُو الرَّحْمَةِ} خبر بعد خبر؛ أي: الموصوف بالرحمة الواسعة، وهي الإنعام على الخلق، وإيراد (¬1) المغفرة على صيغة المبالغة دون الرّحمة للتنبيه على كثرة الذنوب، وأن المغفرة ترك المضار، وهو سبحانه قادر على ترك ما لا يتناهى من العذاب، وأما الرحمة: فهي إنعام، وإيجاد، ولا يدخل تحت الوجود إلّا ما يتناهى، وتقديم الوصف الأول؛ لأن التّخلية مقدم على التحلية. {لَوْ يُؤاخِذُهُمْ}؛ أي: لو يريد مؤاخذتهم {بِما كَسَبُوا} من الذنوب {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ}؛ أي: عذاب الاستئصال في الدنيا من غير إمهال لاستيجاب أعمالهم لذلك، ولكنه لم يعجل، ولم يؤاخذ بغتة {بَلْ} جعل {لَهُمُ}؛ أي: لعذابهم {مَوْعِدٌ}؛ أي: أجل مقدر قيل: هو عذاب الآخرة، وقيل: يوم بدر، فالموعد هنا اسم زمان {لَنْ يَجِدُوا} ألبتة حين مجيء الموعد {مِنْ دُونِهِ} تعالى؛ أي: من غيره سبحانه، وقيل: من دون العذاب {مَوْئِلًا}؛ أي: منجى وملجأ، يقال: وأل أي نجا، ووأل إليه أي لجأ إليه، وفيه دلالة على أبلغ وجه على أن لا ملجأ لهم ولا منجى، فإن من يكون ملجأه العذاب .. كيف يرى وجه الخلاص والنجاة منه؟. وقرأ الجمهور (¬2): {مَوْئِلًا} بسكون الواو، وهمزة بعدها مكسورة، وقرأ الزهري {مولًا} بتشديد الواو من غير همز، ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه {مولا} بكسر الواو خفيفة من غير همز، ولا ياء. والمعنى: أي وربك أيها الرسول غفورٌ لذنوب عباده، ذو رحمة واسعة بهم إذ هم أنابوا إليه، ورجعوا إلى رحاب عفوه وجوده وكرمه، فيرحمهم واسع الرحمات، ويتجاوز لهم عن عظيم الخطيئات، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من المعاصي، كإعراضهم عن آياته، ومناصبتهم العداء لرسله، ومجادلتهم بالباطل، لعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنزل بهم عذاب الاستئصال جزاء وفاقًا لقبيح أعمالهم، ومثل الآية قوله: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[59]

عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ}، وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ} إلى نحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الباب، ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال، فقال: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} ليس لهم منه محيص، ولا ملجأ يلتجئون إليه من عذابه. 59 - ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف، فقال: {وَتِلْكَ الْقُرى}؛ أي: قرى عاد وثمود وأضرابهما، وهي على تقدير المضاف؛ أي: وأهل تلك القرى مبتدأ خبره قوله تعالى: {أَهْلَكْناهُمْ} واستأصلناهم {لَمَّا ظَلَمُوا} وكفروا برسلهم؛ أي: وقت ظلمهم مثل ظلم أهل مكة بالتكذيب والجدال وأنواع المعاصي، و {لَمَّا} (¬1) إما حرف كما قال ابن عصفور، وإما ظرف استعمل للتعليل، وليس المراد به الوقت المعيّن الذي عملوا فيه الظلم، بل زمان من ابتداء الظلم إلى آخره {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ}؛ أي: لهلاكهم {مَوْعِدًا}؛ أي: وقتًا معينًا لا يتأخرون عنه. والمعنى: أي (¬2) وتلك القرى من عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، أهلكناهم لما ظلموا، فكفروا بآياتنا، وجعلنا لهلاكهم ميقاتا، وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم، إذا جاء أهلكناهم، كما هي سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفي الأمم، فليعتبروا بهم، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وقرأ الجمهور (¬3) {لِمَهْلِكِهِمْ} بضم الميم، وفتح اللام قال الزجاج: وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم، والثاني: أن يكون زمانا، فالمعنى لوقت هلاكهم، وقرأ حفص، وهارون عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، أي لإهلاكهم، وقرأ حفصٌ عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، فيكون زمانًا، أي: لوقت إهلاكهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط وزاد المسير.

الإعراب {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قلنا، والجملة المحذوفة مستأنفة {قُلْنا} فعل وفاعل {لِلْمَلائِكَةِ}: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} {اسْجُدُوا}: فعل أمر، وفاعل {لِآدَمَ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قُلْنا} {فَسَجَدُوا}: {الفاء} عاطفة {سجدوا} فعل وفاعل معطوف على {قُلْنا} {إِلَّا}: أداة استثناء متصل أو منقطع {إِبْلِيسَ}: منصوب على الاستثناء ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {إِبْلِيسَ}. {مِنَ الْجِنِّ}: خبره، وجملة {كَانَ}: مستأنفة مسوقة لبيان علة استثناء {إِبْلِيسَ} من الساجدين {فَفَسَقَ}: {الفاء} عاطفة {فسق} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبليس {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {كَانَ}. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف {تتخذونه} فعل وفاعل، ومفعول أول، {وَذُرِّيَّتَهُ}: معطوف على ضمير المفعول، ويجوز أن يكون مفعولًا معه {أَوْلِياءَ}: مفعول ثان لـ {اتخذ} {مِنْ دُونِي}: جار ومجرور صفة لـ {أَوْلِياءَ} أو متعلق بـ {تتخذونه}، وجملة {اتخذ} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والتقدير: أبعد ما عرفتم فسقه عن أمر ربه تتبعونه، فتتخذونه، وذريته أولياء من دوني، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، {وَهُمْ}: مبتدأ {لَكُمْ}: متعلق بـ {عَدُوٌّ} لأنه صفة على زنة المصادر كالقبول {عَدُوٌّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {تتخذونه} أو

من فاعله لأن فيها مصححًا لكل من الوجهين، وهو الرابط اهـ «سمين» {بِئْسَ}: فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا مفسر بنكرة مذكورة بعده {لِلظَّالِمِينَ}: متعلق بـ {بَدَلًا} و {بَدَلًا}: تمييز لفاعل {بِئْسَ} ويجوز أن يتعلّق {لِلظَّالِمِينَ} بمحذوف حال من {بَدَلًا} وأن يتعلق بفعل الذمّ والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا والتقدير: بئس البدل للظالمين بدلًا، والمخصوص بالذم إبليس وذريته، وجملة {بِئْسَ}: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {ما}: نافية {أَشْهَدْتُهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول {خَلْقَ السَّماواتِ}: مفعول ثان {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السموات، والجملة مستأنفة {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}: معطوف على {خَلْقَ السَّماواتِ} {وَما} {الواو} عاطفة {ما} نافية {كُنْتُ}: فعل ناقص واسمه {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ}: خبره، ومضاف إليه، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وجملة {كان} معطوفة على جملة قوله {ما أَشْهَدْتُهُمْ} {عَضُدًا}: مفعول ثان لـ {مُتَّخِذَ} لأنه اسم فاعل من اتخذ مضاف إلى مفعوله الأول. {وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد يوم يقول، والجملة المحذوفة مستأنفةٌ {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {يَوْمَ} {نادُوا}: فعل وفاعل {شُرَكائِيَ}: مفعول به، ومضاف إليه {الَّذِينَ}: نعت لـ {شُرَكائِيَ}، وجملة {نادُوا}: في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ} {زَعَمْتُمْ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: زعمتموهم شركائي {فَدَعَوْهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {يَقُولُ} لأن الماضي هنا بمعنى المستقبل؛ أي: يوم يقول نادوا شركائي فيدعونهم {فَلَمْ}: {الفاء} عاطفة {لم} حرف جزم ونفي {يَسْتَجِيبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله {فَدَعَوْهُمْ} {وَجَعَلْنا}: فعل وفاعل {بَيْنَهُمْ}: ظرف في محل المفعول الثاني

لـ {جَعَلْنا} {مَوْبِقًا}: هو المفعول الأول له، والجملة معطوفة على جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا}. {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}. {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنا} {فَظَنُّوا}: {الفاء} عاطفة {ظنوا} فعل وفاعل معطوف على {رَأَى} {أَنَّهُمْ مُواقِعُوها}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {ظن} {وَلَمْ}: {الواو} عاطفة {لَمْ} {يَجِدُوا}: جازم وفعل وفاعل {عَنْها}: متعلق بـ {مَصْرِفًا} و {مَصْرِفًا}: مفعول به لـ {وجد} لأنه بمعنى أصاب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {فَظَنُّوا}. {وَلَقَدْ}: {الواو} استئنافية و {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {صَرَّفْنا}: فعل وفاعل {فِي هذَا الْقُرْآنِ}: متعلق به {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {صَرَّفْنا} أيضًا {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: جار ومجرور صفة لمحذوف وقع مفعولًا لـ {صَرَّفْنا} تقديره: مثلًا من جنس كل مثل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {وَكانَ الْإِنْسانُ}: فعل ناقص واسمه {أَكْثَرَ شَيْءٍ}: خبره {جَدَلًا}: تمييز محول عن اسم {كانَ} والأصل: وكان جدل الإنسان أكثر شيء، وجملة {كَانَ}: معطوفة على جملة {صَرَّفْنا} على كونها جواب القسم. {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55)}. {وَما} {الواو}: عاطفة أو استئنافية {ما} نافية {مَنَعَ النَّاسَ}: فعل ومفعول أول {أَنْ يُؤْمِنُوا}: ناصب وفعل، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا تقديره: وما منع الناس إيمانهم {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {يُؤْمِنُوا} {جاءَهُمُ الْهُدى}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُؤْمِنُوا} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أَنْ تَأْتِيَهُمْ}: ناصب وفعل ومفعول به

مقدم {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}: فاعل مؤخر، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {مَنَعَ} ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: وما منع الناس إيمانهم، وقت مجيء الهدى إياهم، واستغفارهم ربهم، إلا إتيان سنة الأولين إياهم؛ أي: إلا انتظار إتيان سنة الأولين إياهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوفة على {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} {قُبُلًا}: حال من الضمير، أو من العذاب، والتقدير: أو إلا انتظار إتيان العذاب إياهم، {قُبُلًا}: وجملة {مَنَعَ}: مستأنفة أو معطوفة على جملة {صَرَّفْنا} وفي الكرخي: وإنما احتيج إلى حذف المضاف، إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعًا عن إيمانهم، فإن المانع يقارن الممنوع، وإتيان العذاب متأخرٌ عن عدم إيمانهم بمدة كثيرة اهـ. {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة على {صَرَّفْنا}، أو استئنافية، {ما} نافية {نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مُبَشِّرِينَ}: حال من {الْمُرْسَلِينَ} {وَمُنْذِرِينَ}: معطوف على {مُبَشِّرِينَ}، والجملة الفعلية مستأنفة أو معطوفة على {صَرَّفْنا} {وَيُجادِلُ الَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية {يُجادِلُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {كَفَرُوا}: فعل، وفاعل صلة الموصول {بِالْباطِلِ}: متعلق بـ {يُجادِلُ} {لِيُدْحِضُوا}: {اللام} حرف جر وتعليل {يدحضوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {بِهِ} متعلق بـ {يدحضوا} {الْحَقَّ} مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإدحاض الحق به، الجار والمجرور متعلق بـ {يُجادِلُ} {وَاتَّخَذُوا}: {الواو} حالية أو استئنافية {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل {آياتِي}: مفعول أول {وَمَا} {الواو} عاطفة {ما} اسم موصول في محل النصب معطوف على {آياتِي} {أُنْذِرُوا}: فعل ونائب فاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما أنذروا به، ويصح أن تكون {ما} مصدرية، والمصدر المؤول معطوف على {آياتِي}، {هُزُوًا} مفعول ثاني لـ {اتَّخَذُوا} وجملة {اتَّخَذُوا} في محل النصب حال من فاعل {يجادل} على

تقدير قد أو مستأنفة. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية من اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي في محل الرفع مبتدأ {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ} {ذُكِّرَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول {بِآياتِ رَبِّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {ذُكِّرَ} {فَأَعْرَضَ}: {الفاء} عاطفة {أعرض}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من} {عَنْها}: متعلق به، والجملة معطوفة على {ذُكِّرَ} {وَنَسِيَ}: فعل ماض، معطوف على {أعرض}: وفاعله ضمير يعود على {من}. {ما}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول {نَسِيَ} {قَدَّمَتْ يَداهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قدمته يداه {إِنَّا}: ناصب واسمه وجملة {جَعَلْنا} خبره، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {عَلى قُلُوبِهِمْ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنا} {أَكِنَّةً}: مفعول أول له {أَنْ يَفْقَهُوهُ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، وذلك المقدر منصوب على أنه مفعول لأجله، والتقدير: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة كراهية فقههم بآيات الله {وَفِي آذانِهِمْ}: معطوفة على {قُلُوبِهِمْ} {وَقْرًا}: معطوف على {أَكِنَّةً} {وَإِنْ}: {الواو} عاطفة {أَنْ} حرف شرط {تَدْعُهُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {أَنْ} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على محمد {إِلَى الْهُدى}: متعلق به {فَلَنْ}: {الفاء} رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {لن} {يَهْتَدُوا}: فعل وفاعل منصوب بلن {إِذًا}: حرف جواب وجزاء مهمل {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {يَهْتَدُوا}، وجملة {يَهْتَدُوا}: في محل الجزم بـ {أَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {أَنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّا جَعَلْنا}: عطف فعلية على اسمية.

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}. {وَرَبُّكَ} {الواو}: استئنافية {رَبُّكَ}: مبتدأ {الْغَفُورُ}: خبر أول {ذُو الرَّحْمَةِ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم {يُؤاخِذُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محلّ لها من الإعراب، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُؤاخِذُهُمْ} {كَسَبُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبوه {لَعَجَّلَ}: {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} {عجل} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الله} {لَهُمُ} متعلق به {الْعَذابَ}: مفعول به، والجملة جواب لولا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر ثالث، لربك {بَلْ}: حرف إضراب وابتداء {لَهُمُ}: خبر مقدم {مَوْعِدٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة {لَنْ يَجِدُوا}: ناصب وفعل وفاعل {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور حال من {مَوْئِلًا} أو متعلق بـ {يَجِدُوا} و {مَوْئِلًا}: مفعول به، وجملة {لَنْ يَجِدُوا}: في محل النصب حال من ضمير {لَهُمُ} أو في محل الرفع صفة لـ {مَوْعِدٌ} {وَتِلْكَ}: مبتدأ {الْقُرى} بدل منه {أَهْلَكْناهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين متعلق بـ {أهلكنا}، وجملة {ظَلَمُوا}: في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا} الحينية {وَجَعَلْنا}: فعل وفاعل معطوف على {أهلكنا} {لِمَهْلِكِهِمْ}: حال من {مَوْعِدًا} أو متعلق به لأن {جعل} هنا بمعنى قدر، وعين {مَوْعِدًا}: مفعول به لـ {جَعَلْنا}. التصريف ومفردات اللغة {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}؛ أي: خرج يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، قال الفراء: العرب تقول: فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. {وَذُرِّيَّتَهُ} والذرية: الأولاد، وبذلك قال جمع من العلماء، منهم: الضحّاك، والأعمش،

والشعبيُّ، وقيل: المراد بهم الأتباع من الشياطين. قال أبو نصر القشيري، وبالجملة: فإن الله تعالى أخبر بأن لإبليس أتباعًا، وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم، وهم أعداؤهم، ولم يثبت عندنا علم بكيفيّة التوالد منهم، وحدوث الذرية من إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح اهـ. {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} والعدو اسم جنس يطلق على الواحد، والكثير، كما قال {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77)}، وقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} {عَضُدًا}، والعضد: أصله ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين كاليد، ونحوها، وهو المراد هنا، وفي «السمين»: والعضد من الإنسان، وغيره معروف، ويعبر به عن المعين، والناصر، يقال: فلان عضدي، ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}؛ أي: سنقوي نصرتك ومعونتك اهـ. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}، أي: فلم يجيبوا لهم فالسين والتاء زائدتان {مَوْبِقًا} الموبق مكان الوبوق؛ أي: الهلاك، وهو النار وفي «القاموس»: وبق كوعد ووجل، وورث وبوقا، وموبقًا هلك، وكمجلس المهلك والموعد، والمحبس واد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين، وأوبقه حبسه أو أهلكه وأوبقته ذنوبه: أهلكته اهـ. وفي أبي السعود: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ}، أي: بين الداعين والمدعوين {مَوْبِقًا} اسم مكان، أو مصدر من وبق وبوقًا كوثب وثوبًا أو وبق وبقا كفرح فرحًا، إذا هلك؛ أي: مهلكًا يشتركون فيه وهو النار {مَصْرِفًا} أي: مكانًا ينصرفون إليه. وفي «السمين» والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ أو زمان، وقال أبو البقاء: {مَصْرِفًا} أي: انصرافًا، ويجوز أن يكون مكانًا اهـ. {جَدَلًا}؛ أي: خصومة في الباطل قال الفرزدق: ما أنت بالحكم التُّرضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرّأي والجدل {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} الإهلاك بعذاب الاستئصال، {قُبُلًا} والقبل، بضمتين الأنواع والألوان واحدها قبيل كسبل وسبيل وفي «القاموس»: رأيته قبلا (بضمتين) وقَبْلا (بفتح فسكون) وقَبَلا (بفتحتين) وقِبَلًا (بكسر ففتح) وقُبَيلًا (بضم ففتح) وقبيلًا؛ أي: عيانًا، ومقابلةً، وقال الفراء: إن قبلا جمع قبيل؛ أي: متفرقا يتلو

بعضه بعضًا، وقيل: عيانًا، وقيل: فجأة {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}، والإدحاض الإزلاق يقال أدحض قدمه؛ أي: أزلقها، وأزلها من موضعها، والحجة الداحضة التي لا ثبات لها، والدحض الطين: لأنه يزلق فيه، ومكان دحض من هذا اهـ «سمين». وفي «المختار»: دحضت حجته بطلت، وبابه خضع وأدحضها الله، ودحضت رجله زلقت وبابه قطع، والإدحاض الإزلاق اهـ. {أَكِنَّةً}؛ أي: أغطية جمع كنان كزمام، وأزمة، وأصله أكننة، كأزممة نقلت حركة النون إلى الكاف، قبلها، ثم أدغمت في التي بعدها اهـ شيخنا وفي «القاموس»: أنّه جمع كن أيضًا، ونصه: والكن - بالكسر - وقاء كل شيءٍ وستره كالكنة، والكنان بكسرهما، والجمع أكنان وأكنة اهـ {وَقْرًا}؛ أي: ثقلا في السمع {مَوْئِلًا} والموئل المرجع، من وأل، يئل، وألًا، وؤولًا إذا رجع، وهو من التأويل، وقال الفراء: الموئل المنجا، يقال وألت نفسه، أي نجت، وقال ابن قتيبة: الموئل الملجأ يقال وأل فلان إلى فلان يئل، وألا، وؤولا إذا لجأ إليه، وهو هنا مصدر اهـ. وفي «المصباح»: وأل إلى الله يئل - من باب وعد - التجأ إليه، وباسم الفاعل سمي ومنه: وائل بن حجر، وهو صحابي، وسحبان بن وائل، ووأل رجع، وإلى الله الموئل؛ أي: المرجع اهـ. {لِمَهْلِكِهِمْ} بضم الميم اسم مصدر لأهلك لكنه على زنة اسم المفعول، وهو مضاف لمفعوله؛ أي: لإهلاكنا إياهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المماثل في قوله: {اسْجُدُوا} {فَسَجَدُوا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ}. ومنها: الطباق بين {أَوْلِياءَ} و {عَدُوٌّ} في قوله: {أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} لأن الأولياء معناه الأصدقاء وإن كان مجازًا عن الأتباع.

ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} إذ المراد بالمضلين من انتفى عنهم إشهاد خلق السموات والأرض اهـ سمين. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {عَضُدًا} لأنه حقيقة في العضو المعروف، ثمّ استعير للمعين والناصر. ومنها: التهكم في قوله: {نادُوا شُرَكائِيَ} لأنه أضافهم إليه على زعمهم تهكمًا بهم، وتقريعًا لهم. ومنها: الطباق بين {مُبَشِّرِينَ} {وَمُنْذِرِينَ}، وبين {الْحَقَّ} {والباطل} في قوله: {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {ما قَدَّمَتْ يَداهُ}؛ لأن اليدين مجاز عن النفس من إطلاق البعض، وإرادة الكل. ومنها: جناس الاشتقاق بين {الْهُدى} و {يَهْتَدُوا} في قوله: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا}. ومنها: المبالغة في قوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ}. ومنها: المجاز في قوله: {وَتِلْكَ الْقُرى}؛ أي: أهل تلك القرى من إطلاق المحل، وإرادة الحال. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا (64) فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك في مجلس واحد، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة .. قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر، ليبين بها أن موسى مع كونه نبيًا صادقًا، أرسله الله إلى بني إسرائيل بشيرًا ونذيرًا، وهو كليم الله، أمر أن يذهب إلى الخضر، ليتعلم منه ما لم يعلمه، وفي ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر. ¬

_ (¬1) المراغي.

مقدمة تشرح هذا القصص 1 - مَنْ موسى؟ أكثر العلماء على أنّ موسى الذي ذكر في هذه الآية، هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل، صاحب المعجزات الظاهرة، والشريعة الباهرة، ولهم على ذلك أدلة: 1 - أنه ما ذكر الله موسى في كتابه إلا أراد صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان شخصا آخر سمي بهذا الاسم، لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز، وتزيل الشبهة. 2 - ما أخرجه البخاري، ومسلم في جماعة آخرين، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: إن نوفًا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله. وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدثين والمؤرخين، أنّ موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب، وكان نبيًا قبل موسى بن عمران، ولهم على ذلك أدلة: 1 - أن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة، وكلّمه بلا واسطة، وحج خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء، يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره. وردّ هذا: بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض أشياء، فيحتاج في تعلمها إلى من دونه، وهذا مشاهد معلومٌ. 2 - أن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر، وذهابه إلى التيه، توفي، ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته، ولو كانت هذه القصة معه، لاقتضت خروجه من التيه؛ لأنها لم تكن وهو في مصر بالاتفاق. 3 - أنها لو كانت معه لاقتضت غيبته أيامًا، ولو كان كذلك .. لعلمها الكثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه، ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها، ولم

يكن شيء من ذلك، فإذًا لم تكن معه. وردّ هذا: بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أيامًا، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض، بل ذهب ليناجي ربه، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، فأوصى فتاه بكتمان ذلك، وعلى الجملة: فإنكارهم لا يؤبه به، وهو جائز عقلا، وقد أخبر به سبحانه رسوله. 2 - من فتاه؟ فتى موسى: هو يوشع بن نون، بن أفراشيم، بن يوسف عليه السلام، وقد كان يخدمه ويتعلّم منه، والعرب تسمّي الخادم فتًى، لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوة، كما يطلقون على العبد فتى، وفي الحديث الصحيح: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي، ولا يقل عبدي وأمتي» وهذا من محاسن الآداب الشرعية. 3 - من الخضر؟ الخضر: - بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد، وسكونها -: لقبٌ لصاحب موسى، واسمه بليا - بفتح الباء وسكون اللام - ابن ملكان، والأكثرون على أنه كان نبيًا، ولهم على ذلك أدلة: 1 - قوله: {آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا}، والرحمة النّبوّة بدليل قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}. 2 - قوله: {وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وهذا يقتضي أنه علمه بلا واسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكلّ من كان كذلك كان نبيًا. 3 - أنه قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ}، والنبي لا يتعلّم من غير النبي. 4 - أنه قال: {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}؛ أي: بل قد فعلته بوحي من الله، وهذا دليل النبوة. 4 - أين كان مجمع البحرين؟

مجمع البحرين: هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرًا واحدًا، وفيه رأيان: 1 - أنه ملتقى بحري فارس والروم، ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب. 2 - أنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي عند طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق أمام طنجة. قال البقاعي: والله أعلم إنّه مجمع النيل، والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية، كما ورد في الحديث، فإنّ الطير لا يشرب من الماء الملح اهـ. وليس في الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن جاء في الخبر الصحيح شيء فذاك، وإلا فيجمل السكوت عنه. قصة الخضر مع موسى عليهما السلام واعلم: أنه قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة بروايات مختلفة، وأتم الروايات وأصحها، ما روى الشيخان عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم: أن موسى صاحب الخضر، ليس موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله. حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى: يا رب، فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثمّ، فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثمّ انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في

البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا} قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قال: فكان للحوت سربًا، ولموسى وفتاه عجبًا، فقال موسى: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا}» قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، لا يصيب ماؤها ميتًا إلّا عاش، قال: وكان قد أكل منه، فلما قطر عليه الماء عاش، قال: فرجعا يقصان أثرهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، قال: أتيتك لتعلّمني مما علّمت رشدًا، قال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يا موسى، إني على علم من الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علّمك الله لا أعلمه، قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} فقال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوه بغير نولٍ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟! لقد جئت شيئًا إمرًا. قال {: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} {قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكانت الأولى من موسى نسيانًا قال: وجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة، من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} {قالَ أَلَمْ أَقُلْ

[60]

لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} قال: وهذه أشد من الأولى، {قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)} {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ} قال: مائل، فقال الخضر بيده هكذا، فأقامه فقال موسى: قوم أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيّفونا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} {قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وددنا أن موسى كان صبر، حتى يقص الله علينا من خبرهما». قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} وكان يقرأ: {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين}، وبقية روايات سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيِّ بن كعب، هي موافقة لهذه الرواية في المعنى، وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها، فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذا روايات غير سعيد عنه. التفسير وأوجه القراءة 60 - والظرف في قوله: {وَإِذْ قالَ} متعلق بفعل محذوف تقديره؛ واذكر يا محمد لقومك قصّة إذ قال مُوسى بن عمران عليه السلام، {لِفَتاهُ} يوشع بن نون بن أفراشيم بن يوسف عليه السلام، لما فيها من العبرة. قيل (¬1): ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة: أن اليهود لما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف، وقالوا: إن أخبركم فهو نبي، وإلا فلا .. ذكر الله قصّة موسى والخضر، تنبيهًا على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالمًا بجميع القصص والأخبار، والمعنى: واذكر قصة وقت قول موسى لفتاه يوشع بن نون، وهو ابن أخت موسى، وكان من أكبر أصحابه، ولم يزل معه إلى أن مات، وخلفه في شريعته، وكان من أعظم بني إسرائيل بعد موسى، سمي فتاه إذ كان ¬

_ (¬1) الشوكاني.

يخدمه، ويتبعه، ويتعلم منه، ويسمى الخادم والتلميذ فتى، وإن كان شيخا، وإليه يشير القول المشهور: تعلم يا فتى فالجهل عار. {لا أَبْرَحُ}: من برح الناقص كزال يزال؛ أي: لا أزال أسير، فحذف الخبر اعتمادًا على قرينة الحال؛ إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر، ويدل عليه أيضًا ذكر السفر في قوله: {لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا} {حَتَّى أَبْلُغَ} وأصل {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: ملتقى بحر فارس والروم، مما يلي المشرق، وهو المكان الذي وعد الله موسى بلقاء الخضر فيه، والمراد (¬1) بملتقاهما هنا موضع يقرب التقاؤهما فيه مما يلي المشرق، ويُعطى لما يقرب من الشيء حكم ذلك الشيء ويعبر به عنه، وفيه إشارة إلى أن موسى والخضر عليهما السلام بحران لكثرة علمهما {أَوْ} حتى {أَمْضِيَ} وأسير {حُقُبًا}؛ أي: زمانًا طويلًا، أتيقن معه فوات المطلب، أو أسير ثمانين سنةً، يعني حتى يقع، إما بلوغ المجمع، أو مضي الحقب؛ قال الجوهري: الحقب - بالضم - ثمانون سنةً، وقال النّحّاس: الذي يعرفه أهل اللغة: أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطًا وقومًا منهم غير محدود، وجمعه أحقاب، وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال: أنا، فأوحى الله إليه: أنّ أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين، كما مر في القصة، والمعنى؛ أي (¬2): واذكر أيها الرسول قصة حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أزال أمشي حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين، أو أسير دهرًا طويلًا. وخلاصة ذلك: أن الله تعالى أعلم موسى هذا العالم، وما أعلمه موضعه بعينه، فقال: لا أزال أمشي حتى يجتمع البحران، فيصيرا بحرًا واحدًا، أو أمضي دهرًا طويلًا حتى أجده. ومجمل الأمر: أنّه وطّن نفسه على تحمل التعب الشديد، والعناء العظيم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[61]

في السفر مهما طال به الزمان. وقرأ (¬1) الضحاك، وعبد الله بن مسلم بن يسار مجمع بكسر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم بالكسر في كلا الحرفين، وهو شاذ، وقياسه: من يفعل بفتح الميم كقراءة الجمهور، والظاهر؛ أن مجمع البحرين، هو اسم مكان جمع البحرين، وقيل: مصدر، وقرأ الضحاك حقبا بإسكان القاف، والجمهور بضمها. 61 - قوله: {فَلَمَّا بَلَغا} معطوف على محذوف تقديره: فذهبا يمشيان، فلما بلغا، أي: بلغ موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِما}؛ أي: مجمع البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعًا، وهو الموضع الذي وعد موسى أن يجتمع فيه مع الخضر، وفيه الصّخرة، وفيه عين ماء الحياة، التي لا يصيب ماؤها ميتًا إلا حيي، وقد وقع أنّهما لمّا وضعا، أنّ حوتهما أصابه شيء من ماء الحياة فحيي، وقيل (¬2): البين بمعنى الافتراق؛ أي: البحران المفترقان، يجتمعان هناك، وقيل: الضمير لموسى، والخضر؛ أي: وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين: على هذا بمعنى الوصل؛ لأنه من الأضداد، والأول أولى، {نَسِيا حُوتَهُما}؛ أي: تركا حوتهما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب؛ أي: نسي موسى تذكر الحوت لصاحبه، وصاحبه نسي الإخبار بأمره، فلا يخالفه ما في حديث «الصحيحين» من إسناد النسيان إلى صاحبه، وفي «الأسئلة المقحمة»: كانا جميعًا قد زوّداه لسفرهما، فجاز إضافة ذلك إليهما؛ وإن كان الناسي أحدهما، وهو يوشع: يقال: خرج القوم، وحملوا معهم الزاد، وإنما حمله بعضهم، {فَاتَّخَذَ} الحوت. إن قلت: كيف أتى بالفاء، وذهاب الحوت مقدم على النسيان؟ قلت: الفاء فصيحة، ولا يلزم أن يكون المعطوف عليه الذي يفصح الفاء عنه معطوفًا على نسيا بالفاء، بل بالواو، والتقدير: وحيي الحوت، فسقط في البحر، فاتخذ {سَبِيلَهُ}؛ أي: طريقه {فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}؛ أي: مسلكًا مفعول ثان لـ {اتخذ}، أي: اتخذ سبيلًا سربًا، والسرب: النفق، الذي يكون في الأرض، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[62]

للضب ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء عن الموضع الذي انسرب فيه الحوت ودخل فصار كالطاق فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه، وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض، قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر، فكان كالسرب، 62 - فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة، وذهب الحوت فيه، انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافرين من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتّى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر، فلهذا قال سبحانه: {فَلَمَّا جاوَزا}، أي: جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين الذي جعل موعدا للملاقاة، مع الخضر؛ أي: انطلقا بقيّة يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد، ألقي على موسى الجوع، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى مطلبه، فعند ذلك، {قالَ} موسى {لِفَتاهُ} يوشع {آتِنا غَداءَنا}؛ أي: قرّب لنا ما نتغدى به، وهو الحوت كما ينبىء عنه الجواب، والغداء - بالفتح - هو ما يعد للأكل أول النهار، والعشاء ما يعد له آخره، والله {لَقَدْ لَقِينا} وذقنا {مِنْ سَفَرِنا هذا}؛ أي: من هذا السفر الذي سرناه بعد مجاوزة مجمع البحرين، {نَصَبًا}؛ أي: تعبًا وإعياء. وقرأ الجمهور: {نَصَبًا} بفتحتين، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين، قال صاحب «اللوامح»: وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها، ذكره في «البحر»، قال النواوي: إنما لحقه النصب والجوع، ليطلب موسى الغداء، فيتذكر به يوشع الحوت، وفي الحديث: «لم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره به»، وفي «الأسئلة المقحمة»: كيف (¬1) جاع موسى ونصب في سفرته هذه، وحين خرج إلى الميقات ثلاثين يومًا لم يجع ولم ينصب؟ قيل: لأن هذا السفر، كان سفر تأديب وطلب علم، واحتمال مشقة، وذلك السّفر كان إلى الله تعالى، انتهى، وجملة القسم في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء 63 - {قالَ} فتى موسى لموسى: {أَرَأَيْتَ} قال ابن ملك (¬2): هو يجيىء بمعنى أخبرني، وهنا بمعنى التعجب، ومفعوله محذوف، وذلك المحذوف عامل في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

قوله: {إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ} والتقدير: أرأيت ما دهاني أو نابني في ذلك الوقت والمكان، وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين، الذي هو الموعد. والمعنى: عجبت مما أصابني حين وصلنا إلى الصخرة، ونزلنا عندها {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} أن أذكر لك أمره، وما شاهدت منه من الأمور العجيبة، نسب النسيان إلى نفسه؛ لأن موسى كان نائمًا، وأحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر، ورآه قد اتخذ السرب، فأشفق أن يوقظ موسى، وقال: أؤخر إلى أن يستيقظ، ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا، وجاوزا مجمع البحرين. وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره، لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زادا لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما. ثم اعتذر بإنساء الشيطان إياه، لأنه لو ذكر ذلك لموسى ما جاوز ذلك المكان، وما ناله النصب فقال: {وَما أَنْسانِيهُ}؛ أي: وما أنساني الحوت {إِلَّا الشَّيْطانُ} بوسوسته الشاغلة عن ذلك، {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل اشتمال من الضمير، وقرىء {أن أذكر له} كما في «البيضاوي»؛ أي: وما أنساني ذكر أمر الحوت لك، إلا الشيطان بوسوسته الشاغلة عن ذلك، {وَاتَّخَذَ} الحوت {سَبِيلَهُ} ومسلكه {فِي الْبَحْرِ} اتخاذا {عَجَبًا}، وهو كون مسلكه كالسرب، فلم يلتئم الماء، وجمد ما تحت الحوت منه حتى رجع موسى إليه، فرأى مسلكه، وكون الحوت قد مات، وأكل شقه الأيسر، ثمّ حيي بعد ذلك، وقرأ الجمهور {وما أنسانيه} بكسر الهاء على أصل حركة التقاء الساكنين ولمناسبة الياء وقرأ حفص بضم الهاء هنا وفي «الفتح» في قوله: {عليه الله} بناء على أن الغالب في حركة بناء هاء الضمير الضم، جبرًا لما فاته من الإعراب، وذلك في الوصل، وقد بسطنا البحث عن ذلك في سورة الفاتحة، فراجعه، وعبارة ابن الجوزي هنا: قرأ الكسائي {أنسانيه} بإمالة السين مع كسر الهاء، وقرأ ابن كثير {أنسانيهي} بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء، وروي عن حفص {أنسانيه إلا} بضم الهاء في الوصل، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجبًا

[64]

للناس، فهو معطوف على جملة قوله؛ {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} وما بينهما اعتراض كما في «الجمل»: يعني أنّ قوله: {وَما أَنْسانِيهُ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، سببهُ ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه، لبيان طرف آخر من أمر الحوت، كأنه قيل: حيي واضطرب، ووقع في البحر، واتّخذ سبيله فيه سبيلًا عجبًا. قلت: ويحتمل كون جملة، {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} حالًا من الحوت في قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}. وفي «الخازن» (¬1): قيل: وأي شيء أعجب من حوت قد أكل منه دهرًا، ثم صار حيًا بعدما أكل بعضه. وفي «القرطبي»: وموضع العجب: أن يكون حوت قد مات يؤكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك، وقال أبو شجاع في كتاب «الطبري»: أتيت به، فرأيته، فإذا هو شقّ حوت بعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء من اللحم، عليه قشرة رقيقة، تحتها الشوك اهـ. وحاصل معنى الآية: أي (¬2) قال له فتاه: أرأيت ما حدث لي حين لجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين، إني نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حييّ واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا، وذلك أن مسلكه كان كالطاق والسرب، وما أنساني ذكره إلّا الشيطان 64 - {قالَ} موسى لفتاه: {ذلِكَ} الذي ذكرت من أمر الحوت، {ما كُنَّا نَبْغِ}؛ أي: الأمر الذي كنا نبغيه ونطلبه لكونه أمارة الظفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر عليه السلام، أصله نبغيه، والضمير العائد إلى الموصول محذوف كما قدرناه. وقرىء (¬3): {نبغ} بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبي ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[65]

عمرو، والكسائي، ونافع، وأما الوقف .. فالأكثر فيه طرح الياء اتباعًا لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير، {فَارْتَدَّا}؛ أي: رجع موسى وفتاه من ذلك الموضع، وهو (¬1) طرف نهر ينصب إلى البحر، {عَلى آثارِهِما}؛ أي: على أعقابهما، وطريقهما الذي جاء منه، والآثار: الأعلام جمع أثر، وإثر، يقال: خرج في أثره، وفي إثره، أي: بعده وعقبه حالة كونهما يقصان {قَصَصًا} فهو مصدر فعل محذوف؛ أي: يتبعان آثارهما اتباعًا، ويتفحصان تفحصًا، حتى أتيا الصخرة التي حيي الحوت عندها، وسقط في البحر، واتخذ سبيله سربًا، قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملًا لا علامة فيها. وخلاصة ما تقدم (¬2): أنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام: أن موضع هذا العالم مجمع البحرين، وأن علامة وجوده في المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي في المكتل حيًا، فلما بلغا مجمع البحرين، اضطرب الحوت فيه، ووثب في الماء، وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر، وجعله كالطاق أو الكوة، حتى سرى الحوت فيه، فلما جاوز موسى، وفتاه المكان المعين، وهو الصخرة بسبب النسيان، وسارا كثيرًا، وتعبا وجاعا .. قال موسى لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا}، قال الفتى: أرأيت ما وقع لي من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة، فاتخذ سبيله في البحر اتخاذًا عجبًا، إذا انقلب من المكتل، وصار حيًا، وألقى نفسه في البحر على غفلة منّي، وإنّي نسيت أن أبلغك خبره، وما أنساني ذكره إلا الشيطان، قال موسى: ذلك الذي كنا نطلبه، لأنه أمارة الظفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر، فرجعا في طريقهما الأولى، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم 65 - {فَوَجَدا}؛ أي: فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها {عَبْدًا} التنكير للتفخيم، {مِنْ عِبادِنا} الإضافة للتشريف، وهو الخضر، وكان مسجّى بثوب أبيض، فسلّم عليه موسى، وعرّفه نفسه، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام، فقال: أنا موسى. قال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

موسى بني إسرائيل، قال: نعم، والخضر (¬1) - بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد - لقبه، وسبب تلقيبه بذلك. ما جاء في «الصحيح» أنه عليه السلام قال: «إنّما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» الفروة وجه الأرض اليابسة، وقيل: النّبات اليابس المجتمع، والبيضاء الأرض الفارغة التي لا غرس فيها؛ لأنها تكون بيضاء، واهتزاز النبات تحركه وكنيته أبو العباس، واسمه بليا، - بباء موحدة مفتوحة، ثمّ لام ساكنة، ثمّ مثناة تحتية - ابن ملكان - بفتح الميم وإسكان اللام - ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد، بن سام، بن نوح عليه السلام، وكان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل، وهرب منه، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه، وكان أبوه من الرّوم، وأمه من فارس، واسمها ألها، وقيل: أمه رومية، وأبوه فارسي، والله أعلم. وروي (¬2): أنهما وجدا الخضر، وهو نائم على وجه الماء، وهو مغطى بثوب أبيض، أو أخضر، طرفه تحت رجليه، والآخر تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فرفع رأسه واستوى جالسا، وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي، ودلك علي. والصحيح أن الخضر نبيٌّ، وذهب الجمهور إلى أنه حيٌّ إلى يوم القيامة، لشربه من ماء الحياة. والله أعلم. {آتَيْناهُ}؛ أي: أعطيناه {رَحْمَةً}؛ أي: نبوة ووحيا كائنة {مِنْ عِنْدِنا} وفضلنا، كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصه بجناب الكبرياء، وقال الإمام مسلم: إن النبوة رحمةٌ كما في قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ونحوه، ولكن لا يلزم أن تكون الرحمة نبوةً، فالرحمة هنا: هي طول العمر على قول من ذهب إلى عدم نبوته، وقيل: الرحمة: النعمة التي أنعم الله بها عليه {وَعَلَّمْناهُ}؛ أي: علمنا ذلك العبد {مِنْ لَدُنَّا}؛ أي: من جنابنا، {عِلْمًا} خاصًّا حاصلًا له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[66]

بلا واسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وهو: ما علمه الله سبحانه من علم الغيوب والإخبار عنها بإذنه تعالى، على ما ذهب إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - أو علم الباطن. قال السمرقندي (¬1): إنما قال: {مِنْ لَدُنَّا} مع أن العلوم كلها من لدنه، لأن بعضها بواسطة تعليم الخلق، فلا يسمى ذلك علمًا لدنيًا، بل العلم اللدني: هو الذي ينزله في القلب من غير واسطة أحد، ولا سبب مألوف من خارج، كما كان لعمر، وعليٍّ، ولكثير من أولياء الله المرتضين، الذين فاقوا بالشوق والزهد على كل من سواهم. قال الزجاج (¬2): وفيما فعل موسى، وهو من أجلّة الأنبياء، من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه، ولذا ورد: أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. 66 - ثم قص سبحانه ما دار بين موسى والخضر، بعد اجتماعهما فقال: {قالَ لَهُ}؛ أي: لذلك العبد {مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} كلام (¬3) مستأنف مبني على سؤال نشأ من السياق، كأنه قيل: فماذا جرى بينهما من الكلام بعد اجتماعهما؟ فقيل: قال له موسى؛ أي: للخضر عليهما السلام {هَلْ أَتَّبِعُكَ}؛ أي: هل أصحبك، والاستفهام فيه للاستئذان {عَلى} شرط {أَنْ تُعَلِّمَنِ} وهو في موضع الحال من الكاف، وهو استئذان منه في اتباعه له على وجه التعليم، ويكفيك دليلا في شرف الاتباع. {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؛ أي: على شرط أن تعلّمني علمًا ذا رشد وإصابة، أرشد به في ديني، كائنًا مما علمك الله سبحانه وتعالى، وفي هذا (¬4) السؤال ملاطفة، ومبالغة في حسن الأدب؛ لأنه استأذنه أن يكون تابعًا له، على أن يعلمه مما علمه الله تعالى من العلم، قال الإمام: والآية تدل على أن موسى راعى ¬

_ (¬1) بحر العلوم. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[67]

أنواع الأدب، حيث جعل نفسه تبعا له بقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} واستأذن في إثبات هذه التبعية، وأقرّ على نفسه بالجهل، وعلى أستاذه بالعلم، في قوله: {عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ} و {من} في قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} للتبعيض؛ أي: لا أطلب مساواتك في العلوم، وإنما أريد بعضًا من علومك، كالفقير يطلب من الغني جزءًا من ماله، وفي قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} اعتراف بأنه أخذ من الله، والرشد: الوقوف على الخير، وإصابة الصّواب. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو (¬1): {من لدنا} بتخفيف النون، وهي لغة في لدن، وهي الأصل: قيل: وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح ادّعاء هذا العلم، ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك، حتى يخبر بأن من كان من أصحابه، هو من أهل الجنة، على سبيل القطع، وأن بعضهم يرى الخضر، وقرأ الحسن، والزهري، وأبو بحرية، وابن محيصن، وابن مناذر، ويعقوب، وأبو عبيد، واليزيدي {رشدا} بفتحتين، وهي قراءة أبي عمرو من السبعة، وقرأ باقي السبعة بضم الراء، وإسكان الشين، وهما لغتان: كالبخل والبخل. وفي الآية دليل على أن المتعلّم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن المفضول، وقد يأخذ الفاضل عن الفاضل إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب، ومعرفة البواطن. 67 - {قالَ} الخضر لموسى: {إِنَّكَ} يا موسى {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؛ أي: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك، فإني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمكه لا أعلمه أنا، 68 - ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة، فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ} يا موسى، وتسكت {عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}؛ أي: علمًا و {خُبْرًا} تمييز محول عن الفاعل؛ أي: لم يحط به خبرك؛ أي: علمك، والخبر: العلم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[69]

بالشيء، والخبير بالأمور: هو العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها، والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي، وقرأ الحسن، وابن هرمز {خبرا} بضم الباء؛ أي: وكيف (¬1) تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور، ظواهرها منكرة، وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح العالم لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك، بل يبادر بالإنكار، 69 - {قالَ} موسى للخضر {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {صابِرًا} معك ملتزمًا طاعتك، {وَ} ستجدني {لا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}؛ أي: لا أخالف أمرًا لك تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله وشرعه، فجملة: {وَلا أَعْصِي} معطوفة على {صابِرًا} فيكون التقييد بقوله: {إِنْ شاءَ اللَّهُ} شاملًا للصبر ونفي المعصية، كما أشرنا إليه في الحل؛ أي: ستجدني صابرًا وغير عاص؛ أي: لا أخالفك في شيء، ولا أترك أمرك فيما أمرتني به. وتعليق الوعد بالمشيئة (¬2): إما طلبًا لتوفيقه في الصبر ومعونته، أو تيمنًا به، أو علما منه بشدة الأمر وصعوبته، فإن الصّبر من مثله عند مشاهدة الفساد شديد جدّا، لا يكون إلا بتأييد الله تعالى. وقيل: إنما استثنى؛ لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم من الصبر، وهذه عادة الصالحين، فإن قلت ما معنى قول موسى للخضر: {سَتَجِدُنِي} الآية، ولم يصبر، وقول إسماعيل عليه السلام: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فصبر؟ قال بعض العلماء: لأن موسى جاء صحبة الخضر بصورة التعلم، والمتعلم لا يصبر إذا رأى شيئًا حتى يفهمه، بل يعترض على أستاذه كما هو دأب المتعلمين، وإسماعيل لم يكن كذلك، بل كان في معرض التسليم والتفويض إلى الله تعالى، وكلاهما في مقامهما واقفان، وقيل: كان موسى في مقام الغيرة والحدة، والذبيح في مقام الحكم والصبر، قال بعض العارفين: قال الذبيح من الصابرين: أدخل نفسه في عداد الصابرين، فدخل، وموسى عليه السلام تفرد بنفسه، وقال: صابرًا، فخرج، والتفويض من التفرد أسلم وأوفق لتحصيل المقام ووصول المرام. 70 - {قالَ} الخضر لموسى: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي}؛ أي: فإن صحبتني لأخذ العلم، وهو إذن له في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[71]

الاتباع، والفاء لتفريع الشرطية، على ما مر من التزامه للصبر والطاعة. {فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك؛ أي: تفاتحني بالسؤال عن حكمته، فضلا عن المناقشة والاعتراض، {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}؛ أي: حتى أبتدىء لك ببيانه، وفيه إيذان بأن كل ما صدر منه فله حكمة، وغاية حميدة ألبتة، وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والتابع مع المتبوع، وهذه (¬1) الجمل المعنونة بـ {قال} و {قال}: مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة، كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها. والمعنى: أي قال له الخضر: إن سرت معي فلا تفاتحن في شيء أنكرته علي حتى أبتدىء بذكره، فأبين لك وجه صوابه، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك، فقبل موسى شرطه، رعاية لأدب المتعلم مع العالم. وقرأ ابن كثير (¬2)، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي {فَلا تَسْئَلْنِي} ساكنة اللام مخففة النون، وقرأ نافع، وابن عامر، {فلا تسألني} مفتوحة اللام مشددة النون، قال أبو علي: كلهم بياء في الحالين. انتهى. وقرأ ابن عامر، في رواية الداجونيّ {فلا تسألنّ عن شيء} بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة مشددة. 71 - والفاء في قوله: {فَانْطَلَقا} فاء الفصيحة، كما في «روح البيان»؛ أي: ذهب موسى والخضر عليهما السلام على ساحل البحر، يطلبان السفينة، وأمّا يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل، أو كان معهما، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى، فاكتفى بذكر المتبوع من التابع، فالمقصود ذكر موسى والخضر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فحملوهم. {حَتَّى إِذا رَكِبا}؛ أي: دخلا {فِي السَّفِينَةِ} والألف واللام {فِي السَّفِينَةِ} لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهدٌ في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) زاد المسير والبحر المحيط.

سفينة مخصوصة، كما ذكره في «البحر»، وقال في «الإرشاد»: في سورة هود، معنى الركوب العلو على شيء له حركة، إما إراديةٌ كالحيوان، أو قسرية كالسفينة والعجلة، ونحوهما، فإذا استعمل في الأول، يوفر له حظ الأصل، فيقال: ركبت الفرس، وإن استعمل في الثاني، يلوح بمحلية المفعول بكلمة {فِي} فيقال: ركبت في السفينة، وفي «الجلالين»: {حَتَّى إِذا رَكِبا} البحر {فِي السَّفِينَةِ} {خَرَقَها}؛ أي: ثقبها (¬1) الخضر وشقها لمّا بلغوا اللج؛ أي: معظم الماء، حيث أخذ فأسًا، فقلع بغتة؛ أي: على غفلة من القوم من ألواحها لوحين مما يلي الماء، فجعل موسى يسد الخرق بثيابه، وأخذ الخضر قدحًا من زجاج، ورقع به خرق السفينة، أو سده بخرقة. روي أنه لما خرق السّفينة لم يدخلها الماء. وقال الإمام في «تفسيره»: والظاهر أنه خرق جدارها، لتكون ظاهرة العيب، ولا يتسارع إلى أهلها الغرق، فعند ذلك {قالَ} موسى منكرًا عليه: {أَخَرَقْتَها} يا خضر، والاستفهام فيه للإنكار المضمن للتوبيخ. {لِتُغْرِقَ أَهْلَها}؛ أي: لتهلك ركابها بالماء، فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها، وهم قد أحسنوا بنا حيث حملونا بغير أجرة، وليس هذا جزاءهم، فاللام للعاقبة، وقيل: لام العلة. وقرأ زيد بن علي (¬2)، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني: {ليغرق} بفتح الياء والراء، وسكون الغين {أهلها} بالرفع، وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب، وإسكان الغين، وكسر الراء، ونصب لام أهلها، وقرأ الحسن، وأبو رجاء كذلك، إلا أنهما فتحا الغين، وشددا الراء {لَقَدْ جِئْتَ}؛ أي: والله لقد: أتيت وفعلت يا خضر {شَيْئًا إِمْرًا}؛ أي: شيئًا عجيبًا عظيمًا شديدًا على القوم، قال في «القاموس»: أمرٌ إمرٌ، منكرٌ عجب: يقال: أمر الأمر إذا كبر، والإمر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[72]

الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر: الداهية العظيمة. 72 - {قالَ} الخضر لموسى: {أَلَمْ أَقُلْ} الاستفهام للتقرير؛ أي: قد قلت لك: {إِنَّكَ} يا موسى {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؛ أي: لا تقدر صبرًا معي فيما ترى مما أفعل، وهو تذكير لما قاله من قبل متضمن للإنكار على عدم الوفاء بوعد 73 - فـ {قالَ} موسى للخضر {لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ}؛ أي: بنسياني وصيّتك بعدم السؤال عن حكمة الأفعال قبل البيان، فإنه لا مؤاخذة على الناسي فـ {ما} مصدرية، ويحتمل كونها موصولة؛ أي: لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر {فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} وقيل (¬1): هذا من التورية، وإيهام خلاف المراد، فالمراد بما نسيه شيء آخر غير الوصية؛ لكنه أوهم أنها المنسية، ليتقي بها من الكذب مع التوصل إلى المقصود، وهو بسط عذره في الإنكار، {وَلا تُرْهِقْنِي}؛ أي: لا تكلفني يا خضر، ولا تحملني {مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}؛ أي: في أمر صحبتي إياك مشقة وشدة وصعوبةً، وقرأ أبو جعفر {عسرا} بضم السين حيث وقع، والمعنى: قال موسى (¬2) للخضر: لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك، وترك الإنكار عليك، ولا تكلفني مشقّةً، ولا تضيّق عليّ أمري؛ ولا تعسر عليّ متابعتك، بل يسرها بالإغضاء، وترك المناقشة، فإني أريد صحبتك، ولا سبيل لي إليها إلا بذلك. 74 - والفاء في قوله: {فَانْطَلَقا} فصيحة، والانطلاق: الذهاب؛ أي: فقبل الخضر عذر موسى عليه السلام، فخرجا من السفينة، فانطلقا {حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا} بين قريتين لم يبلغ الحنث يلعب مع عشر صبيان، كان وضيء الوجه اسمه جيشور - بالجيم، أو بالخاء، أو بالحاء - أو حينون، قال السهيلي: فأخذه الخضر من بينهم {فَقَتَلَهُ} عطف (¬3) على الشرط، بالفاء، أي: فقتله عقيب اللقاء؛ أي: فقتله بذبحه مضطجعًا بالسكين، أو بفتل عنقه، وقيل: معنى قتله أشار بأصابعه الثلاث: الإبهام، والسبابة، والوسطى، وقلع رأسه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم خرجا من السفينة، فبينما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع ¬

_ (¬1) شهاب. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله» كذا في «الصحيحين» برواية أبي بن كعب - رضي الله عنه -. أي (¬1): فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلامًا يلعب مع لداته وأترابه، فقتله، ولم يبين القرآن كيف قتله، أحز رأسه، أم ضرب رأسه بالجدار، أم بطريق آخر؟ وعلينا أن لا نهتم بذلك، إذ لو علم الله فيه خيرًا لنا .. لذكره، ولكن بيّنته السنة كما مر آنفًا. {قالَ} موسى للخضر، والجملة جواب الشرط {أَقَتَلْتَ} يا خضر، والاستفهام فيه للتوبيخ المضمن للإنكار {نَفْسًا زَكِيَّةً}؛ أي: طاهرة من الذنوب، لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث؛ أي: الإثم والذنب، وهو قول الأكثرين، {بِغَيْرِ نَفْسٍ}؛ أي: بغير قتل نفس محرمة، يعني لم تقتل نفسًا فيقتص منها، وخص (¬2) هذا من بين مبيحات القتل، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان؛ لأنه أقرب إلى الوقوع، بالنظر إلى حال الغلام، وقرأ ابن عباس (¬3)، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وحميد، والزهري، ونافع، واليزيدي، وابن مسلم، وزيد، وابن بكير، عن يعقوب، والتمار، عن رويس عنه، وأبو عبيد، وابن جبير، الأنطاكي وابن كثير، وأبو عمرو {زَاكِيَةً} بالألف، وقرأ زيد بن علي، والحسن، والجحدري، وابن عامر، والكوفيون {زكية} بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية، لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة، وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا، وكفرًا» متفق عليه وهذا لفظ مسلم. والله {لَقَدْ جِئْتَ}، وفعلت يا خضر {شَيْئًا نُكْرًا}؛ أي: شيئًا منكرًا، أنكر من الأول؛ لأن ذلك كان خرقًا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وقيل: الآمر: أعظم من المنكر، لأن قتل نفس واحدة، أهون من إغراق أهل السفينة. والمعنى: أي (¬1) والله لقد فعلت شيئًا تنكره العقول، وتنفر منه النفوس، وأتى هنا بقوله: {نُكْرًا} وهناك بقوله: {إِمْرًا} لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة؛ لأن ذلك لم يكن إهلاكًا لنفس، إذ ربما لا يحصل الغرق، وفي هذا إتلاف النفس قطعًا فكان أنكر. وقرأ الجمهور: {نُكْرًا} بإسكان الكاف، وقرأ نافع، وأبو بكر، وابن ذكوان، وأبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ويعقوب، وأبو حاتم، بضم الكاف حيث كان منصوبًا. قال جماعة من القراء (¬2): نصف القرآن عند قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}. الإعراب {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}. {وَإِذْ} {الواو} استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ قال موسى لفتاه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {قالَ مُوسى} فعل وفاعل {لِفَتاهُ} متعلق به، والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ {إِذْ} {لا أَبْرَحُ} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قالَ} وإن شئت قلت: {لا} نافية {أَبْرَحُ} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على موسى، والخبر محذوف تقديره: لا أبرح ماشيًا حتى أبلغ، ويحتمل إنها تامة، فلا تستدعي خبرًا، بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير، والطلب، ولا أفارقه، وجملة {لا أَبْرَحُ} في محل النصب مقول {قالَ} {حَتَّى} حتى حرف جرّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وغاية، بمعنى إلى كما قاله أبو البقاء، أو بمعنى لام التعليل، كما قاله غيره {أَبْلُغَ} منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على موسى، {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} مفعول به، {أَوْ} حرف عطف {أَمْضِيَ} معطوف على {أَبْلُغَ} وفاعله ضمير يعود على موسى {حُقُبًا} ظرف زمان متعلق بـ {أَمْضِيَ}، وجملة {أَبْلُغَ} صلة {أن} المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {أَبْرَحُ}، والتقدير: لا أبرح ماشيًا إلى بلوغي مجمع البحرين، أو مضيّي حقبًا. {فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)}. {فَلَمَّا} {الفاء} عاطفة على محذوف، تقديره: فذهبا يمشيان، فلما بلغا الخ {لما} حرف شرط غير جازم، {بَلَغا} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محلّ لها من الإعراب، {مَجْمَعَ} مفعول به، وهو مضاف {بَيْنِهِما} ظرف أضيف إليه على الاتساع، أو بمعنى الوصل؛ أي: مجمع وصلهما {نَسِيا حُوتَهُما} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لما} لا محلّ لها من الإعراب. وجملة {لما} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، {فَاتَّخَذَ} الفاء عاطفة {اتخذ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحوت {سَبِيلَهُ} مفعول أول {سَرَبًا} مفعول ثان {فِي الْبَحْرِ} متعلق بمحذوف حال من {سَرَبًا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نسي}. {فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا (62)}. {فَلَمَّا} {الفاء} عاطفة {لما} حرف شرط، {جاوَزا} فعل وفاعل {قالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى {لِفَتاهُ} جار ومجرور متعلق بـ {قالَ}، وجملة {قالَ} جواب لما، وجملة {لما} معطوفة على محذوف تقديره: فذهبا يمشيان، {فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ ...} إلخ {آتِنا غَداءَنا} إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: {آتِنا غَداءَنا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {لَقَدْ} {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {لَقِينا} فعل وفاعل {مِنْ سَفَرِنا} متعلق به،

{هذا} بدل من {سَفَرِنا} أو صفة له {نَصَبًا} مفعول به لـ {لَقِينا} والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ}. {قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة مستأنفة {أَرَأَيْتَ} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {أَرَأَيْتَ} فعل وفاعل يتعدى إلى مفعولين، وهو بمعنى أخبرني، ومفعولاه محذوف، والتقدير: رأيت أمرنا ما عاقبته، وفي «البيضاوي» أرأيت ما دهاني؛ أي: أخبرني ما دهاني، ونابني إذ أوينا إلى الصخرة، وجملة {أَرَأَيْتَ} في محل النصب مقول {قالَ} {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمعمول {أَرَأَيْتَ} المحذوف {أَوَيْنا} فعل وفاعل {إِلَى الصَّخْرَةِ} متعلق به، والجملة الفعلية، في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} الظرفية {فَإِنِّي} {الفاء} تعليلية لتعليل الدهشة التي اعترتهما مما نابهما، {إني} ناصب واسمه {نَسِيتُ} فعل وفاعل ومفعول، {الْحُوتَ}: مفعول به منصوب والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ} {وَما أَنْسانِيهُ} {الواو} اعتراضية {ما} نافية {أنساني} فعل ماض والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم مفعول به، و {الهاء} ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل النصب مفعول ثان، مبني على الضم، على قراءة حفص، رجوعًا إلى الأصل في حركة بناء هاء الضمير، وإن كان الكسر مناسبًا للياء، المذكورة قبله، كما هو قراءة الجمهور إِلَّا أداة استثناء مفرّغ {الشَّيْطانُ} فاعل {أنساني}، والجملة الفعلية معترضة لاعتراضها بين المعطوف، والمعطوف عليه، {أَنْ أَذْكُرَهُ} ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر منصوب على كونه بدل اشتمال من {الهاء} في {نَسِيتُ} والتقدير: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. {وَاتَّخَذَ} {الواو} عاطفة {اتَّخَذَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحوت {سَبِيلَهُ} مفعول أول {فِي الْبَحْرِ} إما متعلق بـ {اتَّخَذَ} أو حال من {عَجَبًا} {عَجَبًا} مفعول ثان، وجملة

{اتَّخَذَ} في محل النصب معطوفة على جملة قوله، {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} على كونها مقول {قالَ}. {قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا (64) فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، {ذلِكَ} مبتدأ {ما} اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {كُنَّا} فعل ناقص، واسمه {نَبْغِ} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، المحذوفة، اتباعًا لرسم المصحف العثماني، لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على موسى، وفتاه وجملة {نَبْغِ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كنا نبغيه {فَارْتَدَّا} الفاء عاطفة {ارتدا} فعل وفاعل {عَلى آثارِهِما} متعلق بـ {ارتدا} والجملة معطوفة على جملة {قالَ} {قَصَصًا} مفعول مطلق معنوي لـ {ارتدا} أو مفعول مطلق لمحذوف تقديره: يقصان قصصًا، والجملة المحذوفة حال من فاعل {ارتدا}؛ أي: ارتدا حالة كونهما يقصان قصصًا، {فَوَجَدا} {الفاء} عاطفة {وجدا عبدا} فعل وفاعل ومفعول به، لأن وجد هنا بمعنى: أصاب يتعدى إلى مفعول واحد {مِنْ عِبادِنا} صفة أولى لـ {عَبْدًا}، وجملة {وجدا} معطوفة على ارتدا {آتَيْناهُ رَحْمَةً} فعل وفاعل ومفعولان {مِنْ عِنْدِنا} صفة لـ {رَحْمَةً}، وجملة {آتَيْناهُ} في محل النصب صفة ثانية لـ {عَبْدًا} {وَعَلَّمْناهُ} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْناهُ} {مِنْ لَدُنَّا} حال من {عِلْمًا} لأنه صفة نكرةٍ قدمت عليها، {عِلْمًا} مفعول ثانٍ لـ {علمنا} لا مفعول مطلق، ولو كان مفعولًا مطلقًا .. لقال تعليمًا، لأن فعله من باب فعل الرباعي. {قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}. {قالَ} فعل ماض {لَهُ} متعلق به، {مُوسى} فاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، {هَلْ أَتَّبِعُكَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {هَلْ} حرف

استفهام واستئذان {أَتَّبِعُكَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {عَلى} حرف جر {أَنْ} حرف نصب {تُعَلِّمَنِ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، و {النون} للوقاية، و {الياء} مفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلى} تقديره: على تعليمك إياي، الجار والمجرور حال من {الكاف} في {هَلْ أَتَّبِعُكَ}، أي: أتبعك حال كونك معلّمًا لي {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {تُعَلِّمَنِ} أو حال من {رُشْدًا} {عُلِّمْتَ} فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما علمته {رُشْدًا}، مفعول ثان لـ {تُعَلِّمَنِ}. {قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة {إِنَّكَ} ناصب واسمه {لَنْ تَسْتَطِيعَ} ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على موسى {مَعِيَ} ظرف ومضاف إليه، حال من فاعل {تَسْتَطِيعَ}؛ أي: حال كونك معي {صَبْرًا} مفعول به، وجملة {تَسْتَطِيعَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {وَكَيْفَ} {الواو} عاطفة {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام الإنكاري التعجبي في محل نصب على التشبيه بالحال، من فاعل {تَصْبِرُ}، {تَصْبِرُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على موسى، {عَلى ما} جار ومجرور متعلق بـ {تَصْبِرُ}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّكَ} على كونها مقول {قالَ} {لَمْ تُحِطْ} جازم وفعل مجزوم، وفاعله ضمير يعود على موسى {بِهِ} متعلق بـ {تُحِطْ}، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير به {خُبْرًا} مفعول مطلق معنوي لـ {تُحِطْ} لأن معنى {لَمْ تُحِطْ بِهِ} لم تخبر، وأعربها الزمخشري تمييزًا محولًا عن الفاعل، أي: لم يحط به خبرك، وليس ببعيد. {قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}.

{قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة {سَتَجِدُنِي} فعل، ومفعول أول، والنون للوقاية، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة في محل النصب، مقول {قالَ}، وجملة {إِنْ شاءَ اللَّهُ} معترضة {صابِرًا} مفعول ثان لـ {تجدني} {وَلا} {الواو} عاطفة {لا} نافية {أَعْصِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على موسى {لَكَ} جار ومجرور حال من {أَمْرًا} {أَمْرًا} مفعول به، وجملة {لا أَعْصِي} في محل النصب معطوفة على {صابِرًا}، والتقدير: ستجدني صابرًا غير عاص لك، أو معطوفة على قوله: {سَتَجِدُنِي} كونها مقول {قالَ}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة، {فَإِنِ} {الفاء} لتفريع الجملة الشرطية، على ما مر من التزامه للصبر، والطاعة، كما في «روح البيان» {إن} حرف شرط {اتَّبَعْتَنِي} فعل وفاعل ونون وقاية، ومفعول به في محل الجزم، بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {فَلا} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية، {لا} ناهية جازمة، {تَسْئَلْنِي} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على موسى، والنون للوقاية، والياء مفعول به {عَنْ شَيْءٍ} متعلق بـ {تَسْئَلْنِي}، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قالَ} {حَتَّى} حرف جر وغاية {أُحْدِثَ} فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرةً بعد حتى، وفاعله ضمير يعود على الخضر؛ {لَكَ} متعلق بـ {أُحْدِثَ} {مِنْهُ} حال من {ذِكْرًا} {ذِكْرًا} مفعول به، ولا بد من تقدير صفة محذوفة بعد شيء؛ أي: عن شيء خفي عليك سره، وغبي أمره، وجملة {أُحْدِثَ} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره: إلى إحداثي لك منه {ذِكْرًا} الجار والمجرور متعلق بـ {تَسْئَلْنِي}. {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها}. {فَانْطَلَقا} {الفاء} فاء الفصيحة كما في «روح البيان»؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما تقاولا، وأردت بيان حالهما بعد ذلك، فأقول لك: {انطلقا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب، إذا

المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {حَتَّى} حرف جر وغاية {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {رَكِبا} فعل وفاعل {فِي السَّفِينَةِ} متعلق به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {خَرَقَها} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، وجملة {إِذا} من فعل شرطها، وجوابها في محل الجر بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، والتقدير: فانطلق إلى خرقه السفينة وقت ركوبهما إياها، الجار والمجرور متعلق بـ {انطلقا}. {قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفةٌ {أَخَرَقْتَها} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَخَرَقْتَها} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {خَرَقْتَها} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {لِتُغْرِقَ} {اللام} حرف جر وتعليل {تغرق أهلها} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرةً، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} تقديره: لغرقك أهلها، الجار والمجرور متعلق بـ {خَرَقْتَها} {لَقَدْ} جئت {اللام} موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق {جِئْتَ شَيْئًا} فعل وفاعل ومفعول {إِمْرًا} صفة لـ {شَيْئًا}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ}. {قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)}. {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة {أَلَمْ أَقُلْ ...} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري {لَمْ أَقُلْ} جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {إِنَّكَ} ناصب واسمه {لَنْ تَسْتَطِيعَ} ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على موسى {مَعِيَ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {تَسْتَطِيعَ} {صَبْرًا} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}

وجملة {إن} في محل النصب مقول {أَقُلْ} {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة {لا} ناهية جازمة {تُؤاخِذْنِي} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والنون للوقاية الياء مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} {بِما} {الباء} حرف جر {ما} مصدرية، أو موصولة أو موصوفة {نَسِيتُ} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، أو الموصولة {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بنسياني أو بالذي نسيته، أو بشيء، نسيته، الجار والمجرور متعلق بـ {تُؤاخِذْنِي} {وَلا تُرْهِقْنِي} جازم وفعل مجزوم ونون وقاية ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة {لا تُؤاخِذْنِي} {مِنْ أَمْرِي} حال من {عُسْرًا} {عُسْرًا} مفعول به. {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}. {فَانْطَلَقا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما تقاولا، وأردت بيان ما جرى بينهما بعد ذلك .. فأقول لك: {انطلقا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {حَتَّى} حرف جر وغاية {إِذا} ظرف لما يستقبل في الزمان {لَقِيا غُلامًا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {فَقَتَلَهُ} {الفاء} عاطفة {قتله} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة {لَقِيا} {قالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} في محل جر بـ {حَتَّى} تقديره: فانطلقا إلى قول موسى، وقت لقائهما غلامًا فقتله إياه الجار والمجرور متعلق بـ {انطلقا} {أَقَتَلْتَ نَفْسًا} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قالَ}، وإن شئت قلت: {أَقَتَلْتَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {قَتَلْتَ} {نَفْسًا} فعل وفاعل ومفعول {زَكِيَّةً} صفة لـ {نَفْسًا}، والجملة في محل النصب

مقول {قالَ} {بِغَيْرِ نَفْسٍ} جار ومجرور متعلق بـ {قَتَلْتَ} أو في محل نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول؛ أي: قتلته ظالمًا، أو مظلومًا {لَقَدْ} {اللام} موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {جِئْتَ شَيْئًا} فعل وفاعل ومفعول {نُكْرًا} صفة {شَيْئًا} والجملة جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}: اسم مكان من جمع يجمع من باب فَتَح فالقياس في مصدره: ومكانه وزمانه الفتح، وهو ملتقى بحر الروم، وبحر فارس، مما يلي المشرق، وملتقاهما عند البحر المحيط، وقيل: ملتقى البحرين هو بحر الأردن، وبحر القلزم، وقيل: غير ذلك مما هو مذكور في المطوّلات {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}؛ أي: زمنًا طويلًا، والحقب ثمانون سنة وقيل: سبعون سنة، وقيل: سنة واحدة. بلغة قريش، ويجمع على أحقاب كعنق، وأعناق، وفي معناه الحقبة بالكسر، وبالضم، وتجمع الأولى: على حقب كقربة، وقرب، والثانية: على حقب كغرفة وغرف ذكره في «الفتوحات». {سَرَبًا}؛ أي: مسلكا كالسرب، وهو: النفق، فصار الماء عليه كالقنطرة، وفي معاجم اللغة: السرب: بفتحتين الحفيرة، تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء، ويقال: طريق سرب؛ أي: يتتابع فيه الناس. {غَداءَنا}، والغداء الطعام الذي يؤكل أولَ النهار، والمراد به هنا الحوت {نَصَبًا}؛ أي: تعبًا وإعياءً {إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ}؛ أي: التجأنا، والصخرة معروفة، وهي حجر كبير {نبغى}؛ أي: نطلب {فَارْتَدَّا}؛ أي: رجعا {عَلى آثارِهِما}؛ أي: على طريقهما الذي جاءا منه {قَصَصًا}؛ أي: اتباعَا من قولهم أثره إذا تبعه {مِنْ لَدُنَّا} {مِنْ عِنْدِنا} لدن، وهي بمعنى عند، فتكون اسمًا لزمان الحضور ومكانه، كما أن عند كذلك إلا أن لدن تختص بستة أمور: 1 - أنها ملازمة لمبدأ الغايات الزمانية والمكانية، و {عند} غير ملازمة فمن ثم يتعاقبان في نحو: جئت من عنده من لدنه، وفي الآية الكريمة. 2 - أن الغالب في لدن استعمالها مجرورة بمن، ونصبها قليل، وجر عند بمن دون جر لدن في الكثرة.

3 - أنها مبنية على السكون بخلاف عند فإنها معربةٌ دائمًا. 4 - جواز إضافتها إلى الجمل. 5 - جواز إفرادها قبل غدوة. 6 - أنها لا تقع إلّا فضلة بخلاف عند، فإنها قد تقع عمدة، وقال بعضهم: إنّ {عند} في لسان العرب لما ظهر، ولدن، لما بطن، فيكون المراد بالرحمة: ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعًا بأنّه خاص. {فِي السَّفِينَةِ} السفينة معروفة، وتجمع على سفن، وعلى سفائن، وتحذف التاء فيقال: سفينة، وسفينٌ، وهو مما بينه وبين مفرده تاء التأنيث، وهو كثير في المخلوق، نادر في المصنوع نحو عمامة وعمام، وقال الشاعر: متى تأته تأت لُجَّ بحرٍ ... تقاذف في غواربه السَّفين ذكره في «البحر المحيط». {الرشد} - بضم فسكون وبفتحتين - إصابة الخير والإحاطة بالشيء معرفته معرفة تامة، والخبر المعرفة {ذِكْرًا}؛ أي: بيانًا {إِمْرًا} بكسر الهمزة؛ أي: منكرًا من أمر الأمر إذا أنكر أو من أمر بمعنى كثر {لا تُرْهِقْنِي}؛ أي: لا تحملني {عُسْرًا}، والعسر: ضد اليسر، وهو المشقة {زَكِيَّةً}؛ أي: طاهرة من الذنوب، {بِغَيْرِ نَفْسٍ}؛ أي: بغير حق قصاص لك عليها، {نُكْرًا} والنكر: المنكر الذي تنكره العقول، وتنفر منه النفوس. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: إطلاق الفتى على الخادم في قوله: {لِفَتاهُ} لأنه حقيقة في الرجل الشابّ، أو العبد. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {لا أَبْرَحُ} لأن فيه حذف خبر برح الناقصة اعتمادًا على قرينة الحال؛ تقديره: لا أبرح سائرًا.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} لأن مضى حقيقة في نفوذ الأمر، فاستعارهُ للسير والذهاب. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ} لأن الرؤية هنا مستعارة للمعرفة التامة، والمشاهدة الكاملة، فهي استعارة تصريحية تبعية؛ لأنها أجريت في فعل، وقد حذف المشبه، وأقيم المشبه به مقامه، شبهت المعرفة التامة، بالرؤية، فاستعير اسم المشبه به الذي هو الرؤية للمشبه الذي هو المعرفة التامة، ثم اشتق من الرؤية بمعنى المعرفة {أَرَأَيْتَ} بمعنى أعرفت، وشاهدت على طريق الاستعارة، التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة في قوله: {سَرَبًا} لأنه حقيقة في الحفيرة تحت الأرض، ثمّ استعير لمسلك الحوت في الماء، بجامع النفوذ في كل. ومنها: الطباق بين {نَسِيتُ} {واذكر}. ومنها: التنكير للتفخيم في قوله: {فَوَجَدا عَبْدًا}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {مِنْ عِبادِنا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}، والتقريري في قوله: {أَلَمْ أَقُلْ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (¬1). ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد السادس عشر - ولله الحمد - أوائل ليلة الخميس الليلة الخامسة من شهر صفر من شهور سنة اثنتي عشرة وأربع مئة وألف من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، ويتلوه المجلد السابع عشر بحول الله تعالى وقوته، وتيسيره نسأل الله تعالى الإعانة لنا على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا حمدًا يوافي نعمه ويكافىء مزيده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. قد تم تصحيحه بيد مؤلفه في تاريخ 13/ 5/ 1416 هـ.

شعر سُبْحَانَكَ لَا عِلْمِ لَنَا ... إِلَّا مَا ألْهَمتَنَا إِلْهَامَا وَإِنِّي إِذَا مَا خَتَمْتُ خَتْمًا ... أَقُوْلُ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِيْ ... وَلَكَ الشُكْرُ شُكْرًا يُكَافِيْ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الموفق سبيل الرشاد، من أرادَ به خيرًا من العباد، والصلاة والسلام على من جمع علوم الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء الخامس عشر من القرآن بعون الله وتيسيره .. أردفته بتفسير الجزء السادس عشر منه، راجيًا منه سبحانه الإعانة والتوفيق، لما هو المعنى عنده، وأن يكون ذخيرة لي عنده، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}

[75]

المناسبة قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ...} الآيات، لا يزال الكلام متصلًا في قصص موسى والخضر عليهما السلام، ولكن لوحظ في تقسيم القرآن إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ، لا جانب المعنى، ولذا تجد نهاية جزء، وبداية آخر، حيث لا يزال الكلام في معنى واحد لم يتم بعد كما هنا. قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) الأمور التي رآها موسى عليه السلام، حين صاحب الخضر وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه، مرة بعد أخرى، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرًا، وكان من جراء ذلك أنه فارقه، ولم يستطع صحبته .. أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره، مما ينكر ظاهره، وقد أظهر الله تعالى الخضر على حكمة باطنة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، يحكمون بناء على الظواهر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر". وأحكام هذا العالِم مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر، وهذه لا يُطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده، ومن ثم اعترض موسى على ما رأى، ولم يعلم ما آتاه الله تعالى الخضر من قوة عقلية، قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور، ويطّلع على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى في معرفة الشرائع والأحكام بناءً على الظواهر ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء والإطلاع على أسرارها الكامنة. التفسير وأوجه القراءة 75 - {قَالَ} الخضر {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} يا موسى - والهمزة (¬2) فيه للاستفهام التقريري، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[76]

المضمَّن للتوبيخ لموسى على ترك الوصية، زاد هنا كلمة (لك) على سابقه، لتشديد العتاب على رفض الوصية لأنه قد نقض العهد مرتين -: إنك لن تستطيع معي صبرًا، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار، مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة، قال البغوي: روي أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه، وفي البخاري قال: "يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما" 76 - {قَالَ} موسى للخضر {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} أي بعد (¬1) هذه المرة أو بعد هذه النفس المقتولة فلا تصاحبني ولا ترافقني أي لا تجعلني صاحبًا لك ولا تكن مرافقًا معي، بل أبعدني عنك وإن سألتُ صحبتك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}؛ أي: قد وجدت (¬2) عذرًا من قبلي حين خالفتك مرة بعد أخرى، أو (¬3) قد بلغت الغاية التي تُعذر بسببها في فراقي، إذ خالفتك مرة بعد أخرى، وهذا كلام نادم أشد الندم، قد اضطره الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف، وفي "البحر" ومعنى: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}؛ أي: قد اعتذرت إليَّ وبلغت إليَّ العذر. انتهى. والعذر (¬4): بضمتين وبسكون الذال في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل أو فعلت لأجل كذا، أو فعلت فلا أعود، وهذا الثالث التوبة، فكل توبة عذر بلا عكس، والاعتذار عبارة عن هو أثر الذنب، وأصله القطع، يقال: اعتذرت إليه؛ أي: قطعت ما في قلبه من الموجدة. وقرأ الجمهور (¬5): {فَلَا تُصَاحِبْنِي} من باب المفاعلة، وقرأ عيسى ويعقوب: {فلا تصحبني} مضارع صحب، وقرأ عيسي أيضًا: {فلا تصحبني} بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب. ورواها سهل عن أبي عمرو؛ أي: فلا تصحبني علمك، وقدره بعضهم: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان. (¬5) البحر المحيط.

[77]

فلا تصحبني إياك، وبعضم نفسك، وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وتشديد النون، وقرأ الجمور: {مِنْ لَدُنِّي} بإدغام نون لدن في نون الوقاية، التي اتصلت بياء المتكلم، وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون، وهي نون لدن، اتصلت بياء المتكلم، وهو القياس؛ لأن أصل الأسماء إذا أضيفت إلى ياء التكلم .. لم تلحق بها نون الوقاية، نحو: كلامي وفرسي، وأشمَّ شعبة الضم في الدال. ورُوي عن عاصم سكون الدال، قال ابن مجاهد: وهو غلط، وكأنه يعني من جهة الرواية. وأما من جهة اللغة: فليست بغلط؛ لأن من لغاتها (لَدْ) بفتح اللام وسكون الدال. وقرأ عيسى: {عذرًا} بضم الذال، ورويت عن أبي عمرو وعن أبيّ {عذري} بكسر الراء مضافًا إلى ياء المتكلم. 77 - {فَانْطَلَقَا}؛ أي: انطلق الخضر وموسى عليهما السلام، بعد المرتين الأوليين، بعدما شرطا ذلك {حَتَّى إِذَا أَتَيَا} ووصلا {أَهْلَ قَرْيَةٍ} بعد (¬1) الغروب في ليلة باردة، وهي أنطاكية، بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة العواصم، وهي ذات أعين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل، دورها إثنا عشر ميلاً، كما في "القاموس" وقيل: برقة، وقيل: قرية من قر أذربيجان، وقيل: قرية من قرى الروم {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}؛ أي: طلبا من أهلها أن يطعموهما ضيافة، قيل: لم يسألاهم، ولكن نزولهما عندهم كالسؤال منهم، ووضع (¬2) الظاهر موضع المضمر، لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة، لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية، بإظهارهم، فقوله: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} جواب إذا، أو صفة لقرية كما سيأتي، وفي الأسئلة المقحمة (¬3) استطعم موسى هاهنا فلم يطعم، وحين سقى ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

لبنات شعيب ما استطعم وقد أُطعم، حيث قال: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} والجواب هاهنا: إن الحرمان كان بسبب المعارضة، بحيث لم يكشف بعلم الله بحاله، بل جنح إلى الاعتماد على مخلوق، فأراد السكوت بحادث مسبوق، وهناك جرى على توكله ولم يُدخل وساطة عن المخلوقين بينه وبين ربه، بل حط الرحل ببابه {فَأَبَوْا}؛ أي: فامتنعوا؛ أي: أبى أهل القرية {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}؛ أي: أبوا من تضييفهما وتطعيمهما، وفي قوله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} دون أن يقول: فأبوا أن يطعموهما، زيادة تشنيع عليهم، ووصفهم بالدناءة والشح، فإن الكريم قد يردّ السائل المستطعم ولا يعاب، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم، ألا تراهم يقولون في أهاجييهم: فلان يطرد الضيف؟ وعن قتادة: شر القرى التي لا يضاف فيها، ولا يُعرف لابن السبيل حقه. وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان: بكسر الهضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول: ميَّل وأمال، ذكره في "البحر". {فَوَجَدَا}؛ أي: فوجد الخضر وموسى عليهما السلام {فِيهَا}؛ أي: في تلك القرية {جِدَارًا}؛ أي: حائطاً مائلاً {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}؛ أي: يقرب أن يسقط فمسحه بيده {فَأَقَامَهُ}؛ أي: أقام الخضر الجدار بالإشارة بيده فاستقام، أو هدمه ثم بناه، وعن ابن عباس: دفعه بيده فاستقام، وهذا أليق بحال الأنبياء، وكان ارتفاع الجدار مئة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، وامتداده على وجه الأرض خمس مئة ذراع، والمعنى: فوجدا في القرية حائطاً مائلاً، مشرفاً على السقوط، فمسحه بيده، فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته {قَالَ} له موسى لضرورة الحاجة إلى الطعام {لَوْ شِئْتَ} يا خضر أخذ الأجرة {لَاتَّخَذْتَ}؛ أي: لأخذت {عَلَيْهِ}؛ أي: على عملك هذا {أَجْرًا}؛ أي: أجرة حتى تشتري بها طعامًا؛ أي: كان (¬1) ينبغي لك أن تأخذ منهم جعلًا على عملك، لتقصيرهم فينا ¬

_ (¬1) المراح.

مع حاجتنا، وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة، فهو من فضول العمل. قال بعضهم (¬1): لما قال له: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} .. قال الخضر: أليس كنت في البحر ولم تغرق بغير سفينة، ولما قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} .. قال أليس قتلت القبطي بغير ذنب، ولما قال: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قال: أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير أجرة، وهذا من باب لطائف المحاورات. قال بعضهم (¬2): إن قلت: كيف جوز موسى طلب الأجر بمقابلة العمل الذي حصل بمجرد الإشارة، وهو من طريق خرق العادة الذي لا مؤنة فيه؟ قلت: لم ينظر إلى جانب الأسباب، وإنما نظر إلى النفع العائد إلى جانب أصحاب الجدار، ألا ترى أنه جوز أخذ الأجرة بمقابلة الرقية بسورة الفاتحة ونحوها، وهو ليس من قبيل طلب الأجر على الدعوة، فإنه لا يجوز للنبي أن يطلب أجرًا من قومه على دعوته وإرشاده، كما أشير إليه في مواضع كثيرة من القرآن. والمعنى (¬3): أي قال موسى ذلك تحريضًا للخضر، وحثًا له على أخذ الجعل - الأجر - على فعله، لإنفاقه في ثمن الطعام والشراب وسائر مهام المعيشة. وقرأ الجمهور (¬4): {يَنْقَضَّ}، أي: يسقط، من انقضاض الطائر، ووزنه انفعل، نحو انجر، قال صاحب "اللوامح": من الفضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض، إذا كان فيه حصى، فعلى هذا يريد أن ينقض؛ أي: يتفتت فيصير حصاة. انتهى. وقيل: وزنه افعل كاحمر، وقرأ أبي {أَنْ يَنْقَضَّ} بضم الياء وفتح القاف والضاد، مبنيًا للمفعول من نقضته، وهي مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش {يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ} كذلك، إلا أنه منصوب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[78]

بأن المقدرة بعد اللام، وقرأ علي، وعكرمة، وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي، وخليد بن سعد، ويحيى بن يعمر: {ينقاص} بالصاد غير معجمة مع الألف، ووزنه ينفعل اللازم، من قاص يقيص، إذا كسرته .. تقول: قصصته فانقاص، وقرأ الزهري {ينقاض} بألف وضاد معجمة، وهو من قولهم: قضته - بضاد معجمة - فانقاض؛ أي: هدمته فانهدم، قال أبو علي: والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة. انتهى. وعبارة ابن الجوزي هنا: وقرأ أبيُّ بن كعب وأبو رجاء: {ينقاض} بألف وضاد معجمة، وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي {ينقآص} بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد، قال الزجاج: فمعنى ينقض يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة ينشق طولًا، يقال: انقاصت سنه، إذا انشقت قال ابن مقسم: انقاصت سنه وانقاضت بالصاد والضاد على معنى واحد. انتهى. وقوله: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قرأ (¬1) ابن كثير وأبو عمرو {لتخذت} بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {لاتخذت} وكلهم أدغموا إلا حفصاً عن عاصم فإنه لم يدغم مثل ابن كثير. قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ، في معنى اتخذ يتخد، نحو تبع واتبع، افتعل من تخذ، وأدغم التاء في التاء. 78 - {قَالَ} الخضر لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}؛ أي: هذا الوقت وقت الفراق بيننا، أو هذا الاعتراض الثالث منك سبب الفراق الموعود بقوله {فَلَا تُصَاحِبْنِي}، أو هذا (¬2) الاعتراض المتوالي منك، هو سبب الفراق بيني وبينك، بحسب ما شرطت على نفسك، وإنما كان هذا الأخير سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر، فكان موسى فيهما معذورًا دون هذا، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد، وإضافة الفراق إلى البين من إضافة المصدر إلى الظرف ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي.

[79]

اتساعًا؛ أي: هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر، هو المفرق بيننا، وتكريره (¬1) بيني وبينك وعدوله عن بيننا، لمعنى التأكيد، وقرأ ابن أبي عبلة {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} بالتنوين والجمهور على الإضافة. {سَأُنَبِّئُكَ}؛ أي: سأخبرك، السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة، وقرأ ابن وثاب: {سأنبيك} بإخلاص الياء من غير همز {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}؛ أي: بعاقبة ومآل ما لم تقدر يا موسى صبرًا عليه من الأفعال الثلاثة التي صدرت مني وهي خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، ومألها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوي الغلام من شره، مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين للكنز. وفي قوله (¬2): {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} دون أن يقول بتأويل ما فعلت، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما، تعريض به عليه السلام وعتاب له. قال بعضهم (¬3): ومن هذا أخذ قول بعض الكبار: من قال لأستاذه: لِمَ .. لم يفلح، والتأويل رجع الشيء إلى مآله، والمراد به هاهنا المال والعاقبة، إذ هو المنبأ به دون التأويل ثم شرع في البيان له. 79 - فقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ} التي خرقتها {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} أعني لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة، وكانوا عشرة إخوة، خمسة منهم زمنى {يَعْمَلُونَ} بها أي يكتسبون بها {فِي الْبَحْرِ} مؤاجرة، فإسناد العمل إلى الكل بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين. {فَأَرَدْتُ} بحكم الله وإرادته {أَنْ أَعِيبَهَا}؛ أي: أن أجعلها ذات عيب بالخرق {و} الحال أنه كان ورائهم؛ أي: أمامهم كقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} فوراء من الأضداد {مَلِكٌ} كافر اسمه جلندي بن كرر، ملك غسان وقيل: اسمه هدد بن بدد، كان بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة، وأول فساد ظهر في البحر كان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

ظلمه على ما ذكره أبو الليث، وأول فساد ظاهر في البر قتل قابيل هابيل على ما ذكره أيضًا عند تصير قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ} الآية، {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صحيحة جيدة، وهو من قبيل إيجاز الحذف {غَصْبًا} من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، أو على الحالية، بمعنى غاصبًا، والغصب أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا، ويسمى المغصوب غصبًا، والمعنى؛ أي (¬1): أما فعلي ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم ضعفاء، لا يقدرون على دفع الظلمة، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبًا، ويدع كل معيبة، فعبتها لأرده عنها، وخلاصة ذلك: أن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة، يكتسبون بها، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه، من غصب ملك قدامهم، من عادته غصسب السفن الصالحة؛ أي: إنما خرقتها لأن الملك إذا راها منخرقة .. تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها. وقرأ الجمهور (¬2): {مَسَاكِينَ} بتخفيف السين جمع مسكين، وقرأ علي - كرم الله وجهه - بتشديد السين، جمع مسَّاك جمع تصحيح، فقيل: المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة، وكل منهم يصلح لذلك، وقرأ الجمهور: {وَرَاءَهُمْ} وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه أمامهم في المكان، لأنهم كانوا يسيرون إلى بلده، وقرأ (¬3) أبي بن كعب وابن مسعود {وكان أمامهم ملك}. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلِمَ قدَّم عليه؟. قلتُ: النية به التأخير وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها لمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

[80]

80 - {وَأَمَّا الْغُلَامُ} الذي قتلته، وهر جيسور، وكان كافرًا .. {فَكَانَ أَبَوَاهُ} من عظماء تلك القرية، اسم أبيه كازبرا، واسم أمه سهوى، كما في "التعريف" {مُؤْمِنَيْنِ}؛ أي: مقرين بتوحيد الله تعالى {فَخَشِينَا}؛ أي: خفنا من {أَنْ يُرْهِقَهُمَا}؛ أي: يكلفهما {طُغْيَانًا}؛ أي: ضلالةً {وَكُفْرًا}؛ أي: إشراكًا بالله ويتبعان له لمحبتهما إياه، فيكفران بعد الإيمان، ويضلان بعد الهداية، وإنما خشي الخضر من ذلك لأن الله تعالى أعلمه بحال الولد، أنه طُبع؛ أي: خلق كافرًا 81 - {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا}؛ أي: أن يبدل الأبوين، ويعوضهما ويرزقهما ولدًا {خَيْرًا مِنْهُ}؛ أي: من المقتول {زَكَاةً}؛ أي: دينًا وصلاحًا وطهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة {وَأَقْرَبَ} منه {رُحْمًا}؛ أي: رحمةً وبرًا بوالديه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أبدلهما الله تعالى جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت سبعين نبيًا. قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي .. لكان فيه هلاكهما، فليرض المرء بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن خير له من قضائه فيما يحب. وفي الحديث "لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له" وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. وخلاصة ذلك: أنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ .. لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه في دينه لفرط حبهما له، وإنما قال أولًا فأردت، وثانيًا فأردنا، وثالثًا فأراد ربك؛ لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه، مع تساوي المعاني؛ لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، ذكره في "زاد المسير" وقرأ ابن عباس (¬1): {وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين} وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري {فكان أبواه مؤمنان} فخرجه الزمخشري، وابن عطية، وأبو الفضلى الرازي، على أن في {كان} ضمير الشأن والجملة في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[82]

موضع نصب خبر لكان، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنًا خبرًا لكان، على لغة بني الحرث بن كعب، فيكون منصوبًا. وفي قراءة أُبيَّ {فخاف ربك أن يرهقهما} والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيَّره، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين، الذين أهمهم الأمر وتكلموا، وقرأ (¬1) نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وشيبة، وحميد، والأعمش، وابن جرير {أن يبدلهما} بالتشديد هنا، وبالتحريم والقلم، وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن {أَنْ يُبْدِلَهُمَا} بالتخفيف. {وَأَقْرَبَ رُحْمًا}؛ أي: أوصل للرحم، وأبر للوالدين، والرحم والرحمة: العطف، مصدران كالكثر والكثرة، وقال رؤبة بن الحجاج: يَا مُنْزِلَ الرَّحْمِ عَلَى إِدْريْسَا ... وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيْسَا وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه؛ لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة، وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر في رواية، ويعقوب، وأبو حاتم {رُحُمًا} بضم الحاء، وقرأ ابن عباس {رحمًا} بفتح الراء وكسر الحاء، 82 - {وَأَمَّا الْجِدَارُ} الذي سويته وأصلحته {فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ} اسمهما (¬2) أصرم وصريم ابنا كاشح، وكان سياحًا تقيًا، واسم أمهما دنيا، فيما ذكره النقاش كائنين {فِي الْمَدِينَةِ} وهي القرية المذكورة سابقًا، وهي أنطاكية، وفيه (¬3) جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة وعبر عنها بالقرية فيما تقدم تحقيراً لها, لخسة أهلها، وعبر عنها هنا بالمدينة تعظيمًا لها، من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وعلى أبيهما اهـ شيخنا {وَكَانَ تَحْتَهُ}؛ أي: تحت ذلك الجدار {كَنْزٌ لَهُمَا}؛ أي: مال مدفون لهما، من ذهب وفضة {وَكَانَ أَبُوهُمَا} أي: أبو الغلامين {صَالِحًا} كان الناس يضعون الودائع عند ذلك الصالح، فيردها إليهم سالمة، فحفظا بصلاح أبيهما في مالهما وأنفسهما، قال جعفر بن محمد: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، فيكون الذي دفن ذلك الكنز جدهما السابع {فَأَرَادَ رَبُّكَ} يا موسى بالأمر بتسوية ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

الجدار؛ أي: مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفًا له. {أَنْ يَبْلُغَا}؛ أي: أن يبلغ الغلامان {أَشُدَّهُمَا}؛ أي: حلمهما وكمال رأيهما، وتمام نموهما {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولولا أني أقمته لانقضّ وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال، وتنميته وضاع بالكلية {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لهما مصدر في موقع الحال؛ أي: مرحومين من قبله تعالى، أو علة لإرادة، فإن إرادة الخير رحمة، أو مصدر لمحذوف؛ أي: رحمهما الله سبحانه بذلك رحمة {وَمَا فَعَلْتُهُ}؛ أي: وما فعلت ما رأيته يا موسى من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار {عَنْ أَمْرِي}؛ أي: عن رأيي واجتهادي، وإنما فعلته بأمر الله، ووحيه، وهذا إيضاح لما أشكل على موسى، وتمهيد للعذر في فعله المنكر ظاهرًا، والمعنى؛ أي: وما فعلت الذي رأيتني أفعله، عن رأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلته عن أمر الله إياي به، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس، وإراقة دمائهم، لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع. {ذَلِكَ} المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك، وأوضحت وجوهها لك، {تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}؛ أي: مآل وعاقبة الأمر الذي لم تطق ولم تقدر الصبر والسكوت عليه، لكون ظاهره من المنكر؛ أي: لم تستطع الصبر عليه، فحذف (¬1) التاء للتخفيف، فإن استطاع واسطاع بمعنى واحد، وهو إنجاز للتنبئة الموعودة. وخلاصة المسائل الثلاثة (¬2): أنه حين يتعارض ضرران، يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فلو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك، وفاتت منافعها بتاتًا، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه في دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررًا من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ومجمل الأمر في ذلك: أن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها في أنفسها، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن، وتجريد النفس، وتطهير القلب عن العلائق الجسمية، ومن ثم قال في صفة علمه {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة، بعثه الله إلى هذا العالِم ليعلمه أن كمال المعرفة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر، إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليها في الواقع. روي (¬1): أن موسى لما أراد أن يفارقه .. قال له الخضر: لو صبرت .. لأتيت على ألف عجيب، كل عجيب أعجب مما رأيت، فبكى موسى على فراقه وقال له: أوصني يا نبي الله، قال لا تطلب العلم لتحدث به الناس، واطلبه لتعمل به، وذلك لأن من لم يعمل بعلمه، فلا فائدة في تحديثه، بل نفعه يعود إلى غيره. ومن وصايا الخضر: كن نفاعًا، ولا تكن ضرارًا، وكن بشاشًا، ولا تكن عبوسًا غضابًا، وإياك واللجاجة، ولا تمشِ في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجيب، ولا تعير المذنبين خطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك ما دمت حيًا، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، واجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن لخوف من أمَّنك، ولا تيأس من الأمن من خوفك، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك، فقال له موسى: قد أبلغت في الوصية، فأتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه، فقال له الخضر: أوصني أنت يا موسى، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا تحب الدنيا، فإنها تخرجك من الإيمان وتدخلك في الكفر. فقال له الخضر: قد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال له: آمين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

كما في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي رحمه الله تعالى. تنبيه: لذكر هذه القصة في الكتاب الكريم فوائد (¬1): 1 - أن لا يعجب المرء بعلمه، وأن لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سرًا لا يعرفه. 2 - أن فيها تأديبًا لنبيه، بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه، واستهزؤوا به، وبكتابه؛ لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا، واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي والعذاب الدائم. 3 - أن ما حدث فيها يجري مثله كل يوم في هذه الحياة، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له، يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم، ويفتك بها فتكًا ذريعًا، والبهائمَ التي تفتك بها السباع، أو تأكلها الناس، ولو تأمل الناس حكمة ذلك .. لعلموا أنهم لو بقوا على الأرض مئة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد .. لضاقت بهم الأرض، ولماتوا جوعًا، ولأكل الابن أباه، ولأصبحت الأرض منتنة، قذرة، ولهلك الناس جميعًا، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلو به الجو والأرض من الحيوان المزدحمة، ولولا ذلك .. لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس وأن خرق السفينة التي هي لمساكين، أشبه بموت بقرة فلاح فقير، بجانبه رجل غني لم تصب بقرته بسوء، وذلك إنما يكون لحكمة لا يعلمها إلا الله، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفًا، لا يحزنه شيء، وأن الغني إذا لم يهذب نفسه .. تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم، متطلعة إلى ما فيه، فيصير في حسرة حين موته. وإن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى أن كل من ترى ليس أهلًا للنعمة ظاهرًا، وقد أغدقت عليه، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلًا للإكرام. ¬

_ (¬1) المراغي.

وخلاصة ما قال الخضر: إن هذه الأعمال في ست من جنس أعمال الناس، بل هي من أعمال الله تعالى، وإنما كنت واسطة فيها، فهي نماذج لفعل ربكم في هذه الحياة. الإعراب {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)}. {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير مستتر، يعود على الخضر، والجملة مستأنفةٌ {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ {لَمْ أَقُلْ} جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على الخضر {لَكَ} جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول قال {إِنَّكَ} ناصب واسمه وجملة {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول أقل. {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة {إِنْ سَأَلْتُكَ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {إن} حرف شرط جازم، {سَأَلْتُكَ} فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها {عَنْ شَيْءٍ} جار ومجرور متعلق بسأل، وهو في محل المفعول الثاني، {بَعْدَهَا}: ظرف ومضاف إليه صفة لشيء {فَلَا تُصَاحِبْنِي} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، {لا} ناهيةٌ جازمةٌ تصاحب فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، و {النون} للوقاية والياء مفعول به، والجملة في محل جزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب، مقول قال {قَدْ}: حرف تحقيق {بَلَغْتَ} (¬1): فعل وفاعل {مِنْ لَدُنِّي} جار ومجرور متعلق ببلغت أو حال من عذرًا {عُذْرًا} مفعول به والجملة الفعلية ¬

_ (¬1) المراغي.

في محل النصب مقول قال. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}. {فَانْطَلَقَا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فتقاولا وتشارطًا فانطلقا. {انْطَلَقَا}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {حَتَّى}: حرف جر وغاية {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إِذَا} في مجل الجر بحتى تقديره: فانطلقا إلى استطعامهما أهل قرية، وقت إتيانهما إياها، الجار والمجرور متعلق بانطلقا {فَأَبَوْا} الفاء: عاطفة {أَبَوْا} فعل وفاعل معطوف على استطعما {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: فابوا ضيافتهم إياهما {فَوَجَدَا} الفاء: عاطفة {وَجَدَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَبَوْا} متعلق به {جِدَارًا} مفعول به، {يُرِيدُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الجدار والجملة في محل النصب، صفة للجدار {أَنْ يَنْقَضَّ}: ناصب ومنصوب وفاعله: ضمير يعود على الجدار، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إنقضاضه {فَأَقَامَهُ} الفاء: عاطفة أقامه فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة وجدا {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى والجملة مستأنفة {لَوْ شِئْتَ} إلى آخر الآية: مقول محكي وإن شئت قلت: {لَوْ} حرف شرط غير جازم {شِئْتَ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {لَاتَّخَذْتَ} اللام: رابطة لجواب {لَوْ} {لَاتَّخَذْتَ} فعل وفاعل جواب لو {عَلَيْهِ} حال من أجرًا {أَجْرًا}: مفعول به، وجملة لو الشرطية في محل النصب مقول قال. {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}.

{قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر والجملة مستأنفة {هَذَا فِرَاقُ} مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب مقول قال {فِرَاقُ} مضاف {بَيْنِي} مضاف إليه {بين} مضاف و {الياء} ضمير المتكلم في محل الجر مضاف إليه {وَبَيْنِكَ} معطوف على بيني وساغت إضافة بين إلى غير متعدد لتكرير بين بالعطف والداعي إلى هذا التكرير التوصل إلى العطف على ضمير الخفض لأنه يجب عند العطف عليه إعادة الخافض، فكأنه قال بيننا. اهـ شيخنا. {سَأُنَبِّئُكَ} السين: حرف استقبال {أنبئك}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول {بِتَأْوِيلِ} {الباء}: حرف جر دخل على مضمون المفعولين الثاني والثالث {تَأْوِيلِ} مجرور بها الجار والمجرور متعلق بـ {أُنَبِّئُكَ} وهو مضاف و {ما} في محل الجر مضاف إليه {لَمْ تَسْتَطِعْ} جازم وفعل وفاعل مستتر {عَلَيْهِ} متعلق بصبرا و {صَبْرًا} مفعول به والجملة صلة لما، أو صفة لها. {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}. {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل {السَّفِينَةُ} مبتدأ. {فَكَانَتْ} {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا} واقعة في غير موضعها. {كانت} فعل ناقص واسمها ضمير يعود على {السَّفِينَةُ}. {لِمَسَاكِينَ}: جار ومجرور خبر كان وهو ممنوع من الصرف لصيغة منتهى المجموع؛ لأنه على زنة مفاعيل. {يَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل صفة لـ {مَسَاكِينَ}. {فِي الْبَحْرِ}: متعلق بـ {يَعْمَلُونَ}، وجملة كان في محل الرفع، خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره جواب {أَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} مستأنفة. {فَأَرَدْتُ} الفاء: عاطفة {أردت} فعل وفاعل والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {كانت} {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {أَعِيبَهَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فأردت تعييبها {وَكَانَ} {الواو}: واو الحال {كان} فعل ماض ناقص {وَرَاءَهُمْ} منصوب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر كان مقدم على اسمها {مَلِكٌ} اسمها مؤخر، وجملة كان في محل النصب حال من

فاعل يعملون {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {مَلِكٌ} {غَصْبًا}: مفعول مطلق مبين لنوع الأخذ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من فاعل {يَأْخُذُ}. {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة {أما} حرف شرط {الْغُلَامُ} مبتدأ {فَكَانَ} الفاء: رابطة لجواب {أما} {كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} فعل ناقص واسمه وخبره وجملة {كان} في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره جواب {أما} وجملة {أما} معطوفة على جملة {أَمَّا} السابقة. {فَخَشِينَا} الفاء: عاطفة {خشينا} فعل وفاعل معطوف على كان {أَن} حرف نصب ومصدر {يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا} فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الولد {وَكُفْرًا} معطوف على {طُغْيَانًا} وجملة {يُرْهِقَهُمَا} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره فخشينا إرهاقه إياهما طغياناً وكفراً. {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)}. {فَأَرَدْنَا} {الفاء}: عاطفة {أَرَدْنَا} فعل وفاعل معطوف على {خشينا} {أَنْ يُبْدِلَهُمَا}: ناصب وفعل ومفعول أول {رَبُّهُمَا} فاعل {خَيْرًا} مفعول ثان {مِنْهُ} متعلق بـ {خَيْرًا} وجملة {يُبْدِلَهُمَا} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَرَدْنَا} تقديره فأردنا إبدال ربهما إياهما خيرًا منه {زَكَاةً}: تمييز لاسم الفضيل منصوب به {وَأَقْرَبَ} معطوف على خيرًا {رُحْمًا} تمييز لأقرب منصوب به. {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة {ما} حرف شرط {الْجِدَارُ} مبتدأ {فَكَانَ} الفاء: رابطة كان فعل ناقص واسمه ضمير يعود على {الْجِدَارُ} {لِغُلَامَيْنِ} جار ومجرور خبر كان {يَتِيمَيْنِ} صفة أولى {لِغُلَامَيْنِ}. {فِي الْمَدِينَةِ} صفة ثانية له

وجملة كان في محل الرفع، خبر المبتدأ وجملة المبتدأ جواب أما وجملة أما معطوفة على جملة أما الأولى {وَكَانَ} فعل ناقص معطوف على كان الأولى {تَحْتَهُ} ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ {كَانَ} {كَنْزٌ} اسمها مؤخر {لَهُمَا} صفة لـ {كَنْزٌ} {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فعل ناقص واسمه وخبره وجملة كان معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. {فَأَرَادَ} {الفاء}: عاطفة {أَرَادَ رَبُّكَ} فعل وفاعل معطوف على قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره فأراد ربك بلوغهما أشدهما {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَبْلُغَا}. {رَحْمَةً} مفعول لأجله منصوب بـ {أَرَادَ} {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةً} {وَمَا} {الواو}: استئنافية {ما} نافية {فَعَلْتُهُ} فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة {عَنْ أَمْرِي} جار ومجرور حال من ضمير المفعول تقديره {وَمَا فَعَلْتُهُ} حالة كونه صادرًا {عَنْ أَمْرِي}. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة تأويل مضاف {مَا} اسم موصول أو نكرة موصوفة في محل الجر، مضاف إليه {لَمْ تَسْطِعْ} جازم وفعل وفاعل مستتر أصله تستطع حذفت منه تاء الافتعال للتخفيف {عَلَيْهِ} متعلق بـ {صَبْرًا} {صَبْرًا} مفعول به والجملة الفعلية صلة لـ {ما} أو صفة لها. التصريف ومفردات اللغة {فَلَا تُصَاحِبْنِي} أي لا تجعلني صاحبًا لك والمفاعلة هنا على بابها {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}؛ أي: وجدت عذرًا من قبلي {أَهْلَ قَرْيَةٍ} والقرية هي أنطاكية كما روي عن ابن عباس أو الأبلة أو الناصرة ولا يوثق بصحة شيء من هذا {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}؛ أي: طلبا منهم أن يطعموهما، وفي تكرير أهلها وجهان:

أحدهما: أنه توكيد، من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، والحكمة في ذلك، أنه لو قال استطعماها, لم يصح؛ لأنهما لم يستطعما القرية، أو قال استطعماهم، فكذلك لأن جملة استطعما أهلها صفة لقرية. والثاني: أنه للتأسيس، وذلك أن الأهل المأتيين ليسوا جميع الأهل، وإنما هم البعض، إذ لا يمكن أن يأتيا جميع الأهل في العادة في وقت واحد، فلما ذكر الاستطعام ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل، كأنهما تتبعا الأهل واحدًا واحدًا، فلو قيل: استطعماهم، لاحتمل أن يعود الضمير على ذلك البعض المأتي دون غيره، فكرر الأهل لذلك اهـ كرخي. {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} أي ينزلوهما أضيافًا يقال: ضافه إذا كان له ضيفًا، وأضافه وضيَّفه أنزله لديه ضيفاً، وأصل ضاف مال، من قولهم ضاف السهم عن الهدف؛ أي: مال عن الغرض، والجمع ضيوف وأضياف وضيفان {جِدَارًا}؛ أي حائطًا {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}؛ أي: يسقط بسرعة، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم، كما قال الشاعر: يُرِيْدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِيْ بَرَاءٍ ... وَيعْدِلُ عَنْ دِمَاءِ بَنِيْ عَقِيْلِ {فَأَقَامَهُ}؛ أي: مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - {لَاتَّخَذْتَ} يقرأُ بكسر الخاء مخففة وهو من تخذ يتخذ، إذا عمل شيئًا، ويقرأ بالتشديد وفتح الخاء، وفيه وجهان: أحدهما: هو افتعل من اتخذ، والثاني: أنه من الأخذ، وأصله يتخذ فأبدلت الياء تاء وأدغمت، وأصل الياء الهمزة، ذكره أبو البقاء {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ}؛ أي: سأخبرك ببيان سر ووجه ما فعلت في الأمور الثلاثة. فائدة: في مباحث الأفعال السبعة التي تنصب ثلاثة مفاعل: الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعل سبعة، وهي: أعلم، وأرى، وأنبا، ونبَّأ، وأخبر، وخبَّر، وحدَّث. والأصل في هذه الأفعال، أعلم، وأرى، اللَّذان كان أصلهما قبل دخول

همزة النقل عليها، علم ورأى المتعديان لاثنين، وأما الخمسة الباقية، فليس لها ثُلاثي يُستعمل في العلم إلا خبَّر, ولكنها أُلحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدي إلى ثلاثة, لأن الإنباء والتنْبِيىء والإخبار والتخبير والتحديث بمعنى الإعلام، هذا وتستعمل الخمسة متعدية إلى واحد بأنفسها، وإلى مضمون الثاني والثالث، أو مضمون الثالث وحده بالباء، نحو حدثتك بخروج زيد، وعليه يُحمل قوله تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. والتأويل من آل إلى كذا؛ أي: صار إليه، فإذا قيل: ما تأويله؛ أي: ما مصيره وفي "الشهاب" المراد بالتأويل إظهار ما كان باطناً ببيان وجهه اهـ. وفي "القرطبي" المراد: بالتأويل التفسير قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ} في "المصباح": السفينة معروفة، والجمع سفين بحذف الهاء، وسفائن، ويُجمع السفين على سفن بضمتين، وجمع السفينة على سفين شاذ, لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الطاء، بابه المخلوقات مثل تمرة وتمر، ونخلة ونخل، وأما في المصنوعات مثل سفينة وسفين فممنوع إلا في ألفاظ قليلة، ومنهم من يقول: السفين لغةٌ في الواحدة، وهي فعيلة بمعنى فاعله، كأنها تسفن الماء؛ أي: ثقشره، وصاحبها سفَّان اهـ. {لِمَسَاكِينَ} جمع مسكين، وهو الضعيف العاجز عن الكسب، لأمر في نفسه، أو في بدنه، {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}؛ أي: يكتسبون ويؤاجرون {أَعِيبَهَا}؛ أي: أجعلها ذات عيب، بنزع ما نزعته منها {وَرَاءَهُمْ}؛ أي: أمامهم، وهو لفظ يُستعمل في الشيء وضده، كما قال: ألَيْسَ وَرَائِيْ أنْ أدِبَّ عَلَى الْعَصَا ... فَيَأْمَنَ أَعْدَائِيْ وَيسْأَمَنِيْ أهْلِيْ {خشينا}؛ أي: خفنا {أَنْ يُرْهِقَهُمَا} أي يحملهما ويكلفهما {طُغْيَانًا} أي مجاوزةً للحدود الإلهية {زَكَاةً}؛ أي: طهارةً من الذنوب {رُحْمًا}؛ أي: رحمةً كالكثر والكثرة {أَشُدَّهُمَا} مفرد بمعنى القوة، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع له واحد من لفظه، قيل: أَشِد بكسر الشين وقيل: أشَد بفتحها اهـ

شيخنا. {عَنْ أَمْرِي}؛ أي: عن رأيي واجتهادي {مَا لَمْ تَسْطِعْ}؛ أي: تستطع ماضيه اسطاع، الذي أصله استطاع من باب افتعل الخماسي، حذفت تاء الافتعال منه للتخفيف كما مر، ومضارعه يسطيع، أصله يستطيع، بوزن يستقيم، فحذفت منه التاء أيضًا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بزيادة لك في قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} في المرة الثانية للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة بعد مرة، والوسم بعدم الصبر. ومنها: تكرير {أَهْلَهَا} في قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} للتأكيد، وفيه أيضًا إقامة الظاهر مقام المضمر؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال استطعماهم. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فقد استُعيرت الإرادة للمشارفة والمداناة، ويجوز أن يكون مجازاً عقلياً، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم, لأن المراد هنا لازم الإرادة العرفي، وهو القرب من الشيء؛ أي: يقرب من السقوط؛ لأن الإرادة من صفات العقلاء، وإسنادها إلى الجدار من لطيف الاستعارة، وبليغ المجاز، كقول الشاعر: يُرِيْدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِيْ بَرَاءٍ ... وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِيْ عَقِيْلِ ومنها: التكرار في قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} كرر البين لغرض التوصل إلى العطف على ضمير الخفض, لأنه يجب عند العطف عليه، إعادة الخافض، فكأنه قال بيننا كما مر، ومنها السلف والنشر المرتب في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ} وقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ} وقوله: {وَأَمَّا الْجِدَارُ} فقد جاء بها مرتبة بعد ذكر ركوب السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، بطريقة السلف والنشر المرتب، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: التقديم والتأخير لغرض العناية بالمقدم في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا

وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} لأن مقتضى الظاهر تأخير قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} عن قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} لأن إرادة العيب مسببة عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، ولكن قدم المسبب على السبب للعناية به، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {كُلَّ سَفِينَةٍ}؛ أي: صالحة، حذف لدلالة لفظ {أَعِيبَهَا} وكذلك حذف لفظ فكان كافرًا من قوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ} لدلالة قوله تعالى: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} عليه. ومنها: تعليم الأدب في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} حيث أسند ما ظاهره شر لنفسه، وأسند الخير إلى الله تعالى، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله عز وجل. ومنها: التغليب في قوله: {فَكَانَ أَبَوَاهُ} لأن المراد بهما أبوه وأمه، فثنى الأب تغليباً له على الأم، كالقمرين في الشمس والقمر، والعمرين في أبي بكر وعمر، وهو تثنية لا تنقاس. ومنها: التفنن في قوله: {فَأَرَدْتُ} {فَأَرَدْنَا}، {فَأَرَادَ رَبُّكَ} وأبدى بعضهم حكمة في اختلاف التعبير، وهي أن: الأول: لما كان إفساداً محضاً .. عبّر فيه بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أدباً مع الله. والثاني: لما كان فيه نوع إفساد، ونوع إصلاح .. عبر فيه بقوله: {فَأَرَدْنَا ...} إلخ اهـ. شيخنا "جمل". والثالث: لما كان إصلاحاً محضاً ونعمة من الله .. عبر فيه بقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}. المناسبة لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة الخضر .. أعقبها بذكر قصة ذي القرنين، ورحلاته الثلاث إلى الغوب والشرق، وإلى السدين، وبنائه للسد في وجه يأجوج ومأجوج، وهي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإيمان, وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة. أسباب النزول قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ...} سبب نزوله: ما روي عن قتادة قال: إن اليهود يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ...}. وقبل الشروع في تفسير الآيات الكريمة، لا بد من بيان مَنْ ذو القرنين،

فنقول: المراد بذي القرنين في الآية الكريمة، هو ذو القرنين الأكبر (¬1)، واسمه إسكندر بن فيلقوس اليوناني، ملك الدنيا بأسرها، كما قال مجاهد: ملك الأرض أربعةٌ: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران نمرود وبختنصر، وفي "مشكاة الأنوار" شداد بن عاد بدل بختنصر، وكان ذو القرنين بعد نموود في عهد إبراهيم - عليه السلام - على ما يأتي، ولكنه عاش زمنًا طويلًا، ألفًا وست مئة سنة على ما قالوا، وفي تفسير الشيخ، وكان بعد ثمود، وكان الخضر على مقدمه جيشه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقال ابن كثير: والصحيح أنه ما كان نبيًا ولا ملكًا، وإنما كان ملِكاً صالحًا عادلاً، ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، وانقادت له البلاد، مات بمدينة شهر زور، بعدما خرج من الظلمة (لأنه دخل الظلمة والنور في سياحته)، ودُفن فيها. وفي "التبيان" مدة دوران ذي القرفين في الدنيا خمس مئة، ولما فرغ من بناء السد .. رجع إلى بيت المقدس ومات به، وإنما سُمي بذي القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس؛ أي: جانبيها مشرقها ومغربها، كما لُقِّب أردشير واضع النرد بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، وفي "القاموس": لما دعاهم إلى الله تعالى، ضربوه على القرن الأيمن، فمات فأحياه الله، ثم دعاهم فضربوه على قرنه الأيسر، فمات ثم أحياه الله، كما سُمي عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذي القرنين لما كان شجتان في قرني رأسه، إحداهما من عمرو بن ود، والثانية من ابن ملجم، وفي "قصص الأنبياء": وكان قد رأى في منامه أنه دنا من الشمس، حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فلما قص رؤياه على قومه، سموه به، وقالا السيوطي في "الأوائل": أول من لبس العمامة ذو القرنين، وذلك أنه طلع له في رأسه قرنان كالظلفين، يتحركان، فلبسها من أجل ذلك، ثم إنه دخل الحمام ومعه كاتبه فوضع العمامة وقال لكاتبه: هذا الأمر لم يطلع عليه غيرك، فإن سمعت به ¬

_ (¬1) روح البيان.

[83]

من أحد قتلتُك، فخرج الكاتب من الحمام، فأخذه كهيئة الموت، فأتى الصحراء، فوضع فمه بالأرض، ثم نادى: ألا إن للملك قرنين، فأنبت الله من كلمته قصبتين، فمر بهما راع فقطعهما، واتخذهما مزماراً، فكان إذا زمر، خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين، فانتشر ذلك في المدينة، فقال ذو القرنين: هذا أمر أراد الله تعالى أن يبديه. وأما ذو القرنين الثاني، وهو إسكندر الرومي، الذي يؤرخ بأيامه الروم، فكان متأخرًا عن الأول بدهر طويل أكثر من ألف سنة، كان هذا قبل المسيح - عليه السلام - بنحو من ثلاث مئة سنة، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف. وهو الذي حارب دارَا، وأذل ملوك الفرس، ووطىء أرضهم، وكان كافرًا، عاش ستًا وثلاثين سنة، فالمراد بذي القرنين في القرآن هو الأول دون الثاني، وقد غلط كثير من العلماء في الفرق بينهما، فظنوا أن المذكور في الآية هو الرومي سامحهم الله اهـ. من "روح البيان". التفسير وأوجه القراءة 83 - ولما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود، وانتهى الكلام حيث انتهى .. شرع سبحانه في السؤال الثالث، والجواب عنه، فالمراد بالسائلين اليهود، أو كفار قريش بتلقينهم، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ}؛ أي: يسألك يا محمد اليهود، أو كفار قريش، بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} الأكبر إسكندر بن فيلقوس اليوناني، كان عبدًا صالحًا ملَّكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، ملك الأقاليم كلها، وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، ودانت له البلاد، وكان داعيًا إلى الله كما مر؛ أي: يسألونك عن خبره وقصته وحاله، وعبر (¬1) بصيغة الاستقبال، للدلالة على استمرارهم على ذلك السؤال إلى ورود الجواب. {قُلْ} لهم يا محمد في الجواب {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ}؛ أي: سأذكر لكم أيها ¬

_ (¬1) روح البيان.

[84]

السائلون {مِنْهُ}؛ أي: من خبر ذي القرنين وحاله، فحذف المضاف {ذِكْرًا}؛ أي: نبأً مذكورًا، وبيانًا واضحًا، أو المعنى سأتلو عليكم في شأنه من جهته تعالى {ذِكْرًا}؛ أي: قرآنًا والسين للتأكيد والدلالة على التحقق؛ أي: لا أترك التلاوة البتة، أي: قل لهؤلاء المتعنتين: سأقص عليكم قصصًا وافيًا، جامعًا لما تريدون، أعلمنيه ربي، وأخبرني به، 84 - ثم فصل ذلك فقال: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ}؛ أي: لذي القرنين أمره من التصرف {فِي الْأَرْضِ} كيف يشاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها؛ أي (¬1): جعلنا له قدرةً على التصرف في الأرض، من حيث التدبير والرأي، وعلى الأسباب حيث سخر له السحاب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء في الضوء، وسهل عليه السير في الأرض {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: أعطيناه {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه في إصلاح ملكه {سَبَبًا}؛ أي: طريقًا يوصله إلى ذلك الشيء المقصود، كآلات السير، وكثرة الجند، فأراد بلوغ المغرب 85 - {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}؛ أي: سلك طريقا يوصله إلى استقصاء بقاع الأرض، ليملأها عدلًا 86 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يمكنه مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيط الأطلسي الغربي، الذي يقال له: أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال، أو جاوز البحر المحيط، ووصل إلى موضع غروبها، ولا مانع من ذلك عقلًا ولا شرعًا، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض، والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره، ذكره الشوكاني. {وَجَدَهَا}؛ أي: الشمس كأنها {تَغْرُبُ} في رأي العين {فِي عَيْنٍ}؛ أي: في بحر محيط {حَمِئَةٍ}؛ أي: ذات طين أسود، شديد السخونة، كما يدل عليه قراءة شعبة، وحمزة، والكسائي، وابن عامر {حامية} بألف بعد الحاء، وبياء بعد الميم، وهي قراءة ابن مسعود، وطلحة؛ أي: وجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة، وطين أسود، وتلك العين هي نفس البحر المحيط لا غير. ¬

_ (¬1) المراح.

وخلاصة ذلك (¬1): أنه بلغ بلادًا لا بلد بعدها تغرب عليها الشمس، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات، فهو قد سار إلى بلاد تونس، ثم مراكش، ووصل إلى البحر، فوجد الشمس كأنها تغيب فيه، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء. قال في "البيان" (¬2): ولما وصل ذو القرنين إلى مغرب الشمس، يطلب عين الحياة .. قال له شيخ: هي خلف أرض الظلمة، ولما أراد أن يسلك في الظلمة .. سأل: أي الدواب في الليل أبصر؟ قالوا: الخيل فقال: أي الخيل أبصر؟ قالوا: الإناث فقال؛ أي الإناث أبصر؟ قالوا: البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك فركبوا الرماك، وترك بقية عسكره، فدخلوا الظلمات فساروا يومًا وليلة، فأصاب الخضر العين, لأنه كان على مقدمة جيشه صاحب لوائه الأكبر، فشرب منها واغتسل، وأخطأ ذو القرنين، فساروا على حصحاص من حجارة، لا يدرون ما هي، فسألوه عنها فقال الإسكندر: خذوا من هذه الحجارة ما استطعتم، فإنه من أقل منها ندم، ومن أكثر منها ندم، فأخذوا وملأوا مخالي دوابهم من تلك الحجارة، فلما خرجوا .. نظروا إلى ما في مخاليهم، فوجوده زمردًا أخضر، فندموا كلهم لكونهم لم يكثروا ذلك {وَوَجَدَ عِنْدَهَا}؛ أي: عند تلك العين؛ يعني عند نهاية العمارة {قَوْمًا} كفارًا لباسهم جلود الوحوش، وطعامهم ما يلفظه البحر من السمك، فخيَّره الله سبحانه، بين أن يعذبهم بالقتل، أو أن يدعوهم إلى الإيمان, وهذا تفصيل قوله {قُلْنَا} له بطريق الإلهام {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} هؤلاء القوم الكفار؛ أي: أنت مخير في أمرهم بعد الدعوة إلى الإِسلام، بين أن تعذبهم بالقتل إن هم أبوا عن الإيمان, ولم يقروا بوحدانيتي، ويذعنوا لك، في ما تدعوهم إليه من طاعتي {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ} وتفعل {فِيهِمْ حُسْنًا}؛ أي: أمرًا ذا حسن، فحذف المضاف؛ أي: وبين أن تفعل فيهم إحسانًا بالعفو أو الأسر، وسماما إحسانًا في مقابلة القتل، أي: بأن تتركهم أحياء، أي: فأنت مخير فيهم بين تعذيبهم بالقتل، وبين تركهم أحياء، إن أبوا عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[87]

الإِسلام، ويجوز (¬1) أن يكون {إِمَّا} {وَإِمَّا} للتوزيع والتقسيم، دون التخيير؛ أي: ليكن شأنك معهم إما التعذيب، وإما الإحسان. فالأولى: لمن بقي على حاله ولم يؤمن. والثانية: لمن تاب وآمن. والإحسان إليهم بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام 87 - {قَالَ} ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} نفسه بالإصرار على الكفر، ولم يقبل الإيمان منى {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}؛ أي: فسنعذبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل، وعن قتادة: كان يطبخ من كفر في القدور، ومن آمن أعطاه وكساه {ثُمَّ يُرَدُّ} ويرجع {إِلَى رَبِّهِ} وخالقه في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ}؛ أي: يعذب ذلك الظالم {عَذَابًا نُكْرًا}؛ أي: عذابًا شديدًا منكرًا، لم يُعهد مثله وهو عذاب النار 88 - {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} وصدق بالله ووحدانيته بسبب دعوتي {وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} حسبما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ}؛ أي: فلذلك المؤمن الحامل في الدارين {جَزَاءً الْحُسْنَى}؛ أي: فله المثوبة الحسنى، حال كونه مجزيًا بها فـ {جَزَاءً} حال، أو فله في الآخرة الجنة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا}؛ أي: مما نأمر به {يُسْرًا}؛ أي: قولًا سهلًا متيسرًا غير شاق عليه، والمعنى (¬2): فله في الدارين المثوبة الحسنى جزاء وفاقًا على تلك الخلال الجميلة التي عملها في دنياه، وسنعلمه في الدنيا ما يتيسر لنا تعليمه مما يقربه إلى ربه، ويليِّن له قلبه ولا يشق عليه فعله مشقةً كبيرةً، كالصلاة، والزكاة، والجهاد، ونحوها. وقرأ زيد بن علي، والزهري، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، والكوفيون، وابن عامر (¬3): {فَأَتْبَعَ} ثلاثتها بالتخفيف وقرأ باقي السبعة بالتشديد، والظاهر أنهما بمعنى واحد وعن يونس بن حبيب، وأبي زيد أنه بقطع الهمزة، عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها أنه يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغى. (¬3) البحر المحيط.

[89]

وقرأ عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن العاص، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وحمزة، والكسائي {حامية} بالياء؛ أي: حارة. وقرأ ابن عباس، وباقي السبعة، وشيبة، وحميد ابن أبي ليلى، ويعقوب، وأبو حاتم، وابن جبير الأنطاكي {حَمِئَةٍ} بهمزة مفتوحة، والزهري يليِّنها؛ أي: ذات طين أسود، ولا تنافي بين الحامية والحمئة، إذ تكون العين جامعة للوصفين، وفي التوراة تغرب في ماء وطين. وقرأ حمزة (¬1)، والكسائي، وحفص، وأبو بحرية، والأعمش، وطلحة، وابن مناذر، ويعقوب، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي، ومحمد بن جرير {فَلَهُ جَزَاءً} بالنصب والتنوين، والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة وقرأ باقي السبعة {جزاء الحسنى} يرفع جزاء مضافًا إلى الحسنى. قال أبو علي: جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها، و {جزاء} مبتدأ و {لَهُ} خبره، وقرأ عبد الله ابن أبي إسحاق {فله جزاء} مرفوعًا منونًا، وهو مبتدأ وخبر، والحسنى بدل من جزاء. وقرأ ابن عباس، ومسروق {جزاء} بالنصب بغير تنوين الحسنى بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه؛ أي: فله الجزاء جزاء الحسنى، وخرَّجه المهدوي: على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو جعفر {يسرًا} بضم السين حيث وقع. 89 - {ثُمَّ} قفل ذو القرنين راجعاً من مغرب الشمس و {أَتْبَعَ سَبَبًا}؛ أي: سلك طريقًا موصلًا إلى مشرقها 90 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ}؛ أي: وصل الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولًا من معمور الأرض، إذ لا يمكنه أن يبلغ موضع طلوع الشمس، وقيل (¬2): مكان طلوعها, لعدم المانع شرعًا ولا عقلًا من وصوله إليه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[91]

كما أوضحناه فيما سبق، قيل بلغه في اثني عشرة سنة، وقيل: في أقل من ذلك بناءً على ما ذكر من أنه سخر له السحاب، وطوى له الأسباب. {وَجَدَهَا}؛ أي: الشمس {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} عراة {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا}؛ أي: من دون الشمس وأمامها {سِتْرًا} من اللباس والبناء، يعني ليس لهم لباس يستترون به من حر الشمس، ولا بناء يستظلون فيه؛ لأن أرضهم لا تمسك الأبنية لغاية رخاوتها، وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب، أو البحر من شدة الحر، وإذا ارتفعت عنهم خرجوا؛ أي (¬1): حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولًا من المعمور، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم, لأن أرضهم لا تحمل بنيانًا، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس، ويظهرون حين غروبها، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم وأحوالهم، على الضد من أحوال الناس. وخلاصة ذلك: أنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق، ووجد قومًا لا لباس لهم ولا بناء، فهم عراةٌ في العراء، أو في سراديب في الأرض. وقرأ الحسن، وعيسى، وابن محيصن {مطلع} بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير، وأهل مكة، وهو القياس، وقرأ الجمهور بكسرها، وهو مسموع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع مكسور العين، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في مباحث الصرف، وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني: ذهب من يقول من العرب. تطلع بكسر اللام، وبقي مطلع بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس. 91 - {كَذَلِكَ}؛ أي: أمر ذي القرنين وشأنه وحاله كذلك؛ أي: كما وصفناه ¬

_ (¬1) المراغي.

[92]

وبيناه لك يا محمد من قبل من بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ومن فعله الأفاعيل المذكورة، فهو قد بلغ الغاية في رفعة الشأن، وبسطة الملك، مما لم يتح لكثير من الناس، أو أمره في أهل المشرق كأمره في أهل المغرب، فحكم في أهل المطلع كما حكم في أهل المغرب، من تعذيب الظالمين، والإحسان إلى المؤمنين {و} نحن {قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ}؛ أي: بما عند ذي القرنين من الأسباب والعدد {خُبْرًا}؛ أي: علمًا، تمييز؛ أي: ونحن قد علمنا بما لديه من الأسباب والعدد، والشؤون والأحوال، علمًا محيطًا بظواهره وخفاياه. وخلاصة ذلك: أنه كما وُصف، وفوق ما وصف، مما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير. فانظر (¬1) يا أخي سعة لطف الله تعالى، وإمداده بمن شاء من عباده، فإنه ذكر وهب بن منبه: أن ذا القرنين كان رجلًا من أهل الإسكندرية، ابن امرأة عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان خارجًا عن قومه، ولم يكن بأفضلهم حسبًا ولا نسبًا، ولكنه نشأ في ذات حسن وجمال، وحلم ومروءة وعفة، من لدن كان غلامًا، إلى أن بلغ رجلًا، ولم يزل منذ نشأ يتخلق بمكارم الأخلاق، ويسمو إلى معالي الأمور، إلى أن علا صيته، وعز في قومه، وألقى الله تعالى عليه الهيبة، ثم إنه زاد به الأمر إلى أن حدَّث نفسه بالأشياء، فكان أول ما أجمع عليه رأيه الإِسلام فأسلم، ثم دعا قومه إلى الإِسلام، فأسلموا عنوة منه عن آخرهم، ثم كان من أمره ما كان، 92 - ثم حكى سبحانه وتعالى سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى، وهي ناحية القطر الشمالي، بعد تهيئة أسبابه، فقال: {ثُمَّ} قفل ذو القرنين راجعاً من مطلع الشمس و {أَتْبَعَ سَبَبًا}؛ أي: سلك طريقًا ثالثاً، معترضًا بين المشرق والمغرب آخذًا من الجنوب إلى الشمال 93 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ} ذو القرنيق ووصل {بَيْنَ السَّدَّيْنِ}؛ أي: بين الجبلين الذين سد ما بينهما، وهما جبلان عاليان، في منقطع أرض الترك، مما يلي المشرق، من ورائهما يأجوج ومأجوج، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[94]

وانتصاب {بَيْنَ} على المفعولية؛ لأنه مبلوغ، وهو من الظروف التي تُستعمل أسماء وظروفًا، كما ارتفع في قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وانجرَّ في قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}. قال وهب (¬1): السدان جبلان مرتفعان في السماء، من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك، مما يلي أرمينية وأذربيجان، وذكر الهروي: أنما جبلان من وراء بلاد الترك، وقيل: هما جبلان من جهة الشمال، ليِّنان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، ويسمى الجبلان سدين, لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض، وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج. وقرأ مجاهد (¬2)، وعكرمة، والنخعي، وحفص، وابن كثير، وأبو عمرو: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بفتح السين، وقرأ باقي السبعة بضمها، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال الخليل وسيبويه: بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. {وَجَدَ} ذو القرنين {مِنْ دُونِهِمَا}؛ أي: من دون السدين؛ أي: من ورائهما، مجاوزًا عنهما، وقيل: أمامهما؛ أي: من جهة الأمام، خارجة عنهما، لا داخلة بناحية يأجوج ومأجوج اهـ شيخنا. وفي "الخطيب": وجد من دونهما؛ أي: بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما، إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين اهـ. وخلاصة ذلك (¬3): أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالًا يعطون إياه، حتى يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حاجزًا بين الجبلين، يمنعهم من الخروج إليهم فلا يصلون إليهم. 94 - وقرأ عاصم (¬4)، والأعمش، ويعقوب في رواية بالهمز في {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} هنا، وكذا في الأنبياء، وهي لغة بني أسد، ذكره الفراء، قيل: ولا وجه له إلا الغريبة المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم، وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة، وهي لغة كل العرب، غير بني أسد. وقرأ العجاج وابنه رؤبة: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[95]

{أجوج} بهمزة بدل الياء، وقرأ الحسن، وا لأعمش، وطلحة، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي، ومن السبعة حمزة والكسائي {خراجا} بألف هنا وفي حرفي قد أفلح، وسكن ابن عامر الراء فيها، وقرأ باقي السبعة {خَرْجًا} فيهما بسكون الراء، فخراج بالألف والخرج بمعنى واحد، كالنول والنوال، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر {سُدًّا} بضم السين، وابن محيصن، وحميد، والزهري، والأعمش، وطلحة، ويعقوب في رواية ابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، وباقي السبعة بفتحها. 95 - {قَالَ} ذو القرنين جوابًا لهم {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي}؛ أي: ما بسطه الله لي، وجعلني فيه مكينًا قادرًا، من الملك والمال، وسائر الأسباب {خَيْرٌ} مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخراج، فلا حاجة لي إليه، ومثله قول سليمان - عليه السلام - {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} ومن هذا يؤخذ أنّ الدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة، ولا تأخذ منها مالًا، ما دامت قادرة على إغاثتها. وخلاصة ذلك: ما أنا فيه خير مما تبذلونه، وقرأ ابن كثير وحميد {مَا مَكَّنَنِي} بنونين متحركتين، وباقي السبعة؛ بإدغام نون مكني في نون الوقاية، ثم طلب منهم المعاونة له فقال: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}؛ أي: بعملة وصناع يحسنون البناء والعمل وبآلات لا بد منها في البناء {أَجْعَلْ} جواب الأمر {بَيْنَكُمْ} أيها القوم {وَبَيْنَهُمْ}؛ أي: وبين يأجوج ومأجوج {رَدْمًا}؛ أي: حاجزًا حصينًا، وحجابًا عظيمًا، وهو أكبر من السد، وأوثق منه (¬1)، إذ السد كل ما يسد به، والردم وضع الشيء على الشيء، من حجارة، أو تراب، أو نحوهما، حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض. 96 - وقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أي: أعطوني وناولوني زبر الحديد، تفسير للقوة، فيكون المراد بها ترتيب الآلات، وهذا لا ينافي رد خراجهم, لأن المأمور به الإيتاء بالثمن والمناولة، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة دون ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الخراج على العمل، وقال الفراء معنى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} إئتوني بها، فلما ألقيت الياء .. زيدت ألفًا، وعلى هذا فانتصاب زبر بنزع الخافض، والزبر (¬1): جمع زبرة، كغرف جمع غرفة، وهي القطعة الكبيرة، قال في "القصص" قالوا: من أين لنا من الحديد ما يسع هذا العمل، فدلهم على معدن الحديد والنحاس، ولعل تخصيص الأمر بالإيتاء بها دون سائر الآلات من الصخور ونحوها, لما أن الحاجة إليها أمس، إذ هي الركن في السد، وفي "القصص": قاس ما بين الصدفين، فوجده ثلاثة أميال. وقال بعضهم (¬2): حفر ما بين السدين، وهو مئة فرسخ حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب بدل الطين لها والبنيان من زبر الحديد، بين كل زبرتين الحطب والفحم، وقرأ الجمهور (¬3): {آتُونِي} وقرأ أبو بكر عن عاصم، {إئتوني}؛ أي: جيئوني، وانتصب زبر بإيتوني على إسقاط حرف الجر؛ أي: جيئوني بزبر الحديد، وقرأ الجمهور: {زُبَرَ} بفتح الباء، والحسن بضمها، وعبارة "المراح" هنا: وقرأ حمزة {ائتوني} بوصل الهمزة في الموضعين، ووافقه أبو بكر هنا، وخالفه في الموضع الثاني، انتهى. وقوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى} معطوف على محذوف، تقديره فأتوه بها، فأمر برص بعضها فوق بعض، فرصوا حتى إذا ساوى {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أي: بين طرفي الجبلين بالبناء، والصدف (¬4): منقطع الجبل، أو ناحيته، وبين: مفعول به، كبين السدين؛ أي: إنهم (¬5) جاؤوا ذا القرنين بزبر الحديد، فشرع يبني شيئًا فشيئًا، حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السمك، يعني: ملأ ما بينهما إلى أعلاهما، وكان ارتفاعه مئتي ذراع، وعرضه خمسين ذراعًا، ووضع المنافخ والنار حول ذلك {قَالَ} للعملة {انْفُخُوا} بالكير؛ أي: في الحديد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان. (¬5) المراح.

[97]

المبني، فنفخوا {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ}؛ أي: المنفوخ فيه وهو زبر الحديد {نَارًا}؛ أي: مثل النار في الحرارة والهيئة، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين، مع أنه فعل العملة، للتثبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة. {قَالَ} ذو القرنين للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها {آتُونِي} قطرًا أي: نحاسًا مذابًا {أُفْرِغْ عَلَيْهِ}؛ أي: أصبب على الحديد المحمى {قِطْرًا}؛ أي: نحاسًا مذابًا، فأفرغه عليه، فدخل مكان الحطب والفحم، فامتزج بالحديد، والتصق بعضه ببعض، وصار جبلًا صلدًا، وهذه كرامة عظيمة، حيث صرف الله تأثير الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين والمفرغين للقطر. والإفراغ الصب؛ أي: أصبب على الحديد المحمى قطرًا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للعلة التي وقفت عليها آنفًا. وقرأ ابن كثير (¬1)، وأبو عمرو, وابن عامر، والزهري، ومجاهد، والحسن: {الصُّدُفَيْنِ} بضم الصاد والدال، وأبو بكر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، كذلك إلا أنه سكَّن الدال، وباقي السبعة، وأبو جعفر، وشيبة، وحميد، وطلحة، وابن أبي ليلى، وجماعة عن يعقوب، وخلف في اختياره، وأبو عبيد، وابن سعدان، بفتحهما وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة. وقرأ الماجشون: بالفتح وضم الدال، وقرأ قتادة، وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال، {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} في الكلام حذف، تقديره فنفخوا حتى إذا ... وقرأ الجمهور: {قَالَ آتُونِي}؛ أي: أعطوني، وقرأ الأعمش، وطلحة، وحمزة، وأبو بكر بخلاف عنه قال {إئتوني}؛ أي: جيئوني. و {قِطْرًا} منصوب بأفرغ، على إعمال الثاني، ومفعول {آتُونِي} محذوف لدلالة الثاني عليه، كما مر 97 - {فَمَا اسْطَاعُوا} بحذف (¬2) تاء الافتعال تخفيفًا وحذرًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

من تلاقي المتقاربين، وقال في "برهان القرآن": اختار التخفيف في الأول, لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول، فاختير فيه الحذف والثاني مفعوله اسم واحد، وهو قوله: {نَقْبًا}. انتهى. والفاء (¬1): فصيحة؛ أي: فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر، فأفرغ عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلًا صلدًا؛ أي: صلبًا أملس، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه، فما قدروا {أَنْ يَظْهَرُوهُ}؛ أي: أن يظهروا الجبل ويعلوه بالصعود، لارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}؛ أي: وما استطاع يأجوج ومأجوج نقبًا للجبل وثقبًا له؛ أي: وما قدروا أن ينقبوه ويخرقوه من أسفله، لصلابته وثخانتِهِ، فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرم من الأمم إلا بأحد هذين إما: ارتقاء، وإما نقب، وقد سلب قدرتهم على ذلك. وهذه معجزة عظيمة؛ لأن تلك الزبر الكثيرة، إذا أثرت فيها حرارة النار .. لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها، فضلًا عن النفخ فيها، إلى أن تكون كالنار، أو عن إفراغ القطر عليها، وكأنه سبحانه صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال، وكان ما كان، والله على كل شيء قدير، كذا في "الإرشاد" أخذًا عن تفسير الإِمام. يقول الفقير: ليس ببعيد أن تكون المباشرة بالنفخ والصب من بعيد بطريق من طرق الحيل، ألا ترى أن نار نمرود لما كانت بحيث لا يقرب منها أحد .. عملوا المنجنيق، فألقوا به إبراهيم - عليه السلام - فيها. وقرأ الجمهور (¬2): {فَمَا اسْطَاعُوا} بحذف التاء تخفيفًا، لقربها من الطاء، قرأ حمزة، وطلحة: بإدغامها في الطاء، كأنه أراد استطاعوا، فادغم التاء في الطاء، وهو إدغام على غير حده، وقال أبو علي: هي غير جائزة، وقرأ الأعمش عن أبي بكر: {فما اصطاعوا} بالإبدال من السين صادًا لأجل الطاء، قرأ الأعمش: {فما استطاعوا} بالتاء من غير حذف. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[98]

98 - {قَالَ} ذو القرنين {هَذَا} السد {رَحْمَةٌ} عظيمةٌ ونعمةٌ جسيمةٌ {مِنْ رَبِّي} على كافة الخلق، لا سيما على مجاهديه، وفيه (¬1) إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادةً، بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بمباشرتي. وقال ابن عطية (¬2): والإشارة بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به، وقال الزمخشري: إشارة إلى السد؛ أي: هذا السد نعمةٌ عظيمةٌ من الله تعالى، ورحمة منه على عباده، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته، قيل: وفي الكلام حذف تقديره، فلما أكمل بناء السد، وامشوى واستحكم .. قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} بتأنيث اسم الإشارة. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}، أي (¬3): وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، وقيل: مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: موعود ربي وهو يوم القيامة، والمراد بمجيئه مجيء أشراطه وأماراته، من خروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام. ونحو ذلك من أشراط يوم القيامة. {جَعَلَهُ}؛ أي: جعل هذا السد المشار إليه بما تقدم مع متانته {دَكَّاءَ}؛ أي: أرضًا مستويةً، والظاهر (¬4) أن جعله بمعنى صيَّره، فدكًا: مفعول ثان، وقال الزمخشري: فإذا دنا (¬5) مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي .. جعل السد دكًا؛ أي: مدكوكًا منبسطًا مستويًا بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع .. فقد اندك. انتهى. وفيه بيان لعظمة قدرته تعالى بعد بيان سعة رحمته. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر (¬6): {دَكَّاً} منونًا غير مهموز ولا ممدود، مصدر دككته، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي {دَكَّاءَ} ممدودةً مهموزةً بلا تنوين. والمعنى: أي (¬7) فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد .. جعل ربي ذلك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي. (¬4) البحر المحيط. (¬5) الكشاف. (¬6) زاد المسير. (¬7) المراغي

[99]

السد بقدرته وسلطانه أرضًا مستويةً، فسلط عليه منهم أو من غيرهم من يهدمه، ويسوي به الأرض {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي} بخروجهم وقت قرب الساعة {حَقًّا}؛ أي: صدقًا ثابتًا لا ريب في تحقيقه واقعًا لا محالة فيه البتة، لا يتخلف، أو كان وعده بالثواب والعقاب، وهذا آخر قول ذي القرنين. وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، ابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه ابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم ارجعوا، فستفتحونه غدًا، فيعودون إليه أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه غدًا - إن شاء الله تعالى - ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع مخضبةً بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء قسرًا وعلوًا، فيبعث الله تعالى عليهم نغفًا في أقفائهم، فيهلكون" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكراً من لحومهم". وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمر الوجه، وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلَّق قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: "نعم إذا كثر الخبث" وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعًا 99 - قوله: {وَتَرَكْنَا ...} إلخ. من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين؛ أي: وصيَّرنا {بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}؛ أي (¬1): صيَّرنا بعض يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السد يموج ويختلط ببعضهم الآخر ¬

_ (¬1) المراح.

من شدة الازدحام عند خروجهم، لكثرتهم، وذلك عقب موت الدجال، فينحاز عيسى - عليه السلام - بالمؤمنين إلى جبل الطور فرارًا منهم. وروي: أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه، ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ولا يصلون إلى من تحصَّن منهم بورد أو ذكر، ويُحبس نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار، فيتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء، فيسلط الله تعالى دودًا في أنوفهم أو آذانهم، فيموتون به، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيتوجه نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى، فيرسل - سبحانه وتعالى - عليهم طيرًا فتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطرًا يغسل الأرض حتى تصير كالمرآة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الغنم والإبل، حتى إن اللقحة لتكفي الجماعة الكثيرة، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحًا طيبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} نفخة ثانية للبعث، وهو القرن الذي ينفخ فيه للبعث من القبور، والمراد بالنفخة هنا: النفخة الثانية التي عندها يكون الحشر، بمقتضى الفاء التي بعدها؛ لأن الفاء تشعر بذلك، ولم يذكر النفخة الأولى؛ لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة. والمعنى: نفخ إسرافيل في الصور أرواح الخلائق عند استعداد صور الأجساد لقبول الأرواح، كاستعداد الحشيش لقبوله الاشتعال، فتشتعل بأرواحها {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}. {فَجَمَعْنَاهُمْ}؛ أي: جمعنا يأجوج ومأجوج وغيرهم {جَمْعًا}؛ أي: جمعًا عجيبًا، لم نترك من الملك والإنس والجن والحيوانات أحدًا؛ أي: جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء.

الإعراب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)}. {وَيَسْأَلُونَكَ} {الواو}: استئنافية {يَسْأَلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}: جار ومجرور متعلق به وهو في محل المفعول الثاني والجملة مستأنفة {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {السين}: حرف استقبال {أتلو}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد {عليكم} متعلق به {منه} حال من {ذِكْرًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {ذِكْرًا} مفعول به والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُل} {إِنَّا} إن حرف نصب ونا اسمها {مَكَّنَّا}: فعل وفاعل {لَهُ}: متعلق به وكذا {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به أيضًا ومفعول {مَكَّنَّا} محذوف تقديره {مَكَّنَّا لَهُ} أمره من التصرف فيها كيف يشاء وجملة {مَكَّنَّا} في محل الرفع خبر إن وجملة إن: مستأنفة مسوقة لبيان الذكر المتلو عليهم {وَآتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}: حال من سببا, لأنه صفة نكر قدمت عليها {سَبَبًا} مفعول ثان لـ {آتَيْنَا} وجملة {آتَيْنَا} في محل الرفع معطوفة على جملة {مَكَّنَّا}. {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)}. {فَأَتْبَعَ} {الفاء}: عاطفة تفريعية {أَتْبَعَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {سَبَبًا}: مفعول به والجملة: معطوفة مفرعة على جملة {آتَيْنَاهُ} {حَتَّى}: حرف جر وغاية {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {بَلَغَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} مفعول به وجملة {بَلَغَ}: في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها على كونا فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي {وَجَدَهَا}: فعل ومفعول أول وفاعله: ضمير يعود على ذي

القرنين {تَغْرُبُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الشمس {فِي عَيْنٍ}: متعلق به {حَمِئَةٍ}: صفة لـ {عَيْنٍ} وجملة {تَغْرُبُ}: في محل النصب مفعول ثان أو حال من مفعول {وَجَدَ} وجملة {وَجَدَ} جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إذَا}: في محل الجر بحتى الجار والمجرور: متعلق بـ {أتبع} والتقدير {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} إلى وجدانه الشمس غاربة {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وقت بلوغه {مَغْرِبَ الشَّمْسِ}. {وَوَجَدَ}: فعل ماض معطوف على {وَجَدَهَا} وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {عِنْدَهَا} متعلق بـ {وجد} {قَوْمًا} مفعول به {قُلْنَا}: فعل وفاعل والجملة: جواب لشرط محذوف تقديره فلما وجدهم {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} الخ. وجملة الشرط المحذوف مستأنفة {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ...}: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول {قُلْنَا} ونداء الله إياه إن كان نبيًا فبوحي وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبي اهـ. بيضاوي. {إِمَّا}: حرف تفصيل {أن} حرف نصب ومصدر {تُعَذِّبَ} فعل مضارع منصوب بأن وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره إما الشأن فيهم تعذيبك إياهم أو على كونه مبتدأ خبره محذوف تقديره: إما تعذيبك إياهم واقع ومن شواهد الرفع قول الشاعر: فَسِيْرُوْا فَإمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا ... وَإِمَّا مَقِيْلٌ صَالِحٌ وَصَدِيْقُ أو في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لفعل محذوف، تقديره: إما فعلت التعذيب أو إختر إما: التعذيب {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذ} معطوف على {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} {فِيهِمْ}: متعلق بـ {تَتَّخِذَ} أو مفعول ثان لـ {تَتَّخِذَ} و {حُسْنًا} مفعول أول. {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة مستأنفة {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {ظَلَمَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول {فَسَوْفَ} {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}. {سَوْفَ}: حرف استقبال {نُعَذِّبُهُ}: فعل

ومفعول وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب {أَمَّا}: لا محل لها من الإعراب وجملة {أَمَّا}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {يُرَدُّ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على من {إِلَى رَبِّهِ}: متعلق به والجملة معطوفة على جملة نعذبه {فَيُعَذِّبُهُ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب {يُعَذِّبُهُ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله {عَذَابًا} مفعول مطلق {نُكْرًا}: صفة له وجملة يعذب معطوفة على جملة {يُرَدُّ}. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة {أَمَّا}: حرف شرط {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {آمَنَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول {وَعَمِلَ صَالِحًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو صفة لمصدر محذوف أي عملًا صالحًا والجملة معطوفة على جملة {آمَنَ}. {فَلَهُ} {الفاء}: رابطة لجواب أما له خبر مقدم {جَزَاءً}: حال من {الْحُسْنَى}. {الْحُسْنَى} مبتدأ مؤخر؛ أي: فالحسنى كائنة له حالة كونه مجزيًا بها، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر من الموصولة والجملة الاسمية جواب أما لا محل لها من الإعراب وجملة {أَمَّا} في محل النصب معطوفة على جملة {أَمَّا}: الأولى {وَسَنَقُولُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ}: متعلق بـ {نقول} {مِنْ أَمْرِنَا}: جار ومجرور حال من {يُسْرًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {يُسْرًا} مفعول به أو مفعول مطلق لأنه صفة لمصدر محذوف والتقدير سنقول له من أمرنا قولًا يسرًا وجملة {نقول} في محل الرفع معطوفة على جملة قوله {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} على كونها خبرًا لمن الموصولة. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {أَتْبَعَ سَبَبًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة: معطوفة على جملة قوله {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} السابق {حَتَّى} حرف جر وغاية

{إِذَا} ظرف لما يسشقبل من الزمان {بَلَغَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {مَطْلِعَ الشَّمْسِ}: مفعول به والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {وَجَدَهَا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب {إِذَا} لا محل لا من الإعراب وجملة إذا في محل الجر بحتى وحتى متعلقة بـ {أَتْبَعَ} والتقدير: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} إلى وجدانه الشمس طالعة على قوم وقت بلوغه {مَطْلِعَ الشَّمْسِ}. {عَلَى قَوْمٍ} متعلق بـ {تَطْلُعُ} وجملة {تَطْلُعُ} في محل النصب حال من مفعول وجد أو مفعول ثان لوجد {لَمْ} حرف جزم {نَجْعَلْ}: مجزوم بلم وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُمْ} جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لجعل {مِنْ دُونِهَا}: جار ومجرور حال من {سِتْرًا}. {سِتْرًا} مفعول أول لجعل وجملة نجعل في محل الجر صفة لقوم. {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)} {كَذَلِكَ} جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كائن كذلك والجملة مستأنفة؛ أي: أمر ذي القرنين كائن كما وصفناه من بلوغه مغرب الشمس وبلوغه مطلع الشمس وبسطة الملك له. {وَقَدْ} الواو: استئنافية {قَدْ} حرف تحقيق {أَحَطْنَا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة أو حالية أو معطوفة {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بأحطنا {لَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة الموصول {خُبْرًا}: تمييز محول عن فاعل {أَحَطْنَا}؛ أي: وقد أحاط علمنا بما لديه. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)} {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {أَتْبَعَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {سَبَبًا}: مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)}. {حَتَّى} حرف جر وغاية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {بَلَغَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} مفعول به والجملة في محل

الجر بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {وَجَدَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {مِنْ دُونِهِمَا}: مفعول ثان لوجد {قَوْمًا} مفعول أول له وجملة {وَجَدَ} جواب {إِذَا} وجملة {إِذَا} في محل الجر بحتى و {حَتَّى} متعلق بـ {أَتْبَعَ} والتقدير {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)} إلى وجدانه {قَوْمًا} من دون السدين وقت بلوغه بينهما {لَا يَكَادُونَ}: فعل ناقص واسمه {يَفْقَهُونَ قَوْلًا}: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب خبر كاد وجملة كاد في محل النصب صفة {قَوْمًا}. {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل و {الواو}: ضمير يعود على أولئك القوم والجملة مستأنفة {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} إلى آخر الآية: مقول محكي, وإن شئت قلت: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ}: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول قال {إِنَّ يَأْجُوجَ}: ناصب واسمه {وَمَأْجُوجَ}. معطوف على يأجوج {مُفْسِدُونَ}: خبر إن {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به وجملة {إن}: في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء {فَهَلْ} {الفاء} حرف عطف وتفريع {هل} حرف استفهام استخباري {نَجْعَلُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على أولئك القوم {هَلْ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل {خَرْجًا}: مفعول أول والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة إن {عَلَى} حرف جر {أَنْ تَجْعَلَ}: ناصب وفعل منصوب وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {بَيْنَنَا}: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لتجعل {وَبَيْنَهُمْ} معطوف على {بَيْنَنَا} {سَدًّا}: مفعول أول لتجعل وجملة تجعل مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بعلى تقديره: على جعلك سدًا بيننا وبينهم الجار والمجرور: متعلق بمحذوف صفة لـ {خَرْجًا} تقديره: خرجا قائمًا على شرط جعلك سدًا بيننا وبينهم. {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)} {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة مستأنفة

{مَا مَكَّنِّي} إلى قوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى}: مقول محكي وإن شئت قلت: {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {مَكَّنِّي} فعل ماض، ونون وقاية، وياء مفعول {فِيهِ} متعلق به {رَبِّي} فاعل والجملة صلة الموصول {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَعِينُونِي} الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: أعينوني. {فَأَعِينُونِي} فعل وفاعل ونون وقاية وياء مفعول {بِقُوَّةٍ} متعلق به والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول قال {أَجْعَلْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {بَيْنَكُمْ} ظرف في محل المفعول الثاني لـ {أَجْعَلْ} {وَبَيْنَهُمْ} معطوف عليه {رَدمًا} مفعول أول لأجعل والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب الطلب. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)}. {آتُونِي} فعل أمر وفاعل ونون وقاية والياء مفعول أول {زُبَرَ الْحَدِيدِ}: مفعول ثان، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مفسرة لأعينوني {حَتَّى} حرف جر وغاية متعلقة بمحذوف تقديره. فجاؤوه بما طلب فبنى وجعل {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} الفحم والحطب حتى {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} وسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما {قَالَ انْفُخُوا} ... إلخ. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان {سَاوَى} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}: مفعول به لـ {سَاوَى} كما مر في مبحث التفسير، {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة إذا في محل الجر بحتى تقديره وجعل بين الصدفين الفحم والحطب والحديد إلى قوله لهم: {انْفُخُوا} وقت مساواته {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}. {انْفُخُوا}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول قال {حَتَّى} حرف جر

وغاية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {جَعَلَهُ نَارًا} فعل ومفعولان وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة: في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {قَالَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إِذَا} في محل الجر بحتى تقديره إلى قوله آتوني وقت جعله إياه نارًا الجار والمجرور متعلق بـ {قَالَ انْفُخُوا}. {آتُونِي}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول أول والمفعول الثاني محذوف لدلالة العامل الثاني عليه لأن المسألة من باب التنازع تقديره {آتُونِي} قطرًا والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} {أُفْرِغْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين {عَلَيْهِ}: متعلق به {قِطْرًا}: مفعول به لـ {أُفْرِغْ} والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب الطلب، فأُعمل الثاني هنا على مذهب البصريين لقربه، ولو أعمل الأول لقيل آتوني أفرغه عليه قطرا. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)}. {فَمَا اسْطَاعُوا} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره فجاء قوم يأجوج ومأجوج بعد أن أنهى بناءه وتسويته يحاولون أن يعلوه أو يثقبوه فما اسطاعوا والجملة المحذوفة مستأنفة {ما} نافية {اسْطَاعُوا} فعل ماض وفاعل {أَنْ يَظْهَرُوهُ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به والجملة في تأويل مصدر على المفعولية والتقدير فما اسطاعوا ظهورهم إياه والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة {وَمَا اسْتَطَاعُوا} فعل وفاعل {لَهُ}: متعلق به {نَقْبًا}: مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة: مستأنفة {هَذَا رَحْمَةٌ}: مبتدأ وخبر {مِنْ رَبِّي}: جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةٌ} والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}: فعل وفاعل ومضاف إليه والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على

كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي {جَعَلَهُ دَكَّاءَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعولان والجملة: جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إذا} مستأنفة على كونها مقول قال {وَكَانَ} {الواو}: عاطفة أو حالية {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه وخبره والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إذا} أو على جملة جوابها أو حال من فاعل {جَاءَ}. {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}. {وَتَرَكْنَا} {الواو}: استئنافية {تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله والتنوين في إذ عوض عن الجملة المحذوفة كما مر تقديره؛ أي: يوم إذ يدك السد أو يوم إذ يخرج يأجوج ومأجوج والظرف متعلق بـ {يَمُوجُ} أي: {يَمُوجُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على بعضهم {فِي بَعْضٍ} متعلق بـ {يَمُوجُ} والجملة الفعلية: في محل النصب مفعول ثان لـ {تَرَكْنَا} لأن ترك هنا من أفعال التصيير وجملة {تَرَكْنَا}: مستأنفة. {وَنُفِخَ}: فعل ماض مغير الصيغة {فِي الصُّورِ} جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {نفخ} والجملة معطوفة على جملة {تَرَكْنَا} {فَجَمَعْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {جَمْعًا}: مفعول مطلق {والفاء}: عاطفة والجملة: معطوفة على جملة {نفخ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {ذِكْرًا}؛ أي: نبأً مذكورًا، وهو القرآن {مَكَّنَّا لَهُ} يقال: مكنه ومكن له، كنصحه ونصح له؛ أي: مهد له الأسباب، وجعله قادرًا على التصرف في الأرض، من حيث التدبير والرأي. {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} قد سبق لك في مبحث القراءة، أن نافعًا، وابن كثير، وأبا عامر، وابن عامر قرؤوا {فَأَتْبَعَ} {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} في المواضع كلها، بهمزة وصل، وتشديد التاء من افتعل الخماسيِّ، والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء من أتبع الرباعي، فقيل: هما بمعنى واحد فيتعديان لمفعول واحد، وقيل {أتبع}

بالقطع متعد لاثنين حذف أحدهما تقديره {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} سببًا آخر أو فأتبع أمره سببًا. ومنه: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} فعداه لاثنين، ومن حذف أحد المفعولين قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)}؛ أي: أتبعوا جنودهم، واختار أبو عبيد {اتَّبع} بالوصل، قال: لأنه من المسير، قال: تقول: تبعت القوم واتبعتهم، فأما الإتباع بالقطع فمعناه اللحاق، كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وقال يونس، وأبو زيد: {أتبع} بالقطع، عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبالوصل إنصا يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات. اهـ "سمين". {سَبَبًا}؛ أي: طريقًا يوصله إليه، من علم أو قدرة أو آلة {حَمِئَةٍ}؛ أي: ذات حمئة، وهي الطين الأسود، وفي "المصباح" والحمأة بسكون الميم: طين أسود، وحمئت البئر حمأً، من باب تعب، صار فيها الحمأة، وحميت الحديدة تحمى، من باب تعب فهي حامية، إذا اشتد حرها بالنار، ويتعدى بالهمزة فيقال: أحميتها فهي محماة، ولا يقال: حميتها بغير ألف. اهـ والعين الحمئة: ماء يجري على الطين الأسود. {مَغْرِبَ الشَّمْسِ}: بكسر الراء؛ أي: مكان غروبها، والقياس: فتحها لأن القاعدة (¬1) عند الصرفيين: أن كل فعل ثلاثي متصرف، لا يأتي مضارعه على وزن يفعل بكسر العين، بل يأتي على يفعل بضمها، أو على يفعل بفتحها ككرم يكرم، ونصر ينصر، وفرح يفرح، وغرب يغرب، وطلع يطلع، قياس مفعله فتح الميم والعين مع سكون فائه، سواء أريد به المصدر، أو الزمان أو المكان، والكسر فيه شاذ كما قال ابن مالك في "لامية الأفعال": مِنْ ذِيْ الثَّلاثَةِ لاَ يَفْعَلْ لَهُ إئت بمفـ ... ـعل مَصْدَرَ أَو مَا فِيهِ قَدْ عَمِلاَ {حُسْنًا}؛ أي: أمرًا ذا حسن {نُكْرًا}؛ أي: منكرًا فظيعاً {الْحُسْنَى}؛ أي: المثوبة الحسنى {يُسْرًا}؛ أي: سهلًا ميسرًا غير شاق {سِتْرًا}؛ أي: بناءً، وكانوا إذا طلعت الشمس تغوَّروا في المياه، وإذا غربت خرجوا {خُبْرًا}؛ أي: علمًا ¬

_ (¬1) مناهل الرجال.

يتعلق بظواهره وخفاياه {بَيْنَ السَّدَّيْنِ}؛ أي: بين الجبلين، ويُروى: أن ذا القرنين سد ما بينهما، وإطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي "القاموس": السد الجبل الحاجز، أو لكونه ملاصقاً للسد، فهو مجاز علاقته المجاورة، والقول الثاني هو المناسب لما قبله. اهـ "شهاب". {يَفْقَهُونَ} يفهمون {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} اسمان أعجميان، بدليل منع الصرف فيهما للعلمية والعجمة، وقيل: بل هما عربيان، واختلف في اشتقاقهما، فقيل: من أجيج النار، وهو التهابها وشدة توقدها، وقيل: من الأوجة، وهي الأخلاط، أو شدة الحر، وقيل: من الأوج، وهو سرعة العدو، وإنما منعا من الصرف، للعلمية والتأنيث، وكلاهما من أج الظليم، إذا أسرع، أو من أجت النار، إذا التهبت، {خَرْجًا}؛ أي: جعلًا من أموالنا والخراج: ما لزمك أداؤه {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس {رَدْمًا} والردم أكبر من السد وأوثق منه، يقال: ثوب مردم؛ أي: فيه رقاع فوق رقاع. {آتُونِي} قرأ أبو بكر (¬1) {ائتوني} بهمزة وصل، من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة، بخلاف عنه في الثاني، ووافقه حمزة على الثاني من غير خلاف عنه، والباقون بهمزة القطع فيهما، فزبر على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض؛ أي: جيئوني بزبر الحديد وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدى بالهمزة إلى اثنين، وعلى قراءة أبي بكر يحتاج إلى كسر التنوين، من {رَدْمًا} لالتقاء الساكنين؛ لأن همزة الوصل تسقط درجا، فيقرأ له بكسر التنوين وبعده همزة ساكنة هي فاء الكلمة، وإذا ابتدأت بكلمة ائتوني في قراءتِهِ وفي قراءة حمزة .. تبدأ بهمزة مكسورة للوصل، ثم ياء صريحة هي بدل عن همزة فاء الكلمة، وفي الدرج تسقط همزة الوصل، فتعود الهمزة لزوال موجب إبدالها، والباقون يبتدئون ويصلون بهمزة مفتوحة، لأنها همزة قطع ويتركون تنوين {رَدْمًا} على حاله من السكون، هذا كله ظاهر لأهل النحو، خفيٌّ على القراء. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أي: قطع الحديد، جمع زبرة كغرفة وغرف {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} بفتحتين وضمتين أيضًا، وضم الأول وسكون الثاني، وقد قرىء بالثلاث جميعًا، مثنى صدف بفتحتين، وصدف بضمتين، وصدف بضم الأول وفتح الثاني، وبالعكس منقطع الجبل، أو ناصيته، وقد سميا بذلك لأنهما يتقابلان وفي زاده وسميت كل ناحية من الجبلين صدفاً لكونه مصادفاً، ومقابلاً للآخر من قولك صادفت الرجل؛ أي: لقيته اهـ. {قِطْرًا}؛ أي: نحاسًا مذابًا، فالقطر بكسر فسكون النحاس المذاب على الحديد المحمى، وقيل: رصاصًا مذابًا {أَنْ يَظْهَرُوهُ}؛ أي: أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته {رَحْمَةٌ}؛ أي: أثر رحمة {دَكَّاءَ}؛ أي: مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها، والمراد بها: الأرض المستوية {حَقًّا} ثابتًا واقعًا لا محالة {يَمُوجُ}؛ أي: يضطرب اضطراب البحر {الصُّورِ} قرن ينفخ فيه والبوق. فائدة في مبحث اسْطاع: قالوا: الأصل في اسطاع واستطاع أن التاء حذفت تخفيفًا، وفتحت همزة الوصل وقطعت، وهو قول الفراء، وفي استطاع لغات: اسطاع يستطيع، بفتح الهمزة في الماضي وضم حرف المضارعة، فهو أطاع يطيع، وأصله يطوع بقلب الفتحة من الواو إلى الطاء في أطوع، إعلالاً له حملاً على الماضي، فصار أطاع، ثم دخلت السين كالعوض من عين الفعل، هذا مذهب سيبويه، واللغة الثانية استطاع يستطيع بكسر الهمزة في الماضي ووصلها، وفتح حرف المضارعة، وهو استفعل نحو استقام واستعان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: تكرار {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)}. ومنها: الطباق بين {مَغرِبَ} و {مَطْلِعَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين {مَغْرِبَ} و {تَغْرُبُ} و {مَطْلِعَ} و {تَطْلُعُ}.

ومنها: التفصيل أو التخيير في قوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} لأن السبب حقيقة في الحبل، فاستعير هنا لكل ما يُتوصل به إلى المقصود من الآلات والعملة وآلات السير وكثرة الجند. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} مقابل قوله: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ...} الآية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}؛ أي: بين الجبلين؛ لأن السد حقيقة في الحاجز المبني، فاستعماله في الجبل مجاز، علاقته المجاورة. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} أي: كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار، وحذفت أداة التشبيه فأصبح بليغًا. ومنها: التفنن في قوله: {رَدْمًا} لأنه بمعنى سداً، إلا أنه أبلغ منه في المعنى. ومنها: استعمال الماضي في المستقبل، في قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا} لأن الاستطاعة المنفية مستقبلة بالنظر إلى وقت القول. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض، بموج البحر المتلاطم، واستعار لفظ يموج لذلك الاختلاط، ففيه استعارة تبعية، والاستعارة هنا من نوع استعارة محسوس لمحسوس، كما هو من أقسام الاستعارة، فإن أصل الموج تحريك المياه، فاستعير لحركة يأجوج ومأجوج، أو لحركة الخلق كلهم، لاشتراك المستعار والمستعار له في الحركة، وهي استعارة مكنية تبعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} المناسبة قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ في الصور لقيام الخلق من قبورهم، بعد أن تقطعت أوصالهم، وتمزقت أجسامهم، وجمعهم في صعيد واحد للحساب والجزاء .. أردف ذلك ببيان أنه إذ ذاك يُبرز النار للكافرين، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، وفي ذلك تعجيل الهم والحزن لهم، من قبل أنهم تعاموا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه، وأن ما عملوه من تلك الأعمال الباطلة نافع لهم، وكل ذلك وهم وخيال، فلا فائدة منه في ذلك اليوم ولا نقيم لهم إذ ذاك وزنًا. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) ما أعده للكافرين من العذاب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

في جهنم جزاء كفرهم بربهم، واستهزائهم برسله وآياته .. أردف ذلك بما يرغِّب المؤمنين في العمل الصالح، من جنات تجري من تحتها الأنهار، جزاءً وفاقًا على إنابتهم إليه، وإخباتهم له، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته، وإرساله الرسل، والبعث والجزاء، للدلالة على عظيم فضله، ومزيد إنعامه، ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يُتقبل إلا إذا صاحَبَهُ أمران: أن يكون خالصًا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرءًا من الشرك الخفي والجلي. أسباب النزول قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) الحاكم وغيره، عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} وقال اليهود: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ...} إلخ. الآية. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه ...} الآية، أخرج ابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص" عن طاووس قال: قال رجل: يا رسول الله إني أقف أريد وجه الله وأحب أن يُرى موطني، فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} مرسل وأخرجه الحاكم في "المستدرك" موصولًا، عن طاووس، عن ابن عباس صححه على شرط الشيخين. وأخرج (¬2) ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: كان رجل من المسلمين يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه فأنزل الله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه ...}. الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[100]

وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر في تاريخه، من طريق السدى الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: قال جندب عن زهير: إذا صلى الرجل، أو صام، أو تصدق، فذُكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس له فنزلت في تلك {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 100 - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} أبرزنا نار جهنم {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ نفخ في الصور، وجمعناهم جمعًا وأظهرناها {لِلْكَافِرِينَ} باللهِ وبرسله {عَرْضًا} هائلاً وإظهارًا عجيبًا، لا يُعرف كنهه حتى يروا أهوالها، وشديد نكالها، ويسمعوا لها تغيظًا وزفيرًا، وفي هذا تعجيل للهم والحزن لهم، ومعرفة أنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا. وتخصيص العرض بالكافرين (¬1)، مع أنها بمرىءً من أهل الجمع قاطبةً، لأن ذلك لأجلهم خاصةً، وهذا العرض يجري مجرى العقاب لهم من أول الأمر، لما يتداخلهم من الغم العظيم 101 - {الَّذِينَ} الموصول مع صلته نعت للكافرين، أو بدل ولذا لا وقف على عرضا، كما في "الكواشي" {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ}؛ أي: أعين قلوبهم، وهم في الدنيا {فِي غِطَاءٍ}؛ أي: في غلاف وغيظ وأغشية كثيفة، محاطة بذلك من جميع الجوانب، والغطاء: ما يغطي الشيء ويستره {عَنْ ذِكْرِي} على وجه يليق بي، وعن كتابي فلا يهتدون به؛ أي: في غطاء عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيد، كما قيل: فَفِي كَلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ {وَكَانُوا} مع ذلك {لَا يَسْتَطِيعُونَ} لا يقدرون لفرط تصاممهم عن الحق، وكمال عداوتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - {سَمْعًا}؛ أي: استماعًا لذكري وكلامي وقرآني، فلا يؤمنون به، يعني: أن حالهم أعظم من الصمم، فإن الأصم قد يستطيع السمع إذا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[102]

صيح به، وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة. والمعنى (¬1): أن هذا العذاب إنما نالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكروا فيها، ولا يتأملون حججه، فيعتبروا بها وينيبوا إلى ربهم، وينقادوا لأمره ونهيه، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله، الذي ذكرهم به، وبيانه الذي بيِّنه لهم في آي كتابه، فتغافلوا وتعاموا، وتصاموا عن قبول الهدي، واتباع الحق كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} ذاك أنهم لما دنسوا أنفسهم باجتراح الذنوب والآثام، وأطاعوا وساوس الشيطان وما نصبه لهم من الحبائل .. طبع الله على قلوبهم، وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، 102 - ثم بيَّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات لا يجديهم نفعًا، فقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والهمزة فيه للتوبيخ والتقريع المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والحسبان هنا بمعنى الظن، والتقدير أَكفروا بي (¬2) مع جلالة شأني، فحسبوا وظنوا {أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي} من الملائكة، وعيسى وعزير، وهم تحت سلطاني وملكوتي {مِنْ دُونِي} مجاوزين إيّاي؛ أي: تاركين عبادتي {أَوْلِيَاءَ}؛ أي: معبودين ينصرونهم من بأسي، والمعنى: أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال، وخلاصة هذا: أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم وأنه لا يغضبني؟ كلا. وقرأ علي بن أبي طالب (¬3)، وزيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ونعيم بن ميسرة، والضحاك، وابن أبي ليلى، وابن كثير، ويعقوب بخلاف عنهما، وابن محيصن، وأبو حيوة، والشافعي، ومسعود بن صالح {أَفَحَسِبَ} بإسكان السين وضم الباء مضافًا إلى الذين؛ أي: أفكفايتهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء، على أنه مبتدأ وخبر، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[103]

ثم أكد هذا الإنكار بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا}؛ أي: أعددنا وهيأنا {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ} المعهودين {نُزُلًا} وهو ما يعد للنزيل والضيف؛ أي: أحضرنا جهنم للكافرين، كالنزل المعد للضيف، وفيه تهكم بهم، كقولهم: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والمعنى: إن جهنم معدة لهم عندنا، كما يعد النزاع للضيف؛ أي (¬1): إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضًا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادًا ليوم المعاد، والخلاصة: إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر عُدةً، هي جهنم وبئس المصير. وقرأ أبو حيوة، وأبو عمرو بخلاف عنه {نزْلاً} بسكون الزاي وفي ذلك تهكم بهم، وتخطئة لهم في حسبانهم ذلك، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوان أخرى من العذاب، وما جهنم إلا أنموذج منه. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أن من ادعى محبة الله وولاءه، لا يتخذ من دون الله أولياء، أيًا كان، إذ لا يجتمع ولاية الحق وولاية الخلق، ومن كفر بنعمة الولاء واتخذ من دون الله أولياء، فله جهنم البعد والقطيعة أبدًا. 103 - ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال: {قُل} يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين، اليهود والنصارى، ومن المشركين {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أيها الكفرة؛ أي: هل نخبركم أنا ومن تبعني من المؤمنين {بِالْأَخْسَرِينَ} في الآخرة {أَعْمَالًا} نصب على التمييز والجمع، للإيذان بتنوعها؛ أي: بالقوم الذين هم أشد الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا، قال في "الإرشاد" هذا بيان حال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها، من صلة الرحم، وإطعام الفقراء، وعتق الرقاب ونحوها، وفي حسبانهم أيضًا حيث كانوا معجبين بها، واثقين بنيل ثوابها، ومشاهدة آثارها غِبَّ بيان حالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها، مع كونها حسنة في حسبانهم. انتهى. وقال في "البحر": والأخسر من أتعب نفسه بعمل فأدى تعبه به إلى النار، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[104]

نعوذ بالله من ذلك 104 - {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: هم الذين ضل؛ أي: ضاع وبطل سعيهم وجهدهم في إقامة الأعمال الحسنة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بالسعي لا بالضلالة، لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا {وَهُمْ} أي: ضل سعيهم والحال أنهم {يَحْسَبُونَ}؛ أي: يظنون {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}؛ أي: يعملون عملًا ينفعهم في الآخرة؛ أي (¬1): يحسبون أنهم يعملون ذلك، على الوجه اللائق، وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها، وكابدوا في تحصيلها. وفي الآية: إشارة إلى أهل الأهواء والبدع، وأهل الرياء والسمعة، فإن اليسير من الرياء شرك، وان الشرك محبط الأعمال، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} والمعنى (¬2): قل لهم يا محمَّد: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ثوابًا وفضلًا، فنالوا به هلاكًا وبوارًا، كالمشتري سلعةً يرجو بها ربحًا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعته، ووكس في الذي رجا فضله. وخلاصة ذلك: أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وأنهم يحسنون صنعًا، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين، وفي ضلال مبين، وأن سعيهم الذي سعوه في الدنيا ذهب هباءً، فلم يجدهم نقيرًا ولا قطميرًا. 105 - ثم بيَّن السبب في بطلان سعيهم فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من ضلال سعيهم مع الحسبان المذكور هم {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}؛ أي: بدلائله الداعية إلى توحيده عقلًا ونقلاً {و} كفروا بـ {لِقَائِهِ} سبحانه وتعالى بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة، على ما هي عليه {فَحَبِطَتْ}؛ أي: ضاعت وبطلت بذلك {أَعْمَالُهُمْ} التي عملوها مما يحسبونها حسنة حبوطًا كليًا، فلا يثابون عليها، وذلك خسران وضلالٌ مبين. وقرأ ابن عباس وأبو السمال (¬3): {فحبطت} بفتح الباء، والجمهور ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[106]

بكسرها، ثم حكم عليهم بقوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ}؛ أي: فلا نجعل لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وقدرًا؛ أي (¬1): فنزدري بهم، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة، ولما كان هذا الازدراء من عواقب حبوط الأعمال .. عطف عليه بطريق التفريع، وأما ما هو من أجزية الكفر، فسيجيء بعد ذلك. والمعنى (¬2): أن هؤلاء الأخسرين أعمالاً، هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة في الآفاق والأنفس، التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب، وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثم حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزي طويل، ولا تثقل بها موازينهم؛ لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهم منها شيء. وقرأ الجمهور (¬3): {فَلَا نُقِيمُ} بالنون {وَزْنًا} بالنصب، ومجاهد، وعبيد بن عمير {فَلَا نُقِيمُ} بالياء لتقدم قوله {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} وعن عبيد أيضًا {يقوم} بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً، وعن مجاهد، وابن محيصن، ويعقوب بخلاف عنهم {فلا يقوم} مضارع قام {وزنٌ} مرفوع به وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال: "اقرؤوا - إن شئتم -: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا" متفق عليه. 106 - ثم بيَّن مآلهم بسبب كفرهم، وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال: {ذَلِكَ} إشارة (¬4) إلى ما ذكر، من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم عند الله، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك؛ أي: أمر هؤلاء المذكورين، وشأنهم ذلك الذي ذكرناه، وقوله: {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملة مستأنفة مسوقة لبيان جزائهم؛ أي: جزاء هؤلاء المذكورين نار جهنم، وقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الخازن.

[107]

المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال، ذكره ابن الجوزي {بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} الدالة على وحدانيتي {وَرُسُلِي} المؤيدين بالمعجزات {هُزُوًا}؛ أي: مهزوءاً بها؛ أي: جزاؤهم (¬1) جهنم بسبب كفرهم وإنكارهم لما يجب إيمانهم وإقرارهم به، واتخاذهم القرآن وغيره من الكتب الإلهية ورسل الله وأنبيائه سخرية واستهزاء، وهذا من قبيل الوصف بالمصدر للمبالغة، يعني: أنهم بالغوا في الاستهزاء بآيات الله ورسله، فكأنهم جعلوها وإياهم عين الاستهزاء، أو المعنى مهزوءاً بهما كما مر، أو مكان هزء 107 - ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار، الوعد للمؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بآيات ربهم ولقائه في الدنيا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من الأعمال وهي ما كانت خالصةً لوجه الله تعالى {كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله تعالى في الأزل، وإنما قدرنا ذلك جوابًا عما يقال المقام للمضارع، فما وجه المعنى هنا؟ وحاصل الجواب: أن الكينونة المذكورة بحسب علم الله الأزلي وإن كانت الكينونة المقارنة بالدخول ستحصل، ذكره في "الفتوحات" {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ}؛ أي: ثمار بساتين الفردوس {نُزُلًا} معدًا لهم مبالغةً في إكرامهم حالة كونهم 108 - {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرين الخلود في تلك الجنات حالة كونهم {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} مصدر كالصغر؛ أي: لا يطلبون تحولاً وانتقالاً عنها إلى غيرها، كما ينتقل الرجل في الدنيا من دار إذا لم توافقه إلى دار، إذ لا مزيد عليها وفيها كل المطالب، والمراد بنفي التحويل تأكيد الخلود، والفردوس (¬2): ربوة خضراء في الجنة أعلاها وأحسنها، يقال: لها سرة الجنة، وفي حديث (¬3) عبادة: "الفردوس أعلاها"؛ يعني: أعلى الجنة، قال قتادة: وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة، قال أبو هريرة: جبل تتفجر منه أنهار الجنة، وفي حديث أبي أمامة "الفردوس سرة الجنة" قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وقال مجاهد: الفردوس البستان باللغة الرومية، واختار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[109]

الزجاج ما قاله مجاهد. ومعنى الآي: أي (¬1) إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال، ابتغاء المثوبة من ربهم، لم بساتين الفردوس في أعلى الجنة وأوسطها منزلًا، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر الأنهار". حالة كونهم خالدين ولابثين فيها أبدًا، لا يبغون تحولاً عنها إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه، إلى دار أخرى، وخلاصة هذا: أنه لا مكان أعز منها عندهم، ولا أرفع شأنًا. حتى تنازعهم إليه أنفسهم، وتطمح إليه أبصارهم، 109 - ثم نبه إلى عظيم شأن القرآن بقوله: {قُل} يا محمد لهؤلاء المجادلين لك {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ}؛ أي: جنس ماء البحر {مِدَادًا} وحبرًا {لِكَلِمَاتِ رَبِّي}؛ أي: لكتابتها وهي حكمه وعجائبه، والكلمات هي: العبارات عنها كما في "الجلالين" {لَنَفِدَ الْبَحْرُ}؛ أي: لفنى جنس ماء البحر بأسره، مع كثرته ولم يبق فيه شيء؛ لأن كل جسم متناه {قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} وتفنى {كَلِمَاتُ رَبِّي}؛ أي: من غير (¬2) أن تفنى معلوماته وحكمه، فإنها غير متناهية لا تنفد، كعلمه فلا دلالة للكلام على نفادها بعد نفاد البحر. و {قَبْلَ} هنا بمعنى غير أو بمعنى دون، وإنما اختار جمع القلة على الكثرة، وهي الكلم - تنبيهًا على أن ذلك لا يقابل بالقليل، فكيف بالكثير كما في "بحر العلوم" {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ}؛ أي: بمثل ماء البحر الموجود {مَدَدًا} تمييز؛ أي: زيادة ومعونة .. ما نفدت كلمات - الله تعالى - لأن كلمات الله غير متناهية، فلا نفاد لها، فحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الأول عليه، والواو (¬3) لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها؛ أي: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

كلماته لو لم يجىء بمثله مددًا {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. والمعنى (¬1): قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مددًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي وعلومه .. لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددًا وعونًا؛ لأن مجموع المتناهيين متناه وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها، والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، ونحو الآية قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} وقرأ عبد الله (¬2)، وابن عباس، والأعمش، ومجاهد، والأعرج، والحسن، والمنقري عن أبي عمرو {مددا لكلمات ربي} بدل {مِدَادًا} وقرأ (¬3) ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم {تَنْفَدَ} بالتاء الفوقانية وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى {ينفد} بالياء التحتانية، قال أبو علي: التأنيث أحسن لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإنما لم تنفد كلمات الله؛ لأن كلامه صفة من صفات الله، ولا يتطرق على صفاته النفاد. وقرأ السلمي (¬4): {أن تنفد} بتشديد الفاء على وزن تفعل على المضي، وجاء كذلك عن عاصم، وأبي عمرو، فهو مطاوع من نفَّد مشدداً، نحو كسرته فتكسّر، وفي قراءة الجماعة مطاوع؛ لأنفد وقرأ الجمهور: {بِمِثْلِهِ مَدَدًا} بفتح الميم والدال بغير ألف، والأعرج بكسر الميم، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والأعمش بخلاف عنه، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن، والتيمي، وحميد، والحسن في رواية، وأبو عمرو في رواية، وحفص في رواية: {بِمِثْلِهِ مَدَدًا} بألف بين الدالين وكسر الميم. فإن قيل (¬5): لِمَ قال في أول الآية {مَدَادًا} وفي آخرها {مَدَدًا} وكلاهما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير والبحر المحيط. (¬4) البحر المحيط. (¬5) زاد المسير.

[110]

بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف، فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: لما كان الثاني آخر آية وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفعل، والفعل كقوله نزلاً هزوًا حولاً، كان قوله: {مددًا} أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد واتفاق المقاطع عند أواخر الآيي، وانقضاء الأبيات، وتمام السجع في النثر، أخف على الألسن وأحلى موقعًا في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه العلة، وفي "الفتوحات": المعنى مختلف كاللفظ، فلا اعتراض كما عُلم من هذا ومما سبق. 110 - {قُل} يا محمَّد لهؤلاء المجادلين لك بعدما بينت لهم شأن كلمات الله تعالى، {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ أي: ما أنا إلا آدمي مثلكم في الصورة، ومساويكم في الصفات البشرية؛ أي: إنَّ حالي (¬1) مقصور على البشرية، لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدَّعى الإحاطة بكلمات الله، إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه، كما قال: {يُوحَى إِلَيَّ} من ربي من بعض تلك الكلمات، وكفى بهذا الوصف فارقًا بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بيَّن أن الذي أوحي إليه هو قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة {إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: منفرد في ألوهيته وربوبيته، لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، يعني: أنا معترف ببشريتي ولكن الله منّ عليّ من بينكم بالنبوة والرسالة، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن بني آدم في البشرية واستعداد الإنسانية سواء، النبي والولي والمؤمن والكافر، والفرق بينهم بفضيلة الإيمان والولاية والنبوة والوحي والمعرفة، بأن إله العالمين إله واحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. اهـ. وفي هذا: إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد، فقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو} ويطمع شرط جزاؤه {فَلْيَعْمَلْ} قال في "الإرشاد" (كان) للاستمرار، والرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل؛ أي: فمن كان يرجو ويأمل ويطمع {لِقَاءَ رَبِّهِ}، أي: رؤية ربه أو كرامة ربه وثوابه، أو من كان يخاف ¬

_ (¬1) روح البيان.

لقاء ربه والمصير إليه للمجازاة .. {فَلْيَعْمَلْ} لتحصيل ذلك المطلوب العزيز {عَمَلًا صَالِحًا} لائقًا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من قبل. وقال الإمام (¬1): حمل أصحابنا لقاء الرب على رؤيته، والمعتزلة على لقاء ثوابه، يقال: لقيه كرضيه رآه، كما في "القاموس" والرجاء: يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الأمل، كما في "البغوي". والمعنى (¬2): من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله وقال في "التأويلات النجمية" العمل الصالح متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بسنته ظاهرًا وباطناً، فأما سُنَّة باطنهِ فالتبتل إلى الله تعالى وقطع النظر عما سواه. {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} من المخلوقات سواء كان صالحًا أو طالحًا حيوانًا أو جمادًا قال أبو البقاء (¬3): أي: في عبادة ربه، ويجوز أن تكون الباء على بابها؛ أي بسبب عبادة ربه. اهـ. ومعنى الآية: أي فمن كان يطمع في ثواب الله على طاعته .. فليخلص له العبادة وليفرد له الربوبية، ولا يشرك به سواه لا إشراكًا جليًا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، ولا إشراكًا خفيًا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله وعلمه الدنيا، أو الجاه، أو التسمية، أو الوظيفة، أو الشهرة، وهذا هو الشرك الأصغر، كما صح في الحديث وروي مستفيضًا في الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يُقبل، فقد أخرج أحمد، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك". وقرأ الجمهور (¬4): {وَلَا يُشْرِكْ} بياء الغائب كالأمر في قوله: {فَلْيَعْمَلْ} وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه {ولا تشرك} بالتاء خطابًا للسامع والتفاتًا من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، وهو المأمور بالصالح، ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، في قوله: {بربه} ولم يأت التوكيب بربك إيذانًا بأنَّ الضميرين لمدلولٍ واحد، وهو {من} في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو}. خاتمة وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها: ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، عن أبي حكيم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم". وأخرج ابن راهويه، والبزار، والحاتم وصححه، والشّيرازي في "الألقاب" وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ في ليلة {كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ...} الآية كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة" قال ابن كثير بعد إخراجه: غريب جدًّا. وأخرج ابن الضريس، عن أبي الدرداء قال: "من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه" وفي "تفسير الحدادي" عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الكهف .. فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون فيها، ومن قرأ الآية التي في آخرها حين يأخذ من مضجعه .. كان له نور يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها .. كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ". وفي "تفسير البيضاوي" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من قرأ عند مضجعه {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .. كان له نور في مضجعه، يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه حتى يستيقظ". وفي "فتح القريب" من قرأ عند إرادة النوم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ. ثم قال: اللهم أيقظني في أحب الأوقات إليك، واستعملني

بأحب الأعمال إليك .. فإنه سبحانه يوقظه، ويكتبه من قوّام الليل. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إذا أردت أن تقوم آية ساعة شئت من الليل .. فاقرأ إذا أخذت مضجعك {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} الآية. فإن الله يوقظك متى شئت من الليل. وتكلموا في القراءة في الفراش مضطجعًا (¬1): قال في "الفتاوي الحمدية": لا بأس للمضطجع بقراءة القرآن. انتهى. والأولى أن لا يقرأ وهو أقرب إلى التعظيم، كما في "شرح الشرعة" ليحيى الفقيه وعن ظهير الدين المرغيناني لا بأس للمضطجع بالقراءة مضطجعًا إذا أخرج رأسه من اللحاف؛ لأنه يكون كاللبس وإلا فلا نقله قاض خان وفي "المحيط": لا بأس بالقراءة إذا وضع جنبيه على الأرض لكن يضم رجليه إلى نفسه. انتهى. نسأل الله تعالى أن يوقظنا من الغفلة قبل انقضاء الأعمار، ويؤنسنا بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار، آمين. الإعراب {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} {وَعَرَضْنَا} الواو: عاطفة {عرضنا}: فعل وفاعل معطوف على {تركنا} {جَهَنَّمَ}: مفعول به {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ {عرضنا} و {لِلْكَافِرِينَ} متعلق بـ {عرضنا} أيضًا {عَرْضًا}: مفعول مطلق. {الَّذِينَ}: صفة {لِلْكَافِرِينَ} أو بدل منه {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} فعل ناقص واسمه {فِي غِطَاءٍ} جار ومجرور خبر كان {عَنْ ذِكْرِي} صفة لـ {غِطَاءٍ} أو متعلق به وجملة كان صلة الموصول {وَكَانُوا} فعل ناقص واسمه {لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} فعل وفاعل ومفعول به والجملة الفعلية خبر {كان} وجملة {كَانُوا} معطوفة على جملة {كان} الأولى على كونها صلة الموصول. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)}. {أَفَحَسِبَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف {والفاء} عاطفة على ذلك المحذوف تقديره أكفر الذين كفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا {حسب} {الَّذِينَ كَفَرُوا} فعل وفاعل والجملة معطوفة على ذلك المحذوف والجملة المحذوفة مستأنفة {أَنْ يَتَّخِذُوا} فعل وفاعل {عِبَادِي} مفعول أول لاتخذ {مِنْ دُونِي} جار ومجرور حال من {أَوْلِيَاءَ}. {أَوْلِيَاءَ} مفعول ثان له وجملة {اتخذ} مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر سَدّ مسد مفعولي {حسب}. {إِنَّا} ناصب واسمه {أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ} فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل الإنكار المفهوم من الاستفهام {لِلْكَافِرِينَ} حال من {نُزُلًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {نُزُلًا} حال من {جَهَنَّمَ}. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} {هَلْ} حرف للاستفهام الاستعلامي {نُنَبِّئُكُمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول أول {بِالْأَخْسَرِينَ} الباء داخلة على مضمون المفعولين الثاني والثالث، وجملة {نبأ} في محل النصب مقول لـ {قُل} {أَعْمَالًا}: تمييز {الأخسرين}: منصوب به وجمع التمييز، والأصل فيه الافراد، لمشاكلة المميز، وللإيذان بأن خسرانهم، إنما كان من جهاتٍ شتى، لا من جهة واحدة، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم {الَّذِينَ} والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من هم الأخسرون أعمالاً؟ فقيل: هم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بالسعي {وَهُمْ} {الواو}: حالية {هم}: مبتدأ وجملة {يَحْسَبُونَ} خبره والجملة الإسمية: في محل النصب، حال من ضمير

{سَعْيُهُمْ}. {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه {يُحْسِنُونَ صُنْعًا} فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الرفع خبر {أن} وما في خبرها سد مسد مفعولي {يَحْسَبُونَ}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا {كَفَرُوا}: فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا}. {وَلِقَائِهِ} معطوفة على {آيَاتِ رَبِّهِمْ}. {فَحَبِطَتْ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {حبطت أعمالهم}: فعل وفاعل والجملة، معطوفة على جملة {كَفَرُوا}. {فَلَا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {لا}: نافية {نُقِيمُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة {حبطت} {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُقِيمُ} {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف متعلق بـ {نُقِيمُ} {وَزْنًا} مفعول به. {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} {ذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك أي أمر هؤلاء الكفرة، وشأنهم ذلك الذي ذكرناه من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم، والجملة مستأنفة {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان جزاء الذين حبطت أعمالهم، ويجوز أن يعرب {ذَلِكَ} مبتدأ و {جَزَاؤُهُمْ} مبتدأ ثان و {جَهَنَّمُ} خبر {جَزَاؤُهُمْ} والجملة: خبر المبتدأ الأول، وهو {ذَلِكَ}، ويجوز أن يعرب {ذَلِكَ} مبتدأ و {جَزَاؤُهُمْ} خبر و {جَهَنَّمُ} بدل أو عطف بيان لقوله {جَزَاؤُهُمْ}. {بِمَا} {الباء}: حرف جر ما مصدرية {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير {جَزَاؤُهُمْ}، أي: حالة كونهم مجزيين بها بسبب كفرهم أو متعلق بـ {جَزَاؤُهُمْ} لأن الخبر من معمولات المبتدأ فليس أجنبيًا كما في "الجمل" {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي}: فعل وفاعل ومفعول {وَرُسُلِي}: معطوف على {آيَاتِي}. {هُزُوًا} مفعول ثان والجملة: معطوفة على جملة {كَفَرُوا}.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} {إِنَّ} حرف نصب وتوكيد {الَّذِينَ} اسمها {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} {كَانَتْ} فعل ناقص {لَهُمْ} جار ومجرور حال من {نُزُلًا}. {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} اسمها {نُزُلًا} خبرها وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}. {خَالِدِينَ}: حال من الضمير في {لَهُمْ} وهذا أيضًا باعتبار الأزل؛ أي: حال كونهم محكوماً لهم في الأزل بالخلود فيها، كما في "الجمل" {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {لَا يَبْغُونَ}: فعل وفاعل {عَنْهَا} متعلق بـ {حِوَلًا}. {حِوَلًا} مفعول به والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {خَالِدِينَ} {قُلْ}: فعل أمر وفاعله: ضمير يعود على محمد والجملة. مستأنفة لو كان البحر إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت قلت: {لَوْ}: حرف شرط غير جازم {كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا}: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {لِكَلِمَاتِ رَبِّي} جار ومجرور صفة لـ {مِدَادًا} ومضاف إليه {لَنَفِدَ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} {نَفِدَ الْبَحْر}: فعل وفاعل {قَبْلَ}: ظرف متعلق به والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب وجملة {لَوْ}: في محل النصب مقول لـ {قُل} لنفد البحر قبل أن تنفد ناصب وفعل وفاعل ومضاف إليه والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره قبل نفاد {كَلِمَاتُ رَبِّي} {وَلَوْ} {الواو}: عاطفة ما بعدها على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها تقديوها {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} كلماته لو لم يجيء بمثله مددا والجملة المحذوفة في محل النصب حال من {رَبِّي} {لَوْ} حرف شرط {جِئْنَا}: فعل وفاعل {بِمِثْلِهِ} متعلق به {مَدَدًا} تمييز {بِمِثْلِهِ} منصوب به وجواب {لَوْ} محذوف تقديره {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} لنفد ولم تفرغ وجملة

{لو} الشرطية معطوفة على جملة لو المحذوفة. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} إلى آخر الآية. مقول محكي لـ {قُلْ} وإن شئت قلت: {إِنَّمَا} أداة حصر {أَنَا بَشَر} مبتدأ وخبر {مِثْلُكُمْ} صفة لـ {بَشَرٌ} والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة {إِلَيَّ}: متعلق به {أَنَّمَا} {أن} حرف نصب ومصدر {ما} كافة لكفها ما قبلها عما بعدها {إِلَهُكُمْ}: مبتدأ {إِلَهٌ}: خبره {وَاحِدٌ}: صفة {إِلَهٌ} والجملة الاسمية: صلة {أن} المكفوفة لأن ما الكافة وإن كفتها عن العمل لا تخرجها عن المصدرية، و {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع، على كونها نائب فاعل ليوحى، تقديره: يوحى إليّ وحدانية الله سبحانه وجملة يوحى في محل الرفع صفة ثانية لبشر والمعنى (¬1) لم يوح إليّ إلا وحدانية إلا {إِلَهٌ}؛ أي: لا تعدده، فالحصر نسبي. اهـ شيخنا. {فَمَنْ} {الفاء}: استئنافية {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر: جملة الجواب، أو الشرط أو هما، {كَانَ}: فعل ناقص في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها واسمها: ضمير يعود على {من} {يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {كَانَ} تقديره فمن كان راجيًا لقاء ربه {فَلْيَعْمَلْ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملةً طلبيةً {واللام} حرف أمر وجزم {يعمل}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وفاعله: ضمير يعود على {من} {عَمَلًا} مفعول به أو مطلق {صَالِحًا} صفة له والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة {من} الشرطية مستأنفة {وَلَا يُشْرِكْ}: {لا} ناهية جازمة {يُشْرِكْ} مجزوم بلا الناهية وفاعله: ضمير يعود على ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{من} {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ}: متعلق بـ {يُشْرِكْ} {أَحَدًا} مفعول به وجملة {لَا يُشْرِكْ} في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَلْيَعْمَلْ} على كونها جواب {من} الشرطية. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّا أَعْتَدْنَا}؛ أي: أعددنا وهيانا {نُزُلًا}: والنزل: الطعام النفيس يعد للضيف إكرامًا وقال في "القاموس": النزاع (¬1) بضمتين المنزل، وما يهيأ للضيف أن ينزل عليه والجمع: أنزال والطعام ذو البركة كالنزيل والفضل والطعام. اهـ. {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ}: قال في "الجلالين" الإضافة فيه للبيان، ولعل وجه الجمع حينئذٍ اعتبار ما فيه؛ أي: في الفردوس من القصور وغيرها فكأنه جنان متعددة. اهـ. شيخنا. في "القاموس"، و"التاج": الفردوس: بالكسر الأودية التي تنبت ضروبًا من النبت، والبستان: يجمع كل ما يكون في البساتين، تكون فيه الكروم، وقد يؤنث عربيةً، أو روميةً نقلت، أو سريانيةً، وروضةً دون اليمامة لبني يربوع، وماء لبني تميم، قرب الكوفة وقلعة فردوس بقزوين، إلى أن يقول والفردسة: السعة، وصدر مفردس: واسع أو ومنه الفردوس، قال شارحه، قوله: أو ومنه الفردوس؛ أي: ومن اشتقاقه كما نقله ابن القطاع، وهذا يؤيد كونه عربيًا، ويدل له أيضًا قول حسان رضي الله عنه: وَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فِيْهَا يُخَلَّدُ قال أبو حيان (¬2): قيل: ولم يسمع الفردوس في كلام العرب، إلا في هذا البيت، بيت حسان وهذا لا يصح، فقد قال أمية بن أبي الصلت: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً ... فِيْهَا الْفَرَادِيْسُ ثَمّ الْفُوْمُ وَالْبَصَلُ والفراديس: جمع فردوس والظاهر: أن معنى جنات الفردوس: بساتين ¬

_ (¬1) القاموس. (¬2) البحر المحيط.

حول الفردوس، ولذلك أضاف الجنات إليه، ويقال: كرم مفردس؛ أي: معرش، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوسًا، لاجتماع نخلها، وتعريشها على أرضها، وفي دمشق، باب الفراديس، يخرج منه إلى البساتين. انتهى. {حِوَلًا}؛ أي: تحولاً إلى غيرها، فحول مصدر سماعي التحول. انتهى. شيخنا. وفي "السمين" "الحول" قيل: مصدر بمعنى التحول، يقال: حال عن مكانه {حِوَلًا}، فهو مصدر كالعوج والصغر. انتهى. قال الزمخشري: يقال: حال عن مكانه حولا كقوله عادني حبها عودًا، يعني لا مزيد عليها، حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف؛ لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان .. فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفي التحول، وتأكيد الخلود. انتهى. وقال ابن عطية: والحول بمعنى التحول، قال مجاهد: متحولاً وقال الشاعر: لِكُلِّ دَوْلَةٍ أَجَلُ ... ثُمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلُ {مِدَادًا} والمداد: ما يمد به الشيء، واختص به تمد به الدواة من الحبر، وما يمد به السراج من السليط، ويقال: السماد مداد الأرض {لِكَلِمَاتِ رَبِّي}؛ أي: معلوماته غير المتناهية {يَرْجُو} والرجاء: طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}؛ أي: كانوا ينظرون فلا يعتبرون، وتعرض عليهم الآيات الكونية فلا يؤمنون، ولم تكن أعينهم حقيقةً في غطاءٍ وحجاب، وإنما هو بطريق التمثيل، وكذا قوله: {وَكَانُوا لَا

يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لأن هذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار. ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يفيد التوبيخ والتقريع في قوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: التهكم في قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}. ومنها: جناس التصحيف في قوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ويسمى الجناس الناقص، وهو أن يكون النقط فيه فارقًا بين الكلمتين على حد قول البحتري: وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى ... لِيُعْجِزَ وَالْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ والجناس ويقال له: التجنس والمجانسة والتجانس لغةً مشتق من الجنس واصطلاحًا تشابه الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى، وفائدته: أن يميل بالسامع إلى الإصغاء، فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاءً إليها. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} والمغاير في قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد 1 - وصف الكتاب الكريم بأنه قيم، لا عوج فيه، جاء للتبشير والإنذار. 2 - جعل ما على ظهر الأرض زينة لها، وقد خلقه الله تعالى ابتلاءً للإنسان، ليرى كيف ينتفع به. 3 - ما جاء من قصص أهل الكهف، ليس بالعظيم إذا قيس بما في ملكوت السموات والأرض. 4 - وصف الكهف وأهله، ومدة لبثهم فيه، وبيان عدد أهله. 5 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس مع الفقراء المؤمنين، وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابةً لدعوتهم. 6 - ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة. 7 - ضرب مثل، بين حال فقراء المؤمنين، وأغنياء المشركين. 8 - ضرب المثل لحال الدنيا. 9 - عرض كتاب المرء عليه في الآخرة وخوف المجرمين منه. 10 - عداوة إبليس لآدم وبنيه. 11 - قصص موسى والخضر. 12 - وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة في الآخرة. 13 - قصص ذي القرنين وسدُّ يأجوج ومأجوج وكيف صنعه ذو القرنين.

14 - ما يلقاه المؤمنون من النعيم في الآخرة. 15 - علومُ الله تعالى لا نهاية لها (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم بعون الله تعالى وتوفيقه، تفسير سورة الكهف، في الساعة الخامسة، من ليلة الخميس، الثامن عشر من شهر صفر، من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشرة سنة من التاريخ الهجري 18/ 2/ 1412 هـ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا مقبولة، وسعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وصلى الله على سيدنا، وحبيبنا، خاتم النبيين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين آمين. يَا مَنْ يُضِيْعُ عُمْرَهُ فِيْ اللَّهْوِ أَمْسِكْ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ ذَاهِبٌ كَذَهَابِ أَمْسِكْ

سورة مريم

سورة مريم سورة مريم مكيَّة كلها، أو إلا آيتين هما: (58) و (71) فمدنيتان، وهي ثمان أو تسع وتسعون آية، وكلماتها تسع مئة واثنتان وستون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وثلاث مئةٍ وحرفان، وسميت سورة مريم، لذكر مريم فيها، ولم (¬1) تذكر امرأة باسمها صريحاً في القرآن إلا مريم، فقد ذكرت فيه في ثلاثين موضعًا. ومن فضائلها: ما روي (¬2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة مريم أُعطي عشر حسنات، بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - المذكورين فيها، وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع" ولكنه موضوع لا أصل له. وروى محمد بن إسحاق في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل، عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب، قرأ صدر هذه السورة على النجاشي فبكى حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها. ومناسبتها لسورة الكهف (¬3): اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص، كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام. وقال أبو حيان (¬4): مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى ضمّن السورة قبلها قصصًا عجبًا، كقصة أهل الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وهذه ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) اليضاوي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

السورة تضمنت قصصًا عجبًا، من ولادة يحيى بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقرٍ، وولادة عيسى من غير أب، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب .. ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك. الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال أبو عبد الله محمد بن حزم الأندلسي: في سورة مريم خمس آيات من المنسوخ. أولاهن: قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (39) الآية. نسخ الإنذار هنا بآية السيف. الآية الثانية: قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (59) الآية. نسخت بالاستثناء بقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (60). الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (75) الآية. نسخت بآية السيف. الآية الرابعة: قوله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} الآية (84). نسخ أولها بآية السيف. الآية الخامسة: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الآية (59). نسخت بالاستثناء، وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} (60). وفيها تقديم في النظم. انتهى. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)} المناسبة قد سبق لك بيان مناسبة جملة هذه السورة للسورة السابقة آنفًا، وأما مناسبة

[1]

أول هذه السورة لآخر السابقة، فلأنه سبحانه ذكر في آخر السابقة الرحمة في ضمن قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}؛ أي: يرجو رحمة ربه وثوابه يوم لقائه وعرضه عليه للمجازاة، وبدأ هذه السورة بقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ} فذكر الرحمة هنا صريحاً هذا ما ظهر لي بعد التأمل. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه - تعالى - لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد، وإجابة الله إياه، فوُلد له من شيخ فانٍ وعجوزٍ له عاقرٍ، وكان ذلك مما يتعجب منه .. أردفَه بما هو أعظم في الغرابة والعجب، وهو وجود ولد من غير ذكر، فدل ذلك على عظم قدرة الله تعالى وحكمته، ذكره في "البحر". التفسير وأوجه القراءة 1 - قوله تعالى: {كهيعص (1)} (¬1) قرأ ابن كثير {كهيعص ذِكْرُ} بفتح الهاء والياء، وتبيين الدال التي في هجاء {صاد}، وقرأ أبو عمرو: {كهيعص} بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يُدغم الدال التي في هجاء (صاد) في الذال من {ذِكْرُ}، وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: بكسر الهاء والياء، إلا أن الكسائي لا يبين الدال، وعاصم يبينها، وقرأ ابن عامر، وحمزة: بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان، وقرأ أبي بن كعب: {كهَيعَصَ} برفع الهاء وفتح الياء، وقد ذكرنا في أول البقرة ما يشتمل على بيان هذا الجنس {كهيعص (1)} هذه الأحرف الخمسة يتعين في الكاف والصاد منها المد المطول المذكور باتفاق السبعة، وهو ثلاث ألفات، ويتعين في الهاء والياء المد الطبيعي باتفاقهم أيضًا، وهو قدر ألف، ويجوز في العين المد المطول المذكور وقصره بقدر ألفين، القراءتان سبعيتان، ويتعين في النون من عين إخفاؤها في الصاد وغنها، ويجوز في الدال من صاد إظهارها وإدغامها في ذال ذكر والقراءتان سبعيتان. انتهى. شيخنا. وقد خص المفسرون ¬

_ (¬1) زاد المسير.

هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال: أحدهما (¬1): أنها حروف من أسماء الله تعالى، قاله الأكثرون، ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أيِّ اسم هو على أربعة أقوال: أحدها: أنه من اسم الله الكبير. والثاني: من الكريم. والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب، فأما الهاء .. فكلهم قالوا: هي من اسمه الهادي، إلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله. وأما الياء: ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من حكيم. والثاني: من رحيم. والثالث: من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس، فأما العين ففيها أربعة أقوال: أحدها: أنها من عليم. والثاني: من عالم. والثالث: من عزيز رواها أيضًا سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنها من عدل، قاله الضحاك. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

وأما الصاد ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من صادق. والثاني: من صدوق، رواهما سعيد بن جبير أيضًا عن ابن عباس. والثالث: من الصمد، قاله محمد بن كعب. والقول الثاني: إن {كهيعص (1)} قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن عليّ - عليه السلام - أنه قال: هو اسم من أسماء الله تعالى، وروي عنه أنه كان يقول: يا {كهيعص (1)} اغفر لي، قال الزجاج: والقسم بهذا الدعاء به لا يدل على أنه اسم واحد؛ لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها .. فكأنه قال: يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإذا أقسم بها .. فكأنه قال: والكافي، الهادي، العالم، الصادق، وأسكنت هذه الأحرف لأنها حروف تهج، النية فيها الوقف. والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن ومجاهد. والرابع: اسم من أسماء القرآن، قال قتادة، فإن (¬1) قيل لِمَ قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كما، وفي العين: عا، وفي الصاد: صا، لتتفق المعاني كما اتفقت العلل .. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ، واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغير المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن، وأحلى في الأسماع، وعبارةُ "المراغي" هنا: {كهيعص (1)}. تقدم الكلام في المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه، كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام، نحو: ألا ويا، وغيرهما، وتقرأ باسمائها فيقال: {كاف ها يا عين صاد}. انتهت. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

[2]

2 - قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} قال الزجاج (¬1): الذكر: مرفوع بالمضمر؛ والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك يا محمد، ذكر رحمة ربك عبده {ذِكْرُ} مضاف إلى مفعوله {عَبْدَهُ} مفعول {رَحْمَتِ}، {زَكَرِيَّا}: بدل منه وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة. والحاصل: أن {ذِكْرُ} (¬2): مصدر مضاف إلى مفعوله، وفاعله: محذوف؛ أي: ذكر الله رحمة عبده زكريا، و {رَحْمَتِ رَبِّكَ}: مضاف لفاعله، و {عَبْدَهُ}: مفعوله، وهذه التاء لا تمنع من عمل المصدر؛ لأنه مبني عليها، أي: مقترن بها وضعًا، فليست للوحدة والمرة، والتاء التي تمنع من عمل المصدر هي التي يؤتى بها للدلالة على المرة؛ والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك يا محمد في هذه السورة، ذكر إجابة ربك عبده زكريا دعاءه إياه، حين دعاه وسأله الولد نداءً خفيًا ودعاءً سرًا؛ ومعنى ذكر الرحمة: ذكر بلوغها وإصابتها له، وإجابته دعائه، و {زَكَرِيَّا} يمد ويقصر، ابن آزر، قال الإِمام: زكريا من ولد هارون أخي موسى، وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق - عليهم السلام - وقرأ الحسن (¬3)، وابن يعمر: {ذِكْرُ} فعلًا ماضيًا {رَحْمَتِ}، أي: هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك وذكر الداني عن ابن يعمر: {ذِكْرُ} فعل أمر من التذكير {رَحْمَتِ} بالنصب، و {عَبْدَهُ} نصب بالرحمة وذكر صاحب "اللوامح" أن: {ذكر} بالتشديد ماضيًا، عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر، معناه: أنَّ المتلو أي القرآن ذكَّر برحمة ربك، فلما نزع الباء .. انتصب، ويجوز أن يكون معناه: أن القرآن ذكر الناس تذكيرًا أن رحم الله عبده، فيكون المصدر عاملاً في عبده {زَكَرِيَّا} لأنه ذكَّرهم بما نسوه من رحمة، فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون ذكر على المضي مسندًا إلى الله سبحانه، وقرأ الكلبي: {ذِكْرُ} على المضي خفيفًا من الذكر {رَحْمَتِ رَبِّكَ}: بنصب التاء ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الفتوحات. (¬3) البحر المحيط.

[3]

{عَبْدَهُ} بالرفع على إسناد الفعل إليه، 3 - وقوله: {إِذْ نَادَى}؛ أي: دعا: ظرف لرحمة ربك؛ أي: دعا {رَبَّهُ} في المحراب {نِدَاءً خَفِيًّا}؛ أي: دعاءً سرًا من قومه في جوف الليل، ولقد (¬1) راعى - عليه السلام - في إخفاء دعائه، حسن الأدب، لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيَّان، لكن الإخفاء أولى، لأنه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته، وكان سنه وقتئذٍ تسعًا وتسعين على ما اختاره الكاشفيّ، ولكونه من أمور الدنيا، وقيل أخفاه مخافةً من قومه الذين خافهم أن يطلعوا عليه، وقيل خفت صوته لضعفه وهرمه لكونه قد صار ضعيفًا هرمًا لا يقدر على الجهر، كما يدل عليه قوله الآتي 4 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}، وقيل لأن الإخفاء سنة الأنبياء، والجهر به يعدّ من الإعتداء، فإِن قلت (¬2): شرط النداء الجهر، فكيف يكون خفيًا؟ قلت: دعا في الصلاة فأخفاه، قال بعضهم: النداء وإن كان بمعنى الصوت، لكن الصوت قد يتصف بالضعف، ويقال: صوت خفيٌّ وهو الهمس، فكذا النداء، والوجه في عبارة النداء الإشارة إلى شدة الإقبال والتوجه في الأمر المتوجه إليه، كما هو شأن الأنبياء ومن له بهم أسوة من كُمَّلِ الأولياء؛ والمعنى: أي: مما نقص عليك يا محمد، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، حين دعا ربه دعاءً خفيًا مستورًا عن أعين الناس، وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة، وقصارى ذلك: أن في هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا، حين أسرَّ بدعائه إليه، ثم فصل كيفية دعائه بقوله: {قَالَ رَبِّ} استئناف وقع بيانًا للنداء؛ أي: قال زكريا: يا رب {إِنِّي وَهَنَ} وضعف {الْعَظْمُ} حالة كونه كائنًا {مِنِّي} فالجملة (¬3) مفسرة لقوله: {نَادَى رَبَّهُ} يقال: وهن يهن وهنًا، إذا ضعف فهو واهن، وقرىء: بالحركات الثلاث، كما سيأتي، أراد أن عظامه فترت وضعفت قوته، وإنما أسند الوهن إلى العظم، لأنه عمود ¬

_ (¬1) روح البيان والخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

بيت البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فهذا أصابه الضعف مع صلابته وقلة تأثره بالعلل .. أصاب سائر الأجزاء، وتساقطت قوته، ولأن أشد ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، وأفرد العظم قصدًا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام، وقال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس كما في "البغوي". وقرأ الجمهور (¬1): {وَهَنَ} بفتح الهاء وقرأ الأعمش: بكسرها، وقرىء: بضمها لغاتٌ ثلاثٌ {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} منِّي: حذف اكتفاءً بما سبق؛ أي: وابيضَّ الشعر مني. {شَيْبًا}؛ أي: أخذ رأسي شمطًا، وقد صار مثل شواظ النار، شبّه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار، وانتشاره وفشوَّه في الشعر باشتعالها مبالغةً (¬2)، وإشعارًا لشمول الشيب جميع الرأس، حتى لم يبق من السواد شيء، وجعل الشيب تمييزًا إيضاحًا، للمقصود، والأصل اشتعل شيب رأسي، فوزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته نارًا، بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته. {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}؛ أي: ولم أكن بدعائي إياك يا ربي خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا توسّلٌ منه بما سلف من الاستجابة عند كل دعوة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن، وضعف الحال، فإنه تعالى بعدما عوّد عبده بالإجابة دهرًا طويلًا، لا يخيبه أبدًا لا سيما عند اضطرارٍ وشدة افتقارٍ؛ والمعنى: أي: قد أحسنت إليّ فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك، فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخرًا كما أجبتني أولًا، ذكره في "البحر". قال العلماء (¬3): يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع وذكر نعم الله عليه، كما فعل زكريا هاهنا، فإن في قوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه وبلوغ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[5]

مآربه وفي قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} ذكر ما عوده الله من الإنعام عليه، بإجابة أدعيته، يقال: شقي بكذا؛ أي: تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه، 5 - {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ}؛ أي: خفت جور مواليّ وورثتي وبني عمّي الذين يخلفونني في السياسة وفي القيامة بأمر الدين {مِنْ وَرَائِي}؛ أي: بعد موتي، فلا بدّ لي من الخلف، وهم بنو عمّه، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف - عليه السلام - أن لا يُحسنوا خلافته في أمته، ويبدّلوا عليهم دينهم، وقوله: {مِنْ وَرَائِي} متعلق بمحذوف؛ أي: فعل الموالي، أو جور الموالي، كما قدرنا آنفًا لا بـ {خِفْتُ} لفساد المعنى، والجملة (¬1): معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} مترتب مضمونها على مضمونها، فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادي خوفه ممن يلي أمره بعد موته. وقرأ الجمهور (¬2): {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} بكسر الخاء وسكون الفاء، على أن فاعله ضمير يعود إلى {زَكَرِيَّا} ومفعوله {الْمَوَالِيَ}، وأسكن الزهري ياء {الْمَوَالِيَ} وقرأ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وابن جبير، وعلي بن الحسين، وولده محمد، وزيد، وشبيل بن عزرة، والوليد بن مسلم {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر تاء التأنيث وسكون ياء {الْمَوَالِيَ} على أنه فاعل {خِفْتُ}؛ أي: قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت مأخوذًا، من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب، وقرأ الجمهور: {وَرَائِي} بالهمز والمد وسكون الياء، وقرأ ابن كثير: بالهمز والمد وفتح الياء، وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل: خاف أن يرثوا ماله، وأراد أن يوثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولدًا، وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين، فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب وليًا يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأول؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وهم أجل من أن يعتنوا بأمور الدنيا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط والشوكانى.

[6]

فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوة والقيام بأمر الدين، وقد ثبت عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "نحن - معاشر الأنبياء - لا نورث، ما تركناه صدقة". {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}؛ أي: لا تلد من حين شبابها، اسمها إيشاع بنت فاقوذ بن فيل، وهي أخت حنّة بنت فاقوذ أم مريم، والعاقر من الرجال والنساء: من لا يولد له ولد، وكان سنّها حينئذٍ ثمان وتسعين على ما اختاره الكاشفي، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة، {وَلِيًّا}؛ أي: ولدًا من صلبي 6 - {يَرِثُنِي} من حيث العلم والدين والنبوة، فإن الأنبياء لا يورّثون المال كما مر آنفًا، ولم يصرّح بطلب الولد، لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما. فإن قلت (¬1): وقد وصف الوليَّ بالوراثة ولم يستجب له في ذلك، فإنَّ يحيى خرج من الدنيا قبل زكريا على ما هو المشهور. قلتُ: الأنبياء وإن كانوا مستجابي الدعوة، لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعوات، حسبما تقتضيه المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة، ألا ترى إلى دعوة إبراهيم - عليه السلام - في حق أبيه وإلى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". وقد كان من قضائه تعالى: أن يهبه يحيى نبيًا مرضيًا ولا يرثه، فاستُجيب دعاؤه في الأول دون الثاني {وَيَرِثُ} الملك {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} بن إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة والصحبة، أو الموافقة في الدين، وقال (¬2) الكلبي ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان، أخو عمران بن ماثان، من نسل سليمان بن أبو مريم عليه السلام، وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريا، قال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذٍ، فأراد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

أن يرث ولده حبورته - وكان حبرا - ويرث من بني ماثان ملكهم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة (¬1): {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} برفع الفعلين صفةً للولي، فالمعنى عليه: هب لي وليًا وارثًا، وقرأ النحويان أبو عمرو، والكسائي، والزهري، والأعمش، وطلحة، واليزيدي، وابن عيسى الأصبهاني، وابن محيصن، وقتادة: بجزمهما على جواب الأمر، كقولك إن وهبته لي ورثني، ورجح أبو عبيد القراءة الأولى، وقرأ عليّ، وابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وقتادة، وأبو حرب بن أبي الأسود، وجعفر بن محمد، وأبو نهيك: {يَرِثُنِي} بالرفع والياء {وأرث} جعلوه فعلًا مضارعًا من ورث، قال صاحب "اللوامح": وفيه تقديم؛ فمعناه: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} من آل يعقوب {يَرِثُنِي} إن متّ قبله؛ أي: نبوتي، وأرثه إن مات قبلي؛ أي: ماله، وهذا معنى قول الحسن وقرأ علي، وابن عباس، والجحدري {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال أبو الفتح: هذا هو التجريد. التقدير: يرثني منه وأرث، وقال الزمخشري: وأرث؛ أي: يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان؛ لأنه جرد عن المذكور أولًا مع أنه المراد. وقرأ مجاهد: {أو يرث من آل يعقوب} على التصغير، وأصله وُوَيْرِث، فأبدلت الواو همزة على اللزوم، لاجتماع الواوين، وهو وارث؛ أي: غُلَيْم صغير، وعن الجحدري: {وارث} بكسر الواو؛ يعني به: الإمالة المحضة لا الكسر الخالص، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظًا ومعنًى، {وَاجْعَلْهُ}؛ أي: الولد الموهوب لي يا {رَبِّ رَضِيًّا}؛ أي: مرضيًا عندك قولًا وفعلًا، وتوسيط (¬2) {رَبِّ} بين مفعولي الجعل، كتوسيطه بين كان وخبرها فيما سبق لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه .. فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته. واعلم: أن الله تعالى لا يمكن العبد من الدعاء إلا لإجابته كلاً أو بعضًا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) روح البيان.

[7]

كما وقع لزكريا - عليه السلام - وفي الحديث: "من فتح له باب الدعاء .. فتحت له أبواب الرحمة" ومعنى الآية؛ أي: أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدًا من صلبي، يرث الحبورة مني ويرث من آل يعقوب ملكهم وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذٍ ويكون برًا تقيًا مرضيًا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمته. ونحو الآية قوله تعالى في سورة آل عمران حكايةً عنه: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقوله في سورة الأنبياء: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)}. والحاصل: أن زكريا - عليه السلام - قد عرف ببعض الإمارات، أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم في الشر والفساد، فخافهم أن يغيروه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبًا من صلبه يقتدى به في إحيائه، وينهج نهجه فيه، فدعا بهذا الدعاء، ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه، وتولى تسمية الولد بنفسه، فقال: {يَا زَكَرِيَّا} وفي الكلام حذف تقديره؛ أي: فاستجاب له دعاءه، فقال بوساطة الملك، يا زكريا، كما قال في سورة آل عمران، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} 7 - {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ}؛ أي: بولد ذكر يرث العلم والنبوة في حياتك، فإنه قتل قبل موت أبيه، وبين هذه البشارة ووجود الغلام في الخارج بالفعل، ثلاث عشرة سنة كما تقدم في سورة آل عمران، وإن طلب زكريا للولد والبشارة به كان في صغر مريم وهي في كفالته، وإن الحمل بيحيى كان مقارنًا للحمل بعيسى، وكانت مريم إذ ذاك بنت ثلاث عشرة سنة، وتقدم أَن أشاع حملت بيحيى قبل حمل مريم بعيسى بستة أشهر. اهـ. شيخنا. والبشارة بكسر الباء: الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر {اسْمُهُ يَحْيَى} سمي به لإحيائه رحم أمه بعد موته بالعقم، أو لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، وتولّى الله تسميته بنفسه تشريفًا له. {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ}؛ أي: ليحيى {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل ولادته {سَمِيًّا}؛ أي: شريكًا له في هذا الاسم، حيث لم

[8]

يكن قبل يحيى أحد يسمى بيحيى، وقيل؛ أي: شبيهًا في الفضل والكمال، فإنه لم يعص، ولم يهم بمعصية من حال الصغر، وأنه صار سيدَ الشهداء على الإطلاق، والأظهر (¬1): أن يحيى أعجمي، وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل، كيعمر ويعيش، وهذا شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمّى وإياها كانت العرب تعني لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النير. وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمَّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين (¬2): الأولى: أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين. والجهة الثانية: أن تسميته باسم لم يوضع لغيره، يفيد تشريفه وتعظيمه 8 - {قَالَ} زكريا، استئناف بياني على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا حينئذ، فقيل: قال: {رَبِّ} ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه، بتوسط الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة، والجد في التبتل إليه تعالى، والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه بما صدر منه متوقف على توسطه، كما أن علم البشر بما يصدر عنه سبحانه، متوقف على ذلك في عامة الأوقات {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}؛ أي: كيف يكون لي غلام!؟ أو من أين يحدث لي غلام!؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من قدرة الله تعالى، وبديع صنعه، حيث يخرج ولدًا من امرأة عاقر، وشيخ كبير، {و} الحال أنه قد {كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}؛ أي: لم تلد في شبابها وشبابي، فكيف وهي عجوز الآن {وَقَدْ بَلَغْتُ} أنا {مِنَ الْكِبَرِ}؛ أي: من أجل كبر السن {عِتِيًّا}؛ أي (¬3): يبوسةً وجفافًا، كالعود اليابس، من قولهم عتا العود إذا يبس، وعتا الشيخ إذا كبر وهرم وولى، ويقال لكل شيء انتهى قد عتا، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافًا بأن المؤثر فيه كمال قدرته، وأن الوسائط عند التحقيق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

ملغاة، فـ {أَنَّى} استعجاب واستبعاد من حيث العادة لا من حيث القدرة. وقرأ أبو بحرية، وابن أبي ليلى، والأعمش، وحمزة، والكسائي: {عِتِيًّا} و {بكِيًّا} و {صِلِيًّا} بكسر أوائلها، ووافقهم حفص عن عاصم، إلا في قوله: {بكِيًّا} فإنه ضم أوله، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم أوائلها، وقرأ عبد الله: {عِتِيًّا} و {صِلِيًّا} بفتح العين والصاد، وعن عبد الله ومجاهد {عسيا} بضم العين والسين. قال الإمام (¬1): فان قيل: لم تعجَّب زكريا بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} مع أنه طلبه؟ قلنا: تعجب من أن يجعلهما شابين، ثم يرزقهما الولد، أو يتركهما شيخين، ويلدان مع الشيخوخة، يدل عليه قوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}؛ أي: أعدنا له قوة الولادة. انتهى. وفي "الأسئلة المقحمة": أراد من التي يكون منه هذا الولد، أمن هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها، أو مملوكة؛ أي: ومن أي وجه يكون لي ذلك، وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء، أبأن تقويني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجي ولودًا، وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجًا غير تلك العاقر؟. وخلاصة ذلك: أنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبلها الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك، وكيف يكون منه الإنكار لذلك، وهو المبتدىء مسألة ربه بقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}؟. وإجمال المعنى: أنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد، وفرح فرحًا شديدًا، وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا؛ أي: يبس عظمه ونحل، ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنه يقول: إني حين كنت شابًا وكهلًا لم أرزق الولد، لاختلال أحد السببين، وهو: عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟ 9 - ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله: {قَالَ} الله سبحانه وتعالى الأمر: {كَذَلِكَ}؛ أي: كما قلنا لك من خلق ولد من بينكما، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة؛ أي: أمرنا وشأننا ذلك الذي قلنا لك وهذا تصديق له. ثم علل هذا بقوله: {قَالَ رَبُّكَ}؛ أي: قال ربك الذي عودك الإحسان {هُوَ}؛ أي: خلق ولد منكما على هذه الحال {عَلَيَّ هَيِّنٌ}؛ أي: سهل علي خاصةً، وإن كان في العادة مستحيلًا، فإني إذا أردت شيئًا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة، وهذه الجملة مقررة للوعد المذكور بقوله: {قَالَ كَذَلِكَ} دالة على إنجازه، وقرأ (¬1) معاذ القاريّ، وعاصم الجحدري. {هين} بإسكان الياء، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} يا زكريا {مِنْ قَبْلُ} يحيى في تضاعيف خلق آدم. {وَلَمْ تَكُ} يا زكريا إذ ذاك {شَيْئًا} موجودًا أصلًا بل عدمًا صرفًا، فخلق يحيى من البشرين، أهون من خلقك مفردًا والمراد خلق آدم؛ لأنه أنموذج مشتمل على جميع الذرية، قال الإِمام: وجه الاستدلال بقوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} الخ. أن خلقه من العدم الصرف، خلق للذات والصفات، وخلق الولد من شيخين لا يحتاج إلا إلى تبديل الصفات، والقادر على خلق الذات والصفات، أولى أن يقدر على تبديل الصفات. انتهى. وخلاصة ذلك: أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر بأن يكون قادرًا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد، كما قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

[10]

يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} وقرأ الجمهور (¬1): {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} بتاء المتكلم وقرأ الأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: {خلقناك} بنون العظمة، وقال الزمخشري: وإنما قال: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئًا يعتد به. 10 - ثم أخبر سبحانه: أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشر به، ليطمئن قلبه بما وعد به، لا لتوقف عن صدق ما وعد به، ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله، لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك {قَالَ} زكريا {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}؛ أي: علامةً على تحقق المسؤول في زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفي في مبدئه، ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها، إلا أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها، ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال: {قَالَ} الله سبحانه {آيَتُكَ}؛ أي: علامتك على وجود المبشر به، وحصول الحمل {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ}؛ أي: أن لا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف في محاوراتهم ومخاطباتهم، مع القدرة على التسبيح والذكر، كما هو المفهوم من تخصيص الناس {ثَلَاثَ لَيَالٍ} مع أيامها وإنما قيدنا بالأيام؛ لأن الليالي الثلاث قد تكون من يومين، لأن الليل سابق على النهار، فحينئذٍ يحصل التعارض بين ما هنا وبين الآية الأخرى، وإنما عبر هنا بالليالي وهناك بالأيام؛ لأن هذه السورة مكيّة، والمكي سابق على المدني والليل سابق على النهار، فأُعطي السابق للسابق، وسورة آل عمران مدنية، والمدني متأخر عن المكي، والنهار متأخر عن الليل، فأعطى المتأخر للمتأخر سلوكًا مسلك التناسب، ذكره في "الفتوحات". حالة كونك {سَوِيًّا}؛ أي: سوي الخلق تامه، سليم الجوارح صحيحها، ليس بك علة ولا مرض ولا شائبة بكم ولا خرس؛ أي: علامتك امتناعك من كلامهم حالة كونك صحيحاً سليمًا، قالوا: رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها، ووقع الولد في رحمها فلما أصبح امتنع عليه الكلام مع الناس 11 - {فَخَرَجَ} زكريا صبيحة حمل امرأته {عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}؛ أي: من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[12]

المصلى، أو من الغرفة، والمحراب هنا: هو المسمى (¬1) عند أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة، يكون من فيه محجوبًا عمن في المعبد؛ أي: خرج عليهم من المحراب متغير اللون، منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس، وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب إذ كانَ من عادتهم أن يصلوا معه صلاتي الغداة والعشي في محرابه، فأنكروه صامتًا، وقالوا: مالك يا زكريا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}؛ أي: أشار إليهم لقوله تعالى: {إِلَّا رَمْزًا}؛ أي: أومأ زكريا إلى قومه برأسه ويده {أَنْ سَبِّحُوا} أن إما مصدرية أو مفسرة، لأوحى، والمعنى؛ أي: صلوا أو بأن صلوا {بُكْرَةً}؛ أي: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، {وَعَشِيًّا}: هو من وقت زوال الشمس إلى أن تغرب وهما ظرفا زمان التسبيح، وعن أبي العالية: أن المراد بها صلاة الفجر، وصلاة العصر، أو سبحوا ربكم ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص، طرفي النهار، وقولوا: سبحان الله، ولعله (¬2) كان مأمورًا بأن يسبح شكرًا، ويأمر قومه بذلك، كما في "الإرشاد". يقول الفقير: هو الظاهر لأن معنى التسبيح في هذا الموضع تنزيه الله تعالى عن العجز عن خلق ولد يُستبعد وقوعه من الشيخين؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، وقد ورد في "الأذكار": "لكل أُعجوبة سبحان الله" وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذر عليه الكلام .. أشار إليهم بحصول ما بشر به من ذلك الأمر العجيب في مجرى العادة فسروا به. وقرأ طلحة (¬3): {أَنْ سَبِّحُوا} بهاء الضمير عائدة على الله تعالى، وروى ابن غزوان عن طلحة: {أن سبحن} بنون مشددة من غير واو، ألحق فعل الأمر نون التوكيد الثقيلة، 12 - وقوله: {يَا يَحْيَى} على إرادة القول؛ أي: ووهبنا له يحيى، وقلنا له بعدما بلغ سنًا يؤمر فيه مثله يا يحيى {خُذِ الْكِتَابَ}؛ أي: خذ التوراة التي هي نعمة الله علي بني إسرائيل {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد واجتهاد وحرص على العمل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[13]

بها، ثم وصفه الله تعالى بصفاتٍ كلها مناهج للخير، ووسائل للطاعة: 1 - {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: وأعطينا يحيى {الْحُكْمَ}؛ أي: الفهم في التوراة، والفقه في الدين، والإقبال على الخير حالة كونه {صَبِيًّا}؛ أي: صغيرًا لم يتم سبع سنين، وروي: أنه - عليه السلام - دعاه الصبيان إلى اللعب فقال: ما للّعبِ خُلقنا، اذهبوا بنا نصلي، وعن بعض السلفِ: من قرأ القرآن قبل أن يبلغ، فهو ممن أوتي الحكم صبيًا، وقال ابن عباس: الحكم: النبوة، استنبأه الله تعالى وهو ابن ثلاث سنين أو سبع، وإنما سمِّيت النبوة حكمًا لأن الله تعالى أحكم عقله في صباه، وأوحي إليه. 2 - 13 وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} معطوف على الحكم وتنوينه للتفخيم، وهو في الأصل التحنن والاشتياق، يقال: حن؛ أي: ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة؛ أي: وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه، كائنة من جنابنا، أو رحمة في قلبه، وشفقةً على أبويه وغيرهما. أو المعنى (¬1): أي وجعلناه ذا حنانٍ وشفقة على الناس، وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. 3 - {وَزَكَاةً}؛ أي: وآتيناه طهارةً من الدنس، وبعدًا من اجتراح الذنوب والآثام، قال الإِمام: لم تدعه شفقته إلى الإخلال بواجب؛ لأن الرأفة ربما أورثت ترك الواجب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فالمعنى: جمعنا له التعطف عليهم مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات انتهى. أو جعلناه صدقةً؛ أي: تصدق الله به على أبويه، أو وفقناه للتصدق على الناس. 4 - {وَكَانَ} يحيى {تَقِيًّا}؛ أي: مطيعًا لما أمر به، ومتجنبًا عن المعاصي لم يعمل خطيئةً قط، ولم يهم بها، ومن جملة تقواه: أنه كان يتقوت بالعشب، وكان كثير البكاء، فكان لدمعه مجار على خده. اهـ شيخنا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[14]

5 - 14 {و} كان {بَرًّا بِوَالِدَيْهِ} عطف على تقيًا؛ أي: برًا بهما، لطيفًا بهما، محسنًا إليهما، والمعنى؛ أي: كان كثير البر بهما، والإحسان إليهما، والحدب عليهما، بعيدًا عن عقوقهما قولًا وفعلًا، وقد جعل الله طاعة الوالدين في المرتبة التي تلي مرتبة طاعته فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقرأ (¬1) الحسن، وأبو جعفر في رواية، وأبو نهيك، وأبو مجلز: {وبراً} في الموضعين بكسر الباء؛ أي: وذا برّ. 6 - {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا}؛ أي: ولم يكن يحيى متكبرًا على الناس، بل كان لين الجانب، متواضعًا لهم، وقد أمر الله سبحانه نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} ووصفه بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد .. صار مبعدًا من رحمة ربه، وقال في "بحر العلوم (¬2) ": الجبار المتكبر، وقيل: هو الذي يضرب ويقتل على الغضب، لا ينظر في العواقب وقيل: هو المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله. اهـ. 7 - ولم يكن: {عَصِيًّا}؛ أي: عاصيًا لربه، مخالفًا له فيما أمر به ونهى عنه، عاقًا بوالديه 15 - ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح، وأسلف من طاعة ربه، فقال: {سَلَامٌ}؛ أي: سلامة من الله تعالى وأمان {عَلَيْهِ}؛ أي: على يحيى، أصله (¬3): وسلمنا عليه في هذه الأحوال الثلاثة، وهي أوحش المواطن، لكن نقل إلى الجملة الاسمية، للدلالة على ثبات السلام واستقراره، فإن وحشتها لا تكاد تزول إلا بثبات السلام فيها ودوامه {يَوْمَ وُلِدَ} وخرج من رحم أمه، من طعن الشيطان كما يطعن سائر بني آدم {وَيَوْمَ يَمُوتُ} بموت الطبيعي، من هول الموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه {وَيَوْمَ يُبْعَثُ} من القبر حال كونه {حَيًّا} من هول القيامة وعذاب النار، والمعنى (¬4): وتحية من الله عليه أول ما يرى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) السمرقندي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[16]

الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار، وإنما خص هذه المواضع الثلاثة لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيه, لضعفه، وحاجته، وقلة حيلته، وأفتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به. 16 - {وَاذْكُرْ} يا محمد للناس {فِي الْكِتَابِ}؛ أي: في القرآن وفي هذه السورة الكريمة، فإنها بعض من الكتاب، فصح إطلاقه عليها {مَرْيَمَ}؛ أي: خبر مريم بنت عمران وقصتها، فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان، ومريم بمعنى العابدة. فائدة: قال بعض العلماء (¬1) في حكمة ذكر مريم في القرآن باسمها دون غيرها من النساء: إن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسماءَهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن، ولم يصونوا أسماءَهن عن الذكر والتصريح بها، فلما قالت النصارى في حق مريم ما قالت وفي ابنها .. صرح الله تعالى باسمها ولم يكنّ عنها تأكيداً للأمة والعبودية التي هي صفة لها، وإجراءً للكلام على عادة العرب في ذكر إمائها، ومع هذا فإن عيسى - عليه السلام - لا أب له، واعتقاد هذا واجب، فإذا تكرّر ذكرهُ منسوبًا إلى الأم .. استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود - لعنهم الله تعالى - كذا في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي. وقال في "أسئلة الحكم": سميت مريم (¬2) في القرآن باسمها لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل، فزكرت باسمها كما يذكر الرجال، من موسى وعيسى ونحوهما - عليهم السلام - وخوطبت كما خوطب الأنبياء، كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} ولذا قيل بنبوتها، وقوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ} وابتعدت، ظرف لذلك المضاف المقدر، من النبذ وهو الطرح، والانتباذ انفعال منه {مِنْ أَهْلِهَا}؛ أي: من قومها متعلق بانتبذت {مَكَانًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[17]

شَرْقِيًّا} مفعول به لانتبذت، باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان؛ أي: مكانًا في الدار، مما يلي الشرق، والشرق: بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس عند الطلوع، وإنما (¬1) خص المكان بالشرق؛ لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق، لأنها مطلع الأنوار. حكى معناه ابن جرير. ومن ثمة اتخذ النصارى المشرق قبلةً، كما اتخذ اليهود المغرب قبلةً؛ لأن الميقات وإيتاء التوراة واقعان في جانب الجبل الغربي، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}. والمعنى: أي (¬2) واذكر يا محمد لقومك قصة مريم بنت عمران، حين اعتزلت وانفردت وتباعدت من قومها، فأتت مكانًا شرقيًا من دار خالتها إيشاع، زوجة زكريا فإن موضعها كان المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد، فاحتاجت يومًا إلى الاغتسال، وكان الوقت وقتا الشتاء، فجاءت إلى ناحيةٍ شرقيةٍ من الدار، وموضع مقابل للشمس؛ لأن ذلك اليوم كان شاتيًا، شديدَ البرد. 17 - {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ}؛ أي: فأرخت من أدنى مكان أهلها {حِجَابًا}؛ أي: سترًا تتستّر به حال التطهر من الحيض؛ أي: أرخت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها عنهم، لئلا يروها حال التطهر من الحيض، فبينما هي في مغتسلها وقد تطهرت ولبست ثوبها .. أتاها الملك في صورة آدميٍّ شابٍّ أمرد، وضيىء الوجه، جعد الشعر، وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا}؛ أي: إلى مريم في مغتسلها ذلك {رُوحَنَا}؛ أي: رسولنا جبريل - عليه السلام - فإنه كان روحانيًا، فأطلق عليه الروح للطافته مثله، ولأن الدين يحيى به {فَتَمَثَّلَ لَهَا}؛ أي: فتصور وتشبه لأجلها وانتصاب قوله: {بَشَرًا} على أنه مفعول به؛ أي: تشبه لأجلها آدميًا {سَوِيًّا}؛ أي: تام الخلق، كامل البنية، لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئًا، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[18]

وقيل: تمثل لها في صورة تِرْبٍ لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه، ولم تستطع استماع كلامه، ولأنه جاء للنفخ المنتج للبشر فتمثل بشرًا، ولو جاء على صورة الملك لجاء عيسى على صورة الروحانيين كما لا يخفى، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ القربان بعد الطهر التام أطهر والولد إِذن أنجب، فافهم. وقرأ أبو حيوة وسهل (¬1): {روحنا} بفتح الراء؛ لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}؛ أي: مقربنا وذا روحنا، وذكر النقاش: أنه قرىء: {روحنا} بتشديد النون: اسم ملك من الملائكة، 18 - فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق، قد خرق عليها الحجاب .. ظنت أنه يريدها بسوءٍ فاستعاذت بالله منه و {قَالَتْ}؛ أي: مريم {إِنِّي أَعُوذُ} وأتحصن وامتنع {بـ} عصمة {بِالرَّحْمَنِ مِنْ} شر {ك} يا شاب، ذكره (¬2) تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها، قال في "الكشاف": دل على عفافها وورعها، أنها تعوذت الله من تلك الصورة الجميلة {إِنْ كُنْتَ} أيها الشاب {تَقِيًّا} تتقي الله وتبالي الاستعاذة به، وقيل (¬3): إن {تَقِيًّا}: اسم رجل صالح، فتعوذت منه تعجبًا، وقيل: إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، يتبع النساء، فظنت مريم أنَّ ذلك المشاهد هو ذلك المتقي، فمن ذلك تعوذت منه، وخصت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه، والأول أولى، وجواب الشرط: محذوف ثقةً بدلالة السياق عليه؛ أي: فإني عائذة به أو فلا تتعرض. والمعنى: أي فلما رأته فزعت منه وقالت: إني أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرم الله عليك، إن كنت ذا تقوى له، تتقي محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله .. يجتنب ذلك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[19]

وإجمال المعنى؛ أنه لما تبدى لها في صورة البشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب .. خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: إني أعوذ بالله منك، إن كنت تخافه، وقد فعلت المشروع في الدفع، وهو أن يكون بالهوينى، والأسهل فالأسهل. وخلاصة ذلك: أن الاستعاذة لا تؤثر إلا في المتقي؛ لأن الله تعالى يخشى في حال دون حال، فهو كقوله تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: إن الإيمان يوجب ذلك، 19 - فلما علم جبريل خوفها .. {قَالَ} مجيبًا لها، ومزيلًا لما حصل لها من الخوف على نفسها {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} الناظر في مصلحتك، والمالك لأمرك، ولست ممن تظنّين، ولا يقع مني ما تتوهمين من الشر، ولكن رسول ربك، بعثني إليك. {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}؛ أي: ولدًا طاهرًا مبرأً من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده، بأن نفخ في جيبها بأمر الله تعالى، أو لكونه سببًا فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، والزكي: الطاهر من الذنوب، الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل: المراد بالزكي: النبي. وقرأ شيبة (¬1)، وأبو الحسن، وأبو بحرية، والزهري، وابن مناذر، ويعقوب، واليزيديّ، ومن السبعة نافع، وأبو عمرو: {ليهب}؛ أي: ليهب ربك وقرأ الجمهور، وباقي السبعة، {لِأَهَبَ} بهمزة المتكلم 20 - فلما عجبت مريم مما سمعت .. {قَالَتْ} مستبعدةً متعجبةً من حيث العادة، لا مستبعدةً من حيث القدرة؛ أي: قالت لجبريل: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}؛ أي: من أي وجه يكون لي ولد كما وصفت {و} الحال أني {لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؛ أي: لم يباشرني، ولم يقربني رجل بنكاح، ولست بذات زوج {و} الحال أَني أيضًا {لَمْ أَكُ بَغِيًّا}؛ أي: فاجرةً تبغي الرجال، ولا يتصور منِّي الفجور، تريد أنَّ الولد إما أن يكون من نكاح، أو سفاح ولم يكن هاهنا واحد منهما, ولم يقل (¬2) بغية؛ لأنه وصف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[21]

غالب على المؤنث، كحائض؛ أي: فاجرة تبغي الرجال، يريد نفي الوطأ مطلقًا وأن الولد إما من النكاح الحلال أو الحرام، أما الحلال فلأنها لم يمسها بشر، وأما الحرام فلأنها لم تك بغيًا، فإذا انتفى السببان جميعًا .. انتفى الولد. 21 - {قَالَ} جبريل مجيبًا لها عما سألت {كَذَلِكِ}؛ أي: الأمر كما قلت لك من هبة الولد لك، أو الأمر كما قلت (¬1) لي من أنه لم يمسسمك رجل نكاحًا أو سفاحًا ولكن {قَالَ رَبُّكِ} ومالك أمرك الذي أرسلني إليك {هُوَ}؛ أي: هبة الولد لك، وخلقه منك من غير أن يمسك بشر أصلًا {عَلَيَّ} خاصةٌ {هَيِّنٌ}؛ أي: سهل وإن كان مستحيلًا عادةً؛ لأني لا أحتاج إلى الوسائط. والمعنى (¬2): أي قال الملك مجيبًا لها عما سألت إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام، ولم تكوني ذات بعلٍ ولا تقترفين فاحشةً، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج في إنشائه إلى المواد والآلات، ونحو الآية قوله في سورة آل عمران: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ} معطوف على علةٍ محذوفة لمعلول محذوف، تقديره: فعلنا ذلك لنبين به قدرتنا، ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب {آيَةً لِلنَّاسِ}؛ أي: برهانًا يستدلون به على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، أو علة لمعلول محذوف متأخر، تقديره؛ أي: ولنجعله آيةً للناس خلقناه. والمعنى: وفعلنا ذلك لنجعل خلقه من غير أبٍ برهانًا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى من غير ذكر، وخلقنا حواء من ذكر من غير أنثى، وخلقنا بقية بني آدم من ذكر وأنثى، فجمله أنواع خلق البشر أربعة، وإلى الأولين أشار القائل: ألاَ رُبَّ مَوْلُوْدٍ وَلَيْسَ لَهُ أبُ ... وَذِيْ وَلَدٍ لَمْ يَلِدْهُ أَبَوَانِ وقوله: {وَرَحْمَةً مِنَّا}: معطوف على {آيَةً}؛ أي: وخلقناه لنجعله رحمةً ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

[22]

عظيمةً كائنةً منا للناس، لما يناله منه من الهداية، والخير الكثير؛ لأن كل نبي رحمةٌ لأمته لأنه يدعوهم إلى توحيده وعبادته {وَكَانَ} خلقه بلا فحلٍ {أَمْرًا مَقْضِيًّا} قضيت به في سابق علمي، وحكمت بوقوعه لا محالة، فيمتنع خلافه، فلا فائدة في الحزن لأنه لا يبدّل ولا يغيّر {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)}. 22 - قوله: {فَحَمَلَتْهُ} قبله كلام مطوي والتقدير: فلما قال لها جبريل ما قال .. استسلمت لقضاء لله، واطمأنت إلى قوله، فدنا منها فنفخ في جيب درعها - الفتحة التي في القميص من الأمام - فوصلت النفخة إلى بطنها، فحملته، قاله ابن عباس، وقيل (¬1): كانت النفخة في ذيلها، وقيل: في فمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} ولم يعين موضع النفخة، فلا نجزم بشيء من ذلك إلا بالدليل القاطع، قيل: إن وضعها كان متصلًا بهذا الحمل، من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله: {فَانْتَبَذَتْ} أبتعدت واعتزلت وتنحت من الناس {بِهِ}؛ أي: بالذي حملته، وهو عيسى - عليه السلام - حيث أتى بفاء التعقيب، وقيل (¬2): كانت مدة العمل ثلاث ساعات، وقيل حمل في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، كما قاله أبو العالية، والضحاك، وعطاء، وقيل: ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وضع لثمانية أشهر إلا عيسى، وهذه أقوال مضطربة متناقضة، كان ينبغي أن يضرب عنها صفحًا، إلا أن المفسرين ذكروها وسودوا بها الورق. والقرآن الكريم لم يعيق مدة العمل، ولا حاجة إليها في العبرة، فنقول: إنها كانت كما يكون غيرها من النساء، إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة؛ لأنه قيل: كانت بنت أربع عشرة سنة، وقيل: بنت خمس عشرة سنة، وقيل: بنت ثلاث عشرة، وقيل: بنت اثنتي عشرة سنة، وقيل: عشر سنين: وقيل: بعد أن حاضت حيضتين. {مَكَانًا قَصِيًّا}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[23]

أي: مكانًا قصيًا بعيدًا عن أهلها، قيل: كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل: أبعد مكان في تلك الدار، وقيل: أقصى الوادي وقيل: إنها فرت إلى مصر: وقيل: إلى موضع يعرف ببيت لحم، بينه وبين إيلياء أربعة أميال، ولا حاجة إلى تعيينه، وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة {قاصيا} ذكره ابن الجوزي. وإنما اتخذت المكان البعيد حياءً من قومها، وهي من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم باتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم، وأن لا يروها. قال وهب بن منبه (¬1): لما حملت مريم بعيسى .. كان معها ابن عم لها، يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد، ولا يُعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادةً منهما، وأوَّل من علم حمل مريم هو يوسف، فتحيَّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها .. ذكر عبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعةً قط، وإذا أراد أن يبرئها .. رأى الذي ظهر بها من الحمل، فأول ما تكلم به أن قال: قد وقع في نفسي من أمرك شيء، وقد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل: قولًا جميلاً، قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر، وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر، قالت: نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث، وبالقدرة جعل الغيث حياةَ الشجرة، بعدما خلق كل واحد منهما على حدة، أو نقول: إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها، فقال يوسف: لا أقول هذا, ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون، فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى، فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه، وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل، وضيق القلب، 23 - فلما دنت ولادتها .. أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك، فخرجت إلى أقصى الدار {فَأَجَاءَهَا ¬

_ (¬1) الخازن.

الْمَخَاضُ}؛ أي: فألجأها وجع الولادة وأم الطلق، يقال: جاء بها، وأجاءها، فهو تعدية جاء بالهمزة، ويقال: مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج. وقرأ الجمهور (¬1): {فَأَجَاءَهَا}؛ أي: ساقها واضطرها، وقال الشاعر: وجَارٌ سَارَ مُعْتَمِدَاً إِلَيْكُم ... أَجَاءَتْهُ المَخَافَةُ والرَّجَاءُ وأمال فتحة الجيم الأعمش، وطلحة، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم: قال ابن عطية، وشبيل بن عزرة: {فاجأها} من المفاجاة، وقال صاحب "اللوامح" شبيل بن عزرة: {فاجأها} فقيل: هو من المفاجاة، بوزن فاعلها وروي عن مجاهد: كقراءة حماد عن عاصم، وقرأ (¬2) عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري {المِخَاض} بكسر الميم؛ أي: فالجأها واضطرها وجه الولادة أن تستند {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}؛ أي: إلى (¬3) أصل نخلة يابسة، لا رأس لها للتشبث به، لتسهل الولادة، كما أن الحامل تتعلق لشدة وجع الولادة بشيء مما تجد عندها، وكان الوقت شتاءً شديد البرد، فلما اعتمدت عليه بصدرها أخضر، وأطلع الجريد والخوص والثمر رطبًا في وقت واحد، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد، وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء، فهو خرسة لها. والخرسة بالتاء: طعام النفساء، وبدونها طعام الولادة، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرًا على الأرض، ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت، فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح، ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراح.

والجذع ما بين العرق والغصن؛ أي: أسفلها ما دون الرأس الذي عليه الثمر {قَالَتْ} مريم لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيضع في المعصية من يتكلم فيها، وهي راضية بما بشرها به جبريل: {يَا}؛ أي: أنبهك يا أيها المخاطب، أو يا هؤلاء {لَيْتَنِي مِتُّ}؛ أي: أتمنى موت نفسي {قَبْلَ هَذَا} الوقت الذي رأيت فيه ما رأيت من الأمر العظيم، وقرأ (¬1) نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي: {مِتُّ} بكسر الميم، والباقون بالضم {وَكُنْتُ نَسْيًا}؛ أي: شيئًا تافهاً حقيرًا، شأنه أن ينسى، ولا يعتد به أصلًا، كخرقة الطمث ونحوها، وقرأ حفص، وحمزة، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى: بفتح النون، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، والكسائي: بكسر النون، وهو فعل بمعنى مفعول، كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح، وقرأ محمد بن كعب القرظي {نساءً} بكسر النون والهمز مكان الياء، وهي: قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي، ومحمد بن كعب، أيضًا: {نسأ} بفتح النون والهمزة، وهو مصدر من نسأت اللبن، إذا صببت عليه ماءً، فاستهلك اللبن فيه لقلته، فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن، الذي لا يرى ولا يتميز من الماء، وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب {نسأ} بفتح النون والسين من غير همز، بناه على فعل كالقبض والنقض، بمعنى المقبوض والمنقوض {مَنْسِيًّا}؛ أي: متروكًا لا يخطر ببال أحد من الناس، وهو نعت للمبالغة. وهذا جري على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم (¬2)، فإنهم يقولون مثل ذلك، كما روي عن أبي بكر: أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر، تقع على الشجرة وتأكل من الثمر، وددت أني ثمرةٌ ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئًا. وعن علي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[24]

أنه قال يوم الجمل: يا ليتني من قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالًا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش، وأبو جعفر في رواية (¬1): {منسيا} بكسر الميم إتباعًا لحركة السين، كما قالوا: منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء. 24 - {فَنَادَاهَا}؛ أي: فنادى جبريل مريم {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت مريم من مكان أسفل منها، تحت الأكمة، حين سمع جزعها؛ لأن عيسى لم يتكلم حتى أتت به قومها، وقال في (¬2) القصص من تحت النخلة، أو فناداها (¬3) عيسى - عليه السلام - كما قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير: وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبًا لقلبها، وإزالةً للوحدة عنها، حتى تشاهد بادىء ذي بدءٍ علو شأن ذلك المولود الذي بشرها جبريل به. وقرأ ابن عباس (¬4): {فناداها ملك من تحتها} وقرأ البراء بن عازب، وابن عباس، والحسن، وزيد بن علي، والضحاك، وعمرو بن ميمون، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص {مِنْ تَحْتِهَا} بكسر الميم والتاء حرف جر، وقرأ الابنان: ابن كثير، وابن عامر، والأبوان: أبو عمرو، وأبو بكر، وعاصم وزر ومجاهد، والجحدري، والحسن، وابن عباس في رواية عنهما: {مَنْ تحتَها} بفتح الميم والتاء بمعنى الذي، وتحت: ظرف منصوب صلة لـ (من)، قال ابن الجوزي (¬5): فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان: أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة، وقيل: كانت على نشز فناداها الملك أسفل منها. والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كل ما رفعت إليه طرفك فهو فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك فهو تحتك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط وزاد المسير. (¬5) زاد المسير.

ومن قرأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران، وكان الفراء يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعًا. انتهى. {أَلَّا تَحْزَنِي} أن إما مفسرة للنداء؛ أي: لا تحزني يا مريم بولادة عيسى وبمكان القحط، أو لا تحزني يا أمي، أو مصدرية على حذف الباء؛ أي: بأن لا تحزني والحزن (¬1): غم يلحق لوقوعه من ذوات نافع، أو حصول ضار {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ} المحسن إليك {تَحْتَكِ}؛ أي في مكان أسفل منك، أو قريب منك، أو تحت ذيلك {سَرِيًّا}؛ أي: نهرًا صغيرًا، أو غلامًا رفيع الشأن، سامي القدر، ذا سخاء في مروءةٍ. قال جمهور المفسرين (¬2): السري: النهر الصغير, والمعنى قد جعل ربك تحت قدمك نهرًا، قيل: كان نهرًا قد انقطع عنه الماء فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس، الذي اعتمدت عليه، حتى أورق وأثمر، وقيل: المراد بالسريّ هنا عيسى، والسريّ العظيمُ من الرجال، ومنه قولهم: فلان سريّ؛ أي: عظيم، ومن قومٍ سراةٍ؛ أي: عظام. والمعنى على قراءة {مِنْ} الجازَة: فناداها (¬3) جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة؛ أي: لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريبًا منك، نهرًا صغيرًا، أو إنسانًا شريفًا جليلًا، ويدل على ذلك قراءة من قرأ: {فناداها ملك من تحتها} أو ناداها المولود كائنًا من تحت ذيلها؛ أي: لا تحزني يا أمي قد جعل ربك تحتك جدولًا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيًا مرتفعَ القدر، وعلى قراءة: {مَنْ} الموصولة فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها؛ أي: لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسًا عزيزًا، لا يكاد يوجد له نظير، أو جدولًا بضرب جبريل الأرض برجله، أو فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة، بأن لا تحزني قد جعل ربك قربك عين ماء عذب، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

[25]

تعظيمًا لشأنك، فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات، كما أرسل إليها في أول الأمر، ليكون ذلك تذكيرًا لها ما تقدم من أصناف البشارات. أو يقال: إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته، تطييبًا لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل، من علو شأن ذلك المولود، كما قال الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: إن عيسى - عليه السلام - لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام. 25 - {وَهُزِّي إِلَيْكِ}؛ أي: حركي وأميلي {إِلَيْكِ}؛ أي: إلى جهتك يا مريم {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}، أي: جذع النخلة، فالباء صلة للتأكيد، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ أي: حركي أصل النخلة تحريكًا عنيفًا إلى جهتك {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ}؛ أي: تسقط النخلة {عَلَيْكِ} إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز. {رُطَبًا}؛ أي: بسرًا ناضجًا {جَنِيًّا}؛ أي: صالحًا للأجناء، والجني فعيل بمعنى مفعول؛ أي: رطبًا مجنيًا؛ أي: صالحًا للاجتناء، قد بلغ الغاية، قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل. والمعنى: أي (¬1) أميلي إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبًا جنيًا تأكلين منه ما تشائين، وتلك آية أخرى لها، روي أنها كانت نخلةً يابسةً لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاءً، فأنزل الله لها رزقًا، فجعل للنخلة رأسًا وخوصًا، وجعل لها ثمرًا رطبًا، وهذه رواية يعوزها الدليل. وفي هذا إيماءٌ وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء، يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعي في الرزق مطلوب، ولا ينافي التوكل، ولله درّ القائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَوْحَى لِمَرْيَمِ ... وَهُزِّيْ إِلَيْكِ الْجِذع يُسَاقِطِ الرُّطَبْ وَلَوْ شَاءَ أحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ ... إِلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ ¬

_ (¬1) المراغي.

[26]

وقرأ ابن كثير (¬1)، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {تَسَّاقَط} بفتح التاء والسين وشدها بعدها ألف وفتح القاف، وقرأ حمزة، والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، ومسروق {تساقط} كذلك إلا أنهم خففوا السين وقرأ حفص عن عاصم: {تُسَاقِطْ} بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، مضارع ساقطت، وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضل، والبراء بن عازب، والأعمش في رواية: {يساقط} بالياء مفتوحةً وتشديد السين وفتح القاف، فهذه القراءات المشاهير، وقرأ أبي بن كعب، وأبو حيوة، ومسروق: {تسقط} بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف، وعن أبي حيوة كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعنه أيضًا: {تسقط} بالتاء من فوق مفتوحةً وضمّ القاف، وعنه كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه: أنه قرأ: {رطب جني} بالرفع على الفاعلية، وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حزام: {تتساقط} بتاءَين مفتوحتين وبألف، وقرأ معاذ القارىء، وابن يعمر {نساقط} بالنون. وقال الزجاج (¬2): من قرأ {يساقط}. فالمعنى: يتساقط فادغمت التاء في السين، ومن قرأ {تساقط} .. فكذلك أيضًا، وأنَّث لأن لفظ النخلة يؤنث، ومن قرأ {تساقط} بالتاء والتخفيف .. فإنه حذف من تتساقط اجتماع التاءَين، ومن قرأ {يساقط} .. ذهب إلى معنى تساقط الجذع عليك، ومن قرأ {نساقط} بالنون .. فالمعنى: نحن نساقط عليك فنجعله لك آيةً، وقرأ (¬3) طلحة بن سليمان {جَنِيًّا} بكسر الجيم اتباعًا لحركة النون 26 - {فَكُلِي} يا مريم من ذلك الرطب {وَاشْرَبِي} من ماء النهر، أو فكلي من ذلك الرطب، واشربي من عصيره، وكان (¬4) ذلك إرهاصًا لعيسى، أو كرامةً لأمه، وليس معجزة لفقد شرطها وهو: التحدي كما في "بحر العلوم". قال الإِمام: وقدم الأكل على الشرب لأن حاجتها إليه أشد من حاجتها إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

الماء، لكثرة ما سأل منها من الدماء {وَقَرِّي عَيْنًا} أي وطيبي نفسًا، وبردي قلبك، وارفضي عنه ما أحزنك، وأهمك، فإن الله تعالى قد نزه ساحتك بالخوارق، من جرى النهر المنقطع، واخضرار النخلة اليابسة، وإثمارها قبل وقتها, لأنهم إذا رأوا ذلك، لم يستبعدوا ولادة ولد بلا فحل، واشتقاقه من القرار، فإن العين إذا رأت ما يسر النفس .. سكنت إليه من النظر إلى غيره، يقال: أقر الله عينيك؛ أي: صادف فؤادك ما يرضيك، فيقر عينك من النظر إلى غيره. والمعنى: أي طيبي نفسًا بولدك عيسى، فالعين إذا رأت ما يسر النفس .. يسكنت إليه من النظر إلى غيره، وإنّ دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولذلك يقال للمحبوب: قرة العين وللمكروه سخنة العين، فإن الله قدير أن ينزه ساحتك، ويبعد عنك تخرصات المبطلين، الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله تعالى الطريق للولادة في البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر، وقرأ الجمهور (¬1): {قَرِّي} بفتح القاف، وحكى ابن جرير: أنه قرىء بكسرها، قال وهي لغة نجدٍ. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}؛ أي: فإن تري أحدًا من البشر كائنًا من كان، فيسألك عن شأنك وشأن ولدك، و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط، وهي بمنزلة لام القسم في أنها إذا دخلت على الفعل .. دخلت معها النون المؤكدة {فَقُولِي} له باللسان أو فأشيري له بالأركان: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} وأوجبت على نفسي {لِلرَّحْمَنِ} سبحانه {صَوْمًا}؛ أي: صمتًا عن الكلام، أو صيامًا، وكان صيام المجتهدين في بني إسرائيل بالإمساك عن الطعام والكلام حتى يمسي، وقد نسخ في هذه الأمة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم الصمت. أي: قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} وصمتًا {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}؛ أي: آدميًا بعد أن أخبرتك بنذري، وإنما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

أكلم الملائكة وأناجي ربي، وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التّهمَة عنها, ولكراهة مجادلة السفهاء. والمعنى: أي فإن رأيت أحدًا من بني آدم يسألك عن أمرك وأمر ولدك وكيف ولدته .. فأشيري إليهم: أني أوجبت على نفسي لله صمتًا ألا أكلم اليوم أحدًا فإن كلامي يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عني هذا المولود، الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإني أنزه نفسي مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجي الخالق، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافهًا، وفي الآية إشارة إلى الصوم عن الالتفات لغير الله تعالى، كما قال بعض السلف الدنيا يوم ولنا فيه صوم، ولا يكون إفطار إلا على مشاهدة الهلال. والظاهر (¬1): أن الآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول هو ولدها، وقيل: جبريل - عليه السلام - على الخلاف المار، وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإِسلام، فقد روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم، فقال: إن الإِسلام قد هدّم هذا فتكلمي. وقرأ ابن عباس (¬2)، وأبو مجلز، وابن السميقع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: {ترئنَّ} بهمزة مكسورة من غير ياء، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه ابن رومي: {ترئن} بالإبدال من الياء همزةً وروي عنه: {لترؤن} بالهمزة أيضًا، بدل الواو، قال ابن خالويه: وهو عند أكثر النحويين لحن، وقرأ أبو جعفر، وشيبة: {ترين} بسكون الياء وفتح النون خفيفةً، قال ابن جني: وهي شاذة؛ يعني: لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون، وقرأ (¬3) أبي: {إني نذرت للرحمن صومًا صمتًا} بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس، وروي عنه أنه قرأ: {صومًا وصمتًا} بالواو. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

الإعراب {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}. {كهيعص (1)}: إن قلنا إنه من الأمور التي استأثر الله سبحانه بعلمها .. فلا محل له من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن المعنى، والمعنى لم يعرف، وإن قلنا: إنه علم على السورة .. فيجري عليه من الإعراب، ما يجري على أسماء التراجم من الأوجه الخمسة أو السبعة، كما ذكرناها في "مناهل الرجال على لامية الأفعال" {ذِكْرُ}: خبر لمبتدء محذوف تقديره هذا المتلو عليك من القرآن {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}: والجملة الإسمية: مستأنفة {ذِكْرُ} مضاف {رَحْمَتِ}: مضاف إليه وهو من إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل، محذوف تقديره ذكر الله رحمة عبده زكريا {رَحْمَتِ} مضاف، {رَبِّكَ}: مضاف إليه وهو من إضافة المصدر لفاعله {عَبْدَهُ}: مفعول به لرحمة {زَكَرِيَّا} بدل من عبده أو عطف بيان له {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق برحمة ربك؛ أي: رحمة الله إياه وقت ندائه {نَادَى رَبَّهُ} فعل ومفعول وفاعله: ضمير يعود على عبده {نِدَاءً}: مفعول مطلق {خَفِيًّا}: صفة له والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على {زَكَرِيَّا} والجملة الفعلية: في محل الجر بدل من جملة نادى {رَبِّ} إلى قوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} مقول محكي وإن شئت قلت {رَبِّ}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول قال {إِنِّي}: ناصب واسمه {وَهَنَ الْعَظْمُ}: فعل وفاعل {مِنِّي}: حال من {الْعَظْمُ} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر إن وجملة، إن في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ}: فعل وفاعل معطوف على {وَهَنَ الْعَظْمُ}.

{شَيْبًا}: تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ {اشْتَعَلَ} والتقدير: واشتعل شيب الرأس {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة {لَمْ}: حرف جزم {أَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، واسمها: ضمير يعود على {زَكَرِيَّا} تقديره: أنا {شَقِيًّا}: خبرها {بِدُعَائِكَ}: متعلق بـ {شَقِيًّا} {رَبِّ}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، وجملة {لم أكن} في محل الرفع معطوف على جملة قوله {وَهَنَ الْعَظْمُ} على كونها خبر إن. {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} {وَإِنِّي} {الواو}: عاطفة {إني}: ناصب واسمه {خِفْتُ الْمَوَالِيَ}: فعل وفاعل ومفعول {مِنْ وَرَائِي}: جار ومجرور حال من {الْمَوَالِيَ}. {مِنْ}: متعلق بمحذوف أو بما تضمنه {الْمَوَالِيَ} من معنى الفعل تقديره: {وَإِنِّي خِفْتُ} فعل {الْمَوَالِيَ} أو {خِفْتُ} الذين يلون الأمر {مِنْ وَرَائِي} ولا يصح تعلقه بخفت لفساد المعنى، كما في "السمين" ووجه فساده: أن الخوف واقع في الحال لا فيما يستقبل، فلو جعل {مِنْ وَرَائِي} متعلقًا بخفت .. لزم أن يكون الخوف واقعًا في المستقبل؛ أي: بعد موته وهو كما ترى ظاهر الفساد، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر إِن وجملة إن: في محل النصب معطوفة على جملة إن في قوله: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}. {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: في محل النصب حال من فاعل خفت {فَهَبْ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتَ يا إلهي شكواي إليك، وأردت بيان مسألتي منك فأقول لك {هَبْ} فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله {لِي} جار ومجرور متعلق به {مِنْ لَدُنْكَ}: جار ومجرور حال من {وَلِيًّا} {وَلِيًّا}: مفعول به منصوب بهب والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة: إذا المقدرة: في محل النصب مقول قال {يَرِثُنِي}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول والثاني محذوف. تقديره: النبوة والحبورة، والجملة في محل النصب صفة لـ {وَلِيًّا} {وَيَرِثُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر

ومفعوله محذوف، تقديره، العلم، والدين، والجملة: معطوفة على جملة {يَرِثُنِي} {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَرِثُ} {وَاجْعَلْهُ}: فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على الله {رَبِّ}: منادى مضاف {رَضِيًّا}: مفعول ثان لـ {جعل} والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله {هَبْ لِي}. {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}. {يَا زَكَرِيَّا} منادى مفرد العلم مبني على الضم المقدر، أو الظاهر وجملة النداء وما بعده: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قال الله سبحانه {يَا زَكَرِيَّا} وجملة القول المحذوف: مستأنفة {إِنَّا} ناصب واسمه {نُبَشِّرُكَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله {بِغُلَامٍ} متعلق به والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول القول المحذوف، على كونها جواب النداء {اسْمُهُ يَحْيَى} مبتدأ وخبر والجملة، في محل الجر صفة أولى لـ {غُلَامٍ} {لَمْ نَجْعَلْ} جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لجعل {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من {سَمِيًّا}. {سَمِيًّا}: مفعول أول لجعل وجملة {نَجْعَلْ} في محل جر صفة ثانية لـ {غُلَامٍ}. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على {زَكَرِيَّا} والجملة: مستأنفة {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة {أَنَّى}: اسم استفهام للتعجب في محل النصب الظرفية المكانية بمعنى أين، أو في محل النصب على الحالية بمعنى كيف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر يكون {لِي}: خبر {يَكُونُ} مقدم {غُلَامٌ}: اسمه مؤخر وجملة {يَكُونُ}: في محل النصب مقول قال {وَكَانَتِ} {الواو} واو الحال {كانت امرأتي عاقرا}: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: في محل النصب حال من الياء في {لِي} {وَقَدْ} {الواو}:

حالية {قَدْ}: حرف تحقيق {بَلَغْتُ} فعل وفاعل {مِنَ الْكِبَرِ}: حال من {عِتِيًّا}. {عِتِيًّا}: مفعول به لـ {بَلَغْتُ}: والجملة الفعلية: في محل النصب حال ثانية من الياء في {لِي} أو من الياء في {امْرَأَتِي} لأن المضاف كالجزء من المضاف إليه لأن المرأة كاللباس للرجل. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله أو على جبريل والجملة: مستأنفة {كَذَلِكَ}: جار ومجرور خبر لمبتدء محذوف تقديره، الأمر كذلك والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ} {قَالَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل كرره للتأكيد {هُوَ}: مبتدأ {عَلَيَّ} متعلق بـ {هَيِّنٌ}. {هَيِّنٌ}: خبر المبتدأ والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَقَدْ} {الواو}: حالية {قَدْ} حرف تحقيق {خَلَقْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول {مِنْ قَبْلُ} متعلق بخلقتك والجملة الفعلية: في محل النصب حال من الياء في {عَلَيَّ} {وَلَمْ} {الواو}: حالية {لم}: حرف نفي وجزم {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير يعود على زكريا {شَيْئًا}: خبرها وجملة تكون في محل النصب حال من كاف {خَلَقْتُكَ}. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {زَكَرِيَّا} والجملة: مستأنفة {رَبِّ}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة {اجْعَلْ}: فعل دعاء {لِي} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جْعَلْ}، {آيَةً} مفعول أول لجعل والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة {آيَتُكَ} مبتدأ {أَن}: حرف نصب ومصدر {لَا}: نافية {تُكَلِّمَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} وفاعله ضمير يعود على زكريا {النَّاسَ}: مفعول به {ثَلَاثَ لَيَالٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تُكَلِّمَ}. {سَوِيًّا}: حال من فاعل تكلم أي حالة كونك سليمًا بلا علة ولا مرض، أو منصوب على كونه صفة لثلاث بمعنى أنها كاملات، وجملة {تُكَلِّمَ}: في محل

الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)}. {فَخَرَجَ} الفاء: استئنافية {خَرَجَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على زكريا {عَلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ {خَرَجَ} وكذا قوله: {مِنَ الْمِحْرَابِ} متعلق بـ {خَرَجَ}. {فَأَوْحَى} {الفاء}: عاطفة {أوحى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على زكريا {إِلَيْهِمْ}: متعلق به والجملة معطوفة على جملة {خرج} {أَن}: مفسرة، أو مصدرية على تقدير الباء {سَبِّحُوا} فعل أمر وفاعل ومفعول مبني على حذف النون {بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: منصوبان على الظرفية الزمانية، متعلقان بـ {سَبِّحُوا} والجملة: جملة مفسرة لـ {أَوْحَى} لا محل لها من الإعراب، أو في محل الجر بالباء المقدرة المتعلقة بـ {أوحى} {يَحْيَى} {يَا} أداة نداء {يَحْيَى}: منادى مفرد العلم في محل النصب مبني على الضم المقدرة للتعذر وجملة النداء: في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على مقدر، تقديره: فحملت به ووضعته ومضى عليه سنتان مثلاً، فقال له الرب - جل جلاله - على لسان الملك {خُذِ الْكِتَابَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يحيى {بِقُوَّةٍ}: متعلق بمحذوف حال من فاعل {خُذِ}؛ أي: حالة كونك متلبسًا بجدٍ واجتهادٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ}: فعل وفاعل ومفعولان لأن آتى بمعنى أعطى والجملة مستأنفة أو معطوفة على قولٍ محذوف؛ أي: فقلنا له: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} {صَبِيًّا}: حال من الهاء في {آتَيْنَاهُ}. {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}. {وَحَنَانًا}: معطوف على {الْحُكْمَ}؛ أي: وآتيناه {حَنَانًا}؛ أي: رحمةً ورقةً في قلبه وعطفاً على الآخرين {مِنْ لَدُنَّا}: جار ومجرور صفة لـ {حَنَانًا} {وَزَكَاةً} معطوف على {حَنَانًا}. {وَكَانَ تَقِيًّا} فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على {يَحْيَى} والجملة معطوفة على {آتَيْنَاهُ} {وَبَرًّا} معطوفة على {تَقِيًّا}

{بِوَالِدَيْهِ}: متعلق بـ {بَرًّا} {وَلَمْ يَكُنْ}: جازم ومجزوم وهي فعل من الأفعال الناقصة، واسمها ضمير يعود على {يَحْيَى}. {جَبَّارًا}: خبرها {عَصِيًّا} صفة {جَبَّارًا} وجملة {يَكُنْ}: معطوفة على جملة {كَانَ}، {وَسَلَامٌ}: مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة، قصد الدعاء {عَلَيْهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة مستأنفة {يَوْمَ}. ظرف متعلق بالسلام. {وُلِدَ} فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على {يَحْيَى} والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}: معطوفان على {يَوْمَ وُلِدَ}. {حَيًّا}: حال من نائب فاعل {يُبْعَثُ}. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}. {وَاذْكُرْ} {الواو}: استئنافية {اذْكُرْ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة {فِي الْكِتَابِ}: متعلق بـ {اذْكُرْ} {مَرْيَمَ}: مفعول به ولكنه على حذف مضاف؛ أي: قصة مريم وخبرها {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالمضاف المحذوف؛ أي: واذكر قصة مريم وقت انتباذها من أهلها {انْتَبَذَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمَ}. {مِنْ أَهْلِهَا}: متعلق به والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} {مِنْ أَهْلِهَا}: ظرف مكان متعلق بـ {انْتَبَذَتْ}؛ أي: في مكان شرقي {شَرْقِيًّا}: صفة لـ {مَكَانًا}: ويجوز أن يعرب {مَكَانًا} مفعولًا به على أن معنى {انْتَبَذَتْ} أتت. {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}. {فَاتَّخَذَتْ} {الفاء}: عاطفة {اتَّخَذَتْ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمَ}. {مِنْ دُونِهِمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لاتخذ {حِجَابًا}: مفعول أول لـ {اتَّخَذَ} والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {انْتَبَذَتْ} {فَأَرْسَلْنَا} {الفاء}: عاطفة {أرسلنا}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة {اتَّخَذَتْ} {إِلَيْهَا}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {رُوحَنَا} مفعول به. {فَتَمَثَّلَ} {الفاء}: عاطفة {تَمَثَّلَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الروح {لَهَا} متعلق بـ {تَمَثَّلَ} والجملة: معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}. {بَشَرًا}: حال

من فاعل {تَمَثَّلَ} {سَوِيًّا}: صفة لـ {بَشَرًا} وسوغ وقوع الحال جامدةً وصفها بما بعدها {قَالَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمَ} والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {إِنِّي}: ناصب واسمه {أَعُوذُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمَ}. {بِالرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {أَعُوذُ}. {مِنْكَ}: متعلق به أيضًا والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة: {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِن} حرف شرط {كُنْتَ} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {تَقِيًّا}: خبرها وجواب الشرط محذوف تقديره: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} لله تعالى فاتركني وانته عني، والجملة الشرطية: في محل النصب مقول قال. {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الملك، والجملة: مستأنفة {إِنَّمَا} أداة حصر {أَنَا}: مبتدأ {رَسُولُ رَبِّكِ} خبره والجملة: في بحر النصب مقول قال {لِأَهَبَ} {اللام}، حرف جر وتعليل {أَهَبَ}: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله: ضمير يعود على الملك، {لَكِ} متعلق به {غُلَامًا}: مفعول به {زَكِيًّا}: صفة له والجملة الفعلية: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره لهبتي {لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} الجار والمجرور متعلق بـ {رَسُولُ رَبِّكِ}. {قَالَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم، والجملة: مستأنفة {أَنَّى}: اسم استفهام تعجب بمعنى. كيف في محل النصب على الحال مبني على السكون {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص {لِي}: خبر {يَكُونُ} مقدم {غُلَامٌ} اسمها مؤخر وجملة {يَكُونُ}: في محل النصب مقول قال {وَلَمْ} {الواو}: حالة لم حرف نفي وجزم {يَمْسَسْنِي}: مضارع مجزوم بـ {لَمْ} والنون نون الوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب على المفعولية {بَشَرٌ}: فاعل والجملة: في محل النصب حال من الياء في {لِي}. {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة {لَمْ} حرف نفي وجزم {أَكُ}: فعل مضارع ناقص

مجزوم بـ {لَمْ} وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير يعود على مريم تقديره {وَلَمْ أَكُ} أنا {بَغِيًّا}: خبرها منصوب والجملة الفعلية: في محل النصب على الحال معطوفة على جملة {وَلَمْ يَمْسَسْنِي}. {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الملك والجملة: مستأنفة {كَذَلِكِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ رَبُّكِ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة معللة للجملة التي قبلها كأنه قيل: الأمر {كَذَلِكِ} لأنه علينا {هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ...} إلخ. {هُوَ} مبتدأ {عَلَيَّ} متعلق بـ {هَيِّنٌ}. {هَيِّنٌ}: خبر والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلِنَجْعَلَهُ} {الواو}: عاطفة على علة محذوفة لمعلول محذوف تقديره: فعلنا ذلك لنبين به قدرتنا {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} {نَجْعَلَهُ} {اللام}: حرف جر وتعليل {نَجْعَلَهُ}: فعل مضارع ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على الله سبحانه {آيَةً}: مفعول ثان لجعل {لِلنَّاسِ}: جار ومجرور صفة لـ {آيَةً} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل والتقدير ولجعلنا إياه {آيَةً لِلنَّاسِ}: الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قولنا لنبين به قدرتنا {وَرَحْمَةً} معطوف على {آيَةً}. {مِنَّا} صفة لـ {رَحْمَةً}. {وَكَانَ أَمْرًا}: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير مستتر يعود على خلقه {مَقْضِيًّا}: صفة {أَمْرًا}: والجملة: مستأنفة. {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}. {فَحَمَلَتْهُ} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره فنفخ جبريل في حبيب

درعها {فَحَمَلَتْهُ} {حملته}: فعل وفاعل مستتر يعود على مريم ومفعول به والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة {فَانْتَبَذَتْ} {الفاء} عاطفة {انتبذت}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم والجملة: معطوفة على جملة {حملت} {بِهِ}: جار ومجرو حال من فاعل {انْتَبَذَتْ}؛ أي: حالة كونه منتبذةً بالمولود {مَكَانًا}: مفعول فيه أو مفعول به {قَصِيًّا} صفة لـ {مَكَانًا} {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} فعل وفاعل مؤخر و {الفاء} للتعقيب {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} متعلق بمحذوف حال {قَالَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم، والجملة: مستأنفة {يَالَيْتَنِي} {يا} حرف نداءٍ والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء أو يا مخاطب أو يا لمجرد التنبيه {ليتني} {ليت} حرف تمنٍ ونصبٍ والنون للوقاية، والياء ضمير المحكم اسمها {مِتُّ} فعل وفاعل {قَبْلَ هَذَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {مِتُّ} وجملة {مِتُّ}: في محل الرفع خبر ليت وجملة {ليت} في محل النصب مقول قال {وَكُنْتُ نَسْيًا}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على {مِتُّ}. {مَنْسِيًّا}: خبر ثان لكان مؤكد لـ {نَسْيًا}؛ لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتاً له. {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}. {فَنَادَاهَا} {الفاء}: عاطفة {نَادَاهَا} فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الملك أو على عيسى أو الجملة: معطوفة على جملة {قَالَتْ} {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق بـ {نَادَاهَا}؛ أي: في مكانٍ أسفل من مكانها، أو متعلق بمحذوف حالٍ من فاعل {نَادَاهَا}؛ أي: ناداها وهو تحتها {أَلَّا} {أَن}: مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه، و {لَّا} ناهية {تَحْزَنِي}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَّا} الناهية والجملة جملة مفسرة لـ {ناداها}: لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون {أَن} مصدرية و {لا}: نافية تحزني فعل وفاعل منصوب بها و {أَن} المصدرية وما بعدها: في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة المتعلقة بالنداء؛ أي: و {ناداها} بعدم الحزن، والأول أسهل وأوضح {قَدْ} حرف تحقيق {جَعَلَ رَبُّكِ} فعل وفاعل {تَحْتَكِ}: ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}

{سَرِيًّا}: مفعول أول له والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}. {وَهُزِّي}: فعل وفاعل مبني على حذت النون معطوف على قوله {أَلَّا تَحْزَنِي}. {إِلَيْكِ}: متعلق به. {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}: مفعول به ومضاف إليه، والباء: زائدة {تُسَاقِطْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على {النَّخْلَةِ}؛ أي: تسقط {عَلَيْكِ}: متعلق بـ {تُسَاقِطْ}. {رُطَبًا}: مفعول به {جَنِيًّا} صفة لـ {رُطَبًا}. {فَكُلِي} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تم لك هذا المذكور كله وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك {كلي}. {كلي}: فعل وفاعل مبني على حذف النون والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {وَاشْرَبِي} فعل وفاعل معطوف على {كلي} وكذلك {وَقَرِّي}: معطوف عليه {عَيْنًا}: تمييز محول عن الفاعل إذ الأصل لتقرَّ عينك {فَإِمَّا} {الفاء}: عاطفة {إن} حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة {ما} زائدة زيدت لتأكيد معنى الشرط مبني على السكون {تَرَيِنَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها وعلامة جزمه حذف النون وإلياء ضمير للمؤنثة المخاطبة: في محل الرفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد مبني على الفتح وأصله: ترأيينن بهمزة هي عين الفعل، وياء مكسورة هي لامه وأخرى ساكنة هي ياء الفاعل والنون الأولى: نون علامة الرفع حذفت هنا للجازم، والنون المشددة نون التوكيد، وإنما أُعرب الفعل هنا بالجزم لعدم مباشرة نون التوكيد به {مِنَ الْبَشَرِ}: حال من {أَحَدًا}: لأنه صفة نكرة قدمت عليها {أَحَدًا}: مفعول به لأن ترى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد {فَقُولِي} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملةً طلبيةً {قولي} فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والجملة الفعلية: في محل الجزم بأن الشرطية على كونها جواب الشرط وجملة إن الشرطية: في محل

النصب معطوفة على جملة {كلي} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة {إِنِّي}: ناصب واسمه {نَذَرْتُ}: فعل وفاعل {لِلرَّحْمَنِ}: متعلق به، {صَوْمًا} مفعول به والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُولِي}. {فَلَنْ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع {لن}: حرف نفي ونصب {أُكَلِّمَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن} وفاعله: ضمير يعود على مريم {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {أُكَلِّمَ} {إِنْسِيًّا}: مفعول به وجملة {أُكَلِّمَ}: في محل الرفع معطوفة مفرعة على جملة {نَذَرْتُ}. التصريف ومفردات اللغة {زَكَرِيَّا}: يمد ويقصر من ولد سليمان بن داود - عليهم السلام - وكان نجارًا. {نِدَاءً خَفِيًّا}؛ أي: مستورًا عن الناس لم يسمعه أحدٌ منهم. {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ضعف ورق من الكبر إذ قد بلغ خمسًا وسبعين سنةً أو ثمانين. وفي "المصباح": وهن يهن: من باب وعد ضعف، فهو واهن في الأمر، أو العمل، أو البدن، ووهنته: أضعفته، يتعدى ولا يتعدى في لغة، فهو موهون البدن والعظم، والأجود أن يتعدى بالهمزة، فيقال أوهنته، والوهن: بفتحتين لغةٌ في المصدر، ووهن يهن بالكسر: فيهما لغة قال أبو زيد: سمعت من العرب من يقرأ فما وهنوا بالكسر اهـ. وفي "البيضاوي": وقرىء وهن بالضم ووهن بالكسر، ونظيره كمل في الحركات الثلاث انتهى. وفي "القاموس" وغيره: وهنه يهنه وهنا، وأوهنه أضعفه، ووهن وأوهن الرجل، دخل في الوهن من الليل، ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنًا ووهنا ووهن يوهن، وهنا ضعف في الأمر أو العمل، أو البدن، وتوهن البعير. اضطجع، والطائر: أثقل من أكل الجيف، قلم يقدر على النهوض، والوهن

مصدر، ومن الرجال أو الإبل الغليظ القصير، والوهن من الليل: نحو منتصفه أو بعد ساعة منه، والوهن من الليل كالوهن، والوهانة من النساء الكسلى عن العمل تنعماً. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}؛ أي: صار الشيب كالنار، والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدتها أحرقت الرأس نفسه. {شَقِيًّا}؛ أي: خائبًا يقال: شقي بكذا؛ أي: تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه، والمراد: أنه خائب غير مستجاب الدعوة. {الْمَوَالِيَ} والموالى هنا: هم الأقارب الذين يرثون الرجل وسائر العصبات من بني العم ونحوهم، والعرب تسمى هؤلاء موالى قال الشاعر: مَهْلاً بَنِيْ عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالِيْنَا ... لاَ تَنْشُرُوْا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُوْنَاً فالموالي: جمع مولى وهو العاصب، قال في "القاموس": المولى، المالك والعبد والمعتق، والمعتق والصاحب والقريب، كابن العم ونحوه، والجار والحليف والابن، والعم والنزيل والشريك، وابن الأخت والولي والرب والناصر، والمنعم والمنعم عليه، والمحب والتابع والصهر انتهى. {مِنْ وَرَائِي}؛ أي: من بعدي. {عَاقِرًا}؛ أي: لا تلد يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، إذا كانا عقيمين، وقال في "القاموس": عقرت المرأة تعقر عقرًا: من باب ضرب وعقرًا وعقارًا، وعقرت تعقر: من باب نصر عقرًا وعقارةً، وعقرت المرأة أو الناقة، صارت عاقرًا؛ أي: حبس رحمها فلم تلد، وعقر الأمر عقرًا لم ينتج عاقبةً، وعقر عقرًا: من باب فرح الرجل دهش اهـ. {وَلِيًّا}؛ أي: ابنا، وهو أحد معانيه السابقة عن "القاموس". {يَحْيَى}: ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وتقول في تثنية: يحييان رفعًا، ويحيين نصبًا وجرًا، على حد قوله:

وَاحْذِفْ مِنَ الْمَقْصُوْرِ فِي جَمْعٍ عَلَى ... حَدِّ الْمُثَنَّى مَا بِهِ تَكَمَّلاَ {سَمِيًّا}: السمي المسمى؛ أي: شريكًا له في الاسم، فلم يسم أحدٌ بهذا الاسم قبله، وهو فعيل بمعنى مفعول، أصله. سميو، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء. {عِتِيًّا}: من عتا يعتو عتوًا، والعتو اليبس في العظم والعصب والجلد، وفي "المختار": عتا من باب سما يعتو عتوًا وعتيًا بضم العين وكسرها، وهو عات فالعاتي: المجاوز للحد في الاستكبار وعتا الشيخ يعتو عتوًا بضم العين وكسرها، كبر وولى عتيًا أصله: عتوو، كقعودِ فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين، فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياءً لمناسبة الكسرة، ثم قلبت الثانية ياءً لتدغم فيها الياء، وكسرت الفاء تخفيفًا. {مِنَ الْمِحْرَابِ}: قال في "القاموس": المحراب الغرفة وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإِمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس، ومحاريب بني إسرائيل: مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها اهـ. وفي "الشهاب" وأما المحراب المعروف الآن وهو طاقٌ مجوفٌ في حائط المسجد، يصلي فيه الإِمام .. فهو محدث لا تعرفه العرب، فتسميته محراب اصطلاح للفقهاء اهـ. وقوله: اصطلاح للفقهاء، ممنوع بل هو معنى لغوي إذ هو من أفراد المعنى اللغوي الذي ذكره في "القاموس" بقوله: ومقام الإِمام من المسجد اهـ. ذكره في "الفتوحات". {عَصِيًّا}: صيغة مبالغة، وأصل عصيًا: عصييٌ بوزن فعيل، أدغمت الياء فيه وأتي بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل؛ لأن المنفي أصل العصيان، لا المبالغة فيه. {انْتَبَذَتْ} الانتباذ: الاعتزال والانفراد، فقد تخلت مريم للعبادة في مكانٍ مما يلي شرقي بيت المقدس، أو من دارها معتزلةً عن الناس، وقيل: غير ذلك

وفي "المصباح": وانتبذت مكانًا اتخذته بمعزل يكون بعيدًا عن القوم. {بَغِيًّا} البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال، وأصله: بغوي بزنة فعول، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما - وهي الواو - بالسكون، فقلبت ياءً على القاعدة، وأدغمت في الياء وكسرت الغين لتصح الياء، فلما كان بزنة فعول .. لم تلحقه التاء، كما قال في الخلاصة: وَلاَ تَلِيْ فَارِقَةً فَعُوْلاَ ... أصْلاً وَلاَ الْمِفْعَالَ وَالْمِفْعِيْلاَ اهـ شيخنا وفي "القاموس" و"شرحه": بغي يبغي من باب ضرب الشيء بغاءً بضم الفاء، وبغيًا بفتحها وبغيٌ وبغيةً: طلبه، وبغى الرجل: عدل عن الحق، وعصى وبغى عليه: استطال عليه، وظلمه، فهو باغ فلعل إطلاقهم كلمة البغاء على العهر والزنا، مأخوذٌ من هذا المعنى؛ لأنه من دواعي ما يطلبه أهل الخنا والفجور. {قَصِيًّا}؛ أي: بعيدًا من أهلها. {فَأَجَاءَهَا} يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد، والأصل في جاء: أن يتعدى لواحد بنفسه، فإذا دخلت عليه الهمزة .. كان القياس يقتضي تعديته، لاثنين، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل، فصار بمعنى ألجا إلى كذا، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول بلغته وأبلغنيه، ونظيره أتى حيث لم يُستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان. {الْمَخَاضُ}: المخاض وجع الولادة، وفي "القاموس" مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضاً اللبن استخرج زبده، فهو لبن مخيض وممخوض، ومخض الشيء حركه شديدًا، ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب، ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضاً بكسر الميم، ومخاضاً بفتحها، ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء، وتمخضت الحامل: دنا ولادها وأخذها الطلق، فهي ماخض، والجمع مخض بضم الميم، وتشديد الخاء ومواخض.

{مِتُّ}: بكسر الميم وضمها، يقال: مات مات كخاف يخاف، ومات لموت كقال يقول. {نَسْيًا}: النسي: بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي: الذبح بمعنى المذبوح، وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى ويُنسى {مَنْسِيًّا}؛ أي: شيئًا متروكًا حقيرًا كالوتد وقطع الحبل وخرق الحيض، من كل شيءٍ حقيرٍ، فهو تأكيد لـ {نَسْيًا}. {سَرِيًّا}: وفي "المصباح": والسري، الجدول، وهو النهر الصغير, والجمع: سريان، مثل: رغيف ورغفان، والسريّ: الرئيس والجمع سراة، وهو عزيز لا يكاد يوجد له نظير؛ لأنه لا يُجمع فعيل على فعلة، وجمع السراة سروات، والسري فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل المرتفع القدر، من سرو يسرو كشرف يشرف، فهو سري، وأصله: سريو، فاعل إعلال سيد، فلامه واو، والمراد به في الآية: عيسى - عليه السلام - وقيل: السري، من سريت الثوب؛ أي: نزعته وسررت الحبل عن الفرس؛ أي: نزعته، كأن السري سرى ثوبه، بخلاف المد ثرو المزمل، قاله الراغب. والثاني: أنه النهر الصغير, ويناسبه {فَكُلِي وَاشْرَبِي} واشتقاقه من سرى يسري؛ لأن الماء يسري فيه، فلامه على هذا ياء انتهى "سمين". {رُطَبًا جَنِيًّا}: الرطب بضم ففتح: ما نضج من البسر قبل أن يصير ثمرًا، والجنيّ: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صار طريًا صالحًا للاجتناء، {وَقَرِّي عَيْنًا}؛ أي: طيبي نفسًا ولا تغتمي، وارفضي ما أحزنك، وفي "المصباح": وقرّت العين: من باب ضرب قرة بالضم وقرورا بردت سرورًا، وفي لغةٍ أخرى من باب تعب: وأقر الله العين بالولد وغيره إقرارًا في التعدية اهـ. والمعنى: أعطاه الله ما يسكن عينه، فلا تطمح؛ أي: لا تلتفت إلى غيره. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ}: أصله: ترأيينن بهمزة هي عين الفعل، وياء مكسورة هي لامه، وأخرى ساكنة هي ياء الضمير، والنون الأولى: علامة الرفع، والثانية: نون

التوكيد الثقيلة، وطريق حذل اللام أنها تحركت وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فالتقت ساكنة مع ياء الضمير، فحذفت لالتقاء الساكنين، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو الراء، ثم حذفت الهمزة ثم حذفت نون الرفع للجازم وهو إن الشرطية، ثم حركت ياء الضمير لالتقاءِ الساكنين، هما ياء الضمير والنون الأولى من نوني التوكيد فإنها بنونين، فصار ترين بوزن تفين. والحاصل: أن الأعمال ستة أو سبعة: قلب الياء ألفًا، ثم حذفها، ثم نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذفها، ثم حذف نون الرفع، ثم إدخال نون التوكيد، ثم تحريك ياء الضمير اهـ. شيخنا. {فَقُولِي}؛ أي: أشيري إليهم، قال الفراء: العرب تسمي كل ما أفهم الإنسان شيئًا كلامًا بأيّ طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر، فيكون حقيقة في الكلام، كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاحتراس في قوله: {نِدَاءً خَفِيًّا} وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام، فيفطن لذلك حال العمل، فيأتى في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله، فاحترس هنا بقوله: {خَفِيًّا} مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر، أو اللوم على طلب الولد في إبّانِ الكبر والشيخوخة، وقيل: احتراس من مواليه الذين خافهم. ومنها: الكناية في قوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} فإنه كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} شبه انتشار الثيب وكثرته في الرأس باشتعال النار في الحطب، واستُعير الاشتعال للانتشار، واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر على طريق الاستعارة التبعية.

ومنها: الجناس المغاير في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً} والجناس المماثل بين {الْمَوَالِيَ} و {وَلِيًّا}. ومنها: المبالغة في التضرع والدعاء، بتوسيط النداء بين جعل ومفعوله الثاني في قوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} كتوسيطه بين كان وخبرها في قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} كما في "روح البيان". ومنها: التجريد في قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} والتجريد معناه أن ينتزع المتكلم من أمرِ ذي صفة أمرًا آخر يماثله في تلك الصفة مبالغةً لكمالها، فكأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة إلى حيث يصح أن يُنتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة، وهو أقسام، منها: ما يكون بمن التجريدية كقولهم: لي من فلان صديق حميم. ومنها: الآية الكريمة كما ذكر في "إعراب القرآن". ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}. ومنها: الطباق بين {وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ}. ومنها: الكناية اللَّطيفة في قوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فإن المسّ كناية عن الوطْءِ الحلال، أما الزنا فإنما يقال فيه، خبث بها، أو فجر أو زنى. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}. ومنها: الزيادةُ والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة مريم، واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله تعالى .. أعقبها بذكر قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن، من توحيد الرب الديان، وسواء في الضلال من عبد بشرًا أو عبد حجرًا، والنصارى عبدوا

[27]

المسيح، ومشركو العرب عبدوا الأوثان، وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة (¬1) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى، واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة .. ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادًا، والفريقان وإن اشتركا في الضلال، فالفريق العابد الجماد منهما أضل، ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، تذكيرًا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله تعالى، وتبيين أنهم سالكوا غير طريقه، وفيه صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأن ذلك متلقى بالوحي. التفسير وأوجه القراءة 27 - ولما اطمأنت مريم بما رأت من الآيات، وفرغت من نفاسها .. جاءت قومها مع ولدها، راجعة إليهم عندما طهرت من نفاسها، ومضى لها أربعون يومًا، كما قال سبحانه {فَأَتَتْ}؛ أي: جاءت مريم {بِهِ}؛ أي: مع ولدها عيسى، فالباء بمعنى مع، وجعلها الكاشفي للتعدية {قَوْمَهَا}؛ أي: أهلها من المكان القصي الذي اعتزلت فيه للوضع، قيس: في يوم الوضع، وقيل: بعد أربعين يومًا كما سيأتي، وجملة قوله: {تَحْمِلُهُ}: في محل النصب حال من فاعل {أتت}؛ أي: حالة كونها حاملةً له؛ أي: فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملةً له، وهو ابن أربعين يومًا، روي (¬2) عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار، فأدخلها فيه أربعين يومًا، حتى طهرت من النفاس، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي .. بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيتٍ صالحين. وروي عن ابن عباس أيضًا (¬3): أنها خرجت من عندهم حين شرقت الشمس، وجاءتهم عند الظهر ومعها الولد، والله أعلم. وروي: أنّ زكريا افتقد مريم فلم يجدها في محرابها، فاغتم غمًا شديدًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[28]

وقال لابن خالها يوسف: اخرج في طلبها، فخرج يقص أثرها حتى لقيها تحت النخلة، فلما رجعت إلى قومها - وهم أهل بيت صالحون - وزكريا جالس معهم .. بكوا وحزنوا ثم {قَالُوا} موبخين لها {يَا مَرْيَمُ} والله {لَقَدْ جِئْتِ} وفعلت {شَيْئًا فَرِيًّا}؛ أي: منكرًا عظيمًا حين ولدت ولدًا بغير أب؛ أي: إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها, ولا تكلم أحدًا من البشر، وأنها ستكفى أمرها، ويقام بحجّتها، سلمت أمرها إلى الله تعالى، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك .. أعظموا ما رأوا واستنكروا، وقالوا: يا مريم، لقد جئت أمرًا عظيمًا منكرًا، 28 - ثم زادوا تأكيدًا في توبيخها وتعييرها فقالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}؛ أي: يا شبيهة هارون في العبادة، وكان هارون هذا رجلًا صالحًا من أفضل الناس من بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، وهارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا كلهم يسمون هارون، تبركًا به وباسمه، والمراد: إنك يا مريم كنت في الزهد كهارون، فكيف صرت هكذا؟ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وغيرهم، عن المغيرة بن شعبة قال: (بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا بكذا، فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم". وهذا التفسير النبوي، يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك، أو المعنى: يا من أنت نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وللمصري يا أخا مصر. {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}؛ أي: ما كان أبوك عمران رجلًا زانيًا، والمرء (¬1) مع ألف الوصل الإنسان أو الرجل، ولا يُجمع من لفظه كما في "القاموس" وسوء بفتح السين، وبإضافة {امْرَأَ} إليه وهي أكثر استعمالًا من الصفة. {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ} حنة بنت فاقوذ {بَغِيًّا}؛ أي: امرأةً زانيةً، فمن أين لك ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

هذا الولد من غير زوج؟ وهو تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا، وتنبيهٌ على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش 29 - {فَأَشَارَتْ} مريم {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى عيسى، أن كلموه ليجيبكم، ويكون كلامه حجةً لي، والظاهر أنها حينئذ بينت نذرها، وأنها بمعزل عن محاورة الإنس، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة .. أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل: لما أشارت إليه .. غضب القوم وقالوا: فعلت ما فعلت وتسخرين بنا، ثم {قَالُوا} منكرين لجوابها موبخين لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} ونحدث {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ}؛ أي: في الحجر أو السرير حالة كونه {صَبِيًّا}؛ أي: صغيرًا ابن أربعين يومًا، والاستفهام (¬1) هنا للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم، قيل: أراد بالمهد حجرها، وقيل المهد بعينه وهو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي، أو سرير له، ولم نعهد فيما سلف صبيًا رضيعًا في الحجر يكلمه عاقل؛ لأنه لا قدرة له على فهم الخطاب، ورد الجواب، روي أن عيسى كان يرضع، فلما سمع ذلك .. ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابة يمينه، فتكلم ووصف نفسه بصفاتٍ ثمانيةٍ، أولها عبودية الله وآخرها تأمين الله له في أخوف المقامات: 1 - 30 {قَالَ} هو عيسى: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} الذي له صفات الكمال، لا أعبد غيره، فاعترف له بالعبودية، لئلا يتخذوه إلهًا، وإنما (¬2) نص عيسى على إثبات عبودية نفسه؛ لأن إزالة التهمة عن الله تعالى تفيد إزالة التهمة عن الأم؛ لأن الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى، قال الجنيد (¬3): المعنى: إني عبد الله ولست بعبد سوء، ولا عبد طمع، ولا عبد شهوة، وفيه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[31]

إشارة إلى أن أفضل أسماء البشرية العبودية، وقال بعضهم: إن عبد الله فوق عبد الرحمن، وهو فوق عبد الرحيم، وهو فوق عبد الكريم، ولذا جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، وكذا عبد الحي وعبد الحق أعلى الأسماء وأمثلها؛ لأن بعض الأسماء الإلهية يدل على الذات، وبعضها على الصفات، وبعضها على الأفعال، والأولى أرفع من الثانية، وهي أرفع من الثالثة. 2 - {آتَانِيَ الْكِتَابَ}؛ أي: الإنجيل؛ أي: حكم لي بإيتائي الكتاب في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال، وقيل: إنه آتاه الكتاب في تلك الحال وهو بعيد، والمعنهى: سيؤتيني الكتاب، وسكن ياء {أتَانِيَ} حمزة. 3 - {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}؛ أي: وسيجعلني نبيًا، وفي هذا براءة لأمه؛ لأن الله سبحانه لا يصطفي لنبوته أولاد سفاح. 4 - 31 {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}؛ أي: نفاعًا للناس، معلمًا للخير آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر {أَيْنَ مَا كُنْتُ}؛ أي: في أي مكان كنت فيه؛ أي: سيجعلني نفاعًا للعباد، هاديًا لهم إلى طريق الرشاد في أي مكان كنت فيه، وهذه (¬1) الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع، تنبيهًا على تحقق وقوعه، لكونه قد سبق في القضاء المبرم. 5 - {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ}؛ أي: أمرني بأدائها في وقتها المحدد، أمرًا مؤكداً ما دمت حيًا، إذ في إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين تطهر النفوس من الأرجاس، ومنع لها من ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، {وَ} أمرني بـ {الزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} في الدنيا؛ أي: وأمرني بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج ما دمت حيًا في الدنيا، لما في ذلك من تطهر المال، وقال بعضهم: والظاهر (¬2) أن إيصاءه بها لا يستلزم غناه، بل هي بالنسبة إلى أغنياء أمته، وعموم الخطابات الإلهية منسوب إلى الأنبياء، تهييجًا للأمة على الائتمار والانتهاء، قيل: المعنى أمرني بأداء الصلاة والزكاة إذا بلغت، وقيل أن أفعلهما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[32]

من الآن، قولان للمفسرين اهـ. شيخنا. وقيل: المراد أن الله تعالى صيَّره حين انفصل من أمه بالغًا عاقلًا، وهذا القول أظهر اهـ. "خازن". قال في "بحر العلوم" وفي قوله: {مَا دُمْتُ حَيًّا} دلالة بينة على أن العبد ما دام حيًا لا يسقط عنه التكاليف والعبادات الظاهرة، فالقول بسقوطها كما نقل عن بعض الإباحيين كفر وضلال، انتهى. وقال (¬1) ابن عطية، وقرأ: {دِمت} بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ: {دِمْتُ} بكسر الدال أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، انتهى. والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا {دُمْتُ حَيًّا} بضم الدال، وقد طالعنا جملةً من الشواذ، فلم نجدها لا في شواذ السبعة، ولا في شواذ غيرهم، على أنها لغة. 6 - 32 {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}؛ أي: وجعلني بارًا بوالدتي، محسنًا إليها، مطيعًا لها، وفي هذا إشارة إلى أنه بلا فحل، وفيه أيضًا إيماء إلى نفي الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك .. لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها، وقد سبق (¬2) لك أنه قرىء {وبرًا} بكسر الباء فإما على حذف مضاف؛ أي: وذا برّ، وإما على المبالغة، جعل ذاته من فرط برّه، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني، وهو كلفني، لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ {برًا} بفتح الباء، فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على {مُبَارَكًا}؛ وفيه بعد الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي {أَوْصَانِي} ومتعلقها، والأولى إضمار فعل؛ أي: جعلني {بَرًّا} وحكى الزهراوي، وأبو البقاء، أنه قرىء {وبر} بكسر الباء والراء عطفًا على {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}. 7 - {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا}؛ أي: متكبرًا مترفعًا متعاظمًا على الناس {شَقِيًّا}؛ أي: عاصيًا لربه، والجبار المتعظم: الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، والشقي: العاصي لربه، وقيل: الخائب، وقيل: العاق. 8 - 33 {وَالسَّلَامُ} أي: الأمان من الله {عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ}؛ أي: حين ولدت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[34]

بلا والدٍ طبيعي، من طعن الشيطان {وَ} السلام علي {يَوْمَ أَمُوتُ} من شدائد الموت وضغطة القبر {وَ} السلام علي {يَوْمَ أُبْعَثُ} من القبر حالة كوني {حَيًّا} من هول القيامة وعذاب النار، وإنما خص هذه المواضع الثلاثة لكونها أخوف من غيرها، وإنما عرَّف السلام هنا بإدخال الألف واللام عليه، بخلافه في يحيى، لأنه (¬1) قد تقدم لفظه في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} فهو نظير قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}؛ أي: ذلك السلام الموجه إلى يحيى، موجه {إلى} وهذا على أن التعريف للعهد، والأظهر (¬2) على أنه للجنس والتعريف باللعن علي أعدائه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه، تعريض لإثبات ضده لأضداده، كما قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى، فلما كلمهم عيسى بهذا الكلام .. أيقنوا ببراءة أمه، وأنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، ولم يتكلم بعد حتى بلغ سن الكلام. والمعنى: أي والأمنة من الله عليّ فلا يقدر أحد على ضري في هذه المواطن الثلاثة، التي هي أشق ما تهون على العباد، وقرأ (¬3) زيد بن علي: {يَوْمَ وُلِدْتُ}؛ أي: يوم ولدتني، جعله ماضيًا لحقته تاء التأنيث، ورجح {وَسَلَامٌ} على {وَالسَّلَامُ} لكونه من الله تعالى، وهذا من قول عيسى عليه السلام، وقيل: سلام عيسى أرجح؛ لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه، فسلم نائباً عن الله. 34 - {ذَلِكَ} المذكور الذي فصلنا خصاله الحميدة هو {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} فكذلك (¬4) اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشيدة، وإنه ابن يوسف النجَّار، ولا كما قالت النصارى، إنه الإله أو ابن الإله {قَوْلُ الْحَقِّ} بالرفع، قال الكسائي: نعت لعيسى؛ أي: ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم قول الله الحق؛ أي: الثابت الوجود، وكلمته، وسمي قول الحق، كما سمي كلمة الله، لوقوعه بكلمة كن بلا وساطة أبٍ، والقول والقيل والمقال والقال والقول: بمعنى واحد، ¬

_ (¬1) الفتوحات (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) القرطبي.

وقوله: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} صفة لعيسى أيضًا؛ أي: ذلك عيسى ابن مريم {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} قول الحق وكلمته، ومعنى {يَمْتَرُونَ}: يختلفون، على أنه من المماراة، أو يشكون، على أنه من المرية، وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: هو ابن الله، وكذا وقع الشك فيه من النصارى، هل هو ابن الله، أو كلمته ألقاها إلى مريم؟. وقيل: يحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: قوله السابق من الصفات الثمانية القول الحق؛ أي: الصدق الذي فيه يمترون، والحق بمعنى الصدق، وإضافة القول إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، مثل حقّ اليقين، والموصول على هذا صفة للقول. وعلى قراءة نصب القول يكون القول مفعولًا مطلقًا، لقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} اعتراض؛ أي: قال: إني عبد الله قول الحق؛ أي: القول الصدق الذي فيه يمترون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: {قول الحق} برفع اللام، وقرأ زيد بن علي، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وابن أبي إسحاق، والحسن، ويعقوب {قَوْلَ الْحَقِّ} بنصب اللام، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وقرأ (¬1) ابن مسعود والأعمش: {قال} بألف ورفع اللام وقرأ الحسن: {قول} بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب، وقرأ طلبة، والأعمش في رواية زائدة: {قال} بألف جعله فعلًا ماضيًا {الحق} برفع القاف على الفاعلية، والمعنى: قال الحق وهو الله ذلك الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو عيسى ابن مريم، و {الَّذِي}: على هذا خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}، وقرأ علي - كرم الله وجهه - وأبو مجلز، ومعاذ القارىء، وابن يعمر، وأبو رجاء، والسلمي، وداود بن أبي هند، ونافع في روايةٍ، والكسائي وفي رواية: {تمترون} بتاء الخطاب، والجمهور: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[35]

بياء الغيبة. والمعنى: أي (¬1) ذلك الذي فصلت نبوته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى ابن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء، 35 - ثم أكد ما دل عليه سياق الكلام، من كونه ابنًا لمريم لا لغيرها، بقوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ}؛ أي: ما صح ولا استقام لله سبحانه وتعالى {أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ}؛ أي: أن يتخذ ولدًا؛ لأنه يلزم من اتخاذه ولدًا الحاجة، وهو نقص، فـ {من} (¬2) صلة للكلام، و (أن) في موضع رفع اسم {كَانَ}؛ أي: ما كان اتخاذ ولد من صفته، وقال الزجاج {مِنْ} في {مِنْ وَلَدٍ} مؤكدةٌ تدل على نفي الواحد والجماعة. ثم نزه نفسه سبحانه فقال: {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزه الله سبحانه وتقدس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه، فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} من الأمور؛ أي: إذا أراد أن يحدث أمرًا من الأمور، وأن يوجد شيئًا من الكائنات {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ}؛ أي: أحدث {فَيَكُونُ}؛ أي: فيوجد ذلك الأمر كما قال لعيسى كن فكان من غير أب، والقول (¬3) هنا مجاز عن سرعة الإيجاد، والمعنى: أنه تعالى إذا أراد تكوين الأشياء لم تمتنع عليه، ووجدت كما أرادها على الفور من غير تأخير في ذلك، كالمأمور المطيع الذي إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع .. كان المأمور به مفعولًا، لا حبس ولا إبطاء، وهو المجاز الذي يسمى التمثيل، وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة {فَيَكُونُ} بالنصب. والخلاصة (¬4): لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته، أن يتخذ الولد؛ لأنه لو أراده .. لخلقه بقوله: {كُنْ} فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يُرغب فيه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[36]

ليكون حافظًا لأبيه، يعوله وهو حي، وذكرًا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من ذلك، فالعالم كله خاضع له لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حيٌّ أبدًا، ومن كان هذا شأنه، فكيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج 36 - {وَ} قال عيسى أيضًا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى هو {رَبِّي} أي مالكي وخالقي ومعبودي {وَرَبُّكُمْ}؛ أي: مالككم وخالقكم ومعبودكم، {فَاعْبُدُوهُ} والخطاب فيه لمعاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى، أمر الله تعالى أن يقول لهم: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}؛ أي: قل لهم يا محمد هذا الكلام، وقيل: الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} الآية. ذكره في "البحر" وقرأ الجمهور (¬1)؛ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {إِنَّ اللَّهَ} بكسر همزة {إِنَّ} عطفًا على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أو على الاستئناف، ويؤيده قراءة أبيّ: {إِنَّ اللَّهَ} بالكسر بغير واو، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، {وأن الله} بالواو وفتح الهمزة، وخرج على حذف حرف الجر متعلقًا بما بعده؛ أي: ولأن الله، أو بسبب أنه تعالى {رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} على ما قاله الخليل، وسيبويه، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض، عطفًا على الصلاة في قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} وبـ {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ}. {هَذَا} الذي (¬2) ذكرته من التوحيد ونفي الولد والزوجة {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} إلى الجنة وإلى رضا الله سبحانه وتعالى لا يضل سالكه، وسمي هذا القول صراطًا مستقيمًا تشبيهًا له بالطريق؛ لأنه المؤدي إلى الجنة. والمعنى: أي (¬3) هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرني به، هو الطريق المستقيم، فمن سلكه .. نجا، ومن اتبعه .. اهتدى؛ لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه .. ضل وغوى وسلك سبيل الردى، 37 - ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، اختلفوا فيه كما قال: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} والجماعة {مِنْ} اليهود ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والنصارى في شأن عيسى فيما {بَيْنِهِمْ} فاليهود قالوا: إنه ساحر، وقالوا: إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم - نسبة إلى عالم يسمى نسطور -: هو ابن الله، أظهره ما شاء، ثم رفعه إليه، وقالت الملكانية - نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفًا عالمًا -: إنه عبد الله كسائر خلقه، وهذا الرأي هو الذي نصره الملك، ونصره غيره من شيعته، وقالت اليعقوبية - نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب -: هو الله هبط إلى الأرض، ثم صعد إلى السماء، فأفرطت النصارى وغلت، وفرّطت اليهود وقصّرت. ومن في قوله: {مِنْ بَيْنِهِمْ} (¬1): زائدة؛ أي: فاختلف الأحزاب بينهم أو حال (¬2) من الأحزاب، والمعنى: حال كون الأحزاب بعضهم؛ أي: بعض النصارى، إذ بقيت منهم فرقة مؤمنةٌ يقولون: إنه عبد الله ورسوله، وقيل: البين هنا بمعنى البعد، ومن بمعنى اللام؛ أي: اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق، ذكره في "البحر"، {فَوَيْلٌ}؛ أي: فشدة عذاب {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} واختلفوا في شأن عيسى - عليه السلام - من اليهود والنصارى، والويل: الهلاك وهو نكرة وقعت مبتدأً وخبره ما بعده، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء، ونظيره سلام عليك، فإن أصله: منصوب نائب مناب فعله لكنه عدل به إلى الرفع على الابتداء للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: من شهود وحضور يوم عظيم، هو له، وما يجري فيه من الحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، أو من مكان الشهود فيه للحساب، وهول الموقف أو من وقت حضوره، أو من (¬3) شهادة ذلك اليوم عليهم، وهو شهادة الملائكة والأنبياء، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر، وسوء الأعمال، وقيل: فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراح. (¬4) الخازن.

[38]

38 - وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} صيغة تعجبٍ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الماضي، فعجب الله - سبحانه وتعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - منهم؛ أي (¬1): ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر، أخبر - سبحانه - أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا أو يبصروا في الدنيا، وقيل: معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدّع قلوبهم. وعبارة النسفي هنا: الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب، والله تعالى لا يوصف بالتعجب، ولكن المراد أن أسماعهم وأبصارهم جدير بأن يُتعجب منهما بعدما كانوا صمًّا وعميًّا في الدنيا، قال قتادة: إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا .. فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم و {بِهِمْ} مرفوع المحل على الفاعلية كأكرم يزيد، فمعناه كرم زيد جدًّا {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أقيم الظاهر مقام المضمر؛ أي: لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يُجدي عليهم، ووضعوا العبادة في غير موضعها {فِي ضَلَالٍ} وخطأٍ عن الحق {مُبِينٍ}؛ أي: ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلهًا معبوداً مع ظهور آثار الحدوث فيه، إشعارًا بأن لا ظلم أشدّ من ظلمهم. والمعنى: أي (¬2) لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادًا، وزعموا أن له ولدًا عميًا في الدنيا عن إبصار الحق، والنظر إلى حجج الله التي أودعها في الكون دالةً على وحدانيته، وعظيم قدرته، وبديع حكمته، صماً عن سماع آي كتبه، وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم .. فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وما أبصرهم حينئذ حيث لا يُجدي السماع والإبصار شيئًا، ويعضون على أناملهم حسرةً وأسفًا ويتمنون على الله الأمانيّ، فيودّون الرجوعَ إلى الدنيا، ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات، فقد فات الأوان. صَاحِ هَلْ رَأَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ ... رَدَّ في الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلاَبِ ¬

_ (¬1) مدارك التنزيل. (¬2) المراغي.

[39]

ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)}. 39 - ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر قومه المشركين جميعًا، فقال: {وَأَنْذِرْهُمْ}؛ أي: وخوّف يا محمد كفار مكة والناس جميعًا {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}؛ أي: أهوال يوم السيرة والندامة، ليتوبوا عما هم عليه من الكفر والعصيان، وهو يوم القيامة سمي بذلك؛ لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان, وقوله: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}: بدل من لوم الحسرة، أي: إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها, ولأهل الجنة بالخلود فيها، بذبح الموت، وذبحه تصوير لأن كلاً من الفريقين يفهم فهماً لا لبس فيه، أنه لا موت بعد ذلك، وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن ذلك اليوم وأهواله في الدنيا وكذا قوله: {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يصدقون بالقيامة والبعث والمجازاة: جملتان (¬1) حاليتان من مفعول أنذرهم؛ أي: وأنذرهم وهم على هاتين الحالتين، أو حالان من الضمير المستتر في قوله: {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: استقروا {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وهم على هاتين الحالتين السيئتين، وعلى هذا يكون قوله {وَأَنْذِرْهُمْ} اعتراضًا. والمعنى: أي (¬2) وأنذر يا محمد الناس جميعًا، يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا في جنب الله، حين فرغ من الحساب، وذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، ونودي كلٌّ من الفريقين: لا خروج من هذا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم، وهم في الدنيا غافلون عن ذلك اليوم غير مصدقين به. روى الشيخيان، والترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح يخالط بياضه سواد، فينادِي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون فيشرفون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ: يا أهل النار ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[40]

فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؛ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلّهم قد رآه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قرأ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}، زاد الترمذي: "ولو أنّ أحدًا مات فرحًا .. لمات أهل النار". ولو أن أحدًا مات حزنًا .. لمات أهل النار". 40 - ثم سلَّى رسوله وتوعد المشركين فقال: {إِنَّا نَحْنُ}. تأكيد للضمير في {إِنَّا} لأنه بمعناه، فإن قيل: ما الفائدة في {نَحْنُ} وقد كفت عنها {إِنَّا} .. فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظم {إِنَّا} نفعل أن يوهم أن أتباعه فعلوا .. أبانت (نحن) بأنّ الفعل مضاف إليه حقيقةً، ذكر الجواب عنه ابن الأنباري، ذكره ابن الجوزي {نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}؛ أي: نميت سكان الأرض جميعًا، فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعًا، فإن قيل: فلم قال {وَمَنْ عَلَيْهَا} وهو يرث الآدميين وغيرهم .. فالجواب أن {مَنْ} تختص أهل التمييز، وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض، ويجرون مجراها، ذكر الجواب عن هذا السؤال لابن الأنباري أيضًا. {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}؛ أي: يردون إلينا يوم القيامة، لا إلى غيرنا، فنجازي كلاً بعمله. والمعنى: أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازي كلّ نفسٍ بما عملت حينئذٍ، فنجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وقرأ الجمهور (¬1): {يُرْجَعُونَ} بالياء من تحت مبنيًا للمفعول، والأعرج: بالتاء من فوق، وقرأ السلميّ، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بالياء من تحت مبنيًا للفاعل، وحكى الدانيّ عنهم بالتاء. ¬

_ (¬1) الجمهور.

[41]

41 - قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} معطوف على قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ}؛ أي: واتل يا محمد على قومك في القرآن، أو في هذه السورة {إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - ونبأه وبلغها إياهم، كقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)} وذلك (¬1) أن أهل الملل كانوا يعترفون بفضله، ومشركو العرب يفتخرون بكونهم من أبنائه، فأمر الله تعالى حبيبه - عليه السلام - أن يخبرهم بتوحيده الذي هو ملة إبراهيم، ليقلعوا عن الشرك، فعساهم باستماع قصته يتركون ما هم فيه من القبائح، وجملة قوله {إِنَّهُ كَانَ}؛ أي: إن إبراهيم كان {صِدِّيقًا}؛ أي: ملازمًا للصدق في كل ما يأتي وما يذر، مبالغًا فيه قائمًا به في جميع الأوقات {نَبِيًّا}؛ أي: رفيع القدر عند الله، وعند الناس، فلا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطةً بينه وبين عباده، تعليل (¬2) لما تقدم من الأمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يذكره، وهي معترضة بين البدل الآتي والمبدل منه، وقرأ أبو البرهشيم {إنه كان صادقًا} وقوله: {نَبِيًّا} خبر آخر لكان مقيد (¬3) للأول، مخصص له أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، وذلك أن الصديقية تلو النبوة، ومن شرطها أن لا يكون نبيًا إلا وهو صديق، وليس من شرط الصديق أن يكون نبيًا، ولأرباب الصدق مراتب: صادق، وصدوق، وصديق، فالصادق من صدق في قيامه مع الله بالله وفي الله، وهو الفاني عن نفسه، والباقي بربه، والفرق بين الرسول والنبي: أن الرسول من بعث لتبليغ الأحكام ملكًا كان أو إنسانًا، بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان. فائدة (¬4): عاش إبراهيم - عليه السلام - من العمر مئةً وخمسًا وسبعين سنةً، وبينه وبين آدم ألفا سنةٍ، وبينه وبين نوح ألف سنة، كما ذكره السيوطي في "التحبير". 42 - وقوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} بدل اشتمالِ من إبراهيم؛ أي: من خبره المقدر، والمبدل منه محذوف، والبدل باعتبار ما أضيف إليه الظرف، وهو قوله: {قَالَ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات.

لِأَبِيهِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه آزر متلطفاً في الدعوة، مسهلًا له {يَا أَبَتِ}؛ أي: يا أبي فإن التاء عوض عن ياء الإضافة، ولذلك لا يجتمعان في أفصح اللغات، فلا يقال: يا أبتي لامتناع الجمع بين العوض والمعوض عنه، ولا يقال أيضًا: يا أبتا في أفصح اللغات، لكون الألف بدلًا من الياء، كما بسطنا البحث عن ذلك في رسالتنا "هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف" وقرأ ابن عامر، والأعرج، وأبو جعفر. {يا أبت} بفتح التاء، وقد لحن هارون هذه القراءة، وفي مصحف عبد الله {واأبت} بواوٍ بدل ياءٍ، ذكره في "البحر". والاستفهام في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ} للإنكار والتوبيخ، واللام فيه حرف جر دخلت على ما الاستفهامية، كما يدخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وعلام، وفيم، وإلام، ومم، وعم، وحذفت ألفها فرقًا بينها وبين ما الموصولة، إذا دخل عليها حرف الجر وقيل استعمال الأصل فيها، و (ما) في قوله: {مَا لَا يَسْمَعُ} عبارةُ (¬1) عن الصور والتماثيل؛ أي: يا أبي لم تعبد الأصنام والتماثيل التي لا تسمع ثناءَك وتضرعك لها عند عبادتك لها، مريدًا بها الثواب {وَلَا يُبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه، وما تفعله من عبادته مريدًا بها الثواب، ويجوز (¬2) أن يُحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك؛ أي: لا يسمع شيئًا من المسموعات، ولا يُبصر شيئًا من المبصرات {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}؛ أي: ولا ينفعك شيئًا من الأشياء، فلا يجلب لك نفعًا، ولا يدفع عنك ضررًا، أو ولا يدفع عنك شيئًا من عذاب الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فـ {شَيْئًا} مفعول به، أو ولا يغنيك شيئًا من الإغناء، وهو القليل منه، فـ {شَيْئًا} مصدر؛ أي: ولأي شيء، ولأي سببٍ تعبدها، مع أن فيها ما يقتضي عدم عبادتها، وهو عدم سمعها وبصرها اهـ. شيخنا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[43]

ومعنى الآية: أي (¬1) واتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام، ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته وهو الصديق النبي حين نهى قومه عن عبادتها، وقال لأبيه: ما الذي حبب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرًا إذا استنصرت به. وقد سلك عليه السلام في دعوته أجمل الآداب في الحجاج، واحتج بأروع البرهانات، ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد ما يستخف به كل ذي لب، ويأبى الركون إليه كل ذي عقل، فالعبادة هي القصوى في التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق المحيي المميت المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع ودفع المضار. وقصارى ما قال: أن الإنسان السميع البصير، يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس، أما كان لك عبرة في حاجته وفقده السمع والبصر. واعلم: أن إبراهيم - عليه السلام - أورد على أبيه الدلائل والنصائح، وصدر كلاً منها بالنداء المضمن للرفق واللين، استمالةً لقلبه، وامتثالًا لأمر ربه، 43 - ثم كرر دعوته إلى الحق فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي}؛ أي: قد وصل إلى بطريق الوحي {مِنَ الْعِلْمِ} باللهِ ومعرفته {مَا لَمْ يَأْتِكَ}؛ أي: نصيب لم يصل إليك، وأنه قد تجدد لي حصول ما أتوصل به منه إلى الحق، وأقتدر به على إرشاد الضالّ {فَاتَّبِعْنِي} على ديني من الإيمان والتوحيد، ولا تستنكف عن التعلم مني {أَهْدِكَ} وأدلك {صِرَاطًا سَوِيًّا}؛ أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى أسنى المطالب منجيًا من الضلال والمعاطب (¬2)، ولم يشافهه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[44]

يصف نفسه بالعلم الفائق، وإن كان كذلك، بل جعل نفسه في صورة رفيق له في مسير يكون أعرف، وذلك من باب البِرِّ والرفق واللطف. والمعنى: أي (¬1) يا أبي إني وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم ما لم تعلمه أنت، ولا اطلعت عليه، فاتبعني أهدك طريقًا مستقيمًا لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كلّ مرهوب. وفي قوله: {قَدْ جَاءَنِي} إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها. 44 - {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يزينها لك، ويغريك عليها، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}؛ أي: عاصيًا له، مخالفًا لأمره، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه .. فهو عاص لله، ومعلوم أن طاعة العاصي تورث النقم، وتسلب النعم والتعرض (¬2) لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه، قال الكسائي: العصي والعاص بمعنى واحد، 45 - ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ} إن مت على ما أنت عليه من متابعة الشيطان، وعصيان الرحمن {أَنْ يَمَسَّكَ} ويصيبك {عَذَابٌ} كائن {مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ} يا أبي {لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}؛ أي: مقارنًا له في اللعن المخلد، والعذاب المؤبد، أو قريبًا منه في النار، تليه ويليك من الولي وهو القرب، قال الفراء (¬3): معنى {أخاف} هنا: أعلم، وقال الأكثرون، إن الخوف هنا محمول على ظاهره؛ لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازمًا بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير هو: أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[46]

والمعنى: يا أبي إني أخاف لمحبتي لك، وغيرتي عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}؛ أي: قرينًا وتابعًا له في النار. وقصارى ذلك: إني أخاف أن تكون تابعًا للشيطان في الدنيا، فيمسك عذابٌ من الرحمن في العقبى. 46 - ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف .. قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك، حيث قابله بالغلظة والفظاظة والقسوة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} استئنافٌ بيانيٌ كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع منه هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقيل: قال أبوه آزر مصرًا على عناده، {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} أي: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي، وأصنامي، ومنصرف إلى غيرها يا إبراهيم؛ أي (¬1): أتاركها أنت، وتارك عبادتها، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ والتعجيب، وَجْهُ الإنكار (¬2) إلى نفسه الرغبةُ مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلًا عن ترغيب الغير عنها، قدم الخبر على المبتدأ للاهتمام به، والأولى كونه مبتدأ، وأنت فاعله سد مسد الخبر، لئلا يلزم الفصل بين الصفة وما يتعلق بها، وهو (عن). والخلاصة: أتكره آلهتي ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم، ثم توعده فقال: والله {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} وتنزجر يا إبراهيم، وترجع عما أنت فيه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه .. {لَأَرْجُمَنَّكَ} بالحجارة، وأرمينك بها حتى تموت، أو تبعد عني، وقيل (¬3) باللسان فيكون معناه لأشتمنك، وقيل: معناه لأضربنك، وقيل: لأظهرن أمرك، وقوله: {وَاهْجُرْنِي}: معطوف على ما دل عليه، لأرجمنك؛ أي: فاحذرني واتركني {مَلِيًّا}؛ أي: زمانًا طويلًا سالمًا مني، ولا تكلمني؛ أي: فاحذرني وأبعد عني بالمفارقة من الدار والبلد دهرًا طويلًا، من الملاوة وهو الدهر، ومنه قول مهلهل: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[47]

فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرْمِلاَتُ مَلِيَّا وقيل معناه: اعتزلني سالم العرض، لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فـ {مَلِيًّا} على هذا: منتصب على الحال من إبراهيم، وعلى القول الأول منتصب على الظرفية. وقد قابل (¬1) الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل: يا بني، كما قاله الابن {يَا أَبَتِ} وقابل وعظه بالسفاهة إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وفي ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه، ويقاسيه منهم، ومن عمه أبي لهب من العنت والمكروه. 47 - فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد .. {قَالَ} إبراهيم استئناف بياني {سَلَامٌ عَلَيْكَ}؛ أي: سلام توديع مني، وتحية مفارقة لك، ومشاركةٍ لك على ما أنت عليه، كائن عليك، لا سلام لطفٍ وإحسان لأنه ليس بدعاءٍ له كقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة، ودل على جواز مشاركة المنصوح له إذا أظهر اللجاج. والمعنى: سلمت مني لا أصيبك بمكروه بعد، ولا أشافهك بما يؤذيك {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} والسين فيه للاستقبال، أو لمجرد التأكيد؛ أي: أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان, فإن حقيقة الاستغفار للكافر: طلب التوفيق للإيمان المؤدي إلى المغفرة، كما يلوح به تعليل قوله {وَاغْفِرْ لِأَبِي} بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} والاستغفار (¬2) بهذا المعنى للكافر قبل تبيين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاؤه له مع بقائه على الكفر، فإنه مما لا مساغ له عقلًا ولا نقلًا، وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل، وإنما الذي يمنعه السمع، ألا ترى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب: "لا أزال أستغفر لك ما لم أُنْه عنه" فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. ولا اشتباه في أن هذا الوعد من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[48]

إبراهيم، وكذا قوله {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وما ترتب عليهما من قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} إنما كان قبل انقطاع رجاءه عن إيمانه، لعدم تبيّن أمره، كما قال: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. والمعنى: سأطلب لك من ربي الغفران، بأن يوفقك للهداية، أو ينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير، وجملة قوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كَانَ بِي حَفِيًّا} أي: بليغًا في البر والإلطاف تعليل لما قبلها، والمعنى: سأطلب لك المغفرة من الله فإنه كان بي كثير البر واللطف. وقال الفراء: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}؛ أي: عالمًا لطيفًا، يجيبني إذا دعوته. والمعنى (¬1)؛ أنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علي، عودني الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك .. أغاثك بجوده وكرمه وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت، 48 - ثم بيّن ما بيَّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ}؛ أي: أتباعد عنك، وعن قومك، بالمهاجرة بديني، حيث لم يؤثر فيكم نصائحي {و} أتباعد عـ {مَا تَدْعُونَ} وتعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى من الأوثان والأصنام، وأمر بديني وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفعني ويضرني، وقد روي أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفي هجرته هذه تزوج سارة، ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر {وَأَدْعُو رَبِّي}؛ أي: وأعبد ربي سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات {عَسَى أَلَّا أَكُونَ}؛ أي: أترجّى أن لا أكون {بِدُعَاءِ رَبِّي} المنعم علي {شَقِيًّا}؛ أي: خائبًا؛ أي: أترجى عدم كوني خائبًا محرومًا بسبب دعائي وعبادتي إياه، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان، التي لا تجيب دعاءَكم ولا تنفعكم ولا تضركم، وفيه تعريض (¬2) لشقائهم في عبادتهم آلهتهم، وفي تصدير الكلام بـ {عسى}: إظهار التواضع، ومراعاة حسن الأدب، والمراد بالدعاء هنا العبادة؛ لأن "الدعاء منع العبادة" قيل أراد بهذا الدعاء هو أن يهب الله له ولدًا وأهلًا يستأنس بهم في اعتزاله، ويطمئن إليهم عند وحشته، وقيل: أراد دعاءَه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[49]

لأبيه بالهداية، 49 - وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله سبحانه رجاءه، وأجاب دعاءه فقال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ}؛ أي: فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه {و} اعتزل {مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى بالمهاجرة إلى الشام، فارتحل من كوثي إلى الأرض المقدسة {وَهَبْنَا لَهُ} بعد الهجرة {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولده، أي: آنسنا وحشته من فراقهم بأولادٍ أكرم على الله من أبيه وقومه الكفرة؛ لأنه عاش حتى رأى يعقوب، لا عقيب المجاوزة والمهاجرة، فإن المشهور، أن الموهوب حينئذٍ إسماعيل، لقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} إثر دعائه بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} ولعل (¬1) تخصيصهما بالذكر أنهما شجرة الأنبياء، أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضل على انفراده؛ أي: اعتزل أباه وقومه الكفرة، وأصنامهم بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة، ولم يضره فراقهم لا في دين ولا في دنيا، بل نفعه ذلك إذ أبدله (¬2) بهم من هم خير منهم، ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بني إسرائيل، ولهم الشأن الخطير والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد وإسحاق يعقوب، وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة، أما إسماعيل .. فتولى الله سبحانه تربيته بعد نقله رضيعًا إلى المسجد الحرام، فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ...} الآية. {وَكُلًّا}؛ أي: وكل (¬3) واحد من إسحاق ويعقوب، وقال مقاتل: {وَكُلًّا}: يعني: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب؛ أي: وكل واحد منهم {جَعَلْنَا نَبِيًّا} بنبئهم (¬4) الله - سبحانه وتعالى - بعلوم المعارف، وهم ينبئون الخلق بتوحيد الله، وبالإِسلام، وانتصاب (¬5) {وَكُلًّا} على أنه المفعول الأول لـ {جعلنا} , قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم؛ أي: كل واحد منهم {جَعَلْنَا نَبِيًّا} لا بعضهم دون بعض 50 - {وَوَهَبْنَا لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء الثلاثة {مِنْ رَحْمَتِنَا}؛ أي: كل خير ديني ودنيوي، مما لم يوهب لأحد من العالمين من المال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) زاد المسير. (¬4) المراح. (¬5) الشوكاني.

والجاه والأتباع والذرية الطيبة؛ أي: وآتيناهم من فضلنا المديني والدنيوي ما لم نؤته أحدًا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء، والبركة في المال والأولاد، إلى نحو أولئك من خيري الدنيا والآخرة {وَجَعَلْنَا لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المذكورين {لِسَانَ صِدْقٍ}؛ أي: ثناءً صادقًا {عَلِيًّا}؛ أي: رفيعًا مشهورًا دائمًا إلى يوم القيامة، يفتخر بهم الناس، ويثنون عليهم، وتذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية، وتقول هذه الأمة في الصلوات الخمس: "كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" إلى قيام الساعة، إجابةً لدعوته بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}. والمراد بلسان الصدق (¬1): الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به، كما عُبِّر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلوا, للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتحول الدول، وتبدل الملل. وهذا (¬2): توبيخ لكفار مكة، إذ كان مقتضى ترضيهم وثنائهم على المذكورين، أن يتبعوهم في الدين، مع أنهم لم يفعلوا اهـ. شيخنا. الإعراب {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}. {فَأَتَتْ} الفاء: استئنافية {أَتَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَرْيَمَ} {بِهِ} متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل المستتر في {أَتَتْ}؛ أي: حالة كونها مصحوبةً به، كما قاله أبو البقاء، وهو حسن ولا نرى مانعًا من تعلقه بـ {أَتَتْ} و {قَوْمَهَا}: مفعول به والجملة، مستأنفة {تَحْمِلُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة. في محل النصب حال ثانية من فاعل {أَتَتْ} {قَالُوا}: فعل ¬

_ (¬1) البيضاوي والشوكاني. (¬2) الفتوحات.

وفاعل والجملة، مستأنفة {يَا مَرْيَمُ}: منادى مفرد العلم، والجملة: في محل النصب مقول {قَال} {لَقَدْ} اللام موطئة للقسم {لَقَدْ} حرف تحقيق {جِئْتِ}: فعل وفاعل {شَيْئًا}: مفعول به {فَرِيًّا} صفة لـ {شَيْئًا} ويجوز إعراب {شَيْئًا} على المصدرية، أي: نوعًا من المجيء غريبًا، والجملة الفعلية: جواب القسم المحذوف وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}. {يَا أُخْتَ هَارُونَ}: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَا} نافية {كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء {وَمَا} {الواو} عاطفة. {ما}: نافية {كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة، معطوفة على الجملة التي قبلها. {فَأَشَارَتْ} {الفاء}: عاطفة تفريعية {أشارت}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَرْيَمَ} {إِلَيْهِ}: متعلق به والجملة معطوفة مفرعة على {قَالُوا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال {نُكَلِّمُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على المتكلمين {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {كَانَ}: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَن}. {فِي الْمَهْدِ}: جار ومجرور حال من اسم {كَانَ}. {صَبِيًّا}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ}: صلة الموصول. {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على عيسى والجملة: مستأنفة {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {آتَانِيَ الْكِتَابَ}: فعل ماض ونون وقاية ومفعولان وفاعله ضمير يعود على الله،

والجملة الفعلية، في محل النصب حال من اسم {إن}. {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}: فعل ونون وقاية وفاعل مستتر يعود على الله ومفعولان والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {آتَانِيَ الْكِتَابَ} وكذا جملة قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}: معطوفة على جملة قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}. {أَيْنَ مَا} اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط أو بالجواب المحذوف، و {كُنْتُ}: تامة والتاء فاعلها وهو في محل الجزم بـ {أَيْنَ} على كونه فعل شرط لها، ويجوز أن تكون ناقصة، والتاء اسمها و {أَيْنَ مَا}: متعلق بمحذوف خبرها المقدم، وجواب الشرط: محذوف دل عليه ما قبله تقديره: أينما كنت جعلني مباركاً أو جوابه هو نفس المتقدم عند من يرى ذلك، وجملة الشرط في محل النصب مقول {قَالَ} ولا يجوز أن تكون استفهامية؛ لأنه يلزم أن يعمل فيها ما قبلها، وأسماء الاستفهام لها صدر الكلام، فتعين أن تكون شرطية لأنها منحصرة في هذين المعنيين اهـ. "كرخي" {وَأَوْصَانِي}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية معطوفة على {آتَانِيَ الْكِتَابَ}. {بِالصَّلَاةِ}: متعلق به {وَالزَّكَاةِ}: معطوف على {الصلاةِ}. {مَا} مصدرية ظرفية {دُمْتُ حَيًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره وجملة {دام}: صلة {مَا} المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه والظرف المقدر متعلق بـ {أَوْصَانِي} والتقدير، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} مدة دوامي {حَيًّا}. {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}. {بَرًّا} معطوف على {مُبَارَكًا}؛ أي: وجعلني بارا {بِوَالِدَتِي}: متعلق بـ {بَرًّا}. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} جازم وفعل مجزوم وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعولان معطوف على {وَجَعَلَنِي}. {شَقِيًّا} صفة لـ {جَبَّارًا}. {وَالسَّلَامُ} مبتدأ {عَلَيَّ} خبره والجملة: معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} على كونها مقول {قَالَ}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية {وُلِدْتُ}: فعل ونائب فاعل والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} والظرف: متعلق بالاستقرار الذي

تعلق به الخبر أعني {عَلَيَّ} وقوله: {وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}: معطوفان على {يَوْمَ وُلِدْتُ}. {حَيًّا}: حال من فاعل {أُبْعَثُ}. {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)}. {ذَلِكَ عِيسَى} مبتدأ وخبر والجملة: مستأنفة {ابْنُ مَرْيَمَ} صفة أولى لـ {عِيسَى} {قَوْلَ}: صفة ثانية له {الْحَقِّ}: بمعنى الله مضاف إليه؛ أي: كلمة الله {الْحَقِّ} كما مر في مبحث التفسير {الَّذِي} صفة ثالثة لـ {عِيسَى}. {فِيهِ}: متعلق بـ {يَمْتَرُونَ} وجملة {يَمْتَرُونَ}: صلة الموصول هذا على قراءة الرفع، وأما على قراءة النصب فـ {قَوْلَ الْحَقِّ}: منصوب بفعل محذوف تقديره. قال: {قَوْلَ الْحَقِّ}، {الْحَقِّ} بمعنى الصدق {الَّذِي} في محل النصب صفة لـ {قَوْلَ الْحَقِّ} وجملة {يَمْتَرُونَ}: صفة له {مَا}: نافية {كَانَ} فعل ماض ناقص {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} {أَنْ}: حرف نصب {يَتَّخِذَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} وفاعله ضمير يعود على {اللهِ}. {مِنْ} زائدة {وَلَدٍ}: مفعول به لـ {يَتَّخِذَ} وجملة {يَتَّخِذَ}: مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا تقديره ما كان اتخاذ ولد لائقًا بالله وجملة {كَانَ}: مستأنفة {سُبْحَانَهُ} مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره سبح {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {قَضَى أَمْرًا}: فعل ومفعول مفاعله ضمير يعود على {اللهِ} والجملة الفعلية: في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها {فَإِنَّمَا} الفاء: رابطة لجواب {إِذَا} جوازًا {إِنَّمَا}: أداة حصر {يَقُولُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ}: متعلق بيقول وجملة {يَقُولُ}: جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة {كُنْ}: فعل أمر تام بمعنى أحدث، وفاعله: ضمير يعود على ذلك الأمر وجملة {كُنْ} في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فَيَكُونُ}: بالرفع الفاء: استئنافية {يَكُونُ}: فعل مضارع تام وفاعله ضمير يعود على ذلك الأمر والجملة: في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره (فـ) هو {يَكُونُ} والجملة: مستأنفة وبالنصب هو منصوب بأن

مضمرة وجوبًا بعد (الفاء) السببية الواقعة في جواب الأمر والجملة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر مقيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره ليكن تكوينه فكونه. {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}. {وَإِنَّ} {الواو}: استئنافية أو عاطفة {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي} ناصب واسمه وخبره {وَرَبُّكُمْ} معطوف على {رَبِّي} والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} كما مر في محبث التفسير، هذا على قراءة كسر همزة {إن} وأما على فتحها فعلى تقديره حرف جر متعلق بما بعده، تقديره: و {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}. {فَاعْبُدُوهُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم أن الله ربي وربكم وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: {اعبدوه} فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة {هَذَا صِرَاطٌ}: مبتدأ وخبر {مُسْتَقِيمٌ}: صفة {صِرَاطٌ} والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}. {فَاخْتَلَفَ} {الفاء}: استئنافية {اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {مِنْ بَيْنِهِمْ}: جار ومجرور حال من {الْأَحْزَابُ} تقديره: حالة كون المختلفين بعضهم {فَوَيْلٌ} الفاء: عاطفة {ويل} مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء عليهم {لِلَّذِينَ}؛ جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الفعلية قبلها أعني قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} عطف اسمية على فعلية {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {مِنْ مَشْهَدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ويل} {يَوْمٍ}: مضاف إليه {عَظِيمٍ}: صفة لـ {يَوْمٍ} {أَسْمِعْ} فعل تعجب لفظه لفظ الأمر، ومعناه المضي مبني على السكون نظرًا للفظ أو بفتح مقدر على الآخر الساكن نظرًا لمعناه {بِهِمْ} الباء: زائدة زيدت وجوبًا لرفع قبح رفع ما لفظه

أمر للضمير البارز والهاء: ضمير الغائبين في محل الرفع فاعل والجملة الفعلية: جملة تعجبية لا محل لها من الإعراب {وَأَبْصِرْ}: معطوف على {أَسْمِعْ}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {أَسْمِعْ} أو بـ {أَبْصِرْ}: على سبيل التنازع {يَأْتُونَنَا} فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الجر مضاف إليه ليوم {لَكِنِ} حرف استدراك {الظَّالِمُونَ}: مبتدأ {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر {فِي ضَلَالٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ {مُبِينٍ}: صفة {ضَلَالٍ} والجملة، الاستدراكية: مستأنفة. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}. {وَأَنْذِرْهُمْ}: فعل أمر ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة. مستأنفة {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ظرف ومضاف إليه متعلق بأنذرهم {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان بدل من {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}. {قُضِيَ الْأَمْرُ}: فعل أمر ونائب فاعل والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَهُمْ}: مبتدأ {فِي غَفْلَةٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة، في محل النصب حال من مفعول {أنذرهم} أو من الضمير المستتر {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} كما مر في مبحث التفسير {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِنَّا} ناصب واسمه {نَحْنُ} تأكيد لاسم {إِنَّ} الذي هو بمعنى {نَحْنُ} لأنه بمعناه {نَرِثُ الْأَرْضَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله {وَمَنْ} اسم موصول معطوف على الأرض {عَلَيْهَا}: جار ومجرور صلة الموصول والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} مستأنفة. {وَإِلَيْنَا} متعلق بـ {يُرْجَعُونَ} {يُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل والجملة الفعلية في محل النصب حال من {مَنْ} الموصولة أو في محل الرفع معطوفة على جملة {نَرِثُ}. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}. {وَاذْكُرْ} الواو: استئنافية {اذْكُرْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على

محمد، والجملة: مستأنفة {فِي الْكِتَابِ} متعلق به {إِبْرَاهِيمَ}: مفعول به {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ} {صِدِّيقًا}: خبر أول لـ {كَانَ}. {نَبِيًّا}: خبر ثان لها وجملة {كَانَ} أى محل الرفع خبر {إن} وجملة: {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {إِذْ}: ظرف لما مضى أو الزمان، بدل اشتمال أو المضاف المقدر أى {إِبْرَاهِيمَ}، والتقدير: واذكر قصة إبراهيم {إِذْ قَالَ}، {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {لِأَبِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ} والجملة: أى محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} إلى قوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء {أبت}: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث للتفخيم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة لمناسبة التاء؛ لأن التاء لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا {أب}: مضاف وياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث أى محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًا، وتاء التأنيث المعوضة عن الياء المحذوفة حرف لا محل لها من الإعراب مبنية على الكسر، وإنما حركت لكونها على حرف واحد، وكانت الحركة كسرةً قصدًا لتعويض كسرها عن الكسر الذي كان يستحقه ما قبل الياء أى الأصل، وجملة النداء أى محل النصب مقول {قَالَ}. {لِمَ} اللام: حرف {مَ} اسم استفهام أى محل الجر باللام مبني على السكون الظاهر على الألف المحذوفة، فرقا بينها وبين ما الموصولة الجار والمجرور متعلق بـ {تَعْبُدُ}. {تَعْبُدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة: أى محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا}: موصولة، أو موصوفة أى محل النصب مفعول {تَعْبُدُ}. {لَا} نافية {يَسْمَعُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَا} والجملة: صلة لـ {مَا} أو صفة، لها {وَلَا يُبْصِرُ} معطوف على قوله {لَا يَسْمَعُ} وكذا جملة قوله {وَلَا يُغْنِي} معطوفة عليه {عَنْكَ} متعلق بـ {يُغْنِي}. {شَيْئًا}: مفعول به منصوب على المصدرية أى شيئًا أو الإغناء. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ

لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}. {يَا أَبَتِ}: منادى مضاف والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي} ناصب واسمه {قَدْ}: حرف تحقيق {جَاءَنِي}: فعل ماض ونون وقايه ومفعول به {مِنَ الْعِلْمِ}: متعلق بـ {جَاءَنِي}. {مَا}: موصولة أو موصوفة في الرفع فاعل {جاء}، {لَمْ}: حرف جزم {يَأْتِكَ}: فعل ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ} وجزمه حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على {مَا}: والجملة: صلة لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {جَاءَنِي}: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة من في محل النصب مقول {قَالَ}: على كونها جواب النداء. {فَاتَّبِعْنِي}: {الفاء}: قال الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد جاءني أو العلم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {اتبعني}. {اتبعني}: فعل أمر ونون وقاية وياء المفعول وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَهْدِكَ}: فعل مضارع ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق وجزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {صِرَاطًا}: مفعول ثان {سَوِيًّا}: صفة {صِرَاطًا}. {يَا أَبَتِ}: منادى مضاف {لَا}: ناهية جازمة {تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} فعل ومفعول مجزوم بـ {لَا} الناهية وفاعلة ضمير يعود على أبي إِبراهيم، والجملة: في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء. {إِنَّ الشَّيْطَان}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {الشَّيْطَانَ}. {لِلرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {عَصِيًّا}. {عَصِيًّا}: خبر {كَانَ}: وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} {يَا أَبَتِ}: منادى مضاف {إِنِّي}: ناصب واسمه {أَخَافُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ} وجملة {أَخَافُ}: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنْ يَمَسَّكَ}: ناصب يفعل

مضارع ومفعول به {عَذَابٌ}: مفعول به {مِنَ الرَّحْمَنِ}: صفة لـ {عَذَابٌ} وجملة {يَمَسَّكَ}: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَخَافُ} تقديره: إني أخاف مس عذاب الرحمن إياك {فَتَكُونَ} الفاء: عاطفة {تكون}: فعل مضارع ناقص معطوف على {يَمَسَّكَ}: واسمها ضمير يعود على أبي إبراهيم {لِلشَّيْطَانِ}: متعلق بـ {أَخَافُ}. {وَلِيًّا}: خبر {تكون}. {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة: مستأنفة {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} إلى قوله، {قَالَ سَلَامٌ}: مقول محكي وإن شئت قلت: {أَرَاغِبٌ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري {راغب}: مبتدأ وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتماده على همزة الإستفهام {أَنْتَ}: فاعل سد مسد الخبر {عَنْ آلِهَتِي} متعلق بـ {راغب} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {يَا إِبْرَاهِيمُ}: منادى مفرد العلم {لَئِنْ لَم} اللام: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط جازم {لَمْ} حرف نفي وجزم {تَنْتَهِ}؛ فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} وجزمه حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، والجملة: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {لَأَرْجُمَنَّكَ}: اللام: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. {أرجمن}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف: مفعول به وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة الفعلية، جواب القسم لا محل لها وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ} وجواب {إن} الشرطية، محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن لم تنته أرجمك وجملة {إن}: الشرطية معترضة بين القسم وجوابه لا محل لها من الإعراب {وَاهْجُرْنِي}: فعل أمر ونون وقاية وياء مفعول، وفاعله، ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ} والجلمة الفعلية، معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: فاحذرني واهجرني عند من يمنع عطف الإنشائية على الخبرية على أن سيبويه يجيز عطف الجملة الخبرية على الإنشائية، فليس هذا التقدير بلازم، فيجوز عطفها على {لَأَرْجُمَنَّكَ}. {مَلِيًّا}: ظرف زمان متعلق بـ {اهجرني} وقيل: هو حال من فاعل {اهجرني} ومعناه: سالمًا سويًا لا

يصيبك منى معرة. {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، والجملة: مستأنفة {سَلَامٌ}: مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة، ما فيه من معنى الدعاء {عَلَيْكَ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية. في محل النصب مقول {قَالَ} {سَأَسْتَغْفِرُ} (السين) حرف تنفيس للاستقبال القريب {أستغفر}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}. {لَكَ}: متعلق بـ {أستغفر}. {رَبِّي}: مفعول به والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ} فعل ماض واسمه ضمير يعود على الله {بِي}: متعلق بـ {حَفِيًّا}. {حَفِيًّا}: خبر {كَانَ} وجملة كان في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، على كونها معللةً لما قبلها {وَأَعْتَزِلُكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعله: ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة {أستغفر} {وَمَا}: موصولة أو موصوفة، في محل النصب معطوفة على كاف المخاطبين {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها والعائد أو الرابط، محذوف تقديره: ما تدعونه. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {تَدْعُونَ}: أي: حالة كونكم مجاوزين الله {وَأَدْعُو}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ}. {رَبِّي}: مفعول به والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أستغفر لك}. {عَسَى}: فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء واسمها ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: هو يعود على الشأن {أَلَّا} {أَن}: حرف نصب ومصدر {لَّا} نافية {أَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أن} واسمه ضمير يعود على المتكلم {بِدُعَاءِ رَبِّي} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {شَقِيًّا}، {شَقِيًّا}: خبر {أَكُونَ}، وجملة {أَكُونَ}: في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسَى}؛ تقديره عسى هو - أي: الشأن - عدم كوني {شَقِيًّا} بدعاء ربي، وجملة {عَسَى} في محل النصب مقول {قَالَ}.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: استئنافية {لما}: ظرفية شرطية غير جازمة متعلقة بجوابها {اعْتَزَلَهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمُ} والجملة: فعل شرط لـ {لما} {وَمَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على ضمير المفعول {يَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول أو صفة الموصوفة والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما يعبدونه {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور حال من فاعل {يَعْبُدُونَ}؛ أي: حالة كونهم مجاوزين الله {وَهَبْنَا} فعل وفاعل جواب {لما} وجملة {لما} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مستأنفة {لَهُ} متعلق بـ {وَهَبْنَا}. {إِسْحَاقَ} مفعول به {وَيَعْقُوبَ}: معطوف عليه {وَكُلًّا}: مفعول أوله لـ {جَعَلْنَا}. {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل {نَبِيًّا}: مفعول ثان له، والجملة معطوفة على جملة {وَهَبْنَا} على كونه جواب {لما}. {وَوَهَبْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {وَهَبْنَا}، الأول {لَهُمْ}: متعلق بـ {وَهَبْنَا}. {مِنْ رَحْمَتِنَا} متعلق به أيضًا {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {وَهَبْنَا}. {لَهُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنَا}. {لِسَانَ صِدْقٍ} هو المفعول الأول لـ {جَعَلْنَا}. {عَلِيًّا} صفة لـ {لِسَانَ}. التصريف ومفردات اللغة {فَرِيًّا}؛ أي: شيئًا عظيمًا خارقًا للعادة، وهي الولادة بلا أب، والفري: البديع من فرى الجلد، والفري: العظيم من الأمر، يقال: أى الخير والشر، وقيل: الفرى: العجيب، وقيل: المفتعل، ومن الأول الحديث أى وصف عمر بن الخطاب "فلم أر عبقريًا يفري فريه" والفرى: قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي "المختار" فرى الشيء قطعه لإصلاحه، وبابه رمى، وفرى كذبًا خلقه وافتراه واختلقه، والاسم الفرية وقوله: {شَيْئًا فَرِيًّا}؛ أي: مصنوعًا مختلقًا، وقيل عظيمًا، وأفرى الأوداج: قطعها، وأفرى الشيء: شقّه فانفرى وتفرى، أي: انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم: قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على

جهة الإصلاح. {فِي الْمَهْدِ}: والمهد: الموضع يهيأ للصبي، ويوطأ له، والجمع: مهود ومهده كمنعه بسطه، وككتاب الفراش، والأرض كالمهاد والجمع: أمهدة ومهد اهـ. "قاموس" {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}؛ أي: نفاعًا للناس حيثما توجه؛ لأنه كان يحيى الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويرشد ويهدي {جَبَّارًا}، الجبار، المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقًا {شَقِيًّا}: والشقي: العاصي لربه {الْأَحْزَابُ}: جمع حزبٍ وهم الجماعة و {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: مشهد مفعل، إما من الشهادة وإما من الشهود، وهو: الحضور ومشهد يجوز أن يراد به الزمان أو المكان أو المصدر، فإذا كان من الشهادة كان المراد به الزمان، فتقديره: من وقت شهادة يوم، وأن أريد به المكان فتقديره من كان شهادة يوم، وإن أريد به المصدر فتقديره: من شهادة ذلك اليوم، وأن تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم والملائكة والأنبياء، وإذا كان من الشهود وهو الحضور فتقديره: من شهود الحساب والجزاء يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه، وهو الموقف أو من وقت الشهود، وإذا كان مصدرًا بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافته إلى الظرف من باب الاتساع، كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ويجوز أن يكون المصدر مضافًا لفاعله على من يجعل اليوم شاهداً بينهم، إما حقيقةً وإما مجازاً اهـ "سمين". {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ}؛ أي: في الدنيا {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}؛ أي: يوم الندامة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا فى جنب الله {صِدِّيقًا}؛ أي: مبالغًا في الصدق لم يكذب قط في أقواله وأفعاله وأحواله، وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، والصديق: من أبنية المبالغة، ونظيره الضحيك والنطيق، والمراد: أنه بليغ الصدق في أقواله {صِرَاطًا سَوِيًّا}؛ أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى نيل السعادة {وَلِيًّا} تليه ويليك في العذاب {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي}؛ أي: كاره لها {لَأَرْجُمَنَّكَ}؛ أي: لأشتمنك باللسان، أو لأرجمنك بالحجارة، من رجم يرجم من باب نصر {مَلِيًّا}؛ أي: زمنًا طويلًا، {بِي حَفِيًّا}؛ أي: مبالغًا فى بري

وإكرامي من حفي بكذا حفاوةً، إذا اعتنى به وبالغ فى إكرامه اهـ. شيخنا. وفي "المختار" حفي به بالكسر حفاوةً بفتح الحاء فهو حفي، أي: بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره، والحفي أيضًا المستقصى فى السؤال، ومن الأول قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} ومن الثاني قوله تعالى: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} اهـ. {وَأَعْتَزِلُكُمْ}؛ أي: أترككم بالارتحال من بلادكم، وقد فعل وارتحل من بابل إلى الأرض المقدسة، وفي "القاموس" وبابل كصاحب: موضع بالعراق، وفيه أيضًا وكوثى بالضم بلدة بالعراق اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه أى قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أي: شبيهة هارون في صلاحها وعبادتها. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْد}. ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا}؛ إشارةً إلى تحقق وقوعه. ومنها: التعريض في قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ} إن قلنا إن الألف واللام فيه للجنس؛ لأن فيه تعريضاً باللعنة على متَّهمي مريم وأعدائها من اليهود؛ لأن المعنى حينئذ وجنس السلام عليَّ خاصةً فقد عرَّض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} اهـ "سمين" وقيل: التعريف فيه للعهد لأنه قد تقدم لفظه في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} كما مر في مبحث التفسير. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إيذانًا بكفرهم جميعًا، وإشعارًا بعلة الحكم، كما في "أبي السعود" لأن حق المقام أن يقال فويل لهم؛ أي: للأحزاب المختلفين فيه. ومنها: التعجب في قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}.

ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}؛ أي: أهوال يوم الحسرة. ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} إشعارًا بتحقق وقوعه. ومنها: التكرار في قوله: {يَا أَبَتِ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي} وقوله: {بِدُعَاءِ رَبِّي}. ومنها: التهديد والتقريع في قوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِين} والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل؛ لأن الضلال لا يحل فيه وإنما يحل في مكانه والعلاقة الحالية، وكذلك قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} والغفلة: لا يحل فيها أيضًا، وإنما يحل أصحابها في أسبابها من الكفر والمعاصي. ومنها: المجاز المرسل في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} من إطلاق اسم الآلة وهي: اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها، فعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يُفعل باليد وهو العطاء، فهو مجاز علاقته السببية. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} فإن لفظ نحن تأكيد للضمير في {إِنَّا} لأنه بمعناه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}. المناسبة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ...} قدم (¬1) الكلام في موسى على الكلام في إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه في نسقٍ واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن - عليهما السلام - وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفاتٍ هي مفخرة البشر ومنتهى السمو والفضل في هذه الدنيا. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أفرد كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به .. أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه. قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حزب السعداء وهم الأنبياء، ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين، فاتبعوا أوامره وأدوا فرائضه، وتركوا نواهيه .. أردف هذا بذكر من خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال في الآخرة، إلا من تاب وأناب فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئًا من جزاء أعماله. قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ ....} الآية، مناسبتها لما قبلها؛ لما ذكر سبحانه أنه يدخل التائبين الجنة .. وصف هذه الجنة بجملة أوصافٍ كلها غاية في تعظييم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها. قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصص الأنبياء - عليهم السلام - تثبيتًا له - صلى الله عليه وسلم - وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين .. أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ زعم المشركون أن الله ودَّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أمر بالعبادة، والمصابرة عليها، على ما فيها من مشاق وشدائد .. أبان فائدة ذلك وهي أنها تنجيهم يوم الحشر {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} ¬

_ (¬1) المراغي.

[51]

وهو يوم لا ريب فيه، ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذٍ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار، ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص عمله. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه البخاري عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا" فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين يومًا، فذكر نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل: "أي البقاع أحب إلى الله، وأي البقاع أبغض إلى الله فقال: ما أدري حتى أسال، فنزل جبريل وكان قد أبطأ عليه، فقال: "لقد أبطأت على حتى ظننتُ أن بربي عليَّ موجدةً، فقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ....} الآية. وأخرج ابن أبي إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، ولم يدر كيف يجيب، فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون: إن ربه ودَّعه وقلاه، ومكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيًّا، فنزل جبريل فقال له: "يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك" فقال: إني إليك لأشوق ولكني عبد مأمور، إذا بعثت .. نزلت، وإذا حبست .. احتبست، فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ ...} الآية، روى الكلبي (¬2): أنها نزلت في أبيّ بن خلف، أخذ عظمًا باليًا، فجعل يفته بيده، ويذريه في الريح، ويقول: زعم فلان أنّا نبعث بعد أن نموت، ونكون مثل هذا! إن هذا لن يكون أبدًا!! التفسير وأوجه القراءة 51 - ولما فرغ سبحانه عن قصة إبراهيم .. أردفه بقصة موسى لأنه يتلوه في ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

الشرف والفضل وقدم موسى على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}؛ أي: واتل يا محمد على قومك، وعلى سائر الناس في القرآن، أو في هذه السورة قصة موسى بن عمران - عليه السلام - {إِنَّهُ} أي: موسى - عليه السلام - {كَانَ مُخْلَصًا} قرأ أهل الكوفة: عاصم، وحمزة، والكسائي، وكذا أبو رزين، ويحيى، وقتادة: بفتح اللام؛ أي: مصطفًى مختارًا، اختاره الله تعالى (¬1) ثم استخلصه واصطفاه على عالمي زمانه لرسالة رب العالمين، وكلامه، وقرأ الباقون: بكسر اللام؛ أي: مخلصًا في طاعته وعبادته لله تعالى، ولم يراء ولم يشرك، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. والمعنى (¬2): واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى - عليه السلام - من صفات الجلال والكمال، التى سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره، وعظيم شأنه، وتلك الأوصاف: أولها: ما ذكره بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا}؛ أي: إن الله تعالى أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس وطهره من الذنوب والآثام، كما جاء في الآية الأخرى {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}. وثانيها وثالثها: ما ذكره بقوله: {كَانَ} موسى - عليه السلام - {رَسُولًا} أرسله الله سبحانه إلى الخلق داعيًا ومبشرًا ونذيرًا، والرسول: هو من أرسله الله إلى الناس، ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها، كموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - وقيل: الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى الخلق، كهؤلاء المذكورين، وارتضى هذا القول بعضهم، وكان موسى - عليه السلام - {نَبِيًّا} فأنبأهم عن الله، ولذلك قدم {رَسُولًا} مع كونه أخص وأعلى، وقال بعضهم: تأخير {نَبِيًّا} لأجل رعاية الفواصل، والشعبي هو الذي ينبىء عن الله، ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع - عليه السلام - وقيل: النبي: إنسان أوحي إليه بشرع يعمل به في حق نفسه، ولم يؤمر بتبليغه، كالخضر - عليه ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[52]

السلام - لأنه نبي على ما رجحه أكثر العلماء، كما مر في مبحثه، فبين الرسول والنبي عموم وخصوص، وجهي، فكل رسول نبي ولا عكس، وقال النيسابوري (¬1): الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي: الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك، كقوله في طه: {بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} انتهى ورابعها: 52 - ما ذكره بقوله: {وَنَادَيْنَاهُ}؛ أي: نادينا موسى ودعوناه وكلمناه ليلة الجمعة، بقولنا: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ}؛ أي: من ناحية جبل الطور اليمنى فالأيمن صفة للجانب، أي: ناديناه من ناحيته اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر، إذ لا يمين ولا شمال للجبل، والمراد بالطور (¬2): الجبل الذي عند بيت المقدس، لا الطور الذي عند السويس؛ لأنه يكون على يسار المتوجه من مدين إلى مصر، كما هو محسوس مشاهد، أو المعنى: ناديناه من جانبه الميمون؛ أي: المبارك لموسى، من اليمن بمعنى البركة؛ لأنه سمع عنده كلام الله تعالى؛ أي: وكلمناه من الجانب الأيمن للطور؛ أي: الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجهًا إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه؛ أي: عنده بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بني إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم. وخامسها: ما ذكره بقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}؛ أي: وقربنا موسى إلينا تقريب تشريفٍ وإجلالٍ وإكرام، حالة كونه نجيًا؛ أي: مناجيًا معنا تلك الليلة؛ أي: مستمعًا كلامنا، فهو حال من أحد الضميرين في {كهيعص (1)}: فقد شبه حاله - عليه السلام - مع ربه بحال من قَرَّبَهُ الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط، وقيل معناه (¬3): ورفعناه مكانًا عاليًا فوق السموات، حتى سمع صرير القلم، حيث كتبت التوراة في الألواح، وفي "القاموس": ناجاه مناجاةً، إذا سارّه ونجيّ: فعيل من المناجاة، بمعنى: مناجٍ، كالجليس، وهو: المنفرد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراح.

[53]

بالمناجاة، وهي المسارة بالقول. وقصارى ذلك (¬1): أنه تجاوز العالم المادي، وانغمس في العالم الروحي، فقرب من ربه، وارتقت نفسمه، حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة. وسادسها: 53 - ما ذكره بقوله: {وَوَهَبْنَا}؛ أي: لموسى {مِنْ رَحْمَتِنَا}؛ أي: من أجل رحمتنا ورأفتنا {أَخَاهُ هَارُونَ} أخاه مفعول {وَهَبْنَا} و {هَارُونَ}: عطف بيان لـ {أَخَاهُ}، حالة كون هارون {نَبِيًّا} من الأنبياء، ليكون معه وزيرًا كما سأل ذلك ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} فالهبة على ظاهرها، كما في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} فإن هارون كان أسنَّ من موسى، فوجب الحمل على المعاضدة والموازرة. والمعنى: أي (¬2) وجعلنا أخاه هارون نبيًا من أجل رأفتنا به، ليكون وزيرًا له ومعينًا له في تبليغ الرسالة، وهذا إشارة إلى أن النبوة ليست كسبية، بل هي من مواهب الله تعالى، يهب لمن يشاء النبوة والرسالة، لإشارة إلى أن لموسى إختصاصًا بالقربة والقبول عند الله تعالى، حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته، كما يهب الأنبياء والرسل بشفاعة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيمَ الخليل عليه السلام". قال بعض السلف (¬3): ما شفع أحد في أحد في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًا، قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين. 54 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}؛ أي: واتل يا محمد في القرآن قصة جدك إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - على قومك، وبلغها إليهم، فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الإعتناء بأمره، بإيراده مستقلًا، ولم يخالف أحد في أنه إسماعيل بن إبراهيم، إلا من لا يعتد به، فقال: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

قومه، فسلخوا جلدة رأسه، فخيَّره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه {إِنَّهُ}؛ أي: إن إسماعيل {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}؛ أي: وافيه فيما بينه وبين الله، وكذا فيما بينه وبين الناس، ووصف الله - سبحانه وتعالى - إسماعيل بصدق الوعد، مع كون جميع الأنبياء كذلك؛ لأنه كان مشهورًا بذلك، مبالغًا فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح، فوفى بذلك حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قيل (¬1) إنه لم يعد شيئًا إلا وفي به. قيل: إنه وعد رجلًا أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل، فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل، وقيل: إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد الرجل ميعاداً إلى أي وقت ينتظر، فقال: إن وعده نهارًا .. فكل النهار، وإن وعده ليلًا .. فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال: إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى. والوعد (¬2): عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها، والوعيد الإخبار بإيصال الضرر قبل وقوعه، والعرب لا تعد عيبًا ولا خلفًا، إن يعد أحد شرًا .. لا يفعله، بل ترى ذلك كرمًا وفضلًا، كما قيل. وَإِنِّيْ إِذَا أَوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفٌ إِيْعَادِيْ وَمُنْجِزٌ وَعْدِيْ وقيل: إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ نَجَّزَ وَعْدَهُ ... وَإِنْ أَوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَقْلُ مَانِعُهْ وفي الحديث: "من وعد لأحد على عمله ثوابًا .. فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقابًا .. فهو بالخيار". وفي الآية حث على صدق الوعد والوفاء به، والأصل فيه: نيته؛ لقوله - عليه السلام -: "إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجيء للميعاد .. فلا إثم عليه". ومعنى الآية: واتل (¬3) أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[55]

علهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها: 1 - {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}؛ أي: وافي الوعد، فما وعد عدةً إلا وفي بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فصدق في ذلك ووفى بما قال، وامتثل حتى جاءه الفداء، وصدق الوعد (¬1) من الصفات التي حث عليها الدين وشدد فيها، أيَّما تشديد، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث .. كذب، وإذا وعد .. أخلف، وإذا أؤتمن .. خان" وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالمًا ولا جاهلًا إلا وهو بمنأىً عنها, ولا سيما التجار والصناع والعمال. 2 - {وَكَانَ} إسماعيل - عليه السلام - {رَسُولًا} إلى جرهم، الذين حلوا بمكة معه ومع أمه، وإلى العماليق، وإلى قبائل اليمن، بتبليغ شريعة إبراهيم، زمن أبيه إبراهيم - عليهما السلام - قال في "القاموس" جرهم كقنفذ حيٌّ من اليمن، تزوج فيهم إسماعيل اهـ. وقد استدل (¬2) بقوله تعالى في إسماعيل {وَكَانَ رَسُولًا} على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته، وقيل إنه وصفه بالرسالة، لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم، وكان إسماعيل {نَبِيًّا} يخبر عن الله تعالى، وكان على شريعة أبيه إبراهيم، فنبأ بها قومه، وأنذرهم وخوفهم، ولم يكن له كتابٌ أُنزل إليه بإجماع العلماء، وكذا لوط وإسحاق، ويعقوب، ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل. 3 - 55 وكان إسماعيل {يَأْمُرُ أَهْلَهُ} الخاص (¬3): وهو من اتصل به بجهة الزوجية والولادة، والعام: وهو من اتصل به بجهة الدعوة، وهم قومه، ويجوز أن يرجح الأول؛ لأن الأهم أن يقبل الرجل بالتكميل على نفسه، وعلى من هو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[56]

أقرب الناس إليه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} وقال {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} وقال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فإنهم إذا صلحوا .. صلح الكل، وتزيَّا بزيهم بالخير والصلاح {بِالصَّلَاةِ} التي هي أشرف العبادات البدنية {وَالزَّكَاةِ} التي هي أفضل العبادات المالية، وفيه إشارة إلى أن من حق الصالح أن ينصح للأقارب والأجانب، ويحظيهم بالفوائد الدينية. 4 - {وَكَانَ} إسماعيل {عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} في الأقوال والأفعال والأحوال؛ أي: مرضيًا عمله عند ربه، محمودًا فيما كلّفه به، غير مقصرٍ في طاعته، فائزًا في كل طاعاته بأعلى الدرجات، فاقتد أيها الوصول به لأنه من أجل أبائك، وعن (¬1) بعض الصالحين، أنه قال: نزل عندي أضياف، وعلمت أنهم أبدال من عباد الله الصالحين، فقلت لهم: أوصوني بوصية بالغة، حتى أخاف الله، قالوا: نوصيك بستة أشياء: أولها: من كثر نومه .. فلا يطمع في رقة قلبه. وثانيها: من كثر أكله .. فلا يطمع في قيام الليل. وثالثها: من اختار صحبة ظالم .. فلا يطمع في استقامة دينه. ورابعها: من كان الكذب والغيبة عادته .. فلا يطمع في أن يخرج من الدنيا مع الإيمان. وخامسها: من كثر اختلاطه بالناس .. فلا يطمع في حلاوة العبادة. وسادسها: من طلب رضي الناس .. فلا يطمع في رضي الله تعالى. وقرأ الجمهور (¬2): {مَرْضِيًّا} وهو اسم مفعل أصله مرضوو فأُعِلّ بقلب واوه ياءً، كما سيأتي في مبحث التصريف، وقرأ ابن أبي عبلة: {مرضوا} مصححًا، وقالت العرب أرض مسنية ومسنوَّة، وهي التي تسقى بالسواني. 56 - {وَاذْكُرْ} يا محمد {فِي الْكِتَابِ}؛ أي: في القرآن {إِدْرِيسَ}؛ أي: قصته؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[57]

أي: واتل يا محمد في القرآن قصة إدريس - عليه السلام - على قومك بالثناء، والنسابون يقولون: إنه (¬1) جد أبي نوح، فإن نوحًا بن لمك، بن مشوشلخ، بن أخنوخ وهو إدريس النبي - عليه السلام - بن يرد، بن مهلاييل، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، بن آدم - عليه السلام - ولد إدريس وآدم حي قبل أن يموت بمئة سنة، كذا في "روضة الخطيب" ويقولون: إنه أول من وضع الميزان والمكيال، وأول من اتخذ السلاح، وجاهد في سبيل الله، وسبق واسترق بني قابيل، وأول من خط بالقلم، ونظر في علم الحساب والنجوم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من لبس ثوب القطن، واشتقاقه من الدرس، فلُقِّب به لكثرة دراسته، إذ رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً، وجعل الله ذلك من معجزاته، وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوَّل عليه في الرواية يجعلنا في شكٍ من كل هذا، فعلينا أن نكتفي بما جاء به الكتاب الكريم في شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفاتٍ كلها مفاخر، ومناقب إعظام وإجلالٍ: 1 - {إِنَّهُ}؛ أي: إن إدريس - عليه السلام - {كَانَ صِدِّيقًا}؛ أي: ملازمًا للصدق في أحواله. 2 - {نَبِيًّا} ينبىء عن الله تعالى - خبر آخر لـ {كان} مخصص للأول - إذ ليس كل صديق نبيًا، قال عباس بن عطاءٍ: أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين، وأدنى مراتب النبيين أعلى مراتب الصديقين، وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين 57 - {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}؛ أي (¬2): أعلينا قدره، ورفعنا ذكره في الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} وقيل: إن معنى رفعه ما أعطي من شرف النبوة، وقيل: إنه رفع إلى الجنة، وقيل: معنى قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}؛ أي: رفعناه إلى السماء الرابعة، وهذا القول أصح. ويدل عليه ما روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[58]

رأى إدريس في السماء الرابعة، ليلة المعراج" متفق عليه. وكان سبب رفعه إليها (¬1): أنه سار ذات يوم في حاجة، فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إني قد مشيت فيها يومًا فأصابني منها ما أصابني، فكيف من يحملها مسيرة خمس مئة في يوم واحد؟ اللهم خفف عنها من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك .. وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب خففت عني حر الشمس، فما الذي قضيت فيه، قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فاجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خلةً، فأذن الله تعالى له حتى أتى إدريس ورفعه إلى السماء. واختلف القائلون بأنه في السماء (¬2)، أهو حيٌّ فيها أم ميت، فالجمهور: على أنه حيٌّ وهو الصحيح، وقالوا: أربعة من الأنبياء في الأحياء: اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى، كما في "بحر العلوم". 58 - {أُولَئِكَ} العشرة المذكورون في هذه السورة من زكريا إلى إدريس - عليهم الصلاة والسلام - هم {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْهِمْ} بأنواع النعم الدينية والدنيوية، حال كونهم {مِنَ النَّبِيِّين} والمرسلين بيان للوصول حالة كون بعضهم {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} بدل من النبيين، بإعادة الجار، ويجوز (¬3) أن تكون {مِنْ} فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء، وأخص من الذرية؛ يعني به إدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}؛ أي: ومن ذرية من حملنا مع نوح في سفينته؛ يريد: إبراهيم؛ لأنه من ذرية سام بن نوح {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ}؛ يعني: إسحاق وإسماعيل ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} عطف على إبراهيم؛ أي: ومن ذرية إسرائيل؛ أي: يعقوب وكان منهم موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية؛ لأن عيسى من مريم، وهي من نسل يعقوب {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا}؛ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي.

أي: وحالة كونهم من جملة من هديناهم، وأرشدناهم إلى الحق {و} من جملة من {اجتبينا} هم واصطفيناهم للنبوة والكرامة، قالوا: {من} فيه للتبيين، إن عطف على {مِنَ النَّبِيِّينَ} وللتبعيض إن عطف على و {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} {إِذَا تُتْلَى} وتقرأ {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على هؤلاء الأنبياء {آيَاتُ الرَّحْمَنِ}؛ أي: آيات الترغيب والترهيب في كتبهم المنزلة عليهم {خَرُّوا}؛ أي: سقطوا على الأرض حال كونهم {سُجَّدًا}؛ أي: ساجدين جمع ساجد {وَبُكِيًّا}؛ أي: باكين جمع باكٍ، وأصله بكويًا؛ يعني (¬1): إن الأنبياء قبلكم مع مالهم من علو المرتبة في شرف النسب، وكمال النفس، والزلفى من الله تعالى، كانوا يسجدون ويبكون لسماع آيات الله تعالى، فكونوا مثلهم وفي الحديث: "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان .. فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم .. فليبك قلبه. قال صالح المريّ: قرأت القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء اهـ. وقد استدل بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة. والمعنى: أي (¬2) إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه .. خروا لله سجدًا استكانةً له وتذللًا وخضوعاً لأمره، وانقيادًا له وهم باكون خشيةً منه، وحذرًا من عقابه، وقصارى ذلك إنه سبحانه أبان علو أمرهم في الدين والنسب والقرب منه. ويقول في سجود التلاوة: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا. ذكره النسفي في "تفسيره" في هذا الموضع. فصل وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن (¬3)، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل: يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعو بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدةَ سبحان .. قال: اللهم اجعلني من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[59]

الباكين إليك والخاشعين لك، وإن قرأ سجدة مريم .. قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك، وإن سجد سجدة {الم} السجدة ... قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك. وقرأ الجمهور (¬1): {تُتْلَى} بتاء التأنيث، وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، وشيبة، وشبل بن عباد، وأبو حيوة، وعبد الله بن أحمد العجلي، عن حمزة، وقتيبة في رواية, وورش في رواية النحاس، وابن ذكران في رواية الثعلبي: بالياء، وقرأ الجمهور {بكيا} بضم الباء، وعبد الله، ويحيى، والأعمش، وحمزة، والكسائي: بكسرها اتباعًا لحركة الكاف، كعسيّ ودليّ، والظاهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله، وقال ابن عطية: {وبكياً} بكسر الباء هو مصدر لا يحتمل غير ذلك. انتهى. 59 - ولما مدح سبحانه هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيبًا لغيرهم في الاقتداء بهم، وسلوك طريقتهم .. ذكر أضدادهم تنفيرًا للناس عن طريقتهم، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: جاء ووجد من بعد هؤلاء الأنبياء المذكورين وعقب عنهم {خلف}؛ أي: عقب سوءٍ من أولادهم، وفي "الجلالين": بقي من بعد هؤلاء قوم سوء يعني اليهود والنصارى والمجوس. انتهى. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير: خلف بفتح اللام ولعقب الشر خلف بسكون اللام، واختلفوا (¬2) فيمن نزلت هذه الآية فيه، فقيل: في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل في قوم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يأتون في آخر الزمان؛ أي: جاء من بعد هؤلاء المذكورين قوم سوء {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: تركوا أو أخروها عن وقتها، أو ضيّعوا ثوابها بعد الأداء، بالنميمة والغيبة والكذب ونحوها، أو شرعوا فيها بلا نيةٍ، وقاموا لها بلا خضوع ولا خشوع، وقيل: كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل: لم يأتوا بها على الوجه المشروع، وقيل: إقامتها في غير الجماعات، وقيل: تعطيل المساجد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

والاشتغال بالصنائع والأسباب، والظاهر: أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضًا من فروضها، أو شرطًا من شروطها، أو ركنًا من أركانها، فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها المرة أو حجدها دخولًا أوليًا. وقرأ عبد الله، والحسن، وأبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن مقسم {الصلوات} جمعًا {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}؛ أي: ارتكبوا شهوات أنفسهم، وآثروها على طاعة الله تعالى؛ أي: فعلوا ما تشتهيه أنفسهم، وترغب إليه من المحرمات، كشرب الخمر، والدخان، والحشيش، وفعل الزنا، واللواط، وإدمان النظر إلى الأجنبيات، والاختلاط بهن، وإضاعة الوقت في استماع الملاهي والنظر إليها، كالتلفزيون والفيديو، والاشتغال بما لا يغني، من إكثار قيل وقال، والولع بقراءة الجرائد والأخبار عن تلاوة كتاب الله تعالى وقراءة الحديث، إلى نحو أولئك من الشهوات التي انهمك فيها أهل الزمان، حتى يظنونها من الأمور الدينية، لجهلهم أو لعدم مبالاتهم بدينهم، وبالجملة فالشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة، وذكر الله تعالى، كاللعب بالكريات مما لا ينفع في الحرب. والمعنى: أي (¬1) فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا، خلف سوءٍ خلفوهم في الأرض، كاليهود والنصارى، ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله تعالى، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيةً وعلانيةً. وأخرج أحمد، وابن حبان، والحاكم، في جماعة آخرين، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلا هذه الآية قال: "يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيًّا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن، لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر". وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت ¬

_ (¬1) المراغي.

[60]

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيهلك من أمتي أهل الكتاب، وأهل اللبن" قلت: يا رسول الله، ما أهل الكتاب؟ قال: "قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا" قلت: وما أهل اللبن؟ قال: "قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات" ثم ذكر عاقبة أعمالهم وسوء مآلهم فقال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ} في الآخرة {غَيًّا}؛ أي: شرًا وخسرانًا لإهمالهم أداء واجبات الدين، وانهماكهم في المعاصي والآثام، فإن كلّ (¬1) شر عند العرب غي، فكل خير رشاد، وعن الضحاك: أي جزاءَ غي، كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا}،؛ أي: جزاءَ أثام وقيل {غَيًّا}؛ أي: واديًا في جهنم، يستعيذ من حرّه أوديتها، أعد للزاني، وشارب الخمر، وآكل الربا، وشاهد الزور، ولأهل العقوق، وتارك الصلاة، وقيل: الغيّ الضلال، وقيل: الخيبة، وقرىء فيما حكى الأخفش: {يَلْقَوْنَ} بضم الياء وفتح اللام وشد القاف 60 - {إِلَّا مَنْ تَابَ} منهم ورجع مما فرط منه من تضييع الصلوات، واتباع الشهوات، إلى طاعة الله تعالى {وَآمَنَ} بالله من الكفر {وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} بعد التوبة والندم، وفي هذا (¬2) الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة، لا في المسلمين {فَأُولَئِكَ} الموصوفون بالتوبة، والإيمان والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بموجب الوعد المحتوم، قرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر {يَدْخُلُونَ} بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الخاء وقرأ ابن غزوان عن طلح: {سيدخلون} بسين إلاستقبال مبنيًا للفاعل. {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}؛ أي: لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان قليلًا، فإن الله سبحانه وتعالى يوفي إليهم أجورهم، وانتصاب {جَنَّاتِ عَدْنٍ} على البدل من الجنة بدل البعض لكون جنات عدن بعضًا من الجنة، ويكون قوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ} اعتراضًا، أو حالًا كما في "البحر" قال الزجاج: ويجوز {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بالرفع وقرىء كذلك؛ يعني: على الابتداء، والخبر {الَّتِي}، وقرأ الجمهور (¬3) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكانى. (¬3) البحر المحيط.

[61]

{جَنَّاتِ} نصبًا جمعًا بدلًا من الجنة كما مر آنفًا، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر، والأعمش، وأحمد بن موسى عن أبي عمرو {جنات} رفعًا جمعًا؛ أي: تلك جنات أو الخبر (التي) وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح {جنة عدن} نصبًا مفردًا، ورويت عن الأعمش، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقرأ اليماني، والحسن، وإسحق الأزرق عن حمزة {جنة عدن} رفعًا مفردًا وقرىء بصرف {عَدْنٍ} ومنعه، على أنها علم لمعنى العدن وهو: الإقامة، أو علم لأرض الجنة، ومعنى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} إلخ؛ أي: لكن (¬1) من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا باللهِ ورسوله، وأطاعوه فيما أمر به، وأدوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، كما جاء في الحديث "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}؛ أي: ولا ينقصون شيئًا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباءً، وصارت نسيًا منسيًا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده، 61 - ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة .. وصف هذه الجنة بأمورٍ فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}؛ أي: هذه الجنة هي جنات إقامة مؤبدة، لا كجنات الدنيا، وجنات عدن علم لجنة مخصوصة، كشهر رمضان، وقد يحذف فيقال: جاء رمضان، وقيل: جنات عدن: علم لدار الثواب جميعًا، والعدن: الإقامة وهو الإنسب بمثل هذا المقام، فإن جنة عدن المخصوصة، وجنة الفردوس لا يدخلها العوام بالأصالة، لأنهما مقام المقربين {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ}؛ أي: وعدها إياهم حالة كونها متلبسة {بِالْغَيْبِ} عنهم؛ أي: والحال أنها غائبة (¬2) عنهم غير حاضرة، أو حالة كونهم غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، وفي الإضافة في قوله: {عِبَادَهُ} إشارة إلى أن المراد من يعبده مخلصًا له في العبودية، لا يعبد الدنيا، والنفس والهوى، إذ كمال التشريف بالإضافة، إنما يحصل بهذا المعنى، فله جنة عدن المخصوصة {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كَانَ وَعْدُهُ}؛ أي: موعوده ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[62]

الذي هو الجنة {مَأْتِيًّا}؛ أي: يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف؛ لأن وعده تعالى لا يخلف، فالمأتي بمعنى المفعول من الإتيان؛ أي: مفعولًا أو بمعنى الفاعل؛ أي: جائيًا آتيًا ألبتة. 62 - {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنان {لَغْوًا}؛ أي: فضول كلامٍ لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يُجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن {إِلَّا سَلَامًا} استثناء منقطع؛ أي: لكن يسمعون تسليم الملائكة، أو تسليم بعضهم على بعض، والمعنى: إن (¬1) أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم، وإنما يسمعون ما يسلمهم {وَلَهُمْ}؛ أي: ولأولئك الموصوفين بالتوبة والإيمان والعمل الصالح {رِزْقُهُمْ}؛ أي: ما يشتهون من المطاعم والمشارب {فِيهَا}؛ أي: في جنات عدن {بُكْرَةً وَعَشِيًّا}؛ أي: في قدر وقت البكرة ووقت العشي من نهار أيام الدنيا؛ أي: إن (¬2) الذي بين غدائهم وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداء أحدنا في الدنيا وعشائه، إذ لا نهار ثمة ولا ليل، بل هم في نور أبدًا، وإنما وصف الجنة بذلك لأن العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي. وخلاصة ذلك: أنه لا بكرة في الجنة ولا عشي، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم في مقدار طرفي النهار، كما كانوا في الدنيا, 63 - ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا .. ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ}؛ أي: هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة هي {الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}؛ أي: مجتنبًا عن الشرك والمعاصي، مطيعًا لله تعالى؛ أي: نورثها ونعطيها بغير اختيار الوارث من كان من أهل التقوى من عبادنا؛ أي: هي التي نجعلها ملكًا وميراثًا لعبادنا المتقين، الذين يطيعون الله في السر والعلن، ويحمدونه على السراء والضراء، كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: نورث من كان تقيًا من عبادنا، والمعنى (¬3): ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغى. (¬3) روح البيان.

[64]

نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقي على الوارث مال مورثه ونمتعه به، قال في "الأسئلة المقحمة": كيف قال {نُورِثُ} والميراث ما انتقل من شخص إلى شخص؟ والجواب أن هذا على وجه التشبيه، أراد أن الأعمال سبب لها، كالنسب سبب ملك بلا كسب ولا تكلف، وكذا الجنة عطاء من الله ورحمة منه، خلافًا للقدرية. انتهى. وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} إلى أن قال {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}. وقرأ الجمهور (¬1): {نُورِثُ} مضارع أورث وقرأ الأعمش: {نورثها} بإبراز الضمير العائد على الموصول، وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة، ورويس، وحميد، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، من ورث المضعف. 64 - قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}؛ أي: قال الله سبحانه: قل يا جبريل لمحمد جوابًا عن استبطائه لنزولك: وما تتنزل الملائكة يا محمد بالوحي على الرسل وقتًا بعد وقت {إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} وإذنه وإرادته على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم. في دينهم ودنياهم، وقرأ الجمهور: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} بالنون عن جبريل نفسه والملائكة، وقرأ الأعرج {يتنزل} بالياء على أنه خبر من الله تعالى، ذكره في "البحر" ثم علل الملك ذلك بقوله: {لَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من الأزمنة المستقبلة {وَمَا خَلْفَنَا} من الأزمنة الماضية {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: بين الأيدي والخلف من الأزمنة الحاضرة فلا ننزل في زمانٍ دون زمان إلا بإذنه، فهو المدبر لنا في جميع الأزمنة، أو المعنى (¬2)؛ أي: لربك ما قدامنا وما خلفنا من الجهات، وما نحن فيه فلا ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان، إلا بأمره ومشيئته. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[65]

وقصارى ذلك: أن أمرنا موكول إلى الله تعالى، يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته، لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل، وقيل المعنى (¬1): له ما سلف من أمر الدنيا، وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين، وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غير منها، والحالة التي نحن فيها، وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء، لا يخفى عليه خافيةٌ ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فلا تقدم على أمر إلا بإذنه، وقال: {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ولم يقل: وما بين ذينك بالتثنية؛ لأن المراد: وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا محمد {نَسِيًّا}؛ أي: تاركاً لك بتأخير الوحي عنك، فعدم النزول لعدم الأمر به لحكمةٍ بالغةٍ فيه، قال أهل التفسير (¬2): {نَسِيًّا} فعيل بمعنى فاعل من النسيان بمعنى: الترك؛ أي: تاركاً لك كما زعمت الكفرة، وإن تأخر الوحي عنك لمصلحة، أو بمعنى نقيض الذكر الذي هو الغفلة؛ أي: غافلًا عنك، والمعنى؛ أي: إنه (¬3) تعالى لإحاطة علمه بملكه لا يطرأ عليه غفلة ولا نيسان، حتى يغفل عنك، وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحي لحكمة علمها جل شأنه. أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني في جماعة آخرين، عن أبي الدرداء مرفوعًا قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا، ثم تلا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ". 65 - ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله هو سبحانه {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: مالكهما وخالقهما، فهو: خبر لمبتدأ محذوف كما قدرنا {وَ} خالق {مَا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

بَيْنَهُمَا}؛ أي: ما بين السموات والأرض، ومالكه، ومن كان كذلك فالنسيان محال عليه، فإن من بيده ملكوت كل شيء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان: ثم بيَّن ما ينبغي لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا من عبادته والصبر عليها، فقال: {فَاعْبُدْهُ} (الفاء) فيه فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفت يا محمد أنه الرب المسيطر على ما في السموات والأرض، وما بينهما، والقابض على أعنتها، وأردت بيان ما ينبغي لك .. فأقول لك أعبده - سبحانه وتعالى - واثبت على عبادته، والعبادة: قيام العبد بما تعبد به وتكلف من امتثال الأوامر واجتناب النواهي. وفي "التأويلات النجمية": {فَاعْبُدْهُ} بجسدك ونفسك وقلبك وسرك وروحك، فعبادة جسدك إياه بأركان الشريعة، وهي الائتمار بما أمرك الله به، والانتهاء عما نهاك عنه، وعبادة نفسك بآداب الطريقة، وهي ترك موافقة هواها، ولزوم مخالفة هواها، وعبادة القلب الإعراض عن الدنيا وما فيها، والإقبال على الآخرة ومكارمها، وعبادة السر خلوّه عن تعلقات الكونين اتصالًا بالله تعالى، ومحبةً. وعبادة الروح: ببذل الوجود لنيل الشهود {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: واصبر على مشاقها وشدائدها, ولا تحزن بإبطاء الوحي واستهزاء الكفرة، وشماتتهم بك، فإنه يراقبك ويراعيك، ويلطف بك في الدنيا والآخرة، وإياك أن يصدك عنها ما يحدث من إبطاء الوحي وتقوُّل المشركين الخراصين عن سببه. وتعدية (¬1) الاصطبار باللام، لا بحرف الاستعلاء كقوله: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} لتضمنه معنى الثبات للعبادة، فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق، كقولك للمبارز اصطبر لقرنك؛ أي: أثبت له فيما يورد عليك من شدائده وحملانه. ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ}؛ أي: هل تعلم يا محمد للرب سبحانه {سَمِيًّا}؛ أي: مشاركًا له في اسمه؛ أي: في تسميته بلفظ الجلالة، أو برب السموات والأرض، والاستفهام (¬2) فيه للإنكار، والمعنى: أنه ليس له مثل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[66]

ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة، وتخلص له، وهذا مبتي على أن المراد بالسمي هو الشريك في المسمى، وقيل: المراد به: الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل: المعنى إنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط، يعني: بعد دخول الألف واللام التي عوِّضت عن الهمزة، ولزمت، وقيل: المراد هل تعلم أحدًا اسمه الرحمن غيره. قال الزجاج: تأويله - والله أعلم - هل تعلم له سميًا يستحق أن يقال له خالق، وقادر، وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه؛ لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله. والمعنى (¬1): هل تعلم له سبحانه شبيهًا ومثلًا يستحق العبادة، لكونه منعمًا متفضلًا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم، بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه، روي (¬2) أن بعض الجبابرة سمى نفسه بلفظ الجلالة فصهر ما في بطنه من دبره، وهلك من ساعته. وقال فرعون مصر للقبط: أنا ربكم الأعلى، ولم يقدر أن يقول أنا الله. وقرأ الجمهور (¬3): {هَلْ تَعْلَم} بإظهار اللام عند التاء، وقرأ الأخوان حمزة، والكسائي، وهشام وعلي بن نصر، وهارون كلاهما عن أبي عمرو، والحسن، والأعمش، وعيسى، وابن محيصن: بالإدغام فيهما قال أبو عبيدة: لغتان، وعلى الإدغام أنشدوا بيت مزاحم العقيلي: فَذَرْ ذَا وَلَكِنْ هَلْ تُعِيْنُ مُتَيَّمَاً ... عَلَى ضَوْءِ بَرْقٍ آخِرَ اللَّيْلِ نَاصِبِ 66 - {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} بطريق الإنكار والاستبعاد للبعث، وهو أبيّ بن خلف حين فتّ عظمًا باليًا فقال: يزعم محمد أنا نبعث بعدما نموت ونصير إلى هذه الحال! ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

فأل فيه للتعريف العهدي وقيل (¬1): اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض وهم الكفرة، فقد يسند للجماعة ما قام بواحدٍ منهم {أَإِذَا مَا مِتّ} وكنت رميمًا {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} من القبر حالة كوني {حَيًّا} وتقديم (¬2) الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار، لما أن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة، وانتصابه بفعلٍ دل عليه {أُخْرَجُ} وهو البعث لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها لصدارتها، وهي في الأصل: للحال، وهاهنا للتأكيد المجرد؛ أي: لتأكيد معنى همزة الإنكار في {أَءِنَا} ولذا جاز اقترانها بسوف الذي هو حرف الاستقبال، وفي "التكملة" اللام في قوله تعالى: {لَسَوْفَ} ليست للتأكيد فإنه منكر، فكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكايته لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الإنسان إذا مات لسوف يخرج حيًا، فأنكر الكافر ذلك، وحكى قوله فنزلت الآية على ذلك. حكاه الجرجاني في كتاب "نظم القرآن". قال في "بحر العلوم" (¬3): لما كانت هذه اللام لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر .. وجب تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله لأنا سوف أخرج حيًا وما في {إِذَا مَا} للتوكيد أيضًا وتكرير التوكيد إنكار على إنكار. انتهى {والهمزة} في قوله: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذول و (الواو) عاطفة للجملة المنفية على ذلك المحذوف، والذكر في الأصل هو العلم بما قد علم من قبل، ثم تخلله سهو وهم ما كانوا عالمين، فالمراد به هنا التذكر والتفكر، والتقدير: أيقول الإنسان ذلك الكلام؛ أعني قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}؛ أي: أيقول ذلك ولا يتفكر ولا يتذكر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ} وأوجدناه من نطفة منتنة {مِنْ قَبْل}؛ أي: من قبل هذه الحالة التي هو فيها الآن، وهي حالة بقائه {و} الحال أنه {لَمْ يَكُ شَيْئًا} موجودًا بل كان عدمًا صرفًا، فيعلم أن من قدر على الابتداء من غير سبق مادة قدر على الإعادة بجمع المواد بعد تفريقها، وفي ¬

_ (¬1) الشوكانى. (¬2) روح البيان. (¬3) السمرقندي.

هذا دليل على صحة القياس، حيث، أنكر عليه جهله في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى، فيستدل به على البعث والإعادة، قيل: لو اجتمع الخلق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار .. ما قدروا. وقوله: {وَلَمْ يَكُ} أصله (¬1): لم يكن، حذفت النون تخفيفًا لكثرة الاستعمال، أو تشبيهًا بحروف العلة في امتداد الصوت، وقال الرضي: النون مشابه للواو في الغنة. والمعنى: أي (¬2) أيقول ذلك ولا يتفكر الإنسان المجترىء على ربه المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللأحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فانشأه بشرًا سويًا من غير شيءٍ، فليعتبر بذلك، وليعلم أن من أنشاه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه. والخلاصة: أي (¬3) ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة؛ لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود، ابتداعًا وإختراعًا، لم يتقدم عليه ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة، فقد تقدم عليها النشأة الأولى، فكنت كالمثال لها. وقرأ الجمهور (¬4): {أَإِذَا} بهمزة الاستفهام وقرأت فرقة - منهم ابن ذكوان بخلافٍ عنه -: {إذا} بدون همزة الاستفهام، وقرأ الجمهور: {لَسَوْفَ} باللام، وقرأ طلحة بن مصرف {سأخرج} بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذا معمولًا لقوله: {سأخرج} لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافًا شاذًا، وصاحبه محجوج بالسماع، قال الشاعر: فَلَمَّا رَأَتْهُ آمِنَاً هَانَ وَجْدُهَا ... وَقَالَتْ أَبُوْنَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[67]

فهكذا منصوب بيفعل، وهو بحرف التنفيس، وحكى الزمخشري: أن طلحة بن مصرف قرأ: {لسأخرج} وقال الزمخشري: فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصةً للتوكيد، كما أخلصت الهمزة في يا ألله للتعويض واضمحلّ عنها معنى التعريف. انتهى وقرأ الجمهور {أُخْرَجُ} مبنيًا للمفعول، وقرأ الحسن، وأبو حيوة: مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو بحرية، والحسن، وشيبة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وأبو حاتم، ومن السبعة عاصم، وابن عامر، ونافع 67 - {أَوَلَا يَذْكُرُ} خفيفًا مضارع ذكر، وقرأ باقي السبعة، بفتح الذال والكاف وتشديدهما، أصله: يتذكر أدغم التاء في الذال، وقرأ أبيّ {يتذكر} على الأصل، قال الزمخشري: الواو عاطفة {لا يذكر} على يقول، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف. وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة، من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يُعطف عليه ما بعد الواو، فيُقرَّ الهمزة على حالها, وليست مقدمةً من تأخير، وقد رددنا عليه هذه المقالة، 68 - ثم لما جاء - سبحانه وتعالى - بهذه الحجة التي أجمع العقلاءُ على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها .. أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافًا إلى رسوله تشريفًا وتعظيمًا، فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ}؛ أي: فأقسمت لك يا محمد بربك ومالك أمرك لنحشرن هؤلاء القائلين بعدم البعث، أي: لنجمعنهم بالسوق إلى المحشر، ومعنى (¬1): {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياءً، كما كانوا، (والواو) في قوله: {وَالشَّيَاطِينَ} للعطف على الضمير المنصوب، أو بمعنى مع، روي أن كل كافر يحشر مع شيطانه الذي يضله في سلسلة. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[69]

والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله تعالى مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فلكونه قد وُجد في الجنس من يحشر مع شيطانه {لَنُحْضِرَنَّهُمْ} بعد الوقوف الطويل في المحشر {حَوْلَ جَهَنَّمَ} من خارجها حال كونهم {جِثِيًّا}؛ أي: جالسين (¬1) على الركب إهانةً لهم، أو لما يعرضهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، جمع جاث، من جثا يجثو ويجثى جثوًا وجثيًا فيهما، جلس على ركبتيه، كما في "القاموس" وعن ابن عباس رضي الله عنهما {جِثِيًّا}؛ أي: جماعات جماعاتٍ، جمع جثوة وهي الجماعة أو المجموع، من الشراب أو الحجارة 69 - {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ}؛ أي: لنأخذن {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ}؛ أي: من كل فرقةٍ وجماعة منهم {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ}؛ أي: من هو أشد على الرحمن الذي غمرهم إحسانه {عِتِيًّا}؛ أي: تكبراً وجراءةً على المعاصي ومجاوزة للحدود التى سنها لخلقه، والشيعة: الفرقة تبعت ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال: هي الطائفة التي شايعت؛ أي: تبعت غاويًا من الغواة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} ومعنى {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}؛ أي: ثم لنخرجن من كل أمة من كان أعصى لله وأعتى، فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم، والعتي هاهنا مصدر كالعتو، وهو: التمرد في العصيان، وقيل: المعنى: لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤساءَهم في الشر، وقصارى (¬2) ذلك أن الله تعالى يحضرهم أولًا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردًا في كفره .. خص بعذاب أعظم، فعذاب الضال المضل فوق عذاب من يضل بالتبع لغيره. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (¬3): {جِثِيًّا} و {عِتِيًّا} و {صِلِيًّا} بكسر الجيم والعين والصاد، والجمهور: بضمها وقرأ الجمهور {أَيُّهُمْ} بالرفع، وهي حركة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[70]

بناء على مذهب سيبويه، وحركة إعرإب على مذهب الخليل ويونس، وقرأ طلحة بن مصرف، ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء، وزائدة، عن الأعمش {أيهم} بالنصب مفعولًا بـ {لننزعن} 70 - {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى} وأحق {بِهَا}؛ أي: بجهنم {صِلِيًّا}؛ أي: دخولًا، فنبدأ بهم وهم المنتزعون من كل شيعة، والمعنى؛ أي: ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسوا به أنفسهم من الموبقات، وبمن هم أولى بجهنم دخولًا واحتراقًا، فنبدأ بهم أولًا، ثم بمن يليهم. وخلاصة ذلك: أنهم جميعًا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم في جهنم بحسب عتيهم وتجبرهم في كفرهم، 71 - ثم خاطب سبحانه الناس جميعًا، فقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ}؛ أي: وما منكم أيها الناس، وقيل: القسم فيه مضمر؛ أي: والله ما منكم من أحد {إِلَّا وَارِدُهَا}؛ أي: واصل جهنم وداخلها {كَانَ} ورودهم إياها {عَلَى رَبِّكَ} يا محمد {حَتْمًا}؛ أي: أمرًا محتومًا، أوجبه الله سبحانه على نفسه، بمقتضى وعيده {مَقْضِيًّا}؛ أي: مفروغًا منه قضاؤه، حتى إنه لا بد من وقوعه البتة؛ أي (¬1): وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم، ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك، وجعله أمرًا محتومًا مفروغًا منه، روى السدي عن ابن مسعود قال: "يرد الناس جميعًا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل ... " في حديث طويل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم". ولا يخفى (¬2) أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك؛ لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار، مع كون الداخل من المؤمنين مبعدًا من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[72]

المنصوب عليها وهو الصراط. 72 - {ثُمَّ} إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة، على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب {نُنَجِّي} نحن ونسلم {الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي منها بحسسب أعمالهم {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: ونترك الظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي {فِيهَا}؛ أي: في نار جهنم {جِثِيًّا}؛ أي: جاثين جالسين على الركب كما جاؤوا، فإن قلت (¬1): إذا لم يكن في دخول المؤمنين عذاب، فما الفائدة فيه؟. قلت؛ فيه وجوه: الأول: أن يزيدهم سرورًا إذا علموا الخلاص منه. الثاني: يزيد غم أهل النار، لظهور فضيحتهم عند المؤمنين الذين يخوفونهم بالنار. والثالث: يرون أعداءَهم المؤمنين قد تخلصوا منها، وهم يبقون فيها. والرابع: أن المؤمنين إذا كانوا معهم فيها .. بكتوهم فيزداد غمهم. والخامس: أن مشاهدة عذابهم توجب مزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وجماعة (¬2): {وإن منهم} بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر، وقرأ الجمهور: {ثُمَّ} بحرف العطف، وهذا يدل على أن الورود عام، وقرأ عبد الله، وابن عباس، وأبي، وعلي، والجحدري، وابن أبي ليلى، ومعاوية بن قرة، ويعقوب {ثُمَّ}؛ أي: هناك، ووقف ابن أبي ليلى {ثمة} بهاء السكت، وقرأ الجمهور: {نُنَجِّي} بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ يحيى، والأعمش، والكسائي، وابن محيصن: بإسكان النون وتخفيف الجيم، وقرأ فرقة {نجي} بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة وقرأ علي {ننحي} بحاء مهملة مضارع نحَّى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الإعراب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}. {وَاذْكُرْ} {الواو}: عاطفة {اذكر}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ}، {فِي الْكِتَابِ} متعلق بـ {اذكر}، {مُوسَى}: مفعول به {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ} فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {مُوسَى}. {مُخْلَصًا} خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وَكَانَ رَسُولًا}: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى {نَبِيًّا} خبر ثان لـ {كَانَ} {وَنَادَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى {مِنْ جَانِبِ الطُّور}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ناديناه}. {الْأَيْمَنِ} صفة لـ {جَانِبِ} {وَقَرَّبْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {ناديناه}. {نَجِيًّا} حال من أحد الضميرين في {ناديناه} {وَقَرَّبْنَاهُ} وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مناجيًا {وَوَهَبْنَا} فعل وفاعل معطوف على {ناديناه}. {لَهُ} متعلق بـ {وَهَبْنَا}. {مِنْ رَحْمَتِنَا} متعلق بـ {وَهَبْنَا} أيضًا ومعنى {مِنْ} هنا للتبعيض؛ أي: بعض رحمتنا، أو للتعليل؛ أي: من أجل رحمتنا إياه {أَخَاهُ} مفعول به لـ {وَهَبْنَا}. {هَارُونَ} بدل من {أَخَاهُ}. {نَبِيًّا} حال من {هَارُونَ}. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}. {وَاذْكُرْ} فعل أمر {فِي الْكِتَابِ} متعلق به وفاعله ضمير يعود على محمد {إِسْمَاعِيلَ} مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على إسماعيل وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وَكَانَ رَسُولًا} فعل ناقص وخبره {نَبِيًّا}: خبر ثان له واسمه

ضمير يعود على {إِسْمَاعِيلَ} وجملة {كَانَ} في محل الرفع معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى {وَكَانَ}: فعل ناقص معطوف على {كَانَ}: الأولى واسمه ضمير يعود على {إِسْمَاعِيلَ}. {يَأْمُرُ أَهْلَهُ}: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على {إِسْمَاعِيلَ} وجملة {يَأْمُرُ} في محل النصب خبر {كَانَ}. {بِالصَّلَاةِ} متعلق بـ {يأمر} {وَالزَّكَاةِ}: معطوف على {الصلاةِ}، {وَكَانَ}: فعل ناقص معطوف على {كَانَ} الأولى واسمه ضمير يعود على {إِسْمَاعِيلَ}. {عِنْدَ رَبِّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {مَرْضِيًّا}. {مَرْضِيًّا} خبر {كَانَ}. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}. {وَاذْكُرْ} فعل أمر معطوف على {اذكر} الأول وفاعله ضمير يعود على محمد {في الْكِتَابِ}: متعلق به {إِدْرِيسَ}: مفعول به {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كَانَ صِدِّيقًا}: فعل ناقص وخبره {نَبِيًّا}: خبر ثان له واسمه ضمير يعود على {إِدْرِيسَ} وجملة {كَانَ} أي محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وَرَفَعْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به {مَكَانًا}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {رفعناه}. {عَلِيًّا}: صفة لـ {مَكَانًا} وجملة {رفعناه} أي محل الرفع معطوفة على جملة {كَانَ}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - واسم الإشارة: واقع على الأنبياء المذكورين في هذة السورة, وهم عشرة: أولهم في الذكر زكريا وآخرهم إدريس {الَّذِينَ} اسم موصول في نحل الرفع خبر المبتدأ, أو بدل من اسم الإشارة, والجملة الاسمية, مستأنفة {أَنْعَمَ الله}: فعل وفاعل {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أَنْعَمَ}: والجملة صلة الموصول {مِنَ النَّبِيِّينَ} حال من الموصول {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}: بدل {مِنَ النَّبِيِّينَ} بإعادة الجار, {وَمِمَّنْ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}. {حَمَلْنَا}: فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول, والعائد: محذوف تقديره: وممن حملناه {مَعَ نُوحٍ} ظرف متعلق

بـ {حَمَلْنَا} {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، معطوف على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} {وَإِسْرَائِيلَ}: معطوف على {إِبْرَاهِيمَ}. {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} معطوف على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} {هَدَيْنَا}: فعل وفاعل صلة الموصول والعائد محذوف تقديره: هديناهم {وَاجْتَبَيْنَا}: معطوف على {هَدَيْنَا}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {تُتْلَى} فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ}، متعلق به {آيَاتُ الرَّحْمَنِ} نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونه فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي {خَرُّوا} فعل وفاعل {سُجَّدًا} حال من فاعل {خَرُّوا}. {وَبُكِيًّا} معطوف على {سُجَّدًا} وجملة {خَرُّوا}: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إِذَا} مع جوابها: مستأنفة لا محل لها من الإعراب إذا أعربنا {الَّذِينَ} خبرًا وإذا أعربنا {الَّذِينَ} بدلًا فتكون هي الخبر. {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}. {فَخَلَفَ} {الفاء} عاطفة أو استئنافية {خلف}: فعل ماض {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خلف} أو حال من {خَلْفٌ}. {خَلْفٌ}: فاعل والجملة: معطوفة على جملة الصلة في قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: أو مستأنفة {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل الرفع صفة لـ {خَلْفٌ} {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}. {فَسَوْفَ} الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفت قبائح هؤلاء الخلف وأردت بيان عاقبتم .. فأقول لك {سوف يلقون}. {سوف}: حرف تنفيس واستقبال {يَلْقَوْنَ غَيًّا} فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة: إذا المقدرة: مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء متصل على الراجح {مَنْ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من فاعل {يَلْقَوْنَ} مبني على السكون {تَابَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} والجملة صلة الموصول {وَآمَنَ} فعل ماض معطوف على {تَابَ} وكذلك {وَعَمِلَ}: معطوف عليه {صَالِحًا}: مفعول به أو مفعول مطلق؛

أي: عملًا صالحًا {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت هذا الاستثناء وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك {أولئك}. {أولئك}: مبتدأ {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ {وَلَا يُظْلَمُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {يَدْخُلُونَ}. {شَيْئًا}: مفعول مطلق ولك أن تجعله مفعولًا ثانيًا بتضمين {يُظْلَمُونَ} معنى ينقصون، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}. {جَنَّاتِ}: بدل من الجنة منصوب بالكسرة {عَدْنٍ}: مضاف إليه من عدن بالمكان إذا أقام، وقد جرى مجرى العلم، ولذلك ساغ وصفها بالتي {الَّتِي} صفة لـ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} {وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية: صلة الموصول والعائد محذوف تقديره: وعدها الرحمن عباده {بِالْغَيْبِ}: جار ومجرور حال من {عِبَادَهُ}؛ أي: وعدهم إياها وهم غائبون عنها لا يرونها، أو حال من ضمير {الجنة} العائد على الموصول؛ أي: وعدها إياهم وهي غائبة عنهم {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والضمير في إنه يعود على {الرَّحْمَنُ} والمعنى: إن الرحمن كان وعده مأتيًا، أو على الشأن، لأنه مقام تعظيم وتفخيم {لَا يَسْمَعُونَ}: فعل وفاعل والجملة: في محل النصب حال من {جَنَّاتِ عَدْنٍ}. {فِيهَا}: جار ومجرور حال من فاعل {يَسْمَعُونَ}؛ أي: حالة كونهم في الجنة {لَغْوًا}: مفعول به لـ {يَسْمَعُونَ} {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع {سَلَامًا} منصوب على الاستثناء {وَلَهُمْ} خبر مقدم {رِزْقُهُمْ}: مبتدأ مؤخر {فِيهَا}: حال من ضمير {رِزْقُهُمْ}؛ أي: حالة كونهم مستقرين فيها، والجملة: مستأنفة {بُكْرَةً} ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله {لَهُمْ}. {وَعَشِيًّا} معطوف على {بُكْرَةً}. {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}.

{تِلْكَ الْجَنَّةُ}: مبتدأ وخبره، والجملة: مستأنفة {الَّتِي}: صفة لـ {الْجَنَّةُ}. {نُورِثُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ولجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: نورثها {مِنْ عِبَادِنَا} جار ومجرور حال من اسم {كَانَ} {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول {نُورِثُ} {كَانَ}. فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {مَنْ}. {تَقِيًّا} خبرها وجملة {كَانَ} صلة الموصول. {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}. {وَمَا} الواو: استئنافية {مَا} نافية {نَتَنَزَّلُ} هو فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على جبريل ومن معه من الملائكة، والجملة: مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء من أعم الأحوال {بِأَمْرِ رَبِّك}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {نَتَنَزَّلُ}؛ أي: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} في حال من الأحوال إلا في حالة كوننا متلبسين {بِأَمْرِ رَبِّكَ} وإذنه {لَهُ} جار ومجرور خبر مقدم {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر والجملة: في محل النصب حال من {رَبِّكَ}. {بَيْنَ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول {أَيْدِينَا}: مضاف إليه للظرف {وَمَا} {الواو} عاطفة {مَا} موصول في محل الرفع معطوف على ما الموصولة في قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} {خَلْفَنَا}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {مَا} {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}: معطوف أيضًا على {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} {وَمَا} الواو: عاطفة {كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ}. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة: مستأنفة {وَمَا} اسم موصول في محل الجر معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا} ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول {فَاعْبُدْهُ}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره، إذا عرفت أنه مالك السموات والأرض، وأردت بيان ما هو اللازم لك في حقه سبحانه: فأقول لك {اعبده} {أعبده}: فعل أمر ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمد،

والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، {وَاصْطَبِرْ}: فعل أمر معطوف على {فَاعْبُدْهُ}. وفاعله ضمير يعود على محمد {لِعِبَادَتِهِ}: متعلق بـ {اصْطَبِرْ}. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري {تَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد {لَهُ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، لـ {تَعْلَمُ} {سَمِيًّا} مفعول أول له والجملة الفعلية: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)}. {وَيَقُولُ} الواو: استئنافية {يَقُولُ الْإِنْسَانُ} فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {إِذَا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله {لَسَوْفَ أُخْرَجُ}؛ لأن (اللام): تمنع من تعلقه بـ {أُخْرَجُ} المذكور بعده لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، والتقدير: أإذا ما مت أبعث {مَا}: زائدة {مِتُّ} فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونه فعل شرط لها {لَسَوْفَ}: اللام حرف ابتداء جيء بها لمجرد تأكيد الإنكار {سوف} حرف استقبال {أُخْرَجُ} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على الإنسان {حَيًّا}: حال من فاعل {أُخْرَجُ} وجملة {أُخْرَجُ}: دال على جواب إذا لا محل لها من الإعراب، أو هي الجواب، واللام زائدة، والتقدير: أأخرج حيا وقت موتي، وجملة {إِذَا} في محل النصب مقول {يَقُولُ} وساغ اجتماع اللام وهي تمحض الفعل للحال وسوف وهي تمحضه للاستقبال؛ لأن اللام هنا لمجرد التوكيد، وإنما جردت اللام من معناها لتلائم {سوف} دون أن تجرد {سوف} من معناها لتلائم اللام لأنه لو عُكس هكذا للغت {سوف} إذ لا معنى لها سوى الاستقبال، وأما اللام فإنها إذا جردت من الحال .. بقي لها التوكيد فلم تلغ، {أَوَلَا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف {لا} نافية {يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ}: فعل وفاعل والجملة: معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًا، ولا يذكر أنا خلقنا .. إلخ. والجملة. المحذوفة: مستأنفة لا محل لها من الإعراب {أَنَّا}: ناصب واسمه {خَلَقْنَاهُ}: فعل وفاعل

ومفعول {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {خَلَقْنَاهُ} وجملة {خَلَقْنَاهُ}: في محل الرفع خبر {أن} وجملة: {أن} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية فـ {يذكر} والتقدير: أولا يذكر الإنسان خلقنا إياه من قبل {وَلَمْ} {الواو}: حالية {لم} حرف نفي وجزم {يَكُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}: وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف هي فعل من الأفعال الناقصة والناسخة، واسمها ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}. {شَيْئًا}: خبرها والجملة في محل النصب حال من مفعول {خَلَقْنَاهُ}. {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)}. {فَوَرَبِّكَ} الفاء: استئنافية. {الواو}: حرف جر وقسم {رَبِّكَ} مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بربك يا محمد، والجملة المحذوفة: مستأنفة {لَنَحْشُرَنَّهُمْ}: اللام موطئة للقسم {نحشرن}: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله؛ ضمير يعود على الله، والهاء: ضمير الغائبين في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب {وَالشَّيَاطِينَ} {الواو}: عاطفة {الشَّيَاطِينَ}: معطوف على ضمير الغائبين، أو الواو واو المعية {الشَّيَاطِينَ}: مفعول معه {ثُمَّ}: حرف عطف و {لَنُحْضِرَنَّهُمْ} {اللام}: موطئة للقسم {نحضرنهم}: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون توكيد ومفعول به معطوف على {لَنَحْشُرَنَّهُمْ}. {حَوْلَ}: ظرف مكان متعلق بـ {نحضرن} {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه {جِثِيًّا}: حال من هاء {نحضرنهم}. {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {لَنَنْزِعَنَّ} اللام: موطئة للقسم {ننزعن} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله: ضمير يعود على الله والجملة: معطوفة على جملة {لَنُحْضِرَنَّهُمْ}. {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ}: جار ومجرور إليه متعلق بـ {ننزعن}. {أَيُّهُمْ} {أَيُّ}: اسم موصول بمعنى الذي في محل النصب مفعول به، مبني على الضم، لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقارها إلى جملة

الصلة، وإنما حركت ليعلم أن لها أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة إيثارًا لها بأقوى الحركات، والهاء مضاف إليه، والميم للجمع {أَشَدُّ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو أشد والجملة الاسمية: صلة لأي الموصولة {عَلَى الرَّحْمَنِ} متعلق بـ {أَشَدُّ} {عِتِيًّا}: تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو {أَشَدُّ}: منصوب باسم التفضيل، والأصل عتوه، أي: جراءَته على الرحمن أشد من جراءة غيره. {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)}. {ثُمَّ}: حرف عطف {لَنَحْنُ} {اللام} حرف ابتداء {نَحْنُ} مبتدأ {أَعْلَمُ} خبر والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {لَنَنْزِعَنَّ}. {بِالَّذِينَ} متعلق بـ {أَعْلَمُ} {هُمْ أَوْلَى}: مبتدأ وخبر {بِهَا}: متعلق بـ {أَوْلَى} {صِلِيًّا} تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل والجملة الاسمية صلة الموصول وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب، لا التخصيص بأصل العذاب لاشتراكهم فيه. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية {إنْ} نافية بمعنى: ما. {مِنْكُمْ}: جار مجرور صفة لمبتدأ محذوف تقديره: وما أحد كائن منكم {إِلَّا}: أداة حصر {وَارِدُهَا} خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة {كَانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الورود {عَلَى رَبِّكَ} متعلق بـ {حَتْمًا}. {حَتْمًا}: خبر {كَانَ}. {مَقْضِيًّا} صفة {حَتْمًا} وجملة {كَانَ} مستأنفة {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ {نُنَجِّي الَّذِينَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله والجملة: معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} وما بينهما اعتراض {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ}: فعل ومفعول معطوف على {نُنَجِّي}: وفاعله ضمير يعود على الله {فِيهَا} متعلق بـ {نذر} أو بـ {جِثِيًّا}. {جِثِيًّا}: حال من {الظَّالِمِينَ}: أو مفعول ثان لـ {نذر}؛ أي: نتركهم فيها {جِثِيًّا}.

التصريف ومفردات اللغة {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا}؛ أي: إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهره من الذنوب والآثام، كما جاء في الآية الأخرى {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} {نَجِيًّا}؛ أي: مناجيًا مكلمًا لله بلا واسطة، أصله: نجيو من نجا ينجو، اجتمعت حرفا علة فسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، ثم أدغمت الياء في الياء فصار {نَجِيًّا}. {مَرْضِيًّا} العامة على قراءته كذلك معتلًا، وأصله: مرضووٌ بواوين الأولى زائدة كهي في مضروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرضوان، فأعل بقلب الواو الأخيرة ياءً، لوقوعها متطرفةً، فاجتمعت الياء والواو فسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، فأدغمت الياء في الياء فصار {مَرْضِيًّا} ويجوز النطق بالأصل، وقرأ ابن أبي عبلة: بهذا الأصل وهو الأكثر اهـ. "سمين". {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلًا من الدرس .. لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفًا، فامتناعه من الصرف دليل على عجمته، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة .. كثرت منه أمثال هذه الهنات، ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبًا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقًا من الدرس، وما أجمل حرية الرأي. اهـ من "إعراب القرآن". {سُجَّدًا وَبُكِيًّا}: جمع ساجدٍ وباكٍ والأول قياس كراكع وركع وعاذل وعذَّل، والثاني شاذ؛ لأن قياس فاعل من المنقوص أن يُجمع على فعلة، كقاضٍ وقضاةٍ؛ وباغٍ وبغاةٍ ورامٍ ورماةٍ وساعٍ وسعاةٍ وطاغٍ وطغاةٍ؛، فقياس باكٍ هنا أن يجمع على بكاةٍ، كما قال ابن مالك: فِىْ نَحْوِ رَامٍ ذُوْ اطَّرَادٍ فُعَلَهْ {فَخَلَفَ}؛ أي: وجد وحدث {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد النبيين

المذكورين {خلف}؛ أي: عقب، وجماعة يستعملون الخلف بسكون اللام كما هنا في الشر، فيقال خلف سوءٍ وبفتحها في الخير، فيقال: خلف صالح قال في "الكشاف" خلفه إذا عقبه، ثم قيل: في عقب الخير خَلَف بالفتح، وفي عقب السوء خلْف بالسكون، كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر، وقال اللحياني: الخلف بفتحتين الولد الصالح، والخلف بفتح فسكون الرديء {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}: كلّ شرٍ عند العرب غي، وكل خيرٍ رشاد، قال المرقش الأصغر: فَمَنْ يَلْقَ خَيرَاً يَحْمَدِ النَّاسَ أَمْرُهُ ... وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَا {جِثِيًّا} على الركب يقال: جثا إذا قعد على ركبتيه، وهي قعدة الخائف الذليل، كما في "البحر" يجثو ويجثي جثوًا وجثايةً فهو جمع جاثٍ، وأصله: جثوو إن قلنا من جثا يجثو بواوين قلت الواو الثانية ياءً ثم الأولى كذلك، وأدغمت الياء في الياء، أو جثوى إن قلنا من جثا يجثي، فقلبت الواو ياءً وأدغمت في الياء، وعلى كلا الوجهين كسرت الثاء لتصح الياء، فالجيم مكسورة ومضمومة: قراءتان سبعيتان {صِلِيًّا}؛ أي: دخولًا واحتراقًا، مصدر من صلي، يقال: صلي يصلى صليًا، مثل لقى يلقى لقيًا، وصلى يصلي مثل مضى يمضي مضيًا، أصله: صلوي اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، وكسرت اللام لتصح الياء، ويقال: صلى بالنار إذا قاسى حرها {وَارِدُهَا}؛ أي: مار عليها {حَتْمًا}؛ أي: واجبًا {مَقْضِيًّا}؛ أي: قضي بوقوعه البتة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} شبه المكانة العظيمة، والمنزلة السامية بالمكان العالي بطريق الاستعارة. ومنها: المبالغة في قوله: {صِدِّيقًا نَبِيًّا}؛ أي: مبالغةً في الصدق.

ومنها: الإشارة بالبعيد لعلو الرتبة في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ} تنزيلًا لبعد المعنوي منزلة البعد الحسين. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} لتغير الحركات والشكل. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} وهو قسمان: أحدهما: أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء، صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية، ومنه قول النابغة الذبياني: وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ فقد جعل الفلول عيبًا علي سبيل التجوز، بتًا لنفي العيب بالكلية، كأنه يقول: إن كان فلول السيف من القراع عيبًا فإنهم ذوو عيب، معناه: إن لم يكن عيبًا فليس فيهم عيب البتة؛ لأنه لا شيء سوى هذا، فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل. وثانيهما: أن تثبت لشيء صفة مدحٍ وتعقب ذلك بأداة استثناء، يليها صفة مدحٍ أخرى لذلك الشيء، نحو "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش". ومنها: التشبيه التمثيلي البليغ في قوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} فقد شبه عطاء الجنة لهم بالعطاء الذي لا يرد وهو: الميراث الذي يرثه الوارث، فلا يرجع فيه المورث؛ أي: نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، كما يُبقى على الوارث مال مورثه، والوراثة أقوى لفظٍ يستعمل في التمليك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخٍ ولا استرجاع، ولا تبطل برد ولا إسقاط. ومنها: الطباق في قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} وبين {بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. ومنها: فن القسم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} وهو: أن يريد المتكلم الحلف على شيء، فيحلف بما يكون فيه، فخر له وتعظيم لشأنه، أو تنويه لقدره، أو ما يكون ذمًا لغيره، أو جاريًا مجرى الغزل والترقق، أو خارجًا

مخرج الموعظة والزهد، فقد أفاد القسم هنا أمرين: أحدهما: أن العادة جرت بتأكيد الخبر باليمين. والثاني: أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافًا إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - رفعًا منه لقدره، وتنويهًا بشأنه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}. ومنها: الافتنان في قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} والافتنان أن يَفْتنَّ المتكلم، فيأتي في كلامه بفنَّين: إما متضادين أو مختلفين أو متفقين، والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين، جمعت بين الوعد والوعيد، وبين التبشير والتحذير، وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة، والذم لأهل النذارة. ومنها: الالتفات في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ففيه التفات من الغيبة في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ} و {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} إلى الخطاب في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} كان مقتضى السياق {وإن منهم إلا واردها} كما قرأ به عكرمة، وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم كما في "الخازن". ومنها: ذكر العام وإرادة الخاص في قوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} المراد به الكافر، لأنه هو المنكر للبعث. ومنها: الطباق بين {مِتُّ} و {حَيًّا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش، المتكبرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى .. أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها، وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل. تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل .. لكان حالكم في

الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يليق به أن يوقع المخلصين من أوليائه في الذل والمهانة، وأعدائه في العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيشى والرخاء والنعيم، وأنتم في ضنكٍ وفقرٍ وخوفٍ وذلٍ، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل وقد رد الله تعالى عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالًا، وأكثر أموالًا، قد أبادهم الله، وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما ذكر الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذي لب .. أردف ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاءً وطعناً في القول بالحشر والبعث. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما نشاهد من أمر الخلق في النشأة الأولى .. أردف ذلك بالرد على عباد الأصنام، الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيَّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرَّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله أن لا يستعجل المشركين، فإنما هي أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم، وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يرِدون عليه. قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (¬2) رد على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الأدلة أنهم في ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون .. أردف ذلك بالرد على من أثبت له الولد، كاليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية، مناسبة الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى، لما فصَّل أحوال الكافرين في الدنيا والآخرة، وبالغ في الرد عليهم .. ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين وبيّن أنه سبحانه سيغرس محبتهم في قلوب عباده، وبعد أن استقصى في السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر، ورد فيها على فرق المبطلين، بين أنه ذلك بلسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليبشر به المتقين، وينذر به قومًا من المشركين ذوي الجدل والمماراة. أسباب النزولى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه البخاري في (ج 5/ ص 221) قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن خباب قال: كنت قينًا في الجاهلية، وكان لى على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله، ثم تبعث، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالًا وولدًا فأقضيك، فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} والحديث رواه مسلم، والترمذي، وأحمد، والطيالسي، وابن سعد، وابن جرير، والطبراني، وغيرهم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن جرير، عن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر إلى المدينة .. وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة، منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة ¬

_ (¬1) البخاري. (¬2) لباب النقول.

[73]

وأمية بن خلف، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} قال: محبةً في قلوب المؤمنين. التفسير وأوجه القراءة 73 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}؛ أي: على المشركين {آيَاتُنَا} القرآنية الناطقة بحسن حال المؤمنين، وسوء حال الكفرة حالة كونها {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: مرتلاتِ الألفاظ، مبينات المعاني، واضحاتِ الإعجاز، وهي (¬1) حال مؤكدة، فإن آيات الله لا ينفك عنها الوضوح، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: الذين مردوا منهم على الكفر، ومرنوا على العناد، كنضر بن الحارث وأتباعه الفجرة {لِلَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: لفقراء المؤمنين الذين هم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب، وضيق منزل، - واللام فيه للتبليغ - لأنهم شافهوا المؤمنين وخاطبوهم بقولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} منا ومنكم؛ أي: من المؤمنين والكافرين، كأنهم قالوا أينا {خَيْرٌ} وأحسن {مَقَامًا}؛ أي: منزلًا ومسكنًا، أنحن أم أنتم، وهو موضع الإقامة {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}؛ أي: مجلسًا ومجتمعًا؛ أي: أنحن أم أنتم، قال بعض المفسرين: الندي المجلسى الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم، وقرأ الجمهور {مَقَامًا} بفتح الميم وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، والجعفي، وأبو حاتم عن أبي عمرو: بضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدرًا، أو موضع قيام، أو إقامةٍ وانتصابه على التمييز. والمعنى: أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة .. قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل: أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشًا، وأنعم بالًا، وأفضل مسكنًا، وأحسن مجلسًا، وأجمع عددًا، أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك المستخفون المستترون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق، ونحو الآية قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[74]

سَبَقُونَا إِلَيْهِ}. روي (¬1): أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنوها، ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، فإذا سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها، والدخل عليها .. قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيوية على فقراء المؤمنين: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل .. لكان حالكم في الدنيا أحسن؛ لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه في العذاب والذل، وأعداءه في العز والراحة لكن الأمر بالعكس، وقصدهم بهذا الكلام، صرفهم عن دينهم، 74 - فرد الله عليهم بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} وكم: خبرية بمعنى عدد كثير مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنَا} و {مِنْ قَرْنٍ}: بيان لإبهامها وأهل كل عمر قرن لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم مأخوذ من قرن الدابة، وهو: مقدمها وقوله: و {هُمْ أَحْسَنُ} في محل الجر على أنه صفة لقرن، وما في "الشوكاني" هنا أنه في محل نصب صفة لكم غير صواب {أَثَاثًا} تمييز عن النسبة وهو متاع البيت {وَرِئْيًا} هو المنظر والهيئة؛ أي: وقد أهلكنا قبل هؤلاء المشركن كثيرًا من أمةِ عاتيةٍ، كعاد، وثمود، وغيرهما {هُمْ}؛ أي: أولئك القرون أحسن من هؤلاء المشركين أثاثًا ورئيًا؛ أي: أموالًا وأمتعةً، ومناظر ذات جمال وزخرف. والمعنى (¬2): كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم فيما يفتخرون به، من الحظوظ الدنيوية، كعاد، وثمود، وأضرابهم من الأمم العاتية، قبل هؤلاء؛ أي: كفار قريش أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا .. لما فعلنا بهم ما فعلنا؛ أي: فإن ما أنتم (¬3) أيها المشركون فيه من النعم محض استدراج لم ينفعكم الترفه شيئًا عند نزول النبلاء بكم، كما وقع للأمم الماضية، حيث كانوا في رفاهيةٍ أكثر منكم، ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم، ولم ينفعهم الترفه شيئًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

وخلاصة هذا (¬1): إن كثيرًا ممن كانوا أعظم منكم نعمةً في الدنيا، كعاد، وثمود، وأضرابهم من الأمم العاتية، قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدعون من أن النعمة في الدنيا تدل على الكرامة عند الله .. ما أهلك أحدًا من المتنعمين بها، وفي هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وكأنه قيل: فليترقب هؤلاء أيضًا مثل ذلك، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات. وقرأ الجمهور (¬2): {وَرِئْيًا} بالهمزة من رؤية العين، فعل بمعنى مفعول، كالطحن بمعنى المطحون، والذبح بمعنى المذبوح، وقال ابن عباس: الرأي: المنظر، وقال الحسن: معناه صوراً، وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة، وطلحة، في رواية الهمداني، وأيوب، وابن سعدان، وابن ذكوان، وقالون: {وريا} بتشديد الياء من غير همز، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر، سهلت همزته بإبدالها ياءً، ثم أدغمت الياء في الياء، واحتمل أن يكون من الري ضد العطش؛ لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحسن، كما له منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقال، وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد {وريئًا} بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعًا، وكأنه من راء وقرىء {ورياءً} بياء بعدها ألف وبعدها همزة، حكاها اليزيدي، وأصله: ورئاء من المراآة؛ أي: يرى بعضهم بعضًا حسنه، وقرأ ابن عباس، فيما روى عن طلحة {وريًا} من غير همزٍ ولا تشديدٍ، فتجاسر بعض الناس وقال: هي لحن، وليس كذلك، بل لها توجيه: بأن تكون من الرواء وقلب فصار {وَرِئْيًا} ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء، وحذفت، أو بأن تكون من الري وحذفت إحدى الياءَين تخفيفًا كما حذفت في لا سيما، والمحذوفة الثانية؛ لأنها لام الكلمة؛ لأن الثقل إنما حصل للكلمة بأنضمامها إلى الأولى، فهي أولى بالحذف، وقرأ ابن عباس أيضًا، وابن جبير، ويزيد البربري، والأعصم المكي {وزيا} بالزاي مشدد الياء، والزي: الهيئة الحسنة والآلات المجتمعة المستحسنة، من زويت بمعنى جمعت، فيكون أصلها: زويًا فقلبت الواو ياءً ثم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[75]

أدغمت في الياء، والزي محاسن مجموعة، وفي "التأويلات النجمية" في معنى الآية {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} من الحقائق والأسرار {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ستروا الحق بالإنكار والاستهزاء {لِلَّذِينَ آمَنُوا} من أهل التحقيق إذا رأوهم مرتاضين مجاهدين مع أنفسهم، متحملين متواضعين متذللين متخاشعين، وهم متنعمون متمولون متكبرون متبعوا شهوات أنفسهم، ضاحكون مستبشرون {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} منا ومنكم {خَيْرٌ}؛ أي: أفريقنا خير أم فريقكم خير {مَقَامًا}؛ أي: منزلةً ومرتبةً في الدنيا، ووجاهةً عند الناس، وتوسعاً في المعيشة {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}؛ أي: مجلسًا ومنصبًا وحكمًا، فقال تعالى في جوابهم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}؛ أي: أهلكنا بحب الدنيا ونعيمها، إذ أغرقناهم في بحر شهواتها، واستيفاء لذاتها، والتعزز بمناصبها {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}؛ أي: استعدادًا واستحقاقًا في الكمالات الدينية منكم، كما قال - عليه الصلاة والسلام - "خياركم في الإِسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا" اهـ. 75 - ثم أمر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب هؤلاء المفتخرين بالمال والمنال بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين للمؤمنين: أي الفريقين خير مقامًا، وأحسن نديًا {مَنْ} شرطية {كَانَ} مستقرًا {فِي الضَّلَالَةِ}؛ أي: في الكفر والجهل والغفلة عن عواقب الأمور {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} أمر بمعنى الخبر؛ أي: يمد له الرحمن، ويزيده في شهواته، ويمهله بطول العمر، وإعطاء المال، والتمكين من التصرفات؛ أي: يمد له الرحمن مدًا، ويزيده في المال زيادةً، ويمهله في العمر إمهالًا، استدراجًا له وقطعًا للمعاذير يوم القيامة. وإخراجه (¬1) على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يُفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير، أو للاستدراج، واعتبار الاستقرار في الضلالة، لما أن المد لا يكون إلا للمصرين عليها، إذ رب ضال يهديه الله، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وذكر الرحمن في هذه السورة في ستة عشر موضعًا اهـ شيخنا. وقيل (¬1): المراد بالآية الدعاء بالمد، والنفيس، قال الزجاج: تأويله أن الله سبحانه جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها؛ لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كان المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي. انتهى. وقال: بعضهم معنى {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}؛ أي (¬2): فليستدرجه الرحمن استدراجًا بمد عمره، وتوسيع ماله، وتكثير ولده، أو فليمهله الرحمن إمهالًا بمد راحته على الطغيان، وإيصال نعمته على وجه الإحسان حتى يقع في العقاب والعذاب، على سبيل التدريج لا التعجيل، فيكون عقابه وعذابه أكمل وأشمل أثرًا وألمًا؛ لأن الأخذ على طريق التدريج والنعمة، أشد منه على سبيل التعجيل والنقمة، مع أن مبدأ المد مطلقًا هو الرحمن دون القهار أو الجبار؛ لأن كلاً منهما مبدأ الشدة، ولذلك عبر به لا بغيره، هذا هو الخاطر ببالي في وجه التعبير بالرحمن، وإن كانت أشدية عقاب الرحمن وجهاً، لكن وجه أشدية عقابه ما ذكرنا؛ لأنه إذا أراد العقاب .. يأتي به على وجه الرحمة والنعمة، فيكون كدراً بعد الصفاء، وألمًا بعد الراحة، وشدةً بعد الرخاء، فهذا أقوى أثرًا، والحاصل: أنه لا يتصور وقوع المد المذكور، إلا من الرحمن؛ لأنه أصله ومنشؤه. انتهى كلامه. وقوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} (¬3) غاية للمد الممتد، وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من، كما أن الإفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها؛ أي: من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدًا، ويستدرجهم استدراجًا، حتى إذا رأوا ما يوعدون من الله، وقوله: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} تفصيل للموعود على سبيل البدل، فإنه إما العذاب أو الساعة؛ أي: حتى إذا رأوا الموعود لهم، إما العذاب الدنيوي، بغلبة المسلمين، واستيلائهم عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلًا وأسرًا، وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال، على طريقة الخلو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

دون الجمع، فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال، وقوله: {فَسَيَعْلَمُونَ} جواب الشرط؛ أي: حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي، أو الأخروي فقط .. فسيعلمون حينئذ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا}؛ أي: منزلًا من الفريقين {وَأَضْعَفُ جُنْدًا}؛ أي: أنصارًا وأعوانًا منهما، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يحسبونه فيعلمون أنهم شر مكانًا لا خير مقامًا ويرون أنهم أضعف جندًا وأعوانًا وأنصارًا، لا أحسن نديًا كما كانوا يدعونه. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شر مكانًا لا خير مكانًا، وأضعف جندًا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جندًا ضعفاء، بل لا جند لهم أصلًا، كما في قوله سبحانه {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)}. ومعنى الآية (¬1): أي قل يا محمد لهؤلاء المدعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها , لا يدل على حسن الحال في الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين في الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنة في سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجًا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأى العين، إما عذابًا في الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجيء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شرّ من الفريقين مكانًا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدرون، وسيرون أنهم شر مكانًا، وأضعف جندًا، وأقل ناصرًا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}. وقصارى ذلك: أن من كان في الضلالة، فسنة الله أن يمد له، ويستدرجه ليزداد إثمًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب في الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب في الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان في ¬

_ (¬1) المراغي.

[76]

ضلال مبين، ويندم ولات ساعة مندم: نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ ... وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ ولا يجد عن النار محيصًا ولا مهربًا، 76 - ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة .. أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} بالإيمان {هُدًى} بالإخلاص وبالعبادات المتفوعة على الإيمان, وبالثواب على ذلك الإيمان, وهذا كلام (¬1) مستأنف سيق لبيان حال المهتدين، إثر بيان حال الضالين؛ أي: ويزيد الله سبحانه وتعالى المؤمنين إيمانًا، وعملاً ويقينًا ورشدًا، كما زاد الضالين ضلالًا، ومدهم في استدراجهم، وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير. والمعنى: أي (¬2) ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدىً بما ينزل عليهم من الآيات عوضًا مما منعوا من زينة الدنيا، كرامةً لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه. ومجمل هذا: أن من كان في الضلالة من الفريقين .. يمهله الله، وينفس له في حياته، ليزداد في الإثم والغي، ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية منهما .. يزيد الله في هدايته، ويجمع له خيري السعادتين. {وَالْبَاقِيَاتُ}؛ أي: والأذكار التي يبقى ثوابها لصاحبها أبد الآباد والأعمال {الصَّالِحَاتُ} التي تبقى عائدتها أبدًا {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} يا محمد {ثَوَابًا}؛ أي: جزاءً مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها {وَخَيْرٌ مَرَدًّا}؛ أي: مرجعًا وعاقبةً؛ لأن مآلها رضوان الله، والنعيم الدائم، ومآل هذه السخط والعذاب المقيم، والتفضيل (¬3): للتهكم بهم، للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلًا والمرد هنا: مصدر كالرد، والمعنى: خير ردًا للثواب على عامليها، فليست ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[77]

كأعمال الكفار التي خسروها. فبطلت، ذكره ابن الجوزي. واعلم: أن الباقيات الصالحات هي أعمال الآخرة كلها، ومنها الكلمات الطيبة، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وأخذ عودًا يابسًا، وأزال الورق عنه ثم قال: "إن قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ليحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، فهن الباقيات الصالحات، وهي من كنوز الجنة". والمعنى: أي (¬1) والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، وقيل رضوانه خير عند ربك منفعةً وعاقبةً مما متع به أولئك الكفرة من النعم الفانية، التي يفخرون بها من مالٍ وولدٍ وجاهٍ ومنافعَ تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة، والعذاب المقيم. وخلاصة هذا: أن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها، خير عند ربهم جزاءً وخير عاقبةً من مقامات هؤلاء المشركين بالله، وأنديتهم التي يفخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا، 77 - ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} (الهمزة) فيه (¬2) للاستفهام التعجبي من حاله، والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن يُرى ويقضى منها العجب داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا التي من جملتها آيات البعث {وَقَالَ} مستهزئًا بها مصدرًا كلامه باليمين والله {لَأُوتَيَنَّ}؛ أي: لأعطين في الآخرة إن بعثت {مَالًا وَوَلَدًا}؛ أي: انظر إليه يا محمد فتعجب من حالته البديعة، وجراءَته الشنيعة، والغرض من هذا الاستفهام: التعجيب، فكأنه (¬3) قال: تعجب يا محمد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات.

[78]

من قصة هذا الكافر، ومن مقالته المذكورة، وعطف هذه الجملة بالفاء إيذانًا بإفادة التعقيب، كأنه قيل: أخبر أيضًا بقصة هذا الكافر عقب قصة أولئك، وهذا الكافر هو العاص بن وائل، أبو سيدنا عمرو بن العاص، فهو جد عبد الله بن عمرو، أحد العبادلة المشهورة، كما مر في أسباب النزول. وأرأيت بمعنى: أخبرنني كما قد عرفته، والموصول هو المفعول الأول والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} و {لَأُوتَيَنَّ}: جواب قسم محذوف، والجملة القسمية كأنها في محل نصب بالقول. اهـ شيخنا. 78 - والاستفهام في قوله: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} للإنكار، وأصله: أاطلع من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية، فحذفت همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة؛ أي: أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة. والمعنى: أقد بلغ من عظمة الشأن، إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به العلم الخبير، حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالًا وولدًا، وأقسم عليه {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} على ذلك؛ أي: أو اتخذ من عالم الغيب عهدًا بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين: علم الغيب، وعهد من عالمه، وقيل، العهد (¬1): كلمة الشهادة والعمل الصالح، فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد الموثق عليه فمعنى {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}؛ أي: أم قال: لا إله إلا الله فأرحمه بها، أو أم قدم عملًا صالحًا فهو يرجوه، وقيل: المعنى انظر في اللوح المحفوظ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}. وقرأ الجمهور (¬2)، وابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {وَلَدًا} أربعتهن هنا وفي الزخرف {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} بفتح الواو واللام، ويأتي الخلاف في الذي في نوح {لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} وقرأ حمزة، والكسائي، وابن أبي ليلى، وابن عيسى الأصبهاني: بضم الواو وإسكان اللام، وقال الفراء: وهما لغتان كالعدم والعدم، والعرب والعرب، وليس بجمع وقيل: يجعل الولد ¬

_ (¬1) الشوكاني مع روح البيان. (¬2) البحر المحيط زاد المسير.

[79]

بالضم جمعًا، والولد بالفتح واحدًا. فعلى قراءة الجمهور (¬1): يكون المعنى على الجنس، لا ملحوظًا فيه الإفراد، وإن كان مفرد اللفظ، وعلى قراءة غيرهم، فقيل: هو جمع كأَسَدْ وأُسْد، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر: وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرَاً ... قَدْ ثَمَّرُوْا مَالًا وَوُلْدا وقيل: هو مرادف للولد بالفتحتين، واحتجوا بقوله: فَلَيْتَ فُلاَنَاً كَانَ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلاَنَاً كَانْ وَلَدَ حِمَارِ وقرأ عبد الله، ويحيى بن يعمر: بكسر الواو وسكون اللام، والهمزة: في {أَطَّلَعَ} للاستفهام ولذلك عادلتها {أَمِ} وقرىء: بكسر الهمزة في الإبتداء وحذفها في الوصل، على تقدير: حذف همزة الاستفهام لدلالة {أَمِ} عليها كقوله: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يريد أبسبعٍ. وقصارى ذلك: أوقد بلغ من عظم شأنه، أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدًا موثقًا، وقال له: إن ذلك كائن لا محالة، 79 - ثم زاد في تأكيد خطئه وهدده بقوله: {كَلَّا} حرف ردع وزجر؛ أي: ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد، ويجوز (¬2) أن يكون معنى {كَلَّا}؛ أي: إنه لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الله عهدًا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}؛ أي: سنأمر الحفظة بإثبات قوله، لنجازيه به، أو سنحفظ عليه ما يقوله من الكذب والكفر والاستهزاء، فنجازيه في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}؛ أي: نزيده من العذاب عذابًا فوق عذابه، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

[80]

نطوِّل (¬1) له من العذاب ما يستحقه، ونضاعفه له جزاء كفره وافترائه على الله تعالى، وأستهزائه بآياته، أو نجعل له بعض العذاب إثر بعض 80 - {وَنَرِثُهُ مَا يَقُول} إنه له (¬2) في الجنة، فنجعله لغيره من المسلمين، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، أو نرث ما عنده من المال والولد، بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، وهو مري عن ابن عباس أيضًا، وبه قال قتادة، قال الزجاج: المعنى سنسلبه المال والولد، ونجعله لغيره {وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْدًا} وحيدًا خاليًا لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلًا أن يؤتى ثمة زائدًا، وقيل: المعنى نحرمه ما تمناه من المال والولد، ونعطيه لغيره. وفي الآية: إشارة إلى أن (¬3) أهل الغرور يدعون الإحراز للفضيلتين: المال والولد في الدنيا، والنجاة والدرجات في الآخرة، وينكرون على أهل التجرد في الإعراض عن الكسب، واعتزال النساء والأولاد، ولا يدرون أنهم يقعون بذلك في عذاب البعد، إذ لا سند لهم أصلًا. وقرأ أبو نهيك: {كلاً} بالتنوين فيهما هنا، وهو مصدر من كل السيف كلاً إذا نبا عن الضرب، وأنتصابه على إضمار فعل من لفظه، تقديره: كلوا كلاً عن عبادة الله، أو عن الحق ونحو ذلك. وقرأ الجمهور (¬4): {سَنَكْتُبُ} بالنون، والأعمش: بياءٍ مضمومةٍ والتاء مفتوحة مبنيًا للمفعول، وذكرت عن عاصم، وقرأ أبو (¬5) العالية الرياحي، وأبو رجاء العطاردي: {سيكتب} {ويرثه} بياء مفتوحة، وقرأ علي بن أبي طالب {ونمد له} يقال مده وأمده بمعنًى. 81 - {وَاتَّخَذُوا}؛ أي: واتخذ مشركوا مكة {مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً}؛ أي: اتخذوا الأصنام آلهةً متجاوزين الله تعالى {لِيَكُونُوا}؛ أي: ليكون الأصنام {لَهُمْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط. (¬5) زاد المسير.

[82]

للمشركين {عِزًّا}؛ أي: منعةً؛ أي: ليكون الأصنام مانعين لهم من عذاب الله تعالى؛ أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلةً إليه تعالى، وشفعاء عنده، وأنصارًا ينجون بهم من عذاب الله تعالى. قال بعضهم (¬1): كيف تظفر بالعز وأنت تطلبه في محل الذل ومكانه، إذ ذللت نفسك بسؤال الخلق، ولو كنت موفقاً لأعززت نفسك بسؤال الحق، أو بذكره، أو بالرضى لما يرد عليك منه، فتكون عزيزًا في كل حال: دنيا وآخرة. 82 - {كَلَّا}؛ أي: ليس الأمر على ما ظنوا {سَيَكْفُرُونَ}؛ أي: سيكفر الكفرة، وينكرون حين شاهدوا سوء عاقبة كفرهم، وينكرون {بِعِبَادَتِهِمْ}؛ أي: بعبادة الكفرة للأصنام {وَيَكُونُونَ}؛ أي: ويكون الكفرة {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الأصنام {ضِدًّا}؛ أي: أعداءً؛ أي: ويكون المشركون أعداءً لآلهتهم، كافرين بعبادتها، بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها. والمعنى عليه: فيكون المشركون للآلهة ضدًا وأعداءً يكفرون بها، بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون، ويصح أن يكون الضمير في {يكفرون} {وَيَكُونُونَ} للآلهة والمعنى حينئذٍ {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ}؛ أي: سيجحد الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ}؛ أي: بعبادة المشركين لها بأن ينطقها الله تعالى وتقول ما عبدتمونا {وَيَكُونُونَ}؛ أي: وتكون الأوثان التي يرجون أن تكون لهم منعةً من العذاب {ضِدًّا}؛ أي: أعداءً وأعوانًا بالعذاب، فإنهم وقود النار، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم، وذلك أن الله تعالى يحشر آلهتهم، فينطقهم ويركب فيهم العقول، فتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك، أو المعنى عليه وتكون هذه الآلهة التي ظنوها عزًا لهم، ضدًا عليهم؛ أي: ضدًا للعز وضد العز الذل، وقرأ ابن أبي نهيك {كلاً} بالتنوبن وروى عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها، فعلى الضم هي بمعنى جميعًا، وانتصابها بفعل مضمر، كأنه قال: سيكفرون كلاً سيكفرون بعبادتهم، وعلى الفتح يكون مصدرًا لفعل محذوف تقديره كل هذا الرأي {كلا} وقراءة الجمهور: هي الصواب وهي حرف ردع وزجر، ذكره الشوكاني، 83 - وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[84]

الكفار مع آلهتهم في الآخرة .. ذكر مالهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم فقال: {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم يا محمد {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ}؛ أي: سلطنا الشياطين {عَلَى الْكَافِرِينَ} ومكناهم من إضلالهم بسبب سوء اختيارهم، حال كون تلك الشياطين {تَؤُزُّهُمْ}؛ أي: تؤز الكافرين وتغريهم وتهيجهم على المعاصي {أَزًّا}؛ أي: تهييجًا شديدًا. بأنواع الوساوس والتسويلات، فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات، معناها: شدة الإزعاج وفي "العيون" الإز في الأصل: هو الحركة مع صوتٍ متصل من أزيز القدر؛ أي: غليانه. والمعنى (¬1): تحثهم وتحرضهم على المعاصي تحريضًا شديدًا وفي الآية دليل على أن الله تعالى مدبر لجميع الكائنات. وخلاصة ما سلف (¬2): تعجيب رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة، من تماديهم في الغي، وانهماكهم في الضلال، وتصميمهم على الكفر، بدون راعٍ ولا زاجرٍ، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور في التبليغ، وفي هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهوين للأمر على نفسه 84 - {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: فلا تستعجل يا محمد بطلب العقوبة عليهم حسبما تقتضيه جناياتهم، حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم، وتطهر الأرض من فسادهم، يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ} أيام آجالهم {عَدًّا}؛ أي: لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة، وأنفاس معدودة، فنجازيهم بها؛ أي (¬3): نعد لهم الليالي والأيام والشهور والأعوام، وقيل: الأنفاس التي يتنفسونها في الدنيا، إلى الأجل الذي أجل لعذابهم، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا قرأها .. بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك، أنه كان عند ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[85]

المأمون، فقرأ الآية، ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد: إِنَّ الْحَبِيْبَ مِنَ الأَحْبَابِ مُخْتَلَسُ ... لاَ يَمْنَعُ الْمَوْتَ بَوَّابٌ وَلاَ حَرَسُ وَكَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ... فَتَىً يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفَسُ والعد هنا: كناية عن القلة، ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة؛ أي: يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم، وهو قليل باعتبار عاقبته وعند العد. اهـ "شهاب". 85 - ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر، وأجاب عن شبهة منكريه .. أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذٍ فقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} الظرف منصوب بفعل مقدر؛ أي: اذكر يا محمد لقومك بطريق الترغيب والترهيب، يوم يجمع أهل التقوى والطاعة {إِلَى الرَّحْمَنِ}؛ أي: إلى ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة، حال كونهم {وَفْدًا}؛ أي: وافدين عليه، كما يفد الوفود على الملوك راكبين منتظرين لكرامتهم وإنعامهم، والوافد من يأتي بالخير، والوفد جمع وافد كريب جمع راكب، ومعنى (¬1) حشرهم إلى الرحمن: حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} وفي "التأوبلات النجمية" إنما خص حشر وفد المتقين إلى حضرة الرحمانية؛ لأنها من صفات اللطف، ومن شأنها الجود والإنعام، والفضل والكرم، والتقريب والمواهب. انتهى. 86 - {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: الكافرين والعاصين بكفرهم ومعاصيهم {إِلَى جَهَنَّمَ} كما تساق البهائم حالة كونهم {وِرْدًا}؛ أي: مشاةً عطاشًا، قد تقطعت أعناقهم من العطش، وقرأ الحسن (¬2)، والجحدري {يحشر المتقون} {ويساق المجرمون} مبنيًا للمفعول. 87 - وجملة قوله: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}: مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير فيه: إما راجع إلى المتقين خاصةً، ويكون حينئذ معنى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[88]

العهد في قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} الإذن في الشفاعة والمعنى؛ أي: لا يملك أحد من المتقين أيًا كان أن يشفع للعصاة، إلا من اتخذ من الله إذنًا في الشفاعة، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فالشفاعة على هذا مصدر من المبني للفاعل، وإما راجع إلى المجرمين خاصةً، ويكون حينئذٍ معنى العهد الإيمان والإِسلام، والشفاعة: مصدر من المبني للمفعول، والمعنى لا يملك المجرمون؛ أي: لا يستحق المجرمون أن يشفع لهم إلا من اتخذ عند الرحمن إيمانًا؛ أي: إلا من كان منهم مسلمًا مؤمنًا؛ أي: لا يستحق (¬1) هؤلاء المجرمون أن يشفع لهم غيرهم، إلا من اتخذ كلمة الشهادة بالتوحيد والنبوة، ولو كانوا أهل الكبائر، وروى ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه ذات يوم: "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدًا؟ " قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي .. تقربني من الشر، وتبعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لى عهدًا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع، ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة .. نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنة" أخرجه الطبراني، والحاكم وصححه غيرهما. ويحتمل عود الضمير في {يَمْلِكُونَ} إلى الفريقين جميعًا، وهو أولى، والمعنى حينئذ؛ أي: لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم، أو المشفوعين بأن يكون مؤمنًا تقيًا، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله تعالى 88 - {وَقَالُوا}؛ أي: قال الكافرون {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}؛ أي: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله، وهذه الجملة مستأنفة، وقرأ يحيى (¬2) بن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي {ولدًا} بضم الواو وإسكان اللام، وقرأ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني.

[89]

الباقون في الأربعة المواضع المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدمنا الفرق بين القراءتين. 89 - فقال الله تعالى وعزتي وجلالي {لَقَدْ جِئْتُمْ} أيها القائلون بمقالكم هذا {شَيْئًا إِدًّا}؛ أي (¬1): شيئًا منكرًا عظيمًا يدل على الجرأة على الله، وكمال القِحَةِ عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط، والإد (¬2) والإدة بكسرهما: العجب والأمر الفظيع، والداهية والمنكر كالأد بالفتح، كما في "القاموس" أي: فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا لا يقادر قدره، فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيعديان تعديته. وقرأ الجمهور: {إِدًّا} بكسر الهمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن: بفتحها، وقرأ ابن عباس، وأبو العالية {إِدًّا} مثل مادا. 90 - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ}؛ أي: تقرب السموات السبع من أن {يَتَفَطَّرْنَ} ويتشققن مرةً بعد أخرى {مِنْهُ}؛ أي: من قولهم اتخذ الرحمن ولدًا {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ}؛ أي: وتكاد الأرض أن تنشق وتنصدع أجزاؤها، وتنخسف بهم من ذلك القول {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ}؛ أي: وتكاد الجبال أن تخر وتسقط منطبقةً عليهم، وتهد {هَدًّا}؛ أي: تسقط سقوطًا، وتنهدم هدمًا، وتنكسر كسرًا من ذلك القول، والهد: الهدم الشديد، والكسر كالهدود، كما في "القاموس" فهو (¬3) مصدر مؤكد لمحذوف هو حال من الجبال. والمعنى: إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة، لم تطق بها هاتيك الأجرام العظام، وتفتتت من شدتها، أو إن فظاعتها في استجلاب الغضب واستيجاب السخط، بحيث لولا حلمه تعالى على أهل الأرض، وأنه لا يعاجلهم بالعقاب، لخرب العالم، وبدد قوائمه غضبًا على من تفوَّه بها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[91]

روي عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال، وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله وكماله. وقرأ ابن كثير (¬1)، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: {تَكَادُ} بالتاء الفوقية وقرأ نافع، والكسائي: {يكاد} بالياء التحتية، وقرأ جميعًا {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والتاء مشددة الطاء، ووافقهما ابن كثير، وحفص عن عاصم، في {يَتَفَطَّرْنَ} وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: {ينفطرن} بالنون، وقرأ حمزة، وابن عامر في مريم: مثل أبي عمرو، وفي الشورى مثل ابن كثير، ومعنى {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}: يقاربن الانشقاق من قولهم. قال ابن قتيبة: وقوله تعالى: {هَدًّا}؛ أي: سقوطًا. 91 - وقوله من: {أَنْ دَعَوْا} وسموا ونسبوا {لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}؛ أي: من نسبتهم الولد للرحمن، بدل (¬2) من الهاء في منه السابق في {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أو منصوب (¬3) بحذف اللام المتعلقة بـ {تكاد} أو مجرور بإضمارها؛ أي: تكاد السموات تتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تخر؛ لأن دعوا له سبحانه ولدًا ودعوا من دعا، بمعنى سمى المتعدي إلى المفعولين، وقد اقتصر على ثانيهما، ليتناول كل ما دعي له من عيسى، وعزير، والملائكة، ونحوهم، إذ لو قيل دعوا، عيسى ولدًا .. لما علم الحكم على العموم، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان؛ أي: انتسب إليه، 92 - وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)}؛ أي: ما يصلح له (¬4)، ولا يليق به اتخاذ الولد؛ لأن الولد يقتضي مجانسةً، وكل متخذ ولدًا يتخذه من جنسه، والله تعالى منزه عن أن يجانس شيئًا، أو يجانسه شيء، فمحال في حقه اتخاذ الولد، حال (¬5) من فاعل {قَالُوا} وينبغي مضارع بغى: إذا طلب؛ أي: قالوا اتخذ الله ولدًا، والحال أنه ما يليق به - تعالى - اتخاذ الولد، ولا يتطلب له لو طلب مثلاً لاستحالته في نفسه، وذلك لأن الولد بضعة من الوالد، فهو مركب ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) زاد المسير. (¬5) روح البيان.

[93]

ولا بد للمركب من مؤلف، فالمحتاج إلى المؤلف لا يصلح أن يكون إلهًا 93 - {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والثقلين وغيرهم {إِلَّا} وهو {آتِي الرَّحْمَنِ} سبحانه يوم القيامة حال كونه {عَبْدًا} , أي: مقرًا بالعبودية، خاضعًا ذليلًا، كما قال {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين}؛ أي: صاغرين، والمعنى: أن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولدًا له، فـ {إن} (¬1) نافية بمعنى ما و {كُلِّ}: مبتدأ خبره {ءَاتىِ} و {مِن}، موصوفة؛ لأنها وقعت بعد كل نكرة، وفي "العيون"، سيأتي جميع الخلائق يوم القيامة إلى الرحمن خاضعًا ذليلًا مقرًا بالعبودية، كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم؟ يعني: يلتجئون إلى ربوبيته، منقادين، كما يفعل العبيد للملوك، فلا يليق به اتخاذ الولد منهم. انتهى. وقرأ عبد الله، وابن الزبير، وأبو حيوة، وطلحة، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، ويعقوب: {إلا آت} بالتنوين {الرحمن} بالنصب، والجمهور: بالإضافة، وتكرر لفظ {الرَّحْمَنِ} تنبيهًا على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره، إذ أصول النعم وفروعها منه. 94 - وعزتي وجلالي {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} الله سبحانه وتعالى؛ أي: لقد أحصى الله جملة الخلائق، وحصرهم وأحاط بهم علمًا، بحيث لا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته، وملكوته، مع إفراط كثرتهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفي من أحوالهم، وما ظهر، لا يفوته شيء منها {وَعَدَّهُمْ} سبحانه وتعالى؛ أي: وعد أشخاصهم وأنفاسهم، وأفعالهم وأقوالهم وآجالهم، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة 95 - {وَكُلُّهُمْ}؛ أي: وكل امرىءٍ من الخلائق {آتِيهِ}؛ أي: يأتيه سبحانه وتعالى {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: آتٍ إياه سبحانه {فَرْدًا} وحيدًا يوم القيامة، منفردًا عن الأهالي والأموال والأولاد، وعن الاتباع والأنصار، منقطعًا إليه تعالى، محتاجًا إلى معونته ورحمته، فلا يجانسه شيء من ذلك، ليتخذه ولدًا، ولا يناسبه ليشرك به. 96 - ولما ذكر سبحانه إتيان كل من في السموات وفي الأرض في حال العبودية ¬

_ (¬1) روح البيان.

[97]

والانفراد .. آنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم {وُدًّا} فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وصدقوا برسله، وبما جاؤوهم به من عنده {وَعَمِلُوا} الأعمال {الصَّالِحَاتِ} بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} , أي: محبة الناس لهم في الدنيا؛ أي: سيحدث لهم في القلوب محبةً من غير تعرض منهم لأسبابها، من قرابةٍ أو صداقةٍ أو اصطناع معروفٍ أو غير ذلك، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح، تخصيصًا لأوليائه بهذه الكرامة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب، إعظاماً لهم؛ أي: إن الله تعالى وعدهم أن يؤلف بين قلوبهم في الدنيا إذا ظهر الإِسلام، وأن يحببهم إلى خلقه يوم القيامة بما يظهر من حسناتهم، وينشر من ديوان أعمالهم على رؤوس الأشهاد، والسين: إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا قوي الإِسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم. وقرأ الجمهور (¬1): {وُدًّا} بضم الواو وقرأ أبو الحارث الحنفي: بفتحها وقرأ جناح بن حبيش، {وداً} بكسر الواو، 97 - ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن، خصوصًا هذه السورة، لاشتمالها على التوحيد والنبوة، وبيان حال المعاندين فقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ}؛ أي: فإنما سهلنا هذا القرآن {بِلِسَانِكَ}؛ أي: إنزاله على لغتك (¬2) (والباء): بمعنى (على) و (الفاء): لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم، كأنه قيل بعد إيحاء السورة الكريمة: بلِّغ هذا المنزل، وبشر به وأنذر، وإنما يسرناه بلسانك العربي المبين، ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ}؛ أي: بهذا القرآن {الْمُتَّقِينَ} بالجنة؛ أي: المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها، أو الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي {وَتُنْذِرَ بِهِ}؛ أي: ولتخوف بهذا القرآن {قَوْمًا لُدًّا}؛ أي: شديدي الخصومة، لا يؤمنون به لجاجًا وعنادًا بالعذاب، يقال: أنذره بالأمر إنذاراً، أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه، كما في "القاموس" واللد: جمع الألد وهو الشديد الخصومة، اللجوج المعاند، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[98]

وفي "القاموس"، الألد: الخصم الشحيح، الذي لا يزيغ إلى الحق، وفي الحديث "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". والمعنى (¬1): أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية، لتقرأه على الناس، وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه، واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش بالعذاب، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى، ممن لا يقبل حقًا، ولا يحيد عن باطل، ولو أنزلناه بغيرها لم يتيسر التبشير به ولا الإنذار، لعدم فهم المخاطبين لغيرها. وقصارى ذلك: بلَّغ هذا المنزل، وبشر به وأنذر، فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس حفظه، 98 - ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}؛ أي: وكثيرًا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، قد أهلكنا قبل هؤلاء اللد المعاندين لك، حين سلكوا في خلاف مسلك هؤلاء، وركبوا معاصي فـ {هَلْ تُحِسُّ} وتجد يا محمد {مِنْهُمْ}؛ أي: من أولئك القرون {مِنْ أَحَدٍ}؛ أي: هل تجد أحدًا منهم فتراه وتعاينه {أَوْ} هل {تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}؛ أي: صوتًا خفيًا، لا أنهم بادوا، وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك، والاستفهام فيه إنكاري كما أشرنا إليه آنفًا في الحل. والمعنى: استأصلناهم بالكلية، بحيث لا يُرى منهم أحد، ولا يُسمع لهم صوت خفي، كما في "أبي السعود". وفي هذا وعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار. وقصارى ذلك: أنا أهلكناهم فلم نبق منهم أحدًا تراه، ولا تسمع له صوتًا خفيًا ولا ظاهرًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

وقرأ الجمهور: {هَلْ تُحِسُّ} بضم التاء وكسر الحاء، مضارع أحس الرباعي، وقرأ أبو حيوة، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر المدني: {تُحِسُّ} بفتح التاء وضم الحاء، وقرأ بعضهم: {تحس} بفتح التاء وكسر الحاء، من حسه إذا شعر به، ومنه الحواس الخمس والمحسوسات، وقرأ حنظلة: {أو تسمع} مضارع أسمعت: مبنيًا للمفعول. وختم الله تعالى هذه السورة بموعظة بليغة، لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، ومن الانتهاء إلى الموت .. خافوا ذلك وخافوا سوء العاقبة في الآخرة، فكانوا أقرب إلى الحذر من المعاصي. الإعراب {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)}. {وَإِذَا} الواو: استئنافية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تُتْلَى} {آيَاتُنَا}: نائب فاعل {بَيِّنَاتٍ}: حال من {آيَاتُنَا}: والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة: جواب {وَإِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ} {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {أَيُّ}: استفهامية مبتدأ {الْفَرِيقَيْنِ} مضاف إليه {خَيْرٌ} خبر والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَقَامًا} تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل {وَأَحْسَنُ}: معطوف على {خَيْرٌ}. {نَدِيًّا} تمييز منصوب به. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} {وَكَمْ} الواو: استئنافية {كم}: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ {أَهْلَكْنَا}: مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا

{أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {قَبْلَهُمْ} متعلق بـ {أَهْلَكْنَا} {مِنْ قَرْنٍ}: تمييز غير صريح لـ {كم} لجره بـ {مِنْ} الزائدة لأن تمييز {كم} الخبرية كثيرًا ما يكون مجروراً بـ {من}. {هُمْ أَحْسَن}: مبتدأ وخبر والجملة: في محل الجر صفة لـ {قَرْنٍ} وليست صفةً لـ {كم} كما قيل لأن كم استفهاميةً أو خبريةً لا توصف ولا يوصف بها {أَثَاثًا}: تمييز محول عن المتبدأ منصوب باسم التفضيل {وَرِئْيًا}: معطوف على {أَثَاثًا}. {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر: جملة الشرط، أو الجواب أو هما {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَنْ} واسمها ضمير يعود على {مَنْ} {فِي الضَّلَالَةِ}: خبر {كَانَ}. {فَلْيَمْدُدْ} (الفاء): رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا (اللام) لام الأمر {يمدد} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {لَهُ} متعلق به {الرَّحْمَنُ} فاعل {مَدًّا} مفعول مطلق وجملة: {يمدد} في محل الجزم بمن على كونها جواب الشرط لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية وقيل {حَتَّى}: هنا ابتدائية؛ أي: تبدأ بعدها الجمل قال الشهاب في "حاشيته" على "البيضاوي" و {حَتَّى}: هنا حرف ابتداء، أي: تبدأ بعدها الجمل؛ أي: تستأنف، فليست جارة ولا عاطفة، وهكذا حيث دخلت على إذا الشرطية عند الجمهور. اهـ وفي "زكريا" أنها جارة، والمعنى: فيستمرون في الطغيان إلى أن يشاهدوا الموعود. اهـ {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {رَأَوْا} فعل وفاعل {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي {يُوعَدُونَ}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول أو صلة لـ {مَا} والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يوعدونه {إِمَّا}: حرف تفصيل وهي مانعة خلوّ تجوز الجمع {الْعَذَابَ}: بدل من {مَا} الموصولة بدل تفصيل من مجمل {وَإِمَّا السَّاعَةَ}: معطوفة على {إِمَّا الْعَذَابَ}

{فَسَيَعْلَمُونَ} (الفاء): رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا لاقترانه بحرف التنفيس {يعلمون}: فعل وفاعل والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة لأن {حَتَّى} ابتدائية أو في محل الجر بـ {حَتَّى} و {حَتَّى}: متعلقة بـ {يمدد} والتقدير: فيمدد لهم الرحمن مدًا إلى علمهم {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} وقت رؤيتهم ما يوعدون {مَنْ}، اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يعلمون}: لأن علم هنا بمعنى عرف {هُوَ شَرٌّ} مبتدأ وخبر، ويجوز أن تكون من استفهاميةً في محل الرفع، مبتدأ أول و {هُوَ}: مبتدأ ثان و {شَرٌّ} خبر المبتدأ الثاني و {هُوَ} وخبره خبر {مَنْ} وجملة {مَنْ} في محل النصب بـ {يعلمون} على أنها معلقة لها {مَكَانًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل {وَأَضْعَفُ جُنْدًا}: معطوف على {شَرٌّ مَكَانًا}. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)}. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة: مستأنفة {اهْتَدَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول {هُدًى} تمييز أو مفعول ثان للفعل {يزيد} {وَالْبَاقِيَاتُ}: مبتدأ {الصَّالِحَاتُ}: صفة للمبتدأ {خَيْرٌ} خبر {الباقيات} والجملة: مستأنفة {عِنْدَ رَبِّكَ} ظرف متعلق بـ {خَيْرٌ}. {ثَوَابًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ {خَيْرٌ} {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} معطوف على {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} {أَفَرَأَيْتَ} الهمزة: للاستفهام التعجبي داخلة على محذوف و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أنظرت فرأيت {رأيت}. فعل وفاعل بمعنى أخبرني يتعدى لمفعولين {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {رأيت} وجملة {رأيت}: معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة: مستأنفة {كَفَرَ}: فعل وفاعل مستتر {بِآيَاتِنَا}: متعلق به، والجملة: صلة الموصول {وَقَالَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {كَفَرَ} {لَأُوتَيَنَّ} اللام: موطئة للقسم {أوتين} فعل مضارع مغير الصيغة في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنيون التوكيد الثقيلة ونائب فاعله وفاعله: ضمير مستتر فيه تقديره: أنا {مَالًا}: مفعول ثان {لَأُوتَيَنَّ} لأنه بمعنى أعطى {وَوَلَدًا}: معطوف على {مَالًا} والجملة

الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)}. {أَطَّلَعَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري {طلع}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الكافر {الْغَيْبَ} مفعول به والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ {رأيت} علق عنها بهمزة الاستفهام {أَمِ}: حرف عطف معادل للهمزة {اتَّخَذَ}: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الكافر {عِنْدَ الرَّحْمَنِ}: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ {اتَّخَذَ} {عَهْدًا}: مفعول أول لـ {اتَّخَذَ} {عَهْدًا}: مفعول أول لـ {اتَّخَذَ} وجملة {اتَّخَذَ}: معطوفة على جملة {اطلع}. {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر {سَنَكْتُبُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله تقديره، نحن وصدره بالسين من باب ما يقوله المتوعد لخصمه سوف أنتقم منك، يعني: لا تغتر بطول الزمان، فإن الانتقام آتيك، أو ستظهر له وتعلمه أنا كتبنا {مَا} موصولة، أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ {نكتب} والجملة الفعلية: مستأنفة {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكافر وجملة {يَقُولُ}: صلة لـ {مَا} أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يقوله {وَنَمُدُّ}: فعل مضارع معطوف على {سَنَكْتُبُ}: وفاعله ضمير يعود على الله تقديره: نحن {لَهُ}: متعلق بـ {نمد} {مِنَ الْعَذَابِ}: حال من {مَدًّا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {مَدًّا}: مفعول مطلق أو مفعول به أو منصوب بنزع الخافض {وَنَرِثُهُ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الله والجملة معطوفة: على جملة {نمد}: {مَا} بدل اشتمال من الهاء والمعنى نرث ما عنده من المال والأهل والولد {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكافر والجملة صلة {مَا} الموصولة والعائد محذوف تقديره: ما يقوله {وَيَأْتِينَا}: الواو: عاطفة {يأتينا}: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الكافر {فَرْدًا}:

حال من فاعل {يأتينا}: والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {نرثه}. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}. {وَاتَّخَذُوا} الواو: استئنافية {اتخذوا}: فعل وفاعل {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من {آلِهَةً} {آلِهَةً}: مفعول ثان والأول محذوف لدلالة السياق عليه والتقدير: واتخذوا الأصنام آلهة من دون الله والجملة: مستأنفة {لِيَكُونُوا} (اللام): حرف جر وتعليل {يكونوا}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي و (الواو) اسمها {لَهُمْ} حال من {عِزًّا} {عِزًّا} خبرها والجملة: في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونهم عزًا لهم الجار والمجرور متعلق بـ {اتخذوا}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر {سَيَكْفُرُونَ} فعل وفاعل {بِعِبَادَتِهِمْ}: متعلق به والجملة: مستأنفة {وَيَكُونُونَ}: فعل مضارع ناقص واسمها {عَلَيْهِمْ} حال من {ضِدًّا}. {ضِدًّا}: خبر يكون ووحده وهو جمع لمحًا لأصله؛ لأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع، أو لأنه مفرد في معنى الجمع، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}. {أَلَمْ} الهمزة: للإستفهام التقريري {لَمْ} حرف نفي وجزم {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}: وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على محمد تقديره: أنت والجملة: مستأنفة {أَنَّا} ناصب واسمه {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ}: فعل وفاعل ومفعول {عَلَى الْكَافِرِينَ}: متعلق به وجملة: {أَرْسَلْنَا}: في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعول {تَرَ}. {تَؤُزُّهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به {أَزًّا}: مفعول مطلق وفاعله ضمير يعود على {الشَّيَاطِينَ} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من {الشَّيَاطِينَ}. {فَلَا تَعْجَلْ} الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك {لا تعجل}. {لا} ناهية جازمة {تَعْجَلْ}: فعل

مضارع مجزوم بـ {لا}: الناهية وفاعله ضمير يعود على محمد {عَلَيْهِمْ}: متعلق به والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة: مستأنفة {إِنَّمَا} كافة ومكفوفة {نَعُدُّ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُمْ}: متعلق به {عَدًّا}: مفعول مطلق وجملة: {نَعُدُّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية بفعل محذوف تقديره: اذكر لهم يا محمد يوم نحشر المتقين والجملة المحذوفة مستأنفة {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله {إِلَى الرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {نَحْشُرُ} {وَفْدًا}: حال من {الْمُتَّقِينَ}؛ أي: وافدين وجملة {نَحْشُرُ} في محل الجر مضاف إليه للظرف {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {نَحْشُرُ} {إِلَى جَهَنَّمَ} متعلق بـ {نسوق}. {وِرْدًا} حال من {الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: واردين {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير حال الناس جميعًا مؤمنهم وكافرهم، ولا علاقة لها بالفريقين المتقدمين {إِلَّا} أداة حصر واستثناء {مَنِ} اسم موصول في محل الرفع بدل من الواو في {يَمْلِكُونَ} أو في محل النصب على الاستثناء المتصل {اتَّخَذَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} {عِنْدَ الرَّحْمَنِ}: ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لـ {اتَّخَذَ}. {عَهْدًا}: هو المفعول الأول له، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وقد اختار أبو البقاء والزمخشري: أن يكون الاستثناء منقطعًا. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَقَدْ} (اللام) موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {جِئْتُمْ شَيْئًا}: فعل وفاعل ومفعول و {إِدًّا} صفة {شَيْئًا} والجملة الفعلية: جواب لقسم محذوف، وجملة القسم، في محل النصب مقول

لقول محذوف تقديره: قال الله سبحانه والله لقد جئتم شيئًا إدًا، {تَكَادُ} فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة {السَّمَاوَاتُ}: اسمها {يَتَفَطَّرْنَ}: فعل وفاعل منه متعلق به والجملة في محل النصب خبر كاد وجملة {تَكَادُ}: مستأنفة أو صفة لـ {إِدًّا} كما في "الفتوحات" {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب خبر لكاد المحذوفة المعلومة من السياق، والتقدير وتكاد الأرض تنشق منه، والجملة معطوفة، على جملة كاد الأول {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ}: فعل وفاعل {هَدًّا}: حال من الجبال؛ أي: مهدودةً أو مفعول مطلق معنوى لـ {تخر} لأن الخرور والهد معناهما السقوط، والجملة الفعلية: خبر لكاد المحذوفة تقديره: وتكاد الجبال تخر هدا {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {دَعَوْا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين {لِلرَّحْمَنِ} متعلق بـ {دَعَوْا}. {وَلَدًا} مفعول ثان لـ {دَعَوْا} والأول محذوف تقديره: معبودهم لأن {دَعَوْا} بمعنى سموا وهي تتعدى لاثنين بنفسها، أو بالباء، وجملة {دَعَوْا} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من ضمير {مِنْهُ} في قوله: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أو مجرور بلام جر محذوفة متعلقة بـ {تَكَادُ} والتقدير: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} لأجل دعوتهم ونسبتهم {لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}. {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}. {وَمَا} (الواو): حالية {مَا} نافية {يَنْبَغِي}: فعل مضارع {لِلرَّحْمَنِ}: متعلق به {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يَتَّخِذَ} فعل مضارع منصوب بـ {وَمَا} المصدرية وفاعله ضمير يعود على {الرَّحْمَنُ}. {وَلَدًا} مفعول به والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ} اتخاذ ولد وجملة {يَنْبَغِي} في محل النصب حال من {الرَّحْمَنُ} في قوله: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ}. {إِنْ}: نافية {كُلُّ} مبتدأ {مَنْ} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه لـ {كُلُّ} {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة الموصول {والأرض} معطوف على السموات {إلا} أداة استثناء مفرغ {آتِي الرَّحْمَنِ}: خبر المبتدأ ومضاف إليه {عَبْدًا}: حال من الضمير المستتر في {آتِي} والجملة الاسمية: مستأنفة.

{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}. {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} اللام: موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق {أَحْصَاهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الرَّحْمَنِ} والجملة الفعلية: جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب وجملة القسم: مستأنفة. {وَعَدَّهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على {الرَّحْمَنِ}. {عَدًّا} مفعول مطلق والجملة معطوفة على جملة {أَحْصَاهُمْ}. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ}: مبتدأ وخبر {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {آتِيهِ}. {فَرْدًا} حال من الضمير المستتر في {آتِيهِ} والجملة الاسمية: معطوفة على جملة القسم، أو مستانفة {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {سَيَجْعَلُ}: فعل مضارع {لَهُمُ} مفعول ثان {الرَّحْمَنُ} فاعل {وُدًّا}: مفعول أول له والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}. {فَإِنَّمَا} الفاء: تعليلية لمعلول محذوف دل عليه السياق تقديره: بلِّغ هذا المنزّل عليك وبشر به وأنذر لأنَّا يسرناه بلسانك لتبشر به كما في "أبي السعود" {إنما}: أداة حصر {يَسَّرْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول {بِلِسَانِكَ} جار ومجرور حال من ضمير {يَسَّرْنَاهُ} تقديره: حالة كونه جاريًا على لسانك والجملة الفعلية: في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بـ (الفاء) تعليلية والجملة المعللة المحذوفة: مستأنفة {لِتُبَشِّرَ} (اللام) حرف جر وتعليل {تبشر} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله: ضمير يعود على محمد {بِهِ} متعلق به {الْمُتَّقِينَ}: مفعول به والجملة الفعلية، مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ (اللام) تقديره: لتبشيرك به المتقين، الجار والمجرور متعلق بـ {يَسَّرْنَاهُ} {وَتُنْذِرَ}: فعل مضارع معطوف على {تبشر} وفاعله ضمير يعود على محمد {بِهِ} متعلق به {قَوْمًا}: مفعول به {لُدًّا} صفة لـ {قَوْمًا}. {وَكَمْ} (الواو): استئنافية {كم}: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم

لـ {أَهْلَكْنَا}. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة {قَبْلَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {أَهْلَكْنَا}. {مِنْ قَرْنٍ} تمييز لـ {كم} مجرور بـ {مِنْ} الزائدة {هَلْ} للاستفهام الإنكاري {تُحِسُّ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد {مِنْهُمْ} حال {مِنْ أَحَدٍ}: لأنه كان صفة لـ {أَحَدٍ}. {مِنْ} زائدة {أَحَدٍ}: مفعول به منصوب محلًا والجملة: جملة إنشائية مستأنفة {أَوْ تَسْمَعُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة: معطوفة على جملة {تُحِسُّ}. {لَهُمْ}: حال من {رِكْزًا}. {رِكْزًا}: مفعول به. التصريف ومفردات اللغة {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: ظاهرات الإعجاز {مَقَامًا}؛ أي: مكانًا ومنزلًا بفتح الميم اسم مكان من قام الثلاثي أو مصدر ميمي وقرىء بالضم، فيكون أيضًا اسم مكان أو مصدرًا ميميًا من أقام الرباعي المزيد، والمراد، هنا: موضع القوم؛ أي: خير مكان قيام أو إقامةٍ {نَدِيًّا}؛ أي: مجلسًا ومجتمعًا، ومثله النادي وقيل: هو المجلس يجتمع فيه لحادثة أو مشورةٍ، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها في أمورهم، والندي فعيل، أصله: نديو لأن لامه واو يقال: ندوتهم أندوهم؛ أي: أتيت ناديهم، والنادي مثله ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)}؛ أي: أهل ناديه، والندي والنادي، مجلس القوم ومتحدثهم، وقيل: هو مشتق من الندى وهو الكرم؛ لأن الكرماء يجتمعون فيه {مِنْ قَرْنٍ} والقرن مفرد لفظًا متعدد معنًى {أَثَاثًا} والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها والمال، ويقال: أث يئث ويأث ويؤث أثاثًا وأثوثًا وأثاثةً، وأثَّ النبات أو الشعر: التف وكثر فهو أث وأثيث {وَرِئْيًا} والرئي: فعل بمعنى مفعول فهو المرئيُّ كالذِبح والطِحن بمعنى المذبوح والمطحون، فهو بمعنى المنظر الحسن والصورة والهيئة الحسنة والنضارة، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}؛ أي: فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات {مَرَدًّا}؛ أي: مرجعًا وعاقبةً {وَوَلَدًا} والولد، بفتحتين: اسم مفرد قائم مقام الجمع، وأما بالضم فالإسكان فقيل: هو كالولد بفتحتين، فيقال: ولد وولد كما يقال، عرب وعرب، وقيل: بل هو جمع ولد نحو: أسد وأسد كما في "السمين".

{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ}، أصله: أإطَّلع بفتح الهمزة الاستفهامية وكسر همزة الوصل فحذفت همزة الوصل تخفيفًا وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة، واطلع: يتعدى بنفسه كقولهم اطلع الجبل، ويقال: اطلع الأمر، وعليه علمه، ويقال أيضًا: اطلع طلع العدو بكسر الطاء وسكون اللام عرف باطن أمرهم، وقد توهم بعضهم أنه لا يعلى إلا بعلى، فأعرب الغيب بنزع الخافض، وإنما هو من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية: قال جرير: إِنَّي إِذَا مُضَرٌ عَلَيَّ تَحَدَّثَتْ ... لاَقَيْتُ مُطَّلَعَ الْجِبَالِ وُعُوْرَاً فمطلع اسم مكان من اطلع المشدد، أصله: اطتلع على بناء الافتعال، فقلبت التاء طاءً وأُدغمت الطاء في الطاء، وهو في البيت نصب على الظرفية، والوعور جمع وعر؛ أي: صعب يريد الشاعر: إذا تقولت عليَّ مضر ما لا أرتضيه، أو حدثتها نفسها بقتلي .. تمرست بالصعاب ولا أُبالي بها {وَنَمُدُّ لَهُ} مضارع مد الشيء يمده من باب نصر: أطاله وبسطه وجذبه ومد الحبل فامتد وهذا ممد الحبل. فائدة في مبحث كلا: للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب: أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس: أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها، حيث وقعت في القرآن، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية زجرت وردت ذلك القائل. والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل: إنها حرف تصديق بمعنى نعم، فتكون جوابًا ولا بد حينئذٍ من أن يتقدمها شيء لفظًا أو تقديرًا وقد تُستعمل في القسم. والثالث: هو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل: أنها بمعنى حقًا. والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله الباهلي: أنها رد لما قبلها، وهذا قريب من معنى الردع. والخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى إي كذا قيل، وفيه نظر: فإن إي

حرف جوابٍ ولكنه مختص بالقسم. والسادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول أبي حاتم، ولتقرير هذه المذاهب موضع هو أليق بها قد حققتها بحمد الله فيه. اهـ "سمين". وذكرت كلا في القرآن في النصف الثاني منه فقط، وذكرت في خمس عشرة سورةً منه كلها مكية، وجملة ما ذكر منها في القرآن. ثلاثة وثلاثون مرة، ترجع إلى أقسام ثلاثة: قسم: يجوز الوقف عليها، وعلى ما قبلها فيُبتدأ بها وهذا باتفاق. وقسم: اختلف فيه، هل يجوز الوقف عليها أو يعين على ما قبلها. وقسم: لا يجوز الوقف عليها باتفاق. فالقسم الأول: خمسة مواضع: اللتان في هذه السورة، واللتان في سورة الشعراء، وواحدة في سورة سبأ. والقسم الثاني: تسعة واحدة في سورة المؤمنين، وثنتان في سورة سأل سائل، وثنتان في سورة المدثر الأولى والثالثة، والأولى في سورة القيامة، والثانية في سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} والأولى في سورة الفجر، والتي في سورة {وَيْلٌ لِكُلِّ} .. والقسم الثالث: هو التسع عشرة الباقية. اهـ شيخنا عن العز بن جماعة. {وَنَرِثُهُ}؛ أي: نسلبه منه ونأخذه بأن نخرجه من الدنيا خاليًا من ذلك، والمراد نزوي عنه ما يقوله من أنه سيناله في الآخرة. {ضِدًّا} وإنما وحَّد الضد وإن كان خبرًا عن جمع لأحد وجهين، إما لأنه مصدر في الأصل، والمصادر موحدة مذكرة، وإما لأنه مفرد في معنى الجمع. اهـ "خازن" وفي "القاموس" وضده في الخصومة من باب رد غلبه ومنعه برفق، والقربة ملأها وأضد غضب وضاده: خالفه، وهما متضادان. اهـ فضد كأنه مصدر سماعي أو اسم مصدر تأمل {تَؤُزُّهُمْ}: تهيجهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتجيب الشهوات، والمراد: تعجيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أقاويل الكفرة،

وتماديهم في الغيِّ وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآية المتقدمة. اهـ "بيضاوي" وفي "السمين" {أَزًّا} مصدر مؤكد والأز والأزيز والهز والهزيز، قال الزمخشري: أخوات، وهو التهييج وشدة الإزعاج والأز أيضًا: شدة الصوت وفي "القاموس" وأزَّت القدر تؤز بالضم، وتئز بالكسر أزّاً وأزيزًا وأزازًا بالفتح: اشتد غليانه، وأز النار: أوقدها وأز الشيء حرَّكه شديدًا. اهـ. {وَفْدًا}: الوفد مصدر وقد يفد وفداً ووفوداً ووفادةً وإفادةً وفد إلى أو على الأمير: قدم وورد رسولاً فهو وافد، والوفد أيضًا: جمع وافدٍ وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد: يقدمون مكرمين مبجلين ركباناً {إِلَى الرَّحْمَنِ}؛ أي: إلى دار كرامته وهي الجنة {وِرْدًا} والورد: القوم الواردون إلى الماء عطاشًا، قد تقطعت أعناقهم من الحطش {إِدًّا} بالكسر والفتح العجب، وقيل: العظيم المنكر والإدة: الشدة وآدَّني الأمر: أثقلني وعظم لي {إِدًّا} وفي "القاموس" الإد والإدة بكسرهما العجب، والأمر الفظيع والداهية: والمنكر كالإد بالفتح وأدَّته الداهية تؤده بالضم، وتئده بالكسر، وتأده بالفتح: دهشة {يتفطرن} من التفطر وهو التشقق {ينفطرن} من الانفطار وهو الانشقاق {وَتَخِرُّ} تسقط وتنهدم {دَعَوْا}؛ أي: نسبوا وأثبتوا. {وُدًّا}؛ أي: محبةً ومودةً وفي "المصباح" وددته أوده من باب تعب وداً بفتح الواو وضمها: أحببته والاسم: المودة ووددت لو كان كذا أيضًا ودًا وودادةً تمنيته، وفي "المختار" الود بضم الواو وفتحها وكسرها: المحبة فهي مثلثة الواو، والأرجح: الضم وبها قرأ السبعة، وقرىء في غير السبعة، بفتحها وكسرها، ويحتمل أن يكون المفتوح مصدرًا، والمضموم والمكسور اسمين. {لُدًّا} جمع ألد؛ أي: شديد الخصومة، وهذا الجمع من قبيل قوله: فعل لنحو أحمر وحمراء {تُحِسُّ} بضم التاء: مضارع أحس، وفي "المصباح": الحس والحسيس: الصوت الخفي وحسه حسًا فهو حسيس، مثل قتلته قتلًا فهو قتيل، وأحس الرجل الشيء إحساسًا علم به، يتعدى بنفسه مع الألف قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} وربما زيدت فيه الباء، فقيل: أحس به على معنى شعر به، وحسست به من باب قتل لغة والمصدر: الحس بالكسر يتعدى بالباء على معنى شعرت أيضًا

{رِكْزًا} الركز: الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح، إذا غُيِّب طرفه في الأرض، ومنه الركاز وهو المال المدفون. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} فقد شبه الغيب المجهول الملثَّم بالأسرار بجبل شامخ، الذرى لا يرقى الطير إلى مداه، فهو مجهول تتحطم عليه آمال الذين يريدون استشفاف آفاقه، وإدراك تهاويله، ثم حذف الجبل؛ أي: المشبه به وأخذ شيئًا من خصائصه ولوازمه وهو: الاطلاع والارتقاء، واستشراف مغيباته والغرض من هذه الاستعارة السخرية البالغة، كأنه يقول: أو بلغ هذا مع حقارته، وتفاهة أمره، وصغار شأنه، أن ارتقى إلى الغيب المحجب بالأسرار، المطلسم بالخفاء. اهـ من "إعراب القرآن". ومنها: إخراج الخبر على صيغة الأمر في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ} للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يُفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما يُنبىء عنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّر} أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}. ومنها: التعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية ذكره أبو السعود. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}؛ أي: نأمر الملائكة بالكتابة، فهو من إسناد الشيء إلى سببه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}، وفي قوله: {اهْتَدَوْا هُدًى}، وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}، وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}، وقوله: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)}. ومنها: الطباق بين: {تبشر} و {تنذر}.

ومنها: المقابلة اللطيفة بين المتقين والمجرمين، وبين حال الأبرار والأشرار في قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)}، وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}. ومنها: الجناس الناقص بين قوله: {وَفْدًا} {وِرْدًا} لاختلاف الحرف الثاني. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} حيث رجع الأول إلى {خَيْرٌ مَقَامًا} والثاني إلى {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}. ومنها: الطباق بين {خَيْرٌ} و {شَرٌّ}. ومنها: التكرار فقد تكرر ذكر الرحمن كما قلنا ست عشرة مرة في هذه السورة معظمها في خواتيمها، والفائدة فيه: أنه هو الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره، وخلق لهم جميع متطلباتهم التي بها قوام معايشهم، فهل اعتبر الإنسان أم لا يزال الغطاء مسدولاً على عينيه، والوقر يغشي أذنيه فمن أضاف إليه ولدًا، جعله كالأناس المخلوقة وأخرجه بذاك عن استحقاق هذا الاسم الجدير به وحده. ومنها: الإلتفات في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)} إلتفت من الغيبة إلى الخطاب، لمشافهتهم بالأمر المنكر الذي اجترحوه، والبدع العجيب الذي ارتكبوه. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} والاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد 1 - دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدًا سريًا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك. 2 - استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى بيحيى لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه. 3 - تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين، أم عاقر وأب شيخ هرم. 4 - طلبه العلامة على أن امرأته حامل. 5 - إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيًا. 6 - ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرًا سويًا، والتجائها إلى أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر. 7 - حملها بعيسى - عليه السلام - وانتباذها مكانًا قصيًا، حتى لا يراها الناس، وهي على تلك الحال. 8 - نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهز النخلة حتى تساقط عليها رطبًا جنيًا. 9 - مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهي على تلك الحال، وقد إنهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد، من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى. 10 - كلام عيسى وهو في المهد تبرئةً لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال، من النبوة، والبركة والبر بوالدته، وأنه لم يكن جبارًا متكبرًا على خالقه .. 11 - اختلاف النصارى في شأنه. 12 - قصص إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه آزر، ووصفه له بالجهل، وعدم التأمل في المعبودات التي يعبدها من دون الله، ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، ورد أبيه عليه مهددًا متوعدًا.

13 - هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة. 14 - قصص موسى ومناجاته ربه في الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرًا ونبيًا. 15 - قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. 16 - قصص إدريس - عليه السلام -، ووصف الله له بأنه صديق نبي، رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه. 17 - مجيء خلفٍ من بعد هؤلاء الأنبياء، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. 18 - وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحًا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم. 19 - إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه. 20 - إنكار المشركين للبعث استبعاداً له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئًا. 21 - الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين، ثم يحضرهم حول جهنم جثيًا، ثم بدئه بمن هو أشد جرمًا والله أعلم بهم. 22 - الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين جثيًا. 23 - بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسًا، وأكرم منهم مكانًا. 24 - تهديدهم بأنه أهلك كثيرًا ممن كان مثلهم في العتو والاستكبار، وأكثر أثاثًا ورياشًا. 25 - بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

26 - النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء. 27 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل هلاك المشركين. إذ أن حياتهم مهما طالت فهي محدودةٌ معدودةٌ. 28 - التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان. 29 - النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدًا. 30 - بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوي اللدد والخصومة (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد، خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، إلى هنا تم تفسير سورة مريم بإذن الله وتوفيقه، وله الحمد والشكر على إمداده وإحسانه، أوائل ليلة الثلاثاء السادسة عشرة من ربيع الأول من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشر سنة 16/ 3/ 1412، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة طه

سورة طه سورة طه: مكية كلها عند الجميع، قيل: إلا آيتي (130 * 131) فمدنيتان، نزلت بعد سورة مريم، وآيها مئة وخمس وثلاثون آيةً، وكلماتها ألف وثلاث مئة وإحدى وأربعون، وحروفها خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإيجاز، كقصص إبراهيم - عليه السلام - وبعضها موجز مجمل، كقصة موسى - عليه السلام - ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال .. ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصل قصة آدم - عليه السلام - ولم يذكر في سورة مريم إلا اسمه فحسب. 2 - أنه روي عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها. 3 - أن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة، ومناسب له في المعنى، إذ ذكر في آخر تلك أنه إنما يسر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيراً للمتقين، وإنذاراً للمعاندين، وفي أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى. ومن فضائلها: ما أخرج (¬2) الدارمي وابن خزيمة في "التوحيد"، والعقيلي في "الضعفاء"، والطبراني في "الأوسط"، وابن عدي وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن .. قالوا طوبى لأمةٍ ينزل عليها هذا، وطوبى لأجوافٍ تحمل هذا، وطوبى لألسنةٍ تكلمت بهذا" قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب وفيه نكارة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

ومنها (¬1): ما أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلةً" وفيه مقال. والنافلة: الزيادة. ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل قرآن يوضع عن أهل الجنة، فلا يقرؤون منه شيئًا، إلا سورة طه ويس، فإنهم يقرؤون بهما في الجنة". وفيه مقال. ومنها: ما أخرجه الدارقطني في "سننه"، عن أنس بن مالك، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه، وكان ذلك بسبب إسلام عمر، والقصة مشهورة في كتب السير. الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال أبو (¬2) عبد الله محمد بن حزم: جملة المنسوخ من هذه السورة ثلاث آيات: أولاهن: قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (114) الآية. نسخ معناها لا لفظها بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} الأعلى. والآية الثانية: قوله: تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (130) الآية. نسخ الصبر منها بآية السيف. والآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} (135)، جميع هذه الآية منسوخ بآية السيف. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الناسخ والمنسوخ.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (¬1): أنه تعالى، لما ذكر تبشير القرآن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بلسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بلغته، وكان فيما علل به قوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} .. أكد ذلك بقوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} والتذكرة: هي البشارة والنذارة، وأن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك، بل إنما نزل تذكرةً. قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (¬1) الله سبحانه لما عظَّم كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ والإنذار والتبشير .. أتبع ذلك بما يقوي قلبه من قصص الأنبياء، وما فعلته أممهم معهم، وكيف كانت العاقبة لهم، والنصر حليفهم، ففي هذا سلوى له، وتأس بهم فيما قاموا به من الذود عن الحق، مهما أصابهم من العنت والأذى، من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وبدأ بقصص موسى؛ لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفل الحديد. وعبارة أبي حيان هنا (¬2): قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر تعظيم كتابه، وتضمن تعظيم رسوله .. أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة، وتكاليف الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} فقال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}. قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬3) مناجاته لموسى، حين رأى النار التي في الشجرة، واختياره نبيًا، وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة، لما فيها من ذكره، وتخصيصه بالعبادة دون سواه، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

محالة، ليجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بما دسى به نفسه جزاءً وفاقًا .. قفى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى دلالةً على نبوته، وتصديقًا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حيةً تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعًا لقلبه، وتهدئةً لروعه في هذا المقام الرهيب، وإعلامًا بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن، وجليل المنافع والمزايا، التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام. قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما ذكر المعجزة الأولى، الدالة على نبوة موسى عليه السلام وعلى صدق رسالته، وهي العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض .. قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاه إياها، وهي معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمنى إلى جنبه الأيسر تحت العضد، ثم أخرجها .. أضاءت كشعاع الشمس، تغشي البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره، ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيًا، كى يشد أزره، ويقوى على تبليغ الرسالة ويتعاونا على ذكر الله وعبادته. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر (¬2) موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون .. عرف أنه كلف أمرًا عظيمًا يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فسأل ربه، ورغب في أن يشرح صدره، ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر، وأن يسهل عليه أمره الذي هو خلافة الله في أرضه، وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط. قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

قبلها: أن موسى - عليه السلام - لما سأل ربه أمورًا ثمانية، وكان قيامه بما كلف به لا يتم على الطريق المرضي إلا إذا أجابه إليها .. لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلف به، ثم ذكره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتًا، وتضعه فيه وتلقيه في النيل، ففعلت فألقاه النيل في الساحل، فالتقطه آل فرعون وربوه في منزلهم، وألقى الله محبةً في قلوبهم له، وصار كأنه ابنهم، ثم ذكره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين. أسباب النزول قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} سبب نزوله (¬1): ما أخرجه عبد الله بن حميد في "تفسيره"، عن الربيع بن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراوح بين قدميه ليقوم على كل رجل حتى نزلت آية: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما أنزل عليه الوحي، يقوم على صدور قدميه إذا صلى فأنزل الله {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} وروى مقاتل (¬2): أن أبا جهل، والوليد بن المغيرة، ومطعم بن عدي، والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: "بل بعثت رحمةً للعالمين" قالوا: بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردًا عليهم، وتعريفًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بأن دين الإِسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {طه (1)} اختلفوا فيه (¬1) أكثر مما اختلف في غيره من المقطعات، فقال بعضهم: هو اسم القرآن، أو اسم السورة، أو اسم الله، أو مفتاح الإسم الطاهر والهادي، وقال بعضهم: هو اسم من أسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل أحمد ويس، وغير ذلك، كما قال - عليه السلام -: "أنا محمد، وأنا أحمد، والفاتح، والقاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، وطه، ويس". ويؤيد هذا القول الخطاب في {عَلَيْكَ} فيكون حرف النداء محذوفاً؛ أي: يا طه، والطاء والهاء إشارة إلى أنه - عليه السلام - طالب الشفاعة للناس، وهادي البشر، أو أنه طاهر من الذنوب، وهاد إلى معرفة علَّام الغيوب، وقيل: إنه من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، بناءً على أنه من الحروف المقطعة التي استأثر الله بعلمها، فعليه يكون الوقف عليها تاماً، وهي آية مستقلة لا محل لها من الإعراب، وقيل (¬2): إنه بمعنى: يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك، قال الكلبي: لو قلت لرجلٍ من عك: يا رجل .. لم يجب، حتى تقول: طه، وأنشد ابن جرير: دَعَوْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُوْنَ مُوَاثِلاً ويُروى مزاولًا، وقيل: إنها في لغة عكٍ بمعنى: يا حبيبي، وقال قطرب: هي كذلك في لغة طي؛ أي: بمعنى: يا رجل، وكذلك قال الحسن وعكرمة، وقيل: هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدي، وقيل: إن معناه طوبى لمن اهتدى، وقيل: معناه: طاء الأرض يا محمد، قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم، ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طاء الأرض؛ أي: لا تتعب حتى تحتاج إلى التروح، وحكى القاضي عياض في "الشفاء" عن الربيع بن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله {طه (1)} يعني: طاء الأرض يا محمد، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع: أمر بالوطء، والأصل طأ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[2]

فقلبت الهمزة هاءً. وقد تقدم القول أن (¬1) أصح الآراء في الحروف المقطعة التي في أوائل السور أنها حروف تنبيهٍ كـ (ألا) و (يا)، ونحوهما، مما يُذكر في أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يُلقى بعدها لأهميته، وإرادة إصغائه إليه، نحو ما جاء في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} ويُنطق باسمائها عند قراءتها فيقال: طاها. وقيل (¬2): (طا) فعل أمر، وأصله: طأ فخففت الهمزة بإبدالها ألفًا، و (ها) مفعول به، وهو ضمير الأرض؛ أي: طاء الأرض بقدميك، ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه، وقرأت فرقة، منهم الحسن، وعكرمة، وأبو حنيفة، وورش، في اختياره: طه، قيل: أصله طأ، فحذفت الهمزة، وأُدخلت هاء السكت، وأُجري الوصل مجرى الوقف، أو أصله: طأ وأبدلت همزته هاء، فقيل: طه، وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: {طاوى}. وقال ابن الجوزي (¬3): وفي طه قراءات: قرأ ابن كثير وابن عامر {طه (1)} بفتح الطاء والهاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {طه} بكسر الطاء والهاء، وقرأ نافع: {طه} بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، كذلك قال خلف عن المسيبي، وقرأ أبو عمرو: {طه} بفتح الطاء وكسر الهاء، وروى عنه عباس مثل حمزة، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية: {طه} بكسر الطاء وفتح الهاء، وقرأ الحسن: {طه} بفتح الطاء وسكون الهاء، وقرأ الضحاك، ومورق: {طه} بكسر الطاء وسكون الهاء. انتهى. 2 - وجملة: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}: مستأنفة (¬4) مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء: يجيء في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير. (¬4) الشوكانى.

[3]

معنى التعب، قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة: العناء والتعب، ومنه قول الشاعر: ذُوْ الْعَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعِيْمِ بِعَقْلِهِ ... وَأَخُوْ الْجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوَةِ يَنْعُمُ والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن لا يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}؛ أي (¬1): ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب وتغلو في مكابدة الشدائد، حين تحاور أولئك القوم الطغاة، وتقاول أولئك العتاة، وتفرط في الأسى على كفرهم، وتتحسر على عدم إيمانهم، بل أنزلناه عليك لتبلِّغ وتذكر، وقد فعلت، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد هذا. وقصارى ذلك: أنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح .. فلنفسه، ومن كفر .. فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر. وقرأ طلحة (¬2): {ما نزِّل عليك} بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة، مبنيًا للمفعول {القرآن} بالرفع وقرأ الجمهور. {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} 3 - وقوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} نصب على أنه مفعول له لـ {أَنْزَلْنَا} معطوف على {تشقى} بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراك المستفاد من الاستثناء المنقطع، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين إلا من حيث البدلية، أو العطف، كأنه قيل: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه، ولكن أنزلناه تذكيرًا وموعظةً لمن يخشى الله تعالى، ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده؛ أي: تذكيرًا وموعظةً لمن يعلم الله منه أن يخشى بالتذكرة والتخويف، أو لمن يؤول أمره إلى الخشية، والخشية باعثة على الإيمان والطاعة، وقد كان - عليه السلام - يعظهم به بتلاوته، وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم في دنياهم وآخرتهم، وقد جرَّد (¬3) التذكرة عن اللام، لكونها فعلًا لفاعل الفعل المعلل. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[4]

وخص الخاشعين بالذكر، مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم، لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لأنهم المنتفعون بها، فكأن غيرهم لا وجود له، لعدم انتفاعه به. وخلاصة ذلك: حسبك ما حُمِّلْته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك، قال في "الكبير" ويدخل تحت قوله: {لِمَنْ يَخْشَى} الرسول؛ لأنه في الخشية والتذكرة فوق الكل. 4 - وقوله: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)} منصوب على المصدرية، بفعل محذوف تقديره: نُزَّل هذا القرآن عليك تنزيلًا من ربك، الذي خلق الأرض والسموات؛ أي: أوجدهما من العدم إلى الوجود، وتخصيص (¬1) خلق الأرض والسموات، لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، ولأنهما قوام العالم وأصوله، وتقديم (¬2) الأرض لكونها أقرب إلى الحس، وأظهر عنده من السموات. ووصف السموات بالعلى (¬3)؛ أي: المرافعة، وهو جمع العليا مؤنث الأعلى، مثل الكبرى والأكبر والكبر، للدلالة على عظم قدرة خالقها بعلوها، وعطف السموات على الأرض، من عطف الجنس على الجنس؛ لأن التعريف مصروف إلى الجنس، لا من عطف الجمع على المفرد، حتى يلزم ترك الأولى من رعاية التطابق بين المعطوف والمعطوف عليه، والمراد بهما: ما في جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما، وقرأ ابن (¬4) أبي عبلة {تنزل} رفعًا على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق {يخشى} بتنزيل، وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل، كما ذكرناه آنفًا، والظاهر في {مَن} أنها متعلقة بتنزيل، ويجوز أن يكون في موضع الصفة، فيتعلق بمحذوف وفي قوله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[5]

{مِمَّنْ خَلَقَ} تعظيم وتفخيم لشأن القرآن، إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم، وتعريض للنفوس على الفكر والنظر، وكأن في قوله: {مِمَّنْ خَلَقَ} التفاتًا، إذ فيها الخروج من ضمير التكلم، وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة، وفيه عادة التفنن في الكلام، وهو مما يحسن الكلام، إذ لا يبقى على نظام واحد، وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم، بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد، فحصل التعظيم من الوجهين، ذكره أبو حيان في "البحر". 5 - وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} رفع (¬1) على المدح على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سبحانه الرحمن الذي على عرشه استوى وارتفع وعلا، استواءً يليق به، نعتقده ونثبته، ولا نمثله ولا نكيفه ولا نعطله، وقد تقدم هذا في سورة الأعراف ببسط وإطناب، أو مبتدأ، واللام فيه للعهد مشاراً به إلى {من خلق} خبره ما بعده. وروى جناح بن حبيش عن بعضهم: أنه قرأ: {الرحمن} بالكسر، والأحسن أن يكون {الرحمن} حينئذ بدلًا من {من} الموصولة في قوله: {مِمَّنْ خَلَقَ} وعلى قراءة الجر يكون التقدير: هو على العرش استوى 6 - {لَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} سواء كان ما فيهما جزءًا منهما، أو حالًا فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: ما بين السموات والأرض من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا كالطير؛ أي: له جميع ذلك ملكًا وخلقًا وتدبيرًا وتصرفاً {و} له {مَا تَحْتَ الثَّرَى}؛ أي: وله ما واراه التراب، وأخفاه من المعادن وغيرها، والثرى في اللغة: التراب الندي، قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه. والمعنى عليه: وله سبحانه (¬2) الذي تحت الأرض السابعة السفلى؛ لأن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[7]

الأرضين على ظهر الحوت، والحوت على الماء، والماء على صخرٍ خضراء، فخضرة السماء منها، والصخرة على قرني ثور، والثور على الثرى وهو: التراب الندي، ولا يعلم ما تحته إلا الله سبحانه. والمعنى (¬1): أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة، تصرفًا وإيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً، 7 - وجواب الشرط في قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} محذوف تقديره: وإن تجهر وترفع صوتك بذكر الله تعالى ودعائه .. فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك وإعلانك {فَإِنَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ السِّرَّ} ما هو و {أخفى} من السر، فالفاء فيه تعليلية للجواب المحذوف، وهذا (¬2) إما نهي عن الجهر، كقوله سبحانه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}، وإما إرشاد (¬3) للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه، بل لغرض آخر من تصور النفس بالذكر، ورسوخه فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار، وإيقاظ الغير، ونشر البركات، إلى مدى صوته، وتكثير إشهاد، ونحو ذلك، والجهر بالقول: هو رفع الصوت به، والسر ما حدَّث به الإنسان نفسه، وأسره إليه، والأخفى من السرة هو ما حدث به الإنسان نفسه، وأخطره بباله. والمعنى: أي (¬4) وإن تجهر بدعاء الله وذكره .. فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك؛ لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك، ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تتفوه به. والدعاء والذكر باللسان، إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى في نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا في منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني في القلوب، كما قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} 8 - ثم ذكر سبحانه أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه، المنزه عن الشريك، المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال: {اللهُ} هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي. (¬5) روح البيان.

[9]

ذلك الموصوف بما ذكر من الأوصاف الكمالية، هو الله؛ أي: المعبود بحق لا عيره، وجملة قوله: {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود في الأرض ولا في السماء موجود {إِلَّا هُوَ}؛ أي: إلا ذلك الغائب عن الحواس، الموجود في الأزل قبل وجود الكائنات، مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه؛ أي: لا إله في الوجود إلا هو سبحانه، ودل قوله (¬1) {إِلَّا هُوَ}: على الهوية، فإن هو كناية عن غائب موجود، والغائب عن الحواس الموجود في الأزل هو الله تعالى، وفيه معنى حسن، وهو: التعالي عن درك الحواس، حتى استحق اسم الكناية عن الغائب من غير غيبة، كما في "بحر العلوم" وكذا جملة قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} مستأنفة مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح، ومبينة لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية، والمالكية، والعالمية، أسماءه وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى، فإنه رُوي أن المشركين حين سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا اللَّه، يا رحمن، قالوا: ينهانا أن نعبد إلهين، وقد يدعو إلهًا آخر، و {الْحُسْنَى} تأنيث الأحسن، يوصف به الواحدة المؤنثة، والجمع من المذكر والمؤنث، كـ {مآرب أخرى} و {آيَاتِنَا الْكُبْرَى}، وفضل أسماء الله تعالى في الحسن على سائر الأسماء، لدلالتها على معاني التقديس، والتمجيد، والتعظيم، والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الفضل والحسن. والمعنى (¬2): أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت، ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق، الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى، الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هي الغاية في الحكمة والسداد. 9 - ثم قرر سبحانه أمر التوحيد، بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال: {وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمد وبلغك {حَدِيثُ مُوسَى} بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[10]

عمران عليه السلام؛ أي: وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحي إلى موسى، وتكليم الله سبحانه إياه، والاستفهام (¬1) فيه للتقرير، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. ومن سنن العربية (¬2): أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب في نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويُصغي إليه أتم الإصغاء. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة، وتحمل أثقالها، ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله، والمراد بالحديث: القصة الواقعة لموسى، رُوي أن موسى - عليه السلام - استأذن شعيباً في الرجوع إلى والدته، فأذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدًا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين، ومعه زوجه فوُلد له ابنٌ في الطريق في ليلة شاتية، ذات ثلج وبردٍ وسحابٍ وضبابٍ وظلامٍ، وكانت ليلة جمعة، ونزل منزلًا بين شعاب وجبال، وجعل يقدس بزندٍ كان معه ليوري نارًا، فلم تور المقدحة شيئًا، وبينا هو يزاول ذلك ويعالجه 10 - {إِذْ رَأَى نَارًا} من بُعدٍ عن يسار الطريق {فَقَالَ} موسى {لِأَهْلِهِ}؛ أي: لامرأته وولدها وخادمها، فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد والعبيد والإماء والأقارب وبالأصحاب وبالمجموع، كما في "شرح المشارق" لابن ملك. مبشرًا لهم {امْكُثُوا}؛ أي: أقيموا مكانكم ولا تتبعونى {إِنِّي آنَسْتُ} وأبصرت {نَارًا} وسأذهب إليها {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ}؛ أي: لعلي أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه {أَوْ أَجِدُ عَلَى} تلك {النَّارِ هُدًى}؛ أي: هاديًا يدلني على الطريق؛ لأن النار قلَّما تخلو من أهل لها، وناس عندها، على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغةً، أو حُذف منه المضاف؛ أي: ذا هداية وكلمة، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[11]

أو لمنع الخلو دون منع الجمع، ومعنى الاستيلاء في على: أن أهل النار يكتنفونها عند الاصطلاء قيامًا وقعودًا، فيشرفون عليها. وجاء في سورة القصص {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}. وقصارى ذلك (¬1): أنه قال لأهله: أقيموا مكانكم، وإني قد رأيت نارًا، فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارًا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلًا يرشدني إلى الطريق المسلوك، وكان قد ضل عنه. ومعنى أمكثوا: أقيموا مكانكم، وعبَّر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك، وقرأ (¬2) الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية: {لأهله امكثوا} بضم الهاء وكذا في القصص، وقرأ الجمهور بكسرها قوله: {بِقَبَسٍ}؛ أي: بشعلة نار؛ أي: بشيء فيه لهب مقتبس من معظم النار، وهى المرادة بالجذوة في سورة القصص، وبالشهاب القبس في سورة "النمل", يقال: قبست منه نارًا في رأس عود، أو فتيلة أو غيرهما. ولم يقطع موسى بأن يقول إني آتيكم، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، انظر كيف احترز موسى عن شائبة الكذب قبل نبوته، فإنه حينئذٍ لم يكن مبعوثاً، قال أكثر المفسرين: إن الذي رآه موسى لم يكن نارًا، بل كان نور الرب سبحانه، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارًا، وقال الإِمام: الصحيح أنه رأى نارًا ليكون صادقًا في خبره، إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. انتهى. 11 - {فَلَمَّا أَتَاهَا}؛ أي: فلما أتى موسى النار التي آنسها .. {نُودِيَ} موسى من الشجرة، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص؛ أي: من جهتها وناحيتها؛ أي: فلما انتهى إلى النار التي آنسها .. رأى شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها، أحاطت بها نار بيضاء، تتقد كأضواء ما يكون، ولم ير هناك أحدًا، فوقف متعجبًا من شدة ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[12]

خضرتها, ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار، قيل: كانت الشجرة سمرةً خضراء، وقيل: عوسجةً، وقيل: عليقًا، وقيل: شجرة العناب وهي شجرة لا نار فيها، بخلاف غيرها من الأشجار، قالوا (¬1): النار أربعة أصناف: صنف يأكل ولا يشرب، وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى، وقالوا أيضًا: هي أربعة أنواع: نوع له إحراق بلا نور، وهي نار الجحيم، ونوع له نور بلا إحراق، وهي نار موسى، ونوع له إحراق ونور، وهي نار الدنيا، ونوع ليس له إحراق ولا نور، وهي نار الأشجار، قيل: إن موسى أخذ شيئًا من الحشيش اليابس وقصد الشجرة، فكان كلما دنا .. نأت عنه، وإذا نأى .. دنت منه، فوقف متحيراً، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورًا عظيمًا تكل عنه الأبصار، فوضع يديه على عينيه وخاف وبهت، فألقيت عليه السكينة والطمأنينة، فعند ذلك نودي، فقيل: {يَا مُوسَى} فأجاب سريعاً فقال: لبيك، من المتكلم إني أسمع صوتك ولا أرى شخصك، فأين أنت؟ 12 - فقال تعالى: {إِنِّي أَنَا} للتوكيد والتحقيق {رَبُّكَ} ومالك أمرك يا موسى، وأنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك، وأقرب إليك منك، فعلم أن ذلك لا ينبغي ولا يكون إلا من الله تعالى، فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه، حتى إن كل جارحة منه كانت أذنًا، وسمعه من جميع الجهات. وقرأ الجمهور (¬2): {إِنِّي} بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى معاملة النداء معاملة القول، لا أنه ضربٌ منه على مذهب الكوفيين، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي: {أني} بفتح الهمزة، والظاهر أن التقدير: بأني أنا ربك، وقال ابن عطية: لأجل أني أنا ربك، فاخلع نعليك، وأنا مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة، وإماطة الشبهة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

ثم أمره أن يخلع نعليه احتراماً للبقعة المقدسة فقال: {فَاخْلَعْ} وانزع {نَعْلَيْكَ} يا موسى عن قدميك؛ لأن الحفوة أقرب إلى التواضع، وحسن الأدب معه تعالى، وإلى التشريف والتكريم لتلك المقدسة، وقيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ. وفي "الترمذي"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان على موسى يومَ كلَّمه ربه كساء صوف، وجبة صوف، وكمة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت" قال: هذا حديث غريب. والكمة: القلنسوة الصغيرة، وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والكلبي والضحاك، وقيل: كانتا من جلد بقرة ذكي، لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس، حتى وتمس قدماه تربته، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين، وروي: أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله: {إِنَّكَ} يا موسى {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}؛ أي (¬1): المطهر والمستبعد من السوء {طُوًى}: اسم الوادي، بدل أو عطف بيان منه, أي: لأنك بالوادي المطهر المسمى بطوى، فاخلعهما ليحصل للقدمين بركته، والمقدس: المطهر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة: المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين، وعمرها بالمؤمنين. وقرأ الحسن (¬2) والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السُّمال وابن محيصن: بكسر الطاء منونًا، وقرأ الكوفيون وابن عامر: بضمها منونًا، وقرأ الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو: بضمها غير منون، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو: بكسرها غير منون، وقرأ عيسى بن عمرو والضحاك {طاوى} فمن نوَّن فعلى تأويل المكان، ومن لم ينون وضم الطاء، فيحتمل أن يكون معدولًا عن فعل، نحو زفر وقثم، أو أعجميًا أو على معنى البقعة، ومن كسر ولم ينون فمنع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[13]

الصرف باعتبار البقعة. 13 - {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} واصطفيتك من قومك للنبوة والرسالة {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} , أي: للذي يوحى إليك منى من الأمر والنهي، واللام: متعلقة بالسمع، مزيدة في المفعول كما في ردف لكم، والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقرأ (¬1) الجمهور، أبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي وأهل مكة وأهل المدينة: {وَأَنَا اخْتَرْتُك} بالإفراد، وقرأ حمزة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وخلف في اختياره: {وأنا اخترناك} بفتح الهمزة وشد النون {اخترناك} بنون العظمة، وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية: {وإنا} بكسر الهمزة {اخترناك} بنون العظمة عطفًا على {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} لأنهم كسروا ذلك أيضًا، وقرأ أُبيُّ {وأني} بفتح الهمزة وياء المتكلم {اخْتَرْتُكَ} بالتاء عطفًا على {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}. وقصارى ذلك (¬2): لقد جاءك أمر عظيم، فتأهب له، واجعل كل خاطرك إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم، 14 - وقد بيَّن سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} وهو بدل من {ما} في {لِمَا يُوحَى} دال على تقدم علم الأصول على علم الفروع، فإن التوحيد من مسائل الأصول، والعبادة الآتية من الفروع {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}؛ أي: إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: {فَاعْبُدْنِي} و (الفاء): فيه أيضًا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة؛ أي: فخصني بالعبادة والتوحيد، ولا تشرك بعبادتي أحدا؛ أي: وإذ كنت أنا الإله حقًا، ولا معبود سواي، فخصني بالعبادة والتذلل والانقياد في جميع ما كلفتك به {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} من عطف الخاص على العام؛ أي: وأد الصلاة على الوجه الذي أمرتك به، مقومة الأركان، مستوفاة الشروط {لِذِكْرِي}؛ أي: لتذكرني فيها، وتدعوني دعاءً خالصًا، لا يشوبه ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) المراغي.

[15]

إشراك ولا توجه إلى سواي، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، ويحتمل كونه من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي: لأذكرك بالإثابة. وخص (¬1) الصلاة بالذكر مع كونها داخلةً تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة، وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله: {لِذِكْرِي}؛ أي: لتذكري، فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى: لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، وقيل: المعنى لأذكرك بالمدح في عليين. وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء (¬2): {للذكرى} بلام التعريف وألف التأنيث، فالذكرى: بمعنى التذكرة؛ أي: لتذكيري إياك، إذا ذكرتك بعد نسيانك، فأقمها، وقرأت فرقة: {لذكرى} بألف التأنيث بغير لام التعريف، وقرأت فرقة: {للذكر}. 15 - ثم بيَّن السبب في وجوب العبادة، وإقامة الصلاة فقال: {إِنَّ السَّاعَةَ} والقيامة {آتِيَةٌ}؛ أي: كائنة حاصلة واقعة لا محالة، والساعة (¬3): اسم لوقت تقوم فيه القيامة، سمي بها لأنها ساعة حقيقةً، يحدث فيها أمر عظيم، وإنما عبَّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين {أَكَادُ أُخْفِيهَا}؛ أي: أريد (¬4) إخفاء وقتها فـ {أَكَادُ} بمعنى أريد، أو أقرب أن أخفيها، فلا أقول إنها آتية، ولولا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار .. لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها، فالإخفاء بمعنى الإظهار، من أخفى الشيء إذا أظهره، وسلب خفاءه، ويؤيده قراءة فتح الهمزة، من خفاه إذا أظهره، ذكره البيضاوي، وقيل: {أَكَادُ} (¬5) زائدة، والمعنى: إن الساعة آتية أسترها عن الخلق، للتهويل والتعظيم، وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر (¬6) ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) البيضاوي. (¬5) روح البيان. (¬6) الشوكاني.

وهو: أن الكلام ينقطع على {أَكَادُ} وبعده مضمر؛ أي: أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بـ {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} واختاره النحاس. وقال الواحدي: قال أكثر المفسرين: {أُخْفِيهَا} من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة، وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء .. كتمته حتى من نفسي؛ أي: لم أطّلع عليه، ومعنى الآية على هذا القول؛ أي (¬1): إن الساعة آتية لا محالة، وإني أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب في تخاطبهم، يقول أحدهم: إذا بالغ في كتمان السر: كتمت سري من نفسي، يريد: أنه أخفاه غاية الإخفاء، وقرأ أبو الدرداء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبو رجاء العطاردي والحسن ومجاهد وحميد بن قيس، {أخفيها} بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم، قال الزجاج: ومعناه: أكاد أظهرها، من خفيت الشيء بمعنى: أظهرته. وفائدة إخفائها: التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة .. يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته، وانقضاء أجله .. اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين، فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيته .. كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي، ويتوب منها في كل حين خوف معاجلة الموت. واللام في قوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} متعلق بـ {آتية} وما بينهما اعتراض أو بـ {أُخْفِيهَا} و {ما} مصدرية؛ أي: إن الساعة آتية لتجزي كل نفس بسعيها وعملها، خيرًا كان أو شرًا، وتخصيص (¬2) السعي بالذكر للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[16]

سوء اختيار العصاة، أو يقال: والسعي وإن كان ظاهرًا في الأفعال فهو هنا يعم الأفعال والتروك للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه، مأخوذ به 16 - {فَلَا يَصُدَّنَّكَ}؛ أي: فلا يصرفنك يا موسى {عَنْهَا}؛ أي: عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها؛ أي: لا يمنعنك عن ذكر الساعة ومراقبتها {مَنْ لَا يُؤْمِنُ} ولا يصدق ولا يقر {بِهَا}؛ أي: بإتيان الساعة وقيامها من الكفرة، وهذا النهي (¬1) وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للكافر عن صد موسى عن الإيمان بالساعة، فهو في الحقيقة نهيٌ لموسى عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني، وإبطال للسببية من أصلها، أو نهي (¬2) له عن إظهار اللبن للكافرين، فهو من باب لا أرينك هاهنا، كما هو معروف، وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} معطوف على ما قبله؛ أي: من لا يؤمن، ومن اتبع هواه؛ أي: اتبع هوى نفسه وشهواتها بالانهماك في اللذات الحسية الفانية {فَتَرْدَى}؛ أي: فتهلك هلاكًا أبديًا؛ لأن انصدادك عنها بصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له، لما في ذلك الانصداد من الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي من أهوالها لا محالة، والمراد، بهذا النهي: الأمر بالاستقامة في الدين، وهو خطاب له، والمراد: غيره وقرأ يحيى: {فتردى} بكسر التاء، والمعنى؛ أي (¬3): فلا يردنك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقر بقيامها, ولا يصدق بالبعث، ولا يرجو ثوابًا، ولا يخاف عقابًا، بل يتبع هواه، ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت في هاوية الخذلان والعصيان، وهذا الخطاب من وادي قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين، كما تقدم غير مرة. وخلاصة ذلك: لا تتبعوا سبل من كذب بالساعة، وأقبل على لذاته في دنياه، وعصى أمر ربه، واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم .. خاب وخسر، كما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغى.

[17]

قال: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}. واعلم (¬1): أن هذه الآيات والآتية بعدها دلت على أن الله تعالى كلم موسى - عليه السلام - وأنه سمع كلام الله تعالى، فإن قيل: بأي شيء علم موسى أنه كلام الله؟ قيل: لم ينقطع بالنفس مع الحق، كما ينقطع به مع المخلوق، بل كلَّمه تعالى بمدد وحداني غير منقطع، وبأنه سمع الكلام من الجهات الست، وبجميع الأجزاء، فصار الوجود كله سمعاً، وكذا المؤمن في الآخرة. 17 - والاستفهام في قوله: {وَمَا تِلْكَ}، للتقرير {وَمَا}: مبتدأ و {تِلْكَ}: خبره وهي بمعنى: هذه {بِيَمِينِكَ} حال والعامل فيها {مَا} في اسم الإشارة، من معنى الفعل، كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}؛ أي: أي شيء هذه الخشبة حالة كونها مأخوذةً بيمينك {يَا مُوسَى} ويصح أن تكون {مَا} خبرًا مقدمًا لـ {تِلْكَ} وهو أوفق بالجواب من عكسه. وقال الزمخشري (¬2): ويجوز أن يكون {تِلْكَ} اسماً موصولًا، صلته بـ {بِيَمِينِكَ} ولم يذكر ابن عطية غيره، وليس ذلك مذهباً للبصريين، وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولًا، حيث يتقدر بالموصول، كأنه قيل: وما التي بيمينك، وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفًا، كأنه قيل: وما التي استقرت بيمينك، وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - استئناس عظيم، وتشريف كريم. سأله سبحانه عما في يده وهو العليم به (¬3)، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة، جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حيةً تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة، على سنن الناس في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[18]

تخاطبهم، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئًا شريفًا، أن يأخذه ويعرضه على النظارة، ويقول لهم: ما هذا؟ فيقولون: هو كذا، فيفيض في شرح ماله من فائق المزايا، وجليل المنافع التي لم تكن تدور بخلدهم، ولم تخطر ببالهم. 18 - فأجابه موسى معددًا ما لها من فوائد ومزايا، بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر فـ {قَالَ} موسى {هِيَ}؛ أي: هذه الخشبة التي بيميني هي {عَصَايَ} يا إلهي، نسبها إلى نفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه، وتمهيداً لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السلام وكانت هذه العصا لآدم، ورثها شعيب من آدم، وأمر شعيب ابنته بعدما زوجها له أن تعطى لموسى، يدفع بها السباع عن غنمه، وكان عصا الأنبياء عنده، فوقع في يدها عصا آدم من آس الجنة، فأخذها موسى بعلم شعيبٍ. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري (¬1): {عصيَّ} بقلب الألف ياءً وإدغامها في ياء المتكلم، وقرأ الحسن {عصاي} بكسر الياء، وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضًا، وأبي عمرو معًا وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين، وعن أبي إسحاق، والجحدري {عصاي} بسكون الياء. وبقوله: {هِيَ عَصَايَ} تم (¬2) الجواب، ولكن ذكر موسى ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدةً على سبيل الإجمال فقال: 1 - {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}؛ أي: أعتمد عليها إذا مشيت، أو تعبت، أو وقفت على رأس القطيع من الغنم في المرعى. 2 - {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}؛ أي: وأخبط ورق الشجر بها ليسقط على غنمي، فتأكله، وقرأت فرقة: {غنمي} بسكون النون وفرقة: {على غنمي} بإيقاع الفعل على الغنم، وقرأ الجمهور (¬3): {وَأَهُشُّ} بضم الهاء والشين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغى. (¬3) البحر المحيط.

المعجمة، والنخعي: بكسرها، وهي بمعنى المضمومة الهاء، والمفعول محذوف, أي: الورق، وقرأ الحسن، وعكرمة، {وأهس} بضم الهاء والسين غير معجمة، والهس: السوق، ونقل ابن خالويه عن النخعي: أنه قرأ {وأهش} بضم الهمزة، من أهش الرباعي، وذكر صاحب "اللوامح" عن عكرمة، ومجاهد: {وأهش} بضم الهاء وتخفيف الشين، قال ولا أعرف له وجهاً، إلا أن يكون مخفف القراءة العامة؛ لأن الشين فيه تفش، فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي، فيكون كتخفيف ظلت ونحوه. 3 - {وَلِيَ فِيهَا}؛ أي: في عصاي {مَآرِبُ} وحوائج ومصالح ومنافع {أُخْرَى} غير ذلك المذكور، كحمل الزاد، والسقي، وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت .. ألقيتها على عاتقي، فعلقت بها قوسي، وكنانتي، ومخلاتي، وثوبي، وإذا وردت ماءً قصر عنه رشائي .. وصلته بها. وقد أجمل - عليه السلام - في المآرب، رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرةً أخرى، ويطول الحديث بهذا، وقرأ الزهري (¬1)، وشيبة: {مارب} بغير همز، كذا قال الأهوازي في "كتاب الإقناع" في القراءات. وقد تعرض (¬2) قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء: منها: قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفرها، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خَطْوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وأُلقي عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي، وعلاقة أدواتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيَّ. انتهى. وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

الجسام ما أمن به من كيد السحرة، ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته، وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنزته، وكان يخطب بالقضيب، وكذلك الخلفاء من بعده، وكانت عادة العرب العرباء أخذ العصا، والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. فإن قلت (¬1): ما الفائدة في سؤال الله تعالى له بقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} وهو يعلم؟. فعنه جوابان: أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال ليجيب المخاطب، لا إقرار به، فتثبت عليه الحجة باعترافه، فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعنده ماء: ما هذا؟ فيقول: ماء، فتضع عليه شيئًا من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا .. قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء، فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج، فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها عصا، لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حيةً، فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها. والثاني: أنه لما اطلع الله تعالى على ما في قلب موسى، من الهيبة والإجلال، حين التكليم .. أراد أن يؤانسه، ويخفف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: {هِيَ عَصَاي}، فما الفائدة في قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} إلى آخر الكلام، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أنه أجاب بقوله: {هِيَ عَصَايَ} فقيل له: ما تصنع بها، فذكر باقي الكلام جوابًا عن سؤال ثان. قاله ابن عباس، ووهب. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

[19]

والثاني: أنه إنما أظهر فوائدها، وبين حاجته إليها خوفاً من أن يأمره بإلقائها، كالنعلين. قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنه بيَّن منافعها, لئلا يكون عابثاً بحملها، قاله الماوردي. فإن قيل: فلِمَ اقتصر على ذكر بعض منافعها, ولم يطل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبةٍ: أحدها: أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها. والثاني: استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد. والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض، وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إذا اشتهى الثمار، وفي جنسها قولان: أحدهما: أنها كانت من آس الجنة، قاله ابن عباس. والثاني: أنها كانت من عوسج. فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال {أخرى}، ولم يقل أخر؟ فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أخرى، قاله الزجاج اهـ. "زاد المسير" 19 - {قَالَ} الله سبحانه وتعالى، استئناف (¬1) بياني واقع في جواب سؤال مقدر، أمره سبحانه بإلقائها, ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة {أَلْقِهَا}؛ أي: ألق هذه العصا وأطرحها {يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا} 20 - موسى على الأرض، والإلقاء والنبذ والطرح، بمعنىً واحدٍ {فَإِذَا هِيَ}؛ أي: تلك العصا المطروحة، وإذا هنا للمفاجاة {حَيَّةٌ تَسْعَى}؛ أي: ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعاً، وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها، حتى صارت حية تسعى؛ أي: تمشي بسرعةٍ وخفةٍ، قيل: كانت عصا ذات شعبتين، فصار الشعبتان فمًا، وباقيها جسم حيةٍ، تنتقل من مكان إلى مكان، وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها، وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك .. خاف وفزع وولى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[21]

مدبرًا ولم يعقب، وجاء تشبيهها بالجان، وهو: الصغير من الحيات، في قوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها، وقال في آية أخرى {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} والحية: تطلق على الصغيرة والكبيرة، والذكر والأنثى، والجان: الرقيق من الحيات، والثعبان: العظيم منها, ولا تنافي بين تشبيهها بالجان، وبين كونها ثعبانًا؛ لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها، ثم زيدت حتى صارت ثعبانًا، أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها، مع عظم خلقها، قيل: كان لها عرف كعرف الفرس، وصارت شعبتا العصا لها فمًا، وبين لحييها أربعون ذراعًا، أو ثمانون، وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانًا تبتلع الصخر والشجر، وعيناها تتقدان، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل .. لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول. وحكمة انقلابها وقت مناجاته: تأسيسه بهذا المعجز الهائل، حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت، وقد جرت له بذلك عادة وتدريب في تلقي تكاليف النبوة، ومشاق الرسالة، 21 - ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها، ونهاه عن أن يخاف منها حيث {قَالَ} سبحانه: استئناف بياني {خُذْهَا}؛ أي: خذ هذه الحية بيمينك {وَلَا تَخَفْ} منها فإنه لما رآها حية تسرع، وتبتلع الحجر والشجر .. خاف وهرب منها، وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره - عليه السلام - قيل: لما قال له ربه لا تخف .. بلغ من طمأنينة نفسه وذهاب الخوف عنه أن أدخل يده في فمها، وأخذ بليحييها {سَنُعِيدُهَا}؛ أي: سنعيد هذه الحية بعد أخذها {سِيرَتَهَا الْأُولَى}؛ أي: إلى هيئتها وحالها الأولى، التي هي الهيئة العصوية، فانتصابه بنزع الخافض، فوضع يده في فم الحية، فصارت عصاً كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها فيه إذا توكأ، وأراه هذه الآية كيلا يخاف عند فرعون إذا انقلبت حية 22 - {وَاضْمُمْ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[23]

أي: أدخل وضم {يَدَكَ} اليمنى {إِلَى جَنَاحِكَ}؛ أي: إلى جنبك الأيسر، تحت العضد؛ أي: أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر، وأخرجها {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ}؛ أي: مشرقةً مثل البرق، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس، تغطي البصر عن الإدراك، فهو حال من فاعل {تَخْرُجْ} {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} حال من الضمير في {بَيْضَاءَ}؛ أي: كائنةً من غير عيب وقبح، كنى به عن البرص، كما كنى بالسوءة عن العورة، لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه، روي أن موسى - عليه السلام - كان أسمر اللون، فإذا أدخل يده اليمنى تحت إبطه الأيسر وأخرجها .. كان عليها شعاع كشعاع الشمس، يغشي البصر، ويسد الأفق، ثم إذا ردها إلى جنبه .. صارت إلى لونها الأول، بلا نور وبريقٍ، حالة كون تلك اليد البيضاء {آيَةً أُخْرَى}؛ أي: معجزةً أخرى غير العصا، وانتصابها على الحالية من الضمير في بيضاء، 23 - وقوله: {لِنُرِيَكَ} متعلق بمحذوف تقديره؛ أي: فعلنا ما فعلنا من قلب العصا حيةً، وجعل اليد بيضاء، لنريك بهاتين الآيتين {مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}؛ أي: بعض آياتنا العظمى، فكل من العصا واليد، من الآيات الكبرى, والدلائل العظام، وهي تسع كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وقد سبق بيانها، ومن المعلوم: أن الكبرى اسم تفضيل؛ أي: التي هي أكبر من غيرها، حتى من العصا، وذلك لأن المراد الكبرى في الإعجاز، واليد كذلك فإنها أكبر آيات موسى، كما نقله الخازن عن ابن عباس؛ لأنها لم تعارض أصلًا، وأما العصا فقد عارضها السحرة كما سيأتي. 24 - ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال: {اذْهَبْ} يا موسى {إِلَى فِرْعَوْن} بما رأيته من الآيتين العظيمتين، وادعه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي، وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ طَغَى} أي: عصى، وتكبر، وكفر، وتجبر، وجاوز الحد، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}. قال وهب بن منبه (¬1): قال الله لموسى: (اسمع كلامي، واحفظ وصيتي، ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

وانطلق برسالتي، فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري، وإني ألبستك جبةً من سلطاني، تستكمل بها القوة في أمرك، أبعثك إلى خلقٍ ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي، لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي .. بطشت به بطشة جبار، ولكن هان علي، وسقط من عيني، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي، وحذره نقمتي، وقيل له قولًا لينًا، لا يغتر بلباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي)، قال: فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم، حتى جاءه ملك فقال: أجب ربك فيما أمرك، فحينئذ 25 - {قَالَ} موسى - عليه السلام - مستعينًا بالله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}: جملة مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر: كأنه قيل: فماذا قال؟ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}؛ أي: رب وسع لى صدري وقلبي، لأعي عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترىء به على خطاب فرعون، فإنك كلفتني أمرًا عظيمًا، لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرًا، وأكثرهم جندًا، وأعمرهم ملكًا، وأطغاهم وأبلغهم تمردًا، وقد بلغ من تمرده: أنه لا يعلم إلهًا غيره، والمراد (¬1) بالصدر هنا: القلب، لا العضو، الذي فيه القلب؛ أي: وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم، ولا يخاف من شوكتهم وكثرتهم. وخلاصة ذلك: أنه خاف فرعون لشدة شوكته، وكثرة جنوده، فسأل الله تعالى: أن يوسع قلبه، ليكون حمولاً لما يستقبل من الشدائد والمكاره بجميل الصبر، وحسن الثبات، فقال: اجعلني رابط الجأش، حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عوني ونصيري، وإلا فلا طاقة لي بذلك 26 - {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)}؛ أي: سهل وهون علي تبليغ الرسالة إلى فرعون، بإحداث الأسباب، ورفع الموانع. والمعنى: هوِّن (¬2) وسهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغى.

[27]

وحملتني من الطاعة، وأفض علي من القوة ما يفي بالعمل على نشر الدين, وإصلاح الخلق 27 - {وَاحْلُلْ}؛ أي: فك وافتح {عُقْدَةً}؛ أي: ربطةً ورقةً؛ أي: حبسةً {مِنْ لِسَانِي}: متعلق بـ {أحلل} وتنكير {عُقْدَةً}: يدل على قلتها في نفسها، قالوا: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة، أو صورة ممثلة، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه؛ أي: أطلق عن لساني المعجمة، واللكنة، والحبسة، بالنطق التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، وذلك أن فرعون حمله يومًا، فأخذ لحيته ونتفها لما كانت مرصعةً بالجواهر، فغضب وقال: إن هذا عدوي المطلوب، وأمر بقلته، فقالت زوجته آسية: أيها الملك، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والتمر، فأحضرا بين يدي موسى، بأن جعل الجمر في طست والتمر في آخر، فقصد إلى أخذ التمر، فأمال جبريل يده إلى الجمر، فرفعه إلى فيه فاحترق لسانه، فكانت منه لكنة وعجمة، قيل (¬1): أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها، بدليل قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وقيل: لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام، بدليل قوله: {مِنْ لِسَانِي}؛ أي: كائنةً من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} وقوله حكايةً عن فرعون {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} 28 - وجواب الأمر قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} أي: إن حللت عقدتي .. يفهم فرعون وقومه قولي وكلامي عند تبليغ الرسالة، فإنما يحسن التبليغ من البليغ. 29 - ولما كان التعاون على نشر الدين، مع خلوص الود قربةً عظيمةً لله .. طلب موسى المعاونة على ذلك فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا}؛ أي: موازرًا يعاونني في تحمل أعباء ما كلفتني به، {مِنْ أَهْلِي}؛ أي: من خواصي وأقربائي، فوزيرًا: مفعول ثان لـ {اجعل} لأنه نكرة 30 - و {هَارُونَ} مفعول أول لأنه معرفة، وقدم (¬2) الثاني عليه اعتناءً بشأن الوزارة؛ لأن مقصوده الأهم طلب الوزير، وكان أكبر من موسى بأربعة أعوام، كما مر {أَخِي} بدل من هارون، و (لي) متعلق بمحذوف، على أنه حال من {وَزِيرًا} و {مِنْ أَهْلِي}: متعلق بـ {اجعل} والمعنى: واجعل من أهلي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[31]

هارون أخي متحملًا معي أعباء ما كلفتني به، ومعينًا على أمري، يقوي أمري وأثق برأيه. والخلاصة (¬1): أي واجعل لي عوناً من أهل بيتي، هارون أخي، ليحمل معي أعباء الرسالة، ويكون ظهيرًا لى عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى - عليه السلام -: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لي في السماء وزيرين، وفي الأرض وزيرين، فاللذان في السماء: جبريل وميكائيل، واللذان في الأرض: أبو بكر وعمر" وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أراد الله بملك خيرًا .. قيَّض له وزيرًا صالحًا، إن نسي .. ذكره، وان نوى خيرًا .. أعانه، وإن أراد شرًا .. كفه" 31 - ثم طلب موسى من ربه أن يشد به أزره فقال: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)}؛ أي: قوِّ يا رب بهارون ظهري، وأعني به 32 - {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)}؛ أي: اجعله يا رب شريكي في أمر الرسالة، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي، فإن قيل: كيف (¬2) سأل لأخيه النبوة؟ فإنما هي باختيار الله تعالى كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. قلت: إن في إجابة الله دليلًا على أن سؤاله كان بإذن الله، دليلًا وإلهامًا منه، ولما كان التعاون في الدين درجةً عظيمة، طلب أن لا يحصل إلا لأخيه. وفيه إشارة (¬3) إلى أن صحبة الأخيار وموازرتهم مرغوب للأنبياء، فضلًا عن غيرهم، ولا ينبغي أن يكون المرء مستبدًا برأيه، مغرورًا بقوته وشوكته، وينبغي أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. ولا تقدح وزارة هارون في نبوته، وقد كان أكثر أنبياء بني إسرائيل كذلك؛ أي: كان أحدهم موازرًا ومعينًا للآخر في تبليغ الرسالة، وكان هارون بمصر، حين بعث موسى نبيًا بالشام، وقرأ الجمهور (¬4): {اشْدُدْ} {وَأَشْرِكْهُ} على معنى الدعاء في شد الأزر، وتشريك هارون في النبوة، بهمزة وصل في: {أشدد} وهمزة قطع في {أشركه} وقرأ الحسن، وزيد بن علي ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[33]

وابن عامر {أشدد} بفتح الهمزة {وأشركه} بضمها فعلًا مضارعًا مجزومًا في جواب الطلب، وعطف عليه {وأشركه} وقال صاحب "اللوامح" عن الحسن أنه: {أشدد به} مضارع شدد للتكثير والتكرير؛ أي: كلما حزنني أمر .. شددت به أزري، وفي مصحف عبد الله {أخي وأشدد} وقرأ (¬1): بفتح الماء من {أخي} ابن كثير، وأبو عمرو، ثم حكى سبحانه: ما لأجله دعا موسى بالأدعية الثلاثة الأخيرة؛ أي: دعوتك يا رب بهذه الأدعية 33 - {كَيْ نُسَبِّحَكَ} تسبيحاً {كَثِيرًا}؛ أي: ننزهك عما لا يليق بك من الأفعال والصفات، التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية، ويقبله منه جماعته الباغية، من ادعاء الشركة في الألوهية 34 - {و} كي {نذكرك} ذكراً {كَثِيرًا}؛ أي: على كل حال، ونفسك بما يليق بك من صفات الكمال، ونعوت الجمال، والجلال، زمانًا كثيرًا، ومن جملته زمانُ دعوة فرعون، وأوان المحاجة معه، فإن التعاون يهيج الرعيات، ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده، وانتصاب {كَثِيرًا} في الموضعين: على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف، وفيه (¬2) إشارة إلى أن للجليس الصالح، والصديق الصدّيق أثرًا عظيمًا في المعاونة على كثرة الطاعات، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك، وقطع مفاوزه. 35 - {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} الباء: متعلقة بـ {بَصِيرًا} قدمت عليه لرعاية الفواصل؛ أي: إنك كنت عليمًا بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا في تحقيق ما كلفتنا به، من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكملها، فإن هارون نعم العون على أداء ما أمرت به، من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين، فإنه أكبر منى سنًا، وأفصح لسانًا، وكان أكبر من موسى بأربع سنين، أو بسنةٍ، على اختلاف الروايات. ولما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره، وييسر له أمره، ويحلل عقدةً من لسانه، ويجعل له وزيرًا من أهله .. أخبره الله سبحانه، بأنه قد أجاب ذلك ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[36]

الدعاء 36 - فـ {قَالَ} سبحانه وتعالى: {قَدْ أُوتِيتَ} وأعطيت {سُؤْلَكَ}؛ أي: مسؤولك ومطلوبك {يَا مُوسَى} فهو فعل بمعنى مفعول، كالخبز بمعنى المخبوز، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب، وحصولها له؛ أي: قال الله سبحانه لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتني، من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرًا لك، وشد أزرك به، وإشراكه في الرسالة معك 37 - {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أنعمنا عليك يا موسى، وأكرمناك بكرامات {مَرَّةً أُخْرَى}؛ أي: في وقتٍ غير هذا الوقت، من غير أن تسألنا، فلأن ننعم عليك بمثل تلك النعم التامة، وأنت طالب له، أولى, أي (¬1): ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجوه، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك، ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك في أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة، ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تُؤَمِّل، مما أنت في شدة الحاجة إليه لتبليغ رسالته، وفي التعبير عن تلك النعم بالمنن, إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه لمحض التفضل والإحسان. وقد عد سبحانه من تلك النعم ثماني، فقال: 1 - 38 {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ}: ظرف لـ {مَنَنَّا} والمراد (¬2): من هذا الوحي: وحي إلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} بأن أوقع في قلبها عزيمةً جازمةً على ما فعلته من اتخاذ التابوت، والقذف، وليس المراد هنا: الوحي الواصل إلى الأنبياء؛ لأن أم موسى ما كانت من الأنبياء، فإن المرأة لا تصلح للإمارة والقضاء، فكيف تصلح للنبوة، {مَا يُوحَى} المراد به: ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت والبحر، أبهم أولًا تهويلًا له، وتفخيمًا لشأنه عليه السلام؛ أي: ولقد مننا عليك مرة أخرى، حين (¬3) ألهمنا أمك الذي يلهَم، أو أريناها في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[39]

منامها ما يُرى، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون 39 - {أَنِ اقْذِفِيهِ} {أَنِ} مفسرةً بمعنى: أي؛ لأن الوحي من باب القول، ومعنى القذف هنا: الوضع، وفي قوله: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} بمعنى الإلقاء، وليس المراد: القذف بلا تابوتٍ، واليم نيل مصر في قول جميع المفسرين؛ أي: ولقد مننا عليك حين قلنا لها ضعي الصبي المولود في الصندوق، فألقى الصندوق في بحر النيل {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ}؛ أي: فليطرح البحر الصندوق {بِالسَّاحِلِ}؛ أي: بطرقه، ولما (¬1) كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرًا واجب الوقوع، لتعلق الإرادة الربانية به .. جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع، أمر بذلك، والساحل (¬2): هو شط البحر، سمي ساحلًا لأن الماء سحله، قاله ابن دريد، والمراد هنا: ما يلي الساحل من البحر، لا نفس الساحل، قيل: والأولى في هذه الضمائر كلها عودها لموسى، لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه، لكن المقصود هو موسى، مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له. والمعنى (¬3): ولقد مننا عليك يا موسى مرة أخرى قبل هذا، حين ألهمنا أمك، وأوقعنا في قلبها عزيمةً صادقةً، أن أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك في تابوت "صندوقٍ"، ثم تطرح هذا التابوت في نهر النيل، ففعلت، فألقاك النهر في الساحل، فأخذك فرعون - عدو الله - ورباك في بيته، وسيصير عدوًا لك بعد ذلك، كما هو عدو لى، روي: أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوبًا، ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار، ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه - يتفرع - نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركةٍ مع زوجته آسية، إذ بتابوت يجري به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه، ففعلوا وفتحوا رأسه، فإذا صبي من أصبح الناس وجهًا، فأحبه فرعون حبًا شديدًا، لم يتمالك أن يصبر عنه، وجملة قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}: جواب الأمر بالإلقاء، وتكرير (¬4) {عَدُوٌّ} للمبالغة وهو فرعون، فالأول: باعتبار الواقع لكفره وعتوه، والثاني: باعتبار ما يؤول إليه، وما لو ظهر لفرعون حال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[40]

موسى لقتله، ولما وجده في اليم عند الشجر سماه موسى، و (مو): هو الماء عند القبطية و (سا): هو الشجر، وأحبه حبًا شديدًا، لا يكاد يتمالك الصبر عنه، وذلك قوله تعالى: 2 - {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً} عظيمةً كائنةً {مِنِّي} قد ركزتها في القلوب، وزرعتها فيها، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، ولذا أحبك عدو الله فرعون وزوجته، حتى قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} روي أنه كان على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه. 3 - {وَلِتُصْنَعَ}؛ أي: ولتربَّى حالة كونك {عَلَى عَيْنِي}؛ أي: متلبسًا بحفظي ورعايتي، معطوف على علة مقدرة، متعلقة بـ {ألقيت} والتقدير: وألقيت عليك المحبة، ليعطف عليك، ولتربى بالشفقة والحنو، حالة كونك متلبسًا بحفظي ورعايتي، وأنا مراقبك ومراعيك وحافظك، كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به، من قولهم صنع إليه معروفًا، إذا أحسن إليه، و {عَلَى عَيْنِي} حال من الضمير المستتر في {لتصنع} لا صلة له، جعل العين مجازًا مرسلًا عن الرعاية والحراسة، بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلِتُصْنَعَ} بكسر لام كي وضم التاء، ونصب الفعل؛ في: ولتربى ويحسن إليك، وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وقرأ الحسن، وأبو نهيك: بفتح التاء، قال ثعلب معناه: لتكون حركتك وتصرفك على عين منى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر في روايةٍ: بإسكان اللام والعين وضم التاء، فعل أمر، وعن أبي جعفر: كذلك إلا أنه كسر اللام. 4 - 40 {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} مريم وهي شقيقة له، وهي غير أم عيسى، ظرف ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

لـ {ألقيت} أو لـ {تصنع}؛ أي: وألقيت عليك محبةً منى، حين تمشي أختك تتبعك متعرفةً، حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعاً تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء {فَتَقُولُ} لفرعون وآسية؛ أي: فلما رأت منهم ذلك .. جاءت إليهم متنكرةً وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} وصيغة (¬1) المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية، كما سيأتي في مبحث البلاغة، أي: قالت {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}؛ أي: يضمه إلى نفسه ويرضعه ويربيه، و (الفاء) في قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ}: عاطفة على محذوف، تقديره: فقالوا دلينا عليه، فجاءت بأمك، فقبلت ثديها، فرجعناك إليها؛ أي: رددناك إليها بما لطف الله لك من التدبير {كَيْ تَقَرَّ} وتبرد {عَيْنُهَا} فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك ووصولك إليها {وَلَا تَحْزَنَ} بوصول لبن غيرها إلى باطنك، وفي "الإرشاد" أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك، وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين، فإن التخلية متقدمة على التحلية. انتهى. أو المعنى: كي لا تحزن أنت بفراقك، وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر أو أربعة قبل إلقائه في اليم. وحاصل قصة رضاعه (¬2): أن آسية عرضته للرضاع، فلم يقبل امرأةً، فجعلت تنادي عليه في المدينة، ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومةً، فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة، لعلها تقع على خبره، فبصرت به في طوافها، فقالت: أنا أدلكم على من يكفله لكم، وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي؟ فقالت: لا, ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة، والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بأم موسى، فلما قربته .. شرب ثديها، فسرت آسية وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي، ولكنه يكون عندي، قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية "الإحسان" واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه .. أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها إلى ذلك، وهو بخير حال، وأجمل شباب، فسرَّت به، ودخلت به على فرعون ليراه، وليهبه، فأعجبه وقرَّبه، فأخذ موسى لحية فرعون، وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة. وقرأ الجمهور (¬1): {كَيْ تَقَرّ} بفتح التاء والقاف، وقرأت فرقة: بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله: {وَقَرِّي عَيْنًا} وقرأ جناح بن حبيش: بضم التاء وفتح القات، مبنيًا للمفعول. 5 - {وَقَتَلْتَ} بعد كبرك {نَفْسًا}؛ أي: قبطيًا وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، كما يأتي في سورة القصص، وكان طباخًا لفرعون اسمه قاب قان، وكان عمر موسى إذ ذاك ثلاثين سنةً {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} الذي نزل بك بسبب قتل القبطي من وجهين: أولًا - عقاب الدنيا باقتصاص فرعون، كما جاء في الآية {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}. ثانيًا - عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وكان قتله للكافر خطأ، ووفقناك للهجرة إلى مدين. والغم (¬2): ما يغم على القلب، بسبب خوف أو فوات مقصود، والغم بلغة قريش: القتل، وقيل: من غم التابوت، وقيل: من غم البحر، والظاهر: أنه من غم القتل، حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. 6 - {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} والفتنة (¬3): تكون بمعنى المحنة، وبمعنى: الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون: يجوز أن يكون مصدرًا كالثبور، والشكور، والكفور؛ أي: ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختبارًا، وامتحناك امتحانًا، ويجوز أن يكون جمع فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجورٍ في حجرة، ويدور في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

بدرة؛ أي: وأوقعناك في محنة بعد محنة، وفتنة بعد فتنة، وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك: (أ): أن أمك حملت بك في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح. (ب): أن أمك ألقتك في البحر بعد وضعك في التابوت، فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك. (ج): أنك امتنعتَ عن الرضاع إلا من ثدي أمك، وكان ذلك وسيلةً إلى إرجاعك إليها. (د): أنك أخذت لحية فرعون فغضب من ذلك، وأراد قتلك، لولا أن قالت له زوجته إنه صغير، لا يفرق بين الجمرة والتمرة، وأُتي لك بهما فأخذت الجمرة. (هـ): قتلك القبطي، وخروجك إلى مدين هارباً، ومهاجرتك من الوطن، ومفارقتك الأحباب، والمشي راجلًا، وفقد الزاد، ونحو ذلك مما وقع قبل وصوله إلى مدين. 7 - {فَلَبِثْتَ سِنِينَ}؛ أي: مكثت عشر سنين {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} عند شعيب لرعي الأغنام؛ لأن شعيبًا أنكحه بنته صفوراء، على أن يخدمه ثماني سنين، فخدمه عشرًا قضاءً لأكثر الأجلين، كما يأتي في سورة القصص، فقاسمت أثناءها من المحن ما قاسيت، فتحملت بسبب الفقر والغربة آلامًا كثيرة، حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب، وترعى غنمه. وذكر الليث دون الوصول إليهم (¬1): إشارة إلى مقاساة شدائد أخرى في تلك السنين، كإيجار نفسه ونحوه مما كان من قبيل الفتون، قال الفراء: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ}: معطوف على محذوف تقديره: وفتناك فتونًا، فخرجت إلى أهل مدين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

فوصلت إليهم، فلبثت فيهم سنين، و (الفاء): في {فَلَبِثْتَ} تدل على أن المراد بالفتن المذكورة هى ما كان قبل لبثه في أهل مدين، ومدين: كانت على ثماني مراحل من مصر {ثُمَّ} بعدما لبثت عشر سنين في أهل مدين، توجهت إلى مصر لزيارة أمك وأخيك و {جِئْتَ}؛ أي: وصلت في مسيرك هذا إلى المكان الذي ناجيتك فيه، وكلمتك واستنبأتك فيه، وهو الوادي المقدس {عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}؛ أي: في وقتٍ معين قدرته لمناجاتك، لم تتقدمه ولم تتأخر عنه، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، قال الشاعر: نال الخلافة إذ جاءت على قدرٍ ... كما أتى ربَّه موسى على قدرِ وكرر قوله (¬1): {يَا مُوسَى} تشريفًا له - عليه السلام - وتنبيهًا على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى، التي وقعت قبل المرة المحكية. والمعنى: أي جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك، وكان على رأس أريعين سنة، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء، هذا قول الأكثرين، وقال الفراء؛ أي: على ما أراد الله به من تكليمه. 8 - 41 {وَاصْطَنَعْتُكَ}؛ أي: اخترتك من بين الناس {لِنَفْسِي}؛ أي: لأداء أوامري، وإقامة حججي، وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي، لا لنفسك، ولا لأحد غيرك، والاصطناع: افتعال من الصنع بالضم، وهو مصدر قولك: صنع إليه معروفًا، واصطناع فلان: اتخاذه صنيعًا محسنًا إليه، بتقريبه وتخصيصه بالتكريم والإجلال؛ أي: اصطفيتك واختصصتك باصطناعى وإحساني إليك بالمعروف. وخلاصة ذلك (¬2): أني جعلتك من خواصي، واصطفيتك برسالاتي وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة، وجليل النعمة بالمكالمة أشبه بمن يراه الملك أهلًا لكرامته، فيقربه إليه، ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه في الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الإعراب {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}. {طه (1)}: إن قلنا إن الحروف المقطعة مما استأثر الله بعلمها، فلا محل لها من الإعراب، أي: لا توصف بإعرابٍ ولا بناءٍ؛ لأن الحكم بالإعراب والبناء، على الكلمة، فرع عن إدراك معناها، وإن قلنا إنها اسم للسورة، فهو إما: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي هذه سورة طه، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: سورة طه هذا محله، والجملة الاسمية: مستأنفة استئنافًا نحويًا، وقيل: إن {طه (1)} اسم محمد، حذف منه حرف النداء. {مَا}: نافية {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {أَنْزَلْنَا} {الْقُرْآنَ}: مفعول به {لِتَشْقَى} (اللام): حرف جر وتعليل {تشقى}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لشقائك، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلْنَا} {إِلَّا} أداة استثناء منقطع {تَذْكِرَةً}: مفعول لأجله لفعل محذوف، دل عليه المذكور تقديره: ما أنزلناه {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون مفعولًا لأجله {لأنزلنا} المذكور؛ لأنها قد تعدت إلى مفعول له، وهو {لِتَشْقَى} فلا تتعدى لآخر من جنسه، ولا يصح أن يعمل فيها {لِتَشْقَى} لفساد المعنى، وقيل: {تَذْكِرَةً}: مصدر في موضع الحال، واختار الزمخشري أن تكون تذكرةً: مفعولًا لأجله، قال: وكل واحد من {لِتَشْقَى} و {تَذْكِرَةً}: علة للفعل، إلا أن الأول: وجب مجيئه مع اللام؛ لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل، ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني: جاز قطع اللام عنه، ونصبه لاستجماع الشرائط، وعلى هذا جرى معظم المعربين والمفسرين، وقال الكرخي: إن الاستثناء في قوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً}: منقطع وإن {تَذْكِرَةً}: مفعول من أجله، والعامل أنزلناه المقدر لا المذكور، وكل واحد من {لِتَشْقَى} و {تَذْكِرَةً}: علة لقوله: {مَا أَنْزَلْنَا} وتعدى في {لِتَشْقَى} بـ (اللام) لاختلاف العامل؛ لأن ضمير {أَنْزَلْنَا} لله وضمير {لِتَشْقَى} للنبي، فلم يتحد الفاعل، واتحد في {تَذْكِرَةً} لأن المذكر هو الله تعالى، وهو المنزل فنصب بغير لام. {لِمَنْ يَخْشَى} {لِمَنْ}: جار

ومجرور متعلق بـ {تَذْكِرَةً} {يَخْشَى}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {من} والجملة: صلة الموصول. {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}. {تَنْزِيلًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: نزلناه {تَنْزِيلًا} فحذف وجوبًا على حد قول ابن مالك. والحذف حتم مع آيات بدلًا ... من فعله كندلاً اللذ كأندلا والجملة المحذوفة: مستأنفة {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَنْزِيلًا} {خَلَقَ الْأَرْضَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول {وَالسَّمَاوَاتِ}: معطوف على {الْأَرْضَ}. {الْعُلَى}: صفة لـ {لسماوات} {الرَّحْمَنُ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن، أو مبتدأ {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق بـ {اسْتَوَى} وجملة: {اسْتَوَى}: خبر ثان لـ هو المقدرة، أو خبر {الرَّحْمَنُ} والجملة الاسمية: مستأنفة. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)}. {لَهُ}: خبر مقدم {مَا} مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} الموصولة {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. {وَمَا بَيْنَهُمَا}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أيضًا {وَمَا}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} {تَحْتَ الثَّرَى}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}. {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)}. {وَإِنْ} الواو: استئنافية {إِنْ}: حرف شرط {تَجْهَرْ}: فعل مضارع مجزوم، وفاعله: ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب {بِالْقَوْلِ}: متعلق به {فَإِنَّهُ} الفاء: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا {إنه}: ناصب واسمه {يَعْلَمُ السِّرَّ}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة: {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على

كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَأَخْفَى}: معطوف على {السِّرَّ}؛ أي: {أخفى} منه، وتنكيره للمبالغة في الخفاء، فهو: اسم تفضيل من خفي بمعنى: استتر وغاب، وأجاز بعضهم: أن يكون فعلًا ماضيًا؛ أي: وأخفى الله عن عباده غيبه، وعندنا أن ذلك غير جائز؛ لأنه من جهة اللفظ يلزم منه عطف الفعلية على الاسمية، إن كان المعطوف عليه الجملة الكبرى, أو عطف الماضي على المضارع، إن كان المعطوف عليه الجملة الصغرى، وكلاهما دون الأحسن، ومن جهة المعنى، واضح أن المقصود: الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته، من حيث: إن الله يعلم السر وما هو أخفى منه، فكيف يبقى للجهر فائدة، وكلاهما على هذا التأويل مناسبة لترك الجهر، وأما إذا جُعل فعلًا فيخرج عن مقصود السياق، واعلم: أنهم قد يحذفون (من) من أفعل، إذا أريد به التفضيل، ومعنى الفعل، وهم يريدونها فتكون كالمنطوق بها، نحو زيد أكرم وأفضل. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}. {اللَّهُ}: مبتدأ {لَا}: نافية {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، مبني على الفتح، وخبر {لَا}: محذوف جوازًا، تقديره: موجود {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزّه عن المذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستتر فيخبر {لَا} وجملة {لَا}: في محل الرفع خبر أول للمبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة {لَهُ} جار ومجرور، خبر مقدم {الْأَسْمَاءُ}: مبتدأ مؤخر {الْحُسْنَى}: صفة لـ {الْأَسْمَاءُ} ومعلوم أن جمع التكسير في غير العقلاء، يعامل معاملة المفردة المؤنثة، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)}. {وَهَلْ} الواو: استئنافية {وَهَلْ}: حرف للاستفهام التقريري، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل: معناه: قد أتاك {أَتَاكَ}: فعل ومفعول به {حَدِيثُ مُوسَى} فاعل ومضاف إليه، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير أمر التوحيد، الذي انتهى إليه مساق الحديث، وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء، كابرًا عن

كابرٍ، وقد خوطب به موسى - عليه السلام - حيث قيل له: إنني أنا الله لا إله إلا أنا، وبه ختم موسى - عليه السلام - مقالته، قال إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو. اهـ "أبو السعود". {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {حَدِيثُ} {رَأَى}: فعل ماض وهي بصرية، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {نَارًا}: مفعول به {فَقَالَ} الفاء: حرف عطف وتعقيب، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {رَأَى}. {لِأَهْلِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {امْكُثُوا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي} ناصب واسمه {آنَسْتُ نَارًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}: مسوقة لتعليل ما قبلها {لَعَلِّي}: ناصب واسمه {آتِيكُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. {مِنْهَا}: جار ومجرور حال من {قبس} لأنه صفة نكرة، قدمت عليها {بِقَبَسٍ}: متعلق بـ {أتيكم} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لـ {لعل} وجملة {لعل}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوْ}: حرف عطفٍ وتنويعٍ {أَجِدُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {عَلَى النَّارِ}: متعلق بـ {أَجِدُ}. {هُدًى}: مفعول به {لأجد} فهو يتعدى لمفعولٍ واحدٍ؛ لأنه من وجد الضالة، وجملة: {أَجِدُ}: في محل الرفع معطوفة على جملة {آتِيكُمْ}: على كونها خبر {لعل}. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)}. {فَلَمَّا أَتَاهَا} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فيمم شطر النار، فلما أتاها {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بجوابه {أَتَاهَا}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: فعل شرط لـ {لما} في محل الجر بإضافة {لما} إليها {نُودِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {موسى} والجملة: جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما}: معطوفة على الجملة المحذوفة المذكورة آنفًا {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل الرفع نائب فاعل لقول محذوف، تقديره: {نُودِيَ} وقيل له {يَا مُوسَى}.

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)}. {إِنِّي}: ناصب واسمه {أَنَا}: تأكيد للضمير، أو مبتدأ {رَبُّكَ}: خبر {إن} أو خبر {أَنَا} والجملة: خبر {إن} والأول أولى، وجملة {إن}: في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف، على كونها جواب النداء {فَاخْلَعْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أني أنا ربك، وأردت بيان الأدب لك .. فأقول لك: {اخلع}. {اخلع}: فعل أمر وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {نَعْلَيْكَ}: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف، ويصح كون الفاء: تفريعية {إِنَّكَ} ناصب واسمه {بِالْوَادِ} الباء: حرف جر {الواد}: مجرور بالباء، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين لفظًا، المحذوفة خطاً أيضًا، تبعًا للفظ، على قاعدة رسم المصحف العثماني، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {إن} أي: إنك كائن {بِالْوَادِ}. {الْمُقَدَّسِ}: صفة للوادي {طُوًى}: بدل من الوادي، أو عطف بيان عنه، ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، على إرادة البقعة، أو مصروف على إرادة معنى الموضع، وجملة {إن} في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف على أنها معللة لما قبلها، {وَأَنَا} الواو: عاطفة {أَنَا}: مبتدأ {اخْتَرْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}. {فَاسْتَمِعْ} الفاء: عاطفة تفريعية {استمع} فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {اخْتَرْتُكَ} {لِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {استمع} {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {ما}، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}. {إِنَّنِي}: ناصب واسمه ونون وقاية {أَنَا}: تأكيد للضمير المنصوب، أو

مبتدأ {اللَّهُ}: خبر {إن} أو خبر {أَنَا} والجملة: خبر {إن} وجملة {إن}: في محل الجر بدل من {ما} في قوله: {لِمَا يُوحَى} {لَا}: نافية {إِلَهَ} في محل النصب اسمها، وخبر {لَا}: محذوف تقديره: موجود {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {أَنَا}: بدل من الضمير المستتر في خبر {لَا} وجملة {لَا}: في محل الرفع خبر ثان لـ {إن} {فَاعْبُدْنِي} (الفاء) فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنني أنا الله، لا إله إلا أنا، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك {فَاعْبُدْنِي}. {اعبدني}: فعل أمر وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: نائب فاعل للقول المحذوف، المذكور سابقًا {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول معطوف على {فَاعْبُدْنِي} {لِذِكْرِي} جار ومجرور متعلق بـ {أقم} وهو مصدر مضاف للمفعول؛ أي: لتذكرني فيها، أو مضاف للفاعل, أي: لذكري إياك. {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}. {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة: مستأنفة {أَكَادُ}: فعل مضارع ناقص، من أفعال المقاربة، واسمها: ضمير مستتر فيها يعود على الله {أُخْفِيهَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {أَكَادُ} وجملة: {أَكَادُ}: في محل الرفع خبر ثان لـ {إن}. {لِتُجْزَى} (اللام) حرف جر وتعليل {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ}: فعل مغير ونائب فاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لجزاء كل نفس {بِمَا تَسْعَى}: الجار والمجرور متعلق بـ {أُخْفِيهَا} أو بـ {أتية} و {أَكَادُ أُخْفِيهَا}: جملة اعتراض بينهما، لا نعت لـ {أتية} حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف، فإن عمل ثم وصف جاز. اهـ "كرخي" {بِمَا تَسْعَى} (الباء) حرف جر {ما} مصدرية أو موصولة اسمية {تَسْعَى}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على النفس،

والجملة الاسمية: صلة لـ {ما} المصدرية؛ أي: بسعيها أو لـ {ما} الموصولة, أي: بما سعته، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: بعقاب سعيها، أو بعقاب ما سعته. {فَلَا يَصُدَّنَّكَ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك {لا يصدنك} {لا} ناهية جازمة {يصدن} فعل مضارع في محل الجزم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و (الكاف): مفعول به {عَنْهَا}: متعلق به {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {لَا} نافية {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يجود على {مَنْ}. {بِهَا}: متعلق به، والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {لَا يُؤْمِنُ} على كونها صلة {مَنْ} الموصولة {فَتَرْدَى} (الفاء): عاطفة سببية {تردى}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب النهي، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} أو على أيّ مخاطب، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: فلا يكن صد من لا يؤمن بها إياك عنها فرداك. {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}. {وَمَا} الواو: استئنافية {مَا} استفهامية للاستفهام التقريري، في محل الرفع مبتدأ {تِلْكَ}: اسم إشارة في محل الرفع خبر، والجملة: مستأنفة {بِيَمِينِكَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من اسم الإشارة، والعامل في الحال المقدرة: ما في الإشارة من معنى الفعل {يَا مُوسَى}: منادى مفرد {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {هِيَ عَصَايَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَتَوَكَّأُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {أَتَوَكَّأُ} والجملة: في محل النصب حال من {عَصَايَ} أو من ياء المتكلم. {وَأَهُشُّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر {بِهَا}:

متعلق به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أَتَوَكَّأُ}. {عَلَى غَنَمِي}: متعلق بـ {أهش} أيضًا {وَلِيَ} الواو: عاطفة {لِيَ} جار ومجرور، خبر مقدم {فِيهَا} حال من {مَآرِبُ}. {مَآرِبُ}: مبتدأ مؤخر {أُخْرَى}: صفة لـ {مَآرِبُ} والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أَتَوَكَّأُ}. {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة {أَلْقِهَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَلْقَاهَا} (الفاء): حرف عطف وتفريع {ألقاها} فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة مفرعة على جملة {قَالَ} {فَإِذَا} (الفاء): عاطفة {إذا}: فجائية {هِيَ حَيَّةٌ}: مبتدأ وخبر، وجملة {تَسْعَى}: يجوز أن تكون خبرًا ثانيًا، وأن تكون حالًا كما ذكره أبو البقاء، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {فَأَلْقَاهَا}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة {خُذْهَا}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا}: ناهية جازمة {تَخَفْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {خُذْهَا}. {سَنُعِيدُهَا}: فعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله {سِيرَتَهَا} منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى {سِيرَتَهَا} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {الْأُولَى}: صفة للسيرة. {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}. {وَاضْمُمْ يَدَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل النصب معطوفة على {أَلْقَاهَا} على كونها مقول {قَالَ}. {إِلَى}

{جَنَاحِكَ}: متعلق بـ {اضمم}. {تَخْرُجْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على اليد {بَيْضَاءَ}: حال من فاعل {تَخْرُجْ} {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: متعلق بـ {بَيْضَاءَ} لما فيها من معنى الفعل، أو متعلق بـ {تخرج}. {آيَةً}: حال ثانية من فاعل {تَخْرُجْ} أيضًا {أُخْرَى}: صفة {آيَةً} {لِنُرِيَكَ} (اللام): حرف جر وتعليل {نريك} فعل ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله {مِنْ آيَاتِنَا}: حال من {الْكُبْرَى}. {الْكُبْرَى}: صفة للمفعول الثاني المحذوف، تقديره: لنريك الآية الكبرى حالة كونها من آياتنا، وجملة {نريك} مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإراءتنا إياك الآية الكبرى من آياتنا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أمرناك بما ذكرنا لإرائتنا إياك، والجملة المحذوفة مستأنفة. {اذْهَبْ} فعل أمر وفاعل مستتر، يعود على {موسى} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {اذْهَبْ} {إِنَّهُ} ناصب واسمه وجملة: {طَغَى} في محل الرفع خبر {إن} وجملة: {إن} مسوقة لتعليل ما قبلها على أنها مقول قال. {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ} {اشْرَحْ} فعل دعاء، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {لِي} متعلق بـ {اشْرَحْ} {صَدْرِي}: مفعول به ومضاف إليه {وَيَسِّرْ}: فعل دعاء معطوف على {اشْرَحْ} وفاعله: ضمير يعود على الله {لِي} متعلق به {أَمْرِي}: مفعول به ومضاف إليه {وَاحْلُلْ}: فعل دعاء معطوف على {اشْرَحْ}. {عُقْدَةً}: مفعول به {مِنْ لِسَانِي}: جار ومجرور صفة لـ {عُقْدَةً}. {يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون {وَاجْعَلْ} فعل دعاء، وفاعل مستتر معطوف على {اشْرَحْ} {لِي}: متعلق به على كونه مفعولًا ثانيًا له {وَزِيرًا}: مفعول

أول {مِنْ أَهْلِي} صفة لـ {وَزِيرًا} {هَارُونَ}: بدل من {وَزِيرًا} {أَخِي} بدل من {هَارُونَ} ويجوز أن يكون {وَزِيرًا} مفعولًا ثانيًا و {هَارُونَ} مفعولًا أول، وقدم الثاني عليه اعتناءً بأمر الوزارة {لِي} متعلق بمحذوف حال من {وَزِيرًا} أو متعلق بنفس {اجعل} و {مِنْ أَهْلِي}: صفة {وَزِيرًا} ويجوز أن يكون {وَزِيرًا} هو المفعول الأول و {مِنْ أَهْلِي} هو الثاني، وجميع هذه الأوجه متساوية الرجحان. {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}. {اشْدُدْ}: فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر يعود على الله تقديره: أنت {بِهِ} متعلق به {أَزْرِي}: مفعول به، والجملة: معطوفة على {اشْرَحْ} بعاطف مقدر {وَأَشْرِكْهُ}: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {اشْرَحْ}. {فِي أَمْرِي}: متعلق بـ {أشركه} وقرىء {اشْدُدْ} {وَأَشْرِكْهُ}: مضارعين مجزومين بالطلب السابق، {كَيْ}: حرف نصب ومصدر {نُسَبِّحَكَ}: فعل ومفعول منصوب بـ {كَيْ}: وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {مُوسَى} و {هَارُونَ} تقديره: نحن {كَثِيرًا}: صفة لمصدر محذوف تقديره: تسبيحًا كثيرًا. أو صفة لزمان محذوف تقديره: زمانا كثيرا فهو مفعول مطلق، أو مفعول فيه، والجملة الفعلية: صلة {كَيْ} المصدرية {كَيْ} مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، علل بها لكل من الأفعال الثلاثة الأخيرة {وَاجْعَلْ} و {اشْدُدْ} و {أشرك} تقديره: اجعله وزيرًا لي {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} لتسبيحنا إياك تسبيحاً كثيرًا أو زمانًا كثيرًا {وَنَذْكُرَكَ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر معطوف على {نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا}: صفة مصدر محذوف؛ أي: ذكراً كثيرًا أو زمانًا كثيرا {إِنَّكَ}: ناصب واسمه {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه {بِنَا}: متعلق بـ {بَصِيرًا} {بَصِيرًا} خبر {كان} وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}.

{قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة {قَدْ أُوتِيتَ} إلى قوله: {قَالَا رَبَّنَا} مقول محكي، وإن شئت قلت: قد حرف تحقيق {أُوتِيتَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل {سُؤْلَكَ} مفعول ثان لـ {أُوتِيتَ} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم مبني بضم مقدر، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَقَدْ} (الواو) استئنافية و (اللام) موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {مَنَنَّا}: فعل وفاعل {عَلَيْكَ}: متعلق به {مَرَّةً}: ظرف أو مفعول مطلق {أُخْرَى} صفة لـ {مَرَّةً} والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قَالَ} مسوقة لتقرير ما قبلها, ولزيادة توطين نفس موسى بإجابة مسؤوله {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان مفيد للتعليل متعلق بـ {مَنَنَّا}. {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل {إِلَى أُمِّكَ}: متعلق به والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {مَآ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أَوْحَيْنَا}. {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر صلة لـ {مَا} الموصولة وهي تفيد الإبهام، ويصح كون {مَا} مصدرية {أَنِ}: مفسرة بمعنى، أي: {اقْذِفِيهِ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به {فِي التَّابُوتِ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {فَاقْذِفِيهِ} (الفاء): عاطفة {اقْذِفِيهِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {اقْذِفِيهِ} {فِي الْيَمِّ}: متعلق بـ {اقذفيه} ولم تختلف الضمائر؛ لأن المقذوف هو موسى عليه السلام. {فَلْيُلْقِهِ} الفاء: عاطفة و {اللام} لام الأمر {يلق}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، و {الهاء}: مفعول به. {الْيَمُّ}: فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {فَاقْذِفِيهِ} وهذا أمر معناه الخبر، ولكونه أمرًا لفظًا جزم جوابه في قوله: {يَأْخُذْهُ}. {بِالسَّاحِلِ}: متعلق بـ {يلقه}. {يَأْخُذْهُ}: فعل ومفعول به مجزوم بالطلب السابق {عَدُوٌّ} فاعل {لِي} صفة له {لَهُ} {وَعَدُوٌّ لَهُ} معطوف على {عَدُوٌّ لِي}. {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}. {وَأَلْقَيْتُ}: فعل وفاعل معطوف على {مَنَنَّا}. {عَلَيْكَ}: متعلق به

{مَحَبَّةً}: مفعول به {مِنِّي} صفة لـ {مَحَبَّةً}؛ أي: محبةً عظيمةً كائنةً منى {وَلِتُصْنَعَ} (الواو): عاطفة (اللام): حرف جر وتعليل {تصنع}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة بعد (اللام): ونائب فاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}؛ أي: ولتربَّى {عَلَى عَيْنِي}: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في {تصنع} والجملة الفعلية: معطوفة على علة مقدرة قبلها، وتلك العلة المقدرة متعلقة بـ {ألقيت}؛ أي: وألقيت عليك محبة منى ليعطف عليك {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {ألقيت} أو بـ {تصنع} أو بمحذوف تقديره: أذكر {تَمْشِي أُخْتُكَ}: فعل وفاعل والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إِذْ} {فَتَقُولُ}: فعل مضارع معطوف على {تَمْشِي}: وفاعله ضمير يعود على الأخت {هَلْ}: حرف للاستفهام الاستخباري {أَدُلُّكُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الأخت. والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {تَقُولُ}. {عَلَى مَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {أَدُلُّكُمْ}. {يَكْفُلُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}. {فَرَجَعْنَاكَ} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فقالوا دلينا عليه فجاءت بأمِّكَ، فَقَبلْتَ ثديها {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ}. {رجعناك} فعل وفاعل ومفعول به {إِلَى أُمِّكَ}: متعلق به والجملة: معطوفة، على تلك المحذوفة {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} ناصب وفعل وفاعل، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة، تقديره: لقرة عينها {وَلَا تَحْزَنَ} معطوف على {كَيْ تَقَرَّ}. {وَقَتَلْتَ نَفْسًا}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَوْحَيْنَا} {فَنَجَّيْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {قَتَلْتَ} {مِنَ الْغَمِّ} متعلق بـ {نجيناك}. {وَفَتَنَّاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَوْحَيْنَا}. {فُتُونًا}: مفعول مطلق إذا كان مصدرًا، وهو الأرجح، كالقعود والجلوس، أو منصوب بنزع الخافض، إذا كان جمع فتنة, أي: بضروب من الفتن والمعنى: ابتليناك وامتحناك بأنواع من الشدائد {فَلَبِثْتَ}:

فعل وفاعل معطوف على {وَفَتَنَّاكَ} {سِنِينَ}: ظرف زمان متعلق بـ {لبثت}. {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}: جار ومجرور متعلق بـ {لبثت}. {مَدْيَنَ} مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي {ثُمَّ} حرف عطف {جِئْتَ}: فعل وفاعل معطوف على {لبثت}. {عَلَى قَدَرٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {جِئْتَ} أي: حالة كونك موافقاً لما قدر لك، أو مستقرًا على قدر معين {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم {وَاصْطَنَعْتُكَ} فعل وفاعل ومفعول به {لِنَفْسِي} متعلق به، والجملة: مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {لِتَشْقَى}؛ أي: لتتعب نفسك، من شقي يشقى من باب رضي {إِلَّا تَذْكِرَةً}؛ أي: تذكيرًا وعظةً، مصدر: ذكر يذكر، من باب فعل المضعف تذكيرًا وتذكرة، ولكن الأول قياسي، والثاني سماعي، إلا في المعتل، كزكى تزكيةً {يَخْشَى}؛ أي: يخاف الله؛ أي: لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف منه {الْعُلَى}: جمع العليا، مؤنث الأعلى، كالكبرى مؤنث الأكبر، يجمع على كبر، ويجوز كتابتها بالياء والألف؛ لأن الفعل علا يعلو، وعلى يعلى، وهي المرتبة والرفعة، وقال السيوطي، وأبو البقاء: هي جمع عليا ككبرى وكبر، فكتبت بالياء {الثَّرَى} في "المصباح" الثرى وزان الحصى، ندى الأرض وأثرت الأرض بالألف كثر ثراها، والثرى: أيضًا التراب الندي، فإن لم يكن نديًا فهو تراب، ولا يقال له حينئذٍ: ثرى. اهـ. وفي "اللسان": وثرى المطر التراب يثريه، وهو مثوى، وثري التراب: فهو ثر، وثريت التراب: نديته، وثريت السويق: كذلك {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال ابن عباس: السر: ما حدث به الإنسان غيره في خفاء، وأخفى منه ما أضمره في نفسه، مما لم يحدث به غيره {الْحُسْنَى} مؤنث الأحسن، فهي اسم تفضيل يوصف به الواحد من المؤنث، والجمع من المذكر. اهـ "أبو السعود" وفي "السمين": والحسنى تأنيث الأحسن، وقد تقدم غير مرة أن جمع التكسير في غير العقلاء، يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.

{حَدِيثُ مُوسَى}: الحديث: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع، أو الوحي في يقظته أو في منامه {لِأَهْلِهِ}؛ أي: لامرأته، وهي بنت شعيب، واسمها صفوراء، وقيل: صفورياء، وقيل: صفورة، واسم أختها ليل، وقيل شرفا، وقيل عبدا {امْكُثُوا} المكث: الإقامة {آنَسْتُ نَارًا}؛ أي: أبصرت إبصارًا بينًا، لا شبهة فيه. اهـ "أبو السعود" والإيناس: الإبصار البين، ومنه إنسان العين، لأنه يبصر به الأشياء، والإنس لظهورهم، كما قيل: الجن لاستتارهم، وقيل: هو الوجدان، وقيل: الإحساس، فهو أعم من الإبصار اهـ "سمين" {بِقَبَسٍ}: عبارة "السمين": القبس: الجذوة من النار، وهي الشعلة في رأس عود، أو قصبة ونحوهما، وهو فَعَل بمعنى مفعول، كالقبض والنفض، بمعنى المقبوض والمنفوض، ويقال: أقبست الرجل علمًا وقبسته نارًا، ففرقوا بينهما، هذا قول المبرد، وقال الكسائي: إن فعل وأفعل يقالان في المعنيين، فيقال: قبسته نارًا وعلمًا، وأقبسته أيضًا نارًا وعلمًا {عَلَى النَّارِ هُدًى}؛ أي: هاديًا يدلني على الطريق، فهو: مصدر بمعنى اسم الفاعل. {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} قال في "القاموس": الوادي: مفرج بين جبال أو تلال أو آكام {طُوًى}: اسم علم للوادي، ويقرأ بغير تنوين، على أنه معرفة: علم مؤنث للبقعة، وقيل: هو معدول، وإن لم يعرف لفظ المعدول عنه، فكأنه أصله: طاوي، فهو في ذلك كجمع وكتع، وقال في "القاموس"، وطوى: بالضم والكسر وينون: واد بالشام، وقال علماء النحو: وأما طوى فمن منع صرفه، فالمعتبر فيه التأنيث، باعتبار البقعة لا العدل عن طاو؛ لأنه؛ أي: العدل قد أمكن غيره، وهو: التأنيث فلا وجه لتكلف العدل {فَتَرْدَى} وفي "المختار": ردى من باب صدي؛ أي: هلك وأرداه غيره، وردي في البئر. يردي بالكسر: من باب رمى، وتردى: إذا سقط فيها، أو تهور من جبل. اهـ. {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}؛ أي: أعتمد عليها في المشي، وحين الوقوف على رأس القطيع في المرعى، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} يقال: هش الورق يهشه ويهشه: خبطه بعصا ليتحات؛ أي: ضربه ضربًا شديدًا ليسقط، والمعنى: أخبط بها الورق على رأس غنمي لتأكله، وفي "المصباح": هش الرجل هشًا: من باب رد صال

بعصاه، وفي التنزيل {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} وهش الشجرة هشًا أيضًا: ضربها ليتساقط ورقها، وهش الشيء يَهَش، من باب تعب هشاشةً: إذا لان واسترخى، فهو هش، وهش العود يهش أيضًا هشوشًا: صار هشًا؛ أي: سريع الكسر، وهش الرجل هشاشةً: إذا تبسم وارتاح، من بابي تعب وضرب اهـ. {مَآرِبُ}: جمع مأربةٍ، مثلثة الراء، وهي الحاجة {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}: الحية تطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحياة، والجان: الصغير منها {سِيرَتَهَا الْأُولَى}؛ أي: حالتها الأولى، وهي كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه، وتحول عنه ثم راجعه، عاد فلان سيرته الأولى {مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}: اسم تفضيل مؤنث الأكبر؛ أي: التي هي أكبر من غيرها، حتى من العصا، وذلك لأن المراد الكبرى في الإعجاز، واليد كذلك، فإنها أكبر آيات موسى، كما نقله الخازن عن ابن عباس. {وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} والوزير: قيل: مشتق من الوزر وهو: الثقل، وسمي بذلك لأنه يتحمل أعباء الملك ومؤنه، فهو معين على أمو الملك، وقائم بأموه، وقيل: بل هو من الوزر، وهو: الملجأ، ومنه قوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)} وقيل: من الموازرة وهي: المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي، قال: وكان القياس أزيراً يعني: بالهمزة؛ لأن المادة كذلك اهـ "سمين" وفي "القاموس": الأزر: الإحاطة والقوة، والضعف: ضد التقوية والظهر. اهـ يقال: آزره إذا قواه وأعانه. {سُؤْلَكَ}؛ أي: مسؤولك، ففُعل بمعنى المفعول، كالخبز والأكل، بمعنى المخبوز والمأكول. {مَرَّةً أُخْرَى}؛ أي: في وقت ذي مر وذهاب؛ أي: وقتًا غير هذا الوقت، فإن أخرى: تأنيث آخر، بمعنى غير، والمرة في الأصل: اسم للمر الواحد، الذي هو مصدر. مر يمر مرًا ومرورًا؛ أي: ذهب، ثم أطلق على فعلة واحدة من الفعلات، متعديةً كانت أو لازمة، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متحدة، فصار علمًا في ذلك، حتى جُعِل معيارًا لما في معناه من سائر الأشياء، فقيل: هذا بناء المرة، ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة، والمراد به هاهنا: الوقت الممتد، الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره، من المنن العظيمة الكثيرة. اهـ "روح البيان" {بِالسَّاحِلِ} والساحل: فاعل بمعنى مفعول، من

السحل؛ لأنه يسحل الماء؛ أي: يقشره ويسلخه، وينزع عنه ما هو بمنزلة القشر على ظاهره، يقال: قشرت العود نزعت عنه قشره. {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}؛ أي: اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، من الاصطناع، وهو: افتعال من الصنع بالضم، وهو مصدر قولك: صنع إليه معروفًا كما مر، وعن القفال: اصطنعتك أصله من قولهم: اصطنع فلان فلانًا، إذا أحسن إليه، حتى يضاف إليه، فيقال: هذا صنع فلان، كما يقال: هذا جريح فلان، وفي "القاموس" {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}: إخترتك لخاصة أمرٍ أستكفيكه. انتهى. {فُتُونًا}، فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر على فعول كالقعود والجلوس، إلا أن فعولًا قليل في المتعدي، ومنه الشكور والكفور والثبور واللزوم، قال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. والثاني: أنه جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة؛ أي: فتناك ضروبًا من الفتن. اهـ "سمين". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشويق والحث على الإصغاء في قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}. ومنها: فن الإبهام في قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} وهو فن رفيع ينطوي على الكثير من جلائل المعاني ودقائقها، وهو ضد الإيجاز، وضد الإطناب، وحدُّه، أن يأتي المتكلم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل، فيدل عليه باللفظ الكثير، لا لقصد إفهام البليد، وسماع البعيد، ولا للتقرير والتوكيد، بل للإتيان بمعنى يتشعب إلى عدة أمور، كل واحد منها مستقل المفهومية، فقد قال: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} ولم يبت في الأمر،

لئلا يعد ما ليس بمستيقن من الوفاء به، وما أجملها حكمةً تكون درسًا، لمن يكيلون الوعود جزافًا ولا يفكرون في الوفاء بها. ومنها: المبالغة في قوله: {هُدًى} حيث أطلق المصدر، وأراد اسم الفاعل؛ أي: هاديًا. ومنها: التهويل والتعظيم في قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}. ومنها: التأكيد بدلالة إنّ، واسمية الجملة فقط في قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} هنا وفي سورة الحج بحذف لام التأكيد، وأثبتها في سورة غافر حيث قال: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} لأنها إنما تزاد لتأكيد الخبر، وتأكيده: إنما يحتاج إليه إذا كان المخبر به شاكًا في الخبر، والمخاطبون في غافرهم: الكفار، فأكدها باللام بخلاف تينك. ومنها: الإطناب في قوله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} وكان يكفي أن يقول: هي عصاي، ولكنه توسع في الجواب تلذذاً بالخطاب. ومنها: الإجمال في قوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} بعد التفصيل. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أصل الجناح: للطائر، ثم استُعير لجنب الإنسان؛ لأن كل جنب للإنسان في موضع الجناح للطائر، فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة. ومنها: الاحتراس في قوله: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وهو عند علماء البيان: أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البرص والبهق، فلو اقتصر على قوله: {بَيْضَاءَ} لأوهم أن ذلك من برص أو بهق، ولذلك احترس بقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فالعين هنا: بمعنى الرعاية، مجازًا مرسلًا، من إطلاق السبب وهو العين؛ أي: نظرها على المسبب، وهو الحفظ والرعاية، وفيه أيضًا الاستعارة التمثيلية: شبه شدة الرعاية

وفرط الحفظ والكلأة، بمن يصنع بمرأى من الناظر؛ لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه، فمثل لذلك بمن يصنع على عين الآخر. ومنها: زيادة {لِي} في قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} لإفادة أن منفعة شرح الصدر، وتيسير الأمر، راجعة إليه، وعائدة عليه، فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله، ولا يستعين بشرح صدره - تعالى وتقدس -. ومنها: التنكير في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} دلالةً على أنه لم يسأله حل جميع عقد لسانه، بل حل بعضها الذي يمنع الإفهام، بدليل قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}. ومنها: التفسير بعد الإبهام في قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} فأبهم الكلام وأتى به مجملًا، ليتعلق الذهن، ويتطلع ما عسى أن يكون السؤل، وما هي المنة الأخرى. ومنها: الإبهام المجرد في قوله: {مَا يُوحَى}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} حيث أسند الإلقاء إلى اليم، وهو لا يعقل، من إسناد الشيء إلى السبب. ومنها: التنكير في قوله: {مَحَبَّةً مِنِّي} للتفخيم والتعظيم. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ} حيث عبر في الفعلين بالمضارع، والأصل: إذ مشت أختك فقالت. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، حيث استعير القر بمعنى البرد، للسرور. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}. المناسبة قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد (¬1) المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب ¬

_ (¬1) المراغي.

الثمان .. شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها وأداءها على النهج الذي أمره به. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر سؤال فرعون عن رب موسى .. قفى على ذلك ببيان أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، كقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} والدالة على نبوته، كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانًا، ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا، وكذب به كفرًا وعنادًا، كما قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية. قوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما ذكر أن موسى وفرعون، اتفقا على موعد يجتمعان فيه، وهو يوم عيد لهم .. أردف ذلك بذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس، من أمر السحرة، وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى، تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، بالغوا في إخفاء ما يريدون، وقالوا: ما موسى وهارون إلا ساحران، يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم، ويرجوان أن تتركوا دينكم، وهو أمثل الأديان وأفضلها, لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك، ولا يتخلفن أحد منكم، وائتوا صفًا واحدًا، وقد فاز بالمطلوب من غلب. قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الموعد، وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا: ائتوا صفًا .. ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدؤوا هم، فاختار الثانية، وحين بدؤوا فألقوا حبالهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[42]

وعصيهم، خاف موسى عاقبة أمره، فأوحى إليه ربه: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} فسيكون لك الفلج والظفر عليهم، وقد تحقق ما وعد الله به، وكتب له النصر، وآمن به السحرة، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار. التفسير وأوجه القراءة 42 - {اذْهَبْ أَنْتَ} يا موسى، وهذا كلام (¬1) مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الإصطناع {و} ليذهب {أَخُوكَ} هارون حسبما (¬2) استدعيت، عطف عليه لأنه كان غائبًا عن موسى وقتئذٍ، والذهاب: المضي، يقال: ذهب بالشيء وأذهبه، ويستعمل ذلك في الأعيان والمعاني، قال تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} وقال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}. والأخوة: المشاركة في الولادة من الطرفين أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويُستعار الأخ لكل مشارك لغيره في القبلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة، أو في غير ذلك من المناسبات؛ أي: اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل، حالة كونكما متلبسين {بِآيَاتِي}؛ أي: بمعجزاتي (¬3)، متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة، وإكمال أمر الدعوة، لا مجرد إذهابهما وإيصالهما إليه، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يريد الآيات التسع التي أنزلت إليه، وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقبًا بعده، ويحتمل أن يكون الجمع للتعظيم، والمراد: العصا واليد، ففي كل منهما آيات شتى، فانقلاب العصا حيوانًا آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا آية أخرى، وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى، ثم أخرى، ثم إنه - عليه السلام - يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى، ثم انقلابه عصا آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشعاعها آية أخرى، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى، أو لأن أقل الجمع عند الخليل إثنان، يعني: أن إطلاق الآيات على الآيتين وارد على الأدنى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[43]

{وَلَا تَنِيَا}؛ أي: لا تضعفا, ولا تفترا, ولا تقصرا {فِي ذِكْرِي}؛ أي: في مداومة ذكري لسانًا وجَناناً، فإنه آلة لتحصيل كل المقاصد، فإن أمرًا من الأمور لا يتمشى لأحدٍ إلا بذكري، فالفتور في الأمور بسبب الفتور في ذكر الله، وهو تذكير بقوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)}. قال بعضهم: الحكمة في هذا التكليف: أن من ذكر جلال الله تعالى وعظمته .. استخف غيره، فلا يخاف أحدًا غيره، فتقوى روحه بذلك الذكر، فلا يضعف في مقصوده. أو المعنى: فلا تنيا ولا تضعفا عن تبليغ رسالتي، فإن الذكر يطلق على كل عبادة، والتبليغ من أعظم العبادات. والمعنى: أي (¬1) اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل، وإني ممدكما بحججي وبرهاناتي الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح العلل والمعاذير به، ولا تفترا في دعوتهم، وتبليغ الرسالة إليهم، فبينا لهم أن الله أرسلكما إليهم، مبشرين بثوابه، ومنذربن بعقابه. وقرأ ابن وثاب (¬2): {ولا تنيا}: بكسر التاء اتباعًا لحركة النون، وفي مصحف عبد الله {ولا تهنا}؛ أي: ولا تلنا، في قولهم: هين لين 43 - {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} هذا أمر وخطاب لهما جميعًا بالذهاب، موسى حاضر وهارون غائب، إما بطريق التغليب لموسى لأنه الأصل في أداء الرسالة، أو بعد ملاقاة أحدهما الآخر، وتكرير الأمر بالذهاب (¬3): لترتيب ما بعده عليه، وفرعون: اسم أعجمي، لقب الوليد بن مصعب صاحب موسى، وقد اعتبر غوايته، فقيل: تفرعن فلان، إذا تعاطى فعل فرعون، وتخلق بخلقه، كما يقال: أبلس وتَبَلَّس، ومنه قيل للطغاة الفراعنة والأبالسة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إن فرعون {طَغَى}؛ أي: تجاوز حد العبودية بدعوى الربوبية؛ أي: جاوز الحد في الكفر والتمرد. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[44]

وخص (¬1) موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم، وجمعهما هنا تشريفًا لموسى بإفراده، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير، وقيل: إن في هذا دليلًا على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما، وقيل: الأول: أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني: أمر لهما بالذهاب إلى فرعون. والمعنى (¬2): أي اذهبا معًا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان؛ لأنه طغى وتجبر وتمرد، حتى ادعى الربوبية فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وتخصيص فرعون بالدعوة آخرًا، بعد أن كانت الدعوة عامة أولًا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنًا صاغيةً، واستجاب لدعوتهما، وآمن بهما .. تبعه المصريون قاطبةً، كما قيل: الناس على دين ملوكهم. قال في "العرائس": أمر الله موسى وهارون - عليهما السلام - بالذهاب إلى فرعون، لقطع حجته، وإظهار كذبه في دعواه، وهذا تهديد لكل مدع لا يكون معه بينة من الله في دعواه، والحكمة في إرسال الأنبياء إلى الأعداء: ليعرفوا عجزهم عن هداية الخلق إلى الله، ومن يعجز عن هداية غيره. . فأيضًا يعجز عن هداية نفسه، كالطبيب العاجز عن معالجة الغير، فإنه عاجز عن معالجة نفسه أيضًا، وليعلموا أن الاختصاص لا يكون بالأسباب، ويشكروا بما أنعم الله عليهم بلطفه، وربما يصطادون من بين الكفرة من يكون له استعداد بنظر الغيب، مثل: حبيب النجار، والرجل من آل فرعون، وامرأة فرعون، والسحرة. انتهى. 44 - ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له، لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادىء بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر فقال: {فَقُولَا} أنتما، يا موسى وهارون {لَهُ}؛ أي: لفرعون {قَوْلًا لَيِّنًا} أي: سهلًا, أي (¬3): كلماه باللين والرفق، من غير خشونة ولا تعنيف، ويسرا, ولا تعسرا، فإنه ما دخل الرفق في شيء إلا وقد زانه، وما دخل الخرق في شيء إلا وقد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

شانه، وكان في موسى حدة وصلابة وخشونة، بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارًا، فعالج حدته وخشونته باللين ليكون حليمًا، وهو معنى قول من قال: طبع الحبيب كان على اللين والرحمة، فلذا أمر بالغلظة كما قال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} تحققًا بكمال الجلال، وطبع الكليم على الشدة والحدة والصلابة، فلذا أمر بالقول اللين، تحققًا بكمال الجمال. وقيل (¬1): أمر الله موسى باللين مع الكافر، مراعاةً لحق التربية؛ لأنه كان رباه، فنبه به على نهاية تعظيم حق الوالدين، وقيل: أمر موسى باللين ليكون حجة على فرعون، لئلا يقول: أغلظ علي القول في دعوته، وفي "الإحياء": سئل الحسن عن الولد، كيف يحتسب على والده؟ فقال: يعظه ما لم يغضب، فإذا غضب سكت. فعلم منه أنه ليس للولد الحسبة على الوالد بالتعنيف والضرب، وليس كذلك التلميذ مع الأستاذ، إذ لا حرمة لعالم غير عامل، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ - رحمه الله - هذه الآية، فبكى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف بمن يقول أنت الإله. والمعنى: أي فكلماه بكلام رقيق لين، ليكون أوقع في نفسه، وأنجع في استجابته للدعوة، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة، وتنكسر سورة الطغاة، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن هذا ما حكى عن موسى في قوله لفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} وقوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}؛ أي: لعل فرعون يتذكر بما بلَّغُتماه من ذكري، ويرغب فيما رغَّبتُماه فيه {أَوْ يَخْشَى} عقابي، وكلمة {أَوْ} لمنع الخلو دون الجمع. انتهى من "الإرشاد"؛ أي: باشرا (¬2) مباشرة من يرجو ويطمع تذكره أو خشيته، فالرجاء والطمع راجع إليهما؛ أي: قولا له ذلك راجين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[45]

أن يترك الإصرار على إنكار الحق وتكذيبه، وإما بأن يتذكر ويتعظ ويقبل الحق قلبًا وقالبًا، أو بأن يتوهم أنه حق فيخشى بذلك، من أن يصر على الإنكار، ويبقى مترددًا ومتوقفًا بين الأمرين، وذلك خير بالنسبة إلى الإنكار والإصرار عليه، لأنه من أسباب القول، ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم ينفعاه، وذلك حين ألجمه الغرق، {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. وقيل (¬1): {لعل} هاهنا بمعنى الاستفهام، والمعنى: فانظرا هل يتذكر أو يخشى، وقيل: بمعنى كي، والتذكر: النظر فيما بلَّغاه من الذكر، وهو إمعان الفكر فيه، حتى يكون ذلك سببًا في الإجابة، والخشية: هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما. والظاهر: أن {لعل} في مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها؛ أي: أديا (¬2) الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه، سعي من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه، آملًا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح. وقصارى ذلك: اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل، وقد جرت العادة أن من رجا شيئًا .. طلبه، ومن يئس .. انقطع عمل، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته. 45 - {قَالَا}؛ أي: قال موسى وهارون {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا}؛ أي: أن يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة، وإظهار المعجزة، فيتعطل المطلوب من الإرسال إليه {أَوْ أَنْ يَطْغَى}؛ أي: أن يزداد طغيانًا، فيقول في شأنك ما لا ينبغي، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره، وشديد عصيانه، ولما كان طغيانه في حق الله أعظم من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[46]

إفراطه في حقهما .. ختم الكلام به. فالخوف (¬1): توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضاد الخوف الأمن ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية، قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد به الكف من المعاصي واختيار الطاعات، فإن قلت: كيف هذا الخوف وقد علما أنهما رسولا رب العزة إليه؟ قلت: جريا على الخوف الذي هو مركوز في جبلة الإنسان، حتى أنه لو بلغ مرتبة النبوة والرسالة، فإنه لا يخرج الخوف من جبلته، كما قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يعني نخاف أن يقتلنا, ولكن الخوف ليس بجهة القتل، وإنما نخاف فوات عبوديتك بالقيام لأداء الرسالة والتبليغ كما أمرتنا، أو يتمرد بجهله ولا ينقاد لأوامرك، ويسبك. وقرأ يحيى، وأبو نوفل، وابن محيصن في روايته (¬2): {أن يفرط} مبنيًا للمفعول؛ أي: يسبق في العقوبة، ويسرع بها، من فرط إذا تقدم بالقصد، ومنه الفارط إلى الماء؛ أي: المتقدم لإصلاح الدلو، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة، خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب، من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية، أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمردين. وقرأت فرقة، والزعفراني عن ابن محيصن: {يفرط} بضم الياء وكسر الراء، من الإفراط في الأذية. 46 - {قَالَ}: استئناف (¬3) بياني، كأنه قيل: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل: قال الله سبحانه لهما {لَا تَخَافَا} مما عرض في قلبكما من إذاية فرعون لكما، ومن ازدياد كفره، قال بعضهم: ليس المراد منه النهي عن الخوف، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[47]

لأنه من حيث كونه أمرًا طبيعيًا لا مدخل للاختيار فيه، لا يدخل تحت التكليف ثبوتًا وانتفاءً، بل المراد به التسلي بوعد الحفظ والنصرة، كما يدل عليه قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} بكمال الحفظ والنصرة، فإن الله تعالى منزه عن المعية المكانية {أَسْمَعُ وَأَرَى}؛ أي: ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل في كل حال ما يليق بها، من دفع ضرر وشر، وجلب نفع وخير، فمن كان الله معه .. يحفظه من كل جبار عنيد؛ أي (¬1): إنني معينكما وعالم بما يليق من حالكما معه، أسمع كلامه معكما، فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله، فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه. والخلاصة: لست بغافل عنكما، واني سأفعل ما يؤدي إلى حفظكما، ونصركما عليه، فلا تهتما بأمره، 47 - {فَأْتِيَاهُ}؛ أي: فقابلا فرعون {فَقُولَا} له {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} قد أرسلنا إليك، فالإتيان هنا: عبارة عن الوصول إليه، بعد أمرهما بالذهاب إليه، فلا تكرار، وفي التعبير بقولهما: {رَبِّكَ}: إيماء (¬2) إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا أن يُنظر إليه نظرة الاعتبار والصدق: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا}؛ أي: أطلق معنا {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: من الأسر، نذهب بهم إلى أرضهم؛ أي: فأطلقهم وخلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهم، وفلسطين بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة: هي البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها الرملة، وغزة، وعسقلان، وغيرها طهرها الله من دنس اليهود الغاصبين ورجسهم. اهـ "بحر العلوم". وفي ذلك إدخال النقص على ملكه؛ لأنه كان محتاجًا إليهم فيما يريده من الأعمال، من بناء أو غيره {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} بتسخيرهم إياهم في شاق الأعمال، كالحفر والبناء، ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساؤهم في تلك الأعمال، ويذبحون أبناءهم عامًا دون عام، ويستحيون نساءهم بأمر فرعون، وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان؛ لأنه ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[48]

أخف وأسهل من ذلك، لما فيه من تبديل الاعتقاد، وهو عسر شاق على النفس، وقال في "الإرشاد": والمراد بالإرسال: إطلاقهم من الأسر والقسر، وإخراجهم من تحت اليد العادية، لا تكليفه أن يذهبوا معهما إلى الشام، كما ينبىء عنه قوله سبحانه: {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}؛ أي: بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة القادحة، من الحفر، ونقل الأحجار، وغيرهما من الأمور الشاقة، ويقتلون ذكور أولادهم، عامًا دون عام، ويستخدومونهم، كما مر آنفًا. وتوسيط (¬1) حكم الإرسال بين بيان رسالتهما، وبين ذكر المجيء بآيةٍ دالة على صحتها, لإظهار الاعتناء به؛ لأن تخليص المؤمنين من أيدي الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان, كما قيل، ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما: {قَدْ جِئْنَاكَ} وأتيناك {بِآيَةٍ}؛ أي: بمعجزةٍ باهرةٍ كائنةٍ {مِنْ رَبِّكَ} وخالقك يا فرعون؛ أي: قد (¬2) جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول .. أريناكها {وَالسَّلَامُ}؛ أي: والسلامة والأمن من العذاب، في الدنيا والآخرة {عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}؛ أي: على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية وتبعد عن الغي والضلال، قال الزجاج؛ أي: من اتبع الهدى .. سلم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك: أنه ليس بابتداء لقاءٍ ولا خطاب. اهـ. وهذا (¬3) من جملة قوله تعالى، الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون؛ أي: وقولا له: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} وفي هذا ترغيب في التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وقد عنها على أقصى غاية، كما لا يخفى، 48 - ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا}؛ أي: إنا قد أخبرنا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[49]

الله فيما أوحاه إلينا {أَنَّ الْعَذَابَ}؛ أي: أن عذابه الذي لا نفاد له، ولا انقطاع في الدنيا والآخرة {عَلَى مَنْ كَذَّبَ} بما ندعوا إليه من توحيده وطاعته، وإجابة رسله {وَتَوَلَّى}؛ أي: وأدبر معرضًا عما جئناه به من الحق. وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} وقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)}. وأصل الوحي (¬1): الإشارة السريعة، وذلك قد يكون بالكلام الخفي على لسان جبريل، وقد يكون بالإلهام، والمنام، والوحي إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون بوساطته ووساطة موسى، والمراد (¬2) بالعذاب: الهلاك والدمار في الدنيا، والخلود في النار، والمراد بالتكذيب: التكذيب بآيات الله وبرسله، والتولي: الإعراض عن قبولها والإيمان بها. فإن قلت: إن قوله: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يقتضي قصر العذاب على المكذبين، مع أن غيرهم قد يعذبون على عصيانهم. قلتُ: إن المراد بالعذاب هنا: العذاب الدائم، الذي لا ينقطع؛ لأن العذاب المتناهي كلا عذاب 49 - {قَالَ} فرعون، بعدما أتياه وبلغا ما أمرا به: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}؛ أي: فمن إلهكما الذي أرسلكما، لم يقل فمن ربي مع قولهما: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} لغاية عتوه، ونهاية طغيانه، و (الفاء) في قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كنتما رسولي ربكما .. فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما إليَّ، و {من}: للاستفهام التعجبي. قال الإِمام: أثبت نفسه ربًا في قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} فذكر ذلك على سبيل التعجب، كأنه قال: أنا ربك، فلم تدعو ربا آخر يا موسى، وإنما خص موسى بالنداء، مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل، وهارون وزيره، فأجاب موسى عن سؤاله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكانى.

[50]

50 - {قَالَ} موسى مجيبًا لفرعون {رَبُّنَا} مبتدأ خبره {الَّذِي} من محض فضله {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} من المخلوقات {خَلْقَهُ}؛ أي: صورته (¬1) وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فأعطى العين الشكل الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا الأنف، واليد، والرجل، وجميع أعضاء الجسم، شكل كل منها مطابق للمنفعة المنوطة بها، ومن هذا يفهم: أن ضمير الجمع في {رَبُّنَا} عام لموسى وهارون وغيرهم، ولم (¬2) يقل ربنا الله، بل وصفه بأفعاله، ليستدل بالفعل على الفاعل، أو المعنى: أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، ويرتفقون به، وقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه، وقيل: المعنى: أعطى كل شيء من أعضاء الجسم خلقه , منفعته التي خلق لأجله، فخلق اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، وقيل: المعنى: أعطى كل حيوان خلقه؛ أي: نظيره وشكله، زوجًا، فجعل زوجة الرجل المرأة، والبعير الناقة، والفرس الرمكة، وهي الحجرة، والحمار الأتان، وقيل: المعنى: أعطى كل ما خلق خلقته، وصورته الخاصة به على ما يناسبه من الإتقان، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وقال الشاعر: وَلَهُ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ خِلْقَةٌ ... وَكَذَلِكَ اللهُ مَا شَاءَ فَعَلْ وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه، وقرأ (¬3) عبد الله، وأناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو نهيك، وابن أبي إسحاق، والأعمش، والحسن، ونصير عن الكسائي، وابن نوح عن قتيبة، وسلَّام: {خَلَقَه} بفتح اللام، فعلًا ماضيًا في موضع الصفة لكل شيء، أو لشيء، ومفعول {أَعْطَى} الثاني حذف اقتصارًا؛ أي: أعطى كل شيء خلقه عطاءه وإنعامه، وقَدَّره ابن عطية: كماله أو مصلحته. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[51]

{ثُمَّ هَدَى}؛ أي: ثم أرشده كيف ينتفع بما أعطاه، ويرتفق به، وكيف يصل بذلك إلى بقائه وكماله، إما اختيارًا كما في الحيوان، وإما طبعًا كما في النبات والجماد، أو ألهمه كيف يأتي الذكر والأنثى. وخلاصة هذا (¬1): ربنا الذى خلق كل شيء على الوجه الذي يليق بما قدر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلًا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله. 51 - ولما كان (¬2) الخلق الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء، وتسوية الأجسام، متقدمًا على الهداية، التي هى عبارة عن إيداع القوى المحركة المدركة في تلك الأجسام، وسَّط بينهما كلمة التراخي، وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذى خلق ورزق وقدر، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى، الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشعار إليه بقوله: {قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}؛ أي: فما حال القرون الماضية؟ وما خبر الأمم الخالية؟ مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ وما للاستفهام الاستخباري، والبال: الحال التي يُكترث بها, ولذا يقال: ما باليت بكذا؛ أي: ما اكترثت به، ويعبر به عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان، فيقال: ما خطر ببالي كذا، والقرون: القوم المقترنون في زمن واحد، والأولى: تأنيث الأول، وواحد الأول، كالكبرى والأكبر، والكبر؛ أي: فما حال الأمم الماضية، الذين لم يعبدوا الله، بل عبدوا غيره، فإنها كانت تعبد الأصنام، وتنكر البعث، إنما قال (¬3) فرعون ذلك لموسى حين خوَّفهم مصارع الأمم الخالية، فحينئذ قال فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} أو ما حالهم عندك، كيف هلكوا، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصله؟ أي: فلما ذكر (¬4) موسى - عليه السلام - برهانًا نيرًا على هذا المطلوب .. خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه - عليه السلام - وحقيقة مقالاته، ويتبين عندهم بطلان خرافات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن. (¬4) المراح.

[52]

نفسه، فأراد فرعون أن يصرف موسى - عليه السلام - عن ذلك الكلام الذي يتعلق بالرسالة، إلى الحكايات، فعسى يظهر منه نوع غفلة، فيرتقي فرعون إلى أن يدعي قدام قومه نوع معرفة، فقال: ما حال القرون الخالية؟ لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا، ومن ثم أوجز في رده، ووكل أمر ذلك إلى ربه. 52 - {قَالَ} موسى مجيبًا له، {عِلْمُهَا}؛ أي: علم أحوال تلك القرون كائن {عِنْدَ رَبِّي}؛ أي: من (¬1) الغيوب التي لا يعلمها إلا الله، ولا ملابسة للعلم بأحوالهم بمنصب الرسالة، فلا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما أرسلت {فِي كِتَابٍ}؛ أي: مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله {لَا يَضِلُّ رَبِّي}؛ أي: لا يخطىء ابتداءً، بل يعلم كل المعلومات، ولا يخفى عليه شيء منها {وَلَا يَنْسَى}؛ أي: ولا يسهو عن شيء منها بقاءً ودوامًا، بل هو ثابت عنده أبدًا، وهو لبيان أن إثباته في اللوح المحفوظ، ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً وبقاءً، وإنما كتب أحكام الكائنات في كتاب ليظهرها للملائكة، فيزيد استدلالهم بها على تنزه علمه تعالى عن السهو والغفلة. والضلال: أن تخطىء الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه، والنسيان: أن تغفل عنه بحيث لا يخطر ببالك، وهما محالان على العالم بالذات، وقال (¬2) مجاهد: معنى الجملتين واحد، وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره، وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير، فيعتقد في غير الصواب صوابًا، وإذا عرفه لا ينساه. ومعنى الآية: أي إن (¬3) ذلك من علوم الغيب، التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم، وأحصاها في كتاب لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته شيء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئًا، وسيجزيهم بما عملوا جزاءً وفاقًا. وقصارى ذلك: أن علمه تعالى محيط بكل شيء، وأنه لا ينسى شيئًا - تبارك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[53]

وتعالى - فعلمه ليس كعلم المخلوقين، الذي يعتريه النقص من وجهين: عدم الإحاطة بالأشياء، ونسيانها بعد علمها. وقرأ الحسن (¬1)، وقتادة، والجحدري، وحماد بن سلمة، وابن محيصن، وعيسى الثقفي: {لا يضل} بضم الياء؛ أي: لا يضل الله ذلك الكتاب، فيضيع، ولا ينسى ما أثبته فيه، وقرأ السلمي: {لا يضل ربي ولا ينسى} مبنيتين للمفعول، والظاهر: أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى، بانتفاء هاتين الصفتين عنه، وإجمال سؤاله، أنه إذا كان الأمر كما ذكرت .. ففصل لنا حال الماضين من سعادةٍ وشقاءٍ, فرد - عليه السلام - عليه: بأن علم ذلك إلى الله تعالى، 53 - ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}؛ أي: ربي الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد والفراش، تتمهدونها وتستقرون عليها، فتقومون، وتنامون، وتسافرون على ظهرها، وقرأ (¬2) الأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {مَهْدًا} بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة: {مهادًا} وكذا في الزخرف، وقال المفضل: هما مصدران، يقال: مهد مهدًا ومهادًا، وقال أبو عبيد: مهادًا: اسم، ومهدًا: مصدر، ومعنى ذلك: أنه تعالى جعلها لهم، يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم؛ أي: جعل كل موضع منها مهدًا وفراشًا لكل واحد منكم. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}؛ أي: وهو الذي جعل لأجلكم لا لغيركم في الأرض سبلًا وطرقًا كثيرةً، بين الجبال والأودية والبراري، تمشون في مناكبها، وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، ونحو الآية قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يقال: سلكت الشيء في الشيء: أدخلته، والسبل (¬3): جمع سبيل، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

{وَأَنْزَلَ} النزول: هو الانحطاط من علو، يقال: نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا: حط رحله فيه، وأنزل غيره {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من الفلك أو من السحاب، فإن كل ما علا سماء {مَاءً} وهو: جسم سيال، قد أحاط حول الأرض، والمراد، هنا: المطر، وهو الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض، ونكره قصدًا إلى معنى البعضية؛ أي: أنزل من السماء بعض الماء. وهذا (¬1) تمام كلام موسى - عليه السلام - ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه، تتميمًا لكلام موسى، لخطاب أهل مكة فقال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}؛ أي: بذلك الماء {أَزْوَاجًا}؛ أي: أصنافاً {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}؛ أي: مختلفةٍ في الطعم والرائحة والشكل والنفع، بعضها صالح للناس، وبعضها للبهائم، على اختلاف وجوه الصلاح، والأظهر: أن {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} صفتان لـ {أَزْوَاجًا} وأخر شتى رعايةً للفواصل، وقيل: هذا من تمام كلام موسى - عليه السلام - وكأنه يقول: ربي الذي جعل لكم كذا وكذا، فأخرجنا نحن معشر عباده بذلك الماء بالحراثة {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وقال صاحب "الكشاف": إن كلام موسى - عليه السلام - تم عند قوله: {وَلَا يَنْسَى} ثم ابتدأ كلام الله من قوله: {الَّذِي جَعَلَ} فهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو {الَّذِي جَعَلَ} ويكون الانتقال من الغيبة إلى التكلم التفاتًا، للدلالة على كمال القدرة، والحكمة، وللإعلام بأن ذلك لا يتأتى إلا من قادر مطاع، عظيم الشأن. وجملة قوله: {كُلُوا}: حال من ضمير {فأخرجنا}، على إرادة القول, أي: فأخرجنا به أصناف النباتات، قائلين لكم {كُلُوا} منها؛ أي: من الثمار والحبوب ونحوهما {وَارْعَوْا}؛ أي: أسيموا واسرحوا فيها {أَنْعَامَكُمْ}؛ أي: مواشيكم، الإبل، والبقر، والضأن، والمعز؛ أي (¬2): اقصدوا الانتفاع بها بالذات وبالواسطة، آذنين في الانتفاع بها، مبيحين بأن تأكلوا بعضها، وتعلفوا بعضها. قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن السماء، والماء، والنبات، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[54]

والأنعام، كلها مخلوقة لكم، ولولا احتياجكم للتعيش بهذه الأشياء، بل بجميع المخلوقات، ما خلقتها {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من الشؤون والأفعال الإلهية، من جعل الأرض مهدًا، وسلك السبل فيها، وإنزال الماء، وإخراج أصناف النبات {لَآيَاتٍ} كثيرةً جليلةً واضحة الدلالة على الصانع ووحدته، وعظيم قدرته، وباهر حكمته {لِأُولِي النُّهَى}؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة، الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما تدعيه الطاغية، وتقبله من الفئة الباغية، وتخصيص أولي النهى مع أنها آيات للعالميق باعتبار أنهم المنتفعون بها. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) وأنزل من السماء مطرًا، فأخرج به مختلف أنواع النبات، من زروع، وثمار حامضة وحلوة، وهي أيضًا مختلفة النفع، واللون، والرائحة، والشكلى، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان، وفي هذا بيان لنعمه على خلقه، بما يحدث لهم من الغيث، الذي يولد تلك المنافع 54 - {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ}؛ أي: فأخرجنا أصناف النبات، قائلين لكم: كلوا وارعوا أنعامكم .. الخ، فشيء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم قوتاً لها، أخضر ويابساً {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه، لأدلة على وحدانيته، وأنه لا إله غيره، إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة. 55 - ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء .. بيَّن أنها غير مقصودة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة، فقال: {مِنْهَا}؛ أي: من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} بوساطة خلق أبيكم آدم منها، وإلا فمَن عدا آدم وحواء مخلوق من النطفة، وأصل الخلق: التقدير المستقيم، ويُستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاءٍ، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، كما في هذا المقام، وقيل في سبب خلقهم من الأرض: أنه إذا وقعت النطفة في الرحم .. انطلق الملك الموكل بالرحم، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق الله الولد من النطفة، ومن ذلك التراب، وأيضًا إن تولد الإنسان، إنما هو من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من ¬

_ (¬1) المراغي.

[56]

الأغذية، وهي تنتهي إلى النبات، وهي إنما تحدث من امتزاج الماء والتراب. والمعنى: أي ومن الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية، التي تكونت منها بوسائط، إذ الغذاء إما حيواني، وإما نباتي، والحيواني: ينتهي إلى نباتي، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء التراب {وَفِيهَا}؛ أي: وفي الأرض {نُعِيدُكُمْ} بعد مماتكم، فتصيرون ترابًا كما كنتم قبل نشأتكم، أو بالدفن (¬1) في الموضع الذي أُخذ ترابكم منه، وإيثار كلمة (في) دون (إلى): للدلالة على الاستقرار، والعود: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصراف بالذات، أو بالقول والعزيمة، وإعادة الشيء كالحديث وغيره تكريره. {وَمِنْهَا}؛ أي: ومن الأرض {نُخْرِجُكُمْ} بعد مماتكم بالبعث والنشور، وتاليف أجزائكم المتفِّتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة قبل الموت، ورد أرواحكم إليها {تَارَةً أُخْرَى}؛ أي: مرةً أخرى، وكون (¬2) هذا الإخراج {تَارَةً أُخْرَى} باعتبار أن خلقهم من الأرض: إخراج لهم منها، وإن لم يكن على نهج التارة الثانية، والتارة في الأصل: اسم للتور الواحد، وهو: الجريان، ثم أُطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة، كما مر في المَرَّة. 56 - {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} أي: وعزتي وجلالي، لقد بصَّرنا فرعون وعرفناه {آيَاتِنَا} ودلائل قدرتنا، الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق موسى، على يدي موسى من العصا، واليد، وغيرهما، والمراد بالآيات: هي الآيات التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} على أن الإضافة فيه عهدية، وقيل (¬3): المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرَّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأوَّل أولى {كُلَّهَا}؛ أي: كل الآيات تأكيد لشمول الأنواع {فَكَذَّبَ} بالآيات كلها من فرط عناده، من غير تردد وتأخير، وزعم أنها سحر {وَأَبَى} عن قبولها لعتوه، والإباء: شدة الامتناع، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد؛ لأنه رأى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[57]

الآيات وكذب بها، كما في قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}. 57 - وجملة قوله: {قَالَ} فرعون لموسى خوفاً من أن يتبعه الناس: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة في قوله: {أَجِئْتَنَا} للإنكار لما جاء به موسى من الآيات، والمجيء (¬1) إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر، والتصدي له؛ أي: أجئتنا يا موسى من مكانك الذي كنت فيه بعدما غبت عنا، أو أقبلت علينا {لِتُخْرِجَنَا} معشر القبطيين {مِنْ أَرْضِنَا}؛ أي: من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء، {بـ} ما أظهرته من {سِحْرِكَ يَامُوسَى} من العصا واليد، فإن ذلك مما لا يصدر عن العاقل، لكونه من باب محاولة المحال، والسحر: خداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذون، من صرف الأبصار عما تفعله بخفة، وما يفعله النمام بقول حرف عائق للأسماع. وإنما ذكر (¬2) الملعونُ الإخراجَ من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم، وتقرر في أفهامهم، أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم .. كانوا غير قابلين لكلامه، ولا ناظرين في معجزاته، ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير 58 - و (الفاء) في قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ} وفاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك .. فأقول لك، والله {لنأتينك} {بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}؛ أي: بسحر مثل سحرك، فلا تغلب علينا, أي: والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر {فَاجْعَلْ}؛ أي: صيِّر {بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ} لإظهار السحر {مَوْعِدًا} هو مصدر؛ أي: وعدًا لقوله: {لَا نُخْلِفُهُ}؛ أي: لا نخلف ذلك الوعد {نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} يا موسى، وقيل: المراد بالموعد (¬3): اسم زمان، وقيل: اسم مكان؛ أي: اجعل لنا يومًا معلومًا، أو مكانًا معلومًا، لا نخلفه، قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال: {لَا نُخْلِفُهُ} والإخلاف: أن تعد شيئًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

ولا تنجزه، وفوَّض تعيين الموعد إلى موسى، إظهارًا لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى، طال الأمد أم قصر. وانتصاب {مَكَانًا سُوًى} بفعل مقدر، يدل عليه المصدر لا به، فإنه موصوف، أو على أنه بدل من {مَوْعِدًا} و {سُوًى} بضم السين وكسرها بمعنى: العدل والمساواة؛ أي: عدلنا مكانًا عدلًا بيننا وبينك، وسطًا يستوي طرفاه، من حيث المسافة علينا وعليكم، لا يكون فيه أحد الطرفين أرجح من الآخر، أو مكانًا مستويًا لا يحجب العين ارتفاعه ولا انخفاضه. وقرأ أبو جعفر وشيبة (¬1): {لا تخلفه} بجزم الفاء، على أنه جواب الأمر، وقرأ الجمهور: برفعها صفةً لـ {مَوْعِدًا} وقرأ ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، والحسن، وقتادة، وطلحة، والأعمش، وابن أبي ليلى، وأبو حاتم، وابن جرير {سُوًى} بضم السين منونًا في الوصل، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: بكسر السين منونًا في الوصل، وقرأ الحسن أيضًا {سوى} بضم السين من غير تنوين في الحالين، أجرى الوصل مجرى الوقف، لا أنه منعه الصرف؛ لأن: فُعَلًا من الصفات، منصرف كحطم ولبدٍ، وقرأ عيسى: {سوى} بكسر السين من غير تنوين في الحالين، أجرى الوصل أيضًا مجرى الوقف، وقرأ أبي (¬2) بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: {مكانًا سواءً} بالمد والهمزة والنصب والتنوين وفتح السين، وقرأ ابن مسعود: مثله إلا أنه كسر السين، قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى: مكانًا تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، قال (¬3) أبو علي: كأنه قال: قربه منكم، قربه منا، وقال الأخفش (¬4): {سوى} مقصورة إن كسرت سينها، أو ضممت، وممدودة إن فتحتها، ثلاث لغات، ويكون فيها جميعًا بمعنى غير، وبمعنى: عدل ووسط بين الفريقين، وقال الشاعر: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

[59]

وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِأَهْلِهِ سِوَىً ... بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسٍ غَيْلاَنَ وَالْفَزَرْ والفزر: سعد بن زيد مناة، قال: وتقول: مررت برجل سِواك وسَواك وسُواك؛ أي: غيرك، ويكون للجميع، وأعلى هذه اللغات الكسر، قاله النحاس. 59 - ثم واعده موسى بوقت معلوم فـ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ}؛ أي: زمان وعدكم للاجتماع {يَوْمُ الزِّينَةِ}؛ أي: يوم يتزين فيه الناس، وهو يوم عيد النيروز، وكان (¬1) على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم، ويجتمعون لعيدهم، ليكون الحفل عامًا, ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب في القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويزهق الباطل، وينتصر الحق على رؤوس الأشهاد، أما رفع اليوم: فقال البصريون: التقدير: وقت موعدكم {يَوْمُ الزِّينَةِ} فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر، وأما نصبه: فقال الزجاج: المعني: موعدكم يقع {يَوْمُ الزِّينَةِ} اهـ "زاد المسير". وفي "أبي المسعود" وكان يوم عاشوراء، وأتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت، وإنما خصه - عليه السلام - بالتعيين لإظهار كمال قوته، وكونه على ثقةٍ من أمره، وعدم مبالاته بهم، لما أن ذلك اليوم وقت ظهور شوكتهم، وليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهور على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك فيما بين كل باد وحاضر. اهـ. سألوا عن مكان الاجتماع (¬2)، فأجابهم بالزمان، فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم. واعلم: أن الأعياد خمسة: أحدها: عيد قوم إبراهيم - عليه السلام - وفيه جعل إبراهيم الأصنام جذاذًا. والثاني: عيد قوم فرعون، وهو يوم الزينة. والثالث: عيد قوم عيسى، كما مر في أواخر المائدة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والرابع والخامس: عيد أهل المدينة في الجاهلية، وذلك يومان في السنة، فأبدلها الله تعالى في الإِسلام يومي: الفطر والأضحى، وقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} في محله وجهان (¬1): أحدهما: الجر عطفًا على {الزِّينَةِ}؛ أي: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} {و} يوم {أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ}؛ أي: ويوم حشر الناس واجتماعهم. الثاني: الرفع عطفًا على {يَوْمُ} والتقدير: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} {و} موعدكم {أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ}؛ أي: حشرهم. اهـ "سمين" والحشر: إخراج الجماعة عن مقارهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها, ولا يقال إلا في الجماعة، وقوله: {ضُحًى}؛ أي: ضُحى ذلك اليوم، فصب على الظرف؛ أي: وأن يُجمع الناس في وقت الضحى من ذلك اليوم، ليكون أبعد من الريبة، والضحى: عبارة عن ارتفاع الشمس، وفي "بحر العلوم": الضحى: صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها، وقال الإِمام الراغب: الضحى: انبساط النهار وامتداده، سمي الوقت به، وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى، وهو: حين تشرق الشمس. اهـ. وخص (¬2) الضحى لأنه أول النهار، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع. والمراد بالناس: أهل مصر، والمعني: يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون أمر موسى وفرعون، قال الفراء: المعنى: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى .. فذلك الموعد، قال: وجرى عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم. قال في "هزام السقط" (¬3): أول اليوم الفجر، ثم الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم الضحوة، ثم الهجيرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الأخيرة عن ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[60]

مغيب الشفق. اهـ. وقرأ ابن مسعود (¬1)، والجحدري، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك، وعمرو بن فايد {وأن تحشر الناس} بتاء الخطاب؛ أي: وأن تحشر أنت يا فرعون، وروي عنهم: {وأن يحشر الناس} بالبناء للفاعل، والناس نصب في كلتا القراءتين، قال صاحب "اللوامح" وأن يحشر الحاشر الناس ضحًى، فحذف الفاعل للعلم به. انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، وقال غيره: ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون، ذكره بلفظ الغيبة، وروي عن الجحدري أنه قرأ: {وأن نحشر} بالنون وقرأ الباقون بالتحتية، على البناء للمفعول. 60 - {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ}؛ أي: انصرف عن المجلس، وفارق موسى، فرجع إلى أهله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ}؛ أي: مكره وسحره وحيله؛ أي: جمع ما يكاد به من السحرة وأدواتهم {ثُمَّ أَتَى} بهم الموعد، وأتى موسى أيضًا، والمراد (¬2): أنه جمع السحرة، قيل: كانوا اثنين وسبعين، وقيل: أربع مئة، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وقيل: أربعة عشر ألفًا، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفًا، ثم أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه، وفي الإتيان بكلمة {ثُمَّ} المفيدة للتراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه، بل أتاه بعد تأخير، 61 - وجملة قوله: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى}: مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنع موسى عند إتيان فرعون مع السحرة؟ فقيل: قال لهم: بطريق النصيحة؛ أي: قال موسى للسحرة الذين جاؤوا مع فرعون، على طريق النصيحة لهم: {وَيْلَكُمْ} أصله (¬3): الدعاء بالهلاك، بمعنى: ألزمكم الله ويلًا؛ أي: هلاكًا وعذابًا، والمراد هنا: الزجر، والردع، والحث، والتحريض على ترك الافتراء. والمعنى: أي فانصرف (¬4) فرعون عن مجلس اللجاج والمناظرة، وشرع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

يُعد ما يكيد به من السحرة، وآلاتهم، وأنصاره، وأعوانه كثير ما هم، ثم أتى وأقبل إلى الموعد الذي عُيِّن، ومعه جمعه، وجلس على سرير ملكه، وحوله أكابر دولته، واصطفت الرعية يمنةً ويسرةً، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة صفوفًا بين يدي فرعون، يحرضهم، ويستحثهم، ويرغبهم في جودة العمل، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، وقد جاء في سورة الشعراء {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}. قال موسى للسحرة: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؛ أي (¬1): لا تختلقوا على الله الكذب، ولا تتقوَّلوه عليه، بأن تدَّعوا أن الآيات التى ستظهر على يدي سحر، كما فعل فرعون، أولا تشركوا مع الله أحدًا، والافتراء: التقول والكذب عن عمد. وفي "التأويل": قال موسى للسحرة {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بإتيان السحر في معرض المعجزة، ادعاءً بأن الله قد أعطانا مثل ما أعطى الأنبياء من المعجزة {فَيُسْحِتَكُمْ}؛ أي: فيهلككم ويستأصلكم، يقال: أسحت الشيء، إذا أعدمه واستأصله {بِعَذَابٍ} هائل لا يقادر قدره؛ أي: بعذاب من عنده، لا يُبقي أحدًا منكم ولا يذر. وقرأ حمزة (¬2)، والكسائي، وحفص، والأعمش، وطلحة، وابن جرير: {فَيُسْحِتَكُمْ} بضم الياء وكسر الحاء، ومن أسحت رباعيًا، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم، ورويس، وابن عباعي: {فيسحتكم} بفتح الياء والحاء، من سحت ثلاثيًا، وهي لغة أهل الحجاز، يقال: سحت وأسحت، بمعنى، والسحت: الاستئصال. {وَقَدْ خَابَ}؛ أي: خسر وهلك {مَنِ افْتَرَى} واختلق على الله الكذب، كائنًا من كان، بأي وجه كان، ولم يُفلح في سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا من اختلاق الأكاذيب، ولا تضلوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير.

[62]

أصاب المفترين {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}. 62 - ولما سمع السحرة كلام موسى .. هاجهم وغاظهم كلامه: {فَتَنَازَعُوا}؛ أي: تناظروا وتشاوروا {أَمْرَهُمْ} وعملهم الذى أريد منهم، من مغالبة موسى - عليه السلام - وتجاذبوا أطراف الكلام في كيفية المعارضة {بَيْنَهُمْ} وتفاوضوا ماذا يفعلون {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}؛ أي: أخفوا المحادثة والمشاورة في ذلك عن موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - لئلا يقفا عليه فيدافعاه؛ أي: وبالغوا (¬1) في كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه، حتى لا يسمعا ما يدور بينهم من القول والمشاورة، فيعدا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن يُخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر، والنجوى: المناجاة، يكون اسمًا ومصدرًا، 63 - ثم بيَّن سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله: {قَالُوا ...} إلخ وكانت (¬2) نجواهم هي قولهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وقيل: إنهم تناجوا فيما بينهم، فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحرًا .. فسنغلبه، وإن كان من عند الله .. فسيكون له أمر، وقيل: الذي أسروه أنه: إذا غلبهم .. اتبعوه، قاله الفراء والزجاج. وقيل: الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: قالوا ما هذا بقول ساحر، وإن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية، والمشار إليه موسى وهارون؛ أي: قالت السحرة بطريق التناجي والإسرار فيما بينهم: إن هذان لساحران؛ أي: إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر، وهما {يُرِيدَانِ أَنْ} يغلباكم وقومكم و {يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} ودياركم؛ أي: من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء عليها {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه من قبل {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (¬3) المثلى: تأنيث الأمثل، وهو الأشرف, أي: ويذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأحسنها، بإظهار مذهبما، وإعلاء دينهما، يريدون مما كان عليه قوم فرعون، لقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكانى. (¬3) روح البيان.

يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} لا طريقة السحر؛ لأنهم ما يعتقدونها ديناً، قال في "بحر العلوم": سموا مذهبهم بها لزيادة سرورهم، وكمال فرحهم بذلك، وأنه الذي تطمئن به نفوسهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قال الإِمام الراغب: الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل ويضرب. اهـ. وقيل المعنى: ويذهبا بأشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما، وهم بنو إسرائيل، فإنهم ذوو مال وعلم، ذكره في "المراح". وخلاصة ما قالوه (¬1): التنفير بهما لوجوه ثلاثة: 1 - الطعن في نبوتهما، ونسبتهما إلى السحر، وكل ذي طبع سليم ينفر من السحر، وليبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغى اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته. 2 - إن بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة علي النفوس، ومن ثم قال فرعون: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}. 3 - إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئًا من شؤون الدولة، ويريدان التصرف في أمورها العامة. وإجمال هذا: أنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحضت لهما الرياسة دونكم. وقرأ أبو جعفر (¬2)، والحسن، وشيبة، والأعمش، وطلحة، وحميد، وأيوب، وخلف في اختياره، وأبو عبيد، وأبو حاتم، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، وابن جبير الأنطاكي، والأخوان: حمزة، والكسائي والصاحبان: نافع، وابن عامر من السبعة: {إن} بتشديد النون {هَذَانِ} بألف ونون خفيفةٍ {لَسَاحِرَانِ} واختُلف في تخريج هذه القراءة، فقال القدماء من النحاة: إنه على حذف ضمير الشأن، والتقدير: إنه هذان لساحران، وخبر {إن} الجملة من قوله: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[64]

{هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} و (اللام) في {لَسَاحِرَانِ}: داخلة على خبر المبتدأ، وضعف هذا القول: بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر، وبأن دخول اللام في الخبر شاذ، وقيل: إن {إن} بمعنى نعم. وقرأ أبو بحرية (¬1)، وأبو حيوة، والزهري، وابن محيصن، وحميد، وابن سعدان، وحفص، وابن كثير: {إن} بتخفيف النون {هَذَانِ} بالألف، وشدد ابن كثير نون {هذان} وتخريج هذه القراءة واضح، وهو: على أن {إِنْ} هي المخففة من الثقيلة، و {هَذَانِ}: مبتدأ و {لَسَاحِرَانِ} الخبر و (اللام) للفرق بين إن النافية، وإن المخففة من الثقيلة، على رأي البصريين، والكوفيون يزعمون: أن إن نافية، واللام بمعنى إلا، وقرأت فرقة: {إن ذان لساحران} وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة، والحسن، والنخعي، والجحدري، والأعمش، وابن جبير، وابن عبيد، وأبو عمرو: {إن هذين} بتشديد نون {إن} وبالياء في {هذين} بدل الألف رفعًا، والياء نصبًا وجرا، وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمرو؛ لأنها خلاف المصحف، وقرأ عبد الله {إن ذان إلا ساحران} قاله ابن خالويه، وعزاها الزمخشري لأبيّ، وقال ابن مسعود: {أنَّ هذان ساحران} بفتح أن وبغير لام بدل من النجوى. انتهى وقرأت فرقة {ما هذان إلّا ساحران}. 64 - ثم بيَّن السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل، فقالوا: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} و (الفاء) فيه فاء (¬2) الفصيحة، وأجمعوا من الإجماع، يقال: أجمع الأمر إذا أحكمه وعزم عليه، وحقيقته: جمع رأيه عليه، وأجمع المسلمون كذا: اجتمعت آراؤهم عليه، وأكثر ما يقال فيما يكون جمعًا يتوصل إليه بالتدبير والفكرة. والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذُكر من الإخراج والإذهاب، فأزمعوا مكركم وحيلكم في رفع هذا المزاحم، واجعلوه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

مجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم، وأرموا عن قوس واحدة، ولا تدعوا شيئًا من كيدكم إلا جئتم به {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}؛ أي: مصطفين في الموعد ومجتمعين، ليكون أشد لهيبتكم، وأنظم لأمركم، فجاؤوا في سبعين صفًا، كل صف ألف، وألقوا ما في أيديهم دفعةً واحدةً، ليبهروا الأبصار، وتعظم هيبتهم في هذا المشهد الحافل، والصف: أن يجعل الشيء على خط مستوٍ، كالناس والأشجار ونحو ذلك، وقد يجعل بمعنى الصاف. وقرأ الجمهور (¬1): {فَأَجْمِعُوا} بقطع الهمزة وكسر الميم، من أجمع رباعيًا, أي: اعزموا واجعلوه مجمعًا عليه، حتى لا تختلفوا, ولا يتخلف واحد منكم عن المسألة المجمع عليها، وقرأ الزهري، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب في روايةٍ، وأبو حاتم: بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس، في قصة نوح - عليه السلام -. وقرأ شبل بن عباد (¬2)، وابن كثير في رواية شبل عنه: {ثم ايتوا} بكسر الميم وإبدال الهمزة ياءً تخفيفًا، قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من {ثُمَّ} وقال صاحب "اللوامح" وذلك لالتقاء الساكنين، كما كانت الفتحة في العامة كذلك. {وَقَدْ أَفْلَحَ} وفاز وظفر {الْيَوْمَ} بالمطلوب {مَنِ اسْتَعْلَى}؛ أي: من غلب منا ونال علو المرتبة بين الناس، أما نحن فقد وُعدنا بالعطاء الجزيل، والقرب من الملك {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)} وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز، والفلج بالمطلوب. والفلاح (¬3): الظفر وإدراك البغية، والاستعلاء: قد يكون طلب العلو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[65]

المذموم، وقد يكون طلب العلاء؛ أي: الرفعة، والآية تحتمل الأمرين. 65 - وجملة قوله: {قَالُوا}، أي: السحرة بعد إجماعهم وإتيانهم الموعد، واصطفافهم فيه: {يَا مُوسَى} اختر: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} ما تلقيه من العصا أولًا، {وَإِمَّا أَنْ نَكُون} نحن {أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} ما يلقيه من العصي والحبال، مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا: يا موسى {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ...} إلخ وكانت السحرة معهم عصي، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته .. قالوا له هذا القول. و {أَنْ} مع ما في حيزها: في محل نصب بفعل مضمر، تقديره: اختر إلقاءك أولًا، أو إلقاءنا، أو في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدإٍ محذوف، تقديره: الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤُنا. وهذا التخيير منهم حسن أدب معه (¬1)، وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النصفة من أنفسهم، وكأن الله ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولًا؛ لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر، واستنفذوا أقصى مجهودهم .. أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلَّط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آيةً نيرةً للناظرين، وعبرةً بينةً للمعتبرين، ومن ثم حكى عنه {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} وفي هذا التخيير إشارة إلى أن السحرة لما أعزوا موسى - عليه السلام - بالتقديم والتخيير في الإلقاء .. أعزهم الله بالإيمان الحقيقي، حتى رأوا بنور الإيمان معجزة موسى، فآمنوا به تحقيقًا لا تقليدًا. 66 - ثم إن موسى (¬2) - عليه السلام - قابل أدبهم بأدبٍ أحسن من أدبهم، حيث بت القول بإلقائهم أولًا؛ لأنه فهم أنَّ مرادهم الابتداء فـ {قَالَ} لهم موسى لا ألقي أنا أولًا {بَلْ أَلْقُوا} أنتم أولًا إن كنتم محقيق، لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وإنما أمرهم بالإلقاء أولًا لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، ثم يلقي هو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[67]

عصاه فتبتلع ذلك، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، وجملة قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}؛ أي: إلى موسى {مِنْ} أجل {سِحْرِهِمْ أَنَّهَا} حيات {تَسْعَى}؛ أي: تمشي قبلها، محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و {إذا} هذه للمفاجاة، وهي حرف أو ظرف، ثم اختلف أهو ظرف مكان أو زمان، وهي تطلب متعلقًا ينصبها من فعل المفاجأة، وجملةً ابتدائيةً تضاف إليها، والتقدير: فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، ميلًا من هذا الجانب، وميلًا من هذا الجانب. ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم، مخيلةً إليه السعي، كسعي ما يكون حيًا من الحيات من أجل سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس .. اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ الحسن (¬1)، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء: {وعصيهم} بضم العين حيث كان، وهو الأصل؛ لأن الكسر إتباع لحركة الصاد، وحركة الصاد لأجل الياء، وفي كتاب "اللوامح": قرأ الحسن: {وعصيهم} بضم العين، وإسكان الصاد، وتخفيف الياء، مع الرفع، فهو أيضًا جمع كالعامة، لكنه على فعل، وقرأ الزهري، والحسن، وعيسى، وأبو حيوة، وقتادة، والجحدري، وأبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن أبي عبلة، وروح، والوليدان، وابن ذكران: {تخيل} بالتاء مبنيًا للمفعول، وفيه ضمير الحبال والعصي، و {أَنَّهَا تَسْعَى}: بدل اشتمال من ذلك الضمير، وقرأ أبو السماك: {تخيل} بفتح التاء, أي: تتخيل، وفيها أيضًا ضمير ما ذكر، و {أَنَّهَا تَسْعَى} بدل اشتمال أيضًا من ذلك الضمير، لكنه فاعل من جهة المعنى، وقرىء (¬2): {نخيل} بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرىء {يخيل} بالياء التحتية، مبنيًا لفاعل على أن المخيل هو الكيد. 67 - {فَأَوْجَسَ}؛ أي: أحس وأضمر {فِي نَفْسِهِ}؛ أي: في قلبه {خِيفَةً}؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[68]

خوفاً، مفعول به {مُوسَى} فاعل أوجس؛ أي: أضمر موسى في قلبه بعض خوف من أن لا يظفر بهم، فيقتلون من آمن به - عليه السلام -. والمعنى (¬1): أضمر موسى في نفسه بعض خوف من مفاجأته، بمقتضى البشرية المجبولة على النفرة من الحيات، والاحتراز عن ضررها المعتاد من اللسع ونحوه، كما دل عليه قوله: {فِي نَفْسِهِ} لأنه من خطرات النفس، لا من القلب، وفي الحقيقة: أن الله تعالى ألبس السحر لباس القهر، فخاف موسى من قهر الله، لا من غيره؛ لأنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الفاسقون. وقيل (¬2): خاف أن يُفتن الناس قبل أن يُلقي عصاه، وقيل: إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، 68 - فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله: {قُلْنَا} لموسى {لَا تَخَفْ} ما توهمت {إِنَّكَ}؛ أي: لأنك {أَنْتَ الْأَعْلَى}؛ أي (¬3): الغالب القاهر لهم، ونحن معك في جميع أحوالك، فإنك القائم بالمسبب، وهم القائمون المعتمدون على الأسباب، وأيضًا معك آياتنا الكبرى وهو لباس حفظنا، وجملة {إن} تعليل للنهي عن الخوف، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن خوف البشرية مركوز في جبلة الإنسان ولو كان نبيًا إلى أن ينزع الله الخوف منه انتزاعًا ربانيًا، بقولٍ صمداني كما قال تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)}؛ أي: أعلى درجةً من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. 69 - {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ}؛ أي: عصاك على الأرض، والإبهام، لتفخيم شأنها، والإيذان بأنها ليست من جنس العصي المعهودة؛ لأنها مستتبعة لآثار غريبةٍ. والمعنى (¬4): لا يخيفنك كثرة حبالهم وعصيهم، فإن في يمينك شيئًا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها, ولم يأت التركيب: وألق عصاك بما في لفظ اليمين من البركة {تَلْقَفْ}؛ أي: تلتقم وتبتلع {مَا صَنَعُوا}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الخازن.

أي: ما طرحوا من الحبال والعصي الذي خيل إليك سعيها وخفتها، وهو مجزوم بالطلب السابق، قال الزجاج: القراءة بالجزم: جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال ألقها متلقفة، وجملة: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ}: تعليل لقوله: {تَلْقَفْ}؛ أي: لأن الذي صنعوه عمل ساحر، و {ما} (¬1): موصولة؛ أي: إن الذي صنعوه، فحقها أن تفصل من نون إنّ. اهـ. شيخنا. لكنها ثبتت في خط المصحف الإِمام موصولةً، كما ذكره شيخ الإِسلام في "شرح الجزرية"؛ أي: إن الذي فعلوه بعد تدرب كثير، وممارسة طويلة، كيد سحري، لا حقيقة له ولا بقاء. وخلاصة ذلك: أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق، ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}؛ أي: ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرًا كان أو شرًا، حيثما كان، وأين أقبل من الأرض وعمل السحر فيها، وهو من تمام التعليل، ومعناه: لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز، وليس معنى {لَا يُفْلِحُ} لا يستطيع السحر، بل إذا سحر فلا يفلح، ولا يأمن حيث وُجد، فذلك عدم فلاحه. وقرأ الجمهور (¬2): {تلقف} بفتح اللام وتشديد القاف، مجزومًا على جواب الأمر، والأصل: تتلقف فحذف إحدى التائين، وقرأ ابن عامر كذلك، ويرفع الفاء على الاستئناف، أو على الحال من الملقى، كما مر، وقرأ أبو جعفر، وحفص، وعصمة عن عاصم {تَلْقَفْ} بإسكان اللام والفاء، وتخفيف القاف، وكان ابن كثير يشدد التاء، من {تلقف} يريد تتلقف، وقرأ ابن مسعود (¬3)، وأبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء: {تلقم} بالميم وقرأ الجمهور (¬4): {كَيْدُ} بالرفع على أن {مَا} موصولة بمعنى الذي، والعائد: محذوف، وقرأ مجاهد، وحميد، وزيد بن علي: {كيد سحر} بالنصب مفعولًا لـ {صنعوا} و {ما} مهيئة، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بحرية، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير. (¬4) البحر المحيط.

[70]

والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن عيسى، وابن جبير، وابن جريز: {كيد سحر} بكسر السين وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع، من غير تقدير، أو بتقدير: ذي سحر، أو ذوي سحر أو هم لمشغولهم في سحرهم، كأنهم السحر بعينه وبذاته، أو بيِّن الكيد؛ لأنه يكون سحرًا وغير سحر، نظير علم فقه، وعلم نحو. وقرأ الباقون: {كيد ساحر} بألف اسم فاعل من سحر، وأفرد {ساحر} من حيث إن فعل الجميع نوع واحد من السحر تلك الحبال والعصي، فكأنه صدر من ساحر واحد، لعدم اختلاف أنواعه، وقرأت فرقة: {أين أتى}؛ أي: لا يظفر ببغيته حيث توجه وسلك. 70 - قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} معطوف على جمل محذوفة، والتقدير: فزال إيجاس الخليفة، وألقى ما في يمينه، وتلقفت حبالهم وعصيهم، ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي، وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ}؛ أي (¬1): فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى، من اليد والعصا، السحرةَ على الأرض، حالة كونهم {سُجَّدًا}؛ أي: ساجدين لله تعالى، وجاء التركيب {فألقى السحرة} ولم يأت فسجدوا، كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم، فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم، فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين لله. وقوله: {قَالُوا} مستأنف استئنافًا بيانيًا، كانه قيل: ماذا قالوا في سجودهم، فقيل: قالوا أي: قالت السحرة في سجودهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} هو وقال رئيسهم: كنا نغالب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا لو غُلبنا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقيناه!؟ وإنما (¬2) قدم هارون على موسى هنا في حكاية كلامهم، رعاية لفواصل الآي وعنايةً بتوافق رؤوسها، أو لأن فرعون ربَّى موسى من صغره، فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره، فربما توهم أن المراد بالرب فرعون، وذكر هارون على الاستتباع، أو قدم هارون لأنه كان أكبر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

من موسى سنًا، وقدم موسى على سقط من الطب فألحقه هارون في الأعراف، لأجل الفواصل أيضًا، ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز. ومعنى إضافة الرب إليهما، أنه هو الذي يدعوان إليه، وأجرى ما أجرى على يديهما، وقالوا (¬1) رب هارون وموسى، ولم يكتفوا بقولهم: رب العالمين، للنص على أنهم آمنوا برب هذين، وكان فيما قيل: يزعم أنه رب العالمين، كما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقيناه من الآلات، فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر، وبظهور ذلك على يد موسى على صحة رسالته، فتابوا وأتوا بنهاية الخضوع، وهو السجود، قال (¬2) جار الله: ما أعجب أمرهم: ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. اهـ روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرةً، وفي آخره شهداء بررةً، وروى عنه عكرمة: أنه قال: كان السحرة سبعين رجلًا، أصبحوا سحرةً، وأمسوا شهداء. الإعراب {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}. {اذْهَبْ}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {أَنْتَ}: ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل المستتر {وَأَخُوكَ}: معطوف على ضمير الفاعل المستتر في الفعل، وعلامة رفعه (الواو) والجملة: مستأنفة، مسوقة لتقرير المراد بالاصطناع {بِآيَاتِي}: جار ومجرور، حال من ضمير الفاعل وما عطف عليه و (الباء): للمصاحبة؛ أي: حالة كونكما مصحوبين {بِآيَاتِي}: ومعتصمين بها، وليست الباء للتعدية؛ لأن المراد إظهار الآيات للناس، لا مجرد الذهاب إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف.

فرعون {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا} ناهية {تَنِيَا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة: معطوفة على جملة {اذْهَبْ} {فِي ذِكْرِي}: متعلق به {اذْهَبَا}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والجملة: مستأنفة {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {اذْهَبَا}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {طَغَى} خبره، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {فَقُولَا} (الفاء) عاطفة {قَوْلًا}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {اذْهَبَا}. {لَهُ} متعلق بـ {قَوْلًا}. {قَوْلًا}: مفعول مطلق {لَيِّنًا}: صفة له {لَعَلَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {يَتَذَكَّرُ}: خبره {أَوْ يَخْشَى}: معطوفة على {يَتَذَكَّرُ} وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، و {لعل} هنا للتعليل كما قاله الفراء، فهي بمثابة كي التعليلية، نظير قولك: اعمل لعلك تأخذ أجرك؛ أي: كي تأخذ أجرك. {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)}. {قَالَا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {رَبَّنَا ...} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَا}. {إِنَّنَا}: ناصب واسمه، وجملة {نَخَافُ}: خبره، وجملة {أَنْ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يَفْرُطَ} فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، وفاعله: ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}. {عَلَيْنَا}: متعلق به و {أَن} وما في حيّزها: مفعول {نَخَافُ} {أَوْ}: حرف عطف {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يَطْغَى} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} المصدرية و {أَنْ} وما في حيزها: معطوف على {أَنْ يَفْرُطَ} والتقدير: إننا نخاف فرطه علينا أو طغيانه. {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)}. {قَالَ} فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة {لَا}: ناهية {تَخَافَا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية والألف فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّنِي}: ناصب ونون وقاية، واسمه {مَعَكُمَا}:

ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {إن}. {أَسْمَعُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله وجملة {أَسْمَعُ} في محل الرفع خبر ثان، لـ {إن} أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في خبر {إن}. {وَأَرَى}: معطوف على {أَسْمَعُ} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}: مسوقة لتعليل ما قبلها: {فَأْتِيَاهُ} (الفاء): عاطفة كما في "الجمل" {أتياه}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، مبني على حذف النون، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {لَا تَخَافَا} {فَقُولَا} (الفاء): عاطفة {قَوْلًا}: فعل وفاعل مبني على حذف النون، والجملة: معطوفة على جملة {اتياه}. {إِنَّا}: ناسب واسمه {رَسُولَا رَبِّكَ}: خبره ومضاف إليه، وجملة: {إن} في محل النصب مقول {قولًا}. {فَأَرْسِلْ} (الفاء): حرف عطف وتفريع {أرسل}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}. {مَعَنَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {أرسل} وجملة: {أرسل}: معطوفة مفرعة على جملة قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}. {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} {لَا}: ناهية جازمة {تُعَذِّبْهُمْ}: فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله: ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ} والجملة: معطوفة على جملة {أرسل}. {قَدْ}: حرف تحقيق {جِئْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به {بِآيَةٍ} متعلق بـ {جِئْنَاكَ}. {مِنْ رَبِّكَ} صفة لـ {آيَةٍ} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من اسم {إن} في قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}، جرت مجرى التفسير والبيان والجملة {إن} لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا مدعومةً بالآيات والدلائل الظاهرة الدالة عليها {وَالسَّلَامُ} (الواو) استئنافية {السلام}: مبتدأ {عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}: جار ومجرور خبره، والجملة: مستأنفة على كونها مقول {قَوْلًا}. {اتَّبَعَ الْهُدَى} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به صلة الموصول. {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}. {إِنَّا} ناصب واسمه {قَدْ}: حرف تحقيق {أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة {إِلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق به {أَنَّ الْعَذَابَ}: ناصب واسمه {عَلَى مَن}: جار ومجرور خبره {كَذَّبَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة

{مَنْ} الموصولة {وَتَوَلَّى}: معطوف على {كَذَّبَ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ {أُوحِيَ}؛ أي: {أُوحِيَ إِلَيْنَا} كون العذاب على من كذب وتولى. وجملة {أُوحِيَ}: في محل الرفع خبر {إن} الأولى وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قولًا}. {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {فرعون} والجملة: مستأنفة. {فَمَنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتما إنا رسولاً ربكما .. {فَمَنْ رَبُّكُمَا}. {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل الرفع مبتدأ {رَبُّكُمَا}: خبر ومضاف إليه، والجملة: في محل النصب مقول، لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}، {يَا مُوسَى} منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ} {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {رَبُّنَا الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ}: فعل ومفعول أول، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول {خَلْقَهُ}: مفعول ثان، وقيل: {خَلْقَهُ} أول مفعولي {أَعْطَى} و {كُلَّ شَيْءٍ} ثانيهما وقدم للاهتمام؛ أي: أعطى خليقته وهو: جميع الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، وقرىء {خلقه}: على أنه فعل ماض، والمفعول الثاني محذوف للعلم به {ثُمَّ هَدَى}: معطوف على {أَعْطَى} وفاعله: ضمير يعود على الله، والمفعول: محذوف تقديره: ثم هدى كل شيء {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة. {قَالَ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتما إنا رسولاً ربكما .. فأقول لكما: {مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التعجيزي في محل الرفع مبتدأ {بَالُ الْقُرُونِ}: خبر ومضاف إليه {الْأُولَى} صفة لـ {الْقُرُونِ} والجملة الاسمية: في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة،

وجملة: إذا المقدرة، في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {عِلْمُهَا}: مبتدأ ومضاف إليه {عِنْدَ رَبِّي}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فِي كِتَابٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير {عِلْمُهَا}؛ أي: حالة كونها مكتوبةً {فِي كِتَابٍ} أو {فِي كِتَابٍ}: هو الخبر و {عِنْدَ رَبِّي}: حال أو هما خبر {إن} أو هما خبر واحد على حد قولك الرمان حلو حامض؛ أي: مز {لَا يَضِلُّ رَبِّي}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}. {وَلَا يَنْسَى} معطوف على {يَضِلُّ}. {الَّذِي}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو {الَّذِي} والجملة: مستأنفة {جَعَلَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول {لَكُمُ}: جار ومجرور حال من {مَهْدًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها {الْأَرْضَ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}. {مَهْدًا} مفعول ثان له {وَسَلَكَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة {جَعَلَ}. {لَكُمُ} حال من {سُبُلًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {فِيهَا}: متعلق بـ {سلك}. {سُبُلًا}: مفعول به. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}. {وَأَنْزَلَ} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على {جَعَلَ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أنزل}. {مَاءً}: مفعول به {فَأَخْرَجْنَا} (الفاء): عاطفة {أخرجنا}: فعل وفاعل معطوف على {وَأَنْزَلَ}. {بِهِ}: متعلق بـ {أخرجنا}. {أَزْوَاجًا}: مفعول به {مِنْ نَبَاتٍ}: صفة أولى لـ {أَزْوَاجًا}، {شَتَّى}: صفة ثانية له، أو حال منه؛ لأنه وصف، وأجاز الزمخشري: أن يكون صفة للنبات {كُلُوا}: فعل أمر وفاعل،

والجملة، في محل النصب مقول لقول محذوف: حال من فاعل {أخرجنا}؛ أي: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} حالة كوننا قائلين لكم {كُلُوا} منها. {وَارْعَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {كُلُوا}. {أَنْعَامَكُمْ}: مفعول به {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَآيَاتٍ} (اللام): حرف ابتداء {آيات}: اسم {إِنَّ}: مؤخر {لِأُولِي}: جار ومجرور صفة لـ {آيات}. {النُّهَى} مضاف إليه، وهي جمع نهية، وقيل: اسم مفرد، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة {مِنْهَا} متعلق بـ {خلقنا}. {خَلَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: مستأنفة {وَفِيهَا}: متعلق بـ {نعيد}. {نُعِيدُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {خَلَقْنَاكُمْ}. {وَمِنْهَا}: متعلق بـ {نُخْرِجُكُمْ} {نُخْرِجُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {خَلَقْنَاكُمْ}. {تَارَةً}: ظرف زمان متعلق بـ {نُخْرِجُكُمْ} {أُخْرَى}: صفة لـ {تَارَةً}. {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية (واللام): موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا}: فعل وفاعل، ومفعولان من رأى البصرية، ولكنها تعدت إلى اثنين لدخول همزة النقل عليها {كُلَّهَا}: تأكيد لـ {آيَاتِنَا} والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة {فَكَذَّبَ} (الفاء): عاطفة {كذب}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: معطوفة على جملة {أَرَيْنَاهُ}. {وَأَبَى}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {كذب}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: مستأنفة {أَجِئْتَنَا} (الهمزة): للاستفهام الإنكاري {جئتنا}: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِتُخْرِجَنَا} (اللام): حرف جر وتعليل {تخرجنا}: فعل ومفعول وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {مِنْ أَرْضِنَا}: متعلق بـ {تخرجنا}. {بِسِحْرِكَ}: متعلق به أيضًا {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، والجملة الفعلية مع أن

المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإخراجك إيانا {مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ}: الجار والمجرور متعلق بـ {جئتنا}. {فَلَنَأْتِيَنَّكَ} (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر كذلك .. فأقول لك: {لنأتينك} و (اللام): موطئة للقسم {نأتينك}: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة و (الكاف): مفعول به، وفاعله: ضمير يعود على فرعون وقومه {بِسِحْرٍ}: متعلق بـ {نأتين}. {مِثْلِهِ}: صفة لـ {سحر} ويجوز أن يتعلق {بِسِحْرٍ} بمحذوف حال, أي: متلبسين {بِسِحْرٍ} والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة {فَاجْعَلْ} (الفاء): عاطفة {اجعل}: أمر وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة على جملة {نأتينك} {بَيْنَنَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف مفعول ثان لجعل {وَبَيْنَكَ}: معطوف على {بَيْنَنَا} {مَوْعِدًا}: مصدر ميمي مفعول أول لجعل، وجملة {لَا نُخْلِفُهُ}: صفة لـ {مَوْعِدًا} {نَحْنُ}: تأكيد للضمير في نخلفه {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا} نافية {أَنْتَ} معطوف على الضمير المستتر في {نُخْلِفُهُ} {مَكَانًا} بدل من {مَوْعِدًا} بتقدير مضاف؛ أي: مكان موعد، أو منصوب بفعل دل عليه المصدر، تقديره: عدلنا مكانًا {سُوًى}. {سُوًى}: صفة لـ {مَكَانًا}؛ أي: {مَكَانًا} وسطًا. {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {مَوْعِدُكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه {يَوْمُ الزِّينَةِ}: خبر له والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَنْ يُحْشَرَ} (الواو): عاطفة {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يُحْشَرَ النَّاسُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل منصوب بـ {أن} المصدرية {ضُحًى}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {يُحْشَرَ} والجملة الفعلية مع أن

المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع، معطوف على {يَوْمُ الزِّينَةِ} تقديره: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وحشر {النَّاسُ ضُحًى} أو مجرور معطوف على {الزِّينَةِ} تقديره {يَوْمُ الزِّينَةِ} ويوم حشر {النَّاسُ ضُحًى}. {فَتَوَلَّى} (الفاء): عاطفة {تولى فرعون}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَ}. {فَجَمَعَ} (الفاء): عاطفة {جمع كيده}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {تولى}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {أَتَى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة: معطوفة على {جمع}. {قَالَ}: فعل ماض {لَهُمْ} متعلق به {مُوسَى} فاعل، والجملة: مستأنفة {وَيْلَكُمْ}: مصدر للدعاء، أمات العرب فعله، منصوب بفعل محذوف وجوبًا، لجريانه مجرى المثل، تقديره: ألزمكم الله {وَيْلَكُمْ} وهو مضاف، و (الكاف): مضاف إليه، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالَ} {لَا} ناهية جازمة {تَفْتَرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به {كَذِبًا}: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {فَيُسْحِتَكُمْ} (الفاء): عاطفة سببية {يسحتكم}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد (الفاء) السببية الواقعة في جواب النهي {بِعَذَابٍ}: متعلق بـ {يسحتكم} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن افتراؤكم على الله كذبًا فإسحاته إياكم {بِعَذَابٍ}. {وَقَدْ} (الواو): حالية {قد} حرف تحقيق {خَابَ مَنِ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من الجلالة، والرابط محذوف، والتقدير: لا تفتروا على الله كذبًا، والحال أنه قد خاب وخسر من افترى عليه كذبًا {افْتَرَى}: فعل وفاعل مستتر صلة من الموصولة. {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)}. {فَتَنَازَعُوا} الفاء: عاطفة {تنازعوا}:فعل وفاعل معطوف على {قَالَ لَهُمْ مُوسَى}. {أَمْرَهُمْ}: مفعول به، أو منصوب ينزع الخافض {بَيْنَهُمْ}: ظرف

متعلق بمحذوف حال من {أَمْرَهُمْ}. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تنازعوا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان ما أسروا {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أو مهملة {هَذَانِ}: مبتدأ في محل الرفع، مبني على الألف {لَسَاحِرَانِ} (اللام): حرف ابتداء {ساحران}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إنَّ} المخففة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {يُرِيدَانِ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة {لَسَاحِرَانِ}. {أَنْ}: حرف نصب {يُخْرِجَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن}. {مِنْ أَرْضِكُمْ}: متعلق به {بِسِحْرِهِمَا}: جار ومجرور حال من فاعل {يُخْرِجَاكُمْ}؛ أي: حالة كونهما متلبسين {بِسِحْرِهِمَا} والجملة الفعلية، مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدَانِ} تقديره: يريدان إخراجهما إياكم من أرضكم بسحرهما {وَيَذْهَبَا}: فعل وفاعل معطوف على {يُخْرِجَاكُمْ}. {بِطَرِيقَتِكُمُ}: متعلق بـ {يذهبا}. {الْمُثْلَى} صفة لـ {طريقتكم}. {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}. {فَأَجْمِعُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين ... الخ وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {أجمعوا كيدكم}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة على كونها مقول {قَالُوا}. {ثُمَّ ائْتُوا}: فعل وفاعل معطوف على {أجمعوا}. {صَفًّا}: حال من فاعل {ائْتُوا}؛ أي: حالة كونكم مصطفين. {وَقَدْ} (الواو): حالية {قَدْ}: حرف تحقيق {أَفْلَحَ}: فعل ماض {الْيَوْمَ} ظرف متعلق به {مَن} اسم موصول في محل الرفع فاعل {أَفْلَحَ} والجملة: في محل النصب حال ثانية من فاعل {ائْتُوا} والرابط: محذوف تقديره: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} والحال أنه {قد أفلح اليوم من استعلى} منكم وجملة {اسْتَعْلَى} صلة الموصول. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ

وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِمَّا}: حرف تفصيل وتخيير {أَنْ}: حرف نصب {تُلْقِيَ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة الفعلية، مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف، تقديره: اختر إما إلقاءك أولًا، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَإِمَّا} (الواو): عاطفة {إِمَّا} على {إِمَّا} الأولى. {إِمَّا} الثانية: عاطفة ما بعدها على قبلها {أن}: حرف نصب ومصدر {نَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أن} واسمها ضمير يعود على السحرة {أَوَّلَ}: خبر {نَكُونَ} وهو مضاف {مَنْ} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {أَلْقَى}: صلة {مَنْ} الموصولة، وجملة {نَكُونَ} مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، على كونه مفعولًا لفعل محذوف، والتقدير: يا موسى اختر إما إلقاءك أولًا، وإما كوننا أول من ألقى {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على موسى، والجملة: مستأنفة {بَلْ} حرف إضراب إضراباً إبطالياً وابتداء {أَلْقُوا}: فعل وفاعل والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَإِذَا} (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره فألقوا {إذا}: فجائية في محل النصب على الظرفية الزمانية، أو حرف لا محل لها من الإعراب {حِبَالُهُمْ}: مبتدأ {وَعِصِيُّهُمْ}: معطوف عليه {يُخَيَّلُ}: فعل مضارع مغير الصيغة {إِلَيْهِ}: متعلق به {مِنْ سِحْرِهِمْ} متعلق بـ {يُخَيَّلُ} أيضًا {أَنَّهَا}: ناصب واسمه وجملة {تَسْعَى}: خبر {أن} وجملة {أن} من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ {يُخَيَّلُ} والتقدير: يخيل إليه سعيها من أجل سحرهم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: فإذا حبالهم وعصيهم مخيل إليه سعيها من سحرهم، ولكنه خبر سببي، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه، لـ {إذا} الفجائية، والظرف متعلق بفعل محذوف معطوف على محذوف، والتقدير: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم، والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلةً إليه السعي، أو فاجأ موسى تخييل

سعي حبالهم وعصيهم. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)}. {فَأَوْجَسَ} الفاء: عاطفة {أوجس}: فعل ماض {فِي نَفْسِهِ}: متعلق به {خِيفَةً} مفعول به {مُوسَى}: فاعل والجملة: معطوف على جملة المفاجاة المقدرة {قُلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {لَا تَخَفْ}: جازم وفعل مجزوم، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل النصب مقول {قُلْنَا}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه {أَنْتَ} ضمير فصل أو تأكيد {الْأَعْلَى}: خبر {إن} وجملة: {إن} في محل النصب مقول {قُلْنَا} مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله. {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}. {وَأَلْقِ} الواو: عاطفة {ألق}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة على جملة {لَا تَخَفْ} {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول {ألق}. {فِي يَمِينِكَ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها {تَلْقَفْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على عصاه {مَا}: مفعول به لـ {تَلْقَفْ}. {صَنَعُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: ما صنعوه {إِنَّمَا} {إن}: حرف نصب وتوكيد {ما} اسم موصول في محل النصب اسمها {صَنَعُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: إن الذي صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ}: خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلْنَا}: مسوقة لتعليل قوله: {تَلْقَفْ}. {وَلَا} (الواو): حالية أو عاطفة {لَا} نافية {يُفْلِحُ السَّاحِرُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من {سَاحِرٍ} لأن المقصود منه الجنس، والتقدير: حالة كون جنس الساحر غير مفلح، أو معطوفة على جملة {إِنَّمَا صَنَعُوا}. {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الضم متعلق

بـ {يُفْلِحُ} وجملة {أَتَى} في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {فَأُلْقِيَ} (الفاء) عاطفة على محذوف، تقديره: فألقى موسى عصاه فتلقفت كل ما صنعوه {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} {ألقي السحرة}: فعل ونائب فاعل معطوف علي ذلك المحذوف {سُجَّدًا}: حال من {السَّحَرَةُ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال ثانية من {السَّحَرَةُ}؛ أي: حالة كونكم ساجدين قائلين {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بِرَبِّ}: متعلق بـ {آمَنَّا} {هَارُونَ}: مضاف إليه {وَمُوسَى}: معطوف على {هَارُونَ} والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {اذْهَبْ} أنت يا موسى، والذهاب: المضي، يقال: ذهب بالشيء وأذهبه، ويسشعمل ذلك في الأعيان والمعاني {وَأَخُوكَ} والأخوة: المشاركة في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار الأخ لكل مشارك لغيره، في القبلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة، أو في غير ذلك من المناسبات كما مر {بِآيَاتِي} هي المعجزات، والمراد بها: العصا، واليد البيضاء، والمراد بالجمع: ما فوق الواحد {وَلَا تَنِيَا}؛ أي: ولا تفترا ولا تقصرا في ذكري, أي: في تبليغ رسالتي، فالذكر: يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، من الونى: وهي الفتور والتقصير، يقال: وني يني ونيًا، كوعد يعد وعدًا: إذا فتر، والاسم الوني وهو: الفتور: وونى فعل لازم لا يتعدى، وزعم بعض النحاة أنه يكون من أخوات زال وانفك، فيعمل عملهما بشرط النفي، يقال ما وفي زيد قائمًا؛ أي: ما زال زيدٌ قائمًا، وفي "المصباح": وني في الأمر ونيًا: من باب تعب ووعد: ضعف وفتر، فهو وانٍ وفي التنزيل {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} وتوانى في الأمر توانيًا: لم يبادر إلى ضبطه، ولم يهتم به، فهو متوان؛ أي: غير مهتمٍ ولا محتفل، وهو في الآية من باب وعد، لأجل كسر النون، إذ لو كان من باب تعب لكان بفتحها {طَغَى} أي تجاوز الحد {يَفْرُطَ} يقال: فرط يفرط: من باب قعد علينا فلان: إذا عجل بمكروه {قَوْلًا لَيِّنًا}؛ أي: لا عنف فيه ولا غلظة {يَتَذَكَّرُ}؛ في: يتأمل فيذعن للحق ويؤمن

{أَوْ يَخْشَى}؛ أي: يخاف من بطش الله وعذابه {أَنَّ الْعَذَابَ} والعذاب (¬1): هو الإيحاء الشديد، وقد عذبه تعذيبًا؛ أي: أكثر حبسه في العذاب، وأصله: من قولهم عذب الرجل: إذا ترك الماكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل: هو حمل الإنسان على أن يعذب؛ أي: يجوع ويسهر، وقيل: أصله: من العذب، فعذبته: أزلت عذب حياته، على بناء مرضته وقويته، وقيل: أصل التعذيب: إكثار الضرب بعذبة السوط؛ أي: طرفه {وَالسَّلَامُ} (اللام) لتعريف الماهية، والسلامة: التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، والمراد هنا: إما التحية، فالمعنى: والتحية المستتبعة بسلامة الدارين من الله والملائكة؛ أي: خزنة الجنة وغيرهم من المسلمين {كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ}؛ أي: أعطى كل نوع صورته وشكله، الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع {ثُمَّ هَدَى}؛ أي: ثم عرّفه كيف يرتفق بما أُعطي له. {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} والبال: الحال التي يكترث ويعتنى بها {مَهْدًا} قال الإِمام الراغب: المهد: ما يهيأ للصبي، والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ {وَسَلَكَ} السلوك: النفاذ في الطريق، وصلك لازم ومتعد، يقال: سلكت الشيء في الشيء: أدخلته، والسبل: جمع سبيل، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والماء: هو جسم سيّال قد أحاط حول الأرض والمراد هنا: المطر {أَزْوَاجًا}؛ أي: أصنافًا {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} جمع شتيت كمريض ومرضى؛ أي: مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، والأزواج: جمع زوج، سميت الأصناف بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض؛ لأنه يقال: لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له، أو مضادًا: زوج، ولكل قرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج، كالخف والنعل، قال الراغب: النبت والنبات: ما يخرج من الأرض من الناميات، سواء كان له ساق كالشجر، أو لم يكن له ساق كالنجم، لكن اختص في التعارف بما لا ساق له، بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات، ومتى اعتبرت الحقائق .. فإنه ¬

_ (¬1) الفتوحات.

يُستعمل في كل نام، نباتاً كان، أو حيوانًا، أو إنسانًا. انتهى. {شَتَّى} بوزن فعلى وألفه للتأنيث، وهو جمع شتيت نحو مريض ومرضى، وجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، يقال: ست الأمر يشت شاتًا، فهو شت؛ أي: تفرق وشتان: اسم فعل ماض، بمعنى: افترق، ولذلك لا يكتفي بواحد {وَارْعَوْا} الرعي: في الأصل: حفظ الحيوان، إما بغذائه الحافظ لحياته، أو بذب العدو عنه {لِأُولِي النُّهَى}: جمع نهية بالضم، وهي: العقل، سمي بها العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح، وقيل: إنه اسم مفرد، وهو مصدر كالهدى والسرعة، قاله أبو علي اهـ "سمين" {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} يقال: أخلف وعده: إذا خالف في الميعاد. {فَيُسْحِتَكُمْ}؛ أي: يهلككم من أسحت الرباعي، وهي لغة نجد وتميم, أي: أهلك، ويقال: سحت وهي لغة الحجاز، وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد، ومنه سحت الحالق الشعر؛ أي: استقصاه فلم يترك منه شيئًا، ويُستعمل في الإهلاك والإذهاب، وفي "القاموس": سحت يسحت من باب فتح، وسحت بالتشديد: اكتسب السحت؛ أي: المال الحرام، وسحته أهلكه واستأصله وذبحه، وسحت الشحم عن اللحم: قشره، ويسحت وجه الأرض: محاه، وأسحت: أفسده وأهلكه واستأصله {الْمُثْلَى}: مؤنث أمثل، بمعنى أشرف، وإنما أُنِّث باعتبار التعبير بالطريقة، وإلا فباعتبار المعنى كأن يقال: أماثل. اهـ. شيخنا. {فَأَجْمِعُوا}؛ أي: أزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعًا عليه، حتى لا تختلفوا، كالمسألة المجمع عليها، ويقال: أجمعوا الأمر وأجمعوا عليه، وفلانة بجمع, أي: عذراء، وضربه بجمع كفه {فَأَوْجَسَ} الإيجاس: الإضمار، وإيجاس الخوف: إضمار شيء منه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ}، والحبال: جمع حبل، وهو: الرسن، والعصي: جمع عصا، أصله: عصوو، بوزن: فلوس، قلبت الواو الثانية ياءً، ثم الأولى لاجتماعها ساكنة مع الياء، وكسرت الصاد لتصح الياء، وكسرت العين اتباعًا للصاد {خِيفَةً} أصله: خوفاً، قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها {تَلْقَفْ}: تبتلع، وأصله: التناول بسرعة، قال في "القاموس": لقف يلقف، من

باب تعب لقفًا، والتقف الشيء: تناوله بسرعة {صَنَعُوا}؛ أي: زوّروا وافتعلوا {كَيْدُ سَاحِرٍ}؛ أي: كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات. فصل في بيان السحر {السِّحْرَ} في اللغة: كل ما لطف ودق، ومنه السحر للصبح الكاذب، وقوله - عليه السلام -: "إن من البيان لسحرا" وبابه: منع وفي العرف: إراءة الباطل في صورة الحق، وهو عندنا أمر ثابت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "السحر حق، والعين حق" وفي "شرح الأمالي" السحر من سحر يسحر سحرًا: إذا خدع أحدًا، وجعله مدهوشًا متحيرًا، وهذا إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئًا يعجز عن فعله، وإدراكه المسحور عليه، وفي كتاب "أختلاف الأئمة" السحر: رقىً وعزائم وعقد، تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، وله حقيقة عند الأئمة الثلاثة، وقال الإِمام أبو حنيفة - رحمه الله -: لا حقيقة له، ولا تأثير له في الجسم، وبه قال أبو جعفر الإسترابادي من الشافعية، وفي "شرح المقاصد": السحر إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفس شريرة خبيثة، بمباشرة أعمال مخصوصة، يجري فيها التعلم والتعليم، وبهذين الاعتبارين، يفارق المعجزة والكرامة، وبأنه لا يكون بحسب اقتراح المقترحين، وبأنه يخص الأزمنة أو الأمكنة أو الشرائط، وبأنه قد يتصدى لمعارضته، ويبذل الجهد في الإتيان بمثله، وبأن صاحبه ربما يعلن بالفسق، ويتصف بالرجس في الظاهر والباطن، والخزي في الدنيا والآخرة، وهو؛ أي: السحر عند أهل الحق: جائز عقلًا، ثابت سمعًا، وكذا الإصابة بالعين، وقال المعتزلة: بل هو مجرد إراءة ما لا حقيقة له، بمنزلة الشعوذة التى سببها خفة حركات اليد، أو إخفاء وجه الحيلة، ويقال لها: الشعبذة، معرب شعباذة، اسم رجل ينسب إليه هذا العلم، وهي خيالات مبنية على خفة اليد، وأخذ البصر في تقليب الأشياء، كالمشي على الأرسال، واللعب بالمهارق والحقات وغير ذلك، وللسحر: خمسة أنواع على المشهور: منها: الطلسم، قيل: هو مقلوب المسلط، وهو جمع الآثار السماوية، مع عقاقير الأرض ليظهر منها أمر عجيب.

ومنها: النيرنج: وهو التمويه والتخييل، قالوا: ذلك تمزيج قوى جواهر الأرض، ليحدُثَ منها أمر عجيب. منها: الرقية: وهو النفث في الماء، وسمي به لأنهم ينفثون في الماء، ثم يشربونه، أو يصبون عليه، وإنما سميت رقية؛ لأنها كلمات رقيت من صدر الراقي، فبعضها فهوية، وبعضها قبطية، وبعضها بلا معنى، يزعمون أنها مسموعة من الجن، أو في المنام. ومنها: الخلفطيرات، وهي: خطوط عقدت عليها حروف وأشكال؛ أي: خلق ودوائر، يزعمون أن لها تاثيرات بالخاصية. ومنها: الشعبذة المارة، والمذهب: أن التأثير الحاصل عقيب الكل، هو فعل الله تعالى، على وفق إجراء عادته، ووجه الحكمة فيه، لا يعلمه إلا هو سبحانه. انتهى من "روح البيان". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، وفي قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا}. ومنها: الإيجاز في قوله: {ثُمَّ هَدَى} ففيه إيجاز بليغ؛ لأنه حذف جملًا لا يقع عليها الحصر؛ لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية، العاقلة وغير العاقلة، التي خلقها الله تعالى، ولكل منها عمله الميسر له، على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ميسر لما خلق له". ومنها: الالتفات من الغيبة إلى لفظ التكلم في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ...} الخ. وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا ...} إلخ. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} حيث قابل بين

{مِنْهَا} و {فِيهَا}، وبين الخلق والإعادة، وهذا من المحسنات البديعية. ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} وسماه المتأخرون التصدير، وهو أخف على السمع، وأليق بالمقام، وهو توافق كلمة في الصدر، مع كلمة في الآخر، وله أقسام مذكور في محله. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ}؛ أي: فالقوا فإذا حبالهم، حذف لدلالة المعنى عليه، ومثله {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} بعد قوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} حذف منه كلام طويل، وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} إنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه، ويسمى: ايجاز حذف. ومنها: استدراج الخصم لموسى حيث قال: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} ثقةً منهم بأنهم فائزون عليه، حيث، فوَّضوا ضرب الموعد إليه، ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لسترهم، ولما استدرجوه بالتخيير في الإلقاء، أيكون هو البادىء، أم يكونون هم البادئين .. أستدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين، بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا بعد قذفاً بالحق على الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق، فما أروع هذا الكلام. ومنها: التأكيد في قوله: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} بالضميرين اللذين هما: {نَكُونَ} و {نَحْنُ} دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه، والإلقاء قبله. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} أنفى للخوف من قلب موسى، وأثبت للغلبة والقهر، ولو قال لا تخف إنك الأعلى .. لم يكن فيه من التقرير والإثبات لنفي الخوف، ما لقوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}.

ومنها: الإبهام في قوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} لتفخيم شأنها، والإيذان بأنها ليست من جنس العصي المعهودة؛ لأنها مستتبعة لآثار غريبة. ومنها: في قوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} ست فوائد من البلاغة: 1 - {إِنَّ} المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده، وقد نص علماء المعاني، على أن الخبر يكون مع {إِنَّ} طلبيًا، أو إنكاريًا لا ابتدائيًا، كقولك: زيد قائم، ثم تقول: إن زيدًا قائم، ففي قولك: إن زيدًا قائم من الإثبات لقيام زيد، ما ليس في قولك: زيد قائم. 2 - تكرير الضمير في قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ} ولو اقتصر على أحد الضميرين .. لما كان بهذه المثابة في التقرير، لغلبة موسى والإثبات. 3 - لام التعريف في قوله: {الْأَعْلَى} ولم يقل أعلى أو عال؛ لأنه لو قال ذلك .. لكان قد نكَّره، وكان صالحًا لكل واحد من جنس، كقولك: رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال، وإذا قلت الرجل .. فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف، وجعلته علمًا فيهم، وكذلك جاء قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}؛ أي: دون غيرك. 4 - لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل، ولم يقل: العالي فهو أعلى من كل عال. 5 - لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو، ومعلوم أن الغرض من قوله: {الْأَعْلَى}: الغلبة، إلا أن في {الْأَعْلَى} زيادةً، وهي كونها صادرةً من مكان عال. 6 - الاستئناف وهو قوله تعالى: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} ولم يقل لأنك أنت الأعلى، فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى - عليه السلام - بالغلبة والاستعلاء، وأثبت ذلك في قرارة نفسه، بما لا يدع أيّ: مجال للشك. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا، وأن فرعون أبى أن يذعن ¬

_ (¬1) المراغي.

للحق، وتمادى هو وقومه في العناد والإعراض عن سبيل الرشاد ... أردف ذلك بذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه، من الغرق في البحر، حين تبعوا موسى للحاق به، لما خرج من مصر ذاهباً إلى الطور، وطوى في البين ذكر ما جرى على فرعون وقومه بعد أن غُلبت السحرة من الآيات المفصلة، التي حدثت على يد موسى في مدة عشرين سنة، بحسب ما فصِّل في سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب .. وعد أن يُرسل بني إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف .. نكص على عقبيه، ونكث في عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلًا من مصر، ثم عدد بعدئذٍ نعمه الدينية والدنيوية على بني إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم، وقد كان ينزل بهم ضروبًا من الظلم، من قتل وإذلال، وتعبٍ في الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابًا فيه بيان دينهم، وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل لهم المن والسلوى، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق، وزجرهم عن العصيان، وأن من عصى ثم تاب .. كانت توبته مقبولةً عند ربه. قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أنه أوحى (¬1) إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلًا، ويخترق بهم البحر، ولا يخشى غرقًا ولا دركًا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعًا، حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم، من إنجائهم من عدوهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق، ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا .. أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام، حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذُكرت آنفًا، وبما حدث من فتنة السامري لبني إسرائيل، ورجوع موسى إليهم غضبانَ أسفًا، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليّهم عجلًا جسدًا له خوار، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، فرد الله عليهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[71]

ووبخهم بأن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا في دينهم ولا دنياهم. التفسير وأوجه القراءة 71 - ولما خاف فرعون أن يكون إلقاء السحرة سجدًا سببًا لاقتداء الناس بهم في الإيمان بالله ورسوله .. ألقى شبهةً في النبي ونبوته فـ {قال}؛ أي: فرعون للسحرة موبخاً لهم {آمَنْتُمْ}؛ أي: هل آمنتم {لَهُ}؛ أي: لموسى وصدقتموه فيما يدعيه، و (اللام): هنا لتضمين الفعل معنى الإتباع وفي "بحر العلوم": {لَهُ}؛ أي: لربهما، على أن (اللام) بمعنى الباء، كما يدل عليه قوله في سورة الأعراف: {قال آمنتم به قبل أن آذن لكم} و {آمَنْتُمْ}: بالمد على الإخبار، و (الهمزة) الأولى فيه: للاستفهام التوبيخي؛ أي: قال لهم توبيخًا: هل فعلتم هذا الفعل {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي (¬1): من غير أن آذن لكم في الإيمان له، وآمركم به كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} لا أن الإذن لهم في ذلك واقع بعده، أو متوقع، والإذن في الشيء الإعلام بإجازته، وأذنته بكذا وآذنته بمعنًى {إِنَّهُ}؛ أي: إن موسى {لَكَبِيرُكُمُ}؛ أي: أستاذكم ومعلمكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وإنكم تلامذته في السحر، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم، ترويحًا لشأنه، وتفخيمًا لأمره، فلا عبرة بما أظهرتموه، قال الكسائي (¬2): الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه .. قال: جئت من عند كبيري، وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر، قال الواحدي: والكبير في اللغة: الرئيس، ولهذا يقال للمعلم: الكبير، أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسًا لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة. والخلاصة (¬3): أنكم قد فعلتم جريمتين، وارتكبتم إساءتين: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

1 - أنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة، فلا يُعتد به. 2 - أنكم تلاميذه في السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم، ترويجاً لدعوته، وتفخيمًا لأمره. وبعد أن أورد هذه الشبهة، اشتغل بالتهديد، تنفيرًا لهم من الإيمان, وتحذيرًا لغيرهم عن الاقتداء بهما، فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ}؛ أي: فوالله لأقطعن {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} حالة كونها {مِنْ خِلَافٍ}؛ أي: مختلفات في الاسم والصفة؛ لأنها إذا خالف بعضها بعضًا، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك يسار .. فقد اتصفت بالاختلاف، وتعيين القطع وكيفيته لكونه أفظع من غيره، والمعنى لأقطعن من كل شق طرفًا، وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لا يدين ولا رجلين، ولا يمنين ولا يسارين، وصيغة (¬1) التفعيل في قطع: للتكثير، وكذا في الفعل الآتي، والقطع: فصل شيءٍ مدركًا بالبصر كالأجسام، أو مدركًا بالبصيرة كالأشياء المعقولة، و {مِنْ} فيه لابتداء الغاية, أي: ابتداء القطع من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكًا وتفويتًا للمنفعة {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}؛ أي: على جذوع النخل وأصولها، زيادةً في إيلامكم، وتشهيرًا بكم، والصلب: الذي هو تعليق الإنسان للقتل، قيل: هو شد صلبه على خشب؛ أي: على أصول النخل في شاطىء النيل. وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع (¬2): التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقرًا للمصلوب، واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف .. عُدّي الفعل بفي التي للوعاء، وقيل: {فِي}: بمعنى على، وقيل: نقر فرعون الخشب، وصلبهم في داخله، فصار ظرفًا لهم حقيقةً، حتى يموتوا فيه جوعًا وعطشًا، ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر: وَهُمْ صَلَبُوْا الْعَبْدِىَّ فِىْ جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[72]

وفرعون أول من صلب، وأقسم فرعون على ذلك، وهو فعل نفسه، وعلى فعل غيره، وهو قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا ...} إلخ، فإن قيل (¬1): مع قرب عهده بانقلاب العصا حيةً، وقصدها ابتلاع قصره، واستغاثته بموسى من شرها، كيف يُعقل أن يهدد السحرة إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسى؟ قلنا: يجوز أن يكون في أشد الخوف، ويُظهر الجلادة، تمشيةً لناموسه، وترويجًا لأمره، والاستقراء يوقفك على أمثاله. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا}؛ أي: أييّ وأيّ موسى {أَشَدُّ عَذَابًا}؛ أي: ولتعلمن جواب أينا أشد عذابًا؛ أي: هل أنا أشد عذابًا على إيمانكم به، أو موسى أشد عذابًا على ترك الإيمان به، ومراده بالأشد عذابًا نفسه {وَأَبْقَى}؛ أي: أدوم عذابًا، وموسى لم يكن في شيء من التعذيب، إلا أن فرعون ظن السحرة خافوا من قبل موسى على أنفسهم، حين رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم، فقال ما قال، وعلى ما سبق من "بحر العلوم" في {آمَنْتُمْ لَهُ} يكون المراد بـ {أَيُّنَا} نفسه ورب موسى؛ أي (¬2): ولتعلمن أنا أو إله موسى أشد عذابًا وأبقى، وفي ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره، وبيان ما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، كما فيه تحقير لشأن موسى، واستضعاف له مع السخرية منه، 72 - ثم لما صال عليهم بذلك، وتوعدهم .. هانت عليهم أنفسهم في الله فـ {قالوا}؛ أي: السحرة، غير مكترثين بوعيده: {لَنْ نُؤْثِرَكَ}؛ أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع {عَلَى مَا جَاءَنَا} من الله على يد موسى {مِنَ الْبَيِّنَاتِ}؛ أي: من المعجزات الظاهرة، التي لا شبهة في حقيَّتها، كاليد والعصا، وكان من استدلالهم أنهم قالوا: لو كان هذا سحرًا .. فأين حبالنا وعصينا، وقيل (¬3): إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه من سجودهم من المنازل المعدة لهم في الجنة. وفي هذا: إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

وإلا فعل بهم ما أوعدهم به، وإلى أن (¬1) القوم شاهدوا في رؤية الآيات أنوار الذات والصفات، فهان عليهم عظائم البليات، ومن آثر الله على الأشياء .. هان عليه ما يلقى في ذات الله، وقد قال بعض الكبار: ليخفف عنك ألم البلاء علمُك بأن الله هو المبتَلي. والمعنى: أي قالوا لن نختار اتباعك، وكوننا من حزبك، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات، وهي: المعجزة التي أتتنا، وعلمنا صحتها، وفي قولهم هذا توهين له، واستصغار لما هددهم به، وعدم اكتراثٍ بقوله، وفي نسبة المجيء إليهم، وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم؛ لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به ليس بسحر، فكانوا على جلية من العلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك، وأيضًا فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها، وكانت بيناتٍ واضحةً في حقهم. وقوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا}؛ أي: خلقنا وسائر المخلوقات، معطوف على ما جاءنا؛ أي: لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات، وعلى عبادة الذي فطرنا وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية، وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. والحاصل: أنه لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة .. بدؤوا بها، ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة، وهو الله تعالى، وذكروا وصف الاختراع، وهو قولهم: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} تبييناً لعجز فرعون، وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته، وهو عاجز عن صرف ذبابة، فضلًا عن اختراعها، وقيل: الواو للقسم، وجوابه: محذوف لدلالة المذكور عليه؛ أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك، ولا يكون {لَنْ نُؤْثِرَكَ} جوابًا؛ لأنه لا يجاب في النفي بلن إلا في شاذ من الشعر، وقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} جواب عن تهديده بقوله: {لأقطعن} .. الخ؛ أي: فأصنع ما أنت صانعه، أو احكم فينا ما أنت فيه حاكم، من القطع والصلب، وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: فاحكم وأجر علينا ما قضى الله لنا في الأزل من ¬

_ (¬1) المراح.

[73]

الشهادة ما أنت قادر على الحكم علينا. {إِنَّمَا تَقْضِي} وتحكم {هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: إنما سلطانك علينا، ونفوذ أمرك فينا في هذه الحياة الدنيا, ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل النصب على الظرفية، أو على المفعولية، و {ما} كافة. والمعنى (¬1): أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط، وليس لك علينا سلطان في الآخرة، وأنت تجري على حكمك في الآخرة، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا, ولا رهبة من عذابها، وقرأ (¬2) الجمهور: {تَقْضِي} مبنيًا للفاعل، خطابًا لفرعون، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، {تقضي} مبنيًا للمفعول {هذه الحياة} بالرفع اتسع في الظرف، فأُجري مجرى المفعول به، ثم بني الفعل لذلك، ورُفع به، كما تقول: صيم يوم الجمعة. ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده، ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم على الجذوع، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه، ويدل على ذلك قوله: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} وقيل: أنفذ فيهم وعيده، وصلبهم على الجذوع، ذكره أبو حيان في "البحر" ولكن (¬3) الراجح: أنه نفَّذ ذلك، كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداءً بررةً 73 - {إِنَّا آمَنَّا} وصدقنا {بـ} ربوبية {رَبِّنَا} وألوهية خالقنا {لِيَغْفِرَ لَنَا} ويستر عنا {خَطَايَانَا} وذنوبنا من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة، لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما وعدتنا به من القطع والصلب. فائدة (¬4): والمغفرة صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن ذنوبه، من الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، والخطايا: جمع الخطية، والفرق بينها وبين السيئة: أن السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطية فيما يقصد بالعرض؛ لأنها من الخطأ، وقوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[74]

السِّحْرِ} عطف على خطايانا؛ أي: وليغفر لنا السحر الذي عملنا في معارضة موسى، رغبةً في خيرك، ورهبة من شرك، بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية، خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم، إظهارًا لغاية نفرتهم منه، ورغبتهم في مغفرته {وَاللَّهُ} سبحانه {خَيْرٌ} منك ثوابًا إن أطعناه {وَأَبْقَى}؛ أي: أدوم منك عقابًا إن عصيناه؛ أي: خيره خير من خيرك، وعذابه أدوم من عذابك، قال الحسن: سبحان الله لقوم كفارهم أشد الكافرين كفرًا ثبتفى قلوبهم الإيمان طرفة عين، فلم يتعاظم عندهم أن قالوا: {اقض ما أنت قاض} في ذات الله تعالى، والله إن أحدهم اليوم ليصحب القرآن ستين عامًا، ثم إنه ليبيع دينه بثمن حقير. 74 - ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين، وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظةً لفرعون، وتحذيرًا له من نقمة الله وعذابه السرمدي، وترغيباً لهفى ثوابه الأبدي فقالوا: {إِنَّهُ}؛ أي: الشأن والحال، وهو تعليل من جهتهم، لكونه تعالى خيرًا وأبقى؛ أي: لأنه {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ} يوم القيامة حالة كونه {مُجْرِمًا}؛ أي: متلبسًا بالكفر والمعاصي، متوغلاً في إجرامه، منهمكاً فيه، بأن يموت على الكفر والمعاصي، ولأنه مذكور في مقابلة المؤمن {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا}؛ أي: في جهنم، فينتهي عذابه ويستريح، وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى {وَلَا يَحْيَى} حياةً ينتفع بها. والمعنى (¬1): أي إن من يلق الله تعالى وهو مجرم بكفره ومعاصيه .. فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتةً مريحةً، ولا يحيى حياةً ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حالة الموت في المكروه، إلا أنه لا يعطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى 75 - {وَمَنْ يَأْتِهِ} سبحانه وتعالى يوم القيامة حالة كونه {مُؤْمِنًا} به تعالى وبما ¬

_ (¬1) المراغي.

[76]

جاء من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما شاهدناه، وحالة كونه {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} التي جاءت به رسله، والصالحة كالحسنة، صفة جارية مجرى الاسم، ولذلك لا تذكر غالبًا مع الموصوف، وهي ككل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل {فَأُولَئِكَ} إشارة إلى {مَنْ} والجمع باعتبار معناها؛ أي: فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات {لَهُمُ} بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة {الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} جمع العليا، تأنيث الأعلى؛ أي: المنازل الرفيعة في الجنة، وفيه (¬1) إشارة إلى الفرق بين أهل الإيمان المجرد، وبين الجامع بين الإيمان والعمل، حيث إن الدرجات العالية للثاني وغيرها لغيره. والمعنى (¬2): أي ومن لقي ربه مؤمنًا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال .. فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم، وجليل أعمالهم، المنازل الرفيعة، والدرجات العالية. وفي "الصحيحين": "أن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب العابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وفي "السنن" "أن أبا بكر وعمر لمنهم ونعما" 76 - ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من الدرجات العلى {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة: الماء، واللبن، والخمر، والعسل، حاله كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: مقدرين الخلود {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات، فهو حال من الضمير في لهم، والعامل: معنى الاستقرار، أو الإشارة {وَذَلِكَ}؛ أي: المذكور من الثواب {جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} وتطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا لكون ثواب الله تعالى أبقى. والجزاء (¬3): ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[77]

يقال: جزيته كذا بكذا، والفرق بين الأجر والجزاء: أن الأجر يقال فيما كان من عقد، وما يجري مجرى العقد، ولا يقال إلا في النفع دون الضر، والجزاء يقال فيما كان من عقد ومن غير عقد، ويقال في النافع والضار. والمعنى (¬1): أي تلك الدرجات العلى، هي جنات إقامة، تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا، وذلك الفوز الذي أوتوه، جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر، ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده، لا شريك له، واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاؤوا به من عند ربهم. 77 - وقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} شروع في بيان إنجاء بني إسرائيل، وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة، وفي الأعراف، وفي يونس، و (اللام) في {لقد}: موطئة للقسم وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أوحينا إلى موسى، بعد إجراء الآيات التسع في نحو عشرين سنة، كما في "الإرشاد" لكن يخالفه ما في بعض الروايات المشهورة، من أن موسى - عليه السلام - دعا ربه في حق فرعون وقومه، فأستجيب له، ولكن أثره بعد أربعين سنة، على ما قالوا عند قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}. {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}؛ أي: سر بعبادي بني إسرائيل ليلًا، من أرض مصر إلى ساحل البحر، لئلا يعوقهم أعوان فرعون، فـ {أَنْ}: مفسرة بمعنى أي، أو مصدرية؛ أي: بـ {أَنْ أَسْرِ} والسري، والإسراء: سير الليل، وقرأ (¬2) نافع، وابن كثير: بكسر نون {أَنْ} وهمزة وصل. وفي التعبير (¬3) عن بني إسرائيل {بِعِبَادِي} إظهار للعناية بأمرهم والرحمة، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}؛ أي: فأجعل لهم بالضرب بعصاك طريقًا في البحر يابسًا، ليس فيه وحل ولا نداوة، من قولهم: ضرب له في ماله سهمًا, أي: جعل له نصيبًا، أو فاتخذ واعمل لهم في البحر طريقًا يابسًا، من قولهم: ضرب اللبن: إذا عمله. والطريق (¬1): كل ما يطرقه طارق، معتادًا كان أو غير معتاد، قال الراغب: الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل ويضرب، والبحر: كل مكان واسع جامع للماء الكثير، والمراد هنا: بحر القلزم، قال في "القاموس": القلزم: هو بلد بين مصر ومكة، قرب جبل الطور، وإليه يضاف بحر القلزم؛ لأنه على طرفه، أو لأنه يبتلع من ركبه؛ لأن القلزمة: الابتلاع، ومعنى {يبسًا}: يابسًا، وصف به الفاعل للمبالغة، وذلك أن الله تعالى، أيبس لهم تلك الطريق، حتى لم يكن فيها ماء ولا طين، واليبس: المكان الذي كان فيه ماء فذهب. وقرأ الحسن وأبو المتوكل والنخعي (¬2): {يَبَسًا} بسكون الباء، على أنه مخفف من يبسًا المحرك، أو جمع يابس كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدًا، وقرأ أبو حيوة، والشعبي، وأبو رجاء، وابن السميقع {يابسًا} بألف اسم فاعل، قال أبو عبيدة: اليبس محرك الحروف، بمعنى اليابس، يقال: شاة يبس, أي: يابسة ليس لهم لبن، وقال ابن قتيبة: يقال لليابس: يَبَسٌ ويَبْسٌ. وقوله: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} حال مقدرة من المأمور؛ أي: من موسى، والدرك: محركةً اسم من الإدراك، كالدرك بالسكون، والدرك: اللحاق بهم من فرعون وجنوده, والمعنى: فاجعل لهم طريقًا في البحر يبسًا، حالة كونك آمنًا لا تخاف من أن يدرككم العدو {وَلَا تَخْشَى} الغرق. وقرأ الجمهور (¬3): {لَا تَخَافُ} بالألف والرفع، وهي أرجح، لعدم الجزم في {تخشى}، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفةً أخرى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير. (¬3) البحر المحيط.

[78]

لـ {طَرِيقًا} مع حذف العائد؛ أي: {لَا تَخَافُ} فيه {وَلَا تَخْشَى} فيه، وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن أبي ليلى: {لا تخف} بالجزم على جواب الأمر، أو على نهيٍ مستأنفٍ، قاله الزجاج، وقرأ أبو حيوة، وطلحة، والأعمش: {دركاً} بسكون الراء، والجمهور: بفتحها، والدرك والدرك: اسمان من الإدراك؛ أي: لا يدركك فرعون وجنوده، ولا يلحقونك {وَلَا تَخْشَى} أنت ولا قومك غرقاً، وعطفه على قراءة الجمهور على {لَا تَخَافُ} ظاهر، وأما على قراءة الجزم، فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلةً، نحو قوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} أو على أنه إخبار مستأنف؛ أي: وأنت {لا تخشى} أو على أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك، وهي لغة قليلة، وقال الشاعر: إِذَا الْعَجُوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تُمَلِّقِ وحاصل معنى الآية: أي (¬1) ولقد أوحينا إلى رسولنا موسى، حين تابعنا له الحجج على فرعون، فأبى أن يستجيب لأمر ربه، وتمادى في طغيانه، بـ {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقًا يابسًا في البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخشى أن يغرقك البحر. 78 - و {الفاء} في قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ}: عاطفة على محذوف تقديره: ففعل موسى ما أمر به من الإسراء بهم، وضرب الطريق وسلوكه، فتبعهم فرعون حالة كونه مصاحبًا بجنوده وأعوانه، حتى لحقوهم وقت إشراق الشمس، وهو إضاءتها، يقال: أتبعهم؛ أي: تبعهم، وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، فالفرق بين تبعه وأتبعه، أن يقال: أتبعه إتباعًا، إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا، إذا مر به، ومضى معه. وقرأ الجمهور (¬2): {فَأَتْبَعَهُمْ} بسكون التاء، وأتبع: قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد، وقال الزجاج: تبع الرجل الشيء وأتبعه، بمعنى واحد. اهـ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[79]

وقرأ أبو عمرو في رواية, والحسن: {فأتبعهم}، بتشديد التاء، وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وفي (¬1) قراءة من قرأ بالتشديد، دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود، ومن قرأ: {فَأَتْبَعَهُمْ} فمعناه: ألحق جنوده بهم، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون، إلا أنه قد كان معهم، وقال الزجاج: وقرىء: {وجنوده} عطفًا على فرعون، روي أن موسى خرج بهم أول الليل، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا، فأخبر فرعون بذلك فأتبعهم بعساكره، وكانت مقدمته سبع مئة ألف، فقص أثرهم فلحقهم، بحيث تراءى الجمعان، فعند ذلك ضرب موسى - عليه السلام - بعصاه البحر، فانفلق على اثني عشر فرقًا، كل فرق كالطود العظيم، وبقي الماء قائمًا بين الطرق، وعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين، وتبعهم فرعون بجنوده {فَغَشِيَهُمْ}؛ أي: سترهم وعلاهم {مِنَ الْيَمِّ}؛ أي: من بحر القلزم {مَا غَشِيَهُمْ} وسترهم؛ أي: الموج الهائل، الذي لا يعلم كنهه إلا الله، والتكرير للتعظيم والتهويل، كما في قوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)}. والظاهر (¬2): أن الضمير في {غَشِيَهُمْ} في الموضعين: عائد على فرعون وجنوده، وقيل: الأول على فرعون وقومه، والثاني على موسى وقومه، وفي الكلام حذف على هذا القول، تقديره: فنجا موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، وقرأ الجمهور (¬3) {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} على وزن فعل مجرد من الزيادة، وقرأت فرقة، منهم الأعمش {فغشاهم من اليم ما غشيهم} بتضعيف العين، فالفاعل في القراءة الأولى: {مَا} وفي الثانية الفاعل الله؛ أي: فغشاهم الله، قال الزمخشري: أو فرعون؛ لأنه الذي ورط جنوده، وتسبب لهلاكهم، وقال: {مَا غَشِيَهُمْ} من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة؛ أي: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى 79 - {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}؛ أي: سلك بهم مسلكًا أداهم إلى الخيبة والخسران، في الدين والدنيا معًا، حيث ماتوا ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[80]

على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي {وَمَا هَدَى}؛ أي: وما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية، وهو (¬1) تقرير لإضلاله، وتأكيد له، إذ: رب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه، وفيه نوع تهكم، فإن نفي الهداية من شخصٍ مشعر بكونه ممن تتصور منه الهداية في الجملة، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم. أو المعنى؛ أي: أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى طريق النجاة؛ لأنه قدر أن موسى ومن معه لا يفوتونه، لكونهم بين يديه، يمشون في طريق يابسة، وبين أيديهم البحر. 80 - ثم شرع سبحانه يعدد نعمه على بني إسرائيل، فقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيل}؛ أي: وقلنا لهم بعد إغراق فرعون وقومه، وإنجائهم منهم: يا أولاد يعقوب {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون وقومه، حيث كانوا يذبحون أبناءكم، ويستحيون نساءكم، ويستخدمونكم في الأعمال الشاقة، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر، بمرأى من بني إسرائيل، كما قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} والعدو: يجيء بمعنى الوحدة، وبمعنى الجماعة {وَوَاعَدْنَاكُمْ} بوساطة نبيكم موسى - عليه السلام - {جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ}؛ أي: إتيان جانبه الأيمن، نظرًا إلى السالك من مصر إلى الشام، وإلا فليس للجبل يمين ولا يسار، والمراد: يمين الشخص، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل، معناه: عن يمينك من الجبل؛ أي: واعدناكم إتيان موسى للمناجاة، وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى نظرًا إلى ملابستها إياهم، وسراية منفعتها إليهم، قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه، لنكلمه بحضرتكم، فتسمعوا الكلام، وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور، فالوعد كان لموسى، وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم، وانتصاب (¬2) {جَانِبَ} على أنه مفعول به، لا على الظرفية؛ لأنه مكان معين غير مبهم، وإما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة، قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[81]

ويعقوب: {ووعدناكم} بغير ألف واختاره أبو عبيدة؛ لأن الوعد، إنما هو من الله لموسى خاصةً، والمواعدة: لا تكون إلا من اثنين، وقرأ (¬1) حمزة، والكسائي، وطلحة: {قد أنجيتكم} {وواعدتكم} {ما رزقتكم} بتاء الضمير، وباقي السبعة: بنون العظمة، وقرأ حميد {نجيناكم} بتشديد الجيم من غير ألف قبلها، وبنون العظمة و {الْأَيْمَنِ}: منصوب على أنه صفة للجانب وقرىء بجر {الأيمن} على أنه صفة للمضاف إليه. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ} في التيه {الْمَنَّ} وهو: شيء حلو أبيض مثل الثلج، كان ينزل على الشجر كالطل، من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، يقال له: الترنجبين، معرب كرنكبين {وَالسَّلْوَى} وهو: طائر يقال له: السماني، يبعثه عليهم ريح الجنوب، فيذبح الرجل منهم ما يكفيه، والتيه. المذكور آنفًا: المفازة التي يُتَاه فيها، وذلك حين أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين فأبوا ذلك، فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، كما مر في سورة المائدة، ومثل (¬2) ذلك كمثل الوالد المشفق، يضرب ولده العاصي ليتأدب، وهو لا يقطع عنه إحسانه، فقد ابتلوا بالتيه، ورزقوا بما لا تعب فيه. 81 - وقلنا لكم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}؛ أي: من لذائذ ما رزقناكم أو حلالاته، قال الراغب: أصل الطيِّب ما تستلذه الحواس والنفس، والطعام الطيب في الشرع: ما كان متناولًا من حيث ما يجوز، وبقدر ما يجوز، ومن المكان الذي يجوز، فإنه متى كان كذلك كان طيبًا عاجلًا وآجلاً لا يستوخم، وإلا فإنه وإن كان طيبًا عاجلًا لم يطلب آجلًا. {وَلَا تَطْغَوْا}؛ أي: ولا تتجاوزوا الحد {فِيهِ}؛ أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، وبالسرف والبطر، والمنع من المستحق، والادخار منه لأكثر من يوم وليلة، قال ابن عباس: لا يظلم بعضكم بعضًا فيأخذه من صاحبه، يعني: بغير حق {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} جواب للنهي، أي: فيلزمكم عقوبتي، وتجب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

لكم، من حَل الدَّين يحل بالكسر: إذا وجب أداؤه، وأما يحُل بالضم: فهو بمعنى الحلول؛ أي: النزول، والغضب ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وإذا وصف الله تعالى به، فالمراد: الانتقام دون غيره، والقول الأسلم الذي عليه السلف أن يقال: إن غضب الله سبحانه صفة ثابتة له، نعتقدها ولا نعطلها، أثرها الانتقام ممن استحقه؛ أي: ولا تطغوا في رزقي بالإخلال بشكره، وتعدي حدودي فيه، بالسرف والبطر، والاستعانة به على المعاصي، ومنع الحقوق الواجبة فيه، فينزل عليكم غضبي، وتجب عليكم عقوبتي. والظاهر (¬1): أن الخطاب لمن نجا مع موسى بعد إغراق فرعون، وقيل: لمعاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتراضًا في أثناء قصة موسى، توبيخًا لهم، إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله، فهو على حذف مضاف؛ أي: أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون، وخاطب الجميع بـ {واعدناكم} وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى - عليه السلام - لسماع كلام الله؛ لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم، إذ به تطمئن قلوبهم وتسكن. وقرأ زيد بن علي {ولا تطغوا} بضم الغين {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي}؛ أي: ومن ينزل عليه غضبي .. {فَقَدْ هَوَى}؛ أي: شقي وهلك، وتردى وسقط في الهلاك الأبدي، وأصله: أن يسقط من جبل فيهلك؛ أي: صار إلى الهاوية، وسقط فيها، ومن بلاغات الزمخشري: من أرسل نفسه مع الهوى فقد هوى في أبعد الهوى. وقرأ الجمهور (¬2): {فَيَحِلَّ} بكسر الحاء {وَمَنْ يَحْلِل} بكسر اللام؛ أي: فيجب ويلحق، وقرأ الكسائي: بضم الحاء في {يحل} وضم اللام في {يحلل}؛ أي: ينزل، وهي قراءة قتادة، وأبي حيوة، والأعمش، وطلحة، ووافق ابن عيينة في {يحلل} فضم اللام، قال (¬3) الفراء: والكسر أحب إلي، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، ويحل بالكسر: يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

[82]

بالوقوع، وفي "الإقناع" لأبي علي الأهوازي: ما نصه: قرأ ابن غزوان عن طلحة: {لا يحلن عليكم غضبي} بلام ونون مشددة، وفتح اللام وكسر الحاء، وفي "كتاب اللوامح" قرأ قتادة، وعبد الله بن مسلم بن يسار، وابن وثاب، والأعمش: {فيحل} بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال، فهو متعد من حل بنفسه، والفاعل فيه: مقدر ترك لشهرته، تقديره: فيحل طغيانكم فيه غضبي عليكم 82 - {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ}؛ أي: لستار الذنوب {لِمَنْ تَابَ}؛ أي: من الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر. فائدة: قال في "المفاتيح شرح المصابيح" (¬1): الفرق بين الغفور والغفار، أن الغفور: كثير المغفرة، وهي: صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن ذنوبه، من الغفر وهو: إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، ولعل الغفار أبلغ منه، لزيادة بنائه، وقيل: الفرق بينه وبين الغفار، أن المبالغة فيه من جهة الكيفية، وفي الغفار: باعتبار الكمية. انتهى. {وَآمَنَ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر {وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} مما ندب إليه الشرع وحسنه، وفيه (¬2): ترغيب لمن وقع منه الطغيان فيما ذكر، وحث على التوبة والإيمان {ثُمَّ اهْتَدَى}؛ أي: استقام على الهدى، ولزمه حتى مات، وهو إشارة إلى أن من لم يستمر عليه بمعزل من الغفران، وقيل (¬3): لم يشك في إيمانه، وقيل: أقام على السنة والجماعة، وقيل: تعلم العلم ليهتدى به، وقيل: علم أن لذلك ثوابًا وعلى تركه عقابًا، والأول أرجح مما بعدهُ {ثُمَّ} (¬4) للتراخي الرتبي، قال في "بحر العلوم": ثم: لتراخي الاستقامة على الخير، عن الخير نفسه، وفضلها عليه؛ لأنها أعلى منه وأجلُّ، لأن الشأن كله فيها، وهي مزلة أقدام الرجال، قال ابن عطاء {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}؛ أي: رجع من طريق ¬

_ (¬1) المفاتيح. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[83]

المخالفة إلى طريق الموافقة، وصدق موعود الله فيه، واتبع السنة {ثُمَّ اهْتَدَى}؛ أي: أقام على ذلك لا يطلب سواه مسلكًا وطريقًا. 83 - ولما نهض (¬1) موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل، إلى جانب الطور الأيمن، حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل .. رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده، مبادرًا إلى أمر الله، وحرصًا على القرب منه، وشوقًا إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى - عليه السلام - وناجى ربه .. زاده في الأجل عشرًا، وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر، فيقع الإعلام له بما صنعوا، فقال: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}؛ أي (¬2): وقلنا له: أي شيء حملك على العجلة، وأوجب سبقك منفردًا عن قومك؟ وهم النقباء السبعون المختارون للخروج معه إلى الطور، وذلك أنه سبقهم شوقًا إلى ميعاد الله، وأمرهم أن يتبعوه، قال في "العرائس": ضاق صدر موسى من معاشرة الخلق، وتذكر أيام وقال الحق، فعلَّة العجلة: الشوق إلى لقاء الله تعالى، و {مَا} للاستفهام الإنكاري مبتدأ، وجملة {أَعْجَلَكَ} خبره. وهو (¬3) سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظيم عليهم، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم؛ أي: وما حملك على العجلة عن قومك 84 - {قَالَ} موسى {هُمْ}؛ أي: قومي {أُولَاءِ}؛ أي: قريبون منى يأتون {عَلَى أَثَرِي}؛ أي: من بعدي يلحقون بي، وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة، لا يعتد بها، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض، ثم أعقبه بجواب السؤال فقال: {وَعَجِلْتُ}؛ أي: وسارعت {إِلَيْكَ}؛ أي: إلى الموعد الذي واعدت بسبقي إياهم {رَبِّ لِتَرْضَى} عني؛ أي: لتزداد رضًا عني، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي.

بعهدك، توجب مرضاتك، وهذا (¬1) دليل على جواز الاجتهاد. ومعنى {عجلت إليك}: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه، لترضى عني، يقال: رجل عجل وعجول وعجلان: بَيِّنُ العجلة، والعجلة: خلاف البطء. قال أبو حاتم (¬2): قال عيسى بن عمر: بنو تميم يقولون {أولا} مقصورةً وأهل الحجاز يقولون {أولاء} ممدودةً. وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه (¬3): {أولائي} بياءٍ مكسورةٍ، وابن وثاب، وعيسى في رواية: {أولا} بالقصر وقرأت فرقة: {أولاي} بياء مفتوحة، وقرأ عيسى، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو، وزيد بن علي {على إثري} بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي {أثري} بضم الهمزة وسكون الثاء، وتروى عن عيسى، وقرأ الجمهور {أُولَاءِ} بالمد والهمز {عَلَى أَثَرِي} بفتح الهمز والثاء. والمعنى: أي (¬4) قال موسى مجيبًا ربه: هم أولاء بالقرب منى آتون على أثري، وما تقدمتهم إلا بخطًا يسيرةٍ لا يعتد بها, وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض، وعجلت إلى موعدك رب لتزداد عني رضًا بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك. وخلاصة معذرته (¬5): إني اجتهدت أن أتقدم قومي بخطا يسيرة، ظنًا منى أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطات في اجتهادي، وقد حملني على ذلك طلب الزيادة في مرضاتك، وكأنه - عليه السلام - يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرةً إلى رضاك، ومسارعةً إلى الميعاد، والموعود بما يسر يود لو ركب أجنحة الطير، ليحظى بما يبتغي ويريد. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي. (¬5) المراغي.

[85]

85 - وجملة قوله: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ}: مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله له؟ فقيل: قال الله سبحانه له: فإنا قد فتنا وابتلينا واختبرنا قومك بعبادة العجل، وأوقعناهم في فتنة عبادته من بعد ذهابك من بينهم، وانطلاقك من عندهم، وهم الذين خلفهم موسى مع هارون على ساحل البحر، وكانوا ست مئة ألف، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفًا، قال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل، من بعد إنطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هارون. اهـ وهذه الفتنة، وقعت لهم بعد خروج موسى بعشرين يومًا {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} حيث كان هو المدبر في الفتنة والداعي إلى عبادة العجل؛ أي: دعاهم إلى الضلالة باتخاذ العجل، وكان (¬1) من قوم يعبدون البقر، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر، وفي قلبه ما فيه من عبادة العجل، وكان من قبيلة تسمى بالسامرة، وقال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلى موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه، لما صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم، وأمرهم بإلقائها في النار، فكان من أمر العجل ما كان. قال في "الأسئلة المحقمة": أضاف الإضلال إلى السامري؛ لأنه كان حصل بتقريره ودعوته، وأضاف الفتنة إلى نفسه، لحصولها بفعله وقدرته وإرادته وخلقه، وعلى هذا أبدًا إضافة الأشياء إلى أسبابها ومسبباتها. انتهى. وإخباره (¬2) تعالى بوقوع هذه الفتنة، عند قدومه - عليه السلام - إما باعتبار تحققها في علمه ومشيئته تعالى، وإما بطريق التعبير عن المتوقع بالواقع، أو لأن السامري قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى، وتصدى لترتيب مباديها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار. والسامري: رجل من عظماء بني إسرائيل، منسوب إلى قبيلة السامرة منهم، أو علجٌ من أهل كرمان، من قوم يعبدون البقر، وحين دخل ديار بني إسرائيل أسلم معهم وفي قلبه حب عبادة البقر، فابتلى الله بني إسرائيل، فكشف له عن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[86]

بصره، فرأى أثر فرس الحياة لجبريل، ويقال له: حيزوم، وأخذ من ترابه وألقاه - بوحي الشيطان - في الحلي المذابة، كما سيأتي. وكان (¬1) السامري قد رباه جبريل، فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من أحدها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الأخرى عسل، قيل اسمه موسى بن ظفر، وقيل: منجا، وهو ابن خالة موسى، أو ابن عمه، وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان، كانت المرأة من بني إسرائيل تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة، أو كهف من جبل، أو غير ذلك، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية، حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس. وقرأ الجمهور (¬2): {وَأَضَلَّهُمُ} فعلًا ماضيًا، وقرأ أبو معاذ، وفرقة {وأضلهم} برفع اللام مبتدأ و {السَّامِرِيُّ} خبره وكان أشدهم ضلالًا؛ لأنه ضال في نفسه، مضل غيره. 86 - {فَرَجَعَ مُوسَى} من الميعاد {إِلَى قَوْمِهِ} بعدما استوفى الأربعين، ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وأخذ الألواح المكتوب فيها التوراة، وكانت ألف سورة، كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملًا، حالة كونه {غَضْبَانَ}؛ أي: شديد الغضب على قومه، وحالة كونه {أَسِفًا}؛ أي: حزينًا بما فعلوا، روي أنه لما رجع موسى .. سمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة. والمعنى: فانصرف موسى إلى قومه بني إسرائيل، بعد انقضاء الليالي الأربعين، مغتاظًا من قومه، حزينًا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. {قَالَ} لهم موسى {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى، والاستفهام هنا تقريري خلافًا لما قاله بعضهم من أنه إنكاري، فإنه غير صواب؛ أي: وعدكم وعدًا صادقًا، بحيث لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[87]

الثواب العظيم في الآخرة بقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} ووعدكم أنكم ستملكون أرض الجبارين ودياهم. قال في "بحر العلوم" {وَعْدًا حَسَنًا}؛ أي: متناهياً في الحسن، فإنه تعالى وعدهم أن يعطيهم التوراة، التي فيها هدًى ونور، ولا وعد أحسن من ذلك وأجمل. وفيه إشارة (¬1) إلى أن الله تعالى إذا وعد قومًا .. لا بد له من الوفاء بالوعد، فيحتمل أن يكون ذلك الوفاء فتنة للقوم، وبلاءً لهم، كما كان لقوم موسى، إذ وعدهم الله بإيتاء التوراة، ومكالمته موسى وقومه السعبين المختارين، فلما وفي به .. تولدت لهم الفتنة والبلاء من وفائه، وهي الضلال وعبادة العجل، ولكن الوعد لما كان موصوفًا بالحسن .. كان البلاء الحاصل من الوعد الحسن بلاءً حسنًا، وكان عاقبة أمرهم التوبة والنجاة، ورفعة الدرجات. و (الهمزة) في قوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} للاستفهام الإنكاري: داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أوعدكم وعدًا حسنًا، فطال عليكم زمان إنجاز العهد، فأخطأتم بسببه {أَمْ أَرَدْتُمْ} وقصدتم {أَنْ يَحِلّ} وينزل {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ}؛ أي: عذاب عظيم، وانتقام شديد، كائن {مِنْ رَبِّكُمْ}؛ أي: من مالك أمركم على الإطلاق، بسبب عبادة ما هو مثل في الغباوة والبلادة؛ أي: أم أردتم أن تفعلوا فعلًا يكون سبب حلول غضب الله عليكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}؛ أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات، على إضافة المصدر إلى مفعوله، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على كل واحد، من شقي الترديد على سبيل البدل، كأنه قيل: أنسيتم الوعد بطول العهد، فاخلفتموه خطأ، أم أردتم حلول الغضب عليكم، فأخلفتموه عمدًا. لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور، 87 - وقيل: وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات، فتوقفوا، فأجابوه و {قَالُوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ}؛ أي: وعدنا إياك الثبات على ما أمرتنا به {بِمَلْكِنَا}؛ أي: بقدرتنا واختيارنا. لكن غلبنا من كيد السامري وتسويله، وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة .. لم يملك نفسه، ويكون مغلوبًا، والملك: القدرة. والمعنى (¬1): أي قالوا: ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك، إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلينا وأنفسنا, ولم يسول لنا السامري ما سوله .. لما أخلفنا، وفي هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة. وقصارى كلامهم: أن السامري سول لنا ما سول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك، وقرأ الأخوان (¬2): الكسائي وحمزة، والحسن، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وقعنب: {بِمَلْكِنَا} بضم الميم، وقرأ زيد بن علي، ونافع، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، وابن سعدان: بفتحها وباقي السبعة: بكسرها، وقرأ عمر - رضي الله عنه -: {بِمَلَكِنَا} بفتح الميم واللام، وحقيقته: بسلطاننا، فالملك والملك، بمنزلة النَّقَض والنَّقْض، والظاهر: أنها لغات، والمعنى واحد. وفرق أبو علي، وغيره بين معانيها، فمعنى الملك بالضم: السلطان والقدرة؛ أي: إنه لم يكن لنا ملك فتخلف موعدك بسلطانه، وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والملك بالفتح: المصدر، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكًا، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وقفنا له، بل غلبتنا أنفسنا، والملك بالكسر: ما حوته اليد، وكثر استعماله فيما تحوزه اليد، ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، ومعناها: كمعنى التي قبلها، والمصدر: في هذين الوجهين: مضاف إلى الفاعل، والمفعول: مقدر؛ أي: بملكنا الصواب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقال الزمخشري؛ أي: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا؛ أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا ورأينا .. ما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. واختلف فيمن قال هذا لموسى على قولين (¬1): أحدهما: أنهم الذين لم يعبدوا العجل. والثانى: عابدوه. {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا}؛ أي: ولكنا أمرنا أن نحمل {أَوْزَارًا} وأحمالاً {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}؛ أي: من حلي القوم القبطيين، التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس، وفي الواقع: ليس للعرس؛ أي أمرنا موسى باستعارتها من آل فرعون، والخروج بها، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم، أو وليمة، والأوزار: الأثقال أو الآثام، سمي به ما استعاروه من القبط لثقله، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك باتخاذها عجلًا، أو بعدم ردهم العارية إلى أصحابها، وقيل: الأوزار: هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل، وسميت أوزارًا؛ أي: آثامًا؛ لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر، ورويس، وشيبة، وحميد، ويعقوب: {حُمِّلْنَا} بضم الحاء وكسر الميم المشددة، وقرأ أبو رجاء: {حملنا} بضم الحاء وكسر الميم المخففة، وقرأ الأخوان: الكسائي، وحمزة، وأبو عمرو، وابن محيصن {حملنا} بفتح الحاء والميم مخففة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم، وما حملوها كرهًا {فَقَذَفْنَاهَا}؛ أي: فطرحنا تلك الزينة والحلي في النار، أو في (¬2) الحفيرة، أوقدت فيها النار طلبًا للخلاص من إثمها، وكان أشار عليهم بذلك السامري، فحفرت حفرة وسجرت فيها النار، وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار، وقذت السامري ما معه فيها، وقيل: المعنى طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى في رأيه. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط.

[88]

{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ما عنده من الحلي في النار، ومعنى {فَكَذَلِكَ} أي: مثل (¬1) قذفنا إياها ألقى السامري ما كان معه في النار، أراهم أنه يُلقي حليًا في يده مثل ما ألقوا، وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حيزوم - فرس جبريل عليه السلام - أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتًا صار حيوانًا 88 - {فَأَخْرَجَ لَهُمْ}؛ أي: للقائلين، السامريُّ من الحفيرة {عِجْلًا} أي: تبيعًا خلقه الله تعالى من الحلي، التى سبكتها النار، والعجل: ولد البقرة {جَسَدًا} بدل من عجلًا؛ أي: جثةً ذا دم ولحم وعظم، أو جسدًا من ذهب لا روح له، ولا امتناع في ظهور الخارق على يد الضال {لَهُ}؛ أي: لذلك العجهل {خُوَارٌ}؛ أي: صياح نعت {عِجْلًا} يقال: خار العجل يخور خوارًا: إذا صاح؛ أي: له صوت العجاجيل، فسجدوا له، وقيل: خواره كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقاً، فإذا دخلت الريح في جوفه .. خار، ولم يكن فيه حياة {فَقَالُوا}؛ أي: قال السامري ومن وافقه أول ما رأوا لمن توقف من بني إسرائيل {هَذَا} العجل {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}؛ أي: فضَّل (¬2) موسى وأخطأ، ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل: المعنى: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقيل: الناسى السامري؛ أي: ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل، كذا قال ابن الأعرابي، وقيل: فنسي السامري أن العجل لا يرجع إليهم قولًا، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا. 89 - (الهمزة) في قوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ} للاستفهام التوبيخي: داخلة على محذوف معلوم من السياق (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتفكرون فلا يرون {أَنْ} مخففة من الثقيلة؛ أي: أنه {لا يرجع} العجل {إِلَيْهِمْ قَوْلًا} ولا كلامًا ولا جوابًا؛ أي: ألا يتفكر السامري وأصحابه، فلا يعلمون أن العجل لا يرجع إليهم قولًا من الأقوال، وقرأ الجمهور: برفع {يَرْجِعُ} وقرأ أبو حيوة {أن لا يرجع} بنصب العين، ووافقه على ذلك الزعفراني، وابن صبيح، وأبان، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

والشافعي محمد بن إدريس الإِمام المطلبي، جعلوها {أَنْ} الناصبة للمضارع، وتكون الرؤية من الإبصار؛ أي: ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولًا من الأقوال، فقوله (¬1) {يَرْجِعُ}: من المرجع المتعدي بمعنى الإعادة، لا من الرجوع اللازم بمعنى العود، والمعنى؛ أي: أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجلى لا يرجع إليهم قولًا؛ أي: لا يرد عليهم جوابًا، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتوهمون أنه إله، وهو عاجز عن المكالمة. وجملة قوله: {وَلَا يَمْلِكُ} العجل {لَهُمْ}؛ أي: لعابديه {ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} معطوفة (¬2) على جملة: {أَلَّا يَرْجِعُ}؛ أي: أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرًا، ولا يجلب لهم نفعًا، فيخافوه كما يخافون فرعون، ويرجون منه كما يرجون من فرعون، فكيف يقولون ذلك، وفي الكلام (¬3) توبيخ لهم، إذ عبدوا ما لا يملك ضرًا من ترك عبادته، ولا ينفع من عبده، وكان العجل فتنةً من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل. قال في "التأويلات النجمية" (¬4) فيه: إشارة إلى أن الله تعالى: إذا أراد أن يقضي قضاءً .. سلب ذوي العقول عقولهم، وأعمى أبصارهم بعد أن رأوا الآيات، وشاهدوا المعجزات، كأنهم لم يروا شيئًا فيها، فلهذا قال: {أَفَلَا يَرَوْنَ} يعني: العجل وعجزه {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا}؛ أي: شيئًا من القول {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} انتهى. قال بعضهم: أيَا سَامِعَاً لَيْسَ السَّمَاعُ بِنَافِعٍ ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا أَنْتَ سَامِعُ إِذَا كُنْتَ في الدُّنْيَا مِنَ الْخَيْرِ عَاجِزَاً ... فَمَا أَنْتَ فِيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ صَانِعُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

الإعراب {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: مستأنفة {آمَنْتُمْ لَهُ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {آمَنْتُمْ} (الهمزة): فيه للاستفهام التوبيخي، حذفت الهمزة الأولى، وسهلت الثانية، وهو فعل وفاعل {لَهُ} متعلق به {قَبْلَ}: منصوب على الظرفية متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {آذَنَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} وفاعله ضمير يعود على فرعون {لَكُمْ}: متعلق به والمصدر المؤول من {أَنْ} في محل الجر مضاف إليه لـ {قَبْلَ} تقديره: قبل إذني {لَكُمْ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {لَكَبِيرُكُمُ} (اللام): حرف ابتداء {كبير} خبر {إن} مرفوع و (الكاف): مضاف إليه، وجملة: {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة {لَكَبِيرُكُمُ} {عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}: فعل ومفعولان، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجمله: صلة الموصول {فَلَأُقَطِّعَنَّ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان شأني فيكم .. فأقول لكم و (اللام): موطئة للقسم {أقطعنّ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على فرعون {أَيْدِيَكُمْ}: مفعول به {وَأَرْجُلَكُمْ}: معطوف عليه {مِنْ خِلَافٍ} جار ومجرور حال من الأيدي والأرجل، أي: حالة كونها مختلفات في الاسم والصفة، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالَ} {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} (الواو): عاطفة و (اللام): موطئة للقسم {أصلبن} فعل مضارع مبني على الفتح، و (الكاف): مفعول به، وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {لأقطعن} علي كونها جواب القسم {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أصلبن}.

{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}. {وَلَتَعْلَمُنَّ} (الواو): عاطفة و (اللام) موطئة للقسم {تعلمن}: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكين, في محل الرفع فاعل، أصله: لتعلمونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، والواو لالتقاء الساكنين، فصار {تعلمُن} والجملة: معطوفة على جملة {لأقطعن}. {أَيُّنَا} {أي}: اسم استفهام مبتدأ مرفوع، و (نا) مضاف إليه {أَشَدُّ} خبره {عَذَابًا} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل {وَأَبْقَى}: معطوف على {أَشَدُّ} والجملة الاسمية: في محل النصب، سادة مسد المفعولين لعلم إن كانت على بابها، أو مسد المفعول الواحد، إن كانت عرفانية؛ لأن الفعل علق بـ {أي} الاستفهامية، ويجوز (¬1) على جعلها عرفانية، أن تكون {أي} موصولةً بمعنى الذي، وبنيت لأنها قد أضيفت، وحذف صدر صلتها و {أَشَدُّ} خبر مبتدأ محذوف، والجملة الاسمية، صلة: {أي} الموصولة و {أي}: الموصولة في محل النصب مفعول به لعلم العرفانية، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} في أحد أوجهه، كما تقدم. {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {لَنْ نُؤْثِرَكَ} إلى قوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا} إلى موسى مقول محكي لـ {قَالُوا} وان شئت قلت: {لَنْ نُؤْثِرَكَ}: ناصب وفعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على السحرة، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}: {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {نُؤْثِرَكَ}. {جَاءَنَا}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا} والجملة: صلة الموصول {مِنَ الْبَيِّنَاتِ}: جار ومجرور حال من فاعل {جَاءَنَا}. {وَالَّذِي}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {مَا} وأخروا ذكر الباري من باب تقديم الأدنى على الأعلى ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{فَطَرَنَا}: فعل ومفعول وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول، ويحتمل أن تكون (الواو) في {وَالَّذِي} للقسم، {الَّذِي} مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره نقسم {وَالَّذِي فَطَرَنَا} وجواب القسم: محذوف، تقديره: لن نؤثرك، وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَاقْضِ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره. إذا عرفت ما قلنا لك، وأردت بيان غاية ما نقول لك .. فنقول لك {اقض ما أنت قاض} {اقض}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على فرعون و {مَا}: مفعول به {أَنْتَ قَاضٍ}: مبتدأ وخبر، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما أنت قاضيه، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {إِنَّمَا}: أداة حصر {تَقْضِي}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {هَذِهِ} ظرف زمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {تَقْضِي}. {الْحَيَاةَ}: بدل من اسم الإشارة {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةَ}، ومفعول {تَقْضِي} هو محذوف تقديره، إنما تقضي غرضك في هذه الحياة الدنيا، ويجوز (¬1): أن تكون {الْحَيَاةَ} مفعول به على الاتساع، ويجوز أن تكون ما في {إِنَّمَا}: مصدرية، وجملة {تَقْضِي} مع {مَا} في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم {إن} والخبر الظرف، والتقدير: إن قضاءك كائن في هذه الحياة الدنيا فقط، بمعنى إن لك الدنيا فقط، ولنا الآخرة اهـ "سمين" ويجوز كونها موصولة اسم {إن} وعائدها: محذوف؛ أي: إن الذي تقضيه كائن في الحياة الدنيا. {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه {آمَنَّا}: فعل وفاعل {بِرَبِّنَا}: متعلق بـ {آمَنَّا} ¬

_ (¬1) الفتوحات.

والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لِيَغْفِرَ} (اللام) حرف جر وتعليل {يغفر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله {لَنَا}: متعلق بـ {يغفر} {خَطَايَانَا} مفعول به ومضاف إليه، والجملة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لغفرانه لنا خطايانا، الجار والمجرور متعلق بـ {آمَنَّا}. {وَمَا}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {خَطَايَانَا}. {أَكْرَهْتَنَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة: صلة الموصول {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {أَكْرَهْتَنَا} وهو العائد على {مَا} الموصولة {مِنَ السِّحْرِ}: جار ومجرور حال من الضمير في {عَلَيْهِ} أو من {مَا} الموصولة {وَاللَّهُ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر {وَأَبْقَى}: معطوف على {خَيْرٌ} والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما {يَأْتِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {رَبَّهُ}: مفعول به {مُجْرِمًا}: حال من فاعل {يَأْتِ}. {فَإِنَّ} (الفاء) رابطة لجواب من الشرطية {إن}: حرف نصب وتوكيد {لَهُ} خبر {إن} مقدم على اسمها {جَهَنَّمَ} اسمها مؤخر، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة: {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَا يَمُوت}: ناف وفعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ} {فِيهَا}: متعلق بـ {يَمُوتُ} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير {لَهُ}: أو من {جَهَنَّمَ} وجملة {وَلَا يَحْيَى} في محل النصب معطوفة على جملة {لَا يَمُوتُ}. {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)}. {وَمَنْ} الواو: عاطفة {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما {يَأْتِهِ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {مَنْ} على

كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {مُؤْمِنًا}: حال من فاعل {يَأْتِ} {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعل: مستتر يعود على {مَنْ} والجملة: في محل النصب صفة لـ {مُؤْمِنًا} {فَأُولَئِكَ} (الفاء) رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية {أولئك}: مبتدأ أول {لَهُمُ}: خبر مقدم {الدَّرَجَاتُ}: مبتدأ ثان مؤخر {الْعُلَى} صفة {الدَّرَجَاتُ} والجملة: من المبتدأ الثاني، وخبره: في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول وخبره: في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: في محل الرفع معطوفة على جملة {مَن} الأولى. {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}. {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: بدل من {الدَّرَجَاتُ} أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي {جَنَّاتُ عَدْنٍ}. {تَجْرِي}: فعل مضارع {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق به {الْأَنْهَارُ}: فاعل والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة لـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}. {خَالِدِينَ}: حال من {أولئك}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {وَذَلِكَ جَزَاءُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: مستأنفة، في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِنْ}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {تَزَكَّى}: صلته. {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية و (اللام) موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة {إِلَى مُوسَى}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْحَيْنَا} {أَنْ}: مفسرة بمعنى، أي: {أَسْرِ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مفسرة لجملة {أَوْحَيْنَا}. {بِعِبَادِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَسْرِ} {فَاضْرِبْ} (الفاء) عاطفة {اضرب}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة على جملة {أَسْرِ}. {لَهُمْ} متعلق بـ {اضرب}: قائم مقام المفعول الثاني؛ لأن ضرب هنا بمعنى جعل {طَرِيقًا}

مفعول به أول {فِي الْبَحْرِ} صفة أولى لـ {طَرِيقًا}. {يَبَسًا}: صفة ثانية له وهو وصف له بما يؤول إليه {لَا}: نافية {تَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {دَرَكًا} مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل {اضرب}؛ أي: اضرب لهم طريقًا حالة كونك غير خائف، أو صفة لـ {طَرِيقًا} والعائد: محذوف؛ أي: {لَا تَخَافُ} فيه أو هي: جملة مستأنفة، وجملة: {وَلَا تَخْشَى} معطوفة على جملة {لَا تَخَافُ}. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ}. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} (الفاء): عاطفة {أتبعهم}: فعل ومفعول {فِرْعَوْنُ} فاعل {بِجُنُودِهِ}: جار ومجرور حال من فرعون؛ أي: حالة كونه متلبسًا بجنوده والجملة الفعلية: معطوفة على محذوف تقديره، ففعل موسى ما أمر به من الإسراء بهم، وضرب البحر، وسلوكه فتبعهم فرعون حالة كونه مصاحبًا بجنوده وأعوانه، حتى لحقوهم. {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)}. {فَغَشِيَهُمْ} (الفاء): عاطفة {غَشِيَهُمْ}: فعل ومفعول {مِنَ الْيَمِّ}: جار ومجرور حال من {مَا} الموصولة المذكورة بعده {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل {غَشِيَهُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مَا} والجملة: صلة لـ {مَا} أو صفة لها، وجملة {غشي} الأولى: معطوفة على جملة قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ}. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ} فعل وفاعل {قَوْمَهُ}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {فَغَشِيَهُمْ} ولكن في الكلام تقديم وتأخير؛ لأن إضلاله قومه كان قبل الغرق طبعًا {وَمَا} (الواو): عاطفة {مَا} نافية {هَدَى}: فعل ماض، وفاعله، ضمير يعود على {فِرْعَوْنُ} والجملة: معطوفة على جملة {أضل}. {يَا بَنِي إِسْرَائِيل}: منادى مضاف، وجملة: النداء مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم بعد إغراق فرعون: {يَا بَنِي إِسْرَائِيل}. {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول للقول المحذوف، على كونها

جواب النداء {مِنْ عَدُوِّكُمْ}: متعلق بـ {أَنْجَيْنَاكُمْ}. {وَوَاعَدْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على {أَنْجَيْنَاكُمْ} {جَانِبَ الطُّورِ}: مفعول ثان ومضاف إليه، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: إتيان جانب الطور، ولا يكون ظرفًا لأنه محدود {الْأَيْمَنَ}: صفة لـ {جَانِبَ}. {وَنَزَّلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {واعدنا} {عَلَيْكُمُ}: متعلق بـ {نزلنا}. {الْمَنَّ}: مفعول به {وَالسَّلْوَى}: معطوف على {الْمَنَّ}. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)}. {كُلُوا}: فعل وفاعل {مِنْ طَيِّبَاتِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. {طَيِّبَاتِ}: مضاف {مَا}: مضاف إليه {رَزَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف تقديره، ما رزقناكموه {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا} ناهية جازمة {تَطْغَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية {فِيهِ}: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة {كُلُوا} {فَيَحِلَّ} (الفاء): عاطفة سببية {يَحِلَّ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب النهي {عَلَيْكُمْ}: متعلق به {غَضَبِي}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن طغيانكم فيه فحلول غضبي عليكم {وَمَنْ يَحْلِلْ} (الواو): استئنافية {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما {يَحْلِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها {عَلَيْهِ}: متعلق به {غَضَبِي}: فاعل ومضاف إليه {فَقَدْ} (الفاء): رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ {قد}. {قد} حرف تحقيق {هَوَى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَن} وجملة {مَن} الشرطية: مستأنفة. {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}.

{وَإِنِّي} الواو: عاطفة {إِنِّي}: ناصب واسمه {لَغَفَّارٌ} (اللام): حرف ابتداء {غفار} خبر إن {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {غفار} وجملة {إن}: معطوفة على جملة {مَن} الشرطية {تَابَ}: فعل وفاعل مستتر، والجملة: صلة {مَن} الموصولة وجملة: {وآمن عمل} معطوفة على جملة {تَابَ}. {صَالِحًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا، أو مفعول به {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {اهْتَدَى}: فعل ماض معطوف على {وَعَمِلَ} وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)}. {وَمَا أَعْجَلَكَ} الواو: عاطفة لقول محذوف معطوف على فعل محذوف، تقديره: فسار موسى إلى موعد الميقات مع قومه، فجاء وحده مستعجلاً، وقلنا له: {ما أعجلك} {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، في محل الرفع مبتدأ {أَعْجَلَكَ}: فعل ماض ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على {مَا}. {عَنْ قَوْمِك}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قلنا، وجملة: قلنا: معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها آنفًا {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، في محل النصب على المفعولية، وجملة النداء: في محل النصب مقول لقلنا {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {يَا مُوسَى} والجملة: مستأنفة {هُمْ}: مبتدأ {أُولَاءِ}: خبره {عَلَى أَثَرِي}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ثان للمبتدأ، أو حال من الخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَعَجِلْتُ}: فعل وفاعل {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة الفعلية، في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مقول {قَالَ}. {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِتَرْضَى} (اللام) حرف جر وتعليل، {ترضى}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل

مصدر مجرور باللام، تقديره: لرضاك عني، الجار والمجرور متعلق بـ {عجلت}. {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا {فَإِنَّا} (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان حال قومك .. فأقول لك {إنا}. {إنا}: ناصب واسمه {قَدْ}: حرف تحقيق {فَتَنَّا قَوْمَك}: فعل وفاعل ومفعول {مِنْ بَعْدِكَ}: متعلق بـ {فتنا} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب. مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب، معطوفة على جملة {إن} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)}. {فَرَجَعَ} (الفاء): عاطفة مجردة عن التعقيب {رَجَعَ مُوسَى}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أضل}. {إِلَى قَوْمِهِ}: متعلق بـ {رجع}. {غَضْبَانَ أَسِفًا}: حالان من {مُوسَى}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {يَا قَوْم}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَلَمْ} الهمزة، للاستفهام التقريري، وأخطأ من قال: إنها للاستفهام الإنكاري {لَمْ}: حرف جزم {يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ}: فعل مضارع ومفعول أول وفاعل، مجزوم بـ {لم} والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إعطاء التوراة {وَعْدًا}: مفعول مطلق {حَسَنًا} صفة له، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} {أَفَطَالَ} (الهمزة) للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أوعدكم ربكم وعدًا حسنًا، فطال عليكم العهد {طال}: فعل ماض {عَلَيْكُمُ}: متعلق به {الْعَهْدُ}: فاعل، والجملة: معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والجملة

المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَمْ}: حرف عطف معادل للهمزة {أَرَدْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {طال}. {أَنْ} حرف نصب {يَحِلَّ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} {عَلَيْكُمْ}: متعلق به {غَضَبٌ}: فاعل {مِنْ رَبِّكُمْ}: صفة لـ {غَضَبٌ} والجملة الفعلية، مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أم أردتم حلول غضب من ربكم عليكم {فَأَخْلَفْتُمْ} (الفاء): عاطفة {أخلفتم}: فعل وفاعل {مَوْعِدِي} مفعول به ومضاف إليه، والجملة: معطوفة على جملة {أَرَدْتُمْ}. {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {مَا}: نافية {أَخْلَفْنَا}: فعل وفاعل {مَوْعِدَكَ}: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بِمَلْكِنَا}: جار ومجرور حال من فاعل {أَخْلَفْنَا}؛ أي: ما أخلفنا موعدك حال كوننا مالكين أمرنا, ولكنا غلبنا على أمرنا، من جهة السامري وكيده، {وَلَكِنَّا} (الواو): عاطفة {لكنا}: ناصب واسمه {حُمِّلْنَا}: فعل ونائب فاعل {أَوْزَارًا} مفعول ثان {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ {أَوْزَارًا} والجملة الاستدراكية: في محل النصب معطوفة على جملة {أَخْلَفْنَا}. {فَقَذَفْنَاهَا} (الفاء): عاطفة {قذفناها}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {حُمِّلْنَا}. {فَكَذَلِكَ} (الفاء): عاطفة {كذلك} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف {أَلْقَى السَّامِرِيُّ}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على قذفنا والتقدير: فالقى السامري إلقاء مثل إلقائنا. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}. {فَأَخْرَجَ} الفاء: عاطفة {أخرج}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {السَّامِرِيُّ}. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أخرج}. {عِجْلًا}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لئلا يتوهم أنه من كلامهم، وما

بينهما اعتراض {جَسَدًا}: بدل من {عِجْلًا}. {لَهُ}: خبر مقدم {خُوَارٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب صفة لـ {جَسَدًا} {فَقَالُوا} (الفاء): عاطفة {قالوا} فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ}. {هَذَا}: مبتدأ {إِلَهُكُمْ}: خبر {وَإِلَهُ مُوسَى}: معطوف عليه، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا} {فَنَسِيَ} (الفاء): عاطفة {نسي} فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ}. {أَفَلَا يَرَوْنَ} (الهمزة) فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، معلوم من السياق (والفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتفكرون فلا يرون، والجملة المحذوفة: مستأنفة {لا} نافية {يَرَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة {أَلَّا} {أن}: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن؛ أي: أنه لا يرجع: {لا} نافية {يَرْجِعُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على العجل {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يَرْجِعُ}. {قَوْلًا} مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يَرَوْنَ} إن كانت بصرية، أو ساد مسد مفعولي {يَرَوْنَ} إن كانت علمية، تقديره: أفلا يرون عدم رجوعه إليهم قولًا {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا} نافية {يَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على العجل {لَهُمْ} متعلق بـ {يَمْلِكُ}. {ضَرًّا}: مفعول به {وَلَا نَفْعًا}: معطوف على {ضَرًّا} والجملة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على جملة {لا يرجع}. التصريف ومفردات اللغة {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} أصله (¬1): أأمن كأكرم، قلبت الهمزة الثانية ألفًا على القاعدة في اجتماع الهمزتين، ثم أُدخلت عليه همزة الاستفهام، فصار في الكلمة همزتان: غير المنقلبة ألفًا فإما أن يقرأ بتحقيقهما، وإما أن يُقرأ بحذف الأولى، التي هي همزة الاستفهام {طَرِيقًا} والمراد بالطريق: جنسه، فإن الطريق كانت ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ثنتى عشرة، بعدد أسباط بني إسرائيل {يَبَسًا} قيل: هو في الأصل: مصدر وصف به مبالغة، أو على حذف مضاف، أو جمع: يابس كخادم وخدم، وصف به الواحد مبالغة، قال في "القاموس": يبس الشيء ييبس: من بابي علم وحسب يبسًا ويبسًا، واتبس كان رطبًا، فجف فهو: يبس ويبس ويابس ويبوس ويبيس وأبيس {دَرَكًا} بفتحتين؛ أي: أن يدركك فرعون وجنوده، والدرك بفتح الدال، وسكون الراء، وبفتحتين: اللحاق، وإدراك الحاجة، وأقصى قعر الشيء يقال: بلغ الغواص درك البحر، ويقال: فرس درك الطريدة؛ أي: يدركها، ومنه قولهم: ما لحقك من درك فعلي خلاصه. {وَلَا تَخْشَى} (¬1) يقرأ إلا بإثبات الألف، وكان من حق من قرأ لا تخف جزمًا أن يقرأ {لا تخشى} بحذفها، كذا قاله بعضهم، وليس بشيءٍ لأن القراءة سنة متبعة، وفيها أوجه: أحدها: أن يكون حالًا، وفيه إشكال وهو: أن المضارع المنفي بلا، كالمثبت في عدم مباشرة الواو له، وتأويله على حذف مبتدأ؛ أي: وأنت {لا تخشى}. والثاني: أنه مستأنف، أخبره تعالى أنه لا يحصل له خوف. والثالث: أنه مجزوم بحذف الحركة تقديرًا، ومثله فلا تنسى في أحد القولين، إجراءً لحرف العلة مجرى الحرف الصحيح. والرابع: أنه مجزوم أيضًا بحذف حرف العلة، وهذه الألف ليست تلك, أعني: لام الكلمة، وإنما هي ألف إشباعٍ أتي بها موافقةً للفواصل ورؤوس الآي، فهي كالألف في قوله: {الرسولا} و {السَّبِيلَا} و {الظُّنُونَا} وهذه الأوجه إنما يحتاج إليها في قراءة جزم {لا تخف} وأما من قرأه مرفوعًا .. فهذا معطوف عليه اهـ "سمين". ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{فَأَتْبَعَهُمْ} وأتبع وتبع بمعنى واحد {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}؛ أي: فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل، الذي لا يعلم كنهه إلا الله {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}؛ أي: سلك بهم مسلكًا، أداهم إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارًا {وَمَا هَدَى}؛ أي: وما أرشدهم إلى طريق يصل إليهم إلى طريق السعادة {الْأَيْمَنَ}؛ أي: الجانب الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام {الْمَنَّ}: نوع من الحلوى، يسمى الترنجبين كما مر {وَالسَّلْوَى}: طائر شبيه بالسماني {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}؛ أي: فلا تأخذوه من غير حاجة إليه {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}؛ أي: ينزل بكم سخطي {هَوَى} سقط وهلك {غفار}؛ أي: كثير المغفرة والستر للذنوب {اهْتَدَى}؛ أي: لزم الهداية واستقام {عَلَى أَثَرِي} يقال: جاء على أثره بفتحتين، وبكسر فسكون: إذا جاء لاحقاً به بلا تأخر، والأثر: الخبر، وبقية الشيء، والجمع: آثار وأثور، وخرج في أثره وإثره؛ أي: بعده، وائتثره وتأثره تبع أثره {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ}؛ أي: اختبرناهم {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}؛ أي: أوقعهم في الضلال والخسران، والسامري: من شعب بني إسرائيل، من بطن يقال له: السامرة، واسمه موسى بن ظفر، وقيل: إنه ابن زنا رمته أمه في الجبل بعد وضعه، وقد قيل فيه وفي موسى بن عمران وَمُوْسَى الَّذِيْ رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرْسَلٌ ... وَمُوْسَى الَّذِيْ رَبَّاهُ جِبْرِيْلُ كَافِرُ وفي "القاموس": السامري: هو الذي عبد العجل، وكان علجًا من كرمان، أو عظيمًا من بني إسرائيل، يُنسب إلى قبيلة من بني إسرائيل، يقال لها: السامرة، نسبة إلى مقاطعةٍ في فلسطين. اهـ. والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز {مَوْعِدِي}؛ أي: وعدكم إياي بالثبات على الإيمان, وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف {بِمَلْكِنَا}؛ أي: بقدرتنا مصدر ملك وهو مثلث الميم، وفي "القاموس" وشرحه "التاج": ملك يملك من باب تعب ملكًا وملكًا وملكًا، بفتح الميم وضمها وكسرها، وملكةً ومملكةً بفتح اللام، ومملكة وملكة بضمها: الشيء احتواه قادرًا على التصرف والاستبداد به، وملك على

القوم: استولى عليهم، وملك على فلان أمره: استولى عليه، وملك على نفسه: قدر على حبسها، وملك المرأة تزوجها. انتهى. {أَوْزَارًا}؛ أي: أثقالاً، وأرادوا بها حلي القبط التي استعاروها منهم، وأرادوا بالأوزار، أنها آثام وتبعات؛ لأنهم استعاروها منهم، وليس لهم فيها حق {خُوَارٌ} بضم الخاء: صوت البقر والعجاجيل {جَسَدًا} وفي "المصباح": الجسد جمع أجساد، وهو الجثة، وعبَّر عنه بالجسد مع أنه لا يقال الجسد إلا للحيوان العاقل، وهو الإنس والجن والملائكة، تشبيهًا له بالعاقل، كأنه غاير البقر، ولا يقال الغير الحيوان العاقل: جسد إلا للزعفران، فيقال له: جساد بفتح الجيم، وإلا للدم إذا يبس فيقال له جاسد أيضًا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وتقريرها: أنه شبه استعلاء المصلوب على الجذوع، بظرفية المقبور في قبره، ثم استُعمل في المشبه {فِي} الموضوعة للمشبه به, أعني: الظرفية، فجرت الاستعارة في الاستعلاءِ, والظرفية، وبتبعيتها في لفظ على وفي وإذن، ففي على بابها من الظرفية، وهذا أصح الأقوال فيها، وقيل: إن {فِي} بمعنى على، فلا يكون في الكلام استعارة، وعبارة الدرديري في "شرحه" على "تحفة الأخواد": مثال الاستعارة في الحرف، استعارة لفظ {فِي} لمعنى على في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}؛ أي: عليها، شبَّه الاستعلاء الكلي بالظرفية الكلية، بجامع التمكن في كل، واستُعير لفظ الظرفية للاستعلاء؛ أي: بقدر ذلك فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، التي هي معاني الحروف، فاستُعير لفظ {فِي} الموضوعة لكل جزئي من الجزئيات الظرفية، لمعنى على وهو الاستعلاء الخاص؛ أي: المتعلق بالتصليب، والجذوع في هذا المثال.

ومنها: الطباق بين {يَمُوتُ} و {يَحْيَى}. ومنها: المقابلة بين قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} وبين قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَات ...} إلخ. والمقابلة: هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَبَسًا} لأنه لم يكن حين خاطبه الله تعالى يبسًا، ولكن باعتبار ما يؤول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} وقد تقدم القول فيه مفصلاً. ومنها: الإبهام في قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} للتهويل؛ أي: علاهم وغمرهم من الأمر الهائل، الذي ليس في طوقهم احتماله، مما لا يمكن إدراك كنهه، ولا سبر غوره، وهو من جوامع الكلم التي يقل لفظها، ويتشعب القول في معناها. ومنها: الطباق بين {وَأَضَلَّ} و {هَدَى}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} لأن المواعدة كانت لموسى - عليه السلام - لا لهم، فأضيفت إليهم لأدنى ملابسة؛ لأنه لما كانت المواعدة لإنزال كتاب بسببهم، إذ فيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم .. أضيفت إليهم بهذه الملابسة، فهو من المجاز العقلي. اهـ "كرخي". ومنها: الاستعارة في قوله: {فَقَدْ هَوَى} استعار لفظ الهوى، وهو: السقوط من علو إلى سفل، للهلاك والدمار. ومنها: صيغة المبالغة في قوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} أي كثير المغفرة للذنوب. ومنها: الاستفهام في قوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}. فائدة: والاستفهام من الله تعالى لا يقع لاستدعاء المعرفة، ولكنه يخرج عن معناه الأصلي لأغراض أخر، تدرك من سياق الكلام، وقد أفاد السؤال هنا أغراضًا نوجزها فيما يلي:

1 - تعريف المسؤول بما يجهله من أمور، وقد أراد سبحانه تعريفه بفتنة قومه، فقد قيل: إنهم كانوا نحو ست مئة ألف نفس، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفًا. 2 - تبكيت المسؤول وتفهيمه، وتنبيهه إلى خطإ ما جاء به من ترك القوم، وإفساح المجال للسامري كي يضلهم؛ لأنه مغرق في الضلالة، وما هو في الإضلال. 3 - تعليم المسول آداب السفر، وهي: أنه ينبغي لرئيس القوم أن يتأخر عنهم في المسير، ليكون نظره محيطًا بهم، ونافذاً فيهم، ومهيمنًا عليهم، وقاطعًا الطريق على كل فتنة قد تتسرب إلى صفوفهم. ومنها: إطلاق الماضي على المستقبل في قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} على حد قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْل ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل؛ لأنه لا يستجيب لهم دعاة، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا .. أكد هذا وزاد عليهم في التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما

فعلوا، ثم حكى معاتبة موسى لهارون على سكوته على بني إسرائيل، وهو يراهم يعبدون العجل، ثم ذكر أنه اعتذر له، ولكنه لم يقبل معذرته، ثم قص علينا ما قاله السامري، وما أنَّبه به موسى، وما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه في البحر، ثم بيَّن لهم أن الإله الحق هو الذي يحيط علمه بما في السموات والأرض، لا ذاك الجماد الذي لا يضر ولا ينفع، ولا يرد جوابًا، ولا يسمع خطابًا. قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما شرح قصص موسى - عليه السلام - مع فرعون أولًا، ثم مع السامري ثانيا، على نمط بديع، وأسلوب قديم .. بين لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية، والقرون الغابرة، كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسليةً لقلبك، وإذهابًا لحزنك، إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك، من شدائد الأهوال، وتذكيرًا للمستبصرين في دينهم، وتأكيدًا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى (¬2) حال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأهوال، التي تجعل المجرمين يتخافتون في حديثهم، وينسون مقدار لبثهم في الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان، إلى نحو أولئك مما سلف .. قفَّى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر عن الجبال وأحوالها في ذلك اليوم، ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورًا أخر، تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبيَّن أن الأرض في ذلك اليوم تكون مستوية، ولا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يُسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، إلا إذا أذن لهم الرحمن، ورضي للمشفوع له قولًا، ثم ذكر أن الله هو العلم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علمًا، وفي ذلك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[90]

اليوم تذل الوجوه، وتخضع للواحد الديان، وقد خسر هنالك من ظلم نفسه، فأشرك مع الله غيره، وعبد معه سواه، وعصى أوامره ونواهيه، وأما المتقون فهم لا يُظلمون، فلا يُزداد في سيئاتهم، ولا يُنقص من حسناتهم. قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر سبحانه أنه أنزل الآيات المشتملة على الوعيد، المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها .. ذكر هنا أنه أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد، قرآنًا عربيًا، يفهمه العرب، ويقفون على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب، الخارج عن طوق البشر، ثم بيَّن سبحانه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي. أسباب النزول (¬1) قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن السدي، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل إليه جبريل بالقرآن .. أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل ولم يحفظه فأنزل الله سبحانه {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ}) وتقدم له سبب آخر، وهذا أصح. التفسير وأوجه القراءة 90 - واللام في قوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ}: موطئة للقسم، والجملة (¬2) مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم، والتوبيخ لهم؛ أي: والله ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني.

لقد نصح وقال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى، ويرجع إليهم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ}؛ أي: وقعتم في الفتنة بسبب العجل، وابتليتم به، وضللتم عن طريق الحق لأجله، قيل: ومعنى القصر المستفاد من {إِنَّمَا}: هو أن العجل صار سببًا لفتنتهم، لا لرشادهم، وليس معناه: أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره، والمعنى (¬1): أي: ولقد قال هارون لعبدة العجل من بني إسرائيل، من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم، ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل، الذي أحدث فيه الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم، من المريض الشاك. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ} وخالقكم وخالق كل شيء هو {الرَّحْمَنُ} الذي عدة رحمته جميع مخلوقاته، فآتاهم ما فيه كما لهم الجسمي والروحي، وما به سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وفي ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق، إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا .. قُبلت توبتهم. {فَاتَّبِعُونِي} على ديني في عبادة الله سبحانه وتعالى، ولا تتبعوا السامري في عبادة العجل {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} في ترك عبادة العجل. اعلم (¬2): أن هارون - عليه السلام - سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه، لأنه زجرهم أولًا عن الباطل بقوله: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله: {فَاتَّبِعُونِي} ثم دعاهم إلى شرائع بقوله: {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} فهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق، وهي إزالة الشبهات، ثم معرفة الله، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، وإنما قال: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا .. قبل الله توبتهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود، وفي هذا الوعظ (¬3) شفقة على نفسه وعلى الخلق، أما على نفسه: فإنه كان مأمورًا من عند الله بالأمر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[91]

بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن عند أخيه بقوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} فلو لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر .. لخالف أمر الله وأمر موسى، وإنه لا يجوز. وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية (¬1): {وأن ربكم} بفتح الهمزة، والجمهور: بكسرها المصدر المنسبك منها: في موضع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: والأمر كون الرحمن ربكم، فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم: ولأن ربكم الرحمن، وقرأت فرقة: {أنما} و {أن} بفتح الهمزتين، وتخريج هذه القراءة على لغة سُليم، حيث يفتحون أن بعد القول مطلقًا، 91 - ثم بيَّن أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يُطيعوا أمره بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال عبدة العجل من قوم موسى في جواب هارون: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ}؛ أي: لن نزال على العجل وعبادته {عَاكِفِينَ}؛ أي: مقيمين، قال الراغب: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم، قال في "الكبير": رحمته تعالى خلَّصتهم من آفات فرعون، ثم إنهم لجهلهم قابلوه بالتقليد فقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِين}؛ أي: لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فننظر هل يقرنا على عبادته، أو ينهانا عنها، جعلوا رجوعه غايةً لعكوفه، لكن لا على طريق الوعد بترك عبادته عند رجوعه، بل بطريق التعليل والتسويف. اهـ "أبو السعود". فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفًا من المنكرين لما فعله السامري، كأنهم قالوا: لن نقبل حجتك، ولا نقبل إلا قول موسى، وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف، وعدم إجابة طلب هارون، 92 - فلما رجع موسى .. سمع الصياح والجلبة، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون .. أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله، وكان طويل الشعر و {قَالَ} له: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ} والاستفهام فيه: توبيخي، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[93]

قيل: فما قال لهارون حين رجع إليهم؟ فقيل: قال له وهو مغتاظ: يا هارون ما منعك؛ أي (¬1): أيُّ شيء منعك {إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا}؛ أي: أخطؤوا طريق عبودية الله بعبادة العجل، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بالمقالة الشنعاء 93 - {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} (لا) مزيدة، وهو مفعول ثان لمنع، وهو عامل في (إذ)؛ أي: أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني في الغضب لله، والمقاتلة مع من كفر به، وأن تأتي عقبي، وتلحقني وتخبرني لأرجع إليهم، لئلا يقعوا في هلاك هذه الفتنة؟ أو غير مزيدة على أن {مَنَعَكَ} مجاز عن دعاك، والمعنى ما دعاك إلى ترك اتباعي، وعدمه في شدة الغضب لله ولدينه؟ ونظير {لَّا} هذه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} في الوجهين. والمعنى (¬2): أي قال موسى لهارون: أي شيء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن معك؟ وقد كان موسى يرى أن مفارقة هارون لهم، وخروجه من بينهم، بعد تلك النصائح القولية، يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها, لما في ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمرٍ مبغوضٍ عليهم مما تشق على النفوس، وتقتضي ترك ذلك الأمر الذي يكرهه {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} فيما قدمت إليك من قولي. {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وكان (¬3) ظهور العجل في السادس والثلاثين يومًا من خروج موسى، وعبدوه، وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعاتبهُ موسى على عدم اتباعه، لما رآهم قد ضلوا. قرأ (¬4) ابن كثير، وأبو عمرو: {أن لا تتبعني} بياء ساكنة في الوصل، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء، وروى إسماعيل بن جعفر عن نافع: {أن تتبعني أفعصيت} بياء مفتوحة، وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو، سواءً وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الوصل والوقف، وفي "الجمل" وهذه الياء من ياءات الزوائد، فحقها أن تحذف في الرسم، كما هي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) زاد المسير.

[94]

كذلك في مصحف الإِمام، و (الهمزة) في قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف كما مر نظائره مراراً، والتقدير: أأقمت بين هؤلاء الذين عبدوا العجل، فعصيت وخالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه، وعبارة "روح البيان" هنا: و (الهمزة) للإنكار التوبيخي و (الفاء): عطف على مقدر، يقتضيه المقام؛ أي: أخالفتني فعصيت أمري بالصلابة في الدين، والمحاماة عليه، كما عصى هؤلاء القوم أمري، فإن قوله - عليه السلام -: {اخْلُفْنِي} متضمن للأمر بهما حتمًا، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره. المستخلف لو كان حاضرًا. اهـ. 94 - فلما أقام بينهم (¬1)، ولم يبالغ في الإنكار عليهم .. نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره، فترفق هارون في خطاب موسى استعطافاً له، وترقيقًا لقلبه، إذ أضافه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه، حيث امتلأ موسى غضبًا مما رأى، وألقى ما في يده من الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فـ {قَالَ} هارون {يا ابن أم لا تأخذ بـ} شعر {لحيتي ولا بـ} شعر {رأسي}، وقد روي: أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله، وكان - عليه السلام - شديدًا غضوبًا لله تعالى، وقد شاهد مشاهد، وغلب على ظنه تقصير هارون - عليه السلام - ففعل ما فعل، والأم (¬2) بإزاء الأب، وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والبعيدة التي ولدت من ولدته، ويقال لكل ما كان أصلًا لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه {أمَّ} وأصله: يا ابن أمي: أبدلت الياء ألفًا فقيل: يا ابن أما، ثم حذف الألف واكتفي بالفتحة لكثرة الاستعمال، وطول اللفظ، وثقل التضعيف. وقرىء: {يا ابن أم} بالكسر بحذف الياء، والاكتفاء بالكسرة، وقد مر اختلاف القراء فيه في سورة الأعراف، وخص الأم بالإضافة استعظاماً لحقها، وترقيقًا لقلبه، واعتدادًا لنسبها، وإشارةً إلى أنهما من بطن واحد، وإلا فالجمهور على أنهما لأب وأم، قال بعض الكبار: كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة، كما قال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)} ولذا ناداه بأمه، إذ كانت الرحمة للأم أوفر، ولذا صبرت على مباشرة التربية، وقرأ (¬1) عيسى بن سليمان الحجازي {بلحيتي} بفتح اللام، وهي لغة أهل الحجاز، قال صاحب "الكشاف": كان موسى (¬2) - عليه السلام - رجلًا شديدًا، مجبولًا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلًا من دون الله، بعدما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبًا لله، واستنكافًا وحميةً، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضًا على شعر رأسه - وكان أفرع - وعلى شعر وجهه يجره إليه. اهـ. ثم بيَّن علة هذا النهي بأني لست عاصيًا أمرك، ولا مقصرًا في المصلحة، بل {إِنِّي خَشِيتُ} وخفت لو قاتلت بعضهم ببعض، وتفرقوا {أَنْ تَقُول} لي {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} برأيك، وأراد بالتفريق: ما يستتبعه القتال من تفريق لا يُرجى بعده الاجتماع؛ أي: خشيت إن فارقتهم واتبعتك، أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا، فتقول أوقعت الفرق فيما بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}؛ أي: لم تحفظ وصيتي لك في حسن الخلافة عليهم، ويريد به قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} فإن الإصلاح: ضم النشر وحفظ جماعات الناس، والمداراة بهم إلى أن ترجع إليهم، وترى فيهم ما ترى، فتكون أنت المتدارك للأمر بنفسك، المتلاقي برأيك، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرف من قوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} وعلى هذا التفسير يكون قوله {وَلَمْ تَرْقُبْ} معطوفًا على {فَرَّقْتَ} والياء في {قَوْلِي} واقعة على موسى؛ أي: وخشيت أن تقول لي إنك: لم ترقب قولي لك: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين، كالسمين، والبيضاوي، والخازن، والخطيب، ويحتمل أن يكون قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ} معطوفًا على {أَنْ تَقُولَ} فتكون الياء في {قَوْلِي} واقعةً على هارون؛ أي: وخشيت عدم ترقبك وانتظارك لقولي، حتى تتأمل فيه، وتفهم منه عذري اهـ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الكشاف.

[95]

"جمل" بتصرف وقرأ أبو جعفر: {ولم ترقب} بضم التاء وكسر القاف. مضارع أَرْقَب الرباعي، وهذا الكلام من هارون اعتذار، والعذر (¬1): ضابطه: هو تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه وإساءته، وذلك ثلاثة أضرب: أن يقول لم أفعل، أو يقول فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبًا، أو يقول فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، وهذا الثالث هو التوبة، فكل توبة عذر دون العكس، وكان هارون حليمًا رفيقًا، ولذا كان بنو إسرائيل أشد حبًا له، وقوله: {قَالَ} موسى للسامري: استئناف بياني، واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنع موسى بعد اعتذار القوم، واعتذار هارون، واستقرار أصل الفتنة على السامري؟ 95 - فقيل: قال موسى موبخًا له: هذا شأنهم {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}؛ أي: ما شأنك وما مطلوبك فيما فعلت، وما الذي حملك عليه، والخطب لغةً: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، وهو من تقاليب الخبط، خاطبه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالًا للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم 96 - {قَالَ} السامري مجيبًا لموسى - عليه السلام - {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}؛ أي: رأيت ما لم يره القوم، أو علمت بما لم يعلموا، وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة، وكان كلما وضع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس .. يخرج من تحته النبات في الحال، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه حفنة من تراب. وقرأ الأعمش وأبو السماك (¬2): {بصرت} بكسر الصاد {بما لم تبصروا} بفتح الصاد، وقرأ عمرو بن عبيد {بصرت} بضم الباء وكسر الصاد {بما لم تبصروا} بضم التاء وفتح الصاد، مبنيًا للمفعول فيهما، وقرأ الجمهور {بصرت} بضم الصاد، وحمزة، والكسائي، وأبو بحرية، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذرٍ، وابن سعدان، وقعنب {تبصروا} بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل، وباقي السبعة {يَبْصُرُوا} بياء الغيبة. وروي: أن السامري لما قال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} .. قال (¬1) له موسى - عليه السلام -: وما ذلك؟ قال: رأيت جبريل على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثرها، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم، فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلهًا .. زينت لى نفسي ذلك، فذلك قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً}؛ أي: أخذت حفنةً {مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}؛ أي: من تربة موطىء فرس الملك الذي أرسل إليك؛ أي: من تراب حافر فرس جبريل، والمراد: فرس الحياة لجبريل، ولم يقل: جبريل أو روح القدس؛ لأنه لم يعرف أنه جبريل، وأراد بذلك: أنه رأى جبريل على فرس الحياة، فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيًا، والقبضة: المرة من القبض، وهو الأخذ بجميع الكف، أُطلقت على المقبوض مرةً كما سيأتي، والأثر: التراب الذي تحت حافره. وقرأ الجمهور (¬2): {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} بالضاد المعجمة فيهما؛ أي: أخذت بكفي على الأصابع، وقرأ عبد الله، وأبيّ، وابن الزبير، وحميد، والحسن: {فقبضت قبضة} بالصاد فيهما، وهو الأخذ: بأطراف الأصابع، وقرأ الحسن - بخلاف عنه - وقتادة، ونصر بن عاصم: بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم، وأبقى الإطباق مع تشديد التاء. {فَنَبَذْتُهَا}؛ أي: نبذت تلك القبضة، وطرحتها في الحلي المذابة، المسبوكة، على صورة العجل، أو في فم العجل، فكان ما كان. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (¬3): {فنبذتها} بالإدغام {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}؛ أي: وزينت (¬4) لى نفسي بشقاوتي ومحنتي، تزيينًا كائنًا مثل ذلك التزيين الذي فعلته، من القبض والنبذ, فالمعنى: لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري، بل اتبعت هواي فيه، والتسويل (¬5): تزيين النفس لما تحرص عليه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير. (¬4) المراح. (¬5) روح البيان.

[97]

وتصوير القبيح منها بصورته الحسن، وأصل التركيب: سولت لى نفسي تسويلًا كائنًا مثل ذلك التسويل، على أن يكون مثل صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، وذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد، فقدم على الفعل لإفادة القصر، واعتبرت الكاف مقحمةً لإفادة تأكيد ما أفاده اسم الإشارة، من الفخامة، فصار مصدرًا مؤكدًا، لا صفةً؛ أي: ذلك التزيين البديع، زينت لي نفسي ما فعلته من القرض والنبذ، لا تزيينًا أدنى، ولذلك فعلته. وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وغوائها ,لا بشيءٍ آخر من البرهان العقلي، والإلهام الإلهي، أو المعنى؛ أي: كما زينت لى نفسي أولًا اتباع سنتك، واقتفاء أثرك، زينت لي أيضًا ترك ذلك بمحض الهوى، لا لشيء آخر من برهان عقلي، أو إلهام إلهي، ولما سمع موسى من السامري ما سمع .. بيَّن له ما سينزل به من الجزاء في الدنيا والآخرة، وذكر له حال إلهه، أما جزاؤه هو في الدنيا .. 97 - فما حكاه سبحانه عنه {قَالَ} له موسى - عليه السلام - مكافئًا له {فَاذْهَبْ} يا سامري طريدًا بين الناس {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ}؛ أي: ثابت لك مدة حياتك عقوبة ما فعلت {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ}؛ أي: قولك: لا مساس؛ أي: لا يمسني أحد، ولا أمس أحدًا خوفًا من أن تمسكما الحمى؛ أي: فإن قولك: لا مساس ثابت لك في مدة حياتك، لا ينفك عنك، فكان يصيح بأعلى صوته لا مساس؛ أي (¬1): لا أَمَس ولا أُمَس، إذا مسه أحدهم .. أخذت الحمى الماس والممسوس، فكان إذا أراد أحد أن يمسه .. صاح خوفًا من الحمى وقال: لا مساس، وحرم موسى عليهم ملاقاته، ومواجته، ومكالمته، ومبايعته، وغيرها مما يعتاد جريانه بين الناس من المعاملات، فكان يهيم في البرية وحيدًا طريدًا مع السباع، والوحوش. وفي "التأويلات النجمية" (¬2): يشير إلى أن قصدك ونيتك فيما سولت نفسك أن تكون مطاعًا متبوعًا، آلفًا مألوفًا، فجزاؤك في الدنيا أن تكون طريدًا وحيدًا، ممقتًا ممقوتًا متشردًا متنفرًا، تقول لمن رآك: لا تمسني ولا أمسك فنهلك. اهـ. وذلك ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

لأن في الانقطاع بعد الاتصال ألمًا شديدًا، بخلاف الانقطاع الأصلي. والمعنى (¬1): أي قال له موسى: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدًا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس؛ أي: لا يماسني أحد ولا أماس أحدًا، قال مقاتل: إن موسى - عليه السلام - أمره هو وأهله بالخروج من محلة بني إسرائيل، فخرج طريدًا في البراري. وقصارى ذلك: أنه خاف وهرب، وجعل يهيم في الصحارى والقفار، حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك، وقيل (¬2): أراد موسى قتله، فمنعه الله من قتله؛ لأنه كان شيخًا، قال بعض مشايخنا: وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خالفوا أمر الرسول - عليه السلام - أن لا يكلموا ولا يخالطوا، وأن يعتزلوا نساءهم، حتى تاب الله عليهم. وقرأ الجمهور: {لَا مِسَاسَ} بفتح السين والميم المكسورة، ومساس: مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بـ {لا} التي لنفي الجنس، وهو نفي يريد به النهي، أي: لا تمسني ولا أمسك، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وقعنب: بفتح الميم وكسر السين، فقال صاحب "اللوامح": هو على صورة نزال ونظار، من أسماء الأفعال، بمعنى أنزل وانظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها لا النافية، التي تنصب النكرات، نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل، فتقديره: لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس، ومعناه: النهي؛ أي: لا تمسني. انتهى. وظاهر هذا: أن مساس: اسم فعل، وقال الزمخشري: {لَا مِسَاسَ} بوزن فجار، معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولًا عن الفجرة. وأما جزاؤه في الآخرة: فقد ذكره بقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا}؛ أي: وعدًا في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

الآخرة بالعقاب على الشرك والإفساد {لَنْ تُخْلَفَهُ}؛ أي (¬1): لن يخلفه الله ذلك الوعد، بل ينجزه البتة، بعدما عاقبك في الدنيا، والخلف والإخلاف: المخالفة في الوعد، يقال: وعدني فأخلفني؛ أي: خالف في الميعاد، وقرأ الجمهور (¬2): {لَنْ تُخْلَفَهُ} بالتاء المضمومة وفتح اللام، على معنى لن يقع فيه خلف، بل ينجزه لك الله في الآخرة، على الشرك والإفساد بعدما عاقبك في الدنيا، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، والأعمش، وابن محيص، واليزيدي، والحسن: {لن تخلِفه}؛ أي: لن تستطيع الروغان والاختفاء والحيدة عنه، فتغيب عن موعد العذاب، وقرأ ابن مسعود، والحسن - بخلاف عنه -: {لن نخلفه} بالنون وكسر اللام؛ أي: لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئًا. وأما حال إلهه: فقد بيَّنه بقوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ}؛ أي: إلى هذا المعبود بزعمك {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}؛ أي: صوت مقيمًا على عبادته، والله {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بالنار (¬3)، ويؤيده قراءة: {لنحرقنه} من الإحراق، وهو إيقاع نارٍ ذات لهب في الشيء، بخلاف الحرق فإنه إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب، كحرق الثوب بالدق أو لنحرقنه بالمبرد، على أنه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد، ويعضده قراءة، {لنحرقنه} بفتح النون وضم الراء؛ أي: لنبردنه، يقال: بردت الحديد بالمبرد، والبرادة: ما سقط منه، وقرأ (¬4) الجمهور: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بضم النون وتشديد الراء، من حرقه يحرقه. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو جعفر، وأبو رجاء، والكلبي: {لنحرقنه} بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء، من أحرقه يحرقه رباعيًا، وقرأ علي، وابن عباس، وحميد، وأبو جعفر - في رواية - وعمرو بن فائد، وابن محيصن، وأشهب والعقيلي: {لنحرقنه} بفتح النون وضم الراء مخففةً، من حرقت الشيء: أحرقه وأحرقه بضم راء المضارع وكسرها، إذا بردته، وحككت بعضه ببعض, أي: لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد: المحرق، والقراءة الأولى أولى، ومعناها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[98]

الإحراق بالنار، وكذلك معنى القراءة الثانية؛ لأن الظاهر أن حرق وأحرق إنما يكون بالنار، وقد جُمع (¬1) بين هذه القراءات الثلاث بأنه أحرق بالنار أولًا، ثم برد بالمبرد، وفي مصحف أُبي، وابن مسعود (¬2) {لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه} وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحمًا ودمًا ذا روح، ويترتب الإحراق بالنار على هذا، وأما إذا كان جمادًا مصوغًا من العلي فيترتب برده لا إحراقه، إلا إن عني به إذابته، وقال السدي: أمر موسى بذبح العجل، فذُبح وسال منه الدم، ثم أُحرق ونُسف رماده، وقيل: بردت عظامه بالمبرد، حتى صارت بحيث يمكن نسفها. {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ}؛ أي: لنذرينه في هواء البحر، ونرمينه {نَسْفًا}؛ أي: ذروا ورميًا إذا كان رمادًا أو مبرودًا، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، حتى صار سحالةً كذرات الهباء، يقال: نسفت الريح التراب إذا أقلعته وأزالته، وذرته، والنسف (¬3): نقض الشيء ليذهب به الريح، والمنسف: ما يُنسف به الطعام، وهو شيء منصوب الصدر، أعلاه مرتفع، والنَّسَافة: ما يسقط منه. وقرأ الجمهور (¬4): {لَنَنْسِفَنَّهُ} بكسر السين، وقرأت فرقة - منهم عيسى -: بضم السين، وقرأ ابن مقسم: {لننسفنه} بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين، ولقد بر موسى (¬5) في قسمه، وفعل ما أوعده به، كما يدل على ذلك قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِك} ولم يصرح بهذا تنبيهًا إلى وضوحه واستحالة خلفه في وعيده المؤكد باليمين، وفي فعله ذلك به عقوبة للسامري، وإظهار لغباوة المفتونين به، لمن له أدنى نظر، 98 - وبعد أن فرغ من إبطال الباطل، شرع في تحقيق الدين الحق فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ}؛ أي: معبودكم المستحق منكم العبادة؛ أي: لا معبود لشيء من الأشياء موجود {إِلَّا هُوَ} وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء، بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية، لا هذا العجل الذي فتنتم به؛ أي: ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم: الله الذي لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط. (¬5) المراغي.

[99]

إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، وهو الخالق لكل شيء، قال في "بحر العلوم": قوله: {الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تقرير لاختصاص الإلهية، ونحوه قولك: القبلة الكعبة التي لا قبلة إلا هي، وقرىء (¬1) {الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش} {وَسِعَ} سبحانه {كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وانتصاب {عِلْمًا} على التمييز عن الفاعل؛ أي: وسع علمه - سبحانه وتعالى - كل شيء، فيعلم من يعبده ومن لا يعبده؛ أي: وسع علمه بكل ما كان وما يكون؛ أي: علم كل شيء وأحاط به عداً، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها, ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والجملة الفعلية: بدل من الصلة كأنه قيل: إنما إلهكم الله الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره، كائنًا من كان، فدخل فيه العجل دخولًا أوليًا، وقرأ (¬2) الجمهور: {وَسِعَ} السين مخففة وهو متعد إلى مفعول واحد، وهو {كُلَّ شَيْءٍ} و {عِلْمًا} تمييز كما مر آنفًا، وقرأ مجاهد وقتادة {وسع} بتشديد السين وفتحها، فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب {عِلْمًا} على أنه المفعول الأول، وإن كان متأخرًا، لأنه في الأصل: فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شيء. 99 - و {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} الكاف: صفة لمصدر محذوف تقديره؛ أي: نقص عليك يا محمد ونخبر لك {مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ}؛ أي (¬3): من أخبار الأمور الماضية، والأمم الدارجة، قصصًا مثل قص قصة موسى عليك فيما مر، تسليةً لك وزيادةً في علمك، ودلالةً على صدقك، وتذكيرًا للمستبصرين من أمتك، والقص (¬4): تتبع الأثر، والقصص: الأخبار المتتبَّعة، و {مِنْ} مفعول {نَقُصُّ} بالاعتبار مضمونه، والنبأ: خبر ذو فائدةٍ عظيمةِ، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ، حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي فيه نبأ: أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر وخبر الله تعالى وخبر النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) البيضاوي. (¬4) روح البيان.

[100]

والمعنى: نقص عليك يا محمد بعض الحوادث الماضية الجارية على الأمم السالفة، مثل ذلك القص البديع الذي سمعت، لا قصًا ناقصًا عنه، تبصرةً لك، وتوفيرًا لعلمك، وتكثيرًا لمعجزاتك، وتنبيهًا للمعتبرين من أمتك. والحاصل: أن الله - سبحانه وتعالى - يخاطب نبيه (¬1) - صلى الله عليه وسلم - ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجهوده، على هذا الأسلوب الرائع، والمسلك البديع، يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت عليه الأمم الخالية، ليكون له ذلك سلوةً، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لاقوه من أممهم من شديد العناد، والجحود والتكذيب، ومكابدة الشدائد والأهوال {وَقَدْ آتَيْنَاكَ} يا محمد؛ أي: ولقد أعطيناك {مِنْ لَدُنَّا}؛ أي: من عندنا {ذِكْرًا}؛ أي: كتابًا شريفًا (¬2) مطويًا على هذه الأقاصيص والأخبار، حقيقًا بالتذكر به، جديرًا بالتفكر فيه، والاعتبار به لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبي قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاوٍ للأحكام التي فيها صلاح حال البشر في دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق وسامي الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم، وينبه ذكرها، وفي "الكبير" في تسميته به وجوه: الأول: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه في أمر دينهم ودنياهم. والثاني: أن يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة. والثالث: فيه الذكر والشرف لك ولقومك، وسمى الله سبحانه كل كتبه ذكرًا فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} 100 - {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ}؛ أي: عن ذلك الذكر العظيم الشأن، الجامع لوجوه السعادة والنجاة، فلم يعتبر، ولم يعمل به لإنكاره إياه، وتكذيبه به، وابتغى الهدى من غيره. و {مَنْ} إما شرطية أو موصولة، وأيًا ما كانت، فالجملة صفة لـ {ذِكْرًا} {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإن ذلك المعرض عنه {يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}؛ أي: عقوبةً ثقيلةً على كفره، وسائر ذنوبه، وتسميتها وزرًا: تشبيهًا في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يقدح الحامل، وينقض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[101]

ظهره؛ أي: فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، ويحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله، بل ينقض ظهره، وبمعنى الآية قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم، من أهل الكتاب وغيرهم، فهو نذير له، فمن اتبعه .. اهتدى، ومن أعرض عنه .. ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة، كما قال {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 101 - حالة كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: ماكثين {فِيهَا}؛ أي: في ذلك الوزر, أي: في عقوبته مكثًا مؤبدًا، لا يجدون عنها محيصًا، ولا انفكاكًا، فهو حال من الضمير المستتر في يحمل، والجمع: بالنظر إلى معنى {من} لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها فيها. وقرأ الجمهور (¬1): {يَحْمِلُ}، مضارع حمل الثلاثي، مخففًا مبنيًا للفاعل، وقرأت فرقة - منهم داود بن رفيع -: {يحمل} مشدد الميم من حُمّل المضعف، مبنيًا للمفعول؛ لأنه يكلف ذلك، لا أنه يحمله طوعًا ووزرًا، مفعول ثان {وَسَاءَ}؛ أي: وبئس الوزر {لَهُمْ}؛ أي: للمعرضين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من جهة كونه {حِمْلًا} ثقيلًا {لَهُمْ}، والمخصوص بالذم: محذوف تقديره: وزرهم {وَسَاءَ} (¬2) هنا هي التي جرت مجرى يئس، لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم، لفساد المعنى، و (اللام) في {لَهُمْ}: للبيان كهي في {هَيْتَ لَكَ} لا متعلقة بـ {ساء} كأنه لما قيل: {ساء} قيل: لمن يقال هذا؟ فأجيب بـ {لَهُمْ} وجمع الضمير في {لَهُمْ} حملاً على معنى {مَنْ} بعد الحمل على لفظها في {أَعْرَضَ} وفي {فَإِنَّهُ} يحمل، وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير والتهويل؛ أي: وبئس عقاب وزرهم الذي حملوه يوم القيامة، جزاءً إعراضهم وكفرهم، وسائر ذنوبهم، 102 - وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من يوم القيامة، أو منصوب بإضمارك اذكر؛ أي: اذكر يا محمد لقومك، ولسائر الناس قصة يوم ينفخ إسرافيل في القرن، الذي التقمه للنفخ {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: ونخرج المتوغلين في الإجرام والآثام، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[103]

المنهمكين فيها، وهم الكفرة والمشركون، من مقابرهم، ونجمعهم {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يُنفخ في الصور، وذكره صريحًا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل حالة كونهم {زُرْقًا}؛ أي: زرق العيون، جمع أزرق، والزرقة: الخضرة في العين كعين الهرة، والعرب تتشاءم بزرقة العين، وهي أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، فإن الروم الذين كانوا أعدى عدوهم زرق، وقال الإِمام في "المفردات" قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}؛ أي: عميًا عيونهم، لا نور لها؛ لأن حدقة الأعمى تزرق، يعني أن العين إذا زال نورها أزرقت. والمعنى (¬1): هذا اليوم؛ أي: يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية، إيذانًا بالقيام للحشر والحساب، ويوم يساق فيه المجرمون إلى المحشر شاحبي الألوان، زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال، ومقاساة الشدائد، التي تحل بهم، والجمع (¬2) بين هذه الآية وبين قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} ما قيل: من أن ليوم القيامة حالاتٍ ومواطن، تختلف فيها صفاتهم، ويتنوع عندها عذابهم، وقرأ الجمهور (¬3): {يُنْفَخُ} مبنيًا للمفعول {وَنَحْشُرُ} بالنون مبنيًا للفاعل بنون العظمة، وقرأ أبو عمرو، وابن محيصن، وحميد {ننفخ} بنون العظمة لـ {نحشر} أسند النفخ إلى الآمر به، والنافخ: هو إسرافيل، ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة، وقرىء {ينفخ} و {يحشر} بالياء مبنيًا للفاعل، وقرأ الحسن، وابن عياض في جماعة {في الصور} على وزن درر، والحسن {ينفخ} بالياء مبنيًا للمفعول و {يحشر} مبنيًا للفاعل وبالياء؛ أي: ويحشر الله تعالى، 103 - وقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} استئناف (¬4) لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ، ويصح أن يكون حالًا من {الْمُجْرِمِينَ} والتخافت: إسرار المنطق وإخفاؤه؛ أي: يقول بعضهم لبعض خفيةً، من غير رفع صوت، بسبب امتلاء صدورهم من الخوف والهوان، أو استيلاء الضعف عليهم {إِنْ لَبِثْتُمْ}؛ أي: ما أقمتم وما مكثتم في الدنيا، أو في القبر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

[104]

{إِلَّا عَشْرًا}؛ أي: إلا عشر ليال، أو عشر ساعات استقصارًا لمدة لبثهم فيها، لزوالها؛ لأن أيام الراحة قليلة، والساعات تمر مر السحاب؛ أي: يساررون فيما بينهم، حال كونهم قائلين في السر: {إِنْ لَبِثْتُمْ} في الدنيا {إِلَّا} عشر ليال، لأنهم يرون من شدة (¬1) أهوال ذلك اليوم ما يقلل ذلك في أعينهم، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في الدنيا، أو في القبور إلا عشرة أيام مع لياليها، وهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا، لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك، اعترافًا به، وتحقيقًا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبور إلا مدةً يسيرة، وقوله (¬2): {إِلَّا عَشْرًا} يحتمل عشر ليال، أو عشرة أيام؛ لأن المذكر إذا حذف وأبقى عدده، قد لا يؤتى بالتاء، حكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمسًا، ومنه ما جاء في الحديث: "ثم أتبعه بست من شوال" يريد ستة أيام، وحسَّن الحذف هنا كون ذلك فاصلةً رأس آية، ودل قوله الآتي {إِلَّا يَوْمًا} على أن المراد بقولهم عشرًا: عشرة أيام، ثم لما قالوا هذا القول .. 104 - قال الله - سبحانه -: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} وهو مدة لبثهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} وأوفرهم وأوفاهم {طَرِيقَةً}؛ أي: رأيًا وعقلًا، وأعلمهم عند نفسه: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} أي: ما لبثتم إلا يومًا واحدًا، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، لكونه أدل على شدة الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق. 105 - {وَيَسْأَلُونَكَ}؛ أي: ويسألك يا محمد مشركو مكة على سبيل الاستهزاء {عَنِ} حال {الْجِبَالِ} يوم القيامة، وقد كانوا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمره الله - سبحانه - أن يجيب عنهم، فقال: {فَقُلْ} و (الفاء) (¬3) في قوله {فَقُلْ} يا محمد: واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن سألوك فقل جوابًا لهم {يَنْسِفُهَا}؛ أي: يقلعها {رَبِّي} من أصولها {نَسْفًا}؛ أي: قلعًا ثم يصيرها رملًا يسيل سيلًا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش، تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور 106 - والضمير في {فَيَذَرُهَا} عائد إلى {الْجِبَالِ} باعتبار مواضعها؛ أي: فيذر ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[107]

مواضعها، ويتركها بعد نسف ما كان عليها من الجبال، وعبارة "أبي السعود" هنا: أي يتركها، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السالفة الباقية بعد النسف، وهي مقارها ومراكزها؛ أي: فيذر ما انبسط منها وساوى مسطح أجزاء الأرض بعد نسف الشاهق منها، وإما الأرض المدلول عليها بقرينة الحال؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال، انتهت. {قَاعًا}؛ أي: مكانًا فارغًا سهلًا مطمئنًا {صَفْصَفًا}؛ أي: مستويًا، كأن أجزاءها على صف واحد من كل جهة، والظاهر من لغة العرب أن القاع: الموضع المنكشف البارز، والصفصف: المستوي الأملس، 107 - والخطاب (¬1) في قوله: {لَا تَرَى فِيهَا} لكل من يتأتى منه الرؤية، وهو استئناف مبين لكيفية القاع الصفصف؛ أي: لا ترى أيها المخاطب لا بالبصر ولا بالبصيرة فيها؛ أي: في مقار الجبال ومواضعها بعد نسفها {عِوَجًا}؛ أي: انخفاضًا {وَلَا أَمْتًا}؛ أي: ارتفاعاً يسيرًا، قال الزمخشري: الأمْتُ: النتوء اليسير. والمعنى: أي (¬2) ويسألك المشركون أيها الرسول، عن الجبال كيف تكون يوم القيامة، فقل مجيبًا لهم: يدكها ربي دكًا، ويصيِّرها هباءً تذروه الرياح، فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساءً مستويةً، لا نبات فيها ولا بناء, ولا ارتفاع ولا انخفاض. وخلاصة هذا: لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابيةً، ولا مكانًا مرتفعًا ولا منخفضًا 108 - {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ نسفت الجبال، على إضافة اليوم إلى وقت النسف، وهو ظرف لقوله: {يَتَّبِعُونَ}؛ أي: الناس {الدَّاعِيَ} الذي يدعوهم إلى الموقف والمحشر، وهو إسرافيل - عليه السلام - يدعو الناس عند النفخة الثانية قائمًا على صخرة بيت المقدس، كما قيل، ويقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قوموا إلى عرض الرحمن، فيقبلون من كل أوب صوبه؛ أي: من كل جانبٍ إلى جهته {لَا عِوَجَ لَهُ}؛ أي: لا ميل ولا انحراف لهم عن دعائه؛ أي: لا يزيغون (¬3) عنه يمينًا ولا شمالًا، بل يأتونه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

سرا عاً. اهـ "خازن". وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالًا من {الدَّاعِيَ} ويجوز أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، تقديره: يتبعونه اتباعًا لا عوج له، والضمير: في {لَهُ} فيه أوجه: أظهرها: أنه يعود على {الدَّاعِيَ}؛ أي: لا عوج لدعائه، بل يُسمع جميعهم، فلا يميل إلى ناس دون ناس. والثاني: قيل هو عائد على ذلك المصدر المحذوف؛ أي: لا عوج لذلك الاتباع. والثالث: أن في الكلام قلبًا، تقديره: لا عوج لهم عنه اهـ "سمين". {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ}؛ أي: سكنت وخفتت وخفضت {لِلرَّحْمَنِ}؛ أي: لهيبته، وذلت أصحابها، وخضعت لجلاله سبحانه، والخشوع: الخضوع، وهو: التواضع والسكون، أو هو في الصوت والبصر، والخضوع في البدن، وفي "المفردات" (¬1) الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح، والضراعة: أكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب .. خشعت الجوارح، والصوت: هواء متموج بتصادم جسمين، وهو عام، والحرف: مخصوص بالإنسان {فَلَا تَسْمَعُ} أيها المخاطب ويا محمد حينئذ {إِلَّا هَمْسًا}؛ أي: إلا صوتًا خفيًا، وهو صوت وطء الأقدام في مشيها إلى المحشر، كصوت أخفاف الإبل في مشيها، يقال: همست الإبل: إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض اهـ "سمين"، ومعنى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}؛ أي: يوم (¬2) يرى الناس هذه الأهوال .. يتبعون صوت داعي الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعًا إليه يقبلون، إذا أمروا بشيء قالوا: لبيك ونحن بين يديك والأمر منك وإليك، كما قال {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ومعنى: {وَخَشَعَتِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[109]

الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}؛ أي: وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه، وحق لمن كان الله سبحانه محاسبه أن يخشع طرفه، ويضعف صوته، ويخلص قوله، ويطول غمه، 109 - قال أبو مسلم: {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ}؛ أي: لا تنفع شفاعة الشافعين أحدًا من المشفوعين {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}؛ أي: إلا مشفوعًا أذن الرحمن في أن يشفع له؛ أي: في شفاعة الشافعين له {وَرَضِيَ} الرحمن {لَهُ}؛ أي: لذلك المشفوع {قَوْلًا} من أقواله الحاصلة له في الدنيا، وهو قول: شهادة أن لا إله إلا الله، بأن مات على الإِسلام وإن عمل السيئات، وأما من عداه فلا تكاد تنفعه، وإن فرض صدورها من الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، وهي نافعة لهم، والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} من أعم المفاعيل كما قدرنا آنفًا، أو المعنى: يومئذ لا تنفع شفاعة الشافعين، ولا تُقبل منهم، إلا من أذن له الرحمن, أي: إلا شفاعة شافعٍ أذن له الرحمن في شفاعته للغير، ورضى له قولًا في طلب شفاعته للغير، وعلى هذا المعنى فـ {مَنْ} الموصولة في محل الرفع على البدلية من الشفاعة، ولكنه على حذف مضاف، تقديره؛ أي: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، ورضي له قولًا، قال الإِمام الراغب: الشفاعة (¬1): الانضمام إلى آخر ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبةً إلى من هو أدنى منه، ومنه الشفاعة في القيامة، والإذن في الشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه، كما سيأتي. المعنى: أي يومئذ (¬2) لا تنفع الشفاعة أحدًا، إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولًا صدر منه، والفاسق قد قال قولًا يرضاه الرحمن، فقد قال: لا إله إلا الله، كما روي عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[110]

والخلاصة: أن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين: 1 - إذن الله للشافع بالشفاعة فيه. 2 - رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له. وقصارى ذلك: أنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي الله سبحانه، وبمعنى الآية قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} 110 - ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه .. علل ذلك بقوله: {يَعْلَمُ} الله سبحانه وتعالى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من (¬1) أمور الآخرة؛ أي: يعلم سبحانه ما بين أيدي المتبعين الداعي، وهم الخلق جميعًا {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمور الدنيا {و} هم {لا يحيطون به}؛ أي: بما بين أيديهم وما خلفهم {عِلْمًا}؛ أي: لا يعلمون ذلك. وقيل: المعنى: يعلم الله سبحانه ما بين أيديهم، أي (¬2): ما تقدمهم من الأحوال وما خلفهم؛ أي: وما بعدهم مما يستقبلون. والمعنى (¬3): أي يعلم ما بين أيدي عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله، وقيل: المعنى: ولا يحيطون به (¬4) تعالى علمًا؛ أي: لا تحيط علومهم بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته؛ لأنه تعالى قديم، وعلم المخلوقين لا يحيط بالقديم، قال الراغب: والإحاطة بالشيء: هي أن تعلم وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به إيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله - سبحانه وتعالى - 111 - ولما ذكر خشوع الأصوات .. أتبعه خضوع ذويها فقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}؛ أي: ذلت وجوه الخلائق وذواتهم كلها، صالحةً وعاصيةً، إن قلنا: إن {أل} فيه للجنس، أو ¬

_ (¬1) الجلالين. (¬2) المراح. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[112]

وجوه العصاة، إن قلنا: إنها للعهد كقوله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وعبر عن المكلفين بالوجوه لأن الخضوع فيها يتبين، كما في "الكبير"؛ أي (¬1): ذلت الوجوه يوم الحشر وخضعت {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} خضوع العناة؛ أي: الأسارى في يد ملك قهار، وفي "التأويلات النجمية" خضعت وتذللت وجوه المكونات لمكونها الحي الذي به حياة كل حي، القيوم الذي به قيام كل شيء، احتياجًا واضطرارًا واستسلامًا، يقال: عني يعنو عنوًا: إذا خضع، ومنه قيل للأسير: عانٍ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت. مَلِيْكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُوْ الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ ثم قسم الوجوه إلى قسمين بقوله: {وَقَدْ خَابَ ...} إلخ. وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ ...} إلخ، أي: وقد خاب وخسر وهلك هلاكًا أبديًا يوم الحشر {من حمل} وارتكب في الدنيا {ظُلْمًا}؛ أي: شركًا وكفرًا بالله وبرسوله، ومات على ذلك ولم يتب منه، قال الراغب: الخيبة: فوت المطلب. والمعنى؛ أي (¬2) وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس في معاصيه. 112 - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ}؛ أي (¬3): بعض الصالحات لـ {من} مفعول {يَعْمَلْ} باعتبار مضمونه {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}؛ أي: والحال أنه مؤمن بالله ورسوله، وبجميع ما جاء به؛ لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات، وقبول الحسنات {فَلَا يَخَافُ} من الله {ظُلْمًا} بزيادةٍ في سيئاته، أو بمنع ثواب مستحق بموجب الوعد {وَلَا هَضْمًا} بنقص من حسناته، أو ولا كسرًا منه بنقص، قيل: الظلم (¬4) والهضم متقاربان، وفرق القاضي الماوردي بينهما فقال: الظلم: منع جميع الحق، والهضم: منع بعضه. والمعنى: أي (¬5) ومن يعمل صالح العمل على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات. (¬5) المراغي.

[113]

ورسله، وما أنزله عليهم من كتبه، فلا يخاف من الله ظلمًا، بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها، ونحو الآية قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وخلاصة ذلك: أنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله، ولا تبطل له حسنة قد عملها. وقرأ الجمهور: {فَلَا يَخَافُ} على الخبر؛ أي: فهو لا يخاف، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد: {فلا يخف} على النهي 113 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: وكما أنزلنا عليك ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها {وأنزلناه}؛ أي؛ أنزلنا القرآن كله، وإضماره من غير سبق ذكر للإيذان بنباهة شأنه، وكونه مركوزًا في العقول، حاضرًا في الأذهان، قال الزمخشري: وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات، أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة. اهـ وعبارة "السمين". {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ}: معطوف على قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} اهـ قال في "بحر العلوم": ويجوز أن يكون ذلك إشارةً إلى مصدر {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: مثل ذلك الإنزال البين {أَنْزَلْنَاهُ} حال كونه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}؛ أي (¬1): بلغة العرب ليفهموه، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر، نازلًا من عند خلاق القوى والقدر. والمعنى: وكما أنزلنا (¬2) ما ذكر من الوعد وأحوال يوم القيامة وأهوالها، أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربي مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه، مما فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم، وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: كما أنزلنا الصحائف والكتب إلى آدم وغيره من الأنبياء بألسنتهم ولغاتهم المختلفة، كذلك أنزلنا إليك قرآنًا عربيًا بلغة العرب، وحقيقة كلامه التي هي الصفة القائمة بذاته، منزهة عن الحروف والأصوات المختلفة المخلوقة، وإنما الأصوات والحروف تتعلق باللغات والألسنة ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراغي.

المختلفة. اهـ. {وَصَرَّفْنَا فِيهِ}؛ أي: وبينا في القرآن، وكررنا فيه بعض الوعيد والتهديد، وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: أوعدنا فيه قومك بأصناف العقوبات التي عاقبنا بها الأمم الماضية، وكررنا ذلك عليهم، قال في الكبير: يدخل تحته بيان الفرائض والمحارم؛ لأن الوعيد بهما يتعلق. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ أي: لكي يخافوا عقاب الله، فيجتنبوا الشرك والمعاصي، بالفعل {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} القرآن ويجدد لهم {ذِكْرًا}؛ أي: إيقاظًا واتعاظًا واعتبارًا بهلاك من قبلهم من الأمم، حين يسمعونهم فيثبطوا عنها, ولهذه (¬1) النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن، وإحداث (¬2) الشيء إيجاده بعد أن لم يكن، والحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن عرضًا كان أو جوهرًا. وفي "الكرخي": أضيف الذكر إلى القرآن ولم تضف التقوى إليه؛ لأن التقوى: عبارة عن أن لا يفعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي، فلم يحسن إسناده إلى القرآن، وأما حدوث الذكر .. فأمر يحدث بعد أن لم يكن، فجازت إضافته إلى القرآن. اهـ. وقرأ (¬3) الحسن: {أو يحدث} ساكنة الثاء، وقرأ عبد الله، ومجاهد، وأبو حيوة، والحسن - في رواية - والجحدري، وسلام: {أو نحدث} بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل على وقف، أو تسكين حرف الإعراب استثقالًا لحركته، وفي "زاد المسير": وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري: {أو نحدث} بنون مرفوعة. انتهى. ومعنى الآية: أي وخوفناهم بضروب من الوعيد، كي يجتنبوا الشرك، والوقوع في المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظةً تدعوهم إلى فعل الطاعات. وخلاصة ذلك: أنهم بدراستهم: إما أن يصلوا إلى مرتبة هي ترك المعاصي والوقوع في الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هي فوق ذلك، وهي: أن يفعلوا الطاعات، ويؤدوا الفرائض والواجبات. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[114]

114 - وبعد أن عظم الله كتابه، أردفه بتعظيم نفسه فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ} - سبحانه وتعالى -؛ أي: ارتفع بذاته، وتنزه عن مماثلة المخلوقين، في ذاته وصفاته وأفعاله وأحواله {الْمَلِكُ}؛ أي: السلطان النافذ أمره ونهيه، الحقيق بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده {الْحَقُّ} في ملكوته وألوهيته، الحقيق بالملك لذاته. الحاصل: أنه سبحانه، لما بيَّن (¬1) للعباد عظيم نعمته عليهم، بإنزال القرآن .. نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء؛ أي: جل الله عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون في صفاته، فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، وإنه الحق؛ أي: ذو الحق، ولا يخفى (¬2) ما في هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن، وبيان أن قواعده وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره {وَلَا تَعْجَلْ} يا محمد {بِالْقُرْآنِ}؛ أي: بقراءته في نفسك {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى} ويؤدي {إِلَيْكَ وَحْيُهُ}؛ أي: إلقاؤه وقراءته، ويفرغ منه ويتم جبريل تبليغه لك، وكان (¬3) محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا ألقى إليه جبريل الوحي .. يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهي عن ذلك، إذ ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها. المعنى: لا تعجل بقراءة القرآن خوف النسيان والانفلات قبل أن يستتم جبريل قراءته، ويفرغ من الإبلاغ والتلقين، فإذا بلَّغ فاقرأه، وقال أبو مسلم: ولا تعجل بقراءته في نفسك، أو في تأديته إلى غيرك، أو في اعتقاد ظاهره، أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره، وفي هذا أنزل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وخلاصة ذلك: أنصت حين نزول الوحي بالقرآن عليك، حتى إذا فرغ الملك من قراءته .. فاقرأه من بعده. وقرأ الجمهور (¬1): {يُقْضَى إِلَيْكَ} مبنيًا للمفعول {وَحْيُهُ}: مرفوع به، وقرأ عبد الله، والجحدري والحسن، وأبو حيوة، ويعقوب، وسلام، والزعفراني، وابن مقسم: {نقضي} بنون العظمة، مفتوح الياء {وحيه}: بالنصب، وقرأ الأعمش؛ كذلك إلا أنه سكن الياء من {نقضي} قال صاحب، اللوامح لا وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء، بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفًا. انتهى. وفي "التأويلات النجمية" وفي قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} إشارة إلى سكوته عند قراءة القرآن، واستماعه والتدبر في معانيه وأسراره، للتنور بأنواره، وكشف حقائقه، ولهذا قال: {وَقُلْ} يا محمد في نفسك {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}؛ أي: فهمًا (¬2) لإدراك حقائقه، فإنها غير متناهية، وتنورًا بأنواره، وتخلقًا بخلقه، وقال بعضهم: {عِلْمًا} بالقرآن، فكان كل ما نزل عليه شيء من القرآن .. ازداد به علمًا. والمعنى: أي سل الله زيادةً في العلم، دون استعجال بتلاوة الوحي، فإن ما أوحي إليك يبقى لا محالة، روى الترمذي، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار". وكان ابن مسعود: إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني إيمانًا وفقهًا ويقينًا وعلمًا. وفي الآية: بيان لشرف العلم، وقيل: ما أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة في شيء إلا في طلب العلم، والمعتبر هو العلم النافع، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" والعلم بالله لا يتيسر إلا بتصفية الباطن، فتصفية القلب عما سوى الله تعالى من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ولذلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

كان مطمع نظر الأكابر في إصلاح القلوب والسرائر. الإعراب {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية و {اللام}:موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {قَالَ}: فعل ماض {لَهُمْ}: متعلق به {هَارُونُ}: فاعل {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ} أيضًا، أو حال من {هَارُونُ} والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {قَالُوا}: مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّمَا}: كافة ومكفوفة {فُتِنْتُمْ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل {به} متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قال} على كونه جواب النداء {وَإِنَّ رَبَّكُمُ} (الواو): عاطفة {إِنَّ}: حرف نصب {رَبَّكُمُ} اسمها {الرَّحْمَنُ}: خبرها، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، على كونها مقول {قَالَ} {فَاتَّبِعُونِي} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن ربكم الرحمن، وأردتم إظهار النصيحة لكم .. فأقول لكم {فَاتَّبِعُونِي} {اتبعوني}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُوا أَمْرِي}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {فَاتَّبِعُونِي}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا {لَنْ نَبْرَحَ} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا} وإن شئت قلت. {لَنْ}: حرف نفي ونصب {نَبْرَحَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {لَنْ} واسمها: ضمير مستتر عائد على عابدي العجل {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {عَاكِفِينَ} {عَاكِفِينَ}: خبر {نَبْرَحَ} منصوب بالياء، وجملة {نَبْرَحَ}: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {حَتَّى} حرف جر وغاية، بمعنى إلى {يَرْجِعَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة

وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى {إِلَيْنَا}: متعلق به {مُوسَى}: فاعل والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره، إلى رجوع {مُوسَى}. {إِلَيْنَا} الجار والمجرور متعلق بـ {نَبْرَحَ} أو بـ {عَاكِفِينَ}. {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: معطوفة بعاطف مقدر على جملة محذوفة، تقديرها: فرجع موسى إليهم و {قَالَ يَا هَارُونُ ...} إلخ. {يَا هَارُونُ} إلى قوله: {قَالَ} مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت .. قلت {يَا هَارُونُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء، في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخ، في محل الرفع مبتدأ {مَنَعَكَ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {مَا} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {إِذْ}: ظرف متعلق بـ {مَنَعَكَ}. {رَأَيْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، وجملة: {ضَلُّوا} في محل النصب مفول ثان لـ {رأيت} إن قلنا إنها قلبية، أو في محل النصب حال من ضمير المفعول إن قلنا إنها بصرية، وجملة {رأيت}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} {أن}: حرف نصب ومصدر {لا} زائدة {تتبع}: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله: ضمير يعود على {هَارُونُ} و {النون} نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية: في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بحرف محذوف، تقديره: {مَا مَنَعَكَ} من اتباعك إياي في الجبل، أو في الغضب لله الجار والمجرور متعلق بـ {مَنَعَكَ}. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}. {أَفَعَصَيْتَ} الهمزة: فيه للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أأقمت بين هؤلاء الذين عبدوا العجل {فَعَصَيْتَ أَمْرِي}. {عَصَيْتَ أَمْرِي}: فعل وفاعل ومفعول،

والجملة، معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على {هَارُونُ} والجملة: مستأنفة {يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ} إلى قوله: {قَالَ} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يا} حرف نداء {ابن}: منادى مضاف منصوب بفتحة ظاهرة {ابن}: مضاف {أمَّ} بالفتح: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المنقلبة ألفًا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحة لمناسبة الألف المحذوفة اجتزاءً عنها بالفتحة {أمَّ} مضاف وياء المتكلم المنقلبة ألفًا محذوفةً: في محل الجر مضاف إليه، وبالكسر مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة {أم}: مضاف وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، وقد بسطنا إعراب المنادى المضاف إلى ياء المتكلم في رسالتنا "هدية أولى العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها إن أردت بسط المقام، وجملة المنادى: في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَا}: ناهية جازمة {تَأْخُذْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا}: ناهية، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {بِلِحْيَتِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَأْخُذْ}. {وَلَا بِرَأْسِي}: معطوف على {بِلِحْيَتِي} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {إِنِّي}: ناصب واسمه {خَشِيتُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنّ}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَن}: حرف نصب ومصدر {تَقُولَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة الفعلية، مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره {إِنِّي خَشِيتُ} قولك {فَرَّقْتَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {تَقُولَ}. {بَيْنَ}: ظرف مكان متعلق بـ {فَرَّقْتَ} {بَيْنَ} مضاف {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مضاف إليه {وَلَمْ تَرْقُبْ} (الواو): عاطفة {لم ترقب}: جازم ومجزوم، وفاعله: ضمير يعود على {هارون}. {قَوْلِي}: مفعول به ومضاف إليه وياء المتكلم: واقعة على {مُوسَى} والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة {فَرَّقْتَ}: على كونها مقولًا لتقول؛ أي: {و}

خشيت أن تقول {لم ترقب قولي}: أي: {قَوْلِي} لك {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} وعلى هذا الاحتمال جمهور المفسرين، ويجوز عطف قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ} على {أَنْ تَقُولَ}: فيكون الضمير في {قَوْلِي} واقعًا على {هَارُونُ}؛ أي: وخشيت عدم ترقبك لـ {قَوْلِي}؛ أي: {خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ} وخشيت عدم تأملك في {قَوْلِي} حتى تفهم عذري. {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {فَمَا خَطْبُكَ}: مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {فَمَا} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: اتخذت العجل إلهًا {فَمَا خَطْبُكَ} والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {ما}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع مبتدأ {خَطْبُكَ}: خبر المبتدأ، ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة المحذوفة {يَا سَامِرِيُّ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {السَامِرِيُّ} والجملة: مستأنفة {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا} إلى قوله: {قَالَ فَاذْهَبْ}: مقول محكي لـ {قَالَ} وإن شئت قلت: {بَصُرْتُ}: فعل وفاعل {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} {لَمْ يَبْصُرُوا}: جازم وفعل وفاعل {بِهِ}: متعلق به، والجملة: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد: ضمير {بِهِ}. {فَقَبَضْتُ} (الفاء): عاطفة {قبضت}: فعل وفاعل معطوف على {بَصُرْتُ}. {قَبْضَةً}: مفعول به وهو مصدر مرة من قبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر {مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {قَبْضَةً} وهو على تقدير مضافين؛ أي: {مِنْ أَثَرِ} حافر فرس {الرَّسُولِ} والمعنى: من تربة موطئه {فَنَبَذْتُهَا} (الفاء) عاطفة {نبذتها} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {قبضت}. {وَكَذَلِكَ} (الواو): عاطفة {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صف لمصدر محذوف {سَوَّلَتْ}. {نَفْسِي} فعل

وفاعل {لِي}: جار ومجرور متعلق بـ {سَوَّلَتْ} والتقدير وسولت لي نفسي عبادة العجل تسويلًا كائنًا كتسويل الذي فعلته من القبض والنبذ، ويصح كون (الكاف) زائدة واسم الإشارة مفعولًا مقدمًا لـ {سَوَّلَتْ} والجملة: في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلها، على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة: مستأنفة {فَاذْهَبْ} (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت: إن فعلك هذا من تسويل النفس، وأردت بيان جزائك .. فأقول لك {اذهب} {اذهب}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على {السَّامِرِيُّ} والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَإِنَّ} (الفاء): عاطفة {إِنّ} حرف نصب {لَكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لأن {فِي الْحَيَاةِ}: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {أن} {أَنْ تَقُولَ}: ناصب وفعل منصوب، وفاعله: ضمير يعود على {السَّامِرِيُّ} والجملة الفعلية: في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم {أَنّ} تقديره: فإن قولك {لَا مِسَاسَ} كائن لك {فِي الْحَيَاةِ} وجملة {إنّ}: معطوفة على جملة {اذهب} على كونها مقول {قَالَ} {لَا} نافية تعمل عمل إن {مِسَاسَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا}: محذوف تقديره: {لَا مِسَاسَ} كائن لي، وجملة {لَا}: في محل النصب مقول {تَقُولَ}. {وَإِنَّ} الواو: عاطفة {إنّ}: حرف نصب {لَكَ} خبرها مقدم {مَوْعِدًا}: اسمها مؤخر {لَنْ} حرف نصب {تُخْلَفَهُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ {لَن} ونائب فاعله: ضمير يعود على {السَّامِرِيُّ} وهو المفعول الأول، و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول ثان له، والجملة الفعلية: في محل النصب صفة لـ {مَوْعِدًا} ولكنها سببية، والتقدير: وإن موعدا لن تخلفه كائن لك، وجملة {إِنَّ}: معطوفة على جملة {إن} المذكورة قبلها.

{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}. {وَانْظُرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {السَّامِرِيُّ} والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَاذْهَبْ}. {إِلَى إِلَهِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {انظر} {الَّذِي}: في محل جر صفة لـ {إِلَهِكَ}. {ظَلْتَ}: فعل ناقص واسمه وأصله: ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفًا كما سيأتي في مبحث التصريف {عَلَيْهِ} متعلق بـ {عَاكِفًا}. {عَاكِفًا} خبر {ظَلْتَ} والجملة: صلة الموصول، والعائد: ضمير عليه {لَنُحَرِّقَنَّهُ} (اللام): موطئة للقسم {نحرقن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} ومن معه و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {لَنَنْسِفَنَّهُ} (اللام): موطئة للقسم {ننسفن} فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى} ومن معه و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول به، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم المذكورة قبلها {فِي الْيَمِّ}: متعلق بـ {ننسفن}. {نَسْفًا} منصوب على المفعولية المطلقة. {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}. {إِنَّمَا}: كافة ومكفوفة {إِلَهُكُمُ}: مبتدأ {اللَّهُ} خبره والجملة: مستأنفة أو في محل النصب مقول {قَالَ}. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة {لَا}: نافية {إِلَهَ} في محل النصب اسم {لَا} وخبر {لَا}: محذوف تقديره: موجود {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ هُو ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا} وجملة {لَا} من اسمها وخبرها صلة الموصول {وَسِعَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الموصول {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به ومضاف إليه {عِلْمًا}: تمييز محول عن الفاعل، والجملة

الفعلية: بدل من جملة {لَا} على كونها صلة الموصول. {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)}. {كَذَلِكَ} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف {نَقُصُّ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {اللَّهُ}. {عَلَيْكَ}: متعلق به، والتقدير: {نَقُصُّ عَلَيْكَ} قصًا كائنًا كقص قصة موسى - عليه السلام - والجملة: مستأنفة {مِنْ أَنْبَاءِ}: جار ومجرور صفة لموصوف محذوف هو مفعول به {نَقُصُّ عَلَيْكَ} نبأً كائنًا {مِنْ أَنْبَاءِ} {مَا قَدْ سَبَقَ} {أَنْبَاءِ} مضاف {مَا} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه {قَدْ}: حرف تحقيق {سَبَقَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مَا} والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة {وَقَدْ آتَيْنَاكَ} (الواو): عاطفة {قَدْ} حرف تحقيق {آتَيْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول {مِنْ لَدُنَّا} جار ومجرور ومضاف إليه حال من {ذِكْرًا}. {ذِكْرًا}: مفعول ثان لـ {أتيناك} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل {نَقُصُّ} أو مستأنفة. {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {أَعْرَضَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {فَإِنَّهُ} (الفاء): رابطة لجواب {مَنْ}: الشرطية لكون الجواب جملة اسمية {إن}: حرف نصب و (الهاء): اسمها {يَحْمِلُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق به {وِزْرًا}: مفعول به، وجملة {يَحْمِلُ}: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: في محل النصب صفة لـ {ذِكْرًا}؛ أي: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} منطوياً مشتملاً على هذه القصص {يَحْمِلُ} المعرض عنه {وِزْرًا} كاملًا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. {خَالِدِينَ}: حال من فاعل {يَحْمِلُ} العائد على {مَنْ} الشرطية مراعاة لمعناها بعد مراعاة لفظها {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَالِدِينَ}

والضمير: يعود للوزر {وَسَاءَ} (الواو): استئنافية {ساء} فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: هو يعود على المبهم الذي يفسره التمييز المتأخر عنه لفظًا ورتبة {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بالقول المقدر؛ أي: يقال: هذا الكلام لهم في حقهم لا متعلقة بـ {ساء} وقيل: هي كاللام في {هَيْتَ لَكَ}؛ أي: لمجرد البيان، فراجع سورة يوسف {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف متعلق بـ {ساء}. {حِمْلًا} تمييز لفاعل {ساء} وجملة {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} جملة إنشائية مستأنفة، والمخصوص بالذم، محذوف تقديره: وزرهم، والمعنى: بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرًا بالقرآن. اهـ "كرخي". {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)}. {يَوْمَ}: بدل من {يَوْمَ الْقِيَامَة}. {يُنْفَخُ}: فعل مضارع مغير الصيغة {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {وَنَحْشُرُ}: فعل مضارع معطوف على {يُنْفَخُ} وفاعله: ضمير يعود على الله {الْمُجْرِمِينَ}: مفعول به {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف إلى ظرف متعلق بـ {نحشر} والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة {زُرْقًا}: حال من {الْمُجْرِمِينَ} وجملة. {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}. {يَتَخَافَتُونَ}: حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم {بَيْنَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق {يَتَخَافَتُونَ}. {إِن}: نافية {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل إلا أداة حصر استثناء مفرغ {عَشْرًا} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {لَبِثْتُمْ} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لقول محذوف، واقع حالًا من فاعل {يَتَخَافَتُونَ}؛ أي: يتسارون بينهم، حال كونهم قائلين: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}. {نَحْنُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة {بِمَا} متعلق بـ {أَعْلَمُ} وجملة {يَقُولُونَ}: صلة لـ {ما} {إِذْ} ظرف متعلق بـ {أَعْلَمُ} {يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} فعل وفاعل {طَرِيقَةً} تمييز ذات، والجملة: مضاف إليه لـ {إِذْ} {إِنْ} نافية {لَبِثْتُمْ} فعل وفاعل {إِلَّا} أداة حصر {يَوْمًا} ظرف متعلق بـ {لَبِثْتُمْ} والجملة الفعلية: في

محل النصب مقول {يقول}. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}. {وَيَسْأَلُونَكَ} الواو: استئنافية {يسألونك}: فعل وفاعل ومفعول أول {عَنِ الْجِبَالِ} في محل المفعول الثاني، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء {فَقُلْ} (الفاء): عاطفة {قل}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: معطوفة على جملة {يسألونك}. {يَنْسِفُهَا رَبِّي}: فعل ومفعول به وفاعل {نَسْفًا}: مفعول مطلق، والجملة: في محل النصب مقول {قل}. {فَيَذَرُهَا} (الفاء): عاطفة {يذرها} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {يَنْسِفُهَا}. {قَاعًا}: حال من الضمير المنصوب، أو مفعول ثان لتضمين {يذر} معنى التصيير {صَفْصَفًا}: حال ثانية، أو بدل من المفعول الثاني، وأعربه بعضهم صفةً له {لَا}: نافية {تَرَى}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب {فِيهَا}، متعلق بـ {تَرَى}. {عِوَجًا}: مفعول به لأن {تَرَى}: بصرية {وَلَا أَمْتًا}: معطوف على {عِوَجًا} والجملة الفعلية: في محل النصب حال ثالثة أو حال أولى. {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)}. {يَوْمَئِذٍ} {يومَ}: منصوب على الظرفية وهو مضاف {إذٍ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين: عوض عن الجملة المحذوف، والظرف: متعلق بـ {يَتَّبِعُونَ} أو بدل من {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المتقدم {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة {لا} نافية {عِوَجَ} في محل النصب اسم {لا}. {لَهُ}: جار ومجرور خبر {لا} وجملة {لا}: في محل النصب حال من {الدَّاعِيَ} أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: يتبعونه اتباعًا {لَا عِوَجَ لَهُ} ويجوز أن تكون مستأنفة، والأول: أظهر؛ لأن

الضمير في {لَهُ} يعود عليه؛ أي: {لَا عِوَجَ} لدعائه بل يسمع جميعهم، فلا يميل إلى أناس دون أناس {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ}: فعل وفاعل معطوف على {يَتَّبِعُونَ}. {لِلرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {خشعت}. {فَلَا} (الفاء): عاطفة {لا} نافية {تَسْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير مستتر فيه يعود على أي مخاطب، أو على محمد {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {هَمْسًا}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {خشعت}. {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)}. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى ظرف متعلق بـ {لَا تَنْفَعُ}. {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مَن} اسم موصول واقع على المشفوع، في محل النصب مفعول به لـ {تَنْفَعُ} ويجوز أن تكون بدلًا من {الشَّفَاعَةُ} على قاعدة المستثنى المنفي، أو النصب على الاستثناء المتصل من {الشَّفَاعَةُ} ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف، تقديره: إلا شفاعة من أذن له، وإذا اعتبر المستثنى منقطعًا .. وجب نصبه، فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان، ورجح الزمخشري الرفع على البدلية، وتبعه القاضي البيضاوي {أَذِنَ} فعل ماض {لَهُ} متعلق به {الرَّحْمَنُ} فاعل والجملة: صلة الموصول {ورضي}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله {لَهُ} متعلق بـ {رضي} {قَوْلًا} مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {أَذِنَ}. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {الرَّحْمَنُ} والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير علمه تعالى {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول {وَمَا خَلْفَهُمْ}: معطوف على {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. {وَلَا} (الواو): عاطفة {لَا}: نافية {يُحِيطُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَعْلَمُ}. {بِهِ} متعلق به {عِلْمًا} تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ {يُحِيطُونَ}. {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}: فعل وفاعل معطوف على {يَعْلَمُ}. {لِلْحَيِّ}:

جار ومجرور متعلق بـ {عنت}. {الْقَيُّومِ}: صفة {لِلْحَيِّ}. {وَقَدْ} (الواو): حالية {قَدْ}: حرف تحقيق {خَابَ}: فعل ماض {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة: في محل النصب حال من {الْوُجُوهُ} والرابط محذوف، تقديره: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} والحال أنه قد خاب من حمل ظلما من أصحابها {حَمَلَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {ظُلْمًا} مفعول به والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {يَعْمَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} وفاعله: ضمير يعود على محمد {مِنَ الصَّالِحَاتِ}: جار ومجرور صفة لمفعول محذوف تقديره: أعمالًا {مِنَ الصَّالِحَاتِ}. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {يَعْمَلْ} {فَلَا} (الفاء): رابطة لجواب {مِنَ} الشرطية {لا} نافية {يَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {مِنَ}. {ظُلْمًا}: مفعول به {وَلَا هَضْمًا} معطوف عليه، وجملة {يَخَافُ}: في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {وَقَدْ خَابَ}. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)}. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} الواو: عاطفة {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والتقدير: وأنزلنا القرآن كله إنزالًا مثل إنزال هذه الآيات، المتضمنة لأحوال يوم القيامة، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أو مستأنفة {قُرْآنًا} حال من ضمير المفعول في {أَنْزَلْنَاهُ}. {عَرَبِيًّا}: صفة له {وَصَرَّفْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَنْزَلْنَاهُ}. {فِيهِ}: متعلقة بـ {صرفنا}. {مِنَ الْوَعِيدِ}: صفة لمفعول محذوف؛ أي: صرفنا فيه وعيدًا من الوعيد أو {مِنَ} زائدة {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه،

وجملة {يَتَّقُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل} وجملة {لعل}: في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ لأن {لعل} هنا للتعليل؛ أي: لكي {يَتَّقُونَ}. {أَوْ}: حرف عطف {يُحْدِثُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على القرآن {لَهُمْ}: متعلق بـ {يُحْدِثُ}. {ذِكْرًا}: مفعول به، والجيملة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على جملة {يَتَّقُونَ}. {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}. {فَتَعَالَى} الفاء: استئنافية {تَعَالَى اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {الْمَلِكُ}: صفة أولى للجلالة {الْحَقُّ}: صفة ثانية له {وَلَا تَعْجَلْ} (الواو): عاطفة {لَا} ناهية {تَعْجَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} ناهية، وفاعله: ضمير يعود على محمد {بِالْقُرْآنِ}: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة {تعالى} {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَعْجَلْ {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يُقْضَى}: فعل مضارع مغير الصغة منصوب بـ {أَنْ} {إِلَيْكَ} متعلق به {وَحْيُهُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: {مِنْ قَبْلِ} قضاء وحيه إليك وقيل: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَعْجَلْ}. {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قُلْ}. {زِدْنِي عِلْمًا}: فعل وفاعل مسشتر، ومفعولان ونون وقاية، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء. التصريف ومفردات اللغة {عَلَيْهِ عَاكِفِينَ}؛ أي: مقيمين على عبادته، قال الراغب: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم {فَمَا خَطْبُكَ}؛ أي: شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، والخطب لغةً: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، وهو من تقاليب الخبط، ففيه إشارة إلى عظيم خبطه كما مر {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بضم الصاد فيهما؛ أي: علمت بما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا

له، يقال: بصر بالشيء بضم الصاد: إذا علمه وأبصره إذا نظر إليه، وهو من باب ظرف، ويقال: بصر بالكسر من باب علم، قال في "القاموس": بصر به ككرم وفرح بصرًا وبصارةً، ويكسر صار مبصراً، وفي "المفردات": قلما يقال: بصرت في الحاسة إذا لم تضامه رؤية القلب {فَقَبَضْتُ} يقال: قبض الشيء بيده يقبض: من باب جلس، وعلى الشيء: إذا أمسكه بيده، وضم إليه أصابعه، وقبض يده عن الشيء: امتنع عن إمساكه، وقبضه عن الأمر: أنحاه وقبضه الله أمانته، وقبض الشيء خلاف بسطه ووسعه، وقبض الطائر جناحه جمعه وقبض الدار ونحوها تسلمها، وقبض منه المال: أخذه لنفسه، وقبض قبضة: أخذها. والقبضة: المرة من القبض، وهو الأخذ بجميع الكف، أطلقت على المقبوض مرةً، ويقال: قبص بالصاد المهملة؛ لأنهما تتعاقبان في كثير من الكلمات، قال يعقوب بن السكيت: وقبضت قبضة وقبصت قبصة، ويقال: إن القبضة أقل من القبصة، وقال غيره: القبص: بأطراف الأصابع، والقبض: بالكف كلها {فَنَبَذْتُهَا} النبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به؛ أي: طرحتها في الحلي المذابة، أو في فم العجل، فكان ما كان كما مر. {لَا مِسَاسَ} بكسر الميم مصدر قياس من باب فاعل، قال في "المفردات" المس: كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء، وإن لم يوجد، والمس يقال: فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، وفي "القاموس": قوله تعالى: {لَا مِسَاسَ} بالكسر، أي: لا أَمُسُّ ولا أُمَسُّ، وكذلك التماس ومنه {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. انتهى؛ أي: لا مسني أحد، ولا أمس أحدًا خوفًا من أن تأخذ كما الحمى؛ أي: لا مخالطة فلا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدًا، فعاش وحيدًا طريدًا {لَنْ تُخْلَفَهُ} والخلف والإخلاف: المخالفة في الوعد، يقال: وعدني فأخلفني؛ أي: خالف في الميعاد {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أصله: ظللت بلامين، أولاهما مكسورة، فحذفت الأولى تخفيفًا قال في "المفردات": ظلت بحذف إحدى اللامين يعبر به عما يُفعل بالنهار، ويجري مجرى صوت، والمعنى: صوت مقيمًا على عبادته {لَنَنْسِفَنَّهُ} من نسفت الريح التراب: إذا أقلعته وأزالته وذرته،

والنسف: التفرقة والتذرية، وقيل: قلع الشيء من أصله، يقال: نسفه ينسفه بكسر السين وضمها في المضارع {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} والقص: تتبع الأثر، والقصص: الأخبار المتتبعة {مِنْ أَنْبَاءِ} جمع نبأ، والنبأ: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} والصور: قرن ونحوه، ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر، كما ينفخ فيه في الدنيا حين الأسفار، وفي المعسكرات {زُرْقًا}؛ أي: زرق الأبدان، سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال، جمع أزرق، وهو: صفة مشبهة فيها ضمير مستتر هو فاعلها {يَتَخَافَتُونَ}؛ أي: يخفضون أصواتهم ويخفونها لما لحقهم من الرعب والهول. اهـ "أبو السعود" وفي، "المختار": خفت الصوت: سكن وبابه جلس، والمخافتة والتخافت والخفت، بوزن السبت: إسرار المنطق. اهـ. {إِنْ لَبِثْتُمْ} يقال: لبث بالمكان: أقام به ملازمًا له {أَمْثَلُهُمْ}؛ أي: أفضلهم وأعدلهم رأيًا أو عملًا في الحياة الدنيا، وجمعه: أماثل ومثل، ومؤنثه: مثلى قال في "المفردات": الأمثل يعبر به عن الأشبه بالأفاضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم: كناية عن خيارهم وعلى هذا قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} انتهى والطريقة المثلى: الشبهى بالحق، ويقال: المريض اليوم أمثل؛ أي: أحسن حالة {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} في "المصباح": نسفت الريح التراب نسفًا، من باب ضرب: اقتلعته وفرقته، ونسفت البناء نسفًا: قلعته من أصله، ونسفت الحبَّ نسفًا، واسم الآلة منسف بكسر الميم. انتهى {قَاعًا} القاع: أرض سهلة مطمئنة، انفرجت عنها الجبال والآكام، والجمع: أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعه، وقيل: هو المنكشف من الأرض، وقيل: المستوي الصلب منها، وقيل: ما لا نبات فيه ولا بناء. {صَفْصَفًا} والصفصف: الأرض المستوية الملساء، كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة، وفي "القاموس": الصفصف: المستوى من الأرض، وقاع صفصف: مستو مطمئن، فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه {عِوَجًا} العوج بفتح العين في المحسوسات، وبكسرها في المعاني، وما هنا من قبيل الأول، لكنه عبر

فيه بمكسور العين لكونه لشدة خفائه، كأنه صار من قبيل المعاني؛ أي: لا تدركه فيها لو تأملته بالمقاييس الهندسية اهـ "أبو السعود". {أَمْتًا} الأمت: هو النتو اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت، وقيل: الأمت: هو التل، وهو قريب من الأول، وقيل: هو الشقوق في الأرض، وقيل: الآكام. اهـ "سمين" وفي "القاموس": أَمَتْهُ يَأْمَتُهُ، قدره وحزره، كأَمَّتَهُ وقَصَدَهُ، وأجل مأموت مؤقت، والأمت: المكان المرتفع، والتلال الصغار، والانخفاض، والارتفاع، والاختلاف في الشيء، والجمع: آمات وأموت، والضعف والوهن، والطريقة والعوج والعيب في الفم، وفي الثوب والحجر، وأن يغلظ مكان ويرق مكان، والمؤمَّت: المملوء والمتهم بالشر ونحوه، والخمر حرمت لا أمت فيها، أي: لا شك في حرمتها. اهـ {إِلَّا هَمْسًا} الهمس: الصوت الخفي، وهو مصدر همست الكلام من باب ضرب، إذا أخفيته، ومنه الحروف المهموسة، وقيل: ما يسمع من وقع الأقدام على الأرض، ومنه همست الإبل: إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض. اهـ "سمين". {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} في "المختار": عنا يعنو من باب سما يسموا، فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين: إذا ذل وخضع، ومنه العناة: جمع عان وهو الأسير، فأصله الأول: عنوت الوجوه، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار عنات ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث، وكأن هذا ليس بلازم، بل يصح أن يقال حذفت الواو ابتداءً وفي "السمين" يقال: عنا يعنو عناءً: إذا ذل وخضع، وأعناه غيره؛ أي: أذله، ومنه العناة جمع عان وهو الأسير. اهـ. وأما عني كرضي، يعني عناءً: فهو بمعنى تعب. اهـ شيخنا. {الْقَيُّومِ} القائم بتدبير أمور عباده، ومجازات كل نفس بما كسبت {وَلَا هَضْمًا} والضم: النقص، تقول العرب: هضمت لزيد من حقه؛ أي: نقصت منه، ومنه: هضم الكشحين؛ أي: ضامرهما، ورجل هضيم ومهتضم؛ أي: مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى {فَتَعَالَى اللَّهُ} تعالى تفعل من العلو، وليست مرتبة شريفة إلا والحق تعالى في أعلى درجاتٍ منها وأرفعها، وذلك لأنه

مؤثر وواجب لذاته، وكل ما سواه أثر وممكن، ولا مناسبة بين الواجب والممكن، قال في "الإرشاد" وهو استعظام له تعالى ولشؤونه، التي يُصَرِّف عليها عباده، من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وغير ذلك. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بزيادة حرف في قوله: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} لأن لا حرف زائد للتأكيد. ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في قوله: {قَبْضَةً} لأن القبضة المرة من القبض، فأطلق على المقبوض، كضرب الأمير. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} لأن الأصل من أثر حافر فرس الرسول. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} وهو: تشبيه مرسل مجمل. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} شبه الوزر بالحمل الثقيل، بطريق الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {خَالِدِينَ فِيهِ}؛ أي: في الوزر، والوزر: لا يقام فيه، ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر، فالعلاقة فيه السببية. ومنها: الكناية في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} لأنه كناية عن أمر الدنيا وأمر الآخرة. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} وجناس الاشتقاق في قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} وفي قوله: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} وفي قوله: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}.

ومنها: الكناية في قوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} لأن الإعراض حقيقة في المحسوس، وهذا كناية عن عدم اتباعه، وترك العمل به، وفي قوله: {يحمل ... وزرا} فإنه كناية عن مباشرة العقوبة. ومنها: إنشاء الذم في قوله: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}. ومنها: إبهام الفاعل في قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} إفادةً للتهويل. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} لما فيه من إطلاق العام وإرادة الخاص؛ لأن المراد به كلمة لا إله إلا الله، وفي قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ لأن المراد: أصحابها، وخُصت بالذكر؛ لأن الذل أول ما يظهر فيها. منها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول رب زدني علمًا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

كان من ذلك ذكر قصة آدم، وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدم ذكرها، فكان في ذلك مزيد علم له عليه الصلاة والسلام. وعبارة المراغي هنا: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه صرَّف الوعيد في القرآن، وكرره لعلهم يتقون، أو يحدث لهم ذكرًا .. أردف (¬1) ذلك ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم إلى الوعيد، ونسي العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ، ثم فصَّل عهده لآدم، وبيَّن كيف نسيه، وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم، وتحذيره من الخروج من الجنة إذا اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه، وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهي عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته. ثم بيَّن أن من جاءه الهدى من ربه، واتبعه .. عاش في الدنيا قرير العين، هادىء البال، ويؤتى في الآخرة ما شاء الله أن يؤتى، من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك .. عاش في الدنيا عيشةً ضنكًا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثم يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر في سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالي أمن حلال كان أم من حرام، أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا، فإنه في سرور وراحةٍ، قل ماله أو كثر، ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك، وهو إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير في جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية، من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازي الله المسرفين المكذبين بآياته في الدنيا والآخرة، جزاءً وفاقًا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام، كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ...} الآيات، مناسبة ¬

_ (¬1) المراغي.

هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال من أعرض عن ذكر الله في الآخرة بقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ...} أتبعه بما يكون عبرةً للمشركين لو تفكروا فيه، وهو ما نزل بالمكذبين للرسل ممن قبلهم من الأمم، الذين يمرون بديارهم بكرةً وعشيًا، كقوم عاد وثمود، وكيف أصبحت ديارهم خرابًا بلقعًا، ليس فيها ديَّار ولا نافخ نار، ثم بيَّن أنه لولا سبق الكلمة بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى .. لحاق بهم مثل ما حاق ممن قبلهم، ثم أمر رسوله بالصبر على ما يسمونه به، من نحو قولهم: إنه ساحر، وإنه مجنون، وعدم المبالاة بمقالتهم، وعليه أن يكثر من التسبيح، وعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار، ولا يلتفت إلى شيء مما متع به الكفار من زهرة الدنيا، التي أوتيت لهم لتكون ابتلاءً واختبارًا، وما عند الله خير منها وأبقى، ثم طلب إليه أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وهو لا يكلفه رزقًا لنفسه ولا لغيره، فالله يرزقه من واسح فضله، وعظيبم عطائه، والعاقبة لمن اتقى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1)، لما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أقاويلهم، التي أرادوا بها تكذيبه والكيد له، وشديد أذاه .. حكى بعض تلك الأقاويل الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم أبان لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بينة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} ومن ثم لم نهلكهم قبله حتى تنقطِع معذرتهم، كما حكى الله عنهم من قوله: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} ثم ختم السورة بضرب من الوعيد، وكأنه قال: قل لهم: كل منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم، وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل بما يظهر على الأول من أنواع الكرامة والتعظيم، وعلى الثاني من ضروب الخزي والإهانة، ويظهر مَنْ منا صار على الطريق السوي ومن المهتدي. ¬

_ (¬1) المراغي.

[115]

أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...} الآية، سبب نزوله (¬1): ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبزار، وأبو يعلى عن أبي رافع قال: أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض" فلم أخرج من عنده حتى نزل هذه الآية {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 115 - {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد عهدنا إلى آدم أبي البشر، ووصيناه، وأمرناه أن لا يأكل من الشجرة {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل أكله منها، أو من قبل (¬2) هؤلاء الذين تركوا أمري، ونقضوا عهدي بتكذيبك {فَنَسِيَ} عهدنا، وأكل منها {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}؛ أي: تصميمًا على الاحتياط، وحفظًا لما أمر به، وثباتًا عليه، أو صبرًا عن أكل الشجرة، يقال: عهد فلان إلى فلان بعهد؛ أي: ألقى العهد إليه، وأوصاه بحفظه، والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي: الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، وعهد الله تارةً يكون بما ركزه في عقولنا، وتارةً يكون بما أمرنا به بكتابه وبألسنة رسله، وتارةً بما نلتزمه، وليس بلازم في أصل الشرع، كالنذور وما يجري مجراها. وآدم أبو البشر - عليه السلام - قيل: سمي بذلك لكون جسده من أديم الأرض، وقيل: لسمرة لونه، يقال: رجل آدم؛ أي: أسمر، وقيل: سمي بذلك لكونه من عناصر مختلفة، وقوىً مفترقة، يقال: جعلت فلانًا أدْمَة أهلي؛ أي: خلطته بهم، وقيل: سمي بذلك لما طيب به من الروح المنفوخ فيه، وجعل له من العقل والفهم، والرؤية التي فُضل بها على غيره، وذلك من قولهم: الإدام؛ وهو: ما يطيب به الطعام، وقيل: أعجمي وهو الأظهر. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الوجيز.

والمعنى: وعزتي وجلالي، لقد أمرنا آدم ووصيناه بأن لا يأكل من الشجرة، وهي المعهودة، وسيأتي بيانها بعد هذه الآية {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا الزمان {فَنَسِيَ} العهد ولم يهتم به حتى غفل عنه، والنسيان بمعنى: عدم الذكر، أو تركه ترك المنسي عنه، قال الراغب: النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة أو عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره، وكل نسيان من الإنسان ذمه الله تعالى به فهو ما كان أصله عن تعمد، وما عذر فيه. وأما ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فهو ما لم يكن سببه منه، والوجود في قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} يجوز (¬1) أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه حينئذٍ {لَهُ عَزْمًا} وقدم الثاني على الأول لكونه ظرفًا، وأن يكون نقيض العدم، كأنه قال: وعدمنا {لَهُ عَزْمًا} وهذا هو الأنسب بالمقام. والمعنى (¬2)؛ لم نعلم له، أو لم نصادق له تصميم رأي، وثبات قدم في الأمور، ومحافظةً على ما أمر به، وعزيمةً على القيام به، إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان، ولما استطاع تغريره، وكان ذلك منه في بدء أمره من قبل أن يجرب الأمور، ويتولى قارّها وحارّها، ويذوق شريّها وأريّها, لا من نقصان عقله، فإنه أرجح الناس عقلًا، كما قال - عليه السلام -: "لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه" وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ومعنى هذا: أن آدم مع ذلك أثر فيه وسوسته، فكيف في غيره، قيل: لم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعًا عن الإنسان، فكان مؤاخذًا به، وإنما رفع عنا معشر الأمة المحمدية. قال أبو الفتح البستي في الإعتذار من النسيان إلى بعض الرؤساء: يَا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانَاً إِلَى النَّاسِ ... يَا أَحْسَنَ الْخَلْقِ إِعْرَاضَاً عَنْ الْبَاسِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف. (¬3) روح البيان.

[116]

نَسِيْتُ وَعْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ ... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ النَّاسِ أَؤَّلُ النَّاسِيْ وقرأ (¬1) معاذ القارىء، وعاصم الجحدري، وابن السميقع، واليماني، والأعمش: {نسي} بضم النون وتشديد السين؛ أي: نساه الشيطان. فائدة: قال علي (¬2) رضي الله عنه: عشرة أمور يورثن النسيان: كثرة الهم، والحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح القبور، والنظرة إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطورين، وإلقاء القملة حية. وزاد في "المقاصد الحسنة" مضغ العلك؛ أي: للرجال إذا لم يكن من علة كالبخر، ولا يكره للمرأة إن لم تكن صائمة، لقيامه مقام السواك في حقهن؛ لأن سنها أضعف من سن الرجال، كسائر أعضائها، فيخاف من السواك سقوط سنها، وهو ينقي الأسنان، وتشد اللثة كالسواك. اعلم: أن من أشد أسباب النسيان: العصيان، فنسأل الله العصمة والحفظ. 116 - ثم شرع سبحانه في بيان كيفية ظهور نسيانه، وفقدان عزمه، فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} والعامل في إذ مقدر، تقديره: اذكر، وتعليق (¬3) الذكر بالوقت، مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت، كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى، وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى؛ أي: واذكر يا محمد قصة وقت قولنا: {لِلْمَلَائِكَةِ}؛ لمن في الأرض والسماء منهم عموماً كما سبق تحقيقه {اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تحيةٍ وتكريمٍ. قال البيضاوي (¬4): اذكر حاله في ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات، وفيه (¬5) إشارة إلى استحقاقه لسجودهم لمعان جمة: ¬

_ (¬1) زاد المسير والبحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) البيضاوي. (¬5) روح البيان.

[117]

منها: أنه خلق لأمر عظيم هو الخلافة. ومنها؛ أنه خلقه على صورة الرحمن، كما ورد في الحديث. ومنها: أنه سبحانه قال في شأنه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. ومنها: أنه اختص بعلم الأسماء كلها، وأنهم احتاجوا إليه في إنباء الأسماء، كما قال تعالى: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} فوجب عليهم أداء حقوقه بالسجود له. {فَسَجَدُوا}؛ أي: فسجد الملائكة كلهم أجمعون تعظيمًا لأمر ربهم، وامتثالًا له {إِلَّا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد، ولم يطرح أردية الكبر، ولم يخفض جناحه، يقال: أبلس إذا تحير، ومنه إبليس، أو هو أعجمي كما في "القاموس" وقوله: {أَبَى} استئناف بياني، كأنه قيل: ما باله لم يسجد فقيل: أبى السجود وامتنع منه، قال في "المفردات" الإباء شدة الامتناع، فكل إباءٍ امتناع، وليس كل امتناع إباء. المعنى (¬1): أي اذكر أيها الرسول الكريم: ما وقع في ذلك منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه، إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم فلبوا الأمر، إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين، وقد تقدم ذكر هذا القصص في سورة البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، وسيأتي ذكره في سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتفضيله على كثير ممن خلق. 117 - {فَقُلْنَا} له عقيب ذلك، اعتناءً بنصحه وإرشاده {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا} الحقير الذي رأيت منه ما رأيت من التكبر {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} حواء، ومن ثم لم يسجد لك، وخالف أمري وعصاني، فلا تطيعاه فيما يأمركما به، والزوج: اسم للمفرد، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه، ذكرًا كان أو أنثى، ولعداوته وجوه (¬2): الأول: أنه كان حسودًا له، فلما رأى نعم الله على آدم .. حسده فصار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[118]

عدوًا له، وفيه إشارة إلى أن كل من حسد أحدًا يكون عدوًا، ويريد هلاكه ويسعى في إفساد حاله. والثاني: أنه كان شابًا عالمًا، وإبليس شيخاً جاهلًا؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وأنه جاهل، والشيخ الجاهل يكون أبدًا عدو الشاب العالم. الثالث: أنه مخلوق من النار، وآدم من الماء والتراب، وبين أصليهما عداوة فبقيت العداوة بينهما {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ}؛ أي: فلا يكونن إبليس سببًا لإخراجكما من الجنة، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى سببه، وإلا فالمخرج حقيقةً هو الله سبحانه وتعالى، وظاهره: وإن كان نهى إبليس عن الإخراج، إلا أن المراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها بالطريق البرهاني {فَتَشْقَى}؛ أي: فتتعبا بمتاعب الدنيا، التي لا تكاد تحصى، فهو جواب النهي. وخلاصة ذلك (¬1): إياك أن تسعى في إخراجك منها، فتتعب وتشقى في طلب رزقك، وأنت هاهنا في عيش رغدٍ هنيء، بلا كلفةٍ ولا مشقةٍ، ولم يقل: فتشقيا؛ لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده، فهو المخاطب فاكتفى به، أو لأنه الكاسب، فكان التعب في حقه أكثر، ذكره الماوردي، أو لأن إسناد الشقاء إليه لرعاية الفواصل، ولأصالته فيه، وفي "القاموس" الشقاء: الشدة والعسر، ويمد. انتهى. فالمعنى (¬2): لا تباشر أسباب الخروج، فيحصل الشقاء، وهو: الكد والتعب الدنيوي، مثل الحرث والزرع والحصد والطحن والعجن والخبر ونحو ذلك، مما لا يخلو الناس في أمر تعيشهم، ويؤيده ما بعد الآية، وعن ابن جبير: أهبط له ثور أحمر، يحرث عليه فيأكل بكد يمينه، وعرق جبينه. 118 - ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} {لَكَ} خبر {إِنَّ} و {أَلَّا تَجُوعَ} في محل النصب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[119]

على الاسمية؛ أي: قلنا له: إن حالك يا آدم، ما دمت في الجنة عدم الجوع، إذ النعم كلها حاضرةً فيها {وَلَا تَعْرَى}؛ أي: وإن لك فيها أن لا تعرى من الثياب، لأن الملبوسات كلها موجودة في الجنة، والعري: تجرد الجلد عما يستره، وقرأ (¬1) أبيّ بن كعب {لا تُجوع} {ولا تُعرى} بالتاء المضمومة والألف 119 - {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ} ولا تعطش {فِيهَا}؛ أي: في الجنة؛ لأن العيون والأنهار جارية على الدوام {وَلَا تَضْحَى}؛ أي: لا يصيبك حر الشمس في الجنة، إذ لا شمس فيها، وأهلها في ظلٍ ممدودٍ، يقال: ضحيَ الرجل للشمس بكسر الحاء: إذا برز وتعرّض لها، و {أن} بالفتح مع ما في حيزها: عطف على {أَلَّا تَجُوعَ} وفصل (¬2) الظمأ عن الجوع، دفعاً لتوهم أن نفيهما نعمة واحدة، وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو. والمعنى (¬3): أي لا يكون لك في الجنة جوع ولا عري، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس، وقرن بين الجوع والعري أولًا؛ لأن في الجوع ذل الباطن، وفي العري ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش، وحر الظاهر وهو الضحى ثانيًا، فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن، وحر الظاهر والباطن، وقد ذكر الله (¬4) سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش، وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع، والري، والكسوة، والسكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه .. فله في الجنة هذا كله، وإن ضيَّع وصيته، ولم يحفظ عهده .. أخرجه من الجنة إلى الدنيا، فيحل به التعب والنصب، بما يدفع الجوع والعري، والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء: شقاء الدنيا، كما قاله كثير من المفسرين، لا شقاء الأخرى، قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، وقرأ شيبة، ونافع، وحفص، وابن سعدان: {وإنك لا تظمأ} بكسر همزة {وإنك} وقرأ الجمهور: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[120]

عن عاصم؛ {وَأَنَّكَ} بفتحها، قال أبو علي: من فتح .. حمله على {أن لك أن لا تجوع} {وأن لك أن لا تظما} ومن كسر استأنف. 120 - {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}؛ أي: أنهى إلى آدم وسوسته وأبلغ، فتعديته بإلى باعتبار تضمينه معنى الإنهاء والإبلاغ، والوسوسة: الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي لأصواتها، وهو فعل لازم، وجملة قوله: {قَالَ} إما بدل من {وسوس} أو مستأنفة بتقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال في وسوسته، فقيل: {قَالَ} الشيطان {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}؛ أي (¬1): على شجرة من أكل منها .. خلد، ولم يمت أصلًا، سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكًا، فأضافها إلى {الْخُلْدِ} وهو الخلود لأنها سببه بزعمه، كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنها سببها؛ أي فألقى النصيحة إلى آدم، وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها .. خلدت ولم تمت، وملكت ملكًا لا ينقضي ولا يفنى. قال الراغب: الخلود تبرِّي الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والخلود في الجنة: بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها، من غير اعتراض الفساد عليها {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}؛ أي: لا يزول ولا ينقضي، ولا يختل بوجه من الوجوه؛ أي: تصرف يدوم ولا ينقطع (¬2)؛ أي: هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلف، ولا يموت أصلًا، ودام ملكه، إما على حاله أو على أن يصير ملكًا 121 - {فَأَكَلَا مِنْهَا}؛ أي: أكل آدم وحواء من الشجرة {فـ} عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}؛ أي: عوراتهما، وظهرت فروجهما، يقال: بدا الشيء بَدْوًا وبُدُوًا: ظهر ظهورًا بينًا، وكنى عن الفرج: بالسوءة؛ لأنه يسوء الإنسان انكشافه؛ أي: يغمه ويحزنه؛ أي: ظهر لكل منهما قُبله وقُبل الآخر ودُبره. قال الحصيري: بدت لهما ولم تبد لغيرهما، لئلا يعلم الأغيار من مكافأة الجناية ما علما، ولو بدت للأغيار .. لقال بدت منهما؛ أي: ظهرت فروجهما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

لكل منهما بسبب تساقط حلل الجنة عنهما لما أكلا من الشجرة، قال ابن عباس: إنهما عريا عن النور الذي كان الله ألبسهما إياه، حتى بدت فروجهما، وقيل (¬1): وكان لباسهما الظفر، فلما أصاب الخطيئة .. نزع عنهما، وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع، وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أباكم آدم كان رجلًا طويلًا كالنخلة السحوق، كثير الشعر مواري العورة، فلما واقع الخطيئة .. بدت سوءته، فانطلق في الجنة هاربًا، فمر بشجرة فأخذت بناصيته فأجلسته، فناداه ربه: أفرارًا منى يا آدم؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك" {وَطَفِقَا}؛ أي: شرع آدم وحواء {يَخْصِفَانِ}؛ أي: يلزقان ويطبقان {عَلَيْهِمَا}؛ أي: لأجل ستر سوآتهما، فـ {على} تعليلية {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}؛ أي: من ورق أشجار الجنة، وهو ورق التين على ما قيل؛ أي: يلزقان ويضمان ورق التين بعضه ببعض، ورقةً ورقةً حتى يصير طويلًا عريضًا يصلح للاستتار به، كلما ألزقا بعضه ببعض تساقط، قيل: كان مدورًا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. المعنى: أي (¬2) فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها، وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورةً عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ}؛ أي: خالف نهي ربه باكله من الشجرة؛ لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة، وأن غيرها ليس منهيًا عنه {فَغَوَى}؛ أي: ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود في الجنة، وخاب من نعيم الجنة، فلم يصب بأكله من الشجرة ما أراده؛ لأنه إنما أكل منها ليصير ملكه دائمًا، فلما أكل .. زال ملكه وخاب سعيه، أو ضل عن المأمور به، وهو التباعد عن الشجرة في ضمن {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أو عن الرشد، حيث اغتر بقول العدو؛ لأن الغي خلاف الرشد، وقيل: فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا، ومعنى {عصى آدم ربه}؛ أي (¬3): خالف نهيه، فالعصيان: هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

[122]

المخالفة، لكنه خالف بتأويل؛ لأنه اعتقد أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، أو لأنه اعتقد أن النهي قد نسخ لما حلف له إبليس، أو لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة، وأن غيرها من بقية أفراد الجنس ليس منهيًا عنه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله تعالى عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين عامًا، فحج آدم موسى" متفق عليه. قال القاضي أبو بكر ابن عربي (¬1): لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى: عَصَى أَبُوْ الْعَالَم وَهْوَ الَّذِيْ ... مِنَ طِيْنَةٍ صَوَّرَهُ اللهُ وَأَسْجَدَ الأَمْلاَكَ مِنْ أَجْلِهِ ... وَصَيَّرَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ أغْوَاهُ إِبْلِيْسُ فَمَنْ ذا أنا الْمِسْـ ... ـكِيْنُ إِنْ إِبْلِيْسُ أَغْوَاهُ 122 - {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}؛ أي: اصطفاه واختاره وقربه إليه، بالحمل على التوبة والتوفيق لها، قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوة، فجائز عليهم الذنوب وجهًا واحدًا {فَتَابَ} ربه {عَلَيْهِ} وعلى زوجته؛ أي: قبل توبته حين تاب هو وزوجته قائلين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ووجه تخصيص آدم بالذكر: لأن الكلام من أول القصة كان مع آدم وحده، كما مر هناك {وَهَدَى}؛ أي: هداه إلى الثبات على التوبة، والتمسك بأسباب العصمة، وفيه (¬2) إشارة إلى أنه لو وُكل إلى نفسه وغريزته التي جبل عليها .. ما كانت التوبة من شأنه، ولا الرجوع إلى الله من برهانه، ولكن الله بفضله وكرمه اجتباه، وبجذبة العناية رقاه، وإلى حضرة الربوبية هداه، وفي الحديث "لو جُمع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود - لكان بكاؤه أكثر، ولو جُمع ذلك إلى بكاء نوح - لكان بكاؤه أكثر، ولو جُمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته .. لكان أكثر". ومعنى الآية (¬1): أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجته: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. فصل في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك قال الإِمام فخر الدين الرازي: اختلف (¬2) الناس في عصمة الأنبياء، وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة: أحدهما: ما يقع في باب الاعتقاد، وهو اعتقاد الكفر والضلال، فإن ذلك غير جائز عليهم. الثاني: ما يتعلق بالتبليغ فقط: اجتمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب، مواظبين على التبليغ والتحريض، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدًا ولا سهوًا، ومن الناس من جوَّز ذلك سهوًا، قالوا: لأن الاحتراز عنه غير ممكن. الثالث: ما يتعلق بالفتيا، فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد، وأجازه بعضهم على سبيل السهو. الرابع: ما يقع في أفعالهم: فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال: أحدها: قول من جوّز عليهم الكبائر. الثاني: قول من منع من الكبائر، وجوّز الصغائر على جهة العمد، وهو قول أكثر المعتزلة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

الثالث: لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة، بل على وجه التأويل، وهو قول الجبائي. الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ. الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة، لا على سبيل العمد، ولا على سبيل السهو، ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة. واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة، وهو قول الشيعة. الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم، وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث: قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة، وهو قول أكثر أصحابنا، وأبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة. قال الإِمام: والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة، من حين جاءتهم النبوة، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه لو صدر الذنب عنهم .. لكان أقل درجة من أحد الأمة، وذلك غير جائز أيضًا؛ لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف. والثاني: أنه لو صدر منه .. وجب أن يكون مقبول الشهادة، فكان أقل حالًا من عدول الأمة، وذلك غير جائز أيضًا؛ لأن معنى النبوة والرسالة: هو أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضًا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل. الثالث: لو صدر من النبي ذنب .. وجب الاقتداء به فيه، وذلك محال. الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح ممن رفع الله درجته، وائتمنه على وحيه، وجعله خليفته في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه: لا تفعل كذا، فيقدم عليه ويفعله ترجيحًا لغرضه، واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون

الناس بطاعة الله، فلو لم يطيعوه لدخل تحت قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} وقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}. الخامس: قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ولفظه للعموم، فيتناول الكل، ويدل على فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير، وتاركين لكل منهي، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. السادس: قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقال تعالى في حق موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه. قال: وأما المخالف فقد تمسك بآيات: منها: قصة آدم هذه، والجواب عنها: أن تقول: إن كلامهم إنما يتم لو بيَّنوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة، وذلك ممنوع، ولم لا يجوز أن يقال: إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيًا، وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة، وإن الله تعالى قبل توبته، وشرفَّه بالنبوة والرسالة. وقال القاضي عياض: وأما قصة آدم، وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؛ أي: جهل، وقيل: أخطأ، فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}؛ أي: نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه، وقيل: لم يقصد المخالفة استحلالًا لها, ولكنه اغتر بحلف إبليس له {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وتوهم أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، وقيل: نسي ولم ينو المخالفة، فلذلك قال: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}؛ أي: قصدًا للمخالفة، وقيل:

[123]

بل أكل من الشجرة متأولًا، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نُهي عنها؛ لأنه تأوَّل نهي الله عن شجرة مخصوصة، لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن الله تعالى لم ينهه عنها نهي تحريم. فإن قلت: إذا نُفيت عنهم الذنوب والمعاصي .. فما معنى قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم، وتوبتهم واستغفارهم، وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه؟ قلت: إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده، وعظيم سلطانه، وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤخذ به غيرهم، وأنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها، ولم يؤمروا بها، وأتوها على وجه التأويل أو السهو، خائفون وجلون، وهي الذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم، ومعاصٍ بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وكان هذا أدنى أفعالهم، وأسوأ ما يجري من أحوالهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات، وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه، إن شاء الله تعالى. 123 - {قَالَ}؛ أي: قال الرب الذي انتهكت حرمة داره، وخولف أمره لآدم وحواء، بعد صدور الزلة منهما: {اهْبِطَا مِنْهَا}؛ أي: انزلا من الجنة إلى الأرض، حالة كونكما {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين في الهبوط، وهذا خطاب العتاب واللوم في الصورة، وخطاب التكميل والتشريف في المعنى، يقال: هبط هبوطًا: إذا نزل من علو إلى سفل، وخصهما بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ أي: حالة كونه بعض ذريتكما متعادين لبعض في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب، والتحاسد والتباغض، وجمع الخطاب باعتبار أنهما أصل الذرية،

[124]

ومآله بعضكم يا ذرية آدم عدو لبعض، أو المعنى (¬1): انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما. وفي "التأويلات النجمية": يشير (¬2) إلى أنه جعل فيما بينهم العداوة، لئلا يكون لهم حبيب إلا هو، كما قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} ولما اختص آدم منهم بالاجتباء والاصطفاء، وأهبطه إلى الأرض معهم للابتلاء .. وعده بالاهتداء فقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ}؛ أي: فإن يأتكم يا ذرية آدم وحواء {مِنِّي هُدًى}؛ أي: هادٍ من كتاب ورسول، والأصل: فإن يأتكم و {ما}: مزيدة لتأكيد معنى الشرط و {ما} هذه مثل لام القسم في دخول النون المؤكدة معها، وإنما جيء بكلمة الشك، وهي {إن} الشرطية إيذانًا بأن إتيان الهدى بطريق الكتاب والرسول، ليس بقطعي الوقوع، وأنه تعالى إن شاء .. هدى وإن شاء .. ترك، لا يجب عليه شيء، ولك أن تقول: إتيان الكتاب والرسول لما لم يكن لازم التحقق والوقوع أبرز في معرض الشك، وأكد حرف الشرط والفعل بالنون، دلالةً على رجحان جهة الوقوع والتحقق. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}؛ أي: فمن آمن بالكتاب، وصدق بالرسول {فَلَا يَضِلُّ} في الدنيا عن طريق الدين القويم ما دام حيًا {وَلَا يَشْقَى}؛ أي: لا يذل في الآخرة بالعذاب الدائم 124 - {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}؛ أي: عن الكتاب الذاكر لي، والرسول الداعي إلى، والذكر يقع على القرآن وغيره من كتب الله تعالى {فَإِنَّ لَهُ} في هذه الدنيا {مَعِيشَةً ضَنْكًا}؛ أي: معيشةً ضيقةً، لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا، والتهالك على ازديادها، والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبًا عليه، والبخل راسخاً في أعراقه، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، مع أنه قد يضيِّق الله عليه بشؤم الكفر، ويوسع بركة الإيمان, وقرىء {ضنكى} بضم الضاد على وزن فعلى، وقرأ الحسن {ضنكى} بألف التأنيث بلا تنوين، وبالإمالة على وزن فعلى كسكرى، وقرأ الجمهور {ضَنْكًا} بالتنوين وفتح الكاف فتحة إعراب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[125]

ومعنى الآية (¬1): أن الله عز وجل، جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه، أن يعيش في الدنيا عيشًا هنيئًا، غير مهموم ولا مغموم، ولا متعبٍ نفسه، كما قال سبحانه {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وجعل لمن أَتبع هواه وأعرض عن دينه، أن يعيش عيشًا ضيقًا في تعب ونصب، مع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب، فهو في الآخرة أشد تعبًا، وأعظم ضيقًا، وأكثر نصبًا، وذلك معنى قوله: {وَنَحْشُرُهُ}؛ أي: المُعْرِض؛ أي: نبعثه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}؛ أي: فاقد البصر، وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدى إلى شيء منها، أو جاهلًا بوجود الحق، كما كان جاهلًا في الدنيا؛ أي (¬2): فإذا خرج هو من القبر .. خرج بصيرًا. فإذا سيق إلى المحشر .. عَمَى، فإذا دخل النار .. زال عماه، ليرى محله وحاله. وقرأ الجمهور (¬3): {وَنَحْشُرُهُ} بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب: بسكون الراء، فيجوز أن يكون تخفيفًا، ويجوز أن يكون جزمًا بالعطف على موضع {فإن له معيشة ضنكا} لأنه جواب الشرط، وقرأت فرقة {ويحشره} بالياء، وقرى {ويحشره} بسكون الهاء على لفظ الوقف. وقصارى ذلك (¬4): أن الله سبحانه، جعل لمن اتبع هداه، وتمسك بدينه العيش الهنيء، الذي لا هم فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو في الآخرة أشد تعبًا، وأعظم ضيقًا، وأكثر ألمًا 125 - {قَالَ} المعرض الذي حُشر أعمى، استئناف بياني {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي} وبعثتني - استفهام استخباري - حالة كوني {أَعْمَى}؛ أي: فاقد البصر {و} الحال أني {قد كنت بصيرًا}، أي: ذا بصر في الدنيا؛ أي: {قَالَ} المعرض {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عن حجتي وعن رؤية الأشياء على حقيقتها، {وَقَدْ كُنْتُ} في الدنيا ذا بصر بذلك كله، ونحو الآية قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[126]

126 - {قَالَ} ربه مجيبًا هذا السائل: {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: أمرنا {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ما فعلنا بك من حشرك أعمى، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي حشرناك أعمى حشراً مثل الذي فعلت في الدنيا، من إعراضك عن الحق، ثم فسره بقوله: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا}؛ أي: آيات الكتاب، أو دلائل القدرة، وعلامات الوحدة، واضحةً نيرةً، بحيث لا تخفى على أحد {فَنَسِيتَهَا}؛ أي: أعرضت عنها وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلًا، ولم تنظر فيها {وَكَذَلِكَ}؛ أي: ومثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا {الْيَوْمَ تُنْسَى}؛ أي: تترك في العمى والعذاب، جزاءً وفاقًا، لكن لا أبدًا كما قيل: بل إلى ما شاء الله، ثم يزيله عنه، ليرى أهوال القيامة، ويشاهد مقعده من النار، ويكون ذلك له عذابًا فوق العذاب، وكذلك البكم والصم، يزيلهما الله عنهم {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. والمعنى: أي فكما تركت آياتنا ترك المنسي الذي لا يذكر أصلًا، وأعرضت عنها اليوم ننساك فنتركك في النار. 127 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية {نَجْزِي مَنْ أَسْرَف} وجاوز الحد في عصيانه، بالانهماك في الشهوات، والإسراف: مجاوزة الإنسان الحد في كل فعل يفعله، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ}؛ أي: بالقرآن وسائر المعجزات، بل كذبها وأعرض عنها. والمعنى: أي وهكذا نعاقب من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكًا، أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه قال: في الآية يقول: كل مال أعطيته عبدًا من عبادي، قل أو كثر، لا يتقيني فيه .. فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة. ولما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين (¬1): المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في العقبى .. ختم آيات الوعيد بقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} على الإطلاق، أو عذاب النار {أَشَدُّ} وأوجع مما نعذبهم به في الدنيا، من ضنك ¬

_ (¬1) النسفي.

[128]

العيش ونحوه {وَأَبْقَى} وأدوم وأكثر بقاءً؛ لأنه لا أمد له ولا نهاية ولا انقطاع، فمن أراد أن ينجو من عذاب الله، وينال ثوابه .. فعليه أن يصبر على الشدائد في الدنيا في طاعة الله، ويجتنب المعاصي وشهوات الدنيا، فإن الجنة قد حُفّت بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات، كما ورد في الحديث. 128 - وجملة قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} مستأنفة لتقرير ما قبلها، و (الهمزة) (¬1) فيها للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والهداية هنا: بمعنى التبين، من هدى بمعنى: اهتدى، فهو لازم، والفاعل: المصدر المأخوذ من {أَهْلَكْنَا} من غير سابك لإصلاح المعنى؛ لأن ذلك جائز كثير في كلامهم، وضمير {لَهُمْ} للمشركين المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقرون: جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد، والتقدير: أغفل هؤلاء المشركون فلم يتبين لهم إهلاكنا كثيرًا من القرون قبلهم، حين كذبوا رسلهم، كعاد، وثمود، وقوم لوط، فيعتبروا بهذا الإهلاك، فيرجعوا عن تكذيب الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرًا يعود على الله، ويؤيده القراءة بالنون، والهداية: من هدى المتعدي، فمفعوله محذوف، والتقدير: أجهل هؤلاء المشركون مآل أمرهم، فلم يبين الله سبحانه لهم خبر من {أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} حال كون القرون {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ويتقلبون في ديارهم في أمن وراحة، أو حالة كون هؤلاء المشركين يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة، وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية، خاويةً خاربةً، من أصحاب الحجر، وثمود، وقرى قوم لوط، فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم، لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك، وقرأ الجمهور (¬2): {يَهْدِ} بالياء، وقرأت فرقة - منهم ابن عباس والسلمي -: {أفلم نهد} بالنون، والمعنى على هذه القراءة: واضح والتقدير: أفلم نبين لأهل مكة بيانًا يهتدون به، كثرة من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[129]

أهلكنا من القرون الماضية، من أصحاب الحجر، وثمود، وقرى قوم لوط، وجملة (¬1) قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} تعليل للإنكار، وتقرير للهداية، والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى مضمون قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} إلى آخره. والنُّهى: جمع نهيةٍ، وهي العقل، والمعنى: إن في ذلك الإهلاك بالعذاب، لعبرًا كثيرةً، ودلالاتٍ واضحةً على الحق، لأصحاب العقول الكاملة الناهية عن القبائح. 129 - {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: ولولا الكلمة السابقة من ربك، والحكم الأزلي منه، بتأخير العذاب عن هذه الأمة؛ أي: أمة الدعوة، إلى الدار الآخرة، والمراد بتلك الكلمة (¬2): العِدَةُ من الله بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة، لحكمة تقتضيه، يعني: أن الكلمة إخبار الله ملائكته، وكتبه في اللوح المحفوظ: أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إن كذبوا فسيؤخرون، ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال، لعلمه أن فيهم من يؤمن، ولو نزل بهم العذاب .. لعمهم الهلاك {لَكَانَ} عذاب ذنوبهم {لِزَامًا}؛ أي: لازماً لهم، لا ينفك عنهم بحال، ولا يتأخر عنهم ساعةً، لزوم ما نزل بأولئك الغابرين عند تكذيبهم رسلهم، واللِّزَام: مصدر لازم الرباعي، من باب فاعل كقاتل، وُصف به للمبالغة، وقوله: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} معطوف على {كَلِمَةٌ} قاله الزجاج وغيره، والفصل (¬3) للإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، ولمراعاة فواصل الآي؛ أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم بدر .. لكان عذاب جناياتهم لازماً لهم، ولما تأخر عنهم ساعةً. قيل (¬4): ويجوز عطف {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} على الضمير المستتر في {كان} العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق، تنزيلًا للفصل بالخبر منزلة التأكيد، والتقدير {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ} الأخذ العاجل {لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[130]

لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد وثمود، قاله الزمخشري، وفيه تعسف ظاهر. 130 - ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال .. أمره بالصبر فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} من أنك ساحر كذاب، ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة و (الفاء) فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت كون الأمر على ما ذكر، من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، وأنه لازم لهم البتة، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فيك من كلمات الكفر والنسبة لك إلى السحر والجنون، إلى أن يحكم الله فيهم، فإن علمه - عليه الصلاة والسلام - بأنهم معذبون لا محالة، مما يسليه ويحمله على الصبر. والمعنى: لا تهتم بهم، فإن لعذابهم وقتًا مضروبًا، لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل: هذا منسوخ بآية القتال، وفي "الشهاب" ما نصه؛ أي: إذا (¬1) لم نعذبهم عاجلًا .. فاصبر، فـ (الفاء): سببية، والمراد بالصبر: عدم الاضطراب لما صدر منهم من الأذية، لا ترك القتال، حتى تكون الآية منسوخةً، وفي "الكبير" هذا غير لازم. لجواز أن يقاتل ويصبر على ما يسمع منهم من الأذى، والصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، كما سيأتي في مباحث الصرف {وَسَبِّحْ}؛ أي: نزه ربك عما لا يليق به، حالة كونك متلبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ} وثنائه؛ أي: صل حامدًا لربك على هدايته وتوفيقه {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاةَ الفجر، فهو (¬2) من إطلاق اسم الجزء على الكل، وفي الخبر "إن الذكر والتسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل" وفيه مقال، خص إسماعيل بالذكر لشرفه، وكونه أبا العرب، وإنما أمره بالتسبيح لأن التسبيح وذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة، وينسي جميع ما أصاب من الغموم والأحزان {و} صلّ {قَبْلَ غُرُوبِهَا}؛ أي: قبل غروب الشمس: صلاتي الظهر والعصر؛ لأنهما قبل غروبها وبعد زوالها {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ}؛ أي: بعض ساعاته، جمع إنى بالكسر والقصر، كمِعى وأمعاء، وآناء بالفتح والمد؛ أي: وبعض ساعات الليل {فَسَبِّحْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الشهاب. (¬2) روح البيان.

فصل المغرب والعشاء (¬1)، وتقديم الوقت فيهما لاختصاصهما بمزيد الفضل، فإن القلب فيهما أجمع، والنفس إلى الاستراحة أميل، فتكون العبادة فيهما أشق {و} صل {أَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة التطوع، أمر بالتطوع في أجزاء النهار وفي "عيون المعاني": هو بالنصب عطف على ما قبله من الظروف؛ أي: سبح في أطراف النهار، وهي صلاة المغرب، وصلاة الفجر على التكرار، لإرادة الاختصاص، كما في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} صلاة العصر عند بعض المفسرين. انتهى. وقال الطبري (¬2): قبل غروبها وهي العصر، ومن آناء الليل هي العشاء الآخرة، وأطراف النهار الظهر والمغرب؛ لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار وفي أول الطرف الثاني، فكأنها بين الطرفين، والمغرب في آخر الطرف الثاني فكانت أطرافاً، انتهى. وعبارة "المراح" هنا: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} معطوف (¬3) على محل {وَمِنْ آنَاءِ} المنصوب بـ {سبح} المقرون بـ {الفاء} الزائدة، أو معطوفة على {قَبْلَ}؛ أي: في طرف نصفيه؛ أي: في الوقت الذي يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، فهو نهاية للنصف الأول وبداية للنصف الثاني؛ أي: اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات عما ينسبونه إليه تعالى، مما لا يليق به، حامدًا له على ما ميزك بالهدى، أو المعنى: صل وأنت حامد لربك على كمال هدايته إياك صلاة الصبح، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء، وصلاة الظهر، والآية جامعة لذكر الصلوات الخمس. وقرأ الجمهور (¬4): {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} بنصب الفاء، وهو معطوف على {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} وقيل: معطوف على {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر: {وأطراف} بخفض الفاء عطفًا على {آناء} وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الطبري. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[131]

متعلق بـ {سبح}؛ أي: سبح في هذه الأوقات، رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب، ويسر به قلبك، وقرأ الجمهور {تَرْضَى} بفتح التاء بالبناء للفاعل، وقرأ أبو حيوة، وطلحة، والكسائي، وأبو بكر، وأبان، وعصمة، وأبو عمارة عن حفص، وأبو زيد عن المفضل، وأبو عبيد، ومحمد بن عيسى الأصبهاني: {ترضى} بضم التاء بالبناء للمفعول؛ أي: لعلك تُعطى ما يُرضيك. 131 - ولما صبَّر رسوله على ما يقولون، وأمره بالتسبيح .. أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متعوا به من زينة الدنيا فقال: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}؛ أي: لا تُطل (¬1) نظرهما بطريق الرغبة والميل، استحسانًا للمنظور إليه، وإعجابًا به، وتمنيًا أن لك مثله {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ}؛ أي: إلى ما أعطينا به عن خارف الدنيا {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}؛ أي: أصنافًا من الكفرة، كالوثنيّ، والكتابيّ من اليهود والنصارى، بني قريظة والنضير، وهو مفعول {مَتَّعْنَا} حالة كون ما متعناهم به {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وزينتها وبهجتها ونضارتها وحسنها، قال الواسطي: هذه تسلية للفقراء، وتعزية لهم، حيث منع خير الخلق من النظر إلى الدنيا على وجه الاستحسان. وقرأ الجمهور (¬2): {زَهْرَةَ} بسكون الهاء، وقرأ الحسن، وأبو البرهشيم، وأبو حيوة، وطلحة، وحُميد، وسلَّام، ويعقوب، وسهل، وعيسى، والزهري: بفتحها والزَّهرة والزُّهرة: بمعنى واحد، كالجَهرة والجُهرة، وأجاز الزمخشري في {زَهْرَةَ} المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر، نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر. واللام في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} متعلق بـ {متعنا}؛ أي: لا تلتفت بعينيك إلى ما متعنا لهم به لنفتنهم به؛ أي: لنجعل ذلك المتاع فتنةً وضلالة لهم، ابتلاءً منا لهم، أو (¬3) لنعاملهم فيما أعطيناهم معاملة من نبتليهم حتى يستوجبوا العذاب، بأن يزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرًا وطغيانًا، فلا بد من التنفير عنه، فإنه عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، أو لنعذبهم بسببه، وقرأ الأصمعي عن نافع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[132]

{لنفتنهم} بضم النون، من أفتنه: إذا جعل الفتنة واقعةً فيه. {وَرِزْقُ رَبِّكَ}؛ أي: ثواب الله وما ادخره لصالحي عباده في الآخرة {خَيْرٌ} مما رزقهم في الدنيا؛ لأنه مع كونه أجلَّ ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة، بخلاف ما منحوه {وَأَبْقَى}؛ أي: أدوم، فإنه لا يكاد ينقطع أبدًا وهذا ينقطع. ومعنى الآية: أي (¬1) ولا تُطل النظر استحسانًا ورغبةً فيما مُتع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالًا عليهم، ونكالًا لهم، وقد آتاك ربك خيرًا مما آتاهم، فرضاه خيرٌ وأبقى كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} وخلاصة هذا: التنفير من الانهماك في التمتع بزهرة الدنيا: لسوء عاقبتها. 132 - وبعد أن أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة، ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار، أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإِسلام، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها، وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه، وأن لا يسعى في تحصيل الرزق، ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة، ويدخل في خطابه - عليه السلام - أمته فقال: {وَأْمُرْ} أيها الرسول الكريم {أَهْلَكَ}؛ أي: أهل بيتك، أو أهل دينك {بِالصَّلَاةِ} المفروضة عليك وعليهم؛ أي: وأمرهم بالصلاة كما أمرناك بها بقولنا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ...} الآية. فإن الفقير ينبغي أن يستعين بها على فقره، ولا يهتم بأمر المعيشة، ولا يلتفت إلى جانب أهل الثروة {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}؛ أي: وداوم أنت وهم عليها، غير مشتغل بأمر المعاش، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى فاطمة وعلي كل صباح ويقول: "الصلاة" كان يفعل ذلك أشهرًا. قال ابن عطاء: أشد أنواع الصبر الاصطبار، وهو السكون تحت موارد ¬

_ (¬1) المراغي.

[133]

البلاء بالسر والقلب، والصبر بالنفس لا غير. انتهى. أي: واصبر على الصلاة، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا}؛ أي: لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، وتشتغل بذلك عن الصلاة {نَحْنُ نَرْزُقُك} ونرزقهم ولا نكلفك ذلك، ففرغ بالك لأمر الآخرة، فإن من كان في عمل الله .. كان الله في عمله {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة وهي الجنة. {لِلتَّقْوَى}؛ أي: لأهل التقوى، على حذف المضاف، كما قاله الأخفش، وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر، وعليها تدور دوائر الخير، وقرأ الجمهور: {نَرْزُقُكَ} بضم القاف، وقرأت فرقة - منهم ابن وثاب -: بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب. والخلاصة (¬1): داوم على الصلاة لا نكلفك مالًا، بل نكلفك عملًا نؤتيك عليه أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا، ونحن نعطيك المال، ونكسبك ولا نسألك، والعاقبة الصالحة لأهل الخشية والتقوى، لا لمن لا يخاف عقابًا، ولا يرجو ثوابًا كما قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. 133 - وأخرج مالك والبيهقي، عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل .. أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: {وَقَالُوا}؛ أي: قال كفار قريش: {لَوْلَا يَأْتِينَا}؛ أي: هلا يأتينا محمد - عليه الصلاة والسلام - فـ {لولا} تحضيضية بمعنى هلا؛ أي: هلا يأتينا {بِآيَةٍ} ومعجزة مما اقترحنا نحن ومن نعتد به، أو بآيةٍ كائنةٍ {مِنْ} آيات {رَبِّهِ} كما يأتي بها من كان قبله من الأنبياء، كموسى، وعيسى، لتكون علامةً على صدقه، وذلك كالناقة والعصى، بلغوا من العناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات من قبيل الآيات، حتى اجترؤوا على التفوه بهذه الكلمة العظيمة، فأجاب الله - سبحانه وتعالى - عليهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[134]

بقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} و (الهمزة) فيه للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف (¬1)، والبينة: الدلالة الواضحة عقليةً كانت أو حسيةً، والمراد بها هنا: القرآن الذي فيه بيان للناس، و {مَا}: عبارة عن العقائد الصحيحة وأصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافة الرسل، والصحف: جمع صحيفة وهي التي يكتب فيها، وحروف التهجي صحيفة على حدة، مما أُنزل على آدم، والمراد بها: التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب السماوية، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، ولذلك فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم، والتقدير: ألم ياتهم سائر الآيات، ولم يأتهم القرآن الذي هو بيان ما في الصحف الأولى، من العقائد المحقة، وأصول الأحكام؛ أي: قد أتاهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز وهو: القرآن. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: {تأتهم} بالتاء على لفظ بينة، وقرأ باقي السبعة، وأبو بحرية، وابن محيصن، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيدة، وابن سعدان، وابن عيسى، وابن جبير الأنطاكي {يأتهم} بالياء لمجاز تأنيث الآية، والفصل، أو لأن البينة بمعنى البيان والبرهان، وقرأ الجمهور (¬2): بإضافة {بَيِّنَةُ} إلى {مَا} وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمر بالتنوين و {مَا} بدل، وقرأت فرقة: بنصب {بَيِّنَةُ} والتنوين و {مَا} فاعل بـ {تَأْتِهِمْ} و {بَيِّنَةُ} نصب على الحال، فمن قرأ: {يأتهم} بالياء فعلى لفظ {مَا} ومن قرأ بالتاء راعى المعنى؛ لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى، وما شاء الله، وقرأ الجمهور: {فِي الصُّحُفِ} بضم الحاء، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها. 134 - ثم بيَّن أنه لا عذر لهم في ترك الشرائع، وسلوك طرق الضلالة بوجه ما فقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ}؛ أي: أهلكنا كفار مكة في الدنيا، أو الكفرة {بِعَذَابٍ} مستأصل {مِنْ قَبْلِهِ} متعلق بـ {أَهْلَكْنَاهُمْ}؛ أي: من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - أو من قبل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

إتيان البينة، أو من قبل إرسال الرسل {لَقَالُوا} يوم القيامة احتجاجًا واعتذارًا {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}؛ أي: هلا أرسلت إلينا رسولًا يأمرنا وينهانا في الدنيا مع كتاب {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} التي أتى بها الرسول {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ}؛ أي: من قبل أن يحصل لنا الذل والهوان في الدنيا بعذاب القتل والسبي، كما وقع يوم بدر، والذل الهوان {وَنَخْزَى} ونفتضح في الآخرة، بدخول النار. والمعنى (¬1): ولكن ألم نهلكهم قبل إتيانها، فانقطعت معذرتهم، فعند ذلك اعترفوا و {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. قال في "الأسئلة المقحمة": هذا يدل (¬2) على أنه يجب على الله أن يفعل ما هو الأصلح لعباده المكلفين، إذ لو لم يفعل .. لقامت لهم عليه الحجة، بأن قالوا: هلا فعلت بنا ذلك حتى نؤمن. والجواب: لو كان يجب عليه ما هو الأصلح لهم .. لما خلقهم، فليس في خلقه إياهم وإرسال الرسل إليهم رعاية الأصلح لهم، مع علمه بأنهم لا يؤمنون به، ولكنه أرسل الرسل وأكد الحجة، وسلب التوفيق، ولله تعالى أن يفعل ما يشاء بحق المالكية. انتهى. وقرأ الجمهور (¬3): {نَذِلَّ وَنَخْزَى} مبني للفاعل، وقرأ ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وزيد بن علي، والحسن في رواية عباد، والعمري، وداود، والفزاري، وأبو حاتم، ويعقوب: مبنيًا للمفعول. والمعنى: أي (¬4) ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب الاستئصال من قبل إتيان البينة، وهي القرآن .. لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا في الدنيا رسولًا معه الآيات الدالة على صدقه، فنتبع حججك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك، من قبل أن نذل بتعذيبك، ونفتضح به. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أسئلة المقحمة. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[135]

والخلاصة: أنا لو أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم الكتاب العظيم .. لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولًا قبل أن تُهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، لكنا لم نهلكهم قبله، فانقطعت معذرتهم، 135 - {قُلْ} يا محمد لأولئك الكفرة المتمردين {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد منا ومنكم {مُتَرَبِّصٌ} أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: قال في "الكبير" كل (¬1) منا ومنكم منتظر عاقبة أمره، إما قبل الموت بسبب الجهاد وظهور الدولة والقوة، أو بعد الموت بالثواب والعقاب، وبما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله، وعلى المبطل من أنواع إهانته، وروي: أن المشركين قالوا: نتربص بمحمد حوادث الدهر، فإذا مات .. تخلصنا {فَتَرَبَّصُوا}؛ أي: فانتظروا أنتم عاقبة أمرنا، ونحن نتربص عاقبة أمركم {فَسَتَعْلَمُونَ} أيها الكفرة عن قريب، إذا جاء أمر الله ونصره {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}؛ أي: جواب من أصحاب الصراط المستقيم، والأصحاب جمع صاحب: بمعنى الملازم، والصراط: من السبيل ما لا التواء فيه؛ أي: لا إعوجاج فيه، بل يكون على سبيل القصد {وَمَنِ اهْتَدَى}؛ أي: وجواب. اهتدى من الضلال؛ أي: أنحن أم أنتم، كما قال بعضهم: سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ ... افَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ وفيه تهديد شديد لهم. واعلم: أن الله سبحانه قطع المعذرة بالإمهال والإرشاد ذلك الحجة البالغة، وقرأ الجمهور (¬2): {السَّوِيِّ}: على وزن فعيل؛ أي: المستوي وقرأ أبو مجلز، وعمران بن حدير: {السواء}؛ أي: الوسط، وقرأ الجحدري، وابن يعمر {السوأى} على وزن فعلى، أنث لتأنيث {الصِّرَاطِ} وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسوء، وقرىء {السوي} بضم السين وفتح الواو وشد الياء: تصغير السوء، قاله الزمخشري، وليس بجيّد، إذ لو كان تصغير سوءٍ .. لثبتت همزته في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

التصغير، فكنت تقول: سؤيي، والأجود أن يكون تصغير سواءٍ، كما قالوا في عطاءٍ عطي، ومن قرأ {السوأى} أو {السوء} كان في ذلك مقابلةً لقوله: {وَمَنِ اهْتَدَى} وعلى قراءة الجمهور لم تراع المقابلة في الاستفهام. والمعنى (¬1): قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين بالله: كلنا منتظر لمن يكون الفلاح له، وإلام أمرنا وأمركم فتربصوا وارتقبوا، فستعلمون من أهل الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، إذا جاء أمر الله وقامت القيامة، أنحن أم أنتم، وستعلمون من المهتدي الذي هو على سنن الطريق المقاصد، ونحو الآية قوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} ولا يخفى ما بين بداية السورة وخاتمتها من المناسبة، فإنها بُدئت ببيان أن القرآن قد أنزل لتحمل تعب الإبلاغ، وحيث قد بلغت فلا عليك، وختمت بطلب الإقبال على طاعة الله سبحانه وتعالى قدر الطاقة، وأمر أهله بالصلاة، وترك الذين لا يُنجح فيهم الإنذار، فإنه تذكره لمن يخشى، ويندم المخالف حيث لا ينفع الندم. الإعراب {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية و (اللام): موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {عَهِدْنَا}: فعل وفاعل {إِلَى آدَمَ}: متعلق به {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور ومتعلق بـ {عَهِدْنَا} أيضًا، أو حال من {آدَمَ} والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لتقرير مساوىء النسيان، الذي هو صنو الجهل، وقرينه، ولذلك يجب التحوط عنه، والدعاء دائمًا، لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} {فَنَسِيَ} (الفاء) عاطفة {نسي}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {آدَمَ} والجملة: معطوفة على جملة {عَهِدْنَا} {وَلَمْ نَجِدْ} (الواو): عاطفة {لم نجد}: جازم ومجزوم، وفاعله: ضمير يعود على الله، تقديره: نحن {لَهُ}: جار ¬

_ (¬1) المراغي.

ومجرور في محل المفعول الثاني {عَزْمًا}: مفعول أول لـ {نَجِدْ} إن (¬1) كان من الوجدان بمعنى العلم، فينصب مفعولين، ويحتمل كونه من الوجود ضد العدم، فينصب مفعولًا واحدًا وهو {عَزْمًا} و {لَهُ}: حال منه، أو متعلق بـ {نَجِدْ} اهـ "بيضاوي". {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)}. {وَإِذْ} الواو: استئنافية {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة {إذ قلنا للملائكة} {قُلْنَا}: فعل وفاعل {لِلْمَلَائِكَةِ}: متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} {اسْجُدُوا}: فعل أمر وفاعل {لِآدَمَ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْنَا}. {فَسَجَدُوا} الفاء: عاطفة {سجدوا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {قُلْنَا}. {إِلَّا} أداة استثناء {إِبْلِيسَ}: منصوب على الاستثناء، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه {أَبَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْلِيسَ} والجملة: في محل النصب حال من {إِبْلِيسَ} {فَقُلْنَا} (الفاء): عاطفة {قُلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْجُدُوا}. {يَا آدَمُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قُلْنَا}. {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ}: ناصب واسمه وخبره {لَكَ}: متعلق بـ {عَدُوٌّ} أو صفة له {وَلِزَوْجِكَ}: معطوف على {لَكَ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْنَا} على كونه جواب النداء {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا} (الفاء): عاطفة {لا} ناهية جازمة {يخرجن} فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على {إِبْلِيسَ} و (الكاف): ضمير للمثنى المخاطب، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ}. {مِنَ الْجَنَّةِ}: متعلق بـ {يخرج}. {فَتَشْقَى} (الفاء): ¬

_ (¬1) الفتوحات.

عاطفة سببية {تشقى}: فعل مضارع منصوب بأن مضمر وجوبًا بعد (الفاء) السببية الواقعة في جواب النهي، وفاعله: ضمير يعود على {آدَمُ} والجملة الفعلية: صلة أن المضمرة الواقعة في جواب النهي، أن مع صلتها: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن إخراجه إياكما فشقاؤكما، وأفرد الضمير في {تشقى} لأن آدم هو المخاطب من أول القصة، فهو المقصود، وإلا فمقتضى السياق أن يقال فتشقيا كما مر في مبحث التفسير. {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}. {إِنَّ} حرف نصب {لَكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {أَلَّا} {أن} حرف نصب ومصدر {لا}: نافية {تَجُوعَ} فعل مضارع منصوب بـ {أن} وفاعله: ضمير يعود على {آدَمُ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {تجوع}. {وَلَا تَعْرَى}: معطوف على {تَجُوعَ} وجملة {تَجُوعَ}: صلة {أنْ} المصدرية {أنْ} مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم {إِنَّ} مؤخرًا، تقديره: إن عدم الجوع والعرى كائن لك، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْنَا}. {وَأَنَّكَ} (الواو): عاطفة {أنك}: ناصب واسمه {لَا تَظْمَأُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر {فِيهَا}: متعلق بـ {تَظْمَأُ} {وَلَا تَضْحَى}: معطوف على {لَا تَظْمَأُ} وجملة {لَا تَظْمَأُ}: في محل الرفع خبر {أن} والتقدير: وأنك عادم الظمأ فيها، وعادم الضحو، وجملة {أن} المشددة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من {أنْ} المصدرية في قوله: {أَلَّا تَجُوعَ}: عطف مفرد على مفرد، على كونه اسم {إِنَّ} المكسورة، والتقدير: إن لك عدم الجوع، وعدم العربي، وعدم الظمأ والضحو، وجاز أن تكون {إِن} بالفتح اسمًا، لـ {إِنَّ} بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يجز، حتى لو قلت: إن أن زيدًا قائم لم يجز، فلما فُصل بينهما جاز، فتقول إن عندي أن زيدًا قائم، فعندي: هو الخبر قدم على الاسم، وهو أن وما في حيزها ,لكونه ظرفًا، والآية من هذا القبيل، إذ التقدير: وإن لك أنك لا

تظمأ اهـ من "السمين". {فَوَسْوَسَ} (الفاء): عاطفة {وسوس}: فعل ماض {إِلَيْهِ} متعلق به {الشَّيْطَانُ}: فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {قُلْنَا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ} والجملة بدل من جملة {وسوس} {يَا آدَمُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}. {هل} حرف للاستفهام الاستنصاحي {أَدُلُّكَ}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، {عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَدُلُّكَ} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمُلْكٍ} معطوف على {شَجَرَةِ} وجملة {لَا يَبْلَى}: صفة لـ {ملك}. {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}. {فَأَكَلَا} الفاء: عاطفة {أكلا}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {وسوس}. {مِنْهَا}: متعلق بـ {أكلا}. {فَبَدَتْ} (الفاء): عاطفة {بدت}: فعل ماض {لهما} متعلق به {سَوْآتُهُمَا}: فاعل ومضاف إليه والجملة: معطوفة على جملة {أكلا}. {وَطَفِقَا}: فعل ناقص واسمه؛ لأنه من أفعال الشروع، تعمل عمل كان وجملة {يَخْصِفَانِ}: في محل النصب خبر {طفقا} وجملة {طفقا}: معطوفة على جملة {بدت}. {عَلَيْهِمَا} متعلق بـ {يَخْصِفَانِ}؛ أي: لأجل ستر سوءتيهما فـ {على} تعليلية {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لموصوف محذوف هو المفعول به؛ أي: ورقًا كائنًا {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}. {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {فَبَدَتْ لَهُمَا} {فَغَوَى}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {وَعَصَى} {ثُمَّ}: حرف عطف {اجْتَبَاهُ}: فعل ومفعول به {رَبُّهُ} فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {غوى}. {فَتَابَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الرب {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {تاب} والجملة: معطوفة على جملة {اجْتَبَاهُ}. {وَهَدَى}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {تَابَ}. {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ

هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)}. {قَالَ}: فعل ماض، والفاعل: مستتر يعود على الله، والجملة: مستأنفة {اهْبِطَا}: فعل أمر وفاعل يعود على آدم وحواء، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {مِنْهَا}: متعلق بـ {اهْبِطَا}. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {اهْبِطَا} {بَعْضُكُمْ}: مبتدأ {لِبَعْضٍ}: حال من {عَدُوٌّ} لأنه كان صفة له، أو متعلق به {عَدُوٌّ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {اهْبِطَا}. {فَإِمَّا} (الفاء): عاطفة {إما} {إن}: حرف شرط جازم {ما} زائدة {يَأْتِيَنَّكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به في محل الجزم بـ {إن} الشرطية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد {مِنِّي}: متعلق به {هُدًى}: فاعل {فَمَن} (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما {اتَّبَعَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مِنْ}. {هَدَى}: مفعول به ومضاف إليه {فَلَا} الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية لاقترانه بـ {لا}. {لا}: نافية {يَضِلُّ}: فعل مضارع، وفاعل، يعود على {مَن}. {وَلَا يَشْقَى}: معطوف عليه، وجملة {يَضِلُّ}: في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن}: الشرطية: جواب {إن} الشرطية وجملة {إن}: الشرطية معطوفة على {اهْبِطَا}: على كونها مقول {قَالَ}. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)}. {وَمَنْ} الواو: عاطفة {مَنْ}: اسم شرط في محل رفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما {أَعْرَضَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {عَنْ ذِكْرِي}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَعْرَضَ}. {فَإِنَّ} الفاء رابطة لجواب {مَنْ}: الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية {إن} حرف نصب وتوكيد {لَهُ}:

جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}. {مَعِيشَةً} اسمها مؤخر وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية في محل الجزم معطوفة على جملة {مَن} الأولى على كونها جوابًا لـ {إنَّ} الشرطية {ضَنْكًا} مصدر بمعنى ضيقةً صفة لـ {مَعِيشَةً} فلهذا لم يؤنث بأن يقال: ضنكةً، فهذا من قبيل القاعدة التي ذكرها ابن مالك بقوله في الخلاصة: وَنَعَتُوْا بِمَصْدَرٍ كَثِيْرَا ... فَالْتَزَمُوْا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيْرَا {وَنَحْشُرُهُ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق به {أَعْمَى} حال من ضمير المفعول في {نحشره}؛ أي: فاقد البصر، والجملة الفعلية: في محل الجزم معطوفة على جملة {إن} على كونها جوابًا لـ {من} الشرطية وقد قرىء {وَنَحْشُرُهُ} بالجزم عطفًا على محل {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على المعرض، والجملة: مستأنفة {لِمَ} {اللام} حرف جر {م} اسم استفهام في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {حَشَرْتَنِي}. {حَشَرْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية {أَعْمَى}: حال من ياء المتكلم، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ} {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب حال ثانية من ياء المتكلم، وعبارة القرطبي {أَعْمَى}؛ أي: في حال بصيرًا؛ أي: في حال انتهى. {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: حشرناك حشراً مثل ذلك الحشر، يعني: {أَعْمَى} أو فعلنا بك مثل ذلك، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر {كَذَلِكَ} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {أَتَتْكَ}: فعل ومفعول {آيَاتُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَنَسِيتَهَا} (الفاء): عاطفة {نسيتها}: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أَتَتْكَ}. {وَكَذَلِكَ} (الواو): عاطفة {كَذَلِكَ}:

صفة لمصدر محذوف تقديره: ومثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {تُنْسَى}. {تُنْسَى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على المعرض، والتقدير: وتنسى اليوم نسياناً مثل نسيانك في الدنيا، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة {نسيتها} على كونها مقول {قَالَ}. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}. {وَكَذَلِكَ} الواو: عاطفة {كَذَلِكَ} صفة لمحذوف {نَجْزِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {نَجْزِي}. {أَسْرَفَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ} والجملة الفعلية: صفة {مَنْ} الموصولة، والتقدير: ونجزي من أسرف وجاوز الحد جزاءً مئل جزاء المعرض عن آياتنا في حشره أعمى، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا}: على كونها مقول {قَالَ}. {وَلَمْ يُؤْمِنْ} جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} {بِآيَاتِ رَبِّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُؤْمِنْ}: وجملة {يُؤْمِنْ}: معطوفة على جملة {أَسْرَفَ} على كونها صلة {مَنْ} الموصولة {وَلَعَذَابُ} (الواو): عاطفة و (اللام): حرف ابتداء {عذاب الآخرة}: مبتدأ ومضاف إليه {أَشَدُّ}: خبر {وَأَبْقَى}: معطوف عليه، والجملة: معطوفة على جملة {نَجْزِي} أو مستأنفة. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)}. {أَفَلَمْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف {لم}: حرف نفي وجزم {يَهْدِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}. {لَهُمْ}: متعلق به {كَمْ} خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنَا}. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل {قَبْلَهُمْ}: متعلق بـ {أَهْلَكْنَا} {مِنَ الْقُرُونِ}: جار ومجرور صفة لتمييز {كَمْ} المحذوف تقديره: كم أهلكنا قبلهم قرنًا كائنًا من القرون، وجملة {يَمْشُونَ} في محل النصب حال من

مفعول {أَهْلَكْنَا} أو من الضمير في {لَهُمْ}. {فِي مَسَاكِنِهِمْ}: متعلق بـ {يَمْشُونَ} والضمير يعود على المهلكين بفتح اللام، وجملة {أَهْلَكْنَا} من الفعل والفاعل: في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى، مرفوع على الفاعلية لـ {يَهْدِ} والتقدير: أغفل هؤلاء المشركون فلم يهد لهم إهلاكنا كثيرًا من القرون قبلهم، حالة كونهم ماشين في مساكن المهلكين، في أسفارهم إلى الشام، وجملة {يَهْدِ}: من الفعل والفاعل معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}. {لَآيَاتٍ} (اللام): حرف ابتداء {آيات}: اسم {إنَّ}: مؤخر {لأولي النهى} جار ومجرور صفة {لَآيَاتٍ} والتقدير: إن آيات لأولى النهى لكائنة في ذلك، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}. {وَلَوْلَا} الواو: استئنافية {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود {كَلِمَةٌ}: مبتدأ وجملة {سَبَقَتْ}: صفة لـ {كَلِمَةٌ} {مِنْ رَبِّكَ}: متعلق بـ {سَبَقَتْ} وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ} سابقة {مِنْ رَبِّكَ} موجودة {لَكَانَ} (اللام) رابطة لجواب {لَوْلَا} كان: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على الإهلاك {لِزَامًا} خبر {كان} والتقدير: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بتأخير العذاب عنهم {لَكَانَ} الإهلاك العاجل لازما لهم {وَأَجَلٌ}: معطوف على {كَلِمَةٌ}. {مُسَمًّى}: صفة له، والتقدير: ولولا أجل مسمى لإهلاكهم لكان الإهلاك العاجل لازمًا لهم. ويجوز كما قال الزمخشري، وأبو البقاء: أن يكون {أجل} معطوفًا على الضمير المستتر في {كان} وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد بالضمير المنفصل، فيكون من قبيل قول ابن مالك: أو فاصلٍ ما؛ أي: لكان الإهلاك العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعادٍ وثمودٍ. {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}. {فَاصْبِرْ} (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،

تقديره: إذا كان الأمر على ما ذكر، من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، وهو واقع بهم، وآتٍ عليهم، وأردت ما هو اللازم لك .. فأقول لك {اصبر}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق به، وجملة {يَقُولُونَ}: صلة لـ {ما} والعائد محذوف، تقديره: على ما يقولونه، وجملة {اصبر}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة: إذا المقدرة: مستأنفة {وَسَبِّحْ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {اصبر} {بِحَمْدِ رَبِّك}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل {سبح}؛ أي: حالة كونك متلبسًا {بِحَمْدِ رَبِّك}. {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {سبح}. {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}: ظرف ومضاف إليه معطوف على {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}. {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ}: الواو عاطفة {من آناء الليل}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {سبح} المذكور بعده {فَسَبِّحْ} الفاء: زائدة {سبح}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: معطوفة على جملة {سبح} الأول، وقال في "الشهاب" في هذه الفاء ثلاثة أوجه: إما عاطفة على مقدر، أو واقعة في جواب شرط مقدر، أو زائدة. انتهى. {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}: معطوف على محل {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} المنصوب بـ {سبح} المقرون بـ {الفاء} الزائدة؛ أي: صل في أطراف النهار، وعبارة "السمين": قوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}: العامة على نصبه، وفيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على محل {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ}. والثاني: أنه عطف على {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}. انتهى. {لَعَلَّكَ} {لعل}: حرف نصب وترج و (الكاف): اسمها وجملة {تَرْضَى}: خبرها، ومتعلق {تَرْضَى}: محذوف مفهوم من السياق؛ أي: بما تعطاه من الثواب، وجملة {لعل} في محل النصب حال من فاعل {سبح}؛ أي: صلِّ حال كونك راجيًا في أن الله تعالى يرضيك بما يعطيه من الثواب. {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}.

{وَلَا تَمُدَّنَّ} {الواو} عاطفة {لَا}: ناهية جازمة {تَمُدَّنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على محمد {عَيْنَيْكَ} مفعول به {إِلَى مَا} متعلق بـ {تَمُدَّنَّ}. {مَتَّعْنَا} فعل وفاعل {بِهِ} متعلق به، وهو العائد على {مَا} الموصولة، والجملة: صلة لـ {ما} وجملة {تَمُدَّنَّ}: معطوفة على جملة قوله: {فَاصْبِرْ}. {أَزْوَاجًا} مفعول {مَتَّعْنَا}. {مِنْهُمْ} صفة {أَزْوَاجًا} ويجوز أن يُنصب {أَزْوَاجًا} على الحال من الهاء في {بِهِ} راعى لفظ {ما} مرةً، ومعناها أخرى، فلذلك جمع. اهـ "سمين". فيكون منهم متعلقاٌ بـ {مَتَّعْنَا} {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في نصبه تسعة أوجه: الأول: أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ {مَتَّعْنَا} إذا أعربنا {أَزْوَاجًا} على أنه مفعول أول لأنه ضمَّن {مَتَّعْنَا} معنى: أعطينا فـ {أَزْوَاجًا} مفعول أول، و {زَهْرَةَ}: مفعول ثان. الثاني: أن يكون بدلًا من {أَزْوَاجًا} وذلك إما على حذف مضاف؛ أي ذوي زهرة، وإما على المبالغة، كأنهم نفس الزهرة. الثالث: أن يكون منصوبًا لفعل مضمر، دل عليه {مَتَّعْنَا} تقديره: جعلنا لهم {زَهْرَةَ}. الرابع: نصبه على الذم؛ أي: أذم {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. الخامس: أن يكون بدلًا من موضع الموصول. السادس: أن ينتصب بدلًا من محل {بِهِ}. السابع: أن ينتصب حالًا من {مَا} الموصولة. الثامن: أنه حال من الهاء في {بِهِ} وهو ضمير الموصول، وهذا كالذي قبله في المعنى. التاسع: أنه تمييز لـ {ما} أو للهاء في {بِهِ} قاله الفراء. اهـ "سمين" {زَهْرَةَ}: مضاف {الْحَيَاةِ}: مضاف إليه {الدُّنْيَا} صفة لـ {حياة}. {لِنَفْتِنَهُمْ}: اللام: للتعليل {نفتن} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله:

ضمير يعود على الله والهاء: مفعول به الجار والمجرور متعلق بـ {مَتَّعْنَا}. {فِيهِ} متعلق بـ {نفتنهم}. {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر {وَأَبْقَى}: معطوف على {خَيْرٌ} والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {تَمُدَّنَّ}. {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)}. {وَأْمُرْ} {الواو}: استئنافية أو عاطفة {أمر أهلك}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به {بِالصَّلَاةِ} متعلق به، والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}. {وَاصْطَبِرْ}: فعل أمر، وفاعل: مستتر معطوف على ما قبله {عَلَيْهَا}: متعلق به {لَا} نافية {نَسْأَلُكَ رِزْقًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة: مستأنفة {نَحْنُ}: مبتدأ {نَرْزُقُكَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة {وَالْعَاقِبَةُ} (الواو): استئنافية {العاقبة}: مبتدأ {لِلتَّقْوَى}: خبر المبتدأ، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: لأهل التقوى، والجملة: مستأنفة. {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلا {يَأْتِينَا}: فعل ومفعول به وفاعله: ضمير يعود على محمد {بِآيَةٍ}: متعلق به. {مِنْ رَبِّهِ}: صفة لـ {آية} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالُوا} {أَوَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف {لَمْ}: حرف جزم {تَأْتِهِمْ}: فعل ومفعول ومجزوم بـ {لم}. {بَيِّنَةُ مَا} فاعل ومضاف إليه {فِي الصُّحُفِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما}. {الْأُولَى} صفة لـ {الصُّحُفِ} والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم بيان {مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، والجمله المحذوفة: مستأنفة. {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ

آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)}. {وَلَوْ أَنَّا} الواو: استئنافية {لو}: حرف شرط {أَنَّا}: ناصب واسمه {أَهْلَكْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به {بِعَذَابٍ} متعلق بـ {أهلكنا} {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور صفة لـ {عذاب} أو متعلق بـ {أهلكنا} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن}: في تأويل مصدر مرفوع بفعل محذوف هو فعل شرط لـ {لو} تقديره: ولو ثبت إهلاكنا إياهم بعذاب من قبله {لَقَالُوا} (اللام): رابطة لجواب {لو} الشرطية {قَالُوا}: فعل وفاعل {رَبَّنَا لَوْلَا} إلى آخر الآية مقول محكي، والجملة الفعلية: جواب {لو}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة، وإن شئت قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا {أَرْسَلْتَ}: فعل وفاعل {إِلَيْنَا}: متعلق بـ {أَرْسَلْتَ} {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَنَتَّبِعَ} {الفاء}: عاطفة سببية {نتبع}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {الفاء} السببية الواقعة في جواب التحضيض، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: نحن يعود على الكفرة {آيَاتِكَ}: مفعول به ومضاف إليه {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نتبع} والجملة الفعلية: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: هلا إرسالك إلينا رسولًا فاتباعنا آياتك {أَنْ}: حرف مصدر {نَذِلَّ}: فعل مضارع، وفاعل: مستتر منصوب بـ {أَنْ} المصدرية {وَنَخْزَى} معطوف عليه، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بضافة الظرف إليه، تقديره: {مِنْ قَبْلِ} ذلنا وخزينا. {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة {كُلٌّ}: مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم {مُتَرَبِّصٌ}: خبر والجملة في

محل النصب مقول {قُلْ}. {فَتَرَبَّصُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن كلاً منا ومنكم متربص، وأردتم بيان مقتضى ذلك .. فأقول لكم {تربصوا}، {تربصوا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَسَتَعْلَمُونَ} (الفاء) استئنافية {ستعلمون}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَصْحَابُ الصِّرَاطِ}: خبر ومضاف إليه والجملة الاستفهامية في محل النصب سادة مسد مفعولي علم، والكلام: على حذف مضاف؛ أي: فستعلمون جواب من أصحاب الصراط السوي؛ أي: فستعلمون جواب هذا السؤال وهو أنه هم المؤمنون {السَّوِيِّ} مضاف إليه {وَمَنِ اهْتَدَى} الواو: عاطفة {مَنِ} اسم استفهام مبتدأ {اهْتَدَى}: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على {مَنِ} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ؛ أي: ومن المهتدي؛ أي: وجواب من المهتدي منا ومنكم، والجملة الاستفهامية: في محل النصب معطوفة على جملة {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ} على كونها سادة مسد مفعولي علم. التصريف ومفردات اللغة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا} والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، كما مر، والوصية: يقال عهد إليه الملك بكذا، وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه. {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل وجود هؤلاء المخالفين. {عَزْمًا} والعزم على الشيء: تصميم الرأي، والثبات عليه. {وَلَا تَضْحَى} يقال: ضحى كسعى، وضحي كرضي: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، وفي "القاموس": وضحا يضحو، كغزا يغزو، ضحوًا: إذا برز للشمس، وكسعى ورضي، ضحوًا وضحيًا: أصابته الشمس. انتهى. {شَجَرَةِ الْخُلْدِ}؛ أي: الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان .. خلد ولم يمت.

{فَوَسْوَسَ} يقال: وسوس إليه؛ أي: أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه: وسوس لأجله، وقال أبو البقاء: عُدي وسوس بـ {إلى}؛ لأنه بمعنى أسَرَّ، وعُدِّي في موضع آخر باللام، لكونه بمعنى ذكر له، ويكون بمعنى لأجله. اهـ "سمين" وسوسة الشيطان: كولولة الثكلى، ووعوعة الذئب في أنها حكايات للأصوات، وسنتحدث عن أسماء الأصوات وحكايتها في فصل مستقل، في آخر مباحث الصرف إن شاء الله تعالى. وفي "القاموس" وسوس الشيطان له، وإليه وسواسًا ووسوسةً: إذا حدَّثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير، ووسوس الرجل: أصيب في عقله، وتكلم بغير نظام، وأصابته الوساوس: فهو موسوس، وتكلم بكلام خفي، والوسواس: صوت الحلي كما مر، ووُسْوِس الرجل كلامًا خفيًا، ووسوس به، بالبناء للمجهول: اختلط كلامه ودهش، والوسواس الاسم من وسوس، والوسواس الشيطان، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء، ويختلط معه الذهن، ويقال، لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه: وسواس وجمعه: وساوس. {يَخْصِفَانِ} في "القاموس": خصف النعل يخصفها: خرزها، والورق على بدنه: ألزقها وأطبقها عليه ورقةً ورقةً، ويقال: خصف ورق الشجرة بعضه ببعض، حتى يصير عريضًا صالحًا للاستتار. {وَعَصَى آدَمُ} يقال: عصى عصياناً: إذا خرج عن الطاعة، وأصله: أن يمتنع بعصاه. {فَغَوَى}؛ أي: ضل عن الرشد، حيث اغتر بقول عدوه. و {اجْتَبَاهُ}؛ أي: اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة، والتوفيق لها، من جبى إلى كذا فاجتبيته، مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل الكلمة: الجمع. اهـ "بيضاوي". فالمجتبى: كأنه في الأصل مَنْ جُمِعَتْ فيه المحاسن، حتى اختاره غيره. انتهى "شهاب". {اهْبِطَا مِنْهَا} يقال: هبط هبوطًا إلى نزل، قال الراغب:

الهبوط الإنحدار على سبيل القهر، كهبوط الحجر، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وإذا استعمل في الإنسان الهبوط، فعلى سبيل الاستخفاف، بخلاف الإنزال، فإن الإنزال ذكره الله في الأشياء التي نبه على شرفها، كإنزال القرآن، والملائكة، والمطر، وغير ذلك، والهبوط: ذكره حيث نبه على البعض، نحو {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. {عَنْ ذِكْرِي}؛ أي: عن الهداية بكتبي السماوية. {ضَنْكًا} والضَّنْك: الضيق الشديد في كل شيء، يقال للذكر والأنثى: ضَنُكَ ككرم ضنكًا وضناكةً وضنوكة: إذا ضاق. اهـ "قاموس" وفي "السمين": قوله {ضَنْكًا}: صفة لمعيشة، وأصله المصدر، ولذلك لم يؤنث كما مر، ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد، وقرىء: {ضنكى} بألف كسكرى، وفي هذه الألف احتمالان: أحدهما: أنها بدل من التنوين، وإنما أُجري الوصل مجرى الوقف. والثاني: أن تكون ألف التأنيث، بُنِي المصدر على فعلى نحو دعوى، والضَّنْك: الضيق والشدة، يقال منه: ضَنُك عيشه، يَضْنُك ضناكةً وضنكًا، وامرأة ضَنَّاك كثيرة لحم البدن، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به. اهـ "سمين". {أَعْمَى}؛ أي: عن النظر في الحجج والبراهين الإلهية. {أَسْرَفَ}؛ أي: انهمك في الشهوات، واسترسل فيها. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}؛ أي: لم يهتد لهم، فهو لازم فمعناه يتبين. {الْقُرُونِ}: جمع قرن، وهو: القوم المقترنون في زمن واحد كما مر. {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} قال الراغب: المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة، والسكون: ثبوت الشيء بعد تحرك، ويستعمل في الاستيطان، نحو سكن فلان مكان كذا؛ أي: استوطنه، واسم المكان: مسكن، والجمع: مساكن. {لِأُولِي النُّهَى}؛ أي: لأصحاب العقول الراجحة، جمع نهية، وهو: العقل.

{لِزَامًا}؛ أي: لازمًا لهم، لا يتأخر عنهم، وهو في الأصل: مصدر لازم، بوزن فاعل، وإن كان هنا بمعنى اسم الفاعل. {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} قال الراغب: الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر: لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة .. يسمى صبرًا لا غير، ويضاده الجزع، وإن كان في محاربةٍ .. سمي: شجاعةً، ويضاده الجبن، لان كان في نائبةٍ .. سمي: رحب الصدر، ويضاده الضمير، وإن كان في إمساك الكلام .. سمي كتمانًا، ويضاده البذل، وقد سمي الله تعالى كل ذلك، ونبه عليه بقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} وقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} وسمى الصوم: صبرًا لكونه كالنوع منه. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه. {آنَاءِ اللَّيْلِ}؛ أي: في ساعات الليل. و {مِنْ} بمعنى في، والآناء جمع إنىً بكسر الهمزة وبالقصر، كمعًى بكسر الميم جمعه: أمعاء، وهو محذوف اللام، فوزنه فِعَى بكسر الفاء. {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} المراد بالجمع: ما فوق الواحد؛ لأن المراد بالأطراف الزمن، الذي هو آخر النصف الأول، وأول النصف الثاني فهما طرفان؛ أي: آخر الأول، وأول الثاني طرفان للنهار؛ أي: طرفان لنصفيه، كل واحد منهما طرف لنصف، وإن كانا متصلين. اهـ شيخنا. {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أصل المد: الجر، ومنه المدة للوقت الممتد، وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه، ونحو {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} والعين: الجارحة بخلاف البصر. {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا}؛ أي: لذَّذْنَا به؛ أي: فالإمتاع والتمتع معناه: الإيقاع في اللذة. اهـ شيخنا. وفي "الكبير": ألذذنا به، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويُسمع من الأصوات المطربة، ويشم من الريح الطيبة، وغير ذلك من الملابس والمناكح.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} قال الراغب: الدل: ما كان من قهر، والذَّل: ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر، وقال الراغب أيضًا، خزي الرجل: لحقه انكسار، إما من نفسه، وإما من غيره، فالذي يلحقه من نفسه، هو: الحياء المفرط، ومصدره: الخزاية، والذي يلحقه من غيره، يقال: هو ضرب من الاستحقاق، ومصدره: الخزي. فصل في أسماء الأصوات وعدناك ببحث أسماء الأصوات، ونرى أن نتوسع فيها قليلًا؛ لأن كتب النحو قلما تهتم لها، فهي تجري مجرى أسماء الأفعال؛ لأنها متواخية معها، وهي مبنية، وتنقسم إلى قسمين: الأول: منهما: ما خوطب به ما لا يعقل، مما يشبه اسم الفعل في الاكتفاء به، ولكن اسم الفعل مركب، واسم الصوت مفرد، لعدم تحمله الضمير، كقولهم في دعاء الإبل لتشرب: جىء جىء بكسر الجيم فيهما، مكررين مهموزين، وفي "المحكم": أنهما أمر للإبل بورود الماء، يقال: جأجأت الإبل: إذا دعوتها لتشرب الماء، فقلت: جىء جىء، نقله الجوهري عن الأموي، وكقولهم في دعاء الضأن: حاحا، وفي دعاء المعز: عاعا غير مهموزين، والفعل منهما: حاحيت وعاعيت، قال سيبويه: وأبدلوا الألف من الياء لشبهها بها؛ لأن قولك: حاحيت، إنما هو صوت بنيت منه فعلًا، وليست فاعلت، وكقولهم في زجر البغل: عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِيْنَ طَلِيْقُ فعدس: يزجر به البغل، وقد سمي البغل به، والتقدير: على التسمية به: يا عدس، فحذف حرف النداء، وإمارة بكسر الهمزة؛ أي: حكم. والثاني: منهما: ما حكي به صوت مسموع، والمحكي صوته قسمان: حيوان، وغيره. والأول: كغاق بالغين المعجمة، والقاف لصوت الغراب.

والثاني: نحو طاق، حكايةً لصوت الضرب، وطق بفتح الطاء، حكايةً لصوت وقع الحجارة بعضها على بعضٍ هذا. نبذة في تعداد أسماء الأصوات الصرير: صوت القلم والسرير والباب والطست والنعل، والنشيش: صوت غليان القدر بالشراب، الرنين: صوت الثكلى والقوس، القصيف: صوت الرعد والبحر وهدير الفحل، النقيق: صوت الدجاج والضفدع، القعقعة: صوت السلاح والجلد اليابس والقرطاس، الغرغرة: صوت غليان القدر وتردد النفس في صدر المحتضر، العجيج: صوت الرعد والنساء والشاء، الزفير: صوت النار والحمار، والمكروب إذا امتلأ صدره غمًا، فزفر به، الخشخشة، والشحشحة: صوت حركة القرطاس والثوب الجديد والدرع، الجلجلة: صوت السبع وحركة الجلاجل، الحفيف: صوت حركة الأغصان وجناح الطائر وحركة الحية، الصليل، والصلصلة: صوت الحديد واللجام والسيف والدراهم والمسامير، الطنين: صوت البعوض والذباب والطنبور، والأطيط: صوت الناقة والمحمل والرحل - إذا أثقله ما عليه - الصرصرة: صوت البازي والبط، الدوي: صوت النحل والأذن والمطر والرعد، الأنقاض: صوت الدجاجة والفروخ، التغريد: صوت المغني والحادي والطائر، وكل صائت طرب الصوت فهو كرد، الزمزمة، والزهزمة: صوت الرعد ولهب النار وحكاية صوت المجوسي إذا تكلم الكلام وهو مطبق فمه. انتهى من "إعراب القرآن". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المماثل في قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}. ومنها: إضافة السبب إلى المسبب في قوله: {عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}. ومنها: الاستخدام في قوله: {فَأَكَلَا مِنْهَا}؛ أي: من ثمرتها، وهو ذكر

الشيء بمعنى، وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر. ومنها: المقابلة بين قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}. ومنها: الطباق بين {أَعْمَى} و {بَصِيرًا}. ومنها: التشبيه المجمل المرسل في قوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا}. ومنها: التكرار في قوله: {وَكَذَلِكَ} {وَكَذَلِكَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبخي في قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك} من إطلاق الجزء، وإرادة الكل؛ لأنه بمعنى صل. ومنا: الطباق في قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وبين الليل والنهار في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} مثل لنعم الدنيا بالزهر، وهو: النور؛ لأن الزهر له منظر حسن، ثم يذبل ويضمحل، وكذلك نعيم الدنيا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ}. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}، وفي قوله: {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا}. ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: {فَتَرَبَّصُوا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة 1 - أن القرآن أُنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - تذكرةً لمن يخشى، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى. 2 - قصص موسى - عليه السلام - وتكليمه ربه في الطور، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هارون وزيرًا، وإجابة سؤاله في ذلك، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع في التابوت، وألقي في اليم، وقص أخته ورجوعه إلى أمه، ثم طلب ربه منه أن يُبلغ فرعون دعوته، وينصح له في قبول دينه، وإقامة شعائره، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب، وأنه سيجمع له السحرة، فتوعدهم فرعون بالعذاب، فلم يأبهوا له، واستمر فرعون في غيّه حتى أوحى الله إلى موسى أن يخرج من مصر، فأتبعه هو وجنوده فأُغرقوا. 3 - حديث السامري، وإضلاله بني إسرائيل، باتخاذه عجلًا جسدًا له خوار، حين كان موسى بالطور، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر، وغضب من أخيه هارون، وأخذ يجره من رأسه، ثم إغلاظه القول للسامري، ودعوته عليه بأنه يعيش طريدًا في الحياة، وسيعذبه الله في الآخرة أشد العذاب، ثم نسف إلهه وإلقاؤه في اليم. 4 - بيان أن من أعرض عن القرآن .. فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة. 5 - ذكر أوصاف المجرمين حينئذٍ، وأنهم يختلفون في مدة لبثهم في الدنيا. 6 - سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة، وأن الأصوات حينئذٍ تخشع للرحمن، فلا تسمع إلا همسًا، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها. 7 - وصف القرآن الكريم بأنه عربي مبين، أنزل تذكرة للناس، وأن الله سيعصم رسوله من نسيانه، فلا ينبغي أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له.

8 - قصص آدم - عليه السلام - مع إبليس وترك آدم للعهد الذي وصاه به ربه، وقبول نصيحة إبليس، مما كان سببًا في إخراجه من الجنة. 9 - بيان أن من أعرض عن ذكر ربه .. عاش في الدنيا عيشةً ضنكًا، وعمي في الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب؛ لأنه قد كان في الدنيا أعمى عنها، تاركًا لها فتركه ربه من إنعامه. 10 - بيان أن في المثلات التى سلفت للأمم قبلهم، ممن يقرون على ديارهم مصبحين، وبالليل، كعادٍ وثمود، ما ينبغي أن يكون رادعًا لهم، وزاجرًا لو تدبروا وعقلوا. 11 - إن كلمة الله قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة. 12 - طلبه من رسوله تنزيهه، والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار، رجاء أن يعطيه ما يرضيه. 13 - أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة، ويصطبر هو عليها، وهي لا تكون شاغلًا لهم عن الرزق. 14 - طلب المشركين من الرسول أن ياتيهم بآية من نوع ما أوتي الرسل الأولون. 15 - إن إنزال القرآن على رسوله، ليزيح العلة، ويمنع المعذرة، يوم القيامة، فلا يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولًا، وأتينا بكتاب نتبعه. 16 - وعيد المشركين بأنهم يتربصون، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون له حسن العاقبة. * * *

ربنا إنك رؤوف بعبادك، رحيم بهم، ربنا اجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت تفاسير سورة طه، في الليلة السابعة عشرة من شهر جمادى الأولى، من شهور سنة اثنتي عشرة وأربع مئة وألف، من هجرة من له العز والشرف، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السابع عشر، أوائل الليلة السابعة عشرة ليلة السبت المبارك، من شهر الجمادي الأولى، من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشرة، سنة 17/ 5/ 1412 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية. بحول أن سبحانه وتيسيره، ونسأله الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيرًا، دائمًا إلى يوم الدين. آمين. بورك تفسير الروح والريحان ... كما بورك جنا الزيتون والرمان

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [18]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اللَّيَالِيْ تَرُوْمُ الْعِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيْلاً ... يغُوْصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ الَّلألِيْ عُلُوُّ الْكَعْبِ بِالْهِمَمِ الْعَوَالِيْ ... وَعِزُّ الْمَرْءِ فِيْ سَهَرِ اللَّيَالِيْ وَمَنْ رَامَ الْعُلاَ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ... أَضَاعَ الْعُمْرَ فِيْ طَلَبِ الْمُحَالِ تَرَكْتُ النَّوْمَ رَبِّيْ فِيْ اللَّيَالِيْ ... لأَجْلِ رِضَاكَ يَا مَوْلَى الْمَوَالِيْ فَوَفِّقْنِيْ إِلَى تَحْصِيْلِ عِلْمٍ ... وَبَلِّغْنِيْ إِلَى أَقْصَى الْمَعَالِيْ

سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا إلهنا حمد من أقر بربوبيتك؛ واعترف بوحدانيتك، وصدق بكتابك، واقتدى بمحكمه، وآمن بمتشابهه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيّدُ الأولين والآخرين، من أنزلت عليه الكتاب المستبين، والقرآن المبين، وصلّ وسلّم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء السادس عشر من القرآن الكريم .. أخذت - بعون الله - في تفسير الجزء السابع عشر منه، راجيًا من الله التوفيق، والهداية فيما نحن بصدده إلى أقوم الطريق، فقلت: سورة الأنبياء مكية، قال القرطبي: عند جميع المفسرين. وعدد (¬1) آياتها مئة واثنتا عشرة آية، أو إحدى عشرة. وعدد كلماتها ألف كلمةً، ومئة وثمان وستون كلمة. وعدد حروفها أربعة آلاف حرف، وثمان مئة وتسعون حرفًا. فضلها: ومما ورد في فضلها (¬2): ما أخرجه البخاري، وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، والأنبياء، من من العتاق الأول، وهن من تلادي". وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم، في "الحلية"، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه الرجل، فقال: إني استقطعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واديًا ما في العرب، وادٍ أفضل منه، وقد ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك، ولعقبك من بعدك. فقال عامر: لا حاجة لى في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من قرأ {اقترب} حاسبه الله حساباً يسيرًا، وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن" ولكن لا أصل له. وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم: في سورة الأنبياء آيتان منسوختان: أولاهما: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية (98). وثانيتهما: الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} (99). وهاتان الآيتان نسختا كلتاهما بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية (101) من سورة الأنبياء، انتهى. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬2): أن السورة السالفة ختمت بأن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنةً، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها، وأمره بالصلاة والصبر عليها، وأن العاقبة للمتقين، وبُدئت هذه السورة بمثل ما حنتمت به السالفة، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون، وقلوبهم لاهية عنه. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}.

المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة قد مرّ بيانها آنفًا. وقال أبو حيَّان (¬1): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر في آخر السورة السَّالفة {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} قال مشركو قريش: محمد يهدّدنا بالمعاد، والجزاء على الأعمال، وليس بصحيح، وإن صحَّ ففيه بعد، فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، انتهى. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف إنكارهم لأن يكون الرسول بشرًا بقولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أجاب عن هذه الشبهة بأن هذه سنة الله في الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو ليس ببدع بينهم، وإن كنتم في ريب من ذلك، فاسألوا أهل الكتاب من قبلكم، ثم ذكر أنَّ الرسل كسائر البشر في سنن الطبيعة البشرية، يأكلون الطعام، ولا يخلدون في الأرض، بل يموتون كما يموت سائر الناس، وقد صدقهم الله وعده فينجيهم، ومن آمن بهم، ويهلك المكذبين لهم، وأعقب ذلك بأن في القرآن عظةً لهم لو كانوا يعقلون ما في تضاعيفه من مواعظ، وزواجر، وأجر ووعد ووعيد. قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) إهلاكه للمسرفين في كفرهم بالله، والعاصين لأوامره، ونواهيه .. بيَّن هنا طريق إهلاكهم، وكثرة ما حدث من ذلك في كثير من الأمم، ثم بيّن أنه أنشأ بعد الهالكين قومًا آخرين، وأنهم حينما أحسوا بأس الله، فرّوا هاربين، فقيل لهم على ضرب من التهكم والسخرية: فلترجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعيم، وإلى تلك المساكن المشيّدة، والفرش المنجَّدة، فلعلكم تسألون عما جرى عليكم، ونزل بأموالكم ومنازلكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، ثم بعد أن يئسوا من الخلاص، وأيقنوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بالعذاب قالوا: هلاكًا لنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا، مستوجبين العذاب بما قدّمناه، وما زالوا يكرّرون هذه الكلمة، ويردّدونها، وجعلوها هجيراهم، حتى صاروا كالنبات المحصود، والنار الخامدة. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) مطاعنهم في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك المقالات التى سلف ذكرها قفى على ذلك بذكر فساد تلك المطاعن، وبيان أن من أنكر نبوته فقد جعل تلك المعجزات التي ظهرت على يديه من باب العبث واللعب، تنزّه ربنا عن ذلك، فإنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلَّا لعبادته، ومعرفته، ومجازاة من قام بهما بالثواب والنعيم، ومن لم يقم بذلك بالعقاب الأليم، ولن يتم علم هذا إلَّا بإنزال الكتب وإرسال الرسل، صلوات الله عليهم، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لهوًا ولعبًا، تعالى خالقهما علوًا كبيرًا، ثم أردف هذا بالرد على من ادَّعى أنَّ المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، بأنه لو اتخذ ولدًا لاتّخذه من الملائكة، وعقّب على هذا بأن الغلبة للحق دائمًا، مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السموات والأرض كلهم عبيده، لا يستكبرون عن عبادته، ولا يملّون. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمّا (¬2) بين في سابق الآيات، أن كثيرًا من الأمم المكذّبة لرسلها قد أبيدت، وأنشىء بعدها أقوام آخرون، وأنهم حين أحسّوا بالبأس، ارعووا وندموا حيث لا ينفع الندم، ثم أردف ذلك ذكر أن من في السموات والأرض عبيده، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يكلّون ولا يملون منها .. ذكر هنا أنه كان يجب عليهم أن يبادروا إلى التوحيد، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل فعلوا ضدّه، فكانوا جديرين بالتوبيخ، والتعنيف، ثم أقام البرهان على وحدانيته، وأنه لو كان في السموات والأرض إلهان لهلك من فيهما، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[1]

تنزَّه ربنا عما يقول هؤلاء المشركون، وقد كذب من اتخذ آلهة لا دليل عليها، وأن جميع الأديان جاءت بإخلاص التوحيد، كما كذب من جعل له ولدًا، فقال: الملائكة بنات الله. والملائكة خلق مطيعون لربهم، لا يفعلون إلّا ما يؤمرون به، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، وهم من خوفه حذرون، ومن يقل منهم: إنه إله .. فلا جزاء له إلا جهنم، وهي جزاء كل ظالم. أسباب النزول قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، فقال: "يا رب فمن لأمتي" فنزلت {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {اقْتَرَبَ}؛ أي: قرب ودنا {لِلنَّاسِ}؛ أي للمشركين {حِسَابُهُمْ}؛ أي (¬2): وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة، نزلت في منكري البعث؛ أي: قرب (¬3) بالنسبة إلى ما مضى، أو عند الله تعالى لقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}، أو لأن كل ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما انقرض ومضى، قال الشاعر: فَمَا زَالَ مَنْ يَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ ... وَمَا زَالَ مَنْ يَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ واللام صلة لـ {اقترب}، أو تأكيد للإضافة، وأصله: اقترب حساب الناس، ثم صار اقترب للناس الحساب، ثم صار اقترب للناس حسابهم، وقال في "العيون": اللام بمعنى من، متعلقة بالفعل، وتقديمها على الفاعل للمسارعة ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الخازن. (¬3) البيضاوي.

إلى إدخال الروعة، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبةً وانزعاجًا من المقترب. وإنما ذكر (¬1) الله سبحانه هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين، فيكونون أقرب إلى التأهّب له، والمراد بـ {الناس}، المحاسبون، وهم المكلَّفون دون غيرهم. وقيل: هم المشركون لتقييدهم بقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وعلى هذا فهو من باب إطلاق اسم الجنس على بعض أفراده. والحساب بمعنى المحاسبة (¬2)، وهو إظهار ما للبعيد وما عليه ليجازى على ذلك، والمراد باقتراب حسابهم: اقترابه في ضمن اقتراب الساعة، وسمي يوم القيامة بيوم الحساب، تسمية للزمان بأعظم ما وقع فيه، وأشدّه وقعاً في القلوب، فإن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ومعنى اقترابه لهم تقاربه، ودنوّه منهم بعد بعده عنهم، فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقرب إليهم من الساعة السابقة، ما أن ما مضى أكثر مما بقي، وفي الحديث: "أمّا بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وإنما لم يعيّن الوقت؛ لأن كتمانه أصلح كوقت الموت. والمعنى (¬3): دنا من مشركي قريش وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم السيئة، الموجبة للعقاب يوم القيامة، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}؛ أي: والحال أنهم في غفلة تامة من الحساب على النقير والقطمير، والتأهّب له، ساهون عنه بالكلية، لا أنهم غير مبالين مع اعترافهم بإتيانه، بل منكرون له، كافرون به مع اقتضاء عقولهم له؛ لأن الأعمال لا بد لها من الجزاء، وإلّا لزم التسوية بين المطيع، والعاصي وهي بعيدة عن مقتضى الحكمة والعدالة {مُعْرِضُونَ} عن الإيمان والآيات، والنذر المنبّهة لهم من سنة الغفلة. وهما خبران للضمير، وحيث كانت الغفلة أمرًا جبليًا لهم، جعل الخبر الأول ظرفا منبئًا عن الاستقرار بخلاف الأعراض. والجملة حال من {الناس}، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[2]

ويجوز أن يكون الظرف حالًا من المستكن في {مُعْرِضُونَ}. وعبارة الشوكاني هنا: وهم في غفلة بالدنيا، معرضون عن الآخرة، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله، والقيام بفرائضه، والانزجار عن مناهيه، انتهت. وحاصل المعنى: أي (¬1) دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم، وعلى النِّعَم التي أنعمها عليهم ربهم في أجسامهم، وعقولهم، ومطاعمهم ومشاربهم، ماذا عملوا فيها؟ هل أطاعوه فيها، فانتهوا إلى أمره ونهيه، أو عصوه فخالفوا أمره فيها، وهم في هذه الحياة في غفلة عما يفعل الله بهم يوم القيامة، ومن ثمّ تركوا الفكر والاستعداد لهذا اليوم، والتأهُّب له جهلًا منهم بما هم لاقوه حينئذٍ من عظيم البلاء، وشديد الأهوال، وآثر بيان اقتراب هذا اليوم مع أن الكلام مع المشركين المنكرين للبعث للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه، وأن الذي يرجى بيانه ذكر ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب على وجه أكيد، ونهج سديد. وخلاصة ذلك: أنه قد دنا وقت الساعة، وهم غافلون عن حسابهم، ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، مع أن قضية العقل تقضي بجزاء المحسن والمسيء، وإذا هم نبهوا من غفلتهم بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا، وسدوا أسماعهم عن سماعه، 2 - ثم ذكر ما يدل على غفلتهم، وإعراضهم بقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ}؛ أي: ما يأتي هؤلاء المشركين {مِنْ ذِكْرٍ} ينبّههم عن سِنة الغفلة والضلالة، أي: (¬2) طائفة نازلة من القرآن تذكرهم الحساب أكمل تذكير، وتنّبههم عن الغفلة أتم تنبيه، كأنها نفس الذكر والعظة {مِنْ رَبِّهِمْ} {من} لابتداء الغاية، متعلقة بـ {يَأْتِيهِمْ}، أو صفة لـ {ذِكْرٍ} وفيه دلالة على فضله وشرفه، وكمال شناعة ما فعلوا به {مُحْدَثٍ} بالجر صفة لـ {ذِكْرٍ}؛ أي: متجدد تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة، ليكرر على أسماعهم التنبيه، كي يتعظوا، فالمحدث (¬3) هو تنزيله في كل وقت على حسب المصالح، وقدر الحاجة، لا الكلام الذي هو صفة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[3]

قديمة أزلية، وأيضًا الموصوف بالإتيان وبأنه ذكر هو المركب من الحروف والأصوات، وحدوثه مما لا نزاع فيه. قلت: والأسلم الإمساك عن القول بحدوث القرآن وقدمه، وتفويض علم ذلك إلى الله سبحانه، فإنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم شيء من الكلام في ذلك. قالوا: القرآن اسم مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة الله، وهو الكلام النفسي القديم، من قال بحدوثه كفر. ويطلق أيضًا على ما يدل عليه وهو النظم المتلو الحادث، من قال بقدمه سجّل على كمال جهله. وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} قاله في "الخازن". وقرأ الجمهور (¬1): {مُحْدَثٍ} بالجر صفة لـ {ذكر} على اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، صفة لـ {ذكر} على المحل. وقرأ زيد بن علي بالنصب، على الحال من ذكر، إذ قد وصف بقوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}. {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه. استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول {يَأْتِيهِمْ} بإضمار قد. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؛ أي: يستهزئون به، ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب. وجملة {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب على الحال أيضًا من فاعل {اسْتَمَعُوهُ}. يقال: لعب إذا كان فعل فعلًا غير قاصد به مقصدًا صحيحًا. 3 - {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال أخرى؛ أي ساهيةً معرضةً غافلةً قلوبهم عن ذكر الله تعالى. يقال: لها عنه إذا ذهل وغفل. قال الراغب: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا, ولهيت بكذا، اشتغلت عنه، يلهو وألهاه عن كذا شغله عما هو أهم. وقرأ ابن أبي عبلة، وعيسى {لَاهِيَةً} بالرفع على ¬

_ (¬1) الجر المحيط.

أنه خبر لقوله: {وهم} والمعنى (¬1): ما يأتيهم ذكر من ربهم، مُحْدَثٍ في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه، لاعبينَ مستهزئينَ به لاهين متشاغلينَ عن التأمل فيه، لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب. قدم اللعب على اللهو تنبيهًا على أنهم إنما أقدموا على اللعب، لذهولهم عن الحق، فاللعب الذي هو السخرية والاستهزاء نتيجة اللهو، الذي هو الغفلة عن الحق، والذهول عن التفكر. قال بعضهم: القلب اللاهي: هو المشغول بأحوال الدنيا، والغافل عن أحوال العقبى. قال الواسطي: لاَهِيةً عن المصادر والموارد، والمبدأ والمنتهى. وقصارى ذلك: أنه (¬2) ما ينزل الله من قرآن ويذكرهم به إلَّا استمعوه وهم لاهون لاعبون مستهزئون. والخلاصة: أنه ما جدد لهم الذكر وقتًا فوقتا، وكررَّ على أسماعهم التنبيه، والموعظة لعلهم يتعظون، إلا زادَهم ذلك سخرية واستهزاء، وفي هذا ذم لأولئك الكفار، وزَجْر لغيرهم عن مثله، فالانتفاع بما يُسْمَعُ لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإلا حصل مجرد إلاستماع الذي تشارك البهيمة فيه الإنسان. وبعد أن ذكر ما يُظْهِرَونَه حين الاستماع من اللهو واللعب، ذَكَرَ ما يخفونه بقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: وأمر هؤلاء الذين اقْتَرَبَتِ الساعة منهم، وهم في غفلتهم معرضون التناجي بينهم، وأخفوه عن سواهم. والنجوى في الأصل: مصدر، ثم جُعِلَ اسمًا من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارة؛ أي: السر بين اثنين فصاعدًا. يقال: تناجى القوم إذا تساروا، وتكالموا سرًا عن غيرهم. ومعنى (¬3) إسرارها مع أنها لا تكون إلا سرًا أنهم بالغوا في إخفائها. وقوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أنفسهم بالشرك، والمعصية. بدل (¬4) واو {أسروا} للإيماء بأنهم ظلموا فيما أسروا به. أو فاعل له والواو علامة الجمع، أو مبتدأ، والجملة المتقدمة خبره، وأصله: وهؤلاء الغافلون أسروا النجوى، فوضع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البيضاوي.

الموصول موضعه تسجيلًا على فعلهم بأنه ظُلْمٌ. أو منصوب على الذم. ثم بَيَّن ما تَنَاجَوا بِهِ فقال: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، كأنه قيل: فماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا: {هَلْ هَذَا}؛ أي: ما هذا الرجل محمد {إِلَّا بَشَرٌ}؛ أي (¬1): دم ولحم مساوٍ لكم في المأكل والمشرب وكل ما يحتاج إليه البشر، والمود مقصور على البشرية، ليس له وصف الرسالة التي يدعيها، والبَشْرُ ظاهرُ الجلد، والأدمة باطنه، عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارًا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف، والشعر والوبر. واستوى في لفظ البشر الواحدُ والجمعُ. وخص في القرآن كل موضع عبر عن الإنسان جثته، وظاهره بلفظ البشر. والمعنى (¬2): أي قالوا في تناجيهم متعجبين من دعواه النبوة: هل هذا الذي أتاكم بهذا الذكر إلا بشر مثلكم، في خلقه وأخلاقه، يأكل كما تأكلون، ويشرب كما تشربون، ويموت كما تموتون، فكيف يختص دونكم بالرسالة؟ والهمزة في قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْر} للاستفهام الإنكاري الابتعادي، داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف. وجملة {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} حال من فاعل {تأتون}، مقرّرة للإنكار، ومؤكدة الابتعاد؛ أي (¬3) ما هذا الرجل الذي يدّعي النبوة إلّا من جنسكم، وما أتى به - يعنون القرآن - سحر، أتعلمون ذلك فتأتونه، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول، وأنتم تبصرون، وتعاينون أنه سحر، قالوا ذلك لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلّا ملكًا، وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحرِ؛ أي: الخداع والتخيلات التي لا حقيقة لها. وخلاصة ذلك: أنهم طعنوا في نبوته بأمرين: 1 - أن الرسول لا يكون إلّا ملكًا. 2 - أنَّ الذي يظهر على يديه من قبيل السحر. وذلك فاسد إذ حجة النبوة تعرف من المعجزة، لا من الصورة، ولو بعث الملك إليهم .. لم يعلموا نبوته ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[4]

بصورته، بل بالمعجزة، فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله. وإنما أسرّوا ذلك لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه، وإطفاء نور النبوة، وقد جرت عادة المتشاورين في خطب عظيم أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، بل يجتهدون في طيّ سرّهم عنهم مَّا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، كما جاء في أمثالهم: (استعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود) 4 - فأطلع الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم، فقال: {قل} لهم يا محمد {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} سرًّا كان أو جهرًا حال كون ذلك القول {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فضلًا عما أسرّوا به، وإذا علم القول علم الفعل؛ أي: قل لهم أيها الرسول: إنكم، وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فيَّ فإن ربكم عليم بذلك، وإنه معاقبكم عليه {وَهُوَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات {الْعَلِيمُ} بجميع المعلومات؛ أي: المبالغ في العلم بالمسموعات، والمعلومات التي من جملتها ما أسرّوه من النجوى، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. وفي هذا من التهديد، والوعيد، ما لا يخفى، وإنما آثر كلمة {الْقَوْلَ} التي تعمّ السرّ والجهر دون كلمة (السرّ) التي تقدمت في الكلام للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما في علوم العباد. وخلاصة ذلك (¬1): أنه يعلم هذا الضرب من الكلام، وأعلى منه، وأدنى منه، وفي هذا مبالغة في علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وأيوب، وخلف، وابن سعدان، وابن جبير الأنطاكي، وابن جرير (¬2): {قَالَ رَبِّي} على معنى الخبر عن نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وكذا في مصاحف الكوفيين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {قل ربي} على الأمر لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -. 5 - ولمّا ذكر سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: إنَّ ما أتى به سحر، ذكر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

اضطرابهم في مقالاتهم، فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه بقوله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}؛ أي: ما أتى به أباطيل منامات لا يصحّ تأويلها لاختلاطها. والأضغاث (¬1): جمع ضغث بالكسر، والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس. وأضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها, لاختلاطها كما في "القاموس". والأحلام جمع حلم، والحلم بضم الحاء وسكون اللام الرؤيا. وضم اللام أيضًا لغة فيه، فالأحلام بمعنى المنامات، سواء كانت باطلة أو حقةً. وأضيفت الأضغاث بمعنى الأباطيل إليها، على طريق إضافة الخاص إلى العام إضافة بمعنى من، وقد تخص الرؤيا بالمنام الحق، والحلم بالمنام الباطل كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان". ثم إن هذا إضرابٌ من جهته تعالى، وانتقال من حكاية قول إلى آخر؛ أي: لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، وفي حق ما ظهر على يده من القرآن إنه سحر، بل قالوا: تخاليط أحلام؛ أي: أخلاط أحلام كاذبة، رآها في المنام {بَلِ افْتَرَاهُ}؛ أي: بل قالوا: افتراه، واختلقه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا، وقالوا: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وما أتى به شعر يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها. أي: بل قال بعضهم: أخلاط أحلام قد رآها في النوم. وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله تعالى. وقال قوم: بل هو شاعر، وما أتى به شعر. وخلاصة ذلك (¬2)؛ أنهم ما صدقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أقروا أنه من عند الله، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه، بل قالوا هذه المقالات. وفي هذا الاضطراب منهم (¬3)، والتلوّن والتردد، أعظم دليل على أنهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو، ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر، ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة، وقهره البرهان. وقد ذكرت (¬1) هذه المقالات على هذا الوضع إشارة إلى ترقيها في الفساد، فإن كونها سحرًا أقرب من كونها أضغاث أحلام، قد يقال: "إن من البيان لسحرا" بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادعاء كونها مفترياتٍ أبعد وأبعد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق، إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور, وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يسهل له الشعر وإن أراده. وفي "روح البيان": قوله تعالى حكاية عن الكفار: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كثير من المفسرين (¬2) حملوه على أنهم رموه بكونه آتيًا بشعر منظوم مقفى، حتى تأوّلوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظةٍ تشبه الموزون من نحو قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}، وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وقال بعض المحققين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغنام من العجم، فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبّر به عن الكذب، والشاعر الكاذب حتى سمّوا الأدلة الكاذبة بالشعر، ولكون الشعر مقرُّ الكذب قيل: أحسن الشعر أكذبه. فالمراد بقولهم: إنه شاعر: القدرة على إنشاء الكلام الموزون، وليس من مقتضاها التكلم. ثم بعدما قدحوا في القرآن، طلبوا آيةً أخرى غيره فقالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} وهذا جواب شرط مقدر يدل عليه السياق، تقديره: إن لم يكن كما قلنا، بل كان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[6]

رسولًا من الله، فليأتنا بآية جليلة {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي مثل الآية التي أرسل بها الأولون، كاليد، والعصا، وإحياء الموتى، والناقة، ونظائرها حتى نؤمن به، فـ {ما} موصولة، وعائدها محذوف، ومحل الكاف الجرّ على أنها صفة لآية. ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف؛ أي: إتيانًا مثل إرسال الأولين. والمعنى: أي (¬1) إن كان صادقًا في أن الله تعالى بعثه رسولًا إلينا، وأن الذي يتلوه وحي أوحاه الله إليه .. فليأتنا بحجة تدل على ما يقول ويدعي كما جاء به الرسل الأولون من قبله، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وناقة صالح، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله، ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل، وفي التعبير بقولهم: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} بيان كونها آيات مسلَّمات تثبت الرسالة بمثلها، ويترتب عليها المقصود، وليس لأحد أن ينازع فيها. 6 - ثم كذبهم سبحانه فيما تضمنته خاتمة مقالهم من الوعد بالإيمان حين إتيان الآية المقترحة، وبين أن في ترك إجابتهم عما طلبوا إبقاء عليه، فإنهم لو أوتوها، ولم يؤمنوا بها لاستؤصلوا بالعذاب كما هي سنة الله في الأمم السالفة إذا كذبت رسلها بعد إتيانهم بما اقترحوا, ولكن قد سبقت كلمة الله أن مشركي هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال فقال: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل مشركي مكة {مِنْ قَرْيَةٍ}؛ أي: أهل قرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وهو في محل الرفع على الفاعلية. و {من} مزيدة لتأكيد العموم {أَهْلَكْنَاهَا}؛ أي: بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات. صفة قرية. والهمزة في قوله: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} للاستفهام الإنكاري (¬2)، لإنكار الوقوع داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: إنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سئلوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى، كما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} يعني أن كفاركم مثل أولئك الكفار المعدودين قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وآل فرعون، فهم في اقتراح تلك الآيات كالباحث عن حتفه بظلفه، قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه: وَلاَ تَكُ كَالشَّاةِ الَّتِيْ كَانَ حَتْفُهَا ... بِحَفْرِ ذِرَاعَيْهَا فَلَمْ تَرْضَ مَحْفَرا وأصله: أن رجلًا وجد شاة، وأراد ذبحها فلم يظفر بسكين، وكانت مربوطةً، فلم تزل تبحث برجليها حتى أبرزت سكينًا كانت مدفونة، فذبحها بها، يضرب في مادة تودي صاحبها إلى التلف، وما يورط الرجل فيه نفسه. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للترحم بهم، إذ لو أتي به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، وقد سلف وعده تعالى في حق هذه الأمة أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة. ومعنى الآية؛ أي: إنَّ هؤلاء أشد عتوًا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، ووعدوا أنهم يؤمنون حين مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد، وخالفوا، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو أعطوا ما اقترحوا ... لكانوا أشد نكثاً، فينزل بهم عذاب الاستئصال، وقد سبقت كلمة ربك أنه يؤخر عذابهم إلى اليوم المعلوم. قال قتادة: قال أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان ما تقوله حقًا، ويسرُّك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبًا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت .. كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك؟ قال: "بل أستأني بقومي" فأنزل الله {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} الآية كما سبق في مبحث الأسباب. 7 - ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلّا بشر مثلكم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} أيها الرسول رسولًا إلى أمة من الأمم التي خلت من قبلك {إِلَّا رِجَالًا} أمثالهم {نُوحِي إِلَيْهِمْ} ما نريد من أمرنا ونهينا، لا ملكا نوحي إليهم بوساطة الناموس ما نوحي من الشرائع والأحكام، والقصص والأخبار، فما بالهم لا يفهمون أنك لست بدعًا من الرسل.

[8]

والمعنى: أي (¬1) وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلَّا رجالًا مخصوصين من أفراد الجنس مستأهلين للاصطفاء والإرسال، نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام، وغيرهما من القصص والأخبار، كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي، وحقيقة مدلوله، كما لا فرق بينه وبينهم في البشرية، فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعًا من الرسل، وأن ما أوحي إليك ليس مخالفًا لما أوحي إليهم، فيقولون ما يقولون. وجاء بمعنى الآية قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}، وقوله: حكاية عمن تقدم من الأمم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}. وقرأ حفص، وحمزة، والكسائي {نُوحِي} بالنون وكسر الحاء. وقرأ الجمهور {يوحى} بالياء التحتية مبنيًا للمفعول. ثم أمرهم سبحانه أن يسألوا في ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى تبكيتاً لهم، وإزالةً لما علق بأذهانهم من الاستبعاد، بعد أن بيَّن لهم وجه الحق فقال: {فَاسْأَلُوا} أيها الكفرة الجهلة {أَهْلَ الذِّكْرِ}؛ أي: أهل الكتاب ممن يؤمن بالتورة، والإنجيل، الواقفين على أحوال الرسل السالفة لتزول شبهتكم {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الحق؛ أي: أن الرسل بشر، ولا يتبيّن لكم الصواب، يخبروكم عن ذلك، أمروا بذلك؛ لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عدواته - صلى الله عليه وسلم -، ويشاورونهم في أمره، وكانوا لا ينكرون كون الرسل بشرًا، وإن أنكروا نبوته - صلى الله عليه وسلم -. روي أنه قيل للإمام الغزالي رحمه الله: بماذا حصل لكم الإحاطة بالأصول والفروع؟ فتلا هذه الآية، وأشار إلى أن السؤال من أسباب العلم وطرائقه. 8 - وبعد أن بيّن أنه - صلى الله عليه وسلم - على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلًا، بيّن أنه على سنتهم في سائر الأوصاف التي حكم بها على البشر في معيشتهم وموتهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

فقال: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك إلى الأمم الماضية قبل أمتك {جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}؛ أي: لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، بل جعلناهم أجسادا مثلك، يأكلون الطعام، وتعرض لهم أطوار البشر جميعًا من صحة ومرض وسرور وحزن، ونوم ويقظة، والجسد جسم الإنسان والجن والملائكة، وسيأتي الفرق بينه وبين الجسم في مباحث مفردات اللغة. وجملة {لا يأكلون الطعام} صفة لـ {جَسَدًا}. والطعام البرّ، وما يؤكل. والطعم تناول الغذاء؛ أي: (¬1) وما جعلناهم جسدا مستغنياً عن الأكل والشرب، بل محتاجًا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يتحلل منه {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}؛ أي: مخلدين لا يموتون، ولا يفنون، ولكنهم غبروا حينًا من الدهر وهم أحياء، ثم طواهم الثرى، وضمّتهم القبور؛ لأن مآل التحلّل هو الفناء لا محالة. وخلاصة ذلك (¬2): أنا جعلنا الرسل أجسامًا تتغذى حين الحياة، ثم يصير أمرها إلى الفناء بعد استيفاء آجالها, ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون، وما كانوا مخلدين بأجسادهم، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس بما يأتيهم عن الله من الوحي والزلفى عنده. والخلود (¬3) تبرّىء الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والمراد إمّا المكث المديد كما هو شأن الملائكة، أو الأبدي وهم معتقدون أنهم لا يموتون. والمعنى: جعلناهم أجسادًا متغذية حائرة بالموت إلى الآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة، ولا أجسادًا مستغنيةً عن الأغذية مصونةٌ عن التحلل كالملائكة. 9 - وجملة قوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} معطوفة على جملة محذوفة، يدل عليها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[10]

السياق، والتقدير: إنا أرسلنا رسلاً من البشر، وأوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقنا وعدنا إياهم؛ أي: أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم، وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} من عبادنا المؤمنين؛ أي: فنصرناهم على المكذبين، وأنجيناهم، هم ومن آمن معهم من العذاب الدنيوي {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: المجاوزين للحد في الكفر والمعاصي، وهم المشركون بالعذاب الدنيوي. 10 - وبعد أن حقق رسالته - صلى الله عليه وسلم - ببيان أنه كسائر الرسل الكرام شرع يحقق فضل القرآن الكريم، ويبين نفعه للناس، بعد أن ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، واضطرابهم في شأنه فقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا معشر قريش، أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا إلى رسولكم محمد - صلى الله عليه وسلم - {كِتَابًا} عظيم الشأن نبر البرهان، وهو القرآن {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صفة لـ {كِتَابًا}، أي: فيه شرفكم لكونه بلسانكم، أو فيه موعظتكم بذكر الوعد والوعيد لترغبوا، وتحذورا، أو فيه ذكر أمر دينكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب، وسديد الشرائع، والأحكام مما فيه سعادة البشر في حياتهم الدنيوية والأخروية، وليس بسحر، ولا شعر، ولا أضغاث أحلام، ولا مفترىً كما تدّعون. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي التقريعي. والفاء عاطفة على محذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فتعقلوا أن الأمر كذلك، أي: أفلا تتفكرون فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ، وقوارع الزواجر، فتحذروا الوقوع فيما يخالف أمره ونهيه، ولا يخفى ما في هذا من الحثّ على التدبر؛ لأن الخوف من لوازم العقل، فمن لم يتدبَّرْ فكأنه لا عقل له. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬1): لمّا دنا فراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعنا في بيت أمِّنا عائشة - رضي الله عنها - ثم نظر إلينا فدمعت عيناه، وقال: "مرحبا بكم، حيّاكم الله، رحمكم الله تعالى، أوصيكم بتقوى الله تعالى وطاعته، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

قد دنا الفراق، وحان المنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنة المأوى، يغسلني رجال أهل بيتي، ويكفنونني في ثيابي هذه إن شاؤوا، أو في حلة يمانية، فإذا غسلوني، وكفّنوني، ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير لحدي، ثم اخرجوا عني ساعةً، فأول من يصلي عليّ حبيبي جبرائيل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت، مع جنودهم، ثم ادخلوا على فوجاً فوجاً، وصلّوا عليّ" فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا وقالوا: يا رسول الله أنت نور ربنا، وشمع جمعنا، وسلطان أمرنا، إذا ذهبت عنا إلى من نرجع في أمورنا؟ قال: "تركتكم على المحجّة البيضاء - أي الطريق الواسع الواضح - ليلها كنهارها - في الوضوح - وتركت لكم واعظين، ناطقًا وصامتًا: فالناطق القرآن، والصامت الموت، فإذا أشكل عليكم أمر فارجعوا إلى القرآن والسنة، وإذا قست قلوبكم فلينوها بالاعتبار في أحوال الموت". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من تعلم القرآن في صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه، ومن تعلمه في كبره فهو يتفلت منه، ولا يتركه، فله أجره مرتين" وجه الأول أنه في الصغر خال عن الشواغل، وما صادف قلبًا خاليًا يتمكن فيه، قال الشاعر: أَتَانِيْ هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبَاً خَالِيَاً فَتَمَكَّنَا ويدخل في الثاني من له حصر، أو عيّ؛ لأن من قرأ القرآن وهو عليه سياق، فله أجران: أجر لقراءته، وأجر لمشقته. كذا في "شرح المصابيح". 11 - ثم حذّرهم وأوعدهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} كم خبرية للتكثير، محلها النصب على أنها مفعول به لـ {قَصَمْنَا} {مِنْ قَرْيَةٍ} تمييز لها. القصم كسر الشيء ودقه من الإبانة، وإزالة تأليفه بالكلية، وفي التعبير به من الدلالة على الغضب وشدة السخط ما لا يخفى. والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب {كَانَتْ ظَالِمَةً} صفة {قَرْيَةٍ} على تقدير مضاف، والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر

[12]

موضع الإيمان؛ أي (¬1): وكثيرًا كسرنا وأهلكنا من أهل قرية كانوا ظالمين آيات الله، كافرين بها كدأبكم يا معشر قريش {وَأَنْشَأْنَا}؛ أي: أوجدنا، وأحدثنا {بَعْدَهَا}؛ أي بعد إهلاك أهلها {قَوْمًا آخَرِينَ}؛ أي ليسوا منهم نسبًا، ولا دينًا. ونحو الآية قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ}، وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. 12 - ثم بيَّن حالهم حين حلول البأس، فقال: {فَلَمَّا أَحَسُّوا}؛ أي: فلما أحس أهل تلك القرية الظالمة، وأدركوا {بَأْسَنَا}؛ أي: عذابنا الشديد إداركًا تامًا، كأنه إدراك المشاهد المحسوس، ورأوه {إِذَا هُمْ مِنْهَا}؛ أي: من القرية. ويحتمل أن يعود على {بَأْسَنَا}؛ لأنه في معنى الشدة، فأنّث على المعنى. ذكره في "البحر". و {إِذَا} للمفاجاة. و {هُمْ} مبتدأ خبره قوله: {يَرْكُضُونَ}؛ أي: يهربون مسرعين راكضين مثل دوابّهم، أو مشبّهين بهم من إفراط الإسراع. أي (¬2): فلمّا أيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما أوعدهم أنبياؤهم، إذا هم يهربون سراعًا عجلين يعدون منهزمين. والخلاصة: أنهم لمَّا علموا شدة بأسنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم هاربين من قراهم، بعد أن كانوا قد تجبروا على رسلهم، وقالوا لهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. 13 - ثم ذكر أنهم في ذلك الحين ينهون عن الهرب، ويقال لهم بلسان الحال، أو بلسان المقال من الملك، أو ممن هنالك من المؤمنين على طريق الاستهزاء والتهكم: {لَا تَرْكُضُوا}، أي: لا تهربوا من مساكنكم {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}؛ أي (¬3) إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم. والمترف: المنعم. يقال: أترف فلانٌ؛ أي: وسع عليه في معاشه، وأترفته النعمة أطغته. وأترف فلان أصر على البغي، أي: ارجعوا إلى ما أعطيتموه من العيش الواسع، والحال الطيبة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[14]

حتى بطرتم به، فكفرتم وأعرضتم عن المعطي وشكره {وَمَسَاكِنِكُمْ} التي كنتم تسكنونها وتفتخوون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}؛ أي: تقصدون من جهة الناس للسؤال، والتشاور، والتدبير في المهمات، والنوازل، كما هو عادة الناس مع عظمائهم في كل قرية، لا يزالون يقطعون أمرًا دونهم، أو تسألون عما نزل بكم وبأموالكم ومساكنكم من العذاب، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون. والمعنى: أي يقال لهم على طريق الاستهزاء والسخرية: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة، والسرور، والمساكن الطيبة، والفرش المنجّدة الوثيرة، لعلكم تقصدون للسؤال عما جرى علكيم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون وتعلمون. 14 - ثم حكى عنهم ما أجابوا به القائلين لهم: لا تركضوا وارجعوا، فقال: {قَالُوا}؛ أي: قال أهل تلك القرية الظالمة لمَّا يئسوا من الخلاص بالهرب، وأيقنوا بنزول العذاب {يَا وَيْلَنَا}؛ أي: يا هلاكنا تعال فهذا أوانك {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لأنفسنا مستوجبين للعذاب بما قدّمنا، وهو اعتراف منهم بالظلم، وباستتباعه للعذاب، وندمهم عليه حين لا ينفعهم ذلك. والمعنى: أي قالوا حين يئسوا من الخلاق إذ نزل بهم بأس الله بظلمهم اْنفسمهم: يا قومنا هلاكًا لنا لكفرنا بربنا، وهذا منهم اعتراف بكفرهم، وندم عليه حين لا ينفع الندم. نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ كسَاعَةُ مَنْدَمِ ... وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ قال المفسرون وأهل الأخبار (¬1): إن المراد بهذه القرية أهل حضور - بوزن شكور - قرية من قرى اليمن. وقيل: كانت بأرض الحجاز من ناحية الشام، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيًا اسمه شعيب بن مهدم، وقبر شعيب هذا في اليمن بجبل يقال له "ضِيْن". قال في "القاموس": ضين بالكسر جبل عظيم بصنعاء، اهـ وليس هو شعيبًا صاحب مدين، فقتلوا نبيهم فسلط الله عليهم بُخْتَنَصَّر، وقتل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

أصحاب الرس في ذلك التاريخ نبيًا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، فسلط الله عليهم أيضًا بختنصر، فخرب بلادهم. 15 - {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ} الكلمة؛ أي كلمة {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وهي اسم "زال"، وخبره قوله: {دَعْوَاهُمْ}؛ أي: دعاؤهم ونداؤهم. والدعوى مصدر دعا دعوى ودعوة كقوله: وآخر دعواهم لأن الويل كانه يدعو الويل. أي: رددوها وكرروها مرة بعد مرة {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: حتى صيرنا أهل تلك القرية {حَصِيدًا}؛ أي: محصودين بالعذاب كما يحصد الزرع بالمنجل؛ أي: مثل الحصيد، وهو المحصود من الزرع والنبت، ولذلك لم يجمع؛ لأن الفعيل بمعنى المفعول، يستوي فيه المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، حالة كونهم {خَامِدِينَ}؛ أي: ميِّتين. حال من المنصوب في {جَعَلْنَاهُمْ}. من خمدت النار إذا أطفىء لهبها، وخمدت الحمى إذا سكنت حرارتها. والمعنى: أي (¬1) فما زالوا يردّدون هذه المقالة، ويجعلونها هجيراهم حتى حصدوا حصداً، وخمدت حركاتهم، وهدأت أصواتهم، ولم ينبسوا ببنت شفة. وخلاصة هذا: أنهم صاروا يكرّرون الاعتراف بظلمهم أنفسهم، ولكن لم ينفعهم ذلك كما قال: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} حتى لم يبق لهم حس، ولا حركة، وأبيدوا كما يباد الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار. وفي الحديث: "خمس في خمس: ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلَّا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا منع عنهم القطر". 16 - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ}؛ أي (¬2): وما أبدعنا السماء التي هي كالقبة المضروبة، والخيمة المطنبة {وَالْأَرْضَ} التي هي كالفراش والبساط {وَمَا بَيْنَهُمَا} من أنواع الخلائق، وأصناف العجائب، حالة كوننا {لَاعِبِينَ}؛ أي: عابثين. بل لحكم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[17]

ومصالح، وهي أن تكون مبدأ لوجود الإنسان، وسببًا لمعاشه، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، وكل شيء فهو إمّا مظهر لطفه تعالى، أو قهره، وفي كل ذرّة سرّ عجيب. قال الكرماني: "اللعب: فعلٌ يدعو إليه الجهل، يروق أوله، ولا ثبات له، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء، وليستدل بهما على وحدانيته، والقدرة" انتهى. أي (¬1): لم نخلقما عبثًا، ولا باطلًا، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادرًا يجب امتثال أمره. وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم. والمراد بـ {ما بينهما} سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض، على اختلاف أنواعها، وتباين أجناسها من الهواء والسحاب والرياح. والمعنى؛ أي: وما خلقنا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من أصناف المخلوقات البديعة للهو واللعب، بل خلقناهما لفوائد دينية، وحكم ربّانية، كأن تكون دليلًا على معرفة الخالق لها، ووسيلة للعظة والاعتبار، إلى ما فيها من منافع أخرى لا حصر لها. وخلاصة ذلك (¬2): أن إيجاد العالم كله، ولا سيما النوع الإنساني، واستخلافه في الأرض، مبني على بديع الحكم، مستتبع لغايات جليلة لا تخفى على ذوي الألباب، وقد علم بعضها من أمعنوا النظر في الكون وعجائبه، وأوتوا حظًّا من صادق المعرفة، فعرفوا بعض أسراره، وانتفعوا ببعض ما أودع في باطن الأرض، وما على ظاهر سطحها مما كان سببًا في رقيّ الإنسان، ولا يزال العلم يؤكد لنا كل يوم عجيبًا، ويظهر لنا من كنوزها غريبًا {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ونحو الآية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} 17 - ثم أكّد نفي اللعب بقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} أي (¬3) ما يتلهّى ويلعب به ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

على أنه مصدر بمعنى المفعول. وقال الراغب: "اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه، ويعئر به عن كل ما به استمتاع باللهو قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا}، وقول من قال: أراد باللهو المرأة والولد فتخصيص ببعض ما هو من زينة الحياة الدنيا" انتهى. {لَاتَّخَذْنَاهُ}؛ أي: لاتخذنا اللهو. جواب لو {مِنْ لَدُنَّا}؛ أي: من عندنا، ومن جهة قدرتنا عليه، لا من عندكم لتعلقها بكل شيء من المقدورات، أو مما نصطفيه ونختاره مما نشاء من خلقنا من الحور العين، أو من غيرها. قال الواحدي: "معنى {مِنْ لَدُنَّا} من عندنا بحيث لا يظهر لكم، ولا تطلعون عليه، ولا يجري لأحد فيه تصرف؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره". وفي (¬1) هذا: ردّ على من قال بإضافة الصاحبة، والولد إلى الله، - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا -. وقيل: أراد الرَّدَّ على من قال: الأصنام أو الملائكة بنات الله. وقال ابن قتيبة: الآية ردّ على النصارى {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك الاتخاذ لاتخذناه، لكن (¬2) تستحيل إرادتنا ذلك لمنافاته الحكمة، لا لعدم القدرة على اتخاذه ولا لغيره، فيستحيل اتخاذنا له قطعًا. و {إِنْ} للشرط على سبيل الفرض والتقدير، وجواب "إنْ" محذوف لدلالة جواب المتقدم عليه؛ أي: إن كنا فاعلين لاتخذناه، ويجوز أن تكون {إن} نافية؛ أي: ما كنا فاعلين اتخاذ اللهو لعدم إرادتنا به. أي: (¬3) لو أردنا أن نتخذ لهوًا كما يتخذ العباد لاتخذناه من عندنا من العوالم المجردة من المادة كالملائكة، لكنَّا لا نتنَّزل لملابسة ما هو من شأنكم المادي كالزوج والولد، إذ لا يجمل بنا؛ لأنه خارج عن سنن حكمتنا، وقوانين نظامنا، ورفعة قدرنا، فنحن لا نلهو بالصور الجسمية، ولا بالنفوس الروحية. وخلاصة هذا: أنا خلقناكم لحكمة، وصوّرناكم لغاية، وجعلنا لكم السمع والأبصار لمنافع قدرناها لكم، لا للهونا ولعبنا، ومن ثمّ لا نترككم سدًى، بل نحاسبكم ونؤاخذكم، والجد مطلبنا، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[18]

لا من شأن رب العالمين، ونحو الآية قوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)}. 18 - وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} اضراب (¬1) عن اتخاذ الولد وإرادته، كأنه قيل: لكتا لا نريد اتخاذ اللهو والولد، بل شأننا أن نقذف بالحق الذي من جملته الجدّ والإيمان, والقرآن ونحوها، ونرميه، ونغلبه على الباطل الذي من جملته اللهو، والكفر، والأباطيل الأخر {فَيَدْمَغُهُ}؛ أي: يصيب دماغه فيهلكه ويعدمه ويذهبه بالكلية، كما فعلنا بأهل القرى المحكية {فَإِذَا} فجائية {هُوَ}؛ أي: الباطل {زَاهِقٌ}؛ أي: ذاهب بالكلية. والزهوق ذهاب الروح. يقال: زهقت نفسه خرجت من الأسف. وفي "إذا" المفاجاة، والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى، فكأنه زاهق من الأصل، فجملة قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} انتقال من إرادة اتخاذ اللهو إلى تنزيه ذاته تعالى، كأنه تعالى قال: سبحاننا أن نريد اتخاذ اللهو، بل شأننا بمقتضى حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. والمقصود من هذه الآية: تقرير نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والردّ على منكريها؛ لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان محمد كاذبًا .. كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه تعالى، وإن كان صادقًا .. فهو المطلوب، وحينئذٍ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن {وَلَكُمُ} يا كفار مكة {الْوَيْلُ}؛ أي: شدة العذاب {مِمَّا تَصِفُونَ} "من" تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر؛ أي: استقرَّ لكم الويل والهلاك أيها المشركون من أجل وصفكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل من اتخاذ الصاحبة والولد، ووصف كلامه بأنه سحر، وأضغاث أحلام، ونحو ذلك من الأباطيل. وقرأ عيسى بن عمر (¬2): {فَيَدْمَغُهُ} بنصب الغين. وقال الزمخشري: وهو في ضعف كقوله: ¬

_ (¬1) روح البيان (¬2) روح البيان.

[19]

سَأَتْرُكُ مَنْزِلِيْ لِبَنِيْ تَمِيْمٍ ... وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيْحَا وقرىء {فَيَدْمَغُهُ} بضم الميم، انتهى. وحاصل معنى الآية: أي أنَّ من شأننا أن نرمي الحق الذي من جملته الجدّ على الباطل الذي منه اللعب، فيكسر دماغه بحيث يشق غشاءه، فيؤدي ذلك إلى زهوق روحه فيهلك، وقد شبّه الباطل بإنسان كسر دماغه فهلك، وإذا كان هذا من شأننا فكيف نترككم بلا إنذار، كأننا خلقناكم لنلهو بكم ولكم العذاب الشديد من وصفكم ربكم بغير صفته، وقولكم: إنه اتخذ ولدًا وزوجة، وافتراؤكم ذلك عليه. 19 - ولمَّا حكى كلام الطاعنين في النبوات (¬1)، وأجاب عنها، وبيَّن أن غرضهم من تلك المطاعن إنما هو التمرّد، والعناد .. بيَّن في هذه الآية أنه غني عن طاعتهم؛ لأنه هو المالك لجميع المخلوقات، والملائكة على جلالة قدرهم مطيعون له، خائفون منه، فأجدر بالبشر على ضعفهم أن يطيعوه، وما أخلقهم أن يعبدوه، فقال: {وَلَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: جميع المخلوقات فيهما خلقًا، وملكًا، وتدبيرًا، وتصرفًا، وإحياءً وإماتة وتعذيبًا، وإثابةً دون أن يكون لأحد في ذلك سلطان، لا استقلالًا، ولا استتباعًا. وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ} سبحانه وتعالى معطوف على (من) الأولى، من عطف الخاص على العام؛ أي: وله (¬2) سبحانه الملائكة المكرمون عنده، المنزَّلون لكرامتهم عليه منزلة المقرّبين عند الملوك على طريقة التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على أكثر خلقه، لا على الجميع كما زعم أبو بكر الباقلاني، وجميع المعتزلة، فالمراد بالعندية: عندية الشرف، لا عندية المكان والجهة، و"عند" وإن كان من الظروف المكانية إلَّا أنه شبَّه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة، فعبَّر عن المشبّه بلفظ المشبّه به. وجملة قوله: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} حال من (من) الثانية؛ أي: وله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[20]

سبحانه مَن عنده حالة كونهم لا يَتَكَبَّرُون ولا يَتَعَظَّمُون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه وتعالى والتذلل له. وقوله: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} معطوف على {يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: وحالة كونهم لا يكلّون ولا يعيون ولا يسأمون عن عبادته، فالبشر مع نهاية ضفهم أولى أن يطيعوه. ويجعل أبو السعود {وَمَنْ عِنْدَهُ} مبتدأ خبره {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أو المعنى عليه، أي: والملائكة الذين شرفت منزلتهم عند ربهم لا يستعظمون عن عبادته، ولا يكون ولا يتعبون. وتخصيص الملائكة بالذكر للدلالة على رفعة شأنهم. كما خص جبريل من بين الملائكة في قوله {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}. 20 - ثم بيّن سبحانه كيف يعبدون ربهم، فقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} جملة مستأنفة لبيان عبادتهم، كانه قيل: كيف يعبدون؟ فقيل: يسبّحون الليل والنهار؛ أي: ينزّهونه سبحانه وتعالى في جميع الأوقات عن وصمة الحدوث، وعن الأنداد، ويعظمونه ويمجّدونه دائمًا حالة كونهم {لَا يَفْتُرُونَ} ولا يسكنون عن نشاطهم في العبادة؛ أي: لا يتخلل تسبيحهم فترة وانقطاع وسكون طرفة عين بفراغ منه، أو بشغل آخر؛ لأنهم يعيشون بالتسبيح، كما يعيش الإنسان بالنفس، والحوت بالماء، يعني (¬1): أن التسبيح بالنسبة إلى الملائكة كالتنفس بالنسبة إلينا، فكما أن قيامنا وقعودنا وتكلُّمنا، وغير ذلك من أفعالنا، لا يشغلنا عن التنفس، فكذلك الملائكة لا يشغلهم عن التسبيح شيء من أفعالهم، كما قال عبد الله بن الحارث لكعب: أليس أنهم يؤدون الرسالة، ويلعنون من لعنه الله، كما قال: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} وقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ}؟ فقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا، فلا يمنعهم عن عمل. فإن قلت: التسبيح، واللعن من جنس الكلام، فكيف لا يمنع أحدهما الآخر؟ قلنا: لا يبعد أن يخلق الله لهم ألسنةً كثيرةً، ببعضها يسبحون، وببعضها يلعنون. أو المعنى: لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته، كما يقال: فلان ¬

_ (¬1) روح البيان.

[21]

مواظب على الجماعة، لا يفتر عنها، فإنه لا يراد به دوام الاشتغال بها، وإنما يراد العزم على أدائها في أوقاتها كما في الكبير. 21 - و {أَمِ} في قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} منقطعة (¬1) مقدرة ببل، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: إنكار وقوع النشر، لا إنكار الاتخاذ الواقع. والضمير للمشركين. والمراد بالآلهة: الأصنام {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق بـ {اتخذوا}؛ أي: بل اتخذ وصنع ونحت المشركون آلهةً وأصناما {هُمْ يُنْشِرُونَ} ويبعثون الموتى من القبور من بعض أجزاء الأرض، وحجارتها، وجواهرها، كالذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص. وجملة {هُمْ يُنْشِرُونَ} صفة لآلهة، وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل، والتشنيع، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع لا محالة. والمعنى: بل اتخذوا آلهةً من الأرض هم خاصةً مع حقارتهم وجماديتهم، ينشرون الموتى، كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك، وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحًا، فإنهم لم يثبتوا النشر لله تعالى كما قالوا: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فكيف يثبتونه للأصنام؛ لكنهم حيث ادَّعوا لها الإلهية، فكأنهم ادَّعوا لها النشر، والبعث للموتى ضرورة أنَّه من الخصائص الإلهية حتمًا. وقرأ الجمهور (¬2): {يُنْشِرُونَ} مضارع نشر الرباعي، ومعناه: يحيون. وقرأ الحسن، ومجاهد {يَنْشرُون} مضارع نشر. وهما لغتان، نشر وأنشر متعديان، ونشر يأتي لازمًا، يقال: أنشر الله الموتى فنشروا؛ أي فحيوا. 22 - ثم أقام (¬3) الدليل العقلي على التوحيد، ونفى أن يكون هناك إلهٌ غير الله تعالى، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا}، أي: في السموات والأرض {آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}؛ أي: إله غير الله تعالى {لَفَسَدَتَا}، أي: لفسدت السموات والأرض، وخرجتا عن هذا النظام المشاهد؛ لأن كل أمر بين اثنين لا يجري على نظام واحد، والرعية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

تفسد بتدبير الملِكين، وحيث انتفى التالي انتفى المقدم، ذاك (¬1) أنه لو كان فيهما إلهان، فإما أن يختلفا، أو يتفقا في التصرف في الكون، والأول ظاهر البطلان، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معًا، فيريد أحدهما الإيجاد، والثاني لا يريده، فيثبت الوجود والعدم لشيء واحد اختلفا فيه، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني، فيكون هذا مغلول اليد عاجزاً، والإله لا يكون كذلك، والثاني باطل أيضًا؛ لأنهما إذا أوجداه معًا وجب توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد. والجمع في قوله: {آلِهَةٌ} ليس بقيد، وإنما عبّر به مشاكلةً لقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً}، وهذه الجملة (¬2) تنزيه من الله سبحانه لنفسه عن الشريك بالنظر العقلي، و {إِلَّا} بمعنى (غير) على أنها صفة آلهة؛ أي: لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله كما هو اعتقادهم الباطل، سواء كان الله معهم أو لم يكن. قال في "الأسئلة المقحمة": كيف قال: لو كان فيهما، فجعل السموات ظرفًا، وهو تحديد؟ والجواب: لم يرد به معنى الظرف وإنما هو كقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}. قال الكسائي وسيبويه (¬3)، والأخفش، والزجاج، وجمهور النحاة: إن {إِلَّا} هنا ليست للاستثناء، بل بمعنى غير، صفة لـ {آلِهَةٌ}، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها، وظهر فيه إعراب غير التي جاءت {إِلَّا} بمعناها، ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ ... لَعَمْرُ أبِيْكَ إلَّا الْفَرْقَدَانِ وقال الفرّاء: إن {إِلَّا} هنا بمعنى سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لَفَسدتا. ولمّا أثبت بالدليل أن المدبّر للسموات والأرض لا يكون إلَّا واحدًا، وأنَّ ذلك الواحد لا يكون إلّا الله قال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ}؛ أي: فتنزيهًا لله {رَبِّ الْعَرْشِ}؛ أي: مالك العرش المحيط بهذا الكون، ومركز تدبير العالم {عَمَّا يَصِفُونَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[23]

عما يقول هؤلاء المشركون من أن له ولدًا، وشريكًا وصاحبةً. والفاء في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي: إذا ثبتت الوحدانية بالبرهان، فنزّهوا الله تنزيهًا عما يقول الكفار من وجود آلهة غير الله تعالى، وفيه إرشاد للعباد أن ينزَّهوا الربَّ سبحانه عما لايليق به 23 - ثم أكد هذا التنزيه بقوله: {لَا يُسْأَل} سبحانه {عَمَّا يَفْعَلُ}؛ أي: عما يحكم في عباده من إعزاز، وإذلال، وهدى وإضلال، وإسعاد، وإشقاء لأنه المالك القاهر. فهذه الجملة مستأنفة مبيّنة أنه سبحانه لقوة سلطانه، وعظيم جلاله، لا يسأله أحدٌ من خلقه عن شيء من قضائه وقدره، وإنما لا يسأل سبحانه سؤال إنكار، ويجوز السؤال عنه على سبيل الاستكشاف والبيان كقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}، وعلى سبيل التضرّع والحاجة كقوله تعالى حكاية عن الكافر: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}. قال في "بحر العلوم" (¬1): إنما لا يسأل عما يفعل؛ لأنَّه ربّ مالك علّام، لا نهاية لعلمه، وكل من سواه مربوبٌ مملوك، جاهلٌ لا يعلم شيئًا إلَّا بتعليم، فليس للمملوك الجاهل أن يعترض على سيّده العليم بكل شيء فيما يفعل ويقول: لم فعلت؟ وهلّا فعلت؟ مثلًا. {وَهُمْ}؛ أي: العباد {يُسْأَلُونَ} عما يفعلون نقيرًا وقطميراً؛ لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون فيقال لهم في كل شيء فعلوه: لم فعلتم؟. والسؤال استدعاء معرفة، أو ما يؤدي إلى المعرفة، وجوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة. فإن قيل: ما معنى السؤال بالنسبة إلى الله تعالى؟ قلنا: تعريف للقوم وتبكيتهم، لا تعريف لله تعالى فإنه علام الغيوب، فالسؤال كما يكون للاستعلام يكون للتبكيت. وقرأ الحسن {لا يسل وهم يسلون} بفتح السين، نقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. وقيل: إن المعنى (¬2) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[24]

أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله، وهم يؤاخذون. قيل: والمراد بذلك أنه سبحانه بيَّن لعباده أن من يسأل عن أعماله، كالمسيح والملائكة، لا يصلح لأن يكون إلهًا. والمعنى؛ أي (¬1): هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وعلمه وحكمته وعدله ولطفه، وهو سائل خلقه عما يفعلون كما قال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}، وقال: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}. 24 - ثم أعاد وكرّر الإنكار مرَّةً أخرى، استفظاعًا لشأنهم، واستعظامًا لكفرهم، وإظهارًا لجهلهم، فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} فـ {أَمِ} هنا بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار كالسابقة؛ أي: للإضراب والانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهةً لا يصلح للألوهية، لخلوها عن خصائصها إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع خلوها عن تلك الخصائص بالمرة. والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور، واستقباحه اهـ "أبو السعود"؛ أي: أبعد ظهور هذه الأدلة، يقولون: إن لله شركاء. و {مِنْ} متعلقة بـ {اتَّخَذُوا}، والمعنى: بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى آلهةً مع ظهور خلوهم عم خواص الألوهية بالكلية. ثم أمرهم بإقامة الدليل على صحة ما يدَّعون، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد بطريق الإلزام وإلقام الحجر {هَاتُوا}؛ أي: (¬2) أعطوني {بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: حجتكم على ما تدّعون من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في مثل هذا الشأن الخطير. قال في "المفردات": البرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا. أي: قل لهم: هاتوا برهانكم على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهةٍ سوى الله تعالى، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقلٍ، ولا من نقلٍ؛ لأن دليل العقل قد مرَّ بيانه. وأمّا دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: {هَذَا} الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع {ذِكْرُ مَنْ مَعِي}؛ أي: عظةٌ من معي من أمتي، وتذكيرهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وحجتهم {ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}؛ أي: عظة من سبق قبلي من الأمم السالفة وتذكيرهم وحجتهم، وقد أقمته عليكم، وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم. وقيل: المعنى (¬1): هذا القرآن المنزّل عليَّ ذكر من معي من الأمة وتذكيرهم وحجتهم على التوحيد، فالقرآن ذكر وعظة لمن اتّبعه - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، وهذه الكتب الموجودة بين أيديكم من التوراة، والإنجيل، والزبور، ذكر من قبلي من الأمم الماضية، وحجتهم على التوحيد، فانظروا هل في واحد منها أنَّ الله أمر باتخاذ إلهٍ سواه. قال الزجاج: قل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولًا من الرسل أخبر أمته بأن لهم إلهًا غير الله، فهل في ذكر من معي وكتابهم وهو القرآن، وفي ذكر من قبلي وكتبهم، وهي التوراة والإنجيل والزبور إلا توحيد الله سبحانه وتعالى. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد؛ أي: افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وعبارة "أبي السعود" (¬2): {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي}؛ أي: عظتهم ومتمسكهم على التوحيد، فأقيموا أنتم برهانكم على التعدد، اهـ. و {هذا} اسم (¬3) إشارة مبتدأ، أشار به للكتب السماوية، وقد أخبر عنه بخبرين، فبالنظر للخبر الأول يرادبه القرآن، وبالنظر للخبر الثاني يراد به ما عداه من الكتب السماوية. وقرأ الجمهور (¬4): بإضافة {ذكر} إلى {من} فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ}. وقرىء بتنوين {ذكر} فيهما، و {من} مفعول منصوب بالذكر كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا}. وقرأ يحيى بن يعمر، وطلحة بتنوين {ذِكْرُ} فيهما، وكسر ميم {من} فيهما، ومعنى {مَعِيَ} هنا عندي، والمعنى: هذا ذكر من عندي، ومن قبلي؛ أي: أذكّركم بهذا القرآن الذي عندي، كما ذكّر الأنبياء من قبلي أممهم. ودخول {مَنْ} على {مع} نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع، أجري مجرى الظرف، فدخلت ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) أبو السعود. (¬3) الفتوحات. (¬4) البحر المحيط.

[25]

عليه {مَنْ} كما دخلت على (قبل) و (بعد) و (عند). وضعّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول (من) على (مع)، ولم أَرَ لها وجهًا. وعن طلحة {ذِكْرُ} منوّنا {معي} دون {من} و {ذِكْرُ} منوّنا {قبلي} دون {من}. وقرأ فرقة: و {ذِكْرُ مَنْ} بالإضافة و {ذِكْرُ} منوّنا {مِن قبلي} بكسر ميم {من}. ثم لمّا توجهت الحجة عليهم، ذمّهم بالجهل بمواضع الحق فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} إضراب من جهته تعالى، غير داخل في الكلام الملقن؛ أي: إضراب من جهته سبحانه، وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان، لكونهم جاهلين للحق، لا يميّزون بينه وبين الباطل، فلا تنجع فيهم المحاجّة بظهار حقيّة الحق وبطلان الحق. وفي "بحر العلوم": كأنه قيل: بل عندم ما هو أصل الفساد كله، وهو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثمَّة جاء الإعراض، ومن هناك ورد الإنكار {فَهُمْ} لأجل ذلك {مُعْرِضُونَ}؛ أي: مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، وأما أقلّهم العالمون فلا يقبلونه عنادًا أي: فهم (¬1) لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم أعرضوا عن قبول الحق، وعن النظر الموصول إليه، فلا يتأملون حجةً، ولا يتدبرون برهانًا، ولا يتفكرون في دليل. وقرأ الجمهور (¬2): {الْحَقَّ} بالنصب، والظاهر نصبه على المفعول به. وقرأ الحسن، وحميد، وابن محيصن {الْحَقَّ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا القول هو الحق، والوقف على هذه القراءة على {يَعْلَمُونَ}. 25 - ولما ذكر انتفاء عِلْمِهِم الحق، وإعراضهم عنه أخبر أنه ما أرسل من رسول، إلَّا جاء مقرّرًا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية، والأمر بالعبادة، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد {مِنْ رَسُولٍ} مرسل إلى أمة من الأمم {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ}؛ أي: إلَّا أوحينا إليه {أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في السموات والأرض {إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أنت وأمتك؛ أي: فأخلصوا لي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[26]

العبادة، وأفردوا لى الألوهية، أي: وحّدوني ولا تشركوا بي. وفيه إشارة إلى أن الحكمة في بعثة جميع الأنبياء والرسل مقصودة على هاتين المصلحتين، وهما إثبات وحدانية الله تعالى، وتعبّده بالإخلاص؛ لتكون فائدة تينك المصلحتين راجعة إلى العباد، لا إلى الله تعالى، كما قال: "خلقت الخلق ليربحوا عليّ، لا لأربح عليهم". وخلاصة ذلك (¬1)؛ أنَّ الرسل جميعًا أرسلوا بالإخلاص، والتوحيد، لا يقبل منهم سواه، ونحو الآية قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. ولما كان (¬2) {وَمَا أَرْسَلْنَا} عامًا لفظًا ومعنَى أفرد على اللفظ في قوله: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ}، ثم جمع على المعنى في قوله: {فَاعْبُدُونِ}، ولم يأت التركيب {فاعبدني}. ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله، لم تختلف فيها النبوات، وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام. وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، والقطعي، وابن غزوان، عن أيوب، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى، وابن جرير: {نوحي} بالنون وكسر الحاء، وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم. وقال بعضهم: التوحيد على ثلاث مراتب (¬3): توحيد أهل البداية وهو: لا إله إلّا هو، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الأجسام. وتوحيد أهل التوسط، وهو: لا إله إلَّا أنت، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الأرواح. وتوحيد أهل النهاية، وهو: لا إله إلا أنا، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الحقيقة، انتهى. 26 - وبعد أن بيَّن سبحانه الدلائل الباهرة على أنه منزَّه عن الشريك والندّ .. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[27]

أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: قال (¬1) فريق من هؤلاء المشركين، وهم بطون من خزاعة، وجهينة، وبني سلمة {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} من الملائكة، وادّعوا أنهم بنات الله، وأنه تعالى صاهر سروات الجن، فولدت له الملائكة، فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له عن ذلك لأنَّ الولد لا بد أن يكون شبيهًا بالوالد، فلو كان له ولد لأشبهه، ولا مجانسة بين النعمة والمنعم، والخالق والمخلوق، وهو مقولٌ على ألسنة العباد؛ أي: سبحوه تسبيحه اللائق به. قال في "بحر العلوم" (¬2): ويجوز أن يكون تعجبًا من كلمتهم الحمقاء؛ أي: ما أبعد من ينعم بجلائل النعم ودقائقها، وما أعلاه عما يضاف إليه من اتخاذ الولد، والصاحبة، والشريك. وقال في "الكشف": التنزيه لا ينافي التعجب. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: {بَلْ} ليست الملائكة كما قالوا: بل هم {عِبَادٌ}؛ مخلوقون له تعالى {مُكْرَمُونَ} مقرَّبون عنده، مفضَّلون على كثير من العباد، لا على كلهم، والمخلوقية تنافي الولادة؛ لأنها تقتضي المناسبة؛ فليسوا بأولاد، وإكرامهم لا يقتضي كونهم أولادًا كما زعموا 27 - {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ}؛ أي: لا يتقدموفه بالقول، ولا بالفعل. صفة أخرى لـ {عِبَادٌ}. وأصل (¬3) السبق المتقدم في السير، ثم تجوِّز به في غيره من التقدم؛ أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى ويأمرهم لكمال انقيادهم وطاعتهم كالعبيد المؤدَّبين. وقرأ عكرمة {مُكْرَمُونَ} بالتشديد. والجمهور بالتخفيف. وقرأ الجمهور {لَا يَسْبِقُونَهُ} بكسر الباء. وقرىء بضمها، من سابقني فسبقته أسبقه. {وَهُمْ}؛ أي: الملائكة {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}؛ أي: كما أنهم يقولون بأمره كذلك يعملون بأمره، لا بغير أمره أصلًا، فالقصر المستفاد من تقديم الجار معتبر بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) السمرقندي. (¬3) روح البيان.

[28]

غير أمره، لا إلى أمر غيره. والأمر مصدر أمرته إذا كلّفْتَه أن يفعل شيئًا. وفي الآية إشارة إلى أن العباد المكرمين بالتقرب إلى الله تعالى، والوصول إليه، لا يقولون شيئًا من تلقاء نفوسهم، ولا يفعلون شيئًا بإرادتهم، بل إذا نطقوا نطقوا بالله، وإذا سكتوا سكتوا بالله. 28 - وجملة قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} تعليل لما قبلها. ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدَّموا وأخّروا لم يعملوا عملًا، ولا يقولوا إلَّا بأمره؛ أي: يعلم الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه ما بين أيديهم؛ أي: ما قدَّموا من الأقوال والأعمال {وَمَا خَلْفَهُمْ}؛ أي: وما أخَّروا منهما، وهو الذي ما قالوه، وما عملوه بعد، فيعلمهم بإحاطته تعالى بذلك، أو يعلم ما بين أيديهم، وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا, ولا يزالون يراقبون أحوالهم، فلا يقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى، فهو تعليل لما قبله، وتميهدٌ لما بعده كما مرّ آنفًا. {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} الله تعالى أن يشفع له من أهل الإيمان مهابةً منه تعالى؛ أي: وهم لا يشفعون إلّا لمن رضي الله عنه، فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى، قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقد ثبت في الصحيح أنَّ الملائكة يشفعون في الدار الآخرة. قال قتادة؛ أي: لأهل التوحيد. والشفاعة (¬1) الإنضمام إلى آخر ناصرًا له، كما سيأتي في "مفردات اللغة". {وَهُمْ}؛ أي: الملائكة مع ذلك {مِنْ خَشْيَتِهِ}؛ أي: من خشيتهم منه تعالى وخوفهم منه. فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله {مُشْفِقُونَ}؛ أي: مرتعدون. والخشية: الخوف مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر؛ أي: لا يأمنون مكر الله تعالى. والمعنى: أي: وهم من خوف الله، والإشفاق من عقابه، حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه 29 - {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ}؛ أي: من الملائكة {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} تعالى؛ أي: حال كونه متجاوزًا إياه تعالى. قال المفسرون (¬2): عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة: إني إله إلّا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

إبليس. وقيل: الضمير إلى الأنبياء {فَذَلِكَ} القائل على سبيل الفرض والتقدير فرض محال، فهذا لا يدل على أنهم قالوه {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} بسبب هذا القول الذي قاله كما نجزى غيره من المجرمين؛ أي: ومن يدِّعي منهم أنه إله مع الله فجزاؤه جهنم على ما ادَّعى كسائر المجرمين، ولا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية، وأفعالهم المرضية، وهو تهديد للمشركين، بتهديد مدعي الربوبية ليمتنعوا عن شركهم. وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} مصدر (¬1) تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، ويتعدون أطوارهم بالإشراك وادعاء الإلهية. والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان، دون الزيادة؛ أي: لا جزاء أنقص منه. والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا .. فخير، وإن شرا. فشر، يقال: جزيته كذا، وبكذا. وقرأ الجمهور (¬2): {نجزيه} بفتح النون. وقرأ أبو عبد الرحمن المقرىء بضمها، أراد {نَجْزِيهِ} بالهمز، من أجزأني كذا كفاني، ثم خفف الهمزة، فانقلبت ياءً. وخلاصة ما تقدم (¬3): أنه تعالى وصف الملائكة بخمس صفات تدل على العبودية، وتنافى الولادة: 1 - المبالغة في الطاعة، فإنهم لا يقولون قولًا، ولا يفعلون فعلًا إلَّا بإذنه. 2 - أنه سبحانه يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، فهم كما قال عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. 3 - أنهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الشفاعة، ومن يكون إلهًا أو ولدًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

للإله لا يكون كذلك. 4 - أنهم في نهاية الإشفاق والوجل من الله. 5 - أن حالهم كحال سائر المكلفين في الوعد والوعيد، فكيف يكونون آلهة. الإعراب {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)}. {اقْتَرَبَ}: فعل ماض. {لِلنَّاسِ}: متعلق به. {حِسَابُهُمْ}: فاعل، ومضاف إليه، الجملة الفعلية مستأنفة. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية {هم} مبتدأ. {فِي غَفْلَةٍ} جار ومجرور، خبر أول. {مُعْرِضُونَ} خبر ثان. والجملة في محل النصب حال من ضمير {حِسَابُهُمْ}. {مَا}: نافية. {يَأْتِيهِمْ} فعل ومفعول. {مِنْ} حرف جر زائد لسبقه بالنفي. {ذِكْرٍ} فاعل مجرور لفظًا، مرفوع تقديرًا. {مِنْ رَبِّهِمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه صفة أولى لـ {ذِكْرٍ}، أو متعلق بـ {يَأْتِيهِمْ}. {مُحْدَثٍ} صفة ثانية لـ {ذِكْرٍ}، تابع للفظه. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِلَّا} أداة استثناء مفرّغ. {اسْتَمَعُوهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، حال من مفعول {يَأْتِيهِمْ}، ولكنها على تقدير قد لكونها ماضوية؛ أي: إلّا حالة كونهم مستمعين إياه. {وَهُمْ} {الواو} حالية. {هم} مبتدأ، وجملة {يَلْعَبُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {اسْتَمَعُوهُ}، أي: إلّا استمعوه حالة كونهم لاعبين. {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}. {لَاهِيَةً}: حال من فاعل {يَلْعَبُونَ}، فتكون حالًا متداخلة، أو حال من فاعل {اسْتَمَعُوهُ} أيضًا، فتكون حالًا مترادفةً؛ لأن الحال يجوز تعددها كالصفة.

{قُلُوبُهُمْ} فاعل {لَاهِيَةً}. {وَأَسَرُّوا} {الواو} استئنافية. {أسرّوا النجوى} فعل وفاعل ومفعول به. {الَّذِينَ} بدل من {واو} {أسرّوا}، إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش، والجملة مستأنفة. فائدة: قال أبو البقاء (¬1): {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في موضعه ثلاثة أوجه: أحدها: الرفع وفيه أربعة أوجه: 1 - أن يكون بدلًا من {الواو} في {أسروا}. 2 - أن يكون فاعلاً، و {الواو} حرف للجمع، لا اسم. 3 - أن يكون مبتدأ، والخبر قوله: {هَلْ هَذَا}، والتقدير: الذين ظلموا يقولون: {هَلْ هَذَا ...} الخ. 4 - أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين ظلموا. وثانيها: أن يكون منصوبًا على إضمار أعني. وثالثها: أن يكون مجروراً صفة {لِلنَّاسِ}، والمعروف أن الفعل يجب أن يبقى مع الفاعل بصيغة الواحد، وإن كان مثنًى أو مجموعًا، قال ابن مالك: وَجَرَّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا ... لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَفَازَ الشُّهَدَا إلَّا على لغةٍ ضعيفةٍ لبعض العرب تسمى لغة (أكلوني البراغيث) فيطابق فيها الفعل الفاعل إفرادًا، وتثنية وجمعًا. وحكى البصريون عن طيء، وحكى بعضهم عن أزد شنوءة، نحو: ضربوني قومك، وضربتني نسوتك، وضرباني أخواك. وقال عمرو بن ملقط الجاهليُّ: أُلْفِيَتَا عَيْنَاكَ عِنْدَ الْقَفَا ... أوْلَى فَأَوْلَى لَكَ ذَا وَاقِيَهْ فألفيتا فعل ماض مبني للمجهول، عيناك نائب فاعل، فألحق الفعل علامة ¬

_ (¬1) العكبري.

التثنية مع إسناده إلى الظاهر، ونائب الفاعل كالفاعل. عند متعلق بألفيتا. ذا واقية حال من المضاف إليه في عيناك، وهو الكاف. وواقية مصدر معناه الوقاية كالكاذبة بمعنى الكذب. أولى بمعنى الهلاك، مبتدأ خبره لك. أولى الثاني تأكيد للأول. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول. {هَلْ} حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. {هَذَا} مبتدأ. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {بَشَرٌ} خبر. {مِثْلُكُمْ} صفة لـ {بَشَرٌ}، والجملة الاستفهامية في محل النصب بدل من {النَّجْوَى} لأنها بمثابة التفسير لها، أو جملة مفسرةٌ لا محل لها من الإعراب، أو مقول لقول مضمر هو جواب عن سؤال مقدّر، نشأ مما قبله، كأنه قيل: فماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا: هل هذا ... الخ. {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف. {تَأْتُونَ السِّحْرَ} فعل وفعل ومفعول. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: أتعلمون ذلك فتأتون السحر. والجملة المحذوفة في محل النصب، بدل ثانٍ من {النَّجْوَى} وعبارة السمين: يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا في محل نصب بدلًا من {النَّجْوَى}، وأن تكونا في محل نصب بإضمار القول، قالهما الزمخشري، وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان لـ {النَّجْوَى}؛ لأنها في معنى القول. {وَأَنْتُمْ} {الواو} حالية، {أنتم} مبتدأ، وجملة {تُبْصِرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {تأتون}، مقرّرة للإنكار. {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة مستأنفة. {رَبِّي} مبتدأ، ومضاف إليه. {يَعْلَمُ الْقَوْلَ} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} أو مقول {قل}. {فِي السَّمَاءِ} جار ومجرور حال من {الْقَوْلَ}، أو متعلق بـ {يَعْلَمُ}. و {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاءِ}. {وَهُوَ

السَّمِيعُ} مبتدأ وخبر. {الْعَلِيمُ}: خبر ثان لـ {هو}، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من فاعل {يَعْلَمُ}. {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}. {بَلْ} حرف إضراب وانتقال {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ما أتى به أضغاث أحلام، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بَلْ} حرف اضراب. {افْتَرَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بَلْ}: حرف إضراب. {هُوَ شَاعِرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَلْيَأْتِنَا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن لم يكن الأمرك ما قلنا، بل كان رسولًا، وأردتم بيان ما يطلب منه فأقول لكم: {ليأتنا} {بِآيَةٍ}، و {اللام} لام الأمر. {يأتنا} فعل ومفعول مجزوم بـ {لام} الأمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِآيَةٍ} متعلق بـ {يأتنا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب قول {قَالُوا}. {كَمَا} {الكاف} حرف جر وتشبيه. و {ما} اسم موصول في محل الجرّ بالكاف الجار والمجرور صفة لـ {لآية}؛ أي: بآية كائنة كالآية التي أرسل بها الأولون، أو {الكاف} اسم بمعنى مثل، في محل الجر، صفة لـ {آية}، و {الكاف} مضاف و {ما} اسم موصول، في محل الجر، مضاف إليه؛ أي: بآية مثل الآية التي أرسل بها الأولون. {أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أرسل بها الأولون. {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}. {مَا}: نافية. {آمَنَتْ}: فعل ماض وتاء تأنيث. {قَبْلَهُمْ}: متعلق به. {مِنْ}: زائدة، {قَرْيَةٍ}: فاعل والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم واستبعاد إيمانهم. {أَهْلَكْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل الرفع صفة لقرية

{أَفَهُمْ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف. {هم} مبتدأ، وجملة {يُؤْمِنُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتلك القرية المهلكة لم تؤمنوا فهم يؤمنون؛ أي: فهؤلاء يؤمنون لو أُجيبوا إلى ما سئلوا وأعطوا ما اقترحوا، والجملة المحذوفة مستأنفة. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما} نافية، {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل. {قَبْلَكَ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. إِلا أداة استثناء مفرغ. {رِجَالًا} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَتْ}. {نُوحِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب صفة لـ {رِجَالًا}. {إِلَيْهِمْ} متعلق بـ {نوحي} {فَاسْأَلُوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا سمعتم أيها الكفرة ما أخبرته لكم، وأردتم يقينه فأقول لكم: اسألوا أهل الذكر {اسألوا} فعل وفاعل. {أَهْلَ الذِّكْرِ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {إِنْ} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} خبر {كان}، ومفعول العلم محذوف، تقديره: أن الرسل بشر. وجواب {إِن} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم لا تعلمون ذلك ... فاسألوا أهل الذكر، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {ما}: نافية. {جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وما أرسلنا قبلك} {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {جَسَدًا}.

و {جَسَدًا} مفرد أريد به الجمع، وإنما وحّده ليشمل الجنس عامة؛ لأن الجسد لا بد له من غذاء، وهو على حذف مضاف؛ أي: ذوي جسد غير آكلين. {وَمَا كَانُوا} {الواو} عاطفة. {ما} نافية. {كَانُوا خَالِدِينَ} فعل ناقص، واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب. {صَدَقْنَاهُمُ} فعل وفاعل ومفعول {الْوَعْدَ} منصوب بنزع الخافض؛ لأن "صدق" يتعدى إلى اثنين، إلى ثانيهما بحرف الجر، والأصل "في الوعد"، والجملة معطوفة على ما يفهم من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا} الخ، كأنه قيل: أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم به في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم اهـ أبو السعود {فَأَنْجَيْنَاهُمْ} {الفاء} عاطفة {أنجيناهم} فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {صَدَقْنَاهُمُ} و {وَمَنْ} اسم موصول في محل النصب معطوف على الهاء في {أنجيناهم}. {نَشَاءُ} فعل مضارع، وفعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقدير: ومن نشاء إنجاءه. {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أنجينا}. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)}. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكُمْ}: متعلق به. {كِتَابًا}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {فِيهِ} جار ومجرور خبر مقدّم. {ذِكْرُكُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ {كِتَابًا}. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف {لا} نافية. {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَكَمْ} {الواو} استثنافية. {كم} خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدّم لـ {قَصَمْنَا}. {قَصَمْنَا} فعل وفاعل {مِنْ قَرْيَةٍ} تمييز لـ {كم} مجرور بـ

{مِنْ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {كَانَتْ ظَالِمَةً} فعل ناقص وخبره، واسمه ضمير مستتر يعود على {قَرْيَةٍ}، والجملة الفعلية صفة لـ {قَرْيَةٍ}. {وَأَنْشَأْنَا} فعل وفاعل معطوف على {قَصَمْنَا} {بَعْدَهَا} متعلق به. {قَوْمًا} مفعول {وَأَنْشَأْنَا} {آخَرِينَ} صفة {قَوْمًا}. {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفت إهلاكنا كثيرًا من القرية، وأردت بيان حالهم عند إهلاكها فأقول لك. "لما" حرف شرط غير جازم. {أَحَسُّوا بَأْسَنَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}، لا محل لها من الإعراب. {إِذَا}: فجائية رابطة لجواب لمّا وجوبا لكونه جملة اسمية. {هُمْ} مبتدأ. {مِنْهَا} متعلق بـ {يَرْكُضُونَ}، وجملة {يَرْكُضُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {لَا تَرْكُضُوا} {لا} ناهية جازمة. {تَرْكُضُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم: لا تركضوا، وجملة القول المحذوف مستأنفة. {وَارْجِعُوا} فعل وفاعل معطوف على {لَا تَرْكُضُوا} {إِلَى مَا} جار ومجرور متعلق بـ {ارجعوا} {أُتْرِفْتُمْ} فعل ونائب فاعل. {فِيهِ} متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير فيه. {وَمَسَاكِنِكُمْ} معطوف على {مَا}، مجرور بالكسرة {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه {تُسْأَلُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يا} حرف نداء. {ويلنا}

منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا} {إِنَّا} ناصب واسمه. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه {ظَالِمِينَ} خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول قالوا على كونها جواب النداء. {فَمَا زَالَتْ} {الفاء} عاطفة. {ما} نافية. {زَالَتْ} فعل ماض ناقص من أخوات {كان} {تِلْكَ} في محل الرفع اسمها. {دَعْوَاهُمْ} خبرها منصوب بفتحة مقدّرة على الألف، و {الهاء} مضاف إليه، وجملة {زَالَتْ} معطوفة على جملة {قَالُوا} {حَتَّى} حرف جر وغاية. {جَعَلْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول. {حَصِيدًا خَامِدِينَ} مفعول ثان لـ {جعلنا} لأن حكمهما حكم الواحد، نحو قولك: جعله حلوًا حامضًا؛ أي مزّا ,ولك أن تجعل {خَامِدِينَ} صفة لـ {حَصِيدًا}، وجملة {جعلنا} في محل جر بـ {حَتَّى} على تأويلها بمصدر، تقديره: إلى جعلنا إياهم حصيدًا خامدين، الجار والمجرور متعلق بـ {زَالَتْ} {وَمَا خَلَقْنَا} {الواو} استئنافية. {ما} نافية {خَلَقْنَا السَّمَاءَ} فعل وفاعل ومفعول. {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّمَاءَ}، والجملة مستأنفة. {وَمَا} اسم موصول في محل النصب، معطوف على {السَّمَاءَ}. {بَيْنَهُمَا} ظرف، ومضاف إليه، صلة لـ {ما}؛ أو صفة لها، {لَاعِبِينَ} حال من فاعل {خَلَقْنَا} منصوب بالياء. {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}. {لَوْ}: حرف شرط. {أَرَدْنَا}: فعل وفاعل. {أَنْ} حرف نصب. {نَتَّخِذَ} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهْوًا} مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: لَوْ أردنا اتخاذ لهو {لَاتَّخَذْنَاهُ} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ}. {اتخذناه} فعل وفاعل ومفعول به {مِنْ لَدُنَّا} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: لاتخذناه اتخاذًا كائنًا من لدنا، والجملة جواب لو، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} مستأنفة. {إن} حرف شرط. {كُنَّا} فعل

ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط. {فَاعِلِينَ} خبر {كان}، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، ويجوز أن تكون {إن} نافية بمعنى ما، وجملة {كان} في محل النصب حال من فاعل {اتخذناه}، تقديره: حالة كوننا غير فاعلين ذلك الاتخاذ، والأول أصح، وأقعد {بَلْ} حرف إضراب. {نَقْذِفُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِالْحَقِّ} متعلق بـ {نَقْذِفُ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {عَلَى الْبَاطِل} جار ومجرور حال من {الحق} أي: حال كونه مستعلياً على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} {الفاء} عاطفة. {يدمغه} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الحق، والجملة معطوفة على جملة {نَقْذِفُ}. {فَإِذَا} {الفاء} عاطفة {إذا} فجائية. {هُوَ زَاهِقٌ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {يدمغه} عطف اسمية على فعلية. {وَلَكُمُ} {الواو} استئنافية. {لكم} خبر مقدم. {الْوَيْلُ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {مِمَّا} جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي استقر لكم الويل من كل ما {تَصِفُونَ}، وجملة {تَصِفُونَ} صلة {ما} الموصولة، أو {ما} المصدرية. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}. {وَلَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ}: اسم وصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور صلة من الموصولة. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع معطوف على من الأولى. {عِنْدَهُ} ظرف ومضاف إليه، صلة من الموصولة، وجملة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} حال من من الثانية. {عَنْ عِبَادَتِهِ} متعلق بـ {يَسْتَكْبِرُونَ} {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} معطوف على {يَسْتَكْبِرُونَ}، ويجوز أن تكون {الواو} استئنافية. {من عنده} مبتدأ خبره جملة {لَا يَسْتَكْبِرُون}، {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} معطوف عليه، والجملة الاسمية مستأنفة. {يُسَبِّحُونَ}: فعل وفاعل

{اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ظرفان متعلقان به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير ما يصنعه من عند الله في عبادتهم، وجملة {لَا يَفْتُرُونَ} حال من فاعل {يُسَبِّحُونَ}. {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}. {أَمِ}: منقطعة بمعنى بل، و {همزة} الإنكار. {اتَّخَذُوا} فعل وفاعل. {آلِهَةً} مفعول به، والجملة مستأنفة. {مِنَ الْأَرْضِ} جار ومجرور، صفة أولى لـ {آلِهَةً} {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْشِرُونَ} خبره، ومفعول {يُنْشِرُونَ} محذوف تقديره: الموتى، والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ {آلِهَةً}. {لَوْ} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص. {فِيهِمَا} خبر كان مقدم. {آلِهَةٌ} اسمها مؤخر، وجملة {كَانَ} فعل شرط لـ {لو}، لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا} اسم بمعنى غير، صفة لـ {آلِهَةٌ}، ولكن ظهر إعرابها فيما بعدها؛ لكونها على صورة الحرف، ولا يصح أن تكون استثنائية لأن مفهوم الاستثناء فاسد هنا، إذ حاصله أنه لو كان فيهما آلهة لم يستثن الله منهم لم تفسدا. وليس كذلك، فإن مجرد تعدد الآلهة يوجب لزوم الفساد مطلقًا {اللَّهُ} صفة. {لَفَسَدَتَا} {اللام} رابطة لجواب {لَوْ} {فسدتا} {فسد} فعل ماض، و {التاء} علامة تأنيث الفاعل، و {الألف} ضمير للمثنى في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} {سبحان} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا عما لا يليق به. ولفظ الجلالة مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {رَبِّ الْعَرْشِ} صفة للجلالة، ومضاف إليه. {عَمَّا} متعلق بـ {سبحان}، وجملة {يَصِفُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، أو لـ {ما} المصدرية. {لَا يُسْأَلُ} {لا} نافية. {يُسْأَلُ} فعل مضارع مغير الصفة، ونائب فاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان تفرده سبحانه بالسلطان بحيث لا يسأله أحد عما يفعله {عَمَّا} جار ومجرور متعلق بـ {يُسْأَلُ}. {يَفْعَلُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}

الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: عما يفعله. {وَهُمْ} مبتدأ. {يُسْأَلُونَ} فعل، ونائب فاعل، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {لَا يُسْأَلُ}، أو في محل النصب حال من مرفوع {لَا يُسْأَلُ}، والرابط مقدر تقديره: لا يسأل عما يفعل حالة كونهم مسؤولين له. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}. {أَمِ}: منقطعة بمعنى (بل)، و (همزة) لإنكار. {اتَّخَذُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ دُونِه} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {اتَّخَذُوا}. {آلِهَةً} مفعول أول لـ {اتَّخَذُوا}، أو الجار والمجرور حال من فاعل {اتَّخَذُوا}، أي: حالة كونهم متجاوزين الله، أو متعلق بـ {اتَّخَذُوا}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هَاتُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو} فاعل. {بُرْهَانَكُمْ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {هَذَا} مبتدأ. {ذِكْرُ مَنْ} خبر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة في محل النصب، مقول {قُلْ}. {مَعِيَ} ظرف، ومضاف إليه، صلة من الموصولة. {وَذِكْرُ} معطوف على {ذِكْرُ}، وهو مضاف، و {مَنْ} الموصولة في محل الجر، مضاف إليه. {قَبْلِي} ظرف، ومضاف إليه، صلة من الموصولة، {بَلْ} حرف إضراب. {أَكْثَرُهُمْ} مبتدأ، ومضاف إليه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ. {الْحَقَّ} مفعول {يَعْلَمُونَ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَهُمْ} {الفاء} حرف عطف وتفريع. {هم} مبتدأ، {مُعْرِضُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على الجملة التي قبلها. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {ما} نافية. {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور حال {مِنْ رَسُولٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِنْ}

زائدة. {رَسُولٍ} مفعول {أَرْسَلْنَا}، منصوب بفتحة مقدرة، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {نُوحِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من فاعل {أَرْسَلْنَا}، أي: وما أرسلنا رسولًا من قبلك إلّا حالة كوننا مُوحدين إليه أنه لا إله إلّا أنا. {أَنَّهُ} {أن} حرف نصب، و {الهاء} اسمها. {لَا} نافية. {إِلَهَ} في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف، تقديره: لا إله موجود. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {أَنَا} ضمير رفع في محل الرفع، بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعول {نُوحِي}، تقِديره: إلّا نوحي إليه عدم وجود إله إلّا أنا. {فَاعْبُدُونِ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ثبوت الوحدانية لي وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: {اعبدون} {اعبدوا}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، و {النون} نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب قول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا} {سُبْحَانَهُ} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحاناً، والجملة مستأنفة {بَلْ} حرف إضراب {عِبَادٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: بل هم عباد {مُكْرَمُونَ} صفة لـ {عِبَادٌ}، والجملة مستأنفة {لَا يَسْبِقُونَه} فعل وفاعل ومفعول {بِالْقَوْلِ} متعلق بـ {يَسْبِقُونَهُ}، والجملة في محل الرفع، صفة ثانية لـ {عِبَادٌ} {وَهُمْ} مبتدأ {بِأَمْرِهِ} متعلق بـ {يَعْمَلُونَ}، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع، صفة ثالثة لـ {عِبَادٌ}.

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع، صفة رابعة لـ {عِبَادٌ}، أو مستأنفة. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف، صلة لـ {مَا} {وَمَا} معطوف على ما الأولى. {خَلْفَهُمْ} ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {ما}. {وَلَا يَشْفَعُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {يَعْلَمُ} على كونها صفة خامسة. {إِلَّا} أداة إستثناء مفرغ. {لِمَنِ} جار ومجرور متعلق بـ {يَشْفَعُونَ}. {ارْتَضَى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة {مِنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إلَّا لمن ارتضاه. {وَهُمْ} مبتدأ. {مِنْ خَشْيَتِهِ} متعلق بـ {مُشْفِقُونَ}. {مُشْفِقُونَ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة {يَشْفَعُونَ} على كونها صفة سادسة، أو في محل النصب حال من فاعل {يَشْفَعُونَ}. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. {يَقُلْ} فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل يقل. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {إِلَهٌ} خبره. {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور، صفة لِـ {إِلَهٌ}، أو متعلق به؛ لأنه بمعنى معبود، وجملة {إِنّ} في محل النصب مقول {يَقُلْ}. {فَذَلِكَ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {ذلك} مبتدأ. {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {ذلك}، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب لـ {من} الشرطية، وجملة {مِنْ} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {يَعْلَمُ} على كونها صفة سابعة. {كَذَلِكَ} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والتقدير: نجزي الظالمين جزاءً

مثل ذلك الجزاء، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {اقْتَرَبَ} وقرب بمعنى، والمراد من اقتراب الحساب؛ اقترابُ زمانه، وهو مجيء الساعة. وفي "أبي السعود": وإسناد الاقتراب إليه، لا إلى الساعة كما في الآية الأخرى، مع استتباعها له، ولسائر ما فيها من الأحوال، والأهوال الفظيعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه، وإعراضهم عما يذكرهم ذلك اهـ {الناس} هم المكلّفون. {مُعْرِضُونَ}؛ أي: عن التأهب لهذا اليوم، يقال: أعرض؛ أي: ولَّى مبدياً عرضه؛ أي: ناحيته {النَّجْوَى} في الأصل مصدر، ثم جعل اسمًا من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارَّة؛ أي: السر بين اثنين فصاعدًا، يقال: تناجى القوم إذا تسارّوا، وتكالموا سرًّا عن غيرهم، والمراد: أنَّهم أخفوا تناجيهم، ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم. قال الراغب: ناجيته ساررته، وأصله: ارتحلوا به في نجوة من الأرض؛ أي: المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله، ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلّا سرًا أنهم بالغوا في إخفائها. {مِنْ ذِكْرٍ}؛ أي: قرآن {مُحْدَثٍ}؛ أي: جديد نزوله {بَشَرٌ} اسم جنس يستوي فيه الواحد والجمع {بَلْ قَالُوا} بل كلمة يؤتى بها للانتقال من غرض إلى غرض آخر، ولا تذكر في القرآن إلَّا على هذا الوجه كما قاله ابن مالك، وسبقه إليه صاحب "الوسيط"، ووافقه ابن الحاجب، وهو الحق. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}؛ أي: أخلاط رآها في النوم، وقد تقدم البحث فيها {جَسَدًا} قال الراغب: الجسد كالجسم لكنه أخص فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال: لما لا يبين له لون كالماء، والهواء، {خَالِدِينَ} والخلود: تبرؤُ الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والمراد إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة، أو الأبديُّ وهم معتقدون أنهم لا يموتون {الْوَعْدَ} نصرهم وإهلاك أعدائهم {الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: الكافرين، قال الراغب:

السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر. {وَكَمْ قَصَمْنَا} {كم} كلمة تفيد تكثير وقوع ما بعدها، والقصم هو الكسر بتفريق الأجزاء، وإذهاب التئامها، والقصم، أبلغ من الكسر. وفي "القاموس": قصم من باب ضرب قصماً الشيء إذا كسره، وقصم الرجل أهلكه، ويقال: قصم الله ظهر الظالم؛ أي أنزل به البلية {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} والإنشاء والاختراع، والتكوين، والتخليق، والإيجاد، أسماء مترادفة يراد بها معنى واحد، وهو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، كما في "بحر العلوم". قال الراغب: الانشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان كما في هذه الآية {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} والإحساس الإدراك بالحاسة؛ أي: أدركوا بحاسّة البصر عذابنا الشديد، والبأس الشدة والمكروه، والنكاية، {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} والركض: ضرب الدابة بالرجل، يقال: ركض الدابة يركضها ركضاً من باب قتل، إذا ضربها برجله، والركض هنا، كناية عن الهرب والفرار، ويقال: ركض الرجل الفرس برجليه إذا كدّه بساقيه، ثم كثر حتى قيل: ركض الفرس إذا عدا، فمتى نسب إلى الراكب: فهو إعداء مركوبه نحو ركضت الفرس، ومتى ما نسب إلى الماشي، فوطىء الأرض، ومنه {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} {إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ} يقال: أترفته النعمة أطغته، وأترف فلان أصر على البغي، والإتراف إبطار النعمة، يقال: أترف فلان؛ أي: وسع عليه في معاشه، وقيل فيه همه {حَصِيدًا} فعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد وغيره، وحصد يأتي من باب ضرب، ونصر، والكلام على التشبيه البليغ؛ أي كالزرع المحصود بالمناجل {خَامِدِينَ}؛ أي: كالنار التي خمدت، وانطفأت، يقال: خمدت النار إذا انطفأ لهبها، والكلام على التشبيه البليغ أيضًا، يقال: خمدت النار وهمدت، كل منهما من باب دخل، لكن الأول عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الجمر، والثاني: عبارة عن ذهابها بالكية حتى تفسير رمادًا اهـ "فتوحات". {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} الخلق أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل، ولا احتذاء {لَاعِبِينَ} واللعب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح، واللهو: الفعل الذي يفعل ترويحًا عن النفس، ومن ثم تسمى المرأة والولد لهوًا؛ لأنه يستروح بكل منهما. ويقال لامرأة الرجل وولده:

ريحانتاه، يقال: لشعب فلان إذا: فعل شيئًا غير قاصد به مقصدًا صحيحًا، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال الراغب: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه، ويهمّه ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو. وفي "المصباح": اللهو معروف، يقول أهل نجد: لهوت عنه ألهو لهيا أصله لهوى على وزن فعول من باب قعد، وأهلُ العالية: لهيت عنه ألهى من باب تعب، ومعناه السلوان، والترك. وألهوت به لهوًا من باب قتل أولعت به، ولهيت به أيضًا. قال الطرطوشي: وأصل اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، وألهاني الشيء - بالألف - شغلني. {نَقْذِفُ بِالْحَقّ} القذف: الرمي البعيد الشديد المستلزم لصلابة المرمى، قال الراغب: القذف الرمي البعيد، ولاعتبار البعد فيه قيل: منزل قذف وقذيف وبلدة قذوف طروح بعيدة. والباطل: نقيض الحق، وهو الذي لا ثبات له عنه الفحص عنه {فَيَدْمَغُهُ}؛ أي: فيهلكه ويعدمه، من باب: قطع. وفي "القاموس": دمغه قهره، ودمغ الحق بالباطل أبطله ومحقه. وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو الأجوف، وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدّي إلى زهوق الروح، ويراد به هنا: القهر والإهلاك {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}؛ أي: زائل ذاهب، والزهوق: ذهاب الروح وخروجها يقال: زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ}؛ أي: الهلاك، قال الأصمعي: ويل قبوح، وقد يستعمل في التحسر، وويس استصغار، وويح ترحم. ومن قال: الويل واد في جهنم، فإنه لم يرد أن ويلًا في اللغة هو موضوع لهذا، وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرًّا من النار، وثبت ذلك له {يَسْتَحْسِرُونَ}؛ أي: يكون ويتعبون يقال: استحسر البعير؛ أي: كل وتعب. ويقال: حسر وحسرته أنا فيكون لازمًا ومتعديًا. وأحسرته أيضًا فيكون فعل وأفعل بمعنى واحد. ويقال: حسر واستحسر إذا تعب، وأعيى يعني أتى استفعل بمعنى فعل نحو قر واستقر، قال في "المفردات": الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر، اهـ. {لَا يَفْتُرُونَ} قال الراغب: الفتور: سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة {يُنْشِرُونَ} وفي "المصباح": نشو الموتى نشورًا من باب قعد حيوا، ونشوهم الله يتعدى ولا يتعدى، ويتعدى

بالهمزة أيضًا فيقال: أنشرهم الله، ونشرت الأرض نشورًا حييت وأنبتت، اهـ {لَفَسَدَتَا} الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلًا كان الخروج عنه أم كثيرًا، ويضاده الصلاح، ويسّتعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} هات: من أسماء الأفعال، يقال: هات الشيء؛ أي: أعطيه. وقال الراغب: البرهان: فعلان مثل الرجحان والبنيان اهـ. وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض، انتهى. وقد أشار صاحب "القاموس" إلى كليهما حيث قال في باب النون: البرهان - بالضم - الحجة، وبرهن عليه أقام البرهان، وفي باب الهاء: أبره أتى بالبرهان. وقال في "المفردات": البرهان أوكد الأدلة، وهر الذي يقتضي الصدق أبدًا. {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} قال الراغب: الأخذ: وضع الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول نحو قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا}، وتارة بالقهر نحو قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، ويقال: أخذته الحمى، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ، والاتخاذ افتعال منه، فيتعدى إلى مفعولين، ويجري مجرى الجعل {سُبْحَانَهُ}، أي: تنزه بالذات تنزهه اللائق به، على أن السبحان مصدر من سبح؛ أي بعد، أو أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح، وهو مقول على ألسنة العباد، أو سبحوه تسبيحه {وَلَا يَشْفَعُونَ} الشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التنكير في قوله: {فِي غَفْلَةٍ} للتعظيم والتفخيم. ومنها: الدلالة على فخامة الذكر وشرفه وفضله في قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}.

ومنها: إبدال الظاهر من المضمر في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} تسجيلًا عليهم باسم الظلم. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. ومنها: الإضراب والترقي في قوله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. وهذا الاضراب في وصف القرآن يدل على التردد، والتحيّر في تزويرهم للحق الساطع المنير، فقولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث: أفسد من الثاني. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {قَرْيَةٍ} إذ المراد أهلها، وقد تقدم أمثال ذلك كثيرًا. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} وحق العبارة: إلا رجالا أوحينا إليهم. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. ومنها: التنكير في قوله: {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} للدلالة على فخامة شأنه وعظيم فضله. ومنها: الكناية في قوله: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} لأن الركض كناية عن الهرب. ومنها: التهكم في قوله: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} لأن الترجي هنا استهزاء بهم، وتهكم بما كانوا يظنونه بأنفسهم من أنهم مظنة السخاء ومطلع الكرم. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قولهم: {وَيْلَنَا} فقد خاطبوا الويل - وهو الهلاك - كأنه شخص حتى يدعونه لينقذهم مما هم فيه. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}؛ أي: جعلناهم كالزرع المحصود وكالنار الخامدة، فقد شبَّههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد

أولًا، وهو الزرع المحصود، ووجه الشبه بين المشبه والمشبه به هو الاستئصال من المنابت، ثم شبههم ثانيًا بالنار المنطفئة، ولم يبق منها إلا جمر منطفىء لا نفع فيه، ولا قابلية لشيء من النفع منه، فلا ترى إلا أشلاء متناثرة وأجزاء متفرقة، قد تبددت، وقد ران عليها البلى. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فقد شبّه الحق والباطل - وهما معنويان - بشيئين مادّيين محسوسين يقذفان ويدفعان، ثم حذف هذين الشيئين، واستعار ما هو من لوازمهما، وهما القذف والدمغ لتجسيد الإطاحة بالباطل واعتلاء الحق عليه، وتصوير إبطاله وإهداره ومحقه، كأنه جرم صلب كصخرة، أو ما يماثلها في القوة والصلابة قذف على جرم رخو أجوف فدمغه، وهي من استعارة المحسوس للمعقول. ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى، وهو نقل اللفظ من وزن إلى وزن آخر أكثر منه ليتضمّن من المعنى الدال عليه أكثر مما تضمّنه أولًا؛ لأن الألفاظ أدلة على المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا الضرب من الزيادة لا يستعمل إلّا في مقام المبالغة، وهو هنا في قوله: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} فقد عدل عن الثلاثي، وهو حسر إلى السداسي، وهو استحسر، وقد كان ظاهر الكلام أن يقال: يحسرون؛ أي: يكلون ويتعبون. ومنها: التصريح بالضمير في قوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ} وقد كان يكفي أن يقول: ينشرون، ولكنه عدل عن ذلك إلى التصريح بالضمير لإفادة معنى المخصوصية أولًا، كأنهم قالوا: ليس هنا من يقدر على الإنشار غيرهم، وثانيًا لتسجيل إلزامهم ادّعاء صفات الألوهية لآلهتهم، وهذا الإدعاء قد أبطله الله في الآية التالية لهذه الآية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. ومنها: المذهب الكلامي في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وتعريفه: أنه هو احتجاج المتكلّم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام، وله طرق متعددة كما هو مبين في محله.

ومنها: طباق السلب في قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}. ومنها: التبكيت وإلقام الحجر للخصم في قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}. المناسبة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا حكى (¬1) مقالات أولئك المشركين الذين كانوا يعبدون آلهةً من دون الله، ومقالات أولئك ¬

_ (¬1) المراغي.

الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا من الملائكة، وطالبهم بالدليل على صدق ما يدَّعون، وبين لهم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك، لا من طريق العقل كما هو واضح، ولا من طريق النقل، إذ كل الرسل السابقين كان أس دعوتهم {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .. أردف ذلك بتوبيخهم عل عدم تدبرهم الآيات المنصوبة في الكون الدالة على التوحيد، ولفت أنظارهم إلى أنه لا ينبغي عبادة الأصنام، والأوثان، فإن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات، لا يعبد سواه من حجر أو شجر لا يضر ولا ينفع. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بما يرون من الآيات الكونية .. أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام، ولا خلق من فيها للبقاء، بل خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلةً إلى الآخرة التي هي دار الخلود، فلا تشمتوا إذا مات محمد - صلى الله عليه وسلم - فما هذا بسبيله وحده، بل هذه سنة الله في الخلق أجمعين، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوْتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ فِيْهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِيْ يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِيْ مَضَى ... تَزَوَّدْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ ثم ذكر أنهم نعوا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذكر آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء، ورد عليهم بأنهم قد كفروا بالرحمن المنعم على عباده الخالق لهم المحيي المميت، ولا شيء أقبح من هذا وأخلق بالذم منه. قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنه كلما أتى المشركين آية كفروا بها، وكلما توعّدهم بالعذاب كذبوا به، وقالوا تهكمًا وإنكارًا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .. قفّى على ذلك بنهيهم عن العجلة، وبيان أن ما أوعدوا به آت لا محالة، ثم أرشد إلى أن العجلة من طبيعة الإنسان التي جبل عليها، ثم ذكرهم بجهلهم ما يستعجلون فإنهم لو عرفوا عنه ما طلبوا ما دار بخلدهم ذلك المطلب.

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيّن أن الكافرين في الآخرة لا يستطيعون أن يمنعوا عن وجوههم النار، ولا عن ظهورهم، وأنه سيكون لهم من الأهوال ما لم يكن يخطر لهم ببال .. أعقب ببيان أنه لولا أن الله قدر لهم السلامة في الدنيا، وحرسهم إلى حين لما بقوا سالمين، وأنه مع إنعامه عليهم ليلًا ونهاراً بالحفظ والحراسة هم معرضون عن الدلائل الدالة على أنه لا حافظ لهم سواه، وأنه قد كان ينبغي لهم أن يتركوا عبادة الأصنام التي لا حقالها في شيء من ذلك، فهي لا تستطيع أن تحفظ أنفسها من الآفات، فضلا عن منع بأس الله إن حل بهم، ثم أردف ذلك ببيان أن الذي حملهم على الإعراض عن ذلك، هو طول الأمد حتى نسوا العهد، وجهلوا مواقع النعمة، وقد كان لهم في نقص الأرض من أطرافها، وفتح المسلمين لها عبرة أيما عبرة، فها هم يرون محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه يفتحون البلاد والقرى حول مكة، ويدخلونها تحت راية الإِسلام، ويقتلون الرؤساء والعشائر من المشركين، فمن حقهم أن يفكروا في هذا مليًّا، ويرعووا عن غيهم، ويعلموا آثار قدرتنا، وأن جندنا هم الغالبون، ثم قفّي على ذلك ببيان أن وظيفة الرسل هي الإنذار والتبليغ، وليس عليهم الإلزام والقبول، فإذا كانت القلوب متحجّرة، والآذان صمّاء، فماذا تجدى العظة! وماذا ينفع النصح. ولئن أصابهم القليل من عذاب الله لتنادوا بالويل والثبور، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين، ثم قفّى على ذلك ببيان أن الدار الآخرة لا ظلم فيها, ولا محاباة، فالمرء يحاسب فيها على الجليل والحقير، فهناك تنصب موازين العدل، ويجازي كل امرئ بما قدّم من خير أو شرّ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: إنما أنذركم بالوحي .. أردفه ببيان أنَّ هذه سنة الله في أنبيائه، فكلهم قد أتاهم الوحي، وبلغهم من الشرائع والأحكام ما فيه هدايةٌ للبشر، وسعادةٌ لهم في دنياهم وآخرتهم.

[30]

أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ على أبي سفيان، وأبي جهل، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان وقال: أتنكر أن يكون لبني عبد مناف نبي، فسمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى أبي جهل، فوقع به وخوَّفه، وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلَّا حمية، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}. قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآية، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. التفسير وأوجه القراءة 30 - و {الهمزة} في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} لإنكار نفي الرؤية (¬2)، وإنكار النفي نفي له، ونفي النفي إثبات. و {الواو} للعطف على مقدر، والرؤية قلبية، لا بصريةٌ حتى لا يناقض قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والمعنى: ألم يتفكروا، أو ألم يستفسروا من العلماء، أو ألم يطالعوا الكتب، أو ألم يسمعوا الوحي ولم يعلموا: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا} ثنّى الضمير الراجع إلى الجمع باعتبار أن المرجع إليه جماعتان: جماعة السموات، وجماعة الأرض {رَتْقًا}؛ أي ذواتي رتق، فهو على حذف مضاف. ولم يقل: رتقين؛ لأنه مصدر؛ أي: ملتزقتين ومنضمَّتين، لا فضاء ولا هواء بينهما, ولا فرج، فإن الرتق هو ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

الضم والإلتحام خلقةً كان أو صنعة؛ أي كانت شيئًا واحدًا، وحقيقة متحدةً {فَفَتَقْنَاهُمَا} من الفتق، وهو الفصل بين المتصلين، وهو ضد الرتق؛ أي: ففصلنا إحداهما عن الأخرى بالهواء والريح، أي رفعنا السماء (¬1)، وأبقينا الأرض مكانها، أو (¬2) كانت السموات واحدةً ففتقت بالتحريكات المختلفة، حتى صارت أفلاكًا، وكانت الأرضون واحدةً، فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم. وقيل: كانتا رتقًا لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات، فيكون المراد بالسموات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق، أو السموات بأسرها على أن لها مدخلًا ما في الأمطار، إذ التأثير إنما يحصل من جهة العلو، والكفرة، وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم به نظرًا، أو استفسارًا من العلماء، أو مطالعةً للكتب. واعلم: أن المراد برؤية الآيات الانتقال من رؤيتها إلى رؤية صانعها، رؤيةً قلبيةً، هي حقيقة الإيمان. والمعنى؛ أي: ألم يعلم الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا مرتوقتين؛ أي: ملتحمتين متصلتين ففصلناهما وأزلنا اتحادهما. وعبارة ابن الجوزي هنا: واعلم أن للمفسرين في المراد بالفتق ثلاثة أقوال (¬3): أحدها: أن السموات كانت رتقًا لا تمطر، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات. رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد، في رواية, والضحاك في آخرين. والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي. (¬3) زاد المسير.

والثالث: أنه فتق من الأرض ست أرضين، فصارت سبعًا، ومن السماء ست سموات، فصارت سبعًا، رواه السدي عن أشياخه وابن أبي نجيح عن مجاهد انتهت. واعلم: أنه سبحان وتعالى ذكر أدلة ستة تثبت وجود الخالق الواحد القادر لو تدبّرها المنصفون، وعقلها الجاحدون لم يجدوا مجالًا للإنكار، ولا سبيلًا إلى الجحد: الأول: ما ذكره بقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} إلخ. وقرأ ابن كثير، وحميدٍ، وابن محيصن (¬1): {ألم ير} بغير {واو} العطف بين الهمزة ولم. والجمهور {أَوَلَمْ يَرَ} {بالواو}، وقرأ الجمهور {رَتْقًا} بسكون التاء، وهو مصدر يوصف به كزور وعدل، فوقع خبرًا للمثنى. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وأبو حيوة، وعيسى {رَتْقًا} بفتح التاء، وهو اسم بمعنى المرتوق كالقبض والنقضى، فكان قياسه أن يثنى ليطابق الخبر الاسم. ذكره في "البحر". والثاني: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}؛ أي: وخلقنا من الماء كل شيء متصفٍ بالحياة؛ أي: أحيب، بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء، ويدخل في الآية النبات والشجر لنمائهما بالماء (¬2)، والحياة قد تطلق على القوة النامية الموجودة في النبات، والحيوان، كما في "المفردات". ويدل على حياتهما قوله تعالى: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كما في "الكبير". وقيل: المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وعرّف الماء باللام قصدًا إلى الجنس، أي: جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس؛ أي: جنس الماء، وهو النطفة كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}؛ أي: كل فرد من أفراد الدواب من نطفه معينة، هي نطفة أبيه المختصة به، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه، وهو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[31]

نوع النطفة التي تختص بذلك النوع من الدواب. وفرَّق بعضهم بين الحيّ والحيوان بأن كل حيوان حيٌّ، وليس كل حي حيوانًا، كالملك، فالظاهر ما جاء في بعض الروايات من أن الله تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، وآدم من تراب خلقه منه، والجن من نار خلقها منه. وقرأ الجمهور (¬1): {حَيٍّ} بالخفض، صفة لشيء. وقرأ حميد {حَيًّا} بالنصب، مفعولًا ثانيًا لـ {جعلنا}، والجار والمجرور لغو؛ أي: ليس مفعولًا ثانيًا لـ {جعلنا}. والهمزة في قوله: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} للاستفهام الإنكاري التعجبي للإنكار عليهم حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية، داخلةٌ على محذوف و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتدبرون هذه الأدلة فلا يؤمنون بتوحيدي. 31 - والثالث: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالاً ثوابت. جمع راسية من رسا إذا ثبت ورسخ، كراهة {أَنْ تَمِيدَ} الأرض، وتميل، وتتحرك، وتضطرب، وتدور {بِهِمْ}؛ أي بما عليها من المخلوقات. والأرض (¬2) جسم غليظ، أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف على مركز العالم، مبين لكيفية الجهات الست، فالشرق حيث تطلع الشمس والقمر، والغرب حيث تغيب، والشمال حيث مدار الجدي، والجنوب حيث مدار سهيل، والفوق ما يلي المحيط، والأسفل ما يلي مركز الأرض. والميد اضطراب الشيء العظيم ودورانه كاضطراب الأرض، يقال: ماد يميد ميدًا إذا تحرك، ومنه سميت المائدة، وهي الطبق الذي عليه الطعام. قال ابن عباس (¬3) - رضي الله تعالى عنهما -: إنّ الأرض بسطت على وجه الماء، فكانت تميد بأهلها، كما تميد السفينة على الماء، فأرساها الله بالجبال الثوابت، كما ترسى السفينة بالمرساة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

وسئل علي - رضي الله عنه -: أيُّ الخلق أشدُّ؟ قال: أشد الخلق الجبال الرواسي، والحديد أشد منها يحث به الجبل، والنار تغلب الحديد، والماء يطفىء النار، والسحاب يحمل الماء، والريح يحمل السحاب، والإنسان يغلب الريح بالثبات، والنوم يغلب الإنسان، والهم يغلب النوم، والموت يغلب كلها، انتهى. واعلم (¬1): أنه قد أثبت العلم حديثاً أن الأرض كانت نارًا ملتهبةً، ثم بردت قشرفها، وصارت صوانيةً صلبةً، وقدّروا زمن ذلك بنحو ثلاث مئة مليون سنةً. ومما يدل على صدق هذه النظرية ما نراه من حمم النيران التي تخرجها البراكين في جهات كثيرة من الأرض كما حدث في سنة (1909) لبركان فيزوف بإيطاليا، وقد طغى على مدينة مسينا، وابتلعها في باطنه، ولم يبق منها شيئًا، فهذه البراكين أشبه بأفواهٍ تتنفس بها الأرض لتخرج من باطنها نيرانًا، ومواد ذائبة، مما يرشد إلى أنها كلها في أحقاب طويلة كانت كذلك. ولولا هذه القشرة الصلبة لتفجرت ينابيع النيران من سائر جهاتها، كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران، وهذه القشوة الصوانية البعيدة الفور المغلقة للكرة النارية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، وهي التي تنبت منها الجبال التي نراها فوق أرضنا، وقد جعلت لحفظ الأرض من أن تميد، وما هي إلّا كأسنانٍ لها، طالت وامتدت فوق طبقات الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقي ما تحتها مفتوحًا، وإذ ذاك ربما تثور البراكين في جهات كثيرةٍ من الأرض، وتضطرب اضطرابًا شديدًا، وتزلزل زلزالًا كثيرًا. وخلاصة ذلك: أنه لو لم تكن هذه الجبال التي هي قطعةٌ من قشرة الأرض مرتفعةٌ لما وجد ما يحفظ النيران المشتعله في باطن الأرض من الظهور على سطحها، بالبراكين والزلازل، وإذ ذاك ربما تضطرب الأرض اضطرابًا شديدًا، وتخرج نيرانها الملتهبة من باطنها، وتطغى على سطحها، وتهلك الحرث والنسل. وهذه هي المعجزة الثالثة في الآية التي ترشد إلى أن القرآن وحي يوحى، ¬

_ (¬1) المراغي.

فما محمد، ولا قومه، ولا الأمم المعاصرون لهم يعلمون شيئًا من هذه الآيات الكونية التي أيد صحتها تقدم العلوم، ففهم ظاهر الأرض وباطنها، وفي هذا مصداق لما أثر عن علي - رضي الله عنه -: "القرآن جديد لا تبلى جدته". والرابع: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا}؛ أي في الأرض، أو في الرواسي، وعليه اقتصر في الجلالين؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق {فِجَاجًا}، أي: طرقًا {سُبُلًا}؛ أي مسلوكةً؛ لأن السبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، والفجُّ الشقُّ بين الجبلين. قال أبو عبيدة: الفجاج المسالك. وقال الزجاج: الفجاج جمع فجّ، وهو كل مخترق بين جبلين، و {سُبُلًا} تفسير للفجاج؛ لأنَّ الفج قد لا يكون طريقًا نافذًا مسلوكًا {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}؛ أي: لكي يهتدوا إلى مصالحهم ومهماتهم التي جعلت لهم في البلاد البعيدة، أو إرادة أن يهتدوا إلى ذلك. وعبارة النسفي هنا: {فِجَاجًا} أي (¬1): طرقا واسعة: جمع فج، وهو الطريق الواسع، ونصب على الحال من {سُبُلًا} متقدمة، فإن قلت: أي فرق بين قوله تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} وبين هذه الآية؟ قلت: الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة. والثاني لبيان أنه حين خلقها، خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثَمَّ، انتهت. وعبارة البيضاوي: قوله: {فِجَاجًا سُبُلًا}؛ أي (¬2): مسالك واسعة، وإنما قدّم {فِجَاجًا} وهو وصف له ليصير حالًا، فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك، أو ليبدل منها سبلًا، فيدل ضمناً على أنه خلقها، ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد انتهت. والمعنى: أي وجعلنا في الأرض طرقًا بين جبالها يسلكها الناس من قطر إلى ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوي.

[32]

قطر، ومن إقليم إلى آخر، ليهتدوا بذلك إلى مصالحهم، ومهام أمورهم المعيشية. 32 - والخامس: ما ذكره بقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} سميت سقفًا لأنها للأرض كالسقف {مَحْفُوظًا} من أن يقع ويسقط على الأرض كقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ}، وقال الفراء (¬1): {مَحْفُوظًا} من الشياطين بالشهب كقوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)}، وقيل: محفوظاً لا يحتاج إلى عماد. وقيل: المراد بالمحفوظ هنا المرفوع. وقيل: مَحْفُوظاً من الشرك والمعاصي. وقيل: مَحْفُوظاً عن الهدم والنقض {وَهُمْ}؛ أي: الكفار {عَنْ آيَاتِهَا}؛ أي: عن الأدلة الواضحة التي خلقها الله تعالى فيها، وجعلها علاماتٍ نيّرةً على وجوده ووحدته وكمال صنعه، وعظيم قدرته، وباهر حكمته مثل الشمس والقمر والنجوم {مُعْرِضُونَ} غير متفكرين، ولا متدبرين فيها فيؤمنون؛ أي (¬2): معرضون عن أحوالها، وكيفية حركاتها في أفلاكها، ومطالعها ومغاربها، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، لا يتفكرون ولا يعتبرون بها. وقرأ الجمهور (¬3): {عَنْ آيَاتِهَا} بالجمع، وقرأ مجاهد وحميد {عَنْ أيَتِهَا} بالإفراد. والمعنى (¬4): أي أنه سبحانه وتعالى نظم السماء، وجعلها كالسقف المحفوظ من الاختلال وعدم النظام، فقد حفظت الشموس والكواكب في مداراتها، بحيث لا يختلط بعضها ببعض، ولا يتخبط بعضها في بعض، بل جعلت في أماكنها الخاصة بها بقوة الجاذبية، فالشمس والقمر والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها، وإلَّا اختل نظام هذا العالم، وبهذا الحفظ ونظام الدوران كان الليل والنهار، الحادثين من جري الأرض حول الشمس. ونحو الآية قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[33]

{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}؛ أي: والمشركون معرضون عن التفكر في تلك الآيات الدالة على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا. 33 - السادس: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد لكم {اللَّيْلَ} الذي هو (¬1) ظل الأرض، لتسكنوا فيه {وَالنَّهَارَ} الذي هو ضوء الشمس، لتتصرفو في معايشكم {و} خلق {الشمس} الذي هو كوكب مضيء نهاري، وجعلها آية النهار {وَالْقَمَرَ} الذي هو كوكب مضيء ليلي، وجعله آية الليل؛ أي: خلقهما، لتعلموا عدد السنين والحساب، كما مرّ بيانه في سورة الإسراء؛ أي: فالله سبحانه وتعالى، هو الذي أوجد هذه الأشياء، وأخرجها من العدم إلى الوجود دون غيره، فله القدرة الكاملة، والحكمة الباهرة {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر والنجوم. والتَّنوين (¬2) فيه عوض عن المضاف إليه؛ أي: كلهم، والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما: جنس الطوالع. وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم، وهو السباحة، وحسَّن ذلك. كونه جاء فاصلة رأس آية. وهو مبتدأ، وقوله: {فِي فَلَك} متعلق بـ {يَسْبَحُونَ} الواقع خبرًا عن المبتدأ؛ أي: كل من الشمس والقمر والنجوم يسبحون في ذلك على حدة؛ أي (¬3): يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والفلك مدار النجوم الذي يضمها، وهو في كلام العرب، كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك. وقيل: الفلك طاحونة، كهيئة فلك المغزل، يريد: أن الذي تجري فيه النجوم، مستدير كاستدارة الرحى. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه ذلك الكوكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، قال الراغب: الفلك مجرى الكواكب، وتسميته بذلك، لكونه كالفلك. والمعنى (¬4): أن الكواكب يجرون في سطح الفلك، كالسبح في الماء، فإن السبح المرور السريع في الماء، أو في الهواء، واستعير لمرور النجوم في الفلك، كما في "المفردات" ويفهم منه: أن الكواكب مرتكزة في الأفلاك، ارتكاز فض ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

[34]

الخاتم في الخاتم، قال في "شرح التقويم": كل واحد من الكوكب مركوز في فلك مغرق فيه، كالكرة المنغمسة في الماء، لا كالسمك فيه. والأفلاك متحركة بالإرادة من المشرق إلى المغرب، والكواكب بالعرض. وقال بعضهم، أخذًا بظاهر الآية: إن الفلك موج مكفوف، من السيلان دون السماء، تجري فيه الشمس والقمر، كما تسبح السمكة في الماء. والحق، أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات؛ إلَّا بإخبار الصادق المصدوق، ولم يرد منه نص في بيان ذلك، والأسلم الإمساك عن البحث فيها، إلّا بما ورد النص فيه، فسبحان الخالق المدبّر لخلقه، بالحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، غير المتناهية. والمعنى (¬1): أي والله خلق لكم الليل والنهار، نعمة منه عليكم، وحجة على عظيم سلطانه، فهما يختلفان عليكم، لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الأرض والشمس والقمر، تجري في أفلاكها كما يجري السمك في الماء. وهذا هو الرأي الحديث، وأن هذه كلها تجري في عالم الأثير، المالىء لهذا الفضاء، فالشمس تجري، والأرض تجري، والقمر يجري، وبينها هذه المخلوقات الحية، فما مثل هذه العوالم، إلا كآلة الطباعة، والمخلوقات كلماتها وسطورها، أو كدار صناعة تخرج كل يوم منصوعات جديدة، بعد فناء القديمة وزوالها. 34 - {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والبقاء والدوام في الدنيا، لكونه مخالفًا للحكمة التكوينية والتشريعية، كما في "أبي السعود"؛ أي (¬2): وما جعلنا لفرد من أفراد الإنسان من قبلك، يا محمد، دوام البقاء في الدنيا؛ أي: ليس من سنتنا أن نخلد آدميًا في الدنيا، ان كنا قادرين على تخليده، فلا أحد إلَّا وهو عرضة للموت. قال في "بحر العلوم": المراد بالخلود: المكث الطويل، سواء كان معه دوام أم لا, اهـ. فإذا كان الأمر كذلك {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} في الدنيا بقدرتنا، لا بل أنت وهم ميتون، كما هو من سنتنا، دليله قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[35]

وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، فالمراد بإنكار الخلود ونفيه إنكار الشماتة التي كان الخلود مداراً لها، وجودًا وعدمًا، قال الشاعر: فَقُلْ لِلشَّامِتِيْنَ بِنَا أَفِيقُوْا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُوْنَ كَمَا لَقِيْنَا والهمزة في قوله: {أَفَإِنْ مِتّ} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والفاء في {فَهُمُ الْخَالِدُونَ}: رابطة الجواب بالشرط، والتقدير: أيبقى هؤلاء المشركون حتى يشمتوا بموتك، فإن متّ يا محمد بأجلك المحتوم .. فهم الخالدون في الدنيا بعدك؟ وقرىء {مِتَّ} بكسر الميم وضمها لغتان. والمعنى: أي (¬1) وما كتب لأحد من قبلك البقاء في الدنيا، حتى نبقيك فيها، بل قدّر لك أن تموت، كما مات رسلنا من قبلك، أفهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون بعدك، لا ليس الأمر كذلك، بل هم ميتون، عشت أو مت. أخرج البيهقي وغيره، عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد مات فقبَّله، وقال: وانبيَّاهُ، واخليلاه، واصفيَّاه، ثم تلا {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ...} الآية. 35 - ثم أكّد ما سلف، وبيّن أن أحدًا لا يبقى في هذه الدنيا، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: كل نفس منفوسة من خلقه، ذائقة مرارة الموت ومتجرعة كأسه، وشدة مفارقة الروح للبدن، وقد جاء في الحديث: "إن للموت لسكرات"، فلا يفرحنّ أحد لموت أحد، ولا يظهرن التشفي منه، كما لا ينبغي أن تبدوا عليه علامات الجزع والحسرة لموت أحد. وهذا برهان على ما أنكر من خلودهم (¬2)، والمراد: النفس الناطقة، التي هي الروح الإنساني، وموتها عبارة عن مفارقتها جسدها؛ أي: ذائقة مرارة المفارقة، والذوق هذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأن الموت ليس من المطعوم حتى يذاق، بل الذوق إدارك خاص، فيجوز جعله مجازًا عن أصل الإدراك، والموت: صفة وجودية خلقت ضدًّا للحياة، أو هو عبارة عن زوال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

القوة الحيوانية، وإبانة النووي عن الجسد. وفي "التعريفات": النفس: هي الجوهر البخاري اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية. وسماه الحكيم: الروح الحيواني، فهي جوهر مشرق للبدن، فعند الميت ينقطع ضوؤه عز ظاهر البدن وباطنه، والنوم والميت أو جنس واحد؛ لأن الميت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص. والحاصل: أنه إن لم ينقطع ضوء جوهر النفس، عن ظاهر البدن وباطنه .. فهو اليقظة، وان انقطع عن ظاهره دون باطنه .. فهو النوم، أو بالكلية .. فهو الموت. وهذا (¬1) العموم مخصوص بقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فإن الله سبحانه وتعالى حيّ دائم لا يموت، لا يجوز عليه الموت، كما أشرنا إلى هذا التخصيص أولًا بقولنا: منفوسة من خلقه. والذوق هنا: عبارة عن مقدمات الموت، وآلامه العظيمة قبل حلوله. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}؛ أي (¬2): ونختبركم أيها الناس، بالمضارّ الدنيوية، أو الفقر والآلام وسائر الشدائد، وبنعم الدنيا، أو الصحة واللذة والسرور والتمكين، من حصول ما تريدون لنرى أتصبرون في المحن، وتشكرون في المنح، فيزداد ثوابكم عند ربكم، إذا قمت بأداء ذلك، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فالمنحة أعظم البلاءين، ومن ثم قال عمر - رضي الله عنه -: بُلينا بالضرّاء فصبرنا، وبلينا بالسرّاء فلم نصبر. وقال علي - كرّم الله وجهه -: مَن وسع عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد مكر به .. فهو مخدوع عن عقله. وقوله: {فِتْنَةً} مصدر مؤكد لـ {نَبْلُوكُمْ} أو غير لفظه؛ في: نبلوكم بلاءً واختبارًا. وخلاصة ذلك: أنَّا نعاملكم معاملة من يختبركم، ونفتنكم كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، لنرى أتصبرون في الشدائد، وتشكرون بين الرَّخاء {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرنا، لا استقلالًا، ولا اشتراكًا؛ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[36]

أي: إلى حكمنا ترجعون بعد الميت، فنجازيكم وفق ما يظهر من أعمالهم، ولا يخفى ما في هذا من الوعد والوعيد، وفيه إيماء (¬1) إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب، واعلم أن المجازاة لا تسعها دار التكليف، فلا بد من دار أخرى، لا يصار إليها إلّا بالموت والنشور، فلا بد لكل نفس من أن تموت، ثم تبعث. قال بعضهم: فائدة حالة المفارقة رفع الخبائث التي حصلت للروح بصحبة الأجسام، وفائدة حالة الإعادة حصول التنعمات الأخروية، التي أعدت لعباد الله الصالحين، ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقرأ الجمهور (¬2): {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب مبنيًا للمفعول. وقرأت فرقة: بضم الياء للغيبة. مبنيًا للمفعول، على سبيل الالتفات. وقرأت فرقة، منهم ابن عامر، بالتاء مفتوحة مبنيًا للفاعل. 36 - {وَإِذَا رَآكَ} يا محمد هؤلاء {الَّذِينَ كَفَرُوا} وأشركوا بالله تعالى، يعني المستهزئين منهم، كأبي جهل وأضرابه أو صناديد قريش {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}؛ أي: ما يتخذونك إلّا مهزوءًا بك. والهزء مزح في خفية؛ أي: لا يفعلون بك إلّا اتخاذك مهزوءًا بك. والمراد: قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزؤاً، لا قصر اتخاذهم على كونه هزوًا كما هو المتبادر، حالة كونهم يقولون في حال الهزء {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} بسوء ويسبها. وإنما أطلقه (¬3) لدلالة الحال عليه، فإن ذكر العدوّ لا يكون إلّا بسوء؛ أي: يقبل بعضهم لبعض فيما بينهم: أهذا الرجل هو الذي يسبُّ ويعيِّب آلهتكم وأصنامكم؛ أي: يبطل كونها معبودة، ويقبح عبادتها. يقال فلان يذكر الناس؛ أي: يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله؛ أي: يصفه بالتعظيم ويثني عليه. وجملة قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} حال (¬4) من فاعل {يَتَّخِذُونَكَ}، والضمير الأول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي. (¬4) روح البيان.

مبتدأ، خبره {كَافِرُونَ}. والثاني: تأكيد لفظي له. و {بِذِكْرِ} متعلق بالخبر، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ أي: يعيبون أو يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم كافرون بأن يذكروا الرحمن المنعم عليهم بما يجب أو يذكر به، أو الوحدانية، فهم أحقاء بالعيب والإنكار، ومعنى الآية؛ أي (¬1): وإذا رآك المشركون لم يكن لهم عمل إلَّا أن يجعلوك موضع السخرية والهزوء، وقد كان من حقهم أن يفكروا ملياً فيما يشاهدون من أخلاقك وآدابك، وفيما ينزل عليك أو الوحي، الذي فيه عظة وذكرى لقوم يعقلون، لعل بصائرهم تستنير، وطباعهم ترقّ، وقلوبهم ترعوي عن غيها، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}. ويقولون استنكارًا وتعجبًا: أهذا الذي يسبّ آلهتكم، ويسفّه أحلامكم، وكيف يعجبون من ذلك، وهم كافرون بالله، الذي خلقهم وأنعم عليهم، وبيده نفعهم وضرهم، وإليه مرجعهم. وخلاصة ذلك: كيف يعجبون من ذكر آلهتهم بالسوء، وهم قد كفروا بربهم الذي برأهم وصوّرهم، فأحسن صورهم، وإليه مرجعهم، فيحاسبهم على النقير والقطمير. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أن كل من كان محجوبًا عن الله بالكفر لا ينظر إلى خواص الحق إلّا بعين الإنكار والاستهزاء؛ لأن خواص الحق من الأنبياء والعلماء يقبحون في أعينهم ما اتخذوا لهم آلهةً أو شهوات الدنيا، من جاهها ومالها وغير ذلك مما اتخذوه آلهة، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وكل محب يغار على محبوبه، ولذا يذكرونهم بعيب ونقصان، والحال أن العيب والنقصان فيهم، لا في أضدادهم، فعلى العاقل أن يصون لسانه عن ذكر العيوب، ويشتغل في جميع الأوقات بذكر علام الغيوب، وأفضل الذكر: "لا إله إلَّا الله"؛ لأنه إعراض عما سوى الله تعالى. وإقبال بالكلية على الله سبحانه. قيل: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[37]

من سائر العبادات والأذكار تصل إلى الله تعالى بواسطة الملك، أما هذه الكلمة فتصل إلى الله بلا واسطة الملك، أو قالها مرة خالصًا غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر. 37 - {خُلِقَ الْإِنْسَانُ}؛ أي: جنسه {مِنْ عَجَلٍ}؛ أي (¬1): جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل، قال الفرّاء: كأنه يقول: بنيته وخلقته أو العجلة، وعلى العجلة. والعجلة (¬2) طلب الشيء وتحرِّيه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل: العجلة من الشيطان، جعل الإنسان لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه مخلوق منه، كما يقال: خلق زيد أو الكرم، تنزيلًا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه أو الأركان، إيذانًا بغاية لزومه وعدم انفكاكه عنه، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. قال النضر بن الحارث: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم (¬3): {خَلَقَ} مبنيًا للفاعل. {الْإِنْسَانَ} بالنصب؛ أي: خلق الله الإنسان. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن المراد بالإنسان آدم، وأنه حين بلغت الروح صدره أراد أن يقوم؛ أي: استعجل بالقيام قبل أن يبلغ الروح أسفله، فسقط فقيل: خلق الإنسان من عجل. والمعنى؛ أي: إنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة، وجعلها من سَجِيَّته وجِبِلَّتِه، فليس بعجيب من المشركين أن يستعجلوا عذاب الله، ونزول نقمته بهم، وقد كان من الحق عليهم أن يتريّثوا قليلًا، فإن الله تعالى سينزل بهم من سخطه مثل ما أنزل بالمكذبين قبلهم، ويحل بهم من العذاب ما لا قبل لهم بدفعه، وهذا ما أشار إليه بقوله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي}؛ أي: نقماتي منكم بعذاب النار؛ أي: سأريكم عذابي {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} في طلبه؛ أي: فلا تستعجلوني في الإتيان به، بطريق إيذاء نبي، والاستهزاء به، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[38]

فإنه نازل بكم لا محالة، والمعنى؛ أي: إن نقمتي ستصيبكم لا محالة، فلا تستعجلوا عذابي، واصبروا حتى يأتي وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد، وقد نهى الإنسان عن العجلة مع أنها ركبت في طبيعته من قبل أنه أوتي المقدرة التي يستطيع بها تركها وكف النفس عنها، 38 - ثم حكى عنهم ما يستعجلون فقال: {وَيَقُولُونَ} بطريق الاستعجال والاستهزاء {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}؛ أي: وعد العذاب والساعة فليأتنا بسرعة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في وعدكم بأنه يأتينا، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة عن مجيء الوعد. أي: ويقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين، الذين يتلون الآيات المنبئة بقرب الساعة، ونزول العذاب بمن كفر بها استهزاءً: متى يجيئنا هذا العذاب الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم. وهذا استبطاء منهم للموعود به، يراد به إنكار وقوعه، وأنه لن يكون ألبتة، وفي ذمِّ العجل قيل: لاَ تَعْجَلَنَّ لأمْرٍ أَنْتَ طَالِبُهُ ... فَقَلَّمَا يُدْرِكُ الْمَطْلُوْبَ ذُوْ الْعَجَلِ فَذُوْ التَّأَنِّي مُصِيِبٌ فِي مَقَاصِدِهِ ... وَذُوْ التَّعَجُّلِ لاَ يَخْلُوْ عَنِ الزَّلَلِ 39 - ثُم بين شديد جهلهم بما يستعجلون وعظيم حماقتهم لهذا الطلب، فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} إلخ، جملة مقررة لما قبلها، وجواب لو محذوف. وإيثار (¬1) صيغة المضارع في الشرط، وإن كان المعنى ماضيًا لإفادة استمرار عدم العلم و {حِينَ} مفعول به لـ {يَعْلَمُ}؛ أي: لو عرف الذين كفروا الوقت الذي {لَا يَكُفُّونَ} ولا يدفعون فيه {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} قيل: السياط {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}؛ أي: لا يمنعون أو العذاب لما أقاموا على كفرهم (¬2)، ولما استعجلوا بالعذاب، ولما قالوا: متى هذا الوعد من كنتم صادقين؛ أي: لو علموه علم يقين لعلموا أو الساعة آتية، ولكن جهلهم به هو الذي هوَّنه عندهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[40]

والمعنى (¬1): لو علموا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب، بحيث لا يقدرون على دفعها، ولا يجدون ناصرًا يمنعها عنهم .. لما استعجلوا. وتخصيص الوجوه والظهور، يعني: القدام والخلف، لكونهما أشرف الجوانب، ولاستلزام الإحاطة بهما الإحاطة بالكل، بحيث لا يقدرون على دفعها أو جانب أو جوانبهم، ولأن مسّ العذاب لهما أعظم موقعًا. والخلاصة: أي (¬2) لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون، ماذا أعدّ لهم ربهم من البلاء، حين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون، فلا يستطيعون ردّها عن تلك الوجوه، ولا يدفعونها بأنفسهم عن الظهور، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم وينقذهم من ذلك العذاب، لما أقاموا على كفرهم بربهم، ولسارعوا إلى التوبة منه، ولما استعجلوا لأنفسهم هذا النكال والوبال. 40 - ولمّا بيّن شدة العذاب في ذلك اليوم، بيّن أن ثقته لا يكون معلومًا فقال: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} وهذا الكلام إضراب (¬3) انتقالي، حكى الله عنهم أنهم يستعجلون العذاب الموعود بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، وبين أن سبب ذلك الاستعجال هو عدم علمهم بهول وقت وقوعه، وما فيه من العذاب الشديد، ثم أضرب وانتقل من بيان السبب إلى بيان كيفية وقوع الموعود، فقال: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً}؛ أي: بل تأتيهم العدة، أو النار، أو الساعة بغتة؛ أي؛ فجأة. والبغتة مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. وهو مصدر؛ لأن البغتة نوع من الإتيان، أو حال؛ أي: باغتة {فَتَبْهَتُهُمْ}؛ أي: تحيّرهم. والبهت الحيرة والدهشة. وقال الجوهري: بهته بهتًا أخذه بغتةً؛ أي: فتفجؤهم. قال الإمام: وإنما لم يُعلم الله وقت الموت والساعة؛ لأن المرء مع الكتمان أشدُّ حذرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

[41]

وأقرب إلى التدارك {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا}؛ أي: ردّ النار وصرفها (¬1) عن وجوههم، ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار. وقيل: راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة. وقيل: راجع إلى الحين بتأويله بالساعة {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار، أو ليسترحوا طرفة عين. أو الإنظار بمعنى الإمهال، أو من النظر؛ أي: لا ينظر إليهم، ولا إلى تضرُّعهم. وفيه إشارة إلى أنه لو علم أهل الإنكار (¬2) قبل أو يكافئهم الله تعالى على إنكارهم، نار القطيعة والحسرة والبعد والطرد، لما أقاموا على إنكارهم، ولتابوا ورجعوا إلى طلب الحق، وعلم منه أن أعظم المقاصد هو طلب الحق والوصول إليه. والمعنى: أي (¬3) بل تأتيهم الساعة وهم لأمرها غير مستعدين، فتدعهم حائرين، لا يستطيعون حيلة في ردّها، ولا منصرفًا عما يأتيهم منها، ولا هم يمهلون لتوبة، ولا لتقديم معذرة، فقد فات ما فات، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون. وقرأ الأعمش (¬4): {بل يأتيهم} بالياء {بَغْتَةً} بفتح الغين {فيبهتهم} بالياء، والضمير عائد إلى الوعد، أو الحين، قاله الزمخشري. وقال أبو الفضل الرازي: لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكَّر، ثم ردَّ ردّها إلى ظاهر اللفظ. 41 - ولما (¬5) كان استعجالهم ذلك بطريق الاستهزاء، وكان عليه الصلاة والسلام يتأذى من ذلك نزل قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} فالجملة مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعزيته، كأنه قال: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل، على كثرة عددهم وخطر شأنهم؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد استهزيء برسل أولي شأن خطير، وذوي عدد كثير، كائنين في زمان قبل زمانك، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط. (¬5) زاده.

[42]

كما استهزأ بك قومك فصبروا. ففيه حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه {فَحَاقَ}؛ أي: أحاط ونزل {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}؛ أي: بالكفار الذين استهزؤوا من الرسل {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: العذاب الذي كانوا به يستعجلون ووضع {يَسْتَهْزِئُونَ} موضع {يستعجلون}؛ لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء، وهو وَعْدٌ له، بأن ما يفعلون به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا، يعني جزاؤه. والمعنى (¬1): أي والله لقد استهزىء برسل من رسلنا، الذين أرسلناهم قبلك إلى أممهم، فنزل بالذين استهزؤوا بهم، العذاب والبلاء، الذي كانت الرسل تخوِّفهم نزوله، ولن يعدوا أن يكون أمر هؤلاء المشركين كأمر أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم، مثل ما نزل بمن قبلهم، فانتظر لهم عاقبةً وخيمةٌ كعاقبة أولئك، وسيكون لك النصر عليهم، ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}. 42 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المستهزئين على سبيل التقريع والتبكيت {مَنْ} للاستفهام التقريعي، المضمّن للإنكار {يَكْلَؤُكُمْ}؛ أي: يحفظكم ويحرسكم. الكلاء الكلاءة، بكسر أولهما حفظ الشيء وتبقيته. والكالىء الذي يحفظ. وقرأ أبي جعفر والزهري وشيبة (¬2): {يَكْلُوكم} بضمة خفيفة من غير همز. وحكى الكسائي والفرّاء {يَكْلَوكم} بفتح اللام وإسكان الواو. {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}؛ أي: فيهما {مِنَ الرَّحْمَنِ}؛ أي: من بأسه الذي يستحقون نزوله ليلًا أو نهارًا من أراد بكم؛ أي: لا يمنعكم من عذابه إلَّا هو. وفي (¬3) ذكر {الرَّحْمَنِ} تنبيه على أنه لا كالىء غير رحمته العامة، وأنّ اندفاعه بمهلته وتقديم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعًا، وأشدّ وقعًا؛ أي: قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ: من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار، من بأس الرحمن وعذابه، الذي تستحقون حلوله بكم، ونزوله عليكم. والخلاصة: من يحفظكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرّفتم في أمور معايشكم، من عذاب الرحمن إن نزل بكم، ومن بأسه إذا حل بساحتكم. {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ}؛ أي: عن القرآن ومواعظه {مُعْرِضُونَ}؛ أي: لا يتأملون في شيء منها؛ أي: لا يخطرون ذكره تعالى ببالهم، فضلًا عن أن يخافوا الله، ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعة، حفظًا وكلاءةً، حتى يسألوا عن الكالىء؛ أي: دعهم عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عز ذكر الله تعالى. والمعنى: أي إن هؤلاء القوم قد ألهتهم النعم عز المنعم، فلا يذكرون الله تعالى حتى يخافوا بأسه، فهم مع وجود الدلائل العقلية، والنقلية، الدالة على أنه تعالى هو الكالىء الحافظ، معرضون عنها، لا يتأملون فيها. وفي ذكر (¬1) "الرب" إيماء إلى أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم في ملكوته وتدبيره وجميل رعايته وتربيته، وهم على ذلك معرضون، فهم في الغاية القصوى من الضلال، وفي النهاية الكبرى من الجهل والغباء. والحاصل: أن الله سبحانه، لمّا بيّن (¬2) أنهم سيصيبهم لا محالة مثل ما أصاب الأولين، بيّن أن عدم إصابة ذلك لهم عاجلًا إنما هو بحفظه، حيث أمهلهم مدة بمقتضى رحمته العامة، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يسألهم عن الكالىء ليقروا وينتبهوا، لكونهم في قبضة قدرته، ليكفوا عن الاستهزاء، ثم أضرب عن ذلك الأمر بقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}؛ أي: دعهم يا محمد عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عن ذكر الله، فلا يخطرونه ببالهم حتى يخوّفوا بالله، ثم إذا رزقوا الكلأة من عذابه عرفوا أن الحافظ هو الله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاده على البيضاوي.

[43]

وصلحوا للسؤال عنه، 43 - ثم أضرب إلى ما هو أهمّ، وهو الإنكار عليهم فيما زعموا أن لهم آلهة تنصرهم وتمنعهم من العذاب، فقال: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} و {أَمْ} فيه منقطعة، بمعنى همزة الإنكار، و {بَلْ} التي للإضراب، والانتقال من الكلام السابق، المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم، إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه، والدفع عنها؛ أي: بل ألهؤلاء المستعجلي عذابنا آلهة تمنعهم منا من نحو أنزلناه بهم، وتدفع عنهم بأسنا، إن حلّ بساحتهم. وقيل (¬1): فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أم لهم آلهة من دوننا، تمنعهم أو عذابنا، ومجمل ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم بأسنا من أردنا؛ أي: ليس لهم. ثم وصف تلك الآلهة التي اتخذوها بالضعف فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} استئناف مقرر لما قبله أو الإنكار، وموضح لبطلان اعتقادهم؛ أي: أن آلهتهم لا يقدرون أن ينصروا أنفسهم، وحمايتها أو الآفات، فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ممن عبدهم {وَلَا هُمْ}؛ أي: ولا آلهتهم {مِنَّا}؛ أي: من عذابنا {يُصْحَبُونَ}؛ أي: يمنعون، فكيف يمنعون غيرهم من العذاب. أو المعنى ولا يصحبون بالنصر من جهتنا (¬2). قال الراغب: لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم، أو سكينة وروح وترفق وغير ذلك، مما يصحب أولياءنا، فكيف يتوهم أو ينصروا غيرهم. والخلاصة: أنهم في غاية العجز، فكيف يتوهم فيهم ما يتوهمون أو القدرة والسلطان، ويدينون لهم بالخضوع والعبادة، 44 - ثم بيّن سبحانه تفضله عليهم، مع سوء ما أتوا به من الأعمال، فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا} وأنعمنا {هَؤُلَاءِ} المشركين في الدنيا {وَآبَاءَهُمْ} الكفار أو قبلهم وأمهلناهم {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}؛ أي: طال عليهم الرجل، وامتدّ بهم الزمان في التمتع، فاغترّوا وحسبوا أنهم ما زالوا على ذلك لا يغلبون. والعمر (¬3): بضم الميم وسكونها، اسم لمدة عمارة البدن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

بالحياة. وهذه الجملة، إضراب (¬1) عما توهموا، من أن ما هم فيه من الحفظ من جهة أن لهم آلهة تمنعهم أو تطرق البأساء إليهم، كأنه قيل: دع ما زعموا أو كونهم محفوظين بكلاءة آلهتم، بل ما هم فيه أو الحفظ إنما هو منا، حفظناهم أو البأساء، ومتّعناهم بأنواع السرّاء، لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب. والمعنى: أن الذي غرّهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم متِّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر، حتى اعتقدوا أنهم على شيء، وقصارى ذلك: أنهم طالت أعمارهم وهم في الغفلة، فنسوا عهدنا، وجهلوا مواقع نعمتنا فاغتروا بذلك، ولم يعرفوا مواضع الشكر. ثم بيّن لهم سوء مغبّتهم فقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا ينظر ولا يتدبر هؤلاء المشركون بالله، المستعجلون بالعذاب فلا يرون {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ}؛ أي: نأخذ أرض الكفرة، التي هي دار الحرب حالة كوننا {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ونواحيها؛ أي: ننقصها من أرض الكفرة واحدة بعد واحدة، وبلدة بعد بلدة، بتسليط المؤمنين عليها من أطرافها، ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، ونميت رؤساء المشركين المتمتعين بالدنيا، وننقص من الشرك بإهلاك أهله، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا، والهمزة في قوله: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد نقصان أرضهم من أطرافها هم طامعون في النجاة من بأسنا، فهم الغالبون على محمد وأصحابه؛ أي: لا يطمعوا في ذلك فهم المغلوبون، والله ورسوله والمؤمنون هم الغالبون. وهذا تمثيل وتصوير لما يخرّبه الله أو ديارهم على أيدي المسلمين، ويضيفه إلى دار الإسلام، وذلك أن الله لا يأتي، بل العساكر تغزو أرض الكفرة، وتأتي غالبة عليها ناقصة أو نواحيها. والمعنى؛ أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون ¬

_ (¬1) زاده.

[45]

بالله، المستعجلون للعذاب، آثار قدرتنا في إتيان الأرض ناقصة أو جوانبها، ففتحناها للمؤمنين، وزدناها في ملكهم، واقتطعناها أو أيدى المشركين، فقد تم لهم فتح البلاد التي حوالي مكة، وقتل رؤسائها، ازالة دولة الشرك وأهله منها، ألا يتفكرون في هذا، فيكون لهم فيه مزدجر لو كانوا يعقلون. والخلاصة: ألا يعتبرون ويحذروا أن ينزل بهم بأسنا، كما أنزلناه بسواهم، ثم وبّخهم، وأنّبهم على غفلتهم عن الحق بعد وضوحه فقال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}؛ أي: أفهم الغالبون أم نحن؛ أي: فبعد ظهور ما ذكر، ورؤيتهم إياه يتوهمون غلبتهم. 45 - وبعد أن بيّن هول ما يستعجلون، وحالهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم، وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم أو طوارق الليل وحوادث النهار، أمر رسوله أن يقول لهم: إن ما أخبركم به جاء به الوحي الصادق، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المستعجلين عذابنا {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ} وأخوفكم وأحذركم ما تستعجلونه من الساعة وشديد أهوالها {بِالْوَحْيِ} الصادق والقرآن الناطق بحصوله، وفظاعة أهواله، وقد أمرني ربي بذلك، وها أنا ذا قد قمت بما أمرني به، فإن لم تجيبوا داعي الله، وتقبلوا ما دعوتكم إليه فعليكم النكال والوبال، لا عليّ. ثم أردف هذا ببيان أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلاً، فما حالهم إلّا حال الصمّ الذين لا يسمعون دعوة الداعي، فقال: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ} جمع الأصمّ. والصمم فقدان حاسة السمع {الدُّعَاءَ} إلى الإيمان {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}؛ أي: يخوفون من عذاب الله سبحانه. والمعنى: أن من أصمّ الله سمعه، وختم على قلبه، وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء. شبّهوا بالصُمِّ (¬1)، وهم صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما ينذرون به من آيات الله، لا تعيه آذانهم، وكان سماعهم كلا سماع، فكانت حالهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

لانتفاء جدوى السماع، كحال الذين عدموا صحيح السماع، وينعق بهم، فلا يسمعون. وتقييد نفي السماع به، مع أن الصُمَّ لا يسمعون الكلام إنذارًا كان، أو تبشيرًا، لبيان كمال شدة الصمم، كما أنَّ إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك، فإن الإنذار عادةً يكون بأصوات عالية، مكررة مقارنة لهيئةٍ دالةٍ عليه، فإذا لم يسمعوها، يكون صممهم في غايةٍ من تتمة الكلام ورائها، وهذا من تتمة الكلام الملقن، ويجوز أن يكون أو جهته تعالى، كأنه قيل: قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم. والمعنى (¬1): أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا أو الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلَّا مثل الصم، الذين لا يسمعون شيئًا، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب، والتحرّز من المحرم ومعرفة الحق، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فلا جدوى في السمع، وكأن لم يكن. والخلاصة: أن الكافر بالله لا يوجِّه همَّه إلى العظة بما في كتابه، من المواعظ، حتى يقلع عما هو عليه مقيمٌ من الضلال، بل يعرض عن التفكر فيها فعل الأصم، الذي لا يسمع ما يقال له حتى يعمل به. وقرأ الجمهور (¬2): {يَسْمَعُ} بفتح الياء والميم، الصُمُّ رفع به، والدعاء نصب. وقرأ ابن عامر وأحمد بن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء أو فوق مضمومة، وكسر الميم، {الصُّمُّ الدُّعَاءَ} بنصبهما، والفاعل ضمير المخاطب، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكذا قرأه أبو حيوة ويحيى بن الحارث. وقرأ ابن يعمر والحسن كذلك إلّا أنه بالياء أو تحت؛ أي: ولا يسمع الرسول، وعنهما أيضًا. ولا يسمع مبنيًا للمفعول. الصم رفع به، ذكره ابن خالويه، وكذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عز أبي عمرو {يُسْمِع} بضم الياء وكسر الميم، {الصمَّ} نصبًا، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[46]

{الدعاءُ} رفعا بـ {يُسْمِعُ}، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعًا والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: ولا يسمع النداء الصم شيئًا. 46 - ثُمَّ بيَّن سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه، إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجيء خبره فقال: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن أصابتهم {نَفْحَةٌ}؛ أي: قطع ودفعة، أو فوحة وشمةٌ، أو شيء قليل {مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} من غاية الاضطراب وشدة الحيرة {يَا وَيْلَنَا} ويا هلاكنا احضر إلينا، فهذا أوانك {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أنفسنا، بكفرنا بالله تعالى وتكذيبنا رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك، ويعترفون عليها بالظلم حين تصامّوا وأعرضوا عن الحق. والمعنى: أي (¬1) ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب، أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به، وتكذيبهم برسوله .. ليقولون إنا كنا ظالمين لأنفسنا، بعبادتنا الآلهة والأنداد، وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا، وجحودنا لما يجب علينا من الشكر له، بالإخلاص في عبادته. والخلاصة: أنهم يوم القيامة، حين يمسَّهم العذاب، يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويقولون: هلاكًا لنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بمن خلقنا، وخضوعنا لمن لا يضرُّ ولا ينفع، ويندمون على ما فُرّط منهم، ولات ساعة مندم. 47 - ثم بيَّن الأحداث، التي ستقع حين يأتي ما أنذروا به، فقال: ونضع الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، ونحضرها لأجل جزاء يوم القيمة، فاللام للتعليل. وقيل: بمعنى في؛ أي: في يوم القيامة، أو توزن الأعمال باعتبار التجوهر والتجسم. وهذا قتل أئمة السلف. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: المراد أو الوزن العدل بينهم، فلا يظلم عباده مثقال ذرة فمن أحاطت حسناته بسيئاته، ثقلت موازينه؛ أي: ذهبت حسناته بسيئاته، ومن أحاطت سيئاته ¬

_ (¬1) المراغي.

بحسناته خفت موازينه؛ أي: ذهبت سيئاته بحسناته. وقرىء القسط بالصاد والطاء. والموازين (¬1): جمع ميزان، قال الراغب: والوزن معرفة قدر الشيء، وجمع الموازين باعتبار تعدد الأعمال، أو لأن لكل شخص ميزانًا. وأفرد القسط؛ لأنه مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل. قال الإمام (¬2): وصف الموازين بالقسط؛ لأنها قد لا تكون مستقيمة. وقال الراغب: وذكر الموازين في بعض المواضع بلفظ الواحد، اعتبارًا بالمحاسبة، وفي بعضها بلفظ الجمع اعتبارًا بالمحاسبين، انتهى. وفي "الفتوحات": وصف الموازين بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيمًا، وقد يكون غير مستقيم، فبيَّن الله تعالى أن تلك الموازبن تجري على حد العدل، ومعنى وضعها: إحضارها اهـ "خازن" {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس عاصيةً كانت أو مطيعةً {شَيْئًا} من الظلم، بل يوفى كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، على أن يكون مفعولا مطلقًا، فلا ينقص ثوابها الذي تستحقه، ولا يزاد عذابها الذي كان لها، على قدر ما دست به نفسها من سيء الأعمال، أو لا تنقص حقًا من حقوقها على أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ {تظلم}، لأنه بمعنى تنقص، وتنقص يتعدى إلى مفعولين، يقال: نقصه حقه. {وَإِنْ كَانَ}؛ أي: العمل المدلول عليه بوضع الموازين {مِثْقَالَ حَبَّةٍ}؛ أي: وزن حبة كائنة {مِنْ خَرْدَلٍ} والمثقال ما يوزن به من الثقل؛ أي: مقدار حبة كائنة من خردل؛ أي: وإن كان في غاية القلة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر، والخردل حبُّ شجرٍ مسخن ملطف، جاذب قالع للبلغم، ملين هاضم، نافع طلاؤه للنقرس والنسا والبرص، ودخانه يطرد الحيات، وماؤه يسكن وجع الأسنان تقطيرًا، ومسحوقه على الضرس الوجع غاية "قاموس" {أَتَيْنَا} بقصر الهمزة أو الإتيان، والباء في قوله {بِهَا} للتعدية؛ أي: أحضرنا ذلك العمل المعبَّر عنه بمثقال حبة الخردل للوزن، والتأنيث لإضافته إلى الحبّة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[48]

أي (¬1): وإن كان العمل الذي فعلته النفس صغيرًا، مقدار حبة الخردل جازينا عليه جزاءً وفاقًا، سيئًا كان أو حسنًا {وَكَفَى بِنَا} حالة كوننا {حَاسِبِينَ}؛ أي: محصين وعادّين لأعمال عبادنا. والحسب في الأصل، معناه: العدّ؛ لأنه من حسب المال إذا عدّه. وقيل: كفى بنا عالمين؛ لأنه من حسب شيئًا علمه وحفظه. وقيل: كفى بنا مجازين على ما قدّموه من خير أو شر، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا. والباء زائدة، و {نا} فاعل، و {حَاسِبِينَ} حال منه. والمعنى أي: وحسب من شهدوا ذلك الموقف بنا حاسبين لأعمالهم، محصين لها؛ لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف منهم في الدنيا، من صالح أو سيء منها. ولا يخفى ما في الآية من التحذير وشديد الوعيد للكافرين، على ما فرطوا في جنب الله، فإن المحاسب إذا كان عليمًا بكل شيء، ولا يعجز عن شيء .. كان جديرًا بالعاقل أن يكون في حذر وخوف منه. وقرأ الجمهور (¬2): {مِثْقَالَ} بالنصب، خبر {كَانَ}. وقرأ زيد بن علي وأبو جعفر وشيبة ونافع: {مثقالُ} بالرفع إلى الفاعلية، و {كَانَ} تامة. وقرأ الجمهور: {أَتَيْنَا} بالقصر، من الإتيان؛ أي: جئنا بها. وقرأ أبي {جِئْنا} كأنه تفسيرٌ لـ {أَتَيْنَا}. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سَيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني {آتينا} بمدة على وزن "فاعلنا" من المواتاة، وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه: جازينا بها، ولذلك تعدى بحرف الجر، ولو كان على (أَفْعلنا) من الإيتاء بالمد، على ما توهمه بعضهم لتعدَّى مطلقًا دون جار، قاله أبو الفضل الرازي. 48 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}؛ أي: وعزتي جلالي لقد أعطينا موسى وأخاه هارون الفرقان؛ أي: كتابًا (¬3) جامعا بين كونه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[49]

فرقانًا بين الحق والباطل، وكونه ضياءً ونورا يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، وكونه ذكرًا، وعظةً، يتعظ بها من يتعظ، ويتذكر بها ما يجب لله من اعتقاد وعمل، وينبغي سلوكه من أدب وفضيلة، فالمراد بجمع هذه الصفات واحدٌ، وهو التوراة، وتخصيص المتقين بالذكر؛ لأنهم المستضيؤون. والخلاصة (¬1): لقد آتيناهما كتابًا جامعًا لأوصافٍ كلها مدحٌ وفخار، 49 - ثم ذكر أوصاف المتقين، فقال: 1 - {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} مجرور المحل، على أنه صفة مادحة للمتقين؛ أي: الذين يخافون عذابه، وهو غائب عنهم، غير مرئي لهم ومشاهد، فيعملون له تعالى. ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه من العذاب، فقوله: {بِالْغَيْبِ} إما حال من المفعول؛ أي: حالة كونه غائبًا عنهم، أو من الفاعل؛ أي: يخشون عذاب ربهم، حال كونهم في الخلوات منفردين عن الناس، فخشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم، لا أنَّ ذلك مما يظهرونه في الملأ. 2 - {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ}؛ أي: من عذاب يوم القيامة، وسائر أحوالها، من الحساب والميزان {مُشْفِقُونَ}؛ أي: خائفون وجلون، فيعدلون بسبب ذلك الخوف عن معصية الله تعالى. والساعة (¬2): اسم لوقتٍ تقوم فيه القيامة، سمّي بها لأنها ساعة خفية، يحدث فيها أمر عظيم، وسُمّيت الساعة ساعة، لسعيها إلى جانب الوقوع ومسافته الأنفاس، وقال الراغب: الساعة جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة، وسُمّيت القيامة بذلك لسرعة حسابها، وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق، للإيذان بكونها معظم المخوفات، ونحو الآية قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}، وقوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[50]

50 - وبعد أن ذكر فرقان موسى، وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به، حثَّهم على التمسك بالكتاب الذي نزّله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَهَذَا} القرآن الكريم الذي أنزلناه على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أشار إليه بإشارة القريب إيذانًا بغاية وضوح أمره {ذِكْرٌ} يتذكر به من تذكر، وموعظة لمن اتعظ بها {مُبَارَكٌ}؛ أي: كثير الخير والنفع لمن اتبع أوامره، وانتهى بنواهيه {أَنْزَلْنَاهُ} على محمد - صلى الله عليه وسلم -، صفة ثانية لذكر، أو خبر آخر. وبعد أن أبان صفة هذا الكتاب، وبَّخهم على إنكارهم له، فقال: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، إنكار (¬1) لإنكارهم له، بعد ظهور كون إنزاله من الله كإيتاء التوراة، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد أن علمتم، أن شأنه كشأن التوراة، في الإيتاء والإيحاء، فأنتم منكرون لكونه منزلًا من عندنا، فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة، مما لا مساغ له أصلًا. أي (¬2): فبعد أن استبان لكم جليل خطره، وعظيم أمره تنكرون وتقولون: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}. وقد يكون المعنى: كيف تنكرون كونه منزلًا من عند الله تعالى، وأنتم من أهل اللسان، تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم، وفيه شرفكم وصيتكم. وخلاصة ذلك: أفبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، تنكرون أنه منزل من عند الله، فهذا ما لا يستسيغه عقل راجح، ولا فكر رصين، فمثل هذا في غاية الوضوح والجلاء. الإعراب {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}. {أَوَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف. {لم} حرف نفي وجزم. {يَرَ الَّذِينَ} فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يتفكر الذين كفروا، ولم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا. والجملة المحذوفة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {أَنَّ السَّمَاوَاتِ}: ناصب واسمه. {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {كَانَتَا}: فعل ناقص واسمه، {رَتْقًا} خبره، وجملة {كَانَتَا} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ير. {فَفَتَقْنَاهُمَا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {كَانَتَا}. {وَجَعَلْنَا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَنَّ}. {مِنَ الْمَاءِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {جعلنا} إن كان {جعل} بمعنى خلق أو حال من {كُلَّ شَيْءٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به لـ {جعل} ويحتمل كونه بمعنى: صيّر، فيكون {مِنَ الْمَاءِ}: في محل المفعول الثاني، و {كُلَّ شَيْءٍ} مفعول أول. {حَيٍّ} صفة لـ {شَيْءٍ}. {أَفَلَا}: المرة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف (لا) نافية: {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتدبرون هذه الأدلة، فلا يؤمنون بتوحيدي، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ}. {فِي الْأَرْضِ} إما مفعول ثان. {رَوَاسِيَ} هو المفعول الأول، وإما متعلق بـ {جعلنا}، أو بمحذوف حال، و {رَوَاسِيَ} مفعول به. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {تَمِيدَ} فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله ضمير يعود على {الْأَرْضِ}. {بِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمِيدَ}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل

مصدر، مجرور بإضافة المصدر، المقدّر المنصوب، على كونه مفعولًا لأجله، والتقدير: وجعلنا في الأرض رواسي، كراهية ميدها بهم. {وَجَعَلْنَا} فعل وفاعل، معطوف على {جَعَلْنَا} الأول. {فِيهَا}: هو المفعول الثاني، أو متعلق بـ {جعلنا}. {فِجَاجًا} حال من {سُبُلًا}؛ لأنه كان صفة لـ {سُبُلًا}، فقدّم عليه. {سُبُلًا} مفعول أول، أو مفعول به. {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {يَهْتَدُونَ} خبره، وجملة {لعل}: في محل الجرّ بلام التعليل، المقدرة، تقديره: لاهتدائهم إلى مصالحهم ومقاصدهم. {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}. {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا}: فعل وفاعل ومفعولان. {مَحْفُوظًا} صفة {سَقْفًا}، والجملة معطوفة على جملة {جعلنا} الأول. {وَهُمْ} مبتدأ. {عَنْ آيَاتِهَا} متعلق بـ {مُعْرِضُونَ}، و {مُعْرِضُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {السَّمَاءَ}، ولكنها حالة سببية، والرابط ضمير {آيَاتِهَا}، أو الجملة مستأنفة. {وَهُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {أَنَّ السَّمَاوَاتِ}. {خَلَقَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {اللَّيْلَ} مفعول به. {وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: معطوفات على الليل. {كُلٌّ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى العموم. {فِي فَلَكٍ} جار ومجرور، متعلق بـ {يَسْبَحُونَ}، وجملة {يَسْبَحُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الشمس والقمر والنجوم، المقدّرة لدلالة السياق عليها، وإنما جعل الضمير واو العقلاء لوصفه إياها بفعل العقلاء، الذي هو السباحة، وتقدم نظيره في قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. فائدة: ذهب سيبويه والجمهور، إلى القول (¬1): بأن لفظي كل وبعض، ¬

_ (¬1) إعراب القرآن.

معرفتان بنية الإضافة، ولذلك يأتي الحال منهما في نحو قولهم: مررت بكل قائمًا، وببعض جالسًا، وأصل صاحب الحال التعريف. وذهب الفارسي: إلى أنهما نكرتان، وألزم من قال بتعريفهما أن يقول: إن نصفًا وسدسًا وثلثًا وربعًا ونحوها، معارف؛ لأنها في المعنى مضافات، وهي نكرات بإجماع. وردّ بأن العرب، تحذف المضاف وتريده، وقد لا تريده، ودل مجيء الحال بعد كل وبعض على إرادته. بقي هنا سؤال واحد، وهو: لم أتى بصيغة الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن مرجع الضمير اثنان فقط، وهو الشمس والقمر؟ والجواب: أن الضمير عائد عليهما مع الليل والنهار، وذلك لأن الليل والنهار يسبحان أيضًا؛ لأن الليل ظل الأرض، وهو يدور على محيط كرة الأرض، على حسب دوران الأرض، وكذلك النهار يدور أيضًا؛ لأنه يخلف الليل في المحيط. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية. {جَعَلْنَا} فعل وفاعل. {لِبَشَرٍ} جار ومجرور في محل نصب، مفعول ثان. و {مِنْ قَبْلِكَ} صفة {لِبَشَرٍ} {الْخُلْدَ}: مفعول {جَعَلْنَا} الأول، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير عدم خلود البشر. {أَفَإِنْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. {إن} حرف شرط جازم. {مِتَّ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَهُمُ} (الفاء): رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {هم الخالدون}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وهي على نية التقديم؛ لأن أصل الكلام: أفهم الخالدون إن متّ، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: أيبقى هؤلاء المشركون حتى يشمتوا بموته، فإن مت يا محمد، فهم الخالدون في الدنيا بعدك، كما مر في مبحث التفسير، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {كُلُّ

نَفْسٍ} مبتدأ ومضاف إليه. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، مسوقة للاستدلال على عدم الخلود، فلا مجال للشماتة فيه. {وَنَبْلُوكُمْ} الواو: استئنافية {نبلوكم} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {بِالشَّرِّ} متعلق به، {وَالْخَيْرِ} معطوف على الشر؛ أي: نختبركم بما يجب فيه الصبر، وبما يجب فيه الشكر. {فِتْنَةً} مصدر مؤكد لـ {نبلوكم} من غير لفظه، منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأن الابتلاء فتنة، فكأنه قيل: نفتنكم فتنة، ويجوز أن يعرب مفعولًا من أجله، أو نصبًا على الحال، من فاعل {نبلوكم}؛ أي: فاتنين لكم. {وَإِلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}. {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {نبلوكم}، أو في محل النصب على الحال من مفعول {نبلوكم}. {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {رَآكَ} فعل ومفعول به لأن رأى بصرية. {الَّذِينَ} فاعل، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، وجملة {رَآكَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {إن}: نافية. {يَتَّخِذُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، مرفوع بالنون. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {هُزُوًا} مفعول ثان لـ {اتخذ}، والجملة الفعلية جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. فائدة في جواب إذا: تخالف إذا أدوات الشرط جميعًا، فإن أدوات الشرط، متى أجيبت بأن النافية، أو بما النافية .. وجب الإتيان بالفاء، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى أيضًا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا}، انتهت. {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}. {أَهَذَا}: {الهمزة}: للاستفهام السخري التعجبي. {هذا} مبتدأ

{الَّذِي}: خبر. {يَذْكُرُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الموصول، {آلِهَتَكُمْ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: حالة كونهم قائلين: أهذا الذي يذكر آلهتكم. {وَهُمْ} مبتدأ. {بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} جار ومجرور ومضاف متعلق بـ {كَافِرُونَ}. {هُمْ} تأكيد لضمير المبتدأ. {كَافِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب. حال من فاعل يتخذونك، أو من فاعل القول المقدر. {خُلِقَ الْإِنْسَانُ} فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ عَجَلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يخلق}، أو حال من الإنسان. {سَأُرِيكُمْ}: السين حرف استقبال. {أريكم} فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول. {آيَاتِي} مفعول ثان؛ لأنه من رأى البصرية فتعدّى بالهمزة إلى مفعولين، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتأكيد العجلة، وعاقبتها التي هي رؤية العذاب. {فَلَا}: الفاء عاطفة. {لا} ناهية جازمة. {تَسْتَعْجِلُونِ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية، رعاية للفاصلة، في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة أريكم. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}. {وَيَقُولُونَ}: {الواو} استئنافية. {يقولون}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة، لإيراد نمط من استعجالهم المذموم. {مَتَى} اسم استفهام، للاستفهام الاستخباري، في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هَذَا}: مبتدأ مؤخر. {الْوَعْدُ} بدل منه، والتقدير: هذا الوعد كائن متى، أو بفعل محذوف يقع خبر المبتدأ، تقديره: هذا الوعد متى يجيء، أو في محل الرفع خبر مقدم، وهذا هو المشهور، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ليقولون. {إِنْ} حرف شرط. {كُنْتُمْ} فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بأن الشرطية. {صَادِقِينَ} خبره. وجواب إن الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فمتى هو، وجملة إن الشرطية في محل النصب

مقول القول. {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {يَعْلَمُ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ}. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. وعلم هنا بمعنى: عرف، يتعدى لمفعول واحد، تقديره: لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود، الذي سألوا عنه واستبطأوه {حِينَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بالمفعول المحذوف، الذي هو مجيء، أو مفعول به لـ {يَعْلَمُ}. {لَا}: نافية. {يَكُفُّونَ} فعل وفاعل: {عَنْ وُجُوهِهِمُ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَكُفُّونَ}. {النَّارَ} مفعول به. {وَلَا} الواو عاطفة، {لَا} زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {عَنْ ظُهُورِهِمْ}: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور في قوله: {عَنْ وُجُوهِهِمُ}. {وَلَا} الواو: عاطفة. (لا) نافية {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْصَرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل الجر، معطوفة على جملة {لَا يَكُفُّونَ} على كونها مضافًا إليه لـ {حِينَ}، وجواب {لَوْ} الشرطية محذوف، تقديره: لو يعلم الذين كفروا مجيء العذاب الموعود لهم، حين لا يقدرون على كف النار ودفعها عن وجوههم، ولا عن ظهورهم، ولا يقدرون على نصر أنفسهم لمَّا استمروا على الكفر، واستعجلوا بالعذاب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة {بَلْ} حرف إضراب وابتداء، {تَأْتِيهِمْ} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على النار والجملة مستأنفة. {بَغْتَةً} حال من فاعل تأتيهم، ولكنه بتأويله بمتشق، أي: حالة كونها باغتة فاجئة، أو مفعول مطلق؛ لأن البغتة نوع من الإتيان. {فَتَبْهَتُهُمْ} الفاء: عاطفة {تبهتهم} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على النار، والجملة معطوفة على جملة تأتيهم. {فَلَا} الفاء عاطفة. {لا} نافية. {يَسْتَطِيعُونَ} فعل وفاعل معطوف على {تبهتهم}. {رَدَّهَا} مفعول به ومضاف إليه. {وَلَا} الواو: عاطفة. {لا} نافية. {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْظَرُونَ} خبره، والجملة

الاسمية معطوفة على جملة {يَسْتَطِيعُونَ}. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}. {وَلَقَدِ}: {الواو}: استئنافية، و (اللام) موطئة للقسم و (قد): حرف تحقيق. {اسْتُهْزِئَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {بِرُسُلٍ} جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور متعلق بـ {اسْتُهْزِئَ}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {فَحَاقَ} الفاء: عاطفة. (حاق) فعل ماض. {بِالَّذِينَ} متعلق به. {سَخِرُوا} فعل وفعل صلة الموصول. {مِنْهُمْ} حال من فاعل {سَخِرُوا}، أو متعلق به. {مَا} اسم موصول في محل الرفع فاعل حاق. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {بِهِ} متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ} خبر كانوا، وجملة {كَانُوا} صلة الموصول، وجملة (حاق) معطوفة على جملة {اسْتُهْزِئَ} على كونها جواب القسم. {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يَكْلَؤُكُمْ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قل. {بِاللَّيْلِ} متعلق بـ {يَكْلَؤُكُمْ}. {وَالنَّهَارِ} معطوف على الليل. {مِنَ الرَّحْمَنِ} متعلق بـ {يَكْلَؤُكُمْ} أيضًا. {بَلْ} حرف إضراب وابتداء. {هُمْ}: مبتدأ. {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُعْرِضُونَ}. {مُعْرِضُونَ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، مسوقة للإضراب عما تضمنه الكلام من النفي، والتقدير: ليس لهم كالىء، ولا مانع غير الرحمن، مع أنهم لا يخطرونه في بالهم، فضلًا عن أن يخافوا بأسه وعذابه. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، والتقدير: بل ألهم آلهة. {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {آلِهَةٌ}

مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {تَمْنَعُهُمْ} فعل ومفعول وفاعل مستتر، والجملة في محل الرفع صفة لـ {آلِهَةٌ}. {مِنْ دُونِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه. صفة ثانية لـ {آلِهَةٌ}. {لَا يَسْتَطِيعُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} مفعول به ومضاف إليه. {وَلَا} الواو: عاطفة. {لَا} نافية. {هُمْ} مبتدأ. {مِنَّا} متعلق بـ {يُصْحَبُونَ}. {يُصْحَبُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة {لَا يَسْتَطِيعُونَ}. {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}. {بَلْ}: حرف إضراب وابتداء. {مَتَّعْنَا}: فعل وفاعل. {هَؤُلَاءِ} في محل النصب مفعول به. {وَآبَاءَهُمْ}: معطوف على {هَؤُلَاءِ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {حَتَّى} حرف جر وغاية. {طَالَ}: فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة. {عَلَيْهِمُ} متعلق به. {الْعُمُرُ} فاعل، والجملة الفعلية، في تأويل مصدر، مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى طول العمر. {عَلَيْهِمُ} الجار والمجرور، متعلق بمحذوف، تقديره: بل متعنا هؤلاء وآبائهم، وأمهلناهم إلى طول العمر بهم. {أَفَلَا}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {لا} نافية. {يَرَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألا يتدبر هؤلاء المشركون، المستعجلون بالعذاب فلا يرون. والجملة المحذوفة مستأنفة. {أَنَّا} ناصب واسمه. {نَأْتِي الْأَرْضَ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي {يَرَوْنَ}؛ لأن الرؤية هنا علمية، ويجوز أن تكون بصرية. {نَنْقُصُهَا} فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله تقديره: نحن. {مِنْ أَطْرَافِهَا} متعلق بـ {ننقص} في محل النصب حال من فاعل {نَأْتِي}، أو من مفعوله؛ أي: نفتحها أرضًا بعد أرض، بما ينقص من أطراف المشركين، ويزيد في أطراف المؤمنين.

{أَفَهُمُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد نقصان أرضهم من أطرافها، هم طامعون في النجاة من بأسنا، فهم الغالبون. {هم الغالبون} مبتدأ وخبر والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا} أداة حصر. {أُنْذِرُكُمْ} فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِالْوَحْيِ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَا} الواو عاطفة. (لا) نافية. {يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط {مَا} زائدة {يُنْذَرُونَ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بـ {يَسْمَعُ}. {وَلَئِنْ} الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم. {إن} حرف شرط. {مَسَّتْهُمْ}: فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {نَفْحَةٌ}: فاعل. {مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {نَفْحَةٌ}، وجواب {إن} الشرطية محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والتقدير: وإن مستهم نفحة من عذاب ربك، يقولون: يا ويلنا إلخ، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه. {لَيَقُولُنَّ}: اللام، موطئة للقسم، مؤكدة للأولى. {يقولن} فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، فاعل، والنون للتوكيد والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {يَا وَيْلَنَا} {يا} حرف نداء. {ويلنا} منادي مضاف. نادى الويل ليحضر فيتعجب منه؛ لأن الوقت أوانه. ويحتمل أن تكون الياء للتنبيه. {ويلنا}: منصوب بفعل محذوف وجوبًا تقديره: ألزمنا الله ويلنا، وجملة النداء، أو الفعل المحذوف، في محل النصب مقول القول. والويل الهلاك، أو كلمة تقال لمن وقع في هلكة.

{إِنَّا} ناصب واسمه. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه. {ظَالِمِينَ}: خبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {لَيَقُولُنَّ} على كونها جواب النداء. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ}: {الواو}: استئنافية. {نَضَعُ الْمَوَازِينَ} فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {الْقِسْطَ} صفة لـ {الْمَوَازِينَ}، وقد وصفت بنفس المصدر مبالغة. {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نضع}، واللام فيه بمعنى في {فَلَا}: {الفاء}: حرف عطف وتقريع. {لا} نافية. {تُظْلَمُ نَفْسٌ}: فعل مغير ونائب فاعل. {شَيْئًا}: مفعول مطلق، أو مفعول به ثان لـ {تُظْلَمُ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نضع} {وَإِنْ} الواو استئنافية. {إن} حرف شرط. {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر تقديره: هو يعود على العمل. {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} خبر {كَانَ} ومضاف إليه. {مِنْ خَرْدَلٍ} صفة لـ {حَبَّةٍ}. {أَتَيْنَا} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جواب شرط لها. {بِهَا} متعلق بـ {أَتَيْنَا}. وأنث ضمير المثقال؛ لأنه أضيف إلى الحبة، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَكَفَى} الواو عاطفة. {كفى} فعل ماض. {بِنَا} فاعل، والباء: زائدة. {حَاسِبِينَ} تمييز لفاعل كفى، أو حال منه، والجملة معطوفة على جملة إن الشرطية. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل. {مُوسَى} مفعول أول. {وَهَارُونَ} معطوف عليه. {الْفُرْقَانَ} معفول ثان لأن آتى بمعنى أعطى. {وَضِيَاءً}: معطوف على {الْفُرْقَانَ}. {وَذِكْرًا} معطوف على ضياء. {لِلْمُتَّقِينَ} متعلق بـ {ضياء}. وعطف الصفات جائز عندهم، فهو من هذا الوادي. وفي "السمين": قوله: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا}: يجوز أن يكون من باب عطف

الصفات، فالمراد به شيء واحد؛ أي: آتيناهما الكتاب الجامع بين هذه الأشياء. وقيل: الواو زائدة. قال أبو البقاء: {وَضِيَاءً} على هذا حال من الفرقان. {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر صفة {لِلْمُتَّقِينَ}. ولك أن تعربه خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين. {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {بِالْغَيْبِ} جار ومجرور حال من فاعل {يَخْشَوْنَ}؛ أي: حال كونهم غائبين ومنفردين عن الناس، أو حال من المفعول. {وَهُمْ} الواو: عاطفة، أو حالية. {هم} مبتدأ. {مِنَ السَّاعَةِ} متعلق بمشفقون. و {مُشْفِقُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أو حال من فاعل {يَخْشَوْنَ}، وذكر الاشفاق من الساعة بعد الخشية، من ذكر الخاص بعد العام، لكونها أعظم المخلوقات، وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وآثر الجملة الاسمية، للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه اهـ من "أبي السعود" {وَهَذَا}: {الواو}: استئنافية. {هذا ذكر} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب أهل مكة، ومحاورتهم حول القرآن الكريم، الذي أنزل بلسانهم. {مُبَارَكٌ} صفة أولى لـ {ذِكْرٌ} {أَنْزَلْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة ثانية لذكر. {أَفَأَنْتُمْ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف {أنتم} مبتدأ. {لَهُ} متعلق بـ {مُنْكِرُونَ}. و {مُنْكِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنتم عالمون، أن شأنه كشأن التوراة، فأنتم له منكرون، والجملة المحذوفة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} الرتق: الضم والإلتحام خلقة كان أو صنعة. والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين وفي

"المختار": الرتق: ضد الفتق، وقد رتقت الفتق، من باب نصر سددته فارتتق؛ أي: التأم، ومنه قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}، والرتق بفتحتين مصدر قولك، امرأة رتقاء؛ أي: لا يستطاع جماعها لارتتاق ذلك الموضع منها، وفي الأساس: رتق الفتق حتى ارتتق. وقرىء: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} وعن ابن الكلبي: كانتا رتقاوين، ففتق الله السماء بالماء، وفتق الأرض بالنبات، وامرأة رتقاء بينة الرتق إذا لم يكن لها خرق إلا المبال. وفي "المختار" أيضًا: فتق الشيء شقه، وبابه نصر، وفتقه تفتيقًا مثله فانفتق اهـ. {رَوَاسِيَ} جمع راسية، من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ. اهـ "أبو السعود". وفي "المختار": والرواسي من الجبال الرواسخ، واحدتها راسية. وفي "المصباح": وما الشيء يرسو رسوًا ورسوا، إذا ثبت فهو راسٍ، وجبالٌ راسيةٌ وراسياتٌ ورواسي. {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}؛ أي: أن تتحرك وتضطرب. وفي "المصباح": ماد يميد ميدا من باب باع، وميدانا بفتح الياء إذا تحرك. وفي "الأساس": غصن مائد مائل وماد يميد ميداناً. {فِجَاجًا} وفي "المختار": الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فجاج بالكسر، مثل سهم وسهام. والفج بالكسر البطيخ الشامي، وكل شيء من البطيخ والفواكه لم ينضج، فهو فجّ بالكسر. وفي "القاموس" الفج وجمعه فجاج الطريق الواسع بين جبلين، والسبل جمع سبيل، وهو الطريق الواسع مطلقًا. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} والفلك: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، وعبارة الخازن: وقيل: الفلك: طاحونة مستديرة كهيئة ذلك المغزل بمعنى: أن الذي تجري فيه النجوم، مستدير كاستدارة الرحى. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه. وفي "تفسير الرازي": المسألة الثالثة: الفلك في كلام العرب، كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك.

واختلف العقلاء فيه: فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم، وإنما هو استدارة هذه النجوم. وقال الأكثرون: الأفلاك؛ أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم: الفلك موج مكفوف،. تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقال الكلبي: ماء مكفوف تجري فيه الكواكب، واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء. قلنا: لا نسلم ذلك، فإنه يقال في الفرس: الذي يمد يديه في الجري سابح. المسألة الرابعة: اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة. فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً، والكواكب تتحرك فيه، كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركًا، والكواكب تتحرك فيه أيضًا، إما مخالفة لجهة حركته، أو موافقة لجهتها، إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء، أو مخالفةً، وإما أن يكون الفلك متحركًا والكواكب ساكنة، والذي يدل عليه لفظ القرآن الأول، وهو أن تكون الأفلاك ساكنة، والكواكب جارية فيها، كما تسبح السمكة في الماء الراكد، اهـ "التفسير الكبير للرازي". {الْخُلْدَ} الخلود والبقاء {كُلُّ نَفْسٍ}؛ أي: مخلوقةٍ، فلا يرد الباري تعالى {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: موارة مفارقة جسدها، اهـ شيخنا. وهذا دليل على ما أنكر من خلودهم، اهـ "أبو السعود". والذوق هنا: الإدراك. والمراد من الموت، مقدماته من الآلام العظيمة، والمدرك لذلك هي النفس المفارقة، التي تدرك مفارقتها للبدن {نبلوكم} أي: نختبركم. والمراد: نعاملكم معاملة من يختبركم {بالخير والشر}؛ أي: بالمحبوب والمكروه {فِتْنَةً} أي: بلاءً واختبارًا، فهو مصدر مؤكد لنبلوكم، من غير لفظه. وأصل الفتن، إدخال الذهب النار. لتظهر جودته من رداءته. وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يجرِّب أحدكم بالبلاء. كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار. فمنه من يخرج كالذهب، فذاك الذي افتتن". قال الراغب: يقال: بلى الثوب بلى؛ أي خلق، وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، وسمي الغم بلاءً، من حيث إنه يبلي الجسم {إِلَّا هُزُوًا}؛ أي: ما يتخذونك إلّا مهزوءًا به؛ أي: مسخورًا منه.

{مِنْ عَجَلٍ} في "المختار": العجل والعجلة، ضد البطء، وقد عجل من باب طرب، اهـ. وقيل: هما طلب الشيء قبل أوانه، وهما من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة، والمراد بالإنسان هذا النوع، وقد جعل لفرط استعجاله وقلة صبره، كأنه مخلوق من العجل، مبالغةً، كما يقال للرجل الذكي: هو نار تشتعل. ويقال لمن يكثر منه الكرم: فلانٌ خلق من الكرم. {فَتَبْهَتُهُمْ} في "المصباح": بهت وبهت، من بابي قرب وتعب. دهش وتحيَّر، ويعدَّى بالحركة، فيقال: بهته يبهته بفتحتين، اهـ {فَحَاقَ بِالَّذِينَ} يقال: حاق به، يحيق حيقًا، أحاط به. وحاق بهم الأمر، لزمهم ووجب عليهم، وحاق نزل، ولا يكاد يستعمل إلّا في الشر. الحيق: ما يشمل الإنسان من مكروه، فعل {يَكْلَؤُكُمْ} يحرسكم ويحفظكم {مِنَ الرَّحْمَنِ}؛ أي: من بأسه وعقابه، الذي تستحقونه {مِنْ دُونِنَا}؛ أي: من غيرنا. وفي "المصباح": كلأه الله يكلؤه، مهموزٌ بفتحتين من باب قطع، كلاءةً بالكسر والمد حفظه، ويجوز التخفيف، فيقال: كليته أكلاه وكلئته أكلؤه من باب تعب لغة قريش، لكنهم قالوا: مكلو بالواو وأكثر من مكلي بالياء اهـ {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}؛ أي: يجارون من عذابنا. تقول العرب: أنا لك جار. وصاحب من فلان؛ أي: ومجير منه. واختاره الطبري. {بَلْ مَتَّعْنَا} المتاع: انتفاع ممتد الوقت، يقال: متعه الله بكذا، وأمتعه وتمتع به {الْعُمُرُ} بضم الميم وسكونها، اسم لمدة عمارة البدن بالحياة؛ أي: طال عليهم الأجل في التمتع فاغتروا. وحسبوا أنهم ما زالوا على ذلك لا يغلبون. {مِنْ أَطْرَافِهَا} والأطراف: جمع طرف بالتحريك، وهو ناحية من النواحي، وطائفة من الشيء {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ}؛ أي: قسط ونصيب ضئيل. والمس اللمس، ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. والنفحة من الريح الدفعة، ومن العذاب القطعة. كما في "القاموس". قال في "بحر العلوم". من نفحته الدابة، إذا ضربته؛ أي: ضربة، أو من نفحت الريح إذا هبت؛ أي: هبة،

أو من نفح الطيب، إذا فاح؛ أي: فوحة، كما يقال: شمة. وقال ابن جريج؛ أي: نصيب من نفحه فلان من ماله إذا أعطاه حظًا منه. فصل في مصادر المرة والنوع أو الهيئة مصدر المرة، هو ما يذكر لبيان عدد الفعل، ويبنى من الثلاثي المجرد على وزن فعلة. بفتح الفاء وسكون العين، مثل وقفت وقفة ووقفتين ووقفات، فإن كان الفعل فوق الثلاثي ألحقت بمصدره التاء، مثل أكرمته إكرامة، وفرحته تفريحة، وتدحرج تدحرجة، إلا إن كان المصدر ملحقاً في الأصل، بالتاء، فيذكر بعده ما يدل على العدد، مثل رحمته رحمة واحدة، وأقمت إقامة واحدة، واستقمت استقامة واحدة. أما مصدر النوع أو الهيئة: فهو ما يذكر لبيان نوع الفعل. وصفته، نحو وقفت وقفةً، ويبنى من الثلاثي المجرد، على وزن فعلة بكسر الفاء، مثل عاش عيشة حسنة، ومات ميتة سيئة، وفلان حسن الجلسة، وفلانة هادئة المشية، فإن كان الفعل فوق الثلاثي يصير مصدره، بالوصف مصدر نوع، مثل أكرمته إكرامًا عظيمًا. هذا، وهنا تنبيه هام. نبه عليه الشيخ أبو حيان، وهو أن هذه التاء الدالة على المرة الواحدة، لا تدخل على كل مصدر، بل على المصادر الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس، نحو قومة وضربةٍ وقعدة وأكلة. وأما مصادر الأفعال الباطنة، والخصال الجليلة الثابتة، نحو: الظرف والحسن والجبن والعلم، فلا يقال، من ذلك: علمته علمةً، ولا فهمته فهمةً، ولا صبرته صبرةً. {مِنْ خَرْدَلٍ} الخردل: نبات له حب صغير جدًّا أسود مقرح، والواحدة خردلة، ويقال: خردل الطعام: أكل خياره، وخردل اللحم: قطع أعضاءه، والخرادل: القطع من اللحم. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} جمع ميزان، والجمع فيه للتعظيم، أو باعتبار أجزائه فإن الصحيح أنه ميزان واحد لجميع الأمم، ولجميع الأعمال، وهو جسم مخصوص،

له لسان وكفتان وعمود، كل كفة، قدر ما بين المشرق والمغرب، ومكانه بين الجنة والنار، كفته اليمنى للحسنات عن يمين العرش، وكفته اليسرى للسيئات عن يساره. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التعجبي الإنكاري في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: الطباق بين الرتق والفتق في قوله: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}. ومنها: التنكير للتعميم في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ}. ومنها: التذييل بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} بعد قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}. وعرَّفوه بقولهم: بأنه تذييل الكلام بعد تمامه، وحسن السكوت عليه، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام، وتزيده توكيدًا، وتخرجه مخرج المثل السائر، ليشيع الكلام بعد دورانه على الألسنة، فإن لم تكن الزيادة تفيد ذلك، فلا يسمى تذييلا. أما في الآية التي نحن بصددها، فإن المعنى مستوفى في الإخبار، بأنه سبحانه لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد، ثم ذيل ذلك الإخبار بما أخرجه مخرج تجاهل العارف، وهو قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}، ثم ذيلّ هذا التذييل بما أخرجه مخرج المثل السائر. حيث قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بعد قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ}، وذلك لتأكيد الاعتناء بالنعم الجليلة، التي أنعم بها على العباد. ومنها: الطباق بين الشر والخير في قوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ}.

ومنها: الإيجاز بالحذف، في قوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي: بكل سوء؛ لأنهم استفظعوا حكايته ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، من القدح في آلهتهم، بأنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر. ومنها: الاستعارة المكنية، في قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فقد شبّه العجل الذي طبع عليه الشخص، وصار له كالجبلة بأصل مادته، وهي الطين، تشبيهًا مضمراً في النفس، ثم حذف المشبّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو قوله: خلق. وقيل: لا استعارة فيه، وإنما هو من باب القلب، والأصل خلق العجل من الإنسان، لشدة صدوره منه، وملازمته له، والقلب موجود في كلامهم كثيرًا، والأول أولى وأقعد بالبلاغة، ومن بدع التفاسير ما قالوه: من أن العجل هو الطين، بلغة حمير. ومنها: إيثار صيغة المضارع والشرط في قوله: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وإن كان المعنى على المضي، لإفادة استمرار عدم العلم. ومنها: الكناية في قوله: {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ}؛ لأنه كناية عن إحاطة النار بهم من كل جانب، ذكره أبو السعود. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} لفائدة التسجيل عليهم، فقد كان مقتضى السياق أن يقول: {ولا يسمعون} ولكنه صرح بالصم، وتجاوز بالظاهر عن ضميره، للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم، إذا أنذروا، وللدلالة على صدور إنكار شديد، وغضب عظيم، وتعجب من نبو أسماعهم عن الوحي، وعدم إصاغتهم لما ينفعهم وإمعانهم في ركوب الغي والضلال. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} حيث استعار الصم للكفار؛ لأنهم كالبهائم التي لا تسمع الدعاء، ولا تفقه النداء. ومنها: إسناد الضمير إلى الله تعالى في قوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أسند سبحانه الضمير إلى نفسه. تعظيمًا للمسلمين، الذين

أجرى على أيديهم الانتصار العظيم، وافتتاح البلاد والأمصار. تنويهاً بقدر المجاهدين، وتعظيمًا لما أتوا به من فضائل الأعمال. ومنها: ثلاث مبالغات في قوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا}. 1 - ذكر المس وهو أقل شيء، بل هو شيءٌ رفيقٌ جدًّا، فما بالك إذا انشال عليهم، أي: يكفي للدلالة على ذلهم، وهو أن أمرهم، ووهن عزيمتهم، أن أقل من يكفيهم ليذعنوا ويتطامنوا ويعلنوا ذلهم وخضوعهم، والإقرار على أنفسهم. بأنهم تصافوا وأعرضوا. 2 - وما في النفحة، من معنى القلة والنزارة، يقال: نفحته الدابة ونفحة بعطيَّة. 3 - بناء المرة من النفح، فمصدر المرة، يأتي على فعلة؛ أي: نفحة واحدة لا ثاني لها، تكفي لتشتيت أمرهم، وتوهين كيانهم، وتصدع صفوفهم، فكيف إذا عززت بثانية أو ثالثة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}؛ لأن السبح حقيقة في المر السريع في الماء، أو في الهواء، فاستعير لمر الشمس والقمر والنجوم في الفلك. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {سَقْفًا}؛ أي؛ كالسقف للأرض. ومنها: جناس الاشتقاق بين {يَذْكُرُ} و {ذِكْر} في قوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} وبين عجل ويستعجلون في قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}. ومنها: الجناس المماثل بين {استهزىء} و {يستهزئون}، في قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} الآية، وبين {إنما أنذركم} و {ينذرون}، في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ...} الآية.

ومنها: نداء غير العاقل في قوله: {يَا وَيْلَنَا} تنزيلًا له منزلة العاقل. ومنها: الكناية في قوله: {حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}، لأنه كناية عن العمل، ولو كان في غاية القلة والحقارة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}

المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا قدّ الكلام في دلائل التوحيد (¬1)، والنبوة والمعاد، أتبع ذلك بثلاثة عشر نبيًا غير مراعٍ في ذكرهم الترتيب الزماني، وذكر بعض ما نال كثيرًا منهم من الابتلاء، كل ذلك تسليةً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه. قوله تعالى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الكفرة، لما أقروا (¬2) على أنفسهم، بأن لا فائدة في آلهتهم، قامت لإبراهيم الحجة عليهم، فوبّخهم على عبادة ما لا يضر ولا ينفع، إذ هذا مما لا ينبغي لعاقل، أن يقدم عليه، وبعد أن دحضت حجتهم، وبان عجزهم، انقلبوا إلى العناد واستعمال القوة الحسية، إذ أعيتهم الحجة، فقالوا: حرّقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم التي جعلها جذاذًا، ولكن الله سلّمه من كيدهم، وجعل النار بردًا وسلامًا عليه. قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر ما أكرم به إبراهيم، من نجاته من النار، قفّى على ذلك، ببيان أنه أخرجه من بين قومه مهاجرًا إلى بلاد الشام، وهي الأرض المباركة، ثم وهب له من الذرية إسحاق وابنه يعقوب - عليهما السلام -، وكانا أهل صلاح وتقوى يقتدى بهما، ويؤتمر بأمرهما، ثم أردف ذلك، بذكر ما آتى لوطًا من العلم والنبوة، وجعله يعزف عن مفاسد تلك القرية، التي كان يقيم فيها بين ظهراني أهلها، وقد أهلكهم جميعًا وأنجاه هو وأهله، وأدخله في جنات النعيم، وقرّبه إلى حظيرة قدسه وساحة رحمته. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[51]

قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى؛ لما ذكر قصة إبراهيم، وهو أبو العرب، أردفها بقصة نوح، وهو الأب الثاني للبشر على المشهور، من أن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته - عليه السلام -. قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى، لمّا ذكر ما أنعم به على نوح - عليه السلام - من النعم الجليلة، قفّى على ذلك بذكر الإحسان العظيم، الذي آتاه داود وسليمان - عليهما السلام -، وهو قسمان: أولًا: نعم مشتركة بينهما وبين غيرهما من النبيين، وهي العلم والفهم، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. ثانيًا: نعم خاصة بواحد دون الآخر: 1 - فأنعم على داود بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وتعليم صنعة الدروع، للوقاية من أذى الحرب. 2 - وأنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وبتسخير الشياطين تغوص في البحار، لتخرج اللؤلؤ والمرجان، وتعلم له أخرى غير ذلك. التفسير وأوجه القراءة 51 - ولما تكلم (¬1) الله سبحانه وتعالى، في دلائل التوحيد، والنبوة، شرع في قصص الأنبياء - عليهم السلام -: تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما يناله من أذى قومه، وتقويةً لقلبه على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض، وذكر منها عشر قصص: الأولى: قصة موسى - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ¬

_ (¬1) الفتوحات.

وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}. القصة الثانية: قصة إبراهيم - عليه السلام - المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}. القصة الثالثة: قصة لوط - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}. القصة الرابعة: قصة نوح - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ}. القصة الخامسة: قصة داود وسليمان - عليهما السلام -، المذكورة في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}. القصة السادسة: قصة أيوب - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. القصة السابعة: قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل، المذكورة في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ}. القصة الثامنة: قصة يونس - عليه السلام - المذكورة في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}. القصة التاسعة: قصة زكريا - عليه السلام - المذكورة في قوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ}. القصة العاشرة: قصة مريم وابنها - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الخ، اهـ من الخطيب. ثم شرع في ذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ}؛ أي؛ وعزتي وجلالي لقد آتينا وأعطينا إبراهيم الخليل - عليه السلام - {رُشْدَهُ}؛ أي (¬1): ما فيه صلاحه وهداه {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل موسى وهارون ووفقناه ¬

_ (¬1) المراغي.

[52]

للحق، وأضأنا له سبيل الرشاد، وأنقذناه من بين قومه، من عباد الأصنام، وقال الفراء: أعطيناه هداه، من قبل النبوة والبلوغ، اهـ، أي: وفقناه للنظر والاستدلال. لمَّا جنّ عليه الليل، فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين. والرشد (¬1): خلاف الغي، وهو الابتداء لمصالح الدين والدنيا، وكماله يكون بالنبوة؛ أي: بالله لقد آتينا بجلالنا وعظيم شأننا إبراهيم الخليل - عليه السلام -، الرشد اللائق به، وبأمثاله من الرسل الكبار، على ما أفادته الإضافة من قبل؛ أي؛ من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم زكريا إيتائها، لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التام {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}؛ أي؛ وكنا عالمين، بأنه أهل لما آتيناه، من الرشد والنبوة، وتقديم الظرف، لمجرد الاهتمام، مع رعاية الفاصلة، ونظير الآية قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. وقرأ الجمهور: (¬2) {رشده} بضم الراء وسكون الشين، وقرأ عيسى الثقفي: {رشده} بفتح الراء والشين، وأضاف الرشد إلى إبراهيم، بمعنى: رُشْدَ مِثْله، وهو رشد الأنبياء، وله شأن؛ أي: شأن. أو المعنى: وكنا عالمين بأنه ذو يقين، وإيمان بالله، وتوحيد له، لا يشرك به شيئًا، فهو جامع لأحاسن الفضائل، ومكارم الأخلاق، وجميل الصفات. 52 - والظرف في قوله: {إِذْ قَالَ} متعلق بآتينا، على أنه وقت متسع، وقع فيه الإيتاء، وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله. أو بمحذوف، تقديره: اذكر حين قال إبراهيم {لِأَبِيهِ} آزر، والظاهر، من عدم التعرض لأمه، كونها مؤمنةً، كما يدل عليه تبريه وامتناعه من أبيه دونها {وَقَوْمِهِ} نمرود ومن اتبعه. والمراد من قومه (¬3): أهل بابل بالعراق، وهي بلاد معروفة، من عبادان إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[53]

الموصل طولًا، ومن القادسية إلى حلوان عرضًا، سميت بها، لكونها على عراق دجلة والفرات؛ أي؛ شاطئهما. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}؛ أي: آتيناه الرشد، حين قال لأبيه آزر ولقومه، وهم مجتمعون: ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها، وقد أراد - عليه السلام -، بهذا السؤال، تنبيه أذهانهم، إلى التأمل في شأنها، وتحقير أمرها، متجاهلًا حقيقتها، وكأنه يومئ بذلك، إلى أنهم لو تأملوا قليلًا، لأدركوا أن مثل هذه الأحجار، والخشب، لا تغني عنهم قُلًّا، ولا كثرًا؛ أي (¬1) ما هذه الصور التي أنتم عابدون لها، وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنمًا، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس، وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب مكلَّلا من جواهر، في عينيه ياقوتتان، تتقدان، تضيئان في الليل. والتماثيل (¬2): جمع تمثال، وهو الشيء المصوَّر، المصنوع مشبهًا بخلق من خلائق الله، والممثل المصوّر على مثال غيره. من مثلث الشيء بالشيء، إذا شبّهته به. والعكوف الإقبال على الشيء، وملازمته على سبيل التعظيم، لغرض من الأغراض، ضمَّن معنى العبادة، كما يدل عليه الجواب الآتي، ولذا جيء باللام دون على؛ أي: ما هذه الأصنام التي أنتم لها عابدون لها، مقيمون عليها. وهذا السؤال، تجاهل منه، وإلّا فهو يعرف أن حقيقتها حجر، أو شجر، اتخذوها معبوداً، فالاستفهام فيه، استفهام متجاهل. 53 - وقوله: {قَالُوا} كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، تقديره: قال إبراهيم لهم: أي شيءٍ حملكم على عبادتها؟ قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا} وأسلافنا {لَهَا عَابِدِينَ}؛ أي: عابدين لها، فنحن نعبدها اقتداء بهم، وهو جواب العاجز عن الإتيان بالدليل. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[54]

أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا (¬1) التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء؛ أي: وجدنا آباءنا يعبدونها، فعبدناها، اقتداء بهم، ومشيا على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة، من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنة؛ إذا أنكر عليهم العمل، بمحض الرأي، المدفوع بالدليل .. قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين، وبرأيه آخذين، 54 - وجوابهم، هو ما أجاب به الخليل هاهنا بقوله: {قَالَ} لهم إبراهيم - عليه السلام -: والله {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} وأسلافكم الذين سنوا لكم هذه السنة الباطلة {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: في خطأ بيّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ذلك، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام. التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران. وقال آخر أيضًا: يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الحَقِّ لَهُ وَاضِحُ 55 - ثم لمَّا سمع أولئك الكفرة مقالة الخليل {قَالُوا أَجِئْتَنَا} أنت فيما تقول لنا {بِالْحَقِّ} والصدق والجد {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} والمازحين بنا، فتقول ما تقول على وجه المزاح واللعب، حسبوا أنهم، إنما أنكر عليهم دينهم القديم، مع كثرتهم وشوكتم على وجه المزاح واللعب. وفي (¬2) إيراد الشق الثاني بالجملة الاسمية الدالة على الثبات إيذان برجحانه عندهم، اهـ شيخنا. والاستفهام فيه استفهام تعجب واستبعاد؛ أي (¬3): قالوا له حين سمعوا مقالته، مستبعدين أنهم في ضلال، ومتعجبين من تضليله إياهم: أجادُّ أنت فيما تقول، أم أنت لاعبٌ مازحٌ. فإنّا لم نسمع بمثله من قبل. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[56]

وخلاصة هذا: أنهم لما سمعوا منه، ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليله إياهم، وشاهدوا منه الجد في القول، والغلظة فيه، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول: إن كان جادًّا، ثم ارتقوا من هذا، إلى بيان أنه هازل لاعبٌ، كما هو دأبه وعادته من قبل، ولا يقصد بذلك إظهار حق ألبتة. وفيه إشارة لطيفة، وهي كما أن أهل الصدق والطلب يرون أهل الدنيا لاعبين، والدنيا لعبًا ولهوًا، كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} كذلك أهل الدنيا، يرون أهل الدين لاعبين، والدين لعبًا ولهوًا. 56 - فرد عليهم منتقلًا من تضليلهم في عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة مضربًا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد فـ {قَالَ} إبراهيم لهم: {بَلْ} جئتكم بالحق، لا باللعب {رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: إن ربكم ومالككم الذي يستحق منكم العبادة، مالك السموات والأرض {الَّذِي فَطَرَهُنَّ}؛ أي: أنشأ السموات والأرض، وخلقهن ابتداء من غير مثال سابق يحتذى، فهو الخالق كما أنه المربي. فالضمير (¬1) للسموات والأرض، أو للتماثيل؛ أي: فكيف تعبدون من كان من جملة المخلوقات. وخلاصة هذا: أن الجدير بالعبادة، هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم، وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك. وفي هذا، إرشاد إلى أنه، ينبغي لهم أن يرعووا عن غيِّهم، ويعلموا من يستحق العبادة فيعبدونه، ويخضعون له وبذلك يهتدون إلى الطريق السوي. ثم ختم مقاله: بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} الذي ذكرته لكم، من كون ربكم رب السموات والأرض فقط، دون ما عداه، كائنًا ما كان {مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: من العالمين به على الحقيقة المبرهنين عليه، وليس المراد حقيقة الشهادة؛ لأنه لا شهادة من المدعي، بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان؛ أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة، بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوي. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[57]

أي (¬1): وأنا أستدل على ما أقول بالحجة، كما تصحَّح الدعوى بالشهادة، وأبرهن عليه، كما تبين القضايا بالبينات، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم، ولم تزيدوا على أن تقولوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. وقصارى ما أقول (¬2): لست من اللاعبين الهازلين، بل من العالمين بذلك بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل في إثبات الدعوى وإحقاق الحق. 57 - وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق، أتبعه بالتهديد لهدم الباطل، ومحو آثاره، وأنه سينقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر، ثقة بالله ومحاماة عن دينه، جمعا بين القول والفعل، فقال: {وَتَاللَّهِ} القوي العظيم، وقرأ الجمهور: {وَتَاللَّهِ} بالتاء الفوقية. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل {بِاللَّهِ} بالباء الموحدة {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}؛ أي: لأمكرن وأجتهدن في كسر أصنامكم، وإلحاق الأذى بها، قال مجاهد وقتادة: قال إبراهيم - عليه السلام - هذه المقالة سرًّا من قومه، ولم يسمع ذلك إلَّا رجل واحد منهم، فأفشاه عليه، وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم، يقال له إبراهيم. وفي التعبير بالكيد إيدان بصعوبة الوصول إلى كسرها، وتوقفه على استعمال الحيل، لا سيما زمن نمرود، على عتوّه واستكباره وقوة سلطانه، وتهالكه على نصرة دينه. فإن قيل (¬3): لِمَ قال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} والكيد: هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به، والأصنام جمادات لا تتضرر بالكسر ونحوه، وأيضًا ليست هي، مما يحتال في إيقاع الكسر عليها؛ لأن الاحتيال إنما يكون في حق من له شعور؟ أجيب: بأن ذلك من قبيل التوسع في الكلام، فإن القوم كانوا يزعمون أن الأصنام لهن شعور، ويجوز عليهن الضرر، فقال ذلك بناء على زعمهم. وقيل: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

المراد: لأكيدنكم في أصنامكم؛ لأنه بذلك الفعل، قد أنزل بهم الغم. والأصنام: جمع صنم، وهي جثة متخذة من فضة، أو نحاس أو خشب مثلًا كانوا يعبدونها، متقربين بها إلى الله تعالى، كما في "المفردات". {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا} وترجعوا (¬1) من عبادتها. مضارع ولّى مشدداً {مُدْبِرِينَ} وذاهبين إلى عيدكم، وهو حال مؤكدة؛ لأن التولية والإدبار بمعنى، والإدبار نقيض الإقبال وهو الذهاب إلى خلف؛ أي بعد أن ترجعوا عن عبادتها حالة كونكم ذاهبين ومنطلقين إلى عيدكم. وقرأ الجمهور: {تُولوا} بضم التاء، مضارع ولّى الرباعي وقرأ عيسى بن عمر {تولّوا} بفتح التاء فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين، والأولى على مذهب هشام، وهو مضارع تولى الخماسي، وهو موافق لقوله تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} ذكره في "البحر". وقال السدي: كان (¬2) لهم في كل سنة مجمع عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد، قال آزر: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا، أعجبك ديننا فخرج معهم، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه، وقال: إني سقيم، أشتكي برجلي. فلمّا مضوا، نادى في آخرهم، وقد بقي فيهم ضعفاء الناس: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، وهي في بهو عظيم، وكان مستقبل هذا البهو، صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه، والأصنام بعضها إلى جنب بعض، يليه أصغر منه إلى باب البهو - والبهو: البيت الذي يقيمونه أمام البيوت، ويجتمون فيه للندوة - وإذا هم قد جعلوا طعامًا، فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا، وباركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم، مستهزئًا: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم: ما لكم لا تنطقون، وراغ عليهم ضربًا باليمين، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلّا الصنم الأكبر، علّق الفأس في عنقه، ثم خرج فذلك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[58]

58 - قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} والفاء فيه فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال إبراهيم لهم، وأردت بيان ما فعله بالأصنام .. فأقول لك: جعل إبراهيم الأصنام جذاذًا؛ أي: حطاماً رفاتاً فتاتاً قطاعاً مكسرة، إلّا كبيرا للأصنام لم يكسره، فهو (¬1) استثناء من مفعول قوله: {فَجَعَلَهُمْ}، و {لَهُمْ} صفة لـ {كَبِيرًا}، والضمير للأصنام؛ أي: لم يكسر الكبير وتركه على حاله، وعلّق الفأس في عنقه. وكبره في التعظيم، أو في الجثة، أو فيهما. وهذا هو الكيد الذي وعدهم {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل أولئك الضُلّال {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الكبير. وتقديم الظرف للاختصاص، أو لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة {يَرْجِعُونَ} فيسألونه عن كاسرها؛ أي (¬2): لعل أولئك الطغاة، يرجعون إلى الكبير، كما يرجع إلى العالم، في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء الصغار مكسورة، ومالك صحيحًا، والفأس في عنقك، أو في يدك، وحينئذٍ يستبين لهم، أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادتهم على جهل عظيم، وقد كان هذا بناء على ظنه في أمرهم، لما جرَّب وذاق من مكابرتهم، واعتقادهم في آلهتهم، وتعظيمهم لها، فيستجهلهم ويبكتهم بذلك. وقيل: الضمير في {إِلَيْهِ} عائد إلى إبراهيم؛ أي: لعلهم إلى إبراهيم يرجعون، لاشتهاره بإنكار دينهم وسبّ آلهتهم وعداوتهم، فيحاججهم بقوله: بل فعله كبيرهم، فيحجهم ويبكتهم، كما في "الإرشاد" وغيره، أو لعلهم (¬3) يرجعون إلى دين إبراهيم بوجوب الحجة عليهم، قاله الزجاج. وقرأ الجمهور (¬4): {جُذَاذًا} بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود وأبو رزين وقتاد وابن محيصن والأعمش والكسائي: {جِذاذًا} بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأيوب السختياني وعاصم الجحدري وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك {جَذاذا} بفتح الجيم. وقرأ الضحاك وابن يعمر {جَذذا} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) زاد المسير. (¬4) زاد المسير والبحر المحيط.

[59]

بفتح الجيم من غير ألف. وقرأ معاذ القارىء وأبو حيوة وابن وثاب {جُذذا} بضم الجيم من غير ألف. قال قطرب: هي في لغاتها كلها مصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث اهـ. وقال أبو حاتم: أجودها الضم، كالحطام والرفات، وهي قراءة العامة، والظاهر أن المضموم اسم للشيء المكسور، كالحطام والرفات والفتات بمعنى: الشيء المحطم والمفتّت. وقال اليزيدي: المضموم جمع جُذاذة بالضم، نحو زجاج في زجاجة، والمكسور جمع جذيذ، نحو كرام في كريم. وقال بعضهم: المفتوح مصدر بمعنى المفعول. 59 - فلما رجعوا من عيدهم إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال {قَالُوا}؛ أي: قال قوم إبراهيم على سبيل التوبيخ، والتأنيب حين رأوا آلهتهم قد صارت جذاذًا؛ إلّا الذي علق فيه إبراهيم الفأس {مَنْ فَعَلَ هَذَا} الكسر {بِآلِهَتِنَا}؛ أي: من كسر هذه الآلهة وجعلها هكذا. والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ. ولم يقولوا {بهؤلاء} مع أنها كانت بين أيديهم حيث قالوا: {بِآلِهَتِنَا} مبالغة في اللوم، والتعنيف والتشنيع {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بكسرها، حيث عرض نفسه للهلاك؛ أي: إنه لمن زمرة الذين ظلموا أنفسهم، وتجرؤوا على إهانة هذه الآلهة، وهي المستحقة بالإعظام والتكريم 60 - {قَالُوا}؛ أي: قال بعض منهم ممن سمع قوله: تالله لأكيدن أصنامكم، للسائلين، فالآية تدل على أن القائلين جماعة منهم {سَمِعْنَا فَتًى} وهو الطري من الشبان {يَذْكُرُهُمْ} بسوء. صفة أولى لـ {فَتًى}؛ أي: يعيب آلهتنا، ويستهزىء بهم، ولم نسمع أحدًا يقول ذلك غيره، وإنا لنظن أنه صنع ذلك بهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي: يطلق عليه هذا الاسم. صفة له 61 - {قَالُوا}؛ أي: السائلون. قال بعضهم: بلغ ذلك النمرود الجبار وأشراف قومه، فقالوا فيما بينهم؛ أي: قال أولئك القائلون: من فعل هذا بآلهتنا؟ إذا كان الأمر كما ذكرتم {فَأْتُوا بِهِ}؛ أي: بإبراهيم، والفاء فيه للإفصاح {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} حال (¬1) من ضمير {بِهِ}؛ أي: إذا كان الأمر كما قلتم، فأتوا به، حالة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[62]

كونه ظاهرًا على أعين الناس، مكشوفًا بمرأى منهم، ومنظر ومسمع منهم، بحيث تتمكن صورته في أعينهم، تمكّن الراكب على المركوب {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا؛ أي: لعل بعضًا منهم يشهدون بفعله، أو بقوله ذلك، لئلا نأخذه بلا بينة. وفيه إشارة إلى أن في بعض الكفار، من لا يحكم على أهل الجنايات إلّا بمشهد من العدول، فكل حاكم يحكم على متّهم بالجناية، من غير بيّنة، فهو أسوأ حالا منهم، ومن قوم نمرود كما في "التأويلات النجمية". 62 - وجملة قوله: {قَالُوا} جواب شرط مقدر تقديره: فلما أتوا به وشهدوا عليه، قالوا منكرين عليه فعله، موبّخين له {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} الكسر {بِآلِهَتِنَا} وأصنامنا {يَا إِبْرَاهِيمُ}؛ أي (¬1): أأنت الذي كسر هذه الأصنام، وجعلهم جذاذًا، وقد طلبوا منه الاعتراف بذلك، ليقدموا على إيذائه، وهم مقتنعون بصحة هذه الجريمة في زعمهم، فما كان منه إلّا أن بادرهم بما أدهشهم، حتى تمنّوا الخلاص منه، 63 - فـ {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}؛ أي: الذي كان الفأس على عنقه، مشيرًا إلى الذي لم يكسره، وهذا صفة لـ {كبير}؛ أي: قال إبراهيم: بل الذي فعل هذا الكسر، هو الصنم الأكبر، الذي لم يكسر. أسند (¬2) الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه؛ لأنه لما رأى الأصنام مصطفة، مزينة يعظمها المشركون، ورأى على الكبير ما يدل على زيادة تعظيمهم له، وتخصيصهم إياه بمزيد التواضع، والخضوع غاظه، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، وقال بعضهم: فعله كبيرهم هذا، غضب من أن تعبد معه هذه الصغار، وهو أكبر منها. وإيضاح هذا (¬3): أن إبراهيم - عليه السلام -، لمّا رأى تعظيمهم لهذا الصنم، أشدّ من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام، غضب أشد الغضب، وأسند إليه الفعل الصادر منه من قبل أنه هو الذي حمله على ذلك، وهو يومىء بذلك إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

مقصده، وهو إلزامهم الحجة على ألطف وجه، وأحسنه، مع حملهم على التأمل في شأن آلهتهم. ومجمل كلامه: أن شديد غضبي من تعظيمكم له، حملني على أن أفعل هذا، والفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى الباعث عليه، فهذا الصنم الأكبر، قد كان السبب في استهانتي بهم، وتحطيمي إياهم؛ أي: قال إبراهيم مقيمًا للحجة عليهم، مبكتاً لهم: بل فعله كبيرهم هذا، مشيرًا إلى الصنم الذي تركه، ولم يكسره {فَاسْأَلُوهُمْ}؛ أي: فاسألوهم؛ أي: فاسألوا هؤلاء الأصنام المكسورة، عن كاسرهم ليخبروكم به {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}؛ أي (¬1): إن كانوا ممن يمكنه النطق، ويقدر على الكلام، ويفهم ما يقال له، فيجيب عنه بما يطابقه، أراد عليه السلام، أن يبيّن لهم، أن من لا يتكلم، ولا يعلم، ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل، أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم، بما يوقعهم في الاعتراف، بأن الجمادات التي عبدوها، ليست بآلهة؛ لأنهم إذا قالوا: إنهم لا ينطقون، قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم، بما يقع عنده، في المكان الذي هو فيه، فهذا الكلام، من باب فرض الباطل مع الخصم، حتى تلزمه الحجة، ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته، وأدفع لمكابرته. وفي الحديث المتفق عليه (¬2): "لم يكذب إبراهيم النبي قط، إلّا ثلاث كذبات" سميت المعاريض كذبًا، لمَّا شابهت صورتها صورته، وإلّا فالكذب الصريح كبيرة، فالأنبياء معصومون منها. فإن قلت: إذا كانت هذه معاريض، لم جعلها سببًا في تقاعده عن الشفاعة، حين يأتي الناس إليه، يوم القيامة؟ قلت: الذي يليق بمرتبة النبوة والخلة، أن يصدع بالحق، ويصرح بالأمر، ولكنه قد تنزّل إلى الرخصة، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. والتعريض: تورية الكلام عن الشيء بالشيء، وهو أن تشير بالكلام إلى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[64]

شيء، والغرض منه شيء آخر، فالغرض من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} الإعلام بأن من لم يستطع دفع المضرة عن نفسه .. كيف يستطيع دفع المضرة عن غيره، فكيف يصلح إلهًا؟! وقرأ ابن السميقع (¬1): {بَلْ فَعَلَهُ} بتشديد اللام على معنى بل، فلعل الكاسر والفاعل ذلك كبيرهم 64 - {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه، المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقالة بينهم وبين إبراهيم، أن من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه، ولا على الإضرار بمن فعل به، ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام، يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة، ولهذا {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}؛ أي: قال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون لأنفسكم، بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم، من نسبتم الظلم إليه بقولكم {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وما هذا منكم إلّا غرور وجهل، بما ينبغي أن تكون عليه حال المعبود. 65 - ثم أبان أنهم أركسوا بعدئذٍ (¬2)، ورجعوا عن فكرة سليمة، لا غبار عليها، بوصفهم أنفسهم بالظلم إلى فكرة خاطئة، وهي الحكم بصحة عبادتها، مع اعترافهم بأن حالهم دون حال الحيوان، فلا ينبغي لعاقل أن يعبدها، فقال: {ثُمَّ نُكِسُوا} وانكبوا {عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي: رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه، عودهم إلى الباطل، بصيرورة أسفل الشيء أعلاه. وقيل: المعنى أنهم طأطؤوا رؤوسهم خجلةً من إبراهيم؛ أي: انقلبوا عن الفكرة الصالحة إلى الحالة الأولى، فأخذوا في المجادلة بالباطل قائلين: والله {لَقَدْ عَلِمْتَ} يا إبراهيم {مَا هَؤُلَاءِ} الأصنام {يَنْطِقُونَ}؛ أي: لقد علمت أنه ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي (¬3): ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

[66]

كلاهما عن هشام {نكّسوا} بالتشديد. وقرىء {نَكَسُوا} بالبناء للفاعل مع التخفيف؛ أي: نكسوا أنفسهم على رؤوسهم، وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود، أي: لقد بلغ الأمر بهم، إلى أن قالوا: إنما اتخذناهم آلهة، مع علمنا بأنهم لا ينطقون ولا يتكلمون، فكيف تأمرنا بسؤالهم، وإنما قال: {يَنْطِقُونَ}، ولم يقل: يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضًا، من قبل أن نتيجة السؤال الجواب، وأن عدم نطقهم أبلغ في تبكيتهم 66 - فـ {قَالَ} إبراهيم مبكتًا لهم وموبخًا {أ} تعلمون ذلك {فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: حال كونكم متجاوزين عبادته تعالى، فالهمزة للاستفهام التوبيخي التبكيتي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتعلمون عدم نطقها، فتعبدون من دون الله {مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}؛ أي: فتعبدون من دون الله معبودات، لا تنفعكم شيئًا من النفع إن عبدتموها، فتعلقوا رجاءكم بها، ولا تضركم شيئًا من الضرر إن لم تعبدوها فتخافوها، فإن العلم بالحالة المنافية للألوهية، مما يوجب الاجتناب عن عبادتها قطعًا 67 - {أُفٍّ لَكُمْ}؛ أي؛ تبًا ونتنًا لكم {وَ} قبحًا {لِمَا تَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه، أي: لمعبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله. واللام (¬1) لبيان المتضجر لأجله؛ أي: هذا التأفف لكم ولآلهتكم، لا لغيركم. وعائد الموصول محذوف كما قدَّرناه، وهذا تضجر منه - عليه السلام -، من إصرارهم على الباطل البيِّن. و {أُفٍّ} صوت التضجر، إذا صوت بها الإنسان علم أنه متضجّر، ومعناه: قبحًا ونتنًا. وفي كتب النحو، من أسماء الأفعال {أُفٍّ} بمعنى أتضجر. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك، والتقدير: أجننتم، فلا تعقلون قبح صنيعكم؛ أي: أليس لكم عقل تعقلون به، أنَّ هذه الأصنام لا تستحق العبادة. والمعنى: أي (¬2) أفلا تتدبرون ما أنتم فيه، من الضلال والكفر، الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر، وأنتم الشيوخ الذين بلوا الزمان حلوه ومره، وحنَّكتهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[68]

تجارب الأيام، فمن حقكم أن تعاودوا الرأي وتقلبوه ظهراً لبطن، لعلكم ترشدون بعد الضلال، وتهتدون بعد الغيّ والعمى. قال ابن عطاء (¬1): دعا الله تعالى عباده إليه، وقطعهم عما دونه بقوله: {أَفَتَعْبُدُونَ ...} إلخ كيف تعتمده وهو عاجز مثلك، ولا تعتمد من إليه المرجع، وبيده الضرُّ والنفع. قال حمدون القصَّار: استغاثة الخلق بالخلق، كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقال بعض الكبار: طلبك من غيره لوجود بعدك عنه، إذ لو كنت حاضرًا بقلبك معه، ما صح منك توجه لغيره، وكل ما دون الله، خوض ولعب، فالتعلق به زور وكذب، فدع الكل جانبًا، وتعلق بمولاك حتمًا، تجده في كل مهم وغيره مغنيًا، وعند كل شيء حقًا يقينًا، جعلنا الله ممن تعلق به بلا علة، وعافانا من الذلة والزلة والقلة. 68 - ولما بان عجزهم عن مجادلته، وحصحص الحق لجؤوا إلى الغلظة واستعمال القسوة فـ {قَالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض، والقائل ملكهم نمرود بن كنعان. وقيل: القائل، رجل من أكراد فارس، اسمه هينون، خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة {حَرِّقُوهُ}؛ أي: حرّقوا إبراهيم بالنار، واتفقت كلمتهم على إحراقه لأنه أشدّ العقوبات {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بالانتقام لها؛ أي: انتقموا منه لآلهتكم {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} نصرها، ولا تريدون خذلانها وترك عبادتها. ذكر القصة في ذلك فلما (¬2) اجتمع نمرود وقومه، لإحراق إبراهيم، حبسوه في بيت، وبنوا بنيانًا كالحظيرة بقرية يقال لها "كُوشْى" - بضم الكاف، قريةٌ بالعراق -: ثم جمعوا له أصلاب الحطب، وأصناف الخشب مدة شهر، حتى كان الرجل يمرض، فيقول: لئن عوفيت لأجمعن حطبًا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب: لئن أصابته، لتحطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، احتسابًا في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم، فلما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

جمعوا ما أرادوا، وأشعلوا في كل ناحية من الحطب نارًا، فاشتعلت النار واشتدت، حتى أن الطير ليمر بها فيحترق، من شدة وهجها وحرها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه، فقيل: إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق، فعملوه، ثم عادوا إلى إبراهيم فقيدوه، ورفعوه على رأس البنيان، ووضعوه في المنجنيق مقيدًا مغلولًا، فصاحت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة، وجميع الخلق: إلّا الثقلين صيحة واحدة: أي: ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار، وليس في أرضك أحد يعبدك غيره، فائذن لنا في نصرته، فقال الله تعالى: إنه خليلي ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم، أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خازن المياه وقال: إن أردت، أخمدت النار، وأتاه خازن الهواء، وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل. وروى عن أبي بن كعب (¬1): أن إبراهيم، قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قال: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم أخرجه البخاري. قال كعب الأحبار: جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلّا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار. ¬

_ (¬1) الخازن.

[69]

وعن أم شريك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر بقتل الأوزاغ. متفق عليه، زاد البخاري: وكان ينفخ على إبراهيم. 69 - ثم أبان سبحانه، أنه أبطل كيدهم، ودفع عنه هلاكًا محققاً بمعونته وتأييده، فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي}؛ أي: فأوقدوا له نارًا ليحرقوه، ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: يا نار كوني {بَرْدًا}؛ أي: ذات برد من حرّك {وَسَلَامًا}؛ أي: ذات سلامةٍ من ضرر بردك {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} خليلنا؛ أي: أبردي بردًا غير ضارٍ به، فزال ما فيها من الحرارة والإحراق، وبقي ما فيها من الإضاءة والإشراق. هذا (¬1) ما اختاره المحققون لدلالة الظاهر عليه، وهذا كما ترى، من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيبًا وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله، لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة، مما يخرق العادات. وقيل: كانت النار بحالها، إلّا أنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفيةً مانعة من وصول أذى النار إليه، كخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة، بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، وبدن السمندل، بحيث لا يضره المكث في النار، كما يشعر به ظاهر قوله على إبراهيم. ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام (¬2)، فما أحرقت منه إلا وثاقه، قاله كعب الأحبار ووهب بن منبه. وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يومًا. وقال إبراهيم: ما كنت أطيب عيشًا زمانًا من الأيام، التي كنت فيها في النار، فنزل جبريل بقميص من الجنة، وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وقعد معه يحدثه، وإن آزر أتى نمرود فقال: ائذن لي أن أخرج عظام إبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنقب، فإذا إبراهيم في روضة تهتز وثيابه تندى، وعليه القميص، وتحته الطنفسة، والملك إلى جنبه، فناداه نمرود: يا إبراهيم إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: من الذي رأيت معك؟ قال: ملك أرسله إليّ ربي ليؤنسني، فقال نمرود: إني مقرب لإلهك قربانًا لما رأيت من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير.

[70]

قدرته، فقال: إذن لا يقبل الله منك، ما كنت على دينك، فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبح له، فذبح القربان، وكف عن إبراهيم. وكان وقت إلقائه فيها، ابن ست عشرة سنة، ذكره أبو السعود. وقيل: كان ابن ست وعشرين سنة، قاله الماوردي، والله أعلم. روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لمّا ألقي إبراهيم في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك". فائدة: فإن قلت: لم ابتلاه الله بالنار في نفسه؟ قلت: كل رسول يأتي بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان أهل ذلك الزمان، يعبدون النار والشمس والقمر والنجوم، معتقدين ألوهيتها وتاثيرها، فأراهم الله تعالى، أنها لا تأثير لها. 70 - {وَأَرَادُوا}؛ أي: وأراد نمرود وقومه {بِهِ}؛ أي: بإبراهيم عليه السلام، {كَيْدًا} أي: مكراً عظيمًا في الإضرار به {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}؛ أي: من ذوي الخسران والوبال، فإنهم خسروا السعي والنفقة، فلم يحصلى لهم مرادهم، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض، فأكلت لحومهم، وشربت دماؤهم، ودخلت في دماغ نمرود بعوضة فأهلكته. أو المعنى {جعلناهم من الأخسرين}؛ أي: من الهالكين بتسليط البعوض عليهم، وقتله إياهم، وهو أضعف خلق الله تعالى، وما برح النمرود، حتى رأى أصحابه، قد أكلت البعوض لحومهم، وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره، فلم تزل تأكل، إلى أن وصلت إلى دماغه، وكان أكرم الناس عليه، الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام بهذا، نحوًا من أربع مئة سنة. وقال هنا: {من الأخسرين}، وفي الصافات: {من الأسفلين} لما تقدم على كل منهما، فتمت المناسبة في الموضعين. 71 - {وَنَجَّيْنَاهُ} أي: إبراهيم من الإحراق، ومن شر النمرود {وَ} نجينا معه {لُوطًا} ابن أخي إبراهيم هاران الأصغر من الخسف، وكان لهما أخ ثالث، اسمه: ناخور، والثلاثة أولاد آزر، وأما هاران الأكبر، فكان عمّا لإبراهيم، وكانت سارة بنت عم إبراهيم، الذي هو هاران الأكبر مهاجرين {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي

[72]

بَارَكْنَا فِيهَا}؛ أي: أنزلنا البركة فيها للعالمين في الدين والدنيا؛ أي: أخرجناهما من العراق إلى أرض الشام المباركة، وقد (¬1) خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق، ومعه لوط وسارة يلتمس الفرار والأمان بدينه، والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حرّان، فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها، وجاء إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، ونزل بفلسطين، وترك لوطًا بالمؤتفكة، وهي منها مسيرة يوم وليلة، وبعثه الله نبيًا إلى أهلها. وقد كان الله تعالى، بارك في الأرض المقدسة، ببعث أكثر الأنبياء فيها، ونشر شرائعهم، التي هي البركات الحقيقية، الموصلة للعالمين، إلى الكمالات والسعادة الدينية والدنيوية، وبكثرة الماء. والشجر والثمر والحطب وطيب عيش الغني والفقير فيها. 72 - ثم ذكر سبحانه ما أفاضه من النعم على إبراهيم فقال: 1 - {وَوَهَبْنَا لَهُ}؛ أي: لإبراهيم بعد نزوله في الأرض المباركة، وطلب الولد منها {إِسْحَاقَ} ولدا لصلبه من سارة، معناه: بالعبرانية الضحّاك، كما أن معنى إسماعيل بها، مطيع الله {وَيَعْقُوبَ}؛ أي: ووهبنا له يعقوب أيضًا، حال كونه {نَافِلَةً}؛ أي: ولد ولد، فهو حال من المعطوف عليه، فقط لعدم اللبس، وسمّي يعقوب؛ لأنه خرج عقيب أخيه عيص أو متمسكاً بعقبه، وعاش إسحاق مئة وسبعاً وأربعين سنة، كذا في "التحبير". وقيل المعنى (¬2): وهبناهما لإبراهيم نافلة؛ أي: عطية وفضلًا من غير أن يكونا جزاءاً مستحقاً. فنافلة منصوب على المصدر. وقيل (¬3): النافلة الزيادة، وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه، أن يهب له ولدًا، فوهب له إسحاق، ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة؛ أي: زيادة. 2 - {وَكُلًّا}؛ أي: وكل واحد من هؤلاء الأربعة: إبراهيم ولوط وإسحاق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[73]

ويعقوب، لا بعضهم دون بعض، جعلناه صالحًا عاملاً بطاعة ربه، تاركًا لمعاصيه. وقيل: المراد بالصلاح هنا النبوة. 3 - 73 {وَجَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: وجعلنا هؤلاء الأربعة {أَئِمَّةً}؛ أي: رؤساء يقتدى بهم، في الخيرات، وأعمال الطاعات {يَهْدُونَ}؛ أي: يدعون الناس إلى دين الله تعالى، {بِأَمْرِنَا} لهم بذلك، وإذننا لهم فيه؛ أي: بما أنزلنا عليهم من الوحي، حتى صاروا مكملين. 4 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى هؤلاء الأربعة، فيما أوحينا {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}؛ أي: أن افعلوا الطاعات، واتركوا المحرمات، حتى صاروا كاملين، بانضمام العمل إلى العلم، بناء على أن التكاليف، يشترك فيها الأنبياء والأمم. 5 - 6 {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} من (¬1) عطف الخاص على العام، دلالة على فضله، وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين، لقيام المضاف إليه مقامها، أي: وأوحينا إليهم أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقد خصهما بالذكر من بين سائر العبادات؛ لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية، والمال شقيق الروح، ومجموع العبادتين تعظيم الخالق والشفقة على المخلوق. وبعد أن بيّن صنوف نعمه عليهم، ذكر اشتغالهم بعبادته، فقال: {وَكَانُوا}؛ أي: وكان هؤلاء الأربعة {لَنَا} خاصة دون غيرنا {عَابِدِينَ}؛ أي: مطيعين فاعلين لما نأمرهم به، تاركين ما ننهاهم عنه، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا، والعبادة غاية التذلل. 74 - وبعد أن ذكر ما أنعم به على إبراهيم، أتبعه بذكر ما أنعم به على لوط، فقال: 1 - {وَلُوطًا} منصوب بمضمر يفسره قوله: {آتَيْنَاهُ}؛ أي: وآتينا لوطًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[75]

{حُكْمًا}؛ أي: فصلًا بين الخصوم في القضاء؛ أي: حسنه. 2 - {وَعِلْمًا} بأمر دينه وما يجب عليه لله من واجب الطاعة والإخبات له؛ أي: علما نافعًا، يتعلق بأمور الدين، وقواعد الشرع والملة. 3 - {وَنَجَّيْنَاهُ}؛ أي: ونجينا لوطا {مِنَ الْقَرْيَةِ}؛ أي: من عذاب أهل قرية سدوم، أعظم القرى المؤتفكة؛ أي: المجعول عاليها سافلها، وهي سبع كما سبق {الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}؛ أي: التي كان أهلها يعملون الأعمال الخبائث، والرذائل الدنيئة (¬1): من اللواط ورمى المارّة بالبندق، واللعب بالطيور، والتضارط في أنديتهم، وغير ذلك؛ أي: ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل تلك القرية التي كانت تعمل خبائث الأعمال التي من أشنعها إتيان البيوت من غير أبوابها. ثم بيّن السبب الذي دعاهم إلى ذلك فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: أهل تلك القرية {كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ}؛ أي: قومًا أصحاب عمل سيء {فَاسِقِينَ}؛ أي: خارجين عن طاعتنا، منهمكين في الكفر والمعاصي، متوغلين في ذلك؛ أي: إن الذي حملهم على ذلك، وجرّأهم على ارتكابه، أنهم كانوا خارجين عن طاعة الله، منتهكين حرماته، قد دسوا أنفسهم بقبيح الأفعال والأقوال، فلا عجب إذا هم لجّوا في طغيانهم يعمهون. وفي (¬2) الآية إشارة إلى أن النجاة من الجليس السوء من المواهب، والاقتران معه من الخذلان. 4 - 75 {وَأَدْخَلْنَاهُ}؛ أي: أدخلنا لوطا {فِي رَحْمَتِنَا}؛ أي: في أهل رحمتنا بإنجائه من القوم المذكورين، أو في أهل رحمتنا الخاصة، وهي النبوة، أو وجعلناه في جملة من يستحقون رحمتنا ولطفنا، بإدخاله جنتنا، كما جاء في الحديث الصحيح: "قال الله، عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي". ثمَّ ذكر علة هذا بقوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إن لوطًا كان {من عبادنا الصالحين} الذين سبقت لهم منا الحسنى، إذ كان ممن يعملون بطاعتنا، فيأتمرون بأمرنا وينتهون عن نهينا. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[76]

76 - ولمّا ذكر تعالى قصة إبراهيم، وهو أبو العرب، وتنجيته من أعدائه، ذكر قصة أبي العالم الأنسي كلهم، وهو الأب الثاني لآدم؛ لأنه ليس أحد إلّا من نسله، من سام وحام ويافث، فقال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى}؛ أي: واذكر أيها الرسول الكريم نوحًا؛ أي: قصة نوح إذ نادى ودعا ربه بالهلاك، على قومه حين كذبوه؛ أي: اذكر نبأه، الواقع حين دعائه على قومه بالهلاك {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هؤلاء المذكورين {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه الذي هو قوله: "إني مغلوب فانتصر"؛ أي: أجبنا له دعاءه بإهلاك قومه {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} المؤمنين به {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}؛ أي (¬1): من الغم العظيم، الذي كانوا فيه من أذى قومه، أو من الغرق بالطوفان. والمعنى (¬2): أي واذكر أيها الرسول نبأ نوح، إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل هؤلاء المذكورين، فسألنا أن نهلك قومه، الذين كذبوا الله، فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوه فيما آتاهم به، من الحق عند ربه، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهل الإيمان من أولاده وأزواجهم، ومن قومه مما حل بالمكذبين من الغرق. روى أنه بعث وهو ابن الأربعين، ومكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فذلك ألف وخمسون سنة. كذا في "التحبير". 77 - {وَنَصَرْنَاهُ}؛ أي: ونصرنا نوحًا نصرًا مستتبعًا للانتقام والانتصار، ولذلك عدي بمن حيث قال: {مِنَ الْقَوْمِ}؛ أي: انتقمنا له من القوم {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: بحججنا وأدلتنا كلها أولًا وآخرًا. وقيل: من بمعنى على؛ أي نصرناه على القوم الذين كذبوا بآياتنا، قاله أبو عبيدة. وقيل: معنى نصرناه؛ أي: حفظناه من أن يصلوا (¬3) إليه بسوء مع طول مكثه فيهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[78]

ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ}؛ أي: أصحاب عمل سيء من الشرك والمعاصي {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} بالطوفان {أَجْمَعِينَ}؛ أي: كلهم، فلم نترك منهم أحدا، بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم لإصرارهم على تكذيب الحق، ولانهماكهم في الشر والفساد، فإنه لم يجتمع الإصرار على التكذيب والانهماك في الشر والفساد في قوم .. إلّا أهلكهم الله تعالى. وهذا بيان للوجه الذي خلصه الله منهم به. والمعنى: أي لأنهم كانوا يسيئون الأعمال فيعصون الله، ويخالفون أوامره ويتصدون لأذى نبيهم، ويتواصون جيلاً بعد جيل، بمخالفة أمره، ورفع راية العصيان في وجهه. 78 - {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}؛ أي: واذكر أيها الرسول نبأ داود وسليمان وقصتهما {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي} شأن {الْحَرْثِ} والزرع. قيل: كان زرعاً. وقيل: كرمًا. واسم الحرث يطلق عليهما {إِذْ نَفَشَتْ} وانتشرت وتفرقت ورعت. ظرف للحكم {فِيهِ}؛ أي: في ذلك الزرع {غَنَمُ الْقَوْمِ} ليلا ترعى بلا راع، فرعته وأفسدته، فإن النفش أن ينتشر الغنم ليلًا بلا راع. والغنم محركة، الشاة، لا واحد لها من لفظها. الواحدة شاة، كما سيأتي في مبحث التصريف {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ}؛ أي: لحكم (¬1) داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع؛ لأن الاثنين جمع، كذا قاله الفراء، وفيه دليل لمن يقول، بأن أقل الجمع اثنان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} على التثنية، أو المعنى لحكمهم؛ أي: لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، قاله أبو سليمان الدمشقي {شَاهِدِينَ}؛ أي: حاضرين غير غائبين؛ أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لا يخفى علينا من أمرهم شيء. فإن قيل (¬2): كيف يجوز أن يجعل الضمير لمجموع الحاكمين، والمتحاكمين، وهو يستلزم إضافة المصدر إلى فاعله ومفعوله دفعةً واحدةً، وهو ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

[79]

إنما يضاف إلى أحدهما فقط؛ لأن إضافته إلى الفاعل على سبيل القيام به. وإضافته إلى المفعول على سبيل الوقوع عليه، فهما معمولان مختلفان، فلا يكون اللفظ الواحد مستعملاً فيهما معًا، وأيضًا أنه يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، لأن إضافته إلى الفاعل حقيقةٌ، وإلى المفعول مجاز؟ فالجواب: أن هذه الإضافة لمجرد الاختصاص، مع كون القطع عن كون المضاف إليه فاعلًا أو مفعولًا، على طريق عموم المجاز، كأنه قيل: وكنا للحكم المتعلق بهم {شَاهِدِينَ} حاضرين علمًا، وهو مفيد لمزيد الاعتناء بشأن الحكم. وجملة قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} اعتراضية (¬1). 79 - وجملة قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا} معطوفة على {إِذْ يَحْكُمَانِ}؛ لأنه في حكم الماضي. وقرأ عكرمة: {فَأفَهَّمْنَاهَا} عُدي بالهمزة كما عدى في قراءة الجمهور بالتضعيف، فالضمير في {فَفَهَّمْنَاهَا} للحكومة أو الفتوى؛ أي: ففهمنا الحكومة {سُلَيْمَانَ} وهو ابن إحدى عشرة سنة. قال في "التأويلات النجمية". يشير إلى رفعة درجة بعض المجتهدين على بعض، وأن الاعتبار في الكبر والفضيلة بالعلم، وفهم الأحكام والمعاني والأسرار، لا بالسن، فإنه فهم بالأحق والأصوب، وهو ابن صغير، وداود نبي مرسل كبير. وفي القصص (¬2): أن بني إسرائيل حسدوا سليمان على ما أوتي من العلم في صغر سنه، فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود إن الحكمة تسعون جزءًا، سبعون منها في سليمان، وعشرون في بقية الناس؛ أي: علّمناه وألهمناه حكم القضية {وَكُلًّا}؛ أي: كل واحد من داود وسليمان {آتَيْنَا}؛ أي: أعطيناه {حُكْمًا} أي: فيصلاً؛ أي: علم فصل بين الخصوم {وَعِلْمًا} كثيرًا نافعًا في الدين والدنيا، لا سليمان وحده، فحكم كليهما حكم شرعي. وعاش دادو مئة سنة، وابنه سليمان تسعًا وخمسين سنة. كذا في "التحبير". والمعنى: أي (¬3) واذكر أيها الرسول الكريم نبأ داود وسليمان عليهما السلام حين حكما في الزرع الذي رعته غنمٌ لقوم آخرين غير صاحب الحرث، ليلًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

فأفسدته، وكان ربك شاهدًا عليمًا، بما حكم به داود وسليمان بين القوم، الذين أفسدت غنمهم الحرث، وصاحب الحرث لا يخفى عليه شيء منه، ولا يغيب عنه علمه، ففهم الفتيا في ذلك لسليمان دون داود، وقد كان كل منهما فيصلًا في الحكم وفي الخصومات، ذا علم بالدين والتشريع. وقد روى الرواة في تفصيل هذه القصة: أن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا الرجل أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق منه شيئًا، فقال داود: اذهب فإن الغنم كلها لك. ومر صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود، فقال: يا نبي الله، إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال: كيف؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من درّها وأولادها وأشعارها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان، ثم يترادَّان فيأخذ صاحب الحرث حرثه، وصاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. وجه الرأي لدى كل منهما (¬1)، أن داود قدر الضرر في الحرث، فكان مساويًا لقيمة الغنم، فسلم الغنم للمجني عليه، وأن سليمان قدر منافع الغنم بمنافع الحرث فحكم بها، وكان حكمهما بالاجتهاد دون الوحي، إذ لو كان به ما أمكن تغييره. فإن قلت: فما حكم (¬2) هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية؟ قلت: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث البراء، أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينًا، أو قيمةً. وقد ذهب جمهور فيه العلماء، إلى العمل بما تضمنّه هذا الحديث. وقد ذهب أبو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين، إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعًا في ليل أو نهار، أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جرح العجماء جبار" قياسًا لجميع أفعالها على جرحها. ويجاب عنه، بأن هذا القياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص، ومن أهل العلم، من ذهب إلى أنه، يضمن رب الماشية، ما أفسدته، من غير فرق بين الليل والنهار. ويجاب عنه بحديث البراء. ولما مدح داود وسليمان علي سبيل الاشتراك، ذكر ما يختص بكل واحد منهما، نبدأ بداود، فقال: {وَسَخَّرْنَا}؛ أي: وذلّلنا {دَاوُودَ الْجِبَالَ} و {مَعَ} متعلقة بالتسخير، وهو تذليل الشيء وجعله طائعًا منقادًا، وقوله: {يُسَبِّحْنَ} حال من الجبال؛ أي (¬1): حالة كونهن يقدسن الله تعالى، بحيث يسمع الحاضرون تسبيحهن، فإنه هو الذي يليق بمقام الامتنان، لا انعكاس الصدى، فإنه عام. وكذا ما كان بلسان الحال فاعرف؛ أي: (¬2) ينطق بالتسبيح، وكان داود يسبح وحده، فالله تعالى خلق فيها الكلام، كما سبّح الحصى في كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع الناس ذلك. وقال أبو حيان (¬3): قيل كان يمر بالجبال مسبّحًا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق، خلق الله فيها الكلام كما سبّح الحصى في كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع الناس ذلك، وكان داود يسمعه، قاله يحيى بن سلام. وقيل: كل واحد. وقوله: {وَالطَّيْرَ} بالنصب عطفًا على الجبال؛ أي: وسخرنا الطير معه حالة كونها تسبّح معه. وقدمت الجبال على الطير (¬4) لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد، والطير حيوان، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

[80]

يعني إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}؛ أي: قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبًا عندكم، أو فاعلين هذه الأعاجيب، من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا. روي أن داود كان إذا مرّ يسمعه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. وقرىء (¬1) {وَالطَّيْرَ} مرفوعًا على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: مسخر، لدلالة "سخرنا" عليه، أو على الضمير المرفوع في {يُسَبِّحْنَ} على مذهب الكوفيين، وهو توجيه قراءة شاذة. ومعنى الآية: أي (¬2) وسخرنا الجبال والطير لداود، تقدس الله معه، بحيث تتمثل له مسبحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق في التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا، وإن كنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين في التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله في نظرهم مسبحًا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به، بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه. ونحو الآية قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. 80 - {وَعَلَّمْنَاهُ}؛ أي: وعلمنا داود {صَنْعَةَ لَبُوسٍ}؛ أي: عمل الدروع وإصلاحها والصنع (¬3) وهذا الصنعة إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، والصناعة حرفة الصانع كالكتابة والحياكة، وعمل الصنعة. واللبوس في الأصل: اللباس درعًا كان أو غيرها، وكانت الدروع قبل داود صفائح؛ أي: قطع حديد عراضا، فحلقها وسردها {لَكُمْ} أي: لأجل نفعكم يا أهل مكة فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار، كأنه طين، فهو متعلق بـ "علمنا"، أو بمحذوف هو صفة {لبوس}. والمعجزة فيه أنه فعل ذلك من غير استعانة بأداة وآلةٍ، من نحو الكير والنار ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

والسندان والمطرقة، وكان لقمان يجلس مع داود، ويرى ما يصنع ويهم أن يسأل عنها؛ لأنه لم يرها قبل ذلك، فيسكت، فلما فرغ داود من الدرع قام وأفرغه على نفسه، وقال: نعم الرداء هذا للحرب. فقال لقمان عندها: إن من الصمت لحكمة، قالت الحكماء: وإن كان الكلام فضة فالصمت من ذهب {لِتُحْصِنَكُمْ}؛ أي: لتحرزكم وتحفظكم تلك اللبوس والدروع، وهو بدل اشتمال من {لَكُمْ} بإعادة الجار؛ لأن {لِتُحْصِنَكُمْ} في تأويل لإحصانكم، وبين الإحصان وضمير لكم ملابسة الاشتمال، مبين لكيفية الاختصاص، والمنفعة المستفادة من لكم {مِنْ بَأْسِكُمْ}؛ أي: من حرب عدوكم. والبأس هنا بمعنى الحرب، وإن وقع على السوء كله، وفي الآية دلالة على أن جميع الصنائع بخلق الله تعالى وتعليمه. وفي الحديث: "إن الله خلق كل صانع وصنعه". والمعنى: أي (¬1) وعلمناه صنعة الدروع، وقد كانت صفائح، فجعلها حلقا فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم أذى الحرب، من قتل وجرح ونحوهما {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم. والاستفهام هنا في معنى الأمر؛ أي: فاشكروا الله تعالى على ما يسره لكم من هذه الصنعة، التي تمنع عنكم غوائل الحروب، وتقيكم ضررها وعظيم أذاها. والخطاب (¬2) فيه لهذه الأمة، من أهل مكة ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أخبر الله تعالى، أن أول من عمل الدروع داود، ثم تعلم الناس، فعمّت النعمة بها كل محارب، من الخلق، إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على هذه النعمة. وقال بعضهم: الخطاب لداود وأهل بيته، بتقدير القول؛ أي: فقلنا لهم بعدما أنعمنا عليهم بهذه النعم، فهل أنتم شاكرون، على ما أعطى لكم من النعم، التي ذكرت، من تسخير الجبال له، والطير، وإلانة الحديد، وعلم صنعة اللبوس. وقرىء (¬3): {لُبوس} بضم اللام، والجمهور بفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (¬4): {ليحصنكم} بالياء. وقرأ ابن عامر وحفص عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) زاد المسير. (¬4) البحر المحيط.

[81]

خفيفة. وقرأ أبو الدرداء وأبو عمران الجوني وأبو حيوة: {لتحصّنكم} بتاء مضمومة وفتح الحاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وحميد بن قيس: {لتحصّنكم} بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي وأبو المتوكل ومجاهد: {لنحصّنكم} بنون مضمومة وحاء مفتوحة وصاد مكسورة مع تشديدها. وقرأ معاذ القارىء وعكرمة وابن يعمر وعاصم الجحدري وابن السميقع: {ليحصّنكم} بياء مضمومة وحاء ساكنة وصاد مكسورة ونون مشددة. فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه، ويجوز أن يكون اللباس؛ لأن اللبوس بمعنى اللباس، من حيث إنه كان ضربًا منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم. وقد دل عليه {علمناه}. ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى؛ لأنه الدرع. ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ}، ومعنى لتحصنكم: لتحرزكم وتمنعكم من بأسكم؛ أي: من حربكم كما مرّ. 81 - {و} سخّرنا {لسليمان الريح} عبّر هنا باللام الدالة على التمليك، وفي حق داود بـ {مع} الدالة على الاصطحاب؛ لأن الجبال والطير لما اشتركا معه في التسبيح، ناسب فيه ذكر (مع) الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان، أتى بلام الملك؛ لأنها في طاعته وتحت أمره، اهـ من "البحر". والريح (¬1) جسم لطيف متحرك، ممتنع بلطفه، من القبض عليه، يظهر للحس بحركته، ويخفى عن البصر بلطفه. وقرأ الجمهور (¬2): {الريح} مفردًا بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردًا. وقرأ الحسن وأبو رجاء {الرياح} بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة. فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

وقوله: {عَاصِفَةً} حال من الريح؛ أي: (¬1) حالة كونها شديدة الهبوب، من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان، وكانت ليِّنة في نفسها، طيبة كالنسيم، فكان جمعها بين الرخاوة في نفسها، وعصفها في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها حسبما يريد، ويحتكم معجزة مع معجزة. وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت: قد وصف الله سبحانه، هنا الريح بالعصف، وفي آية أخرى بالرخاء، وهي الريح الليّنة، فبين الوصفين معارضة؟ قلتُ: لا منافاة بينهما؛ لأن الريح كانت تحت أمره، إن أراد أن تشتدّ، اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت، انتهت. وحالة كونها {تَجْرِي}؛ أي: الريح {بِأَمْرِهِ}؛ أي: بأمر سليمان وإذنه ومشيئته {إِلَى الْأَرْضِ} الشامية {الَّتِي بَارَكْنَا}؛ أي: أنزلنا البركة {فِيهَا} للعالمين بكثرة المياه والأنهار والأشجار، وكانت الريح تذهب به، غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض، وبينها وبين الشام مسيرة شهر، إلى وقت الزوال، ثم ترجع به منها بعد الزوال إلى الشام عند الغروب، كما قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} والمعنى؛ أي (¬2): وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، شديدة الهبوب تارةً، ورخاء لينة تارة أخرى، وفي كل حال منهما تجري بأمره إلى أي بقعة من الأرض المقدسة، فيخرج هو وأصحابه حين الغداة إلى حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله بالشام. قال مقاتل: عملت الشياطين لسليمان بساطًا فرسخًا في فرسخ من ذهب في إبريسم، وكان يوضع له منبر من ذهب في وسطه، فيقعد عليه، وحوله كراسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس، وترفع الريح الصبا، البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الغروب، وكان عليه السلام امرأ، قلّما يقعد عن الغزو، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[82]

ولا يسمع في ناحية من الأرض ملكًا إلّا أتاه ودعاه إلى الحق {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: بتدبير كل شيء من الكائنات {عَالِمِينَ} فنجريه على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا؛ فما آتيناه الملك والنبوة، وما سخرنا له الريح تجري بأمره إلَّا لعلمنا بما في ذلك من الحكمة والمصلحة، وأن قومه سيعرفون نعمتنا، فيشكروننا عليها 82 - {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ}؛ أي: وسخرنا له من الشياطين والجن، {مَنْ يَغُوصُونَ}؛ أي: يدخلون تحت البحر، ويستخرجون {لَهُ}؛ أي: لسليمان من نفائس البحر وجواهره ودرره، من اللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك {و} من {يَعْمَلُونَ} له {عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} المذكور؛ أي: عملًا آخر غير ذلك المذكور، من الغوص في البحر، كبناء المدن والمحاريب والتماثيل والقصور والجفان ونحو ذلك، واختراع الصنائع الغريبة، وهؤلاء (¬1) إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة {مَنْ}، كأنه قيل: ومن يعملون. روي أن المسخر له كفارهم لا مؤمنوهم، لقوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ}. {وَكُنَّا} نحن {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء الشياطين المسخرين له {حَافِظِينَ} من أن يزيغوا عن أمره ويعصوا ويتمردوا عليه، أو يفسدوا ما عملوا على ما هو مقتضى جبلتهم، وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والشياطين وإن كانوا أجسامًا لطيفة، لكنهم يتشكلون بأشكال مختلفة، ويقدرون على الأعمال الشاقة. ألا ترى أن لطافة الريح لا تمنع عصوفها، لا سيما أنهم تكشفوا في زمن سليمان، فكانوا بحيث يراهم الناس ويستعملونهم في الأعمال. وقال في "الأسئلة المقحمة": فلماذا لم تخرج الشياطين عن طاعة سليمان مع استعمالهم في تلك الأمور الشديدة؟ فالجواب أن الله تعالى، أوقع لسليمان في قلوبهم من الخوف والهيبة، حتى خافوا أن يخرجوا عن طاعته، وهذا من معجزاته. والمعنى: أي (¬2) وكنا حافظين لأعمالهم، فلا يناله أحد منهم بسوء، فكل في قبضته، وتحت قهره، لا يجسر على الدنو منه، وهو المتحكم فيهم، إن شاء حبس، وإن شاء أطلق، كما قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الإعراب {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: عاطفة. و {اللام}: موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل. {إِبْرَاهِيمَ}: مفعول أول. {رُشْدَهُ} مفعول ثان. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور، حال من إبراهيم؛ أي: حالة كونه من قبل موسى وهارون، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ}. {وَكُنَّا}: الواو: عاطفة {كنا} فعل ناقص واسمه. {بِهِ} متعلق بـ {عَالِمِينَ} خبر {كان}، وجملة {كان} معطوفة على جملة {آتَيْنَا}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {آتَيْنَا} أو متعلق بـ {اذكر} محذوفًا. {قَالَ} فعل ماض، وفعله ضمير يعود على إبراهيم. {لِأَبِيهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {وَقَوْمِهِ} معطوف على {أبيه}، وجملة {قَالَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي، في محل الرفع مبتدأ، {هَذِهِ} خبر. {التَّمَاثِيلُ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول قال، {الَّتِي} صفة للتماثيل. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {لَهَا} متعلق بـ {عَاكِفُونَ}. {عَاكِفُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {وَجَدْنَا}: فعل وفاعل. {آبَاءَنَا} مفعول أول ومضاف إليه. {لَهَا} متعلق بـ {عَابِدِينَ} {عَابِدِينَ} مفعول ثان، وجملة وجد في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. {لَقَدْ كُنْتُمْ ...} إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قَالَ}. وإن شئت قلت: {اللام}، موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {أَنْتُمْ} تأكيد لتاء

المخاطبين. {وَآبَاؤُكُمْ} معطوف على التاء. {فِي ضَلَالٍ}: جار ومجرور خبر {كان}. {مُبِينٍ} صفة لـ {ضَلَالٍ}، وجملة {كان} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب، مقول {قَالَ}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَجِئْتَنَا}: إلى آخر الآية، مقول محكي. وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التعجبي الاستبعادي. {جئتنا} فعل وفاعل ومفعول. {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {جئتنا}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَمْ} حرف عطف متصل معادل للهمزة. {أَنْتَ}. مبتدأ {مِنَ اللَّاعِبِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {جئتنا}. {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. {بَلْ رَبُّكُمْ} إلى قوله: {مُدْبِرِينَ} مقول محكي. وإن شئت قلت: {بَلْ}: حرف ابتداء وإضراب. {رَبُّكُمْ} مبتدأ ومضاف إليه. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} خبر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ} معطوف على السموات، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} {الَّذِي} اسم موصول، في محل الرفع. صفة لـ {رَبُّ السَّمَاوَاتِ}. {فَطَرَهُنَّ} فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {وَأَنَا} مبتدأ. {عَلَى ذَلِكُمْ}: متعلق بـ {الشَّاهِدِينَ}. {مِنَ الشَّاهِدِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَتَاللَّهِ} {الواو}: عاطفة و {التاء} حرف جر وقسم. {الله} مقسم به مجرور بتاء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم تالله، والجملة القسمية في محل النصب معطوفة على جملة بل ربكم على كونها مقول قال. {لَأَكِيدَنَّ} اللام موطئة للقسم. {أكيدن} فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {أَصْنَامَكُمْ} مفعول به، والجملة جواب

القسم، لا محل لها من الإعراب. {بَعْدَ} ظرف متعلق بـ {أكيدن}. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {تُوَلُّوا} فعل مضارع وفاعل منصوب بحذف النون. {مُدْبِرِينَ} حال من فاعل {تُوَلُّوا}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: بعد توليتكم مدبرين. {فَجَعَلَهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال إبراهيم لهم، وأردت بيان ما فعله بالأصنام، فأقول لك: جعل إبراهيم الأصنام جذاذًا. {جعل}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول. {جُذَاذًا} مفعول ثان. {إِلَّا} أداة استثناء {كَبِيرًا} منصوب على الاستثناء من ضمير {جعلهم}. {لَهُمْ} صفة لـ {كَبِيرًا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة استئنافًا بيانيًا {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه. {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَرْجِعُونَ}، وجملة {يَرْجِعُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة لعل، في محل الجر بلام التعليل المقدرة، مسوقة لتعليل الاستثناء. {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مَنْ} اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ. {فَعَلَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {هَذَا} مفعول به. {بِآلِهَتِنَا} متعلق بـ {فَعَلَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قالوا. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {لَمِنَ} اللام: حرف ابتداء. {من الظالمين} جار ومجرور خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول قالوا، مسوقة لتأكيد إنكار ما قبلها. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {سَمِعْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {فَتًى}: مفعول أول لـ {سمع}، وجملة {يَذْكُرُهُمْ} في محل النصب مفعول ثان له؛ لأن سمع هنا دخل على ما لا يسمع، فيتعدى إلى مفعولين، بخلاف ما إذا دخل على ما يسمع، كسمعت كلام زيد، يقول كذا

وكذا، فيتعدى إلى مفعول واحد. {يُقَالُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {لَهُ}: متعلق به. {إِبْرَاهِيمُ} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {فَتًى} {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {فَأْتُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر. تقديره: إذا كان الأمر كذلك، وأردتم إقامة البينة عليه فنقول لكم: ائتوا به. {ائتوا} فعل أمر وفاعل. {بِهِ} متعلق به. {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من الضمير في {بِهِ}؛ أي: ائتوا به حال كونه معاينًا، مشاهدًا للناس، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول قالوا. {لَعَلَّهُمْ} لعل حرف نصب وتعليل، والهاء اسمها، وجملة {يَشْهَدُونَ} خبرها ومفعول الشهادة محذوف تقديره: أنه الفاعل ذلك، وجملة {لعل} في محل النصب مقول قالوا، مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}. {قَالُوا}: فعل وفعل، والجملة مستأنفة. {أَأَنْتَ} الهمزة للاستفهام التوبيخي. {أنت}: مبتدأ، {فَعَلْتَ هَذَا}: فعل وفاعل ومفعول. {بِآلِهَتِنَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قالوا. {يَا إِبْرَاهِيمُ} منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول قالوا. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. {بَلْ} حرف إضراب وابتداء. {فَعَلَهُ}: فعل ومفعول. {كَبِيرُهُمْ} فاعل ومضاف إليه. {هَذَا} نعت لـ {كَبِيرُهُمْ}، أو بدل منه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاسْأَلُوهُمْ} الفاء عاطفة. {اسألوهم} فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِنْ} حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وجملة {يَنْطِقُونَ} في محل النصب خبر

{كان}، جواب {إِن} الشرطية محذوف دل عليه ما قبلها تقديره: إن كانوا ينطقون فاسألوهم، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَرَجَعُوا} الفاء: عاطفة. {رجعوا} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}. {إِلَى أَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {رجعوا}. {فَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {رجعوا}. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {أَنْتُمُ}: ضمير فصل. {الظَّالِمُونَ} خبر {إن}، ويجوز يجعل {أَنْتُمُ} مبتدأ، {الظَّالِمُونَ} خبره، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالوا}. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {نُكِسُوا}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قالوا}. {عَلَى رُءُوسِهِمْ} جار ومجرور حال من الواو؛ أي: حال كونهم كائنين على رؤوسهم، أو متعلق بـ {نُكِسُوا}. {لَقَدْ} اللام موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {عَلِمْتَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من الواو في نكسوا، تقديره: ثم نكسوا على رؤوسهم، حالة كونهم قائلين: والله لقد علمت. {مَا} حجازية. {هَؤُلَاءِ} في محل الرفع اسمها، وجملة {يَنْطِقُونَ} في محل النصب خبرها، وجملة ما الحجازية في محل النصب، سادّة مسد مفعولي علم، إن كانت يقينية، أو مسدّ مفعوله إن كانت عرفانية. {قَالَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَفَتَعْبُدُونَ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {تعبدون}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتعلمون عدم نطقها فتعبدون. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من واو تعبدون؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. {مَا} موصولة في محل النصب مفعول

{تعبدون}. {لَا يَنْفَعُكُمْ} فعل ومفعول به أول، وفاعله مستتر يعود على ما. {شَيْئًا} مفعول مطلق أو ثان. {وَلَا يَضُرُّكُمْ} معطوف على {يَنْفَعُكُمْ}، وجملة {ينفع} صلة لـ {مَا} الموصولة. {أُفٍّ} اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم تقديره: أنا. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {أُفٍّ}. واللام فيه للبيان، وجملة اسم الفعل مع فاعله في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلِمَا}: جار ومجرور معطوف على لكم. {تَعْبُدُونَ} فعل وفاعل صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ولما تعبدونه. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من واو الفاعل في تعبدون. {أَفَلَا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. (لا) نافية. {تَعْقِلُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أجننتم فلا تعقلون سوء صنيعكم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {حَرِّقُوهُ}: فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {حَرِّقُوهُ}. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها. {فَاعِلِينَ} خبره، وجواب {إِن} الشرطية محذوف دل عليه ما قبلها، تقديره: إن كنتم فاعلين فحرقوه وانصروا آلهتكم، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {يَا نَارُ} منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل النصب مقول قلنا. {كُونِي}: فعل أمر ناقص واسمه. {بَرْدًا}، خبر كوني. {وَسَلَامًا}: معطوف عليه، وجملة كوني في محل النصب، مقول {قُلْنَا} على كونه جواب النداء. {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} جار ومجرور صفة {سَلَامًا}. {وَأَرَادُوا} فعل وفاعل، {بِهِ} متعلق به. {كَيْدًا} مفعول به، والجملة مستأنفة. {فَجَعَلْنَاهُمُ} الفاء عاطفة. {جعلناهم} فعل وفاعل ومفعول

أول. {الْأَخْسَرِينَ} مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {أرادوا}. {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}. {وَنَجَّيْنَاهُ}: {الواو}: عاطفة. {نجيناه} فعل وفاعل ومفعول. {وَلُوطًا} معطوف على ضمير المفعول، أو مفعول معه، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَرَادُوا بِهِ} {إِلَى الْأَرْضِ}: متعلق بـ {نجينا}، أو متعلق بمحذوف حال، من ضمير المفعول والمعطوف عليه؛ أي: حال كونهما مهاجرين إلى الأرض. {الَّتِي} صفة للأرض. {بَارَكْنَا} فعل وفاعل، {فِيهَا} متعلق بـ {بَارَكْنَا}. {لِلْعَالَمِينَ} متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير فيها. {وَوَهَبْنَا} فعل وفاعل معطوف على {نجينا}. {لَهُ} متعلق بـ {وهبنا}. {إِسْحَاقَ} مفعول به. {وَيَعْقُوبَ} معطوف على {إِسْحَاقَ}، والجملة معطوفة على جملة {نجيناه}. {نَافِلَةً} حال من {يعقوب}؛ أي: ووهبنا له يعقوب، حالة كونه زيادة من غير سؤال؛ لأن المعنى ووهبنا له إسحاق إجابة لسؤاله، ويعقوب زيادة على مسؤوله، ويصح أن يكون مفعولًا مطلقًا، معنويًا لـ {وهبنا}؛ لأن الهبة والعطية متقاربتان. {وَكُلًّا} مفعول أول لـ {جَعَلْنَا} مقدم عليه. {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل. {صَالِحِينَ}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {وهبنا}. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)}. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {جعلنا}. {يَهْدُونَ} فعل وفاعل، والجملة صفة لـ {أَئِمَّةً}. {بِأَمْرِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من واو {يَهْدُونَ}، تقديره: يهدون إلى ديننا ملتبسين بأمرنا. {وَأَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل {إِلَيْهِمْ} متعلق به. {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}. مفعول به. {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}: معطوفان على {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {وَجَعَلْنَاهُمْ}. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه.

{لَنَا} متعلق بـ {عَابِدِينَ}. {عَابِدِينَ} خبر {كان}، والجملة معطوفة على جملة {وَأَوْحَيْنَا}. {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}. {وَلُوطًا}: منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وآتينا لوطًا، فهو مفعول أول له، فهو من باب الاشتغال، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {وَأَوْحَيْنَا}، {آتَيْنَاهُ} مفسرة، لا محل لها من الإعراب. {حُكْمًا}: مفعول ثان لـ {آتيناه} المحذوف. {وَعِلْمًا}: معطوف على {حُكْمًا}. {وَنَجَّيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آتَيْنَاهُ}. {مِنَ الْقَرْيَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نجيناه}. {الَّتِي} صفة لـ {الْقَرْيَةِ}. {كَانَتْ} فعل ناقص واسمها ضمير مستتر، يعود على الموصول. {تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على القرية وجملة {تَعْمَلُ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {قَوْمَ سَوْءٍ} خبره. {فَاسِقِينَ}: صفة {قَوْمَ}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {وَأَدْخَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {نجيناه}. {فِي رَحْمَتِنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أدخلنا}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {مِنَ الصَّالِحِينَ}: خبره، وجملة {إن} مستأنفة. {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}. {وَنُوحًا}: معطوف على {لوطا}، فيكون مشتركًا معه في عامله، الذي هو {آتينا} المفسربـ {آتَيْنَاهُ} الظاهر، وكذلك داود وسليمان، والتقدير: ونوحًا آتيناه حكمًا، وداود وسلميان آتيناهما حكما. و {إِذْ} بدل اشتمال من نوحًا، وداود وسليمان، ولك أن تعرب نوحًا وداود وسليمان مفعولًا به لفعل محذوف،

تقديره: واذكر نوحًا وداود وسليمان؛ أي اذكر خبرهم وقصتهم، فتكون {إِذْ} منصوبة بنفس المقدر؛ في: خبرهم الواقع في وقت كذا. {نَادَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {نوح}. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه. {فَاسْتَجَبْنَا} الفاء: عاطفة. {استجبنا}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {نَادَى}. {فَنَجَّيْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {استجبنا}. {مِنَ الْكَرْبِ} جار ومجرور متعلق بـ {نجينا}. {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الكرب}. {وَنَصَرْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {نجينا}. {مِنَ الْقَوْمِ}. متعلق بـ {نصرناه}. {الَّذِينَ} صفة لـ {الْقَوْمِ}. {كَذَّبُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه. {قَوْمَ سَوْءٍ} خبر {كان}. {سَوْءٍ}: مضاف إليه، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول. {أَجْمَعِينَ}. تأكيد لهاء الغائبين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَانُوا}. {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}. {وَدَاوُودَ}: مفعول لفعل محذوف تقديره: واذكر داود. {وَسُلَيْمَانَ} معطوف عليه كما مر. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالمضاف المقدر، كما مر، تقديره: واذكر خبر داود وسليمان الواقع في وقت كذا وكذا. {يَحْكُمَانِ} فعل وفاعل. {فِي الْحَرْثِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِذْ نَفَشَتْ} إذ ظرف لما مضى. بدل من إذا الأولى، على كونه متعلقًا بالمضاف المحذوف. {نَفَشَتْ} فعل ماض. {فِيهِ} متعلق به. {غَنَمُ الْقَوْمِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَكُنَّا} الواو: اعتراضية. {كنا}: فعل ناقص واسمه. {لِحُكْمِهِمْ} متعلق بـ {شَاهِدِينَ}.

{شَاهِدِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} معترضة لا محل لها من الإعراب، {فَفَهَّمْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول ثان. {سُلَيْمَانَ}: مفعول أول، قدم عليه الثاني، لكونه ضميرًا متصلًا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {يَحْكُمَانِ}؛ لأنه بمعنى الماضي. {وَكُلًّا}، مفعول أول مقدم لـ {آتَيْنَا}. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل. {حُكْمًا} مفعول ثان. {وَعِلْمًا}: معطوف عليه، والجملة معطوفة على جملة {ففهمنا}. {وَسَخَّرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {آتَيْنَا}. {مَعَ دَاوُودَ} متعلق بـ {سخرنا}. {الْجِبَالَ} مفعول به. {يُسَبِّحْنَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الجبال؛ أي: حالة كونها مسبحة. {وَالطَّيْرَ} معطوف على الجبال، أو مفعول معه. {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على {آتَيْنَا}، أو على {سخرنا}. {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}. {وَعَلَّمْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} مفعول ثان. و {لَبُوسٍ} مضاف إليه. {لَكُمْ}: متعلق بـ {علمناه}، والجملة معطوفة على جملة {سَخَّرْنَا}. {لِتُحْصِنَكُمْ} اللام حرف جر وتعليل. {تحصنكم} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على {صَنْعَةَ لَبُوسٍ}. {مِنْ بَأْسِكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {تحصنكم} والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لإحصانها إياكم، الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور قبله، على كونه متعلقًا بعلّمناه. {فَهَلْ} الفاء: استئنافية. {هل} حرف استفهام للاستفهام التوبيخي، {أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}. {وَلِسُلَيْمَانَ}: {الواو}: عاطفة، {لسليمان}: متعلق بمحذوف تقديره: وسخرنا لسليمان، والجملة المحذونة، معطوفة على جملة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ}.

{الرِّيحَ} مفعول به لـ {سخرنا} المحذوف المفهوم من قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ}. {عَاصِفَةً} حال من {الرِّيحَ} {تَجْرِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الرِّيحَ}. {بِأَمْرِهِ} متعلق بـ {تَجْرِي}، وكذا يتعلق به قوله: {إِلَى الْأَرْضِ}، وجملة تجري في محل النصب حال ثانية من {الرِّيحَ}. {الَّتِي} صفة لـ {الأرض}. {بَارَكْنَا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {فِيهَا} متعلق بـ {بَارَكْنَا}. {وَكُنَّا} فعل ناقص واسمه. {بِكُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عَالِمِينَ} و {عَالِمِينَ} خبره وجملة {كان} جملة اعتراضية، أو استئنافية، لا محل لها من الإعراب. {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ}: خبر مقدم. {مَن} اسم الموصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} عطف اسمية على فعلية، ولك أن تعطف {من} الموصولة على {الرِّيحَ}، {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} حال {مَنْ} من الموصولة. {يَغُوصُونَ} فعل وفاعل صلة {من} الموصولة، وجمع الضمير حملاً على معنى من، وحسّن ذلك تقدّم جمع قبله. {لَهُ} متعلق بـ {يَغُوصُونَ}. {وَيَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَغُوصُونَ}. {عَمَلًا} مفعول به، أو مفعول مطلق. {دُونَ ذَلِكَ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ {عَمَلًا}. {وَكُنَّا} فعل ناقص واسمه. {لَهُمْ} متعلق بـ {حَافِظِينَ}. {حَافِظِينَ} خبر {كان}، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {رُشْدَهُ} الرشد: الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، والاسترشاد الإلهي. كما في "أبي السعود". {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} واحدها تمثال، وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير، أو شجر، أو إنسان، والمراد بها هنا الأصنام، سمّاها بذلك تحقيرًا لشأنها، وهذا الوزن فيه زائدان: أحدهما قبل الفاء. والآخر قبل اللام، وقد جاء اسما وصفة، فالاسم تمثال للصورة، ويجمع على تماثيل. وقالوا: تجفاف وتبيان، فالتجفاف واحد تجافيف الفرس، وهو ما يلبس عند الحرب

والزينة. وتبيان، بمعنى البيان، فمنهم من يجعله مصدرًا من قبيل الشاذ؛ لأن المصادر إنما تجيء على تفعال - بالفتح - نحو التلعاب والتهدار، ولم يجيء بالكسر إلّا تبيان وتلقاء. وسيبويه يجعلهما من الأسماء التي وضعت موضع المصادر، كالغارة وضعت موضع الإغارة. وقال غير واحد من علماء اللغة: التمثال هو الصورة المصنوعة من رخام، أو نحاس، أو خشب، شبيهة بخلق الآدمي. {والعكوف} على الشيء: ملازمته والإقبال عليه {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالشيء الثابت في الواقع {اللَّاعِبِينَ}؛ أي: الهازلين {فَطَرَهُنَّ}؛ أي: أنشأهن {مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: المتحققين صحته المثبتة بالبرهان {لَأَكِيدَنَّ} الكيد: الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد المبالغة في إلحاق الأذى بها. {جُذَاذًا}؛ أي: قطاعًا فعال بمعنى المفعول، من الجد الذي هو القطع، كالحطام من الحطم، الذي هو الكسر. وفي "القاموس": الجذ القطع المستأصل والكسر، والاسم الجذاذ. والجذاذ بتثليث الجيم ما تكسر من الشيء، وفعله جد يجد من باب نصر {فَتًى} هو الطري من الشبان. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} من قولهم: نكس المريض؛ إذا عاد إلى مرضه الأول بعد العافية. والنكس قلب الشيء، ورد آخره على أوله. والتنكيس القلب أيضًا، يقال: نكس رأسه ونكسه مخففًا ومشددًا؛ أي طاطأه حتى صار أعلاه أسفله {بَرْدًا وَسَلَامًا} البرد خلاف الحر، والسلام التعري من الآفات. {نَافِلَةً} قال في "القاموس": النافلة: الغنيمة والعطية، وما تفعله، مما لم يجب كالنفل، وولد الولد. {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} قال بعضهم: جعلوا المصدر من المبني للمفعول بمعنى، أن يفعل الخيرات بناء على أن التكاليف يشترك فيها الأنبياء والأمم، ولكن قوله في أواخر هذه السورة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، وقوله تعالى في سورة مريم حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي

بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ينادي على أنه من المبني للفاعل، ولا يضر ذلك في الاشتراك إذ الأنبياء أصل في الذي أوحي إليهم من الأوامر. {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} القاعدة في مصدر الفعل، الرباعي على وزن أفعل، أن يأتي على إفعال، إن كان صحيح العين، نحو أكرم إكرامًا، وأوجد إيجادًا، فإن اعتلت عينه، نحو أقام وأعان وأبان، جاء مصدره على إفالة كإقامة وإعانة وإبانة، حذف عين المصدر، وعوّض منها تاء التأنيث، والأصل: إقوام وأءعوان وإبيان، فنقلت حركة الواو والياء، وهي الفتحة إلى الحرف الساكن قبلهما، ثم حذفتا، فرارًا من اجتماع الساكنين، وعوض منهما التاء، وقد تحذف هذه التاء من المصدر إذا أضيف، كقوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}، وما كان منه معتلّ اللام، مثل: أعطى وأهدى وأولى، قلبت لامه في المصدر همزة، مثل: إعطاء وإهداء وإيلاء، والأصل إعطاو وإهداي وإيلاي. قال في "شرح القاموس": العرب تهمز الواو والياء إذا جاءتا بعد ألف؛ لأن الهمزة أحمد للحركة منهما؛ ولأنهم يستثقلون الوقف على الواو، وكذلك الياء مثل الرداء أصله رداي، هذا ويرجع في هذا إلى بحث الإبدال، في كتب الصرف المطولة. {الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} والخبائث جمع خبيثة، والخبيثة: ما يكره رداءةً وخساسةً، يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال {قَوْمَ سَوْءٍ} قال الراغب: السوء: كل ما يغمّ الإنسان، من الأمور الدنيوية والأخروية، ويعبر به عن كل ما يقبح، وهو مقابل الحسن. {فَاسْتَجَبْنَا} قال في "بحر العلوم": الاستجابة الإجابة، لكن الاستجابة تتعدى إلى الدعاء بنفسها، وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب دعاءه، وهو الدليل على أن النداء المذكور بمعنى الدعاء؛ لأن الاستجابة تقتضي دعاءه. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال الراغب: الكرب: الغم الشديد، من كرب

الأرض قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة ذلك. {فِي الْحَرْثِ} الحرث: الزرع، وبابه نصر، أو كتب كما في "المختار". وفي "القاموس": الحرث مصدر، والأرض التي تستنبت بالبذر والنوى والغرس. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: أن الحرث كان كرمًا، قد تدلت عناقيده. وقيل: كان زرعًا. {نَفَشَتْ} تفرقت وانتشرت فيه فرعته وأفسدته. وفي "المختار": نفشت الغنم والإبل؛ أي: رعت ليلًا بلا راع، من باب جلس. والنفش - بفتحتين - اسم منه، ومنه قوله تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}، ولا يكون النفش إلّا بالليل، ونفش الصوف والقطن، من باب نصر، والنفش تشعيب الشيء بأصابعك حتى ينتشر، والنفش أيضًا أن ينتشر الغنم ليلًا بلا راع. {الغنم} محركة، الشاة، لا واحد لها من لفظها، الواحدة شاة، وهو اسم مؤنث للجنس، يقع على الذكور والإناث، وعليهما جميعًا، كما في "القاموس". {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} قال في "المختار": التسخير: التكليف للعمل بلا أجرة، وسخرة تسخيراً، إذا كلفه عملًا بلا أجرة، اهـ {والطير} جمع طائر، مثل صحب وصاحب وركب وراكب، وجمع الطير طيور وأطيار، ويقع الطير على الواحد والجمع. وقال ابن الأنباري: الطير جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير. ولا يقال للواحد طير، بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة، اهـ. {لبوس} اللبوس اللباس، قالوا: إلبس، لكل حال لبوسها. والمراد: الدرع قال قتادة: كانت صفائح، فأول من سردها وخلقها، داود، فجمعت الخفة والتحصين، وهي المسماة، بالدرع، والدرع - كما في "المختار" - مؤنثة، وقال أبو عبيدة: تؤنث وتذكر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: تجاهل العارف في قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}؛ لأن هذا السؤال تجاهل من إبراهيم، وإلّا فهو يعرف أن حقيقتها حجر، أو شجرٌ اتخذوها معبوداً. ومنها: العدول عن علي، التي يتعدى بها فعل العكوف، إلى اللام في قوله: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} لقصد معنى العبادة، من العكوف ليجيبوه بقوله: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} تسجيلًا عليهم بالتقليد، والقول بغير برهان، والانجرار إلى ما عليه آباؤهم. ومنها: المخالفة بين الجملتين في قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} لملاحظة التجدد في إحداهما، حيث أبرزها في صورة الفعلية بقوله: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ}، ولملاحظة الثبات والدوام في الأخرى، حيث أبرزها في صورة الاسمية بقوله: {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} والمعنى: أحدثت عندنا الإتيان بالحق، وهو التوحيد فيما نسمعه منك، أم أنت على ما كنت عليه من اللعب، منذ أيام الصبا، وأرادوا بالتجدد في الجملة، أن التوحيد أمر مستحدث مخترع، وبالثبات في الثانية، أنه على عادتهم المستمرة من اللعب تحقيرًا له. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}؛ لأن الكيد حقيقة في الاحتيال. في إيصال الضرر إلى الغير، بطريق خفي، وهو هنا كناية عن الاجتهاد في إزالتها، فتجوّز به عنه إما استعارة، أو استعمالًا له في لازمه؛ لأن الكيد يستلزم الاجتهاد "الجمل" بتصرف. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ لأنه ليس المراد هنا حقيقة الشهادة؛ لأنه لا شهادة من المدعي، بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان؛ أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة، التي بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوى، اهـ "روح البيان". ومنها: تقديم الظرف في قوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} للاختصاص أو لمجرد الاهتمام.

ومنها: تجاهل العارف في قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة. تجاهلًا منه، ليخرج الكلام مخرج المدح أو الذم، أو ليدل على شدة الوله في الحب، أو لقصد التعجب، أو التوبيخ، أو التقرير كما هنا، وهو على قسمين: موجب ومنفي، والآية التي نحن بصددها، من التجاهل الموجب، الجاري مجرى التقرير. ومنها: التعريض في قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أراد إبراهيم عليه السلام، أن يبيّن لهم، أن من لا يتكلم، ولا يعلم، ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل، أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم، بما يوقعهم في الاعتراف، بأن الجمادات التي عبدوها، ليست بآلهة؛ لأنهم إذا قالوا: لا ينطقون، قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان، الذي هو فيه، فهذا الكلام من فرض الباطل مع الخصم، حتى تلزمه الحجة، ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته، وأدفع لمكابرته. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} شبّه رجوعهم عن الحق إلى الباطل، بانقلاب الشخص، جتى يصبح أسفله أعلاه، بطريق الاستعارة التصريحية. ومنها: الطباق بين {يَنْفَعُكُمْ} و {يَضُرُّكُمْ}. ومنها: المبالغة في قوله: {كُونِي بَرْدًا} حيث أطلق المصدر، وأراد اسم الفاعل مبالغة؛ أي: باردة، أو ذات برد. ومنها: عطف الخاص على العام اهتماماً بشأنه في قوله: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}؛ لأن الصلاة والزكاة من الخيرات، وإنما خصهما بالذكر تنبيهًا على علو شأنهما وفضلهما. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} والمراد أهلها، من إطلاق المحل وإرادة الحال، والعلاقة الحالية.

ومنها: المجاز والمرسل أيضًا في قوله: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا}؛ أي: في جنتنا؛ لأنها مكان الرحمة، فهو مجاز مرسل، علاقته المحلية. ومنها: الاحتراس في قوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} دفعاً لتوهم انتقاص مقام داود عليه السلام. ومنها: حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها في قوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، وفي قوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ}. ومنها: جمع المختلف والمؤتلف في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الخ وهو عبارة، عن أن يريد المتكلم التسوية، بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ثم يروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر، بزيادة فضل لا ينقص مدح الآخر، فيأتي لأجل ذلك الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية. والآية الكريمة ساوت بين داود وسليمان، في التأهل للحكم، وشرّكت بينهما فيه حيث قالت: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} وأخبرت أن الله سبحانه، فهم سليمان إصابة الحكم، ففضل أباه بذلك بعد المساواة، ثم التفت سبحانه، إلى مراعاة حق الوالد فقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فرجعا بذلك إلى المساواة بعد ترجيح سليمان، ليعلم الولد بذلك برّ الوالد، ويعرف ما له عليه من الحق، حتى إذا فكر الناظر في هذا الكلام، وقال: من أين جاءت المساواة في الحكم، والعلم بعد الإخبار، بأن سليمان فهم من الحكم، ما لم يفهمه أبوه، علم أن حق الأبوة قام مقام تلك الفضيلة، فحصلت المساواة. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي التشنيعي في قوله: {فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} حيث أكّد بإن، وباللام، وبإسمية الجملة.

ومنها: التهكم في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. ومنها: تبكيتهم وتعجيزهم في قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}؛ لأنه على إرادة القول؛ أي: قائلين: لقد علمت يا إبراهيم. ومنها: الإطلاق في قوله: {يَذْكُرُهُمْ} لدلالة الحال عليه، فإن ذكر من يكره إبراهيم ويبغضه، إنما يكون بذم وسوء، ونظيره قولك: "سمعت فلانًا يذكرك" فإن كان الذاكر صديقًا فهو ثناء، وإن كان عدوًا فذم. ومنها: نداء غير العاقل في قوله: {يَا نَارُ كُونِي} تنزيلًا له منزلة العاقل. ومنها: التمثيل في قوله: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} حيث جعل الله النار باردة، من غير أن يكون هناك قول، ولا خطاب لقوله تعالى: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} لغرض الحصر. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {لِتُحْصِنَكُمْ}. ومنها: إيراد الاستفهام مرادًا به الأمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}؛ أي: فاشكروا نعمتي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى

حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}. المناسبة قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) قصص داود وسليمان، وما كان منهما، من شكر على النعماء .. أردف ذلك قصص أيوب، لما فيه من صبر على البلاء، فداود وسليمان شكرا على النعم المترادفة، وأيوب صبر على النقم النازلة فأزيلت عنه، وإن في قصصه الذي ذكر هنا، وفي مواضع من الكتاب الكريم، لعبرًا له ولغيره، ممن سمع به، ولفتا لأنظارهم، إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء، أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله، ويصبر في حالي السرّاء والضرّاء. قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر صبر أيوب عليه السلام، ودعاءه ربه وانقطاعه إليه، حتى كشف عنه الضرّ .. قفى على ذلك بذكر هؤلاء الأنبياء، الذين صبروا على ما أصابهم من المحن والشدائد. قوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لمّا ذكر (¬2) صبر أولئك، الذين صبروا على المحن والشدائد .. بيّن هنا انقطاع زكريا إلى ربه، لمّا مسّه الضرّ بتفرده، وأحبَّ أن يكون معه من يؤنسه، ويقوّيه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته، فدعا ربه دعاء مخلص عارف، بأنه قادر على ذلك، وأنه قد انتهت الحال به، وبزوجه من كبر، وغيره إلى اليأس من الولد على مجرى العادة. قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ...} الآيات: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر قصص ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

جمع من الأنبياء، كنوح وإبراهيم وإدريس وموسى وعيسى، وبيّن ما أوتوا من الشرائع والأحكام، على وجه الإجمال .. قفى على ذلك، ببيان أن لبّ الدين عند الله واحد، وأن جميع الأنبياء قد اتفقوا عليه، ولم يختلفوا فيه في عمر من العصور، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، وأنه هو القاهر فوق عباده، المالك لجميع السموات والأرض، لا يؤده حفظهما، وهو العلي العظيم، وإن اختلفوا في الرسوم والأشكال، بحسب اختلاف الأزمان والأمكنة، فعليكم أيها المسلمون، أن تحافظوا على وحدة دينكم، وأن لا تجعلوه عضين، وكأنه يقول لهم: عليكم أن لا تركنوا إلى خوارق العادات، كما رأيتم في قصص موسى، ولا تدعوا نظم الدولة، بل سوسوها كما كان يفعل داود وسليمان، ولا تذروا الصبر في جميع الأعمال، كما رأيتم في قصص أيوب ومن بعده. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر هول الموقف ودعاء المشركين على أنفسهم بالهلاك في هذا الحين، وشخوص أبصارهم من الحيرة والدهش، مما يشاهدون ويرون .. أردف هذا ذكر ما يؤول إليه أمرهم بعد الحساب، وأنهم يكونون هم ومعبوداتهم، من الأصنام والأوثان حطبًا للنار حين يردونها، وأنهم من شدة العذاب فيها يكون لهم أنين وزفير، حتى لا يسمع بعضهم أصوات بعض، لفظاعة ما هم فيه من العذاب، ثم أعقب ذلك بذكر حال السماء حينئذٍ، وأنها تطوى طيا، وكأنها لم تكن كما يطوي الكاتب الطومار الذي يكتب فيه، ويحوّل ذلك العالم المشاهد إلى عالم آخر، فيخلق الله أرضًا جديدة وكواكب جديدة، ويعيد الناس للحساب، وهو القادر على ذلك، فكما قدر على خلقه أول مرة، يعيده في حال أخرى، كما قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أحوال كل من الكافرين والمؤمنين .. ذكر أن الدنيا ليست كالآخرة، فلا يرثها إلّا من كان قادرًا

على إصلاحها، والانتفاع بخيراتها، والاستفادة مما على ظاهرها وباطنها، فمن كان أحصف رأيًا، وأحكم فكرًا، ملكها وتسلط عليها، وجنى ثمارها، واهتدى إلى ما أودع فيها من الخير. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أورد الحجج والبراهين، لإقناع الكافرين بأن رسالة الرسول حق، حتى لم يبق في القوس منزع، وبلغ الغاية التي ليس بعدها غاية، وبيّن أن هذا الرسول رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، وأن من اتبعه سلك سبيل الرشاد، ومن نأى عنه ضل وسار في طريق الغواية والعناد .. أردف ذلك ما يكون إعذارًا وإنذارًا في مجاهدتهم، والإقدام على مناوأتهم، بعد أن أعيته الحيل، وضاقت به السبل، ولم تغنهم الآيات والنذر، فتمادوا في غوايتهم، ولجّوا في عنادهم، وأصبح من العسير إقناعهم وهدايتهم. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ...} الآيتين، سبب نزولهما: ما رواه الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} قال عبد الله بن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدًا فقال: يا محمد، أليس فيما أنزل عليك {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}؟ قال: "نعم، فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة، فهؤلاء في النار" فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}. وفيه عاصم بن بهدلة، وقد وثق، وضعّفه جماعة. وذكره الخطيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، قال المشركون: فإن عيسى يُعبد، وعزير والشمس والقمر؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ

[83]

{سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}، ولا منافاة للرواية الأولى في قوله: (فقال المشركون) لأن عبد الله بن الزبعري منهم. التفسير وأوجه القراءة 83 - {وَأَيُّوبَ}؛ أي: واذكر يا محمد قصة أيوب لأمتك {إِذْ نَادَى} ودعا {رَبَّهُ} وخالقه بـ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}؛ أي: أصابتني الشدة في جسدي، والضرّ بأنواعه، فأل للجنس، فارحمني ونجني منها {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وألطفهم لعباده. وقرأ الجمهور (¬1): {أَنِّي} بفتح الهمزة، وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول: أي: قائلاً: إني، وإما على إجراء نادى مجرى قال، وكسر إني بعدها، وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين، والضرّ بالفتح الضرر في كل شيء نفسًا، أو مالًا، أو أهلًا، وبالضم خاص بالضرر في النفس، كمرض وهزال، فرّق بين البنائين لاختلاف المعنيين، وقد ألطف أيوب في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب، ولم يعين الضر الذي مسّه، فإن (¬2) أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء عنهم، إنما هي على سبيل التعريض. وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيْكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوْتِىْ بَيَانٌ عِنْدَهَا وَخِطَابُ فإن قيل: أليس زكريا صرّح في الدعاء، حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}؟ قلنا: هذا سؤال العطاء، لا يجمل فيه التعريض، وذلك كشف البلاء، فيجمل فيه التعريض، لئلا يشبه بالشكاية. قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلًا من الروم، وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله سبحانه وتعالى، اصطفاه وجعله نبيًّا، وقد أعطاه من الدنيا حظًا وافرًا من النعم والدواب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

والبساتين، وأعطاه أولادًا كثيرًا من رجال ونساء، وكان له سبعة بنين وسبع بنات، وكان رحيمًا بالمساكين، وكان يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، أرسله الله سبحانه، إلى أهل حرّان، وهي قرية بغوطة دمشق، فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده بسقوط البيت عليهم، وبذهاب أمواله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة، وسنّه إذ ذاك سبعون سنة، فإنه خرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت في جسده حكة لا يملكها، وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة، ثم حكها بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطّع لحمه وأنتن، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً. روي: أن امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف عليه السلام، أو رحمة بنت أفرايم بن يوسف قالت له يومًا: لو دعوت الله تعالى؟ فقال: كم كانت مدة الرخاء فقالت: ثمانين سنة، فقال: أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. وروي أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة. فقال: أنا إله الأرض، فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني، وعبد إله السماء، لو سجدت لي سجدة، لرجعت المال والولد، وعافيت زوجك، فرجعت إلى أيوب، وكان ملقى في الكناسة، لا يقرب منه أحد، فأخبرته بالقصة، فقال عليه السلام: كأنك افتتنت بقول اللعين، لئن عافاني الله تعالى، لأضربنك مئة سوط، وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئًا من طعامك وشرابك، فطردها، فذهبت فبقي طريحًا في الكناسة، لا يحوم حوله أحد من الناس، فلما نظر أيوب في شأنه، وليس عنده طعام ولا شراب، ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدًا، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فقال تعالى ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت من تحته عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابّة، إلَّا سقطت منه، ولا جراحة إلَّا برئت، ثم ركض برجله مرة أخرى، بعد أن مشى أربعين خطوة، فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلَّا خرج، وعاد صحيحًا، ورجع إليه شبابه وجماله، حتى صار أحسن، ثم كسي

[84]

حلةً، فلما قام، جعل يلتفت، فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل والولد والمال إلّا وقد ضاعفه الله تعالى، حتى روي أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت في نفسها: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعًا، وتأكله السباع. لأرجعنّ إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال، وقد تغيرت الأمور، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وهابت صاحب الحلة، أن تأتيه وتسأله عنه، فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلي، فقال: أفتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى، فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه، فاعتنقته، ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله، وعصيت الشيطان، ودعوت الله تعالى، فردني على ما ترين، 84 - وذلك قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}؛ أي: أجبنا له دعاءه {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ}؛ أي: أزلنا منه ما به من الضرر، من مرض وهزال، وقد كان الذي نزل به امتحانًا من الله، واختبارًا له؛ أي: شفاه الله مما كان به. وأعاضه بما ذهب عليه، ولهذا قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: وأعطينا أيوب في الدنيا {أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أي (¬1): مثل أهله عددًا مع زيادة مثل آخر، فولد له من الأولاد ضعف ما كان. قيل (¬2): تركهم الله، عز وجل له، وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد بذلك صحيح، وقد كان مات أهله جميعًا إلَّا امرأته، فأحياهم الله في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم، وانتصاب {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} على العلة؛ أي: آتيناه ذلك لرحمتنا له {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}؛ أي: وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة؛ أي: آتيناه ما ذكر لرحمتنا إياه بالرحمة الخاصة، وتذكرة، وعبرة لغيره، من العابدين، ليعلموا بذلك كمال قدرتنا، ويصبروا كما صبر أيوب، فيثابوا كما أثيب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

واعلم (¬1): أن بلاء أيوب من قبيل الامتحان، ليبرز ما في ضميره، فيظهر درجته لخلقه، أين هو من ربه، وبلاء يوسف من قبيل تعجيل العقوبة؛ أي: على قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}، وبلاء يحيى، حيث ذبح، من قبيل الكرامة إذ لم يهمّ بخطيئة قط. إنما ختم القصة هنا، بقوله: {مِنْ عِنْدِنَا}، وختمها في سورة ص بقوله: {مِنَّا}؛ لأن أيوب بالغ هنا في التضرع بقوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فبالغ تعالى في الإجابة، فناسب ذكر {مِنْ عِنْدِنَا}؛ لأن {عِنْدِنَا} يدل على أنه تعالى. تولى ذلك بنفسه، ولا مبالغة في ص، فناسب فيها ذكر {مِنَّا} لعدم دلالته على ما دل عليه {عِنْدِنَا}. قاله شيخ الإسلام زكريا" اهـ كرخي. قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين (¬2): رد الله إليه أهله، وأولاده بأعيانهم، أحياهم الله، وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن. وعن ابن عباس رواية أخرى أن الله رد إلى المرأة شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكرًا. وقيل: سبعة بنين وسبع بنات. وعن أنس يرفعه أنه كان له إندران، أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق، حتى فاضا. وروي أن الله بعث إليه ملكًا، وقال له: إن ربك يقرئك السلام بصبرك، فاخرج إلى أندرك، فخرج إليه، فأرسل الله عليه جرادًا من ذهب، فذهبت واحدة، فأتبعها وردها إلى أندره، فقال له الملك: ما يكفيك ما في أندرك، فقال: هذه بركة من بركات ربي، ولا أشبع من بركاته. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينما أيوب يغتسل عريانًا، خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكني لا غنى لي عن بركاتك". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[85]

وخلاصة ما سلف (¬1): أن أيوب ابتلي في نفسه وولده وماله، فابتلي بالمرض وهلاك الأولاد وضياع الأموال امتحانا منه تعالى، واختبارًا له، ثم كشف عنه ما به من ضر، فشفي من أمراضه التي أصيب بها، وأنجب من الأولاد ضعف ما كان، وحسن حاله في ماله، فزال ما به من عدم وإقتار، ولم يصرح القرآن الكريم بما صار إليه من سعة في المال كما صرح بما صار إليه أمره من كثرة الولد. وما روى من مقدار ما لحقه من الضر في نفسه، حتى وصل إلى حد النفرة منه، وأن الناس جميعًا تحاشوه، وطردوه من مقامه إلى ظاهر المدينة في موضع الكناسة، ولم يكن يتصل به إلَّا امرأته التي تذهب إليه بالزاد والقوت .. فكل ذلك من الإسرائيليات التي يجب الاعتقاد بكذبها (¬2)؛ لأنه ليس لها من سند صحيح يؤيدها، ولأن من شروط النبوة أن لا يكون في النبي من الأمراض والأسقام ما ينفر الناس منه، ولأنه متى كان كذلك، لا يستطيع الاتصال بهم وتبليغ الشرائع والأحكام إليهم، وسيأتي لهذا مزيد إيضاح في سورة ص. 85 - ولما ذكر الله سبحانه، أمر أيوب وصبره على البلاء، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء، الذين سيذكرهم؛ لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضًا فقال: (و) اذكر {إِسْمَاعِيلَ} بن إبراهيم عليهما السلام، ومعناه: مطيع الله؛ أي: اذكر قصته لقومك، وعاش إسماعيل مئة وثلاثين سنة، وكان له، حين مات أبوه تسع وثمانون سنة، وأخوه إسحاق ولد بعده بأربع عشرة سنة، وعاش مئة وثمانين سنة، اهـ من "التحبير". {وَإِدْرِيسَ} بن شيث بن آدم، واسمه أخنوخ، قال بعضهم: سمّي به لكثرة دراسته، هو جد نوح، ولد في حياة آدم قبل موته بمئة سنة، وبعث بعد موته بمئتي سنة، وعاش بعد نبوته مئة وخمسين سنة، فتكون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) بالنسبة للإسرائيليات قال ابن كثير: لا تصدق ولا تكذب. انظر "تفسيره" (1/ 172، 173)، و"تاريخه" (1/ 8) وانظر أيضًا "المسجد الحرام" (165 - 175) للدكتور وصي الله عباس ومحمد أبو الليث، وأرجو الاطلاع على ما كتبه أستاذنا محمد محمد أبو شهبة رحمه الله في كتابه "الإسرائيليات" فتجدون أن ذلك الحكم ... حكمتم به على الإسرائيليات اطلاقه وإنما هو مقيد.

[86]

جملة عمره أربع مئة وخمسين سنة، وكان بينه وبين نوح. ألف سنة، اهـ من "التحبير". {وَذَا الْكِفْلِ} بمعنى (¬1) الكفالة والضمان؛ لأن نبيًا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه، أني أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فسلم ملكك إليه، ففعل ذلك، فقال شاب: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكره الله، ونبّأه، فسمي ذا الكفل. {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد من هؤلاء {مِنَ الصَّابِرِينَ}؛ أي: الكاملين في الصبر على مشاق الطاعات واحتمال البليات. والمعنى: واذكر يا محمد نبأ هؤلاء الرسل الكرام، الذين صبروا على ما ابتلاهم الله به، وأخبتوا له، فنالوا رضاه، وأدخلهم جنته: 1 - أما إسماعيل: فإنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه، ولا ضرع، ولا بناء، وصبر على بناء البيت، وتكلف المشاق في ذلك، وقد أكرمه الله سبحانه، فأخرج من صلبه خاتم النبيين محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -. 2 - وأما إدريس - أخنوخ - فقد صبر على دراسة الكتب، وبعث إلى قومه داعيًا لهم إلى الله تعالى، فأبوا (¬2)، فأهلكهم الله، ورفعه إلى السماء الرابعة. ويزعم كثير من الناس، أنه أول من خاط الثياب، ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة. 3 - وأما ذو الكفل: فقد اختلف العلماء في شأنه: فمن قائل: إنه نبي، وهم الأكثرون، وقالوا: إنه ابن أيوب عليه السلام، بعثه الله نبيًا بعد أبيه، وسمّاه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيد الله، وأقام عمره بالشام. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: لم يكن نبيًا، بل كان عبدًا صالحًا، استخلفه اليسع عنه، على أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب ففعل. 86 - {وَأَدْخَلْنَاهُمْ}؛ أي: وأدخلنا كل هؤلاء {فِي} محل {رَحْمَتِنَا} جنات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) مراح.

[87]

النعيم، جزاء لهم على ما فعلوا من صالح الأعمال، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: من الكاملين في الصلاح، وهم الأنبياء، فصلاحهم معصوم من كدر الفساد. 87 - {وَذَا النُّونِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة ذي النون؛ أي: قصة صاحب الحوت، والمراد به يونس بن متّى - بفتح الميم وتشديد التاء المثناة فوق مفتوحة - قيل (¬1): هو اسم أم يونس، كذا في جامع الأصول. وقال عطاء: سألت كعبًا عن متّى أهو اسم أبيه أم أمه؟ فقال: اسم أبيه، وأمه بدورة، وهي من ولد هارون، وسمّي يونس بذي النون؛ لأنه ابتلعه الحوت. قال الإمام السهيلي: أضافه هنا إلى النون، وقد قال في سورة القلم: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وذلك أنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال: ذو النون، فإن الإضافة بذو أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأن قولك: ذو يضاف إلى التابع، وصاحب إلى المتبوع، تقول: أبو هريرة - رضي الله عنه - صاحب النبي عليه السلام، ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة، إلَّا على جهة. وأما (ذو) فإنك تقول: ذو مال، وذو العرش، فتجد الاسم للاسم متبوعًا غير تابع، ولفظ النون أشرف من الحوت لوجوده في حروف التهجي، وفي أوائل بعض السور نحو {ن وَالْقَلَمِ}. وقوله: {إِذْ ذَهَبَ} ظرف لما مضى، متعلق بالمضاف المقدر؛ أي: اذكر خبره وقت ذهابه حال كونه {مُغَاضِبًا}؛ أي: مغضباً ومراغماً لقومه أهل نينوى، وهي قرية بالموصل، أو غضبان على قومه، لما مر من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم، مهاجرًا عنهم قبل أن يؤمر؛ لأنهم لما لم يؤمنوا، وعدهم بنزول العذاب بهم لأجل معلوم، وفارقهم، ثم بلغه بعد مضي الأجل، أنه تعالى لم يعذبهم، ولم يعلم سببه، وهو أنهم حين رأوا أمارات العذاب، تابوا وأخلصوا في الدعاء والتضرع إلى الله، فاندفع العذاب عنهم، فظن أنه كذبهم، وغضب من اندفاع العذاب عنهم، وذهب غضبان. وقرأ أبو شرف {مُغَاضِبًا} اسم مفعول {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}؛ أي: أنه لن نضيق عليه الأمر بالحبس أو ¬

_ (¬1) روح البيان.

بغيره؛ أي: فإنه ظن أنه مخير، إن شاء أقام، وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، فأتى بحر الروم، فوجد قومًا هيؤوا سفينة، فركب معهم، فلما توسطت السفينة البحر وقفت، ولم تجر بحال، فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص، أو عبد آبق؛ لأن السفينة لا تكون هكذا إلّا، وفيها رجل عاص، أو آبق، ومن عادتنا إذا ابتلينا بهذا البلاء أن نقترع، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر، فاقترعوا ثلاث مرات، فوقعت القرعة فيها كلها على يونس، فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى بنفسه في البحر، فجاء حوت فابتلعه، فأوحى الله تعالى إلى ذلك الحوت: لا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا، فإنه ليس رزقًا لك، وما جعلتك له إلا سجنًا، لا طعامًا. وقرأ الجمهور: {نَقْدِرَ} بنون العظمة مخففًا. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب: بضم الياء وفتح الدال مخففًا. وعيسى والحسن: بالياء مفتوحة وكسر الدال. وعلي بن أبي طالب واليماني: بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة. والزهري: بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة. وبناء المفاعلة في قوله: {مُغَاضِبًا} ليس على بابه (¬1)، فلا مشاركة كعاقبت اللص، وسافرت، بل للدلالة على كمال غضبه والمبالغة فيه، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ أي: غاضب قومه، وغاضبوه، حين لم يؤمنوا في أول الأمر، اهـ كرخي. والفاء في قوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}: عاطفة على محذوف تقديره: فاقترعوا فخرجت عليه القرعة، فرموه في البحر، فالتقمه الحوت، فنادى في الظلمات؛ أي: في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت آخر فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر والليل. وقال الشيخ السمرقندي في تفسيره "بحر العلوم": وعندي - والله أعلم - أن تلك الظلمات ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[88]

كانت من الجهات الست، كما قال عليه السلام: "ورأيت رجلًا من أمتي، من بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، فهو متحير في الظلمات". {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ}؛ أي (¬1): بأنه، فأن مخففة من أنّ المشددة، أو مفسرة بمعنى أي {سُبْحَانَكَ}؛ أي: أنزهك تنزيهًا لائقا بك، من أن يعجزك شيء {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بفراري من قومي بغير إذنك، فكان ذلك ظلمًا، فعوقب (¬2) على ترك الأفضل، الذي هو المكث فيهم صابراً على أذاهم، فإنه خرج لا على تعمّد المعصية، بل لظنه أن خروجه موسّع، يجوز أن يقدّم ويؤخّر، فقد وصف يونس عليه السلام ربه، بكمال الربوبية، وهذا القدر يكفي في السؤال، 88 - ولذا قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه الذي دعا به، وأظهر به التوبة على ألطف وجه وأحسنه، وأول هذا الدعاء تهليل، وأوسطه تسبيح، وآخره إقرار بالذنب، اهـ شيخنا. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له". وروى ابن جرير والبيهقي في جماعة عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلّا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلّا استجاب له". وروي عن أنس مرفوعًا "أنه عليه السلام حين دعا بذلك، أقبلت دعوته تحف بالعرش، فقالت الملائكة: هذا صوت ضعيف، معروف من بلاد غريبة - وفي رواية: صوتًا معروفًا من مكان مجهول - فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب من هو؟ قال: ذاك عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل مقبول، ودعوة مستجابة، يا رب أفلا ترحم من كان يصنع في الرخاء: فتنجيه من البلاء، قال: بلى، فأمر الحوت، فطرحه"، فذلك قوله: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

{وَنَجَّيْنَاهُ}؛ أي: نجينا ذا النون {مِنَ الْغَمِّ} والهم، الذي ناله حين التقمه الحوت؛ أي: نجيناه من غم الالتقام والبحر، بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات - قال الشعبي (¬1): التقمه ضحى، ولفظه عشيةً، أو (¬2) بعد ثلاثة أيام، أو سبعة أيام، أو أربعين يومًا - وذهب به إلى البحار القاصية، وتخوم الأرض السابعة، وقال بعضهم: كان رأس الحوت فوق الماء، وفمه مفتوحًا {وَكَذَلِكَ}؛ أي: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا {نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} من كربهم إذا استغاثوا بنا، داعين وطالبين رحمتنا. قال الرازي: شرط كل من يلتجيء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والاعتراف بالذنب. وعن جعفر بن محمد قال: عجبت ممن يبتلى بأربع، كيف يغفل عن أربع: عجبت لمن يبتلى بالهم كيف لا يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}، وعجبت لمن يخاف شيئًا من السوء كيف لا يقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} لأن الله تعالى يقول: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}. وعجبت لمن يخاف مكر الناس كيف لا يقول: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}؛ لأن الله تعالى يقول: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}، وعجبت لمن يرغب في الجنة كيف لا يقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}؛ لأن الله تعالى يقول: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}. وعن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، قال: قل: "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون". وقرأ الجمهور (¬3): {نُنْجِي} مضارع أنجى. والجحدري مشددًا مضارع نجّى. وقرأ ابن عامر وأبو بكر (نجّي) بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[89]

وكذلك هي في مصحف الإمام، ومصاحف الأمصار بنون واحدة، واختارها أبو عبيدة، لموافقة المصاحف، وقال الزجاج (¬1): هذا لحن لا وجه له. وقال أبو علي الفارسي: غلط الراوي عن عاصم، ويدل على هذا، إسكانه الياء من نجّي، ونصب المؤمنين، ولو كان على ما لم يسم فاعله .. ما سكن الياء، ولرفع المؤمنين. 89 - {و} اذكر يا محمد لقومك {زكريا}؛ أي: خبر زكريا بن آذن بن ماتان، من أنبياء بني إسرائيل، والظرف في قوله: {إِذْ نَادَى} ودعا {رَبَّهُ} وخالقه، متعلق بالمضاف المقدر، وقال في دعائه: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} ولا تتركني وحيدًا، بلا ولد يرثني إرث نبوة، وعلم وحكمة. ومثل (¬2) هذه العبارة من العبد للسيد، تضرع ودعاء، لا نهي؛ أي: هب لي ولدًا، ولا تدعني وحيدًا، بلا ولد يرثني، لما بلغ عمر زكريا، عليه السلام مئة سنة، وبلغ عمر زوجته تسعًا وتسعين سنة، ولم يرزق لهما ولد، أحب أن يرزقه الله من يؤنسه، ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويكون قائمًا مقامه بعد موته، فدعا، ثم رد الأمر إلى مولاه مستسلمًا ومنقادًا لمشيئته فقال {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}؛ أي: خير من يبقى بعد من يموت، فحسبي أنت إن لم ترزقني وارثًا، فهو ثناء على الله تعالى، بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وله ميراث السموات والأرض 90 - {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}؛ أي: أجبنا لزكريا دعاءه في حق الولد كما قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} نبيًا حكيماً عظيمًا، لا في حق الوراثة، إذ المشهور أن يحيى قتل، قبل موت أبيه، وهذا لا يقدح في شأن زكريا، كما لا يقدح عدم استجابة دعاء إبراهيم في حق أبيه في شأنه، فإن الأنبياء عليهم السلام، وإن كانوا مجابي الدعوة، لكن أثر بعض الدعوات، لا يظهر في هذا الموطن للحكمة الإلهية {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} إيشاع بنت عمران، أو بنت فاقود للولادة، بعد انتهائها إلى سن اليأس منها، بحكم العادة؛ أي: جعلناها ولودًا. بعد أن كانت عقيمًا، فإنها لم تلد قط بعد أن بلغت تسعًا وتسعين سنة. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

وجملة قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا} لتعليل ما قبلها من إحسانه سبحانه، إلى زكريا وأهله، وإلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فالضمير (¬1) إما عائد إلى زكريا وزوجه ويحيى، أو إلى الأنبياء المذكورين، فيكون تعليلًا لما فصّل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بهم مثل إيتاء موسى وهارون الفرقان، وتبريد النار وإطفائها لإبراهيم، وإنجاء لوط مما نزل بقومه، وإنجاء نوح، ومن كان معه في السفينة، من أذى القوم، وكرب الطوفان، وغير ذلك، مما تفضّل به على الأنبياء السابقين، أي: أنهم كانوا {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخيرات، وهو السر في إيثار كلمة "في" على كلمة "إلى" المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات، متوجهين إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} الآية. قال الراغب: "الخير ما يرغب فيه الكل بكل حال، وهو الخير المطلق، والشر ضده". والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء (¬2)؛ لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله تعالى. {و} كانوا {يَدْعُونَنَا} أي يفزعون إلينا {رَغَبًا} أي رغبة في ثوابنا {وَرَهَبًا} أي: رهبة من عقابنا. وقيل؛ الرغبة رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهبة رفع ظهورها إليها. أو حال كونهم راغبين في اللطف والجمال، وخائفين من القهر والجلال، أو راغبين فينا، وراهبين مما سوانا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي خائفين متواضعين في عبادتهم، حذرين عن الانبساط في الأمور، أي (¬3) كانوا لنا عابدين في تواضع وضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، ولكن شأن الأنبياء أعلى من أن يكون حالهم منحصرًا في الظاهر، فلهم خشوع كامل في القلب والقالب جميعًا، وأكل العبد خشنا، واللبس خشنا، وطأطأة الرأس ونحوها من غير أن يكون في قلبه الإخلاص، والخوف من الله تعالى صفة المرائي والمتصنع. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[91]

والمعنى: أنهم نالوا من الله ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة، فليفعل من أراد الإجابة إلى مطلوبه مثل ما فعلوا، وليتخلق بتلك الأخلاق. وخلاصة معنى الآيات: أي واذكر خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيًا، فقال خفية عن قومه: "رب لا تدعني وحيدًا، لا ولد لي، ولا وارث يقوم بعدي في النادي، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث" فأجبنا سؤله، ووهبنا له يحيى، وأصلحنا له زوجة بأن أزلنا عنها الموانع التي كانت تمنعها من الولادة، فولدت له بعد أن كانت عقيمًا، ثم ذكر السبب في إجابة مطلبهم، فقال: إنهم كانوا أي لأن زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون في طاعتنا، والعمل بما يقربهم إلينا حال كونهم يدعوننا، ويعبدوننا رغبة منهم فيما يرجون من رحمتنا وفضلنا، وخوفاً من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين، لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا. وقرأ ابن مسعود وابن محيصن (¬1): {يدعونا} بحذف نون الرفع. وطلحة بنون مشددة، أدغم نون الرفع في "نا" ضمير النصب. وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهيب بن عمرو النحوي وهارون وأبو معمر الأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمرو {رَغَبًا وَرَهَبًا} بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما. وقرأت فرقة بضم الراءين وسكون الغين والهاء. 91 - {وَ} اذكر يا محمد {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}؛ أي: قصة مريم بنت عمران، التي أحصنت فرجها إحصاناً كليًا، وحفظته حفظًا تامًا من أن يصل إليه أحد من الرجال بحلال أو حرام جميعًا كما قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، وجاء في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}. {فَنَفَخْنَا} الروح في عيسى، وأحييناه حالة كونه كائنًا {فِيهَا}؛ أي: في جوفها وبطنها، فهو (¬2) حال من المفعول المحذوف {مِنْ} جهة {رُوحِنَا} جبريل الأمين وبواسطته؛ أي؛ أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها، فخلقنا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[92]

بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقال السهيلي: "النفخ في روح القدس بأمر القدوس، فأضاف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة عن الظن الكاذب والحدس. وقيل: المعنى فنفخنا فيها بعض روحنا؛ أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا، وذلك البعض هو روح عيسى؛ لأنها وصلت في الهواء، الذي نفخه إلى درعها. وقد سبقت قصة النفخ في سورة مريم. ومعنى "أحصنت" عفت، فامتنعت من الفاحشة وغيرها. وقيل: المراد بالفرج حبيب القميص؛ أي: أنها طاهرة الأثواب. {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا} أي: جعلنا حالهما وشأنهما {آيَةً} عظيمة {لِلْعَالَمِينَ} وعلامة دالة على القدرة الكاملة، لأهل زمانهما، ولمن بعدهما، فإن من تأمل في ظهور ولد، من بتول عذراء، من غير فحل، تحقق كمال قدرته تعالى. ولم يقل: "آيتَيْ"؛ لأنها قصة واحدة، وهي ولادتها له من غير ذكر، ولكل واحد منهما آيات مستقلة متكاثرة، كما أشير إلى بعض منها في القرآن، وإلى بعض آخر في التفاسير وكتب القصص، أما آيات مريم فمنها: ظهور الحمل من غير ذكر. ومنها: أن الملائكة كانت تأتيها برزقها، كما حكى القرآن قول زكريا لها وردها عليه: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وأما آيات عيسى فقد سبق تفصيلها في سورتي آل عمران ومريم. 92 - ثم لمَّا ذكر سبحانه الأنبياء، بيَّن أنهم كلَّهم مجتمعون على التوحيد فقال: {إِنَّ هَذِهِ} الملة التي هي ملة الإسلام والتوحيد المذكورة في كتابكم {أُمَّتُكُمْ}؛ أي: ملتكم وطريقتكم التي يجب أن تكونوا عليها، لا تنحرفون عنها. والظاهر أن قوله: {أُمَّتُكُمْ} خطاب لمعاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حالة كونها {أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: ملة واحدة متفقة، لا يخرج عنها إلّا المشركون بالله؛ أي: إن هذه الشريعة المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، شريعتكم، أيها الناس، التي يجب أن تحافظوا على حدودها، وتراعوا حقوقها، ولا تخلوا بشيء منها، حالة كونها شريعة واحدة، غير مختلفة فيما بين الأنبياء، فإنهم متفقون في الأصول، وإن كانوا مختلفين في الفروع، بحسب اختلاف الأمم والأزمنة والأمكنة.

[93]

{وَأَنَا رَبُّكُمْ} ومالككم، لا إله لكم غيري {فَاعْبُدُونِ} خاصة، لا غيري كائنًا ما كان؛ أي: لا دين سوى ديني، ولا رب لكم غيري، فوحّدوني بالعبادة، ولا تشركوا بي شيئًا من صنم، أو وثن شجر، أو حجر، أو بشر، أو ملك. وقرأ الجمهور (¬1): {أُمَّتُكُمْ} بالرفع خبر {إن}. {أُمَّةً وَاحِدَةً} بالنصب على الحال. وقيل: بدل من {هَذِهِ}. وقرأ الحسن {أُمَّتُكُمْ} بالنصب بدل من {هَذِهِ}. وقرأ أيضًا هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} برفع الثلاثة على أن {أُمَّتُكُمْ} و {أُمَّةً وَاحِدَةً} خبر {إن}، أو {أُمَّةً وَاحِدَةً} بدل من {أُمَّتُكُمْ} بدل نكرة من معرفة، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أمة واحدة. 93 - ثم نعى على المسلمين ما فعلوا من تفريق شأنهم فرقًا وشيعاً فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}؛ أي: تفرقوا في أمرهم، وجعلوا دينهم قطعًا، ومذاهب مختلفة بينهم، بأن آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض. والضمير (¬2) في {وَتَقَطَّعُوا} عائد على ضمير الخطاب على سبيل الالتفات؛ أي: وتقطعتم. ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات، عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة، كأن هذا الفعل ما صدر من المخاطبين؛ لأن في الإخبار عنهم بذلك نعياً عليهم ما أفسدوه، وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم، ويقول: ألا ترى إلى ما ارتكب هؤلاء في دين الله، جعلوا أمر دينهم قطعًا، كما يتوزع الجماعة الشيء، لهذا نصيب، ولهذا نصيب، تمثيلًا لاختلافهم. وقرأ الأعمش {زبرا} بفتح الباء، جمع زبرة ذكره أبو حيان في "البحر". والمعنى (¬3): جعل الناس أمر الدين قطعًا، واختلفوا فيه، فصاروا فرقًا، كأنه قيل: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء، حيث جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا، فأصاب كل جماعة قطعة من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[94]

الدين، فصاروا بتقطيع دينهم كأنهم قطع شتى، يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرّأ بعضهم من بعض. وإنما قال هنا: {فَاعْبُدُونِ}، وفي المؤمنون: {فَاتَّقُونِ}؛ لأن الخطاب في هذه الآية للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد. وفي سورة المؤمنين الخطاب للمؤمنين والرسل فأمرهم بالتقوى، اهـ كرخي. قال الحسن البصري (¬1): في هذه الآية يبيّن لهم ما يتقون، وما يأتون، يريد أن هذا إخبار بالغيب بما سيكون منهم. والخلاصة: أنهم قد غفلوا عما أمر به دينهم، من وجوب الاعتصام بوحدة الأمة ونبذ الفرقة، ففعلوا ضد هذا، وذاق بعضهم بأس بعض، وكان في هذا وبال للجميع، وتمكن عدوهم من أن يهيض جناحهم، ويبطش بهم، ويستعبدهم في عقر دارهم، ويسميهم الخسف والصَّغار، بعد أن كانوا سادة أحراراً، ولله الأمر من قبل، ومن بعد. ثم توعدهم على ما فعلوا، فقال: {كُلٌّ} أي: كل واحدة من الفرق المتقطعة {إِلَيْنَا} لا إلى غيرنا {رَاجِعُونَ} بالبعث فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم؛ أي: أنهم سيرجعون إلينا، ونجازيهم على تفرقهم واختلافهم شيعاً. وفي هذا إخبار بالغيب، بما سيحدث في هذه الأمة، التي ذاقت وبال أمرها، وعاقبة اختلافها، وكانت لقمة سائغة للآكلين، ونهبا مقسمًا بين الطامعين جزاء ما اجترحت من التفرق. 94 - وبعد أن أبان أن افتراق الأمة واقع لا محالة، أردفه فتح باب الرجاء في لم شعثها واتفاقها بعد تفرقها، عسى أن تقوم من كبوتها، وترجع إلى وحدتها، وتصير لها الدولة والصولة، كما كانت في سالف عهدها، فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ}؛ أي: من بعض الأعمال الصالحة، لا كلها إذ لا يطيق ذلك أحد. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله واليوم الآخر {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}؛ أي: لا جحود لعمله، ولا تضييع لجزائه، ولا حرمان لثواب عمله. وفي قراءة (¬2) ابن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[95]

مسعود {فلا كفر لسعيه}. {وَإِنَّا لَهُ} أي: لسعيه {كَاتِبُونَ}؛ أي: مثبتون في صحائف أعمالهم، حافظون له، لا نغادر منه شيئًا. والمعنى: أي (¬1) ومن يعمل صالح الأعمال، وقلبه مليء بالإيمان بربه، والتصدق لأنبيائه ورسله، واليقين باليوم الآخر، يوم تجزي كل نفس بما عملت، من خير أو شر، فإنا لا نضيع سعيه، ولا نبخسه حقه، بل نوفيه على عمله الجزاء الأوفى، وإنا مثبتون له ذلك في صحيفة أعماله، لا نترك منه شيئًا جلَّ أو قلَّ، عظم أو حقر، ونحو الآية قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}. 95 - وقوله: {وَحَرَامٌ}؛ أي: ممتنع، خبر مقدم {عَلَى} أهل {قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}؛ أي: استأصلناها بالعذاب في الدنيا، لكفرهم، متعلق بـ "حرام"، وجملة قوله: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلينا في الآخرة، للمجازاة في تأويل مصدر مرفوع، على كونه مبتدأ مؤخرًا، أو فاعلًا سدّ مسدّ الخبر. والمعنى (¬2): وممتنع ألبتة على أهل القرية المهلكة عدم رجوعهم إلينا للجزاء بأن يذهبوا تحت التراب، من غير إحساس بالنعمة، أو بالعذاب، بل لا بد من جزائهم في الآخرة على أعمالهم السيئة. وقيل المعنى (¬3): واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت عدم رجوعهم عن الشرك والمعاصي، فإن الحرام قد يأتي بمعنى الواجب، ومنه قول الخنساء: وَإِنَّ حَرَامَاً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيَاً ... عَلَى شَجْوِهِ إِلاَّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ وقيل (¬4): إن {لَا} في {لَا يَرْجِعُونَ} زائدة؛ أي: حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا. واختار هذا أبو عبيدة. قال النحاس: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) الشوكاني.

والآية مشكلة، ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس وغيرهم، عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يرجعون؛ أي: لا يتوبون. قال الزجاج وأبو علي الفارسي: إن في الكلام إضماراً؛ أي: وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها أن يتقبل منهم عمل؛ لأنهم لا يرجعون؛ أي: لا يتوبون. وتخصيص (¬1) امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}؛ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم. وفي "التأويلات النجمية" (¬2): يشير إلى قلوب أهل الأهواء والبدع المهلكة باعتقاد السوء، ومخالفات الشرع، أنهم لا يتوبون إلى الله، ولا يرجعون إلى الحق، يدل على هذا التأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}. وقرأ الجمهور (¬3): {وَحَرَامٌ}. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو حنيفة وأبو عمرو في رواية {وحِرْمُ} بكسر الحاء وسكون الراء. وقرأ قتادة ومطر الورّاق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء. وقرأ عكرمة {وحَرِمٌ} بكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضًا وابن المسيب وقتادة أيضًا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي، بخلاف عنهما. وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي. وقرأ ابن عباس أيضًا: بفتح الحاء والراء والميم على المضي. وقرأ اليمان {وَحُرِّمَ} بضم الحاء وكسر الراء مشدّدة وفتح الميم. وقرأ الجمهور {أهلكناها} بنون العظمة. وقرأ السلمي وقتادة بتاء المتكلم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[96]

وقرىء {إِنَّهُمْ} بكسر الهمزة، فيكون الكلام قد تم عند قوله: {أَهْلَكْنَاهَا} ويقدر حينئذٍ مبتدأ مؤخر، ويكون {حرام} خبرًا مقدمًا له، والمعنى: وحرام على أهل قرية قدّرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح، ينجون به من الإهلاك، ثم أكد ذلك وعلّله بقوله: إنهم لا يرجعون عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك. وقراءة الجمهور بالفتح تصح على هذا المعنى، وتكون {لا} نافية على بابها، والتقدير لأنهم لا يرجعون. 96 - و {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} ليست بحرف جر، ولا حرف عطف، بل هي حرف يبتدأ بعدها الكلام، غاية لما يدل عليه ما قبلها، كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا، ويقولون: {يَا وَيْلَنَا} إلخ، أو لا يرجعون عن الكفر، حتى إذا قامت القيامة، يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع. و {إِذَا} شرطية جوابها قوله الآتي. {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ}. وقيل: جوابها محذوف تقديره: يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا كما قدّرناه آنفًا. وقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} معطوف على الجواب المحذوف. ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحهما فتح سدهما، فهو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وقد سبقت قصة يأجوج ومأجوج وبناء السد عليهم وفتحه في آخر الزمان في سورة الكهف. والتقدير: حتى إذا فتح سدّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن يأجوج ومأجوج {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} أي إلى كل مكان مرتفع من الأرض {يَنْسِلُونَ}؛ أي: يسرعون المشي إليه لينزلوا فيه، ويظهروا فيه، ويتفرقون في الأرض، وينتشرون فيها. قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون، أي: لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. روى أنهم يسيرون في الأرض، ويقبلون على الناس من كل موضع مرتفع والحدب المكان المرتفع، والنسلان مقاربة الخطو من الإسراع. وقرأ ابن مسعود (¬1)، وابن عباس: {من كل جدث} بالجيم والثاء المثلثة، وهو القبر. وقرأ الجمهور: {يَنْسِلُونَ} بكسر السين. وابن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[97]

إسحاق وأبو اليمان بضمها. وذلك (¬1) بعد نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض، ثم يهلكون بدعائه عليهم، فتملأ رممهم وجيفهم الأرض، فيرسل الله عليهم طيرًا كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا، فيغسل الأرض من آثارهم، ثم يقول الله للأرض: أنبتي ثمرك، فيكثر الرزق جدًّا، ويستقيم الحال لعيسى والمؤمنين، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم ريحًا طيبة، تقبض روح كل مؤمن ومسلم، وتبقي شرار الناس يتهارجون كتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة اهـ "خازن". وبين موت عيسى والنفخة الأولى مئة وعشرون سنة، لكن السنة بقدر شهر، كما أن الشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم، واليوم بقدر ساعة، فيكون بين عيسى والنفخة الأولى قدر ثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة، اهـ. وقيل: الضمير في قوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} يعود على العالم بأسره، ولكن الأول أظهر. والمعنى على هذا؛ أي (¬2): ويستمر هذا الإمتناع إلى قيام الساعة، ومن أماراتها فتح سد يأجوج ومأجوج، وإتيان الناس سراعًا من كل مرتفع من الأرض، والمقصود الرد على المشركين في إنكارهم البعث والجزاء. والخلاصة: أنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعةً، ولا يمكن رجوعهم إليها حتى تقوم الساعة، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض. قال أبو حيان: والظاهر أن ضمير {وهم} عائد على يأجوج ومأجوج. وقيل: الضمير للعالم، ويدل عليه قراءة عبد الله وابن عباس {من كل جدث} بالجيم والثاء المثلثة، وهو القبر. وقرىء بالفاء. والثاء للحجاز، والفاء لتميم، وهي بدل من الثاء كما أبدلوا الثاء منها قالوا: المغثور، وأصله مغفور. ذكره في "البحر" كما مر بعضه. 97 - وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}؛ أي: القيامة - عطف على {فتحت}، والمراد: ما بعد النفخة الثانية، من البعث والحساب والجزاء {فَإِذَا هِيَ}؛ أي: القصة {شَاخِصَةٌ}؛ أي: مرتفعة {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من الدهشة والحيرة، حالة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

كونهم قائلين تحسرًا وندامة {يَا وَيْلَنَا} ويا هلاكنا، تعال إلينا، فهذا أوان حضورك. وجملة قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} جواب الشرط في قولهه: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}. وإذا (¬1) للمفاجأة سدّ مسدّ الفاء الجزائية كقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، والضمير للقصة. و {شَاخِصَةٌ} خبر مقدم لـ {أَبْصَارُ}، والجملة من المبتدأ والخبر، خبر ضمير القصة مفسرة له. وقال الفراء والكسائي (¬2): الواو في قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} زائدة مقحمة في جواب الشرط، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق نظير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)}؛ أي: ناديناه. وعلى هذا القول، فالفاء في قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} تكون عاطفة على هذا الجواب. فإن قيل (¬3): فتح السد واقتراب الوعد الحق يحصل في آخر أيام الدنيا، والجزاء وشخوص الأبصار إنما يحصل يوم القيامة، والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين؟ فالجواب: أن التفاوت القليل يجري مجرى العدم، وفي الآية دلالة على أن قيام الساعة. لا يتأخر عن خروج يأجوج ومأجوج، كما روي عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: لو أن رجلًا اقتنى، فلوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج، لم يركبه حتى تقوم الساعة. والفلوّ المهر؛ أي: ولد الفرس. والمعنى (¬4): أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء، من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين: يا ويلنا؛ أي: هلاكنا تعال فهذا أوان حضورك {قَدْ كُنَّا} في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ} تامة {مِنْ هَذَا} الذي أصابنا ودهمنا من البعث والرجوع إليه للجزاء، ولم نعلم أنه حق، وقوله: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} إضراب (¬5) عما قبله، من وصف أنفسهم بالغفلة؛ أي: لم نكن غافلين ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح. (¬5) روح البيان.

[98]

عنه، حيث نبّهنا عليه بالآيات والنذر، بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذر، مكذبين بها، أو ظالمين لأنفسنا، بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب، فليتفكر العاقل من هذا البيان والتذكار، فقد نبّه الله، وقطع الأعذار. وفي الحديث: "يقول الله عن وجل: يا معشر الجن الإنس، إني قد نصحت لكم، فإنما هي أعمالكم في صحفكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلّا نفسه". وعن بعض الحكماء، أنه نظر إلى أناس يترحمون على ميت، خلف جنازته، فقال: لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرًا لكم، أما إنه قد مات ونجا من ثلاثة أهوال: أولها رؤية ملك الموت، والثاني مرارة الموت، والثالث خوف الخاتمة. وصفوة القول (¬1): إن الناس لا يرجعون إلى الحياة، حتى تزلزل الأرض زلزالها، ويختل نظام هذا العالم، فتموج الأمم في بعض، بتفريق أجزائها، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما، فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها، فكأنه قيل: إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلَّا إذا اختل نظام العالم، ورجّت الأرض رجًّا، وماجت الأمم بعضها في بعض، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم، من الهول الذي هم فيه. 98 - ثم بيّن سبحانه حال معبوداتهم فقال: {إِنَّكُمْ} يا أهل مكة {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: والأصنام التي تعبدونها، متجاوزين عبادة الله، وذلك (¬2) بدلالة ما، فإنها لما لا يعقل، فخرج عزير وعيسى والملائكة {حَصَبُ جَهَنَّمَ}؛ أي: وقود جهنم، تحصبون فيها، وترمون فتكونون وقودها. وهو بفتح المهملتين، اسم لما يحصب؛ أي: يرمى في النار، فتهيج به، من حصبه إذا رماه بالحصباء، ولا يقال له: حصب إلّا وهو في النار، وأما قبل ذلك، فيقال له: حطب وشجر وخشب ونحو ذلك {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي: واردون عليها، وداخلون فيها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[99]

على طريق الخلود. والخطاب لهم، ولما يعبدون، تغليبا لهم. واللام في قوله: {لَهَا} للتقوية، لضعف عمل اسم الفاعل. وقيل: هي بمعنى {عَلَى}، والمراد بالورود هنا الدخول. والمعنى (¬1): إنكم أيها المشركون بالله، العابدون من دونه الأوثان والأصنام، وما تعبدون من دونه، من الآلهة وقود جهنم، وإنكم واردوها وداخلون فيها، ونحو الآية قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. والحكمة في أن الآلهة تقرب بهم، وتدخل معهم في النار: 1 - أنهم كلما رأوهم، ازدادوا غمَّا وحسرةً؛ لأنهم ما وقعوا في العذاب إلّا بسببهم، وقد قالوا: "النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب". 2 - أنهم قد كانوا في الدنيا، يظنون أنهم يشفعون لهم في الآخرة، ويدفعون عنهم العذاب، فإذا استبان لهم أن الأمر على عكس ما كانوا يظنون، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم. 3 - أن إلقاءهم في النار استهزاء بهم وبعبادتهم. وقرأ الجمهور (¬2): {حَصَبُ} بالحاء والصاد المهملتين، وهو ما يحصب به؛ أي: يرمى به في نار جهنم. وقرأ ابن السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير: بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس، وهو مصدر، يراد به المفعول؛ أي: المحصوب. وقرأ ابن عباس: بالضاد المعجمة المفتوحة. وعنه إسكانها. وبذلك قرأ كثير عزة. والحصب ما يرمى به في النار. وقرأ أبيّ وعليّ وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي {حطب} بالطاء. 99 - ثم بيّن لهم بالدليل خطأ ما يعتقدون فقال: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ}؛ أي: لو كانت هذه الأصنام {آلِهَةً} على الحقيقة، كما تزعمون أيها العابدون {مَا وَرَدُوهَا}؛ أي: ما وردت تلك الآلهة النار، ولا دخلوها، لكنه قد اتضح لكم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[100]

على أتم وجهٍ أنهم وردوها إذ صاروا حطبها، فامتنع كونهم آلهة، أو: ما ورد العابدون والمعبودون النار. وقيل: ما ورد العابدون فقط. وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام، وتوبيخ شديد لهم. وقرأ الجمهور: {آلِهَةً} بالنصب على أنه خبر {كان} وقرأ طلحة: بالرفع على أن في {كَانَ} ضمير الشأن. وقصارى ذلك أن الأصنام، إذا كانت لا تنفع نفسها، ولا تدفع الضر عنها، فهي أبعد من أن تدفع الضر عن غيرها، ومن جرّاء ذلك، فهي جديرة بالتحقير والإهانة، لا بالتعظيم والعبادة {وَكُلٌّ} من العابدين والمعبودين {فِيهَا}؛ أي: في النار {خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيها أبدا، لا خلاص لهم منها. 100 - ثم بيّن أحوالهم فيها، فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء الذين وردوا النار {فِيهَا} أي: في النار {زَفِيرٌ} أي: أنين وتنفس شديد، متقطع، من شدة ما ينالهم من العذاب. والزفير: ترديد النفس حتى تنفخ الضلوع منه، وهو مع كونه، من أفعال العبدة، أضيف إلى الكل للتغليب {وَهُمْ}؛ أي: الذين دخلوا النار {فِيهَا}؛ أي: في النار {لَا يَسْمَعُونَ}؛ أي: لا يسمع بعضهم، زفير بعض لعظم الهول، وفظاعة العذاب. وقيل (¬1): لا يسمعون شيئًا؛ لأنهم يحشرون صمَّا كما قال سبحانه، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}، وإنما سلبوا السماع؛ لأن فيه بعض تروّح وتأنّس. وقيل: لا يسمعون ما يسرّهم، بل يسمعون ما يسوؤهم. 101 - ثم لمّا بيّن سبحانه هؤلاء الأشقياء، شرع في بيان حال السعداء، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا}؛ أي: من جهتنا، وفي علمنا الخصلة {الْحُسْنَى} التي هي أحسن الخصال، وهي السعادة. وقيل: التوفيق، أو التبشير بالجنة، أو نفس الجنة. وهم كافة المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة، أو سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفة المذكورة {عَنْهَا}؛ أي: عن نار جهنم {مُبْعَدُونَ}؛ لأنهم قد صاروا في الجنة، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[102]

وشتّان بينها وبين النار؛ لأن الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل السافلين. وقال بعضهم (¬1): {أن} هنا بمعنى إلّا؛ أي: إلّا الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني: السعادة والعدة الجميلة بالجنة. والمعنى: إن الذين سبق لهم التوفيق للطاعة، وأخبتوا لله، وأخلصوا له العمل لا يدخلون النار، ولا يقربونها ألبتة. 102 - ثم ذكر أوصافهم حينئذٍ فقال: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}؛ أي: لا يسمعون صوت حركة النار، الذي يسمع من شدة تحركها واضطرابها وتوهّجها. والحسيس (¬2) صوت يحس به؛ أي: لا يسمعون صوتها سمعًا ضعيفًا، كما هو المعهود، عند كون المصوت بعيدًا وإن كان صوته في غاية الشدة، لا أنهم لا يسمعون صوتها الخفي في نفسه فقط، قال جعفر الصادق: كيف يسمعون حسيسها والنار تخمد لمطالعتهم، وتتلاشى برؤيتهم. وهذه الجملة (¬3) بدل من {مُبْعَدُونَ}، أو حال من ضميره، أو خبر ثان، وهي مذكورة للمبالغة في انقاذهم منها. {وَهُمْ}؛ أي: هؤلاء الموصفون بالصفات المذكورة {فِي مَا اشْتَهَتْ} وتمنّت والتذّت {أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}؛ أي: دائمون في غاية التنعم والاشتهاء، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، والشهوة (¬4): طلب النفس اللذة. وتقديم الظرف للقصر والاهتمام، وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك. والمعنى: أنهم في حبور دائم، ونعيم لا ينقطع 103 - {لَا يَحْزُنُهُمُ}؛ أي: لا يخيفهم {الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}؛ أي: هول النفخة الأخيرة في الصور، حين قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، أو (¬5) حين تغلق النار على أهلها، وييأسون من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان. (¬5) المراح.

[104]

الخروج منها، أو حين يذبح الموت في صورة كبش أملح بين الجنة والنار، وينادي يا أهل النار، خلود بلا موت، فييأس أهل النار من الخروج منها، أو حين يؤمر بالكافر، بالذهاب إلى النار. وهذا (¬1): بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية، بعد بيان نجاتهم من النار، لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة. والفزع: انقباض ونفور، يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الفزع. ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه. وقال بعضهم: الفزع الأكبر ذبح الموت بمرأى من الفريقين، وإطباق جهنم على أهلها؛ أي: وضع الطبق عليها بعدما أخرج منها من أخرج، فيفزع أهلها حينئذٍ فزعًا شديدًا، لم يفزعوا فزعًا أشد منه. وقال الراغب: الفزع الأكبر هو الفزع من دخول النار، اهـ. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن (¬2): {لا يُحزنهم} بضم الياء وكسر الزاي من أحزن الرباعي لغة تميم. وقرأ الباقون {لَا يَحْزُنُهُمُ} بفتح الياء وضم الزاي؛ قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: وتستقبلهم الملائكة الحفظة، الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم على أبواب الجنة، بالبشرى، بالنجاة من العذاب، أو ملائكة الرحمة مهنّئين لهم، قائلين: {هَذَا} اليوم، وهذا الوقت هو {يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا بمجيئه، وتبشرون بما لكم فيه من الثواب، كفاء إيمانكم بالله وطاعتكم له، وتزكية أنفسكم بصالح الأعمال باتباعكم أوامر ربكم، واجتنابكم نواهيه. وقصارى ذلك أنهم خلصوا من كل ما يكرهون، وفازوا بكل ما يحبون. 104 - والظرف في قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} منصوب بـ {اذْكُرْ} محذوفًا، وهو أولى وأوضح. والطي ضد النشر، وهو الجمع والدرج. والمراد، بالسماء: الجنس. والكاف في قوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} صفة لمصدر محذوف. والسجل: القرطاس والصحيفة، فالطي حينئذٍ، مصدر مضاد لمفعوله، والفاعل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

محذوف. والكتاب إما مصدر بمعنى الكتابة، أو بمعنى المكتوب. واللام على معناها؛ أي: للتعليل. والمعنى: واذكر يا محمد، لأمتك هول يوم نطوي السماء، ونلقها طيًّا ولفًّا، كما يطوي الرجل السجل والقرطاس، ويلفه لأجل الكتابة فيه، في مبدأ شغل الكتابة، أو يلفه لحفظ ما كتب فيه من المعاني الكثيرة والأعمال المنتشرة، في نهاية شغل الكتابة. وقيل: السجل اسم ملك في السماء الثالثة، فإن هذا الملك يطوي كتب الأعمال، إذا رفعت إليه، وعلى هذا المعنى، فالطي: مصدر مضاف إلى فاعله، والكتاب، بمعنى: المكتوب، والمعنى على هذا، طيًّا كطي الملك، المسمى بالسجل، وجمعه صحائف الأعمال، إذا رفعت الحفظة أعمال العباد إليه، فاللام على هذا زائدة. وقيل: الظرف متعلق بقوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} والمعنى عليه: لا يحزنهم (¬1) الفزع الأكبر حين تطوي السماء وتزال، وتأتي سماء أخرى جديدة، وكواكب أخرى، كما يطوي الطومار والقرطاس على ما يكتب فيه لحفظه من الضياع والمحو. واللام على هذا بمعنى على. والخلاصة: أنه لا يلحقهم الفزع حين تمحى رسوم السماء، وتذهب آثارها، وتخلق أرض جديدة وكواكب جديدة. وقيل: الظرف متعلق بـ"نعيده" الآتي؛ أي: نعيده يوم نطوي السماء. وقيل: متعلق بقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ}. وقرأ الجمهور (¬2): {نَطْوِي} بنون العظمة. وقرأ أبو جعفر وأبو العالية وابن أبي عبلة وفرقة {تُطَوى} بتاء مضمومة وواو مفتوحة {السَّمَاءَ} رفعًا وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها. وقرأت (¬3) فرقة: منهم مجاهد وشيبة بن نصّاح {يَطوي} بياء الغيبة، مبنيًا للفاعل على معنى: يطوي الله السماء. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير. (¬3) البحر المحيط وزاد المسير.

وقرأ الجمهور: {السِّجِلِّ} بكسر السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الحسن وأبو المتوكل وأبو الجوزاء ومحبوب عن أبي عمبرو {السِّجْل} بكسر السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. وقال أبو عمرو: وقراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن. وقرأ الأعمش وطلحة وأبو السماك {السَّجْل} بفتح السين وسكون الجيم وتخفيف اللام. وقرأ أبو هريرة وصاحبه وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {السُّجُلّ} بضمتين وتشديد اللام. وقرأ الجمهور ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {للكتاب} بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {لِلْكُتُبِ} بالجمع. وسكّن التاء الأعمش. والكاف في قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} جارّة، وما مصدرية، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف. والمعنى: نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا له؛ أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود، وهذا لا ينافي الإعادة من عجيب الذنب. وخلق مصدر بمعنى الخلائق. فلذلك أفرده اهـ "سمين". ففي الآية تشبيه الإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. قال الزمخشري: فإن قلت: ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده من العدم. فكما أوجده أولًا من عدم، يعيده ثانيًا من عدم. تنبيه (¬1): اختلفوا في كيفية الإعادة، فقيل: إن الله تعالى يفرّق أجزاء الأجسام، ولا يعدمها، ثم إنه يعيد تأليفها، فذلك هو الإعادة. وقيل: إنه تعالى يعدمها بالكلية، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى، وهذه الآية دالة على هذا الوجه؛ لأنه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء، والابتداء، ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة، بل عن الوجود بعد العدم. فوجب أن تكون الإعادة كذلك. واحتج الأولون بقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، فدل هذا على أن السموات، حال كونها مطوية تكون موجودة، وبقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[105]

الْأَرْضِ}، وهذا يدل على أن الأرض باقية، لكنها جعلت غير الأرض، اهـ كرخي. والمعنى على الوجهين: أي (¬1) نعيد ما خلقناه أولًا إعادة مثل بدئنا إياه، في كونه إيجادًا بعد عدم، أو جمعًا للأجزاء المتبدّدة، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما، على السواء. وقيل (¬2): معناه: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم. حفاة عراة غرلًا، كذلك نعيدهم يوم القيامة. روي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة عراة. حفاة، غرلًا كما خلقوا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} متفق عليه. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. وقوله: {وَعْدًا عَلَيْنَا} منصوب بـ {وعدنا} مقدرًا، وهو مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: وعدنا بالإعادة وعدًا حقًا علينا إنجازه، والوفاء به بسبب الإخبار عن ذلك، وتعلق العلم بوقوعه، وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ما وعدنا لا محالة. قال العمادي: أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له. وقال الزجاج: معنى {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}: إنا كنا قادرين على ما نشاء، وهو البعث والإعادة، وهذه الجملة، ذكرت تأكيدًا لتحتم الخبر. 105 - {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ}، أي: وعزتي وجلالي لقد كتبنا وأثبتنا في الكتب المنزلة من السماء، التوراة، والإنجيل والزبور والفرقان {مِنْ بَعْدِ} ما كتبناه في {الذِّكْرِ} وأثبتناه في اللوح المحفوظ {أَنَّ الْأَرْضَ}؛ أي: أن أرض الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات في الدنيا، من بعد بعثهم وإعادتهم في الآخرة، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} وعلى هذا المعنى: فالمراد بالزبور جميع الكتب المنزلة من السماء التوراة والإنجيل والزبور والقرآن؛ لأن الزبور والكتاب بمعنى واحد، يقال: زبرت وكتبت، قاله ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير.

الزجاج، ويؤيده ما قاله حمزة في الزبور بضم الزاي فإنه جمع زبر. وبالذكر اللوح المحفوظ. وبالأرض أرض الجنة. وبالصالحين عامة المؤمنين. وقيل: المراد بالزبور كتاب داود، وبالذكر توراة موسى. وقيل: المراد بالزبور القرآن، وبالذكر التوراة والإنجيل. وقيل: المراد بالأرض: أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته بفتحها. وقيل: المراد بها الأرض المقدسة. يرثها بنو إسرائيل بدليل قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. والظاهر (¬1): أن هذا تبشير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بوراثة أرض الكافرين، وإعزاز المسلمين، وإظهار الدين. وعليه أكثر المفسرين. وقرأ حمزة {عبادي} بتسكين الياء، وقرأ الباقون: بتحريكها. وقيل معنى الآية: أي (¬2) ولقد كتب الله عنده، وأثبت في قديم علمه الأزلي، الذي لا ينسى، ثم أثبت في الكتب السماوية من بعد ذلك، أن الأرض لا يعمرها من عباده إلّا من يصلح لعمارتها، من أي دين كان، وأي مذهب انتحل. وصلاح الأمة، يقوم على أربعة أركان: 1 - أن يكون قادتها علماء مفكرين، وساستها حكماء عادلين، بعيدين عن الجور والظلم والمحاباة، يأخذون بيد المظلوم، وينصفونه من الظالم، ويعملون لخير الأمة وسعادتها، ويواصلون ليلهم بنهارهم في كل ما يرفع من شأنها، ويسمو بها على الأمم. 2 - أن يكون لها جيش منظم، يحمي حريمها، ويدافع عنها، إذا جدّ الجدّ، وأدلهم الخطب، ولن يكون كذلك، إلّا إذا كان فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون، ولديه من السلاح، وعداد الحرب، ما يكشف عنه العلم، من وسائل الدفاع من طائرات، وغوّاصات وسفن حربية، وآلات للهدم والتدمير، وجند حذقوا فنون الحرب، وبلوا أساليبها المختلفة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[106]

3 - أن يقوم أبناء الحرف المختلفة، من تجّار وصنّاع وزرّاع، بأداء أعمالهم على الوجه المرضي، وكل طائفة منها تظاهر الطوائف الأخرى، وتعاونها لخير الجميع، وتقوم بما يجب نحوها، من المساعدة فيما يكفل نجاح الجميع. 4 - أن تنظم هذه الطوائف أعمالها، بحيث تتوزع هذه المهن بين الأفراد، بحسب حاجة الأمة إليها، حتى لا تمد يدها إلى غيرها لمعونتا، ويكون في كل طائفة جماعة، مبرزون يفكرون فيما يرقى بشؤون الطائفة، بحيث تنافس أمثالها في الأمم الأخرى، أو تفوقها بما أوتيت، من حسن التدبير والتصرف. وهذا (¬1): حكم أيّدته التجارب في سائر العصور، لدى جميع الدول، فما من أمة تهاونت في هذه الأمور، أو في شيء منها إلّا حكم عليها بالفناء والزوال، وتواريخ الفرس والروم والأمم الإسلامية والدولة التركية تدل على صدق ما نقول. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}. 106 - {إِنَّ فِي هَذَا} المذكور في هذه السورة (¬2)، من البراهين الدالة على التوحيد، وصحة النبوة والوعد والوعيد والمواعظ البالغة {لَبَلَاغًا} أي: لكفاية {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}؛ أي عاملين بعلومهم، مشغولين بعبادة الله، مهتمّين بها، لا يعبدون أحدًا من دون الله تعالى. وقيل: المعنى إن في هذا المقرآن المنزل عليك لبلاغًا؛ أي: لوصولا إلى البغية، يعني من اتبع القرآن، وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. والمعنى: أن من اتبع القرآن، وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة. وقيل: المعنى {إِنَّ فِي هَذَا}؛ أي (¬3): إن فيما ذكر في هذه السورة، من أنظمة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[107]

الدول، والتسلط على ألطف الأشياء كالهواء، وعلى أصلبها كالحديد، ومن الجمع بين حرب الأعداء والاستغراق في ذكر الله، وتسخير العمّال في المباني العظيمة، واستخراج ما في البحار، من أصناف اللآلي، وما في باطن الأرض، من مختلف المعادن، لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل، إذ يعلمون أن العلم شجرة ثمرتها العمل، فعلى المسلمين قاطبةً، أن يصدعوا بما أمروا به في هذا الكتاب، وأن يعرضوا عن الجاهلين بأمور دينهم، فالله محاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبهم على قُدَرِهم الجسمية، وليعلموا أنه متى ذاعت هذه الآراء في الأمة، قامت كلها قومة رجل واحد، في تنظيم شؤونها، وتربية أبنائها، تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنساني. 107 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد (¬1) بهذا القرآن وأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك، من الأمور التي هي مناط السعادة في الدارين، في حال من الأحوال {إِلَّا} حال كونك {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قاطبةً في الدين والدنيا، فإن ما بعث به سبب لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن أعرض عنه واستكبر، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه فلا يُرحَم. فإن (¬2) الناس كانوا في ضلالة وحيرة، فبعث الله تعالى سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فبيَّن لهم سبيل الثواب، وأظهر الأحكام، وميَّز الحلال من الحرام، وإن كل نبي قبل نبينا، إذا كذَّبه قومه أهلكهم الله تعالى بالخسف والمسخ والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذّبه إلى الموت، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به - صلى الله عليه وسلم - فجاء رحمةً في حق الكفار بسبب تأخير عقوبتهم. وقيل: المراد بالعالمين المؤمنون خاصة، والأول أولى بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}. وفي "التأويلات النجمية": في سورة مريم بين قوله في حق عيسى - عليه السلام -: {وَرَحْمَةً مِنَّا} وبين قوله، في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} فرق عظيم، وهو أنه في حق عيسى ذكر الرحمة مقيدة بحرف {مِن}، و {مِن} للتبعض، فلهذا كان عيسى رحمة لمن آمن به، واتبع ما جاء به، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[108]

إلى أن بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم انقطعت الرحمة من أمته بنسخ دينه، وفي حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - ذكر الرحمة للعالمين مطلقًا، فلهذا لا ترفع الرحمة عن العالمين أبدًا، أما في الدنيا، فبأن لا ينسخ دينه، وأما في الآخرة، فبأن يكون الخلق محتاجين إلى شفاعته، حتى إبراهيم عليه السلام فافهم جدًّا، انتهى. 108 - ثم بين سبحانه، أن أصل تلك الرحمة، هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال: {قُلْ} يا محمد لمشركي قومك {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ}؛ أي: ما يوحى إليّ في هذا القرآن شيء إلّا {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: إلّا كون إلهكم إلهًا منفردًا، لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله. وقال الشهاب: في هذه الآية قصران: الأول: قصر الصفة على الموصوف. والثاني: بالعكس، فالثاني قصر فيه الله على الوحدانية، والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية، والمعنى: لا يوحي إليّ إلّا اختصاص الإله بالوحدانية. وأورد عليه أنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية، وقد أوحي إليه أمور كثيرة غيرها؟ وأجيب: بأنه معنى قصره عليها، أنها الأصل الأصيل، والأساس المقصود من البعثة، فإن ما عداها متفرع عليها، غير منظور إليه في جنبها، فهو قصر ادعائي، ليس حقيقياً، إذا المقصود نفي ما يصفه المشركون {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} يا أهل مكة؛ أي: منقادون لما يوحى إليّ من إخلاص الإلهية والتوحيد لله. والمراد بهذا الاستفهام الأمر، أي: أسلموا وأخلصوا عبادتكم لله تعالى. والمعنى: أي قل يا محمد لمشركي قومك، ولمن بلغته الدعوة من غيرهم ما أوحى إليّ ربي، إلّا أنه لا إله إلّا هو، فلا تصلح العبادة لسواه، فانقادوا لأمره، وأذعنوا لطاعته، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وتبرَّؤوا منها حتى تسلكوا سبيل النجاة، وتفوزوا بالسعادة 109 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا}؛ أي: فإن أعرضوا عن اتباع ما أوحي إليك، ولم يسلموا {فَقُلْ} لهم ها أنا إذًا {آذَنْتُكُمْ} وأعلمتكم، بأني حرب لكم، كما أنكم حرب لى، فأنا بريءٌ منكم، كما أنكم برآء منى، وأنتم كائنون {عَلَى سَوَاءٍ} في هذا الإعلام، لا أخص أحدًا منكم دون أحد، وما

فرقت بينكم في هذا النصح وتبليغ الرسالة. فالجار والمجرور حال من مفعول {آذَنْتُكُمْ}؛ أي: كائنين على سواء في الإعلام به، ونحو الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وعبارة "البيضاوي" هنا (¬1): فقل: آذنتكم وأعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم على سواءٍ؛ أي: مستوين في الإعلام به، أو مستوين أنا وأنتم في العلم، بما أعلمتكم به، أو في المعاداة، أو إيذانًا على سواء، وقيل: أعلمتم أني على سواء؛ أي: عدل واستقامة رأي بالبرهان النير انتهت. {وَإِنْ أَدْرِي} أي: ما أدري، وما أعلم {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}؛ أي: ما أعلم جواب أقريب ما توعدون به، من غلبة المسلمين وظهور الدين، أو الحشر مع كونه آتيًا لا محالة، أم بعيد هو، ولا جرم أن العذاب والذلة يلحقكم لا محالة، ولكن لا علم لى بقربه، ولا بعده؛ لأن الله لم يطلعني على ذلك. و {إِنْ}: نافية. و {أَدْرِي} معلّقة، والجمة الاستفهامية في موضع نصب بـ {أَدْرِي}، وتأخر المستفهم عنه، لكونه فاصلة، إذ لو كان التركيب: أقريب ما توعدون أم بعيد، لم تكن فاصلة، وكثيرًا ما يرجح الحكم في الشيء، لكونه فاصلة آخر آية ذكره في "البحر". ومعنى الآية: أي (¬2) فإن أعرضوا عن توحيد المعبود، فقل لهم، يا محمد: إني أعلمتكم بأني محارب لكم، على إعلان، ولكن لا أدري متى يأذن لي ربي في محاربتكم، فتبين بهذا، أن السورة مكية، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة. وعن ابن عامر في رواية (¬3) {وَإِنْ أَدْرِي} بفتح الياء في الآيتين تشبيهًا بياء الإضافة لفظًا، وإن كانت لام الفعل لا تفتح إلّا بعامل. وأنكر ابن مجاهد هذه الياء، والمعنى: أنه تعالى لم يُعْلِمْني علمه، ولم يطلعني عليه، والله هو العالم، الذي لا يخفى عليه شيء. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط.

[110]

110 - {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي (¬1): يعلم ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام، وتكذيب الآيات {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} وتخفونه من الحسد والعداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وللمسلمين، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرًا. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعد؛ أي: لا يغيب عن علمه شيء منكم، في علانيتكم وسركم. قال بعض الكبار: كيف يخفى على الحق من الخلق خافية، وهو الذي أودع الهياكل أوصافها، من الخير والشر، والنفع والضر، فما يكتمونه أظهر مما يبدونه، وما يبدونه مثل ما يكتمونه، جل الحق أن يخفى عليه خافية. قال في "التأويلات النجمية": {يعلم ما تجهرون} من دعاوي الإسلام والإيمان والزهد والصلاح والمعارف {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الصدق والإخلاص والرياء والسمعة والنفاق 111 - {وَإِنْ أَدْرِي}؛ أي: وما أدري {لَعَلَّهُ}؛ أي: لعل تأخير العذاب الموعود عنكم {فِتْنَةٌ}؛ أي: اختبار {لَكُمْ} ليرى كيف صنيعكم، وهو أعلم بكلم {وَمَتَاعٌ} أي: تمتيع لكم {إِلَى حِينٍ} أي: إلى حين انقضاء آجالكم تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الجزاء في وقت هو فيه حكمة. و {لعل} (¬2) معلّقة هنا أيضًا، ولكن لا أعلم أحدًا ذهب إلى أن {لعل} من أدوات التعليق، وإن كان ظاهرًا فيها كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} والمعنى: أي (¬3): وما أدري سبب تأخير جزائكم، ولعل ذلك زيادة في افتتانكم وامتحانكم لينظر كيف تعملون، وإنه ليؤخركم إلى حين كي تتمتعوا بلذات الدنيا، مع إعراضكم عن الإيمان، فيكون في ذلك زيادة عذابكم؛ لأن المعرض عن الإيمان مع توالي الآيات، وتتابع البينات والنذر يكون عقابه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[112]

أشد. وقيل: المعنى: وما أدري (¬1) لعل تأخير الجهاد استدراج وضرر لكم، وتمتيع لكم إلى انقضاء آجالكم. 112 - {قَالَ} الرسول الكريم، - صلى الله عليه وسلم -، فهو حكاية لدعائه، - صلى الله عليه وسلم - {رَبِّ احْكُمْ} بيني وبين هؤلاء المكذبين {بِالْحَقِّ}، أي: بما هو الحق عندك، ففوض الأمر إليه سبحانه؛ أي: احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب، وقد استجيب دعاؤه - صلى الله عليه وسلم -، حيث عذبوا في بدر وأُحد والخندق وحنين {وَرَبُّنَا} مبتدأ، خبره قوله: {الرَّحْمَنُ}؛ أي: كثير الرحمة لعباده، وهي وإن كانت بمعنى الأنعام فمن صفات الفعل، وإن أريد بها إرادة إيصال الخير، فمن صفات الذات {الْمُسْتَعَانُ} خبر آخر؛ أي: المطلوب منه المعونة {عَلَى مَا تَصِفُونَ}؛ أي: على ما تقولون من أن الشوكة، تكون لهم، وإن راية الإسلام تخفق أياماً، ثم تركد وتسكن، فكذّب الله ظنونهم، وخذلهم ونصر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين. ومعنى الآية؛ أي (¬2): قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: رب افصل بيني وبين من كذبني من مشركي قومي، وكفر بك وعبد غيرك بإحلال عذابك، ونقمتك به بالعدل، الذي يقتضي تعجيل العذاب به وتشديده عليه. وخلاصة ذلك: رب عجّل بعذابهم، وقد أجاب الله دعاءه، وأنزل بهم العذاب الأليم يوم بدر. قال قتادة: كان الأنبياء يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} فأمر رسوله أن يقول ذلك، {وربنا المستعان على ما تصفون}، من الشرك والكفر والكذب والأباطيل من قولكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}، وقولكم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. ومن قولكم: {إن الشوكة تكون لكم} وقولكم: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. وخلاصة ذلك: أنه طلب من ربه، أن يحكم بما يظهر الحق للجميع، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. وقد كثر استعمال "الوصف" في الكتاب الكريم بمعنى الكذب كقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

تَصِفُونَ}، وقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}. وقرأ الجمهور (¬1): {قُل رَّبِّ} بصيغة الأمر، وبكسر الباء. وقرأ حفص {قَالَ} بصيغة الماضي. وقرأ أبو جعفر {رَبِّ} بضم الباء، وهو من اللغات الجائزة في "يا غلامي"، وهي أن تبنيه على الضم، وأنت تنوي الإضافة، لما قطعته عن الإضافة، وأنت تريدها بنيته، فمعنى {رَبِّ} يا ربي. وقرأ الجمهور: {احْكُمْ} على الأمر من حكم. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن: {ربي} بإسكان الياء {احكم} جعله أفعل التفضيل، {فربي احكم} مبتدأ وخبر. وروي زيد عن يعقوب {ربي} بفتح الياء. وقرأت فرقة: {أحكم} فعلًا ماضيًا. وقرأ الجمهور: {تَصِفُونَ} بتاء الخطاب. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على أبيّ {على ما يصفون} بياء الغيبة، ورويت عن ابن عامر وعاصم. وفي الآية: إشارة إلى أنه، لا يطلب من الله تعالى، ولا يطمع في حق المطيع والعاصي، إلّا ما هو مستحقه، وقد جرى حكم الله فيهما في الأزل، وإن رحمته غير متناهية، وإن كانت أنواعها مئة، على ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله مئة رحمة"، فعلى العاقل أن لا يغتر بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد، فإن الاغترار بذلك من صفات الكفرة، ومن كلمات أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - قال: "مَنْ وسَّع الله عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد يمكر به فهو مخدوع عن عقله". الإعراب {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)}. {وَأَيُّوبَ}: الواو: عاطفة. {أيوب}: مفعول به لفعل محذوف تقديره: واذكر أيوب، ولكنه على حذف مضاف تقديره: واذكر خبر أيوب، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وإبراهيم}. {إِذْ} ظرف لما مضى من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الزمان. {نَادَى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على أيوب. {رَبَّهُ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، والظرف بدل من المضاف المقدر في أيوب على كونه معمولًا لمحذوف تقديره: واذكر خبر أيوب حين نادى ربه. {أَنِّي} ناصب واسمه. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة أن ومعموليها في محل الجر بحرف جر محذوف تقديره: بأني مسني الضر. {وَأَنْتَ} الواو حالية. {أنت أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: فارحمني وأنت أرحم الراحمين. أو حال من {رَبَّهُ} على طريق الالتفات. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}. {فَاسْتَجَبْنَا}: {الفاء}: عاطفة. {استجبنا}: فعل وفاعل معطوف على {نَادَى}. {لَهُ} متعلق به. {فَكَشَفْنَا} الفاء: عاطفة. {كشفنا} فعل وفاعل معطوف على {استجبنا}. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {كشفنا}. {بِهِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} الموصولة. {مِنْ ضُرٍّ}: جار ومجرور حال من {مَا} الموصولة. {وَآتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على {كشفنا}. {أَهْلَهُ} مفعول ثان لـ {آتينا}؛ لأنه بمعنى أعطينا. {وَمِثْلَهُمْ} معطوف على {أَهْلَهُ}، أو مفعول معه. {مَعَهُمْ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من {مثلهم}؛ لأنه تخصص بالإضافة وإن لم يعرف؛ أي: كائنين معهم. {رَحْمَةً} مفعول من أجله، منصوب بـ {آتينا}. {مِنْ عِنْدِنَا} جار ومجرور مضاف إليه، صفة لـ {رَحْمَةً}، ويجوز أن يكون مصدرًا لفعل محذوف تقديره: رحمناه رحمة. {وَذِكْرَى} معطوف على {رَحْمَةً}. {لِلْعَابِدِينَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {ذكرى}؛ أي: تذكرة لهم. فيصبروا ويثابوا كما صبر أيوب وأثيب. {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا

إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}. {وَإِسْمَاعِيلَ}: منصوب بـ {اذكر} محذوفًا، والجملة معطوفة على جملة واذكر إبراهيم، ويجوز أن يعطف نسقًا على من تقدم من الأنبياء. {وَإِدْرِيسَ} معطوف على {إسماعيل}. {وَذَا الْكِفْلِ} معطوف عليه أيضًا، منصوب بالألف {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}: مبتدأ وخبر، وسوّغ الابتداء بالنكرة الإضافة المقدّرة، أو العموم، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول. {فِي رَحْمَتِنَا} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أدخلنا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: فأعطيناهم ثواب الصابرين وأدخلناهم. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {مِنَ الصَّالِحِينَ} جار ومجرور خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}. {وَذَا النُّونِ}: منصوب بـ {اذكر}: محذوفًا، ولكنه على تقدير مضاف، أي: واذكر خبر ذي النون، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: واذكر إبراهيم. {إِذ} ظرف لما مضى من الزمان. {ذَّهَبَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون. {مُغَاضِبًا} حال من فاعل ذهب، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذ}، والظرف بدل من المضاف المقدر؛ أي: واذكر خبر ذي النون حين ذهب مغاضباً. {فَظَنَّ} {الفاء}: عاطفة. {ظن} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ذهب. {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لَنْ} حرف نفي ونصب. {نَقْدِرَ} منصوب بـ {لَنْ}، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَيْهِ} متعلق بـ {نَقْدِرَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي {ظن}، تقديره: فظن عدم قدرتنا عليه. {فَنَادَى} الفاء: عاطفة {نادى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون. {فِي الظُّلُمَاتِ}: جار ومجرور حال من فاعل نادى، والجملة الفعلية

معطوفة على محذوف، تقديره: فهرب من قومه، فركب السفينة، فوقفت، فاقترعوا، فرموه، فالتقمه الحوت، فنادى في الظلمات، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة فظن. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: أنه. {لَا}: نافية تعمل عمل ان. {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر لا محذوف جوازًا تقديره: موجود. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْتَ}: ضمير رفع منفصل، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن، في خبر {لَا}، وجملة {لَا} من اسمها وخبرها في محل الرفع، خبر {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل الجر بحرف جر محذوف: تقديره: بأنه لا إله إلا أنت، ويجوز أن تكون {أَن} مفسرة؛ لأن النداء فيه، معنى القول دون حروفه، {سُبْحَانَكَ}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: أسبحك سبحاناً، والجملة المحذوفة حال من ضمير أنت؛ أي: حالة كونك منزهًا، عن كل ما لا يليق بك. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {كُنْتُ}. فعل ناقص واسمه. {مِنَ الظَّالِمِينَ}: خبره، وجملة كان في محل الرفع خبر {أَن}، وجملة {أَن} مستأنفة مسوقة لتعليل فعل محذوف، تقديره: فارحمني؛ لأني كنت من الظالمين. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}. {فَاسْتَجَبْنَا}: {الفاء}: عاطفة. {استجبنا} فعل وفاعل. {لَهُ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {نادى}. {وَنَجَّيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنَ الْغَمِّ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {استجبنا}. {وَكَذَلِكَ} الواو استئنافية. {كذلك} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر، يعود على الله والتقدير: وننجي المؤمنين قاطبة من كربهم، إنجاء مثل إنجائنا يونس من غمه، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} {وَزَكَرِيَّا}: منصوب بفعل محذوف تقديره: واذكر زكريا، ولكنه على

تقدير مضاف تقديره: واذكر خبر زكريا، كما مرّ مرارًا، والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، بدل من المضاف المقدر؛ أي: واذكر خبر زكريا حين نادى ربه. {نَادَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {زكريا}. {رَبَّهُ} مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل نادى؛ أي: حالة كونه قائلًا: رب لا تذرني فردًا، {لا} دعائية. {تَذَرْنِي} فعل مضارع مجزوم بلا الدعائية، وعلامة جزمه سكون آخره، وفاعله ضمير يعود على الرب. والنون للوقاية، والياء مفعول به. {فَرْدًا} حال من ياء المتكلم؛ أي: حالة كونه منفردًا عن وارث، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف، على كونها جواب النداء. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فارزقني وارثًا وأنت خير الوارثين. {فَاسْتَجَبْنَا} الفاء: عاطفة. {استجبنا} فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة نادى. {وَوَهَبْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {استجبنا}. {لَهُ} متعلق به. {يَحْيَى} مفعول به. {وَأَصْلَحْنَا}: فعل وفاعل معطوف على استجبنا. {لَهُ} متعلق به. {زَوْجَهُ} مفعول به، والمراد بإصلاحها جعلها صالحة للولادة بعد عقرها وعقمها، والعُقْمُ انسداد الرحم عن الولادة كما في "المختار". {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يُسَارِعُونَ}: فعل وفاعل. {فِي الْخَيْرَاتِ}: متعلق به، وجملة {يُسَارِعُونَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الإصلاح. {وَيَدْعُونَنَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُسَارِعُونَ}. {رَغَبًا وَرَهَبًا}: مصدران منصوبان على الحالية، من فاعل يدعون، ولكن بعد تأويله بمشتق تقديره: حالة كونهم راغبين في الثواب، وراهبين من العقاب، أو منصوبان على المفعول من أجله، أو على المصدرية لفعل محذوف تقديره: يرغبون رغبًا في الثواب، ويرهبون رهبًا من العقاب. {وَكَانُوا} فعل ناقص واسمه. {لَنَا} متعلق بـ {خَاشِعِينَ}. و {خَاشِعِينَ} خبر {كان}، وجملة {كانوا} معطوفة على

جملة كانوا الأولى. {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}. {وَالَّتِي}: {الواو}: عاطفة. {التي} اسم موصول في محل النصب. بفعل محذوف تقديره: واذكر قصة مريم التي أحصنت، والجملة المحذوفة معطوفة على الجمل المذكورة قبلها. {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {فَنَفَخْنَا} الفاء: عاطفة. {نفخنا}: فعل وفاعل. {فِيهَا} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة أحصنت. {مِنْ رُوحِنَا}: متعلق بـ {نفخنا}: أيضًا، ولك أن تعرب التي مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: فيما يتلى عليهم. {وَجَعَلْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول أول. {وَابْنَهَا} معطوف على الهاء، أو مفعول معه. {آيَةً} مفعول ثان، وإنما لم يطابق المفعول الأول فَيُثَنّى؛ لأن كلًّا من مريم وابنها آية بانضمامه للآخر، فصارا آية واحدة، أو يقال: إنه حذف من أحدهما لدلالة الثاني عليه؛ أي: وجعلنا مريم آية، وابنها آية، أو بالعكس. {لِلْعَالَمِينَ} جار ومجرور صفة لآية. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} ناصب واسمه وخبره. {أُمَّةً} حال لازمة من {أُمَّتُكُمْ}: وقيل: بدل من {هَذِهِ}، وقد فصل بين البدل والمبدل منه بالخبر، نحو: إن زيدًا قائم أخاك. و {وَاحِدَةً} صفة لازمة {وَأَنَا رَبُّكُمْ} مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ}. {فَاعْبُدُونِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنا ربكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول: {اعبدون} {اعبدوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها، بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَتَقَطَّعُوا} الواو: عاطفة على محذوف تقديره: فأعرضوا عن العبادة، وتقطعوا أمرهم. {تقطعوا}: فعل ماض وفاعل.

{أَمْرَهُمْ} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة علي تلك المحذوفة. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تقطعوا}. {كُلٌّ} مبتدأ. {إِلَيْنَا} متعلق بـ {رَاجِعُونَ}. و {رَاجِعُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}. {فَمَنْ}: {الفاء}: استئنافية. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {يَعْمَلْ}: فعل مضارع مجزوم بلم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. {مِنَ} زائدة. {الصَّالِحَاتِ} مفعول به، أو من تبعيضية بمعنى بعض في محل النصب مفعول به، أو الجار والمجرور صفة لمفعول به محذوف تقديره: عملا كائنًا من الصالحات. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَعْمَلْ}. {فَلَا كُفْرَانَ} الفاء: رابطة لجواب {من} الشرطية. {لا} نافية تعمل عمل {إن}. {كُفْرَانَ} في محل النصب اسمها. {لِسَعْيِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كُفْرَانَ}، والخبر محذوف تقديره: فلا كفران لسعيه موجود، أو هو خبر لا، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {مِنَ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَإِنَّا} الواو: استئنافية، أو حالية. {إنا} ناصب واسمها. {لَهُ} متعلق بـ {كَاتِبُونَ}. و {كَاتِبُونَ} خبر {إن}، والجملة مستأنفة، أو حال عامله محذوف دل عليه السياق، تقديره: فلا نكفر لسعيه حالة كوننا كاتبين له. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)}. {وَحَرَامٌ}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة. {حرام}: خبر مقدم. {عَلَى قَرْيَةٍ} جار ومجرور متعلق به. {أَهْلَكْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ {قَرْيَةٍ}. {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه. {لَا} نافية، وجملة {يَرْجِعُونَ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أنّ} المفتوحة في تأويل مصدر، مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرًا، والتقدير: وعدم رجوع قرية أهلكناها إلينا

للمجازاة حرام ممتنع في علمنا؛ لأنه لا بد من رجوعهم إلينا ومجازاتهم على أعمالهم السيئة. {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}. {حَتَّى}: حرف ابتداء وغاية لمحذوف تقديره: ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا فتحت. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ}: فعل ونائب فاعل. {وَمَأْجُوجُ} معطوف على {يَأْجُوجُ}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {وَهُمْ} مبتدأ. {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} جار ومجرور متعلق بـ {يَنْسِلُونَ}، وجملة {يَنْسِلُونَ}: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}. {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} فعل وفاعل معطوف على {فُتِحَتْ}. {الْحَقُّ} صفة لـ {الْوَعْدُ}. {فَإِذَا} الفاء: رابطة لجواب إذا وجوبًا. {إذا} فجائية مؤكدة للفاء الرابطة. {هِيَ}: مبتدأ. {شَاخِصَةٌ} خبره، {أَبْصَارُ} فاعل {شَاخِصَةٌ}. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه لـ {أَبْصَارُ}. {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول، والجملة الاسمية جواب إذا، لا محل لا من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، وقعت غاية لمحذوف، كما قدّرنا سابقًا. {يَا وَيْلَنَا} منادى مضاف، وجملة النداء مقول لقول محذوف، تقديره: قائلين: يا ويلنا. {قَدْ}: حرف تحقيق {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {فِي غَفْلَةٍ}: جار ومجرور خبر {كان}. {مِنْ هَذَا} جار ومجرور متعلق بـ {غَفْلَةٍ}، وجملة {كان} في محل النصب مقول للقول المحذوف، على كونها جواب النداء. {بَلْ} حرف اضراب. {كُنَّا ظَالِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}.

{إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {وَمَا} اسم موصول في محل النصب معطوف على الكاف. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما تعبدونه. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف. {حَصَبُ جَهَنَّمَ} خبر {إنّ} ومضاف إليه، مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي، أو للعلمية والعجمة، وجملة {إنّ} مستأنفة {أَنْتُمْ} مبتدأ {لَهَا}: متعلق بـ {وَارِدُونَ}. {وَارِدُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو بدل من {حَصَبُ جَهَنَّمَ}، أو حال من {جَهَنَّمَ}؛ لأن حصب جزء من جهنم. {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}. {لَوْ}: حرف شرط. {كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية. {وَرَدُوهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {وَكُلٌّ}: مبتدأ. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ}. و {خَالِدُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {وَرَدُوهَا}. {لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم. {فِيهَا} جار ومجرور حال من ضمير لهم. {زَفِيرٌ} مبتدأ مؤخر، والتقدير: زفير كائن لهم، حالة كونهم مستقرين فيها، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَهُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} متعلق بـ {يَسْمَعُونَ}. {لَا يَسْمَعُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير لهم، أو معطوفة على جملة لهم فيها زفير. {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {سَبَقَتْ} فعل ماض. {لَهُمْ} متعلق به. {مِنَّا} جار ومجرور حال من الحسنى. {الْحُسْنَى}. فاعل، والجملة صلة

الموصول. {أُولَئِكَ} مبتدأ. {عَنْهَا} متعلق بـ {مُبْعَدُونَ}. {مُبْعَدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {لَا يَسْمَعُونَ}: فعل وفاعل. {حَسِيسَهَا} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ثان {أُولَئِكَ}، أو بدل من {مُبْعَدُونَ}، أو في محل النصب، حال من ضمير {مُبْعَدُونَ}. {وَهُمْ} الواو: حالية، أو استئنافية. {هم} مبتدأ. {فِي مَا} جار ومجرور متعلق بـ {خَالِدُونَ}. {اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ}. فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فيما اشتهته أنفسهم. {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب حال، من الضمير المستكن في {مُبْعَدُونَ}، أو من فاعل {يَسْمَعُونَ}. {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}. {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ}: فعل ومفعول وفاعل {الْأَكْبَرُ}: صفة لـ {فزع}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ {أن}، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في {مُبْعَدُونَ}. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ}. {هَذَا يَوْمُكُمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف. وقع حالًا من الملائكة، والتقدير؛ وتتلقاهم الملائكة حالة كون الملائكة قائلين: هذا يومكم {الَّذِي}: صفة ليومكم {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تُوعَدُونَ}: خبره، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: توعدونه. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يوم نطوي السماء، أو متعلق بقوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ}، أو بقوله: {تتلقاهم}. {نَطْوِي السَّمَاءَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر

مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {كَطَيِّ} جار ومجرور صفة، لمصدر محذوف تقديره: طيا كائنًا كطي السجل. {طي} مضاف. {السِّجِلِّ} مضاف إليه، وهو مصدر مضاف للمفعول؛ أي: كما يطوي الرجل صحيفته ليكتب فيها. {لِلْكُتُبِ} جار ومجرور متعلق بطي، فهي لتقوية التعدية. {كَمَا بَدَأْنَا} الكاف حرف جر وتشبيه {ما} مصدرية. {بَدَأْنَا} فعل وفاعل. {أَوَّلَ خَلْقٍ}: مفعول {بَدَأْنَا}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بالكاف، والجار والمجرور نعت لمصدر محذوف، تقديره: نعيد أول خلق إعادة، مثل بدئنا إياه. {نُعِيدُهُ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {وَعْدًا} منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف تقديره: وعدنا تلك الإعادة وعدًا حقًّا. {عَلَيْنَا}. صفة لـ {وعد}، أو متعلق به، والجملة المحذوفة مؤكدة لمضمون ما قبلها. {إِنَّا} ناصب واسمه. {كُنَّا فَاعِلِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. واختار العمادي، كون جملة {إنّ} حالًا من فاعل {وعدنا} المقدر، تقديره: {وعدنا} ذلك، حالة كوننا، محققين ذلك الوعد. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، واللام موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {كَتَبْنَا} فعل وفاعل. {فِي الزَّبُورِ} متعلق به. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} جار ومجرور ومضاف إليه، حال من {الزَّبُورِ}، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {أَنَّ الْأَرْضَ} ناصب واسمه. {يَرِثُهَا} فعل ومفعول. {عِبَادِيَ} فاعل ومضاف إليه. {الصَّالِحُونَ} صفة لـ {عِبَادِيَ}، وجملة {يَرِثُهَا} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية لـ {كَتَبْنَا}، والتقدير: ولقد كتبنا في الزبور وراثة الصالحين الأرض.

{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي هَذَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}. {لَبَلَاغًا} اللام: حرف ابتداء. {بلاغا} اسم {إِنَّ} مؤخر. {لِقَوْمٍ} جار ومجرور صفة {لَبَلَاغًا}. {عَابِدِينَ} صفة {قوم}، والتقدير: إن بلاغًا لقوم عابدين، لكائن في هذا، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا}: الواو: عاطفة. {ما} نافية {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {رَحْمَةً} مفعول لأجله، أو حال مبالغةً في أن جعله نفس الرحمة، أو على حذف مضاف؛ أي: ذا رحمة {لِلْعَالَمِينَ} صفة لـ {رَحْمَةً}، أو يتعلق بنفس الرحمة. {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا} أداة حصر {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {إِلَيَّ} متعلقان به {أَنَّمَا} {أن}: حرف نصب وتوكيد ومصدر، ولكن بطل عملها، لدخول ما الكافة عليها. {ما}: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {إِلَهُكُمْ} مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَهٌ}: خبر. {وَاحِدٌ} صفة لـ {إِلَهٌ}. وجملة {أن} وما في حيّزها. من المبتدأ والخبر، في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ {يُوحَى}، والتقدير: قل لهم يا محمد، ما يوحى إليّ إلّا كون إلهكم إلهًا واحدًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قل. {فَهَلْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من التوحيد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم، فأقول لكم هل أنتم مسلمون؛ أي: أسلموا. {هل}: حرف استفهام بمعنى الأمر. {أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)}.

{فَإِنْ}: {الفاء}: استئنافية. {إن} حرف شرط. {تَوَلَّوْا} فعل ماض وفاعل في محل الجزم بأن الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {فَقُلْ} الفاء، رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {قل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جواب شرط لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {آذَنْتُكُمْ} إلى قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ} مقول محكي. وإن شئت قلت: {آذَنْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به أول، والثانى: محذوف تقديره: بالعذاب، والجملة في محل النصب مقول {قل}. {عَلَى سَوَاءٍ} جار ومجرور حال من مفعول {آذَنْتُكُمْ}؛ أي: حالة كونكم على سواء في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، وما فرّقت بينكم في النصح وتبليغ الرسالة؛ أي: مستوين في علمه. {وَإِنْ} الواو: حالية. {إن}: نافية. {أَدْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {أَقَرِيبٌ}: الهمزة للاستفهام، الذي هو لطلب التعيين. {قريب} خبر مقدم. {أَمْ} حرف عطف. {بَعِيدٌ} معطوف على قريب. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. {تُوعَدُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما توعدونه، والجملة الاسمية في محل النصب، سادّة مسدّ مفعولي أدري؛ لأنها معلقة عنها بهمزة الاستفهام، وجملة {أَدْرِي} في محل النصب، حال من فاعل {آذَنْتُكُمْ}. {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {يَعْلَمُ الْجَهْرَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنَ الْقَوْلِ}: جار ومجرور. حال من الجهر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قل}. {وَيَعْلَمُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول به، وجملة {يعلم} في محل الرفع معطوفة على {يعلم} الأولى، وجملة {تَكْتُمُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: تكتمونه. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)}.

{وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن} نافية {أَدْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {أَدْرِي} في محل النصب معطوفة على {أَدْرِي} الأولى. {لَعَلَّهُ} ناصب واسمه. {فِتْنَةٌ} خبره. {لَكُمْ} صفة لفتنة. {وَمَتَاعٌ} معطوف على فتنة. {إِلَى حِينٍ} صفة لـ {متاع}، أو متعلق به؛ لأنه بمعنى تمتيع، وجملة {لعل} في محل نصب بـ {أَدْرِي}. والكوفيون يجرون الترجي، مجرى الاستفهام، في التعليق عن العمل، ولكن النحاة، لم يذكروا {لعل} من المعلقات، ولكنها وردت كثيرًا في القرآن، كقوله في هذه الآية، وكقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}. وقيل: إن قوله {وَمَتَاعٌ} ليس داخلاً في حيز الترجي؛ لأنه محقق، فلا يصح عطفه على فتنة؛ لأنه حيث كان معطوفًا على خبرها، كان معمولًا لها، وداخلًا في حيّزها، وفي نطاق الترجي الذي تدل عليه، فالأولى إذن أن يقال: إن قوله: {وَمَتَاعٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وهذا متاع إلى حين؛ أي؛ وتأخير عذابكم متاع لكم، وتكون الجملة مستأنفة، وليس هذا ببعيد، فليتأمل. {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}. {قَالَ}: فعل ماض، أو {قل} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {رَبِّ} منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {احْكُمْ} فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب. {بِالْحَقِّ} متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قل} على كونها جواب النداء. {وَرَبُّنَا} الواو استئنافية. {ربنا}: مبتدأ ومضاف إليه. {الرَّحْمَنُ}: خبر أول. {الْمُسْتَعَانُ} خبر ثان، ويجوز أن يكون الرحمن صفة لـ {ربنا}، والمستعان خبر المبتدأ؛ لأنه المحدّث به، والجملة الاسمية مستأنفة على كونها مقول القول. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {الْمُسْتَعَانُ}، وجملة {تَصِفُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تصفونه مما هو مخالف للواقع.

التصريف ومفردات اللغة {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} والفرق بين الضر، بفتح الضاد، والضر بضمها، أن الضر بالفتح هو: الضرر بكل شيء، والضر بالضم: هو الضرر في النفس من هزال ومرض، وفرّق بين البناءين لافتراق المعنيين، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما، كما أورد معاني أخرى لهما، حيث قال: وَضِدُّ نَفْعٍ قِيْلَ فِيْهِ ضَرُّ ... وُجُوْدُ ضَرَّةِ لِعُرْسٍ ضَرُّ وَسُوْءُ حَالِ الْمَرْءِ ذَاكَ ضُرُّ ... كَذَا هُزَالُ مَرَضٍ أَوْ كِبَرُ {وَذَا الْكِفْلِ} هذا لقبه، والكفل: هو النصيب، واسمه بشير. وقيل: الياس. وقيل: زكريا، كأنه سمي بذلك لأنه المجدور وذو النصيب الأوفى من الحظ. وقيل: ذو الكفل اسمه، وقد كان له اسمان، ولم يكن لقبًا. {وَذَا النُّونِ} وفي "المختار": النون الحوت، وجمعه أنوان ونينان، وذو النون: لقب يونس بن متّى - على وزن شتّى - اسم والده على ما ذكر في "القاموس"، أو اسم لأمه، على ما قاله ابن الأثير في "النهاية" وغيره، اهـ كرخي. وكان متّى رجلًا صالحًا، وتوفي متى ويونس في بطن أمه، وله أربعة أشهر، اهـ زكريا. وعبارة "الشهاب" ومتى اسم أبيه على الصحيح، وقال ابن الأثير وغيره: أنه اسم أمه، ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه، غير يونس وعيسى، عليهما السلام، اهـ. {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أي: غضبان، فالمفاعلة ليست على بابها، فلا مشاركة، كعاقبت اللص، وسافرت. ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ أي؛ غاضب قومه وغاضبوه، حيث لم يؤمنوا في أول الأمر، اهـ كرخي. {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}: أي: لن نقضي عليه بما قضينا من حبسه في بطن الحوت، أو نضيق عليه بذلك، فهي من القدر، لا من القدرة، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}. وفي "المصباح": أن قدر بكل من المعنيين المذكورين، يأتي من بابي ضرب ونصر، اهـ. وذهب جمهور من

العلماء، أن معناها: فظن أن لن نضيّق عليه، من {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}؛ أي: ضيّق وقتّر. {وَزَكَرِيَّا} بالمد، علم نبي، وألفه للتأنيث، فلذلك منع من الصرف، وهو أيضًا، غير مصروف للعجمة والتعريف. وقيل: هو عربي مشتق من زكر؛ أي: امتلأ، أو تزكر. {رَغَبًا وَرَهَبًا} يقال: رغب الشيء اتسع، فإذا قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص عليه، فإذا قيل: رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه والزهد فيه. والرغبة العطاء الكثير لكونه مرغوباً فيه، فيكون مشتقًا من الأصل، فإن أصل الرغبة السعة في الشيء، ومنه ليلة الرغائب؛ أي: العطايا الجزيلة. يقال: يعطي الرغائب من يشاء ويمنع. والرهبة مخافة مع تحرك واضطراب، اهـ "روح البيان" وفي "المختار": رغب ورهب كل منهما من باب طرب، اهـ. {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ} والحصن في الأصل: كل موضع حصين؛ أي: محكم لا يوصل إلى جوفه. وأحصنه، جعله في حصن وحرز، ثم تجوّز في كل تحرز، وامرأة حصان - كسحاب - عفيفة أو متزوجة؛ أي: ومريم التي منعت نفسها من قربان الرجال. {فَرْجَهَا} والفرج والفرجة: الشق بين الشيئين كفرجة الحائط. والفرج ما بين الرجلين. وكنى به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. والفرج انكشاف الغم. وقال السهيلي - رحمه الله -: يريد فرج القميص؛ أي: لم يعلق بثوبها ريبة؛ أي: أنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة: الكمّان، والأعلى، والأسفل، فلا يذهب وهمك إلى غير هذا، فإنه من لطيف الكناية، انتهى. {رُوحِنَا} والروح هو المعنى المعروف، ونفخ الروح هو الإحياء. {آيَةً}؛ أي: برهانًا ودليلًا على قدرة الله تعالى.

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}؛ أي: ملتكم {أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: غير مختلفة. قال في "القاموس": الأمة جماعة أرسل إليهم رسول، انتهى. فأصلها القوم الذين يجتمعون على دين واحد، ثم اتّسع فيها، فأطلقت على ما اجتمعوا عليه من الدين والملة. واشتقاقها من أم بمعنى: قصد. فالقوم: هم الجماعة القاصدة، وما اجتمعوا عليه هو الملة المقصودة. {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}؛ أي: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا. والقطع فصل الشيء مدركًا بالبصر كالأجسام، أو بالبصيرة كالأشياء المعقولة والتفعّل هنا للتعدية، نحو: علمته الفقه فتعلم الفقه اهـ من "الروح". {فَلَا كُفْرَانَ} الكفران: مصدر بمعنى الكفر، كالشكران بمعنى الشكر، فهو كناية عن حرمان ثواب عمله. {لِسَعْيِهِ} والسعي، في الأصل: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة. {عَلَى قَرْيَةٍ} والقرية: اسم للمصر الجامع كما في "القاموس"، واسم للموضع، الذي يجتمع فيه الناس، كما في "المفردات". {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} والحدب: النشز من الأرض؛ أي: المرتفع، وكل كدية أو أكمةٍ فهي حدبة، وبها سمي القبر، لظهوره على وجه الأرض. قال الراغب: يجوز أن يكون الأصل في الحدب حدث الظهر، وهو خروجه، ودخول الصدر والبطن، ثم شبه به ما ارتفع من الأرض، فسمي حدبًا، ومنه محدب الفلك. {يَنْسِلُونَ}؛ أي: يسرعون، والنسلان: مقاربة الخطا مع الإسراع، يقال: نسل ينسل - بالفتح في الماضي، والكسر والضم في المضارع، اهـ "سمين". وفي "المصباح": نسل في مشيه نسلانًا أسرع، وهو من باب ضرب، اهـ. وفي "بحر العلوم": من نسل الذئب إذا أسرع في مشيه.

{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} يقال: شخص بصره، فهو شاخص، إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف، وبصره رفعه، وشخص شخوصًا ارتفع. {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ} والغفلة: سهو يعترى من قلة التحفظ والتيقظ. {حَصَبُ جَهَنَّمَ} الحصب المحصوب به؛ أي: يحصب بهم في النار. والحصب الرمي. وفي "المختار": والحصب - بفتحتين - ما تحصب به النار؛ أي: ترمى، وكل ما ألقيته في النار لاشتعالها فقد حصبتها به. من حصبه يحصبه من باب ضرب إذا رماه بالحصباء. {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} والزفير: صوت نفس المغموم، يخرج من أقصى الجوف. {الْحُسْنَى}؛ أي: الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم حين الجزاء على أعمالهم. {حَسِيسَهَا} والحسيس: الصوت الذي يحيى من حركتها. {فِي مَا اشْتَهَتْ} والشهوة: طلب النفس اللذة. {الْفَزَعُ} انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع كما مر. وفي "المصباح": حزن من باب قتل. {كَطَيِّ السِّجِلِّ} والطي: ضد النشر. وقال ابن عباس: السجل الصحيفة، والمعنى: كطي الصحيفة على مكتوبها. {الزَّبُورِ}: الكتب التي أنزلت على الأنبياء. قال الراغب: زبرت الكتاب، كتبته كتابة غليظة، وكل كتابٍ غليظ الكتابة يقال له الزبور. قال في "القاموس": الزبور الكتاب بمعنى المزبور، والجمع زبر، وكتاب داود، عليه السلام، انتهى. و {الذِّكْرِ}: اللوح المحفوظ. {والبلاغ}: الكفاية. {والعابد} من عمل بما يعلم، من أحكام الشريعة وآدابها.

{فَقُلْ آذَنْتُكُمْ}؛ أي: أعلمتكم، فالهمزة فيه للنقل. قال الزمخشري: آذن منقول من أذن إذا علم، ولكنه كثر استعماله في إجرائه مجرى الإنذار، اهـ "سمين" كما قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. {مَا تُوعَدُونَ}: من غلبة المسلمين عليكم. {فِتْنَةٌ}: أي: اختبار. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التلطف في طلب الرحمة في قوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ولم يقل: ارحمني، لطفاً في السؤال، وحفظًا للأدب في الخطاب، فإن أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء، إنما هي على سبيل التعريض. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ومنها: إدخال أل الجنسية على الضر، لتشمل أنواعه المتقدمة. ومنها: الجناس الناقص بين {الصابرين} و {الصالحين}. ومنها: الطباق بين {رَغَبًا وَرَهَبًا}، وبين {قريب} أم {بعيد}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أضاف الروح إليه تعالى، على جهة التشريف كقوله: {نَاقَةُ اللَّهِ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم فيه إلى شيع وأحزاب بالجماعة، تتوزَّع الشيء، لهذا نصيب ولهذا نصيب، وهذا من لطيف الاستعارة. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} إلى الغيبة في قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} تشنيعًا

عليهم بسوء صنيعهم، اهـ "سمين". وكان حق التركيب: وتقطعتم على الأول، إلّا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ومنها: المجاز في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}؛ لأن الأمة حقيقة في الأمة المجتعة، ثم تجوّز فيها، فأطلقت على ما اجتمعوا عليه من الدين، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي: دين وملة، اهـ زاده. قال الشهاب: وظاهر كلام الراغب، أنه حقيقة في هذا المعنى. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} شبه ردّ العمل، ومنع الثواب بالكفران، الذي هو ستر النعمة وإنكارها بجامع المنع في كل، فاستعار له لفظ الكفران. ومنها: نفي الجنس في قوله: {فَلَا كُفْرَانَ} قصدا للمبالغة؛ لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. ومنها: الاستعارة في قوله: {لِسَعْيِهِ}؛ لأن السعي في الأصل المشي السريع، وهو دون العدو، فاستعاره للعمل المحمود، بجامع الجدّ في كل. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَحَرَامٌ} حيث استعار الحرام للممتنع الوجود، بجامع أن كلا منهما غير مرجو الحصول، اهـ "شهاب". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {عَلَى قَرْيَةٍ}؛ أي: على أهلها، حيث أطلق المحل، وأراد الحال. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ}؛ لأنَّ الحديث حقيقة في حدب الظهر، وهو خروجه ودخول الصدر والبطن، ثم استعاره لما ارتفع من الأرض، بجامع مع الظهور في كل. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {يَا وَيْلَنَا}؛ أي: ويقولون: يا ويلنا، ومثله قوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، أي: تقول لهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون.

ومنها: المذهب الكلامي في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)} وقد تقرَّر أن المذهب الكلامي، هو احتجاج المتكلم، على ما يريد إثباته بحجة، تقطع المعاند له؛ لأن المعنى؛ أن هؤلاء الأصنام والأوثان ليسوا بآلهة، فلو كانوا آلهة فهم حصب جهنم. ومنها: المبالغة في قوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} وذلك لأن، لقائل أن يقول: إذا نزل أهل الجنة منازلهم فيها، فأي بشارة لهم. في أنهم لا يسمعون حسيسها؟ فالجواب: أنه تأكيد للمبالغة في البعد عنها، وأنها لن تقرب منهم أبدًا. ومنها: الكناية في قوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}؛ لأنه كناية عن نجاتهم من جميع الأفزاع بالكلية؛ لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة. ومنها: تقديم الظرف على عامله في قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} لغرض القصر والاهتمام بهم، وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك كما مر. ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}؛ أي: طيًّا مثل طي الصحيفة، على ما كتب فيها. ومنها: التشبيه في قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}؛ لأن فيه تشبيهًا للإعادة بالابتداء، في تناول القدرة لهما على السواء. ومنها: القصر في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن في هذه الآية قصرين: الأول: قصر الصفة على الموصوف، وذلك في قصر الوحي على الوحدانية، والمعنى: لا يوحى إليّ إلّا اختصاص الإله بالوحدانية، لا أنه، لم يودع إليه بشيء غيرها، ولكنها الأصل الرئيسي في كل عبادة وعمل، وهي المطلوبة أولًا وقبل كل شيء، حتى كان ما عداها غير منظور إليه، أو غير جدير

بالذكر، وهو قصر إدعائي. والثاني: قصر الموصوف على الصفة، وذلك في قصر الله على الوحدانية، وهو ظاهر. ومنها: الإيجاز في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ}؛ لأن في هذه الآية إيجاز قصر؛ لأنه تحدث بثلاث كلمات، وهي: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} عن كلام طويل؛ أي: إن تولوا بعد هذه الآيات والشواهد، وأعرضوا وطووا كشحاً فقل لهم: لقد أعلمناكم علي بيان أنّا وإياكم في حرب لا مهادنة فيها، ولا صلح بيننا، ولكنني لا أدري متى يأذن الله لي في محاربتكم. ومنها: الاستفهام الذي يراد به الأمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؛ أي: أسلموا. ومنها: تكرير العلم في قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)} لتكرير الوعيد وتوكيده. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ}؛ أي: استدراج من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأنه لما كان الاستدراج سببًا للفتنة والعذاب، أطلق عليه لفظ الفتنة مجازًا مرسلًا، أو امتحان لكم؛ كيف تعملون؛ أي: معاملة تشبيهية بالامتحان على طريق الاستعارة التمثيلية، ذكره في "روح البيان". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم. 2 - إنكار المشركين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه بشر مثلهم، وأما جاء به أضغاث أحلام، وأنه قد افتراه، ولو كان نبيًا حقًا، لأتى بآية، كآيات موسى وعيسى، عليهما السلام. 3 - الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعًا كانوا بشرًا، وأهل العلم من اليهود والنصارى، يعلمون ذلك حق العلم. 4 - الإخبار بأن الله، أهلك كثيرًا من الأمم، المكذبة لرسلها، وأنشأ بعدهم أقواماً آخرين. 5 - بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثًا، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يملون. 6 - إقامة الدليل على وحدانية الله تعالى، والنعي على من يتخذ آلهة من دونه، بلا دليل على صدق ما يقولون، مع أن الأنبياء جميعًا أوحي إليهم أنه لا إله إلّا هو. 7 - النعي على من ادعى أن الملائكة بنات الله. 8 - وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقًا فانفصلتا، وأن الجبال جعلت على الأرض أوتادًا حتى لا تميد بأهلها، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح في فلكه. 9 - استعجال الكافرين للعذاب، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه. 10 - بيان أن الساعة تأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون. 11 - قصص بعض الأنبياء، موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.

12 - بيان أن الدين الحق عند الله، هو الإسلام، وبه جاءت جميع الشرائع، والاختلاف بينها، إنما هو في الرسوم، بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. 13 - حادث يأجوج ومأجوج، من أشراط الساعة، واقتراب يوم القيامة. 14 - بيان أن الأصنام وعابديها، يكونون يوم القيامة حطب جهنم، وأنهم لو كانوا آلهة حقًّا، ما دخلوها. 15 - وصف ما يلاقيه الكفار، من الأهوال في النار، يوم القيامة. 16 - وصف النعيم الذي يستمتع به أهل الجنة إذ ذاك. 17 - بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض، وأن السماء تطوي طي السجل للكتاب. 18 - إن سنة الله في الكون، أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها، من أي دين كان، وأي مذهب اعتنق. 19 - الوحي إنما جاء بالتوحيد، وأن لا إله إلا واحد، وأن الواجب الاستسلام له، والانقياد لأمره. 20 - ما ختمت به السورة من طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أن يحكم الله بينه وبين أعدائه المشركين، وأن الله هو المستعان على ما يصفونه به، من أنه مفترٍ، وأنه مجنون، وأنه شاعر، يتربصون به ريب المنون. والله أعلم * * *

سورة الحج

سورة الحج اختلف أهل العلم، هل هي مكية أو مدنية؟ وقال البيضاوي والخازن: سورة الحج مكية (¬1) كلها، إلّا ست آيات، من قوله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلى قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}. وفي "تنوير المقياس": "سورة الحج كلها مكية (¬2) إلّا خمس آيات {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} إلى آخر الآيتين، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلى آخر الآيتين، والسجدة الأخيرة، فهؤلاء الآيات مدنيات، وكل شيء في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} فهو مدني، وكل شيء في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي أو مدني، ولا نجد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مكية" انتهى. وحكى القرطبي عن ابن عباس: أنها مكية سوى ثلاث آيات، وقيل أربع آيات إلى قوله: {عَذَابُ الْحَرِيقِ}، وحكي عن النقّاش: أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات، وفي "المراغي": هي مدنية كلها، إلّا أربع آيات، (52، 53، 54، 55)، فبين مكة والمدينة. قال القرطبي: وقال الجمهور: إن السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، قال وهذا هو الصحيح. قال العزيزي: هي من أعاجيب السور، نزلت ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، مكيًّا ومدنيًا، سلميًا وحربيًا، ناسخًا ومنسوخًا، محكمًا ومتشابهًا. وآياتها ثمان وسبعون آية، وكلماتها ألف ومئتان وإحدى وتسعون كلمة، وحروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفًا. فضلها: وقد ورد في فضلها (¬3): ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في ¬

_ (¬1) البيضاوي والخازن. (¬2) تنوير المقياس. (¬3) الشوكاني.

"سننه" عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: "نعم، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما" قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقويّ. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيقهي، عن عمر، أنه كان يسجد سجدتين في الحج، وقال: إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روي عن كثير من الصحابة أنَّ فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري. وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي. التسمية: سمّيت سورة الحج، تخليدًا لدعوى الخليل إبراهيم، عليه السلام، حين انتهى من بناء البيت العتيق، ونادى الناس لحج البيت الحرام، فتواضعت الجبال، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه من في الأصلاب والأرحام، وأجابوا النداء بقولهم: "لبيك اللهم لبيك". وهي بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة (¬1): 1 - البعث، والدليل عليه وما يتبع ذلك. 2 - الحج والمسجد الحرام. 3 - أمور عامة، كالقتال وهلاك الظالمين، والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق، وضرب المثل بعجز الأصنام، وعدم استطاعتها خلق الذباب. المناسبة: ومناسبتها للسورة التي قبلها من وجوه: 1 - أن آخر السورة قبلها كان في أمر القيامة كقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ ¬

_ (¬1) المراغي.

كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} وأول هذه السورة الاستدلال على البعث بالبراهين العقلية. 2 - أنه قد أقيمت في السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية، وفي هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث. 3 - في السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم، وفي هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة، وهو خطاب يسترعى السمع، ويوجب علينا ولو إجمالًا أن نعرف صنع الله في أرضه وسمائه، وتدبيره خلق الأجنة والنبات والحيوان. قال أبو حيان (¬1): ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى ذكر فيما قبلها حال الأشقياء والسعداء، وذكر الفزع الأكبر، وهو ما يكون يوم القيامة، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد، وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم، فنزلت هذه السورة تحذيرًا لهم، وتخويفاً لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة، وشدة هولها، وذكر ما أعد لمنكريها، وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (¬2) محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحج مكية وهي من أعاجيب القرآن؛ لأن فيها مكيًّا ومدنيًّا، حضريًا وسفريًا، وفيها حربيًا وفيها سلميًا، وفيها ليليًا، وفيها نهاريًا. فأما المكي. فمن رأس الثلاثين آية إلى آخرها. وأما المدني منها فمن رأس خمس عشرة إلى رأس الثلاثين. وأما الليلي منها فمن أولها إلى رأس خمس آيات. وأما النهاري منها فمن رأس الخمس إلى رأس اثنتيّ عشرة. وأما الحضريّ فإلى رأس العشرين. ونسب إلى المدينة لقربه منها. وفيها ناسخ ومنسوخ، فمن ذلك المنسوخ آيتان: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الناسخ والمنسوخ.

أولاهما: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية (52) نسخت بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} الآية (6) من سورة الأعلى. الآية الثانية: قوله تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية (56) نسختها آية السيف. والله أعلم * * *

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}

المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه (¬1) لما أنجز الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها .. بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها، حثًا على التقوى، التي هي أنفع زاد، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا أخبر (¬2) فيما سلف بأهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله تعالى .. بيّن مع هذا التحذير الشديد أن كثيرًا من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون في أمور الغيب بغير علم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى عن المشركين الجدال بغير علم في البعث والحشر، وذمهم على ذلك .. قفّى على هذا بإثباته من وجهين: 1 - الاستدلال بخلق الحيوان، وهو ما أشار إليه في الآية الأخرى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. 2 - الاستدلال بحال خلق النبات في قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً ...} إلخ. وعبارة أبي حيان هنا (¬3): ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم. وكان جدالهم في الحشر والمعاد، ذكر دليلين واضحين على ذلك: أحدهما: في نفس الإنسان وابتداء خلقه وتطوره في مراتب سبع، وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلًا وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى الهرم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

والثاني: في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال، فإذا اعتبر العاقل ذلك، ثبت عنده جوازه عقلًا، فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه، وجب التصديق به، وأنه واقع لا محالة. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى} الآيات مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآية قبلها حال الضُّلَّال المقلدين، الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي .. أردف ذلك، بذكر حال الدعاة إلى الضلال، من رؤوس الكفرة والمبتدعين. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر حال الضّالين المقلدين، الذين يجادلون في توحيد الله، بلا بينة ولا دليل، وحال المضلين الذين يجادلون بلا سلطان من عقل، ولا برهان صحيح من نقل، ثم بيَّن سوء مآلهما في الدنيا والآخرة، وأن لهما في الدنيا خزيا، وفي الآخرة عذابًا في النار، تحترق منه أجسامهما .. أعقب ذلك بذكر قوم مضطربي الإيمان، مذبذبين في دينهم، لا ثبات لهم في عقيدتهم، ولا استقرار لهم في آرائهم، إن أصابوا خيرًا فرحوا به، وركنوا إليه، وإن نالهم بلاء وشدة في أنفسهم، أو أهليهم أو أموالهم ارتدوا كفارًا، فلحقهم الخسار والدمار في دينهم ودنياهم، وذلك هو الخسران الذي لا خسران بعده، وهم في ذلك الحين يعبدون الأصنام والأوثان لتكشف عنهم ضرهم، وتدفع عنهم ما نزل بهم من البلاء، وقد ضلوا في ذلك ضلالًا بعيدًا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر في الآية السالفة حال المنافقين وحال معبوديهم .. عطف على ذلك بذكر حال المؤمنين، الذين آمنوا بقلوبهم، وصدَّقوا إيمانهم بأفعالهم، وعملوا الصالحات، وتركوا المنكرات. قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (¬1) حال المجادل بالباطل ¬

_ (¬1) المراغي.

وخذلانه في الدنيا؛ لأنه لا يدْلِي بحجةٍ من العقل، ولا ببرهان من الوحي، ثم بين ما يؤول إليه أمره من النكال في الدنيا، والخزي في الآخرة، ثم ذكر متابعيه وعمم خسارتهم في الدارين، وأردف ذلك ذكر حال المؤمنين، وما يلقونه من السعادة، والنعيم في الدار الآخرة .. قفى على ذلك، بذكر المجادل عنهم، وعن دين الله، بالتي هي أحسن، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالغ في إثبات نصره بمالا مزيد عليه، ثم ذكر شأن كتابه، وأنه آيات واضحات، ترشد إلى سواء السبيل. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه، لما ذكر أنه يهدى من يريد .. أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه لما أبان فيما سلف، أنه يقضي بين أرباب الفرق السالفة يوم القيامة، وهو شهيد على أقوالهم وأفعالهم .. أردف هذا ببيان أنه ما كان ينبغي لهم أن يختلفوا، ألا يرون أن جميع العوالم العلوية والسفلية كبيرها وصغيرها، شمسها وقمرها ونجومها وجبالها وحيوانها ونباتها، خاضعة لجبروته، مسخرة لقدرته، وقد كان في هذا مفتاح لهم لو أرادوا، ولكن من يهنه الله، ويكتب عليه الشقاء فلا يستطيع أحد أن يسعده، فالله وحده هو القدير على الإشقاء والإسعاد. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...} الآيتين، عن عمران بن حصين وغيره (¬1): أن هاتين الآيتين، نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلًا، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فحثوا المطي" حتى كانوا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليهم، فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة، فلمّا أصبحو!، لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام، ولم يطبخوا، والناس بين باك، وجالس حزين متفكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّ يوم ذلك"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم، يقول الله لآدم: قم، فابعث من ذريتك بعث النار". أخرجه (¬2) سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[1]

والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات ما أخرجه ابن أبي حاتم: أن هذه الآيات، نزلت في النضر بن الحارث، وكان مجادلًا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على مَنْ بلي وصار ترابًا. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه البخاري - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يقدم المدينة فيسلم، فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله .. قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولدًا ذكرًا ولم تنتج خيله .. قال: هذا دين سوء، فأنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ...} الآية. وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فتشآم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرًا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} والظاهر أن الخطاب فيه عام لكل ناس، يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد، على ما تقرر في موضعه. {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}؛ أي (¬2): احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم بطاعته، فأطيعوه ولا تعصوه بفعل ما أمركم به من الواجبات، وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، فهو خطاب ينتظم فيه المكلفون حين النزول، ومن سيوجدون بعده إلى يوم القيامة. ثم علّل هذا الأمر بقوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ}؛ أي: إن تحرك الأرض وزلزلتها، التي هي أحد أشراط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، عند قرب الساعة والقيامة، هذا قول الجمهور. وقيل: إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

[2]

فيكون الذهول والوضع، الآيتان على حقيقتهما. وقيل: تكون الزلزلة يوم القيامة، فيحملان على التمثيل، والأظهر ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - "إن زلزلة الساعة قيامها"، فيكون معناها، أن الزلزلة الواقعة عند قيام الساعة {شَيْءٌ عَظِيمٌ} لا يحيط به الوصف، فلا بد من التقوى، لتخليص النفس من العذاب؛ أي: أمر هائل وخطر عظيم لا يعرف قدره إلا موجده، وإذا كانت الزلزلة وحدها لا تحتمل، فما بالك بما يحدث في ذلك اليوم من الحشر، والجزاء والحساب على الأعمال، لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. والزلزلة (¬1): التحريك الشديد، بطريق التكرير، كما يدل عليه تكرير الحروف؛ لأن زلزل مضاعف زل. والساعة عبارة عن القيامة، سميت بذلك لسرعة حسابها كما في "المفردات"، والمعنى: أن (¬2) شدة حركة الأرض، في قرب الساعة، في نصف رمضان معها طلوع الشمس، من مغربها، أمر حادث جليل هائل، لا تدرك العقول كنهه. روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حديث الصور: أنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام لرب العالمين، وأنه عند نفخة الفزع، يسير الله الجبال، وترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذٍ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح. 2 - ثم بين شيئًا من أهوال هذا اليوم، فقال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة؛ أي: وقت رؤيتكم تلك الزلزلة {تَذْهَلُ}؛ أي: تشغل وتغفل دهشة وحيرة، {كُلُّ مُرْضِعَةٍ}؛ أي: كل امرأة ملتبسة بإرضاع ولدها {عَمَّا أَرْضَعَتْ}؛ أي: عن ولدها الذي ترضعه، وهو أعز شيء لديها، فكيف بذهولها عن سواه، وهذا على جعل {ما} موصولًا اسميًا، وقال المبرد (¬3): إن {ما} في {عَمَّا أَرْضَعَتْ} مصدرية؛ أي: تذهل عن إرضاعها، قال: وهذا يدل على، أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع إلا أن يقال: من ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال: هذا مثل كما يقال: {يَوْمًا يَجْعَلُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

الْوِلْدَانَ شِيبًا}. وقيل: يكون مع النفخة الأولى، قال: ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما في قوله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}. والذهول: الذهاب (¬1) عن الأمر مع دهشة. والمرضعة: المرأة المباشرة للإرضاع بالفعل، وبغير التاء، هي التي من شأنها الإرضاع، لكن لم تلابس الفعل، ومثلها حائض وحائضة. والتعبير عن الطفل بما، دون مَنْ، لتأكيد الذهول، وكونه بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا؛ أي تغفل مع حيرة، عما هي بصدد إرضاعه، من طفلها الذي ألقمته ثديها، اشتغالًا بنفسها وخوفًا. وقوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ} معطوف على تذهل؛ أي: ويوم ترونها تضع وتسقط وتلقي كل صاحبة حمل وجنين، {حَمْلَهَا}؛ أي: جنينها لغير تمام، من شدة ما غشيها من الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك. والحمل بالفتح: ما كان في البطن أو على رأس الشجر، وبالكسر ما كان على الظهر. وقوله: {وَتَرَى النَّاسَ} معطوف أيضًا على تذهل؛ أي: يوم ترونها .. ترى أيها المخاطب أو يا محمد الناس؛ أي: أهل الموقف، {سُكَارَى} جمع سكران؛ أي: تراهم أنهم سكارى، من شدة الهول والفزع، {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} حقيقة؛ أي؛ من الشراب. وإفراد الخطاب هنا بعد جمعه في ترونها؛ لأن الزلزلة يراها الجميع، لكونها أمرًا مغايرًا للناس، بخلاف الحالة القائمة بهم من أثر السكر، فإن كل واحد لا يرى إلا ما قام بغيره. والسكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب، وقد يعترى من الغضب والعشق والخوف والفزع، ومنه سكرات الموت، قال جعفر - رحمه الله تعالى -: "أسكرهم ما شاهدوا من بساط العز والجبروت، وسرادق الكبرياء، حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا: "نفسي نفسي". والمعنى: ترى الناس كأنهم من ذهول عقولهم، لشدة ما يمر بهم، يضربون اضطراب السكران من الشراب. وقرأ الجمهور: (¬2) {تذهل كل} بفتح التاء والهاء ورفع {كل}، وابن أبي عبلة واليماني يضم التاء وكسر الهاء؛ أي {تُذهِل} الزلزلة أو الساعة {كل} بالنصب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[3]

وقرأ الجمهور: {وترى} بالتاء مفتوحة بخطاب المفرد. وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء؛ أي؛ وترى الزلزلة أو الساعة. وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء ورفع الناس، وأنث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة هرم بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك، إلا أنهم نصبوا الناس، عدّي ترى إلى مفاعيل ثلاثة، أحدها: الضمير المستكن في ترى، وهو ضمير المخاطب، مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث: الناس سكارى، وقرأ الجمهور (¬1): {سُكَارى} بضم السين فيهما على وزن فعالى، واختلف في فعالى بضم الفاء، أهو جمع أو اسم جمع، وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيما، وهو جمع تكسير واحده سكران، وقال أبو حاتم هي لغة تميم، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي، وابن سعدان ومسعود بن صالح {سكرى} فيهما، وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة، وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش {سكرى} بضم السين فيهما، قال أبو الفتح هو اسم مفرد، كالبشرى، وبهذا أفتاني أبو علي انتهى. وقال الزمخشري: هو غريب، ذكره في "البحر المحيط". {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فغشيهم هوله، وطير عقولهم وسلب تمييزهم؛ أي: فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم، فصاروا كالسكارى من الشراب. {ولكن} استدراك (¬2) على محذوف تقديره: فهذه الأحوال، وهي الذهول والوضع ورؤية الناس شبه السكارى، هينة لينة، ولكن عذاب الله شديد؛ أي: ليس لينًا ولا سهلًا، فما بعد لكن، مخالف لما قبلها، اهـ من "أبي حيان". 3 - فلما ذكر الله سبحانه وتعالى، أهوال يوم القيامة، ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك، وكذب به، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} ويخاصم وينازع {فِي اللَّهِ}؛ أي: في قدرته وصفاته وفي كتابه ونبيه وشؤونه، ويقول فيه ما لا خير فيه، من الأباطيل، حالة كون ذلك المجادل ملابسًا، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} وبرهان وحجة؛ أي: يجادل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

[4]

بسبب جهله وتمرّده كالنضر بن الحارث وأبي جهل وأبي بن خلف فإنهم ينكرون البعث، ويقولون: إن الله لا يقدر على إحياء من صار ترابًا، ويكذبون القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن (¬1) الآية عامة في كل كافر، يجادل في ذات الله وصفاته بالجهل، وعدم اتباع البرهان وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن من يجادل في الله، ماله علم بالله ولا معرفة به إلا لم يجادل فيه وإنما يجادل لاتباعه الشيطان، كما قال: {وَيَتَّبِعُ} ذلك المجادل في جداله، وعامة أحواله: {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}؛ أي: متجرد للفساد متعرّ من الخيرات، وهم رؤساء الكفرة، الذين يدعون من دونهم إلى الكفر أو إبليس وجنوده. والمعنى: أنه (¬2) يخاصم في قدرة الله تعالى، فيزعم أنه غير قادر على البعث، بغير علم يعلمه، ولا حجة يستدل بها، ويتبع فيما يقوله ويتعاطاه، ويحتج به كل شيطان مرد، أي متمردٍ عاتٍ على الله تعالى. والخلاصة: أي (¬3) ومن الناس من يتبع في كل ما يأتي وما يذر من شؤونه وأهوائه شياطين من شياطين الإنس والجن، الذين يزينون له طرق الغواية، ويسلكون به الطرق التي تزلق به في المهاوي، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار، من شرك بالله، وعبادة للأوثان والأصنام، وشرب للخمر، ولعب بالميسر إلى نحو ذلك، ممّا يحسنون له عمله، ويكونون له فيه القادة الذين لا يرد لهم قول، ولا يقبح منهم فعل. وقرأ زيد بن علي (¬4): {ويتبع} خفيفًا. 4 - ثم وصف سبحانه ذلك الشيطان بقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ} بالبناء للمفعول؛ أي: كتب على ذلك الشيطان، من الجن والإنس في اللوح المحفوظ، وقضي وقدر عليه في علم الله تعالى، ونائب فاعله {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ}؛ أي: أن الشأن من تولى ذلك الشيطان واتخذه وليًا وتبعه {فإنه يضله} بالفتح، على أنه خبر، مبتدأ محذوف؛ أي: فشأن ذلك الشيطان أن يضل من تولاه عن طريق الحق والجنة، {وَيَهْدِيهِ} ويدله {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} بحمله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[5]

على مباشرة، ما يؤدي إليه من السيئات، وإضافة العذاب إلى السعير، وهي النار الشديدة الاشتعال بيانية كشجر الأراك، وعن الحسن "أنه اسم من أسماء جهنم". قال في "التأويلات النجمية" (¬1): أما الشيطان الجني، فيضله بالوساوس والتسويلات والقاء الشبه، وأما الشيطان الإنسي، فبإيقاعه في مذاهب أهل الأهواء والبدع، والفلاسفة والزنادقة، المنكرين للبعث والمستدلين بالبراهين المعقولة، بالعقول المشوبة بشوائب الوهم والخيال، وظلمة الطبيعة، فيستدل بشبههم ويتمسك بعقائدهم، حتى يصير من جملتهم، ويعد في زمرتهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ويهديه بهذه الاستدلالات والشبهات إلى عذاب السعير، سعير القطيعة والحرمان، انتهى. والمعنى: أي قدر سبحانه أن من اتبع ذلك الشيطان، وسلك سبيله، أضله في الدنيا بما يوسوس له، ويدسي به نفسه، ويزين لها من اتباع الغواية والفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام، التي توبقه في جهنم وبئس القرار. وخلاصة ذلك: أنه يضله في الدنيا، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، بما يجترح من السيئات ويتركب من الآثام. وقرأ الجمهور (¬2): {كتب} مبنيا للمفعول، وقرأ أبو عمران الجوني {كتب} بفتح الكاف؛ أي: كتب الله سبحانه، وقرأ الجمهور أنه بفتح الهمزة في موضع المفعول، الذي لم يسم فاعله {فإنه} بفتحها أيضًا، والفاء رابطة جواب من الشرطية إن جعلتها شرطية، أو داخلة في خبر من الموصولة، إن كانت موصولة، وقرأ أبو عمران الجوني {أنه} بفتح الهمزة {فإنه} بكسر الهمزة، وقرأ أبو مجلز وأبو العالية وابن أبي ليلى والضحاك وابن يعمر والأعمش والجعفي {إنه} {فإنه} بكسر الهمزة فيهما. 5 - ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار، بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ أي: يا أهل مكة، المنكرين للبعث {إِنَّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير.

كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} وشك {مِنَ الْبَعْثِ} والإعادة والقيامة. وعبر سبحانه بالريب، مع أنهم موقنون بعدم حصوله، إيذانًا بأن أقصى ما يمكن صدوره منهم، وإن بلغوا غاية المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، أما الجزم بعدم إمكانه، فلا يدور بخلد عاقل على حال. وقرأ الجمهور (¬1): {البعث} بسكون العين، والكوفيون إسكان العين، عندهم تخفيف يقيسونه بما وسط حرف حلق، كالنهْر والنهَر والشعْر والشعَر، والبصريون لا يقيسونه، وما ورد من ذلك هو عندهم، مما جاء فيه لغتان، وقرأ الحسن {من البعث} بفتح العين، وهي لغة فيه، كالحلب والطرد في الحَلْب والطَرْد، والبعث (¬2): الإخراج من الأرض والتسيير إلى الموقف، وجيء بإن مع كثرة المرتابين لاشتمال المقام على ما يقلع الريب من أصله، وتصوير أن المقام لا يصلح إلا لمجرد الفرض له، كما يفرض المحال. وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه؛ أي: إن كنتم في شك من إمكان الإعادة. وكونها مقدورة له تعالى، أو من وقوعها، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} ليس جزاء للشرط؛ لأن خلقهم مقدم على كونهم مرتابين، بل هو علة للجزاء المحذوف، والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من إمكان الإعادة، أو من وقوعها، فانظروا إلى مبدأ خلقكم، ليزول عنكم الريب، ويرتفع الشك، وتدحض الشبهة الباطلة؛ لأنا خلقنا كل فرد منكم خلقًا إجماليًا {مِنْ تُرَابٍ} في ضمن خلق أبيكم آدم منه. والخلاصة: إن شككتم في بعثكم، فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة، فرقا بين الابتداء والإعادة. {ثُمَّ} خلقناكم خلقًا تفصيلياً {مِنْ نُطْفَةٍ}؛ أي: من منيّ، وهي الماء الصافي قل أو كثر، ويعبر بها عن ماء الرجل من نطف الماء إذا سال، أو من النطف وهو الصبّ، {ثُمَّ} خلقناكم {مِنْ عَلَقَةٍ}؛ أي: من قطعة من الدم جامدة، مكوّنة من المني، {ثُمَّ} خلقناكم {مِنْ مُضْغَةٍ}؛ أي: قطعة من اللحم، مكوّنة من العلق، وهي في الأصل، مقدار ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

يمضغ {مُخَلَّقَةٍ} بالجر صفة مضغة؛ أي: تامّة التصوير والتخطيط والحواس ومستبينتها {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}؛ أي: وناقصة في هذه الأمور وغير مستبينتها، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولًا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهر بعد ذلك شيء، لكنّه أخر غير المخلقة على خلاف الترتيب الطبعي لكونها عدم الملكة، والعدم مؤخر عن الوجود، كذا في "الإرشاد" ويؤيده قول صاحب "التأويلات" {مُخَلَّقَةٍ}؛ أي: منفوخة فيها الروح {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}؛ أي: صورة لا روح فيها، أو المعنى (¬1)؛ أي: ثم من قطعة من اللحم مسوّاة لا نقص فيها، ولا عيب في ابتداء خلقها، ومضغة غير مسوّاءة فيها عيب، وبهذا التفاوت في الخلق يتفاضل الناس في صورهم، وأشكالهم وطولهم وقصرهم. وفي "الفتوحات" قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} هذا تقسيم على سبيل التسمح، فإن كل مضغة تكون أولًا غير مخلقة، ثم تصير مخلقة، ولو جاء النظم هكذا: ثم من نطفة غير مخلقة، ثم من مخلقة لكان أوضح. وعبارة أبي السعود: كان مقتضى الترتيب السابق، المبني على التدريج من المبادىء البعيدة على القريبة، أن يقدم غير المخلقة على المخلقة، وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة. اهـ. وقال القرطبي: قال ابن زيد: المخلقة: التي خلق الله فيها الرأس، واليدين والرجلين، وغير المخلقة: التي لم يخلق فيها شيء. أو يقال: إن الواو لا تقتضي ترتيبًا، فكأنه قال: غير مخلقة ومخلقة، وقد يقال: إن الإثبات مقدم على النفي؛ لأن غير مخلقة من قبيل النفي، وقيل غير ذلك. وفي "الفتوحات" أيضًا: تأمل (¬2) في هذا الترتيب، فإنه يقتضي أن الإنسان الكامل خلق أولًا من نطفة، ثم ثانيًا من علقة، ثم ثالثًا من مضغة، مع أن أصل الخلق من نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم صارت العلقة مضغة، كما يصرح به قوله في آية أخرى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ...} إلخ، إلا أن يقال: فإنّا صيرنا مادة خلقكم من تراب، ثم من نطفة إلخ، وقرأ ابن أبي عبلة {مخلقة} بالنص {وغير} بالنصب أيضًا، نصبًا على الحال من النكرة المتقدمة، وهو قليل وقاسه سيبويه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

واللام في قوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} متعلقة بـ {خلقنا}؛ أي: خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم كمال قدرتنا، بتصريفنا أطوار خلقكم، وجميل نظامنا وعظيم حكمتنا، التي من جملتها أمر البعث والنشور، فإن من قدر على خلق البشر أوّلًا، من تراب، لم يشم رائحة الحياة قط .. فهو قادر على إعادته. وقوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ}؛ أي: ونبقي في أرحام النساء، بعد تمام خلقه، {مَا نَشَاءُ} أن نقره فيها من الأجنة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ووقت معين؛ أي: إلى الوقت الذي قدّر أن تلد فيه المرأة. كلام مستأنف (¬1)، مسوق لبيان حالهم، بعد تمام خلقهم؛ أي: ونحن نقر في الأرحام ما نشاء من الأجنة؛ إلى وقت الوضع، وأدناه ستة أشهر عند الكل، وأقصاه سنتان عند أبي حنيفة، وأربع سنين عند الشافعي، وخمس سنين عند مالك، روي أن الضحاك بن مزاحم التابعي، مكث في بطن أمه سنتين، ومالكاً ثلاث سنين، كما ذكره السيوطي، وأخبر الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أن جارية له ولدت ثلاثة أولاد، في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل واحد أربع سنين، وقال {ما نشاء}، ولم يقل من نشاء؛ لأنه يرجع إلى الحمل، وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وفي الآية إشارة، إلى أن بعض ما في الأرحام، لا يشاء الله تعالى إقراره فيها، بعد تكامل خلقه، فيسقط وتمجه الأرحام. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2): {ليبين لكم ويقر} بالياء، وقرأ يعقوب وعاصم في رواية و {نقر} بالنصب عطفًا على {لنبين}، وعن عاصم أيضًا {ثم يخرجكم} بنصب الجيم عطفًا على {ونقر} إذا نصب، وعن يعقوب {وَنُقِرُّ} بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه، وقرأ أبو زيد النحوي {ويَقِرَ} بفتح الياء والراء وكسر القاف، وقرأ الجمهور (¬3): {نقر} بالرفع على الاستئناف؛ أي: ونحن نقر كما مر، قال الزجاج {نُقر} بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك، لنقر في الأرحام ما نشاء، وقرىء {ليبين} {ويقر} {ويخرجكم} بالتحتية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

في الأفعال الثلاثة، وقرأ يحيى بن وثاب {ما نشاء} بكسر النون. {ثُمَّ} بعد إقراركم فيها {نُخْرِجُكُمْ} من بطون أمهاتكم عند تمام الأجل المسمى حال كونكم {طِفْلًا}؛ أي: أطفالًا صغارًا بحيث لا تقومون بمصالح أموركم من غاية الضعف، وإنما وحد الطفل، اعتبارًا بكل واحد منهم، أو لإرادة الجنس المنتظم للواحد والمتعدد، والطفل الولد ما دام ناعماً، كما في "المفردات". وقال المولى الفنادي في تفسير الفاتحة: حد الطفل من أول ما يولد حين يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام، انتهى. وقيل: يطلق الطفل على الصغير، من وقت انفصاله إلى البلوغ، {ثُمَّ} بعد إخراجكم طفلًا نُسَهِّلُ في تربيتكم أمورًا {لِتَبْلُغُوا} ولتصلوا {أَشُدَّكُمْ}؛ أي: غاية كمالكم في القوة والعقل والتمييز، فهو علة لمحذوف، وقيل: هو (¬1) علة لنخرجكم، معطوفة على علة أخرى، مناسبة لها، كأنه قيل: ثم نخرجكم طفلًا لتكبروا شيئًا فشيئًا، ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتمييز، وهو فيما بين الثلاثين والأربعين. وفي "القاموس" ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. مفرد جاء على بناء الجمع كـ: آنُكٍ، ولا نظير لهما، انتهى. وقيل (¬2): إن {ثُمَّ} هنا، زائدة، والتقدير: ثم نخرجكم طفلًا لتبلغوا، إلخ، وقيل: إنه معطوف على نبين، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} قبل بلوغ الكبر؛ أي: يقبض روحه ويموت بعد بلوغ الأشد أو قبله، والتوفي عبارة عن الموت، يقال توفاه الله إذا قبض روحه. وقرىء {يُتَوَفَّى} بفتح الياء مبنيًا للفاعل؛ أي: يستوفي أجله، والجمهور بالضم مبنيًا للمفعول؛ أي: بعد الأشد وقبل الهرم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ} ويرجع {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}؛ أي: يبقى ويعمر إلى بلوغه أرذل العمر، وأخس الحياة وأدناها وأردأها، وهو الهرم والخرف والرذل والرذال المرغوب عنه لردائته، والعمر مدة عمارة البدن بالحياة، فيصير (¬3) إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

العقل، ولا زمان لذلك محدود، بل ذلك بحسب ما يقع في الناس، وقد نرى من علت سنه وقارب المئة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط، وترى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته، أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف، كما أنه كان قادرًا على تدريجه إلى حالة التمام، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل، وإنشائها النشأة الثانية. وقوله: {لِكَيْلَا} متعلق بـ {يُرَدُّ}؛ أي: لكيلا {يَعْلَمَ} ويعقل ذلك المردود إلى أرذل العمر {من بعد علمه} وفهمه وعقله الأشياء، أو من بعد علمه الكثير {شَيْئًا} من الأشياء، أو شيئًا من العلم، والمعنى (¬1): أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء، وفهم لها، لا علم له ولا فهم، وهو مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله، وإلا فهو يعلم بعض الأشياء كالطفل، فهذا الرد خاص، بغير قارىء القرآن والعلماء، أما قارىء القرآن والعلماء، فلا يردون في آخر عمرهم إلى الأرذل، بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم، اهـ شيخنا؛ أي: ليعود إلى ما كان عليه أوان الطفولية من ضعف البنية، وسخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما عمله، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. وقال الزمخشري؛ أي: ليصير نسّاء، بحيث إذا كسب علمًا في شيء، لم ينشب أن ينساه ويزلَّ عنه علمه، حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك من هذا، فتقول فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، اهـ. وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر. والمعنى: أي (¬2) ومنكم من يتوفى على كمال قوته وكمال عقله، ومنكم من يبقى حتى يبلغ الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفولته، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. وخلاصة ذلك: أنه إما أن يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر، الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل. وفي "التأويلات النجمية": في الآية (¬3) إشارة إلى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[6]

أن أطفال المكونات كانوا في أرحام أمهات العدم، متقررين بتقرير الحق إياهم فيها، ولكل خارج منها أجل مسمى، بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية، فلا يخرج طفل مكون من رحم العدم، إلا بمشيئة الله تعالى، وأوان أجله. وفي هذا رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم. ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث، بحال خلق النبات أيضًا، فقال: {وَتَرَى} أيها المجادل أو يا من شأنه الرؤية، وهو حجة أخرى على البعث، {الْأَرْضَ هَامِدَةً} أي: ميتة يابسة لا تنبت شيئًا، يقال: همدت النار إذا صارت رمادًا، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا}؛ أي: على الأرض الهامدة، {الْمَاءَ}؛ أي: ماء المطر والعيون والأنهار، {اهْتَزَّتْ}؛ أي: تحركت بالنبات، والاهتزاز الحركة الواقعة على البهجة والسرور، فلا يكاد يقال اهتزّ فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع؛ أي: تحركت في رأي العين بسبب حركة النبات وظهوره. {وَرَبَتْ} أي: انتفخت وازدادت للنبات. من ربا يربو ربا، إذا زاد ونما، وربا الفرس ربواً، إذا انتفخ من عدو وفزع، كما في "القاموس". {وَأَنْبَتَتْ} أي: وأخرجت بالماء، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: من كل نوع من أنواع النبات، {بَهِيجٍ}؛ أي: حسن يسر ناظره، وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز، كما سيأتي؛ لأن المنبت هو الله سبحانه وتعالى. وقرأ أبو جعفر (¬1) وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية {وَرَبَأَتْ} بالهمز هنا، وفي فُصِّلَتْ؛ أي: ارتفعت وأشرفت، يقال: فلان يربأ بنفسه عن كذا؛ أي: يترفع بها عنه. والمعنى: أي (¬2) وترى الأرض يابسة دارسة الآثار، من النبات والزرع، فإذا نحن أنزلنا عليها الماء، تحركت بالنبات، وازدادت وانتفخت، لما يتداخلها من الماء والنبات، ثم أنبتت أنواعًا يسرّ الناظرين ببديع منظرها، وجميل شكلها واختلاف طعومها، وروائحها ومقاديرها ومنافعها. 6 - وبعد أن قرّر سبحانه، هذين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

البرهانين، رتب عليهما النتيجة الحتمية لذلك، وذكر أمورًا خمسة: 1 - {ذَلِكَ} الصنع البديع، وهو خلق الإنسان على أطوار مختلفة، وتصريفه في أطوار متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها حاصل بسبب، {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: الثابت بنفسه الذي به يتحقق الأشياء، أو المعنى (¬1): ذكرنا ذلك، لتعلموا بأن الله هو الحق، الثابت الموجود، إلخ. والحق هو الموجود، الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق أفعاله. والمعنى: أي (¬2) هذا الذي ذكرت لكم من بدئنا خلقم في بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده طفلًا وكهلًا وشيوخًا في حال الهرم، وتنبيهنا إياكم إلى فعلنا بالأرض الهامدة بما ينزل عليها من الغيث لتصدّقوا بأن الذي فعل ذلك هو الله الحق، الذي لا شك فيه، وأن ما تعبدون من الأوثان والأصنام فهو باطل؛ لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذلك. 2 - {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى}؛ أي: شأنه وفعله إحياء الموتى. وحاصله (¬3): أنه تعالى قادر على إحيائها بدأً وإعادة، وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرارًا بعد مرار، والمعنى؛ أي: ولتعلموا أن الذي قدر على هذه الأشياء البديعة لا يتعذر عليه أن يحيي الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب. 3 - {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ أي: مبالغ في القدرة، وإلّا لما أوجد هذه الموجودات؛ أي (¬4) ولتعلموا أن فاعل ذلك قادر على كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فهو قادر على إيجاد جميع الممكنات، ومن ذلك إعادة الأجسام بعد موتها. 4 - {وَأَنَّ السَّاعَةَ}؛ أي: القيامة {آتِيَةٌ} فيما سيأتي، لمجازاة المحسن ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[7]

والمسيء، {لَا رَيْبَ} ولا شك {فِيهَا}؛ أي: في إتيانها، إذ قد وضح دليلها وظهر أمرها، وهو خبر ثان لـ {أن}؛ أي: ولتعلموا أن الساعة التي وعدكم أن يبعث فيها الموتى من قبورهم آتية لا ريب ولا محالة فيها، ولا شك في حدوثها، وليس لأحد أن يرتاب فيها. 7 - وقوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ} إلى آخره توكيد (¬1) لقوله: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى}، والظاهر أن قوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} ليس داخلًا في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفًا على {أَنَّهُ} الذي يليه، فيكون على تقدير: والأمر أن الساعة إلخ. 5 - {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه {يَبْعَثُ} ويجمع بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف {مَنْ فِي الْقُبُورِ} من الموتى للمجازاة، جمع قبر وهو مقر الميت، "والبعث": هو أن ينشر الله الموتى من القبور، بأن يجمع أجزاءهم الأصلية، ويعيد الأرواح إليها، وأنكره الفلاسفة، بناء على امتناع إعادة المعدوم. أي: ولتوقنوا بأن الله حينئذٍ، يبعث من في القبور أحياء إلى مواقف الحساب. وخلاصة ذلك: أنكم إذا تأملتم في خلق الحيوان، والنبات، أمكنكم أن تستدلوا بذلك على وجود الخالق، وقدرته على إحياء الموتى وعلى غيرها من الممكنات، وأن الساعة آتية لا شك فيها، وأنه يبعث من في القبور للحساب والجزاء، ولولا ذلك، ما أوجد هذا العالم؛ لأن أفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة، والغايات السامية. وعبارة أبي السعود: أي هذه الآثار من آثار الألوهية، وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية، وإن إتيان الساعة وإتيان البعث اللذين ينكرون وجودهما، من أسباب تلك الآثار العجيبة، التي يشاهدونها في الأنفس والآفاق؛ أي: ذلك الصنيع البديع حاصل بسبب أنه تعالى، هو الحق وحده، في ذاته وصفاته وأفعاله، المحقق والموجد لما سواه من الأشياء، فهذه الآثار الخاصة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[8]

من فروع القدرة العامة، التامة ومسبباتها، ومن جملة فروعها ومتعلقاتها إحياء الموتى، وتخصيصه بالذكر، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها، تصريحٌ بمحل النزاع، وتقديمه للاعتناء به، اهـ. بتصرف. 8 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ} هو أبو جهل أو النضر بن الحارث {يُجَادِلُ} ويخاصم وينازع {فِي اللَّهِ}؛ أي: في شأنه ودينه وكتابه ونبيّه، حالة كون ذلك المجادل ملابسًا {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ضروري أو بديهي فطري، وهذا تكرير (¬1) لما تقدم للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة بقوله: {وَلَا هُدًى}؛ أي: ولا استدلال ونظر صحيح هاد إلى المعرفة {وَلَا كِتَابٍ} من الله {مُنِيرٍ}؛ أي: له نور، ولا وحي مظهر للحق. والمعنى: ومن الناس (¬2) من يخاصم في توحيد الله، والإقرار بالألوهية بغير علم منه بما يخاصم به، ولا برهان معه على ما يقول، ولا وحي من الله أتاه ينير حجته، بل يقول ما يقول من الجهل، ظنًا منه وتخرصاً. وخلاصة ذلك: أنه يجادل بلا عقل صحيح، ولا نقل صويح، بل يجادل اتباعًا للرّأى والهوى. وقيل: الآية عامة (¬3) لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم، وعلى كل حال، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ، وإن كان السبب خاصّاً، ومعنى اللفظ: {ومن الناس} فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة، حالة كونه بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. والمراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي، والأولى حمل العلم على العموم، وحمل الهدى على معناه اللغويِّ، وهو الإرشاد. والمراد بالكتاب المنير هو القرآن. والمنير: النيّر البيّن الحجة الواضح. وهو وإن دخل تحت قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد الملائكة، وذلك لكونه الفرد الكامل، الفائق على غيره من أفراد العلم. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[9]

قيل: والمراد بهذا المجادل في هذه الآية، هو المجادل في الآية الأولى، أعني قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} وبذلك قال كثير من المفسرين: والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا، أنت فعلت هذا. ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصَفَه في كُلِّ آية، بزيادة على ما صوفه في الآية الأخرى، فكأنه قال: ومن الناس من يجادل في الله، ويتبع كل شيطان مريد بغير علم {وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} ليضل عن سبيل الله. وفي "الفتوحات" وليست هذه الآية مكررة مع السابقة؛ لأن الأولى واردة في المقلدين بكسر اللام لتقلدهم واتباعهم للشيطان، وهذه واردة في المقلدين بفتح اللام لقوله: {ليضل ...} إلخ قال في الكشاف: وهو أوفق وأظهر بالمقام. اهـ شيخنا. وأصله في "الرازي". 9 - وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} حال ثانية: من فاعل يجادل؛ أي: حالة كونه معرضًا بجانبه عن الحق متكبرا عنه، من ثنى العود إذا حناه. وعطفه لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر. وعطف الإنسان بكسر العين، جانبه من رأسه إلى وركه أو قدمه. وفي "الجلالين": لاَوَى عنقه تكبراً. وفي "الإرشاد": عاطفاً بجانبه، وطاوياً كشحه معرضا متكبرًا: تقول العرب: جاءني فلان ثاني عطفه، إذا جاء متبختراً متكبرًا. فالمراد (¬1): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} وهو لاوٍ عنقه معرض عما يدعى إليه من الحق، متكبر عن قبوله. وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {يُجَادِلُ}، فإنه غرضه الإضلال عنه، وإن لم يعترف بأنه إضلال؛ أي: ليخرج المؤمنين عن الهدى إلى الضلال، أو ليثبت الكفرة عليه. وقرأ الحسن (¬2): {ثاني عطفه} بفتح العين؛ أي: تعطفه وترحّمه. وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية: {ليَضل} بفتح الياء؛ أي: ليضل في نفسه. والجمهور بضمها؛ أي: ليُضل غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[10]

العذاب، إذ عليه وِزْر مَنْ عمل به؛ أي: ليصد المؤمنين بالله عن دينهم، الذي هداهم الله إليه، ويستنزلهم عنه. وبعد أن ذكر فعله وثمرته، ذكر ما أعد له عليه في الدنيا والآخرة فقال: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} جملة مستأنفة (¬1) مبنية لما يحصل له بسبب جداله من العذاب المعّجل وسوء الذكر على ألسن الناس؛ وقيل: الخزي الدنيوي هو القتل، كما وقع في يوم بدر، والأسر والهزيمة، وقد أسر النضر؛ أي: لذلك المجادل في الدنيا إهانة، وذلك كفاء استكباره عن آيات الله، كما حدث من القتل والأسر بأيدي المؤمنين يوم بدر. {وَنُذِيقُهُ}؛ أي: ونذيق ذلك المجادل {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: في الآخرة {عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: العذاب المحرق، وهو النار، والحريق قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: العذاب الحريق؛ أي: المحرق، كالسميع بمعنى المسمع. وقرأ زيد بن علي {فَأُذِيقُهُ} بهمزة المتكلم؛ أي: وسيصلى في الآخرة عذاب النار، ويحرق بلهبها، 10 - ثم بين سبحانه، سبب هذا الخزي المعجل والعذاب المؤجل فقال {ذَلِكَ} العذاب الدنيوي والأخروي {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}؛ أي: بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي؛ أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي في الدنيا، وعذاب الآخرة كائن بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي: وإسناده (¬2) إلى يديه لما أن الاكتساب عادة بالأيدي. ويجوز أن يكون الكلام من باب الالتفات، لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد، فكأنه قال: ذلك بما قدمت يداه. ومحل (أن) ومعموليها في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: والأمر والشأن أن الله سبحانه وتعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. وقيل: علة لمحذوف تقديره وقد فعلنا (¬3) ذلك لأن الله لا يظلم عباده، فيعاقب بعض عبيده على جرم، ويعفو عن مثله عن آخر غيره، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

وقصارى ذلك أنهم استحقوا هذا العذاب لما اجترحوه من الآثام والذنوب، والله لا يظلم أحدًا بغير جرم قد فعله، ومآل ذلك توبيخهم وتبكيتهم، بأنهم هم سبب هذا العذاب. فإن قلت: الظاهر أن يقال: ليس (¬1) بظالم للعبيد، ليفيد نفي أصل الظلم، ونفي كونه مبالغًا مفرطًا في الظلم لا يفيد نفي أصله. قلت: المراد نفي أصل الظلم. وذكر لفظ المبالغة مبني على كثرة العبيد، فالظالم لهم، يكون كثير الظلم، لإصابة كل منهم ظلمًا؛ لأن العبيد دال على الاستغراق، فيكون ليس بظالم لهذا ولا ذلك إلى ما لا يحصى. وأيضًا أن من عدله تعالى، أن يعذب المسيء من العبيد، ويحسن إلى المحسن، ولا يزيد في العقاب، ولا ينقص من الأجر، لكن بناء على وعده المحتوم، فلو عذب من لا يستحق العذاب، لكان قليلُ الظلم منه، كثيرًا لاستغنائه عن فعله، وتنزيهه عن قبحه. وهذا كما يقال: زَلَّةُ العالم كبيرةٌ. وعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" الحديث. أخرجه مسلم، ويقال من كثر ظلمه، واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه، وشر الناس من ينصر الظلوم ويخذل المظلوم. وفي الآية إشارة؛ إلى أن العبيد ظلّامون لأنفسهم، كما قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بأن يضعوا العبادة، والطلب والاستغاثة في غير موضعها. فصل في مبحث الجدال واعلم: أن جدال المنافق، والمرائي وأهل الأهواء والبدع والخرافات مذموم. وأما من يجادل في معرفة الله، ودفع الشبه، وبيان الطريق إلى الله تعالى، بالعلم، وهدي نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وشاهد نصّ كتابٍ منيرٍ، يظهر بنوره الحق من الباطل .. فجداله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

محمود. قال بعضهم: البحث والتفتيش عما جاءت به السنة، بعدما وضح سنده، وصحّ، يجر الباحث إلى التّعمّق والتوغل في الدين، فإنه مفتاح الضلال لكثير من الأمة، يعني الذين لم يرزقوا بأذهان وقَّادة وقرائح نقادة، وما هلكت الأمم الماضية إلا بطول الجدال، وكثرة القيل والقال، فالواجب أن يعض بأضراسه على ما ثبت من السنة. ويعمل بها، ويدعو إليها، ويحكم بها، ولا يصغي إلى كلام أهل البدعة، ولا يميل إليهم ولا إلى سماع كلامهم، فإنَّ كل ذلك منهي عنه شرعًا. وقد ورد فيه وعيد شديد، وقالوا: الطبع جذاب، والمقارنة مؤثرة، والأمراض سارية. وقال المولى الجامي - رحمه الله تعالى -: كلام أهل البدعة والأهواء، والخرافات كخوار العجل، فكما أن السامري ضل بذلك الخوار، وأضل كثيرًا من بني إسرائيل، فكذا كل من كان في حكمه، فإنه يغتر بأوهامه وخيالاته، ظنًّا أنها علوم صحيحة، فيدعو أهل الأوهام إليها فيضلهم، بخلاف من له علم صحيح وكشف صريح، فإنه لا يلتفت إلى كلمات الجهال، ولا يميل إلى خوازق العادات، التي تظهر على أيدي أهل البدع والخرافات، استدراجًا لهم التي يسمونها كرامة لهم، ألا ترى من ثبت على دين موسى عليه السلام، لم يصخ إلى الخوار، وعرف أنه ابتلاء من الله، تعالى للعباد، فويل للمجادل المبطل، وويل للسامع إلى كلامه، وقد ذمَّ هذا المجادل بالكبر، وهو من الصفات العائقة عن قبول الحق، ولا شيء فوقه من المذمة. وعن أرسطو (¬1): من تكبر على الناس أحب الناس ذلته، وعنه بإصابة المنطق يعظم القدر، وبالتواضع تكثر المحبة، وبالحلم تكثر الأنصار، وبالرفق يستخدم القلوب، وبالوفاء يدوم الإخاء، وبالصدق يتم الفضل. نسأل الله سبحانه، التخلي عن الصفات القبيحة الرذيلة، والتحلي بالملكات الحسنة الجميلة. 11 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ}؛ أي: وبعض الناس يعبد الله، سبحانه وتعالى، ¬

_ (¬1) روح البيان.

حالة كونه {عَلَى حَرْفٍ} وطرف من الدين، لا في وسطه وقلبه، وشك وضعف يقين، فلا ثبات له فيه، كالذي ينحرف على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرّ، وإلّا فرَّ. فالحرف الطرف والناحية. وصف الدين بما هو من صفات الأجسام، على سبيل الاستعارة التمثيلية، كما سيأتي. قال أكثر المفسرين (¬1): الحرف الشك وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه، مثل حرف الجبل والحائط، فإن القائم عليه غير مستقر، والذي يعبد الله على حرف، قلق في دينه، على غير ثبات وطمأنينة، كالذي هو على حرف الجبل، ونحوه يضطرب اضطرابًا ويضعف قيامه. فقيل للشاك في دينه: إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه على غير يقين من وعده ووعيده، بخلاف المؤمن؛ لأنه يعبده على يقين وبصيرة. فلم يكن على حرف. وقيل: الحرف الشرط؛ أي: من الناس من يعبد الله على شرط، والشرط هو قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ} وناله {خَيْرٌ}؛ أي: دنيوي من الصحة والخصب والسعة {اطْمَأَنَّ} وثبت {بِهِ}؛ أي: بذلك الخير في الدين، ولا يتزلزل عنه، ويرضى به. ومعنى اطمأن به ثبت على دينه، واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه؛ أي (¬2): ثبت على ما كان عليه ظاهرًا لا باطناً، إذ ليس له اطمئنان المؤمنين الراسخين، والاطمئنان: السكون بعد الانزعاج. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ}؛ أي: شيء يفتتن به، من مكروه يصيبه في نفسه أو أهله أو ماله، فالمراد بالفتنة: ما يستكرهه الطبع، ويثقل على النفس، كالجدري والمرض وسائر المحن، وإلا لما صح أن يجعل مقابلاً للخير؛ لأنه؛ أي: الخير أيضًا فتنة وامتحان، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ولذلك قال بعضهم: وإنما لم يقل: وإن أصابه شرّ، مع أنه المقابل للخير؛ لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرًّا في نفسه، بل هو سبب القربة، ورفع الدرجة، بشرط التسليم والرضا بالقضاء {انْقَلَبَ} وانكبّ {عَلَى وَجْهِهِ}؛ أي: ارتدّ ورجع إلى جهته وحالته وطريقته التي كان عليها أولًا، من الكفر. والانقلاب الانصراف والرجوع. والوجه بمعنى الجهة والطريقة، وقال في "بحر العلوم": انقلب على وجهه؛ أي: تحوّل عن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الجهة التي أقبل إليها وهي الإسلام، فأنكب ورجع إلى ما كان عليه أوّلًا من الكفر، فـ {على} على هذا بمعنى عن؛ أي: والمعنى فإن أصابه (¬1) رخاء وسعة في العيش، سكن واستبشر بهذا الخير والدين، فعبد الله، وإن أصابه شرّ وبلاء في جسمه، أو ضيق في معيشته .. ارتدّ ورجع إلى الكفر. والثبات في الدين إنما يكون إذا كان الغرض منه إصابة الحق، وطاعة الرب، والخوف من عقابه، أما إذا كان المقصد منه الخير المعجّل، فإنه يظهر في السراء، ويختفى لدى الضراء، وهذا هو النفاق بعينه، كما يرشد إلى ذلك. قوله: في المنافقين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}. وخلاصة ذلك: أن من الناس من ليس له ثبات في أمر دينه، بل هو مرجحٌ مضطربٌ، مذبذبٌ، يعبد الله على وجه التجربة، انتظاراً للنعمة، فإن أصابه خير بقي مؤمنًا، وإن أصابه شر من سقم أو ضياع مال، أو فقد ولد .. ترك دينه وارتد كافرًا. ثم بيَّن سبحانه، حاله بعد انقلابه علي وجهه، وسوء عاقبة عمله، فقال: {خَسِرَ} وحرم ذلك المنقلب {الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} أي: خيري الدنيا والآخرة؛ أي: ضيعهما وفقدهما، فلا حظَّ له في الدنيا، من الغنيمة والثناء الحسن، ولا في الآخرة من الأجر، وما أعده الله للصالحين من عباده؛ أي (¬2): ضيعهما بذهاب عصمته وحبوط عمله بالإرتداد والأظهر أن خسران الدنيا ذهاب أهله، حيث أصابته فتنة، وخسران الآخرة الحرمان من الثواب، حيث ذهب الدين ودخل النار مع الداخلين. وقال بعضهم: "الخسران في الدنيا ترك الطاعات ولزوم المخالفات، والخسران في الآخرة كثرة الخصوم والتبعات". وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وبن مقسم {خاسر الدنيا والآخرة} اسم فاعل نصبًا على الحال. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[12]

وقرىء {خاسر الدنيا} اسم فاعل مرفوعًا على تقدير هو خاسر الدنيا. وقرأ الجمهور: {خَسِرَ} فعلًا ماضيًا، وهو استئناف إخبار. ويجوز أن يكون في موضع الحال، ولا يحتاج إلى إضمار قد؛ لأنه كثر وقوع الماضي حالًا، في لسان العرب بغير قد، فساغ القياس عليه. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى خسران الدنيا والآخرة، وهو مبتدأ خبره قوله: {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}؛ أي: الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله لمن تدبر فيه وتفكَّر، 12 - ثم أكد عظم ذلك الخسران بقوله: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} استئناف مبين لعظم الخسران، فيكون الضمير راجعًا إلى المرتد المشرك المنقلب على وجهه؛ أي: هذا المرتد الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون الله؛ أي: يعبد متجاوزًا عبادة الله إلى عبادة الأصنام. {مَا لَا يَضُرُّهُ}؛ أي: معبودًا لا يضره إن ترك عبادته. {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} إن عبده لكون ذلك المعبود جمادًا، لا يقدر على ضرّ ولا نفع؛ أي: يعبد جمادًا ليس من شأنه الضرّ والنفع، كما يلوح به تكرير كلمة ما. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو، وهو مبتدأ خبره قوله: {هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}؛ أي: ذلك الدعاء هو الضلال البعيد عن الحق والهدى، والخطأ البعيد عن الصواب والرشاد، مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالًا عن الطريق، فطالت وبعدت مسافة ضلاله، فإن القرب والبعد من عوارض المسافة الحسية. والمعنى (¬1): أي ذلك الارتداد وعبادة تلك الآلهة دون الله، هو السير على غير استقامة، والذهاب على غير هدى، فما مثله إلا مثل من أبعد في التيه ضالًا وبعدت مسافته في ضلاله، فلم يهتد إلى الصراط المستقيم السوي، ولم ينل ما يبتغي، وبلغت به الحيرة كل مبلغ. 13 - ثم زاد ما سلف توكيدًا وبين مآل دعائه، وعبادته غير الله تعالى، فقال: {يَدْعُو} وينادي ذلك الكافر، المنقلب يوم القيامة برفع صوت {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ ¬

_ (¬1) المراغي.

مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ} وقبح {الْمَوْلَى} والناصر لي {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}؛ أي: الصاحب والعشير والمخالط لي، والدعاء (¬1) بمعنى القول. واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولًا له. و {مَنْ} مبتدأ. خبره جملة القسم الآتية. {ضَرُّهُ} مبتدأ {أقرب} خبره، والجملة صلة من الموصولة. وقوله {لَبِئْسَ} إلخ جواب لقسم محذوف، وهو وجوابه خبر لـ {من} الموصولة. والمعنى: يقول ذلك الكافر يوم القيامة بنداء بناء ورفع صوت وصراخ، حين يرى تضرره بمعبوده، ودخوله النار بسببه، ولا يرى منه أثر النفع أصلًا لمن ضره أقرب من نفعه: والله، لبئس الناصر ولبئس الصاحب والمعاشر؛ أي: يقول في ذمه وبيان قبحه لمعبودي، الذي تضرري بعبادته أقرب من انتفاعي بها، أقسم في ذمه وبيان قبحه بقولي: والله، لبئس المولى والناصر هو؛ أي؛ معبودي، ولبئس العشير والصاحب هو؛ أي: معبودي. وخلاصة ذلك: أيُّ عشير هذا، وأيُّ ناصر ذاك، الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره، والله لبئس العشير، ولبس النصير. فالآية استئناف، مسوق لبيان مآل دعائه المذكور، وتقرير كونه ضلالًا بعيدًا، وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع، بالكلية، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه. والظاهر أن اللام زائدة. و {من} مفعول {يدعو}، و {ضره} مبتدأ و {أقرب} خبره، والجملة صلة {من} الموصولة، ويؤيده القراءة بغير اللام؛ أي: يعبد من ضره بكونه معبوداً؛ لأنه يوجب القتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة - أقرب من نفعه، الذي يتوقع بعبادته في زعمهم، وهو الشفاعة والتوسل إلى الله. فإيراد كلمة (من) وصيغة التفضيل تهكم به، والجملة القسمية حينئذٍ مستأنفة، ويؤيِّد هذا الوجه قراءة عبد الله {يدعو من ضره} بإسقاط اللام. وقيل: إن يدعو بمعنى: يسمي، ومفعوله الثاني محذوف، واللام زائدة، تقديره: أي: يدعو ويسمي من ضره أقرب من نفعه إلهًا، وجملة القسم حيئنذٍ مستأنفة. فإن قلت: نفى (¬2) سبحانه الضر والنفع عن الأصنام، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[14]

في قوله: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} وأثبتهما لها في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فحصل التعارض والتناقض بين الآيتين. قلت: أجيب عنه بأنها، لا تضر ولا تنفع بأنفسها، فنفاهما عنها، ولكن يحصل الضرر بسبب عبادتها، فنسب الضرر إليها، كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، حيث أضاف الإضلال إليها، من حيث إنها كانت سبب الضلال اهـ، شيخنا. وفي "البيضاوي": لا يضر بنفسه ولا ينفع، اهـ. وأشار بذكر نفسه إلى الجمع، بين نفي الضرر والنفع بمعبودهم هنا، وإثباتهما له، في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}. وحاصله: أنه لا ضرر له ولا نفع له بنفسه، وله ذلك بسبب معبوديته، كما أشار له بقوله: "بكونه معبودًا"، أما الضرر فظاهر، وأما النفع فبزعمهم اهـ. زكريا. وقال الشهاب: دفع التنافي، بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر، والإثبات باعتبار زعمهم الباطل اهـ. وقال أبو حيان: نفى الله سبحانه النفع والضر، في قوله: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} وأثبتهما في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}، لاختلاف المتعلق. وذلك أن قوله: {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هو الأصنام والأوثان، ولذلك أتى التعبير عنها، بـ {ما} التي لا تكون لآحاد من يعقل، وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} هو من عبد باقتضاء، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية، كفرعون وغيره، من ملوك بني عبيد، الذين كانوا بالمغرب، ثم ملكوا مصر، فإنهم كانوا يدعون الإلهية، ويطاف بقصرهم في مصر، وينادون بما ينادي به رب العالمين، من التسبيح والتقديس، فهؤلاء وإن كان منهم نفع ما، لعابديهم في دار الدنيا، فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار، وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم، ولهذا كان التعبير هنا. بـ {مَن} التي هي لمن يعقل، وعلى هذا، فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى، عمن يدعو إلهًا غير الله تعالى اهـ. 14 - ولمَّا فرغ من ذكر حال المشركين، ومن يعبد الله على حرف، ذكر حال

[15]

المؤمنين في الآخرة، وأنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا} الأعمال {الصَّالِحَاتِ} بامتثال المأمورت، واجتناب المنهيات {جَنَّاتٍ} أي: بساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة الجارية فيها. وهذا (¬1) بيانٌ لكمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى، إثر بيان سوء حال الكفرة. والجنة الأرض المشتملة على الأشجار المتكاثفة، الساترة لما تحتها. والنهر مجرى الماء الفائض، فإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد الحكمي، كقولهم: سال الميزاب، إذ الجريان من أوصاف الماء، لا من أوصاف النهر. ووصف الجنات به، دلالة على أنها من جنس ما هو أبهى الأماكن، التي يعرفونها لتميل إليها طباعهم. واعلم أنه وإن أريد بالجنات الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض، فلا بد من تقدير مضاف؛ أي: من تحت أشجارها. والمعنى أن الله سبحانه، يتفضل على المؤمنين، الذين عملوا صالح الأعمال، ويكافئهم لقاء إحسانهم بدخول الجنات، التي تجري من تحت أشجارها الأنهار، جزاءً وفاقًا على ما قاموا به من جليل الأعمال، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال. ولمَّا بين سبحانه، حال الفريقين، ذكر أنه قادر على أن يفعل بهما ما يشاء، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من إكرام من يطيعه، وإهانة من يعصيه، لا راد لحكمه، ولا مانع لقضائه، فهو يعطي المتقين ضروبًا من الفضل والإحسان، زيادة على أجورهم، كما قال: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ويدخل الكافرين نارًا وقودها الناس والحجارة، لما دَسُّوا به أنفسهم من أنواع الرجس والفسوق، وهذه الجملة تعليل لما قبلها؛ أي: يفعل ما يريده من الأفعال، لا يسأل عما يفعل، فيثيب من يشاء، ويعذب من يشاء. 15 - {مَن} شرطية {كَانَ يَظُنُّ} ويحسب ويتوهم من أعدائه وحاسديه، - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ}؛ أي: أنَّ الله سبحانه، لا ينصر محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {فِي الدُّنْيَا} بإعلاء كلمته، وإظهار دينه، وقهر أعدائه {و} في {الآخرة} بإعلاء درجته، والانتقام من مكذِّبيه، وأراد أن يقطع عنه النصر، الذي أوتيه من ربه {فَلْيَمْدُدْ} ويبسط {بِسَبَبٍ} وحبل واصل {إِلَى السَّمَاءِ} يصل به إلى ما فوقها؛ أي؛ فليطلب حيلةً، يصل بها إلى السماء {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} النصر الذي يأتيه من ربه، إن أمكن له {فَلْيَنْظُرْ} وليفكر بعد احتياله، وكيده في قطع نصره، أنه إن فعل ذلك {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ}؛ واحتياله في ذلك {مَا يَغِيظُ} ويكره ذلك الحاسد من نصره - صلى الله عليه وسلم -. قال النحاس: هذا من أحسن ما قيل في تفسيره هذه الآية، أو الضمير في {يَغِيظُ} يعود على {مَا}، أي: ما يغضبه. وقيل المعنى: من كان يظن، ويحسب أن لن ينصر الله، محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، حتى يظهره على الدين كله، فليمدد بسبب إلى جهة السماء والعلو؛ أي: فليشدد حبلًا في سقف بيته، ثم ليربط طرفه الأسفل في عنقه ثم ليقطع؛ أي: ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً به. {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ}؛ أي: صنيعه وحيلته {مَا يَغِيظُ}؛ أي: غيظه. و {مَا} مصدرية. والمعنى فليختنق غيظًا حتى يموت، فإن الله ناصره، ومظهره، ولا ينفعه غيظه. وقيل: إن الضمير في ينصره، يعود إلى {مَن} والمعنى من كان يظن، أن الله لا يرزقه، فليقتل نفسه، وبه قال أبو عبيدة. وقيل: إن الضمير إلى الدين؛ أي: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه إلخ. والمعنى: أي (¬1) من كان يحسب، أن الله لن ينصر محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، في الدنيا والآخرة .. فليمدد بحبل إلى سماء بيته، ثم ليختنق به، ثم ليصور في نفسه النظر، هل يذهبن ذلك الكيد الذي كاده، والفعل الذي فعله ما يغيظه من النصرة؟ كلَّا يعني أنه لا يقدر على دفع النصرة، وإن مات غيظًا. وخلاصة المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدًا ولا كتابه ولا دينه، فليذهب وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، كما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[16]

قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وسيعلي كلمته في الدنيا، ويظهر دينه، ويرفع في الآخرة درجته، ويدخل من صدقه، جنات تجري من تحتها الأنهار، وينتقم ممن كذّبه، ويذيقه عذاب الحريق، فمن كان من أعاديه، يغيظه ذلك، فليبالغ في كيده إلى أقصى مجهوده، فقصارى أمره خيبة مسعاه، ودوام غيظه، دون أن يصل إلى غاية، أو يبلغ أمنيته. وتلخيص هذا (¬1): أيها الكاره لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي أرسل لانقاذك، إنَّ نعم الله على عباده كثيرة، ولا سيما بعثة الأنبياء، فإذا كرهت ما أنعم الله به عليك، ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... فكأنك تختنق؛ لأنك تكره النعم لنفسك، فتستبيح خنقها من حيث لا تشعر. وقرأ أبو عمرو وابن عامر (¬2): {ليقطع} {ثم ليقضوا} بكسر اللام، زاد ابن عامر {وليوفوا} {وَلِيَطَّوَّفُوْا} بكسر اللام أيضًا. وكسر ابن كثير لام {ثُمَّ لْيَقْضُوا} فحسب. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن، إذا كان قبلها واو، أو فاء، أو ثم. قال الفرّاء: من سكن فقد خفّف. وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء فأكثر، كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إذا ابتدأت قلت: ليقم زيد. 16 - {وَكَذَلِكَ}؛ أي: ومثل إنزالنا ما تقدم من الآيات، من أول السورة إلى هنا {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: أنزلنا القرآن كله؛ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحكم البالغة، أنزلناه؛ أي: أنزلنا القرآن الكريم كله حال كونه {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على معانيها اللطيفة، والأسرار العجيبة. والمعنى: أي وكما بينت لكم حججي، على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه، وأوضحتها غاية الإيضاح، أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير.

[17]

ومحل جملة قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} ويضل من يريد الرفع (¬1) على أنه خبر؛ أي: والأمر أن الله سبحانه وتعالى، يهدي بالقرآن ابتداء، أو يثبت به على الهدى، أو يزيد فيه بسببه من يريد هدايته، أو تثبيته، أو زيادته. أو الجملة علة لمحذوف معطوف على {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: وكذلك أنزله ليوفق به سبيل الحق من أراد هدايته، وإرشاده إلى سبل السلام. أو الجملة معطوفة على هاء {أَنْزَلْنَاهُ}، والمعنى: وأنزلنا أن الله يهدي من يريد؛ أي: أنزلنا هداية الله لمن يريد هدايته. فـ {أَن} وصلتها في محل نصب. وفي الحديث: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"؛ أي: يرفع بالقرآن درجة أقوام، وهم من آمن به وعمل بمقتضاه، ويحط به أقوامًا آخرين، وهم من أعرض عنه، ولم يحفظ وصاياه، وكان نظر الصحابة - رضي الله عنهم - وشغلهم في الأحوال والأعمال، ولذا كانوا يتعلمون عشر آيات، لا يجاوزونها إلى غيرها، حتى يعملوا بما فيها. قال في "الإحياء": مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عشرين ألفا من الصحابة، ولم يحفظ القرآن منهم إلا ستة، اختلف منهم في اثنين، فكان أكثرهم يحفظ السورة أو السورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، فالاشتغال بالقرآن والعمل بمقتضاه من علامات الهداية، ولا بد من الاجتهاد آناء الليل وأطراف النهار، إلى أن يحصل المقصود، فإن من أراد أن يصل إلى ماء الحياة، يقطع الظلمات بلا فتور وجمود، والملال من العلم، واستماعه سبب الانقطاع عن طريق التحقيق، وأثر الحرمان من العناية والتوفيق انتهى. تنبيه: ثم اعلم (¬2) أن كون القرآن مشتملًا على متشابهات وغوامض، لا ينافي كون آياته بينات؛ لأنه ليس فيه ما لا يعلم معناه، لكن العلماء يتفاوتون في طبقات المعرفة، هدانا الله وإياكم، إلى ما هدى الله العلماء الراسخين إليه، وشرّفنا في كل غامض بالإطلاع عليه آمين. 17 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وبكل ما يجب أن يؤمن به، أو بما ذكر من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الآيات البينات {وَالَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: دخلوا في اليهودية، وهم المنتسبون إلى ملة موسى، عليه السلام. قال الراغب: الهود: الرجوع برفق، وصار في التعارف التوبة، قال تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}؛ أي: تبنا إليك، قال بعضهم: اليهود في الأصل: هو من قولهم: "هدنا إليك"، وكان اسم مدح، ثم صار بعد نسخ شرعتهم لازمًا لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح، كما أن النصارى في الأصل من قوله: {من أنصاري إلى الله}، ثم صار لازمًا لهم بعد نسخ شريعتهم. {وَالصَّابِئِينَ}؛ أي: الذين صبؤوا عن الأديان كلها؛ أي: خرجوا واختاروا عبادة الملائكة والكواكب. من صبأ الرجل عن دينه، إذا خرج عنه إلى دين آخر. قال الراغب: الصابؤون: قوم كانوا على دين نوح. وقيل: لكل خارج من الدين إلى دين آخر صابىء، من قولهم: صبأ، ناب البعير إذا طلع. وقيل: وهم من جنس النصارى وليس بصحيح، بل هم فرقة معروفة، لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء، والصحيح المقرر في الفروع الصابؤون: فرقة من النصارى اهـ، شيخنا. والنصارى: هم المنتسبون إلى ملة عيسى، عليه السلام. وقدم النصارى على الصابئين في سورة البقرة (¬1)، وأخرهم عنهم هنا، قيل: وجه تقديم النصارى هناك أنهم أهل كتاب دون الصابئين، فلهم شرف عليهم، ووجه تقديم الصابئين هنا أن زمنهم متقدم على زمن النصارى. {وَالْمَجُوسَ} هم قوم يعبدون النار، ويقولون إن للعالم أصلين، النور، والظلمة. وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر. وقيل: قوم يستعملون النجاسات. وقيل: هم قوم من النصارى، اعتزلوهم ولبسوا المسوح. وقيل: إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى، وليسوا (¬2) من أهل الكتاب، ولذا لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل دبائحهم، وإنما أخذت الجزية منهم؛ لأنهم من العجم، لا لأنهم من أهل الكتاب. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} بالله سبحانه، وعبدوا الأوثان والأصنام وغيرها. وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَفْصِلُ} ويقضي {بَيْنَهُمْ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

بين هؤلاء الستة {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار. والظاهر تعميم الكلام لعبدة الأوثان، ولعباد الشمس والقمر والنجوم اهـ. كرخي في محل الرفع، خبر لـ {إن} الأولى. وفي "السمين" (¬1): هذه الآية فيها وجهان: أحدهما: أن {إن} الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر لـ {أن} الأولى. قال الزمخشري: أدخلت {إن} على كل واحد من جزأي الجملة، لزيادة التأكيد وحسن دخول {إن} في الخبر، طول الفصل بينهما بالمعاطيف. والثاني: أن {إن} الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد. أي: يقضي بين (¬2) المؤمنين وبين الفرق الخمسة، المتفقة في الكفر، بإظهار المحق من المبطل، بإثابة الأول وعقاب الثاني، بحسب الاستحقاق. يعني أن الله تعالى، يعامل كل صنف منهم يوم القيامة، على حسب استحقاقه، إما بالنعيم وإما بالجحيم. وعلم من الآية، أن الأديان ستة، واحد للرحمن، وهو دين المؤمنين الذي هو الإسلام، كما قال تعال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وخمسة للشيطان، وهي ما عدا الإسلام؛ لأنها مما دعا إليها الشيطان، وزينها في أعين الكفرة. وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} (¬3) تعليل لما قبلها؛ أي: أنه سبحانه وتعالى على كل شيء من أفعال خلقه، وأقوالهم شهيد، لا يعزب عنه شيء منها. والمعنى؛ أي (¬4): أن الله سبحانه، يقضي بين هذه الفرق، ويجازي كلاً بما يفعل، ويضعه في الموضع اللائق به، إذ ليس شيء من أحوالهم بغائب عنه، بل هو عليم بأقوالهم، مراقب لأفعالهم. وخلاصة ذلك: أنه تعالى يحكم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ويلقي من كفر به في جهنم، وبئس القرار. وهو الشهيد على أعمالهم، الحفيظ لأفعالهم، العليم بسرائرهم، وما تكنّه ضمائرهم. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[18]

18 - والرؤية في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هي العلمية لا البصرية؛ لأن رؤية سجود هذه الأمور لله، إنما جاءنا من طريق العقل؛ لأنا لا نراه بأبصارنا اهـ. شيخنا. والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتي الرؤية منه. والمراد بالسجود هنا: المعنى اللغوي، وهو الإنقياد الكامل والتذلل البالغ، لا السجود الشرعي، الذي هو وضع الجبهة، الخاص بالعقلاء، سواء جعلت كلمة (من) خاصة بالعقلاء، أو عامة لهم ولغيرهم. وإنما حملنا السجود على المعنى اللغوي، الذي هو التسخير والتذلل؛ لأنه ليس في كفرة الإنس ومردة الجن والشياطين، وسائر الحيوانات والجمادت، سجود طاعة وعبادة، الذي هو وضع الجبهة على الأرض، خصوصًا لله تعالى، ولهذا عطف {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} على {مَن} فإن ذلك يفيد أن السجود هو الأنقياد الكامل، لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر، مع كونها داخلة تحت {مَن} على تقدير جعلها عامة، لكون قيام السجود بها في العادة، وجملة ما ذكره هنا ثمانية. والمعنى: ألم تعلم أيها المخاطب، أن الله سبحانه وتعالى، ينقاد لتدبيره ومشيئته، من في السموات، من الملائكة، ومن في الأرض من الجن والإنس، مطيعًا كان أو عاصيًا، والشمس والقمر والنجوم بالسير والطلوع والغروب، لمنافع العباد، والجبال بإجراء الينابيع، وإنبات المعادن والشجر بالظل وحمل الثمار ونحوها، والدواب بعجائب التركيب ونحوها، فكل شيء ينقاد له سبحانه، على ما خلقه وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه، فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواء. وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} مرفوع بفعل محذوف، يدل عليه المذكور؛ أي: ويسجد له سبحانه كثير من الناس، سجود طاعة وعبادة. وقيل: مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، تقديره: وكثير من الناس يستحق الثواب، والأول أظهر، وإنما لم يرتفع (¬1) بالعطف على {مَن} لأنّ سجود هؤلاء الكثير من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الناس، هو سجود الطاعة، الخاص بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم، هو الانقياد، فلو ارتفع بالعطف على {مَن} لكان في ذلك جمع بين معنين مختلفين في لفظ واحد، وأنت خبير، بأنه لا ملجأ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس، هو انقيادهم، لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه بالعطف لا بأس به، وإن أبى ذلك صاحب "الكشاف" ومتابعوه. قال في "التأويلات النجمية": أهل العرفان، يسجدون سجود عبادة، بالإرادة، والجماد وما لا يعقل، ومن لا يدين، يسجدون سجود خضوع للحاجة. وخلاصة معنى الآية: ألم تعلم (¬1) أيها المخاطب بهذا أن هذه الخلائق مسخرة لقدرة بارئها، وجبروت منشئها، منقادة لإرادته طوعًا أو كرهًا، فهي مفتقرة في وجودها، وبقائها إليه، فهو الذي أنشأها ورتبها، وأكمل وجودها على النحو الذي أراده، والحكمة التي قدّرها لها في البقاء. وأفرد الشمس وما بعدها بالذكر؛ لأنها قد عبدت من دون الله تعالى، فعبدت الشمس حِمير، والقمر كنانة، والشعرى لخم، والثريا طيءُ، والمصريون عبدوا العجل أبيس وعبدت العرَّى شجرة غطفان. وأما قوله: {وَكَثِيرٌ} من الناس {حَقَّ} وثبت {عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بسبب كفره وامتناعه من السجود، وهو من لا يوحد الله تعالى، فقال الكسائي والفراء: إنه مرفوع بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل: هو معطوف على {كثير} الأول، ويكون المعنى: وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك، وقيل المعنى: وكثير من الناس في الجنة، وكثير منهم حق عليهم العذاب، هكذا حكاه ابن الأنباري. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: ومن أهانه الله سبحانه، وأذله، فكتب عليه الشقاء لسوء استعداده {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} يسعده ومعز يعزه، فيصير ¬

_ (¬1) المراغي.

سعيداً عزيزًا. وحكى الأخفش والكسائي والفرّاء أنَّ المعنى: ومن يهن الله، فما له من مكرم؛ أي: إكرام؛ لأن الأمور كلها بيده تعالى، يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء لتدسيته نفسه، واجتراحه للسيئات وارتكابه للآثام والمعاصي. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره، من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة؛ أي: أن الله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء، من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد إكرامه، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. تنبيه: هذه السجدة (¬1) من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها. وقرأ جناح بن حبيش (¬2): {وكبير حق} بالباء الموحدة، وقرىء {وكثير حقا}؛ أي: حق عليهم العذاب حقًا. وقرىء {حُق} بضم الحاء ومن مفعول مقدم بـ (يهن). وقرأ الجمهور (¬3): {من مكرم} بصيغة اسم الفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر، أي: من إكرام. قال الإمام النيسابوري - رحمه الله تعالى - في "كشف الأسرار" (¬4): جعل الله الكفار أكثر من المؤمنين، ليريهم أنه مستغن عن طاعتهم، كما قال: "خلَقْتُ الخَلْق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم" وقيل: ليظهر عز المؤمنين فيما بين ذلك؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، والشيء إذا قل وجوده عزَّ، ألا ترى أن المعدن، لعزته صار مظهراً للاسم العزيز. وقيل: ليرى الحبيب قدرته، بحفظه بين أعدائه الكثيرة، كما حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو واحد، وأهل الأرض أعداء كلهم، ليتبين أن النصر من عند الله تعالى، والقليل يغلب الكثير بعونه وعنايته ومن أكرمه بالغلبة، لا يهان بالخذلان ألبتة. فإن قيل: إن رحمته سبقت، وغلبت غضبه، فيقتضي الأمر، أن يكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب، وأهل الغضب، تسع وتسعون من كل ألف، واحد ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

يؤخذ للجنة، كما ورد في "الصحيح"، وورد "أهل الرحمة كشعرة بيضاء في جلد الثور الأسود". قلنا: هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم، وأما أهل الرحمة بالنسبة إليهم وإلى الملائكة والحور والغلمان، فأكثر من أهل الغضب. مشكلةٌ: فإن قلت: إن قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} يسجد مفهومه أن قليلًا منهم أبوا من السجود، فيناقض كثيرًا الثاني، وأن قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} مفهومه أن قليلًا منهم يسجد، فيناقض كثيرًا الأول، فبين الكثيرين تناقض. قلت: إن المراد بالكثير، الأول: كثرته في ذاته، فلا ينافي قلته بالنسبة إلى الكثير الثاني، وقد أشكلني هذا التناقض زمانًا، فبحثت عن جوابه في كتب التفاسير، فلم أجده، فظهر لي هذا الجواب بفضله، فلله الحمد، ثم رأيت ما يوافقه في تفسير "روح البيان"، ونص عبارته، يقول الفقير: الكثير الأول كثير في نفسه، قليل بالنسبة إلى الكثير الثاني، إذ أهل الجمال أقل من أهل الجلال، وهو الواحد من الألف، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن الواحد على الحق، هو السواد الأعظم. وعن بعضهم: قليل إذا عدوا، كثير إذا شدوا؛ أي: أظهروا الشدة انتهت. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء {أيّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها} حرف تنبيه زائد، زيدت تعويضاً عما فات؛ أي: من الإضافة. {النَّاسُ} صفة لـ {أي}، أو بدل منها، وجملة النداء مستأنفة. {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به مبني على حذف النون، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} ناصب واسمه ومضاف إليه. {شَيْءٌ}: خبره: {عَظِيمٌ}: صفة {شَيْءٌ} والإضافة في {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله، فعلى الأول كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، وعلى الثاني على طريقة الاتساع في الظرف، وإجراءه مجرى المفعول به، كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل

ما قبلها، لا محل لها من الإعراب. {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {تَذْهَلُ} الآتي، ولم يذكر الزمخشري غيره، الثاني: أنه منصوب بـ {عَظِيمٌ}، الثالث أنه منصوب بإضمار أذكر، وقيل غير ذلك. {تَرَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، {عَمَّا} جار ومجرور، متعلق بـ {تَذْهَلُ} و {ما} موصولة أو مصدرية {أَرْضَعَتْ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الـ {مُرْضِعَةٍ}، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة والعائد محذوف، تقديره عن الذي أرضعته، أو صلة {ما} المصدرية؛ أي: عن إرضاعها. {وَتَضَعُ كُلُّ}: فعل وفاعل معطوف على {تَذْهَلُ}، {كُلُّ} مضاف {ذَاتِ} مضاف إليه {ذَاتِ}: مضاف {حَمْلٍ} مضاف إليه {حَمْلَهَا}: مفعول به، {وَتَرَى}: الواو عاطفة {ترى} فعل مضارع بصرية، معطوف على {تَرَوْنَهَا} وفاعله ضمير، يعود على أيِّ مخاطب، وإنما جمع الضمير في {تَرَوْنَهَا}، وأفرد هنا لأن الرؤية الأولى علقت بالزلزلة أو الساعة، وكل الناس يرونها، أما الثانية فهي متعلقة يكون الناس {سُكَارَى} فلا بد من جعل كل أحد رائياً للباقي، بقطع النظر عن اتصافه بالسُّكر {النَّاسَ} مفعول به {سُكَارَى}: حال من الناس {وَمَا} الواو حالية {ما} حجازية {هُمْ}: في محل الرفع اسمها {بِسُكَارَى} الباء: زائدة {سُكَارَى}: خبرها منصوب، بفتحة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة المجلوبة لحرف جر زائد، الممنوعة للتعذر، وجملة {ما} الحجازية في محل النصب، حال ثانية من {النَّاسَ} {وَلَكِنَّ}: الواو عاطفة {لكن}: حرف نصب واستدراك، {عَذَابَ اللَّهِ}: اسمها {شَدِيدٌ}: خبرها، والجملة استدراكية، معطوفة على محذوف، مخالف لما بعد {لكن} وهذا حكم مطرد فيها، والتقدير كما في "البحر" لأبي حيان، فهذه الأحوال وهي الذهول والوضع ورؤية الناس، شبه السكارى هينة لينة، ولكن

عذاب الله شديد؛ أي: ليس لينًا وسهلًا فيما بعد، لكن مخالف لما قبلها. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)}. {وَمِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ}: نكرة موصوفة حتمًا أو موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم، {يُجَادِلُ} فعل مضارع وفاعله ضمير، يعود على {مَنْ} والجملة صفة {مَنْ}، تقدير ومن الناس فريق مجادل في الله، أو صلة لها؛ أي: ومن الناس الفريق الذي يجادل في الله لا تنفعهم العظات، {فِي اللَّهِ}: متعلق بـ {يُجَادِلُ}. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الفاعل في {يُجَادِلُ} موضحة لما تشعر به المجادلة من الجهل؛ أي: ملتبسًا بغير علم، {وَيَتَّبِعُ}: فعل مضارع معطوف على {يُجَادِلُ} وفاعله ضمير، يعود على {مَنْ}. {كُلَّ شَيْطَانٍ}: مفعول به، ومضاف إليه {مَرِيدٍ} صفة. {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}. {كُتِبَ}: فعل ماض مغير الصيغة {عَلَيْهِ}: متعلق به {أَنَّهُ}: ناصب واسمه {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو اسم موصول مبتدأ {تَوَلَّاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة في محل الجزم فعل شرط لـ {مَنْ}، إن قلنا شرطية، أو صلة لها، إن قلنا موصولة. {فَأَنَّهُ}: الفاء، رابطة لجواب {مَن} الشرطية إن كانت شرطية، أو واقعة في خبر {مَنْ} الموصولة، إن كانت موصولة لـ {ما} في الموصول من رائحة الشرط، {أن} حرف نصب ومصدر، والهاء: في محل النصب اسمها {يُضِلُّهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الـ {شَيْطَانٍ} {وَيَهْدِيهِ}: فعل ومفعول معطوف على يضله {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يهديه}، وجملة {يُضِلُّهُ} في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر، مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فهو مُضِلَّهُ وهاديه إلى عذاب السعير، والجملة الاسمية في محل الجزم، جواب {مَنْ} الشرطية أو خبر {مَنْ} الموصولة، وجملة الشرط، أو الموصول في محل

الرفع خبر {أَنَّهُ}، وجملة {أَنَّهُ} في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ {كُتِبَ}، تقديره: كتب عليه إضلاله وهدايته، من تولاه إلى عذاب السعير، وجملة {كُتِبَ} من الفعل ونائب فاعله، في محل الجر صفة ثانية لـ {شَيْطَانٍ} ولكنها سببية. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}: يا: حرف نداء {أي}: منادى نكرة مقصودة، {والهاء}: حرف تنبيه {النَّاسُ}: صفة لـ {أيّ} أو بدل منها، وجملة النداء مستأنفة {إِنْ كُنْتُمْ}: جازم وفعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {فِي رَيْبٍ} خبر {كان} {مِنَ الْبَعْثِ}: متعلق بـ {رَيْبٍ} أو صفة له، {فَإِنَّا} الفاء: رابطة للجواب {إنا}: ناصب واسمه {خَلَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول {مِنْ تُرَابٍ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِن}، وجملة {إِن} في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية على كونها جوابا لها، ولكنه على تأويل: فَمُزِيلُ رَيْبكم، إن تنظروا في بدء خلقكم، وجملة {إِن} الشرطية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {مِنْ نُطْفَةٍ}: جار ومجرور معطوف على قوله: {مِنْ تُرَابٍ}: وعطف فيه وفيما بعده بـ {ثُمَّ} للدلالة على وجود تراخ في تطور الخلق، وتدرجه من حال إلى حال {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} معطوف على {مِنْ نُطْفَةٍ}. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} معطوف على {مِنْ عَلَقَةٍ}، {مُخَلَّقَةٍ} صفة لـ {مُضْغَةٍ} {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} معطوف على {مُخَلَّقَةٍ}، والمراد تفصيل حال المضغة، وكونها أولًا قطعة، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا، {لِنُبَيِّنَ} اللام: حرف جر وتعليل، {نبين} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا. بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ {خلقنا}، ومفعول التبيين محذوف

للتفخيم، والتقدير: فإنا خلقناكم على هذه الأطوار، لتبيين دلائل قدرتنا لكم، {وَنُقِرُّ} الواو: استئنافية {نقر}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله {فِي الْأَرْحَامِ} متعلق به، والجملة مستأنفة؛ لأنه ليس المعنى خلقناكم لنقر {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به {نَشَاءُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ {مَا} والعائد محذوف تقديره: ما نشاء إقراره {إِلَى أَجَلٍ} متعلق بـ {نقر}، أو حال من {مَا} الموصولة. {مُسَمًّى} صفة {أَجَلٍ} {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {نُخْرِجُكُمْ} فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على الله معطوف على {نقر}، {طِفْلًا} حال من مفعول نخرجكم؛ أي: صغارًا، وإنما وحد: لأنه في الأصل مصدر، كالرضا والعدل، فيلزم الإفراد والتذكير، قاله المبرد. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {لِتَبْلُغُوا}: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {أَشُدَّكُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لبلوغكم أشدكم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، معطوف على نخرجكم، تقديره: ثم نخرجكم طفلًا، ثم نربيكم لبلوغكم أشدكم، وقيل: إنّ {ثُمَّ} زائدة، والجار والمجرور متعلق بـ {نُخْرِجُكُمْ} {وَمِنْكُمْ} جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، {يُتَوَفَّى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}: والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والتقدير: ومن يتوفي بعد بلوغ الأشد، وقبل الهرم كائن منكم، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، {وَمِنْكُمْ}: خبر مقدم، {مَنْ يُرَدُّ}: مبتدأ مؤخر، {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُرَدُّ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، {لِكَيْلَا}: اللام؛ حرف جر وتعليل، {كي} حرف نصب ومصدر {لا} نافية {يَعْلَمَ}: فعل مضارع

منصوب بـ {كي} وفاعله ضمير يعود على المردود {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} جار ومجرور حال من {شَيْئًا} و {شَيْئًا} مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية مع {كي} المصدرية في تأويل مصدر. مجرور باللام، تقديره: لعدم علمه شيئًا، الجار والمجررو متعلق بـ {يُرَدُّ}، {وَتَرَى الْأَرْضَ} فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على أيِّ مخاطب ومفعول به؛ لأن ترى بصرية {هَامِدَةً} حال من الأرض، والجملة مستأنفة، {فَإِذَا}: الفاء: عاطفة {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {أَنْزَلْنَا} فعل وفاعل {عَلَيْهَا} متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، {الْمَاءَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {اهْتَزَّتْ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضَ}، والجملة جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {ترى}، {وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ} معطوفان على اهتزت {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لمفعول محذوف، تقديره: وأنبتت أصنافًا كائنة من كل صنف بهيج، و {بَهِيجٍ} صفة لـ {زَوْجٍ}. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ {بِأَنَّ اللَّهَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب أن الله إلخ. والجملة مستأنفة {أن الله} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل، {الْحَقُّ}: خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كون الله هو الحق، {وَأَنَّهُ}: ناصب واسمه وجملة {يُحْيِ الْمَوْتَى}: خبره والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة {أن} الأولى، {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {قَدِيرٌ} و {قَدِيرٌ} خبر {أن} وجملة {أن} الأولى أيضًا، والتقدير: ذلك كائن، بسبب كون الله هو الحق، وإحيائه الموتى وقدرته على كل شيء. {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}. {وَأَنَّ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية {أن الساعة آتية}: ناصب واسمه

وخبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر، مرفوع على كونه خبر، لمبتدأ محذوف، تقديره: والأمر إتيان الساعة حالة كونها {لَا رَيْبَ فِيهَا} والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} أو مستأنفة {لَا} نافية {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها {فِيهَا} خبرها، والجملة في محل النصب، حال من الضمير المستكن في خبر {أن} أو خبر ثان لـ {أن} {وَأَنَّ اللَّهَ} الواو عاطفة أو استئنافية {أن الله} ناصب واسمه وجملة {يَبْعَثُ} خبرها {مَنْ} مفعول به {فِي الْقُبُورِ} متعلقان بمحذوف صلة {مَنْ}. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)}. {وَمِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: أولًا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ}. {يُجَادِلُ}: فعل وفاعل مستتر {فِي اللَّهِ} متعلق به {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور حال. من فاعل {يُجَادِلُ} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب {وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ}: معطوفان على علم {مُنِيرٍ} صفة كتاب {ثَانِيَ عِطْفِهِ}: حال من فاعل {يُجَادِلُ}، وجاز نصبه على الحال، مع إضافته؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد التعريف؛ لأنها في نية الانفصال، كما هو مقرر في محله {لِيُضِلَّ} اللام حرف جر وتعليل {يضل} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على المجادل {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يضل} والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإضلاله الناس عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ {يُجَادِلُ}، {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور حال من {خِزْيٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها {خِزْيٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {يضل} أو مستأنفة {وَنُذِيقُهُ}: فعل ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على الله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق به {عَذَابَ الْحَرِيقِ}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}.

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ {بِمَا}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ونقول له ذلك بما قدمت يداك. {قَدَّمَتْ يَدَاكَ}. فعل وفاعل صلة الموصول والعائد محذوف، تقديره: قدمته يداك {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. واسمه ضمير يعود على الله {بِظَلَّامٍ}: خبر {لَيْسَ} والباء: زائدة {لِلْعَبِيدِ}. متعلق بـ {بِظَلَّامٍ} وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في محل الجر، معطوفة على {ما} الموصولة، تقديره: ذلك حاصل بسبب ما قدمته يداك، وبسبب عدم كون الله ظلاماً للعبيد. {وَمِنَ النَّاسِ}: جار ومجرور خبر مقدم {مَن} اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ، مؤخر، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حال المرتابين، أو معطوفة على جملة قوله {وَمِنَ النَّاسِ} {يَعْبُدُ اللَّهَ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على من {عَلَى حَرْفٍ} حال من فاعل {يَعْبُدُ} أي: حالة كونه مضطرباً مترجرجاً، والجملة الفعلية صلة لـ {مَن} الموصولة أو الموصوفة. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. {فَإِنْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفصيل، {إن} حرف شرط. {أَصَابَهُ} فعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها {خَيْرٌ} فاعل {اطْمَأَنَّ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {أن} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ذلك العابد، وجملة {إن} الشرطية، معطوفة على جملة {يَعْبُدُ} على كونها صلة الموصول، {به} متعلقان به {وَإِنْ}: الواو: عاطفة {إن} حرف شرط {أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {أن} على كونه جوابًا لها وفاعله ضمير يعود على العابد {انْقَلَبَ} فعل ماض مبني على الفتح وفاعله يعود على العابد والجملة جواب الشرط. {عَلَى وَجْهِهِ} متعلق بـ {انْقَلَبَ}، أو حال من فاعل {انْقَلَبَ} وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة

{إن} الأولى. {خَسِرَ} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على العابد والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من فاعل {انْقَلَبَ}، ولا حاجة إلى تقدير، قد على الصحيح، أو بدل من قوله: {انْقَلَبَ} كما أبدل المضارع من مثله في قوله تعالي: {يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ}. {الدُّنْيَا} مفعول {خَسِرَ}. {وَالْآخِرَةَ} معطوف على {الدُّنْيَا}. {ذَلِكَ} مبتدأ. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْخُسْرَانُ} خبر. {الْمُبِينُ} صفة لـ {الْخُسْرَانُ}، والجملة مستأنفة. {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}. {يَدْعُو}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على العابد، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {يَعْبُدُ} في قوله: {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}. جار ومجرور، حال من فاعل {يَدْعُو} أي: حالة كونه، متجاوزًا الله، بعبادته إلى غيره. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب. مفعول به لـ {يَدْعُو}. {لَا}: نافية. {يَضُرُّهُ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {مِنْ}، والجملة صلة لـ {مَا}، أو صفة لها. {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ}: معطوف على ما لا يضره {ذَلِكَ} مبتدأ. {هُوَ} ضمير فصل. {الضَّلَالُ} خبر {الْبَعِيدُ} صفة له، والجملة مستأنفة. {يَدْعُو} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على العابد، و {يَدْعُو} هنا بمعنى يقول. {لَمَنْ}: اللام: حرف ابتداء. {من} اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ. {ضَرُّهُ}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَقْرَبُ}: خبر للمبتدأ الذي هو {ضَرُّهُ}،. {مِنْ نَفْعِهِ} متعلق بـ {أَقْرَبُ}، والجملة من هذا المبتدأ الأخير وخبره، صلة لـ {مِنْ} الموصولة. {لَبِئْسَ}: اللام: موطئة للقسم {بئس}: فعل ماض لإنشاء الذم. {الْمَوْلَى}: فاعل والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هو؛ أي: ذلك المعبود، وهو مبتدأ، خبره جملة {بئس}، أو خبر لمحذوف، تقديره: والمخصوص بالذم هو، وجملة {بئس} جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر لـ {من} الموصولة؛ أي: يقول ذلك العابد: لمن ضره أقرب من نفعه، لأقسم فيه، بقولي: بئس المولى هو. {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}: هو،

وجملة {يَدْعُو} بمعنى يقول مستأنفة. أو خبر من الموصولة محذوف، تقديره: يقول ذلك العابد، لمن ضره أقرب من نفعه. إله أو إلهي، وموضع الجملة نصب بالقول، وجملة لبئس مستأنفة؛ لأنها لا يصح دخولها في الحكاية؛ لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم: لبئس المولى ولبئس العشير. وهناك وجه آخر مقبول، وهو أن تكون اللام زائدة في المفعول به لـ {يَدْعُو}، ويؤيد هذا الوجه، قراءة عبد الله {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فـ {من} مفعول {يَدْعُو} و {يَدْعُو} على معناه، {ضَرُّهُ} مبتدأ {أَقْرَبُ} خبره، والجملة صلة {من} الموصولة، وجملة القسم مستأنفة. وقد اختار الجلال السيوطي هذا الوجه، ودعمه شارحوه. قال الزمخشري: وهناك أوجه تربو على سبعةٍ، قد سلكها المفسرون، أكثرها غير مقبولة لما فيها من الغرابة والشذوذ، وإنما أوردناها مع كونها آراء غير مقبولة، لنخلص إلى القول، أن هذه الآية من المشكلات، التي شغلت علماء النحو والتفسير، ولم يأتوا فيها بما ينقع الغليل ويشفي العليل، وكلام الله المعجز اسمى من أن تطاله القواعد، التي وضعها الإنسان. انتهى بتصرف. {وَلَبِئْسَ} الواو عاطفة. واللام، موطئة للقسم. {بئس} فعل ماض جامد، لإنشاء الذم {الْعَشِيرُ} فاعل والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هو، وجملة هذا القسم، معطوفة على جملة القسم في قوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى}. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يُدْخِلُ الَّذِينَ} فعل ومفعول. وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصولة. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا} {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة، أو نصب بنزع الخافض، وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: صفة لـ {جَنَّاتٍ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يَفْعَلُ مَا}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله، وجملة {يُرِيدُ} صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد محذوف، تقديره: يريده، وجملة

{يفعل} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما تقدم. {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}. {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، أو الخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، كما مر مرارًا، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير مستتر يعود على {مَن}. {يَظُنُّ}: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر، يعود على {مَنْ}، وجملة {يَظُنُّ} في محل النصب خبر {كَانَ}. {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: أنه. {لَنْ} حرف نصب {يَنْصُرَهُ اللَّهُ} فعل مضارع ومفعول وفاعل منصوب بـ {لَنْ}. {فِي الدُّنْيَا} متعلق بـ {يَنْصُرَهُ}. {وَالْآخِرَةِ} معطوف على الدنيا، وجملة {يَنْصُرَهُ} في محل الرفع خبر {أَن} المخففة، وجملة {لَنْ} المخففة في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي {ظن}، تقديره: من كان يظن عدم نصر الله تعالى، محمدًا، - صلى الله عليه وسلم -، في الدنيا والآخرة. {فَلْيَمْدُدْ}: الفاء، رابطة لجواب {مَن} الشرطية، وجوبًا، لكون الجواب جملة طلبية، أو واقعة في خبر {مَن} الموصولة، لشبهها بالشرط في العموم. واللام: لام الأمر. {يمدد} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على من {بِسَبَبٍ} متعلق بـ {يمدد} {إِلَى السَّمَاءِ}: صفة لسبب؛ أي: بسبب واصل إلى السماء. والمراد بالسماء، سقف البيت، أو على حقيقتها على سبيل التقدير. وجملة {يمدد} في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، أو خبر {من} الموصولة، وجملة {مَن} الشرطية، أو الموصولة مستأنفة. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {لْيَقْطَعْ}: اللام: لام الأمر {يقطع}: فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {من}، والجملة في محل الجزم،

معطوفة على جملة قوله: {فَلْيَمْدُدْ}. على كونها جواب {مَن} الشرطية. {فَلْيَنْظُرْ} الفاء: عاطفة، واللام: لام الأمر. {ينظر} فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {مَن} والجملة في محل الجزم، معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}. {هَلْ} حرف استفهام. {يُذْهِبَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {كَيْدُهُ}: فاعل ومضاف إليه {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول به. {يَغِيظُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَا}. ومفعول محذوف، تقديره ما يغيظه، فالضمير المرفوع في {يغيظه}: عائد علي {مَا} الموصولة، والمنصوب عائد على {مَنْ كَانَ يَظُنُّ}، وجملة {هَلْ يُذْهِبَنَّ} في محل نَصْب بـ {ينظر}؛ لأنها معلقة عنها بحرف الاستفهام، وفي "السمين": {هَلْ يُذْهِبَنَّ}: الجملة الاستفهامية، في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأن النظر تعلق بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر. تعدى بفي. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}. {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كذلك}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {أَنْزَلْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول به. {آيَاتٍ} حال من مفعول {أنزلنا}. {بَيِّنَاتٍ}: صفة لـ {آيَاتٍ}: والتقدير، وأنزلنا القرآن كله، حالة كونه آيات بينات. إنزالًا مثل الآيات السابقة، من أول السورة إلى هنا، والجملة مستأنفة. {وَأَنَّ اللَّهَ} الواو عاطفة، أو حالية. {أن الله} ناصب واسمه بـ {يَهْدِي}. فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يُرِيدُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يريد هدايته، وجملة {يَهْدِي} في محل الرفِع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر، معطوف على مفعول {أَنْزَلْنَاهُ}، والتقدير: وكذلك أنزلنا عليه القرآن كله. وهداية الله من يريد هدايته، أو في تأويل مصدر مرفوع، على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: والأمر هداية الله من يريد، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {أَنْزَلْنَاهُ}.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَالَّذِينَ}. معطوف على الموصول الأول. وجملة {هَادُوا}: صلته. {وَالصَّابِئِينَ}: معطوف على الموصول الأول. وكذلك قوله: {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ}: معطوفات على الموصول الأول. وجملة {أَشْرَكُوا}: صلة الموصول الأخير. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يَفْصِلُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يَفْصِلُ}، وكذلك يتعلق به الظرف في قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} الثانية، وجملة {إِنَّ} الثانية، في محل الرفع خبر {إن} الأولى. أعني قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وجملة {إِنَّ} الأولى مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدٌ} و {شهيد} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}. وكأن قائلًا قال: أهذا الفصل عن علم، أو لا، فقيل: إن الله على كل شيء شهيد؛ أي: عالم، اهـ شيخنا. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}. {أَلَمْ}: الهمزة: للاستفهام التقريري {لم}: حرف نفي وجزم {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وفاعله ضمير، يعود على كل من يصلح للخطاب، وترى هنا علمية، كما مر في مبحث التفسير. {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {يَسْجُدُ} فعل مضارع {لَهُ} متعلق به {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، وجملة {يَسْجُدُ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي {تَرَ}، تقديره: ألم تر سجود من السموات ومن في الأرض، ومن بعدهما. لله سبحانه وتعالى. وجملة {أَلَمْ تَرَ} جملة إنشائية مستأنفة. {فِي

السَّمَاوَاتِ} جار ومجرور صلة {مَن} الموصولة {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} معطوف على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}، وكذا قوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ} معطوفات على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}. {مِنَ النَّاسِ} جار ومجرور صفة لـ {وَكَثِيرٌ}. {وَكَثِيرٌ} ليس معطوفًا على ما قبله، بل هو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: مطيعون أو مجزيون أو مثابون، أو نحو ذلك، لدلالة ما قبله عليه، وسوغ الابتداء بالنكرة، وقوعه في معرض التقسيم، ووصفه بما بعده، والجملة من المبتدأ والخبر حينئذٍ، معطوفة على جملة {أَنَّ} في كونها سادة مسد مفعولي {تَرَ}، وقيل هو مرفوع، بفعل محذوف، تقديره: ويسجد له كثير من الناس. {وَكَثِيرٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التقسيم. {حَقَّ}: فعل ماض. {عَلَيْهِ} متعلق به. {الْعَذَابُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة {أَنَّ}. {وَمَنْ} الواو: استئنافية (من) اسم شرط جازم، في محل النصب مفعول به مقدم {يُهِنِ اللَّهُ} فعل وفاعل مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها. {فَمَا} الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ {مَا} النافية ما نافية {لَهُ} خبر مقدم {مِنْ} زائدة. {مُكْرِمٍ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم {مَن} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {يَفْعَلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله {مَا} موصولة في محل النصب مفعول به، وجملة {يَشَاءُ}: صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يشاؤه، وجملة {يَفْعَلُ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} التقوى: التباعد عن كل ما يكسب الإثم، من فعل أو ترك. {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} الزلزلة: الحركة الشديدة، بحيث تزيل الأشياء من أماكنها، وقيل: الزلزلة: التحريك الشديد بطريق التكرير، كما يدل عليه تكرير الحروف؛ لأن زلزل مضاعف زل، ويحتمل في هذه الإضافة، أن تكون من إضافة

المصدر إلى فاعله؛ إن كان من زلزل اللازم، الذي بمعنى: تزلزل. والتقدير: إن تزلزل الساعة، أو من زلزل المتعدى ويكون المفعول محذوفًا، والتقدير: إن زلزال الساعة الناس، كذا قدره أبو البقاء، وأحسن من هذا، أن يقدر إن زلزال الساعة الأرض، يدل عليه قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} والذهول، الدهش الناشىء عن الهم والغم الكثير. والمرضعة: الأنثى الملابسة للإرضاع، والمرضع: ما من شأنها أن ترضع، وإن لم تلابس به نظير حائض وحائضةٍ. {حَمْلَهَا} والحمل بفتح الحاء: ما كان في البطن أو على رأس الشجر، وبالكسر: ما كان على الظهر، اهـ "سمين". {سُكَارَى}: جمع سكران، والسكر، حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب. {مَنْ يُجَادِلُ} الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمقاتلة، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت فتله، كأن المتجادلين يقتل كل واحد الآخر عن رأيه. {مَرِيدٍ} عات متجرد للفساد: يقال: مرد الشيء، إذا جاوز حدَّ مثله، وأصله العري يقال: غلام أمرد إذا عرى من الشعر والورق. قال: الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس، وقال في "القاموس" وشرحه: المارد العاتي المرتفع، يقال: بناء مارد؛ أي: مرتفع، وهو مجاز. وجمعه مردة وماردون ومراد، والمريد الشديد المرادة والخبيث الشرير، وجمعه مرد ومؤنثه مرداء، يقال: مرد على جرد؛ أي: شبان مرد على خيول جرد. {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الريب: الشك. والبعث: الإخراج من الأرض، والتسيير إلى الموقف. {مِنْ نُطْفَةٍ} وأصل النطفة الماء العذب، ويراد بها هنا ماء الرجل. {عَلَقَةٍ} والعلقة: القطعة الجامدة من الدم. {مِنْ مُضْغَةٍ} المضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ. {أَجَلٍ مُسَمًّى} والأجل المسمى: حين الوضع. {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين. وغير المخلقة التي لم يخلق فيها شيء. {طِفْلًا} والطفل: يطلق على الولد من حين الإنفصال إلى البلوغ، ويطلق

على الواحد والجمع، وأما الطفل بفتح الطاء وسكون الفاء، فهو الناعم، والمرأة طفلة، وأما الطفل بفتح الطاء والفاء، فوقت ما بعد العصر من قولهم: طفلت الشمس إذا مالت للغروب، وأطفلت المرأة؛ أي: ذات طفل. {أَشُدَّكُمْ} والأشد: القوة، وهو في الأصل جمع شدة، كأنعم جمع نعمة، اهـ "بيضاوي". وهو من ألفاظ الجمع، التي لم يستعمل لها واحد، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أدنؤه وأردؤه، وهو الخرف، والخرف: فساد العقل من الكبر و {الْعُمُرِ}: مدة عمارة البدن بالحياة، كما مر. {هَامِدَةً}؛ أي: ميتة يابسة، من همدت الأرض، إذا يبست ودرست، وهمد الثوب إذا بلى، والهمود السكون والخشوع {اهْتَزَّتْ}؛ أي: تحركت، وتجوز به هنا، عن إنبات الأرض نباتها بالماء؛ أي: اهتز نباتها وتحرك. {وَرَبَتْ}؛ أي: ازدادت وانفتخت لما يتداخلها من الماء والنبات {زَوْجٍ} أي: صنف. {بَهِيجٍ}؛ أي: حسن، سار للناظرين من البهجة، وهو حسن اللون وظهور السرور فيه، وابتهج بكذا سرورًا، بأن أثره في وجهه. {هُوَ الْحَقُّ} والحق: هو الثابت الوجود، الذي يحق ثبوته، ويجب وجوده. {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} والهدى: الاستدلال والنظر الصحيح، الموصل إلى المعرفة، والكتاب المنير: هو الوحي المظهر للحق. {ثَانِيَ عِطْفِهِ} الثني، اللي، وفي "القاموس" ثنى الشيء يثني، عطفه وطواه، ورد بعضه على بعض وكفه. والعطف بكسر العين الجانب، يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عن الإعراض عن الشيء، وهو عبارة عن التكبر، والعطف، بفتح العين: التعطف والرحمة والشفقة، والمعنى هنا، لاويًا جانبه: متكبرًا مختالًا ونحوه تصغير الخد. وليُّ الجيد. {خِزْيٌ} والخزي: الهوان والذل والفضيحة. {عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: عذاب النار التي تحرق داخليها، فيحتمل أن يكون من إضافة المسبَّب إلى سببه، على أن يكون الحريق عبارة عن النار، وأن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل العذاب الحريق؛ أي: المحرق وهو النار. {عَلَى حَرْفٍ}؛ أي؛ على طرف وشك في الدين. {خَيْرٌ} كل ما يستلذه

الطبع وينشرح به القلب، كالصحة وكثرة المال والولد. {فِتْنَةٌ} والفتنة: كل ما يستكرهه الطبع، ويثقل على النفس كالجدب والمرض، كما مر. {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} الانقلاب: الانصراف والرجوع، والوجه بمعنى الجهة والطريقة. {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}؛ أي: ضيعهما إذ فاته فيهما ما يسره. {يَدْعُو} الأولى يراد به يعبد. و {يَدْعُو} الثانية يراد بها يقول. {الْمَوْلَى} الناصر. {الْعَشِيرُ} الصاحب والمعاشر. {بِسَبَبٍ} السبب: الحبل الذي تصعد به النخل؛ أي: ليربط بحبل إلى سقف بيته؛ لأن كل ما علاك فهو سماء. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قال في "القاموس": قطع فلان الحبل إذا اختنق به، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}؛ أي: ليخنق انتهى. وسمى الاختناق قطعًا؛ لأن المختنق يقطع نفسه، بحبس مجاريه {فَلْيَنْظُرْ} المراد: تقدير النظر، وتصوره؛ لأن الأمر بالنظر بعد الاختناق، غير معقول؛ أي: فليتصور في نفسه، وليقدر النظر إن فعل. {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ}؛ أي: فعل ذلك بنفسه، وسماه كيدا: لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره، أو على وجه الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسود، وإنما كاد به نفسه {مَا يَغِيظُ} الغيظ أشد غضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه؛ أي: ما يغيظه من النصرة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَالنَّصَارَى}. جمع نصران ونصرانة، مثل: الندامى جمع ندمان وندمانة، ويستعمل بغير الياء فيقال: رجل نصران وامرأة نصرانة. {وَالْمَجُوسَ} قال في "القاموس": مجوس كصبور، رجل صغير الأذنين وضع دينًا، ودعا إليه، معرب، منج كوش ورجل مجوسيٌّ، جمعه مجوس، كيهودي ويهود اهـ. والأصل: نجوس بالنون، فأبدلت ميما اهـ "سمين". {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم، والسجود: لغة التطامن والتذلل، ثم أطلق على التذلل لله وعبادته، وهو ضربان: سجود بالاختيار: وهو خاص بالإنسان وبه يستحق الثواب، وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه: وهو دال على الذلة والافتقار إلى عظمته جلت قدرته. {وَالدَّوَابُّ} جمع دابة، بتشديد الباء؛ لأنه مشتق من الدبيب، فأما من قرأ بتخفيف الباء، فقد حذفها كراهية التضعيف،

والدابة: مؤنث الداب ما دب من الحيوان؛ أي: مشى على البطن كالحية، أو على اليدين والرجلين كالطفل، وغلبت الدابة على ما يركب ويحمل عليه، وتقع على المذكر والمؤنث، والتاء فيه للوحدة، وتصغير الدابة دويبة، والدباب الشديد الدبيب، والضعيف الذي يدب في المشي. قال الشاعر: زَعَمَتْنِىْ شَيْخَاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنَ يَدُبُّ دَبِيْبَا والدبابة، مؤنث الدباب، وسميت بها آلة كانت في الماضي، تتخذ في الحصار، وكانوا يدخلون في جوفها، ثم تدفع في أصل الحصين فينقبونه، وهم في أجوافها، ثم أطلقت في العصر الحديث على سيارة مصفحة، تهجم على صفوف الأعداء، وترمى منها القذائف. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد العقلي في قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ}؛ لأن إسناد الزلزلة إلى الساعة على سبيل المجاز العقلي؛ لأنها لما كانت من أشراطها أضيفت إليها. ومنها: التشبيه البليغ المؤكد في قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}؛ أي: تراهم كالسكارى من شدة الهول، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فقد شبه حال الناس في ذلك اليوم العصيب بحالة السكارى، الذين فقدوا التمييز، وأضاعوا الرشد، فالآية الكريمة بعد أن أثبتت السكر المجازي، نفت الحقيقة، أبلغ نفي مؤكد بالباء، والسر في تأكيده، التنبيه على أن هذا السكر، الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله. ومنها: أن في عدوله عن مرضع إلى مرضعة سرًا. قلّ من يتفطن له، وهو

أن المرضعة هي التي باشرت الإرضاع فعلًا؛ فنزعها الثدي من فم طفلها عند حدوث الهول ووقوع الإرتباك، أدل على الدهشة، وأكثر تجسدًا لمواطن الذهول، الذي استولى عليها. ومنها: الاستعارة التصريحية، في قوله: {شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} حيث استعار لفظ الشيطان لكل طاغية، متمرد على أمر الله. ومنها: أسلوب التهكم، في قوله: {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}. ومنها: الطباق، في قوله: {يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ}. ومنها: طباق السلب، في قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. ومنها: الاستعارة اللطيفة، في قوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} شبه الأرض بنائم لا حركة له، ثم يتحرك وينتعش، وتدب فيه الحياة، بنزول المطر عليه، ففيها استعارة تبعية. ومنها: ائتلاف الطباق والتكافؤ في قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} لمجيء أحد الضدين، أو أحد المتقابلين حقيقة، والآخر مجازًا، فهمود الأرض واهتزازها ضدان؛ لأن الهمود سكون فالاهتزاز هنا حركة خاصة، وهما مجازان، والربو والإنبات ضدان، وهما حقيقتان، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الأرض تربو حالة نزول الماء عليها، وهي لا تنبت في تلك الحالة، فإذا انقطعت مادة السماء، وجفّفَ الهواء رطوبة الماء، خمد الربو، وعادت الأرض، إلى حالها، من الاستواء، وتشققت وأنبتت، فصدر الآية تكافؤ، وما قابله في عجزها طباقٌ. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فقد أسند الإنبات إلى الأرض، وهو مجاز عقلي؛ لأن المنبت في الحقيقة، هو الله تعالى. ومنها: الكناية في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ}؛ لأنه كناية عن الإعراض والتكبر والخيلاء.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} علاقته السببية؛ لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} حيث شبه المنافقين، وما هم فيه، من قلق واضطراب في دينهم، بمن يقف على شفا الهاوية، يريد العبادة والصلاة. ويا له من تمثيل رائع. ومنها: المقابلة البديعة بين {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} و {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}. ومنها: الطباق بين {يَضُرُّهُ} و {يَنْفَعُهُ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} لتأكيد الوعيد، وتشديد التهديد؛ لأن الأصل بما قدمت يداه. ومنها: الاستعارة المصرحة في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} حيث استعار ضلال من أبعد في التيه ضالًّا، عن الطريق، فطالت وبدت مسافة ضلاله لخطأ، من أخطأ عن الحق والهدى، وبعد عنه، فإن القرب، والبعد من عوارض المسافة الحسية. ومنها: إيراد صيغة المبالغة في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} مع خلوه عن النفع بالكلية، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه. ومنها: التهكم في قوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى}؛ لأن تسميته مولى تهكم به. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فإسناد الجرى إلى الأنهار من الإسناد الحكمي، كقولهم: سال الميزاب إذ الجريان من أوصاف الماء، لا من أوصاف النهر، والنهر مجرى الماء الفائض. ومنها: التكرار في قوله: {يَدْعُو} وفي قوله: {لَبِئْسَ}. ومنها: الإيجاز في قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} إلى قوله: {مَا

يَغِيظُ}؛ لأن معناه: من كان يظن من حاسدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومبغضيه أن الله لن ينصره، وأنه يفعل شيئًا مغايرًا للنصر. ومن كان يغيظه أن محمدًا يظفر بمطلوبه، ويبلغ ما هدف إليه من المثل العليا، التي رسمناها له، فليستقص وسعه، وليستفرغ جهده، فلن يكون مثله إلا مثل من يأخذ حبلًا، يمده إلى سماء بيته، فيخنق نفسه به، ثم بعد ذلك كله، ليعد النظر، والتأمل مجددًا، ليرى هل ذهب نصر الله، الذي يغيظه، وهل ذهب عنه ما كان يساوره، من حرقة وارتماض. ومنها: الاكتفاء في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}؛ أي: ويضل من يريد. ومنها: تصدير الجملتين بـ {إن} زيادة في تأكيد الكلام في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ ...} إلخ بعد قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}. ومنها: الطباق بين {يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.

المناسبة قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ...} الآيات مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه سبحانه وتعالى، لما ذكر أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه. وعبارة المراغي هنا: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أرباب الفرق الست، فيما سلف وذكر، أن الله تعالى، يفصل بينهم يوم القيامة، وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم .. قفى على ذلك، بذكر طرفي الخصومة، وتعيين موضع الخصومة، وتعيين موضع الخصومة، وبيان مآل كل من الفريقين، من الإهانة والكرامة والعذاب والنعيم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬2) مآل كل فريق من الكفار، والمؤمنين .. أردف ذلك ببيان عظيم حرمة البيت، وأنكر على الكفار صدهم المؤمنين، عن شهوده وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه. قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أنَّ كثيرًا من مشركي قريش، صدوا عن دين الله، وعن دخول المسجد الحرام، أردف بتأنيبهم وتوبيخهم على ما يفعلون، فبيّن أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، فإن أباهم إبراهيم الذي يفخرون به. وينتسبون إليه، هو الذي بناه وجعله مباءة للناس، وأمر بتطهيره من الشرك للطائفين والمصلين، وأن ينادي في الناس بالحج، ليأتوه من كل فج عميق، لما لهم في ذلك من منافع دينية ودنيوية، ويذكروا اسم الله في أيام النحر، على ما آتاهم من بهيمة الأنعام. قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ...} ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أنه أمر إبراهيم ببناء البيت، وتطهيره من عبادة الأوثان والأصنام، وأن ينادي الناس ليحجوا هذا البيت الحرام، مشاة وركباناً، من كل فج عميق، لما لهم في ذلك من منافع دنيوية ودينية، وأن ينحروا البدن الهدايا، ذاكرين اسم الله عليها، في أيام معلومات، وأن يأكلوا منها، ويطعموا البائس الفقير .. قفَّى على ذلك ببيان أن اجتناب المحرمات، حال الإحرام، خير عند الله مثوبة، وأعظم أجرًا، وأن ذبح الأنعام، وأكلها حلال، إلا ما حرم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان، وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، وأن تعظيم شعائر الله، علامة على أن القلوب مليئة بالتقوى والخوف من الله، وأن في هذه الهدايا منافع من الدر والصوف والنسل، إلى أجل مسمى، وهو أن تنحر، ثم تؤكل ويتصدق بلحومها. قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) أن تعظيم الشعائر من أعظم دعائم التقوى، وأن محل نحرها هو البيت العتيق .. قفى على ذلك ببيان أن الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى، ليس بخاص بهذه الأمة، بل لكل أمة مناسك، وذبائح تذكر باسم الله حين ذبحها، والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فلإله واحد، والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذٍ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين، الخاشعين لله، الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم، بجنات تجري من تحتها الأنهار. قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما حث على التقرب بالأنعام كلها، وبين أن ذلك من تقوى القلوب .. خص من بينها الإبل؛ لأنها أعظمها خلقًا، وأكثرها نفعًا، وأنفسها قيمة. ¬

_ (¬1) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات (¬1): ما أخرجه الشيخان وغيرهما، عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في ستة من قريش، علي، وحمزة، وعبيد بن الحارث وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء المتابرزين. وروى البخاري وغيره عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وأنا أول من يجثوا في الخصومة على ركبتيه، بين يدي الله يوم القيامة. وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، في مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إلى قوله: {الْحَرِيقِ}. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله تعالى منكم، وأقدم كتابًا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فنزلت الآية: وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه، حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه عام الحديبية، عن المسجد الحرام، وقد كره، عليه الصلاة والسلام، أن يقاتلهم، وكان محرمًا بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل. وأخرج (¬2) ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أنيس مع رجلين، أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصارى، ثم ارتد عن ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[19]

الإسلام، وهرب إلى مكة فنزلت فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ...} الآية. قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: "كانوا لا يركبون فأنزل الله {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فأمرهم بالزاد، ورخص لهم الركوب والمتجر. قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فنحن أحق أن نضمخ فأنزل الله {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 19 - {هَذَانِ} الجمعان، جمع المؤمنين وجمع الكفرة المنقسمة إلى الفرق الخمس. {خَصْمَانِ}؛ أي: فريقان مختصمان. {اخْتَصَمُوا} وجادلوا وتنازعوا. {فِي رَبِّهِمْ}؛ أي: شأنه أو في دينه، أو في ذاته وصفاته، أو في شريعته التي شرعها لعباده والكل من شؤونه، فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه، وبطلان ما عليه صاحبه، وبناء أقواله وأفعاله عليه، خصومة للفريق الآخر، وإن لم يجر بينهما التحاور والخصام، وكان مقتضى السياق أن يقول: اختصما، بألف الإثنين، ولكن جمع الضمير نظرًا إلى معنى الفريقين. فالمراد بالخصمين فريق المؤمنين وفريق الكافرين، والظاهر (¬1) أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء، الدالة على التعقيب في قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} ولذلك قال علي - رضي الله عنه -: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة، بين يدي الله تعالى. وقيل: المراد بالخصمين (¬2): الجنة والنار، قالت الجنة: خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته، وقيل المراد بالخصمين، هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين، حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر - رضي الله عنه - يقسم أن هذه الآية، نزلت في ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

هؤلاء المتبارزين، كما ثبت عنه في الصحيح. وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقرأ (¬1) ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة وابن كثير {هاذان} بتشديد النون. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2): {اختصما} راعى لفظ التثنية. ثم فصَّل سبحانه، ما أجمله في قوله: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} فقال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} بجميع مللهم. {قُطِّعَتْ} وقدرت {لَهُمْ}: على مقادير جثتهم. {ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}؛ أي: لباس من نيران هائلة، تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها، كما تقطع الثياب الملبوسة. قال الأزهري (¬3): أي سوّيت وجعلت لبوسًا لهم، شبهت النار بالثياب؛ لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب. وعبر بالماضي عن المستقبل، تنبيهًا على تحقق وقوعه. وقيل إن هذه الثياب من نحاس، قد أذيب فصار كالنار، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى. وقيل: المعنى: في الآية أحاطت بهم النار. وقرأ الزعفراني في "اختياره" (¬4): {قُطِّعَتْ} بتخفيف الطاء. ومعنى الآية (¬5): أي إن أهل الأديان الستة، التي سبق ذكرها فريقان، فريق المؤمنين، وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة، جادلوا في دين الله، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق، وأن ما عليه خصمه هو الباطل، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله، وهذا كاف في تحقيق الخصومة، وان لم يحصل بينهما تحاور بالفعل. ثم ذكر مآل كل فريق، وما يلقاه من الجزاء، بعد أن يفصل الله بينهما، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورًا ثلاثة: 1 - {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}؛ أي: فالكافرون أعدت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدرت على قدر أجسامهم، ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التهكم بهم، واحتقار شأنهم، والتعبير بثياب للإشارة إلى تراكم ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط. (¬5) المراغي.

[20]

طبقات النار المحيطة بهم، وكون بعضها فوق بعض. ونظير هذه الآية قوله {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}. 2 - {يُصَبُّ} ويراق {مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}؛ أي: الماء الحار الذي انتهت حرارته، لو قطرت قطرة منه على جبال الدنيا لأذابتها. 20 - {يُصْهَرُ بِهِ}؛ أي: يذاب بذلك الحميم من فرط الحرارة. {مَا فِي بُطُونِهِمْ} من الأمعاء والأحشاء {وَالْجُلُودُ}؛ أي: وتشوى جلودهم فتتساقط فهو معطوف على {ما}؛ أي: يصهر به الجلود، وتأخيره عنه لمراعاة الفواصل؛ أي: إذا صب الحميم على رؤوسهم يؤثر، من فرط حرارته في باطنهم، نحو تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به أحشاؤم، كما يذاب به جلودهم، ثم يعاد كما كان، فله أثر في الظاهر والباطن وقرأ الحسن وفرقة: {يُصْهَرُ} بفتح الصاد وتشديد الهاء، ذكره في "البحر". 3 - 21 {وَلَهُمْ}؛ أي: وللكفرة؛ أي: ولتعذيبهم وجلدهم {مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}؛ أي: سياط من حديد، تضرب بها رؤوسهم ووجوههم. جمع مقمعة، وهي آلة القمع. وفي الحديث "لو وضعت مقمعة منها في الأرض، فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها منها"؛ أي: رفعوها. أي: يقمعون ويجلدون بها، ويردون إلى النار ردًّا عنيفًا إذا أرادوا الهرب منها، 22 - وإلى هذا أشار بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا} وحاولوا {أَنْ يَخْرُجُوا} وأشرفوا على الخروج {مِنْهَا}؛ أي: من النار ودنوا إلى الخروج. وقوله: {مِنْ غَمٍّ} بدل اشتمال من ضمير منها، أعيد معه الجار وحذف الرابط لفهم المعنى؛ أي: من غمها؛ أي: من غم شديد من غمومها. {أُعِيدُوا فِيهَا}، أي: في قعرها بأن ردوا من أعلاها إلى أسفلها، من غير أن يخرجوا منها. {و} قيل لهم {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: باشروا العذاب المحرق وذوقوا ألمه. والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا مجاز عن إدراك الألم. وروي "أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بالمقامع، فهووا فيها سبعين خريفًا". وهو من ذكر البعض وإرادة الكل، إذا الخريف آخر الفصول الأربعة.

[23]

والمعنى: أي (¬1) إنهم كلما حاولوا الهرب من جهنم والخروج منها، حين يلحقهم عظيم عذابها، أعيدوا فيها، وضربوا بسياط من حديد، وقيل لهم ذوقوا عذاب هذه النار التي تحرق الأمعاء والأحشاء. 23 - وبعد أن بين الله سبحانه، حال الكافرين .. أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون، من الكرامة في المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل. فقال: 1 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وبرسله وبجميع ما جاؤوا به {وَعَمِلُوا} الأعمال {الصَّالِحَاتِ}؛ أي: اتصفوا بها فعلًا أو تركًا، {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين وحدائق {تَجْرِي} وتسيل {من تحت} أشجار {ها} وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة. الماء واللبن والخمر والعسل، كما بينه في سورة محمد؛ أي: إن الله سبحانه، يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال، التي تزكي نفوسهم، وتقربهم إلى ربهم، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الوارفة الظلال، الأنهار الواسعة، يستمتعوا بها كما شاؤوا، ثم بين سبحانه، بعض ما أعد لهم من النعيم، بعد دخولهم الجنة، فقال: 2 - {يُحَلَّوْنَ فِيهَا}؛ أي: يلبسون في الجنة في أيديهم {مِنْ أَسَاوِرَ}؛ أي: بعض أساور، وهي جمع أسورة جمع سوار، وهي ما يلبس في الساعد. {مِنْ ذَهَبٍ} بيان للأساور {وَلُؤْلُؤًا} عطف على محل من أساور. وقرىء بالجر، عطفًا على ذهب، على أن الأساور مرصعة بالذهب واللؤلؤ، أو على أنهم يسوَّرون بالجنسين، إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تجمع نساء الدنيا بن أنواع الحلى، وما أحسن المعصم إذا كان فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من لؤلؤ أبيض. واللؤلؤ ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ. ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مُصمَّت، كما أن فيها أساور من ذهب؛ أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى ¬

_ (¬1) المراغي.

وتزينهم بأساور من ذهب وبلؤلؤ؛ أي: يلبسون في أيديهم حلية من ذهب، وفي رؤوسهم تيجاناً من لؤلؤ. وقرأ الجمهور (¬1): {يُحَلَّوْنَ} بضم الياء وفتح الحاء وتشديد اللام؛ أي: يزينون. وقرى بضم الياء والتخفيف، وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس {يَحْلَون} بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم حلي الرجل وحلت المرأة، إذا صارت ذات حلي، أي: يلبسون حليهم. وقرأ ابن عباس {مِنْ أَسْوِر} بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه؛ لأنه نقص بناؤه، فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودًا فمنعه من الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب: {وَلُؤْلُؤًا} هنا، وفي فاطر بالنصب، وحمله أبو الفتح، على إضمار فعل، وقدره الزمخشري ويؤتون لؤلؤاً، ومن جعل {مِن} في {مِنْ أَسَاوِرَ} زائدة جاز أن يعطف {وَلُؤْلُؤًا} على موضع {أَسَاوِرَ}. وقيل: يعطف على {من أساور}؛ لأنه يقدر ويحلون حليًا من أساور. وقرأ باقي السبعة (¬2) والحسن أيضًا، وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة {ولؤلؤٍ} بالخفض عطفًا على {أَسَاوِرَ}. أو على {ذَهَبٍ}. وقرأ الفياض {ولوليا} قلب الهمزتين واوًا، صارت الثانية واوًا قبلها ضمة، فقلبت الواو ياء والضمة كسرة. وقرأ ابن عباس {وليليا} أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين، أتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة: {ولول} مجروراً عطفًا، على ما عطف عليه المهموز. 3 - {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا}؛ أي: في الجنة {حَرِيرٌ}؛ أي: إن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فلا يمكن عراؤهم منه؛ أي: (¬3) ويلبسون الحرير الذي حرم عليهم لبسه في الدنيا، وكان فيها عنوان العزة والكرامة، فأوتوه في الآخرة إجلالًا، وتعظيمهاً لهم، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وكل منهم يعطى ما تشتهيه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[24]

نفسه، وينال ما يريده، وغير الأسلوب، حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرًا للمحافظة على الفواصل؛ لأنه لو قال ما ذكر لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة، والوقف بخلاف البقية اهـ. شيخنا. 4 - 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: وأرشدوا إلى القول الطيب، وهو قولهم حين دخول الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} وقيل: هو لا إله إلا الله. وقيل: الحمد لله. وقيل: القرآن. وقيل: هو ما يأتيهم من الله سبحانه، من البشارات، وقد ورد في القرآن، ما يدل على هذا القول. المجمل هنا. وهو قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. 5 - {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} وهو إما من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: أرشدوا إلى الصراط المحمود، وهو طريق الجنة، أو إلى موصوف محذوف، بقيت صفته؛ أي: إلى صراط الله الحميد، أي: المحمود ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، وهو دينه القويم، الذي هو الإسلام، والمعنى على الأول وأرشدوا إلى الطريق الحميد، الذي يجعل أقوالهم وأفعالهم مرضية عند ربهم محمودة لدى معاشريهم وإخوانهم، لما فيها مما يجمل في المعاشرة والاجتماع. وأخر (¬1) بيان الهداية لرعاية الفواصل. 25 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَيَصُدُّونَ}؛ أي: ويمنعون الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن طاعة الله تعالى، والدخول في دينه عطف (¬2) المضارع على الماضي؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد، ومثل هذا قوله سبحانه {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. والمراد بالصد هنا، الاستمرار، لا مجرد الاستقبال؛ أي: وصدوا عن سبيل الله، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في {ويصدون} واو الحال؛ أي: كفروا والحال أنهم يصدون، وقيل: الواو زائدة والمضارع خبر {أَن}. والأولى أن يقدر خبر {إن} بعد قوله: {وَالْبَادِ}. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على سبيل الله، قيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

المراد (¬1) به المسجد نفسه، كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني، وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، عنه يوم الحديبية، وقيل: المراد به مكة؛ أي: ويمنعون المؤمنين عن دخول المسجد الحرام؛ أي: المحترم من كل وجه، فلا يصاد صيده ولا يقطع شوكه ولا يسفك فيه الدماء. {الَّذِي جَعَلْنَاهُ} صفة للمسجد؛ أي: صيرناه حال كونه معبدًا وقبلة {لِلنَّاسِ} كائنًا من كان، من غير فرق بين مكي وآفاقي. {سَوَاءً} مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا}؛ أي: جعلناه مستويًا فيه، {الْعَاكِفُ فِيهِ} الملازم له {وَالْبَادِ}؛ أي: الواصل إليه من البادية. والمراد به الطارىء عليه، من غير فرق بين كونه من أهل البادية، أو من غيرهم. والعاكف مرتفع بسواء؛ لأنه بمعنى مستوٍ، وصف المسجد الحرام بذلك، لزيادة التشنيع والتقريع والتوبيخ للصادين عنه، وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور (¬2): برفع {سواء} على أنه مبتدأ وخبر، والجملة في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون العاكف والبادي. هو المبتدأ و {سواء} الخبر، وقد أجيز العكس. وقرأ فرقة، منهم الأعمش في رواة القطعي ويعقوب بنصب {سواءً}، وجر العاكف على أنه صفة للناس؛ أي: جعلناه للناس العاكف والبادي سواء. وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفًا، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. واختلفوا في معنى الآية (¬3)، فقيل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في تعظيم حرمته وقضاء النسك به، وإليه ذهب مجاهد والحسن، وجماعة قالوا: والمراد منه نفس المسجد الحرام. ومعنى التسوية: هو التسوية في تعظيم الكعبة، وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. وعن جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة، شاء من ليل أو نهار". أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقيل: المراد منه جميع الحرم. ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء، في النزول به، ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يزعج أحدٌ أحدًا، إذا كان قد سبق إلى منزل. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد هما سواء في البيوت والمنازل. قال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة، لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم، وكانت دورهم بغير أبواب، حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابًا، فأنكر عليه عمر، وقال: أتغلق بابًا في وجه حاج بيت الله، فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه، فاتخذ الناس الأبواب، فعلى هذا القول، لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها، قالوا: إن أرض مكة لا تملك؛ لأنها لو ملكت لم يسو العاكف فيها والبادي، فلما استوى ثبت أن سبيلها سبيل المساجد، وإليه ذهب أبو حنيفة، وبه قال الثوري. قالوا: والمراد بالمسجد الحرام، جميع الحرم. وعلى القول الأول، الأقرب إلى الصواب، أنه يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وإليه ذهب الشافعي واحتج الشافعي في ذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} أضاف الديار إلى مالكيها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن" فنسب الديار إليهم نسبة ملك، واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بمكة، بأربعة آلاف درهم، فدلت هذه النصوص على جواز بيعها. والحاصل: أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأول: ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه، أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص، كما ذكرناه مفصلًا. والأصل الثاني: هل كان فتح مكة صلحًا أو عنوة، وعلى فرض أن فتحها كان عنوة، هل أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد أهلها على الخصوص، أو جعلها لمن نزلها على العموم. وخبر أن محذوف؛ أي: معذبون، كما يدل عليه آخر الآية.

والمعنى: أي (¬1) إن الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوا رسوله، وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم، ويمنعون الناس أن يدخلوا في دين الله، ويصدون عن الدخول في المسجد الحرام الذي جعله للذين آمنوا به كافة، سواء منهم المقيم فيه والطارىء عليه، النازع إليه من غربته .. نذيقهم عذابًا مؤلمًا موجعًا لهم، ويدل على هذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ}؛ أي: في المسجد الحرام. والباء في قوله: {بِإِلْحَادٍ} زائدة في المفعول، وفي قوله: {بِظُلْمٍ} سببية متعلقة بإلحاد؛ أي: ومن يرد في المسجد الحرام إلحادًا وميلًا عن الحق بسبب ظلم. قال الكازروني (¬2): وفائدة قوله: {بِظُلْمٍ} بعد قوله: {بِإِلْحَادٍ} أن الإلحاد قد يكون بحق كونه في مقابلة الظلم، كما في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، اهـ. شيخنا. وقيل (¬3): المفعول محذوف، والجار والمجرور في الموضعين، حالان من فاعل يرد؛ أي: ومن يرد فيه مرادًا ما حال كونه مائلاً عن القصد والعدل ملتبسًا بظلم. وقرأت فرقة {ومن يرد} بفتح الياء من الورود، وحكاها الكسائي والفرَّاء، ومعناه: ومن أتى به بإلحاد ظالمًا {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جواب {مَن} الشرطية؛ أي: ومن يرد فيه أن يميل إلى الظلم في المسجد الحرام، فيعصي الله ويخالف أوامره .. يذقه يوم القيامة العذاب الموجع له. وخلاصة ذلك: أن الله سبحانه وتعالى توعد الكفار الذين يصدون عن الدين، ويمنعون الناس عن اعتناقه، ويحولون بين الناس ودخول مكة، بالعذاب المؤلم لهم يوم القيامة، كما توعد بذلك من يرتكب الذنوب والآثام في المسجد الحرام. وقد اختلف (¬4) في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل: هو الشرك، وقيل: هو الشرك والقتل، وقيل: صيد حيواناته وقطع أشجاره. وقيل: هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل: المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[26]

الآية: أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم، حتى قالوا: لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن .. لعذبه الله. 26 - ولما ذكر سبحانه (¬1) حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام، وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد .. ذكر حال أبيهم إبراهيم، وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه؛ من كفرهم باتخاذ الأصنام، وامتنانه عليهم بإيفاد العالم إليهم، فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام، إذ بوأنا وبيَّنا لإبراهيم الخليل عليه السلام مكان البيت؛ أي: أذكر لهم الوقت الذي بينا فيه لإبراهيم مكان البيت، وأريناه أصله وأساسه ليبنيه، وكان البيت (¬2) قد درس بالطوفان، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام .. أمره الله ببنائه، فجاء إلى موضعه، وجعل يطلب أثرًا، فبعث الله له ريحًا هفافةً، فكشفت عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه. وقيل: بعث الله تعالى سحابة بقدر البيت، فقامت بحيال البيت، وفيها رأس يتكلم: يا إبراهيم! ابن على دوري فبنى عليه. اهـ. "خطيب". وكانت الأنبياء بعد رفعه يحجون مكانه، ولا يعلمونه حتى بوأه الله وبينه لإبراهيم، فبناه على أساس آدم، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعهم، وأدخل الجحر في البيت، ولم يجعل له سقفًا، وجعل له بابًا، وحفر له بئرًا، يلقى فيها ما يهدى للبيت، وبناه قبله شيث، وقبل شيث آدم، وقبل آدم الملائكة، ثم بعد إبراهيم بنته قريش، وكان بناؤه هذه المرة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، ثم بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ثم بناه الحجاج، وهو البناء الموجود الآن. وقال المحدث الكازروني في "مناسكه": إنَّ هذا (¬3) البيت خامس خمس ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

عشرة، سبعة منها في السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى، لكل بيت منها حرم، كحرم هذا البيت، لو سقط منها بيت .. لسقط بعضها على بعض، إلى تخوم الأرض السابعة، ولكل بيت من أهل السماء والأرض من يعمره، كما يعمر هذا البيت، وأفضل الكل الكعبة المكرمة. اهـ. والمراد بذكر الوقت (¬1): ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام؛ ليتذكروا فيقلعوا عن غيهم، ويرعووا إلى رشدهم، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطأ، وكبير ما اجترحوا من جرم، بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم، وجعله الله قبلةً للناس في الصلاة، ومكانًا للطواف حين أداء شعيرة الحج: و {أَنْ} في قوله: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} زائدة، والجملة مقول لقول محذوف؛ أي: وقلنا له لا تشرك بي في بناء البيت شيئًا من الأغراض، ولا تجعل لي في العبادة شريكًا من خلقي من الأوثان وغيرها، أو المعنى: واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ ومرجعًا للعمَّارة وللعبادة؛ بأن يكون موحداً بقلبه لرب البيت عن الشريك، مشتغلًا بجسده بعمارة البيت وتنظيفه عن الأوثان، وذلك أن جرهمًا والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت. وقرأ عكرمة وأبو نهيك (¬2): {أن لا يشرك} بالياء؛ أي: وأمرناه أن لا يشرك بي شيئًا {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}؛ أي: وقلنا له طهر بيتي من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات؛ أي: نزهه عن أن يعبد فيه صنم، وهذا أمر بإظهار التوحيد. وقرأ نافع وحفص وهشام {بَيْتِيَ} بفتح الياء. {لِلطَّائِفِينَ} حوله {وَالْقَائِمِينَ}؛ أي: وللمصلين إليه، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} جمع راكع وساجد؛ أي: وللمصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود. وصرح بهذه الثلاثة لكونها أعظم أركان الصلاة. والمراد بالقائمين هنا، هم المصلون، وذكر الركع السجود بعده لبيان أركان الصلاة، دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[27]

وقيل (¬1): إن المراد بالقائمين المقيمون بالبيت، فيكون المراد بالطائفين: من يطوف به، وآفاقي غير مقيم هناك. 27 - {و} قلنا له {أذن}؛ أي: ناد {فِي النَّاسِ} بدعوة {الحج} والأمر به وقرأ الجمهور {وَأَذِّنْ} بالتشديد من أذن من باب فعل المضعف؛ أي: ناد. روي أنه صعد أبا قبيس، فقال: يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم. وقرأ الحسن وابن محيصن {وَأَذِّنْ} بمد الهمزة وتخفيف الذال من آذن، من باب أفعل كأكرم؛ أي: أعلم. وقرأ الجمهور {بِالْحَجِّ} بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. قال الواحدي (¬2): قال جماعة من المفسرين: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به، حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينًا وشمالًا وشرقًا وغربًا، وقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت، فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء .. لبيك اللهم لبيك. وقال ابن عباس (¬3): وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذٍ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم عليه السلام يومئذٍ. زاد غيره: فمن لبى مرة .. حج مرة، ومن لبى مرتين .. حج مرتين، ومن أكثر .. حج بقدر تلبيته. قال في "أسئلة الحكم": فأجابوه من ظهور الآباء، وبطون الأمهات في عالم الأرواح. وفي "الخصائص الصغرى": وافترض على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل، وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد. وما وجب في حق نبي .. وجب في حق أمته، إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) قسطلاني.

{يَأْتُوكَ} يا إبراهيم، جواب للأمر، والخطاب لإبراهيم. وقال: {يأتوك} وإن كانوا يأتون البيت؛ لأن من أتى الكعبة حاجًّا .. فكأنه قد أتى إبراهيم؛ لأنه مجيب ندائه، أو الكلام على حذف مضاف؛ أي: يأتوا بيتك، كما في "الكرخي"؛ أي: يأتوا البيت الذي بنيته حالة كونهم. {رِجَالًا}؛ أي: مشاة على أرجلهم - جمع راجل - كقيام جمع قائم - وقدم الرجال على الركبان في الذكر؛ لزيادة تعبهم بالمشي. وعبارة "الفتوحات" هنا: وقدم الراجل لفضله، إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة، وللراجل سبع مئة من حسنات الحرم، كل حسنة مئة ألف حسنة، وإبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين، اهـ "كرخي". {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} معطوف على {رِجَالًا}؛ أي: يأتونك حالة كونهم مشاة على أرجلهم، وركباناً على كل بعير ضامر؛ أي: مهزول أتعبه بُعدُ السفر. {يَأْتِينَ} تلك الضوامر، صفة لضامر باعتبار المعنى؛ لأن المعنى على ضوامر من جماعة الإبل يأتين. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ}؛ أي: طريق واسع {عَمِيقٍ}؛ أي: بعيد. وقرأ الجمهور (¬1): {رِجَالًا} بكسر الراء مع التخفيف. وقرأ ابن أبي إسحاق {ورجالا} بضم الراء وتخفيف الجيم، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كـ: ظُؤار. وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم، {رُجَّالا} وعن عكرمة أيضًا {رَجَالى} على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة. وقرأ مجاهد {رُجالى} على وزن فعالى مثل كُسالى. وقرأ الجمهور: {يأتين} بضمير الإناث اعتبارًا بمعنى الضامر. وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة {يأتون} على أنه صفة لرجالًا. وقر ابن مسعود {معيق} وهو بمعنى (¬2): بعيد يقال: بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى. والمعنى: أي وقلنا له: ناد الناس داعيًا لهم إلى الحج، وزيارة هذا البيت، ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) البيضاوي.

[28]

الذي أمرت ببنائه، يأتوك مشاة على أرجلهم، وركبانًا على ضوامر من الإبل، من كل طريق بعيد، 28 - ثم بين السبب في هذه الزيارة فقال: {لِيَشْهَدُوا} متعلق بـ {يَأْتُوكَ}، وقيل: بقوله: وأذن الشهود هو الحضور؛ أي: ليحضروا {مَنَافِعَ} كائنة {لَهُمْ} من المنافع الدينية والدنيوية، وهي العفو والمغفرة والتجارة في أيام الحج، فتنكيرها؛ لأن المراد بها نوع من المنافع، مخصوص بهذه العبادة، لا يوجد في غيرها من العبادات. وقيل: المراد بها المناسك. وقيل: المغفرة. وقيل: التجارة كما في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وعن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص. {وَيَذْكُرُوا} معطوف على يشهدوا؛ أي: وليذكروا عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها {اسْمَ اللَّهِ} تعالى، وفي جعله (¬1) غاية للإتيان، إيذان بأنه الغاية القصوى دون غيره. {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} هي أيام النحر، يوم العيد وأيام التشريق، كما يفيد ذلك قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}؛ أي: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ أي: لأجل ما رزقهم وهي الإبل والبقر والغنم، وقيل: عشر ذي الحجة. و {بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هي الأنعام، فالإضافة فيه. كالإضافة في مسجد الجامع. والأنعام جمع نعم، وهو مختص بالإبل، وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام يقال: للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها، أنعام حتى يكون في جملتها الإبل. والمراد بالذكر (¬2): ما وقع عند الذبح، علق الفعل بالمرزوق، وبينه بالبهيمة تحريضًا على التقرب، وتنبيهًا على مقتضى الذكر، والبهيمة اسم لكل ذات أربع في البحر والبر، فبينت بالأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن الهدي والذبيحة لا يكونان من غيرها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

والمعنى: أي (¬1) يأتونك ليحضروا منافع لهم في الدنيا، من تجارة رائجة وسلع نافقة، ومنافع في الآخرة، بما يعملون من عمل يرضي ربهم، وبما يحمدونه على النعم التي تترى عليهم، وما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها أيام النحر الثلاثة، يوم العيد ويومين بعده، والفاء في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} عاطفة على محذوف، تقديره: فاذكروا اسم الله على ضحاياكم، فكلوا من لحومها إذ كانت مستحبة، والأمر فيه للإباحة، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، ويصح أن تكون الفاء فصيحة. وفي "الخطيب": {فَكُلُوا مِنْهَا}؛ أي: من لحومها أمر إباحة، وذلك أن الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئًا، فأمر الله تعالى بمخالفتهم. واتفق العلماء، على أن الهدى، إذا كان تطوعًا يجوز للمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع، واختلفوا في الهدى الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج، وفوته وجزاء الصيد، هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئًا؟، قال: الشافعي - رحمه الله -: لا يأكل منه شيئًا، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر. وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال: أحمد وإسحاق، وقال مالك: يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة، أنه يأكل من دم التمتع والقران، لكونها دم الشكر لا دم الجناية، ولا يأكل من واجب سواهما، اهـ. وكذا لا يأكل أولاده وأهله وعبيده وإماؤوه، وكذا الأغنياء إذ الصدقة الواجبة حقٌّ للفقراء. والأمر في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} للوجوب؛ أي: وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس وشدة وزمانة، {الْفَقِيرَ}؛ أي: المحتاج، فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح. فالبائس الشديد الفقر، والفقير المحتاج الذي أضعفه الإعسار ليس له غنى، أو البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

كذلك، بأن تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني. وفي "مختصر الكرخي" أوصى بثلث ماله للبائس الفقير والمسكين. قال: فهو يقسم إلى ثلاثة أجزاء، جزءٌ للبائس وهو الذي به الزمانة إذا كان به محتاجًا. والفقير المحتاج الذي لا يعرف بالأبواب، والمسكين الذي يسأل ويطوف، وعن أبي يوسف إلى جزئين، الفقير والمسكين واحد. 29 - قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} عطف على يذكروا؛ أي: ثم بعد خروجهم من الإحرام، ليقطعوا أدرانهم، ويزيلوا أوساخهم، بحلق الرأس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال؛ أي: الخروج من الإحرام. فالتفث الوسخ، يقال للرجل: ما أتفثك، وما أدرنك؛ أي: وما أوسخك، وكل ما يستقذر من الشعث، وطول الظفر ونحوهما تفث. {وَلْيُوفُوا}؛ أي: وليؤدوا {نُذُورَهُمْ}؛ أي: ما أوجبوه على أنفسهم من أعمال البر، في أيام الحج مما لا يقتضي الحج وجوبه من الضحايا وغيرها، والنذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب. وقرأ (¬1) أبو بكر وشعبة عن عاصم {وَلْيُوفُّوا} بفتح الواو وتشديد الفاء وتسكين اللام. {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الركن الذي يتم به التحلل، فإنه قرينة قضاء التفث {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ أي: القديم، فإنه أول بيت وضع للناس، أو المعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فعصمه الله، وأما الحجاج الثقفي، فإنما قصد إخراج ابن الزبير - رضي الله عنهما - حين تحصن به، لا التسلط عليه، ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل. فصل واعلم: أن طواف الحجاج ثلاثة: الأول: طواف القدوم: وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعًا، يرمل ¬

_ (¬1) المراح والبحر المحيط.

[30]

ثلاثًا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه، ويمشي أربعًا وهذا الطواف سنة لا شيء بتركه. والثاني: طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، ويسمى أيضًا طواف الزيارة، وهو ركن لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به. والثالث: طواف الوداع، لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعًا، فمن تركه فعليه دم، إلا المرأة الحائضة، فإنه يجوز لها ترك طواف الوداع، ثم إن الرمل يختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع. والمعنى: أي ثم ليزيلوا ما علق بهم من الأوساخ، فيحلقوا الشعر ويقلموا الأظفار ويأخذوا من الشوارب والعارضين، وليوفوا ما نذروه من أعمال البر، وليطوفوا طواف الإفاضة أو الوداع بالبيت العتيق، إذ هو أقدم بيت للعبادة في حياة البشر. وفي قراءة (¬1) أبي عمرو تحريك اللامات الثلاثة بالكسر، وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين، وفي قراءة الباقين بإسكان الكل. 30 - وقوله: {ذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أي: الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} إلى قوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فإن هذه الآية مشتملة على الأحكام المأمور بها، والمنهي عنها، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ذلك الأمر المذكور لازمٌ لكم، أو مفعول لمحذوف، أي: احفظوا ذلك {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: جميع تكاليف الله تعالى، من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه، جمع (¬2) حرمة، وهي ما لا يحل هتكه، وهو خرق الستر عما وراءه؛ أي: يعظم أحكامه وفرائضه وسننه، وسائر ما لا يحل هتكه، كالكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام، بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه. {فَهُوَ}؛ أي: التعظيم المفهوم من يعظم {خَيْرٌ لَهُ} ثوابًا {عِنْدَ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

رَبِّهِ}؛ أي: في الآخرة من التهاون بشيء منها؛ أي: قربة وطاعة يثاب عليها عند الله تعالى. وقيل: إن صيغة التفضيل هنا (¬1) لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به، فهي عدة بخير، أي: فالتعظيم خير له عند ربه، أي: قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها. وفي الآية، إشارة (¬2) إلى أن تعظيم حرمات الله، هو نفس تعظيم الله تعالى، في ترك ما حرمه الله عليه، وفعل ما أمره به. يقال: بالطاعة يصل العبد إلى الجنة، وبالحرمة يصل إلى الله، ولهذا قال: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} يعني تعظيم الحرمة، والتكاليف، خير للعبد، في التقرب إلى الله، من تقربه بالطاعة. ويقال: ترك الخدمة يوجب العقوبة. وترك الحرمة يوجب الفرقة. ويقال: كل شيء من المخالفات، فالعفو فيه مساغ وللأمل فيه طريق، وترك الحرمة على خطر أن لا يغفر ذلك، وذلك بأن يؤدي شؤمه لصاحبه إلى أن يختل دينه وتوحيده. والمعنى؛ أي: هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت، هو الفرض الواجب عليكم أيها الناس في حجكم، ومن يجتنب ما أمر باجتنابه في حال إحرامه تعظيمًا منه لحدود الله، أن يواقعها، وحرمه أن يستحلها فهو خير له عند ربه في الآخرة، بما يناله من رضاه وجزيل ثوابه. {وَأُحِلَّتْ}؛ أي: جعلت حلالاً وهو من حل العقدة، {لَكُمُ}؛ أي: لمنافعكم {الْأَنْعَامُ} وهي الأزواج الثمانية على الإطلاق، من الضأن اثنين، أي: الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام. {إِلَّا مَا يُتْلَى} ويقرأ {عَلَيْكُمْ} تحريمه في آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} في سورة المائدة. أي: وأحل لكم (¬3) أيها الناس، أن تأكلوا الأنعام إذا ذكيتموها، فلم يحرم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

عليكم بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حاميًا، إلا ما يتلى عليكم تحريمه في كتاب الله تعالى، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنحنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فإن كل ذلك رجس. أو المعنى: ورخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام، وأكل لحومها، إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه، مما حرم منها لعارضٍ، كالميتة، وما أهل به لغير الله تعالى. والفاء في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} تفريعية (¬1) على قوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} فلما حث على المحافظة على حدود الله، وترك الشرك تفرع عنه هذا، اهـ. "شهاب". أي: وابتعدوا عن الرجس الذي هو الأوثان واتركوا عبادتها، فإنها سبب الرجس الذي هو العذاب، أو هي الرجس الذي هو النجس؛ لأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات؛ أي: فاجتنبوا عبادة الرجس والنجس الذي هو الأوثان. والرجس الشيء القذر، يقال: رجل رجس ورجال أرجاس والرجس يكون على أربعة أوجه، إما من حيث الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشريعة، وإما من كل ذلك، كالميتة فإنها تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا. والرجس من جهة الشرع: الخمر والميسر والأوثان، وهي جمع وثن، وهو حجارة كانت تعبد، كما في "المفردات" وقال بعضهم (¬2): الفرق بينه وبين الصنم: أن الصنم هو الذي يؤلف من شجر، أو ذهب، أو فضة في صورة الإنسان. والوثن هو الذي ليس كذلك، وأصله من وثن الشيء؛ أي: أقام في مقامه، وسمي الصليب وثنًا؛ لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه. قال في "الإرشاد": قوله: {فَاجْتَنِبُوا ...} إلخ، مرتب على ما يفيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} من وجوب مراعاتها والاجتناب عن هتكها، ¬

_ (¬1) شهاب. (¬2) روح البيان.

[31]

ولما كان بيان حل الأنعام من دواعي التعاطي، لا من مبادي الاجتناب .. عقبه بما يجب الاجتناب عنه من المحرمات، ثم أمر بالاجتناب عما هو أقصى الحرمات، كأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله، فهو خير له، والأنعام ليست من الحرمات، فإنها محللة لكم، إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه، فإنه مما يجب الاجتناب عنه، فاجتنبوا ما هو معظم الأمور، التي يجب الاجتناب عنها. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}؛ أي: الكذب والبهتان. وهذا تعميم (¬1) بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، والمشرك يزعم أن الوثن يحق له العبادة، كأنه قيل: فاجتنبوا عبادة الأوثان، التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئًا منه، وكأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبع ذلك ردًّا لما كانت الكفرة عليه، من تحريم السوائب والبحائر ونحوهما. والافتراء على الله تعالى، بأنه حكم بذلك. وقيل: المراد به شهادة الزور، والأولى أن يحمل على العموم، كما قلنا أولًا. وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان، وسمي زورًا لأنه مائل عن الحق. ومنه قوله تعالى: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}. 31 - {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} حال من واو فاجتنبوا؛ أي؛ حال كونكم مائلين عن كل دين، زائغ إلى الدين الحق مخلصين له {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} شيئًا من الأشياء، كما يفيده الحذف من العموم، فيدخل في ذلك الأوثان دخولًا أوليًا، وهو حال أخرى من الواو، لكن الأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة، فدل ذلك، على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة، الإخلاص لله بها لا غيره. والمعنى: أي (¬2): فابتعدوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، فإن ذلك رجس، واتقوا قول الكذب والفرية على الله، كقولكم في الآلهة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقولكم: الملائكة بنات الله، ونحو هذا من القول، فإن ذلك كذب وزور، وشرك بالله، وقوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}؛ أي: تمسكوا بهذه الأمور على وجه العبادة لله وحده، دون إشراك أحد سواه معه. ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان، وقول الزور .. ضرب مثلًا للمشرك فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} سبحانه غيره تعالى، قولًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[32]

أو فعلًا {فَكَأَنَّمَا خَرَّ} وسقط {مِنَ السَّمَاءِ} إلى الأرض {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}؛ أي: تسلبه وتختلسه، وتأخذه الطير بسرعة وتقطع لحمه {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ}؛ أي: ترمي به الريح وتسقطه {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}؛ أي: بعيد، غرضه بهذا، ضرب مثل لمن يشرك بالله، اهـ شيخنا. ومعنى الآية: أن (¬1) من أشرك مع الله غيره، فقد أهلك نفسه هلاكًا، ليس وراءه هلاك، وكانت حاله أشبه بحال من سقط من السماء، فتخطفه الطير، ففرقت أجزاءه في حواصلها إربًا إربًا، أو عصفت به الريح، فهوت به في المهاوي البعيدة، التي لا رجعة له منها. وقيل (¬2): شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء؛ لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة؛ إما باستلاب الطير لحمه، أو بسقوطه في المكان السحيق. وقرأ نافع (¬3): {فَتَخَطَّفَه} بفتح الخاء والطاء مشددة. وقرأ الجمهور: {فَتَخْطَفُهُ} بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش: بكسر التاء والخاء والطاء مشددة. وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضًا: {تَخْطَفُهُ} بغير فاءٍ وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة. وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع. 32 - وقوله: {ذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف، كما مر نظيره؛ أي: الأمر والشأن ذلك الذي ذكر، من أن تعظيم حرمات الله خير، وأن الاجتناب عن الشرك، وقول الزور أمر لازم، امتثلوا ذلك واحتفظوا عليه ولا تتهاونوا في الحرص عليه، والسير على نهجه. {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} ومعالم دينه التي منها الهدايا المشعرة، فإنها من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[33]

معالم الحج وشعائره، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وهو الأوفق (¬1) لما بعده والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة من الإشعار، وهو الإعلام والشعور العلم. وسميت البدنة شعيرة، من حيث إنها تشعر بأن تطعن في سنامها من الجانب الأيمن والأيسر، حتى يسيل الدم فيعلم أنها هدي فلا يتعرض لها، فهي من جملة معالم الحج، بل من أظهرها وأشهرها علامةً، وتعظيمها: اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات، وأن يختارها حساناً سماناً غالية الأثمان. {فَإِنَّهَا}؛ أي: فإن تعظيمها ناشىء {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وتخصيصها بالإضافة لأنها مركز التقوى، التي إذا ثبتت فيها وتمكنت، ظهر أثرها في سائر الأعضاء. والمعنى: أي (¬2) ومن يعظم البدن التي يهديها للحرم، بأن يختارها عظيمة الأجسام سمينة غير هزيلة، غالية الثمن، ويترك المكاس حين شرائها .. فقد اتقى الله حقًا، فإن تعظيمها باب من أبواب التقوى، بل هو من أعظم أبوابها. وقرىء {القلوبُ} بالرفع على الفاعلية، بالمصدر الذي هو تقوى. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مئة بدنة، فيها جمل لأبي جهل في أذنه برة (حِلَقٌ) من ذهب. وأنَّ عمر أهدى نجيبة (ناقة) طلبت منه بثلاث مئة دينار وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعها، ويشتري بثمنها بهماً، فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهداها. وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي - ثياب مصرية غالية الثمن - فيتصدق بلحومها وبجلالها. 33 - {لَكُمْ} أيها السائقون للهدايا إلى الحرم {فِيهَا}؛ أي: في تلك الهدايا المشعرة ليعرف أنها هدى {مَنَافِعُ} في درها ونسلها وصوفها وظهرها، فإن للمهدي أن ينتفع بهديه إلى وقت النحر، إذا احتاج إليه. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ووقت معين معلوم هو وقت نحرها والتصدق بلحمها، والأكل منه. {ثُمَّ} بعد تلك المنافع المذكورة {مَحِلُّهَا}؛ أي: مكان حل نحرها {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ أي: عند البيت، فإلى بمعنى عند، كما في "الفتوحات"؛ أي: عند الحرم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[34]

جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام. والمعنى (¬1): أي لكم في تلك الهدايا منافع، كركوبها حين الحاجة، وشرب ألبانها حين الضرورة إلى أن تنحر، ويؤكل منها، ويتصدق بلحومها، ثم مكان حل نحرها عند البيت العتيق؛ أي: عند الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت كما مر آنفًا. وقيل: المعنى: ثم بعد انتفاعكم بها محلها؛ أي: حلول تلك الهدايا، ونزولها ونهاية أمرها وحياتها إلى حرم البيت العتيق؛ لأنها تذبح في الحرم. والعتيق (¬2) المتقدم في الزمان والمكان والرتبة. أخرج البخاري في "تاريخه"، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، وابن جرير والطبري وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما سماه الله البيت العتيق؛ لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط" وإلى هذا ذهب قتادة، وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشير إليه أن يكف عنه، وقيل له: "إن له ربا يمنعه"، فتركه وكساه، وهو أول من كساه. وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه. 34 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم، لا لبعض منهم دون بعض، فالتقديم للتخصيص. {جَعَلْنَا مَنْسَكًا}؛ أي: متعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله تعالى، والمراد به إراقة الدماء لوجه الله تعالى. والمعنى: شرعنا لكل أمة مؤمنة أن ينسكوا له تعالى. يقال: نسك ينسك ونسوكاً ومنسكاً بفتح السين إذا ذبح القربان. وقرأ الجمهور (¬3): {منسَكا} بفتح السين على القياس مطلقًا؛ لأنه من باب نصر، كما سيأتي في مبحث التصريف، وقرأ بكسرها على الشذوذ الأخوان حمزة والكسائي وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو، ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه، قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من بعض العرب اهـ. والأمة الجماعة المجتمعة على مذهب واحد. والمعنى: وجعلنا لكل أهل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

دين من الأديان ذبحًا يذبحونه ودما يريقونه، أو متعبدًا، أو طاعة، أو عيدًا، أو حجًا يحجونه، وليس ذلك خاصًا بقوم دون آخرين. {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وحده دون غيره، ويجعلوا نسكهم خالصًا لوجهه الكريم، علَّل (¬1) الجعل به تنبيهًا على أن المقصود الأصلي من المناسك تذكر المعبود. {عَلَى} ذبح {مَا رَزَقَهُمْ} وإعطائهم {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}؛ أي: عند ذبحها. وفي تبيين (¬2) البهيمة بإضافتها إلى الأنعام، تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام، وأما البهائم التي ليست من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، فلا يجوز ذبحها في القرابين، وإن جاز أكلها، وسماها بهيمة؛ لأنها لا تتكلم. والمعنى؛ أي: وإنما شرعنا لهم ذلك كي يذكروا الله حين ذبحها، ويشكروه على ما أنعم به عليهم، إذ هو المقصود الأعظم. وفي "الصحيحين": عن أنس أنه أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين فيهما بياض يخالطه سواد أقرنين، فسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال: قلت: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: "سنة أبيكم إبراهيم". قالوا: ما لنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة". قالوا: فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة". ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له. فقال {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} والفاء فيه لترتيب ما بعدها، على ما قبلها من الجعل المذكور، وتعليله. والخطاب للكل تغليباً للمخاطبين على غيرهم؛ أي: جعلنا لكل أمة منسكًا، فإن إلهكم إله منفرد يمتنع أن يشاركه شيء في ذاته وصفاته، وإلا لاختل النظام في العالم؛ أي (¬3): فإن معبودكم واحد، وإن اختلفت العبادات بحسب الأزمنة والأمكنة، ونسخ بعضها بعضًا، فما المقصد منها جميعًا إلا عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[35]

لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}. ثم أمرهم بالإسلام له والانقياد لطاعته وعبادته فقال: {فَلَهُ} سبحانه لا لغيره؛ لأن تقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء فيه للأفصاح؛ أي: فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا فله {أَسْلِمُوا}؛ أي: استسلموا لحكمه، وانقادوا له في جميع ما كفلكم به، وأخلصوا له العمل، واجعلوا التقرب أو الذكر خالصًا لوجهه الكريم، ولا تشوبوه بالإشراك. وفي "التأويلات النجمية": والإسلام يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات. ثم تصفيه الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال من الإلتفاتات، ثم تصفية الأنفاس من الأغيار انتهى. ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين، فقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}؛ أي: وبشر أيها الرسول الكريم، الخاضعين لله بالطاعة، المذعنين له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة، بما أعد لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه. مأخوذٌ من الخبت، وهو المنخفض من الأرض. وقيل: إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم، وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا، من حيث إن نزول الخبت مناسب للحجاج، لما فيهم من صفات المتواضعين، كالتجرد عن اللباس، وكشف الرأس، والغربة عن الأوطان، ولذا وصفهم بالصبر، وذكر إقامة الصلاة؛ لأن السفر مظنة التقصير فيها. اهـ. "شهاب". 35 - ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين، وبين علاماتهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: ذكروه أو ذكره غيرهم {وَجِلَتْ}؛ أي: خافت منه تعالى. {قُلُوبُهُمْ} وحذرت مخالفته لإشراق أشعة جلاله عليها، وطلوع أنوار عظمته لها، وحصول الوجل منهم، عند الذكر له سبحانه، دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم. ووصفهم أيضًا بالصبر، فقال: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من المصائب والنوائب، ومن التكاليف والمحن في طاعة الله تعالى. قال في "بحر العلوم": الذين صبروا على البلايا والمصائب من مفارقة أوطانهم، وعشائرهم، ومن تجرع الغصص والأحزان، واحتمال المشاق والشدائد

في نصر الله وطاعته، وازدياد الخير، ومعنى الصبر الحبس، يقال: صبرت نفسي على كذا؛ أي: حبستها. ثم وصفهم بإقامة الصلاة؛ أي: بالإتيان بها في أوقتها على وجه الكمال. فقال: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} في أوقاتها. أصله والمقيمين الصلاة، والإضافة فيه لفظية؛ أي: والمؤدين حقه تعالى فيما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة في الأوقات التي حددها. ثم وصفهم بالإنفاق، فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في وجوه الخيرات، وقدم (¬1) المفعول إشعارًا بكونه أهم، كأنه قيل: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به، والمراد به إما الزكاة المفروضة لاقترانها بالصلاة المفروضة، أو مطلق ما ينفق في سبيل الله، لوروده مطلق اللفظ، من غير قرينة الخصوص. والمعنى: أي وينفقون بعض ما آتاهم الله، من طيب الرزق في وجوه البر، وعلى أهليهم وأقاربهم، وعلى الخلق كافة، ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون في أثمانها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} بالخفض على الإضافة، وحذفت النون لأجلها وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية {الصلاة} بالنصب على توهم بقاء النون وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش {والمقيمين} بالنون {الصلاة} بالنَّصْب. وقرأ الضحاك {والمقيم الصلاة}. وناسب (¬3) تبشير من اتصف بالإخبات هنا؛ لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقةٍ، لا يعلم معناها إلا الله تعالى، مؤذن بالاستسلام المحض، والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى، والصبر على ما أصابهم من المشاق، وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلا المؤمنون المصطفون، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[36]

والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها، ذكره أبو حيان في "البحر". 36 - {وَالْبُدْنَ} منصوب بمضمر يفسره ما بعده، كقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ}؛ أي: وجعلنا البدن {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}؛ أي (¬1): من أعلام دينه التي شرعها الله لكم، مفعول ثان للجعل، ولكم ظرف لغو متعلق به؛ أي: لأجلكم. والبدن جمع بدنة، وهي الإبل والبقر، مما يجوز في الهدي والأضاحي، سميت بها لعظم بدنها. والبدن هي الشعائر المذكورة في قوله أولًا: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}. قال في "بحر العلوم": البدنة في اللغة من الإبل خاصة، وتقع على الذكر والأنثى، وأما في الشريعة فللإبل والبقر، لاشتركهما في البدانة. والبدانة السمن. ولذا ألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - البقر بالإبل في الإجزاء عن السبعة، كما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة"، وأضيف الشعائر إلى اسم الله تعظيمًا لها، كبيت الله، فإن المضاف إلى العظيم عظيم. {لَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في البدن {خَيْرٌ}؛ أي: نفع كثير في الدنيا من درها، ونسلها، وصوفها، وظهرها، وأجر عظيم في العقبى. وقرأ الجمهور (¬2): {وَالْبُدْنَ} بإسكان الدال، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها، وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا بضم الباء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسمًا مفردًا، بني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف. والجمهور على نصب. {والبدن} على الاشتغال؛ أي: وجعلنا البدن كما مر آنفًا، وقرىء بالرفع على الابتداء. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}؛ أي: على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر اللهم منك وإليك؛ أي: عطاءٌ منك، ونتقرب بها إليك، حالة كونها {صَوَافَّ}؛ أي: قائمات قد صففن أيديهن اليمنى وأرجلهن، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

معقولة الأيدي اليسرى؛ لأن قيام الإبل، يستلزم أن تصف أيديها وأرجلها. جمع صافة. والآية دلت على أن الإبل تنحر قائمة معقولة. وقرأ الجمهور {صواف} بتشديد الفاء ونصبها بلا تنوين، كدواب، جمع صافة، كدابة في دواب. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي {صَوافِيَ} كروابي، جمع صافية؛ أي: خوالص لوجه الله تعالى، لا تشركوا بالله أحدًا في التسمية على نحوها، وخوالص من العيوب. وقرأ عمرو بن عبيد {صوافيا} بالتنوين عوضًا عن حرف الإطلاق عند الوقف، قاله الزمخشري، والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولا سيما الجمع المتناهي. وقرأ الحسن أيضًا {صَوافٍ} مثل عوارٍ، وهو على قول من قال: فكسوت عار لحمه، يريد عاريًا، وقولهم أعط القوس باريها. وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه {صوافن} بالنون جمع صافنة، والصافنة من الإبل هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل، لئلا تضطرب، ومن الخيل ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}. {فَإِذَا وَجَبَتْ} وسقطت {جُنُوبُهَا}؛ أي: جنوب البدن على الأرض بعد نحرها، وذلك عند خروج روحها، وهو كناية عن موتها، جمع جنب. {فَكُلُوا مِنْهَا}؛ أي: من لحومها إن شئتم إذا كانت تطوعًا، بأن لم تكن دم الجناية، والكفارة، والنذر. والأمر فيه للندب، كما ذهب إليه الجمهور. وللوجوب في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ}؛ أي: الراضي بما عنده، وبما يدفع إليه من غير مسألة. {وَالْمُعْتَرَّ}؛ أي: الذي يعتر ويتعرض بالسؤال بالسلام عليك، ولا يسألك بل يرى نفسه للناس كالزائر. وقال مجاهد (¬1): القانع الجار وإن كان غنيًا، وقال قتادة: القانع من القناعة، والمعتر المتعرض للسؤال. وقيل: المعتر الصديق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[37]

الزائر. وقرأ أبو رجاء: القنع بغير ألف؛ أي: القانع فحذف الألف كالحذر والحاذر. وقرأ الحسن والمعترى اسم فاعل من اعترى، وهو بمعنى اعتر. وقرأ عمرو وإسماعيل {والمعترِ} بكسر الراء دون ياء، هكذا نقل ابن خالويه. والمعنى: أي (¬1) فإذا سقطت وزهقت أرواحها، ولم يبق لها حركة، فكلوا منها، وأطعموا القانع المستغني بما يعطونه، وهو في بيته بلا مسألة. والمعتر الذي يتعرض لكم، ويأتي إليكم لتطعموه من لحمها. وخلاصة ذلك: كلوا وأطعموا. {كَذَلِكَ}؛ أي: تسخيرًا مثل ذلك التسخير البديع، المفهوم من قوله: صواف {سَخَّرْنَاهَا}، أي: سخرنا البدن وذللناها {لَكُمْ}؛ أي: لمنافعكم مع كمال عظمها، ونهاية قوتها، فلا تستعصي عليكم حتى تأخذوها منقادةً، فصارت منقادة لكم إلى مواضع نحرها، فتعقلونها، وتحبسونها صافة قوائمها، ثم تطعنون في لباتها؛ أي: مناحرها من الصدور، ولولا تسخير الله لم تطق. ولم تكن أعجز من بعض الوحوش، التي هي أصغر منها جرمًا وأقل قوة، وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحصل عليها، والركوب على ظهرها، والحلب لها، ونحو ذلك. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا إنعامنا عليكم، بالتقرب والإخلاص في أعمالكم، 37 - ولما كان أهل الجاهلية ينضحون البيت؛ أي: الكعبة بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، قال: نهيًا للمسلمين {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ}؛ أي: لن يصعد إليه، ولن يبلغ ويدرك رضاه، ولا يكون مقبولًا عنده {لُحُومُهَا} المأكولة، والمتصدق بها {وَلَا دِمَاؤُهَا} المراقة بالنحر، من حيث إنها لحوم ودماء {وَلَكِنْ يَنَالُهُ} سبحانه {التَّقْوَى مِنْكُمْ} وهو قصد الائتمار، وطلب الرضى، والاحتراز عن الحرام والشبهة. وفيه دليل على أنه لا يفيد العمل بلا نية وإخلاص. والمعنى؛ أي: لن ينال رضا الله اللحوم المتصدق بها، ولا الدماء المراقة بالنحر، ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة، ¬

_ (¬1) المراغي.

والإخلاص فيها بإرادة وجهه تعالى فحسب. والخلاصة: لن يرضي اللَّهَ المضحون، والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء، إلا إذا أحسنوا النية، وأخلصوا له في أعمالهم، فإذا لم يراعوا ذلك، لم تُغْنِ عنهم التضحية، والتقرب بها شيئًا، وإن كثر ذلك. فقد جاء في الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". قال الزجاج (¬1): أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله، ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم. ثم كرر سبحانه التنبيه على عظم تسخيرها لافتاً أنظارهم إلى ما أوجب عليهم، بقوله: {كَذَلِكَ}؛ أي: تسخيرًا مثل ذلك التسخير المذكور {سَخَّرَهَا}؛ أي: سخر الله سبحانه البدن {لَكُمْ}؛ أي: لأجل منافعكم، كرره للتذكير وللتعليل بقوله: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} سبحانه؛ أي (¬2): لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} {عَلَى} متعلقة بـ {تكبروا} لتضمنه معنى الشكر. و {مَا} مصدرية؛ أي: لتشكروه على هدايته إياكم إلى معالم دينه، ومناسك حجه، فتقولوا: الله أكبر على ما هدانا، ولله الحمد على ما أولانا، أو موصولة؛ أي: لتشكروه على ما هداكم إليه، وأرشدكم من معالم دينه وقضاء نسكه، وذبح قرابينه. والمراد قول الناحر (¬3): الله أكبر عند النحر، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها. وذكر هنا: التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير. وقيل: المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء، كما مرت الإشارة إليه آنفًا، ثم وعد من امتثل بقوله: {وَبَشِّرِ} يا محمد {الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

المخلصين في كل ما يأتون، وما يذرون في أمور دينهم بالجنة، أو بقبول الطاعات. والمعنى؛ أي: وبشر أيها الرسول الذين أطاعوا الله، فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا، بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. قال ابن الشيخ (¬1): هم الذين يعبدون الله، كأنهم يرونه، يبتغون فضله، ورضوانه، لا يحملهم على ما يأتونه، وما يذرونه إلا هذا الابتغاء، وإمارة ذلك، أن لا يستثقل ولا يتبرم بشيء مما فعله، أو تركه، والمقصود منه، الحث والتحريض على استصحاب معنى الإحسان، في جميع أفعال الحج. وقرأ مالك بن دينار والأعرج ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وابن أبي عبلة ويعقوب والزعفراني (¬2): {لن تنال الله لحومها} بالتاء {ولكن تناله التقوى} بالتاء أيضًا. وقرأ زيد بن علي: {لحومها ولا دماءها} بالنصب {ولكن يناله} بضم الياء، فمن قرأ: {تناله التقوى} بالتاء، فإنه أنث للفظ التقوى، ومن قرأ {يناله} بالياء، فلأن التقوى والتقى واحدٌ. قال المفسرون (¬3): ومعنى الآية، لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، وإنا يرفع إليه التقوى، وهو ما أريد وجهه منكم؛ أي: لا يرفع نفس اللحم والدم، وإنما يرفع العمل الصالح، ومنه التصدق باللحم، فالتصدق من عمل العبد فيرفع إلى الله، وأما نفس اللحم المتصدَّق به فلا يرفع. والمعنى: أنه لا يثيبكم على لحمها، إلا إذا وقع موقعًا من وجوه الخير اهـ. شيخنا. الإعراب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير. (¬3) زاد المسير.

{هَذَانِ خَصْمَانِ}: مبتدأ وخبر، والجملة معترضة، أو مستأنفة، مسوقة لسرد قصة المتبارزين يوم بدر، كما سبق. {اخْتَصَمُوا} فعل وفاعل. {فِي رَبِّهِمْ} جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَصَمُوا}، والجملة الفعلية صفة لـ {خَصْمَانِ}، ولك أن تجعل الجملة الفعلية خبرًا وخصمان بدلًا من هذان، وإنما قال: {خَصْمَانِ} ثم جمع الفعل؛ لأن الخصم في الأصل مصدر، ولذلك يوحد ويذكر غالبًا، ويجوز أن يثنى ويجمع، أو الجمع مراعاة للمعنى؛ لأن المتخاصمين كانوا فرقًا شتى، وطوائف كثيرة. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا}. الفاء: حرف عطف وتفصيل، {الذين} مبتدأ {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {قُطِّعَتْ} فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمْ} متعلق به. {ثِيَابٌ} نائب فاعل. {مِنْ نَارٍ}: جار ومجرور صفة {ثِيَابٌ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر، معطوفة على جملة {هَذَانِ خَصْمَانِ} عطف مفصل على مجمل. ويحتمل أن تكون الفاء: في قوله: {فَالَّذِينَ} فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله سبحانه، يفصل بين أولئك الفرق، أعني قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الخ. وأردت بيان كيفية الفصل بينهم، فأقول، لك: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من إلخ. والجملة من المبتدأ والخبر على هذا الوجه، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة معطوفة على جملة {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}، وجملة {هَذَانِ خَصْمَانِ} معترضة، أو مستأنفة، مسوقة لبيان كيفية الفصل. {يُصَبُّ} فعل مضارع مغير الصيغة. {مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُصَبُّ}. {الْحَمِيمُ} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لاسم الموصول، أو حال من الضمير في {لَهُمْ}، أو مستأنفة. {يُصْهَرُ}: فعل مضارع مبني للمجهول. {بِهِ} متعلق بـ {يُصْهَرُ}. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع، نائب فاعل ليصهر. {فِي بُطُونِهِمْ} جار ومجرور صلة الموصول. {وَالْجُلُودُ} معطوف على {مَا} الموصولة، وتأخيره إما لمراعاة الفواصل، أو للإشعار بغاية شدة الحرارة، بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها بالعكس اهـ. كرخي. وجملة {يُصْهَرُ} في محل النصب حال من الحميم. واختار بعضهم أن يكون {الجلود} مرفوعًا بفعل

مقدر؛ أي: وتحرق الجلود. قالوا: لأن الجلود لا تذاب وإنما تنقبض إذا صليت بالنار، فهو من باب علفتها تبنًا وماءًا باردًا؛ أي: وسقيتها ماء باردًا؛ لأن الماء لا يكون علفًا. {وَلَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَقَامِعُ} مبتدأ مأخر. {مِنْ حَدِيدٍ} صفة لـ {مَقَامِعُ}. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير {بُطُونِهِمْ}، هذا إن قلنا: إن الضمير في {لهم}: عائد إلى الكفرة، وإن قلنا: إنه عائد على الزبانية، فالجملة مستأنفة، ولم يتقدم لهم ذكر، ولكن سياق الكلام يدل عليه. {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}. {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب. {أَرَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا}، لا محل لها من الإعراب. {أَنْ يَخْرُجُوا} ناصب وفعل وفاعل. {مِنْهَا} متعلق بـ {يَخْرُجُوا}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية، في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: كلما أرادوا الخروج منها. {مِنْ غَمٍّ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله، بدل اشتمال؛ لأنها تشمل عليه. ويجوز أن تكون من للتعليل، فتتعلق بـ {يَخْرُجُوا} أيضًا؛ أي: أن يخرجوا من النار، لأجل الغم الذي لحق بهم. {أُعِيدُوا}: فعل ماض ونائب فاعل. {فِيهَا} متعلق به، والجملة الفعلية جواب كلما، لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّمَا} مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في النار. {وَذُوقُوا}: فعل أمر وفاعل. {عَذَابَ الْحَرِيقِ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والقول المحذوف معطوف على {أُعِيدُوا}. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)}. {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ} اسمها. {يُدْخِلُ الَّذِينَ} فعل ومفعول

وفاعله ضمير يعود على الله: والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة إن مستأنفة معطوفة في المعنى على جملة قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ}: {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {آمَنُوا}. {جَنَّاتٍ}: مفعول به ليدخل على التوسع. {تَجْرِي} فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، صفة لـ {جَنَّاتٍ}، ولكنها سببية. {يُحَلَّوْنَ}: فعل ونائب فاعل. والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الَّذِينَ}. {فِيهَا} متعلق بـ {يُحَلَّوْنَ}. {مِنْ}: زائدة {أَسَاوِرَ} مفعول ثان لـ {يُحَلَّوْنَ}، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة، النائبة عن الكسرة المجلوبة، لحركة حرف جر زائد؛ لأنه اسم لا ينصرف لصيغة منتهى الجموع. وفي "الفتوحات" قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} في {مِنْ} الأولى ثلاثة أوجه، أحدها: إنها زائدة، كما تقدم، والثاني: إنها للتبعيض؛ أي: بعض أساور، والثالث: إنها لبيان الجنس. و {مِنْ}: في {مِنْ ذَهَبٍ} لابتداء لغاية نعت {أَسَاوِرَ}؛ أي: أساور كائنة من ذهب. والأقرب أن يكون {مِنْ أَسَاوِرَ} نعتا لمفعول محذوف؛ أي: حليًا ناشئاً من أساور كائنة من ذهب. {وَلُؤْلُؤًا} معطوف على محل من أساور؛ لأن محلها النصب. كذا قال المعربون. وجعله الزمخشري منصوبًا بفعل محذوف، تقديره: ويؤتون لؤلؤًا. {وَلِبَاسُهُمْ} مبتدأ. {فِيهَا} حال من ضمير {لباسهم}. {حَرِيرٌ} خبر، والجملة الاسمية في محل النصب. معطوفة على جملة {يُحَلَّوْنَ}. وفي هذا العدول عن الفعلية إلى الاسمية، دلالة على الديمومة، حيث لم يقل: ويلبسون حريرًا، فقد دل على أن الحرير ثيابهم المعتادة، والدائمة في الجنة، كما أن فيه رعاية للمحافظة على الفواصل؛ لأنه لو قال: ويلبسون حريرًا لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة، والوقف بخلاف البقية. {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} {وَهُدُوا}: {الواو}: عاطفة. {هدوا}. فعل ونائب فاعل، معطوف على

{يُحَلَّوْنَ}. {إِلَى الطَّيِّبِ}. متعلق به. {مِنَ الْقَوْلِ}: حال من الطيب، أو حال من الضمير المستكن فيه. و {مِنَ} للتبعيض، أو للبيان اهـ "سمين". {وَهُدُوا} فعل ونائب فاعل معطوف على ما قبله. {إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} متعلق به. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب، واسمه {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {وَيَصُدُّونَ} فعل وفاعل، معطوف على {كَفَرُوا} على تأويله بالماضي لعطفه على الماضي. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {وَيَصُدُّونَ}. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ}، وخبر {إِنَّ} محذوف، تقديره: خسروا، أو هلكوا، وقدره الزمخشري {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة معطوفة في المعنى على جملة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. {الَّذِي} اسم موصول في محل الجر، صفة ثانية لـ {المسجد}. {جَعَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة الموصول. {لِلنَّاسِ} جار ومجرور حال من الضمير المستكن في {سَوَاءً}؛ لأنه كان صفة وتقدم، {سَوَاءً}: بالنصب مفعول ثان لـ {جعلنا}، إن جعلناه متعدياً لاثنين، وإن كانت متعدية لواحد، أعربت سواءً حالًا من هاء {جَعَلْنَاهُ}. {الْعَاكِفُ} فاعل لـ {سَوَاءً}: لأنه مصدر بمعنى مستو. {فِيهِ} متعلق بـ {الْعَاكِفُ}: أو بـ {سَوَاءً}. {وَالْبَادِ}: معطوف على {الْعَاكِفُ}. مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، تبعًا لرسم المصحف العثماني، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. وقد انفرد حفص بقراءة النصب في {سَوَاءً}. والجمهور على رفعها، على أنه خبر مقدم، و {الْعَاكِفُ} و {وَالْبَادِ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ {جعلنا}، أو حال من هاء {جَعَلْنَاهُ}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُرِدْ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. {فِيهِ} متعلق بـ {يُرِدْ}. {بِإِلْحَادٍ}. الباء: زائدة {إلحاد} مفعول به. {بِظُلْمٍ} جار ومجرور حال من فاعل {يُرِدْ}، أو

متعلق {بِإِلْحَادٍ}؛ أي: ومن يرد فيه إلحادًا، حالة كونه ملتبسًا بظلم، أو إلحادًا بظلم. {نُذِقْهُ} فعل ومفعول، مجزوم بـ {مِنْ} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على الله، تقديره نحن. {مِنْ عَذَابٍ}: متعلق بـ {نُذِقْهُ}. {أَلِيمٍ} صفة لـ {عَذَابٍ}. وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. وقيل: مفعول يرد محذوف، ليتناول كل ما يمكن تناوله. و {بِإِلْحَادٍ} حال من فاعل {يُرِدْ}. و {بِظُلْمٍ} حال أيضًا. فهما حالان مترادفتان؛ كأنه قال: ومن يرد فيه مرادًا عادلًا عن القصد ظالمًا. وهذا أولى من تقدير زيادة الباء، في إلحاد وجعله هو المفعول. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}. {وَإِذْ}: {الواو}: استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا إذ بوأنا، الجملة المحذوفة مستأنفة. {بَوَّأْنَا} فعل وفاعل. {لِإِبْرَاهِيمَ}: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {مَكَانَ الْبَيْتِ} مفعول {بَوَّأْنَا}، واختار أبو البقاء، وغيره، أن تكون اللام: زائدة؛ أي: أنزلناه مكان البيت، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وأما على القول الأول، فيكون معنى {بَوَّأْنَا} هيأنا. {أَنْ} زائدة. {لَا}: ناهية جازمة {تُشْرِكْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. {بِي} متعلق بـ {تُشْرِكْ} {شَيْئًا} مفعول به لـ {تُشْرِكْ}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: قائلين له لا تشرك بي شيئًا، ويصح أن تكون {أَنْ} مفسرة، لوقوعها بعد قول مقدر؛ أي: قائلين أن لا تشرك. {وَطَهِّرْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {إبراهيم}. {بَيْتِيَ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {لَا تُشْرِكْ}. {لِلطَّائِفِينَ} متعلق بـ {طهر}. {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ} معطوفان على {الطائفين}. {السُّجُودِ} صفة لـ {الركع}. والأولى أن تجعل الكلمتان، بمثابة الكلمة الواحدة؛ لأنهما عملان في عمل واحد، وهو الصلاة. {وَأَذِّنْ} فعل أمر، وفاعله ضمير

يعود على {إبراهيم}، والجملة معطوفة على جملة {طهر}. {فِي النَّاسِ} متعلق بـ {وَأَذِّنْ}. {بِالْحَجِّ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {وَأَذِّنْ}؛ أي: حالة كونك معلناً بالحج. {يَأْتُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون. {رِجَالًا}: حال من فاعل {يَأْتُوكَ}؛ أي: مشاة. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، معطوف على {رِجَالًا}؛ أي: مشاة وركبانا على كل ضامر. {يَأْتِينَ}: فعل مضارع مبني على السكون، لاتصاله بنون النسوة، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، وجملة {يَأْتِينَ} في محل الجر صفة لـ {كُلِّ ضَامِرٍ}؛ لأنه في معنى الجمع؛ أي: على كل ضوامر آتيات. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَأْتِينَ}. {عَمِيقٍ} صفة لـ {فَجٍّ}. {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} {لِيَشْهَدُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل {يشهدوا}. فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة بعد (لام كي). و {الواو} فاعل. {مَنَافِعَ} مفعول به {لَهُمْ} صفة لـ {مَنَافِعَ}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لشهودهم منافع لهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يَأْتُوكَ} {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} فعل وفاعل ومفعول به. معطوف على {يشهدوا}. {فِي أَيَّامٍ}: متعلق بـ {يذكروا}. {مَعْلُومَاتٍ} صفة لـ {أَيَّامٍ}. {رَزَقَهُمْ} صفة لـ {أَيَّامٍ} {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يذكروا} أيضًا، وعلى تعليلة هنا. {رَزَقَهُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول من {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، متعلق بـ {رَزَقَهُمْ}. {فَكُلُوا} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فاذكروا اسم الله على ضحاياكم، عند ذبحها فكلوا منها {كلوا}: فعل وفاعل معطوف على تلك الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويصح أن تكون الفاء: للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم تذكرون اسم الله عليها، وعرفتم بيان ما تفعلون بها بعد الذبح ..

فأقول لكم كلوا منها إلخ: وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِنْهَا}: متعلق بـ {كلوا}. {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {كلوا}. {الْفَقِيرَ} صفة لـ {الْبَائِسَ}. {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {لْيَقْضُوا} اللام، لام الأمر. {يقضوا}. فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر. {تَفَثَهُمْ} مفعول به. والجملة معطوفة على جملة {يذكروا}. {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر، معطوف على {يقضوا}. {وَلْيَطَّوَّفُوا} فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، معطوف على {يقضوا} أيضًا {بِالْبَيْتِ}: متعلق بـ {يطوفوا}. {الْعَتِيقِ} صفة لـ {البيت}. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)}. {ذَلِكَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر والشأن ذلك المذكور، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: ذلك الأمر الذي ذكرته. وقيل: في موضع نصب بمحذوف، تقديره: امتثلوا ذلك. وعلى كل التقادير فالجملة مستأنفة. وهذا مثل فعل من يكتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر، يقول: هذا وقد كان كذا، وفائدة هذا، أنه يذكر للفصل بين كلامين، أو بين وجهي كلام واحد. {وَمَنْ يُعَظِّمْ} الواو استئنافية: {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ: والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على {مَن} مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها: {فَهُوَ} الفاء: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا، {هُوَ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر. {لَهُ} متعلق بـ {خَيْرٌ}. {عِنْدَ رَبِّهِ} ظرف متعلق بمحذوف، حال من الضمير المستكن في خير؛ أي: حال كونه مدخرًا له عند

ربه. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَأُحِلَّتْ} الواو استئنافية، أو عاطفة {أحلت} فعل ماض مغير الصيغة. {لَكُمُ} متعلق به. {الْأَنْعَامُ} نائب فاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها {إِلَّا} أداة استثناء. {مَا}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. {يُتْلَى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {يُتْلَى} والجملة صلة الموصول {فَاجْتَنِبُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا عرفتم أن تعظيم حرمات الله خير لمن عظمها، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم؟ فأقول لكم اجتنبوا الرجس. {اجتنبوا الرجس} فعل وفاعل ومفعول. {مِنَ الْأَوْثَانِ} حال من {الرِّجْسَ}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وقيل الفاء تفريع على قوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}: فعل وفاعل ومفعول، ومضاف إليه معطوف على {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ}. {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}. {حُنَفَاءَ}: حال مؤسسة من ضمير {اجتنبوا}. {لِلَّهِ} متعلق بـ {حُنَفَاءَ} {غَيْرَ مُشْرِكِينَ}: حال مؤكدة منه. {بِهِ} متعلق بـ {مُشْرِكِينَ}. {وَمَنْ يُشْرِكْ} الواو استئنافية. {مَن} اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُشْرِكْ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَن}، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. {بِاللَّهِ} متعلق بـ {يُشْرِكْ}. {فَكَأَنَّمَا} الفاء رابطة الجواب جوازًا. {كأن} حرف نصب وتشبيه، ولكن بطل عملها لدخول ما الكافة عليها. {مَا} كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {خَرَّ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {مِنَ السَّمَاءِ} متعلق بـ {خَرَّ}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة مسوقة لضرب المثل لمن يشرك بالله.

{فَتَخْطَفُهُ} الفاء: عاطفة. {تخطفه الطير} فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم معطوف على خرَّ: {أَوْ} حرف عطف وتنويع. {تَهْوِي} فعل مضارع معطوف على تخطف. {بِهِ} متعلق بـ {تَهْوِي}. {الرِّيحُ}: فاعل. {فِي مَكَانٍ} متعلق بـ {تَهْوِي}. {سَحِيقٍ} صفة لـ {مَكَانٍ}. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا}. {ذَلِكَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر والشأن، ذلك المذكور السابق، والجملة مستأنفة، وهو نظير ما سبق في أوجه الإعراب السابقة وفي فائدته. {وَمَنْ يُعَظِّمْ} الواو استئنافية. {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُعَظِّمْ} فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {شَعَائِرَ اللَّهِ}: مفعول به، ومضاف إليه. {فَإِنَّهَا} الفاء رابطة الجواب وجوبًا. {إن} حرف نصب، والهاء اسمها {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها. والعائد على {من} محذوف، تقديره منهم أو منه، نظرًا للفظ {من}، ومن جوز إقامة ألْ مقام الضمير، وهم الكوفيون أجاز ذلك هنا، والتقدير من تقوى قلوبهم، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {لَكُمْ} خبر مقدم. {فِيهَا} حال من الضمير المستكن في الخبر. {مَنَافِعُ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير فإنها. {إِلَى أَجَلٍ}: جار ومجرور صفة لـ {مَنَافِعُ}. {مُسَمًّى} صفة لِـ {أَجَلٍ}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ. {مَحِلُّهَا} مبتدأ. {إِلَى الْبَيْتِ} خبر. {الْعَتِيقِ} صفة لـ {البيت}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} الواو استئنافية. {لكل أمة}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف مفعول ثان، لـ {جَعَلْنَا} مقدم عليه. {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير التشريع الخاص بكل أمة، ونوع التعبد الذي يتقربون به إلى الله.

{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}. {لِيَذْكُرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {اسْمَ اللَّهِ} مفعول به {عَلَى مَا} جار ومجرور متعلق بـ {يذكروا}. {رَزَقَهُمْ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} متعلق بـ {رَزَقَهُمْ}، وجملة {رَزَقَهُمْ} صلة لـ {مَا} الموصولة، وجملة {يذكروا} مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لذكرهم اسم الله. الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}. {فَإِلَهُكُمْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنا جاعلون منسكًا لكل أمة، وأردتم بيان إلهكم، فأقول لكم إلهكم إله واحد. {إلهكم} مبتدأ. {إِلَهٌ} خبره. {وَاحِدٌ} صفة إله، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَلَهُ}، الفاء: حرف عطف وتفريع، ويصح كونها فصيحة كما مر في مبحث التفسير. {له}: جار ومجرور متعلق بـ {أَسْلِمُوا}. {أَسْلِمُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {إلهكم}. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {أَسْلِمُوا}. {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {الْمُخْبِتِينَ}، أو بدل منه. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {ذُكِرَ اللَّهُ} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فعل وفاعل. والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا صلة الموصول، والعائد ضمير قلوبهم. {وَالصَّابِرِينَ} معطوف على الموصول. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {الصابرين}. {أَصَابَهُمْ}. فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة {مَا} الموصولة. {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} معطوف على الموصول أيضًا. {الصَّلَاةِ}: مضاف

إليه وحذفت النون فيه للإضافة. {وَمِمَّا}. جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}. {رَزَقْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره ومما رزقناهموه. {يُنْفِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة إذا، على كونها صلة الذين؛ أي: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وينفقون مما رزقناهم. {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}. {وَالْبُدْنَ}: {الواو} استئنافية. {وَالْبُدْنَ} مفعول لفعل محذوف وجوبًا. يفسره المذكور بعده، على سبيل الاشتغال، تقديره: وجعلنا البدن جعلنا فعل وفاعل، البدن مفعوله، والجملة مستأنفة. {جَعَلْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول أول. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلْنَاهَا}. {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنَاهَا} التي هي بمعنى التصيير، والجملة الفعلية جملة مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. {لَكُمْ} خبر مقدم. {فِيهَا}: حال من الضمير المستكن في الخبر. {خَيْرٌ} مبتدأ مؤخر؛ والجملة في محل النصب حال إما من هاء جعلناها، وإما من شعائر الله. وهذان مبنيان على أن الضمير في فيها، هل هو عائد على البدن، أو على شعائر؟ والأول قول الجمهور. اهـ "سمين". {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {فَاذْكُرُوا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن البدن من شعائر الله، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اذكروا اسم الله. {اذكروا اسم الله} فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {اذكروا}. {صَوَافَّ} حال من الهاء في عليها، ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لأنه على صيغة منتهى المجموع. {فَإِذَا وَجَبَتْ} الفاء:

فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم تذكرون اسم الله عليها، عند الذبح، وأردتم بيان ما تفعلون بها بعد الذبح، فأقول لكم: {إذا وجبت}: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {فَكُلُوا} الفاء: رابطة لجواب {إذا}. {كلوا}: فعل وفاعل. {مِنْهَا}: متعلق به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كلوا}. {وَالْمُعْتَرَّ}: معطوف على {كلوا}. {كَذَلِكَ} جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {سَخَّرْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول به. {لَكُمْ} متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة، والتقدير سخرناها لكم تسخيرًا، مثل ذلك التسخير البديع، المفهوم من قوله: {صَوَافَّ} كما يفهم من "أبي السعود". {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه. وجملة {تَشْكُرُونَ} خبره، والجملة في محل الجر بلام التعليل المقدرة؛ أي: وسخرناها لكم لكي تشكرونا على ذلك التسخير البديع. {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}. {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا}: ناصب وفعل ومفعول وفاعل. والجملة مستأنفة. {وَلَا دِمَاؤُهَا}: معطوف على لحومها. {وَلَكِنْ} الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {يَنَالُهُ التَّقْوَى}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ}. {مِنْكُمْ}: حال من {التَّقْوَى}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {سَخَّرَهَا}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ} متعلق بـ {سَخَّرَهَا}، والجملة مستأنفة، والتقدير: سخرها الله سبحانه لكم، تسخيرًا، مثل ذلك التسخير المذكور. {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} اللام: حرف جر وتعليل {تكبروا الله} فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره لتكبيركم إياه، الجار والمجرور متعلق بسخرها. {عَلَى} حرف جر. {مَا} مصدرية، أو

موصولة {هَدَاكُمْ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله: والجملة صلة {مَا} المصدرية، تقديره: على الذي هداكم إليه، والجار والمجرور متعلق بـ {تكبروا}. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} فعل وفاعل مستتر يعود على محمد، ومفعول به، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {هَذَانِ خَصْمَانِ} واحده خصم، وهو من له رأي غير رأيك في موضوع ما، وكل منهما يحاج صاحبه فيه. وفي "السمين" الخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبًا، وعليه قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} ويجوز أن يثنى ويؤنث، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقًا يجمع طوائف، قال: اختصموا بصيغة الجمع، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فالجمع مراعاة للمعنى. {قُطِّعَتْ لَهُمْ}؛ أي: قدرت لهم على قدر جثثهم؛ لأن الثياب الجدد تقطع وتفصل على مقدار بدن من يلبسها، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب، وهو التقطيع. وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين، كما سيأتي في مبحث البلاغة. {الْحَمِيمُ}: قال الراغب: الحميم، الشديد الحرارة، وسمي العرق حميمًا على التشبيه، واستحم الفرس إذا عرق، وسمي الحمام حمامًا، إما لأنه يعرق، وإما لما في من الماء الحار، وسميت الحمى بذلك، إما لما فيها من الحرارة المفرطة، وإما لما يعرض فيها من الحميم؛ أي: العرق، وإما لكونها من إمارات الحمام؛ أي: الموت. {يُصْهَرُ بِهِ}؛ أي: بذلك الحميم من فرط الحرارة، يقال: صهرت الشيء فانصهر؛ أي: أذبته فذاب فهو صهير. والصهر إذابة الشيء، والصهارة ما ذاب منه، يقال: صهرت الشحم من باب قطع إذا أذبته، والصهارة الألية المذابة، وصهرته الشمس أذابته. {مَقَامِعُ} جمع مقمعة بكسر الميم، وهي آلة القمع، يقال: قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره ويذله. والمقمعة المطرقة،

وقيل: السوط اهـ. "سمين". {مِنْ غَمٍّ} والغم الحزن الشديد. {عَذَابَ الْحَرِيقِ} من إضافة الموصوف إلى صفته،؛ أي: العذاب المحرق؛ أي: البالغ نهاية الإحراق؛ لأن فعيلا بمعنى مُفْعِل من صيغ المبالغة اهـ. شيخنا. {الْأَنْهَارُ} جمع نهر بفتحتين، وأما نهر بسكون ثانيه، فجمعه أنهر بوزن أفعل كأفلس. {يُحَلَّوْنَ} الجمهور على ضم الياء وفتح اللام، مشددة من حلاه تحلية إذا ألبسه الحلي. {مِنْ أَسَاوِرَ} جمع أسورة جمع سوار، اهـ. "بيضاوي". {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمراد به مكة، وعبر به عنها؛ لأنه المقصود المهم منها {بِإِلْحَادٍ} وفي "المختار" ألحد في دين الله؛ أي: حاد عنه وعدل، ولحد من باب قطع لغة فيه، وألحد الرجل ظلم في الحرم. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} يقال: بوأه منزلا: أي: أنزله فيه. {مَكَانَ الْبَيْتِ} وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم أطلق على كل مأوى متخذ من حجر، أو مدر، أو صوف، أو وبر، والمراد به هنا الكعبة، وقد بنيت عدة مرات في أوقات مختلفة. {رِجَالًا}؛ أي: مشاة على أرجلهم، جمع راجل، كقيام جمع قائم، قال الراغب: اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي، يقال رجل يرجل بفتح الجيم رجلًا بفتحتين سار على رجليه لا راكبًا، ويقال هذا رجل؛ أي: كامل في الرجال بين الرجولية والرجولية. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}؛ أي: وركبانًا على كل بعير ضامر؛ أي: مهزول، يقال ضمر الفرس والبعير من باب دخل إذا أتعبه بعد السفر فهزل، قال الراغب: الضامر من الفرس: الخفيف اللحم من الأصل لا من الهزال، وتضمير الفرس أيضًا، أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ} والفج بفتح الفاء: الطريق الواسع، قال الراغب: الفج طريق يكتنفها جبلان، ويجمع على فجاج بكسر الفاء، والفجاج بضم الفاء: الطريق الواسع الواضح بين الجبلين. {عَمِيقٍ} بعيد، وأصل العمق البعد سفلًا، يقال بئر عميق إذا كانت بعيدة القعر. {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}؛ أي: أوساخهم، وقضاء التفث، المراد به قص الأظافر، ونتف الإبط قال الراغب: أصل التفث،

وسخ الظفر وغيره، مما شأنه أن يزال عن البدن، كطول الظفر وفي المصباح تفث تفثًا فهو تفث، مثل تعب تعبًا. فهو تعب إذا ترك الادهان والاستحداد فعلاه الوسخ وحكى قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه في سفره، ومعنى ليقضوا ليصنعوا ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله. {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} يقال وفي بعهده، وأوفى إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه، كما دل عليه الغدر، وهو الترك. {والنذور} أن توجب على نفسك ما ليس بواجب، والمراد بالنذور ما نذروه من أعمال البر في أيام الحج، فإن الرجل إذا حج واعتمر، فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره. ما لولا إيجابه لم يكن الحج تقتضيه، وإن كان على الرجل نذور مطلقة، فالأفضل أن يتصدق بها على أهل مكة. {حُرُمَاتِ اللَّهِ} الحرمات بضمتين، ويقال في الجمع أيضًا حرمات بضم ففتح، وحرم بضم ففتح، جمع حرمة بضم فسكون، وحرمة بضمتين وحرمة بضم ففتح، وهي الذمة والمهابة، وما وجب القيام به من حقوق الله، والتكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها. وتعظيمها العلم بوجوبها، والعمل على موجب ذلك. {الرِّجْسَ} بتشديد الراء المكسورة وسكون الجيم، والرجس بتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم، والرجس بتشديد الراء المفتوحة وكسر الجيم القذر والأوساخ، وسمى الأوثان رجسًا على طريق التشبيه؛ لأنها قذر معنوي. {الزُّورِ} الشرك بالله والباطل والكذب، ومن معانيه العقل والقوة، يقال ماله زور ولا صيور؛ أي: لا قوة له ولا مرجع إليه، وهو من الزور، أو الإزورار وهو الانحراف. {فَتَخْطَفُهُ} في "القاموس" خطف يخطف من باب تعب، خطفًا خطف الشيء إذا استلبه بسرعة، وخطف البرق البصر ذهب به بسرعة. {شَعَائِرَ اللَّهِ} جمع شعيرة، أو شعارة بالكسر بوزن قلادة، وفي "المصباح" والشعائر أعلام الحج وأفعاله، الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر، والمشاعر مواضع المناسك، والمراد بها الهدايا من الإبل وغيرها، وتعظيمها أن تختار حسانًا سمانًا غالية الأثمان. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أن تنحر وتذبح. و {مَحِلُّهَا} مكان نحرها.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} بفتح السين وكسرها، فالفتح على أنها مصدر ميمي، والكسر على أنها اسم مكان، وفي "المصباح" نسك الله، ينسك، من باب قتل تطوع بقربة، والنسك بضمتين اسم منه وفي التنزيل {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} والمَنْسك بفتح السين وكسرها يكون زمانًا ومصدرًا ويكون اسم المكان الذي تذبح فيه النسيكة، وهي الذبيحة وزنا، ومعنى، ومناسك الحج عباداته، وقيل مواضع العبادات، وفي "القاموس" المنسك بفتح السين المكان المألوف، والمنسك بالفتح أيضًا مصدر نسك، والمنسك بالكسر شرعة النسك وموضع تذبح فيه النسيكة اهـ. {بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سمَّاها بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين، وإن جاز أكله اهـ "خازن". وفي "القاموس" البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والجمع بهائم. والأبهم الأعجم، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام اهـ. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}؛ أي: المطيعين المتواضعين، وهذا أصل معناه؛ لأن الإخبات نزول الخبت، وهو المكان المنخفص، وهو من أخبت الرجل إذا سار في الخبت، وهو المطمئن من الأرض. وفي "القاموس" الخبت المتسع من بطون الأرض، والجمع أخبات وخبوت اهـ. {وَالْبُدْنَ} بضم الباء جمع بدنة، سميت بذلك لعظم بدنها، وهي خاصة بالإبل، كما قال الأزهري، أو هي تشمل الإبل والبقر، كما قال صاحب "الصحاح" قال القسطلاني: البدن عند الشافعي خاصة بالإبل، وعند أبي حنيفة من الإبل والبقر، فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري، وكلام الحنفية موافق لكلام "الصحاح". وأما الهدي فيشمل الإبل والبقر والغنم. {صَوَافَّ}؛ أي: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافةٍ، وقرىء {صوافن} من صفن الفرس. إذا قام على ثلاث، وينصب الرابعة على طرف سنبكه؛ لأن البدنة تعقل إحدى يديها.

{وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} وجوب الجنوب وقوعها على الأرض. من وجب الحائط وجبة إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة إذا غربت. قال أبو تمام: فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ مِنْ ذَا وَقَدْ غَرَبَتْ ... وَالشَّمْسُ وَاجِبَةٌ مِنْ ذَا وَلَمْ تَجِبِ ومنه الواجب الشرعي، كأنه سقط علينا ولزمنا اهـ "سمين". وهذا كناية عن الموت وزهوق الروح وفقدان الحركة. وجمع الجنوب مع أن البحر إذا خر، يسقط على أحد جنبيه؛ لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن اهـ. شيخنا. {الْقَانِعَ}؛ أي: الراضي بما عنده وبما يعطي من غير مسألة قال لبيد: فَمِنْهُمْ سَعِيْدٌ آخِذٌ بِنَصِيْبِهِ ... وَمِنْهُمْ شَقِىٌّ بِالْمَعِيْشَةِ قَانِعُ وقيل: القانع السائل المتذلل، والخارج من مكان إلى مكان، وخادم القوم، وأجيرهم والجمع قانعون وقنعٌ، يقال قنع يقنع من باب تعب تعبًا قنعًا وقناعة وقنعانا إذا رضي بما قسم له، وقنع يقنع من باب قنع قنوعًا سأل وتذلل. وفي "الأساس" و"اللسان" العز في القناعة والذل في القنوع، وهو السؤال. {وَالْمُعْتَرَّ}: المعترض بسؤال، وعره وعراه بمعنى واحد، وقيل: القانع: السائل، والمعتر: المتعرض للسؤال من غير طلب، يقال: عره واعتره وعراه واعتراه، إذا تعرض للمعروف من غير مسألة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، بذكر المسبب، وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين. وفيه أيضًا استعارة تمثيلية تهكمية، حيث شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل الثياب، وتقطيعها على قددهم، مع التهكم الذي ينطوي عليه. وجمع الثياب؛ لأن النار لتراكمها عليهم، كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض، وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع

بالجمع. وفيه أيضًا التبعير بالماضي عن المستقبل، حيث قال: قطعت؛ لأنه بمعنى إعدادها لهم، كما في "الشهاب"، أو إشارةً إلى تحقق الوقوع. ومنها: الإرداف في قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}؛ لأنه لمّا كانت الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، أفرد الرؤوس بالذكر بقوله: يصب الخ. ومنها: الإيجاز في قوله: {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}؛ أي: في دين ربهم، فهو على حذف مضاف. ومنها: رعاية الفواصل في قوله: {وَالْجُلُودُ} حيث أخَّره عن قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} مع أن ملابستها بالجلود أسبق من ملابستها بالباطن، إشعارًا بغاية شدة الحرارة، بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها بالعكس. ومنها: المجاز في قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا}؛ لأن الإرادة هنا مجاز عن القرب، والمراد: أنها ترفعهم وترميهم إلى أعلاها فلا خروج لهم. لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} ولهذا قال: {أُعِيدُوا فِيهَا} دون إليها. وبعضهم أبقى الإرادة على حقيقتها، وأجاب عن قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} بأنهم لا يستمرون على الخروج، وبأن العود قد يتعدى بفي، للدلالة على التمكن والاستمرار، وذكر الإرادة للدلالة على رغبتهم في الخروج، اهـ. من "الشهاب". ومنها: تغيير الأسلوب في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ. حيث لم يقل والذين آمنوا إلخ عطفًا على الذين كفروا تعظيمًا لشأن المؤمنين، اهـ .. شيخنا. وفي قوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} غير الأسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريرًا، للمحافظة على الفواصل؛ لأنه لو قال، من ذكر، لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة والوقف، بخلاف البقية، كما مر في مبحث التفسير. وفي "الكرخي" غير أسلوب الكلام فيه، حيث لم يقل ويلبسون حريرًا للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى

الجملة الاسمية يدل على الدوام. والمعنى: أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه"، ومحله فيمن مات مصرًّا على ذلك اهـ. ومنها: الطباق بين {الْعَاكِفُ، وَالْبَادِ} لأن العاكف المقيم في المدينة، والبادي القادم من البادية. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} كقوله: {ناقة الله وروح الله}. ومنها: المجاز في قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لأن القضاء في الأصل القطع والفصل، فأريد به هنا الإزالة مجازًا. ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} فإن عبادة الأوثان رأس الزور. ومنها: التأكيد في قوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} فإنه تأكيد لقوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}. ومنها: التشبيه المركب والتمثيلي، في قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}. وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد، وبيان ذلك، أنه انقسمت فيه حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما: الأول: منهما المتذبذب الشاك المتمادي على الشك، وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين شبه بمن اختطفه الطير، وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه، إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب، لا يلوح له خيال إلا أتبعه، ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمناشير لم يتراجع عن تصميمه، لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج

لضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح إلى وادٍ سحيق سافل فاستقر فيه، ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق، الذي هو أبعد ما يكون من السماء. وأجاز الزمخشري أن كون هذا التشبيه من المركب والمفرق، فقال: إن كان تشبيهًا مركبًا، فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكًا ليس بعده هلاك، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء، فاختطفته الطير متفرقًا موزعًا في حواصلها، وعصفت به الريح، حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة، وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح ويذهب به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي عصفت به، في بعض المهاوي المتلفة. ومنها: الطباق بين {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}؛ لأن القانع المتعفف، والمعتر السائل. ومنها: العدول إلى صيغة المضارع في قوله: {فَتَخْطَفُهُ} مع عطفه على الماضي وهو {خَرَّ} لتصوير هذه الحالة الهائلة، التي اجترأ عليها المشرك للسامعين، التي هي كونه موزعًا في حواصل الطير. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}

المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) صد المشركين عن دين الله وعن المسجد الحرام، ثم أردفه بذكر مناسك الحج، وبين ما فيها من منافع في الدين والدنيا .. قفى على ذلك، ببيان ما يزيل الصد عنه، ويؤمن معه من التمكن من أداء تلك الفريضة على أتم الوجوه. وعبارة أبي حيان هنا: ومناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون قد صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عام الحديبية، وآذوا من كان بمكة من المؤمنين .. أنزل الله تعالى هذه الآيات، مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم، ومشيرة إلى نصرهم، وإذنه لهم في القتال، وتمكينهم في الأرض بردهم إلى ديارهم، وفتح مكة، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بيَّن (¬3) فيما سلف أن المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأنه أذن لهم في مقاتلتهم، وضمن لهم النصرة عليهم .. أردف هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، على ما يرى من قومه، وتصبيره على أذاهم وتكذيبهم إياه، فأبان له أن هذا التكذيب ليس بدعًا في الأمم، فكثير منها قد كذبت رسلها، فحل بها من البوار ما فيه عبرة لمن اعتبر، وتذكر مما يشاهدونه رأي العين في حلهم وترحالهم، وفي غدوهم، ورواحهم، فلا تحزن على ما ترى، واصبر فإن العاقبة للمتقين. قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

ذكر أن المشركين كذبوا رسوله، وبالغوا في تكذيبه، وسلَّاه على ذلك، بأنك لست ببدع في الرسل، فكثير ممن قبلك منهم قد كذبوا، وأوذوا، فلا تبتئس بما يفعلون، واصبر على ما تدعو إليه ولا يضيرنك ما يأتون وما يذرون .. قفى على ذلك ببيان أنهم لاستهزائهم به، وشديد تكذيبهم، كانوا يستعجلونه العذاب. كما قال تعالى، حكاية عنهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم أنبهم على إنكار ذلك العذاب، وقد سبق وعد الله به، فكان لزاماً عليهم أن لا يستعجلوه، فإنهم لو عرفوا ما ينالهم من آلامه وشدائده، ما طلبوا استعجاله، فيوم عند ربك تصيبهم فيه المحن والشدائد كألف سنة، لو بقوا وعذبوا في الدنيا، ثم ذكرهم بأن كثيرًا من القرى الظالمة أمهلت، ولم تعذب لعلها ترعوي عن غيها، ثم أخذت أخذ عزيز مقتدر، وحسابها مدخر ليوم تشخص فيه الأبصار، ثم أبان أن وظيفة الرسول إنما هي الإنذار والتحذير، وليس عليهم من حسابهم من شيء، فإن شاء الله عجل لهم العذاب، وإن شاء أخره عنهم. وقد وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة من الذنوب، ودخول دار النعيم، وأوعد الذين يثبّطون العزائم عن قبول دعوة الإسلام، بدوام العذاب في نار الجحيم. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في الآيات السالفة، أن قومه قد كذَّبوه بوسائل شتى من التكذيب، فقالوا تارة: إنه ساحر، وأخرى: إنه شاعر، وثالثة: إن القرآن أساطير الأولين، ثم سلاه على هذا، بأنه ليس بدعًا من الرسل، فكثير قبله قد كذبوا، ثم ذكر أنهم لعظيم استهزائهم به وتهكمهم بما يبلغهم عن ربه، طلبوا منه استعجال العذاب الذي يعدهم به .. أردف ذلك بذكر نوع آخر من التكذيب، وهو إلقاؤهم الشبه والأوهام فيما يقرؤه على أوليائه من القرآن، ليجادلوه بالباطل، ويردوا ما جاء به من الحق، ويكون في ذلك فتنة لضعاف الإيمان، وللكافرين، وليزداد المؤمنون إيمانًا ويقينًا بأنه الحق من ربهم، فتخبت له قلوبهم، وأن هذه حالهم حتى يموتوا، أو يأتيهم عذاب لا يبلغ الوصف كنه حقيقته، وعندئذٍ يحكم الله بين عباده، فيدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات

جنات النعيم، ويجازي الذين كذبوا بآياته، وكانوا في مرية من رسالة رسوله بالعذاب المهين، جزاء وفاقًا على تدسية أنفسهم وتدنيسها بزائغ العقائد، وسيء الأعمال، وباطلها. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين جنات النعيم .. أردف ذلك ذكر وعده الكريم للمهاجرين في سبيله، بأنه يرزقهم الرزق الحسن ويدخلهم مدخلًا يرضونه، ثم ذكر وعده لمن قاتل مبغيًا عليه بأن اضطر إلى الهجرة، ومفارقة الوطن، بأنه ينصره وهو قدير على ذلك. أسباب النزول قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس، أنه قال: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن القوم فأنزل الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وقيل (¬2): نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فاعترضهم مشركو مكة، فأذن الله لهم في قتال الكفار، الذين يمنعونهم من الهجرة، بسبب أنهم مظلومون بالإيذاء. وقيل: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذى شديدًا، وكانوا يأتونه - صلى الله عليه وسلم -، من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم اصبروا، فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية. قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان - رضي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[38]

الله عنه - قال: فينا نزلت هذه الآية {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ...} والآية التي بعدها. أخرجنا من ديارنا بغير حق، ثم مكننا في الأرض، وأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فهي لى ولأصحابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ...} الآية. قال: لولا دفع الله بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن التابعين لهدمت صوامع. التفسير وأوجه القراءة 38 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُدَافِعُ} غوائل المشركين وضررهم وكيدهم {عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه؛ أي: يبالغ في دفع شر الأشرار، وكيد الفجار عنهم، ويحميهم أشد الحماية من أذاهم، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، ويكتب لهم الفلج عليهم، والظفر بهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}. وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع (¬1): {يدافع} و {لولا دفاع الله}. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يَدْفَع} {ولولا دَفْع}. وقرأ الكوفيون وابن عامر {يدافع} {ولولا دفع} وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصليِّ، وهو وقوع الفعل من الجانبين، كما تدل عليه القراءة الأخرى. ففاعل هنا بمعنى المجرد، نحو جاوزت وجزت؛ لأن هذه (¬2) الصيغة قد ترد ولا يراد بها معناها الأصلي كثيرًا، نحو عاقبت اللصُّ. وقيل: إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة. وقيل: للدلالة على تكرر الواقع، والمعنى يبالغ في دفع ضرر المشركين عن المؤمنين. وقيل: يُعْلي حجتهم. وقيل: يوفقهم، والجملة مستأنفة، لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولى للمدافعة عنهم. وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ}؛ أي: يبغض {كُلَّ خَوَّانٍ}؛ أي: كثير الخيانة في أمانة الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

تعالى، أمرًا كان، أو نهيًا أو غيرهما من الأمانات. {كَفُورٍ}؛ أي: كثير الكفران لنعمته، مقررة (¬1) معللة لمضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين، مشعرة أتم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله، غير محبوبين له، فلا يرضى فعلهم ولا ينصرهم. أي: وإنما (¬2) دفعهم وقهرهم؛ لأنهم خانوا أمانة الله، وهي أوامره ونواهيه، وكفروا أنعمه التي يسديها إليهم بكرةً وعشيًا، وعبدوا غيره مما لا يضر ولا ينفع، وفي هذا إيماء إلى أن المؤمنين هم أحباء الله. قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله، وتقرب إلى الأصنام بذبيحة، فهو خوان كفور، وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع، لا لإخراج من خان دون خيانتهم، أو كفر دون كفرهم. واعلم (¬3) أن الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا وأن الخيانة والنفاق واحد؛ لأن الخيانة تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارًا بالدين، ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الأمانة ومن الخيانة الكفر، فإنه إهلاك للنفس التي هي أمانة الله عند الإنسان. وتجري الخيانة في الأعضاء كلها. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وتجري في الصلاة والصوم ونحوهما، وإما بتركها، أو بترك شرط من شرائطها الظاهرة والباطنة، فأكل السحور مع غلبة الظن بطلوع الفجر، أو الإفطار مع الشك بالغروب خيانة للصوم، ومن أكل السحور فنام عن صلاة الصبح، حتى طلعت الشمس، فقد كفر بنعمة الله التي هي السحور، وخانه بالصلاة أيضًا، فترك الفرض لأجل السنة تجارة خاسرة. ثم إن المؤمن الكامل، منصور على كل حال، فلا يضره كيد الخائنين، فإن الله لا يحب الخائنين، فإذا لم يحبهم لم ينصرهم، ويحب المؤمن فينصره. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[39]

39 - ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة، أذن الله لهم في القتال، كما قال {أُذِنَ}؛ أي: رخص في القتال {لِلَّذِينَ}؛ أي: للمؤمنين الذين {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء على صيغة المجهول؛ أي: يقاتلهم المشركون {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي: بسبب أنهم ظلموا، وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان المشركون يؤذونهم، وكانوا يأتونه - صلى الله عليه وسلم - بين مضروب ومشجوج، ويتظلمون إليه، فيقول لهم عليه السلام: "اصبروا، فإني لم أومر بالقتال"، حتى هاجروا، فنزلت، وهي أول آية نزلت في القتال، بعدما نهي عنه في نيفٍ وسبعين آية. كما رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس. وهذه الجملة مقررة أيضًا لمضمون قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} فإن إباحة القتال لهم، هي من جملة دفع الله عنهم. والباء في {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} للسببية؛ أي: رُخّص للمؤمنين، وأبيح لهم أن يقاتلوا المشركين، بسبب أنهم ظلموا، بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب، وطرد. وقرأ (¬1) نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة {أُذِنَ} مبنيًا للمفعول، وفتح باقي السبعة مبنيًا للفاعل. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء مبنيًا للمفعول والباقون بكسرها مبنيًا للفاعل. والمأذون فيه محذوف؛ أي: في القتال، كما مر، لدلالة يقاتلون عليه. وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله تعالى لعباده المؤمنين، بأنهم إذا صلحوا للقتال، أو قاتلهم المشركون قاتلوهم. ثم وعدهم الله سبحانه بالنصر، والغلبة على المشركين، بعدما وعدهم بدفع أذاهم وتخليصهم من أيديهم، فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {عَلَى نَصْرِهِمْ}؛ أي: نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيله {لَقَدِيرٌ}؛ أي: لقادر وقد فعل، فأعزهم، ورفعهم، وأهلك عدوهم، وأذلهم بأيديهم. وفي هذا الأسلوب مبالغة عظيمة، زيادة في توطين عزائم المؤمنين وتثبيتهم على الجهاد في سبيله. والقدير (¬2): هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليه، ولا ناقصًا عنه. ولذلك لا يصح أن يوصف به غير الله تعالى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[40]

وإنما شرع (¬1) الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر من المؤمنين عددًا، حتى أخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرهم وهموا بقتله، وشردوا أصحابه، فذهبت طائفة منهم إلى الحبشة، وذهب آخرون إلى المدينة فلما استقروا بالمدينة، وأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمعوا إليه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلاً يلجؤون إليه، شرع الجهاد ونزلت هذه الآية مرخصة فيه. 40 - ثم وصف سبحانه هؤلاء المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}؛ أي: أولئك المظلومون هم الذين أخرجهم المشركون من ديارهم وبلدهم مكة إلى المدينة ظلمًا. {بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير استحقاق خروج؛ أي: أخرجوا بغير موجب استحقوا الخروج به، وعذبوا بعضهم، وسبوا بعضًا آخر، وما كان لهم من إساءةٍ إليهم، ولا ذنب جنوه {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}؛ أي: إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. قال سيبويه: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن لقولهم ربنا الله؛ أي: أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم، لكن لقولهم ربنا الله. وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل، والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق، إلا بأن يقولوا: ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا} وقول النابغة: وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ونحو الآية قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وقوله: في قصة أصحاب الأخدود {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} ولما كان المسلمون ينشدون حين بناء الخندق: لاَهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوْا فِتْنَةً أَبَيْنَا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقهم ويقول معهم آخر كل قافية قالوا: إذا أرادوا فتنة ¬

_ (¬1) المراغي.

أبينا، يقول: أبينا ويمد بها صوته. ثم حرض المؤمنين على القتال، وبيَّن أنه أجرى العادة به في الأمم الماضية، لينتظم أمر الجماعات وتقوم الشرائع، وتصان بيوت العبادة من الهدم فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} قرأ نافع: {ولولا دفاع} وقرأ الباقون {وَلَوْلَا دَفْعُ} كما مر. {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}؛ أي: بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين في كل عصر وزمان. والمراد ببعضهم، الكافرون. وببعض، المؤمنون. والمراد بالدفع، أذن الله لأهل دينه في مجاهدة الكفار، فكأنه قال: ولولا دفع الله أهل الشرك، بالمؤمنين، بالإذن لهم في جهادهم، لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان، وعطلوا مواضع العبادة، والمراد بهذه المواضع، مواضع عبادات المؤمنين منهم. {لَهُدِّمَتْ}؛ أي: لخربت باستيلاء المشركين عليها. {صَوَامِعُ} معبد الرهبان للنصارى. {وَبِيَعٌ} للنصارى، وذلك في زمان عيسى عليه السلام، والهدم إسقاط البناء. والتهديم للتكثير. {وَصَلَوَاتٌ}؛ أي: كنائس لليهود في زمن شريعة موسى عليه السلام. سميت بالصلوات؛ لأنها يصلى فيها. {وَمَسَاجِدُ} للمسلمين في أيام شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى (¬1): ولولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء. لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض، باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل. وقيل: المعنى: لولا هذا الدفع، لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل: المعنى: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقيل: لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار. وقيل: غير ذلك. والصوامع جمع صومعة، وهي معبد الرهبان المتخذ في الصحراء، وهو بناء مرتفع خارج عن العمران. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

والبيع جمع بيعة، وهي معابد النصارى المتخذة في البلد، وهما أعني الصوامع والبيع للنصارى. وقيل (¬1): الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى. والصلوات كنائس اليهود، ويسمونها بالعبرانية صلوتا. وقدم (¬2) ما سوى المساجد عليها في الذكر لكونها أقدم في الوجود بالنسبة إليها، أو ليكون الانتقال فيها من شربف إلى أشرف، وفي "الأسئلة المقحمة" تقديم الشيء بالذكر لا يدل على شرفه، كقوله تعالى: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. وقرأ (¬3) الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش، والزعفراني {لهدمت} مخففًا. وباقي السبعة وجماعة مشددًا. لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع، فتكرر الهدم لتكثيرها. وقرأ الجمهور {وَصَلَوَاتٌ} جمع صلاة. وقرأ جعفر بن محمد: {وصُلُوات} بضم الصاد واللام. وحكى عنه ابن خالويه: {صِلْوات} بسكون اللام وكسر الصاد. وحكيت عن الجحدري: {صَلَوات} بضم الصاد وفتح اللام. وحكيت عن الكلبي وأبو العالية بفتح الصاد وسكون اللام {صلوات}. والحجاج بن يوسف والجحدري أيضًا: {وصُلُوَتٌ} بضمتين من غير ألف، ومجاهد كذلك، إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها. والضحاك والكلبي: {صلُوث} بضمتين من غير ألف وبثاءٍ منقوطة بثلاث. وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلا أنه بعد الثاء ألف. وقرأ عكرمة {وصِلْوِيْثَا} بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث، بعدها ألف. والجحدري أيضًا: {صُلْوَاثٌ} بضم الصاد وسكون اللام وفتح الواو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط. وحكى ابن مجاهد، أنه قرىء كذلك، إلا أنه بكسر الصاد. وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري {صُلُوب} بالباء الموحدة على وزن ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

كعوب جمع صليب، كظريف وظروف، وهو جمع شاذ، أعني: جمع فعيل على فعول، فهذه ثلاث عشرة قراءة. وروى هارون عن أبي عمرو {وَصَلَوَاتٌ} كقراءة الجماعة، إلا أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله، وكأنه علم فمنعه من الصرف للعلمية والعجمية. وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة ذكره في "البحر المحيط". وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا}؛ أي: في تلك المساجد {اسْمَ اللَّهِ} سبحانه بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وغيرها عند الصلاة. {كَثِيرًا}؛ أي: ذكرا كثيرًا ووقتًا كثيرًا، صفة مادحة للمساجد خصت بها (¬1) دلالة على فضلها وفضل أهلها. ويجوز أن يكون صفة للأربع؛ لأن الذكر في الصوامع والبيع والصلوات كان معتبرًا قبل انتساخ شرائع أهلها. والمعنى: أي (¬2) فليقاتل المؤمنون الكافرين، فلولا القتال، وتسليط المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان، لهدمت في شريعة كل نبي معابد أمته، فتهدم صوامع النصارى وبيعهم وصلوات اليهود ومساجد المسلمين، التي يذكرون فيها اسم الله كثيرًا. وفي هذا ترق، وانتقال من الأقل إلى الأكثر، حتى انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمَّارًا، وأكثر عبادًا، وهم ذووا القصد الصحيح. والخلاصة: أنه لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، وإقامة حدود الأديان .. لاستولى أهل الشرك على مواضع العبادة، وهدموها، وقد يكون المراد لولا هذا الدفع، لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} واللام: فيه موطئة لقسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لينصرن الله سبحانه وليعينن من يقاتل في سبيله، لتكون كلمته العليا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وتكون كلمة عدو دينه السفلى، أو كلمة من ينصر أولياءه هي العليا. ولقد أنجز الله وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد قريش، وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَقَوِيٌّ} على كل ما يريده {عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء ولا يدافعه. والقوي (¬1) القادر على الشيء. والعزيز الجليل الشريف. قاله الزجاج. وقيل: الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع. وفي (¬2) "بحر العلوم" غني بقدرته وعزته في إهلاك أعداء دينه عنهم، وإنما كلفهم النصر باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة الأعداء، وبذل الأرواح، والأموال لينتفعوا به، ويصلوا بامتثال الأمر فيها، إلى منافع دينية ودنيوية. فإن قلت (¬3): فإذا كان الله قوياً عزيزًا غالبًا غلبة لا يجد معها المغلوب نوع مدافعة وانفلات، فما وجه انهزام المسلمين في بعض المغازي وقد وعدهم الله تعالى النصر؟ قلت: إن النصرة والغلبة منصب شريف، فلا يليق بحال الكافر، لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين؛ لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات، لحصل العلم الاضطراري، بأن الإيمان حق، وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف، والثواب، والعقاب. فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر، لتكون الشبهات باقية، والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل في صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله، ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي. فيكون تشديد المحنة عليه في الدنيا كفارة له في الدنيا، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبًا من الله، كالطاعون مثلًا. فإنه رحمة وطهرة للمؤمنين، ورجز - أي: عذاب - وغضب للكافرين. روي: أنَّ عامرًا مرَّ برجل قد صلبه الحجاج، فقال: يا رب إن حلمك على الظالمين أضر بالمظلومين، فرأى في منامه كأن القيامة قد قامت، وكأنه دخل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[41]

الجنة فرأى المصلوب فيها في أعلى عليين فإذا مناد ينادي حلمي على الظالمين أحل المظلومين في أعلى عليين. واعلم: أن الله تعالى يدفع في كل عمر مدبرًا بمقبل، ومبطلًا بمحق، وفرعونًا بموسى، ودجالًا بعيسى، وأبا جهل بمحمد، فلا تستبطىء ولا تتضجر. والخلاصة: أن الله سبحانه لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل طاعته، منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. ونحو الآية قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} 41 - والموصول (¬1) في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} في موضع نصب صفة لـ {مِن} في قوله: {مَنْ يَنْصُرُهُ} قاله الزجاج، وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}. وقيل: المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. وقيل: أهل الصلوات الخمس. وقيل: ولاة العدل، وقيل غير ذلك. وفيه إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض، وأقدره على القيام بذلك. أي: ولينصرن الله الذين إن مكناهم في الأرض، وأعطيناهم زمام الأحكام. {أَقَامُوا الصَّلَاةَ} لتعظيمي؛ أي: أدوها بحقوقها، وشرائطها. قال الراغب (¬2): كل موضع مدح الله بفعل الصلاة، أو حث عليه ذكر بلفظ الإقامة، ولم يقل المصلين، إلا في المنافقين، نحو {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} وإنما (¬3) خص لفظ الإقامة تنبيهًا على أن المقصود من فعلها، توفية حقوقها وشرائطها، لا الإتيان بهيأتها فقط، ولهذا روى أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل. {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} لمساعدة عبادي؛ أي: أدوا وأعطوا زكاة أموالهم في مصارفهما. {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بكل ما عرف حسنه شرعًا، وعرفًا من التوحيد وأصناف الواجبات، والمندوبات. {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عن كل ما استقبحه الشرع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

والعقل السليم من الإشراك وأصناف المحرمات والمكروهات. {وَلِلَّهِ} خاصة {عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ أي: آخر أمور الخلائق؛ أي: مرجعا، ومصيرها إلى حكمه وتقديره وتدبيره دون غيره، في الثواب عليها أو العقاب في الدار الآخرة. ونحو الآية قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. والمعنى: أي (¬1) هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم. هم الذين إن مكنا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة على النحو الذي طلبه، وأعطوا زكاة أموالهم التي حباها لهم، ودعوا الناس إلى توحيده، والعمل بطاعته، وأمروا بما حثت عليه الشريعة، ونهوا عن الشرك واجتراح السيئات. وخلاصة ذلك: أنهم هم الذين كملوا أنفسهم باستحضار المعبود، والتوجه إليه في الصلاة على قدر الطاقة، وكانوا عونًا لأممهم بإعانة فقرائهم، وذوي الحاجة منهم، وكملوا غيرهم فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد التي تعوق غيرهم عن الوصول إلى الرقي الخلقي، والأدب السامي. وعن ابن عباس (¬2) - رضي الله عنهما - رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن من أشراط الساعة، إماتة الصلوات واتباع الشهوات، والميل إلى الهوى، ويكون أمراء خونة، ووزراء فسقة" فوثب سلمان، فقال: بأبي وأمي إنَّ هذا لكائن؟ قال: "نعم يا سلمان، عندها يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، ولا يستطيع أن يغير" قال: أو يكون ذلك؟ قال: "نعم يا سلمان، إن أذل الناس يومئذٍ المؤمن، يمشي بين أظهرهم بالمخالفة، إن تكلم أكلوه، وإن سكت مات بغيظه". قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - عليه السلام -: أخبرني عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟ فقال: "ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا أساء فعليه الإصر، وعليكم الصبر". وفي الحديث: "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[42]

وعن إزد شير: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل، وحسن سياسة. قيل: السياسة أساس الرياسة. 42 - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا محمد (¬1) وصيغة المضارع في الشرط مع تحقيق التكذيب، لما أن المقصود تسليته عليه السلام، عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع؛ أي: وإن تحزن على تكذيب قومك إياك، فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك، {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل تكذيبهم إياك {قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا. {و} كذبت {عاد} هوداً. {و} كذبت {ثمود} صالحًا. 43 - {و} كذبت {قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ} إبراهيم {و} كذبت {قَوْمُ لُوطٍ} لوطًا. 44 - {و} كذب {أَصْحَابُ مَدْيَنَ} شعيبًا. ومدين كان ابنا لإبراهيم عليه السلام، ثم صار علمًا لقرية شعيب. وعدل عن قوم شعيب؛ لأن أصحاب مدين أعرق من أصحاب الأيكة في التكذيب، فلذلك خصهم بالذكر. وفيه (¬2) إرشاد له - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر على قومه، والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك. وقد تقدم ذكر هذه الأمم، وما كان منهم ومن أنبيائهم، وكيف كانت عاقبتهم. وإنما غير النظم في قوله: {وَكُذِّبَ مُوسَى} فجاء بالفعل مبنيًا للمفعول؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه، وإنما كذبه غيرهم من القبط. وفي "المختار" القبط بوزن القسط، أهل مصر، وهم أصلها. واحدهم قبطي اهـ. أي: كذبه (¬3) القبط، وأصروا إلى وقت الهلاك. وأما بنوا إسرائيل فإنهم وإن قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ونحوه، فما استمروا على العناد، بل كلما تجددت لهم المعجزة، جددوا الإيمان. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقال. وغير النظم بذكر المفعول، وبناء الفعل له، للإيذان بأن تكذيبهم له كان في غاية الشناعة، لكون آياته في كمال الوضوح. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي: أمهلت للكافرين، وأخرت عنهم العقوبة إلى أجلهم المسمى. والفاء لترتيب الإمهال على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

التكذيب. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ}؛ أي: أخذت كل فريق من فرق المكذبين، بعد انقضاء مدة إملائه، وإمهاله بعذاب الطوفان والريح الصرصر، والصيحة، وجند البعوض، والخسف، والحجارة، وعذاب يوم الظلة، والغرق في بحر القلزم، والاستفهام في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه. والمعنى: فليقر المخاطبون بأن إهلاكي لهؤلاء، كان واقعًا موقعه هذا، وحمله على التعجب أوضح. فكأنه قيل: ما أشد ما كان إنكاري عليهم؛ أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتغيير ما كانوا فيه من النعم محنًا، والحياة هلاكًا، والعمارة خرابًا؛ أي: فكان ذلك في غاية الهول، والفظاعة. وحاصل الآية: قد أعطيت هؤلاء الأنبياء ما وعدتهم من النصرة، فاستراحوا، فاصبر أنت إلى هلاك من يعاديك فتستريح. والنكير اسم من المنكر. قال الزجاج: أي: ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر. وأثبت ياء نكير، حيث وقع في القرآن، وَرْشٌ في الوصل، وحذفها في الوقف. والباقون يحذفونها وصلًا، ووقفًا اهـ "سمين". والمعنى: أي (¬1) فإن يكذبك هؤلاء المشركون بالله على ما آتيتهم به من الحق، وما يعدهم به من العذاب على كفرهم به .. فلست بأوحدي في ذلك، فتلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية، المكذبة لرسلها، وذلك منهاج من قبلهم، فلا يصدنك ذلك فإن العذاب من ورائهم، ونصري إياك وأتباعك عليهم آت لا محالة، كما أتى عذابي على أسلافهم، من الأمم من قبلهم، بعد الإمهال. فقد أمهلت أهل الكفر من هذه الأمم، فلم أعاجلهم بالنقمة، والعذاب، ثم أحللت بهم عقابي بعدئذٍ. فانظر أيها الرسول كيف كان تغييري، ما كان بهم من نعمة، وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم، ألم أبدلهم بالكثرة قلة، وبالحياة موتًا وهلاكًا، وبالعمارة خرابًا. فكذلك سأفعل بمكذبيك من قريش، وإن أمليت لهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[45]

إلى آجالهم، فإني منجزك وعدي فيهم، كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم، فأهلكتهم، وأنجيت رسلي من بين أظهرهم. ونحو الآية قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. 45 - {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} قال. المولى الجامي (¬1): في "شرح الكافية" من الكناية كأين، وإنما بني لأن كاف التشبيه دخلت على أيّ، وأيُّ كان في الأصل معربًا، لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي فصار المجموع كاسم مفرد، بمعنى كم الخبرية، فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة، كما في من، لا تنوين تمكن، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط. انتهى. والمعنى: فكثير من القرى. وهو مبتدأ، وقوله: {أَهْلَكْنَاهَا} خبره. وقوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملة حالية من مفعول {أَهْلَكْنَاهَا}. والمراد ظلم أهلها بالكفر والمعاصي، وهو بيان لعدله، وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر أنه لم يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم. وقرأ (¬2) أبو عمرو وجماعة: {أهلكتها} بتاء المتكلم، على وفق قوله: فأمليت ثم أخذت. وقرأ الجمهور {أَهْلَكْنَاهَا} بنون العظمة. أي: فكثير من أهل القرى أهلكناهم، والحال أن أهلها ظالمون بالإشراك والمعاصي وجملة قوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} معطوفة على {أَهْلَكْنَاهَا}. والمراد (¬3) بضمير القرية حيطانها، والخواء بمعنى السقوط، من خوى النجم إذا سقط؛ أي: ساقطة حيطان تلك القرية. {عَلَى عُرُوشِهَا}؛ أي: على سقوفها، بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. فالعروش السقوف؛ لأن كل مرتفع أظللت فهو عرش، سقفًا كان، أو كرمًا، ظلة أو نحوها. {وَبِئْرٍ} معطوف على قرية؛ أي: وكم من بئر عارمة في البوادي؛ أي: فيها الماء ومعها آلات الاستقاء {مُعَطَّلَةٍ}: أي: متروكة مخلاة، لا يستقى منها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

لهلاك أهلها. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة: {مُعَطَّلَةٍ} مخففًا. {و} كم من {قَصْرٍ}؛ أي: بناء {مَشِيدٍ}؛ أي: رفيع طويل عال. وقيل مجصص خال عن السكان لهلاك أهلها. والمعنى (¬1): وكم من قرية {أهلكناها}، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وكم قصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وإنما بني {مشيد} هنا من شاده. وفي النساء من شيده؛ لأنه هناك وقع بعد جمع، فناسب التكثير. وهنا وقع بعد مفرد، فناسب التخفيف؛ ولأنه رأس آية وفاصلة، اهـ "سمين". وقيل (¬2): إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر فعلى قُلَّةِ جبل، والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم، كانوا في نعمة، فكفروا، فأهلكهم الله تعالى، وبقي البئر والقصر خاليين، وقيل: إن هذه البئر كانت بحضرموت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب، أتوا إلى حضرموت ومعهم صالح، فلما حضروه مات صالح، فسمي المكان حضرموت لذلك. ولما مات صالح بنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلًا منهم، فأقاموا دهرًا، وتناسلوا حتى كثروا، وعبدوا الأصنام، وكفروا فأرسل الله تعالى إليهم نبيًا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالًا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى، وعطلت بئرهم، وخرب قصرهم. قال الإمام السهيلي: قيل: أن البئر الرس. وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك عدل حسن السيرة يقال له العَلَسُ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها، وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب، والغنم، والبقر، وغير ذلك. وقال الثعلبي: وأما القصر، فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضًا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإفقاره بعد العمران. والمعنى (¬3): أي فكثير من القرى أهلكناها، إذ كان أهلها يعبدون غير من ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[46]

ينبغي أن يعبد، ويعصون من لا ينبغي أن يعصى، فخوت من مكانها، وتساقطت على عروشها؛ أي: سقطت حيطانها فوق سقوفها، وكم من بئر عطلناها، بإفناء أهلها، وأهلاك وارديها، فلا واردة لها ولا صادرة منها، وكم من قصر شيد بالصخور والجص قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله بسوء أفعالهم، فبادوا وبقيت القصور المشيدة خالية منهم. قال قتادة: شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركه، 46 - ثم أكد لهم صدق وعيده، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا. فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: (¬1) أغفل أهل مكة فلم يسافروا {فِي الْأَرْضِ} في اليمن والشام ليروا مصارع المهلكين. {فَتَكُونَ لَهُمْ} بسب ما يشاهدونه من مواد الاعتبار. وقرأ مبشر بن عبيد {فيكون} بالياء. والجمهور بالتاء. وهو منصوب على جواب الاستفهام، وهو في التحقيق منفي. {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يجب أن يعقل من التوحيد. {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجب أن يسمع من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس، فإنهم أعرف منهم بحالهم، وهم وإن كانوا قد سافروا فيها ولكنهم حيث لم يسافروا للاعتبار جعلوا غير مسافرين، فحثوا على ذلك فالاستفهام للإنكار. {فَإِنَّهَا}؛ أي: فإن القصة، فالضمير فيه للقصة. وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث، وهي التاء في {لا تعمى}، ويجوز في الكلام التذكير. وقرأ به عبد الله، {فإنه لا تعمى}، ذكره في "البحر". {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}؛ أي: أبصار العيون. {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي: ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى، والانهماك في الغفلة؛ أي: لا تدرك عقولهم مواطن الحق، ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله: عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم، ويطير بجناحيه. وللتنبيه على ¬

_ (¬1) روح البيان.

[47]

أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر، وأكثر الناس عميان بصيرة القلب، لا يبصرون به أمر دينهم. والمعنى (¬1): إن عمى القلب، هو الضار في أمر الدين، لا عمى البصر؛ لأن البصر الظاهر بُلْغَةٌ ومُتْعَةٌ، وبصر القلوب، هو البصر النافع. ومعنى الآية أي: أفلم يسر (¬2) هؤلاء المكذبون بآيات الله، الجاحدون لقدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع أضرابهم، من مكذبي رسل الله، الذين خلوا من قبلهم، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وشعيب، ويروا أوطانهم، ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكروا، ويعتبروا بها، ويعلموا أمرها، وأمر أهلها، وكيف نابتهم النوائب، وغالتهم غوائل الدهر فيكون في ذلك معتبر لهم لو أرادوا، فينيبوا إلى ربهم، ويعقلوا حججه التي بثها في الآفاق، ثم أظهر اليأس من إيمانهم؛ لأن القلوب قد عميت فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية، فقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}؛ أي: إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها، فقد أصابهم عمى القلوب. والعمدة على الثاني، لا على الأول، فعمى الأبصار ليس بشيء، إذا قيس بعمى القلوب، والبصائر. وفي هذا تهويل أيما تهويل. 47 - {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}؛ أي: ويطلب منك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة المكذبون بالله وكتابه ورسوله، واليوم الآخر {بِالْعَذَابِ}؛ أي: بمجيء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه عجلة إنكارًا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله، وتعجيزًا له، واستبعادًا لمجيئه. أي: يطلبون عجلتك بالعذاب؛ أي: أن تأتيهم به عاجلًا. وكانوا يقولون له كما تقول الأمم السابقة لأنبيائهم ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ثم بين أنه آت لا محالة، فقال: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَعْدَهُ}؛ أي: لن يترك وفاء ما وعده لك من نصرك عليهم، وإنزال العذاب لهم في الدنيا. وقد أنجز الله وعده يوم بدر، فقتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

ثم ذكر (¬1) أن لهم مع عذاب الدنيا في الآخرة عذابًا طويلًا، فقال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} من أيام عذابهم في الآخرة لشدة هوله، وأليم عذابه {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} من سني الدنيا في الثقل، والاستطالة وكثرة الآلام، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه. والخطاب فيه للرسول ومن معه من المؤمنين. كأنه قيل: كيف يستعجلون بالعذاب، ويوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنِتَكُم. إما من حيث طول أيام عذابه حقيقة، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة، كما يقال: ليل الفراق طويل وأيام الوصل قصار. ويقال: سنة الوصل سنة. وسنة الهجر سنة. اهـ "روح البيان". وقيل معناه (¬2): أن يومًا عنده وألف سنة في الإمهال سواء؛ لأنه قادر متى شاء أخذهم، لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره. ومعنى {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}؛ أي (¬3): وكيف ينكرون مجيء ذلك العذاب، وقد وعد الله به، وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم، يفعل بهم؛ لأن ذلك هو نهجه الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم. ومعنى {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}؛ أي: وإن قلتم: إن العهد قد طال، ولم يحل بنا العذاب، فأين هو؟ قلنا: إن الله سبحانه حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفد وعده بعد أمد طويل عندكم، قريب عنده، كما قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدًا طويلًا فلا يكون في ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يومًا عندكم. والخلاصة (¬4): أن سنتي لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين، أممًا وأفرادًا، في الدنيا والآخرة، أو عذابهم في الآخرة فحسب مع ¬

_ (¬1) الواحدي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) المراغي.

الأكدار في الدنيا وهم لا يشعرون. وقال أبو حيان (¬1): واختلفوا في هذا التشبيه، فقيل: في العدد؛ أي: اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمس مئة عام". فالمعنى: وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه والشدة؛ أي: وإن يومًا من أيام عذاب الله، لشدة العذاب فيه وطوله، كألف سنة من عددكم، إذ أيام الترحة مستطالة، وأيام الفرحة مستقصرة. وكان ذلك اليوم كألف سنة من سني العذاب والمعنى: أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه. وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته، وإنفاذ ما يريد كألف سنة. وقال ابن عيسى: يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد واقتصر في التشبيه على الألف؛ لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار. انتهى. وقيل المعنى (¬2): وإن يومًا من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسًا. وجملة قوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} محلها النصب على الحال؛ أي: والحال أنه لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتمًا، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها. وعلى الأول تكون جملة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} إلخ مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها، مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: {مما يعدون} بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. {وتستعجلون بالعذاب} واختارها أبو حاتم. ويكون فيه التفات. فعلى (¬3) العاقل أن يلاحظ أن كل آت قريب، ولا يغتر بالإمهال، فإن بطش الله شديد، وعذابه لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[48]

يطاق، ويسارع إلى رضي الله تعالى بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وترك الاستهزاء بالدين وأهله بأحكام الله، ووعده، ووعيده، فإن الله صادق في قوله، حكيم في فعله، وليس للعبد إلا تعظيمه وتعظيم أمره. 48 - ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}؛ أي: وكثير من أهل قرية {أَمْلَيْتُ لَهَا}؛ أي: أمهلتها بتأخير العذاب، كما أمهلت لهؤلاء {وَهِيَ ظَالِمَةٌ}؛ أي: والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة لها، كدأب هؤلاء {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} وأهلكتها بالعذاب بعد طول الإمهال. {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}؛ أي: إلى (¬1) حكمي ومجازاتي مرجع الكل، لا إلى أحد غيري، لا استقلالًا ولا شركة، فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم. وفيه إشارة إلى أن الإمهال يكون من الله تعالى، والإهمال لا يكون منه، فإنه يمهل ولا يهمل، ويدع الظالم في ظلمه، ويوسع له الحبل، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه يفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي أراد. ويأخذه من حيث لا يرتقب، فيعلوه ندامة ولات حينه. وكيف يستبقي بالحياة ما حق في التقدير عدمه، وإلى الله مرجعه، فالظلم من العبد سبب للأخذ من الله، فلا يلومن إلا نفسه. وجملة قوله: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} تذيلية، ذكرت لتقرير ما قبلها. والمعنى؛ أي: وكم (¬2) من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها، فاغترت بذلك التأخير، ثم أنزلت بها بأسي، وشديد انتقامي، وحسابها بعد مدخر ليوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد. فائدة: فإن قلت (¬3): لم كرر التكثير بكأين من القرى؟ قلت: لا تكرار فيه؛ لأن الثانية أفادت غير ما أفادت الأولى؛ لأنه ذكر في الأولى القرية التي أهلكها بدون إملاء وإمهال، بل أعقب الإهلاك بعد التذكير. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط بتصرف.

[49]

وذكر في الثانية القرية التي أمهل لها حتى استعجلت بالعذاب، ثم جاء إهلاكها، تنبيهًا على أن قريشًا وإن أمهلهم حتى استعجلوا بالعذاب لا بد من عذابهم، فلا يغتروا بتأخير العذاب عنهم. فإن قلت: لم عطفت الأولى بالفاء، والثانية بالواو، فما الفرق بينهما؟ قلت: الأولى وقعت بدلًا من قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فناسبتها الفاء، والثانية وقعت بعد الجملتين المعطوفتين بالواو. أعني قوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فناسبها العطف بالواو، كما ذكره الزمخشري. 49 - ثم أبان لهم عظيم خطأهم في طلب تعجيل العذاب من الرسول بقوله: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء المشركين المستعجيلن للعذاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أنذركم إنذارًا بينًا بما أوحي إلى من أخبار الأمم المهلكة، من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما توعدونه من العذاب، حتى تستعجلوني به. فإن قلت: لِمَ اقتصر (¬1) هنا على الإنذار فقط، مع أنه بين حال الفريقين فيما بعد؟ قلت: لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين وعقابهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم فيما بعد زيادة في غيظهم. والمعنى: قل يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب: ليس ذلك إلى، وإنما أرسلني ربي نذيرًا لكم، بين يدي عذاب شديد، وليس إلى من حسابكم من شيء، بل أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء آخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه. {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 50 - ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين، والوعيد للكافرين، فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله وحده وصدقوا رسوله، وقبلوا ما جاء به. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الخيرات بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، {لَهُمْ} عند ربهم {مَغْفِرَةٌ}؛ أي: ستر وتجاوز عن ذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ أي: نعيم دائم لا ينقطع أبدًا في الجنة. ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف.

[51]

والمعنى: أي (¬1) فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة لهم، مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب جسيم عند ربهم على ما قدموا من حسناته، ولهم رزق كريم في الجنة، يفوق وصف الواصفين، ومقال المادحين. كما قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وفي الحديث: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". 51 - {وَالَّذِينَ سَعَوْا} واجتهدوا {فِي} إبطال {آيَاتِنَا} ورد دعوتنا وتكذيب رسولنا وثبطوا الناس عن متابعته حالة كونهم {مُعَاجِزِينَ}؛ أي: ظانين عجزنا عن أخذهم، أو سبقهم عذابنا، ظنا منهم أنهم يعجزوننا، وأنهم لا يبعثون. أو معارضين المؤمنين، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. يقال (¬2): عاجزه إذا سابقه؛ لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل: معنى معاجزين ظانين ومقدرين أن يعجزوا الله سبحانه، ويفوتوه فلا يعذبهم. قاله الزجاج. وقيل: معاندين. قاله الفراء. {أُولَئِكَ} الموصوفون بالسعي والمعاجزة {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ أي: ملازموا النار الموقدة، مقيمون فيها لا يخرجون منها أبدًا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني (¬3): {مُعجزين} بالتشديد هنا، وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن؛ أي: مثبطين. وقرأ باقي السبعة {مُعَاجِزِينَ} بألفٍ. وقرأ ابن الزبير {مُعْجِزين} بسكون العين وتخفيف الزاي، من أعجزني، إذا سبقك ففاتك. قال صاحب "اللوامح": لكنه هنا، بمعنى {مُعَاجِزِينَ}؛ أي: ظانين أنهم يعجزوننا. وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون. وقيل في معاجزين: بمعنى معاندين، ومعجزين بالتشديد. بمعنى: مثبطين الناس عن الإسلام، ومعجزين بالتخفيف، بمعنى: ناسبين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العجز. كما تقول: فسقت فلانًا. إذا نسبته إلى الفسق. قاله أبو علي الفارسي. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[52]

52 - وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} إلخ. شروع في تسلية ثانية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد التسلية الأولى، بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} إلخ. والمراد بالرسول هنا من جاء بشرع جديد، كموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. والنبي من جاء لتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام؛ أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد من رسول {وَلَا} نبأنا من {نَبِّيٍ} في حال من الأحوال {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى}؛ أي: إلا والحال أنه إذا تمنى وقرأ ذلك الرسول أو النبي ما أوحي إليه من الكتاب. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ} في قلوب سامعيه شبهة {فِي} شأن {أُمْنِيَّتِهِ}؛ أي: في شأن قراءته، فيلقي في قلوب بعض السامعين إن هذا المقروء سحر. وفي قلوب بعضهم أنه شعر وفي قلوب بعضهم أنه أساطير الأولين، وفي قلوب بعضهم أنه كهنة. {فَيَنْسَخُ اللَّهُ}؛ أي: فيزيل الله سبحانه وتعالى، {مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} في قلوب السامعين من تلك الشبهات والخرافات بنور الهداية، بأن يقيض للدين من يدافع عنه، ويدفع تلك الشبهات. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، ويثبت {آيَاتِهِ} التي تلاها الرسول، أو النبي في قلوب السامعين وغيرهم، حتى لا يجد أحد سبيلًا إلى ردها وإبطالها؛ أي: ثم يجعل آياته محكمة مثبتة، لا تقبل الرد بحال. وخلاصة ذلك (¬1): أن الله سبحانه وتعالى حين أنزل القرآن، وقرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال المشركون: فيه ما قالوا من تلك الشبهات السابقة، ثم لما استبان الحق، وجاءت غزوة بدر، ونصر الله المسلمين الذين بشرهم، كتابه بالنصر على أعدائهم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} استتب لهم الأمر ودخل أعداؤهم في دينهم أفواجاً. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وما مثل هذا إلا مثل النباتات الطفيلية، التي تنبت في الأرض بجانب ما يزرع فيها من حنطة وفول، وعدس، وحمص، وغيرها مما يحتاج إليه الناس، ولا تزال تلك الطفيلية تتغذى من الأرض، وتأخذ غذاء النبات ¬

_ (¬1) المراغي.

النافع، فلا يهدأ للزارع بالٌ حتى يزيلها، ويوفر غذاءها للنبات الذي هو في أشد الحاجة إليه. وما أشبه الليلة بالبارحة، فإنك الآن لترى أهل أوربا يرسلون الجيوش، والمبشرين من القساوسة، التي تفتح المدارس في بلاد الشرق وغيرها، ويقولون: للمسلمين إن دينهم محشو بالخرافات، والأكاذيب، ويشككون فيه من تعلموا في تلك المدارس، ويصدق بعض غوغائهم تلك الأباطيل، حتى لقد قيل: إن هذا الدين لا يعيش في ظل العلم، ولا يقبل الأفكار والآراء، وهو والعلم عدوان لا يجتمعان. ومما جعل لهم بعض المعذرة فيما يقولون: حال المسلمين من الخمول، وسوء الأحوال، وقبيح المعتقدات والأعمال، مما جعلهم مضغة في أفواه الأمم المتمدنة. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}. وإن الله لينسخ تلك الوساوس ويزيل هذه الأوهام، فقد تصدى كثير من ذوي المعرفة لدحض تلك المفتريات، فقام العالم الحكيم محمد عبده، وألف كتابه "الإسلام والنصرانية" ودفع كثيرًا من مطعان أولئك المبشرين. وقام بعده كثير من أهل الفقه بالدين، فاحتذوا حذوه، وواصلوا الليل بالنهار، في دحض تلك الشبه، وان الله لناصر دينه ولو كره الكافرون. هذا وقد دس (¬1) بعض الزنادقة في تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة، لم ترد في كتاب من كتب السنة "الصحيحة" وأصول الدين تكذبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها. وأنها ليست من الحق في شيء، وهي مما تشكك المسلمين في دينهم وتجعلهم في حيرة من أمر الوحي، وكلام الرسول، فيجب على العلماء طرحها وراءهم ظهريًا. وأن لا يضيعوا الزمن في تأويلها وتخريجها، وأن لا يسرفوا الأوراق والحبر في كتابتها ولا سيما بعد أن نص الثقات من المحدثين على وضعها وكذبها، لمصادمتها لأصول الدين التي لا تقبل شكًا ولا امتراء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[53]

وهي قصة الغرانيق. وقد سئل الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية عن قصة الغرانيق؟ فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابًا. وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال ما معناه إن رواتها مطعون عليهم، وليس في "الصحاح"، ولا في التصانيف الحديثة شيء مما ذكروه، فوجب اطراحه، ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه. والعجب من نقل هذا، وهم يتلون في كتاب الله تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} الآيات. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بما أوحى إليه، وبما ألقى الشيطان {حَكِيمٌ}؛ أي: ذو الحكمة البالغة في تمكينه من ذلك الإلقاء، يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الإيمان من المتزلزل فيه؛ أي: والله عليم بكل شيء، ومن ذلك ما يصدر عن الشيطان وأوليائه، فيجازيهم عليه أشد الجزاء. حكيم في أفعاله، ومن ذلك أن يمكن الشيطان من إلقاء الشبهات، ليحاج أولياءه بها، فيتمكن المؤمنون من ردها، ودحض المفتريات التي يتشدقون بها، ويرجع الحق إلى نصابه، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء، من بين تلك الظلمات، فتمحو الظلام الذي كان عالقًا بنفوس الذين في قلوبهم مرض، وتضيء آفاق العقول السليمة، وتهديهم إلى طريق الرشاد. 53 - وإلى الفريقين أشار بقوله: 1 - {لِيَجْعَلَ} وهذه الجملة علة للإلقاء؛ أي: ذلك الإلقاء من الشيطان لكي يجعل سبحانه وتعالى {مَا يُلْقِي} {الشَّيْطَانُ} في قلوب أوليائه من تلك الشبهات {فِتْنَةً} واختبارًا {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك ونفاق؛ لأنه مرض قلبي، مؤد إلى الهلاك الروحاني. كما أن المرض القلبي مؤد إلى الهلاك الجسماني. {و} فتنة لـ {الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: فتنة للذين قست قلوبهم، وغلظت عن قبول التوحيد، وهم المشركون؛ لأن قلوبهم لا تلين للحق أبدًا، ولا ترجع إلى

[54]

الصواب بحال. أي: ذلك الإلقاء ليجعل ما يلقيه الشيطان في قلوب أوليائه فتنة، وضلالة للمنافقين، الذين في قلوبهم مرض، ونفاق. وللكافرين الذين قست قلوبهم فلا تلين لقبول الحق، ولا ترعوي عما هي فيه من الغي والضلال. ثم (¬1) سجل سبحانه على هاتين الطائفتين، وهما من في قلبه مرض، ومن في قلبه قسوة، بأنهم ظالمون. فقال: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بحرمانها من سعادة الدارين يعني المنافقين والمشركين، ففيه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم اسم الظلم. {لَفِي شِقَاقٍ} وخلاف {بَعِيدٍ} عن الحق والصواب؛ أي: لفي عداوة شديدة، ومخالفة تامة. ووصف الشقاق بالبعد، مع أن الموصوف به حقيقة من قام به للمبالغة. أي: وإن (¬2) هذين الصنفين من الضلال لفي عداوة لأمر الله، وبعد عن الرشاد والسداد بما لا مطمع لهما معه في النجاة، والفوز برضا الله تعالى. 54 - ولما بيَّن سبحانه، أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشرك، بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به، سبب لحصول العلم لهم، بأن القرآن حق وصدق فقال: 2 - {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ أي: ولكي يعلم الذين رزقوا العلم بالله وبآياته، بنسخ ما يلقي الشيطان في قلوب أوليائه من تلك الشبهات وبإحكام آياته {أَنَّهُ}؛ أي: أن القرآن المقروء للرسول هو {الْحَقُّ} النازل {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: من عند ربهم {فَيُؤْمِنُوا بِهِ}؛ أي: فيصدقوا به. أي: (¬3) يثبتوا على الإيمان به، أو يزدادوا إيمانًا برد ما يلقي الشيطان. وهو عطف على قوله ليعلم. {فَتُخْبِتَ لَهُ} أي: للقرآن؛ أي: تخشع وتتواضع له {قُلُوبُهُمْ} أي: قلوب الذين أوتوا العلم وتذعن للإقرار به نفوسهم، وتنقاد له، وتعمل بما فيه من عبادات، وآداب، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[55]

وأحكام. وهي مثلجة الصدر، هادئة مطمئنة ببرد اليقين والسير على نهج سيد المرسلين. ثم بين حسن مآلهم، وفوزهم بسعادة العقبى. فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} في الأمور الدينية خصوصًا في المداحض، والمشكلات التي من جملتها هذا الإلقاء {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح. أي: وإن الله سبحانه لمرشد الذين آمنوا به وصدقوا برسوله، وموفقهم إلى الحق الواضح بنسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسوله حين تلاوة الوحي، وحفظ أصول الدين الصحيحة في نفوسهم، والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وخلاصة ذلك: أن الله ليهدي الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابه من الدين، وتفصيل ما أجمل منه بما تقتضيه الأصول المحكمة، فلا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، ولا تزلزل أقدامهم ترهات المبطلين. وقرأ الجمهور (¬1): {لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} بالإضافة. وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين {لهادٍ}. 55 - ثم أردفه ببيان مآل الفريق الأول، فقال: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك {مِنْهُ}؛ أي: مما ألقى الشيطان في قلوبم من تلك الشبهات والخرافات حين قراءة الرسول القرآن عليهم {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}؛ أي: (¬2) حتى يأتيهم الموت فجأة، وهم في بيوتهم آمنون. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}؛ أي: أو يشتبكوا مع المؤمنين في قتال يهلك فيه أبطالهم، وصناديدهم، كما حدث يوم بدر. وقد جعل هذا اليوم عقيمًا؛ لأن المقاتلين يسمون أبناء الحرب، فإذا هم قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم. أو المعنى (¬3): {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ}؛ أي: القيامة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} وهو يوم القيامة؛ لأنه لا يوم بعده، فكان بهذا الاعتبار عقيمًا. والعقيم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[56]

في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى، جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم، ولا ليلة وصف بالعقيم. وقيل: إن اليوم وصف بالعقيم؛ لأنه لا رأفة فيه، ولا رحمة. فكأنه عقيم عن الخير. فكأنه قال: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها. وخلاصة هذا: أنه لا مطمح في إيمانهم ولا لزوال المرية من قلوبهم، فهم لا يزالون كذلك حتى يهلكوا. 56 - وبعد أن بين سبحانه حال الفريقين في الدنيا، أرشد إلى حالهم في الآخرة. فقال: {الْمُلْكُ}؛ أي: السلطان القاهر، والاستيلاء التام، والتصرف على الإطلاق. {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تأتيهم الساعة، أو العذاب {لِلَّهِ} سبحانه وحده لا منازع له فيه، ولا مدافع له عنه. وجملة قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا يصنع بهم حينئذٍ، فقيل: يحكم بين فريقي المؤمنين بالقرآن، والمجادلين فيه بالمجازاة اللائقة بكل منهما. أي: إذا جاء (¬1) يوم القيامة .. حكم ربهم بينهم بالحق، وجازى كلا منهما بما هو له أهل، وبما أعد نفسه له في الدنيا من عمل صالح، زكى به نفسه، وطهر به روحه، أو عمل سيء دسَّاها به، فرانت على قلبه غشاوة الشكوك والأوهام، واجترام المعاصي والآثام. ثم فسر هذا الحكم والمحكوم عليهم، وفصله بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا} بالقرآن ولم يجادلوا فيه، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الخيرات بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه مستقرون {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} لا يموتون فيها، ولا يخرجون؛ أي: فالذين آمنوا بهذا القرآن وبمن أنزله، وبمن جاء به، وعمل بما فيه من أوامر ونواه، يثيبهم ربهم جنات النعيم، يستمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جزاء وفاقًا على ما زكوا به أرواحهم، وأخلصوا له في أعمالهم، وراقبوه في السر والعلن، وخافوا عذابه في ذلك اليوم ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

الذي تشيب من هوله الولدان. 57 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: أصروا على ذلك، واستمروا. {فَأُولَئِكَ} مبتدأ خبره جملة قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: عذاب ذو إهانة، يذهب بعزهم وكبرهم رأساً، وبالكلية، ويلحقهم من الخزي والصغار ما لا يحيط به الوصف، و (¬1) إدخال الفاء في خبر الثاني، دون الأول، تنبيه على أن إثابة المؤمنين بطريق التفضل، لا لإيجاب الأعمال الصالحة إياها وأن عقاب الكافرين بسبب أعمالهم السيئة. والمعنى: أي (¬2) والذين كفروا بالله وكذبوا رسوله، وجحدوا بآيات كتابه، وقالوا إنما هو إفك افتراه محمد، وأعانه عليه قوم آخرون، أولئك لهم عذاب عند ربهم، يذلهم، ويخزيهم، كفاء استكبارهم عن النظر فيها، وجحودهم بها عنادًا، وقد كان لهم فيها - لو تأملوا حق التأمل - ما يكون صادًا لهم عن غيهم، ورادعا لهم عن ضلالهم. واعلم (¬3): أن الفصل والحكومة العادلة كائن لا محالة، وإن كان الكفار في شك من القرآن، وما نطق به من البعث، والمجازاة. روي أن لقمان وعظ ابنه وقال: يا بني إن كنت في شك من الموت فادفع عن نفسك النوم، ولن تستطيع ذلك، وإن كنت في شك من البعث، فإذا نمت فادفع عن نفسك الانتباه، ولن تستطيع ذلك، فإنك إذا فكرت في هذا، علمت أن نفسك بيد غيرك، فإن النوم بمنزلة الموت، واليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، فإذا عرف العبد مولاه قبل أمره، ونال به عزة لا تنقطع أبدًا، وهي عزة الآخرة التي تستصغر عندها عزة الدنيا. وروي أن عابدًا رأى سليمان عليه السلام، في عزة الملك فقال: يا ابن داود لقد آتاك الله ملكًا عظيمًا. فقال سليمان: لتسبيحة واحدة خير مما فيه سليمان تبقى، وملك سليمان يفنى. فإذا كانت التسبيحة الواحدة أفضل من ملك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[58]

سليمان، فما ظنك بتلاوة القرآن الذي هو أفضل الكتب الإلهية. 58 - ثم أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر، تخصيصًا لهم بمزيد الشرف، فقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وفارقوا أوطانهم، وتركوا عشائرهم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وطاعته، وجهاد أعدائه، طلبًا لرضاه سبحانه. وقال بعض المفسرين (¬1): هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: هم الذين هاجروا من الأوطان في سرية، أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل من سبيل الله. {ثُمَّ قُتِلُوا} أي: قتلهم أعداء الله في الجهاد. قرأ ابن عامر وأهل الشام {ثم قتِّلوا} بالتشديد على التكثير. وقرأ الباقون بالتخفيف. {أَوْ مَاتُوا} في حال المهاجرة في سفر، أو حضر من غير قتل. واللام في قوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} جواب قسم محذوف، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا}. وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبرًا للمبتدأ؛ أي: وعزتي وجلالي ليثيبنهم الله تعالى ثوابًا جزيلًا لا ينقطع أبدًا، هو نعيم الجنة، جزاء ما ناضلوا عن دينه، وأخلصوا في الذود عنه. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأفضل المعطين، وأجود الأكرمين، يعطي من يشاء بغير حساب، ويرزق الخلق كافَّةً، بارهم وفاجرهم، وكل رزق يجري على يد العباد بعضهم لبعض فهو منه سبحانه، لا رزاق سواه، ولا معطي غيره. وجملة {إن} تذييلية مقررة لما قبلها. والرزق العطاء الجاري دنيويًا كان أو أخرويًا. 59 - وجملة قوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ}؛ أي: ليدخلن الله سبحانه وتعالى المهاجرين. واللام فيه للقسم. {مُدْخَلًا} اسم مكان أريد به الجنة. قرأ أهل المدينة: مدخلًا بفتح الميم، والباقون بضمها. وانتصابه على أنه مفعول ثان، أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور. جملة مستأنفة، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وعزتي وجلالي ليدخلنهم الله سبحانه مسكنًا يحبونه لما أنهم يرون فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا. وفي هذا من الامتنان عليهم، والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم، والأقرب إلى مطلبهم. والمعنى: أي والله ليدخلن الله المقتولين في سبيله، والموتى مهاجرين في طاعة ربهم، وذودًا عن دينه جنات النعيم، ويكرمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لما لا ينالهم فيها مكروه، ولا أذى. كما قال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَعَلِيمٌ} بدرجات العالمين، ومراتب استحقاقهم {حَلِيمٌ} عن تفريط المفرطين منهم، لا يعاجلهم بالعقوبة. والمعنى: أي وإن الله الذي عمت رحمته، وعظمت نعمته لعليم بمقاصدهم، وأعمالهم، وأعمال أعدائهم، حليم فلم يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة جزاء تكذيبهم ومقاومتهم دعوة الدين مع غاية الاقتدار. روي: "أن إبراهيم عليه السلام، رأى عاصيًا في معصيته فدعا عليه، وقال اللهم أهلكه ثم رأى ثانيًا وثالثًا ورابعًا فدعا عليه، فقال الله تعالى: يا إبراهيم لو أهلكنا كل عبد عصى ما بقي إلا القليل، ولكن إذا عصى أمْهَلْناه فإن تاب قبلناه، وإن استغفر أخرنا العذاب عنه، لعلمنا أنه لا يخرج عن ملكنا". الإعراب {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يُدَافِعُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {عَنِ الَّذِينَ} متعلق به ومفعول يدافع محذوف، تقديره: عوادي المشركين وغوائلهم. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتأكيد البشرى. {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {لَا} نافية {يُحِبُّ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}. {كُلَّ

خَوَّانٍ} مفعول به ومضاف إليه. {كَفُورٍ} صفة {خَوَّانٍ}. وجملة {لَا يُحِبُّ}: في محل الرفع خبر {إنَّ}. وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}. {أُذِنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والمأذون فيه محذوف لعلمه؛ أي: في القتال، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان الإذن في قتال المشركين. {يُقَاتَلُونَ}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. {بِأَنَّهُمْ} الباء: حرف جر وسبب. {أنهم} ناصب واسمه. {ظُلِمُوا} فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب ظلمهم، الجار والمجرور متعلق بـ {أُذِنَ} {وَإِنَّ اللَّهَ} الواو: استئنافية، {إن الله} ناصب واسمه. {عَلَى نَصْرِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {قدير} {لَقَدِيرٌ} اللام: حرف ابتداء {قدير} خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة للوعد لهم بالنصر، على طريق الرمز والكناية. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر نعت، أو بدل من {الذين يقاتلون}، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف. {أُخْرِجُوا}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. {مِنْ دِيَارِهِمْ} متعلق بأخرجوا. {بِغَيْرِ حَقٍّ} جار ومجرور ومضاف إليه حال من واو {أُخْرِجُوا}؛ أي: حالة كون إخراجهم ملتبسًا بغير حق، {إِلَّا} أداة استثناء منقطع {أَنْ يَقُولُوا} ناصب وفعل وفاعل {رَبُّنَا اللَّهُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُوا}، وجملة {يَقُولُوا} في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير حرف الجر، كما في المستثنى منه؛ أي: ما أخرجوا بشيء من الأشياء إلا بقولهم ربنا الله. واختار الزمخشري وغيره: أن يكون الاستثناء مفرغًا لوجود النفي بغير، فـ {إِلَّا} أداة حصر. و {أَنْ يَقُولُوا} في محل جر على الإبدال من {حَقٍّ}؛ أي: بغير موجب سوى التوحيد، الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. {وَلَوْلَا}: {الواو}: استئنافية. {لولا} حرف امتناع لوجود متضمن

معنى الشرط. {دَفْعُ اللَّهِ} مبتدأ خبره محذوف وجوبًا لقيام جواب {لولا} مقامه، تقديره موجود. وهو مصدر مضاف إلى الفاعل. {النَّاسَ} مفعول به لـ {دَفْعُ}؛ لأن المعنى ولولا أن دفع الله الناس. {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بعضهم بدل بعض من الناس. {بِبَعْضٍ} متعلق بدفع. {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. {لَهُدِّمَتْ}: {اللام}: رابطة لجواب {لولا}. {هُدِّمَتْ صَوَامِعُ} فعل مغير ونائب فاعل. {وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} معطوفات على {صَوَامِعُ}. والجملة الفعلية جواب {لولا}، لا محل لها من الإعراب. وجملة {لولا} مستأنفة. {يُذْكَرُ} فعل مضارع مغير الصيغة. {فِيهَا} متعلق به. {اسْمُ اللَّهِ} نائب فاعل لـ {يُذْكَرُ}. {كَثِيرًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرا كثيرًا، أو صفة لظرف محذوف؛ أي: وقتا كثيرًا. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة للمواضع المذكورة. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ} الواو استئنافية. واللام: موطئة للقسم. {ينصرن} فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم. في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {اللَّهُ} فاعل {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف. وجملة القسم مستأنفة. {يَنْصُرُهُ}: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. والجملة الفعلية صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَقَوِيٌّ} اللام حرف ابتداء، {قوي} خبر أول لأن. {عَزِيزٌ} خبر ثان لها وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل النصر. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}. {الَّذِينَ}: بدل من {الَّذِينَ} قبلها، أو نعت ثان لـ {الَّذِينَ} الأولى، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو بدل من {مَنْ} الموصولة في قوله: {مَنْ يَنْصُرُهُ}؛ أي:

لينصرن الله، الذي هم إن مكناهم. ذكر هذا الوجه الزجاج. {إن}. حرف شرط. {مَكَّنَّاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إِنْ}، على كونه فعل شرط لها. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {مَكَّنَّاهُمْ}. {أَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه جواب شرط لها، وجملة {إِنْ} الشرطية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَقَامُوا}. {وَأَمَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {أَقَامُوا} أيضًا. {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق بـ {أمروا}. {وَنَهَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {أَقَامُوا}. {عَنِ الْمُنْكَرِ}: متعلق بـ {نهوا}. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}: الواو استئنافية {لله} خبر مقدم. {عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ}. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف شرط. {يُكَذِّبُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون. {فَقَدْ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بقد. {قد} حرف تحقيق. {كَذَّبَتْ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {قَبْلَهُمْ} متعلق به. {قَوْمُ نُوحٍ}: فاعل ومضاف إليه {وَعَادٌ} معطوف على {قَوْمُ نُوحٍ}. {وَثَمُودُ} معطوف عليه أيضًا. وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ} معطوف على {قَوْمُ نُوحٍ}. وكذا قوله: {وَقَوْمُ لُوطٍ} {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ}. معطوفان عليه. و {مَدْيَنَ}: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي كزينب. {وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. {وَكُذِّبَ مُوسَى}: {الواو}: عاطفة. {كُذِّب موسى}: فعل ونائب فاعل. والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}. {فَأَمْلَيْتُ}: الفاء: عاطفة. {أمليت}: فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على

جملة الجواب. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق به. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {أَخَذْتُهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم معطوف على {أمليت}. {فَكَيْفَ}: الفاء، عاطفة. {كيف}: اسم استفهام للاستفهام التقريري التعجبي. في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها وجوبًا. {كَانَ}: فعل ماض ناقص محل الجزم معطوف على {أَخَذْتُهُمْ}. {نَكِيرِ}: اسمها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف. {نَكِيرِ}: مضاف وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه. {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. {فَكَأَيِّنْ}: {الفاء}: استئنافية. {كأين} خبرية بمعنى عدد كثير في محل الرفع، مبتدأ مبني على السكون لشبهها بالحرف، شبها معنويًا لتضمنه معنى رب التكثيرية. {مِنْ قَرْيَةٍ} تمييز لـ {كأين} مجرور بـ {مِنْ} الزائدة. {أَهْلَكْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {كأين}. والجملة الاسمية مستأنفة، ويجوز نصب {كأين} على الاشتغال بفعل محذوف يفسره {أَهْلَكْنَاهَا}، فتكون جملة {أَهْلَكْنَاهَا} مفسرة، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول {أَهْلَكْنَاهَا}. {فَهِيَ} الفاء: عاطفة. {هي خاوية} مبتدأ وخبر. والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {أَهْلَكْنَاهَا}. {عَلَى عُرُوشِهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَاوِيَةٌ}. {وَبِئْرٍ} معطوف على {قَرْيَةٍ}. {مُعَطَّلَةٍ} صفة لـ {بئر}. {وَقَصْرٍ} معطوف أيضًا على {قَرْيَةٍ}. {مَشِيدٍ} صفة {قصر}. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}. {أَفَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أغفل أهل مكة فلم يسيروا في الأرض. {لم} حرف نفي وجزم. {يَسِيرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ

{لم}. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة. والجملة المحذوفة مستأنفة. {فَتَكُونَ} الفاء: عاطفة سببية {تكون} فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة وجوبًا، بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام، أو النفي. {لَهُمْ} جار ومجرور مقدم لـ {تكون}. {قُلُوبٌ}. اسمها. {يَعْقِلُونَ} فعل وفاعل. {بِهَا} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {قُلُوبٌ}، والتقدير: فتكون قلوب عاقلون بها كائنة لهم. وجملة {تكون} صلة إن المضمرة، {إن} مع صلتها في تأويل مصدر. معطوف على مصدر متصل من الجملة التي قبلها، من غير سابكٍ لإصلاح المعنى. تقديره: هل يكون سيرهم في الأرض، فكون قلوب عاقلة لهم. أو لم يكن سيرهم في الأرض. فكون قلوب عاقلة لهم. {أَوْ آذَانٌ}: معطوف على {قُلُوبٌ} {يَسْمَعُونَ} فعل وفاعل صفة لـ {آذَانٌ} {بِهَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَسْمَعُونَ}. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. {فَإِنَّهَا}: {الفاء}: تعليلية {إنَّ} حرف نصب. الهاء: ضمير القصة في محل النصب اسمها {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فعل وفاعل. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} مفسرة لضمير الشأن. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَكِنْ} الواو عاطفة. {لكن} حرف استدراك. {تَعْمَى الْقُلُوبُ} فعل وفاعل. والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {لَا تَعْمَى} على كونها خبرًا {لأن} {الَّتِي} صفة لـ {الْقُلُوبُ}. {فِي الصُّدُورِ}: جار ومجرور صلة الموصول. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}: {الواو}: استئنافية. {يستعجلونك} فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة {بِالْعَذَابِ}: متعلق به. {وَلَنْ يُخْلِفَ} الواو: حالية {لن} حرف نفي ونصب. {يُخْلِفَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {لن}. {وَعْدَهُ} مفعول به. والجملة في محل النصب حال من فاعل {يستعجلونك}، والرابط محذوف،

تقديره ويستعجلونك بالعذاب، حالة كونهم، لن يخلف الله وعدهم. {وَإِنَّ} الواو عاطفة، أو استئنافية. {إن يومًا}: ناصب واسمه. {عِنْدَ رَبِّكَ}: صفة لـ {يَوْمًا}. {كَأَلْفِ سَنَةٍ} جار ومجرور ومضاف إليه خبر {إن}. {مِمَّا} جار ومجرور صفة {سَنَةٍ}، وجملة: {تَعُدُّونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها. والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: مما تعدونه. وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها حالًا من فاعل {يستعجلون}، والتقدير: ويستعجلونك بالعذاب، حالة كونهم، لن يخلف الله وعدهم، وحالة كون يوم مما وعدهم ربهم، كألف سنة مما تعدون، أو جملة {إن} مستأنفة. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}. {وَكَأَيِّنْ}: {الواو}: عاطفة {كأين}: خبرية في محل الرفع مبتدأ. {مِنْ قَرْيَةٍ}: تمييز لها في محل النصب مجرور بـ {مِنْ}. {أَمْلَيْتُ} فعل وفاعل. والجملة في محل الرفع خبر {كأين}. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {يستعجلونك}. {لَهَا} جار ومجرور متعلق بـ {أَمْلَيْتُ}. {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب حال من ضمير لها. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} فعل وفعل ومفعول معطوف على {أَمْلَيْتُ}. {وَإِلَيَّ} خبر مقدم. {الْمَصِيرُ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير {أَخَذْتُهَا}؛ أي: ثم أخذتها حال، كون مصيرها إلى، لا إلى غيري. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إلى آخر الآية مقول محكي. وإن شئت قلت: {يَا}: حرف نداء. {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها} حرف تنبيه {النَّاسُ}: بدل لـ {أي}. وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنَّمَا} أداة حصر. {أَنَا} مبتدأ. {لَكُمْ}: متعلق بما بعده {نَذِيرٌ} خبر المبتدأ {مُبِينٌ} صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء.

{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}. {فَالَّذِينَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت لهم: يا أيها الناس، إنما أنا لكم بشير ونذير، وأردت بيان مآلهم .. فأقول لك: الذين آمنوا. {الذين} مبتدأ أول. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا} {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ} مبتدأ ثان مؤخر. {وَرِزْقٌ} معطوف على {مَغْفِرَةٌ}. {كَرِيمٌ} صفة لـ {رزق}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره. في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة {الذين}: مبتدأ أول. {سَعَوْا} فعل وفعل صلة الموصول. {فِي آيَاتِنَا} جار ومجرور متعلق بـ {سَعَوْا}. {مُعَاجِزِينَ}: حال من فاعل {سَعَوْا} {أُولَئِكَ} مبتدأ ثان {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} خبره. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية: {ما}: نافية. {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَبْلِكَ} جار ومجرور متعلق بـ {أرسلنا}. {مِنْ}: زائدة. {رَسُولٍ} مفعول به لـ {أَرْسَلْنَا}. {وَلَا نَبِيٍّ} معطوف على الرسول. {إِلَّا}: أداة استثناء من عام الأوقات {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {تَمَنَّى}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على رسول أو نبي، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ} فعل وفاعل. {فِي أُمْنِيَّتِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب إذا لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا من فعل شرطها وجوابها في محل النصب على الاستثناء من

أعم الأوقات، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك من رسول، ولا نبي في وقت من الأوقات، إلا وقت القاء الشيطان في أمنيته وقت تمنيه وقراءته. {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} الفاء: عاطفة {ينسخ الله ما}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَلْقَى} {يُلْقِي الشَّيْطَانُ}: فعل وفاعل صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما يلقيه {الشَّيْطَانُ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {ينسخ}. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {عَلِيمٌ} خبر أول {حَكِيمٌ} خبر ثان، والجملة الاسمية جملة معترضة، لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الجار ومتعلقه. {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)}. {لِيَجْعَلَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يجعل}: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. {مَا} في محل النصب مفعول أول لـ {جعل}. {يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فعل وفاعل صلة لما، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما يلقيه الشيطان. {فِتْنَةً} مفعول ثان لـ {جعل}، وجملة يجعل مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لجعل الله ما يلقي الشيطان فتنة، للذين في قلوبهم مرضٌ. الجار والمجرور متعلق بـ {يُحْكِمُ}. وفي "الفتوحات" قوله: {لِيَجْعَلَ} في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها متعلق بـ {يُحْكِمُ}. والثاني: أنها متعلق بـ {ينسخ}، وهذا الوجه ظاهر أيضًا. والثالث: أنها متعلق بـ {أَلْقَى}، وليس بظاهر، انتهى. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {فِتْنَةً}، أو متعلق به. {فِي قُلُوبِهِمْ} خبر مقدم. {مَرَضٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. {وَالْقَاسِيَةِ} معطوف على الذين. {قُلُوبُهُمْ} فاعل القاسية. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الواو حالية، أو استئنافية. {إن الظالمين}: ناصب واسمه. {لَفِي} اللام حرف ابتداء. {في شقاق} جار ومجرور خبر {إن}. {بَعِيدٍ} صفة {شِقَاقٍ}، وجملة {إن} في محل النصب

حال، من الموصول وما عطف عليه، والرابط إعادة صاحب الحال بمعناه، والتقدير: حالة كون الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم كائنين في شقاق بعيد، أو جملة {إن} مستأنفة. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}. {وَلِيَعْلَمَ}: {الواو}: عاطفة. و {اللام}: حرف جر وتعليل {يعلم الذين} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، الجار والمجرور معطوف على الجال والمجرور في قوله: {لِيَجْعَلَ}، وقد تقدم لك بيان متعلقه. {أُوتُوا الْعِلْمَ} فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول. {أَنَّهُ الْحَقُّ} ناصب واسمه وخبره {مِنْ رَبِّكَ} جار ومجرور حال من {الْحَقُّ}، وجملة {إن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعول {يعلم}؛ أي: كونه الحق من ربهم. {فَيُؤْمِنُوا}: الفاء عاطفة. {يؤمنوا}، فعل وفاعل مطعوف على {ليعلم} منصوب بأن مضمرة. {بِهِ} متعلق بـ {يؤمنوا}. {فَتُخْبِتَ} الفاء: عاطفة. {تخبت} فعل مضارع معطوف على {يؤمنوا}، منصوب بأن مضمرة. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {تخبت}. {قُلُوبُهُمْ} فاعل لـ {تخبت}. {وَإِنَّ اللَّهَ} الواو: استئنافية. {إن الله}: ناصب واسمه. {لَهَادِ} اللام: حرف ابتداء {هاد}: خبر {إن} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص وحذفت خطًّا تبعًا للفظ. {الَّذِينَ} اسم موصول في محل النصب مفعول {هاد}؛ لأنه اسم فاعل، ويجوز فيه الإضافة، وجملة {إن} مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفعل صلة الموصول. {إِلَى صِرَاطٍ} متعلق بـ {هاد}. {مُسْتَقِيمٍ}: صفة صراط. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة {لا}: نافية. {يَزَالُ}: فعل مضارع ناقص من أخوات كان. {الَّذِينَ}: في محل الرفع اسمها {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة

الموصول. {فِي مِرْيَةٍ}: جار ومجرور خبر {يَزَالُ}. {مِنْهُ}: جار ومجرور صفة لـ {مِرْيَةٍ}، أو متعلق به، وجملة {لا يزال} من اسمها وخبرها معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} ليستكمل شرح حال الكافرين ويستوفيها {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَأْتِيَهُمُ}: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا. بعد حتى بمعنى إلى {السَّاعَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره إلى إتيان الساعة إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يَزَالُ}. {بَغْتَةً} حال {أَوْ يَأْتِيَهُمْ} فعل ومفعول معطوف على {تَأْتِيَهُمُ}. {عَذَابُ يَوْمٍ} فاعل ومضاف إليه. {عَقِيمٍ} صفة لـ {يَوْمٍ}. {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}. {الْمُلْكُ}: مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. {لِلَّهِ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {يَحْكُمُ} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، كأنه قيل: إذا كان الملك لله سبحانه، فماذا يصنع بهم. {بَيْنَهُمْ} ظرف متعلق بـ {يَحْكُمُ}. {فَالَّذِينَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه يحكم بينهم، وأردت بيان كيفية الحكم بينهم .. فأقول لك: {الذين} مبتدأ {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَالَّذِينَ} مبتدأ أول. {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {وَكَذَّبُوا} فعل وفاعل معطوف على كفروا. {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بكذبوا. {فَأُولَئِكَ} الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في المبتدأ من رائحة الشرط. {أولئك} مبتدأ ثان. {لَهُمْ} خبر مقدم {عَذَابٌ} مبتدأ ثالث مؤخر. {مُهِينٌ}

صفة لـ {عَذَابٌ}، وجملة الثالث خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا}. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية. {الذين} مبتدأ. {هَاجَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق به. {ثُمَّ قُتِلُوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {هَاجَرُوا} {أَوْ مَاتُوا} فعل وفاعل معطوف على {قُتِلُوا}. {لَيَرْزُقَنَّهُمُ} اللام، موطئة للقسم. {يرزقنهم}: فعل ومفعول في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. {اللَّهُ} فاعل. {رِزْقًا} مفعول مطلق. {حَسَنًا} صفة له، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه {لَهُوَ} اللام، حرف ابتداء. {هو} ضمير فصل. {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها. {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}. {لَيُدْخِلَنَّهُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {يدخلنهم}: فعل مضارع ومفعول به. في محل الرفع، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جوابا القسم، وجملة القسم بدل من قوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ}، أو مستأنفة. {مُدْخَلًا} منصوب على المفعولية المطلقة. {يَرْضَوْنَهُ}: فعل وفاعل ومفعول صفة لمدخلًا. {وَإِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {لَعَلِيمٌ}: اللام: حرف ابتداء. {عليم}: خبر أول لأن. {حَلِيمٌ} خبر ثان لها، وجملة {إن} معطوفة على جملة القسم أو مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {يُدَافِعُ}؛ أي: يدفع فالمبالغة ليست على بابها. قال الراغب: الدفع إذا عدى بإلى اقتضى معنى الإنالة، نحو قوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. وإذا

عدى بعن، اقتضى معنى الحماية: نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: يبالغ في دفع ضرر المشركين عن المؤمنين، ويحميهم أشد الحماية من أذاهم. {خَوَّانٍ} بليغ الخيانة في أمانة الله، أمرًا كان، أو نهيًا، أو غيرهما من الأمانات. {كَفُورٍ} بليغ الكفران لنعمته، فلا يرضى فعلهم ولا ينصرهم. والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا. وصيغة المبالغة فيهما لبيان أنهم كانوا كذلك، لا لتقييد البعض بغاية الخيانة والكفر، فإن نفي الحب كناية عن البغض. {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} والمراد بديارهم: مكة المكرمة. وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيها للتصرف. يقال: ديار بكر لبلادهم، وتقول العرب: الذي حوالي مكة، نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. قال الراغب: "الدار المنزل اعتبارًا بدورانها الذي لها بالحائط". وقيل: دارة وجمعها ديار، ثم تسمى البلدة دارًا. اهـ. "روح البيان". {لَهُدِّمَتْ} الدم: إسقاط البناء، والتهديم للتكثير؛ أي: لخربت باستيلاء المشركين عليها. {صَوَامِعُ} جمع صومعة وصومع، وهو جبل أو مكان مرتفع يسكنه الراهب، أو المتعبد قصد الإنفراد. ثم أطلقت الكلمة على الدير والصومعة أيضًا العقاب والبرنس وأعلى كل جبل، إذا كان منتدق الرأس. وفي "السمين" الصومعة: البناء المرتفع المحدب الأعلى. ووزنها فوعلة، كدحرجة. وهي متعبد الرهبان. وقيل: متعبد الصابئين. {بيع} جمع بيعة بكسر الباء، المعبد للنصارى واليهود، والجمع بيه بكسر الباء وفتح الياء، وبيعات بكسر الباء وسكون الياء. {وَصَلَوَاتٌ}: بفتح الصاد واللام، جمع صلاة. وسميت الكنيسة صلاة، لأنه يصلي فيها. وقيل: هي كلمة معربه، أصلها بالعبرانية: صلوثا بفتح الصاد والثاء المثلثة، كما في "الخفاجي على البيضاوي"، وبه قرىء في الشواذ. ومعناه في لغتهم: المصلى فلا يكون مجازًا. {وَمَسَاجِدُ} جمع مسجد، وهو معبد المسلمين.

{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} قال الراغب المعروف: اسمٌ لكل فعل يعرف بالعقل، والشرع حسنه و {الْمُنْكَرِ}: ما ينكر بهما. {فَأَمْلَيْتُ} أمهلتهم إلى أجلهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} قال الراغب: الأخذ: وضع الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول. نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} وتارة بالقهر ومنه الآية. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، كالنذير بمعنى الإنذار، فالمراد بالإنكار: التغييير بالضد بأن غير حياتهم بإهلاكهم وموتهم، وعمارتهم بالخراب. وليس بمعنى الإنكار اللساني والقلبي، اهـ. شيخنا. وفي "المراغي"، والنكير والإنكار على الشيء: أن تفعل فعلًا به يزجر المنكر عليه على ما فعل. {فَهِيَ خَاوِيَةٌ}؛ أي: ساقطة. {عَلَى عُرُوشِهَا}؛ أي: سقوفها. {وَبِئْرٍ} البئر في الأصل: حفيرٌ يستر رأسها لئلا يقع فيها من مر عليها. وفي "المختار" بأر يبأر بأرًا بهمزة بعد الباء إذا حفرها، وبابه قطع، وقد تبدل همزته ياء والبئر فعلٌ بمعنى مفعول، كالذبح بمعنى المذبوح، حفرة في الأرض عظيمة، يستقى منها الماء، والجمع آبار وأبائر، وبئار وأبؤر، وهي مؤنثة. وفي "الأساس" الفاسق من ابتأر، والفويسق من ابتهر، يقال ابترت الجارية إذا قال: فعلت بها وهو صادق، وابتهرتها إذا قال: ذلك وهو كاذبٌ، ومنه التأبير، وهو شق كيزان طلع الإناث، وذر طلع المذكور فيه. {مُعَطَّلَةٍ}؛ أي: متروكة بموت أهلها، معطلة عن منافعها، مع أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء. {وَقَصْرٍ} يقال: قصرت كذا ضممت بعضه إلى بعض، ومنه سمي القصر. قال في "القاموس": القصر خلاف الطول وخلاف المد والمنزل، وكل بيت من حجر. {مَشِيدٍ}؛ أي؛ مبني بالشيد وهو الجص. وقيل: مشيد؛ أي: مطول مرفوع البنيان وفي "القاموس" شاد الحائط يشيده إذا طلاه بالشيد، وهو ما طلي به حائط من جصٍّ ونحوه. والمشيد المعمول به، وكمؤيد المطول انتهى. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله، ويحوز كمالاته.

اهـ. "بيضاوي". {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} وأصل السعي: الإسراع في المشي، ثم استعمل في الإصلاح والإفساد. يقال سعى في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه؛ أي: سعوا واجتهدوا في إبطال آياتنا حيث قالوا: القرآن شعر، أو سحر، أو أساطير الأولين. {مُعَاجِزِينَ}؛ أي: مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم، فكلما طلبوا إظهار الحق، طلب هؤلاء إبطاله. وأصله من قولهم عاجزه فأعجزه إذا سابقه فسبقه. و {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} الجحيم: النار الموقدة، وقيل: اسم دركة من دركاتها {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى}؛ أي: قرأ، قال في "القاموس": تمنَّى الكتاب، قرأه، والحديث اخترعه وافتعله. اهـ. وقال الراغب: التمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، والأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}. معناه إلا تلاوةً مجردة عن المعرفة، من حيث إن التلاوة بلا معرفة المعنى: تجري عند صاحبها مجرى أمنية تمناها على التخمين، اهـ. "روح البيان". وإنما سميت القراءة أُمنيةً؛ لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة، تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب، تمنى أن لا يبتلى به، اهـ من الرازي. وفي "المختار" والأمنية، واحد الأماني، تقول منه تمنى الكتاب إذا قرأه، اهـ. {فَيَنْسَخُ اللَّهُ}؛ أي: يزيل ويبطل، فالمراد بالنسخ هو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} من القسوة وهو غلظ القلب، وأصله من حجر قاس، والمقاساة معالجة ذلك. وأل في القاسية موصولة، والصفة صلتها، وقلوبهم فاعل بها، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول. وأنث الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه. والقاسية عطف على الذين، كما سبق في مبحث الإعراب؛ أي: فتنة للذين في قلوبهم مرض، وفتنة للقاسية قلوبهم، اهـ. "سمين" - والمراد بهم الكفار المجاهرون بالكفر.

{شِقَاقٍ بَعِيدٍ}؛ أي: عداوة شديدة. {فَتُخْبِتَ}؛ أي: تذل وتخضع. {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}؛ أي: شكٍ وريبٍ وجدال من القرآن. والمرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان ولا أحفظ الضم هنا، اهـ. "سمين". قال الراغب: المرية التردد في الأمر، هي أخص من الشك. {بَغْتَةً} فجأة. {السَّاعَةُ}؛ أي: القيامة أو الموت. {يَوْمٍ عَقِيمٍ}؛ أي: منفرد عن سائر الأيام، لا مثيل له في شدته. والمراد الحرب الضروس. وأصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} قال الراغب: النعيم، النعمة الكثيرة، اهـ. {خَيْرُ الرَّازِقِينَ}؛ أي: أفضل المعطين، فأفعل التفضيل على بابه، ومعلوم أن كل الرزق من عنده تعالى، فالتفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص، بأن يرزق لما لا يقدر عليه غيره. وقيل: إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه، إما لأجل خروجه عن الواجب، أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء، أو لأجل الرقة الجنسية، وأما الحق سبحانه وتعالى، فإن كماله صفة ذاتية له، فلا يستفيد من شيء كمالًا زائدًا، فالرزق الصادر منه لمحض "الإحسان" اهـ. كرخي. {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} والقتل: إزاة الروح عن الجسد، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال له قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال له موتٌ. {مُدْخَلًا} بضم الميم من أدخل يدخل مدخلًا؛ أي: إدخالًا فيكون مدخلًا اسمًا لمصدر الفعل الذي قبله، فيكون المفعول به محذوفًا؛ أي: ليدخلنهم الجنة إدخالًا يرضونه، وقراءة نافع بفتحها موضع الدخول، فيكون المدخل مصدر، دخل يدخل دخولًا ومدخلًا فيكون مفعولًا للفعل قبله، ليدخلنهم مكانًا يرضونه، اهـ. كرخي. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: المبالغة في قوله: {خَوَّانٍ كَفُورٍ} لأن فعالًا وفعولًا من أوزان المبالغة. ومنها: حذف مفعول يدافع اختصارًا لدلالة المقام على تعيينه؛ أي: غوائل المشركين. قال أبو حيان: لم يذكر الله ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم. ومنها: حذف مفعول: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} لدلالة السياق عليه؛ أي: أذن لهم في القتال بعد الهجرة. ومنها: التعبير عن الماضي بلفظ المضارع في قوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا}؛ أي: بسبب قولهم إشارة إلى استمرار ذلك القول. ودوامه لهم. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} زيادة في التشنيع عليهم. وللنداء عليهم بصفة الكفر، وحق العبارة أن يقال: فأمليت لهم. ومنها: الاستفهام التقريري التعجبي في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} من إسناد ما للحال إلى المحل؛ لأن الظلم من وصف أهلها، لا من وصف القرية. ومنها: تأنيث ضمير الشأن في قوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} وحسن التأنيث في الضمير، كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل: فإنه لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله، والتذكير باعتبار الأمر والشأن، والتأنيث باعتبار القصة، اهـ. "سمين". ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. ومنها: التكرير في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}. ومنها: الاكتفاء في قوله: {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} بدليل التعميم المذكور

فيما بعد، وكان القياس أن يقال: إنما أنا لكم بشير ونذير لذكر الفريقين بعده. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. ومنها: جناس الاشتقاق، في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ}. ومنها: الطباق بين {ينسخ ثم يحكم}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم ونداءً باسم الظلم، في قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {يَوْمٍ عَقِيمٍ} بأن شبه ما لا خير فيه من الزمان بالنساء العقيم، كما شبهت الريح التي لا تحمل السحاب، ولا تلقح الأشجار بهن، تشبيهًا مضمرًا في النفس، وإثبات العقم تخيل، فإن الأيام بعضها نتائج لبعض، فكل يوم يلد مثله، اهـ. من "الشهاب". أو لأن يوم الحرب يقتل فيه أولاد النساء فيصرن كأنهن عقم لم يلدن. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}

المناسبة قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها واضحة، وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل ومات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم وهو قديرٌ على ذلك إذ من قدر على إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل بأن يزيد من أحدهما ما ينقصه من الآخر .. يقدر على نصره وهو الثابت الإلهية وحده إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل الحلم وأن ما سواه باطل لا يقدر على شيء. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) ما دلّ على قدرته الباهرة، من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وهما أمران مشاهدان بمجيء الظلمة والنور، ذكر أيضًا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض، وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيّان. قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدّم (¬2) ذكر نعمه، وأنه رؤوف بعباده رحيم بهم، وأنّ الإنسان كفور بطبعه، ومن ثمّ جحد الخالق لهذه النعم، أتبعه بزجر معاصريه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الأديان السماوية، عن منازعته بذكر خطأهم فيما تمسكوا به من الشرائع، وبيان أنّ لكل أمة شريعة خاصّة. ثمّ أمره بالثبات على ما هو عليه من الحقّ، وأنه لا يضره عناد الجاحدين، فالله هو الحكم بينهم وبينه يوم القيامة. وفي "الفتوحات": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه مشتملة على النعم التكليفية، والتي قبلها مشتملة على نعم غير تكليفية، اهـ. انتهت. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ...} الآيات، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة، أعقب تعالى ذلك بأنّه عالم بجميع ما في السماء والأرض، فلا تخفى عليه أعمالكم، وأن ذلك في كتاب. وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر أنّه يحكم بين عباده يوم القيامة، ويجازي كلاًّ من المسيء والمحسن بما هو له أهل .. أعقب هذا ببيان أنّه العليم بما يستحقّه كلًّا منهم، فيقع حكمه بينهم بالعدل. ثمّ أرشد إلى أنّه على وضوح الدلائل وعظيم النعم عليهم عبدوا غيره مما لم يقم الدليل على وجوده، وأنّهم مع جهلهم إذا نبّهوا إلى الحقّ، وعرضت عليهم المعجزة، وتلي عليهم الكتاب الكريم، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب، وهمّوا أن يبطشوا بمن يذكّرهم بآيته إنكارًا منهم لما خوطبوا به. ثمّ أبان لهم أنّ ما ينالهم من النار التي يقتحمونها بأفعالهم وأقوالهم، أعظم مما ينالهم من الغمّ والغيظ حين تلاوة هذه الآيات. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنّ الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته، لا من سمع ولا من عقل، ويتركون عبادة من خلقهم .. ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقلّ الأشياء، بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقلّ منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم، حيث عبدوا من هذه صفته. مناسبة (¬2) هذه الآيات لما قبلها واضحة: وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل، أو مات في سبيل الله، أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا، على من بغى عليهم، وهو قادر على ذلك، إذ من (¬3) قدر على إدخال الليل في النهار، وإدخال النهار في الليل، بأن يزيد في أحدهما ما ينقصه من الآخر يقدر على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[60]

نصره، وهو الثابت الإلهية وحده، إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة، كامل العلم، وأن ما سواه باطلٌ. وعبارة المراغي هنا: لما ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم عليه من الوحي، ولا دليل عليه من العقل .. أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية وما ينبغي أن يكون لها من إجلال وتعظيم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفي من الملائكة والناس لرسالته من يشاء، وهو العليم بمن يختار {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ولما ذكر (¬1) تعالى أنه اصطفى رسلًا من البشر إلى الخلق، أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف، وهو الصلاة. قيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع، ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات، ثم في النبوات، أتبعها بالكلام في الشرائع والأحكام. أسباب النزول قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ...} الآية، سبب (¬2) نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل "أنها نزلت في سرية بعثها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقوا المشركين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية". التفسير وأوجه القراءة 60 - والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى ما تقدم، فهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول.

الأمر والشان ذلك الذي قصننا عليكم وبينا لكم، من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، والجملة (¬1) لتقرير ما قبله، والتنبيه على أن ما بعده كلامٌ مستأنفٌ. والمعنى: أي (¬2) ذلك الرزق الحسن والمدخل الكريم، لمن قتلوا في سبيل الله، أو ماتوا، ولهم أيضًا النصر في الدنيا على أعدائهم. وإلى ذلك أشار بقوله: {وَمَنْ عَاقَبَ} وجازى الظالم {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}؛ أي: بمثل ما ظلمه، ولم يزد في الاقتصاص على ذلك المثل، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به، ولم يزد عليه، والعقوبة (¬3) في الأصل اسم لما يعقب الجرم من الجزاء، وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو جزاء الجناية؛ أي: مع أنه ليس بجزاء يعقب الجريمة للمشاكلة، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وكقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أو على سبيل المجاز المرسل، فإنه ما وقع ابتداءً سببٌ لما وقع جزاء وعقوبة، فسمي السبب باسم المسبب. {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}؛ أي: اعتدى عليه؛ أي: إن الظالم في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى. قيل: المراد بهذا البغي هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم، بعد أن كذبوا نبيهم، وآذوا من آمن به. واللام في قوله: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لينصرن الله المبغي عليه؛ أي: المظلوم على الباغي؛ أي: الظالم لا محالة وهو خبر من. وقيل (¬4): إن معنى {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}؛ أي: ثم كان المجازي مبغيًا عليه؛ أي: مظلوماً ومعنى (ثم) تفاوت الرتبة؛ لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم، كما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

قيل في أمثال العرب: البادي أظلم. والمعنى: أي (¬1) وإن من جازى من المؤمنين بمثل ما عوقب به ظلمًا من المشركين، فقاتلهم كما قاتلوه، ثم بغي عليه باضطراه إلى الهجرة، ومفارقة الوطن .. لينصرنه الله الذي لا يغالب، ولينتقمن له من أعدائه، ولينكلن بهم، ويمكننه منهم، ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. والخلاصة: أنه تعالى كما يدخلهم مدخلًا كريماً، يعدهم بالنصر على أعدائهم، إذا هم قاتلوهم، وبغوا عليهم، وأخرجوهم من ديارهم. {إِنَّ اللَّهَ} الذي أحاطت قدرته بكل شيء {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}؛ أي: لكثير العفو والغفران للمؤمنين، فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل: العفو والغفران لما وقع من المؤمنين، من ترجيح الانتقام على العفو؛ أي: ليعفو عن المؤمنين فيغفر لهم ما أمعنوا فيه من الانتقام، وما أعرضوا عنه مما ندب من العفو؛ بمثل قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وأن تعفو أقرب للتقوى} وهم بفعلهم هذا تركوا ما كان أجدر بهم وأحرى بمثلهم. والخلاصة: كأنه سبحانه قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها لهم؛ لأني أذنت بها. وفي "بحر العلوم" (¬2): {لَعَفُوٌّ}؛ أي: محاء للذنوب بإزالة آثارها من ديوان الحفظة والقلوب بالكلية كي لا يطالبهم بها يوم القيامة، ولا يخجلوا عند تذكرها، وبأن يثبت مكان كل ذنب عملًا صالحًا، كما قال: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} {غَفُورٌ}؛ أي: مريد لإزالة العقوبة عن مستحقها، من الغفر، وهو الستر؛ أي: ستور عليهم، وقدم العفو؛ لأنه أبلغ لأنه يشعر بالمحو الذي هو أبلغ من الستر، وفيه إشارة إلى أن الأليق بالمنتصر، والأقرب بحاله، أن يعفو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) للسمرقندي.

[61]

ويغفر عن كل من ظلمه، ويقابله بالإحسان، ولا يذكر ما صدر منه من أنواع الجفاء والأذى، فإنه متى فعل ذلك فإن الله أكرم الأكرمين أولى أن يفعل ذلك على أن الانتصار لا يؤمن فيه تجاوز التسوية والاعتداء خصوصًا في حال الغضب والحرب والتهاب الحمية، فربما كان المنتصر من الظالمين، وهو لا يشعر، انتهى كلام "البحر". وقال بعضهم (¬1): الإنسان الكامل كالبحر، فمن آذاه واغتابه، أو قصد إليه بسوء، فإنه لا يتكدر به بل يعفو عنه، ألا ترى أن البول إذا وقع في البحر، فالبحر يطهره، وكذا من أجنب، إذا دخل البحر، واغتسل، فإنه يطهر، ولا يتغير البحر لا بالبول ولا بدخول الجنب. وقال في "الخلاصة" في كتاب الحدود: رجل قال لآخر: يا خبيث هل يقول له: بل أنت، الأحسن: أن يكف عنه ولا يجيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي ليؤدب يجوز، ومع هذا لو أجاب لا بأس به. وفي "مجمع الفتاوى" في كتاب "الجنايات" لو قال: لغيره يا خبيث فجازاه بمثله جاز؛ لأنه انتصار بعد الظلم وذلك مأذون فيه قال الله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} والعفو أفضل. قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. وإن كانت تلك الكلمة موجبة للحد لا ينبغي له أن يجيبه بمثلها، تحرزا على إيجاب الحد على نفسه. انتهى. كما قال في "التنوير": لو قال لآخر: يا زاني، فقال الآخر: أنت الزاني .. حد، بخلاف ما لو قال له مثلًا: يا خبيث، فقال أنت، تكافأا. وفي "التنوير" أيضًا ضرب غيره بغير حق، وضربه المضروب يعزران، ويبدؤوا في إقامة التعزير بالبادىء. 61 - ثم قرر نصره لعباده المؤمنين، وأكده بقوله: {ذَلِكَ} النصر الذي أنصره لمن بغي عليه، وهو مبتدأ خبره قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ} والباء فيه سببية؛ أي: كائن بسبب أن الله سبحانه وتعالى {يُولِجُ} ويدخل {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}؛ أي: يدخل بعض ساعات الليل في النهار، فيزيد النهار بقدر ما نقص من الليل. {وَيُولِجُ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[62]

النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}؛ أي: يدخل بعض ساعات النهار في الليل، فيزيد الليل بقدر ما نقص من النهار. أي: ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر. والمراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في محل الآخر؛ أي: إنه يحصل ظلمة الليل في مكان ضياء النهار، بتغييب الشمس وضياء النهار في مكان ظلمة الليل، بإطلاعها وجعلها طالعة، أو يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات. والمعنى (¬1): أي ذلك النصر الذي أنصره لمن بغي عليه، لأني أنا القادر على ما أشاء، ألا ترونني أدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار، وأدخل ما ينقص من ساعات النهار في ساعات الليل، وبهذه القدرة التي تفعل ذلك أنصر محمدًا وصحبه على الذين قد بغوا عليهم، وأخرجوهم من ديارهم، وأموالهم، وآذوهم أشد الأذى على إيمانهم بي وحدي. {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه {سَمِيعٌ} يسمع قول العاقب والمعاقب {بَصِيرٌ} يرى أفعالهما، فلا يهملهما. والمعنى: أي وبسبب أن الله تعالى سميع للأقوال، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات بصير بما يعملون، لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه شيء، وإن كان مثقال ذرة. 62 - ولمَّا وصف نفسه بما لا يقدر عليه، غيره علل ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: ذلك الاتصاف بكمال القدرة، وكمال العلم بسبب أن الله هو الثابت لذاته، وأنه لا مثيل له، ولا شريك. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: وأن الذين يعبدون من دونه تعالى من الآلهة {هُوَ الْبَاطِلُ} في ألوهيته المعدوم في حد ذاته، لا يقدر على صنع شيء، بل هو المصنوع الموجد بعد ¬

_ (¬1) المراغي.

[63]

العدم. {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه {هُوَ الْعَلِيُّ} على جميع الأشياء، وكل شيء دونه. {الْكَبِيرُ} عن أن يكون له شريك، لا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا. وخلاصة ذلك (¬1): أفتتركون أيها الجهال عبادة من بيده النفع والضر، وهو القادر على كل شيء، وكل شيء دونه، وهو فوق كل شيء، وتعبدون من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا وضرًا. وعبارة الشوكاني هنا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: هو سبحانه ذو الحق فدينه حق، وعبادته حق، ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق. {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ}؛ أي: العالي على كل شيء بقدرته المتقدس عن الأشباه، والأنداد، والمنزه عما يقول الظالمون من الصفات {الْكَبِيرُ}؛ أي: ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته، وتفرده بالإلهية. انتهت. وقرأ الجمهور: (¬2) {وَأَنَّ مَا} بفتح الهمزة. وقرأ الحسن بكسرها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأخوان حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم {يَدْعُونَ} بياء الغيبة هنا وفي لقمان على الخبر. واختار هذه القراءة أبو عبيدة. وقرأ باقي السبعة {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب للمشركين واختار هذه القراءة أبو حاتم. والمعنى: وأن الذين تدعونهم آلهة، وهي الأصنام، هو الباطل الذي لا ثبوت له، وكلا هاتين القراءتين الفعل فيهما مبني للفاعل. وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري {يُدْعَون} بالياء مبنيًا للمفعول، والواو عائدة على {ما}. على معناها، و {ما} الظاهر أنها أصنامهم. وقيل الشياطين. والأولى العموم في كل مدعو دون الله سبحانه وتعالى. 63 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير. والرؤية هنا إما علمية كما قاله الرازي، أو بصرية. والخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من تتأتى منه الرؤية {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ أي: مطرًا {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أي: ذات خضرة؛ أي: فتصير الأرض نامية بما فيه رزق العباد، وعمارة البلاد. والفاء فيه للعطف على {أنزل}. وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر. كما قاله الخليل وسيبويه. وفي "الشهاب" ولم ينصب (¬1) هذا المضارع في جواب الاستفهام؛ لأنه استفهام تقريري مؤول بالخبر؛ أي: قد رأيت. والخبر لا جواب له. وأيضًا لا تصح السببية هنا، فإن الرؤية لا يثبت عنها إخضرار الأرض، بل إنما يوجبه إنزال المطر. وأيضًا جواب الاستفهام ينعقد منه شرط وجزاء، وهنا لا يصح ذلك، إذ لا يقال: إن تر إنزال المطر تصبح الأرض، اهـ. ملخصًا منه. وقرىء {مُخْضَرَّةً} على وزن مفعلة ومسبعة. قال الزمخشري: فإن قلت (¬2): هلا قيل: فأصبحت، ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، كما تقول: أنعم عليَّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرًا له. ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع، اهـ. قال ابن عطية (¬3): ولا يكون هذا الإخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة، والظاهر أن المراد بالإخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها، كما في قول تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}. وقال أبو عبد الله الرازي في "تفسيره الكبير" قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ذكر هنا من آثار قدرته ستة أشياء: أولها: إنزال المطر الناشىء عنه اخضرار الأرض، وفسر الرؤيا بالعلم دون الإبصار؛ لأن الماء وإن كان مرئيًا إلا أن كون الله منزلًا له من السماء غير مرئي. وقال: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ} دون أصبحت لإفادته بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان. الثاني: قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ومن جملته خلق المطر، ¬

_ (¬1) الشهاب. (¬2) الكشاف. (¬3) البحر المحيط.

[64]

والنبات نفعًا للحيوان، مع أن الله لا يحتاج لذلك، ولا ينتفع به. الثالث: تسخير ما في الأرض؛ أي: ذلل لكم ما فيها كالحجر والحديد، والنار لما يراد منها، والحيوان للأكل والركوب، والحمل عليه، والنظر إليه. الرابع: تسخير الفلك بالماء والرياح، فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف. الخامس: إمساك السماء؛ لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك، لا بد له من السقوط، لولا مانع يمنع منه، وهو القدرة. فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع فتبطل النعم التي أمتن بها علينا. سادسها: الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء، نبه بهذا على أن هذه النعم لمن أحياه الله، فنبه بالإحياء الأول على إنعامه في الدنيا بكل ما تقدم، ونبه بالإماتة والإحياء ثانيًا على إنعامه علينا في الآخرة. ولما فصل تعالى هذه النعم، قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}؛ أي: لهذه النعم. اهـ. من "الرازي". والمعنى: أي ألم تبصر، أو ألم تعلم أيها الرائي، أن الله تعالى ينزل من السماء مطرًا فيحيي به الأرض، فتنبت ضروبًا مختلفة من النبات، بديعة الألوان، والأشكال، ذات خضرة سندسية، تبهر العين بحسن منظرها، وبديع تنسيقها. ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ}: يصل علمه إلى كل دقيق، وجليل. وقيل: لطيف بأرزاق عباده. وقيل: لطيف باستخراج النبات. {خَبِيرٌ}؛ أي: ذو خبرة بتدبير عباده، وما يصلح لهم. وقيل: خبير بما ينطوون عليه من القنوط واليأس عند تأخير المطر، وقيل: خبير بحاجتهم وفاقتهم. ونحو الآية قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. 64 - {لَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) الفخر الرازي.

[65]

جميع ما فيهما خلقًا، وملكًا، وتصرفًا، وكلهم محتاجون إلى رزقه، منقادون لأمره، لا امتناع لهم من تصرفه. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَهُوَ الْغَنِيُّ} في ذاته عن كل شيء، المستغني عن حمد الحامدين، فلا يحتاج إلى شيء. {الْحَمِيدُ}؛ أي: المستحق للحمد في ذاته وصفاته وأفعاله. وقال الغزالي: {الْحَمِيدُ} هو المحمود المثني عليه، والله تعالى هو الحميد لحمده لنفسه أزلا، ولحمد عباده له أبدًا. ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلو والكمال، منسوبان إلى ذكر الذاكرين له، فإن الحمد هو ذكر أوصاف الكمال، من حيث هو كمال. 65 - {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم أيها المخاطب {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَخَّرَ لَكُمْ} وذلل {مَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جعل جميع ما فيهما مذللة لكم، معدة لمنافعكم، تتصرفون فيها كيف شئتم، فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد، ولا أهيب من النار، وهي مسخرة منقادة لكم. أي: إنه تعالى (¬1) سخر ما في ظاهر الأرض وباطنها، لينتفع بها الإنسان في مصالحه ومرافقه المختلفة، ويصرفه فيما أراد من شؤون معايشه ولا يزال العلم يهديه إلى غريب الأمور، مما لم يكن يخطر لأسلافه على بال، مما لو حدث به السالفون لقالوا: إنه ترهات، وأباطيل، وما صدقه بشر. ولا يزال العلم يولد كل يوم جديدًا. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، ويهتدي العقل إلى ما هو أشبه بالمعجزات، لولا أن سدت أبواب النبوات. ونحو الآية قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} {وَالْفُلْكَ} عطف على {مَا}، أو على اسم {إِنَّ} وجملة {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}؛ أي: بمشيئته وتيسيره، حال من الفلك؛ أي: وسخر لكم السفن تجري في البحار برفق، وتؤدةٍ حاملةً ما تريدون، من نائي الأصقاع، وبعيد المسافات من سلع، وحيوان، وأناسي، وبذلك يتم تبادل مرافق الحياة بالأخذ والعطاء. وإنما أفردها بالذكر، وإن اندرجت بطريق العموم تحت ما في قوله: {مَا فِي الْأَرْضِ} لظهور ¬

_ (¬1) المراغي.

الامتنان بها، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات اهـ. "سمين". وقرأ الجمهور (¬1): {وَالْفُلْكَ} بالنصب، وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفًا على {مَا}. وجوز أن يكون معطوفًا على الجلالة، بتقدير وأن الفلك، وهو إعراب بعيد عن الفصاحة. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وجملة تجري خبره. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ}؛ أي: وإن الله سبحانه يمسك السماء من {أَنْ تَقَعَ} وتسقط {عَلَى الْأَرْضِ} بأن خلقها متداعية إلى الاستمساك. يقال: أمسك الشيء إذا أخذه والوقوع السقوط. {إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي: إلا بمشيئته، وإرادته. قال الراغب: الإذن في الشيء: الإعلام بإجازته، والرخصة فيه، انتهى. وذلك يوم القيامة. وفيه رد لاستمساكها بذاتها، فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط، كقبول غيرها، والمعنى؛ أي: وإن الله يمسك أجرام الكواكب من شمس، وقمر، وكواكب نيرات بنظام الجاذبية، إذ جعل لكل منها مداراً خاصًا بها، لا تعدوه بحالٍ، ولا تزال كذلك ما بقيت الحياة الدنيا، حتى إذا اقتربت الساعة اختل نظامها. وانتثرت في الفضاء، كما ألمع إلى ذلك سبحانه بقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} الآية. ولولا هذا النظام الخاص لاصطدمت الكواكب العظيمة بعضها ببعض. وفسد العالم الأرضي ولم يعش على ظهر البسيطة إنسان، ولا حيوان. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ أي: كثير الرأفة والرحمة، حيث سخر هذه الأمور لعباده، وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم، تفضلاً منه على عباده، وإنعاماً عليهم، وفتح لهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار، وأوضح لهم مناهج الاستقلال بالآيات التكوينية، والتنزيلية. والرؤوف (¬2) بمعنى الرحيم، إذ الرأفة أشد الرحمة، أو أرقها. كما في "القاموس". قال في "بحر العلوم". {الرؤوف}؛ أي: المريد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[66]

للتخفيف على عباده. {رَحِيمٌ}؛ أي: مريد للإنعام عليهم. 66 - ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} بعد أن كنتم نطفًا جمادًا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء أعماركم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعث للثواب والعقاب. والمعنى: أي وهو سبحانه، هو الذي أنعم عليكم بهذه النعم، وجعلكم أجسامًا حيةً بعد أن كنتم ترابًا، ثم يميتكم حين انقضاء آجالكم، ثم يحييكم بالبعث والنشور إلى عالم آخر، تلقون فيه حسابكم وجزاءكم من نعيم أو جحيم. ثم بين طبيعة الإنسان التي فطر عليها، فقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}؛ أي: كثير الجحد، لنعم الله عليه مع كونها ظاهرةً غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس، بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغةً، وهو المشرك كُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبي بن خلف، وغيرهم. والمعنى: أي (¬1) إن الإنسان لم يوجه همه إلى كل هذه الآلاء التي يتقلب فيها ليلًا ونهارًا بل جحدها، وجحد خالقها على وضوح أمرها، وعبد غيره، وجعل له الأنداد من الأصنام والأوثان. ونحو الآية قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}. 67 - ثم عاد سبحانه، إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الأديان عن منازعته، فقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} معينة من الأمم الماضية والباقية. والأمة جماعة أرسل إليهم رسول. {جَعَلْنَا}؛ أي: وضعنا وشرعنا {مَنْسَكًا}؛ أي: شريعة خاصة بهم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها، إلى شريعة أخرى، على معنى عيّن كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطاها إلى شريعة أخرى، لا استقلالًا ولا اشتراكًا. وجملة قوله: {هُمْ ¬

_ (¬1) المراغي.

نَاسِكُوهُ} صفة لمنسكًا مؤكدة للقصر، المستفاد من تقديم الجار والمجرور على الفعل، والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها؛ أي: تلك الأمة المعينة هي الناسكة والعاملة به لا غيرها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام، منسكهم التوراة هم ناسكوها، والعاملون بها لا غيرهم، والأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، منسكهم الإنجيل هم ناسكوه، والعاملون بها لا غيرهم، والأمة التي من مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى يوم القيامة منسكهم الفرقان ليس إلا، لأن لكل زمان ما يليق به من الشرائع، التي تناسب من فيه في تلك الحقبة. والمنسك مصدر ميمي مأخوذ من النسك، وهو العبادة. لا اسم (¬1) مكان، كما يدل عليه قوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ}، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل المنسك موضع أداء العبادة. وقيل: هو الذبائح. ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب. والفاء: في قوله: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد أنا جعلنا لكل أمة منسكًا، وأردت بيان ما هو اللازم لمعاصريك، فأقول لك: لا ينزعنك؛ أي: لا يخاصمنك من يعاصرك من أهل الملل. {فِي الْأَمْرِ}؛ أي: في أمر دينك، زعمًا منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم الأولين من التوراة والإنجيل فإنهما شريعتان لمن مضى من الأمم قبل انتساخها، وهؤلاء أمة مستقلة، منسكهم القرآن المجيد فحسب. والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات إلى نزاعهم له. قال الزجاج: إنه نهي له - صلى الله عليه وسلم - عن منازعتهم؛ أي: لا تنازعهم أنت، كما تقول: لا يخاصمك فلان؛ أي: لا تخاصمه، وكما تقول: لا يضاربنك فلان؛ أي: لا تضاربه. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنًا. والمعنى: أي (¬2) فلا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر هذا الدين، فإن تعيينه تعالى لكل أمة شريعة خاصة، موجب لطاعة هؤلاء لك، وعدم منازعتهم إياك في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أمر هذه الشريعة، زعمًا منهم أن شريعتهم هي ما عين لآبائهم من التوراة والإنجيل. فذلك خطأ منهم، فإن ذلك إنما كان شريعة لمن مضى قبل نسخه بالقرآن. والخلاصة: أثبت أيها الرسول على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك منه، ليزيلوك عنه. والمراد بذلك: تهييج حميته - صلى الله عليه وسلم -، وإلهاب غضبه لله ولدينه ومثل هذا كثير في كتاب الله، وكأنه قد قيل له: تأس بالأنبياء قبلك في مشاركة القوم الظالمين، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم. وقال: ابن جرير الطبري (¬1) (17/ 199): يقول تعالى: فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله، يا محمد، في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله، فإنك أولى بالحق منهم؛ لأنك محق وهم مبطلون. وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله يعنون الميتة. وقرىء {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} بالنون الخفيفة. وقرأ أبو مجلز {فلا ينزعنك في الأمر} من النزع، بمعنى فلا يقلعنك من دينك، فيحملوك إلى أديانهم من نزعته من كذا، أو لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك، وقرأ الباقون: {يُنَازِعُنَّكَ} من المنازعة، بمعنى المخاصمة والمجادلة. فائدة: وإنما (¬2) قال: فيما سبق {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} بواو العطف، وقال: هنا {لِكُلِّ أُمَّةٍ}؛ لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآية الواردة في أمر المناسك، فعطفت على أخواتها، وأمَّا هذه فواقعة مع أباعد عن معناها، فلم تجد معطفًا. قاله الزمخشري. {وَادْعُ} هؤلاء المنازعين، أو ادع الناس كافة، ولا تخص أمة دون أمة بالدعوة، فإن كل الناس أمتك {إِلَى رَبِّكَ}؛ أي: إلى توحيد ربك، وعبادته ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) البحر المحيط.

[68]

حسبما بين لهم في منسكهم وشريعتهم {إِنَّكَ} يا محمد {لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: على طريق مستقيم لا اعوجاج فيه؛ أي: على طريق موصل إلى الحق، وشريعة توصل إلى السعادة الأبدية. ونحو الآية قوله: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}. 68 - {وَإِنْ جَادَلُوكَ}؛ أي: وان جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، وخاصموك مراءً وتعنتا بعد أن ظهر الحق، ولزمتهم الحجة، كما يفعله السفهاء {فَقُلِ} لهم على سبيل التهديد، والوعيد، والإنذار. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عليم بأعمالكم، وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم بها. وعليم بأعمالنا فمجاز لنا بها. ونحو الآية قوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. 69 - وبعد أن أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديد الوقع على النفس، سلاه بأن الله سيجازيهم لا محالة يوم القيامة، على ما يقولون ويفعلون. فقال {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}؛ أي: يفصل ويقضي بين المؤمنين منكم والكافرين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بالثواب والعقاب، كما فصل بينكم في الدنيا بالحجج والآيات. {فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين، فيتبين المحق من المبطل. وقصارى ما سلف (¬1): ادع إلى شريعتك، ولا تخص بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك، وانك لعلى طريق واضحة الدلالة، تصل بمن اتبعها إلى سبيل السعادة، فإن عدلوا عن النظر في الأدلة إلى المراء، والتمسك بالعادات، وبما وجدوا عليه الآباء والأجداد .. فدعهم في غيهم يعمهون. فقد أنذرت وما عليك إلا البلاغ، وقيل لهم، مهددًا منذرًا: الله يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة، ويتبين المحق من المبطل ويجازي كلا بما يستحق. ¬

_ (¬1) المراغي.

[70]

70 - وفي هذه الآية (¬1): تعليم لهذه الأمة، بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل. وقيل: إنها منسوخة بآية السيف. وجملة قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} مستأنفة، مقررة لمضمون ما قبلها، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قد علمت يا محمد وتيقنت {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون. والمعنى: أي قد علمت يا محمد، أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة، على علم منه، بما عملوه في الدنيا، فمجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته. ثم أكد علمه بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ} الذي في السماء والأرض من معلوماته {فِي كِتَابٍ}؛ أي: مكتوب عنده في أم الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، قبل أن يخلقه، فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به. وحفظنا له. {إِنَّ ذَلِكَ}؛ أي: إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه. {عَلَى اللَّهِ} سبحانه {يَسِيرٌ}؛ أي: سهل غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض وإثباته في اللوح المحفوظ يسير عليه، إذ لا يخفى عليه شيء، ولا يتعسر عليه مقدور. 71 - ثم حكى سبحانه بعض أباطيل المشركين، وأحوالهم الدالة على سخافة عقولهم، فقال: {وَيَعْبُدُونَ}؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون بالله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ}؛ أي: أصناماً لم ينزل الله بجواز عبادتها {سُلْطَانًا}؛ أي: حجة وبرهانًا من السماء في كتاب من كتبه، التي أنزلها على رسله {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: ويعبدون ما ليس لهم علم، من ضرورة العقل، بجواز عبادته، أو بأنه إله. وهي الأصنام المذكورة، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بغير حجة ولا برهان. والخلاصة (¬2): ويعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من الوحي، ولا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[72]

دليل من العقل على صحة عبادته، فهم إنما يعبدون الأصنام بمجرد الجهل، ومحض التقليد. ونحو الآية قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: وليس للمشركين، الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم، {مِنْ نَصِيرٍ}؛ أي: ناصر يدفع عنهم العذاب، الذي يعتريهم بسبب ظلمهم. وفي "التأويلات النجمية" (¬1) يشير سبحانه، إلى أن من كان من جملة خواصه أفرده، ببرهان وأيده ببيان، وأعزه بسلطان، وما لأهل الخذلان سلطان، فيما عبدوه من أصناف الأوثان، ولا برهان على ما طلبوه، وما لهم نصرة من الله، بل خذلان. 72 - وجملة قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} معطوفة على يعبدون؛ أي: وإذا قرئت على هؤلاء المشركين {آيَاتِنَا} من القرآن حالة كونها {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الإلهية. وجملة قوله: {تَعْرِفُ} جواب {إذا}. أي: تعرف أيها المخاطب {فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الاضمار {الْمُنْكَرَ}؛ أي (¬2): الأمر المنكر، وهو غضبهم وعبوسم عند سماعها، أو المراد بالمنكر الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام؛ أي: تعرف في وجوههم إنكارها، وترى فيها علامته من العبوس والكراهة. وقيل: هو التجبر والتكبر. وقرأ عيسى بن عمر {يعرف} مبنيًا للمفعول ورفع المنكر. واعلم: أنَّ (¬3) الوجوه كالمرآة، فكل صورة من الإقرار والإنكار تظهر فيها، فهي أثر أحوال الباطن، وكل إناء يترشح بما فيه، كتلون وجوه قوم صالح، فما ظهر عليهم في ظاهرهم، إلا حكم ما استقر في باطنهم. والمعنى: أي (¬4) وإذا تتلى على هؤلاء المشركين العابدين من دون لله، ما لم ينزل به سلطانًا. آيات القرآن ذوات الحجج والبينات، بدت وظهرت على وجوههم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

أمارات الإنكار، بالتهجُّم والعبوس والبسور، ونحو ذلك، مما يدل على الغيظ، والحقيدة الكامنة في نفوسهم، مما يسمعون منها. ثم بين مقدار ذلك الغيظ، ومبلغ أمره، فقال: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} هذه الجملة (¬1) حال إما من الموصول، وإن كان مضافًا إليه، لأنَّ المضاف جزؤه، وإما من الوجوه؛ لأنها يعبر بها عن أصحابها، كقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ} ويسطون ضمن معنى يبطشون، فتعدى تعديته، وإلا فهو متعد بعلى، يقال سطا عليه؛ أي: وإذا تتلى عليه آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا أمارات الإنكار، حالة كونهم يقاربون أن يسطوا ويبطشوا. {بـ} المؤمنين {الَّذِينَ يَتْلُونَ} ويقرؤون {عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ويوقعوا عليهم الصرر، من فرط غيظم وشدة غضبهم؛ أي: هم من شدة خنقهم على من يتلوا عليهم آياتنا من المؤمنين يكادون يثبون عليهم ويبطشون بهم، ويبسطون أيديهم وألسنتهم بالسوء. وقصارى ذلك أنهم قد بلغوا من الجهالة حدًّا لا ينفع فيه العلاج، ولا تقنع فيه البينات والحجج. والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب أو شتم أو أخذ باليد. وأصل السطو القهر، كما سيأتي في مبحث الصرف. وهكذا (¬2): ترى أهل البدع المضلة والخرافات المحدثة، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم السني عليهم، من آيات الكتاب وأحاديث الرسول "الصحيحة" مخالفًا لما اعتقدوه من الباطل والضلالة .. رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم، لفعل به ما لا يفعله بالمشركين. وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع، ما لا يحيط به الوصف. والله ناصر الحق، ومظهر الدين، وداحض الباطل، ودامغ البدع، وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس، ما نزل إليهم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين في نفوسهم ليس بشيء، إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ¬

_ (¬1) الفتوحات الإلهية. (¬2) الشوكاني.

ذَلِكُمُ} والهمزة فيه للاستفهام التقريعي داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: قل لهم أيها الرسول أتسمعون ما أقول: فأخبركم بأشر وأقبح، وأشد ضررًا عليكم من ذلكم الذي في قلوبكم من الغيظ على التالين للآيات، وأكره عليكم من سماع القرآن، حتى قاربتم أن تسطوا بهم وتمدوا إليهم أيديكم وألسنتكم بالسوء. ثم أجاب عن هذا الاستفهام، فقال {النَّارُ}؛ أي: ذلك الأشر، هو النار، على أنه جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما هو؟ فأجاب بقوله: ذلك الشر، هو النار التي أعدها الله تعالى لكم و {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: خوف بها الذين كفروا {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: وقبح الموضع الذي تصيرون وترجعون إليه وهو النار. والمعنى: أي (¬1) النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، ومما تنالون منهم، إن نلتم بإرادتكم واختياركم. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: وبئس النار موئلًا ومقامًا لهؤلاء المشركين بالله. ونحو الآية قوله: ({إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}. وقرأ الجمهور (¬2): {النار} رفعًا على إضمار مبتدأ كان قائلًا يقول قال: وما هو؛ قال: النار؛ أي: نار جهنم. وجملة وعدها، إما حال من النار، وإما خبر بعد خبر وإما مستأنفة. وأجاز الزمخشري أن تكون {النار} مبتدأ، وجملة {وعدها} خبرًا عنها. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي: {النارَ} بالنصب على الاختصاص. قال: الزمخشري: ومن أجاز في الرفع أن تكون النار مبتدأ، فقياسه أن يجيز النصب على الاشتغال. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة {النار} بالجر على البدل من {شر}، فتكون جملة {وعدها} مستأنفة. والظاهر أن الضمير في {وعدها} هو المفعول الأول، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ويجوز أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[73]

يكون الضمير هو المفعول الثاني، والذين كفروا هو الأول. كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ}. 73 - قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} كلام متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}؛ أي: يا أهل مكة ضرب مثل؛ أي: (¬1) بين لكم حالة مستغربة أو قصة بديعة حقيقية، بأن تسمى مثلًا، وتسير في الأمصار والأعصار {فَاسْتَمِعُوا لَهُ}؛ أي: لذلك المثل استماع تدبر، وتدبروه حق تدبر، فإن الاستمتاع بلا تدبر وتعقل لا ينفع. قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلًا، قال وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي: بين الله لكم شبهًا ولمعبودكم. وأصل (¬2) المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس، مستغربة عندهم. وجعلوا مضربها مثلًا لموردها، كـ (الصيف ضيعتَ اللبن)، ثم قد يستعيرونها للقصة، أو الحالة، أو الصفة المستغربة، لكونها مماثلة لها في الغرابة، كهذه القصة المذكورة في هذه الآية. فإن قلت (¬3): الذي جاء به، ليس بمثل، فكيف سماه مثلًا؟ قلت: لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة، جاز أن يسمى كل كلام، كان كذلك مثلًا. وقال في "الكشاف": قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلًا، تشبيهًا لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مسيرةً عندهم مستحسنةً مستغربة. والمعنى: جعل لي شبيها وشبه بي الأوثان؛ أي: جعل المشركون الأصنام أشباهي وشركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ}؛ أي: إن الأصنام التي تعبدونها {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين عبادة الله، وهو بيان للمثل وتفسير له. {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا}؛ أي: لن يقدروا على خلق ذبابٍ واحدٍ أبدًا مع صغره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

وحقارته فإنَّ (¬1) (لَنْ) بما فيها من تأكيد النفي، دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}؛ أي: لخلقه، والجواب محذوف، تقديره: لن يخلقوه. والمعنى: أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة، على ضعفها وصغرها، فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودًا له. وجملة قوله: {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} مع الجواب المقدر في موضع حال جيء بها للمبالغة؛ أي؛ لا يقدرون على خلقه مجتمعين له، متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين. وقرأ الجمهور: {تدعون} بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمر {يدعون} بالياء، وكلاهما مبني للفاعل، وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنيًا للمفعول. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا}؛ أي: وإن يأخذ الذباب منهم شيئًا ويخطفه {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}؛ أي؛ لا يستردوه من الذباب مع غاية ضعفه لعجزهم. قيل: كانوا يطيبون الأصنام بالطيب والعسل، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. أي: وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرمًا، وأشد منه قوة أعجز وأضعف. ثم عجيب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب. فقال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم. وقيل: الطالب الصنم، من حيث إنه يطلب خلق الذباب، أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وقيل: الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم. وقال الضحاك؛ أي: ضعف العابد والمعبود، ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب، وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال. قال ابن جرير الطبري: والصواب عندنا من التأويلات المذكورة، تأويل ابن عباس؛ لأن ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب، فلأن يكون ذلك خبرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[74]

عما هو متصلٌ به أشبه من أن يكون عما هو عنه منقطع انتهى. 74 - ثم بين الله سبحانه، أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهةً، عاجزةً، إلى هذه الغاية في العجز، ما عرفوا الله حق معرفته فقال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ}؛ أي: ما قدر المشركون الله، وما عظموه {حَقَّ قَدْرِهِ}؛ أي: حق عظمته، وما عرفوه حق معرفته وما وصفوه حق صفته، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب، ولا ينتصر منه، وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء منه مناسبةً. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَقَوِيٌّ} على خلق كل شيء. {عَزِيزٌ} غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين. فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، ولا تقدر على شيء. وحاصل معنى الآيتين (¬1): يا أيها الناس، يعني: المؤمنين جعل المشركون لي أشباهًا وأندادًا، وهي الآلهة التي يعبدونها معي، فأنصتوا وتفهموا حال ما جعلوهم لي، في عبادتهم إياهم أشباهًا وأمثالًا، وحال هؤلاء الأشباه، أنه لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة، على صغر حجمها، وحقارة شأنها .. ما قدروا، وما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. روي عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال الله عز وجل: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي!؟ فَلْيخَلْقُوا ذُرةً، فليخلقوا شعيرة!! ". وإن يسلب الذباب الآلهة والأصنام شيئًا، مما عليها من طيب وما أشبهه، لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه. والخلاصة: أنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته، والانتصار منه لو سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه. وفي ذلك إشارة إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة، وأشركوا بالله القادر على كل شي آلهتهم من الأصنام والأوثان، التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب، ولو اجتمعت له. ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها ¬

_ (¬1) المراغي.

[75]

شيئًا. عجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من المطلوب، وهو الذباب ما سلبها إياه من الطيب وما أشبهه. وقصارى هذا: أنه سبحانه، وصف هذه الآلهة بما وصف للدلالة على مهانتها وضعفها، تقريعاً منه لعبدتها من مشركي قريش؛ وكأنه قيل لهم كيف تجعلون لي مثلًا في العبادة، وتشركون معي فيها، ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ منه الذباب شيئًا، لم يقدر أن ينتصر منه، وأنا الخالق لما في السموات والأرض، المالك لجميع ذلك، المحيي لما أردت، والمميت له، إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه. ثم زاد هذا الإنكار توكيدًا، فقال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؛ أي: ما عظموه حق التعظيم، الذي هو إفراده بالعبادة، إذ عبدوا معه غيره، من هذه الأصنام، التي لا تقاوم الذباب لضعفها، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئًا. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ أي: إنه تعالى قوي لا يتعذر عليه شيء، وبقدرته خلق كل شيء. عزيز لا يغالب لعظمته وسلطانه، ولا يقدر شيء أن يسلبه من ملكه شيئًا وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون الله تعالى. ونحو الآية قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} 75 - وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات، ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَصْطَفِي} ويختار {مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي، كجبريل وميكائيل، وإسرافيل. فإن قلت: إن قوله من الملائكة، يقتضي أن تكون الرسل بعض الملائكة لا كلهم فيناقض قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} قلت: يدفع هذا التناقض، بأن المراد بما هنا من كان رسولًا من الملائكة إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة كجبريل، وعزرائيل والحفظة. وبأن المراد من قوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}؛ أي: بعضهم رسلًا إلى البعض. اهـ "جمل". {و} يصطفي {مِنَ النَّاسِ} رسلًا يدعون عباده إلى ما لا يرضيه، ويبلغونهم

[76]

ما نزله عليهم من وحيه، إرشاداً لهم وتشريعاً للأحكام التي فيها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بهم، فيعلم من يستحق أن يختار منهم لهذه الرسالة. 76 - {يَعْلَمُ} سبحانه {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: ما كان بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم. {وَمَا خَلْفَهُمْ}؛ أي: ويعلم ما هو كان بعد فنائهم. وعبارة العمادي: ما بين أيديهم ما مضى، وما خلفهم ما لم يأت. وخلاصة ذلك: يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وقيل: يعلم ما عملوه وما سيعملونه من أمور الدنيا. {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى أحد غيره، لا اشتراكًا ولا استقلالًا {تُرْجَعُ} وترد من (¬1) الرجع القهقرى {الْأُمُورُ} كلها في الآخرة؛ لأنه مالكها بالذات، ولا أمر ولا نهي لأحد سواه. وهو يجازي كلا بما عمل إن خيرًا، وإن شرًا. لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره، وهم يسألون. وفي هذا إشارة إلى التفرد بالإلهية، والحكم، وإلى الزجر عن المعصية. 77 - ولمَّا تضمن ما ذكره من أنّ الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله وصدقوها {ارْكَعُوا}؛ أي: اخضعوا لله {وَاسْجُدُوا}؛ أي: خروا له سجدًا. وقيل: ارجعوا (¬2) من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع الحيوانية، وذلة النباتية. قال: ابن عباس: إن الناس كانوا في أول الإسلام يركعون ولا يسجدون، حتى نزلت هذه الآية. قال أبو الليث: كانوا يسجدون بغير ركوع، فأمرهم الله بأن يركعوا ويسجدوا. وقال بعضهم: كانوا يركعون بلا سجود، ويسجدون بلا ركوع. والمعنى: صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم. عبر عن الصلاة بهما؛ لأنهما أعظم أركانها. وخص الصلاة بالذكر؛ لأنها أشرف عبادات البدن. وقال الإمام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

الأعظم أبو حنيفة والإمام مالك: دل مقارنة السجود بالركوع في الآية على أن المراد سجود الصلاة، ثم عمَّم فقال: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: واعبدوه بسائر ما تعبدكم به خالصًا لوجهه. {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} الذي أمركم بفعله، من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. وقيل: فعل (¬1) الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى، وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله، ويدخل فيه البر والمعروف، والصدقة وحسن القول وغير ذلك من أعمال البر. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: لكي تسعدوا وتفوزوا من ربكم بما تأملون من الثواب والرضوان والجنة؛ أي: افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الإفلاح، غير متيقنين له واثقين بأعمالكم. فصل في حكم سجود التلاوة هنا لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة، واختلفوا في السجدة الثانية. فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا: في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: "نعم. ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما". أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج، فسجد فيها سجدتين، وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ. وذهب قوم إلى أن في الحج سجدة واحدة، وهي الأولى وليست هذه بسجدة. وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك، بدليل أنه قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة ¬

_ (¬1) الخازن.

[78]

صلاةٍ لا سجدة تلاوةٍ. واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة، فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكن قال الشافعي: في الحج سجدتان، وأسقط سجدة {ص} وقال أبو حنيفة في الحج سجدة واحدة، وأثبت سجدة {ص}. وبه قال: أحمد في إحدى الروايتين عنه، فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. ويروى ذلك عن أبي بن كعب وابن عباس وبه قال مالك. فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما روي عن أبي الدراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في القرآن أحد عشرة سجدة". أخرجه أبو داود، وقال: إسناده واهٍ. ودليل من قال: في القرآن خمس عشرة سجدة؟ ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن خمس عشرة سجدة. منها: ثلاثة في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود. وصح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إقرأ، وإذا السماء انشقت. أخرجه مسلم. وسجود التلاوة سنة للقارىء والمستمع. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة هو واجب. ولا يصح سجود التلاوة إلا بتكبيرة الإحرام والسلام خلافًا لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. ولا يجزىء الركوع عن سجود التلاوة. وقال: أبو حنيفة يجزىء. ولا يسجد المستمع إذا لم يسجد التالي. نص عليه أحمد. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإخفات خلافًا للشافعي. ذكره ابن الجوزي. 78 - {وَجَاهِدُوا} أيها المؤمنون {فِي اللَّهِ}؛ أي: في (¬1) سبيله وطاعته، ونصر دينه على أعداء دينه الظاهرة والباطنة، من أهل الضلال والبدع والهوى والنفس. ¬

_ (¬1) المراح.

{حَقَّ جِهَادِهِ}؛ أي: جهادًا حقًا خالصًا لوجهه. لا تخشون فيه لومة لائم. قيل: المراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار، ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل: المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به، في الآية المتقدمة، أو امتثال جميع ما أمر به، ونهى عنه. على العموم. ومعنى: {حَقَّ جِهَادِهِ} المبالغة (¬1) في الأمر بهذا الجهاد؛ لأنه أضاف الحق إلى الجهاد. والأصل إضافة الجهاد إلى الحق؛ أي: جهادًا خالصًا لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة. وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعًا أو لاختصاصه به سبحانه، من حيث كونه مفعولًا له، ومن أجله. وقيل: المراد بحق جهاده، هو أن لا يخافوا في الله لومة لائم. وقيل: المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} كما أن قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} منسوخ بذلك. ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: {هُوَ} سبحانه لا غيره {اجْتَبَاكُمْ}؛ أي (¬2): اختاركم من سائر الأمم، وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع. وقيل: اختاركم للاشتغال بطاعته من بين سائر البريات. وقيل: اختاركم لدينه، ونصرته لا غيره. وفيه (¬3) تنبيه على ما يقتضي الجهاد، ويدعو إليه. قال ابن عطاء: الاجتبائية أورثت المجاهدة، لا المجاهدة أورثت الاجتبائية، انتهى. وفيه تشريف لهم عظيم، ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال: {وَمَا جَعَلَ} سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمْ} أيتها الأمة المحمدية {فِي الدِّينِ} الذي تعبّدكم به {مِنْ حَرَجٍ}؛ أي: من ضيق وشدة وصعوبة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

لا مخرج لكم منه، بل وسع عليكم، وجعل لكم من كل ذنب مخلصًا، فرخص لكم في المضايق، فالصلاة وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا، وفي السفر تقصر إلى ركعتين ويصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، وأباح الفطر حين السفر وحين الإرضاع والحمل والشغل في شاق الأعمال، ولم يوجب علينا الجمعة في المساجد حين السفر، أو الخوف من عدو أو سبع أو مطر، إلى نحو أولئك كما فتح لكم باب التوبة، وشرع لكم الكفارات في حقوقه، ودفع الدية بدل القصاص إذا رضي الولي. وعبارة الشوكاني هنا: وقد اختلف العلماء في هذا الحرج، الذي رفعه الله، فقيل: هو ما أحله الله من النساء، مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل: المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء، على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة. وكذا في الفطر والأضحى. وقيل: المعنى أنه سبحانه وتعالى ما جعل عليهم حرجًا بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها، كما تعبد بها بني إسرائيل. وقيل: المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجًا. بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار، والتكفير فيما شرع فيه الكفارة، والأرش أو القصاص في الجنايات، ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر: أن الآية أعم من هذا كله، فقد حط الله سبحانه، ما فيه مشقة، من التكاليف على عباده، إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل، لا مشقة فيه، أو مشروعية التخلص من الذنب بالوجه الذي شرعه، وما أنفع هذه الآية، وأجل موقعها وأعظم فائدتها. ومثلها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.

فإن قلت (¬1): كيف لا حرج فيه، مع أنَّ في قطع اليد بسرقة ربع دينار، ورجم محصن بزنا مرةٍ، ووجوب صوم شهرين متتابعين، بإفساد صوم يوم من رمضان بوطء ونحو ذلك حرجًا؟ فالجواب: المراد بالدين التوحيد، ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف، فإنه يكفر ما قبله من الشرك وإن امتد، ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معين، أو أن كل ما يقع فيه الإنسان من المعاصي، يجد له في الشرع مخرجًا بتوبةٍ، أو كفارةٍ، أو رخصةٍ. أو المراد نفي الحرج الذي كان في زمن بني إسرائيل، من الإصر والتشديد، والتضييق بتكليف ما لا يطيقون، فلا يرد نحو المخاطرة بالنفس والمال في الحج والغزو اهـ. كرخي. وفي "القرطبي": قال العلماء (¬2): رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسم، بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجًا، من إلزام ثبات رجلٍ لاثنين في سبل الله، لكنه مع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، اهـ. وانتصاب ملة في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله، تقديره: وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا أظهر ما ذكروه هنا من الأوجه، كما قاله الزمخشري. أو منصوب بـ {اتبعوا} مضمرًا قاله الحوفي، وتبعه أبو البقاء. أو منصوب على الاختصاص؛ أي: أعني بالدين ملة أبيكم. أو منصوب بـ (جعل) مقدرًا. قاله ابن عطية؛ أي: جعل لكم ملة أبيكم دينا، أو منصوب بنزع الخافض، تقديره: ملتكم كملة أبيكم إبراهيم في السهولة. فإن قلت: لم يكن إبراهيم أبًا للأمة كلها، فكيف سماه الله سبحانه، أبا، في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}؟ ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) القرطبي.

قلت: إن كان الخطاب للعرب، فهو أبو العرب قاطبةً فلا إشكال، وإن كان الخطاب لكل المسلمين، فهو أبو المسلمين لكونه أبًا لنبيهم - صلى الله عليه وسلم -. والمراد: أن احترامه وحفظ حقه واجب عليهم، كما يجب احترام الأب. والضمير في قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} عائد إلى الله، بدليل قراءة أبي {الله سماكم} والمعنى: هو سبحانه وتعالى سماكم المسلمين، في الكتب القديمة {مِنْ قَبْلُ} نزول القرآن. وقيل: عائد على إبراهيم، يعني أن إبراهيم سماكم المسلمين في زمنه، من قبل هذا الوقت، كما حكاه تعالى في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فاستجاب الله دعاءه فينا. {و} سماكم الله سبحانه مسلمين {في هذا} القرآن بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. وقيل: الله سماكم المسلمين في الأزل، من قبل أن خلقكم، وبعد أن خلقكم، أو سماكم إبراهيم مسلمين في هذا القرآن. وتسميته إياهم (¬1) مسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كان بسبب تسميته من قبل في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. وقيل: التقدير في قوله: {وَفِي هَذَا} أي: وفي هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين. ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} متعلق بـ {سَمَّاكُمُ}، واللام فيه، لام العاقبة؛ أي: ليكون الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} بأنه قد بلغكم رسالة ربكم، فيدل هذا على قبول شهادته لنفسه اعتمادًا على عصمته، أو بطاعة من أطاعه منكم، وعصيان من عصاه {وَتَكُونُوا} أنتم أيتها الأمة المحمدية {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ أي: على الأمم الماضية، بأن رسلهم قد بلغتهم. والمعنى: أي (¬2) إنما جعلكم هكذا أمة وسطًا عدولًا مشهودًا بعدالتكم بين الأمم، ليكون محمد - صلى الله عليه وسلم - شهيدًا عليهم يوم القيامة، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا شهداء على الناس، بأن رسلهم قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم. وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء لأنهم لم يفرقوا بين أحد ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

منهم، وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيِّهم ولاعتراف سائر الأمم يومئذٍ بفضلهم على سواهم، وقد تقدم ذكر هذا في سورة الأنعام عند قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، الآية. ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعًا، طلب منهم دوام عبادته، والاعتصام بحبله المتين، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: فداوموا أيها المؤمنون، على إقامة الصلوات الخمس، وأدائها بحقوقها وشروطها في أوقاتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ أي: وداوموا على إيتائها وأدائها لمستحقيها، وتقربوا إليه بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل العظيم، والشرف الجسيم، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر، من بين أنواع الطاعات، لفضلها على غيرهما، فإن الأولى تدل على تعظيم أمر الله تعالى. والثانية على الشفقة على الخلق، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: واحتفظوا بالله مما تحذرون وتخافون منه، واعتمدوا عليه، والتجؤوا إليه، وثقوا به في مجامع أموركم دينًا ودنيا، وانتصروا به على أعدائكم، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه تعالى. {هُوَ} سبحانه وتعالى {مَوْلَاكُمْ}؛ أي: ناصركم وحافظكم ومتولي أحوالكم. وقيل: المراد بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: تمسكوا بدين الله تعالى. والمعنى: أي فقابلوا هذه النعم العظيمة، بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم، بطاعته فيما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة، التي هي صلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم، واستعينوا بالله في جميع أموركم، وهو ناصركم على من يعاديكم. ثم علل الاعتصام به بقوله: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى} مولاكم، لا مماثل له في الولاية لأموركم {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ناصركم، لا مماثل له في النصرة لكم؛ أي: إن من تولاه كفاه، كل ما أهمه، وإذا نصر أحدًا، أعلاه على كل من خاصمه، إذ لا ناصر في الحقيقة سواه، ولا ولي غيره، فله الحمد، وهو رب العالمين.

الإعراب {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}. {ذَلِكَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك، من إنجاز الوعد للمهاجرن الذين قتلوا أو ماتوا. وفي الخطيب ذلك؛ أي: الأمر المقرر من صفات الله تعالى، الذي قصصنا عليك. اهـ. والجملة مستأنفة. {وَمَنْ عَاقَبَ}: الواو استئنافية. {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما، أو موصولة مبتدأ. {عَاقَبَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَن} على كونها شرطية، أو صلة لـ {من} الموصولة على كونها موصولة. وفاعله ضمير يعود على {من}. {بِمِثْلِ مَا} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عَاقَبَ}، والباء سببية هنا لا باء الآلة. {عُوقِبَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {من}. {بِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {عُوقِبَ}، وجملة {عُوقِبَ} صلة لـ {مَا} الموصولة {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب. {بُغِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، معطوف على {عاقب} على كونها فعل شرط لـ {من} إن كانت شرطية، أو على كونها صلة لها؛ إن كانت موصولة. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور نائب فاعل لـ {بُغِيَ}. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} اللام: موطئة للقسم، {ينصرن} فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبنيٌّ على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والهاء: مفعول به ولفظ الجلالة فاعل. والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي لينصرنه الله. وجملة القسم في محل الجزم جواب {مَن} الشرطية، أو في محل الرفع خبر {مَن} الموصولة، وجملة {من} الشرطية، أو الموصولة مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ}: ناصب واسمه وخبره. واللام: حرف ابتداء. {غَفُورٌ}: خبر ثان لـ {إِنَّ}، جملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}.

{ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ اللَّهَ}: الباء حرف جر {أن الله}: ناصب واسمه {يُولِجُ اللَّيْلَ}: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، وجملة {يُولِجُ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء. تقديره: ذلك بسبب إيلاج الله الليل {فِي النَّهَارِ}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب قدرة الله، على إيلاج الليل في النهار، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتقرير قدرته تعالى على النصر. {فِي النَّهَارِ}: متعلق بـ {يُولِجُ}. و {وَيُولِجُ النَّهَارَ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {يُولِجُ}. {فِي اللَّيْلِ} متعلق بـ {يُولِجُ}. {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} ناصب واسمه وخبره. {بَصِيرٌ} خبر ثان لها. وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} الأولى. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ اللَّهَ}: جار ومجرور خبره والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير دليل آخر، إلى جانب الدليل الأول، وهو القدرة على جميع الممكنات، وهو كونه تعالى حقًا ثابتًا، وما عداه معدوم وزائل. {أن}: حرف نصب. {اللَّهَ}: اسمها. {هُوَ} ضمير فصل {الْحَقُّ}: خبرها، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء {وَأَنَّ}: {الواو}: عاطفة. {أن}: حرف نصب. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب، اسم {أن} {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يدعونه {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من فاعل: {يَدْعُونَ}؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْبَاطِلُ}: خبر {أن}. وجملة {أن} معطوفة على جملة قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}. {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْعَلِيُّ}: خبر أول لـ {أن}. {الْكَبِيرُ}. خبر ثان لها، وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} الأولى. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ

لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري. {لم تر}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير مستتر، يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {أَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق به. {مَاءً} مفعول به. وجملة {أَنْزَلَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي {تَرَ}؛ لأنها علمية، أو سادة مسد مفعولها، إن كانت بصرية. {فَتُصْبِحُ}: الفاء: عاطفة، لا سببية؛ لأن الاستفهام تقرير مؤول بالخبر؛ أي: قد رأيت، والخبر لا جواب له، وأيضًا لا تصح السببية هنا، فإن الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض، بل إنما يوجبه إنزال الماء، بعد أن تصبح جهة تصبح فعل مضارع ناقص معطوف على {أَنْزَلَ}. {الْأَرْضُ}: اسمها. {مُخْضَرَّةً} خبرها. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ}: ناصب واسمه وخبره. {خَبِيرٌ} خبر ثانٍ. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)} {لَهُ}: خبر مقدم. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَمَا}: معطوف على {مَا} الأولى. {فِي الْأَرْضِ}: صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَإِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَهُوَ} اللام: حرف ابتداء. {هو}: ضمير فصل. {الْغَنِيُّ}: خبر أول لـ {أَنَّ}. {الْحَمِيدُ}: خبر ثان لها وجملة {أَنَّ} معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}. {أَلَمْ تَرَ}: الهمزة للاستفهام التقريري. {تَرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {لم}، والجملة مستأنفة {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {سَخَّرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر. {لَكُمْ}: متعلق بـ {سَخَّرَ} وجملة {سَخَّرَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَرَ}. لأنها

علمية. {مَّا}: موصولة أو موصوفة في محل النصب، مفعول {سَخَّرَ}. {فِي الْأَرْضِ}: صلة لـ {مَّا} أو صفة لها. {وَالْفُلْكَ}: معطوف على {ما في الأرض}. {تَجْرِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الفلك. {فِي الْبَحْرِ}: متعلق به، والجملة الفعلية حال من الفلك. {بِأَمْرِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من فاعل {تَجْرِي} أو متعلق به. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على {الله} معطوف على {سخر} {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَقَعَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على السماء. {عَلَى الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور، بإضافة المصدر المقدر المعلِّل، للجملة الفعلية، تقديره: كراهية وقوعها على الأرض، أو في تأويل مصدر مجرور بمن المقدرة، تقديره: ويمسك السماء من وقوعها على الأرض. واختار أبو البقاء، وغيره، أن تكون بدل اشتمال من السماء؛ أي: ويمسك وقوعها على الأرض بمعنى يمنعه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو لا يقع في الكلام الموجب، إلا أن قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ}: في قوة النفي؛ أي: لا يتركها، تقع في حالةٍ من الأحوال، إلا في حالة كونها ملتبسة بإذن الله ومشيئته. فالباء للملابسة. اهـ. زاده. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور. ومضاف إليه. متعلق بمحذوف حال من فاعل تقع؛ أي: لا تقع على الأرض إلا حالة كونها ملتبسة بإذنه تعالى. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {بِالنَّاسِ}: متعلق بـ {رؤوف}. {لَرَءُوفٌ}: خبر أول لـ {إِنَّ}. واللام حرف ابتداء. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَحْيَاكُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر عائد على الموصول، والجملة صلة الموصول. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}:

فعل ومفعول وفاعل مستتر معطوف على أحياكم. وكذا قوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: معطوف عليه. {إِنَّ الْإِنْسَانَ} ناصب واسمه. {لَكَفُورٌ}: خبره، واللام حرف ابتداء، وجملة {إن} مستأنفة مفيدة لتعليل عدم الاعتبار، والتبصر بعد هذه العبر والدلائل. {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}. {لِكُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، مفعول ثان مقدم لـ {جَعَلْنَا}. {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل {مَنْسَكًا}: مفعول أول لـ {جَعَلْنَا} والجملة الفعلية مستأنفة، استئنافًا نحويًا، لا محل لها من الإعراب. {هُمْ} مبتدأ {نَاسِكُوهُ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لمنسكًا. {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد، أنا جعلنا لكل أمة منسكًا وأردت بان ما هو اللازم لمعاصريك .. فأقول: لك لا ينازعنك من يعاصرك من أهل الملل. {لا}: ناهية جازمة. {ينازعن}. فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامته جزمه حذف النون، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والكاف مفعول به، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة، ولم تؤثر هنا في بناء المضارع، لأنها لم تباشره. {فِي الْأَمْرِ}: متعلق بـ {يُنَازِعُنَّكَ}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَادْعُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد. {إِلَى رَبِّكَ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يُنَازِعُنَّكَ}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {لَعَلَى هُدًى}: خبره، واللام حرف ابتداء. {مُسْتَقِيمٍ}. صفة {هُدًى} وجملة {إن} في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}.

{وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {جَادَلُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {فَقُلِ}: الفاء: رابطة الجواب، {قل}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب، معطوفة على جملة {يُنَازِعُنَّكَ} {اللَّهُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب مقول لـ {قل}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما تعملونه. {اللَّهُ} مبتدأ. وجملة {يَحْكُمُ} خبره. {بَيْنَكُمْ}: متعلق بـ {يَحْكُمُ}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {يَحْكُمُ} أيضًا. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قل}. {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَحْكُمُ} أيضًا. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {فِيهِ}: متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ}، وجملة {تَخْتَلِفُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد ضمير فيه. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري. {لم تعلم}: جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَعْلَمُ}. {يَعْلَمُ} مضارع والجملة خبر {أن} {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول. {فِي السَّمَاءِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} أو صفة لها. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السماء {إِنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه. {فِي كِتَابٍ}: جار ومجرور خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرٌ}. {يَسِيرٌ}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ

مِنْ نَصِيرٍ (71)}. {وَيَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل يعبدون؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. {لَمْ يُنَزِّلْ}: جازم وفعل مضارع، مجزوم وفاعل مستتر يعود على الله. {بِهِ}: جار ومجرور حال من {سُلْطَانًا}؛ لأنه في الأصل صفة نكرة. قدمت عليها. {سُلْطَانًا}: مفعول به، وجملة ينزل صلة الموصول. {وَمَا}: معطوف على ما الأولى. {لَيْسَ}: فعل ناقص. {لَهُمْ}: خبر {لَيْسَ} مقدم. {بِهِ} متعلق بـ {عِلْمٌ} {عِلْمٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ {ما} الموصولة. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواو: عاطفة. {ما}: نافية. {لِلظَّالِمِينَ}: خبر مقدم. {مِنْ} زائدة. {نَصِيرٍ}: مبتدأ مؤخر؛ أي: وما نصير كائن للظالمين. والجملة الاسمية معطوفة على جملة يعبدون. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {تُتْلَى} فعل مضارع مغير الصيغة. {عَلَيْهِمْ} متعلق به. {آيَاتُنَا}: نائب فاعل ومضاف إليه. {بَيِّنَاتٍ}: حال من الآيات، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. {تَعْرِفُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على أي مخاطب أو على محمد {فِي وُجُوهِ الَّذِينَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَعْرِفُ}. وجملة {تَعْرِفُ} جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله: {وَيَعْبُدُونَ}. {كَفَرُوا} فعل وفاعل صلة الموصولة {الْمُنْكَرَ}: مفعول به لـ {تَعْرِفُ}. {يَكَادُونَ}: فعل مضارع ناقص واسمها. {يَسْطُونَ}: فعل وفاعل. {بِالَّذِينَ}: متعلق به، وجملة {يَسْطُونَ} في محل النصب خبر {يَكَادُونَ}. وجملة {يَكَادُونَ} في محل النصب حال من الموصول قبله. وإن كان مضاف إليه؛ لأن المضاف جزؤه، ويجوز أن يكون

حالًا من وجوه؛ لأن المراد بها أصحابها. {يَتْلُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {آيَاتِنَا}: مفعول به. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر. يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَفَأُنَبِّئُكُمْ}: إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ}. وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التقريعي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: قل لهم أيها الرسول، أتسمعون ما أقول لكم، فأنبئكم بشر من ذلكم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {أنبئكم}: فعل مضارع وفاعل مستتر. ومفعول به. {بِشَرٍّ}: متعلق به {مِنْ ذَلِكُمُ}: متعلق {بِشَرٍّ}. وجملة {أنبئكم} في محل النصب، معطوفة على تلك الجملة، المحذوفة على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {النَّارُ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: ذلك الشر النار، أو النار مبتدأ وجملة وعدها خبره، والجملة الاسمية على كلا التقديرين، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها مفسرة لشر. {وَعَدَهَا اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {الَّذِينَ}: مفعول ثان لـ {وعد}. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، وجملة وعدها، حال من النار على التقدير الأول، أو مستأنفة أو خبر بعد خبر. ويجوز أن يكون الضمير في {وَعَدَهَا} هو المفعول الثاني، والذين كفروا، هو المفعول الأول، ولعل هذا هو الأرجح؛ لأن الموصول بمنزلة الآخذ، والنار بمنزلة المأخوذ في باب أعطى. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: هي، والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها سيقت لإنشاء الذم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. {يَا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة و {الهاء}: حرف تنبيه زائد. {النَّاسُ}، صفة لـ {أي}، وجملة النداء مستأنفة. {ضُرِبَ مَثَلٌ}: فعل ونائب فاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {فَاسْتَمِعُوا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، من ضرب المثل، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: استمعوا ما أقول لكم. {استمعوا}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف، تقديره: ما

أقول لكم، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {له} متعلقان به. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: تدعونهم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل {تَدْعُونَ}؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله. {لَنْ يَخْلُقُوا}: ناصب وفعل وفاعل، منصوب بحذف النون {ذُبَابًا}: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مفسرة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها مسوقة لتفسير المثل. {وَلَوِ}: الواو: عاطفة. {لو} حرف شرط. {اجْتَمَعُوا} فعل وفاعل {لَهُ} متعلق بـ {اجْتَمَعُوا}. والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو}، وجوابها محذوف، معلوم مما قبلها، تقديره: ولو اجتمعوا له لن يخلقوا ذبابًا. وجملة {لو} الشرطية في محل النصب على الحال، معطوفة على جملة محذوفة، وقعت حالًا من فاعل {يَخْلُقُوا}، والتقدير: إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابًا، لو انفردوا في خلقه لن يخلقوه، ولو اجتمعوا له لن يخلقوه. والمعنى: إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابًا، حالة كونهم منفردين في خلقه، وحالة كونهم مجتمعين على خلقه. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ}: الواو: عاطفة. {إن} حرف شرط. {يَسْلُبْهُمُ} فعل ومفعول أول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {الذُّبَابُ}: فاعل. {شَيْئًا} مفعول ثان له. {لَا}: نافية. {يَسْتَنْقِذُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق به. وجملة {إن} الشرطية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا}،: على كونها خبرًا لـ {إنَّ}. {ضَعُفَ الطَّالِبُ} فعل وفاعل. {وَالْمَطْلُوبُ}: معطوف على {الطَّالِبُ}. والجملة الفعلية: إما حال من فاعل يستنقذون؛ أي: حالة كونهما ضعيفين، أو

مستأنفة مسوقة للتعجب من حالهم. {مَا قَدَرُوا اللَّهَ} {مَا}: نافية. {قَدَرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة مستأنفة. {حَقَّ قَدْرِهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَقَوِيٌّ} اللام حرف ابتداء {قوي}: خبر أول لـ {إِنَّ}. {عَزِيزٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}. {اللَّهُ}: مبتدأ {يَصْطَفِي}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. {مِنَ الْمَلَائِكَةِ}: حال من رسلًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ولك أن تعلقه بيصطفى. {رُسُلًا}: مفعول به. {وَمِنَ النَّاسِ}: معطوف على {مِنَ الْمَلَائِكَةِ}، وحذف من الثاني، لدلالة الأول عليه؛ أي: ويصطفي من الناس رسلًا، وجملة يصطفي في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتقرير اصطفائه تعالى الرسل. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ}: ناصب واسمه وخبره الأول. {بَصِيرٌ}: خبره الثاني، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثالث لـ {أن}، أو مستأنفة. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {مَا}. {وَمَا خَلْفَهُمْ}: معطوف على {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} {وَإِلَى اللَّهِ}: الواو: عاطفة، أو استئنافية. {إلى الله}: جار ومجرور متعلق بـ {تُرْجَعُ}. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يَعْلَمُ}، أو مستأنفة. {يَا} حرف نداء، {أيُّ}: منادى نكرة مقصودة. و {الهاء} حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}. وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل. صلة الموصول.

{ارْكَعُوا} فعل وفاعل جواب النداء لا محل لها من الإعراب {وَاسْجُدُوا} فعل وفاعل معطوف على {ارْكَعُوا} {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {ارْكَعُوا} أيضًا {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف عليه أيضًا، على كونه جواب النداء، لا محل له من الإعراب {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {تُفْلِحُونَ}: خبره، وجملة {لعل} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. أو حال من الواو في {ارْكَعُوا} وما عطف عليه، أي: افعلوا هذه الأمور، حالة كونكم راجين الفلاح. {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}. {وَجَاهِدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} أيضًا. {فِي اللَّهِ}: متعلق به ولا بد من حذف مفعول {جاهدوا}؛ أي: جاهدوا أعداءكم في ذات الله ومن أجله ففي للسببية. و {حَقَّ جِهَادِهِ}: مفعول مطلق. {هُوَ}: مبتدأ. {اجْتَبَاكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة. {وَمَا جَعَلَ}: الواو: عاطفة {ما}: نافية. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع معطونة على {اجْتَبَاكُمْ}. {عَلَيْكُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}. {فِي الدِّينِ}: حال {مِنْ حَرَجٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {مِنْ}: زائدة. {حَرَجٍ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف معلوم من مضمون ما تقدمها، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصب انتصابه. والجملة المحذوفة مستأنفة. قال الزمخشري: وهذا أحسن الأوجه في هذا المقام. ويجوز نصبها على الاختصاص؛ أي: أخص بالدين ملة أبيكم، أو بتقدير فعل مضمر، تقديره: اتبعوا ملة أبيكم. وهناك أوجه أخرى، لا تخرج عن هذه الأوجه. {أَبِيكُمْ} مضاف إليه. {إِبْرَاهِيمَ}: بدل من {أَبِيكُمْ}. {هُوَ}: مبتدأ. {سَمَّاكُمُ}: فعل

ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم أو على الله. {الْمُسْلِمِينَ}: مفعول ثان. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {إِبْرَاهِيمَ}، ويحتمل كون هو ضميرًا يعود على الله، وكذا فاعل {سَمَّاكُمُ} فتكون الجملة الاسمية حينئذٍ حالًا من فاعل، وسع المحذوف، أو من فاعل جعل. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {سَمَّاكُمُ}؛ أي: من قبل هذا الكتاب {وَفِي هَذَا}: معطوف على {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: وفي هذا الكتاب. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}. {لِيَكُونَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يَكُونَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {الرَّسُولُ} اسمها. {شَهِيدًا}: خبرها. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {شَهِيدًا}. وجملة {يكون} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكون الرسول شهيدًا. {عَلَيْكُمْ}: الجار والمجرور متعلق بـ {سَمَّاكُمُ}. وفي "الفتوحات" واللام فيه للعاقبة؛ لأن التعليل، غير ظاهر هنا كما قيل. والظاهر أنه لا مانع منه، فإن تسمية الله، أو إبراهيم لهم به حكم بإسلامهم وعدالتهم، وهو سبب لقبول شهادة الرسول، الداخل فيهم دخولًا أوليًا، وقبول شهادتهم على الأمم اهـ. "شهاب" {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ} فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على {لِيَكُونَ الرَّسُولُ}. {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بـ {شُهَدَاءَ}. {فَأَقِيمُوا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن الله سماكم المسلمين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم أقيموا الصلاة. {أَقِيمُوا}: فعل وفاعل. {الصَّلَاةَ}: مفعول به. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذ المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَآتُوا الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَقِيمُوا}. {وَاعْتَصِمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {أَقِيمُوا} أيضًا. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {اعْتَصِمُوا}. {هُوَ مَوْلَاكُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَنِعْمَ الْمَوْلَى}: الفاء استئنافية. {نِعْمَ} فعل ماض لإنشاء المدح. {الْمَوْلَى}: فاعل.

والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هو، أي: المولي. والجملة مستأنفة. {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: فعل وفاعل معطوف على {نِعْمَ الْمَوْلَى}. والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره هو. التصريف ومفردات اللغة {وَمَنْ عَاقَبَ} والعقاب: مأخوذ من التعاقب، وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذٍ فتسمية ما عوقب به عقابًا، من باب المشاكلة كما سبق {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} يقال: بغى عليه بغيًا إذا علا وظلم. قال الراغب: البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه، أو لم يتجاوزه، فتارة يعتبر في القدرة التي هي الكمية، وتارة يعتبر في الوصف, الذي هو الكيفية، يقال: بغيت الشيء إذا طلبت أكثر ما يجب. {مُخْضَرَّةً} قال الراغب: الخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد، وهو إلى السواد أقرب، ولهذا يسمى الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة. {وَالْفُلْكَ}: يطلق على الواحد والجمع بهذه الصيغة، فالواحدة يقال، لها: ذلك، فتكون حركته حينئذٍ كحركة قفل، والجمع يقال له: ذلك فتكون حركته حينئذٍ كحركة بدن. اهـ شيخنا. {مَنْسَكًا} بفتح السين وكسرها؛ أي: شريعة ومنهاجًا؛ لأنه مأخوذ من النسيكة، وهي العبادة، وقد تقدم الكلام على هذه المادة مستوفى. {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} يقال: نزع الشيء إذا جذبه من مقره كنزع القوس عن كبده، والمنازعة المخاصمة. {وَإِنْ جَادَلُوكَ}؛ أي: خاصموك بعد ظهور الحق، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: حكمت قتله، فكان المجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه. {الْمُنْكَرَ} بوزن اسم المفعول مصدر ميمي، بمعنى الإنكار وهو على حذف مضاف؛ أي: أثر الإنكار من العبوس {يَسْطُونَ}؛ أي: يبطشون. يقال: سطا عليه إذا بطش به، والسطو: الوثب والبطش، ولذلك عدى بالباء، وإلا فهو يتعدى بعلى، يقال: سطا عليه، وأصله القهر والغلبة. وقيل: هو إظهار ما يهول

للإخافة؛ ولفلان سطوة؛ أي: تسلط وقهر؛ اهـ "سمين". وفي "الأساس"، وسطا بقرنه وعلى قرنه: وثب عليه وبطش به، والفحل يسطو على طروقته. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المصير: المرجع، وهو النار. {ضُرِبَ مَثَلٌ} المثل في الأصل، بمعنى: المثل، ثم خص بما شبه مضربه بمورده من الكلام السائر، فصار حقيقة عرفية فيه، ثم استعير لكل حال غريبة، أو قصة من الكلام فصيح غريبة، لمشابهتها له في ذلك، اهـ "شهاب" {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} والذباب: من الذب وهو المنع؛ لأنه يذب؛ أي: يمنع ويدفع. قال في "المفردات": الذباب يقع على الحيوان المعروف من الحشرات الطائرة، وعلى النحل، والزنابير. وفي قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ} فهو المعروف. وفي حياة الحيوان في الحديث (الذباب في النار إلا النحل) وهو يتولَّد من العفونة، لم يخلق لها أجفان لصغر أحداقها، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرأة الحدقة من الغبار، فجعل الله لها يدين تصقل بهما مرآة حدقتها، فلهذا ترى الذباب أبدًا يمسح بيديه عينيه، وإذا بخر البيت بورق القرع. ذهب منه الذباب، اهـ. دُمَيري. وهو اسم جنس واحده ذبابة، يقع على المذكر والمؤنث، ويجمع على ذباب بالكسر كغربان وذباب بالضم كقضبان وعلى أذبة كأغربة، وهو أجهل الحيوانات؛ لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يومًا، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض، يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذب إذا طرد وآب إذا رجع، لأنك تدبه فيرجع عليك، اهـ. شيخنا. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ}؛ أي: يختطف منهم بسرعة. {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ استفعال بمعنى الإفعال، يقال: أنقذه منه بكذا؛ أي: أنجاه منه وخلصه. اهـ "سمين". {يَصْطَفِي} قال في "المفردات": أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوب، والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جبايته، واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافيًا عن الشوب

الموجود في غيره، وقد يكون باختياره وبحكمه، وإن لم يتعرّ من ذلك الشوب، الذي تعرى منه الأول، اهـ. "روح البيان". {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب، مجاهدة العدو الظاهر كالكفار، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس والهوى وهذه أعظمها. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قال الراغب: الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء، ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينها وبين الدين، أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي، الذي تسند إليه، نحو اتبعوا ملة إبراهيم، واتبعت ملة آبائي. ولا يكاد يوجد مضافًا إلى الله تعالى، ولا إلى آحاد أمة النبي، ولا يستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، ولا يقال: ملة الله، ولا ملتي وملة زيد، كما يقال: دين الله وأصل الملة من مللت الكتاب، ويقال الملة اعتبارًا بالنبي الذي شرعها، والدين يقال: اعتبارًا بمن يقيمه إذا كان معناه الطاعة، هذا كله في مفردات الراغب. قال ابن عطاء ملة إبراهيم هو السخاء، والبذل وحسن الأخلاق والخروج عن النفس، والأهل والمال والولد. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح: الظفر، وإدراك البغية وذلك ضربان: دنيويٌّ وأخرويٌّ، فالدنيويُّ: الظفر بالسعادات التي يطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء، والغنى، والعز. والعلم، والأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. و {اجْتَبَاكُمْ}؛ أي: اختاركم. {حَرَجٍ}؛ أي: ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم. {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: استعينوا به وتوكلوا عله. {مَوْلَاكُمْ} ناصركم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المشاكلة والإزدواج في قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} الخ. حيث سمى

الفعل الصادر منهم ابتداء بالعقاب، مع أن العقاب إنما هو الجزاء على الجناية للازدواج. أو هو من باب المجاز المرسل، حيث سمى ما وقع ابتداء عقابًا، لكونه سببًا لما وقع جزاء وعقوبة، فسمى السبب باسم المسبب. وعبارة "الفتوحات" هنا فتلخص أن قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ} بمعنى جازى حقيقة لغوية. وأن قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} مجازٌ من قبيل المشاكلة أو من قبيل تسمية السبب باسم المسبب مجازًا مرسلًا، اهـ. مع زيادة. ومنها: إيراد صيغة المضارع بدل الماضي حيث قال: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بدل أصبحت لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. ومنها: الامتنان بتعداد النعم في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي ...} إلخ. وكذلك الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ}. ومنها: الطباق في قوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}. ومنها: وصف {مَنْسَكًا} بقوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} تأكيدًا للقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور على الفعل، في قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا}. ومنها: النهي الذي يراد منه نفي الشيء في قوله: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ}؛ أي: لا ينبغي لهم منازعتك، فقد ظهر الحق وبان. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} حيث شبه الخصومة الواقعة بينه وبينهم بجدل الحبل، وفتله؛ لأن أصل الجدل فتل الحبل، فكان المجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: قد علمت. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} تسجيلًا

عليهم باسم الظلم. ومنها: إيقاع الظاهر موقع المضمر في قوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} للشهادة عليهم بوصف الكفر، اهـ "سمين". وفيه الاستعارة اللطيفة؛ أي: تستدل من وجوههم على المكروه، وإرادة الفعل القبيح، مثل قولهم عرفت في وجه فلان الشر. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، حيث أستعير المثل لصفة غريبة، وقصة عجيبة، تشبيهًا لها ببعض الأمثال، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. كما في "الخازن". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: صلوا؛ لأن الركوع والسجود من أركان الصلاة. ومنها: ذكر العام بعد الخاص، لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاص، في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} بدأ بخاص، ثم بعام، ثم بأعم. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ}؛ أي: رسلًا حيث حذف من الثاني لدلالة الأول عليه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمَّنت هذه السورة من الحكم والأحكام جملتها سبعة عشرة 1 - وصف حال يوم القيامة، وما فيه من شدائد وأهوالٍ تشيب منها الولدان. 2 - جدال عبدة الأصنام والأوثان، بلا حجة وبرهان. 3 - إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه. 4 - وصف المنافقين المذبذبين في دينهم، وعدم ثباتهم على حال واحدة. 5 - ما أعد الله لعباده المؤمنين، من الثواب المقيم، في جنات النعيم. 6 - بيان أن الله ناصر نبيه، ومظهر دينه على سائر الأديان. 7 - بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده، من أرباب الديانات المختلفة، ويجازي كلا بما يستحق. 8 - إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض، وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته. 9 - أمر المؤمنين بقتال المشركين، الذين أخرجوهم من ديارهم، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق في كل زمان ومكان، وأن الله ينصر من يدافع عنه. 10 - تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه، وأنهم ليسوا بدعًا في الأمم، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم، ثم كانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، والعبر ماثلةٌ في حلهم وترحالهم. 11 - بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق، ليزلزلوا عقائد المؤمنين، لكنها لا تلبث أن تزول، وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل. 12 - الثواب على الهجرة لله ورسوله، سواء قتل المهاجر أو مات.

13 - وصف حال الكافرين، إذا تلي عليهم القرآن بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب. 14 - بيان أن الله يرسل رسلًا من الملائكة، ورسلًا من البشر، وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة. 15 - أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة، وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد في سبيل الحق. 16 - بيان أن الدين يسرٌ لا عسرٌ، وأنه كمِلَّة إبراهيم سمح لا شدة فيه. 17 - بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة، وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة، بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصروا في ذلك. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعل الأمر مشتبهًا علينا، فإذًا نضيع. امين امين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) قد انتهى المجلد الثامن عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان في روابي علوم القران" قبيل الغروب من يوم الجمعة المبارك، الحادي والعشرين من شهر شوال من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشرة سنة (21/ 10/ 1412) من الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. اللهم يا ربنا كما يسرت لي ما مضى من هذا التفسير، وبشرتني بالفراغ من هذا المجلد، فأكرمني بالفراغ من كل الكتاب وإكماله، واجعل البركة لي في عمري مع صرف العوائق والمعائق عني إلى تمامه، وتقبَّل اجتهادي فيه، وسائر أعمالنا، إنك أنت السميع القريب المجيب. وكان الفراغ منه بمكة المكرمة في المسفلة حارة الرشد، جوار الحرم الشريف. في تاريخ 21/ 10/ 1412 هـ وكان الفراغ من تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه في تاريخ 22/ 6/ 1417 هـ.

شعرٌ يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا مَنْ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ... يَا سَامِعَ الأصْوَاتِ يَا مَنْ جَلَّ عَنْ صَمَمِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا ذَا الْجُوْدِ يَا أَمَلِيْ ... يَا ذَا الْجَلاَلِ وَيَا ذَا اللُّطْفِ في الأُمَمِ آخرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى ... وَنِعِمْ مَا أُوْلَى فَنِعْمِ الْمَوْلَى

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ بُوْرِكَ تَفْسِيْرُ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ ... كَمَا بُوْرِكَ جَنَا الزَّيْتُوْنِ وَالرُّمَّانِ كِتَابٌ لَوْ يُبَاعُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا ... لَكَانَ البَائِعُ فِيْهِ الْمَغْبُوْنَا حَوَى مِنْ عُلُوْمِ التَّفسِيْرِ أفْنَانًا ... فَالْحَمْدُ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا حَبَانَا آخرُ الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَّى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ آخرُ وَإِذَا طَلَبْتَ إلى كَرِيْمٍ حَاجَةً ... فَلِقَاؤُهُ يَكْفِيْكَ وَالتَّسْلِيْمُ فَإِذَا رَآكَ مُسَلِّمًا عَرَفَ الَّذيْ ... حَمَّلْتَهُ فَكَأَنَّهُ مَلْزُوْمُ آخرُ أَأذْكُرُ حَاجَتِيْ أمْ قَدْ كَفَانِيْ ... حَيَاؤُكَ إِنَ شِيْمَتَكَ الْحَيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا .... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ آخرُ سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ ... أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمَّ حِمَارُ آخرُ لِكُلِّ دَوَلَةٍ أَجَلُ ... ثمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلُ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتْ ... نَسْخُهُ مِنْ عَنْكَبُوْت

سورة المؤمنون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي يحمده الأولون والآخِرون القائل في كتابه الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} والصلاة والسلام على الرسول الكريم، سيدنا محمد، المصطفى الصادق الأمين، وعلى آله وصبحه أجمعين. أما بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء السابع عشر من القرآن الكريم، بتوفيقه وتيسيره .. أخذت في تفسير الجزء الثامن عشر منه، مستمدًا منه الهداية وكل التوفيق في تفسير كتابه لأقوم الطريق، وها أنا أقول، وقولي هذا: فذلكة في سورة المؤمنين: سورة المؤمنون سورة المؤمنون مكية كلها عند الجميع، وقيل: إلا ثلاث آيات، وهي قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} إلى آخرها، نزلت بعد سورة الأنبياء، وهي مئة وثماني عشرة آية (¬1)، وألف وثمان مئة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمان مئة حرف، وحرفان. فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي، يُسمع عند وجهه دويٌّ كدوي النحل، فأنزل الله عليه يومًا، فمكث ساعة، ثم سرى عنه، فقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى عشر آيات من أولها، وقال: "من أقام هذه العشر آيات .. دخل الجنة" ثم استقبل القبلة، ورفع يديه وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا" ¬

_ (¬1) الخازن.

وأخرج البيهقي من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لما خلق الله الجنة، قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} ". وأخرجه أيضًا ابن أبى عدي، والحاكم، وأخرج الطبراني في السنة وابن مردويه، من حديث ابن عباس مثله. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" (¬1)، والنسائي وابن المنذر، والحاكم، وصححه وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل"، عن يزيد بن بابنوس، قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان خلقه القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنون؟ إقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} حتى بلغ العشر، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي: أن أولها وآخرها من كنوز الجنة، من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها، فقد نجا وأفلح. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى (¬2): في سورة المؤمنون آيتان منسوختان: إحداهما: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)} الآية (54) نسخت بآية السيف. الآية الثانية: قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} الآية (97) نسخت بآية السيف أيضًا. المناسبة: مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه (¬3): 1 - أنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين، وأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفعل الخيرات، لعلهم يفلحون، وحقق فلاحهم في بدء هذه السورة (2). ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) ابن حزم. (¬3) المراغي.

2 - أنه تكلم في كل من السورتين في النشأة الأولى، وجعل ذلك دليلًا على البعث والنشور. 3 - أن في كل من السورتين قصصًا للأنبياء الماضين وأممهم، ذكرت عبرة للحاضرين والآتين. 4 - أنه نصب في كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانيته. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}

المناسبة قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) ...} الآيات، مناسبة (¬1) هذه الآيات لآخر السورة التي قبلها ظاهرة؛ لأنه تعالى خاطب المؤمنون بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} الآية، وفيه: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذلك على سبيل الترجية، فمناسبة ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إخبارًا بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬2): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال السعداء المفلحين، قفى ذلك بذكر مبدأهم، ومآل أمرهم، وأمر غيرهم من بني الإنسان، وفي هذا إعظام للمنة، وحث على الاتصاف بحميد الصفات، وتحمل مؤونة التكاليف، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية، هي يوم القيامة، الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشر. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الصفات الجليلة، هم يرثون الفردوس، فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى، ليستدل على صحة النشأة الآخرة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر خلق الإنسان في أطواره المختلفة، واستدل بذلك على قدرته، وتفرده بالتصرف في الملك، والملكوت .. أردفه ببيان ما يحتاج إليه في بقاءه، لما فيه من المنافع، التي لا غنى له عنها. وعبارة أبي حيان هنا (¬3): لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان، وانتهاء أمره، ذكره بنعمته، انتهى. قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

سبحانه لما ذكر من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع .. قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب، وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل، وينبت به شجر الزيتون، الذي يؤخد من ثمره الزيت، الذي يتخذ دهنًا للأجسام، وإدامًا في الطعام. قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر سبحانه بنعمة إنزاله الماء من السماء، الذي به جنات النخيل، والأعناب، والفواكه المختلفة، والزيتون .. أردفها بذكر النعم المختلفة، التي سخرها لنا من خلق الحيوان. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ...}. الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه سبحانه لما ذكر أولًا بدء الإنسان، وتطوره في تلك الأطوار، وما امتن به عليه، مما جعله تعالى سببًا لحياتهم، وإدراك مقاصدهم، ذكر أمثالًا لكفار قريش من الأمم السابقة، المنكرة لإرسال الله رسلًا، المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله تعالى، فابتدأ بقصة نوح؛ لأنه أبو البشر الثاني، كما ذكر أولًا آدم في قوله تعالى: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، ولقصته أيضًا مناسبة لما قبلها إذ قبلها: {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فذكر قصة من صنع الفلك أولًا، وأنه كان سبب نجاة من آمن، وإهلاك من لم يكن معه في الفلك، فالفلك من نعمة الله تعالى، وكل هذه القصص يحذر بها قريشًا نقم الله، ويذكرهم بنعمه. وعبارة المراغي هنا (¬2): مناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله سبحانه لما عدد ما أنعم به على عباده، في نشأتهم الأولى، وفي خلق الماء لهم؛ لينتفعوا به، وفي خلق الحيوان كذلك .. ذكر هنا أن كثيرًا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم، فحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وأهلكهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[1]

بعذاب من عنده، فأصبحوا كأمس الدابر، والمثل السائر، وفي هذا تخويفٌ لقريش، وإنذار لهم على ما يفعلون، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم. أسباب النزول قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى، رفع بصره إلى السماء، فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} فطاطأ رأسه، وأخرجه ابن مردويه، بلفظ: كان يلتفت في الصلاة، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلًا، بلفظ: كان يقلب بصره، فنزلت وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن سيرين مرسلًا: كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فنزلت. قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} روي فيه عن أنس، قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله صلينا خلف المقام، فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابًا، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، وقلت لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكم، فنزلت: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}، فقلت: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا أنزلت يا عمر! " أخرجه الطيالسي. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قَدْ أَفْلَحَ} وفاز وسعد حقًا {الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: المصدقون بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونالوا البقاء والدوام في الجنة، ويدل عليه، ما روي "أن الله تعالى لما خلق جنة عدن بيده، قال: تكلّمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} فقال: طوبى لك منزل الملوك" أي: ملوك الجنة، وهم الفقراء الصابرون، وقد هنا: للتحقيق؛ أي: التحقيق ما يحصل في المستقبل، وتنزيله منزلة الواقع، ومعنى فاز

[2]

المؤمنون (¬1)؛ أي: ظفروا بمقصدهم، ونجوا من كل مكروه، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} والمؤمنون جمع مؤمن، وهو المصدق بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره. وقرأ طلحة بن مصرق، وعمرو بن عبيد (¬2): {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بضم الهمزة وكسر اللام مبنيًا للمفعول، ومعناه: أدخلوا في الفلاح، فاحتمل أن يكون من فلح لازمًا، أو يكون أفلح، يأتي متعديًا ولازمًا، وقرأ طلحة: أيضًا بفتح الهمزة واللام وضم الحاء، قال عيسى بن عمر: سمعت طلحة بن مصرق يقرأ: {قَدْ أفلحوا الْمُؤْمِنُونَ} فقلت له: أتلحن. قال: نعم، كما لحن أصحابي، انتهى. يعني: أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي، وليس بلحن؛ لأنه على لغة أكلوني البراغيث، قال الزمخشري: أو على الإبهام والتفسير، وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة، وفي كتاب ابن خالويه مكتوبًا بواو بعد الحاء، وفي "اللوامح": وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولةً على الوصل، نحو: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وقال الزمخشري: وعنه - أي عن طلحة - {قَدْ أَفْلَحَ} ضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله: ولو أن الأطباء كان حولي. انتهى. وليس بجيد؛ لأن الواو في أفلح حذفت لالتقاء الساكنين، وهنا حذفت للضرورة، فليست مثلها. والحاصل: أن الله سبحانه حكم بالفلاح لمن كان جامعًا لخصال سبع من خصال الخير: الأول: الإيمان، وذكره بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}؛ أي: فاز وسعد المصدقون بالله، ورسله، واليوم الآخر. 2 - والثاني: الخشوع في الصلاة، وذكره بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}؛ أي: الذين هم مخبتون لله، متذللون له، مناقدون له، خائفون من عذابه، ملزمون ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) البحر المحيط.

أبصارهم مساجدهم. أو المعنى (¬1): خاضعون للمعبود، بالقلب غير ملتقين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم، لا يلتفتون يمينًا ولا شمالًا، ولا يرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي، والحضور عندنا ليس شرطًا للإجزاء، بل شرط للقبول، كما قاله الرازي: قدم الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الدين، بعد الشهادتين، فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له، فالمصلي: هو المنتفع بها وحده، وهي عدته وذخيرته، فهي صلاته، وأما المصلى له: فغني متعال عن الحاجة إليها، والانتفاع بها، ذكره في "البحر" وقد اختلف الناس في الخشوع (¬2)، هل هو من فرائض الصلاة؟ أو من فضائلها؟ على قولين: قيل: الصحيح الأول، وقيل: الثاني، وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء، على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، حكاه النيسابوري في تفسيره، قال: ومما يدل على صحة هذا القول، قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى. وفي "التأويلات النجمية": {خَاشِعُونَ}؛ أي: بالظاهر والباطن (¬3)، أما الظاهر فخشوع الرأس بانتكاسه، وخشوع العين بانغماضها عن الالتفات، وخشوع الأذن بالتذلل للاستماع، وخشوع اللسان بالقراءة، والحضور، والتأني، وخشوع اليدين وضع اليمين على الشمال، بالتعظيم كالعبد، وخشوع الظهر انحناؤه في الركوع مستويًا، وخشوع الفرج، نفي الخواطر الشهوانية، وخشوع القدمين بثباتهما على الموضع، وسكونها عن الحركة. أما الباطن: فخشوع النفس سكونها عن الخواطر، والهواجس، وخشوع القلب بملازمة الذكر، ودوام الحضور، وخشوع السر بالمراقبة في ترك اللحظات ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[3]

إلى المكونات، وخشوع الروح استغراقه في بحر المحبة، وذوبانه عند تجلي صفة الجمال والجلال، انتهى. وفي "الصاوي": {خَاشِعُونَ}؛ أي: ظاهرًا وباطنًا، فالخشوع الظاهري: التمسك بآداب الصلاة، كعدم الالتفات، والعبث، وسبق الإِمام ووضع اليد في الخاصرة، وغير ذلك، والخشوع الباطن: استحضار عظمة الله، وعدم التفكر بأمر دنيوي، انتهى. وروى الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي رافعًا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية، رمى ببصره إلى نحو مسجده؛ أي: موضوع سجوده. والخشوع واجب على المرء في الصلاة، لوجوه: 1 - للتدبر فيما يقرأ، كما قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}، والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى، كما قال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}؛ أي: لتقف على عجائب أسراره، وبديع حكمه وأحكامه. 2 - لتذكر الله والخوف من وعيده؛ كما قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. 3 - أن المصلي يناجي ربه، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة، ومن ثم قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطًا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله، وبلوغ رضوانه. 3 - والثالث: الإعراض عن اللغو، وذكره بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ}؛ أي: عما لا يعنيهم من الأقوال والأفعال {مُعْرِضُونَ}؛ أي: مجتنبون عنه في جميع الأوقات، غير ملتفتين إليه؛ أي (¬1): الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا، من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم، قال الزجاج: واللغو هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية، وما لا يجمل من القول والفعل، انتهى. والمراد به (¬2): كل ما لا يعود على الشخص منه فائدة في الدين، أو الدنيا، قولًا أو فعلًا مكروهًا أو مباحًا، كالهزل واللعب، وضياع الأوقات فيما لا يعني، والتوغل في ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الصاوي.

[4]

الشهوات، وغير ذلك مما نهى عنه. وتوسيط حديث الإعراض بين الطاعة البدنية والمالية، لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة، وقال أبو حيان: ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف، انتهى. والمعنى: أي الذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم، وعن كل كلام ساقط حقه أن يلغى، كالكذب والهزل والسبّ، إذ لهؤلاء من الجد ما يشغلهم، فهم في صلاتهم معرضون عن كل شيء، إلا عن خالقهم، وفي خارجهم معرضون عن كل ما لا فائدة فيه، فهم متجهون للجد، وصالح الأعمال، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة وانتفعوا منه بعدها، وتخلقوا بأخلاق النبيين والصديقين. 4 - والرابع: تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة، وذكره بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ}؛ أي: للصدقة المفروضة {فَاعِلُونَ}؛ أي: مؤدونها إلى مستحقيها من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة؛ لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها، كما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)}. واعلم (¬1): أن الزكاة تطلق على القدر المخرج، كربع العشر من النقدين، والعشر أو نصفه من الحبوب والثمار، والشاة من الأربعين، فيكون على هذا معنى فاعلون: مؤدون؛ لأن القدر المخرج لا معنى لفعله، فعبر عن التأدية بالفعل؛ لأنها مما يصدق عليه الفعل، وتطلق على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى هذا يكون فاعلون على بابه؛ أي: والذين هم لتزكية أنفسهم، وتطهيرها فاعلون؛ بإخراج المال في مصارف الزكاة، وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الزكاة إنما وجبت لتزكية النفس عن الصفات الذميمة النجسة من حب الدنيا، أو غيره، ولم يكن المراد مجرد إعطاء المال وحبه في القلب، وإنما كان لمصلحة إزالة حب الدنيا عن القلب، ومثل حب الدنيا جميع الصفات الذميمة إلى أن تتم إزالتها. 5 - والخامس: حفظ الفرج، وذكرَه بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)}؛ ¬

_ (¬1) الصاوي.

[6]

أي: ممسكون ومانعون لها من الحرام، ولا يرسلونها على أحد، ولا يبذلونها 6 - {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}؛ أي: زوجاتهم، فإن الزوج يقع على الذكر والأنثى {أَوْ} {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}؛ أي: أيديهم من الإماء فما ملكت (¬1) أيمانهم، وإن كان عامًا للرجال أيضًا، لكنه مختص بالنساء إجماعًا، وإنما قال: (ما) إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء؛ إذ الملك أصل شائع فيه، وعبارة الشوكاني وعبر عنهن بـ (ما) التي لغير العقلاء؛ لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبثة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهن، كسائر السلع، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، انتهى. وإنما ذكر بلفظ (على) لاستلائهم على أزواجهم لا لاستلائهن عليهم وكانوا عليهن لا مملوكين لهن. والفرج (¬2) يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم: أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم، قيل والمراد هنا: الرجل خاصة دون النساء، بدليل قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه. والمعنى: أن الذين يحفظون فروجهم في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم قربان الأمة بالملك. وقال في "الأسئلة المقحمة" (¬3): كيف يجوز أن يسمى الرقيق ملك يمين ولا يسمى به سائر الأملاك، الجواب: ملك الجارية والعبد أخص؛ لأنه يختص بجواز التصرف فيه، ولا يعم كسائر الأملاك، فإن مالك الدار مثلًا يجوز له نقض الدار وهدمها، ولا يجوز لمالك العبد نفض بنيته وقتله، انتهى. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} على عدم حفظها منهن، إذا كان إتيانهن على وجه الحلال؛ أي: وإنما لا يلامون فيما إذا كان الإتيان على وجه أذن فيه الشرع، دون الإتيان في غير المأتى شرعًا، وفي حال الحيض والنفاس، فإنه محظور، فلا يجوز، ومن فعله فإنه ملوم، واللوم عذل إنسان بنسبته إلى ما فيه لوم، كما سيأتي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[7]

في "مبحث التصريف"، والمراد بهذا الوصف: مدحهم بنهاية العفة، والإعراض عن الشهوات، وفي "التأويلات النجمية"، يعني: يحفظون عن التلذذ بالشهوات؛ أي: لا يكون أزواجهم وإماؤهم عدوًا لهم، بأن يشغلوهم عن الله وطلبه، فحينئذٍ يلزم الحذر منه كقوله: {عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}. 7 - {فَمَنِ ابْتَغَى} وطلب {وَرَاءَ ذَلِكَ} الذي ذكر من الحد المتسع، وهو أربع من الحرائر، وما شاء من الإماء {فَأُولَئِكَ} المبتغون {هُمُ الْعَادُونَ}؛ أي: الكاملون في العدوان، المتناهون فيه، أو المتعدون من الحلال إلى الحرام. والمعنى: فمن التمس وطلب سوى الأزواج والولائد، وهن الجواري المملوكة، فأولئك هم الظالمون، المجاوزون لحدود الله من الحلال إلى الحرام، قال البغوي: وفي الآية دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة (¬1)، وقال أحمد بن حنبل: يجوز إخراجها لحاجة؛ لأنها فضلة، كدم القصد والحجامة، لكن بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنا، وأن لا يجد مهر حرة أو ثمن أمة، وأن يفعله بيده، لا بيد أجنبي أو أجنبية، ويجوز بيد زوجته أو جاريته، لكن قال القاضي حسين: مع الكراهة؛ لأنه في معنى العزل. الخلاة: الصائم إذا عالج ذكره حتى أمنى، يجب عليه القضاء (¬2)، ولا كفارة عليه، ولا يحل هذا الفعل، خارج رمضان، إن قصد تسكين شهوته، وأرجو أن لا يكون عليه ويل. اهـ. وقال ابن جريج: سألت عطاء عنه، فقال: سمعت أن قومًا يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء، وعن سعيد بن جبير: عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. والواجب على فاعله التعزير، كما قاله ابن الملقن وغيره. 8 - والسادس: رعاية الأمانة والعهد، وذكره بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ}؛ أي: لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق، أو الخلق {رَاعُونَ}؛ أي: قائمون عليها، وحافظون لها على وجه الإصلاح؛ أي: والذين هم لأماناتهم؛ ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان.

أي: لما ائتمنوا عليه، من حقوق الخالق، كالصلاة والصوم والحجّ، وفعل المعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق الخلق، كالودائع والصنائع، وأعراض الخلق، وعوراتهم {وَعَهْدِهِمْ} مرادف للأمانات {رَاعُونَ}؛ أي: حافظون، غير مضعون لها. اهـ "صاوي" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: في رواية {لأمانتهم} بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع، ذكره في "البحر". والمعنى (¬1): أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة لأهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا، بما عاهدوا عليه، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين، كما جاء في الحديث "آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وقصارى ذلك، أنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه، من الرب، أو العبد، كالتكاليف الشرعية، والأموال المودعة، والعقود التي عاقدوا الناس عليها، والأمانة (¬2)، اسم لما يؤتمن عليه الإنسان، والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، ويسمى الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا. فالأمانة ما يؤتمنون عليه، والعهد ما يعاهدون عليه، من جهة الله سبحانه، أو من جهة عباده، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين، أو الدنيا، والأمانة أعم من العهد، فكل عهد أمانة ولا عكس. ذكره "الشوكاني" وقال محمد بن الفضل (¬3): جوارحك كلها أمانات عندك، أمرت في كل واحدة منها، بأمر، فأمانة العين، الغضّ عن المحارم، والنظر بالاعتبار، وأمانة السمع، صيانتها عن اللغو، والرفث، لاحضارها مجالس الذكر، وأمانة اللسان اجتناب الغيبة والبهتان، ومداومة الذكر، وأمانة الرجل، المشي إلى الطاعات والتباعد عن المعاصي، وأمانة الفم، أن لا يتناول به إلا حلالًا، وأمانة اليد، أن لا يمدها إلى الحرام، ولا يمسكها عن المعروف، وأمانة القلب، مراعاة الحق على دوام الأوقات، حتى لا يطالع سواه، ولا يشهد غيره، ولا يسكن إلا إليه، انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[9]

9 - والسابع: المحافظة على الصلوات، وذكره بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} المفروضة عليهم؛ وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: {على صلاتهم} بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع {يُحَافِظُونَ}؛ أي: يواظبون عليها بشرائطها وآدابها، ويؤدونها في أوقاتها، التي رسمها الدين، على أكمل وجه، وعبر بـ {يُحَافِظُونَ} بصفة المضارع، لما في الصلاة من التجدد والتكرار، وهو السر في جمعها، وليس فيه تكرير الخشوع؛ لأن المحافظة فضيلة أخرى. فإن قلت (¬1): كيف كرر ذكر الصلاة أولًا وآخرًا؟ قلت؛ هما ذكران مختلفان، فليس تكرارًا، وصفهم أولًا بالخشوع في الصلاة، وآخرًا بالمحافظة عليها. قال الزمخشري: ووحدت أولًا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، وجمعت آخرًا، لتفاد المحافظة على أعدادها، وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، والجنازة والاستسقاء والكسوف وصلاة الضحى والتهجد وغيرها من النوافل، قال: في "التأويلات النجمية": يحافظون لئلا يقع خلل في صورتها، ومعناها: ولا يضيع منهم الحضور في الصف الأول صورةً ومعنًى. وفي الحديث: "يكتب للذي خلف الإِمام بحذائه في الصف الأول، ثواب مئة صلاة، وللذي في الأيمن، خمس وسبعون، وللذي في الأيسر خمسون، وللذي في سائر الصفوف، خمس وعشرون" كما في "شرح المجمع"، والصف الأول، أعلم بحال الإِمام، فتكون متابعته أكثر، وثوابه أتم، وأوفر، كما في "شرح المشارق" لابن الملك وفي الحديث: "أول زمرة تدخل المسجد، هم أهل الصف الأول، وإن صلوا في نواحي المسجد" كما في "خالصة الحقائق". روي عن ابن مسعود أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، أي: العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" قال: قلت: ثم أي؟ قال: ¬

_ (¬1) الخازن.

[10]

"بر الوالدين" قلت: ثم أي، قال: "الجهاد في سبيل الله". اهـ الشيخان. وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة، بالصلاة، واختتمها بالصلاة، دلالة على عظيم فضلها، وكبير مناقبها، وقد ورد في الحديث: "إعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" 10 - ولما كان الجزاء في الآخرة، نتيجة للعمل في الدنيا، وما فيها من نعيم حصاد، لما زرع فيها, رتب على ذلك قوله: {أُولَئِكَ} المؤمنون الموصوفون بتلك الصفات الحميدة المذكورة {هُمُ الْوَارِثُونَ} منازل أهل النار من الجنة، وعن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فمن مات ودخل النار .. ورث أهل الجنة منزله، ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} " ذكره البغوي، بغير سند. وقيل: معنى الوارث: هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها، ما يؤول أمر الميراث إلى الوارث، والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يسموا وارثًا، دون من عدا هم، ممن ورث وغائب الأموال، والذخائر، وكرائمها. والوراثة، انتقال مال إليك من غيرك، من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد وسمى بذلك المتنقل عن الميت، 11 - فيقال للمال الموروث: ميراث {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} بيان لما يرثونه، وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها، تفخيمًا لشأنها، ورفعًا لمحلها، وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم، حسبما يقتضيه الوعد الكريم، للمبالغة فيه؛ لأن الوراثة، أقوى سبب يقع في ملك الشيء، ولا يتعقبه رد ولا فسخ، ولا إقالة ولا نقض، فيسمى انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ولا معرفة بمقدارها وراثة. والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات، فهو الذي يرث من الجنة ذلك المكان، ولفظ الفردوس لغة رومية معربة، وقيل: فارسية، وقيل: حبشية، وقيل: هي عربية {هُمْ فِيهَا}؛ أي: في الفردوس، والتأنيث فيه، مع أنه راجع إلى الفردوس؛ لأنه اسم للجنة، أو لطبقتها العليا، وهو البستان الجامع لأصناف الثمر، روي أنه تعالى، بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل

[12]

خلالها المسك الإذفر، وغرس فيها من جيد الفاكهة، وجيد الريحان {خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون مكثًا مؤبدًا لا يخرجون منها، ولا يموتون، والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها، من غير اعتراض الكون، والفساد عليها، فإن قيل: كيف حكم على الموصوفين، بالصفات السبعة، بالفلاح مع أنه لم يتمم ذكر العبادات الواجبة، كالصوم والحج؟ فالجواب: أن قوله: {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يأتي على جميع الواجبات من الأفعال، والتروك، والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات، لكونها من شرائطها، والحصر إضافي لا حقيقي؛ لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو، لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} اهـ "كرخي". وقصارى ما سلف: أن فلاح المؤمن، موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر العظيمة الأثر في حياته الروحية، وكمالاته النفسية، اللهم اجعلنا من الذين يرثون الفردوس، ويتنعمون بنعيمها، ويصلون إلى نسيمها، واحفظنا عن الأسباب المؤدية إلى النار وجسيمها. 12 - ولما حثّ سبحانه عباده على العبادة، ووعدهم الفردوس، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد، ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} ذكر الله سبحانه وتعالى: في هذه الآيات من هنا إلى قوله: {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أربعة أنواع من دلائل قدرته تعالى: الأول: تقلب الإنسان في أطوار خلقته، وهي تسعة، آخرها قوله: {تُبْعَثُونَ}. الثاني: خلق السماوات. الثالث: إنزال الماء. الرابع: منافع الحيوانات وذكر منها أربعة أنواع. اهـ. رازي، واللام فيه: موطئة لقسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا أصل هذا النوع الإنساني، وأول أفراده وهو آدم عليه السلام {مِنْ سُلَالَةٍ} كائنة {مِنْ طِينٍ}؛ أي: من صفوة طين.

[13]

والخلاصة: سلت واستخرجت، وصفيت من كل تربة، والطين التراب والماء المختلط به. وفي "التأويلات النجمية" (¬1) يشير إلى سلالة سلت، واستخرجت من جميع أنواع الأرض، طيبها وسبخها وسهلها وجبلها، باختلاف ألوانها وطبائعها المتفاوتة، ولهذا اختلفت ألوانهم وأخلاقهم؛ لأنه مودع في طبيعتهم ما هو من خواص الطين الذي اختص بخاصية منها نوع من الحيوان، من جنس البهائم والسباع والجوارح والحشرات المؤذيات الغالبة على كل واحد منها صفة من الصفات الذميمة والحميدة. فأما الذميمة: فكالحرص في الفأرة والنملة، وكالشهوة في العصفور، وكالغضب في الفهد، والأسد، وكالكبر في النمر، وكالبخل في الكلب، وكالشره في الخنزير، وكالحقد في الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة، وأما الحميدة فكالشجاعة في الأسد والسخاوة في الديك، والقناعة في البوم، وكالحلم في الجمل، وكالتواضع في الهرة، وكالوفاء في الكلب، وكالبكور في الغراب، وكالهمة في البازي والسلحفاة، وغير ذلك من الصفات الحميدة، فقد جمعها كلها مع خواصها وطبائعها، ثم أودعها في طينة الإنسان، وهو آدم عليه السلام. ويروي جماعة من المفسرين (¬2): أن المراد بالإنسان هنا, ولد آدم، وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية، وهي إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية تنتهي إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة، متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلالة أطوار الخلقة، إلى أن صارت نطفًا. 13 - {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ}؛ أي: ثم جعلنا نسله {نُطْفَةً}؛ أي: نطفًا في أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت محفوظة {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}؛ أي: في حرز حصين من وقت العمل إلى حين الولادة؛ أي: ثم جعلنا السلالة منيًا أربعين يومًا، في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[14]

مكان حريز، فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة، في صلب الأب، فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم، فصار الرحم مستقرًا حصينًا لهذه النطفة 14 - {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}؛ أي: ثم حولنا النطفة من صفتها الثانية، إلى صفة العلقة، وهي الدم الجامد بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء. والمعنى (¬1): أي ثم صيرنا المني الأبيض دمًا جامدًا أربعين يومًا، قيل: كلها تجعل علقة، وقيل: جزء منها، والباقي يوضع نصفه في موضع تربته، والنصف الثاني يوضع في السماء، فإذا أراد الله إحياء الخلق من القبور، أمطرت السماء، فتلاقي النطف النازلة من السماء، النطف الباقية في الأرض، فتوجد الخلائق بينهما، وهذا هو حكمة قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}؛ أي: ثم صيرنا ذلك الدم الجامد الأحمر، مضغة؛ أي: لحمًا صغيرًا بمقدار ما يمضغ أربعين يومًا، لا استبانة ولا تمايز فيها {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ}؛ أي: غالبها ومعظمها أو كلها {عِظَامًا}؛ أي: فصيرنا اللحم الصغير عظامًا بلا لحم، بعد ثلاث أربعينات بأن صلبناها وجعلناها عمودًا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين، وما بينهما، وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة، أو ميزنا بين أجزائها، فما كان منها: من العناصر الداخلة في تكوين العظام، جعلناه عظامًا، وما كان من مواد اللحم، جعلناه لحمًا، والمواد الغذائية شاملة لذلك، ومنبتة في الدم، ومن ثم قال: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ} المعهودة {لَحْمًا} من بقية المضغة، وشددناها بالأعصاب، والعروق، فاللحم يستر العظام، كالكسوة؛ أي: كسونا كل عظم من تلك العظام، ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به، وهيئات مناسبة له؛ أي: فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أن يستر العظام، فأشبه الكسوة الساترة للجسم، وجمع العظام لاختلافها. واختلاف العواطف بالفاء (¬2)، و (ثم) لتفاوت الاستحالات، يعني: أن بعضها مستبعد حصوله، مما قبله، وهو المعطوف بـ {ثُمَّ}، فجعل الاستبعاد ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الفتوحات.

عقلًا، أو رتبةً بمنزلة التراخي، والبعد الحسّي؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدًّا، وكذا جعل النطفة البيضاء دمًا أحمرًا، بخلاف جعل الدم لحمًا مشابهًا له في اللون، والصورة، وكذا تصلبها حتى تصير عظمًا؛ لأنه قد يحصل ذلك بالمكث، فيما يشاهد، وكذا مد لحم المضغة عليه؛ ليستره، فسقط ما قيل: إن الوارد في الحديث؛ إن مدة كل استحالة أربعون، وذلك يقتضي عطف الجمع بـ {ثم}، إن نظر لآخر المدة، وأولها، أو يقتضي العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط اهـ من "الشهاب"، مع تقديم وتأخير. وهذا في العواطف الخمسة الأولى، وأما قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}، فعطفه بـ {ثم} للتفاوت بين الخلقين، كما في "البيضاوي". وقرأ الجمهور (¬1) {عِظَامًا} والعظام: بالجمع فيهما، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفصل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي بالإفراد فيهما، وقرأ السلمي وقتادة أيضًا، والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول، وجمع الثاني، وقرأ أبو رجاء إبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضًا بجمع الأول وإفراد الثاني، فالإفراد يراد به الجنس. {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ}؛ أي: صيرنا ذلك المذكور من العظام وكسوته {خَلْقًا آخَرَ}؛ أي: خلقًا مباينًا للخلق الأول إذ نفخنا فيه الروح، وجعلناه حيوانًا بعدما كان أشبه بالجماد، ناطقًا سميعًا بصيرًا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها، وباطنها ما لا يحصى. أي: حولنا العظام المستورة باللحم، عن صفاتها، إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين، فإن الله جعلها حيوانًا ناطقًا سميعًا بصيرًا عاقلًا، وأودع كل جزء من أجزائه، عجائب وغرائب، لا يحيط بها وصف الواصفين، والإنشاء إيجاد الشيء، وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك، في الحيوان، و {ثم} هنا لكمال التفاوت ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[15]

بين الخلقين، واحتج به أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنده، لزمه ضمان البيضة لا الفرخ، فإنه خلق آخر. قال في "الأسئلة المقحمة" (¬1): خلق الله الآدمي أطوارًا، ولو خلقه دفعة واحدة كان أظهر في كمال القدرة، وأبعد عن نسبة الأسباب، فما معناه؟ فالجواب: لا، بل الخلق بعد الخلق، بتقليب الأعيان، واختراع الأشخاص، أظهر في القدرة، فإنه تعالى خلق الآدمي من نطفة متماثلة الأجزاء، ومن أشياء كثيرة، مختلفة المراتب، متفاوتة الدرجات، من لحم وعظم ودم وجلد وشعر وغيرها، ثم خصّ كل جزء منها، بتركيب عجيب، واختصاص غريب من السمع والبصر واللمس والمشي والذوق والشم وغيرها، وهي أبلغ في إظهار كمال الإلهية، والقدرة {فَتَبَارَكَ اللَّهُ}؛ أي: تزايد بره وخيره، وإحسانه لعباده مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة، إن قلنا إنه مأخوذ من البركة، أو تعالى شأنه من علمه الشامل، وقدرته الباهرة {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} بدل من الجلالة؛ أي: أحسن الخالقين خلقًا؛ أي: أحسن المقدرين تقديرًا، حذف المميز لدلالة الخالقين عليه، فالحسن للخلق. وفي "الأسئلة المقحمة" هذا يدل على أن العبد خالق أفعاله، ويكون الرب أحسن في الخالقية؟ فالجواب معناه: أحسن المصورين لأن المصور يصور الصورة، ويشكلها على صورة المخلوق، أخبر به سبحانه؛ لأنه لا يبلغ في تصويره إلى حدّ الخالق؛ لأنه لن يقدر على أن ينفخ فيها الروح، وقد ورد الخلق في القرآن، بمعنى: التصوير. قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}؛ أي: وإذ تصور فكذلك هاهنا انتهى. 15 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ} يا بني آدم {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعدما ذكر من التركيب بالأمور العجيبة؛ أي: ثم أنكم بعد النشأة الأولى من العدم {لَمَيِّتُونَ}؛ أي: لصائرون إلى الموت، لا محالة، كما تؤذن به صيغة فيعل، الدالة على الثبوت، دون الحدوث الذي يفيده صيغة الفاعل. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن (¬1): {لمائتون} بالألف، يريد حدوث الصفة، فيقال: أنت مائت عن قليل، وميت، ولا يقال: مائت، للذي قد مات، وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت، أن الميت، كالحي صفة ثابتةً، وأما المائت، فيدل على الحدوث، تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدًا، كقولك: يموت، ومثله: ضيق وضائق، في قوله: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} انتهى. 16 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: عند النفخة الثانية، {تُبْعَثُونَ}؛ أي: تخرجون من قبوركم للحساب، ثم المجازاة بالثواب، والعقاب، إذ يوفى كل عامل جراء عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ. وخلاصة ما تقدم: أنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف، بيّن أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه، الذي أنشأه النشأة الأولى، وقلبه في أطوار مختلفة، حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرًا على. تكليفه بتلك التكاليف، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء، على ما كلف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة. 17 - واللام في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ} موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي، خلقنا فوقكم يا أهل الأرض، {سَبْعَ طَرَائِقَ}؛ أي: سبع سماوات، وهي طرائق للكواكب وللملائكة، جمع طريقة، كما أن الطرق جمع طريق، والمراد طباق السماوات السبع سميت بالطرائق؟ لأنها طروق بعضها فوق بعض، مطارقة النعل، فإن كل شيء فوق مثله، فهو طريقه؛ أي: لكون بعضها موضوعًا فوق بعض، طاقًا فوق طاق، كمطارقة النعل. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ}؛ أي: عن ذلك المخلوق، الذي هو السماوات، أو عن المخلوقات، سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها {غَافِلِينَ} عن أمرها مهملين لها، بل نحفظها عن الزوال والاختلال، وندبر أمرها حتى تبلغ متتهى ما قدر لها، من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، إذ تسير الكواكب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[18]

في تلك الطرائق، بحساب منتظم، لو أهملناها لاختل توازنها، وسار كل كوكب في غير مداره، أو زل نجم عن سنن سيره، ففسد النظام العام، للعالم العلوي، والعالم الأرضي. والخلاصة: أنا خلقنا السماوات، لمنافعهم، ولسنا غافلين عن مصالحهم، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة، فخلقها قال على كمال قدرتنا، وتدبير أمرها، قال على كمال علمنا، وقال أكثر المفسرين: المراد بالخلق كلهم؛ أي: لسنا بغافلين عنهم، بل حفظنا السماوات عن أن تسقط، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم، فتهلكهم، أو تميد بهم الأرض، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم، وما يعيشون به، ونفي الغفلة عن خفظهم. 18 - {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب {مَاءً}؛ أي: مطرًا {بِقَدَرٍ}؛ أي: بقدر الحاجة لا هو بالكثير، فيفسد الأرض، ولا هو بالقليل، فلا يكفي الزرع، والثمار (¬1)، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها، ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها، يساق إليها الماء من بلاد أخرى، كما في أرض مصر، ويقال: لمثلها {الْأَرْضِ الْجُرُزِ} فيساق إليها ماء النيل، حاملًا معه الطين الأحمر، يجترفه من بلاد الحبشة، في زمن الأمطار، فيستقر فيها، ويكون سمادًا لها، ونافعًا لزرعها {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: فجعلنا ذلك الماء، النازل من السماء، ثابتًا قارًا في الأرض، فيتغذى به، فهما من الحب والنوى، ومنه تتكون الآبار والعيون، التي تمر على معادن مختلفة، فتتشكل، وتتصف بصفاتها، فيكون ماؤها حاويًا، إما للنشادر، وإما للكبريت، وإما للأملاح، وهكذا {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ}؛ أي: على إذهابه وإزالته بالإفساد، أو التصعيد أو التغوير {لَقَادِرُونَ} بحيث يتعذر استخراجه، حتى تهلكوا أنتم، ومواشيكم عطشًا، كما كنا قادرين على إنزاله، ولو شئنا أن لا يمطر السحاب لفعلنا, ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى، لا تستفيدون منه، كالأراضي السبخة، والصحارى، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل في ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

الأرض يغور فيها، إلى مدى بعيد، لا تصلون إليه، ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا، ورحمتنا، ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه في الأرض، ونسلكه ينابيع فيها, لتسقوا به الزرع، والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم. وفي هذا تهديد شديد، لما يدل عليه، من قدرته سبحانه على إذهابه، وتغويره، حتى يهلك الناس بالعطش، وتهلك مواشيهم، ومثله قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. 19 - ثم بيّن سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء، فقال: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ}؛ أي: فأخرجنا لكم من الأرض به؛ أي: بسبب ذلك الماء، الذي أنزلناه من السماء {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}؛ أي: بساتين فيها نخيل، وأعناب، إنما ذكرهما الله سبحانه لكثرة منافعهما، فإنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإدام، ومقام الفواكه، رطبًا ويابسًا، وقال ابن جرير: اقتصر سبحانه، على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة، وما يتصل بذلك، وقيل: لأنها أشرف الأشجار ثمرةً وأطيبها منفعةً، وطعمًا ولذَّةً {لَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} من أنواع شتى، تتفكهون بها، وتتطعمون منها، زيادةً على ثمرات النخيل، والأعناب: كالزيتون والرمان، والتفاح والموز، وغيرها. وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة، على ماذا يطلق؟ اختلافًا كثيرًا، وأحسن ما قيل: إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم، ولا طعام، ولا إدام، واختلف في البقول، هل تدخل في الفاكهة أم لا؟ {وَمِنْهَا}؛ أي: ومن تلك الجنات حبوبها وثمارها {تَأْكُلُونَ} تغذيًا، أو ترزقون، وتحصلون معايشكم من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها. 20 - {وَشَجَرَةً} بالنصب عطف على جنات، وتخصيصها (¬1) بالذكر من بين سائر الأشجار، لاستقلالها بمنافع معروفة، قيل: هي أول شجرة، نبتت بعد الطوفان، وهي شجرة الزيتون، قال في "إنسان العيون": شجرة الزيتون، تعمر ثلاثة آلاف ¬

_ (¬1) روح البيان.

سنة؛ أي: وأنشأنا لكم زيتونة {تَخْرُجُ} وتنبت {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} هو جبل بين مصر وأيلة نودي عليه موسى عليه السلام {تَنْبُتُ} تلك الشجرة، صفة ثانية لشجرة، والباء في قوله: {بِالدُّهْنِ} للملابسة متعلّقة بمحذوف حال من الشجرة؛ أي: تنبت تلك الشجرة، حالة كونها متلبسة بالدهن، مستصحبة بالدهن، كما قال الراغب معناه: تنبت والدهن موجود فيها بالقوة، ويجوز كون الباء صلة معدية لتنبت، كما في قولك: ذهبت بزيد؛ أي: تنبت الدهن بمعنى: تتضمنه وتحصله، فإن النبات حقيقةً، صفة للشجرة لا للدهن، {وَصِبْغٍ} معطوف على الدهن، جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر؛ أي: إدام {لِلْآكِلِينَ} من قولهم: اصطبغت بالخل؛ أي: تأدمت به؛ أي: تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به، ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ فيه الخبز؛ أي: يغمس للائتدام ويلون به، كالدبس والخل مثلًا، وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به؛ لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به. والمعنى (¬1): أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون، التي تنبت في الجبل، بتلك البقعة المباركة، وتثمر زيتونًا تصنع منه الزيوت، التي يدهن بها وتتخذ إدامًا للآكلين. ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة، وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام، ثم ذكر ما فيها من الدهن، والصبغ، ووصفها بالبركة في قوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهي كثيرة بالشام، وقال الجمهور: سيناء اسم الجبل، كما تقول جبل أحد، من إضافة العام إلى الخاص، وقال مجاهد: معنى سيناء مبارك، وقال قتادة معناه: الحسن، والقولان عن ابن عباس، وقيل: سيناء: اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده، قاله مجاهد أيضًا. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والحسن بكسر السين، وهي لغة لبني كنانة، وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح، وهي لغة سائر العرب، وقرىء {سينا} مقصورًا، وبفتح السين، والأصح أن سيناء اسم بقعة، ¬

_ (¬1) المراغي.

[21]

وأنه ليس مشتقًا من السناء، لاختلاف المادتين، على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع؛ لأن نون السناء عين الكلمة، وعين سيناء ياء، وقرأ الجمهور: {تَنْبُتُ} بفتح التاء وضم الباء، والباء في بالدهن على هذا باء الحال؛ أي: تنبت مصحوبة بالدهن ومعها الدهن، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل: بالدهن، مفعول، والباء زائدة والتقدير: تنبت الدهن وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز: بضم التاء وفتح الباء مبنيًّا للمفعول، {وَبِالدُّهْنِ} حال، وقرأ زرّ بن حبيش بضم التاء وكسر الباء {الدُّهْنِ}. بالنصب، وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب: {بالدهان} بالألف وما رووا (¬1) من قراءة عبد الله يخرج الدهن، وقراءة أبيّ {تثمر بالدهن}، محمول على التفسير، لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه، ولأن الرواية الثانية عنهما كقراءة الجمهور، وقرأ الأعمش {وصبغًا} بالنصب، وقرأ عامر بن عبد الله، {وصباغ} بالألف، وقرأ عامر بن عبد قيس {ومتاعًا للآكلين} كأنه يريد تفسير الصبغ. 21 - {إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ}؛ أي: وإن لكم أيها الناس في خلق الأنعام من الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً}؛ أي: لعظة واية تعتبرون بحالها، وتستدلون على عظيم قدرة خالقها, ولطف حكمته، فضلًا عن كونها نعمة، وخص الأنعام بالعبرة دون النبات؛ لأن العبرة فيها أظهر. انتهى "أبو السعود". ووجه العبرة فيها (¬2): أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول في الغدد التي في الضرع إلى شراب طيب لذيد الطعم، صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها. وهذه من جملة النعم التي امتن الله بها عليهم، وقد تقدم تفسير الأنعام، في سورة النحل بالإبل والبقرة والغنم. قال النيسابوري في "تفسيره": ولعل القصد بالأنعام هنا خصوص الإبل؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة، ولأنه قرنها بالفلك، وهي سفائن البر، كما أن الفلك سفائن البحر، وبين سبحانه أنها عبرة؛ لأنها مما يستدل بخلقها وأحوالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل منافعها، وذكر منها أربعة، فقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

1 - {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى، فتتخذون منها الزبدة والسمن والجبن، والأقط ونحوها. و (ما) (¬1) عبارة إما عن الألبان، فـ (من) تبعيضية، والمراد بالبطون الجوف، أو عن العلف، الذي يتكون منه اللبن، فـ (من) ابتدائية، والبطون على حقيقتها، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم، {نسقيكم} بفتح النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: بضمها، وقرىء: بالتاء الفوقية، على أن الفاعل هو الأنعام، فإن قلت: لم قال هنا: {فِي بُطُونِهَا} بالتأنيث، وقال في سورة النحل: {فِي بُطُونِهِ} بالتذكير فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: يفرق بينها، بأن ما في النحل يراد به الإناث فقط، والتقدير: وإن لكم في بعض الأنعام، وذلك البعض هو الإناث فأتى بالضمير مفردًا مذكرًا، وأما في المؤمنون فالمراد منه الكل الشامل للإناث والذكور، بدليل العطف في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} فإن هذا لا يخص الإناث وهذا العطف لم يذكر في النحل، اهـ "كرماني" وقال زكريا في "متشابه القرآن" ذكره هنا بلفظ الجمع؛ لأنه راجع للأنعام، مرادًا بها الجمع وفي النحل، قال: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} بالإفراد نظرًا إلى أن الأنعام اسم مفرد، انتهى. والمعنى: أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره، ووجه الاعتبار في اللبن، أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم، موافق للشهوة، ويصير غذاءً، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها، تجده شرابًا طيبًا نافعًا للبدن، وإذا دبحتها لم تجد له أثرًا، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته، كان ذلك معدودًا من النعم الدينية، ومن انتفع به كان معدودًا من النعم الدنيوية. 2 - {وَلَكُمْ} أيها الناس {فِيهَا}؛ أي: في الأنعام {مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} غير ما ذكر، فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها وتتخذونها ملابس وفرشًا للدفء، وبيوتًا في الصحارى ونحوها مما يجري هذا المجرى، وتنتفعون بثمنها وأجرتها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

3 - {وَمِنْهَا}؛ أي: ومن الأنعام بعد ذبحها {تَأْكُلُونَ} فكما انتفعتم بها، وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل. 4 - 22 {وَعَلَيْهَا}؛ أي: وعلى الأنعام؛ أي: بعضها وهي الإبل {وَعَلَى الْفُلْكِ}؛ أي: السفن {تُحْمَلُونَ}؛ أي: وتركبون ظهورها وتحملونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية، كما قال في آية أخرى {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}. وقصارى ذلك (¬1): أن في خلق الأنعام عبرًا ونعمًا من وجوه شتى، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان، من مصادر هي أبعدما تكون منها ونعمًا لنا في مرافقها وأعيانها فننتفع بألبانها، وأصوافها ولحمها، ونجعلها مطايا لنا في أسفارنا، إلى نحو أولئك من شتى المنافع، وإنما لم يقل (¬2): وفي الفلك، كقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا}؛ لأن معنى الإبعاد ومعنى الاستعلاء، كلاهما مستقيم؛ لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له، يستعليها، فلما صح المعنيان، صحت العبارتان، وأيضًا هو يطابق قوله عليها، ويزاوجه كذا في "بحر العلوم". 23 - ولما ذكر سبحانه الفلك، أتبعه بذكر نوح؛ لأنه أول من صنعه وذكر ما صنعه قوم نوح معه، بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه، والتذكر لنعمه عليهم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} واللام فيه موطئة لقسم محذوف، وتصدير القصة به لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، وهم جميعُ أهل الأرض. وهذا (¬3) شروع في ذكر خمس قصص، غير قصة خلق آدم، فتكون معها ستًا: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات.

الأولى: قصة نوح، وهذا أولها. الثانية: قصة هود، أولها قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}. والثالثة: قصة القرون الآخرين، أولها قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}. والرابعة: قصة موسى وهارون، المذكورة بقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} .. إلخ. والخامسة: قصة عيسى وأمه المذكورة، بقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} إلى قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. ونوح لقبه، واسمه قيل: عبد الغفار، وقيل: عبد الله على ما قاله السيوطي، وقيل: يشكر على ما قاله الرازي، وعاش نوح من العمر ألف سنة وخمسين عامًا، وأرسل على رأس الأربعين، ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين سنةً، وجاء في قصيدة جمال الدين (¬1): مِنْ كَثِيْرِ الذَّنْبِ نُوْحُوْا ... نَوْحَ نُوْحٍ فِيْ الرُّسُلْ إِنَّهُ عُمْرًا طَوِيْـ ... ـلًا مِنْ قَلِيْلِ النُّطْقِ نَاحْ وهو أنه عليه السلام مر على كلب به جرب، فقال: بئس الكلب هذا، ثم ندم، فناح من أول عمره إلى آخره، وقدمت قصته، لتتصل بقصة آدم المذكورة، بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} .. إلخ للمناسبة بين نوح وآدم، من حيث إنه؛ أي: نوحًا آدم الثاني؛ لانحصار النوع الإنساني بعده في نسله {فَقَالَ} نوح داعيًا لهم إلى التوحيد {يَا قَوْمِ}؛ أي: يا قومي {اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، وجملة قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} واقعة موقع التعليل لما قبلها؛ أي: ما لكم في الوجود، أو في العالم إله غير الله، فـ {غيرُ} بالرفع صفة لـ {إله} باعتبار محله، الذي هو الرفع، على أنه مبتدأ، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

وخبره {لَكُمْ} و {مِنْ} زائدة. وقرأ الكسائي بالجر، لـ {غَيْرُهُ}، اعتبارًا للفظ إله، والمعنى (¬1)؛ أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، منذرًا لهم عذاب الله، وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به، وتكذيب رسوله، فقال لهم متعطفًا عليهم مستميلًا لهم لقبول الحق، يا قوم اعبدوا الله وحده، وأطيعوه ولا تشركوا معه ربًا سواه، فإنه لا رب لكم غيره، ولا معبود لكم سواه. والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}؛ لإنكار الواقع، واستقباحه، داخلة على محذوف يستدعيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون ذلك؛ أي: مضمون قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فلا تتقون ولا تخافون عذابه، بسبب إشراككم به، في العبادة ما لا يستحق الوجود، لولا إيجاد الله إياه، فضلًا عن استحقاق العبادة، فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقيق ما يوجبه. والخلاصة: أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه. 24 - {فَقَالَ الْمَلَأُ}؛ أي: الأشراف والسادة {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: من قوم نوح؛ أي (¬2): قالوا لعوامهم مبالغةً في وضع الرتبة العالية، وحطها عن منصب النبوة: {مَا هَذَا} الشيخ يعنون نوحًا {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ أي: في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ} ويتشرف {عَلَيْكُمْ} ويتقدمكم بادعاء الرسالة، مع كونه مثلكم؛ أي: يطلب أن يتشرف عليكم، فيكون أفضل منكم؛ بأن يكون متبوعًا، وتكونوا له تبعًا، وصفوه بذلك إغضابًا للمخاطبين عليه، وإغراءً على معاداته، والمعنى؛ أي (¬3): فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين في الكفر ومن ذوي الكلمة المسموعة والرأي المطاع: ما نوح إلا رجل منكم، ليس له ميزة عليكم في فضل، ولا خلق، فيكون أهلًا للنبوة، وتلقي الوحي من ربه، وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم، ويكون له الصولة والسلطان عليكم، وقد ادعى الرسالة؛ ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[25]

وليس له من حقيقتها شيء، وبعد أن بيّنوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة .. ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينها، فذكروا أمورًا ثلاثة: 1 - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه إرسال رسول إلينا، أو لو شاء الله أن لا نعبد سواه {لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}؛ أي: لأرسل رسلًا من الملائكة يدعونكم إلى ما دعاكم نوح إليه، وإنما قيل: {لَأَنْزَلَ}؛ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال، ومفعول المئتية محذوف، كما قدرناه. 2 - {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا}؛ أي: بمثل هذا الكلام الذي هو الأمر بعبادة الله، خاصة {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}؛ أي: الماضين قبل بعثته؛ أي: ما سمعنا في القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد، بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه: لا إله إلا إله واحد لا رب غيره، ولا معبود سواه، وفي هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأي لهم، وإنما يعولون على التقليد، وقول الآباء والأجداد، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئًا مثل هذا أنكروا نبوته، وفيه إشارة أيضًا إلى أنهم قد بلغوا الغاية في العناد، والتكذيب والانهماك في الغيّ والضلال. 3 - 25 {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما هو؛ أي: ما نوح {إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}؛ أي: جنون، ولذلك يقول ما يقول؛ أي: وما نوح إلا رجل به خبل ونقص في عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجلٍ لا يزن قوله، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة، فلا يلتفت إذًا إلى ما يدعي، ولا ينبغي أن نضيع الوقت في محاجته، ودحض مزاعمه في صدق دعوته، وبعد أن ذكروا موانع نبوته .. ذكروا الطريق المثلى في إبطال دعوته، فقالوا: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ}؛ أي: فاصبروا عليه، وانتظروا به {حَتَّى حِينٍ}؛ أي: إلى وقت يفيق فيه من الجنون؛ أي: أخروا شأنه حتى يتبين أمره؛ بأن يفيق من جنونه، فيترك هذه الدعوى، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم، ودين آبائكم وأجدادكم، أو حتى يموت فتستريحوا منه، وهذا من مكابرتهم، لفرط عنادهم، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلًا وأرزنهم قولًا. ولم يرد سبحانه على هذه الشبه لسخافتها، ووضوح فسادها، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز عن غيره بالمعجزات التي تأتي على يديه، سواء كان ملكًا أم بشرًا.

[26]

وإرادته التفضيل عليهم، من كانت لأجل أو يَتبين فضله حتى ينقادوا، فلا ضير في ذلك، بل هو واجب، وإن أرادوا أنه يبغي التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عز ذلك، وقولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} اعتناق للتقليد، وهو لا يصلح حجة تدفع بها يحيى المعارضين الواضحة، وضوح الشمس في رائعة النهار، وقولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} كذب صراح؛ لأنهم يعلمون ذكاءه وعظيم فطنته، وما أوتيه أو أصالة الرأي وثاقب الفكر. 26 - ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالتهم، وتماديهم في غيهم، وبأسه أو إيمانهم، وأوحي إليه أنه لن يؤمن أو قومك، إلا أو قد آمن .. طلب إلى ربه أو ينصره عليهم، و {قَالَ} نوح يا رب {رَبِّ انْصُرْنِي} عليهم فانتقم منهم بما تشاء، وكيف تريد، والباء في قوله: {بِمَا كَذَّبُونِ}؛ في: بسبب تكذيبهم إياي؛ في: رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به أو العذاب، بقولي: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، وقال الزمخشري (¬1): في بدل (ما كذبون) على أو الباء للبدل، كما تقول: هذا بذاك؛ في: بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم. وقرأ أبي جعفر وابن محيصن {قَالَ رَبِّ} بضم الباء. 27 - وقد أجاب الله سبحانه دعاءه فقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك؛ في: فأعلمناه في خفاء فإن الإيحاء والوحي، إعلام في خفاء {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} واعملها، (أن) مفسّرة لما في الوحي أو معنى القول، والصنع إجادة الفعل؛ أي: فقلنا له، بين استنصرنا على كفرة قومه، بواسطة جبريل: اصنع السفينة، واعملها حالة كونك متلبسًا {بِأَعْيُنِنَا} وحفظنا ورعايتنا، نحفظك من أن تخطىء في صنعته، أيُّ يفسده عليك مفسد، يقال: فلان بعيني؛ في: أحفظه وأراعيه، كقولك: هو منى بمرأى ومسمع {وَ} ملتبسًا بـ {وَحْيِنَا}؛ في: بأمرنا وتعليمنا إياك، كيفية صنعها، فإن الله أرسل إليه جبريل، فعلمه صنعتها وصنعها في عامين، وجعل طولها ثمانين ذراعًا وعرضها خمسين، وارتفاعها ثلاثين ذراعًا، والذراع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

إلى المنكب، وهذا أشهر الروايات. وقيل غير ذلك، وقد تقدم في هود، أنه جعلها ثلاث طباق: السفلى للسباع، والهوامّ، والوسطى للدواب والأنعام، والعليا للإنس، والفاء في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} لترتيب (¬1) ما بعدها على ما قبلها، أو صنع الفلك، وقيل: الفاء استثنافية؛ في: فإذا اقترب وقت قضائنا بعذابهم، عقب تمام صنعة الفلك {وَفَارَ التَّنُّورُ} عطف بيان لمجيء الأمر؛ أي: ونبع التنور الماء على خرق العادة؛ أي: المخبز الذي كان لآدم، فصار إلى نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وكان في موضع مسجد الكوفة، عن يمين الداخل أو باب كندة اليوم وقيل: كان في عين وردة من الشام. أو المعنى: ونبع الماء أو وجه الأرض، وظاهرها، وروي أنه قيل له عليه السلام: إذا فار الماء من التنور .. اركب أنت ومن معك، فلما نبع مثله الماء، أخبرته امرأته فركبوا {فَاسْلُكْ فِيهَا}؛ في: فأدخل في الفلك {مِنْ كُلٍّ} حيوان غير البشر، حضر في هذا الوقت، أو السباع والطير وغيرهما، أو كل ما يلد، أو يبيض، بخلاف ما يلد من العفونات، كالدود والبق، فلم يحمله فيها، وفي القصة (¬2) أو الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيحملهما في السفينة {زَوْجَيْنِ}؛ أي: فردين مزدوجين ذكرًا وأنثى؛ لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان، {اثْنَيْنِ} تأكيد لزوجين، وقرأ حفص بتنوين كل، {فزوجين}، مفعول به، و {اثْنَيْنِ} تأكيد له؛ في: أدخل من كل نوع زوجين، وقرأ الباقون: بغير تنوين، فـ {اثنين} مفعول به {وَأَهْلَكَ} منصوب بفعل محذوف، معطوف على {فَاسْلُكْ} لا بالعطف (¬3)، على زوجين، أو على {اثنين} على القراءتين؛ لأدائه إلى اختلاف المعنى، والتقدير: واسلك أهلك، والمراد: امرأته المؤمنة، وبنوه الثلاثة المؤمنون، سام أبو العرب، وحام أبو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[28]

السودان، ويافث أبو الترك، وتأخير الأهل (¬1)؛ لما فيه أو ضرب تفضيل بذكر الاستثناء وغيره. أي: وأدخل في الفلك أهل بيتك من زوجك وأولادك، أو ومن آمن معك {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ} في الأزل {الْقَوْلُ} والقضاء بالإهلاك حالة كونه كائنًا {مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل بيتك، وهما ولده كنعان وأمه واعلة، فإنهما كانا كافرين، أو من سائر الكفرة، وإنما جيء بعلى؛ لكون السابق ضارًا، كما جيء باللام في قوله: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}؛ لكونه نافعًا. والمعنى: أي فإذا جاء وقت قضائنا على قومك، بعذابهم وإهلاكهم، ونبع الماء من المخبز، أو من وجه الأرض، فأدخل في السفينة أو كل جنس أو الحيوان فردين مزدوجين، كناقة وجمل وحصان ورمكة، وأدخل زوجتك المؤمنة، وأولادك ونساءهم، إلا من سبق عليه القول منا، بأنه هالك فيمن يهلك، فلا تحمله معك، وهو كنعان وأمه، وكانا كافرين {وَلَا تُخَاطِبْنِي}؛ في: ولا تكلمني يا نوح {فِي} شأن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر، بالدعاء لإنجائهم؛ أي: لا تسألني أن أنجي الذين كفروا بالله، من الغرق {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} تعليل للنهي قبله؛ أي: مقضي عليهم بالإغراق بالطوفان، لا محالة لظلمهم بالإشراك، وسائر المعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه، كيف لا؟ 28 - وقد أمر بالحمد على النجاة منهم .. بإهلاكهم بقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} وعلوت {أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} من أهلك وأتباعك {عَلَى الْفُلْكِ} والسفينة واطمأننت فيها، راكبين عليها .. {فَقُلِ} يا نوح {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: الشكر الكامل، والثناء الجميل، لله سبحانه، تبارك وتعالى {الَّذِي نَجَّانَا} معاشر المؤمنين {مِنَ} شر {الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وإذايتهم؛ أي: حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم بإغراقهم، وإنما (¬2) جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاةً أو الغرق جزمًا؛ لأنه قد سبق أو ذلك سبب نجاتهم أو الظلمة، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا أو العذاب وإفراده بالذكر مع شركة الكل في الاستواء والنجاة .. لإظهار فضله، والإشعار بأن في دعائه وثنائه مندوحة عما عداه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكانى.

[29]

والمعنى: أي فإذا اطماننت في السفينة أنت ومن معك، ممن حملته من أهلك وأتباعك، فقل: الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة، وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوًا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره، أو تطهير الأرض من دنس شركه وضلاله. قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنسانًا نوح وامرأته غير التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانًا، وكل الخلائق من نسل من كان معه في السفينة. 29 - ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له، وأتمّ فائدةً فقال: {وَقُلْ} يا نوح، حين ركبت على السفينة، أو حين خرجت منها، واستوت على الجودي، وكان يوم عاشوراء، وابتداء ركوبه السفينة كان لعشر خلون من رجب فكان مدة مكثهم في السفينة ستة أشهر {رَبِّ أَنْزِلْنِي} في السفينة أو في الأرض {مُنْزَلًا مُبَارَكًا}؛ أي: مكانًا ذا بركة وخير كثير، وهو نفس السفينة؛ لأن من ركبها خلصته من الغرق، أو وجه الأرض، وأراد بالبركة: كثرة النسل والرزق، أو كثرة الماء والأشجار فيه، قيل: أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة، وقيل: عند خروجه منها، وفي الآية، تعليم من الله لعباده، إذا ركبوا ثم نزلوا بأن يقولوا، هذا القول، والعبرة (¬1) بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فهذا الدعاء ينبغي قراءته لكل من نزل في محل، يريد الإقامة فيه. وقرأ الجمهور (¬2) {منزلًا} بضم الميم وفتح الزاي، فجاز أن يكون مصدرًا ومكانًا؛ أي: إنزالًا مباركًا أو مكانًا مباركًا، وقرأ أبو بكر عن عاصم والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبان وزر بن حبيش {منزلًا} بفتح المين وكسر الزاي على أنه اسم مكان؛ أي: مكانًا مباركًا. والمعنى: أي وقيل إذا سلمت وخرجت من السفينة رب أنزلني منزلًا مباركًا، واْنت خير المنزلين؛ أي: وأنت خير من أنزل عباده المنازل في الدنيا ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) البحر المحيط.

[30]

والآخرة، وقد أجاب الله دعاءه، حيث قال: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ} فبارك فيهم بعد إنزالهم من السفينة، حتى كان جميع الخلق من نسل نوح ومن معه في السفينة. والمعنى: أنه قد يكون الإنزال من غير الله، كما يكون من الله سبحانه، فحسن أن يقول: وأنت خير المنزلين؛ لأنه يحفظ من أنزله، ويكلوه في سائر أحواله، ويدفع عنه المكاره، بخلاف منزل الضيف، فإنه لا يقدر على ذلك 30 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من قصة نوح، وقومه من إنجائه اغراقهم، والخطاب فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات تدل على كمال قدرتنا، وعلامات يستدل بها، على عظيم شأننا (¬1)، فإن إظهار تلك المياه العظيمة، ثم الإذهاب بها, لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق ما قال نوح عليه السلام، يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الدين، من أعظم أنواع العبر في الدعاء، إلى الإيمان, والزجر عن الكفر. {وَإِنْ كُنَّا}؛ أي: وإن الشأن كنا {لَمُبْتَلِينَ}؛ أي: لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، هو الطوفان، مختبرين به عبادنا فيما بعد، لننظر من يتذكر ويتعظ، أو لمختبرين لهم بإرسال نوح إليهم، ليظهر المطيع والعاصي للناس، أو للملائكة، فـ {إِنَّ} مخففة من الثقيلة، واللام فارقة، والمعنى: وإننا كنا معاملين قوم نوح، معاملة المختبر، لننظر هل يتبعونه، ويتعظون بوعظه، أم لا وقيل: {إِنَّ} نافية واللام بمعنى: إلا؛ أي: وما كنا إلا مبتلين، كما في "السمين". والمعنى: أي وقل: إذا سلمت وخرجت في السفينة: رب أنزلني من الأرض منزلًا مباركًا، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الكريمة، في الدنيا والآخرة. قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} وحين ركوب الدابة {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ¬

_ (¬1) المراح.

وحين النزول {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}؛ أي: إن فيما فعلنا بقوم نوح، من إهلاكهم، إذ كذبوا رسولنا، وجحدوا وحدانيتنا، وعبدوا الآلهة والأصنام، لعبرًا لقومك، من مشركي قريش، وحججًا لنا عليهم، يستدلون بها سنننا في أمثالهم، فينزجرون عن كفرهم، ويرتدون عن تكذيبهم، حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم، من العذاب، وقد كنا مختبريهم بالتذكير، بهذه الآيات، لننظر ماذا يفعلون، قبل أن ينزل بهم عقوبتنا، ونحو الآية قوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر (15)} وقد تقدم هذا القصص بتفصيل في سورة هود عليه السلام. الإعراب {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع، صفة لـ {الْمُؤْمِنُونَ} {هُمْ}: مبتدأ {فِي صَلَاتِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَاشِعُونَ} قدم عليه للاهتمام به، وحسنه كون متعلقه، فأصله {خَاشِعُونَ}: خبر المبتدأ والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ} في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول، {هُمْ}: مبتدأ {عَنِ اللَّغْو}: متعلق بما بعده {مُعْرِضُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول {هُمْ} مبتدأ {لِلزَّكَاةِ} متعلق بما بعده، وضمن {فَاعِلُونَ} معنى مؤدون، وقيل: (اللام): زائدة في المفعول به، لتقدمه على عامله {فَاعِلُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول {هُمْ} مبتدأ {لِفُرُوجِهِمْ} متعلق بما بعده {حَافِظُونَ}: خبر المبتدأ والجملة صلة الموصول {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {عَلَى} حرف جر بمعنى من {أَزْوَاجِهِمْ} مجرور بـ {عَلَى}: الجار

والمجرور، متعلق بـ {حَافِظُونَ}. وفي "السمين" قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه متعلق بـ {حَافِظُونَ} على تضمين معنى ممسكين، أو قاصرين، وكلاهما يتعدى بـ {عَلَى} قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}. الثاني: أن {عَلَى}، بمعنى من؛ أي: إلا من أزواجهم، فـ {عَلَى} بمعنى: من، كما جاءت {مِنَ}، بمعنى: على في قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}. وإليه ذهب الفراء. الثالث: أن يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري؛ أي: إلا والين أو قوامين عليهم من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره كان زياد على البصرة؛ أي: واليًا عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشًا. الرابع: أن يتعلق بمحذوف، يدل عليه، غير ملومين، قال الزمخشري: وكأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم؛ أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أحل لهم، فإنهم غير ملومين عليه اهـ. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} {أَوْ}: حرف عطف. {مَا}: اسم موصول، في محل الجر، معطوف على {أَزْوَاجِهِمْ} وعبر بما دون من، وإن كان المقام لمن، لنقصهن بالأنوثة، وشبههن بالبهائم في حل البيع مثلًا اهـ "شيخنا". {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وما ملكته أيمانهم {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}: {الفاء}: تعليلية، مسوقة لتعليل الاستثناء. {إنهم}: ناصب واسمه {غَيْرُ مَلُومِينَ}: خبره، وجملة {إن} من اسمها وخبرها، في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية. {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}

{فَمَنِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم غير ملومين في ذلك، وأردت بيان حكم ما وراء ذلك .. فأقول لك: {من ابتغى} {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما {ابْتَغَى}: فعل ماض، في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} {وَرَاءَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمفعول {ابْتَغَى} المحذوف، تقديره: فمن ابتغى شيئًا، كائنًا وراء ذلك {فَأُولَئِك}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط وجوبًا. {أولئك}: مبتدأ {هُمْ}: ضمير فصل {الْعَادُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَالَّذِينَ}: في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول هم مبتدأ {لِأَمَانَاتِهِمْ} متعلق بـ {رَاعُونَ}، {وَعَهْدِهِمْ}: معطوف على {أماناتهم} {رَاعُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول {هُمْ}: مبتدأ {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ}: متعلق بما بعده {يُحَافِظُونَ}: فعل وفاعل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول {أُولَئِكَ}: مبتدأ {هُمُ} ضمير فصل {الْوَارِثُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًا {الَّذِينَ} صفة لـ {الْوَارِثُونَ} أو خبر ثان للمبتدأ {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {هُمْ}: مبتدأ فِيهَا متعلق بـ {خَالِدُونَ} وهو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَرِثُونَ}. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام: وموطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق

{خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول. {مِنْ سُلَالَةٍ}: متعلق بـ {خَلَقْنَا} {مِنْ طِينٍ}: متعلق بمحذوف صفة لـ {سُلَالَةٍ}، أو متعلق بـ {سُلَالَةٍ} لأنها بمعنى مسلولة، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً}: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {خَلَقْنَا} {فِي قَرَار}: جار ومجرور صفة لـ {نُطْفَةً}، {مَكِينٍ}: صفة لـ {قَرَارٍ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ}: فعل وفاعل ومفعول أول {عَلَقَةً}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنَاهُ}، {فَخَلَقْنَا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب. {خلقنا العلقة مضغة}: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}. {فَخَلَقْنَا}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب {خلقنا المضغة عظامًا}: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}، {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب {كسونا العظام لحمًا}: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا}، {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ}: {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {أَنْشَأْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على {فَكَسَوْنَا}، {خَلْقًا}: حال من المفعول في {أَنْشَأْنَاهُ} {آخَرَ}: صفة لـ {خَلْقًا} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ}: {الفاء}: استئنافية {تبارك الله}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة معترضة {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}: بدل من الجلالة، ومضاف إليه، وليس بصفة لها؛ لأنها نكرة، وتمييز أحسن محذوف، للعلم به، تقديره: خلقًا. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {ميتون} أو حال من كاف المخاطبين {لَمَيِّتُونَ}: (اللام): حرف ابتداء. {ميتون}: خبر {إن} مرفوع بالواو، وجملة {إن}: معطوفة على جملة {أَنْشَأْنَاه}: عطف إسمية على فعلية، وما بينهما اعتراض {ثُمَّ}: حرف عطف {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {تُبْعَثُونَ}. {تُبْعَثُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.

{وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق {خَلَقْنَا}: فعل وفاعل {فَوْقَكُمْ}: ظرف مكان، ومضاف إليه، متعلق بـ {خَلَقْنَا}. {سَبْعَ طَرَائِقَ}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لذكر خلق السماوات التي تعلو الإنسان، بعد ذكر خلقه {وَمَا}: {الواو}: حالية. {ما}: نافية {كُنَّا}: فعل ناقص، واسمه {عَنِ الْخَلْقِ}: متعلق بما بعده {غَافِلِينَ}: خبر كان. والجملة في محل النصب من فاعل {خَلَقْنَا}. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}. {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أنزلنا} والجملة معطوفة على {خَلَقْنَا}. {مَاءً} مفعول به. {بِقَدَرٍ}: جار ومجرور، صفة لـ {مَاءً} أي: ماء ملتبسًا بقدر معلوم، يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة {فَأَسْكَنَّاهُ}. {الفاء}: عاطفة. {أسكناه}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أنزلنا} {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أسكنا} {وَإِنَّا}: {الواو}: حالية {إن}: ناصب واسمه {عَلَى ذَهَابٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {قادرون} قدم عليه؛ لرعاية الفاصلة {به} متعلق بـ {ذَهَابٍ} {لَقَادِرُون} خبر {إن}، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} في محل النصب، حال من فاعل {أسكناه} {فَأَنْشَأْنَا}: {الفاء}: عاطفة. {أنشأنا}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق بـ {أنشأنا}. {بِهِ}: متعلق بـ {أنشأنا} أيضًا {جَنَّاتٍ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أسكناه}. {مِنْ نَخِيلٍ}: جار ومجرور صفة لـ {جَنَّاتٍ}. {وَأَعْنَابٍ}: معطوف على {نَخِيلٍ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم {فِيهَا}: جار ومجرور حال من ضمير المخاطبين {فَوَاكِهُ}: مبتدأ مؤخر {كَثِيرَةٌ}: صفة لـ {فَوَاكِهُ} والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ {جَنَّاتٍ} أو حال منها, لوصفها بالجار والمجرور. {وَمِنْهَا}: {الواو}: عاطفة. {منها}: متعلق بـ {تَأْكُلُونَ}. {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة

قوله: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ}. {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}. {وَشَجَرَةً}: معطوف على {جَنَّاتٍ}. {تَخْرُجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {شجرة}: والجملة في محل النصب، صفة لـ {شجرة}. {مِن}: حرف جر {طُورِ}: مجرور ومضاف. {سَيْنَاءَ}: مضاف إليه، مجرور بالفتحة، ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى البقعة، وألفه ليست للتأنيث، بل للإلحاق بقرطاس {تَنْبُتُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شجرة، والجملة في محل النصب صفة ثانية، لـ {شجرة}. {بِالدُّهْنِ}: جار ومجرور في محل النصب، حال من فاعل {تَخْرُجُ}؛ أي: حالة كونها ملتبسة بالدهن، ومصحوبةً به، والدهن: عصارة كل شيء ذي دسم، {وَصِبْغٍ} معطوف على {الدهن}، جار على إعرابه، عطف أحد وصفي الشيء على الآخر؛ أي: تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به، ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ به الخبر، أي يغمس فيه للائتدام به {لِلْآكِلِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {صبغ}. {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف نصب {لَكُمْ}: جار ومجرور، وخبر مقدم لـ {إنَّ} {فِي الْأَنْعَامِ}: حال من عبرة؛ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها {لَعِبْرَةً}. {اللام}: حرف ابتداء. {عبرة}: اسم إن مؤخر وجملة إن معطوفة على جملة قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}. {نُسْقِيكُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على {الله}. {مِمَّا}: جار ومجرور، متعلق بـ {نُسْقِيكُمْ}. والجملة الفعلية، جملة مفسرة لعبرة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {فِي بُطُونِهَا}: جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها {وَلَكُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم {فِيهَا}: جار ومجرور حال من {مَنَافِعُ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مَنَافِعُ}: مبتدأ مؤخر {كَثِيرَةٌ} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {نُسْقِيكُمْ}. {وَمِنْهَا}: متعلق بـ {تَأْكُلُونَ}. {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على

جملة {نُسْقِيكُمْ}. {وَعَلَيْهَا}. {الواو}: عاطفة {عليها}، متعلق بـ {تُحْمَلُونَ}. {وَعَلَى الْفُلْكِ}: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله {تُحْمَلُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {نُسْقِيكُمْ}. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا نُوحًا}: فعل وفاعل ومفعول {إِلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، والجملة الفعلية جواب القسم وجملة القسم مستأنفة مسوقة لسرد خمس قصص، أولها: قصة نوح، {فَقَالَ}: {الفاء}: عاطفة. {قال}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {نُوحًا}، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}. {يَا قَوْمِ}: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ {قال}؛ وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول {قال}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء {مَا}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ}: زائدة. {إِلَهٍ}: مبتدأ مؤخر، مرفوع محلًا {غَيْرُهُ}: صفة لـ {إِلَهٍ} على المحل، وقرىء بالجر على اللفظ، وهو جائز والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. {أَفَلَا تَتَّقُون}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع منهم، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون عدم إله غير الله لكم، {لا}: نافية. {تَتَّقُون}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: عذابه، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعرفون ذلك فلا تتقون عذابه، والجملة المحذوفة، في محل النصب مقول {قال}. {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. {فَقَالَ}: {الفاء}: عاطفة. {قال الملأ}: فعل وفاعل معطوف على {فَقَالَ يَا قَوْمِ}. {الَّذِينَ}: صفة للام {كَفَرُوا}: صلة الموصول {مِنْ قَوْمِهِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {كَفَرُوا}. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ} إلى قوله: {قَالَ رَبِّ

انْصُرْنِي}: مقول محكي وإن شئت قلت: {مَا}: نافية. {هَذَا}: مبتدأ {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {بَشَرٌ}: خبر {مِثْلُكُمْ}: صفة أولى لـ {بَشَرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال}. {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}. {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {بَشَرٌ}، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ {بَشَرٌ}. {أَن}: حرف نصب {يَتَفَضَّلَ}: فعل مضارع، منصوب بـ {أن} المصدرية {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على {بَشَرٌ}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد تفضله عليكم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}. {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، الجملة فعل شرط لـ {لو}. {لَأَنْزَلَ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} {أنزل}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} {مَلَائِكَةً}: مفعول به، والجملة جواب {لو} الشرطية وجملة {لو} الشرطية في محل النصب مقول {قال} على كونها مستأنفة {مَا}: نافية {سَمِعْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {بِهَذَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {سَمِعْنَا}. {فِي آبَائِنَا} متعلق بـ {سَمِعْنَا}. أيضًا، أو حال من اسم الإشارة، {الْأَوَّلِين}: صفة لـ {آبَائِنَا}. {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}. {إِنْ}: نافية. {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {رَجُلٌ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {بِهِ}: جار ومجرور، خبر مقدم {جِنَّةٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الرفع، صفة لـ {رَجُلٌ}. {فَتَرَبَّصُوا}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حقيقته المذكورة لكم، من أنه بشر مثلكم، ورجل به جنة، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم: {تربصوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل

النصب مقول {قال}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تربصوا}. {حَتَّى حِينٍ}: جار ومجرور، متعلق به أيضًا. {قَالَ}: فعل وفاعل مستتر، يعود على نوح، والجملة مستأنفة {رَبِّ انْصُرْنِي}: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال: {انْصُرْنِي}: فعل وفاعل مستتر، ونون وقاية، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {بِمَا}: {الباء}: حرف جر. {ما}: مصدرية {كَذَّبُون}: فعل وفاعل ونون وقاية وياء المتكلم المحذوفة، اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية. {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء السببية، الجار والمجرور متعلق بـ {انْصُرْنِي} والتقدير: انصرني بسبب تكذيبهم إياي. {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}. {فَأَوْحَيْنَا} {الفاء}: استئنافية، كما قيل، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قالوا. وقال نوح، وأردت بيان أمره، وأمرهم .. فأقول لك: {أوحينا}. {أوحينا}: فعل وفاعل ومضاف {إِلَيْهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {أَنِ}: مفسرة لوقوعها بعد جملة فيها معنى القول، دون حروفه، وهو {أوحينا}. {اصْنَعِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {نُوحًا}. {الْفُلْكَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب {بِأَعْيُنِنَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من الضمير المستتر في {اصْنَعِ}، تقديره: حالة كونك ملتبسًا بأعيننا. {وَوَحْيِنَا}: معطوف على {أعيننا}. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا امتثلت أمرنا، وصنعت الفلك، وأردت بيان عاقبة أمرها .. فأقول لك: {إذا جاء أمرنا}: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَ أَمْرُنَا}: فعل

وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض فعل شرط لـ {إذا}، والظرف متعلق بالجواب، {وَفَارَ التَّنُّورُ}: فعل وفاعل، معطوف على {جَاءَ أَمْرُنَا} عطف بيان على مبين {فَاسْلُكْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {اسلك}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {نُوحًا}. {فِيهَا}: متعلق به. {مِنْ كُلٍّ}: جار ومجرور، حال من {زَوْجَيْنِ} أو من {اثْنَيْنِ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {زَوْجَيْن}: مفعول به لـ {فَاسْلُكْ}. {اثْنَيْنِ}: صفة مؤكدة له. {وَأَهْلَكَ}: مفعول لفعل محذوف، معطوف على {فَاسْلُكْ} تقديره: واسلك فيها أهلك، كما مر في مبحث التفسير مع علته. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَنْ}: اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء المتصل. {سَبَق}: فعل ماض. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {سَبَقَ}، {الْقَوْلُ}: فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَلَا تُخَاطِبْنِي}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية، {تُخَاطِبْنِي} فعل وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {فَاسْلُكْ}. {فِي الَّذِين}: متعلق بـ {تُخَاطِبْنِي}. {ظَلَمُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إن}: مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها. {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)}. {فَإِذَا}: {الفاء}: استئنافية أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا عرفت ما أمرتك به، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {إذا استويت}: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {اسْتَوَيْتَ}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {إذا}. {أَنْتَ}: تأكيد للتاء. {وَمَنْ}: معطوف على التاء. {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول {عَلَى الْفُلْكِ}: متعلق بـ {اسْتَوَيْت}. {فَقُلِ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطية جوبًا {قل}: فعل أمر، وفاعل مستتر جواب {إذا} الشرطية، وجملة {إذا}: في محل النصب مقول

لجواب إذا المقدرة وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قل}. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {نَجَّانَا}: فعل وفاعل مستتر مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنَ الْقَوْمِ}: متعلق بـ {نَجَّانَا}. {الظَّالِمِين}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}. {وَقُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {قل} الأول. {رَبِّ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قل}. {أَنْزِلْنِي}: فعل دعاء، وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به أول. {مُنْزَلًا}: اسم مكان، أو مصدر مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قل} على كونها جواب النداء {مُبَارَكًا}: صفة لـ {مُنْزَلًا}. {وَأَنْتَ خَيْرُ}: مبتدأ وخبر {الْمُنْزِلِينَ}: مضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {أَنْزِلْنِي}. {إنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم، لـ {إنَّ}. {لَآيَات}: {اللام}: حرف ابتداء. {آيات}: اسم {إنَّ} مؤخر، وجملة {إنَّ} مسأتفة. {وَإِن}: {الواو}: عاطفة. {إن}: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {لَمُبْتَلِينَ}: (اللام): حرف ابتداء. {مبتلين} خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن} المخففة وجملة {إن} المخففة معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} وكلمة {قَدْ} هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل لأن المؤمنون كانوا متوقعين ذلك الفلاح من فضل الله، والفلاح: البقاء، والفوز بالمراد، والنجاة من المكروه، والإفلاح: الدخول في ذلك، كالإبشار الذي هو الدخول في البشارة، وقد يجيء متعديًا بمعنى الإدخال فيه، وعليه قراءة من قرأ على البناء للمفعول. اهـ. "روح". و {الْمُؤْمِنُونَ}: جمع مؤمن،

والمؤمن: هو المصدق، بما جاء عن ربه على لسان نبيه، من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، {خَاشِعُونَ} جمع خاشع. والخاشع: هو الخاضع المتذلل، مع خوف وسكون للجوارح. وقال في "المفردات": الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد على القلب، ولذلك قيل فيما ورد: إذا ضرع القلب خشعت الجوارح. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} وفي "المفردات" اللغو من الكلام ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، ويجري مجرى اللغا، وهو صوت العصافير ونحوها، من الطيور. اهـ. وفي "التأويلات النجمية" اللغو: كل فعل لا لله، وكل قول لا من الله، ورؤية غير الله، وكل ما يشغلك عن الله، فهو لغو. اهـ. ويقال: أعرض أظهر عرضه؛ أي: ناحيته، فإذا قيل: عرض لي كذا؛ أي: بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: أعرض، فمعناه ولى مبديًا عرضه؛ أي: معرضوه عن اللغو في عامة أوقاتهم. {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} والزكاة: تزكية النفس وطهارتها، بفعل العبادة المالية، ضمن فاعلون معنى مؤدون، إذ لا يصح فعل الأعيان، التي هي القدر المخرج من المزكي للمستخقين، ويصح حمل الزكاة على المصدر، الذي هو التزكية، فيصح نسبة الفعل إليها، من غير تضمين. اهـ. من "البحر" {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} والفروج: جمع فرج، والفرج: سوءة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، وفي كتب اللغة: الفرج والفرجة: الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح. {ابْتَغَى}؛ أي: طلب {وَرَاءَ ذَلِك}؛ أي: غير ذلك {الْعَادُون}؛ أي: المتناهون في العدوان، ومجاوزة الحدود الشرعية، وفي "الروح" العدوان: الإخلال بالعدالة، والاعتداء. مجاوزة الحق. {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ} والأمانات: جمع أمانة، والأمانة: هي ما ائتمن المرء عليه من قبل الله تعالى، كالتكاليف الشرعية، أو من قبل الناس، كالأموال

المودعة لديه، والنذور والعقود ونحوها، والعهد ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه، وما أمر به الله، كما قال {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا}. {رَاعُونَ}: جمع راعٍ من الرعي، وهو الحفظ، والراعي: القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه. {يُحَافِظُون}؛ أي: يواظبون عليها بشرائطها وآدابها كما مر. {هُمُ الْوَارِثُونَ}: جمع وارث، والوراثة: انتقال المال إليك من غيرك، من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت، فيقال للمال: المورث ميراث اهـ. "روح". والفردوس: اسم لأعلى طبقات الجنة، وهو في الأصل: البستان الجامع، لجميع أصناف الثمر، هم فيها {خَالِدُونَ}: جمع خالد، والخلود: تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والخلود في الجنة، بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون، والفساد عليها. {مِنْ سُلَالَةٍ} والسلالة: كل ما سل عن الشيء، واستخرج منه، يقال: سل الشيء من الشيء، إذا نزع كسل السيف من الغمد، وسل الشيء من البيت على سبيل السرقة، وسل الولد من الأب، ومنه قيل للولد: سليل، فالسلالة: اسم ما سل من الشيء، واستخرج منه، فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل، فتارةً تكون مقصودة كخلاصات الأشياء، كالزبد من اللبن، وأخرى غير مقصودة، كقلامة الظفر، وكناسة البيت. والسلالة هنا: من القبيل الأول، فإنها مقصودة ما يسل. {مِنْ طِينٍ}. والطين: التراب والماء المختلط به. {نُطْفَةً} والنطفة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل {فِي قَرَارٍ}؛ أي: مستقر، وهو الرحم، عبر عنها بالقرار، الذي هو المصدر مبالغة. {مَكِينٍ}؛ أي: متمكن أو حصين، وهو وصف لها، بصفة ما استقر فيها، مثل طريق سائر. {عَلَقَةً}: قال الراغب: العلق الدم الجامد، ومنه العلقة التي يكون منها الولد. {مُضْغَةً} والمضغة: قطعة لحم قدر ما يمضغ. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} تزايد بره وإحسانه، وتعالى شأنه وعلمه، وتقدمت ذاته وصفاته {سَبْعَ طَرَائِقَ}: الطرائق: السماوات، جمع طريقة، بمعنى مطروقة؛ أي: مطروق بعضها فوق بعض، من قولهم طارق بين ثوبين، إذا ألبس

ثوبًا فوق ثوب، أو من طرق النعل، إذا وضع طاقاته بعضها فوق بعض، قيل: فعلى هذا لا تكون سماء الدنيا من الطرائق، إذ لا سماء تحتها، فجعلها منها من باب التغليب، ولا يخفى أن المعنى وضع طاقًا فوق طاق مساويًا له، فيندرج ما تحت الكل لكون مطارقًا؛ أي: له نسبه، ونتلو بالمطارقة فلا حاجة إلى التغليب اهـ. "شهاب". {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب {ماء}؛ أي: عذبًا، وإلا، فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط، والعذب يقل مع القحط {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ} الذهاب مصدر ذهب، والباء في به، للتعدية، مرادفة للهمزة؛ أي: لقادرون على إذهابه، وازالته، والإذهاب إما بالإفساد، وإما بالتصديع، وإما بالتعميق والتغوير في الأرض. {مِنْ نَخِيلٍ} قال في "المفردات": النخيل معروف، ويستعمل في الواحد، والجمع، وجمعه نخيل. {وَأَعْنَابٍ}: جمع عنب، قال في "المفردات": العنب يقال: الثمرة الكرم، وللكرم نفسه، الواحدة عنبة، انتهى. {فَوَاكِهُ}: قال في "المفردات" الفاكهة، قيل: هي الثمار كلها، وقيل: بل هي الثمار، ما عدا العنب والرمان، وقائل هذا كأنه نظر إلى اختصاصهما بالذكر، وعطفهما على الفاكهة، انتهى. {وَشَجَرَةً}: وفي "المفردات" الشجرة من النبت ما له ساق، يقال: شجرة وشجر، ونحو ثمرة وثمر. {طُورِ سَيْنَاءَ}: وطور سنين، قال الزمخشري: لا يخلو، إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون إسمًا للجبل مركبًا من مضاف ومضاف إليه، كامرىء القيس، وكبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء، فقد منع من الصرف، للتعريف والعجمة، أو التأنيث؛ لأنها بقعة وفعلاء، لا يكون ألفه للتأنيث، كعلباء وحرباء، ومن فتح فلم يصرف؛ لأن الألف للتأنيث، كصحراء هذا وسيناء شبه جزيرة، يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالًا، وقناة السويس وخليج السويس غربًا، وفلسطين وخليج العقبة شرقًا، تنتهي جنوبًا عند رأس محمد في البحر الأحمر، وسيناء جبل واقع

في شبه جزيرة سيناء جنوبًا، والمراد بالشجرة، شجرة الزيتون، وخصت بطور سيناء مع أنها تخرج في غيره؛ لأن أصلها منه ثم نقلت إلى غيره. {بِالدُّهْن} والدهن: عصارة كل شيء ذي دسم. اهـ. "سمين". {وَصِبْغٍ}؛ أي: إدإم يصبغ اللقمة، إذا أغمست فيه وفي "المصباح": صبغ من باب ضرب، وقتل ونفع. اهـ. قال في "المغرب"، يقال: صبغ الثوب بصبغ حسن، وصباغ حسن، ومنه الصبغ والصباغ من الإدام؛ لأن الخبز يغمس فيه، ويلون به كالخل والزيت. اهـ. {وَعَلَى الْفُلْكِ}؛ أي: السفينة قال الراغب: ويستعمل الفلك للواحد، والجمع، وتقديرهما مختلفان، فإن الفلك إذا كان واحدًا كان كبناء قفل، وإذا كان جمعًا فكبناء حمر. اهـ. {قَالَ الْمَلَأُ} الملأ: أشراف القوم. {يَتَفَضَّلَ}؛ أي: يدعي الفضل والسيادة {جِنَّةٌ}؛ أي: حالة جنون، ففعلة مستعملة في الهيئة على حد قوله. وفعلة لهيئة كالجلسة اهـ. "شيخنا". والجنون: اختلال حائل بين النفس والعقل، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن أحوال الحقيقة عند أرباب الطبيعة جنون، كما أن أحوال أرباب الطبيعة عند أهل الحقيقة جنون. اهـ. {فَتَرَبَّصُوا}؛ أي: انتظروا، قال الراغب: التربص: الانتظار بالشيء ساعة، يقصد بها غلاء، أو رخصًا أو أمرًا ينتظر زواله أو حصوله، {وَفَارَ التَّنُّورُ} يقال: فار الماء، إذا نبع يفور فورًا، من باب قال، والفور شدة الغليان، ويقال ذلك في النار نفسها، إذا هاجت وفي القدر، وفي الغضب، وفوارة الماء، سميت تشبيهًا بغليان القدر، ويقال: الفور الساعة، والتنور: تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع على خرق العادة {فَاسْلُكْ فِيهَا}؛ أي: أدخل في الفلك، يقال: سلك فيه؛ أي: دخل وسلكه فيه؛ أي: أدخله، ومنه قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}. {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} قال الراغب: استوى: يقال على وجهين: أحدهما: أن يسند إليه، فاعلان فصاعدًا، نحو: استوى زيد وعمرو في

كذا؛ أي: تساويا. قال تعالى: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}. والثاني: أن يقال: لاعتدال الشيء في ذاته، فإذا استويت، ومتى عدي بعلى اقتضى معنى الاستعلاء نحو {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}، ونحو {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}. وفي "السمين" قوله: {مُنْزَلًا مُبَارَكًا} قرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي والباقون بضم الميم، وفتح الزاي والمَنْزِل، والمَنْزَل كل منهما يحتمل أن يكون اسم مصدر وهو الإنزال، أو النزول، وأن يكون اسم مكان للنزول، أو الإنزال إلا أن قياس مصدر الفعل المذكور هنا منزل بالضم والفتح، وأما الفتح والكسر، فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي، كقوله: أنبتكم من الأرض نباتًا. اهـ. والنزول في الأصل هو الانحطاط من علو، يقال: نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا، حطّ رحله فيه، ونزل به. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}: اسم فاعل من ابتلى الخماسي. قال الراغب: إذا قيل: ابتلي فلان بكذا وأبلاه فذلك يتضمن أمرين: أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني: ظهور جودته وردائته دون التعرف بحاله، والوقوف على ما يجهل من أمره، إذا كان من الله علام الغيوب. اهـ. واعلم أن البلاء كالملح، وأن أكابر الأنبياء، إنما كانوا من أولي العزم ببلايا ابتلاهم الله بها، فصبروا، ألا ترى إلى حال نوح عليه السلام، كيف ابتلي ألف سنة إلا خمسين عامًا، فصبر، حتى قيل له: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} اهـ. "روح البيان". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: الإخبار بصيغة الماضي؛ لإفادة التحقيق والثبوت في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} كما أن {قَدْ}؛ لإفادة التحقيق أيضًا. ومنها: بر الاستهلال في هذه السورة؛ لأنها ذكرت أحوال المؤمنين، على جهة التفصيل. والتفصيل عندهم قسمان: متصل، ومنفصل. فالمتصل: كل كلام وقع فيه أما وأما كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} إلى آخر الكلام. وأما المنفصل فهو ما يأتي مجمله في مكان ومفصله في مكان آخر كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} إلى قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}. فإن قوله تعالى: {وَرَاءَ ذَلِكَ} إجمال المحرمات، وقد تقدمت مفسرة في سورة النساء بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فإن هذه الآية اشتملت على خمسة عشر محرمًا من أصناف النساء، وذوات الأرحام، وثلاثة عشر صنفًا ومن الأجانب صنفان. ومنها: طباق الإيجاب بين قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} وقولى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} فقد جمع سبحانه للمؤمنين في هذا الوصف بين الفعل والترك، إذ وصفهم بالخشوع في الصلاة، وترك اللغو، وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي. ومنها: التضمين في قوله: {فَاعِلُونَ}؛ لأنه ضمن فاعلون معنى مؤدون، إذ لا يصح فعل الأعيان التي هي القدر المخرج من المزكي للمستحقين. ومنها: الحصر في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}؛ لأن ضمير الفعل يفيد الحصر. ومنها: تقيد الوراثة بقوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} بعد إطلاقها أولًا تفخيمًا لشأنها، ورفعًا لمحلها. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} حيث شبه

استحقاقهم الفردوس بأعمالهم، حسبما يقتضيه الوعد الكريم بالوراثة، للمبالغة فيه، بجامع قوة الملك؛ لأن الوراثة أقوى سبب يقع في ملك الشيء، ولا يتعقبه رد ولا فسخ ولا إقالة ولا نقض. ومنها: أسرار لطيفة المأخذ، دقيقة المعنى، في مخالفة حروف العطف في آيات {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} الآيات، فقد ذكر تعالى تفاصيل حال المخلوق في تنقله، فبدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني، الذي هو خلق نسل عطفه بثم لما بينهما من التراخي، وحيث صار إلى التقدير الذي: يتبع بعضه بعضًا، من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى إلى جعله ذكرًا أو أنثى، وهو آخر الخلق، عطفه بثم، ونحن نعلم أن الزمن الذي تصير فيه النطفة علقة طويل، ولكن الحالتين متصلتان، فأحيانًا ينظر إلى طول الزمان، فيعطف بثم، وأحيانًا ينظر إلى اتصال الحالين، ثانيهما بأول ما من غير فاصل بينهما بغيرهما، فيعطف بالفاء، ومثل هذا تزوج محمد فولد له. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} حيث شبه الرحم بالقرار؛ أي: بموضع الاستقرار فخذف المشبه، الذي هو الرحم، وأبقى المشبه به، وهو القرار، ثم وصفه بمكين، بمعنى متمكن، لتمكنه في نفسه، بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن ما يحل فيه، كقولهم: طريق سائر؛ أي: يسار فيه. ومنها: تنزيل غير المنكر، منزلة المنكر، في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} الناس لا ينكرون الموت، ولكن غفلتهم عنه، وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح، يعدان من علامات الإنكار، ولذلك نزلوا منزلة المنكرين، وألقى الخبر مؤكدًا، بمؤكدين إن واللام. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {سَبْعَ طَرَائِقَ} شبهت السماوات السبع بطرائق النعل، التي يجعل بعضها فوق بعض، بطريق الاستعارة. ومنها: العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}

حيث لم يقل: وأنزلنا منهن؛ لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها بصفة العلو. ومنها: تقديم المعمول على عامله لرعاية الفاصلة، في قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} وفي قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} حيث شبه الإدام من المائعات بالصبغ، ثم حذف المشبه، وأبقى المشبه به، بجامع التلون، بلون إذا غمس به. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} حيث عبر عن الحفظ بالأعين؛ لأن شأن من نظر إلى الشيء بعينه، حفظه فأطلق الملزوم الذي هو الأعين، وأريد اللازم الذي هو الحفظ، وجمع الأعين مبالغة. ومنها: الكناية في قوله: {وَفَارَ التَّنُّور}: لأنه كناية عن شدة نبع الماء. ومنها: جناس الاثشقاق في قوله: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا}. ومنها: الجناس المغاير بين {الْوَارِثُونَ}، و {يَرِثُون}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما قصّ (¬1) علينا قصص بعض الأنبياء ¬

_ (¬1) المراغي.

[31]

السالفين .. عقب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعًا، بأن يأكلوا من الحلال، ويعملوا صالح الأعمال، كفاء ما أنعم به عليهم، من النعم العظيمة، والمزايا الجليلة، التي لا يقدر قدرها، ثم حذرهم، وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم، ظاهرها وباطنها, لا تخفى عليه من أمورهم خافية، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد، لا تعدد فيه، ولكن قد فرقت الأمم، دينها شيعًا، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به، كما هي حال قريش، ثم خاطب رسوله، بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين، ثم ذكر أنهم في عماية، حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم، هو حظوة من ربهم لهم، كلا فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم، وعاقبة حالهم، ولو عقلوا لعلموا، أنهم في سكرتهم يعمهون. قوله تعالى (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذم من فرقوا دينهم شيعًا، وفرحوا بما عملوا، وظنوا أن ما نالوا من حظوظ الدنيا، هو وسيلة لنيل الثواب في الآخرة، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا .. قفى على ذلك، بذكر صفات من له المسارعة في الخيرات، ومن هو جدير بها. قوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر صفات المؤمنين المخلصين، الذين يسارعون إلى الخيرات، أرشد إلى أن ما كلفوا به، سهل يسير، لا يخرج عن حد الوسع والطاقة وأنه مهما قل، فهو محفوظ عنده في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى، وهو لا يظلم أحدًا من خلقه، بل يجزي بقدر العمل، وبما نطقت به الصحف، وعلى وجه الحق والعدل. التفسير وأوجه القراءة 31 - قصة هود عليه السلام: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا}؛ أي: أوجدنا وأحدثنا {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد إهلاك قوم نوح، وإغراقهم {قَرْنًا آخَرِينَ}؛ أي: قومًا آخرين ليكونوا خلفاء عنهم في الأرض. ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

قال أكثر المفسرين (¬1): إن هؤلاء الذين أنشاهم الله بعدهم هم عاد - قوم هود؛ لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح، في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}. وقيل: هم ثمود؛ لأنهم هم الذين هلكوا بالصيحة، وقد قال الله سبحانه، في هذه القصة، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}. وقيل: هم أصحاب مدين - قوم شعيب - لأنهم ممن أهلكوا بالصيحة. وقيل: القرن ثمود، والرسول صالح، والأول أصح، والقرن (¬2): القوم المقترنون من زمن واحد؛ أي: أهل زمان واحد 32 - {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ}؛ أي: أولئك القرن؛ أي: إليهم {رَسُولًا مِنْهُمْ}؛ أي: من جملتهم نسبًا، وهو هود عليه السلام على أن يكون المراد عادًا، وهو الظاهر، وعدى فعل الإرسال، بقي مع أنه يتعدى بإلى؛ للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليه، نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده؛ ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم، و {أن} في قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} مفسرة لأرسلنا لما في الإرسال من معنى القول؛ أي: قلنا لهم على لسان ذلك الرسول: اعبدوا الله تعالى وحده؛ لأنه {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تعالى فالجملة معللة للأمر بالعبادة، والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتشركون بالله تعالى، فلا تخافون عذابه على الإشراك؛ قاله في "بحر العلوم" فالشرك وعدم الاتقاء كلاهما منكران. والمعنى (¬3): أي أوجدنا من بدء مهلك قوم نوح قومًا آخرين، وهم عاد، فأرسلنا فيهم رسولًا منهم، وهو هود عليه السلام، داعيًا لهم، قائلًا: يا قوم اعبدوا الله، وأطيعوه دون الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا تصلح لسواه، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[33]

33 - {وَقَالَ الْمَلَأُ}؛ أي: الأشراف والقادة {مِنْ قَوْمِهِ}؛ أي: من قوم هود، ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ}؛ أي: كذبوا بلقاء ما في الآخرة من الحساب والثواب والعقاب، أو كذبوا بالمصير إلى الآخرة بالبعث، وصفهم بالكفر ذمًا لهم؛ أي: قال الأشراف الكافرون المكذبون من قومه. فائدة: وقال هنا (¬1): {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالواو دون الفاء كما قال في قصة نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}؛ لأن كلا منهم هنا لم يتصل بكلام الرسول، ومعناه: أنه اجتمع في الحصول ذلك القول الحق، وهذا القول الباطل، وشتان ما بينهما. وقال أبو حيان (¬2): وجاء هنا: {وَقَالَ الْمَلَأُ} بالواو، وفي الأعراف وسورة هود في قصته، بغير واو، قصد في الواو العطف على ما قاله؛ أي: اجتمع قوله الذي هو الحق، وقولهم الذي هو باطل، كانه إخبار بتباين الحالين، والتي بغير واو قصد به الاستئناف، وكأنه جواب لسؤال مقدر؛ أي: فما كان قولهم له، قال: قالوا: كيت وكيت. اهـ. وقال في "برهان القرآن" (¬3): قدم {مِنْ قَوْمِهِ} في هذه الآية، وأخّر فيما قبلها؛ لأن صلة الذين فيما قبل اقتصرت على فعل وضمير الفاعلين، ثم ذكر بعهده الجار والمجرور، ثم الفاعل، ثم المفعول، وهو المقول، وليس كذلك هذه الآية، فإن صلة الموصول طالت بذكر الفاعل والمفعول والعطف عليه مرة أخرى، فقدم الجار والمجرور؛ لأن تأخيره ملبس وتوسطه ركيك، فخص بالتقديم. اهـ. وقوله: {أَتْرَفْنَاهُمْ} معطوف على الصلة؛ أي: نعمناهم ووسعنا عليهم. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكثرة الأموال والأولاد؛ أي: قالوا لأعقابهم مضلين لهم، {مَا هَذَا}؛ أي: هود {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ أي: مماثل لكم في الصفات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) برهان القرآن.

[34]

والأحوال البشرية {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} منه، فكيف يكون رسولًا، وهو تقرير للمماثلة، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفي الأكل والشرب، وذلك يستلزم عندهم، أنه لا فضل له عليهم، والمعنى: أي: وقال: أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله، وكذبوا بالبعث والحساب، وقد وسعنا عليهم في الحياة الدنيا، بما بسطنا لهم من الرزق، حتى بطروا وعتوا، وكفروا بربهم: ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم، فهو يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، فكيف يكون رسولًا؛ ومرادهم بذلك توهين أمره وتحقير شأنه. 34 - واللام في قوله: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ} موطئة للقسم؛ أي: والله ليِّن امتثلتم {بَشَرًا مِثْلَكُمْ}؛ أي: آدميًا مماثلًا لكم في الخلق والصفات، فيما يأمركم به وينهاكم عنه {إِنَّكُمْ إِذًا}؛ أي: إذا أطعتموه {لَخَاسِرُونَ}؛ أي: لمغبونون في اَرائكم مغلوبون في عقولكم جاهلون بمصالحكم، حيث تركتم آلهتكم، وأذللتم أنفسكم، باتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. {إِذًا} (¬1) هنا ليست هي الناصبة للمضارع، وإنما هي إذا الشرطية، حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ، ولهذا لا يختص دخولها على المضارع، بل تدخل على الماضي وعلى الاسم. كقوله: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ}. {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} قاله الحافظ السيوطي في "الإتقان". اهـ. "كرخي". فتحصل من هذا أن {إذًا} بمعنى: أن الشرطية، وأن التنوين المتصل بها عوض عن جملة الشرط كما قدرنا، وحينئذ فلا جواب لها إنما ذكرت توكيدًا لما قبلها، توكيدًا لفظيًا، من قبيل إعادة الشيء بمرادفه. والمعنى؛ أي: ولئن أطعتم بشرًا مثلكم فاتبعتموه، وقبلتم ما يقول .. إنكم إذًا لمغبونون حظوظكم من الشرف، والرفعة في الدنيا 35 - ثم بينوا سبب إنكارهم لأتباعه، واستبعادهم وقوع ما ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[36]

يدعيه بقولهم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} والهمزة للاستفهام الإنكاري، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقدير ما قبلها من تقبيح اتباعهم له. وقرىء بكسر الميم، من (مِتم) من مات يمات، كخاف يخاف. وقرىء بضمها من مات يموت كقال يقول؛ أي: أيخبركم أنكم، إذا قبضت أرواحكم {وَكُنْتُمْ تُرَابًا}؛ أي: وصارت أجسامكم ترابًا، {وَعِظَامًا}؛ أي: وصار بعض أجزائكم ترابًا، وبعضها عظامًا نخرة مجردةً لا لحم فيها ولا أعصاب عليها. {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} من قبوركم أحياءً كما كنتم، و (أنكم) الثانية لا عمل لها؛ لأنها تكيد لفظي لأنكم الأولى أكد بها لما طال الفصل بين اسم الأولى وهو: الكاف، وبين خبرها وهو: {مخرجون}، والظرف متعلق بـ {مُخْرَجُون}. وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم. وقيل المعنى: كان متقدموكم ترابًا ومتأخروكم عظامًا. وفي "روح البيان" الظاهر أن مرادهم، بيان صيرورتهم عظامًا ثم ترابًا؛ لأن الواو لمطلق الجمع. اهـ. والمعنى (¬1): أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياءً، كما كنتم أولًا إذا متم، وكنتم ترابًا في القبور، بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم، 36 - {هَيْهَاتَ}: اسم فعل ماض بمعنى بعد، {هَيْهَاتَ} توكيد لفظي للأولى، واللام في قوله: {لِمَا تُوعَدُونَ} زائدة في الفاعل؛ أي: بعد عن القول ما توعدون، وتخبرون به أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابًا وعظامًا تخرجون من قبوركم للبعث والحساب، ثم الجزاء على ما تعملون. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي (¬2): {هيهات هيهات} بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ أبيّ بن كعب وأبو مجلز وهارون عن أبي عمرو "هيهاتًا هيهاتًا" بالفتح والتنوين. ونسبها ابن عطية لخالد ابن إلياس. وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري وأبو حيوة الحضرمي وابن السميقع: {هيهات هيهات} بالضم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) زاد المسير والبحر المحيط.

[37]

والتنوين. وقرأ أبو العالية وقتادة وعيسى وخالد بن إلياس: {هيهات هيهات} بالكسر والتنوين. وقرأ أبو جعفر وشيبة {هيهات هيهات} بالكسر من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى أيضًا، وهي لغة تميم وأسد، ويقفون عليه بالهاء. وقرأ أبو المتوكل الناجي وسعيد بن جبير وعكرمة {هيهات هيهات} بالرفع من غير تنوين. وقرأ معاذ القارىء وابن يعمر وأبو رجاء وخارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضًا: {هيهات هيهات} بسكان التاء فيهما. قال ابن الجوزي: وفي {هيهات} عشر لغات، قد ذكرنا منها سبعةً عن القراء، والثامنة: {إيهات} بالهمزة في أوله. والتاسعة: {إيهان} بالنون آخره. والعاشرة: {إيها} بغير تنوين اهـ. وقال أبو حيان: وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبًا كبيرًا، بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في "التكميل لشرح التسهيل" ما ينيف على أربعين لغة. وتحرير ما فيها، مذكور في علم النحو، ولا تستعمل هذه الكلمة غالبًا إلا مكررة. وجاءت غير مكررة في قول جرير: فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيْقُ وَمَنْ بِهِ ... وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيْقِ نُوَاصِلُهْ والعقيق: وادٍ بالمدينة. 37 - ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: {إِنْ هِيَ}؛ أي: ما الحياة {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الدانية الفانية، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مفسرة للجملة المتقدمة؛ أي: مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا؛ أي: يموت بعضنا ويحيى بعضنا، بمعنى (¬1) يموت بعضنا ويولد بعض إلى انقراض العصر، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة، يعنون الحياة المتقدمة في الدنيا والموت بعدها, وليس وراء ذلك حياة، وعبارة القرطبي هنا فإن قلت: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ قلت: أجيب عنه بأجوبة منها: أن يكون المعنى نكون مواتًا؛ أي: نطفًا ثم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[38]

نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي: إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت. ما قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}. وقيل: نموت - يعني الآباء - ونحيى، يعني الأولاد. اهـ. {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}؛ أي: بمنشرين بعد الموت، كما تزعم يا هود؛ أي: ما لنا (¬1) حياة إلا هذه الحياة في الدنيا تموت الأحياء منا فلا تحيا، ويحدث آخرون منا ويولدون، وما نحن بمبعوثين بعد الموت، إنما مثلنا مثل الزرع يُحصد هذا وينبت ذلك. والخلاصة: أنه يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم، انظر كيف عميت قلوبهم، حتى لم يروا أن الإعادة أهون من الابتداء، وأن الذي هو قادر على إيجاد شيء من العدم واعدامه من الوجود، يكون قادرًا على إعادته ثانيًا، 38 - وبعد أن كان أمرهم معه مقصورًا على الاستبعاد فحسب، جاهروا بتكذيبه فيما يدعي، فقالوا: {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما هود {إِلَّا رَجُلٌ}؛ أي: إلا شخص {افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فيما يدعيه من الرسالة، وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بمصدقين فيما يقول؛ أي (¬2): ما هو إلا رجل يختلق الكذب على الله، فتارة يقول: ما لكم من إله غير الله خالق السماوات والأرض، وأخرى يقول: إنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا إنكم مخرجون، وما نحن بمصدقيه فيما يدعي ويزعم من التوحيد والبعث، 39 - ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة: {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .. فزع إلى ربه فقال: {رَبِّ انْصُرْنِي} عليهم وانتقم لى منهم {بِمَا كَذَّبُون}؛ أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه؛ أي: قال بعد أن يئس من إيمانهم، وقد سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعًا إلى ربه: رب انصرني عليهم، وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياي فيما دعوتهم إليه من الحق، واصرارهم على الباطل، 40 - فأجابه ربه إلى ما سأل. {قَالَ} الله سبحانه وتعالى، مجيبًا لدعائه، واعدًا له بالقبول لما دعا به {عَمَّا قَلِيلٍ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[41]

بعد زمان قليل {لَيُصْبِحُنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي ليصيرن؛ أي: الكفار المكذبين {نَادِمِينَ} على ما وقع منهم من التكذيب والعناد، والإصرار على الكفر، وذلك عند معاينتهم العذاب و {ما} في قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} مزيدة بين الجار والمجرور تأكيدًا لقلة الزمان، كما في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. 41 - {فَأَخَذَتْهُمُ}؛ أي: فأهلكتهم {الصَّيْحَةُ}؛ أي: صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة، تصدعت منها قلوبهم فماتوا. والصيحة رفع الصوت، فإن قلت (¬1): هذا يدل على أن المراد بالقرن، المذكور في صدر القصة، ثمود قوم صالح، فإن عادا أهلكوا بالريح العقيم. قلت: لعلهم حين أصابتهم الريح العقيم، فأصيبوا في تضاعفها بصيحة هائلة أيضًا، كما كان عذاب قوم لوط بالقلب والصيحة. وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلم دنا منها، بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا. وقيل: المراد بالصيحة هنا نفس العذاب والموت. وفي "الجلالين" صيحة العذاب والهلاك. والباء في قوله: {بِالْحَقّ} متعلقة بأخذتهم؛ أي: أخذتهم (¬2) الصيحة بالوجه الثابت، الذي لا دافع له، أو بالعدل من الله سبحانه، كقولك فلان يقضي بالحق، أو بالوعد الصدق، والمراد: حاق بهم عذابه، ونزل عليهم سخطه بالوعد الصدق، وبالأمر المبرم من الله تعالى، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم، فقال: {فَجَعَلْنَاهُم}؛ أي: فصيرنا أولئك المكذبين لهود {غُثَاءً}؛ أي: كغثاء السيل الذي يحتمله ولا ينتفع به، والغثاء: هو كل ما يحمله السيل على ظاهر الماء، من الزبد والورق والعيدان، وبالي الشجر والحشيش، والمعنى: صيرهم هلكى، فيبسوا كما يبس الغثاء، كقولك: سال به الوادي، لمن هلك. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: بعد الظالمون من رحمة الله بعدًا، وطردوا منها طردًا؛ أي: هلكوا. والمعنى: ألزمنا بعدًا من الرحمة للقوم الظالمين. وهذه الجملة تحتمل الإخبار والدعاء، وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها. واللام لبيان من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي.

[42]

دعي عليه بالبعد، وقيل: له ذلك؛ أي: قيل للظالمين بعدوا بعدًا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل، كما في "البيضاوي". والمعنى: أبعد الله (¬1) القوم الكافرين من رحمته بهلاكهم إذا كفروا بربهم وعصوا رسوله، وظلموا أنفسهم، وفي هذا من الذلة، والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى، وأن الذي ينزل بهم في الآخرة، من البعد، من النعيم والثواب، أعظم مما حل بهم، من العقاب في الدنيا، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم، ممن هم عرضة لمثله. قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام 42 - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا}؛ أي: خلقنا وأوجدنا {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد إهلاك القرن المذكور وهم عاد على الأشهر، {قُرُونًا} وأمما {آخَرِينَ}؛ أي: مع رسلهم، هم قوم صالح ولوط وشعيب وهود وغيرهم، كأيوب ويونس عليهم السلام كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود. وقيل: هم بنو إسرائيل. والقرون والأمم، ولعل (¬2) وجه الجمع للقرون هنا، والإفراد فيما سبق قريبًا أنه أراد ها هاهنا أممًا متعددة، وهناك أمة واحدة؛ أي: أنشأنا أقوامًا آخرين إظهارًا لقدرتنا, وليعلم كل أمة استغناءنا عنهم، وأنهم إن قبلوا دعوة الأنبياء وتابعوا الرسل .. تعود فائدة استسلامهم وانقيادهم وقيامهم بالطاعات إليهم. فالله تعالى (¬3) ما أخلى الأرض من مكلفين، بل أوجدهم وبلغهم حدّ التكليف، حتى قاموا مقام من كان قبلهم، في عمارة الدنيا. 43 - ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده، فقال: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} {من} مزيدة للاستغراق؛ أي: ما تتقدم أمة من الأمم المجتمعة في قرن المقضي عليها بالهلاك. {أَجَلَهَا}؛ أي: الوقت الذي حد وعين لهلاكها {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}؛ أي: وما يتأخرون عن ذلك الأجل بساعة وطرفة عين، بل تموت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

[44]

وتهلك عند ما حد لها من الزمن. والمعنى؛ أي: ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة، الوقت الذي قدر لهلاكهم، وما يستأخرون عنه. والخلاصة: ما تهلك أمة قبل مجيء أجلها ولا بعده، فلكل شيء ميقات لا يعدوه، 44 - {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} معطوف (¬1) على {أَنْشَأْنَا}، لكن لا على معنى أن إرسالهم متأخر ومتراخ عن إنشاء تلك القرون المذكورة جميعًا، بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول، كأنه قيل: ثم أنشانا من بعدهم قرونًا آخرين، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولًا خاصًا به. والمعنى: أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه، وليس المعنى: أن إرسال الرسل جميعًا متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعًا؛ أي: أرسلنا رسلنا حالة كونهم {تَتْرَى}؛ أي: متواترين ومتتابعين واحدًا بعد واحد، وهو مصدر من المواترة كشبعى ودعوى، والتاء فيه مبدلة من الواو، واصلة وترًا، والتتر المتابعة مع مهلة، وهو منصوب على الحالية، كما قررنا في الحل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن والشافعي (¬2): {تترى} منونًا، وباقي السبعة: بغير تنوين، وانتصب على الحال؛ أي: متواترين واحدًا بعد واحد، ولكن مع انقطاع فترة طويلة بينهما. {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً} منهم {رَسُولُهَا} المخصوص بها بالبينات، وبلغها أمر الله تعالى {كَذَّبُوهُ}؛ أي: كذب ذلك الرسول أكثرهم لا كلهم، كما في "بحر العلوم" بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا. وعبارة "المراح" هنا {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا}؛ أي (¬3): أرسلنا إلى كل قرن من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) البحر المحيط بتصرف.

القرون رسولًا خاصًا به، حالة كونهم {تَتْرَا}؛ أي: واحدًا بعد واحد، بينهما زمان طويل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: وهي قراءة الشافعي: {تترى} بالتنوين، فألفه للإلحاق بجعفر، فلما نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين، وباقي السبعة: بألف صريحة دون تنوين، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد: وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالًا؛ أي: متواترة؛ أي: متتابعة فرادى. انتهت. {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً} بتحقيق الهمزتين، وتسهيل الثانية بينها؛ أي: بين الهمزة وبين الواو، بأن تنطق بها متوسطة بينهما. {رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}؛ أي: كلما بلغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام .. كذبوه، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} في الهلاك بما نزل بهم من العذاب {وَجَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: وجعلنا تلك الأمم المهلكة {أَحَادِيثَ} وحكايات وأمثالًا وأعاجيب، يتحدث ويتعجب منها لمن بعدهم، جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به عجبًا وتسليًا ومسامرة، أو جمع حديث على غير قياس، كما سيأتي في مبحث التصريف، والمراد هنا: المعنى الأول؛ أي: صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك، على سبيل التعجب والاعتبار، وضرب المثل بهم؛ أي: لم يبق منهم عين ولا أثر، إلا حكايات يسمر بها، ويتعجب منها، ويعتبر بها المعتبرون من أهل السعادة. فإن قلت: لِمَ أضاف (¬1) الرسل إلى نفسه سبحانه، حيث قال: {رسلنا} وأضاف الرسول إلى الأمة، حيث قال: {رَسُولُهَا}؟ قلت: إن الإضافة تكون للملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه. فالأول: كانت الإضافة فيه لتشريف الرسل. والثانى: كانت الإضافة فيه إلى الأمة حيث كذبته، ولم ينجح فيهم إرساله ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

[45]

إليهم، فناسبت الإضافة إليهم. {فَبُعْدًا}؛ أي: ألزمنا بعدًا من الرحمة {لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} بالله تعالى، ولا يصدقون رسوله، وبما جاء به أيًّا كانوا. فإن قلت: لم نكر (¬1) القوم هنا حيث قال: {لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} وعرفه فيما تقدم. حيث قال: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؟ قلت: نكره هنا؛ لأن القرون المذكورة هنا منكرة غير معينة، بخلاف ما تقدم، فإنه في حق قوم معين كما سبق، وفي الآية (¬2) دلالة على أن عدم الإيمان سبب للهلاك والعذاب في النيران، كما أن التصديق مدار للنجاة والتنعم في الجنان. قصة موسى وهارون عليهما السلام 45 - {ثُمَّ} بعد هؤلاء الرسل الذين تقدم ذكرهم {أَرْسَلْنَا مُوسَى} بن عمران {وَأَخَاهُ هَارُونَ} بن عمران، وكان أكبر من موسى بسنتين، حالة كونهما مؤيدين {بِآيَاتِنَا} التسع من اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والطاعون، ولا مساغ لعد فلق البحر منها. إذ المراد الآيات التي كذبوها {و} مؤيدين بـ {سُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة، وهي العصا، وخصصها بذكرها ثانيًا؛ لفضلها على سائر الآيات، باشتمالها على معجزات كثيرة، كانقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانقلاب البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها إلى غير ذلك، ولأنها أول المعجزات وأمها اهـ. "بيضاوي". أو المراد بالسلطان نفس الآيات المذكورة، عبر عنها بسلطان على طريق العطف، تنبيهًا على جمعها لعنوانين جليلين، وتنزيلًا لتغايرها في التعبير والاسم منزلة التغاير الذاتي. 46 - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}؛ أي: أشراف قومه من القبط، وخصوا بالذكر؛ لأن ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف. (¬2) روح البيان.

[47]

إرسال بني إسرائيل بآرائهم، لا بآراء أعقابهم {فَاسْتَكْبَرُوا}؛ أي: فاستكبر فرعون وملؤه عن الإيمان والمتابعة لهما؛ أي: امتنعوا عن قبول الإيمان تكبّرًا وعنادًا، وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد بآيات ربهم وبرسالاته بعد وضوحها، وانتفاء الشك عنها، ويتعظموا عن امتثالها وقبولها. {وَكَانُوا}؛ أي: وكان فرعون وملؤه {قَوْمًا عَالِينَ}؛ أي: متكبرين مجاوزين للحد في الكبر والطغيان؛ أي: كانوا قومًا عادتهم الاستكبار والتمرد، أو قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم. والمعنى: أي ثم (¬1) أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل موسى وأخاه هارون، إلى فرعون وأشراف قومه من القبط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة، فاستكبروا عن اتباعهما، والانقياد لما أمروا به .. ودعوا إليه من الإيمان, وترك تعذيب بني إسرائيل، كما جاء في سورة النازعات: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)}. وقد كان من دأبهم العتو والبغي على الناس، وظلمهم كبرًا وعلوًا في الأرض. 47 - ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت بقوله: {فَقَالُوا} عطف على استكبروا، وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار؛ أي: قال فرعون وملؤه فيما بينهم على طريق المناصحة {أَنُؤْمِنُ} الهمزة فيه للإنكار بمعنى لا نؤمن، وما ينبغي أن يصدر منا الإيمان {لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يعنون موسى وهارون، وصف بالمثل الاثنان؛ لأنه في حكم المصدر العام للإفراد والتثنية والجمع المذكر والمؤنث، {وَقَوْمُهُمَا} يعنون بني إسرائيل {لَنَا} متعلقة بقوله: {عَابِدُونَ} قدمت عليه لرعاية الفاصلة، والجملة حال من فاعل نؤمن؛ أي: خادمون منقادون لنا كالعبيد، وكأنهم قصدوا بذلك التعرض لشأنهما، وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة، من وجه آخر غير البشرية. قال المبرد: العابد: المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من ¬

_ (¬1) المراغي.

[48]

دان لملك عابدًا له. وقيل: يحتمل أنه كان يدعي الألوهية، فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه. أي: فقال فرعون وملؤه: كيف ندين لموسى وأخيه، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا، ويتلقون أوامرنا؛ وما قصدوا بهذا إلا الإهانة بهما. والحط من قدرهما، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة، وقد قاسوا الشرف الديني، والإمامة في تبليغ الوحي عن الله تعالى، بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال. وهم في هذا أشبه بقريش، إذ قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة، والإصطفاء للرسالة، إنما هو السيق في الفضائل النفسية والصفات السنية، التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، فالأنبياء لصفاء نفوسهم، يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة، فيتلقون الوحي من الملأ الأعلى، ويبلغونه إلى البشر، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق. وإن تعجب من شيء، فاعجب لهؤلاء وأمثالهم، ممن لم يرض النبوة للبشر، كيف سوغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. 48 - ثم ذكر سبحانه عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال: {فَكَذَّبُوهُمَا}؛ أي (¬1): ناصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى وهارون، واستمروا عليه {فَكَانُوا}؛ أي: فصاروا {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر)؛ أي: فأهلكهم الله تعالى بالغرق، كما أهلك من أهلكهم من الأمم بفنون من العذاب بتكذيبهم لرسلهم. ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم، 49 - فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أعطينا {مُوسَى} بعد إهلاكهم وإنجاء بني ¬

_ (¬1) المراغي.

[50]

إسرائيل من أيديهم {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة، وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل بني إسرائيل {يَهْتَدُونَ} إلى طريق الحق بالعمل بما فيها من الشرائع والأحكام. وخص موسى (¬1) بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وكان هارون خليفته في قومه، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاءً لقومه؛ لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل: إن ثم مضافًا محذوفًا أقيم المضاف إليه مقامه؛ أي: آتينا قوم موسى الكتاب. قصة عيسى عليه السلام إجمالًا 50 - {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ}؛ أي: عيسى ابن مريم آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا، إذ خلقناه من غير أب، وأنطقناه في المهد، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى {و} جعلنا {أمه} مريم بنت عمران {آيَةً} للناس دالة على قدرتنا، إذ حملته من غير أب؛ أي: جعلنا ابن مريم آية في نفسه، بأن تكلم في المهد، فظهرت منه معجزات جمة، وجعلنا أمه آية في نفسها، بأنها ولدته من غير مسيس بشر، فحذف الأولى لدلالة الثانية عليها، أو جعلناهما آية واحدة بولادته منها من غير مسيس بشر، فالآيتان أمر واحد. قال في "العيون": {آيَةً}؛ أي: عبرة لبني إسرائيل بعد موسى؛ لأن عيسى تكلم في المهد وأحيا الموتى ومريم ولدته من غير مسيس، وهما آيتان قطعًا، فيكون هذا من قبيل الاكتفاء بذكر إحداهما، انتهى. وفي "الجلالين" وأفرد الآية حيث لم يقل: آيتين؛ لأن الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل وذلك لأن ولادته من غير فحل أمر خارق للعادة، وينسب لها وله. فيقال: ولدته من غير فحل، وولد هو من غير فحل. اهـ. "شيخنا"؛ أي: فاشتركا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، وذلك؛ لأن نفس المعجز ¬

_ (¬1) روح البيان.

ظهر فيهما، لا أنه ظهر على يديهما؛ لأن الولادة فيه وفيها، بخلاف الآيات التي ظهرت على يده. فإن قلت: لم قدم عيسى هنا على أمه حيث قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ}، وقدمها على عيسى في سورة الأنبياء حيث قال: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}؟. قلت: قدمه هنا نظرًا لأصالته فيما ذكر، من ولادته من غير أب، وقدمها هناك نظرًا لأصالتها فيما نسب إليها، من الإحصان والنفخ. {وَآوَيْنَاهُمَا}؛ أي: جعلنا ابن مريم وأمه يأويان وينضمان {إِلَى رَبْوَةٍ}؛ أي: إلى مكان مرتفع؛ أي (¬1): أنزلناهما في مكان مرتفع من الأرض، وجعلناه مأواهما ومنزلهما، وهي إيليا أرض بيت المقدس، فإنها مرتفعة، وإنها كبد الأرض، وأقربها إلى السماء، وأزيدها على سائر الأرض ارتفاعًا، بثمانية عشر ميلًا على ما يروى عن كعب وقتادة، وقال الإِمام السهيلي: أوت مريم بعيسى طفلًا إلى قرية من دمشق يقال لها: ناصرة وبناصرة تسمى النصارى، واشتق اسمهم منها. انتهى. وقيل: هي أرض دمشق، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل. وقيل: أرض فلسطين، وبه قال السدي. {ذَاتِ قَرَارٍ}؛ أي: ذات مستقر يستقر عليه ساكنوه؛ لكونها ذات ثمار وزروع، فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها، أو مستويةً يمكن القرار فيها للحراثة والحراسة. {وَمَعِينٍ}؛ أي: ذات معين، أي: ماء جار على ظاهر الأرض. قال الزجاج (¬2): المعين: هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة، كزيادتها في منبع، وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول، قال علي بن سليمان الأخفش: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[51]

معن الماء إذا جرى، فهو معين وممعون، وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل: هو مأخوذ من الماعون، وهو النفع وبمثل ما قال الزجاج، قال الفراء. والخلاصة: أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض، ذي ثمار وماء جار كثير. وفي وصف (¬1) ماء تلك الربوة بذلك، إيذان بكونه جامعًا لفنون المنافع، من الشرب وسقي ما يسقى من الحيوان، والنبات بغير كلفة، ومن التنزه بمنظره الحسن المعجب، ولولا أن يكون الماء البخاري، لكان السرور الأوفر فائتًا، وطيب المكان مفقودًا، ومن أحاديث المقاصد الحسنة ثلاث يجلون البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء البخاري، وإلى الوجه الحسن؛ أي: مما يحل النظر إليه، فإن النظر إلى الأمرد الصبيح ممنوع. وقرأ الجمهور (¬2) وابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {رَبْوَةٍ} بضم الراء، وهي لغة قريش، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتح الراء، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها، وابن أبي إسحاق {رباوة} بضم الراء وبالألف، وزيد بن علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب "اللوامح" بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها والألف. 51 - وقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} نداء (¬3) وخطاب لجميع الأنبياء، لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة؛ لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على أن كلاً منهم، خوطب به في زمانه، فيدخل تحته عيسى دخولًا أوليًا، فهذا حكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى عليه السلام، وأمه إلى الربوة إيذانًا بأن ترتيب مبادىء التنعم لم يكن من خصائصه عليه السلام، بل إباحة الطعام شرع قديم، جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام، ووصوا به؛ أي: وقلنا لكل رسول كُلْ من الطيبات، واعمل صالحًا، فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الفتوحات.

الحكاية إجمالًا للإيجاز، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات ما لا يخفى. اهـ. من "البيضاوي" و"أبي السعود". ويعلم من قوله: فهذا حكاية لرسول الله ... إلخ، أن في الكلام حذفًا، تقديره: ونخبرك يا محمد، أنا أمرنا الرسل المتقدمين قبلك، وقلنا لهم: يا أيها الرسل {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ أي: من الحلالات، سواء كانت مستلذة أو لا، وسواء كانت من المآكل والمشارب. {وَاعْمَلُوا صَالِحًا}؛ أي: عملًا صالحًا من الفرائض، والنوافل، فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم، وهذا الأمر للوجوب، بخلاف الأول فإنه للإرشاد. فائدة (¬1): وفي هذا رد وهدم لما قالهُ بعض الجهلة، من أن العبد إذا بلغ غاية المحبة، وصفا قلبه، واختار الإيمان على الكفر من غير نفاق، سقطت عنه الأعمال الصالحة من العبادات الظاهرة، وتكون عبادته التفكر، وهذا كفر وضلال، فإن أكمل الناس في المحبة والإيمان هم الرسل، خصوصًا حبيب الله محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أن التكاليف بالأعمال الصالحة والعبادات في حقهم أتم وأكمل. وذكر الطبري (¬2): أن المراد بقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} عيسى ابن مريم عليه السلام، كما تقول في الكلام للرجل الواحد: كفوا عنا أذاكم وكما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} والمراد بالناس رجل واحد، وقال القرطبي (¬3): قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أقامه مقام الرسل، وقال الزجاج: هذه مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ أي: كلوا من الحلال. وقال ابن كثير (¬4): يأمر الله عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام، وجمعوا بين كل خير قولًا وعملًا ودلالةً ونصحًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الطبري. (¬3) القرطبي. (¬4) ابن كثير.

فجزاهم الله عن العباد خيرًا. اهـ. وحاصل معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أن الله سبحانه (¬1) أمر كل نبي في زمانه، بأن يأكل من المال الحلال ما لذّ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال ليكون ذلك كفاء من أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة. وهذا الأمر، وإن كان موجهًا إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا: أيها المسلمون في جميع الأقطار، كلوا من الطيبات؛ أي: من الحلال الصافي القوام، الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس، ويحفظ العقل، واعملوا صالح الأعمال. أخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس - رضي الله عنها - أنها بعثت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقدح لبن حين فطره وهو صائم فرد إليها رسولها، وقال: "من أين لك هذا؟ " فقالت: من شاة لي، ثم رده وقال: "من أين هذه الشاة؟ " فقالت: اشتريتها بمالي فأخذه، فلما كان من الغد أمته، وقالت: يا رسول الله، لم رددت اللبن؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيبًا، ولا يعملوا إلا صالحًا". وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، فأنى يستجاب له؟ ". وفي تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا ¬

_ (¬1) المراغي.

[52]

يتقبل، إلا إذا سبق بأكل المال الحلال، وجاء في بعض الأخبار، "أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام". وصح أيضًا "أيّما لحم نبت من سحت، فالنار أولى به". ثم علل هذا الأمر بقوله سبحانه: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرة والباطنة {عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه؛ أي: إني بأعمالكم عليم، لا يخفى عليَّ شيء منها، وأنا مجازيكم بجميعها وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالح الأعمال، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها، شكرًا لربكم على ما أنعم به عليكم. وفي هذا (¬1) تحذير من مخالفتهم ما أمروا به، وإذا قيل للأنبياء ذلك، فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها وترعوي عن غيها، وتخشى بأس الله تعالى، وشديد عقابه، وأتى هنا بلفظ {عَلِيمٌ} وفي سبأ بلفظ {بصير} إذ ما هنا تقدمه إيتاء الكتاب وجعل مريم وابنها آية والعلم بهما، أنسب من بصرهما، وما هناك تقدمه قوله: (وألنا له الحديد)، والبصر بإلانة الحديد أنسب من العلم بها. اهـ زكريا. 52 - {و} أقول لكم أيها الرسل: {إن هذه} هذه العقائد التي هي عقائد التوحيد والإيمان {أُمَّتُكُمْ}؛ أي: ملتكم ودينكم جميعًا {أُمَّةً وَاحِدَةً}. حال من {هذه}؛ أي: حالة كونها ملة وشريعة متحدة في أصول الشرائع التي لا تتبدل، ولا تتغير بتبدل الأعصار والأزمان، وتلك الملة المتحدة هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأما اختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، لا يسمى اختلافًا في الدين؛ لأن الأصول متحدة، فالحائض والطاهر من النساء دينها واحد، وإن افترق تكليفهما. {وَأَنَا رَبُّكُمْ} ومالككم لا شريك لـ في الربوبية، {فَاتَّقُونِ}؛ أي: فاحذروا عقابي وخافوا عذابي، وفي هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد، فيما يتصل لمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه. والفاء في قوله: {فَاتَّقُونِ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت. عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنني أنا ربكم ¬

_ (¬1) المراغي.

ومالككم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اتقون في شق العصا، ومخالفة الكلمة، والضمير للرسل والأمم جميعًا، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب، وفي حق الأمم للتحذير والإيجاب. فإن قلت: لم قال في سورة الأنبياء: {فَاعْبُدُونِ} وقال هنا: {فَاتَّقُونِ}؟ قلت: لأن الخطاب في سورة الأنبياء للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد، والخطاب هنا للرسل والمؤمنين بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} والأنبياء والمؤمنون إنما يؤمرون بالتقوى لا بالتوحيد. وقال هناك: {وتقطعوا} بالواو، وقال: هنا {فَتَقَطَّعُوا} بالفاء؛ لأن التقطع هناك قد وقع منهم قبل هذا القول لهم، وما بعد الواو ليس مرتبًا على ما قبلها، والتقطع هنا وقع منهم بعد هذا القول، فما بعد الفاء مرتب على ما قبلها. اهـ. "زكريا". وعبارة ابن حيان هنا (¬1): وجاء هنا {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: {فَاعْبُدُونِ} لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح والأمم الذين من بعدهم، وفي الأنبياء، وإن تقدمت أيضًا قصة نوح وما قبلها، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى، وجاء هنا {فتقطعوا} بالفاء إيذانًا بأن التقطع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم، وفي نفورهم عن توحيد الله وعبادته، وجاء في الأنبياء بالواو، فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة. اهـ. وقرأ الكوفيون (¬2): {وإن}: بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد؛ أي: ولأن، وابن عامر: بالفتح والتخفيف، وهي المخففة من الثقيلة. ذكره في "البحر". ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[53]

وعبارة "الشوكاني" هنا: قرىء (¬1) بكسر {إن} على الاستئناف المقرر لما تقدمه، وقرىء بفتحها وتشديدها. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض؛ أي: أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: أن متعلقة بفعل محذوف، تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وقال سيبويه: هي متعلقة باتقون، والتقدير: فاتقون؛ لأن أمتكم أمة واحدة. 53 - ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم، من مخالفتهم لما أمرتهم الرسل به، فقال: {فَتَقَطَّعُوا}؛ أي: فجعل أتباع الأنبياء {أَمْرَهُمْ}؛ أي: أمر دينهم مع اتحاده في الوضع الإلهي قطعًا متفرقة، وأدياناَ مختلفة فيما {بَيْنَهُمْ} حالة كون أمرهم {زُبُرًا}؛ أي: قطعًا مختلفة. جمع زبرة، بمعنى قطعة، كغرفة وغرف، فهو حال من أمرهم، أو من واو تقطعوا؛ أي: حال كونهم طائفة مختلفة متفرقة. {كُلُّ حِزْبٍ}؛ أي: كل جماعة من أولئك المتحزبين {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدين الذي اختاروه {فَرِحُونَ}؛ أي: مسرورون معجبون معتقدون أنه الحق دون ما سواه. فيا أتباع (¬2) الأنبياء أين عقولكم إن الله تعالى أرسل إليكم رسلًا، فجعلتموهم محل الشقاق، ومنار النزاع، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافي المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد، ما لكم كيف تفرقتم أحزابًا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية وزيدية وشيعة يفرق العقيدة، وكيف يكون سبب التفرقة فهل تغير الدين، وهل تغير القرآن، وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم، وأنتم أهل دين واحد. ولا علة لهذا إلا الجهالة الجهلاء، فقد خيم الجهل فوق ربوعكم ومدت طنبه بين ظهرانيكم؛ لأنكم فرطتم في كتاب ربكم، ظننتم أن أسس الدين هي مسائل العبادات والأحكام وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريًا، وتركتم آيات التوحيد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[54]

والنظر في الأكوان، ولو أنكم نظرتم إلى شيء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم، وأنتم عنه غافلون. وقرأ ابن عباس وأبو عمران الجوني (¬1): {زُبُرًا} بضم الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء وابن السميقع: {زبرًا} بضم الزاي وإسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ {زبرًا} بضم الباء، فتأويله جعلوا دينهم كتبًا مختلفةً، جمع زبور. ومن قرأه: {زبرًا} بفتح الباء أراد قطعًا كقطع الحديد. 54 - وبعد (¬2) أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء، من التفرق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا .. أمر نبيه أن يتركهم في جهلهم الذي لا جهل فوقه؛ لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدي فيهم الإرشاد، فقال: {فَذَرْهُمْ} والفاء فيه فصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد تقطعهم في أمرهم، وفرحهم بما هم عليه من الأديان الباطلة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، فأقول لك: أترك هؤلاء الكفرة المتفرقة {فِي غَمْرَتِهِمْ}؛ أي: على غيهم وضلالهم، ولا تشغل قلبك بهم، وبتفرقهم {حَتَّى حِينٍ}؛ أي: إلى حين قتلهم أو موتهم على الكفر، أو نزول العذاب بهم، فهو وعيد لهم بعذاب الدنيا والآخرة، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونهي له عن الاستعجال بعذابهم، والجزع من تأخيره، فالآية خرجت مخرج التهديد لهم، لا مخرج الأمر له - صلى الله عليه وسلم -، شبه سبحانه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة ويسترها؛ لأنهم مغمورون فيها لا عيون لها، والمعنى: اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء أجل معلوم. ونحو الآية قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. وقرأ الجمهور: {في غمرتهم}، وعلي بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي: ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي.

[55]

{في غمراتهم} على الجمع؛ لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور: فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. 55 - ثم بيّن خطأهم فيما يظنون، من أن سعة الرزق في الدنيا علامة رضا الله عنهم في الآخرة، فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} الهمزة فيه (¬1) الإنكار الواقع واستقباحه. وما موصولة؛ أي: أيظن هؤلاء الكفرة، أن الذي نعطيهم إياه ونجعله مددًا لهم، {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} بيان للموصول، وتخصيص البنين لشدة افتخارهم بهم. 56 - {نُسَارِعُ} به {لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}؛ أي: فيما فيه خيرهم وإكرامهم، وجواب الاستفهام محذوف، يدل عليه قوله: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنه معطوف على مقدر يدل عليه السياق؛ أي: كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلًا كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خولناهم من النعم، وأمددناهم به من الخيرات، إنما هو استدراج لهم، ليزدادوا إثمًا. كما قال سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}. والمعنى: أيظن هؤلاء المغرورون، أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد كرامة لهم وإجلال لأقدارهم عندنا، كلا إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجًا في المعاصي، واستجرارًا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم، لا فطنة لهم ولا شعور، حتى يتفكروا في أنه إستدراج هو أم مسارعة في الخيرات. ونحو الآية قوله تعالى: حكاية عنهم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} وقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال قتادة في تفسير الآية (¬2): مكر الله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[57]

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه"، قالوا: وما بوائقه يا رسول؛ قال: "غشه وظلمه". وقرأ ابن وثاب (¬1): {أنما نمدهم} بكسر الهمزة، وقرأ (¬2) عكرمة وأبو الجوزاء: {يمدهم} بضم الياء وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: {نمدهم} بفتح النون وضم الميم. وقرأ ابن عباس وعكرمة وأيوب السختياني: {يسارع} بضم الياء وكسر الراء. وقرأ معاذ القارىء وأبو المتوكل: مثله، إلا أنهما فتحا الراء. وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري وابن السميفع: {يسرع} بضم الياء وسكون السين وفتح الراء من غير ألف. وقرأ الباقون: {نسارع} بالنون. قال الثعلبي: وهذه القراءة هي الصواب لقوله: {نمدهم}. ولما نفى الله سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين، أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلًا وآجلًا، فوصفهم بصفات أربع: الأولى: 57 - ما ذكرها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ}؛ أي: من خوف عذاب ربهم {مُشْفِقُونَ}؛ أي: دائبون في طاعته، جادون في نيل مرضاته، حذرون من أسباب العذاب، خائفون منها، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي، والمعنى (¬3): إن المؤمنين الذين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عذابه. قال الحسن البصري: المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا. والفرق بين (¬4) الخشية والإشفاق أن الخشية خوف يشوبه تعظيم، والإشفاق عناية مختلطة بخوف؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

[58]

وعبارة "الشوكاني" هنا: فظاهر ما في الآية التكرار، وأاْجيب يحمل الخشية على العذاب؛ أي: من عذاب ربهم خائفون، وبه قال الكلبي ومقاتل. وأجيب يحمل الإشفاق على ما هو أثر له، وهو الدوام على الطاعة؛ أي: الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته. وأجيب أيضًا: بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار. وقيل: هو تكرار للتأكيد. والصفة الثانية: 58 - ذكرها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} المنصوبة في الآفاق المنزلة على الإطلاق {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون مدلولها, ولا يكذبونها بقول، ولا فعل بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع، ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم. والمعنى؛ أي: والذين هم بآيات ربهم الكونية، التي نصبها في الأنفس والآفاق دلالة على وجوده، ووحدانيته، وبآياته المنزلة على رسله، مصدقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب. والصفة الثالثة: 59 - ذكرها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} غيره شركًا جليًّا ولا خفيًا؛ أي: والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد. وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول؛ لأن كثيرًا من المشركين يعترفرن بتوحيد الربوبية، كما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى، وعبدوا معبودات مختلفة. والصفة الرابعة: 60 - ذكرها بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}؛ أي: والذين يعطون ما أعطوه من الزكوات والصدقات، ويفعلون ما توسلوا به إلى الله تعالى، من الخيرات والمبرات، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والماضي على التحقق، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حال من فاعل يؤتون؛ أي: والحال أن قلوبهم خائفة أن ¬

_ (¬1) المراغي.

لا يتقبل ذلك منهم، وأن لا يقع على الوجه المرضي. {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ أي: خائفون عدم قبولها حين يبعثون، ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه، وإن قل. وجملة {أن} في محل الجر بجار محذوف، متعلق بـ {وجلة}؛ أي: وجلة من رجوعهم، أو لأجل رجوعهم إلى الله تعالى. وسبب الوجل (¬1) هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على المطلوب، لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه، وقيل: المعنى أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب، وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية، لم يخل من وجل. وقرأ الجمهور (¬2): {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} من الإيتاء؛ أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات، وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي: {يأتون ما آتوا} من الإتيان؛ أي: يفعلون ما فعلوا. وقرأ الأعمش: {إنهم} بالكسر. ويدخل في قوله (¬3): {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} كل حق يلزم إيتاؤه، سواءًا كان من حقوق الله، كالزكاة والكفارة وغيرها، أم من حقوق العباد، كالودائع والديون والعدل بين الناس فمتى فعلوا ذلك، وقلوبهم وجلة من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره .. اجتهدوا في أن يوفوها حقها حين الأداء. وسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني وشرق ويشرب الخمر، وهو على ذلك يخاف الله تعالى فقال: "لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل ذلك منه". وهذه الموصولات الأربعة (¬4) عبارة عن طائفة واحدة متصفة بجميع ما ذكر في حيّز صلاتها من الأوصاف الأربعة، لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[61]

بواحد من الأوصاف المذكورة، كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون إلخ. وإنما كرر الموصول إيذانًا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها، وتنزيلًا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها. قال بعضهم: وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحى بالتوبة، والطاعة تطلب بتصحيحها، والإخلاص والصدق فيها، فإذا كان فاعل الطاعات خائفًا مضطربًا، فكيف لا يخاف غيره. 61 - وجملة قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ} خبر إن؛ أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف المذكورة الجليلة خاصة دون غيرهم. {يسارعون}؛ أي: يبادرون {فىِ} نيل {الْخَيْرَاتِ} التى من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ}. وقال: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن، يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون في الدنيا وجوه الخيرات العاجلة، التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة في نحو قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} الآية، وقيل: المراد بالخيرات الطاعات، والمعنى: يركبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة، وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس. قال في "الإرشاد": إيثار كلمة (في) على كلمة (إلى)؛ للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها بطريق المسارعة. كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} لخ. وقرأ الحُرُّ النحوي: {يسرعون} مضارع أسرع، يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد، وأما المسارعة فالمسابقة؛ أي: يسارعون غيرهم. وجملة قولة: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} مؤكدة لما قبلها، مفيدة للثبوت بعدما أفادت الأولى التجدد، ومفعول المسابقة محذوف، واللام بمعنى إلى؛ أي: وهم

[62]

يسابقون الناس إلى تلك الخيرات لينالوا رضا الله تعالى؛ أي: إنهم يرغبون في الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به، وعدم الرياء في العمل، والتصديق مع الخوف منه. وخلاصة ذلك: أن النعم ليست هي السعادة الدنيوية وقيل الحظوظ فيها، بل هي العمل الطيب بإيتاء الصدقات، ونحوها، مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية. 62 - {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا} من النفوس {إِلَّا وُسْعَهَا}؛ أي: قدر طاقتها، فقول: لا إله إلا الله، والعمل بما يترتب عليه من الأحكام من قبيل ما هو في الوسع؛ أي: أن (¬1) سنتنا جارية على أن لا نكلف نفسًا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها، ومن ثم قال مقاتل: من لم يستطع القيام في الصلاة، فليصل قاعدًا، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء؛ أي: فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين، فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم. {وَلَدَيْنَا}؛ أي: وعندنا، عندية رتبة واختصاص. {كِتَابٌ}؛ أي (¬2): صحائف أعمال قد أثبت فيها أعمال كل أحد على ما هي عليه {يَنْطِقُ} ذلك الكتاب {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع؛ أي: يظهر الحق ويبينه للناظر فيه، كما يبينه النطق، ويظهر للسامع، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم، فيقرؤونها حين الحساب، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها في الدنيا دون لبس ولا ريب، ويجازون عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وقوله: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} وفي هذا تهديد للعصاة، وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم. وجملة قوله: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مستأنفة (¬1)، للتحريض على ما وصف به السابقون، من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات، ببيان سهولته، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وجملة قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} من تمام ما قبلها، من نفي التكليف بما فوق الوسع، وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شيء، وقيل: المراد بالكتاب القرآن والأول أولى. ثم بيّن فضله على عباده، وعدله بينهم في الجزاء إثر بيان لطفه في التكليف وكتابة الأعمال على ما هي عليه، فقال: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} في الجزاء بنقص ثواب، أو زيادة عذاب، بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها، ونطقت بها صحائفها بالحق، والجمع في {وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} باعتبار عموم النفس لوقوعها في سياق النفي. الإعراب {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {أَنْشَأْنَا}: فعل وفاعل {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من {قَرْنًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {قَرْنًا}: مفعول به. {آخَرِينَ}: صفة لـ {قَرْنًا}. والجملة الفعلية معطوفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فأغرقنا قوم نوح لما كذبوه، ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين. {فَأَرْسَلْنَا}: الفاء: عاطفة. {أرسلنا}: فعل وفاعل. {فِيهِمْ} متعلق بـ {أرسلنا}. {رَسُولًا}: مفعول به. {مِنْهُمْ} جار ومجرور صفة ¬

_ (¬1) الشوكاني.

لـ {رَسُولًا}. والجملة معطوفة على جمل {أَنْشَأْنَا}. {أَنِ}: مفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه؛ أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بـ {أرسلنا}؛ أي: أرسلنا فيهم رسولًا منهم، بعبادة الله تعالى. بأن أعبدوا {اعْبُدُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول {مَا}: نافية. {لَكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مِنْ إِلَهٍ}: مبتدأ مؤخر، و {من}: زائدة. {غَيْرُهُ}: صفة لإله بالرفع، تبعًا لمحله، وبالجر تبعًا للفظه. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل الأمر بالعبادة. {أَفَلَا تَتَّقُون}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، والتقدير: أتشركون بالله فلا تتقون عذابه. {لا}: نافية. {تَتَّقُون}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {وَقَالَ} {الواو}: عاطفة. {قال الملأ}: فعل وفاعل معطوف على {أرسلنا}. {مِنْ قَوْمِهِ}: جار ومجرور حال من {الْمَلَأُ}. {الَّذِين} في محل الجر صفة لـ {قَوْمِهِ}. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَكَذَّبُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كَفَرُوا}. {بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {كذبوا}. {وَأَتْرَفْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {كذبوا}. {فِي الْحَيَاةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أترفناهم}. {الدُّنْيَا} صفة للحياة. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}. {مَا}: نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة إستثناء مفرغ. {بَشَرٌ}: خبر المبتدأ. {مِثْلُكُمْ}: صفة أولى لـ {بَشَرٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قال: {يَأْكُلُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {بَشَرٌ}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لبشر. {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْهُ}: متعلق به وهو العائد على الموصول. {وَيَشْرَبُ} معطوف على يأكل. {مِمَّا} متعلق به. {تَشْرَبُونَ} صلة الموصول،

والعائد محذوف اكتفاء بالعائد الأول، وهو ضمير منه لاستكمال شروط جواز حذفه، وهي اتحاد الحرف والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير آخر، وقد أشار إليها ابن مالك بقوله: كَذَا الَّذِيْ جُرَّ بِمَا الْمَوْصُوْلَ جَرّ ... كَمُرَّ بِالَّذِيْ مَرَرْتُ فَهُوَ بَرّ هذا إذا جعلناها بمعنى الذي، فإن جعلناها مصدرًا، لم تحتج إلى عائد، ويكون المصدر واقعًا موقع المفعول؛ أي: من مشروبكم اهـ. "كرخي". {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)}. {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ} {الواو}: عاطفة. {واللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {أَطَعْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {أن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {بَشَرًا} مفعول به. {مِثْلَكُمْ}: صفة له. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمها. {إِذًا}: حرف شرط غير جازم، بمعنى إن الشرطية، جيء بها لتأكيد مضمون الشرط، توكيدًا لفظيًا، من قبيل إعادة الشيء بمرادفه، والتنوين فيها عوض عن جملة شرطها المحذوفة، تقديره: إنكم إن أطعتموه .. لخاسرون، ولا جواب لها؛ لأنها إنما ذكرت .. لتأكيد ما قبلها. كذا في "الإتقان" للحافظ السيوطي. {لَخَاسِرُون} اللام حرف ابتداء. {خاسرون}: خبر {إن}. وجملة إن المكسورة، جواب القسم لا محل لها. وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} على كونها مقول {قال}، وجواب إن الشرطية محذوف، دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن أطعتم بشرًا مثلكم .. فإنكم إذًا لخاسرون، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول {قال} أيضًا، على كونها معترضة بين القسم وجوابه، ولا يصلح أن تكون جملة {إن} المكسورة جواب الشرط؛ لعدم وجود الفاء، وهذا جرى على القاعدة التي ذكرها ابن مالك في "الخلاصة": وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطِ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ {أَيَعِدُكُمْ} (الهمزة): فيه للاستفهام الإنكاري. {يعدكم}: فعل ومفعول به

أول، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قال} على كونها مستأنفة، مسوقة لتقرير ما قبلها، ومن زجرهم عن اتباعه؛ بإنكار وقوع ما يدعوهم إلى الإيمان به، واستبعاده، كما في "أبي السعود". {أَنَّكُمْ} ناصب واسمه، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرت متعلق بمخرجون. {مِتُّمْ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}. {وَكُنْتُمْ تُرَابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على {متم}. {وَعِظَامًا} معطوف على {ترابًا}. {أَنَّكُمْ} توكيد لفظي لـ {أَنَّكُمْ} الأولى أكد بها لما طال الفصل بين اسمها وهو الكاف، وخبرها وهو {مُخْرَجُون}. {مُخْرَجُون}: خبر {أَنَّكُمْ} الأولى، وجملة {أن} الأولى في محل النصب مفعول ثان لـ {يعدكم}، والتقدير: أيعدكم إخراجكم من القبور وقت موتكم، وكونكم ترابًا وعظامًا. {هَيْهَاتَ}: اسم فعل ماض بمعنى بعد، مبني على الفتح، والغالب في الاستعمال أن تستعمل هذه الكلمة مكررة، والثانية توكيد لفظي للأولى. {لِمَا} اللام زائدة في الفاعل. {ما}: اسم موصول في محل الرفع فاعل لـ {هَيْهَات}؛ أي: بعدما توعدون {تُوعَدُون}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما توعدونه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول منها فاعل {هَيْهَاتَ}، وجملة {هَيْهَاتَ} في محل النصب مقول {قال}. {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}. {إِنْ}: نافية. {هِيَ}: مبتدأ، أصله إن الحياة إلا حياتنا، فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها، حذرًا، من التكرار، واشعارًا بإغنائها عن التصريح، كما في قولهم: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت وحيث كان الضمير بمعنى الحياة الدالة على الجنس، كانت {إِنْ} النافية بمنزلة النافية للجنس اهـ "أبو السعود". {إِلَّا}: اداة استثناء مفرغ. {حَيَاتُنَا}:

خبر المبتدأ. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {حَيَاتُنَا}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال} على كونها مستأنفة، مسوقة لتقرير معتقدهم، بأن العالم قديم بالطبع، ولم يزل كذلك، ولم يحدث بحداث محدث، والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيمًا، وهذا كفر صريح وضلال بعيد. {نَمُوتُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على المتكلمين من قوم هود، والجملة في محل النصب حال من الضمير المضاف إليه في {حَيَاتُنَا}. {وَنَحْيَا}: معطوف على نموت. {وَمَا نَحْنُ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: حجازية. {نَحْنُ}: اسمها. {بِمَبْعُوثِينَ}: خبرها، والباء زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا}. {إنْ}: نافية. {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {رَجُلٌ}: خبر المبتدأ والجملة في محل النصب مقول {قال} على كونها مستأنفة. {افْتَرَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على رجل. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به. {كَذِبًا}: مفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لرجل. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: حجازية. {نَحْنُ}: اسمها. {له}: متعلق {بِمُؤْمِنِين}. {بِمُؤْمِنِين}: خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على هود، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {انْصُرْنِي}: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الرب، و (النون): للوقاية. و (الياء): مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَال} على كونها جواب النداء. {بِمَا}: (الباء): جرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {كَذَّبُون}: فعل ماض وفاعل. و (النون): للوقاية. و (ياء): المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية، مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بالباء؛ أي: بسبب تكذيبهم إياي، الجار والمجرور متعلق بـ {انْصُرْنِي}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة. {عَمَّا}: {عن}: حرف جر بمعنى بعد. {ما}: زائدة. {قَلِيلٍ}: مجرور بعن، الجار والمجرور متعلق بـ {يصبحن} أو بنادمين {لَيُصْبِحُنّ} {اللام}: موطئة للقسم. {يصيحن} فعل مضارع ناقص مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال.

والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع اسمها، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة. {نَادِمِين}: خبر أصبح، وجملة يصبح جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}. {فَأَخَذَتْهُمُ}: {الفاء}: عاطفة. {أخذتهم}: فعل ومفعول. {الصَّيْحَةُ}: فاعل. {بِالْحَقِّ}: حال من الصيحة، والجملة معطوفة على جملة قال. {فَجَعَلْنَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {جعلناهم غثاء}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {فَأَخَذَتْهُمُ}. {فَبُعْدًا}: {الفاء}: عاطفة. {بعدًا}: منصوب بفعل محذوف وجوبًا لنيابته عنه، تقديره: ألزمنا، أو أوجبنا. {بعدًا}: مفعول به. {لِلْقَوْمِ}: جار ومجرور صفة لـ {بعدًا}. {الظَّالِمِينَ}: صفة {للقوم}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}، أو مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، لنيابة المصدر عنه، تقديره: بعدوا بعدًا. {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)} {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخٍ. {أَنْشَأْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور حال من {قرونًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها {قُرُونًا}: مفعول به. {آخَرِينَ}: صفة قرونًا. {مَا}: نافية. {تَسْبِق}: فعل مضارع. {مِنْ}: زائدة. {أُمَّةٍ}: فاعل مرفوع محلًا، مجرور لفظًا. {أَجَلَهَا}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {يَسْتَأْخِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَسْبِقُ}، وذكر الضمير في {يَسْتَأْخِرُون} بعد تأنيثه لمراعاة المعنى؛ لأن أمة بمعنى قوم. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخٍ، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {رُسُلَنَا}: مفعول

به. {تَتْرَى}: حال من {رسلنا}، وعلامة نصبه فتحة مقدرة للتعذر؛ لأنه اسم مقصور، ألفه للإلحاق بجعفر كأرطى وعلقى، والتاء فيه مبدلة من الواو، وأصله وترى؛ أي: متعاقبين متتابعين بعضهم بعضًا، أو هو مصدر كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث، والجملة معطوفة على جملة {أَنْشَأْنَا}. {كل ما}: اسم شرط غير جازم، في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {جَاءَ}: فعل ماض. {أمة}: مفعول به مقدم. {رَسُولُهَا}: فاعل مؤخر وجوبًا لاتصاله بضمير المفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {كل ما}. {كَذَّبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب {كل ما}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {كل ما}: مستأنفة. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}. {فَأَتْبَعْنَا}: {الفاء}: عاطفة. {أتبعنا}: فعل وفاعل. {بَعْضَهُمْ}: مفعول به أول. {بَعْضًا}: مفعول به ثان، وإلجملة معطوفة على {كَذَّبُوهُ}. {وَجَعَلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {أَحَادِيثَ}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {جعلنا}. {فَبُعْدًا}: {الفاء}: استئنافية. {بعدًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا لنيابته عنه، تقديره بعدوا بعدًا، وهذا دعاء عليهم، أو أوجبنا بعدًا. {لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}: {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور صفة لـ {بعدًا}، ولا تتعلق به هذه اللام؛ لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة. والجملة المحذوفة مستأنفة، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ}: في محل الجر صفة {لِقَوْمٍ}. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخٍ. {أَرْسَلْنَا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)} هو. {وَأَخَاهُ}: معطوف على {مُوسَى}. {هَارُون}: بدل من {أخاه}، أو عطف بيان له. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور حال من {مُوسَى} و {هَارُونَ}؛ أي: حالة كونهما ملتبسين بآياتنا، فالباء للملابسة. {وَسُلْطَانٍ}: معطوف على {آياتنا}. {مُبِينٍ}:

صفة لـ {سلطان}. {إِلَى فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والعجمية، متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {وَمَلَئِهِ}: معطوف على فرعون. {فَاسْتَكْبَرُوا}: {الفاء}: عاطفة. {استكبروا}: فعل وفاعل معطوف على {أَرْسَلْنَا}. {وَكَانُوا قَوْمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على {استكبروا}. {عَالِينَ}: صفة {قَوْمًا}. {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)}. {فَقَالُوا}: {الفاء}: عاطفة. {قالوا}: فعل وفاعل معطوف على {استكبروا}. {أَنُؤْمِنُ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري، {نؤمن}: فعل وفاعل مستتر يعود إلى {فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}. {لِبَشَرَيْنِ}: متعلق بـ {نؤمن}. {مِثْلِنَا}: صفة {لِبَشَرَيْنِ} وهو اسم كغير في أنه يوصف بهما الاثنان، والجمع والمذكر والمؤنث، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. {وَقَوْمُهُمَا}: مبتدأ مضاف إليه. {لَنَا}: متعلق بـ {عَابِدُونَ}. {عَابِدُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نؤمن}. {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)} {فَكَذَّبُوهُمَا} {الفاء}: عاطفة. {كذبوهما}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {فَقَالُوا}. {فَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه {مِنَ الْمُهْلَكِين}: خبره، والجملة معطوفة على جملة {كذبوهما}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية. {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل. {مُوسَى الْكِتَابَ}: مفعولان لـ {أتينا}؛ لأنه بمعنى أعطى، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ}: {لعل}: حرف ترجٍ ونصب والهاء اسمها، والضمير يعود إلى قوم موسى؛ لأن فرعون وقومه كانوا قد بادوا، وجملة {يَهْتَدُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {وَأُمَّهُ}: معطوف على ابن مريم. {آيَةً}: مفعول ثان لـ {جعلنا}. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}، ولم يقل آيتين؛ لأن فيهما واحدة، وهي الولادة من غير أب، {وَآوَيْنَاهُمَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {جعلنا}. {إِلَى رَبْوَةٍ}: متعلق بـ {آويناهما}. {ذَاتِ}: صفة لـ {رَبْوَةٍ}. {قَرَارٍ}: مضاف إليه. {وَمَعِينٍ}: معطوف على {قَرَارٍ}. {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}. {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد. {الرُّسُلُ}: صفة لـ {أي}، أو عطف بيان، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. {كُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كلوا}. {وَاعْمَلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كُلُوا}. {صَالِحًا} مفعول به أو مفعول مطلق. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عليم}. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: تعملونه {عَلِيمٌ}: خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنَّ هَذِهِ}: {الواو}: استئنافية. {إن هذه أمتكم}: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة على قراءة كسر همزة {إن}، وأما على قراءة فتحها فالجملة سادة مسد مفعولي علم المحذوفة، تقديرها: واعلموا أن هذه أمتكم أمة واحدة، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا}. {أُمَّةً}: حال لازمة من {أُمَّتُكُمْ}. {وَاحِدَةً}: صفة {لامة}. {وَأَنَا رَبُّكُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}. {فَاتَّقُونِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم وأنا ربكم وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم {اتقون}. {اتقون}: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، والنون نون

الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {فَتَقَطَّعُوا}: {الفاء}: استئنافية. {تقطعوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَمْرَهُمْ}: إما منصوب بنزع الخافض؛ أي: تفرقوا في أمرهم، أو مفعول به وعدى تقطعوا إليه؛ لأنه بمعنى قطعوا. {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {تقطعوا}. {زُبُرًا}: حال من فاعل {تقطعوا}؛ أي: حالة كونهم أحزابًا متخالفين. {كُلُّ حِزْبٍ}: مبتدأ ومضاف إليه. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرِحُونَ}. {لَدَيْهِمْ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة لـ {ما}. {فَرِحُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل تقطعوا. {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}. {فَذَرْهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تقطعهم يا محمد وتفرقهم وفرح كل حزب بما لديهم، وأردت بيان ما هو الأصلح لك، فأقول لك: ذرهم. {ذرهم}: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول أول، والضمير لكفار مكة. {فِي غَمْرَتِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثان، أو حال من ضمير المفعول؛ أي: أتركهم متخبطين في غمرتهم، أو حالة كونهم متخبطين، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {حَتَّى حِينٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {ذرهم}. {أَيَحْسَبُونَ}: (الهمزة) فيه للاستفهام التقريعي الإنكاري. {يحسبون}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّمَا} {أن}: حرف نصب ومصدر. {ما}: اسم موصول في محل النصب اسمها، وكان من حقها أن تكتب مفصولة، ولكنها موصولة اتباعًا لرسم المصحف. {نُمِدُّهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله. {بِهِ}: متعلق بـ {نُمِدُّهُمْ}، وهو العائد على الموصول، وجملة {نُمِدُّهُمْ} صلة الموصول، {مِنْ مَالٍ}: حال من الموصول {وَبَنِينَ}: معطوف على {مَالٍ}. {نُسَارِعُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: نحن.

{لَهُمْ}: متعلق بـ {نسارع}. {فِي الْخَيْرَاتِ}: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، والرابط بين هذه الجملة، واسم {أن} محذوف، تقديره: نسارع لهم به، أو فيه، إلا أن حذف مثله قليل، وقيل: الرابط بينهما هو اسم الظاهر الذي قام مقام المضمر، من قوله: {فِي الْخَيْرَاتِ}، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة، وإن لم يكن بلفظ الأول. وجملة {أن} من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب، والتقدير: أيحسبون مسارعتنا إياهم في الخيرات، بما أمددناهم به من مال وبنين. {بَلْ}: حرف إضراب، للإضراب الانتقالي عن الحسبان. {لَا}: نافية. {يَشْعُرُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام؛ أي: لا نفعل ذلك، بل هم لا يشعرون بشيء أصلًا كالبهائم، لا فطنة لهم، ولا شعور يتيح لهم التأمل، فيعرفون أن ذلك الإمداد ما هو إلا استدراج لهم، واستجرار إلى زيادة الإثم. {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {هُمْ}: مبتدأ. {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُشْفِقُونَ}. {مشفقون}: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {هُم}: مبتدأ. {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُؤْمِنُون}. {يُؤْمِنُون}: فعل وفاعل خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ، والخبر صلة الموصول. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {هُمْ}: مبتدأ. {بِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {يُشْرِكُونَ} وجملة {لَا يُشْرِكُونَ} خبر المبتدأ. والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {يُؤْتُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مَا}: مفعول {يؤتون}. {آتَوْا}: فعل وفاعل،

والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما آتوه. {وَقُلُوبُهُمْ}: {الواو}: حالية. {قلوبهم}: مبتدأ. {وَجِلَةٌ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يُؤْتُونَ}. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {إِلَى رَبِّهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {رَاجِعُونَ}. {رَاجِعُونَ}: خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، والجار المحذوف متعلق بـ {وجلة}؛ أي: قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم. {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)} {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {يُسَارِعُونَ}: فعل وفاعل {فِي الْخَيْرَات}: متعلق به، وجملة {يسارعون} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {أن}؛ أي: خبر عن أن الذين هم من خشية ربهم وما عطف عليه، قاسم {أن} أربع موصولات، وخبرها جملة أولئك .. الخ. {وَهُمْ}: مبتدأ {لَهَا} متعلق بـ {سَابِقُونَ}، قدم عليه للفاصلة وللاختصاص. {سَابِقُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على سابقتها عطف تأكيد لها. {وَلَا نُكَلِّفُ}: {الواو}: استئنافية. {لا}: نافية. {نُكَلِّف}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. {نَفْسًا}: مفعول به أول، والجملة مستأنفة، مسوقة للدلالة على أن التكليف غير خارج عن حدود الطاقات والإمكانيات. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {وُسْعَهَا}: مفعول ثان. {وَلَدَيْنَا}: {الواو}: عاطفة. {لدينا}: ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم، {كِتَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {وَلَا نُكَلِّف}، وجملة {يَنْطِقُ} صفة كتاب {بِالْحَقِّ} متعلق به، أو حال من فاعل {يَنْطِق}؛ أي: حالة كونه ملتبسًا بالحق. {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على سابقتها. التصريف ومفردات اللغة {قَرْنًا}: القرن: الأمة. والمراد بهم: عاد قوم هود، لقوله تعالى في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}.

{وَأَتْرَفْنَاهُمْ}؛ أي: نعمناهم ووسعنا عليهم، يقال: ترف فلان؛ أي: توسع في النعمة وأترفته النعمة: أطغته. {لَخَاسِرُون}؛ أي: لمغبونون في آرائكم، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم. {هَيْهَاتَ}؛ أي: بعد. {لِمَا تُوعَدُونَ} هو البعث والحساب. {بِمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بمصدقين. {عَمَّا قَلِيلٍ}؛ في؛ أي: بعد زمان قليل {لَيُصْبِحُنّ}؛ أي: ليصيرن. {الصَّيْحَةُ}، والصيحة: العذاب الشديد، كماقال: صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ... خَرُّوْا لِشِدَّتِهَا عَلَى الأذْقَانِ {غُثَاءً}: الغثاء العشب إذا يبس، يجمع على أغثية كغراب وأغربة، وعلى غثيان كغراب وغربان. وقال الزجاج: هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل به فخالط زبده. وقيل: كل ما يلقيه السيل، والقدر مما لا ينتفع به، وبه يضرب المثل في ذلك. ولامه واو؛ لأنه من غثا الوادي يغثو غثوًا، وكذلك غثت القدر، وأما غثيت نفسه تغثى غثيانًا؛ أي: خبثت فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء، وتشدد ثاء الغثاء وتخفف، وقد جمع على أغثاء وهو شاذ بل كان قياسه أن يجمع على أغثية كأغربة، أو على غثيان كغربان وغلمان. اهـ. "سمين". وقال الزمخشري: شبَّههم في دمارهم بالغثاء، وهو حميل السيل مما بلى، واسود من بلي العيدان والورق. اهـ. {تَتْرَا} من المواترة، وهي التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها، قاله الأصمعي، والتاء فيه مبدلة من الواو، وأصله وترى وهو مصدر كشبعى ودعوى. فألفه للتأنيث، وهو منصوب على الحالية؛ أي: متتابعين، والتتر: المتابعة مع مهلة، فإن كانت بدونها، قيل لها: مداركة ومواصلة، كما في "القاموس". {أَحَادِيثَ}: جمع أحدوثة، كأضاحيك وألاعيب وأعاجيب، جمع أضحوكة وألعوبة وأعجوبة، والأحدوثة: هي كل ما يتحدث به الناس تعجبًا منه، وتلهيًا به ودفعًا للملالة، واجتلابًا للسلوى، وتزجية للفراغ، أو جمع حديث على غير قياس.

وفي "السمين" قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ، وقيل: بل جمع أحدوثة كأضحوكة. وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر، ولا يقال في الخير. وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة مفاعيل كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من المجموع، كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير، مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فاحرى أحاديث، وقد لفظ له بواحد وهو حديث، فاتضح أنه جمع تكسير، لا اسم جمع لما ذكرنا. اهـ. وفي "القاموس" صاروا أحاديث؛ أي: انقرضوا. اهـ. {عَالِينَ}؛ أي: متكبرين. {لِبَشَرَيْن}: تثنية بشر، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، قال تعالى: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وقد يطابق، ومنه هذه الآية، وأمّا إفراد مثلنا؛ فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد، والتذكير ولا يؤنث أصلًا، وقد يطابق ما هو له تثنيةً كقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}. وجمعًا كقوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، وقيل: أريد المماثلة في البشرية لا الكمية، وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين. اهـ. {عَابِدُونَ}؛ أي: خدم منقادون. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان للملك عابدًا. وقال المبرد: العابد: المطيع الخاضع. {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ}؛ أي: أسكناهما وأنزلناهما في ربوة؛ أي: أوصلناهما إلى ربوة، وسبب ذلك أن ملك ذلك الزمان، كان أراد أن يقتل عيسى عليه السلام، فهربت به أمه إلى تلك الربوة، ومكثت بها ثنتي عشرة سنة، حتى هلك ذلك الملك. اهـ. من "الخطيب". والربوة والرباوة: الأرض المرتفعة، وفي رائها الحركات الثلاث، وقد اختلف المفسرون في المراد بها، فقيل: بيت المقدس، وقيل: دمشق وغوطتها. وعن الحسن: فلسطين أو الرملة، أو مصر، أقوال. {مَعِينٍ}: اسم مفعول من عان يعين كباع يبيع، فهو معين كمبيع، فالميم

زائدة، وأصله معيون كمبيوع، وقد دخله الإعلال. والمعين: الماء الظاهر البخاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولًا أنه مدرك بالعين؛ لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه، نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلًا، أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. وقال الراغب: هو من معن الماء إذا جرى، ويسمى مجرى الماء معيانًا، وأمعن الفرس تباعد في عدوه، وأمعن بحقي ذهب به، وفلان معن في حاجته؛ أي: سريع، قلت: وهذا كله راجع إلى معنى الجري والسرعة. وفي "السمين" قوله: ومعين صفة لموصوف محذوف؛ أي: وماء معين، وفيه قولان: أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله معيون؛ أي: مبصر بالعين، فأعل إعلال مبيع، وبابه وهو مثل قولهم: كبدته؛ أي: ضربت كبده، ورأسته؛ أي: أصبت رأسه، وعنته؛ أي: أدركته بعيني، ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن. والثاني: أن الميم اصلية، ووزنه فعيل، مشتق من المعن، واختلف في المعن. فقيل: هو الشيء القليل، ومنه الماعون، وقيل: هو من معن الشيء، معانة إذا كثر. {الطَّيِّبَاتِ}: جمع طيب، والطيب: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. {أُمَّتُكُمْ}؛ أي: ملتكم وشريعتكم. {فَتَقَطَّعُوا}؛ أي: قطعوا ومزقوا. {أَمْرَهُمْ}؛ أي: أمر دينهم. {زُبُرًا}؛ أي: قطعًا، واحدها زبور: بمعنى فريق. اهـ. "بيضاوي". أو جمع زبرة بمعنى القطعة؛ أي: الطائفة من الناس، وهي مثل غرفة، فتجمع على زبر بالضم وبالفتح، كما في الكهف فهما جمعان، كما في "القاموس". وقيل: معنى زبرًا، كتبًا؛ أي: تمسك كل قوم بكتاب، فآمنوا به، وكفروا بما سواه من الكتب. اهـ. "خطيب". {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والضمير لكفار مكة، في غمرتهم؛ أي: في ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة؛ لأنهم يغمرون فيها، والغمر في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والغمر أيضًا الذي يغمر

الأرض، ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل: فلان في غمره، والمادة تدل على الغطاء والاستتار، ومنه الغمر بالضم لمن لم يجرب الأمور، والغمر بالكسر: الحقد؛ لأنه يغطي القلب، والغمرات: الشدائد، والغامر: الذي يلقي نفسه في المهالك. اهـ. "سمين". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المغاير في قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا}. ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ذمًّا لهم وتسجيلًا عليهم بالقبائح والشناعات. ومنها: ذكر الخاص بعنوان العام في قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا}؛ لأن المراد بالرسول هنا هو عليه السلام بقرينة ما سبق في سورة الأعراف. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}؛ أي: منه. ومنها: إقامة الضمير مقام الظاهر في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، فأقيم الضمير مقام الأولى، لدلالة الثانية عليها، حذرًا من التكرر وإشعارًا بإغنائها عن التصريح. ومنها: الطباق في قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا}، وكذلك بين {تَسْبِقُ} و {يَسْتَأْخِرُونَ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}؛ أي: كالغثاء في سرعة زواله ومهانة حاله، حذف وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا}؛ لتغيير بعض الحروف والشكل.

ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إفادة للتعليل وإشعارًا بالعلية. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} حيث شبه ضلالتهم وجهالتهم بالماء الذي يغمر الإنسان من فرقه إلى قدمه بجامع الاستتار في كلٍّ، وإن كان مختلفًا بكونه في الماء حسيًّا وفي الجهالة معنويًا، واستعير اسم المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ}. ومنها: حذف الرابط في قوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} حذف به؛ أي: نسارع لهم به في الخيرات وحسن حذفه؛ لاستطالة الكلام مع أمن اللبس. ومنها: الطباق بين {يُؤْمِنُون} و {يُشْرِكُون}. ومنها: الاستعارة البديعة في قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} فالنطق لا يكون إلا ممن يتكلم بلسانه، والكتاب ليس له لسان فوصف سبحانه الكتاب بالنطق، مبالغةً في وصفه بظهار البيان وإعلان البرهان، أو تشبيهًا باللسان الناطق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} المناسبة قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا

عَامِلُونَ (63) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه، لما ذكر سماحة هذا الدين، وأنه دين يسر لا عسر، ولا يكلف النفس إلا ما تطيق، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ في كتاب، لا يبخس منه شيئًا، ولا يزاد له فيه شيء .. أردف هذا ببيان أن المشركين في غفلة عن هذا، الذي بيّن في القرآن، ولهم أعمال سوء أخرى، من فنون الكفر والمعاصي، كطعنهم في القرآن، واستهزائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وايذائهم للمؤمنين، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة .. جأروا واستغاثوا فقلنا لهم: لا فائدة فيما تعملون، فقد جاءتكم الآيات والنذر، فأعرضتم عنها، واتخذتموها هزوًا، تسمرون بها في البيت الحرام، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن؛ لتعلموا أنه الحق من ربكم، وأن مجيء الكتب إلى الرسل سنة قديمة، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم في رسولكم شيء، حتى تمتنعوا من تصديقه، وتقولوا إن به جنةً، وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلًا، وأثقبهم رأيًا، لا إن الأمر على غير ما تظنون، إنه قد جاءكم بالحق، ولكن أكثركم للحق كارهون، لما دسيتم به أنفسكم من الزيغ والإنصراف عن سبيل الحق، ولو أجابكم ربكم إلى ما في أنفسكم من الهوى، وشرع الأمور وفق ذلك .. لفسدت السماوات والأرض لفساد أهوائكم، واختلافها، وأنتم لو تأملتم، لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم، فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرًا على هدايتكم، وإرشادكم، فما عند الله خير مما عندكم، وهو خير الرازقين. فها هو ذا قد تبين الرشد من الغي، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق، الذي لا محيص منه، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق، وقد بلغوا حدًّا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح، فلو أنهم ردوا في الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم. ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا في غيهم وضلالهم، كما قال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} ما لم يكونوا ¬

_ (¬1) المراغي.

يحتسبون أيسوا من كل خير، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ...} الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر، والتأمل في الحقائق .. أردف ذلك الامتنان على عباده، بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما، ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها ,ليتبين لهم الرشد من الغي، لكنها لم تغن عنهم شيئًا، فكأنهم فقدوها، كما قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته، فبين أنه أوجدهم من العدم، وأن حشرهم إليه، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وأنه هو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون. وعبارة أبي حيان هنا: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ ...} إلخ. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما بين إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر، والتأمل في الحقائق .. خاطب - قيل: المؤمنين - والظاهر العالم بأسرهم، تنبيهًا على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى، وتدبر ما أودعه فيها، من الدلالة على وحدانيته، وباهر قدرته، فهو كعادم هذه الأعضاء. انتهى. قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) ...} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (¬2) أدلة التوحيد المبثوثة في الأكوان والأنفس، والتي يراها الناس في كل آن، أعقبها بذكر البعث والحشر، وإنكار المشركين لهما، وتردادهم مقالة من سبقهم، من الكافرين الجاحدين في استبعادهما والتكذيب بحصولهما. قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) شبهات المشركين في أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة .. عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه، وأنه كائن لا محالة. قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ...} الآيتين. مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر (¬2) أن المشركين كاذبون في إنكار البعث والجزاء، وفي مقالتهم إن القرآن أساطير الأولين .. قفى على ذلك بيان أنهم كاذبون في أمرين، اتخاذ الله للولد، وإثبات الشريك له. أسباب النزول قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} سبب (¬3) نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تسمر حول البيت ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}. سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه النسائي والحاكم عن ابن عباس قال: إن أبا سفيان أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، أنشدك بالله والرحم، لقد أكلنا الظهر - الوبر - والدم فأنزل الله هذه الآية. وأخرج البيهقي في "الدلائل" بلفظ، أن ثمامة بن أثال الحنفي، لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أسير خلى سبيله، ثم أسلم فلحق بمكة، ثم رجع إلى اليمامة، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز (¬4)، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أنشدك بالله والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؛ فقال: "بلى" فقال: قتلت الآباء بالسيف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول. (¬4) العلهز: شيء يتخذونه من الوبر اهـ. روح البيان.

[63]

والأبناء بالجوع فنزلت هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 63 - ثم أضرب سبحانه عما سبق، وذكر أحوال الكفار فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: قلوب الكفرة {فِي غَمْرَةٍ}؛ أي: في غفلة غامرة؛ أي: ساترة لها {مِنْ هَذَ} الذي بين في القرآن، من أن لدينا كتابًا ينطق بالحق؛ أي: ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد، فيجزون بها؛ أي (¬1): بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها، عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، أو على الأمر الذي عليه المؤمنون، يقال: غمره الماء إذا غطاه، ونهر غمر يغطي من دخله. والمراد بها هنا: الغطاء أو الحيرة والعمي. وقد تقدم الكلام على الغمرة قريبًا. والمعنى: أي (¬2) بل قلوب المشركين في غفلة عن هذا القرآن، والاسترشاد بما جاء به، مما فيه سعاده الناس في دينهم ودنياهم، فلو قرؤوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالحق والصدق، وأنه يقضي بأن أعمال المرء مهما دقت فهو محاسب عليها، وأن ربك لا يظلم من عباده أحدًا. ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة، فقال: {وَلَهُمْ}؛ أي: وللكفار {أَعْمَالٌ} كثيرة خبيثة {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي، من طعنهم في القرآن، وإقامة إمائهم في الزنا. {هُمْ}؛ أي: الكفار {لَهَا}؛ أي: لتلك الأعمال {عَامِلُونَ}؛ أي: معتادون فعلها، مستمرون عليها. والمعنى: أي إن لهم أعمالًا أخرى أسوأ من ذلك، فقد أغرقوا في الشرك والمعاصي واتخذوا هذا الكتاب هزوًا، وجعلوه سمرهم في البيت الحرام، يقولون فيه ما هو منه براء، يقولون: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}، و {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وما هو إلا كلام شاعر، ويتقولون على من أرسل به، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب، وانغمسوا في عبادة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[64]

الأوثان والأصنام. ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. 64 - ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار، فقال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} وهذه الجملة غاية لأعمالهم المذكورة، ومقررة لما قبلها. وحتى هذه ابتدائية، وهي يبتدأ بعدها الكلام. والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة بعدها؛ أي (¬1): لا يزالون يعملون أعمالهم الخبيثة إلى حيث إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم {بِالْعَذَابِ} الأخروي إذ هو الذي يفاجؤون عنده الخوار فيجابون بالرد والإقناط، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار. والمراد (¬2) بالمترفين المتنعمين منهم. وهم الذين أمدهم الله تعالى بما تقدم ذكره من المال والبنين. أو المراد بهم الرؤساء منهم. وقيل: المراد بالعذاب، هو عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم، حيث قال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف". والأول أظهر؛ لأن الجؤار إنما يقع عند عذاب الآخرة. وجملة قوله: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والضمير راجع إلى المترفين؛ أي: إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة؛ أي: يرفعون أصواتهم بها، ويتضرعون في طلب النجاة، فإن أصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع والدعاء. يقال: جار الرجل إذا تضرع بالدعاء. وتخصيص (¬3) المترفين بأخذ العذاب، ومفاجاة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضًا لغاية ظهور انعكاس حالهم، وأيضًا إذا كان لقاؤهم هذه الحالة الفظيعة ثابتًا واقعًا، فما ظنك بحال الأصاغر والخدم. وقال بعضهم: المراد بالمترفين المعذبين، أبو جهل وأصحابه، الذين قتلوا ببدر، والذين هم يجأرون أهل مكة، فيكون الضمير راجعًا إلى ما رجع إليه ضمير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[65]

مترفيهم، وهم الكفرة مطلقًا. والمعنى: أي حتى (¬1) إذا حل بهم بأسنا يوم القيامة، وحاق بهم سوء العذاب .. صاحوا صيحة منكرة، وقالوا: واغوثاه واسوء منقلباه، لشدة ما يرونه من الكرب والهول ولا سيما مترفوهم الذين انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم، وندموا حين لا ينفع الندم. نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ ... وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ 65 - ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعًا، فقال: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} فهو على إضمار القول، وتخصيص اليوم بالذكر، وهو يوم القيامة لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار؛ أي: فيقال لهم على وجه التبكيت والتقريع: لا تصرخوا اليوم، ولا تلتجئوا إلينا, ولا تستغيثوا بنا. وجملة قوله: {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى إنكم من عذابنا لا تمنعون، ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب. والمعنى: أي قلنا لهم هيهات هيهات، قد فات ما فات، الآن لا يجديكم البكاء والعويل؛ فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم، وقد حقت عليكم كلمة ربكم، ولا مغيث من أمره، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم، وأنه لا يجدي فيه ضراعة، ولا استغاثة، ولا ينفع فيه ولي ولا نصير. 66 - ثم عدد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخًا لهم، وبيانًا أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئًا، فقال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} التي هي القرآن {تُتْلَى} وتقرأ {عَلَيْكُمْ} في الدنيا {فَكُنْتُمْ} أيها الكفرة {عَلَى أَعْقَابِكُمْ}؛ أي: وراءكم {تَنْكِصُونَ}؛ أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها، وتنفرون عمن يتلوها. ¬

_ (¬1) المراغي.

[67]

والأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر الرجل، والنكوص الرجوع القهقرى؛ أي: معرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلًا عن تصديقها والعمل بها. والمعنى: أي (¬1) دعوا الصراخ، فإنه لا يمنعكم منا، واتركوا النصير، فإنه لا ينفعكم عندنا، فقد ركبتم شططًا، وجاءتكم الآيات والنذر، فأعرضتم عن سماعها فضلًا عن تصديقها، والعمل بها، وكنتم كمن ينكص على عقبيه موليًّا القهقرى نافرًا مما يسمع ويرى. وعلى أعقابكم متعلق بـ {تَنْكِصُونَ}، وهو استعارة عن الإعراض عن الحق، كما سيأتي. وقرأ علي بن أبي طالب {عَلَى أَدْبَارِهِمْ} بدل {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وقرأ تنكُصون بضم الكاف. 67 - وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ} حال من فاعل {تَنْكِصُونَ}، والضمير (¬2) في {بِه} راجع إلى البيت العتيق. وقيل: للحرم، والذي سوغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته، والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم وخدامه. وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. والمعنى عليه: فكنتم ترجعون عن آياتي على أدباركم حالة كونكم متعظمين بالبيت، ومفتخرين بالحرم وخدمته. وقيل: الضمير عائد إلى الآيات، بمعنى الكتاب، وضمن الاستكبار معنى التكذيب، فعداه بالباء. والمعنى: فكنتم تنكصون عنها على أعقابكم، حالة كونكم مكذبين بكتابي، ومستكبرين عن الإيمان به. والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبرًا وطغيانًا فلا يؤمنون به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد، وقال النحاس: القول الأول أولى، وبينه بما ذكرنا، فعلى القول الأول: يكون (به) متعلقًا بمستكبرين. وعلى الثاني: يكون متعلقًا بـ {سَامِرًا}؛ لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، والطعن فيه، وتسميته سحرًا وشعرًا وهو اسم جمع كالحاضر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

في الإطلاق على الجمع. وقال الواحدي: السامر الجماعة يسمرون بالليل؛ أي: يتحدثون فيه، فهو حال بعد حال من فاعل تنكصون، أو من الضمير في مستكبرين. والمعنى: وحالة كونكم سامرين ومتحدثين حول البيت في شأن القرآن. ويجوز أن يتعلق {بِهِ} بقوله: {تَهْجُرُون} من الهجر بالفتح، وهو الهذيان، وهو حال أخرى؛ أي: وحالة كونكم تهذون في شأن القرآن وتسبونه، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم، وهو الفحش في المنطق، وفيه ذم لمن يسمر في غير طاعة الله تعالى. وكان عليه السلام يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها. رواه مسلم عن أبي برزة الأسلمي. ومعنى قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}؛ أي: تعرضون عن الإيمان مستعظمين بالبيت الحرام، تقولون: نحن أهل حرمه وخدام بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدًا، وتسمرون حوله، وتتخذون القرآن سلواكم والطعن فيه هجيراكم، تهذون فتقولون هو سحر، هو شعر، هو كهانة إلى آخر ما يحلو لكم أن تتقولوه. والخلاصة: أنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه فلا تضامون، وتهذون في أمر القرآن، وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق، ولا جانب من الصواب. وقرأ الجمهور (¬1): {سَامِرًا} وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو: سمَّرًا بضم السين وفتح الميم المشددة جمع سامر. وابن عباس أيضًا، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك (سمارا) كذلك. وبزيادة ألف بين الميم والراء، جمع سامر أيضًا، وهما جمعان مقيسان، في مثل سامر وعاذل. وقرأ الجمهور وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[68]

{تَهْجُرُونَ} بفتح التاء وضم الجيم. وروى ابن أبي عاصم: {يهجرون} بالياء بدل التاء على سبيل الغيبة. قال ابن عباس: تهجرون الحق وذكر الله، وتقطعونه من الهجر. وقال ابن زيد وأبو حاتم: من هجر المريض إذا هذى؛ أي: يقولون اللغو من القول. وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم من أهجر الرباعي؛ أي: يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش. قال ابن عباس إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم. وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضًا، وزيد بن علي وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضًا وأبو حيوة {يهجرون} بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الجيم من هجر المضاعف من الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل، أو الهذيان، أو من الهُجر بضم الهاء، وهو السب والإفحاش في المنطق، يريد سبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن اتبعه. وعبارة "المراح": {تَهْجُرُونَ} بضم التاء؛ أي: (¬1) تسبون القرآن، وتسمونه سحرًا وشعرًا. وتهجرون بفتح التاء؛ أي: تتركون القرآن وتعرضون عنه، وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن، والطعن فيه، وتسميته سحرًا وشعرًا، وسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكانوا يقولون: لا يعلو علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم كما مر. وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ}، وقوله: {سَامِرًا} وقوله: {تَهْجُرُونَ} أحوال مترادفة من الواو في {تَنْكِصُون} أو كل واحدة حال من ضمير ما قبلها، فتكون أحوالًا متداخلة، وسامرًا اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب وباقر جمع البقر، وجامل جمع الجمل، فالكل يطلق على الجمع. اهـ. وفي "القرطبي" الحاضر هم القوم النازلون على الماء. اهـ. 68 - ثم أنبهم سبحانه وتعالى وبيّن أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة الآتية: الأول: ما ذكره بقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}؛ أي: القرآن، فإنهم لو تدبروا ¬

_ (¬1) المرح.

معانيه؛ لظهر لهم صدقه، وآمنوا به وبما فيه، والاستفهام فيه (¬1) لإنكار الواقع واستقباحه داخل على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم، وصحة المدلول، والإخبار عن الغيب. أنه الحق من ربهم، فيؤمنوا به فضلًا عما فعلوا في شأنه من القبائح. والتدبر إحضار القلب للفهم، وفي "الجلالين" والاستفهام المصرح به في هذا الموضع والذي في ضمن (أم) في المواضع الثلاثة الآتية للتقرير؛ أي: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه؛ أي: وللتوبيخ، كما ذكره غيره، انتهى بتصرفٍ وزيادة من "الجمل". والمعنى (¬2): أي إنهم لم يتدبروا القرآن، فيعلموا ما خص به من فصاحة وبلاغة، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه، ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض، وسائر العيوب التي تعتري الكلام، إلى ما فيه من حجج دامغة وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب وسامي الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه .. كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين. والثاني: ما ذكره بقوله: {أَمْ جَاءَهُمْ}؛ أي (¬3): هل جاءهم من الكتاب وبعثة الرسل {مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ} كأسماعيل عليه السلام، وأعقابه من عدنان وقحطان ومضر وربيعة وقس والحرث بن كعب وأسد بن خزيمة وتميم بن مرة وتبع وضبة بن آد، فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله، فإن مجيء الكتاب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى، وأن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه. وأم فيه منقطعة، مقدرة ببل (¬4)، التي للإضراب الانتقالي عن التوبيخ، بما ذكر إلى التوبيخ بأمر آخر، وبالهمزة التي لإنكار الواقع؛ أي: بل أجاءهم من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

[69]

الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين، حتى استبعدوه فوقعوا في الكفر والضلال، يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة له تعالى، لا يكاد يتسنى إنكارها وأن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه؟. والخلاصة (¬1): أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم، فاستبعدوا وقوعه، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى، وتظهر على أيديهم المعجزات، فهلا كان ذلك داعيًا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه. وقيل المعنى (¬2): أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأت آباءهم الأولين، كإسماعيل ومن بعده. الثالث: 69 - ما ذكره بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} إضراب وانتقال من التوبيخ، بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر. والهمزة لإنكار الوقوع أيضًا؛ أي: بل ألم يعرفوه - صلى الله عليه وسلم - بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم، مع عدم التعليم من أحد؛ إلى غير ذلك من صفات الأنبياء. {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}؛ أي: جاحدون بنبوته، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. فحيث انتفى عدم معرفتهم بشأنه عليه السلام، ظهر بطلان إنكارهم؛ لأنه مترتب عليه. والخلاصة: أي (¬3) أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدعي النبوة، كلا إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة وشهر لديهم باسم (الأمين). فكيف ينكرون رسالته، ولقد قال جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - للنجاشي: إن الله بعث فينا رسولًا نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته. وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه وصدقه وأمانته، وقد كانوا بعد كفارًا لم يسلموا. والرابع: 70 - ما ذكره بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} وهذا أيضًا (¬4) انتقال من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[71]

توبيخ إلى توبيخ؛ أي: بل أيقول المشركون: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جنون، ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنون، فلا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلًا، وأثقبهم ذهنًا، وأتقنهم رأيًا، وأوفرهم رزانة. ولكنه جاء بما يخالف هواهم، فدفعوه وجحدوه تعصبًا وحمية. ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقّ}؛ أي: ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول، بل جاءهم الرسول متلبسًا بالحق والصدق الثابت، الذي لا ميل عنه، ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، فما هو إلا توحيد الله وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ} من حيث هو حق؛ أي: حق كان لا لهذا الحق فقط، كما ينبىء عنه الإظهار في موضع الإضمار. {كَارِهُونَ} لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل، ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأنهج، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك، والإسراف في المعاصي والآثام. وظاهر (¬1) النظم القرآني أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفًا من الكارهين له، وفي "فتح الرحمن" فإن قلت: كيف (¬2) قال: ذلك - مع أنهم كلهم كانوا كارهين للتوحيد -؟ قلت: كان منهم من ترك الإيمان به أنفةً وتكبرًا من توبيخ قومهم لئلا يقولوا: ترك دين آبائه لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب: فَوَاللَّهِ لَوْلاَ أَنْ أَجِيْءَ بِسُبَّةٍ ... تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِىْ الْقَبَائِلِ إِذًا لاتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ 71 - ثم بيَّن سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} قرأ الجمهور (¬3): على كسر الواو لالتقاء الساكنين، وابن وثاب بضمها تشبيهًا بواو الضمير، كما كسرت واو الضمير تشبيهًا بها. اهـ. "سمين"؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) الفتوحات.

ولو اتبع ووافق الحق الذي كرهوه، ومن جملته ما جاء به عليه السلام من القرآن. {أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: مشتهيات الكفرة، بأن جاء القرآن موافقًا لمراداتهم، فجعل موافقته اتباعًا على التوسع والمجاز {لَفَسَدَتِ} وخربت {السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ}، وقرأ ابن مسعود {وما بينهما} من الملائكة والإنس والجن، وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية؛ لأن مناط النظام وما به قوام العالم، ليس إلا الحق الذي من جملته الإِسلام والتوحيد والعدل، ونحو ذلك. قال بعضهم (¬1): لولا أن الله أمر بمخالفة النفوس ومباينتها لاتبع الخلق أهواءهم وشهواتهم، ولو فعلوا ذلك، لضلوا عن طريق العبودية، وتركوا أوامر الله تعالى، وأعرضوا عن طاعته ولزموا مخالفته، والهوى يهوي بمتابعيه إلى الهاوية، انتهى. واعلم أن سبب (¬2) فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما فساد ما عداهم، فعلى وجه التبع؛ لأنهم مدبرون في الغالب بسبب العقول فلما فسدوا .. فسدوا. والمعنى (¬3): أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيّدًا للشرك بالله، واتخاذ الولد تعالى الله عن ذلك وزين الآثام واجتراح السيئات .. لاختل نظام العالم كما جاء في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، ولو أباح الظلم وترك العدل .. لوقع الناس في هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات في اضطراب وفساد، والمشاهد في الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يؤول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال، وأن يكون الضعيف فريسة للقوي لما استتب أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإِسلام شاهد صدق على ذلك. ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب، وما عرف والد ولده، فلا تتكون الأسر ولا يكون من يعول الأبناء، ولا من يبحث لهم عن رزق، فيكونون شردًا في الطرق لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشؤونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المرح.

حادث في أوروبا الآن، من وجود نسل بازدواج غير شرعي، مما تئن منه الأمم والجماعات، إلى نحو ذلك، مما هو ظلم وعدوان، وبعد أن أنبهم سبحانه على كراهتهم للحق، شنع عليهم بعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة في ذلك، فقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي يقوم به العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما فيه فخرهم وشرفهم، وهو القرآن المعبر عنه بالذكر؛ أي: بل جئناهم بالقرآن الذي فيه ذكرهم وفخرهم وشرفهم، الذي يجب عليهم أن يقبلوه ويقبلوا عليه أكمل إقبال؛ أي: كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم وتعظيمهم، فاللائق بهم الانقياد. وفي "التأويلات النجمية": بل أتيناهم بما فيه لهم صلاح في الحال، وذكر في المآل {فَهُمْ} مع ذلك بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم {عَنْ ذِكْرِهِمْ}؛ أي: عن صلاح حالهم وشرف مآلهم {مُعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال، لا عن غير ذلك مما لا يحسن الإقبال عليه، والاعتناء به من أهوائهم. ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز؛ أي: بل آتاهم كتابنا أو رسولنا. والمعنى (¬1): بل جئناهم بالقرآن، الذي فيه فخرهم وشرفهم، فأعرضوا عنه ونكصوا على أعقابهم وازدروا به، وجعلوه هزوًا وسخريةً، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك. ونحو الآية قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. وقرأ الجمهور (¬2): {بل أتينهم} بنون العظمة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو {بل أتيتهم} بتاء المتكلم، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى أيضًا وأبو البرهشيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء {بل أتيتهم} بتاء الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور {بِذِكْرِهِمْ}؛ أي: بوعظهم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[72]

والبيان لهم، قاله ابن عباس. وقرأ عيسى {بذكراهم} بألف التأنيث. وقرأ قتادة {نذكرهم} بالنون والتشديد مضارع ذكر من التذكير. وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال. وقرأ (¬1) ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو رجاء وأبو الجوزاء {بل آتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون} بألف فيهما. 72 - ثم بيَّن سبحانه أن دعوه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} وأم هي المنقطعة، بمعنى همزة الإنكار التوبيخي، وبل التي للإضراب الانتقالي؛ لأنه انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم، أم يقولون به جنة إلى التوبيخ بوجه آخر. والمعنى: أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة {خَرْجًا}؛ أي: جعلاً وأجرًا تأخذه منهم، فتركوا الإيمان بك، وبما جئت به لأجل ذلك، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم، {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} وثوابه {خَيْرٌ} لك، تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار؛ أي: لا تسألهم ذلك فإن رزق ربك الذي يرزقك في الدنيا، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر لسعته ودوامه، ففيه استغناء لك من عطائهم، {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الرَّازِقِينَ}؛ أي: خير من أعطى عوضًا على عمل؛ لأن ما يعطيه لا ينقطع ولا يتكدر. وهذه الجملة مقررة لخيرة خراجه تعالى. وفي "التأويلات النجمية": فيه (¬2) إشارة إلى أن العلماء بالله الراسخين في العلم، لا يدنسون وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفاسدة الصالحة الدنيوية والأخروية، فيما يعاملون الله في دعوة الخلق إلى الله، بالله، لله. وفي "الفتوحات المكية" مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظه الناس، وهو من أحل ما يأكله، وإن كان ترك ذلك أفضل، إيضاح ذلك: أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة، فإنه ما من نبي دعا إلى الله إلا قال: إن أجري إلا على الله، فأثبت الأجر على الدعاء، ولكن اختار أن يأخذه من الله لا من المخلوق، انتهى. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

[73]

وقرأ ابن كثير (¬1) ونافع وأبو عمرو وعاصم {خرجا} بغير ألف {فَخَرَاجُ} بألف وقرأ ابن عامر (خرجا فخرج) بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة والكسائي {خراجا} بألف {فخراج} بألف في الحرفين. وقرأ الحسن (¬2) وعيسى {خراجاَ} بألف في الأولى {فخرج} بغير ألف في الثانية. فكملت بهذه القراءة أربع قراءات. والخرج: هو الذي يكون مقابلًا للدخل، فيقال: لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجًا. والخراج (¬3): غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. قال النضر بن شميل: سألت عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج، فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وروى عنه أنه قال: الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. ففيه (¬4) إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ، ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه. وقال في "تفسير المناسبات": وكأنه سماه خراجًا إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد، لا خلف فيه. 73 - وبعد أن فند سبحانه آراءهم .. أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول، وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال: {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتَدْعُوهُمْ}؛ أي: لتدعو هؤلاء المشركين من قومك {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته وبعده عن الضلال والهوى، والاعوجاج والزيغ. 74 - ثم بيّن سبحانه أن الذين ينكرون البعث هم في ضلالٍ مبين، فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون {بِالْآخِرَةِ}؛ أي: بالبعث بعد الموت وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده في الآخرة {عَنِ الصِّرَاطِ} المستقيم الذي تدعوهم إليه {لَنَاكِبُونَ}؛ أي: لمائلون عادلون عنه، فإن الإيمان بالآخرة، وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق، وسلوك سبيله، وليس لهم إيمان وخوف حتى يطلبوا الحق، وشملكوا سبيله، ففي الوصف بعدم الإيمان بالآخرة ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان. (¬5) المراغي.

[75]

إشعار بعلة الحكم. والمعنى (¬1): أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط، أو جنس الصراط لعادلون عنه. 75 - ثم بيّن سبحانه أنهم مصرون على الكفر، لا يرجعون عنه بحال. فقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا}؛ أي: أزلنا عنه {مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ}؛ أي: من سوء الحال، يعني: القحط والجدب الذي أصابهم وغلب عليهم، {لَلَجُّوا}؛ أي: لتمادوا {فِي طُغْيَانِهِمْ} وضلالهم حالة كونهم {يَعْمَهُونَ} يترددون ويتذبذبون في طغيانهم، ويتخبطون فيه. وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجّة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه. وأصل (¬2) العمه: التردد في الأمر من التحير؛ أي: عامهين عن الهدى، مترددين في الضلالة، لا يدرون أين يتوجهون، كمن يضل عن الطريق في الفلاة، لا رأي له ولا دراية بالطريق. والمعنى: أي ولو كشفنا عنهم ما أصابهم، من جوع وسائر مضار الدنيا، لتمادوا في ضلالهم، وهم متحيرون عن الهدى، لا يبصرون الحق. وقد كان الأمر كذك. وقيل المعنى؛ أي: إنهم بلغوا في التمرد والعناد حدًا لا يرجى معه صلاح لهم، ولو أنهم ردوا من الآخرة إلى الدنيا ولم ندخلهم النار .. لعادوا لما نهوا عنه لشدة لجاجهم وتدنيسهم لأنفسهم. وهذا (¬3) القول بعيد، والظاهر أن هذا التعليق إنما يكون في الدنيا، 76 - ويدل على ذلك قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. واللام فيه موطئة للقسم. والعذاب (¬4) قيل: هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط، وقيل: المرض. وقيل: القتل يوم بدر، واختاره الزجاج. وقيل: الموت، وقيل: المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أخذنا أهل مكة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

[77]

بالعذاب الدنيوي وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر. وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده تنبيهًا لهم {فَمَا اسْتَكَانُوا}؛ أي: ما خضعوا وتذللوا {لربهم}؛ أي: بالانقياد الظاهري، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله، والانهماك في معاصيه. {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}؛ أي: وما يخشعون لله بقلوبهم في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك، والظاهر أن آية {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} مع الآيتين بعدها مدنيات فإن إصابتهم بالقحط إنما كانت بعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - من بينهم، كما يدل عليه تفسير الشديد بقتلهم يوم بدر، وهذا إنما كان بعد الهجرة. اهـ. "جمل". والمعنى: أي محناهم بكل (¬1) محنة من القتل والأسر، والجوع الذي هو أشد منهما. فما رؤي منهم لين انقياد وتوجه إلى الإِسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان من الشكوى، كما مر في أسباب النزول، فليس من الاستكانة له تعالى، والتضرع إليه تعالى في شيء، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه، فجاء، كما قيل: إذا جاع ضغا، وإذا شبع طغى، وأكثرهم مستمرون على ذلك العناد. 77 - {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الأخرة {إِذَا} فجائية واقعة في جواب الشرط {هُمْ فِيهِ}؛ أي: في ذلك العذاب {مُبْلِسُونَ}؛ أي: متحيرون آيسون من كل خير؛ أي: أكثرهم (¬2) مستمرون على ذلك العناد إلى أن يروا عذاب الآخرة، فحينئذٍ يبلسون كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)} وقوله تعالى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربع مئة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عليهم. نسأل الله العافية من ذلك، والمبلس: الآيس من الشر الذي ناله. والمعنى: أي (¬3) حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم ¬

_ (¬1) المرام. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[78]

من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون أيسوا من كل خير، وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم. وقرأ السلمي: {مبلسون} بفتح اللام من أبلسه؛ أي: أدخله في الإبلاس، وهو القنوط من رحمة الله تعالى. 78 - {وَهُوَ} سبحانه الإله {الَّذِي أَنْشَأَ} وخلق {لَكُمُ}؛ أي: لمنافعكم {السَّمْعَ} وهي: قوة في الأذن بها تدرك الأصوات، والفعل يقال له: السمع أيضًا، ويعبر تارة بالسمع عن الأذن. {وَالْأَبْصَارَ} جمع بصر، يقال للجارحة الناظرة وللقوة فيها، {وَالْأَفْئِدَةَ} جمع فؤاد وهو القلب. وخص هذه (¬1) الثلاثة بالذكر؛ لأن أكثر المنافع الدينية والدنيوية متعلق بها. والخطاب لجملة الخلق والمقصود به التقريع والتوبيخ بالنسبة للكافرين وتذكير النعم بالنسبة للمؤمنين. والمعنى: وهو سبحانه هو الإله الذي أحدث لكم السمع لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها والمواعظ، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة، وتنظروا العبر، والعقول لتفهموا بها ما ينفعكم، وتتفكروا بها فيما يوصلكم إلى سعادة الدارين الدنيا والعقبى. وخص (¬2) هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها طريق الاستدلال الحسين والعقلي لمعرفة الموجودات، وذكرها على هذا الترتيب لما أثبته الطب، أن الطفل في الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر، ثم يبدأ الرؤية بعدئذٍ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك. أي: وهو الذي أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة، فلم تنتفعوا بشيء منها لإصراركم على الكفر، وبعدكم عن الحق، ولم تشكروه على ذلك. ولهذا قال: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}؛ أي (¬3): شكرًا قليلًا حقيرًا، غير معتدٍ به باعتبار تلك النعم الجليلة {تَشْكُرُون}، فـ {مَا} زائدة لتأكيد القلة. وقيل المعنى: أنهم لا يشكرونه ألبتة. وقد كان ينبغي أن يشكروه عليها في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[79]

كل حين، لا أن لهم شكرًا قليلًا، كما يقال لجاحد النعمة: ما أقل شكره؛ أي: لا يشكر. وفي "العيون": لم تشكروه لا قليلًا ولا كثيرًا. وذلك لأن القلة ربما تستعمل في العدم، وهو موافق لحال الكفار، وشكر هذه النعم استعمالها في طاعة المنعم وعبوديته، فشكر السمع حفظه عن استماع المنهيات، وأن لا يسمع إلا لله، وبالله، وعن الله. وشكر البصر حفظه عن النظر إلى المحرمات، وأن ينظر بنظر العبرة لله، وبالله، وإلى الله، وشكر القلب تصفيته عن ريب الأخلاق الذميمة، وقطع تعلقه عن الكونين، فلا يشهد غير الله، ولا يحب إلا لله. 79 - {وَهُوَ} سبحانه الإله {الَّذِي ذَرَأَكُمْ}؛ أي: خلقكم وبثكم {فِي الْأَرْضِ} بالتناسل فيها. يقال: ذرأ الله الخلق؛ أي: أوجد أشخاصهم. {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره؛ أي: إلى حكمه وقضائه وجزائه {تُحْشَرُونَ}؛ أي: تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم، فما لكم لا تؤمنون به، ولا تشكرون له. والمعنى: أي (¬1) وهو سبحانه الإله الذي خلقكم في الأرض، وبثكم فيها، على اختلاف أجناسكم ولغاتكم، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم في دار لا حاكم فيها سواه. 80 - {وَهُوَ} سبحانه الإله {الَّذِي يُحْيِي}؛ أي: يعطي الحياة النطف والتراب والبيض والموتى يوم القيامة. {وَيُمِيتُ}؛ أي: يأخذ الحياة من الأحياء من غير أن يشاركه في ذلك أحد. ولم يقل (¬2): أحيا وأمات بصيغة الماضي، كما قال: أنشاكم وذرأكم، ولكن جاء على لفظ المضارع ليدل على أن الإحياء والإماتة سنته؛ أي: وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم، بعد أن لم يكونوا شيئًا، ثم يميتهم بعد أن أحياهم، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والعقاب. {وَلَهُ} سبحانه خاصة {اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} خلقًا وإيجادًا ازديادًا وانتقاصًا، أو مجيئًا وذهابًا، وهو المؤثر في تعاقبهما لا الشمس. قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان، ويختلفان في السواد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[81]

والبياض. وقيل: اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل: تكررهما يومًا بعد يوم وليلة بعد ليلة؛ أي: وهو الذي سخر الليل والنهار، وجعلهما متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبًا حثيثًا، لا يملان ولا يفترقان، كما قال: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار} ثم أنب سبحانه من ترك النظر في كل هذا، فقال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أتغفلون (¬1) عن تلك الآيات، فلا تعقلون بالنظر والتأمل، أن الكل منا، وأن قدرتنا تعم الممكنات، وأن البعث من جملتها؛ أي: أفلا تتفكرون في هذه الموجودات، لتعلموا أن هذه صنع الإله العلم، القادر على كل شيء، وأن كل شيء خاضع له تحت قبضته، دال على وجوده. وقرأ أبو عمرو في رواية {يعقلون} بيا الغيبة على الالتفات. 81 - ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث، إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد إلاستبعاد، فقال: {بَلْ قَالُوا} عطف على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: لم يعقلوا تلك الآيات، بل قالوا؛ أي: كفار مكة {مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ}؛ أي: كما قال من قبلهم من الكفار من قوم نوح، وهود وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل. أي (¬2): ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد، كإعادة الأجسام بالبعث، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، تقليدًا لهم دون برهان ولا دليل. 82 - ثم بيّن ما قال الأولون فقال: {قَالُوا}؛ أي (¬3): قال الأولون {أَإِذَا مِتْنَا}؛ أي: أنبعث إذا متنا {وَكُنَّا}؛ أي: صرنا {تُرَابًا وَعِظَامًا} قد بليت أجسامنا، وجردت عظامنا من لحومنا .. {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} من قبورنا أحياء كهيأتنا قبل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكانى.

[83]

الممات؛ أي: لا نبعث، والاستفهام فيه للإنكار والتعجب، استبعدوا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضًا ترابًا فخلقوا، والعامل في (إذا) ما دل عليه (لمبعثون)، وهو نبعث؛ لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها، وقدم التراب على العظام مع كونه مؤخرًا عنه لشدة استبعادهم له. وفي الهمزتين في الموضعين التحقيق، وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين، وترك الإدخال عليهما، فالقراءات أربعة كلها سبعية. اهـ. "شيخنا". 83 - ثم أكّد كفار مكة هذا الإنكار بقولهم {لَقَدْ وُعِدْنَا}؛ أي: قال كفار مكة: لقد وعدنا {نَحْنُ} هذا الوعد الذي تعدنا به يا محمد، من البعث بعد موتنا، وصيرورتنا ترابًا وعظامًا على لسانك ووعد {آبَاؤُنَا هَذَا}؛ أي: مثل هذا الوعد الذي وعدتنا به من البعث بعد الموت {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل مجيئك إلينا، أو من قبل وجودنا على ألسنة قوم زعموا أنهم رسل الله تعالى، ثم لم يوجد ذلك الوعد مع طول العهد. وفي المثل (¬1) إبهام، وفيما قاله الأولون إبهام، فبين الثاني بقوله: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا} إلخ. وبيّن الأول بقوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا}. فالأول؛ أي: قوله: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا} إلخ. مقول الأولين. وقوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا} إلخ مقولهم؛ أي: مقول كفار مكة اهـ. "شيخنا". ثم صرحوا بالتكذيب، وفروا إلى مجرد الزعم الباطل، فقالوا: {إِنْ هَذَا}؛ أي: ما هذا البعث الذي وعدتنا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وأكاذيبهم التى سطروها في الكتب جمع أسطورة، كأحدوثة، والأساطير الأباطيل، والترهات والكذب؛ أي: ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظلّ من الحقيقة، ولا نصيب من الصحة. فائدة: وقال هنا (¬2): {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} بتأخير هذا عن قوله: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الفتوحات.

[84]

(نحن وآباؤنا)، وقال: في النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} بتقديم هذا على نحن وآباؤنا، جريا هنا على القيام من تقديم المرفوع على المنصوب، وعكس ثم بيانًا لجواز تقديم المنصوب على المرفوع، وخص ما هنا بتقديم المرفوع على المنصوب، الذي هو لفظ هذا، جريًا على الأصل بلا وجود مقتض لخلافه، وخص ما هناك بتقديم المنصوب، اهتمامًا به من منكري البعث، فكأنهم قالوا: إن هذا الوعد كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، فقد وقع قديمًا من سائر الأنبياء، ثم لم يوجد مع طول العهد، فظنوا أن الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا: لما لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. اهـ. "كرخي". 84 - ثم أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف بها، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال: {قُلْ} يا محمد لكفار مكة {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} من المخلوقات، عبر بمن تغليبًا للعقلاء على غيرهم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شيئًا ما فأخبروني بخالقهما، فإن ذلك كاف في الجواب، وفيه (¬1) من البالغة في الاستهانة بهم وفي تجهيلهم ما لا يخفى. والمعنى: قل أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك، لمن ملك السموات والأرض، ومن فيها من الخلق إن كنتم من أهل العلم بذلك 85 - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}؛ أي: إنم سيقرون بانهما لله تعالى ملكًا وخلقًا، وتدبيرًا، دون غيره؛ لأن بديهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه تعالى خالقها، وهذا إخبار من الله بما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه. ثم أمر رسوله أن يرغبهم في التدبر، ليعلموا بطلان ما هم عليه، فقال: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الهمزة: للاستفام التوبيخي داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتقولون ذلك، وتنكرون البعث: فلا تتذكرون أن من فطر الأرض وما فيها ابتداءً .. قادر على إعادتها ثانيًا، فإن البدء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[86]

ليس بأهون من الإعادة، بل الأمر بالعكس، في قياس العقول. والمعنى: قل لهم أيها الرسول، حين يعترفون بذلك موبخًا لهم، أفلا تتدبرون، فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم، وإعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم. 86 - {قُلْ} لهم يا محمد {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ترقى (¬1) في الأمر بالسؤال، من الأدنى والأصغر إلى الأعلى والأكبر، فإن السماوات والعرش أعظم ممن في الأرض، ولا يلزم منه أن يكون من في السموات، أجل ممن في الأرض، حتى تكون الملائكة أفضل هل من جنس البشر، كما لا يخفى. وقرأ ابن محيصن العظيم برفع الميم نعتًا للرب. 87 - {سَيَقُولُونَ} هما لله الذي له كل شيء، وهو رب ذلك، ليس لهم جواب غيره. وأتى باللام نظرًا إلى معنى السؤال، فإن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، يعني إذا قلت من رب هذا، فمعناه لمن هذا، فالجواب لفلان. {قُلْ} لهم توبيخًا {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتعلمون ذلك فلا تتقون عذابه بالعمل، بموجب العلم، حيث تكفرون به، وتنكرون البعث، وتثبتون له شريكًا في الربوبية، وفي "فتح الرحمن": إنما قال هنا بلفظ {لِلَّهِ} وفيما بعد بلفظ الله مرتين؛ لأنه في الأول وقع في جواب مجرور باللام في قوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ} فطابقه بجره اللام، بخلاف ذلك في الأخيرين، فإنهما إنما وقعا في جواب مجرد عن اللام، انتهى. وقدم التذكر على التقوى؛ لأنهم بالتذكر يصلون إلى المعرفة، وبعد أن عرفوه علموا أنه يجب عليهم اتقاء مخالفته؛ أي: قل لهم منكرًا وموبخًا: أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم، فتنكروا ما أخبر به من البعث. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[88]

وقرأ أبو عمرو وأهل العراق (¬1): {سيقولون الله} بغير لام، نظرًا إلى لفظ السؤال، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور، أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام دون ألف، وهكذا قرأ الجمهور في قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} باللام نظرًا إلى معنى السؤال، وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرًا إلى لفظ السؤال أيضًا. 88 - وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلي ملك له تعالى، أمره أن يقررهم بأن له تدبير شؤونهما وتدبير كل شيء، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} مما ذكر، ومما لم يذكر؛ أي: ملكه التام، فإن الملكوت الملك، والتاء للمبالغة. قال الراغب: الملكوت مختص بملك الله تعالى. اهـ. واليد صفة ثابتة له تعالى نثبتها ونعتقدها , ولا نكيفها, ولا نمثلها. {وَهُوَ يُجِيرُ}؛ أي: يغيث غيره إذا شاء ويحفظه. {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}؛ أي: ولا يغاث عليه أحد؛ أي: لا يمنع أحد مثله بالنصر عليه؛ أي: لا يمنع أحد أحدًا من عذاب الله، ولا يقدر على نصره وإغاثته، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة، يقال: أجرت فلانًا، إذا استغاث بك، فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه. وفي " التأويلات النجمية": وهو يجير الأشياء من الهلاك بالقيومية، ولا يجار عليه؛ أي: لا مانع له ممن أراد هلاكه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك فأجيبوني. والمعنى؛ أي (¬2): قل لهم: من المالك لكل شيء، والمدبر لكل شيء، وفي قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شيء، وهو يغيث من يشاء، فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو منه، ولا يغاث أحد، ولا يمنع منه؛ لأنه ليس في العوالم كلها ما هو خارج عن قبضته. والخلاصة: أنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه، 89 - ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا، فقال: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[90]

{سَيَقُولُونَ} لك في الجواب {لِلَّهِ}؛ أي: لله سبحانه ملكوت كل شيء دون غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه. {قُلْ} لهم يا محمد على طريق التوبيخ والاستهجان {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}؛ أي: فكيف تخدعون، وتصرفون عن توحيد الله وطاعته مع علمكم به، فأنتم بعبادة الأصنام، أو بعض البشر قد سحرت عقولكم، كأنما غابت عن رشدها، واعتراها الذهول، فتصورت الأشياء على غير ما هي عليها، فإن من لا يكون مسحورًا مختلًا عقله، لا يكون كذلك، والخادع هو الشيطان، أو الهوى، أو كلاهما. والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلًا، والصحيح فاسدًا، والمراد بالسحر التخيل والتوهم، لا حقيقته. وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقًا، وتتوهم صدق ما يقال، وإن كان باطلًا، ومن ثم كثرت المذاهب الإِسلامية، وابتاع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب والنظم ما خدعوا به عقول الشعوب في دينهم ودنياهم. وقرأ أبو عمرو (¬1): {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} في الأخيرتين من غير لام جر مع رفع الجلالة، جوابًا على اللفظ، لقوله من؛ لأن المسؤول به مرفوع المحل، وهو من، فجاء جوابه مرفوعًا. وقرأ الباقون: {لِلَّهِ} باللام في الأخيرتين، وهو جواب على المعنى؛ لأن التقدير في الموضع الأول منهما: قل من له السماوات السبع والعرش، وفي الثاني: قل من له ملكوت كل شيء، فلام الجر مقدرة في السؤال، فظهرت في الجواب نظرًا للمعنى. وأما جواب السؤال الأول، فهو لله باللام، باتفاق السبعة؛ لأنها قد صرح بها في السؤال. 90 - ثم بيّن سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم، فقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ} وجئناهم على لسان رسولنا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالأمر الحق، الواضح، الذي يحق ويجب اتباعه، وهو التوحيد والوعد بالبعث. وقرىء: {بل أتيناهم} بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب. ¬

_ (¬1) المراح.

[91]

{وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإن هؤلاء المشركين {لَكَاذِبُونَ} فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك، وفي إنكار البعث. والمعنى؛ أي (¬1): ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر، وإنهم لكاذبون في إنكار ذلك، لا أن عقولهم قد سحرت بخداع الآباء، وتكرار القول، وحكم العادة، وهي طبيعة ثانية. وقد بيّن (¬2) أنهم أصروا على جحودهم، وأقاموا على عتوهم ونبوهم بعد أن أزيحت العلل، فلات حين عذر، وليس المساهلة موجب بقاء، وقد انتقم الله منهم، فإنه يمهل ولا يهمل. قال سقراط أهل الدنيا كسطور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة، فقد مضى ستة آلاف سنة، ولياتين عليها مئون من سنين ليس عليها موحدون يعني عند آخر الزمان، فكل من السعيد والشقي، لا يبقى على وجه الأرض، فيموت ثم يبعث فيجازى. 91 - ثم نفى سبحانه عن نفسه شيئين: 1 - {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} كما يقول النصارى، والقائلون إن الملائكة بنات الله؛ لأنه لم يجانس أحدًا، ولم يماثله أحد حتى يكون له من جنسه وشبهه صاحبة، فيتوالدا، وأيضًا إن الولد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين، والله غني عن كل شيء. 2 - {وَمَا كَانَ مَعَهُ} تعالى {مِنْ إِلَهٍ} يشاركه في الأولوهية، لا قبل خلق العالم، ولا حين خلقه له، ولا بعد خلقه، كما يقول عبدة الأصنام وغيرهم. و (من) في الموضعين زائدة لتأكيد النفي. ثم ذكر دليلين على بطلان تعدد الآلهة، فقال: 1 - {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} وإذا في أصلها حرف جواب وجزاء، وهنا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[92]

بمعنى لو الشرطية؛ أي: لو كان معه تعالى آلهة أخرى كما يقولون لذهب كل إله؛ أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين؛ أي: لو قدر تعدد الآلهة .. لانفرد كل منهم بما خلق، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة غيره، فكان يحصل التباين في نظم الخلق والإيجاد، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون، والمشاهد أنه منتظم متسق، وهو الغاية في الكمال، كما قال: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}. 2 - {ولـ} وقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب و {عَلَا بَعْضُهُمْ}؛ أي: ولغلب بعضهم {عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: ولغلب القوي منهم الضعيف، وقهره وأخذ ملكه كعادة ملوك الدنيا، وإذا لم تروا أثرًا للتحارب والتغالب، فاعلموا أنه إله واحد، بيده ملكوت كل شيء، وإله ترجعون. وبعد أن وضح الحق، وصار كفلق الصباح، جاء بما هو كالنتيجة لذلك، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}، ويضيفونه إليه تعالى من الأولاد والشركاء؛ أي: تنزه ربنا وتقدس عما يقوله الكافرون، من أن له ولدًا أو شريكًا، أو نزهوه تنزيهًا، وقرىء: {عما تصفون} بتاء الخطاب. 92 - {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: عالم السر والعلانية، بالجر على أنه بدل من الجلالة، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سبحانه وتعالى العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء، فلا يرونه، ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه؟. والمراد (¬1): أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها, ولا تخفى عليه خافية من أمرهما قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم. وقرأ الإبنان (¬2) - ابن كثير وابن عامر - وأبو عمرو هو حفص: {عالم} بالجر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

صفة للجلالة وقرأ باقي السبعة، وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع. قال الأخفش: الجر أجود؛ ليكون الكلام من وجه واحد. وقال ابن عطية: الرفع عندي أبرع، والغيب ما غاب عن الناس، والشهادة ما شاهدوه. ثم إن الغيب بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إليه تعالى، فهو عالم به وبالشهادة على سواء، وهو دليل آخر على انتفاء الشريك، بناءً على توفقهم في تفرده تعالى بذلك، ولذلك رتب عليه بالفاء في قوله: {فَتَعَالَى} الله وتنزه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به مما لا يعلم شيئًا من الغيب، ولا يتكامل عليه بالشهادة، فإن تفرده بذلك موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك؛ أي: تقدس عما يقول الجاحدون والظالمون. و {الفاء}: في قوله: {فَتَعَالَى} عاطفة على محذوف معلوم من السياق، فكأنه قال: علم الغيب فتعالى، كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته؛ أي: شجع فعظمت، أو يكون على إضمار القول؛ أي: أقول فتعالى الله. والمعنى: أنه سبحانه متعالٍ عن أن يكون له شريك في الملك. والله أعلم. الإعراب {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)}. {بَلْ}: حرف ابتداء وإضراب (¬1) للانتقال إلى أحوال الكفار المحكية فيما سبق بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} الخ. والجمل التي بينهما وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} إلى قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} اعتراض في خلال الكلام، المتعلق بالكفار {قُلُوبُهُمْ}: مبتدأ. {فِي غَمْرَةٍ}: خبر. {مِنْ هَذَا}: جار ومجرور صفة لـ {غَمْرَةٍ}؛ أي: كائنة من هذا الذي وصف به المؤمنون، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَلَهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {لهم}: جار ومجرور خبر مقدم. {أَعْمَالٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ دُونِ ذَلِكَ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {أَعْمَالٌ}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {هُمْ}: مبتدأ. {لَهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَامِلُونَ} {عَامِلُونَ}: خبرهم؛ أي: مستمرون عليها، ومعنى من دون ¬

_ (¬1) الفتوحات.

ذلك؛ أي: متجاوزة متخطية لما وصف به المؤمنون، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة ثانية لأعمال. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)} {حَتَّى}: حرف ابتداء يبدأ بها الكلام. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه وهو يجأرون، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب. {أَخَذْنَا}: فعل وفاعل. {مُتْرَفِيهِمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بِالْعَذَابِ}: متعلق بـ {أَخَذْنَا}. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {إذا} الثانية: فجائية، قائمة مقام فاء الجزاء في الربط، حرف لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: فهم لا يجأرون على حد قوله. وتخلف الفاء إذا المفاجاة. {هُمْ}: مبتدأ. وجملة {يَجْأَرُون}: خبره، والجملة الاسمية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة. وقيل: {حَتَّى} حرف جر، وغاية. وجملة {إذا} الشرطية: في محل الجر بها، والتقدير: لا يزالون يعملون أعمالهم الخبيثة، إلى مفاجأة جؤارهم وقت أخذنا إياهم بالعذاب الشديد. {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)}. {لَا}: ناهية جازمة. {تَجْأَرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {تَجْأَرُوا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: فيقال لهم: لا تجأروا اليوم. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {مِنَّا}: جار ومجرور متعلق بتنصرون. {لا} نافية. {تُنْصَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة إن مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي المذكور قبلها. {قَدْ}: حرف تحقيق. {كَانَتْ آيَاتِي}: فعل ناقص واسمه. {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر فيه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {تُتْلَى}، وجملة {تُتْلَى}: في محل النصب خبر (كان)، وجملة (كان) مستأنفة. {فَكُنْتُمْ}: الفاء: عاطفة. {كنتم}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى أَعْقَابِكُمْ}:

جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَنْكِصُون}، وجملة {تَنْكِصُون}: في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}: معطوفة على جملة (كان) الأولى. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} {مُسْتَكْبِرِينَ}: حال أولى من فاعل {تَنْكِصُونَ}. {بِهِ}: متعلق بـ {مُسْتَكْبِرِينَ}؛ أي: بسببه، والضمير للحرم أو للبيت، أو الضمير عائد إلى القرآن. وبه بمعنى فيه متعلق بسامرا. {سَامِرًا}: حال ثانية من فاعل {تَنْكِصُونَ} أيضًا. وجملة {تَهْجُرُونَ}: حال ثانية منه أيضًا، فالثلاثة: إما أحوال مترادفة من الواو في {تَنْكِصُونَ}، أو متداخلة؛ أي: كل واحدة حال مما قبلها. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر. {فلم يدبروا}: {لم}: حرف نفي وجزم. {يدبروا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}. {الْقَوْلَ}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، {أم} عاطفة بمعنى بل الانتقالية. وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل أجاءهم. {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول به. {مَا}: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل {جاء}، والجملة معطوفة على جملة {لم يدبروا}. {لَمْ يَأْتِ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على {مَا}. {آبَاءَهُمُ}: مفعول به. {الْأَوَّلِينَ}: صفة لـ {آبَاءَهُمُ}، وجملة {يَأْتِ}: صلة لـ {مَا}، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير الفاعل. {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}. {أَمْ}: حرف عطف، بمعنى بل الانتقالية، وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل ألم يعرفوا. {لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول معطوف على جملة {لم يدبروا}: {فَهُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {هُمْ}: مبتدأ. {له}: متعلق بمنكرون. {مُنْكِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة {لَمْ يَعْرِفُوا}.

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}. {أَمْ}: حرف عطف بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري؛ أي: بل أيقولون. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على جملة {لم يدبروا}. {بِهِ}: خبر مقدم. {جِنَّةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {بَلْ}: حرف إضراب للإضراب الإبطالي. {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر معطوف على {يَقُولُونَ}. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، حال من فاعل جاء؛ أي: بل جاءهم محمد حال كونه ملتبسًا بالحق. {وَأَكْثَرُهُمْ}: {الواو}: حالية {أكثرهم}: مبتدأ ومضاف إليه. {لِلْحَقِّ}: متعلق بـ {كَارِهُونَ}. {كَارِهُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير المفعول في {جَاءَهُمْ}. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}. {وَلَوِ} {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط. {اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ (لو). {لَفَسَدَتِ}: (اللام): رابطة لجواب {لو}. {فسدت}: فعل ماض. {السَّمَاوَاتُ}: فاعل. {وَالْأَرْضُ}: معطوف عليه، والجملة جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على السموات {فِيهِنَّ}: جار ومجرور صلة من الموصولة. {بَلْ}: حرف إضراب للإضراب الانتقالي {أَتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِذِكْرِهِمْ}: متعلق بأتيناهم، والجملة مستأنفة {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {هم}: مبتدأ. {عَنْ ذِكْرِهِمْ}: متعلق بما بعده. {مُعْرِضُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)} {أَمْ}: عاطفة بمعنى بل الانتقالية. وهمزة الاستفهام التوبيخي الإنكاري؛

أي: بل أتسألهم. {تَسْأَلُهُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على محمد. {خَرْجًا}: مفعول ثان والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}، وما بينهما اعتراض. {فَخَرَاجُ}: {الفاء}: تعليلية. {خراج}: مبتدأ. {رَبِّكَ}: مضاف إليه. {خَيْرٌ}: خبر، والجملة الاسمية في محل الجر، معللة لنفي السؤال المستفاد من الإنكار؛ أي: لا تسألهم ذلك؛ لأن خراج ربك خير. {وَهُوَ}: مبتدأ. {خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَإِنَّكَ}: {الواو}: استئنافية. {إن}: حرف نصب. و {الكاف}: اسمها: {لَتَدْعُوهُمْ}: (اللام): حرف ابتداء. {تدعوهم}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة. {إِلَى صِرَاطٍ} متعلق بتدعوهم. {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صراط}. {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف نصب. {الَّذِينَ}: في محل النصب اسمها. {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}. {عَنِ الصِّرَاطِ}: متعلق بناكبون. {لَنَاكِبُونَ}: (اللام): حرف ابتداء. {ناكبون}: خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية: {لو}: حرف شرط. {رَحِمْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لو}، لا محل لها من الإعراب. {وَكَشَفْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {رحمنا}. {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول به. {بِهِمْ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا}؛ أي: ما نزل بهم من القحط والجدب. {مِنْ ضُرٍّ}: جار ومجرور، حال من {مَا} الموصولة. {لَلَجُّوا}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية. {لجوا}: فعل وفاعل. {فِي طُغْيَانِهِمْ}: متعلق به، أو بـ {يَعْمَهُونَ}. والجملة جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة، وجملة {يَعْمَهُونَ}: في محل النصب حال من فاعل {لجوا}.

{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: عاطفة. و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَخَذْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ}. {بِالْعَذَابِ}: متعلق بـ {أخذنا}. {فَمَا}: {الفاء}: عاطفة. {مَا}: نافية. {اسْتَكَانُوا}: فعل وفاعل معطوف على أخدنا. {لِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {اسْتَكَانُوا}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {يَتَضَرَّعُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتَكَانُوا}. {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}. {حَتَّى}: حرف ابتداء لدخولها على الجملة التي يبتدأ بها. وقيل: هي حرف جر وغاية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، والشرط متعلق بالجواب الآتي، أعني قوله: {مُبْلِسُونَ}. {فَتَحْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {فَتَحْنَا}. {بَابًا}: مفعول به. {ذَا عَذَابٍ}: صفة لـ {بَابًا}، ومضاف إليه. {شَدِيدٍ}: صفة لـ {عَذَابٍ}، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. {إذا}: فجائية، قائمة مقام الفاء في ربط الجواب. {هُمْ}: مبتدأ. {فِيهِ}: متعلق بما بعده. {مُبْلِسُونَ}: خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب لـ {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: مستأنفة، وقيل: جملة إذا في محل الجر بحتى، على أنها جارة متعلقة بـ {اسْتَكَانُوا}، والتقدير: فما استكانوا لربهم وما يتضرعون إلى إبلاسهم من رحمتنا، وقت فتحنا عليهم بابًا ذا عذاب شديد. {وَهُوَ}: {الواو}: استئنافية. {هو الذي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْشَأَ}: فعل وفاعل مستتر. {لَكُمُ}: متعلق به. {السَّمْعَ}: مفعول به. {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}: معطوفات عليه، والجملة صلة الموصول. {قَلِيلًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، وهو المفعول المطلق حقيقة، تقديره: شكرًا قليلًا. {مَا}: زائدة، زيدت لتأكيد القلة المفادة بالتنكير بمعنى حقًا. {تَشْكُرُون}: فعل

وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من ضمير المخاطبين، تقديره: وهو الذي أنشا لكم هذه الأعضاء، حالة كونكم شاكرين له شكرًا قليلًا. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} {ذَرَأَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {ذَرَأَكُمْ}، والجملة صلة الموصول. {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}. {تُحْشَرُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على جملة الصلة. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: وهو الذي أنشأ لكم. {يُحْيِي}: فعل وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول. {وَيُمِيتُ}: معطوف على {يحي}. {وَلَهُ}: خبر مقدم. {اخْتِلَافُ اللَّيْلِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالنَّهَارِ}: معطوف على الليل، والجملة معطوفة على جملة الصلة. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: (الهمزة)؛ للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف. و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف. {لا}: نافية. {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتغفلون عن تلك الآيات فلا تعقلون، والجملة المحذوفة مستأنفة. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب انتقالي. {قَالُوا}: فعل وفاعل. {مِثْلَ}: منصوب على المفعولية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف هو المفعول المطلق أصالة. {مَا}: مصدرية. {قَالَ الْأَوَّلُونَ}: فعل وفاعل صلة ما المصدرية، وجملة ما المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر مجرور بإضافة مثلي إليه. والتقدير: بل قالوا قولًا مثل قول الأولين، والجملة الفعلية معطوفة على محذوف، يقتضيه المقام، والتقدير: لم يعقلوا تلك الآيات السابقة، بل قالوا مثل ما قال الأولون. {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَإِذَا} (الهمزة): للاستفهام الإنكاري الاستبعادي داخلة على محذوف معلوم من جواب إذا. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مِتْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذا

إليها. {وَكُنَّا تُرَابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {وَعِظَامًا}: معطوف على {ترابًا}، وجملة كان معطوفة على جملة متنا، وجملة متنا في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذا}، لكونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بمحذوف، معلوم من الجواب، لا بالجواب؛ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، كما سبق. {أَإِنَّا}: (الهمزة): للاستفهام الإنكارى التعجبي. {إنا} ا: ناصب واسمه. {لَمَبْعُوثُونَ}: (اللام): للابتداء. {مبعوثوّن}: خبر {إن}: وجملة {إن} جواب {أَإِذَا}، وجملهْ {أَإِذَا}: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}: {لَقَدْ وُعِدْنَا}: (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {وُعِدْنَا}: فعل ونائب فاعل والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول قالوا. {نَحْنُ}: تأكيد لضمير النائب ليصح العطف عليه. {وَآبَاؤُنَا}: معطوف على ضمير النائب. {هَذَا}: مفعول ثان لوعدنا. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {وعدنا}. {إن}: نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قالوا). {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)}. {قُلْ}: فعل أمر، وضمير مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِمَنِ}: {اللام}: حرف جر. {من}: اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر، مقدم وجوبًا. {الْأَرْضُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَمَن}: اسم موصول، في محل الرفع معطوف على الأرض. {فِيهَا}: جار ومجرور، صلة (من) الموصولة. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ} في محل النصب، خبر (كان) وجواب

{إن} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون ذلك، فأخبروني بخالقهما، وفي هذا تلويح بغباوتهم. {سَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة للإخبار من الله تعالى، عما يقع منهم، في الجواب قبل وقوعه. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي كائنة، والجملة في محل النصب مقول القول. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَفَلَا}: الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قُلْ}. والتقدير: أتقولون ذلك وتنكرون البعث. {لا}: نافية، وجملة {تَذَكَّرُونَ}: معطوفة على تلك المحذوفة. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {مَن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ}: خبر ومضاف إليه. {السَّبْعِ}؛ صفة لـ {السَّمَاوَاتِ}. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَرَبُّ الْعَرْشِ}: معطوف على {رَبُّ السَّمَاوَاتِ}. {الْعَظِيمِ} بالجر: صفة للعرش، وبالرفع صفة لرب. {سَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هما لله سبحانه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {سَيَقُولُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الهمزة): للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف. و {الفاء}: عاطفة على المحذوف، والتقدير: أتعلمون ذلك فلا تتقون عذابه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {لا}: نافية. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {بِيَدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية خبر من الاستفهامية، وجملة {مَنْ} الاستفهامية: في محل النصب مقول {قُلْ}.

{وَهُوَ}: {الواو}: عاطفة أو حالية. {هو}: مبتدأ، وجملة {يُجِيرُ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، أو معطوفة على جملة (من) الاستفهامية. {وَلَا يُجَارُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور نائب فاعل له، والجملة معطوفة على جملة يجير. {إن} شرطية، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه وجملة {تَعْلَمُونَ} خبره، وجواب {إِن} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون ذلك، فأخبروني، وجملة {إِن} الشرطية: في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}. {سَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ملكوت كل شيء لله سبحانه، والجملة في محل النصب مقول القول. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {فَأَنَّى}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ذلك، فأقول لكم: {أنى تسحرون}. {أنى}: اسم استفهام، بمعنى: كيف، في محل النصب على الحال من نائب فاعل {تُسْحَرُونَ}. {تُسْحَرُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قُلْ}. {بَل}: حرف إضراب وابتداء. {أَتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِالْحَقِّ}: متعلق به، أو حال من فاعل {أَتَيْنَاهُمْ}؛ أي: حالة كوننا متلبسين بالحق، والجملة مستأنفة. {وَإِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {لَكَاذِبُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {كاذبون}: خبر {إن}، وجملة {إن}: معطوفة على جملة {أَتَيْنَاهُمْ}، أو في محل النصب حال من مفعول {أَتَيْنَاهُمْ}. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}: فعل وفاعل ومفعول، و {ما} نافية و {مِن}: زائدة. والجملة مستأنفة. {وَمَا كَان}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ناقص. {مَعَهُ}: ظرف مكان ومضاف إليه خبر مقدم لـ {كَانَ}. {مِنْ}: زائدة. {إِلَهٍ}: اسم كان مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}.

{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء مهمل، قائم مقام لو الشرطية، المحذوفة مع فعل شرطها، تقديره: ولو كان معه آلهة أخرى. {لَذَهَبَ}: {اللام}: رابطة لجواب الشرط المحذوف. {ذهب كل إله}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لو} المحذوفة مع فعل شرطها، وجملة الشرط المحذوف مع جوابه معطوفة، تعاطف مقدر على جملة {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بذهب. {خَلَقَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كل إله، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما خلقه. {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ}: فعل وفاعل معطوف على قوله: {لَذَهَبَ}، و {اللام}: فيه لام الربط. {عَلَى بَعْضٍ}: متعلق بعلا. {سُبْحَانَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبح الله سبحانًا، أو سبحوا الله سبحانًا. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {سُبْحَانَ}، وجملة {يَصِفُونَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد محذوف، تقديره: عما يصفونه به، ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية؛ أي: عن وصفهم. {عَالِمِ الْغَيْبِ} بالجر: بدل من الجلالة، أو صفة له، وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف. {الْغَيْبِ}: مضاف إليه. {وَالشَّهَادَةِ}: معطوفة عليه. {فَتَعَالَى}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع على محذوف، كأنه قيل: علم الله الغيب فتعالى، والجملة مستأنفة. {تعالى}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة. {عَمَّا}: متعلق بـ {تعالى}: {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف، تقديره: عما يشركون به، ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: عن إشراكهم. التصريف ومفردات اللغة {فِي غَمْرَةٍ}: الغمرة: الجهالة والضلالة، وفي الأصل: ماء يغمر قامة الإنسان {مُتْرَفِيهِمْ}: أي: أغنياءهم ورؤساءهم، جمع مترف، اسم مفعول من أترف الرباعي. {يَجْأَرُونَ}؛ أي: يصيحون ويصرخون، ويبتهلون ويستغيثون

بربهم، ويلتجئون إليه في كشف العذاب عنهم، ومع ذلك لا ينفعهم، ولذلك قيل: لا تجأروا اليوم. وفي "القاموس" جأر: كمنع، جأرًا وجؤارًا إذا رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث، وجأرت البقرة والثور، إذا صاحا، وجأر النبات إذا طال، وجأرت الأرض؛ إذا طال نبتها، والجؤار: من النبت الغض والكثير، والرجل الضخم. اهـ. وقال في "اللسان": والأساس، الجؤار: الصراخ باستغاثة، ويقال: جأر الرجل، إذا صاح ورفع صوته. {لَا تُنْصَرُونَ}؛ أي: لا تمنعون من عذابنا؛ أي: لا يجيركم أحد ولا ينصركم {أَعْقَابِكُمْ} جمع عقب، وهو مؤخر القدم، ورجوع الشخص على عقبه، رجوعه في طريقه الأولى، كما يقال: رجع على بدئه. {تَنْكِصُونَ}؛ أي: تعرضون عن سماعها، وأصل النكوص الرجوع على الأعقاب؛ أي: ترجعون القهقرى؛ أي: إلى جهة الخلف، وهذه أقبح المشيات، وهذا كناية عن إعراضهم عن الآيات، وفي "المختار"، ما يدل على أنه من بابي جلس ودخل. {سَامِرًا} السامر: مأخوذ من السمر، وهو سهر الليل. وقال الراغب: قيل: معناه: سمارًا. فوضع الواحد موضع الجميع، تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وقيل: بل السامر الليل المظلم، والسمر سواد الليل، ومنه قيل: للحديث بالليل سمر، وسمر فلان إذا تحدث ليلًا، وقيل: اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب، كما مر. {تَهْجُرُونَ}: بفتح التاء وضم الجيم، مضارع هجر الثلاثي، من باب قتل، من الهجران وهو الترك، أو من هجر هجرًا، إذا هذى وتكلم بغير معقول لمرض، أو لغيره؛ أي: تتكلمون في القرآن مالا ينبغي. وقرىء بضم التاء وكسر الجيم من أهجر إهجارًا، إذا أفحش في كلامه، يقال أهجر يهجر إهجارًا، كأكرم يكرم إكرامًا، واسم المصدر الهجر بضم الهاء، وهو التكلم بالفحش.

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} قال الراغب: التدبر: التفكر في دبر الأمور. {بِهِ جِنَّةٌ}؛ أي: جنون. {خَرْجًا}؛ أي: أجرًا وجعلًا، ويغلب في الخرج أن يكون مال العتق، وفي الخراج مال العقار، ونقيض الدخل. وقيل: الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه. والوجه: أن الخرج أخص من الخراج. ومعنى الآية: أم تسالهم على هدايتك لهم قليلًا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير لك. {لَنَاكِبُونَ}؛ أي: لعادلون عن طريق الرشاد، يقال: نكب عن الطريق إذا زاغ عنه، وكل من لا يؤمن بالآخرة فهو ناكب، وفي "المصباح" نكب عن الطريق نكوبًا من باب قعد إذا عدل عنه ومال إليه غيره، والنكوب والنكب: العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك؛ لعدولها عن المهاب، ونكبت حوادث الدهر؛ أي: هبت هبوب النكباء اهـ. "سمين". {الصِّرَاطِ} في اللغة: الطريق، فسمي الدين طريقًا؛ لأنها تؤدي إليه تعالى. {للجوا} جواب لو، وقد توالى فيه لامان، وفيه تضعيف لقول من قال: إن جوابها إذا نفي بلم ونحوها مما صدر فيه حرف النفي باللام، أنه لا يجوز دخول اللام، فإذا قلت: لو قام زيد للم يقم عمرو لم يجز. قال ذلك القائل: لئلا يتوالى اللامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفرق بين النفي والإثبات في ذلك. اهـ. "فتوحات". وفي "المصباح" لج في الأمر لججًا من باب تعب، ولجاجًا ولجاجة فهو لجوج ولجوجة، مبالغة إذا لازم الشيء وواظبه. وباب ضرب لغةٌ. اهـ. {فِي طُغْيَانِهِمْ}: الطغيان: مجاوزة الحد في الشيء، وكل مجاوز حده في الطغيان طاغ. {يَعْمَهُونَ}: في "المصباح" عمه في طغيانه عمها، من باب تعب إذا تردد متحيرًا، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه وأعمه. {فَمَا اسْتَكَانُوا} يقال: استكان؛ أي: انتقل من كون إلى كون، كاستحال إذا انتقل من حال إلى حال. وأصله استكون، نقلت

حركة الواو إلى ما قبلها، ثم قلبت ألفًا. هذا ما قاله علماء اللغة، ولكن اعترض بعضهم على هذا التنظير، وحجته أن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول، كقولهم استحجر الطين استنوق الجمل. وأما استحال فثلاثية، حال إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد التحول لم يبق لصيغة استفعل فيه أثر، فليس استحال من استفعل للتحول، ولكنه من استفعل بمعنى فعل، وهو أحد أقسامه إذا لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنىً، ثم نعود إلى تأويله، فنقول: المعنى عليه فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى الله. {مُبْلِسُونَ} في "المصباح" البلاس مثل سلام: المسح، وهو فارسي معرب، والجمع بلس بضمتين. مثل عناق وعنق، وأبلس الرجل إبلاسًا سكت. وأبلس أيس، وفي التنزيل فإذا هم مبلسون. اهـ. ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله. اهـ. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار}؛ أي: لتحسوا بهما ما نصب من الآيات، وفيه تنبيه، على أن من لم يعمل هذه الأعضاء، فيما خلقت له .. فهو بمنزلة عادمها. {ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: خلقكم وبثكم فيها. {اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}؛ أي: تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان؛ أي: يتردد عليه بالمجيء والذهاب. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} واحدها أسطورة، كاحدوثة وأعجوبة، قاله المبرد وجماعة. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أصله تتذكرون، فقلبت التاء الثانية ذالًا فأدغمت الذال في الذال. {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: والواو والتاء في الملكوت زائدتان: للمبالغة كزيادتهما في الرحموت والرهبوت والجبروت للمبالغة في الرحمة والرهبة والجبر. {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} يقال: أجرت فلانًا إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه إذا حميت عنه. {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}؛ أي: فكيف تخدعون وتصرفون عن الرشد. {عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال الراغب: شرك الإنسان في الدين ضربان: أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى، يقال: أشرك فلان

بالله، وذلك أعظم كفر. والثاني: الشرك الصغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وذلك كالرياء والسمعة والنفاق. وفي الحديث: "والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا" نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين عما سواه. والعاملين بالله لله في الله. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} حيث مثل إعراضهم عن الحق، بالرجوع القهقرى إلى الخلف، وذكر شيئًا من لوازمه وهو الإعقاب. ومنها: تخصيص اليوم بالذكر في قوله: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} وهو يوم القيامة؛ لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار. ومنها: الاستفهام في قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا}؛ لإنكار الواقع واستقباحه. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}؛ للتأكيد والتشنيع عليهم. ومنها: الجناس المماثل الناقص بين {خَرْجًا} و {فَخَرَاجُ} وهو في غاية البلاغة، حيث ذكر الأول: في جانب عوضهم، والثاني: في جانب ما يعطيه الله سبحانه، فالخراج، أبلغ من الخرج بلا ألف؛ لأن الخرج يقال لما يدفع مرة، ولا يجب تكراره، والخراج بالألف يقال للملتزم الذي يجب تكراره، كخراج الأرض. ومنها: التأكيد بالجملة القسمية في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} للشرطية

قبلها، أعني قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ}. ومنها: عطف المضارع على الماضي في قوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أحق , بخلاف التضرع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال، وأما الاستكانة، فقد توجد منهم. اهـ. "سمين". ومنها: الامتنان بالنعم العظيمة عليهم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} تذكيرًا لهم. ومنها: إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة، في قوله المذكور لوحدة المسموع، وهو الصوت دون المبصرات والمفكرات أو لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع فلمح فيه إلى الأصل. ومنها: الطباق في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}. ومنها: التنكير إفادةً للتقليل في قوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. ومنها: زيادة ما فيه تأكيدًا للقلة المستفادة من التنكير، والمعنى: شكرًا قليلًا، وهو كناية عن عدم الشكر. ومنها: الفصل في قوله: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}؛ أي: قطع إحدى الجملتين عن الأخرى للاتحاد فقد فصل {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} الخ. عما قبله لقصد البدل لكونه أوفى بالمقصود من الأول؛ لأن ما قال الأولون أقوال كثيرة، ولا يدرى أي قول يراد من تلك الأقوال، والأحسن أن يقال: إن أريد بقوله: مثل ما قال الأولون ما نقل عنهم من قولهم: أئذا متنا الخ. وهو الظاهر كان بدل كل من كل. ومنها: الاستفهام الذي غرضه الإنكار والتوبيخ في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}. ومنها: حذف جواب الشرط ثقة بدلالة اللفظ عليه في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ

تَعْلَمُونَ}؛ أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني. ومنها: طباق السلب في قوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}. ومنها: تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد في قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}؛ أي: ما اتخذ ولدًا، وما كان معه إله تأكيدًا وتثبيتًا للنفي. ومنها: الطباق في قوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}. المناسبة قوله تعالى: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ما لهم من مقالات السوء، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد، ووصف الله بما لا يليق، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب .. أمر رسوله أن يدعوه، بأن لا يجعله قرينًا ¬

_ (¬1) المراغي.

لهم، فيما يحيق بهم من العذاب، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجل لهم العذاب، ولكنه أخره ليوم معلوم، ثم أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس، وهو إحسان المرء إلى من يسيء إليه، حتى تعود عداوته صداقةً، وعنفه لينًا، كما قال: أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوْبَهُمُ ... فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين، وأن يحضروه في أي عمل من أعماله، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها، وأطاعوا وسوستها حتى إذا ما حان وقت الاحتضار، تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحًا، وأنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء، فإنه لا رجعة لهم بعد هذا، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث. قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزًا إلى يوم القيامة .. أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح في الأجسام، لا تنفع الأحساب، ولا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره، وأن من رجحت حسناته على سيئاته، فاز ونجا من النار، ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك، وأدخل النار خالدًا فيها أبدًا، وكان عابس الوجه متقلص الشفتين من شدة الاحتراق، وأنه يقال: لأهل النار توبيخًا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام، ألست قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت عليكم الكتب، فيقولون: بلى، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فضللنا، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة، فيجيبهم ربهم: أمكثوا في النار صاغرين أذلاء، ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين، وكنتم منهم تضحكون، إنهم اليوم هم الفائزون، جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم. قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر إنكارهم للبعث، وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان في هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة، ولا إعادة ..

[93]

ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا في النار، ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدًا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدًا طويلًا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذِ يزدادون حسرة وألمًا على ما كانوا يعتقدون في الدنيا، حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذٍ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثًا، تنزه ربنا عن ذلك، ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم. ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثني عليه بما هو أهله. التفسير وأوجه القراءة 93 - {قُلْ}: يا محمد في الدعاء يا {رَبِّ}؛ أي: يا مالك أمري. {إِمَّا} أصله (إن ما). و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط، كالنون في قوله: {تريني}؛ أي: إن كان لا بد من أن تريني {مَا يُوعَدُونَ}؛ أي: ما يوعد هؤلاء المشركون من العذاب الدنيوي المستأصل، والوعد يكون في الخير والشر، 94 - وأعاد (¬1) لفظ {رَبِّ} مبالغة في التضرع .. {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: معهم في العذاب، ففي بمعنى مع؛ أي: لا تجعلني قريبًا لهم في العذاب، وأخرجني من بين أيديهم سالمًا. والمراد بالظلم: الشرك، وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب، وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه، من لا يكاد يمكن أن يحيق به، ورد لإنكارهم إياه، واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء. وهذا يدل على أن النبلاء ربما يعم أهل الولاء، كما قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، وأن للحق سبحانه أن يفعل ما يريد، ولو عذب البر لم يكن ذلك منه ظلمًا، ولا قبيحًا. والمعنى: أي (¬2) قل يا محمد: رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك .. فلا تجعلني فيهم، ولا تهلكني بما تهلكهم به، ونجني من عذابك وسخطك، واجعلني ممن رضيت عنهم من أوليائك. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغىّ.

[95]

روى الإِمام أحمد، والترمذي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون". ومعلوم أنه عليه السلام (¬1)، معصوم مما يكون سببًا لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارًا للعبودية، وتواضعًا لله تعالى. واستغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل، وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني: {ترئني} بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فإما {ترئت} و {لترؤن} بالهمز، وهو إبدال ضعيف. 95 - {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب المستأصل {لَقَادِرُونَ} ولكنا نؤخره لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم. والمعنى: أي وإنا أيها الرسول لقادرون، على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب، فلا يحزننك تكذيبهم بك، وإنما نؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله، علمًا منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن، ومن جراء ذلك لا نستأصلهم، ولا نمحو آثارهم، 96 - ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم، فقال: {ادْفَعْ} يا محمد {بِالَّتِي}؛ أي: بالطريقة التي {هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: أحسن طرق الدفع من الحلم والصفح، {السَّيِّئَةَ} التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه، وهو مفعول ادفع. والسيئة: الفعلة القبيحة، وهو ضد الحسنة. قال بعضهم (¬2): أي استعمل معهم ما جعلناك عليه من الأخلاق الكريمة والشفقة والرحمة، فإنك أعظم خطرًا من أن يؤثر فيك ما يظهرونه من أنواع المخالفات. وفي "التأويلات النجمية" يعني: مكافأة السيئة جائزة، لكن العفو عنها أحسن، ويقال: ادفع بالوفاء الجفاء. ويقال: الأحسن ما أشار إليه القلب بالمعافاة، والسيئة ما تدعو إليه النفس للمكافأة. والمعنى (¬3)؛ أي: قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل، وبيان الأدلة على أحسن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[97]

الوجوه، قيل: هذه الآية محكمة؛ لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين، أو نقصان في المروءة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} ويذكرون؛ أي: بما (¬1) يصفونك به على خلاف ما أنت عليه، كالسحر والشعر والجنون، والوصف: ذكر الشيء بحليته ونعته، فقد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى. والخلاصة: أي ادفع (¬2) الأذى عنه، بالخصلة التي هي أحسن بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك، ونحن أعلم بما يصفوننا به، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب، وبما يقولون فيك من السوء، وهجر القول، ومجازوهم على ما يقولون فلا يحزنك ذلك، واصبر صبرًا جميلًا. ونحو الآية قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. روي عن أن - رضي الله عنه - أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه: ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبًا، فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقًا، فإني أسأل الله أن يغفر لى. 97 - ولما أدب الله سبحانه رسوله أن يدفع بالحسن .. أمره أن يستعيذ من نخسات الشياطين، فقال: {وَقُلْ} يا محمد يا {رَبِّ أَعُوذُ بِك} والتجأ إليك. والعوذ: الالتجاء إلى الغير، والتعلق به، {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}؛ أي: وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به، من المحاسن التي من جملتها، دفع السيئة بالحسنة، وهمزات الشياطين: نزعاتهم ووساوسهم، كما قاله المفسرون. والجمع فيه باعتبار المرات، أو لتنوع الوساوس، أو لتعدد المضاف إليه. ومن همزات. الشيطان سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعوذ من الشيطان. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل نبيه المعصوم مع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[98]

الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلتُ: يجوز أن يسأل العبد ربه، ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارًا للعبودية، وتواضعًا لربه، وإخباتًا له. انتهى. 98 - {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}؛ أي: من أن يحضروني، ويحوموا حولي فى حال من الأحوال صلاة، أو تلاوة، أو عند الموت، أو غير ذلك؛ لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء، وكرر ذلك للمبالغة، والاعتناء بهذه الاستعاذة؛ أي: وقيل رب فى كل وقت؛ لأن العصمة والحفظ من الشيطان أمرها عظيم جدًّا، وهو وإن كان معصومًا فالمقصود تعليم أمته، وإظهار الالتجاء إليه، ذكره "الصاوي". أي: وقل (¬1) رب إني ألتجىء إليك من أن يصل إلى الشياطين بوساوسهم، أو أن يبعثوا إلى أعداءك لإيذائي، وهكذا يدعو المؤمنون، فإن الشيطان لا يصل إليهم، إلا بأحد هذين الأمرين. وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه، وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه، وتذكر ربه فيما يأتي ويذر، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة، وازدجر عن المعصية، واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله، ولا سيما حين الصلاة، وقراءة القرآن، وحلول الأجل. أخرج أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع: "بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون". قال: فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فيعلقها فى عنقه. وأخرج أحمد عن الوليد أنه قال: يا رسول الله، إني أجد وحشة، قال: "إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر ¬

_ (¬1) المراغي.

[99]

عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون فإنه لا يحضرك، وبالحري لا يضرك". وروى أبو داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن تتخبطني الشياطين عند الموت"، وكلمات الله كتبه المنزلة على أنبيائه، أو صفات الله، كالعزة والقدرة. وصفها بالتمام، لعرائها عن النقص والانقصام. 99 - وحتى فى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} هي الابتدائية. دخلت على الجملة الشرطية، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله: {لَكَاذِبُونَ}، وقيل: بـ {يَصِفُونَ}. والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته؛ أي: هي (¬1) معمولة لمحذوف، يدل عليه ذلك، أي يستمر كفار مكة على التكذيب، أو على الوصف المذكور حتى إذا جاء أحدهم الموت، الذي لا مرد له، وظهرت له أحوال الآخرة. {قَالَ} ذلك الأحد تحسرًا، على ما فرط من الإيمان والعمل {رَبِّ}؛ أي: يا رب {ارْجِعُونِ}؛ أي: ردني إلى دار الدنيا {لَعَلِّي أَعْمَلُ}؛ أي: لكي أعمل عملًا {صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}؛ أي: فى الإيمان الذي تركته، وقصرت فيه، وفي العبادات البدنية والمالية والحقوق؛ أي: لعلي أعمل فى الإيمان الذي آتي به ألبتة، عملًا صالحًا، فلم ينظم الإيمان فى سلك الرَّجاء، كسائر الأعمال الصالحة، بأن يقول: لعلي أومن فأعمل إلخ. للإشعار بأنه أمر مقرر الوقوع، غنى عن الإخبار بوقوعه، فضلًا عن كونه مرجو الوقوع. وقوله: {ارْجِعُونِ} (¬2) خطاب لله. وجمع الضمير تعظيمًا لله؛ لأن العرب تخاطب الواحد الجليل الشأن بلفظ الجماعة. وفيه رد على من يقول الجمع للتعظيم فى غير المتكلم، إنما ورد فى كلام المولدين. وقيل: الخطاب للملائكة، الذين يقبضون الأرواح، من ملك الموت ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

[100]

وأعوانه. ورب للقسم، كما فى "الكبير". واستعان باللهِ أولًا، ثم بهم كما فى "الأسئلة المقحمة". 100 - وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} قبله حذف، تقديره: ثم إنه سبحانه يقول له: إلى أي شيء نردك، أتذهب إلى جمع المال، أو غرس الغراس، أو بناء البنيان، أو شق الأنهار؛ فيقول ذلك الكافر: لعلي أعمل صالحًا فيما تركت؛ أي: لكي أصير عند الرجعة مؤديًا لحق الله تعالى فيما قصرت فيه. فيقول الجبار جل جلاله: {كَلَّا} ردع وزجر له، عن طلب الرجعة، واستبعاد لها؛ أي: ليرتدع عما يقول، وينزجر، فإنه لا يرد إلى الدنيا أبدًا {إِنَّهَا}؛ أي: قولة: رب ارجعون {كَلِمَةٌ} الكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضه مع بعض. {هُوَ}؛ أي: ذلك الأحد {قَائِلُهَا} عند الموت لا محالة لتسلط الحزن عليه، ولكنه لا يجاب لها, ولا تفيده، وليس الأمر على ما يظنه، من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، أو المعنى: أنه لو أجيب إلى ذلك، لما حصل منه الوفاء، كما فى قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. قال القرطبي: سؤال الرجعة غير مختص بالكافر؛ أي: بل يعم المؤمن المقصر. وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها -: "إذا عاين المؤمن الملائكة .. قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا، فيقول إلى دار الهموم والأحزان، لا بل قدومًا على الله تعالى، وأما الكافر فيقال له: نرجعك، فيقول: ارجعون، فيقال له: إلى أي شيء ترغب؟ إلى جمع المال؟ أو غرس الغراس؟ أو بناء البنيان؟ أو شق الأنهار؟ فيقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} فيقول الجبار {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ". والمعنى: أي (¬1) ولا يزال الكافر يجترح السيئات، ولا يبالي بما يأتي وما يذر، من الآثام والأوزار، حتى إذا جاءه الموت، وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله .. ندم على ما فات، وأسف على ما فرط فى جنب الله، وقال: رب ¬

_ (¬1) المراغي.

ارجعني إلى الدنيا، لأعمل صالحًا فيما قصرت فيه من عبادتك، وحقوق خلقك. وخلاصة ذلك: أنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب، فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليصلح ما أفسد؛ ويطيع فيما عصى، ونحو الآية قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)} وقوله {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ}. ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار، وحين النشور، وحين العرض على الملك الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم فى غمرات جهنم، فلا يجابون إليها فى كل حال {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}؛ أي: إنا لا نجيبه إلى ما طلب؛ لأن طلبه الرد ليعمل صالحًا هو قوله فحسب، ولا عمل معه، وهو كاذب، ولو رد لما عمل، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}؛ أي: ومن أمامهم، وهو ظرف مكان بمعنى خلف، ولكنه هنا بمعنى أمام؛ لأنه من اسم الأضداد؛ أي (¬1): ومن أمام ذلك الأحد، والجمع باعتبار المعنى؛ لأنه فى حكم كلهم، كما إن الإفراد فى قال وما يليه، باعتبار اللفظ {بَرْزَخٌ}؛ أي: حائل بينهم وبين الرجعة، وهو القبر. وفي "التأويلات النجمية" وهو ما بين الموت إلى البعث؛ أي: بين الدنيا والآخرة، وهو غير البرزخ الذي بين عالم الأرواح المثالي، وبين هذه النشاة العنصرية. اهـ. {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورهم وهو يوم القيامة، وهو إقناط كلي من الرجعة إلى الدنيا، لما علم أن لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا. وأما الرجعة حينئذ فإلى الحياة الأخروية. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[101]

واختلف فى معنى الآية (¬1)، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث. وقال الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقال السدي: هو الأجل، و {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} هو يوم القيامة. 101 - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} لقيام الساعة، وهي النفخة الثانية، التي عندها البعث والنشور. والنفخ: نفخ الريح فى الشيء. والصور مثل قرن ينفخ فيه. فيجعل الله ذلك سببًا لعود الأرواح إلى أجسادها، وقيل المعنى: فإذا نفخ فى الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة لا القرن، ويدل على هذا قراءة (¬2) ابن عباس والحسن وابن عياض {الصُّوَر} بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة. وقرأ أبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو، وكذا قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ. {فَلَا أَنْسَابَ} تنفعهم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين الخلائق، {يوم إذِ}؛ أي: يوم إذ نفخ فى الصور، كما بينهم اليوم لزوال التراحم والتعاطف، من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، أو لا أنساب يفتخرون بها. والنسب: القرابة بين اثنين فصاعدًا؛ أي: اشتراك من جهة أحد الأبوين. وذلك ضربان: نسب بالطول، كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض، كالنسب بين الأخوة وبني الأعمام. {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضًا، فلا يقول له: من أنت، ومن أي قبيلة ونسب أنت، ونحو ذلك؛ لاشتغال كل منهم بنفسه؛ لشدة الهول، فلا يتعارفون ولا يتساءلون، كما أنه إذا عظم إلاَّمر فى الدنيا .. لم يتعرف الوالد لولده. وقرأ عبد الله (¬3): {ولا يسألون} بتشديد السين، أدغم التاء فى السين، إذ أصله يتساءلون. والمعنى؛ أى (¬4): فإذا أَعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور، لا تنفعهم الأنساب؛ لأن التعاطف يزول والود يختفي لاستيلاء؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

الدهشة والحيرة عليهم، واشتغال كل امرىء بنفسه، كما جاء فى قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: ولأ يسال القريب قريبه، وهو يبصره؛ لاشتغاله بأمر نفسه، كمال قال: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}. ولا يناقض ما (¬1) هنا قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}؛ لأن عدم التساؤل عند ابتداء النفخة الثانية قبل المحاسبة، والتساؤل بعد ذلك، وأيضًا يوم القيامة يوم طويل، فيه خمسون موطنًا كل موطن ألف سنة، ففي موطن يشتد عليهم الهول والفزع، بحيث يشغلهم عن التساؤل والتعارف، فلا يفطنون لذلك، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون ويتعارفون. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ: ألا إن هذا فلان بن فلان، فمن كان له عليه حق .. فليات إلى حقه، فيفرح العبد يومئذٍ أن يثبت له حق على والده، أو ولده، أو زوجته أو أخيه، فلا أنساب بينهم يومئذٍ. وعن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة، عن أن يرى عن يعرفه، أن يثبت له عليه شيء، ثم تلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} الآية. قال محمَّد بن علي الترمذي - رحمه الله تعالى -: الإنساب كلها منقطعة، إلا من كانت نسبته صحيحة فى عبودية ربه، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبدًا، وتلك النسبة المفتخر بها, لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد. فائدة: قال الأصمعي: كنت أطوف بالكعبة فى ليلة مقمرة، فسمعت صوتًا حزينًا فتبعت الصوت، فإذا أنا بشابٍ حسن ظريف، تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت الملك الحي القيوم، وقد غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرسها وحجابا، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك، مذنبًا فقيرًا مسكينًا أسيرًا جئت أنتظر رحمتك، يا أرحم الراحمين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثم أنشا يقول: يَا مَنْ يُجِيْبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِيْ الظُّلَمِ ... يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبَهُوْا ... وَأنْتَ يَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ لَمْ تَنَمِ أَدْعُوْكَ رَبِّيْ وَمَوْلاَيَ وَمُسْتَنَدِيْ ... فَارْحَمْ بُكَائِيْ بِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ أَنْتَ الْغَفُوْرُ فَجُدْ لِيْ مِنْكَ مَغْفِرَةً ... وَاعْفُ عَنِّيَ يَا ذَا الْجُوْدِ وَالنِّعَمِ إِنْ كَانَ عَفْوُكَ لاَ يَرْجُوْهُ ذُوْ جُرُمٍ ... فَمَنْ يَجُوْدُ عَلَى الْعَاصِيْنَ بِالْكَرَمِ ثم رفع رأسه نحو السماء وهو ينادي: يا إلهي وسيدي ومولاي، إن أطعتك فلك المنة علي، وإن عصيتك فبجهلي، فلك الحجة علي، اللهم فبإظهار مننك علي، وإثبات حجتك لدي ارحمني، واغفر ذنوبي، ولا تحرمني رؤية جدي وقرة عيني، وحبيبك وصفيك ونبيك محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ثم أنشأ يقول: أَلاَ أَيُّهَا الْمَامُوْلُ فِيْ كُلِّ شِدَّةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ ألاَ يَا رَجَائِيْ أنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ ... فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِيْ ... عَلَى الزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ أتَيْتُ بِأعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ ... وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ فكان يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشيًا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فوضعت رأسه فى حجري، وبكيت لبكائه بكاءً شديدًا عليه، فقطر من دموعي على وجهه، فأفاق من غشيته وفتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ فقلت: أنا الأصمعي يا سيدي، ما هذا البكاء وما هذا الجزع؛ وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، أليس الله يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}؛ قال: فاستوى جالسًا وقال: يا أصمعي، هيهات! إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه، وإن كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه، وإن كان ملكًا قرشيًا. أما سمعت قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}.

[102]

102 - ثم شرع سبحانه يبين أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء حينئذٍ، فقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}؛ أي: فمن رجحت موزونات حسناته وأخلاقه من العقائد والأعمال؛ أي: فمن كان له عقائد صحيحة، وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند الله تعالى، فهو جمع موزون، بمعنى العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى .. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بمطالبهم المحبوبة، الناجون من الأمور التي يخافونها. ولما كان لفظ {من} يصلح للواحد والجمع، وحد على اللفظ فى قوله: {موازينه}، وجمع على المعنى فى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. 103 - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وهي أعماله الصالحة؛ أي: ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما له وزن وقدر عند الله تعالى، وهم الكفار لقوله تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: ضيعوها (¬1) وتركوا ما ينفعها بتضييع زمان استكمالها، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدل من صلة الموصول، أو خبر ثانٍ لاسم الإشارة؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبدًا. 104 - وجملة قوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} مستأنفة، ويجوز أن تكون فى محل نصب على الحال من الضمير المستكن فى خالدون، أو تكون خبرًا آخر لأولئك؛ أي: تضربها وتأكل لحومها، وتحرق جلودها. يقال: لفحته النار بحرها إذا أحرقته كما فى "القاموس". واللفح كالنفخ، إلا أنه أشد تاثيرًا، كما فى "الإرشاد" وغيره، وخص الوجوه بذلك؛ لأنها أشرف الأعضاء، وأعظم ما يصان منها، فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار، وهو السر فى تقديمها على الفاعل. {وَهُمْ فِيهَا}؛ أي: فى جهنم {كَالِحُونَ}؛ أي: متقلصوا الشفتين عن الأسنان من شدة الاحتراق، والكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان وظهورها، كما ترى ذلك فى الرؤوس المشوية. وفي الحديث (¬2): "تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلع وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلع سرته". أخرجه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[105]

الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حسن صحيح غريب. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة {كلحون} بغير ألف. 105 - وجملة قوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} مقول لقول محذوف، تقديره: فيقال لهم: تعنيفًا وتوبيخًا وتذكيرًا، لما به استحقوا، ما ابتلوا به من العذاب: ألم تكن آياتي المنزلة تقرأ عليكم فى الدنيا، تبين لكم بالدلائل الواضحة، كيفية سلوك الطريق الحق {فَكُنْتُمْ بِهَا}؛ أي: بآياتي تكذبون فصرتم مستحقين للعذاب الأليم، يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها فى الدنيا فلا تنتهون بها، فصرتم اليوم مستحقين للعذاب الأليم بسبب تكذيبها، والاستفهام فيها للتقرير المضمن للتوبيخ والتقريع، 106 - وجملة قوله: قالوا: يا {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا} ملكتنا {شِقْوَتُنَا} وآثامنا التي اقترفناها بسوء إختيارنا، فصارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة. مستأنفة واقعة فى جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد التوبيخ المذكور، فقيل: قالوا: ربنا ... إلخ. قال القرطبي: وأحسن (¬1) ما قيل: فى معناه: غلبت علينا لذاتنا، وأهواؤنا، فسمى اللذات، والأهواء شقوة؛ لأنهما تؤديان إليها، فأطلق اسم المسبب على السبب، قال أبو تراب: الشقوة حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم، وأبان والزعفراني وابن مقسم (¬2): {شقاوتنا} بوزن السعادة، وهي لغة فاشية. وقرأ قتادة أيضًا والحسن فى رواية خالد بن حوشب عنه كذلك، إلا أنه بكسر الشين. وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف، وهي لغة كثيرة فى الحجاز. قال الفراء: أنشدني أبو شروان، وكان فصيحًا: عُلِّقَ مِنْ عَنَائِهِ وَشِقوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِيْ عَشْرَ مِنْ حُجَّتِهْ وقرأ شبل فى "اختياره" بفتح الشين وسكون القاف. {وَكُنَّا} بسبب ذلك ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) البحر المحيط.

[107]

{قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وسائر المعاصي. والخلاصة (¬1): إنا كنا نعرف الحق، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه، وما مثلنا إلا مثل شاربي الخمر، والمولعين بحب الكبرياء والعظمة، والمغرمين بالإسراف، فإنهم يعرفون أضرارها، ثم لا يجدون سبيلًا إلى تركها ولا للبعد عنها. 107 - ثم طلبوا ما لا يجابون إليه، فقالوا: {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {أَخْرِجْنَا مِنْهَا}؛ أي: من النار، ومن هذه الدار إلى دار الدنيا {فَإِنْ عُدْنَا} ورجعنا إلى الأعمال السيئة، وما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا بالعود إلى ذلك. 108 - فأجاب الله عليهم بقوله: {قَالَ} تعالى لهم بطريق القهر، على لسان مالك، بعد قدر الدنيا مرتين، وقدرها قيل: سبعة آلاف سنة، بعدد الكواكب السيارة. وقيل: اثنا عشر ألف مشة بعدد البروج، وقيل: ثلاث مئة ألف سنة وستون ألف سنة بعدد أيام السنة. اهـ. من تذكرة القرطبي. {اخْسَئُوا}؛ أي: ذلوا {فِيهَا}؛ أي: فى النار، واسكتوا سكوت هوان، فإنها ليست مقام سؤال، وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت، من خسأة الكلب إذا زجرته وطردته مستهينًا به فخسأ؛ أي: انزجر. وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخطٍ، وابعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا أبعدوا فى جهنم، كما يقال للكلب إخسأ؛ أي: أبعد. {وَلَا تُكَلِّمُونِ}؛ أي: فى إخراجكم من النار، ورجوعكم إلى الدنيا، فإنه لا يكون أيدًا، أو فى رفع العذاب عنكم، وقيل: لا تكلمون رأسًا. والمعنى (¬2): أي قالوا: ربنا أخرجنا من النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والأثام كنا ظالمين لأنفسنا، جديرين بالعقوبة. ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا، فقال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)}؛ أي: قال: امكثوا فيها أذلاء صاغرين، واسكتوا ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[109]

هذا، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا، وإنما يكلمني من سمت نفسه إلى عالم الأرواح، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه، واحتقر الدنيا وشهواتها، وعزف عنها لما يرجوه من ربه من ثواب عميم ونعيم مقيم. 109 - ثم بين سبحانه السبب فيما نالهم من العذاب، فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشأن والحال، وقرأ أبيّ بفتح الهمزة؛ أي: لأنه {كَانَ فَرِيقٌ}؛ أي: طائفة {مِنْ عِبَادِي} المؤمنين. قيل: هم الصحابة. وقيل: هم المهاجرون. وقيل: هم أهل الصفة {يَقُولُونَ} فى الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا}؛ أي: صدقنا بك، وبجميع ما جاء من عندك {فَاغْفِرْ لَنَا}؛ أي: استر ذنوبنا {وَارْحَمْنَا}؛ أي: وانعم علينا بنعمتك، التي من جملتها الفوز بالجنة، والنجاة من النار {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وأفضلهم وأرحم علينا من الوالدين؛ لأن رحمتك منبع كل رحمة 110 - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ}؛ أي: فجعلتموهم {سخريًا}؛ أي: مهزوءًا بهم تسخرون منهم وتستهزئون بهم؛ أي: فاتخذتموهم هزأة تهزؤون منهم، وهذا محط التعليل الذي سيقت له {إنّ}؛ لأن جملة {إنّ} تعليل لما قبلها من الزجر عن دعائهم بالخروج منها، بقوله ولا تكلمون؛ أي: اسكتوا عن الدعاء، بقولكم: ربنا أخرجنا إلخ؛ لأنكم كنتم تستهزؤون بالداعين بقولهم ربنا آمنا إلخ. وتتشاغلون باستهزائهم، {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ}؛ أي: حتى أنساكم الاستهزاء بهم، فإن أنفسهم ليست سبب الإنساء {ذِكْرِي}؛ أي: ذكركم إياي والخوف منى، والعمل بطاعتي من فرط اشتغالكم باستهزائهم فلم تخافوني فى أوليائي {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} فى الدنيا استهزاء بهم، وذلك غاية الاستهزاء، وقال مقاتل: نزلت فى بلال وعمار وخباب وصهيب وأمثالهم من فقراء الصحابة، كان كفار قريش كأبي جهل وعتبة وأبي بن خلف وأضرابهم يستهزئون بهم وبسلامهم، ويؤذونهم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع (¬1): {سُخريًا} بضم السين، وباقي السبعة بالكسر. وقال ابن عطية: وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[111]

السين كل ما فى القرآن. وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر، إلا التي فى الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس. انتهى. والخلاصة (¬1): إنكم أضفتم إلى سيئاتكم الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات، ويتقربون إلى رب الأرض والسماوات. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)}. 111 - ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ}؛ أي: أولئك الفريق {الْيَوْمَ} يعني: يوم الآخرة {بِمَا صَبَرُوا}؛ أي: بسبب صبرهم على إِذايتكم إياهم. والصبر: حبس النفس عن الشهوات، وعلى المشاق. {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} بفتح همزة أن ثاني مفعولي الجزاء؛ أي: جزيتهم بسبب صبرهم فوزهم بمجامع مراداتهم، مخصوصين به. وعلى كسرها مفعول الجزاء الثاني محذوف. وجملة إن مسوقة للتعليل، والتقدير: إني جزيتهم اليوم النعيم المقيم؛ لأنهم هم الفائزون بمراداتهم. والخلاصة: أنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء. وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي، وخارجة عن نافع {إنهم هم} بكسر الهمزة. وباقي السبعة بالفتح، ومفعول جزيتهم الثاني محذوف، تقديره: الجنة، أو رضواني. وقال الزمخشري: فى قراءة من قرأ {أنهم} بالفتح هو المفعول الثاني؛ أي: جزيتهم فوزهم، انتهى. والظاهر أنه تعليل؛ أي: جزيتهم لأنهم. والكسر هو على الاستئناف، وقد يراد به التعليل، فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى، فإن الاستئناف يعلل به أيضًا، لا من حيث الإعراب؛ لاضطرار المفتوحة إلى عامل. وفي "التأويلات النجمية": وفيه (¬2) من اللطائف أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله من الله، ينتفعون بإنكار منكريهم، واستخفاف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[112]

مستهزئيهم. وأن أهل الشقاوة كما يخسرون بمعاملاتهم الفاسدة مع أنفسهم، يخسرون باستهزائهم وإنكارهم على الناصحين المرشدين. 112 - {قَالَ} الله تعالى، تذكيرًا لما لبثوا فيما سألوا الرجوع إليه، من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}؛ أي: قال الله لهم بلسان مالك {كَمْ لَبِثْتُمْ} وأقمتم {فِي الْأَرْضِ} التي تدعون أن ترجعوا إليها. يقال لبث بالمكان، إذا أقام به ملازمًا له. {عَدَدَ سِنِينَ} تمييز (¬1) لكم، لما فى كم من الإبهام، و {سنين} بفتح النون على أنها نون الجمع. ومن العرب من يخفضها وبنونها. والمراد بالأرض هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه فى الحياة، وفي القبور. والاستفام هنا إنكاري لتوبيخهم بإنكار الآخرة. اهـ. "شهاب". وقال زاده: القصد من هذا الاستفهام التبكيت، والإلزام؛ لأنهم كانوا ينكرون اللبث فى الآخرة رأسًا لإنكارهم للبعث. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير (¬2): {قل كم} والمخاطب ملك يسألهم، أو بعض أهل النار. وقرأ باقي السبعة {قَالَ} والقائل الله تعالى، أو المأمور بسؤالهم من الملائكة. وقال الزمخشري: {قَالَ} فى مصاحف أهل الكوفة. و {قل} فى مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقال ابن عطية: وفي المصاحف قال فيهما إلا فى مصحف الكوفة، فإن فيه {قل} بغير ألف، وتقدم إدغام ثاء لبثت فى البقرة. وعبارة "زاد المسير" هنا وأبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون ثاء {لبثتم}، والباقون لا يدغمونها فمن أدغم فلتقارب الثاء والتاء، ومن لم يدغم فلتباين المخرجين. إنتهى. سألهم سؤال توقيف على المدة. وقرأ الجمهور {عدد سنين} على الإضافة، و {كم} فى موضع نصب على ظرف الزمان، وتمييزها عدد. وقرأ ¬

_ (¬1) روح الببان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[113]

الأعمش والمفضل عن عاصم {عددًا} بالتنوين، والمعنى؛ أي: قال الملك المأمور بسؤالهم: كم لبثتم فى الأرض والدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عددًا من السنين، والغرض من هذا السؤال: التبكيت؛ لأنم كانوا لا يعدون اللبث إلا فى دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة. فلما حصلوا فى النار، وأيقنوا أنهم مخلدون فيها، سألهم الله: كم لبثتم فى الأرض، فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل، تذكيرًا لهم بأن الذي ظنوه طويلًا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه فى الدنيا، حيث أيقنوا خلافه، 113 - {قَالُوا}؛ أي: قال أهل النار جوابًا لسؤال ربهم {لَبِثْنَا يَوْمًا} ثم شكوا فى ذلك فقالوا: {أَوْ} لبثنا {بَعْضَ يَوْمٍ} استقصارًا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى دخولهم فى النار، أو لأنها كانت أيام السرور وأيام السرور قصار، أو لأنها منقضية، والمنقضي كالمعدوم، وقد اعترفوا بالنسيان، حيث قالوا: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}؛ أي: الذين يعلمون عدد أيام الدنيا وساعاتها أو الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها. وفي "التأويلات النجمية": {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} يعني: الذين يعدون أنفاسنا وأيامنا وليالينا، من الملائكة الموكلين علينا. اهـ. وقال قتادة: يعني الحساب. وقرأ الحسن والزهري وأبو عمران الجوني والكسائي: {الْعَادِّينَ} بتخفيف الدال؛ أي: الظلمة رؤساءنا الذين أضلونا. وقرىء: {العاديين} بياء مشددة، جمع عادى؛ أي: القدماء المعمرين. 114 - {قَالَ} الله سبحانه لهم بلسان مالك {إِنْ لَبِثْتُمْ}؛ أي: ما لبثتم فى الدنيا {إِلَّا} زمانًا {قَلِيلًا} تصديقًا لم فى تقليلهم لسني لبثهم فى الدنيا. وقليلًا صفة مصدر محذوف؛ أي: لبثًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شيئًا من العلم، لعلمتم يومنذٍ قلة لبثكم فى الدنيا، كما علمتم اليوم. ¬

_ (¬1) المراح.

وفي "بحر العلوم": أي لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول، لما أجبتم بهذه المدة، وفي "المراح": لو كنتم تعلمون أن لبثكم فى الآخرة لا نهاية له .. لأصلحتم أعمالكم فى الدنيا, ولتقربتم بها إلى الله تعالى. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر (¬1): {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ}. وقرأ حمزة والكسائي {قل إن لبثتم} على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا أن فى مصحف أهل الكوفة {قل} فى الموضعين. فقرأهما حمزة والكسائي على ما فى مصاحفهم. وحاصل معنى الآية (¬2): أنه قد نسي هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا، لعظيم ما هم فيه من النبلاء والعذاب، وقصر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها ما حل بهم من نعمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يومًا أو بعض يوم، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثير. {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}؛ أي: فأسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم. كما روي ذلك جماعة عن مجاهد {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}؛ أي: قال لهم الملك: ما لبثتم إلا زمنًا يسيرًا، ولو كنتم تعلمون شيئًا من العلم، لعملتم على مقتضى ذلك، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار، ولما قلنا لكم: اخسئوا فيها ولا تكلمون. روي مرفوعًا: "أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، قال: لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول: يا أهل النار، كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؛ قالوا: لبثنا يومًا، أو بعض يوم، فيقول: بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين". ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي.

[115]

فعلى العاقل (¬1) أن يتدارك حاله، ويصلح أعماله، قبل أن تنفد الأنفاس، وينهدم الأساس. وقيل شعرًا: أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ ... أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ ... وَلاَ تَكُ جَزْعَانَاَ بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ قال بعضهم: لا تركنن إلى الدنيا فإنها لا تبقى على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها. وقال الزمخشري: استغنم تنفس الأجل وإمكان العمل، واقطع ذكر المعاذير والعلل، فإنك فى أجل محدود، وعمر غير ممدود. وقال بعضهم: لو علمت أن ما فات من عمرك لا عوض له .. لم يصح منك غفلة ولا إهمال. ولكنت تأخذ بالعزم والحزم، بحيث تبادر الأوقات وتراقب الحالات خوف الفوات عاملًا على قول القائل: السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا ... حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوْقِ وما حصل من عمرك، إذا علمت أن لا قيمة له كنت تستغرق أوقاتك فى شكر الحاصل وتحصيل الواصل. قال عليّ - رضي الله عنه -: بقية عمر المرء ما لها ثمن، يدرك به منها ما فات، ويحيي ما مات. وقد جاء فى الخبر: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"، ومعناه: أن الصحيح ينبغي أن يكون مشغولًا بدين أو دنيا، فهو مغبون فيهما. 115 - ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة، وتركهم النظر الصحيح، فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة، فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} الهمزة (¬2): فيه للاستفهام الإنكاري، المضمن للتوبيخ، داخله على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف. والحِسبان بالكسر الظن. وعبثًا حال من نون العظمة، بمعنى عابثين، وهو ما ليس لفاعله غرض صحيح، أو ارتكاب أمر غير معلوم الفائدة. والتقدير: أغفلتم وظننتم من فرط غفلتكم، أنا خلقناكم بغير حكمة، ولا ثواب ولا عقاب. {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} عطف على إنما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

خلقناكم؛ أي: وحسبتم عدم رجوعكم إلينا، يعني: أن الحكمة من خلقكم الأمر بالعمل، ثم البعث للجزاء. ومعنى الرجوع إلى الله إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه. قال الترمذي: إن الله خلق الخلق ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها. فإن عبدوه .. فإنهم عبيد أحرار، كرام عن رق الدنيا، ملوك فى دار السلام. وإن رفضوا العبودية .. فهم اليوم عبيد أُبَّاق، سقاط لئام، وغدًا أعداء فى السجون، بين أطباق النيران. والمعنى: أي (¬1) أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبًا وباطلًا، كلا، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء. وفي هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل، وأسلفوا من سعي فى الحياة الدنيا. حكاية وعن بهلول (¬2) قال: كنت يومًا فى بعض شوارع البصرة، فإذا بصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبي يتحسر على ما فى أيدي الصبيان، ولا شيء معه فيلعب به، فقلت: أي بني ما يبكيك، أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؛ فرفع بصره إليّ، وقال: يا قليل العقل، ما للعب خلقنا؟ فقلت: أي بني لماذا خلقنا؟ فقال: للعلم والعبادة، ققلت: من أين لك ذلك، بارك الله فيك، قال: من قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} قلت: أي بني أراك حكيمًا فعظني وأوجز، فأنشا يقول: أَرَى الدُّنْيَا تُجَهِّزُ بِانْطِلاَقِ ... مُشَمِّرَةً عَلَى قَدَمٍ وَسَاقِ ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) روح البيان.

[116]

فَلاَ الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ لِحَيِّ ... وَلاَ حَييٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ كَأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَدَثَانِ فِيْهَا ... إلى نَفْسِ الْفَتَى فَرَسَا سِبَاقِ فَيَا مَغْرُوْرُ بِالدُّنْيَا رُويدًا ... وَمِنْهَا خُذْ لِنَفْسِكَ بِالْوِثَاقِ ثم رمق السماء بعينيه، وأشار إليها بكفيه، ودموعه تتحدر على خديه، وهو يقول: يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُبْتَهَلْ ... يَا مَنْ عَلَيْهِ الْمُتَّكَلْ يَا مَنْ إِذَا مَا آمِلٌ ... يَرْجُوْهُ لَمْ يُخْطِ الأَمَلْ قال: فلما أتمّ كلامه، خر مغشيًا عليه، فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه بكمي، فلما أفاق قلت له: أي بني ما نزل بك وأنت صبي صغير، لم يكتب عليك ذنب؟ قال: إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم، قال: فسألت عنه؛ فقالوا: ذلك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قلت: قد عجبت من أن تكون هذه الثمرة إلا من تلك الشجرة. نفعنا الله تعالى بعلمه، وبعلوم آبائه، آمين. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي (¬1) {لَا تُرْجَعُونَ} بفتح التاء مبنيًا للفاعل. وقرأ باقي السبعة ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، بضم التاء مبنيًّا للمفعول. وقيل (¬2): إنه يجوز عطف , {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} على {عَبَثًا} معنى: إنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع. 116 - ثم نزّه الله نفسه عما يصفه به المشركون، فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ} سبحانه؛ أي: ترفع بذاته عن كل ما لا يليق به، من الصاحبة والولد والشريك، وتنزه عن مماثلة المخلوقين فى ذاته وصفاته وأفعاله، وعن خلو أفعاله عن الحكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

والمصالح والغايات الجليلة. {الْمَلِكُ}؛ أي: الذي (¬1) يحق له الملك على الإطلاق إيجادًا وإعدامًا، بدأً واعادةً واحياءً واماتةً وعقابًا وإثابةً، وكل ما سواه مملوك له، مقهور تحت ملكه العظيم. قال الغزالي - رحمه الله -: الملك هو الذي يستغني فى ذاته وصفاته وأفعاله عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود. {الْحَقّ}؛ أي: الثابت الوجود فى ذاته وصفاته وأفعاله. وفي المفردات {الحق} موجود الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة. وعبارة "المراح" هنا: {فَتَعَالَى اللَّهُ}؛ أي (¬2): تبرأ الله سبحانه عن العبث، وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة، {الْمَلِكُ}؛ أي: المتصرف فى كل شيء {الْحَقّ}؛ أي: الثابت الذي لا يزول ملكه {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق فى الوجود {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، فإن كل ما عداه عبيده. {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فكيف لا يكون إلهًا وربًا لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات، وإنما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات. ووصف (¬3) العرش بالكريم، لنزول الرحمة والخير منه، أو باعتبار من استوى عليه، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كرامًا. وقيل: معنى الكريم الرفيع المرتفع كما فى "الخازن". وقال ابن الجوزي: والكريم فى صفة الجهاد الحسن. اهـ. وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير {الْكَرِيمِ} بالرفع على أنه صفة لرب، أو صفة للعرش، ويكون مقطوعًا على معنى المدح. وقرأ الباقون، بالجر على أنه نعت للعرش. وقال القرطبي: وليس فى القرآن وصف العرش بالكريم فى غير هذا الموضع. اهـ. وإنما وصف العرش هنا بالكريم وفيما تقدم بالعظيم للتفنن، أو لمناسبة السياق؛ لأن السياق هنا فى ذكر الرحمة والغفران، والكرم يناسبها، وفيما تقدم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[117]

فى إثبات الربوبية والتصرف له تعالى والعظمة تناسبها. هكذا ظهر لى بعد الإمعان. والله أعلم بأسرار كتابه. ومعنى الآية: أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول، وليس هناك معبود سواه، وهو ذو العرش الكريم، الذي يدبر فيه نظام الكون علويه وسفليه، وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثًا، وأن تخلو أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة، وأن يكون له ولد أو شريك. 117 - وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو .. أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلهًا سواه .. فقد ادعى باطلًا، وركب شططًا. فقال: {وَمَنْ يَدْعُ} ويعبد {مَعَ اللَّهِ} الذي لا إله إلا هو. {إِلَهًا آخَر} إفرادًا أو اشتراكًا. {لَا بُرْهَان} ولا حجة {لَهُ}؛ أي: لذلك العابد. {بِهِ}؛ أي: على عبادته معه. فالباء بمعنى على. وجملة (¬1) لا برهان، صفة لازمة لإلهًا. كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} إذ لا يكون فى الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، إذ الباطل ليس له برهان. جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليها، تنبيهًا على أن الدين بما لا دليل عليه باطل، فكيف بما شهدت بداهة العقول بخلافه. وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وجملة إلا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء؛ أي: فإنما جزاؤه وعقابه على تلك الفعلة القبيحة، معد له عند ربه فى الآخرة، مجاز له على قدر ما يستحقه. وقيل: إن جواب الشرط قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، على حذف فاء الجزاء، كقول الشاعر: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا وجملة قوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشأن والحال {لَا يُفْلِحُ} ولا يفوز ولا يسعد {الْكَافِرُونَ} بعبادة غير الله سبحانه معه، مستأنفة مسوقة لتعليل جواب الشرط؛ أي: وإنما كان عذابه مدخرًا له فى الآخرة؛ لأنه لا ينجو يومئذٍ من سوء الحساب وأليم العذاب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[118]

وقرأ الحسن (¬1) وقتادة بفتح همزة أن من قوله: {أنه لا يفلح} على التعليل؛ أي: لا يفلح هو، فوضع الكافرون موضع الضمير، حملًا على معنى من؛ لأن من يدع فى معنى الجمع. وقرأ الجمهور: بالكسر على الاستئناف. وقرأ الحسن: {يفلح} بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح، ففعل وأفعل فيه بمعنى واحد. والمعنى (¬2): أي ومن يعبد مع ذلك المعبود، الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودًا آخر لا بينة له به، فجزاؤه مهيأ له عند ربه فى الآخرة، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب. وفي ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}؛ أي: إنه سبحانه لا يسعد أهل الشرك، ولا ينجيهم من العذاب، وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بخيبة الكافرين، وعدم فوزهم بما يؤملون. فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام. 118 - وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة .. أمر رسوله بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله: {وَقُلْ} أيها الرسول {رَبِّ اغْفِرْ}. وقرأ ابن محيصن {رب} بضم الباء؛ أي: يا رب استر ذنوبي بعفوك عنها {وَارْحَمْ}؛ أي: وارحمني بقبول توبتي، وترك عقابي على ما اجترحت من آثام وأوزار. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}؛ أي: وأنت ربنا خير من رحم ذا ذنب , فقبل توبته وتجاوز عن عقابه، إنك ربنا خير غافر، وإنك المتولي للسرائر، والمرجو لإصلاح الضمائر. أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبي بكر أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به فى صلاتي. قال: "قل: اللهم إفي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

واعلم: أنه سبحانه أمر (¬1) رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بالاستغفار وا لاسترحام، إيذانًا بأنهما من أهم الأمور الدينية، حيث أمر به، من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن عداه، كما قال: فى "التأويلات النجمية" الخطاب مع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى أنه مع كمال محبوبيته، وغاية خصوصيته، ورتبة نبوته ورسالته محتاج إلى مغفرته ورحمته، فكيف بمن دونه وبمن يدعو مع الله إلهًا آخر؛ أي: فلا بدّ لأمته من الاقتداء به فى هذا الدعاء. والله أعلم بأسرار كتابه. الإعراب {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِمَّا تُرِيَنِّي}: إلى قوله: {الظَّالِمِينَ}: مقول محكي. وإن شئت قلت: {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول {قُلْ}. {إِمَّا}: {إن}: حرف شرط جازم. {ما}: زائدة. {تُرِيَنِّي}: فعل مضارع فى محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر، يعود على الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم فى محل النصب مفعول أول له. و {مَا}: مفعول ثان له، فهي بصرية تعدت لمفعولين بواسطة الهمزة؛ لأنه من أرى الرباعي. {يُوعَدُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يوعدون به من العذاب. {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)}. {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وكرر مبالغةً فى التضرع والابتهال إلى الله سبحانه. {فَلَا تَجْعَلْنِي}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، (لا) دعائية جازمة. {تَجْعَلْنِي}: فعل ¬

_ (¬1) روح البيان.

مضارع وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ {لا} الدعائية. والنون للوقاية، وياء المتكلم فى محل النصب مفعول أول. {فِي الْقَوْمِ}: جار ومجرور فى محل المفعول الثاني. و {فِي}: بمعنى مع {الظَّالِمِينَ}: صفة للقوم، والجملة الفعلية فى محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: فى محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}. {وَإِنَّا} {الواو}: استئنافية. {إنا}: ناصب واسمه. {عَلَى}: حرف جر. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {نُرِيَكَ}: فعل مضارع ومفعول أول، منصوب بـ {أَن} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على الله. {مَا}: مفعول ثان {لنرى}، وتقدم القول: فى أرى البصرية آنفًا. {نَعِدُهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه، يعود على الله، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما نعدهم به. والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، أن مع صلتها فى تأويل مصدر مجرور بعلى، تقديره: على إراءتك {مَا نَعِدُهُمْ} الجار والمجرور متعلق بـ {قادرون}. {لَقَادِرُونَ}: {اللام}: لام الابتداء زحلقت إلى الخبر. {قادرون}: خبر {إنا}، وجملة {إن} مستأنفة. {ادْفَعْ}: فعل أمر وفاعل مستتر على محمَّد، والجملة مستأنفة مسوقة لحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفح عن مساءتهم. {بِالَّتِي}: جار ومجرور متعلق بادفع. {هِيَ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر. والجملة صلة الموصول. {السَّيِّئَةَ}: مفعول به. {نَحْنُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {يَصِفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما يصفونه. ويجوز أن تكون ما مصدرية؛ أي: بوصفهم لك، وسوء ذكرهم، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}. {وَقُلْ} {الواو}: عاطفة. {قُل}: أمر وفاعل مستتر يعود على محمد.

والجملة معطوفة على جملة قل الأول. {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول {قُل}. {أَعُوذُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {بِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعُوذُ} والجملة الفعلية فى محل النصب مقول {قُل} على كونها جواب النداء. {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعُوذُ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَعُوذُ} الأول. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ}: منادى مضاف، كرر اعتناء بالاستعاذة. {أَنْ يَحْضُرُونِ}: {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يَحْضُرُون}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسمة، و {الواو}: فاعل. و (النون): للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية ولرعاية الفاصلة، فى محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية فى تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأعوذ بك رب من حضورهم إياي. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}. {حَتَّى}: حرف ابتداء لدخولها على الجملة التي تبدًا بها، وحرف غاية لكونها غاية لمحذوف. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}: فعل ومفعول وفاعل. والجملة الفعلية فى محل الخفض، فبإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الأحد، وجملة {قَالَ}: جوابـ {إذا}، لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا فى محل الجر بحتى الواقعة غاية لمحذوف، تقديره: ويستمر كفار مكة على التكذيب أو على الوصف المذكور إلى قول أحدهم رب ارجعون وقت مجيء الموت إياه، والجملة المحذوفة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء فى محل النصب مقول قال: {ارْجِعُونِ}: فعل دعاء مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و (النون): للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية، فى محل النصب مفعول به.

والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، وإنما جمع ضميو الفاعل فى {ارْجِعُونِ} مع كون المخاطب واحدًا، وهو الله سبحانه للتعظيم. {لَعَلِّي}: {لعل}: حرف نصب وترج. والياء: ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {أَعْمَلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، تقديره: أنا، {صَالِحًا}: مفعول به أو مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل}: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب الطلب المذكور قبلها. {فِيمَا}: جار ومجرور صفة لصالحًا؛ أي: صالحًا بدلًا عما تركت، أو متعلق بـ {أَعْمَلُ}: {تَرَكْتُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} والعائد محذوف، تقديره: فيما تركته. {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر. {إِنَّهَا}: ناصب واسمه. {كَلِمَةٌ}: خبرها. {هُوَ قَائِلُهَا}: مبتدأ وخبر. والجملة في محل الرفع صفة لـ {كَلِمَةٌ}. وجملة {إن}: مستأنفة. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم. {بَرْزَخٌ}: مبتدأ مؤخر. {إِلَى يَوْمِ}: جار ومجرور صفة لـ {بَرْزَخٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إن}. {يُبْعَثُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمِ}؛ أي: إلى يوم بعثهم. {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {نُفِخَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بما فى الجواب من معنى النفي، وانتفى ذلك النسب وقت النفخ فى الصور. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطية. {لا}: نافية. {أَنْسَابَ}: في محل النصب اسمها. {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {لا}؛ أي: فلا أنساب كائنة بينهم، وجملة {لا} جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {يَوْمَئِذٍ وَلَا

يَتَسَاءَلُونَ}. {يوم}: منصوب على الظرفية، وهو مضاف. {إذا}: ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه. والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ نفخ فى الصور، والظرف متعلق بما تعلق به الظرف المذكور قبله، أو الأول: صفة لأنساب، والثاني: خبر لـ {لا}؛ أي: فلا أنساب كائنة بينهم فى الدنيا، نافعة يومئذِ. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {يَتَسَاءَلُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {لا} النافية. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} {فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه لا أنساب بينهم يوم القيامة، وأردت بيان حالهم فى ذلك اليوم، بالنسبة إلى الفلاح والخسران .. فأقول لك: {من ثقلت}. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {أولئك}: مبتدأ {هُمُ}: ضمير فصل. {الْمُفْلِحُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَمَنْ خَفَّتْ}: {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. {خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية {أولئك الذين}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {من} الشرطية في محل النصب، معطوفة على جملة {من} الأولى، على كونها، مقولًا لجواب إذا المقدرة. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {فِي جَهَنَّمَ}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}. {خَالِدُونَ}: خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، {تَلْفَحُ}: فعل مضارع.

{وُجُوهَهُمُ}: مفعول به. {النَّارُ}: فاعل، والجملة الفعلية إما مستأنفة، أو خبر ثان لـ {أولئك}، أو في محل النصب حال من فاعل {خَسِرُوا}، {وَهُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: متعلق بـ {كَالِحُونَ}. {كَالِحُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من ضمير {وُجُوهَهُمُ}. {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}. {أَلَمْ تَكُنْ}: الهمزة: الاستفهام التقريري. {لم تكن}: جازم ومجزوم. {آيَاتِي}: اسم {تَكُنْ}، وجملة {تُتْلَى}: خبرها. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {تُتْلَى}. وجملة {تَكُنْ} جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {فَكُنْتُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {كنتم}: فعل ناقص واسمه. {بِهَا}: متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ}: خبر {كان}: وجملة {كان} معطوفة على جملة {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي}. {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {غَلَبَتْ}: فعل ماض. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {شِقْوَتُنَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {وَكُنَّا}: فعل ناقص واسمه معطوف على {غَلَبَتْ}. {قَوْمًا}: خبر {كان}. {ضَالِّينَ}: صفة {قَوْمًا}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف كرره للعناية به. {أَخْرِجْنَا}: فعل دعاء ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِنْهَا}: متعلق بـ {أَخْرِجْنَا}. {فَإِنْ عُدْنَا}: الفاء: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {عُدْنَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَإِنَّا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {إنا}: ناصب واسمه. {ظَالِمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {أَخْرِجْنَا}.

{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {اخْسَئُوا فِيهَا} إلى قوله: {هُمُ الْفَائِزُونَ}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {اخْسَئُوا}: فعل وفاعل. {فِيهَا}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَا تُكَلِّمُونِ}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تُكَلِّمُونِ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. و (النون): نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزىء عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اخْسَئُوا}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {كَانَ فَرِيقٌ}: فعل ناقص واسمه. {مِنْ عِبَادِي}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {فَرِيقٌ}، وجملة {يَقُولُونَ}: في محل النصب خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُونَ} على كونها جواب النداء. {فَاغْفِرْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية. {اغفر}: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا}. {لَنَا}: متعلق باغفر. {وَارْحَمْنَا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {اغفر}. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {ارحمنا}. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية. {اتخذتموهم}: فعل وفاعل ومفعول أول. و (الميم): علامة الجمع، و {الواو}: حرف زائد لإشباع ضمة الميم. {سِخْرِيًّا}: مفعول ثان لـ {اتخذ}، والجملة معطوفة مفرعة على جملة {يَقُولُونَ} على كونها مقول {قَالَ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {أَنْسَوْكُمْ}: فعل ماض وفاعل ومفعول أول، في محل النصب بأن مضمرة بعد {حَتَّى} الجارة. {ذِكْرِي}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، {أن} مع صلتها فى تأويل مصدر، مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى،

الجار والمجرور متعلق بـ {اتخذتموهم}؛ أي: إلى إنساءهم إياكم ذكري. {وَكُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {تَضْحَكُونَ}. وجملة {تَضْحَكُونَ}: في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}: في محل الجر معطوفة على جملة {أَنْسَوْكُمْ} على كونها فى تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}. {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)} {إِنِّي}: ناصب واسمه. {جَزَيْتُهُمُ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {جَزَيْتُهُمُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن}: مستأنفة. {بِمَا}: (الباء): حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها فى تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {جزيت}؛ أي: جزيتهم بسبب صبرهم. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {هُمُ} للتأكيد {الْفَائِزُونَ}: خبره، وجملة {أن} فى تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {جزيت}؛ أي: جزيتهم فوزهم بسبب صبرهم. {قَالَ}: فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {كَمْ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، وهو متعلق بـ {لَبِثْتُمْ}. {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {لبثتم} أيضًا، أو بمحذوف حال من فاعل {لَبِثْتُمْ}، {عَدَدَ}: تمييز لـ {كم}، منصوب به. {سِنِينَ}: مضاف إليه، وجملة {لَبِثْتُمْ}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَبِثْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {يَوْمًا}: ظرف متعلق بـ {لَبِثْنَا}، {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: معطوف على {يَوْمًا}. {فَاسْأَلِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت جوابنا وشكنا وجهلنا، وأَردت بيان الحقيقة .. فنقول لك: {اسْأَلِ الْعَادِّينَ}. {اسْأَلِ} فعل أمر وفاعله ضمير يعود على الله. {الْعَادِّينَ}: مفعول أول لـ {اسْأَلِ}، والثاني محذوف، تقديره: فاسأل العادين عددها، والجملة الفعلية في محل

النصب مقول لجواب إذا المقدوة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {إن}: نافية. {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا}: صفة لظرف محذوف، أو مصدر محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا أو لبثًا قليلًا. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم وامتناع لامتناع. {أَنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْلَمُون}: خبر {كان}، ومفعول العلم محذوف، تقديره: مقدار {لبثكم}، وجملة {كان}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: فى تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ {لو}، وجوابـ {لو} الشرطية محذوف، والتقدير: لو ثبت علمكم مقدار لبثكم فى الطول .. لما أجبتم بهذه المدة القليلة، أعني لبثنا يومًا أو بعض يوم، وجملة {لَوْ}:فى، محل النصب مقول {قَالَ}. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}. {أَفَحَسِبْتُمْ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف. و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلتم وظننتم من فرط غفلتكم أنما خلقناكم، والجملة المحذوفة مستأنفة. {حسبتم}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {أَنَّمَا}: {أن}: حرف نصب وتوكيد، ولكن بطل عملها لدخول {ما} الكافة عليها. {ما}: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {خَلَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. {عَبَثًا}: منصوب على الحالية من فاعل {خَلَقْنَاكُمْ}؛ أي: حالة كوننا {عابثين}، أو منصوب على المصدرية؛ أي: خلقًا عبثًا، أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: لأجل العبث، والجملة الفعلية فى تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي {حسب}؛ أي: أغفلتص وظننتم حلقنا إياكم عبثًا. {وَأَنَّكُمْ}: ناصب واسمه {إِلَيْنَا}: جار

ومجرور متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، وجملة {لَا تُرْجَعُونَ}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في محل النصب معطوفة على جملة {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} على كونها فى تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {حسب}؛ أي: وعدم رجوعكم إلينا. {فَتَعَالَى اللَّهُ}: {الفاء}: استئنافية. {تعالى الله}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الْمَلِكُ الْحَقُّ}: صفتان للجلالة. {لا}: نافية. {إِلَهَ}: اسمها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ} في محل الرفع بدل من الضمير المستكن فى خبر {لَا}؛ أي: لا إله موجود هو إلا هو سبحانه، وجملة {لا}: في محل النصب حال من الجلالة فى قوله: فتعالى الله. {رَبُّ الْعَرْشِ}: صفة ثالثة ومضاف إليه. {الْكَرِيمِ}: بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة للرب. {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما على الخلاف المذكور فى محله. {يَدْعُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وجزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {مَعَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بيدع. {إِلَهًا}: مفعول به ليدع. {آخَرَ}: صفة أولى له، إلا: نافية للجنس. {بُرْهَانَ}: في محل النصب اسمها. {لَهُ}: جار ومجرور خبر {لا}. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {بُرْهَانَ}. و (الباء) بمعنى على، أي لا برهان عليه كائن له. وجملة لا في محل النصب صفة ثانية لـ {إِلَهًا}، وهي صفة لازمة لا مفهوم لها. {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية. {إنما}: أداة حصر. {حِسَابُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عِنْدَ رَبِّهِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}.

{وَقُلْ} {الواو}: استئنافية. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. {اغْفِرْ}: فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لـ {قل} على كونها جواب النداء. {وَارْحَمْ}: معطوف على {اغفر}. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {ارحم}، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: جمع همزة، وهي النخسة والدفعة بيد أو بغيرها، والمهماز، مفعال من ذلك كالمحراث من الحرث، والهمَّاز الذي يعيب الناس، كأنه يدفع بلسانه، وينخس به. اهـ. "سمين". وفي "الأساس" و"اللسان" همز رأسه عصره، وهمز الجوزة بكفه، ومن المجاز همز الرجل فى قفاه غمز بعينه، ورجل همزة وهماز، والشيطان يهمز الإنسان، يهمس فى قلبه وسواسًا، ويقال: أعوذ بالله من همسه وهمزه ولمزه. وأعوذ بك من همزات الشيطان. وفي "المختار" وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان. اهـ. وفي "البيضاوي" وأصل الهمز النخس. ومنه مهماز الرائض، شبه حثهم الناس على المعاصي، بهمز الرائض الدواب على المشي، والجمع للمرات، أو لتنوع الوساوس، أو لتعدد المضاف إليه. اهـ. فلا يرد ما يقال: الهمزة الواحدة أيضًا ينبغي أن يتعوذ منها، فما وجه الجمع اهـ "كرخي". قلت: مهماز الرائض: حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع اهـ. {كَلَّا}: كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}؛ أي: من أمامهم. {بَرْزَخٌ}؛ أي: حاجز بينهم وبين الرجعة؛ أي: حاجز يصدهم عن الرجوع إلى الدنيا، وهو المدة التي من حين الموت إلى البعث. وفي "السمين" البرزخ: الحاجز بين المتنافيين، وقيل: الحجاب بين الشيئين يمنع أن

يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأول، وقال الراغب: أصله برزه بالهاء، فعرب، وهو فى القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة، والبرزخ قيل: هو الحائل بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها اهـ. {فِي الصُّور}: الصور واحدها صورة، نحو بسر وبسرة؛ أي: نفخت فى الأجساد أرواحها. {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} جمع نسب، والنسب: القرابة بين اثنين فصاعدًا؛ أي: اشتراك من جهة أحد الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول، كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض، كالنسب بين الأخوة وبني الأعمام، كما مر فى مبحث التفسير. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}؛ أي: موزونات أعماله، فالموازين جمع موزون، ويجوز كونه جمع ميزان. وجمعه حينئذٍ مع وحدته لتعدد الموزون اهـ "شهاب"؛ أي: ثقلت موازينه بالحسنات، بثقلها على السيئات، بأن تجسم وتصور بصور حسان، وتوضع فى كفة الميزان اليمنى، التي على يمين العرش، أو خفت موازينه بالحسنات، بثقل السيئات عليها بسبب زيادتها على الحسنات، بأن تجسم السيئات وتصور بصور ظلمانية، وتوضع فى كفة الميزان اليسرى، التي فى على يسار العرش اهـ. "شيخنا". {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ}؛ أي: تحرقها، واللفح: أشد النفخ؛ لأنه الإصابة بشدة، والنفح الإصابة مطلقًا، كما فى قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} وفي "القاموس" لفح يلفح من باب فتح فلانًا بالسيف ضربه به، ولفحت النار لفحًا ولفحانًا، أو السموم بحرها فلانًا، أصابت وجهه، وأحرقته {كَالِحُونَ}؛ أي: عابسون، الكلوح أن تتقلص الشفتان، وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرؤس المشوية. وفي "المختار" الكلوح تكشر فى عبوس، وبابه خضع. قلت: ومنه كلوح الأسد؛ أي: تكشيره عن أنيابه، ودهر كالح وبرد كالح؛ أي: شديد. {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أحد مصادر شقي. وفي "المختار" الشقاء والشقاوة بالفتح: ضد السعادة. وقرأ قتادة شقاوتنا بالكسر، وهي لغة، وقد شقى بالكسر

شقاء وشقاوة أيضًا. وأشقاه الله فهو شقي؛ أي: بين الشقوة. وفي "القاموس" وشرحه شقى يشقى من باب تعب شقًا، وشقاوة وشقاوة وشقوة وشقوة ضد سعد فهو شقي، والجمع أشقياء. والشقاوة سوء العاقبة. {اخْسَئُوا}؛ أي: ذلوا فيها وانزجروا، كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. وفي "الصحاح" خسأت الكلب وخسأ يتعدى بنفسه، ولا يتعدى. وفي "المختار" خسأ الكلب طرده، من باب قطع وخسأ هو بنفسه إذا خضع. {سِخْرِيًّا} بضم السين وكسرها، أصله سخرًا بضم السين وكسرها أيضًا، وزيدت فيه ياء النسب، للدلالة على المبالغة فى قوة الفعل، وهو المسخرة. اهـ. "شيخنا". وفي "السمين" وزيدت الياء للدلالة على قوة الفعل، فالسخرى أقوى من السخر، كما قيل فى الخصوص: خصوصية دلالة على قوله ذلك. وفي "المصباح" سخرت منه سخرًا من باب تعب هزئت به، والسخرى بالكسر لغة فيه، والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم، أو دابة بلا أجر، والسخرى بالضم بمعناه، وسخرته فى العمل بالتثقيل استعملته مجانًا، وسخر الله الإبل ذللها وسهلها. اهـ. {كَمْ لَبِثْتُمْ} واللبث: الإقامة، {الْعَادِّينَ} بتشديد الدال جمع عاد من عدّ الشيء يعده، بضم العين فى المضارع إذا أحصاه وحبسه. والمراد هنا: الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم، كما مر. {عَبَثًا}: العبث بفتحتين: اللعب، وما لا فائدة فيه، وكل ما ليس فيه غرض صحيح، يقال: عبث يعبث عبثًا إذا خلط عمله بلعب، وأصله من قولهم: عبثت الأقط؛ أي: خلطته، والعبث طعام مخلوط، ومنه العوثباتي لتمرٍ وسويق وسمن مختلط. {الْحَقُّ} الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه. وفي "البيضاوي" {الْمَلِكُ الْحَقّ}؛ أى: الذى يحق له الملك مطلقًا، فإن ما عداه مملوك بالذات، مالك بالعرض من وجه دون وجه، وفي حال دون حال. اهـ.

و {الْعَرْشِ}: هو مركز تدبير العالم، ووصفه بالكريم لشرفه، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم، كما فى قوله: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} وقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} وفي "أبي السعود" قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}؛ أي: فكيف بما تحته وما أحاط به من المخلوقات، كائنًا ما كان، ووصف بالكرم، إما لأنه ينزل منه الوحي الذي منه القرآن الكريم، أو الخير والبركة والرحمة، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين تعالى من حيث أنه أعظم مخلوقاته اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بإن وباللام وباسمية الجملة فى قوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)} لإنكار المخاطبين ذلك. ومنها: الطباق المعنوي فى قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}؛ لأن المعنى: ادفع بالحسنة السيئة، فهو طباق بالمعنى لا باللفظ. وفي قوله أيضًا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من البلاغة العدول عن مقتضى السياق لسر بليغ، فالظاهر أن يقول ادفع بالحسنة السيئة، ولكنه عدل عن مقتضى الكلام لما فيه من التفصيل، والمعنى: ادفع السيئة بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان, وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. ومنها: إعادة لفظ الرب فى قوله: {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)} مبالغة فى الابتهال والتضرع. ومنها: الإظهار فى مقام الإضمار فى قوله: {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)} تسجيلًا عليهم باسم الظلم؛ لأن الأصل فلا تجعلني فيهم. ومنها: إعادة كل من العامل والنداء فى قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} مبالغةً وزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة.

ومنها: الإتيان بضمير الجمع، مع كون المرجع المفرد المعظم المنزه فى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} تعظيمًا لله تعالى. ومنها: جمع الضمير فى قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} مع عوده إلى الأحد، اعتبارًا بالمعنى؛ لأنه فى حكم كلهم، كما أن الإفراد فى الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ذكره "أبو السعود". ومنها: المجاز المرسل فى قوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} حيث أطلق الكلمة على الجملة، وهو من إطلاق الجزء، وإرادة الكل. ومنها: فن التنكيت فى قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فقد قصد بنفي الإنساب، وهي موجودة أمرًا آخر لنكتة فيه، فإن الأنساب ثابتة لا يصح نفيها. وقد كان العرب يتفاخرون بها فى الدنيا, ولكنه جنح إلى نفيها، إما لأنها تلغو فى الآخرة، إذ يقع التقاطع بينهم فيتفرقون معاقبين، أو مثابين، أو أنه قصد بالنفي صفة للأنساب محذوفة؛ أي: يعتد بها حيث تزول بالمرة، وتبطل لزوال التراحم والتعاطف، من فرط الحيرة، واستيلاء الدهشة عليهم. ومنها: المقابلة اللطيفة بين {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} وبين {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}. ومنها: الاستفهام التقريري فى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي}. ومنها: جناس الاشتقاق فى قوله: {وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. ومنها: الإسناد المجازي فى قوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} حتى أنساكم استهزاؤهم ذكري، فهو من إسناد ما للشيء إلى صاحبه. ومنها: الاستفهام التبكيتي الإلزامي فى قوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} والاستفهام التوبيخي فى قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ}. ومنها: القصر فى قوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. ومنها: التعبير بالمضارع فى قوله: {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استحضارًا

للصورة الماضية. ومنها: حذف جواب لو فى قوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثقةً بدلالة ما سبق عليه. ومنها: الإظهار فى مقام الإضمار فى قوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} للنداء عليه بهذا الوصف القبيح. وفيه أيضًا مراعاة معنى من؛ لأن الأصل إنه لا يفلح. ومنها: تقديم المغفرة على الرحمة فى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ}؛ لأن باب التخلية مقدم على باب التحلية. ومنها: تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام، حيث بدأ السورة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}، وأورد فى خاتمتها أنه لا يفلح الكافرون. ذكره فى "البحر". ومنها: الزيادة والحذف فى عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من الحكم والأحكام والآداب اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - فوز المؤمنين ذوي الصفات الفاضلة، بدخول الجنات خالدين فيها أبدًا. 2 - ذكر حال النشأة الأولى. 3 - خلق السماوات السبع وإنزال المطر من السماء، وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب، وذكر منافع الحيوان للإنسان. 4 - قصص بعض الأنبياء، كنوح وشعيب وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام، ثم أمرهم جميعًا بأكل الطيبات وعمل الصالحات. 5 - أنه لا يكلف الله عباده، إلا بما فيه يسر وسماحة. 6 - وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة، وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها. 7 - ذكر ما أنعم به على عباده، من الحواس والمشاعر. 8 - إنكار المشركين للبعث والجزاء، والحجاج على إثبات ذلك. 9 - النعي على من أثبت الولد، والشريك لله تعالى. 10 - دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن لا يجعله فى القوم الظالمين، حين عذابهم. 11 - تعليم نبيه - صلى الله عليه وسلم - الأدب فى معاملة الناس، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه. 12 - طلب الكفار العودة إلى الدنيا، حين رؤية العذاب، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحًا. 13 - وصف أهوال يوم القيامة، وبيان ما فيها من الشدائد. 14 - أوصاف السعداء والأشقياء.

15 - تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا، وزجرهم على هذا الطلب. 16 - سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا، وبيان أنهم ينسون ذلك. 17 - النعي على من عبد مع الله إلهًا آخر. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) قد تمّ تفسير سورة المؤمنون بعون الله تعالى، وتوفيقه، بتاريخ 7/ 12/ 1412 هـ. وفي أوائل الليلة السابعة من شهر الله ذي الحجة من شهور سنة ألف وأربع مئة واثني عشرة سنة، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.

سورة النور

سورة النور مدنية بالإجماع، كما فى "القرطبي"، وهي (¬1) اثنتان أو أربع وستون آية، وألف وثلاث مئة وست عشر كلمة، وخمسة آلاف وتسع مئة وثمانون حرفًا. ومن فضائلها (¬2): ما روى أبو عبد الله الحاكم فى "صحيحه"، وابن مردويه والبيهقي فى "الشعب" عن عائشة مرفوعًا "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة" يعني النساء "وعلموهن الغزل وسورة النور". وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نسائكم سورة النور" وهو مرسل. وأخرج أبو عبيد فى فضائله عن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب، أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (¬3) محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جملة ما فى سورة النور من المنسوخ سبع آيات: أولاهن: قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} الآية (4) نسخت بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (5). الآية الثانية: قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} (3) هذه الآية من أعاجيب آيات القرآن؛ لأن لفظها لفظ الخبر، ومعناها: النهي، تقدير الكلام؛ - والله أعلم - لا تنكحوا زانيةً ولا مشركةً، ناسخها قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية (32) النور. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير والشوكاني. (¬3) الناسخ والمنسوخ.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية (6) نسخها بالآيتين اللتين بعدها، وهما قوله تعالىِ: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} (7) وكذلك {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} (9). الآية الرابعة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية (27) نسخت بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية (29). الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية (31) نسخ بعضها بقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. الآية السادسة: قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} الآية (54). نسخها آية السيف. الأية السابعة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية (58) نسخها بالآية التي تليها، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الآية (59) انتهى. ومناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين: 1 - أنه قال فى السورة السالفة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهي عن إكراه الفتيات على الزنا. 2 - أنه تعالى لما قال فيما سلف أنه لم يخلق عبثًا، بل للأمر والنهي، ذكر هنا جملةً من الأوامر والنواهي. وتسميتها بسورة النور لذكر لفظ النور فيها. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}. المناسبة مناسبة هذه السورة لما قبلها قد مرت قريبًا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه (¬1) لما نفَّر من نكاح الزانيات، وإنكاح الزانين، وبين أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله .. نهى هنا عن رمي المحصنات به، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد، وأن لا تقبل له شهادة أبدًا، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس، ملغى القول، لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموضع، إلا ¬

_ (¬1) المراغي.

إذا تاب إلى الله، وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه لما بين الله سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا، وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة، إلا إذا أتى بأربعة شهداء .. ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية؛ لأن فى تكليف الزوج إحضار الزوج إعناتًا وإحراجًا، ولما يلحقه من المغيرة على أهله، ثم كظم الغيظ إذ لم يجد مخلصًا من ضيقه. أسباب النزول قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ...} الآية، اختلف العلماء (¬1) فى سبب نزول هذه الآية، فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم، ولا عشائر، وفي المدينة نساء بغايا، من أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين فى نكاحهن، لينفقن عليهم، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك فنزلت هذه الآية، فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا؛ لأنهن كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس. وقال عكرمة: نزلت فى نساءٍ كن بمكة والمدينة، لهن رايات يعرفن بها، منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان فى الجاهلية من ينكح الزانية يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة، فاستأذن رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى نكاح أم مهزول، واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. ¬

_ (¬1) الخازن.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت بمكة بغي، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له فى الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرّم الزنا، قالت: فانكحني، فقال: حتى أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرد شيئًا، فنزلت آية {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فدعاني، فقرأها علي، وقال: و"لا تنكحها". أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود، بألفاظ متقاربة المعنى. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) ...} الآيات، قال الإِمام (¬1) البخاري رحمه الله تعالى فى (ج 1/ ص 64): حدثنا إسحاق، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا الأوزاعي قال: حدثني الزهري عن سهل بن سعد، أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي، وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون فى رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأتى عاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السائل، فسأله عويمر، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره المسائل، وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله: "قد أنزل الله القرآن فيك، وفي صاحبتك"، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالملاعنة بما سمى الله فى كتابه، فلاعنها، ثم قال: يا رسول، إن حبستها فقد ظلمتها، فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما فى المتلاعنين، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا، فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الإليتين، خدلج الساقين .. فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها. وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها" فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) البخاري.

من تصديق عويمر، فكان بَعدُ ينسب إلى أمه. والحديث أخرجه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد ومالك والدارمي والدارقطني وابن جرير. وأخرج البزار عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلًا ما كانت فاعلًا به"؟؛ قال: كنت والله فاعلًا به شرًّا. "فأنت يا عمر"؟ قال: كنت والله قاتله، كنت أقول: لعن الله الأعجز، فإنه خبيث فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}. وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البينة أو حد فى ظهرك" فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلًا، ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البينة أو حد فى ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. وأخرجه أحمد بلفظ لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا. قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله: "يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم"؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله، إني أعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل، لم يكن لى أن أنحيه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا أتي بهم حتى يقضي حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلًا، فرأى بعينيه، وسمع بأُذنه فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلًا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به، واشتد عليه، واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة: الآن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلال بن أمية، ويبطل شهادته فى

[1]

الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لى منه مخرجًا، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} الآية. وأخرج أبو يعلى مثله من حديث أنس، قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة فى هذه المواضع، فمنهم من رجح أنها نزلت فى شأن عويمر. ومنهم من رجح أنها نزلت فى شأن هلال. ومنهم من جمع بينهما؛ بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادق بمجيء عويمر أيضًا فنزلت فى شأنهما معًا. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك فى وقت واحد. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، ولذا قال فى قصة هلال: فنزل جبريل، وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك، فيؤول قوله: قد أنزل الله فيك؛ أي: فيمن وقع له مثل ما وقع لك. وبهذا أجاب ابن الصباغ فى "الشامل"، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين. التفسير وأوجه القراءة 1 - قال القرطبي: مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر وغيرها، من الأحكام الدينية المفصلة. {سُورَةٌ}. قرأ الجمهور سورة بالرفع؛ أي: هذه الآيات الآتي ذكرها سورة أنزلناها، على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجوزوا أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: سورة أنزلناها فيما أوحينا إليك يا محمد أو فيما يتلى عليك. قال الزجاج: وهذا قبيح (¬1)؛ لأنها نكرة وإنما الرفع على إضمار هذه. وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء {سُورَةٌ} بالنصب بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، فيكون من باب الاشتغال؛ أي: أنزلنا سورة أنزلناها، أو بفعل مقدر غير مفسر، تقديره: أتل ¬

_ (¬1) زاد المسير.

سورة أنزلناها، أو اتبعوا سورة أنزلناها أو على الإغراء؛ أي: دونك سورة أنزلناها. قاله الزمخشري. وسورة القرآن (¬1) طائفة منه محيطة بما فيها من الآيات والكلمات والعلوم والمعارف، مأخوذة من سور المدينة، وهو حائطها المشتمل عليها، وإنما أشير إليها فى قولنا هذه سورة مع عدم سبق ذكرها؛ لأنها باعتبار كونها فى شرف الذكر فى حكم الحاضر المشاهد، والتنكير مفيد للفخامة من حيث الذات، كما فى قوله: {أَنْزَلْنَاهَا}: مفيد لها من حيث الصفة؛ أي: أنزلنا إليك من عالم القدس بواسطة جبريل، أو أعطيناكها أيها الرسول. {وَفَرَضْنَاهَا}: قرأ الجمهور يتحفيف الراء؛ أي: أوجبنا (¬2) ما فيها من الأحكام إيجابًا قطعيًا، وألزمناكم العمل بها، فإن أصل الفرض قطع الشيء الصلب، والتأثير فيه، كقطع الحديد. وقيل معناه: قدرنا ما فيها من الحدود. وقيل: أوجبناها عليكم، وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفى. وقرأ (¬3) عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء لتأكيد (¬4) الإيجاب، أو لكثرة الفرائض فيها، كالزنا والقذف واللعان والاستئذان وغض البصر وغير ذلك. {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا}؛ أي: فى تضاعيف السورة وأثنائها {آيَاتٍ} نيطت بها الأحكام المفروضة، كما هو الظاهر، لاجميع الآيات {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على أحكامها المفروضة، لتكون لكم أيها المؤمنون قبسًا ونبراسًا. وقيل معنى: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ أي: أمثالًا (¬5) ومواعظ وأحكامًا ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط. (¬4) أبو السعود. (¬5) البحر المحيط.

وفي "الشهاب" قال الإِمام الرازي: ذكر الله فى أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد، فقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} إشارة إلى الأحكام وقوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إشارة إلى ما بين فيها من دلائل التوحيد ويؤيده قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى نؤمر بتذكرها. وتكرير (¬1) أنزلناها مع استلزام إنزال السورة لإنزالها, لإبراز كمال العناية بشأنها، فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة، وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ أي: تتعظون فتتقون المحارم؛ أي: لكي تتعظوا، وتعتبروا بهذه الأحكام، وتعملوا بموجبها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال (¬2)، وحذف إحدى التائين. والباقون بالتشديد. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على ذكر منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى (¬3) امتن على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام، وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة، التي لا تقبل جدلًا، ليعدهم بذلك؛ لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفي صلاحهم، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب، واطمئنانًا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنًا من حصول الضغائن والأحقاد، التي قد تجر إلى القتل، وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنًا على الصحة، والبعد من الأمراض التي قد تودي بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصائب، وأعظم ألوان المهالك. كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجتمع، ففيها نظام دخول البيت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة، وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغي أن يقال، حتى لا ينتشر الفحش بين الناس. وفيها تحذير للعباد من ذلك ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. والخلاصة: أنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود الشرعية، وفي آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته. فأشار إلى الأول بقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} إلى الثانية بقوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها، ومعرفة الله حق المعرفة، التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قل أو كثر، فإذا تمّ له ذلك .. صلحت نظم الفرد ونظم المجتصع، وسادت السكينة والطمانينة بين الناس. مبحث فى عقوبة الزنا الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين؛ أي: متزوجين، أو غير محصنين؛ أي: غير متزوجين. وعقوبة الزنا إما دنيوية، وإما أخروية. أما الدنيوية: فإن كان الزانيان محصنين، واستوفيا الشروط الآتية، وهي أن يكونا بالغين عاقلين، حرين متزوجين بعقد نكاح صحيح .. وجب رجمهما؛ أي: رميهما بالحجارة حتى يموتا. ويكون ذلك فى حقل عام للمسلمين، ليعتبر بهما غيرهما. واعتبرت (¬1) الحنفية الإِسلام أيضًا. وهو مردود برجمه - صلى الله عليه وسلم - يهوديين، ولا يعارضه حديث "من أشرك بالله فليس بمحصن" إذ المراد بالمحصن فيه هو الذي يقت له من المسلم، ولا رجم على الرقيق؛ لأنه لا ينتصف. وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة. ورواه الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد رواه أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد بن خالد وبريدة الأسلمي مع آخرين من الصحابة. وجاء فى رواياتهم: (أن رجلًا من الصحابة يسمى ماعزًا أقرّ بالزنا فرجم. وأن امرأتين من بني لخم وبني غامد أقرتا بالزنا فرجمتا على مشهد من الناس، ومرأى منهم). ¬

_ (¬1) الخازن.

وإن كان الزانيان غير محصنين .. فالعقوبة مئة جلدة بمحضر جمع من المسلمين، كما بينته الآية، ليفتضج أمرهما، كما مر ذلك قريبًا، والرقيق على النصف من ذلك. وزاد الشافعي (¬1): عليه تغريب الحر سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: "البكر بالبكر، جلد مئة وتغريب عام". وليس فى الآية ما يدفعه لنسخ أحدهما بالآخر نسخًا مقبولًا، أو مردودًا. وله فى العبد ثلاثة أقوال. وقال أبو حنيفة: التغريب إلى رأي الإِمام. وقال مالك: يجلد الرجل مئة جلدة ويغرب. وتجلد المرأة ولا تغرب. طريق إثبات الزنا يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة: 1 - الإقرار به. وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإِسلام، وبه أوقع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته العقوبة على من زنى. 2 - الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها. 3 - شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما متلبسان بالجريمة. عقوبة الزنا الأخروية تقدم بياننا المساوي والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخروي، فنقول: اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها، وأغلظ فى العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره، مما حرم الله تعالى، فقد قرن بالشرك فى قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[2]

وروي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال "يا معشر الناس، اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال، ثلاث فى الدنيا، وثلاث فى الآخرة، أما التي فى الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما التي فى الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار". وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؛ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". قلت: ثم أي: قال: "وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك"، قلت: ثم أي: قال: "وأن تزني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديقها. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}. متفق عليه. 2 - ثم شرع سبحانه فى تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} مبتدأ خبره جملة قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فأل فيهما موصولة بمعنى: التي، والذي. فلذلك ربط الخبر بالفاء، لما فى المبتدأ من معنى الشرط، وهو العموم، والتقدير: التي زنت من النساء، والذي زنى من الرجال، وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين، فاجلدوا كلا منهما مئة جلدة، عقوبة له على ما أتى من معصية الله. والزاني (¬1): من وطئ المرأة من غير عقد شرعي، ولا شبهة. والزانية: هي المرأة المطاوعة للزنى الممكنة منه، كما تبنىء عنه الصيغة. لا المزنية كرها. وكذلك الزاني، والخطاب فى هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين. فإن قلت: لم قدمت (¬2) المرأة فى آية حد الزنا، وأخرت فى آية حد السرقة؟ قلت: إن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع، وهي فى المرأة أقوى وأكثر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات بتصرف.

ولكون الداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع، والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة، وهي فى الرجل أقوى وأكثر، كما مرّ فى المائدة. والجلد (¬1): الضرب بالجلد، وهو بكسر الجيم قشر البدن. يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه. وقالت الحنفية: وهذا دليل على أن التغريب ليس بمشروع؛ لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء، وهو اسم للكافي. والتغريب المروي منسوخ بالآية، كما نسخ الحبس والأذى فى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} وقوله: {فَآذُوهُمَا} بهذه الآية. ذكره النسفي فى تفسيره. تنبيه: وكان (¬2) هذا الحكم عامًّا فى المحصن وغيره، وقد نسخ فى المحصن قطعًا بالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه، وهو: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم" وبالسنة المتواترة، وبإجماع أهل العلم. ويكفينا فى حق الناسخ القطع بأنه عليه السلام قد رجم ماعزًا وغيره، فيكون من باب نسخ الكتاب بالكتاب، وبالسنة المشهورة. فحد المحصن الرجم، وحد غير المحصن الجلد. وشرائط الإحصان فى باب الرجم ستة عند أبي حنيفة، كما مرّ: الإِسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والنكاح الصحيح، والدخول. فلا إحصان عند فقد واحدة منها. وفي باب القذف: الأربع الأول والعفة. فمعنى قولهم: حدّ الزنا رجم محصن؛ أي: مسلم حر عاقل بالغ متزوج ذي دخول. ومعنى قولهم: من قذف محصنًا؛ أي: مسلمًا حرًا عاقلًا بالغًا عفيفًا، وإذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وقرأ الجمهور (¬3): {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع، وعبد الله {والزان} بغير ياء. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان بزيادة. (¬3) البحر المحيط.

ورويس {الزانيةَ والزاني} بنصبهما على الاشتغال؛ أي: واجلدوا الزانية والزاني، كقولك زيدًا فاضربه، ولدخول الفاء هنا وفي أمثاله تقرير ذكر فى علم النحو، والنصب هنا أحسن منه في {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} لأجل الأمر. وقال أبو حيان: وقد تضمنت (¬1) هذه السورة أحكامًا كثيرةً فيما يتعلق بالزنا، ونكاح الزناة، وقذف المحصنات، والتلاعن والحجاب وغير ذلك، فبدىء بالزنا لقبحه، وما يحدث عنه من المقاسد والعار، وكان قد نشأ فى العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ} أيها المسلمون {بِهِمَا}؛ أي: بالزانية والزاني {رَأْفَةٌ}؛ أي: رحمة ورقة، وقيل: الرأفة فى دفع المكروه، والرحمة فى إيصال المحبوب. كما فى "النسفي". وتنكيرها للتقليل؛ أي (¬2): لا يأخذكم شيء قليل من الرحمة والشفقة عليهما {فِي دِينِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: فى طاعته وإقامة حده، فتعطلوه أو تسامحوا فيه بعدم الإيجاع ضربًا، والتكميل حدًا، ولذلك قال عليه السلام: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وذلك أن المضروب يفعل أثناء الضرب أفعالًا غريبة، ويتضرع ويستغيث، ويسترحم، وربما يغشى عليه، فيرأف به الإِمام، أو الضارب أو بعض الحاضرين، لا سيما إذا كان أحب الناس إليه، كالولد والأخ مثلًا، فلا يستوفي حد الله وحقه، ولا يكمل جلده مئة بل ينقصه بترك شيء منها، أو بتخفيف الضرب، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك. وفيه تنبيه على أن الله تعالى إذا أوجب أمرًا قبح استعمال الرحمة فيه. وفي الحديث: "يؤتى بوالٍ نقَّص من حدٍ سوطًا، فيقال: لم نقصت؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم مني، انطلقوا به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطًا. فيقال: لم زدت؛ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقال له: أنت أحكم مني فيؤمر به إلى النار". قال فى "الأسئلة المقحمة": إن الله تعالى نهى عن الرأفة والرحمة، وعلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

هذا، إن وجدنا واحدًا بقلبه إشفاق على أخيه المسلم حيث وقع في المعصية هل يؤاخذ بها؟ والجواب: أنه لم يرد الرأفة الجبلية والرحمة الغريزية، فإنها لا تدخل تحت التكليف، وإنما أراد بذلك الرأفة التي تمنع عن إقامة حدود الله، وتفضي إلى تعطيل أحكام الشرع، فهي منهي عنها. قال في "بحر العلوم": وفيه دلالة على أن المخاطبين يجب عليهم أن يجتهدوا في حد الزنى، ولا يخففوا الضرب بل يوجعوها ضربًا، وكذلك حق القذف عند الزهري، لا حدّ الشرب، وعن قتادة يخفف في حدّ الشرب والقذف، ويجتهد في حدّ الزنى. وقرأ الجمهور {وَلَا تَأْخُذْكُمْ} بالتاء لتأنيث لفظ الرأفة. وقرأ أبو عبد الرحمن (¬1) السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش {يأخذكم} بالياء. وقرأ الجمهور: نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {رَأْفَةٌ} بسكون الهمزة بوزن رحمة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير {رأفة} بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي {رأفة} بفتح الهمزة ومدها على وزن سآمة وكآبة، وكلها مصادر أشهرها الأول. فصل واختلف (¬2) العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشرب، وضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا. وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب. وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال: مالك: الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) زاد المسير.

فأما ما يضرب من الأعضاء: فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزاني، قال: يجرد ويعطى كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه، ونقل يعقوب بن بختان لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقى الفرج والوجه. وكيفية الضرب: أن يكون (¬1) بسوط لين له رأس واحدة، ويجرد الرجل من ثيابه إلا من إزار كما سيأتي والمرأة مما يقيها ألم الضرب، وتوضع في قفة فيها تراب للستر. والخلاصة: ولا تأخذكم (¬2) بهما رحمة ورقة في تنفيذ حكم الله تعالى؛ فتعطلوا الحدود، أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا في دين الله، ولا يأخذكم اللين والهوادة في استيفاء الحدود، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة لكم في ذلك، إذ قال: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". {إِنْ كُنْتُمْ} أيها المسلمون {تُؤْمِنُونَ} وتصدقون {بِاللَّهِ} ربكم {و} بأنكم تبعثون للحشر في {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ أي: يوم القيامة، وتجازون بالثواب والعقاب، فإن من كان مصدّقًا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه، خوف عقابه على معاصيه. وفي هذا (¬3) تهييج وتحريض والتهاب الغضب لله، ولدينه ولتنفيذ حدوده، وإقامة شريعته. فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء الأحكام. قال الجنيد - رحمه الله -: الشفقة على المخالفين، كالإعراض عن الموافقين، وذكر اليوم الآخر؛ لتذكر ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة، والتعطيل. وإنما سمى يوم القيامة اليوم الآخر؛ لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد. وقد قيل: إنه تجتمع الأنوار كلها، وتصير في الجنة يومًا واحدًا، وتجتمع الظلمات كلها وتصير في النار ليلة واحدة. {وَلْيَشْهَدْ}؛ أي: وليحضر وجوبًا نظرًا لظاهر الأمر، لكن الفقهاء قالوا ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[3]

بالاستحباب {عَذَابَهُمَا}؛ أي: حدهما إذا أقيم عليهما {طَائِفَةٌ}؛ أي: جماعة {مِنَ الْمُؤْمِنِين} يحصل بهما التشهير لأمرهما، أقلهم ثلاثة، وأكثرهم عشرة فما فوقها، فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، والزيادة في تأنيبهما على ما فعلا. والطائفة (¬1): الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف، أقل الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة. تنبيه: فحد غير المحصن (¬2): جلد مئة وسطًا بسوط لا ثمرة له، ويجلد الرجل قائمًا وينزع عنه ثيابه إلا إزاره، ويفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه. وتجلد المرأة قاعدةً لا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وجاز الحفر لها, لا له. ولا يجمع بين جلد ورجم، ولا بين جلد ونفي إلا سياسة، ويرجم مريض زنى، ولا يجلد حتى يبرأ، وحامل زنت ترجم حين وضعت، وتجلد بعد النفاس، وللعبد والأمة نصفها, ولا يحدهما سيدهما إلا بإذن الإِمام خلافًا للشافعي. وفي الحديث: "إقامة حدّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين ليلة" واعلم أن الزنا حرام وكبيرة، وقد تقدم ما فيه من المساوي والإضرار، ومن الزنى زنى النظر، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس اللعين. 3 - ثم ذكر سبحانه شيئًا يختص بالزاني والزانية، فقال: {الزَّانِي}؛ أي: الرجل الذي زنى، وقد تقدم حدّ الزنا، بأنه وطء الرجل للمرأة في فرجها، من غير نكاح ولا شبهة نكاح، وقيل: هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرمًا شرعًا. {لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}؛ أي (¬3): الخبيث الذي من شأنه الزنا، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء ولا يتزوجها، وإنما يرغب في خبيثة من شكله، أو في مشركة. {وَالزَّانِيَةُ}؛ أي: والمرأة التي طاوعت الزنا، ومكنت منه؛ أي: والخبيثة التي من شأنها الزنا {لَا يَنْكِحُهَا}؛ أي: لا يتزوجها {إِلَّا زَانٍ} مثلها {أَوْ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

مُشْرِكٌ}؛ أي: لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب في نكاحها وتزوجها من هو من شكلها من الفسقة، أو المشركين؛ أي: إنما يتزوجها من هو مثلها، أو أخس منها. وهذا حكم (¬1) مؤسس على الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن، يعني الغالب أن المائل إلى الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في نكاح فاسقة من شكله، أو مشركة، والمسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وينفرون عنها, وإنما يرغب فيها فاسق مثلها، أو مشرك. فإن المشاكلة سبب الائتلاف والاجتماع، كما أن المخالفة سبب الوحشة والافتراق. فالآية تزهد في نكاح البغايا، إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن، وهذا نظير قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} وقيل: كان نكاح الزانية محرمًا في أول الإِسلام، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}. وقدم الزاني على الزانية في هذه الآية عكس ما تقدم؛ لأن الرجل في النكاح من حيث إنه هو الطالب، ومنه تبدأ الخطبة؛ ولأن الآية نزلت في فقراء المهاجرين الذين رغبوا في نكاح موسرات كن بالمدينة من بغايا المشركين، لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية. والمعنى (¬2): أن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة، أو في مشركة مثله، والفاسقة المستهترة لا يرغب في نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا في أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع. ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل المتقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هذا، فإن الزاني قد ينكح ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف. قال ابن جرير الطبري: (18/ 75) وأولى الأقوال (¬1) في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات، وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. فمعلوم إذ كان ذلك كذلك أنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، لا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية، لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله. قال ابن كثير: ومن (¬2) هاهنا ذهب الإِمام أحمد ابن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. وقد اختلف (¬3) في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي وأبو حنيفة: بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك، فهما زانيان أبدًا وبه قال مالك. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬4): أي فرق بين معنى الجملة الأولى، أعنى قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}، ومعنى الجملة الثانية، أعني قوله: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ}؟ قلت: معنى الأولى وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) ابن كثير. (¬3) الشوكاني. (¬4) الكشاف.

الفواجر. ومعنى الثانية، وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة. وهما معنيان مختلفان. وعن عمرو بن عبيد {لَا يَنْكِحُ} بالجزم على النهي، والمرفوع فيه معنى النهي. ولكن هو أبلغ وآكد، كما أن رحمك على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويتصون عنها، انتهى. {وَحُرِّمَ ذَلِكَ}؛ أي: نكاح الزواني والمشركات. وقيل: الضمير يعود للزنا. قاله الفراء. ذكره ابن الجوزي. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لما فيه من التشبه بالفسقة، والتعرض للتهمة، والتسبب بسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المقاصد اللاتي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فضلًا عن المؤمنين، ولذلك عبر عن كراهة التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر. والحكم إما مخصوص بسبب النزول، أو منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} فإنه متناول للمسافحات. وبقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ويؤيده ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: "أوله سفاح وآخره نكاح" والحرام لا يحرم الحلال. وفي الآية إشارة إلى الحذر عن أخدان السوء، والحث على مخالطة أهل الصحبة والأخدان في الله تعالى، فإن الطبع من الطبع يسرق، والمقارنة مؤثرة، والأمراض سارية. وفي الحديث: "لا تسكنوا مع المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا"؛ أي: لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد، ولا تجامعوا معهم في المجلس الواحد، حتى لا تسري إليكم أخلاقهم، وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة، وللناس أشكال، وكل يطير بشكله، وكل مساكن مثله، كما قال قائلهم: عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِيْنَهُ ... فَإِنَّ الْقَرِيْنَ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ فأما أهل الفساد فالفساد يجمعهم، وإن تناءت ديارهم، أما أهل السداد، فالسداد يجمعهم وإن تباعد مزارهم، ومن بلاغات الزمخشري "لا ترض لمجالستك إلا أهل مجانستك"؛ أي: لا ترض أن تكون جليس أحد من غير

[4]

جنسك، فإنه العذاب الشديد ليس إلا. وجاء في مسائل الفقه أن من رأى نصرانية سمينة أو جميلة فتمنى أن يكون نصرانيًا ليتزوجها كفر، فعلى العاقل أن يصون نفسه بقدر الإمكان، فإن الله تعالى غيور ينبغي أن يخاف منه كل آنٍ. وقرأ الجمهور (¬1): {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} مشددًا مبنيًا للمفعول. وقرأ أبو البرهشيم: {وحرم ذلك} مبنيًا للفاعل؛ أي: حرم الله ذلك. وقرأ زيد بن علي {وحرم ذلك} بفتح الحاء وضم الراء مخففة. وقرأ أبي بن كعب وأبو المتكل وأبو الجوزاء {وحرم الله ذلك} بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف حرم كلها. والمعنى: أي إن نكاح المؤمن المتسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها، واندماجه في سلك الفسقة المشهورين بالزنا، محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفساق، ومن حضور مواضع الفسق والفجور، التي قد تسبب له سوء المقالة، واغتياب الناس له، وكم في مجالسه الفساق من التعرض لاقتراف الآثام فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار. وجاء في الخبر: "من حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه". مبحث حكم قذف غير الزوجة من النساء 4 - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ}؛ أي: يشتمون ويقذفون {الْمُحْصَنَاتِ}؛ أي: الحرائر المكلفات العفيفات، من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، وظاهر قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} الذكور، ولكن حكم الراميات كحكمهم. {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} إلى الحكام على ما رموهن به من ذلك {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ذكور عدول، يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك {فَاجْلِدُوهُمْ}؛ أي: فاضربوا أيها الحكام أولئك القاذفين {ثَمَانِينَ جَلْدَةً}؛ أي: ضربة، جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق لظهور كذبهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء. ¬

_ (¬1) زاد المسير.

والمراد بالمحصنات هنا (¬1): الأجنبيات؛ لأن رمي الأزواج؛ أي: النساء الداخلات تحت نكاح الرامين حكمه سيأتي، وتخصيص المحصنات لشيوع الرمي فيهن، وإلا فقذف الذكر والأنثى سواء في الحكم المذكور. وبيان حكم الآية (¬2): أن من قذف محصنًا، أو محصنة بالزنا، فقال له أو لها: يا زاني أو يا زانية، أو زنيت، أو يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، أو يا ولد الزنى، أو لست لأبيك، ويا ابن فلان .. فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حرًا، وإن كان عبدًا يجلد أربعين، وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. وأجمعوا على أن شرائط إحصان القذف خمسة: الحرية والبلوغ والعقل والإِسلام والعفة من الزنا، حتى لو زنى في عمره مرة واحدة، ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك، ثم قذفه قاذف، فلا حدّ عليه، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا، أو أقام القاذف أربعة شهود يشهدون عليه بالزنا، سقط الحد عن القاذف؛ لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية وقد ثبت صدقه. وأما الكنايات في القذف، مثل أن يقول: يا فاسق، أو يا فاجر، أو يا خبيث، أو يا مؤاجر، أو يقول امرأتي لا ترد يد لامس، فهذا ونحوه لا يكون قذفًا إلا إذا أراد بذلك القذف. وأما التعريض، مثل أن يقول: أما أنا فما زنيت، أو ليست امرأتي زانية، فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: يجب فيه الحد. وقال أحمد: هو قذف في حال الغضب، دون حال الرضا. والقذف (¬3) بغير الزنا مثل أن يقول: يا شارب الخمر، يا آكل الربا يا نصراني، يا يهودي، يا مجوسي، فيوجب التعزير، كقذف غير المحصن. وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا وأقله ثلاثة؛ لأن التعزير ينبغي أن لا يبلغ أقل الحد أربعين جلدة وهي حد العبيد في القذف والزنا. والفرق بين التعزير والحد: أن الحد مقدر، والتعزير مفوض إلى رأي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

الإِمام، وأن الحد يندرىء بالشبهات دونه، وأن الحد لا يجب على الصبي، والتعزير شرع فيه، والحد يطلق على الذمي إن كان مقدرًا، والتعزير لا يطلق عليه؛ لأن التعزير شرع للتطهير والكافر ليس من أهل التطهير. وانما يسمى في حق أهل الذمة إذا كان غير مقدر عقوبةً، وإن التقاوم يسقط الحد دون التعزير، وان التعزير حق العبد كسائر حقوقه، يجوز فيه الإبراء والعفو والشهادة على الشهادة، ويجري فيه اليمين، ولا يجوز شيء منها في الحد. وفي كلمة (¬1) {ثم} في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إشعار بجواز تأخيره الإتيان بالشهود، وفي كلمة {لم} إشارة إلى العجز عن الإتيان بهم، ولا بدّ من اجتماع الشهود عند الأداء عند أبي حنيفة - رحمه الله -؛ أي: الواجب أن يحضروا في مجلس واحد. وإن جاؤوا متفرقين كانوا قذفة، وفي قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} دلالة على أنهم إن شهدوا ثلاثة يجب حدهم لعدم النصاب، وكذا إن شهدوا عميانًا، أو محدودين في قذف، أو أحدهم محدود، أو عبد لعدم أهلية الشهادة. وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، ونصب جلدة على التمييز، كما سيأتي في مبحث الإعراب. أي: اضربوا كل واحد من الرامين ثمانين ضربة، إن كان القاذف حرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا، كما مرّ، لظهور كذبهم وافترائهم بعجزهم عن الاتيان بالشهداء، كما سبق. وقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} عطف (¬2) على {اجلدوا} داخل في حكمه تتمة له لما فيه من معنى الزجر؛ لأنه مؤلم للقلب، كما أن الجلد مؤلم للبدن وقد آذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه جزاء وفاقًا؛ أي: فاجمعوا لهم بين الأمرين الجلد وترك قبول الشهادة؛ لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول، بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. ذكره الشوكاني. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[5]

وفائدتها: تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي، وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإِسلام؛ لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة، بل أهليته لها حدثت بعد إسلامه، فلا يتناولها الرد. والمعنى: لا تقبلوا من القاذفين شهادةً من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند القذف {أَبَدًا}؛ أي (¬1): ما داموا مصرين على عدم التوبة، وهذا هو المراد بالأبدية بدليل الاستثناء الآتي، وهذا على مذهب الإِمام الشافعي ومالك، من رد الاستثناء إلى الجملتين، وأما على مذهب أبي حنيفة من رده إلى الأخير فقط .. فالمراد بالأبد مدة حياتهم، وإن تابوا وأصلحوا. {وَأُولَئِكَ} القاذفون {هُمُ} لا غيرهم {الْفَاسِقُونَ}؛ أي: المحكوم عليهم بالفسق؛ أي: الكاملون في الفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحدود. قال في "الكبير": يفيد أن القذف من الكبائر؛ لأن الفسق لا يقع إلا على صاحبه. والمعنى: أي (¬2) وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم، إذ أنهم فسقوا عن أمره، وارتكبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبًا وبهتانًا، وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين في شك من أمرهن دون أن يكون في ذلك فائدة دينية ولا دنيوية، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن في ذلك مصلحة في الدين. 5 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ورجعوا عما قالوا، وندموا على ما تكلموا. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعدما اقترفوا ذلك الذنب العظيم، والقذف الذميم، {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام لحد، والاستحلال من المقذوف. وقد (¬3) اختلف في هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فقط، وهي ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

جملة الحكم عليهم بالفسق، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة أبدًا، وإن تاب، وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الأخيرتين الثانية، وهي جملة عدم قبول الشهادة والثالثة هي جملة الحكم عليهم بالفسق، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق؛ لأن سبب ردها، وهو ما كان متصفًا به من الفسق بسبب القذف قد زال بالتوبة بالإجماع، فتكون شهادته مقبولة، وعلى هذا القول جمهور العلماء، منهم سعيد بن المسيب وجماعة من السلف، وهو رأي مالك والشافعي وأحمد، وهذا (¬1) هو القول الحق الراجح؛ لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها، مع كون الكلام واحدًا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أن الاستثناء لا يعود إلى جملة الجلد، بل يجلد التائب كالمصر. وقد اختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: أن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه، ولا رجع عن قوله، ويؤيد هذا القول الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفرًا، فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى، هكذا حكى الإجماع القرطبي. وجملة قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورًا له، مرحومًا من الرحمن الرحيم، غير فاسق ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة، كانه قيل: فحينئذٍ لا يؤاخذهم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[6]

الله سبحانه بما فرط منهم، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين؛ لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة؛ أي: فإن الله ستار لذنوبهم التي أقدموا عليها، بعد أن تابوا عنها، رحيم بهم، فيزيل عنهم ذلك العار، الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به. وفي الآية (¬1): إشارة إلى غاية كرم الله تعالى، ورحمته على عباده، بأن يستر عليهم ما أراد بعضهم إظهاره على بعض، وإن لم يظهر صدق أحدهما أو كذبه، ولتأديبهم أوجب عليهم الحد، ورد قبول شهادتهم أبدًا، وسماهم الفاسقين، وليتصفوا بصفاته الستارية والكريمية والرحيمية فيما يسترون عيوب إخوانهم المؤمنين. ولا يتبعوا عوراتهم. حكم قذف الرجل زوجه 6 - ثم بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات على العموم ذكر حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح، فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}؛ أي: والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}؛ أي: فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات بالله على أنه صادق فيما رماها به من الزنا، فجملة: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}، هي المشهود به، وأصله (على أنه)، فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها. 7 - {وَ} الشهادة {الْخَامِسَةُ} للأربع المتقدمة؛ أي: الجاعلة لها خمسًا بانضمامها إليهن، وهي مبتدأ خبره قوله: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ} سبحانه، وطرده من رحمته في الدنيا والآخرة {عَلَيْهِ}؛ أي: على الملاعن {إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما رماها به من الزنا، فإذا لاعن الرجل .. حبست الزوجة حتى تعترف فترجم، أو تلاعن. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وفي "الفتوحات" (¬1) قوله: {أَزْوَاجَهُمْ} جمع زوج بمعنى الزوجة، فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها، إلا في الفرائض، ولم يقيدها بالمحصنات، إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها، فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج، وفي قذف غيرها يسقط التعزير، كان كانت ذميةً أو أمة، أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف الصغيرة التي لا تحتمله، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار، فإن الواجب في قذفها التعزير، لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} لا مفهوم لهذا القيد، فإنه يلاعن ولو كان واجدًا للشهود الذين يشهودن بزناها، وعبارة "المنهج مع شرحه": ويلاعن ولو مع إمكان بينة بزناها؛ لأنه حجة كالبينة، وصدنا عن الأخذ بظاهر قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} من اشتراط تعذر البينة الإجماع، فالآية مؤولة بأن يقال: فإن لم يرغب في البينة فيلاعن، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، على أن هذا القيد خرج على سبب، وسبب الآية: كان الزوج فيه فاقدًا للبينة، وشرط العمل بالمفهوم أن لا يخرج القيد على سبب فيلاعن مطلقًا لنفي الولد ولدفع العقوبة حدًا أو تعزيرًا. اهـ. وصورة قذفها بأن يقول لها (¬2): يا زانية أو زنيت، أو رأيتك تزني. قال في "بحر العلوم": إذا قال: يا زانية، وهما محصنان، فردت بلا بل أنت حدت؛ لأنها قذفت الزوج، وقذفه إياها لا يوجب الحد بل اللعان، وما لم ترفع القاذف إلى الإِمام لم يجب اللعان. وقرأ الجمهور (¬3): {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بإضافة أربعة إلى شهداء. وقرأ أبو زرعة وعبسد الله بن سلم {بأربعة} بالتنوين، وهي قراءة فصيحة؛ لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة، كان الاتباع أجود من الإضافية، ولذلك رجح ابن جني هذه ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) روح الببان. (¬3) البحر المحيط.

القراءة على قراءة الجمهور، من حيث أخذ مطلق الصفة، وليس كذلك؛ لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، فتكون الإضافة فيها أرجح من الاتباع. وقرأ الجمهور: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} بالياء وهو الفصيح؛ لأنه إذا كان العامل مفرغًا لما بعد إلا، وهو مؤنث، فالفصيح أن يقول: ما قام إلا هند. وقرأ أبو المتوكل وابن يعمر والنخعي {تكن} بالتاء الفوقية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بفتح العين بالنصب على المصدرية، وارتفع فشهادة على كونه خبرًا لمحذوف؛ أي: فالحكم أو الواجب شهادة أحدهم، أو على كونه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فشهادة أحدهم كافية، أو واجبة، أو فعليهم شهادة أحدهم، وبالله من صلة شهادات. ويجوز أن يكون من صلة فشهادة. قاله ابن عطية. وقال الزجاج: من رفع {أربع} فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدًا لقذف أربع. ومن نصب فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع. اهـ. وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبوحيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان {أربع} بالرفع خبرًا للمبتدأ. وهو فشهادة. وبالله من صلة شهادات على هذه القراءة. ولا يجوز أن يتعلق، بـ {فشهادة} للفصل بين المصدر ومعموله بحرف الجر. ولا يجوز ذلك. وقرأ الجمهور: {وَالْخَامِسَةُ} بالرفع في الموضعين. وقرأ طلحة والسلمي والحسن وقتادة والأعمش وخالد بن أياس ويقال: ابن الياس بالنصب فيهما. وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى. فالرفع على الابتداء، وما بعده الخبر. ومن نصب الأولى فعطف على أربع في قراءة من نصب أربع. وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع أربع؛ أي: وتشهد الخامسة. ومن نصب الثانية فعطف على أربع. وعلى قراءة النصب في الخامسة يكون أن بعده على إسقاط حرف الجر؛ أي: بأن. وجوز أن يكون أن وما بعده بدلًا من الخامسة. وقرأ نافع: {أن لعنة} بتخفيف أن، ورفع لعنة. و {أن غضب}، بتخفيف

أن، وغضب فعل ماض، والجلالة بعد مرفوعة، وهي أن المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما. والحسن {أن لعنة} كقراءة نافع، و {أن غضب} بتخفيف أن وغضب مصدر مرفوع وما بعده خبره. وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ باقي السبعة: {أن لعنة الله}، و {أن غضب الله} بتشديد أن ونصب ما بعدها اسمًا لها، وخبرها ما بعدها. قال ابن عطية: وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله: {أن غضب} قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل، إلا أن يفصل بينهما وبينه بشيء، نحو قوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ}. وقوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ}. فصل في بيان حكم الآية واعلم: أن الرجل إذا قذف (¬1) امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية، وجوب الحد عليه إن كانت محصنة، أو التعزير إن كانت غير محصنة، غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا قذف أجنبيًا أو أجنبية يقام عليه الحد، إلا أن يأتي بأربعة يشهدون بالزنا، أو يقر المقذوف بالزنا، فيسقط عنه الحد. وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين، أو لاعن، سقط عنه الحد. فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة؛ لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلًا، ربما لا يمكنه إقامة البينة، ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه. فقال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. وإذا أقام الزوج بينة على زناها، أو اعترفت هي بالزنا .. سقط عنه الحد واللعان إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه، فله أن يلاعن لنفيه، وإذا أراد الإِمام أن يلاعن بينهما .. بدأ بالرجل فيقيمه، ويلقنه كلمات اللعان، فيقول: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا، وان كان قد رماها برجل بعينه .. سماه في اللعان، ويقول كما يلقنه الإِمام، وان كان ولد أو حمل يريد نفيه، يقول: وإن هذا الولد، أو هذا الحمل لَمِنَ الزنا، ما هو منى، ويقول في الخامسة: علي لعنة ¬

_ (¬1) الخازن.

[8]

الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة، وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإِمام، لا تحسب. فإذا فرغ الرجل من اللعان، وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة، وحرمت عليه على التأبيد، وانتفى عنه النسب، وسقط عنه الحد، ووجب على المرأة حد الزنا. فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج. 8 - {وَيَدْرَأُ}؛ أي: يدفع {عَنْهَا}؛ أي: عن المرأة المرمية {الْعَذَابَ} الدنيوي، وهو الحد. وفاعل يدرأ قوله: {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ}، أي: أن تحلف بالله أربعة أيمان {إِنَّهُ}؛ أي: أن الزوج الذي رماني {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما رماني به من الزنا؛ أي: ويدفع عن المرأة الحد، شهادتها أربع شهادات بالله، إن هذا الزوج الذي رماني لمن الكاذبين فيما رماني به. 9 - {وَالْخَامِسَةَ} بالنصب عطفًا على أربع شهادات؛ أي: وتشهد المرة الخامسة للمرات الأربع. كذلك قرأ (¬1) حفص والحسن والسلمي وطلحة والأعمش. وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء وخبره {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} سبحانه {عليها}؛ أي: علي {إن كاَنَ} هذا الزوج الذي رماني {مِنَ الصَّادِقِينَ}: فيما رماني به من الزنا. والغضب (¬2): ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الغضب، فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه". فإذا وصف الله به فالمراد لازمه، وهو الانتقام دون غيره، وتخصيص الغضب بجانب المرأة، واللعن بجانب الرجل للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته؛ لأن الغضب أشد من اللعنة؛ لأن اللعنة مطلق الطرد من الرحمة، والغضب الطرد من الرحمة مع إرادة الانتقام منه، ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة، فربما تجترىء على التفوه به لسقوط وقعه على قلوبهن بخلاف الغضب. ومعنى الآية: أي (¬3) ويدقع عنها العقوبة الدنيوية، وهي الحد، أن تحلف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

بالله أربعة أيمان أن زوجها الذي رماها بما رماها، من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقًا فيما اتهمها به. وخصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله عليها؛ تغليظًا عليها؛ لأنها هي سبب الفجور ومنبعه بخديعتها وإطماعها الرجل في نفسها، كما مر آنفًا. نبذة من أحكام اللعان واعلم: أن الزوج إذا لاعن (¬1) .. وجب على المرأة حدّ الزنا، فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به. ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد، وهو إسقاط الحد عنها, ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان. وعند أصحاب الرأي: لا حد على من قذف زوجته بل موجبه اللعان، فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان، حبست حتى تلاعن. وعند الآخرين اللعان حجة صدقه، والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس، بل يحد، كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة. وعند أبي حنيفة: موجب اللعان وقوع الفرقة، ونفي النسب، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعًا، وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين. وبه قال الشافعي. وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه، لا فيما له، فيلزمه الحد، ويلحقه الولد، لكن لا يرتفع تأبيد التحريم. وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق، فإذا أكذب نفسه .. جاز له أن ينكحها. وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم. وعند أبي حنيفة إذًا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل. وكل من صح يمينه .. صح لعانه حرًّا كان أو عبدًا مسلمًا كان أو ذميًا. وهو قول سعيد بن المسيب وسلمان بن يسار ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[10]

والحسن، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي: لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين، فإن كان أحد الزوجين رقيقًا أو ذميًا أو محدودًا في قذف، فلا لعان بينهما. وظاهر القرآن حجة لمن قال: يجري اللعان بينهما؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره. ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه، ويغلظ اللعان بأربعة أشياء، بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس. أما تعدد الألفاظ فيجب، ولا يجوز الإخلال بشيء منها. وأما المكان: فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن، فإن كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر. وأما الزمان: فهو أن يكون بعد العصر. وأما الجمع فأقله أربعة، والتغليظ بالجمع سنة، فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز. وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان. وبيان اللعان متبعًا موضعه كتب الفروع، فيطلب هناك، وكذا القذف. 10 - وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج، بين أن في هذا تفضلًا على عباده، ورحمة بهم، فقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ}؛ أي: تفضله سبحانه {عَلَيْكُمْ} أيها القاذفون والمقذوفات {وَرَحْمَتُهُ} سبحانه بالستر لكم؛ أي: لولا تفضله عليكم بالستر ورحمته لكم به في القذف. وجواب {لولا} محذوف، تقديره: لنال الكاذب منكم عذاب عظيم. وفي قوله: عليكم (¬1) التفات عن الغيبة في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}. وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى الخطاب. والخطاب لكل من الفريقين؛ أي: القاذفين والمقذوفات، ففي الكلام تغليب صيغة الذكور على صيغة الإناث، حيث لم يقل: عليكم وعليكن. وجملة قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} سبحانه {تَوَّابٌ} بعوده على من يرجع عن ¬

_ (¬1) الفتوحات.

المعاصي بالرحمة. {حَكِيمٌ}؛ أي: فيما فرضه من الحدود. معطوفة على مدخول {لولا}. وحذف (¬1) جواب {لولا} للتهويل والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل: لولا تفضله عليكم ورحمته، أيها الرامون والمرميات. وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة. حكيم في جميع أفعاله وأحكامه، التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان، لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان. ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك .. لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن الظاهر صدقه؛ لأنه أعرف بحال زوجته، وأنه لا يفتري عليها؛ لاشتراكهما في الفضاحة. وبعدما شرع لهم ذلك، لو جعل شهاداته موجبة لحدّ القذف عليه .. لفات النظر له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل شهادات كل منهما، مع الجزم بكذب أحدهما حتمًا، دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية. وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأه عنه وأطم. وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى. أما على الصادق فظاهر، وأما على الكاذب فهو إمهال له، والستر عليه في الدنيا، ودرأ الحد عنه، وتعريضه للتوبة، حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته وأدق حكمته. والخلاصة (¬2): أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم، وأنه قابل لتوبتكم في كل آن، وأنه حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان .. لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك .. لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه؛ لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضيحة. ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها .. لأهمل أمرها، وكثر افتراء الزوج عليها, لضغينة قد تكون في نفسه من أهلها. وفي كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

هذا خروج من سابق الحكمة والفضل والرحمة. ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما، دارئة عند العقوبة الدنيوية. وإن كان قد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه، وهو العقاب الأخروي. تنبيه: وكررت (¬1) {لولا} في هذا السياق أربع مرات، لاختلاف الأجوبة فيها، إذ جواب الأول منها محذوف، تقديره: لفضحكم. وجواب الثاني مذكور، وهو قوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وجواب الثالث محذوف، تقديره: لعجل لكم العذاب. وجواب الرابع مذكور. وهو قوله: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}. قال ابن جرير الطبري: (18/ 86) يقول تعالى ذكره: ولولا (¬2) فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عواد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم وسياسته لهم .. لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبكم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلًا رحمة منه بكم، وتفضلًا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدم عما عنه نهاكم من معاصيه. وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه. اهـ. الإعراب {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}. {سُورَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه الآيات الآتي ذكرها. أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها بجملة {أَنْزَلْنَاهَا} والجملة الاسمية مستأنفة. {أَنْزَلْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة القعلية في محل الرفع صفة لـ {سُورَةٌ}. {وَفَرَضْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَاهَا}. وكذلك جملة {وَأَنْزَلْنَا} معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَاهَا}. {فِيهَا} متعلق بـ {أنزلنا}. {آيَاتٍ}: ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الطبري.

مفعول به لـ {أنزلنا}. {بَيِّنَاتٍ}: صفة لـ {آيَاتٍ}. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَذَكَّرُونَ} في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. {الزَّانِيَةُ}: مبتدأ. {وَالزَّانِي}: معطوف عليه. {فَاجْلِدُوا} {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط في العموم، كما مر. {اجلدوا}: فعل وفاعل. {كُلَّ وَاحِدٍ}: مفعول به. {مِنْهُمَا}: صفة لـ {واحد}. {مِائَةَ جَلْدَةٍ}: منصوب على المفعولية المطلقة، لنيابته عن المصدر، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتفصيل ما ذكر من الآيات البينات. وفي "الفتوحات" قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} في رفعهما وجهان: أحدهما: مذهب سيبويه، أنه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فيما يتلى عليكم، حكم الزانية والزاني. و {الفاء}: في {فَاجْلِدُوا} على هذا الوجه: تفصيلية للحكم المتلو المجمل؛ لأنه لما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل .. ذكر حكمهما مفصلًا بقوله: {فَاجْلِدُوا}؛ لأنه أوقع في النفس من ذكره أول وهلة. وثانيهما: مذهب الأخفش وغيره، وهو أنه مبتدأ، والخبر جملة الأمر، كما جرينا عليه في إعرابنا؛ لأن عدم التقدير أولى من التقدير. ودخلت الفاء حينئذٍ، لشبه المبتدأ بالشرط. فالفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لكونه جملة طلبية، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى عند قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. فجدد به عهدًا. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ}: {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تَأْخُذْكُمْ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية. {بِهِمَا}: جار ومجرور متعلق به. {رَأْفَةٌ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة {فَاجْلِدُوا}. {فِي دِينِ

اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {تَأْخُذْكُمْ} أيضًا. وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها، أو هي نفس الجواب عند بعضهم. اهـ. "سمين". {إن}: حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن}، على كونه فعل شرط لها، وجملة {تُؤْمِنُونَ} في محل النصب خبر {كان}. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُونَ}. {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة. {الْآخِر}: صفة لـ {اليوم}. وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم تؤمنون بالله، واليوم الآخر، فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، وجملة {إن} الشرطية معترضة. {وَلْيَشْهَدْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: لام الأمر. {يشهد}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {عَذَابَهُمَا}: مفعول به. {طَائِفَةٌ}: فاعل. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {طائفة}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}. {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}. {الزَّانِي}: مبتدأ. {لَا يَنْكِحُ}: فعل وفاعل مستتر. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {زَانِيَةً}: مفعول به. {أَوْ مُشْرِكَةً}: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان حال الفاسق الخبيث. {وَالزَّانِيَةُ}: مبتدأ. {لَا يَنْكِحُهَا}: فعل ومفعول به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {زَانٍ}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص. {أَوْ مُشْرِكٌ} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} فعل ونائب فاعل. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} متعلق به. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان حكم نكاح الزواني والمشركات. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}

{وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الذين}: مبتدأ. {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {لَمْ يَأْتُوا}: جازم وفعل مجزوم وفاعل. {بِأَرْبَعَةِ}: متعلق بـ {يأتوا}. {شُهَدَاءَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة، لمنعه من الصرف، لمكان ألف التأنيث الممدودة، والجملة معطوفة على جملة {يرمون}. {فَاجْلِدُوهُمْ} {الفاء}: رابطة لخبر الموصول المتضمن معنى الشرط. {اجلدوهم}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. {ثَمَانِينَ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {جَلْدَةً}: تمييز له منصوب به والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان نوع آخر من حدود الزنا. {وَلَا تَقْبَلُوا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَقْبَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة {فَاجْلِدُوهُمْ}. {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف، حال من {شَهَادَةً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {شَهَادَةً} مفعول به. {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {تَقْبَلُوا}. {وَأُولَئِكَ}: {الواو}: عاطفة. {أولئك}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان. {الْفَاسِقُونَ}: خبر عن {أولئك}، أو خبرهم، والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} على كونها خبر الموصول. {إِلَّا}: أداة استثناء. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب على الاستثناء. {تَابُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. {وَأَصْلَحُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَابُوا}. واختلف في هذا الاستثناء، فقيل: هو متصل؛ لأن المستثنى منه في الحقيقة {الذين يرمون}، والتائبون من جملتهم لكنهم مخرجون من الحكم. وهذا شأن المتصل. وقيل: هو منقطع؛ لأنه لم يقصد إخراجه من الحكم السابق، بل قصد به إثبات أمر آخر، وهو أن التائب لا يبقى فاسقًا؛ ولأنه غير داخل في صدر الكلام؛ لأنه غير فاسق اهـ. "شهاب". وهذا التوجيه ضعيف جدًّا، إذ يلزم عليه، أن يكون كل استثناء منقطعًا، لجريان التوجيه المذكور فيه تأمل. {فَإِنَّ اللَّهَ} {الفاء}: تعليلية. {إن الله}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ}: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة،

مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الذين}: مبتدأ أول. {يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجمله صلة الموصول ومتعلق {يرمون} محذوف، تقديره: بالزنا. {وَلَمْ يَكُنْ}: {الواو}: عاطفة. {لم يكن}: جازم ومجزوم. {لَهُمْ}: خبر {يَكُنْ} مقدم على اسمها. {شُهَدَاءُ}: اسمها مؤخر. {إِلَّا}: أداة استثناء. {أَنْفُسُهُمْ}: بدل من {شهداء}. ويجوز أن تكون {إِلَّا}: بمعنى غير. فتكون {أَنْفُسُهُمْ}: نعتًا لـ {شُهَدَاءُ}. وقد ظهر عليها إعراب إلا على حد قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ، لشبه الموصول بأسماء الشروط في العموم. {شهادة أحدهم}: مبتدأ شأن ومضاف إليه. {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بالرفع خبر للمبتدأ الثاني ومضاف إليه. {بِاللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهَادَاتٍ}، أو {بشهادة}. فالمسألة من باب التنازع، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، والجملة من المبتدأَ الأول وخبره، مستأنفة مسوقة لبيان أحكام اللعان، وهو مبسوط في كتب الفقه. وقرأ الجمهور: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بالنصب، فيكون خبر فـ {شَهَادَةُ} مقدرًا، إما مقدمًا، تقديره: فعليهم شهادة أحدهم، أربع شهادات. أو مؤخرًا، تقديره: فشهادة أحدهم، أربع شهادات كائنة، أو واجبة. أو هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فالواجب شهادة أحدهم: أربع منصوب على المفعولية المطلقة، والعامل فيه مصدر مثله. نظيره قوله تعالى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} وقد ناب هنا عن المصدر عدده، {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وكسرت همزة {إن} لوجود اللام المزحلقة و {اللام}: حرف ابتداء {مِنَ الصَّادِقِينَ}: جار ومجرور خبر {إن} وجملة {إن}: وما بعدها في محل النصب معمول {شَهَادَاتٍ}، أو شهادة؛ لأن أصله يشهد على أنه صادق، فحذف الجار وكسرت {إن}، وعلق العامل عنها لأجل اللام في الخبر. {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)}.

{وَالْخَامِسَةُ} {الواو}: اعتراضية. {الخامسة}: مبتدأ؛ أي: الشهادة الخامسة. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {لَعْنَتَ اللَّهِ}: اسمها ومضاف إليه. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية. للمبتدأ، والتقدير: والخامسة إثبات لعنة الله عليه، والجملة الاسمية معترضة. {إن}: حرف شرط. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بأن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على الملاعن؛ أي: الزوج. {مِنَ الْكَاذِبِينَ}: جار ومجرور خبر {كَانَ}، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه ما قبله؛ أي: إن كان من الكاذبين فيما رماها به، فعليه لعنة الله سبحانه، وجملة {إن} الشرطية معترضة. ويقرأ: الخامسة، بالنصب على تقدير ويشهد الخامسة، والتقدير: ويشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه. ويجوز أن يكون بدلًا، من الخامسة. ذكره أبو البقاء. {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}. {وَيَدْرَأُ}: {الواو}: عاطفة. {يدرأ}: فعل مضارع. {عَنْهَا}: متعلق به. {الْعَذَابَ}: مفعول به، {أَن}: حرف نصبـ {تَشْهَدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} المصدرية وفاعله ضمير يعود على الملاعنة {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ}: منصوب على المفعولية المطلقة. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {شَهَادَاتٍ}: أو بـ {تَشْهَدَ}. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: ويدرأ عنها العذاب شهادة أربع شهادات بالله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية في قوله: والذين يرمون المحصنات. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}: خبره. و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} ومعموليها في محل النصب معمول لـ {تَشْهَدَ}، ولكنه علق عنه باللام: وذلك كسرت همزة {إن}، والأصل أن تشهد أربع شهادات، على أنه لمن الكاذبين. {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}. {وَالْخَامِسَةَ}: بالنصب معطوف على {أَرْبَعَ}؛ أي: وتشهد الخامسة. {أَنَّ} حرف نصب ومصدر. {غَضَبَ اللَّهِ}: اسمها. {عَلَيْهَا}: جار ومجرور خبر

{أن}. وجملة {أن} في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف؛ أي: وتشهد الخامسة على كون {غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا}. وبالرفع مبتدأ، والخبر جملة أن غضب الله عليها. {إِن} حرف شرط. {كَانَ} في محل الجزم بـ {أن}، واسمها ضمير يعود على الزوج. {مِنَ الصَّادِقِينَ} خبرها. وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: إن كان من الصادقين، فعلي غضب الله. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية {لولا}: حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {فَضْلُ اللَّهِ}، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: ولولا فضل الله عليكم موجود. {وَرَحْمَتُهُ} معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ}، وجواب {لولا} محذوف، تقديره: لبين الحق في ذلك، وعاجل بالعقوبة لمن يستحقها، وجملة {لولا} مستأنفة، {وَأَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {تَوَّابٌ} خبر أول له {حَكِيمٌ}: خبر ثان له. وجملة {أن} في تأويل مصدر، معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ} على كونه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: ولولا كون الله توابًا حكيمًا موجود .. لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. التصريف ومفردات اللغة {سُورَةٌ}: السورة: في اللغة المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة. قال النابغة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أعْطَاكَ سُوْرَةً ... تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُوْنَهَا يَتَذَبْذَبُ وسميت المجموعة من الآيات لها بدء ونهاية: سورةً، لشرفها وارتفاعها، كما يسمى السور للمرتفع من الجدار. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} قال في المفردات: الزنى: يقصر، وقد يمد، فيقال: الزناء، ويصح أن يكون الممدود مصدر المفاعلة، والنسبة إليه زنوى. انتهى. فبنية الزنا والزناء بالقصر، والمد قال الفرزدق: أَبَا خَالِدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْلَمْ زِنَاؤُهُ ... وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا قال الفراء: المقصور من زنى الثلاثي والممدود من زاني الرباعي. يقال:

زاناها مزاناة وزناء، وخرجت فلانة تزاني وتباغي، وقد زنى بها. وجمع الزاني زناة، كالطاغي والطغاة والباغي والبغاة. وجمع الزانية الزواني كالجارية والجواري، وزناة تزنية نسبه إلى الزنا، وهو ولد زنية بفتح الزاي وكسرها. {رَأْفَةٌ}: في "المختار" والرأفة: أشد الرحمة، وقد رؤف بالضم، رآفة ورأف به يرأف مثل قطع يقطع. ورئف به من باب طرب، كله من كلام العرب، فهو رؤوف على وزن فعول. ورؤف على وزن فعل اهـ. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الشهود: الحضور. والعذاب: الإيجاع الشديد، قال بعضهم: العذاب: إكثار الضرب بعذبة السوط؛ أي: بطرفه. وقيل: غير ذلك. وفي تسميته عذابًا دليل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذابًا؛ لأنه ألم مانع من معاودة، كما يسمى نكالًا؛ أي: عقابًا يردع عن المعاودة. والطائفة: فرقة يمكن أن تكون حافة حول الشيء، وحلقة من الطوف. والمراد به جمع يحصل به التشهير والزجر. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الرمي يقال في الأعيان كالسهم والحجر، ويقال: في المقال كناية عن الشتم كالقذف، فإنه في الأصل الرمي بالحجارة ونحوها مطلقًا. قال في "الإرشاد": في التعبير عن التفوه، بما قالوا في حقهن بالرمي المنبي عن صلابة الآلة، وإيلام المرمي، وبعده إيذان بشدة تأثيره فيهن. والمحصنات: العفائف وهو بالفتح، يقال: إذا تصور حصنها من نفسها وبالكسر يقال: إذا تصور حصنها من غيرها، والحصن في الأصل معروف، ثم تجوز به في كل تحرز. ومنه درع حصينة لكونها حصنًا للبدن وفرس حصان؛ لكونه حصنًا لراكبه، وامراة حصان، للعفيفة. وأصل الإحصان المنع، سميت العفيفة (محصنة)؛ لأنها منعت نفسها عن القبيح. ومنه الحصين؛ لأنه يمنع من الأعداء. (يدرأ)؛ أي: يدفع من الدرء، وهو الدفع. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان

والبديع: فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} حيث حذف المبتدأ أو الخبر. وأشير إليها بالمبتدأ المحذوف. مع عدم سبق ذكرها؛ لأنها باعتبار كونها في شرف الذكر في حكم الحاضر المشاهد. منها: التنكير في سورة للتفخيم؛ أي: هذه صورة عظيمة الشأن جليلة القدر أنزلها الله سبحانه. ومنها: الإطناب بتكرير لفظ أنزلنا في قوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ لإبراز كمال العناية بشأنها، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام، للعناية والاهتمام به. ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: التحريض وإثارة الغضب لله إلهاب الحفاظ لدين الله وحكمه. وكذا في قوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} لما في النهي والشرط من التحريض، وإثارة المؤمنين على أن يتصلبوا في دينهم، وأن لا تأخذهم هوادة أولين، في تنفيذا أمرهم به، لاستيفاء حدوده. ومنها: الحصر في قوله: {إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}؛ لأن ظاهر النظم يشعر بأن الزاني لا ينكح المؤمنة العقيفة، وأن الزانية لا ينكحها المؤمن التقي، ولما كان ذلك غير ظاهر الصحة، كان لا بد من حمل الأخبار على الأعم الأغلب، كما في قولك لا يفعل الخير إلا الرجل المتقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}؛ لأن أصل الرمى القذف بالحجارة، أو بشيء صلب، ثم استعير للقذف باللسان، بجامع الإيذاء في كل، لكونه جناية بالقوَل، كما قال النابغة: وجرح اللسان كجرح اليد. ومنها: صيغ المبالغة في قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله: {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فان فعولًا وفعيلًا وفعالًا من أوزان المبالغة، وكلها تفيد بلوغ النهاية في هذه الصفات.

ومنها: الطباق بين {الصَّادِقِينَ} و {الْكَاذِبِينَ}. ومنها: حذف جواب لولا للتهويل في قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} وللإشعار بضيق العبارة عن حصره، حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب، فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والزجر. ومنها: الالتفات في قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فقد التفت من الغيبة في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى الخطاب لتسجيل المنة على المخاطبين، بحيث لا تبقى لديهم أعذار واهية، يتشبثون بها إذا هم تجاوزوا حدود ما بينه لهم. ومنها: التغليب في قوله: {عَلَيْكُمْ} فقد غلب صيغة الذكور على صيغة الإناث حيث لم يقل عليكم وعليكن؛ لأنه بصدد مخاطبة الفريقين؛ أي: القاذفين والمقذوفات. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. تتمة: في التعبير بالإحصان في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إشارة لطيفة إلى أن قذف العفيف من الرجال أو النساء موجب لحد القذف، وأما إذا كان الشخص معروفًا بالفجور، أو مشهورًا بالاستهتار، والمجون فلا حد على قاذفه؛ لأنه كرامة للفاسق الماجن، فتدبر. دقيقة: لماذا عدل عن قوله: {تَوَّابٌ رَحِيمٌ} إلى قوله: {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} مع أن الرحمة تناسب التوبة، والجواب أن الله عز وجل، أراد الستر على العباد بتشريع اللعان بين الزوجين، فلو لم يكن اللعان مشروعًا، لوجب على الزوج حد القذف، مع أن الظاهر صدقه ولو أكتفى لعانه .. لوجب على الزوجة حدّ الزنا، فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعًا، أن شرع هذا الحكم، ودرأ عنهما العذاب بتلك الشهادات. فسبحانه ما أوسع رحمته وأجلّ حكمته. قال بعضهم: وإنما قال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ولم يقل: ولولا فضل عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله {مَا زَكَى

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}، لنعلم أن العبادات وإن كثرت فإنها من نتائج الفضل والإحسان. اللهم اجعلنا من أهل الفضل والعطاء والمحبة والولاء. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات .. ذكر في هذه الآيات العشر، براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ ...} الآيات، مناسبة (¬2) هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصص أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وبين عقاب من اتهمها بالإفك، وشديد عذابه يوم القيامة، وأسهب في هذا .. أعقب ذلك ببيان حكم عام، وهو أن كل من أَتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور، فهو مطرود من رحمة الله تعالى، بعيد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحًا. قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما برأ عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامي المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله تعالى .. أردف ذلك دليلًا ينفي الريبة عن عائشة بأجلى وضوح. ذلك أن السنة الجارية بين الخلق، مبنية على مشاكلة الأخلاق، والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. ورسول الله تعالى من أطيب الطيبين، فيجب كون الصديقة من أطيب الطيبات، على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ...} الآيات، إلى قوله: {وَمَا تَكْتُمُونَ} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حكم قذف المحصنات الأجنبيات، وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك، وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التهمة في كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة .. أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام، حتى لا يوجد بحال تورث ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

التهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ...} من آية (11) إلى آية (22)، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه البخاري في (ج 6 ص / 198) قال: حدثنا أو الربيع سليمان بن داود، وأفهمني بعضه أحمد قال: حدثني فليح عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص الليثي وعبيد بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله منه. قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضًا، زعموا أن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرًا، أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فاقرع بيننا في غزاة، وهي غزوة المريسيع، وتسمى أيضًا غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الرابعة، وقيل: في السادسة، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحيل، فلمست صدري فإذا عقد لي جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج، فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينما ¬

_ (¬1) البخاري.

أنا جالسة، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، وأتاني وكان يراني قبل الحجاب، يعني قبل نزول الحجاب، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فاستيقظت باسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء يدها, فركبتها فانطلق يقول بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحو الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرًا، والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجيهي أني لا أرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم، لا أشعر بشيء من ذلك، حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية، أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها. فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبين رجلًا شهد بدرًا، فقلت: يا هنتاه ألم تسمعوا ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرض. فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم، فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذٍ أربد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت أبوي، فقلت لأمي ما يتحدث به الناس، فقالت: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها, ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله، أو لقد يتحدث الناس بهذا! قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وأسامة بن زبد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا. وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: يا بريرة، هل رأيت فيها شيئًا يريبك،

فقالت بريرة: لا، والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرًا أغمصه عليها قط، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن، فتأكله. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا. وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فنزل وخفضهم حتى سكتوا وسكت. وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتي ويومًا، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك، إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيَّ ما قيل قبلها. وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهَّد ثم قال: يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب .. تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم، وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة،

والله يعلم إني لبريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم إني بريئة منه لتصدِّقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف، إذ قال: فصبر جميل، وإلله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحيًّا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها. فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه. فلما سرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله، فقد برأك الله. فقالت أمى: قومى إلى رسول الله. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات العشر. فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قاله لعائشة. فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقالت: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا. قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك". الحديث أخرجه البخاري في غير ما موضع. وكذا أخرجه مسلم مختصرًا. والترمذي وغيرهم. وقال عروة: لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى. قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:

[11]

فَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَتِيْ وَعِرْضِيْ ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية، سبب (¬1) نزول هذه الآية: ما أخرجه الطبراني عن الضحاك بن مزاحم، قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، إلى قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}. قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني بسند رجاله ثقات، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: هذه الآية نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله تعالى من ذلك. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت، قال: جاءت امرأة من الأنصار ققالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يرائي عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي وأنا على تلك الحال. فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ...} الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام، ليس فيها ساكن، فأنزل الله {ليس عليكم جناح ...} الآية "القرطبي". التفسير وأوجه القراءة 11 - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} واختلقوا {بِالْإِفْكِ}؛ أي: بأشد الكذب وأبلغه، وتكلموا به. مأخوذ (¬2) من الإفك وهو القلب؛ أي: الصرف؛ لأنه مأفوك عن وجهه وسننه. والمراد به ما أفك على عائشة - رضي الله عنها -، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الأمانة والعفة والشرف، فمن رماها بالسوء .. قلب الأمر عن وجهه. {عُصْبَةٌ} خبر إن؛ أي: جماعة قليلة. {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، هم زيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعباد بن المطلب وحمنة بنت جحش وهي زوجة طلحة بن عبيد الله وعبد الله بن أبي بن سلول ومن ساعدهم؛ أي: إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة، جماعة كائنة منكم في ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

كونهم موصوفين بالإيمان وعبد الله بن أبي أيضًا كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرًا، وإن كان رئيس المنافقين خفية. والمعنى: أي (¬1) إن الذين جاؤوا بالكذب والبهتان في حق عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس، لمقاصد لهم أخفوها. والله عليم بما يفعلون. والعصبة والعصابة: جماعة من العشرة إلى الأربعين، وفي التعبير بعصبة: بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينشرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس. وقوله: {لَا تَحْسَبُوهُ} كلام مستأنف؛ أي: لا تظنوا أيها المؤمنون ذلك الإفك والكذب {شَرًّا لَكُمْ}؛ أي: ضررًا لكم، والخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعائشة وصفوان، وكل من ساءه ذلك الإفك، تسلية لهم أول الأمر، {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: لا تظنوا أن فيه فتنة وشرًّا، بل هو خير لكم لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبينًا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله تعالى بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر في براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن يتكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيرًا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية، والآداب التي لا تخفى على من تأملها. فإن (¬2) قصة الإفك كانت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حق عائشة وأبويها، وفي حق جميع الصحابة امتحانًا لهم وتهذيبًا، فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يبتلى الرجل على قدر دينه"؛ أي: وذلك لأن الله سبحانه غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين، فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض .. أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه، ويرده إلى حضرته. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فساكنها وقال: "يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

وفي بعض الأخبار أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، إني أحبك وأحب قربك. اهـ. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك، حتى رد الله سبحانه رسوله عن عائشة إلى الله بانحلال عقدة حبها عن قلبه، ورد عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم - إلى الله تعالى، حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك. والشر (¬1) ما زاد ضره على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضره. وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار. ووجه كونه خيرًا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين، وصيرورة قصتها هذه شرعًا عامًا. {لِكُلِّ امْرِئٍ}؛ أي: على كل إنسان {مِنْهُمْ}؛ أي: من تلك العصبة. فاللام بمعنى على، والمرء: الإنسان، والرجل كالمرء، والألف فيه للوصل. {مَا اكْتَسَبَ}؛ أي: جزاء ما اجترح {مِنَ الْإِثْمِ} والذنب بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقل وبعضهم أكثر، فقدر العقاب يكون بقدر الخوض في الإثم، وفي "التأويلات النجمية" على حسب سعايتهم وفساد ظنهم، وهتك حرمة حرم نبيهم يكون عقابهم. انتهى. {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ}؛ أي: تحمل معظم ذلك الإثم وأكثره {مِنْهُمْ}؛ أي: من أولئك العصبة؛ أي: والذي ابتدأ به، ورغب في إشاعته، وهو عبد الله بن أبي {له}؛ أي: لذلك المتولي {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أي: شديد في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد، وأما في الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العلم الحكيم، وقد كان وأول من اختلقه لإمعانه في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف (¬2) في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم. فقيل: هو عبد الله بن أبي، وقيل: هو حسان، والأول هو الصحيح. وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهو مسطح بن أثاثة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل: جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحًا؛ لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل: لم يجلد أحدًا منهم. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء، أن الذين حدُّوا: حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحدٍّ لعبد الله بن أبيّ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكان مسطح في آخر عمره مكفوف البصر، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق، وصار حسان في آخر عمره أعمى أشل اليدين. واختلفوا في وجه تركه - صلى الله عليه وسلم - لجلد عبد الله بن أبيّ. فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحَدَّ من عداه؛ ليكون ذلك تكفيرًا لذنبهم. كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحدود أنه قال: "إنها كفارة لمن أقيمت عليه"، وقيل: ترك حده تألُّفًا لقومه واحترامًا لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين، وأطفاءً لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في "صحيح" مسلم. وقيل (¬1): الذي تولى كبره حسان كما تقدم، والعذاب العظيم عناه وحده، وضرب صفوان له بالسيف على رأسه. وقال له: تَوَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّيْ فَإِنَّنِيْ ... غُلاَمٌ إِذَا هُوْجِيْتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ وَلَكِنَّنِيْ أَحْمِيْ حِمَايَ وَأَتقِيْ ... مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِيْ الْبَرِيْءِ الظَّوَاهِرِ وأنشد حسان أبياتًا يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُ بِرِيْبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الْغَوَافِلِ حَلِيْلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْنًا وَمَنْصِبًا ... نَبِيُّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ ... كِرَامِ الْمَسَاعِيْ مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ مُهَذَّبَة قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيْمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ فَإنْ كَانَ مَا بُلَّغْتِ عَنِّيَ قُلْتُهُ ... فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِيْ إِلَيَّ أَنَامِلِيْ وَكيفَ وَوِدِّيْ مَا حَيِيْتُ وَنُصْرَتِيْ ... بِآلِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ لَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا ... تَقَاصَرَ عَنْهَا سُوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ وقرأ الجمهور: (¬1) {كِبْرَهُ} بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهشيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكِبْرُ والكُبْرُ مصدران لكَبُرَ الشيء إذا عَظُمَ، لكن استعمال العرب الضم ليس إلا في السن يقال: هذا كبر القوم؛ أي: كبيرهم سنًا أو مكانة، وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة (الكُبر الكُبر) بضم. وقيل: كبره بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم. ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات، وعاتبهم وغيرهم وزجرهم بتسعة زواجر: الأول: هذا. والثاني: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ ...} إلخ. والثالث: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ ...} إلخ. والرابع: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ...} إلخ. والخامس: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...} إلخ. والساس: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ ...} إلخ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[12]

والسابع: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ...} إلخ. والثامن: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} إلخ. والتاسع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ...} إلى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} اهـ. "شيخنا". ذكره في "الفتوحات". 12 - قال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} لولا هنا تحضيضية، بمعنى (هلا) جيء بها تأكيدًا للتوبيخ والتقريع، ومبالغة في معاتبتهم، ومعناها (¬1): إذا دخلت على الماضي التوبيخ واللوم على ترك الفعل، إذ لا يتصور الطلب في الماضي، وإذا دخلت على المضارع فمعناها الحض على الفعل والطلب له، فهي في المضارع بمعنى الأمر؛ أي: هلا إذ سمعتم الإفك إيها الخائضون؛ أي: الشارعون في القول الباطل {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: بأبناء دينهم {خَيْرًا}؛ أي: عفافًا وصلاحًا، وفيه عدول إلى الغيبة لتأكيد التوبيخ فإن مقتضى الإيمان الظن بالمؤمن خيرًا، وذب الطاعنين فيه، فمن ترك هذا الظن والذب، فقد ترك العمل بمقتضى الإيمان. المراد بأنفسهم أبناء جنسهم ودينهم، النازلون منزلة أنفسهم، كقوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فإن المراد لا يعيب بعضكم بعضًا، فإن المؤمنين كنفس واحدة إذ كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غيره من غير توقف ولا تردد بأمثالهم من آحاد المؤمنين خيرًا؛ أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أم المؤمنين أبعد. والمعنى: هلا ظن المؤمنون والمؤمنات بامثالهم من المؤمنين خيرًا وعفافًا وقت سماعهم ذلك الإفك، {وَقَالُوا}؛ أي: وقال المؤمنون {هَذَا} الإفك المنسوب إلى عائشة - رضي الله عنها - {إِفْكٌ مُبِينٌ}؛ أي: كذب ظاهر بين كونه إفكًا، فكيف بالصديقة بنت الصديق أم المؤمنين حرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[13]

وإنما عدل (¬1) عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر، ولم يقل: ظننتم بانفسكم خيرًا وقلتم، ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان, على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن، الذي قل القائم به والحافظ، وليتك تجد من يسمع فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بإخوانه. وإنما (¬2) جاز الفصل بين لولا وفعله بالظرف؛ لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه، ولذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، وذلك لأن ذكر الظرف أهم. فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله؛ أي: هلا إذ سمعتم (¬3) ما قال أهل الإفك في عائشة .. ظننتم بمن اتهم بذلك خيرًا وعفافًا؛ لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن ويكفكم عن إساءتكم الظن بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم، وهلا قلتم حينئذٍ هذا إفك ظاهر، فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه. ذاك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرةً على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم، ينفي كل شك، وإنما قيل لحسد في القلوب كامن وبغض في النفوس مكتوم. وقيل المعنى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي: هذا (¬4) إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} من العصبة الكاذبة، وهم حسان ومسطح {وَالْمُؤْمِنَاتُ} وهي حمنة بنت جحش {بِأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: بأمهاتهم أو بأخواتهم أو بأهل دينهم {خَيْرًا}؛ أي: صلاحًا وعفافًا {وَقَالُوا هَذَا} القذف لعائشة {إِفْكٌ مُبِينٌ}؛ أي: كذب ظاهر لا حقيقة له. 13 - ثم علّل سبحانه كذب الآفكين، ووبخهم على ما اختلقوه وأذاعوه بقوله (¬5): ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي. (¬4) زاد المسير. (¬5) البحر المحيط.

[14]

{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ} وهذا إما من تمام ما يقوله المؤمنون؛ أي: وقالوا: هلا جاء الخائضون {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} على ما قالوا، أو ابتداء كلام من الله سبحانه؛ أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة، بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا، وما رموها به؛ أي: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به. فجعل الله (¬1) سبحانه فصلًا بين الرمي الصادق والرمي الكاذب ثبوت أربعة شهداء وانتفائها. وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري بأربعة منونة. {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} الأربعة؛ أي: فحين لم يقيموا بينةً على ما قالوا {فَأُولَئِكَ} المفسدون الخائضون في الإفك {عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: في حكمه وشرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة .. {هُمُ الْكَاذِبُونَ}؛ أي: الكاملون في الكذب المشهود عليه بذلك، المستحقون لإطلاق الاسم عليهم دون غيرهم. 14 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ولولا هنا (¬2) امتناعية؛ أي: امتناع الشيء لوجود غيره. والخطاب للسامعين والمسلمين جميعًا؛ أي: ولولا تفضله سبحانه عليكم أيها المسلمون {فِي الدُّنْيَا} بضروب النعم التي من أجلها الإمهال للتوبة {وَ} رحمته لكم في {الْآخِرَةِ} بضروب الآلاء، التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة المقدران لكم {لَمَسَّكُمْ} عاجلًا {فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}؛ أي: بسبب الإفك الذي أفضتم وخضتم فيه، فما موصولة، والباء صببية. ويصح أن تكون مصدرية. والمعنى: حينئذٍ لمسكم بسبب إفاضتكم وخوضكم فيه؛ أي: في الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا والآخرة؛ أي: شديد يستحقر دونه التوبيخ والجلد الذي وقع لهم، غير ابن سلول فإن عذابه محتم في الآخرة، كما تقدم في قوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ...}. إلخ؛ أي: لعجل لكم العقاب في الدنيا، من جراء عا خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان. 15 - ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بحذف إحدى التاءين ظرف للمس أو للإفاضة؛ أي: ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

أي: لمسكم ذلك العذاب العظيم، وقت تلقيكم واستقبالكم ومواجهتكم ذلك الإفك، وأخذكم إياه من المخترعين {بِأَلْسِنَتِكُمْ} يأخذه ويرويه بعضكم من بعض. وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل، فيقول له: ما وراءك، فيحدثه بحديث الإفك، حتى شاع وانتشر، فلم يبق بيت ولا دار إلا طارَ فيه. وقرأ الجمهور (¬1): {تَلَقَّوْنَهُ} بفتح الثلاث وشد القاف، وشد التاء البزي وأدغم ذال إذ في التاء، وكذلك النحويان أبو عمر والكسائي وحمزة؛ أي: يأخذه بعضكم من بعض وقرأ عمر بن الخطاب {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بتاء واحدة خفيفة مضمومة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مضمومة خلفيفة، من ألقى يلقي. وقرأ معاوية وابن السميقع مثله إلا أنهما فتحا التاء والقاف من لقي الثلاثي، وقرأ ابن مسعود {إذ تتلقونه} بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف. وقرأ ابن بن كعب وعائشة ومجاهد وأبو حيوة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي {تلقونه} بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. ومعناه: إذ تسرعون بالكذب. يقال: ولق يلق إذا أسرع في الكذب. وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر {تألقونه} بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق. وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني {تيلقونه} بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة، كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ {إذ تثقفونه} يعني مضارع ثقف. قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود. {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: تقولون بأفواهكم كلامًا مختصًا بالأفواه لا مساعد له من القلوب؛ لأنه ليس تعبيرًا عما تعلمه وتعتقده قلوبكم، وإنما (¬2) قيد بالأفواه، مع أن القول لا يكون إلا بالفم؛ لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب أولًا، ثم يترجم عنه اللسان. وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على الألسنة من غير علم به في القلب. نظير قوله تعالى: {يَقُولُونَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) النسفي.

بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، وهو حرام لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. والمعنى (¬1): وتقولون قولًا مختصًا بالأفواه، من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب؛ لأنه ليس بتعبير عن علم به في قلوبكم؛ أي: إن قولهم هذا مختص بالأفواه، من غير أن يكون واقعًا في الخارج، معتقدًا في القلوب. وقيل: إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: {ويطير بجناحيه} والضمير في قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ} راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له، وتظنون حديث الإفك {هَيِّنًا}؛ أي: شيئًا سهلًا لا تبعة له، أو ليس له كثير عقوبة، أو شيئًا يسيرًا لا يلحقكم فيه إثم، حيث سكتم عن إنكاره. وجملة قوله: {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} حال من ضمير المفعول؛ أي: وتحسبون ذلك الإفك هينًا، والحال أنه عند الله عظيم ذنبه وعقابه. وفي كلام بعض السلف: لا تقولن لشيء من سيئاتك نقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وقيل المعنى: وتحسبونه هينًا؛ أي: ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم؛ أي: ذنب كبير. ومعنى الآية (¬2): ولولا تفضله ورحمته لكم لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك، وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه. وقولكم قولًا بأفواه دون أن يكون له منشأ في القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينًا سهلًا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله تعالى. وخلاصة ذلك: أنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها. 1 - تلقي الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه، فيقول له: ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر، حتى لم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع في نشره. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

2 - أنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده، ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه. 3 - استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحقة لشديد العقوبة. 16 - و {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وهذا عتاب لجميع المؤمنين؛ أي: هلا إذ سمعتم حديث الإفك {قُلْتُمْ} تكذيبًا للخائضين فيه المفترين له {مَا يَكُونُ} وينبغي {لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} الإفك العظيم، ولا يمكننا أن نخوض فيه، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه {سُبْحَانَكَ}؛ أي: ننزهك يا ربنا، عن أن تجعل لنبيك زوجة فاجرة، حالة كوننا متعجبين ممن تفوه بهذا الحديث. {هَذَا} الإفك الذي لا يصح لأحد أن يتكلم به. {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}؛ أي: كذب عظيم عند الله، التقاول به مصدر بهته؛ أي: قال: عليه ما لم يفعله. كما في "التأويلات النجمية". وأصل سبحانك (¬1)، للتعجب من عظم الأمر. ومعنى التعجب في كلمة التسبيح: أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة. وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة، كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه، والكفر غير منفر عندهم وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. والمعنى: أي (¬2) وهلا حين سمعتموه ممن بدأ به، وانتحله، أو ممن تابعه في القول قلتم تكذيبًا له، وتهويلًا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ,ولا ينبغي لنا أن نتفوه به. سبحانك رب هذا كذب صراح، يحير السامعين أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس بيت النبوة الذي هو بالعليا من الإجلال والاحترام، وعظيم المكانة. وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة. فماذا يبقى ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

للمؤمنين بعدئذ، أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق، وإنا لنبرأ إليك ربنا منه، أن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفاك أثيم، سولت له نفسه أن يكون الوسيلة في انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين. وخلاصة هذا: تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وأن لا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا، وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجوز، والعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا؛ لأن فيه إيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها, ولأن في إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقًا بأخلاق الله، والنبي يقول: "تخلقوا بأخلاق الله". قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لولا} و {قلتم}؟ قلت: للظروف شأن، وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع غيرها. انتهى. قلت (¬1): وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف، وليس كذلك بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل، فتقول: لولا زيدًا ضربت، وهلا عمرًا قتلت. وقال الزمخشري أيضًا: فإن قلت: فأي فائدةٍ في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلًا؟. قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم، أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك وينزجروا عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: ما معنى يكون، والكلام بدونه تام، لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[17]

قلت: معناه: ما ينبغي ويصح؛ أي: ما ينبغى لنا أن نتكلم بهذا, ولا يصح لنا. ومثله قوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}. 17 - ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا، فقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} سبحانه الوعظ والنصح والتذكير بالعواقب؛ أي: ينصحكم الله سبحانه، ويذكركم أيها الخائضون في أمر عائشة. ويعظكم بهذه الواعظ، التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، كراهية {أَنْ تَعُودُوا} وترجعوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا. {لِمِثْلِهِ}؛ أي: لمثل هذا القذف. {أَبَدًا}؛ أي: مدة حياتكم، أو ما دمتم أحياء مكلفين. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: مصدقين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه، فإن ذلك من مقتضى الإيمان الكامل، فإن الملك من مقتضى الإيمان الكامل. وفي قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إيماء (¬1) إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا. وفيه (¬2) حث لهم على الاتعاظ، وتهييج عظيم، وتقريع بالغ؛ لأن من شأن المؤمن الاحتراز مما يشينه من القبائح. قال في "الكبير": يدخل في هذا من قال وسمع ولم ينكر، لاستوائهما في فعل ما لا يجوز، وإن كان المقدم أعظم ذنبًا. 18 - {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ}؛ أي: ويفصل الله سبحانه وتعالى لأجلكم أيها المؤمنون في كتابه. {الْآيَاتِ} الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة وأضحة، لتتعظوا وتتأدبوا بها؛ أي: ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها, لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى. {عَلِيمٌ} بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها ودقائقها ,لا يخفى عليه شيء منها. فيجازي المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته {حَكِيمٌ} في تدبير شؤونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم. وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[19]

الأمم في ساسات الشعوب وعمارة الأرض وإقامة ميزان العدل بين أفرادها. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} ولقد صدق الله سبحانه وعده، وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفًا في ذلك الحين، وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته، حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط المستقيم والنهج القويم، تقلص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين، بعد أن كانوا سادةً حاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. 19 - ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بين ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ} هم عبد الله بن أبيّ ومن تبعه في حديث الإفك {يُحِبُّونَ}؛ أي: يريدون {أَنْ تَشِيعَ} وتنتشر {الْفَاحِشَةُ} ويظهر خبرها بين الناس. والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. والمراد هنا الزنا. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وأخلصوا دينهم لله سبحانه. وأحصنوا فروجهم عن المحرمات، كعائشة وصفوان {لَهُمْ}؛ أي: لأولئك الذين أشاعوا الفاحشة بسبب ذلك. {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: موجع بإقامة حدّ القذف عليهم {فِي الدُّنْيَا} واللعن والذم من الناس لهم فيها. {و} بعذاب النار في {الْآخِرَةِ} وبئس القرار. قال ابن الشيخ (¬1): ليس معناه مجرد وصفهم بأنهم يحبون شيوعها في حق الذين آمنوا من غير أن يشيعوا ويظهروا، فإن ذلك لا يوجب الحد في الدنيا، بل المعنى: أن الذين يشيعون الفاحشة والزنا في الذين آمنوا، كعائشة وصفوان عن قصد ومحبة لإشاعتها، وفي "الإرشاد" يحبون شيوعها، ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة، فإنها مستتبعة له لا محالة. وفي "الصحيح": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يستر عبد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[20]

مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم، أقال الله عثرته يوم القيامة". و {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ} جميع الأمور وخصوصًا ما في ضمائر من أحب الإشاعة، فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} فلا ترووا ما لا علم لكم به، وابنوا الأمر في الحد وغيره على الظواهر، والله يتولى السرائر. 20 - ثم كرر فضله ورحمته على عباده، للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب. فقال: {وَلَوْلَا} هنا امتناعية، حذف جوابها لدلالة ما قبلها عليه؛ أي: ولولا {فَضْلُ اللَّهِ}؛ أي: تفضله {عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}؛ أي: إنعامه لكم. وجملة {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} معطوفة على فضل الله؛ أي: ولولا فضله عليكم ورحمته لكم، وأنه بليغ الرأفة والرحمة بكم، لعاجلكم بالعقاب على ما صدر منكم، ومن رأفته بعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم. ومن رحمته لهم أن يقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار. وفي الآيتين إشارات: منها: أن أهل الإفك كما يعاقبون على الإظهار، يعاقبون بإسرار محبة الإشاعة، فدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين، كوجوب كف الجوارح والقول عما يضرهم. وفي الحديث: "أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها برىء، يرى أن يشينه بها في الدنيا، كان حقًا على الله أن يرميه بها في النار". فالصنيع الذي ذكر من أهل الإفك ليس صنيع أهل الإيمان، فإن من صنيع أهل الإيمان ما قاله عليه السلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كنفس واحدة، إذا اشتكى منها عضو، تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر". فمن أركان الدين: مظاهرة المسلمين، وإعانة أهل الدين وإرادة الخير بكافة المؤمنين. والذي يود الفتنة وافتضاح الناس فهو شر الخلق كالخناس. ومنها: أن ترك المعاجلة بالعذاب تعريض للتوبة. فدل على أن عذاب الآخرة، إنما هو من تقدير الإصرار.

[21]

ومنها: غاية كرم الله ورحمته وفضله على عباده، حيث يتفضل عليهم، ويرحمهم ويزكيهم عن أوصافهم الذميمة مع استحقاقهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فإنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، ولو كان للعذاب .. لكان من جهتهم بسوء اختيارهم. عصمنا الله وإياكم من الأوصاف الذميمة الموجبة للعذاب الأليم، وشرفنا بالأخلاق الحميدة، الباعثة على الدرجات والتنعمات في دار النعيم. والمعنى (¬1): ولولا أن الله تفضل عليكم، وأبقاكم بعد الخوض في الإفك، ومكنكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه. 21 - وبعدئذٍ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}؛ أي: لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره بإشاعتكم الفحشاء في الذين آمنوا بروايتكم إياها عمَّن نقلها إليكم، والخطوات (¬2) في الأصل جمع خطوة بضم الخاء، وهي ما بين القدمين كما سيأتي في مباحث اللغة، ثم استعمل اتباع الخطوات في الاقتداء، وإن لم يكن ثمة خطو. والمراد بها هنا سيرة الشيطان وطريقته. والمعنى: لا تسلكوا الطرق التي يدعوكم إليها الشيطان، ويوسوس بها في قلوبكم ويزينها لأعينكم، ومن جملتها إشاعة الفاحشة في المؤمنين وحبّها. وقرأ الجمهور (¬3): {خطوات} بضم الخاء والطاء. وقرأ عاصم والأعمش بضم الخاء وإسكان الطاء. ثم ذكر سبب النهي، فقال: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}؛ أي: ومن اتبع وسلك طرق الشيطان، ومسالكه ومذاهبه .. فقد ارتكب الفحشاء والمنكر. فقوله: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

{فَإِنَّهُ}؛ أي: فإن الشيطان {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} علة للجزاء موضعه؛ لأن دأبه أن يستمر آمرًا لغيره بهما. والفحشاء ما أفرط قبحه من المنكرات كالزنا. والمنكر كل ما ينكره الشرع. وضمير إنه للشيطان. وقيل: للشأن. والأولى أن يكون عائدًا إلى من يتبع خطوات الشيطان؛ لأن من اتبع الشيطان صار مقتديًا به في الأمر بالفحشاء والمنكر. وعبارة أبي السعود هنا. وقيل: إن الضمير في أنه عائد على من؛ أي: فإن المتبع للشيطان يأمر الناس بهما؛ فإن شأن الشيطان هو الإضلال، فمن اتبعه فإنه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد. والمعنى: أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما. ومن هذا شأنه لا ينبغي اتباعه ولا طاعته. ثم أكد منته على عباده، فقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} سبحانه {عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لكم بهذه البيانات، والتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وشرع الحدود المكفرة لها .. {مَا زَكَى}؛ أي: ما طهر من دنس الذنوبـ {مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ}! {من}: الأولى بيانية، والثانية: زائدة، و {أَحَدٍ} في حيز الرفع على الفاعلية. {أَبَدًا}؛ أي: آخر الدهر لا إلى نهاية، وجملة {زَكَى} جواب {لَوْلَا} الامتناعية. والمعنى: أي (¬1) ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكم، بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب، وتغسل أدرانها .. ما طهر أحد منكم من ذنبه ما دام حيًا، وكانت عاقبته النكال والوبال. ولعاجلكم بالعقوبة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}. وقال الكسائي (¬2): إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض. وقوله: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} جواب لقوله أولًا وثانيًا. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} وقوله: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} يفيد (¬3) أنهم قد طهروا وتابوا، ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

[22]

وهو كذلك يعني: غير عبد الله بن أبيّ، فإنه استمر على الشقاوة حتى هلك. اهـ. شيخنا. وقرأ الجمهور: {زكى} بالتخفيف. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد؛ أي: ما طهره الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} من عباده بالتفضُّل عليهم، والرحمة لهم؛ أي: ولكن الله جلت قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب، التي اجترحوها تفضلًا منه ورحمة، كما فعل بمن سلم من داء النفاق، ممن وقع في حديث الإفك، كحسان ومسطح وغيرهما. {وَاللَّهُ} سبحانه {سَمِيعٌ} لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة. {عَلِيمٌ} بما في قلوبكم، من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك. وفي هذا حث لهم على الإخلاص في التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام: وتهييج عظيم لعباده التائبين ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه. 22 - {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ}؛ أي: ولا يحلف أصحاب الفضل والدرجة في الدين {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون {و} أصحاب {السعة} في المال على {أَنْ} لا {يُؤْتُوا} ولا يعطوا شيئًا من الأموال ولا يحسنوا بالإنفاق. فهو على إسقاط الخافض، وتقدير: لا. وهو كثير شائع {أُولِي الْقُرْبَى}؛ أي: أصحاب القرابة. وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى تقدير: لا؛ أي: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم، وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه. وقوله: {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) صفات لموصوف واحد، جيء بها بطريق العطف، تنبيهًا على أن كلًّا منها علة مستقلة، لاستحقاق الإيتاء؛ لأن الكلام فيمن كان كذلك؛ لأن مسطحًا قريب ومسكين ومهاجر. والمعنى: ولا يحلف أولو الفضل والسعة، على أن لا يعطوا ناسًا جامعين لصفة القرابة ¬

_ (¬1) روح البيان.

والمسكنة والهجرة نفقة من أموالهم. ومسطح (¬1) كان ابن خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، وكان من المهاجرين وممن شهد بدرًا، وكان مسكينًا، وكان ما نسب إليه داعيًا أبا بكر أن لا يحسن إليه، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح. وقرأ الجمهور: {وَلَا يَأْتَلِ}. وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن وأبو العالية وابن أبي عبلة. {ولا يتأل} بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يتعل. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهشيم: {أن تؤتوا} بالتاء على الالتفات ويناسبه {ألا تحبون}. {وَلْيَعْفُوا}؛ أي: وليتجاوز أولو الفضل عن ذنب الخائضين، الذي أذنبوه عليهم، وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع إذا درس. والمراد: محو الذنب، حتى لا يبقى له أثر. {وَلْيَصْفَحُوا}؛ أي: وليعرضوا عن لومهم بالإغضاء عن الجاني، والإغماض عن جنايته. قال الراغب: الصفح ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو. وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. اهـ. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد {ولتعفوا ولتصفحوا} بالتاء بأمر خطاب الحاضرين. أي (¬2): وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الأفضال. ثم ذكر سبحانه ترغيبًا عظيمًا لمن عفا وصفح فقال: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} بهمزة الاستفهام التوبيخي؛ أي: ألا تحبون يا أرباب الفضل والسعة، أن يستر الله عليكم ذنوبكم بأفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك. فحينئذٍ قال الصديق: بلى والله، نحب أن يغفر لنا ربنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وكفر عن يمينه. وقال والله لا أنزعها منه أبدًا. {وَاللَّهُ} سبحانه {غَفُورٌ} لذنوب من أطاعه واتبع أمره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[23]

{رَحِيمٌ} به، لا يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم. وفي هذا ترغيب عظيم في العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب. وحث على مكارم الأخلاق. وفي "معجم الطبراني الكبير" أنه أضعف له النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف؛ أي: أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك. وقال بعضهم: مَنْ كَانَ يَرْجُوْ عَفْوَ مَنْ فَوْقَهُ ... فَلْيَعْفُ عَنْ ذَنْبِ الَّذِيْ دُوْنَهُ 23 - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُون}؛ أي: يقذفون بالزنا {الْمُحْصَنَاتِ}؛ أي: العفائف مما رمين به من الفاحشة والزنا، وأجمعوا على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حدّ القذف. {الْغَافِلَاتِ} عن الفاحشة على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها, ولا من مقدماتها أصلًا. ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس من المحصنات {الْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات، والمحظورات وغيرها، إيمانًا حقيقيًا تفصيليًا، كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها، مع أصالة وصف الإيمان. والمراد بها عائشة الصديقة - رضي الله عنها -. والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة، والانتساب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} ونظائره. وجملة قوله: {لُعِنُوا} خبر ثان؛ أي (¬1): لعنوا وطردوا من رحمة الله تعالى بسبب ما قالوا في المحصنات وهتكوا حرمتهن {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}؛ حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدًا. وأصل اللعنة: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره. {وَلَهُمْ}؛ أي: لأولئك الرامين مع ما ذكر من اللعن الأبدي {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ¬

_ (¬1) روح البيان.

لعظم ذنوبهم. قال مقاتل: هذا خاص في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق. وفي "الشواكاني" وقد (¬1) اختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أم عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة - رضي الله عنها -. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سائر المؤمنون والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية: أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه - صلى الله عليه وسلم -. ومن قذف غيرهن .. فقد جعل الله له التوبة، كما تقدم في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وقيل: إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف، ولم يتب. وقيل: إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين. واختاره الناس. وهو الموافق لما قرره أهل الأصول، من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل: إنها خاصة بمشركي مكة؛ لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة .. فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وإن كان المراد من قذف عائشة خاصة، كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين. وإن كان في مشركي مكة فإنهم ملعونون. وقيل المعنى (¬2): {لُعِنُوا}؛ أي: عذبوا {فِي الدُّنْيَا} بالحد وفي {وَالْآخِرَةِ} بالنار {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب الكفر. والخلاصة: أي (¬3) إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها، المؤمنات بالله ورسوله يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء في المؤمنات، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[24]

وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها. كما ورد في الحديث "من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". 24 - {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} هذه الجملة مقررة لما قبلها، مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل، بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. والعامل في الظرف الاستقرار الذي تعلق به الخبر، والتقدير: وعذاب عظيم كائن لهم، {يَوْمَ تَشْهَدُ} إلخ. وإنما (¬1) لم يجعل منصوبًا بالمصدر وهو عذاب؛ لأن شرط عمله عند البصريين أن لا يوصف وهنا قد وصف، وأجيب عن هذا، بأن الظرف يتسع فيه ما لا يتسع في غيره. اهـ. من "السمين". وتقديم (¬2) {عَلَيْهِمْ} على الفاعل، للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم. والشهادة معناها: قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر، أو بصيرة؛ أي: تشهد عليهم ألسنتهم بغير اختيار منهم ذنوبهم التي اقترفوها. فالمشهود به محذوف. وهذا قبل أن يختم على أفواههم، فلا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فتخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها, لا أن كلاً منها تخبر بجنايتها المعهودة فقط. فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة. وقيل المعنى (¬3): تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم. وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم، بما تكلموا به، وأيديهم وأرجلهم بما عملوا بها في الدنيا. وأن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم. وقرأ الأخوان (¬4) حمزة والكسائي والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان {يشهد} بياء من تحت؛ لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[25]

أي: ولهم (¬1) ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره، يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، من قول أو فعل. إذ ينطقها الله سبحانه بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها. ونحو الآية قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ}. وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامة، عرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا. فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقال: احلفوا فيحلفون. ثم يصمهم الله، فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ثم يدخلهم النار". ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، لئلا يعارض قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} بل شهادة الإثبات والبيان. إذ كل ما يعمله الإنسان في الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمتد لفعل شيء والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم في فلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين. فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيًا جد الكفاية في إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين. 25 - {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة. {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}؛ أي: يعطيهم الله سبحانه جزاءهم الحق الثابت، الذي لا شك في ثبوته على أعمالهم موفرًا كاملًا. والتوفية (¬2) بذل الشيء وافيًا. والواقي الذي بلغ التمام والدين الجزاء والحق منصوب على أنه صفة للدين. والمعنى: أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

الثابت الواجب الذي هم أهله وافيًا كاملًا. {وَيَعْلَمُونَ} عند معاينتهم الأهوال والخطوب {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه {هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: الثابت الوجود {الْمُبِينُ}؛ أي: الظاهر حقيته، لما أنه أبان لهم حقية ما كان يعدهم به في الدنيا من الجزاء. والخلاصة (¬1): أي في هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به في حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه. ويزول عنهم كل ريب كان قد ألم بهم في الدار الأولى. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما من يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". رواه الشيخان. قال صاحب "الكشاف": ولو قلبت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر أن الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة - رضوان الله عليها -، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه. ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث .. لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا. وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله. اهـ. وقرأ زيد بن علي (¬2): {يُوَفِّيهِمُ} مخففًا من أوفى، وقرأ من عداه: بالتشديد من وفي. وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة: بالرفع على أنه صفة للجلالة. وروي ذلك عن ابن مسعود. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس .. لكان الوجه الرفع، ليكون نعتًا لله عز وجل، ولتكون موافقة لقراءة أبيّ. وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

{يوفيهم الله الحق دينهم} قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد إلأعظم، ولا حجة فيه أيضًا؛ لأنه لو صح أنه مصحف أبي كذلك جاز أن يكون دينهم بدلًا من الحق. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: {هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}؟ قلت: معناه: ذو الحق المبين، العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء، ولا إحسان محسن. فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه. انتهى. وفي الآية أمور (¬1): منها: بيان جواز اللعنة على من كان من أهلها. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: الصفات المقتضية للعن ثلاث: الكفر، والبدعة، والفسق. وله في كل واحدة، ثلاث مراتب: الأولى: اللعن بالوصف الأعم، كقولك: لعنة الله على الكافرين، أو المبتدعة، أو الفسقة. والثانية: اللعن بأوصاف أخص منه، كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى، أو على القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة، والظلمة وآكل الربا. وكل ذلك جائز، ولكن في لعن بعض أصناف المبتدعة خطر؛ لأن معرفة البدعة غامضة، فما لم يرد فيه لفظ مأثور ينبغي أن يمنع منه العوام؛ لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله، ويثير نزاعًا وفسادًا بين الناس. والثالثة: اللعن علي الشخص، فينظر فيه، إن كان ممن ثبت كفره شرعًا، فيجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، كقولك: لعنة الله على النمرود وفرعون وأبي جهل؛ لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعًا. ان كان ممن لم يثبت حال خاتمته بعد، كقولك: زيد لعنه الله، وهو يهودي أو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[26]

فاسق، فهذا فيه خطر؛ لأنه ربما يسلم، أو يتوب فيموت مقربًا عند الله تعالى، فكيف يحكم بكونه ملعونًا. ومنها: شهادة الاْعضاء، وذلك بإنطاق الله تعالى، فكما تشهد على المذنبين بذنوبهم تشهد للمطيعين بطاعتهم، فاللسان يشهد على الإقرار وقراءة القرآن، واليد تشهد بأخذ المصحف، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد، والعين تشهد بالبكاء، والأذن تشهد باستماع كلام الله تعالى. وقيل (¬1): شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة، وشهادتها في المحبة اليوم معجلة من صفرة الوجه وتغير اللون ونحافة الجسم وانسكاب الدموع وخفقان القلب وغير ذلك. 26 - ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة، فقال: {الْخَبِيثَاتُ} من النساء {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال لا يتجاوزونهم {وَالْخَبِيثُونَ} من الرجال {لِلْخَبِيثَاتِ} من النساء؛ لأن المجانسة من دواعي الألفة ودوام العشرة {وَالطَّيِّبَاتُ} من النساء {لِلطَّيِّبِينَ} من الرجال، لما قد عرفت من الإنس بمن يحاكيك في الصفات، ويجانسك في الفضل والكمال. {وَالطَّيِّبُونَ} منهم أيضًا {لِلطَّيِّبَاتِ} منهن، لا تجاوزوهن إلى من عداهن. وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين .. استبان أن الصديقة - رضي الله عنها - من أطيب الطيبات، واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك. قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين (¬2): المعنى: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء. ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء. وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث، ومدح للذين برؤوها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}. فالخبيثات الزواني والطيبات العفائف. وكذا الخبيثون والطيبون. والإشارة في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} راجعة إلى الطيبين والطيبات؛ أي: أولئك الطيبون والطبيات، ومنهم صفوان وعائشة مبرؤون مما يقول الخبيثون من الرجال والخبيثات من النساء. وقيل: الإشارة إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة وصفوان بن المعطل. وقيل: عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والمراد أخوان. وقال في "الأسئلة المقحمة" (¬1): آية الإفك نزلت في عائشة وصفوان، فكيف ذكرها بلفظ الجمع؟ والجواب: لأن الشين وعار الزنا والمعرة بسببه تتعدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه زوجها وإلى أبي بكر الصديق؛ لأنه أبوها، وإلى عامة المسلمين؛ لأنها أمهم، فذكر الكل بلفظ الجمع؛ أي: أولئك الموصوفون بعلو الشأن، يعني أهل البيت مبرؤون؛ أي: منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة في جميع الأعصار والأطوار إلى يوم القيامة. {لَهُمْ}؛ أي: لأولئك المبرئين {مَغْفِرَةٌ} عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب التي اقترحوها من قبل. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ أي: كثير أو حسن عند ربهم في جنات النعيم. روي: أن (¬2) عائشة كانت افتخرت بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها: منها: أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرقة حرير، وقال: هذه زوجتك. وروي أنه أتى بصورتها في راحته. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكرًا غيرها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها. وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف. ونزلت براءتها من السماء. وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وخلقت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[27]

طيبة، ووعدت مغفرةً ورزقًا كريمًا، وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المبرأة من السماء. وفي "القرطبي": قال (¬1) بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام، لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد. وأن مريم لما رميت بالفحشاء برأها الله على لسان ولدها عيسى عليه السلام، وأن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله بالقول، ما رضي لها براءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. اهـ. 27 - ولما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان، لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء. فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين. وأيضًا أن الإنسان يكون في بيته وتكون خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره. فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية هي قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا} لستم تملكونها ولا تسكنونها {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} التي تسكنونها بملك أو إجارة، أو إعارة مثلًا. ووصف (¬2) البيوت بمغايرة بيوتهم خارجة مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه، وإلا فالمؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذنٍ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}؛ أي: حتى تستأذنوا الدخول ممن يملك الإذن من أصحابها، وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، وحتى يؤذن لكم. فالدخول بالإذن من الآداب الجميلة والأفعال المرضية المستتبعة لسعادة الدارين، مأخوذ من الاستئناس، بمعنى الاستسلام من آنس الشيء إذا أبصره مكشوفًا فعلم به، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو لا. ومن الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لما أن المستأنس مستوحش، خائف أن لا يؤذن له، فإذا أذن له .. استأنس، ولهذا يقال في جواب القادم المستأذن مرحبًا: أهلًا وسهلًا؛ أي: ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) روح البيان.

وجدت مكانًا واسعًا وأتيت أهلًا لا أجانب، ونزلت مكانًا سهلًا لا حزنًا ليزول به استيحاشه وتطيب نفسه. فيؤول المعنى إلى أن يؤذن لكم، فهو من باب الكناية، حيث ذكر الاستئناس اللازم وأريد الإذن الملزوم. {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}؛ أي: على سكانها عند الاستئذان، بأن يقول الواحد منكم: السلام عليم، أأدخل - ثلاث مرات - فإن أذن له، دخل وسلم ثانيًا، وإلا رجع. كما ورد في الحديث. وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم. والظاهر مطلق الاستئذان، فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث الاستئذان ثلاث يعني كمالُهُ فإن أذِنَ له وإلا فليرجع، ولا يزيد على ثلاث، إلا أن يتحقق أن من في البيت لم يسمع. ذكره في "البحر". واختلفوا هل (¬1) يقدم الاستئذان على السلام أو بالعكس. فقيل: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل، سلام عليكم، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: يقدم السلام على الاستئذان. فيقول السلام عليكم أأدخل. وهو الحق؛ لأن البيان منه - صلى الله عليه وسلم - للآية كان هكذا. وتقدير الآية: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهو كذلك في مصحف ابن مسعود. ويكون كل من السلام والاستئذان ثلاث مرات يفصل بين كل مرتين بسكونٍ يسير، فالأول: إعلام، والثاني: للتهيء، والثالث: استئذان في الدخول أو الرجوع. وإذا أتى الباب، لم يستقبله من تلقاء وجهه، بل يجيء من جهة ركنه الأيمن أو الأيسر. وقيل: إن وقع بصره على أحد في البيت، قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان ثم يسلم. اهـ. "خازن". وروى (¬2) الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أنا. كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأن قوله: أنا لا يحصل به تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه، كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأبو ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف. (¬2) القرطبي.

موسى الأشعري؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلمة السؤال والجواب، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟ وفي "صحيح مسلم" أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري. الحديث اهـ. من "القرطبي". وقد أدب الله سبحانه عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة بينهم ومن ذلك: أن لا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام، حتى لا يطلعوا على عورات غيرهم، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس في العادة، ويستحفظون من اطلاع أحد عليها، إلى أن في هذا تصرفًا في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه. {ذَلِكُمْ} الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم. {خَيْرٌ لَكُمْ} من (¬1) الدخول بغتة بغير استئذان، ولو على الأم، فإنها تحتمل أن تكون عريانة. أو من الدخول على عادة الجاهلية، حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتًا غير بيته، يقول: حييتم صباحًا، حييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمحذوف تقديره: أمرتكم بالاستئذان كي تذكروا وتتعظوا وتعلموا بموجبه. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد اهـ. "مراح". واعلم: أن (¬2) السلام من سنة المسلمين، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، وناف للحقد والضغينة. روي عنه عليه السلام قال: "لما خلق الله تعالى آدم، ونفخ فيه الروح، عطس، فقال: الحمد لله، فقال الله تعالى: يرحمك ربك يا آدم. اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه. قال: هذه تحيتك وتحية ذريتك". ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان.

[28]

ثم اعلم: أنه إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق، أو قتل نفس بغير حق، أو ظهور منكر يجب إزالته، فحينئذ لا يجب الاستئذان والتسليم، فإن كان ذلك مستثنى بالدليل، وهو ما قاله الفقهاء: من أن مواقع الضرورات مستثناة من قواعد الشرع؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. قال صاحب "الكشاف": وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة، قد تركوا العمل بها، وباب الاستئذان من ذلك. اهـ. 28 - {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا}؛ أي: في تلك البيوت {أَحَدًا} ممن يملك الإذن، على أنَّ من لا يمكله من النساء والولدان والعبيد وجدانه كفقدانه، فلا يدخله حتى يأذن له من يملك الإذن، وهو رب الدار، أو لم تجدوا فيها أحدًا أصلًا. {فَلَا تَدْخُلُوهَا} فاصبروا {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}؛ أي (¬1): من جهة من يملك الإذن عند إتيانه، فإن في دخول بيت فيه النساء والولدان اطلاعٌ على العورات، وفي دخول البيوت الخالية اطلاعٌ على ما يعتاد الناس إخفاءه، مع أن التصرف في ملك الغير محظور مطلقًا. والمعنى: إن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدًا ممن يستأذن عليه فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الإذن. والظاهر (¬2): أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}. {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ}؛ أي: وإن قال لكم أهل البيت الذي تستأذنون فيه، {ارْجِعُوا}؛ أيْ انصرفوا، {فَارْجِعُوا}؛ أي: فاذهبوا ولا تقفوا على أبواب الناس؛ أي: إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أم لا، فارجعوا ولا تلحُّوا بتكرير الاستئذان. كما في الوجه الأول، أو لا تلحُّوا بالإصرار على الانتظار على الأبواب إلى أن يأتي الإذن، كما في الثاني. فإنَّ ذلك مما يجلب الكراهة في قلوب الناس، ويقدح في المروءة أيَّ قدحٍ. {هُوَ}؛ أي: الرجوع والانصراف {أَزْكَى} وأطهر {لَكُمْ} مما لا يخلو عنه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[29]

الوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرزانة. وأفضل لكم في دينكم ودنياكم؛ لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان. ولما في ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظُنَّ بأهل البيت سوءٌ من وقوف الأجانب على أبوابهم، {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه. وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غيره، والنظر لما لا يحل. 29 - ولما بين سبحانه حكم البيوت المسكونة .. بين حكم البيوت غير المسكونة، فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {جُنَاحٌ}؛ أي: إثم ولا حرج في {أَنْ تَدْخُلُوا} بغير استئذان {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}؛ أي: غير معدة لمسكنى قوم معينين، وطائفة مخصوصة فقط، بل هي معدة لينتفع ويتمتع بها من يحتاج ويضطر إليها كائنًا من كان، من غير أن يتخذها سكنًا. كالفنادق والحوانيت والحمامات والرُّبَط ونحوها؛ فإنها معدة لمصالح الناس كافةً، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} فإنه صفة للبيوت؛ أي: لكم فيها حق التمتع والانتفاع بها، كالمبيت فيها والاستكنان بها من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة والرحال، والشراء والبيع، والاغتسال فيها، وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخلها، كقضاء حاجة الإنسان من البول والغائط. فلا بأس في دخولها بغير استئذان من قُوَّام الرباطات وأصحاب الحوانيت ومتصرفي الحمامات ونحوهم؛ لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم غير موجود فيها. روي: أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلف في تجارتنا، فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}؛ أي: ما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة. {وَمَا تَكْتُمُونَ}؛ أي: ما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس، أو من قصد

ريبة أو فساد، وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}. {إِنَّ الَّذِين}: ناصب واسمه. {جَاءُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِالْإِفْكِ}: جار ومجرور متعلق بـ {جاء}. {عُصْبَةٌ}: خبر {إِنَّ}. {مِنْكُمْ}: صفة لـ {عُصْبَةٌ}. وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تَحْسَبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، مجزوم بـ {لَا} الناهية. {شَرًّا}: مفعول ثان لحسب. {لَكُمْ}: متعلق بـ {شَرًّا}. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكل من تأسف بذلك الإفك. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {هُوَ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر. {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. {لِكُلِّ امْرِئٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {مِنْهُمْ}: صفة لامرىء. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية مستأنفة. {اكْتَسَبَ}: فعل ماض وفاعله، ضمير مستتر يعود على {امْرِئٍ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوذف تقديره: ما اكتسبه. {مِنَ الْإِثْمِ}: جار ومجرور حال من العائد المحذوف. {وَالَّذِي تَوَلَّى}: {الواو}: استئنافية. {الذي}: مبتدأ. {تَوَلَّى كِبْرَهُ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول صلة الموصول. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَوَلَّى}. {له}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ ثان مؤخر. {عَظِيمٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، أعني الموصول، وجملة الأول مستأنفة. {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا، متضمن معنى الزجر والتوبيخ. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان, في محل النصب على الظرفية، متعلق

بـ {ظَنَّ} الذي هو مدخول {لَوْلَا}. {سَمِعْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {وَالْمُؤْمِنَاتُ}: معطوف على {الْمُؤْمِنُونَ}. {بِأَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {ظن}. {خَيْرًا}: مفعول ثان له، وجملة {ظَنَّ}: مستأنفة. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {ظَنَّ}. {هَذَا إِفْكٌ}: مبتدأ وخبر. {مُبِينٌ}: صفة {إِفْكٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا}. {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا أيضًا. {جَاءُوا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {شهداء}. {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جَاءُوا}، والجملة الفعلية مستأنفة. {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا}: {الفاء}: عاطفة، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ {الْكَاذِبُونَ}. {لَمْ يَأْتُوا}: جازم وفعل مجزوم وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {بِالشُّهَدَاءِ}: متعلق بـ {يَأْتُوا} {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذْ}. {أولئك}: مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {الْكَاذِبُونَ}. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْكَاذِبُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {إِذْ}. وجملة {إِذْ} مع جوابها معطوفة على جملة {لَوْلَا جَاءُوا}. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}. {وَلَوْلَا} {الواو}: عاطفة. {وَلَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {فَضْلُ اللَّهِ}. {وَرَحْمَتُهُ}: معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ}. {فِي الدُّنْيَا}: جار ومجرور، حال من الفضل والرحمة. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على الدنيا، والتقدير: حالة كونهما كائنين في الدنيا والآخرة، وخبر {لَوْلَا} محذوف وجوبًا لقيام جواب {لَوْلَا} مقامه تقديره: موجودان، والجملة الاسمية شرط لـ {لَوْلَا} لا محل لها من الإعراب. {لَمَسَّكُمْ}

(اللام): رابطة لجواب {لَوْلَا}. {مسكم}: فعل ومفعول. {فِي}: حرف جر وسبب. {مَا}: موصولة في محل الجر بـ {فِي}. الجار والمجرور متعلق بـ {مسكم}. {أَفَضْتُمْ}: فعل وفاعل. {فِيه}: متعلق به والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير {فيه}. {عَذَابٌ}: فاعل لـ {مسكم}. {عَظِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة الفعلية جواب {لَوْلَا}، وجملة {لَوْلَا} معطوفة على جملة {لَوْلَا} الأولى. {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى، متعلق بـ {أَفَضْتُمْ}، أو بـ {مسكم}. {تَلَقَّوْنَهُ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل الخفض، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {بِأَلْسِنَتِكُمْ}: متعلق بـ {تَلَقَّوْنَهُ}. {وَتَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَلَقَّوْنَهُ}. {بِأَفْوَاهِكُمْ}: متعلق بـ {تقولون}. {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول {تقولون}؛ لأنه بمعنى تذكرون. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {لَكُمْ}: خبر {لَيْسَ}. {بِهِ}: متعلق بـ {عِلْمٌ}. {عِلْمٌ}: اسم {لَيْسَ}، وجملة {لَيْسَ}: صلة {مَا} الموصولة. {وَتَحْسَبُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به أول. {هَيِّنًا}: مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة {لَيْسَ}. {وَهُوَ}: {الواو}: واو الحال. {هو}: مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ}: حال من {عَظِيمٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {عَظِيمٌ}: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من المفعول {تحسبونه}. {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية. {لولا}: حرف تحضيض وتوبيخ. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {قُلْتُمْ}. {سَمِعْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {قُلْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مَا}: نافية. {يَكُونُ}: فعل ناقص. {لَنَا}: خبر {يَكُونُ} مقدم. {أَنْ}: حرف

نصب. {نَتَكَلَّمَ}: في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم {يَكُونُ} والتقدير: ما يكون التكلم بهذا كائنًا لنا. وجملة {يَكُونُ}: في محل النصب مقول {قُلْتُمْ}. {بِهَذَا} متعلقان بـ {نَتَكَلَّمَ} {سُبْحَانَكَ}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف، تقديره: نسبحك سبحانًا. والجملة المحذوفة، في محل النصب مقول {قُلْتُمْ}، أو حال من فاعل {قُلْتُمْ}، والتقدير: هلا قلتم، ما ينبغي لنا، أن نتكلم بهذا، حال كونكم متعجبين من هذا الأمر، العجيب الغريب. {هَذَا}: مبتدأ. {بُهْتَانٌ}: خبر. {عَظِيمٌ}: صفة {بُهْتَانٌ}. والجملة في محل النصب مقول {قُلْتُمْ}. {يَعِظُكُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل. والجملة مستأنفة. {أَنْ تَعُودُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض المتعلق بـ {يَعِظُكُمُ}، والتقدير: يعظكم من عودكم لمثله أبدًا. {لِمِثْلِهِ}: متعلق بـ {تَعُودُوا}. {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {تَعُودُوا} أيضًا. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبر، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين، فلا تعودوا لمثله. وجملة الشرط مستأنفة. {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}. {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل معطوف على {يَعِظُكُمُ}. {لَكُمُ}: متعلق بـ {يبين}. {الْآيَاتِ}: مفعول به. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يبين}. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يُحِبُّونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية. والجمله في تأويل مصدر منصوب على المفعولية. والتقدير: إن الذين يحبون شيوع الفاحشة. {فِي الَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَشِيعَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}. {فِي الدُّنْيَا}: صفة ثانية لـ {عَذَابٌ}. {وَالْآخِرَةِ}:

معطوف على {الدُّنْيَا}. والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع، خبر {أن}. وجملة {أن}: مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَعْلَمُ}: خبره. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَأَنْتُمْ}: مبتدأ. وجملة {لَا تَعْلَمُون}: خبره. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}. {وَلَوْلَا}: {الواو}: اسئنافية. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ اللَّهِ}: مبتدأ. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {وَرَحْمَتُهُ}: معطوف على {فَضْلُ اللَّهِ}. وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودات. {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ}: ناصب واسمه وخبره. {رَحِيمٌ}: خبر ثان. وجملة {أَن} في تأويل مصدر معطوف على {فَضْلُ}؛ أي: وكون الله رؤوفًا رحيمًا موجودًا. وجواب {لَوْلَا} محذوف، تقديره: لعاجلكم بالعقوبة. وجملة {لَوْلَا}: مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} {يَا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات. {أي}: من الإضافة. {الَّذِينَ}: في محل النصب أو الرفع صفة لـ {أي}. وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَا}: ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ يَتَّبِعْ}: {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَتَّبِعْ}: فعل مضارع، مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه، فعل شرط لها. وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {خُطُوَاتِ الشَّيْطَان}: مفعول به ومضاف إليه. {فَإِنَّهُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {يَأْمُرُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الشَّيْطَانِ}. {بِالْفَحْشَاءِ}: متعلق به.

{وَالْمُنْكَرِ}: معطوف على {الفحشاء}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إن} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَلَوْلَا}: {الواو}: استنافية. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {وَرَحْمَتُهُ}: معطوف عليه، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودات. {مَا}: نافية. {زَكَى}: فعل ماض. {مِنْكُمْ}: حال من {أَحَدٍ}. {مِنْ}: زائدة. {أَحَدٍ}: فاعل {زَكَى}. {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {زَكَى}. والجملة الفعلية جواب {لَوْلَا} لا محل لها من الإعراب. وجملة {لَوْلَا}: مستأنفة. {وَلَكِنَّ اللَّهَ}: {الواو}: عاطفة. {لكن الله}: ناصب واسمه. {يُزَكِّي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}. {مِنْ}: اسم موصول، في محل النصب مفعول به. وجملة {يَشَاءُ}: صلة الموصول. وجملة {يُزَكِّي} في محل الرفع خبر {لكن}. وجملة {لكن} معطوفة على جملة {لَوْلَا}. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: مبتدأ وخبر أول. {عَلِيمٌ}: خبر ثان له. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يُزَكِّي}. {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية. {لا}: ناهية جازمة. {يَأْتَلِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء. {أُولُو}: فاعل ملحق بجمع المذكر السالم. {الْفَضْلِ}: مضاف إليه. {مِنْكُمْ}: حال من الفاعل. {وَالسَّعَةِ}: معطوف على {الْفَضْلِ}. والجملة مستأنفة. {أَنْ يُؤْتُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {أُولِي الْقُرْبَى}: مفعول به ومضاف إليه. {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}: معطوفان على {أُولِي الْقُرْبَى}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {المهاجرين}. وجملة {يُؤْتُوا} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، مع تقدير {لَا} النافية؛ أي: عدم إيتاء {أُولِي الْقُرْبَى}: والجار المحذوف متعلق بـ {يَأْتَلِ}.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَلْيَعْفُوا} {الواو}: عاطفة. و (اللام): لام الأمر. {يعفوا}: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بلام الأمر. والجملة معطوفة على جملة {يَأْتَلِ}. {وَلْيَصْفَحُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {وَلَا يَأْتَلِ} أيضًا. {أَلَا تُحِبُّونَ}: (الهمزة): للاستفهام التوبيخي. {لَا}: نافية. {تُحِبُّونَ}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. {أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ}: ناصب وفعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به. والجملة في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية؛ أي: ألا تحبون مغفرة الله لكم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر أول. {رَحِيمٌ}: خبر ثان. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {يَغْفِر}. {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}: صفتان للمحصنات. {لُعِنُوا}: فعل ونائب فاعل. {فِي الدُّنْيَا}: متعلق به. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إن} مستأنفة. {وَلَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {لُعِنُوا}. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بالاستقرار. الذي تعلق به الجار والمجرور في قوله: {وَلَهُمْ} والتقدير: عذاب عظيم كائن لهم، يوم تشهد عليهم، ويجوز تعلقه بالمصدر، وهو عذاب؛ لأن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها. {تَشْهَدُ}: فعل مضارع. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {أَلْسِنَتُهُمْ}: فاعل. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ}: معطوفان عليه. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَشْهَدُ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه.

وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره. وجملة {كان}: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما كانوا يعملونه. {يَوْمَئِذٍ}: {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يُوَفِّيهِمُ}. {يَوْمَ}: مضاف، {إِذ}: ظرف لما مضى من الزمان مضاف ليوم والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة، والتقدير: يوم إذ تشهد عليهم ألسنتيهم الخ. {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول وفاعل. والجملة مستأنفة. {دِينَهُمُ}: مفعول ثان. {الْحَقَّ}: صفة لـ {دِينَهُمُ}. {وَيَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُوَفِّيهِمُ}. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {هو} ضمير فصل. {الْحَقَّ}: خبر أن. {الْمُبِينُ}: صفة لـ {الْحَقُّ}. وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي {يعلمون}. {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}. {الْخَبِيثَاتُ}: مبتدأ. {لِلْخَبِيثِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان سنة الله في خلقه، في أن يسوق كل صنف إلى صنفه، وأن يقع كل طير على شكله. {وَالْخَبِيثُونَ}: مبتدأ. {لِلْخَبِيثَاتِ}: خبر. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَالطَّيِّبَاتُ}: مبتدأ. {لِلطَّيِّبِينَ}: خبر. والجملة معطوفة. {وَالطَّيِّبُونَ}: مبتدأ. {لِلطَّيِّبَاتِ}: خبر للمبتدأ. والجملة معطوفة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {مُبَرَّءُونَ}: خبر. والجملة مستأنفة. {مِمَّا}: متعلق بـ {مُبَرَّءُونَ}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: يقولونه. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ مؤخر. {وَرِزْقٌ}: معطوف على {مغفرة}. {كَرِيمٌ}: صفة {رزق}. والجملة الاسمية خبر ثان لـ {أُولَئِكَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} {يَا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. {هَا}: حرف تنبيه زائد. وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول صفة لـ {أي}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَا تَدْخُلُوا}: {لَا}: ناهية جازمة. {تَدْخُلُوا}:

فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {بُيُوتًا}: مفعول به. {غَيْر}: صفة لـ {بُيُوتًا}. {بُيُوتِكُمْ}: مضاف إليه. وجملة النهي جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {حَتَّى}: حرف جر، وغاية بمعنى إلى. {تَسْتَأْنِسُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة وجوبًا. بعد {حَتَّى} بمعنى إلى. {وَتُسَلِّمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَسْتَأْنِسُوا}. {عَلَى أَهْلِهَا}: جار ومجرور تعلق بـ {تسلموا} وجملة {تَسْتَأْنِسُوا} صلة أن المضمرة. أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى. تقديره: إلى استئناسكم، وتسليمكم على أهلها. الجار والمجرور متعلق بـ {تَدْخُلُوا}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ. {خَيْرٌ}: خبر. {لَكُمْ}: متعلق بخير. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلا. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه وجملة {تَذَكَّرُونَ}: خبره. وجملة لعل مستأنفة، مسوقة لتعليل فعل محذوف، تقديره: أنزل هذا عليكم لكي تتذكروا به. {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}. {فَإِنْ}: {الفاء}: استئنافية. {إن}: حرف شرط لها. {لَمْ تَجِدُوا} مضارع مجزوم بلم {فِيهَا}: متعلق بـ {تَجِدُوا}. {أَحَدًا}: مفعول به؛ لأنه من وجد الضالة، فيتعدى لمفعول واحد. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {لَا}: ناهية جازمة. {تَدْخُلُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لَا} الناهية. والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُؤْذَنَ}: فعل مضارع منصوب، بأن مضمرة بعد حتى. {لَكُمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُؤْذَنَ}. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، بمعنى إلى. تقديره: إلى إذن أهلها لكم الجار والمجرور متعلق بـ {لَا تَدْخُلُوهَا}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بإن الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {لَكُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {قِيلَ}. {ارْجِعُوا}: فعل أمر، وفاعل مبني على

حذف النون. والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {فَارْجِعُوا}: {الفاء}: رابطة الجواب. {ارْجِعُوا}: فعل وفاعل. والجملة في محل الجزم، جواب {إن} الشرطية. وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. {هُوَ}: مبتدأ. {أَزْكَى}: خبر. {لَكُمْ}: متعلق به. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِمَا}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة {ما} الموصولة. {عَلِيمٌ} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ}: خبر {لَيْسَ} مقدم. {جُنَاحٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {لَيْسَ}: مستأنفة. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تَدْخُلُوا}: فعل وفاعل، منصوب بـ {أَنْ} المصدرية. {بُيُوتًا}: مفعول به. {غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}: صفة لـ {بُيُوتًا}. والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في دخولكم بيوتًا. والجار المحذوف، صفة لـ {جناح}. {فِيهَا}: خبر مقدم. {مَتَاعٌ}: مبتدأ مؤخر. {لَكُمْ}: صفة {مَتَاعٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ {بُيُوتًا}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {ما}: موصولة في محل النصب مفعول به لـ {يَعْلَمُ}. {تُبْدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما تبدونه. {وَمَا تَكْتُمُونَ}: معطوف على {مَا تُبْدُونَ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {الْإِفْكِ}: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك. وأصله الإفك؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه؛ أي: مصروف عن وجهه كما مر في مبحث التفسير. {عُصْبَةٌ}: والعصبة وكذا العصابة الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما

فوقها إلى الأربعين. {كِبْرَهُ} بكسر الكاف وضمها وسكون الباء؛ أي: معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه. {لَوْلَا} كلمة بمعنى: هلا تفيد التحضيض، والحث على فعل ما بعدها. {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر مكشوف {أَفَضْتُمْ}؛ أي: خضتم في حديث الإفك. {تَلَقَّوْنَهُ}؛ أي: تتلفونه ويأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول من فلان وتلقنه وتلقفه ولقفه إذا أخذ من لفظه وفهمه. وفي "الإرشاد" التلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة، خلا أن في الأول: معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة. وفي الثالث: معنى الحذق والمهارة اهـ. "أبو السعود". وفي "الشهاب"، الأفعال المذكورة متقاربة المعاني، إلا أن في التلقي معنى الاستقبال. وفي التلقن الحذق في التناول. وفي التلقن الاحتيال فيه، كما ذكره الراغب. وقوله: معنى الاستقبال، المراد به المقابلة والمواجهة، كما في كتب اللغة. {سُبْحَانَكَ}: تعجب ممن تفوه به. {بُهْتَانٌ}؛ أي: كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته. {يَعِظُكُمُ}؛ أي: ينصحكم. {تَشِيعَ}: تنشر. {خُطُوَاتِ}: جمع خطوة بفتح الخاء وضمها وسكون الطاء. وكل ما كان على وزن فعل بكسر الفاء أو فعل بفتح الفاء مع سكون العين فيهما. يجوز فيه إذا أردنا جمعه جمعًا مؤنثًا سالمًا، الإتباع والفتح والتسكين. فنقول في خطوة خطوات بضمتين، وخطوات بضم ففتح. وخطوات بضم فسكون والخطوة بضم الخاء في الأصل هي ما بين القدمين؛ أي: ما بين رجلي الخاطي. وبالفتح المرة الواحدة من الخطو، ثم استعمل اتباع الخطوات في الاقتداء، وإن لم يكن ثمة خطوٌّ. يقال: اتبع خطوات فلان ومشى على عقبه، إذا استن بسنته، والمراد هاهنا، سيرة الشيطان وطريقته. {الْفَحْشَاءِ}: الخصلة المفرطة في القبح، وهي الزنا. وفي "الروح"

والفحشاء والفاحشة: ما عظم قبحه عرفًا وعقلًا، سواء كان فعلًا أو قولًا. {وَالْمُنْكَر}: ما ينكره الشرع. وقال أبو الليث: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وفي "المفردات" المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه العقول، وتحكم بقبحه الشريعة. {زَكَى}: طهر من دنس الذنوب. {وَلَا يَأْتَلِ}: {لَا}: ناهية والفعل مجزوم بحذف الياء لأنه معتل بها كما مر يقال: ائتلى يأتلي بوزن انتهى ينتهي من الألية كهدية. ومعناها: الحلف. يقال: ألية وألايا بوزن هدية وهدايا اهـ. شيخنا. وفي "المختار" آلى يؤلي إيلاءً إذا حلف وتألى وائتلى مثله. قلت: ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ}. والألية: اليمين. وجمعها ألايا اهـ. وعبارة "أبو السعود" {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} في الدين وكفى به دليلًا على فضل الصديق، والسعة في المال اهـ. فالفضل الزيادة في الدين، والسعة: الغنى. {وَلْيَعْفُوا} عن ذنبهم. {وَلْيَصْفَحُوا}؛ أي: ليعرضوا عن لومهم، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني. والصفح: أن يتناسى جرمه. وقيل: العفو بالفعل، والصفح بالقلب اهـ. زاده. وقال الراغب: الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو. وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. {الْغَافِلَاتِ}؛ أي: السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرَزَنَّ الأحوال، فلا يفطنَّ لما تفطن له بالمجرِّبات العرَّافات. قال الشاعر: وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِيْ عَلَى أَسْرَارِهَا لهوت تلاهيت ولعبت بطفلة بالفتح؛ أي: امرأة ناعمة لينة. يقال: امرأة طفلة الأنامل؛ أي: رخصتها لينتها، ميالة مختالة وبلهاء، غافلة لا مكر عندها ولا دهاء، فلذلك تطلعني على ضمائرها. وقال في "التعريفات" الغفلة عن الشيء، هو أن لا يخطر ذلك بباله. اهـ.

{لُعِنُوا}؛ أي: طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بالحد. {يُوَفِّيهِمُ} التوفية بذل الشيء وافيًا. والوافي الذي بلغ التمام. والدين الجزاء، ومنه (كما تدين تدان). {الْحَقَّ} الثابت الذي يحق لهم لا محالة. {أَنَّ اللَّهَ}؛ أي: وعده ووعيده. {هُوَ الْحَقّ}؛ أي: العدل الذي لا جور فيه. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم، وقال بعضهم: الرزق الكريم: هو الكفاف الذي لا منّة فيه لأحد في الدنيا, ولا تبعة له في الآخرة. {الْخَبِيثَاتُ}: وقال الراغب: الخبيث ما يكره رداءة وخساسةً محسوسًا كان إو معقولًا. وذلك يتناول الباطل في الاعتماد. والكذب في المقال، والقبيح في الفعال {وَالطَّيِّبَات}: وأصل الطيب ما يستلذه الحواس. {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}؛ أي: حتى تستأذنوا إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون، يشق عليهم الدخول. {تَذَكَّرُونَ}؛ أي: تتعظون. {أَزْكَى}؛ أي: أطهر. {جُنَاحٌ}؛ أي: خرج. {مَتَاعٌ}؛ أي: حق تمتع ومنفعة، كإيواء الأمتعة والرحال. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق في قوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وكذلك قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}. فقد طابق بين الشر والخير، وبين الهين والعظيم. ومنها: الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر في قوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} فإنه كان الأصل ظننتم. وفي قوله: قالوا: فإنه كان الأصل وقلتم. وسياق الكلام أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم. عدل

عن مقتضى السياق إلى ما قال مبالغةً في التوبيخ، وإشعارًا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم، وذب الطاعنين عنهم، كما يذبونهم عن أنفسهم. اهـ. "كرخي". ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}؛ أي: هلا جاؤوا، وغرضه التوبيخ واللوم. ومنها: الإبهام في قوله: {فِي مَا أَفَضْتُمْ} لتهويل أمره. ومنها: المبالغة في قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} تعريضًا واشعارًا بأن هذه الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم، من غير ترجمة عن علمٍ به في القلب. ومنها: التعجب في قوله: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ففيه تعجب ممن يقول ذلك والأصل في ذكر هذه الكلمة {سُبْحَانَكَ} أن يسبح الله تعالى، عند رؤية العجيب من صنائعه تنزيهًا له من أن يخرج مثله عن قدرته. ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. ومنها: التقديم والتأخير في قوله: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} قدم الظرف لفائدة هامة، وهي بيان أنه كان من الواجب أن ينزجروا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} شبه سلوك طريق الشيطان، والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر. خطوةً خطوةً بطريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَنْ يُؤْتُوا}؛ أي: أن لا يؤتوا، حذفت منه لدلالة المعنى عليه، وهو كثير في اللغة. ومنها: صيغة التعظيم في قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} والمراد به أبو بكر الصديق.

ومنها: العموم في قوله: {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وإن كان الكلام مسوقًا في عائشة، والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من وقع في قذف سيدتهن. ومنها: المجاز العقلي، في شهادة الأيدي والأرجل. ومنها: الجناس الناقص بين {يَعْمَلُونَ} و {تَعْلَمُونَ}. ومنها: المقابلة اللطيفة بين {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}، {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}. ومنها: الطباق بين {تُبْدُونَ} و {تَكْتُمُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}

المناسبة قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه (¬1) الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعًا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم .. أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غضّ البصر عن الحارم، لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المقاصد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها. قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما أمر بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج ونحوهما، مما يفضي إلى السفاح .. أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى؛ لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الإنساب الذي يستدعي مزيد الشفقة على الأولاد، وحسن تربيتهم، ودوام الألفة بينهم. ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه. ثم رغب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارًا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاؤون. وبعدئذ أردف ذلك بالنهي عن إكراه الإماء على الفجور - إن أردن العفة - ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا. ثم ختم هذا، ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفي غيرها، آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة وعقوبات رادعة وقصص عجيبة من الماضين وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم. قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما ذكر أنه أنزل في هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس، في صلاح أحوالهم في معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق .. بين أنه نور السماوات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية، والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

وسائر صفاته من قدرة وعلم، إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر نوره لعباده، وهدايته إياهم على أتم الوجوه .. بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه لما بين أحوال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم .. أردف ذلك ببيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. وضرب لكلتا الحالتين مثلًا يوضحها أتم الإيضاح والبيان. أسباب النزول قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا أن جابر بن عبد الله: حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، يعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن. فقالت أسماء: ما أقبح هذا. فأنزل في ذلك {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت صرتين من فضة، واتخذت جزعًا، فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوت، فأنزل الله {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ...} الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[30]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن السكن في "معرفة الصحابة"، عن عبد الله بن صبيح عن أبيه، قال: كنت مملوكًا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتاب، فنزلت {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب جميعًا عن أبي معاوية واللفظ لأبي كريب حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول يقول لجارية: له اذهبي فابغينا شيئًا. فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وأخرج مسلم أيضًا من طريق آخر تنتمي إلى الأعمش عن أبي سفيان بهذا الحديث. وفيه أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية. وأخرج الحاكم من طريق أبي الزبير، عن جابر قال: كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء، فنزلت: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ...} الآية. وأخرج البزار والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كانت لعبد الله بن أبي جارية تزني في الجاهلية، فلما حرم الزنا، قالت: لا والله، لا أزني أبدًا، فنزلت: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}. التفسير وأوجه القراءة 30 - ولما ذكر سبحانه حكم الاستئذان، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج فيه غضّ البصر من المستأذن. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإذن من أجل

البصر". فقال: {قُلْ} يا محمد {لِلْمُؤْمِنِينَ} وخص (¬1) على غيرهم لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها، وأولى بذلك ممن سواهم. وقيل: إن في الآية دليلًا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه، تقديره: قل لهم: غضوا. {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}؛ أي: يكفوا أبصارهم عن الحرام. والغض (¬2) إطباق الجفن، بحيث يمنع الرؤية. ومنه قول جرير: وَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْبًا بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا وقول عنترة: وَأَغُضُّ طَرْفِيْ مَا بَدَتْ لِيْ جَارَتِيْ ... حَتَّى تُوَارِيْ جَارَتِيْ مَأْوَاهَا و (من) في قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} زائدة، أو تبعيضية. وإليه ذهب الأكثرون؛ لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن؛ لأنها تقع بغير قصد، فوقع العفو عنها. سواء قصدها، أو لم يقصدها , ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة". وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه. ومعنى {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم. وقيل: المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها, ولا مانع من إرادة المعنيين فالكل يدخل تحت حفظ الفرج. والفرج الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط. والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. وأتى بمن التبعيضية (¬3) في جانب الأبصار دون الفروج، مع أن المأمور به حفظ كل واحد منهما عن بعض ما تعلقا به. فإن المستثنى من البصر كثير، فإن الرجل يحل له النظر إلى جميع أعضاء أزواجه، وأعضاء ما ملكت يمينه. وكذا لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

بأس عليه في النظر إلى شعور محارمه, وصدورهن، وأيديهن، وأعضائهن، وسوقهن وأرجلهن وكذا لا بأس عليه في النظر من أمة الغير حال عرضها للبيع، ومن الحرة الأجنبية إلى وجهها وكفيها وقدميها. في رواية القدم بخلاف المستثنى من الفرج فإنه شيء نادر قليل، وهو فرج زوجته وأمته. فلذلك أطلق لفظ الفرج، ولم يقيد بما استثنى منه لقلته، وقيد غضّ البصر بحرف التبعيض. والمعنى (¬1): {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}؛ أي: قل أيها الرسول للمؤمنين، كفوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا إلى ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعًا. كما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري. وروى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة". كما مر. وفي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والجلوس على الطرقات". قالوا: يا رسول الله، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أبيتم فاعطوا الطريق حقه". قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". والحكمة في ذلك (¬2): أن في غض البصر سدًا لباب الشر، ومنعًا لارتكاب المآثم والذنوب. ولله در أحمد شوقي حيث يقول: نَظْرَةٌ فَابْتِسَامَة فَسَلاَمُ ... فَكَلاَمٌ فَمَوْعِدٌ فَلِقَاءُ {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدًا ينظر إليها. وقد جاء في الحديث: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[31]

{ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من غض البصر وحفظ الفروج. {أَزْكَى لَهُمْ}؛ أي: أطهر لهم من دنس الريبة، وأنفع لهم دينًا ودنيا. فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور. ولله در شاعرهم: كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ كَمْ نَظْرَةٍ فَعَلَتْ فِيْ قَلْبِ فَاعِلِهَا ... فِعْلَ السِّهَامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَرِ وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِيْ أعْيُنِ الْعِيْنِ مَوْقُوْفٌ عَلَى الْخَطَرِ يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ ... لاَ مَرْحَبًا بِسُرُوْرٍ عَادَ بِالضَّرَرِ {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ}؛ أي: عليم {بِمَا يَصْنَعُونَ}؛ أي: بما يصنع المؤمنون وغيرهم من سائر العباد، فلا يخفى عليه شيء مما يصدر منهم من الأفعال. كإجالة النظر، واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك فليكونوا على حذر منه تعالى في حركة وسكون، وفي كل ما يأتون وما يذرون. روي (¬1) عن عيسى بن مريم عليه السلام، أنه قال: إياكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب شهوة، وفي الأثر "يا ابن آدم لك النظرة الأولى، فما بال الثانية". وفي الحديث: "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة، أصدقوا إذا حدثتم، أوفوا إذا وعدتم، وأدوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم". 31 - وبعد أن أمر سبحانه رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم .. أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك فقال: {وَقُلْ} يا محمد {لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) عند أبي حنيفة وأحمد. وعند مالك ما عدا الوجه والأطراف. والأصح من مذهب الشافعي أنها لا تنظر إليه كما لا ينظر هو إليها. وإذا نظرت إلى ما عدا ذلك، أعني ما بين السرة والركبة بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل، لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة ¬

_ (¬1) روح البيان.

أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وميمونة، إذا أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبا منه". فقلت: يا رسول الله أليس هو لا يبصرنا , ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو عمياوان أنتما، أو لستما تبصرانه". والحاصل (¬1): أن الله سبحانه أمر المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها. وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس إبليس على رأسها، فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن ينظر. اهـ. "قرطبي". وخص (¬2) سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبًا، كما في سائر الخطابات القرآنية. وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا؛ لأن لام الفعل من الأول متحركة، ومن الثاني ساكنةً. وهما في موضع جزم جوابًا للأمر. وبدأ سبحانه في الموضعين بالغضّ قبل حفظ الفرج؛ لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج. والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه. ومعنى يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم، فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن. وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم، وقد اشتملت هذه الآية على خمسة وعشرين ضميرًا للإناث، ما بين مرفوع ومجرور، ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الشأن. اهـ. "كرخي". {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق، ويسترنها حتى لا يراها أحد، ولا خلاف (¬3) بين الأئمة في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا كما سبق في العورة ما هي. فقال أبو حنيفة: عورة الرجل ما تحت ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

سرته إلى تحت ركبته، والركبة عورة. وفي "نصاب الاحتساب" من لم يستر الركبة ينكر عليه برفق؛ لأن في كونها عورةً اختلافًا مشهورًا. ومن لم يستر الفخد يعنف عليه ولا يضرب؛ لأن في كونا عورة خلاف بعض أهل الحديث. ومن لم يستر السوءة يؤدب إذ لا خلاف في كونها عورة انتهى. ومثل الرجل الأمة، وبالأولى بطنها وظهرها؛ لأنه موضع مشتهى. والمكاتبة وأم الولد والمدبرة كالأمة. وجميع الحرة عورة إلا وجهها وكفيها. والصحيح عنده أن قدميها عورة خارج الصلاة، لا في الصلاة. وقال مالك: عورة الرجل فرجاه وفخذاه. والأمة مثله. وكذا المدبرة والمعتقة إلى أجل، والحرة كلها عورة: إلا وجهها ويديها، ويستحب عنده لأم الولد أن تستر من جسدها ما يجب على الحرة ستره. والمكاتبة مثلها. وقال الشافعي وأحمد: عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وليست الركبة من العورة، وكذا الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة والمعتق بعضها. والحرة كلها عورة سوى الوجه والكفين عند الشافعي، وعند أحمد سوى الوجه فقط على الصحيح. وأما سرة الرجل فليست من العورة بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن". {وَلَا يُبْدِينَ}؛ أي: ولا يظهرن {زِينَتَهُنَّ} للأجانب؛ أي: ما يتزين به من الحلية وغيرها. وهي ثلاثة أمور (¬1): أحدها: الثياب، وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار. وثالثها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها، والغمزة في خديها، والحناء في كفيها وقديها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهيٌ عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى. ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها. المراد بالزينة هنا محلها من البدن، وهو الوجه والكفان، كذلك يراد بها ¬

_ (¬1) المراح.

البدن في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلخ. وأما في قوله: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} فالمراد ما يتزين. ذكره "الجمل". قال القرطبي في "تفسيره" الزينة (¬1) على قسمين، خلقية ومكتسبة. فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها، كالثياب والحلي والكحل والخضاب. ومنه قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}. وقول الشاعر: يَأْخُذْنَ زينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عَطَلْتَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ قال ابن الشيخ (¬2): الزينة ما تزينت به المرأة، من حلي أو كحل، أو ثوب أو صبغ، فما كان منها ظاهرًا كالخاتم والفتخة، وهي ما لا فص فيه من الخاتم، والكحل والصبغ فلا بأس بإبدائه للأجانب بشرط الأمن من الشهوة. وما خفي منها كالسوار والدملج، وهي حلقة تحملها المرأة على عضدها، والوشاح والقرط فلا يحل لها إبداؤها إلا للمذكورات فيما بعد بقوله: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} ... الآية. والخلاصة: أي (¬3) ولا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل فلا يؤاخذن إلا في إبداء ما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة؛ لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى في الآية بعد. وهي: الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن. ولما نهى عن إبداء الزينة أشد إلى إخفاء بعض مواضعها، فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ}؛ أي: وليلقين ويضعن خمرهن {عَلَى جُيُوبِهِنّ} ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن عن الأجانب، حتى لا يرى منها شيء. والمراد بالجيب هنا محله وهو العنق، وإلا فهو في الأصل طوق القيص. كما سيأتي. ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

قال المفسرون: إن (¬1) نساء الجاهلية، كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من قدام واسعة، فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن فنهين عن ذلك، وأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب، لتستر بذلك ما كان يبدو. قالت عائشة - رضي الله عنها -: رحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها. وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق. والخمر جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها. والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع، وهذا هو معناه الحقيقي، الذي فسر به الجمهور. وقال مقاتل: إن معنى على جيوبهن: على صدورهن، فيكون في الآية مضاف محذوف؛ أي: على مواضع جيوبهن. وقرأ الجمهور (¬2): {وَلْيَضْرِبْنَ} بإسكان اللام التي للأمر. وقرأ عياش عن أبي عمرو: بكسرها على الأصل؛ لأن أصل لام الأمر الكسر، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. وقرأ الجمهور: {بِخُمُرِهِنَّ} بتحريك الميم، وقرأ طلحة بن مصرف: بسكونها. وقرأ الجمهور: {جُيُوبِهِنَّ} بضم الجيم. وقرأ ابن كثير وبعض الكوفيين: بكسرها. وكثير من متقدمي النحويين لا يجوَّزون هذه القراءة. وقال الزجاج: يجوز أن يبدل من الضمة كسرة. فأما ما روي عن حمزة من الجميع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء. ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء، فقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}؛ أي: ولا يظهرن زينتهن الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب، كالسوار والدملج والوشاح والقرط ونحوها، فضلًا عن إبداء مواقعها. كرره لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له. وفي "الخطيب": ولا يبدين زينتهن؛ أي: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب. وهي ما عدا الوجه والكفين. اهـ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني والبحر المحيط.

وقال أبو الليث (¬1): لا يظهرن مواضع زينتهن، وهو الصدر والساق والساعد والرأس؛ لأن الصدر موضع الوشاح، والساق موضع الخلخال، والساعد موضع السوار، والرأس موضع الإكليل، فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة، انتهى. {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}؛ أي: إلا لأزواجهن وسادتهن، فإن البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب. وجملة المستثنيات اثنا عشر نوعًا، آخرها أو الطفِل. اهـ. "شيخنا". وقدم البعولة على غيرهم؛ لأنهم المقصود خصوصًا، إذا كان النظر لتقوية الشهوة، إلا أنه يكره له النظر إلى الفرج بالاتفاق، حتى إلى فرج نفسه؛ لأنه يروى أنه يورث الطمس والعمى. وفي كلام عائشة - رضي الله عنها - ما رأى منى، ولا رأيت منه؛ أي: العورة. قال في "النصاب": إن الزينة الباطنة يجوز إبداؤها لزوجها وذلك لاستدعائه ورغبته فيها. ولذلك لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلقاء والمرهاء. فالسلقاء: التي لا تختضب. والمرهاء: التي لا تكتحل. {أَوْ آبَائِهِنَّ} وإن عَلَوْا سواء كانوا من جهة الذكران أو الإناث. {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}، وإن عَلوا، سواء كانوا من النسب أو الرضاع. {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} وإن سفلوا من النسب أو الرضاع. {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} من غيرهن، وإن سفلوا. {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} من النسب أو الرضاعِ. جمع أخ، كالإخوة. فهو جمع له أيضًا. {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} كذلك {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ} كذلك. والمراد (¬2) بأبناء بعولتهن: ذكور أولاد الزوج، ويدخل في قوله: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} أولاد الأولاد، وإن سفلوا. وأولاد بناتهن، وإن سفلوا. وكذا آباء البعولة يدخل فيه آباء الآباء، وآباء الأمهات، وإن علوا. وكذلك أبناء البعولة، وإن سفلوا وكذلك أبناء الإخوة والأخوات. ¬

_ (¬1) بحر العلوم. (¬2) الشوكاني.

وذهب الجمهور: إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم. وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يستترن منهم حذرًا من أن يصفوهن لأبنائهم. والمعنى: إن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية، إلا ابن العم والخال. وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب. اهـ. "كرخي". وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب. وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم. والمعنى: أي (¬1) قل يا محمد للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفية إلا لأزواجهن فإنهم المقصودون بزينتهن، والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضَرْبَهُنَّ على تركها, ولهم النظر إلى جميع بدنهن. أو لآباء النساء، أو لآباء الأزواج، أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن، أو لإخوانهن، أو لأبناء الإخوة، أو لأبناء الأخوات؛ لكثرة المخالطة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم، ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات إلا أنهن محتاجات إلى صحبتهم في الأصفار للركوب أو النزول. {أَوْ} إلا لـ {نِسَائِهِنَّ}؛ أي: نساء (¬2) أهل دينهن المختصات بهن بالصحبة والخدمة، من حرائر المؤمنات. فإن الكوافر لا يتأثمن عن وصفهن للرجال، فيكون تصور الأجانب إياها بمنزلة نظرهم إليها. فإن وصف مواقع زينة المؤمنات للرجال الأجانب معدود من جملة الآثام عند المؤمنات. فالمراد بنسائهن نساء أهل دينهن. وهذا قولُ أكثر السلف، فإنهم جعلوا المرأة اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية في حكم الرجل الأجنبي، فمنعوا المسلمة من كشف بدنها عندهن؛ إلا أن تكون أمةً لها. كما منعوها من التجرد عند الأجانب. والظاهر أن العلة شيئان: عدم المجانسة دينًا، فإن الإيمان والكفر فرق بينهما. وعدم الأمن من الوصف المذكور. وإضافة النساء إليهن تدل على ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) روح البيان.

اختصاص ذلك بالمؤمنات. وقال الإِمام: قول السلف محمول على الاستحباب. والمذهب أن امراد بقوله: أو نسائهن، جميع النساء. {أَوْ} إلا لـ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الإماء، أما العبيد (¬1) فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم: عبد المرأة محرم لها. فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وله أن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم. وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة. وقد روي أنَّ عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وقال قوم: هو كالأجنبي معها. وهو رأي ابن مسعود والحسن وابن سيرين. ومن ثم قالوا: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، فهو بمنزلة الأجنبي منها، خصيًا كان أو فحلًا. وهو قول أبي حنيفة. وعليه عامة العلماء، فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه وإن جاز رؤيته إياها إذا وجد الأمن من الشهوة. وقال ابن الشيخ (¬2): فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص الإماء بالذكر بعد قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}؟ فالجواب - والله أعلم - أنه تعالى لما قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} دل ذلك على أن المرأة لا يحل لها أن تبدي زينتها للكافرات، سواء كن حرائر أو إماءً لغيرها أو لنفسها، فلما قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} مطلقًا؛ أي: مؤمنات كن أو مشركات، علم أنه يحل للأمة أن تنظر إلى زينة سيدتها مسلمةً كانت الأمة أو كافرة، لما في كشف مواضع الزينة الباطنة لأمتها الكافرة في أحوال استخدامها إياها من الضرورة التي لا تخفى. ففارقت الحرة الكافرة بذلك. {أَوِ} إلا لـ {التَّابِعِينَ} الذين يتبعون القوم إلى بيوتهم، ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض ولا همة لهم إلا ذلك. {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} والحاجة إلى النساء حالة كونهم {مِنَ الرِّجَالِ} الذين طعنوا في السن، ففنيت شهواتهم إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم. وقيل (¬3): المراد بغير أولي الإربة من الرجال الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء. وقيل: العنين. وقيل: الخصي - من قطع خصيتاه -، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

وقيل: المجبوب - من قطع ذكره -. وقيل: المخنث، وهو الذي في أعضائه لين، وفي لسانه تكسر في أصل الخلقة، فلا يشتهي النساء، ولا حاجة لهذا التخصيص، بل المراد بالآية ظاهرها، وهم من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال. فيدخل من هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه. قال ابن عطية: ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزَّمِن الموقوذ بزمانته. وقال بعضهم (¬1): قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} محكم. وقوله: و {التَّابِعِينَ} مجمل. والعمل بالمحكم أولى، فلا رخصة للمذكورين من الخصي ونحوه في النظر إلى محاسن النساء، وإن لم يكن هناك احتمال الفتنة. وفي "الكشاف": لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشرائهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم. انتهى. وعن ميسون بنت بحدل زوجة معاوية، أن معاوية دخل عليها ومعه خصي، فتقنعت منه، فقال: هو خصي، فقالت: يا معاوية، أترى المثلة تحلل ما حرم الله من النظر؟ فتعجب من فطنتها وفهمها. ذكره في "كتاب النصاب". وفي "البستان" أنه لا يجوز خصاء بني آدم؛ لأنه لا منفعة فيه؛ لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء، كما لا يجوز للفحل. بخلاف خصاء سائر الحيوانات، ألا ترى أن خصي الغنم أطيب لحمًا، وأكثر شحمًا. وقس عليه غيره. وروى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأةً - بنت غيلان -، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا، ¬

_ (¬1) روح البيان.

لا يدخل عليكن فاحجبوه". زاد أبو داود في رواية: "وأخرجوه إلى البيداء، يدخل كل جمعة فيستطعم". وقرأ ابن عامر وأبو بكر (¬1): {غَيْرِ} بالنصب على الحال أو الاستثناء. وباقي السبعة بالجر على النعت. وعطف قوله: {أَوِ الطِّفْلِ} على من الرجال، فقسم التابعين غير أولي الإربة إلى قسمين: رجال، وأطفال. والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم. ولذلك وصفه بالجمع في قوله: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} ولم يطلعوا {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ولم يكشفوها للمجامعة؛ أي: حال كون غير أولي الإربة من الرجال البالغين، أو من الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء وفي مصحف أبيّ {الأطفال}؛ أي (¬2): الذين لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع، فيطلعوا عليها. وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر. وقيل: لم يطيقوا أمر النساء. وقيل: لم يبلغوا حد الشهوة. وقيل: الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم. وفي "الروضة": وجعل الإِمام أمر الصبي ثلاثة درجات (¬3): إحداها: أن لا يبلغ أن يحكي ما رأى. والثانية: أن يبلغه ولا يكون فيه ثوران شهوة. والثالثة: أن يكون فيه ذلك. فالأول: حضوره كغيبته، ويجوز التكشف له من كل وجه. والثاني: كالمحرم. والثالث: كالبالغ. واعلم أن الصبي لا تكليف عليه، وإذا جعلناه كالبالغ، فمعناه: أنه يلزم المنظور إليها الاحتجاب منه كما أنه يلزمها الاحتجاب من المجنون قطعًا. قلت: وإذا جعلنا الصبي كالبالغ لزم الولي أن يمنعه النظر، كما يلزمه أن يمنعه من الزنا وسائر المحرمات. والله أعلم. اهـ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) الفتوحات.

وقال الفناري في تفسير الفاتحة: حد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام. وقال في "فتح القريب": العورة كل ما يستحى منه إذا ظهر. وسيأتي البسط عنه في مبحث المفردات. وقال بعضهم (¬1): يفهم من عبارة الطفل، أن التقوى منع الصبيان حضرة النساء بعد سبع سنين، فإن ابن السبع، وإن لم يكن في حد الشهوة، لكنه في حد التمييز، مع أن بعض من لم يبلغ حدّ الحلم مشتهًى، فلا خير في مخالطة النساء. وفي "ملتقط الناصري" الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال، ولم يكن صبيحًا فحكمه حكم الرجال. وإن كان صبيحًا فحكمه حكم النساء، وهو عورة من قرنه إلى قدمه، يعني لا يحل النظر إليه عن شهوة، فأما السلام والنظر بلا شهوة فلا بأس به. ولهذا لم يؤمر بالنقاب، ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء؛ لأنه يذهب بالمهابة. كما في "البستان". قال في "أنوار المشارق": يحرم على الرجل النظر إلى وجه الأمرد إذا كان حسن الصورة، سواء نظر بشهوة أم لا. وسواء أمن الفتنة أم خافها. ويجب على من في الحمام أن يصون نظره ويده وغيرهما عن عورة غيره. وأن يصون عورته عن نظر غيره. ويجب الإنكار على كاشف العورة. وقرأ الجمهور (¬2): {عَوْرَاتِ} بسكون الواو. وهي لغة أكثر العرب. لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو عورات بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ثم نهى عن إظهار وسوسة العلي بعد النهي عن إبداء مواضعه، فقال: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الأرض {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ}؛ أي: ما يخفينه من الرؤية. {مِنْ زِينَتِهِنَّ}؛ أي: خلاخلهن؛ أي (¬3): لا يضربن النساء المؤمنات بأرجلن الأرض، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

ليتقعقع ويصوت خلخالهن. فيعلم أنهن ذوات خلخال. فإن ذلك مما يورث الرجال ميلًا إليهن، ويوهم أن لهن ميلًا إليهم. وإذا كان إسماع صوت خلخالها للأجانب حرامًا .. كان رفع صوتها بحيث يسمع الأجانب كلامها حرامًا بطريق الأولى؛ لأن صوت نفسها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كرهوا أذان النساء؛ لأنه يُحتاج فيه إلى وقع الصوت. وفي "الشهاب": وهذا سد لباب المحرمات، وتعليم للأحوط، وإلا فصوت النساء ليس بعورة عند الشافعي، فضلًا عن صوت خلخالهن. اهـ. وفي "القرطبي": من فعل ذلك منهن فرحًا بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجًا وتعرضًا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال، إن فعل ذلك عجبًا حرم، فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجًا لم يحرم. اهـ. وللنساء أفانين في هذا الباب (¬1)، فقد يجعلن الخرز ونحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونًا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما يهيجه رؤيته. {وَتُوبُوا} وارجعوا من عمل المعاصي {إِلَى} طاعة {اللَّهِ} سبحانه وتعالى حالة كونكم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين عليها {أيها المؤمنون} بالله ورسوله، إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط في أمره ونهيه، سيما في الكف عن الشهوات. و {أيها المؤمنون} تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتمًا. وفي هذه الآية دليل على أن الذنب لا يخرج العبد عن الإيمان؛ لأنه تعالى قال: {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} بعدما أمر بالتوبة التي تتعلق بالذنب. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: تفوزون بسعادة الدارين. وصَّى الله سبحانه جميع المؤمنين بالتوبة والاستغفار؛ لأن العبد الضعيف لا ينفك عن تقصير يقع منه وإن اجتهد في رعاية تكاليف الله تعالى. ¬

_ (¬1) المراغي.

والمعنى: أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، من غض البصر وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وأخرج أحمد والبخاري والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مئة مرة". ومن شرط التوبة (¬1): الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على أن لا يعود إليه. ورد الحقوق إلى أهلها. لا كما يظن الناس الآن، أنها كلمة تلاك باللسان، دون أن يكون لها أثر في القلب ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرًا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون في توبتهم، مراؤون في أفعالهم. والجمهور (¬2) على فتح الهاء، وإثبات ألفٍ بعد الهاء في {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} وهي ها، التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر: {أيه المؤمنون} هنا، و {يا أيه الساحر} في الزخرف. و {أيه الثقلان} في الرحمن بضم الهاء وصلًا، وإذا وقف سكن. ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على الهاء، فاتبعت حركتها حركة ما قبلها، فضمت الهاء إتباعًا للرسم، وضم ها، التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك وهي شقيق ابن سلمة وقد رسمت هذه المواضع الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها اتباعًا للرسم، ولموافقة الخط للفظ. وثبتت في غير هذه المواضع، حملًا لها على الأصل نحو {يا أيها الناس}، {يا أيها الذين آمنوا}. وبالجملة فالرسم سنة متبعة. اهـ. "سمين". وقال بعضهم: إن الله (¬3) سبحانه وتعالى طالب المؤمنين جميعًا في هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات والبحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[32]

الآية بالتوبة. ومن آمن بالله وترك الشرك .. فقد تاب، وصحت توبته ورجوعه إلى الله، وإن خطر عليه خاطر، أو جرى عليه معصية في حين التوبة، فإن المؤمن إذا جرى عليه معصية .. ضاق صدره واهتم قلبه، وندم روحه ورجع سره. اهـ. 32 - ولما أمر سبحانه بغض الأبصار، وحفظ الفروج .. أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة، وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات، وحفظ الفرج عما لا يحل. فقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} جمع أيم (¬1). والأيم: من لا زوج له من الرجال والنساء، بكرًا كان أو صبيًا. وقال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل، هي المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا. قال أبو عبيد: يقال: رجل أيم، وامرأة أيم. وأكثر ما يكون من النساء. وهو كالمستعار في الرجال. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: لِلَّهِ دَرُّ بَنِيْ عَلِيّ ... أَيِّمٌ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ والخطاب في الآية للأولياء. وقيل: للأزواج. والأول: أرجح. وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها. وقد خالف في ذلك أبو حنيفة. والمعنى: زوجوا أيها الأولياء من لا زوج له من أحرار قومكم وحرائر عشيرتكم، فإن النكاح سبب لبقاء النوع، وحافظ من السفاح. والمراد بذلك مديد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة. واختلف أهل العلم في النكاح (¬2)، هل ومباح، أو مستحب، أو واجب. فذهب إلى الأول الشافعي وغيره. إلى الثاني مالك وأبو حنيفة، إلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية .. وجب عليه، إلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح - بعد ترغيبه في النكاح -: "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه. والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر. وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}؛ أي: وزوجوا أيها السادات الصالحين؛ أي: المؤمنين من عبادكم وإمائكم لحصن دينهم. وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة، في بذل المال والمنافع. وقال في "الوسيط": معنى الصلاح هاهنا: الإيمان. وتقييد (¬1) الأرقاء بالصالحين دون الأحرار فلأن من لا صلاح له من الأرقاء بمعزل من أن يكون خليقًا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بدّ منه شرعًا وعادةَ من بذل المال والمنافع، بل حقه أن لا يستبقيه عنده. وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، فإن الغالب فيهم الصلاح، بخلاف المماليك؛ ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم. وقيل المعنى: وزوجوا أيها السادات الصالحين والصالحات من عبادكم وإمائكم؛ أي (¬2): القادرين والقادرات على النكاح، والقيام بحقوق الزوجية، بأن يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج. أو المراد بالصلاح أن لا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح. والخلاصة: أن في الآية أمرًا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء. والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان، لا على الوجوب؛ لأنه قد كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر ذلك أحد عليهم. والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة، وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وفي الآية دليل على أن المملوك لا يزج نفسه، إنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن لكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. وقرأ مجاهد والحسن: {من عبيد}، بالياء مكان الألف وفتح العين. ذكره في "البحر". فإن قلت (¬1): قد أطلق سبحانه في هذه الآية الكريمة العبد والأمة على الغلام والجارية. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح كما رواه مسلم: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، كلُّ النساء إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي". قلت: إن ذلك إنما يكره إذا قاله على طريق التطاول على الرقيق، والتحقير لشأنه، والتعظيم لنفسه. فسقط التعارض. والحمد لله تعالى. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ}؛ أي: لا تمتنعوا أيها الأولياء من تزويج الأحرار والحرائر بسبب فقرهم؛ لأنهم إن يكونوا فقراء عادمي المال {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مِنْ فَضْلِهِ} ورزقه؛ أي (¬2): لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون زواجها. ففي فضل الله سبحانه ما يغنيهم، والمال غاد ورائح. والله سبحانه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب. قال بعضهم: من صح افتقاره إلى الله .. صح استغناؤه بالله. قال الزجاج (¬3): حث الله سبحانه على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلًا لكل فقير إذا تزوج، فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وإنما كان النكاح يسبب الغنى؛ لأن العقد الديني يجلب العقد الدنيوي، إما من حيث لا يحتسبه الفقير، أو من حيث أن النكاح سبب للجد في الكسب، والكسب ينفي الفقر. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس. وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[33]

النكاح .. يغنيهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك. وجملة قوله: {وَاللَّهُ} سبحانه {وَاسِعٌ}؛ أي: ذو سعة وغنى. فلا انتهاء لفضله، ولا حد لقدرته، فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما. {عَلِيمٌ} بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. مؤكدة لما قبلها، ومقررة لها. والمعنى: أنه سبحانه ذو سعة، ولا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده، عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء، ويفقر من يشاء. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله". أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي والنسائي أيضًا. 33 - وبعد أن بيَّن سبحانه حال القادرين على النكاح ووسائله .. بين حال العاجزين عن تلك الوسائل، فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ}؛ أي: وليطلب العفة عن الزنا، والحرام والاجتناب عنه. {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ} ولا يقدرون {نِكَاحًا}؛ أي: سبب نكاح ووسيلته وهو المال. وقيل: النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس؛ أي: وليجتهد (¬1) في العفة وقمع الشهوة من لا يجد أسباب نكاح من مهر ونفقة - فإنه لا معنى لوجدان نفس العقد والتزوج - وذلك بالصوم. كما قال عليه السلام: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" معناه: إن الصوم يضعف شهوته، ويقهرها على طلب الجماع، فيحصل بذلك صيانة الفرج وعفته. والأمر في {ليستعفف} محمول على الوجوب في صورة التوقان. ثم قيد سبحانه هذا الأمر بغايةِ هي قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

فَضْلِهِ}؛ أي: وليجتهدوا في الاستعفاف حتى يرزقهم الله سبحانه رزقًا يستغنون به، ويتمكنون بسببه من النكاح. والخلاصة: أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله، حتى يصل إلى بغيته من النكاح، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار، فقال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}؛ أي: والمماليك الذين يطلبون المكاتبة والإعتاق على المال {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم من عبيدكم وإماءكم، ليصيروا أحرارًا، والموصول في محل رفع مبتدأ خبره {فَكَاتِبُوهُمْ}؛ أي: فصيروهم أحرارًا بعقد الكتابة. والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط. ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده؛ أي: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب. والأمر فيه للندب؛ لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق، فلا تجب كغيرها. {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ}؛ أي: في أولئك المماليك {خَيْرًا}؛ أي: أمانةً ورشدًا، وقدرةً على أداء مال الكتابة بتحصيله من وجه حلال، وصلاحًا بحيث لا يؤدي الناس بعد العتق وإطلاق العنان. وهو شرط في استحباب (¬1) عقد الكتابة المفهوم من قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ}. فاللام من انتفاء هذا القيد، انتفاء الاستحباب، لا انتفاء الجواز. فصل في بيان معنى الكتابة وحكمها وكيفيتها والكتابة لغة: مصدر كاتب يكاتب كتابة وكتابًا ومكاتبة. نظير قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة. وشرعًا: أن يقول (¬2) السيد لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، ويسمى مالًا معلومًا، تؤدي ذلك في نجمين، أو في نجوم معلومة، في كل نجم كذا. فإذا أديت ذلك .. فأنت حر، ويقبل العبد ذلك. فإذا أدى العبد ذلك المال عتق، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة. وإذا عتق بأداء المال، فما فضل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

في يده من المال فهو له، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق. وإذا عجز عن أداء المال، كان لمولاه أن يفسخ كتابته، ويرده إلى الرق. وما في يده من المال فهو لسيده لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". أخرجه أبو داود. وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} أمر إيجاب، يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرًا إذا سأل العبد ذلك على قيمته، أو على أكثر من قيمته، وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب. وهو قول عطاء وعمرو بن دينار. لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه - وكان كثير المال - فأبى، فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه، فدعاه عمر فقال له: كاتبه، فأبى، فضربه بالدرَّة، وتلا {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فكاتبه. ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي؛ لأنه عقد جوز إرفاقًا بالعبد. ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل، حتى يؤديه على مهلٍ، فيحصل المقصود. وجوز أبو حنيفة الكتابة حالة منجمة بنجم واحد. ومعنى المفاعلة (¬1) في هذا العقد: أن المولى يكتب؛ أي: يفرض، ويوجب على نفسه أن يعتق المكاتب إذا أدى البدل، ويكتب العبد على نفسه أن يؤدي البدل من غير إخلال. وأيضًا بدل هذا العقد مؤجل منجم على المكاتب، والمال المؤجل يكتب فيه كتاب على من عليه المال غالبًا. واختلفوا في معنى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فقال ابن عمر: قوةً على الكسب. وهو قول مالك والثوري. وقيل: مالًا. روي أن عبدًا لسلمان الفارسي قال له: كاتبني، قال: ألك مال؟ قال: أتريد أن تطعمني أوساخ الناس، ولم يكاتبه. قيل: لو أراد به المال لقال: إن علمتم لهم خيرًا. وقيل: صدقًا وأمانةً. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد، الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمنع من الكتابة إذا كان هكذا. وقيل: معنى الخير، أن يكون العبد عاقلًا بالغًا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما؛ لأن الابتغاء منهما لا يصح. وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق. والمعنى: أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجومًا، ليصيروا بعد أدائها أحرارًا، ويكونوا قادرين على الكسب، وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق فكاتبوهم، ويكونون بعد إنتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارًا في رقابهم وفي كسبهم. ثم حث المؤمنين جميعًا على تحرير الرقاق، فقال: {وَآتُوهُمْ}؛ أي: واعطوا أيها السادة المكاتبين شيئًا {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}؛ أي: أعطاكم، وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم ملكه. أو أعطوا أيها الحكام المكاتبين سهامهم التي جعلها الله لهم في بيت المال في مصارف الزكاة بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ}؛ أي: وفي تحرير الأرقاء. وعلى القول بأن الخطاب للسادة .. فالواجب إما أن يعطوهم شيئًا من المال، أو يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه. وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار. وقيل: الثلث. وقيل: الربع. وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم، فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: {وَآتُوهُمْ} لجميع الناس. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك .. نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال: {وَلَا تُكْرِهُوا}؛ أي: لا تجبروا أيها السادة {فَتَيَاتِكُمْ}؛ أي: إمائكم، فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة. وباعتبار المفهوم الأصلي، وهو أن الفتى: الطري من الشباب، ظهر مزيد مناسبة الفتيات لقوله: {عَلَى الْبِغَاءِ} وهو الزنا من حيث صدوره عن الشواب؛ لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبًا، دون ما عداهن من العجائز والصغار. {عَلَى الْبِغَاءِ}؛ أي: على الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً، إذا زنت وفجرت، وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها. ثم الإكراه إنما يحصل متى حصل

التخويف بما يقتضي تلف النفس، أو تلف العضو. وأما باليسير من التخويف فلا تفسير مكرهة {إِنْ أَرَدْنَ} تلك الفتيات {تَحَصُّنًا}؛ أي: تعفيفًا عن الزنا؛ أي: جعلن أنفسهن في عفة كالحصن. وهذا (¬1) القيد، ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا. وإخراج ما عداها من حكمه، بل للمحافظة على عادتهم المسمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه. وكان لعبد الله بن أبيّ ست جوارٍ جميلةٍ، وهي معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وفتيلة، يكرههن على الزنا. وضرب عليهن ضرائب، جمع ضريبة - وهي الغلة المضروبة على العبيد - والجزية، فشكت اثنتان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي معاذة ومسيكة، فنزلت. وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى، فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه من إمائه، فضلًا عن أمرهن وإكراههن عليه، لا سيما عند إرادتهن التعفف. وفي (¬2) ذلك إشارة إلى أن للسادة إكراههن على النكاح، فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها. وفي "الخازن" واختلف العلماء (¬3) في معنى قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} على أقوالٍ: أحدها: إن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطًا فيه. الثاني: إنما شرط إرادة التحصن؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن؛ فإنها تبغي بالطبع طوعًا. الثالث: (إنَّ) (إنْ) بمعنى إذا؛ أي: إذا أردن، وليس معناه الشرط؛ لأنه لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنًا. كقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ أي: إذا كنتم مؤمنين. القول الرابع: إن في هذه الآية تقديمًا وتأخيرًا، فيكون هذا القيد راجعًا إلى الأيامى. ويكون تقدير الكلام؛ أي: وانكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنًا، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. اهـ. وقيل (¬1): إن هذا الشرط ملغى. وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه. فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح. والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: لا تكرهوهن أيها السادة على الزنا، لتطلبوا بهذا الإكراه حطام هذه الحياة الدنيا. والعرض (¬2) ما لا يكون له ثبوت. ومنه استعار المتكلمون العرض، لما لا ثبات له قائمًا بالجوهر. كاللون والطعم. وقيل: الدنيا عرض حاضر، تنبيهًا على أن لا ثبات لها. والمعنى: لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال من كسبهن وبيع أولادهن. وهذا التعليل أيضًا خارج مخرج الغالب. والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب؛ لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلًا لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيًا بكراهها عرض الحياة الدنيا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[34]

{وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ}؛ أي: ومن يكره منكم أيها السادة الإماء على البغاء {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ}؛ أي: من بعد إكراهكم إياهن، فهو مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: من بعد كونهن مكرهات على البغاء {غَفُورٌ} لهن ما قد يعرض لهق في تضاعيف الزنا، وتكراره من شائبة المطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصرًا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. {رَحِيمٌ} بهن بعدم مؤاخذتهن على البغاء، وفي هذا التفسير جواب عما يقال: إن المكرهة على الزنا غير آثمة. ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير {لهن غفور رحيم} بزيادة لهن، وتوسيط (¬1) الإكراه بين اسم إن وخبرها للإيذان. بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة. وفيه دلالة على أن المكرهين محرومون منهما بالكلية. وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم، باعتبار أنهن وإن كن مكرهات، لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية. كما مرّ آنفًا. أو أتي بالمغفرة لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كنَّ عرضة للعقوبة. لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة، مع قيام العذر في حقهن، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب. اهـ. "أبو السعود". وفي "الكواشي" المغفرة هاهنا عدم الإثم؛ لأنها لا إثم عليها إذا أكرهت على الزنا بقتل أو ضرب مفضٍ إلى تلف النفس، أو تلف العضو. وأما الرجل فلا يحل له الزنا، وإن أكره عليه؛ لأن الفعل من جهته ولا يتأتى إلا بعزيمة منه فيه، فكان كالقتل بغير حق، لا يبيحه الإكراه بحال. انتهى. وقيل: إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، إما مطلقًا أو بشرط التوبة. 34 - ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام .. شرع (¬2) في وصف القرآن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

بصفات ثلاث: الأول: كونه آيات مبينات. والثانية: كونه مثلًا. والثالثة: كونه موعظة. فقال: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون في هذه السورة الكريمة آيات مبينات، لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب والتبيين في الحقيقة لله تعالى. وإسناده إلى الآيات مجاز عقلي. وقرأ (¬1) {مبينات} بفتح الياء الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر؛ أي: بين الله في هذه إلسورة وأوضح آياتٍ تضمنت أحكامًا وحدودًا وفرائض. فتلك الآيات هي المبينة ويجوز أن يكون المراد مبينًا فيها ثم اتبع، فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف للمبين. وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء. فإما أن تكون متعدية؛ أي: مبينات غيرها من الأحكام والحدود. فأسند ذلك إليها مجازًا. وإما أن تكون لا تتعدى؛ أي: بينات في نفسها, لا تحتاج إلى موضح، بل هي واضحة. لقولهم في المثل: قد بين الصبح لذي عينين؛ أي: قد ظهر ووضح. {وَمَثَلًا} معطوف على آيات؛ أي: وأنزلنا (¬2) إليكم مثلًا كائنًا {مِنَ} قبيل أمثال {الَّذِينَ خَلَوْا}؛ أي: مضوا {مِنْ قَبْلِكُمْ} من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء. فتنتظم قصة عائشة الحاكية لقصة يوسف وقصة مريم في القرابة وسائر الأمثال الواردة انتظامًا واضحًا، فإن في قصتهما ذكر تهمة من هو بريء مما اتهم به. فيوسف اتهمته زليخا، ومريم اتهمتها اليهود مع براءتهما. أي: وأنزلنا إليكم قصة غريبة من جنس قصص الذين خلوا من قبلكم في الغرابة. وهي (¬3) قصة عائشة - رضي الله عنها - فإنها كقصة يوسف ومريم، ولقد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان بتصرف. (¬3) البيضاوي.

برأ الله سبحانه أربعة بأربعة. برأ يوسف بلسان الشاهد، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بانطاق ولدها، وبرأ عائشة بتلك الآيات. وفي هذا تخويف لهم، أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين. {و} أنزلنا إليكم {مَوْعِظَةً} وتذكرةً {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: للذين يتقون الشرك والكبائر، يتعظون بها وينزجرون عما لا ينبغي لهم من المحرمات والمكروهات، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب، ومدار (¬1) العطف هو التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي، فالموعظة ما وعظ به في الآيات. من (¬2) قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} وقوله: {يعظكم أن تعودوا لمثله أبدا} وخص المتقين بالذكر مع شمول الموعظة للكل حسب شمول الإنزال؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتبسون من أنوارها. وأما غير المتقين، فإن الله سبحانه قد ختم على قلوبهم، وجعل على بصرهم غشاوةً عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات. والمعنى: أي ولقد أنزلنا إليكم آيات القرآن مبينات لما أنتم في حاجة إليه من الأحكام والآداب .. كما أنزلنا قصصًا من أخبار الأمم السالفة، كقصة يوسف وقصة مريم، وفيهما شبه بقصة عائشة. وفيهما عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه، وخشي عذابه. وأثر عن علي - كرم الله وجهه - في وصف القرآن. فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله اهـ. فإن قلت: لم قال (¬3) هنا: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا} بذكر واو العطف. وقال فيما سيأتي: {لقد أنزلنا} بدون الواو، وزاد هنا {إِلَيْكُمْ} بخلاف ما سيأتي؟ قلت: لأن اتصال ما هنا بما قبله أشد. إذ قوله هنا: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) فتح الرحمن.

[35]

مصروف إلى الجمل السابقة من قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} إلى آخره، وفيه معطوفان بالواو، فناسب ذكرها بالعطف، وذكر {إِلَيْكُمْ} ليفيد أن الآيات المبينات نزلت في المخاطبين في الجمل السابقة. وما ذكر بعدُ خالٍ عن ذلك، فناسبه الاستئناف والحذف. 35 - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى مثلين: أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور. والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول: فقوله تعالى: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: مظهرهما (¬1) ومبديهما وموجدهما من العدم بكمال القدرة الأزلية. وقال ابن عباس: أي الله هادي أهل السماوات والأرض، فهم بنوره يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. فمعنى النور هو الهداية؛ أي: ذو نور؛ أي: ذو هداية لأهلهما. وقيل: معناه (¬2) الله منور السماوات والأرض. نور السماء بالملائكة. ونور الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل: زين الأرض بالنبات والأشجار. واعلم: أن النور على أربعة أوجه (¬3): أولها: نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها، كنور الشمس وأمثالها، فهو يظهر الأشياء المخفية في الظلمة ولا يراها. وثانيها: نور البصر، وهو يظهر الأشياء للإبصار ولكنه يراها. وهذا النور أشرف من الأول. وثالثها: نور العقل، وهو يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

للبصائر، وهو يدركها ويراها. ورابعها: نور الحق تعالى، وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت، وهو يراها في الوجود. كما كان يراها في العدم؛ لأنها كانت موجودة في علم الله، وإن كانت معدومة في ذاتها، فما تغير علم الله، ورؤيته بإظهارها في الوجود، بل كان التغير راجعًا إلى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين. {مَثَلُ نُورِهِ}؛ أي: صفة نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة، وهو القرآن المبين، كما في "الإرشاد". فهو تمثيل له في جلاء مدلوله، وظهور ما تضمنه من الهدى بالمشكاة المنعوتة. والمراد بالمثل الصفة العجيبة؛ أي: صفة نوره العجيب، وإضافته إلى ضميره تعالى، دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. كما في "البيضاوي". {كَمِشْكَاةٍ}؛ أي: كصفة كوة، غير نافذة في الجدار في الإنارة. قال بعض أهل المعاني: معنى الآية، كمثل مصباح في مشكاة. فهو من المقلوب ذكره ابن الجوزي. {فِيهَا}؛ أي: في تلك المشكاة {مِصْبَاحٌ}؛ أي: سراج ضخم ثاقب {الْمِصْبَاحُ}؛ أي: ذلك المصباح كائن {فِي زُجَاجَةٍ}؛ أي: في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. وفائدة جعل المصباح في زجاجة. والزجاجة في كوة، غير نافذة شدة الإضاءة؛ لأن المكان، كلما تضايق، كان أجمع للضوء. بخلاف الواسع، فالضوء ينتشر فيه. وخص الزجاج؛ لأنه أحكى الجواهر لما فيه. {الزُّجَاجَةُ}؛ أي: تلك الزجاجة والقنديل {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}؛ أي: نجم متلألىء وقَّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته، كالمشتري والزهرة والمريخ ودرازى الكواكب عظامها المشهورة ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لزجاجة، واللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري. وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين عقب ذكرهما منكرين. والإخبار بما بعدهما مع انتظام الكلام، بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها

كوكب دري من تفخيم شأنها بالتفسير بعد الإبهام ما لا يخفى. {يُوقَدُ} ذلك المصباح؛ أي: يبتدأ إيقاد ذلك المصباح {مِنْ} زيت {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}؛ أي: كثيرة المنافع؛ لأن الزيت يسرج به، وهو إدام، ودهان ودباغ ويوقد بحطب الزيتون وبثفله، ورماده يغسل به الأبريسم. ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار. وفيه زيادة الإشراق، وقلة الدخان. وهو مصحة من الباسور. {زَيْتُونَةٍ} بدل من شجرة خصها من بين سائر الأشجار؛ لأن دهنها أضوأ وأصفى. قال في إنسان العيون: شجرة الزيتون تعمِّر ثلاثة آلاف سنة. وهو أول شجرة نبت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة. ودعا لها سبعون نبيًا بالبركة. منهم إبراهيم، ومنهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال مرتين: "اللهم بارك في الزيت والزيتون" اهـ. "مراح". {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}؛ أي: لا شرقية تطلع عليها الشمس في وقت شروقها فقط. ولا غربية تقع عليها حين الغروب فقط، بل بحيث تقع عليها طول النهار، فلا يسترها عن الشمس في وقت من النهار شيء، كالتي على قمة جبل، أو صحراء. فتكون ثمرتها أنضج، وزيتها أصفى. أولا في مضحى، تشرق الشمس عليها دائمًا فتحرقها, ولا في مغيباة تغيب عنها دائمًا فتتركها نيئًا، أو لا نابتة في شرق المعمورة نحو كنكدزٍ وديار الصين. ولا في غربها، نحو طنجة وطرابلس وديار قيروان. بل في وسطها، وهو الشام. فإن زيتونته أجود الزيتون أو في خط الاستواء بين المشرق والمغرب. وهي قبة الأرض، فلا توصف بأحد منهما، فلا يصل إليها حر ولا برد مضران. وقبة الأرض وسط الأرض عامرها خرابها. وهو في مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد، ويستوي الليل والنهار فيها أبدًا، لا يزيد أحدهما على الآخر؛ أي: يكون كل منهما اثنتي عشرة ساعة. وعبارة "المراغي" هنا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: الله هادي أهل السماوات والأرض، بما نصب من الأدلة في الأكوان. وبما أنزل على رسله من الآيات البينات فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون. {مَثَلُ نُورِهِ}، سبحانه؛ أي: صفة نور الله عَزَّ وَجَلَّ في قلب المؤمن. وهو

النور الذي يهتدى به {كَمِشْكَاةٍ}؛ أي: كصفة نور مشكاة؛ أي: كوة غير نافذة في شدة الإشراف والإضاءة، أو مثل أدلته التى بثها في الآفاق. وهدى بها من شاء من عباده، كمثل نور مشكاة فيها {مِصْبَاحٌ}؛ أي: سراج ضخم ثاقب، له الصفات الآتية. {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}؛ أي: ذلك المصباح في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}؛ أي: تلك الزجاجة، كأنها كوكب ضخم مضيء من دراري النجوم. النجوم وعظامها: كالزهرة والمشتري. {يُوقَدُ} ذلك المصباح والسراج {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}؛ أي: رويت وشربت فتيلته وخيطه من زيت شجرة زيتونة، كثيرة المنافع زرعت على جبل عال، أو صحراء واسعة، فهي ضاحية للشمس لا يظللها جبل ولا شجر، ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها. فزيتها أشد ما يكون صفاء. {لَا شَرْقِيَّةٍ} فحسب {وَلَا غَرْبِيَّةٍ} فحسب بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها. كما يقال: فلان لا مسافر ولا مقيم، إذا كان يسافر أحيانًا ويقيم أخرى. وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا}؛ أي: يقرب زيتها. صفة لشجرة أيضًا؛ أي: من شجرة مباركة موصوفة بأنه يكاد زيتها لشدة صفائه {يُضِيءُ} المكان بنفسه {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أصلًا. وهذه (¬1) الجملة معطوفة على جملة محذوفة وقعت حالًا، والتقدير: يكاد زيتها يضيء، لو مسته نار ولو لم تمسسه نار؛ أي: تضيء كائنًا على كل حال، من وجود الشرط وعدمه. فالجملة حالية جيء بها لاستقصاء الأحوال، حتى في هذه الحال. والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته، يكاد يضيء بنفسه على كل حال؛ أي: سواء مسته النار أو لم تمسسه، وفي "السمين" قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} جواب لو محذوف؛ أي: لأضاء لدلالة ما تقدم عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والمعنى: أي (¬1) زيتها لصفائه وبريقه ولمعانه، كأنه يضيء بنفسه دون أن تمسه النار؛ لأن الزيت إذا كان خالصًا صافيًا ثم ربي من بعد يرى كأن له شعاعًا، فإذا مسته النار ازداد ضوءًا على ضوء. كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورًا على نور وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له، لموافقته إياه، وهو المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". وارتفاع {نُورٌ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف و {عَلَى نُورٍ} متعلق بمحذوف، هو صفة لـ {نور} مؤكدة له؛ أي: ذلك النور الذي عبر به عن القرآن، ومثلت صفته العجيبة الشأن، بما فصل من صفة المشكاة؛ أي: نور المصباح نور كائن على نور؛ أي: نور متضاعف. فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، وزهرة القنديل، وضبط المشكاة لأشعته، فليس عبارةً عن مجموع نورين اثنين فقط. بل المراد به التكثير. كما يقال: فلان يضع درهمًا على درهم. ولا يراد به درهمان. أي: نور المصباح نوره مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة. والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوي النور، ويزيده إشراقًا، ويمده بإضاءة. ذلك أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة .. كان أضوأ له، وأجمع لنوره بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر. والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه. فإن قلت: ولم مثل الله نوره؛ أي: معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح، دون نور الشمس، مع أن نورها أتم؟ قلت: لأن المقصود، تمثيل النور في القلب. والقلب في الصدر، والصدر في البدن كالمصباح، والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل. وهذا التمثيل لا يتقيم إلا فيما ذكر؛ ولأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها ¬

_ (¬1) المراغي.

كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها من الصفات الحميدة. كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة وغيرها، أو لأن نور الشمس يشرق متوجهًا إلى العالم السفلي، ونور المعرفة يشرق متوجهًا إلى العالم العلوي كنور المصباح. ولكثرة نفع الزيت، وخلوصه عما يخالطه غالبا، وقع التشبيه في ثوره دون نور الشمس مع أنه أتم من نور المصباح. اهـ. "فتح الرحمن". {يَهْدِي اللَّهُ} سبحانه هداية (¬1) خاصةً موصلة إلى المطلوب حتمًا، وليس المراد بالداية هنا مجرد الدلالة. {لِنُورِهِ}؛ أي: لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن. {مَنْ يَشَاءُ} هدايته من عباده، بأن يوقفهم لفهم ما فيه من دلائل حقيته، وكونه من عند الله من الإعجاز، والإخبار عن الغيب، وغير ذلك من موجبات الإيمان. وهذا من قبيل الهداية الخاصة. ولذا قال: من يشاء من عباده. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية، وملاكها ليس إلا مشيئته. وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطلوب. والمعنى: أي (¬2) يوفق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق، بالنظر والتدبر، وتوجيه الفكر لسلوك الطريق العبادة الموصلة إليه. ومن لم يتدبر، فهو كالأعمى. سواء لديه جنح الليل الدامس، وضحوة النهار الشامس. وعن علي - رضي الله عنه - {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ونشر فيهما الحق وبثه فأضاء له بنوره. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ} سبحانه {الْأَمْثَالَ}؛ أي: الأشباه ويبينها {لِلنَّاسِ} تقريبًا إلى الأفهام، وتسهيلًا لسبل الإدراك؛ أي: يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها، تقريبًا لها إلى الأفهام والأذهان، وتسهيلًا لإدراكها؛ لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس، وتصويره بصورته يزيده وضوحًا وبيانًا. وهذا من قبيل الهداية العامة. ولذا قال: للناس. والمعنى: أي ويسوق الله الأمثال للناس في تضاعيف هدايتهم، بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد في النصح والإرشاد. إذ بها تتفتق الأذهان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها، وتدين بها. ولأمر ما كثرت في القرآن الكريم فقلما ساق حجاجًا، أو أقام دليلًا إلا أردفه بالمثل ليكون أدعى إلى الإقناع، وأرجىء للاقتناع. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء من ضرب الأمثال وغيره من دقائق المعقولات، والمحسوسات، وحقائق الجليات، والخفيات {عَلِيمٌ} لا يغيب عن علمه شيء من الأشياء معقولًا كان أو محسوسًا، ظاهرًا أو باطنًا، فيعطي هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم، واستعدوا لتلقي أحكام الدين وآدابه. وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى، بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم. وفي هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لن يتفكر فيها ولم يكترث بها. فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدي لطريقه. وخلاصة ذلك: ما قاله ابن عباس - رضي الله عنه -: هذا مثل نور الله، وهداه في قلب المؤمن. فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءًا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى، قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدًى على هدًى، ونورًا على نور. فصل في بيان القراءة الجارية في الآية وقرأ علي (¬1) بن أبي طالب وأبو جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة ومسلمة بن عبد الملك وأبو عبد الرحمن السلمي والقورصي وعبد الله بن عياش بن أبي ريعة: {اللَّهُ نَوَّرَ} فعلًا ماضيًا. {السَّمَاوَاتَ وَالْأَرْضَ} بالنصب. وقرأ أبو (¬2) رجاء العطاردي ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد وابن أبي عبلة: {في زَجاجة الزَّجاجة} بفتح الزاي فيهما. وقرأ معاذ القاري وعاصم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير والبحر المحيط.

الجحدري وابن يعمر بكسر الزاي فيهما. وقرأ الجمهور: بضم الزاي فيهما. وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وابن كثير: {درى} بضم الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه. ويحتمل أن يكون أصله الهمز، فأبدل وأدغم. وقرأ أبو عمرو والكسائي وأبان عن عاصم بكسر {دريىء} بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودًا مهموزًا. وهو بناء كثير في الأسماء، نحو سكين. وفي الأوصاف نحو: سكِّير قال ابن قتيبة: المعنى على هذا إنه من الكواكب الدرارىء، وهي اللاتي يدرأن عليك؛ أي: يطلعن. وقال الزجاج: هو مأخوذ من درأ يدرأ إذا اندفع منقضًا فتضاعف نوره. يقال: تدارأ الرجلان إذا تدافعا. وقرأ عبد الله بن عمر والزهري والمفضل عن عاصم {درى} بكسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مد. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وعاصم الجحدري {دريىء} بفتح الدال وكسر الراء ممدودًا مهموزًا. وقرأ أبيّ بن كعب وسعيد بن المسيب وقتادة وزيد والضحاك {دريّ} بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز. وقرأ ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وابن يعمر {درىء} بفتح الدال وكسر الراء مهموزًا مقصورًا. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر {دريىء} بضم الدال وتخفيف الياء مع إثبات الهمزة والمد. وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وأبو بكر عن عاصم والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش: {توقد} بضم التاء والدال؛ أي: الزجاجة؛ أي: مصباحها مضارع أوقدت مبنيًا للمفعول. وقرأ (¬1) نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {يوقد} بالياء مضمومة مع ضم الدال؛ أي: المصباح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {توقد} بفتح الحروف الأربعة وتشديد القاف فعلًا ماضيًا من باب تفعل؛ أي: المصباح أيضًا؛ لأنه هو الذي يوقد. وقرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[36]

الحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم: {توقد} بفتح الحروف الثلاثة الأولى، وضم الدال مضارع توقد، وأصله تتوقد؛ أي: الزجاجة يعني مصباحها. وقرأ عبد الله {وقد} بغير تاء وشدد القاف جعله فعلًا ماضيًا؛ أي: وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضًا كذلك. إلا أنه بالياء من تحت {يوقد} وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن. وأصله يتوقد؛ أي: المصابح إلا أن حذف التاء في تتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف. وفي يتوقد شاذ جدًّا؛ لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة. وله وجه من القياس. وهو حمله على يعد، إذ حمل يعد على تعد في حذف الواو. وكذلك هذا لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء، وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلًا. وقرأ الجمهور: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} بالخفض على أنه صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع؛ أي: لا هي شرقية ولا غربية. والجملة في موضع الصفة. وقرأ الجمهور: {تَمْسَسْهُ} بالتاء، وابن عباس والحسن بالباء من تحت وحسنه الفصل وإن تأنيث النار مجازي. وهو مؤنث بغير علامة. 36 - وقوله: {فِي بُيُوتٍ} تعلق بمحذوف، صفة لمشكاة، والتقدير: مثل نوره سبحانه كمثل نور مشكاة وكوة كائنة في بيوت ومساجد. {أَذِنَ اللَّهُ} سبحانه وأمر {أَنْ تُرْفَعَ}؛ أي: أن تبنى تلك البيوت والمساجد رفيعةً وتطهر وتنظف من الأنجاس والأقذار. وقيل: تعظم فلا يذكر فيها الفحش من القول. وقد كره (¬1) بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة. فلو كان بغير أجرة، لمنع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون من الأقذار والأوساخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنظيفها وتطييبها. فقال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم، ورفع أصواتكم ¬

_ (¬1) المراح والقرطبي.

وخصوماتكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر". وفي "الفتوحات" قوله: {فِي بُيُوتٍ} فيه ستة أوجه: أحدها: أنه صفة لمشكاة؛ أي: كمشكاة كائنة في بيوت؛ أي: في بيت من بيوت الله. الثاني: أنه صفة لمصباح. الثالث: أنه صفة لزجاجة. الرابع: أنه متعلق بتوقد، وعلى هذه الأقوال لا يوقف على عليم. والخامس: أنه متعلق بمحذوف. كقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}؛ أي: سبحوه في بيوت. السادس: أنه متعلق بيسبح؛ أي: يسبح رجال في بيوت. ولفظ فيها حينئذٍ مكرر للتوكيد. كقوله تعالى: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ} وعلى هذين القولين فيوقف على عليم. اهـ. "سمين". قيل (¬1): المراد بالبيوت هنا، جميع المساجد. فقد قال ابن عباس: بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وقيل: المراد بها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلةً. وبيت المقدس بناه داود وسليمان. ومسجد المدينة، ومسجد قباء، بناهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. "خازن". وقيل: المراد بها (¬2) بيوت بيت المقدس. روي ذلك عن الحسن. وقيل: بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه مجاهد. وقيل: هي البيوت كلها، والقول الأول أظهر لقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

وقد يقال: على تقدير تعلقه بمشكاة أو بمصباح، أو بتوقد ما الوجه، في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت، ولا تكون المشكاة الواحدة، ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا من الخطاب، الذي يفتح أوله بالتوحيد، ويختم بالجمع، كقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ونحوه. وقيل: معنى في بيوت، في كل واحد من البيوت فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيوت. وقوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} معطوف على {ترفع}؛ أي: وأمر أن يذكر فيها اسمه. واسم (¬1) الله تعالى كل ما يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته كلفظ الجلالة، أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس، أو الثبوتية كالعليم. أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق. لكنها توفيقية عند بعض العلماء. وذكر الله هنا عام في كل ذكر توحيدًا كان أو تسبيحًا أو تحميدًا أو تكبيرًا أو تلاوة قرآن، أو مذكرة علوم شرعية، أو ما كان آلةً لها، أو آذانًا، أو إقامة، أو نحوها. والمعنى مثل نوره كمشكاة، كمصباح موضوع في مشكاة كائنة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية، والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث. وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له. {يُسَبِّحُ لَهُ} سبحانه {فِيهَا}؛ أي: في تلك البيوت، وينزهه ويقدسه عما لا يليق به. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}؛ أي: في أول النهار وآخره. {رِجَالٌ} فاعل {يسبح}. وخصوا بالذكر؛ لأن النساء ليس عليهن حضور المسجد لجمعة ولا لجماعة. اهـ. "سمين". ولفظ فيها تكرير، لقوله: في بيوت للتأكيد والتذكير، لما بينهما من الفاصلة. إن قلنا إن قوله: {في بيوت} متعلق بـ {يسبح}. وللإيذان بأن التقديم للاهتمام، لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط. والتسبيح تنزيه الله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[37]

تعالى عما لا يليق به، وجعل عامًا في جميع العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نيةً. ولكن أريد به هنا الصلوات المفروضة. كما ينبىء عنه تعيين الأوقات، بقوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}؛ أي: بالغدوات والعشيات. فالمراد بالغدو وقت صلاة الفجر؛ لأنها مؤداة فيه. وبالآصال ما عداه من أوقات صلوات الظهر والعصر والعشائين؛ لأن الأصيل يجمعها ويشملها. كما في "الكواشي" وغيره؛ 37 - أي: يسبح له فيها رجال موصوفون بأنهم {لَا تُلْهِيهِمْ}؛ أي: لا تشغلهم من غاية الاستغراق في مقام الشهود، وهو في محل رفع صفة أولى لرجال. {تِجَارَةٌ}؛ أي: تقليب المال لغرض الربح؛ أي: التصرف في رأس المال طالبًا الربح. وتخصيص (¬1) التجارة لكونها أقوى الصوارف عندهم، وأشهرها؛ أي: لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة {وَلَا بَيْعٌ} لأموالهم، {ولا} شراء لأموال غيرهم. فالبيع ضابطه إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن؛ أي: ولا فرد من أفراد البيوع. وعطف البيع على التجارة من عطف الخاص على العام، لشمول التجارة للبيع والشراء. وإن كان في غاية الربح. وإفراده بالذكر من اندراجه تحت التجارة، لكونه أهم من قسمي التجارة، فإن الربح يتحقق بالبيع، ويتوقع بالشراء؛ أي: ربح الشراء متوقع في ثاني الحال عند البيع، فلم يكن ناجزًا كربح البيع، فإذا لم يلههم المقطوع، فالمظنون أولى. فإن قلت: لم عطف البيع على التجارة مع شمولها له؟ قلت: لأن التجارة هي التصرف في المال، لقصد الربح، والبيع أعم من ذلك، فعطفه عليها لئلا يتوهم القصور على بيع التجارة، أو أريد بالتجارة الشراء لقصد الربح، وبالبيع البيع مطلقًا. اهـ. "فتح الرحمن". {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} بالتسبيح والتمجيد، أو عن حضور المسجد لإقامة الصلاة كما في "الخازن". {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}؛ أي: وعن إقامتها، وأدائها جماعة في مواقيتها من غير تأخير؛ لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي ¬

_ (¬1) روح البيان.

الصلاة. وقد أسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة. قال الراغب: قوله تعالى: {لَا تُلْهِيهِمْ} الآية. ليس ذلك نهيًا عن التجارة وكراهيةً لها، بل نهى عن التهافت والاشتغال عن الصلوات والعبادات بها. انتهى. قال ابن الشيخ: إقامة الصلاة إتمامها برعاية جميع ما اعتبره الشرع من الأركان والشروط والسنن والآداب، فمن تساهل في شيء منها .. لا يكون مقيمًا لها. {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}؛ أي: إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين. وإيراده هاهنا، وإن لم يكن مما يفعل في البيوت، لكونه قرين إقامة الصلاة لا يفارقها في عامة المواضع. وقيل: المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص فيها، إذ ليس لكل مؤمن مال. ومعنى الآية: ينزه الله (¬1) ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها , ولابيوعهم، ولا تجارتهم عن ذكر ربهم. وهو خالقهم ورازقهم. إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم، وأنفع مما بأيديهم. فما عندهم ينفد وما عند الله باقٍ. ويؤدون الصلاة في مواقيتها، على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم، تطهيرًا لأنفسهم من الأرجاس. ونحو الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}. وقرأ الجمهور (¬2) ابن كَثير وحفص عن عاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {يُسَبِّحُ} بالياء التحتانية المضمومة والباء الموحدة المشددة المكسورة، و {رجال} فاعل له. وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة ومعاذ القارىء {تسبح} بالتاء الفوقانية المضمومة وكسر الباء المشددة، و {رجال} فاعل له. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم والبختري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان {يسبح} بالياء المضموة التحتانية، والباء الموحدة المفتوحة على صيغة المبني للمفعول، وأحد المجرورات الثلاثة المذكورة بعده في وضع المفعول الذي لم يسم فاعله. والأولى منها الذي يلي الفعل؛ لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة. وعلى هذه القراءة، فرجال مرفوع بفعل محذوف، تقديره: يسبحه رجال، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: المسبحون له رجال. وقرأ أبو جعفر: {تسبح} بالتاء الفوقية المضمومة، وفتح الباء الموحدة على صفة المبني للمجهول. قال الزمخشري: ووجه هذه القراءة أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربُّها كـ: صِيْدَ عليه يومان. والمراد وحشهما انتهى. ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير التسبيحة الدال عليه تسبح؛ أي: تسبح له هي؛ أي: التسبيحة. كما قالوا. {ليجزى قومًا} في قراءة من بناه للمفعول، ليجزى هو؛ أي: الجزاء. وقرأ أبو مجلز {والإيصال} بدل الآصال. وقوله: {يَخَافُونَ} يجوز أن يكون نعتًا ثانيًا لرجال، وأن يكون حالًا من مفعول تلهيهم. {يَوْمًا} مفعول به، لا ظرف على الأظهر، وهو يوم القيامة. {تَتَقَلَّبُ} صفة لـ {يومًا}، كما سيأتي في مبحث الإعراب؛ أي: يسبح له فيها رجال يخافون عذاب يوم تتقلب وتضطرب {فِيهِ الْقُلُوبُ} والأفئدة من شدة الهول والفزع. {و} تشخص فيه الأبصار من الهلع والحيرة، والرعب والخوف. وقرأ ابن محيصن {تقلب} بإدغام التاء في التاء؛ أي: يخافون (¬1) يومًا ¬

_ (¬1) المراغي.

[38]

تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك، وتتقلب فيه الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم، أمن ناحية اليمين، أم من ناحية الشمال. ومن أي ناحية يعطون كتابهم، أمن قبل إليمين، أم من قبل الشمال؛ أي: فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى، والطاعات خائفون لعلمم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين، وتنفتح الأبصار من الأغطية. وقيل: يتقلب القلب في الجوف فيرتفع إلى الحنجرة، فلا ينزل ولا يخرج. ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته. ونحو الآية قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} وقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}. 38 - ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم، فقال: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} سبحانه {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} واللام (¬1) فيه للعاقبة والصيرورة لا للعلة متعلقة بمحذوف تقديره: يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ليجزيهم الله سبحانه أحسن ما عملوا؛ أي: حسن ما عملوا. فالمفاضلة ليست على بابها، فالمحترز عنه، المجازاة على العمل القبيح. فالمعنى: ليجزيهم الله سبحانه على ما عملوا من الحسنات حسبما وعدهم، من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله، وإلى سبع مئة ضعف. قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ولا يجزون على ما عملوا من السيئات؛ أي: عملوا ما عملوا ليصير مآل أمرهم، وعاقبته الجزاء الحسن، فليست اللام للعلة، كما مر آنفًا؛ لأن هذه مرتبة عامة المؤمنين، وتلك الأوصاف إنما هي لكامل الإيمان. {وَيَزِيدَهُمْ} سبحانه {مِنْ فَضْلِهِ} وإحسانه وكرمه أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم، ولم تخطر ببالهم. وهو العطاء الخاص لا لعمل؛ أي: فلا يقتصر في ¬

_ (¬1) الصاوي.

[39]

إعطائهم على جزاء أعمالهم، بل يعطون أشياء لم تخطر ببالهم. {وَاللَّهُ} سبحانه {يَرْزُقُ} ويعطي {مَنْ يَشَاءُ} إعطاءه {بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ أي: من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن عطاءه لا نهاية له. والرزق: العطاء الجاري، والحساب: استعمال العدد؛ أي: يفيض ويعطي من يشاء ثوابًا لا يدخل تحت حساب الخلق. يقال: فلان ينفق بغير حساب؛ أي: يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه، فهو كناية عن كون الله يعطيهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. بغير نهاية فوق ما وعدهم به. وهذا تذييل ووعد كريم، بأنه تعالى يعطيهم فوق أجور أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب. قال بعض السلف (¬1): نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة .. تركوا كل شغل وبادروا إليها؛ أي: لا في أصحاب الصفة، وأمثالهم الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد، فإنه تعالى قال: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة. اهـ. 39 - ولما ضرب (¬2) الله سبحانه المثل للمؤمنين بأشرف الأمثال وأعلاها .. ضرب المثل للكفار بأشر الأشياء وأخسها، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ}. والحاصل: أن الله سبحانه ضرب للكفار مثلين: مثل لأعمالهم الحسنة بقوله: {كَسَرَاب} الخ، ومثل لأعمالهم السيئة بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} الخ. والاسم الموصول مبتدأ أول، و {كَفَرُوا} صلته، و {أَعْمَالُهُمْ} مبتدأ ثان، {كَسَرَابٍ} خبر الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول. أي: والذين كفروا بالله ورسوله، أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وعتق الأرقاء، وعمارة البيت، وسقاية الحاج، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف، وإراقة الدماء، ونحو ذلك، مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب ولا تتوقف صحته على نية كائنة، كسراب {بِقِيعَةٍ}؛ أي: كائن في قيعة. فالباء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الصاوي.

بمعنى في. والسراب هو شبه (¬1) ماء يرى نصف النهار، عند شدة الحر في البراري، يظنه من رآه ماء. فإذا قرب منه، لم ير شيئًا، وسمي سرابًا؛ لأنه يتسرب؛ أي: يجرى كالماء. ويسمى آلًا أيضًا. قال الشاعر: إِذَا أَنَا كَالَّذِيْ يَجْرِيْ لِوِرْدٍ ... إِلَى آلٍ فَلَمْ يُدْرِكْ بِلاَلاَ والقيعة: جمع قاع، كجيرة جمع جار، وهي الأرض المنبسطة المستوية، قد انفجرت عنها الجبال. {يَحْسَبُهُ}؛ أي: يتوهمه ويظنه {الظَّمْآنُ} أي: العطشان. وكذا كل من رآه {مَاءً} حقيقةً، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائنًا من كان من العطشان، والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه. وهو الابتداء المطمع والانتهاء المؤيسى. {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ}؛ أي: جاء ما توهمه ماءً، وعلق به رجاءه ليشرب منه، فهو غاية لمحذوف؛ أي: يستمر سائرًا إليه حتى إذا جاءه. {لَمْ يَجِدْهُ}؛ أي: لم يجد ما حسبه ماء. {شَيْئًا} أصلًا، لا متحققًا ولا متوهمًا، كما يراه من قبل، فضلًا عن وجدان ماءٍ فيزداد عطشًا. كذلك الكافر، يحسب أن عمله كصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، لم يجد عمله؛ أي: لم ينفعه. {وَوَجَدَ اللَّهَ} سبحانه؛ أي: وجد وعد الله بالجزاء على عمله، والمعنى: وجد عذاب الله له، عند مجيئه. {فَوَفَّاهُ}؛ أي: أعطاه وافيًا كاملًا {حِسَابَهُ}؛ أي: حساب عمله وجزاءه. يعني: ظهر له بعد ذلك، من سوء الحال، ما لا قدر عنده، للخيبة والقنوط أصلًا. كمن يجيء إلى باب السلطان للصلة، فيضرب ضربًا وجيعًا. والحاصل (¬2): أنه شبه حال الكافر من حيث اعتقاده، أن عمله الصالح ينفعه في الآخرة، فإذا جاء يوم القيامة، لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضُّر العظيم. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الصاوي.

فعظمت حسرته، بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب تعلق به، فإذا جاءه لم يجده شيئًا، وإفراد (¬1) الضمير الراجع إلى الذين كفروا في قوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} لإرادة الجنس، أو لإرادة كل واحد منهم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يشغله حساب عن حساب؛ لأنه عالم بجميع المعلومات، فلا يشق عليه الحساب. وقرأ مسلمة بن محارب (¬2): {بقيعاه} بهاء مدورة. كما يقال: رجل عزهاه. وروي أنه قرأ {بقيعات} بتاء مبسوطة. قيل: يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأول. وجمع قيعة على الثاني. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرؤوا {الظمآن} بغير همز. والمشهور عنهم الهمز. وحال معنى الأية: أنه (¬3) سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة التي يعملها، من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب في العاقبة آمالهم، ويلقون خلاف ما قدروا بالسراب، يراه من اشتد به العطش، فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغي، حتى إذا جاءه لم يجد شيئًا، هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعةً منجية لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة، لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه، إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروي غلته. ثم بين شديد عقابه بقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}؛ أي: ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحول ما كان يظنه نفعًا عظيمًا إلى ضرر محقق، وتجيؤه الزبابية تعتله وتسوقه إلى جهنم، وتسقيه الحميم والفساق، ونحو الآية قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}، {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[40]

وخلاصة ما سلف: أن الخيبة والخسران في الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال في الدنيا، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين ونحو ذلك، وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدوا وحدانية الله، مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد ظمؤه ورأى السراب فخاله ماء، وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه حتى إذا جاءه لم يجد شيئًا، ورجع بخفي حنين. هذه حالهم في الآخرة، 40 - أما حالهم في الدنيا فكما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} معطوف على كـ {سراب}، ولكنه على (¬1) حذف مضاف واحد، تقديره: أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالضمير يعود إلى المضاف المحذوف، وهو قول أبي علي، أو على حذف مضافين، تقديره: أو كأعمال ذي ظلمات، فقدر ذي، ليصح عود الضمير إليه في قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ}. وقدر أعمال، ليصح تشبيه أعمال الكفار، بأعمال صاحب الظلمات، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات. وقيل: لا حاجة إلى حذف ألبتة. والمعنى: أنه شبه أعمال الكفار في حيلولتها بين القلب، وما يهتدى به بالظلمة، وأما الضميران في {أَخْرَجَ يَدَهُ} فيعودان على محذوف دل عليه المعنى؛ أي: إذا أخرج يده من فيها اهـ. "سمين". و {أَوْ} فيه إما للتقسيم؛ لأن أعمال الكفار تنقسم إلى قمسين، قسم: كالسراب، وهو العمل الصالح. وقسم: كالظلمات، وهو العمل السيء. اهـ. "شيخنا". وفي "البيضاوي": أن {أَوْ} فيه، إما للإباحة، فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها، كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق، كالظلمات المتراكمة، من لجج البحر والسحاب والأمواج. فكانه قال: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه الظلمات. أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن ¬

_ (¬1) الفتوحات.

كانت سيئةً فكالظلمات. أو للتقيم باعتبار وقتين، فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. اهـ. أي: والذين كفروا أعمالهم كسراب، أو كظلمات كائنة. {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}؛ أي: في بحر عميق كثير الماء. منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفة ثانية لبحر؛ أي: يستر ذلك البحر، ويغطيه بالكلية موج. والموج: ما ارتفع من الماء. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} مبتدأ وخبر. والجملة صفة لـ {مَوْجٌ}؛ أي: من فوق ذلك الموج الأول موج آخر؛ أي: أمواج متراكمة بعضها على بعض. {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ}؛ أي: غيم. صفة لـ {مَوْجٌ} الثاني؛ أي: من فوق الموج الثاني، الأعلى سحاب غطى النجوم، وحجب أنوارها، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها، حتى كأنها بلغت السحاب، {ظلمات}؛ أي: هذه المذكورات من الأمواج والسحاب، ظلمات متكاثفة متراكمة، {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}. وفي "الخازن" (¬1): معناه أن البحر اللجي، يكون قعره مظلمًا جدًّا بسبب غمورة الماء وكثرته وارتفاعه، فإذا تردافت الأمواج ازدادت الظلمة، فإن كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى. ووجه الشبه، أن الله عز وجل، ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات، ظلمة البحر، وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات، ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول وظلمة العمل. وقيل: شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه، ولكن هذا بعيد عن لغة العرب. كما في "الشوكاني". قال أبيّ بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم، كلامه ظلمة وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار. والمعنى (¬2): أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

يعلوه موج كائن من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الثاني، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} بيان لغاية قوة النور. إلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به. وقرأ سفيان (¬1) بن حسين {أو كظلمات} بفتح الواو، جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه، الخالي عن محض الاستفهام، وقرأ الجمهور: {سحاب} بالتنوين. {ظلمات} بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه، أو تلك ظلمات. وقرأ البزي وابن محيصن {سحاب ظلمات} بإضافة {سحاب} إلى {ظلمات}، وجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ قنبل {سحابٌ} بالتنوين، {ظلمات} بالجر بدلًا من {ظلمات} الأولى. ثم بالغ سبحانه، في هذه الظلمات المذكورة، بقوله: {إِذَا أَخْرَجَ}؛ أي: من (¬2) ابتلي بهذه الظلمات، أو الحاضر فيها، وإضماره من غير ذكره لدلالة المعنى عليه، دلالة واضحة {يَدَهُ}، وهي أقرب أعضائه المرئية إليه، وجعلها بمرأى منه قريبةً من عينه لينظر إليها. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}؛ أي: لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة فضلًا عن أن يراها. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها , لم يكد. وقال الفراء إن {يكد} زائدة. والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها. كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد، يعني: لم يرها إلا من بعد الجهد. قال النحاس: أصح الأقوال في هذا، أن المعنى: لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يرها رؤيةً بعيدةً، ولا قريبةً. وجملة قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقررة لما قبلها، من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

كون أعمال الكفرة على تلك الصفة. والمعنى: ومن لم يجعل الله له هدايةً، فماله من هداية. قال الزجاج: ذلك في الدنيا. والمعنى من لم يهده الله لم يهتد؛ أي: ومن لم يشأ الله سبحانه أن يهديه لنور القرآن، ولم يوفقه للإيمان به فما له من نور؛ أي: فما له هداية ما من أحد أصلًا. وقيل المعنى: من لم يجعل الله له نورًا يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. وخلاصة ذلك: من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه، فو في ظلمة الباطل لا نور له. الإعراب {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان أحكام كلية شاملة. {لِلْمُؤْمِنِينَ}: كافةً يندرج فيها، حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت، اندراجًا كليًّا. {لِلْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {قُلْ}، ومقوله محذوف، تقديره: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم، لدلالة جوابه عليه، وهو {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}: {يَغُضُّوا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بالطلب السابق. {مِنْ أَبْصَارِهِمْ}: جار ومجرور متعلق به. {مِنْ} قيل: تبعيضية. وقيل: زائدة. وقيل: ابتدائية. والجملة الفعلية جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَغُضُّوا} على كونه مجزومًا بالطلب. {ذَلِكَ أَزْكَى}: مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {لَهُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَزْكَى}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {خَبِيرٌ}: خبره والجملة مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَبِيرٌ}. {يَصْنَعُون}: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما يصنعرنه.

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ}. {وَقُلْ}: {الواو}: عاطفة. {قُلْ}: فعل أمر وفاعله ضير مستتر يعود على محمد. {لِلْمُؤْمِنَاتِ}: متعلق به، ومقوله محذوف، تقديره: اغضضن من أبصاركن، والجملة معطوفة على جملة {قُلْ} الأولى. {يَغْضُضْنَ}: فعل مضارع، وفاعل في محل الجزم بالطلب السابق، مبني على السكون، لاتصاله بنون الإناث. {مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَغْضُضْنَ} والجملة جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {وَيَحْفَظْنَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَغْضُضْنَ}. {فُرُوجَهُنَّ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَلَا يُبْدِينَ}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {يُبْدِين}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. {زِينَتَهُنّ}: مفعول به ومضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة {يَغْضُضْنَ} على كونها جوابية. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {ما}: اسم موصول في محل النصب بدل من {زينتهن}. {ظَهَرَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على {ما}. {مِنْهَا}: متعلق بـ {ظَهَرَ}. والجملة صلة الموصول. {وَلْيَضْرِبْن} {الواو}: عاطفة. و {اللام}: لام الأمر. {يضربن}: فعل مضارع في محل الجزم بلام الأمر. مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع فاعل. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَا يُبْدِينَ}. {بِخُمُرِهِنّ}: {الباء}: زائدة، أو تبعيضية. {خمرهن}: مفعول به. {عَلَى جُيُوبِهِنّ}: جار ومجرور متعلق بـ {يضربن}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {يُبْدِينَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. والجملة معطوفة على جملة {وليضربن}. {زِينَتَهُنَّ} مفعول به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لِبُعُولَتِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُبْدِينَ}، {أَوْ آبَائِهِنّ}: معطوف على {بعولتهن} ومضاف إليه.

{أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}. {أَوْ آبَاءِ}: معطوف على {بُعُولَتِهِنَّ}، وهو مضاف {بُعُولَتِهِنَّ}: مضاف إليه. {أَوْ أَبْنَائِهِنّ}: معطوف على بعولتهن أيضًا. {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}: معطوف ومضاف إليه. {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} معطوف علي بعولتهن. {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}: معطوف ومضاف إليه. وكذا قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} معطوفان على بعولتهن. {أَوْ مَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {بُعُولَتِهِنّ}. {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أو ما ملكته أيمانهن. {أَوِ التَّابِعِينَ}: معطوف على {بعولتهن} مجرور بالياء {غَيْرِ}: بالجر صفة لـ {التَّابِعِينَ}، وبالنصب على الاستثناء. أو على الحال، وهو مضاف. {أُولِي} مضاف إليه مجرور بالياء المحذوفة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. أولي مضاف. {الْإِرْبَةِ}: مضاف إليه. {مِنَ الرِّجَالِ}: حال من {التَّابِعِينَ}. {أَوِ الطِّفْلِ}: معطوف على {بُعُولَتِهِنّ}. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الطِّفْلِ}؛ لأنه بمعنى الأطفال. {لَمْ يَظْهَرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} والجملة صلة الموصول. {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَظْهَرُوا}. {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَلَا يَضْرِبْنَ}: {الواو}؛ عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {يَضْرِبْنَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. {بِأَرْجُلِهِنَّ}: متعلق به والمفعول محذوف، تقديره: الأرض. والجملة معطوفة على جملة {وَلَا يُبْدِين}. {لِيُعْلَمَ}: (اللام): حرف جر وتعليل. {يعلم}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {ما}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، وعلم هنا بمعنى عرف، يتعدى لمفعول

واحد؛ أي: ليعلم الرجال ما يخفين. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلم الرجال {مَا يُخْفِينَ} الجار والمجرور متعلق بـ {يَضْرِبْنَ}. {يُخْفِين}: فعل وفاعل مبني على السكون لاتصاله بنون الإنالث. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما يخفينه. {مِنْ زِينَتِهِنَّ}: جار ومجرور حال من {ما} الموصولة، أو من العائد المحذوف. {وَتُوبُوا}: {الواو}: عاطفة. {توبوا}: فعل أمر مبني على حذف النون. و {الواو}: فاعل. {إِلَى اللَّهِ}: متعلق به. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {توبوا}. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة. {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُون}: (أي): منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، في محل النصب مبني على الضم. (ها): حرف تنبيه زائد، تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة مبني بسكون على الألف المحذوفة لفظًا، لالتقاء الساكنين، وخطًا تبعًا للرسم، للفظ على قاعدة رسم المصحف العثماني؛ لأن اتباعها واجب. {الْمُؤْمِنُونَ}: صفة لأي، تابع للفظه. وجملة النداء واقعة في جواب الطلب، لبيان المخاطبين، لا محل لها من الإعراب. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تُفْلِحُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها؛ أي: توبوا إلى الله سبحانه، لكي تفلحوا. {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}. {وَأَنْكِحُوا} {الواو}: استئنافية. {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى}: فعل وفاعل ومفعول به. {مِنْكُمْ}: حال من الأيامى. {وَالصَّالِحِينَ}: معطوف على {الْأَيَامَى}. {مِنْ عِبَادِكُمْ}: حال من {الصالحين}. {وَإِمَائِكُمْ}: معطوف على {عِبَادِكُمْ}. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير حكم النكاح. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فُقَرَاءَ}: خبر {يَكُونُوا}. {يُغْنِهِمُ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. وعلامة جزمه حذف حرف العلة. ولفظ الجلالة فاعل له. {مِنْ

فَضْلِهِ}: متعلق به. وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المحذوف، تقديره: لا تمتنعوا أيها الأولياء من تزويج الأحرار والحرائر، بسبب فقرهم؛ لأنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. {اللَّهُ}: مبتدأ. {وَاسِعٌ}: خبر له، {عَلِيمٌ}: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. {وَلْيَسْتَعْفِفِ} {الواو}: عاطفة. و (اللام): حرف أمر وجزم. {يستعفف}: فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر. {الَّذِينَ}: فاعل. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى}. {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى. {مِنْ فَضْلِهِ} متعلق بـ {يُغْنِيَهُمُ}. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى إغناء الله سبحانه إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {يستعفف}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: اسم موصول، منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب، فكاتبوهم، أو مبتدأ خبره جملة {فَكَاتِبُوهُمْ}. والأول أرجح لمكان. {فَكَاتِبُوهُمْ}. {كاتبوا}: فعل وفاعل. {وَالَّذِينَ}: مفعول به. والجملة المحذوفة مستأنفة. {يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة صلة الموصول. {مِمَّا}: جار ومجرور حال من فاعل {يَبْتَغُونَ}. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: فعل وفاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما ملكته أيمانكم. {فَكَاتِبُوهُمْ}: {الفاء}: رابطة لما في الموصول من معنى الشرط. {كاتبوهم}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة إما مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب، أو خبر المبتدأ في محل الرفع. {إِنْ}؛ حرف شرط جازم. {عَلِمْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ}: الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فِيهِمْ}: متعلق بـ {عَلِمْتُمْ}. {خَيْرًا}: مفعول

به. وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، دل عليه {فَكَاتِبُوهُمْ}؛ أي: إن علمتم فيهم خيرًا، فكاتبوهم. وجملة الشرط مستأنفة. {وَآتُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على {كاتبوا}؛ لأنه بمعنى أعطى {مِنْ مَالِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {آتوهمِ}، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما يستعينون به على أداء النجوم. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر صفة للمال. {آتَاكُمْ}: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: آتاكموه، وهو العائد على الموصول. الجملة صلة الموصول. {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تُكْرِهُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا}: الناهية. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى}. {فَتَيَاتِكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {عَلَى الْبِغَاءِ} متعلق بـ {تُكْرِهُوا}. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {أَرَدْنَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {تَحَصُّنًا}: مفعول به وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره إن أردن تحصنًا لا تكرهوهن على البغاء. والجملة الشرطية معترضة، لا محل لها من الإعراب. {لِتَبْتَغُوا}: اللام: حرف جر وتعليل. {تبتغوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {عَرَضَ الْحَيَاةِ}: مفعول به ومضاف إليه {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ}. والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره لابتغائكم {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: الجار والمجرور متعلق بـ {تُكْرِهُوا}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُكْرِهْهُنَّ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {من} مجزوم بمن الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية وجوبًا. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ}: جار ومجرور ومضاف

إليه متعلق بـ {غَفُورٌ}. {غَفُورٌ}: خبر أول لـ {إن}. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إن}: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {من}: الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ}. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و (اللام): موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكُمْ}: متعلق به. {آيَاتٍ}: مفعول به. {مُبَيِّنَاتٍ}: صفة لها. والجملة الفعلية جواب القسم. وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لبيان حقيقة الآيات المنزلة. {وَمَثَلًا}: معطوف على آيات. {مِنَ الَّذِينَ}: صفة لمثلًا. {خَلَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: حال من فاعل {خَلَوْا}، أو متعلق بـ {خَلَوْا}. {وَمَوْعِظَةً}: معطوف على {آيَاتٍ}. {لِلْمُتَّقِينَ}: صفة لـ {موعظة}. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {نُورُ السَّمَاوَاتِ}: خبر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. والجملة مستأنفة. {مَثَلُ نُورِهِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {كَمِشْكَاةٍ}: (الكاف): اسم بمعنى مثل، في محل الرفع خبر، وهو مضاف. {مشكاة}: مضاف إليه. ويجوز إعراب الكاف: حرف جر والجار والمجرور خبر {مَثَلُ}. والجملة من المبتدأ والخبر، جملة مفسرة لما قبلها , لا محل لها من الإعراب. {فِيهَا}: خبر مقدم. {مِصْبَاحٌ}: مبتدأ مؤخر. والجملة في محل الجر صفة لـ {كَمِشْكَاةٍ}. {الْمِصْبَاحُ}: مبتدأ {فِي زُجَاجَةٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة تفسير لما قبلها , لا محل لها من الإعراب. {الزُّجَاجَةُ}: مبتدأ {كَأَنَّهَا}:

ناصب واسمه. {كَوْكَبٌ}: خبره. {دُرِّيٌّ}: صفة لـ {كَوْكَبٌ}. وجملة {كأن}: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة من المبتدأ والخبر، جملة مفسرة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب. {يُوقَدُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْمِصْبَاحُ}. {مِنْ شَجَرَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُوقَدُ}، ولكنه على تقدير مضاف، من زيت شجرة. والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: {فِي زُجَاجَةٍ}، العائد إلى المصباح، تقديره: المصباح كائن وفي زجاجة حالة كونه يوقد من زيت شجرة. {مُبَارَكَةٍ}: صفة لـ {شَجَرَةٍ}. {زَيْتُونَةٍ}: بدل {مِنْ شَجَرَةٍ}. {لَا شَرْقِيَّةٍ}: صفة ثانية لـ {شَجَرَةٍ}، وزيدت {لا} لتفيد النفي، فلا تكون فاصلة بين الصفة والموصوف. {وَلَا غَرْبِيَّةٍ}: معطوف على {شَرْقِيَّةٍ}. {يَكَادُ}: فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة. {زَيْتُهَا}: اسمها. وجملة {يُضِيءُ}: خبرها. وجملة {يَكَادُ} في محل الجر صفة ثالثة لـ {شَجَرَةٍ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة على جملة شرط محذوف، وقعت حالًا من فاعل {يُضِيءُ}، تقديره: يضيء زيتها لو مسته نار لأضاء، ولو لم تمسسه نار لأضاء. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {لَمْ}: حرف جزم. {تَمْسَسْهُ} فعل ومفعول مجزوم بلم. {نَارٌ}: فاعل. والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}. وجوابها محذوف، تقديره: لأضاء ذلك الزيت. وجملة {لو} في محل النصب على الحال، معطوفة على شرط محذوف. كما قدرناه آنفًا، والتقدير: يكاد زيتها يضيء، حالة مس النار إياه، وحالة عدم مسها إياه. {نُورٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: نور المصباح الذي شبه به الحق، نور على نور؛ أي: نور بالزيت كائن من نور بالنار. {عَلَى نُورٍ}: جار ومجرور صفة لـ {نُورٌ}؛ أي: هذا النور نور كائن مع نور، فعلى بمعنى مع. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان فخامة ذلك النور. {يَهْدِي اللَّهُ}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تنفيذ مشيئته تعالى: {لِنُورِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَهْدِي}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}. وجملة {يَشَاءُ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاؤه. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة معطوفة على جملة {يَهْدِي}.

{لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {يضرب}. {اللَّهُ}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة. {الله}: مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوقة على جملة {يضرب}. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}. {فِي بُيُوتٍ}: جار ومجرور صفة لـ {مشكاة}؛ أي: كمصباح مشكاة كائنة في بيوت، أو لمصباح، أو لزجاجة، أو متعلق بـ {يُوقَدُ}. وعلى هذا لا يوقف على عليم. ولك أن تقف على عليم، فتعلقه بمحذوف، تقدير: سبحوه في بيوت، أو بيسبح. {أَذِنَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. والجملة في محل الجر صفة لـ {بُيُوتٍ}. {أَنْ}: حرف نصب. {تُرْفَعَ}: فعل مضارع منصوب بأن ونائب فاعله ضمير يعود على {بُيُوتٍ}. والجملة في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف. تقديره: أذن الله في رفعها وتطهيرها، وهي المساجد، والجار المحذوف متعلق بـ {أَذِنَ} {وَيُذْكَر} معطوف على ترفع. {فِيهَا} متعلق بـ {يذكر} {اسْمُهُ} نائب فاعل. {يُسَبِّحُ}: فعل مضارع {لَهُ}: متعلق بـ {يُسَبِّحُ}. {فِيهَا}: متعلق به أيضًا. {بِالْغُدُوِّ}: جار ومجرور حال من {رِجَالٌ}. {وَالْآصَالِ}: معطوف على {الغدو}؛ أي: ملتبسين بالغدو والآصال. {رِجَالٌ}: فاعل {يُسَبِّحُ} وجملة {يُسَبِّحُ} في محل الجر صفة ثانية لـ {بُيُوتٍ}. {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}: فعل ومفعول وفاعل. والجملة في محل الرفع صفة لـ {رِجَالٌ} {وَلَا بَيْعٌ}: معطوف على {تِجَارَةٌ}. {عَنْ ذِكْرِ اللَّه}: متعلق بـ {تُلْهِيهِمْ}. {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} معطوفات على {ذِكْرِ اللَّهِ}. {يَخَافُون}: فعل وفاعل. {يَوْمًا}: مفعول به. والجملة في محل الرفع صفة لـ {رِجَالٌ}. أو في محل النصب حال من مفعول {تُلْهِيهِمْ}. {تَتَقَلَّبُ}: فعل مضارع. {فِيه}: متعلق بـ {تَتَقَلَّبُ}. {الْقُلُوبُ}: فاعل لتتقلب. {وَالْأَبْصَارُ}: معطوف على القلوب.

{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}. {لِيَجْزِيَهُمُ} (اللام): حرف جر وتعليل. {يجزيهم الله}: فعل مضارع ومفعول أول، وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {أَحْسَنَ مَا}: مفعول ثان ومضاف إليه، وجملة {عَمِلُوا} صلة الموصول. وجملة {يجزيهم} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام. الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعلوا ما ذكر من التسبيح والصلاة والزكاة لجزاء الله سبحانه إياهم أحسن ما عملوا، أى رجاء جزائه سبحانه. {وَيَزِيدَهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {يجزيهم} {مِنْ فَضْلِهِ} متعلقان به. {وَاللَّهُ} مبتدأ. {يَرْزُقُ مَنْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. وجملة {يَشَاءُ} صلة الموصول. {بِغَيْرِ حِسَابٍ} متعلق بـ {يَرْزُقُ}، أو حال من فاعل {يَرْزُقُ}. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {أَعْمَالُهُمْ}: مبتدأ ثان. {كَسَرَابٍ}: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني مع خبره، خبر الأول. وجملة الأول مستأنفة، مسوقة لبيان حال عمل الكفار، بعد أن بين المؤمنين بضرب مثل لهم، بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}. {بِقِيعَةٍ}: جار ومجرور صفة لـ {سراب}. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {مَاءً}: مفعول ثان له. والجملة الفعلية في محل الجر, صفة ثانية لـ {سراب}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إِذَا}: ظرف لهما يستقبل من الزمان. {جَاءَهُ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {الظَّمْآنُ} والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَجِدْهُ شَيْئًا}: فعل ومفعولان مجزوم بـ {لَمْ} وفاعله ضمير يعود على {الظَّمْآنُ}. والجملة جواب {إِذَا} لا

محل لها من الإعراب. وجملة {إِذَا} في محل الجر بـ {حَتَّى} و {حَتَّى} متعلقة بمحذوف وقعت غاية له، تقديره: واستمر ذاهبًا إليه إلى عدم وجدانه شيئًا، وقت مجيئه إياه. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {يَحْسَبُهُ}. {وَوَجَدَ اللَّهَ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على جواب {إِذَا}. {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه، في محل المفعول الثاني لوجد؛ أي: وجد الله كائنًا عنده. {فَوَفَّاهُ}: {الفاء}: عاطفة. {وفاه حسابه}: فعل ومفعولان معطوف على وجد. وفاعله ضمير يعود على الله. {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم. {كَظُلُمَاتٍ}: جار ومجرور معطوف على قوله كسراب. {فِي بَحْر}: جار ومجرور صفة لظلمات. {لُجِّيٍّ}: صفة لبحر؛ أي: منسوب إلى اللج. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}: فعل ومفعول وفاعل. والجملة في محل الجر، صفة ثانية لـ {بَحْرٍ}. {مِنْ فَوْقِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَوْجٌ}: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لموج الأول. {مِنْ فَوْقِهِ} خبر مقدم. {سَحَابٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة في محل الرفع صفة لموج الثاني. {ظُلُمَاتٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه ظلمات. والجملة جملة مفسرة لما قبلها لا محل لها من الإعراب. {بَعْضُهَا}: مبتدأ. {فَوْقَ بَعْضٍ}: خبر. والجملة في محل الرفع صفة لظلمات. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَخْرَجَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على المبتلى بتلك الظلمات. {يَدَهُ}: مفعول به. والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذَا}. والظرف متعلق بالجواب. {لَمْ يَكَدْ}: جازم وفعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لَمْ}، واسمها ضمير يعود على صاحب اليد. {يَرَاهَا}: فعل ومفعول به لأنها بصرية، وفاعله ضمير يعود على صاحب اليد. والجملة الفعلية في محل النصب خبر يكد. وجملة {لَمْ

يَكَدْ} جواب {إِذَا}. وجملة {إِذَا} مستأنفة مسوقة لبيان حال من في تلك الظلمات. {وَمَنْ}. {الواو}: استئنافية. {وَمَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {لَمْ}: حرف جزم. {يَجْعَلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بلم. {لَهُ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل. {نُورًا} مفعول أول له. والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَمَا} {الفاء}: رابطة لجواب من الشرطية. {ما}: نافية. {له}: خبر مقدم {مِنْ} زائدة. {نُورٍ}: مبتدأ مؤخر مجرور لفظًا، مرفوع محلًا. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة من الشرطية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {يَغُضُّوا} الغضّ: إطباق الجفن، بحيث يمنع الرؤية. اهـ. "سمين". وفي "المصباح": غض الرجل صوته وطرفه ومن صوته ومن طرفه غضًا من باب قتل إذا خفض. ومنه يقال: غض من فلان غضًا، وغضغضه إذا انتقصه. اهـ. وأدغم أحد المثلين هنا في الثاني بخلاف قوله الآتي: يغضضن. وذلك لأن الثاني هنا متحرك، فأدغم فيه الأول، وفيما سيأتى ساكن، فلم يتأت إدغام الأول فيه أشار له "القرطبي". {فُرُوجَهُمْ}: جمع فرج، والفرج الشق بني الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج ما بين الرجلين، وكنى به عن السوأة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. {أَزْكَى لَهُمْ}؛ أي: أطهر لهم من دنس الريبة، وأفعل هنا: إما مجرد عن معنى التفضيل، أو المراد أنه أزكى من كل شيءٍ نافعٍ، أو أبعد عن الريبة اهـ. "شهاب". {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}: يقال: بدا الشيء بدوًا وبدوًا؛ أي: ظهر ظهورًا بينًا. وأبدى إذا أظهر. والزينة ما تزينت به المرأة، من حلي أو كحل، أو غير ذلك.

{بِخُمُرِهِنَّ} الخمر بضم الخاء والميم جمع خمار بكسر الخاء، وهو ما تغطي به المرأة رأسها والستر عمومًا، ويجمع على أخمرة وخمر بضم الخاء وسكون الميم وخمر بضمتين. {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} جمع حبيب. والجيب من القميص طوقه، وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد. والجيب أيضًا: القلب والصدر. وعند العامة، الجيب: هو كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل، ويجعل فمه من الخارج. {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ} والبعولة: الأزواج، واحدهم بعل. قال في "المفردات" البعل هو الذكر من الزوجين، وجمعه بعولة كفحل وفحولة اهـ. {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} جمع أخ، كالأخوة، فهو جمع له أيضًا. وفي "المصباح" الأخ لامه محذوفة، وهي واو. وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان، وفي لغة، يستعمل منقوصًا، فيقال: أخان، وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما وضمها لغة. وقيل جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء وزان آباء أقل. والأنثى أخت، وجمعها أخوات، وهو جمع مؤنث سالم اهـ. {أَوِ التَّابِعِينَ}: جمع تابع. قال ابن عباس: التابع: هو الأحمق العنين. وقيل: هو الذي لا يستطيع غشيان النساء، ولا يشتهيهن. وقيل: غير ذلك. كما مر في "مبحث التفسير". وبعضهم فسر التابعين بالممسوحين، وهو ظاهر. {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ}؛ أي: غير أصحاب الإربة، والحاجة إلى النساء، والإربة الحاجة. وفي "المصباح" الإرب بفتحتين، والإربة بالكسر، والمأربة بفتح الراء وضمها الحاجة، والجمع المآرب. والأرب في الأصل مصدر من باب تعب. يقال: أرب الرجل إلى الشيء إذا احتاج إليه فهو آرب على فاعل. والإرب بالكسر، يستعمل في الحاجة وفي العضو. والجمع آراب مثل حمل وأحمال اهـ. {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}. والطفل: جنس، وضع موضع الجمع، اكتفاءً بدلالة الوصف عليه، كالعدو، في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} قال في "المفردات" الطفل: الولد ما دام ناعمًا، ويطلق على المثنى

والجمع. والطفيلي رجل معروف بحضور الدعوات. وقال الفناري: حد الطفل من أول ما يولد إلى انقضاء ستة أعوام. والعورات جمع عورة، وهي ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السوءتين. الدبر والقبل، وأصلها من العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء؛ أي: الكلمة القبيحة، كما في "المفردات" وقال أهل اللغة: سميت العورة عورة لقبح ظهورها. ولغض الأبصار عنها، مأخوذ من العور، وهو النقص والقبح، ومنه عور العين اهـ. والعامة: على عورات بسكون الواو، وهي لغة عامة العرب، سكنوها تخفيفًا لحرف العلة. {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الأيامى مقلوب أيايم، جمع أيّم، كيتامى مقلوب يتايم جمع يتيم. فقلب قلب مكان، ثم أبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فصار أيامى. والأيم: من لا زوج له من الرجال والنساء بكرًا كان أو ثيبًا. وقال في "المفردات". الأيم المرأة التي لا بعل لها، وقد قيل: للرجل الذي لا زوج له، وذلك على طريق التشبيه بالمرأة لا على التحقيق اهـ. وفي "السمين" قوله: {الْأَيَامَى}: جمع أيم بزنة فيعل، يقال منه آم يئيم، كباع يبيع، وقياس جمعه أيائم كسيد وسيائد، وأيامى فيه وجهان، أظهرها من كلام سيبويه - رحمه الله تعالى - أنه جمع على فعالى غير مقلوب، وكذلك يتامى. وقيل: إن الأصل أيائم ويتايم في أيم ويتيم فقلبا. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة، والأيمة والكزم والقرم" قلت: أما العيمة بالمهملة فشدة شهوة اللبن، وبالمعجمة شدة العطش، والأيمة طول العزبة والكزم شدة شهوة الأكل، والقرم شدة شهوة اللحم اهـ. {وَالصَّالِحِينَ}؛ أي: الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه. وفي "المفردات" الصلاح: ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال. {مِنْ عِبَادِكُمْ} جمع عبد؛ أي: رقيق، وله جموع كثيرة، تبلغ نحو اثنين وعشرين صيغة، منها، عبيد وأعابد، وأعبد ذكرتها في كتابي "سلم المعراج على خطبة المنهاج".

{وَإِمَائِكُمْ} جمع أمة، وهي الرقيقة غير الحرة، {وَلْيَسْتَعْفِفِ} استعفف من استفعل، والعفة حصول حالة للنفس، تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك، بضرب من الممارسة والقهر، والاستعفاف طلب العفة، والمعنى يجتهد في العفة وقمع الشهوة. {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، يراد بها شرعًا إعتاق المملوك، بعد أداء شيء من المال منجمًا؛ أي: في موعدين أو أكثر فيقول له: كاتبتك على كذا درهمًا، ويقبل المملوك ذلك، فإذا أداه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه، ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك، أو كتبت لك الوفاء بالمال، وكتبت عليَّ العتق، وله أحكام مبسوطة في كتب الفقه. وفي "الأساس" و"اللسان" كتب عليه كذا قضي عليه، وكتب الله الأجل والرزق، وكتب على عباده الطاعة، وعلى نفسه الرحمة، وهذا كتاب الله؛ أي: قدره. قال الجعدي: يَا بِنْتَ عَمِّيْ كِتَابُ اللهِ أَخَّرَنِيْ ... عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلاَ فالمكاتبة: مفاعلة من الجانبين؛ لأن السيد كتب على نفسه العتق، والعبد كتب على نفسه النجوم. اهـ. "شخينا". {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} جمع فتاة. وفي "المختار" والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقد فتى بالكسر فتاء بالفتح والمد، فهو فتى السن؛ أي: بين الفتاء والفتى أيضًا السخي الكريم، وجمع الفتى في القلة فتية، وفي الكثرة فتيان وجمع الفتاة فتيات اهـ. {عَلَى الْبِغَاءِ} البغاء: الزنا، وبغت فلانة بغاءً وهي بغي طلوب للرجال، وهن بغايا. ومنه قيل: للإماء البغايا؛ لأنهن كن يباغين في الجاهلية، يقال: قامت البغايا على رؤوسهم. وفي "المصباح" وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد من باب رمى إذا فجرت، وهي بغي، والجمع البغايا، وهو وصف مختص بالمرأة، فلا يقال: للرجل بغي. قاله الأزهري. والبغي القينة، وإن كانت عفيفة، لثبوت الفجور لها في الأصل. قاله الجوهري. ولا يراد به الشتم؛ لأنه اسم جعل

كاللقب، والأمة تباغى؛ أي: تزاني اهـ. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: منورهما، وإنما أولناه باسم الفاعل؛ لأن حقيقة النور كيفية؛ أي: عرض يدرك بالبصر، فلا يصح حمله على الذات الأقدس اهـ. "شيخنا". وعبارة "البيضاوي" النور في الأصل، كيفية تدركها بالباصرة أولًا، وتدرك بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى، لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، إلا بتقدير مضاف، كقولك زيد عدل بمعنى ذو عدل، أو على معنى منور السماوات والأرض. وفي "القرطبي" واختلف العلماء في تأويل هذه الآية. فقيل: المعنى؛ أي: به وبقدرته أنارت أضواؤهما، واستقامت أمورهما، وقامت مصنوعاتهما. فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد؛ أي: به قوام أهلها، وصلاح جملتها، وفلان قمر الزمن، وشمس العصر. ومنه قول النابغة: فَإنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوْكُ كَوَاكِبُ ... إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ وقول الآخر: هَلَّا قَصَدْتَ مِنَ الْبِلاَدِ لِمُفْضِلٍ ... قَمَرِ الْقَبَائِلِ خَالِدِ بْنِ يَزِيْدِ ومن ذلك قول الشاعر: إِذَا سَارَ عَبْدُ اللهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُوْرُهَا وَجَمَالُهَا وقول الآخر: نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُوْرًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُوْدَا فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه، على طريقة المدح، لكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها. {كَمِشْكَاةٍ} المشكاة: الكورة غير النافذة. وقيل: هي الحديدة، أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت. وقيل: هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح. وقيل: ما يعلق فيه القنديل من الحديدة. وفي "القاموس" وشرحه

المشكاة: كل كوة غير نافذة، وكلل ما يوضع فيه، أو عليه المصباح. وقيل: المشكاة حبشية معربة، ورسمت بالواو كالصلاة والزكاة. {زُجَاجَةٍ} الزجاج بفتح الزاي وضمها، وكسرها: جسم شفاف يصنع من الرمل والقلى، والإناء: والقطعة منه، زجاجة بتثليث الزاي أيضًا. وأراد به قنديلًا من زجاج صافي أزهر. {مِصْبَاحٌ} المصباح: السراج الضخم الثاقب. {كَوْكَبٌ} والكوكب: كل نجم مضيء. {دُرِّيٌّ}؛ أي: مضيء، بضم الدال من غير همز، وبالتشديد منسوب إلى الدرّ، شبه به لصفائه وإضاءته. ويجوز أن يكون أصله الهمز، ولكن خففت الهمزة، وهو فعيل من الدر، وهو دفع الظلمة بضوئه. ويقرأ بالكسر على معنى الوجه الثاني، ويكون على فعيل كسكين وصديق. وفي "المختار"، الدرء الدفع، وبابه قطع، وذرأ طلع مفاجاة، وبابه خضع. ومنه كوكب دري كسكيت لشدة توقده وتلألئه، ودري بالضم منسوب إلى الدر. وفيه أيضًا، ومن المجاز درأ الكوكب إذا طلع كأنه يدرأ الظلام، ودرأت النار أضاءت. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}؛ أي: يبين الله للناس الأشباه والنظائر. تقريبًا للمعقول من المحسوس. اهـ. "بيضاوي". {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} قال في "المفردات" أصل البيت: مأوى الإنسان بالليل. ثم قد يقال: من غير اعتبار الليل فيه. وجمعه أبيات وبيوت، لكن البيوت بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر. ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر، ومن صوف ووبر، وبه شبه بيت الشعر، وعبر عن مكان الشيء، بأنه بيته. والمراد بالبيوت هنا: المساجد كلها , لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم في الأرض. اهـ. والإذن في الشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه. وقال الإِمام الراغب: والرفع يقال: تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها من مقرها. كقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وتارةً في الناء إذا طولته كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} وتارةً في الذكر إذا توهته، كقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}.

وتارة في المنزلة إذا شرفتها، كقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}. {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرُّ السريع في عبادة الله، فإن السبح المر السريع في الماء، أو في الهواء، ويستعمل باللام وبدونها أيضًا. وجعل عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نية، أريد به هاهنا الصلوات المفروضة، كما ينبىء عنه تعين الأوقات، بقوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} و (الغدو) في الأصل مصدر، يقال غدا يغدو غدوًا من باب سما، أي دخل في وقت الغدوة، وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. والمصدر لا يقع فيه الفعل فأطلق على الوقت حسبما يشعر اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وهو العشي؛ أي: من زوال الشمس إلى طلوع الفجر. وقيل: الآصال جمع أصيل، وهو الوقت بين العصر والمغرب، ويجمع أيضًا على أصائل وأصل وأصلان. {لَا تُلْهِيهِمْ} يقال: ألهاه عن كذا، إذا شغله عما هو أهم. {تِجَارَةٌ} قال في "المفردات": التجارة: التصرف في رأس المال طالبًا للربح، وليس في كلامهم تاء بعدها جيم، غير هذه اللفظة. {بَيْعٌ} والبيع إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن. كما مرّ. {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} قال الزجاج: إنما حذفت الهاء؛ لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقوامًا، ولكن قلبت الواو ألفًا فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقامًا، فأدخلت الهاء عوضًا من المحذوف، وقامت الإضافة هنا في التعويض، مقام الهاء المحذوفة. وهذا إجماع من النحويين. انتهى. {يَخَافُونَ} والخوف: توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة. كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة، ويضاد الخوف والأمن. اهـ. من "الروح". {تَتَقَلَّبُ} والتقلب: التصرف والتغير من حال إلى حال، وقلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه من وجه إلى وجه، والبصر يقال: للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها. {كَسَرَابٍ} السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحو، كأنه ماء

تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع. يقال: أخدع من السراب، وسمي سرابًا؛ لأنه يسرب؛ أي: يجري كالماء. يقال: سرب الفحل؛ أي: مضى وسار، ويسمى الآل أيضًا. ولا يكون إلا في البرية والحر، فيغتر به الظمآن. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} في "المختار" حسبت زيدًا صالحًا، بالكسر أحسبه بالفتح والكسر محسبةً، ومحسبةً بكسر السين وفتحها، وحسبانًا بالكسر ظننته. اهـ. وفي "المصباح" وحسبت زيدًا قائمًا، أحسبه، ما باب تعب، في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس، وحسبانًا بمعنى ظننت. اهـ. {الظَّمْآنُ}: العطشان؛ أي: وكذا غيره من كل من يراه، وخص الظمآن؛ لأنه أحوج إليه من غيره، فالتشبيه به أتم. اهـ. "شيخنا". وهو صفة من ظمىء بالكسر يظمأ، والظميء بالكسر ما بين الشربتين والورودين، والظمأ: العطش الذي يحدث من ذلك. اهـ. "الروح". {بِقِيعَةٍ} القيعة بمعنى القاع، أو جمع قاع، وهو: المنبسط المستوى من الأرض. وفي "المصباح" والقاع: المستوى من الأرض، والجمع أقواع وقيعان، فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع، وهو أيضًا من الواوي، وبعضهم يقول: وجمع. وقال الهروي: والقيعة جمع القاع، مثل جيرة وجار. وفي "الأساس" هوكسراب بقيعة وبقاع، ونزلوا بسراب قيعان، ولهم قاعة واسعة وهي عرصة الدار، وأهل مكة يسمون سفل الدار القاعة، ويقولون: فلان في العلية، ووضع قماشة في القاعة. وفي "القاموس" و"التاج" ما يفهم منه أن القاع أرض سهلة مطمئنة، قد انفرجت منها الجبال والآكام، ويجمع على أقواع وأقوع، وقيع وقيعان وقيعة. {لُجِّيٍّ} اللجي العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج، وهو معظم البحر، هكذا قال الزمخشري، وقال غيره: منسوب إلى اللجة بالتاء، وهي أيضًا معظمه،

فاللجي هو الماء الكثير العميق. {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} وأصل السحب الجر، وسمي به السحاب إما لجر الريح أو لجره الماء. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: دخول من الجارة على غض الأبصار، دون الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} إشعارًا بأن باب النظر موسع دون الفرج؛ لأنه ينظر من المحارم ما سوى العورة، بخلاف الفرج، فإنه لا يحل له إلا فرج حليلته. ومنها: تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج إيذانًا بأن النظر بريدة الزنا، ورائده الذي لا يخطىء. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}؛ لأن المراد عما حرم الله تعالى، لا عن كل شيء، فحذف ذلك أكتفاءً بفهم المخاطبين. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}؛ لأن المراد منه مواقع الزينة، وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل. قال الزمخشري: وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون. وفي قوله: {عَلَى جُيُوبِهِنّ}؛ لأن المراد على أعناقهن، وإلا فهو في الأصل طوق القميص. ومنها: الاحتراس في قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فقد أقحم هذا الاعتراض ليبشع ذلك الإكراه عند المخاطب، ويحذره من الوقوع فيه، ولكي يستيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة، وإن لم يكن زاجز شرعي ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية النداء عليه، بأن أمته خير منه؛ لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها.

ومنها: إطلاق المصدر على اسم الفاعل، للمبالغة في قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بمعنى منورهما، عبر عنه بالمصدر، كأنه عين نورهما. قال الشريف الرضي: وفي الآية استعارة على تفسير بعض العلماء. والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض، بصوادع برهانه، ونواصع بيانه، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية. فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة، وهي الكاف. والمراد النور الذي شبه به الحق، نور متضاعف قد اجتمع فيه المشكاة والزجاجة، والمصباح، والزيت، حتى لم تبق بقية مما يقوى النور. واختلفوا في هذا التشبيه، هل هو تشبيه تمثيل؛ أي: مركب قصد فيه تشبيه جملة بجملة، من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، بل قصد تشبيه هداه وإتقانه، صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة، من النور الذي تتخذونه، وهو أبلغ صفات النور عندكم. أو تشبيه غير تمثيل؛ أي: غير مركب قصد فيه مقابلة جزءٍ بجزءٍ، وأجاز "القرطبي" الوجهين فراجعه. ومنها: الطباق في قوله: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} وقد تكلم علماء البيان كثيرًا عن هذا الطباق، والمقصود منه. ومنها: التنكير في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} إشعارًا بفخامة شأنه، وبأنه لا أرشق ولا أجمل منه. ومنها: تشابه الأطراف في هذه الآية، وهو أن ينظر المتكلم إلى لفظة وقعت في آخر جملة من الفقرة في النثر، أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأول في النظم، فيبتدىء بها، تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ومن أمثلته في الشعر، قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف: إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيْضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِيْ بِهَا ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا

سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ يَحْلِبُوْنَ حِرَاهَا ومنها: الإطناب بذكر الخاص بعد العام، تنويهًا بشأنه في قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}؛ لأن الصلاة من ذكر الله تعالى. ومنها: فن الغلو في قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} والغلو: الإفراط في وصف الشيء المستحيل، عقلًا وعادةً، وهو ينقسم إلى قمسين: مقبول وغير مقبول: القسم الأول: فالمقبول لا بد أن يقربه المتكلم إلى القبول، بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا غلو حينئذٍ. ويجب على المتكلم أن يسبكه في قالب التخيلات، التي تدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة، كالآية الكريمة، فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلًا، ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولًا. والقسم الثاني: وهو الغلو غير المقبول، كقول أبي نواس: وَأَخَفْتَ أهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى أَنَّهُ ... لَتَخَافُكَ النُّطَفُ الَّتِيْ لَمْ تُخْلَقِ ومنها: المجاز العقلي في قوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} فقد أسند إلى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع، وحق الإسناد أن يكون لصاحبها. ومنها: التشبيه التمثيلي الرائع في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب} إلخ. وكذلك في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} الآية. ووجه التشبيه، أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، ويعتقد أن له ثوابًا عند الله تعالى، وليس كذلك، فإذا وفي عرصات القيامة، لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم. فعظمت حسرته، وتناهى غمه، فشبه حاله بحال الظمآن، الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر .. تعلق قلبه، فإذا جاءه .. لم يجده شيئًا، فكذلك حال الكافر، يحسب أن عمله نافعة، فإذا احتاج إلى عمله .. لم يجده أغنى عنه شيئًا.

ومنها: العطف على محذوف في قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} فإنه معطوف على مقدر، وليست الجملة معطوفة على {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} بل على ما يفهم منه، بطريق التمثيل، من عدم وجدان الكفرة، من أعمالهم المذكورة عينًا، ولا أثرًا، كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم، التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعةً لهم في الآخرة، لم يجدوها شيئًا، ووجدوا حكم الله وقضاءه لهم بالمرصاد. ومنها: المبالغة في التشبيه في قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}؛ أي: لم يقرب أن يراها. فضلًا عن أن يراها. ومنها: التقسيم أو التنويع في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} المناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف (¬1) قلوب المؤمنين ¬

_ (¬1) المراغي.

بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة .. أردف ذلك بذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعةً. قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر لي الآيات السابقة ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية، وأحوال الحيوان .. ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات، دالة على وجود الخالق المدبر للكون، لا خفاء فيها. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} إلى قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة الواضحة على توحيده، وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي من يشاء، من عباده إلى صراط مستقيم .. أعقبه بدر من لم يهتد بها، وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون: آمنا بالله وبالرسول، ثم يفعلون ضد ما يقولون. فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه .. أبوا وخافوا أن يحيف عليهم. والمؤمن الصادق الإيمان, إذا ما دعي إلى الله والرسول .. قال: سمعًا وطاعةً. ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها، ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الإيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعًا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان؛ لأن طاعتهم معروفة، لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم: أطيعوا الله حقًّا، لا رياءً، فإن أبيتم، فإنما علي التبليغ، وعليكم السمع والطاعة. فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم، فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن من أطاع الرسول .. فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق، فجزاؤه دار النعيم .. أردف ذلك وعده الكريم، بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله، خلفاء في الأرض، ويؤيدهم

بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنًا، فيعبدون الله وحده، وهم آمنون. ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك .. فقد عصى ربه، وكفر أنعمه. قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم في الأرض، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنًا .. أردف ذلك بأمرهم، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة شكرًا له، على ما أنعم به عليهم. وإحسانًا إلى عباه البائسين الفقراء، كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزةً، وضعفم قوةً. ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عددهم وعُددهم، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار وبئس القرار. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم من مرسل الحسن، قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل الآخر منازعة، فدعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محق أذعن وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض. فقال: "انطلق إلى فلان"، فأنزل الله {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ...} الآية، سبب (¬2) نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم بسنده، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتي نكون آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} إلى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} يعني بالنعمة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} هذا حديث صحيح الإسناد لم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[41]

يخرجاه وأقرّه الذهبي. التفسير وأوجه القراءة 41 - والاستفهام (¬1) في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للتقرير. والمراد من الرؤية، رؤية القلب. فإن التسبيح الآتي لا يتعلق به نظر البصر؛ أي: قد علمت يا محمد علمًا يشبه المشاهدة في القوة واليقين بالوحي، أو الاستدلال، أن الله سبحانه وتعالى، ينزهه على الدوام في ذاته وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق بشأنه من نقص، وآفة أهل السماوات والأرض، من العقلاء وغيرهم، وعبر بـ {مَن} الموضوعة للعقلاء، تغلبًا لهم على غيرهم. {وَالطَّيْرُ} بالرفع عطف على من، جمع طائر، كركب وراكب. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض، لعدم استقرارها قرار ما فيها؛ لأنها تكون بين السماء والأرض غالبًا؛ أي: تسبحه تعالى حالة كونها {صَافَّات}؛ أي: باسطات أجنحتها في الهواء تصففن. وأصل الصف البسط. ولهذا سمي اللحم القديد صفيفًا؛ لأنه يبسط. والمعنى: أي (¬2) ألم تعلم يا محمد، أو أيها المخاطب، بالدليل أن الله سبحانه ينزهه آنًا فآنًا، في ذاته وصفاته وأفعاله، جميع ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيهًا تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات في وجودها وبقائها، دالة على وجود خالق لها، متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص. وخصّ التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جراء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

كما ذكر الطير، مع دخولها في جملة ما في الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيهما. وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولاستقلالها ببديع الصنع، وإنبائها عن كمال قدرة خالقها , ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة، الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف في الجو، وتتحرك كيف تشاء، وارشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينًا وشمالًا حجة واضحة الدلالة، على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد. وفي ذلك تقريع للكفار، وتوبيخ لهم، حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له، يعبدونها كعبادته عز وجل. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالطَّيْرُ} مرفوعًا عطفًا {مَنْ}، و {صَافَّاتٍ} نصب على الحال وقرأ الأعرج: والطيرَ، بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن وخارجة عن نافع: والطير صافات برفعهما مبتدأ وخبرًا، تقديره: يسبحن. قيل: وتسبيح الطير حقيقي. قاله الجمهور. {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد من المخلوقات {قَدْ عَلِمَ} هو {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}؛ أي: دعاءه وتسبيحه، اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر (¬2) كلها عائدة على كل. قيل: والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحًا. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية. والمعنى: إن (¬3) كل مصل ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما, وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. انظر إلى النحل كيف تبني بيوتها السداسية الأشكال، التي لا يتمكن من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغى.

بنائها فطاحل المهندسين، إلا بدقيق الآلات. وإلى العنكبوت، كيف تفعل الحيل اللطيفة، لاصطياد الذباب. وإلى الندب يستلقي في ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه، شبَّث ذراعيه بقرنيه، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه. وهذا التسبيح محمول عند البعض على ما كان بلسان المقال، فإنه يجوز أن يكون لغير العقلاء أيضًا تسبيح حقيقة، لا يعمله إلا الله، ومن شاء من عباده. كما في "الكواشي". وقال بعضهم: تسبيح الحيوان والجماد محمول على ما كان بلسان الحال، فإن كل شيء يدل بوجوده وأحواله على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشانه. وروي عن أبي ثابت قال: كنت جالسًا عند محمد بن جعفر الباقر، فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس، وبعد طلوعها؛ قلت: لا. قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالًا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء. وهذا دليل على أن الله تعالى يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه. وقال مجاهد: الصلاة للبشر، والتسبيح لما عداهم. وقيل: إن الضمير (¬1) في {قَدْ عَلِمَ} يعود على الله سبحانه؛ أي: كل فصل منهم ومسبح، قد علم الله سبحانه صلاته وتسبيحه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}؛ أي: بما يفعلونه من الطاعة والصلاة والتسبيح، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها، ومعصيتها، وعلمه محيط بها، ومجازيهم عليها. والمعنى على هذا القول أي: كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه. والأول أرجح، لاتفاق القراء على رفع كل. ولو كان الضمير في {علم لله}، لكان نصب (كل) أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء. وقرأ الحسن (¬2) وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو {تفعلون} بتاء الخطاب. وفيه وعيد وتخويف لكفرة الثقلين، حيث لا تسبيح لهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[42]

طوعًا واختيارًا. 42 - ثم بين سبحانه، أن المبدأ منه والمعاد إليه. فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ لأنه الخالق لهما, ولما فيهما من الذوات والصفات، وهو المتصرف في جميعها إيجادًا وإعدامًا، إبداءً وإعادةً. {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه خاصة لا إلى غيره {الْمَصِيرُ} والرجوع بالفناء، والبعث بعد الموت، فعلى العاقل أن يعبد هذا المالك القوي، ويسبحه باللسان الصوري والمعنوي. والمعنى: أن لله سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادًا وإعدامًا، بدءًا وإعادةً، وإليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا في طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال. 43 - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على وحدانيته وقدرته من الآثار العلوية، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} والاستفهام فيه للتقرير. والرؤية هنا بصرية، والخطاب فيه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل ما يصلح للخطاب. والإزجاء: سوق الشيء برفق وسهولة، كما سيأتي. والسحاب: الغيم. سمي به (¬1) لانسحابه في الهواء؛ أي: انجراره والمراد هنا: قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره؛ لأنه لا يضاف إلا إلى متعدد. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، ولولاه لأفسد المطر ما يقع عليه. والمعنى: قد رأيت يا محمد، أو أيها المخاطب، رؤية بصرية أن الله يسوق غيمًا إلى حيث يشاء. {ثُمَّ يُؤَلِّفُ} سبحانه ويجمع {بَيْنَهُ}؛ أي: بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض، ويجمعه بعد تفرقه، فيجعله شيئًا واحدًا بعد أن كان قطعا، ليقوى ويتصل ويكثف. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال الفراء: إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه؛ لأنه جمع وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. اهـ. وقرأ (¬1) ورش: {يولف} بالواو. وباقي السبعة بالهمز. وهو الأصل. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ}؛ أي: ثم يجعل سبحانه السحاب {رُكَامًا}؛ أي: متراكمًا متراكبًا مجتمعًا بعضه فوق بعض، فإنه إذا اجتمع شيء فوق شيء، فهو ركوم مجتمع. {فَتَرَى}؛ أي: تبصر أيها الناظر {الْوَدْقَ}؛ أي: المطر إثر تكاثف السحاب وتراكمه. وجملة قوله: {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}؛ أي: من ثقبه، حال (¬2) من الودق؛ لأن الرؤية بصرية. والخلال جمع خلل، كجبال وجبل. وقيل: هو مفرد، كحجاب. وهو فرجة بين الشيئين. والمراد هاهنا: مخارج القطر. والمعنى: حال كون ذلك الودق، يخرج من أثناء ذلك السحاب، وفتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض. وقرأ ابن مسعود (¬3) وابن عباس والضحاك وأبو العالية ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني {من خلله} بالإفراد. {وَيُنَزِّلُ} سبحانه {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من الغمام، فإن كل ما علاك سماء، وسماء كل شيء أعلاه. {مِنْ جِبَالٍ}؛ أي: من قطع عظام، تشبه الجبال في العظم كائنة {فِيهَا}؛ أي: في السماء، فإن السماء من المؤنثات السماعية. {مِنْ بَرَدٍ} مفعول (ينزل) على أن {من} تبعيضية، والأوليان لابتداء الغاية، على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار. والبرد محركةً الماء المنعقد؛ أي: ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب، كما في "المفردات". والمعنى: ويُنزل الله سبحانه مبتدئًا من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل بسكون النون من أنزل، والباقون بفتحها وتشديد الزاي من نزل من باب فعل المضعف. قال بعضهم (¬4): إن الله تعالى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روض البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روض البيان.

خلق جبالًا كثيرة في السماء، من البرد والثلج، ووكل بها ملكًا من الملائكة، فإذا أراد أن يرسل البرود والثلج على قطر من أقطار الأرض، يأمره بذلك، فثلج هناك ما شاء الله تعالى، بوزن ومقدار في صحبة كل حبة منها ملك يضعها حيث أمر بوضعها. والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد .. اجتمعت هناك، وصارت سحابًا، فإن لم يشتد البرد .. تقاطرت مطرًا وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها .. نزل بردًا. وقد يبرد الهواء بردًا مفرطًا، فينقبض وينعقد سحابًا، وينزل منه المطر، أو الثلج، وكل ذلك مستند إلى إرادة الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح. وفي "شرح القانون" الفرق بين الدخان والبخار، هو أن تركيب الدخان من الأجزاء الأرضية والنارية، وتركيب البخار من المائية والهوائية. فيكون البخار ألطف من الدخان. {فَيُصِيبُ} سبحانه وتعالى {بِهِ}؛ أي: بما ينزل من البرد. والباء للتعدية {مَنْ يَشَاءُ} من عباده، فيناله ما يناله من ضرر في نفسه وماله، نحو الزرع والضرع والثمرة. {وَيَصْرِفُهُ}؛ أي: يصرف سبحانه ذلك البرد ويرده {عَنْ مَنْ يَشَاءُ} فيأمن غائلته وضرره. {يَكَادُ} ويقرب {سَنَا بَرْقِهِ}؛ أي: ضوء برق السحاب، فإن السنا بالقصر بمعنى الضوء، وبالمد بمعنى الرفعة والعلو، والبرق لمعان السحاب. {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار}؛ أي: يخطف الأبصار الناظرة له، ويسلبها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها. فسبحان من يظهر الضد من الضد. وقرأ الجمهور: {سَنَا} مقصورًا. {بَرْقِهِ} مفردًا. وقرأ طلحة بن مصرف {سناء} ممدودًا. {برقه} بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء. وهي المقدار من البرق، كالغرفة واللقمة، وعنه بضم الباء والراء، أتبع حركة الراء لحركة الباء. كما أتبعت في ظلمات. وأصلها السكون. والسناء بالمد ارتفاع الشأن، كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان، فإن ذلك صيِّب، لا يحس به بصر.

[44]

وقرأ الجمهور (¬1): {يَذْهَبُ} بفتح الياء والهاء، وأبو جعفر {يذهب} بضم الياء وكسر الهاء. وخرج ذلك على زيادة الباء؛ أي: يذهب الأبصار، أو على أن الباء، بمعنى من، والمفعول محذوف، تقديره: يذهب النور من الأبصار. 44 - {يُقَلِّبُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالمعاقبة (¬2) بينهما، أو بنقص أحدهما أو زيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد، والظلمة والنور، وغيرها مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر، من إزجاء السحاب، وما يترتب عليه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي فصل من الإزجاء إلى التقليب {لَعِبْرَةً}؛ أي: لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، ووحدته، وكمال قدرته، وإحاطة عمله بجميع الأشياء، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}؛ أي: لأصحاب العقول الكامله، والبصائر السليمة؛ أي: لكل من يبصر بقلبه، وجارحته. ويقال: لقوة القلب المدركة: بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال: للجارحة بصيرة. كما في "المفردات"، يعني لمن له بصيرة يعبر بها من المذكور إلى معرفة المدبر الحكيم. وسئل سعيد بن المسيب: أي العبادة أفضل؟ قال: التفكر في خلقه، والتفقه في دينه. فعلى العاقل الاعتبار آناء الليل، وأطراف النهار. وخلاصة معنى الآيتين (¬3): انظر أيها الرسول الكريم، إلى السحاب يسوقه الله بقدرته، أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه، ثم يجعل بعضه متراكمًا فوق بعض، فينزل المطر من فوقه، وحينًا ينزل منه قطعًا كبيرة من البرد، كأنها الجبال فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد، إذا كان فوق الحاجة، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه عنه. وإلى ما في هذا السحاب من برق يضيء بشدة وسرعة، حتى ليكاد يخطف الأبصار. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[45]

وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد. ففيه توليد النار من الماء. وانظر أيضًا إلى اختلاف الليل والنهار، وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن في هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه، ممن له عقل. فهو واضح الدلالة على أن له مدبرًا ومقلبًا لا يشبهه شيء. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". أخرجه البخاري ومسلم. 45 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَلَقَ} وأوجد {كُلَّ دَابَّةٍ}؛ أي: كل حيوان يدب ويمشي على الأرض، والدابة كل ما يحرك أمامه قدمًا، ويدخل فيه الطير. اهـ من "البحر". {مِنْ مَاءٍ}؛ أي (¬1): من الماء، الذي هو أحد جزء مادته؛ أي: أحد العناصر الأربعة، على أن يكون التنوين فيه للوحدة الجنسية، فدخل فيه آدم المخلوق من تراب، وعيسى المخلوق من روح، أو خلقها من ماء مخصوص، الذي هو النطفة؛ أي: ماء الذكر والأنثى على أن يكون التنوين للوحدة النوعية، فيكون تنزيلًا للغالب منزلة الكل، إذ من الحيوان ما يتولد لا عن نطفة. قال في "الكواشي": تنكير ماء مؤذن أن كل دابة مخلوقة من ماء مختص بها، وهو النطفة، فجميع الحيوان سوى الملائكة والجن مخلوق من نطفة، وتعريف الماء في قولى تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} نظرًا إلى الجنس الذي خلق عنه جميع الحيوان؛ لأن أصل جميع الخلق من الماء. وعبارة أبي حيان هنا: فإن قلت: لم نكر الماء هنا، وعرفه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}؟ ¬

_ (¬1) روح البيان.

قلتُ: لأن المعنى هنا: خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو من ماء مخصوص أو هو النطفة. وهناك قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس، الذي وجنس الماء، وهو الأصل الذي هو من العناصر الأربعة. قالوا: خلق الله ماء فجعل بعضه ريحًا، فخلق منها الملائكة، وجعل بعضه نارًا فخلق منها الجن، وبعضه طينًا فخلق منه آدم، انتهى. والمعنى على القول الأول؛ أي (¬1): والله سبحانه وتعالى خلق كل حيوان يدب على الأرض، من ماء هو جزء مادته، وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولامتزاج الأجزاء الترابية به. ويخرج من هذا العموم الملائكة، فإنهم خلقوا من نور، والجان فإنهم خلقوا من نار. وعبارة "الجمل" هنا: وهذا بحسب الأغلب في حيوانات الأرض المشاهدة، وإلا فالملائكة خلقوا من النور، وهم أكثر المخلوقات عددًا، والجن خلقوا من النار وهم بقدر تسعة أعشار الإنس، وآدم خلق من الطين، وعيسى خلق من الريح الذي نفخه جبريل في حبيب مريم، والدود يخلق من نحو الفاكهة ومن العفونات. اهـ. "شيخنا". فإن قلت: لم خص (¬2) الدابة بالذكر، مع أن غيرها مثلها، كما شمله قوله في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}؟ قلت: لأن القدرة فيها أظهر وأعجب منها في غيرها. وقرأ (¬3) الجمهور {خلق} فعلًا ماضيًا كل بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش {خالق} اسم فاعل مضاف إلى كل. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) البحر المحيط.

ثم فصل سبحانه أقسام الحيوان، مما يدب على وجه الأرض، فقال: {فَمِنْهُمْ}؛ أي: فمن الدوابـ {مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحيات والحوت ونحوهما. ولما (¬1) كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز، فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون. فمن ثمة قال: فمنهم بضمير العقلاء، وإنما قال: يمشي على وجه المجاز، وإن كان حقيقة المشي بالرجل؛ لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع، يعني أن تسمية حركة الحية مثلًا ومرورها مشيًا، مع كونها زحفًا للمشاكلة، فإن المشي حقيقة وقطع المسافة والمرور عليها، مع قيد كون ذلك المرور على الأرجل، وإشارة إلى كمال القدرة، وإنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشي. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْن} كالإنس والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام والوحوش والفرس والبغال والحمير. ومنهم من يمشي على أكثر من أربع، كالعقارب والعنكبوت والحيوان، والمعروف بأم أربع وأربعين. وإنما لم يذكر هذا القسم. إما لندوره، أو لأنه عند المشي يعتمد على أربع فقط، أو لدخوله في قوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مما ذكر ومما لم يذكر، بسيطًا كان أو مركبًا، على ما شاء من الصور والأعضاء، والهيئات والحركات والطبائع، والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. وفي "الإرشاد": وإنما لم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع، كالعناكب ونحوها، من الحشرات لعدم الاعتداد بها. وقال في "فتح الرحمن"؛ إنما تركها؛ لأنها في الصورة كالتي تمشي على أربع، أو لأنها إنما تمشي على أربع منها. وتذكير (¬2) الضمير في (منهم)، لتغليب العقلاء، والتعبير عن الأصناف بـ (من)، ليوافق التفصيل الإجمال، وهو (هم) في (منهم)، والترتيب حيث قدم الزاحف على الماشي على رجلين، وهو على الماشي على أربع؛ لأن المشي بلا آلة أدخل في القدرة من المشي على الرجلين، وهو أثبت لها بالنسبة إلى من مشى على أربع. وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية، فيه ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

[46]

مجاز التغليب، حيث استعمل {من} وهي لمن يعقل في غيره، لوقوعه تفصيلًا لما يعمهما، وهو كل دابة. وفيه أيضًا مجاز التشبيه إذ إسناد ما ذكر إلى الحية، زحف لا مشي، لكنه يشبهه في السير. اهـ. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر، فيفعل ما يشاء كما يشاء، فلا يمنعه مانع؛ أي: إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء لذو قدرة تامة، فلا يتعذر عليه شيء أراده. وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات في الأعضاء والقوى ومقادير الأبدان والأعمال. والاختلاف لا بد أن يكون بتدبير مدبر حكيم مطلع على أحوالها، وأسرار خلقها, لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوًا كبيرًا. 46 - {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا عليك يا محمد دلائل واضحات، على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتي بصيرة نيرة، وفطرة سليمة تضيء له الفكر، حتى يسير على نهج الحق، ويبتعد عن الغي والضلال. ومن ثم قال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَهْدِي} ويرشد {مَنْ يَشَاءُ} هدايته {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: إلى طريق سويٍّ لا اعوجاج فيه، موصل إلى الجنة، وإلى رضا الله سبحانه، وهو إخلاص العبادة له وحده، والإنابة إليه. 47 - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ}؛ أي: ويقول هؤلاء المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْرٍ المنافق، خاصم يهوديًا في أرض، فدعاه إلى كعب بن الأشرف من أحبار اليهود، ودعاه اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تحاكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي، فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام، فقال: نتحاكم إلى عمر - رضي الله عنه -، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى. فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر - رضي الله عنه - بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي،

[48]

لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. فصيغة الجمع للإيذان بأن للقائل طائفةً يساعدونه ويتابعونه في تلك المقالة، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، والقاتل منهم واحد. {وَأَطَعْنَا} هما في الأمر والنهي، والإطاعة فعل يعمل بالأمر لا غير؛ لأنها الانقياد، وهو لا يتصور إلا بعد الأمر، بخلاف العبادة وغيرها. {ثُمَّ يَتَوَلَّى} ويعرض عن قبول حكمهما {فَرِيقٌ مِنْهُمْ}؛ أي: جماعة من القائلين {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} القول المذكور {وَمَا أُولَئِكَ} الذين يدعون الإيمان والإطاعة، ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في الاعتقاد والعمل {بِالْمُؤْمِنِينَ} حقيقة؛ أي: بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان, بل هم ممن في قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وخلاصة ذلك: لا يدخل في زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة، ويتجاوز إلى غير المؤمنين. 48 - ثم بين هذا التولي بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ أي: وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله {لِيَحْكُمَ} الرسول {بَيْنَهُمْ} فيما اختصموا فيه بحكم الله تعالى. فالضمير في يحكم راجع إلى الرسول؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم حكم الله حقيقة. وذكر الله لتفخيمه - صلى الله عليه وسلم - والإيذان بجلالة قدره عنده تعالى. {وإذ فريق} وجماعة {مِنْهُمْ}؛ أي: من المنافقين {مُعْرِضُونَ} عن قبول الحكم، ومستكبرون عن اتباع حكمه؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق. وقرأ أبو جعفر ليحكم في الموضعين مبينًا للمفعول. والمعنى: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه - صلى الله عليه وسلم - لكون الحق عليهم، وعلمهم بأنه عليه السلام يحكم بالحق عليهم، ولا يقبل الرشوة. وهذا شرح للتولي، ومبالغة فيه. وإذا الثانية للفجأة جواب إذا الأولى الشرطية. وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية، خلافًا للأكثرين من النحاة؛ لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.

[49]

ونحو الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}. 49 - {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ}؛ أي: الحكم لهم لا عليهم {يَأْتُوا إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الرسول حالة كونهم {مُذْعِنِينَ}؛ أي: منقادين لحكمه لجزمهم بأنه يحكم لهم فقوله: {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَأْتُوا}؛ لأن الإتيان والمجيء يتعديان بإلى، أو بـ {مُذْعِنِينَ}؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة. والمعنى (¬1): أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم .. جاؤوا إلى الرسول مطيعين، لعلمهم بأنه يحكم لهم؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جراء هذا لمَّا خالف الحق قصدهم، عدلوا عنه إلى غيره. 50 - ثم فصل، ما يحتمل أن يكون السبب في عدولهم، عن قبول حكمه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحكم عليهم، بقوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} والاستفهام فيه للإنكار والاستقباح لإعراضهم المذكور، وبيان لمنشأة؛ أي: أذلك الإعراض لأنه في قلوبهم مرض؛ أي: نفاق وكفر. {أَمِ} لأنهم {ارْتَابُوا}؛ أي: شكوا في أمر نبوته عليه السلام، مع ظهور حقيقتها {أَمْ} لأنهم {يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}؛ أي: يجورا عليهم في الحكم، ويظلماهم فيه. وفي "الفتوحات": والاستفهام (¬2) في قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ} للإنكار لكن النفي المستفاد به لا يتسلط على هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها واقعة لهم وقائمة بهم. والواقع لا ينفي وإنما هو متسلط على منشئيتها وسببيتها لإعراضهم؛ أي: ليس منشؤه شيئًا من هذه الثلاثة، بل منشؤه شيء آخر وهو ظلمهم، فبينه بالإضراب الانتقالي بقوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. اهـ. "شيخنا". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) جمل.

و {أَمْ} في الموضعين منقطعة، تقدر عند الجمهور ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام، تقديره: بل أرتابوا بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنا التقرير والتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار؛ إبهامًا عليهم. وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة، ويبالغ به تارة في الذم وتارة في المدح. اهـ. "سمين". ثم أضرب عن الكل، وأبطل منشئيته، وحكم بأن المنشأ شيء آخر من شنائعهم حيث قال: {أُولَئِكَ} المعرضون عن حكم الله تعالى. {هُمُ الظَّالِمُونَ} لأصحاب الحقوق عليهم؛ أي (¬1): ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة، بل لأنهم هم الظالمون؛ أي: يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحوده، فيأبون المحاكمة إليه لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق. والحاصل: أنه (¬2) ليس ذلك الإعراض لشيء مما ذكر. أما الأولان: فلأنه لو كان الإعراض لشيء منهما لأعرضوا عنه عليه السلام عند كون الحق لهم، ولما أثنوا إليه مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذٍ أيضًا. وأما الثالث فلانتفائه رأسًا، حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلًا، لمعرفتهم وتيقنهم أمانته - صلى الله عليه وسلم -، وثباته على الحق، فمناط النفي المستفاد من الإضراب في الأولين هو وصف منشئيتهما في الإعراض فقط، مع تحققهما في نفسهما. وفي الثالث: هو الوصف مع عدم تحققه في نفسه. وفي الرابع: هو الأصل والوصف جميعًا. ومعنى الآية: أي (¬3) أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه - صلى الله عليه وسلم - أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في نبوته، عليه السلام على ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[51]

ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم؟ وخلاصة ذلك: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك في الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، أيًّا كان الأمر، فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض. ثم أبطل السببين الأولين، وأثبت الثالث، فقال: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ أي: ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم، ومعصيتهم له فيما أمرهم به، من الرضا بحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم لقضائه. 51 - وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق، بين صفات المؤمن الكامل، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِين} بالنصب، على أنه خبر {كَانَ} وأن وما في حيزها اسمها. {إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ}؛ أي: إلى كتابه {وَرَسُولِهِ}؛ أي: وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - {لِيَحْكُمَ} الرسول {بَيْنَهُمْ} وبين خصومهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} الدعاء وأجبناه {وَأَطَعْنَا} أمرهما بالإجابة، والقبول، والطاعة موافقة الأمر طوعًا، وهي تجوز لله ولغيره، كما في "فتح الرحمن". وقرأ الجمهور (¬1): قول المؤمنين بالنصب على أنه خبر كان، وأن يقولوا اسما، وهذا أقوى صناعةً؛ لأن الأولى جعل الأعرف اسم كان، وأن يقولوا أوغل في التعريف؛ لأن الفعل المصدَّر بأن لا سبيل إلى تنكيره، بخلاف قول المؤمنين، فإنه يجوز تنكيره، بعزل الإضافة عنه. والمعنى: إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية، قولهم: سمعنا وأطعنا. وقرأ علي (¬2) وابن أبي إسحاق والحسن قول المؤمنين بالرفع، وهذا أفيد ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

[52]

بحسب المعنى، لأن محط الفائدة هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة، وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى: إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصيةً قولهم: سمعنا وأطعنا، لا قولًا آخر. وهذا تعليم أدب الشرع، بمعنى أنَّ ما يجب أن يسلك المؤمنون كذا. وقرأ أبو جعفر (¬1) والجحدري وخالد بن إلياس: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، مبنيًا للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله، هو ضمير المصدر؛ أي: ليحكم هو؛ أي: الحكم. والمعنى: ليفعل الحكم بينهم. ومثله قولهم: جمع بينهما، وألف بينهما، وقوله تعالى: {وحيل بينهم}. {وَأُولَئِكَ} المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الناجون من غضب الله وسخطه، ومن عذاب النار، 52 - وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع، من الطاعة، أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز. فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بامتثال ما أمرا به، واجتناب ما نهيا عنه كائنًا من كان {وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما مضى من ذنوبه، أن يكون مأخوذًا بها، فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي. {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. وأصله (¬2): يتقيه، فحذف الياء للجزم فصار يتقه بكسر القاف والهاء. ثم سكن القاف تخفيفًا على خلاف القياس؛ لأن ما هو على صيغة فعل إنما يسكن عينه إذا كانت كلمة واحدة، نحو كَتْفِ في كَتِف فسُكِّن وسطه، كما سُكِّن وسط كَتْفٍ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[53]

{فَأُولَئِكَ} الموصوفون بالطاعة والخشية والاتقاء {هُمُ الْفَائِزُونَ} بالنعيم المقيم. والخلود في جنات النعيم، والتقلب في رضا المولى الكريم، لا من عداهم. وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وإنما فسرنا الفلاح فيما سبق بالنجاة والفوز هنا بالنعيم؛ لأن باب التخلية مقدم على باب التحلية، ولأنه المناسب لسياق الكلام. وقرأ حفص (¬1) {وَيَتَّقْهِ} بإسكان القاف وكسر الهاء، باختلاس على نية الجزم، إجراء للمعتل مجرى الصحيح على لغة من قال: لم أر زيدًا بإسكان الراء. ولم أشتر طعامًا، بإسكانها أيضًا. يسقطون الياء للجازم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها. ومنه قول الشار: قالت سليمى اشتر لنا دقيقًا. وقرأ الباقون بكسر القاف؛ لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، ولكن قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن نافع: {ويتقهي} بياء موصولة. وقرأ قالون عن نافع: {ويتقه} بكسر الهاء، لا يصل بها الياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {ويتقه} بإسكان الهاء. 53 - ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه .. أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: أقسم المنافقون، وحلفوا بالله سبحانه وتعالى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: أقصى مراتب اليمين، وغايتها ونهايتها في الوكادة والشدة. قيل (¬2): جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئًا. وقيل: بتعداد أسماء الله وصفاته. وأصله من القسامة، وهي أيمان تقسم على المتهمين في الدم، ثم صار اسمًا لكل حلف. والجهد بالفتح: الطاقة. والأيمان جمع يمين، واليمين في اللغة: القوة. وفي الشرع: تقوية أحد طرفي الخبر بذكر الله. قال الإِمام الراغب: اليمين في الحلف مستعار من اليد، اعتبارًا بما يفعله المجاهد والمعاهد عنده من المصافحة. ¬

_ (¬1) الشوكاني وزاد المسير. (¬2) الخازن.

قال في "الإرشاد" (¬1): جهد أيمانهم، نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف الذي هو في حيز النصب، على أنه من فاعل أقسموا؛ أي: أقسموا بالله تعالى يجهدون أيمانهم جهدًا. ومعنى جهد اليمين: بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها؛ أي: أقسموا جاهدين بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة، فمن قال: أقسم بالله، فقد جهد يمينه. ومعنى الاستعارة: أنه لما لم يكن لليمين وسعٌ وطاقةٌ، حتى يبلغ المنافقون أقصى وسع اليمين، وطاقتها، كان أصله، يجهدون أيمانهم جهدًا، ثم حذف الفعل، وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافًا إلى المفعول، نحو فضرب الرقاب، انتهى. وقيل: هو منتصب على الحال، والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك جاهدًا. {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ}؛ أي: بالخروج إلى الغزو، فإنهم كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينما كنت تكن معك، ولئن خرجت خرجنا معك، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. {لَيَخْرُجُنّ} إلى الغزو جواب لأقسموا؛ لأن اللام الموطئة للقسم في قوله: {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} جعلت ما يأتي بعد الشرط المذكور جوابًا للقسم، لا جزاء للشرط. وكان جزاء الشرط مضمرًا، مدلولًا عليه بجواب القسم، وجواب القسم وجزاء الشرط، لما كانا متماثلين، اقتصر على جواب القسم، على القاعدة المشهورة عندهم، عند اجتماع القسم والشرط. والمعنى: أي (¬2) وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها, لئن أمرتهم بالخروج للجهاد، والغزو .. ليلبن الطلب، وليخرجن كما أمرت. والخلاصة: أنهم أغلظوا الإيمان، وشددوها في أن يكونوا طوع أمرك ورهن إشارتك، وقالوا: أينما كنت نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوه بهذه الإيمان الفاجرة، وأمره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[54]

أن يقول بهم بقوله: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء المنافقين {لَا تُقْسِمُوا}؛ أي: لا تحلفوا بالله، على ما تدعون من الطاعة والخروج إلى الجهاد، إن أمرتم به. وهاهنا تمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} وارتفاع طاعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف. والجملة (¬1) تعليل للنهي المذكور؛ أي: لا تقسموا؛ لأن طاعتكم نفاقية، واقعة باللسان فقط، من غير مواطأة من القلب، وإنما عبر عنها بمعروفة، للإيذان بأن كونها كذلك مشهور معروف لكل أحد. كذا في "الإرشاد". ويجوز أن يكون طاعة مبتدأ خبرها محذوف؛ لأنها قد خصصت بالصفة. والمعنى: طاعة معروفة بالإخلاص وصدق النية خير لكم، وأمثل من قسمكم باللسان؛ فالمطلوب منكم هي، لا اليمين الكاذبة المنكرة. وفي "التاويلات النجمية": {قُلْ لَا تُقْسِمُوا} بالكذب قولًا، بل أطيعوا فعلًا. فإنه {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}؛ بالأفعال غير دعوى القيل والقال. وقرأ زيد بن علي واليزيدي {طَاعَةٌ} بالنصب على المصدر لفعل محذوف؛ أي: أطيعوا طاعة. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة، لما تنطق به ألسنتكم، ومطلع (¬2) على سرائركم، ففاضحكم ومجازيكم عليه. والتفت من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في تبكيتهم , 54 - ولمَّا بكتهم بأنه مطلع على سرائرهم تلطف بهم، فأمرهم بطاعة الله، وطاعة الرسول، وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {أَطِيعُوا اللَّهَ} سبحانه بأداء تكاليفه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} باتباعه طاعةً ظاهرة وباطنةً بخلوص اعتقاد، وصحة نية. وهذا التكرير منه تعالى (¬3)، لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: {لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} في حكم الأمر بالطاعة. وقيل: إنهما مختلفان. فالأول: نهي بطريق الرد، والتوبيخ. والثاني: أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

ثم أكد الأمر السابق، وبالغ في إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} خطاب للمأمورين، وأصله، فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: فإن تتولوا وتعرضوا عن هذه الطاعة، إثر ما أمرتم بها، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ}؛ أي: فاعلموا إنما عليه - صلى الله عليه وسلم - {مَا حُمِّلَ}؛ أي: ما كلف، وأمر به من تبليغ الرسالة، وقد فعل {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}؛ أي: ما أمرتم به من الإجابة والطاعة. ولعل (¬1) التعبير هنا بالتحمل للإشعار بثقله، وكونه مؤونة وكلفة باقية في عهدتهم بعد، كأنه قيل: وحيث توليتم عن ذلك، فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل، فهو وعيد لهم. وقيل: جواب الشرط محذوف، تقديره: فلا ضرر عليه. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ...} إلخ. تعليل لذا المحذوف. والمعنى: أي فإن (¬2) تتولوا عن الطاعة، بعد أن أمركم الرسول بها .. فما ضررتم الرسول بشيء، بل ضررتم أنفسكم؛ لأنه عليه ما أمر به، من تبليغ الرسالة، وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتوليتم .. فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه .. فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ}؛ أي: وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به من الطاعة .. {تَهْتَدُوا} إلى الحق الذي هو المقصد الأسنى، الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر. وتأخيره (¬3) عن بيان حكم التولي، لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وجملة قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويبعد أن يحمل على الجنس، كما في "الشوكاني"؛ لأنه أعيد معرفًا. {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} مقررة لما قبلها؛ أي: ما عليه إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، وقد فعل، وإنما بقي ما حملتم، فإن أديتم فلكم، وإن توليتم فعليكم. والمعنى: أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه .. تهتدوا إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[55]

الحق الموصل إلى كل خير، المنجي من كل شر، وما الرسول إلا ناصح، وهاد ومبلغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه .. أوقعتم أنفسكم في الهلكة. والخلاصة: أن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي عليكم أن تفعلوه. ونحو الآية قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}. قيل: يجوز (¬1) أن يكون قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ماضيًا، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة. والأول أرجح، ويؤيده الخطاب في قوله تعالى: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ويؤيده أيضًا قراءة البزي {فَإِنْ تَوَلَّوْا} بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة، لما فيها من جمع الساكنين. 55 - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخطاب لعامة الكفرة. و (من) تبعيضية، أو له - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين. و (من) بيانية؛ أي: الذين هم أنتم. وتوسيط الظرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان. والمفعول الثاني محذوف، تقديره: الاستخلاف في الأرض، وتمكين دينهم، وتبديل خوفهم بالأمن. وأما قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فهو جواب لقسم محذوف، تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم في الأرض. وهذا الجواب، قال على المفعول المحذوف، أو جواب للوعد، بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقق إنجازه لا محالة. وهذه الجملة مقررة لما قبلها، من أن طاعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

بالاستخلاف لهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله .. فقد أطاع الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وظاهر قوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كل من استخلفه الله سبحانه في أرضه، فلا يخص ذلك ببني إسرائيل، ولا أمة من الأمم دون غيرها. والمعنى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات استخلافهم في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم بالأمن. وأقسم سبحانه: وعزتي وجلالي، ليجعلنهم خلفاء في الأرض، متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، استخلافًا كائنًا، كاستخلاف الذين من قبلهم، وهم بنو إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة. وظاهر الآية العموم كما مر آنفًا. وقرأ الجمهور (¬1): {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول وكسر اللام، فالموصول مرفوع. وجملة قوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} معطوفة على ليستخلفنهم، داخلة تحت حكمه، كائنة من جملة الجواب. والمراد بالتمكين هنا، التثبيت والتقرير؛ أي: يجعله الله ثابتًا مقررًا، ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان. والمراد بالدين هنا الإِسلام؛ أي: وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم، ويجعلنه مقررًا ثابتًا، بحيث يستمرون على العمل بأحكامه من غير منازع. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قال في "التأويلات النجمية": يعني (¬1) يمكن كل صنف من الخلفاء حمل أمانته التي ارتضى لهم من أنواع مراتب دينهم، فإنهم أئمة أركان الإِسلام، ودعائم الملة الناصحون لعباده، الهادون من يسترشد في الله حفاظ الدين. وهم أصناف: قوم حفاظ أخبار الرسول عليه السلام، وحفاظ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة. وقوم هم علماء الأصول من الرادِّين على أهل العناد، أصحاب البدع بواضح الأدلة، غير مخلطين الأصول بعلوم الفلاسفة وشبههم، فإنها مهلكة عظيمة، لا يسلم منها إلا العلماء الراسخون، والأولياء القائمون بالحق، وهم بطارقة الإِسلام وشجعانه. وقوم هم الفقهاء، الذين إليهم الرجوع في علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات، وهم في الدين بمنزلة الوكلاء، والمتصرفين في الملك. وذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولًا، وهو جعلهم ملوكًا، وذكر التمكين ثانيًا، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطروِّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدم. وجملة {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} معطوفة على التي قبلها؛ أي: وليجعلن لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه، بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه، ولا يرجون غيره، وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح، ولا يمسمون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم كانوا في غاية الأمن والدعة، وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد. وقال أبو العالية (¬2): لما أظهر الله عَزَّ وَجَلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - على جزيرة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

العرب .. وضعوا السلاح، وآمنوا، ثم قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف، فغيروا، فغير الله ما بهم. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بالتشديد من بدل المضعف، واختارها أبو عبيد. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر والحسن بالتخفيف من أبدل. واختارها أبو حاتم، وهما لغتان. وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى. فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتشديد فرقًا، وأنه يقال: بدلته؛ أي: غيرته، وأبدلته أزلته، وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح. والمعنى: أي (¬2) وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم ليورثنهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها كما استخلف بني إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة، وجعلهم ملوكها وسكانها. وقد وفي سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأخذ الجزية من مجوسي هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس في مصر، والنجاشى ملك الحبشة. ولما قُبض - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى .. قام بالأمر بعده الخلفاء الراشدون، فنهجوا منهجه، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق قول رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ أمتي ما زوي لي منها". {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}؛ أي: وليجعلن دين الإِسلام راسخًا قويًا مقررًا، ثابت القدم، ويعظم أهله في نفوس أعدائه، الذين يواصلون الليل بالنهار، في التدبير لإطفاء أنواره، لتعفوا آثاره. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أي: وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن. قال الربيع بن أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله سبحانه بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله تعالى، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تصبروا إلا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم، محتبيًا ليس فيه حديدة" فأنزل الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} إلى آخر الآية. ونحو الآية قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}. وجملة {يَعْبُدُونَنِي} في محل النصب حال من {الَّذِينَ آمَنُوا} لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد؛ أي: وعد الله الذين آمنوا بالاستخلاف والتمكين، حالة كونهم مستمرين على عبادتي وتوحيدي. ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم. وجملة {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} حال من الواو في {يَعْبُدُونَنِي}؛ أي: يعبدونني (¬1) حالة كونهم غير مشركين بي في العبادة شيئًا من الأشياء. وقيل معناه: لا يراؤون بعبادتي أحدًا، وقيل معناه: لا يخافون غيري، وقيل معناه: لا يحبون غيري. {وَمَنْ كَفَرَ} وارتد {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمر على الكفر، ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب، فإن الإصرار (¬2) عليه بعد مشاهدة دلائل التوحيد كفر مستأنف، زائد على الأصل، أو من كفر هذه النعمة العظيمة بعد ذلك الوعد الصحيح. {فَأُولَئِك} الكافرون لهذه النعم {هُمُ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[56]

لا غيرهم {الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الكاملون في الفسق والخروج عن الطاعة، وفي الطغيان حدود الكفر. قال المفسرون: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان - رضي الله عنه - فلما قتلوه غير الله ما بهم من الأمن وأدخل عليهم الخوف الذي رفع عنهم، حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا متحابين. والله تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وفي الحديث: "إذا وضع السيف في أمتي، لا يرفع عنها إلى يوم القيامة". 56 - وجملة قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} معطوفة (¬1) على مقدر يدل عليه السياق، كأنه قيل لهم: فآمنوا واعملوا صالحًا، وأقيموا الصلاة إلخ. وقيل: معطوف على {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}. وقيل: التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة؛ أي: أدوا الصلوات الخمس في مواقيتها بأركانها وشروطها وآدابها، وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}؛ أي: اتبعوا الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيما أمركم به ونهاكم عنه، فهو من باب التكميل. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: لكي تنالوا رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة؛ أي: افعلوا ما ذكر من الإقامة والإيتاء والإطاعة، راجين أن يرحمكم الله سبحانه وتعالى بسبب امتثالكم هذه المأمورات. فهو متعلق بالأوامر الثلاثة. وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة لأن طاعته طاعة الله تعالى. ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم، كما يشعر به الحذف، على ما تقرر في علم المعاني، من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم. 57 - {لَا تَحْسَبَنّ} يا محمد، أو يا من يصلح للخطاب كائنًا من كان {الَّذِينَ كَفَرُوا} مفعول أول للحساب. {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} (¬2)؛ أي: معجزين لله عن إدراكهم لاهلاكهم في قطر من الأقطار بما رحبت، فائتين عنه، وإن هربوا منها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

كل مهرب {وَمَأْوَاهُمُ}؛ أي: مسكنهم ومقرهم في الآخرة {النَّارُ}؛ أي: نار جهنم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية؛ أي: لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض، فإنهم مدركون، ومأواهم النار. {وَلَبِئْسَ} وقبح {الْمَصِيرُ} والمرجع لهم النار. والجملة جواب لقسم محذوف. والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لبئس المصير، والمرجع لهم. هي؛ أي: النار. وقرأ الجمهور (¬1): {لَا تَحْسَبَنَّ} بالتاء الفوقية؛ أي: لا تحسبن يا محمد. وقرأ حمزة وابن عامر وأبو حيوة {لا يحسبن} بالياء التحتيَّة، فيكون الموصول فاعلًا على هذه القراءة والمفعول الأول محذوف، أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض. قال النحاس: وما علمت أحدًا بصريًا، ولا كوفيًا إلا وهو يخطىء قراءة حمزة. وفي الآية (¬2): إشارة إلى كفران النعمة، فإن الذين أنفقوا النعمة في المعاصي، وغيروا ما بهم من الطاعات مأواهم نار القطيعة. قال علي - رضي الله عنه -: أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه. ومعنى الآيتين (¬3): وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله في مواقيتها, ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها الله على أهلها , لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوي البؤس والحاجة، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه، ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، ولا يجدون مهربًا مما أوعدهم به ربهم فقال: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لا تظن أيها الرسول الكافرين يجدون مهربًا في الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والبطش بهم متى أردنا. وبعدئذٍ بين مآلهم في الآخرة، فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: كما أنا سنضيف عليهم في الدنيا، وننكل بهم، ولا يفلتون من عذابنا سنجعل عاقبة أمرهم نارًا تلظّى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى. والخلاصة: أنه سيلحقهم سخطنا في الدنيا، وسينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم في الآخرة سعيرًا وحميمًا وغساقًا، جزاءً وفاقًا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابًا. الإعراب {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}. {أَلَمْ} (الهمزة): للاستفهام التقريري. {لَمْ تَرَ}: جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير هذه الحقيقة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {يُسَبِّحُ}: فعل مضارع {لَهُ} متعلق به. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. وجملة {يُسَبِّحُ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}. وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى؛ لأن الرؤية هنا قلبية تتعدى إلى مفعولين؛ لأن تسبيع المسبحين لا تتعلق به رؤية البصر. {وَالطَّيْرُ}: معطوف على {مَنْ}. {صَافَّاتٍ} حال من الطير ومفعول صافات محذوف؛ أي: باسطات أجنحتها. {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم. {قَدْ}: حرف تحقيق. {عَلِمَ}: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على كل، أو على الله. وقال أبو البقاء: إن عودته على كل أرجح؛ لأن القراءة برفع كل على الابتداء، فيرجع ضمير الفاعل إليه. ولو كان فيه ضمير اسم الله لكان الأولى نصب كل، لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سبببها، فيصير كقولك: زيدًا ضرب عمرو غلامه. {صَلَاتَهُ}: مفعول به. {وَتَسْبِيحَهُ}: معطوف عليه. وجملة {عَلِمَ} في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ.

{عَلِيمٌ}: خبره. والجملة مستأنفة. {بِمَا}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. وجملة {يَفْعَلُونَ} صلة لـ {ما}. {وَاللَّهُ} {الواو}: استئنافية. {لله}: خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة مستأنفة. {وَإِلَى اللَّهِ}: خبر مقدم. {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على ما قبلها. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}. {أَلَمْ}: (الهمزة): فيه للاستفهام التقريري. {لم تر}: جازم وفعل مجزوم، وفاعل مستتر. تقديره أنت. والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {يُزْجِي سَحَابًا}: فعل وفاعل مستتر، يعود على الله ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ}. وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تر، إن قلنا إنها قلبية، ويصح كونها بصرية، تقديره: ألم تر إزجاء الله سحابًا. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {يُؤَلِّفُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {يُزْجِي}. {بَيْنَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يُزْجِي}. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان معطوف على {يُؤَلِّفُ}. {فَتَرَى الْوَدْقَ} {الفاء}: عاطفة. {ترى الودق}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مطعوف على {يَجْعَلُهُ}. {يَخْرُجُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {الْوَدْقَ}. {مِنْ خِلَالِهِ}: متعلق بـ {يَخْرُجُ}. والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الْوَدْقَ}. {وَيُنَزِّلُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة {يُزْجِي} على كونها خبرًا لـ {أَنَّ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ينزل}. فـ {مِنْ}: ابتدائية. {مِنْ جِبَال}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله، بدل اشتمال. {فِيهَا}: جار ومجرور صفة لـ {جِبَال}. {مِنْ بَرَدٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {ينزل}. وهو في موضع مفعول الإنزال وهي تبعيضية. وفي "الفتوحات" قد ذكرت {مَنْ} هنا ثلاث مرات. فالأولى: ابتدائية

باتفاق المفسرين. والثانية: قيل زائدة. وقيل تبعيضية. وقيل: ابتدائية على جعل مدخولها بدلًا مما قبله بإعادة الجار. والثالثة: فيها هذه الأقوال الثلاثة. وتزيد بقول رابع: وهو أنها لبيان الجنس انتهى. {فَيُصِيبُ} {الفاء}: عاطفة. {يصيب}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ينزل. {بِهِ}: متعلق بـ {يصيب}. {مَنْ} مفعول به لـ {يصيب}. وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَنْ} الموصولة. والعائد محذوف، تقديره: من يشاء إصابته. {وَيَصْرِفُهُ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على يصيب. {عَنْ مَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يصرف} وجملة {يَشَاءُ} صلة {من} الموصولة {يَكَادُ}: فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة. {سَنَا بَرْقِهِ} اسمها ومضاف إليه. وجملة {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار} في محل النصب خبر {يَكَادُ}. وجملة {يَكَادُ} في محل الجر صفة لـ {بَرَدٍ}. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَالنَّهَارَ}: معطوف على الليل. والجملة مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَعِبْرَةً}: اسمها مؤخر. واللام فيه حرف ابتداء. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}: جار ومجرور مضاف إليه صفة {لَعِبْرَةً}. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان أصناف الخلق. {مِنْ مَاءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَ}؛ أي: من نطفة. بحسب الأغلب. {فَمِنْهُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفصيل. {منهم}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، عطف مفصل على مجمل. {يَمْشِي}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على من. {عَلَى بَطْنِهِ}: متعلق به. والجملة

الفعلية صلة {مِنْ} الموصولة {وَمِنْهُمْ} خبر مقدم. {من}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {يَمْشِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر على {من}. {عَلَى رِجْلَيْنِ}: متعلق بـ {يَمْشِي}. والجملة الفعلية صلة {مَنْ} الموصولة. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} إعرابه نظير ما قبله، ومعطوف عليه {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة مستأنفة. وجملة {يَشَاءُ} صلة {ما} الموصولة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَدِيرٌ}، {قَدِيرٌ}: خبر {إِنَّ}. وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)}. {لَقَدْ}: اللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَنْزَلْنَا آيَاتٍ}: فعل وفاعل ومفعول به. {مُبَيِّنَاتٍ}: صفة {آيَاتٍ}. والجملة الفعلية لقسم محذوف، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَهْدِي} خبره. والجملة الاسمية مستأنفة. {من}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَشَاءُ} وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَنْ} الموصولة. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: جار ومجرور، وصفة متعلق بـ {يَهْدِي}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. {آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى {ثُمَّ يَتَوَلَّى}: مقول محكي، وإن شئت قلت: {آمَنَّا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق به. والجملة في محل النصب مقول ليقولون. {وَبِالرَّسُولِ} معطوف على بالله. {وَأَطَعْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنَّا}. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ}: فعل وفاعل معطوف على يقولون. {مِنْهُمْ}: صفة لـ {فَرِيقٌ}. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَتَوَلَّى}. {وَمَا}: {الواو}: حالية {ما}: حجازية. {أُولَئِكَ}: اسمها. {بِالْمُؤْمِنِين}: خبرها. والباء: زائدة. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {فَرِيقٌ} لتخصصه بالصفة. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُم

الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يسقبل من الزمان، متضمن معنى الشرط. {دُعُوا}: فعل ونائب فاعل. {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {دُعُوا}. {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونا فعل شرط لها. {لِيَحْكُمَ} (اللام): حرف جر وتعليل. {يحكم}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة. جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الرسول. {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {يحكم} والجملة مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لحكمه. {بَيْنَهُمْ}: الجار والمجرور متعلق بـ {دُعُوا}. {إِذَا} فجائية، قائمة مقام الفاء، في ربط الجواب بشرطه. وهو {إِذَا} الأولى، حرف لا محل لها من الإعراب. {فَرِيقٌ}: مبتدأ. {مِنْهُمْ}: صفة له. {مُعْرِضُونَ}: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية جواب {إذا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَيَقُولُونَ}. {وَإِنْ يَكُنْ} {الواو}: عاطفة. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص. مجزوم بـ {إن} الشرطية. {لَهُمُ}: خبر {يَكُنْ} مقدم على اسمها. {الْحَقُّ}: اسما مؤخر. {يَأْتُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَأْتُوا}. {مُذْعِنِينَ} حال من فاعل {يَأْتُوا}. وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إذا}. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}. {أَفِي} الهمزة فيه: للاستفهام التقريري. جيء بها للمبالغة في الذم. {في قلوبهم}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة، مسوقة لتقسيم الأمر في صدودهم عن حكومته، إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله. {أَمِ}: حرف عطف منقطعة، تقدر ببل الإضرابية. وهمزة الاستفهام التقريري. {ارْتَابُوا}: فعل وفاعل. والجملة معطوفة على الجملة التي

قبلها. {أَمِ}: عاطفة متقطعة تقدر ببل. وهمزة الاستفهام التقريري. {يَخَافُونَ} فعل وفاعل. والجملة معطوفة على ما قبلها. {أن} حرف نصب ومصدر. {يَحِيفَ اللَّهُ} فعل وفاعل منصوب بأن. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {يَحِيفَ}. {وَرَسُولُهُ} معطوف على الجلالة. والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أم يخافون حيف الله ورسوله عليهم. {بَلْ}: حرف إضراب وابتداء. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الظَّالِمُونَ}: خبر المبتدأ والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر بمعنى ما النافية وإلا المثبتة. أو تقول: {إن}: حرف نصب مكفوفة عن العمل. {ما}: كافة. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ}: خبرها مقدم على اسمها. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط. {دُعُوا}: فعل ونائب فاعل. {إِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {دُعُوا}. {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. والجملة في محل الخفض بضافة {إِذَا} إليها. والظرف متعلق بقول المؤمنين. {لِيَحْكُمَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يحكم}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الرسول. {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {يحكم}. والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لحكمه. {بَيْنَهُمْ}: الجار والمجرور متعلق بـ {دُعُوا}. {أَنْ يَقُولُوا}: ناصب وفعل وفاعل. والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، والتقدير: إنما كان قول سمعنا وأطعنا قول المؤمنين، وقت دعوتهم إلى الله، ورسوله ليحكم بينهم. وجملة كان مستأنفة. وإنما ترجح نصب قول المؤمنين على رفعه؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل أوغلهما في التعريف اسمًا لكان. ولكن سيبويه لم يفرق بينهما. {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} مقول محكي ليقولوا. وإن شئت قلت: {سَمِعْنَا} فعل وفاعل. والجملة في محل النصب مقول ليقولوا. {وَأَطَعْنَا} فعل وفاعل معطوف على سمعنا. {وَأُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْمُفْلِحُونَ}: خبر. والجملة مستأنفة.

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُطِعِ اللَّهَ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة. {وَيَخْشَ اللَّهَ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {من} معطوف على {يُطِعِ} على كونه فعل شرط لمن. {وَيَتَّقْهِ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على من معطوف على يطع، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وسكنت القاف على قراءة حفص للتخفيف، أو مجزوم بسكون القاف إجراء للمعتل مجرى الصحيح، كما مر في مبحث القراءة. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة الجواب. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْفَائِزُونَ} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة من الشرطية مستأنفة. {وَأَقْسَمُوا} {الواو}: استئنافية. {أقسموا}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة {بِاللَّهِ} متعلق بـ {أقسموا}. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: منصوب على المفعولية المطلقة، أو حال من فاعل {أقسموا}؛ أي: مجتهدين في أيمانهم. {لَئِنْ} (اللام): موطئة للقسم. {إن}: حرف شرط. {أَمَرْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {لَيَخْرُجُنَّ} اللام: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. {يخرجن}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة: لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب. ولم يبن الفعل هنا؛ لأن النون لم تباشره. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: إن أمرتهم، يخرجون. وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه، لا محل لها من الإعراب. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {لَا} ناهية جازمة. {تُقْسِمُوا}: فعل

وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {طَاعَةٌ} مبتدأ {مَعْرُوفَةٌ} صفته. وسوغ الابتداء بالنكرة هذا الوصف. والخبر محذوف، تقديره: خير لكم، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمركم الذي أنتم عليه طاعة معروفة؛ أي: نفاقية لسانية. قال الواسطي: وهذا الوجه أولى؛ لأن الخبر محط الفائدة، وعليه فالمعنى: أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة، معلومة لا يشك فيها, ولا يرتاب اهـ. "كرخي". والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {خَبِيرٌ} خبره. {بِمَا} متعلق بـ {خَبِيرٌ}. وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة {ما} الموصولة. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}. {قُلْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {أَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على أطيعوا الله. {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: {الفاء}: عاطفة، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، من أمرم بالإطاعة وأردتم بيان حكم ما إذا تتولوا عن الطاعة فأقول لكم. {إن تولوا} {إن}: حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. وعلامة جزمه حذف النون؛ لأن أصله تتولوا فحذفت إحدى التاءين للتخفيف. {فَإِنَّمَا}: الفاء: رابطة الجواب. {إنما}: أداة حصر. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {ما}: موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر. {حُمِّلَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر يعود على {ما}. والجملة الفعلية صلة الموصول. والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونا جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَعَلَيْكُمْ}: خبر مقدم. {مَا حُمِّلْتُم}: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية

في محل الجزم، معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها جواب {إن} الشرطية. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {تُطِيعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {تَهْتَدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {عَلَى الرَّسُولِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ} صفته. والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ} فعل وفاعل ومفعول. والجملة مستأنفة. {آمَنُوا} فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْكُمْ} جار ومجرور حال من فاعل {آمَنُوا}. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (اللام): واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وأقسم. {يستخلفنهم} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. ونون التوكيد الثقيلة، ومفعول به في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. {كَمَا} الكاف: حرف جر. {ما}: مصدرية. {اسْتَخْلَفَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. {الَّذِينَ} مفعول به. {مِنْ قَبْلِهِمْ} جار ومجرور صلة الموصول. والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما}: مع صلتها

في تأويل مصدر، مجرور بالكاف، تقديره: كاستخلافه الذين من قبلهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف، لوقوعه صفة لمصدر محذوف، تقديره: ليستخلفنهم استخلافًا كائنًا، كاستخلاف الذين من قبلهم. {وَلَيُمَكِّنَنَّ}: {الواو}: عاطفة. و {اللام}: موطئة للقسم. {يمكنن}: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم، معطوفة على جملة القسم، في قوله: {ليستخلفنهم}: {لَهُمْ} متعلق بـ {يمكنن} {دِينَهُمُ}: مفعول به. {الَّذِي} اسم موصول في محل النصب صفة لـ {دِينَهُمُ}. {ارْتَضَى} فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. {لَهُمْ}. متعلق به. والجملة صلة الموصول. والعائد محذوف، تقديره ارتضاه لهم. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ}: {الواو}: عاطفة. (واللام): موطئة للقسم. {يبدلنهم}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به أول، ونون توكيد ثقيلة. والجملة معطوفة على جملة {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}. {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ليبدلنهم}. {أَمْنًا} مفعول ثان ليبدلن. {يَعْبُدُونَنِي} {يعبدون}: فعل مضارع وفاعل مرفوع بثبات النون. والنون نون الوقاية. والياء مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة على الأرجح، استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. كأنه قيل: ما بالهم بعد ذلك. فقيل: يعبدونني. ويجوز أن تكون حالًا من مفعول ليستخلفنهم؛ أي: حالة كونهم عابدين إياي. {لَا يُشْرِكُونَ}. {لَا}: نافية. {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل. {بِي}: متعلق به. {شَيْئًا} مفعول به، أو مفعول مطلق. والجملة الفعلية في محل النصب بدل من جملة {يَعْبُدُونَنِي} أو حال من فاعل {يَعْبُدُونَنِي}؛ أي: يعبدونني حالة كونهم موحدين. وهو جيد. ولك أن تجعلها استئنافية كسابقتها. {وَمَنْ} الواو: استئنافية. {وَمَنْ}: اسم شرط في محل الرفع. مبتدأ. والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {كَفَرَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. {بَعْدَ ذَلِكَ} متعلق بـ {كَفَرَ} {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة الجواب. {أولئك}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير

فصل. {الْفَاسِقُونَ} خبر. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {وَمَنْ} على كونها جوابًا لها. وجملة {وَمَنْ} الشرطية، مستأنفة. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة معطوفة على محذوف، معلوم من السياق، تقديره: فآمنوا واعملوا صالحًا وأقيموا الصلاة، أو معطوفة على وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول. قال الزمخشري: وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل؛ لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} كلاهما فعل وفاعل ومفعول به معطوفان على {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه. وجملة {تُرْحَمُونَ}: خبر {لعل}. مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}. {لَا} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لَا} مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب. والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ} اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب مفعول أول لحسب. وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {مُعْجِزِينَ} مفعول ثان لحسب {فِي الْأَرْضِ} متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في {مُعْجِزِينَ} ومتعلق {مُعْجِزِينَ} محذوف، تقديره: لنا. {وَمَأْوَاهُمُ النَّار} مبتدأ وخبر، أو بالعكس. والجملة معطوفة على جملة {لَا تَحْسَبَنَّ} عطف خبر على إنشاء، على رأي بعضهم، أو معطوفة على مقدر، تقديره: بل هم مقهورون مدركون ومأواهم الخ. وهذا أولى؛ لأنه يكون عطف خبر على خبر. {وَلَبِئْسَ} {الواو}: استئنافية. و (اللام): موطئة للقسم. {بئس}: فعل ماض جامد لإنشاء الذم. {الْمَصِيرُ} فاعل والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: مصيرهم، يعني النار. والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف. وجملة القسم مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة {وَالطَّيْرُ} جمع طائر، كريب وراكب. والطائر كل ذي جناح يسبح أى الهواء قال أبو عبيدة: وقطرب: الطير يقع على الواحد والجمع. وقال ابن الأنباري: الطير جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير. وفي "المصباح" الطائر على صيغة اسم الفاعل، من طار يطير طيرانًا، وهو له أى الجو كمشي الحيوان أى الأرض، ويعدى بالهمزة. والتضعيف. فيقال: طيرته وأطرته. وجع الطائر طير كصحب وصاحب. وجمع الطير طيور وأطيار. {صَافَّاتٍ} أي: باسطات أجنحتهن أى الهواء، من الصف، وهو البسط. {يُزْجِي سَحَابًا} أي: يسوق سوقًا برفق، والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة لينساق، غلب أى سوق شيء يسير، أو غير معتد به. ومنه البضاعة المزجاة، فإنها يزجيها كل أحد، ويدفعها لقلة الاعتداد بها. ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى، ما لا يعتد به. وفي "المختار" زجى الشيء تزجية، دفعه برفق، وتزجى بكذا اكتفى به. وأزجى الإبل ساقها. والمزجي الشيء القليل تسوقه. وفي "القاموس" وشرحه زجا يزجو زجوًا وزجى تزجية وأزجى إزجاء وازدجاه: ساقه، ودفعه برفق. يقال: كيف تزجي أيامك؛ أي: كيف تدفعها. وزجى فلان حاجتي؛ أي: سهل تحصيلها، وأزجى الأمر أخره وأزجى الدرهم روجه. وسمي السحاب سحابًا لانسحابه في الهواء؛ أي: انجراره، هو اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها. والمراد هاهنا، قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد كما مر. {رُكَامًا}: الركام بضم الراء المتراكم بعضه فوق بعض. قال في "المفردات": يقال: سحاب مركوم؛ أي: متراكم، والركام ما يلقى بعضه على بعض. وفي" المختار" ركم الشيء إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركام الرمل المتراكم. والسحاب

ونحوه. اهـ. {فَتَرَى الْوَدْقَ}: الودق: المطر، قيل: هو خاص بالضعيف. وقيل: هو المطر ضعيفًا كان أو شديدًا، وهو في الأصل مصدر. يقال: ودق السحاب يدق من باب وعد، وفي "المفردات" الودق قيل: ما يكون خلال المطر، كأنه غبار، وقد يعبر به عن المطر اهـ. {مِنْ خِلَالِهِ}؛ أي: من ثقبه. وفي "القرطبي" الخلال جمع خلل، كجبال جمع جبل. وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم أى البقرة، أن كعبًا قال: إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل المطر من السماء .. لأفسد ما يقع عليه من الأرض. اهـ. {مِنْ بَرَدٍ} البرد: محركة الماء المنعقد؛ أي: ما يبرد من المطر أى الهواء، فيصلب. كما في "المفردات". {سَنَا بَرْقِهِ} في "المختار" السنا: مقصورًا، ضوء البرق الساطع، والسنا أيضًا: هو نبت يتداوى به، وهو من ذي الواو، يقال: سنا يسنوا سنًا؛ أي: أضاء يضيء اهـ. "سمين". والسناء من الرفعة مصدود، والشيء الرفيع وأسناه رفعه، وسناه تسنية فتحه وسهله. وفي "القاموس" البرق واحد بروق السحاب، أو ضرب ملك السحاب، وتحريكه إياه لينساق. فترى النيران. وفي "إخوان الصفا" البرق: نار، تنقدح من احتكاك تلك الأجزاء الدخانية، في جوف السحاب. {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} أي: يخطفها بسرعة، جمع بصر، بمعنى الجارحة. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا، أى قصر ذاك، حتى يعتدلا، ويغير أحوالهما بالحر والبرد. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي: لأهل العقول والبصائر، جمع بصيرة. ويقال: لقوة القلب المدركة بميرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة يصيرة. كما أى "المفردات". {كُلَّ دَابَّةٍ} الدب والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك أى الحيوان وفي الحشرات أكثر، كما في "المفردات". والدابة هنا: ليست عبارة عن مطلق ما يمشي ويتحرك، بل هي إسم للحيوان الذي يدب على الأرض، ومسكنه

هنالك، فيخرج منها الملائكة والجن، فإن الملائكة خلقوا من نور، والجن من نار. وقال في "فتح الرحمن": خلق كل حيوان يشاهد في الدنيا, ولا يدخل فيه الملائكة والجن؛ لأنا لا نشاهدهم. اهـ. والمعنى: خلق كل حيوان يدب على الأرض. {يَمْشِي} والمشي: ضابطه، هو قطع المسافة، والمرور عليها، مع قيد كون ذلك المرور على الأرجل. {وَأَطَعْنَا} من الإطاعة، وهو فعل يعمل بالأمر، لا غير؛ لأنها الانقياد، وهو لا يتصور إلا بعد الأمر، كما مر. {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} والحكم بالشيء، أن تقضي بأنه كذا, وليس بكذا، سواء ألزمت بذلك غيرك، أو لم تلزمه. {مُعْرِضُونَ} يقال: أعرض إذا أظهر عرضه؛ أي: ناحيته. {مُذْعِنِينَ}؛ أي: منقادين. {مَرَضٌ}؛ أي: فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال. {ارْتَابُوا} شكوا في نبوتك. {أَنْ يَحِيفَ} والحيف الجور، والظلم، والميل في الحكم إلى أحد الجانبين. يقال: حاف في قضيته؛ أي: جار فيما حكم. {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: فعل مضارع مجزوم بحذف النون؛ لأن أصله تتولوا بتاءين، إحداهما تاء المضارعة، والأخرى تاء المطاوعة؛ لأن ماضيه تولى من باب تفعل الخماسي. {إِلَّا الْبَلَاغُ} البلاغ اسم مصدر لبلغ المضعف، فهو بمعنى التبليغ، الذي هو مصدر بلغ. {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} قال الراغب: الخلافة النيابة عن الغير. إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ} التمكين جعل الشيء مكانًا لآخر. يقال: مكن له في الأرض؛ أي: جعلها مقرًا له. يقال: مكنتك ومكنت لك مثل نصحتك ونصحت لك.

{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} التبديل جعل الشيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يقال: للتغير وإن لم تأت ببدله. {أَمْنًا} وأصل الأمن طمأنينة النفس، وزوال الخوف. {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع. يقال: صار إلى كذا؛ أي: انتهى إليه. ومنه صير الباب لمصيره الذي ينتهي إليه في تنقله وتحركه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَالطَّيْرُ} بعد قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استقرارها فيها قرار ما فيها؛ لأنها تكون بين السماء والأرض. ومنها: فن العنوان في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} الآية. وهو فن انفرد به القليل من علماء البيان، ويسمونه فن العنوان، وعرفوه بأنه أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف، أو فخر، أو مدح، أو عتاب، أو هجاء، أو غير ذلك من الفنون، ثم يأتي لقصد تكميله وتوكيده، بأمثلة من ألفاظ، تكون عنوانات لأخبار متقدمة، وقصص سالفة، ومنه نوع عظيم جدًّا، وهو ما يكون عنوانًا للعلوم، وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح العلوم، ومداخل لها، والآية التي نحن بصددها، فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية، والجغرافيا الرياضية وعلم الفلك. ومنها: الطباق في قوله: {يصيب} وقوله: {يصرفه}. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية، وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار. ومنها: الجناس التام في قوله: {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار}، {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}

المراد بالأول العيون الباصرة، وبالثانية العقول المدركة. ومنها: الإجمال ثم التفسير في قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. فقد ذكر سبحانه أولًا الجنس الأعلى، حيث قال: كل دابة، فاستغرق أجناس كل ما دب، ثم فسر هذا الجنس الأعلى، بالأجناس المتوسطة. حيث قال: {فَمِنْهُمْ} و {مِنْهُمْ} ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} فقد سمي الزحف على البطن مشيًا على سبيل الاستعارة المكنية، كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر. ويقال فلان لا يتمشى له أمر. ومنها: التغليب في قوله: {مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في قوله كل دابة، عبر بـ {من} تغليبًا للعاقل على غيره لشرفه. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}. ومنها: حسن التقسيم في قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية. لأن الآية لم تبق قسمًا يقع في القلوب، من الصوارف عن القبول، إلا جاءت به، ألا ترى أنه تعالى بعد قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ذكر الريبة؛ لأنه لا بد أن يكون الصارف عن الإجابة لحكم الله ورسوله، إما إبطان الكفر، وإظهار الإِسلام، وهو المرض، أو التشكك والتردد، والتذبذب في حكم الله، هل هو جار على العدل، أو على غيره، وذلك هو الريبة. أو يكون الصارف خوف الحيف الذي لا يشعر به رجاء الإنصاف، فلم يبق قسم من الصوارف إلا ذكر فيها. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} شبه الإيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين، فيها أقصى المراتب في الشدة، والتوكيد بـ {من} يجهد نفسه في أمر سياق لا يستطيعه، ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة التصريحية. ومنها: المشاكلة في قوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}؛ أي: عليه أمر

التبليغ، وعليكم وزر التكذيب. ومنها: الطباق بين الخوف والأمن في قوله: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) نهى فيما سلف عن ¬

_ (¬1) المراغي.

دخول الأجانب في البيوت، إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدًا رجعوا، لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإِسلامي بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والإنساب .. استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات، هي عورات لأرباب البيوت لما فيها من رفع الكلفة، وقلة التحفظ في الستر. ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن, إذا لم يطمعن في الزواج، فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث بلا استئذان، ولا إذن من أهل البيت .. ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة، في تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه - صلى الله عليه وسلم -، فلهم القعود من غير استئذان، ولا إذن كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم في الأكل، من البيوت المذكورة في الآية. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كتشاور في قتال أحد، أو في حادث عرض، وبين أن من يفعل ذلك .. فهو من كامل الإيمان. ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجلوا نبيهم، ولا يسموه باسمه، بل يقولون يا نبي الله، ويا رسول الله. وليحذروا أن يخالفوا أمره. وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه، فهو مردود على فاعله وقائله، كائنًا من كان. وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".

وقال أبو حيان (¬1): لما افتتح الله سبحانه وتعالى، هذه السورة بقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} وذكر أنواعًا من الأوامر والحدود، مما أنزله على الرسول عليه السلام .. اختتمها بما يجب له عليه السلام، على أمته من التتابع. والتشايع على ما فيه مصلحة الإِسلام، ومن طلب استئذانه، إن عرض لأحد منهم عارض، ومن توقيره في دعائهم إياه. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} الآية، روي (¬2) أن سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث وقت الظهيرة إلى عمر - رضي الله عنه - غلامًا من الأنصار، يقال له: مدلج بن عمرو، وكان عمر نائمًا فدق عليه الباب، ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء، فقال: لوددت لو أن الله تعالى نهى آبانا وأبناءنا، وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد الآية قد نزلت فخر ساجدًا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب - رضي الله عنه - الوحي. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬3) عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى والأعرج والمريض إلى بيت أبيه، أو بيت أخيه أو بيت أخته أو بيته عمته أو بيت خالته، فكانت الزمنى يتحرجون من ذلك، يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم. فنزلت هذه الآية رخصةً لهم {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} تحرج المسلمون، وقالوا الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

أحد، فكف الناس عن ذلك، فنزل {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلى قوله: {مَفَاتِحَهُ} الآية. وأخرج الضحاك قال: كان أهل المدينة، قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج؛ لأن الأعمى لا يبصر طيب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عن مقسم قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج فنزلت هذه الآية. وأخرج (¬1) الثعلبي في "تفسيره" عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: خرج الحارث غازيًا مع رسول الله، فخلف على أهله خالد بن زيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهودًا، فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية، وأخرج البزار بسند صحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير فيدفعون مفاتيحهم إلى زمناهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم، وكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}. وأخرج ابن جرير عن الزهري أنه سئل عن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا، فقال: أخبرني عبد الله بن عبد الله، قال: إن المسلمين كانوا إذا غزوا، خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية رخصةً لهم. وأخرج عن قتادة قال: نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} في حي من العرب، كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، وكان يحمله بعض يوم، حتى يجد من يأكله معه، فربما قعد، والطعام بين يديه، ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[58]

لا يجد من يؤاكله حتى يمسي، فيضطر إلى الأكل وحده. قال: بعض الشعراء: إِذَا ما صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيْلًا فَإِنَّيْ لَسْتُ آكُلُهُ وَحْدِيْ وأخرج عن عكرمة وأبي صالح، قالا: كانت الأنصار، إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصةً لهم. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ...} الآية، أخرج (¬1) ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما، قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر المدينة قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الخبر فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين، إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها، يذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬2) أبو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله. التفسير وأوجه القراءة 58 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} رجوع (¬3) إلى ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول. (¬3) البيضاوي.

تتمة الأحكام السالفة، بعد الفراغ من الإلهيات، الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره، والوعد عليها، والوعيد على الإعراض عنها. والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال. واللام في قوله: {ليستأذنكم} لام الأمر، والاستئذان (¬1) طلب الإذن، والإذن في الشيء إعلام بإجازته، والرخصة فيه؛ أي: يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله من الرجال والنساء، ليطلب منكم الإذن في الدخول عليكم الأناس، الذين ملكت أيديكم من العبيد والإماء الكبار. {وَ} الصبيان {الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} أي لم يصلوا أوان البلوغ والاحتلام، القاصرون عن درجة البلوغ المعهود. والتعبير عن البلوغ بالاحتلام، لكونه أظهر دلائله، وبلوغ الغلام صيرورته بحال لو جامع لأنزل. قرأ الجمهور {الحلم} بضمتين. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وطلحة {الحلم} بسكون اللام وهي لغة تميم، حالة كون الذين لم يبلغوا الحلم كائنين {مِنْكُمْ} أيها الأحرار {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ظرف (¬2) زمان ليستأذن؛ أي: ليستأذنوا في الدخول عليكم ثلاثة أوقات في اليوم والليلة؛ لأنها ساعات غرة وغفلة، أو منصوب على المصدرية؛ أي: ثلاث استئذانات. ورجح هذا الوجه أبو حيان. وعبر بالمرات عن الأوقات؛ لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين، لا نفس الأوقات. ثم فسر تلك الأوقات بقوله: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة. ومحله النصب، على أنه بدل من ثلاث مرات، بدل تفصيل من مجمل؛ أي: ليستأذنوا ثلاثة أوقات وقتًا من قبل صلاة الصبح. {وَحِينَ تَضَعُونَ} وتنزعون {ثِيَابَكُمْ} التي تلبسونها في النهار؛ أي: ووقتًا حين تخلعون ثيابكم عن أبدانكم لأجل القيلولة، وهي الاستراحة وسط النهار سواء كان معها نوم أم لا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقوله: {مِنَ الظَّهِيرَةِ} بيان للحين، وهي شدة الحر عند انتصاف النهار؛ أي (¬1): حين ذلك الوقت الذي هو الظهيرة. وقيل (من) بمعنى في؛ أي: تضعونها في الظهيرة، أو بمعنى اللام؛ أي: من أجل حر الظهيرة. والتصريح (¬2) بمدار الأمر، أعني وضع الثياب في هذا الحين، دون الأول والآخر، لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها ووقوعها في النهار، الذي هو مظنة لكثرة الورود والصدور، ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين، فإن تحقق التجرد واطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث، فقال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} الآخرة ضرورة، أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف، وهو كل ثوب تغطيت به؛ أي: وقتًا بعد صلاة العشاء الآخرة. وإنما خص (¬3) سبحانه هذه الثلاثة الأوقات؛ لأنها ساعات الخلوات، ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات. وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات. ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل، فقال: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} كائنة، {لَكُمْ} أيها المؤمنون والمؤمنات بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه الثلاثة المذكورة ثلاث عورات لكم؛ أي: ثلاثة أوقات يختل فيها عادةً ستر عورات لكم. أو المعنى هذه ثلاث خلوات لكم. كما في "تنوير المقياس"، والعورة: الخلل الذي يرى منه ما يراد ستره. وسميت الأوقات المذكورة عورات مع أنها ليست نفس العورات، بل هذه أوقات العورات، على طريق تسمية الشيء باسم ما يقع فيه، مبالغة في كونه محلًا له. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

قرأ (¬1) ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحفص عن عاصم {ثلاث عورات} برفع الثاء المثلثة من ثلاث. والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثلاث عورات} بنصب المثلثة. قال أبو علي وجعلوه بدلًا من قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} والأوقات ليست بعورات، ولكن المعنى أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب بإعراب المحذوف. وقرأ (¬2) أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش {عَوْرَاتٍ} فتح الواو وهي لغة هديل بن مدركة وبني تميم. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون الأحرار والحرائر في تمكينهم من الدخول عليكم {وَلَا عَلَيْهِمْ} أي: ولا على المماليك والخدم والصبيان {جُنَاحٌ} أي: حرج وإثم في الدخول عليكم بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والاطلاع على العورات، ولعدم تكليف الصبيان. {بَعْدَهُنّ} أي: بعد مضي هذه الأوقات الثلاثة. فرفع الحرج عن الفريقين جميعًا؛ أي: بعد (¬3) كل واحدة من تلك العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل وقتين منهن، فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها, لا بعدها. ولغيرهم في جميع الأوقات. وهذه الجملة مستأنفة، مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. ويجوز أن تكون في محل رفع صفةً لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. والمعنى: من ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. ثم بين العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات، بقوله: {طَوَّافُونَ} وهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم يعني المماليك والصبيان جوالون {عَلَيْكُمْ} أيها الأحرار والحرائر للخدمة طوافًا كثير، يذهبون ويجيؤون. والطواف: الدوران ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

حول الشيء. ومنه الطواف بالبيت. كما سيأتي في مباحث الصرف. ومنه أيضًا الحديث في الهرة: "إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات"؛ أي: هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن؛ أي: يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن، إلا في تلك الأوقات الثلاثة. والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان. ومعنى {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: بعضكم يطوف، أو طائف، وهم المماليك والصغار على بعض، وهم الأحرار والكبار. وهذه (¬1) الجملة بدل مما قبلها، أو مؤكدة لها. والمعنى: أن كلا منكم يطوف على صاحبه، العبيد على الموالي، والموالي على العبيد؛ أي: هم يطوفون عليكم للخدمة، وأنتم تطوفون عليهم للاستخدام. ولو كلفهم الاستئذان في كل طوفة؛ أي: في هذه الأوقات الثلاثة وغيرها .. لضاق الأمر عليهم. فلذا رخص لكم في ترك الاستئذان فيما وراء هذه الأوقات. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2): {طوافين} بالنصب على الحال من ضمير عليهم. وقال الحسن: إذا بات الرجل خادمه معه، فلا استئذان عليه، ولا في هذه الأوقات الثلاثة. والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى مصدر الفعل الذي بعده، والكاف صفة لمصدر محذوف. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ}؛ أي: يبين الله سبحانه وتعالى لكم أيها المؤمنين، الآيات الدالة على الأحكام تبيينًا كائنًا مثل تبيين هذه الآيات المذكورة هنا؛ أي: ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها. لا أنه تعالى بينها بعد أن لم تكن كذلك. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} أي: مبالغ في العلم بجميع المعلومات جليلها ودقيقها، فيعلم أحوالكم. {حَكِيمٌ} في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشًا ومعادًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

وحاصل معنى الآية: أي لا يدخل (¬1) أيها المؤمنون، في بيوتكم عبيدكم، وإمائكم، ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة وكل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم. وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب والالتحاف باللحاف. وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم، ثم علل طلب الاستئذان بقوله: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}؛ أي: لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم، يختل فيها التستر عادة. وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث، بين حكم ما عدا ذلك، فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: ليس عليكم معشر أرباب البيوت، ولا على الذين ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم حرج، ولا إثم في غير هذه العورات الثلاث. والخلاصة: لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث. أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال. ثم علل الإباحة في غيرها بقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن؛ لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم. كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قراباتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم. ثم بين فضله على عباده في بيان أحكام دينهم لهم. فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: ومثل ذلك التبيين لتلك الأحكام يبين لكم ¬

_ (¬1) المراغي.

أيها المؤمنون شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحوال عباده. حكيم في تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم في المعاش والمعاد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، ترك الناس ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. وقوله في النساء: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية. وقوله في الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وعن عكرمة عن ابن عباس، أن رجلين من أهل العراق، سألاه عن الاستئذان في العورات الثلاث، التي أمر الله بها في القرآن، فقال: إن الله ستير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم. وحجال في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده، أو يتيمه في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجال، فرأوا أن ذلك قد كفاهم، من الاستئذان الذي أمروا به. ففيه (¬1) دليل على أن الحكم إذا ثبت لمعنى، فإذا زال المعنى، زال الحكم، فالتبسط في اللباس والمعاش والسكنى، ونحوها مرخص فيه، إذا لم يؤد إلى كبر واغترار. قال عمر - رضي الله عنه -: إذا وسع الله عليكم، فوسعوا على أنفسكم. ويقال: اليسار مفسدة للنساء، لاستيلاء شهواتهن على عقولهن. وفي الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". يعني: إذا أتى الله عبده نعمته من نعم الدنيا، فليظهرها من نفسه، وليلبس ثيابًا نظيفةً، يليق بحاله، ولتكن نيته في لبسه إظهار نعمة الله عليه، ليقصده المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات، وليس لبس الخلق مع اليسار من التواضع. وفي الآية رخصة في اتخاذ العبيد والإماء للخدمة، لمن قام بحقهم. وبيان أن حق الموالي عليهم الخدمة. ودلت الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع. وينهي عن ارتكاب القبائح، فإنه تعالى أمرهم بالاستئذان في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[59]

الأوقات المذكورة. وفي الحديث: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تركلها وهم أبناء عشر". وإنما يؤمر بذلك ليعتاده، ويسهل عليه بعد البلوغ، ولذا كره إلباسه ذهبًا أو حريرًا لئلا يعتاده، والإثم على الملبس، كما في "القهستاني". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا بلغ الصبي عشر سنين، كتبت له حسناته، ولم تكتب سيئاته، حتى يحتلم. قال في الأشباه، وتصح عبادة الصبي، وإن لم تجب عليه، واختلفوا في ثوابها. والمعتمد أنه له، وللمعلم ثواب التعليم. وكذا جميع حسناته، وليس كالبالغ في النظر إلى الأجنبية، والخلوة بها. فيجوز له الدخول على النساء إلى خمس عشرة سنة. كما في "الملتقط"، فإن قلت: كيف أمر الله تعالى بالاستئذان لهم، مع أنهم غير مكلفين؟ قلت: الأمر في الحقيقة لأوليائهم ليؤدبوهم. كذا في "فتح الرحمن". 59 - ولما بين الله سبحانه حكم الأرقاء والصبيان، الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير .. أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ} الأحرار الأجانب (¬1)، فخرج العبد البالغ، فإنه لا يستأذن في الدخول على سيدته في غير الأوقات الثلاثة المذكورة كما قال في التتمة: يدخل العبد على سيدته بلا إذنها بالإجماع. {مِنْكُمُ} أيها المؤمنون {الْحُلُمَ}؛ أي: سن الاحتلام والبلوغ. {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} أي: فليطلبوا الإذن في الدخول عليكم إن أرادوا الدخول. {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ} بلغوا الحلم {مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: كما يستأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآية. فالمعنى: فليستأذنوا استئذانًا كائنًا مثل استئذان المذكورين قبلهم، بأن يستأذنوا في جميع الأوقات، ويرجعوا إن قيل لهم: ارجعوا. والمعنى: إن (¬2) هؤلاء الذين بلغوا الحلم، يستأذنون في جميع الأوقات، في أوقات العورات الثلاث وفي غيرها. كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[60]

الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء. وذكر الله (¬1) سبحانه في هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا, ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا، مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال؛ لأن حكم ما ملكت اليمين واحد، كبارهم وصغارهم، وهو الاستئذان في الساعات الثلاث التي ذكرت في الآية قبل فقط. وقرأ الحسن {الحلْم} بسكون اللام فحذف الضمة لثقلها. كما مر. ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله: {كَذَلِكَ}؛ أي: كما بين لكم ما ذكر غاية البيان {يُبَيِّنُ} الله سبحانه وتعالى {لَكُمُ} أيها المؤمنون {الْآيَاتِ}؛ أي: آيات أحكامه مما فيه سعادتكم في دنياكم وآخرتكم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بأحوال خلقه ظواهرها وبواطنها، فيجازيهم عليها. {حَكِيمٌ} فيما دبره وشرعه لهم. كرره للتأكيد والمبالغة في الأمر بالاستئذان. فائدة: فإن قلت: قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} الآية. ختم (¬2) هذه الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} بالإضافة إلى ضميره. وختم ما قبلها وما بعدها بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} بالتعريف بأل، فما الفرق بينها، وبينهما؟ قلت: الفرق أن ما قبلها وما بعدها يشتملان على علامات يمكننا الوقوف عليها. وهي في الأولى: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} وفي الأخيرة: {مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} الآية. فختم الآيتين بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} وأما بلوغ الأطفال، فلم يذكر له علامات يمكننا الوقوف عليها، بل تفرد تعالى بعلمه بذلك، فخصها بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} بالإضافة إليه. اهـ. "فتح الرحمن". 60 - ولما بين سبحانه، حكم الحجاب، حين إقبال الشباب، أتبعه بحكمه حين إدباره، فقال: {وَالْقَوَاعِدُ} مبتدأ. جمع قاعد بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

الكبر لا قعود الجلوس. كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل، لا حمل متاع. ويقال: قاعدة في بيتها بمعنى جالسة في بيتها، وحاملة على ظهرها. {مِنَ النِّسَاءِ} حال من الضمير المستكن في القواعد؛ أي: والعجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل حالة كونهن من النساء {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} وزواجًا، صفة للقواعد لا للنساء؛ أي: لا يطمعن في النكاح لكبرهن، فاعتبر فيهن القعود عن الحيض والحمل والكبر أيضًا؛ لأنه ربما ينقطع الحيض والرغبة فيهن باقية. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} الجملة خبر المبتدأ؛ أي: فليس عليهن إثم ووبال في {أَنْ يَضَعْنَ} وينزعن {ثِيَابَهُنَّ}؛ أي: الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب، والقناع فوق الخمار عند الرجال الأجانب، لا الثياب التي على العورة الخاصة. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا رغبة للرجال فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن تخفيفًا عليهن. ثم استثنى حالةً من حالاتهن. فقال: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} حال من فاعل يضعن؛ أي: حالة كونهن غير مظهرات للزينة الخفية، التي أمرن بإخفائها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ} كالسوار والخلخال والقلادة. والمعنى (¬1): من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهن، ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال. والتبرج التكشف والظهور للعيون. ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء. ومنه قولهم سفينة بارجة؛ أي: لا غطاء عليها. وقال في "فتح الرحمن"، فإن قلت: كيف أباح تعالى بذلك للقواعد من النساء، وهن العجائز، التجرد من الثياب بحضرة الرجال؟ قلت: المراد بالثياب الزائدة على ما يسترهن. والمعنى: أي (¬2) والنساء اللواتي قعدن عن الولد كبرًا، وقد يئسن من التبعل، فلا يطمعن في الأزواج، فليس عليهن إثم، ولا حرج في أن يخلعن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

ثيابهن الظاهرة، كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار، إذا كن لا يبدين زينة خفية، كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء. وخلاصة ذلك: أنه لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن في بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب، ما لم يقصدن بذلك الزينة، وإظهار ما يجب إخفاؤه. هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمالٍ تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك، فلا يدخلن أى حكم الآية. {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} أي؛ وإن يطلبن العفة بترك وضع الثياب. وهو مبتدأ خبره {خَيْرٌ لَهُنَّ} من وضعها لبعده من التهمة؛ أي: استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء؛ أي: وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسها كالشباب، كان ذلك خيرًا لهن من خلعها ,لتباعدهن حينئذٍ عن التهمة. ولقد قالوا: لكل ساقطة في الحي لاقطة. وقرأ ابن مسعود (¬1): {وأن يعففن} بغير سين. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه (¬2) الآية دلالة، على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال. وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة. ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} بما يجري بينهن وبين الرجال من الأحاديث والمقاولات {عَلِيمٌ} بمقاصدهن، لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسول لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى، فهو سبحانه سميع لما يقوله كل قائل، عليم بمقاصده. فيجازي كلا على عمله الظاهر والباطن، وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير. واعلم: أن العجوز (¬3) إذا كانت بحيث لا تشتهى جاز النظر إليها لا من الشهوة. وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة، وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر، وارتفعت الصعوبة، وأبيحت الرخص، ولكن التقوى فوق ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) زاد المسير. (¬3) روح البيان.

أمر الفتوى. كما أشار إليه قوله تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرًا مما به بأس". قال ابن سيرين: ما غشيت امرأة قط، لا في يقظة ولا في نوم، غير أم عبد الله. وإني لأرى المرأة في المنام، فاعلم أنها لا تحل لي، فأصرف بصري. قال بعضهم: ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام. واعلم: أن عدم رجاء النكاح إنما هو من طرف الرجل لا من طرف العجوز غالبًا، فإنه حكي أن عجوزًا مرضت، فأتى ابنها بطبيب، فرآها متزينة بأثواب مصبوغة فعرف حالها, فقال: ما أحوجها إلى الزوج. فقال الابن: ما للعجائز والأزواج. فقالت: ويحك أنت أعرف من الطبيب. وحكي: أنه لما مات زوج رابعة العدوية، استأذن عليها الحسن البصري وأصحابه، فأذنت لهم بالدخول عليها، وأرخت سترًا، وجلست وراء الستر. فقال لها الحسن وأصحابه: إنه قد مات بعلك ولا بد لك منه. قالت: نعم وكرامةً. قالت: من أعلمكم حتى أزوِّجه نفسي، فقالوا: الحسن البصري. فقالت: إن أجبتني في أربع مسائل فأنا لك. فقال: سلي إن وفقني الله أجبتك. فقالت: ما تقول: لو مت أنا وخرجت من الدنيا، مت على الإيمان أم لا؟ قال: هذا غيب لا يعلمه إلا الله. ثم قالت: ما تقول: لو وضعت في القبر وسألني منكر ونكير أأقدر على جوابهما أم لا. قال: هذا غيب أيضًا. ثم قالت: إذا حشر الناس يوم القيامة وتطايرت الكتب أأعطى كتابي بيميني أم بشمالي. قال: هذا غيب أيضًا. ثم قالت: إذا نودي في الخلق: فريق أى الجنة، وفريق أى السعير، كنت أنا من أي الفريقين؟ قال: هذا غيب أيضًا. قالت: من كان ليس له علم هذه الأربعة، كيف يشتغل بالتزوج. ثم قالت: يا حسن أخبرني كم خلق الله العقل؛ قال: عشرة أجزاء تسعة للرجال وواحد للنساء. ثم قالت: يا حسن كم خلق الله الشهوة. قال: عشرة أجزاء، تسعة للنساء وواحد للرجال. قالت: يا حسن أنا أقدر على حفظ تسعة أجزاء من الشهوة بجزء من العقل. وأنت لا تقدر على حفظ جزء من الشهوة بتسعة أجزاء من العقل. فبكى الحسن وخرج من عندها.

[61]

وعن سليمان بن داود عليهما السلام، الغالب على شهوته أشد من الذي يفتح المدينة وحده. 61 - {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى} أي: على فاقد البصر {حَرَجٌ} أي: إثم ووبال {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ} وهو من كان في رجله اعوجاج يمنعه من الاعتدال في المشي، أو من الاستواء في الجلوس. {حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ} أي: على من به آفة؛ أي: ليس (¬1) على هؤلاء الثلاثة حرج في مؤاكلتهم مع الأصحاء، كانت هذه الطوائف يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرًا من استقذارهم إياهم، وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم. فإن الأعمى ربما سبقت إليه عين مؤاكلة ولا يشعر به. والأعرج يتفسح في مجلسه، فيأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه. والمريض لا يخلو عن حالة تؤذي قرينه؛ أي: برائحة كريهة أو جرح يبدو، أو أنف يسيل، أو نحو ذلك. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلخ؛ أي: لا بأس لهم بأن يأكلوا مع الناس ولا مأثم عليهم. وعلى هذا التأويل فـ (على) على معناها. وقال ابن (¬2) عباس، لما أنزل الله سبحانه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عَزَّ وَجَلَّ عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، فلا يستوفي من الطعام حقه. فأنزل الله هذه الآية. فعلى هذا التأويل يكون (على) بمعنى في، أي: ليس في الأعمى. والمعنى: ليس عليكم أى مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج. وقيل: نزلت ترخيصًا لهؤلاء، أى الأكل من بيوت من سماهم في باقي الآية. وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

عنده شيء، ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه، أو بعض من سمى الله تعالى. فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: لا ندخلها وأصحابها غيب. فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم. وقيل: نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، فعلى هذا التأويل، تم الكلام عند قوله: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كلام مستأنف. والحاصل (¬1): أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم .. فيكون {وَلَا عَلَى} متصلًا بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف، التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج وعدم المرض .. فقوله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ابتداء كلام، غير متصل بما قبله. قيل: لما نزلت: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قالوا لا يحل لأحد منا، أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوت أولادكم وعيالكم وأزواجكم بغير إذن بالعدل، فالكلام على حذف (¬2) مضاف وإلا فانتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيت نفسه معلوم، فلا حاجة إلى بيانه؛ لأن بيت ولده أو زوجته كبيته، فنسبه إليه لما جاء في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه" فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء وبيوت الأمهات، ومن بعدهم. وقيل (¬3): إنما ذكره مع كونه معلومًا، ليعطف عليه ما بعده في اللفظ، وليساويه في الحكم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) المراغي.

{أَوْ} تأكلوا من {بُيُوتِ آبَائِكُمْ} وإن علوا، جمع أب. والأب الوالد؛ أي (¬1): حيوان يتولد من نطفته حيوان آخر. {أَوْ} من {بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} وإن علون. جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق. والأم بإزاء الأب؛ أي: الوالدة. وقرأ طلحة: {إمهاتكم} بكسر الهمزة. {أَوْ} من {بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} جمع أخ. والأخ: هو المشارك لآخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار لكل مشارك لغيره في القبيلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات. {أَوْ} من {بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} جمع أخت. والأخت تأنيث الأخ. وجعل التاء فيها كالعوض عن المحذوف منه. {أَوْ} من {بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ} جمع عم. والعم أخ الأب، والعمة أخته. وأصل ذلك من العموم، وهو الشمول ومنه العامة لكثرتهم، وعمومهم في البلد، ومنه العمامة أيضًا لشمولها الرأس. {أَوْ} من {بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} مع عمة. وهي أخت الأب كما مر آنفًا. {أَوْ} من {بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} جمع خال. والخال أخو الأم. والخالة أختها. {أَوْ} من {بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} جمع خالة. وإنما نفى (¬2) سبحانه الحرج في الأكل من بيوت هؤلاء المذكورين، لما علم بالعادة، أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب. وقيد بعض العلماء (¬3)، جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم، وقال آخرون: لا يشترط الإذن. قيل: وهذا إذا كان الطعام مبذولًا، فإن كان محرزًا دونهم لم يجز لهم أكله. ثم قال سبحانه: {أَوْ} أن تأكلوا من {مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} أي: أو من البيوت التي تملكون التصرت فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان، فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، بإعطائهم مفاتحه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

وقال بعضهم (¬1): هو ما يكون تحت أيديهم، وتصرفهم من ضيعة، أو ماشية وكالةً أو حفظًا، فملك المفاتح حينئذٍ كناية عن كون المال في يد الرجل، وحفظه. والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من أموال لكم عليها يد، لكن لا من أعيانها، بل من أتباعها وغلاتها، كثمر البستان، ولبن الماشية، فلا حرج على وكيل الرجل، وقيمه في ضيعته وماشيته، أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدخر. وهذا إذ لم يجعل له أجرًا على ذلك، فإن جعل له أجرًا فلا يحل له أكل شيء منها. وقرأ الجمهور (¬2): {ملكتم} بفتح الميم واللام خفيفة. وقرأ ابن جبير: بضم الميم وكسر اللام مشددة. وقرأ الجمهور {مَفَاتِحَهُ} جمع مفتح. وابن جبير: {مفاتيحه} جمع مفتاح. وقتادة وهارون عن أبي عمرو: مفتاحه مفردًا. {أَوْ} من بيوت {صَدِيقِكُمْ} قرىء بكسر الصاد اتباعًا لحركة الدال، حكاه حميد الخزاز. والصديق يكون للواحد والجمع. والصداقة: صدق الاعتقاد في المودة، كما سيأتي في مبحث اللغة. والمعنى: أو من بيوت أصدقائكم، الذين يصدقونكم المودة، وتصدقونهم، وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية، فإنهم أرضى بالتبسط، وأسر به من كثير من الأقرباء. هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن، أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم، إذا وجد الإذن صراحةً. وعن الحسن، أنه دخل يومًا بيته، فرأى جماعة من أصدقائه، قد أخذوا طعامًا من تحت سريره، وهم يأكلون فتهلل وجهه سرورًا، وقال: هكذا وجدناهم، يعني: من لقي من البدريين. وعن جعفر الصادق، من عظم حرمة الصديق، أن جعله الله تعالى من الإنس والثقة والانبساط، ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ. وقيل: لأفلاطون من أحب إليك أخوك أو صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، ولكن أنى هو، فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت ما نلت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه. قال المفسرون (¬1): هذا كله إذا علم رضا صاحبك بصريح الإذن، أو بقرينة دالة كالقرابة والصداقة ونحو ذلك. ولذلك خص هؤلاء بالذكر لاعتيادهم التبسط فيما بينهم. والمعنى: ليس عليكم جناح، في أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها، وان لم يحضروا ويعلموا من غير أن تتزودوا وتحملوا. قال الإِمام الواحدي في "الوسيط": وهذه الرخصة في أكل مال القرابات، وهم لا يعلمون ذلك كرخصته لمن دخل حائطًا، وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مر في سفر بغنم، وهو عطشان أن يشرب من رسلها توسعةً منه تعالى، ولطفًا بعباده، ورغبةً بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النظر. وإنما خص هؤلاء بالذكر لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبًا. والمقصود من هذه الآية، إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. قال ابن زيد (¬2): وهذا شيء قد إنقطع، إنما كان في أوله، ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوغ له أن يأكل منه. ثم قال: ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا. اهـ. ثم استأنف سبحانه، حكمًا آخر من نوع ما قبله، فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {جُنَاحٌ}؛ أي: ماثم في {أَنْ تَأْكُلُوا} من بيوتكم حال كونكم {جميعًا}؛ أي: مجتمعين {أَوْ} حال كونكم {أَشْتَاتًا} أي: متفرقين، جمع شت، بمعنى: متفرق على أنه صفة، كالحق، أو بمعنى تفرق على أنه مصدر، وصف به مبالغةً، وأما شتى فجمع شتيت، كمرضى ومريض؛ أي: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم، مجتمعين أو متفرقين. وقد كان بعض العرب، يتحرج أن يأكل وحده، حتى يجد له أكيلًا يؤاكله فيأكل معه. وبعض العرب، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

كان لا يأكل إلا مع ضيف، ومنه قول حاتم: إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِيْ لَهُ ... أَكِيْلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكُلُهُ وَحْدِيْ وفي الحديث: "شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده ومنع رفده". وإنما ذم هذا؛ لأنه بخل بالقرى. وقال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث يومه حتى يجد ضيفًا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه، لا يتناوله من الصباح إلى الرواح. وربما كان معه الإبل الحفل، فلا يشرب من ألبانها، حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدًا أكل. فاعلم الله سبحانه وتعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه. هذا قول ابن عباس. وقيل: نزلت في قوم من الأنصار، كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم. فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا، جميعًا؛ أي: مجتمعين، أو أشتاتًا؛ أي: متفرقين. قال النسفي رحمه الله، دل قوله تعالى: {جَمِيعًا} على جواز التناهد في الأسفار، وهو إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه؛ أي: على السوية. وقال بعضهم: في خلط المال ثم أكل الكل منه والأولى أن يستحل كل منهم غذاء كل، أو يتبرعون لأمين، ثم يتبرع لهم الأمين، اهـ. "من الروح". ثم شرع سبحانه، يبين ما ينبغي رعايته، حين دخول البيت، بعد أن ذكر الرخصة فيه، فقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} أي: فإذا دخلتم، أيها المؤمنون بيوتًا، من البيوت المذكورة، أو غيرها، مسكونة كانت، أو غير مسكونة ولو مسجدًا. {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: فابدأوا (¬1) بالسلام على أهلها، الذين هم بمنزلة أنفسكم، لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية، والنسبية الموجبة لذلك، فالله تعالى، جعل أنفس المسلمين، كالنفس الواحدة، على حد قوله تعالى: {وَلَا ¬

_ (¬1) المرح.

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقيل: معنى فسلموا على أنفسكم؛ أي: قولوا: السلام؛ أي: من الله علينا، وعلى عباد الله الصالحين. فإن الملائكة ترد عليهم، إن لم يكن بها أحد، وإلا فقولوا السلام عليكم. وقال ابن عباس: إن لم يكن في البيت أحد، فليقل السلام علينا من ربنا، وعلى عباد الله الصالحين. وإذا دخل المسجد، فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. وقال قتادة: إذا دخلت بيتك، فسلم على أهلك، فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتًا لا أحد فيه، فقل السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة، فليقل السلام على من اتبع الهدى. واختلفوا في البيوت (¬1). فقيل: المراد غير البيوت التي تقدم ذكرها. وقيل: المراد البيوت المذكورة سابقًا. وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي: هي المساجد وقيل: المراد بالبيوت هنا، هي كل البيوت المسكونة وغيرها، المساجد وغيرها. فيسلم على أهل المسكونة. وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح. وانتصاب {تَحِيَّةً} على المصدرية المعنوية بسلموا؛ لأنه بمعنى التسليم؛ أي: سلموا تسليمًا وتحية. ثابتةً {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: بأمره مشروعةً من لدنه. ويجوز (¬2) أن يكون صلة تحية، فإنها طلب الحياة التي من عنده تعالى. والتسليم طلب السلامة من الله للمسلم عليه. {مُبَارَكَةً} أي: مستتبعة بزيادة الخير والثواب ودوامها. {طَيِّبَةً} أي: تطيب بها نفس المستمع. والمعنى (¬3): حيوا تحية ثابتة بأمره تعالى، مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: إذا دخلت على أهلك، فسلم عليهم تحية من عند الله، مباركة ¬

_ (¬1) الشوكاني بتصرف. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

طيبة. أخرجه الجاري وغيره. روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: أوصاني النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس خصال. قال: "يا أنس، أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك، يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير، تكن من رفقائي يوم القيامة". والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى مصدر الفعل الذي يذكر بعده؛ أي: مثل ذلك التبيين الذي بيناه في هذه الآية {يُبَيِّنُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لَكُمُ} أيها المؤمنون {الْآيَاتِ} الدالة على الأحكام؛ أي: ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها {لعلكم}؛ أي: لكي تفهموا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام والآداب، وتعلموا بموجبها، وتفوزوا بذلك سعادة الدارين، فهو تأكيد لما قبله. والمعنى (¬1): هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، عرفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكي تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون سعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم. وفي الحديث: "إذا دخلتم بيوتكم، فسلموا على أهلها، وإذا طعم أحدكم طعامًا، فليذكر اسم الله عليه، فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته معه، وإذا ذكر الله على طعامه، قال: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن لم يسلم حين يدخل بيته، ولم يذكر الله على طعامه، قال: أدركتم العشاء والمبيت". والتسليم (¬2) على الصبيان العقلاء أفضل من تركه، كما في "البستان". ولا يسلم على جماعة النساء الشواب، كيلا يحصل بينهما معرفة، وانبساط، فيحدث من تلك المعرفة فتنة، ولا يبتدىء اليهود والنصارى بالسلام، فإنه حرام. لأنه إعزاز الكافر وذا لا يجوز. وكذا السلام على أهل البدعة والفسقة، ولو سلم على من لا يعرفه فظهر ذميًا، أو مبتدعًا أو فاسقًا، يقول: استرجعت سلامي تحقيرًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[62]

له، ولو احتاج إلى سلام أهل الكتاب يقول: السلام على من أَتبع الهدى، ولو رد يقول: وعليكم فقط. وقد مر ما يتعلق بالسلام، مشبعًا في سورة النساء، عند قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة} الآية. فراجعه. 62 - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} نزلت حين جمع النبي عليه السلام المسلمين يوم الجمعة، ليستشيرهم في أمر الغزو، وكان يثقل المقام عنده على البعض، فيخرج بغير إذنه، أو في حفر الخندق، وكان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الحفر من أهم الأمور، حتى حفر رسول الله بنفسه، وشغل عن أربع صلوات، حتى دخلت في حد القضاء، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: الكاملون في الإيمان وهو مبتدأ خبره قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} عن صميم قلوبهم، وأطاعوهما في جميع الأحكام في السر والعلانية. {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} - صلى الله عليه وسلم - {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى آخره. معطوف على آمنوا، داخل معه في حيز الصلة؛ أي: على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد، والحروب والمشاورة في الأمور، وصلاة الاستسقاء وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع. ووصف الأمر بالجمع للمبالغة، في كونه سببًا لاجتماع الناس، فإن الأمر لكونه مهمًا عظيم الشأن، صار كأنه قد جمع الناس، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب؛ أي: والذين إذا كانوا معه على أمر جامع {لَمْ يَذْهَبُوا} من المجمع. ولم يفترقوا عنه لعروض عذر تجوز معه الإقامة في المسجد، كالزكام والصداع، فإن كان العذر يمنع المكث في المسجد، كالحيض والجنابة والإسهال، فإنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هم مأذون لهم شرعًا اهـ. "شيخنا". {حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب فيأذن لهم، واعتبر في كمال الإيمان عدم الذهاب قبل الاستئذان؛ لأنه المميز للمخلص من المنافق. وقرأ اليماني (على أمر جميع). والحال: أن الأمر الجامع، أو الجميع هو الذي يعم نفعه، أو ضرره. وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب. قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإِمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن.

ثم قال: لمزيد التأكيد: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ}؛ أي: يطلبون الاذن منك، رعاية للأدب، وتعظيمًا لهذا الأمر. {أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} حق الإيمان لا غير المستأذنين، وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان، حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع. روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإذا أراد أن يقوم، فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة". ولما ذكر ما يلزم المؤمن، من الاستئذان، أعقبه بما يفعله الرسول حينئذٍ، فقال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ} الفاء فيه: فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفت يا محمد، أن الكاملين في الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما، وبين الاستئذان .. فأقول لك: إذا طلبوا منك الإذن في الانصراف والذهاب {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي: لبعض أمرهم المهم، أو خطبهم المسلم. والشأن (¬1) الحال والأمر، ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور، كما في "المفردات". ولم يقل لشؤونهم بل قيد بالبعض تغليظًا عليهم في أمر الذهاب عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة. {فَأْذَنْ} يا محمد، في الانصراف والذهب عن مجلسك، لحاجة مهمة {لِمَنْ شِئْتَ} الإذن له {مِنْهُمْ} وأمنع من شئت، على حسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها. والمعنى: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن. فالأمر مفوض إليك؛ أي: فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهام أمورهم، فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، حيث استأذن في الرجوع إلى أهله، فأذن له - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "ارجع فلست بمنافق". ¬

_ (¬1) روح البيان.

[63]

{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ}؛ أي: للمستأذنين الذين أذنت لهم {اللَّهَ} سبحانه وتعالى بعد الإذن، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر قوي، لا يخلو عن شائنة تفضيل أمر الدنيا على الآخرة. ففيه إشارة إلى أن الأفضل، أن لا يحدث المرء نفسه بالذهاب، فضلًا عن الذهاب، أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى، في الاستئذان؛ أي: وادع الله لهم، أن يتفضل عليهم بالعفو، والغفران عن تبعات ما بينه وبينهم. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} أي: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين. {رَحِيمٌ} كثير الرحمة بهم، فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. وفي الآية بيان حفظ الأدب، بأن الإِمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين، ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه، ولا يخالفوا أمير السرية، ويرجعوا بالإذن إذا خرجوا للغزو ونحوه، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذن إلا على ما يرى. فمن تفرق بغير إذن صار من أهل الهوى والبدع. وكان عليه السلام إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد رجل الخروج وقف حيث رواه، فيأذن له إن شاء. 63 - وبعد أن ظهر في هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما في هذه الآية التي بهرت العقول، أردف هذا ما يؤكده، فقال: {لَا تَجْعَلُوا} أيها المؤمنون {دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم} إما مصدر مضاف (¬1) إلى الفاعل؛ أي؛ لا تجعلوا دعوته وأمره إياكم في الاعتقاد والعمل بها {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي: لا تقيسوا دعوته إياكم إلى شيء من الأمور، على دعوة بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته - صلى الله عليه وسلم - واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، بل أجيبوه فورًا وإن كنتم في الصلاة. إذا كان أمره فرضًا لازمًا. وهذا قول المبرد والقفال: ومختار أبي العباس، وأقرب إلى نظم الآية. كما قاله ابن عادل والرازي وغيره. وقيل (¬2): لا تجعلو دعاء الرسول ربهُ مثل ما يدعو صغيركم وكبيركم، فإنه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

قد يجاب، وقد يرد، فإن دعوات الرسول مستجابة، فاحذروا سخطه، فإن دعاءه مجاب، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وإما مصدر مضاف إلى المفعول. والمعنى: لا تجعلوا نداءكم إياه، وتسميتكم له، كنداء بعضكم بعضًا باسمه، مثل يا محمد، ويا ابن عبد الله، ويا أبا القاسم، ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات، بل نادوه بغاية التوقير. وبلقبه المعظم، مثل يا نبي الله ويا رسول الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} مع التواضع، وحفض الصوت، فلا تنادوه باسمه، ولا بكنيته. وروي هذا أيضًا عن ابن عباس. وقال أبو الليث في "تفسيره": وفي الآية بيان توقير معلم الخير؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان معلم الخير، فأمر الله بتوقيره، وتعظيمه، معرفة حق الأستاذ. وفيه معرفة أهل الفضل. قال في "حقائق البقليّ": إحترام الرسول من احترام الله، ومعرفته من معرفته، والأدب في متابعته، من الأدب مع الله تعالى. وقرأ الحسن (¬1) ويعقوب في رواية: {نبيكم} بنون مفتوحة وباء موحدة مكسورة، وياء تحتانية مشدة، بدل قراءة الجمهور {نبيكم} ظرفًا. قال صاحب "اللوامح": وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - على البدل من الرسول. ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان، فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ} أي: يخرجون من المسجد خفيةً من بين الناس واحدًا واحدًا، حالة كونهم {لِوَاذًا} أي: متلاوذين بالناس؛ أي: متسترين بهم؛ أي: يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة، قليلًا قليلًا على خفية. و {قد} (¬2) هنا للتحقيق: بطريق الاستعارة لاقتضاء الوعيد إياه، كما أن رب يجيء للتكثير، وفي "الكواشي" قد هنا مؤذنة بقلة المتسللين؛ لأنهم كانوا أقل من غيرهم. وقيل: قد هنا بمعنى ربما مفيدة للتكثير. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وقرأ يزيد بن قطيب (¬1): {لِوَاذًا} بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر، لاذ الثلاثي، ولم يقبل؛ لأنه لا كسرة قبل الواو، فهو كطاف طوافًا، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ الرباعي، وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو. واللواذ من الملاوذة. وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك. وقيل: اللواذ الفرار من الجهاد. وبه قال الحسن. ومنه قول حسان: وَقُرَيْشٌ تَجُوْلُ مِنْكُمُ لِوَاذَا ... لَمْ تُحَافِظْ وَجَفَّ مِنْهَا الْحُلُوْمُ والتسلل: الخروج بخفية. والمعنى: قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد في الخطبة، واحدًا بعد واحد، من غير استئذان، خفيةً مستترين بشيء. وإن عملهم هذا إن خفي على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى، ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون. روى أبو داود أنه كان من المنافقين، من يثقل عليه استماع الخطبة، والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه يستتر به، فأنزل الله سبحانه الآية. والفاء في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} لترتيب الحذر (¬2)، أو الأمر به، على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم، فإنه مما يوجب الحذر ألبتة، فإن قلت (¬3): كيف عدى (خالف) بعن مع أنه يتعدى بنفسه؟ قلت: ضمن خالف بمعنى أعرض، أو عدل فعداه تعديته، أو يقال: عن متعلقه بمحذوف تقديره: يخالفونه تعالى، ويعدلون عن أمره أو هي زائدة على قول الأخفش. والضمير في أمره إما لله؛ لأنه الآمر حقيقة، أو للرسول؛ لأنه المقصود بالذكر. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان.

[64]

أي: فليحذر ويجتنب الذين يخالفون أمره تعالى، ويعرضون عن طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: محنة وبلية في الدنيا، إما في البدن أو في المال، أو في الولد، كالمرض والقتل والهلاك وتسلط السلطان الجائر عليهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد في الآخرة وقال بعضهم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: بلية تظهر نفاقهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: عاجل في الدنيا، انتهى. وكلمة (أو) لمنع الخلو دون الجمع، واعادة الفعل صريحًا للاعتناء بالتحذير، وفي ترتيب العذابين على المخالفة، دلالة على أن الأمر للوجوب، فيجب امتثال أمره، وتحرم مخالفته. والآية تعم كل من خالف أمر الله تعالى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - واستمر على التقليد، من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب، من الخطأ، وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السماوات والأرض. ثم حذر كل مخالف لرسوله، 64 - ثم ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها، خلقًا وملكًا وتصرفًا وإيجادًا وإعدامًا، بدءًا وإعادةً، فقال: {أَلَا} أي: انتبهوا أيها العباد، من سنة الغفلة، واعتقدوا بقلوبكم، وقولوا بالسنتكم {إِنَّ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: جميع ما فيهما من الموجودات بأسرها خلقًا وملكًا بدءًا وإعادةً. {قَدْ} يقال فيها، ما قيل في السابقة آنفًا {يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع، التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم هنا بمعنى علم. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} معطوف على {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}. {وَيَوْمَ} مفعول به، لا ظرف؛ أي: يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، ويعلم تحقيقًا يوم ترجعون إليه؛ أي: يوم يرد الخلائقق إليه للمجازاة، فيجازيكم فيه بما عملتم. أو المعنى يعلم ما أنتم عليه أيها العباد، ويعلم يوم يرد المنافقون، المخالفون للأمر إليه تعالى، للجزاء والعقاب. فيرجعون من المرجع المتعدي، لا من الرجوع اللازم، والعلم بوقت وقوع الشيء، مستلزم للعلم بوقوعه على أبلغ وجه.

وقرأ الجمهور (¬1): يرجعون مبنيًا للمفعول. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو، مبنيًا للفاعل، من الرجوع اللازم. والتفت من ضمير الخطاب في أنتم إلى ضمير الغيبة في يرجعون. ويجوز أن يكون، ما أنتم عليه خطابًا عامًا، ويكون يرجعون للمنافقين. والظاهر من السياق، أن هذا الوعيد للمنافقين، كما في "الشوكاني". {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}؛ أي: يخبر الخلائق بما عملوا في الدنيا، فلا يعاقبهم ولا يثيبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا وبيانه، أو يخبر المنافقيق بما عملوا في الدنيا، من الأعمال السيئة، التي من جملتها مخالفة الأمر؛ أي (¬2): يظهر لهم على رؤوس الأشهاد، ويعلمهم أي شيء شنيع عملوا في الدنيا، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء، وعبر عن إظهاره بالتنبئة، لما بينهما من الملابسة، في أنهما سببان للعلم، تنبيهًا على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه، غافلين عن سوء عاقبته، لغلبة أحكام الكثرة الخلقية الإمكانية، وآثار الأمزجة الطبيعية الحيوانية نشأتهم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإن كان المنافقون يجتهدون في ستر أعمالهم عن العيون، وإخفائها. ومعنى الآية (¬3): في أنه تعالى مالك السماوات والأرض، وأنه عالم بما يعمل العباد، كما قال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}. وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ثم هدد وتوعد، فقال: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}؛ أي: ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

حين العرض والحساب، فيخبرهم بما فعلوا في الدنيا، من جليل وحقير وكبير وصغير، كما قال: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. ثم ذكر ما هو، كالدليل على ما سلف بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ أي: إنه سينبئهم بما عملوا في حياتهم الأولى؛ لأنه ذو علم بكل شيء، وإحاطة به، وهو موف كل عامل أمر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذ لا حَكَم يومئذٍ إلا هو. قال بعضهم: كل ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك، فعلى العاقل أن يقطع حبل العلاقات ويتصل بخالق البريات، ويتفكر في أمره، ويحاسب نفسه، قبل أن يجيء يوم الجزاء والمكافآت، فإن عقب هذه الحياة ممات، وهذا البقاء ليس على الدوام والثبات، وفي الأثر: ما قال الناس: "لقوم طوبى لكم إلا وقد خبأ لهم الدهر يوم سوء" قال الشاعر: إِنَّ اللَّيَالِيَ لَمْ تُحْسِنْ إلَى أَحَدٍ ... إِلَّا أَسَاءَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ إِحْسَانِ وقال الآخر: أحْسَنتَ ظَنَكَ بِالأيَّامِ إذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخفْ شَرَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وقال آخر: لَا صِحَّةُ الْمَرْءِ فِيْ الدُّنْيَا تُؤَخِّرُهُ ... وَلاَ يُقَدِّمُ يَوْمَا مَوْتَهُ الْوَجَعُ الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}. {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة في محل النصب، مبني على الضم. {ها}: حرف تنبيه. {الَّذِين}: صفة لأي. {آمَنُوا} صلة الموصول وجملة النداء مستأنفة، مسوقة لبيان حكم الاستئذان. {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ}: اللام: لام

الأمر. {يستأذنكم}: فعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر. {الَّذِينَ}: فاعل. والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ملكتهم أيمانكم. {وَالَّذِينَ}: معطوف عليه الموصول الأول. {لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَبْلُغُوا}. {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}: منصوب على الظرفية الزمانية، أو على المفعولية المطلقة، فإن قدرت بمعنى: ثلاثة أوقات، فهي ظرف، وإن قدرت بمعنى: ثلاث استئذانات، فهي مفعول مطلق. {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه في محل النصب، بدل من ثلاث مرات. {وَحِينَ} معطوف على محل {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} وهو مضاف. {تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {حين}. {مِنَ الظَّهِيرَةِ}: حال من حين؛ أي: حال كون ذلك الوقت من الظهيرة. أو متعلق بـ {تَضَعُونَ}. ومن بمعنى في. {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، في محل النصب، معطوف على ما قبله، على كونه بدلًا من ثلاث مرات. {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات. {لَكُمْ}: جار ومجرور، صفة لـ {ثَلَاثُ}؛ أي: كائنات لكم. وبالنصب، بدل من محل ما قبله. والجملة مستأنفة. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ}: خبر {لَيْسَ} مقدم. {وَلَا عَلَيْهِمْ}: معطوف على {عَلَيْكُمْ}. {جُنَاحٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر. {بَعْدَهُنَّ}: ظرف ومضاف إليه صفة لـ {جُنَاحٌ}. وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع، صفة لـ {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ}؛ أي: هن ثلاث عورات، موصوفة بعدم جناح بعدهن عليكم ولا عليهم. {طَوَّافُونَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم طوافون {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {طَوَّافُونَ}. والجملة مستأنفة. {بَعْضُكُمْ}: مبتدأ. {عَلَى بَعْضٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، أي: بعضكم طائف على بعض. والجملة بدل تفصيل لما قبلها. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل

وفاعل. {لَكُمُ}: متعلق به. {الْآيَاتِ}: مفعول به. والجملة مستأنفة، والتقدير: ويبين الله لكم الآيات، تبيينًا كائنًا، مثل تبيين هذه الآية. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. {بَلَغَ الْأَطْفَالُ}: فعل وفاعل. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. {مِنْكُمُ}: حال من {الْأَطْفَالُ}. {الْحُلُمَ}: مفعول به. {فَلْيَسْتَأْذِنُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. و (اللام): لام الأمر. {يستأذنوا}: فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر. والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} مستأنفة، مسوقة لتقرير حكم {الْأَطْفَالُ}. {كَمَا}: الكاف حرف جر. {ما}: مصدرية. {اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. والجملة الفعلية صلة {ما}: المصدرية. {ما}: مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بالكاف، تقديره: كاستئذان الذين قبلهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: فليستأذنوا استئذانًا كائنًا كاستئذان الذين من قبلهم. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق به. {آيَاتِهِ}: مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: جملة اسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}. {وَالْقَوَاعِدُ}: {الواو}: استئنافية. {القواعد}: مبتدأ. {مِنَ النِّسَاءِ}: حال من القواعد. {اللَّاتِي}: صفة لـ {القواعد}، لا للنساء. {لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {فَلَيْسَ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط العموم؛ لأن الألف واللام في القواعد، موصولة

بمعنى واللاتي قعدن. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَيْهِنَّ}: خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {جُنَاحٌ}: اسمها مؤخر. وجملة {لَيْسَ} في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَضَعْنَ}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَن} المصدرية مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث. {ثِيَابَهُنَّ}: مفعول به. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ}: حال من فاعل {يَضَعْنَ}. {بِزِينَةٍ}: متعلق بـ {مُتَبَرِّجَاتٍ}. وجملة يضعن مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فليس عليهن جناح في وضعهن ثيابهن. الجار والمجرور متعلق بجناح، أو صفة له. {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ}: {الواو}: عاطفة. {أن}: حرف نصب ومصدر. {يَسْتَعْفِفْنَ}: فعل مضارع وفاعل في محل النصب، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة. والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. {خَيْرٌ}: خبره. {لَهُنَّ}: متعلق بخير. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: والقواعد. فهو نظير قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: مبتدأ وخبر. {عَلِيمٌ}: خبر ثان. والجملة مستأنفة. {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَى الْأَعْمَى}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {حَرَجٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر. وجملة {لَيْسَ} مستأنفة. {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ} {الواو}: عاطفة. {لَا}: زائدة. زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. {عَلَى الْأَعْرَجِ} معطوف على الأعمى. {حَرَجٌ}: معطوف على {حَرَجٌ}. وكذلك قوله: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ}: معطوف على قوله: {عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}. {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور، خبر مقدم لمبتدأ مؤخر، محذوف معلوم من السياق، تقديره: ولا على أنفسكم حرج، والجملة مستأنفة. {أَنْ تَأْكُلُوا}: فعل وفاعل

منصوب بـ {أَن}. {مِنْ بُيُوتِكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في أكلكم من بيوتكم، والجار المحذوف، متعلق بالمبتدأ المحذوف، والتقدير: ولا على أنفسكم حرج في أكلكم من بيوتكم. وقوله: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} معطوفات على {بُيُوتِكُمْ} ومضافة إلى ما بعدها، على كونها مجرورة بـ {من}. {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. {أَوْ}: حرف عطف. {ما}: اسم موصول، في محل الجر معطوف على {بُيُوتِكُمْ}. {مَلَكْتُمْ}: فعل وفاعل. {مَفَاتِحَهُ}: مفعول به. والجملة صلة {ما} الموصولة. والعائد ضمير مفاتحه. {أَوْ صَدِيقِكُمْ}: معطوف على {بُيُوتِكُمْ} أيضًا. ولكنه على حذف مضاف، تقديره: أو بيت صديقكم. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ}: خبر {لَيْسَ} مقدم. {جُنَاحٌ}: اسمها مؤخر. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حكم آخر، من جنس ما بين قبله، حيث كان فريق من المؤمنين كبني ليث بن عمرو، يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، كما في "الجمل". {أَنْ تَأْكُلُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {تَأْكُلُوا}. {أَوْ أَشْتَاتًا}: معطوف عليه؛ أي: حالة كونكم مجتمعين، أو متفرقين. والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في أكلكم مجتمعين أو متفرقين، الجار والمجرور متعلق بـ {جُنَاحٌ}. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ}: {الفاء} استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. {دَخَلْتُمْ بُيُوتًا}: فعل وفاعل ومفعول على السعة. والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها. والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَسَلِّمُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {سلموا}: فعل

وفاعل. {عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: متعلق به، والجملة جواب {إذا}: لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} مستأنفة. {تَحِيَّةً} مفعول مطلق معنوي لـ {سلموا} منصوب به على حد قعدت جلوسًا. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة أولى لتحية. {مُبَارَكَةً}: صفة ثانية لها. {طَيِّبَةً}: صفة ثالثة لها. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {يُبَيِّنُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَكُمُ}: متعلق به. {الْآيَاتِ}: مفعول به. والجملة مستأنفة. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {تَعْقِلُونَ}: خبره. وجملة {لعل}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْمُؤْمِنُونَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر {كان}. {عَلَى أَمْرٍ}: متعلق بـ {كان} {جَامِعٍ}: صفة أمر. {لَمْ يَذْهَبُوا}: جازم وفعل وفاعل. والجملة جواب {إذا}. وجملة {إذا} معطوفة على جملة {آمَنُوا} على كونها صلة الموصول. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَسْتَأْذِنُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد حتى الجارة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} الجار والمجرور متعلق بـ {يَذْهَبُوا}؛ أي: لم يذهبوا إلى استئذانهم الرسول. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يَسْتَأْذِنُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إنَّ} مستأنفة. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِاللَّهِ}: متعلق به. {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. {فَإِذَا}: {الفاء}: فاء

الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المستأذنين هم الكاملون في الإيمان, وأردت بيان حكم ما إذا استأذنوك .. فأقول لك: {إذا استأذنوك}: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط. {اسْتَأْذَنُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها. {فَأْذَنْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}. {إئذن}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. {لمن}: جار ومجرور متعلق به. والجملة الفعلية جواب {إذا}. وجملة {إذا} في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {شِئْتَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: لمن شئته. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. {وَاسْتَغْفِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على {إئذن}. {لَهُمُ}: متعلق باستغفر {اللَّهَ} مفعول به. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ}: خبر أول له. {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها. وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. {لَا}: ناهية جازمة. {تَجْعَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية. والجملة مستأنفة. {دُعَاءَ الرَّسُولِ}: مفعول أول. {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه حال من الرسول. {كَدُعَاءِ}: الكاف اسم بمعنى مثل في محل النصب، مفعول ثان لـ {جعل}. الكاف مضاف. {دعاء}: مضاف إليه. {دعاء}: مضاف {بَعْضِكُمْ}: مضاف إليه. {بَعْضًا}: مفعول به لـ {دعاء}. {قَدْ}: حرف بمعنى: ربما مفيدة للتكثير. {يَعْلَمُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {يَتَسَلَّلُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْكُمْ}: متعلق بـ {يَتَسَلَّلُونَ}. {لِوَاذًا}: منصوب على المفعولية المطلقة المعنوية؛ لأنه بمعنى {يَتَسَلَّلُونَ} تسللًا، أو يلاوذون لواذًا، ويجوز نصبه على الحال بمعنى ملاوذين.

{فَلْيَحْذَرِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت علم الله المتسللين، وأردتم بيان ما هو الأحوط لكم .. فأقول لكم ليحذروا. و (اللام): لام الأمر. {يحذر}: مجزوم بلام الأمر. {الَّذِينَ}: فاعل. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {يُخَالِفُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول عن زائدة {أَمْرِهِ}: مفعول به. {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}. {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}: ناصب وفعل ومفعول به وفاعل. والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يحذر}. والتقدير: فليحذر الذين يخالفون أمره إصابة فتنة إياهم. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: فعل ومفعول وفاعل وصفة معطوفة على جملة {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}، أو إصابة عذاب أليم إياهم. {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه. {إِنَّ}: حرف نصب. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {ما}: اسم موصول في محل النصب اسم إن مؤخر. وجملة إن مستأنفة. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {ما} الموصولة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السماوات. {قَدْ}: حرف تكثير بمعنى رب التكثيرية. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {عَلَيْهِ}: خبره. والجملة الاسمية صلة {ما} الموصولة. وجملة {يَعْلَمُ}: حال لازمة للجلالة. {وَيَوْمَ}: معطوف على مفعول يعلم. {يُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل. {إِلَيْهِ}: متعلق به. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}. {فَيُنَبِّئُهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {ينبئهم}: فعل ومفعول أول وفاعل مستتر يعود على الله. {بِمَا}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {ينبئهم}. وجملة {عَمِلُوا} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما عملوه. وجملة {ينبئهم} في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {قَدْ يَعْلَمُ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

التصريف ومفردات اللغة {لِيَسْتَأْذِنْكُم}: استأذن من باب استفعل. فالسين والتاء فيه للطلب، فهو على بابه؛ لأن الاستئذان، طلب الإذن. والإذن في الشيء: إعلام بإجازته، والرخصة فيه، كما مر. {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} يشمل العبيد والإماء. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}؛ أي: وقت البلوغ، إما بالاحتلام، وإما ببلوغ خمس عشرة سنة من حلم بفتح اللام. قال في "القاموس": الحلم بالضم، والاحتلام الجماع في النوم. والاسم الحلم كعنق. انتهى. وفي "المفردات" ليس الحلم في الحقيقة هو العقل، لكن فسروه بذلك، في نحو قوله: أولو الأحلام لكونه من مسببات العقل. ويسمى البلوغ بالحلم، لكونه جديرًا صاحبه بالحلم اهـ. {تَضَعُونَ} تخلعون. {الظَّهِيرَةِ}: وقت اشتداد الحر حين انتصاف النهار. قال في "القاموس": الظهيرة حد انتصاف النهار. وإنما ذلك في القيظ. {عَوْرَاتٍ} جمع عورة. من أعور الفارس، إذا اختلت حاله. والعورة في الأصل الخلل. ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه، ويتعين ستره. {طَوَّافُونَ}: صيغة مبالغة من الطواف. والطواف: الدوران حول الشيء. ومنه الطائف لمن يدور حول البيت حافًّا. ومنه استعير الطائف من الجن، والخيال والحادثة وغيرها. {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}؛ أي: أوان البلوغ، كرره للتأكيد كما مر. واعلم (¬1): أن بلوغ الصغير بالإحبال والإنزال والاحتلام. وبلوغ الصغيرة بهما وبالحيض والحبل. فإن لم يوجد فيهما شيء من العلامات المذكورة فيبلغان حين تم لهما خمس عشرة سنة. كما هو المشهور. وبه يفتى لقصر أعمار أهل زماننا. قال بعض الصحابة: كان الرجل فيمن قبلكم لا يحتلم حتى يأتي عليه ثمانون سنة. قال وهب: إن أصغر من مات من ولد آدم ولد مائتي سنة. وأدنى مدة ¬

_ (¬1) روح البيان.

البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة، وللجارية تسع سنوات. {وَالْقَوَاعِدُ}: جمع قاعد بلا هاء، لاختصاصها بالمرأة. قال في "القاموس": القاعد التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج. وفي "المصباح" وقعدت المرأة عن الحيض، أسنت وانقطع حيضها، فهي قاعد بغير تاء. والجمع قواعد. وقعدت عن الزوج فهي لا تشتهيه، ولولا تخصيصهن بذلك، لوجبت التاء، نحو ضاربة وقاعدة من القعود، بمعنى الجلوس. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}؛ أي: مظهرات للزينة. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها. والبرج: محركة سعة العين، يرى بياضها محيطًا بسوادها كله، لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال، بإبداء زينتها، وإظهار محاسنها للرجال. فالبرج يعطي معنى الاتساع، يقال: برج يبرج برجًا من باب تعب، اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما. وبرجت عيناه اتسعت، بحيث يرى بياضها محدّقًا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر، وكل بناء مرتفع على شكل مستدير، أو مربع. ويكون منفردًا، أو قسمًا من بناية عظيمةٍ. وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة. والبرج أيضًا أحد بروج السماء، وهي اثنا عشر. كما مر. والبارجة: سفينة كبيرة للقتال، وتجمع على بوارج، ومن أمثالهم ما فلان إلا بارجة، قد جمع فيه كل الشر؛ أي: إنه شرير. {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ}: استفعال من العفة، وهي حصول حالة للنفس، تمتنع بها عن غلبة الشهوة {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} والحرج لغة الضيق، ويراد به في الدين الإثم، (الأعمى) مفتقد البصر. {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ} من العروج، وهو ذهاب في صعود. وعرج مشى مشي العارج؛ أي: الذاهب في صعود. يقال: عرج يعرج من باب دخل، إذا أصابه شيء في رجله، فمشى مشية العرجان. وعرج كطرب إذا صار ذلك خلقة له. {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ} صفة من المرض. والمرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان. {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} والأكل تناول المطعم أكلًا، أو

شربًا. والبيوت جمع بيت. والبيت في الأصل مأوى الإنسان بالليل. وقد يقال: من غير اعتبار الليل فيه. لكن البيوت بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر. {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} جمع مفتح. والمفاتيح جمع مفتاح. كلاهما آلة الفتح. والفتح: إزالة الإغلاق والإشكال. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} من الصداقة. والصداقة صدق الاعتقاد في المودة. وذلك مختص بالإنسان. دون غيره. والصديق من صدقك في مودته. قال أبو عثمان: الصديق من لا يخالف باطنه باطنك، كما لا يخالف ظاهره ظاهرك إذ ذاك يكون الانبساط إليه مباحًا في كل شيء من أمور الدين والدنيا. ونعم ما قيل: صديقك من صدقك، لا من صدَّقك. ويطلق على الواحد والجمع. وكذلك الخليط والقطين والعدو. {أَوْ أَشْتَاتًا} جمع شت بمعنى تفرق. وفي "المختار" أمر شت بالفتح؛ أي: متفرق. يقال: شت الأمر يشت بالكسر من باب ضرب شتًا وشتاتًا، بفتح الشين فيهما؛ أي: تفرق {أَمْرٍ جَامِعٍ}؛ أي: خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب، والآراء، كقتال عدو أو تشاور في حادث قد عرض. {يَتَسَلَّلُونَ} ينسلون واحدًا بعد واحد، أو قليلًا قليلًا. وفي "أبي السعود" التسلل: الخروج من البين على التدريج والخفية اهـ. يقال: تسلل الرجل؛ أي: انسرق من الناس وفارقهم، بحيث لا يعلمون. {لِوَاذًا}: واللِّواذ والملاوذة التستر. يقال: لاذ فلان بكذا، إذا استتر به. واللواذ مصدر لاوذ، وإنما صحت الواو فيه، وإن انكسر ما قبلها ولم تقلب ياء، كما قلبت في قيام وصيام؛ لأنها صحت في الفعل، نحو لاوذ، فلو أعلت في الفعل لأعلت في المصدر. نحو القيام والصيام لقلبها ألفًا في قام وصام. وأما مصدر لاذ بكذا يلوذ به، فمعتل نحو لاذ به يلوذ لياذًا، مثل صام صيامًا وقام قيامًا. واللواذ والملاوذة: التستر في خفية. {يُخَالِفُونَ}: يقال: خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه، وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه. والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو فعله.

{فِتْنَةٌ}؛ أي: بلاء وامتحان في الدنيا. وقال أبو بكر بن طاهر: الفتنة مأخوذ بها والبلاء معفو عنه ومثاب عليه. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: عذاب مؤلم موجع في الآخرة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} إلخ. ومنها: الإجمال بعد التفصيل في {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ}. ومنها: تسمية الشيء باسم ما يقع فيه، مبالغة في كونه محلًا له في قوله: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} حيث سمى الأوقات المذكورة عورات، مع أنها ليست نفس العورات، بل هي أوقات العورات. ومنها: الإيضاح في قوله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية. وهو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه. وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أربعة أسئلة: أولها: ما الفائدة في الإخبار برفع الجناح، عمن أكل من بيته، وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحًا؟ فالجواب عنه أن يقال: فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته التوطئة، ليبنى عليه ما يعطفه على جملته من البيوت، التي قصد إباحة الأكل منها. فإنه إذا علم، أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته، فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت، ليشير إلى أن أموال هذه القرابة، كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال، سرى ذلك التساوي إلى الأزواج، فيكون سبحانه، قد أدمج في ذلك الحض، على صلة الأرحام، ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه. وثانيها: لم لم يذكر بيوت الأولاد، كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟ فالجواب عنه: أن يقال: إن أموال الأولاد كمال نفسه، فتصرف الوالدين

فيها، كتصرفهم في أموالهم أنفسهم, لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وثالثها: ما فائدة قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} وظاهر الحال، أن هذا داخل في قوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ}؟ قلنا: يحتمل أن يراد بما في البيوت، المال التليد العتيد، وما ملك الإنسان مفاتحه، المال الطريف المكتسب، الذي يتسبب الإنسان في تحصيله، ويتعب في اكتسابه. ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق، وبين هؤلاء الأقارب؟ قلنا: سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب، تعريف حق الصديق، الذي ساوى باطنه ظاهره في إخلاص المودة. ولا يكون صديقًا حتى يكون كذلك. وقد اشتملت هذه الآية، على تسعة أضرب من فنون البديع: 1 - صحة التقسيم، وذلك لاستيعاب الكلام، جميع أقسام الأقارب القريبة، بحيث لم يغادر منها شيئًا. 2 - التهذيب، وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة، تقديم الأقرب فالأقرب. كما جاء فيها. 3 - حسن النسق، وذلك في اختياره. {أَوْ}: لعطف الجمل، وهي تدل على الإباحة. 4 - الكناية، فقد كنى سبحانه عن الأموال، بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها، من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب، وجرى النهر. 5 - المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها بعضًا في الزنة، وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم. 6 - المثل: وذلك في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} خرج مخرج المثل السائر، الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة، تشبه واقعته.

7 - التذييل، فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلًا لمعنى الكلام المتقدم، لقصد توكيده وتقريره. 8 - المطابقة: وذلك في قوله: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادًا، أوجب لهما وصفهما بالمطابقة؛ لأن المعنى جميعًا أو متفرقًا. 9 - المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما: اقتران التمثيل بالتذييل، كما تقدم بيانه. والثاني: اقتران المطابقة بالتمكين، فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين. ومنها: الطباق بين {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}؛ لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين. ومنها: الإطناب، بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}؛ لأن الأمر لما كان سببًا في جمعهم، نسب الجمع إليه مجازًا اهـ. "سمين". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - عقوبة الزاني والزانية. 2 - عقوبة قاذف المحصنات الغافلات المؤمنات. 3 - حكم قذف الزوجات. 4 - قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة. 5 - آداب الزيارة. 6 - أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج. 7 - نهي النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ. 8 - أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء، فالمجتمع الإِسلامي كأنه أسرة واحدة. 9 - أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح، لعدم وجود المال، أو سواه، بالعفة حتى يغنيه الله تعالى. 10 - بيان أن الأعمال الصالحة، التي يعملها الكافرون في الدنيا، لا تجدي عنهم نفعًا يوم القيامة، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. 11 - الأدلة التي نصبها الله في الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته. 12 - المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. 13 - وصف المؤمنين الصادقين. 14 - وعد الله عباده المؤمنين، بأنه يستخلفنهم في الأرض، وينشر دينهم الذي ارتضى لهم. 15 - استئذان الموالي والأطفال في أوقات ثلاث، إذا أرادوا الدخول على أهليهم.

16 - رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في الجهاد. 17 - لا حرج في الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ. بلا إذن. 18 - نهي المؤمنين عن الانصراف، من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كانوا معه في أمر جامع. 19 - إباحة إذنه لهم إن شاء، حين الطلب. 20 - بيان أن مجلس الرسول مبجل موقر، وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) انتهينا من تفسير سورة النور، في اليوم التاسع والعشرين، من شهر الله المحرم في تاريخ: 29/ 1/ 1413 هـ. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة الفرقان

سورة الفرقان سورة الفرقان: مكية كلها، عند الجمهور. كذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير. قال القرطبي: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها، نزلت بالمدينة. وهى قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وهى سبع وسبعون آية (¬1)، وثمان مئة واثنتان وسبعون كلمة، وثلاث آلاف وسبع مئة وثلاثة وستون حرفًا. الناسخ والمنسوخ: وجملة ما فيها من المنسوخ آيتان (¬2): أولاهما: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} نسخها بقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}. والآية الثانية، قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} منسوخة في حق الكفار, بآية السيف, وبعض معناها محكم في حق المؤمنين. علة التسمية: سميت (¬3) بسورة الفرقان؛ لأن بها الفرق بين الحق والباطل، لاشتمالها على أحكام التوحيد وأدلته، ومكارم الأخلاق وأحوال العباد. فضلها: أخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في "سننه" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الناسخ والمنسوخ لابن حزم. (¬3) الصاوي.

سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: كذبت، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأته، فانطلقت أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرسله أقرئنا هشام". فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك أنزلت". ثم قال: "أقرئنا عمر". فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه". وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من قرأ سورة الفرقان، لقي الله، وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب" ولكن هذا الحديث موضوع. المناسبة: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (¬2)، أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول، وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم، توقف انفصال واحد منهم على إذنه، وحذر من يخالف أمره، وذكر أن له ملك السماوات والأرض، وأنه تعالى عالم بما هم عليه، ومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار. ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى، منزه في صفاته عن النقائص، كثير الخير. ومن خيره أنه نزل الفرقان على رسوله منذرًا لهم، فكان في ذلك إطماع في خيره، وتحذير من عقابه. وفي "المراغي": مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه (¬3): 1 - أنه سبحانه اختتم السورة السابقة، بكونه مالكًا لما في السماوات والأرض، مصرفًا له على ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمصلحة العامة مع النظام البديع، والوضع الأنيق وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرًا كان أو شرًا. وافتتح هذه بما يدل على تعاليه في ذاته وصفاته، وأفعاله، وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديًا، وسراجًا، منيرًا. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

2 - اختتم السورة السالفة، بوجوب متابعة المؤمنين للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع مدحهم على ذلك، وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة، والعذاب الأليم، وافتتح هذه بمدح الرسول، وإنزال الكتاب عليه، لإرشادهم إلى سبيل الرشاد وذم الجاحدين لنبوته، بقولهم: إنه رجل مسحور، وإنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق إلى آخر ما قالوا. 3 - في كل من السورتين وصف السحاب، وإنزال الأمطار، وإحياء الأرض الجزر. فقال في السالفة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} إلخ. وقال في هذه: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} إلخ. 4 - ذكر في كل منهما، وصف أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها لا تجزيهم فتيلًا ولا قطميرًا، فقال في الأولى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلخ. وقال في هذه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}. 5 - وصف النشأة الأولى للإنسان في أثنائهما. فقال في الأولى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}. وفي الثانية: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي

الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}. حوت هذه السورة توحيد الله، وإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والرد على من أنكروا نبوته - صلى الله عليه وسلم -. ثم بيان أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من الأهوال. ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين، الذين يمشون على الأرض هونًا. ثم ذكر جلال الله، وتصرفه في خلقه، وتفرده بالخلق والتقدير. المناسبة قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه، لما وصف نفسه بصفات العزة والجلال، وبين وجه الحق في ذلك، أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان، الذين اتخذوا من دونه آلهة تعجيبًا لأولي النهى من حالهم، وتنبيهًا إلى خطأ أفعالهم، وتسفيهًا لأحلامهم. فقد انحرفوا عن منهج الحق، وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آمن الرأي مسلوب العقل. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما تكلم أولًا في التوحيد، ثم في الرد على عبدة الأوثان، أردف ذلك بالرد على الطاعنين في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قسموا مطاعنهم قسمين، مطاعن في القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن. قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما حكى شبهتهم فيما يتعلق بالمنزل، وهو القرآن، ساق شبهتهم في المنزل عليه، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره. ثم فند تلك الشبه، وبين سخفها، وأنها لا تصلح مطعنًا في النبي. ثم حكى عنهم نوعًا ثالثًا من أباطيلهم، وهو تكذيبهم بيوم القيامة. ثم وصف ما أعد للكافرين فيه، مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى، يسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، ¬

_ (¬1) المراغي.

ووضعهم فيها مقرنين في الأصفاد، ونداؤهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه. ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم، بوصف ما يلقاه المتقون في جنات النعيم. مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر ما أعد لأولئك المكذبين بيوم القيامة، من الشدائد والأهوال في النار، ودعائهم على أنفسهم، بالويل والثبور .. أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله، وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم. ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفعًا عن أنفسهم، ولا يجدون من يستنصروه به. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه، لما ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} زاعمين أن هذا مما لا ينبغي للرسول أن يفعل مثله، أردف ذلك بالاحتجاج عليهم، بأن محمدًا ليس بدعًا في الرسل، فكلهم كانوا يفعلون فعله. وفي هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتصبير له على أذاهم. ثم بين أن سنته، أن يبتلي بعض الناس ببعض، فيبتلي الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، فيناصبوهم العداء، ويؤذوهم ليعلم أيهم يصبر، وأيهم يجزع، وهو البصير بحال الصابرين، وحال الجازعين. أسباب النزول قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬2) ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير وابن أبي حاتم عن خثيمة قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئًا في الآخرة، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

قال: بل اجمعهما لي في الآخرة فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الواحدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما عير المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاقة، وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ...} الآية. وأخرج ابن جرير نحوه من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس. التفسير وأوجه القراءة 1 - {تَبَارَكَ}؛ أي: تزايد وتكاثر خير الإله وإحسانه، الذي من أجله وأعظمه إرسال الرسول، وإنزال القرآن. {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ}؛ أي: أنزل القرآن إنزالًا متكررًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {لِيَكُونَ} ذلك العبد أو إنزال القرآن. {لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: للمكلفين من الثقلين. {نَذِيرًا}؛ أي: مخوفًا من عذاب الله تعالى. أو المعنى (¬1): تعالى الله الذي نزل القرآن على عبده الأخلص، ونبيه الأخص، وحبيبه الأعلى، وصفيه الأولى محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ذاته وصفاته وأفعاله. فتعالت ذاته من جواز التغير والفناء، وعن مشابهة شيء من الممكنات. وتعالت صفاته عن الحدوث، وأفعاله عن العبث. ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن، المنطوي علي جميع الخيرات الدينية والدنيوية. وفي الإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، في أقصى مراتب العبودية، وتشريف له بالعبدية المطلقة، وتفضيل له بها على جميع الأنبياء، فإنه تعالى لم يسم أحدًا منهم بالعبد مطلقًا، كقوله تعالى: {عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} وتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدًا للمرسل، ردًا على النصارى. ولذا قدم في التشهد عبده على رسوله. ¬

_ (¬1) المراح وروح البيان.

وقال الشوكاني: تكلم (¬1) سبحانه في هذه السورة على التوحيد؛ لأنه أقدم وأهم. ثم في النبوة؛ لأنها الواسطة، ثم في المعاد؛ لأنه الخاتمة. وأصل تبارك: مأخوذ من البركة، وهي النماء، حسيةً كانت أو معنوية. قال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير. وقال الفراء: إنَّ تبارك وتقدس في العربية واحد. ومعناهما العظمة. وقيل: المعنى: تبارك عطاؤه؛ أي: زاد وكثر. وقيل: المعنى؛ أي: دام وثبت. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، وخص في هذا الموضع بالذكر, لأن ما بعده أمر عظيم، وهو القرآن المشتمل على معاني جميع كتب الله تعالى. والفرقان القرآن، سمي فرقانًا, لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه، أو بين المحق والمبطل؛ أي: بين المؤمن والكافر، أو لأنه نزل مفرقًا في أوقات كثيرة. ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق. ثم علل التنزيل بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}؛ أي: ليكون (¬2) العبد منذرًا بالقرآن للإنس والجن ممن عاصره، أو جاء بعده مخوفًا لهم من عذاب الله، وموجبات سخطه. والمراد بعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - كما مر. وبالعالمين هنا الإنس والجن. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل إليهما فقط. فإن الملائكة، وإن كانوا من جملة أجناس العالم، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسولًا إليهم، فلم يبق من العالمين المكلفين إلا الجن والإنس، فهو رسول إليهما جميعًا، فتكون الآية وقوله عليه السلام: "أرسلت للخلق كافة" من العام المخصوص. ولم يبعث نبي غيره - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى قوم معينين. وأما نوح عليه السلام، فإنه وإن كان له عموم بعثة، لكن رسالته ليست بعامة لمن بعده. وأما سليمان عليه السلام، فإن كونه مبعوثًا إلى الجن وما كان له من التسخير العام .. لا يستلزم عموم الدعوة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

والآية حجة لأبي حنيفة - رحمه الله - في قوله: ليس للجن ثواب إذا أطاعوه سوى النجاة من العذاب، ولهم عقاب إذا عصوا حيث اكتفى بقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ولم يذكر البشارة. قال في "الإرشاد" عدم التعرض للتبشير لانسياق الكلام على أحوال الكفرة. وفي "المراغي": وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير، مع أن الرسول مرسل بهما، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين، المتخذين لله ولدًا، والطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر. والنذير المنذر؛ أي: ليكون محمدًا منذرًا، أو ليكون إنزال القرآن منذرًا. ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة؛ أي: ليكون إنزاله إنذارًا، أو ليكون محمد إنذارًا. وجعل الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى؛ لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز. والحمل على الحقيقة أولى. ولكونه أقرب مذكور. وقيل: إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى، لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. وقرأ الجمهور (¬1): {عَلَى عَبْدِهِ} بالإفراد، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ ابن الزبير {عَلَى عِبَادِهِ}؛ أي: الرسول وأمته، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} وقال: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وقرأ ابن الزبير: {للعالمين الجن والإنس} وهو تفسير للعالمين. وخلاصة ذلك (¬2): تعالى الله عما سواه، في ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلو شأنه، وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم، والمصالح على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - لينذر به الناس، ويخوفهم بأسه ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم. ونحو الآية قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ}. فائدة: لفظة تبارك (¬3) كلمة لا تستعمل إلا لله تعالى بلفظ الماضي، وذكرت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) فتح الرحمن.

[2]

في هذه السورة في ثلاثة مواضع تعظيمًا لله تعالى: الأول: عند ذكر الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. والثاني: عند ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ}. والثالث: عند ذكر البروج: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}. ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وخصت مواضعها بذكرها لعظم ما بعدها: الأول: ذكر الفرقان، وهو القرآن المشتمل على معاني كتب الله تعالى. والثاني: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومخاطبة الله تعالى له فيه. وفي الأثر: "لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات" وفي "كشف الخفاء": "لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك". قال الصغاني: هذا حديث موضوع. وكذلك قال "الشوكاني". قال العجلوني بعد ذكره الأثر. وأقول: لكن معناه صحيح، وإن لم يكن حديثًا. والثالث: ذكر البروج والشمس والقمر والليل والنهار، ولولاها لما وجد في الأرض حيوان ولا نبات. 2 - ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات، من صفات الكبرياء: الأولى: ذكرها بقوله: {الَّذِي} بدل من الموصول الأول، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الذي {لَهُ} خاصة دون غيره استقلالًا أو اشتراكًا {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الملك التصرف بالأمر والنهي في الجمهور؛ أي: له السلطان القاهر عليهما، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادًا وإعدامًا، وأمرًا ونهيًا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح. والصفة الثانية: ذكرها بقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}؛ أي: لم ينزل أحدًا منزلة ولد، فهو عطف على الصلة. وهذا رد على اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب؛ أي: ولم يكن له ولد ليرث ملكه؛ لأنه حي لا يموت، كما زعم الذين

قالوا: ذلك للمسيح وعزير، والملائكة. كما حكى الله سبحانه عنهم، في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وقوله: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)}. والصفة الثالثة: ذكرها بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} سبحانه {شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}؛ أي: في ملك السماوات والأرض، لينازعه أو ليعاونه في الإيجاد. فهو تأكيد لقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية، وأهل الشرك الخفي؛ أي: وما كان لله سبحانه شريك في ملكه وسلطانه، يصلح أن يعبد من دونه، فأفردوا له العبادة، وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس. وفيه أيضًا رد على المشركين العرب، القائلين في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو ملك. والصفة الرابعة: ذكرها بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} من الموجودات؛ أي: أحدث (¬1) وأوجد كل موجودات، من مواد مخصوصة على صور معينة، ورتب فيه قوى وخواص مختلفة الأحكام والآثار {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}؛ أي: فهيأه لما أراده منه، من الخصائص والأفعال اللائقة به، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة. وهكذا أحوال سائر الأنواع. والمعنى: أي (¬2) وأوجد كل شيء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة، وهيأه لما أراد به من الخصائص، والأفعال التي تليق به، فأعد الإنسان للإدراك والفهم والتدبر، في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصناعات المختلفة، والانتفاع بما في ظاهر الأرض وباطنها. وأعد صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها ولإدراكها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[3]

والخلاصة: أن كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه، ومليكه وإلهه. وكل شيء تحت قهره وتسخيره وتقديره. ومن كان كذلك، فكيف يخطر بالبال، أو يدور في الخلد كونه سبحانه والدًا له، أو شريكًا له في ملكه، كما قال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ...} الآية. وفي "فتح الرحمن" إن قلت: الخلق (¬1) هو التقدير. ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} فكيف جمع بينهما؟ قلت: الخلق من الله هو إيجاد، فصح الجمع بينه وبين التقدير .. ولو سلم أنه التقدير، لساغ الجمع بينهما لاختلافهما لفظًا. كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} انتهى. 3 - ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان. فقال: {وَاتَّخَذُوا}؛ أي: واتخذ المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه؛ أي: واتخذوا لأنفسهم وجعلوا لها {مِنْ دُونِهِ} تعالى {آلِهَةً}؛ أي: معبودات يعبدونها من دونه تعالى؛ أي: جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله آلهة. {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا}؛ أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء أصلًا. والجملة في محل نصب صفة لآلهة، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح. {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}؛ أي: والحال أنهم مخلوقون لله سبحانه وتعالى، فكيف تُتخذ آلهة؟ وقيل: عبر عن الآلهة بضمير العقلاء، جريًا على اعتقاد الكفار، أنها تضر وتنفع. وقيل معنى: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أن عبدتهم يصورونهم. وقال (¬2) هنا: {مِنْ دُونِهِ} بالضمير، وفي مريم ويس {مِنْ دُونِ اللَّهِ} بلفظ الجلالة. حيث قال في مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)} وفي يس: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} موافقة لما قبله في المواضع الثلاثة. ثم لما وصف الله سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة .. وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ. فقال: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ}؛ أي: لا يستطيعون {ضَرًّا}؛ ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) فتح الرحمن.

أي: دفع ضر عنها، قُدِّم لكونه أهم من النفع. {وَلَا نَفْعًا}؛ أي: ولا جلب نفع لها، فكيف يملكون شيئًا منهما لغيرهم؟ فهم أعجز من الحيوان، فإنه ربما يملك دفع الضر، وجلب النفع لنفسه في الجملة. وفي "فتح الرحمن": قدم (¬1) الضر على النفع لمناسبة ما بعده، من تقديم الموت على الحياة. انتهى. ثم زاد في بيان عجزهم، فنصَّصَ على هذه الأمور. فقال: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}؛ أي: لا يقدرون على إماتة الأحياء. وإحيائهم أولًا وبعثهم ثانيًا. ومن كان كذلك، فبمعزل عن الألوهية، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها. وفيه (¬2) تنبيه على أن الإله، يجب أن يكون قادرًا على البعث والجزاء، يعني أن الضار والنافع والمميت والمحيي والباعث هو الله سبحانه، فهو المعبود الحقيقي، وما سواه فليس بمعبود بل عابد لله تعالى، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}. وفي الآية إشارة إلى الأصنام المعنوية، وهم المشايخ المدعون، والدجاجلة المضلون، فإنهم ليسوا بقادرين على إحياء القلوب، وإماتة النفوس، فالتابعون لهم في حكم عابدي الأصنام. فليحذر العاقل من اتخاذ أهل الهوى متبوعًا، فإن الموت الأكبر الذي هو الجهل، إنما يزول بالحياة الأشرف الذي هو العلم. فإن كان للعبد مدخل في إفادة الخلق، العلم النافع، ودعاؤهم إلى الله على بصيرة .. فهو الذي رقى غيره من الجهل إلى المعرفة، وأنشأه نشأة أخرى، وأحياه حياة طيبة بإذن الله تعالى. وهي رتبة الأنبياء ومن يرثهم من العلماء العاملين. وأما من سقط عن هذه الرتبة، من الجهلة الذين اتخذهم الناس سادةً، لنسبهم إلى العلماء، فليس الاستماع إلى كلامه إلا كاستماع بني إسرائيل إلى صوت العجل. وقد قال الله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}؛ أي: كونوا في جملة الصادقين ومصاحبين لهم وبعضهم ولذا قالوا يلزم المرء أن يختار من البقاء أحسنها دينًا، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

[4]

حتى يتعاون بالأخوان الصادقين. قيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله من نجالس؟ فقال: من يزيدكم في علمه منطقه، ويذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله. اللهم بحق الفرقان اجعلنا مع الصادقين من الإخوان. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) بين ما بآلهتهم من النقائص من وجوه متعددة: الأولى: أنها لا تخلق شيئًا. والإله يكون قادرًا على الخلق والإيجاد. والثاني: أنها مخلوقة. والمخلوق محتاج. والإله يجب أن يكون غنيًا عن كل ما سواه. والثالث: أنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، فضلًا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك، فلا فائدة في عبادته وإجلاله وتعظيمه. والرابع: أنها لا تقدر على التصرف في شيء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى، وبعثهم من قبورهم. ومن كان كذلك، فكيف يسمى إلهًا، وتعطى له خصائص الآلهة، من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله. وعلى الجملة (¬2) فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق، المالك لكل شيء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه. وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله، من له مسكنه من عقل، ولا أثارة من علم. 4 - ولما فرغ الله سبحانه من بيان التوحيد، وتزييف مذاهب المشركين .. شرع في ذكر شبه منكري النبوة. فالشبهة الأولى: ما حكاه عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة، كنضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم {إِنْ هَذَا}؛ أي: ما هذا القرآن {إِلَّا إِفْكٌ}؛ أي (¬3): كذب مصروف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

عن وجهه؛ لأن الإفك كل مصروف عن وجهه، الذي يحق أن يكون عليه. ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب: المؤتفكات. ورجل مأفوك؛ أي: مصروف عن الحق إلى الباطل. {افْتَرَاهُ}؛ أي: اختلقه محمد من عند نفسه. والفرق بين الافتراء والكذب أنَّ الافتراء هو افتعال الكذاب. من قبل نفسه. والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه، كما في الأسئلة المقحمة. {وَأَعَانَهُ}؛ أي: وأعان محمدًا {عَلَيْهِ}؛ أي: على اختلاقه {قَوْمٌ آخَرُونَ}؛ أي: قوم غير قومه؛ أي: اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم الماضية، وهو يعبر عنها بعبارته. قال الكلبي (¬1) ومقاتل: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وقال: أعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضري، وجبر مولى عامر، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرأون التوراة، ويحدثون أحاديث منها في مكة، فلما أسلموا، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعهدهم، ويختلف إليهم، فزعم النضر وأصحابه، أنهم يلقون إليه - صلى الله عليه وسلم - أخبار الأمم الماضية، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى إعانتهم له، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال. فرد الله تعالى ذلك بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا}؛ أي: قائلوا هذه المقالة؛ أي: فعلوا بما قالوا ظلمًا وزورًا. والمعنى: أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله تعالى، بل اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب، ممن أسلموا وكان يتعهدهم، ويختلف إليهم (تقدم ذكر أسمائهم) فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته، وأسلوبه الخاص، فرد الله عليهم مقالهم فقال: {فَقَدْ جَاءُوا}؛ أي: فعلوا بما قالوا، فإن جاؤوا أتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته {ظُلْمًا} عظيمًا بجعل الكلام المعجز إفكًا مختلفًا مفتعلًا من اليهود، يعني: وضعوا الإفك في غيره. {وَزُورًا}؛ أي: كذبًا كبيرًا، حيث نسبوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ما هو ¬

_ (¬1) المراح.

[5]

بريء منه؛ أي: فقد (¬1) وضعوا الأشياء في غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه إفكًا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقولون ذلك على الرسول، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذووا اللسن والفصاحة، والغاية في البلاغة فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك في مكنتهم ما ادخروا وسعًا في معارضته، وقد ركبوا الصعب، والذلول، ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولو كان محمد - صلى الله عليه وسلم -، قد استعان في ذلك بغيره .. لأمكنهم أيضًا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله في اللغة إلا مثلهم، فلما لم يفعلوا .. علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى. وانتهى إلى حد الإعجاز، إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر في معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب، التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم. 5 - وبعد أن حكى عنهم قولهم في الافتراء، بإعانة قوم آخرين عليه .. حكى عنهم طريق تلك الإعانة بقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وهذه هي الشبهة الثانية؛ أي: وقال الذين كفروا في حق القرآن، وهذا القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، أساطير الأولين؛ أي: ما سطره (¬2) وكتبه المتقدمون من الخرافات والأباطيل والأحاديث التي لا نظام لها مثل حديث رستم واسفنديار. {اكْتَتَبَهَا}؛ أي: انتسخها محمد - صلى الله عليه وسلم -، من جبر ويسار وعداس؛ أي: أمر أن تكتب له؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يكتب، وهو كاحتجم وافتصد إذا أمر بذلك؛ أي: أمرهم بكتابتها له، وقراءتها عليه ليحفظها, لأنه أمي. {فهي}؛ أي: فتلك الأساطير. {تُمْلَى عَلَيْهِ}؛ أي: تلقى على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتقرأ عليه، بعد اكتتابها وانتساخها, ليحفظها من أفواه من يمليها عليه، لكونه أميًا، لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة والإملاء في الأصل حكاية القول لمن يكتبه. وهنا القراءة عليه من المكتوب. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}؛ أي: أول النهار وآخره؛ أي: دائمًا أو خفيةً قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[6]

وقرأ الجمهور: {اكْتَتَبَهَا} مبنيًا للفاعل. وقرأ ابن مسعود (¬1) وإبراهيم النخعي وطلحة بن مصرف {اكْتَتَبَهَا} بضم التاء الأولى وكسر الثانية، مبنيًا للمفعول، والابتداء على قراءتهم بضم الهمزة. والمعنى (¬2): اكتتبها له كاتب؛ لأنه كان أميًا لا يكتب. ثم حذفت اللام، فأفضي الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه، ثم بني الفعل للضمير الذي هو إياه، فانقلب مرفوعًا مستترًا، بعد أن كان منصوبًا بارزًا، كذا قال في "الكشاف". واعترضه أبو حيان. وقرأ (¬3) طلحة وعيسى {فهي تتلى} بالتاء بدل الميم. والمعنى: أي (¬4) وقال المشركون: الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى؛ أي: ما هذا الذي يقرأه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أحاديث الأولين، الذين كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها من اليهود، فهي تستنسخ منهم، وتقرأ عليه ليحفظها غدوةً وعشيًا؛ أي: قبل انتشار الناس، وحين يأتون إلى مساكنهم. وقد عنوا بذلك، أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائمًا. 6 - ثم أمره الله سبحانه وتعالى، بإجابتهم عمّا قالوا بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد - ردًا وتحقيقًا للحق -، ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين، بل هو أمر سماوي. {أَنْزَلَهُ} الإله {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرّ} والغيب {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا يعزب عن علمه شيء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته. كما أخبركم فيه بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة، لا يعلمها إلا عالم الأسرار ولا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير، فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟ وخص السر (¬5) إشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة، لا تبلغ ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي. (¬5) الشوكاني.

[7]

إليها عقول البشر. والسر الغيب؛ أي: يعلم الغيب الكائن فيهما. وجملة قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. تعليل لتأخير العقوبة؛ أي: إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله، والظلم له، فإنه لا يعجلها عليكم بذلك؛ لأنه كثير المغفرة والرحمة؛ أي (¬1): إنه تعالى أزلًا وأبدًا مستمر على المغفرة والرحمة، فلذلك لا يعجل على عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبًا. وفيه إشارة إلى أهل الضلالة من الذين نسبوا القرآن إلى الإفك، لو رجعوا عن قولهم وتابوا إلى الله، يكون غفورًا لهم رحيمًا بهم، كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}. واعلم: أن الله تعالى أنزل القرآن على وفق الحكمة الأزلية في رعاية مصالح الخلق؛ ليهتدي به أهل السعادة، وليضِلَّ به أهل الشقاوة، وينسبوه إلى الإفك، كما قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} والقرآن لا يدرك إلا بنور الإيمان. والكفر ظلمة. وبالظلمة لا يرى إلا الظلمة، فبظلمة الكفر؛ أي: الكفار القرآن النوراني القديم كلامًا مخلوقًا ظلمانيًا من جنس كلام البشر، فكذلك أهل البدعة .. لما رأوا القرآن بظلمة البدعة، رأوا كلامًا مخلوقًا ظلمانيًا بظلمة الحدوث، وظلموا أنفسهم بوضع القرآن في غير موضعه من كلام البشر. وفي الحديث: "القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، فمن قال بكونه مخلوقًا فقد كفر بالذي أنزله". نسأل الله العصمة والحفظ من الإلحاد وسوء الاعتقاد. 7 - ولما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن .. ذكر ما طعنوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبي - صلى الله عليه وسلم -، تمنع النبوة في زعمهم. {وَقَالُوا}؛ أي: وقال المشركون من أشراف قريش، كأبي جهل وعتبة وأمية وعاص وأمثالهم. وذلك حين اجتماعهم عند ظهر الكعبة. {ما} استفهامية، بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، في محل الرفع على الابتداء خبرها قوله: {لهَذَا الرَّسُولِ} وجدت اللام مفصولة عن الهاء في المصحف، واتباعه سنة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسموه رسولًا استهزاء وسخرية؛ أي: أيُّ سبب حصل لهذا الذي يدعي الرسالة؟ حال كونه {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل - والطعام كل ما يتناول من الغذاء - {و} حالة كونه {يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} لطلب المعاش كما نمشي - وهو الموضع الذي يجلب إليه المتاع للبيع ويساق - أنكروا أن يكون الرسول بصفة البشر، يعني إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا, ولم يؤت ميزةً دوننا. وما هذا (¬1) منهم إلا لضعف عقولهم، وقصور إدراكهم، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية، بل بصفات روحية، وفضائل نفسية، فطرهم الله تعالى عليها. توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. قال بعضهم (¬2): ليس بَمَلكٍ، ولا مَلِكٍ، وذلك؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، والملوك لا يتسوقون ولا يبتذلون، فعجبوا أن يكون مثلهم في الحال، ولا يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال لعدم بصيرتهم وقصور نظرهم على المحسوسات، فإن تمييز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأحوال نفسانية، فالبشرية مركب الصورة. والصورة مركب القلب. والقلب مركب العقل. والعقل مركب الروح. والروح مركب المعرفة، والمعرفة قوة قدسية صدرت عن كشف عين الحق. وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الكفار صم بكم عمي، فهم لا يعقلون؛ لأنهم نظروا إلى الرسول بنظر الحواس الحيوانية، وهم بمعزل من الحواس الروحانية والربانية. فما رأوا منه إلا ما يرى من الحيوان، وما رأوه بنظر يرى به النبوة والرسالة، ليعرفوه أنه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين. وقالوا أيضًا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[8]

أي: هلا أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ملك من الملائكة على هيأته وصورته المباينة لصورة البشر والجن. {فَيَكُونَ} بالنصب بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التحضيض. قرأ الجمهور: بالنصب، وقرىء {فتكون} بالرفع، حكاه أبو معاذ عطفًا على {أنزل}؛ لأن {أنزل} في موضع رفع، وهو ماض وقع موقع المضارع؛ أي: هلا ينزل إليه ملك، أو هو جواب التحضيض على إضمار هو؛ أي: فيكون ذلك الملك {مَعَهُ}؛ أي: مع محمد - صلى الله عليه وسلم - {نَذِيرًا}؛ أي: منذرًا للناس مخوفًا لهم من عذاب الله تعالى، معينًا له في الإنذار، معلومًا صدقه بتصديقه. 8 - {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} معطوف على {أنزل}، ولا يجوز عطفه على {فيكون}؛ أي: أو هلا يلقى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - كنز ومال كثير من السماء، يستظهر به ويستغنى به عن المشي في الأسواق لتحصيل المعاش، والكنز: المال المكنوز؛ أي: المجموع المحفوظ. {أَوْ} هلا {تَكُونُ لَهُ}؛ أي: لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {جَنَّةٌ} وبستان {يَأْكُلُ مِنْهَا} من ثمارها، ويعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس؛ أي: إن لم يلق إليه كنز، فلا أقل من أن يكون له بستان يتعيش بغلته كما لأهل الغنى والقرى. قال صاحب "الكشاف": إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكًا، ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك يعينه، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودًا بكنز. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه. اهـ. وقرأ الجمهور (¬1): {وتكون له جنة} بالتاء الفوقية. وقرأ الأعمش وقتادة {يكون} بالتحتية؛ لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي وابن وثاب وطلحة والأعمش: {نَّأْكُلُ مِنْهَا} بنون الجمع؛ أي: يأكلون هم من ذلك البستان فينفقون به في دنياهم ومعاشهم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {يَأْكُلُ مِنْهَا} بياء الغيبة، يعنون الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يأكل هو وحده منه، ليكون له بذلك مزية علينا، حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده، فعود الضمير إليه بَيِّنٌ. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبه بن الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعتذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعتذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث، تطلب مالًا، جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف، فنحن نسودك، وإن كنت تريد ملكًا، ملكناك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولًا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به .. فهو حظكم في الدنيا والآخرة. وإن تردوه علي .. أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا، مما عرضناه عليك .. فسل لربك وسل لنفسك أن يبعث معك ملكًا يصدقك فيما تقول، ويراجعنا عنك. وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش، كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولًا كما تزعم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا, ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا"، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر. وبعد أن (¬1) حكى عنهم أولًا أنهم يثبتون له كمال العقل، ولكنهم ينتقصونه ¬

_ (¬1) المراغي.

[9]

بصفات في شؤون الدنيا .. حكى عنهم ثانيًا: أنهم نفوا عنه العقل بتاتًا، وادعوا أنه مختل الشعور والإدراك، وإلى هذا أشار بقوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ}؛ أي: وقال الذين ظلموا أنفسهم، بنسبتهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منه برىء، وهم القائلون بالمقالات السابقة. وإنما وضع (¬1) الظاهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بوصف الظلم، وتجاوز الحد فيما قالوا، لكونه إضلالًا خارجًا عن حد الضلال؛ أي: قالوا للمؤمنين {إِنْ تَتَّبِعُونَ}؛ أي: ما تتبعون أيها المؤمنون به {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}؛ أي: مختل النظر والعقل؛ أي: إلا رجلًا مغلوبًا على عقله بالسحر؛ أي: قد سحر فغلب على عقله، حتى يزول عنه. قال بعض أهل الحقائق: كانوا يرون قبح حالهم في مرآة النبوة، وهم بحسبون أنه حال النبي عليه السلام. وقيل: ذا سُحْرُ، وهي الرئة؛ أي: بشرًا له رئة لا ملكًا، والمعنى: أي: ما تتبعون إلا رجلًا سُحِرَ فاختل عقله، فهو لا يعني ما يقول، ومثله لا يطاع له رأي. وهذا منهم ترق في انتقاصه، وأنه لا يصلح للنبوة بحال. 9 - ولما ذكر ضلالاتهم .. التفت إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مسليًا له بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}؛ أي: أنظر واعجب لهم يا محمد، كيف ضربوا لك، وقالوا فيك تلك الأمثال الفاسدة، والأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الأحوال الشاذة البعيدة عن الوقوع، ليتوصلوا بها إلى تكذيبك. وذلك من جهلهم بحالك، وغفلتهم عن جمالك. والأمثال: هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هنا {فَضَلُّوا} بسببها عن الحق، ضلالًا بعيدًا، فلا يجدون طريقًا إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاؤوا بهذه المقالات الزائغة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزًا. ولهذا قال تعالى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى الهدى ومخرجًا عن ضلالتهم. قال بعضهم: وقد أبطلوا الاستعداد بالاعتراض والإنكار على النبوة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

فحرموا من الوصول إلى الله تعالى. أو لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقًا من الطرق. والمعنى: أي (¬1) انظر واعجب لهم كيف جرؤوا على التفوه بتلك الأقاويل العجيبة، فاخترعوا لك صفات وأحوالًا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها، فضلوا بذلك عن طريق الهدى، وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون، ولا يقدحون به في نبوتك إلا مثل السخف والهذر. والخلاصة: أن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحًا في نبوتك، ولا مطعنًا فيك، فإن كان لهم مطعن في المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا, ولكن أنى لهم ذلك. 10 - ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي} أي تزايد وكثر خير ربك الذي {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ} أي وهب لك في الدنيا, لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة {خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ}؛ أي: إعطاءً خيرًا مما قالوا أو اقترحوا من إلقاء الكنز وجعل الجنة، ولكن أخره إلى الآخرة؛ لأنه خير وأبقى. وخص (¬2) هذا الموضع بذكر تبارك؛ لأن ما بعده من العظائم حيث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والله خاطبه بقوله: "لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات" كذا في "برهان القرآن". قلت: هذا الأثر من الموضوعات لا أصل له كما مر. {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بدل من خيرًا، ومحقق لخيريته مما قالوا؛ لأن ذلك كان مطلقًا، عن قيد التعدد وجريان الأنهار. {وَيَجْعَلْ لَكَ} في الدنيا {قُصُورًا}؛ أي: بيوتًا مشيدة؛ أي: رفيعة كقصور الجنة. وجملة {يجعل} معطوفة على محل الجزاء الذي هو جعل، وهو الجزم وبجزم يجعل. قرأ الجمهور (¬3): نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو قالوا عطفًا على موضع جعل؛ لأن التقدير: إن يشأ يجعل. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو بكر ومجاهد وحميد ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع على أنه مستأنف، وقد تقرر في علم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

الإعراب، أن الشرط إذا كان ماضيًا جاز في جوابه الجزم والرفع، فجاز أن يكون {جعل} هنا في محل جزم ورفع. فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان ويجعل بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح: هي على جواب الشرط بالواو. وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقرىء بإدغام لام {يجعل} في لام لك، لاجتماع المثلين. وقرىء بترك الإدغام, لأن الكلمتين منفصلتان. والحاصل: أنه قرىء {يجعل} بالجزم والرفع والنصب. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ ... رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ يروى بجزم نأخذ ورفعه ونصبه. والمعنى: أي كثر (¬1) خير ربك، فإن شاء وهب لك في الدنيا خيرًا مما اقترحوا، فان أراد جعل لك في الدنيا مثل ما وعدك به في الآخرة، فأعطاك جنات تجري من تحتها الأنهار، وآتاك القصور الشامخة، والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالًا وأعزهم نفرًا، ولكن الله لم يشأ ذلك؛ لأنه أراد أن عطاءه لك في الدار الباقية الدائمة، لا في الدار الزائلة الفانية. وإنما كانت خيرًا مما ذكروا لكثرتها، وجريان الأنهار من تحت أشجارها، وبناء المساكن الرفيعة فيها، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصرًا. تنبيه: وفي قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ ...} الآية. إشارة إلى أنه تعالى يعطي العباد على حسب المصالح، فيفتح على بعضهم أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا. ويفتح على آخرين أبواب الرزق، ويحرمه لذة الفهم والعلم، ولا اعتراض عليه؛ لأنه فعال لما يريد. ¬

_ (¬1) المراغي.

[11]

11 - ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم، من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}؛ أي (¬1): بالقيامة والحشر والنشر. والساعة جزء من أجزاء الزمان، ويعبر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك، لسرعة حسابه. كما قال: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أو لما نبه عليه قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} كما في "المفردات" وهو إضراب عن توبيخهم، بحكاية جنايتهم السابقة، وانتقال منه. والمعنى: أي (¬2) ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق، وتقولوا عليك ما تقولوا، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث، ولا يصدقون بالثواب والعقاب. والخلاصة: أنهم أتوا بأعجب من هذا كله، وهو تكذيبهم بالساعة، ومن ثم فهم لا ينتفعون بالدلائل, ولا يتأملون فيها. ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان. فقال: {وَأَعْتَدْنَا}؛ أي: هيأنا وأحضرنا. وأصله أعددنا {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ}؛ أي: بالبعث والحشر والنشر والحساب والجزاء. وضع (¬3) الظاهر موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع. {سَعِيرًا}؛ أي: نارًا عظيمة شديدة الاشتعال تسعر وتتقد عليهم. قال بعضهم: سعير الآخرة، إنما سعرت من سعير الدنيا وهي حرص العبد على الدنيا، وملاذها 12 - {إِذَا رَأَتْهُمْ} صفة للسعير؛ أي: إذا (¬4) كانت تلك السعير بمرأىً منهم، وقابلتهم بحيث صاروا بإزائها، كقولهم داري تنظر دارك؛ أي: تقابلها، فأطلق الملزوم، وهو الرؤية وأريد اللازم، وهو كون الشيء بحيث يرى، والانتقال من الملزوم إلى اللازم مجاز. والمعنى: إذا قابلتهم تلك السعير، أو المعنى: إذا رأتهم رؤية حقيقية بعينها، كما جاء في حديث: "أن لها عينين" ولا مانع منه. اهـ. "شيخنا". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[13]

{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وهو أقصى ما يمكن أن يرى منه. قيل: من المشرق إلى المغرب وهي خمس مئة عام. وفيه إشارة إلى أن بعدما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهم خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة. فإن قلت (¬1): كيف تتصور الرؤية من النار، وهو قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ}؟ قلت: يجوز أن يخلق الله لها حياةً وعقلًا ورؤيةً ونطقًا فالبنية ليست شرطًا. قال بعضهم: وهذا هو الحق، كما يدل عليه، قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فلا حاجة إلى تأويل أمثال هذا المقام. {سَمِعُوا لَهَا}؛ أي: للنار {تَغَيُّظًا}؛ أي: غليانًا {وَزَفِيرًا}؛ أي: صوتًا كصوت الحمار. وقيل: تغيظًا؛ أي: صوت تغيظ وغضب على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ؛ أي: الغضبان إذا غلى صدره من الغيظ، فعند ذلك يهمهم. والهمهمة ترديد الصوت في الصدر. فإن قلت: كيف يسمع التغيظ الذي هو بمعنى الغضب؟ قلت: في الكلام تقديم وتأخير وتقدير. والمعنى: إذا رأتهم سمعوا لها زفيرًا، وعلموا لها تغيظًا. نظير قول الشاعر: وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فِيْ الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا أي: وحاملًا رمحًا. والمعنى: وإذا كانت منهم بمرأى الناظر .. سمعوا لها صوتًا يشبه صوت المتغيظ لشدة توقدها، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألمًا. أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال: إن جهنم لتزفر زفرةً، لا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام، ليحثوا على ركبتيه. ويقول رب، لا أسألك اليوم إلا نفسي. 13 - {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا}؛ أي: من السعير {مَكَانًا}؛ أي: في مكان. ومنها بيان ¬

_ (¬1) الخازن بزيادة.

[14]

مقدم فصار حالًا منه. {ضَيِّقًا} صفة لمكانًا (¬1) مفيدة لزيادة شدة حال الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة. واعلم: أنه تضيق عليهم جهنم، كما تضيق حديدة الرمح على الرمح، أو تكون لهم كحال الوتد في الحائط، فيضم العذاب، وهو الضيق الشديد إلى العذاب، وذلك لتضيق قلوبهم في الدنيا حتى لم تسع فيها للإيمان. أي: وإذا ألقوا وطرحوا في مكان ذا ضيق منها حالة كونهم {مُقَرَّنِينَ}؛ أي: حالة كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم مشدودة إليها بسلسلة، أو مقرنين مع شياطينهم سلسلة في سلسلة. والتقرين تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق في السلاسل. اهـ. "صاوي". {دَعَوْا هُنَالِكَ}؛ أي: نادوا في ذلك المكان الضيق الهائل والحالة الفظيعة {ثُبُورًا} هلاكًا؛ أي: يتمنون هلاكًا وينادونه، فيقولون: يا ثبوراه، يا ويلاه، يا هلاكاه، تعال فهذا أوانك. 14 - فيقول الله تعالى لهم، أو فيقال لهم على ألسنة الملائكة، تنبيهًا على خلود عذابهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا}؛ أي: لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد، أي على مرة واحدة. {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}؛ أي: بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد. والمعنى (¬2): لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحدًا، وادعوه أدعية كثيرة، فإنَّ ما أنتم فيه من العذاب، أشد من ذلك لطول مدته، وعدم تناهيه، ومستوجب لتكرير الدعاء في كل آن. وقيل: هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك، من غير أن يكون هناك قول. وقيل: إن المعنى أنكم وقعتم فيما أليس ثبوركم فيه واحدًا، بل هو ثبور كثير؛ لأن العذاب أنواع. والأولى أن يقال: إن المراد بهذا الجواب عليهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

الدلالة على خلود عذابهم، وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك، المنجي لهم مما هم فيه. وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو (¬1): {ضيقًا}. عن ابن عطية، وقرأ أبو شيبة صحاب معاذ بن جبل (مقرنون) بالواو، وهي قراءة شاذة. والوجه قراءة الجمهور ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل، ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير ألقوا بدل نكرة من معرفة. وقرأ عاصم الجحدري وابن السميقع وعمرو بن محمد {ثبورًا}، بفتح الثاء المثلثة في ثلاثتها. وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو البتول. والمعنى: أي (¬2) وإذا ألقوا منها، في مكان ضيق، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل .. استغاثوا، وقالوا: يا ثبوراه؛ أي: يا هلاكنا احضر فهذا وقتك. فيقال لهم: لا تنادوا هلاكًا واحدًا وادعوا هلاكًا كثيرًا؛ أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم واحدًا، إنما ثبوركم منه كثير, لأن العذاب ألوان وأنواع، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته. وخلاصة ذلك: أن الله سبحانه، قد أعد لمن كذب بالساعة نارًا مستعرة، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد .. سمعوا صوت غليانها، وإذا طرحوا في مكان ضيق، وهم مقرنون في السلاسل والأغلال .. تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه. كما قيل: أشد من الموت ما يتمنى منه الموت، فيقال لهم حينئذٍ: لا تدعوا هلاكًا واحدًا، فإنه لا يخلصكم، بل اطلبوا هلاكًا كثيرًا لتخلصوا به. والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علقوا به أطماعهم من الهلاك. وتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص لهم منه. وروى (¬3) أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول من يكسى من أهل النار، يوم القيامة، إبليس، يكسى حلة من النار فيضعها على حاجبيه، ويسحبها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) زاد المسير.

[15]

من خلفه، وهو يقول: واثبوراه، وهم ينادون يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي يا ثبوراه، وينادون يا ثبورهم، فيقول، الله، عز وجلّ: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} ". رواه أحمد في "المسند" والطبري والسيوطي في "الدر" والبيهقي في "البعث" عن أنس. 15 - وبعد أن وصف سبحانه عقاب المكذبين بالساعة .. أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين توبيخًا لهم وتقريعًا {أَذَلِكَ} العذاب المذكور من النار المسعرة الموصوفة بالصفات السابقة. والإشارة بقوله: ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات الفظيعة؛ أي: أتلك السعير {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} والدوام {الَّتِي وُعِدَ} ها {الْمُتَّقُونَ} خير؛ أي: المتصفون بمطلق التقوى، التي هي اجتناب الشرك، فالمؤمن، وإن كان عاصيًا فهو متق لاتقائه الشرك. وجنة الخلد هي الدار التي لا ينقطع نعيمها, ولا ينقل عنها أهلها، وإضافة (¬1) الجنة إلى الخلد للمدح، وإلا فالجنة اسم للدار المخلدة. ويجوز أن تكون الجنة اسمًا يدل على البستان الجامع لوجوه البهجة، ولا يدخل الخلود في مفهومها، فأضيفت إليه للدلالة على الخلود، فإن قيل: كيف يتصور الشك في أنه أيهما خير، حتى يحسن الاستفهام والترديد، وهل يجوز للعاقل أن يقول السكر أحلى أم الصبر، وهو دواء مر؟ قلت: يقال: ذلك في معرض التقريع والتهكم والتحسير على ما فات. وفي "الوسيط" هذا للتنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيرًا. اهـ. وقال بعضهم: هذا على المجاز، وإن لم يكن في النار خير. والعرب تقول العافية خير من البلاء، وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم. وقيل: ليس (¬2) هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن كما قال الشاعر: أَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[16]

{كَانَتْ} تلك الجنة الموصوفة {لَهُمْ}؛ أي: للمتقين في علم الله تعالى، أو في اللوح المحفوظ. {جَزَاءً} وثوابًا على أعمالهم، بمقتضى الكرم لا بالاستحقاق {وَمَصِيرًا} يصيرون إليه، ومرجعًا يرجعون إليه. ومنقلبًا ينقلبون إليه. فإن قلت (¬1): كيف قال: في وصف الجنة، كانت لهم جزاءً، بصيغة الماضي، مع أنها لم تكن حينئذٍ جزاءً ومصيرًا؟ قلت: إنما قال ذلك؛ لأن ما وعد الله به، فهو في تحققه كأنه قد كان، فلا بد من وقوعه، أو لأنه كان في اللوح المحفوظ أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. والمعنى: قل يا محمد (¬2) لهؤلاء المكذبين تهكمًا بهم، وتحسيرًا لهم على ما فاتهم، أهذه النار التي وصفت لكم خيرًا أو جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد وقد وعدها من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما به أمره أو نهاه. ثم حقق أمرها تأكيدًا للبشارة بقوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}؛ أي: كانت تلك الجنة لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بطاعته، وثوابًا لهم على تقواه، ومرجعًا لهم ينتقلون إليه في الآخرة. 16 - ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله: {لَهُمْ}؛ أي: لأولئك المتقين {فِيهَا}؛ أي: في جنة الخلد {مَا يَشَاءُونَ}؛ أي: ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فإن قلت (¬3): قد يشتهي الإنسان شيئًا، وهو لا يحصل في الجنة، كأن يشتهي الولد ونحوه، وليس هو في الجنة؟ قلت: إن الله سبحانه يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيها من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيرها. أو المعنى: لهم (¬4) فيها ما يشاؤونه من أنواع النعيم واللذات مما يليق بمرتبتهم، فإنهم بحسب نشأتهم لا يريدون درجات من فوقهم، فلا يلزم تساوي مراتب أهل ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

[17]

الجنات في كل شيء. ومن هذا يعلم فساد ما قيل في "شرح الأشباه": بجواز اللواطة في الجنة لجواز أن يريدها أهل الجنة ويشتهيها. وذلك لأن اللواطة من الخبائث، التي ما تعلقت الحكمة بتحليلها في عصر من الأعصار كالزنى، فكيف يكون ما يخالف الحكمة، مرادًا ومشتهًى في الجنة. فالقول بجوازها ليس إلا من الخباثة. والحاصل: أن عموم الآية، إنما هو بالنسبة إلى المتعارف، ولذا قال بعضهم: في الآية دليل، على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة، ولما لم تكن اللواطة مرادًا في الدنيا للطيبين، فكذا في الآخرة حالة كونهم {خَالِدِينَ} فيها أبدًا بلا انقطاع ولا زوال. حال من الهاء في لهم، أو من الواو في يشاؤون. قيد بالخلود, لأن من تمام النعيم أن يكون دائمًا، إذ لو انقطع لكان مشوبًا بضرب من الغم. وأنشد في المعنى: أَشَدُّ الْغَمَّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ {كَانَ} المذكور من الدخول، أو الخلود، ما يشاؤون. {عَلَى رَبِّكَ} يا محمد {وَعْدًا مَسْئُولًا}؛ أي: موعودًا حقيقًا بأن يسأل ويطلب؛ لأنه (¬1) جزاء وأجر، أو مسؤولًا سألته الملائكة في قولهم: ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم. قاله محمد بن كعب أو الناس في قولهم: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة. قال معناه ابن عباس وابن زيد: وما في على من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى، فإن تعلق إرادته تعالى بالموعود، متقدم على الوعد الموجب للإنجاز. 17 - وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} كلام متصل في المعنى بقوله: في أول السورة: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} الخ وتعلق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد؛ أي: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم، يحشر الله سبحانه وتعالى فيه، والذين اتخذوا من دونه آلهة، ويجمعهم {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الأصنام وغيرها؛ لأن ما عام يعم العقلاء وغيرهم، لكن المراد هنا، بقرينة الجواب الآتي: العقلاء من الملائكة وعيسى وعزير. قلت: ولا مانع من العموم، كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها، أو كأن جوابها بلسان الحال، كما ذكره بعضهم في تسبيح الموات، وفي شهادة الأيدي والأرجل. وغلب غير العقلاء من الأصنام، ونحوها، على العقلاء من الملائكة، والجن والمسيح تنبيهًا على أنها جميعًا مشتركةً في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر، ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتبارًا بكثرة من يعبدها. أي: واذكر يوم يحشر الله العابدين لغير الله، ومعبوديهم، ويجمعهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} الله سبحانه وتعالى للمعبودين {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} العابدين لكم عن عبادتي، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وأمرتموهم بها {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} الحق؛ أي: تركوها وعبدوكم بهوى أنفسهم؛ أي: أخطؤوا عن الطريق المستقيم بأنفسهم، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد النصيح، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} والأصل إلى السبيل، أو للسبيل، والاستفهام (¬1) في قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ} للتوبيخ والتقريع. والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم، وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم، لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق، والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب. وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص عن عاصم (¬2) {يَحْشُرُهُمْ} و {فَيَقُولُ} بالياء فيهما. واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام على ربك. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر؛ بالنون فيهما على التعظيم. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {نحشرهم} بالنون {فَيَقُولُ} بالياء. وقرأ الأعرج (¬3) {نحشرهم} بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[18]

قليلة في الاستعمال، قوية في القياس؛ لأن يفعل بكسر العين في المتعدي، أقيس من يفعل بضمها. انتهى. وهذا ليس كما ذكروا، بل فعل المفتوح المتعدي الصحيح، جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولا حلقي عين، ولا لام، فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرًا، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع، وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا، خير فيهما، سُمع للكلمة أو لم يُسمع. 18 - وقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال المعبودون، كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل: قالوا: {سُبْحَانَكَ} هو تعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة، أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل؛ أي: تعجبًا مما قيل فينا ونسب إلينا، أوتنزيه لله تعالى عن الأنداد؛ أي: تنزيهًا لك يا إلهنا عن الشركاء. {مَا كَانَ} الشأن. {يَنْبَغِي} ويستقيم {لَنَا} ويليق بنا، ويصح منا {أَنْ نَتَّخِذَ} ونجعل لأنفسنا {مِنْ دُونِكَ}؛ أي: متجاوزين إياك {مِنْ أَوْلِيَاءَ}؛ أي: آلهة نعبدهم. أي (¬1): ما كان ينبغي لنا أن نتخذ لأنفسنا آلهة من دونك، فكيف ندعوا عبادك إلى عبادتنا نحن، مع كوننا لا نعبد غيرك، فدل هذا الجواب، على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وهذا معنى الآية على قراءة الجمهور {نَتَّخِذَ} مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن جبير والحسن وقتادة وأبو جعفر وابن يعمر وعاصم الجحدري وأبو الدرداء وزيد بن ثاب وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر ومكحول وحفص وعبيد والنخعي والزعفراني وغيرهم {أن نتخذ} بضم النون وفتح الخاء مبنيًا للمفعول. والمعنى عليه؛ أي: ما كان ينبغي لنا، أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة. ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. وقال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة، لأن الله ¬

_ (¬1) الشوكاني.

سبحانه ذكر {مِن} مرتين. ولو كان كما قرؤوا لقال: {أن نتخذ من دونك أولياء} بحذف {من} الثانية. وقيل: أن {من} الثانية زائدة. وقرأ عيسى الأسود القارىء {ينبغى} مبنيًا للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة. وقرأ علقمة {ما ينبغي} بسقوط كان. وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى, لأنهم أخبروا عن حال، كانت في الدنيا ووقت الإخبار، لا عمل فيه ذكره أبو حيان. وفي "الروح": إنَّ {مِنْ} الثانية زائدة، لتأكيد النفي، وأولياء مفعول به لـ {نَتَّخِذَ}. وهو من اتخذ الذي يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}. والمعنى (¬1): ما كان ينبغي لنا، أن نتخذ من دونك معبودين، نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له، وهي العصمة، أو عدم القدرة، فأنى يتصور أن نحمل غيرنا، أن يتخذ وليًا غيرك، فضلًا عن أن يتخذنا وليًا. قال ابن الشيخ: جعل قولهم: ما كان ينبغي لنا ... إلخ كناية عن استبعاد، أن يدعوا واحدًا إلى اتخاذ ولي دونه؛ لأن نفس قولهم: بصريحه لا يفيد المقصود، وهو نفي ما نسب إليهم، من إضلال العباد، وحملهم على اتخاذ الأولياء، من دون الله تعالى. وفي "التأويلات النجمية": نزهوا الله عن أن يكون له شريك، ونزهوا أنفسهم عن أن يتخذوا وليًا غير الله، ويرضوا لغيرهم، أن يعبدوا غير الله. ثم حكى عنهم سبحانه، بأنهم بعد هذا الجواب، ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان، فقال: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ}؛ أي: ما أضللناهم، ولكن جعلتهم وآباءهم متمتعين منتفعين بالغمر الطويل، وأنواع النعم ليعرفوا حقها، ويشكروها، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ}؛ أي: غفلوا عن ذكرك، وتركوا ما وعظوا به، أو غفلوا عن التذكر لآلائك، والتدبر في آياتك، فجعلوا أسباب الهداية بسوء اختيارهم ذريعة إلى الغواية، وفي هذا نسبة الضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم، فحملهم عليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[19]

كأنه قيل: إنا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال، ولكن أضللت أنت، بأن فعلت لهم ما يؤثرون به الضلال، فخلقت فيهم ذلك. والمعنى (¬1): ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم، ومتعت آبائهم بالنعم، ووسعت لهم العمر، حتى غفلوا عن ذكرك، ونسوا موعظتك، والتدبر لكتابك، والنظر في عجائب صنعك، وغرائب مخلوقاتك. {وَكَانُوا}؛ أي: وكان هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي {قَوْمًا بُورًا}؛ أي: هالكين، فاسدي القلوب، خاسرين في الدنيا والآخرة. جمع بائر. مأخوذ من البوار، وهو الهلاك. 19 - فيقول الله سبحانه وتعالى للعابدين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ}؛ أي: فقد كذبكم المعبودون، أيها العابدون {بِمَا تَقُولُونَ}؛ أي: في قولكم إنهم آلهة، والباء بمعنى في {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ}؛ أي: فما تملكون أيها العابدون {صَرْفًا}؛ أي: دفعًا للعذاب عنكم، بوجه من الوجوه، لا بالذات ولا بالواسطة. {وَلَا نَصْرًا}؛ أي: ولا فردًا من أفراد النصر، لا من جهة أنفسكم، ولا من جهة غيركم مما عبدتم، وقد كنتم زعمتم أنهم يدفعون عنكم العذاب وينصرونكم. وقرأ الجمهور (¬2): {بِمَا تَقُولُونَ} بالتاء من فوق. وقرأ أبو حيوة وابن الصلت عن قنبل وسعيد بن جبير ومجاهد ومعاذ القارىء {بما يقولون} والمعنى: فقد كذبكم أيها العابدون المعبودون بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} إلخ .. وهذا (¬3) قول الأكثرين. وقال ابن زيد الخطاب للمؤمنين. فالمعنى: فقد كذبكم المشركون أيها المؤمنون بما تقولون؛ أي: في قولكم: إن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش وطلحة: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} بتاء الخطاب للعابدين، ويؤيد هذه القراءة، أن الخطاب في كذبوكم للعابدين. وقرأ الجمهور: {فما يستطيعون} بالياء من تحت. وفيه وجهان: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

أحدهما: فما يستطيع المعبودون صرفًا للعذاب عنكم، ولا نصرًا لكم. والثاني: فما يستطيع العابدون صرفًا، لعذاب الله عنهم، ولا نصرًا لأنفسهم. وفي هذه القراءة التفات. وذكر (¬1) عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرأوا، {بما يقولون} {فما يستطيعون} بالياء فيهما. والمعنى عليه: فقد كذبكم المعبودون، أيها العابدون بما يقولون؛ أي: بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} فما يستطيع المعبودون صرفًا عنكم، ولا نصرًا لكم. والحاصل: أنه إن كان الخطاب في {كَذَّبُوكُمْ} للعابدين .. فالتاء جارية على ذلك، والياء التفات، وإن كان الخطاب للمعبودين، فالتاء التفات، والياء جارية على ضمير {كَذَّبُوكُمْ} المرفوع. وإن كان الخطاب للمؤمنين، أمة الرسول عليه السلام، في قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} .. فالمعنى أنهم شديدوا الشكيمة في التكذيب، فما تستطيعون أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فما يستطيعون صرفًا لأنفسهم عما هم عليه، أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق، الذي أنتم عليه، ولا نصرًا لأنفسهم، من البلاء الذي استوجبوه بتكديبهم. وحكى الفراء: أنه يجوز أن يقرأ: {فقد كذبوكم} مخففًا {بما يقولون}؛ أي: كذبوكم في قولهم. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} والظاهر أن الخطاب فيه عام لكل ظالم، ويدخل تحته الذين فيهم، السياق، دخولًا أوليًا. وقيل: خطاب للمؤمنين. وقيل: خطاب للكافرين. والظلم هنا الشرك. قاله: ابن عباس؛ أي: ومن يشرك منكم أيها المكلفون. كما دل عليه قوله: {نُذِقْهُ}؛ أي: نذق ذلك الظالم {عَذَابًا كَبِيرًا}؛ أي: عذابًا شديدًا، هو النار والخلود فيها، فإن ما يترتب عليه العذاب الكبير، ليس إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك. وفيه وعيد أيضًا لفساق المؤمنين، وهذه الآية وأمثالها، مقيدة بعدم التوبة. والمعنى: أي (¬2) ومن يكفر منكم أيها المكلفون، فيعبد مع الله إلهًا آخر، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[20]

كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة .. نذقه في الآخرة، وندخله عذابًا كبيرًا؛ لا يقدر قدره، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه. وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وأبو الجوزاء وقتادة (¬1): {يذقه} بياء الغيبة؛ أي: الله، كما هو الظاهر، أو الظلم المفهوم من الفعل، على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب. 20 - ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله، موضحًا لبطلان قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} يا محمد أحدًا {مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا} رسلًا قيل فيهم: {إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} فلم يكن ذلك منافيًا لرسالتهم, فأنت لا تكون بدعًا منهم. وكسرت همزة {إن} لوقوعها بعد قول محذوف وقع صفة لموصوف محذوف، كما قدرناه، وإن تكسر بعد القول قاعدةً مطردةً. هذا ما ظهر لي في هذا المقام. والمعنى: أي إن (¬2) جميع من سبقك من الرسل، كانوا يأكلون الطعام للتغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة. ولم يقل: أحد إن ذلك نقص لهم، يغض من كرامتهم، ويزري بهم، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم في هذا، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة، وخصائصهم السامية، وآدابهم العالية، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات وباهر المعجزات، مما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة نافذة، على صدق ما جاؤوا به من عند ربهم، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعًا من الرسل، إذ يأكلُ ويمشي في الأسواق، وليس هذا بذم له، ولا مطعن في صدق رسالته، كما تزعمون. ونحو الآية قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} وإن (¬3) مكسورة باتفاق العشرة، و (اللام): لام الابتداء زيدت في الخبر. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

والجملة الواقعة بعد {إِلَّا} حالية. والمعنى؛ أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد أحدًا من المرسلين، إلا وحالهم آكلون، وماشون، فأنت مثلهم في ذلك. قاله ابن الأنباري. وقال الزجاج: الجملة الواقعة بعد {إِلَّا} صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين، إلا آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف, لأن في قوله: من المرسلين دليلًا عليه نظيره {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)}؛ أي: وما منا أحد. وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول، محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم ليأكلون الطعام. والضمير في {إِنَّهُمْ} وما بعده، راجع إلى {مِنَ} المقدرة، وقال الزجاج: هذا خطأ, لأن {مِنَ} الموصلة لا يجوز حذفها. وقرىء (¬1): أنهم بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية، والتقدير: إلا أنهم يأكلون الطعام؛ أي: ما جعلناهم رسلًا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم في الأكل والمشي. وقرأ الجمهور: {يمشون} مضارع مشى خفيفًا. وقرأ علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله: يمشون مشددًا مبنيًا للمفعول؛ أي: يمشيهم حوائجهم والناس. وقال الزمخشري: ولو قرىء: يمشون، لكان أوجه لولا الرواية. انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشددًا مبنيًا للفاعل، وهي بمعنى يمشون. قراءة الجمهور. والخطاب في قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} عام لجميع الناس، المؤمن والكافر؛ أي (¬2): وجعلنا بعضكم أيها الناس فتنة؛ أي: ابتلاء ومحنة لبعض آخر. الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، ومناصبتهم لهم العداوة وأذاهم لهم، والسقماء بالأصحاء، والأسافل بالأعالي، والرعايا بالسلاطين، والموالي بذوي الأنساب، والعميان بالبصراء، والضعفاء بالأقوياء. قال الواسطي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

- رحمه الله -: ما وجد موجود إلا لفتنة، وما فقد مفقود إلا لفتنة. فالمريض يقول (¬1): لم لم أجعل كالصحيح، وكذا كل صاحب آفة. والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره والغني مبتلى بالفقير يواسيه والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله. وقيل المراد بالآية، أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم ببعض. واختار هذا القول الفراء والزجاج، ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء وإن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه، بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة: {أَتَصْبِرُونَ} على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمكم. والاستفهام فيه للتقرير، وهو (¬2) علة للجعل المذكور. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أتصبرون على الابتلاء، أم تجزعون عنه. أو حث على الصبر، على ما افتتنوا به؛ أي: اصبروا على ابتلائكم ولا تجزعوا. وقال أبو الليث: اللفظ لفظ الاستفهام. والمراد الأمر، يعني اصبروا على الابتلاء. كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ}؛ أي: توبوا. وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}؛ أي: انتهوا. ثم وعد الله الصابرين بقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}؛ أي: بكل من يصبر، ومن لا يصبر، فيجازي كلا منهما بما يستحقه. والمعنى: أي (¬3) وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، فجعلنا هذا نبيًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي.

وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكًا وخصصناه بالدنيا. وهذا فقيرًا وحرمناه من لذات الدنيا ونعيمها، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم، مما أعطيه الغني، والملك بصبره على ما أوتيه الرسول من الكرامة. وكيف يكون رضى كل منهم بما أعطي، وقسم له، وطاعته ربه على حرمانه، مما أعطي سواه، ومن جراء هذا لم أعط محمدًا الدنيا، وجعلته يمشي في الأسواق، يطلب المعاش لأبتليكم، وأختبر طاعتكم وإجابتكم إياه، إلى ما دعاكم إليه، وهو لم يرج منكم عرضًا من أعراض الدنيا، ولو أعطيتها إياه، لسارع كثيرة منكم إلى متابعته، طمعًا في أن ينال شيئًا من دنياه. والخلاصة: لو شئت أن أجعل الدنيا، مع رسلي، حتى لا يخالفوا .. لفعلت، لكني أردت أن ابتلي العباد بهم، وابتليهم بالعباد، فينالهم منهم الأذى، ويناصبوهم العداء، فاصبروا على البلاء، فقد علمتم ما وعد الله به الصابرين {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}؛ أي: وربك أيها الرسول، بصير بمن يجزع، وبمن يصبر، على ما امتحن به من المحن، ويجازي كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب. وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم، فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم". هذا لفظ البخاري، ولمسلم "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". واعلم: أن العبد، لا بد له من السكون إلى قضاء الله تعالى، في حال فقره وغناه، ومن الصبر على كل أمر يرد عليه من مولاه، فإنه تعالى بصير بحاله، مطلع عليه في كل فعاله، وربما يشدد المحنة عليه بحكمته، ويمنع مراده عنه، مع كمال قدرته. الإعراب {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}. {تَبَارَكَ}: فعل ماض جامد. {الَّذِي}: فاعل. والجملة مستأنفة استئنافًا

نحويًا. {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. والجملة صلة الموصول {عَلَى عَبْدِهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {نَزَّلَ}. {لِيَكُونَ}: اللام حرف جر وتعليل. {يكون}: فعل مضارع ناقص، منصوب بأن المضمرة بعد لام كي، واسمها ضمير مستتر يعود على عبده، أو على الفرقان، أو على الله سبحانه. {لِلْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {نَذِيرًا}، قدم عليه للفاصلة. {نَذِيرًا}: خبرها. وجملة {يكون} مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكونه نذيرًا، الجار والمجرور متعلق بـ {نَزَّلَ}. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}. {الَّذِي}: بدل من الموصول الأول، أو عطف بيان منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو منصوب على المدح. {لَهُ}: خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السماوات. والجملة صلة الموصول. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}. جازم وفعل مجزوم، وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به معطوف على جملة الصلة. {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة. {لم}: حرف جزم. {يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم}. {له}: خبر مقدم لـ {يَكُنْ}. {شَرِيكٌ}: اسمها مؤخر. {فِي الْمُلْكِ}: جار ومجرور متعلق بـ {شَرِيكٌ}. والجملة معطوفة على جملة الصلة أيضًا. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة الصلة. وهذه الجملة بمنزلة العلة لما قبلها. {فَقَدَّرَهُ}: {الفاء}: عاطفة. {قدره}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {تَقْدِيرًا}: مفعول مطلق. والجملة معطوفة على جملة خلق. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}. {وَاتَّخَذُوا}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان ما عليه الكفار من

عبادة الأصنام. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لاتخذوا. {آلِهَةً}: مفعول أول له. {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل النصب صفة أولى لـ {آلِهَةً}. {وَهُمْ}: مبتدأ. {يُخْلَقُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة {لَا يَخْلُقُونَ} على كونها صفة ثانية لـ {آلِهَةً}. ومعنى كونهم مخلوقين أن العابدين ينحتونهم ويصورونهم. {وَلَا يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُخْلَقُونَ} على كونها صفة ثالثة لـ {آلِهَةً}. {لِأَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَمْلِكُونَ}. {ضَرًّا} مفعول به له. {وَلَا نَفْعًا}: معطوف على ضرًا. {وَلَا يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُخْلَقُونَ} على كونها صفة رابعة لـ {آلِهَةً}. {مَوْتًا}: مفعول به. {وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}: معطوفان على موتًا. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة، مسوقة لحكاية أباطيلهم، المتعلقة بالمنزل. والمنزل عليه معًا، وإبطالها. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {إِنْ} نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر. {إِفْكٌ}: خبر {هَذَا}. والجملة في محل النصب مقول {قال}. {افْتَرَاهُ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {إِفْكٌ}. {وَأَعَانَهُ}: فعل ومفعول به. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {قَوْمٌ}: فاعل. {آخَرُونَ}: صفة لـ {قَوْمٌ}. والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة {افْتَرَاهُ}. {فَقَدْ جَاءُوا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، لكون ما قبلها علة لما بعدها. {قد}: حرف تحقيق. {جَاءُوا}: فعل وفاعل. وجاء هنا، بمعنى فعل، يتعدى إلى مفعول. {ظُلْمًا}: مفعول به. {وَزُورًا}: معطوف عليه. وجملة {جاء} معطوفة على جملة {قال} على كونها مفرعة عليها. وفي "الفتوحات" {الفاء}: لترتيب ما بعدها على ما قبلها, لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة، بل على أن

الثاني، هو عين الأول حقيقة، وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري. وقد لتحقيق ما جاؤوا به من الظلم والزور. اهـ. "أبو السعود". اهـ. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على قال الذين. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: هذا القرآن أساطير الأولين، أو مبتدأ. وجملة {اكْتَتَبَهَا}: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قالوا {اكْتَتَبَهَا}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب حال، من أساطير الأولين على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني خبر له. {فَهِيَ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {هي}: مبتدأ. {تُمْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الأساطير. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {تُمْلَى}. {بُكْرَةً}: ظرف متعلق بـ {تُمْلَى}. {وَأَصِيلًا}: معطوف على {بُكْرَةً}. وجملة {تُمْلَى} في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {اكتتبها}. {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {أَنْزَلَهُ}: فعل ومفعول به. {الَّذِي}: فاعل {أنزل}. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الموصول. {السِّرَّ}: مفعول به. والجملة صلة الموصول. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور حال من السر. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله. {غَفُورًا}: خبر أول لـ {كَانَ}. {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أو مستأنفة

مسوقة في بيان قبائحهم، التي قالوها في شأن الرسول، وهي ستة كما ستأتي، والأخيرة منها هي قوله: {رَجُلًا مَسْحُورًا}. {مَالِ}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي المضمن للإنكار في محل الرفع مبتدأ. {هَذَا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. {الرَّسُولِ}: بدل من اسم الإشارة، والتقدير: أي شيء ثابت لهذا الرسول. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا}. وفي "الكشاف": {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} وقعت اللام مفصولة عن هذا في المصحف، خارجة عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف سنة لا تغير. اهـ. {يَأْكُلُ الطَّعَامَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {الرَّسُولِ} ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب، حال من اسم الإشارة. والعامل في الحال هو الاستقرار العامل في الجار، أو نفس الجار، ذكره أبو البقاء. {وَيَمْشِي}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {يَأْكُلُ}. {فِي الْأَسْوَاقِ}: متعلق بـ {وَيَمْشِي}. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {مَلَكٌ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالوا}. {فَيَكُونَ}: الفاء: عاطفة سببية. {يكون}: فعل مضارع ناقص، منصوب بأن مضمرة وجوبًا، بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب التحضيض. واسمها ضمير يعود على ملك. {مَعَهُ}: ظرف مكان، حال من {نَذِيرًا}. {نَذِيرًا}: خبر {يكون}. وجملة {يكون} صلة أن المضمرة. {أن} مع صلتها، في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد، من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: هلا يكن إنزال ملك إليه فكونه نذيرًا معه. {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم. {يُلْقَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {إِلَيْهِ}: متعلق به. {كَنْزٌ}: نائب فاعل ليلقى. والجملة معطوفة على جملة {أُنْزِلَ}، وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنه بمعنى المضارع، إذ التقدير: لولا ينزل إليه ملك، أو يلقى إليه كنز. {أَوْ تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص.

{لَهُ}: خبر مقدم لها. {جَنَّةٌ}: اسمها مؤخر. والجملة معطوفة أيضًا على جملة {أُنْزِلَ}. {يَأْكُلُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الرسول. {مِنْهَا}: متعلق بـ {يَأْكُلُ}. والجملة في محل الرفع صفة لجنة. {وَقَالَ الظَّالِمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {وَقَالُوا}. {إن}: نافية. {تَتَّبِعُونَ}: فعل وفاعل. {إِلَّا}: أداة حصر. {رَجُلًا}: مفعول به. {مَسْحُورًا}: صفة {رَجُلًا}. {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}. {انْظُرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام، للاستفهام التعجبي في محل النصب على الحال من فاعل {ضَرَبُوا} معلقة ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {ضَرَبُوا}: فعل وفاعل. {لَكَ}: متعلق به. {الْأَمْثَالَ}: مفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب، مفعول {انْظُرْ} معلقة عنها باسم الاستفهام. {فَضَلُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {ضَرَبُوا}. {فَلَا} الفاء: عاطفة. {لا}: نافية. {يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {ضلوا}. {تَبَارَكَ الَّذِي}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إن}: حرف شرط. {شَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الموصول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها. وجملة {إِن} الشرطية صلة الموصول. {لَكَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}. {خَيْرًا} مفعول أول له. {مِنْ ذَلِكَ}: متعلق بـ {خَيْرًا}. {جَنَّاتٍ}: بدل من خيرًا منصوب بالكسرة. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل {تَجْرِي} وجملة {تَجْرِي} في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ}. {وَيَجْعَلْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الموصول، معطوف على محل {جَعَلَ} الواقع جوابًا للشرط. {لَكَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {يجعل}. {قُصُورًا}: مفعول أول له.

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، أضرب بها عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة من فنون العذاب. اهـ. "أبو السعود". {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل. {بِالسَّاعَةِ}: متعلق بـ {كَذَّبُوا}. والجملة معطوفة على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أو مستأنفة. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {كَذَّبُوا}. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أعتدنا}. {كَذَّبَ}: فعل وفاعل مستتر على {من}. والجملة صلة {من} الموصولة. {بِالسَّاعَةِ}: متعلق بـ {كَذَّبَ}. {سَعِيرًا}: مفعول {أعتدنا}. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {رَأَتْهُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {السعير}، ومفعول به. {مِنْ مَكَانٍ}: جار ومجرور حال من المفعول، أو من الفاعل. {بَعِيدٍ}: صفة لـ {مَكَانٍ}. والجملة في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها. {سَمِعُوا}: فعل وفاعل. {لَهَا}: حال من {تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {تَغَيُّظًا}: مفعول به. {وَزَفِيرًا}: معطوف عليه. والجملة جواب {إذَا}. وجملة {إذَا} الشرطية في محل النصب صفة لـ {سَعِيرًا}. {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف مضمن معنى الشرط. {أُلْقُوا}: فعل ونائب فاعل. والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {مِنْهَا}: حال من مكانًا؛ لأنه في الأصل، صفة نكرة قدمت عليها. {مَكَانًا}: ظرف متعلق بـ {أُلْقُوا}. {ضَيِّقًا}: صفة لـ {مَكَانًا}. {مُقَرَّنِينَ}: حال من الواو في {أُلْقُوا}. {دَعَوْا}: فعل وفاعل جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب. {هُنَالِكَ}: اسم إشارة في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بـ {دَعَوْا}. {ثُبُورًا}: مفعول به

لـ {دَعَوْا}. وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله {إِذَا رَأَتْهُمْ} على كونها صفة لـ {سَعِيرًا}. {لَا تَدْعُوا}: ناهية جازمة. {تَدْعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {الْيَوْمَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {تَدْعُوا}. {ثُبُورًا}: مفعول به. {وَاحِدًا}: صفة له. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا. {وَادْعُوا}: فهل أمر وفاعل. {ثُبُورًا}: مفعول به. {كَثِيرًا}: صفة له. والجملة معطوفة على جملة {لَا تَدْعُوا}. {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {أَذَلِكَ}: الهمزة فيه للاستفهام التقريعي التهكمي. {ذلك خيرٌ}: مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَمْ}: عاطفة. {جَنَّةُ الْخُلْدِ}: معطوف على {ذلك}. {الْخُلْدِ}: مضاف إليه. {الَّتِي}: في محل الرفع صفة لـ {جَنَّةُ الْخُلْدِ}. {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وعدها المتقون. {كَانَتْ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على الجنة. {لَهُمْ}: حال من {جَزَاءً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {جَزَاءً}: خبر {كَانَ}. {وَمَصِيرًا}: معطوف على {جَزَاءً}. وجملة {كَانَتْ} في محل النصب حالة من {جَنَّةُ الْخُلْدِ}. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم. {فِيهَا}: حال من ضمير {لَهُمْ}، أو من الضمير المستكن في الظرف. {ما}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. وجملة {يَشَاءُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف, تقديره: ما يشاؤونه. وجملة {كَانَ} حال ثانية من {جَنَّةُ الْخُلْدِ}. {خَالِدِينَ}: حال من الهاء في لهم، أو من الواو في {يَشَاءُونَ}. {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {مَا يَشَاءُونَ}، أو على الوعد المفهوم من {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. {عَلَى رَبِّكَ}: حال من {وَعْدًا}. {وَعْدًا}: خبر {كَانَ}. {مَسْئُولًا}: صفة لـ {وَعْدًا}. وجملة

{كَانَ} مستأنفة. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)}. {وَيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا يوم يحشرهم. والجملة المحذوفة مستأنفة. {يَحْشُرُهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ {يوم}. {وَمَا}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على ضمير المفعول، أو منصوب على المعية. {يَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وما يعبدونه {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {يَعْبُدُونَ}. {فَيَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {يَحْشُرُهُمْ}. {أَأَنْتُمْ}: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. {أنتم}: مبتدأ. {أَضْلَلْتُمْ}: فعل وفاعل. {عِبَادِي}: مفعول به ومضاف إليه. {هَؤُلَاءِ}: بدل من {عِبَادِي}، أو صفة له؛ أي: المشار إليهم وجملة {أَضْلَلْتُمْ} في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {يقول}. {أَمْ}: حرف عطف. {هم}: مبتدأ. وجملة {ضَلُّوا}: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {السَّبِيلَ}: منصوب بنزع الخافض, لأن أصله ضلوا عن السبيل. {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {سُبْحَانَكَ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: نسبحك سبحانًا. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا. {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير الشأن مستتر فيها. {يَنْبَغِي}: فعل مضارع. {لَنَا}: متعلق به. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {نَتَّخِذَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب. بـ {أَن}. {مِنْ دُونِكَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني

لـ {اتخذ}. {مِنْ أَوْلِيَاءَ}: {من}: زائدة لتأكيد النفي. {أَوْلِيَاءَ}: مفعول أول لـ {اتخذ}. وجملة {نَتَّخِذَ} مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {يَنْبَغِي}؛ أي: ما كان ينبغي لنا اتخاذ أولياء من دونك. وجملة {يَنْبَغِي} في محل النصب خبر {كَانَ}. وجملة {كَانَ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {مَتَّعْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. {وَآبَاءَهُمْ} معطوف على ضمير المفعول، وجملة الاستدراك معطوفة على جملة {كَانَ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى إلى. {نَسُوا الذِّكْرَ}: فعل وفاعل ومفعول به في محل النصب بأن المضمرة بعد حتى. والجملة في تأويل مصدر، مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى. والجار والمجرور متعلق بـ {مَتَّعْتَهُمْ}؛ أي: ولكن متعتهم إلى نسيانهم الذكر. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {قَوْمًا}: خبره. {بُورًا}: صفة {قَوْمًا}. وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {نَسُوا}. {فَقَدْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم مقالة المعبودين في الجواب، وأردتم بيان مرادهم بتلك المقالة .. فأقول لكم قد كذبوكم. {قد}: حرف تحقيق. {كَذَّبُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {كَذَّبُوكُمْ}. والباء: بمعنى في. وجملة {تَقُولُونَ}: صلة ما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: في ما تقولونه. {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {ما}: نافية. {تَسْتَطِيعُونَ}: فعل وفاعل معطوف على كذبوكم. {صَرْفًا}: مفعول به. {وَلَا نَصْرًا}: معطوف على {صَرْفًا}. {وَمَن}. {الواو}: استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما. {يَظْلِم}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها. وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {مِنْكُمْ}: حال من فاعل {يَظْلِمْ}؛ أي: كائنًا منكم أيها المكلفون {نُذِقْهُ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على الله مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها. {عَذَابًا}: مفعول به. {كَبِيرًا}: صفة له. وجملة {من} الشرطية مستأنفة.

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم -. {قَبْلَكَ}: ظرف متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} أيضًا، أو بمحذوف صفة لمفعول محذوف، تقديره: أحدًا من المرسلين. {إِلَّا}: أداة استثناء، والمستثنى محذوف، تقديره: إلا رسلًا قيل فيهم: إنهم ليأكلون الطعام إلخ، {رسلًا}: مستثنى منصوب على الاستثناء. قيل: فعل ماض مغير الصيغة. فيهم: جار ومجرور نائب فاعل لقيل. وجملة قيل: في محل النصب صفة لرسلًا، المحذوف الواقع مستثنى. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {لَيَأْكُلُونَ}: (اللام): حرف ابتداء زحلقت إلى الخبر. {يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي قدرناه. {وَيَمْشُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {لَيَأْكُلُونَ}. {فِي الْأَسْوَاقِ}: متعلق بـ {يمشون}. وقد تلاطمت أقوال العلماء في إعراب هذا المقام، فراجعها. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {لِبَعْضٍ}: حال من {فِتْنَةً}؛ لأنه كان في الأصل صفة لـ {فِتْنَةً} قدمت عليها. كقول الشاعر: لمية موحشًا طلل. أصله لمية طلل موحش. {فِتْنَةً}: مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا}. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، أو مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {أَتَصْبِرُونَ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري. {تصبرون}: فعل وفاعل. والجملة لفظها لفظ الاستفهام. ومعناها الأمر، إنشائية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها بمعنى {اصبروا} كقوله تعالى: {أَأَسْلَمْتُمْ} معناه: أسلموا. {وَكَانَ} {الواو}: عاطفة أو استئنافية. {كان ربك بصيرًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. والجملة معطوفة على جملة {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

التصريف ومفردات اللغة {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} من البركة، وهي كثرة الخير لعباده، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. ثم إن تبارك: فعل ماض جامد لا ينصرف، فلا يأتي منه مضارع ولا اسم فاعل، ولا مصدر. ولا يستعمل في غير الله تعالى. فائدة في بحث فعل الجامد: والفعل الجامد: هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردًا عن الزمان، والحدث المعتبرين في سائر الأفعال، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير بلفظ واحد، فهو لا يقبل التحول من صيغة إلى صيغة أخرى، بل يلزم صيغة واحدة، ماضيًا كان أو مضارعًا أو أمرًا، مثل عسى وليس ويهيط وهب، بمعنى: أحسب من أخوات ظن، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر. وأما هب المشتق من الهبة فإنه فعل أمر متصرف، فماضيه وهب، ومضارعه يهب. والفعل الجامد ثلاثة أقسام ما يلازم صيغة الماضي. مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله سبحانه. وما يلازم صيغة المضارع، مثل: يهيط ومعناه: يصيح ويفح، يقال: ما زال منذ اليوم يهيط هيطًا، وهو مضارع لا ماضي له، كما في "لسان العرب" و"تاج العروس". ويقال: ما زال في هيط وميط بفتح أولهما، وفي هياط ومياط بكسر أولهما؛ أي: ضجاج وشر جلبة. وقيل: في هياط ومياط، في دنو وتباعد. والهياط: الإقبال والميط الإدبار، والهائط: الجائي، والمائط: الذاهب. والمهايطة والهياط: الصياح والجلبة، وما يلازم صيغة الأمر. نحو هب بمعنى: أحسب وهات وتعال وهلم، على لغة تميم؛ لأنه عندهم: فعل يقبل علامته، فتلحقه الضمائر. أما في لغة الحجاز، فهي اسم فعل أمر؛ لأنها عندهم تكون بلفظ واحد للجميع، ومن الأفعال الجامدة قل بصيغة الماضي للنفي المحض، وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل، فلا يليه حينئذٍ إلا الفعل، ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي، نحو قلما فعلت كذا، وقلما أفعله؛ أي: ما فعلته ولا أفعله. ومثل قلما في عدم التصرف طالما وكثر ما وقصر ما، وشدما، فإن ما فيهن زائدة للتوكيد، كافة لهن عن العمل فلا فاعل لهن ولا يليهن إلا

فعل، فهن كقلما. ومن الأفعال الجامدة قولهم سقط في يده، بمعنى ندم وتحير وزل وأخطأ، وهو ملازم صورة الماضي المجهول. قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} وقد تقدم بحثه. {الْفُرْقَانَ}: القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل. وقيل: لأنه نزل مفرقًا في أوقات كثيرة، بحسب الوقائع. وفي "المصباح" فرقت بين الشيئين فرقًا. من باب قتل، فصلت أبعاضه، وفرقت بين الحق والباطل فصلت أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، في قوله تعالى: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وفي لغة، من باب ضرب، وقرأ بها بعض التابعين. قال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين، فافترقا، مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا، مثقل، فجعل المخفف في المعاني، والمثقل في الأعيان، والذي حكاه غيره أنهما بمعنى، والتثقيل مبالغة. {لِلْعَالَمِينَ} قال الإِمام الراغب: العالم اسم للفلك، وما يحويه من الجواهر والأعراض، وهو في الأصل اسم لما يعلم به، كالطابع والخاتم لما يطبع ويختم به. وجعل بناؤه على هذه الصيغة لسكونه كالآلة، فالعالم آلة في الدلالة على صانعه. وأما جمعه، فلأن كل نوع قد يسمى عالمًا، فيقال: عالم الإنسان وعالم الماء، وعالم النار. وأما جمعه جمع السلامة فلكون الناس في جملتهم، والإنسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب حكمه، انتهى. قال ابن الشيخ: جمع بالواو والنون؛ لأن المقصود استغراق أفراد العقلاء، من جنس الجن والأنس، فإن جنس الملائكة، وإن كان من جملة أجناس العالم، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسولًا إلى الملائكة فلم يكن من العالمين، المكلفين إلا الجن والإنس، فهو رسول إليهما جميعًا، انتهى. {نَذِيرًا} النذير، بمعنى: المنذر، والإنذار: إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير إخبار فيه سرور. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} قال في "المفردات": تخذ بمعنى أخذ، واتخذ افتعل منه. والولد المولود. ويقال: الواحد والجمع والصغير والكبير والذكر والأنثى.

{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} الافتراء: الاختلاق، والكذب. من قولهم: افتريت الأديم (الجلد) إذا قطعته للإفساد، والفرق بين الافتراء والكذب، أن الافتراء: هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب: قد يكون على وجه التقليد للغير فيه، كما في الأسئلة المقحمة. {فَقَدْ جَاءُوا}؛ أي: أتوا وفعلوا. {ظُلْمًا}: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى ما هو مبرأ منه. والزور الكذب. قال الراغب: قيل: للكذب زور لكونه مائلًا عن جهته؛ لأن الزور ميل في الزور؛ أي: وسط الصدر، والأزور المائل الزور. {اكْتَتَبَهَا}؛ أي: أمر غيره بكتابتها ونسخها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أميًا لا يقرأ الخط ولا يكتب باعترافهم. وقال في "المفردات": الاكتتاب متعارف في الاختلاف. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} جمع أسطار جمع سطر، أو جمع أسطورة كأحدوثة وأحاديث وأعجوبة وأعاجيب. قال في "القاموس": السطر الصف من الشيء، الكتاب والشجر وغيره. والخط والكتابة والقطع بالسيف، ومنه الساطر للقصاب، وأسطره كتبه والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها. {تُمْلَى عَلَيْهِ}؛ أي: تقرأ عليه، فليس المراد بالإملاء هنا معناه الأصلي، لأن الإملاء في الأصل، عبارة عن إلقاء الكلام على الغير ليكتبه. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}؛ أي: صباحًا ومساءً والمراد دائمًا. وفي ضرام السقط أول اليوم الفجر، ثم الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم الضحوة، ثم الهجيرة، ثم الظهر، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق اهـ. {السِّرَّ}؛ أي: الغيب؛ أي: ما غاب عنا. {الطَّعَامَ}: وهو كل ما يتناول من الغذاء كما مر. و {الْأَسْوَاقِ} جمع سوق، وهو الموضع الذي يجلب إليه المتاع، ويساق. سمي سوقًا لقيامهم فيها على سوقهم.

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} والكنز المال المكنوز؛ أي: المجموع المحفوظ. {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}؛ أي: سحر فاختل عقله، والسحر، مشتق من السحر، الذي هو اختلاط الضوء والظلمة من غير تخلص لأحد الجانبين، والسحر له وجه إلى الحق، ووجه إلى الباطل، فإنه يخيل إلى المسحور أنه فعل ولم يفعل. {الْأَمْثَالَ}: الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال. قال بعضهم: مثلوك بالمسحور، والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولًا، والناقص عن القيام بالأمور، إذ طلبوا أن يكون معك مثلك. {قُصُورًا}؛ أي: بيوتًا رفيعة في الدنيا، كقصور الجنة. قال الراغب: يقال: قصرت كذا، ضممت بعضه إلى بعض. ومنه سمي القصر. انتهى. {سَعِيرًا} والسعير: النار الشديدة الاشتعال. وفي "المصباح" وسعرت النار سعرًا من باب نفع، وأسعرتها إسعارًا أو قدتها فاستعرت اهـ. وفي "المختار": سعر النار والحرب: هيجها وألهبها. وبابه قطع. قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)} قرىء مخففًا ومشددًا. والتشديد للمبالغة، واستعرت النار وتسعرت توقدت، والسعير: النار. وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} قال الفراء: في عناء وعذاب السعر: الجنون. اهـ. {إِذَا رَأَتْهُمْ}؛ أي: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد، من قولهم: (دور تتراءى)؛ أي: تتناظر. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما"؛ أي: لا تتقاربان، بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك في أمور الدين. {تَغَيُّظًا} التغيظ: إظهار الغيظ الذي هو الغضب الكامن في القلب، كما قاله الشهاب. وفي "المفردات" التغيظ: إظهار الغيظ، وهو أشد الغضب، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع، والغضب: هو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه. {وَزَفِيرًا} والزفير: إخراج النفس بعد مدة. وفي "السمين" قوله: {سَمِعُوا لَهَا

تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} إن قيل التغيظ: لا يسمع فما معنى هذا الكلام، فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على حذف مضاف؛ أي: صوت تغيظها. والثاني: أنه على حذف تقديره: سمعوا ورأوا تغيظًا وزفيرًا، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به؛ أي: رأوا تغيظًا وسمعوا زفيرًا. والثالث: أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين؛ أي: أدركوا لها تغيظًا وزفيرًا اهـ. {مُقَرَّنِينَ}؛ أي: مصفدين قد قرنت؛ أي: جمعت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. يقال: قرنت البعير بالبعير، جمعت بينهما، وقرنته بالتشديد على التكثير. ويقال: قرنت الأسارى في الحبال. وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب. قرنا الشيء بالشيء سنده به ووصل إليه. وقرن الثورين، جعلهما في نير واحد. وقرن البعيرين جمعهما في حبل. وهي في قوله تطالى: {مُقَرَّنِينَ} تفيد شيئين: التصفيد؛ أي: تقييد الأرجل وجمع الأيدي، والأعناق بالسلاسل. {ثُبُورًا} هلاكًا، يقال: ثبره الله، أهلكه هلاكًا دائمًا لا ينتعش بعده. ومن ثم يدعو أهل النار: واثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك ما ثبطك، وهذا مثبر فلانة لمكان ولادتها، حيث يثبرها النفاس. {جَنَّةُ الْخُلْدِ} هي التي لا ينقطع نعيمها ولا ينقل عنها أهلها، فإن الخلود، هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها. {جَزَاءً}؛ أي: ثوابًا، والجزاء: الغنى والكفاية. فالجزاء: ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ. والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم. {وَمَصِيرًا}؛ أي: مرجعًا، والفرق بين المصير والمرجع أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، ولا كذلك المرجع.

{مِنْ أَوْلِيَاءَ} جمع ولي بمعنى تابع؛ أي: عابد. فاولياء بمعنى الأتباع، وفي "الكرخي" من أولياء؛ أي: أتباعًا، فإن الولي كما يطلق على المتبوع، يطلق على التابع، كالمولى يطلق على الأعلى والأسفل، ومنه أولياء الشيطان؛ أي: أتباعه. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} والذكر، ما ذكر به الناس على ألسنة أنبيائهم. {بُورًا}؛ أي: هالكين، جمع بائر. كما في "المفردات". أو مصدر وصف به الفاعل مبالغة، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع. يقال: رجل بائر، وقوم بور، وهو الفاسد الذي لا خير فيه. قال الراغب: البوار فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبر البوار عن الهلاك. {صَرْفًا}؛ أي: دفعًا للعذاب. {وَمَنْ يَظْلِمْ}؛ أي: يكفر. {فِتْنَةً}؛ أي: بلية ومحنة. {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} قال الإِمام الغزالي: البصير: هو الذي يشاهد ويرى، حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وإبصاره أيضًا، منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان، فمن ارتكب معصية، فهو يعلم أن الله سبحانه يراه، فما أجسره فأخسره، ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة للتشريف في قوله: {عَلَى عَبْدِهِ} ذكره بهذا الوصف، ولم يذكره باسمه؛ لأن العبودية أشرف أوصاف الإنسان، وليس للمؤمن صفة أتم، ولا أشرف من العبودية, لأنها غاية التذلل، ولقد أحسن القاضي عياض في نظمه، حيث قال: وَمِمَّا زَادَنِيْ شَرَفًا وَتِيْها ... وَكِدْتُ بِأَخْمُصِيْ أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُوْليْ تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِيْ ... وَأَنْ صَيَّرْتَ أحْمَدَ لِي نَبِيَّا

ومنها: تقديم المعمول على عامله، رعاية للفاصلة في قوله: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وفيه الاكتفاء أيضًا؛ لأنه ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير؛ لأن السورة مكية، وفي ذلك الوقت، لم يصلحوا للتبشير. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {يَخْلُقُونَ} و {يُخْلَقُونَ} سمي ناقصًا لتغايره في الشكل. ومنها: الطباق بين {ضَرًّا} و {نَفْعًا} وبين {مَوْتًا} و {حَيَاةً}. ومنها: الحصر في قوله: {إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {ظُلْمًا} {وَزُورًا}. ومنها: إطلاق الجزء وإرادة الكل في قوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ}. ومنها: الاستفهام للتهكم والتحقير في قوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ}. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} تسجيلًا عليهم بوصف الظلم، وتجاوز الحد فيما قالوا. ومنها: إطلاق الملزوم، وإرادة اللازم في قوله: {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}؛ لأن المراد بالسحر هنا لازمه، وهو اختلال العقل. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} للمبالغة في التشنيع عليهم. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ، وزفيره، وهو صوت يسمع من جوفه، وهو تمثيل وصف النار بالاهتياج والاضطرام على عادة المغيظ والغضبان.

ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَرْسَلْنَا} و {الْمُرْسَلِينَ}. ومنها: الجناس غير التام، في قوله: {أَتَصْبِرُونَ} {بَصِيرًا} لتقديم بعض الحروف وتأخير البعض. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) اللهم اجعلنا من الصابرين على إذابة السفهاء والكفار، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا من لدنك قناعة وغنى، نبرأ بهما عما في أيدي الناس، وثبت أقدامنا في فهم كتابك الكريم، وبلغنا ما نرجوه من إرشاد عبادك بما تقدم لهم من نور، يهتدون به إلى صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين آمين. إلى هنا انتهى تفسير الجزء الثامن عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان" في تاريخ 6/ 2/ 1413 هـ الموافق 4/ 8/ 1992 م. الحمد لله الذي تتم به الصالحات، والصلاة والسلام على أفضل البريات سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الأمات، وجميع التابعين والتابعات، إلى يوم الحشر والقيامات. انتهى المجلد التاسع عشر من تفسير "حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن" ويليه المجلد العشرون وأوله {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الآية (21). صححت هذه النسخة بيد مؤلفه وانتهى تصحيحها في تاريخ 25/ 8/ 1417 هـ.

شعرٌ أَلاَ أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ ألاَ يَا رَجَائِيْ أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ ... فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِيْ ... عَلَى الزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ أتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ ... وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ آخرُ رَأَيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا ... أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى وَهُوَ لاَ يَدْرِيْ آخرُ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْت ... نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوْت

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [20]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ جَزَى اللَّهُ خِيرًا مَنْ تَأمَّلَ صَنْعَتِي ... وَقَابَلَ مَا فِيها مِنَ السَّهْوِ بالعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطأْتُ فِيه بفَضْلِه ... وفطْنَته أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِى آخرُ إِنْ تَجِدَ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلا ... جَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيهِ وعَلاَ آخرُ الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بهِ يَكُونُ وَرُبَّما نيْلَ بِاصْطِبَارِ ... مَا قِيلَ هَيْهات لاَ يكُوْنُ آخرُ السبَاقَ السباقَ قولًا وفِعْلًا ... حَذَّرِ النَّفْسَ حَسْرَة المَسْبُوقِ رَأيْتُ أخَا الدنْيا وَإِنْ كان ثَاوِيَا ... أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي آخرُ إِنَّما الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوتٍ آخرُ سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لنَا إلَّا ... مَا عَلَّمْتَ وَأَلْهَمْتَ لَنَا إِلْهَامًا آخرُ إِلهِي رَبِّ سَامِعَا ... عَلِّمْنَا عِلْمًا نَافِعَا وَفَّقْنَا يَسَارًا وَيُسرًا ... جَنِّبْنا إِعْسَارًا وَعُسْرًا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي سرح قلوبنا في ميادين التنزيل، وشرح صدورنا برشحات التفسير والتأويل، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الفرد الجليل، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيّه الحبيب الخليل، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء الثامن عشر من القرآن تفرّغت لتفسير الجزء التاسع عشر منه، راجيًا من الله سبحانه التوفيق والهداية لأقوم الطريق، فقلت وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا

أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما حكى أباطيل المشركين السالفة بطعنهم في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} .. أردف ذلك بذكر سخافات أخرى لهم في هذا الصدد، فقالوا: "هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بصدقه، أو نرى ربنا فينبئنا بذلك، ثم بين أن هذا عتو عظيم منهم، ثم أعقب هذا ببيان أنهم سيرون الملائكة حين الهول يوم الجزاء والحساب حين يقولون لهم: لا بشرى لكم اليوم، بل فيه منعكم من كل خير، فإن ما قدمتم من ¬

_ (¬1) المراغي.

عمل صالح في الدنيا هباء منثورًا، ثم أخبر بما يكون لأهل الجنة من خير المستقر وحسن المقيل في ظل ظليل، ونعم لا مقطوعة ولا ممنوعة حين يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}، ولعل في ذكر هذا ما يكون حافزًا لهم على مراجعة أنفسهم، وتخمير الرأي ليرشدوا إلى طريق السداد، ويقلعوا عما هم فيه من هوى متبع وشيطان مطاع. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين في سابق الآيات أن المشركين طلبوا إنزال الملائكة .. أردف هذا ببيان أنهم ينزلون حين ينتهي في هذا العالم الدنيوي، ويختل نظام الأفلاك والأرض والسموات، ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب، فيعض الكافر على يديه نادمًا على ما فات، ويتمنى أن لو كان قد أطاع الرسول فيما أمر ونهى، ولم يكن قد أطاع شياطين الإنس والجن الذين أضلوه السبيل، وخذلوه عن الوصول إلى محجة الصواب. قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) مقالاتهم الباطلة، وتعنتهم الظالم في الرسول من نحو قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، وقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، وقولهم في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، وقولهم فيه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} .. أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم، ورعاية لمصالحهم في دينهم ودنياهم، ثم سلاه سبحانه على ذلك بأن هذا ليس دأب قومك فحسب، بل إن كثيرًا من الأمم قد فعلوا مع رسلهم مثل هذا، فاقتد بأولئك الأنبياء، ولا تجزع، ثم وعده وعدًا كريمًا بأن يهديه إلى مطلبه، وينصره على عدوه، وكفى به هاديًا ونصيرًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) مطاعنهم في كتابه الكريم، كقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}، وقولهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} .. قفى على ذلك بذكر شبهة أخرى لهم؛ وهي قولهم: لو كان القرآن من عند الله حقًا لأنزله جملة واحدة، كما أنزلت التوراة جملة على موسى، والإنجيل جملة على عيسى، والزبور على داود، فرد الله عليهم مقالتهم، وبين لهم فوائد إنزاله منجمًا، فذكر منها تثبيت فؤاد - صلى الله عليه وسلم - بتيسير الحفظ وفهم المعنى وضبط الألفاظ إلى نحو أولئك، ثم وعده بأنهم كلما جاؤوا بشبهة دحضها بالجواب الحق والقول الفصل الذي يكشف وجه الصواب، وبعدئذ ذكر حال المشركين، وأنهم حين يحشرون يكونون في غاية الذل والهوان، ويجرون على وجوههم إلى جهنم، وهم مصفدون بالسلاسل والأغلال. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل وحدانيته ونفي الأنداد، وفي النبوة، وأجاب عن شبهات المنكرين لها، وفي أحوال يوم القيامة وأهوالها التي يلقاها الكافرون، وفي النعيم الذي يتفضل به على عباده المتقين .. أردف ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذبوهم، فحل بهم النكال والوبال؛ ليكون في ذلك عبرة لقومه المشركين الذين كذبوا رسوله حتى لا يحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم إذا هم تمادوا في تكذيبهم، وأصروا على بغيهم وطغيانهم، وقد ذكر من ذلك خمس قصص: قصة موسى مع فرعون وقومه، وقصة نوح وقومه، وقصة هود مع قومه عاد، وقصة صالح مع قومه ثمود، وقصة أصحاب الرس. قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬2) مطاعن المشركين في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأورد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

شبهاتهم في ذلك .. أردف هذا ببيان أن ذلك ما كفاهم، وليتهم اقتصروا عليه، بل زادوا على ذلك الاستهزاء به والحط من قدره، حتى لقد قال بعضهم لبعض: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}، بل لقد غالوا في ذلك فسموا دعوته إضلالًا، فرد الله عليهم مقالهم، وأبان لهم أنه سيظهر عليهم حين مشاهدة العذاب من الضال ومن المضل، ثم عجب رسوله من شناعة أحوالهم بعد حكاية أقوالهم وأفعالهم القبيحة، وأرشد إلى أن مثل هؤلاء يبعد أن يزدجروا عما هم فيه من الغي بنصحك وإرشادك، فإن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون، وما هم إلا كالأنعام أو أضل منها سبيلًا. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد، وسخيف مذاهبهم وآرائهم .. أعاد الكرة مرة أخرى، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانًا، وتتوارد علينا ليلًا ونهارًا، وتكون دليلًا على وجود الإله القادر الحكيم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في "الدلائل" بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أبا معيط كان يجلس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلًا، فقال لامرأته: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط، فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: ما لك لا ترد عليّ تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت، فقال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: فما يبرىء صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه، وتبزق في وجهه، وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم، ففعل، فلم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مسح ¬

_ (¬1) المراغي.

[21]

وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: "إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا"، فلما كان يوم بدر، وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: أخرج معنا، قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحل به جمله - وقع في الوحل - في جدد من الأرض، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} أخرجه السيوطي في "الدر المنثور" (ج 5/ ص 68). التفسير وأوجه القراءة 21 - {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، وهذه الجملة معطوفة على جملة قوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ...} الخ؛ أي: وقال المشركون الذين لا يأملون وعدنا على الطاعة بالثواب، ولا يخافون وعيدنا على المعصية بالعقاب، وأصل الرجاء (¬1): ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة. واللقاء: يقال في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة، وملاقاة الله سبحانه عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه تعالى؛ أي: الرجوع إلى حيث لا حاكم، ولا مالك سواه. والمعنى: وقال الذين لا يتوقعون الرجوع إلينا للمجازاة؛ أي: ينكرون البعث والحشر والحساب والجزاء؛ وهم كفار مكة: {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلا {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: بطريق الرسالة لكون البشرية منافية للرسالة بزعمهم؛ أي: قالوا: هلا أنزلت الملائكة علينا، فيخبرونا أن محمدًا صادق فيما يدعيه، أو هلا أنزلوا علينا رسلًا يرسلهم الله تعالى إلينا؛ لأن البشر لا يصلح للرسالة {أَوْ} هلا {نَرَى رَبَّنَا} جهرة وعيانًا, فيأمرنا بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه؛ لأن هذا الطريق أحسن وأقوى في الإفضاء إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

الإيمان وتصديقه، ولما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه. ومن لطائف الشيخ نجم الدين في تأويلاته أنه قال (¬1): يشير سبحانه إلى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة والحشر من الكفرة يتمنون رؤية ربهم بقولهم: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فالمؤمنون الذين يدعون أنهم يؤمنون بالآخرة والحشر، كيف ينكرون رؤية ربهم وقد وردت بها النصوص، فلمنكري الحشر عليهم فضيلة بأنهم طلبوا رؤية ربهم، وجوزوها كما جوزوا إنزال الملائكة، ولمنكري الرؤية ممن يدعي الإيمان شركة مع منكري الحشر في جحد ما ورد الخبر والنقل؛ لأن النقل كما ورد يكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان, انتهت. ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه بقوله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} واللام في قوله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أضمر هؤلاء القائلون الاستكبار عن الحق والعناد به {فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: في قلوبهم، كما في قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}، أو المعنى (¬2): لقد أظهروا الكبر والعظم والترفع في شأن أنفسهم، يعني: وضعوا لأنفسهم وجعلوا لها قدرًا ومنزلة ورفعة حيث أرادوا لأنفسم الرسل من الملائكة، ورؤية الرب تعالى {وَعَتَوْا}؛ أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان {عُتُوًّا}؛ أي: تجاوزًا {كَبِيرًا}؛ أي: بالغًا إلى أقصى غاياته من حيث أنهم عاينوا المعجزات القاهرة، وأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة معاينة الملائكة الطيبة، ورؤية الله تعالى التي لم ينلها أحد في الدنيا من أفراد الأمم وآحاد الأنبياء غير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو إنما رآه تعالى بعد العبور عن حد الدنيا، وهو الأفلاك السبعة التي هي من عالم الكون والفساد. ووصفه (¬3) بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في ¬

_ (¬1) التأويلات النجمية. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذاك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغًا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعد من المستعدين له، وهكذا كل من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده. وإنما قال هنا (¬1): {عُتُوًّا} على الأصل، وفي سورة مريم: {عِتِيًّا} على استثقال اجتماع الواوين، والقلب لمناسبة الفواصل هناك. وحاصل معنى الآية: أي (¬2) وقال الذين ينكرون البعث والحشر، ويطعنون في صدق الرسول فيما أوحي به إليه: هلا أنزل علينا الملائكة، فيخبرونا بأن محمدًا صادق فيما يدعي، فإنّا في شك من أمره، وفي ريب مما يخبر به، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا، ونعلم أنه هو حقًا بأمارات لا يعتريها لبس، ثم يقول لنا: إني أرسلت إليكم محمدًا من لدني بشيرًا ونذيرًا، فإن تم لنا ذلك صدقناه وآمنا به، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي في الإنكار والعناد والعتو، ومن ثم قال: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}؛ أي: والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم، وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزًا بلغ أقصى الغاية تكذيبًا برسوله، وشموخًا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه، ولم يأبهوا بباهر معجزاته، ولا كثرة آياته، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة في الطلب. وفي الحق أن شأنهم لعجب، وأن العقل ليحار في أمرهم ويدهش لقصور عقولهم، وسذاجة آرائهم، وضعف أحلامهم {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)}، ولله در القائل: وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ ... رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لاَ يَرَى ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة، لا على الوجه الذي طلبوه، ولا على الصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم، فقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[22]

22 - {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}. وفي "الأسئلة المقحمة" (¬1): فإذا كان رؤية الله جائزة، فكيف وبخهم على سؤالهم لها؟ قلنا: التوبيخ بسبب أنهم طلبوا ما لم يكن لهم طلبه؛ لأنهم بعد أن عاينوا الدليل قد طلبوا دليلًا آخر، ومن طلب الدليل بعد الدليل .. فقد عتا عتوًا ظاهرًا، ولأنهم كلفوا الإيمان بالغيب فطلبوا رؤية الله، وذلك خروج عن موجب الأمر وعن مقتضاه، فإن الايمان عند المعاينة لا يكون إيمانًا بالغيب، فلهذا وصفهم بالعتو. وانتصاب {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} بفعل محذوف؛ أي: واذكر لهم يا محمد أهوال يوم يرى الكفار الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو يوم القيامة. ثم أخبر، فقال: {لَا بُشْرَى}؛ أي: لا بشارة بالمغفرة ودخول الجنة {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم يرى الكفار الملائكة {لِلْمُجْرِمِينَ}؛ أي: للكافرين، وهذا إظهار في مقام الإضمار، أي: لا بشرى لهم. ويجوز (¬2) أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} والمعنى: لا يبشر المجرمون يوم يرون الملائكة. و {يَوْمَئِذٍ} مؤكد لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} والمعنى: أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم، أو لا توجد لهم البشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. والمراد بالملائكة: ملائكة العذاب. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع هم الذين اجترموا الكفر بالله واقترفوه أيًا كانوا، لا خصوص القائلين الذين سبق ذكرهم. ¬

_ (¬1) الأسئلة المقحمة. (¬2) زاد المسير.

وعبارة "روح البيان" هنا: قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} لم يقل: يوم تنزل الملائكة ... إلخ، إيذانًا (¬1) من أول الأمر بأن رؤيتهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود، و {يَوْمَ} منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ}؛ لأنه في معنى: لا يبشر يومئذ المجرمون، لا بنفس بشرى؛ لأنه مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله، وكذا لا يجوز أن يعمل ما بعد لا فيما قبلها، وأصل الجرم: قطع الثمرة عن الشجر، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ووضع المجرمون موضع الضمير تسجيلًا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر، و {يَوْمَئِذٍ} تكرير للتأكيد، بين الله تعالى أن الذي طلبوه سيوجد، ولكن يلقون منه ما يكرهون حيث لا بشرى لهم، بل لهم إنذار وتخويف وتعذيب بخلاف المؤمنين، فإن الملائكة تتنزل عليهم ويبشرونهم ويقولون لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا. {وَيَقُولُونَ}؛ أي: يقول الكفرة المجرمون عند مشاهدة الملائكة، وهو معطوف على ما ذكر من الفعل المنفي المقدر المعلوم من {لَا بُشْرَى}؛ أي: لا يبشر المجرمون يومئذ، ويقولون: إذا رأوا الملائكة، وفزعوا منهم عند الموت ويوم القيامة: {حِجْرًا مَحْجُورًا}؛ أي: استعاذة مستعاذة منكم، وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول الشدة، ويضعونها موضع الاستعاذة، والحجر: المنع. والمحجور: الممنوع، جعل صفة لحجر؛ لقصد التأكيد كيوم أيَوْمٍ. وَليل أَلَيْلٍ. والمعنى نسأل الله تعالى أن يحجر المكروه عنا حجرًا، ويمنع شركم عنا منعًا أكيدًا بحيث لا يلحقنا شركم وتعذيبكم إيانا. وقيل (¬2): معنى {حِجْرًا مَحْجُورًا} بعدًا بعيدًا بيننا وبينكم. ويقال: إن قريشًا كانوا إذا استقبلهم أحد بشر يقولون: حاجورًا حاجورًا، حتى يعرف أنهم من الحرم، فيكف عنهم، فأخبر تعالى أنهم يقولون يوم القيامة، فلا ينفعهم. وقيل: الضمير في {يَقُولُونَ} يعود إلى الملائكة. قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) تنوير المقياس.

[23]

معناه: تقول (¬1) الملائكة حرامًا محرمًا أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول لهم الملائكة: حرامًا محرمًا عليكم أن تكون لكم البشرى. وقرأ الجمهور: {حِجْرًا} - بكسر الحاء -، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة ومعاذ القارئ: {حُجرا} - بضم الحاء -، وقرىء أيضًا بفتحها كما في "المراح". والمعنى؛ أي: (¬2) يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة، فلا بشرى لهم بخير؛ إذ يقولون لهم: {حِجْرًا مَحْجُورًا}؛ أي: محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة؛ أي: جعلهما الله تعالى حرامًا عليكم؛ إذ هما لا يكونان إلّا لمن أعترف بوحدانية الله تعالى، وصدق رسوله. والخلاصة: لا بشرى يومئذ للكافرين، وتقول لهم الملائكة: حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين. 23 - ثم بين السبب في وبالهم وخسرانهم، فقال: {وَقَدِمْنَا}؛ أي: عمدنا وقصدنا {إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}؛ أي: إلى ما عمل الكفار في الدنيا من أعمال الخير التي لو عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها من صلة رحم وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف وفك أسير، وإكرام يتيم مثلًا؛ أي: قصدنا إلى إبطالها في الآخرة {فَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: فجعلنا عملهم ذلك {هَبَاءً}؛ أي: غبارًا {مَنْثُورًا}؛ أي: مفرقًا؛ أي: كالهباء المنثور في الحقارة وعدم الانتفاع بها؛ أي: تعلقت إرادتنا أزلًا بإبطال ثوابها، فأظهرنا بطلانها في الآخرة. والقدوم في الأصل عبارة عن مجيء المسافر بعد مدة ولكن المراد هنا إراد الله سبحانه. والهباء: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، فلا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل. والمنثور: المفرق المنعدم كما سيأتي. ووصفه بالمنثور؛ لأن الهباء تراه منتظمًا مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[24]

مثل (¬1) سبحانه وتعالى حالهم وحال أعمالهم التي يعملونها في الدنيا من صلة وصدقة وعتاقة ونحو ذلك من المحاسن التي لو عملوها مع الإيمان .. لنالوا ثوابها بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقصد إلى ما تحت أيديهم من الدار والعقار ونحوهما، فهدمها ومزقها وأبطلها بالكلية ولم يبق لها أثرًا؛ أي: قصدنا إليها، وأظهرنا بطلانها بالكلية لعدم شرط قبولها، وهو الإيمان, فليس هناك قدوم على شيء ولا نحوه، وهذا هو تشبيه الهيئة بالهيئة، فهو استعارة تمثيلية، وفي مثله تكون المفردات مستعملة في معانيها الأصلية، وشبه أعمالهم المحبطة بالغبار في الحقارة وعدم الجدوى، ثم بالمنثور منه في الانتشار بحيث لا يمكن نظمه. 24 - وبعد أن بين سبحانه حال الكافرين يومئذ .. ذكر حال أضدادهم المؤمنين، فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يرون الملائكة ويقولون: حجرًا محجورًا، وهو يوم القيامة {خَيْرٌ} من المجرمين {مُسْتَقَرًّا}: تمييز؛ أي: من جهة المكان الذي (¬2) يكونون فيه في أكثر أوقاتهم يتجالسون ويتحادثون فيه {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}؛ أي: من جهة المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم، ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استراحتهم إلى الحور مقيلًا على طريق التشبيه، وروي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وفي لفظ الأحسن تهكم بهم، قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون العسل أحلى من الخل. فإن قلت (¬3): كيف يكون أصحاب الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار ولا خير في النار، ولا يقال: العسل أحلى من الخل؟ قلتُ: إنه من قبيل التقريع والتهكم كما في قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

جَنَّةُ الْخُلْدِ} كما سبق، فليست المفاضلة على بابها. ويمكن (¬1) إبقاؤها على بابها، ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه، فالمعنى: خير مستقرًا في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا، وأحسن مقيلًا في الآخرة من أولئك في الدنيا. وقيل: خير مستقرًا منهم لو كان لهم مستقر، فيكون التقدير: لو وجد لهم مستقر .. يكون مستقر المؤمنين خيرًا من مستقرهم. والمعنى: أي (¬2) إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم في الدنيا، وأحسن فيها قرارًا حين القائلة من مثلها لهم في الدنيا؛ لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوق والأبّه والزخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها في الدنيا في بيوت المترفين، ولما فيه من نعيم لا يشوبه كدر ولا تنغيص، بخلاف مقيل الدنيا. والمراد بالمقيل هنا المكان الذي ينزل فيه للاستراحة بالأزواج، والتمتع بمغازلتهن؛ أي: محادثتهن ومراودتهن، وإلا فليس في الجنة حر ولا نوم، بل استراحة مطلقة من غير غفلة، ولا ذهاب حس من الحواس، وكذا ليس في النار مكان استراحة ونوم للكفار، بل عذاب دائم وألم باق، وإنما سمي بالمقيل؛ لما روي أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنون مساكنهم في الجنة، وأهل النار في النار، وأما المحبوسون من العصاة، فتطول عليهم المدة مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا. والعياذ بالله تعالى. ثم في {أَحْسَنُ} رمز إلى أن مقيل أهل الجنة مزين بفنون الزين والزخارف كبيت العروس في الدنيا. وفي الحديث: "من سعادة المرء المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء"، وسئل بعضهم عن الغنى، فقال: سعة البيت ودوام القوت. ثم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[25]

إن سعادات الدنيا كلها مذكرة لسعادات الآخرة، فالعاقل من لا تغره الدنيا الدنية، فجنة العارف هي القلب المطهر ومعرفة الله فيه، كما قال يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله تعالى -: في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى الجنة، قيل: وما هي؟ قال: معرفة الله تعالى. 25 - ثم ذكر سبحانه بعض حوادث يوم القيامة، فقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} منصوب بـ اذكر مقدرًا، وهو معطوف على {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}، وكذا قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ...} إلخ؛ أي: واذكر يا محمد لهم أهوال يوم تشقق وتتقطع وتتخرق فيه السماء؛ أي: كل سماء {بِالْغَمَامِ}؛ أي: بسبب ثقل الغمام، وهو سحاب (¬1) أبيض مثل الضباب فوق السموات السبع، ثخنه كثخن السموات السبع، وثقله كثقل السموات السبع، فينزل على السماء السابعة، فيخرقها بثقله ويشققها، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض وفيه الملائكة؛ أي: ملائكة كل سماء، فينزل أولًا ملائكة الدنيا، وهم أزيد من أهل الأرض من إنس وجن، ثم ملائكة السماء الثانية، وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا، وهكذا، ثم ينزل الكروبيون، وإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجوع في المحشر صفًا، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفًا آخر، وهكذا حتى تصير الصفوف سبعة، كلهم يحرسون أهل المحشر من الفرار والهرب. قال الإِمام النسفي - رحمه الله تعالى -: الغمام فوق السموات السبع، وهو سحاب أبيض غليظ كغلظ السموات السبع، ويمسكه الله سبحانه اليوم بقدرته، وثقله أثقل من ثقل السموات، فإذا أراد الله سبحانه أن يشقق السموات ألقى ثقله عليها فانشقت، فذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}؛ أي: بثقل الغمام، فيظهر الغمام، ويخرج منها، وفيه الملائكة كما قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}؛ أي: تنزيلًا عجيبًا غير معهود. فإن قيل (¬2): قد ثبت بالنقل أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، وهكذا سماء الدنيا بالنسبة إلى السماء الثانية، وهكذا إلى السماء السابعة، ¬

_ (¬1) زاده. (¬2) روح البيان بتصرف.

فكيف تسع الأرض لملائكة السموات السبع بأسرها؟ أجيب: بأن الله سبحانه وتعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم، فتتسع مع أن السموات مقبية, فكلما زالت واحدة منها ونزلت تتسع الأرض بقدرها، فيكفي لملائكتها أطرافها، وقد ثبت أن الملائكة أجسام لطيفة رقيقة، فلا تتصور بينهم المزاحمة كمزاحمة الناس. وقرأ الحرميان (¬1) - نافع وابن كثير - وابن عامر: {تشّقّق} بتشديد الشين، فأدغموا التاء في الشين؛ لأن أصله تتشقق، قرؤوا كذلك هنا وفي قَ، وباقي السبعة بحذف تلك التاء: {تَشَقَّقُ} بلا تشديد الشين. وقرأ الجمهور: {وَنُزِّلَ} ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء {ونزل} ماضيًا مشددًا مبنيًا للفاعل، وعنه أيضًا: {وأنزل} مبنيًا للفاعل، وجاء مصدره تنزيلًا، وقياسه إنزالًا؛ لأنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدًا جاز مجيء مصدر أحدهما للآخر. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية {وأنزل} ماضيًا رباعيًا مبنيًا للمفعول، مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو {ونزل} ثلاثيًا مخففًا مبنيًا للفاعل. وقرأ هارون عن أبي عمرو {وتنزل} بالتاء من فوق مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو {ونزل الملائكة} بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من {وننزل}. وفي بعض المصاحف {وننزل} بالنون مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل، ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده، قال: وهي قراءة أهل مكة، ورويت عن أبي عمرو. وعن أبي أيضًا {وتنزلت}، وقرأ أبي: {ونزلت} ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب "اللوامح" عن الخفاف عن أبي عمرو {ونزل} مخففًا مبنيًا للمفعول. {الْمَلَائِكَةُ} رفعًا، والوجه في هذه القراءة أن يكون مثل: زكم الرجل وجن، فإنه لا يقال إلا: أزكمه الله وأجنه, فهذه إحدى عشرة قراءة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[26]

26 - {الْمُلْكُ} (¬1): مبتدأ {يَوْمَئِذٍ}: ظرفه {الْحَقُّ}: نعته، ومعناه: الثابت؛ لأن كل ملك يزول يومئذ فلا يبقى إلّا ملكه {لِلرَّحْمَنِ}: خبره. والمعنى (¬2): إن السلطة القاهرة والاستيلاء الكلي العام صورة ومعنى بحيث لا زوال له أصلًا ثابت للرحمن يومئذ؛ أي: يوم إذ تشقق السماء بالغمام. وفائدة التقييد أن ثبوت الملك المذكور له تعالى خاصة يوم القيامة، وأما ما عداه من أيام الدنيا، فيكون غيره أيضًا له تصرف صوري في الجملة {وَكَانَ} ذلك اليوم {يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}؛ أي: يومًا شديدًا هوله على الكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيرًا بفضل الله تعالى، وقد جاء في الحديث: "أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا"؛ أي: وكان (¬3) هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديدًا على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة. والحاصل: أن الكافرين يرون ذلك اليوم عسيرًا عظيمًا من دخول النار وحسرة فوات الجنان بعدما كانوا في اليسير من نعيم الدنيا، وأهل الإيمان والجد والاجتهاد يرون فيه اليسر من نعيم الجنان ولقاء الرحمن بعد أن كانوا في الدنيا راضين بالعسر، تاركين لليسر، موقنين أن مع العسر يسرًا. وقيل للشبلي - رحمه الله تعالى - في الدنيا أشغال، وفي الآخرة أهوال، فمتى النجاة؟ قال: دع أشغالها تأمن من أهوالها، فلله در قوم فرغوا عن طلب الدنيا وشهواتها, ولم يغتروا بجمعها, ولم يلتفتوا إليها، نسأل الله سبحانه وتعالى الوقوف عند الأمر إلى حلول الأجل وانتهاء العمر. 27 - والظرف في قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} منصوب بمحذوف كسابقه تقديره: واذكر لهم يا محمد لهؤلاء المشركين أهوال يوم يأكل الكافر يديه إلى ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) الشوكاني.

المرفق، ثم ينبتان، ثم يأكلهما، وهكذا كلما نبتتا أكلهما تحسرا وندامة على التفريط والتقصير، فلا يزال كذلك كما قاله الضحاك وعطاء. فـ {عَلَى} زائدة على هذا التأويل، وهو يوم القيامة، والظاهر أن العض هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك، ولا موجب لتأويله. وقيل: هو كناية عن الغيظ والحسرة؛ أي: فعض اليدين عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك، وكذا عض الأنامل، وأكل البنان، وحرق الأسنان، ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها. والمراد بالظالم: كل ظالم يرد ذلك المكان، وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، وهو عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كما مر في الأسباب، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وحاصل قصة عقبة بن أبي معيط: أنه كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا، وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أراد، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفره، وصنع طعامًا، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعامه، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم الطعام إليه أبى أن يأكل، فقال: "ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحد قبل أن يأكل شيئًا، فألح عليه بأن يأكل، فلم يأكل، فشهد بذلك عقبة، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعامه، وكان أبي بن خلف الجمحي غائبًا، وكان صديق عقبة، فلما قدم أخبر بما جرى بين عقبة وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه فقال: صبوت يا عقبة؛ أي: ملت عن دين آبائك إلى دين حادث؟ فقال: لا والله ما صبوت، ولكن دخل علي رجل، فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى منك أبدًا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتشتمه وتكذبه - نعوذ بالله تعالى - فأتاه، فوجده ساجدًا في دار الندوة، ففعل ذلك - والعياذ بالله تعالى - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعقبة: "لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف" فأسر يوم بدر، فأمر عليه السلام عليًا

[28]

- رضي الله عنه - أو عاصم بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - فقتله، وطعن عليه السلام بيده الطاهرة الكاسرة أبيًا اللعين يوم أحد في المبارزة، فرجع إلى مكة، فمات في الطريق بسَرِف - بفتح السين المهملة وكسر الراء - وهو مناسب لوصفه, لأنه مسرف. قال في "إنسان العيون": ولم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة قط أحدًا إلا أبي بن خلف، لا قبل ولا بعد. حال كون ذلك الظالم {يَقُولُ}: حال من فاعل {يَعَضُّ} {يا} هؤلاء، فالمنادى محذوف، ويجوز أن تكون {يا} لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه؛ أي: يا قوم {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا إلى النجاة عن هذه الورطات؛ أي: صاحبته في اتخاذ سبيل الهدى؛ أي: واذكر يوم يعض المشرك بربه على يديه ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله حالة كونه يقول: ليتني اتخذت مع الرسول طريقًا إلى النجاة، ولم تتشعب بي طرق الضلالة. 28 - {يَا وَيْلَتَى}؛ أي: يا هلكتي تعالي واحضري لأتعجب منك، فهذا أوان حضورك، والنداء وإن كان أصله لمن يتأتى منه الإقبال؛ وهم العقلاء إلا أن العرب تتجوز وتنادي ما لا يعقل إظهارًا للتحسر {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا} كأبي بن خلف {خَلِيلًا}؛ أي: صديقًا، من الخلة وهي المودة لأنها تتخلل النفس؛ أي: تتوسطها والمراد من أصله في الدنيا كائنًا من كان من شياطين الإنس والجن، فيدخل فيه أبي المذكور؛ أي: لم أتخذ فلانًا الذي أضلني وصرفني عن طريق الهدى خليلًا وصديقًا. وهذا (¬1) دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضلَّه في الدنيا. وفلان: كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أهل اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية، لا يقال: جاءني فلان، ولكن يقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[29]

قال زيد: جاءني فلان؛ لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله. وقيل: فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم. وقيل: كناية عن نكرة من يعقل من الذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث. والظاهر أنه منصرف. وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء. وقيل: يختص بالنداء إلا في ضرورة الشعر، كقوله: فِيْ لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَنًا عَنْ فُلِ وفل (¬1): كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل، وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك، ولام فل ياء أو واو على الخلاف فيه، وليس مرخمًا من فلان، خلافًا للفراء. وَوهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم: فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه: ما قلناه بالنقل عن العرب. وقرأ الحسن وابن قطيب {يا ويلتي} بكسر التاء والياء الصريحة، فالياء فيه ياء المتكلم، وهو الأصل. وقرأ الدوري وجماعة بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن؛ لأن أصل هذه اللفظة الياء، فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فرارًا من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فرّ منه. 29 - والله {لَقَدْ أَضَلَّنِي} وصرفني {عَنِ الذِّكْرِ}؛ أي: عن القرآن المذكر لكل مرغوب ومرهوب، وعن موعظة الرسول {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} الذكر من ربي بواسطة الرسول، وتمكنت من العمل به، وعمرت ما يتذكر فيه من تذكر. وهاهنا (¬2) تم الكلام، ثم قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ}؛ أي: إبليس الحامل بوسوسته على مخالة المضلين ومخالفة الرسول وهجر القرآن {لِلْإِنْسَانِ} المطيع له {خَذُولًا}؛ أي: كثير الخذلان له، ومبالغًا في حبه، يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه، وكذا حال من حمله على صداقته. والخذلان: ترك النصرة ممن يظن به أن ينصر. وفي وصفه بالخذلان إشعار بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

[30]

وهذا (¬1) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله؛ إما من جهته تعالى كما مر، وإما من تمام كلام الظالم، قال بعضهم: المراد بالشيطان: قرين السوء، سماه شيطانًا؛ لأنه الضال المضل، يضل كما يضل الشيطان الحقيقي. وهذه الآية عامة في كل متحابين اجتمعا على معصية الله، والخلة الحقيقية هي أن لا تكون لطمع ولا لخوف، بل في الدين. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالّ" أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلّا تقي". وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة". قال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار، نسأل الله الخلاص والالتحاق بأرباب الاختصاص، والعمل بالقرآن في كل زمان وعلى كل حال. 30 - {وَقَالَ الرَّسُولُ} محمد - صلى الله عليه وسلم - شكاية لله مما صنع قومه، وفي هذا (¬2) تخويف لقومه؛ لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وما بينهما اعتراض؛ أي: قالوا: كيت وكيت، وقال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إثر ما شاهد منهم غاية العتوّ، ونهاية الطغيان بطريق البث والشكوى {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي} قريشًا {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}؛ أي: متروكًا بالكلية، ولم يؤمنوا به، وصدّوا عنه، ولم يتأثروا بتخويفه ووعيده. والمعنى (¬3): إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم، وأمرتني بإبلاغه، وأرسلتني به مهجورًا متروكًا لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه. وقيل: هو من هجر إذا هذى، والمعنى: إنهم اتخذوه هجرا وهذيانا. وقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[31]

معنى {مَهْجُورًا} مهجورًا فيه، ثم حذف الجار. وهجرهم فيه قولم: إنه باطل، إنه سحر وشعر وأساطير الأولين. وهذا حكاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا. وقيل: يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. والمعنى حينئذ: ويقول الرسول يوم القيامة. فالماضي بمعنى المضارع. وفي ذكره - صلى الله عليه وسلم - بلفظ {الرَّسُولُ} تحقيق للحق ورد عليهم؛ إذ كان ما أوردوه قدحًا في رسالته - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {إن قومي اتخذوا} بتحريك الياء، وأسكنها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي اهـ ابن الجوزي. وفي هذه الآية (¬1): تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن؛ أي: التحفظ والقراءة كل يوم وليلة كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. وفي الحديث: "من تعلم القرآن وعلق مصحفًا لم يتعاهده ولم ينظر فيه. . جاء يوم القيامة متعلقًا به، يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورًا اقض بيني وبينه". ومن أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل آية من القرآن أو سورة ثم ينساها. والنسيان: أن لا يمكنه القراءة من المصحف كما في "القنية". وفي الحديث: "إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: وما جلاؤها؟ قال: "تلاوة القرآن وذكر الله". 31 - ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال بأن له في سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله: {وَكَذَلِكَ}؛ أي: كما جعلنا لك يا محمد أعداء من مجرمي قومك كأبي جهل وأضرابه {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} من الأنبياء المتقدمين {عَدُوًّا}؛ أي: أعداء، فإنه يحتمل الواحد والجمع {مِنَ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: من مجرمي قومهم كنمروذ لإبراهيم، وفرعون لموسى، واليهود لعيسى، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. والمعنى (¬2): أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من الترهات والأباطيل، ويفعلون من السخف ما يفعلون، جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر أعداء لهم من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

شياطين الإنس والجن، وكانوا لهم بالمرصاد، وقاوموا دعوتهم {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. فلا تجزع أيها الرسول، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا، قال ابن عباس: كان عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عمّ موسى، ونحو الآية قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه، فقال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ}؛ أي: كفاك ربك. والباء صلة لتأكيد {هَادِيًا}: تمييز؛ أي: من جهة هدايته لك إلى كافة مطالبك، ومنها انتشار شريعتك وكثرة الآخذين بها {وَنَصِيرًا}؛ أي: ومن جهة نصرته لك على جميع أعدائك، فلا تبال بمن يعاديك وسيبلغ حكمك إلى أقطار الأرض وأكناف الدنيا. ويصح أن يكون: {هَادِيًا} حالًا من {ربك}؛ أي: حالة كونه هاديًا لك، وناصرًا لك. والمعنى (¬1): أي وكفاك ربك هاديًا لك إلى مصالح الدين والدنيا، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال، وسينصرك على أعدائك، وستكون لك الغلبة عليهم آخرًا، فلا يهولنك كثرة عَددهم وعُددهم، فإني لا محالة جاعل كلمة الله هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى، فاصبر لأمري وامض لتبليغ رسالتي حتى يبلغ الكتاب أجله. دلت الآية (¬2) بالعبارة والإشارة على أن لكل نبي وولي عدوًا يمتحنه الله به، ويظهر شرف اصطفائه. قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله تعالى: رفعت درجات الأنبياء والأولياء بامتحانهم بالمخالفين والأعداء، وفي الخبر: "لو أن مؤمنًا ارتقى على ذروة جبل لقيض الله إليه منافقًا يؤذيه فيؤجر عليه"، ثم لم يغادر الله المجرم المعاند العدو لوليه حتى أذاقه وبال ما استوجبه على معاداته، كما قال في الحديث الرباني: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب"، وقال: "وأنا أنتقم لأوليائي كما ينتقم الليث الجريء لجروه". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[32]

32 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة كأبي جهل وأصحابه: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ}؛ أي على محمد {الْقُرْآنُ} فـ {لَوْلَا} تحضيضية بمعنى: هلا. والتنزيل هنا: مجرد عن معنى التدريج، فـ {نُزِّلَ} هنا بمعنى: أنزل كـ: خبَّر بمعنى: أخبر؛ لئلا يناقض قوله: {جُمْلَةً وَاحِدَةً}؛ أي: دفعة واحدة كالكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والزبور. حال من {الْقُرْآنُ}؛ إذ هي في معنى: مجتمعًا، وهذا اعتراض حيرة وبهت، لا طائل تحته؛ لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقًا، وقد تحدوا بسورة واحدة فعجزوا عن ذلك، حتى أخلدوا إلى بذل المهج والأموال دون الإتيان بها، مع أن للتفريق فوائد كثيرة سيأتي تفصيلها. أي: وقال الذين كفروا من أهل مكة في تعنتاتهم: هلا أنزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - حالة كونه جملة واحدة في مرة واحدة كسائر الكتب السالفة إن كان من عند الله تعالى، وما له أنزل على التفاريق؟. وهذا (¬1) اعتراض فاسد، لأنهم تحدوا بالإتيان بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم، حتى لاذوا بالمناصبة، وفزعوا إلى المحاربة، وبذلوا المهج ومالوا إلى الحجج. وقيل: المراد بالذين كفروا هنا اليهود، والمعنى عليه: أي (¬2): وقال اليهود: هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك. وهذا زعم باطل ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة، فقد أنزلت التوراة منجمة في ثماني عشرة سنة، كما تدل عليه نصوص التوراة، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب الله على أنبيائه، وهو اعتراض بما لا طائل تحته؛ لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقًا فرد الله عليهم ما قالوا، وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل القرآن منجمًا، فقال: {كَذَلِكَ} والكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف (¬3) مؤكد معلل بما بعده، و {ذلك}: إشارة إلى ما يفهم من كلامهم؛ أي: مثل ذلك التنزيل المفرق الذي ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

قدحوا فيه نزلناه، لا تنزيلًا مغايرًا له {لِنُثَبِّتَ} ونقوي. وقرأ عبد الله {ليثبت} بالياء؛ أي: ليثبت الله {بِهِ}؛ أي: بذلك التنزيل المفرق {فُؤَادَكَ}؛ أي: قلبك، فإن فيه تيسيرًا لحفظ النظم وفهم المعنى، وضبط الأحكام والعمل بها، ألا ترى أن التوراة أنزلت دفعة، فشق العمل على بني إسرائيل، ولأن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، وأنزلنا القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور تحدث في أوقات مختلفة، ففرقناه ليكون أدعى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيسر على العامل به، ولأنه كلما نزل عليه وحي جديد في كل أمر وحادثة ازداد هو قوة قلب وبصيرة. وبالجملة: فإن إنزال القرآن منجمًا فضيلة خص بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - من سائر النبيين، فإن المقصود من إنزاله أن يتخلق قلبه المنير بخلق القرآن ويتقوى بنوره، ويتغذى بحقائقه وعلومه، وهذه الفوائد إنما تكمل بإنزاله مفرقًا، ألا ترى أن الماء لو نزل من السماء جملة واحدة لما كانت تربية الزروع به مثلها إذا نزل مفرقًا إلى أن يستوي الزرع. وقيل: إن هذه الكلمة أعني: {كَذَلِكَ} هي من تمام كلام المشركين؛ أي: وقال الذين كفروا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك؛ أي: كالتوراة والإنجيل والزبور، فيوقف على قوله: {كَذَلِكَ}، ثم يبتدىء بقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} على معنى أنزلناه عليك متفرقًا لغرض تثبيت فؤادك. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن. قال النحاس: وكان ذلك؛ أي: إنزال القرآن منجمًا من أعلام النبوة؛ لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاده وأفئدتهم. وقوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} معطوف على ذلك الفعل المقدر. والترتيل (¬1): التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت يسير دون قطع النفس، وأصله في ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأسنان، وهو تفريجها. والمعنى: كذلك نزلناه وقرأناه عليك شيئًا بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين سنة. خلاصة تلك الفوائد (¬1): 1 - أنه عليه الصلاة والسلام كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فلو أنزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه، وجاز عليه السهو والغلط. 2 - أنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل، ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل. 3 - أنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم، ولا يخفى ما في ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجمًا جاء التشريع رويدًا رويدًا، فكان احتمالهم له أيسر، ومرانهم عليه أسهل. 4 - أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوي قلبه على أداء ما حمّل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طول حياته الشريفة. 5 - أنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان في ذلك زيادة بصر لهم في دينهم. 6 - أنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته .. كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق في نظر الرأي الحصيف. 7 - أن بعض أحكام الشريعة جاء في بدء التنزيل على وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم ¬

_ (¬1) المراغي.

[33]

بهدي رسوله تغيرت بعض أحوالهم، واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرًا على طهر، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، ولو أنزل القرآن جملة واحدة لم يتسن شيء من هذا. 33 - ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان، مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة، فقال: {وَلَا يَأْتُونَكَ} يا محمد {بِمَثَلٍ}؛ أي: (¬1) بسؤال عجيب وكلام غريب، كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في حقك وحق القرآن {إِلَّا جِئْنَاكَ} في مقابلته، فالباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للتعدية أيضًا؛ أي: بالجواب الحق الثابت المبطل لما جاؤوا به، القاطع لمادة القيل والقال {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} عطف على {الحق}. والتفسير: تفعيل من الفسر؛ وهو كشف ما غطي. والمعنى: وبما هو أحسن بيانًا وتفصيلًا لما هو الحق والصواب ومقتضى الحكمة، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته، لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة، وهذا أحسن منه, لأن سؤالهم مثل في البطلان، فكيف يصح له حسن، اللهم إلا أن يكون بزعمهم. يعني: لما كان السؤال حسنًا بزعمهم .. قيل: الجواب أحسن من السؤال. والمعنى؛ أي (¬2): لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم وسؤالهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاؤوا به من المثل ويدمغه ويدفعه، فالمراد بالمثل هنا السؤال والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته، ويبطل شبهته، ويحسن مادته. والاستثناء في قوله (¬3): {إِلَّا جِئْنَاكَ} مفرغ, محله النصب على الحالية؛ أي: لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا حال إتياننا إياك بالحق الذي لا محيد عنه، وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئلة، وبصحة جميع الأجوبة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[34]

وبإشارته منبىء عن بطلان السؤال الأخير وصحة جوابه؛ إذ لولا أن التنزيل على التدريج .. لما أمكن إبطال تلك الاقتراحات الشنيعة، أو يقال: كل نبي إذا قال له قومه قولًا .. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يرد عليهم، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قالوا له شيئًا .. فالله يرد عليهم. وحاصل المعنى (¬1): ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح في نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم، ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانًا مما يقولون، ونحو الآية قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}. والخلاصة: أنهم لا يقترحون اقتراحًا من فاسد مقترحاته إلا أتيناك بما يدفعه، ويوضح بطلانه. 34 - وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرًا له .. سلاه على ذلك، وطلب إليه أن يقول لهم: {الَّذِينَ}: مبتدأ أول {يُحْشَرُونَ} يوم القيامة، ويسحبون {عَلَى وُجُوهِهِمْ} ويجرون {إِلَى جَهَنَّمَ} {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان {شَرٌّ}: خبر المبتدأ الثاني {مَكَانًا}؛ أي: مكانة ومنزلة، أو مسكنًا ومنزلًا في الآخرة {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}؛ أي: أخطأ طريقًا عن الحق والهدى من كل أحد في الدنيا. والمعنى: أي إني لا أقول لكم كما تقولون، ولا أصفكم بمثل ما تصفونني به، بل أقول لكم: إن الذين يسحبون إلى جهنم، ويجرون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانًا، وأضل سبيلًا، فانظروا بعين الإنصاف، وفكروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم؛ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا، وهذا على نسق قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}، ويسمون هذا الأسلوب في المناظرة بـ إرخاء العنان للخصم؛ ليسهل إفحامه وإلزامه. والمراد أن الملائكة تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم، أو كون ¬

_ (¬1) المراغي.

[35]

الحشر على الوجوه عبارة عن الذلة والخزي والهوان، أو هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين يذهب. روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاةً، وصنفًا ركبانا، وصنفًا على وجوههم". قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذين أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك". ولما استكبر الكفار واستعلوا حتى لم يخروا ساجدين لله تعالى .. حشرهم الله تعالى على وجوههم، ولما تواضع المؤمنون .. رفعهم الله على النجائب، فمن هرب عن المخالفة، وأقبل إلى الموافقة نجا، ومن عكس هلك، وأين يهرب العاصي والله تعالى مدركه. قصة موسى وهارون عليهما السلام 35 - واللام في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا موسى التوراة؛ أي: أنزلناها عليه بعد إغراق فرعون وقومه. واعلم: أن الله سبحانه ذكر هنا طرفًا من قصص الأولين تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي "الإرشاد": والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم، ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الآيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال، ونيله نهاية الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملك فرعون، وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام {وَجَعَلْنَا مَعَهُ}؛ أي: مع موسى، والظرف متعلق بـ {جَعَلْنَا} {أَخَاهُ} الشقيق، مفعول أول له {هَارُونَ} بدل من {أَخَاهُ}، أو عطف بيان وهو اسم أعجمي، ولم يرد في شيء من كلام العرب. {وَزِيرًا} مفعول ثان؛ أي: معينًا يوازره ويعاونه في الدعوة إلى الله وإعلاء الكلمة، فإن الموازرة المعاونة كما سيأتي في مبحث اللغة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[36]

تنبيه: والواو في قوله: {وَجَعَلْنَا} لا تفيد ترتيبًا، فإن من المعلوم أن إيتاء التوراة كان بعد إيتاء الرسالة لموسى وهارون بنحو من ثلاثين سنة, لأن إرسالهما كان في واقعة الطور عند مجيء، موسى من الشام، ثم جاء مصر، ومكث يدعو فرعون وقومه ثلاثين سنة، ثم خرج من مصر، فانفلق له البحر، فغرق فرعون وقومه، فذهب موسى إلى الشام، فآتاه الله التوراة هناك، فقوله: {فَقُلْنَا اذْهَبَا} معطوفة على {جعلنا}، وكل من الجعل والقول كان قبل إيتاء التوراة كما علمت. اهـ شيخنا. أي (¬1): ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان، وجعلنا معه أخاه هارون معينًا وظهيرًا له، ولا تعارض بين هذه الآية وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)} فإنه وإن كان نبيًا فالشريعة لموسى عليه السلام، وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسلطانه. وفي "الروح" (¬2): فإن قلت: كون هارون وزيرًا كالمنافي لكونه شريكًا له في النبوة؛ لأنه إذا صار شريكًا له خرج عن كونه وزيرًا؟ قلتُ: لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة؛ لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه، وقد كان هارون في أول الأمر وزيرًا لموسى، ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما: اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا. 36 - ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرًا على أعدائهما بقوله: {فَقُلْنَا} لهما {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الإلهية (¬3)؛ وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده تعالى بالملك والعبادة، حيث عبدوا فرعون، فذهبا إليهم، فأرياهم الآيات التسع كلها؛ وهي آيات النبوة، فكذبوها حيث أنكروا رسالتهما كما كذبوا الآيات الإلهية {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}؛ أي: أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكًا عجيبًا؛ أي: فقلنا لهما: اذهبا إلى فرعون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

وقومه الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق، فلما ذهبا إليهم كذبوهما، فأهلكناهم أشد إهلاك، ونحو الآية قوله: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} وفي ذلك تسلية لرسوله، وإنه ليس أول من كذب من الرسل، فله أسوة بمن سلف منهم. قيل (¬1): المراد بالآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يد موسى عليه السلام، ولم يوصف القوم عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن الأمر به، بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانًا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير. وقيل: المراد: {بِآيَاتِنَا} التكوينية؛ أي: العلامات التي خلق الله في الدنيا، كما جرينا عليه في حلنا. وقيل: المراد بها الرسل وكتب الأنبياء الذين قبل موسى، كما في قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} فالباء على كل تقدير متعلقة بـ {كَذَّبُوا} لا بـ {اذْهَبَا}، وإن كان الذهاب إليهم بالآيات، كما في قوله في الشعراء: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا}. وأما التكذيب فتارة يتعلق بالآيات، كما في قوله في الأعراف: {فَظَلَمُوا بِهَا}؛ أي: بالآيات، وقوله في طه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا}، وتارة بموسى وهارون، كما في قوله في المؤمنون: {فَكَذَّبُوهُمَا}. وقوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} قبله حذف تقديره: فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا فكذبوهما تكذيبًا مستمرًا، فأهلكناهم إثر ذلك التكذيب المستمر إهلاكًا عجيبًا هائلًا لا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة؛ أي: أولها وآخرها اكتفاء بما هو المقصود منها؛ وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل والتدمير بالتكذيب، والفاء للتعقيب باعتبار نهاية التكذيب؛ أي: باعتبار استمراره، وإلا فالتدمير متأخر عن التكذيب بأزمنة متطاولة. وقيل: إن المراد بالتدمير هنا الحكم؛ لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة. وقرأ (¬2) علي والحسن ومسلمة بن محارب: {فدمراهم} على الأمر لموسى وهارون. وعن علي كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضًا: {فدمرا بهم} أمرًا لهما بزيادة باء الجر. ومعنى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[37]

الأمر: كونا سبب تدميرهم. قصة قوم نوح عليه السلام 37 - {وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوب بفعل مضمر وجوبًا، يدل عليه {فَدَمَّرْنَاهُمْ}؛ أي: ودمرنا قوم نوح {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ}؛ أي: نوحًا ومن قبله من الرسل كشيث وإدريس، أو نوحًا وحده؛ لأن تكذيبه تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد والإسلام. ويقال: إن نوحًا كان يدعو قومه إلى الإيمان به وبالرسل الذين بعده، فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل، كما ثبت أن كل نبي أخذ العهد من قومه أن يؤمنوا بخاتم النبيين إن أدركوا زمنه. وقيل: معطوف على الهاء في: {فَدَمَّرْنَاهُمْ}. {أَغْرَقْنَاهُمْ} بالطوفان؛ أي: أهلكناهم بمائه، والإغراق السفول في الماء كما سيأتي. وهو استئناف مبين لكيفية تدميرهم {وَجَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: وجعلنا إغراقهم، أو قصتهم {لِلنَّاسِ آيَةً} عظيمة يعتبر بها كل من شاهدها أو سمعها، وهو مفعول ثان لـ {جعلنا} و {لِلنَّاسِ} ظرف لغو له؛ أي: جعلنا قصتهم عبرة لكل الناس على العموم، يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها {وَأَعْتَدْنَا}؛ أي: أعددنا وهيأنا في الآخرة {لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: لهم؛ أي: للمغرقين من قوم نوح، والإظهار في موضع الإضمار للتسجيل بظلمهم، والايذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب. فالمراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص، ويجوز أن يكون المراد بهم كل من سلك مسلكهم في التكذيب: {عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: وجيعًا سوى ما حل بهم من عذاب الدنيا. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحًا عليه السلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم نقمته {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} فأغرقناهم، ولم نترك منهم أحدًا إلا ¬

_ (¬1) المراغي.

[38]

أصحاب السفينة، وجعلناهم عبرة للناس، كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}؛ أي: أبقينا لكم السفينة؛ لتذكروا نعمة الله عليكم بإنجائكم من الغرق، وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق بأمره. وفي قوله: {كَذَّبُوا الرُّسُلَ} وهم لم يكذّبوا إلا رسولًا واحدًا؛ وهو نوح إيماء إلى أن من كذب رسولًا واحدًا .. فقد كذب جميع الرسل؛ إذ لا فرق بين رسول وآخر؛ إذ جميعهم يدعون إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان، قاله الزجاج. ثم ذكر مآل المكذبين، فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: وأعددنا لكل من كفر بالله، ولم يؤمن برسله عذابًا أليمًا في الآخرة. وفي ذلك رمز إلى أن قريشًا سيحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة مثل ما حل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيهم. قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم 38 - وانتصاب {وَعَادًا} بالعطف على {قومَ}. وقيل: على محل {لِلظَّالِمِينَ}. وقيل: على المفعول الأول لـ {جعلنا}؛ أي: وأهلكنا عادًا قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح. قرأ حمزة وحفص وعبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى {وَثَمُودَ} غير مصروف على تأويل القبيلة، وقرأ غيرهم {وثمودًا} بالصرف على تأويل الحي {و} أهلكنا {أَصْحَابَ الرَّسِّ} الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية. وأصحاب الرس هم قوم يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم شعيبًا عليه السلام فكذبوه، فبينما هم حول الرس؛ أي: بئرهم الغير المبنية التي يشربون منها ويسقون مواشيهم انهارت، فخسف بهم وبديارهم. قاله الكلبي ووهب. وقيل: الرس: قرية بفلج اليمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبي، فقتلوه، فأهلكوا. وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان عليه السلام، ابتلاهم بطير عظيم، فيها من كل لون تسمى بالعنقاء لطول عنقها فتخطف صبيانهم وعُرَسَهُمْ - أي طعامهم -، فدعا عليها حنظلة، فأصابتها الصاعقة، فكفوا شرها،

ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه السلام، فأهلكوا. وقيل: إن الرس بئر في أنطاكية الشام، كذبوا حبيبًا النجار؛ وهو صاحب يَس الذي قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وقتلوه، فدسوه في تلك البئر، فأهلكوا. وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن أهل الرس أخذوا نبيهم، فرسوه في بئر، وأطبقوا عليه صخرة، فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر، فيعينه الله تعالى على تلك الصخرة فيقلعها، فيعطيه ما يغذيه به، ثم يرد الصخرة، إلى أن ضرب الله يومًا على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة، وأخرج أهل القرية نبيهم، فآمنوا؛ به في حديث طويل. قال الطبري: فيمكن (¬1) أنهم كفروا بعد ذلك، فذكرهم في هذه الآية، وكثر الاختلاف في أصحاب الرس، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه. وملخص هذه الأقوال: أنهم قوم أهلكهم الله تعالى بتكذيب من أرسل إليهم، والله سبحانه أعلم بمن هم. {وَقُرُونًا}؛ أي: وأهلكنا أيضًا أهل قرون وأزمنة. جمع قرن؛ وهم القوم المقترنون في زمن واحد. قيل: القرن: مئة سنة. وقيل: مئة وعشرون سنة. وقيل: القرن أربعون سنة. وفي "القاموس": الأصح أنه مئة سنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "عش قرنًا، فعاش مئة سنة" {بَيْنَ ذَلِكَ} المذكور من الطوائف والأمم من قوم نوح وما بعده {كَثِيرًا} صفة لـ {قرونا}. والإفراد باعتبار الجمع، أو العدد كقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا}، أو لأن فعيلًا يستوي فيه المفرد والجمع؛ أي: وأهلكنا أقوامًا كثيرًا بين هؤلاء الأمم المذكورة لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى. والمعنى: أي (¬2) ودمرنا عادًا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية، وثمود قوم صالح بالصيحة، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة أو ¬

_ (¬1) الطبري. (¬2) المراغي.

[39]

بغيرها - على الخلاف السابق - وقتلوا نبيهم - واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج، وسيأتي ذكر قصصهم - وأهلكنا أممًا كثيرة بين أولئك المذكورين. 39 - ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين، وحذرهم قبل أن يوقع بهم، فقال: {وَكُلًّا}: منصوب بمضمرٍ يفسره ما بعده؛ أي: ذكرنا وأنذرنا وخوفنا كل واحد من الأمم المذكورين المهلكين {ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ}؛ أي: بينا له الأشباه والقصص العجيبة الغريبة التي تشبه الأمثال في الغرابة، الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل {وَكُلًّا}؛ أي: وكل واحد منهم بعد التكذيب والإصرار {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}؛ أي: أهلكنا إهلاكًا عجيبًا هائلًا. والتتبير (¬1): الإهلاك بالعذاب، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. قال المؤرخ والأخفش: معنى: {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} دمرنا تدميرًا، أبدلت التاء والباء من الدال والميم. 40 - ثم ذكر مشركي مكة بما يرونه من العبر في حلهم وترحالهم، وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات، فقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أتى قوم قريش في متاجرهم إلى الشام ومروا {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} وهي (¬2) قرية سدوم - بالدال المهملة، وقيل: بالذال المعجمة - وهي عظمى قرى قوم لوط، أمطرت عليها الحجارة، وأهلكت، فإن أهلها كانوا يعملون العمل الخبيث. واعلم أن قرى قوم لوط خمس، ما نجا منها إلا واحدة؛ وهي أصغرها؛ لأن أهلها كانوا لا يعملون العمل الخبيث، وسدوم من التي أهلكت. وتخصيصها هنا؛ لكونها في ممر تجار قريش، وكانوا في مرورهم بها يرونها مؤتفكة ولا يعتبرون. وانتصاب (¬3) {مطر} على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد، كما قيل في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

أمطرت إمطار السوء والشر والضرر، و {مطر} مجهولًا في الخير، و {أُمطر} في الشر. وقيل: هما لغتان. و {السَّوْءِ} - بفتح السين وضمها -: كل ما يسوء الإنسان، ويغمه من البلاء والآفة. وقرأ زيد بن علي: {مطرت} ثلاثيًا مبنيًا للمفعول، و {مطر} متعد. وقرأ أبو السماك {مطر السوء} بضم السين، ذكره في "البحر". والمعنى: والله لقد مر هؤلاء المكذبون في رحلة الصيف على سدوم عظمى قرى قوم لوط، وقد أهلكها الله سبحانه بأن أمطر عليها حجارة من سجيل؛ لأن قومها كانوا يعملون الخبائث، وحذرهم لوط، فما أغنت عنهم الآيات والنذر، ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه، فقال: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}؛ أي: أفلم يكونوا يرون آثارها وآثار ما حل بأهلها؟ والاستفهام فيه: للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه؛ وهو ما بعد النفي؛ أي: ليقروا بأنهم رأوها حتى يعتبروا بها. اهـ. وفي "أبي السعود" (¬1): والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها، أو أكانوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها في مرات مرورهم؛ ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب، فالمنكر في التقدير الأول: ترك النظر وعدم الرؤية معًا، والمنكر في التقدير الثاني: عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها" اهـ. والمعنى: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرون ما نزل بتلك القرية من عذاب الله تعالى بتكذيب أهلها رسول ربهم، فيعتبروا ويتذكروا ويراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله؟ ثم أبان سبحانه أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية، بل منشؤه إنكار البعث والنشور، فقال: {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا}؛ أي: بعثًا. وهذا إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة، وإما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى ¬

_ (¬1) أبو السعود.

التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم توقع النشور" اهـ "أبو السعود"؛ أي (¬1): بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورًا ولا عاقبة، فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا فمروا كما مرت ركابهم، أو لا يؤملون نشورًا كما يأمله المؤمنون طمعًا في الثواب، أو لا يخافونه على اللغة التهامية. اهـ "بيضاوي". فالرجاء هنا؛ إما بمعنى التوقع، أو الأمل، أو الخوف. والمعنى: أي أنهم ما كذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءهم به من عند الله تعالى؛ لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورًا بعد الممات، ولا يوقنون بعقاب، ولا ثواب، فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصي الله تعالى؛ أي (¬2): فإنهم ينكرون النشور المستتبع للجزاء الأخروي، ولا يرون لنفس من النفوس نشورًا وبعثًا أصلًا مع تحققه حتمًا، وشموله للناس عمومًا، واطراده وقوعًا، فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك، وإنما يحملونه على الاتفاقات. واعلم: أن النشور لا ينكره إلا الكفور، وقد جعل الله في الدنيا شاهدًا له، ومشيرًا لوقوعه، وفي الخبر: "إذا رأيتم الربيع فاذكروا النشور". والربيع مثل يوم النشور؛ لأن الربيع وقت إلقاء البذر، ويكون الزارع قلبه معلقًا إلى ذلك الوقت أيخرج أم لا؟ فكذلك المؤمن يجتهد في طاعته وقلبه يكون معلقًا بين الخوف والرجاء إلى يوم القيامة، أيقبل الله تعالى منه أم لا؟ ثم إذا خرج الزرع وأدرك يحصد ويداسى ويذرى، ثم يطحن ويخبز، وإذا خرج من التنور بلا احتراق يصلح للخوان، ولو احترق ضاع عمله وبطل سعيه، وكذلك العبد يصلي ويصوم ويزكي ويحج، فإذا جاء ملك الموت، وحصد روحه بمنجل الموت، وجعلوه في القبر يكون فيه إلى يوم القيامة، وإذا جاء يوم القيامة وخرج من قبره، ووقع الحشر والنشور أمر به إلى الصراط، فإذا جاوز الصراط سالمًا فقد صلح للرؤية، وإلا ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) روح البيان.

[41]

فقد هلك، فعلى العاقل أن يتفكر في النشور، ويتذكر عاقبة الأمور. 41 - {وَإِذَا رَأَوْكَ}؛ أي: وإذا أبصرك يا محمد هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم يعني: قريشًا كأبي جهل وأصحابه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} {إِنْ}: نافية؛ أي: ما يتخذونك {إِلَّا هُزُوًا}؛ أي: إلا موضع هزْءٍ وسخرية؛ أي: إلا مهزوءًا بك؛ أي: يستهزئون بك قائلين بطريق الاستحقار والتهكم: {أَهَذَا} الإنسان هو {الذي بعثـ} ـه {اللَّهُ} إلينا حالة كونه {رَسُولًا}، ليثبت الحجة علينا يعني (¬1): أنهم لم يقتصروا على ترك الإيمان, وإيراد الشبهات الباطلة، بل زادوا عليه الاستخفاف والاستهزاء إذا رأوه؛ وهو قول أبي جهل لأبي سفيان، وهذا نبي بني عبد مناف. والاستفهام فيه للتعجب المضمن للإنكار والتهكم. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن أهل الحس لا يرون النبوة والرسالة بالحسّ الظاهر؛ لأنها تدرك بنظر البصيرة المؤيدة بنور الله عز وجل، وهم عميان بهذا البصر، فلما سمعوا منه ما لم يهتدوا به من كلام النبوة والرسالة ما اتخذوه إلا هزوًا، وقالوا مستهزئين: أهذا الذي بعث الله رسولًا وهو بشر مثلنا محتاج إلى الطعام والشراب. 42 - {إِنْ كَادَ} {إِنْ} مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف؛ أي: إنه كاد، واللام في {لَيُضِلُّنَا} هي الفارقة بين النافية والمخففة؛ أي: إنه كاد محمد وقارب أن يضلنا ويصرفنا {عَنْ آلِهَتِنَا}؛ أي: عن عبادتها صرفًا كليًا بحيث يبعدنا عنها؛ أي ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده، والدعاء إلى التوحيد، وكثرة ما يورده مما يسبق إلى الذهن أنه حجج ومعجزات {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا} وثبتنا {عَلَيْهَا}؛ أي: على آلهتنا، واستمسكنا بعبادتها، وحبسنا أنفسنا عليها، وجواب {لولا} معلوم مما قبله؛ أي: لولا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا كاد ليضلنا عن آلهتنا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[43]

وفي هذا: (¬1) إيماء إلى وجوه من الفائدة: 1 - أنه - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ من الاحتفال في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات، وإقامة الحجج والبينات مبلغًا شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط عنادهم وتناهي عتوهم ولجاجهم. 2 - الدلالة على تناقضهم واضطرابهم، فإن في استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له، وفي آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته ورجاحة عقله، فذكره تحميق لهم، وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه. وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة: 1 - {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} البتة وإن تراخى {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الذي يستوجبه كفرهم، ومن العذاب عذاب بدر أيضًا؛ أي: سوف يعلمون حين يرون العذاب في الآخرة عيانًا {مَنْ} هو {أَضَلُّ سَبِيلًا}؛ أي: من هو أبعد طريقًا عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ نسبوه - صلى الله عليه وسلم - إلى الضلال في ضمن الإضلال، فإن أحدًا لا يضل غيره إلا إذا كان ضالًا في نفسه، واعلم أنه لا يهملهم وإن أمهلهم. ووصف السبيل بالضلال مجازًا. والمراد سالكوها، و {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} جملة استفهامية معلقة لـ {يَعْلَمُونَ}، فهي سادة مسد مفعوليه. أي (¬2): إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم يعلمون من الضال ومن المضل؛ وفي هذا رد لقولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} كما أن فيه وعيدًا شديدًا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر. 43 - ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى، فقال معجبًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: 2 - {أَرَأَيْتَ} يا محمد، أو أيها المخاطب. كلمة {أَرَأَيْتَ} تستعمل تارة للإعلام، وتارة للسؤال، وهاهنا للتعجب من جل من هذا وصفه {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

هَوَاهُ} {إِلَهَهُ} مفعول ثان قدم على الأول للاعتناء به؛ لأنه الذي يدور عليه أمر التعجب. والهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه، ثم سمي به المهوي المشتهى، محمودًا كان أو مذمومًا، ثم غلب على غير المحمود، فقيل: فلان أَتبع هواه إذا أريد ذمه، فالهوى ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد الاشتهاء من غير سند منقول، ودليل معقول. والمعنى (¬1): أرأيت يا محمد من جعل هواه إلهًا لنفسه بأن أطاعه، وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة والبرهان بالكلية، كأنه قيل: ألا تعجب ممن جعل هواه بمنزلة الإله في التزام طاعته وعدم مخالفته، فانظر إليه وتعجب منه. وهذا الاستفهام للتقرير والتعجيب. قال أبو سليمان - رحمه الله تعالى -: من أتبع نفسه هواها فقد سعى في قتلها؛ لأن حياتها بالذكر، وموتا وقتلها بالغفلة، فإذا غفل اتبع الشهوات، وإذا اتبع الشهوات صار في حكم الأموات. {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}؛ أي: حفيظًا تمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؛ أي: الاتخاذ. والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أتطمع في هدايته، فتكون عليه وكيلًا؛ أي: لست موكلًا على حفظه، بل أنت منذر، وليس هذا نهيًا عن دعائه إياهم، بل الإعلام بأنه قد قضى ما عليه من الإنذار والإعذار. وقال بعض المفسرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف. والمعنى: أي انظر في حال هذا الذي جعل هواه إلهه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة والبرهان الجلي الواضح، واعْجب ولا تأبه به، فإنك لن تكون حفيظًا على مثل هذا، تزجره عما هو عليه من الضلال، وترشده إلى الصراط السوي. وخلاصة ذلك: كأنه سبحانه يقول لرسوله: إن هذا الذي لا يرى معبودًا له ¬

_ (¬1) روح البيان.

[44]

إلا هواه لا تستطيع أن تدعوه إلى الهدى، وتمنعه من متابعة الهوى، إن عليك إلا البلاغ. ونحو الآية قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، وقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وفي هذا الأسلوب (¬1) تعجيب لرسوله من سوء أحوالهم بعد أن حكى قبيح أقوالهم وأفعالهم، وتنبيه له إلى سوء عاقبتهم، قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانًا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول، فأنزل الله الآية. 3 - 44 {أَمْ تَحْسَبُ} {أَمْ}: منقطعة تقدر بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أتظن يا محمد {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أن أكثر هؤلاء المشركين {يَسْمَعُونَ} ما يتلى عليهم من الآيات حق سماع؛ أي: سماع تفهم وتدبر واعتبار واتعاظ {أَوْ} أنهم {يَعْقِلُونَ} ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن، فتهتم بشأنهم، وتطمع في إيمانهم، لا تحسبنّ ذلك. وتخصيص (¬2) الأكثر؛ لأنه كان منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكبارًا وخوفًا على الرسالة. قال ابن عطاء - رحمه الله -: لا تظن أنك تسمع نداءك، إنما تسمعهم إن سمعوا نداء الأزل، وإلا فإن نداءك لهم ودعوتك لا تغني عنهم شيئًا، وإجابتهم دعوتك هو بركة جواب نداء الأزل ودعوته، فمن غفل وأعرض فإنما هو لبعده عن محل الجواب في الأزل {إِنْ هُمْ}؛ أي: ما هم في عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التدبر فيما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات {إِلَّا كَالْأَنْعَامِ}؛ أي: إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة، وعلم في الضلالة. وفي "التأويلات النجمية": ليس لهم نهمة إلا في الأكل والشرب واستجلاب حظوظ النفس كالبهائم التي نهمتها الأكل والشرب {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وأجهل وأخطأ {سَبِيلًا}؛ أي: طريقًا موصلًا إلى مصالحهم من الأنعام؛ لأنها تنقاد لمن يقودها، وتميز من يحسن إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، ¬

_ (¬1) المراغي (¬2) روح البيان.

وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار، ولأنها لم تعتقد حقًا، ولا تكتسب خيرًا ولا شرًا بخلاف هؤلاء، ولأن جهالتها لا تضر بأحد، وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها ولا ذم، وهؤلاء مقصرون مستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم. وقيل: إنما كانوا أضل من الأنعام؛ لأنه لا حساب عليها, ولا عقاب لها. وقيل: إنما كانوا أضل؛ لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك بخلاف هؤلاء، فإنهم اعتقدوا البطلان عنادًا ومكابرة وتعصبًا وغمطًا للحق. واعلم: أن (¬1) الله تعالى خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم، وخلق البهائم وركب فيها الشهوة، وخلق الإنسان، وركب فيه الأمرين؛ أي: العقل والشهوة، فمن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم، ولذا قال تعالى: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}؛ لأن الإنسان بقدمي العقل المغلوب والهوى الغالب ينقل إلى أسفل دركة لا تبلغ البهائم إليها بقدم الشهوة فقط، ومن غلب عقله هواه؛ أي: شهوته، فهو بمنزلة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن كان غالبًا على أمره فهو خير من الملائكة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}، فعلى العاقل الاحتراز عن الأفعال الحيوانية، فإنها سبب لزوال الجاه الصوري والمعنوي، فمدار الخلاص هو ترك الراحة، والعمل بسبب مخالفة النفس والطبيعة. وحاصل معنى قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}؛ أي (¬2): بل أتظن يا محمد أن أكثرهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[45]

يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق، حتى تجتهد في دعوتهم، وتحتفل برشادهم وتذكيرهم، وتطمع في إيمانهم، فما حالهم إلا حال البهائم في تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج، بل هم أضل منها سبيلًا؛ إذ هي قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ومن يسيء، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيا ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها ومرابضها, لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات إلا أنهم لا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، إلا أن جهالة الأنعام مقصورة عليها، وجهالة هؤلاء تؤدي إلى وقوع الفتنة والفساد، وصد الناس عن سنن السداد، ووقوع الهرج والمرج بين العباد، إلا أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادًا ومكابرة وتعصبًا وغمطًا للحق، إلا أنها لم تعطل قوة من القوى المودعة فيها، فلا تقصير من قبلها عن الكمال، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية، مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قالوا: الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس وهوى، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار، فإن غلبته النفس والهوى فضلته البهائم، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام. 45 - ولما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم .. أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد، مع ما فيها من عظيم الإنعام، وحاصل ما ذكره منها خمسة: الأول منها: مد الظل، والثاني: جعل الليل لباسًا، والثالث: إرسال الرياح، والرابع: مرج البحرين، والخامس: خلق البشر من الماء. فأولها: الاستدلال بأحوال الظل، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} الخطاب (¬1) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المراد منه العموم؛ لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى ¬

_ (¬1) روح البيان.

بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم على هذه النعمة اهـ "مراح". والهمزة للتقرير. والرؤية؛ إما رؤية العين، والمعنى عليه: ألم تنظر إلى بديع صنعه تعالى، فإن المنظور يجب أن يكون مما يصح أن يتعلق به رؤية العين {كَيْفَ}: اسم استفهام، سأل بها عن الحال، منصوبة على الحال بقوله: {مَدَّ الظِّلَّ}؛ أي: بسط الظل؛ أي: ألم تبصر إلى صنع ربك، أو لم تبصر إلى الظل كيف مده ربك، وإما قلبية بمعنى العلم، فإن الظل متغير، وكل متغير حادث، ولكل حادث موجد، قال الزجاج: {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب، قال: وهذا الكلام على القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك يعني: الظل من الفجر إلى طلوع الشمس، وهو ظل لا شمس معه. وعبارة أبي السعود: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}؛ أي (¬1): كيف أنشأ ظلًا لأي مظل كان من جبل، أو بناء، أو شجر، عند ابتداء طلوع الشمس ممتدًا، لا أنه تعالى مده بعد أن لم يكن كذلك كما بعد نصف النهار إلى غروبها، فإن ذلك مع خلوه عن التصريح يكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم، وأما ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وأنه أطيب الأوقات فغير سديد؛ إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته فيما يشاهدونه، فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف، مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضَحِّ الشمس، وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلًا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلًا، ولا يصفونه بأوصافه المعهودة" اهـ باختصار. والمراد (¬2): أن الشمس تنسخ الظل وتزيله شيئًا فشيئًا إلى الزوال، ثم ينسخ الظل ضوء الشمس، ويزيله من وقت الزوال إلى الغروب، فالظل الآخذ في التزايد الناسخ لضوء الشمس يسمى فيئًا؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب، فهو من الزوال إلى الغروب، والظل من الطلوع إلى الزوال. ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان.

والمعنى: انظر أيها الرسول إلى صنع ربك كيف أنشأ الظل، وكذا الفيء من طلوع الشمس إلى غروبها، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها {وَلَوْ شَاءَ} ربك سكون ذلك الظل وثباته على حالة واحدة {لَجَعَلَهُ}؛ أي: لجعل ذلك الظل {سَاكِنًا}؛ أي: ثابتًا على حالة واحدة، لا يتغير بالنقصان والزيادة، لكنه (¬1) جعله متغيرًا في ساعات النهار المختلفة، وفي الفصول المتعاقبة، ومن ثم اتخذ مقياسًا للزمن منذ القِدم، فاتخذ المصريون المسلات، وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة، وطرق حكيمة منوعة، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة، فقالوا: يجب الظهر عند الزوال؛ أي: إذا تحول الظل إلى جانب المشرق، والعصر حين بلوغ ظل كل شيء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة، فإنه قال: لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شيء مثليه. والمعنى (¬2): ولو شاء الله سبحانه سكونه ودوامه لجعله ساكنًا ثابتًا دائمًا مستقرًا، لا تنسخه الشمس. وقيل: المعنى: لو شاء لمنع الشمس من الطلوع. والأول أولى، والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ، ومنه قولهم: سكن فلان بلد كذا إذا أقام به واستقر فيه. وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، اعترض بها للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل فيما ذكر من المد للأسباب العادية، وإنما المؤثر فيه المشيئة والقدرة. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} معطوف على قوله: {مَدَّ الظِّلَّ}، داخل في حكمه ولم يقل: دالة؛ لأن المراد ضوء الشمس؛ أي: ثم جعلنا طلوع الشمس دليلًا على ظهور الظل، ومشاهدته للحسّ والعيان، والأشياء تستبين بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة ما عرف النور. والمعنى (¬3): جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعًا حسبما نطقت به الشرطية المعترضة، وذلك لأن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[46]

الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من جهة أنه يزيد بها وينقص، ويمتد ويتقلص. والالتفات إلى نون العظمة؛ لما في جعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الشمس والظل من الدوران المطرد المنبىء عن السببية من مزيد دلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة، وهو السر في إيراد كلمة التراخي 46 - {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} معطوف أيضًا على {مَدَّ}، داخل في حكمه. و {ثُمَّ} للتراخي الزماني؛ أي: ثم أزلنا ذلك الظل الممدود بعدما أنشأناه ممتدًا، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه، من غير أن يكون له تأثير في ذلك أصلًا، وإنما عبر عنه بالقبض المنبىء عن جمع المنبسط وطيه؛ لما أنه قد عبر عن إحداثه بالمد الذي هو البسط طولًا، وقوله: {إِلَيْنَا} تنصيص على كون مرجعه إلى الله تعالى، كما أن حدوثه عنه عز وجل. وقيل: معنى {إِلَيْنَا}: علينا؛ أي: {قَبْضًا يَسِيرًا} سهلًا علينا؛ أي: محوًا يسيرًا؛ أي: على مهل وتدريج قليلًا قليلًا بحسب ارتفاع دليله؛ أي: الشمس يعني أنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، فلو قبضه الله تعالى دفعة .. لتعطلت منافع الظل والشمس، فقبضه يسيرًا يسيرًا لتبقى منافعهما والمصالح المتعلقة بهما. والمعنى (¬1): أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرًا يسيرًا، ومحوناه على مهل جزءًا جزءًا بحسب سير الشمس. 47 - وثاني الأدلة: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ}؛ أي: الله تعالى وحده {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} أيها العباد، {اللَّيْلَ لِبَاسًا}؛ أي: كاللباس يستركم بظلامه كما يستر اللباس لابسه، فشبه ظلامه باللباس في الستر، قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشبيهًا له من حيث إنه يستر الأشياء ويغشاها. واللام متعلق بـ {جَعَلَ}. فإن قلت (¬2): إذا كانت ظلمة الليل لباسًا فلا حاجة إلى ستر العورة في صلاة الليل؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

قلتُ: لا اعتبار لستر الظلمة فإن ستر العورة باللباس ونحوه لحق الصلاة، وهو باق في الظلمة والضوء {وَ} جعل لكم {النَّوْمَ سُبَاتًا}؛ أي: راحة لأبدانكم، وقطعًا لأعمالكم، والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد، والسبت: قطع العمل، ويوم سبتهم: يوم قطعهم للعمل، وسمي يوم السبت لذلك، أو لانقطاع الأيام عنده؛ لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت، كما في "المفردات". والمعنى (¬1): وجعل النوم الذي يقع في الليل غالبًا راحة للأبدان بقطع المشاغل والأعمال المختصة بحال اليقظة، أو المعنى: جعل النوم موتًا، فعبر عن القطع بالسبات الذي هو الموت؛ لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع الحياة، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} فالموت والنوم من جنس واحد، خلا أن الموت هو الانقطاع الكلي؛ أي: انقطاع ضوء الروح عن ظاهر البدن وباطنه، والنوم هو الانقطاع الناقص؛ أي: انقطاع ضوء الروح عن ظاهره دون باطنه، والمسبوت: الميت لانقطاع الحياة عنه، والمريض: المغشي عليه لزوال عقله وتمييزه، وعليه قولهم: مثل المبطون والمفلوج والمسبوت ينبغي أن لا يبادر إلى دفنه حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم. {وَجَعَلَ} لكم {النَّهَارَ نُشُورًا} والنهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، وهو في الشرع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي الأصل ما بين طلوع الشمس إلى غروبها. والنشور؛ إما من الانتشار؛ أي: وجعل النهار ذا نشور؛ أي: انتشار، ينتشر فيه الناس لطلب المعاش وابتغاء الرزق، كما قال: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أو من نشر الميت إذا عاد حيا؛ أي: وجعل النهار زمان بعث من ذلك السبات، والنوم كبعث الموتى، فو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[48]

وعن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر. وفي الآية رخصة للنوم بقدر دفع الضرورة، وهو فتور البدن. قال بعضهم: النوم راحة للبدن، والمجاهدات اتعاب البدن، فيتضادان. فائدة: والحكمة في النوم أن الروح القدسي، أو اللطيفة الربانية، أو النفس الناطقة غريبة جدًّا في هذا الجسم السفلي، مشغولة بإصلاحه وجلب منافعه، ودفع مضارّه، محبوسة فيه ما دام المرء يقظان، فإذا نام ذهب إلى مكانه الأصلي ومعدنه الذاتي، فيستريح بواسطة لقاء الأرواح ومعرفة المعاني والغيوب مما يتلقى في حين ذهابه إلى عالم الملكوت من المعاني التي يراها بالأمثلة في عالم الشهادة، وهو السر في تعبير الرؤيا كذا قال في "الروح" والله أعلم. ومعنى الآية: أي (¬1) ومن أثار قدرته وروائع رحمته الفائضة على خلقه أن جعل لنفعكم الليل كاللباس، يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، وجعل النوم كالموت؛ لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة، وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت. 48 - وثالث الأدلة: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ}؛ أي: الله سبحانه وحده الإله {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}؛ أي: أطلقها وبعثها حالة كونها {بُشْرًا} لكم؛ أي: مبشرات لكم بمجيء المطر؛ أي: أرسلها {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: قدام رحمته ومطره سبحانه وتعالى؛ لأنه أولًا تكون ريح، ثم سحاب، ثم مطر. والإرسال: التسخير. والريح معروفة؛ وهي فيما قيل: الهواء المتحرك، وقيل في الرحمة: رياح بلفظ الجمع؛ لأنها تجمع الجنوب والشمال والصبا، وقيل في العذاب: ريح؛ لأنها واحدة؛ وهي الدبور التي أهلكت عادًا، وهو عقيم لا يلقح، ولذا ورد في الحديث: "اللهم اجعلها لنا رياحًا، ولا تجعلها ريحًا". والمعنى؛ أي: والله الذي أرسل الرياح مبشرات بقدوم الأمطار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

وقرأ ابن كثير (¬1): {الريح} بالإفراد. وقرأ: {نُشُرًا} نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين؛ أي: ناشرات للسحاب. وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: متفرقة. وقرأه عاصم بالباء الموحدة المضمومة وسكون الشين؛ أي: مبشرات. وقال ابن عطية (¬2): وقراءة الجمع أوجه؛ لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة، فإنما هي رياح؛ لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق، وتأتي ليِّنة، وتأتي من هاهنا وهاهنا، وشيئًا إثر شيء، وريح العذاب تخرج لا تتداءب، وإنما تأتي جسدًا واحدًا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه، قال الرماني: جمعت رياح الرحمة؛ لأنها ثلاثة: لواقح الجنوب والصبا والشمال. وأفردت ريح العذاب؛ لأنها واحدة لا تلقح؛ وهي الدبور انتهى. ولا يسوغ أن يقال: هذه القراءة أوجه؛ لأن كلاً من القراءتين متواترة. {وَأَنْزَلْنَا} بعظمتنا. والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بالإنزال؛ لأنه نتيجة إرسال الرياح {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من جهة الفوق يعني: من السحاب {مَاءً طَهُورًا}؛ أي: بليغًا في الطهارة، وهو الذي يكون طاهرًا في نفسه، ومطهرًا لغيره من الحدث والنجاسة. والطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار، والوضوء لما يتوضأ به؛ أي: وأنزلنا من السحاب ما تتطهرون به في غسل ملابسكم وأجسامكم، وتنتفعون به في طبخ مطاعمكم، وتشربونه عذبًا فراتًا، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه أبو داود والترمذي. قال في "فتح الرحمن" الطهور: هو الباقي على أصل خلقته من ماء المطر والبحر والعيون والآبار، على أي صفة كان من عذوبة، وملوحة، وحرارة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[49]

وبرودة، وغيرها، وما تغير بمكثه أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالتراب والطحلب وورق الشجر ونحوها .. فهو طاهر في نفسه، مطهر لغيره، يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس بالاتفاق، فإن تغير عن أصل خلقته بطاهر يغلب على أوصافه يستغني الماء عنه غالبًا .. لم يجز التطهير به عند الثلاثة، وجوّز أبو حنيفة رحمه الله الوضوء بالماء المتغير بالزعفران ونحوه من الطاهرات، ما لم تزل رقته، وقال أيضًا: يجوز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد ونحوهما، وخالفه الثلاثة ومحمد بن الحسن وزفر كما فصل في الفقه. فإن قلت: لم (¬1) وصف الماء بالطهور مع أن وصف الطهارة لا دخل له في ترتيب الأحياء والسقي على إنزال الماء؟ قلتُ: وصفه بالطهارة إشعارًا بزيادة النعمة؛ لأن وصف الطهارة نعمة زائدة على إنزال ذات الماء، وتتميمًا للمنة المستفادة من قوله: {لِنُحْيِيَ بِهِ}؛ {وَنُسْقِيَهُ} فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه مما يزيل طهوريته، وتنبيهًا على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها كانت بواطنهم بذلك أولى؛ لأن باطن الشيء أولى بالحفظ عن التلوث من ظاهره، وذلك لأن نظر الحق جل جلاله إلى باطن الإنسان، لا ظاهره. 49 - ثم ذكر سبحانه علة الإنزال، فقال {لِنُحْيِيَ بِهِ}؛ أي: بما أنزلنا من السماء من الماء الطهور {بَلْدَةً مَيْتًا}؛ أي: أرضًا يابسة، لا أشجار فيها ولا ثمار ولا مرعى، وإحياؤها: بإنبات النبات من المكان الذي لا نبات فيه. والمراد بالبلدة؛ القطعة من الأرض، عامرة كانت أو غيرها. والتذكير حيث لم يقل: بلدة ميتة؛ لأنه بمعنى البلد، أو الموضع، أو المكان، ولأنه غير جار على الفعل بأن يكون على صيغة اسم الفاعل، أو المفعول، فأجري مجرى الجامد. وقرأ عيسى وأبو جعفر {ميّتا} بالتشديد {وَنُسْقِيَهُ}؛ أي: نسقي ذلك الماء ¬

_ (¬1) روح البيان.

الطهور عند جريانه في الأودية؛ أي: اجتماعه في الحياض، أو المنابع والآبار. وسقى وأسقى لغتان بمعنى، يقال: سقاه الله الغيث وأسقى، والاسم: السقيا كما سيأتي. وقرأ (¬1) عبد الله وأبو مجلز وأبو رجاء والضحاك وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما {ونَسقيه} بفتح النون، ورويت عن عمر بن الخطاب. والمعنى: أي وأنزلناه لنحيي به أرضًا طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها، وبذلك الماء يزدهر الشجر والنبات والأزهار، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان، وأنزلناه ليشرب منه الحيوان والإنسان. {مِمَّا خَلَقْنَا} متعلق بـ {نسقيه} {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} بدل (¬2) من محل الجار والمجرور؛ أي: ولنسقي ذلك الماء بعض خلقنا من الأنعام والأناسي، ويجوز أن يكون {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ} مفعول {نُسقيه}، و {مِمَّا خَلَقْنَا} متعلق بمحذوف حال من: {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها؛ أي: ولنسقيه أنعامًا وأناسي كثيرًا كائنات مما خلقنا. والأنعام: جمع نعم؛ وهي الأموال الراعية. والأناسي جمع إنسان كما سيأتي بسطه. و {كَثِيرًا}: صفة {أناسي}؛ لأنه بمعنى بشرًا، والمراد بهم أهل البوادي الذين يعيشون بالمطر، ولذا نكر الأنعام والأناسي، يعني: أن التنكير للإفراد النوعي، وتخصيصهم بالذكر؛ لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمنابع، فلا يحتاجون إلى سقيا السماء، وسائر الحيوانات من الوحوش والطيور تبعد في طلب الماء، فلا يعوزها الشرب غالبًا. يقال: أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه. وخص الأنعام بالذكر (¬3)؛ لأنها قنية للإنسان؛ أي: يقتنيها ويتخذها لنفسه، لا لتجارة، وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها، فلذا قدّم سقيها على سقيهم، ¬

_ (¬1) البحر. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[50]

كما قدم على الأنعام إحياءً الأرض، فإنه سبب لحياتها وتعيّشها، فانظر يا أخي كيف رتب سبحانه ذكر ما هو رزق الإنسان ورزق رزقه، فإن الأنعام رزق الإنسان، والنبات رزق الأنعام، والمطر رزق النبات، فقدم ذكر المطر، ورتّب عليه ذكر حياة الأرض بالنبات، ورتّب عليه ذكر الأنعام. وفي "المراح": قوله: {كَثِيرًا} إما راجع للـ {أناسي}، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار وينابيع الماء، فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي، فلا يجدون المياه للشرب إلّا عند نزول المطر، وإما راجع إلى {نسقيه}، وذلك لأن الحيوان يحتاج الماء حالًا بعد حال ما دام حيًا، وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعض ذلك .. لكان أقرب إلى الضرر، اهـ. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري وأبو مجلز والضحاك وأبو العالية وعاصم الجحدري (¬1): {وأناسِيْ} بتخفيف الياء، ورويت عن الكسائي. 50 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كرّرنا هذا القول الذي هو إنشاء السحاب، وإنزال المطر لما مرّ من الغايات الجليلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين الناس من المتقدمين والمتأخرين {لِيَذَّكَّرُوا}؛ أي: ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك، ويقوموا بشكره حق القيام. وأصله: {ليتذكروا} من التذكر؛ وهو التفكر {فَأَبَى} وامتنع {أَكْثَرُ النَّاسِ} ممن سلف وخلف {إِلَّا كُفُورًا}؛ أي: كفران النعمة وقلة المبالاة بشأنها، فإن حقها أن يتفكر فيها، ويستدل بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة. وأكثر المفسرين (¬2): على أن الضمير في {صَرَّفْنَاهُ} راجع إلى نفس الماء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الطهور الذي هو المطر، فالمعنى عليه؛ أي: وعزتي وجلالي {لَقَدْ صَرَّفْنَاهُ}؛ أي: فرقنا المطر بينهم بإنزال له في بعض البلاد والأمكنة دون غيرها، أو في بعض الأوقات دون بعض، أو على صفة دون أخرى بجعله تارة وابلًا وهو المطر الشديد، وأخرى طلا وهو المطر الضعيف، ومرة ديمة وهو المطر الذي يدوم أيامًا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} إلّا جحودًا للنعمة، وكفرًا بالله تعالى بأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا؛ أي: بسقوط كوكب كذا، كما يقول المنجمون، فجعلهم الله سبحانه بذلك كافرين، حيث لم يذكروا صنع الله تعالى ورحمته، بل أسندوا مثل هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب، فمن لا يرى الأمطار إلّا من الأنواء فهو كافر بالله بخلاف من يرى أن الكل بخلق الله تعالى. والأنواء أمارات بجعل الله تعالى، والأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر، ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته، والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها؛ لأنّه في سلطانه. وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، والمعنى: ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم إلّا كفورًا به. وقيل: راجع إلى الريح. وقرأ عكرمة (¬1): {صَرَفناه} مخففًا، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي {ليَذْكُروا} مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر. ومعنى الآية: وعزتي وجلالي لقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة في ليل ولا نهار إلَّا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم، كما صرّفنا الليل والنهار، فالشمس تجري من عند قوم، وتذهب إلى الآخرين {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ أي: إلا أن الماء قد يكون جامدًا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينًا بخاريًا يشبه الهواء، وهو أيضًا غاد ورائح في الجو، وفي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[51]

الأنهار، وفي الغدران، وفي أجسام النبات والحيوان والإنسان؛ ليذكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا, ولكن أكثر الناس أبوا إلّا جحودًا للنعمة، وكفرانًا بخالقها. 51 - ثم بين منّته على رسوله، وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة؛ ليزداد شرفًا ويعظم قدرًا، فقال: {وَلَوْ شِئْنَا}؛ أي: ولو (¬1) أردنا أن نرسل رسولًا إلى أهل كل قرية {لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}؛ أي: لأرسلنا في كل مصر ومدينة نذيرًا؛ أي: نبيًا ينذر أهلها، وخفت عنك أعباء النبوة، ولكن بعثناك إلى القرى كلها، وحمّلناك ثقل النذارة؛ لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة، فقابل ذلك بشكر النعمة، وبالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، كما قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وثبت في "الصحيحين": "بعثت إلى الأحمر والأسود"؛ أي: إلى العجم والعرب. والخلاصة: أنا عظّمناك بهذا الأمر، وجعلناك مثقلًا بأعبائه؛ لتحوز ما ادخر لك من عظيم جزائه وكبير مثوبته، فعليك بالمجاهدة والمصابرة، ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة 52 - {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}؛ أي: لا توافقهم فيما ندبوك إليه من عبادة الآلهة واتباع دين الآباء، وأغلظ عليهم ولا تداهنهم، واثبت على الدعوة وإظهار الحق {وَجَاهِدْهُمْ}؛ أي: جادلهم ودافعهم عن الدين الحق {بِهِ}؛ أي: بالقرآن؛ أي: بتلاوة ما في تضاعيفه من المواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة لرسلها {جِهَادًا كَبِيرًا}؛ أي: عظيمًا تامًا شديدًا، لا يخالطه فتور، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. وإنما لم يحمل المجاهدة على القتال بالسيف؛ لأنه إنما ورد الإذن فيه بعد الهجرة بزمان، والسورة مكية، قال بعضهم: ويجوز أن يكون الجهاد بالألسنة بترك المداهنة في حقهم وإغراء الناس على دفع فسادهم، كما أن الجهاد بالأموال بالدفع إلى من يحاربهم ويستأصلهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[53]

والمعنى: أي فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم، وجاهدهم بالشدة والعنف، لا بالملاينة والمداراة؛ لتكسب ودّهم ومحبتهم، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره، ونحو الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}. والخلاصة: أنك مبعوث إلى الناس كافة لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، فاجتهد في دعوتك، ولا تتوان فيها, ولا تحفل بوعيدهم، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون. 53 - ورابع الأدلة: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: خلاهما (¬1) وأرسلهما، وأجراهما في مجاريهما متلاصقين بحيث لا يتمازجان، ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وجملة قوله: {هَذَا عَذْبٌ} إما مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مرجهما؟ فقيل: هذا عذب، وهذا ملح، أو في محل نصب على الحال من {الْبَحْرَيْنِ} بتقدير القول؛ أي: هو الذي مرج البحرين حال كونهما مقولًا في حقهما: {هَذَا}؛ أي: أحدهما {عَذْبٌ}؛ أي: حلو طيب {فُرَاتٌ}؛ أي: سائغ قاطع للعطش لغاية عذوبته صفة {عَذْبٌ} والتاء فيه أصلية وهذا أي: الآخر {مِلْحٌ}؛ أي: مرّ {أُجَاجٌ}؛ أي: زعاق بليغ الملوحة، صفة {مِلْحٌ}، وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي {مَلِح} بفتح الميم وكسر اللام، وكذا في فاطر {وَجَعَلَ}: عطف على الصلة {بَيْنَهُمَا}؛ أي: بين البحرين العذب والملح {بَرْزَخًا}؛ أي: حاجزًا وحائلًا من قدرته سبحانه غير مرئي {وَحِجْرًا}؛ أي: سترًا {مَحْجُورًا}؛ أي: ممنوعًا به تغيير أحدهما طعم الآخر، وهو صفة مؤكدة لـ {حِجْرًا} كليل أليل ويوم أيوم. وقيل: هذه كلمة استفادة كما سبق في هذه السورة. والمعنى هاهنا على التشبيه؛ أي: تنافرًا بليغًا، كأن كلاً منهما يتعوذ من الآخر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[54]

بتلك المقالة، ويقول: حرامًا محرمًا عليك أن تغلب عليّ، وتزيل صفتي وكيفيتي. واعلم: أن أكثر المفسرين حمل البحرين على بحري فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وموضع التقائهما هو مجمع البحرين المذكور في الكهف، ولكن يلزم على هذا أن يكون البحر الأول عذبًا، والثاني ملحًا، مع أنهم قالوا: لا وجود للبحر العذب هناك، وذلك لأنهما في الأصل خليجان من المحيط، وهو مرّ، والأوجه أن يمثّل البحران بالنيل المبارك والبحر الأخضر، وهو بحر فارس الذي هو شعبة من البحر الهندي الذي يتصل بالبحر المحيط، وبحر فارس مر، وذلك أن بحر النيل يدخل في البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط به، وهو معنى المرج، ولولا اختلاطه بملوحته .. لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته كما في "إنسان العيون". والمعنى: أي (¬1) ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين، وجعلهما لا يمتزجان، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه، وحجزه عنه بقدرته، فكأن بينهما حاجزًا يمنع أحدهما إفساد الآخر، وكأن بينهما ساترًا يجعله لا يبغي عليه. والخلاصة (¬2): أنه تعالى جعل البحرين مختلطين في مرأى العين، منفصلين في التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده، ونحو الآية قوله تعالى في سورة الرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)}. 54 - وخامس الأدلة: ما ذكره بقوله: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد {مِنَ الْمَاءِ}؛ أي (¬3): من ماء الذكر والأنثى؛ وهو النطفة، أو من الماء الذي خمّر به طينة آدم عليه السلام {بَشَرا}؛ أي: آدميًا، والبشرة ظاهر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

الجلد كما أن الأدمة - محركة - باطنه الذي يلي اللحم، وعبر عن الإنسان بالبشر اعتبارًا بظهور جلده من الشعر بخلاف سائر الحيوانات التي عليها الصوف، أو الشعر أو الوبر، كالضأن والمعز والإبل. وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفط البشر، واستوى فيه الواحد والجمع {فَجَعَلَهُ}؛ أي: البشر أو الماء {نَسَبًا وَصِهْرًا}؛ أي: قسمه قسمين ذوي نسب، أي: ذكورًا ينسب إليهم، فيقال: فلان ابن فلان، ووفلانة بنت فلان، وذوات صهر؛ أي: إناثًا يصاهر بهن ويخالط. وقيل: النسب ما لا يحل تزويجه من القرابة. والصهر ما يحل التزويج من القرابة وغيرها. وقيل: النسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها. وقيل: النسب من القرابة، والصهر الخلطة التي تشيه القرابة؛ وهو السبب المحرّم للنكاح، وقد حرّم الله بالنسب سبعًا، وبالسبب سبعًا، ويجمعها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ...} الآية، وقد تقدم تفسير ذلك وبيانه في تفسير سورة النساء. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}؛ أي: مبالغًا في القدرة حيث قدر أن يخلق من مادة واحدة بشرًا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة عجيبة الصنع، بديع الخلق، كبير العقل، عظيم التفكير، سخر ما علي ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، وجعله قسمين متقابلين، وربما يخلق من مادة واحدة توءمين ذكرًا وأنثى. الإعراب {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)}. {وَقَالَ} الواو: استئنافية. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لا}: نافية. {يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلّا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {الْمَلَائِكَةُ}: نائب فاعل لـ {أُنْزِلَ}، والجملة التحضيضية مقول {قال}. {أَوْ}: حرف عطف. {نَرَى رَبَّنَا}: فعل

ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين، والجملة معطوفة على جملة {أُنْزِلَ} على كونها مقول {قال}. {لَقَدِ}: اللام موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق: {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مسوقة لدرء شبهاتهم وتعنتاتهم بعد قيام الحجة عليهم. {فِي أَنْفُسِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {اسْتَكْبَرُوا}، بمعنى: أنهم لتكبرهم عدّوا أنفسهم كبيرة الشأن، وأصله من استكبره إذا عدّه كبيرًا، فنزله منزلة اللازم فعدّاه بـ {فِي}. {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}: فعل وفاعل ومفعول مطلق وصفة معطوفة على {اسْتَكْبَرُوا}. {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر لهم أهوال يوم يرون الملائكة، أو يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة، وليس متعلقًا بالبشرى؛ لأن المصدر لا يعمل فيما قبله. {يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل إنّ. {بُشْرَى}: في محل النصب اسمها. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لا}، أو تأكيد لفظي لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ} على التقدير الثاني. {لِلْمُجْرِمِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا}، وجملة {لَا} مقول لقول محذوف وقع حالًا من {الْمَلَائِكَةَ}؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين: لا بشرى للمجرمين يومئذ. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَرَوْنَ}، فالضمير فيه للكفار. {حِجْرًا}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: حجرنا من شركم أيها الملائكة ومنعنا منه حجرًا. {مَحْجُورًا}: صفة مؤكدة لـ {حِجْرًا}. {وَقَدِمْنَا}: الواو: استئنافية. {قدمنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {قدمنا}. {عَمِلُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: عملوه. {مِنْ عَمَلٍ}: جار ومجرور حال من {مَا} الموصولة، أو من العائد المحذوف. {فَجَعَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول

أول. {هَبَاءً}: مفعول ثان. {مَنْثُورًا}: صفة {هَبَاءً}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قدمنا}. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}: مبتدأ ومضاف إليه {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مكان إلى مثله متعلق بـ {خَيْرٌ}. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ. {مُسْتَقَرًّا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل والجملة مستأنفة {وَأَحْسَنُ}: معطوف على {خَيْرٌ}. {مَقِيلًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ {أحسن}. {وَيَوْمَ}: منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر يوم، والجملة المحذوفة مستأنفة. {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {بِالْغَمَامِ}: في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها للسببية؛ أي: بسبب الغمام، يعني: بسبب طلوعه منها، ونحوه قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}، كأنه الذي تشقق به السماء، فيتعلق الجار والمجرور بـ {تَشَقَّقُ}. وثانيها: أنها للملابسة، فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. والثالث: أنها بمعنى عن؛ أي: عن الغمام كقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ}، فتتعلق بـ {تَشَقَّقُ} أيضًا اهـ "سمين". {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {تَشَقَّقُ}. {تَنْزِيلًا}: مفعول مطلق منصوب بـ {نُزِّلَ}. {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}. {الْمُلْكُ}: مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {الْمُلْكُ}. {الْحَقُّ}: صفة لـ {الْمُلْكُ}. {لِلرَّحْمَنِ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَكَانَ}: الواو: عاطفة. {كان}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود

على اليوم؛ أي: وكان ذلك اليوم. {يَوْمًا}: خبر {كَانَ}. {عَلَى الْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {عَسِيرًا}. {عَسِيرًا}: صفة {يَوْمًا}، وجملة {كان} معطوفة على الجملة التي قبلها عطف فعلية على اسمية؛ لأنها في الأصل جملة اسمية، أو مستأنفة. {وَيَوْمَ} الواو: عاطفة. {يوم}: منصوب باذكر محذوفا، وهو معطوف على قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}، وكذا قوله السابق: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ}. {يَعَضُّ الظَّالِمُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}. {عَلَى يَدَيْهِ}: متعلق بـ {يَعَضُّ}. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الظَّالِمُ}، والجملة في محل النصب حال من {الظَّالِمُ}؛ أي: حالة كونه قائلًا، {يَا لَيْتَنِي} إلى قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ} مقول محكى، وإن شئت قلت: {يا} حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، أو يا قوم، وجملة المنادى في محل النصب مقول {يَقُولُ}، أو الياء حرف تنبيه، {ليتني}: {ليت}: حرف تمن ونصب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {اتَّخَذْتُ}: فعل وفاعل. {مَعَ الرَّسُولِ}: ظرف ومضاف إليه في محلِ المفعول الثاني لـ {اتَّخَذْتُ}. {سَبِيلًا}: مفعول أول لـ {اتَّخَذْتُ}، وجملة {اتَّخَذْتُ} في محل الرفع خبر {ليت}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}. {يَا وَيْلَتَى} {يا}: حرف نداء. {ويلتي}: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. {لَيْتَنِي}: ناصب واسمه ونون وقاية. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {أَتَّخِذْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على المتكلم. {فُلَانًا}: مفعول أول. {خَلِيلًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {ليت}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {لَقَدْ}: {اللام} موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {أَضَلَّنِي}: فعل

ماض ونون وقاية، وفاعل مستتر يعود على {فُلَانًا} ومفعول به. {عَنِ الذِّكْرِ} متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول القول على كونها معللة للتمني المذكور. {بَعْدَ إِذْ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {أَضَلَّنِي}، أو حال من {الذِّكْرِ}. {جَاءَنِي}: فعل ماض ونون وقاية، وفاعل مستتر يعود إلى {الذِّكْرِ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ}: فعل ماض ناقص واسمه. {لِلْإِنْسَانِ}: متعلق بـ {خَذُولًا}. {خَذُولًا}: خبر {كان}، وجملة {كان} مستأنفة استئنافًا نحويًا؛ لأنه من كلام الرب سبحانه. {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}. {وَقَالَ الرَّسُولُ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}. {يَا رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قال} {إِنَّ قَوْمِي}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل {هَذَا}: في محل النصب مفعول أول. {الْقُرْآنَ}: بدل من اسم الإشارة {مَهْجُورًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {وَكَذَلِكَ}: الواو: استئنافية. {كذلك}: الكاف اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف، {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل. {لِكُلِّ نَبِيٍّ}: جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني. {عَدُوًّا}: مفعول أول لـ {جَعَلْنَا}. {مِنَ الْمُجْرِمِينَ}: صفة لـ {عَدُوًّا}، والتقدير: وجعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين جعلًا مثل ذلك الجعل الذي جعلنا لك، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَفَى} الواو: عاطفة. {كفى}: فعل ماض. {بِرَبِّكَ}: فاعل {كفى}، والباء زائدة. {هَادِيًا}: حال من {ربك}. {وَنَصِيرًا}: معطوف عليه؛ أي: حالة كونه هاديًا لك للطريق التي ستنتصر بها عليهم كالغزو. اهـ شيخنا، أو تمييز له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {جَعَلْنَا}. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ

وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان شبهة منهم. تتعلق بالقرآن. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لَوْلَا}: تحضيضية بمعنى هلا. {نُزِّلَ عَلَيْهِ}: فعل ماض مغير الصيغة، والجار والمجرور متعلق به. {الْقُرْآنُ}: نائب فاعل. {جُمْلَةً}: حال من القرآن؛ أي: مجتمعًا. {وَاحِدَةً}: صفة {جُمْلَةً}، والجملة التحضيضية في محل النصب مقول {قال}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، والعالم فيه محذوف تقديره: نزلناه عليك تنزيلًا مثل ذلك التنزيل المرتل، والجملة المحذوفة مستأنفة. {لِنُثَبِّتَ}: اللام: حرف جر وتعليل، {نثبت}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله تقديره: نحن. {بِهِ}: متعلق به {فُؤَادَكَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بالفعل المحذوف، والتقدير: نزلناه عليه تنزيلًا مثل ذلك التنزيل لتثبيت فؤادك به. {وَرَتَّلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {تَرْتِيلًا}: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}. {وَلَا}: الواو: عاطفة. {لا}: نافية. {يَأْتُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِمَثَلٍ}: متعلق به، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. {جِئْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِالْحَقِّ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من مفعول يأتونك؛ أي: ولا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إياك بالحق وبما هو أحسن تفسيرًا. {وَأَحْسَنَ}: معطوف على {الحق}، مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل. {تَفْسِيرًا}: تمييز. {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {يُحْشَرُونَ}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول،

ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هم الذي يحشرون. {عَلَى وُجُوهِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من نائب فاعل {يُحْشَرُونَ}؛ أي: حالة كونهم مقلوبين على وجوههم. {إِلَى جَهَنَّمَ}: متعلق بـ {يُحْشَرُونَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {شَرٌّ}: خبر له. {مَكَانًا}: منصوب على التمييز .. {وَأَضَلُّ}: معطوف على {شَرٌّ}. {سَبِيلًا}: تمييز، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)}. {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية، واللام موطئة لقسم محذوف، {قد}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {آتَيْنَا}، والواو لا تفيد ترتيبًا كما مر في مبحث التفسير. {مَعَهُ}: متعلق بـ {جَعَلْنَا}. {أَخَاهُ}: مفعول أول. {هَارُونَ}: بدل من {أَخَاهُ}: أو عطف بيان له. {وَزِيرًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا}. {فَقُلْنَا} {الفاء}: عاطفة، {قلنا}: فعل وفاعل معطوف على {جَعَلْنَا}. {اذْهَبَا}: فعل وفاعل. {إِلَى الْقَوْمِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قلنا}. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا}. {فَدَمَّرْنَاهُمْ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، {دمرناهم}: فعل وفاعل ومفعول به. {تَدْمِيرًا}: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فدمرناهم تدميرًا. {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)}. {وَقَوْمَ نُوحٍ}: مفعول لفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال تقديره: وأغرقنا قوم نوح، والجملة معطوفة على جملة {آتَيْنَا}، ولك أن تعطفه على الهاء في {دمرناهم}؛ أي: ودمرنا قوم نوح. {لَمَّا}: حينية في

محل النصب على الظرفية متعلق بـ {أغرقنا}. {كَذَّبُوا الرُّسُلَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {أَغْرَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {وَجَعَلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {لِلنَّاسِ}: حال من {آيَةً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {آيَةً}: مفعول ثان لـ {جعلنا}، والجملة معطوفة على جملة {أَغْرَقْنَاهُمْ}. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل. {لِلظَّالِمِينَ}: متعلق بـ {أعتدنا}. {عَذَابًا}: مفعول به. {أَلِيمًا}: صفة {عَذَابًا}، والجملة معطوفة على جملة {جعلنا}، أو معترضة، وهذه الجملة تحتمل التخصيص، فيكون فيها وضع الظاهر موضع المضمر، وتحتمل العموم، فتكون معترضة. {وَعَادًا}: مفعول لفعل محذوف تقديره: وأهلكنا عادًا، أو دمرنا، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ}. {وَثَمُودَ}: معطوف على {عادا}، يصرف ولا يصرف كما مر. {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}: معطوف عليه أيضًا. {وَقُرُونًا}: معطوف عليه أيضًا. {بَيْنَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه صفة أولى لـ {قرونا}. {كَثِيرًا}: صفة ثانية له. {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)}. {وَكُلًّا}: الواو: عاطفة. {كلا}: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يلاقي {ضَرَبْنَا} في المعنى تقديره: خوفنا كلا، أو أنذرنا كلا، والجملة معطوفة على جملة {وَعَادًا}. {ضَرَبْنَا}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به، {الْأَمْثَالَ}: مفعول به، والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {وَكُلًّا}: مفعول مقدم لـ {تَبَّرْنَا}؛ لأنه فارغ له لم يشتغل بضميره. {تَبَّرْنَا}: فعل وفاعل. {تَتْبِيرًا}: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة {دمرنا}. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)}. {وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف

تحقيق. {أَتَوْا}: فعل وفاعل. {عَلَى الْقَرْيَةِ}: متعلق به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {الَّتِي}: صفة لـ {الْقَرْيَةِ} {أُمْطِرَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {مَطَرَ السَّوْءِ} مفعول مطلق لـ {أُمْطِرَتْ}: بمعنى: إمطار السوء على حد {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}. {أَفَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري المضمن للإنكار داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك الحذوف، {لم يكونوا}: جازم وفعل ناقص، واسمه مجزوم بحذف النون. {يَرَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {يَكُونُوا}، وجملة {يَكُونُوا} معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {بَلْ}: حرف إضراب. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {لا}: نافية. {يَرْجُونَ نُشُورًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كَانَ} وجملة كان جملة إضرابية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}. {وَإِذَا}: الواو: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {رَأَوْكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {إِنْ}: نافية. {يَتَّخِذُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول أو. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُزُوًا}: مفعول ثان لـ {يَتَّخِذُونَكَ}، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. فائدة: ويرد على هذا الجواب بأنه منفي بإن، والجواب المنفي يجب قرنه بالفاء؟ ويجاب بأن إذا اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء. اهـ، شيخنا، وفي "السمين": واختصت إذا بأن جوابها إذا كان منفيًا بما، أو إن، أو لا يحتاج إلى الفاء، بخلاف غيرها من أدوات الشرط، اهـ.

{أَهَذَا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري المضمن للتعجب. {هذا}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبره. {بَعَثَ اللَّهُ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بعثه الله. {رَسُولًا}: حال من الضمير المحذوف مؤكدة لعاملها، والجملة الاسمية مقول لقول محذوف وقع حالًا من الواو في {يَتَّخِذُونَكَ} تقديره: إن يتخذونك إلا هزوًا حال كونهم قائلين: أهذا الذي بعثه الله رسولًا. {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)}. {إِنْ}: مخففة من الثقيلة، اسمها محذوف؛ أي: إنه. {كَادَ}: فعل ماضٍ ناقص من أفعال المقاربة، واسمها ضمير مستتر يعود على {الرسول}. {لَيُضِلُّنَا}: {اللام}: حرف ابتداء، {يضلنا}: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على {الرسول}. {عَنْ آلِهَتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يضلنا}، وجملة {يضلنا} في محل النصب خبر {كَادَ}، وجملة {كَادَ} في محل الرفع خبر {إِنْ}: المخففة، وجملة {إِنْ}: المخففة في محل النصب ومن تتمة المقول للقول المحذوف. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {صَبَرْنَا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَن}: المصدرية. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {صَبَرْنَا}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا تقديره: لولا صبرنا عليها موجود. وجواب {لَوْلَا}: محذوف تقديره: لولا صبرنا موجود لصرفنا عنها، وجملة {لَوْلَا} في محل النصب من تتمة المقول للقول المحذوف. {وَسَوْفَ}: الواو: استئنافية. {سوف}: حرف تنفيس واستقبال. {يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم من الله تعالى. {حِينَ}: ظرف زمان متعلق بـ {يَعْلَمُونَ}. {يَرَوْنَ الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه. لـ {حِينَ}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَضَلُّ}: خبره. {سَبِيلًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي {يَعْلَمُونَ} التي علقت بالاستفهام عن العمل في لفظه.

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}. {أَرَأَيْتَ}: {الهمزة}: للاستفهام الاستخباري، {رأيت}: فعل وفاعل بمعنى أخبرني. {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {رأيت}. {اتَّخَذَ}: فعل ماض ناسخ من أخوات ظن وفاعله ضمير يعود على {مَنِ}. {إِلَهَهُ}: مفعول ثان لـ {اتَّخَذَ}: قدم على الأول اهتمامًا به. {هَوَاهُ}: مفعول به أول، وجملة {اتَّخَذَ} صلة {مَنِ} الموصولة. {أَفَأَنْتَ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري للتيئيس من إيمانهم، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، {أنت}: مبتدأ. {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على محمد. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {وَكِيلًا}. {وَكِيلًا}: خبر {تَكُونُ}، وجملة تكون في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة تقديره: أأنت تحرص على إيمانه فأنت تكون عليه وكيلًا، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مفعول ثان لـ {رأيت}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {تَحْسَبُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {تَحْسَبُ}: مستأنفة. {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَسْمَعُونَ}: في محل الرفع خبر {أَن}. {أَوْ يَعْقِلُونَ}: معطوف على {يَسْمَعُونَ}، وجملة {أَن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَحْسَبُ}. {إِنْ}: نافية {هُمْ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {كَالْأَنْعَامِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب وابتداء. {هُمْ أَضَلُّ}: مبتدأ وخبر. {سَبِيلًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف نفي وجزم. {تَرَ}: فعل مضارع، وفاعله مستتر مجزوم بـ {لم}. {إِلَى رَبِّكَ}: متعلق به،

ولكنه على حذف مضاف؛ أي: إلى صنع ربك. و {ترى} هنا بصرية. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال من {الظِّلَّ}. {مَدَّ الظِّلَّ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية سادة مسد مفعولي {ترى}؛ لأنها معلقة عنها باسم الاستفهام؛ أي ألم تر إلى صنع ربك مد الظل في آية حال شاء، وجملة الرؤية مستأنفة مسوقة لبيان أدلة التوحيد {وَلَوْ}: الواو: حالية. {لو}: حرف شرط. {شَاءَ}: فعل ماض وفاعله مستتر، فعل شرط لـ {لو}. {لَجَعَلَهُ}: {اللام}: رابطة الجواب، {جعله}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. {سَاكِنًا}: مفعول ثان، والجملة جواب {لو}، وجملة {لو} في محل النصب على الحال من فاعل {مَدَّ الظِّلَّ}. {ثُمَّ}: حرف عطف للتفاضل بين أوقات ظهور الظل، لا للتراخي الزماني؛ لأنه لا يصح هنا. {جَعَلْنَا الشَّمْسَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {عَلَيْهِ}: حال من {دَلِيلًا}. {دَلِيلًا}: مفعول ثان، لـ {جعل}، والجملة معطوفة على جملة {مَدَّ}. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)}. {ثُمَّ}: حرف عطف للتفاضل بين الأمور الثلاثة، وهي: مد الظل وسكونه وقبضه، كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما. {قَبَضْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {جَعَلْنَا}. {إِلَيْنَا}: متعلق بـ {قَبَضْنَاهُ}. {قَبْضًا}: مفعول مطلق. {يَسِيرًا}: صفة {قَبْضًا}. {وَهُوَ}: الواو: استئنافية. {هو}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبره، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان دليل آخر من أدلة التوحيد. {جَعَلَ}: فعل وفاعل مستتر صلة الموصول. {لَكُمُ}: حال من {لِبَاسًا}. {اللَّيْلَ}: مفعول أول. {لِبَاسًا}: مفعول ثان. {وَالنَّوْمَ}: معطوف على {اللَّيْلَ}. {سُبَاتًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ}. {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، معطوف على {جَعَلَ} الأول. {وَهُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر معطوف على

جملة قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ}. {أَرْسَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر صلة الموصول. {الرِّيَاحَ}: مفعول به. {بُشْرًا}: حال من {الرِّيَاحَ}. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَرْسَلَ}. {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَرْسَلَ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أنزلنا}. {مَاءً}: مفعول به. {طَهُورًا}: صفة {مَاءً}. {لِنُحْيِيَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {نحيي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {بِهِ}: متعلق به. {بَلْدَةً}: مفعول به. {مَيْتًا}: صفة لـ {بَلْدَةً} لأنه بمعنى مكانا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {أنزلنا}؛ أي: أنزلنا من السماء ماءً طهورًا لإحيائنا به بلدة ميتًا. {وَنُسْقِيَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {نحيي}. {مِمَّا}: جار ومجرور حال من {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ}. {خَلَقْنَا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: خلقناه. {أَنْعَامًا}: مفعول ثان لـ {نسقي}. {وَأَنَاسِيَّ}: معطوف عليه. {كَثِيرًا}: صفة لـ {أناسي}؛ لأنه بمعنى بشرًا كما مر. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {صَرَّفْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {صرفنا}، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {لِيَذَّكَّرُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل, {يذكروا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأوبل مصدر مجرور باللام؛ أي: لتذكرهم، الجار والمجرور متعلق بـ {صرفنا}. {فَأَبَى}: {الفاء}: عاطفة، {أبى أكثر الناس}: فعل وفاعل معطوف على {صرفنا}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {كُفُورًا}: مفعول به. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة. {لو}: حرف شرط. {شِئْنَا}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لو}. {لَبَعَثْنَا}: {اللام} رابطة لجواب {لو}. {بعثنا}: فعل وفاعل جواب {لو}. {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ}: جار ومجرور

ومضاف إليه متعلق بـ {بعثنا}. {نَذِيرًا}: مفعول به، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ}. {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}. {فَلَا تُطِعِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أدلة التوحيد المذكورة، وبلغتها إليهم، فأبوا عليك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {لا تطع}: {لا}: ناهية جازمة، {تُطِعِ الْكَافِرِينَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَجَاهِدْهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {تُطِعِ}. {بِهِ}: متعلق بجاهد. {جِهَادًا}: مفعول مطلق. {كَبِيرًا}: صفة لـ {جِهَادًا}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجمل السابقة. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به صلة الموصول. {هَذَا عَذْبٌ}: مبتدأ وخبر. {فُرَاتٌ}: خبر ثان، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من {الْبَحْرَيْنِ}، تقديره: حالة كونهما مقولًا فيهما: هذا عذب فرات. {وَهَذَا مِلْحٌ}: مبتدأ وخبر أول. {أُجَاجٌ}: خبر ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {هَذَا عَذْبٌ}. {وَجَعَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر معطوف على {مَرَجَ}. {بَيْنَهُمَا}: ظرف متعلق بـ {جعل} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {بَرْزَخًا}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}. {وَحِجْرًا}: معطوف على {بَرْزَخًا}. {مَحْجُورًا}: صفة مؤكدة لـ {حِجْرًا}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر معطوف على الجمل السابقة. {خَلَقَ}: فعل ماض وفاعل مستتر صلة الموصول. {مِنَ الْمَاءِ}: متعلق بـ {خَلَقَ}. {بَشَرًا}: مفعول به. {فَجَعَلَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. {نَسَبًا}: مفعول ثان. {وَصِهْرًا}: معطوف على {نَسَبًا}، والجملة معطوفة على {خَلَقَ}. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: أصل الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وملاقاة الله عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه تعالى بالبعث؛ أي: الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه. وأصل اللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته. {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا}: الاستكبار أن يشبع، فيظهر من نفسه ما ليس له. ذكره في "الروح". {وَعَتَوْا عُتُوًّا} وأصل العتو الغلو والنبو عن الطاعة. وأصل عتوا عتووا بواوين أولاهما مضمومة، فيقال: تحركت {الواو} وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها فصار عتوا، فالمحذوفة واو لام الكلمة، وأصل عتيا عتووًا بوزن فعول بواوين الأولى ساكنة، فكسرت التاء، فيقال: سكنت {الواو} إثر كسرة فقلبت ياء فصار عتيو، ثم يقال: اجتمعت {الواو} والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت {الواو} ياء، وأدغمت الياء في الياء فصارت عتيا. اهـ شيخنا. وأمَّا أصل عتوًا عتووًا فكرهوا توالي المثلين، فأدغمت {الواو} في {الواو} فصار عتوًا. والعتو هنا معناه: تجاوز الحد في الظلم تجاوزًا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحي، ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها. {حِجْرًا مَحْجُورًا} الحجر: مصدر حجره إذا منعه، والمحجور: الممنوع، وهو صفة {حِجْرًا} إرادة للتأكيد كيوم أيوم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو، أو هجوم نازلة هائلة يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم، والمكروه الذي يلم بدارهم؛ أي: نسأل الله أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا. {وَقَدِمْنَا} القدوم: عبارة عن مجيء المسافر بعد مدة كما مر. {هَبَاءً} والهباء: الغبار الذي يرى في شعاع الشمس، يطلع من الكوة من الهبوة؛ وهو الغبار، قال في "القاموس" و"تاج العروس" الهباء: الغبار ودقائق

التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض، والقلِيلُو العقول من الناس، وفعله هبا يهبو هبوًا. وقال الزمخشري: والهباء: ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه الغبار، وفي أمثالهم: أقل من الهباء، قال: ولام الهباء واو بدليل الهبوة. والكوة - بفتح الكاف وضمها - الطاقة في الحائط. {مَنْثُورًا}: صفته، بمعنى مفرقًا. {مُسْتَقَرًّا} المستقر: اسم مكان من استقر السداسي، والمستقر: المكان الذي يجلس فيه المرء في أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة. {مَقِيلًا} المقيل: المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن، سمي بذلك؛ لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبًا، والمقيل أيضًا: موضع القيلولة، والقيلولة: الاستراحة نصف النهار في الحر، يقال: قلت قيلولة نمت نصف النهار، والمراد هنا المعنى الأول. وفي "السمين": {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} في أفعل هنا قولان: أحدهما: أنه على بابه من التفضيل، والمعنى: أن للمؤمنين في الآخرة مستقرًا خيرًا من مستقر الكفار وأحسن مقيلًا من مقيلهم، لو فرض أن يكون لهم ذلك، أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا. والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة، اهـ. {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أصله: تتشقق بتاءين، أولاهما تاء المضارعة والثانية تاء المطاوعة، فحذفوا إحدى التاءين كما في تلظى. والغمام هو السحاب، سمي به؛ لكونه ساترًا لضوء الشمس، والغم ستر الشي؛ أي: بسبب طلوع الغمام منها؛ وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}. {يَعَضُّ الظَّالِمُ} وفي "المصباح": عضضت اللقمة، وبها، وعليها أمسكتها بالأسنان، وهو من باب تعب في الأكثر، لكن المصدر ساكن، ومن باب نفع لغة قليلة، وفي أفعال ابن القطاع: من باب ردّ، اهـ.

{يَا وَيْلَتَى} ألفه عوض عن ياء المتكلم، أصله: يا ويلتي بكسر التاء وفتح الياء، ثم فتحت التاء فقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فهذه الألف اسم لا حرف كما هو معلوم، وبسطت البحث عنها في رسالتي "هدية أولي الإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها إن شئت. وفي "الروح": والويل والويلة: الهلكة، ويا ويلتا: كلمة جزع وتحسّر، وأصله: يا ويلتي بكسر التاء، فأبدلت الكسرة فتحة، وياء المتكلمة ألفًا فرارًا من اجتماع الكسر مع الياء؛ أي: يا هلكتي تعالي واحضري فهذا أوان حضورك. والنداء وإن كان أصله لمن يتأتّى منه الإقبال؛ وهم العقلاء، إلاَّ أن العرب تتجوّز وتنادي ما لا يعقل إظهارًا للتحسّر كما مرّ. {خَذُولًا} يقال: يخذله بوزن نصره ينصره، وهو في المعنى ضده، والمصدر الخذلان، وهو ترك النصرة بعد الموالاة والمعاونة. {مَهْجُورًا}؛ أي: متروكًا؛ أي: تركوه وصدّوا عن الإيمان به. وقيل: هو من هجر إذا هذى؛ أي: جعلوه مهجورًا فيه، فحذف الجار، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين: أحدهما: أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين. وثانيهما: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، فهو إما من الهجر بالفتح؛ أي: ضد الوصل وإما من الهجر بالضم، وهو الهذيان وفحش القول، ثم المهجور إما اسم مفعول، وإما مصدر بمعنى الهجر، أطلق على القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر بمعنى الجلد والعقل واليسر والإعسار. {جُمْلَةً وَاحِدَةً}؛ أي: دفعة واحدة. {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}؛ أي: لنقوّي به قلبك. {وَرَتَّلْنَاهُ}؛ أي: أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل لنيسّر حفظه وفهمه، من قولهم: ثغر مرتل؛ أي: متفلج الأسنان. {بِمَثَلٍ}؛ أي: بنوع من الكلام، جار مجرى المثل في تنميقه وتحسينه،

ورشاقة لفظه وصدق معناه. {تَفْسِيرًا}؛ أي: بيانًا وإيضاحًا، والتفسير تفعيل من الفسر، وهو كشق ما غطّي وإظهاره. {وَزِيرًا} وفي "القاموس": الوزر - بالكسر - الثقل والحمل الثقيل، والوزير حبأ الملك الذي يحمل ثقله، ويعينه برأيه، وحاله الوزارة بالكسر ويفتح. والجمع وزراء. والحبأ - محركة - جليس الملك وخاصته. وقال بعضهم: الوزير الذي يرجع إليه، ويتحصن برأيه، من الوزر - بالتحريك - وهو ما يلتجأ إليه ويعتصم به من الجبل، ومنه قوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)}؛ أي: لا ملجأ يوم القيامة. والوزر - بالكسر - الثقل تشبيهًا بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإثم، كما يعبر عنه بالثقل لقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ}، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} التدمير: إدخال الهلاك على الشيء، والدمار الاستئصال بالهلاك، والدمور الدخول بالمكروه. {أَغْرَقْنَاهُمْ} والإغراق والغرق الرسوب في الماء؛ أي: السفول فيه إلى قعره كما مر. {وَأَعْتَدْنَا} أي: هيأنا، أصله أعددنا، قلبت الدال الأولى تاء. {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} الرس: البئر، وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجرّ فهو رس، كما قال في "الكشاف": الرس: البئر الغير المطوية؛ أي: المبنية انتهى. وفي "القاموس": "الرس: بئر كانت لبقية من ثمود، كذبوا نبيهم ورسّوه في بئر" انتهى. أي: دسّوه وأخفوه فيها، فنسبوا إلى فعلهم بنبيهم، فالرس مصدر، ونبيهم هو حنظلة بن صفوان، كان قبل موسى على ما ذكره ابن كثير، وحين دسوه فيها غار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعًا، وتبدلوا بعد الأنس الوحشة، وبعد الاجتماع الفرقة, لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام. {وَكُلًّا تَبَّرْنَا}؛ أي: فتّتنا، من التتبير، وهو التفتيت والتكسير والتقطيع. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة قبل أن يصاغا، فإذا صيغا فهما ذهب وفضة.

{مَطَرَ السَّوْءِ} مصدر مؤكد بحذف الزوائد كما قيل في: أنبته الله نباتا؛ أي: إمطار السوء. والسوء - بفتح السين وضمها - كل ما يسوء الإنسان ويغمّه من البلاء والآفة. وفي "القاموس": "وساء سوءًا - بالفتح -: فعل به ما يكره، والسوء - بالضم - اسم منه" اهـ. {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا}؛ أي: لا يتوقعون بعثًا للحساب والجزاء. وحقيقة الرجاء انتظار الخير، وظن حصول ما فيه مسرة، وليس النشور - أي: إحياء الميت - خيرًا مؤديًا إلى المسرة في حق الكافر، فهو مجاز عن التوقع، والتوقع يستعمل في الخير والشر، فأمكن أن يتصور النسبة بين الكافر وتوقع النشور. {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: لم تنظر {إِلَى رَبِّكَ}؛ أي: إلى صنعه {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}؛ أي: بسطه، أصل المد الجزء من المدة للوقت الممتد، والظل ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل، أو بناء، أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها. {سَاكِنًا}؛ أي: ثابتًا على حاله في الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس. {دَلِيلًا}؛ أي: علامة. {قَبَضْنَاهُ}؛ أي: محوناه. {يَسِيرًا}؛ أي: على مهل قليلًا قليلًا بحسب سير الشمس في فلكها. {لِبَاسًا} وأصل اللبس ستر الشيء؛ أي: ساترًا لكم بظلامه. {وَالنَّوْمَ} النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد كما مر بسطه. {سُبَاتًا} والسبات: الموت لما في النوم من زوال الإحساس، وفي "المصباح": والسبات - وزان غراب -: النوم الثقيل، وأصله الراحة، يقال منه: سبت يسبت من باب قتل، اهـ. وفي "القاموس": أنه من بابي قتل وضرب، ثم قال: والسبات النوم، أو خفيفه، أو ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب، اهـ. وسبت الرأس إذا حلقه، والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد، وجمعه أسبت وسبوت، والسبت أيضًا النوّام، والفرس الجواد، والرجل الداهية. {نُشُورًا}؛ أي: ذا نشور؛ أي: انتشار، ينتشر الناس فيه للمعاش، اهـ

"بيضاوي" والنشور: مصدر من باب قعد كما في "المصباح" و"المختار". {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}؛ أي: المبشرات؛ وهي الصبا والجنوب والشمال، بخلاف الدبور؛ فإنها ريح العذاب التي أهلكت بها عاد، اهـ شيخنا. يقال: أرسلت الطائر، وأرسلت الكلب المعلّم. وفي "المفردات": قد يكون الإرسال للتسخير كإرسال الريح، والريح معروفة، وهي فيما قيل الهواء المتحرك. وفي "المصباح": والريح أربع: الأولى: الشمال وتأتي من ناحية الشام. والثانية: الجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية. والثالثة: الصبا وتأتي من مطلع الشمس، وهي القبول أيضًا. والرابعة: الدبور وتأتي من ناحية المغرب. والريح مؤنثة على الأكثر، فيقال: هي الريح، وقد تذكر على معنى الهواء، فيقال: هو الريح وهب الريح، نقله أبو زيد. وقال ابن الأنباري: "الريح مؤنثة لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها إلَّا الإعصار فإنه مذكر. {طَهُورًا} الطهور له استعمالان في العربية: صفة واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور كقولك: طاهر. والاسم قولك لما يتطهر به: طهور كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما توقد به النار، كقولك: وضوءًا حسنًا؛ ذكره سيبويه. {وَنُسْقِيَهُ} وسقى وأسقى لغتان بمعنى. قال الإِمام الراغب: السقي والسقيا أن تعطيه ماء ليشربه، والإسقاء أن تعجل له ذلك حتى يتناوله كيف يشاء، والإسقاء أبلغ من السقي؛ لأن الإسقاء هو أن تجعل له ماء يستقي منه ويشرب، كقوله: أسقيته نهرًا. فالمعنى: مكناهم من أن يشربوه ويسقوا منه أنعامهم. {أَنْعَامًا} جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. وقال في "المغرب": الأنعام: الأزواج الثمانية في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا

اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} {وَأَنَاسِيَّ}: جمع إنسان عند سيبويه على أن أصله: أناسين، أبدلت النون ياءً وأدغمت فيها الياء التي قبلها. وقال الفرّاء والمبرد والزجاج: إنَّه جمع إنسي. وفيه نظر؛ لأن فعاليّ إنما يكون جمعًا لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كراسيّ في جمع كرسي، فلو أريد بكرسي النسب لم يجز جمعه على كراسي، ويبعد أن يقال: إن الياء في إنسي ليست للنسب، وكان حقه أن يجمع على أناسية نحو مهالية في جمع المهلي، كذا في "حواشي ابن الشيخ". وقال الراغب: الإنسي منسوب إلى الأنس، يقال ذلك لمن كثر أنسه، ولكل ما يؤنس به، وجمع الإنسي أناسي. وقال في الكرسي: "إنه في الأصل منسوب إلى الكرسي؛ أي: التلبد، ومنه الكراسة للمتلبد من الأوراق"، انتهى. قوله: {كَثِيرًا}: صفة {أناسي}؛ لأنه بمعنى بشر كما سبق. {لِيَذَّكَّرُوا} أصله: ليتذكّروا، والتذكّر التفكر. {فَأَبَى} الإباء: شدة الامتناع، ورجل أبيّ ممتنع من تحمل الضيم. {إِلَّا كُفُورًا} والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا كما في "المفردات"، والمعنى؛ أي: إلّا كفرنًا للنعمة، وإنكارًا لها. {لَبَعَثْنَا} قال الراغب: البعث: إثارة الشيء وتوجيهه. {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. {نَذِيرًا}؛ أي: منذرًا، والإنذار: إخبار فيه تخويف. {وَجَاهِدْهُمْ} والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} من مرج الدابة خلاها وأرسلها ترعى، ومرج أمرهم اختلط. والبحر: الماء الكثير الذي لا قعر له، عذبًا كان أو ملحًا عند الأكثر. وأصله: المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما في "المفردات". وفي "المصباح": المرج: أرض ذات نبات ومرعى، والجمع

مروج، مثل فلس وفلوس، ومرجت الدابة مرجًا - من باب قتل - رعت في المرج، ومرّجتها مرجًا أرسلتها ترعى في المرج. {عَذْبٌ فُرَاتٌ} عذب؛ أي: طيب حلو من عذب الماء - من باب ظرف - إذا حلا, ولم يكن ذا ملوحة. فرات؛ أي: شديد العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة. والتاء فيه أصلية لام الكلمة، ووزنه فعال كغراب، وبعض العرب يقف عليها هاء، ويقال: سمي الماء العذب فراتًا؛ لأنه يفرت العطش؛ أي: يشقه ويقطعه. وفي "المصباح": الفرات: الماء العذب، يقال: فرت الماء فروته - وزان سهل سهولة - إذا عذب ولا يجمع إلّا نادرًا على فرتان كغربان. والفرات أيضًا: نهر عظيم بالكوفة، عذب طيب، مخرجه من أرمينية. وفي "الملكوت": أصله في قرية من جابلقا ينحدر إلى الكوفة، وآخر مصبّه بعضًا في دجلة، وبعضًا في بحر فارس، اهـ من "الروح". {مِلْحٌ} قال الراغب: الملح الماء الذي تغير طعمه التغير المعروف وتجمد، ويقال: ملح إذا تغير طعمه وإن لم يتجمد، فيقال: ماء ملح، وقلما تقول العرب: ماء مالح. {أُجَاجٌ}: بليغ الملوحة، صفة الملح. وقيل: البالغ في الحرارة. وقيل: البالغ في المرارة. وفي الأساس: وماء أجاج يحرق بملوحته. وفي "القاموس": أجّ الماء يؤجّ صار أجاجًا؛ أي: ملحًا مرّا. قالوا: إن الله تعالى خلق ماء البحر مرّا زعاقا؛ أي: مرّا غليظا بحيث لا يطاق شربه، وأنزل من السماء ماء عذبًا، فكل ماء عذب من بئر أو نهر أو عين فمن ذلك المنزل من السماء، وإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكًا معه طست لا يعلم عظمه إلّا الله تعالى، جمع تلك المياه، فردها إلى الجنة. واختلفوا في سبب ملوحة ماء البحر: فزعم قوم أنه لما طال مكثه وأحرقته الشمس صار مرًا ملحًا، واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية صفته الأرض من الرطوبة، فغلظ لذلك. وزعم آخرون أن في البحر عروقًا تغير ماء

البحر، ولذلك صار مرًا زعاقًا، اهـ من "روح البيان". {بَرْزَخًا}؛ أي: حاجزًا خلفيًا لا يحس، بل بمحض قدرة الله تعالى يمنع من اختلاط أحدهما بالآخر. {وَحِجْرًا مَحْجُورًا}: تقدم تفسيرهما. {نَسَبًا} قال الإِمام الراغب: النسب اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء. ونسب بالعرض كالنسبة بين الإخوة وبني العم. وقيل: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه، انتهى. {وَصِهْرًا} الصِهر - بالكسر - القرابة كما في "القاموس" والختن. وجمعه: أصهار. وفي "المصباح": الصهر جمعه أصهار. قال الخليلى: الصهر أهل بيت المرأة. وقال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعًا أصهارًا. وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم، كالأبوين والإخوة وأولادهم والأعمام والأخوال والخالات، فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضًا. وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهم الأحماء، ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. وصاهرت إليهم، ولهم، وفيم إذا تزوجت منهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: هلّا أنزل علينا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَعَتَوْا عُتُوًّا}؛ وقوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا}. ومنها: المبالغة بنفي الجنس في قوله: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} ومعناه: لا يبشر يومئذ المجرمون، وإنما عدل عنه للمبالغة.

ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {لِلْمُجْرِمِينَ}؛ لأن مقتضى السياق أن يقال لهم تسجيلًا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر. ومنها: تكرير {يَوْمَئِذٍ}؛ لتأكيد {يَوْمَ يَرَوْنَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لِلْمُجْرِمِينَ}؛ لأن الإجرام في الأصل قطع الثمرة من الشجرة، ثم استعير لاكتساب كل مكروه. ومنها: التأكيد في قوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا}؛ لأنه وصف الحجر بالمحجور؛ لقصد التأكيد كيوم أيوم. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} مثل سبحانه وتعالى حالهم وحال أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من صلة رحم، وإغاثة ملهوف مثلًا بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقصد إلى ما تحت أيديهم من الدور والعقار ونحوهما، فمزّقها وأبطلها - اهـ "روح" بالكلية، ولم يبق لها أثرًا. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}؛ أي: كالغبار المنثور في الجو، شبّه أعمالهم المحبطة بالغبار في الحقارة وعدم الجدوى، ثم بالمنثور منه في الانتشار بحيث لا يمكن نظمه، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، فصار بليغًا. ومنها: الكناية في قوله: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} كنى بالمستقر عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن قضائهم وقت الاستجمام، والاستراحة مع أزواجهم. ومنها: الكناية اللطيفة في قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} فإنه كناية عن الندم والحسرة، كما أن لفظة فلان كناية عن الخليل الذي أضله. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}.

ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} لرعاية الفاصلة. ومنها: تنزيل غير العاقل منزلة العاقل وندائه إظهارًا للتحسر والندامة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {شَرٌّ مَكَانًا}؛ لأنَّ الضلال لا ينسب إلى المكان، ولكن إلى أهله. ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى في قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}؛ لأن: لفظة رتّل على وزن فعل الدال على التكثير نظير قتل، ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة، وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي، وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة الحسنة المخصوصة من القراءة، كذا في إعراب القرآن. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان في كل؛ لأن أكثر الأمثال أمور متخيلة. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {فَقُلْنَا اذْهَبَا} إلى قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}؛ لأن تقدير الكلام: فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا، فذهبا إليهم فكذبوهما، فدمرناهم تدميرًا، وفيه أيضًا جناس الاشتقاق أعني في قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ}. للتسجيل بظلمهم، والإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب. ومنها: التجوز بالرجاء عن التوقع في قوله: {لَا يَرْجُونَ نُشُورًا}؛ لأن حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه سرور، والكفار ليس لهم خير في نشورهم فينتظرونه. ومنها: الاستفهام للتهكم والاستهزاء والاستحقار، في قوله: {أَهَذَا الَّذِي

بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}. ومنها: الاستفهام التعجيزي في قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}؛ وفيه أيضًا تقديم المفعول الثاني على الأول اعتناءً بالأمر المتعجب منه، والأصل: اتخذ هواه إلهًا له. ومنها: التمثيل في قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وهو أن يذكر الشيء ليكون مثالًا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه، كأنهم لثبوتهم على الضلالة بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أضل سبيلًا؛ لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي: كاللباس الذي يغطي البدن ويستره، حذف منه الأداة ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. ومنها: المقابلة اللطيفة بين الليل والنهار، والنوم والانتشار، في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} استعار اليدين لما يكون أمام الشيء وقدامه، كما تقول: بين يدي الموضوع أو السورة. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتعظيم في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} بعد قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}؛ أي: نهاية في الحلاوة، ونهاية في الملوحة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا}؛ وقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أستعير فيها لفظة المشبه به، وهو البعد والتراخي للمشبه، وهو تفاضل الأمور.

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} فقد شبه بهما الماءين الكثيرين الواسعين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}. المناسبة قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بسط (¬1) أدلة التوحيد، ¬

_ (¬1) المراغي.

وأرشد إلى ما في الكون من باهر الآيات وعظيم المشاهدات التي تدل على بديع قدرته وجليل حكمته .. أعاد الكرّة مرة أخرى، وبيّن شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم؛ إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيهم، بل هم عن ذكر ربهم معرضون، فلا يعظمون إلا الأحجار والأوثان، وما لا نفع فيه إن عبد، وما لا ضر فيه إن ترك، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان، ويناوئون أولياء الرحمن، وإن تعجب لشيء فاعجب لأمرهم، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم؛ وهو الرسول الذي يبشرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه، ثم هو على ذلك لا يبتغي أجرًا، ثم أمر رسوله بأن لا يرهب وعيدهم، ولا يخشى بأسهم، بل يتوكل على ربه ويسبح بحمده، ويسبحه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد، وهو الخبير بأفعال عباده، فيجازيهم بما يستحقون. قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته، والنفور من طاعته، والسجود له سبحانه .. ذكر هنا أوصاف خلّص عباده المؤمنين، وبيّن ما لهم من فاضل الصفات وكامل الأخلاق التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم، وأكرم لأجلها مثواهم، وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئبّ إليها أعناق العاملين، وتتطلع إليها نفوس الصالحين الذين يبتغون المثوبة، ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال، وأتوا به من جليل الأعمال. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود قال (¬2): سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[55]

تجعل لله ندًا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ...} الآية. وأخرج الشيخان وغيرهما أيضًا عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنا لما عملنا كفارة، فنزلت: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ...} الآية، ولا مانع أن تكون الآية نزلت للسببين معًا، والله أعلم. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ...} الآية، قال مشركوا مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: {إِلَّا مَنْ تَابَ ...} الآية. وأخرج البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي قال: سئل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما؟ {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فسألت ابن عباس، فقال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركوا أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ}، وأما التي في "النساء": أن الرجل إذا عرف الإِسلام وشرائعه، ثم قتل فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، فذكرته لمجاهد، فقال: إلَّا من ندم. التفسير وأوجه القراءة 55 - ولما ذكر سبحانه وتعالى دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم، فقال: {وَيَعْبُدُونَ}؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون حالة كونهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: متجاوزين عبادة الله تعالى: {مَا لَا يَنْفَعُهُمْ} في الدنيا, ولا

في الآخرة إن عبدوه، مفعول {يَعْبُدُونَ}. والنفع (¬1): ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات، وما يتوصل به إلى الخير فهو خير، والنفع الخير، وضده الضر {وَلَا يَضُرُّهُمْ} فيهما إن لم يعبدوه، وما ليس من شنه النفع والضر أصلا وهو الأصنام وما في حكمها من المخلوقات؛ إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر فلا فائدة في عبادته، والاعتماد عليه واتباعه. والمعنى: أي (¬2) ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها, ولا تضرهم إن تركوا عبادتها، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ...} إلى آخر الآيات. ثم ذكر لهم جرمًا آخر، فقال: {وَكَانَ الْكَافِرُ} بشركه وعدوانه للحق {عَلَى رَبِّهِ} الذي رباه بنعمته، متعلق بقوله: {ظَهِيرًا}؛ أي: عونًا للشيطان، فالظهير بمعنى المظاهر؛ أي: المعين، والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه، قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله تعالى؛ لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. والمراد (¬3) بالكافر الجنس، أو أبو جهل، فإنه أعان الشيطان على الرحمن في إظهار المعاصي، والإصرار على عداوة الرسول، وتشجيع الناس على محاربته ونحوها. وقال أبو عبيدة: المعنى: وكان الكافر على ربه هينًا ذليلًا. والمعنى: أي وكانوا مظاهرين للشيطان على معصية الرحمن، وذلك دأبهم وديدنهم، فهم يعاونون المشركين، ويكونون أولياء لهم على رسوله، وعلى المؤمنين بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفر منها كما قال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[56]

وقد يكون المعني: وكان الكافر على ربه هينًا ذليلًا، لا قدر له ولا وزن له عنده، كما مر عن أبي عبيدة من قول العرب: ظهرت به؛ أي: جعلته خلف ظهرك، ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} وقول الفرزدق: تَمِيْمَ ابْنَ قَيْسٍ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِيْ ... بِظَهْرٍ فَلاَ يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل بن هشام. 56 - ثم بين عظم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم، ودفع الأذى عنهم فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد في حال من الأحوال {إِلَّا} حال كونك {مُبَشِّرًا} للمؤمنين بالجنة والرحمة. والتبشير: إخبار فيه سرور {وَنَذِيرًا} أي: منذرًا ومخوفًا للكافرين بالنار والغضب. والإنذار: إخبار فيه تخويف. والمعنى: أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله، والله قد أرسل رسوله لنفعكم؛ إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات، وينذركم على فعل المعاصي، فتستحقوا الثواب، وتبتعدوا عن العقاب. وخلاصة ذلك: لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء من يرجو نفعه في دينه ودنياه، وفي هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم. 57 - ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغي لنفسه نفعًا، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {مَا أَسْأَلُكُمْ} أيها المشركون {عَلَيْهِ}؛ أي: على تبليغ الرسالة التي ينبىء عنها الإرسال، أو على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أقوال {مِنْ أَجْرٍ} وجعل من جهتكم، فتقولوا: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه، والأجر ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا {إِلَّا مَنْ شَاءَ}؛ أي: إلا فعل من يريد {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}؛ أي: أن يجعل لنفسه سبيلًا موصلًا إلى ربه؛ أي: يريد أن يتقرب إلى ربه ويطلب الزلفى عنده

بالإيمان والطاعة والإنفاق حسبما أدعوكم إليه، يعني (¬1): إن أعطيتم لي أجرًا فأعطوني ذلك الفعل، فإني لا أسأل غيره. والظاهر: أن الاستثناء منقطع، والمعنى عليه: لا أطلب من أموالكم جعلًا لنفسي، لكن من شاء إنفاقه لوجه الله تعالى فليفعل، فإني لا أمنعه عنه. وقيل: هو متصل، والمعنى عليه: إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود الحصول. وفي "الفتوحات المكية": مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظ الناس، وهو من أحل ما يأكل، وإن كان ترك ذلك أفضل. وإيضاح ذلك أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة، فإن ما من نبي دعا إلى الله إلا قال: إن أجرى إلّا على الله، فأثبت الأجر على الدعاء، ولكن اختار أن يأخذه من الله، لا من المخلوق انتهى. وأفتى المتأخرون بصحة الأجرة للأذان والإقامة، والتذكير والتدريس والحج والغزو، وتعليم القرآن والفقه وقراءتهما؛ لفتور الرغبات اليوم، ولو كانت الإجارة على أمر واجب، كما إذا كان المعلم والإمام والمفتي واحدًا، فإنها لا تصح إجماعًا كما في الكرماني وغيره. وكذا إذا كان الغسّال في القرية واحدًا، فإنه يتعين عليه غسل الميت، ولا يجوز له طلب الأجرة. والمعنى: أي (¬2) قل يا محمد لمن أرسلت إليهم: لا أسألكم على ما جئت به من عند ربي أجرًا، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له في أموالنا مطمع {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}؛ أي: لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد وغيره، ويتخذ ذلك سبيلًا إلى رحمته وقيل ثوابه فليفعل. وخلاصة ذلك: لا أسألكم عليه أجرًا لنفسي، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[58]

58 - ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله، وأمره أن لا يطلب منهم أجرًا البتة أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع، فقال: {وَتَوَكَّلْ}؛ أي: واعتمد يا محمد في الاستكفاء عن شرورهم، والإغناء عن أجورهم {عَلَى} الإله {الْحَيِّ}؛ أي: المتصف بالحياة الدائمة أزلًا وأبدًا {الَّذِي لَا يَمُوتُ}؛ أي: لا يطرأ عليه الموت الذي هو ضد الحياة، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين من شأنهم الموت، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم. وأصل التوكل (¬1): أن يعلم العبد بأن الحادثات كلها صادرة من الله تعالى، ولا يقدر أحد على الإيجاد غيره تعالى، فيفوض أمره إلى الله تعالى فيما يحتاج إليه، وهذا القدر فرض، وهو من شرط الإيمان, قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه الكمال. كذا في "التأويلات النجمية". والحاصل: أن معنى التوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها، ومثل الآية قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. {وَسَبِّحْ}؛ أي: نزّهه تعالى عن صفات النقصان، وعن كل ما يرد على الوهم والخيال حال كونك متلبسًا {بِحَمْدِهِ} تعالي؛ أي: مثنيًا عليه بنعوت الكمال طالبًا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابقه، وفي الحديث: "من قال كل يوم: سبحان الله وبحمده مئة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"، وهما الكلمتان الخفيفتان على اللسان، الثقيلتان في الميزان. وقيل: معنى {سبحْ} صلّ، والصلاة تسمى تسبيحًا. والمعنى: أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شيء ومليكه، واجعله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[59]

ملجأك وذخرك، وفوض إليه أمرك، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان، فهو لا كفء له ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد. وفي قوله: {الْحَيِّ} إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن، ولا على من لا بقاء له ممن يموت؛ لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه، وحكي عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال: لا ينبغي لذي لب أن يثق بعدها بمخلوق. ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم، ومجازيهم عليها يوم القيامة، فقال: {وَكَفَى بِهِ} سبحانه. الباء زائدة للتأكيد؛ أي: حسبك الحي الذي لا يموت، وقوله: {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهر منها وما بطن متعلق بقوله: {خَبِيرًا}؛ أي: مطلعًا عليها بحيث لا يخفى عليه شيء منها، فيجزيهم جزاء وافيًا، أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. والمعنى: أي وحسبك بالحي الذي لا يموت حالة كونه خبيرًا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن، فهو لايخفى عليه شيء منها، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء، وكأنه قيل: إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة، وفي "الأخبار": كفى بك ظفرًا أن يكون عدوك عاصيًا. وهي كلمة يراد بها المبالغة، تقول: كفى بالعلم جمالًا، وكفى بالأدب مالًا؛ أي: هو حسبك لا تحتاج معه إلى غيره؛ لأنه خبير بأحوالهم، قادر على مكافأتهم. 59 - ولما أمره بالتوكل والتسبيح، وذكر صفة الحياة الدائمة .. ذكر ما دل على القدرة التامة؛ وهو إيجاد هذا العالم، فقال: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} محل

الموصول الجر على أنه صفة ثانية لـ {الْحَيِّ}، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقًا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر، فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج. ذكره "البيضاوي"؛ أي: وتوكل على الحي الذي أوجد السموات والأرض على غير مثال سابق {وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: وأوجد ما بينهما من الأركان والمواليد. وقال: {بَيْنَهُمَا}، ولم يقل: بينهن؛ لأنه أراد النوعين كما قال القطامي: أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قَيْسٍ ... وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَا {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}؛ أي (¬1): في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا؛ لأنه لم يكن ثمة شمس ولا قمر، فخلق الأرض في يومي الأحد والاثنين، وما بينهما في يومي الثلاثاء والأربعاء، والسموات في يومي الخميس والجمعة، وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة، وذلك مع قدرته على خلقهن في أسرع لمحة؛ ليعلم العباد أن التأني مستحب في الأمور. فائدة: وأيام الأسبوع سبعة، وأسماؤها الجارية على الألسنة تسمية إسلامية، وقد كان لها أسماء عند العرب؛ وهي الأحد: الأوْهَلُ، والاثنين: أَوْهَنُ، والثلاثاء: جَبَارُ، والأربعاء: دَبَارُ، والخميس: مُؤْنِسْ، والجمعة: عَرُوبَةُ، والسبت: شَيَارُ. {ثُمَّ} بعد فراغه من خلق السموات والأرض وما بينهما {اسْتَوَى} وارتفع سبحانه استواء يليق به، نثبته ونعتقده، لا نكيّفه ولا نمثله {عَلَى الْعَرْشِ} العظيم الذي هو أعظم المخلوقات. فإن قيل (¬2): يلزم من نظم القرآن أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض كما تفيده {ثُمَّ}؟ يقال: إن كلمة {ثُمَّ} لم تدخل على خلق العرش، بل على استوائه سبحانه على العرش. والأولى أن يقال: إن {ثُمَّ} هنا لا تفيد الترتيب الزماني. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني بتصرف.

{الرَّحْمَنُ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن؛ أي: الذي خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما هو الرحمن، وهو تمهيد لما يأتي من قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ}، وبيان أن المراد من الاستواء المذكور في الحقيقة تعيين مرتبة الرحمانية، فالوقف (¬1) على العرش تام إن أعرب الرحمن على المدح خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود إلا له، وهو في الحقيقة صفة ثالثة لـ {الْحَيِّ}، كما قرأ زيد بن علي بالجر؛ لأن المنصوب، والمرفوع على سبيل المدح وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما لفظًا، فهما تابعان له معنى، ولا يوقف على العرش إن أعرب {الرَّحْمَنُ} بدلًا من الضمير المستكن في {اسْتَوَى}، فحينئذ فالوقف على {الرَّحْمَنُ}؛ وهو وقف كاف. وفي "البيضاوي": {الرَّحْمَنُ}: خبر للذي خلق السموات إن جعلته مبتدأ، أو خبر لمحذوف إن جعلت الموصول صفة لـ {الْحَيِّ}، أو بدل من المستكن في {اسْتَوَى} انتهى. وفي "تنوير المقياس": قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}: فيه تقديم وتأخير؛ أي: ثم استوى الرحمن على العرش اهـ. قرأ زيد بن علي {الرحمن} بالجر، والجمهور بالرفع. {فَاسْأَلْ بِهِ}: متعلق بما بعده، وهو {خَبِيرًا} كما في قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ونظائره، والباء على معناه، والضمير في {بِهِ} يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش؛ أي: فاسأل يا محمد خبيرًا بما ذكر من الخلق والاستواء. والمراد بالخبير الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، كما قال: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقيل: الباء بمعنى عن، متعلقة بالسؤال. والضمير أيضًا يعود إلى ما ذكر من الخلق والاستواء. أي (¬2): فاسأل يا محمد عما ذكر من الخلق والاستواء خبيرًا يخبرك بحقيقته، وهو الله تعالى، أو جبريل، أو من وجده في الكتب المتقدمة؛ ليصدقك فيه. وقيل: الضمير في {بِهِ} للرحمن، والباء بمعنى عن؛ أي: إن أنكر هؤلاء ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البيضاوي.

المشركون إطلاق الرحمن على الله فاسأل عنه؛ أي: عن إطلاقه على الله خبيرًا من أهل الكتاب يخبرك؛ ليعرفوا؛ أي المشركون، مجيء ما يرادفه في كتبهم؛ أي: أهل الكتاب، وعلى هذا يجوز أن يكون {الرَّحْمَنُ}: مبتدأ، والخبر ما بعده، والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالباء؛ لتضمنه معنى الاعتناء. قال ابن جرير: يجوز أن تكون الباء في {بِهِ} زائدة، والضمير للرحمن، و {خَبِيرًا} حال من الضمير؛ أي: فاسأل الرحمن عما ذكر من الخلق والاستواء حال كونه خبيرًا بما ذكر. وقال الشوكاني: وأقرب هذه الوجوه الأول. وفي الصاوي: قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} {بِهِ}: متعلق بـ {خَبِيرًا}، قدم (¬1) لرعاية الفاصلة، والمعنى: اسأل يا محمد خبيرًا بصفاته تعالى، وليس خبيرًا بصفاته إلا هو سبحانه وتعالى. ويصح أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بـ {اسأل}، والباء بمعنى عن، والمعنى: اسأل عنه خبيرًا؛ أي: عالمًا بصفاته يطلعك على ما خفي عليك، والخبير حينئذ يختلف باختلاف السائل، فإن كان السائل النبي - صلى الله عليه وسلم - فالخبير هو الله تعالى، وإن كان السائل أصحابه فالخبير هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان السائل التابعين فالخبير هو الصحابة، وإن كان السائل العوام فالخبير هو العلماء، والمعنى: فاسأل يا محمد، أو فاسأل أيها الإنسان. وخلاصة ذلك (¬2): توكلوا على من لا يموت؛ وهو رب كل شيء، وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها، وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو، وخالق الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر ويقضي الحق {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}؛ أي: فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرًا به يخبرك بحقيقته، وهو الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، فالأيام التي تم فيها الخلق إنما هي أطوار ستة، سار عليها طورًا بعد طور، وحالًا بعد حال، كما يرشد إلى ذلك قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي.

[60]

عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. وفي "الفتوحات المكية" (¬1): لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم، ولا بد للسلطان من مكان يكون فيه، حتى يقصد بالحاجات مع أنه تعالى لا يقبل المكان اقتضت المرتبة أن يخلق عرشًا، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه، كل ذلك رحمة للعباد، وتنزلًا لعقولهم، ولولا ذلك لبقي العبد حائرًا، لا يدري أين يتوجه بقلبه، وقد خلق الله تعالى القلب ذا جهة فلا يقبل إلا ما كان له جهة، وقد نسب الحق تعالى لنفسه الفوقية من سماء وعرش، وإحاطة بالجهات كلها بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وبقوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"، وبقوله: "إن الله في قبلة أحدكم". وحاصله: أن الله تعالى خلق الأمور كلها للمراتب، لا للأعيان انتهى. 60 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: لهؤلاء المشركين؛ أي: إذا قال لهم محمد - صلى الله عليه وسلم - {اسْجُدُوا}؛ أي: صلوا، وعبر عن الصلاة بالسجدة؛ لأنها من أعظم أركانها {لِلرَّحْمَنِ} الذي برحمته أوجد الموجودات {قَالُوا}؛ أي: قال المشركون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا الرَّحْمَنُ}؛ أي: (¬2) أي شيء هو، أو من هو؟؛ لأن وضع {ما} أعم، وهو سؤال عن المسمى بهذا الاسم؛ لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله، ولا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، وإن كان مذكورًا في الكتب المتقدمة أنه من أسمائه تعالى، أو لأنهم كانوا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، إلا أنهم يزعمون أنه قد يراد به غيره تعالى؛ وهو مسيلمة الكذاب باليمامة، فإنه يقال له: رحمان اليمامة، وكان المشركون يكذّبونه، ولذلك غالطوا بذلك وقالوا: إن محمدًا يأمرنا بعبادة رحمان اليمامة. أي: وما نعرف الرحمان إلا مسيلمة الكذاب؛ أي: فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى؛ أي: وإذا قيل لهؤلاء الذين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصًا دون الآلهة والأوثان .. قالوا على طريق التجال: وما الرحمن؟ أي: نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له، ونحو هذا قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} حين قال له موسى عليه السلام: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهو قد كان عليمًا به كما يؤذن بذلك قول موسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}. ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك، وأنكروه عليه بقوله: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}؛ أي: أنسجد للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا هو، وهو استفهام إنكاري؛ أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بسجودنا له. وقرأ (¬1) ابن مسعود والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي {يأمرنا} بالياء من تحت؛ أي: يأمرنا محمد بالسجود له، وقرأ باقي السبعة بالتاء، خطابًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادًا واستكبارًا، فقال: {وَزَادَهُمْ}؛ أي: وزاد أولئك المشركين هذا الأمر بالسجود للرحمن {نُفُورًا} وبعدًا مما دعوا إليه من الإيمان, وقد كان من حقه أن يكون باعثًا لهم على القبول ثم الفعل. روى الضحاك أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فمن (¬2) جهل وجود الرحمن أو علم وجوده، وفعل فعلًا، أو قال قولًا لا يصدر إلا من كافر فكافر بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن"، وذلك كما إذا سجد للصنم، أو ألقى المصحف في المزابل، أو تكلم بالكفر يكفر بلا خلاف لكونه علامة التكذيب. فصل وهذه السجدة من عزائم السجدات، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[61]

سماعها وقراءتها، وهي سنة عقب التلاوة فورًا، وإذا أخرت عن وقت القراءة تكون قضاء. واختلفوا في سجود الشكر عند تجدد النعمة أو اندفاع النقمة، فقال: أبو حنيفة ومالك: يكره، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان. وقال الشافعي وأحمد: يسن، وحكمه عندهما كسجود التلاوة، لكنه لا يفعل في الصلاة. كذا في "فتح الرحمن". قال الشافعي: فيكبر مستقبل القبلة، ويسجد فيحمد الله تعالى ويشكره ويسبح، ثم يكبر فيرفع رأسه، أما السجود بغير سبب فليس بقربة ولا مكروه؛ وأما ما يفعل عقب الصلاة فمكروه؛ لأن الجهال يعتقدونها سنة أو واجبة، وكل مباح يؤدي إليه فمكروه، انتهى. قال السرخسي (¬1): السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر، وما يفعلونه من تقبيل الأرض بين يدي العلماء فحرام. وذكر الصدر الشهيد: لا يكفر بهذا السجود؛ لأنه يريد به التحية، انتهى. لكنه يلزم عليه أن لا يفعل ذلك؛ لأنه شريعة منسوخة، وهي شريعة يعقوب عليه السلام، فإن السجود في ذلك الزمان كان يجري مجرى التحية كالتكرمة بالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير، ويدل عليه قوله تعالى في حق إخوة يوسف وأبيه: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، وأما الانحناء للسلطان أو لغيره فمكروه؛ لأنه يشبه فعل اليهود، كما أن تقبيل يد نفسه بعد المصافحة فعل المجوس. 61 - ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي}؛ أي: تكاثر خير الإله الفياض. قال في "برهان القرآن": خص هذا الموضع بذكر {تَبَارَكَ} لأنه من عظائم الأمور، حيث ذكر البروج والسيارات والشمس والقمر والليل والنهار، ولولاها ما وجد في الأرض حيوان ولا نبات {جَعَلَ} بقدرته الكاملة {فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}؛ أي: منازل وطرقًا تسير فيها الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم: ¬

_ (¬1) روح البيان.

زُحَلٌ شَرَى مَرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأقْمَارُ وتلك البروج اثنا عشر برجًا منظومة في قول بعضهم: حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ ... وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَ الْمِيْزَانِ وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ ... نَزَحَ الدَّلْوُ بُرْكَةَ الْحِيْتَانِ وسميت هذه المنازل بالبروج، وهي القصور العالية؛ لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة لسكانها، واشتقاقها من التبرج؛ وهو الظهور وهذه البروج لكل واحد منه منزلتان وثلث منزلة من منازل القمر - وهي ثمانية وعشرون نجمًا - مجموعة في قول بعضهم: أَوَّلُهَا الْشَرُطَيْنُ ثُمَّ الْبُطَيْنُ ... ثُمَّ الثُّرَيَّا الْوَاضِحُ الْمُسْتَبِيْنُ وَدَبْرَانِ هَقْعَةٌ وَهَنْعَةْ ... ذِرَاعُ نَثْرَةٍ وَطَرْفُ جَبْهَةْ وَالْخَرْتَانِ زُبْرَةٌ تُسَمَّى ... وَالصَّرْفَةُ الْعَوًا السِّمَاكُ ثُمَا غَفْرٌ زُبَانَا إِكْلِيْلٌ قَلْبٌ بَعْدَةْ ... وَشَوْلَةٌ نَعَايِمُ وَبَلْدَةْ سَعْدٌ ذَابِحٌ سَعْدُ بَلْعَةْ ... سَعْدٌ سُعُودٌ سَعْدُ الأَخْبِيَةْ وَالْفَرْعُ ذُو التَّقْدِيمِ وَالْفَرْعُ الأَخِيْرُ ... وَبَطْنُ حُوْتٍ وَالرِّشَا فِيْهِ شَهِيْرُ وتستمر الشمس في كل منزلة من هذه المنازل ثلاثة عشر يومًا إلا الجبهة، فتكون عنده أربعة عشر يومًا، كما هو مقرر في علم الميقات. {وَجَعَلَ فِيهَا}؛ أي (¬1): في تلك البروج، لا في السماء؛ لأن البروج أقرب مذكرر، فعود الضمير إليها أولى {سِرَاجًا}؛ أي: شمسًا، ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}. وقرأ الجمهور (¬2): {سِرَاجًا} بالإفراد؛ وهو الشمس. وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش وحمزة والكسائي {سُرُجا} - بضمتين بالجمع -؛ أي: النجوم العظام الوقادة. ورجح القراءة الأولى أبو عبيد. قال الزجاج في تأويل قراءة حمزة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[62]

والكسائي: أراد الشمس والكوكب. وقرأ الأعمش أيضًا والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء للتخفيف. وأصل السراج المصباح المضيء بفتيلة شبهت الشمس به في الإنارة والإشراق، كما سيأتي في مبحث المفردات. {وَقَمَرًا}؛ أي: وجعل فيها كوكبًا يسمى قمرًا، وهو الهلال بعد ثلاث ليال سمي قمرًا لبياضه كما في "المختار"، أو لا بيضاض الأرض به، والأقمر: الأبيض كما في "كشف الأسرار". وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم {وقُمْرا} - بضم القاف وسكون الميم - وهي قراءة ضعيفة شاذة، فالظاهر أنه لغة في القمر، كالرشد والرشد، والعَرب والعرب {مُنِيرًا}؛ أي: مضيئًا بالليل. قال في "نفائس المجالس": في الآية دلالة على كمال قدرته تعالى، فإن هذه الأجرام العظام والنيرات من آثار قدرته سبحانه. ومعنى الآية؛ أي (¬1): تقدس ربنا الذي جعل في السماء نجومًا كبارًا، عدَّها المتقدمون نحو ألف، وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديث - التلسكوبات - أكثر من مئتي ألفِ ألفٍ، ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدًا. وجعل فيها شمسًا متوقدة وقمرًا مضيئًا. 62 - ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته، وفيها الدليل على وحدانيته تعالى، فقال: {وَهُوَ} سبحانه الإله {الَّذِي جَعَلَ} بحكمته التامة {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} الخلفة (¬2): مصدر للنوع، فلا يصلح أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ {جعل}، ولا حالًا من مفعوله، فلا بد من تقدير المضاف، ويستعمل بمعنى كان خليفته، أو بمعنى جاء بعده: فالمعنى على الأول: جعلهما ذوي خلفة يخلف كل واحد منهما عن الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، فمن فرط في عمل أحدهما قضاه الآخر، فيكون توسعة على العباد في نوافل العبادات والطاعات، ويؤيد هذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد فاتته قراءة القرآن: "يا ابن الخطاب لقد أنزل تعالى فيك آية قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

خِلْفَةً ...} الآية، ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك، وما فاتك في النهار فاقضه بالليل". والمعنى على الثاني: وهو الذي جعلهما ذوي اعتقاب يجيء الليل ويذهب النهار، ويجيء النهار ويذهب الليل، ولم يجعل نهارًا لا ليل له، وليلًا لا نهار له؛ ليعلم الناس عدد السنين والحساب، وليكون للانتشار في المعاش وقت معلوم، وللاستقرار والاستراحة وقت معلوم. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان، ففي الآية تذكير لنعمته، وتنبيه على كمال حكمته وقدرته. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ}؛ أي (¬1): أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه، فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب بالذات، رحيم على العباد، فالمراد بـ {من} هو الكافر. ثم أشار إلى المؤمن بقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} - بضم الشين - مصدر بمعنى الشكر؛ أي: أراد أن يشكر الله بطاعته على ما فيهما من النعم، فتكون {أَوْ} على حالها، فتكون للتقسيم والتنويع، وهي مانعة خلوٍّ، فتجوّز الجمع، اهـ شيخنا. ويجوز أن تكون بمعنى {الواو}، فالمعنى: جعلناهما خلفة ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين، من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر، ووجه التعبير بـ (أو) التنبيه على استقلال كل واحد منهما بكونه مطلوبًا من الجعل المذكور، ولو عطف بالواو؛ لتوهم أن المطلوب مجموع الأمرين. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة: {يذْكر} - خفيفة الذال، مضمومة الكاف - مضارع ذكر الثلاثي، وهو في معنى يتذكر. واعلم: أن الشكر ثلاثة أضرب: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على النعمة، وشكر سائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها. والمعنى: أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين، يخلف أحدهما الآخر، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتّعظ باختلافهما، ويتذكر آلاء الله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[63]

فيهما، ويتفكر في صنعه، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجني ثمار كل منهما؛ إذ لو جعل أحدهما دائمًا لفاتت فوائد الآخر، ولحصلت السآمة والملل، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلي الكبير، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"، وعن الحسن: من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب، ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ...} الخ. 63 - ثم وصف الله سبحانه عباده المخلصين بصفات تسع: الأولى: ما ذكره بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، دون عباد الدنيا والشيطان والنفس والهوى، فإنهم وإن كانوا عبادًا بالإيجاد، لكنهم ليسوا بأهل لإضافة التشريف والتفضيل من حيث عدم اتصافهم بالصفات الآتية التي هي آثار رحمته تعالى الخاصة المفاضة على خواص العباد، والمعنى: وعباد الرحمن المقبولون؛ وهو مبتدأ، خبره قوله: {الَّذِينَ يَمْشُونَ}؛ أي: هم الذين يمشون {عَلَى الْأَرْضِ} التي هي غاية في الطمأنينة والسكون والتحمل، حال كونهم {هَوْنًا}؛ أي: هيّنين ليّني الجانب من غير فظاظة، أو يمشون مشيًا هينًا على أنه مصدر وصف به، والمعنى: أنهم يمشون بسكينة وتواضع، لا بفخر وفرح ورياء وتجبر، ولا يضربون بأقدامهم الأرض، ولا يخفقون بنعالهم، وذلك لما طالعوا من عظمة الحق وهيبته، وشاهدوا من كبريائه وجلاله، فخشعت لذلك أرواحهم، وخضعت نفوسهم وأبدانهم. والمعنى: أي (¬1) وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرًا ¬

_ (¬1) المراغي.

وبطرًا. روي أن عمر رأى غلامًا يتبختر في مشيته، فقال: إن البخترة مشية تكره إلَّا في سبيل الله، وقد مدح الله أقوامًا، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} فاقصد في مشيتك. وقال ابن عباس: هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوي وقار وعفة. وفي الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس في الإيضاع". السير السريع. وفي صفته - صلى الله عليه وسلم -: (أنه إذا زال .. زال تقلعًا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونًا ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب). التقلّع رفع الرجل بقوة، والتكفؤ الميل إلى سنن القصد، والهون الرفق والوقار، والذريع الواسع الخطا؛ أي: أنه كان يرفع رجله بسرعة في مشيه، ويمد خطوه خلاف مشية المختال، وكل ذلك برفق وتثبّت دون عجلة، ومن ثم قيل: كأنما ينحط من صبب، قاله القاضي عياض في "الشفاء". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع في مشيه جبلة لا تكلّفًا. وخلاصة هذا: أنهم لا يتكبرون، ولا يتجبرون، ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا. وثاني الصفات: ما ذكره بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ}؛ أي: وإذا كلّمهم السفهاء مواجهة بالكلام القبيح {قَالُوا} في جوابهم قولًا {سَلَامًا}؛ أي: سدادًا يسلمون فيه من الأذى والإثم، فسلامًا صفة لمصدر محذوف، وعليه أكثر المفسرين، ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه، فلا يجهلون مع من يجهل، ولا يسافهون أهل السفه، أو منصوب بفعل مضمر كما في "المفردات". أي: نطلب منكم سلامة، أو إنا سلمنا من إثمكم، وأنتم سلمتم من شرنا كما في "إحياء العلوم". والمعنى؛ أي: وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزيده شدة الجاهل عليه إلّا حلمًا. وعن الحسن البصري: هم حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، يطلبون إلى الله جل ثناؤه

[64]

فكاك رقابهم. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم، إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلامًا؛ أي: تسلما منك؛ أي: براءة منك. ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق .. ذكر ما بينهم وبينه. 64 - وثالث الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ} عطف على الموصول الأول {لِرَبِّهِمْ} لا لحظ أنفسهم، وهو متعلق بما بعده، والتقديم للتخصيص مع مراعاة الفاصلة {سُجَّدًا} جمع ساجد؛ أي: ساجدين على وجوههم. وقرأ أبو البرهشيم: {سجودًا} على وزن قعود {وَقِيَامًا} جمع (¬1) قائم مثل نيام ونائم، أو مصدر أجري مجراه؛ أي: قائمين على أقدامهم. وتقديم السجود على القيام مع أنه مؤخر طبعًا لرعاية الفواصل، وليعلم أن القيام في الصلاة مقدّم مع أن السجدة أحق بالتقديم لما ورد: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، والكفرة يستكبرون عنها، حتى قال بعضهم: لا أفعلها لأني لا أحب أن تعلو رأسي أستيَ. والمعنى: والذين يكونون في الليل ساجدين لربهم على وجوههم، وقائمين على أقدامهم طلبًا لرضاه سبحانه؛ أي: يحيون الليل كلاً أو بعضًا بالصلاة، كما قال في حق المتقين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}. وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة بالليل أشقّ وأبعد من الرياء، وهو بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم، ووصف ليلهم بعد وصف نهارهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدًا وقائمًا. وروى مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة". فإن قلت: ما معنى هذا الحديث، فإنه يرفع مؤنة قيام الليل؟ قلت: هذا الحديث ترغيب في الجماعة، وبيان للرخصة وتأثير النية، فإن من نوى وقت العشاء أن يقيم الفجر بجماعة كان كمن انتظرها في المسجد، فرب همة عالية تسبق الأقدام، ولكن العمل مع النية أفضل من النية المجردة، والعزيمة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[65]

فوق الرخصة. ومن حرم قيام الليل كسلًا وفتورًا في العزيمة، أو تهاونًا بقلة الاعتداد بذلك، أو اغترارًا بحاله .. فليبك عليه، فقد قطع عليه طريق كثير من الخير، والذي يخل بقيام الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا، وكثرة أشغال الدنيا، وإتعاب الجوارح، والامتلاء من الطعام، وكثرة الحديث واللهو واللغط، وإهمال القيلولة، والموفق من يغتنم وقته، ويعرف داءه ودواءه، ولا يهمل فيهمل، واعلم أن الأصل في كل عمل هو تحقيق النية وتصحيح الإخلاص، وجهنا الله وإياكم إلى وجهه. 65 - ورابع الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} في أعقاب صلواتهم وأدبارها، أو في عامة أوقاتهم {رَبَّنَا اصْرِفْ} واردد {عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} وشديد آلامها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}؛ أي: شرًا دائمًا، وهلاكًا لازمًا غير مفارق لمن عذب به من الكفار، والعذاب الإيجاع الشديد. قال محمد بن كعب القرظي: إن الله سبحانه سأل الكفار شكر نعمته فلم يؤدوها إليه فأغرقهم، فأدخلهم النار، وقال: كل غريم مفارق غريمه إلّا جهنم؛ أي: والذين يدعون ربهم أن يصرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها. 66 - وقوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)} تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حالها في أنفسها إثر تعليله بسوء حال عذابها، فهو من تمام كلامهم، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى. وانتصاب (¬1) {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} على الحال، أو التمييز، قيل: هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما لاختلاف لفظيهما. وقيل: بل هما مختلفان معنى، فالمستقر للعصاة، فإنهم يخرجون، والمقام للكفار، فإنهم يخلدون فيها. وساءت من أفعال الذم بمعنى: بئست. والضمير (¬2) فيها لا يعود إلى اسم {إن} وهو جهنم، ولا إلى شيء آخر بعينه، بل هو ضمير مبهم يفسّره ما بعده من التمييز، وهو {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، وذلك لأن فاعل أفعال الذم يجب أن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[67]

يكون معرّفًا باللام، أو مضافًا إلى المعرّف، أو مضمرًا مميزًا بنكرة منصوبة، والمعنى: إن جهنم بئست هي من جهة كونها موضع قرار وإقامة لهم، والمخصوص بالذم هي. وقرأ الجمهور (¬1): {مقاما} بضم الميم، وقرأت فرقة بفتحها وفي "السمين": يجوز أن يكون {سَاءَتْ} بمعنى: أحزنت، فتكون متصرفة ناصبة للمفعول، وهو هنا محذوف؛ أي: أنها؛ أي: جهنم أحزنت أصحابها وداخليها حالة كونها مستقرًا ومقامًا لهم، أو من جهة كونها مستقرًا ومقامًا لهم. وفي الآية إيذان بأنهم مع حسن معاملتهم من الخلق، واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له يخافون عذابه، ويبتهلون إليه في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال في شأنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}. يعني يجتهدون غاية الجهد، ويستفرغون نهاية الوسع، ثم عند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التذلل كما قيل: وَمَا رُمْتُ الدُّخُوْلَ عَلَيْهِ حَتَّى ... حَلَلْتُ مَحِلَّةَ الْعَبْدِ الذَّلِيْلِ وذلك لعدم اعتدادهم بأعمالهم، ووثوقهم على استمرار أحوالهم. قال (¬2) ابن نجيد: لا يصْفُ لأحد قدم في العبودية حتى تكون أفعاله عنده كلها رياء، وأحواله كلها دعاوى. وقال النهر جوري: من علامة من تولاه الله أن يشهد التقصير في إخلاصه، والغفلة في أذكاره، والنقصان في صدقه، والفتور في مجاهدته، وقلة المراعاة في فقره، فتكون جميع أحواله عنده غير مرضية، ويزداد فقرًا إلى الله تعالى في فقره ويسره حتى يفنى عن كل ما دونه. ودلت الآية على مشروعية الدعاء مطلقًا، خصوصًا في أعقاب الصلوات، وهو مخ العبادة، فليدع المصلي منفردًا، وفي الجماعة، إمامًا كان أو مأمومًا. 67 - وخامس الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} أموالهم على أنفسهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وعلى أهاليهم، أو في جميع مصارف الخير {لَمْ يُسْرِفُوا}؛ أي: لم يجاوزوا الحد المشروع في ذلك الإنفاق {وَلَمْ يَقْتُرُوا}؛ أي: ولم يضيّقوا تضييق الشحيح. وقرأ (¬1) الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم: {ولم يقتروا} بفتح الياء وضم التاء، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ نافع وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة، وكلها لغات في التضييق، وأنكر أبو حاتم لغة {أقتر} رباعيًا هنا، وقال: أقتر إذا افتقر، ومنه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}، وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره من أقتر بمعنى ضيّق. {وَكَانَ} إنفاقهم (¬2) المدلول عليه بقوله: أنفقوا كائنًا {بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: بين ما ذكر من الإسراف والتقتير، وهو خبر {كان} كما قدرنا، وقوله: {قَوَامًا} خبر بعد خبر، أو هو الخبر، و {بين ذلك} ظرف لغو لـ {كان} على رأي من يرى إعمالها في الظرف؛ أي: وسطًا عدلًا، سمي به لاستقامة الطرفين واعتدالهما بحيث لا ترجح لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه لكونه وسطًا بينهما كمركز الدائرة، فإنه يكون نسبة جميع الدائرة إليه على السواء. وقرأ (¬3) حسان بن عبد الرحمن: {قواما} بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل: هما بمعنى، وقيل: القوام بالكسر ما يدوم عليه الشيء ويستقر، وبالفتح العدل والاستقامة، قاله ثعلب، وقيل: بالفتح العدل بين الشيئين، وبالكسر ما يقام به الشيء، لا يفضل عنه ولا ينقص، وقيل: بالكسر السداد والمبلغ. والمعنى: أي (¬4) والذين هم ليسوا بالمبذرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم، فيقصّرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون عدلًا وسطًا، وخير الأمور أوسطها. وقد قيل: وَلاَ تَغْلُ فِيْ شَيْءٍ مِنَ الأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيْمُ وقد قيل: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[68]

إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّ مَا اشْتَهَتْ ... وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِيْ ... دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلاَوَةِ عَاجِلِ قال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابًا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقوّيهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويقيهم من الحرّ والبرد. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال لابنه عاصم: يا بني كل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم، وعلى ظهورهم. قال عمر بن الخطاب: كفى سرفًا أن لا يشتهي شيئًا إلَّا اشتراه فأكله. 68 - وسادس الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ} ولا يعبدون {مَعَ اللَّهِ} سبحانه {إِلَهًا آخَرَ} كالصنم فيجعلونه شريكًا له تعالى؛ أي: والذين لا يعبدون مع الله سبحانه إلهًا آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة. يقال: الشرك ثلاثة (¬1): أولها: أن يعبد غيره تعالى. والثاني: أن يطيع مخلوقًا بما يأمره من المعصية. والثالث: أن يعمل لغير وجه الله تعالى. فالأول كفر، والآخران معصية. وفي "التأويلات النجمية": يعني لا يرفعون حوائجهم إلى الأغيار، ولا يتوهمون منهم المسارّ والمضارّ، وأيضًا لا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة، ولا يطلبون مع الله مطلوبًا، ولا يحبون معه محبوبًا، بل يطلبون الله من الله، ويحبونه ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ} ها {اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي (¬1): حرَّم قتلها. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم، والمراد نفس المؤمن والمعاهد {إِلَّا بِالْحَقِّ} المبيح لقتلها؛ أي: لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلّا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، كما إذا قتل أحدا فيقتصّ به، أو زنى وهو محصن فيرجم، أو ارتدّ أو سعى في الأرض بالفساد فيقتل {وَلَا يَزْنُونَ}؛ أي: ولا يطؤون في قبل المرأة بغير عقد شرعي أو ملك يمين، وكذا اللواط وإتيان البهيمة. وقد نفى (¬2) عنهم هذه القبائح مع أن وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس، ومزيد خوفهم من الله، وإحياء الليل يقتضي نفيها عنهم تعريضًا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وتنبيهًا إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين، فكأنه قيل: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر وأنتم تدعون، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون وأنتم تزنون. ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين؛ أي: فعل شيئًا من الأفعال الثلاثة: عبادة غير الله تعالى، والقتل، والزنا {يَلْقَ أَثَامًا}؛ أي (¬3): جزاء إثمه وعقوبته، والأثام كالوبال والنكال وزنًا ومعنى، يقال: أثمه يأثمه أثامًا جازاه على ذنبه وعاقبه عليه. وفي "القاموس": الأثام كسحاب، واد في جنهم، والعقوبة. وقال أبو مسلم: الأثام الإثم والذنب. ومعناه: يلق جزاء آثامه، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقرِىء (¬4): {يَلْقَ} بضم الياء وفتح اللام والقاف المشددة، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء {يلقى} بألف، كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرّ الألف، وقرأ ابن مسعود {أيّاما} جمع يوم يعني شدائد، يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[69]

69 - {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: يزاد له العذاب يوم القيامة بقدر معاصيه، وذلك لانضمام المعاصي إلى الكفر، فلا يعارض قوله تعالى في سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}، أو المعنى: يتزايد عذابه وقتًا بعد وقت، فهو كناية عن كونه مؤبدا. وفي "التأويلات النجمية": يكون معذبًا بعذابين، على كل ذنب عذاب دركات النيران، وعذاب فوات درجات الجنان، وقربات الرحمن. والضعف تركب قدرين متساويين ما سيأتي في مبحث المفردات، والجملة بدل من {يَلْقَ} لاتحادهما في المعنى؛ لأن مضاعفة العذاب نفس لقي الآثام فلذلك جزمت، كما قال الشاعر: مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِيْ دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا لأن الإلمام هو نفس الإتيان، فجزم تلمم؛ لأنه بمعنى تأتي. والضمير في قوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ} عائد إلى العذاب المضاعف؛ أي: يخلد في العذاب المضاعف حالة كونه {مُهَانًا}؛ أي: ذليلًا حقيرًا، جامعًا للعذاب الجسماني والروحاني لا يغاث. وقرأ (¬1) نافع وابن عامر وحمزة والكسائي: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} مبنيًا للمفعول وبألف {وَيَخْلُدْ} مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك، إلّا أنهم شددوا العين، وطرحوا الألف، وقرأ أبو جعفر أيضًا وشيبة وطلحة بن مصرف {يضاعِف} بالياء مبنيًا للفاعل {العذاب} بالنصب وقرأ طلحة بن سليمان {نضعّف} بضم النون والعين المشددة بالجزم {وتخلد} بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعًا؛ أي: وتخلد أيها الكافر، وقرأ أبو حيوة {ويخلّد} مبنيًا للمفعول مشدد اللام مجزومًا، ورويت عن أبي عمرو، وعنه كذلك مخففًا، وقرأ أبو بكر عن عاصم {يضاعف ويخلد} بالرفع فيهما، وكذا ابن عامر، والمفضّل عن عاصم {يضاعف ويخلد} مبنيًا للمفعول مرفوعًا مخففًا، وقرأ الأعمش بضم الياء مبنيًا للمفعول مشددًا مرفوعًا، فالرفع على الاستئناف، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[70]

كأنّ قائلًا قال: ما لقي الآثام؟ فقيل: يضاعف للإثم العذاب. أو على الحال، والجزم على البدل من {يلق}، وقرأ ابن كثير وحفص: {فيهي مهانا} بإشباع كسرة الياء، ووصلها بالياء في الوصل. والمعنى (¬1): ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة يلق في الآخرة جزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل يضاعف له ربه العذاب يوم القيامة، ويجعله خالدًا أبدًا في النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمي والعذاب الروحي. 70 - وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار في التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين، فيفوزون بجنات النعيم، فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} من الشرك والقتل والزنا {وَآمَنَ}؛ أي: صدّق بوحدانية الله تعالى، ورسالة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} ذكر (¬2) الموصوف هنا مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به، وللتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة. والاستثناء من الجنس؛ لأن المقصود الإخبار بأن من فعل ذلك فإنه يحل به ما ذكر إلّا أن يتوب، وأما إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرض لها في الأية. {فَأُولَئِكَ} الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح {يُبَدِّلُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَيِّئَاتِهِمْ} الثلاثة المذكورة في الدنيا {حَسَنَاتٍ}؛ أي: يبدلهم الإيمان عن الشرك، وقتل الكافرين عن قتل المؤمنين، والعفة والإحصان عن الزنا، أو (¬3) يوفّقهم للمحاسن بعد القبائح، أو يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات الإيمان والطاعة، ولم يرد به أن السيئة بعينها تكون حسنة، ولكن المراد ما ذكرنا. قال الزجاج: ليس المراد أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن المراد أن السيئة تمحى بالتوبة، وتكتب الحسنة مع التوبة. انتهى. وعبارة "أبي السعود": ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

[71]

قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم، أو يبدّل ملكة المعصية ودواعيها في النفس بملكة الطاعة، بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية مكانها. وقيل: يبدّل بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمن قتل الكافر، وبالزنا عفة وإحصانا. اهـ. فعلى هذا يكون التبديل في الدنيا. وفي "القرطبي" قال النحاس: من أحسن ما قيل في التبديل أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع، قال الحسن: وقوم يقولون: التبديل في الآخرة. وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا، يبدلهم الله إيمانًا من الشرك، وإخلاصًا من الشك، وإحصانًا من الفجور. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران؛ أي: يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أنه يبدلها حسنات. قلت: ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحّت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، اهـ. وقرأ (¬1) البرجمي {يُبْدِلُ} مخففًا. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {غَفُورًا} لمن تاب من الشرك والمعاصي، ولذلك بدل السيئات حسنات، {رَحِيمًا} له، ولذلك أثاب على الحسنات، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من التبديل. 71 - {وَمَنْ تَابَ}؛ أي رجع عن المعاصي مطلقًا بتركها بالكلية والندم عليها {وَعَمِلَ صَالِحًا} بتدارك به ما فرّط منه، أو المعنى: ومن تاب؛ أي: خرج عن المعاصي، وعمل صالحًا؛ أي: دخل في الطاعات {فَإِنَّهُ} بما فعل {يَتُوبُ} ويرجع {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى بعد الموت {مَتَابًا}؛ أي: رجوعًا حسنًا، عظيم الشأن، مرضيًا عنده تعالى، ماحيًا للعقاب، محصّلًا للثواب، فلا يتحد الشرط والجزاء؛ لأن في الجزاء معنى زائدًا على ما في الشرط، فإن الشرط هو التوبة بمعنى الرجوع عن المعاصي، والجزاء هو الرجوع إلى الله تعالى بعد ¬

_ (¬1) النسفي.

[72]

الموت رجوعًا مرضيًا، وهذا تعميم بعد التخصيص؛ لأن متعلق التوبة في الآية الأولى الشرك والقتل والزنا فقط، وهاهنا مطلق المعاصي. والتوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرّط، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة، قال ابن عطاء: التوبة الرجوع من كل خلق مذموم، والدخول في كل خلق محمود، وهي توبة الخواص. وقال بعضهم: التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله تعالى، وهي توبة الأخص، فعليكم أيها الإخوان بالتوبة والاستغفار، فإنها صابون الأوزار. والمعنى: أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكّى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحًا مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصّلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير، وفي هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها، نسأل الله تعالى توبة نصوحا ومن آثار رحمته فيضًا ونوالًا وفتوحًا. 72 - وسابع الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}؛ أي (¬1): لا يحضرون مواضع الكذب، فإن حضور مجامع الفسّاق مشاركة لهم في تلك المعصية، ولأن النظر إليها دليل الرضا بها. وقيل: معنى {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يشهدون (¬2) أعياد المشركين واليهود والنصارى. وقيل: لا يشهدون مواضع النوح والندب. وقيل: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وقيل: لا يشهدون مواضع اللهو واللعب والغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. والأولى التعميم، فيقال: لا يشهدون مواضع المعاصي كلها، أيًا كانت. أو المعنى: لا يشهدون الشهادة الكاذبة. والحاصل: أنَّ {يَشْهَدُونَ} إن كان من الشهادة بمعنى الإخبار .. ففي ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

الكلام حذف مضاف؛ أي: لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان من الشهود بمعنى الحضور، كما ذهب إليه الجمهور .. فقد اختلفوا في معناه على الأقوال التي ذكرناها أولًا. واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور (¬1): فقال أبو حنيفة: لا يعزّر، بل يوقف في قومه، ويقال لهم: إنه شاهد زور. وقال الثلاثة: يعزّر ويوقف في قومه، ويعرّفون أنه شاهد زور. وقال مالك: يشهر في الجوامع والأسواق والمجامع. وقال أحمد: يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها، فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه - أي: يطليه بمادة سوداء - ويحلق رأسه، ويطوف به في الأسواق كما في "كشف الأسرار". وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئًا فجلس، فقال -: ألا وقول الزور، أو شهادة الزور"، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه. {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ}؛ أي: بمجالس اللغو واللهو والباطل {مَرُّوا كِرَامًا}؛ أي: مروا بها معرضين عنها، مسرعين مكرمين أنفسهم بترك الالتفات إليها، منزّهين لها عن هذه المجالس السيئة، يقال: فلان يكرم نفسه عما يشينه؛ أي: يتنزه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله. واللغو: كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها. والمعنى: مرّوا معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به. وحاصل معنى الآية: أي والذين لا يؤدّون الشهادات الكاذبة، ولا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيهِ كاللغو في القرآن، وشتم الرسول، والخوض فيما لا ينبغي. ونحو الآية قوله: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[73]

{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}. 73 - وثامن الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا}؛ أي: وعظوا {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} المشتملة على المواعظ والأحكام {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا}؛ أي (¬1): لم يسقطوا, ولم يقعوا ولم يقفوا عليها حالة كونهم {صُمًّا} عن استماعها وإصغائها. جمع أصم وهو فاقد حاسة السمع وبه يشبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله {و} حالة كونهم {عُمْيَانًا} عن رؤية تاليها. جمع أعمى؛ وهو فاقد حاسة البصر. والمعنى: أي (¬2) والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على الأحكام والمواعظ أكبوا على تلك الآيات حرصًا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، وانتفعوا بها, لا كالذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم والعيمان كالمنافقين والكفرة كأبي جهل والأخنس بن شريق، فالمراد من النفي نفي الصمم والعمى، لا نفي الخرور وإن دخلت الأداة عليه، فالنفي متوجه إلى القيد الذي هو {صُمًّا وَعُمْيَانًا}، لا إلى المقيد الذي هو الخرور الداخل عليه. وفي هذا تعريض بما عليه الكفرة والمنافقون الذي إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به، ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صم لا يسمعون، وعمي لا يبصرون. 74 - وتاسع الصفات: ما ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} في دعائهم لربهم {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}؛ أي: بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل؛ أي: اجعل لنا ما يحصل به سرور أعين من أزواجنا وأولادنا بأن نراهم صالحين مطيعين لله. وعن محمد بن كعب: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله تعالى. وقرة العين ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

سرورها، والمراد به ما يحصل به السرور، فـ {مِن} في قوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا} إما (¬1) بيانية كما فسّرنا، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا}، أو ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح، وإنما قيل: {أَعْيُنٍ} على وزن القلة، دون عيون؛ لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ويجوز أن يقال في تنكير أعين: إنها أعين خاصة وهي أعين المتقين. والمعنى أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجًا وأعقابًا علماء لله تعالى، يسرون بمكانهم، وتقرّ بهم عيونهم. {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}؛ أي: اجعلنا أئمة لهم بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم علينا، وبالتوفيق للعمل الصالح. ولفظ {إمام} يستوي فيه الجمع وغيره، فالمطابقة حاصلة. اهـ شيخنا. وفي "البيضاوي" (¬2): وتوحيد {إِمَامًا} لدلالته على الجنس وعدم اللبس، كقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}، أو لأنه مصدر في أصله، أو لأن المراد: واجعل كل واحد منا إمامًا، أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم. وقيل: جمع آثم كصائم وصيام، فيكون من المقلوب، والمعنى: واجعل المتقين لنا إمامًا، واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم. قال بعضهم: وفي هذا دليل على أن الرئاسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها. والمعنى؛ أي (¬3): والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه، وسر قلبه، وتوقع نفعهم له في الدنيا حيًا وميتًا، وكانوا من اللاحقين به في الآخرة، ويسألون أيضًا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي.

[75]

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية". والخلاصة: أنهم طلبوا من ربهم أمرين: أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه، فتقر بهم أعينهم في الدنيا والآخرة، وأن يكونوا هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر. وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع وحفص عن عاصم (¬1): {وَذُرِّيَّاتِنَا} على الجمع، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة: {وذريتنا}: على الإفراد، وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وأبو الدرداء وأبو هريرة: {قُرّات}: على الجمع، والجمهور على الإفراد. تنبيه (¬2): وإعادة الموصول في المواضع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حدته، له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لذلك، وتوسط العاطف بين الصفة والموصوف لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي. 75 - ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين .. ذكر إحسانه إليهم بقوله: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات الثمانية السابقة، والمستجمعون لتلك الخصال الفاضلة {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ}؛ أي: يثابون أعلى منازل الجنة، والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، والغرفة: الدرجة العالية من كل بناء مرتفع، وهي اسم جنس أربد به الجمع، كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، {بِمَا صَبَرُوا}؛ أي: بسبب صبرهم على مشاق التكاليف، وقمع الشهوات، وتحمل المجاهدات. فـ {ما} مصدرية، و {الباء}: سببية {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا}؛ أي: في الغرفة من جهة الملائكة؛ أي: يستقبلون فيها، ويجدون من الملائكة {تَحِيَّةً}؛ أي: دعاء بطول حياة {وَسَلَامًا}؛ أي: دعاء بسلامة من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[76]

الآفات؛ أي: يستقبلون فيها بالتحية وبالسلام؛ أي: تحييهم الملائكة، ويدعون لهم بطول الحياة، والسلامة من الآفات، فإن التحية هي الدعاء بالتعمير، والسلام هو الدعاء بالسلامة. وقال شيخ الإِسلام: جمع بين التحية والسلام مع أنهما بمعنى واحد لقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}، ولخبر: "تحية أهل الجنة في الجنة السلام"؛ لأن المراد هنا بالتحية سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، وبالسلام سلام الله عليهم لقوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}، أو المراد بالتحية إكرام الله لهم بالهدايا والتحف، وبالسلام سلامه عليهم بالقول، ولو سلم أنهما بمعنى واحد لساغ الجمع بينهما لاختلافهما لفظًا "فتح الرحمن". 76 - حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في تلك الغرفة لا يموتون ولا يخرجون منها {حَسُنَتْ} تلك الغرفة من جهة كونها {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} لهم؛ أي: موضع قرار ودوام وإقامة واستراحة لهم، وهو مقابل قوله في جهنم: {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} معنى، ومثله إعرابا. فعلى العاقل أن يتهيأ لمثل هذه الغرفة العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة، ولا يقع في مجرد الأماني والآمال، فإن الأمنية كالموت بلا إشكال: بِقَدْرِ الْكَدَّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اللَّيَالِيْ والمعنى: أي (¬1) أولئك المتصفون بصفات الكمال، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب، يجزون المنازل الرفيعة والدرجات العالية بصبرهم على فعل الطاعات، واجتنابهم للمنكرات، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، ونحو الآية: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)}، ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع، فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)}؛ أي: مقيمين فيها, لا يظعنون، ولا يموتون، حسنت منظرًا وطابت مقيلًا ومنزلًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[77]

وقرأ (¬1) ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، والحسن وشيبة وأبو جعفر وأبو بكر {يلقون} بضم الياء وفتح اللام والقاف المشددة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة ومحمد اليماني {يَلْقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. 77 - ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم .. أمر رسوله أن يقول لهم بقوله: {قُلْ} يا محمد للناس كافة {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} و {ما}: إما استفهامية محلها النصب على المصدر؛ أي (¬2): ما يصنع بأجسامكم، وما يفعل بصوركم ربي، أو أي وزن ومقدار لكم عنده {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}؛ أي: لولا عبادتكم إياه، كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. وقيل: لولا إيمانكم. وقيل: لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان, فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر، وإما نافية؛ أي: لا يبالي بكم ربي لولا دعاؤكم واستغاثتكم إياه في الشدائد، فقوله: {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} بيان لحال المؤمنين، وجواب {لَوْلَا} معلوم مما قبله، تقديره: لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم. والمعنى (¬3) على الاستفهامية: أي عبء يعبأ بكم ربي، وأي مبالاة يبالي بكم ربي، وأي اعتبار يعتبركم ربي، وأي اعتناء يعتني بشأنكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم له تعالى؟ فإن شرف الإنسان وكرامته عند الله تعالى بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء، هذا وفي الآية معان أخر، والأظهر عند المحققين ما ذكرناه. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيان لحال الكفرة من الناس؛ أي: فقد كذبتم أيها الكفرة بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وخرجتم عن أن يكون لكم عند الله اعتناء بشأنكم واعتبار، أو وزن ومقدار {فَسَوْفَ يَكُونُ} جزاء تكذبيكم {لِزَامًا}؛ أي: لازمًا لكم يحيق بكم لا محالة، حتى يكبكم في النار؛ أي: يصرعكم على وجوهكم في النار، كما يعرف عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن بزيادة. (¬3) روح البيان.

وإنما أضمر اسم {يَكُونُ} من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، للتنبيه على أنه مما لا يكتنهه الوصف والبيان، وعن بعضهم: أن المراد بالجزاء جزاء الدنيا، وهو ما وقع يوم بدر، قتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون، ثم اتصل به عذاب الآخرة لازمًا لهم. وقال الزمخشري في هذه الآية (¬1): لما وصف الله سبحانه عبادة العباد، وعدد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم رفع الدرجات .. أتبع ذلك ببيان أنه إنما اكترث بأولئك، وعبأ بهم، وأعلى ذكرهم لأجل عبادتهم، فأمر رسوله بأن يقول لهم: إن الاكتراث بهم عند ربهم إنما هو لأجل عبادتهم وحدها, لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث بهم البتة، ولم يعتد بهم، ولم يكونوا عنده شيئًا يبالي به اهـ "كشاف". وقال زاده: أي إن مبالاة الله تعالى واعتناءه بشأنهم حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إرادة للانتظام إنما هو ليعرفوا حق المنعم، ويطيعوه فيما كلفهم به اهـ. ومعنى الآية: أي (¬2) قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن، ولولاها لم يعتد بهم ربهم، ومن ثم لا يعبأ بكم إذا لم تعبدوه، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه، ويطيعه وحده لا شريك له، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}، {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أما أنتم إذ خالفتم حكمي، وعصيتم أمري، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل، وكذبتم رسولي .. فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهو العقاب الذي لا مناص منه، فاستعدوا له، وتهيؤوا لذلك اليوم، فكل آت قريب. وخلاصة ذلك: لا يعتد بكم ربي لولا عبادتكم إياه، أما الكافرون منكم ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) المراغي.

الذين قصروا في العبادة فسيكون تكذيبهم مفضيًا لعذابهم وهلاكهم في الدنيا والآخرة. وقال أبو حيان (¬1): والذي يظهر أن قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} خطاب لكفار قريش القائلين: أنسجد لما تأمرنا؟ أي: لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه عند الشدائد، فقد كذبتم بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتستحقون العقاب، فسوف يكون العقاب لزامًا؛ أي: لازمًا لكم لا تنفكون منه، ونفس لهم في حلوله بلفظة {فَسَوْفَ}، وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير: {فقد كذب الكافرون} فهو محمول على أنه تفسير لا قرآن، وفي هذه القراءة دليل (¬2) بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقرأ ابن جريج {فسوف تكون} بتاء التأنيث؛ أي: فسوف تكون العاقبة، وقرأ الجمهور: {لِزَامًا} بكسر اللام، وقرأ (¬3) المنهال وأبان بن تغلب وأبو السماك بفتحها مصدرًا، تقول: لزم لزومًا ولزامًا مثل ثبت ثبوتًا وثباتًا، وأنشد أبو عبيدة على كسر اللام لصخر الغي: فَإِمَّا يَنْجُ مِنْ حَتْفِ أَرْضٍ ... فَقَدْ لَقِيَا حُتُوْفَهُمَا لِزَامَا ونقل ابن خالويه عن أبي السماك أنه قرأ: {لزام} على وزن حذام، جعله مصدرًا معدولًا عن اللزمة، كفجار معدول عن الفجرة. فائدة: قال الإمام الراغب (¬4): الإنسان في هذه الدار الدنيا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الناس سفر، والدار دار ممر، لا دار مقر، وبطن أمه مبدأ سفره، والآخرة مقصده، وزمان حياته مقدار مسافته، وسنوه منازله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطاه، ويسار به سير السفينة براكبها، كما قال الشاعر: رَأَيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا ... أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِيْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

وقد دعي إلى دار السلام، لكن لما كان الطريق إليها مشكلة مظلمة جعل الله لنا من العقل الذي ركبه فينا، وكتبه التي أنزلها علينا نورًا هاديًا، ومن عبادته التي كتبها علينا، وأمرنا بها حصنًا واقيًا، فمن قال: هذه الطاعات جعلها الله عذابًا علينا من غير تأويل فقد كفر، فإن أول مراده بالتعب فلا يكفر، ولو قال: لو لم يفرض الله تعالى علينا كان خيرًا لنا بلا تأويل فقد كفر؛ لأن الخير فيما اختاره الله، إلا أن يُؤوِّل ويريد بالخير الأهون والأسهل. نسأل الله تعالى أن يسهلها علينا في الباطن والظاهر، والأول والآخر بمنّه وكرمه، وجوده وإحسانه، إنه خير مسؤول وأفضل مأمول. الإعراب {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}. {وَيَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائح المشركين. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلقان بـ {يعبدون}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {لا}: نافية. {يَنْفَعُهُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {مَا}، والجملة صلة الموصول. {وَلَا يَضُرُّهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {مَا}، والجملة معطوفة على جملة {يَنْفَعُهُمْ}. {وَكَانَ الْكَافِرُ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى رَبِّهِ}: متعلق بـ {ظَهِيرًا}. {ظَهِيرًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {يَعْبُدُونَ}. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)}. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ}: {الواو}: استئنافية. {مَا}: نافية. {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال رسوله - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. {مُبَشِّرًا}: حال من ضمير المفعول. {وَنَذِيرًا}: معطوف عليه، والتقدير: أي: وما أرسلناك في حال من الأحوال إلَّا حال كونك

مبشرًا ونذيرًا. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول أول. {عَلَيْهِ}: حال من {أَجْرٍ}؛ لأنه كان في الأصل صفة لـ {أَجْرٍ} قدمت عليه. {مِن}: زائدة {أَجْرٍ}: مفعول ثان لسأل، وجملة سأل في محل النصب مقول القول. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَن}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من ضمير المخاطبين. {شَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَن}، والجملة صلة الموصول. {أَنْ}: حرف نصب. {يَتَّخِذَ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَن}. {إِلَى رَبِّهِ}: في محل المفعول الثاني لـ {يَتَّخِذَ}. {سَبِيلًا}: مفعول أول له، وجملة {يَتَّخِذَ} في تأويل منصوب على المفعولية لـ {شَاءَ}، تقديره: إلا من شاء اتخاذه سبيلًا إلى ربه. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}. {وَتَوَكَّلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ}، وهذه الجملة متصلة في المعنى بقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}. {عَلَى الْحَيِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَوَكَّلْ}. {الَّذِي}: صفة أولى لـ {الْحَيِّ}. {لَا يَمُوتُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {وَسَبِّحْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {توكل}. {بِحَمْدِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {سبح}؛ أي: حالة كونك متلبسًا بحمده. {وَكَفَى}: {الواو}: عاطفة. {كفى}: فعل ماض. {بِهِ}: الباء زائدة في فاعل {كفى}، والهاء ضمير للمفرد المنزه عن المذكورة والأنوثة والغيبة، مجرور لفظًا مرفوع محلًا على أنه فاعل {كفى}، والجملة معطوفة على جملة {توكل}، أو مستأنفة. {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَبِيرًا}. {خَبِيرًا}: تمييز لفاعل {كفى}، أو حال منه.

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}. {الَّذِي}: صفة ثانية لـ {الْحَيِّ}، أو نعت، أو بدل من قوله: {بِهِ}، أو مبتدأ خبره {الرَّحْمَنُ} الآتي. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة صلة الموصول. {وَمَا}: في محل النصب معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا} ظرف ومضاف إليه صلة {ما} الموصولة. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَلَقَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {اسْتَوَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول معطوف على {خَلَقَ}. {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق بـ {اسْتَوَى}. {الرَّحْمَنُ}: بالرفع، في إعرابه أوجه: أحدها أنه خبر {الَّذِي خَلَقَ}، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن، أو بدل من الضمير في {اسْتَوَى}، أو مبتدأ خبره جملة قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} على رأي الأخفش، أو صفة لـ {الَّذِي خَلَقَ} إذا قلنا إنه مرفوع، وأما على قراءة زيد بن علي بالجر، فيتعين أن يكون نعتًا لـ {الْحَيِّ}. {فَاسْأَلْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته من الخلق والاستواء، وأردت بيان تفاصيله .. فأقول لك: {اسأل}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. {بِهِ}: {الباء}: حرف جر بمعنى عن، {والهاء}: ضمير الغائب عائد على ما ذكر من الخلق والاستواء، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: فاسأل عن تفاصيل ما ذكر متعلق بـ {اسأل} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {اسأل}. {خَبِيرًا}: مفعول أول لـ {اسأل}؛ أي: فاسأل ربًا خبيرًا عن تفاصيله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وفي المقام أوجه آخر من الإعراب على اختلاف تفاسيره، فأجر عليه تلك الأوجه بحسب المعنى، والله أعلم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}.

{وَإِذَا قِيلَ} {الواو}: استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمُ}: متعلق به. {اسْجُدُوا}: فعل أمر وفاعل {لِلرَّحْمَنِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ} على كونها مقولًا له، وجملة {قِيلَ} في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. {وَمَا} {الواو}: زائدة. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. {الرَّحْمَنُ}: مبتدأ مؤخر، أو بالعكس، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَنَسْجُدُ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري {نسجد}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {نسجد} والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {تَأْمُرُنَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد و {نا}: مفعول به، والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لما تأمرنا السجود له، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: نسجد لأجل أمرك إيانا. {وَزَادَهُمْ نُفُورًا}: فعل ماض ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على القول المذكور، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قَالُوا} على كونها جواب إذا لا محل لها من الإعراب. {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}. {تَبَارَكَ الَّذِي}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {جَعَلَ}: فعل ماض بمعنى أوجد، يتعدى لمفعول واحد، وفاعله ضمير مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {فِي السَّمَاءِ}: متعلق بـ {جَعَلَ}. {بُرُوجًا}: مفعول به. {وَجَعَلَ}: معطوف على {جَعَلَ} الأول. {فِيهَا}: متعلق به. {سِرَاجًا}: مفعول {جَعَلَ}. {وَقَمَرًا}: معطوف على {سِرَاجًا}. {مُنِيرًا}: صفة {قمرا}. {وَهُوَ}: {الواو}: عاطفة. {هو}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبر، والجملة معطوفة على جملة {تَبَارَكَ}. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صله

الموصول. {اللَّيْلَ}: مفعول أول .. {وَالنَّهَارَ}: معطوف على {اللَّيْلَ}. {خِلْفَةً}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى صير، أو حال من المفعول به إن كان بمعنى خلق، وأفرده لأن المعنى: يخلف أحدهما الآخر، فلا يتحقق هذا إلا منهما. قيل: ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: ذوي خلفة. {لِمَن}: جار ومجرور صفة لـ {خِلْفَةً}. {أَرَادَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {من}، والجملة صلة {من} الموصولة. {أَنْ يَذَّكَّرَ}: ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {من}، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَرَادَ}؛ أي: لمن أراد تذكرة. {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {أَرَادَ} الأول. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان الأوصاف التي يتميز بها عباد الرحمن المخلصون. {يَمْشُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {عَلَى الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَمْشُونَ}. {هَوْنًا}: إما مصدر واقع موقع الحال من فاعل {يَمْشُونَ}؛ أي: حالة كونهم هينين لينين، أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: مشيًا مطلقًا. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب. {سَلَامًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا سلامًا، وجملة {إِذَا} معطوفة على جملة قوله: {يَمْشُونَ} على كونها صلة الموصول. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول على كونه خبر المبتدأ. {يَبِيتُونَ}: فعل مضارع ناقص، والواو: اسمها. {لِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {سُجَّدًا}. {سُجَّدًا}: خبر {يَبِيتُونَ}، والجملة

صلة الموصول. {وَقِيَامًا}: معطوف على {سُجَّدًا}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول أيضًا. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {رَبَّنَا} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول يقولون: {اصْرِفْ}: فعل دعاء، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله. {عَنَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {اصْرِفْ}. {عَذَابَ جَهَنَّمَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. {إِنَّ عَذَابَهَا}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على العذاب، وجملة {كَانَ غَرَامًا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول القول على كونها معللة لقولهم: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}. {إِنَّهَا}: ناصب واسمه. {سَاءَتْ}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر مبهم مفسر بنكرة. {مُسْتَقَرًّا}: تمييز لفاعل {سَاءَتْ}. {وَمُقَامًا}: معطوف عليه، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي، وهو مبتدأ، خبره جملة {سَاءَتْ}، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى، ويجوز أن تكون {سَاءَتْ} بمعنى أحزنت، فلا تكون حينئذ من أفعال الذم، كما مر في مبحث التفسير. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}. {وَالَّذِينَ}: في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَنْفَقُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {لَمْ يُسْرِفُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} صلة الموصول. {وَلَمْ يَقْتُرُوا}: جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: {لَمْ يُسْرِفُوا}. {وَكَانَ}: {الواو}: عاطفة، أو حالية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنفاق. {بَيْنَ ذَلِكَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {قَوَامًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {قَوَامًا}: خبر {كَانَ}؛ أي: وكان انفاقهم قوامًا كائنًا بين ذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن

يكون المنصوبان خبرين لـ {كَانَ}، أعني {بَيْنَ ذَلِكَ} و {قَوَامًا}، وأن يكون {بَيْنَ ذَلِكَ}: ظرفًا لغوًا متعلق بـ {كَانَ}، و {قَوَامًا}: خبر {كَانَ}، وأن يكون الظرف خبرًا، و {قَوَامًا}: حالًا مؤكدة، وجملة {كَانَ} إما معطوفة على جملة الصلة، أو حال من واو {يُسْرِفُوا}. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. {لا}: نافية. {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مَعَ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَدْعُونَ}. {إِلَهًا}: مفعول به. {آخَرَ}: صفة له. {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {يَدْعُونَ}. {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {النَّفْسَ}. {حَرَّمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: حرمها الله. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {يَقْتُلُونَ}، أو بمحذوف حال، فالاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: إلا متلبسين بالحق. {وَلَا يَزْنُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَقْتُلُونَ}. {وَمَنْ}: {الواو}: اعتراضية {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَفْعَلْ ذَلِكَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {يَلْقَ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه جواب شرط لها. {أَثَامًا}: مفعول به، وجملة {من} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. {يُضَاعَفْ}: فعل مضارع مغير الصيغة بدل من {يَلْقَ} بدل كل من كل؛ لأن مضاعفة العذاب نفس لقي الآثام. {لَهُ}: متعلق بـ {يُضَاعَفْ}. {الْعَذَابُ}: نائب فاعل. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {يُضَاعَفْ} أيضًا. {وَيَخْلُدْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {من} معطوف على {يُضَاعَفْ}. {فِيهِ}: متعلق بـ {يخلد}. {مُهَانًا}: حال من فاعل {يخلد}.

{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}. {إِلَّا}: أداة استثناء {مَن}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، فهو مستثنى متصل من فاعل {يَلْقَ}. {تَابَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مَن}، والجملة صلة {مَن} الموصولة. {وَآمَنَ وَعَمِلَ}: معطوفان على {تَابَ}. {عَمَلًا}: مفعول مطلق أو مفعول به. {صَالِحًا}: صفة له. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: تعليلية جريًا على القاعدة المطردة من أن الفاء بعد الاستثناء للتعليل. {أولئك}: مبتدأ. {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {حَسَنَاتٍ}: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعللية، وتلك اللام متعلقة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما قلنا: إلا من تاب لتبديل الله سيئاتهم إلخ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا}: خبر ثان له، وجملة {كَانَ} معترضة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَمَن} {الواو}: استئنافية، أو اعتراضية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. {تَابَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {وَعَمِلَ صَالِحًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، أو مطلق معطوف على {تَابَ}. {فَإِنَّهُ} الفاء رابطة الجواب {إنه} ناصب واسمه. {يَتُوبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {إِلَى اللَّهِ} متعلق به. {مَتَابًا}: مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي، وجملة يتوب في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معترضة أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ

أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول. {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {وإذا}: {الواو}: عاطفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مَرُّوا}: فعل وفاعل. {بِاللَّغْوِ}: متعلق بـ {مَرُّوا}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. {مَرُّوا}: فعل وفاعل. {كِرَامًا}: حال من فاعل {مَرُّوا}، والجملة جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} معطوفة على جملة الصلة. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {ذُكِّرُوا}: فعل ونائب فاعل. {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ذُكِّرُوا}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. {لَمْ يَخِرُّوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {عَلَيْهَا} متعلق به. {صُمًّا وَعُمْيَانًا}: حالان من فاعل {يَخِرُّوا}، جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {هَبْ}: فعل دعاء وفاعل مستتر. {لَنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {يَقُولُونَ} على كونها جواب النداء. {مِنْ أَزْوَاجِنَا}: جار ومجرور حال من {قُرَّةَ أَعْيُنٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {وَذُرِّيَّاتِنَا}: معطوف على {أَزْوَاجِنَا}. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: مفعول به لـ {هَبْ}. {وَاجْعَلْنَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. {لِلْمُتَّقِينَ}: حال من {إِمَامًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {إِمَامًا}: مفعول ثان لـ {اجعلنا}، وجملة {اجعلنا} معطوفة على جملة {هَبْ لَنَا}. {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {يُجْزَوْنَ}: فعل مغير ونائب فاعل. {الْغُرْفَةَ}: مفعول ثان لـ {يُجْزَوْنَ}. {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب {ما}: مصدرية،

وجملة {صَبَرُوا} صلة {ما} المصدرية؛ أي: بسبب صبرهم، الجار والمجرور متعلق بـ {صَبَرُوا}، وجملة {يُجْزَوْنَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، أو الجملة خبر {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} كما مرت الإشارة إليه. {وَيُلَقَّوْنَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {يُجْزَوْنَ}. {فِيهَا}: جار ومجرور حال من ما بعده. {تَحِيَّةً}: مفعول ثان لـ {يلقون}. {وَسَلَامًا}: معطوف عليه. {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}. {خَالِدِينَ}: حال من واو {يُجْزَوْنَ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {حَسُنَتْ}: فعل ماض من أفعال المدح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا مبهم مفسر بما بعده. {مُسْتَقَرًّا}: تمييز لفاعل {حسن}. {وَمُقَامًا}: معطوف عليه، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي يعود على الغرفة، وهو مبتدأ خبره جملة {حَسُنَتْ}، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {ما}: اسم استفهام في محل النصب على المفعولية المطلقة. {يَعْبَأُ}: فعل مضارع. {بِكُمْ}: متعلق به. {رَبِّي}: فاعل؛ أي: أي عبء يعبأ بكم ربي، أو {ما} نافية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {دُعَاؤُكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف وجوبًا تقديره: لولا دعاؤكم موجود، وجواب {لَوْلَا} معلوم مما قبلها تقديره: لولا دعاؤكم موجود ما يعبأ بكم ربي، وجملة {لَوْلَا} في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَقَدْ} {الفاء}: عاطفة لمحذوف تقديره: فكيف يعبأ بكم ربي وقد كذبتم، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}، وصحّ عطفها؛ لأنها بمعنى النفي؛ لأن الاستفهام فيها إنكاري. {فَقَدْ}: حرف تحقيق. {كَذَّبْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير المخاطبين في قوله: فكيف يعبأ بكم، أو الفاء عاطفة على جملة {مَا يَعْبَأُ

بِكُمْ}، أو الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنه لا يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم، وأردتم بيان حالكم ومآل أمركم .. فأقول لكم: {قد كذبتم فسوف يكون لزامًا}، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَسَوْفَ}: {الفاء}: عاطفة، {سوف}: حرف تنفيس. {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على العذاب. {لِزَامًا}: خبر {يَكُونُ}، وجملة {يَكُونُ} معطوفة على جملة {كَذَّبْتُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {ظَهِيرًا} الظهير والمظاهر: المعاون، فهو يعاون الشيطان على ربه؛ أي: على رسوله وإطفاء نوره بالعداوة، أو المعنى: هينًا مهينًا، لا وقع له عند الله ولا قدر، من قولهم: ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك، فيكون كقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}، اهـ "بيضاوي". ومنه قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}؛ أي: هينًا. وقيل: إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده - وهو الصنم - قويًا غالبًا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ولا نفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعًا كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو على دينه. والمراد بالكافر الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول كافرًا معينًا كما قيل: إنه أبو جهل، اهـ "شوكاني". {إِلَّا مُبَشِّرًا}: من التبشير، والتبشير: إخبار فيه سرور. {وَنَذِيرًا} والإنذار: إخبار فيه تخويف، واقتصر على صيغة المبالغة في الإنذار لتخصصه بالكافرين إذ الكلام فيهم، والإنذار الكامل لهم، ولو قيل: إن المبالغة باعتبار الكم لشموله للعصاة جاز، اهـ "شهاب" باختصار. {مِنْ أَجْرٍ} والأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}؛ أي: نزهه عن صفات النقصان مثنيًا عليه بأوصاف الكمال، طالبًا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه، اهـ "بيضاوي".

{وَكَفَى بِهِ} يقال: كفى بالعلم جمالًا؛ أي: حسبك فلا تحتاج معه إلى غيره. {خَبِيرًا} والخبير بالشيء: العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به. {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} والنفور: الإنزعاج عن الشيء والتباعد عنه. {بُرُوجًا}؛ أي: طرقًا ومنازل للسبعة السيارة، سميت بروجًا؛ لاستنارتها وحسنها وضوئها، والأبرج الواسع ما بين الحاجبين. {سِرَاجًا} قال الراغب: السراج الزاهر بفتيلة، ويعبر به عن كل شيء مضيء، والمراد به هاهنا الشمس لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} شبهت الشمس والكواكب الكبار بالسرج والمصابيح، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} في الإنارة والإشراق {قمرا} سمي قمرًا؛ لبياضه كما في "المختار". {خِلْفَةً}؛ أي: يخلف كل واحد منهما الآخر، فالخلفة مصدر هيئة. وعبارة "القرطبي": قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابه خلفة؛ أي: قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، والأول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان. {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة. {هَوْنًا} والهون: الرفق والسكينة والوقار، كما في "القاموس"، وهو مصدر وضع موضع الصفة للمبالغة، وتذلل الإنسان في نفسه بما لا يلحق به غضاضة، كما في "المفردات". وهين لين، وقد يخففان. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} الجهل: خلو النفس من العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا، اهـ "روح". {يَبِيتُونَ}: من بات يبيت بيتوتة، والبيتوتة خلاف الظلول، وهي أن

يدركك الليل نمت أو لم تنم، ولذلك يقال: بات فلانٌ قلقًا؛ أي: مضطربًا. {سُجَّدًا}: جمع ساجد، كركع جمع راكع. {وَقِيَامًا}: جمع قائم كصيام جمع صائم. غرامًا: أي: هلاكًا وخسرانًا وعذابًا لازمًا. وفي "المختار": الغرام: الشر الدائم والعذاب، قال بشر بن أبي خازم: وَيَوْمَ النَّسَارِ وَيَوْمَ الْفِجَا ... رِ كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَاْمَا والنسار ماء لبني عامر، والفجار ماء لبني تميم، وقد جرت فيهما هاتان الواقعتان، وكانتا عذابًا على أهلهما وهلاكًا دائمًا. قال الراغب: مأخوذ من قولهم: هو مغرم بالنساء؛ أي: يلازمهن ملازمة الغريم؛ أي: ملازمة من له الدين لغريمه؛ أي: من عليه الدين، فكلاهما غريم. {لَمْ يُسْرِفُوا} الإسراف: مجاوزة الحد في الإنفاق. {وَلَمْ يَقْتُرُوا} من الإقتار، والقتر والتقتر والإقتار هو التضييق الذي هو ضد الإسراف، وفي "المختار": وقتر على عياله؛ أي: ضيق عليهم في النفقة، وبابه ضرب ودخل، وقتر تقتيرًا وأقتر أيضًا ثلاث لغات. {قَوَامًا} - بفتح القاف وكسرها - وقد قرىء بهما، والقوام - بالفتح - العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، والقوام - بالكسر - ما يقام به الشيء يقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يزيد عنها ولا ينقص. {وَلَا يَزْنُونَ} الزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي، أو ملك يمين كما مر، اهـ روح. {أَثَامًا} الآثام كالوبال والنكال وزنًا ومعنى، وجزاء الإثم الذي هو الذنب نفسه، قال الشاعر: جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى ... عُقُوْقًا وَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ

وفي "المختار": أثمه الله في كذا بالقصر يأثمه بضم الثاء وكسرها أثاما عده عليه إثمًا فهو مأثوم. وقال الفراء: أثمه الله يأثمه إثمًا وأثامًا جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم؛ أي: مجزى جزاء إثمه. {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} قال الراغب: التبديل جعل الشيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يقال للتغيير وإن لم تأت ببدله، اهـ "روح". {مَتَابًا} قال الراغب: متابًا مصدر ميمي؛ أي: التوبة التامة، وهي الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل، اهـ. {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} والزور: الكذب، وأصله تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. وقال الراغب: الأزور المائل الزور؛ أي: الصدر. وقيل للكذب زور؛ لكونه مائلًا عن جهته. {بِاللَّغْوِ} وقال الراغب: اللغو من الكلام ما لا يعتد به، هو يعد ذلاقه روبة وفكرٍ فيجري مجرى اللغا، وهو صوت العصافير نحوها من الطيور {كِرَامًا}: جمع كريم، يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه. قال الراغب: الكرم إذا وصف الله به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر، وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه. {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا} يقال: خر إذا سقط سقوطًا يسمع منه خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو. {صُمًّا}: جمع أصم، وهو فاقد حاسة السمع. {وَعُمْيَانًا}: جمع أعمى، وهو فاقد حاسة البصر. {هَبْ لَنَا}: وهو أمر من وهب يهب وهبًا وهبة، والهبة ضابطها أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض، ويوصف الله بالواهب والوهاب بمعنى أنه يعطي كلًّا على قدر استحقاقه.

{مِنْ أَزْوَاجِنَا}: جمع زوج، يقال لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له أو مضادًا زوج، وأما زوجة فلغة رديئة كما في "المفردات". {وَذُرِّيَّاتِنَا}: جمع ذرية، أصلها صغار الأولاد، ثم صار عرفًا في الكبار أيضًا. قال في "القاموس": ذرأ الشيء كثره، ومنه الذرية - مثلثة - لنسل الثقلين. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} منصوب على أنه مفعول {هَبْ}، وهي إما من القرار ومعناه أن يصادف قلبه من يرضاه، فتقر عينه عن النظر إلى غيره، ولا تطمح إلى ما فوقه، وإما من القر بالضم؛ وهو البرد، والعرب تتأذى من الحر، وتستريح إلى البرد، فقرور العين على هذا يكون كناية عن الفرح والسرور فإن دمع العين عند السرور بارد، وعند الحزن حار، فالمراد بالقرور المسؤول تفضيلهم بالفضائل الدينية، لا بالمال والجاه والجمال ونحوها، اهـ "روح". {لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} والإمام المؤتم به إنسانًا كان يقتدى بقوله وفعله، أو كتابًا، أو غير ذلك، محقًا كان أو مبطلًا، كما في "المفردات" وفي صيغته أربعة أوجه: الأول: أنه مصدر مثل قيام وصيام، فلم يجمع لذلك، والتقدير هنا: ذوي إمام. والثاني: أنه جمع إمامة مثل قلادة وقلاد. والثالث: أنه جع آم من أم يؤم. والرابع: أنه واحد أكتفي به عن أئمة، كما قال تعالى: {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}، اهـ "إعراب القرآن". {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قال القرطبي: الغرفة الدرجة الرفيعة؛ وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا، حكاه ابن شجرة. وقال الضحاك: الغرفة الجنة، اهـ. والغرف: رفع الشيء أو تناوله، يقال: غرفت الماء والمرق، وهي هنا اسم جنس أريد به الجمع؛ أي: يثابون أعلى منازل الجنة.

{وَيُلَقَّوْنَ} يقرأ بالتشديد، ومعناه يعطون، كما في قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، وبالتخفيف، ومعناه: يجدون ويصادفون، ففي "المصباح": لقيته ألقاه، من باب تعب لقيا، والأصل فعول، ولقى بالضم مع القصر، ولِقًا بالكسر مع المد والقصر، وكل شيء استقبل شيئًا أو صادفه فقد لقيه، اهـ. {تَحِيَّةً وَسَلَامًا} والفرق بين التحية والسلام أن التحية الدعاء بالتعمير، والسلام الدعاء بالسلامة من الآفات، اهـ "زكريا". وعبارة "الشهاب": قوله: الدعاء بالتعمير؛ أي: طول العمر والبقاء؛ لأن التحية أصل معناها قول حياك الله وأبقاك، وهي مشتقة من الحياة، والمراد من الدعاء به التكريم وإلقاء السرور، وإلا فهو متحقق لهم، اهـ. وعبارة "أبي السعود": معنى يلقون فيها تحية وسلامًا؛ أي: تحييهم الملائكة، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات، اهـ. {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} وفي المختار: عبأ الطيب والمتاع هيأه، وبابه قطع، وعبأه تعبئة مثله، والعبء - بالكسر - الحمل، وجمعه أعباء، وما عبأ به؛ أي: ما بالى به، وبابه قطع"، اهـ. {لِزَامًا} مصدر لازم الرباعي كقاتل قتالًا، والمراد به هنا اسم الفاعل، فهو مصدر أقيم مقام الفاعل، كما أقيم العدل مقام العادل. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: طباق السلب في قوله: {مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ}. ومنها: الحصر في قوله: {إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وسماها القدامي استعارة تخييلية، فالمستعار الاستواء، والمستعار منه كل جسم مستو، والمستعار له الحق عز وجل ليتخيل السامع عند سماع هذه اللفظة ملكًا فرغ من ترتيب

ممالكه، وتشييد ملكه، وجميع ما تحتاج إليه رعاياه، وجنده من عمارة بلاده، وتدبير أحوال عباده، استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة، فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هو متخيله من أمر المملكة الدنيوية عند سماع هذا الكلام، ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الإخبار بالفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما، وإن لم يكن ثم سرير منصوب، ولا جلوس محسوس، ولا استواء معقول لنا. فائدة: في الاستواء مذهبان: أحدهما: مذهب السلف، وهو لا يفسر الاستواء، بل يقول: إنه استواء يليق به سبحانه، لا نكيفه، ولا نمثله، وهو الأسلم الأعلم. وثانيهما: مذهب الخلف، وهو يفسره بالاستيلاء عليه بالتصرف فيه، وفي سائر المخلوقات. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بُرُوجًا}؛ لأنها في الأصل القصور العالية، استعيرت لمنازل الكواكب السيارة بجامع الارتفاع في كل. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}. ومنها: تقديم السجود على القيام في قوله: {سُجَّدًا وَقِيَامًا}؛ لرعاية الفاصلة مع أن السجود مؤخر عنه طبعًا، وليعلم أن القيام في الصلاة مقدم مع أن السجدة أحق بالتقديم. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}؛ لإفادة التهويل. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَعَمِلَ عَمَلًا}، وفي قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}. ومنها: الاستعارة البديعة في قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}؛ لأن

المراد أنهم لم يتغافلوا من قوارع النذر حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر، وهذا من أحسن الاستعارات. وفيها التقريع والتعريض للكافرين بأنهم صم عمي، لا ينتفعون بما يقرؤون، ولا يعتبرون بما يشاهدون، ولا يتجاوز آذانهم ما يسمعون. ومنها: الكناية في قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فإنه كناية عن الفرحة والمسرة، كما أن {الْغُرْفَةَ} كناية عن الدرجات العالية في الجنة، وفيها أيضًا نكتتان: الأولى: تنكير {أَعْيُنٍ}، وإنما جنح إلى تنكيره لأجل تنكير {قُرَّةَ}، والمضاف لا يمكن تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه؛ ليكون السرور غير متناه ولا محدود. الثانية: تقليل {أَعْيُنٍ}؛ أي: جمعها جمع قلة، وإنما قللها؛ لأن أعين المتقين قليلة بالنسبة إلى غيرهم، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. ومنها: المقابلة اللطيفة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار في قوله: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} مقابل قوله في أهل النار {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد: 1 - إثبات النبوة والوحدانية والنعي على عبدة الأوثان والأصنام، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذاك، مع ذكر شبهاتهم التي قالوها في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي القرآن، ثم تفنيدها. 2 - قصص بعض الأنبياء السالفين، وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر. 3 - العجائب الكونية من مد الظل، وجعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشًا، وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار، ومروج البحرين العذب الفرات والملح الأجاج، وجعل البروج في السماء، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا. 4 - الأخلاق والآداب من قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ...} إلى آخر السورة (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد تم تفسير سورة الفرقان بحمده وعونه في الساعة الخامسة من ليلة الجمعة المباركة من شهور سنة 23/ 2/ 1413 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الشعراء

سورة الشعراء سورة الشعراء مكية كلها عند الجمهور، إلا أربع آيات من آخرها نزلت بالمدينة؛ وهي قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} إلى آخر السورة. وهي (¬1) مئتان وسبع وعشرون آية، وألف ومئتان وتسع وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وخمس مئة واثنان وأربعون حرفًا. التسمية: واسمها سورة الشعراء، سميت باسم بعضها على عادته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه يسمي كل سورة ببعض ما فيها من الكلمات. فضلها: وورد في فضلها أحاديث (¬2): منها: ما أخرجه القرطبي في تفسيره عن البراء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصَّل، ما قرأهن نبي قبلي". وأخرج أيضًا عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصَّل نافلة". قال ابن كثير في تفسيره: ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها بسورة الجمعة. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الشعراء (¬3) .. كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وبعدد من كذب بعيسى، وصدق بمحمد" صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين. ولكنه ضعيف. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) البيضاوي.

المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - أن فيها بسطًا وتفصيلًا لبعض ما ذكر في موضوعات سالفتها. 2 - أن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم. 3 - أن كلتيهما ختمت بإيعاد المكذبين. وقال أبو حيان (¬2): ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها: أنه تعالى قال في آخر السابقة: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} ففيه إيعاد المكذبين، وقال في أول هذه إثر إخباره بتكذيبهم: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}، وفيه أيضًا إيعاد الكفرة المكذبين. الناسخ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله - في كتابه: "الناسخ والمنسوخ": جميع (¬3) هذه السورة محكم إلا قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)}، ثم نسخ في شعراء المسلمين، فاستثناهم بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} الآية، فصارت ناسخة للآيات التي قبلها، ومن الذكر هاهنا الشعر في الطاعة انتهى. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط بتصرف. (¬3) الناسخ والمنسوخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر سوء حال المشركين، وشدة عنادهم، وقبيح

[1]

لجاجهم .. سلّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنه ليس بالأوحد في الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر، فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم، وأغرقهم في اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {طسم (1)} الحروف المقطعة (¬1) في أوائل السور يجمعها قولك: سر حصين قطع كلامه، وأول ما قال أهل التفسير في حق هذه الحروف: الله أعلم بمراده؛ لأنها من الأسرار الغامضة كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: إن لكل كتاب سرًا، وسرّ القرآن في المقطعات. في "رياض الأذكار": والمعاني المتعلقة بالأسرار والحقائق لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه الله عليها من الراسخين في العلم، وهم العلماء بالله، فلا معنى للبحث عن مرتبة ليس للسان حظٌّ منها, ولا للقلم نصيب، وقيل: أقسم الله تعالى به. وقال أهل الإشارة (¬2): هو إشارة إلى طاء طَوْله تعالى في كمال عظمته، وإلى سين سلامته عن كل عيب ونقص، وهو منفرد في تنزهه عنه، وإلى ميم مجده في عزة كرم لا نهاية لها، وإشارة أيضًا إلى طاء طهارة قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن تعلقات الكونين، وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين، وإلى ميم مشاهدته لجمال رب العالمين، وإشارة أيضًا إلى طاء طيران الطائرين بالله، وإلى سين سير السائرين إلى الله، وإلى ميم مشي الماشين لله مشي العبودية، لا مشي التفخر والتكبر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[2]

ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف إن كان اسمًا للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: اذكر، أو اقرأ. وأما إن كان مسرودًا على نمط التعديد بطريق التحدي فلا محل له من الإعراب. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضّل وحمزة والكسائي وخلف وأبان (¬1): {طسم (1)} و {طس} النمل بإمالة الطاء فيهما، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفطين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بفتح الطاء مشبعًا، وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من هجاء سين {طسم (1)} في الميم، وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها، قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه فيما يجري وما لا يجري: أنه يجوز أن يقال: {طاسين ميم} بفتح النون وضم الميم، كما يقال: هذا معدي كرب، وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {ط س م} هكذا حروفًا مقطعة، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر. 2 - {تِلْكَ} مبتدأ، والإشارة به إلى السورة {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} خبر المبتدأ؛ أي (¬2): هذه السورة التي نحن بصددها آيات القرآن الظاهر إعجازه، وصحة أنه كلام الله سبحانه، ولو لم يكن كذلك لقدروا على الإتيان بمثله، ولما عجزوا عن المعارضة، فهو من أبان بمعنى بان أو ظهر، أو المبين للأحكام الشرعية وما يتعلق بها؛ أي: هذه آيات القرآن البيّن الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل، والغيّ والرشاد. 3 - و {لعل} في قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} للاستفهام (¬3) الذى يراد به الإنكار؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[4]

أي: أقاتل أنت نفسك يا محمد أسفًا وحزنًا على {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} بهذا الكتاب المبين. وقال العسكري: إنها للنهي، والمعنى على هذا: لا تبخع نفسك يا محمد ولا تهلكها أسى وحسرة على عدم إيمانهم. وقيل: إنها على معناها الأصلي؛ أي: للإشفاق؛ أي: الخوف، والله تعالى منزه عنه، فهو بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الإشفاق هنا بمعنى الأمر. والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح النخاع - بالنون كما في "القاموس" - وهو عرق مستبطن في فقار القفا، والمعنى عليه: أشفق يا محمد على نفسك، وخف أن تقتلها بالحزن بلا فائدة، وهو حث على ترك التأسف، وتصبير وتسلية له - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} مفعول له بحذف المضاف؛ أي: خيفة أن لا يؤمن قريش بذلك الكتاب المبين، فإن الخوف والحزن لا ينفع في إيمان من سبق حكم الله بعدم إيمانه، كما أن الكتاب المبين لم ينفع في إيمانه، فلا تهتمّ فقد بلّغت. والمعنى: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان؛ لأنه كان حريصًا على إيمان قومه، شديد الأسف لما يراه من إعراضهم. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى تأديب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لئلا يكون مفرطًا في الرحمة والشفقة على الأمة، فإنه يؤدي إلى الركون إليهم، وأن التفريط في ذلك يؤدي إلى الفظاظة وغلظ القلب، بل يكون مع الله مع المقبل والمدبر. وقرأ قتادة وزيد بن علي (¬1): {باخع نفسك} على الإضافة، وقرأ الباقون بالقطع. ونحو الآية قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. 4 - ثم بيّن (¬2): أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى، فقال: {إِنْ نَشَأْ} إيمانهم، أي: لو شئنا إيمانهم، وتعلقت به إرادتنا أزلًا {نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على مشركي قومك {مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} دالة على كمال قدرتنا، ملجئة لهم إلى الإيمان كإنزال الملائكة، أو بليّة قاسرة عليه كآية من آيات القيامة، ولكن سبق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

القضاء بأنّا لا ننزل ذلك {فَظَلَّتْ}؛ أي: فصارت؛ أي: فتظل {أَعْنَاقُهُمْ}؛ أي: رقابهم {لَهَا}؛ أي: لتلك الآية {خَاضِعِينَ}؛ أي: منقادين، فلا يكون أحد منهم يميل عنقه إلى معصية الله تعالى، ولكن لم نفعل؛ لأنه لا عبرة بالإيمان المبني على القسر والإلجاء كالإيمان يوم القيامة. وأصله: فظلوا لها خاضعين، فإن الخضوع صفة أصحاب الأعناق حقيقة، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع، وترك الخبر على حاله. وفيه بيان أن الإيمان والمعرفة موهبة خاصة خارجة عن اكتساب الخلق في الحقيقة، فإذا حصلت الموهبة نفع الإنذار والتبشير، وإلّا فلا، فليبك على نفسه من جبل على الشقاوة. وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وأبو عمرو في رواية هارون عنه (¬1): {إن يشأ ينزل} على الغيبة؛ أي: إن يشأ الله ينزل، وفي بعض المصاحف: {لو شئنا لأنزلنا} وقرأ الجمهور: {فَظَلَّتْ} ماضيًا بمعنى المستقبل؛ لأنه معطوف على {نُنَزِّلْ} وقرأ طلحة {فتظلل}. وقال مجاهد وابن زيد والأخفش: معنى {أَعْنَاقُهُمْ}: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس؛ أي: جماعة، وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومقدّموهم شبّهوا بالأعناق، وقيل: أريد به الجارحة، فقال ابن عيسى: هو حينئذ على حذف مضاف؛ أي: أصحاب الأعناق حيث قال: {خَاضِعِينَ}، ولم يقل: خاضعة، وقرأ عيسى وابن أبي عبلة: {خاضعة}. ومعنى الآية: أي لو شئنا أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظلة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها .. لفعلنا, ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريًا لا قسريًا، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}. ومن ثم نفذ قدرنا، ومضت حكمتنا، وقامت حجتنا على الخلق بإرسال ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير.

[5]

الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم. والخلاصة: أن القرآن، وإن بلغ في البيان الغاية، غير موصل لهم إلى الإيمان, فلا تبالغ في الأسى والحزن، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئًا فحزنك عليهم لا يجدي نفعًا، وقد كان في مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعًا لا كرهًا، ومن جرّاء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل، لكنهم ضلوا وأضلوا، وما ربك بظلام للعبيد. 5 - ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيدًا لصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرص على إسلامهم، فقال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ}؛ أي: أهل مكة وما يجيئهم {مِنْ ذِكْرٍ}: {من}: زائدة لتأكيد العموم، وفي قوله: {مِنَ الرَّحْمَنِ} ابتدائية؛ أي: بوحيه إلى نبيه، دل (¬1) هذا الاسم الجليل على أن إتيان الذكر من آثار رحمة الله تعالى على عباده؛ أي: وما يأتي أهل مكة تذكير وموعظة من المواعظ القرآنية مبتدأ مجيئه من الرحمَن {مُحْدَثٍ}؛ أي: مجدّد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير، فلا يلزم حدوث القرآن؛ أي: فهو محدث التنزيل، وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول، {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}؛ أي: إلّا جدّدوا إعراضًا عن ذلك الذكر، وعن الإيمان به، وإصرارًا على ما كانوا عليه؛ أي (¬2): وما يجدد الله سبحانه لهم بوحيه موعظة وتذكيرًا إلَّا جدّدوا إعراضًا عنه، وكفرًا به. والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، محله النصب على الحالية من مفعول {يَأْتِيهِمْ} بإضمار قد، وبدونه على الخلاف المشهور في محله؛ أي: ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلّا حال كونهم معرضين عنه. وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأنبياء. فإن قلت: لم قال هناك {مِنْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

[6]

ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال هنا {مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ}؟ قلت: غاير بينهما ليوافق كل ما في سياقه؛ لأنه ذكر هناك: {مِنْ رَبِّهِمْ} لموافقة قوله بعد ذلك: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ}، وقال هنا: {مِنَ الرَّحْمَنِ} ليوافق قوله فيما بعد: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}؛ لأن الرحمن والرحيم من مادة واحدة، فهما أخوان، اهـ من "فتح الرحمن" بتصرف. والمعنى: أي (¬1) وما يجيء هؤلاء المشركون الذين يكذبونك، ويجحدون ما أتيتهم به ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلَّا أعرضوا عن استماعه، وتركوا إعمال الفكر فيه، ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك، وهم أهل الذكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون، وخلاصة ذلك أنه لا يجدّد لهم موعطة وتذكيرًا إلَّا جدّدوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء. 6 - ثم أكد إعراضهم بقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} بالذكر عقب الإعراض، فالفاء للإفصاح؛ أي: جعلوه تارة سحرا، وأخرى شعرًا، ومرة أساطير الأولين؛ أي (¬2): فقد كذبوا بالذكر الذي جاءهم تكذيبًا صريحًا، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب؛ لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه، ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشد منه؛ وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه؛ وهو الاستهزاء، كما يدل عليه قوله: {فَسَيَأْتِيهِمْ} البتة من غير تخلف أصلًا، والفاء للتفريع؛ أي: لإعراضهم المؤدي إلى التكذيب المؤدّى إلى الاستهزاء يأتيهم {أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: أخبار (¬3) الذكر الذي كانوا يستهزئون به، ومآله وعواقبه من العقوبات العاجلة والآجلة التي بمشاهدتها يقفون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[7]

على حقيقة حال القرآن بأنه كان حقًا أو باطلًا، وكان حقيقًا بأن يصدق ويعظم قدره، أو يكذب فيستخف أمره، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء، وفيه تهويل له؛ لأن النبأ لا يطلق إلّا على خبر خطير له وقع عظيم. أي: فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله تعالى، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله في الدنيا والآخرة، كما قال {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}، وقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، ونحو الآية قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)}، وقصارى ذلك أنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق، وأنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل، بلا تدبر ولا تفكير في العاقبة. 7 - وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم .. ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها في الآفاق، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة (¬1) فيه للإنكار التوبيخي، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أفعل المكذبون من قريش ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا {إِلَى الْأَرْضِ}؛ أي: إلى عجائبها الزاجرة عما فعلوا، الداعية إلى الإقبال إلى ما أعرضوا {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} بعد أن لم يكن فيها نبات {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: جنس ونوع وصنف {كَرِيمٍ}؛ أي: حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام. قال أهل التفسير: {كَمْ}: خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية، والجمع بينها وبين {كُلِّ}؛ لأن {كُلِّ} للإحاطة بجميع أزواج النبات، و {كَمْ} لكثرة المحاط به من الأزواج. و {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: صنف تمييز، والكريم من كل شيء مرضيه ومَحْمُودُه، والمعنى: كثيرًا من كل صنف مرضي كثير المنافع أنبتنا فيها، وتخصيص النبات النافع بالذكر دون ما عداه من أصناف الضارّ، وإن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

كان كل نبت متضمنا لفائدة وحكمة؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معًا. واعلم: أنه سبحانه كما أنبت من أرض الظاهر كل صنف ونوع من النبات الحسن الكريم، كذلك أنبت في أرض قلوب العارفين كل نبت من الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص والأخلاق الكريمة، كما قال عليه السلام: "لا إله إلَّا الله ينبت الإيمان كما ينبت البقل"، قال أبو بكر بن طاهر: أكرم زوج من نبات الأرض آدم وحواء، فإنهما كانا سببًا في إظهار الرسل والأنبياء والأولياء والعارفين. اهـ. وقال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم. والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون وأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله، وتكذيب رسوله، ولم يتأملوا في الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلي الكبير؟! والخلاصة: كيف اجترؤوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه، وإلهه هو الذي خلق الأرض، وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين، وتسترعي أنظار الغافلين. 8 - ثم بيّن أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر، وعدموا التأمل والنظر في الأكوان، ومن ثم فهم جاحدون، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنبات المذكور، أو في كل واحد من تلك الأصناف {لَآيَةً} عظيمة دالة على كمال قدرة منبتها، وغاية وفور علمه، ونهاية سعة رحمته، موجبة للإيمان، زاجرة عن الكفر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - {مُؤْمِنِينَ} مع ذلك؛ لغاية تماديهم في الكفر والضلال وانهماكهم في الغي والجهالة. و {كَانَ} (¬1) صلة عند سيبويه؛ لأنه لو حمل على معنى ما كان أكثرهم في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

علم الله وقضائه لتوهم كونهم معذورين في الكفر بحسب الظاهر، وبيان موجبات الإيمان من جهته تعالى يخالف ذلك. قال بعضهم: قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ ...} الآية، ونظائره يدل على المعنى الثاني، ولا يلزم من ذلك المعذورية؛ لأنهم صرفوا اختيارًا إلى جانب الكفر والمعصية، وكانوا في العلم الأزلي غير مؤمنين بحسب اختيارهم ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم؛ لأن منهم من سيؤمن. والمعنى (¬1): أنّ في ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولي الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها، وجعل فيها الحدائق الغنّاء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم، ويعيدهم سيرتهم الأولى، ولكن أكثر الناس غفلوا عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله درّ القائل: تَأَمَّلْ فِيْ رِيَاضِ الْوَرْدِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ ... عَلَى أَهْدَابِهَا ذَهَبٌ سَبِيْكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ والخلاصة: أن في هذا وأمثاله لآية عظيمة، وعبرة جليلة دالة على ما يجب الإيمان به، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان, بل تمادوا في الكفر والضلالة، وانهمكوا في الغي والضلالة، وفي هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم. 9 - ثم بشّره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه، وإظهاره عليهم، فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على الانتقام من الكفرة {الرَّحِيمُ} المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يأخذهم بغتة. وقال في "كشف الأسرار": يرحم المؤمنين الذين هم الأقل بعد الأكثر. وفي "التأويلات النجمية": بعزته قهر الأعداء العتاة، وبرحمته ولطفه أدرك أولياءه بجذبات العناية. اهـ. ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

والمعنى: أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره، والقادر على كل ما يريد وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك، وإشراكهم بي، وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته، بل يغفر له حوبته. والخلاصة: أن ربك عزَّ كل شيء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوي عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر. وهذه الآية كرّرها (¬1) في ثمانية مواضع: أولها في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، ثم في ذكر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يذكر صريحًا إشارة إلى أنه منتقم من أعدائه، ورحيم بأوليائه في كل زمان، وفي كل أمة من الأمم السالفة واللاحقة. قصص موسى عليه السلام 10 - وجملة قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ...} إلخ مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة وقت ندائه تعالى وكلامه موسى؛ أي: ليلة رأي الشجرة والنار حين رجع من مدين، وذكرهم يا محمد بما جرى مع قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه، وحذّرهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم. و {أَنِ} في قوله: {أَنِ ائْتِ} مفسرة بمعنى: أي، والإتيان (¬2): المجيء بسهولة، والمعنى: وإذ قال ربك يا موسى ائت {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، وكان بنو إسرائيل في ذلك الوقت ست مئة ألف وثلاثين ألفًا، ومدة استعبادهم أربع مئة سنة {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بدل من {الْقَوْمَ}، أو عطف بيان له، والاقتصار على القوم؛ للإيذان بشهرة أن ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

[11]

فرعون أول داخل في الحكم. والمعنى (¬1): واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبني إسرائيل باستعبادهم وذبح أبنائهم، قوم فرعون ذي الجبروت والطغيان والعتوّ والبهتان؛ ليكون لهم في ذلك عبرة، لو تذكروا فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم؛ إذ ابتلعهم اليمّ، وأغرقوا جميعًا، ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه من القصة كما أشرنا إليه آنفًا. 11 - ثم اتبع ذكر إرساله عليه السلام بإنذارهم وتسجيل الظلم عليهم، وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة، ومن أمنهم العواقب، وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله تعالى، فقال: {أَلَا يَتَّقُونَ}؛ أي: قال الله سبحانه لموسى: ألا يتقي هؤلاء القوم ربهم، ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به. وهذا (¬2) استئناف لا محل له من الإعراب. و {أَلَا}: حرف تحضيض على الفعل؛ أعني: التقوى، أتبعه إرساله إليهم إنذارًا لهم، وتعجيبًا من غلوهم في الظلم وإفراطهم في العدوان؛ أي: ألا يخافون الله، ويصرفون عن أنفسهم عقابهم بالإيمان والطاعة. وقيل: المعنى: قل لهم: ألا تتقون. وجاء بالياء التحتية؛ لأنهم غيبٌ وقت الخطاب. وقرأ الجمهور (¬3): {أَلَا يَتَّقُونَ} بالياء على الغيبة، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة وعبيد بن دمير وأبو حازم بتاء الخطاب على طريقة الالتفات إليهم إنكارًا وغضبًا عليهم وإن لم يكونوا حاضرين؛ لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم، قال ابن عطية: معناه: قل لهم، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم، وأمرهم بالتقوى اهـ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[12]

12 - {قَالَ}؛ أي: موسى إظهارًا لعجزه، وطلبًا للمعونة، وهذا (¬1) استئناف بياني، أنه قيل: فماذا قال موسى؟ فقيل: قال موسى تضرعًا إلى الله تعالى يا {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ} والخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة {أَنْ يُكَذِّبُونِ}؛ أي: أن ينكروا نبوتي وما أقول من أول الأمر. قال بعضهم: خوفه كان شفقة عليهم، وأصله يكذبوني، فحذفت ياء المتكلم استغناء بكسر نون الوقاية، ومثلها (¬2): {أَنْ يَقْتُلُونِ}، {سَيَهْدِينِ}، {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، {وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]، {فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، {ثُمَّ يُحْيِينِ}، {وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108]، {كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117]، فهذه ثمان آيات أثبت الياء في جميعها يعقوب في الحالين. 13 - {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} معطوفان على {أَخَافُ}؛ أي: يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة، واللسان: الجارحة وقوّتها. قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} يعني من قوة لساني، فإن العقدة لم تكن في الجارحة، وإنما كانت في قوّتها التي هي النطق بها كما في "المفردات"، والمراد هنا القوّة التي هي النطق. وقرأ الجمهور (¬3): {وَيَضِيقُ} و {لا ينطلق} بالرفع فيهما عطفًا على {أَخَافُ}، فالمعنى: أنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، أو على الاستئناف، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصبهما عطفًا على {يُكَذِّبُونِ}، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف، قال الفرّاء: كلا القراءتين له وجه، قال النحاس: الوجه الرفع؛ لأن النصب عطف على {يُكَذِّبُونِ}، وهذا بعيد اهـ. وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب {وَيَضِيقُ} ورفع {وَلَا يَنْطَلِقُ}، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر؛ لأن اللسان إذ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط.

[14]

ذاك يتلجلج، ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر لم ينطلق اللسان. ومعنى الآية: أي (¬1) قال موسى: رب إني أخاف تكذيبهم إياي، فيضيق صدري تأثرًا منه، ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك كما يرى كثيرًا من ذوي اللسن والبلاغة إذا اشتدّ بهم الغمّ، وضاق منهم الصدر. تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم. وفي هذا (¬2): تمهيد العذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة، ومن ثم قال: {فَأَرْسِلْ} جبريل {إِلَى} أخي {هَارُونَ} ليكون رسولًا مصاحبًا لي في دعوة فرعون وقومه، فإنه أفصح منى لسانًا، وكان هارون إذ ذاك بمصر، وموسى في المناجاة في الطور. 14 - ثم ذكر سببًا آخر في الحاجة إلى طلب العون، وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرساله، فقال: {وَلَهُمْ}؛ أي: لقوم فرعون {عَلَيَّ}؛ أي: بذمتي {ذَنْبٌ}؛ أي: جزاء ذنب وموجبه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد به: قتل القبطي الذي هو خبّاز فرعون بالوكزة التي وكزها دفعًا عن القبطي، وإنما سماه ذنبًا على زعمهم {فَأَخَافُ} إن أتيتهم وحدي {أَنْ يَقْتُلُونِ} بمقابلته قبل أداء الرسالة كما ينبغي، فيفوت المقصود من الرسالة، وأما هارون فليس له هذا الذنب، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلًا عن الفضلاء. قال بعضهم (¬3): ليس بعجب طريان خوف الطبيعة وصفات البشرية على الأنبياء، فالقلب ثابت على المعرفة. واعلم أن هذا وما قبله ليس تعللًا وتوقفًا من جانب موسى، وتركًا للمسارعة إلى الامتثال، بل هو استدفاع للبلية المتوقعة قبل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[15]

وقوعها، واستظهار في أمر الدعوة، وحقيقته: أن موسى عليه السلام أظهر التلوين من نفسه ليجد التمكين من ربه وقد أمنه الله، 15 - وأزال عنه كل كلفة حيث {قَالَ} تعالى {كَلَّا}؛ أي: ارتع عما تظن يا موسى، فإنهم لا يقدرون على قتلك به؛ لأني لا أسلطهم عليك، بل أسلطك عليهم {فَاذْهَبَا}؛ أي: اذهبب أنت والذي طلبت وهو هارون، فالخطاب إليهما على تغليب الحاضر، وفي ضمن هذا الجواب دليل على إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه؛ أي: إذهبا ولا تخافا من القبط حال كونكما متلبسين {بِآيَاتِنَا} التسع التي هي دلائل القدرة، وحجة النبوة، وهو رمز إلى دفع ما يخافه {إِنَّا مَعَكُمْ} تعليل للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة، وأجراهما مجرى الجمع حيث قال: {مَعَكُمْ}؛ لكون الاثنين أقل الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة، أو لكونه أراد موسى وهارون وفرعون وقومه، فمع موسى وهارون بالنصر والعون، ومع فرعون بالقهر والكسر، أو لكون المراد هما مع بني إسرائيل. و {مَعَكُمْ} خبر أول لـ {إن} {مُسْتَمِعُونَ}؛ خبر ثان لها، أو هو الخبر وحده، و {مَعَكُمْ} ظرف لغو متعلق به، وحقيقة الاستماع طلب السمع بالإصغاء، وهو تعالى منزه عن ذلك، فاستعير للمسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات من غير إصغاء. والمعنى: سامعون لما يجري بينكما وبينه، فأظهركما عليه. مثَّل حاله سبحانه بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يسمع ما يجري بينهم؛ ليمدّ الأولياء منهم، ويظهرهم على الأعداء مبالغة في الوعد بالإعانة، وجعل الكلام استعارة تمثيلية؛ لكون وجه الشبه هيئة منتزعة من عدة أمور، كما سيأتي في مبحث البلاغة. 16 - {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ}؛ أي: فائت أنت وأخوك هارون فرعون اللعين؛ وهو (¬1) الوليد بن مصعب، وكنيته أبو العباس. وقيل: اسمه مغيث، وكنيته أبو مرّة. قيل: إنه عاش أربع مئة وستين سنة. وقيل فوق ذلك {فَقُولَا لَهُ}؛ أي: لفرعون {إِنَّا}؛ أي: إنّ كل واحد منا {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إليك وإلى قومك. وإفراد الرسول لاتحادهما بسبب الأخوة واتفاقهما على شريعة واحدة، أو لأن المعنى: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

أن كل واحد منا رسول رب العالمين. وعبارة "النسفي" هنا (¬1): ولم يثنّ الرسول هنا كما ثنّى في قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}؛ لأن الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثمة بمعنى المرسل، فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هنا بمعنى الرسالة، فيستوي في الوصف به الواحد والتثنية والجمع، كقول الشاعر: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُوْنَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُوْلِ أي: برسالة، ولكن لا بد من تقدير مضاف على هذا التأويل، والتقدير: إنّا ذووا رسالة رب العالمين، أو لأنهما لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد، أو أريد أن كل واحد منا. اهـ انتهت بزيادة من "البيضاوي". 17 - و {أَنْ} في قوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)} مفسرة بمعنى: أي؛ لتضمن (¬2) الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، والإرسال هنا التخلية والإطلاق، أي: أطلقهم وخلّ سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكن آبائهم، وكان فرعون استعبدهم أربع مئة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مئة وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى من محل المناجاة جبل الطور إلى مصر، وهارون كان بها، فلما تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلًا، ودقّ موسى الباب بعصاه، ففزع البوابون، وقالوا: من بالباب؟ فقال موسى: أنا رسول رب العالمين، فذهب البواب إلى فرعون، فقال: إن مجنونًا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين، فأذن له في الدخول من ساعته - كما قاله السدي - أو ترك حتى أصبح ثم دعاهما، فدخلا عليه، وأدّيا رسالة رب العالمين. وقال قتادة: إنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البوّاب: هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له حتى نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة. وروى وهب وغيره (¬3): أنهما لمّا دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) القرطبي.

[18]

سباعًا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سوّاسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتُبصبِصُ إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك. فقال: من أنتما؟ قالا: إنا رسول رب العالمين، فعرف موسى؛ لأنه نشأ في بيته، فشتمه، 18 - فعند ذلك {قَالَ} فرعون لموسى على سبيل الامتنان: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا}؛ أي: في منازلنا وحجرنا حالة كونك {وَلِيدًا}؛ أي: طفلًا صغيرًا، سمّي الصبي وليدًا لقربه من الولادة، وهو فعيل بمعنى مفعول، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: ألم تكن صغيرًا، فربّيناك في منازلنا وبيوتنا, ولم نقتلك في جملة من قتلنا {وَلَبِثْتَ}؛ أي: جلست {فِينَا}؛ أي: بيوتنا {مِنْ عُمُرِكَ} حال من {سِنِينَ}؛ أي: جلست في بيوتنا سنين من عمرك وحياتك، وأنعمنا عليك ردحًا من الزمن، ثم تقابل الإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة، فمتى هذا الذي تدّعيه. روي (¬1): أنه لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة، ثم بقي بعد الغرق خمسين سنة، فيكون عمر موسى مئة وعشرين سنة. قال الراغب: العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة قليلة أو كثيرة كما سيأتي. وقرأ أبو عمرو في رواية: {من عمرك} بإسكان الميم. 19 - ثم قرر بقتل القبطي، فقال: {وَفَعَلْتَ} يا موسى {فَعْلَتَكَ} القبيحة {الَّتِي فَعَلْتَ} ببعض خواصي. والفعلة - بالفتح - المرة الواحدة. يعني: قتل القبطي الذي كان خباز فرعون، واسمه: فاتون. وبعدما عدد نعمته عليه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال .. نبهه بما جرى عليه من قتل خبازه وعظمه. قال ابن الشيخ: تعظيم تلك الفعلة يستفاد من عدم التصريح باسمها الخاص، فإن تنكير الشيء وإبهامه قد يقصد به التعظيم، وقوله: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[20]

{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حال من إحدى التاءين؛ أي: والحال أنك من المنكرين لنعمتي، والجاحدين لحق تربيتي، حيث عمدت إلى رجل من خواصي، والمعنى: فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منا نفسًا. وقرأ الجمهور (¬1): {فَعْلَتَكَ} - بفتح الفاء - إذ كانت وكزة واحدة، وقرأ الشعبي بكسر الفاء يريد الهيئة؛ لأن الوكزة نوع من القتل. وخلاصة ما سلف (¬2): أنه عدد نعماءه عليه أولًا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال، ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه، وهو من خواصه، وهو بهذا أيضًا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله، 20 - فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية؛ لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها في توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا {قَالَ} موسى {فَعَلْتُهَا}؛ أي: تلك الفعلة {إِذًا}؛ أي: حين فعلت، وهو حرف جواب فقط؛ لأن ملاحظة المجازاة هاهنا بعيدة؛ أي: قال موسى مجيبًا لفرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت، وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك {مِنَ الضَّالِّينَ}؛ أي: من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه، فإني إنما تعمدت الوكز للتأديب، لا القتل، فأدى ذلك إلى القتل. وقيل: {مِنَ الضَّالِّينَ} عن طريق الصواب، وقيل: من المخطئين. وقرىء (¬3): {من الجاهلين} والمعني: من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه، أو من المخطئين؛ لأنه لم يتعمد قتله، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز؛ لأنه أراد به التأديب، أو الناسين، نظير قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}. وقيل: المعنى: من الضالين عما أتاني الله بعدها من العلم والرسالة، وربأ بمحل النبوة عن تلك الصفة التي أطلقها عليه فرعون، وهي قوله له: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، فقال: {مِنَ الضَّالِّينَ}؛ أي: من المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البيضاوي.

[21]

21 - {فَفَرَرْتُ}؛ أي: ذهبت من بيتكم هاربًا {مِنْكُمْ} إلى مدين حذرًا على نفسي {لَمَّا خِفْتُكُمْ} أن تصيبوني بمضرة، وتؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي من العقاب؛ لأني قتلت القتيل خطأ، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرًا، وروي عن حمزة: {لما خفتكم} - بكسر اللام، وبما المصدرية - أي: لتخوفي منكم، وقرأ الجمهور بتشديد الميم ظرفًا بمعنى حين. {فَوَهَبَ لِي رَبِّي} حين رجعت من مدين {حُكْمًا}؛ أي: علمًا وفهمًا، أو نبوةً، وقال الزجاج: المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إليكم بعد تلك الفعلة. وفي "فتح الرحمن" {حُكْمًا}؛ أي: نبوة، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول، وقرأ عيسى: {حُكُمًا} - بضم الكاف - والجمهور بالإسكان، والحكم: النبوة. والمعنى: أي فخرجت هاربًا منكم حين توقعت مكروهًا يصيبني حين قيل لي: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} فوهب لي ربي علمًا بالأشياء على وجه الصواب، وجعلني من المرسلين من قبله لهداية عباده، وإرشادهم إلى النجاة من العذاب. وخلاصة ما قال (¬1): إن القتل الذي توبخني به لم يكن مقصودًا لي، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فراري، وإن أنتم أسأتم إلى فقد أحسن إلى ربي فوهب لي فهم الأمور على حقائقها، وجعلني من زمرة عباده المخلصين. 22 - ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة، فقال: {وَتِلْكَ}؛ أي: التربية المدلول عليها بقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ}؛ أي: تمن بها عليّ ظاهرًا، وهي في الحقيقة {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: وسبب (¬2) تلك النعمة في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقصدك إياهم بذبح أبنائهم؛ أي: فإن السبب في وقوعي عندك، وحصولي في تربيتك تعبيدك بني إسرائيل، يعني: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

لو لم يفعل فرعون ذلك؛ أي: قهر بني إسرائيل وذبح أبناءهم .. لتكفلت أم موسى بتربيته، ولما قذفته في اليم، حتى يصل إلى فرعون، ويربى بتربيته، فكيف يمتن عليه بما كان بلاؤه سببًا له، فقوله: {تِلْكَ}: مبتدأ، و {نِعْمَةٌ}: خبرها، و {تَمُنُّهَا عَلَيَّ}: صفة، و {أَنْ عَبَّدْتَ}: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهي في الحقيقة تعبيد قومى، يقال: عبدته إذا أخذته وقهرته وذللته. رد موسى عليه السلام أولًا ما وبخه فرعون قدحًا في نبوته، ثم يرجع إلى ما عده عليه نعمة، ولم يصرح برده حيث كان صدقًا غير قادح في دعواه، بل نبه على أن ذلك كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببًا عنها، وهي تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم. وقرأ الضحاك (¬1): {وتلك نعمة ما لك أن تمنها}، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون، ونقض كلامه كله. وقيل: هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة علي من حيث أن عبدت غيري، وتركتني واتخذتني ولدًا, ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري. وقيل: الكلام على تقدير (¬2) همزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أتمن علي أن ربيتني، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة، أو يريد: كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي، ومن أهين قومه فقد ذل، فتعبيد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي؛ ولو لم تستعبدهم، ولم تقتل أولادهم .. لم أرفع إليك حتى تربيني وتكفلني، ولكان من أهلي من يربيني، ولم يلقوني في اليم. وخلاصة ذلك (¬3): أفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسألت به إلى مجموعهم؟ فهو ليس بشيء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع، وكأنه قال: إن هذا ليس بنعمة؛ لأن الواجب عليك أن لا تقتلهم، ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي.

[23]

فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص، وتنسى استعباد الشعب كله. 23 - ولما دخل موسى وهارون على فرعون، وقالا له: إنا رسولا رب العالمين، أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق، وإرشادك إلى طريق الرشد، وغلباه بالحجة .. رجع فرعون إلى معارضة موسى في قوله: {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كما بينه سبحانه بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ} لموسى: إنك تدعي أنك رسول رب العالمين {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} {ما}: استفهامية؛ أي: أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله، وما حقيقته الخاصة، ومن أي جنس هو؟ منكرًا لأن يكون للعالمين رب سواه؛ إذ كان قد قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، ولم يقل فرعون: ومن رب العالمين؛ لأنه كان منكرًا لوجود الرب، فلا ينكر عليه التعبير بـ {مَا}؛ أي (¬1): يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، وهو سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية، 24 - فلهذا عدل موسى عن جوابه، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها، كما بينه سبحانه بقوله: {قَالَ} موسى مجيبًا له بما يصح في وصفه تعالى رب العالمين الذي أرسلني هو سبحانه {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: وما بين النوعين من الهواء؛ أي: هو خالق العالم العلوي، وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات والعالم السفلي، وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات، وما بين ذلك من هواء وطير {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أنه خالقهما، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لكم، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب. والإيقان (¬2): العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال: الله موقن، فمعنى العلم بالله العلم به من حيث الارتباط بينه وبين الخلق، وإنشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية؛ إذ منه ما لا توفيه الطاقة البشرية، وهو ما وقع فيه الكمَّل في ورطة الحيرة، وأقروا بالعجز عن حق المعرفة. فإن قلت: كيف علق كونه رب ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النسفي.

[25]

السموات والأرض يكون فرعون وقومه موقنين، مع أن هذا الشرط منتف والربوبية ثابتة؟ قلت: معناه: إن كنتم موقنين أن السموات والأرض موجودات، وهذا الشرط موجود. أو المعنى (¬1): إن كنتم موقنين بالأشياء المحققين لها بالنظر الصحيح الذي يؤدّي إلى الإيقان .. علمتم أن العالم عبارة عن كل ما يعلم به الصانع من السموات والأرض وما بينهما، وأن ربها هو الذي خلقها، ورزق من فيها، ودبر أمورها، فهذا تعريفه، وجواب سؤالكم لا غير، والخطاب في {كُنْتُمْ} لفرعون وأشراف قومه الحاضرين؛ وهم القبط. 25 - فلما قال ذلك موسى عجب فرعون من كلام موسى، والتفت إلى الملأ حوله معجبًا لهم من ذلك المقال، ومتحيرًا فيه، كما بيّنه سبحانه بقوله: {قَالَ} فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ}، من أشراف قومه القبطيين، قال ابن عباس: كانوا خمس مئة رجل، عليهم الأساور التي لا يلبسها إلا السلاطين {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ما يقول في جوابه، فقد سألته عن حقيقته، وهو يذكر أفعاله وآثاره، أو (¬2) لأنهم يزعمون قدمهما، وينكرون حدوثهما، وأن لهما ربًا، 26 - فاحتاج موسى إلى أن يستدل بما شاهدوا حدوثه وفناءه، فاستدل به فـ {قَالَ} موسى - زيادة في البيان، وحطًا له عن مرتبة الربوبية إلى مرتبة المربوبية؛ لأنه كان يدّعي الربوبية -: رب العالمين هو {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: خالقكم وخالق آبائكم الأولين. قيل (¬3): إن فرعون كان يدّعي الربوبية على أهل عصره وزمانه، فلم يدع ذلك على من كان قبله، فبين بهذه الآية أن المستحق للربوبية هو رب كل عصر وزمان. وقد انتقل (¬4) بهم موسى من النظر في الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر في الأنفس وما فيها من عجيب الصنع، فإن التناسل المستمر في النبات ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[27]

والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر في الآفاق. 27 - ولما لم يستطع ردًا لما جاء به، وخاف من قومه تأثرًا بما يقول موسى أورد ما يشكك قومه في حسن تقديره للأمور، وفهمه لما يقول، فـ {قَالَ}؛ أي: فرعون من سفاته، وصرفًا لقومه عن قبول الحق، مخاطبًا لخاصة قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}؛ أي: لا عقل له؛ إذ يقول قولًا لا نعرفه ولا نفهمه، فهو يدعي أن ثمة إلهًا غيري، وسماه رسولًا على السخرية، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعًا من أن يكون مرسلًا إلى نفسه. وقرأ مجاهد وحميد الأعرج: {أَرسل إليكم} بالبناء للفاعل؛ أي: أرسله ربه إليكم. 28 - ثم وصف موسى الإله بأنه خالق الأكوان، ورب الزمان والمكان حيث {قَالَ}؛ أي: موسى: رب العالمين هو {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: هو خالق موضع طلوع الشمس وغروبها ووقتهما وما بينهما، فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع، تنتظم به أمور الكائنات، وكل ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} شيئًا من الأشياء، أو من جملة من له عقل وتمييز .. علمتم أن الأمر كما قلته، وأن لا جواب فوقه، واستدللتم بالأثر على المؤثر، وفيه تلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، متصفون بما رموه بهِ عليه السلام من الجنون، فمن كمال ضدّية موسى وفرعون، وكذا القلب والنفس، يعد كل منهما ما يصدر من الآخر من الجنون، والمعنى: إن كنت يا فرعون أنت ومن معك من العقلاء .. عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك. وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش: {رب المشارق والمغارب} على الجمع فيهما. فإن قلت (¬1): ذكر السموات والأرض مستوعب جميع المخلوقات، فما ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[29]

فائدة قوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}؟ قلتُ: فائدتهما تمييزهما في الاستدلال على وجود الصانع، أما الأول: فإن أقرب ما للإنسان نفسه وما يشاهده من تغييراته وانتقاله من ابتداء ولادته، وأما الثاني: فلما تضمنه ذكر المشرق والمغرب وما بينهما من بديع الحكمة في تصريف الليل والنهار واختلافهما، وتغيير الفصول بطلوع الشمس من المشرق، وغروبها في المغرب على تقدير مستقيم في فصول السنة. فإن قلت (¬1): لمَ قال أولًا: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}، وقال ثانيًا: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}؟ قلتُ: لاطفهم أولًا بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}، فلما رأى عنادهم وشدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ عليهم في الرد، وعارضهم بمثل مقالهم بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}؛ لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه في قول فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}. 29 - ولما قامت الحجة على فرعون .. عدل إلى القهر واستعمال القوة، فتوعده بالسجن، ولم يقل: ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه اعترافًا بأن ثم إلهًا غيره، كما بينه سبحانه بقوله: {قَالَ} فرعون لشدة تمرده، وميلًا إلى العقوبة كما يفعله الجبابرة، وعدولًا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع، وغيظًا على نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله (¬2) كان دهريًا، أعتقد أن من ملك قطرًا، وتولى أمره بقوة طالعه .. استحق العبادة من أهله، فبألوهيتي وربوبيتي {لَئِنِ اتَّخَذْتَ} وجعلت لنفسك {إِلَهًا غَيْرِي}؛ أي: معبودًا غيري كما تدعيه {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} اللام فيه للعهد؛ أي: لأجعلنك من الذين عرفت أحوالهم في سجوني، فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا, ولذلك لم يقل: لأسجنك. وعبارة شيخ الإِسلام هنا (¬3): فإن قلت: لم عدل إلى هذه العبارة عن قوله: لأسجنك، مع أنه ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) فتح الرحمن.

[30]

أخصر منه؟ قلتُ: عدل إليه لإرادة تعريف العهد؛ أي: لأجعلنك ممن عرفت حالهم في سجني، وكان إذا سجن إنسانًا طرحه في هوة عميقة مظلمة، لا يبصر فيها ولا يسمع، انتهت. والمعنى: أي: قال له: لأجعلنك في زمرة الذين في سجوني على ما تعلم من فظاعة أحوالها وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل؛ لأنه إذا سجن أحدًا لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوة عميقة تحت الأرض وحده، وفي توعده بالسجن ضعف منه؛ لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعًا شديدًا، حتى كان اللعين لا يمسك بوله بعد ذلك. 30 - وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريًا، ويلجأ إلى المعجزات وخوارق العادات فـ {قَالَ}؛ أي: موسى لفرعون حين توعده بالسجن {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو للحال؛ أي: أتفعل بي ذلك السجن، ولو جئتك بشيء موضح لصدق دعواي، يعني: المعجزة، فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع، والدلالة على صدق مدعي نبوته؛ أي: أتفعل بي ذلك حالة كوني آتيًا بشيء مبين. وجعلها بعضهم للعطف على فعل محذوف؛ أي: أتفعل بي ذلك لو لم أجيء بشيء مبين، ولو جئتك به؛ أي: أتفعل به على كل حال من عدم المجيء والمجيء، وتقدم لنا الكلام على هذه {الواو} الداخلية على لو في مثل هذا السياق في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} فأغنى عن بسطه. وقال الحوفي (¬1): واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا ملتبس بها، اهـ والمعنى؛ أي: أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة واضحة على صدق دعواي، وهي المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته، وعلى صدق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[31]

دعوى من ظهرت على يديه. 31 - ولما سمع فرعون هذا من موسى .. طمع أن يجد موضع معارضة من موسى فـ {قَالَ}؛ أي: فرعون لموسى {فَأْتِ بِهِ}؛ أي: بذلك الشيء {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعوى الرسالة، وأن لك برهانًا عليها، وكان (¬1) في يد موسى عصًا من شجر الآس من الجنة، وكان آدم جاء بها من الجنة، فلما مات قبضها جبريل، ودفعها إلى موسى وقت الرسالة، 32 - فقال موسى لفرعون: ما هذه التي بيدي؟ قال فرعون: هذه عصا {فَأَلْقَى} موسى من يده {عَصَاهُ} قال ابن عباس: عصا موسى اسمها ماشا. وقيل: نبعة؛ أي: طرح موسى عصاه من يده {فَإِذَا هِيَ}؛ أي: تلك العصا {ثُعْبَانٌ}؛ أي: حية عظيمة صفراء ذكر {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر الثعبانية للناظرين بحركاته، وبسائر العلامات، وليس بتمويه كما يفعله السحرة. وروي: أنها لما صارت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال: بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى، فعادت عصًا كما كانت، ولا تناقض بين قوله هنا: {ثُعْبَانٌ}، وبين قوله في موضع آخر: {كَأَنَّهَا جَانٌّ}، وهو الصغير من الحيات؛ لأن خلقها خلق الثعبان العظيم، وحركتها وخفتها كالجان، والحية جنس يشمل الصغير والكبير، كما في قوله: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}. 33 - وروي: أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال: فهل لك غيرها؟ فأخرج موسى يده، فقال لفرعون. ما هذه؟ قال فرعون: هذه يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه، ثم نزعها {فَإِذَا هِيَ}؛ أي: تلك اليد {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} إليها؛ ذات بياض من غير برص، تضيء الوادي من شدة بياضها, لها شعاع كشعاع الشمس، كاد يغشي الأبصار وسد الأفق، تعجب الناظرين إليها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

34 - ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد، وذكر لأشراف قومه أمورًا ثلاثة: 1 - {قَالَ} فرعون {لِلْمَلَإِ}؛ أي: لأشراف قومه حال كونه مستقرين {حَوْلَهُ} فهو ظرف وضع موضع الحال، وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب كما سيأتي {إِنَّ هَذَا} الرجل يعني موسى {لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}؛ أي: فائق في علم السحر، والسحر تخيلات لا حقيقة لها، فالساحر المحتال المخيل بما لا حقيقة له. فإن قلت: أسند القول هنا إلى فرعون حيث قال: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} وأسند في سورة الأعراف إلى الملأ حيث قال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} فبين الآيتين معارضة، فما وجه الجمع بينهما؟ قلتُ: وجه الجمع بينهما أن فرعون قاله للحاضرين عنده، والحاضرون قالوه للغائبين عنه، فنظر هنا إلى قوله للحاضرين، وهناك إلى قول الحاضرين للغائبين، فبهذا يزول الإشكال. كما في "كشف الأسرار". والمعنى: أي قال فرعون لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروج عليهم بطلان ما يدعيه موسى: إن هذا الرجل لبارع في السحر، حاذق في الشعوذة، ومراده من هذا: أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر، لا من وادي المعجزات، 35 - ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به، والتنفير منه بقوله: 2 - {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ}؛ أي: من أرض مصر، ويتغلب عليكم {بِسِحْرِهِ}؛ أي: يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر، فيكثر أعوانه وأتباعه، ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم. 3 - {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}؛ أي: فماذا تشيرون به علي في دفعه ومنعه، أو فأي شيء تأمرونني به في شأنه؟ قهره سلطان المعجزة، وحيره حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مقام مشاورة عبيده بعدما كان مستقلًا بالرأي والتدبير، وأظهر

[36]

استشعار الخوف من استيلائه على ملكه. ونسبة الإخراج والأرض إليهم لأجل تنفيرهم عن موسى 36 - {قَالُوا}؛ أي: الملأ لفرعون {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}؛ أي: أخر أمر موسى وأخيه هارون حتى تنظر، ولا تعجل بقتلهما قبل أن يظهر كذبهما، حتى لا يسيء عبيدك الظن بك، وتصير معذورًا في القتل. من أرجأته إذا أخرته. وقيل: المعنى: احبسهما. وقرأ قالون: {أَرْجِهْ} بغير همز، وباختلاس كسر الهاء، وورش والكسائي بإشباع كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وبصلة الهاء المضمومة، أبو عمرو بضم الهاء مع الاختلاس، وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء مع الاختلاس، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء. {وَابْعَثْ}؛ أي: وأرسل {فِي الْمَدَائِنِ}؛ أي: في الأمصار والبلدان وأقطار مملكتكم، وفي "فتح الرحمن": هي مدائن الصعيد من نواحي مصر {حَاشِرِينَ}؛ أي: شُرَطًا يحشرون الناس، ويجمعونهم إليك. فـ {حَاشِرِينَ}: صفة لموصوف محذوف هو مفعول {ابعث} كما قدرنا. والشُرَط - بضم أوله وفتح ثانيه - جمع شُرْطة - بالضم وسكون الراء وفتحها -، وهم طائفة من أعوان الولاة معروفة كما في "القاموس"، والشَّرط - بالفتح - العلامة، ومنه سمى الشرط, لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. 37 - وذلك لظنهم أن السحرة إذا كثرت غلبوا موسى عليه السلام وكشفوا حاله {يَأْتُوكَ}؛ أي: الحاشرون {بِكُلِّ سَحَّارٍ}؛ أي: بليغ في صناعة السحر {عَلِيمٍ}؛ أي: فائق في معرفتها، يعارضوا موسى بمثل سحره، بل يفضلوا عليه، ويتضح للعامة كذبه، فتقتله حينئذ، وهذا تدبير النفس وإلقاء الشيطان في دفع الحق الصريح، وكل تدبير هكذا في كل عمر فصاحبه مدمَّر البتة، وإنما يجيء خبث القول والفعل لمن خبث النفس؛ إذ كل إناء يترشح بما فيه، ولو ترك فرعون وقومه التدبير في أمر موسى، وقابلوه بالقبول .. لسلموا من كل آفة، لكن منعهم حب الجاه عن الانتباه، وحبك الشيء يعمي ويصم. وقرأ الأعمش وعاصم في رواية: {بكل ساحر}، وأمال {سحار} ابن

عامر والكسائي وأبو عمرو. ومعنى الآية: أي (¬1) قالوا له: أخر البت في أمرهما، ولا تعاجلهما بالعقوبة، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم، ثم تقابلهم به وجهًا لوجه، ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة، وقرعت الدليل بمثله، ويكون لك النصر والتأييد عليه، وتجتذب قلوب الشعب إليك. وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله تعالى وحججه للناس في وضح النهار جهرة. روي أن فرعون أراد قتله، فقال له الملأ: لا تفعل فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة في أمره، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم ظنًا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره، وتم لفرعون الغلب فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم. الإعراب {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)}. {طسم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف إن قلنا: إنه علم للسورة، تقديره: هذه طسَمَ؛ أي: سورة اسمها طسَمَ، والخبر مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب، وتقدمت فيه أوجه أخرى في مبحث التفسير فراجعها. {تِلْكَ} مبتدأ. {آيَاتُ الْكِتَابِ}: خبر ومضاف إليه. {الْمُبِينِ}: صفة لـ {الْكِتَابِ}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {لَعَلَّكَ}: لعل حرف نصب ¬

_ (¬1) المراغي.

وترجّ وإشفاق، و {الكاف}: ضمير المخاطب في محل النصب اسمها. {بَاخِعٌ}: خبرها. {نَفْسَكَ}: مفعول به لـ {بَاخِعٌ}، وجملة {لعل} مستأنفة. {أَلَّا} {أَن}: حرف نصب ومصدر. {لَا}: نافية. {يَكُونُوا}: فعل ناقص، واسمه منصوب بـ {أَن} المصدرية. {مُؤْمِنِينَ} خبره، وجملة يكون مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المحذوف إليه المنصوب على أنه مفعول لأجله، تقديره: لعلك باخع نفسك خيفة عدم إيمانهم بهذا الكاتب، وبما جئت به من ربك. {إِن}: حرف شرط جازم. {نَشَأْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ {إِن} على كونه فعل شرط لها، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: إيمانهم. {نُنَزِّلْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {نُنَزِّلْ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: حال من {آيَةً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {آيَةً}: مفعول به لـ {نُنَزِّلْ}، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه من الاسترسال في التحسّر والغم على عدم إيمانهم. {فَظَلَّتْ}: {الفاء}: عاطفة، {ظلت}: فعل ماضٍ ناقص من أخوات كان. {أَعْنَاقُهُمْ}: اسمها. {لَهَا}: متعلق بـ {خَاضِعِينَ}، و {خَاضِعِينَ}: خبر {ظلت}، وجملة {ظلت} معطوفة على جملة {نُنَزِّلْ}، وهي بمعنى فتظل أعناقهم. {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)} {وَمَا يَأْتِيهِمْ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {يَأْتِيهِمْ}: فعل مضارع ومفعول به. {مِنْ} زائدة. {ذِكْرٍ}: فاعل مرفوع بضمة مقدرة. {مِنَ الرَّحْمَنِ}: جار ومجرور صفة أولى لـ {ذِكْرٍ}. {مُحْدَثٍ}: صفة ثانية له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إن} الشرطية، أو مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {عَنْهُ}: متعلق بـ {مُعْرِضِينَ}. {مُعْرِضِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كَانَ} في محل النصب حال من مفعول {يَأْتِيهِمْ}، والتقدير: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن في حال من الأحوال إلّا

حالة كونهم معرضين عنه. {فَقَدْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إعراضهم عن الذكر، وأردت بيان موقفهم بعد الإعراض .. فأقول لك. {قد كذبوا}: {قد}: حرف تحقيق. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {فَسَيَأْتِيهِمْ}: {الفاء} حرف عطف وتعقيب، و {السين}: حرف تنفيس، {يأتيهم}: فعل ومفعول {أَنْبَاءُ مَا}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {كَذَّبُوا} {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}. {يَسْتَهْزِئُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة {مَا} الموصولة. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} {أَوَلَمْ يَرَوْا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري المضمّن للتعجب، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، {لم}: حرف نفي وجزم. {يَرَوْا}: فعل مضارع وفاعل، من رأى البصرية، مجزوم بـ {لم}. {إِلَى الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَرَوْا}، وهو في محل المفعول، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أفعل المكذبون من أهل مكة ما فعلوا, ولم يروا إلى الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَنْبَتْنَا}. {أَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل، {أنبت}: فعل ماض مبني على السكون. {فِيهَا}: متعلق بـ {أَنْبَتْنَا}. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}: تمييز لـ {كَمْ} الخبرية، و {مِن}: زائدة. {كَرِيمٍ}: صفة {زَوْجٍ}، وجملة {أَنْبَتْنَا} في محل النصب حال من {الْأَرْضِ}، والتقدير: ألم يروا إلى الأرض حالة كونها أنبتنا فيها كثيرًا من كل زوج كريم. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ} جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَآيَةً}: {اللام}: حرف ابتداء، {آية}: اسم {إِنَّ} مؤخر، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا} {الواو}: حالية. {مَا}: نافية. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ} في محل النصب حال من واو {أَوَلَمْ يَرَوْا}،

وقيل {كَانَ} زائدة عند سيبويه كما مر. {وَإِنَّ}: {الواو}: استئنافية. {إنّ ربك}: ناصب واسمه. {لَهُوَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {هو}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ}: خبر {إِنَّ}. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)}. {وَإِذْ}: {الواو}: استئنافية. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ نادى، والجملة المحذوفة مستأنفة. {نَادَى رَبُّكَ}: فعل وفاعل. {مُوسَى}: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {أَنِ}: مفسرة بمعنى أي، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: بأن. {ائْتِ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود إلى {مُوسَى}، مبني على حذف حرف العلة. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ {نَادَى} لا محل لها من الإعراب. {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}: بدل من {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أو عطف بيان منه، ولعله أولى؛ لأنهما عبارتان تعتقبان على مدلول واحد، ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك .. أتى بعطف البيان لإزالته. {أَلَا}: {الهمزة}: للاستفهام التعجبي. {لا}: نافية. {يَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، ومفعول {يَتَّقُونَ}: محذوف؛ أي: ألا يتقون عقاب الله، والجملة مستأنفة. وقيل: {أَلَا}: حرف تحضيض. وقيل: حرف عرض. وقيل: حرف تنبيه. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، وجملة {أَخَافُ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُكَذِّبُونِ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفواصل في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إني أخاف تكذيبهم إياي. {وَيَضِيقُ صَدْرِي}:

فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَخَافُ}، فهو مرفوع مثله، ويجوز عطفه على {يُكَذِّبُونِ}، فهو منصوب مثله، وقد قرىء به، والفرق بين المعنيين أن الرفع يفيد فيه ثلاث علل أو معاذير، وهو خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان، وأما النصب فيفيد أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة. {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}: فعل وفاعل معطوف على {أَخَافُ}، أو على {يُكَذِّبُونِ}. {فَأَرْسِلْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا سمعت اعتذاري إليك، وأردت فعل ما هو الأصلح لهم .. فأقول لك. {أرسل إلى هارون}: {أرسل} فعل أمر معناه الالتماس، وفاعله ضمير يعود على الله {إِلَى هَارُونَ}: متعلق بـ {أرسل}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلَهُمْ} {الواو}: عاطفة. {لهم} خبر مقدم. {عَلَيَّ}: حال من {ذَنْبٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت. {ذَنْبٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي أَخَافُ} على كونها مقولا لـ {قَالَ}. {فَأَخَافُ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {أخاف}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {أَنْ يَقْتُلُونِ}: ناصب وفعل وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفواصل في محل النصب مفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: فأخاف قتلهم إياي، وجملة {أخاف} معطوفة على الجملة الاسمية قبلها مفرّعة عليها. {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)}. {قَالَ}: فعل ماض. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر نابت عن الفعل، وهو ارتدع يا موسى، ولذلك عطف عليها بالفاء في قوله: {فَاذْهَبَا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والألف ضمير التثنية في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي دلت عليها حرف الردع، كأنه قيل: ارتدع عما تظن يا موسى فاذهب أنت وأخوك، وجملة ارتدع مستأنفة. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اذهبا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {مَعَكُمْ}: حال من اسم {إنّ}،

أو متعلق بـ {مُسْتَمِعُونَ}، أو خبر ثان لـ {إن} {مُسْتَمِعُونَ}: خبر {إن}، ومفعول {مُسْتَمِعُونَ} محذوف تقديره: مستمعون ما يدور بينكما وبين فرعون وقومه، وجله {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَأْتِيَا}: {الفاء}: عاطفة، {ائتيا}: فعل أمر وفاعل. {فِرْعَوْنَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {اذهبا}. {فَقُولَا} {الفاء}: عاطفة. {قولا}: فعل أمر وفاعل معطوف على {ائتيا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبره ومضاف إليه، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول لـ {قولا}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {أَرْسِلْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، ويجوز أن تكون {أَنْ} مفسرة. {مَعَنَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَرْسِلْ} {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة {أَنْ} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: فقولا: إنّا رسول رب العالمين بإرسالك معنا بني إسرائيل. {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف نفي وجزم. {نُرَبِّكَ}: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ {لمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فِينَا}: متعلق بـ {نُرَبِّكَ}. {وَلِيدًا}: حال من مفعول {نُرَبِّكَ}. {وَلَبِثْتَ}: فعل وفاعل. {فِينَا}: متعلق بـ {لبثت}. {مِنْ عُمُرِكَ}: حال من {سِنِينَ}. و {سِنِينَ}: ظرف متعلق بـ {لبثت} أيضًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة الاستفهام على كونها مقول {قَالَ}. {وَفَعَلْتَ}: فعل وفاعل معطوف على الجملة التي قبلها. {فَعْلَتَكَ}: مفعول به ومضاف إليه، أو مفعول مطلق. {الَّتِي}: صفة لـ {فَعْلَتَكَ}، وجملة {فَعَلْتَ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فعلتها. {وَأَنْتَ}: مبتدأ. {مِنَ الْكَافِرِينَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل

{فَعَلْتَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {فَعَلْتُهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِذًا}: حرف جواب مهملة لا عمل لها. {وَأَنَا}: مبتدأ. {مِنَ الضَّالِّينَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {فَعَلْتُهَا}؛ أي: من الضالين عما أتاني الله بعدها من الرسالة والعلم. {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}. {فَفَرَرْتُ}: {الفاء}: عاطفة، {فررت}: فعل وفاعل. {مِنْكُمْ}: متعلق بـ {فررت}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَعَلْتُهَا}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين في محل النصب مبني على السكون، والظرف متعلق بـ {فررت}، وقال سيبويه: إنها رابطة. {خِفْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {فَوَهَبَ}: {الفاء}: عاطفة. {وهب}: فعل ماض. {لِي}: متعلق به. {رَبِّي}: فاعل ومضاف إليه. {حُكْمًا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {فررت}. {وَجَعَلَنِي}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به أول معطوف على {وهب}. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}. {وَتِلْكَ}: مبتدأ. {نِعْمَةٌ}: خبر، والجملة مستأنفة. {تَمُنُّهَا}: فعل وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ} ومفعول به. {عَلَيَّ}: متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ {نِعْمَةٌ}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {عَبَّدْتَ}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَن} المصدرية. {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: سببها تعبيدك بني إسرائيل، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل الرفع صفة ثانية لـ {نِعْمَةٌ} و {تمن} يتعدى بالباء، فقيل: هي محذوفة؛ أي: تمنُّ بها، وقيل: ضمِّن تمنُّ فمعنى تذكر كما في "السمين". وفي "السمين": قوله: {أَنْ عَبَّدْتَ} فيه سبعة أوجه: أحدها: أنه في محل رفع عطف بيان لـ {تِلْكَ}، موضح له، فتلك إشارة إلى

شيء مبهم، وقد وضّح وبيّن بقوله: {أَنْ عَبَّدْتَ}، نظير قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ}. والثاني: أنه في محل نصب مفعولًا من أجله. والثالث: أنه بدل من {نِعْمَةٌ}. والرابع: أنه بدل من الهاء في {تَمُنُّهَا}. والخامس: أنه مجرور بباء مقدرة؛ أي: بأن عبّدت. والسادس: أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: هي. والسابع: أنه منصوب بإضمار أعني. {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)}. {قَالَ فِرْعَوْنُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة تعطف قول فرعون على قول موسى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، أو زائدة، أو استئنافية. {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، وإنما عبر بما؛ لأنه سأل عن صفاته وأفعاله، ولو أراد عينه .. لقال: ومن رب العالمين. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {رَبُّ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو رب السموات، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {السَّمَاوَاتِ}: مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف عليه. {وَمَا}: معطوفة على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {ما}. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم موقنين هذا الجواب، فهو كاف لكم في جواب سؤالكم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}.

{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة مستأنفة. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {حَوْلَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة {من} الموصولة {أَلَا}: {الهمزة}: للاستفهام التعجبي، {لا}: نافية، أو {أَلَا}: حرف عرض، أو تحضيض. {تَسْتَمِعُونَ}: فعل وفاعل ومفعول محذوف تقديره: جوابه الذي لا يطابق السؤال، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {رَبُّكُمْ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو ربكم، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَرَبُّ}: معطوف على {رَبُّكُمْ}. {آبَائِكُمُ}: مضاف إليه. {الْأَوَّلِينَ}: صفة لـ {آبَائِكُمُ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة مستأنفة. {إِنَّ رَسُولَكُمُ}: ناصب واسمه. {الَّذِي}: صفة لـ {رَسُولَكُمُ}. {أُرْسِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ضمير يعود على الموصول. {إِلَيْكُمْ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {لَمَجْنُونٌ}: {اللام}: حرف ابتداء زحلقت إلى خبر {إنَّ} {مجنون}: خبر {إنَّ}، والجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {رَبُّ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو رب، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {الْمَشْرِقِ}: مضاف إليه. {وَالْمَغْرِبِ}: معطوف على {الْمَشْرِقِ}. {وَمَا}: معطوف على {الْمَشْرِقِ}. {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {ما}. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجملة {تَعْقِلُونَ} خبر كان، وجواب {إن} الشرطية محذوف تقديره: إن كنتم تعقلون علمتم أن الأمر كما قلته، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب

مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة مستأنفة. {لَئِنِ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {اتَّخَذْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {إِلَهًا}: مفعول به. {غَيْرِي}: صفة له، أو {غَيْرِي}: مفعول أول {إِلَهًا}: مفعول ثان قدّمه اعتناء به، والتقدير: لئن اتخذت غيري إلهًا. {لَأَجْعَلَنَّكَ} {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، {أجعلنك}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، ونون توكيد في محل الرفع لتجرده من الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {مِنَ الْمَسْجُونِينَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ}، وجواب الشرط محذوف تقديره: أسجنك، وجملة الشرط في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معترضة بين القسم وجوابه. {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {أَوَلَوْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتفعل ذلك. والواو: حالية، {لو}: حرف شرط. {جِئْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول. {بِشَيْءٍ}: متعلق بـ {جِئْتُكَ}. {مُبِينٍ}: صفة، وجواب {لو} الشرطية محذوف تقديره: ولو جئتك بشيء مبين تسجنني، وجملة {لو} الشرطية في محل النصب حال من مفعول الفعل المحذوف الداخل عليه همزة الاستفهام، والتقدير: أتسجنني حالة كوني جائيًا بشيء مبين على صدقي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة مستأنفة. {فَأْتِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت توعدي لك بالسجن، وأردت بيان ما هو المخلص لك .. فأقول لك:

ائت. {ائت}: فعل أمر، فاعل مستتر يعود على {مُوسَى} مبني على حذف حرف العلة. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إن}: حرف شرط. {كُنتَ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر كان، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنت من الصادقين فائت به، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)}. {فَأَلْقَى}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قاله فرعون لموسى، وأردت بيان ما فعله موسى فأقول لك: ألقى عصاه. {ألقى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. {عَصَاهُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: فجائية، حرف لا محل لها من الإعراب. {هِيَ ثُعْبَانٌ}: مبتدأ وخبر {مُبِينٌ}: صفة {ثُعْبَانٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {ألقى}. {وَنَزَعَ يَدَهُ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجمله معطوفة على جملة {ألقى}. {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة، {إذا}: فجائية. {هِيَ بَيْضَاءُ}: مبتدأ وخبر. {لِلنَّاظِرِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {بَيْضَاءُ}، تقديره: بيضاء معجبة للناظرين، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَنَزَعَ يَدَهُ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة. {لِلْمَلَإِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {حَوْلَهُ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {الملأ}؛ أي: حالة كونهم كائنين حوله. {إِنَّ هَذَا}: ناصب واسمه. {لَسَاحِرٌ}: {اللام}: حرف ابتداء. {لَسَاحِرٌ}: خبر {إن}. {عَلِيمٌ}: صفة لـ {ساحر}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}.

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)}. {يُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَي}، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ {ساحر}. {أَنْ يُخْرِجَكُمْ}: ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَي} ومفعول به. {مِنْ أَرْضِكُمْ}: متعلق بـ {يُخْرِجَكُمْ}. {بِسِحْرِهِ}: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إخراجه إياكم من أرضكم بسحره، وهذه الجملة بيت كامل من مجزوء الرجز، وليس شعرًا لانتفاء القصد. {فَمَاذَا}: {الفاء}: عاطفة، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر. {تَأْمُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فما الذي تأمرونني به، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ هَذَا} على كونها مقولا لـ {قَالَ}، أو {فَمَاذَا} اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول لـ {تَأْمُرُونَ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إِنَّ هَذَا}. {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَرْجِهْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ} ومفعول به مبني على حذف حرف العلة؛ وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها؛ لأنه من أرجيت. {وَأَخَاهُ}: معطوف على ضمير المفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَابْعَثْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ} معطوف على {أَرْجِهْ}. {فِي الْمَدَائِنِ}: متعلق بـ {وَابْعَثْ}. {حَاشِرِينَ}: مفعول به. {يَأْتُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون. {بِكُلِّ سَحَّارٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَأْتُوكَ}. {عَلِيمٍ}: صفة {سَحَّارٍ}.

التصريف ومفردات اللغة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} لعل هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار، وقال العسكري: إنها للنهي، {بَاخِعٌ نَفْسَكَ}؛ أي: مهلكها من شدة الحزن، قال ذو الرمة. ألاَ أَيُّهَا الباخِعُ الوُجْدِ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتَهُ عن يديهِ المَقَادِيرُ وأصل البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع، وذلك أقصى حد الذبح، والبخاع - بكسر الباء -: عرق في الصلب غير النخاع - بالنون مثلثة - فإنه الخيط الذي في جوف الفقار، ينحدر من الدماغ، ويتشعب منه شعب في الجسم. وفي "المصباح": وبخع نفسه بخعا من باب نفع قتلها من وجد أو غيظ، وبخع لي بالحق بخوعًا انقاد وبذله. {أَعْنَاقُهُمْ} والأعناق: الجماعة، يقال: جاءت أعناق الناس؛ أي: جماعة منهم. {ذِكْرٍ}؛ أي: موعظة. {أَنْبَاءُ} والمراد بالأنباء: ما سيحل بهم من العذاب. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده، يقال: وجه كريم؛ أي: مرضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم مرضي في معانيه وفوائده، وفارس كريم مرضي في شجاعته وبأسه. {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} والمناداة والنداء: رفع الصوت، وأصله من الندى؛ وهو الرطوبة، واستعارته للصوت من حيث إنّ من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق. {إِنِّي أَخَافُ} أمر من الأتيان، والإتيان: المجيء بسهولة. {إِنِّي أَخَافُ} والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. {مُسْتَمِعُونَ}؛ أي: سامعون، والفرق بين السماع والاستماع أن السماع وكذا السمع مطلق إدراك الحروف والأصوات، فيوصف به سبحانه، والاستماع طلب السمع بالإصغاء بالأذن، وهو محال عليه تعالى؛ لأن سمعه ليس بالجارحة.

{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)} والإرسال هاهنا: التخلية والإطلاق، كما تقول: أرسلت الكلب إلى الصيد؛ أي: خلّهم وشأنهم ليذهبوا إلى أرض الشام مسكن آبائهم. {مِنْ عُمُرِكَ} والعمر - بضمتين - مصدر عمر؛ أي: عاش وحيي، قال الراغب: العمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، قليلة كانت أو كثيرة. {فَعْلَتَكَ} الفعلة - بالفتح -: المرّة الواحدة، والفِعلة - بالكسر - الهيئة، كما قال ابن مالك: لِمَرَّةٍ فَعْلَةٌ، وَفِعْلَةٌ وَضَعُوْا ... لِهَيْئَةٍ غَالِبًا، كَمِشْيَةِ الْخُيَلاَ {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} يقال: ضل فلان الطريق أخطأه؛ أي: ضللت طريق الصواب وأخطأته من غير تعمّد، كمن رمى سهمًا إلى طائر وأصاب آدميًا، وذلك لأن مراد موسى كان تأديبه، لا قتله. {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ}؛ أي: ذهبت من بينكم إلى مدين، وهو من المضاعف اللازم، يجب كسر عين مضارعة، كما قال ابن مالك: ذَا الْوَاوَ فَاءً أَوِ الْيَا عَيْنًا أَوْ كَأتَى ... كَذَا الْمُضَاعَفُ لاَزِمًا كَحَنَّ طَلاَ تقول: فرّ يفرّ فرارًا، ودبّ يدبّ دبيبًا، وحنّ يحنّ حنينًا. {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يقال: عبّدته إذا أخذته عبدًا وقهرته وذللته. {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} والرب: المربي والمتكفل لمصلحة الموجودات، والعالم اسم لما سوى الله تعالى من الجواهر والأعراض، سمّي عالمًا؛ لأنه علامة على وجود صانعه وخالقه. {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} والجنون: مرض حائل بين النفس والعقل، كما في "المفردات". {مِنَ الْمَسْجُونِينَ}؛ أي: من المحبوسين عندي، وفي "المصباح": سجنته

سجنًا - من باب قتل - حبسته، والسِجن - بالكسر -: الحبس، والجمع سجون مثل حمل وحمول، اهـ. {فَأَلْقَى عَصَاهُ} والإلقاء: طرح الشيء حيث تلقاه وتراه، ثم صار في التعارف اسمًا لكل طرح. {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر الثعبانية حقيقة، لا متخيلًا بالسحر، كما تفعله السحرة، والثعبان أعظم الحيات، وهو مشتق من ثعب بمعنى جرى لجريه بسرعة من غير رجل، كأنه ماء سائل، وأما كونه من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر، وإن كان مآله ذلك فليس بمراد، اهـ "شهاب"، والثعبان يطلق على الذكر والأنثى، ويجمع على ثعابين. {بَيْضَاءُ}؛ أي: ذات بياض ونور من غير برص. {لِمَنْ حَوْلَهُ} وحول الشيء: جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب، والملأ جماعة يجتمعون على رأي يملؤون العيون رواء، والنفوس جلالة وبهاء. {لَسَاحِرٌ} والسحر: تخيلات لا حقيقة لها، فالساحر المحتال المخيل بما لا حقيقة له. {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: من المؤامرة، لا من الأمر؛ وهي المشاورة، وقيل للتشاور: ائتمار؛ لقبول بعضهم أمر بعض فيما أشار به. {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخّرته، ومنه المرجئة، وهما لغتان، أي أخر أمرهما, ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة قبل أن يظهر كذبهما. {فِي الْمَدَائِنِ}: جمع مدينة؛ أي: في الأمصار والبلدان، وأقطار مملكتك. {حَاشِرِينَ}؛ أي: شرطًا يحشرون الناس ويجمعونهم. {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} ولما قال فرعون أولًا: إن هذا لساحر عليم عارضوا بقولهم: بكل سحار عليم، فجاء بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة؛ لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب، ذكره أبو حيان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: الكناية اللطيفة في قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}؛ لأنه كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء. ومنها: المجاز العقلي في إسناد الخضوع للأعناق، فقد يقال: كيف صح مجيء خاضعين خبرًا عن الأعناق، والخضوع من خصائص العقلاء، وقد كان أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين؟ والسر في ذلك أنه لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء .. قيل: خاضعين، كما تقدم في قوله: {لِي سَاجِدِينَ}، وههنا أقوال أخرى أوصلها علماء البيان إلى سبعة نلخصها فيما يلي: 1 - المراد الرؤساء، كما قيل: لهم وجوه وصدور، يقال لهم: أعناق. 2 - أنه على حذف مضاف؛ أي: فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف مراعاة للمحذوف. 3 - أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم، كما يكتسب التأنيث بالإضافة. 4 - أن الأعناق جمع عنق من الناس؛ وهم الجماعة، يقال: جاءنا عنق من الناس؛ أي: فوج، وليس المراد الجارحة المعلومة. 5 - إقحام الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله. 6 - ما ذكرناه من أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليها ما يكون عادة من أفعال العقلاء على طريق المجاز العقلي. 7 - أنه لما أضاف الأعناق إلى المذكورين، وكانت الأعناق متصلة بهم في الخلقة والتكوين .. أجرى عليها حكمهم. ومنها: التتميم في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)} حيث جمع بين {كَمْ} و {كُلِّ}، مع إغناء أحدهما عن الآخر، وضابط التتميم أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو في

صفاته، ولفظه تام، والمقصود من الآية آحاد الأزواج، ولو أسقطت {كلًّا}، فقلت: انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني .. لكنت مكنيًا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه، فإذا أدخلت كلًّا فقد أديت بذكره آحاد كل صنف، وفائدة الجمع بين {كُلِّ} و {كَمْ} أن {كلًّا} إنما دخلت للإحاطة بأزواج النبات، و {كَمْ} دلت على أن هذا المحاط مفرط بالكثرة، وفي ذلك تنبيه على تمام القدرة وكمالها، وهذا هو مقتضى التتميم الذي تقدمت الإشارة إليه. ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. ومنها: التوبيخ والإنكار في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ}؛ لأن الاستفهام فيه للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}؛ لأن النداء رفع الصوت مأخوذ من الندى؛ وهو الرطوبة، فاستعيرت للصوت من حيث إن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق، ذكره في "روح البيان". ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} وقوله: {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} حيث استعار الاستماع الذي هو طلب السمع بالإصغاء بالأذن للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات من غير إصغاء. والمعنى: إنا سامعون لما يجري بينكما وبينه، فأظهركما عليه. مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يسمع ما يجري بينهم، ليمد الأولياء منهم، ويظهرهم على الأعداء مبالغة في الوعد بالإعانة، وجعل الكلام استعارة تمثيلية؛ لكون وجه الشبه هيئة منتزعة من عدة أمور اهـ "روح". ومنها: جناس الاشتقاق بين {رَسُولُ} و {أَرْسِلْ}.

ومنها: الإبهام في قوله: {فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتل القبطي؛ لإفادة التعظيم والتفخيم، فإن في عدم التصريح باسمها الخاص تعظيم تلك الفعلة، فإن قوله: {الَّتِي فَعَلْتَ} يذهب فيها الوهم كل مذهب، ويحتمل الكثير من المعاني، وهو كثير شائع في القرآن الكريم. ومنها: الجناس الناقص بين {فَعَلْتَ} و: {فَعْلَتَكَ} فقد اتفقت الحروف فيهما، واختلف الشكل، فصار جناسًا غير تام. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} دل على هذا الحذف السياق، تقديره: فأتيا فرعون فقولا له ذلك، فقال لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}. ومنها: إفادة التعجيب في قوله: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ}، فكأنه قال: استمعوا ما يقول، وتعجبوا منه. ومنها: التخصيص في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بعد التعميم في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فإنه استوعب به الخلائق كلها، ثم عاد إلى التخصيص بذكرهم وذكر آبائهم. ومنها: التأكيد بـ {إن} واللام واسمية الجملة في قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}؛ لأن السامع متشكك ومتردد. ومنها: الطباق بين {الْمَشْرِقِ} {وَالْمَغْرِبِ} في قوله: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. ومنها: لام العهد في قوله: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}؛ أي: لأجعلنك من الذين عرفت أحوالهم في سجوني، فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة، ويتركهم حتى يموتوا, ولم يقل: لأسجنك للإشارة إلى أن ذلك ديدنه وعادته. ومنها: الاستغراق والمبالغة في قوله: {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}؛ لأن كلمة {كل} تفيد الإحاطة والاستغراق، وكلمتي {سَحَّارٍ عَلِيمٍ} يفيدان المبالغة؛

لأنهما من أوزان المبالغة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} المناسبة قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة شدة حزنه - صلى الله عليه وسلم - على كفر قومه

[38]

وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون في ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع في الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادًا واستكبارًا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلّا النذر اليسير .. أردف ذلك بقصص إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الرحمن؛ ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمضى، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجهم، ولم يجد ذلك فيهم شيئًا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغني عنهم شيئًا، فهي لا تسمع دعاءهم {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ}، ولو سمعت لم تغن عنهم شيئًا، ثم ذكر لهم صفات الرب الذي ينبغي أن يعبد، وفصلها أتم التفصيل. التفسير وأوجه القراءة 38 - {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ}؛ أي: بعث فرعون الشرط في المدائن لجمع السحرة، فجمعوا وهم اثنان وسبعون، أو سبعون ألفًا كما يدل عليه كثرة الحبال والعصي التي خيلوها، وكان اجتماعهم بالإسكندرية على ما رواه الطبري. {لِمِيقَاتِ} وميعاد {يَوْمٍ مَعْلُومٍ} عندهم. والميقات (¬1): الوقت المضروب للشيء؛ أي: اجتمعت السحرة في الوقت الذي وقت به موسى، وعين لهم من ساعات يوم معين، وذلك الوقت وقت الضحى من يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم، كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه وافق يوم السبت في أول يوم من السنة؛ وهو يوم النيروز، وهو أول يوم من فرودين ماه، ومعنى نيروز بلغة القبط: طلع الماء؛ أي: علا ماء النيل، وبلغة العجم نوروز؛ أي: اليوم الجديد، وهو أول السنة المستأنفة عندهم. وإنما وقت لهم موسى وقت الضحى من يوم الزينة في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ}، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار، واختاره فرعون أيضًا، ليظهر كذب موسى بمحضر الجمع العظيم، فكان ما كان. 39 - {وَقِيلَ} من طرف فرعون {لِلنَّاسِ}؛ أي: لأهل مصر وغيرهم ممن يمكن حضوره {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون له الغلبة، وليس المراد بـ {هَلْ} حقيقة الاستفهام بقرينة عدم الجواب، بل المراد بالاستفهام الحث على المبادرة إلى الاجتماع والترجي للغلبة، لا لاتباع السحرة؛ لأنه مقطوع به. والمعنى؛ أي (¬1): احضروا لتشاهدوا ما يكون من الجانبين {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} في دينهم {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} لموسى، لا لموسى؛ أي: فإنا نرجو أن تكون الغلبة للسحرة، فنتبعهم في دينهم، لا نتبع موسى. قال ابن جرير: {لعل} هنا بمعنى كي. والمراد (¬2) باتباع السحرة في دينهم: هو البقاء على ما كانوا عليه؛ لأن دين السحرة إذ ذاك هو دينهم، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى. وقيل (¬3): أرادوا بالسحرة موسى وهارون، وقالوا ذلك على طريقة الاستهزاء. والمعنى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ ...} إلخ؛ أي (¬4): إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت في أمر موسى، وبأن من الخير له أن يجمع السحرة؛ ليظهر عند حضورهم فساد قوله .. رضي بما أشاروا به واستقروا عليه، وأحب أن تقع المناظرة في يوم عيد لهم؛ لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس، ويتم الله نوره، ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله {وَقِيلَ لِلنَّاسِ} حثًا لهم على المبادرة إلى الاجتماع، ومشاهدة ما يكون من الجانبين {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} في ذلك الميقات لتروا ما سيكون في ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وقد طلب أن يكون بمجمع من الناس؛ لئلا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

[40]

الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، وقهر للمبطلين 40 - {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)}؛ أي: إنا نرجوا أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى 41 - {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} فرعون {قَالُوا}؛ أي: السحرة {لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا}؛ أي: جعلًا عظيمًا، أو لجزاء تجزينا به من مال أو جاء، وقيل: أرادوا إن لنا ثوابًا عظيمًا، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى، فقالوا: {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لا موسى، 42 - ووافقهم فرعون على ذلك، و {قَالَ نَعَمْ} نعم ذلك عندي. وقرأ (¬1) الكسائي {نعم} بكسر العين، وهما لغتان. اهـ "بيضاوي". {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذًا}؛ أي: إذا غلبتم {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عندي، تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج من عندي. وكان (¬2) ذلك من أعظم المراتب عندهم، وهكذا حال أرباب الدنيا في حب قربة السلطان ونحوه، وهو من أعظم المصائب عند العقلاء. 43 - فلما تقابلوا مع موسى {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا}؛ أي: اطرحوا {مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}؛ أي: ما أنتم تريدون إلقاءه، لم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه؛ لأن ذلك غير جائز، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلًا به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، قال في "كشف الأسرار": ظاهر الكلام أمر، ومعناه التهاون في الأمر، وترك المبالاة بهم وبأفعالهم، وتهديد لهم. وعبارة "الكرخي": هذا (¬3) جواب سؤال صورته: كيف يجوز على النبي المعصوم الأمر بالكفر؟ وحاصل الجواب: أن صيغة الأمر ليست على حقيقتها، بل هي مجاز عن الإذن، فإن قيل: الإذن يستلزم الرضا فيعود الإشكال؟ فالجواب: أن الممتنع هو الرضا في حال كونه مستحسنًا، ولا يلزم ذلك هنا، بل اللازم هو الرضا به للتوسل إلى إبطاله، وهذا عين استقباحه، فليس فيه محظور، اهـ. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات.

[44]

فإن قلت: إن ما هنا يدل على أن البادىء بالكلام هو موسى عليه السلام، وفي سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)}، فيدل على أن البادىء هم السحرة، فبين الآيتين معارضة في تعيين البادىء، فبين وجه الجمع بينهما؟ قلتُ: يجمع بينهما يحمل ما هنا على أنه قال لهم: ألقوا، بعد أن قالوا هذا القول، فحينئذ البادىء بالكلام هم السحرة. 44 - {فـ} بعد أن قال لهم موسى ألقوا {أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ}: جمع حبل {وَعِصِيُّهُمْ}: جمع عصا، اثنين وسبعين ألف حبل، واثنتين وسبعين ألف عصا {وَقَالُوا} عند الإلقاء حالفين {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} وعظمته {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} على موسى وهارون. أقسموا (¬1) بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى من السحر، والقسم بغير الله من أيمان الجاهلية، وفي الحديث: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون". وقال الشوكاني: قولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} يحتمل وجهين: الأول: أنه قسم، وجوابه: {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}. والثاني: أنه متعلق بمحذوف، والباء للسببية؛ أي: نغلب بسبب عزته. قال بعضهم (¬2): رأوا كثرة تمويهاتهم وقلة العصا، فنظروا إليها بنظر الحقارة، وظنوا غلبة الكثير على القليل، وما علموا أن القليل من الحق يبطل الكثير من الباطل، كما أن قليلًا من النور يمحو كثيرًا من الظلمة، اهـ. قال أبو حيان (¬3): وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة، في قولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} تعظيمًا له، كما يقال للملوك: أمروا بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع أيمان الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الأيمان ما هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[45]

أشنع من أيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به، حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان، وبإغاثة شيخه، وبرأس المحلف، فحينئذ يستوثق منه. وقال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأحسن أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذ كانوا يعبدونه، كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله وعلى بركة الله، ونحو هذا. والمعنى: أي (¬1) قال لهم موسى: ألقوا ما تريدون إلقاءه مما يكون حجة لكم على إبطال ما أدعيه من المعجزات، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، وقد كانت مطلية بالزئبق، والعصي مجوفة مملوءة به، وقالوا: بقوة فرعون وجبروته إنا لنحن الغالبون، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها، وصارت كأنها حيات تدب من كل جانب، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم، وجاء في سورة طه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)}، وقد استفرغوا الوسع، وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية، بل ما فوقها، وأن النصر قد كتب لهم 45 - {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} بالأمر الإلهي {فَإِذَا هِيَ}؛ أي: عصاه {تَلْقَفُ}؛ أي: تبتلع بسرعة. وقرأ حفص: {تَلْقَفُ} بالتخفيف، اهـ. "بيضاوي" {مَا يَأْفِكُونَ}؛ أي: ما يقلبونه؛ أي: وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون ويغيرون صورته وحاله الأولى من الجمادية بتمويههم وتخييل الحبال والعصي أنها حيات تسعى، وجاء في آية أخرى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)}. والمأخوذ عند بعض المحققين (¬2): أنها التقفت صور الحيات من حبال السحرة وعصيهم، حتى بدت للناس حبالًا وعصيًا كما هي في نفس الأمر، كما يبطل الخصم بالحق حجة خصمه، فيظهر بطلانها, لا نفس الحبال والعصي كما هو عند الجمهور، وإلا لدخل على السحرة الشبهة في عصا موسى، والتبس عليهم الأمر، فكانوا لم يؤمنوا، وكان الذي جاء به موسى حينئذ من قبيل ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[46]

جاءت به السحرة، إلا أنه أقوى منهم سحرًا، ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} {تلقف ما صنعوا}، وما أفكوا الحبال وما صنعوا العصي بسحرهم، وإنما صنعوا وأفكوا في أعين الناظرين صور الحيات، وهي التي تلقفته عصا موسى، ذكره الإِمام الشعراني في "الكبريت الأحمر". 46 - {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} على وجوههم حالة كونهم {سَاجِدِينَ} لله تعالى؛ أي: ألقوا إثر ما شاهدوا ذلك من غير تردد غير متمالكين، كأن ملقيًا ألقاهم لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده لتصديقه. قال الزمخشري (¬1): فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرّح به؟ قلت: هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، انتهى. وفي هذا (¬2): دليل على أن التبحر في كل فن نافع، فإن السحرة ما تيقنوا بأن ما فعل موسى معجزهم إلا بمهارتهم في فن السحر، وعلى أن منتهى السحر تمويه وتزوير وتخييل شيء لا حقيقة له، وجه الدلالة أن حقيقة الشيء لو انقلبت إلى حقيقة شيء آخر بالسحر .. لما عدوا انقلاب العصا حية من قبيل المعجزة الخارجة عن حد السحر، ولما خروا ساجدين عند مشاهدته، وقد سبق تفصيل السحر في سورة طه. قال بعضهم: السِّحر: مأخوذ من السَّحر، وهو ما بين الفجر الأول والفجر الثاني، وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة، فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار، فكذلك ما فعله السحرة ما هو باطل محقق فيكون عدمًا، فإن العين أدركت أمرًا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، فإنه ليس هو في نفسه كما تشهد العين ويظنه الرائي. قال الشعراني بعدما نقله: هو كلام نفيس ما سمعنا مثله قط. ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) روح البيان.

[47]

والمعنى: أي فخروا سجدًا لله؛ لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحري، فلما ابتلعت الحية ما زوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى، وحينئذ خروا سجدًا لله القوي القاهر فوق عباده. 47 - وفي التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا، ثم فاهوا بما يجيش في صدورهم، وتنطوي عليه جوانحهم {قَالُوا}؛ أي: السحرة، بدل اشتمال من {فَأُلْقِيَ}، فلذلك لم يتخلل بينهما عاطف، أو (¬1) حال بإضمار قد {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون، انظر كيف أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء مسلمين مؤمنين، فالمغرور من اعتمد على شيء من أعماله وأقواله وأحواله، 48 - وقوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} بدل من (¬2) {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك، ولو وقفوا على رب العالمين .. لقال فرعون: أنا رب العالمين؛ إياي عنوا، فزادوا {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}، فارتفع الإشكال، وفي هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله تعالى على يدي موسى وهارون من المعجزات، وأضافوه سبحانه إليهما؛ لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال، وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس برب، وأن الرب في الحقيقة هو هذا. وبعد أن حصحص الحق، ووضح الصبح لذي عينين .. لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة، وشرع يهدد ويتوعد، ولكن ذلك لم يجد في السحرة شيئًا، ولم يزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا إذ كان حجاب الكفرة قد انكشف، واستبان لهم نور الحق وعلمهم ما جهل قومهم، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية، قد أيده الله بها وجعلها دليلًا على صدق ما يدعي. 49 - فلما سمع فرعون ذلك منهم، ورأى سجودهم لله .. {قَالَ}؛ أي: فرعون ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) روح البيان.

للسحرة {آمَنْتُمْ لَهُ}؛ أي: لموسى، وصدقتم به بصيغة الخبر، ويجوز تقدير همزة الاستفهام كما في الأعراف. وقرأ (¬1) حمزة والكسائي وأبو بكر وروح: {أأمنتم} بهمزتين أولاهما للاستفهام التقريري المضمن للتهديد {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}؛ أي (¬2): بغير إذن لكم من جانبي، كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} لا أن إذن الإيمان ممكن أو متوقع، ثم قال مغالطًا للسحرة الذين آمنوا، وموهمًا للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر {إِنَّهُ}؛ أي: إن موسى {لَكَبِيرُكُمُ}؛ أي: لعالمكم وأستاذكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فعلمكم شيئًا دون شيء، ولذلك غلبكم أو فوادعكم على ما فعلتم وتواطأتم عليه قبل أن تخرجوا إلى هذا الموضع، كما قال في الأعراف: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} أراد بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. وإنما (¬3) اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحب الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى؛ لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم وان كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة .. فهو فعل كبيرهم ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الرب الذي يدعو إليه موسى، ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله، فقال: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ أي: وبال ما فعلتم، واللام (¬4) للتأكيد، لا للقسم، ولا للحال، فلذلك اجتمعت بحرف الاستقبال أجمل ما أوعدهم أولًا للتهويل، ثم فصله، فقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}؛ أي: أقسمت لكم بقهري وسلطاني لأقطعن منكم أكفكم وأقدامكم حالة كونها من خلاف؛ أي: متخالفات من كل شق طرفًا، وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، وذلك زمانة من جانبي البدن، كما في "كشف الأسرار". وهو أول من قطع من خلاف وصلب كما في "فتح الرحمن". ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[50]

وصيغة التفعيل وهو التقطيع لكثرة الأيدي والأرجل، كما تقول: فتحت الباب، وفتحت الأبواب. وقال بعضهم: من للتعليل؛ أي: من أجل (¬1) خلاف ظهر منكم، وذلك (¬2) لأن القطع المذكور لكونه تخفيفًا للعقوبة، واحترازًا عن تفويت منفعة البطش على الجاني لا يناسب حال فرعون ولما هو بصدده، إلا أن يحمل على حمقه حيث أوعد لهم في موضع التغليظ بما وضع للتخفيف، انتهى. وذلك وهم محض؛ لأنه يدفعه قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} على شاطىء البحر كلكم {أَجْمَعِينَ} قال في "الكشف"؛ أي: أجمع عليكم التقطيع والصلب، روي أنه علقهم على جذوع النخل حتى ماتوا, ولكن ليس في الآية ما يدل على أن فرعون فعل ذلك أو لم يفعل، وفي الأعراف {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} فأوقع المهلة؛ ليكون هذا التصليب بعذابهم أشد. ويجمع بين ما في الموضعين بجعل {الواو} هنا بمعنى ثم؛ لأن المهلة أغلظ في التعذيب. وحاصل معنى الآية: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ}؛ أي (¬3): قال لهم فرعون: أتؤمنون به قبل أن تستأذنوني، وقد كان ينبغي أن تفعلوا ذلك، وأن لا تفتاتوا علي، فإني أنا الحاكم المطاع، ثم التمس لايمانهم عذرًا آخر غير انبلاج الحق؛ ليعمي على العامة، ويصرفهم عن وجه الحق، فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}، فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه، ولا شك أن هذا تضليل لقومه، ومكابرة ظاهرة البطلان، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر، ثم توعدهم، فقال: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَبَال ما فعلتم، وسوء عاقبة ما اجترحتم، ثم بين ذلك بقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} الخ؛ أي: لأقطعن اليد اليمنى من كل منكم، والرجل اليسرى، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك. 50 - فأجابوه غير مكترثين بقوله، ولا عابئين بتهديده بأمرين كل منهما دليل على ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[51]

اطمئنان النفس وبرد اليقين: 1 - {قَالُوا}؛ أي: السحرة المؤمنون {لَا ضَيْرَ}؛ أي: لا ضرر علينا في تنفيذ وعيدك، ولا نبالي به؛ لأن كل حي لا محالة ميت: وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ ... تَعَدَّدَتِ الأسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ ونحو ذلك قول علي - كرم الله وجهه -: لا أبالي أوقعت على الموت، أم وقع الموت عليّ {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}؛ أي: راجعون فيثيبنا بالصبر على ما فعلت، ويجازينا على الثبات على التوحيد، وفي الآية دلالة على أن للإنسان أن يظهر الحق وإن خاف القتل. والمعنى: أي (¬1) لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فإن ذلك يزول ويذهب، وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحد ولا يوصف، قال الهروي: لا ضير، ولا ضرر، ولا ضرّ بمعنى واحد، وأنشد أبو عبيدة: فَإِنَّكَ لاَ يَضُرُّكَ بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمّكَ أَمْ حِمَارُ قال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرًا وضورًا؛ أي: ضره، قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني. 2 - 51 {إِنَّا نَطْمَعُ} ونرجوا {أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} السالفة من الشرك وغيره، ثم عللوا هذا بقولهم: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} بفتح همزة {أَن}، والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضير، أو تعليل للعلة المتقدمة كما في "البيضاوي"؛ أي: لأن كنا أول المؤمنين بموسى من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد بعد ظهور الآية، وقال الفراء: أول مؤمني زمانهم. وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معهم ست مئة ألف وسبعون ألفًا؛ وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)}، وأجاز الفراء والكسائي كسر همزة إن على أن يكون مجازاة، والمعنى؛ أي: ولأنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

السحر، واعتقدناه من الكفر من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا هذا الموقف انقيادًا للحق، وإعراضًا عن زخرف الدنيا وزينتها. وقرأ الجمهور (¬1): {أن كنا} بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم، وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ {إن كنا} - بكسر الهمزة - قال صاحب "اللوامح": على الشرط، وجاز حذف الفاء من الجواب؛ لأنه متقدم، وتقديره: إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا مآلهم عند الله تعالى من قبول الإيمان. انتهى وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال البيضاوي (¬2): وقرىء {إن كنا}: على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره: إن أحسنت إليك فلا تنس حقي اهـ. تنبيه: قوله تعالى: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)} قاله هنا بحذف (¬3) لام التأكيد، وفي الزخرف قاله بإثباتها {لَمُنْقَلِبُونَ} فإن قلت: فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: لأن ما هنا كلام السحرة حين آمنوا, ولا عموم فيه، فناسب عدم التأكيد، وما في الزخرف عام لمن ركب سفينة أو دابة فناسبه التأكيد. قال ابن عطاء (¬4): من اتصلت مشاهدته بالحقيقة احتمل معها كل وارد عليه من محبوب أو مكروه، ألا ترى أن السحرة لما صحت مشاهدتهم كيف قالوا: {لَا ضَيْرَ}. وكان جعفر ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - آخذ اللواء في بعض الغزوات بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضده حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) فتح الرحمن. (¬4) روح البيان.

[52]

فأثابه الله تعالى بذلك جناحين في الجنة، يطير بهما حيث شاء، ولذلك قيل له: جعفر الطيار، وهكذا شأن من هو صادق في دعواه فليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله تعالى هو المبتلي، لكن هذا العلم إذا لم يكن من مرتبة المشاهدات لا يحصل التخفيف التام، فحال السحرة كانت حال الشهود والجذبة، وكان حال عمر - رضي الله عنه - حين الإيمان كحال السحرة، وبالجملة أن الإيمان وسيلة الإحسان, فمن سعى في إصلاح حاله في باب الأعمال أوصله الله تعالى إلى ما أوصل إليه أرباب الأحوال، كما قال عليه السلام: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم". 52 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} بعد ثلاثين سنة {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي: بمن آمن معك من بني إسرائيل، والإيحاء: إعلام في خفاء، ويقال: سرى يسري سُرًى إذا سار ليلًا، كما سيأتي في مبحث التصريف، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به، والمعنى (¬1): وقلنا لموسى بطريق الوحي: يا موسى اذهب ببني إسرائيل بالليل، وسر بهم حتى تنتهي إلى بحر القلزم، فيأتيك هناك أمري فتعمل به، وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق، ويظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلا عتوًا وفسادًا وعلم الانتهاء إلى البحر من الوحي؛ إذ من البعيد أن يؤمر بالمسير ليلًا وهو لا يعرف جهة الطريق، ومن قول جبريل حين خرجوا من مصر: موعد ما بيني وبينك يا موسى البحر؛ أي: شط بحر القلزم. تقدم (¬2) الخلاف في {أَسْرِ}، وأنه قرىء بوصل الهمزة، وبقطعها في سورة هود، وقرأ اليماني: {أن سر} أمر من سار يسير. وجملة قوله: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}؛ أي: يتبعكم فرعون وجنوده تعليل للأمر بالإسراء؛ أي: أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حين تدخلون البحر، فيدخلون مداخلكم، فأطبقه عليهم فأغرقهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[53]

ثم (¬1) إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إن لنا في هذه الليلة عيدًا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر. قال القرطبي: فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سَحرًا، فترك الطريق إلى الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت، 53 - فلما أصبح فرعون، وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، وقوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح، وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} حين أخبر بمسيرهم في الليل {فِي الْمَدَائِنِ}؛ أي: في مدائن مصر وبلدانها {حَاشِرِينَ}؛ أي: شرطًا جامعين للعساكر ليتبعوهم. قيل: كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية، 54 - وقال لهم حين جمع عساكر المدائن {إِنَّ هَؤُلَاءِ}؛ أي: بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}؛ أي: لطائفة قليلة، وكانوا ست مئة ألف مقاتل، ليس فيهم من دون عشرين سنة، ولا من يبلغ ستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم؛ إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف ملك وخمسة آلاف ملك إلخ. وخمس مئة ألف ملك مسور، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبع مئة ألف رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. وروي أن فرعون خرج على حصان أدهم، وفي عسكره على لون فرسه ثلاث مئة ألف، والشرذمة الطائفة القليلة. وقال: قليلون دون قليلة باعتبار أنهم أسباط، كل سبط منهم سبط قليل 55 - {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإن بني إسرائيل {لَنَا لَغَائِظُونَ}؛ أي: لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا بمخالفتهم ديننا، وذهابهم بأموالنا التي استعاروها أن لهم عيدًا في هذه الليلة، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا، وهم منخرطون في سلك عبادنا 56 - {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}؛ أي: لجماعة متيقظون غير مغفلين، يستعملون الحزم والاحتياط في الأمور. ¬

_ (¬1) المراح.

يريد أن بني إسرائيل لقلتهم وحقارتهم لا يبالي بهم، ولا يتوقع علوهم وغلبتهم، ولكنهم يفعلون أفعالًا تغيظنا وتضيق بها صدورنا، ونحن جمع وقوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرة فساده، قاله فرعون لأهل المدائن؛ لئلا يظن به أنه خاف من بني إسرائيل. وقيل: معنى {حَاذِرُونَ}؛ أي: خائفون من شرهم. وقيل: ذووا قوة وأداة، شاكون السلاح؛ أي: متسلحون. وقرأ الكوفيون وابن ذكران وزيد بن علي {حَاذِرُونَ} بالألف بعد الحاء؛ أي: شاكون السلاح، وقرأ باقي السبعة {حذرون} بغير ألف؛ أي: متيقظون. وقال الزجاج: مؤدون؛ أي: متسلحون، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع: {حادرون} بالدال المهملة؛ أي: أقوياء أشداء. فصل في بيان كيفية خروجهم من مصر وقد جاء في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الحادي عشر: إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة، وأن الله سبحانه سيميت كل بِكْرٍ في أرض مصر من الإنسان والحيوان، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة في اليوم الرابع عشر من شهر الخروج، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار بالدم، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشوبًا بالنار مع فطير، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف، وهذا هو فصح الرب، وهذا الدم علامة على بيوت بني إسرائيل حتى يحفظ كل بكر معهم، ويتخطاهم إلى أبكار المصريين، ويكون أكل الفطير سبعة أيام، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارًا بالخروج من مصر من يوم (14) من شهر أبيب إلى (21) من هذا الشهر كل سنة، وهكذا أمر موسى قومه بذلك، ففعلوا كل هذا، ونجا أولادهم، وصار ذلك سنة أبدية، ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان في جميع بلاد مصر في نصف الليل اشتغل الناس بالأموات، وأخذ بنوا

إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم، وفعللوا ما أمرهم به الرب، فارتحلوا من رَعْمَسِيس إلى سكوت، وكانوا ست مئة ألف ماشٍ من الرجال ما عدا الأولاد، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملة، فطيرًا، اهـ. وكانت (¬1) إقامة بني إسرائيل في مصر (430) سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد، فلما أسرى بهم موسى، وأخبر فرعون بما صنعوا أرسل في مدائن مصر رجالًا من حرسه ليجمعوا الجند، فيتبعوهم ويردوهم إلى مصر، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا، ثم قوى فرعون جنده في اقتفاء آثارهم بأمور: 1 - {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)} فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم، وكبح جماحهم في الزمن الوجيز. 2 - {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)}؛ أي: وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن, فيحدثون الشغب والاضطراب في البلاد، إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها. 3 - {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}؛ أي: وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم، ويصعب رأب صدعهم، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. وخلاصة مقاله: أنّ هؤلاء عدد لا يعبأ به، وأن في مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم، ورددناهم على أعقابهم خاسئين، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب في البلاد، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة في الأمور. والذي نقول به ونجزم: أن بني إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون، لكنا لا ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

نجزم بعدد معين، وما في كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها كما ذكرنا, ولا ينبغي التعويل عليها، فخير لنا أن لا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها، وقد فند ابن خلدون في مقدمة تاريخه هذه الروايات، وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل، ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح. 57 - وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بني إسرائيل، فأهلكوا جميعًا، كما قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ}؛ أي: (¬1) فأخرجنا فرعون وقومه بأن خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب، فحملتهم عليه، يعني أنهم وإن خرجوا باختيارهم إلا أنه أسند الإخراج إليه تعالى من حيث الخلق المذكور {مِنْ جَنَّاتٍ}؛ أي: من بساتين كانت ممتدة على حافتي النيل من أسوان إلى رشيد {وَعُيُونٍ} وأنهار جارية من الماء 58 - {وَكُنُوزٍ}؛ أي: وأموال ظاهرة من الذهب والفضة ونحوهما. سمّاها كنزًا؛ لأن ما لا يؤدي منه حق الله تعالى فهو كنز، وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض، وما أدي منه فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، والكنز: المال المجموع المحفوظ. فائدة: والفرق بين الكنز والركاز والمعدن أن الركاز: المال المركوز؛ أي: المدفون في الأرض مخلوقًا كان أو موضوعًا. والمعدن: ما كان مخلوقًا. والكنز: ما كان موضوعًا. قال في "خريدة العجائب": وفي أرض مصر كنوز كثيرة، ويقال: إن غالب أرضها ذهب مدفون حتى قيل: إنه ما فيها موضع إلا وهو مشغول من الدفائن. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}؛ أي: مجلس حسن. قيل (¬2): أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم. قيل: إنه إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاث مئة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب. وقيل: أراد به المنازل الحسنة، وهذا أظهر، ومن ذلك قول الشاعر: وَفَيْهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وَجُوْهُهَا ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[59]

59 - وقوله: {كَذَلِكَ} إما (¬1) مصدر تشبيهي لـ {أخرجنا}؛ أي: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، فهو في محل نصب، أو في محل جر صفة لـ {مقام}؛ أي: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، أو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: إخراجنا كذلك؛ أي: كما وصفنا فيهم، أو الأمر كذلك، وقوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} معطوف على {فَأَخْرَجْنَاهُمْ}؛ أي: ملكنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بني إسرائيل على طريقة تمليك مال المورث للوارث، كأنهم ملكوها من حين خروج أربابها منها قبل أن يقبضوها ويتسلموها. والمعنى: جعلناهم متملكين لتلك النعيم بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: المعنى؛ أي: وملكنا بني إسرائيل جنات وعيونًا مماثلة لها في أرض الميعاد التى ساروا إليها، وفي هذا بيان أن حالهم تحول من الاستعباد والرق إلى الشرف والنعيم والعيون والمقام الكريم. والمعنى: أي (¬2) فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم، وتركوا المنازل العالية، والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله، وأورثنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بني إسرائيل 60 - {فَأَتْبَعُوهُمْ}؛ أي: لحق فرعون وقومه موسى وأصحابه حالة كون فرعون وقومه {مُشْرِقِينَ}؛ أي: داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها، أو حالة كون موسى وأصحابه داخلين في الشروق، فهو حال إما من الفاعل، أو من المفعول، أو منهما جميعًا؛ لأن الدخول المذكور قائم بهم جميعًا، والمعنى: فجعلوا أنفسهم تابعة لبني إسرائيل وقت شروق الشمس وطلوعها. وقرأ الجمهور: {فَأَتْبَعُوهُمْ} بقطع الهمزة؛ أي: جعلوا أنفسهم تابعة. وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها وتشديد التاء؛ أي: لحقوهم. والخلاصة: أي فخرجوا من مصر في حفل عظيم وجمع كثير من أولي الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند، فوصلوا إليهم حين شروق ¬

_ (¬1) مراح. (¬2) المراغي.

[61]

الشمس. 61 - ثم ذكر ما عَزَا بني إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه، فقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}؛ أي: فلما رأى كل من الفريقين صاحبه. وقرأ الجمهور: {تَرَاءَى} بتخفيف الهمزة مثل تراعى، وقرأ ابن وثاب والأعمش: {تراي الجمعان} بغير همز على مذهب التخفيف، وقرأ حمزة: {تريء} بكسر الراء وبمد ثم همز، وروى مثله عن عاصم، وقرىء: {تراءت الفئتان}، والصواب قراءة الجمهور؛ لأنه من باب تفاعل؛ أي: فلما رأى أحد الفريقين الآخر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}؛ أي: ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدو القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم؛ أي: إنا لملحقون من ورائنا, ولا طاقة لنا بقوم فرعون، وهذا البحر أمامنا، لا منفذ لنا فيه. قرأ الجمهور (¬1): {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} بإسكان الدال اسم مفعول من أدرك، ومنه {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشددة وكسر الراء على وزن مفتعلون، وهو لازم بمعنى الفناء، والاضمحلال، يقال منه: أدرك الشيء بنفسه إذا فني تتابعًا، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة. وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، وقال الفراء: معناهما؛ أي: معنى القراءتين واحد. والخلاصة: أنا لمتابعون، وسنهلك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد؛ لأنا قد انتهى بنا المسير إلى سيف البحر - ساحله -، وقد أدركنا فرعون وجنوده، 62 - فأجابهم موسى وطمأنهم وقوى نفوسهم حيث {قَالَ} موسى عليه السلام {كَلَّا}؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن ذلك المقال، فإنهم لا يدركونكم فإن الله تعالى وعدكم الخلاص منهم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} بالحفظ والنصر والرعاية والعناية {سَيَهْدِينِ}؛ أي: سيدلني إلى طريق النجاة منهم البتة. أي: قال موسى لهم: إنه لن يصلكم شيء مما تحذرون، فإن الله هو الذي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[63]

أمرني أن أسير بكم إلى هنا، وهو تعالى لا يخلف وعده، فهو سيهدين إلى طريق النجاة والخلاص وسينصرني عليهم ويتكفل بمعونتي. 63 - روي (¬1): أن رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يكتم إيمانه كان بين يدي موسى عليه السلام، فقال: يا كليم الله أين أمرت؟ قال هاهنا، فحرك فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر، فارتسب في الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فأوحى الله إليه بضرب البحر بعصاه، فإذا الرجل واقف على فرسه، ولم يبتل سرجه، ولا لبده، وذلك قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}؛ أي: قلنا له يا موسى اضرب بعصاك البحر. فـ {أَنِ} مفسرة بمعنى أي، و {الْبَحْرَ} (¬2): هو بحر القلزم؛ وهو طرف من بحر فارس، والقُلْزُم - بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي -: بليدة كانت على ساحل البحر من جهة مصر، بينها وبين مصر نحو ثلاثة أيام، وقد خربت، ويعرف موضعها اليوم بالسويس تجاه عجرود، منزل ينزله الحاج المتوجه من مصر إلى مكة، وبالقرب منها غرق فرعون، وبحر القلزم بحر مظلم وحش، لا خير فيه ظاهرًا وباطنًا، وعلى ساحل هذا البحر مدينة مدين؛ وهي خراب، وبها البئر التى سقى موسى عليه السلام منها غنم شعيب، وهي معطلة الآن. و {الفاء}: في قوله: {فَانْفَلَقَ} عاطفة على محذوف تقديره: فضربه موسى فانفلق ماء البحر؛ أي: انشق فصار اثني عشر فرقًا بعدد الأسباط بينهن مسالك {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ}؛ أي: كل جزء تفرق منه وتقطع {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}؛ أي: كالجبل المرتفع في السماء الثابت في مقره، فدخلوا في شعاب تلك الفرق، كل سبط في شعب منها، فقال كل سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى ربه، فجعل في تلك الجدران المائية مناظرة كالكوى حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة. قال الراغب: الطود: الجبلى العظيم، ووصفه بالعظم؛ لكونه فيما بين ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[64]

الأطواد عظيمًا، لا لكونه عظيمًا فيما بين سائر الجبال. وحكى (¬1) يعقوب عن بعض القراءة أنه قرأ: {كل فلق} باللام عوض الراء. قيل: لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح، فصار البحر يرمي بموج كالجبال، قال يوشع: يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا، والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا، فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته، وقال الذي يكتم إيمانه من آل فرعون: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: هاهنا، فكبح فرسه، فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء إلى آخر ما تقدم آنفًا. قيل: دخلوا البحر بالطول وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك. 64 - {وَأَزْلَفْنَا}؛ أي: قربنا {ثَمَّ}؛ أي: هناك؛ أي: في موضع انفلاق البحر {الْآخَرِينَ}؛ أي: فرعون وقومه حتى دخلوا عقب قوم موسى مداخلهم. وعن (¬2) عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون، يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم، ويقول للقبط: رويدكم ليلحق آخركم أولكم، فكان بنو إسرائيل يقولون: ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان قوم فرعون يقولون: ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل. وقيل المعنى: وقربناهم إلى الموت؛ لأنهم قربوا من أجلهم في ذلك الوقت. وقيل: المعنى: وحبسنا فرعون وقومه في الضبابة عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم، فوقفوا حيارى. وقرأ الحسن وأبو حيوة (¬3): {وزلفنا}: بلا ألف ثلاثيًا، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث: {وأزلقنا} بالقاف بدل الفاء؛ أي: أزللنا وأهلكنا من قولهم: أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

[65]

والمعنى: أي (¬1) وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضرب فانفلق، فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي، وصار فيه اثنا عشر طريقًا، لكل سبط منهم طريق، وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يبسًا كوجه الأرض، كما قال في آية أخرى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}. {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)}؛ أي: وقربنا فرعون وجنوده من البحر، وأدنيناهم منه. 65 - وقوله: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)} قبله محذوف تقديره: ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر، وأنجيناهم ومن اتبعهم على دينهم كلهم أجمعين، فلم يهلك منهم أحد؛ أي: أنجيناهم من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا إلى البر 66 - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}؛ أي: فرعون وقومه بإطباق البحر عليهم، ولم نبق منهم أحدًا. والخلاصة: أنه لما خرج أصحاب موسى، وتتام أصحاب فرعون .. انطبق عليهم البحر، فأغرقهم جميعًا. 67 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في جميع ما فصل من قصة موسى وفرعون خصوصًا في الإنجاء والغرق {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة عظيمة للمعتبرين، وسطوة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه، وعظيم سلطانه؛ أي: إن في الذي حدث في البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كونه معجزة له، وتحذيرًا من الإقدام على مخالفة أمر الله، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئًا، فقال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر المصريين وهم قوم فرعون؛ أي: ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون {مُؤْمِنِينَ} فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته وآسية امرأة فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام حين الخروج من مصر، واسمها مريم بنت ناموشا, وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى، فإنهم هلكوا ¬

_ (¬1) المراغي.

[68]

في البحر جميعًا، بل المراد من كان معه من الأصل، ومن كان متابعًا له ومنتسبًا إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال. وقال سيبويه: إن {كَانَ} زائدة، وإن المراد الإخبار عن المشركين بعدما سمعوا الموعظة. 68 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب المنتقم من أعدائه كفرعون وقومه {الرَّحِيمُ} بأوليائه كموسى وبني إسرائيل. قال بعضهم: هذا التأويل هو الذي يقتضيه ظاهر السياق، فإن قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ ...} الخ. ذَكر في هذه السورة في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي عليه السلام وقومه كما سبق، وذكر النبي عليه السلام وإن لم يتقدم صريحًا فقد تقدم كناية. والثاني في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، عليهم الصلاة والسلام، فتعقيب القول المذكور بكل قصة من هذه القصص يدل على أن المراد بالأكثر هو من لم يؤمن من قوم كل نبي من الأنبياء المذكورين، وقد ثبت في غير هذه المواضع أيضًا أن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون، فكون كل قصة آية وعبرة إنما يعتبر بالنسبة إلى من شاهد الواقعة، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، فيدخل فيهم قريش؛ لأنهم سمعوا قصة موسى وفرعون مثلًا من لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت آية لهم مع أن بيانها من غير أن يسمعها من أحد آية أخرى موجبة للإيمان، حيث دل على أنه ما كان إلا بطريق الوحي الصادق. وقد رجَّح بعضهم رجوع ضمير {أَكْثَرُهُمْ} إلى قومه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المعنى أن في ذلك المذكور لآية لأهل الاعتبار، كما في المذكور في أول السورة آية أيضًا، وما كان أكثر هؤلاء الذين يسمعون قصة موسى وفرعون - وهم أهل مكة - مؤمنين لعدم تدبرهم واعتبارهم، فليحذروا عن أن يصيبهم مثل ما أصاب آل فرعون، وإن ربك لهو العزيز الغالب على ما أراد من انتقام المكذبين، الرحيم البالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم ولا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم بعد مشاهدة هذه الآيات العظيمة بطريق الوحي مع كمال استحقاقهم لذلك. وفي الآية (¬1): تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يغتم قلبه المنير بتكذيب قومه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[69]

مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بذكر أمثال هذه القصص على أنه له أسوة بموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام، فإن ما ظهر على يد موسى من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب القبط له، وكفرهم به مع ما شاهدوه في البحر وغيره، وتكذيب بني إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة؛ ليقتدي بهم في الصبر على عناد قومه، وفي انتظار الفرج والنصر، كما قيل: اصبروا تظفروا كما ظفروا. وفي قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بشارة عظيمة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - بأن النصر سيكتب له، والظفر سيكون حليفه، كما قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}. فائدة: وأخرج (¬1) الفريابي بسنده عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا: ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل عاشت من العمر نحو سبع مئة سنة، فأرسل إليها موسى، فقال: دلينا على قبر يوسف، فقالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: انضبوا عنها الماء، ففعلوا، قالت: احفروا، فحفروا، فاستخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار. قصص إبراهيم عليه السلام 69 - قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واقرأ يا محمد على مشركي العرب، وأخبر أهل مكة {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} عليه السلام؛ أي: خبره العظيم الشأن، معطوف على العامل في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} وهو (اذكر) المقدر، 70 - وقوله: {إِذْ قَالَ} إبراهيم منصوب بـ {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: واقرأ عليهم خبر إبراهيم الخليل وقصته ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[71]

وقت قوله: {لِأَبِيهِ} آزر، وهو تارخ {وَقَوْمِهِ} أهل بابل، وهو كصاحب موضع بالعراق، وإليه ينسب السحر {مَا تَعْبُدُونَ}؛ أي: أي شيء تعبدونه؟ والاستفهام فيه للتقرير المضمن للتوبيخ، سألهم وقد علم أنهم عبدة الأوثان؛ لينبههم على ضلالهم، ويريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، وليلزمهم الحجة. فإن قلت (¬1): لم قال إبراهيم هنا في السؤال {مَا تَعْبُدُونَ}، وقال في الصافات؛ {مَاذَا تَعْبُدُونَ} بزيادة (ذا)، فما الفرق بين الموضعين؟ قلتُ: الفرق بينهما أنه لما وقع الجواب منهم هنا بقولهم: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا} سألهم بـ {مَا} الموضوعة لمجرد الاستفهام، وهناك لما لم يجيبوه سألهم بـ {ماذا} مبالغة في توبيخهم، ولهذا زاد هناك في التوبيخ، فقال: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} فذكر في كل سورة ما يناسب ما ذكر فيها، والله أعلم بأسرار كلامه. والمعنى: أي (¬2) واتل يا محمد على أمتك أخبار إبراهيم الخليل إمام الحنفاء؛ ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده لا شريك له، والتبري من الشرك، وقد أوتي الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأوثان، فقال لأبيه وقومه: ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل، روي أن أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، 71 - فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل المزهو بجميل ما يصنع، كما ذكره بقوله سبحانه: {قَالُوا}؛ أي: قال أبوه وقومه {نَعْبُدُ أَصْنَامًا} وهي اثنان وسبعون صنمًا، جمع صنم، والصنم: ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، كما في "فتح الرحمن" {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}؛ أي: فنقيم على عبادتها طول النهار، وإنما قالوا: {فَنَظَلُّ}؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، أو معناه الدوام، وإنما لم يقتصروا على قولهم: {أَصْنَامًا} بل أطنبوا في الجواب بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنافهم ابتهاجًا ¬

_ (¬1) فتح الرحمن بتصرف. (¬2) المراغي.

[72]

وافتخارًا بذلك، وصلة العكوف كلمة على، وإيراد اللام لإفادة معنى زائد، كأنهم قالوا: فنظل لأجلها مقبلين على عبادتها، ومستديرين حولها. وقال أبو الليث: إن إبراهيم عليه السلام ولدته أمه في الغار، فلما خرج وكبر دخل المصر، وأراد أن يعلم على أي مذهب هم، وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم، فإن وجدهم على الاستقامة دخل معهم، وإن وجدهم على غير الاستقامة أنكر عليهم. 72 - فلما قال إبراهيم: ما تعبدون، وقالوا: نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين، وأراد أن يبين عيب فعلهم {قَالَ} إبراهيم، استئناف بياني {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ}؛ أي: هل يسمعون دعاءكم؛ أي: هل تسمع تلك الأصنام دعاءكم، فهو على حذف المضاف، فإن {كم} ليس من قبيل المسموعات، والتعبير عنها بالواو بحسب زعمهم، فإنهم كانوا يجرون الأصنام مجرى العقلاء، وقرأ الجمهور: {يَسْمَعُونَكُمْ} بفتح الياء من سمع الثلاثي، وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم من أسمع الرباعي؛ أي: هل يسمعونكم أصواتهم في الاستجابة لكم {إِذْ تَدْعُونَ}؛ أي: وقت دعائكم إياهم لحوائجكم فيستجيبون لكم، وقرىء بإظهار ذال {إِذْ}، وبإدغامها في تاء {تَدْعُونَ} 73 - {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} في معايشكم بسبب عبادتكم لها {أَوْ يَضُرُّونَ} في معايشكم بتركك لعبادتها؛ إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر. 74 - {قَالُوا} ما رأينا منهم ذلك السمع أو النفع أو الضر {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ}: منصوب بقوله: {يَفْعَلُونَ} وهو مفعول ثان لـ {وَجَدْنَا}؛ أي: وجدناهم يعبدون مثل عبادتنا، فاقتدينا بهم، اعترفوا بأنها بمعزل من السمع والمنفعة والمضرة بالكلية، واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد. والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} للتقرير؛ أي: فإنها إذا كانت لا تسمع ولا تنفع ولا تضر فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا: نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جوابًا إلا رجوعهم إلى التقليد

[75]

البحت، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك؛ أي: يفعلون هذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها، وهذا الجواب هو العصي التي يتوكأ عليها كل عاجز، ويمشي بها كل أعرج، ويغتر بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع. 75 - وفي الآية: دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه، ومدح الأخذ بالاستدلال {قَالَ} إبراهيم متبرئًا من الأصنام {أَفَرَأَيْتُمْ} والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. ورأى؛ إما بصرية تتعدى لمفعول واحد، أو علمية بمعنى عرف تتعدى لمفعول واحد أيضًا، والتقدير: أنظرتم فأبصرتم، أو تأملتم فعلمتم 76 - {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)}؛ أي: الأولون حق الإبصار، أو حق العلم، فإن الباطل لا ينقلب حقًا بكثرة فاعليه، وكونه دأبًا قديمًا، و {مَا} موصولة عبارة عن الأصنام، 77 - و {الفاء} في: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} تعليلية؛ أي: فأنا لا أعبدها؛ لأنها عدو لي؛ أي: هل تأملتم ما كنتم تعبدونه أنتم وآباؤكم، فعلمتم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تستحق العبادة، وأنا لا أعبدها معكم؛ لأنها عدو لي إلا رب العالمين. وقيل: أرأيتم بمعنى أخبروني؛ أي: أخبروني عن حال ما كنتم تعبدون هل هي تنفع، أو تضر، أم لا، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أم لا، وهذا استهزاء بعبدة الأوثان. أي: لم تنظروا ولم تقفوا على حالها أنها لا تنفع ولا تضر، ولو وقفتم على حالها ما عبدتموها، فاعلموا أن الأصنام أعداء لعابديهم؛ لما أنهم يتضررون بهم يوم القيامة فوق ما يتضرر الرجل من عدوه، فسمى الأصنام أعداء، وهي جمادات على سبيل الاستعارة، وصور الأمر في نفسه حيث قال: {عَدُوٌّ لِي} لا لكم تعريضًا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارًا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول. وقال الفراء: هو من المقلوب، ومعناه: فإني عدو لهم، فإن من عاديته عاداك، وأفرد العدو؛ لأنه يطلق بلفظه كالصديق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر؛ لأنه في الأصل مصدر، أو بمعنى النسب؛ أي: ذووا

[78]

عداوة كتامر لذي تمر. والاستثناء في قوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: إما (¬1) منقطع، فالمعنى عليه: فاعلموا أن معبوداتكم عدوّ لي، لا أعبدها, لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة، لا يزال يتفضل عليّ بمنافعهما فأعبده، أو متصل، فالمعنى عليه: فإن كل معبود عدوّ لي إلا رب العالمين، فإنه ليس بعدوّي بل هو وليي ومعبودي. والحاصل: أن إبراهيم عليه السلام صوّر الأمر في نفسه كما مر آنفًا تعريضًا بهم، فالمعنى: إني تفكرت في أمري، فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو؛ لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان؛ فإنه أعدى عدو الإنسان، فاجتنَبتها، وأراهم إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا قالوا: ما نصحنا إبراهيم إلّا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى للقبول، وأبعث إلى الاستماع منه. ومعنى الآية: أي (¬2) إن كانت هذه الأصنام لها تأثير كما تدعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فتخلص إليّ بالمساءة، فإني عدو لها, لا أبالي بها, ولا آبَهُ بشأنها, ولكن رب العالمين هو وليي في الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلًا علي فيهما. ونحو الآية قول نوح عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}، وقول هود: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}. 78 - ثم وصف معبوده رب العالمين الذي يستحق العبادة بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد، فقال: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[79]

1 - {الَّذِي خَلَقَنِي} وصورني من النطفة بالتكوين في القرار المكين، {فَهُوَ} وحده {يهدينـ} ـي ويرشدني إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة. والاستقبال (¬1) في {يهديني} مع سبق العناية بالهداية؛ لأنه يحتمل يهديني للأهم الأفضل، والأتم الأكمل، أو الذي خلقني لأسباب خدمته، فهو يهديني إلى آداب خلته، أي: رب العالمين هو الخالق الذي خلقني وصوّرني فأحسن صورتي، فهو الذي يهديني إلى كل ما يهمني من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار. 2 - 79 {و} هو الإله {الَّذِي هُوَ} وحده {يُطْعِمُنِي}؛ أي: طعام شاء {وَيَسْقِينِ} ـي أي شراب شاء؛ أي: هو وحده رازقي بكل منافع الرزق وأنواعها، فمن عنده طعامي وشرابي، وليس الإطعام والسقي عبارتين عن مجرد خلق الطعام والشراب له، وتمليكهما إياه، بل يدخل فيهما إعطاء جميع ما يتوقف الانتفاع بالطعام والشراب عليه، كالشهوة وقت المضغ والابتلاع والهضم والدفع ونحو ذلك، ومن دعاء أبي هريرة - رضي الله عنه - اللهم اجعل لي ضرسًا طحونًا، ومعدة هضومًا، ودبرًا بشورًا. والمعنى (¬2): وهو رازقي بما يسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء، فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقًا للعباد، وأنزل الماء عذبًا زلالًا، يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسي. فإن قلت: لِمَ زاد {هُوَ} عقب {الَّذِي} في الإطعام والسقي؟ قلت: لأنهما مما يصدران من الإنسان عادة، فيقال: زيد يطعم ويسقي، فذكر {هُوَ} تأكيدًا وإعلامًا بأن ذلك منه تعالى، لا من غيره بخلاف الخلق والموت والحياة، لا تصدر من غير الله تعالى: اهـ من "فتح الرحمن". وتكرير (¬3) الموصول في المواضع الثلاثة المعطوفة للإيذان بأن كل واحد من ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي. (¬3) أبو السعود.

[80]

الصلات نعت جليل مستقل في إيجاب الحكم. 3 - 80 {و} الذي {إِذَا مَرِضْتُ}؛ أي: أصابني مرض {فَهُوَ} وحده {يَشْفِينِ} ـي؛ أي: يبرئني ويعافيني من المرض؛ أي: ينعم علي بالشفاء إذا حصل لي مرض، لا الأطباء، وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان، ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية، فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض هو الذي يشفي، وهو الله تعالى. والخلاصة: أني إذا مرضت لا يقدر على شفائي أحد غيره مما يقدر من الأسباب الموصلة إلى ذلك، وحكي عن بعضهم أنه مرض وضعف حتى اصفر لونه، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبًا يداويك من هذا المرض؟ فقال: الطبيب أمرضني. فإن قلت: لِمَ (¬1) نسب المرض إلى نفسه حيث قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: وإذا أمرضني، والشفاء إلى الله تعالى حيث قال {فَهُوَ يَشْفِينِ} مع أنهما من الله تعالى؟ قلت: أراد الثناء على ربه، فأضاف إليه الخير المحض الذي هو الشفاء، وأضاف المرض الذي هو النقمة إلى نفسه لرعاية حسن الأدب؛ لأنه لو قال: وإذا أمرضني لعد قومه ذلك عيبًا، ونظيره قصة الخضر حيث قال في العيب: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، وفي الخير المحض {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}، وكذا الجن راقبوا هذا الأدب بعينه، حيث قالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}. فإن قيل: فهذا يرده قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي}؟. فالجواب: أن القوم كانوا لا ينكرون الموت، وإنما يجعلون له سببًا سوى تقدير الله تعالى، فأضافه إبراهيم إلى الله عز وجل. اهـ. من "زاد المسير". ¬

_ (¬1) زاد المسير بتصرف.

[81]

وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} معطوف على {يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، وإنما نظمهما في سلك صلة واحدة، لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبًا، فإن البطنة تورث الأسقام والأوجاع، والخمصة أصل الراحة والسلامة، قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، وفي الحكمة: ليس للبطنة خير من خمصة تتبعها. 4 - 81 {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} في الدنيا بقبض روحي عند انقضاء الأجل {ثُمَّ يُحْيِينِ} ي بالبعث في الآخرة لمجازاة العمل. أدخل {ثُمَّ} هنا؛ لأن بين الإماتة الواقعة في الدنيا وبين الإحياء الحاصل في الآخرة تراخيًا، ونسبة الإماتة إلى الله تعالى؛ لأنها من النعم الإلهية في الحقيقة حيث إن الموت وصلة لأهل الكمال إلى الحياة الأبدية، والخلاص من أنواع المحن والبلية. 5 - 82 {وَالَّذِي أَطْمَعُ} وأرجو {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} بترك الأولى، أو هي كذباته الثلاث، وقد تقدم الكلام عليها {يَوْمَ الدِّينِ}؛ أي: يوم الجزاء والحساب، روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، أكان ذلك نافعًا له؟ قال: لا ينفع؛ إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وابن جدعان اسمه عبد الله، وهو ابن عم عائشة - رضي الله عنها - وكان في ابتداء أمره فقيرًا، ثم ظفر بكنز استغنى به، فكان ينفق من ذلك الكنز، ويفعل المعروف. وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال. وخلاصة مقاله: أن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هي من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شيء منها. قرأ الجمهور: {خَطِيئَتِي} بالإفراد، والحسن {خطاياي} بالجمع. واستغفار الأنبياء عليهم السلام تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم؛ ليكونوا على حذر وطلب, لأن يغفر الله سبحانه لهم ما فرط منهم.

وبعدما ذكر فنون الألطاف الفائضة عليه من الله تعالى من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه حمله ذلك على مناجاته تعالى، ودعائه لربط العتيد، وجلب المزيد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي} إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله تعالى. الإعراب {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)}. {فَجُمِعَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فبعث فرعون في المدائن حاشرين، فجمع السحرة {جُمِعَ السَّحَرَةُ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جمع}. {مَعْلُومٍ}: صفة {يَوْمٍ}. {وَقِيلَ}: {الواو}: عاطفة. {قيل}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِلنَّاسِ}: متعلق به. {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}: نائب فاعل محكي لـ {قيل}، والجملة معطوفة على جملة {جمع}، وإن شئت قلت: {هَلْ}: حرف للاستفهام الاستبطائي، فيه معنى الحث على الفعل. {أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {لَعَلَّنَا}: {لعل}: حرف ترج ونصب، و {نا}: اسمها. {نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل} على كونها معللة للاجتماع. {إن}: حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْغَالِبِينَ}: خبر كان، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كانوا هم الغالبين نتبعهم، وجملة {إن} الشرطية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر

تقديره: إذا عرفت أن السحرة جمعت، وأردت بيان ما قالوا بعدما جمعوا: فأقول لك: لما جاء السحرة. {لَمَّا}: اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. {جَاءَ السَّحَرَةُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لما}. ومحلها الجر بالإضافة {قَالُوا}: فعل وفاعل. {لِفِرْعَوْنَ}: متعلق به، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَئِنَّ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {إن}: حرف نصب. {لَنَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إن}. {لَأَجْرًا}: {اللام}: حرف ابتداء، {أجرا}: اسم {إن} مؤخر، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إن}: حرف شرط. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {نَحْنُ}: ضمير فصل. {الْغَالِبِينَ}: خبر كان، وجواب {إِن} الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنا نحن الغالبين فلنا أجر، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة. {نَعَمْ} حرف جواب قائم مقام الجواب المحذوف تقديره: نعم لكم أجر، والجواب المحذوف في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَإِنَّكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {إنكم} ناصب واسمه. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل لها. {لَمِنَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {من المقربين}: جار ومجرور خبر {إِنَّكُمْ}، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على الجواب المحذوف. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {مُوسَى}: فاعل، والجملة مستأنفة. {أَلْقُوا} فعل أمر وفاعل. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {أَلْقُوا} في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنْتُمْ مُلْقُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما أنتم ملقونه. {فَأَلْقَوْا} {الفاء}: عاطفة، {ألقوا}: فعل ماض وفاعل. {حِبَالَهُمْ}: مفعول به

ومضاف إليه. {وَعِصِيَّهُمْ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قَالَ}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {أَلْقُوا}. {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ}: الباء: حرف جر وقسم، {عزة}: مقسم به مجرور بباء القسم. {فِرْعَوْنَ}: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نحلف ونقسم بعزة فرعون، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {لَنَحْنُ}: {اللام}: حرف ابتداء، {نحن}: ضمير فصل. {الْغَالِبُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب القسم. {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)}. {فَأَلْقَى}: {الفاء}: عاطفة، {ألقى موسى عصاه}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على قوله: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة، {إذا}: حرف فجأة. {هِيَ}: مبتدأ. {تَلْقَفُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على العصا. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَلْقَفُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {ألقى} عطف اسمية على فعلية. {يَأْفِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يأفكونه. {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ}: فعل ونائب فاعل معطوف على قوله: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ}. {سَاجِدِينَ}: حال من {السَّحَرَةُ}، والأصل: فألقى الله السحرة ساجدين. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال ثانية من {السَّحَرَةُ}، ولكن بتقدير قد. {آمَنَّا}: فعل وفاعل. {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {آمَنَّا}، وجملة {آمَنَّا} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {رَبِّ}: بدل من {رب العالمين}: {مُوسَى}: مضاف إليه. {وَهَارُونَ}: معطوف على {مُوسَى}. {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}، والجملة مستأنفة.

{آمَنْتُمْ لَهُ} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {آمَنْتُمْ}: فعل وفاعل. {لَهُ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَبْلَ}: منصوب على الظرفية متعلق بآمن أيضًا. {أَنْ}: حرف نصب. {آذَنَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، {أَىَّ} قبل إذني لكم. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لكبيركم}: {اللام}: حرف ابتداء، {لَكَبِيرُكُمُ}: خبر {إن} ومضاف إليه، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لإيمانهم. {الَّذِي}: في محل الرفع صفة لـ {كبيركم}. {عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة صلة الموصول. {فَلَسَوْفَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم واستمررتم على فعلكم، وأردتم بيان عاقبتكم .. فأقول لكم. {لسوف تعلمون}: و {اللام}: زائدة زيدت لتأكيد معنى الكلام، وليست للقسم كما مر في مبحث التفسير. {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَأُقَطِّعَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أقطعن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده من الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}. {أَيْدِيَكُمْ}: مفعول به. {وَأَرْجُلَكُمْ}: معطوف على {أَيْدِيَكُمْ}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مفسرة لقوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. {مِنْ خِلَافٍ}: جار ومجرور حال من {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}؛ أي: حالة كونها متخالفات النوع والاسم. {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {أصلبنكم}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لضمير المخاطبين، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأولى. {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}

{قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَا ضَيْرَ}: {لَا}: نافية تعمل عمل إن. {ضَيْرَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف تقديره: لا ضير كائن علينا، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {إِلَى رَبِّنَا}: متعلق بـ {مُنْقَلِبُونَ}. {مُنْقَلِبُونَ}: خبر {إنّ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معللة لعدم الضير. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {نَطْمَعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، وجملة {نَطْمَعُ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها علة ثانية لعدم الضير. {أَنْ يَغْفِرَ}: ناصب وفعل منصوب. {لَنَا}: متعلق بـ {يَغْفِرَ}. {رَبُّنَا}: فاعل. {خَطَايَانَا}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: في غفران خطايانا، أو منصوب على المفعولية على تضمين نطمع معنى نرجو. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، في محل النصب بـ {أَن} المصدرية. {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}: خبر كان ومضاف إليه، وجملة كان مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ أي: لكوننا أول المؤمنين، أو بسبب كوننا أول المؤمنين، والجار المحذوف متعلق بـ {يَغْفِرَ}؛ أي: أول من آمن من أتباع فرعون ورعيته. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}. {وَأَوْحَيْنَا}: {الواو}: استئنافية. {أوحينا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِلَى مُوسَى}: متعلق بـ {أوحينا}. {أَنْ}: مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه. {أَسْرِ}: فعل أمر من أسرى إذا سار ليلًا، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {بِعِبَادِي}: متعلق بـ {أَسْرِ}، أو حال من فاعل {أَسْرِ}؛ أي: متلبسًا بعبادي. {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أَنْ} مستأنفة مسوقة لتعليل الإسرار. {فَأَرْسَلَ}: {الفاء}: عاطفة. {أرسل فرعون}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على {أوحينا}. {فِي الْمَدَائِنِ}: متعلق بـ {أرسل}، أو حال من

{حَاشِرِينَ}. {حَاشِرِينَ}: مفعول به. {إِنَّ هَؤُلَاءِ}: ناصب واسمه. {لَشِرْذِمَةٌ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء. {قَلِيلُونَ}: صفة لـ {شرذمة}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فرعون؛ أي: حالة كونه قائلًا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون. {وَإِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {لَنَا}: متعلق بـ {غائظون}. {لَغَائِظُونَ}: خبر {إن}، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ}، {وَإِنَّا}: ناصب واسمه. {لَجَمِيعٌ}: خبر {إن}، و {اللام}: حرف ابتداء. {حَاذِرُونَ}: صفة {جميع}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)}. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {أخرجناهم}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ}. {مِنْ جَنَّاتٍ}: متعلق بـ {أخرجنا}. {وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} معطوفة على {جَنَّاتٍ}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف تقديره: أخرجنا إخراجًا مثل ذلك الإخراج العجيب الذي وقع لهم، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك؛ أي: أمرنا كائن كذلك؛ أي: مثل ما فعلنا بهم من الإخراج المذكور، أو صفة ثانية لـ {مقام}. {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {أخرجنا}. {فَأَتْبَعُوهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {أتبعوهم}: فعل وفاعل ومفعول ثان، والمفعول الأول محذوف تقدير: فأتبعوا أنفسهم إياهم؛ أي: لحقوهم. {مُشْرِقِينَ}: حال؛ إما من الفاعل، أو من المفعول، والجملة معطوفة على {أخرجناهم}، وذلك لأن إعطاء البساتين وما بعدها لبني إسرائيل إنما كان بعد هلاك فرعون وقومه اهـ. شيخنا. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة. {لما}: اسم شرط غير جازم. في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. {تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط في

محل جر بالإضافة لـ {لما}. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على جملة قوله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} {إِنَّا}: ناصب واسمه. {لَمُدْرَكُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {مدركون}: خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر بمعنى ارتدعوا وانزجروا. {إِنَّ}: حرف نصب. {مَعِيَ}: ظرف ومضاف متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم على اسمها. {رَبِّي}: اسمها مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {سَيَهْدِينِ} {السين}: حرف استقبال. {يَهْدِينِ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، والنون نون الوقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَوْحَيْنَا}: {الفاء}: عاطفة، {أوحينا}: فعل وفاعل. {إِلَى مُوسَى}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى}. {أَنِ}: مفسرة بمعنى أي. {اضْرِبْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مُوسَى}. {بِعَصَاكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اضْرِبْ}. {الْبَحْرَ}: مفعول به، والجملة جملة مفسرة لجملة {أوحينا} لا محل لها من الإعراب. {فَانْفَلَقَ}: {الفاء}: عاطفة، {انفلق}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الْبَحْرَ}، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فضربه فانفلق. {فَكَانَ}: {الفاء}: عاطفة، {كان كل فرق}: فعل ناقص واسمه. {كَالطَّوْدِ}: خبر {كان}. {الْعَظِيمِ}: صفة لـ {الطود}، وجملة {كان}: معطوفة على جملة {انفلق}. {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}. {وَأَزْلَفْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أوحينا}. {ثَمَّ}: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بـ {أزلفنا}.

{الْآخَرِينَ}: مفعول به. {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أزلفنا}. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {مُوسَى}. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {مَن} الموصولة. {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لـ {مَن} الموصولة. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أنجينا}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبر لـ {إِنَّ} مقدم على اسمها. {لَآيَةً}: {اللام}: حرف ابتداء، {آية}: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على جملة {إِنَّ}. {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه. {لَهُوَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {هو}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ}: خبر {إِنَّ}. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)}. {وَاتْلُ}: {الواو}: عاطف. {اتل}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمد. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على اذكر المقدر عاملًا في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، والظرف بدل من {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} بدل اشتمال، فيكون العامل فيه {أتل}، وقيل: منصوب بـ {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: وقت قوله لأبيه. {لِأَبِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {وَقَوْمِهِ}: معطوفة على {أبيه}. {مَا}: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم لـ {تَعْبُدُونَ}. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {نَعْبُدُ أَصْنَامًا}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على قوم إبراهيم وأبيه، والجملة في

محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَنَظَلُّ}: {الفاء}: عاطفة، {نظل}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على قوم إبراهيم. {لَهَا}: متعلق بـ {عَاكِفِينَ}. {عَاكِفِينَ}: خبر ظل، وجملة {نظل} في محل النصب معطوفة على جملة {نَعْبُدُ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة مستأنفة. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التوبيخي. {يَسْمَعُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، ولكنه على تقدير محذوف؛ أي: يسمعون دعاءكم، أو يسمعونكم إذ تدعون، فعلى الأول تكون متعدية لواحد اتفاقًا، وعلى الثاني هي متعدية للاثنين، فقامت الجملة المقدرة مقام المفعول الثاني؛ وهو قول أبي علي الفارسي، وعند غيره الجملة المقدرة حال كما هو مبسوط في محله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {يَسْمَعُونَكُمْ}. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يَسْمَعُونَكُمْ}. {أَوْ يَضُرُّونَ}: معطوف عليه أيضًا. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي أفادوا بها الإجابة عن استفهامة. {وَجَدْنَا آبَاءَنَا}: فعل وفاعل ومفعول أول، وجملة {يَفْعَلُونَ} في محل المفعول الثاني. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف تقديره: يفعلون فعلًا مثل ذلك الفعل، أو تجعل الكاف مفعولًا به مقدمًا لـ {يَفْعَلُونَ}، ولعله أولى، وجملة قوله: {بَلْ وَجَدْنَا} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}، والجملة مستأنفة. {أَفَرَأَيْتُمْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى الاستهزاء والسخرية، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {رأيتم}: فعل وفاعل؛ وهي إما بصرية تتعدى لمفعول واحد، أو علمية بمعنى عرف تتعدى لمفعول واحد أيضًا. {مَا}: موصولة في محل النصب مفعول به، والتقدير: أنظرتم فأبصرتم ما كنتم تعبدون، أو تأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون،

والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}، ويحتمل أن تكون رأيتم بمعنى أخبروني، فتكون متعدية لمفعولين؛ أولهما اسم الموصول، وثانيهما محذوف، وهو جملة استفهامية، والتقدير: أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو جدير بالعبادة. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْبُدُونَ}: خبر كان، وجملة كان صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كنتم تعبدونه. {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}. {أَنْتُمْ}: تأكيد للضمير في {تَعْبُدُونَ}؛ ليصح العطف عليه. {وَآبَاؤُكُمُ}: معطوف على {الواو} في {تَعْبُدُونَ}. {الْأَقْدَمُونَ}: صفة لـ {آباؤكم}. {فَإِنَّهُمْ}: {الفاء}: تعليلية، {إنهم}: ناصب واسمه. {عَدُوٌّ}: خبره. {لِي}: صفة لـ {عَدُوٌّ}، أو متعلق به؛ لأنه بمعنى معاد لي. {إِلَّا}: أداة استثناء. {رَبَّ}: منصوب على الاستثناء، والاستثناء منقطع، وإلا تقدر بـ: لكن، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها تعليلية لمحذوف تقديره: فلا أعبدهم لأنهم عدو لي إلّا رب العالمين {الْعَالَمِينَ}: مضاف إليه. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {رَبَّ الْعَالَمِينَ}، أو بدل منه، أو عطف بيان له، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الذي خلقني. {خَلَقَنِي}: فعل ماض ونون وقاية، وفاعل مستتر يعود على الموصول ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {فَهُوَ}: {الفاء}: عاطفة، {هو}: مبتدأ. {يَهْدِينِ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية على كونها صلة الموصول. {وَالَّذِي}: معطوف على الموصول الأول. {هُوَ}: مبتدأ. {يُطْعِمُنِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَيَسْقِينِ}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على

جملة {يُطْعِمُنِي}. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط. {مَرِضْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في حل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {هو}: مبتدأ، وجملة {يَشْفِينِ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة الصلة. {وَالَّذِي}: معطوف على الموصول الأول وجملة {يُمِيتُنِي}: صلة الموصول. {ثُمَّ يُحْيِينِ}: معطوف على {يُحْيِينِ}. {وَالَّذِي}: معطوف على الموصول الأول. {أَطْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {أَنْ يَغْفِرَ}: ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول. {لِي}: متعلق به. {خَطِيئَتِي}: مفعول به ومضاف إليه. {يَوْمَ الدِّينِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَغْفِرَ}، وجملة {يَغْفِرَ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَطْمَعُ} على تضمينه معنى أرجو؛ أي: والذي أرجو غفرانه لي يوم الدين، وجملة {أَطْمَعُ} صلة الموصول، والعائد ضمير مستتر في {يَغْفِرَ}، ويجوز أن يكون في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض تقديره: والذي أطمعه في غفران خطيئتي. التصريف ومفردات اللغة {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} الميقات: ما وقت به؛ أي: حدّد من مكان أو زمان، ومنه مواقيت الإحرام ومواقيت الصلاة. أصله: موقات؛ لأنه من وقت قلبت {الواو} ياء؛ لوقوعها إثر كسرة، واليوم المعلوم هو يوم الزينة الذي حدده موسى في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}. وفي "الروح": الميقات: الوقت المضروب للشيء؛ أي: لما وقت به وعين من ساعات يوم معين، وهو

وقت الضحى من يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم، كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة. {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ}؛ أي: قوته التي يمتنع بها من الضيم. {تَلْقَفُ}؛ أي: تبتلع بسرعة، من لقفه - كسمعه - إذا تناوله بسرعة، كما في "القاموس". {إِنَّا نَطْمَعُ}؛ أي: نرجو، قال في "المفردات": الطمع: نزوع النفس إلى شيء شهوة له. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} الإيحاء: إعلام في خفاء، ويقال: سرى يسري - بالكسر - سرى - بالضم - وسرى - بالفتح - وأسرى أيضًا؛ أي: سار ليلًا. {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ} والشرذمة: الطائفة القليلة، والجمع الحقير القليل يجمع على شراذم. قال الجوهري: الشرذمة: الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم؛ أي: قطع، ومنه قول الشاعر: جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيْصِيْ أخْلاَقُ ... شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهَا الْخَلاَقْ {قَلِيلُونَ} قال الفراء: يقال: عصبة قليلة وقليلون، وكثيرة وكثيرون، وقال المبرد: الشرذمة: القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم، قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم ست مئة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. {لَغَائِظُونَ}؛ أي: فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، يقال: غاظني كذا وأغاظني، ومنه التغيظ والاغتياظ، والغيظ أشد الغضب؛ وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه. {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} يقال للمجموع: جمع وجميع وجماعة، والحذر: الاحتراز عن المخاوف. قال الفراء: الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلّا حذرًا، وقال الزجاج: الحاذر المستعد، والحذر

المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد: قال النحاس: {حذرون} قراءة المدنيين وأبي عمرو، و {حَاذِرُونَ} قراءة أهل الكوفة، قال: وأبو عبيدة لذهب إلى أن معنى {حذرون} و {حَاذِرُونَ} واحد؛ وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه: حَذِرُ أُمُوْرًا لاَ تَضِيْرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ يُنْجِيْهِ مِنَ الأَقْدَارِ وفي "المصباح" حذر حذرًا من باب تعب، واحتذر واحترز كلها بمعنى استعد وتأهب، فهو حاذر وحذر، والاسم منه الحذر مثل حمل، وحذر الشيء إذا خافه، فالشيء محذور؛ أي: مخوف، وحذرته الشيء فحذره، اهـ. {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين، جمع جنة. {وَعُيُونٍ}: جمع عين من الماء، قال الراغب: يقال لمنبع الماء عين تشبيهًا بالعين الجارحة؛ لما فيها من الماء. {وَكُنُوزٍ}؛ أي: أموال كنزوها وخزنوها في باطن الأرض. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}؛ أي: قصور عالية، ودور فخمة. قال السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام": المقام الكريم الفيوم من أرض مصر في قول طائفة من المفسرين، ومعنى الفيوم ألف يوم، كما في "التكملة"؛ وهي مدينة عظيمة بناها يوسف الصديق عليه السلام، ولها نهر يشقها، ونهرها من عجائب الدنيا، وذلك أنه متصل بالنيل، وينقطع أيام الشتاء، وهو يجري في سائر الزمان على العادة، ولهذه المدينة ثلاث مئة وستون قرية عامرة كلها مزارع وغلال، ويقال: إن الماء قد أخذ أكثرها في هذا الوقت، وكان يوسف جعلها على عدد أيام السنة، فإذا أجدبت الديار المصرية كانت كل قرية منها تقوم بأهل مصر يومًا، وبأرض الفيوم بساتين وأشجار وفواكه كثيرة رخيصة وأسماك زائدة الوصف، وبها من قصب السكر كثير. {وَأَوْرَثْنَاهَا}؛ أي: ملكناها لهم تمليك الميراث. {فَأَتْبَعُوهُمْ} بقطع الهمزة، يقال: أتبعه إتباعًا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا إذا مرّ به ومضى معه. {مُشْرِقِينَ} أي: داخلين في وقت الشروق، يقال: أشرق وأصبح وأمسى وأظهر إذا دخل في الشروق والصباح والمساء والظهيرة. قال الزجاج: يقال:

شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. {تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}؛ أي: تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر، وهو تفاعل من الرؤية. {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}؛ أي: سيدركوننا ويلحقون بنا، اسم مفعول من أدرك الرباعي، ومنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}. {الْبَحْرَ}: وهو بحر القلزم كما مر، وسمّي البحر بحرًا لاستبحاره؛ أي: اتساعه وانبساطه. {فَانْفَلَقَ}؛ أي: انشق. {كُلُّ فِرْقٍ} الفرق: الجزء المنفرق منه. قال في "المفردات": الفرق يقارب الفلق، لكن الفلق يقال اعتبارًا بالانشقاق، والفرق يقال اعتبارًا بالانفصال، والفرق القطعة المنفصلة، وكل فرق بالتفخيم والترقيق لكل القراء، والتفخيم أولى. {كَالطَّوْدِ} الطود: الجبل، ويجمع على أطواد، يقال: طاد يطود إذا ثبت قال امرؤ القيس: فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِيْ الأَحْيَاءِ طَوْدٌ ... رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالاَ وقال الأسود بن يعمر: حَلّوا بِأنْقَرَةٍ يَسِيْلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيْءُ مِنْ أَطْوَادِ {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)}؛ أي: قربناهم إلى البحر يعني فرعون وقومه، قال الشاعر: وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ ... فِيْهَا النُّفُوْسُ إِلَى الآجَالِ تَزْدَلِفُ قال أبو عبيدة: أزلفنا جمعنا، ومنه قيل لليلة مزدلفة: ليلة جمع. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}: من التلاوة، وهي القراءة على سبيل التتابع، والقراء أعم. {وَقَوْمِهِ} والقوم: جماعة الرجال في الأصل دون النساء، كما نبّه عليه قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء

جميعًا، كما في "المفردات". {أَصْنَامًا}: جمع صنم، قال في "المفردات": الصنم: جثة متخذة من فضة، أو نحاس، والوثن: حجارة كانت تعبد. {فنظل} يقال: ظللت أعمل كذا - بالكسر - ظلولًا إذا عملت بالنهار دون الليل. {عَاكِفِينَ} العكوف: اللزوم، ومنه المعتكف لملازمته المسجد على سبيل القربة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المغاير بين {فَجُمِعَ} و {مُجْتَمِعُونَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ}. ومنها: التأكيد في قوله: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا}، وفي قوله: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)} كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وقد زاد هذه الاستعارة حسنًا المشاكلة؛ لأنه عبر بـ {ألقى} عن الخرور، فلم يقل: فخروا ساجدين؛ لمشاكلة الإلقاءات المتقدمة. ومنها: الإبهام والتفصيل في قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أبهم ما أوعدهم به، ثم فصله بقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} الخ.

ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَانْفَلَقَ}؛ أي: فضرب فانفلق. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}؛ أي: كالجبل في رسوخه وثباته، ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه. ومنها: الإطناب في قوله: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}؛ لأنه كان مقتضى جواب السؤال؛ وهو {مَا تَعْبُدُونَ} أن يقولوا: أصنامًا؛ لأنه سؤال عن المعبود فحسب، ولكنهم أضافوا إلى الجواب زيادة شرحوا بها قصتهم كاملة؛ لأنهم قصدوا إظهار ابتهاجهم وإعلان افتخارهم، وذلك شائع في الكلام، وقالوا: نظل؛ لأنهم كانوا يعكفون على عبادتها في النهار دون الليل، وهذه هي مزية الإطناب. ومنها: التعريض في قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} فإنه صور المسألة في نفسه والعداوة مستهدفة شخصه، كأنه يعرض بهم قائلًا: لقد فكرت في المسألة مليًا، وأمعنت النظر فيها طويلًا، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي يتربص بي الدوائر. ومنها: الطباق بين {يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}، وكذلك بين {يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}. ومنها: مراعاة الأدب في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} لم يقل وإذا أمرضني، بل أسند المرض لنفسه تأدبًا مع الله سبحانه؛ لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبًا، وإن كان المرض والشفاء كلاهما بيده تعالى وقدرته، وللإشارة إلى أن كثيرًا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله ومشربه وغير ذلك. ومنها: حسن النسق في هذه الجمل، فإنه قدم الخلق الذي يجب تقديم الاعتداد به من الخالق على المخلوق، واعتراف المخلوق بنعمته فإنه أول نعمة، وفي إقرار المخلوق بنعمة الإيجاد من العدم إقراره بقدرة الخالق على الإيجاد والاختراع وحكمته، ثم ثنَّى بنعمة الهداية التي هي أولى بالتقديم بعد نعمة الإيجاد من سائر النعم، ثم ثلّث بالإطعام والإسقاء اللذين هما مادة الحياة،

وبهما من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبًا كما قلنا مع ربه، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندًا ذلك إلى ربه، ثم ذكر الإماتة مسندًا فعلها إلى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد والإعدام، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت، وفيه مع الإقرار بهذه النعمة الاعتراف بالقدرة والإيمان بالبعث، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة. ومنها: صحة التقسيم، فقد استوعبت هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية، والإطعام والإسقاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، والإيمان بالبعث وغفران الذنب. ومنها: التخلص؛ وهو فن عجيب بأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في غيره آخر، وجعل الأول سببًا إليه، فيكون بعضه آخذًا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغًا، فمما جاء من التخلص هذه الآية التي تسكر العقول، وتسحر الألباب، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولًا عما يعبدون سؤال مقرّر، لا سؤال مستفهم، ثم ألحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره، وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلًا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكر الإله الذي لا تجب العبادة إلّا له، ولا ينبغي الرجوع والأنابة إلّا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم، فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} على معنى أني فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا، فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلّا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال: إنهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة، فتخلص عند تصوره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات العظام، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه إلى حين يتوفاه مع

ما يرجى في الآخرة من رحمته؛ ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته، ثم تخلص من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة .. كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه بالجنة، ومن ضل عن عبادته بالنار، فتدبر هذه التخلصات البديعة المودعة في أثناء هذا الكلام. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}. المناسبة قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} الآية، مناسبة

هذه الآية لما قبلها: أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما أثنى (¬1) على ربه سبحانه بما أثنى عليه .. ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره، كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه؛ ليستغرق في معرفة ربه ومحبته، ويصير أقرب شبهًا بالملائكة الذين يعبدون الله سبحانه بالليل والنهار لا يفترون، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به في دينه ودنياه، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدي إلى ما يريد، ومن ثم جاء في الأثر حكاية عن الله تعالى: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر (¬2) إبراهيم عليه السلام أنه لا ينفع في هذا اليوم مال ولا بنون، وإنما ينفع البعد عن الكفر والنفاق .. ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورًا تبين شديد أهواله وعظيم نكاله. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما قص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد، وما حجّهم به من الآيات .. أردف هذا بقصص الأب الثاني؛ وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لاقاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان، وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلَّا عتوًا واستكبارًا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}، فأغرقهم الطوفان، ولم ينج منهم إلَّا من حملته السفينة، وهذا القصص مجمل هنا تقدم تفصيله في سورتي الأعراف وهود، وسيأتي بسطه أتم البسط في سورة نوح. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر قصص نوح وقومه، وأن نوحًا دعاهم وحذّرهم عقاب الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[83]

وطال عليه المطال، ولم يزدهم ذلك إلّا عتوًا ونفورًا فدعا ربه، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون .. أردف ذلك بقصص هود عليه السلام مع قومه عاد، وكانوا بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن، وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال وجنات وأنهار وزروع وثمار، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فبعث الله فيهم نبيًا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويحذرهم نقمته وعذابه، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله. التفسير وأوجه القراءة 83 - ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه والاعتراف بنعمته .. عقبَّه بالدعاء؛ ليقتدي به غيره في ذلك، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}؛ أي (¬1): علمًا وفهمًا في الدين. وقيل: نبوة ورسالة. وقيل: معرفة بحدود الله تعالى وأحكامه. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}؛ أي: بالنبيين من قبلي. وقيل: بأهل الجنة. {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}؛ أي: اجعل لي ثناء حسنًا في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة، وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} فإن كل أمة تتمسك به وتعظِّمه. وقيل معنى الآية: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}؛ أي (¬2): كمالًا في العلم والعمل، أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق، فإن من يعلم شيئًا ولا يأتي من العمل بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، ولا لعلمه حكم، ولا حكمة {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}؛ أي: وفقني من العلوم والأعمال والأخلاق لما ينظمني في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح، المتنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، أو اجمع بيني وبينهم في الجنة، فقد أجابه تعالى حيث قال: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعائه: "اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[84]

مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين". 84 - {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}؛ أي: جاهًا وحسن صيت في الدينا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلّا وهم محبون له، مثنون عليه، فحصل بالأول الجاه، وبالثاني حسن الذكر، فقوله: "في الآخرين"؛ أي: في الأمم بعدي، وعبّر عن الثناء الحسن والقبول العام باللسان؛ لكون اللسان سببًا في ظهوره وانتشاره، وبقاء الذكر الجميل على ألسنة العباد إلى آخر الدهر دولة عظيمة من حيث كونه دليلًا على رضي الله عنه، ومحبته له، والله تعالى إذا أحب عبدًا يلقي محبته إلى أهل السموات والأرض، فيحبه الخلائق كافة حتى الحيتان في البحر، والطيور في الهواء. وحاصل معنى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ ...} إلخ؛ أي (¬1): واجعل لي جاهًا وذكرًا جميلًا باقيًا إلى يوم الدين، فإن من صار ممدوحًا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيًا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل، فيكون له مثل أجورهم، أو المعنى: اجعل لي من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيًا إلى الله تعالى، وقد أجاب الله دعاءه، فما من أمة إلّا وهي تثني عليه، وجعله الله تعالى شجرة فرّع الله منها الأنبياء. 85 - ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا بهذه الدعوة .. طلب سعادة الأخرة، فقال: {وَاجْعَلْنِي} في الآخرة وارثًا {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}، أو اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم، شبّه (¬2) الجنة التي استحقها العامل بعد فناء عمله وانقطاعه بالميراث الذي استحقه الوارث بعد فناء مورّثه وموته، فأطلق عليها اسم الميراث، وعلى استحقاقها اسم الوارثة، وعلى العامل اسم الوارث، والمعنى: واجعلني من المستحقين لجنة النعيم، والمتمتعين بها كما يستحق الوارث مال مورثه، ويمتع به، أو واجعلني ممن يدخلون الجنة (¬3)، ويتمتعون بنعيمها كما ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[86]

يتمتع المالك بما يملكه ميراثًا، ويؤول إليه أمره من شؤون الدنيا، ومعنى جنة النعيم؛ أي: بستان النعيم الدائم، وفيه إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلّا بكرمه تعالى، وفيه أيضًا إشارة إلى أن طلب الجنة لا ينافي طلب الحق سبحانه، وترك الطلب مكابرة للربوبية. 86 - وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه .. طلبها لأقرب الناس إليه؛ وهو أبوه، فقال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} ذنوبه؛ أي: اهد أبي {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}؛ أي: من المشركين الضالين عن طريق الهداية، و {كَانَ}: زائدة على مذهب سيبويه، وكان أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما قال في آية أخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. واعلم (¬1): أن المغفرة مشروطة بالإيمان، وطلب المشروط يتضمن طلب شرطه، فيكون الاستغفار لأحياء المشركين عبارة عن طلب توفيقهم وهدايتهم للإيمان. روي عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل توضأ، فأسبغ الوضوء، ثم خرج من بيته يريد المسجد، فقال حين خرج: بسم الله {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)} إلّا هداه الله لصواب الأعمال، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)} إلّا أطعمه الله من طعام الجنة، وسقاه من شرابها، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} إلّا شفاه الله تعالى، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)} إلّا أحياه الله حياة الشهداء، وأماته ميتة الشهداء، {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} إلّا غفر الله خطاياه ولو كانت أكثر من زبد البحر، {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} إلّا وهب له حكمًا، وألحقه بصالحي من مضى، وصالحي من بقي، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} إلّا كتب عند الله صديقًا، {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)} إلّا جعل الله له القصور والمنازل في الجنة"، وكان الحسن يزيد فيه {واغفر لوالديّ كما ربّياني صغيرًا}، كذا في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[87]

"كشف الأسرار". 87 - ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة، فقال: {وَلَا تُخْزِنِي} من الخزي بمعنى الهوان والذل؛ أي: لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص مرتبتي عن بعض الوارثين {يَوْمَ يُبْعَثُونَ}؛ أي: يوم يبعث الناس من قبورهم كافة وهو يوم القيامة، أو لا تعذبني يوم القيامة. والإضمار في {يُبْعَثُونَ} مع عدم سبق المرجع؛ لكونه معلومًا؛ لأن البعث عام فيدل عليه. ولما كانت مغفرة الخطيئة في قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ ...} إلخ لا تستلزم ترك المعاتبة .. أفرد الدعاء بتركها بعد ذكر مغفرة الخطيئة، وقيّد عدم الإخزاء بيوم البعث؛ لأن الدنيا مظهر اسم الستار. قال أبو الليث: إلى هاهنا كلام إبراهيم، وقد انقطع كلامه، 88 - ثم إن الله سبحانه وتعالى وصف ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)} بدل من {يَوْمَ يُبْعَثُونَ}، ومفعول الفعل محذوف، والتقدير: يوم لا ينفع مال أحدًا، وإن كان مصروفًا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات، ولا ينفع بنون ولا بنات فردًا، وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة جدًّا 89 - {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ} سبحانه، وجاء يوم القيامة {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشرك والنفاق؛ أي: إلّا من أتى الله سبحانه وتعالى مخلصًا سليم القلب من مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان, قال في "كشف الأسرار": إلا بنفس سليمة من الكفر والمعاصي، وإنما أضاف إلى القلب, لأن الجوارح تابعة للقلب، فتسلم بسلامته، وتفسد بفساده، وفي الخبر: "إن في جسد ابن آدم لمضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". قال الليث: كان الكفار يقولون: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، فأخبر الله سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك اليوم المال والبنون؛ لعدم سلامة قلوبهم في الدنيا، وأما المسلمون فينفعهم خيراتهم، وينفعهم البنون أيضًا؛ لأن المسلم إذا مات ابنه قبله يكون له ذخرًا وأجرًا، وإن تخلف بعده فإنه يذكره بصالح دعائه، ويتوقع منه الشفاعة من حيث صلاحه. انتهى.

[90]

والمعنى: أي (¬1) لا يقي المرء من عذاب الله تعالى المال، ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعًا، ولكن ينفعه أن يجيء خالصًا من الذنوب وأدرانها وحب الدنيا وشهواتها. وخص الابن بالذكر؛ لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى، وأما من أتى بقلب سليم فينفعه ماله الذي أنفقه في الخير، وولده الصالح بدعائه، كما جاء في خبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". واختلف في معنى القلب السليم (¬2)، فقيل: السليم من الشرك، أما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض. وقيل: هو القلب الخالي عن البدعة، المطمئن إلى السنة. وقيل: السالم من آفة المال والبنين. وقيل: السليم الخالص. قال الرازي: أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة. وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم؟ فقال: له ثلاث علامات؛ أولاها: أن لا يؤذي أحدًا، والثانية: أن لا يتأذى من أحد، والثالثة: إذا اصطنع مع أحد معروفًا لم يتوقع منه المكافأة، فإذا هو لم يؤذ أحدًا فقد جاء بالورع، وإذا لم يتأذ من أحد فقد جاء بالوفاء، وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع فقد جاء بالإخلاص، اهـ. 90 - {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ}؛ أي: قرّبت وأدنيت {لِلْمُتَّقِينَ} عن الشرك والمعاصي؛ ليدخلوها بحيث يشاهدونها من الموقف، ويطلعون على ما فيها من فنون المحاسن، فيفرحون بأنهم المحشورون إليها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها، وهو عطف على لا ينفع، وصيغة الماضي لتحقق وقوعه، كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على استمرار انتفاء النفع ودوامه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[91]

فإن قلت (¬1): كيف قرّبت مع أنها لم تنقل من مكانها؟ قلتُ: فيه قلب؛ أي: وأزلف المتقون إلى الجنة، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة: قربت مكة إلينا، وفي هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها. 91 - {وَبُرِّزَتِ}؛ أي: ويوم برزت وأظهرت {الْجَحِيمُ}؛ أي: نارها {لِلْغَاوِينَ}؛ أي: للضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى؛ أي (¬2): جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأهوال، ويوقنون بأنهم مواقعوها, ولا يجدون عنها مصرفًا، فيزدادون غمًا، والمعنى أنها أظهرت لهم قبل أن يدخلها المؤمنون ليشتد حزن الكافرين، ويكثر سرور المؤمنين، وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد، فإن التبريز لا يستلزم التقريب، ثم في تقديم إزلاف الجنة إيماء إلى سبق رحمته على غضبه. وقرأ الأعمش (¬3): {فبرزت} بالفاء بدل {الواو}، وقرأ مالك بن دينار {وبَرَزَتْ} بالفتح والتخفيف، {الْجَحِيمُ} بالرفع بإسناد الفعل إليها اتساعًا، ذكره أبو حيان. وفي هذا تعجيل للغم والحسرة؛ إذ نسوا في دنياهم هذا اليوم، كما جاء في قوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)}. 92 - ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعًا لهم، فقال: {وَقِيلَ لَهُمْ}؛ أي: للغاوين يوم القيامة على سبيل التوبيخ، والقائلون الملائكة من جهة الحق تعالى {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} في الدنيا 93 - {تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنها شفعاؤكم في هذا الموقف، وتقربكم إلى الله زلفى {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} بدفع العذاب عنكم {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم. و {هَلْ} هنا للاستفهام الإنكاري؛ أي: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[94]

لكم، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا، وإنهم وآلهتهم وقود النار. والخلاصة (¬1): ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله سبحانه من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئًا، ولا هي بدافعة عن نفسها شيئًا، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون، وباب افتعل هاهنا مطاوع فعل، قال في "كشف الأسرار": النصر المعونة على دفع الشر والسوء عن غيره، والانتصار أن يدفع عن نفسه، وإنما قال (¬2): {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} بعد قوله: {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ}؛ لأن رتبة النصر بعد رتبة الانتصار؛ لأن من نصر غيره فلا شك في الانتصار، وقد ينتصر من لا يقدر على نصر غيره. 94 - ثم هذا سؤال تقريع وتبكيت لا يتوقع له جواب، ولذلك قيل: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}؛ أي: فألقي المعبودون في الجحيم مرة بعد أخرى منكوسين على رؤوسهم إلى أن يستقروا في قعرها {هُمْ}؛ أي: المعبودون، تأكيد لمرفوع {كبكبوا}: ليعطف عليه قوله: {وَالْغَاوُونَ}؛ أي: العابدون الذين ضلوا وغووا بعبادتهم 95 - {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ}؛ أي: شياطينه وأعوانه؛ أي: ذريته الذين كانوا يغوونهم ويوسوسون إليهم، ويسولون لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام وسائر فنون الكفر والمعاصي، ليجتمعوا في العذاب حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه. وقيل: المراد بجنود إبليس كل من يدعو إلى عبادة الأصنام، وقوله: {أَجْمَعُونَ} تأكيد لضمير {هُمْ} وما عطف عليه. والمعنى؛ أي (¬3): فألقي الآلهة والغاوون الذين عبدوها في النار، والشياطين والداعون إلى عبادتها على رؤوسهم، أو ألقِي بعضهم على بعض، وتأخير الغاوين في الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم، ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها، والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة بقوله: {قَالُوا ...} إلخ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[96]

96 - وجملة قوله: {قَالُوا}؛ أي: العابدون حين فعل بهم ما فعل معترفين بخطاياهم {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين مخاطبين لمعبوداتهم على أن الله تعالى يجعل الأصنام صالحة للاختصام بأن يعطيها القدرة على النطق والفهم. قال أبو الليث: ومعناه: قالوا وهم يختصمون فيها على معنى التقديم جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل، 97 - ومقول القول {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)} {إن}: مخففة من الثقيلة، و {اللام}: هي الفارقة بينها وبين النافية؛ أي: نقسم ونحلف بالله سبحانه إن الشأن كنا في ضلال وخطأ واضح لا خفاء فيه 98 - {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)}: ظرف لكونهم في ضلال مبين، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية؛ أي (¬1): تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم 99 - {وَمَا أَضَلَّنَا}؛ أي: وما دعانا إلى الضلال عن الهدى {إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: إلا الرؤساء والكبراء البالغون غاية الإجرام والإشراك. والمعنى: أي (¬2) قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين تالله إننا كنا في ضلال واضح، لا لبس فيه حين سويناكم يا هذه الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة، وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وما أضلنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء، كما جاء في آية {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}. وخلاصة ذلك: أنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم، وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها، ثم أكدوا ندمهم على ما فرط منهم، وحسرتهم على ما صنعوا، فقالوا: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[100]

100 - {فَمَا لَنَا} اليوم {مِنْ شَافِعِينَ} يشفعون لنا من العذاب، كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء عليهم السلام 101 - {وَلَا} من {صَدِيقٍ حَمِيمٍ}؛ أي: ذي قرابة؛ أي: صديق قريب موافق في الدين، كما نرى أن للمؤمنين أصدقاء؛ لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التباغض والتعادي. والصديق من صدقك في مودته، والحميم القريب المشفق، مأخوذ من حامة الرجل؛ أي: أقربائه، وأفرد الصديق؛ لأنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث. وإنما جمع (¬1) الشافع لكثرة الشفعاء عادة، ألا ترى أن السلطان إذا غضب على أحد ربما شفع فيه جماعة، كما أن إفراد الصديق لقلته. ولو قيل بعدمه لم يبعد، والمعنى؛ أي: فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما نحن فيه من ضيق، أو ينقذنا من هلكة، ولا صديق شفيق يعنيه أمرنا، ويودنا ونوده، ونحو الآية ما جاء في آية أخرى حكاية عنهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ}، وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع، وقد نفوا أولًا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعة، ثم ترقوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم، ويتوجع لهم، وإن لم يخلصهم. والخلاصة: أن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع، وقد مر لك آنفًا أنما جمع الشافع وأفرد الصديق لكثرة الشفعاء عادة وقلة الصديق، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: مَا فِيْ زَمَانِكَ مَنْ تَرْجُوْ مَوَدَّتَهُ ... وَلاَ صَدِيْقٌ إِذَا جَارَ الزَّمَانُ وَفَى فَعِشْ فَرِيْدًا وَلاَ تَرْكَنْ إِلى أَحَدٍ ... هَا قَدْ نَصَحْتُكَ فِيْمَا قُلْتُهُ وَكَفَى 102 - ثم حكى عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله يعلم أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، فقال: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[103]

كَرَّةً}؛ أي: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصب بأن المضمرة بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، فلو هنا للتمني، وأقيم فيه {لَوْ} مقام ليت؛ لتلاقيها في معنى التقدير: أي: تقدير المعدوم وفرضه؛ أي: فليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه. وهذا كلام التأسف والتحسر، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فإن من يضلل الله فما له من هاد، ولو رجع إلى الدنيا مرارًا، ألا ترى إلى الأمم في الدنيا، فإن الله تعالى أخذهم بالبأساء والضراء كرارًا، 103 - ثم كشفه عنهم فلم يزيدوا إلا إصرارًا، جعلنا الله وإياكم من المستمعين المعتبرين، لا من المعرضين الغافلين {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: فيما ذكر من قصة إبراهيم مع قومه {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة لمن يعبد غير الله تعالى، ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة، ولا ينفعه أحد، ولا سيما لأهل مكة الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم إبراهيم مؤمنين كحال أكثر قريش، وقد روي أنه ما آمن لإبراهيم من أهل بابل إلا لوط وابنه نمرود، أو أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبأ إبراهيم؛ وهم قريش ومن دان بدينهم، وهذا أصح؛ لأن قوم إبراهيم كلهم غير مؤمنين، كذا قاله الشوكاني. والمعنى: أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره، ولا معبود سواه، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم، وفي هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات. 104 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: لهو القادر على الانتقام منهم {الرَّحِيمُ} بهم؛ إذ لم يهلكهم، بل أخر ذلك، وأرسل إليهم الرسل، ونصب لهم الشرائع ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.

[105]

قصص نوح عليه السلام 105 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} تكذيبًا مستمرًا من حين الدعوة إلى انتهائها، وأنث (¬1) الفعل لكونه مسندًا إلى {قَوْمُ}، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، والقوم الجماعة من الرجال والنساء، وأوقع التكذيب على المرسلين؛ وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم؛ لأن من كذب رسولًا فقد كذب الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل، أو لاجتماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع، وقيل: كذبوا نوحًا وحده في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم من مجيء المرسلين بعده 106 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ}: ظرف للتكذيب على أنه عبارة (¬2) عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر {أَخُوهُمْ} في النسب، لا في الدين؛ لئلا يجهل أمره في الصدق والديانة، ولتعرف لغته، فيؤدي ذلك إلى القبول {نُوحٌ}: عطف بيان لـ {أَخُوهُمْ} الله بترك عبادة الأصنام، وإجابة دعوة رسوله الذي أرسله إليكم. والمعنى: أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله، وقد حكى سبحانه عن نوح عليه السلام أنه خوفهم أولًا بقوله: ألا تتقون لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدًا والمقلد إذا خوف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر، 107 - وقد وصف نوح نفسه بأمرين: 1 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى {أَمِينٌ}؛ أي: مشهور بالأمانة فيما بينكم، ومن كان أمينًا على أمور الدنيا كان أمينًا على الوحي والرسالة، أو أمين فيما بعثني به أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها, ولا أنقص منها 108 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقاب الله في مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى، فإني لا أخونكم ولا أريدكم بسوء، والفاء لترتيب ما بعدها على الأمانة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[109]

وقدم (¬1) الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن التقوى هي ملاك الأمر كله في هذه الحياة، وكرر الأمر بها؛ لأنها العمدة في جميع الأعمال، فيجب على العالم ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل. 2 - 109 {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: على تبليغ الرسالة {مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: جعل أصلًا، وذلك لأن الرسل إذا لم يسألوا أجرًا كان أقرب إلى التصديق، وأبعد عن التهمة {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما ثوابي فيما أتولاه {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأن من عمل لله فلا يطلب الأجر من غير الله. وبه يشير إلى أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يتأدبون بآداب أنبيائهم، فلا يطلبون من الناس شيئًا في بث علومهم ونشرها, ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، ولا بالتذكير لهم، فإن من ارتفق من المسلمين المستمعين في بث ما يذكره من الدين ويعظ به لهم فلا يبارك الله للناس فيما يسمعون، ولا للعلماء أيضًا بركة فيما يأخذون منهم، يبيعون دينهم بعرض يسير، ثم لا بركة لهم فيه، كذا قالوا. 110 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فقد وضح الأمر لكم وبان نصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه. والفاء (¬2) لترتيب ما بعدها على تنزهه عن الطمع، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلًّا من الأمانة وقطع الطمع مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا. ونظير هذا ما يقول الوالد لولده: ألا تتقي الله في عقوقي، وقد ربيتك صغيرًا، ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرًا. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته. تنبيه: قوله (¬3): {أَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} ذكر في خمسة مواضع: في قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وإنما كررت هذه الآية الكريمة في تلك المواضع للتنبيه على أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) فتح الرحمن.

[111]

دعوة الرسل الكرام واحدة، وهدفهم واحد، وطريقتهم واحدة، فهم لا يطلبون من أحد أجرًا، ولا مالًا، ولا شيئًا من حطام الدنيا على تبليغهم الرسالة، إنما يطلبون الأجر من الله وحده. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ذكر مكررًا للتأكيد في ثلاثة مواضع: في قصة نوح، وهود، وشعيب، فإن قلت: لِمَ خصت الثلاثة بالتأكيد؟. قلت: اكتفاء عنه في قصة لوط بقوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}، وفي قصة شعيب بقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)} لاستلزامهما له. 111 - وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم .. أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هي أوهى من بيت العنكبوت، كما ذكره بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم نوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ} الاستفهام للإنكار؛ أي: لا نؤمن لك {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}؛ أي: والحال أنه قد اتبعك الأخسون؛ أي: الأقلون مالًا وجاهًا، والمراد (¬1) بهم هنا فقراء الناس وضعفاؤهم، وإنما بادروا للاتباع قبل الأغنياء؛ لاستيلاء الرئاسة على الأغنياء وصعوبة الانفكاك منها، والأنفة عن الانقياد للغير، والفقير خلي من تلك الموانع، فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا اهـ. "قرطبي" من سورة هود. وهذا (¬2) من كمال سخافة عقولهم وقصرهم أنظارهم على الدنيا، وكون الأشرف عندهم من هو أكثر منها حظًا، والأرذل من حرمها، وجهلهم أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف من فاز به، والأرذل من حرمه، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما زالت أتباع الأنبياء ضعفاء الناس، وقس أتباع العلماء على أتباعهم من حيث وراثتهم لدعوتهم وعلومهم وأذواقهم، ومحنهم وابتلائهم، وذلك لأن العلوم من أرباب المال والجاه والثروة لم تأت إلا نادرًا. ¬

_ (¬1) قرطبي. (¬2) روح البيان.

[112]

والمعنى: أي (¬1) قالوا: كيف نتبعك ونصدقك ونؤمن بك، ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك، ومرادهم أن هذا لن يكون أبدًا، وهذه شبهة لا ينبغي لعاقل أن يركن إليها؛ لأن نوحًا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا فارق بين غني وفقير وصعلوك وأمير، ولا بين ذوي البيوتات والحسب، وذوي الوضاعة والخسة في النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم بقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقرأ الجمهور (¬2): {وَاتَّبَعَكَ} فعلًا ماضيًا، وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوبـ {وأتباعُك}: - بالرفع - جمع تابع كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع تبيع كشريف وأشراف، وعن اليماني: {وأتباعِك} - بالجر - عطفًا على الضمير في {لَكَ}، وهو قليل وقاسه الكوفيون. 112 - {قَالَ} نوح جوابًا عما يشير إليه قولهم من أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أنهم عملوه إخلاصًا أو نفاقًا، وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم، والشق عن قلوبهم، والظاهر أن {مَا} استفهامية للإنكار في محل الرفع على الابتداء، و {عِلْمِي} خبرها؛ أي: وأيّ شيء (¬3) يعلمني ما كان يعمل أتباعي؟ إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنًا، ومن أظهر السوء ظننت به ذلك، ولم أكلف العلم بأعمالهم، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به، لا بالحرف والصناعات، والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون: إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح، بل لتوقع مال ورفعة. 113 - ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم، لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم، فقال: {إِنْ حِسَابُهُمْ}؛ أي: ما محاسبتهم على ما تحويه سرائرهم {إِلَّا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[114]

عَلَى رَبِّي} المطلع عليها {لَوْ تَشْعُرُونَ}؛ أي: لو كنتم من أهل الشعور والإدراك لعلمتم ذلك، ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون حيث عيرتموهم بصنائعهم (¬1)، قرأ الجمهور: {تَشْعُرُونَ} - بالفوقية -، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية كأنه ترك الخطاب، والتفت إلى الإخبار عنهم. 114 - ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم، فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)} ومبعدهم عن مجلسي؛ أي: وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني وصدق ما جئت به من عند الله تعالى، قال ابن عطاء: وما أنا بمعرض عمن أقبل على ربه، 115 - ثم بين وظيفة الرسول، فقال: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)}؛ أي (¬2): ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا من الأعزاء أو الأذلاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، والمعنى أي: إنما بعثت منذرًا ومخوفًا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطاعني كان مني وأنا منه، شريفًا كان أو وضيعًا، جليلًا كان أو حقيرًا. 116 - ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا .. لجؤوا إلى التهديد، كما بينه بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم نوح له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} عما تدعو إليه من التوحيد، وعما تقول من الطعن في آلهتنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}؛ أي: من المقتولين بالحجارة أقبح قتلة، قالوا ذلك - قاتلهم الله - في أواخر الأمر؛ أي: لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا. 117 - ولما طال مقامه بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًا وإعلانًا، وكلما كرر عليهم الدعوة صموا آذانهم وصمموا على تكذيبه، وتمادوا في عتوهم واستكبارهم .. استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم، وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسولهم، وينجيه والمؤمنين به، كما بينه بقوله: {قَالَ} نوح: يا {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}؛ أي: أصروا على التكذيب بعدما دعوتهم هذه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[118]

الأزمنة المتطاولة، ولم يزدهم دعائي إلا فرارًا 118 - {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا}؛ أي: احكم بيني وبينهم حكمًا عدلًا؛ أي: احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة؛ وهي الحكومة؛ أي: إن قومي كذبوني فيما أتيتهم به من الحق من عندك فاحكم بيني وبينهم حكمًا تهلك به المبطل، وتنتقم منه، وتنصر به الحق وأهله، وجاء في آية أخرى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} قال ابن الشيخ: أراد به الحكم بإنزال العقوبة عليهم؛ لقوله عقبه: {وَنَجِّنِي}؛ أي: خلصني {وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من العذاب، ومن إذاية الكفار، وكان المؤمنون ثمانين من الرجال، وأربعين من النساء. 119 - فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال: {فَأَنْجَيْنَاهُ}؛ أي: فأنجينا نوحًا {وَمَنْ مَعَهُ} من المؤمنين حسب دعائه {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}؛ أي: المملوء بهم، وبكل صنف من الحيوان، وبما لا بد لهم منه من الأمتعة والمأكولات 120 - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ}؛ أي: بعد إنجائهم، أو بعد ركوب نوح والمؤمنين على السفينة {الْبَاقِينَ} من قومه من لم يركب السفينة بالطوفان، وفيه تنبيه على أن نوحًا كان مبعوثًا إلى من على وجه الأرض، ولذا قال في قصة الباقين، وفي قصة موسى {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}. والمعنى: أي فأنجينا نوحًا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره، وفي قوله {الْمَشْحُونِ} إيماء إلى كثرتهم، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم 121 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنجاء والإهلاك، أو إن في ذلك الذي فعل بقوم نوح لاستكبارهم عن قبول الحق واستخفافهم بفقراء المسلمين {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة لمن بعدهم. والمعنى: أي إن في إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك يا محمد المصدقين منهم والمكذبين على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم، وكذلك هي سنتي فيك وفي قومك {وَمَا كَانَ}: {كَانَ}: زائدة عند سيبويه كما تقدم {أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم نوح {مُؤْمِنِينَ} فلم يؤمن من قومه إلا ثمانون من الرجال وأربعون من النساء؛

[122]

أي: ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل، وفي هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين .. لما عوجلوا بالعقاب، أو المعنى: وما كان أكثر قومك يا محمد وهم قريش مؤمنين، فاصبر على أذاهم كما صبر نوح على أذى قومه .. تظفر كما ظفر 122 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على ما أراد من عقوبة الكفار {الرَّحِيمُ} لمن تاب، أو بتأخير العذاب، والمعنى؛ أي (¬1): وإن ربك يا محمد لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته. وفي "التأويلات النجمية": كرر في كل قصة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)} دلالة على أن الله وعظمته اقتضت أن يكون أكرم الخلق مؤمنًا به، مقبولًا له، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولا ريب أن أكثر الخلق لئام، والكرام قليلون، كما قال الشاعر: تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيْلٌ عِدَادُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيْلُ قصص هود عليه السلام 123 - {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)}؛ أي: كذبت قوم هود هودًا وسائر الرسل الذين ذكرهم هود. فعاد اسم قبيلة هود، سميت باسم أبيها الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح عليه السلام. وأنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة. 124 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} في النسب، لا في الدين. ظرف للتكذيب {هُودٌ} بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال بعضهم (¬2): كان اسم هود عابرًا، وسمي هودًا لوقاره وسكوته، عاش مئة وخمسين سنة، أرسل إلى أولاد عاد حين بلغ الأربعين. وفي "المراح": وكان هود تاجرًا جميل الصوت يشبه آدم، وعاش من العمر أربع مئة وأربعًا وستين سنة. انتهى. {أَلَا تَتَّقُونَ} الله سبحانه وتعالى، فتفعلون ما تفعلون 125 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى {أَمِينٌ}؛ أي: مشهور بالأمانة بينكم 126 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ} تعالى وخافوا عقابه {وأطيعونـ} ـي فيما أمركم به من الحق 127 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[128]

على تبليغ الرسالة وأدائها {مِنْ أَجْرٍ} وجعل {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما أجري وثوابي على تبليغ الرسالة إليكم {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأنه هو الذي أرسلني، فكان أجري عليه، وهو بيان لتنزهه عن المطاع الدنية والأغراض الدنيوية. وقد (¬1) جاءت هذه المقالات من قوله: {أَلَا تَتَّقُونَ} إلى هنا على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب؛ للتنبيه على أن بعثة الأنبياء أسسها الدعاء إلى معرفة الله سبحانه وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب، وأن الأنبياء مجتمعون على ذلك، وإن اختلفوا في تفصيل الأحكام تبعًا لاختلاف الأزمنة والعصور، وأن الأنبياء منزهون عن المطامع الدنيوية، لا يأبهون بها, ولا يجعلونها قبلة أنظارهم ومحط رحالهم. 128 - ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان .. أتبعه بإنكار بعض ما هم عليه، فقال: {أَتَبْنُونَ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري {بِكُلِّ رِيعٍ} - بكسر الراء وفتحها - جمع ريعة، كذلك؛ أي في كل مكان مرتفع {آيَةً}؛ أي: بناء عاليًا متميزًا عن سائر الأبنية تفاخرًا حال كونكم {تَعْبَثُونَ} تلعبون (¬2) ببنائه، فإن بناء ما لا ضرورة فيه، وما كان فوق الحاجة، عبث. وقيل: المعنى؛ أي (¬3): تبنون بكل مكان مرتفع علامة تعبثون فيها بمن يمر بكم وتسخرون منهم؛ لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة وتسخرون منهم. قال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، حكاه الماوردي. وقيل: إنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة؛ ليعرف بذلك غناهم تفاخرًا. 129 - {وَتَتَّخِذُونَ}؛ أي: وتجعلون لأنفسكم {مَصَانِعَ} وحياضًا عظيمة ومخازن للماء تحت الأرض تجمعون فيها ماء المطر ونحوه {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}؛ أي: راجين أن تخلدوا في الدنيا؛ أي: عاملين عمل من يرجو ذلك، فلذلك تحكمون بناءها. وقيل: {لعل} هنا للتشبيه؛ أي: كأنكم تخلدون. وقيل: للاستفهام التوبيخي؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[130]

أي: هل أنتم تخلدون في الدنيا. قال أبو حيان: الظاهر (¬1) أن {لعل} على بابها من الرجاء وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ؛ أي: الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود، ولا خلود. وفي قراءة عبد الله {كي تخلدون}، وفي حرف أبي: {كأنكم تخلدون}، وقرىء {كأنكم خالدون}. وقرأ الجمهور {تخلدون} مبنيًا للفاعل، وقتادة مبنيًا للمفعول، وقرأ أبي وعلقمة وأبو العالية مبنيًا للمفعول مشددًا ومخففًا مع ضم التاء. 130 - {وَإِذَا بَطَشْتُمْ}؛ أي: إذا أخذتم بالعقوبة على أحد بأن ضربتم أحدًا بسوط، أو قتلتم بالسيف {بَطَشْتُمْ}؛ أي: فعلتم ذلك حالة كونكم {جَبَّارِينَ}؛ أي: متسلطين ظالمين بلا رأفة ولا قصد تأديب، ولا نظر في العاقبة، فأما بالحق والعدل فالبطش جائز، والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب، وهو مذموم في وصف البشر. والحاصل (¬2): أنهم أحبوا العُلُوَّ وبقاء العُلُوِّ، والتفرد بالعلوِ، وكل ذلك ينبه على أن من حب الدينار رأس كل خطيئة، وعنوان كل معصية. والخلاصة: إذا ضربتم .. ضربتم بالسياط ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم بلا استحقاق؛ أي: إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذووا جبروت وعتو، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة، وخلاصة ما قال: إن أفعالكم تدل على حب الدنيا، وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف. 131 - ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتو والتمر والتجبر .. أمرهم بالتقوى، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: خافوا عقاب الله سبحانه، واتركوا هذه الأفعال الذميمة من بناء الأبنية العالية، واتخاذ الأمكنة الشريفة، وإسراف المال في الحياض والرياض، والبطش بغير حق {وأطيعونـ} ـي فيما أدعوكم إليه من التوحيد والعدل والإنصاف، وترك الأمل ونحوها، فإنه أنفع لكم وأجدى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[132]

132 - ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم وفواضله التي عمتهم، وذكرها أولًا مجملة ثم فصلها؛ ليكون ذلك في نفوسهم، فيحتفظوا بها، ويعرفوا عظيم قدرها، فقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ}؛ أي: وخافوا عقاب الله الذي أعطاكم {بِمَا تَعْلَمُونَ} مما لا خفاء فيه عليكم من أنواع النعم الحاصلة لكم، أجملها هود عليه السلام أولًا، 133 - ثم فصلها بقوله: {أَمَدَّكُمْ} وأنعمكم {بِأَنْعَامٍ} من الإبل والبقر والغنم. وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد {وَبَنِينَ} ذكور، ولم يذكر البنات؛ لأنها لا تعد عندهم من النعم، كما في قوله: ما هي بنعم الولد 134 - {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)}؛ أي: بساتين وأنهار وأبيار، والمعنى؛ أي (¬1): واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد في الأرض، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار، تتمتعون بها كما شئتم حتى صرتم مضرب الأمثال في الغنى والثروة والزخرف والزينة، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها، وتعظيمه وحده. 135 - ثم بين السبب في أمرهم بالتقوى، فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تقوموا بشكر هذه النعم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي (¬2): شديد عذابه في الدنيا والآخرة، فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها. ووصف اليوم بالعظم؛ لعظم ما يحل فيه، وهو هبوب الريح الصرصر هاهنا. والمعنى: أي إني أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم، ولم تشكروا هذه النعم عذاب يوم شديد الهول، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس فيه سكارى حيارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. 136 - وبعد أن بلغ الغاية في إنذارهم وتخويفهم وترغيبهم وترهيبهم .. كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قومه في جواب تذكير هود {سَوَاءٌ عَلَيْنَا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[137]

أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}؛ أي: وعظك وتذكيرك وتخويفك إيانا من العذاب وعدم وعظك سواء عندنا؛ أي: مستوٍ عندنا، لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله ولا نسمعه. والمعنى (¬1): أي هون عليك، وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد في غير عدو، وضرب في حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى الله سبحانه قولهم في سورة هود: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}. وعادل (¬2) {أَوَعَظْتَ} بقوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} وإن كان قد يعادله: أم لم تعظ، كما قال: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا}؛ لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}، ولم يأت التركيب: {أم صمتم}، وكثيرًا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه. وقال الزمخشري: بينهما فرق؛ يعني بين ما جاء في الآية وبين: أم لم تعظ؛ لأن المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلًا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ. وقرأ الجمهور: {وعظت} بإظهار الظاء، وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم إدغام الظاء في التاء، وبالإدغام قرأ ابن محيصن والأعمش، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول، فقرأ: {أوعظتنا}. 137 - ثم ذكروا السبب في أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)} قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة (¬3): {خُلُقُ} بضمتين، والمعنى عليه: أي ما هذا الذي جئتنا به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يسطرونه، أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، مقتدون بهم، أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة، والبلاء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[138]

والعافية، ومن اعتقاد أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها من قديم الدهر. وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي (¬1): {خَلْق} بفتح الخاء وسكون اللام، والمعنى: أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا خلق الأولين؛ أي: اختلاقهم وكذبهم، فأنت على مناهجهم، أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأمم الماضية، نحيا كحياتهم، ونموت كمماتهم، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار. وقرأ أبو قلابة والأصعمي عن نافع بضم الخاء وسكون اللام، وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في {خُلُقُ} بضمتين. 138 - {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)} على ما نحن عليه من الأعمال والعادات 139 - {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: كذبوا هودًا، وأصروا على تكذيبه ومخالفة أمره {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}؛ أي: عادًا بسبب تكذيبهم بريح صرصر عاتية؛ ريح عظيمة ذات برد شديد، كما جاء في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)}، وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)} تلخيصه: أن هودًا أنذر قومه وعظهم، فلم يتعظوا فأهلكوا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في إهلاكنا عادًا بتكذيبها رسولها {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة وعظة لقومك - يا محمد - المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم عاد {مُؤْمِنِينَ} بالله وبرسولهم هود عليه السلام. أو: وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علمنا. أو: وما كان أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين 140 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب المنتقم الشديد في انتقامه ممن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل موعظة واعظ ونصيحة ناصح. {الرَّحِيمُ} بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا. وهذا تهديد لهذه الأمة كيلا يسلكوا مسالكهم (¬2). قيل: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه، فإن لم يكن فخوف يقمعه، فإن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد، كالأرض إذا استولى عليها الشوك فلا بد من نسفها وإحراقها بتسليط النار عليها، حتى تعود بيضاء، فعلى العاقل أن يعتبر ويخاف من عقوبة الله سبحانه، ويترك العادات والشهوات والملاهي والتلفازات، ولا يصر على المخالفات والمنهيات، وقد أهلك الله سبحانه قوم عاد مع شدة قوتهم وشوكتهم بأضعف الأشياء وهو الريح، فإنه إذا أراد يجعل الأضعف أقوى كالبعوضة، ففي الريح ضعف للأولياء، وقوة على الأعداء، ولأن للكمل معرفة تامة بشؤون الله تعالى، لم يزالوا مراقبين خائفين، كما أن الجهلاء ما زالوا غافلين آمنين، ولذا قامت عليهم الطامة في كل زمان - قوّانا الله وإياكم بحقائق اليقين، وجعلنا وإياكم من أهل المراقبة في كل حين -. الإعراب {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول قال إبراهيم. {هَبْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله. {لِي}: جار ومجرور متعلق به. {حُكْمًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، على كونها جواب النداء. {وَأَلْحِقْنِي}: فعل دعاء وفاعل مستتر، ونون وقاية ومفعول به {بِالصَّالِحِينَ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {هَبْ لِي}. {وَاجْعَلْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر معطوف على {هَبْ لِي}. {لِي}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {اجعل}. {لِسَانَ صِدْقٍ}: مفعول أول لـ {اجعل}، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. {فِي الْآخِرِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {لِسَانَ صِدْقٍ}. {وَاجْعَلْنِي}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية، ومفعول به أول معطوف على {هَبْ لِي}. {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لموصوف محذوف وقع مفعولًا ثانيًا لجعل؛ أي: واجعلني

وارثًا من ورثة جنة النعيم. {وَاغْفِرْ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {هَبْ}. {لِأَبِي}: متعلق بـ {اغفر}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ناقص، واسمها مستتر يعود على الأب. {مِنَ الضَّالِّينَ}: خبرها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الغفران على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: دعائية جازمة. {تُخْزِنِي}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الدعائية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء، وفاعله ضمير يعود على الله، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {هَبْ}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بتـ {تُخْزِنِي}. {يُبْعَثُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {يَوْمَ}: في محل النصب على الظرفية بدل من {يَوْمَ} الأول. {لَا يَنْفَعُ مَالٌ}: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {وَلَا بَنُونَ}: معطوف على {مَالٌ} مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. {إِلَّا}: أداة استثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من المستثنى منه المحذوف المذكور. {أَتَى اللَّهَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {بِقَلْبٍ}: متعلق بـ {أَتَى}. {سَلِيمٍ}: صفة {قلب}، والجملة صلة الموصول. {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)}. {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ}: فعل ونائب فاعل. {لِلْمُتَّقِينَ}: متعلق به، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {لَا يَنْفَعُ}. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ}: فعل ونائب فاعل أيضًا معطوف على: {لَا يَنْفَعُ مَالٌ}. {لِلْغَاوِينَ}: متعلق به. {وَقِيلَ}: {الواو}: حالية، أو عاطفة. {قيل}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ} إلى قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}: نائب فاعل محكي لـ {قيل}، وجملة {قيل} في محل النصب حال من الغاوين، ولكنها بتقدير قد. وإن شئت قلت: {أَيْنَ} اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق

بمحذوف خبر مقدم. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْبُدُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من واو {تَعْبُدُونَ}؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله في عبادتكم. فائدة: واختلفت المصاحف في رسم {مَا} في {أَيْنَ مَا} موصولة بـ {أَيْنَ}، أو مفصولة عنها، والفصل أظهر هنا، فليست هذه كالتي في قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} فهي زائدة، وترسم موصولة باتفاق، اهـ "كرخي". {هَلْ}: حرف للاستفهام التوبيخي. {يَنْصُرُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل} {أَوْ يَنْتَصِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَنْصُرُونَكُمْ}. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}. {فَكُبْكِبُوا}: {الفاء}: عاطفة، {كبكبوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {قيل}. {فِيهَا}: متعلق به. {هُمْ}: تأكيد للضمير المرفوع في {كبكبوا}، ليصح العطف عليه. {وَالْغَاوُونَ} معطوف على {الواو} في {كبكبوا}، وسوغ العطف عليهما الفصل بالجار والمجرور، وبضمير التوكيد. {وَجُنُودُ}: معطوف على {الواو} أيضًا. {إِبْلِيسَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة. {أَجْمَعُونَ}: تأكيد للواو في {كبكبوا} وما عطف عليه. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَهُمْ}: مبتدأ. {فِيهَا}: متعلق بـ {يَخْتَصِمُونَ}، وجملة {يَخْتَصِمُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {قَالُوا}. {تَاللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نقسم تالله، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: تالله إنه. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {لَفِي}: {اللام}: حرف ابتداء. {في ضلال}: جار ومجرور خبر كان. {مُبِينٍ}: صفة

{ضلال}، وجملة كان في محل الرفع خبر {إِن}، وجملة {إِن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب على كونها مقول {قَالُوا} {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {كُنَّا}. {نُسَوِّيكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر. {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُسَوِّيكُمْ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {أَضَلَّنَا}: فعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْمُجْرِمُونَ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة القسم. {فَمَا}: {الفاء}: عاطفة، {ما}: نافية، {لَنَا}: خبر مقدم. {مِنْ شَافِعِينَ}: مبتدأ مؤخر، و {مِن} زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَضَلَّنَا}. {وَلَا صَدِيقٍ}: معطوف على {شَافِعِينَ}. {حَمِيمٍ}: صفة {صَدِيقٍ}. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}. {فَلَوْ}: {الفاء}: استئنافية، {لو}: حرف تمن بمعنى نتمنى نائب عن الفعل. {أَنَّ}: حرف نصب. {لَنَا}: خبر مقدم لـ {أَنَّ} {كَرَّةً}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف دلت عليه {لو} والتقدير: فنتمنى كون كرة لنا إلى الدنيا، ويجوز أن تكون {لو} شرطية، وجملة {أَنَّ} حينئذ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف بعد {لو}، تقديره: لو ثبت كون كرة لنا إلى الدنيا، والجملة المحذوفة فعل شرط لـ {لو}، وجوابها محذوف تقديره: فلو ثبت كون كرة لنا لفعلنا كيت وكيت، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {فَنَكُونَ}: {الفاء}: عاطفة سببية إن قلنا: {لو} للتمني. {نكون}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، واسمها ضمير مستتر فيها. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور في محل النصب خبر {نكون}، وجملة {نكون} مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متقيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: نتمنى كون كرة لنا إلى الدنيا فكوننا من المؤمنين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)}

{إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ} {وَإِنَّ}: {الواو}: عاطفة. {إن ربك}: ناصب واسمه. {لَهُوَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ}: خبر {إِنَّ}. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى. {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)}. {كَذَّبَتْ}: فعل ماض. {قَوْمُ نُوحٍ}: فاعل ومضاف إليه. {الْمُرْسَلِينَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {كَذَّبَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق بـ {قَالَ}. {أَخُوهُمْ}: فاعل ومضاف إليه مرفوع بالواو. {نُوحٌ}: بدل من {أَخُوهُمْ}، أو عطف بيان منه، وجملة {قَالَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله: {قَالُوا}: مقول محكي لـ {قَالَ}، وإن شئت قلت: {أَلَا}: أداة عرض. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَكُمْ} جار ومجرور حال من {رَسُولٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {رَسُولٌ}: خبر {إن}. {أَمِينٌ}: صفة {رَسُولٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لعرضه عليهم الجنوح إلى التقوى. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أني رسول لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم. {اتقوا}: فعل وفاعل: {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)}. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ} الواو: عاطفة. {مَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {نُوحٌ} ومفعول أول {عَلَيْهِ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من {أَجْرٍ}. {مِنْ}: زائدة. {أَجْرٍ}: مفعول ثان لسأل، والجملة في محل النصب. مقول {قَالَ}. {إِن}: نافية. {أَجْرِيَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة حصر. {عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به محذوف، والجملة معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. تنبيه: وقد صدرت القصص الخمس بالأمر بالتقوى؛ للدلالة على اتفاق الأديان السماوية على وجوب معرفة الحق واتباعه، وكررت الجملة نفسها تأكيدًا لهذه الغاية السامية كما مر. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنُؤْمِنُ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {نؤمن}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على قوم {نُوحٌ}. {لَكَ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَاتَّبَعَكَ}: {الواو}: حالية. {اتبعك}: فعل ومفعول به. {الْأَرْذَلُونَ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من كاف {لَكَ}، ولكنها على تقدير قد. {قَالَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {نُوحٌ}، والجملة مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {مَا}: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. {عِلْمِي}: خبرها ومضاف إليه. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عِلْمِي}، ويحتمل كون {مَا} نافية. {عِلْمِي}: مبتدأ ومضاف إليه. {بِمَا}: متعلق به، والخبر محذوف تقديره: وما

علمي بما كانوا يعملون حاصل، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة كان صلة لـ {ما} الموصولة. {إن}: نافية. {حِسَابُهُمْ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {عَلَى رَبِّي}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب قول {قَالَ}. {لَوْ}: حرف امتناع وشرط. {تَشْعُرُونَ}: فعل وفاعل، ومفعول {تَشْعُرُونَ} محذوف، تقديره: ذلك، وجواب {لَوْ} محذوف، تقديره: ما عيرتموهم وما نسبتم إليهم شيئًا من نقص، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: حجازية. {أَنَا}: اسمها. {بِطَارِدِ} {الباء}: زائدة، {طارد المؤمنين}: خبرها مجرور لفظًا منصوب محلًا. {الْمُؤْمِنِينَ}: مضاف إليه، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {إن}: نافية. {أَنَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {نَذِيرٌ}: خبر. {مُبِينٌ}: صفة له، والجملة معطوفة على ما قبلها. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {تَنْتَهِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {يَا نُوحُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معترضة. {لَتَكُونَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، كررت لتدل على أن ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط. {تكونن}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على {نُوحُ}. {مِنَ الْمَرْجُومِينَ}: جار ومجرور خبر {تكونن}، وجملة {تكونن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قَالُوا}، وجواب الشرط محذوف جريًا على القاعدة المشهورة المذكورة في قول ابن مالك: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ

تقديره: إن لم تنته يا نوح تكن من المرجومين، وجملة الشرط في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معترضة بين القسم وجوابه. {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {نُوحُ}، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّ قَوْمِي}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {كَذَّبُونِ}: فعل ماض وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {فَافْتَحْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية؛ لكون ما قبلها علة لما بعدها. {افتح}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله. {بَيْنِي}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {افتح}. {وَبَيْنَهُمْ}: معطوف على {بَيْنِي}. {فَتْحًا}: مفعول مطلق، أو مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إِن} على كونها مقول {قَالَ} عطف فعلية على اسمية. {وَنَجِّنِي}: {الواو}: عاطفة. {نَجِّنِي}: فعل دعاء وفاعل ونون وقاية ومفعول به، معطوف على {فَافْتَحْ}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على ياء المتكلم، أو مفعول معه. {مَعِيَ}: ظرف ومضاف إليه صلة {مَنْ} الموصولة. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الصلة. {فَأَنْجَيْنَاهُ}: {الفاء}: استئنافية، {أنجيناه}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على ضمير المفعول، أو مفعول معه. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه صلة {مَنْ} الموصولة. {فِي الْفُلْكِ}: متعلق بـ {أنجيناه}، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف. {الْمَشْحُونِ}: صفة لـ {الْفُلْكِ}. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}.

{ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {أَغْرَقْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {أنجينا}. {بَعْدُ}: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم؛ لانقطاعه عن الإضافة لفظًا لا معنى، والمراد: بعد إنجائهم {الْبَاقِينَ}: مفعول {أَغْرَقْنَا}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم. {لَآيَةً}: اسمها مؤخر، وجملة {إن} مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على جملة {إن}. {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه. {لَهُوَ}: ضمير فصل، و {اللام}: حرف ابتداء. {الْعَزِيزُ}: خبره. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة {إن} الأولى. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)}. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الرابعة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {كَذَّبَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَخُوهُمْ}: فاعل ومضاف إليه. {هُودٌ}: بدل من {أَخُوهُمْ}، أو عطف بيان له، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَلَا}: أداة عرض. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: تتقون الله، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَكُمْ}: حال من {رَسُولٌ}. {رَسُولٌ}: خبر {إن}. {أَمِينٌ}: صفة له، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال} على كونها معللة لعرضه عليهم التقوى. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة كما تقدم. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول محذوف معطوف على {اتقوا الله}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {مَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، والجملة معطوفة على

جملة {إن}. {عَلَيْهِ}: حال. {مِنْ}: زائدة. {أَجْرٍ}: مفعول ثان لسأل. {إن}: نافية. {أَجْرِيَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)}. {أَتَبْنُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي. {تبنون}: فعل وفاعل. {بِكُلِّ رِيعٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تبنون}. {آيَةً}: مفعول به، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قَالَ}. {تَعْبَثُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تبنون}. {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {تبنون}. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَخْلُدُونَ}: في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب حال من فاعل {تَخْلُدُونَ}؛ أي: حالة كونكم راجين ومؤملين أن تخلدوا في الدنيا. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {بَطَشْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {بَطَشْتُمْ}: فعل وفاعل جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق بالجواب. {جَبَّارِينَ}: حال من فاعل {بَطَشْتُمْ}، وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله: {أَتَبْنُونَ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم اتقوا الله {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول محذوف معطوف على {اتقوا الله}. {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}. {وَاتَّقُوا الَّذِي}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {فَاتَّقُوا اللَّهَ}.

{أَمَدَّكُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به صلة الموصول. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَمَدَّكُمْ}، وجملة {تَعْلَمُونَ} صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: تعلمونه. {أَمَدَّكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة بدل من جملة {أَمَدَّكُمْ} الأولى بدل بعض من كل؛ لأنها أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما، فتكون داخلة في الأولى لأن {ما تعلمون}: يشمل الأنعام وغيرها. وقيل: هي مفسرة للجملة الأولى، فلا محل لها من الإعراب، وشرط إبدال الجملة من الجملة أن تكون الثانية أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد، ولذلك لا يقع البدل المطابق في الجمل، وإنما يقع بدل البعض من الكل. {بِأَنْعَامٍ}: متعلق بـ {أَمَدَّكُمْ}. {وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: معطوفة على {أنعام}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {هُودٌ}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَخَافُ}. {عَذَابَ}: مفعول به. {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {عَظِيمٍ}: صفة {يَوْمٍ}، وجملة {أَخَافُ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قال}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {سَوَاءٌ}: خبر مقدم لمبتدأ متصيد من الجملة التي بعدها من غير سابك لإصلاح المعنى. {عَلَيْنَا}: متعلق بـ {سَوَاءٌ}؛ لأنه بمعنى مستو، والهمزة للاستفهام. {أَوَعَظْتَ}: فعل وفاعل. {أَمْ}: حرف معادل لهمزة التسوية عاطف. {لمْ}: حرف جزم. {تَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لمْ}، واسمها ضمير يعود، على {هُودٌ}. {مِنَ الْوَاعِظِينَ}: خبر {تَكُنْ}، وجملة {تَكُنْ} معطوفة على جملة وعظت، وجملة وعظت في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى مرفوع على الابتداء، والتقدير: وعظك إيانا وعدمه سواء علينا في عدم مبالاتنا لوعظك، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}. {إن}: نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}:

خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا نَحْنُ}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: حجازية. {نَحْنُ}: في محل الرفع اسمها. {بِمُعَذَّبِينَ}: خبرها، و {الباء}: زائدة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {فَكَذَّبُوهُ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {كذبوه}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة مفرعة على جملة {قَالُوا}. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {أهلكناهم}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف مفرع على {كذبوه}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم على اسمها {لَآيَةً}: اسمها مؤخر عن خبرها. و {اللام} حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة {إن}. {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {لَهُوَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {هو}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ}: خبر {إِنَّ}. {الرَّحِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} الحكم: هو العلم بالخبر والعمل به. واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام في زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها. {لِسَانَ صِدْقٍ}؛ أي: ذكرًا جميلًا بين الناس، بتوفيقي إلى الطريق الحسنة حتى يقتدي بي الناس من بعدي، وهذا هو الحياة الثانية، كما قال: قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ ... فِيْ النَّاسِ أَحْيَاءُ {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}؛ أي: من الذين يستمتعون بالجنة وسعادتها، فيكون ذلك غنيمة لهم، كما يستمتع الناس بالميراث في الدنيا. {وَلَا تُخْزِنِي} من أخزى يخزي إخزاء أصله من الخزي بمعنى الهوان والذل، وقيّد عدم الإخزاء بيوم البعث؛ لأن الدنيا مظهر اسم الستار كما مر.

{مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} والقلب السليم: هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة. {أزلفت}؛ أي: قرّبت الجنة {لِلْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ}؛ أي: جعلت بارزة؛ أي: ظاهرة {لِلْغَاوِينَ}؛ أي: الضالين عن طريق الهدى. {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} وباب افتعل هاهنا مطاوع فعل، قال في "كشف الأسرار" النصر: المعونة على دفع الشر والسوء عن غيره، والانتصار أن يدفع عن نفسه. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} والكبكبة: تكرير الكب؛ وهو الإلقاء على الوجه بتكرير معناه، كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها، اهـ "بيضاوي". وفي "روح البيان": الكبكبة: تدهور الشيء في هوة؛ وهو تكرير الكب، وهو الطرح والإلقاء منكوسًا، وجعل تكرير اللفظ دليلًا على تكرير المعنى، كرر عين الكبّ بنقله إلى باب التفعيل، فأصل كبكبوا كبّبوا، فاستثقل اجتماع الباءات، فأبدلت الثانية كافًا، كما في زحزح، فإن أصله زحح من زحّه يزحّه؛ أي: نحا عن موضعه، ثم نقل إلى باب التفعيل، فقيل: زححه، فأبدلت الحاء الثانية زايًا، فقيل: زحزحه؛ أي: باعده، اهـ. {الْغَاوُونَ}: اسم فاعل من غوى يغوى غواية إذا ضل عن طريق الهدى. {يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين. فافتعل هنا بمعنى فاعل الذي للمشاركة. {إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} من الإجرام؛ وهو الإشراك، وأصل الجرم: قطع الثمرة عن الشجرة، والجرامة رديء الثمر، وأجرم إذا صار ذا جرم، نحو أثمر وألبن، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكسب المحمود. {مِنْ شَافِعِينَ}: جمع شافع من الشفاعة؛ وهو طلب الخير من الغير للغير. {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}: من الصداقة، والصداقة: أن يفرح الشخص

لفرحك، ويحزن لحزنك، والعداوة على الضد من ذلك. والحميم: هو الذي يهمّه ما أهمّك؛ من الاحتمام؛ وهو الاهتمام، أو من الحامة؛ وهي الخاصة؛ وهو الصديق المشفق. والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، والصديق يحتمل أن يكون مفردًا، وأن يكون مستعملًا في الجمع، كما يستعمل العدو فيه، كما يقال: هم صديق، وهم عدو، اهـ "كشاف". وفي "البيضاوي": جمع الشافع، ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الصديق، ولأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو؛ لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل، اهـ. {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}: تأنيث الفعل المسند إلى القوم باعتبار معناه، وهو الأمة والجماعة، وتذكير الضمير العائد إليه في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} باعتبار لفظه. وفي "البيضاوي": القوم مؤنث، ولذلك يصغر على قويمة". وفي "المصباح": "القوم يذكر ويؤنث، فيقال: قام القوم، وقامت القوم، وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه، نحو رهط ونفر"، اهـ. فقوله: مؤنث؛ أي: على الأغلب، لا أنه ذهب إلى أنه جمع قائم، والأصل تأنيثه، اهـ "شهاب". {أَخُوهُمْ}؛ أي: أخوة نسب، كما يقال: يا أخا العرب، ويا أخا تميم، يريدون: يا من هو واحد منهم، قال الحماسي: لاَ يَسْأَلُوْنَ أَخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ ... فِيْ النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا {الْأَرْذَلُونَ}: جمع الأرذل، والرذالة الخسة والدناءة، والرذال: المرغوب عنه لرداءته، يعنون أن لا عبرة لاتباعهم لك؛ إذ ليس لهم رزانة عقل وإصابة رأي، قد كان ذلك منهم في بادىء الرأي، وقد استرذلوهم لاتضاع نسبهم، وقلة حظوظهم من الدنيا. {لَوْ تَشْعُرُونَ}: وهو من الباب الأول، وأما الشعر بمعنى النظم فهو من الباب الخامس. {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)}: من الطرد، وهو الإزعاج والإبعاد على سبيل

الاستخفاف. {مِنَ الْمَرْجُومِينَ}؛ أي: من المقتولين رجمًا بالحجارة، قال الراغب في "المفردات": الرجام الحجارة، والرجم الرمي بالرجام، يقال: رجم فهو مرجوم، قال تعالى: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}؛ أي: المقتولين أقبح قتلة، انتهى. {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ}؛ أي: أحكم بيننا، والفتح هنا من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفتّاح الحاكم، سمي بذلك لفتحه مغاليق الأمور،، كما سمي فيصلًا لفصله بين الخصومات. وفي "القاموس": الفُتاحة - بالضم والكسر - ويقال: بينهما فتاحات؛ أي: خصومات. {الْمَشْحُونِ}؛ أي: المملوء بهم وبكل ما معهم، ومنه الشحناء؛ وهي عداوة امتلأت منها النفوس. {بِكُلِّ رِيعٍ} الريع - بكسر الراء وفتحها -: جمع ريعة؛ وهو في اللغة المكان المرتفع، وقال أبو عبيدة: هو الطريق اهـ. "سمين". وقيل: هو الجبل. اهـ "مصباح" وفي "القاموس": والرِيع - بالكسر والفتح - المرتفع من الأرض، أو كل فجّ، أو كل طريق، أو الطريق المنفرج في الجبل، والجبل المرتفع، الواحدة بهاء، وبالكسر: الصومعة، وبرج الحمام، والتل العالي، وبالفتح: فضل كل شيء كريع العجين والدقيق والبذر. اهـ. {آيَةً} الآية: العلم يهتدي به المارة، وكان بناؤها للعبث واللهو؛ لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم، فلا يحتاجون إليها. وقيل: المراد بها القصور المشيدة، ترفعون بناءها وتجتمعون فيها، فتعبثون بمن يمر بكم. {تَعْبَثُونَ} في "المصباح": عبث عبثًا - من باب تعب - إذا لعب وعمل ما لا فائدة فيه فهو عابث. {مَصَانِعَ}: جمع مَصنعَةُ - بفتح الميم مع فتح النون، أو ضمها -؛ وهي الحوض أو البركة، فقوله: {مَصَانِعَ}؛ أي: حيضانًا وبُركًا تجمعون فيها الماء، فهي من قبيل الصهاريج. اهـ، شيخنا وفي "المختار": المَصنُعَة - بفتح الميم وضم

النون، أو فتحها - كالحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع الحصون. اهـ. وفي "القاموس"، وشرحه "التاج": المَصنَعة والمَصنُعة - بفتح الميم وفتح النون وضمها -: ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض، والجمع المصانع، والمصانع أيضًا القرى والحصون والقصور، والمصنعة أيضًا الدعوة للأكل، يقال: كنا في مصنعة فلان، وموضع يعزل النحل بعيدًا عن البيوت، وجميع هذه المعاني صالحة للتفسير بها. وقيل: {مَصَانِعَ}؛ أي: قصورًا مشيدة وحصونًا منيعة، أو مآخذ الماء تحت الأرض، كما في "الصحاح" و"القاموس". {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} البطش: السطوة والأخذ بعنف، وتناول الشيء بصولة أو قهرٍ أو غلبة. {جَبَّارِينَ} والجبَّار: الذي يضرب ويقتل على الغضب، والجبّار أيضًا المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة. {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ} والإمداد: اتباع الثاني بما قبله شيئًا بعد شيء على انتظام، وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه، وأما قوله: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فهو من مددت الدواة أمدها, لا من القبيل المذكور. اهـ "روح". {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ} والوعظ: زجر يقترن بتخويف، وكلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التقديم في قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} فقد استوعب الحكم أولًا، ثم طلب الإلحاق بالصالحين، والسر فيه دقيق جدًّا، ذلك أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية؛ لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل

به، وعكسه غير ممكن؛ لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أفضل من الإصلاح. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} إذ المراد باللسان الثناء الحسن والقبول العام، وذكر اللسان مجاز علاقته السببية؛ لأنه سبب ذلك الثناء، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب. وقيل: هو مجاز من إطلاق الجزء على الكل؛ لأن الدعوة باللسان. ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في لسان صدق؛ أي: اللسان الصادق، والثناء الحسن، وإضافة المحل إلى الحال فيه في قوله: {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}؛ أي: الجنة التي هي محل النعيم الدائم. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} حيث استعار الورثة لمستحقي الجنة، شبَّه الجنة التي استحقها العامل بعد فناء عمله بالميراث الذي استحقه الوارث بعد فناء مورثه، فأطلق عليها اسم الميراث، وعلى استحقاقها اسم الوراثة، وعلى العامل اسم الوارث. اهـ "روح". ومنها: المقابلة البديعة في قوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} فإنه مقابل قوله في السعداء: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)}. ومنها: إضافة ما للكل إلى الجزء؛ لكونه رئيسه في قوله: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أضاف السلامة إلى القلب؛ لأن الجوارح تابعة للقلب، فتسلم بسلامته، وتفسد بفساده. ومنها: التعبير بصيغة الماضي عما في المستقبل في قوله: {أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وفي قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)}، وقوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}، وقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ}، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}، وقوله: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)}؛ للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره. ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)} للدلالة على استمرار انتفاء النفع ودوامه حسبما يقتضيه مقام التهويل والتفظيع.

ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى في قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} وهذا مما انفرد في التنبيه إليه ابن جنّي في كتاب "الخصائص"، فإن الكبكبة تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلًا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد أخرى، حتى يستقر في قعرها, وليست الزيادة في اللفظ دالة على قوة المعنى بصورة مطردة، بل إن المدار في ذلك على الذوق، خذ لك مثالًا زيادة التصغير، فهي زيادة نقص، فرجيل أنقص من رجل في المعنى، ولكنه أكثر حروفًا منه. ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} لاستحضار الصورة الماضية. ومنها: الإيضاح في قوله: {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}؛ وهو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه، فإن الصديق الموصوف بصفة حميم هو الذي يفوق القرابة، ويربو عليه، وهو أن يكون حميمًا، فالحميم من الاحتمام؛ وهو الاهتمام؛ أي: صديق يهمه أمرنا ويهمنا أمره. ومنها: التكرير في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهما بسبب؛ وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك لولدك: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرًا، ألا تتقي في عقوقي وقد علمتك كبيرًا. ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} حيث عبّر بالمرسلين عن نوح عليه السلام، وكذا فيما بعده من الأنبياء، وإنما ذكره بصيغة الجمع تعظيمًا له، وتنبيهًا على أن من كذب رسولًا فقد كذب جميع المرسلين. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}. ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا}؛ أي: احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل، استعار الفتّاح للحاكم، والفتح للحكم؛ لأنه

يفتح المنغلق من الأمر، ففيه استعارة تصريحية تبعية. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} ومحل التوبيخ هو الجملة الحالية؛ أي: تعبثون. ومنها: إعادة الفعل لزيادة التقرير في قوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)} بعد قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} فإن التفصيل بعد الإجمال، والتفسير بعد الإبهام أدخل في ذلك، وأوقع في النفس. اهـ "أبو السعود". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}. المناسبة قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) ...} الآيات، مناسبة هذه القصة لما

[141]

قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قصص عاد وهود .. قصّ أيضًا قصص ثمود وصالح، وقد (¬1) كانوا عربًا مثلهم، يسكنون مدينة الحجر الذي بين وادي القرى والشام، ومساكنهم معروفة، تتردد عليها قريش في رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام، دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده، وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم، فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم بالآيات المصدقة لرسالته فأخذهم العذاب، وزلزلت بهم الأرض، ولم تبق منهم ديارًا ولا نافخ نار. التفسير وأوجه القراءة 141 - قصص صالح عليه السلام: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} أنث (¬2) اعتبارًا بمعنى القبيلة، أو الجماعة، أو الأمة، وهو اسم جدهم الأعلى، وهو ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. {الْمُرْسَلِينَ} يعني: صالحًا ومن قبله من المرسلين، أو إياه وحده، والجمع باعتبار أن تكذيب واحد من الرسل في حكم تكذيب الجميع؛ لاتفاقهم على التوحيد وأصول الشرائع. 142 - ثم بيّن الوقت الممتد للتكذيب المستمر، فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} النسبي، لا الديني، فإن الأنبياء محفوظون قبل النبوة، معصومون بعدها، وفائدة كونه منهم أن تعرف أمانته ولغته، فيؤدّي ذلك إلى فهم ما جاء به وتصديقه {صَالِحٌ} بن عبيد بن آسف بن كاشح بن حاذر بن ثمود، وعاش صالح من العمر مئتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مئة سنة {أَلَا تَتَّقُونَ} يا قوم عقاب الله سبحانه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه 143 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من عند الله {أَمِينٌ} في جميع ما أرسلت به إليكم 144 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: عقاب الله سبحانه في مخالفتي؛ لأني رسول الله إليكم {وَأَطِيعُونِ} ي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه؛ لأني أمين على ما أرسلت به إليكم؛ أي: فإن شهرتي فيما بينكم بالأمانة موجبة لتقوى الله، وإطاعتي فيما أدعوكم إليه 145 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: على نصحي لكم وتبليغ ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[146]

أرسلت به إليكم {مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: أجرًا وجعلا {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما أجر تبليغي وثواب دعوتي {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإنه الذي أرسلني، فالأجر عليه، بل هو الآجر لعباده الخلّص. والمعنى: أي (¬1) كذبت ثمود أخاهم صالحًا حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره بطاعتكم أمر المفسدين في الأرض، إني لكم رسول من عند الله، أرسلني إليكم بتحذيركم عقوبته، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم فاتقوه وأطيعوني، وما أسألكم على نصحي وإنذاري جزاء ولا ثوابًا، ما جزائي إلَّا على رب السموات والأرض وما بينهما. 146 - ثم خاطب قومه واعظًا لهم، ومحذّرًا نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة، والجنات والعيون، والزروع والثمرات، والأمن من المحذورات، فقال: {أَتُتْرَكُونَ} الاستفهام (¬2) فيه للإنكار والتوبيخ؛ أي: أتظنون أن تتركوا {فِي}؛ أي: في النعم التي أعطاكم الله سبحانه {مَا هَاهُنَا}؛ أي: في هذه الدار الدنيا حالة كونكم {آمِنِينَ} من الموت والعذاب، باقين في الدنيا، وأن لا دار للمجازاة؛ أي: لا تظنوا ذلك فإنكم لا تتركون فيها، ولا بد من المجازاة؛ أي: لا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتقلبون في النعم التي في دياركم هذه آمنين من الزوال والعذاب، فلا تطمعوا في ذلك. 147 - ثم فسّر ذلك المكان بقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}؛ أي: أتتركون في بساتين يانعة وأنهار جارية 148 - {وَزُرُوعٍ} زاهرة {وَنَخْلٍ} ناضرة {طَلْعُهَا هَضِيمٌ}؛ أي: لطيف ليّن في جسمه، والطلع ثمر النخل في أول ما يطلع، وبعده يسمى خلالًا، ثم بلحًا، ثم بسرًا، ثم رطبًا، ثم تمرًا. وأفرد النخل مع دخولها في أشجار الجنات؛ لفضلها على سائر الأشجار، وقد خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولكن لا أصل له. والمعنى: أي لا تظنوا أنكم تتركون في دياركم آمنين متمتعين بالجنات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[149]

والعيون والزروع والثمار اليانعة، وأن لا دار للجزاء على العمل، بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعم وأمن من عدو لن يدوم، وأنكم عائدون إلى ربكم مجازون على أعمالكم خيرها وشرها. 149 - وقوله: {وَتَنْحِتُونَ} معطوف (¬1) على {تتركون} فهو في حيّز الاستفهام التوبيخي، ومحل التوبيخ الحال؛ وهي قوله: {فَارِهِينَ}؛ أي: وهل تنحتون وتبرون {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} ومساكن حاله كونكم {فَارِهِينَ} بالألف؛ أي: ماهرين وحاذقين في نحتها وبرايتها. وقرىء {فرهين} بلا ألف، كما سيأتي لاحقًا؛ أي: فرحين مرحين بطرين. فهو على الأول من {فَرُه} بالضم فراهة إذا مهر في العمل وحذق، وعلى الثاني من {فره} بالكسر فرهًا إذا فرح ومرح. وفي "الكرخي" في سورة الأعراف: وإنما كانوا ينحتون بيوتًا في الجبال لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. وفي "الخطيب" في سورة هود: وكان الواحد منهم يعيش ثلاث مئة سنة إلى ألف سنة، وكذا كان قوم هود. اهـ. واعلم: أن (¬2) ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الخيالية؛ وهو طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية؛ وهو طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة، وكل هذه اللذات من لذات أهل الدنيا الغافلين، وفوقها لذات أهل العقبى المتيقظين؛ وهي اللذات القلبية من المعارف والعلوم، وما يوصل إليها من التواضع والوقار والتجرد والاصطبار 150 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقابه في مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} ـي فيما أمرتكم به. والمعنى (¬3): أي وهل تتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام في بنائها، فاتقوا الله، وأقبلوا على ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[151]

ما يعود عليكم نفعه في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم وتسبيحه بكرة وأصيلا. وقرأ الجمهور (¬1): {وَتَنْحِتُونَ} بالتاء للخطاب، وكسر الحاء، وقرأ أبو حيوة وعيسى والحسن بفتح الحاء، وعن الحسن بألف بعد الحاء إشباعًا، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه {ينحتون} بالياء من أسفل وكسر الحاء، وعن أبي حيوة والحسن أيضًا {ينحتون} بالياء من أسفل وفتح الحاء، وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر {فَارِهِينَ} بألف، وباقي السبعة بغير ألف، وقرأ مجاهد: {متفرهين} اسم فاعل من تفرّه، والمعنى: نشطين مهتمين. 151 - وقوله: {وَلَا تُطِيعُوا} خطاب لجمهور قومه {أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} وهم كبراؤهم ورؤساؤهم في الكفر والإضلال، وكان (¬2) مقتضى الظاهر أن يقال: ولا تطيعوا المسرفين، بلا إقحام {أَمْرَ} فإن الطاعة إنما تكون للأمر - على صيغة الفاعل - كما أن الامتثال إنما يكون للأمر - على صيغة المصدر - فشبّه الامتثال بالطاعة من حيث إن كل واحد منهما يفضي إلى وجود المأمور به، فأطلق اسم المشبّه به وهو الطاعة، وأريد الامتثال؛ أي: لا تمتثلوا أمر المجاوزين للحد بالإشراك والإضلال. وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة. وفي "النسفي": جعل الأمر مطاعًا على المجاز الإسنادي، والمراد الآمر، فكأنه قال: ولا تطيعوا المسرفين فيما أمروا به. أو المعنى (¬3): ولا تطيعوا وتتبعوا المستكثرين من لذات الدنيا وشهواتها، بل اكتفوا واقتصروا منها بقدر الكفاف. 152 - ثم وصف المسرفين بقوله: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض الحجر بالكفر والظلم، وهو وصف موضح لإسرافهم {وَلَا يُصْلِحُونَ} بالإيمان والعدل عطف على {يُفْسِدُونَ} لبيان خلو إفسادهم عن مخالطة الإصلاح؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[153]

المراد بهذه الجملة بيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، فإن حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح. والمعنى: أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا في معصية ربكم، واجترؤوا على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ وهو المذكورون في قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}؛ أي: يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته. وخلاصة هذا: لا تطيعوا رؤساءَكم وكبراءَكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق. 153 - ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه .. عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة {قَالُوا}؛ أي: قال قومه في جواب مقاله {إِنَّمَا أَنْتَ} يا صالح؛ أي: ما أنت إلا {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}؛ أي: من الذين سحروا كثيرًا، حتى غلب على عقولهم؛ أي: من المسحورين مرة بعد أخرى حتى اختل عقله، واضطرب رأيه، فلا يقبل لك قول، ولا يسمع لك نصح. فبناء التفعيل لتكثير الفعل، أو: إلّا من البشر الذين لهم السحر والرئة، يأكلون كما نأكل، ويشربون كما نشرب، كما قال الفراء، 154 - فيكون قوله: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}؛ أي: مماثل لنا، تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب تأكيدًا له. والمعنى (¬1): أنت بشر مثلنا، ولست بملك، فلا نؤمن بك {فَأْتِ بِآيَةٍ}؛ أي: بعلامة تدل على صدقك {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك أنك رسول إلينا. فإن قلت (¬2): لم قال هنا {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} بلا واو، وفي قصة شعيب: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ} بواو، فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: ما هنا بدل مما قبله، وثَمَّ معطوف على ما قبله، وخص ما هنا بالبدل؛ لأن صالحًا قلل في الخطاب، فقلّلوا في الجواب، وأكثر شعيب في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

[155]

الخطاب فأكثروا في الجواب. والمعنى: أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، كما حكي عنهم في آية أخرى: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}. روي: أن (¬1) صالحًا عليه السلام قال لهم: أي آية تريدون؟ قالوا: نريد ناقة عشراء - الحامل في عشرة أشهر - تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا، فأخذ صالح يتفكر، فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم، ونتجت سقبًا مثلها في العظم. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: رأينا مبركها فإذا هو ستون ذراعًا في ستين ذراعًا. 155 - فـ {قَالَ} لهم صالح: {هَذِهِ} البهيمة التي خرجت من الصخرة {نَاقَةٌ} دالة على نبوتي، أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم {لَهَا شِرْبٌ}؛ أي: حظ ونصيب من الماء، تشرب منه يومًا كالسقي للحظ من السقي {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}؛ أي: ولكم نصيب وحظ من الماء، تشربون منه يومًا، فاقتصروا على شربكم، ولا تزاحموا على شربها، بل تشربون من لبنها فإن فيه كفاية لكم. قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولا تشرب في يومهم ماء. وقرأ الجمهور: {شِرْبُ} في الموضعين بكسر الشين، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما. 156 - {وَلَا تَمَسُّوهَا}؛ أي: ولا تمسوا هذه الناقة {بِسُوءٍ}؛ أي: بضرر كضرب وعقر {فَيَأْخُذَكُمْ}؛ أي: فيحل بكم {عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: شديد عذابه، فعظم اليوم بالنسبة إلى عظم ما حل فيه، وهو هاهنا صيحة جبريل. 157 - ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم، فقال: {فَعَقَرُوهَا}؛ أي: قتلوها بطعنة السهم وضربة السيف. وأسند (¬2) العقر إلى كلهم مع أن العاقر بعضهم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[158]

لرضاهم به، ولذلك أخذوا جميعًا؛ أي: عقروها بعد أن مكث بين أظهرهم حينًا من الدهر، ترد الماء وتأكل المرعى. روي (¬1): أن مسطعًا ألجأها إلى مضيق، فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار بالسيف في ساقيها. وكان قدار هذا قصيرًا دميمًا وابن زنا، اهـ شيخنا. قال مقاتل: فخرج في أبدانهم خراج مثل الحمص، فكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار في الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الجراحات، وصاح عليهم جبريل صيحة، فماتوا بالأمرين، وكان ذلك ضحوة؛ أي: فعقروها وقتلوا مثل هذه الآية العظيمة {فَأَصْبَحُوا}؛ أي: صاروا {نَادِمِينَ} ومتحسرين على عقرها، وقتلها ندم الخائفين من العذاب العاجل، أو ندم التائبين عند معاينة العذاب، فلذلك لم ينفعهم الندم كفرعون حين ألجمه الغرق 158 - {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الموعود على عقرها؛ أي: أهلكهم واستأصلهم، وهو صيحة جبريل عليه السلام. فإن قلت (¬2): كيف أخذهم العذاب بعدما ندموا على جنايتهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الندم توبة"؟ قلتُ: ندمهم كان عند معاينة العذاب، وهي ليست وقت التوبة، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية، وقيل: كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل، لا ندم توبة فلم ينفعهم. والمعنى: أي (¬3) فعقروا الناقة فندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم؛ إذ أنظرهم ثلاثة أيام، وفي كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله كما مر، فندموا حيث لا ينفع الندم، فأخذهم العذاب، وزلزلت أرضهم زلزالًا شديدًا وجاءت صيحة عظيمة. اقتلعت منها قلوبهم، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) المراغي.

[159]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} العذاب النازل بثمود {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة لمن بعدهم {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم ثمود، أو أكثر الذين سمعوا هذه القصة منك وهم قريش ومن دان دينهم {مُؤْمِنِينَ} بالله وبرسوله الذي أرسل إليهم 159 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على ما أراد من الانتقام من قوم ثمود بسبب تكذيبهم، فاستأصلهم، فليحذر المخالفون لأمره، حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم السالفة المكذبة {الرَّحِيمُ} بهم حيث لا يعاجلهم بالعذاب، وكانت (¬1) الناقة علامة لنبوة صالح عليه السلام، فلما أهلكوها, ولم يعظموها صاروا نادمين حيث لا ينفعهم الندم، والقرآن علامة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن رفضه، ولم يعمل بما فيه، ولم يعظمه يصير نادمًا غدًا، ويصيبه العذاب، ومن جملة ما فيه الأمر بالاعتبار، فعليك بالامتثال ما ساعدت العقول والأبصار، وإياك ومجرد القال، فالفعل شاهد على حقيقة الحال. قصص لوط عليه السلام 160 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ}؛ أي: جماعته وأمته يعني أهل سدوم وما يتبعها من القرى {الْمُرْسَلِينَ}؛ أي: لوطًا وإبراهيم ومن تقدمهما من الرسل، أو المراد بالمرسلين نفس لوط، وإنما جمعه اعتبارًا بأن من كذب رسولًا واحدًا فقد كذب جميع الرسل؛ لاتفاقهم في دعوة التوحيد وأصول العقائد 161 - {إِذْ قَالَ} ظرف للتكذيبـ {لَهُمْ أَخُوهُمْ} في البلد والسكنى، لا في الدين، ولا في النسب؛ لأنه ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، فكان لوط أجنبيًا عنهم، مجاورًا لهم في قريتهم، وهو لوط بن هاران أخي إبراهيم، أو عم إبراهيم على الخلاف، إذ روى أنه هاجر مع عمه إبراهيم إلى أرض الشام، فأنزله إبراهيم الأردن، فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وما والاها، وقوله: {لُوطٌ} بن هاران بن تارخ بدل من {أخوهم}، أو عطف بيان له {أَلَا تَتَّقُونَ}؛ أي: ألا تخافون عقاب الله تعالى على الشرك والمعاصي 162 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ}؛ أي: مرسل من جانب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[163]

الحق {أَمِينٌ}؛ أي: مشهور بالأمانة، ثقة عند كل أحد 163 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا عقابه على مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} ـي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه، فإن قول المؤتمن معتمد 164 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: على التعليم والتبليغ {مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: جعلًا ومكافأة دنيوية، فإن ذلك تهمة لمن يبلغ عن الله تعالى {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما ثوابي على التبليغ {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: مِن رَبِّ العالمين وخالقهم ومصلحهم، بل ليس متعلق الطلب إلا إياه تعالى. 165 - وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره .. وبّخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله، فقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} والاستفهام (¬1) فيه للإنكار والتوبيخ، وعبر عن الفاحشة بالإتيان، كما عبر به عن الحلال في قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} والذكران جمع الذكر ضد الأنثى، و {مِنَ الْعَالَمِينَ} حال من فاعل {تأتون}، والمراد به الناكحون من الحيوان، فالمعنى عليه: أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران وتجامعونهم وتعملون ما لا يشارككم فيه غيركم، يعني أنه منكر منكم ولا عذر لكم فيه، ويجوز أن يكون {مِنَ الْعَالَمِينَ} حالًا من {الذُّكْرَانَ}، والمراد به الناس، فالمعنى عليه: أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث فيهم، كأنهم قد أعوزنكم؛ أي: أفقرنكم وأعدمنكم، روي أن هذا العمل الخبيث علمهم إياه إبليس اللعين. والمعنى: أتجامعون أدبار الرجال من أولاد آدم مع كون النساء أليق بالاستمتاع 166 - {وَتَذَرُونَ}؛ أي: وتتركون {مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ}؛ أي: ما خلق ربكم لأجل استمتاعكم به حال كونه {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} وحلائلكم. و {من} لبيان الجنس إن أريد بما جنس الإناث، وللتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن، وهو القبل تعريضًا بأنهم كانوا يفعلون بنسائهم أيضًا، فتكون الآية دليلًا على حرمة أدبار الزوجات والمملوكات، وفي الحديث: "من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد، ولا ينظر الله إليه"، والمعنى؛ أي: وتتركون إناثًا أباحها لكم ربكم هي أزواجكم لأجل استمتاعكم، أو وتتركون فروجًا أحل لكم ربكم حال كونها بعض أزواجكم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}؛ أي: معتدون مجاوزون الحلال إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[167]

الحرام، أو متجاوزون الحد في جميع المعاصي بإتيانكم هذه الفاحشة، أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم هذه الفاحشة على سائر الحيوانات. أي: بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول، وتبيحها الشرائع بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال. 167 - ولما اتضح لهم وجه الحق، وانقطعت حجتهم لجؤوا إلى التهديد، واستعمال القوة، كما بينه بقوله: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم لوط مهددين له والله {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} وتنزجر {يَا لُوطُ} عن تقبيح أمرنا، وإنكارك علينا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}؛ أي: من المعهودين بالنفي والإخراج من قريتنا على عنف، ورغم أنف، وسوء حال. والمعنى: أي لئن لم تنته عما أنت عليه من إنكارك ما تنكره من أمرنا وعملنا لننفينك من قريتنا, وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف، واحتباس الأموال، كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم. 168 - {قَالَ} لوط عليه السلام معلنًا لهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} الخبيث، يعني: إتيان الرجال {مِنَ الْقَالِينَ}؛ أي (¬1): من المبغضين له أشد البغض - كأنه يقلي الفؤاد والكبد لشدته؛ أي: ينضح - لا أقف عن إنكار عليه بالإيعاذ. وهو اسم فاعل من القلي وهو البغض الشديد، وهو متعلق بمحذوف؛ أي: لقال من القالين، ومبغض من المبغضين. وذلك المحذوف وهو قال خبر {إن}، و {مِنَ الْقَالِينَ} صفته. وقوله: {لِعَمَلِكُمْ}: متعلق بالخبر المحذوف، ولو جعل {مِنَ الْقَالِينَ} خبر {إن} .. لعمل القالين {لِعَمَلِكُمْ} فيفضي إلى تقديم الصلة على الموصول، ولكنه يتوسع في المجرورات ما لا يتوسع في غيرها. وإنما قال: {مِنَ الْقَالِينَ} دون قالٍ إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه، كما يقال: فلان من العلماء، فإنه أشد مدحًا من قولك: فلان عالم، إذ الأول تدل على أنه في عداد زمرة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[169]

العلماء المعروفين بمساهمته لهم في العلم. أي: إني (¬1) بريء مما تعملون مبغض له لا أحبه، ولا أرضاه، ولا يضيرني تهديدكم ولا وعيدكم. وإني لراغب في الخلاص من سوء جواركم. ولعله عليه السلام أراد إظهار الكراهة في مساكنتهم، والرغبة في الخلاص من سوء جوارهم، 169 - ولذلك أعرض عن محاورتهم، وتوجه إلى الله سبحانه أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله، قال: {رَبِّ}؛ أي: يا ربي، ويا مالك أمري {نَجِّنِي}؛ أي: خلصني أنا {وَأَهْلِي}؛ أي: وأهل بيتي {مِمَّا يَعْمَلُونَ}؛ أي: من شؤم عملهم الخبيث، وعذابه، وأبعدني من عذابك الدنيوي والأخروي، أو من عقوبة عملهم التي ستصيبهم. 170 - فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأغاثه بعد أن استغاثه، حيث قال: {فَنَجَّيْنَاهُ}؛ أي: نجينا لوطًا {وَأَهْلَهُ}؛ أي: أهل بيته بنتيه. قيل: وامرأته المؤمنة، ومن تابعه على دينه وأجاب دعوته كلهم {أَجْمَعِينَ} بإخراجهم من بينهم وقت مشارفة حلول العذاب بهم. 171 - {إِلَّا عَجُوزًا} هي (¬2) امرأة لوط المنافقة اسمها والهة، استثنيت من أهله، فلا يضره كونها كافرة؛ لأن لها شركة في الأهلية بحق الزوج. {فِي الْغَابِرِينَ}؛ أي: إلا عجوزًا مقدرًا كونها من الباقين في العذاب؛ لأنها كانت راضية بفعل قومه، وقد أصابها الحجر في الطريق فأهلكها. وذكر أن امرأة لوط حين سمعت الرجفة التفتت وحدها فمسخت حجرًا، وذلك الحجر في رأس كل شهر يحيض، كذا في كتاب "التعريف والأعلام" للسهيلي. قال في "المفردات": الغابر: الماكث بعد مضي من معه. قال تعالى: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)} يعني: فيمن طال أعمارهم. وقيل: فيمن بقي، ولم يسر مع لوط، وقيل: فيمن بقي في العذاب. والمعنى: أي فنجيناه (¬3) وأهله جميعًا مما حل بأهل القرية من العذاب، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم العذاب، إلا عجوزًا قد بقيت ولم تخرج ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[172]

معه، وهي امرأته، كما جاء في سورة هود. {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} وكانت عجوز سوء لم تتبع لوطًا في الدين، ولم تخرج معه. والخلاصة: فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلًا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزًا قدر الله سبحانه بقاءها لسوء أفعالها، وقبح طويتها, ولما لها من ضلع في استحسان أفعالهم. 172 - {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)}؛ أي: أهلكناهم أشد الإهلاك وأفظعه، بقلب بلدتهم؛ أي: أهلكناهم بالخسف والحصب. 173 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الخارجين من بلادهم والكائنين مسافرين وقت الائتفاك والقلب. {مَطَرًا}؛ أي: غير معتاد. وهو الحجارة فأهلكتهم. {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}؛ أي: بئس (¬1) مطر من أنذر فلم يؤمن، لم يرد بالمنذرين قومًا بأعيانهم، فإن شرط أفعال المدح والذم أن يكون فاعلهما معرفًا بلام الجنس، أو يكون مضافًا إلى المعرف به، أو مضمرًا مميزًا بنكرة، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا؛ وهو مطرهم؛ أي: فبئس مطر جنس المنذرين بعذاب الله، فلم يقبلوا الإنذار، والمخصوص بالذم مطر قوم لوط بالحجارة. والخلاصة: أي (¬2) ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط، فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، وبئس المطر هذا، وما أشد وطأته، وما أقسى وقعه، فقد أحدث بأرضهم زلزالًا جعل عاليها سافلها. 174 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي فعل بقوم لوط {لَآيَةً}؛ أي: لعبرة لمن بعدهم، فليجتنبوا عن قبيح فعلهم، كيلا ينزل بهم ما نزل بقوم لوط من العذاب، أو لدلالة واضحة على شدة بأس الله سبحانه، وعظيم انتقامه من أعدائه. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر قوم لوط بل أقلهم، أو ما كان أكثر من تلوت عليهم هذه القصة {مُؤْمِنِينَ} فإن أكثر الخلق لئام؛ وهم الكفار، وكرامهم قليل؛ وهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[175]

المؤمنون. 175 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ} بقهر الأعداء {الرَّحِيمُ} بنصرة الأولياء، أو (¬1) لا يعذب قبل التنبيه والإرشاد. وتعذيبه أهل العذاب من كمال رحمته على أهل الثواب. ألا ترى أن قطع اليد المتآكلة سبب لسلامة البدن كله. فالعالَم بمنزلة الجسد، وأهل الفساد بمنزلة اليد المتآكلة، وراحة أهل الصلاح في إزالة أهل الفساد. ولو لم يكن في العزة والقهر فائدة .. لما وضعت الحدود. وقد قيل: إقامة الحدود خير من خصب الزمان. قال إدريس عليه السلام: من سكن موضعًا ليس فيه سلطان قاهر، وقاض عادل، وطبيب عالم، وسوق قائمة، ونهر جار .. فقد ضيع نفسه وأهله وماله وولده، فعلى العاقل أن يحترز عن الشهوات، ويهاجر عن العادات، ويجاهد نفسه من طريق اللطف والقهر في جميع الحالات. إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون (¬2) كتبت مجلة السياسة الأسبوعية فصلًا قالت فيه: روت الكتب المنزلة أن الله سبحانه أهلك مدينتي سدوم وعمورة، وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارًا وكبريتًا من السماء، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته، ولوط وابنتيه، ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن، بل نزح إليها من الشمال طلبًا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحل في ذلك الزمن. وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه القصة خرافية، وبعضهم يقول: إنها قصة واقعية، كما تشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط). وقد قام الدكتور أولبرابط بمباحث واسعة في وادي نهر الأردن، وعلى سواحل البحر الميت، حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها، وعلم أن إبراهيم عليه السلام انحدر حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

فلسطين، ومعه أهل بيته، وابن أخيه لوط وأهله، ومعهما أنعام كثيرة، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة، فرأى لوط حفظًا للسلام أن يفترق عن إبراهيم، واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها سذوم وعمورة، وأقام بسذوم، واختار إبراهيم المرتفعات التي في الشمال، وضرب خيامه هنالك. وكشف الدكتور آثارًا تدل على صدق هذه القصة؛ إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمس مئة قدم، وبجواره المذبح هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة، يرجح أن الوثنيين في ذلك الزمن كانوا يقدمون عليها قرابينهم، ويرجح أن البحر الميت طغى على الخمس التي كانت في منطقة الأردن. اهـ. وبعض علماء الجيولوجيا - طبقات الأرض - يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادًا كانت آهلة بالسكان. وفي التوراة: إن إبراهيم كان ذات يوم جالسًا بباب خيمته في حر النهار إذ أقبل إليه ثلاثة من الملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة، واحتفى بهم، وفي أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم، وانغماسهم في شهواتهم البهيمية، ولا سيما المحرمة منها، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توًا إلى منزل لوط ابن أخي إبراهيم ليبيتوا عنده، وعلم أهل سذوم بقدومهم، فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقًا، ولكن لوطًا دافع عنهم، وعرض أن يزوجهم - من بنات قومه - لينقذهم، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء، وقد تمكن الضيوف من الفرار، وأقنعوا لوطًا وأهل بيته بالفرار، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط - صوعر - فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتًا ونارًا من السماء، وقلب تلك المدن، وجميع سكانها، ونظرت امرأة لوط إلى الوراء، فصارت عمود ملح. (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت؛ إما بحدوث زلزلة، أو بسقوط صاعقة من الجو). وفي التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات جيولوجية شبيهة بحادثة سذوم وعمورة، فقد يثور بركان، ويتدفق حممه على البلاد المجاورة، فيغمرها ويهلك

[176]

أهلها، وقد تغور بلاد واسعة، فيطمو عليها البحر، وتزول هي وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان. وقد تنشق الأرض فتبتلع مدنًا بأسرها. والخلاصة (¬1): أن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين، وكانت ذات غناء وغياض غنية، بوفرة مائها وخيراتها، وشمل أهلها الفساد، ورتعوا في شهواتهم البهيمية، ولم يبق فيها بر إلا لوط وأهله، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارًا وكبريتًا من السماء، فألهب البراكين النارية التي فيها، فعجلت دمارهم وخسفت الأرض بهم، وظهرت البحيرة على ما نراه الآن. قصص شعيب عليه السلام 176 - {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}؛ أي: شعيبًا ومن قبله عليهم السلام، أو الجمع للتعظيم، أو لأن من كذب رسولًا فكأنما كذب الجميع، كما مر مرارًا. والأيكة (¬2): الغيضة التي تنبت ناعم الشجر، كالسدر والأراك، وهي غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة من الناس، فبعث الله إليهم شعيبًا بعد بعثه إلى مدين، ولكن لما كان أخا مدين في النسب .. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، 177 - ولما كان أجنبيًا من أصحاب الأيكة .. قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل: أخوهم شعيب، وهو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، أو هو ابن ميكيك بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأم ميكيك بنت لوط. ووقع لفظ الأيكة في القرآن في أربع مواضع (¬3)، في الحجر، وفي ق، وهنا، وفي ص، والأولان بأل وبالجر لا غير، والآخران يقرآن بأل وبالجر (¬4)، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر في هذه السورة، وفي ص خاصة {ليكة} بلام واحدة وفتح التاء، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، واللام جزء الكلمة، وهو اسم البلدة لأصحاب الحجر. وقال أبو عبيدة: إن ليكة اسم للقرية التي كانوا عليها، والأيكة اسم للبلاد كلها، كمكة وبكة. وقرأ باقي السبعة {لْئَيْكَةِ} بلام ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات. (¬4) المراح والبحر المحيط.

[178]

التعريف. والمعنى: أي: كذب أصحاب شجر ملتف بقرب مدين شعيبًا، وجملة المرسلين. {إِذْ قَالَ لَهُمْ} نبيهم {شُعَيْبٌ} عليه السلام، ظرف للتكذيب، كما مر نظائره {أَلَا تَتَّقُونَ} الله الذي تفضل عليكم بنعمه 178 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من عند الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك. {أَمِينٌ} لا خيانة عندي. 179 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ} المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها. {وأطيعونـ} ـي فيما أمرتكم به؛ لما ثبت من نصحي لكم. 180 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: على دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى، أو على أداء الرسالة والتبليغ، والتعليم المدلول عليه بقوله رسول {مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: أجرًا وجعلًا {إِنْ أَجْرِيَ}؛ أي: ما ثواب تبليغي {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: المحسن إلى الخلائق كلهم، فإني لا أرجو أحدًا سواه، فإن الفيض وحسن التربية منه تعالى على الكل، خصوصًا على من كان مأمورًا بأمر من جانبه. 181 - وبعد أن نصحهم بتلك النصائح .. وعظهم بعظة أخرى، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم؛ وهي التطفيف في الكيل والميزان, فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ}؛ أي: أتموا الكيل لمن أراده وعامل به. {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}؛ أي: من الناقصين حقوق الناس بالتطفيف، يقال: أخسرت الكيل والوزن؛ أي: نقصته؛ أي: إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملًا، ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصًا، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم. وخلاصة ذلك: خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون. 182 - {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ}؛ أي: بالميزان {الْمُسْتَقِيمِ}؛ أي: السوي العدل. وقد جاء في سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه، فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)}. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (¬1): {القسطاس} - بكسر القاف - والباقون ¬

_ (¬1) المراح.

[183]

بالضم، 183 - ثم عمم النهي عن البخس في كل حق، فقال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}؛ أي: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في كيل، أو وزن، أو غيرهما، كالمزروعات والمعدودات، كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير. وهكذا يقال: بخس حقه إذا نقصه إياه؛ وهو تعميم بعد تخصيص. قال في "كشف الأسرار": ذكر بأعم الألفاظ يخاطب به القافلة، والوزان، والنخاس، والمحصي، والصيرفي. انتهى. أي: ولا تنقصوا (¬1) شيئًا من حقوق الناس، أي حق كان، كنقص العد، والزرع، ودفع الزيف مكان الجيد، والغصب، والسرقة والتصرف بغير إذن صاحبه، ونحو ذلك. ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنًا، وأشد خطرًا؛ وهو الفساد في الأرض بجميع ضروبه وأشكاله، فقال: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ولا تعتدوا على الناس في الأرض حالة كونكم {مُفْسِدِينَ}؛ أي: قاصدين الإفساد والظلم بالقتل، والغارة، وقطع الطريق، والسلب والنهب، والغصب، ونحوها. كإهلاك الزرع والنسل، والدعاء إلى عبادة غير الله، فإنهم كانوا يفعلون ذلك. والعثي (¬2): أشد الفساد فيما لا يدرك حسًا. وقوله: {مُفْسِدِينَ} حال مقيدة؛ أي: لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيده به وإن غلب العثي في الفساد؛ لأنه قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحًا راجحًا، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة. 184 - وبعد أن نهاهم عن ذلك خوفهم سطوة الجبار الذي خلقهم، وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشًا وعتوًا، فقال: {وَاتَّقُوا} الله {الَّذِي خَلَقَكُمْ} يا أصحاب الأيكة {و} خلق {الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: الخلائق الماضين الذين كانوا على خلقة عظيمة، وطبيعة غليظة، كقوم هود وقوم لوط. والجبلة: الخليقة، قاله مجاهد وغيره. يعني الأمم المتقدمة؛ أي: وخافوا بأس الذي خلقكم من العدم للإصلاح في الأرض، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالًا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[185]

وأولادًا، كقوم هود الذين قالوا من أشد منا قوة؟ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالْجِبِلَّةَ} بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن بخلاف عنه، والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام وتشديد اللام في القراءَتين في بناءَين للمبالغة. وقرأ السلمي: {والجبلة}: بكسر الجيم وسكون الياء، وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا؛ أي: خلقوا. 185 - {قَالُوا}؛ أي: أصحاب الأيكة {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}؛ أي: ما أنت يا شعيب إلا رجل من المسحورين؛ أي: ممن سحر عقله مرة بعد أخرى، فصار كلامه جزافًا لا يعبر عن حقيقة، ولا يصيب هدف الحق، أو من المجوفين مثلنا ولست بملك. 186 - {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}؛ أي: مماثل لنا تأكل وتشرب كما نفعل، فلا مزية لك علينا، فما وجه تخصيصك بالرسالة، وإرسالك رسولًا إلينا. وإدخال {الواو} (¬2) بين الجملتين هنا؛ للدلالة على أن كلًّا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب، بخلاف قصة ثمود، فإنه ترك {الواو} هناك؛ لأنه لم يقصد إلا معنى واحد هو التسحير، وقد مر توجيهه بوجه آخر نقلًا عن شيخ الإِسلام. ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: {وَإِنْ}؛ أي: وإن الشأن {نَظُنُّكَ}؛ أي: نعتقد كونك {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في دعوى النبوة، فـ {إن}: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف؛ أي: وإنا لنظنك ممن يتعمد الكذب فيما يقول، ولم يرسلك الله نبيًا إلينا. وقيل (¬3): {إن}: نافية، واللام بمعنى إلا؛ أي: ما نظنك إلا من الكاذبين، والأول أولى. 187 - ثم إن شعيبًا كان هددهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب، فقالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: أي: قطعًا من السحاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[188]

الصَّادِقِينَ} في دعواك النبوة؛ أي: فإن كنت صادقًا في دعواك الرسالة، فأنزل علينا من السحاب قطعًا يكون فيها العذاب لنا. وقرأ حفص (¬1): {كِسَفًا} بفتح السين، والباقون بالسكون. وهذا شبيه بما قالته قريش لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)} إلى أن قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}، وقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}. 188 - وإنما طلبوا ذلك لتصميمهم على التكذيب واستبعادهم وقوعه، فعند ذلك فوض شعيب عليه السلام أمرهم إلى الله فـ {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)} من تطفيف الكيل والميزان, فيجازيكم به، فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وليس العذاب إليّ، وما علي إلا الدعوة والتبليغ، وأنا مأمور به، فلم أنذركم من تلقاء نفسي، ولا أدعي القدرة على عذابكم، وأمره إلى الله تعالى، فينزله في وقته المقدر له لا محالة. 189 - {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: فأصروا على تكذيبه بعد وضوح الحجة، وانتفاء الشبهة. {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} والسحابة التي أقامها الله سبحانه فوق رؤوسهم حتى أظلتهم، فأمطرت عليهم نارًا فهلكوا، وقد أصابهم الله سبحانه بما اقترحوا؛ لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء .. فقد نزل عليهم العذاب من جهتها. وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة (¬2)، لا إلى الظلة نفسها إيذان بأن لهم يومًا آخر غير هذا اليوم، كالأيام السبعة مع لياليها التي سلط الله فيها عليهم الحرارة الشديدة، وكان ذلك من علامة أنهم يؤخذون بجنس النار؛ أي: في (¬3) تلك الإضافة إعلام بأن لهم عذابًا آخر غير عذاب السحاب، كما روي أن الله ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[190]

سبحانه فتح عليهم بابًا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرًا شديدًا مع سكون الريح سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء، فأنضجهم الحر، فخرجوا هربًا، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم، فوجدوا لها بردًا وروحًا وريحًا طيبة، فنادى بعضهم بعضًا، فلما اجتمعوا تحت السحابة .. ألهبها الله عليهم نارًا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي فصاروا رمادًا. {إِنَّهُ}؛ أي: إن عذاب يوم الظلة {كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: شديد هوله وعذابه، فعظم اليوم لعظم العذاب الواقع فيه وشدته، قال قتادة: إن شعيبًا أرسل إلى أمتين؛ أصحاب مدين، ثم أصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بالصيحة والرجفة، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. والمعنى: أي (¬1) وهكذا دأبوا على التكذيب، فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم أخذ بأنفاسهم لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردًا ونسيمًا، فاجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرتهم شواظًا من نار فاحترقوا. 190 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من قصة قوم شعيب {لَآيَةً}؛ أي: لدلالة واضحة على صدق الرسل، أو المعنى: أي: إن في ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه، والعذاب لكل من عصاه في كل العصور لدلالة واضحة على صدق الرسل. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي (¬2): أكثر أصحاب الأيكة، بل كلهم؛ إذ لم ينقل إيمان أحد منهم بخلاف أصحاب مدين، فإن جماعة منهم آمنوا. {مُؤْمِنِينَ} بالله سبحانه، وبرسوله شعيب عليه السلام، أو (¬3) وما كان أكثر قومك يا محمد بمؤمنين مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك من الدليل والبرهان، لو لم يكن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[191]

لهم معرفة بك من قبل، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلًا، وأبعدهم عن كل ذي دنس. 191 - {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على كل شيء. ومن عزته نصر أنبيائه على أعدائه. {الرَّحِيمُ} بالإمهال، فلا يعاجل العقوبة لمن استحقها. وهذا آخر (¬1) القصص السبع التي ذكرها الله سبحانه تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديدًا للمكذبين له. وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول، قد أتاهم من الله تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين بعدما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة، بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان, والزواجر عن الكفر والطغيان، وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه، مع علمهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع شيئًا منها من أحد أصلًا، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئًا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك. تتمة: وقد كرر (¬2) سبحانه في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريرًا لمعانيها في الصدور؛ ليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت جديرة بأن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. تنبيه: جاءت (¬3) هذه القصص السبع مختصرة هنا، وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب، فإن النتائج التي حصل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة، وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي.

فائدة: فإن قلت (¬1): لم لا يجوز أن يقال: إن العذاب النازل بعاد وثمود، وقوم لوط وغيرهم .. لم يكن لكفرهم، وعنادهم، بل كان كذلك بسبب اقترانات الكواكب، واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم، ومع قيام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص. وأيضًا أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين، وابتلاء لهم، وقد ابتلى المؤمنون بأنواع البليات، فلا يكون نزول العذاب على هؤلاء الأقوام دليلًا على كونهم مبطلين مؤاخذين بذلك؟ قلت: إطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به واقتراحهم لهم استهزاء، وعدم مبالاة به يدفع أن يقال: إنه كان بسبب اتصالات فلكية، أو كان ابتلاء لهم، لا مؤاخذة على تكذيبهم؛ لأن الابتلاء لا يطرد. الإعراب {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)}. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، ولم ينون {ثَمُودُ}؛ لمنعه من الصرف بالعلمية والتأنيث المعنوي. {إِذْ}: ظرف لما مضى، متعلق بـ {كَذَّبَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَخُوهُمْ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {صَالِحٌ}: بدل من {أَخُوهُمْ}، أو عطف بيان له. {أَلَا}: أداة عرض. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَكُمْ}: حال من {رَسُولٌ}. و {رَسُولٌ}: خبر {إن}. {أَمِينٌ}: صفة {رَسُولٌ}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أني رسول الله، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم اتقوا الله. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول، ¬

_ (¬1) روح البيان.

والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: {الواو}: عاطفة. {أطيعون}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اتقوا الله}. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول. {عَلَيْهِ}: حال من {أَجْرٍ}، و {مِنْ}: زائدة، و {أَجْرٍ}: مفعول ثان لسأل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة إن على كونها مقول {قَالَ}. {إِن}: نافية. {أَجْرِيَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَتُتْرَكُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، {تتركون}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فِي}: جار ومجرور متعلق بـ {تتركون}. {مَا هَاهُنَا}: {ها}: حرف تنبيه، {هنا}: اسم إشارة للمكان القريب في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف صلة لـ {ما} الموصولة. {آمِنِينَ}: حال من {الواو} في {تتركون}. {فِي جَنَّاتٍ}: بدل من قوله: {فِي مَا هَاهُنَا} بإعادة الجار. {وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ}: معطوفات على {جَنَّاتٍ}. {طَلْعُهَا هَضِيمٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة لـ {نخل}. {وَتَنْحِتُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تتركون}، فهو في حيز الاستفهام الإنكاري التوبيخي. {مِنَ الْجِبَالِ}: متعلق بـ {تنحتون}. {بُيُوتًا}: مفعول به. {فَارِهِينَ} حال من واو {تنحتون}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اتقوا الله. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في النصب مقول لجواب إذا

المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ومفعول محذوف ونون وقاية معطوف على {اتقوا الله}. {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تُطِيعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة وأطيعوا الله، أو الجملة في محل النصب حال من فاعل أطيعوا. {أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}: مفعول به ومضاف إليه. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر صفة لـ {الْمُسْرِفِينَ}. {يُفْسِدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {يُصْلِحُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُفْسِدُونَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا}: أداة حصر، أو حرف كاف ومكفوف. {أَنْتَ}: مبتدأ. {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)}. {مَا}: نافية. {أَنْتَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر. {بَشَرٌ}: خبر. {مِثْلُنَا}: صفة لـ {بَشَرٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَأْتِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلنا لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فنقول لك أئت. {ائت}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة. {بِآيَةٍ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إن}: حرف شرط. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر كان، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنت من الصادقين فات بآية، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}.

{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على صالح، والجملة مستأنفة. {هَذِهِ} مبتدأ. {نَاقَةٌ}: خبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَهَا}: خبر مقدم. {شِرْبٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لـ {نَاقَةٌ}. {وَلَكُمْ} {الواو}: عاطفة. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {شِرْبُ يَوْمٍ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. {مَعْلُومٍ}: صفة {يَوْمٍ} والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {هَذِهِ نَاقَةٌ} فكأنه قال: هذه ناقة لها، شرب، وأنتم أقوام لكم شرب يوم معلوم. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تَمَسُّوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية. {بِسُوءٍ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {هَذِهِ نَاقَةٌ}. {فَيَأْخُذَكُمْ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {يأخذكم}: فعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. {عَذَابُ يَوْمٍ}: فاعل ومضاف إليه. {عَظِيمٍ}: صفة {يَوْمٍ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن مسكم إياها بسوء فأخذ عذاب يوم عظيم إياكم. {فَعَقَرُوهَا}: {الفاء}: عاطفة {عقروها}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة {قَالَ}. {فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}: فعل ناقص واسمه، وخبره معطوف على {فَعَقَرُوهَا}. {فَأَخَذَهُمُ}: فعل ومفعول به. {الْعَذَابُ}: فاعل, والجملة معطوفة على جملة {أصبحوا}. {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)} تقدم إعراب هذه الجمل مرارًا فراجعه. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)}. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة

لبيان قصة قوم لوط. {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {كَذَّبَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {أَخُوهُمْ}: فاعل. {لُوطٌ}: بدل منه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَلَا}: حرف عرض. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَكُمْ}: حال. {رَسُولٌ}: خبره. {أَمِينٌ}: صفة {رَسُولٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة، {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ومفعول به محذوف معطوف على {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية {أَسْأَلُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إن} على كونها مقول {قَالَ}؛ {مِنْ أَجْرٍ} متعلقًا به. {إن}: نافية. {أَجْرِيَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر. {عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَتَأْتُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {تأتون}: فعل وفاعل. {الذُّكْرَانَ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {مِنَ الْعَالَمِينَ}: حال من {الذُّكْرَانَ}. {وَتَذَرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تأتون}. {مَا}: اسم موصوف في محل النصب مفعول به. {خَلَقَ}: فعل ماض. {لَكُمْ}: متعلق به. {رَبُّكُمْ}: فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما خلقه. {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}: حال من {مَا}، أو من العائد المحذوف. {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي. {أَنْتُمْ قَوْمٌ}: مبتدأ وخبر. {عَادُونَ}: صفة {قَوْمٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)}

{قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {تَنْتَهِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن لم تنته تكن من المخرجين، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معترضة بين القسم وجوابه. {يَا لُوطُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معترضة. {لَتَكُونَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأول. {تكونن}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، واسمها ضمير مستتر يعود على {لوط} {مِنَ الْمُخْرَجِينَ}: خبرها، وجملة {تكونن} جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لِعَمَلِكُمْ}: متعلق بـ {الْقَالِينَ}. {مِنَ الْقَالِينَ}: خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {نَجِّنِي}: فعل دعاء وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به. {وَأَهْلِي}: معطوف على ياء المتكلم، أو مفعول معه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {نَجِّنِي}، وجملة {يَعْمَلُونَ} صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف تقديره: مما يعملونه. {فَنَجَّيْنَاهُ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {نجيناه}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {قَالَ}. {وَأَهْلَهُ}: معطوف على هاء المفعول، أو مفعول معه. {أَجْمَعِينَ}: توكيد لـ {أهله}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {عَجُوزًا}: مستثنى. {فِي الْغَابِرِينَ}: صفة لـ {عَجُوزًا}. كأنه قيل: إلا عجوزًا غابرة. {ثُمَّ}: حرف عطف. {دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {نجيناه}. {وَأَمْطَرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {دَمَّرْنَا}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أمطرنا}. {مَطَرًا}: مفعول به. {فَسَاءَ}: {الفاء}: عاطفة، أو استئنافية، {ساء}: فعل ماض من أفعال الذم، {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على {أمطرنا}، أو مستأنفة، والمخصوص بالذم

محذوف تقديره: مطرهم، والجمل في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)}. تقدم إعرابها فراجعه إن شئت. {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)}. {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قصة قوم شعيب. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {كَذَّبَ}. {قَالَ}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {شُعَيْبٌ}: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَلَا}: أداة عرض. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَكُمْ}: حال من {رَسُولٌ}، و {رَسُولٌ}: خبره. {أَمِينٌ}: صفة {رَسُولٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة. {اتقوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَطِيعُونِ}: فعل وفاعل ومفعول محذوف معطوف على {اتقوا الله}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {أَسْأَلُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول. {عَلَيْهِ}: حال من {أَجْرٍ}. {مِنْ أَجْرٍ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إن}: نافية. {أَجْرِيَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر. {عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}. {أَوْفُوا الْكَيْلَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْمُخْسِرِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَوْفُوا}. {وَزِنُوا}: {الواو}: عاطفة. {زنوا} فعل وفاعل معطوف على

{أَوْفُوا}. {بِالْقِسْطَاسِ}: متعلق بـ {زنوا}. {الْمُسْتَقِيمِ}: صفة لـ {القسطاس}. {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول به أول مجزوم بـ {لا} الناهية. {أَشْيَاءَهُمْ}: مفعول ثان، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أَوْفُوا}. {وَلَا تَعْثَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أَوْفُوا}. {مُفْسِدِينَ}: حال مؤكدة لمعنى عاملها. {وَاتَّقُوا الَّذِي}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَوْفُوا}. {خَلَقَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به {وَالْجِبِلَّةَ}: معطوفة على الكاف. {الْأَوَّلِينَ}: صفة لـ {جبلة}، وجملة {خَلَقَكُمْ}: صلة الموصول. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {أَنْتَ}: مبتدأ. {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {أَنْتَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر. {بَشَرٌ}: خبر المبتدأ. {مِثْلُنَا}: صفة {بَشَرٌ}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّمَا أَنْتَ} على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: إنه {نَظُنُّكَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. {لَمِنَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {من الكاذبين}: في محل المفعول الثاني لظن، وجملة ظنّ في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّمَا أَنْتَ} على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} {فَأَسْقِطْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر وتقديره: إذا سمعت يا شعيب ما قلنا لك، وأردت إثبات نبوتك. فنقول لك أسقط. {أسقط}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على شعيب. {عَلَيْنَا}: متعلق به. {كِسَفًا}: مفعول به. {مِنَ السَّمَاءِ}: صفة لـ {كِسَفًا}، والجملة الفعلية في

محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إن}: حرف شرط. {كُنْتَ}: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر كان، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبله تقديره: إن كنت من الصادقين فأسقط علينا، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {رَبِّي أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {بِمَا}: بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة. {فَكَذَّبُوهُ}: {الفاء}: عاطفة. {كذبوه}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {قَالُوا}. {فَأَخَذَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {أخذهم}: فعل ومفعول به. {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كذبوه}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}. {عَذَابَ يَوْمٍ} خبر ومضاف إليه. {عَظِيمٍ} صفة لـ {يَوْمٍ}. وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)} تقدم إعرابه مرارًا فلا عود ولا إعادة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَنَخْلٍ} النخل والنخيل: شجر التمر المعروف، له ساق مستقيم طويل ذو عقد، واحدته نخلة ونخيلة. وفي "المصباح" ما ملخصه: النخل: اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقًا. اهـ. {طَلْعُهَا}: هو ثمرها في أول ما يطلع، وبعده يسمى خلالًا، ثم بلحًا، ثم بسرًا، ثم رطبًا، ثم تمرًا. وفي "البيضاوي": طلعها: وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، وتشبيهه بنصل السيف من حيث الهيئة والشكل. وفي "المختار": ويقال للطلع {هَضِيمٌ} ما لم يخرج؛ لدخول بعضه في بعض، من قولهم: كشح هضيم. وفي "القاموس" و"التاج": الطلع: المقدار، تقول:

الجيش طلع ألف، ومن النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، والطرف محدد، أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها، والهضيم: النضيح الرخص اللين اللطيف. وفي "أبي السعود": والهضيم: اللطيف اللين للطف الثمر، أو لأن النخل أنثى وطلع الإناث ألطف؛ وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو مدل متكسر من كثرة الحمل، وإفراد النخل؛ لفضله على سائر أشجار الجنات، أو لأن المراد به غيرها من الأشجار. اهـ. {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ} يقال: نحته ينحته - من باب ضرب - نحتًا ونحاتة، والنحت: النجر والبري، والنحاتة البراية، والمنحت ما ينحت به. {فَارِهِينَ} قال الراغب: معنى قراءة من قرأ: {فَارِهِينَ} - بالألف - حاذقين؛ أي: ماهرين في العمل، من الفراهة؛ وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب. ومن قرأ: {فرهين} جعله بمعنى مرحين أشرين بطرين، فهو على الأول من فره بالضم، وعلى الثاني من فره بالكسر. {شِرْبٌ} - بالكسر - الحظ والنصيب من الماء، كالسقي من السقي. قال الفراء: الشرب: الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر فيقال فيه: شرب شربًا وشُربًا، وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب. والمراد هنا الشِرب بالكسر. {فَعَقَرُوهَا} يقال: عقرت البعير: نحرته، وأصل العقر ضرب الساق بالسيف، كما في "كشف الأسرار" والمعنى هنا؛ أي: رموها بسهم، ثم قتلوها، كما مر في مبحث التفسير. {نَادِمِينَ}: اسم فاعل من ندم من باب فرح، والندم والندامة التحسر من تغير رأي في أمر فائت. {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} والذكران والذكور جمع الذكر ضد الأنثى من كل حيوان، وجعل الذكر كناية عن العضو المخصوص، كما في "المفردات".

{وَتَذَرُونَ}؛ أي: تتركون، يقال: فلان يذر الشيء؛ أي: يقذفه لقلة إعداده به، ولم يستعمل ماضيه. {مِنَ الْقَالِينَ}: من المبغضين، جمع قال، اسم فاعل من قليته أقليه قلى: وقلاء، والقلى أشد البغض؛ وهو مما يجب كسر عين مضارعه؛ لوجود داعي الكسر، وهو كون لامه ياء، كما هو مقرر في محله. وفي "المصباح": قليت الرجل أقليه - من باب رمى - قلى بالكسر والقصر، وقد يمد إذا أبغضه، ومن باب تعب لغة. وعبارة "القاموس": قلاه - كـ: رماه ورضيه - قلى وقلا وقليه أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه، أو قلاه في الهجر وقليه في البغض. {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)} قال الراغب: سميت العجوز عجوزًا لعجزها عن كثير من الأمور. قال في "المفردات": الغابر: الماكث بعد مضي من معه. قال في "الكشاف": ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين. وفي "المصباح": غبر غبورا - من باب قعد - بقي، وقد يستعمل فيما مضى أيضًا فيكون من الأضداد. وقال الزبيدي: غبر غبورًا مكث، وفي لغة بالمهملة للماضي، وبالمعجمة للباقي. وغُبَّر الشيء - وزان سكر - بقيته. وفي "القاموس": غبر غبورًا مكث وذهب، ضدٌّ، وهو غابر من غُبَّر كرُكَّع، وغُبر الشيء - بالضم - بقيته، اهـ. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)} والتدمير: إدخال الهلاك على الشيء، والدمار: الهلاك على وجهه عجيب هائل. {الْأَيْكَةِ} في اللغة: الشجرة الكثيفة، وجمعها أيك. قال في "القاموس": أيك يأيك - من باب تعب - أيكًا، واستأيك الشجر التف وصار أيكة، والأيك: الشجر الكثيف الملتف، الواحدة أيكة، فتطلق الأيكة على الواحدة من الأيك، وعلى غيضة شجر ملتفة قرب مدين. قالوا: وكان شجرهم الدوم، وهي قرية شعيب سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم، بينها وبين مصر مسير ثمانية أيام. {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} يقال: خسرته وأخسرته: نقصته.

{وَزِنُوا}: أمر من وزن يزن وزنًا وزنة، والوزن معرفة قدر الشيء. {بِالْقِسْطَاسِ} قال في "القاموس": القُسطاس بكسر القاف وضمّها، وقد قرىء بهما الميزان, أو أقوم الموازين، فإن كان من القسط وهو العدل، وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: هو بالرومية العدل. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ولا تفسدوا، يقال: عثا في الأرض وعثي فيها، وذلك نحو قطع الطريق والغارة، وإهلاك الزروع. وفي "المختار" عثا في الأرض أفسد، وبابه سما، وعثي بالكسر عثوًا أيضًا، وعثى بفتحتين بوزن فتى. قال الله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قلت: قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية. وفي "القاموس": عثى كسعى ورمى ورضي. اهـ. {الجبلة} - بكسر الجيم والباء وتشديد اللام المفتوحة -: الخلق المتحد الغليظ، وفي "القاموس": الجبلة والجبلة والجبلة والجبلة وهي التي قرىء بها الوجه وما استقبلك منه، والخلقة والطبيعة، والأصل والقوة وصلابة الأرض. والجبل - بفتح الجيم مع سكون الباء -: مصدر جبله الله على كذا؛ أي: طبعه وخلقه، واسم الطبيعة جبلة. ويقال: جبل فلان على كذا؛ أي: خلق، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة. {كِسَفًا}: جمع كسفة، مثل سدر وسدرة، كقطعة وقطع وزنًا ومعنًى. وقال الجوهري: الكسفة: القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك؛ أي: قطعة، ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ {كسفًا من السماء} جعله واحدًا، ومن قرأ {كسفًا} جعله جمعًا. {يَوْمِ الظُّلَّةِ} والظلة: السحابة التي استظلوا بها، والمظلة الضيَّقة وما يستظل به من الحر أو البرد، وما أظله كالشجر، والجمع ظلل وظلال. ويوم الظلة اشتهر بعذابهم، فقد وقفت فوقهم سحابة أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فأمطرت عليهم نارًا فاحترقوا.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: إطلاق الجمع على المفرد في قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)} للتعظيم؛ لأن المراد بالمرسلين صالح. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَتُتْرَكُونَ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)}؛ لأن الأمر لا يطاع وإنما هو صاحبه؛ أي: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلَا تُطِيعُوا}؛ أي: ولا تمتثلوا، حيث شبه الامتثال الذي للأمر على صيغة المصدر بالطاعة التي للأمر على صيغة اسم الفاعل، من حيث إن كلًّا منهما يفضي إلى وجود المأمور به، فأطلق اسم المشبه به؛ وهو الطاعة على المشبه؛ وهو الامتثال، فاشتق من الطاعة بمعنى الامتثال لا تطيعوا بمعنى لا تمتثلوا، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعيَّة. ومنها: الطباق بين {يُفْسِدُونَ} و {يُصْلِحُونَ}. ومنها: الإرداف في قوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ} فقد كان يكفي أن يقول: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ولكنه لما كان قوله: {يُفْسِدُونَ} لا ينفي صلاحهم أحيانًا أردفه بقوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ}؛ لبيان كمال إفسادهم وإسرافهم فيها. ومنها: الحصر في قوله: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}. ومنها: التنوين في قوله: {هَذِهِ نَاقَةٌ} للتعظيم والتفخيم. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)}. ومنها: الجناس غير التام في قوله: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)} الأول

من القول، والثاني من قلى إذا أبغض. ومنها: إطلاق ما للبعض على الكل في قوله: {فَعَقَرُوهَا} لرضاهم به واتفاقهم عليه. ومنها: الإبهام في قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} فإن فيه الإبهام بقوله: {مَا خَلَقَ لَكُمْ} وقد أراد به أقبالهن، وفي ذلك مراعاة للحشمة والتصون. ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الصفة في قوله: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}، وقوله: {مِنَ الْقَالِينَ} وكثيرًا ما ورد في القرآن خصوصًا في هذه السورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدًا من جمع، كقول فرعون: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} وأمثاله كثيرة في القرآن، والسر في ذلك أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدًا من جمع، فإنه يفهم أمرًا زائدًا على وقوعه، وهو الصفة المذكورة كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به، كأنها لقب، وكأنه من طائفة صارت من هذا النوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة. ومنها: الإطناب في قول: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)}؛ لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران، وفائدته زيادة التحذير من العدوان. ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل {يُفْسِدُونَ} {يُصْلِحُونَ} {الْأَرْذَلُونَ}. ومنها: التأكيد في قوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}؛ لأن الإفساد نفس العثي، فهي حال مؤكدة لعاملها. فائدتها: إخراج ما ليس من العثي والعدوان بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، وكقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة، كما مر في مبحث التفسير.

ومنها: التكرير في هذه القصص السبع، فإنه كرر في أول كل قصة، وفي آخرها ما كرر مما أشرنا إليه؛ لأن في التكرير تقريرًا للمعاني في الأنفس، وترسيخًا لها في الصدور، وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة وبالتطويل مرة أخرى. والتكرير ينقسم إلى قسمين: أحدهما: التكرير في اللفظ والمعنى، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع. والثاني: التكرير في المعنى دون اللفظ، كقولك: أطعني ولا تعص أوامري، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية، وعلى كل حال ليس في القرآن مكرر لا فائدة فيه. ونعود إلى الآيات فنقول: إنما كرر القرآن هذه الآيات في أول كل قصة وآخرها؛ لأن هذه القصص قرعت بها آذان أصابها وقر، وقلوب غلف، فلم يكن بد من مراجعتها بالترديد والتكرير، لعل ذلك يفتح مغالقها، ويجلو ما صدأها من رين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما اختتم هذا القصص (¬1)، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل، وذكر أنه قد أهلك المكذبين وكان النصر في العاقبة لرسله المتقين، فإن سنته في كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} ¬

_ (¬1) المراغي.

وفي ذلك سلوة لرسوله، وعدة له بأنه مهما أوذي من قومه ولقي منهم من الشدائد، فإن الفلج والفوز له. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} .. أردف هذا ببيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله سبحانه أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل عليه السلام بلسان عربي مبين؛ لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين، وأن ذكره في الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشروه. قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بالغ في تسلية رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الحجة على نبوته، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه .. أردف ذلك بأمره بعبادته وحده، وإنذار العشيرة الأقربين، ومعاملة المؤمنين بالرفق، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده، فإنه هو العليم بكل شؤونه وأحواله. قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أبان امتناع تنزل الشياطين بالقرآن، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين .. أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين، ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم، وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع، وبعدئذ ذكر أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بشاعر؛ لأن الشعراء يهيمون في كل واد من أودية القول من مدح وهجو، وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الصدق، فأنى له أن يكون شاعرًا. أسباب النزول قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي جهم قال: رؤي النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه متحير، ¬

_ (¬1) المراغي.

[192]

فسألوه عن ذلك، فقال: "ولمَ! ورأيت عدوي يكون من أمتي بعدي" فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)} فطابت نفسه. قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل بيته وفصيلته، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}. قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} سبب نزوله ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحدهما من الأنصار والآخر من قوم أخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه؛ وهم السفهاء، فأنزل الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) ..} الآيات. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه. وأخرج عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله: {مَا لَا يَفْعَلُونَ ..} قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله إني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...} إلى آخر السورة. وأخرج (¬1) ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البراد قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ ...} الآية .. جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، قالوا يا رسول الله: والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء هلكنا، فأنزل الله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلاها عليهم. التفسير وأوجه القراءة 192 - والضمير في قوله: {وَإِنَّهُ} راجع إلى القرآن، وإن لم يجر له ذكر للعلم به؛ أي: إن هذا القرآن {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي (¬2): لمنزل من خالق المخلوقين، فليس بشعر، ولا كهانة، ولا أساطير الأولين، ولا غير ذلك مما قالوه فيه، بل ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراح.

[193]

هو من عند الله سبحانه، وكأنه عاد أيضًا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر؛ ليتناسب المفتتح والمختتم. ذكره أبو حيان. وصيغة التكثير (¬1): تدل على أن نزوله كان بالدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة، وهو مصدر بمعنى المفعول، سمي به مبالغة، وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين إيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته تعالى ورأفته للكل. والمعنى: إن هذا القرآن الذي من جملته ما ذكر من القصص السبع لمنزل من جهته تعالى، وإلا لما قدرت على الإخبار، وثبت به صدقك في دعوى الرسالة؛ لأن الإخبار من مثله لا يكون إلا بطريق الوحي. 193 - {نَزَلَ بِهِ} {الباء}: إما للتعدية؛ أي: أنزله {الرُّوحُ الْأَمِينُ}؛ أي: جبريل عليه السلام، أو للملابسة؛ أي: نزل الروح الأمين حالة كونه ملابسًا بهذا القرآن. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم (¬2): {نَزَلَ بِهِ} مخففًا {الرُّوحُ الْأَمِينُ} بالرفع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {نزل به}: مشددة الزاي. {الرُّوحُ الْأَمِينُ} بالنصب، والفاعل هو الله سبحانه على هذه القراءة. وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. وقرىء (¬3): {نزل} مشددًا مبنيًا للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعًا على النيابة. والمراد بالروح الأمين جبريل عليه السلام، سمي أمينًا؛ لأنه أمين على وحيه تعالى، وموصله إلى أنبيائه، وروحًا لكونه سببًا لحياة قلوب المكلفين بنور المعرفة والطاعة، حيث إن الوحي الذي فيه الحياة من موت الجهالة يجري على يده، ويدل عليه قوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وفي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير. (¬3) الشوكاني.

[194]

"كشف الأسرار" سمي جبريل روحًا؛ لأن جسمه روح لطيف روحاني. وكذا الملائكة روحانيون خلقوا من الروح؛ وهو الهواء. قال بعضهم (¬1): لا شك أن للملائكة أجسامًا لطيفة، وللطافة نشأتهم غلب عليهم حكم الروح، فسموا أرواحًا. ولجبريل مزيد اختصاص بهذا المعنى؛ إذ هو من سائر الملائكة كالرسول عليه السلام من أفراد أمته. واعلم: أن القرآن كلام الله وصفته القائمة به، فكساه الألفاظ بالحروف العربية، ونزله على جبريل، وجعله أمينًا عليه؛ لئلا يتصرف في حقائقه، 194 - ثم نزل به جبريل كما هو على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه: {عَلَى قَلْبِكَ}؛ أي (¬2): نزل به الروح الأمين، وتلاه على قلبك يا محمد حتى وعيته بقلبك، فخص القلب بالذكر؛ لأنه محل الوعي والحفظ والتثبيت، ومعدن الوحي والإلهام، وليس شيء في وجود الإنسان يليق بالخطاب والفيض غيره، وهو - صلى الله عليه وسلم - مختص بهذه الرتبة العلية، والكرامة السنية من بين سائر الأنبياء، فإن كتبهم منزلة في الألواح والصحائف جملة واحدة على صورتهم، لا على قلوبهم، كما في "التأويلات النجمية". قال في "كشف الأسرار": الوحي إذا نزل بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - نزل بقلبه أولًا، كما هو ظاهر الآية؛ لشدة تعطشه إلى الوحي، ولاستغراقه به، ثم انصرف من قلبه إلى فهمه وسمعه، وهذا تنزل من العلو إلى السفل، وهو رتبة الخواص، فأما العوام فإنهم يسمعون أولًا فيتنزل الوحي على سمعهم أولًا، ثم على فهمهم، ثم على قلبهم، وهذا ترق من السفل إلى العلو، فشتان ما بينهما. وفي "الفتاوى الزينية": سئل عن الوحي الأمين جبريل عليه السلام كم نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أجاب نزل عليه أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى سائر الأنبياء لم ينزل أكثر من ثلاثة آلاف مرة. انتهى. قلتُ: وهذا مما لا نقل فيه ويجب الوقف عنه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[195]

{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}؛ أي: من المخوفين مما يؤدي إلى عذاب الله من فعل أو ترك، وهو متعلق بـ {نَزَلَ بِهِ}، مبين لحكمة الإنزال والمصلحة منه، وهذا من جنس ما يذكر فيه أحد طرفي الشيء، ويحذف الطرف الآخر لدلالة المذكور على المحذوف، وذلك أنه أنزله ليكون من المبشرين والمنذرين. قال بعضهم: الإنذار أصل، وقدم لأنه من باب التخلية بالخاء المعجمة، فاكتفى بذكره في بعض المواضع من القرآن. 195 - {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} متعلق أيضًا بـ {نَزَلَ} وتأخيره للاعتناء بأمر الإنذار. واللسان بمعنى اللغة؛ لأنه آلة التلفظ بها؛ أي: نزل به بلسان عربي ظاهر المعنى، واضح المدلول؛ لئلا يبقى لهم عذر ما؛ أي: لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه. فالآية صريحة في أن القرآن إنما أنزل عليه عربيًا، لا كما زعمت الباطنية من أنه تعالى أنزله على قلبه غير موصوف بلغة ولسان، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أداه بلسانه العربي المبين من غير أن ينزل كذلك. وهذا فاسد مخالف للنص والإجماع، ولو كان الأمر كما قالوا .. لم يبق الفرق بين القرآن والحديث. وفي الآية: تشريف للغة العرب على غيرها، حيث أنزل القرآن بها, لا بغيرها وقد سماها مبينًا. ولذلك اختار هذه اللغة لأهل الجنة، واختار لغة العجم لأهل النار. قال سفيان: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية، فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية. فإن قلت: كيف (¬1) يكون القرآن عربيًا مبينًا مع ما فيه من سائر اللغات أيضًا على ما قالوا كالفارسية؛ وهو {سِجِّيلٍ} والرومية؛ وهو {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} والأرمينية؛ وهو {فِي جِيدِهَا} والسريانية؛ وهو {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} والحبشية؛ وهو {كِفْلَيْنِ}؟ قلتُ: لما كانت العرب يستعملون هذه اللغات، ويعرفونها فيما بينهم صارت بمنزلة العربية. قال الفقيه أبو الليث: اعلم بأن العربية لها فضل على سائر ¬

_ (¬1) روح البيان.

الألسنة، فمن تعلمها أو علم غيره فهو مأجور؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب. واعلم أن الفارسية شعبة من لسان العجم المقابل للسان العرب. ولها فضل على سائر لغات العجم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بها, ولذلك اختيرت في الترجمة عن التكبير في الصلاة لمن لا يعرف التكبير بالعربية. وقال الزمخشري: {بِلِسَانٍ}؛ إما (¬1) أن يتعلق بـ {الْمُنْذِرِينَ}، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان؛ وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وإما أن يتعلق بـ {نَزَلَ} فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به؛ لأنه لو نزله باللسان الأعجمي .. لتجافوا عنه أصلًا، وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك؛ لأنك تفهمه، ويفهمه قومك. ولو كان عجميًا .. لكان نازلًا على سمعك دون قلبك؛ لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها. انتهى. ومعنى الآية: أي (¬2) وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ} أنزله الله سبحانه إليك، وجاء به جبريل عليه السلام، فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك لتنذر به قومك بلسان عربي بيِّن واضح؛ ليكون قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة، دليلًا إلى المحجة، هاديًا إلى الرشاد، مصلحًا لأحوال العباد. وفي قوله: {عَلَى قَلْبِكَ} إيماء إلى أن ذلك المنزل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه إلى أن القلب هو المخاطب في الحقيقة؛ لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار، وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" أخرجاه في "الصحيحين" ولأن القلب إذا غشي عليه، وقطع سائر الأعضاء .. لم يحصل له ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) المراغي.

[196]

شعور بالألم، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات. وفي قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} تقريع لمشركي قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار، والعناد، لا عدم الفهم؛ لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه. 196 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن ذكر القرآن لا عينه. والمراد بذكره: الإخبار بأنه ينزل على محمد، وبأنه من عند الله، وأنه صدق وحق، فهذا الإخبار موجود في كتب الأولين. {لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}: واحدها زبور، بمعنى كتاب، مثل رسل ورسول؛ أي: لفي الكتب المتقدمة، يعني أن الله تعالى أخبر في كتبهم عن القرآن وإنزاله على النبي المبعوث في آخر الزمان. وقيل: إن الضمير في {إنه} هو يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قاله مقاتل. وقرأ (¬1) الأعمش: {لَفِي زُبْرِ} بتسكين الباء للتخفيف، والأصل الضم، كما قالوا في {رُسُل} بضمتين {رُسْل} بسكون السين. والمعنى (¬2): أي: وإن ذكر هذا القرآن، والتنويه بشأنه لفي كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك، وبه بشر عيسى بقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. 197 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)}؛ لإنكار (¬3) النفي، وإنكاره إثبات، فهي للتقرير داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، و {لَهُمْ} حال من {آيَةً}، والضمير راجع إلى مشركي قريش، و {آيَةً} خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله: {أَنْ يَعْلَمَهُ ...} إلخ، للاعتناء بالمقدم، والتنويه بالمؤخر، والتقدير: أغفل أهل مكة عن القرآن، ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل من رب العالمين، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم، ويعرفوا من أنزل عليه؟ أي: قد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

كان علمهم بذلك آية على صحة القرآن، وحقية الرسول، وكان علماؤهم خمسة: أسد وأسيد وابن يامين وثعلبة وعبد الله بن سلام، فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود، وقد أسلموا وحسن إسلامهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد نعته في التوراة، فكان آية على صدقه - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور: {أَوَلَمْ يَكُنْ} بالياء من تحت، {آيَةً}: بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب، توسط خبر {يَكُنْ}، و {أَنْ يَعْلَمَهُ} هو الاسم، كما مر. قال الزجاج: والمعنى عليه: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبي حق، علامة ودلالة على نبوته؛ لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذِكره في كتبهم. وقرأ ابن عامر والجحدري: {تكن} بالتاء من فوق، {آيَةً} - بالرفع - على أنها اسم كان، وخبرها {أَنْ يَعْلَمَهُ}. ويجوز أن تكون تامة. وفي قراءة ابن عامر نظر؛ لأن جعل النكرة اسمًا، والمعرفة خبرًا غير سائغ، وإن ورد شاذًا كقول الشاعر: فَلاَ يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الْوَدَاعَا وقول الآخر: وَكَانَ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ وأحسن ما يقال في توجيه هذه القراءة: أن يقال: إن {يَكُنْ} تامة. وقرأ ابن عباس: {تكن} بالتاء من فوق، {آيَةً}: بالنصب، كقراءة من قرأ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} بتاء التأنيث، {فتنتَهم}: بالنصب {إِلَّا أَنْ قَالُوا} وقرأ الجحدري (¬1): {أن تعلمه}: بتاء التأنيث، كما قال الشاعر: قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بِنِيَ أَسَدِ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرَارًا لأَقْوَامِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[198]

وكتب في المصحف {علموا} بواو بين الميم والألف. قيل على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة. والمعنى: أي (¬1) أغفل أهل مكة عن الإيمان, وليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بني إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفته ونعته، وقد كان مشركوا قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر. 198 - وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل ولا تجديهم البراهين، فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ}؛ أي: نزلنا هذا القرآن، كما هو بنظمه المعجب المعجز {عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية، جمع أعجمي بالتخفيف، ولذا جمع جمع السلامة، ولو كان جمع أعجم لما جمع بالواو والنون؛ لأن مؤنث أعجم عجماء، وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة. 199 - {فَقَرَأَهُ}؛ أي: فقرأ ذلك الأعجمي القرآن {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على مشركي مكة قراءة صحيحة خارقة للعادات {مَا كَانُوا}؛ أي: ما كان أهل مكة {بِهِ}؛ أي: بهذا القرآن {مُؤْمِنِينَ} مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي إلى إعجاز القرآن المقروء لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم في المكابرة. وقيل المعنى (¬2): ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم، فقرأه عليهم بلغته .. لم يؤمنوا به، وقالوا: ما نفقه هذا ولا نفهمه، ومثل هذا قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ويقال: رجل أعجمي، ورجل أعجم إذا كان غير فصيح اللسان وإن كان عربيًا، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم وإن كان فصيحًا. إلا أن الفراء أجاز أن يقال: رجل عجمي بمعنى أعجمي. والأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان عربيًا في النسب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[200]

وقرأ الحسن: {على بعض الأعجميين}، وكذلك قرأ الجحدري. قال أبو الفتح بن جني أصل الأعجمين: الأعجميين، ثم حذفت ياء النسب للتخفيف، كما قالوا: الأشعرون؛ أي: الأشعريون بحذف ياء النسبة، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع السلامة؛ لأن مؤنثه عجماء. وحاصل المعنى: أي إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه، وفهموه، وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وبشرت به الكتب السالفة، ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسموه تارة شعرًا وأخرى كهانة، فلو أنا نزلنا على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم لكفروا به أيضًا، ولتمحلوا لجحودهن عذرًا، وقالوا له: لا نفقه ما يقول. وفي هذا تسلية من الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما حصل من قومه؛ لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماعه له. والخلاصة (¬1): أنا لو نزلناه على بعض الأعجمين، لا عليك فإنك رجل منهم، ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا، وهلا نزل به ملك، فقرأه ذلك الأعجم عليهم، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق، وأنه منزل من عندنا .. ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال. 200 - ثم أكد هذا الإنكار أشد تأكيد، فقال: {كَذَلِكَ}؛ أي: كما أدخلنا التكذيب بهذا القرآن بقراءة الأعجم عليهم؛ أي: على كفار مكة لو فرض {سَلَكْنَاهُ}؛ أي: أدخلنا التكذيب بهذا القرآن {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: في قلوب المشركين من كفار مكة بقراءتك عليهم؛ أي (¬2): سلكنا التكذيب وأدخلناه في قلوبهم، وقررناه فيها، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الكفر به والتكذيب له، كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} وفي ذلك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

[201]

إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنًا في قلوبهم أشد التمكن، وصار كالشيء الجبلي لا يمكن تغييره. وقيل المعنى: {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك السلك البديع {سَلَكْنَاهُ}؛ أي: أدخلنا القرآن {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: في قلوب مشركي مكة فعرفوا معانيه وإعجازه. وعبارة "الجمل" هنا قوله: {كَذَلِكَ} معمول لـ {سَلَكْنَاهُ}. والضمير في {سَلَكْنَاهُ} للقرآن، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: سلكنا تكذيبه؛ أي: التكذيب به بقراءة النبي مثل إدخالنا التكذيب به في قلوبهم بقراءة الأعجمي. وفي أن الأعجمي لم يقرأه ولم ينزل عليه. قلنا: إن الجملة الشرطية؛ وهي قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ ..} إلخ لا تستلزم الوقوع، اهـ شيخنا. 201 - فقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} استئناف مسوق لبيان عنادهم؛ أي: فهم مع ذلك السلك المذكور لا يؤمنون بهذا القرآن. {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} الملجيء إلى الإيمان به حين لا ينفعهم الإيمان؛ أي: إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان, بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب حين لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار؛ أي: لا يؤمنون إلى هذه الغاية، وهي مشاهدتهم العذاب الأليم. 202 - {فَيَأْتِيَهُمْ}؛ أي: فيأتي هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة في الدنيا والآخرة، فهو معطوف على {يَرَوُا} {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا يعلمون قبل بمجيئه حتى يفجأهم. وقرأ الحسن (¬1): {فتأتيهم}: بالتاء الفوقية؛ أي: الساعة. وقرأ {بغتة} بفتح الغين. وعبارة "الجمل" هنا قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} مقدم من تأخير. وأصل الكلام: حتى يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، فيرونه فيقولون هل نحن منظرون؛ أي: مؤخرون عن الإهلاك، ولو طرفة عين لنؤمن، فيقال لهم: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[203]

لا، أي: لا تأخير ولا إمهال، اهـ شيخنا. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬1): ما معنى التعقيب في قوله: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}؟ قلت: ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته، وسؤال النظرة فيه الوجود، وإنما ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب، فما هو أشد منها؟ وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم النظرة. ونظير ذلك أن تقول: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله سبحانه، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو اْشد من مقتهم وهو مقت الله انتهى، فوجب أن لا تكون الفاء للترتيب الزماني، بل للترتيب الرتبي. 203 - ثم بين أنهم يتمنون التاخير حينئذ ليتداركوا ما فات {فَيَقُولُوا}؛ أي: كل أمة معذبة على وجه الحسرة والأسف. والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرطوا فيه {هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي: مؤخرون إلى حين لنؤمن ونصدق، وهو استفهام طمع في المحال. وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وهم في الآخرة يعلمون أن لا ملجأ لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحًا. 204 - ولما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا: إلى متى توعدنا به، ومتى هذا العذاب؟ كما قال: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} (¬2) والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي التهكمي بهم، حيث استعجلوا ما فيه ضررهم، وحتف أنفسهم، داخلة على محذوف يقتضيه المقام والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم، وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد، أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره، فيستعجلون ... إلخ. وإنما قدم الجار والمجرور للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) أبو السعود.

[205]

المستعجل به عذابه تعالى مع ما فيه من رعاية الفواصل؛ أي: كيف (¬1) يستعجلون بعذابنا بنحو قولهم تارة: أمطر علينا حجارة من السماء، وأخرى فائتنا بما تعدنا. وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية. 205 - ثم أبان أن طول العمر لا يغني عنهم شيئًا، وأن العذاب واقع لا محالة، فقال: {أَفَرَأَيْتَ} معطوف على {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)} وما بينهما اعتراض للتوبيخ. والهمزة مقدمة على الفاء، والأصل: فأرأيت بمعنى فأخبرني. والخطاب لكل من يصلح له كائنًا من كان. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها .. شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني. فالمعنى (¬2): أخبرني يا من يصلح للخطاب. {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}: إن جعلنا مشركي مكة متمتعين منتفعين {سِنِينَ} كثيرة مع طيب العيش، ولم نهلكهم 206 - {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)} من العذاب 207 - {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)}؛ أي: لم يغن عنهم شيئًا، ولم ينفعهم تمتعهم المتطاول في رفع العذاب وتخفيفه. فـ {مَا} في {مَا أَغْنَى}: نافية، ومفعول {أَغْنَى} محذوف، وفاعله {مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}؛ أو أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتيع المؤبد على أن {ما} في {ما} كانوا مصدرية، أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها، فـ {مَا} في {مَا أَغْنَى} مفعول مقدم لـ {أَغْنَى}، والاستفهام للنفي. {مَا كَانُوا} هو الفاعل. وهذا المعنى أولى من الأول؛ لكونه أوفق بصورة الإخبار، وأدل على انتفاء الإعناء على أبلغ وجه، وآكده كأن كل من شأنه الخطاب قد كلف بأن يخبر بأن تمتيعهم ما أفادهم، وأي شيء أغنى عنهم فلم يقدر أن يخبر بشيء من ذلك أصلًا. وقرىء {يُمَتَّعُونَ} اسكان الميم وتخفيف التاء، من أمتع الله زيدًا بكذا. والمعنى: أي (¬3) إن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

[208]

ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون باعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أشرًا وبطرًا واستهزاءً واتكالًا على الأمل الطويل. ثم قال: هو أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طولى أعمارهم، وطيب معايشهم؛ أي: هل (¬1) الأمر كما يعتقدون من عيشهم في النعيم، فأخبرني أن متعناهم في الدنيا برغد العيش، وصافي الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئًا منه، أو يخففه عنهم. والخلاصة: أن طول التمتع ليس بدافع شيئًا من عذاب الله سبحانه، وكأنهم لم يمتعوا بنعيم قط، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}، وقال: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} يُعَمرَ، وقال: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}. وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه، فقال: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال: ميمون لقد وعظت فأبلغت. وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يقرأ هذه الآية كل صباح إذا جلس على سريره تذكرًا واتعاظًا. وقال يحيى بن معاذ: أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية، والتذ بموداته الواهية، وسكن إلى مألوفاته. كان الرشيد حبس رجلًا، فقال الرجل للموكل عليه: قل لأمير المؤمنين كل يوم مضى من نعمتك ينقص من محنتي، والأمر قريب، والموعد الصراط، والحاكم الله، فخر الرشيد مغشيًا عليه، ثم أفاق وأمر بإطلاقه. 208 - ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار، وإقامة الحجة عليها، ¬

_ (¬1) المراغي.

[209]

فقال: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ}؛ أي: وما أهلكنا قرية من القرى المهلكة {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}؛ أي: إلا بعد إرسالنا إليهم رسلًا ينذرونهم بأسًا، ويخوفونهم عذابنا على كفرهم. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف تركت الواو من الجملة بعد {إِلَّا} هنا، ولم تترك منها في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)}؟ قلتُ: الأصل ترك {الواو}؛ لأن الجملة صفة لـ {قَرْيَةٍ}، وما هنا فقد جاء على الأصل فلا اعتراض. وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. اهـ "سمين". قال في "كشف الأسرار": جمع منذرين؛ لأن المراد بهم النبي وأتباعه المظاهرون له. 209 - قوله: {ذِكْرَى}: إما مفعول لأجله لـ {مُنْذِرُونَ}؛ أي: تنذرهم لأجل التذكير والموعظة لهم، وإلزام الحجة لهم، وتنبيهًا إلى ما فيه النجاة من عذابنا، أو مفعول مطلق منصوب بـ {مُنْذِرُونَ}؛ لأن التذكرة بمعنى الإنذار؛ أي: يذكرون ذكرى. قال النحاس: وهذا قول صحيح؛ لأن معنى {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}: إلا لها مذكرون، أو منصوب بفعل مقدر هو صفة لـ {مُنْذِرُونَ}؛ أي: إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى. وقيل: غير ذلك. {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في إهلاكهم، فتهلك قومًا غير ظالمين وقبل الإنذار؛ لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا بعد الإنذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة المواعيد، ونحو الآية قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} والتعبير (¬1) عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلًا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة؛ لبيان كمال نزاهته عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[210]

210 - ولما كان المشركون يقولون: إن محمدًا كاهن، وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين. أكذبهم سبحانه بقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ}؛ أي: بهذا القرآن {الشَّيَاطِينُ} وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة من أخبار السماء، بل نزل به الروح الأمين 211 - {وَمَا يَنْبَغِي}؛ أي: وما ينبغي التنزل به، ولا يمكن {لَهُمْ}؛ أي: للشياطين؛ أي: وما يصح، وما يستقيم لهم أن ينزلوا بالقرآن من السماء {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}؛ أي: وما يقدرون على ذلك أصلًا. 212 - ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك، فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن الشياطين بعد مبعث الرسول وقبله {عَنِ السَّمْعِ} لما يوحي به إلى الأنبياء {لَمَعْزُولُونَ}؛ أي: لممنوعون حفظًا للوحي عن التخليط قبل نزول الملك به. أما ما لا تعلق له بالوحي من الأخبار المغيبات فقد يستمعون قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما بعد بعثته فقد انسد باب السماء على الشياطين، وانقطع نزول الشياطين على الكهنة؛ أي: إن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي، كيف لا، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة، غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلًا من فنون الشرور. والمعنى: أي (¬1) وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة، أو شعرًا أو سحرًا. وما ينبغي لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب. والخلاصة: أن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة: 1 - أنه ليس من مبتغاهم؛ إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان مبين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة. 2. أنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته، كما قال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[213]

3 - أنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته .. لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لئلا يخلطوا الوحي. وقرأ الحسن (¬1) وابن السميقع والأعمش: {وما تنزلت به الشياطون} - بالواو والنون - إجراءً له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين. قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا من غلط العلماء، وإنما يكون بشبهة؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونًا، وهو في موضع رفع .. اشتبه عليه بالجمع السالم، فغلط. 213 - ثم لما قرر سبحانه حقية القرآن، وأنه منزل من عنده .. أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بدعاء الله وحده، فقال: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الفاء فيه للإفصاح؛ أي: إذا عرفت يا محمد حال الكفار، وأردت بيان ما هو اللازم لك من الأوامر والنواهي .. فأقول لك: لا تعبد مع الله سبحانه إلهًا غيره. {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} على إشراكه، الخطاب (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به غيره؛ لأنه معصوم من ذلك. قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد، وذلك من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر. وقيل: خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع استحالة وقوع المنهي عنه (¬3)؛ لأنه معصوم، تهييجًا لعزيمته، وحثًا على ازدياد الإخلاص، ولطفًا بسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبيح والسوء بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فكيف بمن عداه، وأن من كان أكرم الخلق عليه إذا عذب على تقدير اتخاذ إله آخر، فغيره أولى. وحاصل ما في هذه الآيات: أنَّ الله سبحانه أمر نبيه بأربعة أوامر ونواه (¬4): ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[214]

1 - {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}؛ أي: أخلص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، فإن من أشرك به فقد عصاه، ومن عصاه فقد استحق عقابه. وفي هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص. وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فيكون الوعيد لغيره أزجر، وله أقبل. وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلهًا آخر .. أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ لأنه إذا تشدد على نفسه أولًا، 214 - ثم ثنى بالأقرب فالأقرب .. كان قوله لسواهم أنفع، وتأثيره أنجع، فقال: 2 - {وَأَنْذِرْ}؛ أي: خوف العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي {عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ أي: الجماعة الذين كانوا أقرب الناس إليك في النسب، فأقرب الناس إليه بنو هاشم، ثم بنو المطلب، ثم سائر بطون قريش على ترتيب الأقرب فالأقرب؛ أي: وخوف الأقربين من عشيرتك وأهلك بأس الله سبحانه، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه. وإنما أمره بإنذار الأقربين؛ لأن الاهتمام بشأنهم أهم، فالبداية بهم في الإنذار أولى، كما أن البداية بهم في البر والصلة وغيرهما أولى. وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا وعم وخص، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ألا إن لكم رحمًا وسأبلها ببلالها، أصلكم في الدنيا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا". وهذا الحديث منه - صلى الله عليه وسلم - بيان للعشيرة الأقربين.

[215]

وفي الحديث والآية (¬1): دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر، وإرشاده ونصحه بدليل قوله: "إن لكم رحمًا سأبلها ببلالها". وروى مسلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار". 215 - وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه .. أمره بالرفق بالمؤمنين، فقال: 3 - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ}؛ أي: أن جانبك وحالك وتواضع {لِمَنِ اتَّبَعَكَ}، واقتدى بك {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالله سبحانه وبك، وترفق بهم وتجاوز عنهم، فإن ذلك أجدى لك، وأجلب لقلوبهم، وأكسب لمحبتهم، وأفضى إلى معونتك والإخلاص لك. و {مِنَ} للتبيين؛ لأن (من أَتبع) أعم ممن اتسع لدين، أو قرابة، أو نسب، أو للتبعيض، على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان والمصدقون باللسان. فإن قلتَ: لِمَ قال: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، ولم يقل: واخفض جناحك للمؤمنين، فما النكتة في هذا العدول؟ قلتُ: النكتة في هذا العدول إلى هذا الأسلوب إخراج المؤمن الغير المتابع؛ لأن كل متابع مؤمن، وليس كل مؤمن متابعًا، ولئلا يغتر المؤمن بدعوى الإيمان وهو بمعزل عن حقيقته التي لا تحصل إلا بالمتابعة. انتهى من "التأويلات النجمية". يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة تصريحية، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والمعنى: أن جناحك، وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين، وأظهر لهم المحبة والكرامة، وتجاوز عما يبدو منهم من التقصير، واحتمل منهم سوء الأحوال، وعاشرهم بجميل الأخلاق، وتحمل عنهم كلهم، فإن حرموك فأعطهم، وإن ظلموك فتجاوز عنهم، وإن قصروا في حقي فاعف عنهم واستغفر لهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[216]

216 - {فَإِنْ عَصَوْكَ}؛ أي خالفوا أمرك: ولم يتبعوك؛ أي: فإن خرجت عشيرتك عن الطاعة وخالفوك، ولم يتبعوك {فَقُلْ} لهم {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}؛ أي: من عملكم، أو من الذي تعملونه؛ أي: فإني بريء من عبادتكم لغير الله تعالى، ولا تبرأ منهم، وقيل لهم قولًا معروفًا بالنصح والعظة لعلهم يرجعون إلى طاعتك، وقبول الدعوة منك. وهذا (¬1) يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان؛ لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه. والمعنى: أي: فإن (¬2) عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك، وقد أديت ما أمرت به، ولا عليك إثم مما يعملون، وقيل لهم: إني بريء منكم ومن دعائكم مع الله إلهًا آخر، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والخلاصة: فبعد الإنذار من آمن منهم فتواضع له، ومن خالفك فتبرأ منه ومن عمله، وقيل له: {إِنِّي بَرِيءٌ ...} هو إلخ، 217 - ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له، فقال: 4 - {وَتَوَكَّلْ} في جميع حالاتك {عَلَى الْعَزِيزِ} الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، فهو يقدر على قهر أعدائه {الرَّحِيمِ} الذي يرحم من توكل عليه، وفوض أمره إليه بالظفر والنصرة، فهو ينصر أولياءه، ولا تتوكل على الغير، فإن الله تعالى هو الكافي لشر الأعداء لا الغير، والتوكل على الله تعالى في جميع الأمور، والإعراض عما سواه ليس إلا من خواص الكمل. جعلنا الله سبحانه وإياكم من الملحقين بهم. والتوكل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وهو الله سبحانه وتعالى العزيز الرحيم. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة (¬3): {فتوكل} - بالفاء - على الإبدال من جواب الشرط. وقرأ باقي السبعة: {وَتَوَكل} - بالواو - على العطف على ¬

_ (¬1) الشوكاني (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[218]

{وَأَنْذِرْ}؛ 218 - ثم أتبع به قوله: {الَّذِي يَرَاكَ ...} إلخ؛ لأنه كالسبب لتلك الرحمة؛ أي: توكل على من يراك {حِينَ تَقُومُ} من نومك إلى التهجد والصلاة وحدك في جوف الليل، في قول أكثر المفسرين، فإن المعروف من القيام في العرف الشرعي إحياء الليل بالصلاة. وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت. 219 - {و} يرى {تَقَلُّبَكَ} وتنقلك في أركان الصلاة بالقيام والركوع والاعتدال والسجود والجلوس {فِي السَّاجِدِينَ}؛ أي: مع المصلين جماعة إذا كنت إمامًا لهم؛ أي: ويراك إذا صليت جماعة راكعًا وساجدًا وقائمًا. كذا قال أكثر المفسرين. وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة - رحمه الله - هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية. وقيل (¬1): يراك منتقلًا في أصلاب المؤمنين، وأرحام المؤمنات من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، فجميع أصول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - رجالًا ونساء مؤمنون، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر والأنثى، فإذا انتقل منه لمن بعده .. أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله تعالى، كذا قالوا، ولكن لا أصل له والله أعلم. وقيل (¬2): المراد بقوله: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} قيامك إلى التهجد. وقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم، كذا قال مجاهد. ومعنى الآية: أي (¬3) وفوض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضر عنك، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك، الرحيم إذ نصرك عليهم برحمته، وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى تنقلك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت إمامًا لهم. وفي الخبر: "أعبد الله كأنك ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[220]

تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وعبر عن المصلين بالساجدين؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، 220 - ثم أكد ما سلف بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوال عباده فيسمع ما تقول {الْعَلِيمُ} بحركاتهم وسكناتهم وبسرهم ونجواهم، فيعلم ما تنويه وتعمله، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}. وقصارى ذلك: أنه هو القادر على نفعكم وضركم، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم. 221 - ولما قال (¬1) المشركون: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة، وبالشعر على الشعراء .. فرق الله سبحانه وتعالى بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين الكهنة والشعراء، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُم} وأخبركم أيها المشركون {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} بتقدير همزة الاستفهام قبل حرف الجر، وبحذف إحدى التاءين من {تَنَزَّلُ}؛ أي: هل أخبركم أيها المشركون جواب على من تتنزل الشياطين؟ 222 - أقول لكم في جوابه {تَنَزَّلُ} الشياطين {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ}؛ أي: كثير الإفك والكذب {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الإثم والمعاصي، وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب؛ أي: تتنزل (¬2) الشياطين على المتصفين بالإفك والإثم الكثير من الكهنة والمتنبئة كمسيلمة الكذاب، وسطيح، وطليحة؛ لأنهم من جنس الشياطين، وبشهم مناسبة بالكذب والافتراء والإضلال. فإن مسيلمة من المتنبئة، وسطيح وطليحة من الكهنة - جمع كاهن؛ وهو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة، والعرات الذي يخبر عن الأمور الماضية. اهـ شيخنا. وحيث كانت ساحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزهة عن هذه الأوصاف استحال تنزلهم عليه. 223 - وجملة قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} في محل الجر على أنها صفة لـ {كُلِّ أَفَّاكٍ} ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

أَثِيمٍ}؛ لكونه في معنى الجمع؛ أي: يلقى الأفاكون الإذن إلى الشياطين، فيتلقون منهم أوهامًا وأمارات لنقصان علمهم، فيضمون إليها بحسب تخيلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع {وَأَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر الأفاكين؛ أي: كلهم {كَاذِبُونَ} فيما قالوه من الأقاويل، وليس محمد كذلك، فإنه صادق في جميع ما أخبر به من المغيبات، والأكثر هنا: بمعنى الكل، كما أن البعض يأتي بمعنى الكل في قوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: كله. والأظهر (¬1) أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجني. والمعنى: وأكثر أقوالهم كاذبة، لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون اْقلهم صادقًا على الإطلاق. اهـ "أبو السعود". وقيل: الضمير في {يُلْقُونَ} عائد إلى {الشَّيَاطِينُ}، والجملة (¬2) في محل النصب حال من الضمير المستتر في {تَنَزَّلُ} العائد إلى {الشَّيَاطِينُ}؛ أي: تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم حالة كون الشياطين ملقين السميع؛ أي: ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان. ويجوز أن يكون المعنى: أن الشياطين يلقون السمع؛ أي: ينصتون إلى الملأ الأعلى؛ ليسترقوا منهم شيئًا من المغيبات، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع. ويجوز أن تكون جملة: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} راجعة إلى {الشَّيَاطِينُ}؛ أي: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه من الملأ الأعلى، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرًا من الكذب، كما جاء في الحديث: "تلك الكلمة الصادقة الكلمة التي يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، ويزيد معها أكثر من مئة كذبة". والكهنة أيضًا يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. فإن قلت: كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) الشوكاني

بعدما وصفوا جميعًا بالإفك؟ قلتُ: يجاب عنه بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب، لا الذي لا ينطق إلا بالكذب. فالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أنه قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين، وقد سبق الجواب عنه بوجه آخر. وقال شيخ الإِسلام: فإن قلت (¬1): كيف قال: {وَأَكْثَرُهُمْ} بعدما حكم بأن كل أفاك أثيم؛ أي: فاجر؟ قلتُ: الضمير في {أَكْثَرُهُمْ} لـ {الشَّيَاطِينُ}، لا للأفاكين، ولو سلم فالأفاكون هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب. انتهى. وقال في "كشف الأسرار": استثني منهم بذكر الأكثر سطيحًا وشقًا وسواد بن قارب الذين كانوا يلهجون بذكر رسول الله وتصديقه، ويشهدون له بالنبوة، ويدعون الناس إليه. انتهى. والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام (¬2): رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة من يلقي إليه الشياطين السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الصدق، فكيف يكون كما زعموا، ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبي المرسل - صلى الله عليه وسلم - من عند الله سبحانه برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم، ويأمر بالتعوذ منهم. وحاصل معنى الآيات: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)}؛ أي: هل أخبركم خبرًا جليًا نافعًا في الدين، عظيم الجدوى في الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ببيان جواب سؤال {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}، ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين: 1 - {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)}، أي: هي تنزل على كل كذاب فاجر من ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني.

[224]

الكهنة، نحو شق بن رهم وسطيح بن ربيعة. قال في "حياة الحيوان": هما كاهنان، فكان شق نصفَ إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة، وعين واحدة، وكان سطيح لـ له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى كالحصير، لم يدرك أيام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان في زمن ملك كسرى؛ وهو ساسان. انتهى. 2 - {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}؛ أي: يلقي الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم، بل هم في أكثرها كاذبون. وهذا رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شيء أتاه به رئي من الجن، فنزه الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن قولهم وافترائهم، ونبه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين. والخلاصة: أن هناك فارقًا بين محمد - صلى الله عليه وسلم - والكهنة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف منه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف منهم الصدق في أخبارهم. 224 - ولما كان بعض المشركين يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر .. بيّن سبحانه حال الشعراء، ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَالشُّعَرَاءُ}؛ أي: شعراء الكفار الذين يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويعيبون الإِسلام، ويطعنون فيه منهم عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله وأمية بن أبي الصلت وأبو سفيان بن حرب الأموي {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}؛ أي: يتبعهم سفهاء العرب، حيث كانوا (¬1) يحفظون هجاءهم للمسلمين، وينشدونه في المجالس والمجامع، ويضحكون منه؛ أي: إن القرآن ليس بشعر، ولا محمد بشاعر؛ لأن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، والسفهاء المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد ليسوا كذلك، بل هم الراشدون المراجيح الرزان والساجدون الراكعون الباكون ¬

_ (¬1) روح البيان.

الزاهدون. وكان (¬1) الشعراء يتكلمون بالكذب والباطل، ويقولون: نحن نقول مثل ما قال محمد، وقالوا: الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وكانون يروون عنهم قولهم، فذلك قوله: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين. وقيل: {الْغَاوُونَ} هم الشياطين. وقيل: هم السفهاء الضالون. والشعراء (¬2) عام يدخل فيه كل شاعر، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعًا. واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب. قال في "الكواشي": لا شك أن الشعر كلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، ولا بأس به إذا كان توحيدًا، أو علمًا ينتفع به، أو حثًا على مكارم الأخلاق من جهاد وعبادة وحفظ فرج وغض بصر وصلة رحم وشبهه، أو مدحًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين بما هو الحق، انتهى. وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه: فمنها: ما روى مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء"؟ قلت: نعم. قال: "هيه". فانشدته بيتًا، فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتًا آخر، فقال: "هيه"، حتى أنشدته مئة بيت. وفي هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا. وإنما استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية؛ لأنه كان حكيمًا، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" حين سمع قوله: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[225]

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ ... وَكَلُّ نَعِيْمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ والكلام في تحقيق ذلك يطول. وقال الإِمام المرزوقي شارح "الحماسة": تأخر الشعراء عن البلغاء؛ لتأخر المنظوم عند العرب؛ لأن ملوكهم قبل الإِسلام وبعده يتبجحون بالخطابة، ويعدونها أكمل أسباب الرياسة، ويعدون الشعر دناءة؛ لأن الشعر كان مكسبة وتجارة، وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم، ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم؛ لأن زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفصاحة. وقرأ عيسى بن عمر (¬1): {وَالشُّعَرَاءُ} بالنصب على الاشتغال، والجمهور بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ نافع وشيبة والحسن بخلاف عنه، والسلمي {يَتَّبِعُهُمُ} بسكون التاء مخففًا من تبع الثلاثي وقرأ باقي السبعة مشددًا. والوجهان حسنان. يقال: تبعت واتبعت مثل حقرت واحتقرت. وسكن العينَ الحسنُ، وعبد الوارث عن أبي عمرو. وروى هارون نصبها عن بعضهم، وهو مشكل. ذكره أبو حيان. 225 - ثم بين تلك الغواية بأمرين، فقال: 1 - {أَلَمْ تَر} يا من (¬2) شأنه الرؤية؛ أي: قد رأيت وعلمت. والاستفهام فيه للتقرير، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية {أَنَّهُمْ}؛ أي: أن الشعراء {فِي كُلِّ وَادٍ}؛ أي: في كل فن من فنون الكذب، وفي كل شعب من شعاب الزور، وفي كل نوع من أنواع المدح أو الذم، والهجاء والشتم، والفحش واللعن، والافتراء والدعاوى، والتكبر والمفاخر، والتحاسد والعب، والإراءة وإظهار الفضل، والدناءة والخسة، والطمع والتَّكَدِّي، والذلة والمهانة، وأصناف الأخلاق الرذيلة، والطعن في الإنساب والأعراض، وغير ذلك من الآفات التي هي من توابع الشعر {يَهِيمُونَ} يقال: هام على وجهه - من باب باع - هيمانًا، بفتحتين، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[226]

إذا ذهب من العشق أو غيره، كما في "المختار"؛ أي: يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين، بل يتحيرون في أودية القيل والقال، والوهم والخيال، والغي والضلال، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات، كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة. والمعنى: أي (¬1) ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينًا بعد أن ذموه، أو يعظمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحري الصدق، لكن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جبلته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد؛ وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا. 226 - وثاني الأمرين: ذكره بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ} في أشعارهم عند التصلف والدعاوى {مَا لَا يَفْعَلُونَ} من الأفاعيل، فهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس لأدنى الأسباب، ويرتكبون الفواحش، وذلك تمام الغواية. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - على خلاف ذلك؛ لأنه منزه عن كل ذلك، متصف بمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق، مستقر على المنهاج القويم، مستمر على الصراط المستقيم، فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} ثم بالأقرب فالأقرب، فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} فليست حاله حال الشعراء. 227 - ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة: 1 - الإيمان. ¬

_ (¬1) المراغي.

2 - والعمل الصالح. 3 - وكثرة قول الشعر في توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق. 4 - وأن لا يهجو أحدًا إلا انتصارًا ممن يهجوه اتباعًا لقوله سبحانه: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن مالك: "أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل"، وكان يقول لحسان بن ثابت: "قل وروح القدس معك" وفي رواية: "أهجهم وجبريل معك"، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله. استثناء للشعراء المسلمين. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. {وَذَكَرُوا اللَّهَ} ذكرًا {كَثِيرًا} في أشعارهم بأن كان أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله، والحث على طاعته، والحكمة والموعظة، والزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة، أو بأن لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله سبحانه، ولم يجعلوه همهم وعادتهم، قال أبو يزيد: الذكر الكثير ليس بالعدد والغفلة، لكنه بالحضور. {وَانْتَصَرُوا}؛ أي: انتقموا ممن هجاهم بالهجو {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}؛ أي: من بعدما ظلمهم الكفار بالهجو؛ أي: ردوا هجاء من هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. وأحق الخلق بالهجو من كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجاه، كما وقع ذلك الانتصار من شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يهجون من هجاه ويحمون عنه، ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم. ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم، وهجو السنة المطهرة، كما يقع ذلك كثيرًا من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله، المنتصرين لدينه، القائمين بما أمر الله بالقيام به. وروى ابن جرير عن محمد بن إسحاق أنه لما نزلت هذه الآية .. جاء

حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يبكون، قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه أنا شعراء، فتلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: أنتم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال: أنتم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}: قال أنتم؛ أي بالرد على المشركين، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انتصروا ولا تقولوا إلا حقًا، ولا تذكروا الآباء والأمهات". فقال حسان لأبي سفيان بن حرب: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ فِيْ ذَاكَ الْجَزَاءُ وَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَهُ وَعِرْضِيْ ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيْهِ ... وَبَحْرِيْ لَا تُكَدَّرُهُ الدِّلَاءُ وقال كعب: يا رسول الله إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" وقال كعب: جَاءَتْ سَخِيْنَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بيديه؛ وهو يقول: خَلُّوا بَنِيْ الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيْلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيْلِهِ ضَرْبًا يُزِيْلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ فقال عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلِّ عُنْفَهُ يا عمر، فَلَهِيَ أسرع فيهم من نضح النبل". أخرجه الترمذي والنسائي.

فصل في مدح الشعر (¬1) روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن من الشعر لحكمة". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يتكلم بكلام، فقال: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا" أخرجه أبو داود. وروى مسلم عن عمرو بن الثريد عن أبيه، قال: ردفت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " قلت نعم. قال: "هيه"، فأنشدته بيتًا. الحديث كما مر آنفًا. وعن جابر بن سمرة قال: جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مئة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم. أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وقالت عائشة - رضي الله عنها -: الشعر كلام: فمنه حسن، ومنه قبيح، فخذ منه الحسن، ودع منه القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علي أشعر منهما. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر، ويستنشده في المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها، فقال: أَمِنْ آلِ نُعْمَى أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتًا، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة. وبعد أن (¬2) ذكر الله سبحانه من الدلائل العقلية، وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة، وبينه وبين الشعراء .. ختم (¬1) السورة بالتهديد العظيم والوعيد الشديد للكافرين، فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشعر المنهي عنه وغيره، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرًا بها وعنادًا، فهو عام لكل ظالم، والسين للتأكيد. {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}؛ أي: أي مرجع يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت، وأي معاد يعودون إليه، إنهم ليصيرون إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها؛ أي: ينقلبون انقلاب سوء، ويرجعون رجوع شر؛ لأن مصيرهم إلى النار. فإن (¬2) في قوله: {سَيَعْلَمُ} تهويلًا عظيمًا، وتهديدًا شديدًا، وكذا في إطلاق {الَّذِينَ ظَلَمُوا}، وإبهام {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وخصص بعضهم هذه الآية بالشعراء، ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ. وقوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: ينقلبون منقلبًا أي منقلب، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه {سَيَعْلَمُ}؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه. والمعنى (¬3)؛ أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهَجْوِ رسول الله وأصحابه، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب؛ لأن مصيرهم إلى النار؛ وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب؛ وهو شر مرجع، فالمنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبًا، وليس كل منقلب مرجعًا. وقرأ ابن عباس والحسن وابن أرقم عنه (¬4): {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء، من الإنقلاب بالنون والتاء الفوقية. والمعنى على هذه القراءة: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله تعالى، والانفكاك منه، ولا يقدرون على ذلك؛ أي: وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط والشوكاني.

إلانفلات والفرار، فإنهم يطمعون أولًا أن ينفلتوا من عذاب الله سبحانه فينجوا منه. وقرأ الباقون بالقاف والباء الموحدة من الانقلاب بالنون والقاف والموحدة. الإعراب {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}. {وَإِنَّهُ}: {الواو}: استئنافية. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حقيقة تلك القصص، وتأكيد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن إخباره عن الأمم المتقدمة؛ وهو الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ لا يكون إلا عن طريق الوحي. {نَزَلَ}: فعل ماض. {بِهِ}: متعلق بمحذوف حال من الروح؛ أي: متلبسًا به، فالباء للملابسة. {الرُّوحُ}: فاعل. {الْأَمِينُ}: صفة له، والجملة في محل الرفع صفة لـ {تَنْزِيلُ} أو حال منه. {عَلَى قَلْبِكَ}: متعلق بـ {نَزَلَ}. {لِتَكُونَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل وعاقبة، {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الْمُنْذِرِينَ}: خبرها، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونك من {الْمُنْذِرِينَ}، الجار والمجرور متعلق بـ {نَزَلَ}. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)}. {بِلِسَانٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {الْمُنْذِرِينَ}؛ لأنه اسم فاعل؛ أي: لتكون من جملة الذين أنذروا بهذا اللسان العربي؛ وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أو بدل من الجار والمجرور في قوله: {بِهِ} بإعادة العامل؛ أي: نزل بلسان عربي؛ أي: باللغة العربية. {عَرَبِيٍّ}: صفة أولى لـ {لسَانٍ}. {مُبِينٍ}: صفة ثانية له، أو صفة لـ {عَرَبِيٍّ}. {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه.

{لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر إن، وجملة {إِنَّهُ} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {أَوَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمن للتقرير داخلة على محذوف، و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل مكة عن هذا القرآن، ولم يكن علم علماء بني إسرائيل إياه آية لهم على حقيقته، {لم} حرف نفي وقلب وجزم {يَكُنْ} مضارع ناقص مجزوم بـ {لم} وجملة {يَكُنْ} معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {لَهُمْ} متعلقان بمحذوف حال؛ لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدم عليها {آيَةً} خبر {يَكُنْ}. {أَنْ يَعْلَمَهُ} في تأويل مصدر اسم {يَكُنْ} {عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: فاعل ومضاف إليه. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة. {لَوْ}: شرطية. {نَزَّلْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول به. {عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نَزَّلْنَاهُ}، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {فَقَرَأَهُ}: {الفاء}: عاطفة، {قَرَأَهُ}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر معطوف على {نَزَّلْنَاهُ}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بقرأ. {مَا}: نافية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {مُؤْمِنِينَ}. و {مُؤْمِنِينَ}: خبر كان، وجملة كان جواب {لَوْ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً}. {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)} {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {سَلَكْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والتقدير: سلكناه في قلوب المجرمين سلكًا كائنًا مثل ذلك السلك البديع، والجملة مستأنفة. {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، والجملة مستأنفة، أو حال من الهاء في {سَلَكْنَاهُ}، أو من {الْمُجْرِمِينَ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يَرَوُا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد {حَتَّى}. {الْعَذَابَ}: مفعول يه. {الْأَلِيمَ}: صفة له، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى،

تقديره: إلى رؤيتهم العذاب الأليم، الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ} {فَيَأْتِيَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {يَأْتِيَهُمْ}: فعل ومفعول معطوف على {يَرَوُا}، وفاعله ضمير يعود على {الْعَذَابَ}. {بَغْتَةً}: حال من فاعل يأتي، ولكنه في تأويل مشتق؛ أي: حالة كونه باغتًا. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {يَأْتِيَهُمْ}. {فَيَقُولُوا}: {الفاء}: عاطفة، {يَقُولُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَأْتِيَهُمْ}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الاستبعادي المضمن للتحسر. {نَحْنُ مُنْظَرُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُوا}. {فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)} {أَفَبِعَذَابِنَا}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف. {بِعَذَابِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَسْتَعْجِلُونَ}. {يَسْتَعْجِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا، والجملة المحذوفة مستأنفة، هكذا قدره بعض المعربين، ولكنه لا يخلو من إيهام، فالأولى أن يقدر: أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون بعذابنا، وقدم الجار والمجرور لأمرين: لفظي؛ وهو مراعاة الفواصل، ومعنوي؛ وهو الإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به العذاب. {أَفَرَأَيْتَ}: {الهمزة}: للاستفهام الاستخباري، و {الفاء}: عاطفة. {رَأَيْتَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَيَقُولُوا}، وما بينهما اعتراض، و {رَأَيْتَ}: بمعنى أخبرني، فتتعدى إلى مفعولين: أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبًا. {إِنْ}: حرف شرط. {مَتَّعْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {سِنِينَ}: ظرف متعلق بـ {مَتَّعْنَاهُمْ}، وجواب الشرط محذوف يقدر من معنى المفعول الثاني لـ {رَأَيْتَ} تقديره: إن متعناهم سنين لم يغن عنهم تمتعهم، أي: لم ينفعهم، وجملة {إن} الشرطية جملة معترضة لا

محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف. {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول به. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يُوعَدُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يوعدون، ومفعول {أرَأَيْتَ} الأول محذوف معلوم من فاعل {جاء} لأن {أرأيت} و {جاء} تنازعًا في قوله: {مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} والتقدير: إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون أفرأيته؛ أي: ذلك الموعود. {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} {مَا}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَغْنَى}. {أَغْنَى}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {مَا}: مصدرية، أو موصولة. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يُمَتَّعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة {مَا} المصدرية، أو الموصولة، والمصدر المؤول من {مَا} المصدرية في محل الرفع فاعل {أَغْنَى}: تقديره: ما أغنى عنهم تمتعهم، أو {مَا} الموصولة في محل الرفع فاعل {أَغْنَى}؛ أي: ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون به، وجملة {أَغْنَى} في محل النصب مفعول ثان لـ {أرأيت}: لأنها جملة استفهامية، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام مبسوطًا في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ...} إلخ. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {مَا}: نافية. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَرْيَةٍ}: مفعول به لـ {أَهْلَكْنَا}. و {مِنْ}: زائدة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لَهَا}: خبر مقدم. {مُنْذِرُونَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب صفة لـ {قَرْيَةٍ}، أو حال منها، وسوغ مجيء الحال منها سبق النفي. {ذِكْرَى}: مفعول لأجله لـ {مُنْذِرُونَ} ومنصوب به، أي: ينذرونهم؛ لأجل تذكير العواقب والموعظة، أو مصدر معنوي لـ {الْمُنْذِرِينَ} منصوب به؛ أي: أي إلا لها مذكرون ذكرى، وأعربها الكسائي حالًا؛ أي: حال كونهم مذكرين لها. {وَمَا}:

{الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كُنَّا ظَالِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا}. {ومَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {تَنَزَّلَتْ}: فعل ماض. {بِهِ} متعلق بـ {تَنَزَّلَتْ}. {الشَّيَاطِينُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَمَا أَهْلَكْنَا} {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {يَنْبَغِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على القرآن. {لَهُمْ}: متعلق بـ {يَنْبَغِي}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {يَسْتَطِيعُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَنَزَّلَتْ}. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {عَنِ السَّمْعِ}: متعلق بـ {لمَعْزُولُونَ}، {لَمَعْزُولُونَ} و {اللام}: حرف ابتداء، {معزولون}: خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل عدم استطاعتهم. {فَلَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أحوال الكفار، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لا تدع. {لَا}: ناهية جازمة. {تَدْعُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد. {مَعَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {إِلَهًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {إِلَهًا}: مفعول به. {آخَرَ} صفة {إِلَهًا}، وجملة {تَدْعُ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَتَكُونَ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {تَكُونَ}: فعل مضارع منصوب بن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}: خبرها، وجملة {تَكُونَ} مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن دعاؤك إلهًا آخر فكونك من المعذبين. {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَأَنْذِرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على قوله:

{فَلَا تَدْعُ}. {عَشِيرَتَكَ}: مفعول. {الْأَقْرَبِينَ}: صفة لـ {عَشِيرَتَكَ}. {وَاخْفِضْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف عليه أيضًا. {جَنَاحَكَ}: مفعول به. {لِمَنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخفض}. {اتَّبَعَكَ}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} الموصولة، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حال من الضمير المستتر في {اتَّبَعَكَ} {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} {فَإِنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلت ما أمرتك به، وأردت بيان ما هو اللازم لك إذا خالفوك .. فأقول لك: إن عصوك. {إن}: حرف شرط. {عَصَوْكَ}: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَقُل}: {الفاء}: رابطة الجواب، {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنِّي بَرِيءٌ}: ناصب واسمه وخبره. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَرِيءٌ}، وجملة {إِن} في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {تَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما تعملونه. {وَتَوَكَّلْ}: {الواو}: عاطفة. {توكل}: فعل أفعل، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على الجواب؛ أي: على جملة {فَقُلْ}. {عَلَى الْعَزِيزِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَتَوَكَّلْ}. {الرَّحِيمِ}: صفة لـ {الْعَزِيزِ}. {الَّذِي}: صفة ثانية لـ {الْعَزِيزِ}. {يَرَاكَ}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة صلة الموصول. {حِينَ}: ظرف متعلق بـ {يَرَاكَ}. {تَقُومُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ}، {وَتَقَلُّبَكَ}: معطوف على الكاف في {يَرَاكَ}. {فِي السَّاجِدِينَ}: حال من كاف {تَقَلُّبَكَ}، و {فِي} بمعنى مع؛ أي: حالة كونك مصليًا مع الجماعة. {إِنَّهُ}

ناصب واسمه. هُوَ: ضمير فصل. {السَّمِيعُ}: خبره. {الْعَلِيمُ}: خبر ثان له، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} {هَلْ}: حرف استفهام. {أُنَبِّئُكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، أو على محمد إن قدرنا القول، و {الكاف}: في محل النصب مفعول أول. {عَلَى}: حرف جر. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الجر بـ {عَلَى}، الجار والمجرور متعلق بـ {تَنَزَّلُ}، وإنما قدم؛ لأن له صدر الكلام، وهو معلق ما قبله من التنبئة عن العمل فيما بعده. {تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}: فعل وفاعل، وجملة {تَنَزَّلُ} في محل النصب ساد مسد المفعول الثاني والثالث إن جعل {أُنَبِّئُكُمْ} متعديًا لثلاثة، ومسد الثاني فقط إن جعل متعديًا لإثنين. {تَنَزَّلُ}: فعل مضارع، وهو على حذف إحدى التاءَين، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيَاطِينُ}. {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَنَزَّلُ}. {أَثِيمٍ}: صفة {أَفَّاكٍ}، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان المستفهم عنه. {يُلْقُونَ}: فعل وفاعل. {السَّمْعَ} هو: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الشَّيَاطِينُ}، إن قلنا: إن {الواو} في {يُلْقُونَ} يعود على {الشَّيَاطِينُ}، أو الجملة مستأنفة، أو صفة لـ {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، إن قلنا: إن {الواو} تعود على {أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}. {وَأَكْثَرُهُمْ} {الواو}: حالية. {أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} هو: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من واو {يُلْقُونَ} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} {وَالشُّعَرَاءُ}: مبتدأ. {يَتَّبِعُهُمُ}: فعل ومفعول به. {الْغَاوُونَ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ تَرَ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لَمْ}: حرف جزم. {تَرَ}: فعل مضارع

مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية جملة مفسرة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {فِي كُلِّ وَادٍ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَهِيمُونَ}، وجملة {يَهِيمُونَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَرَ} تقديره: ألم تر هيامهم في كل واحد، وفن من فنون القيل والقال. {وَأَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَقُولُونَ}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} معطوفة على جملة {أن} الأولى. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَقُولُونَ}، {لَا}: نافية، وجملة {يَفْعَلُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يفعلونه. {إِلَّا} أداة استثناء. {الَّذِينَ}: مسستثنى من {وَالشُّعَرَاءُ} المذمومين. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}. {وَذَكَرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}. {كَثِيرًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو منصوب على الظرفية الزمانية؛ لأنه صفة لظرف محذوف؛ أي: وقتًا كثيرًا. {وَانْتَصَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَانْتَصَرُوا}. {مَا}: مصدرية. {ظُلِمُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد ظلمهم. {وَسَيَعْلَمُ}: {الواو}: استئنافية، والسين حرف استقبال. {يعلم الذين}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {أَيَّ مُنْقَلَبٍ}: منصوب على المفعولية المطلقة بـ {يَنْقَلِبُونَ}؛ أي: ينقلبون أي انقلاب؛ لأن أيًّا تعرب بحسب ما تضاف إليه، وقد علقت {يعلم} عن العمل فيما بعدها، والناصب لـ {أَيَّ} {يَنْقَلِبُونَ}، كما بينا، وقدم عليه لتضمنه معنى الاستفهام. وأسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها للزومها الصدارة. قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى، وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض" اهـ {يَنْقَلِبُونَ}: فعل وفاعل، وجملة {يَنْقَلِبُونَ} في محل النصب ساد مسد مفعولي {يَعْلَمُ}.

التصريف ومفردات اللغة {لَتَنْزِيلُ}: مصدر نزل المضعف، بمعنى اسم المفعول، سمي به مبالغة، وصيغة التفعيل فيه تدل على أن نزوله كان بالدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة، كما مر في مبحث التفسير. {الْأَمِينُ}: صفة مشبهة من أمن فهو أمن من باب فعل المكسور اللازم إذا اتصف بالأمانة. والأمانة ضد الخيانة؛ لأنه أمين على وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده. {عَلَى قَلْبِكَ} أي: على روحك؛ لأنه المدرك والمكلف دون الجسد. وفي " الفتوحات": إن أريد بالقلب الروح فظاهر، وإن أريد به العضو فتخصيصه؛ لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولًا على الروح، ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تصعد منه إلى الدماغ، فتنتعش بها المتخيلة. وفي "الكرخي" قوله: {عَلَى قَلْبِكَ} خصه بالذكر، وهو إنما أنزل عليه ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ، والرسول متمكن من قلبه، لا يجوز عليه التغير، ولأن القلب هو المخاطب حقيقة؛ لأنه موضع التميز والاختيار. والقلب في الأصل لحمة صنوبرية الشكل؛ أي: التي شكلها كشكل الصنوبر، وهو شجر ينبت في البرية دقيق أحد الطرفين غليظ الآخر مع نوع استدارة كقمع السكر، فهذه اللحمة على شكله، فهي دقيقة أحد الطرفين غليظة الآخر مع نوع استدارة كقمع السكر، كما يشاهد ذلك في قلب الدجاجة وغيرها، لكن هنا بمعنى اللطيفة الربانية التي تسمى روحًا ونفسًا، لا بمعنى اللحمة الصنوبرية، اهـ. من "البيجوري على السلم" في المنطق. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} في الأصل الجارحة المعروفة، ولكن المراد بها هنا معنى اللغة؛ لأنها آلة التلفظ بها. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}: جمع زبور بمعنى الكتاب، مثل رسل ورسول؛ أي: لفي الكتب المتقدمة. {عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} قال صاحب "التحرير": الأعجمين جمع أعجمي،

ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة. قلت: وكان سبب منع جمعه أنه من باب أفعل فعلاء، كأحمر حمراء، والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلا ضرورة، وقد جعله ابن عطية جمع أعجم، فقال: الأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب، يقال له: أعجم، والأعجمي هو الذي نسبه في العجم، وإن كان فصيح اللسان. وقال الزمخشري: الأعجم الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة أو استعجام، والأعجمي مثله، إلا أن فيه زيادة بياء النسب توكيدًا، اهـ من "السمين". {سَلَكْنَاهُ}؛ أي: أدخلنا تكذيب القرآن، أو معرفة معانيه وإعجازه. {هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}: اسم مفعول من الإنظار، والإنظار: التأخير والإمهال؛ أي: هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدق. {يَسْتَعْجِلُونَ} الاستعجال: طلب عجلة العذاب. {مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} من الإيعاد. والإيعاد: التخويف بالعذاب. {ذِكْرَى} أي: تذكرة وعبرة وموعظة لغيرهم. {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يقال: تنزل إذا نزل في مهلة. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}؛ أي: وما يصح وما يستقيم، وما يتيسر لهم أن ينزلوا بالقرآن من السماء. {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}؛ أي: وما يقدرون على ذلك. {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ}؛ أي: عن استماع الوحي أصلًا من أول الأمر، أو عن استماع خبر السماء. {لَمَعْزُولُونَ}؛ أي: لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين من استماع خبر السماء لا الوحي. {عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} العشيرة: أهل الرجل الذي يتكثر بهم؛ أي: يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشيرة هو العدد الكامل، فصارت العشيرة اسمًا لكل جماعة من أقارب الرجل يتكثر بهم، والعشير: المعاشر قريبًا كان أو مقارنًا، كذا في "المفردات". {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} والخفض ضد الرفع والدعة، والسير اللين. {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} مضارع تنزل من باب تفعل، أصله: تتنزل، حذفت منه إحدى التائين.

{عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الإفك والكذب. قال الراغب: الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه. {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الإثم، وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب. {يُلْقُونَ السَّمْعَ}، أصله: يلقيون السمع، من ألقى الرباعي استثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان الياء والواو، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين؛ لأنها جزء كلمة، وحذفها أولى من حذف كلمة مستقلة. {وَالشُّعَرَاءُ}: جمع شاعر، كعلماء جمع عالم قال: في "المفردات": شعرت: أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا؛ أي: علمته في الدقة كإصابة الشعر. قيل: وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري، وصار في التعارف اسمًا للموزون المقفى من الكلام على تفاعيل أجزاء العروضيين، والشاعر: المختص بصناعته. {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}: جمع غاو، كقاضون جمع قاض، وهم الضالون المائلون عن السنن القويم. {فِي كُلِّ وَادٍ} قال الراغب: أصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديًا، ويستعار للطريقة كالمذهب والأسلوب، فيقال: فلان في واد غير واديك. {يَهِيمُونَ}؛ أي: يسيرون سير البهائم حائرين، لا يهتدون إلى شيء، يقال: هام على وجهه من باب باع يهيم هيمًا وهيومًا وهيامًا وهيمانًا وتهيامًا إذا ذهب وهو لا يدري أين يتوجه؛ أي: يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين، بل يتحيرون في أودية القيل والقال، يعني أساليب الكلام من المدح والهجاء والجدل والغزل وغير ذلك من الأنواع؛ أي: في كل نوع من الكلام يغلون. قال في "الوسيط": فالوادي مثل لفنون الكلام، وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم، اهـ. {وَانْتَصَرُوا} الانتصار: الانتقام ممن ظلمك .. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}: الانحراف عن العدالة، والعدول عن الحق البخاري مجرى النقطة من الدائرة. {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} والمنقلب: المرجع؛ وهو مصدر ميمي بمعنى الانقلاب؛

أي: الرجوع. فائدة: والظلمة ثلاثة أقسام: الظالم الأعظم: وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله، وإياه قصد بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. والأوسط هو الذي لا يلزم حكم السلطان، والأصغر هو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافع الناس، ولا يعطيهم منفعته. ومن فضيلة العدالة أن الجور الذي هو ضدها لا يثبت إلا بها، فلو أن لصوصًا تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه، ولم ينتظم أمرهم، فعلى العاقل أن يصيخ إلى الوعيد والتهديد الأكيد، فيرجع عن الظلم والجور، وان كان عادلًا فنعوذ بالله من الحور بعد الكور. والله المعين لكل سألك، والمنجي في المسالك من المهالك. اهـ "روح". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بمؤكدات ثلاث؛ بإن وباللام واسمية الجملة، في قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأن الكلام مع المتشككين في صحة القرآن، فناسب تأكيده بأنواع من المؤكدات. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِلِسَانٍ} ففيه إطلاق آلة الشيء؛ لأن اللسان هنا بمعنى اللغة؛ لأنه آلة التلفظ بها. ومنها: الاكتفاء في قوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}؛ أي: والمبشرين، وهو ذكر أحد المتقابلين وحذف الآخر لدلالة المذكور على المحذوف، واختير ذكر الإنذار وحذف مقابله دون العكس؛ لأن باب التخلية بالخاء المعجمة مقدم على باب التحلية بالحاء المهملة. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)}؛ أي: وإن

ذكر القرآن لا عينه. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ}. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} من إطلاق المحل وإرادة الحال؛ أي: أهلها. ومنها: بيان كمال نزاهته بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره منه من الظلم في قوله: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}؛ إذ هلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلًا. ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للرسول بطريق التهييج لزيادة إخلاصه وتقواه. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأنه مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط. فشبه التواضع ولين الأطراف والجوانب عند مصاحبة الأقارب والأجانب بخفض الطائر جناحه؛ أي: كسره عند إرادة الانحطاط، فأطلق على المشبه اسم الخفض بطريق الاستعارة التصريحية، فاشتق منه خفض بمعنى: ألان على طريقة التبعية. ومنها: صيغتا المبالغة في قوله: {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}؛ لأن فعالاً وفعيلًا من صيغ المبالغة؛ أي: كثير الكذب، كثير الفجور. ومنها: الطباق بين {يَقُولُونَ} و {يَفْعَلُونَ}، وبين {وَانْتَصَرُوا} و {ظُلِمُوا}. ومنها: الاستعارة التمثيلية البديعة في قوله: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} شبه جولانهم في أفانين القول بطريق المدح والذم والتشبب وأنواع الشعر، وضلالهم عن سنن الهدى بهيام الهائم في الصحراء الذي هام في مقصده، وخبط في طريقه، ولا يقصد موضعًا معينًا، فهو لا يدري أين يذهب. وهذا من ألطف

الاستعارات ومن أرشقها وأبدعها. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. ومنها: مراعاة الفواصل؛ لأنها تزيد في جمال الكلام ورونقه مثل {يَهِيمُونَ} - {يَنْقَلِبُونَ} - {يَقُولُونَ} - {مَا لَا يَفْعَلُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. وحكي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته، ثم قرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} ثم بكى وهو ينشد: نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لَكَ لَازِمُ تُسَرُّ بما يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِيْ النَوْمِ حالِمُ وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ في الدُّنْيَا تَعِيْشُ الْبَهَائِمُ والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة 1 - مقدمة في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إعراض قومه عن الدين، وبيان أنهم ليسوا ببدع في الأمم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بأول الرسل الذين كذبوا، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان في القلوب اختياريًا لا اضطراريًا. 2 - الاستدلال بخلق النبات، وأطواره المختلفة، وأشكاله المنوعة على وجود الإله ووحدانيته. 3 - قصص الأنبياء مع أممهم؛ لما فيه من العبرة لأولىك المكذبين. 4 - إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين، لا كلام تنزل به الشياطين. 5 - بيان أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بكاهن ولا بشاعر. 6 - التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الشعراء، فللَّه الحمد والشكر حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا يوافي نعمه ويكافىء مزيده، في تاريخ 24/ 3/ 1413 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة النمل

سورة النمل سورة النمل مكية، قال القرطبي (¬1): وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضريسي والنحاس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وهي أربعة وتسعون آية، وقيل: ثلاث وتسعون آية، وألف مئة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبع مئة وسبع وستون حرفًا. الناسخ والمنسوخ: جميع السورة (¬2) محكم غير آية واحدة؛ وهي قوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} ... الآية (27) نسخت بآية السيف، وقد اشتملت هذه السورة على خمس قصص؛ الأولى: قصة موسى مع فرعون، الثانية: قصة النمل، الثالثة: قصة بلقيس، الرابعة: قصة صالح مع قومه، الخامسة: قصة لوط مع قومه، وما بقي منها حكم ومواعظ. التسمية: وأمَّا تسميتها بسورة النمل فلذكر النمل فيها. المناسبة: ومناسبتها لِمَا قبلها من وجوه (¬3): أولًا - أنها كالتتمة لها؛ إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان. ثانيًا - أن فيها تفصيلًا وبسطًا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام. ثالثًا - أن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن، وأنه منزل من عند الله. ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) الناسخ والمنسوخ. (¬3) المراغي.

رابعًا - تسلية رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم وإصرارهم على الكفر به والإعراض عنه. وقال أبو حيان: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة (¬1)؛ لأنه قال في السابقة: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وقبله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال هنا: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ}؛ أي: الذي هو تنزيل رب العالمين. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحييط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى؛ إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه .. أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يتمادى في غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرًا مترددًا في ضلاله فهو في عذاب شديد في دنياه؛ لتبلبله وقلقه واضطراب نفسه، وفي الآخرة له أشد الخسران؛ لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين .. أردف بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخاطبًا له. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر قصص موسى عليه السلام تقريرًا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم .. أردفه قصص داود وسليمان عليهما السلام، وذكر أنه آتى كلًّا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في (¬1) سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير، وجعلهم جنودًا له .. ذكر هنا أنه احتاج إلى جندي من جنوده؛ وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده، فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرًا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها، تحكمها امرأة هي بلقيس ملكة سبأ، ووصف له ما لها من جلال الملك وأبهته، وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس العلم بكلِّ شيء في السموات والأرض، والعليم بما نخفي وما نعلن، والعليم بالسر والنجوى، وهو رب العرش العظيم. قوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه .. أردف ذلك بإجابة سليمان عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنس جانبًا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصَّتها. قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر فيما سلف أن الهدهد حينما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولي الرأي لديها، وقرأت عليهم نص الكتاب .. بين هنا أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهم والحادث الجلل حتى ينجلي لهم صواب الرأي فيما تعمل ويعملون؛ لأنها لا تريد أن تشيد بالأمر وحدها، فقلبوا وجوه الرأي واشتد الحوار بينهم، وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأي لَدَيْنَا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدةٍ، والأمر مفوض إليك فافعلي ما بدا لك، وقالت: إني أرى أن عاقبة الحرب الدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلًا، وإني أرى أن نهاديه ونرسل إليه بهدية، ثم ننظر ماذا يكون رده عَلَّه ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

يقبل ذلك منا ويكف عنا، أو يضرب علينا خراجًا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك، وبذلك يترك قتالنا وحربنا. التفسير وأوجه القراءة 1 - {طس}؛ أي: هذه طس؛ أي: هذه السورة مسماة به، وقد مر الكلام مفصلًا في فواتح السور أنها إن كانت اسمًا للسورة، فمحلها الرفع على أنها خبر مبتدأ كما قدرنا، أو على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، وإن لم تكن هذه الحروف اسمًا للسورة بل مسرودة على نمط التعديد، فلا محل لها من الإعراب، وقد مر أيضًا أن القول الأسلم في تفسيرها أن يقال: الله أعلم بمراده بذلك. وقيل (¬1): الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي، وقيل: {الطاء}: إشارة إلى طوله؛ أي: فضله، و {السين}: إلى سنائه؛ أي: علوه. وفي "التأويلات النجمية": يشير بطائه إلى طيب قلوب محبيه، وبالسين إلى سر بينه وبين قلوب محبيه، لا يسعهم فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقيل: إنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه قال: هو اسم الله الأعظم، وفي "كشف الأسرار": {الطاء}: إشارة إلى طهارة قدسه، و {السين} إشارة إلى سناء عزه. يقول تعالى بطهارة قدسي وسناء عزي: لا أخيب أمل من أمل لطفي، انتهى. وقيل غير ذلك، والله أعلم بأسرار كتابه. {تِلْكَ}؛ أي (¬2): هذه السورة العظيمة الشأن، أو آيات هذه السورة. {آيَاتُ الْقُرْآنِ}؛ أي: بعض آيات القرآن المعروف بعلو الشأن، والإشارة بـ {تِلْكَ} إلى السورة المترجم عنها باسم خاص، والإتيان بإشارة البعيد؛ لتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسين، والقرآن عبارة عن جميع القرآن، أو عن جيمع المنزل عند نزول هذه السورة؛ إذ هو المتسارع إلى اللهم حينئذ عند الإطلاق. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

{وَكِتَابٍ} أي: وآيات من كتاب عظيم الشأن. {مُبِينٍ}؛ أي: مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب، إن قلنا: إنه من أبان بمعنى أظهر، أو ظاهر إعجازه وصحته، على أنه من أبان بمعنى بان؛ أي؛ ظهر، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى، مثل غافر الذنب وقابل التوب. أي: هذه السورة آيات الكلام الجامع بين القرآنية والكتابية، وكونه قرآنًا من جهة أنه يقرأ، وكونه كتابًا بسبب أنه يكتب، وقدم الوصف الأول؛ لتقدم القرآنية على حال الكتابية، وأخَّره في سورة الحجر حيث قال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)} نظرًا إلى حالته التي قد صار عليها، فإنه مكتوب والكتابة سبب القراءة، وقيل: نظرًا إلى أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح، فإن وصفه بالكتابية مفصح عن اشتماله على صفة كمال الكتب الإلهية، فكأنه كلها. وأما تعريف القرآن هنا (¬1) وتنكير الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر وتنكير القرآن؛ فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير. وفي "كشف الأسرار": القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد، ووصفان لأنه يُقرأ ويُكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ النكرة فهو الوصف. وقال شيخ الإِسلام: إن قلت (¬2): الكتاب المبين هو القرآن، فكيف عطفه عليه من أن العطف يقتضي المغايرة؟ قلتُ: المغايرة تصدق بالمغايرة لفظًا ومعنى، وباللفظ فقط، وهو هنا من الثاني، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}. أو المراد بالكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، فهو هنا من الأول. فإن قلت: لم قدم القرآن هنا على الكتاب وعكس في الحجر؟ ¬

_ (¬1) شوكاني. (¬2) فتح الرحمن.

[2]

قلت: جريًا على قاعدة العرب في تفننهم في الكلام، انتهى. وقال أبو حيان (¬1): وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، والكتاب المبين؛ إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين، وإما السورة، وإما القرآن وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأن إعجازهما ظاهر مكشوف، ونكر {وَكِتَابٍ مُبِينٍ}؛ ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ}. وإذا أريد به القرآن فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة من حيث إن مدلول القرآن الاجتماع، ومدلول كتاب الكتابة، انتهى. ونظيره قولهم: هذا فعل السخي والجواد الكريم. ومعنى الآية: أي إن (¬2) هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن وآيات كتاب بين واضح لمن تدبَّره، وفكَّر فيه أنه من عند الله سبحانه أنزله إليك، لم تتقوله أنت ولا أحد من خلقه، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس. وقرأ الجمهور (¬3): {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بجر {كِتَابٍ} عطفًا على {الْقُرْآنِ}، أي: تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو المتوكل وأبو عمران: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بالرفع فيهما عطفًا على {آيَاتُ}، والأصل: وآيات كتاب، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بعرابه حالة كون تلك الآيات. 2 - {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: هادية لهم ومبشرة لهم بالجنة، فأقيم المصدر مقام الفاعل؛ للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة. ومعنى هدايتها لهم وهم مهتدون أنَها تزيدهم هدى، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر؛ لأنها تبشرهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) زاد المسير والبحر المحيط.

[3]

برحمة من الله ورضوان، وخصهم بالذكر لانتفاعهم بها. فـ {هُدًى} و {بُشْرَى} إما حالان من {الآيات}، أو من الكتاب، كما فسرنا، ويجوز أن يكونا خبرين آخرين لـ {تِلْكَ}، أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدر؛ أي: يهدي هدى ويبشر بشرى. 3 - ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}؛ أي: يؤدون الصلوات الخمس بأركانها وشرائطها في مواقيتها. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يعطون الصدقة المفروضة للمستحقين. وتخصيص (¬1) الصلاة والزكاة بالذكر؛ لأنهما قرينتا الإيمان، وقطرا العبادات البدنية والمالية، مستتبعان لسائر الأعمال الصالحة، والموصول في محل جر صفة لـ {لْمُؤْمِنِينَ}، أو بدل، أو عطف بيان منه، أو منصوب على المدح، أو مرفوع على تقدير مبتدأ. وجملة قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} في محل النصب حال من {الواو} في الصلة، فهي من تتمة الصلة؛ أي: الذين (¬2) يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، والحال أنهم يصدقون بالآخرة بأنها آتية مع ما فيها، ويعلمونها علمًا يقينًا لا شك فيه، فإن تحمل مشاق العبادات إنما يكون لخوف العاقبة والوقوف على المحاسبة. وكرر (¬3) الضمير للدلالة على الحصر، كأنه قيل: أي: لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لا من عداهم، وجعل الخبر مضارعًا؛ للدلالة على التجدد في كل وقت، وعدم الانقطاع. وقال أبو حيان (¬4): ولما كان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتجدد ولا يستغرق إلا زمان .. جاءت الصلة فعلية، ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة .. جاءت الجملة اسمية، وأكد المسند إليه فيها بتكراره. وفي "زاده" ولما كان (¬5) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط. (¬5) زاده.

[4]

أوقاتهما .. أتى بهما فعلين، ولمَّا كان الإيقان بالآخرة أمرًا ثابتًا مطلوبًا دوامه .. أتى به جملة اسمية، وجعل خبرها مضارعًا؛ للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد. اهـ ومعنى الآية: أي (¬1) إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهير أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يومًا يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرها، فيذلون أنفسهم في طاعته رجاء ثوابه، وخوف عقابه، وليسوا كاولئك المكذبين الذين لا يبالون أحسنوا أم أساؤوا، أطاعوا أم عصوا؛ لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابًا وإن أساؤوا لم يخافوا عقابا. 4 - ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ولا يصدقون بالبعث بعد الموت؛ وهم الكفار. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} القبيحة حيث جعلناها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، كما ينبىء عنه قوله عليه السلام: "حفَّت النار بالشهوات"؛ أي: جعلت محفوفة ومحاطة بالأمور المحبوبة المشتهاة. واعلم (¬2): أن كل مشيئة وتزيين وإضلال ونحو ذلك منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة، وإلى غيره بالتبعية. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته هنا، وأسنده إلى الشيطان في قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}؛ .. قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله مجاز. اهـ وهذا تأويل منه على طريق الاعتزال. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ}؛ أي: يترددون في ضلالتهم، كما يكون حال الضال عن الطريق، وقيل: أي: يتحيرون ويترددون على التجدد والاستمرار في الاشتغال بها، والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها من الضرر والعقوبة، لا يهتدون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[5]

إلى طريقة ولا يقفون على حقيقة، والفاء لترتيب المسبب على السبب. 5 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بالكفر والعمه: مبتدأ، خبره {الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ}؛ أي: أشد العذاب واْقبحه في الدنيا، كالقتل والأسر يوم بدر، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده: {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}؛ أي: أشد الناس خسرانًا وأعظمهم خيبة؛ لاشترائهم الضلالة بالهدى، فخسروا الجنة ونعيمها وحرموا النجاة من النار. قال بعضهم (¬1): واعلم أن أهل الدنيا في خسارة الآخرة، وأهل الآخرة في خسارة المولى، فمن لم يلتفت إلى الكونين ربح المولى. والمعنى: أي (¬2): إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة، والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب .. حببنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم في غيهم، فهم في ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، لا يفكرون في عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يؤول إليه سلوكهم. قال الزجاج: أي: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع محبوبًا إلى النفس، أولئك الموصوفون هم الذين لهم سوء العذاب في الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين، كما وقع في بدر، وهم في الآخرة أعظم خسرانًا مما هم فيه في الدنيا؛ لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم في الدنيا ليس بدائم، بل هو زائل لا بقاء له. 6 - ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة، فقال {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ}؛ أي: لتعطى القرآن بطريق التلقية والتلقين. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}؛ أي: من عند رب حيكم فيما دبره لخلقه. {عَلِيمٍ} بأحوال خلقه؛ أي: تلقن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل، لا من عند نفسك، ولا من تلقاء غيرك، كما يزعم الكفار. {لَدُنْ} بمعنى: عند، وتنوين (¬3) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[7]

الاسمين للتعظيم؛ أي: من عند حكيم؛ أيّ: حكيم وعليم، أيّ عليم، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن، وتنصيص على طبقته - صلى الله عليه وسلم - في معرفة القرآن، والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق، فإن من تلقى الحكم والعلوم من مثل ذلك الحكيم العلم يكون علمًا في رصانة العلم والحكمة، وفي الجمع بين الحكيم والعليم إشعارٌ بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية. والمعنى: أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلمه من عند حكيم بتدبير خلقه عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل، كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}. قصص موسى عليه السلام 7 - ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم، فقال: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة قول موسى لزوجته ومن معها من ولده وخادمه في وادي الطور، وذلك أنه مكث بمدين عند شعيب عشر سنين، ثم سار بأهله بنت شعيب إلى مصر لزيارة أمه وأخيه هارون فضل الطريق في ليلة مظلمة شديدة البرد، وقد أخذ امرأته الطلق، فقدح فأصلد زنده، فبدا له من جانب الطور نار، فقال لأهله: اثبتوا مكانكم. {إِنِّي آنَسْتُ} وأبصرت {نَارًا}. قال مقاتل: النار هو النور، وهو نور رب العزة رآه ليلة الجمعة عن يمين الجبل بالأرض المقدسة. {سَآتِيكُمْ مِنْهَا}؛ أي: من تلك النار؛ أي: ممن عندها. {بِخَبَرٍ}؛ أي: عن حال الطريق أين هو. و {السين} (¬1): للدلالة على بعد المسافة، أو لتحقيق الوعد بالإتيان. وإن أبطأ فيكون للتأكيد. {أَوْ آتِيكُمْ} منها. {بِشِهَابٍ قَبَسٍ}؛ أي: بشعلة نار مقبوسة؛ أي: مأخوذة من معظم النار ومن أصلها إن لم أجد عندها من يدلني على الطريق، فإن سنة الله سبحانه أن لا يجمع حرمانين على عبده، يقال: اقتبست منه نارًا، أو علمًا: استفدته منه، والشهاب: ¬

_ (¬1) روح البيان.

الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، فعل بمعنى مفعول؛ وهو القطعة من النار في عود أو غيره. وقرأ الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب إلا زيدًا (¬1): {بِشِهَابٍ} منونًا. فـ {قَبَسٍ}: بدل منه، أو صفة له؛ لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة بالإضافة غير منون؛ وهي قراءة الحسن. قال الفراء: هذه الإضافة كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس، كما تقول: ثوب خزٍّ وخاتم حديد. فإن قلت: قال (¬2) في سورة طه: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} وفي القصص: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ب صيغة الترجي في السورتين، وقال هنا: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَر} بصيغة الإخبار والتيقن، فبين الإخبار والترجي تناقض، فكيف يجمع بينهما؟ قلتُ: لا تناقض بينهما؛ لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول: سأفعل كذا بصيغة الأخبار وإن كانت الخيبة يمكن أن تقع. وعبارة شيخ الإِسلام: كيف قال هنا ذلك، وفي طه: {نَارًا لَعَلِّي}، وأحدهما قطع وجزم، والآخر ترجّ، والقضية واحدة؟ قلتُ: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه عدم الجزم. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}؛ أي: رجاء أن تستدفئوا بها، أو لكي تستدفئوا بها، وتدفعوا البرد بحرها، وكان الزمان شتاء والليلة مثلجة، يقال: صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفا بها، والصلاء النار العظيمة، والاصطلاء الاستدفاء بها. قال بعضهم: الاصطلاء بالنار يقسي القلب، ولم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - اصطلى بالنار. ¬

_ (¬1) البحر المحيط وزاد المسير. (¬2) روح البيان بتصرف.

[8]

والمعنى: أي (¬1) واذكر أيها الرسول الكريم لقومك قصة قول موسى لأهله، وقد سار بهم فضل الطريق في ليل دامس وظلام حالك، فرأى نارًا تأجج وتضطرب، فقال إني أبصرت نارًا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخير عظيم، واقتبس نورًا جليلًا. وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر، ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلًا، فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد، وفي مثل هذه الحال يستبشر النَّاس بمشاهدة النار من بعد؛ لما يرجى فيها من زاول الحيرة، وأمن الطريق، ومن الانتفاع بها للاصطلاء، ومن ثم قال لها هذه المقالة. 8 - {فَلَمَّا جَاءَهَا}؛ أي: فلما جاء موسى النار ووصل إليها، أي: جاء ذلك النور الذي ظنه نارًا. قال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا مجرد نور، ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نورًا، وكانت الشجرة سمرة. {نُودِيَ} موسى من قبل الله تعالى؛ أي: جاءه النداء؛ وهو الكلام المسموع من جانب الطور، وأن في قوله: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} إما مفسرة بمعنى أي؛ لأن في النداء معنى القول؛ أي: قيل له (¬2): بورك من في النار، وبورك: مجهول بارك، وهو خبر لا دعاء؛ أي: جعل مباركًا، وهو ما فيه الخير والبركة؛ أي: بورك من في مكان النار؛ وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} واستعملت {مَن} بمعنى (ما) حينئذ، ويدل عليه قراءة أبي: {تباركت الأرض ومن حولها} وعنه أيضًا: بوركت النار {وَمَنْ حَوْلَهَا}؛ أي: ومن حول مكان النار. والظاهر (¬3): أن المبارك فيه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات؛ لكونها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتًا، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

وخصوصًا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى. وقرأ أبيّ وابن عباس ومجاهد: {أن بوركت النار ومن حولها} أو مصدرية؛ أي: نودي موسى بأن بورك من في النار ومن حولها، أو مخففة من الثقيلة؛ أي: نودي بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن. وقيل (¬1): المراد بـ {مَنْ فِي النَّار} هو موسى عليه السلام لقربه منها. و {مَنْ حَوْلَهَا} الملائكة؛ أي: نودي ببركة من في النار؛ أي: بتطهيره مما يشغل قلبه عن الله سبحانه، وتخليصه للنبوة والرسالة؛ أي: ناداه الله سبحانه وتعالى بأنا قدسناك يا موسى، واخترناك للرسالة، وهذه تحية من الله سبحانه لموسى، وتكرمة له، وبارك يتعدَّى بنفسه، كما هنا، وبـ "على" كما في قوله: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وبـ {في} كما في قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا}. وفي ابتداء (¬2) خطاب الله سبحانه موسى بذلك عند مجيئه بشارة بأنه قد قضي له أمر عظيم ديني تنتشر بركاته في أقطار الأرض المقدسة، وهو تكليمه تعالى إياه، واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يده، وكل موضع يظهر فيه مشاهدة الحق ومكالمته يكون ذا بركة، ألا ترى إلى قول القائل: إِذَا نَزَلَتْ سَلْمَى بِوَادٍ فَمَاؤُهُ ... زُلَالٌ وَسِلْسَالٌ وَجَنَّاتُهُ وَرْدُ وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من تمام ما نودي به؛ لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهًا، وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر. وعبارة "المراح" (¬3) هنا: وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} من كلام الله مع موسى، نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته؛ ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام، وإعلامًا بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين، ولدفع ما قد يتوهمه بحسب الطبع البشري البخاري على العادة الخلقية من أن الله سبحانه المتكلم به في مكان، أو في جهة. ومن أن الكلام الذي يسمعه في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ككلام ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[9]

الخلق، وقد علم موسى عليه السلام أن النداء من الله تعالى؛ لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق. وقال السدي: هو من كلام موسى؛ لما سمع النداء قال: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيهًا لله تعالى عن سمات المحدثين. وحاصل معنى الآية: أي (¬1) فلما وصل موسى إلى النور الذي ظنه نارًا .. نودي بأن بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} ومن حولها هو من في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات، ومهبط الخيرات؛ لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتًا. وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزيه لنفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته، وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين. 9 - {يَا مُوسَى}؛ أي (¬2): إن مكلمك {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؛ أي: القوي القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حية، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة، وتدبير تامّ، و {أَنَا} خبر {إن}، و {اللَّهُ} عطف بيان له، و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: صفتان لله ممهدتان؛ لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه السلام من المعجزات. قيل (¬3): معناه أن موسى قال: من المنادي؛ قال: إنه أنا الله. وقال أكثر المفسرين: إن الضمير في {إِنَّهُ} ضمير الشأن، وجملة {أَنَا اللَّهُ} جملة مفسرة للشان. 10 - وقوله {وَأَلْقِ عَصَاكَ} معطوف على {بُورِكَ}، فكلاهما تفسير {نُودِيَ}؛ أي: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك. فإن قلت: لم قال هنا: و {ألق} بدون ذكر أن، وفي القصص بذكرها؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

[11]

قلتُ: لأن ما هنا تقدمه فعل بعد {أَنْ}، وهو {بُورِكَ} فحسن عطف الفعل عليه، وما هناك لم يتقدمه فعل بعد {أَنْ}، فذكرت {أَنْ}؛ لتكون جملة {وَأَنْ أَلْقِ} معطوفة على جملة {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ}. وقوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} معطوف على محذوف، تقديره: فألقاها موسى من يده، فانقلبت حية تسعى، فلما رآها وأبصرها موسى حالة كونها تهتز وتضطرب وتتحرك بحركة شديدة، وتذهب إلى جانب، وحال كونها {كَأَنَّهَا}: كأن تلك العصا {جَانٌّ}؛ أي: حية صغيرة في سرعة الحركة وخفتها، فشبه الحية العظيمة المسماة بالثعبات بالجان في سرعة الحركة والالتواء، والجان (¬1) ضرب من الحيات؛ أي: حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور، كما في "القاموس". قال أبو الليث: الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور، وقرأ الحسن (¬2) والزهري وعمرو بن عبيد: {جأن} بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين. {وَلَّى مُدْبِرًا}؛ أي: هرب موسى منها مدبرًا؛ أي: رجع وأعرضين عنها هاربًا خوفًا منها. قال في "كشف الأسرار": أي أدبر عنها، وجعلها خلف ظهره. {وَلَمْ يُعَقِّبْ}؛ أي: ولم يرجع على عقبه، من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر، وإنما اعتراه الرعب؛ لظنّه أن ذلك الأمر أريد به هلاك نفسه، ويدل عليه قوله: {يَا مُوسَى}؛ أي: قال الله تعالى: يا موسى {لَا تَخَفْ} من الحية وضررها، أو لا تخف من غيري مطلقًا ثقة بي لقوله: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ} أي: عندي {الْمُرْسَلُونَ} في حالة الإيحاء والإرسال، لا في جميع الأوقات، بل حين يوحي إليهم في وقت الخطاب، فإنهم حينئذ مستغرقون في مطالعة شؤون الله تعالى، لا يخطر ببالهم خوف من أحد أصلًا. أما الخوف في غير هذه الحالة فلا يفارقهم، قال النبي عليه السلام: "أنا أخشاكم"، 11 - ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} استثناء متصل من {المرسلين}؛ أي: إلا من ظلم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

نفسه من المرسلين بذنب صدر منه، كآدم ويونس وداود وموسى عليهم السلام، والتعبير فيهم بالظلم؛ لقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وموسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}. {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا}؛ أي: توبة وندما. {بَعْدَ سُوءٍ}؛ أي: بعد عمل سوء {فَإِنِّي غَفُورٌ} للتائبين {رَحِيمٌ}؛ أي: مشفق عليهم بقبول توبتهم، وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي. و (¬1) اختار النحاس هذا القول؛ أي: جعله استثناء متصلًا، وقال: علم من عصى منهم فاستثناه، فقال: إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وموسى، ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: "وددت أني شجرة تعضد". وقيل: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء. وقيل: الاستثناء من محذوف، تقديره: أي: لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل حسنًا إلخ. قاله الفراء، ورده النحاس. والمعنى: على الانقطاع؛ أي: لكن (¬2) من ظلم من سائر العباد فإنه يخاف إلا إذا تاب فبدل بتوبته حسنًا بعد سوء فإني أغفر له، وأمحو ذنوبه، وجميع آثارها، كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى. وفي هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبًا ثم أقلع عنه وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} وقال أبو حيان: والأظهر (¬3) أن قوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}: استثناء منقطع؛ إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم والواقع من غيرهم. وقال الأخفش وأبو عبيدة: {إِلَّا}: حرف عطف بمعنى {الواو} في التشريك في اللفظ، والمعنى: والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليسى بشيء؛ لأن معنى {إِلَّا} مباين لمعنى ¬

_ (¬1) الشوكاني (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

{الواو} مباينة كثيرة؛ إذ {الواو} للإدخال؛ و {إِلَّا}: للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم (¬1): {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح وتنبيه، و {مَنْ} شرطية، وجوابها {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقرأ الجمهور: {حُسْنًا} بضم الحاء وإسكان السين منونًا. وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني كذلك إلا أنه لم ينون، جعله فعلى فامتنع الصرف، وابن مقسم بضم الحاء والسين منونًا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي ليلى والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وأبو زيد وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش بفتحهما منونًا. قال شيخ الإِسلام زكريا: قوله تعالى: {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} فإن قلت (¬2): قال ذلك هنا، وقال في سورة القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} بزيادة {أَقْبِلْ}، فلم خالف بين الموضعين؟ قلتُ: لأن ما هنا بني عليه كلام يناسبه، وهو {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} فناسبه الحذف، وما هناك لم يبن عليه شيء فناسبه زيادة {أَقْبِلْ} جبرًا له، وليكون في مقابلة مدبرًا؛ أي: أقبل آمنًا غير مدبر ولا تخف. وقال أيضًا: قوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ...} الآية، إن قلت: كيف وجه صحة الاستثناء فيه مع أن الأنبياء معصومون من المعاصي؟ قلتُ: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم من غير الأنبياء فإنه يخاف، فإن تاب وبدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم، أو متصل يحمل الظلم على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، أو {إِلَّا} بمعنى: ولا، كما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وإنما خص المرسلين بالذكر؛ لأن الكلام في قصة موسى وكان من المرسلين، وإلا فسائر الأنبياء كذلك وإن لم يكن بعضهم رسلًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح الرحمن.

[12]

12 - {وَأَدْخِلْ يَدَكَ}: معطوف على {بُورِكَ} أيضًا، والجيب مدخل الرأس من القميص المفتوح إلى الصدر؛ أي: وأدخل يدك في حبيب مدرعتك، واجعلها تحت إبطك، ولم يقل (¬1): في كمِّك؛ لأنه كان عليه مدرعة من صوف، لا كم لها ولا إزار، فكانت يده الكريمة مكشوفة، فأمر بإدخال يده في مدرعته، وهي جبة صغيرة يتدرع بها؛ أي: تلبس بدل الدرع، وهو القميص؛ أي: وأدخل يدك في جيبك وأخرجها. {تَخْرُجْ} يدك حالة كونها {بَيْضَاءَ}؛ أي: براقة لها شعاع كشعاع الشمس؛ أي: إن أدخلتها تخرج على هذه الصفة {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}؛ أي: من غير آفة وعلة ومرض، كبرص وبهق ونحوهما مما يبيض الجسم. فإن قلت: لِمَ (¬2) ثم أتى هنا بلفظ {أَدْخِلْ}، وفي القصص بلفظ {اسْلُكْ} هو فلم خالف بين الموضعين؟ قلتُ: أتى هنا بلفظ {أَدْخِلْ} وهناك بلفظ {اسْلُكْ}؛ لأن الإدخال أبلغ من السلوك؛ لأن ماضيه أكثر حروفًا من ماضي السلوك، فناسب {أَدْخِلْ} كثرة الآيات في قوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ}؛ أي: معها مرسلًا إلى فرعون، وناسب {اسلك} قلتها، وهي سلوك اليد وضم الجناح المعبر عنهما بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}. وقوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هاتان الآيتان المذكورتان؛ الأولى منهما تغيير ما في يده، وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية تغيير يده نفسها، وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية؛ أي (¬3): هما داخلتان في جملة تسع آيات، فتكون الآيات تسعًا بالعصا واليد؛ وهن: العصا، واليد البيضاء، والجدب في البوادي، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والدم، والضفادع، حالة كونك مبعوثًا بها {إِلَى فِرْعَوْنَ} اللعين {وَقَوْمِهِ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان.

[13]

القبطيين، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل للبعث؛ أي: وإنما بعثناك إليهم بهذه الآيات التسع؛ لأن فرعون وقومه كانوا قومًا فاسقين؛ أي: خارجين عن الحدود في الكفران والعدوان؛ أي: خرجوا عما تقتضيه الفطرة ويوجبه العقل بادعاء فرعون الألوهية وتصديقهم له في ذلك. والظاهر (¬1): أن قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {أَلْقِ} و {أَدْخِلْ}، وأن قوله: {فِي تِسْعِ} متعلق بمحذوف حال من مفعولهما؛ أي: ألق عصاك، وأدخل يدك حالة كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع، فإن الآيات إحدى عشرة: العصا واليد، والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، وحالة كونك مرسلًا بها إلى فرعون وقومه القبط إنهم كانوا قومًا خارجين عن ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي. فإن قلت: قال هنا (¬2): بلفظ {وَقَوْمِهِ}، وفي القصص بلفظ {وَمَلَئِهِ} فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: الفرق بينهما أن الملأ أشراف القوم، ولم يوصفوا ثَمَّ بما وصف به القوم من قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} الآية، فناسب ذكر القوم هنا؛ ليعم هذا الوصف الكل، وذكر الملأ ثم. 13 - و {الفاء} في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا} للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنا بعثناه إلى فرعون وقومه في تسع آيات، وأردت بيان حالهم حين جاءهم موسى بآياتنا .. فأقول لك: لما جاءهم موسى بآياتنا التسع، وظهرت على يده حالة كون تلك الآيات {مُبْصِرَةً}؛ أي: مستنيرة واضحة. وعبارة "الجمل"؛ أي: مضيئة إضاءة معنوية في كلها، وحسية أيضًا في بعضها؛ وهو اليد. اهـ. شيخنا. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) فتح الرحمن.

[14]

فقوله: {مُبْصِرَةً} اسم فاعل (¬1) أطلق على المفعول إشعارًا بأنها لفرط إنارتها ووضوحها للأبصار كانت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر. {قَالُوا هَذَا} الذي جئت به يا موسى من الخوارق التي تشاهدها {سِحْرٌ مُبِينٌ} واضح سحريته؛ أي (¬2): فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي أنكروها، وقالوا: هذا سحر وخيال لا حقيقة له، بين لائح في أنه خيال يدل على مهارة فاعله، وحذق صانعه. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد؛ أي: مكانًا يكثر فيه البصر. 14 - ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب، لا بالقلب، فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا}؛ أي: وكذبوا بتلك الآيات بألسنتهم، ولم يقروا أنها من عند الله سبحانه، والواو: في قوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} للحال؛ أي: وقد أيقنتها أنفسهم، وعلمتها قلوبهم وضمائرهم علمًا يقينيًا أنها من عند الله وليست بسحر؛ أي: كذبوها بألسنتهم حالة كون أنفسهم مستيقنة لها. قال أبو الليث: وإنما استيقنتها قلوبهم؛ لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى، وسألوا منه بأن يكشف عنهم، فكشف عنهم، فظهر لهم بذلك أنها من الله تعالى. وقوله: {ظُلْمًا} نفسانيًا {وَعُلُوًّا}؛ أي: استكبارًا شيطانيًا، علتان لـ {جَحَدُوا}؛ أي: جحدوا بها ظلما لتلك الآيات؛ إذ حطوها عن مرتبتها العالية، وسموها سحرًا وعلوًا؛ أي: ترفعًا عن الإيمان بها، وهم يعلمون أنها من الله سبحانه، أو حالان من {الواو} في {وَجَحَدُوا}؛ أي: حالة كونهم ظالمين لتلك الآيات ومترفعين عن الإيمان بها. وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب: {وعليًا} بقلب {الواو} ياء، وكسر العين واللام، وأصله فعول، لكنهم كسروا العين إتباعًا. وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة. والمعنى: أي وكذبوا بها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[15]

بألسنتهم، وأنكروا دلالتها على صدقه، وأنه رسول من ربه، لكنهم علموا في قرارة نفوسهم أنها حق من عنده، فخالفت ألسنتهم قلوبهم ظلمًا للآيات، إذ خطوها عن مرتبتها العالية، وسموها سحرًا ترفعًا عن الإيمان بها، كما قال في آية أخرى: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}. والخلاصة: أنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها، وهم يعلمون أنها من عند الله يسبحانه وتعالى. {فَانْظُرْ} يا محمد وفكر {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} في الأرض وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة، أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبر للظالمين ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم. وفي هذا تحذير للمكذبين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الجاحدين لما جاء به من عند ربه أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك؛ لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع، ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون، فمن قدر على إهلاك فرعون كان قادرًا على إهلاك من هو على صفته، وذلك إلى يوم القيامة، فإن جلال الله سبحانه دائم للأعداء، كما أن جماله باق للأولياء، مستمر في كل عصر وزمان، فعلى العاقل أن يتعظ بحال غيره، ويترك الأسباب المؤدية إلى الهلاك مثل الظلم والعلو الذي هو من صفات النفس الأمارة، ويصلح حاله بالعدل والتواضع، وغير ذلك مما هو من ملكات القلب. قصة داود وسليمان عليهما السلام 15 - ولما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود بن إيشا وقصة ابنه سليمان عليهما السلام، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} فقال: {و} عزتي وجلالي. {لَقَدْ آتَيْنَا} وأعطينا {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} ابنه عليهما السلام {عِلْمًا}؛ أي: طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك، مما لم نؤته أحدًا ممن قبلهما، فشكرا الله سبحانه على ما أولاهما من منته {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} بما آتانا

من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا. تنبيه: وعاش داود مئة سنة، وبينه وبين موسى خمس مئة وتسع وستون سنة. وعاش سليمان نيفًا وخمسين سنة، وبينه وبين محمد ألف وسبع مئة سنة. اهـ. شيخنا نقلًا عن "التجيير". فائدة: قال في "مشكاة الأنوار": قالت نملة لسليمان عليه السلام: يا نبي الله أتدري لم صار اسم أبيك داود، واسمك سليمان؟ قال: لا. قالت: لأن أباك داوى قلبه عن جراحة الالتفات إلى غير الله سبحانه فَوُدَّ، وأنت سليم تصغير سليم آن لك، أي: حان لك أن تلحق بأبيك، انتهى. فائدة أخرى: وعلم (¬1) سبحانه وتعالى سبعة أنفار سبعة أشياء: علم آدم أسماء الأشياء، فكان سببًا في حصول السجود والتحية، وعلم الخضر علم الفراسة، فكان سببًا لوجدان موسى ويوشع تلميذًا له، وعلم يوسف التعبير، فكان سببًا لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود صنعة الدروع، فكان سببًا لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان منطق الطير فكان سببًا لوجدان بلقيس، وعلم عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فكان سببًا لزوال التهمة عن الشر، وعلم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الشرع والتوحيد، فكان سببًا لوجود الشفاعة. وقال الزمخشري: قوله: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} فإن قلت: أليس (¬2) هذا موضع الفاء دون {الواو}، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم، وشيء من موجبه، فاضر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علمًا فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا الحمد لله. والكثير المفضل عليه من لم يؤت علمًا، أو من لم يؤت مثل علمهما، كذا قال أبو حيان. وقال غيره: والمفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما، لا من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف.

[16]

لم يؤت علمًا أصلًا، فإنه قد بين الكثير بالمؤمنين وخلوهم من العلم بالكلية مما لا يمكن، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر رمز إلى أن البعض مُفَضَّلُون عليهما. وقال الماوردي: المراد بقوله: {عِلْمًا} علم الكيمياء، وذلك لأنه من علوم الأنبياء والمرسلين والأولياء العارفين، والكيمياء في الحقيقة القناعة بالموجود، وترك التشوق إلى المفقود. وفي الآية إيماء (¬1) إلى فضل العلم وشرف أهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من العباد، ومنحا شرفًا جليلًا حيث شكرا عليه، وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبرا شيئًا دونه مما أوتياه من الملك العظيم. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا، ويعتقدوا أن في عباد الله من يفضلهم فيه، وفوق كل ذي علم عليم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر. وروي (¬2): أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال؟ فقال: "العلم بالله والفقه في دينه". وكررهما عليه، فقال يا رسول الله أسألك عن العمل؟ فتخبرني عن العلم، فقال: "إن العلم ينفعك معه قليل من العمل، وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل". والمتعبد بغير علم كحمار الطاحونة، يدور ولا يقطع المسافة. وهذا التفضيل سبب لمزيد الحمد والشكر لله تعالى، فإن الثناء بقدر الموهبة والعطية، نحمد الله تعالى على آلائه ونعمائه، ونستزيد العلم وقطراته من دَأْمَائِه، ونسأله التوفيق في طريق التحقيق، والثبات على العمل الصالح بالعلم النافع الذي هو للهوى قامع، وللشهوات دافع، إنه المتفضل المنعم الكبير والوهاب الفياض الرحيم. 16 - {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ} بن داود أباه {دَاوُودَ} عليهما السلام؛ أي قام مقامه في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

النبوة والملك بعد موته، وسخرت له الريح والشياطين؛ أي: صار إليه العلم والنبوة والملك بعد موت أبيه دون سائر أولاده، فسمي ميراثًا تجوزًا؛ لأن حقيقة الميراث في المال، والأنبياء إنما يرثون الكمالات النفسانية، ولا قدر للمال عندهم. وقال قتادة والكلبي (¬1): كان لداود تسعة عشر ولدًا ذكرًا، فورث سليمان من بينهم نبوته، ولو كان المراد وراثة المال لم يَخُصَّ سليمانَ بالذكر؛ لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين: فهذه الوراثة هي وراثة مجازية، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء". وقال قتادة في معنى الآية (¬2): ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكًا منه، وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدًا من سليمان، شاكرًا لنعم الله تعالى، اهـ. ثم ذكر بعض نعم الله عليه، {وَقَالَ}؛ أي: سليمان تشهيرًا لنعمة الله تعالى عليه ودعاء للناس إلى الإيمان إلى التصديق به بذكر المعجزات الباهرة التي أوتيها؛ أي: لا فخرًا وتكبرًا. قال البقلي (¬3): إن سليمان عليه السلام أخبر الخلق بما وهبه الله تعالى؛ لأن المتمكن إذا بلغ درجة التمكين يجوز له أن يخبر الخلق بما عنده من موهبة الله؛ لزيادة المؤمنين، وللحجة على المنكرين. قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ أي قال سليمان متحدثًا بنعمة ربه ومنبها إلى ما شرفه به يكون أجدر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا} (النون) (¬4) نون الواحد المطاع على عادة الملوك، فإنهم متكلمون مثل ذلك، رعاية لقاعدة السياسة، لا تكبرًا وتجبرًا. وكذا في {وَأُوتِينَا} وقال بعضهم: {عُلِّمْنَا}؛ أي: أنا وأبي، وهذا ينافي اختصاص سليمان بفهم منطق الطير على ما هو المشهور؛ أي: علمنا الله سبحانه وتعالى {مَنْطِقَ الطَّيْرِ}؛ أي: صوت الطير؛ أي: قال سليمان مخاطبًا للناس، تحدثًا بما أنعم الله به عليه، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

وشكرًا للنعمة التي خصه بها: يا أيها الناس إن ربي يسر لي فهم ما يريده الطائر إذا صوت، فأعطاني قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومىء إليها فضلًا منه ونعمة. والمعنى: علمنا فهم ما يقوله كل طائر إذا صوت. وقدم منطق الطير (¬1)؛ لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير؛ لأنه كان جندًا من جنوده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة، ولا يعترض ذلك بالنملة، فإنها من جملة الطير، وكثيرًا ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه. وسميت (¬2) أصوات الطير منطقًا اعتبارًا بسليمان الذي كان يفهمه، فمن فهم من شيء معنى .. فذلك الشيء بالنسبة إليه ناطق وإن كان صامتًا، وبالنسبة إلى من لا يفهم عنه صامت وإن كان ناطقًا. وقد اجتهد (¬3) كثير من الباحثين في العصر الحاضر فعرفوا كثيرًا من لغات الطيور؛ أي: تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة، من حزن وفرح، وحاجة إلى طعام وشراب، واستغاثة من عدو إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها الله سبحانه للطير. وفي هذا معجزة لكتابه الكريم؛ لقوله في آخر السورة: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}. وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرًا من الأمم تبحث في لغات الطيور والحيوان والحشرات، كالنمل والنحل، وتبحث في تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن، وعلمتها سليمان، وسيأتي يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتي، ويطلع الناس على عجائب صنعي فيها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

{وَأُوتِينَا}؛ أي: أعطينا {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مما نحتاج إليه في تدبير الملك، ويعيننا في ديننا ودنيانا، كالعلم والحكمة، والنبوة والمال، وتسخير الجن والإنس، والطير والرياح، والوحوش والدواب، وكل ما بين السماء والأرض. وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شيء، كما يقال: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بيانًا لحاله من كونه مطاعًا لا يخالف، لا تكبرًا وتعظيمًا لنفسه، وسيأتي في مقال الهدهد عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. فإن قلت: كيف (¬1) سوى بينه في قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وبين بلقيس في قول الهدهد {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}؟ قلتُ: الفرق بينهما أنها أوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا فقط؛ لعطف ذلك على تملكهم، وسليمان أوتي من كل شيء من أسباب الدين والدنيا؛ لعطف ذلك على المعجزة؛ وهي: {مَنْطِقَ الطَّيْرِ} قال مقاتل: كان سليمان عليه السلام جالسًا إذ مر به طير يصوت، فقال لجلسائه: هل تدرون ما يقول هذا الطائر الذي مر بنا؟ قالوا: أنت أعلم. قال سليمان: إنه قال لي: السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل، أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى فروخي، ثم أمر بك الثانية. وإنه سيرجع إلينا الثانية، فانظروا إلى رجوعه، قال: فنظر القوم إذ مر بهم، فقال: السلام عليك أيها الملك، إن شئت إيذن لي كيما أكتسب على فروخي حتى أشبعها ثم آتيك، فتفعل ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال، فأذن له. {إِنَّ هَذَا} المذكور من التعليم والإيتاء {لَهُوَ الْفَضْلُ} والإحسان من الله تعالى {الْمُبِينُ}؛ أي: الواضح الذي لا يخفى على أحد. وفي "الوسيط": لهو الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، قاله على سبيل الشكر والحمد، كما قال ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[17]

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؛ أي: أقول هذا القول شكرًا، لا فخرًا. 17 - {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ}؛ أي: جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر {جُنُودُهُ} وعساكره {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} من مختلف النواحي؛ ليحارب بهم من لم يدخل في طاعته، وإنما (¬1) قال: {جُنُودُهُ}؛ لاختلاف أجناس عساكره، فكل جنس من الخلق جند على حدة، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} فالبعوض لنمرود جند، والأبابيل لأصحاب الفيل جند، والمعنى: أخرج لسليمان وجمع له عساكره في مسير وسفر كان له من الشام إلى طرف اليمن. وفي "فتح الرحمن": من إِصطخر إلى اليمن، وإِصطخر - بكسر الهمزة وفتح الخاء - بلدة من بلاد فارس كانت دار السلطنة لسليمان عليه السلام. من الجن والإنس والطير؛ أي: جمع له بمباشرة الرؤساء من كل جنس؛ لأنه كان إذا أراد سفرًا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود؛ ليجمعوا له أجناسهم، وقدم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه من أول أمر؛ لما أن الجن طائفة طاغية بعيدة من الحشر والتسخير {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يحبسون ويمنعون من الانتشار والتفرق، حتى يرد أولهم على آخرهم، من الوزع بمعنى الكف والمنع عن التفرق والانتشار. والوازع الذي يكف الجيش عن الانتشار، ويكف الرعية عن التظالم والفساد، وجمعه وزعة، والمعنى يحبس أوائلهم على أواخرهم ليتلاحقوا، ويجتمعوا ولا ينتشروا حتى ساقوا، كما هو حال الجيش الكثير، وكان لكل صنف من جنوده وزعة ومنعة ترد أولادهم على أخراهم صيانة من التفرق. قال محمد بن القرظي (¬2): كان مُعَسْكَرُ سليمان عليه السلام مئة فرسخ في مئة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمس وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من القوارير مصنوعة على الخشب، فيها ثلاث مئة منكوحة؛ يعني حرة، وسبع مئة سرية. وقد نسجت له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[18]

الجن بساطًا من ذهب وإبريسم فرسخًا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب فيقعد عليه، وحوله ست مئة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. وفي "أبي السعود" قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يحبس أوائلهم على أواخرهم؛ أي: يوقف أوائل العسكر حتى يلحقهم الأواخر، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة. ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر، وفيه إشعار بكمال مسارعتهم إلى السير، وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق آخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضًا؛ لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا كله إذا لم يكن سيرهم بتيسير الله الريح في الجو، اهـ. 18 - {حَتَّى}: ابتدائية؛ لدخولها على الجملة، وغائية؛ لكونها غاية لمحذوف يدل عليه قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} تقديره: فساروا حتى {إِذَا أَتَوْا} أي: ساروا مشاة على الأرض، وركبانًا حتى إذا أتوا وأشرفوا {عَلَى وَادِ النَّمْلِ} من فوق، وبلغوا آخره، ولعلهم أرادوا أن ينزلوا عند منتهى الوادي؛ إذ حينئذ يخافهم ما في الأرض لا عند مسيرهم في الهواء، كما في "الإرشاد"، ولعل هذه القصة قبل تسخير الله له الريح. والوادي مسيل الماء، والنمل معروف، الواحدة نملة. ومعنى واد النمل (¬1): وادٍ يكثر فيه النمل، كما يقال: بلاد الثلج لبلد يكثر فيه الثلج، والمراد هنا: واد بالشام أو بالطائف كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير. وقيل: كان نمل ذلك المكان كالذئاب والبخاتي، ولذا قال بعضهم: {في وادي النمل}: هو واد يسكنه الجن والنمل مراكبهم، ووقف القراء (¬2) جميعهم على {وَادِ} بدون ياء إتباعًا للرسم، حيث لم يكن الحذف عندهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

للالتقاء الساكنين، كقوله: {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. والمعنى: فهم يسيرون ممنوعًا بعضهم من مفارقة بعض، حتى إذا أتوا على وادٍ النمل، وقطعوه، وبلغوا آخره، وأرادوا النزول. {قَالَتْ نَمْلَةٌ} من نمال الوادي؛ وهي ملكة النملة، وكانت عرجاء ذات جناحين في عظم الديك، أو النعجة، أو الذئب، واسمها منذرة أو طاخية، أو جرمى، سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الإنجيل، أو في بعض الصحف الإلهية، سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان، وخصت بالتسمية لنطقها، وإلا فكيف يتصور أن يكون للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضهم بعضًا، ولا يتميز للآدميين صورة بعضهم من بعض حتى يسمونهم، ولا هم واقعون تحت ملك بني آدم كالخيل والكلاب ونحوهما، كما في كتاب التعريف والأعلام للسهيلي رحمه الله، وهي من الحيونات التي تدخل الجنة. أي: قالت قولًا مشتملًا على حروف وأصوات على وجه النصيحة، وهو جواب {إِذَا}. {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}؛ أي: حجركم {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}؛ أي: لا يكسرنكم من الحطم؛ وهو الكسر. {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يحطمنكم، ولا يعلمون بمكانكم، والجملة الاسمية حال من فاعل {يَحْطِمَنَّكُمْ}؛ أي: والحال (¬1) أنهم لا يشعرون أنهم يحطمونكم؛ إذ لو شعروا لم يفعلوا؛ أي: إن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بأن لا يشعروا، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والأذى إلا على سبيل السهو. وجعل خطاب النمل كخطاب العقلاء؛ لفهمها لذلك الخطاب، وجملة {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} نهي لهم عن الحطم، والمراد: نهيها عن التوقف والتأخر في دخول مساكنهم بحيث يحطمونها، قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان. وقرأ الحسن (¬1) وطلحة بن مصرف ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي وأبو مجلز وأبو رجاء وعاصم الجحدري: {نمُلة} - بضم الميم - على وزن سمرة، وعن سليمان التيمي {نُمُلة} ونمل بضم النون والميم فيهما، وقرأ شهر بن حوشب وأبي بن كعب وأبو المتوكل وعاصم الجحدري {مسكنكم} على الإفراد، وعن أبي {دخلن مساكنكن لا يحطمنكم} مخففة النون التي قبل الكاف. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عُمر الهمداني الكوفي ونوح القاضي: {لا يُحطمنكم} بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون، مضارع حطم المضعف. وقرأ (¬2) أبي بن كعب وأبو رجاء: {ليحطمنكم} بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود {لا يَحْطمكم} بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص وأبان {يَحْطِمَنْكم} بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضًا والطاء خفيفة. وقرأ أبو المتوكل وأبو مجلز: {لا يحطمنكم}: بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعًا، أصله لا يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وعاصم الجحدري: {يحطمنكم} بضم الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون من الإحطام. وفي "القرطبي" (¬3): قال الثعلبي: كان للنملة جناحان، فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها، ولولا ذلك لما علمه. قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أخفت من ظلمي أم علمت أني نبي عدل، فلم قلت لا يحطمنكم سليمان وجنوده؟ فقالت النملة: أما سمعت قولي وهم لا يشعرون، مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) القرطبي.

خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت ويفتتن بالدنيا، ويشتغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر، فلما تكلمت مع سليمان مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له، والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت: حسنة ائتوني بها، فأتوها بها، فحملتها بفيها، وانطلقت تجرها، وأمر الله الريح فحملتها وأقبلت تشق الجن والإنس والأنبياء والعلماء على البساط حتى وقفت بين يديه، فوضعت تلك النبقة من فيها في فيه، وأنشأت تقول: أَلَمْ تَرَنَا نَهْدِيْ إِلَى اللهِ مَالَهُ ... وَإِنْ كَانَ عَنْهُ ذَا غِنًى فَهْوَ قَابِلُهْ وَلَوْ كَانَ يُهْدَى لِلْجَلِيْلِ بِقَدْرِهِ ... لأَقْصَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ يَوْمًا وَسَاحِلُهْ وَلَكِنَّنَا نَهْدِيْ إِلَى مَنْ نُحِبُّهُ ... فَيَرْضَى بِهَا عَنَّا وَيُشْكَرُ فَاعِلُهْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ كَرِيْمِ فِعَالِهِ ... وِإِلَّا فَمَا فِيْ مُلْكِنَا مَا يُشَاكِلُهْ فقال لها: بارك الله فيكم، فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله، والنمل حيوان معروف، شديد الإحساس والشم، حتى أنه يشم الشيء من بعيد، ويدخر قوته، ومن شدة إدراكه أنه يفلق الحبة فلقتين خوفًا من الإنبات، ويفلق حبة الكزبرة أربع فلق؛ لأنها إذا فلقت فلقتين نبتت، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي باقيه عدة. اهـ. وهذه النملة التي تكلمت مع سليمان مؤنثة حقيقة بدليل لحاق علامة التأنيث لفعلها؛ لأن نملة تطلق على الذكر والأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك .. قيل: نملة ذكر، ونملة أنثى، نحو حمامة ويمامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله -: أنه وقف على قتادة، وهو يقول: سلوني، فأمر أبو حنيفة شخصًا أن يسأل قتادة عن نملة سليمان، هل كانت ذكرأ أو أنثى؟ فلم يجب قتادة، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال: كانت أنثى، واستدل على ذلك بلحاق علامة التأنيث بالفعل المسند إليه. اهـ. ورده بعضهم؛ لأنه يصح أن يقال في الذكر: قالت نملة على إرادة الواحدة.

[19]

19 - وقوله: {فَتَبَسَّمَ} سليمان {ضَاحِكًا} أي: شارعًا في الضحك متعجبًا {مِنْ قَوْلِهَا} كلام مفرع (¬1) على محذوف تقديره: فسمع قولها المذكور، فتبسم. وكل (¬2) من التبسم والضحك والقهقهة انفتاح في الفم، لكن الأول انفتاح بلا صوت أصلًا، والثاني انفتاح مع صوت خفيف، والثالث انفتاح مع صوت قوي، اهـ عن "شرح على المواهب" يعني: أنه بالغ في تبسمه حتى بلغ نهايته التي هي أول مراتب الضحك، فهو حال مقدرة، أو مؤكدة على معنى: تبسم متعجبًا من حذرها وتحذيرها، واهتدائها إلى مصالحها ومصالح بني نوعها، فإن ضحك الأنبياء التبسم، والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به يتعجب ويتبسم. قال بعضهم: ضحك سليمان كان ظاهره تعجبًا من قول النملة، وباطنه فرحًا بما أعطاه الله سبحانه من فهم كلام النملة، وسرورًا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أصناف المخلوقات، فإنه لا يسر نبي بأمر الدنيا وإنما كان يسر بما كان من أمر الدين. وقرأ ابن السمقيع: {ضحكا} جعله مصدرًا؛ لأن تبسم بمعنى ضحك، فانتصابه على المصدرية، أو على أنه مصدر في موضع الحال كقراءة {ضَاحِكًا}. {وَقَالَ} سليمان {رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي: ألهمني، وفقني. وقرأ البزي وورش بفتح ياء {أَوْزِعْنِي}. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ} بها {عَلَيَّ} من النبوة والملك والعلم والعدل وفهم كلام الطير ونحوها. {وَ} أنعمت بها {عَلَى وَالِدَيَّ} أي: والدي ووالدتي، وأدرج فيه (¬3) ذكر والديه تكثيرًا للنعمة أو تعميمًا لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما، لا سيما الدينية. اهـ "بيضاوي". قال أهل الكتاب (¬4): وأمه هي زوجة أوريا بوزن قوتلا التي امتحن الله سبحانه بها داود. أي (¬5): وأنعمت بها على والدي داود بن إيشا بالنبوة، وتسبيح الجبال ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي. (¬4) القرطبي. (¬5) روح البيان.

والطير معه وصنعة اللبوس، وإلانة الحديد وغيرها، وعلى والدتي بتشايع بنت اليائن، كانت امرأة أوريا التي امتحن بها داود؛ وهي امرأة مسلمة زاكية طاهرة، وهي التي قالت له: يا بني لا تكثرن النوم بالليل، فإنه يدع الرجل فقيرًا يوم القيامة، كذا في "كشف الأسرار". قال ابن قتيبة (¬1): معنى {أَوْزِعْنِي}: ألهمني، وأصل الإيزاع: الإغراء بالشيء، يقال: أوزعته بكذا؛ أي: أغريته به، وهو موزع بكذا، مولع بكذا. وقال الزجاج: تأويله في اللغة: كفني عن الأشياء، إلا عن شكر نعمتك. والمعنى: كفني عما يباعدني منك. {و} ألهمني {وَأَنْ أَعْمَلَ} عملًا {صَالِحًا} أي: مخلصًا لوجهك {تَرْضَاهُ}؛ أي: تقبله منى قيد العمل الصالح بذلك؛ لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل: إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيْلَ حَظٍّ ... فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوْبُ {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} وفضلك {فِي} زمرة {عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} إبراهيم إسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، كما قاله ابن عباس؛ لأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى، ولا يهم بمعصية؛ أي: أثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم. وقيل: أدخلني الجنة برحمتك؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد إلا بالرحمة والفضل، لا بالعمل مع عبادك الصالحين؛ أي: الكاملين في الصلاح. قال المفسرون: إنما شكر الله عز وجل؛ لأن الريح أبلغت إليه صوتها ففهم ذلك. فإن قيل (¬2): درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، وقد تمنى يوسف عليه السلام ذلك بقوله: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}؟ ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الفتوحات.

[20]

أجيب: بأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله سبحانه، ولا يفعل معصية، ولا يهم بها، وهذه درجة عالية. اهـ "خطيب". وإصلاح الله تعالى (¬1) الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحًا، وتارة بإزالة ما فيه من الفساد، والأول أعز وأندر. 20 - {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} والتفقد: تطلب ما غاب عنك، وتعرف أحواله. والطير: اسم جنس لكل ما يطير، وكانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها؛ أي: تعرف سليمان أحوال الطير، وبحث عنها - فلم ير الهدهد فيما بينها، أي (¬2): نزل سليمان منزلًا، واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه، فطلب الهدهد ليدل على الماء؛ لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده، فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. {فَقَالَ} سليمان {مَا لِيَ}؛ أي: أي شيء ثبت لي حال كوني {لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} وكان رئيس الهداهد، واسمه يعفور، وقيل: عنبر، كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن؛ أي: ما لي لا أراه، هل ذلك لساتر ستره عني، أو لشيء آخر؛ ثم ظهر له أنه غائب، فقال: {أَمْ كَانَ}؛ أي الهدهد {مِنَ الْغَائِبِينَ} أي: من الذين غابوا عني، و {أَمْ} هي المنقطعة التي تقدر ببل وبالهمزة. أي (¬3): بل أكان من الغائبين، كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر، ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: ما لي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. والصحيح (¬4): أن {أَمْ} في هذا الموضع هي المنقطعة؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة كانت أم منقطعة، وهنا تقدم عليها {ما} ففات شرط المتصلة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) البيضاوي. (¬4) البحر المحيط الشوكاني وزاد المسير. (¬5) البحر المحيط الشوكاني وزاد المسير.

وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب هنا وفي يس (1): {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} بفتح الياء، وقرأ حمزة ويعقوب والبزار بإسكانها في الموضعين، وقرأ الباقون بفتح التي في "يس" وإسكان التي هنا. قال أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في "يس" نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان. وخلاصة ذلك: اْغاب عني الهدهد الآن، فلم أره حين تفقدته، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الواجب على الملوك التيقظ في مملكتهم وحسن قيامهم وتكفلهم بأمور رعاياهم، وتفقد أصغر رعيتهم، كما يتفقدون أكبرها بحيث لم يخف عليهم غيبة الأصاغر والأكابر منهم، كما أن سليمان تفقد حال أصغر طير من الطيور، ولم يخف عليه غيبته ساعة، ثم غاية شفقته على الرعية أحال النقص والتقصير إلى نفسه، فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} وما قال: ما للهدهد لم أره؛ لرعاية مصالح الرعية، وتأديبهم، قال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} يعني: من الذين غابوا عني بلا إذني. روي: أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس .. تجهز للحج، فوافى الحرم، وأقام به ما شاء، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة، وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحًا، فوافى صنعاء وقت الزوال، فرأى أرضًا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل بها ليتغذى ويصلي، فلم يجد الماء، فتفقد الهدهد، وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء، فنزل إلى بستان بلقيس، فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، وهدهد اليمن عفير، فقال: عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح، قال يعفور: ومن ملك هذه البلاد؟ قال عفير: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن - لصاحبك ملكًا عظيمًا، ولكن ليس ملك بلقيس دونه،

[21]

فإنها تملك اليمن، وتحت يدها أربع مئة ملك، كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاث مئة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مئة ألف مقاتل، وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها، فما رجع يعفور إلا بعد العصر، 21 - فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء، فلم يعلموا، فتفقد الهدهد فلم يره فدعا عريف الطير؛ وهو النسر، فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان! فغضب سيلمان عند ذلك، وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ}؛ أي: والله لأعذبن الهدهد بسبب غيبته فيما لم آذن فيه، {عَذَابًا شَدِيدًا}؛ أي: عذابًا موجعًا بنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو حيث النمل تأكله، أو جعله مع ضده في قفص، فهذا عذاب الطير، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} بالسكين، ليعتبر به أبناء جنسه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} الهدهد {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة تبين عذره، فلا أذبح ولا أعذب، يشير (¬1) إلى أن حفظ المملكة يكون بكمال السياسة، وكمال العدل، فلا يتجاوز عن جرم المجرمين، ويقبل منهم العذر الواضح بعد البحث عنه، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين على عدم الثالث، فكلمة {أَو} بين الأولين للتخيير، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما. وفيه (¬2): دليل على الإغلاظ على العاصين وعقابهم، وبدأ أولًا بأخف العقابين؛ وهو التعذيب، ثم أتبعه بالأشد؛ وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين؛ لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بـ {أَو}، كأنه قال: ليكونن أحد الثلاثة. ثم دعا العقاب (¬3)؛ وهو أشد الطير طيرانًا، فقال له: على بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء، فالتفت يمينًا وشمالًا، فرأى الهدهد من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه، يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء، فقال: بحق الله الذي قواك، وأقدرك علي، وإلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فتركه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[22]

العقاب، وقال له: ويلك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو يذبحك، فطارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله، وأخبروه بما قال سليمان، فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله؟ فقالوا: بلى إنه قال: أو ليأتيني بلسطان مبين، فقال: نجوت إذًا، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعدًا على كرسيه، فقال: العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. قرأ (¬1) ابن كثير وحده بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية. وقرأ الباقون بنون مشددة فقط؛ وهي نون التوكيد. وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء. وقرأ الجمهور: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} نون مشددة بعدها ياء المتكلم. قال شيخ الإِسلام (¬2): قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} توعد به سليمان الهدهد مع أنه غير مكلف بيانًا لكونه خص بذلك، كما خص بعلم منطقه. اهـ. 22 - {فَمَكَثَ} الهدهد بعد تفقد سليمان إياه مكثًا {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي: غير طويل، أو مكث زمانًا غير مديد، يشير إلى أن الغيبة، وإن كانت موجبة للعذاب الشديد؛ وهو الحرمان من سعادة الحضور ومنافعه، ولكنه من أمارات السعادة سرعة الرجوع، وتدارك الفائت. قرأ الجمهور: {فَمَكَثَ}: بضم الكاف. وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه على القراءتين: أقام زمانًا غير طويل. قال سيبويه: مكث مكوثًا من باب قعد قعودًا. وقيل: إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانًا غير طويل، والأول أولى. وقرأ ابن مسعود: {فتمكث}: بزيادة تاء من باب تفعل. {فَقَالَ} معطوف على محذوف تقديره: فمكث الهدهد غير بعيد، فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذرًا عن ذلك: {أَحَطْتُ} علمًا ومعرفة {بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} علمًا ومعرفة؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن.

علمت من الأمر ما لم تعلمه، ويجوز (¬1) إدغام التاء في الطاء، فقال: {أحط} وإدغام الطاء في التاء، فيقال: أحت. وقيل: هنا محذوفات تقديرها (¬2): فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعًا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه، وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابًا شديدًا، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد، وعفا عنه، ثم سأله، فقال: ما الذي أبطأك عني؛ فقال الهدهد: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}؛ أي: علمت ما لم تعلم أيها الملك، وبلغت إلى ما لم تبلغ. وذلك (¬3) لأنه كان مما لم يشاهده سليمان، ولم يسمع خبره من الجن والإنس يشار إلى سعة كرم الله تعالى ورحمته بأن يختص طائرًا بعلم ما لم يعلمه نبي مرسل، وهذا لا يقدح في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والرسول بأن لا يعلم علمًا غير نافع في النبوة. والحاصل: أن الذي أحاط به الهدهد كان من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة، ولا الغفلة عنها نقيصة؛ لعدم توقف إدراكها إلا على مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم. وفي "القرطبي": فإن قلت: كيف يخفى على سليمان مكانها، وكانت المسافة بينهما قريبة؛ وهو مسيرة ثلاث مراحل بين صنعاء ومأرب؟ فالجواب أن الله عَزَّ وَجَلَّ أخفى ذلك عنه لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. اهـ. وفي "الأسئلة المقحمة": هذا سوء أدب في المخاطبة، فكيف واجهه بمثله، وقد احتمله وعفاه؟ والجواب أنه لا بأس به؛ لأنه عقبه بفائدة، والخشونة المصاحبة بفائدة قد يحتملها الأكابر، انتهى. ثم أشار إلى أنه بصدد إقامة خدمة مهمة له، كما قال: {وَجِئْتُكَ} أيها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

الملك {مِنْ} مدينة {سَبَإٍ} وهي مدينة من اليمن تعرف بمأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وعلى هذا فسبأ غير منصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. وقيل: اسم لحي باليمن، سموا باسم أبيهم الأكبر، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام. قالوا: اسمه عبد الشمس، لقب به لكونه أول من سبى، ثم سميت مدينة مارب بسبأ، وعلى هذا فسبأ مصروف. {بِنَبَإٍ}؛ أي: بخبر خطير {يَقِينٍ}؛ أي: صادق محقق لا شك فيه، يشير إلى أن شرط المخبر أن لا يخبر عن شيء إلا أن يكون متيقنًا فيه لا سيما عند الملوك. وقرأ الجمهور (¬1): {مِنْ سَبَإٍ} - بكسر الهمزة مصروفًا هنا -، وفي قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} على جعله اسمًا لحي، أو الموضع، أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه اسم رجل ولد عشرة من الأولاد، تيامن ستة منهم، وتشاءم أربعة، والستة الذين تيامنوا: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخشعم، وبجيلة، والأربعة الذي تشاءموا: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة غير مصروف فيهما. وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكانها فيهما. وقرأت (¬2) فرقة: {بنبأ} بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: {لسبا} بالألف لتوازن الكلمتين، كما توازنتا في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسور والتنوين. وقرأ الأعمش: {من سبأ} بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية. ويبعد توجيهها، وقرأ ابن كثير في رواية: {من سبًا} بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصورًا مصروفًا. وذكر أبو معاوية أنه قرأ: {من سبْا} بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناء على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب عن اليزيدي {من سبأ} بألف ساكنة، كقولهم: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[23]

تفرقوا أيدي سبأ. قال الزمخشري (¬1): ألهم الله سبحانه الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة، والعلوم الجمة، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به سليمان لتتحاقر إليه نفسه، ويصغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، اهـ. 23 - ولما أبهم الهدهد أولًا، ثم أبهم ثانيًا دون ذلك الإبهام .. صرح بما كان أبهمه، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ} ورأيت {امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}؛ أي: تملك أهل سبأ، وهذه الجملة كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها؛ أي: ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء. وإيثار {وَجَدْتُ} على رأيت؛ لأنه أراه عليه السلام كونه عند غيبته بصدد خدمته بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوال تلك المرأة، كأنها ضالة ليعرضها على سليمان، والضمير في {تَمْلِكُهُمْ} لسبأ على أنه اسم للحي، أو لأهل المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنه اسم لها، يعني أنها تملك الولاية والتصرف عليهم ولم يرد به ملك الرقبة، والمراد بها بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبًا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، ودانت لها الأمة، وكانت هي وقومها يعبدون النار، وكان أبوها يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: قارعة، أو ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس، وتسمى بلقة، وبلقيس - بالكسر -، كما في "القاموس". وذلك يدل على إمكان العلوق بين الإنسي والجني، كما قيل. وذلك لأن الجن وإن كانوا من النار، لكنهم ليسوا بباقين على عنصرهم الناري، كالإنس ليسوا بباقين على عنصرهم الترابي، فيمكن أن يحصل الازدواج ¬

_ (¬1) الكشاف.

بينهما على ما حقق في "آكام المرجان" قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم أنه كان كثير الصيد، فربما اصطاد من الجن وهم على صورة الظباء فيخلىء عنهم، فظهر له ملك الجن، وشكره على ذلك، اتخذه صديقًا فخطب ابنته فزوجه اياها، اهـ "خازن". {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك، من الخيل وعتاد الحرب والسلاح، والسياسية، والهيبة، والمال، والنعيم {وَلَهَا عَرْشٌ}؛ أي: سرير {عَظِيمٌ}؛ أي: كبير؛ أي: بالنسبة إلى حالها، أو إلى عروش أمثالها من الملوك. ووصفه (¬1) بالعظم؛ لأنه كما قيل كان طولها ثمانين ذراعًا في ثمانين ذراعًا، وطوله في الهواء ثمانين ذراعًا، مقدمه من ذهب مفصص بالياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، ومؤخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر، له أربع قوائم قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من زبرجد، وقائمة من در، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبيات لكل بيت باب مغلق، وكان عليه من الفرش ما يليق به. والحال: أنه (¬2) بين في هذه الآية شؤونهم الدنيوية، وذكر منها ثلاثة أمور: 1 - أن ملكتهم امرأة؛ وهي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلهم ملكًا جليل القدر، واسع الملك. 2 - أنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك، وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح، وآلات القتال الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا في الممالك العظمى. 3 - أن لها سريرًا عظيمًا تجلس عليه، مرصعًا بالذهب وأنواع اللآلىء والجواهر، في قصر كبير رفيع الشأن، وفي هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته، ورفعة شأنه بين الممالك. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[24]

24 - وبعد أن بين شؤونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية، فقال: {وَجَدْتُهَا}؛ أي: وجدت تلك المرأة {وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} لا لرب العرش وخالق الكون المحيط بكل شيء علمًا. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: متجاوزين عبادة الله تعالى، قيل: كانوا مجوسًا. {وَزَيَّنَ لَهُمُ}؛ أي: حسن لهم {الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} القبيحة التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي {فَصَدَّهُمْ}؛ أي: صدهم الشيطان بسبب ذلك التزين ومنعهم {عَنِ السَّبِيلِ}؛ أي: عن طريق الحق والصواب، وهو الإيمان بالله وتوحيده {فَهُمْ}؛ أي: تلك المرأة وقومها بسبب صد الشيطان إياهم {لَا يَهْتَدُونَ} إلى ذلك السبيل. والمعنى: أي لقيتها وقومها في ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا رب الشمس وخالق الكون، وزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، فظنوا حسنًا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل؛ وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده. 25 - وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}: مفعول له للصد على حذف اللام منه؛ أي: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله، وهو ذم لهم على ترك السجود، فلذا وجب السجود عند تمام هذه الآيات. قرأ الجمهور: {أَلَّا يَسْجُدُوا} بالتشديد (¬1)، خرجت على أن قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} في موضع نصب على أن يكون بدلًا من قوله: {أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: فزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر على أن يكون بدلًا من {السَّبِيلِ}؛ أي: فصدهم عن أن لا يسجدوا، وعلى هذا التخريج تكون {لا} زائدة؛ أي: فصدهم عن أن يسجدوا لله، فيكون قوله: {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} معترضًا بين المبدل منه والبدل، ويحتمل أن يكون على تقدير اللام على أنه مفعول به لـ {زين}، أو {صدهم}؛ أي: زين لهم أعمالهم لئلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

يسجدوا لله، أو صدهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله. وقيل: العامل في قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} {يَهْتَدُونَ}؛ أي: فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون {لا} على هذا زائدة، كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}. وعلى قراءة الجمهور - أعني التشديد - ليست هذه الآية موضع لسجدة؛ لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود؛ إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصد الزجاج. ورجح الفراء كونه علة لـ {زين}. قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام. وقرأ ابن عباس (¬1) وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن والزهري وقتادة وأبو العالية وحميد الأعرج والأعمش وابن أبي عبلة والكسائي {أَلَّا يَسْجُدُوا} بتخفيف {أَلَّا} على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا فتكون {أَلَّا} على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح، وما بعدها حرف نداء، والمنادى محذوف، واكتفى منه بـ {يا} و {اسجدوا} فعل أمر، ويكون الوقف على قوله: {ألا يا} والابتداء بـ {اسجدوا}. وكان (¬2) حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا {ألا يا اسجدوا}، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا، وهمزة الوصل من {اسجدوا} خطًا، ووصلوا الياء بسين {اسجدوا} فصارت صورة الخط هكذا: {أَلَّا يَسْجُدُوا} والمنادى محذوف، تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا. وقد حذفت (¬3) العرب المنادى كثيرًا من كلامها. ومنه قول الشاعر: أَلَا يَا أسْلَمِيْ يَا دَارَمَيَّ عَلَى الْبِلَى ... وَلاَ زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ وقول الآخر: يَا اسْلَمِيْ يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِيْ بَدْرٍ ... وَإِن كَانَ جَبَانًا عِدَا آخِرُ الدَّهْرِ وقول الآخر: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

فَقَالَت أَلَا يَا اسْمَعْ أعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ... فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطُقِي وَأَصِيْبِيْ وسُمع بعض العرب يقول: ألا يا ارحمونا ألا تَصَدَّقوا علينا. وقال (¬1) أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنف، يعني: ألا يا أيها الناس اسجدوا، وعلى هذه القراءة أعني قراءة التخفيف تكون الآية آية سجدة. قال الزجاج: ولقراءة التخفيف وجه حسن، إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ، ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم. قال النحاس: وعلى هذه القراءة تكون جملة {أَلَّا يَسْجُدُوا} معترضة (¬2) من كلام الهدهد، أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه. والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضًا، لا انقطاع في وسطه. وفي قراءة عبد الله بن مسعود:. {هلا تسجدوا} بالفوقية وبالهاء. وفي قراءة أبي {ألا تسجدوا}: بالفوقية أيضًا. وعن عبد الله: {هلا تسجدون}. وعن أبي {ألا تسجدون}. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬3): من أين للهدهد الهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلتُ: لا يبعد أن يلهمه الله سبحانه، كما ألهم غيره من الطيور، وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فجليه بكتاب "الحيوان" خصوصًا في زمان نبي سخرت له الطيور، وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له، انتهى. وقال الزمخشري أيضًا: فإن قلت أَسَجْدَةُ التلاوة واجبة في قراءتي التشديد والتخفيف جميعًا، أو في واحدة منهما؟ قلتُ: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. انتهى. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني. (¬3) الكشاف.

[26]

وقوله: {الَّذِي}: صفة للجلالة، أو بدل منه، أو عطف بيان له؛ أي: للإله الذي {يُخْرِجُ}؛ أي: يظهر {الْخَبْءَ}؛ أي: الشيء المدخر المستور {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي (¬1): يظهر للناس ما كان مخبؤًا ومخفيًا ومستورًا فيهما كائنًا ما كان، كالثلج والمطر في السموات والنبات، والماء في الأرض. وقيل: خبء الأرض كنوزها ونباتها، والمعنى: يعلم الغيب في السموات والأرض. وقال ابن جرير: {فِي} بمعنى من، فتقديره: يخرج الخبء من السموات والأرض. وقرأ أبي وعيسى بن عمر (¬2): {الخب}: بنقل حركة الهمزة إلى الباء، وحذف الهمزة تخفيفًا. وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة ومالك بن دينار: {الخبا} بالألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها. قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية، ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن. وقرأ الجمهور: {الْخَبْءَ} بسكون الباء والهمزة. وفي قراءة عبد الله: {يخرج الخبء من السماوات والأرض} قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ} في القلوب {وَمَا تُعْلِنُونَ} بالألسنة والجوراح. وذكر {وَمَا تُعْلِنُونَ}؛ لتوسيع دائرة العلم؛ للتنببه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي. وقرأ الجمهور (¬3): بالتحتية في الفعلين. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص عن عاصم والكسائي بالتاء فيهما للخطاب. أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيهما الأمر بالسجود، والخطاب لهم بذلك فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب. والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له، كما يخرج ما خفي في السموات والأرض. 26 - ثم بعدما وصف الرب سبحانه بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته، وجليل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

سلطانه، ووجوب توحيده، وتخصيصه بالعبادة .. قال: {اللَّهُ}: مبتدأ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: الجملة خبره {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}: خبر بعد خبر. قرأ الجمهور (¬1): {الْعَظِيمِ} بالجر نعتًا لـ {الْعَرْشِ}. وقرأ ابن محيصن والضحاك بالرفع نعتًا لـ الرب، وخص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات، كما ثبت ذلك في الحديث المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفه بالعظيم؛ لأنه أعظم ما خلق الله سبحانه من الأجرام، وما سواه في ضمنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف العظيم؟ قلت: بين الوصفين فرق؛ لأن وصف عرشها تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله سبحانه بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق الله من السموات والأرض، فبين العظمين تفاوت عظيم. وقال ابن زيد: من قوله: {أَحَطْتُ} إلى قوله: {الْعَظِيمِ} كلام الهدهد. انتهى. وقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} محل سجود بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن"، يستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها. وحاصل معنى الآيتين: أي (¬2) فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا لله الذي يظهر المخبوء في السموات والأرض، كالمطر والنبات، والمعادن المخبوءة في الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال، كما قال: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره .. ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرًا؛ وهو العرش الذي هو مركز تدبير شؤون العالم هو الخالق به، وهو محتاج إليه، فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} أي: هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو رب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[27]

العرش العظيم، فكل عرش وإن عظم فهو دونه فأفردوه بالطاعة، ولا تشركوا به شيئًا. 27 - ولما ذكر الهدهد (¬1) قصة بلقيس .. لم يتغير سليمان عليه السلام لذلك، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها، كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله سبحانه اغتاظ سليمان، وأخذته حمية الدين، وجعل يبحث عن تحقق ذلك. و {قَالَ}؛ أي: سليمان للهدهد، استئناف بياني، كأنه قيل: فما فعل سليمان بعد فراغ الهدهد من كلامه، فقيل: قال: {سَنَنْظُرُ} فيما أخبرتنا، وسنتعرف في مقالتك بالتجربة من النظر بمعنى التأمل، والسين للتأكيد. {أَصَدَقْتَ} فيما قلت {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيه، هذه الجملة استفهامية في محل نصب على أنه مفعول {سَنَنْظُرُ}، و {أَمْ} هي المتصلة، وقوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أبلغ من قوله: أم كذبت؛ لأن المعنى من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقًا لهم؛ أي: قال له: سنختبر مقالك ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول أم كاذب فيه؛ لنتخلص من الوعيد. وفي هذا (¬2): دلالة على أن خبر الواحد، وهو الحديث الذي يرويه الواحد والاثنان فصاعدًا ما لم يبلغ حد الشهرة والتواتر لا يوجب العلم، فيجب التوقف فيه على حد التجويز، وفيه دليل على أن لا يطرح، بل يجب أن يتعرف هل هو صدق أو كذب، فإن ظهرت أمارات صدقه قبل، وإلا لم يقبل. 28 - فكتب سليمان - أي: في المجلس أو بعده - كتابًا إلى بلقيس، فقال فيه: من عبد الله سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السلام على من أَتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين، ثم طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه المنقوش على فصه اسم الله الأعظم، ودفعه إلى الهدهد فأخذه بمنقاره، أو علقه بخيط، وجعل الخيط في عنقه، وقال: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا}؛ أي: اذهب بهذا الكتاب، فالباء للتعدية، وتخصيصه بالرسالة دون سائر ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

ما تحت ملكه من أبناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف؛ لما عاين فيه من علامات العلم والحكمة وصحة الفراسة، ولئلا يبقى لها عذر. وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أنه لما صدق فيما أخبر، وبذل النصح لملكه، وراعى جانب الحق .. عوض عليه حتى أهل لرسالة رسول الحق على ضعف صورته ومعناه. {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}؛ أي: اطرحه على بلقيس وقومها؛ لأنه ذكرهم معها في قوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا}. وفي "الإرشاد": وجمع الضمير؛ لما أن مضمون الكتاب الكريم دعوة الكل إلى الإِسلام قال الزجاج (¬1): في {أَلْقِهْ} خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء، وإثبات {الواو}، وبحذف {الواو} هو إثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو هو حمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء، وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظًا، وحذفه مع كسر الهاء، وقرأ الباقون إثبات الياء في اللفظ. وفي "الروح" قوله: فالقه بسكون الهاء تخفيفًا لغة صحيحة، أو على نية الوقف يعني: أن أصله {ألقه} بكسر القاف والهاء على أنه ضمير مفعول راجع إلى الكتاب، فسكن لما ذكر. اهـ. {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم بترك وليهم وقربهم، وابتعد إلى مكان تتوارى فيه، وتسمع ما يجيبونه. أمره بالتولي؛ لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع. {فَانْظُرْ}؛ أي: أي تأمل وتعرف {مَاذَا يَرْجِعُونَ}؛ أي: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول. قال ابن الشيخ: {مَاذَا} اسم واحد استفهام منصوب بـ {يَرْجِعُونَ}، أو مبتدأ، و {ذَا} بمعنى الذي، و {يَرْجِعُونَ} صلتها، والعائد محذوف؛ أي: أي شيء الذي يرجعونه؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[29]

وقيل: في (¬1) الآية تقديم وتأخير، تقديرها: فالقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم قول عنهم؛ أي: انصرف إلى. فأخذ الهدهد الكتاب، وأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض مارب من اليمن على ثلاثة مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها، 29 - فألقى الكتاب على نحرها، وتوارى في الكوة، فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت؛ لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فعند ذلك {قَالَتْ} بلقيس لأشراف قومها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاث مئة واثني عشر رجلًا. {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} وهم عظماء قومها، يجمع على أملاء كنبا وأنباء {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}؛ أي: مختوم، وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد، فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم؛ أي (¬2): مكرم علي معظم لدي؛ لكونه مختومًا بخاتم عجيب وأصلًا على نهج غير معتاد، كما قال في "الأسئلة المقحمة": معجزة سليمان كانت في خاتمه، فختم الكتاب بالخاتم الذي فيه ملكه، فأوقع الرعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه إظهارًا لمعجزته، انتهى. ويدل على أن الكريم هنا بمعنى المختوم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كرم الكتاب ختمه". وقيل: معنى {كَرِيمٌ}: مرضي في لفظه ومعانيه، أو {كَرِيمٌ}: شريف؛ لأنه صدر بالبسملة. 30 - وقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} استئناف بياني، كأنه قيل: ممن هو، وماذا مضمونه فقالت: إنه من سليمان؛ أي: إن هذا الكتاب مرسل من سليمان. {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ أي (¬3): وإن ما اشتمل عليه من الكلام، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية، وبعد التسمية 31 - {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ}؛ أي: لا تتكبروا عليَّ كما ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

يفعله جبابرة الملوك. و {أن} هي المفسرة، أو مصدرية، و {لا} ناهية، وقيل: نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من {كِتَابٌ}، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أن لا تعلوا، وهذه (¬1) البسملة ليست بآية تامة مثل {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بخلاف ما وقع في أوائل السور، فإنها آية منفردة نزلت مئة وأربع عشرة مرة، عدد السور، كذا قاله بعضهم. قرأ الجمهور (¬2): {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجر؛ أي: لأنه. وقرأ أبي: {أن من سليمان وأن بسم الله} بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنهما مفسرتان، أو مخففتان من الثقيلة. وقرأ عبد الله بن مسعود: {وإنه من سليمان} بزيادة {الواو} عطفًا على {إِنِّي أُلْقِيَ}. وروى ذلك أيضًا عن أبي. وقرأ أشهب العقيلي وابن السميقع: {أن لا تغلوا} بالغين المعجمة من الغلو؛ وهو تجاوز الحد في الكبر. فإن قلت: لم قدم (¬3) سليمان اسمه على اسم الله سبحانه في قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)}؟. قلت: قدم سليمان اسمه على اسم الله تعالى مع أن المناسب عكسه؛ لأنه عرف أن بلقيس تعرف اسمه دون اسم الله تعالى، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى أول ما يقع نظرها عليه، أو كان اسمه على عنوان الكتاب واسم الله تعالى في باطنه. {وَأْتُونِي} حال كونكم {مُسْلِمِينَ}؛ أي: منقادين للدين مؤمنين بما جئت به، فإن الإيمان لا يستلزم الإِسلام والانقياد، دون العكس. وهذا (¬4) الكلام كان في غاية الإيجاز مع كمال الدلالة على المقصود؛ لاشتماله على البسملة الدالة على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) البيضاوي. (¬4) البحر المحيط.

ذات الصانع وصفاته صريحًا، أو التزامًا، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل، والأمر بالإِسلام الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته، حتى يكون استدعاء للتقليد، فإن إلقاء الكاتب إليها على تلك الحالة من أعظم الأدلة. وروي (¬1): أنه لم يكتب أحد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قبل سليمان عليه السلام، والظاهر أن الكاتب هو ما نص الله عليه فقط، واحتمل أن يكون مكتوبًا بالعربي؛ إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي، واللفظ العربي؛ لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري، واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها؛ إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. ونص هذا الكتاب مع وَجازَيه يدل على أمور: 1 - إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته، وكونه رحمانًا رحيمًا. 2 - نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق. 3 - أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين. وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه في الدين والدنيا. الإعراب {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)} {طس} قد تقدم إعراب هذه الكلمة، وتقدم لنا أن القول الأسلم في معنى هذه الكلمة تفويض علمها إلى الله سبحانه، وعلى هذا القول ليس لهذه الكلمة محل من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى {تِلْكَ}: مبتدأ. {آيَاتُ} ¬

_ (¬1) روح البيان.

الْقُرْآنِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {وَكِتَابٍ}: معطوف على {الْقُرْآنِ}. {مُبِينٍ}: صفة لـ {كِتَابٍ}. {هُدًى وَبُشْرَى}: حالان من {آيَاتُ}، والعامل فيها ما في {تِلْكَ} من معنى الإشارة؛ أي: هادية ومبشرة، ويجوز فيهما الرفع على أنهما خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هي هدى وبشرى، ومعنى هداها للمؤمنين، وهم مهديون، زيادتها في هداهم. {لِلْمُؤْمِنِينَ}: تنازع فيه كل من {هُدًى وَبُشْرَى}. {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر صفة لـ {المؤمِنين}، ويجوز قطعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين. {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {يُقِيمُونَ}. {وَهُم}: {الواو}: حالية، أو عاطفة. {هُمْ}: مبتدأ، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُوقِنُونَ}. {هُمْ}: تأكيد لفظي للمبتدأ، ولما فصل بين المبتدأ والخبر بالمتعلق الذي هو {بِالْآخِرَةِ} .. أعيد المبتدأ ثانيًا؛ ليتصل بخبره في الصورة، وجملة {يُوقِنُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {وَيُؤْتُونَ}، أو معطوفة على جملة الصلة. {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ} {زَيَّنَّا}: فعل وفاعل، {لَهُمْ}: متعلق به. {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، والجملة مستأنفة، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {هم} مبتدأ، وجملة {يَعْمَهُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على جملة {زَيَّنَّا}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {سُوءُ الْعَذَابِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. {وَهُمْ}: مبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {الْأَخْسَرُونَ}. {هُمْ}: تأكيد للمبتدأ. {الْأَخْسَرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة الصلة {وَإِنَّكَ} {الواو}: استئنافية. {إنك}: ناصب واسمه. {لَتُلَقَّى}:

{اللام}: حرف ابتداء، تلقى: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد. {الْقُرْآنَ} مفعول ثان {لَتُلَقَّى} {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تُلَقَّى}. {عَلِيمٍ}: صفة {حَكِيمٍ}، وجملة {تلقى} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)} {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى، والجملة المحذوفة مستأنفة. {قَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل. {لِأَهْلِهِ}: متعلق بـ {قَالَ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {آنَسْتُ نَارًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {سَآتِيكُمْ} {السين}: حرف تنفيس واستقبال، {آتِيكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {مِنْهَا}: جار ومجرور حال من خبر؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {بِخَبَرٍ}: متعلق بـ {آتِيكُمْ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مستأنفة، {أَوْ}: حرف عطف وتنويع، وهي مانعة خلو. {آتِيكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آتِيكُمْ} الأول. {بِشِهَابٍ}: متعلق بـ {آتِيكُمْ}. {قَبَسٍ}: بدل من {بِشِهَابٍ}، أو نعت له على تأويله بمشتق؛ أي: شهاب مقتبس؛ أي: مأخوذ من نار. {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَصْطَلُونَ} في محل الرفع خبر {لَعَلَّ}، وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لما قبلها. {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق تقديره: فذهب موسى من عند أهله، فلما جاءها نودي. {لَمَّا} اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. {جَاءَهَا}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر

يعود على {مُوسَى}، والجملة فعل شرط ومحلها الجر بالإضافة لـ {لَمَّا}. {نُودِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مُوسَى} والجملة جواب {لَمَّا} وجملة لما معطوفة على تلك المحذوفة. {أَن}: مفسرة بمعنى أي؛ لأن في النداء معنى القول دون حروفه، والمعنى: قيل له بورك، ويجوز أن تكون مصدرية، ودخلت هنا على الماضي، أو مخففة من الثقيلة، و {أَنْ} ما بعدها {بُورِكَ} في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: بأن بورك. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل لـ {بُورِكَ}. {فِي النَّارِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة {مَنْ} والموصولة؛ أي: استقر في مكان النار، وجملة {بُورِكَ} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، و {مَنْ} الثانية: معطوفة على {مَن} الأولى. {حَوْلَهَا}: ظرف صلة {مَنْ} الثانية. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}: {الواو}: استئنافية. {وَسُبْحَانَ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا. {اللَّهِ}: مضاف إليه. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: بدل منه، أو نعت له، والجملة المحذوفة مستأنفة، وهي من جلمة لمّا نودي. {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}. {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه والهاء: إما ضمير الشأن، أو عائدة إلى ما دل عليه ما قبلها، يعني إن مكلمك. {أَنَا}: مبتدأ. {اللَّهُ}: خبره، والجملة في محل الرفع خبر {إن}. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: صفتان للجلالة. {وَأَلْقِ}: {الواو}: عاطفة. {أَلْقِ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}. {عَصَاكَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على {بُورِكَ} لأن المعنى: نودي أن بورك من النار وأن ألق عصاك، وهذا مما يرجح كون {أن} مفسرة. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فألقاها فاستحالت حية فلما رآها. {لما}: اسم شرط غير جازم. في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان {رَآهَا}: فعل وفاعل مستتر

ومفعول به، و {رأى} هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. {تَهْتَزُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على العصا، والجملة في محل النصب حال من مفعول رآها. {كَأَنَّهَا}: ناصب واسمه. {جَانٌّ} خبره، وجملة كان في محل النصب حال ثانية من ضمير {رَءَاهَا} أو هي حال من ضمير {تَهْتَزُّ} فتكون حالًا متداخلة. {وَلَّى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}. {مُدْبِرًا}: حال من فاعل {وَلَّى} والجملة الفعلية جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَلَمْ}: {الواو}: عاطفة. {لَمْ}: حرف جزم. {يُعَقِّبْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة معطوفة على جملة {وَلَّى}. {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قال الله سبحانه يا موسى. {لَا}: ناهية جازمة. {تَخَفْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {لَا}: نافية. {يَخَافُ}: فعل مضارع. {لَدَيَّ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَخَافُ}. {الْمُرْسَلُونَ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها معللة لما قبلها {إِلَّا}: أداة استثناء بمعنى لكن؛ لأن الاستثناء منقطع. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. {ظَلَمَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {ثُمَّ}: حرف عطف. {بَدَّلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر. {حُسْنًا}: مفعول به. {بَعْدَ سُوءٍ}: ظرف ومضاف إليه صفة لـ {حُسْنًا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {ظَلَمَ}. {فَإِنِّي}: {الفاء}: تعليلية، {إِنِّي}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ رَحِيمٌ}: خبر أول لها. {رَحِيمٌ} خبر ثان لها، والجملة في محل النصب مقول القول المحذوف على كونها معلل للاستثناء. {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}

{وَأَدْخِلْ}: {الواو}: عاطفة. {أَدْخِلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}. {يَدَكَ}: مفعول به ومضاف إليه. {فِي جَيْبِكَ}: متعلق بـ {أَدْخِلْ} والجملة معطوفة على جملة {أَلْقِ}، {تَخْرُجْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على {يَدَكَ}. {بَيْضَاءَ}: حال من فاعل {تَخْرُجْ}. {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة {بَيْضَاءَ}، أو حال أخرى من فاعل {تَخْرُجْ}. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال أخرى من فاعل {تَخْرُجْ}؛ أي: حالة كونها آية مندرجة في جملة الآيات التسع {إِلَى فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {أدخل}؛ أي: أدخل يدك في جيبك حال كونك مرسلًا بها إلى فرعون. {وَقَوْمِهِ}: معطوف على {فِرْعَوْنَ}. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {كَانُوا قَوْمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {فَاسِقِينَ}: صفة {قَوْمًا} وجملة {كَان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالذهاب. {فَلَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنا بعثناه إلى فرعون وقومه في تسع آيات، وأردت بيان حالهم حين جاءهم موسى ... فأقول لك. {لَمَّا جَاءَتْهُمْ}: {لَمَّا} اسم شرط. {جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا}: فعل ومفعول به وفاعل. {مُبْصِرَةً}: حال من {آيَاتُنَا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هَذَا سِحْرٌ}: مبتدأ وخبر. {مُبِينٌ}: صفة {سِحْرٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُ}. {وَجَحَدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا}. {بِهَا}: متعلق بـ {جَحَدُوا}. {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} {الواو}: حالية. {استيقنتها}: فعل ومفعول به. {أَنْفُسُهُمْ}: فاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {جَحَدُوا} ولكنها على تقدير قد. {ظُلْمًا}: مفعول لأجله لـ {جَحَدُوا}، أو حال من فاعل {جَحَدُوا}؛ أي: ظالمين ومستكبرين. {وَعُلُوًّا}: معطوف على {ظُلْمًا}. {فَانْظُرْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت جحدهم بآيات الله سبحانه، وأردت بيان ما هو اللائق بك .. فأقول لك انظر وفكر واعجب. {انْظُرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على

محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {كَيْفَ}: اسم استفهام التعجبي في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليه وجوبًا {كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}: فعل واسمه ومضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب مفعول به لـ {فانْظُرْ} معلقة عنها باسم الاستفهام. وعبارة "السمين": والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنها معلقة لـ {انظر} بمعنى: تفكر. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} {وَلَقَدْ}: {الواو}: اسئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا دَاوُودَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {وَسُلَيْمَانَ}: معطوف على {دَاوُودَ}. {عِلْمًا}: مفعول ثان لـ {آتَيْنَا}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَقَالَا}: {الواو}: عاطف على محذوف تقديره: فعملا بما أعطياه بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة، وعملا به باللسان، وقالا الحمد لله، والجملة المحذوفة معطوفة على {آتَيْنَا}. {قَالَا}: فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة. {الْحَمْدُ}: مبتدأ. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَا}. {الَّذِي} صفة للجلالة. {فَضَّلَنَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {عَلَى كَثِير}: متعلق بـ {فَضَّلَنَا}. {مِنْ عِبَادِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {كَثِيرٍ}. {الْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {عِبَادِهِ}. {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. {وَقَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ} معطوف على {وَرِثَ}. {يَا أَيُّهَا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {النَّاسُ}: بدل من {أي} وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {عُلِّمْنَا}: فعل ونائب فاعل. {مَنْطِقَ الطَّيْرِ}: مفعول ثان لـ {عُلِّمْنَا}، والجملة في

محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أُوتِينَا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {عُلِّمْنَا}. {مِنْ}: زائدة، أو تبعيضية. {كُلِّ شَيْءٍ} مفعول ثان لـ {أُوتِينَا}. {إِنَّ هَذَا}: ناصب واسمه. {لَهُوَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {هُوَ}: ضمير فصل. {الْفَضْلُ} خبر {إِنَّ}. {الْمُبِينُ}: صفة {الْفَضْلُ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}. {وَحُشِرَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة. {لِسُلَيْمَانَ}: متعلق به. {جُنُودُهُ}: نائب فاعل لـ {وَحُشِرَ}، والجملة مستأنفة. {مِنَ الْجِنِّ}: حال من {جُنُودُهُ}. {وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ}: معطوفان على {الْجِنِّ}. {فَهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حشر جنوده، وأردت بيان حالهم عند الحشر .. فأقول لك هم. {هم}: مبتدأ. {يُوزَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية لمحذوف تقديره: فساروا حتى إذا أتوا. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَتَوْا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {عَلَى}: حرف جر. {وَادِ}: مجرور بـ {عَلَى}، وحذفت الياء في الخط تبعًا للفظ. {النَّمْلِ}: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بـ {أَتَوْا}. {قَالَتْ نَمْلَةٌ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} الشرطية في محل الخفض بـ {حَتَّى} الجارة تقديره: فساروا إلى قول النملة وقت إتيانهم وادي النمل. {يَا أَيُّهَا}: {يا} حرف نداء {أَيّ}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه. {النَّمْلُ}: بدل من {أَي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به على السعة، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها جواب

النداء. {لَا} ناهية جازمة. {يَحْطِمَنَّكُمْ}: فعل مضارع، ونون توكيد ثقيلة، ومفعول به في محل الجزم بـ {لَا} الناهية مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {سُلَيْمَانُ}: فاعل. {وَجُنُودُهُ}: معطوف عليه، والجلمة في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها مستأنفة؛ لأنها لا تعلق لها بما قبلها. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}. {فَتَبَسَّمَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فسمع قولها فتبسم {تَبَسَّمَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}. {ضَاحِكًا} حال مؤكدة من فاعل {تَبَسَّمَ}، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {مِنْ قَوْلِهَا}: متعلق بـ {ضَاحِكًا}. {وَقَالَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {تَبَسَّمَ}. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوْزِعْنِي}: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به ونون وقاية، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {أَشْكُرَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، وفاعله ضمير مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}. {نِعْمَتَكَ}: مفعول به ومضاف إليه. {الَّتِي}: صفة لـ {نِعْمَتَكَ}، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {أَوْزِعْنِي}؛ لأنه بمعنى: ألهمني، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: رب أوزعني شكر نعمتك. {أَنْعَمْتَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أنعمتها. {عَلَيَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمْتَ}. {وَعَلَى وَالِدَيَّ}: معطوف على قوله: {عَلَيَّ}. {وَأَنْ أَعْمَلَ}: ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على {أَنْ أَشْكُرَ}. {صَالِحًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق. {تَرْضَاهُ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صفة {صَالِحًا}. {وَأَدْخِلْنِي}: {الواو}: عاطفة {أَدْخِلْنِي} فعل دعاء ونون وقاية وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {أَوْزِعْنِي}. {بِرَحْمَتِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَدْخِلْنِي}، والباء سببية، أو بمحذوف حال من مفعول {أَدْخِلْنِي}؛ أي: حالة كوني متلبسًا برحمتك. {فِي عِبَادِكَ}: متعلق بـ {أَدْخِلْنِي} أيضًا. {الصَّالِحِينَ}: نعت لـ {عِبَادِكَ}.

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}. {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء مسيره الذي كان فيه قصة النمل. {فَقَالَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {تَفَقَّدَ}. {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون. {لي}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَا}: نافية. {أَرَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {الْهُدْهُدَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من ياء المتكلم. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على {الْهُدْهُدَ}. {الْغَائِبِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. وفي "الفتوحات": قوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}: {أَمْ}: منقطعة، كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى}، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. اهـ. "بيضاوي". وعلى هذا فتقدر ببل والهمزة، أو ببل وحدها، أو بالهمزة وحدها، اهـ. {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}. {لَأُعَذِّبَنَّهُ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أُعَذِّبَنّ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد القيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، و {الهاء}: مفعول به {عَذَابًا} مفعول مطلق. {شَدِيدًا}: صفة له، والجملة جواب القسم. {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بالنون، وفاعله ضمير يعود على {سُلَيْمَانُ}، و {الهاء}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {لَأُعَذِّبَنَّهُ}. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} {أَوْ}: حرف عطف، و {اللام}: حرف موطئة للقسم. {يَأْتِيَنِّي}: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على {الْهُدْهُدَ}، ونون الوقاية حرف لا محل لها من الإعراب؛ لأن أصله: لياتينني بثلاث نونات، و {الياء}: مفعول به. {بِسُلْطَانٍ}: متعلق بـ {يَأْتِيَنِّي}.

{مُبِينٍ}: صفة {سُلْطَانٍ}، والجملة معطونة على جملة {لَأُعَذِّبَنَّهُ}. {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}. {فَمَكَثَ}: {الفاء}: استئنافية، {مَكَثَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {غَيْرَ بَعِيدٍ}: منصوب على الظرفية الزمانية؛ أي: زمانًا غير بعيد، أو على المكانية؛ أي: مكانًا غير بعيد. {فَقَالَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {الْهُدْهُدَ}، معطوف على {مَكَثَ}. {أَحَطْتُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {بِمَا}: متعلق بـ {أَحَطْتُ}. {لَمْ}: حرف جزم. {تُحِطْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ} مجزوم بـ {لَمْ}. {بِهِ}: متعلق بـ {تُحِطْ}، والجملة صلة الموصول. {وَجِئْتُكَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَحَطْتُ}. {مِنْ سَبَإٍ}: متعلق بمحذوف حال من {نَبَأ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {بِنَبَإٍ}: متعلق بـ {جِئْتُكَ}. {يَقِينٍ} صفة {نباء}. {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {وَجَدْتُ امْرَأَةً} فعل وفاعل ومفعول به، ووجد هنا يتعدى لمفعول واحد؛ لأنه من وجدان الضالة، والجملة في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {تَمْلِكُهُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {امْرَأَةً}، ومفعول به، والجملة صفة لـ {امْرَأَةً}. {وَأُوتِيَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {امْرَأَةً} والجملة معطوفة على جملة {تَمْلِكُهُمْ}. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُوتِيَتْ}. {وَلَهَا}: خبر مقدم. {عَرْشٌ}: مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ}: صفة لـ {عَرْشٌ}، والجملة في محل النصب حال من نائب فاعل {أوتيت}. {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} {وَجَدْتُهَا}: فعل وفاعل ومفعول به {وَقَوْمَهَا}: معطوف على الهاء، أو مفعول معه، والجملة الفعلية بدل من جملة قوله: {وَجَدْتُ امْرَأَةً}، فهي داخلة في

حيز خبر {إنَّ}، ووجد يتعدى لواحد، كما مر آنفًا؛ لأنه بمعنى لقيتها. {يَسْجُدُونَ}: فعل وفاعل. {لِلشَّمْسِ}: متعلق به. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {يَسْجُدُونَ}؛ أي: مجاوزين الله، وجملة {يَسْجُدُونَ}: في محل النصب حال من مفعول {وَجَدْتُ} وما عطف عليه. {وَزَيَّنَ}: {الواو}: عاطفة. {زَيَّنَ}: فعل ماض. {لَهُمُ}: متعلق به. {الشَّيْطَانُ}: فاعل: {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {يَسْجُدُونَ}. {فَصَدَّهُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {صَدَّهُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانُ}، والجملة معطوفة على جملة {زَيَّنَ}. {عَنِ السَّبِيلِ}: متعلق بـ {صَدَّهُمْ}. {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَهْتَدُونَ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {فَصَدَّهُمْ}. {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} {أَلَّا}: {أن}: حرف نصب ومصدر مبني بسكون على النون المدغمة في لام {لا}، وحذفت في الخط اتباعًا لرسم المصحف العثماني، {لا}: زائدة. {يَسْجُدُوا}: فعل وفاعل منصوب بحذف النون، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يَهْتَدُونَ}، لكن بنزع الخافض، وهو إلى. والمعنى: فهم لا يهتدون إلى السجود، وعلى هذا الإعراب لا يصح الوقف على {يَهْتَدُونَ}. ويجوز أن يكون المصدر بدلًا من {أَعْمَالَهُمْ}، و {لَا}: نافية حينئذ، والتقدير: وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود، ويجوز أن يكون بدلًا من {السَّبِيلِ}، و {لا}: زائدة، وفيه أوجه آخر كما أشرنا إليها في مبحث التفسير. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَسْجُدُوا}. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {يُخْرِجُ الْخَبْءَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {يُخْرِجُ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَيَعْلَمُ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {يُخْرِجُ}. {مَا}: مفعول {يَعْلَمُ}، وجملة {تُخْفُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: ما تخفونه.

{وَمَا تُعْلِنُونَ}: معطوف على {مَا تُخْفُونَ}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {رَبُّ الْعَرْشِ}: خبر ثان للجلالة. {الْعَظِيمِ}: بالجر صفة لـ {الْعَرْشِ}، وبالرفع صفة لـ {رَبُّ}. {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {سَنَنْظُرُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَصَدَقْتَ}: {الهمزة}: فيه للاستفهام، {صَدَقْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول {نَنْظُر} معلق عنها بهمزة الاستفهام. {أَمْ}: متصلة معادلة للهمزة. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْكَاذِبِينَ}: خبر {كان}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {صَدَقْتَ}. {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا}: قبله محذوف تقديره: ثم كتب سليمان كتابًا، فقال اذهب بكتابي هذا. {اذْهَبْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {الْهُدْهُدَ}. {بِكِتَابِي}: متعلق به. {هَذَا} صفة لـ {كِتَابِي}، أو بدل منه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف، كما قدرنا. {فَأَلْقِهْ} {الفاء}: عاطفة، {أَلْقِهْ}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اذْهَبْ}، {ثُمَّ}: حرف عطف. {تَوَلَّ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {أَلْقِ}. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {تَوَلَّ}، أو بمحذوف حال من فاعل {تَوَلَّ}؛ أي: متجاوزًا إياهم إلى مكان قريب تتوارى فيه {فَانْظُرْ}: {الفاء}: عاطفة، {انْظُرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {تَوَلَّ}. {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم لـ {يَرْجِعُونَ}. {يَرْجِعُونَ}: فعل وفاعل؛ أي: أي شيء يرجعون؟، أو {ما}: اسم استفهام مبتدأ {ذَا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبره، وجملة {يَرْجِعُونَ}: صلة {ذَا}، والعائد محذوف تقديره: أي شيء الذي يرجعونه؛ وعلى كلا التقديرين، فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل، وهو {انْظُرْ} بالاستفهام، فمحلها

النصب على نزع الخافض؛ أي: ثم انظر في أي شيء يرجعونه. {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. {يَا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة، {هَا}: حرف تنبيه زائد. {الْمَلَأُ}: صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أُلْقِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {إِلَيَّ}: متعلق به. {كِتَابٌ}: نائب فاعل. {كَرِيمٌ}: صفة لـ {كِتَابٌ}، وجملة {أُلْقِيَ} في محل الرفع خبر {إِنِّ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها جواب النداء. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {مِنْ سُلَيْمَانَ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر، كأنهم قالوا: ممن هو وما هي منطوياته. {وَإِنَّهُ}: {الواو}: عاطفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة البسملة خبرها، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {أَلَّا}: {أن}: مفسرة. {لَّا}: ناهية. {تَعْلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {عَلَيَّ}: متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة لـ {كِتَابٌ}؛ لتضمنه معنى القول دون حروفه؛ أي: ألقي إلى أن لا تعلوا علي. ويجوز أن تكون {أن} مصدرية ناصبة للفعل، و {لَّا}: نافية، و {أن} وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من {كِتَابٌ}، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مضمونه أن لا تعلوا، أو في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: بأن لا تعلوا. {وَأْتُونِي}: {الواو}: عاطفة. {وَأْتُونِي}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: مفعول به. {مُسْلِمِينَ}: حال من فاعل {وَأْتُونِي}. التصريف ومفردات اللغة {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}: هما مصدران أقيما مقام الفاعل للمبالغة، كأنهما نفس الهدى والبشارة.

{فَهُمْ يَعْمَهُونَ}؛ أي: يترددون ويتحيرون في أودية الضلال من العمه، وهو التردد في الأمر من التحير؛ أي: يترددون بين تركها؛ لأنها واضحة البطلان، ظاهر السوء، وبين الاستمرار عليها. وقيل: معنى {يَعْمَهُونَ}: يستمرون من غير تردد؛ إذ لم يدر في خلدهم لحظة الإقلاع عنها. ويقال في تصريفه: عمه يعمه - من باب ضرب وفتح - عمهًا وعموهًا وعموهية وعمهانًا إذا تحير في طريقه أو أره، وتردد في الضلال فهو عمه، وجمعه عمهون وعامه، وجمعه عامهون وعمه. {سُوءُ الْعَذَابِ} والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه. {الْأَخْسَرُونَ} أي: أشد الناس خسرانًا لحرمانهم الثواب، واستمرارهم في العذاب. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ}؛ أي: لتلقن وتعطي، يقال: تلقى الكلام من فلان ولقنه إذا أخذه من لفظه وفهمه. وعبارة "القرطبي": أي: يلقى إليك فتتلقاه، وتعلمه وتأخذه من لدن حكيم عليم. وفي "السمين": لقي مخففًا يتعدى لواحد، ومضعفًا يتعدى لاثنين، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل، والثاني: {الْقُرْآنَ}. اهـ. {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي: أبصرت إبصارًا حصل لي به أنس، يقال: آنست نارًا، وآنست فزعًا، وآنست منه رشدًا، فهو يطلق على المادي والمعنوي. {بِخَبَرٍ} أي: عن الطريق وحاله. {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ}؛ أي: بشعلة نار قبس؛ أي: بقطعة من النار مقبوسة، ومأخوذة من أصلها. يقرأ بإضافة {بِشِهَابٍ} إلى {قَبَسٍ}، فالإضافة فيه للبيان؛ لأن الشهاب يكون قبسًا وغيره، كالكوكب فهو من إضافة النوع إلى جنسه، كخاتم حديد وثوب خز، وهي بمعنى من؛ أي: شهاب من قبس، ويقرأ بتنوين {شِهَابٍ}، فـ {قَبَسٍ} على هذا بدل منه، أو نعت له على تأويله بالمفعول؛ أي: شهاب مقتبس؛ أي: مأخوذ من نار، فالشهاب الشعلة، والقبسس النار. والشهاب في الأصل كل مضيء متولد من النار، وما يرى كأنه كوكب انقض، والكوكب عمومًا، والسنان لما فيه من البريق، وجمعه شهب وشُهبان وشِهبان وأشهب، ويقال: فلان شهاب حرب إذا كان ماضيًا فيها،

والقَبَس - بفتحتين -: النار المقبوسة. تقول: خذ لي قبسًا من النار ومقبسًا ومقباسًا، واقبس لي نارًا واقتبس، ومنه: ما أنت إلا كالقابس العجلان؛ أي: المقتبس، وما زورتك إلا كقبسة العجلان. وتقول: ما أنا إلا قبسة من نارك وقبضة من آثارك، وقبسته نارًا وأقبسته، كقولك بغيته الشيء وأبغيته، ومن المجاز قبسته علمًا وخبرًا وأقبسته. وفي "المفردات": الشهاب: الشعلة الساطعة من النار المتوقدة، والقبس: المتناول من الشعلة، والاقتباس، ثم استعير لطلب العلم والهداية. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}: فيه الإبدال من تاء الافتعال؛ لأن أصله تصتلون، فقلبت التاء طاء لوقوعها بعد حرف الإطباق، وهو الصاد على القاعدة التصريفية، وهو من صلي بالنار - بكسر اللام - من باب تعب. وفي "المصباح": صلى بالنار وصليها صلى - من باب تعب -: وجد حرها، والصلاء - بوزن كتاب - حر النار، والنار العظيمة، وصليت اللحم أصليه - من باب رمى - شويته. وفي "الأساس": وصلي النار وصلى بها يصلى النار الكبرى وتصلاها وتصلى بها، وأصلاه وصلاه، وشاة مصلية: مشوية، وقد صليتها. ومعنى {تَصْطَلُونَ}: تستدفئون بها. قال الشاعر: النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ فَمَنْ يُرِدْ ... أَكْلَ الْفَوَاكِهِ شَاتِيًا فَلْيَصْطَلِ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجان: حية صغيرة سريعة الحركة، هذا بالنظر إلى أصل معناها، وإلا فجثتها كانت كبيرة جدًّا. وفي "القاموس" و"التاج": والجان: اسم جمع للجن، وحية أكحل العين لا تؤذي كثيره في الدور. {وَلَّى مُدْبِرًا} قال: ولى عنها: أعرض عنها، وأدبر عنها: جعلها تلي ظهره. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يعطف ولم ينتظر من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر. قال الشاعر: فَمَا عَقبُوْا إِذْ قِيْلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلَا نَزَلَوُا يَوْمَ الْكَرِيْهَةِ مَنْزِلاَ يصف قومًا بالجبن، وأنهم إن قيل لهم: هل من معقب وراجع على عقبه

للحرب لم يرجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلًا من منازلها. {فِي جَيْبِكَ}؛ أي: طوق قميصك، وسمي جيبك؛ لأنه يجاب؛ أي: يقطع ليدخل فيه الرأس. {جَحَدُوا بِهَا} أي: كذبوها. {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: علمت علمًا يقينيًا أنها من عند الله، والجحود: إنكار الشيء بعد المعرفة والإيقان تعنتًا، وأريد هنا التكذيب؛ لئلا يلزم استدراك قوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}. {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}؛ أي: قام مقامه في النبوة والملك. {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}؛ أي: أعطينا فهم ما يريده كل طائر إذا صوت. والمنطق: مصدر ميمي لنطق ينطق - من باب ضرب - نطقًا ومنطقًا ونطوقًا؛ أي: تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، والمنطق: الكلام، وقد يستعمل في غير الإنسان. يقال: سمعت منطق الطير. وقال البيضاوي: والنطق والمنطق في المتعارف: كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردًا كان أو مركبًا، مفيدًا كان أو غير مفيد، وقد يطلق على ما يصوت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة إذا صوتت، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، وعلم المنطق: هو علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده، فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء. والطير جمع طائر، كريب وراكب، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء ويجري، وكان سليمان يعرف نطق غير الطير أيضًا، كما يجيء من قصة النمل، لكنه أدرج هذا في قوله {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وخص منطق الطير؛ لشرف الطير على سائر الحيوان. {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} الحشر: إخراج الجماعة من مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يحبس أولهم ليلحق آخرهم، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وفي "المختار": وزعه يزعه وزعًا مثل وضعه يضعه وضعًا؛ أي: كله فانتزع هو؛ أي: كف، وأوزعه بالشيء أغراه به، واستوزعت الله

شكره، فأوزعني؛ أي: استلهمته، فالهمني. والوازع: الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر، وجمعه وزعة. وقال الحسن: لا بد للناس من وازع؛ أي: سلطان يكفهم. يقال: وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم. {قَالَتْ نَمْلَةٌ} النَمل والنُمل - بضم الميم - حيوان حريص على جمع الغذاء، يتخذ قرى تحت الأرض، فيها منازل ودهاليز، وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبًا وذخائر للشتاء. الواحدة: نملة، ونملة للذكر والأنثى. والجمع: نمال كرملة ورمال. وفي "الروح": ونملة مؤنث حقيقي بدليل لحوق علامة التأنيث فعلها؛ لأن نملة تطلق على الذكر والأنثى، فإذا أريد تمييزها احتيج إلى مميز خارجي، نحو نملة ذكر، ونملة أنثى، وكذلك لفظة حمامة ويمامة من المؤنثات اللفظية. اهـ {وَادِ النَّمْلِ} والوادي: الموضع الذي يسيل فيه الماء، والنمل معروف، الواحدة: نملة، سميت نملة لتنملها؛ وهي كثرة حركتها وقلة قوائمها، ومعنى وادي النمل: واد يكثر فيه النمل، والمراد: واد بالشام أو بالطائف كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير. {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} أي: لا يكسرنكم ويهشمنكم سليمان وجنوده. وفي "المختار": حطمه من باب ضرب؛ أي: كسره فانحطم وتحطم، والتحطيم: التكسير، والحطام: ما تكسر من اليبس. اهـ.، وسمي حجر الكعبة الحطيم؛ لأنه كسر منها. {أَوْزِعْنِي} ألهمني، وحقيقته: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرًا لك، وقد تقدم شرح هذه المادة قريبًا. {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} قال في "القاموس": تفقده طلبه عن غيبة. وفي "كشف الأسرار": التفقد: طلب المفقود، وإنما قيل له التفقد؛ لأن طالب الشيء درك بعضه ويفقد بعضه. في المفردات: التفقد التعهد، لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان

الشيء، والتعهد: تعرف العهد المقدم، والطير: اسم جامع للجنس كما في "الوسيط". {الْهُدْهُدَ} - بضمتين مع سكون الدال - والهُدَهِد - بضم ففتح فكسر - والهداهد: طائر ذو خطوط وألوان كثيرة، الواحدة: هدهدة بضمتين بينهما سكون، وهدهدة بضم ففتح فكسر، وهداهدة، والجمع: هداهد وهداهيد. ويقولون: هو أبصر من هدهد؛ لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض، وفي "حياة الحيوان": الهدهد: منتن الريح طبعًا؛ لأنه يبني أفحوصه في الزبل. وهذا عام في جنسه وإن بخر المجنون بعرف الهدهد أبرأه ولحمه إذا بخر به معقود عن المرأة، أو مسحور أبرأه. وفي "الفتاوى الزينية": سئل عن أكل الهدهد أيجوز أم لا؛ أجاب نعم يجوز. انتهى. {عَذَابًا شَدِيدًا}: الإيجاع الشديد، وعذبه تعذيبًا أكثر حبسه في العذاب. {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} وأصل الذبح شق حلق الإنسان. اهـ. "روح". {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} بنون مشددة مفتوحة؛ هي نون التوكيد الثقيلة بعدها نون مكسورة؛ هي نون الوقاية، وقرىء {لَيَأْتِيَنِّي} بنون مشددة مكسورة أصله: ليأتينني بثلاث نونات، فحذفت النون التي قبل ياء المتكلم لتوالي الأمثال. {فَمَكَثَ} بضم الكاف وفتحها، والأول من باب قرب، والثاني من باب نصر، وفي "القاموس" وغيره: مكث يمكث - من باب نصر - مكثًا بفتح فسكون ومكثًا بفتحتين ومكوثًا ومكيثي بالمكان أقام ولبث فهو ماكث. والاسم المكث بضم الميم، والمِكث بكسرها، ومكث يمكث - من باب قرب - مكاثة نبت ورزن. اهـ والمكث: ثبات مع انتظار. {بِمَا لَمْ تُحِطْ} والإحاطة بالشيء علمًا: أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه معلوم ما. اهـ "خازن". {مِنْ سَبَإٍ} وسبأ: بلاد واقعة جنوبي غربي الجزيرة العربية في اليمن،

ذكرت في كتاب العهد القديم، وفي مؤلفات العرب، واليونان، والرومان كانت على جانب عظيم من الحضارة، كان يتعاطى سكانها تجارة الذهب والفضة والأحجار الكريمة. {تَمْلِكُهُمْ}؛ أي: تسوسهم وتدبر أمورهم، لا ملك الرقبة {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} والعرش في الأصل: شيء مسقف، ويراد به هنا سرير عظيم، أعني: سرير الملك. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} والسبيل من الطريق ما هو معتاد السلوك. {الْخَبْءَ}: مصدر بمعنى المخبوء، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأ - من باب نفع -؛ أي: سترته، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات. {سَنَنْظُرُ} من النظر بمعنى التأمل، والسين للتأكيد؛ لنعرف بالتجربة البتة. {تَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه؛ ليكون ما يقولونه بسمع منك. {فَانْظُرْ}؛ أي: تأمل وفكر. {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} والملأ: عظماء القوم الذين يملؤون العيون مهابة، والقلوب جلالة، جمعه أملاء كنبأ وأنباء. {أَلَّا تَعْلُوا}؛ أي: ألا تتكبروا ولا تنقادوا للهوى والنفس. {مُسْلِمِينَ}؛ أي: منقادين خاضعين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} للإيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف. ومنها: التنكير للتعظيم والتفخيم في قوله: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: كتاب عظيم الشأن رفيع القدر. ومنها: الإتيان بالمصدر بدل اسم الفاعل؛ للمبالغة في قوله: {هُدًى

وَبُشْرَى}؛ أي: هاديًا ومبشرًا، كأنها نفس الهدى والبشارة. ومنها: تكرير الضمير في قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لإفادة الحصر والاختصاص، وأما وجه تكراره هنا فهو أنه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله عناية به، فوقع فاصلًا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره. وقد حال المجرور بينهما، فطرّي ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدمًا، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعدما يوجب التطرية. ومثله {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} وفيه المقابلة اللطيفة بين الجملتين. ومنها: العدول في الصلة عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية؛ لإفادة التأكيد والمبالغة والدوام، فإن الإيمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب دوامه، ولذلك أتي به جملة اسمية، وجعل خبرها فعلًا مضارعًا، فقال: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}؛ للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد، أما إقامة الصلاة ايتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة، ولذلك أتى بهما فعلين، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. ومنها: التأكيد بـ {إن} واللام في قوله: {إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ}؛ أي: لوجود المتشككين في القرآن. ومنها: تنوين الاسمين للتعظيم في قوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}. ومنها: الجمع بين الحكيم والعليم إشعارًا بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية. ومنها: استعمال أو بدل {الواو} في قوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} آثر {أو} على {الواو}؛ نكتة بلاغية رائعة، فإن {أَوْ} تفيد التخيير، وقد بني رجاءهُ على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعًا فلن يعدم بواحدة منهما، وهما: إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار هضمًا لنفسه، واعترافًا بقصوره نحو ربه.

ومنها: إيجاز الحذف في قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} حذفت قبل الرؤية جمل تقديرها: فألقاها فانقلبت إلى حية الخ. ومنها: التعجيب من عظمة ما رأى في قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حيث شبه الحية العظيمة المسماة بالثعبان بالجان؛ أي: الحية الصغيرة في سرعة الحركة والالتواء. ومنها: التعريض بظلم موسى بقتل القبطي في قوله: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ}. ومنها: الطباق بين الحسن والسوء في قوله: {حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ}، وبين {وَلَّى مُدْبِرًا {وَلَمْ يُعَقِّبْ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ذكرت أداة التشبيه وحذفت وجه الشبه، فصار مرسلًا مجملًا. ومنها: المجاز العقلي في إسناد الإبصار إلى الآيات في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} حيث نسب الإبصار إليها مجازًا؛ لأنه بها يبصر، ويجوز أن يكون مجازًا مرسلًا، والعلاقة السببية؛ لأنها سبب الإبصار، وهذا أولى من قول بعضهم: إن مبصرة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول نحو ماء دافق؛ أي: مدفوق إشعارًا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر. ومنها: التنوين والتنكير في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}؛ لتعظيم العلم الذي أوتياه وتكثيره، كأنه قال: علمًا أي، علم، وهو كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات على أن كل علم بالإضافة إلى علم الله سبحانه قليل ضئيل. ومنها: استعمال حرف الاستعلاء لإفادة الفوقية في قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} فعدى {أَتَوْا} بـ {عَلَى}؛ لأن الإتيان كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء.

ومنها: التوليد في قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فإن هذه الآية اشتملت على أحد عشر نوعًا من البلاغة يتولد بعضها من بعض: أولها: النداء بـ {يَا}، وثانيها: كنت بـ {أَيُّ}، وثالثها: نبهت بـ {هَا} التنبيه، ورابعها: سمت بقولها: {النَّمْلُ}، وخامسها: أمرت بقولها: {ادْخُلُوا}، وسادسها: نصت بقولها: {مَسَاكِنَكُمْ}، وسابعها: حذرت بقولها: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}، وثامنها: خصصت بقولها: {سُلَيْمَانُ}، وتاسعها: عممت بقولها: {وَجُنُودُهُ} وعاشرها: أشارت بقولها؛ {وَهُمْ}، وحادي عشرها: عذرت بقولها: {لَا يَشْعُرُونَ}. هذا وقد أنشدوا ملغزين في نملة سليمان وبقرة بني إسرائيل. فَمَا مَيْتٌ أَحْيَا لَهُ اللهُ مَيِّتًا ... لِيُخْبِرَ قَوْمًا أُنْذِرُوْا بِبَيَانِ وَعَجْفَاءُ قَدْ قَامَتْ لِتُنْذِرَ قَوْمَهَا ... وَأَهْلَ قُرَاهَا رَهْبَةَ الْحَدَثَانِ ومنها: أسلوب التعجب في قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}. ومنها: التأكيد المكرر في قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ}، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ}، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي}؛ لتأكيد الأمر. ومنها: طباق السلب في قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ}. ومنها: جناس التصريف في قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف إما من مخرجه، أو من قريب من مخرجه؛ وهو من محسنات الكلام المتعلقة باللفظ. وقال أبو حيان في تعريفه: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف. انتهى. قال صاحب "الكشاف": وهذا من محاسن الكلام بشرط أن يجيء مطبوعًا غير متكلف، أو يصنعه عالم بجوهر الكلام، ولقد حسن في الآية، وباع لفظًا ومعنى، ألا ترى أنه لوهوضع مكان {بِنَبَإٍ} لفظة بخبر .. لكان المعنى صحيحًا، ولكن يفوت ما في النبأ من الزيادة التي معناها الخبر الهام، والتي يطابقها وصف الحال؛ لأنه جاء منغومًا عذب الجرس؛ لاتفاق سبأ ونبأ.

ومنها: الطباق في اللفظ في قوله: {تُخْفُونَ} و {تُعْلِنُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[32]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}. التفسير وأوجه القراءة 32 - قوله تعالى: {قَالَتْ}؛ أي: بلقيس قبله حذف معلوم من السياق، تقديره:

فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} وكرر (¬1) {قَالَتْ}؛ للإيذان بغاية اعتنائها بما قالت؛ أي: قالت: يا أيها الأشراف أفتوني في أمري؛ أي: أجيبوني في الذي ذكرت لكم بما يقتضيه الحزم، واذكروا ما تستصيبون فيه، وأشيروا علي وبينوا لي الصواب فيه، وعبرت عن جواب المشورة بالفتوى الذي هو الجواب في الحوادث المشكلة غالبًا، إشعارًا بأنهم قادرون على حل المشكلات النازلة، وليكون في ذلك حل لما أشكل عليها من الأمر. قال بعضهم: الفتوى من الفتى؛ وهو الشاب القوي، وسميت الفتوى بذلك؛ لأن المفتي؛ أي: المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة. ثم زادت في التأدب لهم، واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، فقالت: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا}؛ أي: فاصلة ومنفذة أمرًا من الأمور {حَتَّى تَشْهَدُونِ}؛ أي: حتى تحضروا عندي، وتشيروا علي؛ أي: لا أقطع أمرًا إلا بمحضركم وبموجب آرائكم؛ أي: عادتي معكم أن لا أفعل أمرًا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم. وفيه استمالة لقلوبهم (¬2)؛ لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير، وفيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبدًا برأيه، ويكون مشاورًا في جميع ما سنح له من الأمور، لا سيما الملوك يجب أن يكون لهم قوم من أهل الرأي والبصيرة، فلا يقطعون أمرًا إلا بمشاورتهم. والمعنى: أي (¬3): قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علي في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلى، فإني لا أقضي فيه برأي حتى تشهدوني فأشاوركم فيه. وفي قولها هذا دلالة على إجلالهم، وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[33]

وإمضاءهم على الطاعة لها، علمًا منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها .. لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم .. كان ذلك عونًا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم .. لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، وتعمية في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم، وأخذ رأيهم عون على ما تريد من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} على ما لها من عقل راجح وأدب جم في التخاطب. وعلى هذا النهج سار الإِسلام، فقد قال سبحانه لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. وفي قراءة عبد الله (¬1): {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} وقوله: {حَتَّى تَشْهَدُونِ} بكسر النون (¬2) والفتح لحن؛ لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع، وهذا في موضع النصب. وأصله: حتى تشهدونني، فحذفت النون الأولى للنصب والياء؛ لدلالة الكسرة عليها، وبالياء في الوصل والوقف. قرأ يعقوب: أي: حتى تحضروني، أو تشيروني، أو تشهدوا أنه صواب؛ أي: لا أبت الأمر إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلًا. 33 - وقوله: {قَالُوا} أي: قال الملأ مجيبين لها، استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل: قالوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في العدد والعدة؛ أي: ذووا قوة في الآلات والأجساد والعدد. {وَأُولُو بَأْسٍ} أخذ {شَدِيدٍ} لأعدائنا عند الحرب واللقاء؛ أي: لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا؛ أي: لنا شجاعة مفرطة، وبطش شديد، فلا نخاف أعداءنا. وهذا تعريض (¬3) منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم فوضوا الأمر إليها؛ لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها، فقالوا: {وَالْأَمْرُ} في شأننا هذا، بل في كل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

[34]

أمورنا مفوض {إِلَيْكِ} أيتها الملكة، وموكول إلى رأيك ونظرك. {فَانْظُرِي} وفكري {مَاذَا تَأْمُرِينَ} وتشيرين علينا؛ أي: تأملي ماذا تأمرينا به سامعون لأمرك، مطيعون له، فمري بنا بأمرك. وفيه إشارة إلى أن شرط أهل المشاورة أن لا يحكموا على الرئيس المستشير بشيء، بل يخيرونه فيما أراد من الرأي الصائب، فلعله أعلم بصلاح حاله منهم، 34 - فلما أحست منهم الميل إلى الحرب، والعدول عن سنن الصواب، بادعائهم القوى الذاتية والعرضية لم ترض به، لما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده، ومالت إلى الصلح، وبينت السبب في رغبتها فيه. {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} من القرى، ومدينة من المدن على منهاج الحراب والقتال. قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة {أَفْسَدُوهَا} أي (¬1): خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها، وفرقوا شمل أهلها {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}؛ أي: ذليلين بالقتل والأسر، والإجلاء وغير ذلك من أنواع الإهانة والإذلال؛ أي: أهانوا أشرافها، وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة. وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك، وتستحكم لهم الوطأة، وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}؛ أي: مثل ذلك الفعل من الإفساد، وجعل الأعزة أذلة يفعلون؛ أي: وكما قالت هي تفعل الملوك. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} وقف تام. فقال الله عَزَّ وَجَلَّ تحقيقًا لقولها: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وقيل (¬2): هذه الجملة من تمام كلامها، ذكرته توكيدًا لما وصفته من حال الملوك، وتقريرًا بأن ذلك من عادتهم المستمرة؛ أي: إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[35]

فإن ذلك عادتهم المستمرة. وفي ذلك إشارة إلى أن العاقل مهما تيسر له دفع الخصوم بطريق صالح لا يوقع نفسه في خطر الهلاك بالمحاربة والمقاتلة بالاختيار، إلا أن يكون مضطرًا. قال بعضهم: من السؤدد الصلح وترك الإفراط في المغيرة. وفي "الفتوحات المكية": للملك أن يعفو عن كل شيء إلا عن ثلاثة أشياء، وهي: التعرض للحرم، وإفشاء سره، والقدح في الملك. نسأل الله حسن الأدب في طريق الطلب. ومعنى الآية: أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إنّ الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها، وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم، أو قتلوهم تقتيلًا ليتم لهم الملك والغلبة، وتتقرر لهم في النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا، وفي هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم. 35 - ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة .. أوضحت لهم وجه الرأي عندها، وصرحت لهم بصوابه، فقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى سليمان وقومه رسلًا {بِهَدِيَّةٍ} عظيمة، وهي (¬1) اسم للشيء المهدي بملاطفة ورفق {فَنَاظِرَةٌ} هو؛ أي: فمنتظرة. قال في "كشف الأسرار": الناظر ها هنا بمعنى المنتظر، و {الفاء} فيه للعطف على مرسلة. {بِمَ} أصله بما، على أنه استفهام؛ أي: بأي شيء. {يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} بالجواب من عنده حتى أعمل بما يقتضيه الحال، و {بِمَ} متعلق بـ {يَرْجِعُ}؛ أي: إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكًا أرضيناه بذلك، وكفينا أمره، وإن كان نبيًا لم يرضه ذلك؛ لأن غاية مطلبه، ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته، والتدين بدينه، وسلوك طريقته، وإني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية ¬

_ (¬1) روح البيان.

من قبول أو رد، فعاملة بما يقتضيه ذلك. والمعنى: أي (¬1) وإنى ساْرسل إليه هدية من نفائس الأموال؛ لأتعرف حاله، وأختبر أمره، أنبي هو أم ملك، فإن كان نبيًا لم يقبلها، ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكًا قبل الهدية، وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة. وفي الحديث: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء", ولقد أحسن من قال: هَدَايَا النَّاسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ ... تُوَلِّدُ في قلُوْبِهِمُ الْوِصَالاَ وَتَزْرَعُ فِيْ الضمِيْرِ هَوَى وَوِدًّا ... وَتُكْسِبُهُمْ إِذَا حَضَرُوْا جَمَالاَ وحال القصة (¬2): أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة، قد ساست الأمور وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف. قال ابن عباس: مئة وصيف، ومئة وصيفة. وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمس مئة غلام، وخمس مئة جارية، فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواف الذهب، وفي آذانهم أقرطة، وشنوفًا مرصعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمس مئة فرس، والغلمان على خمس مئة برذون، على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر وأغشية الديباج، وبعثت إليه لبنات من ذهب، ولبنات من فضة، وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود والألنجوج، وعمدت إلى حقة جعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جرع معوجة الثقب، ودعت رجلًا من أشراف قومها - يقال له: المنذر بن عمرو - وضمت إليه رجالًا من قومها أصحاب عقل ورأي، وكتبت مع المنذر كتابًا تذكر فيه الهدية، وقالت: إن كنت نبيًا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحقة قبل أن تفتحها، وأثقب الدرة ثقبًا مستويًا، وأدخل في خرزة خيطًا من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت بلقيس الغلمان، فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرًا فيه غضب .. فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره، فإنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا .. فاعلم أنه نبي فتفهم قوله، ورد الجواب، فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سلميان فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنًا من الذهب والفضة ففعلوا، وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسع فراسخ، وأن يفرش فيه لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم، وأن يعملوا حول الميدان حائطًا مشرفًا من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال سليمان: أي دواب البر والبحر أحسن، فقالوا يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: عليَّ بها، فأتوه بها، فقال: شدوها عن يمين الميدان وشماله، وقال للجن: عليَّ باولادكم، فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وشماله، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله، وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان، ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة .. تقاصرت إليهم أنفسهم، ووضعوا ما معهم من الهدايا، وقيل: إن سليمان لما فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة .. ترك من طريقهم موضعًا على قدر ما معهم من اللبنات، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع، ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم، وكانوا يقرون على كراديس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق، وتلقاهم متلقى حسنًا، وسألهم عن حالهم، فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه، وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحقة؟ فأتي بها، فحركها فجاءه جبريل عليه السلام، فأخبره بما فيها، فقال لهم: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة فقال الرسول صدقت فأثقب الدرة، وأدخل الخيط في الجزعة، فقال سليمان: من لي بثقبها؟ وسأل الإنس

[36]

والجن فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نرسل إلى الأرضة، فلما جاءت الأرضة، أخذت شعرة في فمها، ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: يكون رزقي في الشجرة، فقال لها: لك ذلك، ثم قال: من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبيَّ الله، فأخذت الدودة خيطًا في فمها، ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: يصير رزقي في الفواكه، فقال لها: لك ذلك، ثم ميز بين الغلمان والجواري بأن أمرهم بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها، وتضرب بها الأخرى، وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه، ويضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام يصبه على ظهره، فميز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية، 36 - كما أخبر الله سبحانه عنه بقوله: {فَلَمَّا جَاءَ} أي: الرسول المبعوث من قبل بلقيس وهو المنذر بن عمرو {سُلَيْمَانَ}، والمراد بهذا المضمر الجنس، فلا ينافي كونهم جماعة، كما يدل عليه قولها: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}. وقرأ عبد الله (¬1): {فلما جاؤوا} وقرأ: {ارجعوا} جعله عائدًا على قوله: {الْمُرْسَلُونَ} {قَالَ} سليمان مخاطبًا للرسول والمرسل تغليبًا على الغائب؛ أي: قال بعدما جرى بينه وبينهم من قصة الحقة وغيرها، أنه خاطبهم أول ما جاؤوه، كما يفهم من ظاهر العبارة. {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} حقير، أصله: أتمدونني (¬2)، فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة الدالة عليها، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي؛ لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تمدوني وتعاونوني بالمال، ثم علل هذا الإنكار بقوله: {فَمَا} موصولة {آتَانِيَ اللَّهُ} مما رأيتم آثاره من النبوة، والملك الذي لا غاية وراءه {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} من المال ومتاع الدنيا، فلا حاجة لي إلى هديتكم، ولا وقع لها عندي؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح الببان.

أي: لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطاني منه ما لم يعط أحدًا، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والدين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (¬1): {أتمدونني} بنونين وياء في الوصل. وروي المسيبي عن نافع: {أتمدوني} بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي: {أَتُمِدُّونَنِ} بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة {أتمدوني بمال} بنون واحدة مشددة ووقف على الياء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {فما آتان الله} بكسر النون من غير ياء. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص عن عاصم: {فَمَا آتَانِيَ} بفتح الياء، فكأنهم فتحوا التاء، غير الكسائي، فإنه أمالها من {أتاني الله}. أي: قال منكرًا لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه، وكثرة أمواله (¬2): أتساعدونني وتكرمونني بمال حقير، فما آتاني الله من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته، ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم، فقال؛ {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ}؛ أي: بما يهدى إليكم من الأموال. فالمضاف إليه ضمير المهدي إليه {تَفْرَحُونَ} حبًا لزيادة المال وكثرته لما أنكم لا تعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، توبيخًا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدًا من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنّبوة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزدراء بهم والحط عليهم. وفي "الإرشاد" (¬3): إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخارًا وامتنانًا، واعتدادًا بها، كما ينبىء عنه ما ذكر من حديث الحقة والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك. انتهى. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[37]

يقول الفقير: إنهم لما رأوا ما أنعم الله به على سليمان من الملك الكبير .. استقلوا بما عندهم حتى هموا بطرح اللبنات، إلا أنه منعتهم الأمانة من ذلك، فكيف امتنوا على سليمان بهديتهم، وافتخروا على أن حديث الحقة ونحوه إنما كان على وجه الامتحان لا بطريق الهدية كما عرف. وفي "التأويلات" يشير إلى أن الهدية موجبة لاستمالة القلوب، ولكن أهل الدين لما عارضهم أمر ديني في مقابلة منافع كثيرة دنيوية .. رجحوا طرف الدين على طرف المنافع الكثيرة الدنيوية، واستقلوا كثرتها؛ لأنها فانية، واستكبروا قليلًا من أمور الدين؛ لأنها باقية، كما فعل سليمان لما جاءه الرسول بالهدية .. استغل كثرتها، وقال: فما آتاني الله من كمالات الدين والقربات والدرجات الأخروية خير مما آتاكم من الدنيا وزخارفها. {بَلْ أَنْتُمْ}: أمثالكم من أهل الدنيا بمثل هديتكم الدنيوية الفانية تفرحون؛ لخسة نفوسكم، وجهلكم عن السعادات الأخروية الباقية. قال جعفر الصادق: الدنيا أصغر قدرًا عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها، أو يحزنوا عليه، فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا. وعبارة المراح هنا: قوله: {بِهَدِيَّتِكُمْ} فالمصدر (¬1) إما مضاف لفاعله؛ أي: تفرحون بما تهدونه افتخارًا على أمثالكم، واعتدادًا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله، وإما مضاف لمفعوله؛ أي: تفرحون بما يهدى إليكم حبًا في كثرة أموالكم، وحالي خلاف حالكم، فلا أفرح بالدنيا، وليست الدنيا من حاجتي. وقيل: بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون باخذها إن رددت إليكم. 37 - ثم قال سليمان عليه السلام للمنذر بن عمرو أمير الوفد: {ارْجِعْ} أيها الرسول (¬2)، أفرد الضمير هاهنا بعد جمع الضمائر الخمسة فيما سبق؛ لأن الرجوع مختص بالرسول، والإمداد ونحوه عام. أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[38]

وخاطبهم معه فيما سبق افتنانًا في الكلام. وقرأ عبد الله: {ارجعوا}. وقيل: إن الضمير يرجع إلى الهدهد. {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى بلقيس وقومها بهديتهم؛ ليعلموا أن أهل الدين لا ينخدعون بحطام الدنيا، وإنما يريدون الإِسلام فليأتوا مسلمين مؤمنين، وإلا {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ}؛ أي: بجموع من الجن والإنس والتاييد الإلهي {لَا قِبَلَ لَهُمْ}؛ أي: لا طاقة لهم {بِهَا}؛ أي: بمقاومتها، ولا قدرة لهم على مقابلتها. وقرأ ابن مسعود: {بهم} بضمير جمع المذكور، واللام في {لَنَأْتِيَنَّهُمْ} موطئة للقسم المحذوف. وقوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} معطوف على جواب القسم؛ أي: فوالله لنأتين بلقيس وقومها في أرضهم سبأ بجنود لا قبل له بها، ولنخرجنهم {مِنْهَا}؛ أي: من سبأ وأرضهم التي هم فيها حالة كونهم {أَذِلَّةً} بذهاب ما كانوا فيه من العز؛ أي: ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم. بعدما كانوا أعزة أهلها، وجملة قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}؛ أي: أسارى مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد بأغلال أيمانهم إلى أعناقهم، حال أخرى مفيدة لكون إخراجهم بطريق الإجلاء. وقيل (¬1): هي حال مؤكدة؛ لأن الصَّغار هو الذلة. وقيل: إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد. وقيل: إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة. 38 - ولما رجع رسل بلقيس إليها، وأخبروها بخبر سليمان .. قالت: والله قد علمت أنه ليس بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك، وتجهزت للمسير إلى سليمان. وقيل: أخبر جبريل سليمان بذلك، فقال سليمان: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها ... إلخ. وروي عن ابن عباس (¬2) - رضي الله عنهما - أنه قال: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، وأخبروها الخبر .. قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[39]

أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها، فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض، ثم غلقت عليه سبعة أبواب، وجعلت عليها حراسًا يحفظونه، ثم تجهزت للمسير، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف، فخرج سليمان يومًا فجلس على سريره فسمع وهجًا قريبًا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، وقد نزلت بهذا المكان؛ أي: الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه السلام. فأقبل سليمان على جنوده فـ {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} والأشراف {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}؛ أي: من الذي منكم يأتيني بعرشها وسريرها؛ أي: بعرش بلقيس الذي تقدم وصفه بالعظم {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي}؛ أي: قبل أن تأتيني هي وقومها حالة كونهم {مُسْلِمِينَ}؛ أي: مؤمنين بالله وبرسوله؛ لأنه قد أوحي إليه أنها سوف تسلم. قيل: أراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى صدقه في نبوته، وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن، وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين، وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه؛ لأن العرش سرير المملكة، وقيل: إنما أراد أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا؛ لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها .. لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم، وهذا (¬1) بعيد عند أهل التحقيق، أو أراد أن يؤتي به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره، اختبارًا لعقلها، ولهذا قال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}. قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. انتهى. وقيل: أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم. والقول الأول هو الذي عليه الأكثر. 39 - {قَالَ عِفْرِيتٌ}؛ أي: مارد خبيث {مِنَ الْجِنِّ} بيان له؛ إذ يقال للرجل ¬

_ (¬1) النسفي.

الخبيث المنكر المعفر لأقرانه عفريت. قيل: اسم (¬1) هذا العفريت كودت. ذكره النحاس عن وهب بن منبه. وقال السهيلي: اسمه ذكوان. وقيل: اسمه دعوان. وقيل: صخر. وفي "فتح الرحمن": اسمه كوذى أو اصطخر سيد الجن، وكان قبل ذلك متمردًا على سليمان. واصطخر فارس تنسب إليه، وكان الجني كالجبل العظيم يضع قدمه عند منتهى طرفه. وقرأ الجمهور (¬2): {عِفْرِيتٌ} - بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء -، وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية وابن يعمر وعاصم الجحدري: {عَفْريت} - بفتح العين وكسر الراء - وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى الثقفي وابن السميقع ورويت عن أبي بكر الصديق: {عَفْريَة} - بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث -، وقرأت فرقة: {عفر} بلا ياء ولا تاء. ويقال في لغة طي وتميم: {عفراة} بالألف وتاء التأنيث، وفيه لغة سادسة: {عفارية} ويوصف بها الرجل، ولما كان قد يوصف به الإنس .. خص بقوله: {مِنَ الْجِنِّ}. وقرأ ابن مسعود وابن السميقع أيضًا: {عفراة} بكسر العين وفتح الراء وبالف من غير ياء. {أَنَا آتِيكَ بِهِ} أي: بعرشها {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}؛ أي: من مجلسك للحكومة بين الناس، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم. وقيل: المعنى قبل أن تستوي من جلوسك قائمًا. وقوله: {آتِيكَ}: فعل مضارع، أصله: أأتيك بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفًا، وكذا في الموضع الآتي. وقيل: هو اسم فاعل، وهو (¬3) الإنسب لمقام ادعاء الإتيان بلا محالة، وأوفق بما عطف عليه من الجملة الاسمية؛ أي: أنا آت به في تلك المدة البتة. {وَإِنِّي عَلَيْهِ}؛ أي: على حمله والإتيان به {لَقَوِيٌّ} لا يثفل علي حمله {أَمِينٌ} على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة، لا أغيره ولا أبدله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. وزاد المسير. (¬3) روح البيان.

[40]

بغيره، والمعنى أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس. 40 - ولما قال سليمان عليه السلام: أريد أسرع من هذا {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وهو آصف بن برخيا بن خالة سليمان، وكان وزيره وكاتبه ومؤدبه في حال صغره، وكان رجلًا صديقًا يقرأ الكتب الإلهية، ويعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وقد خلقه الله لنصرة سليمان ونفاذ أمره. فالمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة على موسى وإبراهيم وغيرهما، أو اللوح المحفوظ وأسراره المكنونة. قال ابن عطية: وقالت فرقة: هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت، كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت، فقال له تحقيرًا له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ}؛ أي: بعرشها {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ} ويرجع {إِلَيْكَ طَرْفُكَ}؛ أي: بصرك مما نظرت إليه يعني أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك. والمعنى على هذا القول الأخير؛ أي (¬1): قال سليمان للعفريت محدثًا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره في أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال. وقال المعتزلة: هو جبريل؛ وذلك لأنهم لا يرون كرامة الأولياء، وقيل: الخضر، والأول أولى، وقيل: غير ذلك مما لا أصل له. والله أعلم. ويروى (¬2): أن اصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه. قيل: كان الدعاء الذي دعا به اصف يا ذا الجلال والإكرام. وقيل: يا حي يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة، وروي عن الزهري قال: دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. والمراد بالطرف تحريك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النسفي.

الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده انضمامها. قال شيخ الإِسلام (¬1): القائل في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} هو كاتب سليمان واسمه آصف. فإن قلت: كيف قدر مع أنه غير نبي على ما لم يقدر عليه سليمان من إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلت: يجوز أن يخص غير النبي بكرامة لا يشاركه فيها النبي، كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا لم يرزق منها، ولم يلزم من ذلك فضلها على زكريا، وقد نقل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا أراد الخروج إلى الغزاة .. قال لفقراء المهاجرين والأنصار ادعو لنا بالنصرة، فإن الله سبحانه ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه مع أن كرامة التابع من جملة كرامة المتبوع. ويحكى: أن العلم الذي كان عند آصف هو اسم الله الأعظم، فدعا به، فأجيب له في الحال، وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي اسم الله، وقيل: يا حي يا قيوم، وقيل: يا ذام الجلال والإكرام، وقيل: الله يا رحمن، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت. انتهى. قال بعضهم (¬2): أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته؛ ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات؛ لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه، قال له عالم من بني إسرائيل: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك، فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت. قال الرازي: وهذا القول أقرب، والمخاطب العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار المعجزة فطالبه أولًا، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت. قيل: خر سليمان ساجدًا ودعا باسم الله الأعظم، فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان. وإنما هذا ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراح.

أقرب؛ لأن سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره؛ لأنه نبي، وإن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية، فلو حصلت لآصف .. لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان، ولو افتقر إليه في ذلك .. لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في اْعين الخلق، ولأن ظاهر قوله: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان. انتهى. قوله: {فَلَمَّا رَآهُ} قبله حذف، تقديره: فأذن له سليمان، فدعا الله، فأتي به فلما رآه سليمان؛ أي: فلما رأى سليمان العرش {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ}؛ أي: حاضرًا لديه؛ أي: متحولًا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف {قَالَ} سليمان شاكرًا لربه لما آتاه الله سبحانه من هذه الخوارق {هذا}؛ أي: إتيان العرش في هذه المدة القصيرة {مِنْ فَضْلِ رَبِّي}؛ أي: من إحسانه إلى من غير استحقاق له من قبلي أكرمني به {لِيَبْلُوَنِي}؛ أي: لكي يختبرني {أَأَشْكُرُ} بذلك، واعترف بأنه من فضله من غير حول منى ولا قوة. {مْ أَكْفُرُ} بترك الشكر عليه، وعدم القيام به، أو بأن أثبت لنفسي تصرفًا في ذلك. قال الأخفش: المعنى لينظر أأشكر أم أكفر. والابتلاء: الاختبار، وإذا قيل (¬1): ابتلي فلان بكذا وبلاه .. يتضمن أمرين: أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قصد به الأمران، وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل بلاه الله كذا، وابتلاه .. فليس المراد إلا ظهور جودته، أو رداءته دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يجهل منه؛ إذ كان تعالى علام الغيوب. {أَأَشْكُرُ} بأن أراني محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة، وأقوم بحقه {أَمْ أَكْفُرُ} بأن أجد لنفسي مدخلًا في البين، وأقصر في إقامة موجبه، و {أَمْ} هنا متصلة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَمَنْ شَكَرَ} فضل الله سبحانه وإحسانه إليه {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}؛ لأنه غني عنه وعن شكره؛ أي: لغرض نفسه ونفعها، فإن نفع شكره يعود إليه؛ وهو أن يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه، ويستوجب به تمام النعمة ودوامها؛ لأن (¬1) الشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة. {وَمَنْ كَفَرَ}؛ أي: ترك شكر الله سبحانه على فضله وإحسانه إليه بأن لم يعرف النعمة، ولم يؤد حقها، فإن مضرة كفره ووباله عليه، لا يضر الله سبحانه كفرانه. {فَإِنَّ رَبِّي}؛ أي: لأن ربي سبحانه {غَنِيٌّ} عن شكره، لا يضره ذلك الكفران {كَرِيمٌ} بالإفضال عليه، لا يقطع نعمه عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة. قال الواسطي: ما كان منا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا. قال في "المفردات": المنحة والمحنة جميعًا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر. والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر - رضي الله عنه -: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله. وقال الواسطي أيضًا في الشكر: إبطال رؤية الفضل كيف يوزاي شكر الشاكرين فضله، وفضله قديم وشكرهم محدث. اهـ. قال في "الأسئلة المقحمة": في الآية دليل على إثبات الكرامات من وجهين: أحدهما: أن العفريت من الجن لما ادعى إحضاره قبل أن يقوم سليمان من مقامه .. لم ينكر عليه سليمان، بل قال: أريد أعجل من ذلك، فإذا جاز أن يكون مقدورًا لعفريت من الجن .. فكيف لا يكون مقدورًا لبعض أولياء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الخازن.

والثاني: أن الذي عنده علم من الكتاب؛ وهو آصف وزير سليمان لم يكن نبيًا، وقد أحضره قبل أن يرتد طرفه إليه، كما نطق به القرآن، فدل على جواز إثبات الكرامات الخارقة للعادات للأولياء خلافًا للقدرية حيث أنكروا ذلك. فصل والكرامة (¬1): ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص صالح غير مقرون بدعوى النبوة والرسالة، فما لا يكون مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح يسمى استدراجًا، وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يسمى معجزة. قال بعضهم: لا ريب عند أولي التحقيق أن كل كرامة نتيجة فضيلة من علم أو عمل أو خلق حسن، فلا يعول على خرق العادة بغير علم صحيح، أو عمل صالح، فطي الأرض إنما هو نتيجة عن طي العبد أرض جسمه بالمجاهدات، وأصناف العبادات، وإقامته على طوال الليالي بالمناجاة، والمشي على الماء لمن أطعم الطعام وكسا العراة؛ إما من ماله، أو بالسعي عليهم، أو علم جاهلًا، أو أرشد ضالًا؛ لأن هاتين الصفتين سر الحياتين، الحسية والعلمية، وبينهما وبين الماء مناسبة بينة. وترك الظهور بالكرامات الحسية والعلمية أليق للعارف؛ لأنه محل الآفات، وللعارف استخدام الجن أو الملك في غذائه من طعامه وشرابه وفي لباسه. قال في "كشف الأسرار": قد تحصل الكرامة باختيار الولي ودعائه، وقد تكون بغيره، وفي الحديث: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين - إزار ورداء باليين - لا يؤبه - يبالي - له لو أقسم على الله لأبره". وكرامات الأولياء ملحقة بمعجزات الأنبياء؛ إذ لو لم يكن النبي صادقًا في معجزته ونبوته .. لم تكن الكرامة تظهر على من يصدقه، ويكون من جملة أمته، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل الحرمان سواء أنكروها مطلقًا، أو أنكروا كرامات أولياء زمانهم، وصدقوا كرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

كالصحابة والسلف الصالح، كمن صدق بموسى وكذب بمحمد عليهما السلام. وما هي إلا خصلة إسرائيلية، نسأل التوفيق وحسن الخاتمة لنا ولجميع المسلمين أجمعين. آمين. 41 - {قَالَ} سليمان، كرر الحكاية تنبيهًا على ما بين السابق واللاحق من المخالفة؛ لما أن الأول من باب الشكر، والثاني أمر لخدمه: {نَكِّرُوا}؛ أي: غيروا {لَهَا}؛ أي: لأجل إدراك مستوى عقلها. {عَرْشَهَا}؛ أي: سريرها الذي جيء به؛ أي: غيروا هيئته وشكله بوجه من الوجوه، بحيث ينكر ويجهل، والأمر للشياطين، فجعل الشياطين أسفله أعلاه، وبنوا فوقه قبابًا أخرى هي أعجب من تلك القباب، وجعلوا موضع الجوهر الأحمر الأخضر وبالعكس؛ أي: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته بزيادة أو نقصان. قال الفراء وغيره: إنما أمرهم بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئًا، فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان، فيولد له منها ولد، فيبقوا مسخرين لآل سليمان أبدًا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار. وقوله: {نَنْظُرْ} قراءة الجمهور بالجزم على أنه جواب الأمر (¬1). وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف؛ أي: نختبر {أَتَهْتَدِي} إلى معرفته فتظهر رجاحة عقلها. {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} إلى معرفته فتطهر سخافة عقلها. وذلك (¬2) أن الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان؛ لأن أمها كانت جنية، وأن يتزوجها سليمان، ويكون بينهما ولد جامع للجن والإنس فيرث الملك، ويخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع، ولا ينفكون من التسخير، ويبقون في التعب والعمل أبدًا، فأرادوا أن يبغضوها إلى سليمان، فقالوا: إن في عقلها خللًا وقصورًا، وإنها شعراء الساقين، وإن رجليها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختبرها في عقلها فأمر بتنكير العرش، واتخذ الصرح كما سيأتي؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[42]

ليتعرف ساقيها ورجليها. 42 - {فَلَمَّا جَاءَتْ} بلقيس سليمان والعرش بين يديه {قِيلَ} لها من جهة سليمان بالذات، أو بالواسطة امتحانًا لعقلها: {أهَكَذَا عَرْشُكِ}؛ أي: أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك، وأغلقت عليه الأبواب، وجعلت عليه حراسًا، ولم يقل: هذا عرشك؛ لئلا يكون تلقينًا لها، فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير، وهو اختيار عقلها {قَالت} بلقيس جوابًا له: {كَأَنَّهُ}؛ أي: كأن عرشي {هُوَ}؛ أي: هذا العرش الحاضر، أو كأن هذا الحاضر هو عرشي، فلوحت لما اعتراه بالتنكير من نوع مغاير في الصفات مع اتحاد الذات، فاستدل سليمان بذلك على كمال عقلها، حيث لم تقر ولم تنكر، ولم تقل لا، ولا قالت: نعم، بل شبهوا عليها فشبهت عليهم مع علمها بحقيقة الحال، ولو قيل لها: هذا عرشك؟ لقالت: نعم، لمعرفتها للعرش. وقال عكرمة: كانت حكيمة، لم تقل: نعم، خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفًا من التكذيب لها. وكأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها، وإظهار معجزة لها، فقالت: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ}؛ أي (¬1): وأعطينا العلم بكمال قدرته تعالى، وصحة نبوتك {مِنْ قَبْلِهَا}؛ أي: من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها الآن في العرش بما سمعناه من رسولنا المنذر بن عمرو من الآيات الدالة على ذلك {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}؛ أي: منقادين خاضعين لأمر سليمان من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس. والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها؛ أي: من قبل الآية الظاهرة في العرش. وقيل: هو من كلام سليمان، والمعنى عليه: وأوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة، وقيل: أوتينا العلم بإسلامها، وبمجيئها طائعة من قبلها؛ أي: من قبل مجيئها، وكنا مسلمين منقادين لأوامر الله تعالى. ويكون الغرض من هذا (¬2): شكر نعمة الله تعالى عليه أن خصه بمزيد العلم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[43]

والتقدم في الإِسلام، وقيل: هو من كلام قوم سليمان، والقول الثاني أرجح (¬1) من سائر الأقوال. وخلاصة المعنى على القول الأول: وعليه أكثر المفسرين؛ أي: وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة إلى إظهار معجزات أخرى. 43 - وقوله: {وَصَدَّهَا}؛ أي: منع بلقيس من إظهار ما ادعته من الإِسلام إلى الآن. {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه، بيان من جهته تعالى لما كان يمنعها من الإِسلام؛ أي: منعها عن عبادة الله سبحانه عبادة ما كانت تعبده من دون الله تعالى قديمًا؛ وهو الشمس، فـ {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} فاعل {صد} ويحتمل كون (¬2) فاعل {صد} ضميرًا عائدًا على {سُلَيْمَانُ}، و {مَا} مجرورة بحرف جر محذوف. والمعنى: وصدها سليمان؛ أي: منعها وصرفها عن الذي كانت تعبده من دون الله، وحال بينها وبينه؛ وهو الشمس، أو المعنى (¬3): وصدها الله سبحانه عن عبادتها القديمة بالتوفيق للإيمان، فيكون الفاعل ضميرًا يعود على {اللَّهِ} سبحانه، و {مَا}: مفعول على الوجهين الأخيرين، وفاعل على الأول، والأول أولى، والجملة مستأنفة للبيان، كما ذكرنا. وقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}: تعليل لسببية عبادتها المذكورة؛ للصد عن عبادة الله سبحانه؛ أي: إنها كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إسلامها، وهي بين ظهرانيهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان؛ أي: فصارت من قوم مؤمنين، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس، فلا تعرف إلا عبادتها. قرأ الجمهور (¬4): بكسر الهمزة. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة وابن أبي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح بتصرف. (¬3) اليضاوي. (¬4) البحر المحيط.

[44]

عبلة بفتحها، فإنا على تقدير الجر؛ أي: لأنها، وإما على أن يكون بدلًا من الفاعل الذي هو {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ}؛ أي: ومنعها عن إظهار دعواها الإِسلام كونها من قوم كافرين، أو وصرفها سليمان عن صيرورتها كافرة. والمعنى: أي (¬1) ومنعها ما كانت تعبده من دون الله تعالى؛ وهو الشمس عن إظهار الإِسلام، والاعتراف بوحدانيته تعالى من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها، ونشأت بين أظهرهم، ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدي سليمان، فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده في قرارة نفسها، ويجول في خاطرها. 44 - روي: أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه - أي أرضه - من زجاج أبيض شفاف يجري من تحته الماء، وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه، وجلس في صدره، فحين أرادت الوصول إليه .. حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها؛ لئلا تبتل أذيالها، كما هي عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج، فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعز من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله سبحانه، وعابها على عبادة الشمس دون الله سبحانه، فأجابته إلى ما طلب، وقالت: رب إني ظلمت نفسي بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شيء، وأخلصت له العبادة. وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله: {قِيلَ لَهَا} من جهة سليمان {ادْخُلِي الصَّرْحَ}؛ أي: الصحن والبلاط المتخذ من زجاج. قال أبو عبيدة (¬2): الصرح: القصر. وقال الزجاج: الصرح الصحن. يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها. وقال ابن قتيبة: الصرح: بلاط اتخذ من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك. {فَلَمَّا رَأَتْهُ}؛ أي: فلما رأت بلقيس الصرح؛ أي: ذلك الصحن المتخد من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

زجاج شفاف {حَسِبَتْهُ}؛ أي: ظنت ذلك الصرح {لُجَّةً}؛ أي: ماء غمرا {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} على عادة من أراد خوض الماء، تثنية ساق؛ وهي (¬1) ما بين الكعبين، كعب الركبة وكعب القدم. وقرأ ابن كثير وقنبل في رواية الأخريط عن وهب بن واضح: {عن سأقيها} بالهمز. قال أبو عليّ: وهي ضعيفة، وكذلك في قراءة قنبل {يوم يكشف عن سأق}، وأما همزة السؤق وعلى سؤقه، فلغة مشهورة في همز {الواو} التي قبلها ضمة، ذكره أبو حيان. أي: تَشَمَّرَت؛ لئلا تبتل أذيالها؛ لأجل أن تصل إلى سليمان، فإذا هي أحسن الناس ساقًا وقدمًا، خلا أنها شعراء. قال وهب بن منبه: فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بدّ من امتثال الأمر، فرفعت ثيابها عن ساقيها فرآهما، فإذا هي أحسن النساء ساقًا وقدمًا سليمة مما قالت الجن فيها إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها، فلما علم الحال صرف بصره عنها. {قَالَ} سليمان عليه السلام حين رأى منها الدهشة والرعب لا تكشفي ساقيك {إِنَّهُ}؛ أي: إن ما توهمته ماء {صَرْحٌ}؛ أي: بلاط {مُمَرَّدٌ}؛ أي: مملس؛ أي: أملس مصنوع {مِنْ قَوَارِيرَ}؛ أي: من زجاج صاف شفاف، وليس بماء؛ جمع قارورة؛ أي: إن الذي ظننته ماء سقف مملس مصنوع من زجاج تحته ماء، فلا تخافي واعبري. وحاصل مما في المقام كما مر قريبًا: أن سليمان (¬2) أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة، ويجعلوا سقفها زجاجًا أبيض شفافًا، ويصنعوا فيها ماء وسمكًا وضفدعًا وغير ذلك من حيوانات الماء، وصار الماء وما فيه يرى من هذا الزجاج، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح الذي تحته الماء، ولا يمسه الماء، ومن لم يكن عالمًا بالحال يظن هذا ماء مكشوفًا ليس له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

سقف يمنع من الخوض فيه، ووضع سليمان عليه السلام سريره في صدر ذلك السطح، فجلس عليه، فدعاها إليه وقال لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}. فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت، و {قَالت} وحين عاينت تلك المعجزة أيضًا بعد أن دعاها سليمان إلى الإِسلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادة الشمس، والثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان، وقيل بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللجة. {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}؛ أي: ودخلت في دين الإِسلام مصاحبة له في الدين مقتدية به. {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: معبود العالمين، التفتتا من الخطاب إلى الغيبة؛ أي: إلى الاسم الجليل، والوصف بالربوبية لإظهار معرفتها بالوهيته تعالى، وتفرده باستحقاق العبودية، وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس. والمعنى (¬1): أخلصت له التوحيد متابعة لسليمان مقتدية به. وقال القيصري: أسلمت إسلام سليمان؛ أي: كما أسلم سليمان. و {مَعَ} في هذا الموضع كـ {مع} في قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}؛ إذ لا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارنًا لزمان إيمان الرسل، وكذا إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان، فالمراد كما أنه آمن بالله آمنت بالله، وكما أنه أسلم لله أسلمت لله. انتهى. ويجوز أن يكون {مَعَ} هنا واقعًا بعد، كما في قوله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} وقال (¬2) شيخ الإِسلام: حقيقة المعية الاتفاق في الزمان، وسليمان كان مسلمًا قبلها، ولم يقل بدل {مَعَ سُلَيْمَانَ} على يد سليمان؛ لأنها كانت ملكة فلم تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له بإسلامها، وإن كان الواقع كذلك. انتهى. قيل لما أراد سليمان أن يتزوجها، وكره شعر ساقيها .. أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته، فكانتا من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حباَ شديدًا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها، ورزق منها بولد اسمه داود. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

[45]

وأقرها على ملكها، وأمر الجن فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم يرَ الناس مثلها ارتفاعًا وحسنًا، وكان يزورها في الشهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان، فسبحان من لا يزول ملكه. فائدة: روي (¬1) أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فمدة ملكه أربعون سنة، ووفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام، وبين وفاته والهجرة الشريفة الإِسلامية ألف وسبع مئة وثلاث وسبعون سنة، ونقل أن قبره ببيت المقدس عند الجيسمانية، وهو وأبوه داود في قبرٍ واحد، وعاش أبوه داود مئة سنة. قصص صالح عليه السلام 45 - قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} معطوف (¬2) على قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ} واللام فيه موطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا {إِلَى ثَمُودَ} وهي قبيلة من العرب كانوا يعبدون الأصنام {أَخَاهُمْ} النسبي المعروف عندهم بالصدق والأمانة، وقوله: {صَالِحًا} عطف بيان من {أَخَاهُمْ}، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن حاذر بن ثمود، وعاش (¬3) صالح مئتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مئة سنة، وعاش هود أربع مئة سنة وأربعًا وستين سنة، وبينه وبين نوح ثمان مئة سنة. أي: أرسلناه إليهم بـ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} سبحانه أي: وحدوه بالعبادة، ولا تعبدوا غيره معه، فـ {إن} مصدرية في محل الجر بالباء المحذوفة، ويصح كونها مفسرة؛ لأن الإرسال بمعنى الوحي يتضمن معنى القول، كما في "الكرخي". و {إِذَا} في قوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} فجائية؛ أي؛ ففاجأ إرساله تفرقهم واختصامهم، فآمن فريق وكفر فريق؛ أي: استمروا على كفرهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

[46]

و {هُمْ}: مبتدأ و {فَرِيقَانِ}: خبره، وجملة {يَخْتَصِمُونَ}: صفة {فَرِيقَانِ}، والواو: فيه مجموع الفريقين، كما في "البيضاوي". وهو العامل في إذا على القول بظرفيتها؛ أي: ففي الوقت الحاضر أعني: وقت الإرسال اختصم الفريقان في الدين، كل فريق يقول الحق معي. والمراد بالفريقين (¬1): المؤمنون منهم والكافرون، ومعنى الاختصام: أن كل فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحق معه. وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل: أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه؛ وهو ضعيف. والمعنى (¬2): إذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون في الدين، فيقول كل فريق الحق معي، وهو مبين في قوله في سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} وقال الفريق الكافر: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين. ومعنى الآية: وعزتي وجلالي لقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وقلنا لهم: اعبدوا لله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره. وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين؛ فريق صدق صالحًا، وآمن بما جاء به من عند ربه، وفريق كذبه، وكفر بما جاء به وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول: أنا على الحق، وخصمي على الباطل. 46 - ثم ذكر أن صالحًا ستعطف المكذبين، وكانوا أكثر عددًا وأشد عتوا وعنادًا، حتى قالوا: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}؛ {قَالَ} صالح {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ}؛ أي: بالعقوبة التي يسوْءُكم نزولها بكم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) النسفي.

[47]

{قَبْلَ} حصول {الْحَسَنَةِ} والخيرات التي بشرتكم بها في الدنيا والآخرة إن أنتم مؤمنون. والاستعجال: طلب الشيء قبل أوانه، وأصل {لِمَ} لما على أنه استفهام، حذفت ألفها فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة في صورة الجر بالحرف؛ أي: قال لهم: لأي غرض تطلبون عجلة العقوبة حيث قلتم ائتنا بما تعدنا قبل التوبة، فتؤخرونها إلى حين نزول العذاب، فإنهم كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون: إن وقع تبنا حينئذٍ وإلا فنحن على ما كنا عليه. ثم نصحهم، وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون، فقال: {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلا؛ أي: هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} سبحانه وتتوبون إليه من كفركم، فيغفر لكم عظيم جرمكم، ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها؛ إذ قد جرت سنته أن لا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة، أي (¬1): رجاء أن ترحموا أو لكي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازًا؛ إما لأن العذاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهًا، 47 - فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم {قَالُوا}؛ أي: قال الفريق الكافر منهم لصالج ومن معه: إنا قد {اطَّيَّرْنَا} وتشاءمنا {بِكَ} يا صالح {و} بـ {مَنْ} دخل {مَعَكَ} في دينك؛ أي: كرهنا فالكم وفأل دينكم، حيث (¬2) تتابعت علينا الشدائد والمصائب. من القحط والاختلاف منذ اخترعتم دينكم هذا، وكانوا قحطوا عند مبعثه بسبب تكذيبه، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك فنسبوه إلى مجيئه، يعنون: شدتنا من شؤمك ومن شؤم من آمن معك؛ أي: من قبح حالكم وقبح دينكم، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفرًا أو أمرًا من الأمور نفروا - حركوا - طائرًا من وكره، فإن طار يمنةً ساروا وفعلوا ما عزموا، وإن طار يسرةً تركوا ذلك. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

وفي "الفتوحات": تشاءمنا؛ أي: أصابنا الشؤم؛ أي: الضيق والشدة. وفي "القرطبي": الشؤم النحس، ولا شيء أضر ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة، ومن ظن أن خوار بقرة، أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورًا .. فقد جهل. اهـ وأصل {اطَّيَّرْنَا} تطيرنا، وقد قرىء بذلك فادغمت التاء في الطاء، واجتلبت الهمزة لسكون الطاء، فإذا ابتدأت قلت: اطيرنا، وإذا وصلت لم تذكر الهمزة وتسقط لأنها همزة وصل. فلما قالوا ذلك {قَالَ} لهم صالح {طَائِرُكُمْ}؛ أي: حظكم ونصيبكم من الخير والشر مكتوب {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ومقدر عليكم من عنده تعالى، لا من عندنا. وقيل: طائركم؛ أي: شدتكم ورخاؤكم من عند الله تعالى، لا من عندنا. وقال ابن عباس: الشؤم: الشدة التي أتتكم من عند الله بكفركم. وقيل: طائركم؛ أي: عملكم عند الله سمي طائرًا؛ لسرعة صعوده إلى السماء. وقيل طائركم؛ أي: سببكم الذي جاء منه شركم عند الله؛ وهو قدره، سمي القدر طائرًا لسرعة نزوله، ولا شيء أسرع من قضاء محتوم. والمعنى: أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله تعالى بسبب كفركم، ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}؛ أي: تختبرون (¬1) بتعاقب السراء والضراء؛ أي: الخير والشر، والدولة والنكبة، والسفولة والصعوبة، أو تعذبون بذنوبكم. وقيل: يفتنكم غيركم. وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه. واختبار الله تعالى (¬2): إنما هو لإظهار الجودة والرداءة، ففي الأنبياء والأولياء والصلحاء تظهر الجودة، ألا ترى أن أيوب عليه السلام امتحن فصبر، فظهر للخلق درجته وقربه من الله تعالى، وفي الكفار والمنافقين والفاسقين تظهر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[48]

الرداءة. حكي أن امرأة مرضت مرضًا شديدًا طويلًا، فأطالت على الله تعالى في ذلك وكفرت، ولذا قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. والابتلاء مطلقًا؛ أي: سواء كان في صورة المحبوب، أو في صورة المكروه رحمة من الله تعالى في الحقيقة؛ لأن مراده جذب عبده إليه، فإن لم ينجذب حكم عليه بالغضب في الدنيا والآخرة، كما ترى في الأمم السالفة، ومن يليهم في كل عصر إلى آخر الزمان. والمعنى: أي (¬1) بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلني إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به، فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه. 48 - ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد، فقال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَة}؛ أي: في مدية ثمود، وهي الحجر، وتقدم في سورة الحجر أن الحجر واد بين المدينة والشام، وهو ديار ثمود. {تِسْعَةُ رَهْطٍ}؛ أي: تسعة أشخاص، وبهذا الاعتبار وقع تمييزًا للتسعة، لا باعتبار لفظه، فإن مميز الثلاثة إلى العشرة مخفوض مجموع. قال (¬2) ابن عباس - رضي الله عنهما -: أسماؤهم: وهي، ورعيم، وهرمي، وهريم، ودابّ، وصواب، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف عاقر الناقة، وأسماؤهم عن وهب بن منبه قد نظمها بعضهم في بيتين، فقال: رَبَابٌ وَغَنْمٌ وَالْهَذِيْلُ وَمِسْطَعٌ ... عُمَيْرٌ بَسِيْطٌ عَاصِمٌ وَقِدَارُ وَسَمْعَانُ رَهْطٍ الْمَاكِرِيْنَ بِصَالِحٍ ... أَلَا إِنَّ عُدْوَانَ النُفُوْسِ جَوَارُ وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم. ثم وصف التسعة بقوله: {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يعملون الفساد في أرض الحجر بالشرك، وسائر أنواع المعاصي {وَلَا يُصْلِحُونَ}؛ أي: لا يفعلون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[49]

شيئًا من الإصلاح، ففائدة العطف بيان أن إفسادهم لا يخالطه شيء ما من الإصلاح. 49 - {قَالُوا} استئناف لبيان (¬1) بعض ما فعلوا من الفساد، أي: قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة، وتوعدهم بقوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} {تَقَاسَمُوا}؛ أي: تحالفوا، وهو أمر مقول لـ {قَالُوا}، أو ماض وقع حالًا من {الواو} في {قالوا} بإضمار قد؛ أي: والحال أنهم تقاسموا بالله {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي: احلفوا لنباغتنه وأهله بالهلاك ليلًا؛ أي: لنأتين صالحًا ليلًا بغتة، فلنقتلنه وأهله {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ}؛ أي: لولي دم صالح وأهله إن سألنا عنه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}؛ أي: ما حضرنا هلاكه وهلاكهم فضلًا عن أن نتولى إهلاكهم فيكون مصدرًا، أي: ما هلاكهم فيكون زمانًا، أو مكان هلاكهم فيكون اسم مكان. ولا ندري من قتله ولا قتل أهله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}؛ أي: ونحلف إنا لصادقون فيما نقول، فهو من تمام القول، وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضًا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحر بهم أن لا يقتلوا صالحًا. وقرأ الجمهور (¬2): {تَقَاسَمُوا} وابن أبي ليلى: {تقسموا} بغير ألف وتشديد السين، وكلاهما من القسم، والتقاسم والتقسيم كالتظاهر والتظهير، والظاهر أن قوله: {تَقَاسَمُوا} فعل أمر محكي بالقول، وهو قول الجمهور. وقرأ (¬3) حمزة والكسائي: {لتبيتنه} بتاء فوقية بعد اللام، وبالرفع للجمع {ثم لتقولن} بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ مجاهد وأبو رجاء وحميد بن قيس: {ليبيتنه} بياء وتاء مضمومتين. {ثم ليقولن} بياء مفتوحة وقاف مضمومة وواو ساكنة ولام مضمومة. وعبارة أبي حيان: وقرأ الجمهور (¬4): {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} بالنون فيهما، والحسن وحمزة والكسائي بتاء خطاب الجمع، ومجاهد وابن وثاب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح. (¬4) البحر المحيط.

[50]

وطلحة والأعمش بياء الغيبة، والفعلان مسندان للجمع، وحميد بن قيس بياء الغيبة في الأول مسندًا للجمع؛ أي: {ليبيتنه} أي: قوم منا، وبالنون في الثاني؛ أي: جميعنا يقول: لوليه، والبيات: مباغتة العدو. وقرأ الجمهور: {مَهْلِكَ} - بضم الميم وفتح اللام - من أهلك الرباعي. وقرأ حفص والمفضل: {مَهْلِكَ} بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر وأبان عن عاصم بفتهما، فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان؛ أي: ما شهدنا إهلاك أهله، أو زمان إهلاكهم، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان، ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان؛ أي: ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانه. والثالثة يقتضي القياس أن يكون مصدرًا؛ أي: ما شهدنا هلاكه. والمعنى: أنهم توافقوا (¬1) وحلفوا بالله لندخلن على صالح ومن آمن به، وهم أربعة آلاف ليلًا بغتة، ونقتلهم جميعًا، ثم لنقولن لولي دم صالح: ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه، فلا ندري من قتلهم وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم؛ أي: لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر. قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحًا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرًا منهم، 50 - ومن ثم قال سبحانه محذرًا لهم ولأمثالهم: {وَمَكَرُوا مَكْرًا}؛ أي (¬2): غدروا غدرًا بهذه المحالفة حين قصدوا تبييت صالح وأهله {وَمَكَرْنَا مَكْرًا}؛ أي: جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب لهم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بمكرنا؛ أي: وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح؛ إذ ساروا إليه ليلًا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم، والمكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة. 51 - {فَانْظُرْ} أي: فكر يا محمد في أنه {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}؛ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

أي: على أيّ حال وقع وحدث عاقبة مكرهم، وهي {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}؛ أي: استأصلناهم بالهلاك؛ أي: أهلكنا هؤلاء التسعة الماكرين بصالح {وَقَوْمَهُمْ} الذين لم يكونوا معهم في مباشرة التبييت {أَجْمَعِينَ} بحيث لم يشذ منهم شاذ. أي: ففكر (¬1) يا محمد كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم؟ فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضي النظر، ويسترعي الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم في جميع الأزمان. روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه، ولما قال لهم بعد عقرهم الناقة: إنكم تهلكون إلى ثلاثة أيام .. قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبقت عليهم الشعب، فهلكوا وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة، ونجى لله صالحًا ومن آمن معه. ومعنى الآية (¬2): أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك. ومعنى التأكيد بـ {أَجْمَعِينَ} أنه لم يشذ منهم أحد، ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم، فهو تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه. وقال ابن الجوزي في صفة إهلاكهم أربعة أقوال (¬3): أحدهما: أنهم أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، قاله ابن عباس. والثاني: رماهم الله تعالى بصخرة فأهلكتهم، قاله قتادة. والثالث: أنهم دخلوا غارًا ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدت باب الغار، قاله ابن زيد. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) زاد المسير.

[52]

والرابع: أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضًا؛ ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم، قاله مقاتل. اهـ. وقرأ الجمهور (¬1): {إنا دمرناهم} بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي بفتحها على أن جملة {أنام} بدل من {عاقبة مكرهم} أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أي: العاقبة تدميرهم، أو يكون على تقدير حرف الجر؛ أي: لأنا دمرناهم، وقرأ أبيّ: {أن دمرناهم} وهي أن التي شأنها أن تنصب المضارع، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا بفتح الهمزة. 52 - ثم أكد ما تقدم، وقرره بقوله: {فَتِلْكَ} الآثار الموجودة في ديار ثمود {بُيُوتُهُمْ}؛ أي: بيوت الذين كذبوا صالحًا حالة كونها {خَاوِيَةً}؛ أي: خالية عن الأهل والسكان، من خوى البطن إذا خلا، أو حالة كونها ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، وقال ابن عباس: أي: ساقط أعلاها على أسفلها. {بِمَا ظَلَمُوا}؛ أي: بسبب ظلمهم المذكور وغيره كالشرك؛ أي: فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم؛ قد أهلكهم الله سبحانه بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله. والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية. وقرأ الجمهور (¬2): {خَاوِيَةً} بالنصب على الحال. قال الزمخشري: عمل فيها ما دل عليه {تِلْكَ} من معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر وعاصمَ بن عمرَ ونصر بن عاصم والجحدري برفع {خَاوِيَةً} على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي خاوية، أو على الخبر عن {تلك} و {بُيُوتُهُمْ} بدل من {تلك}، أو عطف بيان له، أو على أنه خبر كان لـ {تلك}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في فعلنا بثمود ما قصصناه عليك، وهو استئصالنا إياهم بالتدمير، وخلاء مساكنهم منهم، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام. {لَآيَةً} عظيمة وعبرة بليغة وعظة زاجرة. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[53]

أي: يتصفون بالعلم فيتعظون بها؛ أي: لمن كان من أولي العلم والمعرفة، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، بحسب السنن التي وضعت في الكون. يعني (¬1): اعلم يا محمد أني فاعل ذلك العذاب بكفار قومك في الوقت المؤقت لهم، فليسوا خيرًا منهم، كما في "كشف الأسرار". 53 - وبعد أن ذكر من هلكوا .. أردفهم بمن أنجاهم، فقال: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: صالحًا ومن معه من المؤمنين من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود. وقوله {وَكَانُوا يَتَّقُونَ}؛ أي: الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا، معطوف على الصلة، فلذلك خصوا بالنجاة؛ أي: وإنما نجوا (¬2)؛ لأنهم كانوا يتقون سخط الله، ويخافون شديد عذابه، وأليم عقابه بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم، وكانوا أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، وهي مدينة من مدن اليمن، وسميت حضرموت؛ لأن صالحًا لما دخلها مات، ثم بنوا مدينة يقال لها: حاضوراء. وفي هذا إيماء (¬3) إلى أن الله ينجي محمدًا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركي قريش، حين يخرج من بين ظهرانيهم، كما أحل بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون به إلى أطراف الشام، ونزل رملة وفلسطين. وفيه أيضًا إشارة (¬4) إلى أن الهجرة من أرض الظلم إلى أرض العدل لازمة خصوصًا من أرض الظالمين المؤاخذين بأنواع العقوبات؛ إذ مكان الظلم ظلمة فلا نور للعبادة فيه، وإن الإنسان إذا ظلم في أرض ثم تاب، فالأفضل له أن يهاجر منها إلى مكان لم يعص الله تعالى فيه. فإن قلت (¬5): لم قال الله سبحانه هنا: {أنجينا} صيغة أفعل، وقال: في حم السجدة {ونجينا} بصيغة فعل المضعف، فما الفرق بين الموضعين؟. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان. (¬5) فتح الرحمن بتصرف.

[54]

قلت: قال هنا: {أنجينا} بصيغة أفعل موافقة لما بعده، حيث قال هنا فيما بعد: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ وَأَمْطَرْنَا} وقال هناك: {نجَّينا} بصيغة فعل المضعف موافقة لما قبله حيث قال قبله: {وَزَينَا} وموافقة لما بعده أيضًا، حيث قال بعده: {وَقَيَّضْنَا} والله أعلم بأسرار كتابه. قصة لوط عليه السلام 54 - وقوله: {وَلُوطًا} منصوب بفعل مضمر معطوف على {أَرْسَلْنَا} في صدر قصة صالح. وقوله: {إِذْ قَالَ} ظرف للإرسال المحذوف، على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال، وما جرى بينه وبين قومه من الأفعال والأقوال. والمعنى: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا لوطًا بن هاران وقت قوله: {لِقَوْمِهِ} الساكنين معه في قرية سدوم على وجه الإنكار عليهم والتوبيخ لهم {أَتَأْتُونَ}؛ أي: هل تفعلون الفعلة {الْفَاحِشَةَ}؛ أي: المتناهية في القبح. والمراد بها هنا اللواطة، والإتيان في الأدبار. وقال بعضهم: انتصاب {لُوطًا} بإضمار أذكر و {إِذْ} بدل منه؛ أي: واذكر لوطًا إذ قال لقومه على وجه الإنكار عليهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}؛ إما من بصر القلب وهو العلم. والمعنى (¬1): أي: تأتونها، والحال أنكم تعلمون فحشا علمًا يقينيًا، وتعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح من غيره، ولذا قيل: فساد كبير جاهل متنسك وعالم متهتك، أو من نظر العين؛ أي: وأنتم تبصرونها بعضكم من بعض؛ لما أنهم كانوا يعلنون بها، ولا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًا وتمردًا، فيكون أفحش. وجملة قوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل النصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار. والمعنى (¬2): واذكر يا محمد لقومك قصة لوط إذ قال لقومه منذرًا ومحذِّرًا لهم: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بني آدم مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع، واقتراف القبائح ممن يعلم قبحها أشنع. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[55]

55 - ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام؛ ليكون أوقع في النفس، فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}؛ أي: لتطؤون أدبار الرجال {شَهْوَةً}؛ أي: لأجل الشهوة والتلذذ فقط، كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف، ولا قصد ولد. {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ}؛ أي: حال كونكم متجاوزين النساء اللاتي هن محالُّ الشهوة. وفي قوله: {أَئِنَّكُمْ ...} إلخ تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} التحريم، أو العقوبة على هذه المعصية؛ أي: بل أنتم قوم سفهاء ماجنون متجاهلون، حيث لا تعملون بموجب علمكم، فإن من لا يجري على مقتضى بصارته وعلمه، ويفعل فعل الجاهل هو والجاهل سواء، {تَجْهَلُونَ} صفة لـ {قَوْمٌ}، والتاء فيه؛ لكون الموصوف في معنى المخاطب. فإن قلت (¬1): إذا فسرنا {تُبْصِرُونَ} بالعلم، وقد قال بعده {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فيكون العلم جهلًا فبينهما مناقضة؟ تلت: معناه تفعلون فعل الجاهلين، وتعلمون أنه فاحشة، وقيل: تجهلون العاقبة، وقيل: أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها. وقرىء (¬2): {أَئِنَّكُمْ} بتحقيق الهمزتين وبتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين أو تركه، فالقراءات أربع. واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من {أَئِنَّكُمْ}، فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. ذكره "القرطبي". ومعنى الآية: أي (¬3) أينبغي أن تاتوا الرجال، وتقودكم الشهوة إلى ذلك، وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ماجنون. وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم، وعظيم شناعته من وجوه: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الجلالين. (¬3) المراغي.

1 - قوله: {الرِّجَالَ} فيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا. 2 - قوله: {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} وفي ذلك إيماء إلى أن تركهن، واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع، وفعل قبيح. 3 - قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وفي هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلاء الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون. ونحو الآية قوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)}. الإعراب {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)}. {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ...}، إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قَالَتْ}، وإن شئت قلت: {يَا}: حرف نداء. {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة، {هَا}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الْمَلَأُ} صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {أَفْتُونِي}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {فِي أَمْرِي} متعلق بـ {أَفْتُونِي}. {مَا}: نافية. {كُنْتُ قَاطِعَةً}: فعل ناقص واسمه، وخبره. {أَمْرًا}: مفعول به. لـ {قَاطِعَةً}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ} {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَشْهَدُونِ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، وعلامة نصبه حذف النون، والنون الموجودة نون الوقاية، والواو فاعل، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره إلى شهودكم إياي، الجار والمجرور متعلق بـ {كان}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة

مستأنفة. {نَحْنُ}: مبتدأ. {أُولُو} خبر مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. {قُوَّةٍ}: مضاف إليه. {وَأُولُو بَأْسٍ}: معطوف عليه. {شَدِيدٍ}: صفة {بَأْسٍ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَالْأَمْرُ}: مبتدأ. {إِلَيْكِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ أي: والأمر موكول إليك، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {فَانْظُرِي}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلنا لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فنقول لك. {انْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}: {انْظُرِي}: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول ثان لـ {تَأْمُرِينَ}. مقدم عليه وجوبًا للزومه الصدارة، وهو معلق للنظر عن العمل في لفظ ما بعده. {تَأْمُرِينَ}: فعل مضارع وفاعل مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والمفعول الأول محذوف تقديره: تأمريننا. {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}. {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الْمُلُوكَ}: ناصب واسمه. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {دَخَلُوا}: فعل وفاعل. {قَرْيَةً}: مفعول به على التوسع، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {أَفْسَدُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب. {وَجَعَلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {أَفْسَدُوهَا}. {أَعِزَّةَ أَهْلِهَا}: مفعول {جَعَلُوا} الأول ومضاف إليه. {أَذِلَّةً}: مفعول ثان لـ {وَجَعَلُوا}، وجملة {إِذَا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَتْ} {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: عاطفة. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {يَفْعَلُونَ}: فعل وقاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّ} على كونها مقولًا لـ {قَالَتْ}، والتقدير: ويفعلون فعلًا كائنًا كذلك المذكور

من جعل الأعزة أذلة. {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}. {وَإِنِّي}: {الواو}: عاطفة. {إِنِّي} نا صب واسمه. {مُرْسِلَةٌ}: خبره، ومفعوله محذوف تقديره: رسلًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إِنّ} في قوله: {الْمُلُوكَ}. {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {مُرْسِلَةٌ}. {بِهَدِيَّةٍ}: متعلق به أيضًا. {فَنَاظِرَةٌ}: معطوف على {مُرْسِلَةٌ}. {بِمَ}: {الباء}: حرف جر، {م}: اسم استفهام في محل الجر بالباء مبني بسكون على الألف المحذوف، فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {يَرْجِعُ}، ولا يجوز تعلقه بـ {نَاظِرَةٌ}؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. {يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول {نَاظِرَةٌ} معلق عنه باسم الاستفهام {فَلَمَّا جَاءَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فأعدت الهدية فأرسلتها مع رسول إلى سليمان. {لَمَّا}: اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. {جَاءَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على الرسول. {سُلَيْمَانَ}: مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَمَّا} في محل جر بالإضافة. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانَ}، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة {أَتُمِدُّونَنِ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي. {تُمِدُّونَنِ}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، والياء المحذوفة مفعول به. {بِمَالٍ} معلق به؛ أي: تعاونونني بالمال، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَمَا}: {الفاء}: تعليلية معللة؛ لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه إياهم. {ما}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {آتَانِيَ}: فعل ماض ونون وقاية ومفعول به مقدم. {اللَّهُ}: فاعل مؤخر، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقدمره: ما آتانيه الله. {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على

كونها معللة للإنكار. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}. {آتَاكُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما آتاكموه، وهو العائد على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب للإضراب الانتقالي؛ لبيان السبب الذي حداهم إلى إمداده بالمال. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {بِهَدِيَّتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما بعده، وجملة {تَفْرَحُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}. {ارْجِعْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود إلى رسول بلقيس. {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ}: {الفاء}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {نأتينهم}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على سليمان ومن معه تقديره: نحن، و {الهاء}: مفعول به، و {الميم}: علامة الجمع المذكور {جُنُودٍ} متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَا}: نافية للجنس. {قِبَلَ}: في محل النصب اسمها مبني على الفتح. {لَهُمْ}: جار ومجرور خبر {لَا}. {بِهَا}: متعلق بـ {قِبَلَ} لتضمنه معنى المصدر؛ لأن حقيقته المقابلة والمقاومة، يقال: مالي به قبل؛ أي: طاقة، وجملة {لَا} في محل الجر صفة لـ {جُنُودٍ}. {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {نُخْرِجَنَّهُمْ}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}، و {الهاء}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة القسم الأول. {مِنْهَا}: متعلق بـ {نخرج}، والضمير يعود إلى سبأ؛ أي: بلادهم. {أَذِلَّةً}: حال من ضمير المفعول. {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: {الواو}: حالية. {هم صاغرون}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ثانية من الهاء في {لنخرجنهم} {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ

أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على سليمان، والجملة مستأنفة. {يَا}: حرف نداء. {أَيّ}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه {الْمَلَأُ} صفة لـ {أي}، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَيُّكُمْ}: مبتدأ ومضاف إليه. {يَأْتِينِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {أي} ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {بِعَرْشِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَأْتِينِي} {قَبْلَ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَأْتِينِي} {أَنْ} حرف نصب ومصدر {يَأْتُونِي} فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، علامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: مفعول به. {مُسْلِمِينَ}: حال من فاعل {يَأْتُونِي}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. والتقدير: قبل إتيانهم إياي منقادين خاضعين. {قَالَ عِفْرِيتٌ}: فعل وفاعل. {مِنَ الْجِنِّ}: صفة لـ {عِفْرِيتٌ}، والجملة مستأنفة. {أَنَا}: مبتدأ. {آتِيكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {عِفْرِيتٌ} ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}: {بِهِ}: متعلق بـ {آتِيكَ}، وكذا الظرف في قوله: {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ}: متعلق به. {أن}: حرف مصدر. {تَقُومَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، وفاعله ضمير يعود على سُليمانُ. {مِنْ مَقَامِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَقُومَ}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. تقديره قبل قيامك من مقامك. {وَإِنِّي}: {الواو}: عاطفة. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {عَلَيْهِ}: متعلق بما بعده. {لَقَوِيٌّ}: {اللام}: حرف ابتداء، {قَوِيٌّ}: خبر {إن}. {أَمِينٌ}: خبر ثان لها؛ أي: قوي على حمله أمين على ما فيه، لا أختلس منه شيئًا، ولا أعبث به، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة قوله {أَنَا آتِيكَ بِهِ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ

مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}. {قَالَ الَّذِي}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {عِنْدَهُ}: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. {عِلْمٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنَ الْكِتَابِ}: صفة لـ {عِلْمٌ}، والجملة الاسمية صلة الموصول. {أَنَا}: مبتدأ، وجملة {آتِيكَ بِهِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَبْلَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {آتِيكَ}. {أَنْ}: حرف مصدر ونصب. {يَرْتَدَّ}: منصوب بـ {أَنْ}. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {طَرْفُكَ}: فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: قبل ارتداد طرفك إليك. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف. تقديره: ودعا آصف بالعلم الذي عنده، فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع بمجلس سليمان، فلما رآه. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. {رَآهُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ} ومفعول به. {مُسْتَقِرًّا}: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {ما} في محل جر بالإضافة. {عِنْدَهُ}: متعلق بـ {مُسْتَقِرًّا}؛ أي: ساكنًا عنده. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {هَذَا}: مبتدأ. {مِنْ فَضْلِ رَبِّي}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِيَبْلُوَنِي}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يبلو}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، وفاعله ضمير يعود على {رَبِّي}، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لبلائه إياي، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق تقديره: تفضل عليّ بإحضار هذا العرش في قدر طرفة عين لبلائه إياي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَأَشْكُرُ}: {الهمزة}: للاستفهام الذي يطلب به تعيين أحد الشيئين. {أَشْكُرُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {سُلَيْمَانُ}، وجملة {أَأَشْكُرُ} في محل النصب بدل من الياء في {يبلوني}، فهي بمثابة المفعول به. {أَمْ}: حرف عطف متصلة، وجملة {أَكْفُرُ} معطوفة على جملة

{أَشْكُرُ} {مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {شَكَرَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن}. {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة الجواب جوازًا. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {يَشْكُرُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} {لِنَفْسِهِ}: متعلق بـ {يَشْكُرُ}، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب {مَن} الشرطية، وإنما جزمت المحل مع كونه مضارعًا؛ ليشاكل الجواب الشرط، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. {أَكْفُرُ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {إن}: حرف نصب {رَبِّي}: اسمها. {غَنِيٌّ}: خبر أول لها. {كَرِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {إن} في محل الجزم جواب {مَن} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)} {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، والجملة مستأنفة. {نَكِّرُوا}: فعل وفاعل. {لَهَا}: متعلق به. {عَرْشَهَا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {نَنْظُرْ}: فدل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على {سليمان} ومن معه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، وقرىء بالرفع على الاستئناف. {أَتَهْتَدِي} {الهمزة}: للاستفهام الذي يطلب به تعيين أحد الشيئين. {تَهْتَدِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة في محل النصب مفعول {نَنْظُرْ} علق عنها بالاستفهام. {أَمْ}:

حرف عطف معادلة للهمزة. {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على بلقيس. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور خبر {تَكُونُ}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {تَهْتَدِي}، وجملة {لَا يَهْتَدُونَ} صلة الموصول. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فجاءت بلقيس. {لَمَّا}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. {جَاءَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصغة. {أَهَكَذَا عَرْشُكِ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ} جواب {لَمَّا} وجملة {لَمَّا} معطوفة على الجملة المحذوفة، وإن شئت قلت: {الهمزة}: للاستفهام الاستخباري. {ها}: حرف تنبيه. {كذا}: جار ومجرور خبر مقدم. {عَرْشُكِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، والأصل اتصال هاء التنبيه باسم الإشارة، فكان مقتضاه أن يقال: أكهذا عرشك. وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر كافًا، فلو قلت: أبهذا أمرت، أو لهذا فعلت .. لم يجز فيه ذلك الفصل، فلا يجوز أن يقال: أها بذا أمرت، أها لذا فعلت؛ لعدم السماع. {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. {كَأَنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: في محل الرفع خبره، وجملة {كأن}: في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {وَأُوِتينَا}: {الواو}: عاطفة على محذوف تقديره: فلما سمعوا قولها: {كَأَنَّهُ هُوَ} قالوا: أصابت في الجواب. {وَأُوتِينَا}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل. {الْعِلْمَ}: مفعول ثان لـ {أُوتِينَا}. {مِنْ قَبْلِهَا}: متعلق بـ {أُوتِينَا}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على تلك المحذوفة على كونها مقول {قالوا} المقدر. {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على {أوتينا}. {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)}. {وَصَدَّهَا}: فعل ومفعول. {مَا}: موصولة في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة {أُوتِينَا}؛ لأنها من جملة كلام سليمان. {كَانَتْ}: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على بلقيس، وجملة {تَعْبُدُ} في محل النصب خبر

{كَان}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَعْبُدُ}، وجملة {كَان} صلة لـ {مَا} الموصولة. {إِنَّهَا}: ناصب واسمه. {كَانَتْ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على بلقيس. {مِنْ قَوْمٍ}: خبر {كان}. {كَافِرِينَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهَا}: متعلق به. {ادْخُلِي الصَّرْحَ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ} والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: {ادْخُلِي}: فعل أمر وفاعل. {الصَّرْحَ}: مفعول به على التوسع، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فدخلته. {لما}: اسم شرط غير جازم في نصب على الظرفية الزمانية. {رَأَتْهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة فعل شرط لـ {لما}. {حَسِبَتْهُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على بلقيس ومفعول أول. {لُجَّةً}: مفعول ثان لحسب، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَكَشَفَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس معطوف على {حَسِبَتْهُ}. {عَنْ سَاقَيْهَا}: متعلق بـ {كَشَفَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمَانُ}، والجملة مستأنفة {إِنَّهُ صَرْحٌ}: ناصب واسمه وخبره. {مُمَرَّدٌ}: صفة أولى لـ {صَرْحٌ}. {مِنْ قَوَارِيرَ}: صفة ثانية لـ {صَرْحٌ}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {ظَلَمْتُ نَفْسِي}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها جواب النداء. {وَأَسْلَمْتُ}: فعل وفاعل معطوف على {ظَلَمْتُ}. {مَعَ سُلَيْمَانَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {أَسْلَمْتُ}؛ أي: حالة كوني مصاحبة

لسليمان. {لِلَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَسْلَمْتُ}. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: صفة للجلالة. {الْعَالَمِينَ}: مضاف إليه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)} {وَلَقَدْ} {الواو}: استئثافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَى ثَمُودَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {أَخَاهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {صَالِحًا}: بدل من {أَخَاهُمْ}، أو عطف بيان له، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان قصة صالح {أَنِ}: مصدرية. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به في محل النصب بـ {أن} المصدرية مبني على حذف النون، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة؛ أي: بعبادة الله، والجار المقدر متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، ويصح كونها مفسرة؛ لأن الإرسال يتمضن معنى القول. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب. {هُمْ}: مبتدأ. {فَرِيقَانِ}: خبر، وجملة {يَخْتَصِمُونَ} صفة لـ {فَرِيقَانِ} على المعنى، نحو قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ لأن كل فريق يضم جماعة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ...} الخ؛ لأنها في معنى: ولقد أرسلنا صالحًا إلى ثمود، ففاجأ الإرسال افتراقهم واختصامهم. {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {صَالِحًا}، والجملة مستأنفة. {يَا قَوْمِ} إلى قوله: {قَالُوا} مقول محكي، وإن شئت قلت: {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {لِمَ}: {اللام}: حرف جر، {ما}: اسم استفهام في محل الجر باللام، حذفت ألفها لدخول الجار عليه، الجار والمجرور متعلق بـ {تَسْتَعْجِلُونَ}. {تَسْتَعْجِلُونَ} فعل وفاعل، والجملة في

محل النصب مقول {قَالَ}. {بِالسَّيِّئَةِ}: متعلق بـ {تَسْتَعْجِلُونَ}. {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {السَّيِّئَةِ}، والمراد بـ {السيئة} العذاب، وبـ {الْحَسَنَةِ} الرحمة. {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى: هلا. {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه، وجملة {تُرْحَمُونَ} خبره، وجملة {لَعَلَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة لما قبلها. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {اطَّيَّرْنَا}: فعل ماض وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {اطَّيَّرْنَا}. {وَبِمَنْ}: معطوف على {بِكَ}. {مَعَكَ}: منصوب على الظرفية الاعتبارية متعلق بمحذوف صلة {مَنْ} الموصولة. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {صَالِحً}. {طَائِرُكُم}؛ مبتدأ ومضاف إليه. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب أضرب بها عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. قَؤم: خبره، وجملة {تُفْتَنُونَ} صفة {قَوْمٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {وَكَانَ}: {الواو}: استئنافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {فِي الْمَدِينَةِ}: خبرها مقدم على اسمها. {تِسْعَةُ} اسمها مؤخر. {رَهْطٍ}: مضاف إليه، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {يُفْسِدُونَ}: فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ {تِسْعَةُ}، وجملة {وَلَا يُصْلِحُونَ}: معطوفة على جملة {يُفْسِدُونَ}. {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {تَقَاسَمُوا}: فعل أمر وفاعل بمعنى: احلفوا، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، ويجوز أن يكون فعلًا ماضيًا، وحينئذ يجوز أن يكون مفسرًا لـ {قَالُوا}، كأنه قيل: ما قالوا، فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون مع فاعله جملة في محل نصب على الحال؛ أي:

قالوا متقاسمين بإضمار قد {بِاللَّهِ} جار ومجرور متعلقان بـ {تَقَاسَمُوا}. {لَنُبَيِّتَنَّهُ}: {اللام}: موطئة للقسم، {نبيتن}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، و {الهاء}: مفعول به. {وَأَهْلَهُ}: معطوف على {الهاء}، أو مفعول معه، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {لَنَقُولَنَّ} {اللام}: موطئة للقسم. {نَقُولَنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن. {لِوَلِيِّهِ}: متعلق به، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأول. {مَا}: نافية. {شَهِدْنَا}: فعل وفاعل. {مَهْلِكَ}: مفعول به. {أَهْلِهِ} مضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {لَنَقُولَنَّ}. {وَإِنَّا}: {الواو}: عاطفة، أو حالية. {إنا}: ناصب واسمه. {لَصَادِقُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {صَادِقُونَ}: خبر {إِنَّا}، والجملة الاسمية معطوفة على جمل {لَنَقُولَنَّ}، أو في محل النصب على الحال من فاعل {لَنَقُولَنَّ}. {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} {وَمَكَرُوا} فعل وفاعل، {مَكْرًا}: مفعول مطلق، والجملة مستأنفة. {وَمَكَرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {وَمَكَرُوا}. {مَكْرًا}: مفعول مطلق أيضًا. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هُمْ}: مبتدأ، وجمل {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {مَكَرْنَا} المحذوف؛ أي: ومكرناهم وهم لا يشعرون مكرنا بهم، أو حال من فاعل {وَمَكَرُوا}. {فَانْظُرْ}: {الفاء}: استئنافية، {انْظُر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها للزومه الصدارة. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}: اسمها ومضاف إليه، وجمل {كَانَ} في محل النصب مفعول

{انْظُر}؛ لأن الاستفهام علقه عن العمل في لفظه، أو في محل النصب بنزع الخافض. {أَنَّا}: ناصب واسمه. {دَمَّرْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. {وَقَوْمَهُمْ}: معطوف على ضمير المفعول. {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه، وجملة {دَمَّرْنَاهُمْ} في محل الرفع خبر {أَنَّا} وجملة {إن} بالكسر مستأنفة، وبالفتح بدل من {العاقبة} أو خبر لمبتدأ محذوف، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير. {فَتِلْكَ}: {الفاء}: عاطفة، {تِلْكَ}: مبتدأ. {بُيُوتُهُمْ}: خبر. {خَاوِيَةً} حال من {بُيُوتُهُمْ}، والعامل فيها معنى الإشارة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} مقررة لها. {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب ظلمهم، الجار والمجرور متعلق بـ {خَاوِيَةً}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَآيَةً}: {اللام}: حرف ابتداء. {آيَةً}: اسم {إِنَّ} مؤخر، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور صفة لـ {آيَةً}. وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة {قَوْمٍ}. {وَأَنْجَيْنَا}: {الواو}: استئنافية. {أَنْجَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {الَّذِينَ}: مفعول به لـ {أَنْجَيْنَا}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَتَّقُونَ} خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}. {وَلُوطًا}: مفعول به لفعل محذوف تقديره: ولقد أرسلنا لوطًا، والجملة المحذوفة إما مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ: أرسلنا المقدر، أو بـ: اذكر المحذوف. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {لوط}، وجملة {قَالَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لِقَوْمِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {أَتَأْتُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي.

{تَأْتُونَ}: فعل وفاعل. {الْفَاحِشَةَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَأَنْتُمْ}: {الواو}: حالية. {أَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {تُبْصِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تأتون}. {أَئِنَّكُمْ}: {الهمزة}: للاستفام الإنكاري التوبيخي. {إنكم}: ناصب واسمه. {لَتَأْتُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {تاتون}: فعل وفاعل. {الرِّجَالَ}: مفعول به. {شَهْوَةً}: مفعول لأجله، أو حال من الفاعل، أو من المفعول. و {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} حال من الفاعل؛ أي: متجاوزين النساء إلى الرجال، وجملة {تَأْتُونَ} في محل الرفع خبر إن، وجمل إن في محل النصب مقول {قَالَ}. {بَلْ}: حرف اضراب. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {قَوْمٌ}: خبر، وجملة {تَجْهَلُونَ} صفة {قَوْمٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. التصريف ومفردات اللفة {أَفْتُونِي} أي: أشيروا إلى بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث. والفتوى: الجواب في الحادئة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتي في السن. والمراد بالفتوى هنا: الإشارة إليها بما عندهم، وكما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. والفتوى في العرف: هو الجواب في الحوادث المشكلة. قال بعضهم: الفتوى من الفتى؛ وهو الشاب القوي، وسميت الفتوى؛ لأن المفتي؛ أي. المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة، كما مر. {قَاطِعَةً أَمْرًا}؛ أي: باتة فيه منفذته. {تَشْهَدُونِ}؛ أي: تحضروني. {أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ}: اسم جمع بمعنى أصحاب، والواحد: ذو بمعنى صاحب، وقيل: جمع ذو على غير لفظه، وهو من ملحقات جمع المذكر السالم في إعرابه، والمؤنث أولات، وواحدتها: ذات، تقول: جاء أولو العلم وأولات الفضل، والمراد بالقوة: القوة الجسمية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات في الحرب. {أَعِزَّةَ أَهْلِهَا}: جمع عزيز بمعنى القاهر الغالب، والشريف العظيم، مأخوذ من العزة؛ وهي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب. {أَذِلَّةً}: جمع ذليل؛ أي:

بالقتل والأسر والإجلاء، وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال. {بِهَدِيَّةٍ}: وهي اسم للشيء المهدي بملاطفة ورفق. قال في "المفردات": الهدية مختصة باللطف الذي يهدي بعضنا إلى بعض. اهـ. هذا، والهدية اسم الشيء المهدي، كما أن العطية اسم للشيء المعطى، فتضاف إلى المهدي والمهدى إليه. تقول: هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها، أو أُهديَت إليه، والمضاف إليه في قوله: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} هو المهدي إليه؛ أي: بما يُهدى إليكم، وأما نحن فلسنا كذلك. وفي "الفتوحات": قوله: {بِهَدِيَّتِكُمْ} والهدية: مصدر بمعنى الإهداء مضاف لفاعله؛ أي: تفرحون بما تهدونه افتخارًا على أمثالكم، أو لمفعوله؛ أي: تفرحون بما يهدى إليكم حبًا في كثرة أموالكم، فإن الهدايا مم يورث المودة ويذهب الشحناء، وفي الحديث: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا" ولقد أحسن من قال شعرًا: هَدَايَا النَّاسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ ... تُوَلِّدُ في قُلُوْبِهِمُ الْوِصَالاَ وَتَزْرَعُ في الضَّمِيْرِ هَوًى وَوِدًّا ... وَتُكْسِبُهُمْ إِذَا حَضَرُوْا جَمَالاَ كما مرَّ. {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} سمي المال مالًا؛ لكونه مائلًا أبدًا ونائلًا، ولذلك يسمى عرضًا، وعلى هذا دل من قال: "المال قحبة: يكون يومًا في بيت عطار، ويوماَ يكون في بيت بيطار، كما في "المفردات" يقال: أمده بالمال إذا ساعده به وزاده منه. {بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي: لا طاقة لهم بمقاومتها، ولا قدرة لهم على مقابلتها. قال في "المختار": رآه قبلًا - بفتحين - وقبلا - بضمتين - وقبلًا - بكسر بعده فتح -؛ أي: مقابلة وعيانا. قال تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} قبل فلان حق؛ أي: عنده. وما لي به قبل؛ أي: طاقة. انتهى. والذي يفهم من "المفردات": أنه في الأصل بمعنى عند، ثم يستعار للقوة والقدرة على المقابلة؛ أي: المجازاة، فيقال: لا قبل لي بكذا؛ أي: لا يمكنني أن أقابله، ولا قبل لهم

بها؛ أي: لا طاقة لهم على دفاعها. {وَهُمْ صَاغِرُونَ} يقال: صغر صغرًا بالكسر في ضد الكبر، وصغارًا بالفتح في الذلة، والصاغر الراضي بالمنزلة الدنيئة، وكل من هذه الذلة والصغار مبني على الإنكار والإصرار، كما أن كلًّا من العز والشرف مبني على التصديق والإقرار. {عِفْرِيتٌ} العفريت من البشر الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين والجن المارد، وجمعه: عفاريت، ومؤنثه: عفريته، والعفرية: مثله. {مِنْ مَقَامِكَ}؛ أي: مجلسك الذي تجلس فيه للحكم. {لَقَوِيٌّ}؛ أي: قادر على حمله لا أعجز عنه. {أَمِينٌ}؛ أي: على ما فيه من اللآلىء والجواهر وغيرها. {أَنَا آتِيكَ بِهِ}: يحتمل أنه مضارع أصله: أأتي بهمزتين، فوزنه أفعل، فالهمزة الأولى زائدة للمضارعة، والثانية أصلية فاء الكلمة، ويحتمل أنه اسم فاعل فوزنه فاعل، فالهمزة الأولى أصلية فاء الكلمة، والألف بعدها زائدة كالتي في ضارب وقائم اهـ. شيخنا. {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال أبو السعود: الطرف: تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء، وارتداده انضمامها، ولكونه أمرًا طبيعيا غير منوط بالقصد آثر الارتداد على الرد. اهـ شيخنا. وفي "القاموس": إن الطرف كما يطلق على نظر العين يطلق على العين نفسها. اهـ. {لِيَبْلُوَنِي} وفي "المفردات": يقال: بلى الثوب بلى خلق، وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له. {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}؛ أي: غيروا هيئته وشبهله بحيث لا يعرف بسهولة. قال الراغب: التنكير: جعل الشيء بحيث لا يعرف ضد التعريف، ومنه نقل إلى مصطلح أهل العربية. اهـ. "شهاب". {ادْخُلِي الصَّرْحَ} قال في "الكشاف": الصرح القصر، وكل بناء عال سمي

بذلك اعتبارًا بكونه صرحًا من الثوب؛ أي: خالصًا. فإن الصرح بالتحريك الخالص من كل شيء، وقيل: صحن الدار، وأصله من التصريح، وهو الكشف، وكذب صُراح؛ أي: ظاهر مكشوف، ولؤم صُراح، ولبن صُريح؛ أي: ذهبت رغوته وخلص، وكأس صراح لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحة؛ أي: مجاهرة، وصَرَح النهار ذهب سحابه وأضاءت شمسه. {لُجَّةً} واللجة: الماء الكثير. وفي "المفردات": لجة: البحر تردد أمواجه. وفي "كشف الأسرار": اللجة: الضحضاح من الماء، وهو الماء اليسير، أو إلى الكعبين وأنصاف السوق، أو ما لا غرق فيه، كما في "القاموس". والمعنى: ظننت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان. {عَنْ سَاقَيْهَا} تثنية ساق؛ وهي ما بين الكعبين، كعب الركبة وكعب القدم؛ أي: تشمرت لئلا تبتل أذيالها. {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ}؛ أي: ذو سطح أملس، ومنه الأمرد؛ لملاسة وجه؛ أي: نعومته لعدم وجود الشعر به. وفي "القاموس": التمريد في البناء التمليس والتسوية، وبناء ممرد مطول، والمارد: المرتفع العالي، وشجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق. {مِنْ قَوَارِيرَ}؛ أي: مصنوع من الزجاج الصافي، وليس بماء. جمع قارورة، وفي "المصباح": القارورة: إناء من زجاج، والجمع القوارير، والقارورة أيضًا وعاء الرطب والتمر؛ وهي القوصرة. وتطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد أو المني يقر في رحمها، كما يقر الشيء من الإناء، أو تشبيهًا بآنية الزجاج لضعفها. قال الأزهري: والعرب تكني عن المرآة بالقارورة والقوسرة. وفي "القاموس": والقارورة: حدقة العين، وما قر فيه الشراب، أو نحوه، أو يخص بالزجاج. و {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}؛ أي: من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج. {فَرِيقَانِ} أي: طائفتان؛ طائفة مؤمنة، وأخرى كافرة. {يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: يجادل بعضهم بعضًا ويحاجه، من الاختصام، وأصله: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم؛ أي: بجانبه. {بِالسَّيِّئَةِ} العقوبة التي تسوء صاحبها. {قَبْلَ}

الْحَسَنَةِ} التوبة. {لَوْلَا} للتحضيض، بمعنى: هلَّا، وهي كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها. {اطَّيَّرْنَا}؛ أي: تطايرنا، وتشاءمنا بك وبمن معك في دينك، حيث تتابعت علينا الشدائد، وأصل اطيرنا: تطيرنا أدغمت التاء في الطاء، فتعذر الابتداء بالساكن، واجتلبت همزة الوصل، فصار اطيرنا. وأصل ذلك أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين، فمروا بطائر يزجرونه، فإن مر سانحًا تيمنوا، وإن مر بارحًا تشاءموا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطير استعير لما كان سببًا لهما من قدر الله سبحانه وقسمته، أو عمل العبد. وفي "القاموس": البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، وبرح الظبي بروحًا: ولّاك مماسره ومر، وسنح سنوحًا ضد برح، ومن لي بالسانح بعد البارح؛ أي: المبارك بعد المشؤوم. انتهى. قال في "كشف الأسرار": هذا كان اعتقاد العرب في بعض الوحوش والطيور أنها إذا صاحت في جانب دون جانب دل على حدوث آفات وبلايا. ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال: "أقروا الطير على مكناتها"؛ لأنها أوهام لا حقيقة معها. والمكنات بيض الضبة، واحدتها: مكنة. قال ابن الملك: كان أهل الجاهلية إذا قصد واحد إلى حاجة، وأتى من جانبه الأيسر طير وغيره يتشاءم به فيرجع، هذا هو الطيرة. {فِي الْمَدِينَةِ}: هي البلد. من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا أقام فيه، فهي فعيلة، والجمع: مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من وإن يدين فالميم زائدة والياء أصلية، وهي مفعولة، ويقال: دنت الرجل: ملكته. ودنت له: خضعت له وأطعت، ويقال: للأمة مدينة؛ لأنها مملوكة. وفي معاجم اللغة: مدن بالمكان يمدن - من باب نصر - مدونًا إذا أقام، وهو فعل ممات. ومدن المدينة آتاها، ومدن المدائن - بالتشديد - بناها ومصرّها، وتمدّن: تخلق باخلاق أهل المدن، وانتقل من الهمجية إلى حالة الإنس والظرف، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال، ومدن بضمها، ومدائن. والمدينة: علم أطلق

على يثرب. ومدينة السلام بغداد، والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها إيوان كسرى، وسميت بالجمع؛ لكبرها، والنسبة إليها مدائني. {تِسْعَةُ رَهْطٍ} الرهط: قوم الرجل وقبيلته، وعدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، وليس فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، وجمعه أرهط وأرهاط. وجمع الجمع أراهط وأراهيط، وإذا أضيف إلى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس، نحو عشرون رهطًا؛ أي: شخصًا. ويقال: نحن ذوو رهط؛ أي: مجتمعون. وفي "المصباح": الرهط: ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة. وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، والفرق بينه وبين النفر أن الرهط من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، ليس فيهم امرأة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة. {لَنُبَيِّتَنَّهُ} والبيات: مباغتة العدو ومفاجاته بالإيقاع به ليلًا. {لِوَلِيِّهِ}؛ أي لمن له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. {مَهْلِكَ} بضم الميم وفتح اللام؛ أي: إهلاكهم مصدر ميمي من أهلك الرباعي، وبفتح الميم واللام؛ أي: هلاكهم مصدر ميمي من هلك الثلاثي، وبفتح الميم وكسر اللام؛ أي: وقت هلاكه أو مكانه، فهو للظرف؛ لأنه من باب ضرب. {وَمَكَرُوا مَكْرًا}: صرف الغير عما يقصده بحيلة. وقيل: المكر: التدبير الخفي لعمل الشر، ومكرهم: هو ما أخفوه من تدبير القتل بصالح ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة إلى المشاكلة، كما في الكشاف وشروحه اهـ "شهاب"؛ أي: تشبيهًا له بالمكر من حيث كونه إضرارًا في خفية؛ لأن المكر قصد الإضرار على طريق الغدر والحيلة اهـ "زاده". {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} التدمير: استئصال الشيء بالهلاك. {خَاوِيَةً}؛ أي: خالية عن السكان، من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة متهدمة، من خوى النجم إذا سقط. اهـ "بيضاوي". وخوى بالمعنَيَيْن من باب رمى.

{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} والفاحشة: كل ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. والمراد بها هنا اللواطة، والإتيان في الأدبار. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} من بصر القلب؛ وهو العلم، أو من بصر العين؛ وهو النظر. {شَهْوَةً} وأصل الشهوة: نزوع النفس إلى ما تريده. البلاغة وقد تضمت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {حَتَّى تَشْهَدُونِ} حيث عبرت عن الماضي بالمضارع. ومنها: التأكيد في قوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}؛ لأن هذه الجملة سيقت لتأكيد ما قبلها. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ}؛ لأنه معطوف على محذوف تقديره: فأعدت الهدية مع رسول بكتاب فأرسلته، فلما جاء سليمان الخ. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}. ومنها: الكناية في قوله: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فإن ارتداد الطرف كناية عن الإسراع. والطرف: هو تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفًا بإرسال الطرف وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومنها: الطباق في قوله: {وَمَنْ شَكَرَ} وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ}. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُ هُوَ} أي: كأنه عرشي في الشكل والوصف. ومنها: التجنيس، وهو تالف الكلمتين في تأليف حروفهما في قوله:

{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} ومنها: الطباق بين {بِالسَّيِّئَةِ} و {الْحَسَنَةِ} في قوله: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {اطَّيَّرْنَا} {طَائِرُكُمْ}. ومنها: الطباق بين {يُفْسِدُونَ} و {يُصْلِحُونَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {طَائِرُكُمْ}؛ لأنه مستعار لما كان سببًا للخير والشر من قدر الله تعالى وقسمته، أو من عمل العبد، كما في "الروح". ومنها: التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر، أو التميم كما سماه الحاتمي في قوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ} وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته، أو في صفاته، ولفظه تام؛ لأن قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} مفهومه أن شأنهم الإفساد البحت، ولكن قوله: {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} لا يدفع أن يندر منهم، أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم الكلام بقوله: {وَلَا يُصْلِحُونَ} دفعًا لتلك الندرة أن تقع، أو أن يخالج بعض الأذهان شك في أنها ستقع، وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم، وحسن حالهم. اهـ من الدرويش. ومنها: المشاكلة في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} المشاكلة معناها: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته؛ لأن الله تعالى تقدس أن يستعمل في حقه المكر، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة، وهو كثير في القرآن، أما مكرهم: فهو ما بيتوه لصالح، وما انتووه من إهلاكه وأهله خفية. وأما مكر الله تعالى بهم: فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون. وفيه أيضًا الاستعارة المنضمة إلى المشاكلة، فقد شبه الاهلاك بالمكر في كونه إضرارًا في الخفاء؛ أي: من حيث لا يشعرون.

ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما بشرني الله سبحانه به في تفسير هذا المجلد العشرون، وأسأله عم نواله أن ييسر لي ويوفقني فيما بقي من كتابه الكريم شرحًا موافقًا لما هو المعنى عنده سبحانه، ونحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده حمدًا يعدل حمد الملائكة المقربين وأوليائه الصالحين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين. وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد بعون الملك ذي الكبرياء في أوائل ليلة الأربعاء من الثلث الثالث من الشهر الرابع من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاثة عشر من سنين الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية من تاريخ 25/ 4/ 1413 هـ. انتهى المجلد العشرون بعون الله وتوفيقه، ويليه المجلد الحادي العشرون، وأوله قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ...} الآية.

شعر وَقُلْ بِذُلٍّ رَبِّ لاَ تَقْطَعَنِّي ... عَنْكَ بِقَاطِعٍ وَلاَ تَحْرِمَنِّيْ مِنْ سِرِّكَ الأْبهَى الْمُزِيْلِ لِلْعَمَى ... وَاخْتُمْ بِخَيْرٍ يَا رَحِيْمَ الرُّحَمَا من كلام زين العابدين أَلاَ يَا أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ أَلاَ يَا رَجَائِيْ أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ ... فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِي كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أرَاهُ مُبَلِّغِي ... عَلَى الزَّادِ أبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةِ ... وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الواحد الأحد الماجد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توصلنا إلى رضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله سبحانه عليه، وعلى آله وصحبه الذين رقوا في ذرى المجد بتقاه، وسلَّم عليهم وعلى كل عاضّ بسنته وهداه، ما تعاقب الجديدان وتصارع الحق والبطلان. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء التاسع عشر من القرآن الكريم بعون الله سبحانه وتيسيره .. تفرغت وتصديت بقدر مكانتي لتفسير الجزء العشرين منه إن شاء الله سبحانه وتعالى، مع ما بي من العوائق والمعائق، مستمطرًا من سحائب كرمه وجوده، ومستمدًا من وابل فيضه وإمداده، فقلت: وبالله التوفيق: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} المناسبة قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص (¬1) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قصص أولئك الأنبياء السالفين، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته، وعظيم شأنه، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم، وصدق أخبارهم، وفيها بيان صحة الإِسلام والتوحيد، وبطلان الشرك والكفر، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، ثم شرح صدره - صلى الله عليه وسلم - بما في تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية، والمعارف الربانية الفائضة من عالم القدس، مقررًا بذلك قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} .. أردف هذا بأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يحمده تعالى على تلك النعم، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانًا لفضلهم، وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير، ووجوب عبادته وحده، وأنه لا ينبغي عبادة شيء سواه من الأصنام والأوثان. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ ...} الآية، مناسبة ¬

_ (¬1) المراغي.

[56]

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أثبت تفرده بالألوهية، لاختصاصه بالقدرة التامة والرحمة العامة .. أعقب هذا بذكر لوازمها، وهو اختصاصه بعلم الغيب تكميلًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده من أمر البعث. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف جهلهم بالآخرة وعماهم عنها .. أردف بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابًا، وأنهم قالوا: تلك مقالة سمعناها من قبل، وما هي إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا، بالسير في الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر. ثم صبر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين، ووعده بالنصر عليهم، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبًا، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له، إذ هم لا يشكرونه على ذلك، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى، وأنه مطلع على ما تكنه القلوب، وأنه ما من شيء مهما خفي فالله عليم به، وهو مثبت عنده في كتاب مبين. التفسير وأوجه القراءة 56 - {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}؛ أي: قوم لوط، وقرأ الجمهور (¬1) بنصب {جَوَابَ} على أنه خبر {كَانَ}، واسمها: {إِلَّا أَنْ قَالُوا}؛ أي: إلا قولهم؛ أي: إلا قول بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}؛ أي: أخرجوا لوطًا وابنتيه زعورا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[57]

ورويثا وزوجته المؤمنة {مِنْ قَرْيَتِكُمْ} سذوم. وقرأ الحسن وابن إسحاق برفع {جوابُ} على أنه اسم {كَانَ} وخبرها ما بعده؛ أي: فلم يكن جواب قومه إلا قولهم، والأول أولى. ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضًا من الإخراج بقولهم: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن آل لوط {أُنَاسٌ} جمع إنس، والناس مخفف منه، {يَتَطَهَّرُونَ}؛ أي: يتنزهون عن أدبار الرجال، وعن جميع أفعالنا أو عن الأقذار، ويعدون أفعالنا قذرًا. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قالوا ذلك استهزاء منهم بهم. وهذا الجواب (¬1) هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المواعظ بالأمر والنهي، لا أنه لم يصدر منهم كلام آخر غيره. 57 - {فَأَنْجَيْنَاهُ}؛ أي لوطًا {وَأَهْلَهُ} أي: بنتيه زعورا ورويثا وامرأته المؤمنة بأن أمرناهم بالخروج من القرية، {إِلَّا امْرَأَتَهُ} الكافرة المسماة بواهلة، لم ننجها بل {قَدَّرْنَاهَا} وقضينا كونها {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: من الباقين في العذاب، فلذا لم تخرج من القرية مع لوط، أو خرجت ومُسِخت حجرًا. وقرأ الجمهور (¬2): {قَدَّرْنَا} بتشديد الدال، وقرأ أبو بكر بتخفيفها، ومعنى القراءتين واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى. 58 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} بعد قلب قريتهم، وجعل عاليها سافلها، أو على شذاذهم، ومن كان منهم في الأسفار، {مَطَرًا} غير معهود، وهو حجارة السجيل، والتأكيد بالمصدر يدل على شدة المطر، وأنه غير معهود، {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}؛ أي: بئس وقح مطر من أُنذر بعذاب الله فلم يخف منه، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: مطرهم هذا. وحاصل معنى الآيات (¬3): أي فلم يكن جوابهم للوط - إذ نهاهم عما أمره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[59]

الله سبحانه بنهيهم عنه من إتيان الذكور - إلا قول بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله من قريتنا، وقد عدوا سكناه بينهم منة ومكرمة عليه، إذ قالوا: من قريتكم، ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: إنهم يتحرجون من فعل ما تفعلون، ومن إقراركم على ما تفعلون من صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم، فإنهم لا يصلحون لجواركم في بلدكم. ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، وإلى هذا أشار بقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أي: فأهلكناهم وأنجينا لوطًا وأهله، إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين في العذاب، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم، وكانت ترشد قومها إلى ضيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله عليه السلام لا كرامة لها. ثم بين ما أهلكوا به، فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ...} إلخ؛ أي: وأمطرنا عليهم مطرًا غير ما عُهد من نوعه، فقد كان حجارة من سجيل، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم الله سبحانه عقابًا لهم على معصيتهم إياه، وخوَّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم. 59 - {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ} سبحانه على جميع نعمه التي من جملتها إهلاك أعداء الأنبياء والمرسلين وأتباعهم الصديقين، فإنهم لما كانوا إخوانه عليه السلام كانت النعمة عليهم نعمة عليه، {وَسَلَامٌ}؛ أي: وسلامة ونجاة {عَلَى عِبَادِهِ} سبحانه وتعالى {الَّذِينَ} صفة لعباده {اصْطَفَى}؛ أي: الذين اصطفاهم الله تعالى، وجعلهم صفوة خليقته في الأزل، وهداهم واجتباهم للنبوة والرسالة والولاية في الأبد، فهم الأنبياء والمرسلون وخواصهم المقربون الذين سلموا من الآفات، ونجوا من العقوبات مطلقًا. وقرأ أبو السماك: {قل الحمد لله} وكذا {قل الحمد لله سيريكم} بفتح اللام، ذكره أبو حيان.

وفيه (¬1): رمز إلى هلاك أعدائه - صلى الله عليه وسلم -، ولو بعد حين، وإشعار له ولأصحابه بحصول السلامة والنجاة من أيديهم، وهكذا عادة الله تعالى مع الورثة الكمل وأعدائهم في كل زمان، هذا هو اللائح للبال في هذا المقال، وهو المناسب لسوابق الآيات العظام. والحاصل (¬2): أن الله سبحانه أمر رسوله أن يحمده شكرًا له على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأن يسلم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار. ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه، وحلول الخزي والنكال باعدائه، ونحو الآية قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}. وفي هذا تعليم حسن وأدب جميل، وبعث على التيمُّن بالذِكْرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قَبول ما يلقى إلى السامعين والإصغاء إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرًا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله، وصلوا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. ثم شرع يوبخ المشركين، ويتهكم بهم، وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار، فقال: {آللَّهُ} (¬3) بالمد بمقدار الألفين، أصله (أألله) على أن الهمزة الأولى استفهام، والثانية وصل، فمدوا الأولى تخفيفًا، والمعنى: آللهُ الذي ذُكرت شؤونه العظيمة {خَيْرٌ} أي: أنفع لعابديه {أَمَّا}؛ أي: أم الذي، فأم متصلة وما موصولة، {يُشْرِكُونَ} به من الأصنام؛ أي: أم الأصنام أنفع لعابديها، يعني: الله خير. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[60]

وكان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال: "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم"، فإن قيل لفظ (¬1) الخير يُستعمل في شيئين فيهما خير، ولأحدهما مزية، ولا خير في الأصنام أصلًا! قلنا: المراد به إلزام المشركين، والتشديد عليهم والتهكم بهم، أو هو على زعم أن في الأصنام خيرًا، ثم هذا الاستفهام والاستفهامات الآتية بعد تقرير وتوبيخ، لا استرشاد. وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وقتادة ويعقوب {يُشْرِكُونَ} بالياء التحتية على الغيبة؛ أي: آلله الذي ذُكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أمَّا يشركون به تعالى من الأصنام، وقرأ الباقون: بالتاء الفوقية على الخطاب؛ أي: آلله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وفي ذلك (¬2) ما لا يخفى من تسفيه آرائهم، وتقبيح معتقداتهم وإلزامهم الحجة، إذ من البيّن أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير، فهو من وادي ما حكاه سيبويه، تقول العرب: "السعادة أحب إليك أم الشقاء"، وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب، ويمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ 60 - ثم انتقل من التوبيخ تعريضًا إلى التبكيت تصريحًا فقال: {أَمَّا} هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة، {مَّنْ} موصولة مبتدأ خبره محذوف، وكذا في نظائره الآتية، والمعنى: بل أمن {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} التي هي أصول الكائنات المحسوسة ومبادي النفع خير أم ما يشركون؛ يعني: أن الخالق للأجرام العلوية والسفلية خير لعابديه أو للمعبودية، كما هو الظاهر. وقرأ الجمهور (¬3): {أَمَّنْ خَلَقَ} وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

{أَمَّ} أدغمت في ميم {مَّنْ}، وقرأ الأعمش بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام أدخلت على {مَّنْ}، و {مَّنْ} في القراءتين مبتدأ، خبره محذوف، وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ} معطوف على صلة {مَّنْ} الموصولة؛ أي: ومن أنزل لأجل منفعتكم {مِنَ السَّمَاءِ} أي: من السحابـ {ماء} أي نوعًا منه هو المطر. ثم (¬1) عدل على الغيبة إلى التكلم لتأكيد الاختصاص بذاته فقال: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ} بِهِ؛ أي: بسبب ذلك الماء {حَدَائِقَ}؛ أي: بساتين محدقة ومحاطة بالحوائط، من الإحداق وهو الإحاطة، قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة، وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل، وقوله: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} صفة لحدائق، ولم يقل (¬2): ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى جماعة حدائق؛ أي: صاحبة حسن ورونق يبتهج ويسر به النظار، والبهجة هي الحسن الذي يبتهج به من رآه. وقرأ الجمهور: {ذَاتَ} بالإفراد، {بَهْجَةٍ} بسكون الهاء، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة، كقوله: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} وهو على معنى جماعة، وقرأ ابن أبي عبلة: {ذوات} بالجمع، {بهجة} بتحريك الهاء بالفتح، ذكره أبو حيان. {مَا كَانَ لَكُمْ}؛ أي: ما صح وما أمكن لكم {أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}؛ أي: شجر الحدائق فضلًا عن ثمرها؛ أي: ما كان لكم مقدرة على أن تنبتوا شجر البساتين فضلًا عن ثمرها، وسائر صفاتها البديعة، ومعنى (¬3) هذا النفي الحظر والمنع من فعل هذا؛ أي: ما كان للبشر ولا يتهيأُ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدرتهم، لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. والمعنى (¬4): أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

كواكب نيرة، ونجومًا زاهرة، وأفلاكًا دائرة، وخلق الأرض، وجعل فيها جبالًا وأنهارًا وسهولًا وأوعارًا، وفيا في وقفارًا، وزروعًا وأشجارًا، وحيوانات مختلفة الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لكم من السماء مطرًا جعله رزقًا للعباد، فأنبت به بساتين مونقة تسر الناظرين، ولولاه ما نبت الشجر ولا ظهر الثمر، ونحو الآية قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. ثم زاد في التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفي الخيرية عنها، فقال: {إِلَهٌ}؛ أي: هل إله آخر ومعبود سواه كائن {مَعَ اللَّهِ} الذي تقدم ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يقرَّ به، ويُجعل شريكًا له في العبادة. وقرىء؛ {أإلهًا} بالنصب على تقدير أتدعون إلهًا، أو أتشركون، وقرىء (¬1): {أإله} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين، وترك الإدخال فيهما في مواضعه الخمسة، فالقراءات أربعة كلها سبعية. والمعنى: أي أإله غيره يقرون به، ويجعلونه شريكًا له في العبادة، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين، ونحو الآية قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}. ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل. أي: بل (¬2) هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق، والانحراف عن جادة الاستقامة في جميع شؤونهم، ومن ثم يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح، وهو التوحيد، ويعكفون على الضلال المبين، وهو الإشراك، وفي معنى الآية قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، وقوله {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}، وقوله: {وَجَعَلُوا ¬

_ (¬1) الجلالان. (¬2) المراغي.

[61]

لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ}؛ أي: فهم جاروا وظلموا بوضع الكفر موضع الإيمان، والشرك محل التوحيد، وهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم، وحكاية لغيرهم 61 - ثم أضرب وانتقل إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام فقال: {أَمّ} منقطعة {مَّن} موصولة {جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} صلتها؛ أي: بل (¬1) أمن جعل الأرض مستقرًا لمن فيها، يستقر عليها الإنسان والدواب، بإظهار بعضها من الماء بالارتفاع، وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم، خير من الذين يشركون من الأصنام، وذكر بعض الآيات بلفظ الماضي لأن بعض أفعاله تقدم وحصل مفروغًا منه، وبعضها يفعلها حالًا بعد حال. {وجَعَلَ} معطوف على الصلة، {خِلَالَهَا} مفعول ثان لجعل - جمع خلل - وهي الفرجة بين الشيئين، {أَنْهَارًا} مفعول أول له، قدم الثاني عليه لكونه ظرفًا، وعلى هذا المفاعيل للفعلين الآتيين؛ أي: وجعل أنهارًا جارية ينتفعون بها في خلال الأرض وأوساطها، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت تمنعها أن تميل بأهلها وتضطرب، ويتكون فيها المعادن، وينبع في حضيضها الينابيع، ويتعلق بها من المصالح ما لا يخفى، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: العذب والمالح، أو خليجي فارس والروم {حَاجِزًا}؛ أي: برزخًا مانعًا من الممازجة والمخالطة؛ أي: جعل بين البحرين العذب والمالح حاجزًا من قدرته، فلا يختلط أحدهما بالآخر، فلا هذا يغيِّر ذاك، ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مر بيانه في سورة الفرقان. ولما كانت كل (¬2) هذه المذكورات نعمة عظيمة مستقلة تكرر العامل فيها في قوله: {وَجَعَلَ} فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[62]

والمعنى (¬1): أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم - مع أنه لا يضر ولا ينفع - خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرًا للإنسان والدواب، وجعل في أوساطها أنهارًا تنتفعون بها في شربكم وسقي أنعامكم ومزارعكم، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا تميد بكم، وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة، وقد أنزل الماء على شواهقها، وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزًا يمنعهما من الاختلاط، حتى لا يفسد هذا بذاك، والحكمة تقضي ببقاء كل منهما على حاله، فالعذبة لسقي الناس. والحيوان والنبات والثمار، والملحة تكون مصادر للأمطار التي تجري منها، وكذلك هي وسيلة لإصلاح الهواء. {أَإِلَهٌ} أي: هل معبود آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} سبحانه في الوجود، أو في إبداع هذه الكائنات، وإيجاد هذه الموجودات، يعني ليس معه غيره، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون شيئًا من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره، أو لا يعلمون قدر عظمة الله تعالى، وما عليهم من ضر في إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع في إفرادهم إياه بالألوهية، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه. 62 - ثم زادهم توبيخًا من وجه ثالث فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ}؛ أي: بل أمن (¬2) يجيب دعوة المضطر المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر، يعني: إذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى، وقيل: هو المذنب إذا استغفر، واللام (¬3) في المضطر للجنس لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك، بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه. والحكمة في إجابة دعاء المضطر: أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله تعالى، فقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم. والمضطر من الاضطرار إفتعال من الضرورة، وهي الحالة المحوجة إلى اللجاء، والمضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجاء إلى الله والتضرع إليه تعالى؛ أي: بل أمن يجيب دعاء المضطر المكروب {إِذَا دَعَاهُ} ذلك المضطر إلى كشف ما به من الضرر، والضمير المنصوب راجع إلى {مَنْ} الموصولة التي أريد بها الله سبحانه، والمستتر الفاعل يعود على المضطر. وقوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} معطوف على الصلة عطف تفسير، و {إِذَا} مجردة عن معنى الشرط؛ أي: أمن يجيب الملجأ إلى ضيق من الأمر {وَيَكْشِفُ}؛ أي: يزيل عنه {السُّوءَ} والضر الذي نزل به خير أم الذي يشركون به من الأصنام؟ وقال (¬1) بعضهم: فصل بين الإجابة وكشف السوء، فالإجابة بالقول والكشف بالطول، والإجابة بالكلام، والكشف بالإنعام، ودعاء المضطر لا حجاب له، ودعاء المظلوم لا مرد له، ولكل أجل كتاب اهـ. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي: سكانها؛ أي: يجعلكم خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن كان قبلكم من الأمم، يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، ومعنى هذا: أي يجعلكم متوارثين سكناها ممن قبلكم بعد انقراضهم، فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف، بمعنى: يهلك قرنًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

وينشىء آخرين، وقيل: يجعلى أولادكم خلفاء عنكم، وقيل: يجعل المسلمين خلفًا عن الكفار ينزلون أرضهم وديارهم. وحاصل المعنى (¬1): أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللجاء، والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءُه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض، فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذًا فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. وقال الشاعر: وإنَّيْ لأدْعُوْ اللهَ وَالأَمْرُ ضيِّقٌ ... عَلَيَّ فَمَا يَنْفَكُّ أنْ يَتَفَرَّجَا وَرُبَّ أَخٍ سُدَّتْ عَلَيْهِ وُجُوْهُهُ ... أَصَابَ لَهَا لَمَّا دَعَا اللهَ مَخْرَجَا وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء المضطر: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت"، وجاء في الخبر: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده". وفي "صحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" وقرأ الحسن في رواية: {ونجعلكم} بنون المتكلم المعظم، كانه استئناف إخبار ووعد. {أَإِلَهٌ} أي: هل معبود آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} الذي يفيض على كافة الأنام هذه النعم الجسام. ثم بيَّن أن من طبيعة الإنسان أن لا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلًا حيث قال: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}؛ أي: تتذكرون آلاء الله ونعمه تذكرًا قليلًا، وزمانًا قليلًا، ومن ثم أشركتم به غيره في العبادة، و {مَا} مزيدة (¬2) لتأكيد معنى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[63]

القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وقلة الجدوى، وفيه إشارة إلى أن مضمون الكلام مركوز في ذهن كل ذكي وغبي، وإنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره. وقرأ الجمهور (¬1): {تَذَكَّرُونَ} بالفوقية على الخطاب، والحسن والأعمش وأبو عمرو وهشام ويعقوب: بالتحتية على الخبر ردًا على قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، واختار هذه القراءة أبو حاتم، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها، وقرأ أبو حيوة شاذًا: {تتذكرون} بتاءين. 63 - ثم زادهم تأنيبًا وتهكمًا من ناحية أخرى فقال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ}؛ أي: بل أمن يهديكم ويرشدكم إلى مقاصدكم {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؛ أي: في ظلمات الليالي فيهما بالنجوم وعلامات الأرض، على أن الإضافة للملابسة، أو في مشتبهات الطرق، يقال: طريقة ظلماء أو عمياء للتي لا منار بها، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها؛ أي: أهو خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، و {مَنْ} موصولة كما سبق؛ أي؛ وأمن {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} حال كونها {بُشْرًا}؛ أي: مبشرة بالمطر {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: قدام المطر - وقيل: نزوله - خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر. والمعنى (¬2): أي أمن تشركون بالله خير أم من يرشدكم في ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل، فضللتم الطريق، بما خلق من الدلائل السماوية، كما قال: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيي موات الأرض. ولما اتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في ذلك عذر ولا علة قال: {أَإِلَهٌ} أي: هل معبود آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} سبحانه يقدر على مثل ذلك {تَعَالَى اللَّهُ} سبحانه وترفع {يُشْرِكُونَ} به؛ أي: تعالى الخالق القادر عن مشاركة العاجز ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[64]

المخلوق، وقرىء: {عما تشركون} تاء الخطاب. أي: تنزه ربنا المنفرد بالألوهية، ومن له صفات الكمال والجلال، ومن تخضع له جميع المخلوقات، وتذل لقهره وجبروته عن شرككم الذي تشركونه به، وعبادتكم معه ما تعبدون. 64 - ثم أضاف إلى ذلك برهانًا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: بل أمن يوجد الخلق وينشىء أول مرة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: يعيد الخلق بعد الموت بالبعث؛ أي: يوجده بعد إماتته، خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق، فألزمهم الإعادة؛ أي: إذا قدر على الابتداء فهو أقدر على الإعادة. وفي "الكواشي": وسألوا عن بدء خلقهم وإعادتهم، مع إنكارهم البعث، لتقدم البراهين الدالة على ذلك من إنزال الماء وإنبات النبات وجفافه ثم عوده مرة ثانية، والعقل يحكم بإمكان الإعادة بعد الإبلاء، وهم يعلمون أنهم وُجدوا بعد أن لم يكونوا، فإيجادهم بعد أن كانوا أيسر. و {أَمّ} في الجُمل الخمس للانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر (¬1)، أدخل في الإلزام بجهة من الجهات، {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: بأسباب سماوية وأرضية، كالمطر والحر والبرد والنبات والمعادن والحيوان؛ أي: أهو خير أم ما تجعلونه شريكًا له مما لا يقدر على شيء من ذلك. والمعنى: أمن تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء، ويبتدعه من غير أصل سلف، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه، والذي يرزقكم من السماء والأرض، فينزل من الأولى غيثًا، وينبت من الثانية نباتًا لأقواتكم وأقوات أنعامكم. وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يُلتفت إلى ذلك الإنكار، لظهور ¬

_ (¬1) المراح.

[65]

أدلته، فلم يبق لهم عذر فيه، وبعد أن وضح الدليل على نفي الشريك بكَّتهم وقال: {أَإِلَهٌ}؛ أي: هل إله آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى يفعل هذا حتى يُجعل شريكًا له. وبعد (¬1) أن ذكر البرهان تلو البرهان، وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح .. زاد في التهكم بهم، والإنكار عليهم، والتسفيه لعقولهم، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدَّعون، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} وحجتكم عقليًا أو نقليًا بما يدل على أن معه تعالى إلهًا آخر، والبرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؛ أي: في تلك الدعوى. فائدة (¬2): قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ذُكر هنا في خمسة مواضع متوالية، وختم الأول بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، والثانية بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، والثالثة بقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، والرابعة بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} والخامسة بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ومعناه: أي عدلوا، وأول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا، ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال، فأشركوا من غير حجة وبرهان، قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. 65 - ثم بيَّن تعالى تفرده بعلم الغيب تكميلًا لما قبله من اختصاصه بالقدرة التامة، وتمهيدًا لما بعده من أمر البعث، فقال: {قُلْ} يا محمد لكافة الناس تعليما لهم {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ}؛ أي: لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، كوقت قيام الساعة، ونزول المطر، وبأي أرض تموت النفس، وماذا تكسب غدًا، فـ {مَنْ} الموصولة فاعل {يَعْلَمُ}، و {الْغَيْبَ} مفعوله، ولفظ الجلالة في قوله: {إِلَّا اللَّهُ} مبتدأ، خبره محذوف، والاستثناء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

منقطع؛ أي: لكن الله سبحانه يعلمه؛ لأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض. ورفع (¬1) بعد إلا مع كون الاستثناء منقطعًا، هو على اللغة التميمية، كما في قولهم: إلا اليعافير وإلا العيس، وقيل إن فاعل {يَعْلَمُ} ما بعد {إِلَّا}، وهو لفظ الجلالة، {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} مفعوله مقدم على الفاعل، و {الْغَيْبَ} بدل من {مَنْ}؛ أي: لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله؛ أي: لا يعلم الأشياء التي تحدث في السماوات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى. والحاصل (¬2): أن الله سبحانه يقول آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن يُعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السماوات والأرض، بل الله وحده هو الذي يعلم ذلك، كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية، وقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية. والمراد بالغيب: الشؤون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها، وشؤون الدنيا التي لا تقع تحت حسِّنا، وليست في مقدورنا، وعن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالت: مَن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يكون في غد فقد أعظم الفرية على الله؛ لأن الله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. ثم ذكر بعض ذلك فقال: {وَمَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: وما يشعر من في السماوات من الملائكة، ولا من في الأرض من الإنس والجن، ولا يعلمون {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؛ أي: متى ينشرون من قبورهم لقيام الساعة، والله سبحانه تفرد بعلم ذلك؛ أي: وما يدري من في السماوات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة، كما قال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}؛ أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها، بل تأتيهم بغتة، فـ {أَيَّانَ} (¬3) مركبة من أي واَن، فأي للاستفهام، وآن بمعنى الزمان، فلما ركبا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[66]

وجُعلا اسمًا واحدًا بنت على الفتح كبعلبك. وقرأ السلمي (¬1): {إيان} بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم، وهي منصوبة بـ {يبعثون}، ومعلقة ليشعرون، فتكون وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أيان معنى متى. 66 - ثم أكد (¬2) جهلهم بهذا اليوم بقوله: {بَلِ ادَّارَكَ}؛ أي: بل انتهى وانقطع وانعدم {عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ}؛ أي: علمهم بالآخرة، فـ {فِي} بمعنى الباء، والضمير للكفرة؛ أي: انعدم علمهم بالآخرة، وتبين عجزهم عن معرفة وقتها، فلم يكن لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعًا، مع توافر أسباب العلم من الأدلة العقلية والنقلية، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة، فانتفى شيئًا فشيئًا، بل المراد أن أسباب العلم ومبادئه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت في اعتبارهم وفكرهم شيئًا فشيئًا كلما تأملوا فيها، حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن. ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة في الآخرة نفسها، أتكون أولًا تكون، فقال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}؛ أي: بل هم اليوم في الدنيا في حيرة عظيمة من تحققها ووجودها، أكائنة هي أم غير كائنة، كمن يحار في الأمر لا يجد عليه دليلًا، فضلًا عن تصديق ما سيحدث فيها من شؤون أخبرت عنها الكتب السماواية، كالثواب والعقاب والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يُدرك كنهها العقل. ثم ارتقى من وصفهم بالشك في أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة، بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة، فقال: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}؛ أي: بل هم في عماية وجهل عظيم من أمرها، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق في شأنها، والنظر في دلائلها، فلا يُدركون شيئًا من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وقيل: معنى {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} (¬1) اجتمع علمهم واتفق على أن الآخرة لا تكون {بَلْ هُمْ}؛ أي: الكفرة {فِي شَكٍّ مِنْهَا}؛ أي: من قيام الساعة {بَلْ هُمْ مِنْهَا}؛ أي: من قيام الساعة {عَمُونَ} عمي لا يبصرون. وقرأ الجمهور (¬2): {بَلِ ادَّارَكَ} أصله تدارك فادغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وحُميد وأهل مكة: {بل أدارك} على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورُويت هذه القراءة عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ أبي: {أم تدارك} على الأصل، وجعل {أم} بدل {بل} وقرأ سليمان بن يسار وأخوه عطاء بن يسار والأعمش: {بل ادارك} بنقل الهمزة إلى اللام وشد الدال، بناء على أن وزنه افتعل، فأُدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالًا فصار قلب الثاني للأول، لقولهم: اتَّرَدَ، وأصله اشتَرَدَ من الشَّرْد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أُدخلت على ألف الوصل، فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي، وألقيت حركتها على لام بل. وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري وابن عباس والأعمش وعاصم: {بل إدارك} بكسر لام بل وإثبات الياء بعدها وبهمزة قطع. وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن: {بل آدرك} بمدة بعد همزة الاستفهام، أصله أأدرك، فقلبت الثانية ألفا تخفيفًا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو ابن العلاء هذه القراءة، ووجهها، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل؛ لأن بل إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار، بمعنى لم يكن، فلا يصح وقوعهما معًا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار انتهى. وقرأ مجاهد: {أم أدرك} جعل {أم} بدل {بل} وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس أيضًا: {بل ادارك} بهمزة داخلة على أدَّارك، فيسقط ¬

_ (¬1) تنوير المقياس. (¬2) البحر المحيط.

همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضًا: {بل أأدرك} بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضًا والأعرج: {بل ادّرك} بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل بعد صيرورة التاء دالًا، وقرأ ورش في رواية: {بل ادرك} بحذف همزة ادرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضًا: {بلى ادرك} بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرىء: {بل أأدرك} بألف بين الهمزتين. فأما قراءة من قرأ بالاستفهام فقال ابن عباس: هو للتقريع بمعنى لم يُدرك علمهم على الإنكار عليهم، وقال الزمخشري: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ {أم أدرك} و {أم تدارك}؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما قراءة من قرأ على الخبر فقال ابن عباس: المعنى بل تدارك علمهم ماجهلوه في الدنيا؛ أي: علموه في الآخرة، بمعنى: تكمل علمهم في الآخرة، بأن كل ما وُعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عيانًا في الآخرة ما وُعدوا به في الدنيا غيبًا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال؛ لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع. قال الزمخشري (¬1): فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولًا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يتحنبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدَّاه بمن دون عن؛ لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون، انتهى. فائدة: قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله (¬2): ما عصى الله أحد بمعصية أشد من الجهل، قيل: يا أبا محمد هل تعرفُ شيئًا أشد من الجهل؟ قال: نعم الجهل بالجهل، فالجهل جهلان: جهل بسيط، هو سلب العلم، وجهل ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) روح البيان.

[67]

مركب هو خلافه، والأول ضعيف، والثاني قوي لا يزول إلا أن يتداركه الله تعالى. قيل: سَقَامُ الْحِرْصِ لَيْسَ لَهُ شِفَاءٌ ... وَدَاءُ الْجَهْل لَيْسَ لَهُ طَبِيْبُ وقيل أيضًا: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأهْلِهِ ... وَأجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُوْرِ قُبُوْرُ وإنَّ أمْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ 67 - ولما ذكر الله سبحانه أن المشركين في شك من البعث، وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم، وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابًا، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: مشركو مكة {أ} نخرج من قبورنا {إِذَا كُنَّا} وصرنا {تُرَابًا} وعظامًا رميمًا {وَآبَاؤُنَا} معطوف على ضمير {كُنَّا} بلا تأكيد لفصل ترابًا بينهما، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، هو العامل في إذا كما قدرنا، وكذا في قوله: {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} والضمير في {أَئِنَّا} شامل لهم ولآبائهم لأن كونهم ترابًا يتناولهم وآباءهم، والعامل في إذا ما دل عليه {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وهو نخرَج، كما قدرنا آنفًا، لا مخرجون؛ لأن كلًّا من الهمزة وإنا واللام مانع من عمله فيما قبلها، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار، وتقييد الإنكار بوقت كونهم ترابًا لتقويته بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له، وإلا فهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقًا؛ أي: سواء كانوا ترابًا أو لا. والعني: أنخرج نحن وآباؤنا من القبور إذا صرنا ترابًا وعظامًا رفاتًا، لا والله 68 - {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} الإخراج من القبور كما كنا أول مرة {نَحْنُ} وتقديم الموعود على نحن؛ لأنه المقصود بالذكر، وحيث أخر - كما في سورة المؤمنون - قصد به المبعوث، {وَآبَاؤُنَا} معطوف على ضمير {وُعِدْنَا}، {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل وعد محمد إياه، يعني إن آباءنا وُعدوا به في الأزمنة المتقدمة ثم لم يبعثوا، ولن يبعثوا.

[69]

{إِنْ هَذَا}: ما هذا الوعد {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: أحاديثهم العاطلة، وأكاذيبهم الباطلة التي سطروها وكتبوها كذابًا، مثل أحاديث رستم وإسفنديار، والأساطير الأحاديث التي ليس لها حقيقة ولا نظام، والمعنى، أي: ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. وعبارة الخطيب هنا (¬1): والله لقد وُعدنا هذا؛ أي: الإخراج من القبور كما كنا أول مرة نحن وآباؤنا من قبل؛ أي: من قبل محمد، فقد مرت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء، فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل: فما الفائدة المرادة به، فقالوا: إن هذا إلا أساطير الأولين؛ أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها. فإن قيل: لِمَ قدم في هذه الآية {هَذَا} على {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا}، وفي سورة المؤمنون قدم {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} على {هَذَا}؟ أجيب: بأن التقديم دليل على أن المقدم في كل موضع هو المعني بالذكر، وأن الكلام إنما سيق لأجله، ففي هذه الآية دليل على أن إيعاد البعث والإخراج هو الذي قُصد بالكلام، وفي آية المؤمنون دليل على أن إيعاد المبعوث بذلك الصدد، انتهت. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬2): {أئذا} {أئنا} بالجمع بين الاستفهامين، وقلب الثانية ياء، وفصل أبو عمرو بينهما بألف، وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين، وقرأ نافع {إذا} بهمزة مكسورة، و {أينا} بهمزة الاستفهام، وقلب الثانية ياء وبينهما مدة، وقرأ الباقون: {أئذا} باستفهام ممدودًا، {إننا} بنونين من غير استفهام، ورجَّح أبو عبيد قراءة نافع، وردَّ على من جمع بين استفهامين. 69 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرشدهم إلى وجه الصواب، مع التهديد والوعيد، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك {سِيرُوا} وامشوا أيها المكذبون المنكرون {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

[70]

من كان قبلكم من المكذبين وديارهم، مثل الحجر والأحقاف والمؤتفكات ونحوها، {فَانْظُرُوا} بأبصاركم، وفكروا بقلوبكم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: آخر أمر المكذبين لرسلهم بسبب التكذيب، حيث أهلكوا بأنواع العذاب؛ أي: فانظروا كيف كانت هي، ألم يخربها الله تعالى، ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم، وردهم عليهم نصائحهم، فخلت منهم الديار، وعفت عنهم الرسوم والآثار، وكان ذلك عاقبة إجرامهم، وتلك سنة الله في كل من سلك سبيلهم في تكذيب رسله، وفيه تهديد لهم على التكذيب، وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم، إن داموا على التكذيب، ولم يبادروا إلى الإنابة من كفرهم وتكذيبهم رسوله. والمعنى (¬1): فانظروا كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي؛ لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر. 70 - ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما وقع منهم من الإصرار على الكفر فقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على ما وقع لهم فيما مضى من تكذيبهم لك، وإصرارهم على كفرهم؛ لأنهم خُلقوا لهذا، وليس النهي عن تحصيل الحزن؛ لأن الحزن ليس يدخل تحت اختيار الإنسان، فالنهي في الحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه. {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} وحرج وغم {مِمَّا يَمْكُرُونَ} في المستقبل؛ أي: من مكرهم وكيدهم، وتدبيرهم الحيل في إهلاكك، ومنع الناس عن دينك، فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله يعصمك من الناس، ويُظهر دينك على من خالفك في المشارق والمغارب. وقرأ ابن كثير: {ضَيْقٍ} بكسر الضاد، وغيره بفتحها، يقال: ضاق الشيء ضَيقًا بالفتح، وضيقًا بالكسر، قرىء بهما، وهما لغتان، قال ابن السكيت: يقال: ¬

_ (¬1) المراح.

[71]

في صدر فلان ضيق وضيق، وهو ما تضيق عنه الصدور. 71 - ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله: {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}؛ أي: متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في إخباركم بإتيانه، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك. 72 - ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المستعجهلين حلول العذاب {عَسَى أَنْ يَكُونَ}؛ أي: أترجى أن يكون الشأن {رَدِفَ لَكُمْ}؛ أي: تبعكم ولحقكم، وقرب منكم قرب الرديف من مردفه، واللام زائدة {بَعْضُ} العذاب {الَّذِي} حلوله بكم، فحل بهم عذاب يوم بدر، وسائر العذاب لهم مدخر ليوم البعث. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا منكم، فتكون غير زائدة، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال، وقيل هو عذاب القبر؛ أي: عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك. قال صاحب "الكشاف": عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإذلالهم بقهرهم وغلبتهم، وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، وهي كالتصريح من غيرهم، وعلى ذلك جرى وعد الله سبحانه ووعيده اهـ. وقرأ الجمهور (¬1): {ردِف} بكسر الدال، وقرأ الأعرج: {ردَف لكم} بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر، وقرأ ابن عباس: {أزف لكم} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[73]

73 - ثم بين سبحانه السبب في ترك تعجيل العذاب، فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ}؛ أي: إفضال وإنعام {عَلَى النَّاسِ}؛ أي: على كافة الناس، ومن جملة إنعاماته تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي التي من جملتها استعجال العذاب، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}؛ أي: لا يعرفون حق النعمة، فلا يشكرون فضله وإنعامه عليهم. والمعنى: أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعًا، بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم، فلا يشكره إلا القليل منهم، وفيه (¬1) إشارة إلى أن استعجال منكري البعث في طلب العذاب الموعود لهم من غاية جهلهم بحقائق الأمور، وإلا فقد ردفهم أنموذج من العذاب الأكبر، وهو العذاب الأدنى من البليات والمحن. 74 - ثم بيَّن أنه مطلع على ما في صدورهم، فقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} وتُخفي وتستر {صُدُورُهُمْ} وقلوبهم من الخواطر {و} يعلم {وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي: ما يظهرون لغيرهم من الأقوال والأفعال، التي من جملتها ما حُكي عنهم من إستعجال العذاب، وفيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما يظهرونه، وأنه تعالى يجازيهم. والمعنى: أي وإن ربك يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، وقال: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}. وقصارى ذلك: أنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له، وما يعلنون، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم بذلك. وقرأ الجمهور (¬2): {مَا تُكِنُّ} بضم التاء من أكن الشيء إذا أخفاه، وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميقع: - بفتح التاء وضم الكاف - من كنَّ الشيء من باب نصر، يقال: كننته بمعنى سترته وأخفيت أثره. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[75]

75 - ثم ذكر أن كل ما يحصل في الوجود فهو محفوظ في اللوح المحفوظ، فقال: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ}؛ أي: وما من شيء غائب، وأمر يغيب عن الخلق، فالتاء فيه للمبالغة كتاء علَّامة، {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا} وهو مكتوب محفوظ {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}؛ أي: مظهر حافظ للكائنات، وهو اللوح المحفوظ، أو كتاب ظاهر واضح لمن ينظر إليه من الملائكة. والمعنى: أي وما من أمر مكتوم، وسر خفي يغيب عن الناظرين في السماء، أو في الأرض إلا وهو مثبت في أم الكتاب، الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيِّن لمن نظر إليه، وقرأ ما فيه مما أثبته ربنا جلت قدرته، ونحو الآية قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}. وقال الزمخشري (¬1): سميِّ الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة، وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما النطيحة والذبيحة، والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية والداعية، كما في قولهم: ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به، وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة انتهى. والخلاصة: أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب، فإنه مؤقت بوقت، ومؤجل بأجل، علمه عند الله سبحانه، فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له. ثم إنه ينبغي للمؤمن أن يكون سليم الصدر، ولا يجعل في نفسه حقدًا وحسدًا وعداوة لأحد، والنصيحة في هذا للعقلاء أن لا يصيخوا إلى الواشي والنمام، والغيَّاب والعياب، فإن عرض المؤمن كدمه، ولا ينبغي إساءة الظن في حق المؤمن بأدنى سبب. وقد ورد: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". ¬

_ (¬1) الكشاف.

الإعراب {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)}. {فَمَا} {الفاء}: استئنافية، {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {جَوَابَ قَوْمِهِ}: خبر {كَانَ} مقدم على اسمها، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {قَالُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا عن خبرها، والتقدير: فما كان جواب قومه إلا قولهم: أخرجوا آل لوط، وجملة {كَانَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {مِنْ قَرْيَتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَخْرِجُوا}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {أُنَاسٌ}: خبره، وجملة {يَتَطَهَّرُونَ}: صفة لـ {أُنَاسٌ} وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معللة للإخراج. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}. {فَأَنْجَيْنَاهُ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف؛ تقديره: فخرج لوط من قريتهم بأهله فأنجيناه. {أنجيناه}: فعل وفاعل ومفعول به. {وَأَهْلَهُ}: معطوف على الهاء، أو مفعول معه، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {إِلَّا}: أداة استثناء، {امْرَأَتَهُ}: منصوب على الاستثناء. {قَدَّرْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول به. {مِنَ الْغَابِرِينَ}: متعلق بـ {قَدَّرْنَاهَا} والجملة الفعلية في محل النصب حال من {امْرَأَتَهُ}؛ أي: حالة كونها مقدرًا كونها من الغابرين. {وَأَمْطَرْنَا}: {الواو}: عاطفة، {أَمْطَرْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {أَنْجَيْنَاهُ} {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {مَطَرًا}: مفعول به {فَسَاءَ}: {الفاء}: عاطفة، أو استئنافية، {سَاءَ} فعل ماض لإنشاء الذم. {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أَمْطَرْنَا}، أو مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم.

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة مسوقة لأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بحمده تعالى، وبالسلام على المصطفين الأخيار من خلقه، وكان هذا الحمد براعة استهلال؛ لما سيلقيه من البواهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيسرد ذكرها، وذلك بعد أن فرغ من قصص هذه السورة الخمس؛ ليكون نموذجًا يتأسى به كل كاتب وخطيب، ويحتذي به في كل علم مفاد. {الْحَمْدُ}: مبتدأ، {لِلَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {وَسَلَامٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء. {عَلَى عِبَادِهِ}: خبر، والجملة معطوفة على جملة {الْحَمْدُ} على كونها مقولًا لـ {قُلِ}، {الَّذِينَ}: صفة لـ {عِبَادِهِ}، {اصْطَفَى}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: اصطفاهم الله سبحانه. {آللَّهُ} الهمزة: للاستفهام، يُطلب بها وبـ {أَمَّ} تعيين أحد الشيئين، {آللَّهُ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}، {أَمْ}: عاطفة متصلة لتوفر شروطها، وهو تقدم همزة الاستفهام عليها، ودخولها على المفرد {مَا}: اسم موصول معطوف على الجلالة. {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: أي أم الأصنام التي يشركونها به تعالى، وقيل: {مَا}: مصدرية، والكلام حينئذٍ على حذفه مضاف من الأول؛ أي: توحيد الله خير أم شرككم. اهـ "سمين". {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}. {أَمَّنْ}: {أم} منقطعة بمعنى همزة التقرير، أو التوبيخ، وبل الإضرابية لعدم شرط كونها متصلة، {مَّنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على {الله}، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره؛ أمن خلق السماوات والأرض خير أم ما يشركون، والجملة الاسمية في محل النصب

معطوفة على جملة قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ} على كونها مقول {قُلِ}. {وَأَنْزَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر معطوف على {خَلَقَ}. {لَكُمْ}: حال من {مَاءً} أو متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ} أيضًا، {مَاءً}: مفعول به، {فَأَنْبَتْنَا} {الفاء}: عاطفة، {أَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {أَنْزَلَ} على طريق الالتفات، كما سيأتي في مبحث البلاغة، {بِهِ} متعلقان به، {حَدَائِقَ}: مفعول به، {ذَاتَ بَهْجَةٍ}: صفة لـ {حَدَائِقَ}، وسوَّغ إفراده كون المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل. {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}. {مَا}: نافية، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {لَكُمْ}: خبرها، مقدم على اسمها، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تُنْبِتُوا}: فعل وفاعل منصوب بحذف النون، {شَجَرَهَا}: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، والتقدير: ما كان إنبات شجرها كائنًا لكم، وجملة {كَانَ} في محل النصب صفة ثانية لـ {حَدَائِقَ}، أو حال منها لتخصصها بالصفة {أَإِلَهٌ}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {إلَهٌ} مبتدأ، سوَّغ الابتداء بالنكرة تقدم الاستفهام عليه، {مَعَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: هل إله آخر كائن مع الله سبحانه، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {بَلْ} حرف إضراب وانتقال من تبيكتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم، {هُمْ قَوْمٌ}: مبتدأ وخبر، وجملة {يَعْدِلُونَ} صفة {قَوْمٌ}، والجملة معترضة بين المقولات. {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}. {أَمَّنْ}: {أم}: منقطعة، {مَّنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير أما يشركون؟ والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلِ}، {جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة صلة لـ {مَّنْ} الموصولة. {وَجَعَلَ}: فعل، وفاعل مستتر، معطوف على {جَعَلَ}

الأول، {خِلَالَهَا} ظرف مكان في محل المفعول الثاني، {أَنْهَارًا} مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {وَجَعَلَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {جَعَلَ} الأول، {لَهَا}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}. {رَوَاسِيَ}: مفعول أول له. {وَجَعَلَ}: معطوف على {جَعَلَ} الأول. {بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ}: ظرف في محل المفعول الثاني. {حَاجِزًا}: مفعول أول لـ {جَعَل}. {أَإِلَهٌ}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {أَإِلَهٌ}: مبتدأ. {مَعَ اللَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {بَلْ}: حرف إضراب وانتقال. {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبره، والجملة معترضة بين المقولات. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}. {أَمَّنْ} {أم}: منقطعة، بمعنى همزة الاستفهام وبل الإضرابية، {مَّنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. و {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ {يُجِيبُ}. {دَعَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على {الْمُضْطَرَّ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والتقدير: أمن يجيب المضطر وقت دعوته إياه؟ {وَيَكْشِفُ السُّوءَ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يُجِيبُ}. {وَيَجْعَلُكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول. {خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {يُجِيبُ}. {أَإِلَهٌ}: {الهمزة} للاستفهام، {إِلَهٌ}: مبتدأ. {مَعَ اللَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف، منصوب بما بعده؛ أي تذكرًا قليلًا، أو لوقت محذوف، و {مَا}: زائدة؛ زيدت لتأكيد القلة، {تَذَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجمل في محل النصب مقول {قُلِ}. {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)}. {أَمَّنْ} {أم}: منقطعة، {مَن}: مبتدأ خبره محذوف؛ أي: أمن يهديكم خير أما يشركون؟ والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}، {يَهْدِيكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَهْدِيكُمْ}، {وَالْبَحْرِ}: معطوف على {الْبَرِّ}، {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على {مَنْ} الأول، {يُرْسِلُ}: فعل وفاعل مستتر، صلة الموصول، {الرِّيَاحَ}: مفعول به، {بُشْرًا}: حال من {الرِّيَاحَ}، {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يُرْسِلُ}. {أَإِلَهٌ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {إله}: مبتدأ، {مَعَ اللَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {تَعَالَى اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة معترضة، {عَمَّا}: متعلق بـ {تَعَالَى}، {يُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل، والعائد محذوف؛ والتقدير: تعالى الله سبحانه عن الأصنام التي يشركونها به. {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}. {أَمَّنْ} {أم}: منقطعة، {مَّنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}، {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يَبْدَؤا}. {وَمَنْ}: اسم موصول معطوف على {مَّنْ} الأول، {يَرْزُقُكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به صلة الموصول، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يَرْزُقُكُمْ}، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاءِ}، {أَإِلَهٌ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {أَإِلَهٌ}: مبتدأ، {مَعَ اللَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {قُل}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}، {إن}: حرف شرط،

{كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {صَادِقِينَ}: خبره، وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {لَا}: نافية، {يَعْلَمُ} فعل مضارع، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {يَعْلَمُ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَنْ} الموصولة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {الْغَيْبَ}: مفعول به، {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن، {اللَّهُ}: مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: لكن الله يعلم ذلك، والجملة الاستدراكية في محل النصب مقول {قُلْ}، ويصج أن تكون {مَنْ}: في محل نصب مفعولًا به، {الْغَيْبَ}: بدل اشتمال منها، {الله}: فاعل {يَعْلَمُ}. والمعنى: قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السماوات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {مَا}: نافية، {يَشْعُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {لَا يَعْلَمُ}، {أَيَّانَ}: اسم استفهام بمعنى متى، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ {يُبْعَثُونَ}، وهي معلقة لـ {يَشْعُرُونَ} عن العمل فيما بعدها، {يُبْعَثُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}. {بَلِ}: حرف إضراب انتقالي، {ادَّارَكَ}: فعل ماض بمعنى انعدم واضمحل، {عِلْمُهُمْ} فاعل، والجملة مستأنفة، {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بـ {ادَّارَكَ}، أو بـ {عِلْمُهُمْ}، وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى؛ لأنه كان حتما، كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، {بَلْ}: حرف إضراب انتقالي، {هُمْ}: مبتدأ {فِي شَكٍّ}: خبر، {مِنْهَا}: صفة لـ {شَكٍّ}، والجملة مستأنفة، {بَلْ}:

حرف إضراب انتقالي أيضًا، {هُمْ}: مبتدأ، {مِنْهَا}: متعلق بـ {عَمُونَ}: خبر، والجملة مستأنفة، والأصل عميون، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الميم بعد حذف كسرتها فالتقى ساكنان، فحذفت الياء فصار {عَمُونَ}، كما سيأتي. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {كَفَرُوا} فعل وفاعل، صلة الموصول، {أَإِذَا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، تقديره: أنخرج من قبورنا إذا كنا ترابًا، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط متعلق بنخرج المحذوف، لا بمخرجون؛ لأن ما بعد الهمزة وإن واللام لا يعمل فيما قبلها، {كُنَّا تُرَابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، {وَآبَاؤُنَا}: معطوف على اسم {كان} لوجود الفصل بـ {تُرَابًا}، وجملة {كان} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}، تقديره: أنخرج من قبورنا وقت كوننا ترابًا وأباؤنا؟، لا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَئِنَّا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {إنا}: ناصب واسمه، {لَمُخْرَجُونَ} {اللام}: حرف ابتداء، {مُخْرَجُونَ}: خبر إن، وهذه الجملة مع استفهامها مؤكدة للجملة التي قبلها، {لَقد} {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق. {وُعِدْنَا}: فعل ونائب فاعل، {هَذَا}: مفعول ثان لـ {وُعِدْنَا}، {نَحْنُ}: تأكيد لضمير {وُعِدْنَا}، {وَآبَاؤُنَا} معطوف عليه، وجاز العطف عليه بوجود الفصل بالضمير المنفصل والمفعول الثاني، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {وُعِدْنَا}، {إِنْ}: نافية، {هَذَا}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَسَاطِيرُ}: خبر المبتدأ، {الْأَوَّلِينَ}: مضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة،

{سِيرُوا} فعل وفاعل، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {فَانْظُرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {سِيرُوا}، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها للزومه الصدارة، {كَانَ عَاقِبَةُ}: فعل ناقص واسمه، {الْمُجْرِمِينَ} مضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب مفعول {انْظُرُوا}، علق عنها باسم الاستفهام. {وَلَا تَحْزَنْ} {الواو}: عاطفة، {لَا}: ناهية جازمة، {تَحْزَنْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، مجزوم بـ {لا} الناهية، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {قُلْ}، {وَلَا تَكُنْ}: جازم وفعل ناقص مجزوم، معطوف على {لَا تَخزَنْ} واسمها ضمير يعود على محمد، {فِي ضَيْقٍ}: خبرها، {مِمَّا} {من}: حرف جر، {ما}: مصدرية، وجملة {يَمْكُرُونَ} صلة {ما} المصدرية، الجار والمجرور صفة لـ {ضَيْقٍ}؛ أي: في ضيق كائن من مكرهم. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)}. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجله مستأنفة، {مَتَى}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ {هَذَا} و {هَذَا}: مبتدأ مؤخر، و {الْوَعْدُ}: بدل منه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {وَيَقُولُونَ}، {إن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فمتى هذا الوعد، والجملة الشرطية في محل النصب مقول {وَيَقُولُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على النبي، والجملة مستأنفة، {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، يرفع الاسم، وينصب الخبر، واسمها ضمير مستتر فيه، تقديره: هو، يعود على الشأن، {أَنْ}: حرف مصدر، {يَكُونَ}: فعل ناقص منصوب بـ {أن}، واسمها ضمير مستتر يعود على الشأن، والمصدر المؤول من {أَنْ يَكُونَ}: خبر {عَسَى}، {رَدِفَ}: فعل ماض بمعنى قرب، {لَكُمْ} متعلق به، {بَعْضُ}:

فاعل، {الَّذِي}: مضاف إليه، وجملة {تَسْتَعْجِلُونَ} صلته، والعائد محذوف. تقديره: بعض الذي تستعجلونه، وجملة {رَدِفَ} في محل النصب خبر {يَكُونَ}، والتقدير: عسى أن يكون رديفًا قريبًا لكم بعض العذاب الذي تستعجلونه، وجملة {أَنْ يَكُونَ}: خبر {عَسَى}، والتقدير: عسى هو - أي الشأن - كون العذاب الذي تستعجلونه رديفًا قريبًا لكم، وجملة {عَسَى}: في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)}. {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لَذُو فَضْلٍ}: خبره ومضاف إليه، و {اللام} حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، {عَلَى النَّاسِ} متعلق بـ {فَضْلٍ}، {وَلَكِنَّ} {الواو}: حالية، {لكن}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَهُمْ}: اسمها، وجملة {لَا يَشْكُرُونَ} خبرها، وجملة الاستدراك في محل النصب حال من {النَّاسِ}، والتقدير: وإن ربك لذو فضل على الناس حالة كون أكثرهم غير شاكرين له. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لَيَعْلَمُ} {اللام}: حرف ابتداء، {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، و {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يعلم}، وجملة {يعلم} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى، {تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تكنه صدورهم. {وَمَا}: معطوفة على {مَا} الأولى، وجملة {يُعْلِنُونَ} صلته، والعائد محذوف تقديره: وما يعلنونه، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {مَا}: نافية، {مِن}: زائدة، {غَائِبَةٍ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء، بالنكرة تقدم النفي عليها، {فِي السَّمَاءِ}: صفة لـ {غَائِبَةٍ}، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاءِ}، {إِلَّا}: أداة حصر واستثناء مفرغ، {فِي كِتَابٍ}: خبر {غَائِبَةٍ}، {مُبِينٍ}: صفة {كِتَابٍ}

والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {يَتَطَهَّرُونَ}؛ أي: ينزهون أنفسهم، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات. {قَدَّرْنَاهَا}؛ أي: قضينا وحكمنا، {مِنَ الْغَابِرِينَ}؛ أي: الباقين في العذاب، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} هذا التأكيد يدل على شدة المطر، وأنه غير معهود. {حَدَائِقَ} جمع حديقة؛ أي: بستان من أحدق بالشيء إذا أحاط به، ولما كان البستان محوَّطًا بالحيطان سمي حديقة، وإلا فلا يسمى بها، وفي "المصباح": والحديقة البستان يكون عليه حائط، فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن الحائط أحدق بها؛ أي: أحاط، ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان، وإن كان بغير حائط، والجمع الحدائق، وفي "الصحاح": الحديقة كل بستان عليه حائط، ومن أقوالهم: ورد عليَّ كتابك فتنزهت في آنق رياضه وبهجة حدائقه، وقال في "المفردات": الحدائق جمع حديقة، وهي قطعة من الأرض ذات ماء سميت بها تشبيهًا بحدقة العين في الهيثة وحصول الماء فيها، وحدقوا به وأحدقوا أحاطوا به، تشبيهًا لإدارة الحدقة. انتهى. {ذَاتَ بَهْجَةٍ} البهجة حسن اللون، وظهور السرور فيه؛ أي: صاحبة حسن ورونق يبتهج به النظار، وكل موضع ذي أشجار مثمرة محاط عليه فهو حديقة، وكل ما يسر منظره فهو بهجة، و {ذَاتَ بَهْجَةٍ} نعت لحدائق. وسوَّغ إفراده كون المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل. قال بعضهم: وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ ... الأَفْصَحُ الإِفْرَاد فِيْهِ يَا فُلُ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}؛ أي: قوم عادتهم العدول والميل عن الحق الذي هو التوحيد، والعكوف على الباطل الذي هو الإشراك، أو يعدلون يجعلون له عديلًا، ويثبتون له نظيرًا. قال في "المفردات": قوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يصح أن

يكون من قولهم: عدل عن الحق إذا جار عدولًا انتهى، فهم جاروا وظلموا بوضع الكفر موضع الإيمان، والشرك محل التوحيد. {قَرَارًا} أي: مستقرًا؛ أي: دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها، يقال: قر في مكانه يقر قرارًا إذا ثبت ثبوتًا جامدًا، وأصله القر، وهو البرد، لأجل أن البرد يقتضي السكون، والحر يقتضي الحركة. {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} جمع خلل، وهي الفرجة بين الشيئين، نحو خلل الدار، وخلل السحاب ونحوهما، أوساطها. {رَوَاسِيَ} أي: جبالًا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، قال في "كشف الأسرار": الرواسي جمع الجمع، يقال: جبل راس وجبال راسية، ثم تُجمع الراسية على الرواسي. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}؛ أي: مانعًا معنويًا، وهو القدرة القاهرة، قال في "المفردات": الحجز المنع بين الشيئين بفاصل بينهما، وسمي الحجاز بذلك لكونه حاجزًا بين الشام والبادية، والحاجز هنا المانع الإلهي، إذ ليس هناك حاجزٌ حسي كما هو مشاهد. {الْمُضْطَرَّ} والمضطر هنا اسم مفعول من الاضطرار، وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. والاضطرار افتعال من الضرورة، أصله المضتر قلبت تاء الافتعال طاء لوقوعها إثر مطبق، وهو الضاد، والضرورة هي الحالة المحوجة إلى اللجاء، والمضطر الذي أحوجته شدة من الشدائد إلى اللجاء والضراعة إلى الله تعالى، كالمرض والفقر والدين والغرق والحبس والجور والظلم وغيرها من نوازل الدهر، فكشفها بالشفاء والإغناء والإنجاء والإطلاق والتخليص. ذكره في "الروح". {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} والسوء كل ما يسوء الإنسان؛ أي: يحزنه سواء كان في نفسه، أو في غيره، كولده أو صديقه أو أهله أو ماله. فذكره بعد الضر، من ذكر العام بعد الخاص. اهـ شيخنا.

{خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} من الخلافة، وهي الملك والتسلط، {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} أصله تتذكرون؛ لأنه من باب تفعل الخماسي فأدغمت التاء في الذال، فالذال والتاء مفتوحتان، و {مَا} مزيدة لتقليل القليل، وهو كناية عن العدم بالكلية فالمراد نفي تذكرهم رأسًا. اهـ. شيخنا، وفي "الكرخي": والمعنى: نفي التذكر، والقلة تُستعمل في معنى النفي. اهـ، {مَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: يوجده أول مرة، فالخلق بمعنى المخلوق. {قُلْ هَاتُوا} قال الحريري: تقول العرب للواحد المذكر: هات بكسر التاء، والجمع هاتوا، وللمؤنث هاتي، ولجماعة الإناث هاتين، وللاثنين من المذكر والمؤنث هاتيا دون هاتا، من غير أن يفرقوا في الأمر لهما، كما لم يفرقوا بينهما في ضمير المثنى، في مثل قولك غلامهما، وضربهما، ولا في علامة التثنية التي في قولك: الزيدان والهندان. وكان الأصل في هات: آت المأخوذ من أتي؛ أي: أعطي، فقُلبت الهمزة هاء كما قُلبت في أرقت الماء، وفي إياك، فقيل: هرقت وهيَّاك. وفي "ملح العرب": أن رجلًا قال لأعرابي: هات. فقال: والله ما أهاتيك؛ أي: ما أعطيك. {بُرْهَانَكُمْ} والبرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا، {الْغَيْبَ} وهو كل ما غاب عن العباد، كالساعة وأمور الآخرة، ونحوها، {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؛ أي: متى يحشرون من القبور، فـ {أَيَّانَ} مركبة من أي وآن. فأي للاستفهام، وآن بمعنى الزمان، كما مر في مبحث التفسير. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} أصله تدارك فابدلت التاء دالًا، وأسكنت للإدغام، واجتُلبت همزة الوصل للابتداء، ومعناه تلاحق وتدارك. قال في "القاموس": جهلوا علمها ولا علم عندهم من أمرها. انتهى، والمراد التتابع في الاضمحلال والفناء، {فِي شَكٍّ}؛ أي: في حيرة عظيمة. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}؛ أي: جاهلون بحيث لا يكادون يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم بالكلية، جمع عم، وهو أعمى القلب، قال في "المفردات":

العمى يقال: في افتقاد البصر، وافتقاد البصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني: عميٌ وعمٍ، وعمى القلب أشد، ولا اعتبار لافتقاد البصر في جنب افتقاد البصيرة، إذ رُب أعمى في الظاهر بصير في الباطن، ورب بصير في الصورة أعمى في الحقيقة، كحال الكفار والمنافقين والغافلين، وعلاج هذا العمى إنما يكون بضده، وهو العلم الذي به يُدرك الآخرة وما تحويه من الأمور. اهـ "الروح"، وأصله عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الميم بعد حذف حركتها. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} والأساطير الأحاديث التي ليس لها حقيقة ولا نظام، جمع إسطار وإسطير بالكسر، وأسطور بالضم، وبالهاء في الكل، جمع سطر. {عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} من الإجرام، وأصل الجرم قطع الثمر عن الشجر، والجرامة رديء الثمر المجروم، واستعير لكل اكتساب مكروه، {رَدِفَ لَكُمْ} وفي "القاموس": ردفه - كسمع ونصر - تبعه، ولكنه ضمن هنا معنى دنا أو قرب. ولذلك عدي باللام، أو أن اللام زائدة كما مر. {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}؛ أي: ما تخفيه، من أكن إذا أخفى، والإكنان جعل الشيء في الكن، وهو ما يحفظ فيه الشيء. {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} في "السمين": في هذه التاء قولان: أحدهما: أنها للمبالغة، كراوية وعلامة. والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر، نحو العافية، والعاقبة، قال الزمخشري: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات. اهـ. قولهْ {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بثبوت النون هنا على الأصل. وقد حذفت من هذا المضارع في القرآن في عشرين موضعًا، تسعة منها مبدوءة بالتاء، وثمانية بالياء، واثنان بالنون، وواحد بالهمزة. وهو قوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} اهـ شيخنا. {فِي ضَيْقٍ} أي: في حرج وضيق صدر.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا}. ومنها: براعة الاستهلال في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فإنه كان هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من البراهين والدلائل على الوحدانية، والعلم والقدرة التي سيذكرها. ومنها: أسلوب التبكيت والتهكم في قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}. ومنها: الالتفات في قوله: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} بعد قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} فقد انتقل في نقل الأخبار من الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله: {فَأَنْبَتْنَا} والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى، وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، وما يبدو فيها من تزاويق الألوان، وتحاسين الصور ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج. كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق، وهو الله وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة، فقال: تَأَمَّلْ فِيْ رِيَاضِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ ... بِأنْظَارِ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيْكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ ومنها: الزيادة في قوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} لتأكيد القلة. ومنها: الطباق في قوله: {ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: أمام نزول المطر، فاستعار اليدين للأمام.

ومنها: الطباق في قوله: {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} استعار العمى للتعامي عن الحق وعدم التفكر والتدبر في آلاء الله سبحانه. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا}. ومنها: تكرير همزة الإنكار في قوله: {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} للمبالغة في التعجب والإنكار. ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في {الْمُجْرِمِينَ} لأن أصل الإجرام قطع الثمر عن الشجر، فاستعير لكل اكتساب مكروه. ومنها: التأكيد بـ {إن} و {اللام} في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} وفي قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ}. ومنها: الطباق في قوله: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} لأن معنى تكن تخفي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما يتعلق بالنشأة الأولى، وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور، وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد .. أردف ذلك الكلام على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأدلة على صحتها، وصدق دعواه فيما يدعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه: 1 - أن ما فيه من القصص موافق لما في التوارة والإنجيل، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان

أميًا، ولم يخالط أحدًا من العلماء للاستفادة والتعلم، فلا يكون ذلك إذًا إلا من وحي إلهي من لدن حكيم خبير. 2 - أن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر في دنياهم وآخرتهم، لا يوجد له نظير في كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله تعالى. 3 - أنه قد بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته، مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى البشر، وأنه من الملأ الأعلى، ومن لدن خالق القوى والقدر. ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكمًا على بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق في هذا، كاختلافهم في أمر المسيح فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون: إنه كاذب في دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هي منزهة عنه، وقالوا: إن النبي المبشَّر به في التوراة هو يوشع عليه السلام، أو هو نبي آخر يأتي آخر الدهر، إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه، وأنه لا يحكم إلا بالعدل، فقوله الحق وقضائه الفصل. ثم أمر رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتوكل عليه، فإنه حافظه، وناصره. وأن يُعرض عن اْولئك الذين لا يستمعون لدعوته؛ لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعي، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها. قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان بعدئذٍ إمكان البعث والحشر والنشر، ثم فصل القول في إعجاز القرآن، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أردف ذلك بذكر مقدمات القيامة، وما يحدث من الأهوال حين قيامها، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم، وأنه حينئذ يُنفخ في الصور فيفزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، وأن الجبال تجري وتمر مر السحاب.

[76]

ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك، وجعلهم قسمين: مطيعين: يعملون الصالحات، فيثابون عليها بما هو خير منها، ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذٍ. وعاصين: يكبون في النار على وجوههم ويقال لهم حينئذٍ: هذا جزاء ما كنتم تعملون. قوله تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن أحوال المبدأ والمعاد، وفصَّل أحوال القيامة .. أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة، تنبيهًا لهم إلى أنه قد تم أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله تعالى، والاستغراق في مراقبته غير مبال بهم ضلوا أو رشدوا، صلحوا أو فسدوا، إثارة لهممهم بالطف وجه إلى تدارك أحوالهم، وتحصيل ما ينفعهم، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفي في إرشادهم، وتشفي عللهم وأمراضهم. التفسير وأوجه القراءة 76 - {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} المنزل عليك يا محمد {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} اليهود والنصارى، ويبيِّن لهم، {أَكْثَرَ} الأمر {الَّذِي هُمْ فِيهِ} لجهالتهم {يَخْتَلِفُونَ} مثل اختلافهم في شأن المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون: إنه كاذب في دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هي بريئة منه، وكاختلافهم في أمر عزير فمن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه نبي، ومن قائل إنه رجل صالح، وكاختلافهم في المعاد الجسماني والروحاني، وصفات الجنة والنار، وتناكرهم في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضًا، فلو أنصفوا وأخذوا بالقرآن، وأسلموا لسلموا من هذا الاختلاف، ووجدوا ما يرفع تفرقهم.

[77]

فإن قلت (¬1): إن قوله: {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يناقض قوله تعالى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فكيف الجمع بينهما؟ قلت: إنه يبين الكل لكن أكثره بالتصريح والتنصيص، وأقله بالرمز والإشارة، كما في "الكرخي". والمعنى: أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بني إسرائيل الحق في كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه لكنهم لم يفعلوا، وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله، كما تفعلون أنتم أيها المشركون. 77 - ثم وصف القرآن بقوله: {وَإِنَّهُ} أي: وإن هذا القرآن {لَهُدًى} للمؤمنين؛ أي: لهاد لهم إلى سبيل الرشاد، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين آمنوا به وصدقوه، وعملوا بما فيه مطلقًا، سواء كانوا من بني إسرائيل، أو من غيرهم، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون به. 78 - وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه بدليل عدله، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {يَقْضِي بَيْنَهُمْ}؛ أي: يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل يوم القيامة {بِحُكْمِهِ}؛ أي: بعدله؛ أي: بحكمه العادل الحق الذي لا جور فيه، فينتقم من المبطل منهم، ويجازي المحسن بما يستحق من الجزاء، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيُظهر ما حرَّفوه. وقرأ الجمهور: {بِحُكْمِهِ} بضم الحاء وسكون الكاف، وقرأ (¬2) أبو المتوكل وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري: {بحكمه} بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة. وفي "فتح الرحمن": تجوَّز بحكمه عما يحكم به، وهو العدل، وإلا فالقضاء والحكم واحد. اهـ. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ} الغالب القادر، الذي لا يرد حكمه ¬

_ (¬1) الفتوحات بتصرف. (¬2) زاد المسير.

[79]

وقضاؤه {الْعَلِيمُ} بأفعال العباد وأقوالهم، فقضاؤه موافق لواسع علمه. ولما كان (¬1) القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به .. جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة؛ أي: الغلبة والقدرة، والعلم، 79 - وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة، أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوكل عليه وحده، فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} سبحانه؛ أي: فإذا كان الله موصوفًا بهذه الشؤون الجليلة فتوكل على الله؛ أي: فوِّض جميع أمورك إلى الله سبحانه، وثق به فيها، ولا تبال بمعاداتهم، فإنه كافيك كل ما أهمك، وناصرك على أعدائك حتى يبلغ الكتاب أجله. والتوكل (¬2) التبتل إلى الله، وتفويض الأمر إليه، والإعراض عن التشبث بما سواه، وأيضًا هو سكون القلب إلى الله، وطمأنينة الجوارح عند ظهور الهائل، ثم علل التوكل أولًا بقوله: {إِنَّكَ} أنت يا محمد {عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}؛ أي: على الدين الحق، الظاهر الواضح الذي لا خفاء في حقيقته، وهو دين الإِسلام، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء، وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره. 80 - ثم علله ثانيًا بقطع طمعه في إيمان قومه، وأنه لا أمل في استجابتهم لدعوته، فقال: {إِنَّكَ} يا محمد {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}؛ أي (¬3): لا تقدر على إسماع الحق لموتى القلوب، وهم الكفار؛ أي: لا تقدر أن تُفهم الحق من طبع الله سبحانه على قلوبهم، فأماتها، فإن كونهم كالموتى موجب لقطع الطمع في مشايعتهم، ومعاضدتهم رأسًا. وتخصيص الاعتماد به تعالى، وهو المعني بالتوكل عليه؛ لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع صار ذلك سببًا قويًا في عدم الاعتداد بهم. وإطلاق الإسماع على المعقول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

وإنما شُبِّهوا بالموتى لعدم انتفاعهم بما يُتلى عليهم من الآيات، والمراد الذين طُبع على قلوبهم، فلا يخرج ما فيها من الكفر، ولا يدخل ما لم يكن فيها من الإيمان. {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}؛ أي: ولا تقدر أن تُسمع الصم الدعوة إلى أمر من الأمور، جمع أصم، والصمم فقدان حاسة السمع، وبه شُبه من لا يصغي إلى الحق، ولا يقبله، كما شبه هنا؛ أي: ولا تقدر أن تسمع الحق من أصمهم الله عن سماعه، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل في استجابتهم للدعوة؛ لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال. وفي "التأويلات النجمية": ولا تُسمع الصم الذين أصمهم الله بحب الشهوات، فإن حبك الشيء يُعمي ويصم؛ أي: يعمي عن طريق الرشد، ويصم عن استماع الحق. ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده، فقال: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}؛ أي: لا تسمع الصم إذا أعرضوا عن الحق إعراضًا تامًا، وانصرفوا حال كونهم مدبرين؛ أي: معرضين عن الحق، تاركين ذلك وراء ظهورهم فتقييد (¬1) النفي بإذا لتكميل التشبيه، وتأكيد النفي، فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد؛ أي: إن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبًا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدًا منه، معرضًا عنه، موليًا مدبرًا. وظاهر نفي سماع الموتى العموم (¬2)، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح: إنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب القتلى في قليب - بئر - بدر، فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادًا لا أرواح لها؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم باسمع لما أقول منهم" أخرجه مسلم، وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[81]

وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق (¬1): {لا يسمع} بالتحتية المفتوحة وبفتح الميم، {الصم} بضم الميم، فاعله، وقرأ الباقون: {تُسمع} بضم الفوقية وكسر الميم، {الصم} بفتح الميم من أسمع الرباعي. قال قتادة الأصم إذا ولى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإيمان. وقصارى ما سلف: أنه تعالى أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالتوكل عليه، والإعراض عما سواه؛ لأنه على الحق المبين، ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع في مشايعة المشركين، ومعاضدتهم؛ لأنهم كالموتى، وكالصم البكم، فلا أمل في استجابتم للدعوة، ولا في قبولهم للحق. 81 - ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه في إيمانهم على أتم وجه، فقال: {وَمَا أَنْتَ} يا محمد {بِهَادِي الْعُمْيِ}؛ أي: بمرشد العميان وصارفهم، {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} وغوايتهم إلى الحق هداية موصلة إلى المطلوب، فإن الاهتداء لا يحصل إلا بالبصر، و {عَنْ} متعلقة بالهداية (¬2)، باعتبار تضمنها لمعنى الصرف، والعُميُ جمع أعمى، والعمى فقدان البصر، فشُبِّه من افتقد البصيرة بمن فَقَدَ البصر في عدم الهداية. قال في "المفردات": لم يعد تعالى افتقاد البصر في جانب افتقاد البصيرة عمى، حيث قال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}؛ أي: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشادًا يوصله إلى المطلوب منه، وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. وقرأ الجمهور (¬3): {بِهَادِي الْعُمْيِ} بإضافة هادي إلى العمي، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة: {بهاد} منونًا {العميَ} بالنصب، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة: {تهدي} مضارع هدى {العميَ} بالنصب، وقرأ ابن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[82]

مسعود: {وما أن تهتدي} بزيادة {أن} بعد {ما}، وتهتدي، وتهتدي مضارع اهتدى، {العمي} بالرفع، والمعنى: ليس في وسعك إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق، ولم ينظر إليه بعين قلبه؛ أي: أنت أيها الرسول لا تستطيع أن تصرف العمي عن ضلالتهم، وتهديهم إلى الطريق السوي. والمراد: إنك لا تهدي من أعماهم الله عن الهدى والرشاد، فجعل على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما جئت به نظرًا يوصلهم إلى معرفة الحق، وسلوك سبيله. ثم زاد ذلك توكيدًا فقال: {إِن تسُمِعُ}؛ أي: ما تُسمع دعوتك سماعًا نافعًا للسامع، {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} التنزيلية، ويصدق بها، وهي القرآن، لا من يكفر بها؛ أي: لا تُسمع إلا من سبق في علمنا إيمانه بآياتنا وتصديقه بكتابنا، ولما كان طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية قال: {إِنْ تُسْمِعُ}، دون إن تهدي، مع قرب ذكر الهداية، وجملة قوله: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تعليل لإيمانهم بها، كأنه قيل يؤمنون بآياتنا لكونهم منقادين للحق، مخلصين في إيمانهم. والمعنى (¬1): أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة، خاضع لربه متبتل إليه، مجيب لدعوة رسله. والخلاصة: أنك لا تقدر أن تُفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول، ويتدبرونه، ويعملون به، إذ هم ينقادون للحق في كل حين. واعلم (¬2): أن الأصل هو العناية الأزلية، وما سبق في علم الله سبحانه من السعادة الأبدية، فالسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله سبحانه وتعالى، وإنما الأعمال بالخواتيم، اللهم اجعلنا بجزيل فضلك ووسيع كرمك من السعداء، ولا تجعلنا من الأشقياء. 82 - ثم هدد العباد بذكر طرق من أشراط الساعة وأهوالها، فقال: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: وإذا وجب وثبت، وحل على الناس أجل ما قلنا في القرآن، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

ووعدناهم فيه، والمراد بالقول (¬1): ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كان يستعجل بها المشركون، والمراد بالوقوع: الدنوُّ والاقتراب، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. والمعنى: إذا دنا واقترب قيام الساعة التي ذكرناها وبئناها في القرآن، قيل: اقترابها بموت العلماء، وذهاب العلم، وقيل: برفع القرآن، وقيل: إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر. {أَخْرَجْنَا لَهُمْ}؛ أي: للناس {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: من جبل الصفا بمكة وهي فصيل ناقة صالح عليه السلام، فإنه لما عُقرت أمه هرب، فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي - رضي الله عنه - أنها تخرج في ثلاثة أيام، والناس ينظرون إليها، فلا يخرج كل يوم إلا ثلثها، وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام، وفي الحديث: "إن طولها ستون ذراعًا بذراع آدم عليه السلام، لا يُدركها طالب، ولا يفوتها هارب"، وقيل: اسم الدابة الجسَّاسة لتجسُّسها الأخبار للدجال؛ لأن الدجال كان موثقًا في دير في جزيرة بحر الشام، وكانت الجسَّاسة في تلك الجزيرة، كما في حديث المشارق في الباب الثامن. وروى (¬2) البغوي بإسناده عن الثعلبي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة، قلت: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: "من أعظم المساجد حرمة على الله، فبينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون .. إذ تضطرب الأرض، وينشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها الطالب، ولن يفوتها هارب، تسِمُ الناس مؤمنًا وكافرًا، فأما المؤمن: فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن. وأما الكافر: فتنكت بين عينيه نكتة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

سوداء، وتكتب بين عينيه كافر". وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن ابن عمر، قال: تخرج الدابة ليلة جمع، والناس يسيرون إلى منى، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "بئس الشعب شعب أجياد"، مرتين أو ثلاثًا، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؛ قال: "تخرج منه الدابة، تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين". وروي عن ابن الزبير، أنه وصف الدابة، فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا. وعن عبد الله بن عمرو: تخرج الدابة من شعب أجياد، فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض، وروي عن علي، قال: ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية، وقال وهب: وجهها وجه رجل، وسائر خلقها كخلق الطير، فتُخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون. قال القرطبي (¬1): قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة، فليعتمد عليه. واختلف في أي موضع تخرج؟ فقال عبد الله بن عمر: تخرج من الصفا، وروي عن قتادة: أنها تخرج في تهامة، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنُّور نوح - عليه السلام -، وقيل: من أرض الطائف، قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله، وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته. وما جاء (¬2) في وصف الدابة، والمبالغة في طولها وعرضها وزمانها ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) المراغي.

ومكانها مما لا يُركن إليه، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. وجملة قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} صفة للدابة؛ أي: تكلم تلك الدابة الناس المعاصرين لخروجها، وتخبرهم {أَنَّ النَّاسَ} العصريين والمكلفين الموجودين الآن {كَانُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: بآيات ربنا، ودلائل قدرته التي منها خروجي الدال على قرب الساعة {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يصدقون بها؛ أي: تكلم تلك الدابة من وُجد وقت خروجها على العموم الكفرة وغيرهم باللسان العربي الفصيح، أو تُكلِّم العرب بالعربي، والعجم بالعجمي، وتُخبرهم بأن الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الناطقة بمجيء الساعة، وقربها كخروجي. وقال الشوكاني: والمراد بالناس في الآية: هم الناس على العموم فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل: المراد بهم الكفار خاصة، وقيل: كفار مكة. والأول أولى. اهـ. قال أبو حيان: والظاهر (¬1) أن قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} بالتشديد، وهي قراءة الجمهور من الكلام، ويؤيده قراءة أبي {تُنَبِّئُهُمْ}، وفي بعض القراءات {تحدثهم} وهي قراءة يحيى بن سلام، وقرأ عبد الله وأبو عمران الجوني {تكلمهم بأن الناس} قال السدي: تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإِسلام، وقيل: تخاطبهم فتقول للمؤمن هذا مؤمن، وللكافر هذا كافر، وقيل: معنى تكلمهم تجرحهم من الكلم والتشديد للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة: {تكلمهم} بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام، وقراءة من قرأ {تجرحهم} مكان تكلمهم، وسأل أبو الحوراء ابن عباس تُكلِّم أو تَكْلِم؟ فقال: كل ذلك تفعل، تُكلِّم المؤمن وتَكْلِمُ الكافر. انتهى، وروي أنها تسم الكافر في جبهته وتربده، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[83]

وقرأ الكوفيون حمزة والكسائي وعاصم وزيد بن علي {أن الناس} بفتح الهمزة على تقدير تكلمهم بأن الناس، وقرأ ابن مسعود {بأن} وتقدم، وقرأ باقي السبعة بكسر الهمزة، فاحتمل الكسر أن يكون من كلام الله، وهو الظاهر لقوله: {بِآيَاتِنَا} فتكون الجملة مستأنفة، واحتمل أن يكون من كلام الدابة، وروي هذا عن ابن عباس، وكُسرت إن على هذا القول، إما على إضمار القول؛ أي: تكلمهم وتقول لهم: إن الناس، أو على إجراء تكلمهم مجرى تقول لهم، ويكون قوله: {بِآيَاتِنَا} على حذف مضاف؛ أي: بآياتنا ربنا، كما مر في حلنا، أو لاختصاصها بالله، كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا، وعلى قراءة الفتح فالتقدير بأن، كقراءة عبد الله، كما مر، والظاهر أنه متعلق بتكلمهم؛ أي: تخاطبهم بهذا الكلام، ويجوز أن تكون الباء المنطوق بها، أو المقدرة سببية؛ أي: تخاطبهم، أو تجرحهم بسبب انتفاء إيقانهم بآياتنا. انتهى. 83 - ثم بيَّن سبحانه حال المكذبين حين مجيء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} والمراد (¬1) بهذا الحشر هو الحشر الخاص بهم للعذاب بعد الحشر العام لكل الخلق؛ أي: واذكر يا محمد قصة يوم يُجمع من كل أمة من الأمم جماعة {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ} عند ذلك الحشر {يُوزَعُونَ}؛ أي: يُرد أولهم على آخرهم، أو يُدفعون والفوج الجماعة من الناس، وقوله: {مِمَّنْ يُكَذِّبُ} بيان للفوج؛ أي: فوجًا مكذبين بآياتنا؛ لأن كل أمة، وكل عمر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفريق بني آدم؛ لأن كل أمة منقسمة إلى مصدِّق ومكذب. والمراد بالفوج هنا (¬2): رؤساء الأمم المتبوعون في الكفر والتكذيب، فهم يحبسون حتى يلتحق بهم أسافلهم التابعون، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وهكذا ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان.

[84]

يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار، وفي الحديث: "امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار"، ومعنى يوزعون: يُحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقع التوبيخ والمناقشة، وهو عبارة عن كثرة عددهم، وتباعد أطرافهم، كما سبق في هذه السورة في قصة سليمان عليه السلام، والمراد بالآيات بالنسبة إلى هذه الأمة الآيات القرآنية. والمعنى: واذكر يا محمد لقومك - تحذيرًا لهم وترهيبًا - هول يوم جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا ويتلاحقوا في موقف الحساب والمناقشة. 84 - {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب. {قَالَ} الله سبحانه موبخًا لهم على التكذيب، والالتفات فيه لتربية المهابة كما سيأتي في مبحث البلاغة، {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} الناطقة بلقاء يومكم هذا التي أنزلتُها على رسلي، وأمرتُهم ببلاغها إليكم. {وَ} الحال أنكم {لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}؛ أي: لم تعرفوا ببطلانها فتُعرضوا عنها، والواو للحال، ونصب {عِلْمًا} على التمييز، كما سيأتي؛ أي: أكذبتم بها بادي الرأي، جاهلين لها غير ناظرين فيها نظرًا يؤدي إلى العلم بكنهها، ولا مستدلين على صحتها وبطلانها، تمردًا وعنادًا وجراءة على الله وعلى رسله. وفي هذا (¬1): مزيد توبيخ وتقريع لهم؛ لأن من كذب بشيء ولم يحط به علمًا فقد كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل، وعدم الإنصاف، وسوء اللهم، وقصور الإدراك، ومن هذا القبيل من تصدَّى لذم علم من العلوم الشرعية، أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها، كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علمًا، وعلم أصول الفقه، فإنه يُتوسل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[85]

التفصيلية، مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسُنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل، طاعن في العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه ولا يعلم به، ولا يحيط بكنهه، حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول، وركاك الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زورًا وكذبًا. {أم} في قوله: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هي المنقطعة، وقرأ أبو حيوة {أماذا} بتخفيف الميم، أدخل همزة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد والمعنى: بل أي شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها، والتفكر من معانيها، وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم. يعني (¬1): لم يكن لهم عمل غير الجهل والتكذيب، والكفر والمعاصي، كأنهم لم يُخلقوا إلا لها، مع أنهم ما خُلقوا إلا للعلم والتصديق والإيمان والطاعة، يخاطبون بذلك تبكيتًا، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك. 85 - ثم يكبون في النار، وذلك قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله {بِمَا ظَلَمُوا}؛ أي: بسبب ظلمهم الذي هو التكذيب بآيات الله {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} باعتذار لشغلهم بالعذاب، أو لختم أفواههم. والمعنى (¬2): أي وحل بأولئك المكذبين بآيات الله السخط والغضب والعذاب بسبب تكذيبهم بها، فهم لا ينطقون بحجة، ولا معذرة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم. ونحو الآية قوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} 86 - وبعد أن خوَّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

{أَلَمْ يَرَوْا} (¬1) من رؤية القلب، وهو العلم، لا من رؤية البصر؛ لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات، والاستفهام فيه للتوبيخ المضمن للإنكار؛ أي: ألم يعلم هؤلاء المكذبون بآياتنا {أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ} مظلمًا {لِيَسْكُنُوا فِيهِ}؛ أي: ليستريحوا فيه بالنوم والقرار، ففيه حذف مظلمًا يدل عليه قوله: {وَ} جعلنا {النَّهَارَ مُبْصِرًا}؛ أي: مضيئًا ليتحركوا فيه، وينتشروا لطلب معاشهم، ففيه حذف ليتحركوا دل عليه قوله: {لِيَسْكُنُوا} ففي الكلام احتباك كما سيأتي في مبحث البلاغة؛ أي: ألم يتفكر أهل مكة، ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلمًا ليستريحوا فيه بالقرار والنوم، والنهار مضيئًا لينتشروا فيه ويطلبوا معايشهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن في جعل الليل والنهار، كما ذكر {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات ظاهوة على التوحيد والبعث والنبوة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون بها، فيعتبرون. خصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها دون الكافرين. وحاصل معنى الآية (¬2): أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار، ومخالفتنا بينهما بجعل ذاك سكنًا لم يسكنون فيه، ويهدؤون راحة لأبدانهم من تعب التصرف، والتقلب نهارًا، وجعل هذا مضيئًا يبصرون في الأشياء، ويعاينونها، فيتقلبون فيه لمعايشهم، فيتفكرون في ذلك، ويتدبرون، ويعلمون أن مصرِّف ذلك كذلك هو الإله الذي لا يُعجزه شيء، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء، وإحياء الأموات بعد الممات. وفي ذلك أيضًا دليل على النبوة؛ لأنه كما يُقلِّب الليل والنار لمنافع المكلفين، ففي بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس في دنياهم ودينهم. فما المانع إذًا من بعثهم إليهم، بل الحاجة إلى ذلك أمس. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: إن فيما ذُكر لدلالة على قدرته على ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) المراغي.

[87]

البعث بعد الموت، وعلى توحيده لمن آمن به، وصدَّق برسله، فإن من تأمل في تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار في فهمها العقول، ولا يحيط بعلمها إلا الله، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت بضياء النهار المضاهي للحياة، وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة، قضى بأن الساعة آتية لا ويب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وجزم بأن الله جعل هذا دليلًا على تحققه، وأن الآيات الناطقة به حق، وأنها من عند الله سبحانه وتعالى. قال حكيم: الدهر مقسوم بين حياة ووفاة، فالحياة اليقظة، والوفاة النوم، وقد أفلح من أدخل في حياته من وفاته. اهـ، فعلى العاقل أن يجدَّ في طريق الوصول، ليكون من أهل الوصال والحصول، ويتخلَّص من العذاب مطلقًا، فإن غاية العمر الموت، ونهاية الموت الحشر، ونتيجة الحشر إما السوق إلى الجنة، وإما السوق إلى النار، والمسوق إلى النار إما مؤمن عاص فعذابه التأديب والتطهير، وإما كافر مكذب فعذابه عذاب القطعية والتحقير. والمؤمنون يتفاوتون في الدنيا في عقوباتهم على مقادير جرائمهم، فمنهم من يعذب ويُطلق، ومنهم من يعذب ويُحبس مدة على قدر ذنبه، ومنهم من يُحَدَّ، والحدود مختلفة، فمنهم من يقتل، وليس بعجب أن لا يسوى بين أهل النار إلا من لا خير فيه، وهم الكفار الذين ليسوا بموضع الرحمة؛ لأن الله تعالى رحمهم في الدنيا برسال الرسل وإنزال الكتب، فاختاروا الغضب بسلوك طريق التكذيب والعناد، فهم على السوية في عذاب الفرقة، إذ ليس لهم وصلة أصلًا، لا في الدنيا، ولا في العقبى؛ لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، نسأل الله تعالى أن يفتح عيون بصائرنا عن سنات الغفلات، ويجعلنا من المتبعين لدينه في جميع الحالات، إنه قاضي الحاجات، ومانح المرادات، آمين آمين، يا مجيب الدعوات. 87 - وبعد أن ذكر الحشر الخاص، وأقام الدليل عليه، ذكر الحشر العام فقال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّور} هو معطوف على {وَيَوْمَ نَحْشُرُ} منصوب بناصبه المتقدم

تقديره، والنفخ (¬1): إدخال الريح في الشيء، كما سيأتي في مبحث اللغة، والصور: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - للموت والحشر، فكأن أصحاب الجيوش من ذلك أخذوا البوقات لحشر الجند، وفي الحديث: "لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخصٌ بصره إلى العرش متى يؤمر" قال أبو هريرة - راوي الحديث - رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما الصور؟ قال: "القرن". قلت: كيف هو؟ قال: "عظيم، والذي نفسي بيده إنَّ أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض" فيؤمر بالنفخ فيه، فينفخ نفخة لا يبقى عندها في الحياة أحد إلا من شاء الله تعالى، وذلك قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} وإلى قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ثم يؤمر بأخرى، فينفخ فيه نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعث وقام، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} الآية، ومعنى النفخ في القرن أن الأرواح تُجمع في القرن، ثم ينفخ فيه فتذهب إلى الأجساد فتحيا بها الأجساد، والمراد بالنفخ هاهنا هي النفخة الثانية. أي: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم يُنفخ في الصور نفخة ثانية ينفخها إسرافيل لرد الأرواح إلى أجسادها، وهو يوم القيامة {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: فيفزع منها، ويخاف جميع من في السموات والأرض لشدة ما سمعوا، والتعبير بالماضي في الفزع للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن المستقبل من فعل الله تعالى متيفن الوقوع كتيقن الماضي من غيره؛ لأن إحياءه تعالى حق. والمراد بالفزع هاهنا ما يعتري الكل - مؤمنًا وكافرًا - من الرعب والتهيُّب الضروريَّين الجبليَّين عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، وقيل: المراد بالفزع هنا الإسراع والإجابة إلى النداء، من قولهم: فزعتُ إليك في كذا، أسرعتُ إلى إجابتك، والأول أولى بمعنى الآية. والنفخات في الصور ثلاث (¬2): الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[88]

والثالثة نفخة البعث، وقيل: إنها نفختان، وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق، أو إلى نفخة البعث، واختار هذا القول القشيري والقرطبي وغيرهما. {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه أن لا يفزع عند تلك النفخة بأن يثبت قلبه، وهم الأنبياء والمرسلون، والشهداء والصالحون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والملائكة الأربعة، وحملة العرش، والخزنة، والحور ونحوهم. والمعنى (¬1): أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ في الصور، إذ يفزع من في السموات ومن في الأرض، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور، بمشاهدة الأهوال الخارقة للعادة في الأنفس والآفاق، إلا من ثبَّت الله قلبه. {وَكُلٌّ}؛ أي: جميع الخلائق {أَتَوْهُ} سبحانه وتعالى وحضروه {دَاخِرِينَ}؛ أي: ذليلين صاغرين؛ أي: وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين حين النفخة يحضرون الموقف بين يدي رب العزة للسؤال والجواب، والمناقشة والحساب أذلاء صاغرين، لا يتخلف أحد عن أمره، كما قال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} وقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}، وقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}. وقرأ الجمهور (¬2) {أَتَوْهُ} بضم التاء على صيغة اسم الفاعل مضافًا إلى الضمير الراجع إلى الله تعالى، وقرأ عبد الله وحمزة وحفص عن عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب: {أتوه} فعلًا ماضيًا، وفي القراءتين رُوعي معنى كل من الجمع، وقرأ قتادة: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} فعلًا ماضيًا مسندًا لضمير كل على لفظها، وجمع داخرين على معناها، وقرأ الجمهور: {دَاخِرِينَ} بالألف بعد الدال، وقرأ الحسن والأعمش: {دَخِرِينَ} بغير ألف. 88 - وقوله: {وَتَرَى الجبَالَ} معطوف على {يُنْفَخُ}، داخل معه في حكم التذكير، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح للرؤية، و {ترى} هنا بصرية لا علمية؛ أي: واذكر يا محمد لقومك هول يوم ترى وتبصر الجبال حال كونك {تَحْسَبُهَا} وتظنها {جَامِدَةً} ثابتة في أماكنها، وقرأ أهل الكوفة: {تَحْسَبُهَا} بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها، {وَهِيَ} أي: والحال أن تلك الجبال {تَمُرُّ} وتمضي {مَرَّ السَّحَابِ} والغيم؛ أي: تراها رأي العين ساكنة، والحال أنها تمر وتمشي مثل مرور السحاب التي تسيِّرها الرياح سيرًا سريعًا، حتى تقع على الأرض فتسوَّى بها، وذلك لأن كل شيء عظيم، وكل جمع كثير يقصر عنه البصر، ولا يحيط به لكثرته وعظمته، فهو في حسبان الناظر واقف، وهو يسير. وهذا أيضًا (¬1): مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، فإن الله تعالى يبدل الأرض غير الأرض، ويغئر هيئتها، ويسير الجبال عن مقارِّها على ما ذُكر من الهيئة الهائلة، ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكَّت وتصدعت عند النفخة الأولى فتسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية، كما نطق به قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} فإن صيغة الماضي في المعطوف الذي هو {حشرناهم} مع كون المعطوف عليه مستقبلًا وهو {نُسَيِّرُ} للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك، ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}؛ أي: ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، وانتصاب {صُنْعَ اللَّهِ} على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ أي: أحسن خلق كل شيء، وأتى به على وجه الحكمة، ذلك النفخ في الصور، وما تفرَّع منه من الأمور الهائلة صنعًا، أي: صنع ذلك النفخ وما تفرع عليه صنعًا، وفعله فعلًا بديعًا، وهو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام، وحضور الكل الموقف، وما فعل بالجبال إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره. ¬

_ (¬1) الخازن.

[89]

والصنع (¬1): إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، أي: صنع الله ذلك صنعًا، وفعله فعلًا متقنًا محكمًا، قال في "الإرشاد": قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل، وتهويل أمرها، والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم، وافساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن تدعو إليها داعية، ويكون لها عاقبة، بل هي من قبيل بدائع صنع الله المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادىء الإبداع، على الوجه المتين والمنهج الرصين. ثم علل ما تقدم من النفخ في الصور والقيام للحساب، ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}؛ أي: عالم بظواهر أفعالكم وبواطنها أيها المكلفون، ولذلك فعل ما فعل من النفخ، والبعث ليجازيكم على أعمالكم، وهو الخبير المطلع على الظواهر والضمائر. وقرأ الجمهور (¬2): بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة، والمعنى: أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهو مجازيهم على ذلك أتمَّ الجزاء. 89 - ثم بيَّن حال السعداء والأشقياء يومئذٍ، فقال {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أي: بكلمة الشهادة (¬3) والإخلاص فإنها الحبسنة المطلقة، وأحسن الحسنات، {فَلَهُ خَيْرٌ}؛ أي: نفع وثواب حاصل {مِنْهَا}؛ أي: من جهتها، ولأجلها، وهو الجنة، قاسم التفضيل لا يدل على المفاضلة إذ لا يوجد شيء خير من (إلا إله إلا الله)، ويجوز أن يكون اسم التفضيل على بابه إذا أريد بالحسنة غير الكلمة المشرفة من الطاعات، أيَّ طاعة كانت، والمعنى: من جاء يوم القيامة بالحسنة أيًا كانت .. فله من الجزاء والثواب ما هو خير وأفضل وأكثر منها، إذ ثبت له الشريف بالخسيس، والباقي بالفاني، وعشرة بل سبع مئة بواحدة، وقيل: المراد بالحسنة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

أداء الفرائض، وقيل: هي الإخلا ص في العبادة، والتعميم أولى (¬1)، ولا وجه للتخصيص، وإن قال به بعض السلف. قيل: وهذه الجملة بيان لقوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}، وقيل: بيان لقوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}. {وَهُمْ}؛ أي: الذين جاؤوا بالحسنات {مِنْ فَزَعٍ}؛ أي: عظيم هائل لا يقادر قدره، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات، وهو الذي في قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}، وعن الحسن: هو الفزع حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن جريح: الفزع حين يذبح الموت، وينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. وقرأ عاصم والكسائي وحمزة (¬2): {من فزعٍ} بالتنوين. و {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ ينفخ في الصور، منصوب على الظرفية، معمول لقوله: {آمِنُونَ} أو لـ {فَزَعٍ}، ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لـ {فَزَعٍ}؛ أي: كائنٍ في ذلك الوقت، والمعنى عليه؛ أي: والذين جاؤوا بالحسنات آمنون من فزع كائن يوم إذ وقعت هذه الأهوال العظيمة اهـ "مراح". وقرأ باقي السبعة بإضافة {فَزَعٍ} إلى {يَوْمَئِذٍ} فكسرَ الميمَ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وفتحها بناء لإضافته إلى غير متمكن نافع في غير رواية إسماعيل، والتنوين في {يَوْمَئِذٍ} تنوين عوض عن الجملة المحذوفة، ويكون التقدير يوم إذ جاء بالحسنة، أو يوم إذ ترى الجبال، أو يوم إذ يُنفخ في الصور. {آمِنُونَ} لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلًا، وأما الفزع الذي يعتري كل من في السموات ومن في الأرض غير من استثناه الله تعالى فانما هو التهيُّبُ والرعبُ الحاصل في ابتداء النفخة، منن معاينة فنون الدواهي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[90]

والأهوال، ولا يكاد يخلو مثله أحد بحكم الجبلة، وإن كان آمنًا من لحوق الضرر. وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت (¬1): كيف نفى الفزع هنا، وقد قال قبله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}؟ قلت: إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع، وهول يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه، فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه، وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك عنه أحد، اهـ. 90 - {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَة}؛ أي: بالشرك الذي هو أسوأ المساوىء {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}؛ أي: ألقوا وطرحوا فيها على وجوههم منكوسين، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، كما أريدت بالأيدي في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فإن الوجه والرأس والرقبة واليد يعبر بها عن جميع البدن، وخصت الوجوه بالذكر لأنها أشرف أعضاء الإنسان، لاجتماع الحواس فيها، وقال جماعة (¬2) من الصحابة ومن بعدهم: حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل أن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك. وجملة قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مقول لقول محذوف، والقاثل خزنة جهنم، والاستفهام فيه للإنكار، فهو بمعنى النفي؛ أي: حالة كونهم مقولًا لهم ما تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك؛ أي: تقول لهم خزنة جهنم ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا. وفي الحديث (¬3): "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك يجثوان بين ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[91]

يدي الرب تعالى، فيقول الله تعالى للإيمان: انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك: انطلق أنت وأهلك إلى النار"، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} إلى قوله: {في النار}. ويقال: لا إله إلا الله مفتاح الجنة، ولا بد للمفتاح من أسنان حتى يفتح الباب، ومن أسنانه لسان ذاكر طاهر من الكذب والغيبة، وقلب خاشع طاهر من الحسد والخيانة، وبطن طاهر من الحرام والشبهة، وجوارح مشغولة بالخدمة طاهرة من المعاصي. 91 - ولما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ والمعاد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إنما أمرت أن أخص الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له، تنبيهًا لهم إلى أنه قد تم أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله، والاستغراق في مراقبته، غير مبال بهم ضلوا أو رشدوا، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيِّه ومهبط وحيه. والمراد بالبلدة مكة المشرفة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكون بيت الله الحرام فيها، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال في "التكملة": خص البلدة بالذكر، وهي مكة، وإن كان رب البلاد كلها ليعرف المشركون نعمته عليهم، وأن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه، هو الذي حرَّم بلدتهم. انتهى. وعبارة "الخازن": وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها؛ لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من الله، لا من الأصنام. انتهى. والموصول في قوله: {الَّذِي حَرَّمَهَا}؛ أي: حرم هذه البلدة وشرفها وعظمها بتحريمه على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا، ويظلموا فيها أحدًا، صفة للرب، هكذا قرأ الجمهور، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود التي حرمها على أن الموصول صفة للبلدة، والتعرض لتحريمه تعالى إياها إجلال لها بعد إجلال، ومعنى تحريمها جعلها حرمًا آمنًا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلاها.

[92]

وفي الحديث "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس"؛ أي: كان تحريمها من الله سبحانه بأمر سماوي، لا من الشام باجتهاد شرعي، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم حرم مكة" فمعناه: أظهر الحرمة الثابتة، أو دعا فحرمها الله تعالى حرمة دائمة. ومعنى الآية (¬1): قل لقومك يا محمد: أمرت من قبل الله أن أخصه وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكًا، فاعبدوه أنتم، ففيه عزكم وشرفكم، ولا تتخذوا له شريكًا، وقد ثبتت عليكم نعمتة بتحريم بلدتكم، قال بعضهم: العبادة لباس الأنبياء والأولياء. ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه مالك هذه البلدة. أخبر أنه يملك كل شيء فقال: {وَلَهُ}؛ أي: ولرب هذه البلدة خاصة {كُلُّ شَيْءٍ} خلقًا وملكًا وتصرفًا، دون أن يشركه في ذلك أحد؛ أي: جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم، وفيه تنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة للتفخيم مع عموم الربوبية لجميع الموجودات. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي (¬2): وأمرني ربي أن أسلم وجهي له، فأكون من الموحدين المخلصين له، المنقادين لأمره، المستسلمين بطاعته بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله: {أَنْ أَكُونَ} أن أثبُتَ على ما أنا عليه. 92 - {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}؛ أي: وأمرت أن أداوم على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأواظب على ذلك، لتنكشف لي أسراره المخزونة في تضاعيفه، واسطلع أدلة الكون المتفرقة في آيه، فأعرف حقائق الحياة، وسر الوجود، ويفاض عليَّ من فيوضاته الإلهية، وأسراره القدسية، ما شاء الله أن يُفيض. وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} فما زال يكررها، ويظهر له من أسرارها ما يظهر، ويتجلى له من مقاصدها ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

تسمو به نفسه إلى الملأ الأعلى حتى طلع الفجر. ونحو الآية: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}. قال أبو حيان (¬1): قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} إما من التلاوة؛ أي: وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا هو الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من التلو، وهو الاتباع؛ أي: وأن أتبع القرآن، كقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}. وقرأ الجمهور: {وَأَنْ أَتْلُوَ} بإثبات الواو بعد اللام، على أنه من التلاوة وهي القراءة، أو من التلو، وهو الاتباع، وقرأ عبد الله: {وأن أتل} بغير واو، أمرًا له - صلى الله عليه وسلم - من تلا، فجاز أن تكون {أن} مصدرية وُصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار وأمرت أن أتل؛ أي: تل، كذا وجهه الفراء، وقال النحاس: ولا نعرف أحدًا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف، وقرأ أبي: {وأتل هذا القرآن} جعله أمرًا دون {أن}. فعليك (¬2): أيها المؤمن بتلاوة القرآن كل يوم، ولا تهجره كما يفعل ذلك طلبة العلم، وبعض المشيخة، زاعمين بأنهم قد اشتغلوا بما هو أهم من ذلك، وهو كذب، فإن القرآن مادة كل علم في الدنيا والدين، ويُستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته، ويضع يده على الآية يتبعها، فيأخذ اللسان حظه من الرفع، ويأخذ البصر حظه من النظر، واليد حظها من المس. واعلم: أن خُلَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن، فانظر في تلاوتك إلى كل صفة مدح الله بها عباده، فافعلها أو اعزم على فعلها، وكل صفة ذم الله بها عباده على فعلها فاتركها، أو اعزم على تركها، فإن الله تعالى ما ذكر لك ذلك، وأنزله في كتابه إلا لتعمل به، فإذا حفظت القرآن عن تضييع العمل به، كما حفظته تلاوة فأنت الرجل الكامل. وقيل لهم يا محمد أيضًا: {فَمَنِ اهْتَدَى} باتباعه إياي في العبادة والإِسلام وتلاوة القرآن {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}؛ أي: فإنما منافع اهتدائه عائدة إليه لا إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[93]

غيره، {وَمَنْ ضَلَّ} بمخالفتي فيما ذكر؛ أي: ضل بالكفر، وأعرض عن الهداية {فَقُلْ} في حقه: {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}؛ أي: من المخوِّفين من عذاب الله تعالى، فقد بلغت، وأنذرت، وخرجت من عهدة الإنذار والتخويف من عذاب الله وسخطه، فليس عليَّ من وباله شيء، وإنما هو عليه فقط، وقيل (¬1): الجواب محذوف؛ أي: فوبال ضلاله عليه، وأقيم {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} مقامه لكونه كالعلة له، وهذه الآية منسوخة بآية السيف. 93 - {وَقُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة، وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة، وقيل لهم يا محمد أيضًا: {سَيُرِيكُمْ} الله سبحانه أيها المشركون عند الموت، أو يوم القيامة {آيَاتِهِ}؛ أي: دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم، وفي غيركم، وهو من جملة ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، {فَتَعْرِفُونَهَا}؛ أي: فتعرفون أنها آياته ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار؛ لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت. أو المعنى (¬2): {سَيُرِيكُمْ} الله تعالى في الدنيا {آيَاتِهِ} الباهرة كخروج الدابة، وسائر أشراط الساعة {فَتَعْرِفُونَهَا}؛ أي: فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة، وقيل (¬3): هو في يوم بدر، وهي ما أراهم من القتل والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقيل آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم. ثم ختم السورة بقول {وَمَا رَبُّكَ} يا محمد {بِغَافِلٍ}؛ أي: بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عما تعمل أنت من الحسنات، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات، فيجازي كلًّا منكم بعمله، وقُرىء: {عما يعملون} بالياء؛ أي: وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

عن أعمالهم المسببة للعذاب، وهذا (¬1) من كلامه تعالى غير داخل تحت الكلام الذي أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم. وقرأ الجمهور (¬2): {عما يعملون} بياء الغيبة التفاتًا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، وقرأ نافع وابن عامر، وحفص عن عاصم: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب، لقوله: {سَيُرِيكُمْ}، ولما قسمهم أولًا إلى مهتد وضال أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم غير غافل عنها. وعبارة البروسوي هنا قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلام (¬3) مسوق من جهته تعالى، مقرِّر لما قبله من الوعد والوعيد، كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضمير النبي عليه السلام، وتخصيص الخطاب أولًا به وتعميه ثانيًا للكفرة تغليبًا؛ أي: وما ربك يا محمد بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات، فيجازي كلًّا منكم بعمله، وكيف يغفل عن أعمالكم، وقد خلقكم وما تعملون، كما خلق الشجرة وخلق فيها ثمرتها، فلا يخفى عليه حال أهل السعادة والشقاوة، وإنما يُمهل لحكمة لا لغفلة، وإنما الغفلة لمن لا ينتبه لهذا فيعصي الله بالشرك وسيئات الأعمال، وأعظم الأمراض القلبية نسيان الله سبحانه، ولا ريب أن علاج أمر إنما هو بضده، وهو ذكر الله تعالى، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المجدِّين في الدين إلى أن يأتينا اليقين. عبارة المراغي هنا: ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم، فقال (¬4): {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّه}؛ أي: وقيل الحمد لله على ما أفاض على من نعمائه، التي من أجلِّها نعمة النبوة، المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين الساطعة، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون. {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}؛ أي: سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

بها حقيقة نصحي، وسيتبيَّن لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تُجدي المعرفة، ولا تُفيد التبصرة شيئًا، ونحو الآية قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. ثم ذيَّل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون، ولكنه مؤخِّر عذابهم إلى أجل هم بالغوه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا يحزنك تكذيبهم، فإني لهم بالمرصاد، وأيقن باني ناصرك وخاذل عدوك، ومذيقهم الذل والهوان. روي: أن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغْفَلًا شيئًا لأغفل ما تُعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم، وكان الإِمام أحمد كثيرًا ما ينشد هذين البيتين: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلُ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيْهِ عَنْهُ يَغِيْثُ الإعراب {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)}. {إِنَّ هَذَا}: ناصب واسمه، {الْقُرْآنَ}: بدل من اسم الإشارة، {يَقُصُّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْقُرْآنَ}، {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَقُصُّ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {أَكْثَرَ}: مفعول به لـ {يَقُصُّ}، {الَّذِي}: مضاف إليه، {هُمْ}: مبتدأ، {فِيهِ}: متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ}، وجملة {يَخْتَلِفُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَهُدًى} {اللام}: حرف ابتداء، {هُدًى}: خبر {إنَّ}، {وَرَحْمَةٌ}: معطوف على {هدى}، {لِلْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور، تنازع فيه هدى ورحمة على كونه صفة لهما، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنَّ} الأولى. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {يَقْضِي}: فعل

مضارع وفاعل مستتر يعود على الرب، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يَقْضِي}، {بِحُكْمِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَقْضِي} أيضًا، وجملة {يَقْضِي} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى بعاطف مقدر، {وَهُوَ}: {الواو}: واو الحال، {هُوَ}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول، {الْعَلِيمُ}: خبر ثان، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَقْضِي}. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}. {فَتَوَكَّلْ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله هو العزيز العلم، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك توكل على الله، {توكل}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَوَكَّلْ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {عَلَى الْحَقِّ}: جار ومجرور خبر {إن}، {الْمُبِينِ}: صفة للحق، وجملة {إن} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، مسوقة لتعليل الأمر بالتوكل. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَا}: نافية، {تُسْمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، {الْمَوْتَى}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة بعاطف مقدر على جملة {إن} الأولى، على كونها تعليلًا ثانيًا للأمر بالتوكل، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: نافية، {تُسْمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {تُسْمِعُ} الأول، {الصُّمَّ}: مفعول به أول، {الدُّعَاءَ}: مفعول ثان، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، {وَلَّوْا}: فعل وفاعل، {مُدْبِرِينَ}: حال من الفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بـ {تُسْمِعُ}. {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا

يُوقِنُونَ (82)}. {وَمَا} {الواو} عاطفة، {ما}: حجازية، {أَنْتَ} في محل الرفع اسم {ما}، {بِهَادِي} {الباء}: زائدة، {هَادِي الْعُمْيِ}: خبر {ما} الحجازية منصوب محلًا مجرور لفظًا، {الْعُمْيِ}: مضاف إليه، {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}: متعلق بـ {هادي}، عداه بـ {عن} لتضمنه معنى تصرفهم، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، {إن} نافية، {تُسْمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة مستأنفة، {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور مضاف إليه متعلق بـ {يُؤْمِنُ}، وجملة {يُؤْمِنُ} صلة {مَنْ} الموصولة، {فَهُمْ} {الفاء} عاطفة، {هُمْ مُسْلِمُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة الصلة، عطف اسمية على فعلية. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {وَقَعَ الْقَوْلُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {وَقَعَ}، {أَخْرَجْنَا}: فعل وفاعل جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة مسوقة لبيان بعض أشراط الساعة، {لَهُمْ} متعلق بـ {أَخْرَجْنَا}، {دَابَّةً}: مفعول {أَخْرَجْنَا}، {مِنَ الْأَرْضِ}: متعلق بـ {أَخْرَجْنَا}، {تُكَلِّمُهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الدابة، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {دَابَّةً}، {أَنَّ النَّاسَ}: ناصب واسمه، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {يُوقِنُونَ}، وجملة {لَا يُوقِنُونَ} في محل النصب خبر {كَانُ}، وجملة {كَانُ} في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ} بفتح الهمزة في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة؛ أي؛ تخبرهم بعدم إيقان الناس بآيات ربنا، وأما بكسر الهمزة فمقول لقول محذوف، تقديره: تكلمهم وتقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا. {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية، {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق

بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم نحشر، والجملة المحذوفة مستأنفة، {نَحْشُرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نَحْشُرُ}، {فَوْجًا}: مفعول به لـ {نَحْشُرُ}، {مِمَّنْ}: جار ومجرور صفة لـ {فَوْجًا}، وجملة {يُكَذِّبُ} صلة {من} الموصوله، {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {يُكَذِّبُ}، {فَهُمْ} {الفاء}:عاطفة، {هم}: مبتدأ، وجملة {يُوزَعُونَ}: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة {نَحْشُرُ}، عطف اسمية على الفعلية. {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، {جَاءُوا}: فعل وفاعل، ومتعلق {جَاءُوا}: محذوف، تقديره: حتى إذا جاءوا إلى موضع الحساب، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة جواب {إِذَا} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ {حَتَّى}، والجار والمجرور أعني {حَتَّى} متعلق بـ {يُوزَعُونَ}، أو بـ {نَحْشُرُ}، والتقدير: فهم يوزعون إلى قوله سبحانه وقت مجيئهم موضع الحساب: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} {أَكَذَّبْتُمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي التقريعي، {كَذَّبْتُمْ}: فعل وفاعل، {بِآيَاتِي}: متعلق بـ {كَذَّبْتُمْ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلَمْ تُحِيطُوا} {الواو}: حالية، {لَمْ تُحِيطُوا}: جازم وفعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، {بِهَا}: متعلق بـ {تُحِيطُوا}، {عِلْمًا} تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {كَذَّبْتُمْ} مؤكدة للإنكار والتوبيخ، {أَمَّاذَا} {أم}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر المبتدأ، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبر

{كان} وجملة {كان} صلة {ذا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: كنتم تعملونه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، وإن شئت قلت: {ماذا}: اسم استفهام مركب في محل النصب فعول مقدم لـ {تعملون}، وجملة {كان} في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَوَقَعَ} {الواو}: عاطفة، {وَقَعَ الْقَوْلُ}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {وَقَعَ}، {بِمَا ظَلَمُوا} {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية وجملة {ظَلَمُوا} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب ظلمهم، الجار والمجرور متعلق بـ {وَقَعَ} أيضًا، {فَهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَنْطِقُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {وَقَع}. {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}. {أَلَمْ} {الهمزة} فيه للاستفهام التقريري، أو الإنكاري، {لم}: حرف جزم، {يَرَوْا}: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ {لَمْ}، والرؤية هنا قلبية، لا بصرية كما مر، والجملة الفعلية مستأنفة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {أَنَّا}: ناصب واسمه، {جَعَلْنَا اللَّيْلَ}: فعل وفاعل ومفعول به، إن كان جعل بمعنى خلقنا، أو مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: مظلمًا، إن كان بمعنى صيَّرنا، وجملة {جَعَلْنَا} في محل الرفع خبر {أَنَّا} قال، وجملة {أَنَّا} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَرَوْا}؛ أي: ألم يروا جعلنا الليل مظلمًا، {لِيَسْكُنُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل، {يَسْكُنُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، {فِيهِ}: متعلق بـ {يَسْكُنُوا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لسكونهم فيه، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}، {وَالنَّهَارَ}: معطوف على {اللَّيْلَ}، {مُبْصِرًا}: حال، أو مفعول ثان، {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}، {لَآيَاتٍ} {اللام} حرف ابتداء، {آيَاتٍ}: اسمها مؤخر، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {لِقَوْمٍ}: صفة

لآيات، وجملة {يُؤْمِنُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: عاطفة، {يَوْمَ}: منصوب باذكر محذوفًا، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينفخ في الصور، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}، {يُنْفَخُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور نائب فاعل لـ {يُنْفَخُ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {وَيَوْمَ}، {فَفَزِعَ} {الفاء}: عاطفة، {فَزِعَ}: فعل ماض بمعنى يفزع، {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ينفخ، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَنْ} الموصولة، {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}، {إِلَّا} أداة استثناء، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: إلا من شاء الله عدم فزعه، {وَكُلٌّ} {الواو}: حالية، {كُلٌّ}: مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة قصد العموم، أو نية المضاف إليه؛ أي: وكلهم، {أَتَوْهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {دَاخِرِينَ}: حال من فاعل {أَتَوْهُ}، وجملة {أَتَوْهُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {فَزِعَ}، {وَتَرَى} {الواو}: عاطفة، {تَرَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ورأى هنا بصرية، {الْجِبَالَ}: مفعول به، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {يُنْفَخُ}، {تَحْسَبُهَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، {جَامِدَةً}: مفعول ثان لـ {تَحْسَبُ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {تَرَى}، {وَهِيَ} {الواو}: حالية، {هِيَ}: مبتدأ، وجملة {تَمُرُّ} في محل الرفع خبر المبتدأ، {مَرَّ} منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {جَامِدَةً}، {السَّحَابِ} مضاف إليه {صُنْعَ

اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: صنع الله ذلك صنعًا، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها، {الَّذِي}: في محل الجر صفة للجلالة، {أَتْقَنَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {خَبِيرٌ}: خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَفْعَلُونَ} صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره تفعلونه. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {جَاءَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ}: على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِالْحَسَنَةِ} متعلق بـ {جَاءَ}، {فَلَهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن}: الشرطية، {لَهُ}: جار ومجرور خبر مقدم، {خَيْرٌ}: مبتدأ مؤخر، {مِنْهَا}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ}: الشرطية مستأنفة، {وَهُمْ} {الواو}: عاطفة، {هُمْ}: مبتدأ، {مِنْ فَزَعٍ}: متعلق بـ {آمِنُونَ}، {آمِنُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب. {يَوْمَئِذٍ} {يوم}: منصوب على الظرفية الزمانية، {يوم}: مضاف، {إذٍ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {فَزَعٍ}، تقديره: من فزع كائن في ذلك اليوم، وقرىء بإضافة {فَزَعٍ} إلى {يَوْمَئِذٍ}، {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة، {مَن}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {جَاءَ} فعل ماض وفاعل مستتر، في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، {بِالسَّيِّئَةِ} متعلق بـ {جَاءَ}، {فَكُبَّتْ} {الفاء} رابطة الجواب داخلة على قد محذوفة؛ أي: قد كبت، ليصح اقتران الجواب بها، {كُبَّتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، في

محل الجزم بـ {مَن} على كونه جوابًا لها، {وُجُوهُهُمْ}: نائب فاعل، ومضاف إليه، {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {كبت}، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري، {تُجْزَوْنَ}: فعل مضارع ونائب فاعل. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {تُجْزَوْنَ} {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة. وجملة {تُجْزَوْنَ} في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من {وُجُوهُهُمْ}، تقديره: فكبت وجوههم في النار حالة كونهم مقولا لهم هل تجزون إلا ما كنتم تعملون. {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: قل لهم: إنما أمرت، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {أَعْبُدَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب بـ {أن} المصدرية، {رَبَّ}: مفعول به، {هَذِهِ}: مضاف إليه، {الْبَلْدَةِ}: بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إنما أمرت بعبادة رب هذه البلدة، {الَّذِي}: صفة لـ {رَبَّ}، {حَرَّمَهَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {وَلَهُ} {الواو}: حالية، {له}: خبر مقدم، {كُلُّ شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {حَرَّمَهَا}، {وَأُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {أُمِرْتُ} الأولى، {أَنْ} حرف مصدر، {أَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أن} واسمها ضمير يعود على النبي - عليه السلام -، {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: خبر {أَكُونَ}، وجملة {أَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المسلمين. {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}.

{وَأَنْ} {الواو}: عاطفة، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من أن أكون، تقديره: وأمرت بكوني من المسلمين وبتلاوتي القرآن، {فَمَنِ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما أمرت به، وأردتم بيان عاقبة من اهتدى ومن ضل منا ومنكم فأقول لكم، {مَنِ اهْتَدَى} {مَنِ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {اهْتَدَى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ}، {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة الجواب جوازًا، لشبه الجواب بالجملة الاسمية بدخول {إن} المكفوفة عليها، {إِنَّمَا}: أداة حصر، أو {إن}: حرف نصب مكفوف، و {ما}: كافة، {يَهْتَدِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، {لِنَفْسِهِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة من الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة، {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر إما جملة الشرط، أو الجواب، {ضَلَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَن} في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، {فَقُلْ} {الفاء} رابطة الجواب وجوبًا، {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط محذوف، تقديره: فقل له، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أَنَا}: مبتدأ، {مِنَ الْمُنْذِرِينَ}: خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، {وَقُلِ} {الواو}: استئنافية، {قُلِ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلِ}. {سَيُرِيكُمْ} السين: حرف استقبال، جيء بها لتأكيد مضمون الكلام، {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان؛ لأنه من أرى البصرية، تعدت إلى مفعولين بالهمزة، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلِ}، {فَتَعْرِفُونَهَا} {الفاء}:

عاطفة، {تَعْرِفُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {سَيُرِيكُمْ}، {وَمَا رَبُّكَ} {الواو}: عاطفة، {ما}: حجازية، {رَبُّكَ}: اسمها، {بِغَافِلٍ} خبرها. و {الباء}: زائدة، والجملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى، مقررة لما قبلها، {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {غافل}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: عما تعملونه. التصريف ومفردات اللغة {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} والصم جمع الأصم، كالغُرِّ جمع الأغرّ، والصمم فُقدان حاسة السمع، كما مر، وشُبِّه به مَنْ لا يُصْغي إلى الحق ولا يقبله كما شُبّه هاهنا، والدعاء: الدعوة إلى أمر من الأمور. {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} يقال: ولَّى عن الشيء إذا أعرض عنه، وترك قربه، ويقال: أدبر إذا أعرض، وولى دبره، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} والعمي جمع الأعمى، والعمى: افتقاد حاسة البصر، فشبه سبحانه من افتقد البصيرة بمن افتقد البصر، في عدم الاهتداء إلى المقصود، والمعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله سبحانه عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان اهـ. "سمين". {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} وقع حدث وحصل، والمراد من القول ما دل من الآيات على مجيء الساعة، {تُكَلِّمُهُمْ}؛ أي: تنبئهم وتخبرهم، {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} والحشر: الجمع، والمراد به هنا هو الحشر للعذاب، بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق، والأمة: جماعة أرسل إليهم رسول كما في "القاموس"، والفوج: الجماعة من الناس كالزمرة كما في "الوسيط"، والجماعة المارة المسرعة كما في "المفردات"، وكان هذا هو الأصل، ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع، والجمع أفواج وفؤوج، وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج، والفائجة الجماعة، ومتَّسع ما بين كل مرتفعين من رمل. {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يُحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}؛ أي: ولم تدركوا حقيقة

كنهها، {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} والصور هو: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - للموت والحشر. {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} والفزع: انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخوف، ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، والمراد بالفزع هنا ما يعتري الكل مؤمنًا وكافرًا عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب الضروريِّين الجِبْليِّين، {دَاخِرِينَ}؛ أي: أذلاء صاغرين، وفي "القاموس": دخر الشخص كمنع وفرح دخرًا ودخورًا صغر وذل، وأدخرته بالألف للتعدية، ويقال: أدخرته فدخر؛ أي: أذللته فذل. {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}؛ أي: ثابتة في أماكنها، من جمد الماء وكل سائل قام وثبت ضد ذاب. {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} والصنع: إجادة الفعل فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، ولا يُنسب إلى الحيوانات كما يُنسب إليها الفعل كما في "المفردات"، والإتقان: الإتيان بالشيء على أكمل حالاته، وهو مأخوذ من قولهم: تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة، وأرض تقنة، والتقن فعل ذلك بها، والتقن أيضًا ما رُمي به في الغدير من ذلك أو الأرض، ويقال: أتقن الشيء إذا أحكمه، يقال: رجل تقن، بكسر التاء وسكون القاف؛ أي: حاذق بالأشياء. {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ} أي: ألقيت منكوسة، والكب إسقاط الشيء على وجهه، {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} والعبادة هي غاية التذلل والخضوع، والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه، وإقامتهم فيه، ولاعتبار الأثر قيل: بلدة؛ أي: أثر. {الَّذِي حَرَّمَهَا}؛ أي: جعلها حرامًا؛ أي: ممنوعًا منه، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} والتلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد الموظفة، والقراءة أعم، يقال: تلاه تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد المجازي في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ} حيث أسند القص إلى القرآن؛ لأن القص لا يوصف به إلا الناطق المميز، ولكن القرآن لما تضمن نبأ الأولين كان كالشخص الذي يقص على الناس الأخبار. ومنها: المجاز في قوله: {يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} حيث أطلق الحكم على المحكوم به على سبيل التجوز. ومنها: المبالغة في قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} لأن فعيلًا من صيغ المبالغة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} إلخ. حيث مثل أحوال الكفار في عدم انتفاعهم بما يتلى عليهم من الآيات بالموتى، وفي عدم إصغائهم إلى الحق وقبولهم له بالصم الذين لا يسمعون النداء، وفي عدم اهتدائم إلى الحق والصواب بالعمي الذين لا يهتدون إلى المقصود. ومنها: تقييد نفي عدم الاسماع بقوله: {إِذَا وَلَّوْا} لتكميل التشبيه وتأكيد النفي، فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد؛ أي: إن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبًا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدًا منه. ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ} لتربية المهابة، وكان مقتضى السياق أن يقال: قلنا؛ لأن قبله {وَيَوْمَ نَحْشُرُ} بالتكلم. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} للتأنيب. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} فقد أسند الإبصار إلى الزمان، وهو لا يعقل؛ لأن المعنى: ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في

أمور المعاش، فبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس حالًا له، ووصفًا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها. ومنها: الاحتباك في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} والاحتباك عند البديعيين هو: الحذف من أحد المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر؛ لأن أصل التركيب: ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ليتحركوا فيه، فحذف مظلمًا لدلالة مبصرًا عليه، وحذف ليتحركوا فيه لدلالة ليسكنوا عليه. ومنها: الإخبار بالماضي عن المستقبل في قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وكان السياق يقتضي بأن يأتي بالمستقبل أيضًا، ولكنه عدل إلى الماضي للإشعار بتحقق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعًا به. ومنها: الطباق في قوله: {تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ففيه طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة، حيث جعل ما يبدو لعين الناظر من الأجرام العظام كالجبل في جموده ورسوخه، ولكنه سريع يمر مرورًا حثيثًا كما يمر السحاب. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}؛ أي: تمر عمر السحاب في السرعة، حذفت الأداة ووجه الشبه فأصبح تشبيهًا بليغًا مثل: محمد قمر. ومنها: الطباق في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} وفي قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى} {وَمَنْ ضَلَّ}. ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} لأن الإضافة تكون لتشريف المضاف إليه، كما أنها تكون لتشريف المضاف في نحو ناقة الله، وبيت الله، وروح الله. ومنها: الاحتراس في قوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} ففيه احتراس بديع، فقد

أضاف سبحانه اسمه إلى مكة تشريفًا لها، وذكرًا لتحريمها، ولما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة بهذا التشريف أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه، قطعًا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها، وتنبيهًا على أن الإضافة الأولى إنما قصد بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

جملة ما حوته هذه السورة من حكم وأحكام وقصص اشتملت هذه السورة على الأمور التالية: 1 - وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين. 2 - قصص موسى عليه السلام. 3 - قصص سليمان عليه السلام. 4 - قصص ثمود، وقصص قوم لوط. 5 - النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى. 6 - إنكار المشركين للبعث والنشور، وقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. 7 - علم الله بما في الصدور. 8 - حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل. 9 - قطع الأطماع في إيمان المشركين، وتشبيههم بالعُمْيِ الصُّمِّ. 10 - أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض، وحشر فوج من كل أمة وتسيير الجبال. 11 - الجزاء على العمل خيرًا كان أو شرًا. 12 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين: إنه إنما أمر بعبادة رب مكة، لا بعبادة الأصنام والأوثان. 13 - أمره بحمد الله والثناء عليه، وطلبه تلاوة القرآن.

14 - أنه سبحانه سيُري المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة، حين لا يفيدهم ذلك شيئًا. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله سبحانه لنا في تفسير سورة النمل، وكان الفراغ في أوائل ليلة الأربعاء، السادسة عشر من شهر الجمادى الأولى، من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاثة عشر من تاريخ الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة القصص

سورة القصص سورة القصص (¬1) نزلت بعد النمل، وهي مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: مكية إلا من قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} (52) إلى قوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (55) فمدنية، وإلا آية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (85) فإنها نزلت بالجحفة، أثناء الهجرة إلى المدنية، فليست مكية ولا مدنية. وهي ثمان وثمانون آية (¬2)، وألف وأربع مئة وإحدى وأربعون كلمة. وخمسة آلاف وثمان مئة حرف. التسمية: سميت سورة القصص؛ لأن الله تعالى ذكر فيها قصة موسى - عليه السلام - مفصلة موضحة، من حين ولادته إلى حين رسالته، ولاشتمالها على الحكاية والأخبار العجيبة، والقصص مصدر بمعنى الإخبار، وتسمى أيضًا سورة موسى، واعلم أن أسماء السور توقيفية، وكذا ترتيبها وترتيب الآيات، فلا بد فيها من ملاحظة المناسبة. المناسبة: ووجه مناسبة هذه السورة لما قبلها أمور (¬3): 1 - أنه سبحانه بسط في هذه السورة ما أوجز في السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام، وفصَّل هنا ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى، وذبح أبناء بني إسرائيل، الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته في اليم، خوفًا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين، وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

2 - أنه أجمل في السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة، وبسطه هنا أتم البسط. 3 - أنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح، وقوم لوط، وأجمله هنا في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ...} الآيات. 4 - بسط هناك حال من جاء بالحسنة، وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة التي قبلها: أن الله سبحانه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بحمده، ثم قال: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} وكان مما فُسِّر به آياته تعالى معجزات الرسول، وأنه أضافها تعالى إليه، إذ كان هو المخبر بها على قدمه فقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات، وأكبر الآيات البينات اهـ. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (¬2) محمد بن حزم الأندلسي: سورة القصص كلها محكم إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ...} الآية (55) نسخت بآية السيف اهـ. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الناسخ والمنسوخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}.

[1]

المناسبة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) ما أفاض به على موسى من نعمه في الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه في التابوت وإلقائه في النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم بني إسرائيل .. أردفه بذكر ما أنعم به عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة، ثم إرساله رسولًا ونبيًا إلى بني إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجُمْع يده، وكان ذلك سببًا في موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه أن لا يناصر غويًا مجرمًا، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطي آخر، وقد هم موسى اغاثته أيضًا فقال له المصري: أتريد الإصلاح في الأرض، أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين. التفسير وأوجه القراءة 1 - {طسم (1)} يشير (¬2) إلى القسم بطاء طَوله تعالى، وطاء طهارة قلب حبيبه - صلى الله عليه وسلم - عن محبة غيره، وطاء طهارة أسرار موحديه عن شهود سواه، وبسين سرِّه مع محبيه، وبميم مننه على كافة مخلوقاته بالقيام بكفاياتهم على قدر حاجاتهم، كذا في "التأويلات النجمية"، وقد تقدم (¬3) قولنا: إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول في معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يُراد بها التنبيه كما يراد مثل ذلك من معنى "يا" في النداء، و"ألا" في الاستفتاح، ونحوهما، ويُنطق بها بأسمائها هكذا (طا، سين، ميم) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {طسم (1)} طاء طَوله وقدرته، وسين سنائه ورفعته، وميم ملكه. 2 - {تِلْكَ}؛ أي: هذه السورة {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}؛ أي: آيات مخصوصة من القرآن الظاهر إعجازه، فاسم الإشارة إلى آيات هذه السورة، فالإشارة لمحقق ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[3]

حاضر في علم الله تعالى، والظاهر أن الكتاب هو القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ؛ أي (¬1): إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيَّن بفصاحته أنه من كلام الله، وبين صدق نبوة محمد ص، وبين خبر الأولين والآخرين، وبين الحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد، وبين كيفية التخلص من شبهات أهل الضلال. والخلاصة (¬2): أي هذه آيات الكتاب الكريم الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحًا جليًا، كاشفًا لأمور الدين وأخبار الأولين، لم تتقوَّله، ولم تتخرَّصه، كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة مَنْ أوحي إليه. 3 - ثم ذكر ها هو الدليل على أنه وحي يوحى، وليس هو من وضع البشر فقال: {نَتْلُو عَلَيْكَ}؛ أي: نقرأ عليك يا محمد بواسطة جبريل {مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ}؛ أي: بعض خبر موسى وفرعون، حال كون ذلك الخبر متلبسًا {بِالْحَقِّ} والصدق الذي لا كذب فيه، فهو حال من النبأ أو حالة كوننا متلبسين بالحق، فهو حال من فاعل {نَتْلُو}، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن، وتخصيصهم بذلك مع عموم الدعوة والبيان للكل؛ لأنهم المنتفعون به. والمعنى (¬3): أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وأخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تُجْدِ معه البراهين الساطعة والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأُغرق هوهومن معه من جنده أجمعين، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق، كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتُبصر عيانًا لقوم يصدقون بك وبكتابك، لتطمئن به قلوبهم، وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هي ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[4]

سنته فيمن عادى موسى، ومن آمن معه من بني إسرائيل، وأن النصر دائمًا للمتقين، ويخزى الله المكذبين، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. وإنما جعل التلاوة للمؤمنين فقط، وهو يُتلى على الناس أجمعين لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع، وأُذن سامعة تذكَّر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه وأبى واستكبر، وقال: إن هذا إلا سحر يؤثر .. فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقي له بالًا، ولا يعي ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ماحكى الله عنهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}. 4 - ثم فصل هذا المجمل، ووضحه بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} فهو (¬1) استئناف بياني لذلك النبأ كأن سائلًا قال: وكيف نبأهما؟ فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده؛ أي: إن فرعون اللعين تجبَّر وطغى في أرض مصر، وقهر أهل مملكته، وجاوز الغاية في الظلم والعدوان، وساس البلاد سياسة غاشمة. ومما مكن له في ذلك ما بيَّنه الله سبحانه بقوله: {وَجَعَلَ} فرعون {أَهْلَهَا}؛ أي: أهل أرض مصر؛ أي: أهل مملكته {شِيَعًا}؛ أي: فرقًا يشيعونه ويتبعونه ويطيعونه في كل ما يريد من الشر والفساد، أو جعلهم أصنافًا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الاْعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. والمعنى (¬2): أي وفرَّقهم فرقًا مختلفة، وأحزابًا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء كيلا يتفقوا على أمر، ولا يُجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر بل وفي الصغرى، كما تفعله الحُبُوشُ بين شعوب الأرمية الإِسلامية استئمارًا لم يُسمع قط في العالم قديمًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وحديثًا، وذلك هو دستورها في حكمها لمستأمراتها، وقد نقش حكامها في صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه: فَرِّقْ تَسُدْ، وطالما أجدى عليهم في سياسة تلك البلاد التي يعمها الجهل، ويطغى على أهلها حب الظهور، ويرضون بالنفاية والقشور، رحماك اللهم رحماك! بسطت لعبادك سنتك في الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان: وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لاَ يَظْلِمُ وجملة قوله (¬1): {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} حال من فاعل جعل؛ أي: جعلهم شيعًا حال كونه مستضعفًا طائفة منهم، أو مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقًا وأصنافًا، كانه قيل: كيف جعلهم شيعًا؟ فال: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مصر، وتلك الطائفة بنو إسرائيل ومعنى الاستضعاف إنهم عجزوا وضعفوا عن دفع ما ابتلوا به عن أنفسهم. قال ابن عباس (¬2): إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى - عليه السلام -؛ أي: يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف. ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} كثيرًا صغارًا، وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد للتكثير؛ أي: يقتل أبناء تلك الطائفة كثيرًا، بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا، وقرأ الجمهور {يذبِّح} مضعفًا، وأبو حيوة وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال. {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}؛ أي: يترك بناتهم أحياء لأجل الاستخدام، وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيء موسى عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة، وهذا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

الوجه أولى بالقبول مما سيأتي، وقيل: إن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. وجملة قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} (¬1) بدل من جملة {يَسْتَضْعِفُ}، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالًا، والمعنى (¬2): أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكَّل بذلك عيونًا تتجسس، فكلما ولدت امرأة من بني إسرائيل ذكرًا ذبحوه، ويستبقي إناثهم؛ لأنه يتوجس خيفة من الذكران الذي يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها، والغلب الاقتصادي في بلد ما أشد وقعًا وأعظم أثرًا في أهلها من الغلب الاستئماري، ومن ثم لم يشأ أن يقتل النساء. وروى السدي (¬3): أن فرعون رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتعلت على بيوت مصر فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل، فسأل علماء قومه فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم. قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون! فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقًا عنده فما ينفع القتل؟ وإن كان كاذبًا فلا فائدة فيه اهـ. ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شيء، فسواء صحت أو لم تصح، فإن السر المعقول ما قصصناه عليك أولًا. ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}؛ أي: إن فرعون (¬4) كان من الراسخين في التجبر والإفساد بقتل خلق كثير من المعصومين، ومن ثم سوَّلت له نفسه الخبيثة أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه. وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

[5]

له فيها غنية من سفك الدماء، ولكن قساة القلوب، غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوع في الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم. 5 - ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة المستضعفة، وما أتاح لها من السلطان المديني والدنيوي فتأسست لهم دولة عظيمة في بلاد الشام وصاروا يتصرفون في أرض مصر كما شاؤوا فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: وأردنا أن نتفضل بإحساننا برسال موسى عليه السلام على من استضعفهم فرعون، وأذلهم، وهم بنو إسرائيل، وننجيهم من باسه، ونريهم في أنفسهم وفي أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون بخلاصهم من فرعون، وإغراقه. وقوله: {وَنُرِيدُ} معطوف على جملة قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسبًا من حيث إنَّ كل واحدة منهما وقع بيانًا وتفسيرًا لنبأ موسى وفرعون، ويجوز أن تكون حالًا من فاعل يستضعف، بتقدير مبتدأ؛ أي: ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، والأول أولى، والتعبير (¬1) في قوله: {وَنُرِيدُ} بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، واستحضار صورتها. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: قادة في الخير، ودعاة إليه، وولاة على الناس، وملوكًا فيهم، بعد أن كانوا أتباعًا مسخرين لآخرين، وفي "كشف الإسرار": أي أنبياء، وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف نبي من بني إسرائيل. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لملك فرعون ومساكن القبط، وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون في مساكنه، ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم، وأخر الوراثة عن الإمامة مع تقدمها عليها زمانًا، لانحطاط رتبتها عنها. 6 - ونمكن لهم في الأرض؛ أي: ونسلطهم على أرض مصر والشام، يتصرفون فيهما كيف ما شاؤوا، بتأييدهم بكليم الله، ثم بالأنبياء من بعده، وأصل (¬2) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

التمكين أن تجعل لشيء مكانًا يتمكن فيه، ثم استُعير للتسليط، كما سيأتي في مبحث البلاغة؛ أي: نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها، مسلطين على ذلك يتصرفون به كيف شاؤوا. وقرأ الجمهور (¬1): {نُمَكِّنَ} بدون لام عطفًا على نمن، وقرأ الأعمش {ولنمكن} بلام كي؛ أي: وأردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} رؤية بصرية، وقرأ الجمهور (¬2): {ونُري} بالنون المضمومة وكسر الراء مضارع أرى الرباعي، وبنصب ما بعده على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي والأعمش وخلف: {ويرى} بفتح الياء والراء مضارع رأى الثلاثي، والفاعل فرعون، وما بعده، والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد، ونجعل ونمكن بالنون، وأجاز الفراء: {ويري} فرعون بضم الياء التحتية وكسر الراء؛ أي: ويُري الله فرعون. {وَهَامَانَ} وزير فرعون وأحد رجاله، وذُكر لنباهته في قومه، ومحله من الكفر، ألا ترى إلى قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا}، {وَجُنُودَهُمَا} أي: عساكرهما، وإضافة الجنود إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة به، وإن كان وزيرًا، أو لأن جند السلطان جند لوزيره اهـ "شهاب". {مِنْهُمْ}؛ أي: من أولئك المستضعفين {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}؛ أي: ما كان فرعون وهامان وجنودهما يخافونه من المستضعفين، ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل، والموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى، والمفعول الأول على القراءة الثانية، والمعنى: أن الله يريهم، أو يرونهم الذي كانوا يحذرون منه ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين. والخلاصة (¬3): أي ونري أولئك الأقوياء والأعداء الألداء على أيدي بني ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

إسرائيل من المذلة والهوان، وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا يُنْجي حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام، الذي احترز من وجوده، وقتل بسببه ألوفًا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه، وفي داره، وغذاؤه من طعامه، وكان يُدَلِّلُهُ ويتبنَّاهُ، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وخلاصة ما سلف: 1 - أن فرعون علا في الأرض. 2 - استضعف حزبًا من أحزاب مصر. 3 - قتل الأبناء. 4 - استحيا النساء. 5 - أنه كان من المفسدين. وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة سثلها تكرمة لبني إسرائيل: 1 - أنه مَنَّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته. 2 - أنه جعلهم أئمة مقدَّمين في الدارين. 3 - أنه ورَّثهم أرض الشام. 4 - أنه مكَّن لهم في أرض الشام ومصر. 5 - أنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون، من ذهاب ملكهم على أيديهم. هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر، كما يعقب الليل النهار، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} انظر

[7]

إلى الدولتين الفارسية والرومية، وما كان لهما من مجد بازخ، وملك واسع كيف دالت دولتهما، وذهب ريحهما بظلم أهلهما، وتقسم ملكهما، ثم قامت بعدهما الدولة العربية، وعاشت ما شاء الله أن تعيش، ثم قام بعدها بنو عثمان، وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية ثم هرمت دولتهم، وشاخت، واستولت عليها ممالك أوروبا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}. 7 - ولما ذكر الله سبحانه أنه سين على بني إسرائيل الذين استُضعفوا في الأرض .. أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} أي: ألهمنا أم موسى - يوحانذ بنت لاوي بن يعقوب - وفي "القرطبي": قال الثعلبي: كان اسم أم موسى لوخا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب اهـ. وقذفنا في قلبها {أَنْ أَرْضِعِيهِ}؛ أي: أرضعيه ما أمكتك إخفاؤه عن عدوه وعدوك، وذلك أن أم موسى حبلت بموسى، فلم يظهر بها أثر الحبل من نشوء البطن، وتغير اللون، وظهور اللبن، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، حتى ولدت موسى ليلة لا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطَّلع عليها أحد من القوابل الموكَّلة من جهة فرعون بحبالى بني إسرائيل، ولا من غيرهن إلا أخته مريم، فأوحى إليها أن أرضعيه، قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة أشهر، وقيل ثلاثة، وكانت ترضعه وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها. وليس الوحي الذي أوحى الله إليها هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، بل إيحاء الله تعالى إليها إلهام، وقذف في القلب، قاله ابن عباس وقتادة، أو منام قاله قوم، أو إرسال ملك قاله قطرب وقوم، وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وأجمعوا على أنها لم تكن نبية، فإن كان الوحي بإرسال ملك كما هو الظاهر، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى، كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد سلَّمت على عمران بن حصين الملائكة، كما في الحديث الثابت في الصحيح، فلم يكن بذلك نبيًا، والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون

ثم جملة محذوفة؛ أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح، وخافت عليه، وأوحينا إليها أن أرضعيه، و {أَنْ} في {أَنْ أَرْضِعِيهِ} مفسرة؛ لأن في الوحي معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: بأن أرضعيه، وقرأ عمرو بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز {أن أرضعيه} بكسر نون {أن} ووصل همزة {أَرْضِعِيهِ}، فالكسر لالتقاء الساكنين، وحُذفت همزة الوصل على غير القياس؛ لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة، وهي الفتحة إلى النون، كقراءة ورش. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}؛ أي: على موسى من جواسيس فرعون ونقبائه، الذين يقتلون أولاد بني إسرائيل اتباعًا لأمره، أو من الجيران أن ينمُّوا عليه إذا سمعوا صوته {فَأَلْقِيهِ}؛ أي: فألقي موسى {فِي الْيَمِّ} أي: في بحر النيل؛ أي: فاطرحيه في التابوت، والتابوت في البحر، وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه، {وَلَا تَخَافِي}؛ أي: من غرقه وضياعه، ومن التقاطه فيُقتل {وَلَا تَحْزَنِي} لفراقه إياك. رُوي: أن دارها كانت على الشاطىء، فاتخذت تابوتًا مطليًا بالقار، ومهَّدت فيه مهدًا، وألقته في النيل، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قضته بين الولادة والإلقاء في اليم. ثم وعدها سبحانه بما يسلِّيها، ويطمئن قلبها، ويملؤه غبطة وسرورًا، وهو رده إليها، وجعله رسولًا نبيًا، فقال: {إِنَّا رَادُّوهُ}؛ أي: رادو ولدك {إِلَيْكِ} عن قريب، لتكوني أنت المرضعة له، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى فرعون وقومه؛ أي: وباعثوه رسولًا إلى هذا الطاغية، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه. وهذه الآية هي من معجزات الإيجاز، لأنها اشتملت على أمرين: {أَرْضِعِيهِ} {أَلْقِيهِ}، ونهيين {وَلَا تَخَافِي} {وَلَا تَحْزَنِي} وخبرين، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} {وَجَاعِلُوهُ} وبشارتين في ضمن الخبرين، وهما الرد والجعل من المرسلين، حُكي عن الأصمعي قال: سمعت أعرابية تُنشد: أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِذَنْبِي كُلِّهِ ... قَبَّلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ

[8]

مِثْلُ الْغَزَالِ نَاعِمًا فِيْ دَلِّهِ ... فَانْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصلِّهِ فقلت: قاتلك الله ما أفصحك، قالت: أو يُعدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ...} الآية. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، في أسهل نظم وأوجز عبارة. فإن قلت: ما فائدة وحي الله تعالى إلى أم موسى بإرضاعه مع أنها ترضعه طبعًا وإن لم تؤمر بذلك؟ قلت: أمرها بإرضاعه ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون، فلو لم يأمرها به ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت المقصود. فإن قلت: قوله تعالى: {وَلَا تَخَافِي} هو معطوف على جواب الشرط، فيلزم عليه التناقض بين إثبات الخوف في قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} وبين نفيه في قوله: {وَلَا تَخَافِي} لأن التركيب يكون حينئذٍ هكذا: فإذا خفت عليه فلا تخافي، وذلك تناقض؟ قلت: لا يلزم التناقض؛ لأن معناه إذا خفت عليه القتل فألقيه في اليم، ولا تخافي عليه الغرق. فإن قلت: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في الآية؟ قلت: الخوف كم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن غم يصيبه لأمر وقع ومضى. فصل في ذكرِ القصة في ذلك 8 - قال ابن عباس (¬1) - رضي الله عنهما -: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى قابلة، وكانت مصافية لأم موسى، وقالت لها: ¬

_ (¬1) المراح.

لينفعني اليوم حبك إياي، فجلست القابلة تعالجها، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك، ولكني وجدت لابنك هذا حبًا شديدًا، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحارس بالباب، فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع فدخل، فإذا التنور مسجور، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن، فقال: لِمَ دخلَتْ القابلة عليك؟ قالت: إنها حبيبة لي، دخلت للزيارة، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: أين الصبي؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاءً في التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه بردًا وسلامًا، فأخذته، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتًا، ثم تقذف التابوت في النيل، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتًا صغيرًا طوله خمسة أشبار وعرضه كذلك، فقال لها: ما تصنعين به؛ فقالت: لي ابن أخبؤه فيه، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك، فلما جاءهم أمسك الله لسانه، وجعل يشير بيده فضربوه، وطردوه، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه، فذهب مرة أخرى ليخبرهم، فأخذ الله لسانه وبصره، فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه، فعلم الله تعالى منه الصدق، فرد الله عليه ذلك، وانطلقت أم موسى وألقته في النيل، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها، فقالوا: أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر، يوجد منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا، في شهر كذا، حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل، ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها، حتى جلست على شاطىء النيل، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، وتعلق بشجرة، فقال: ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب، فلم

يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية، فرأت نورًا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته ففتحته، فإذا هي بصبيٍّ صغير، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون، فأخرجوه من التابوت، وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطَّخت به برصها، فبرئت في الحال، فقبلته وضمَّته إلى صدرها، فقالت الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه، رُمي في البحر خوفًا منك، فهم فرعون بقتله، فاستوهبته آسية من فرعون، فوهبه لها، فترك قتله وتبنته، فقيل لآسية: سمِّيه، فقالت: سمَّيته موشى - بالشين المعجمة - لأنا وجدناه في الماء والشجر، فإن معنى مو: ماء، ومعنى شا: شجر، فأصل موسى - بالمهملة - موشى بالمعجمة، وذلك قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر. والفاء عاطفة على محذوف، تقديره: فألقته أم موسى في اليم بعدما جعلته في التابوت، فالتقطه من وجده من آل فرعون. قال الزجاج (¬1): كان فرعون من أهل فارس من اصطخر اهـ؛ أي: فأخذ موسى أهل فرعون - يعني جواريه - من بين الماء والشجر يوم الاثنين صبيحة الليل الذي ألقي فيه التابوت، أخذ اللقطة التي يُعنى بها، وتصان عن الضياع. روي أن الموج أقبل به يرفعه مرة، ويخفضه أخرى، حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها، وظنن أن فيه مالًا، فلما فتحنه وجدن فيه غلامًا، فوقعت عليها رحمته فأحبته حبًا شديدًا، ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه، إذ قال: إني أخات أن يكون هذا من بني إسرائيل، وأن يكون هلاكنا على يديه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها. ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت، فقال: {لِيَكُونَ لَهُمْ} ¬

_ (¬1) النسفي.

موسى في عاقبة أمره {عَدُوًّا} في (¬1) دينهم {وَحَزَنًا} لما يصنعه بهم، وقيل: عدوًا لرجالهم، وحزنًا على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستذل النساء؛ أي: التقطوه ليصير بهم الأمر إلى ذلك، إذ أراد الله ذلك، لا أنهم أخذوه له، وجعل موسى نفس الحزن إيذانًا لقوة سببيته لحزنهم، واللام هنا (¬2) لام العاقبة والصيرورة، لا لام العلة والإرادة؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لم عدوًا وحزنًا، بل إنما أخذوه ليكون لهم ولدًا وقرة عين، ولكن لما صار عاقبة أمرهم إلى ذلك أبرز مدخولهم في معرض العلة لالتقاطهم، تشبيهًا له في الترتيب عليه بالغوض الحامل عليه، وهو المحبة والتبني. وهذا (¬3): مثل ما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله، وهو يظن نفسه محسنًا فيه، وأدى الأمر إلى مساءة وضر قد لحقه: فعلت هذا لضر نفسك، وهو قد كان حين الفعل راجيًا نفعه، غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو، وكقولهم: اشترى فلان بضاعة كذا ليخسر، مع أن الحامل له على الشراء الاسترباح، وهذا جار على سنن العرب في كلامهم، فيذكرون الحال بالمآل، قال شاعرهم: وَللْمَنَايَا تُرَبِّيْ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَدُوْرُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْهَا وقال آخر: فَلِلْمَوْتِ تَغْذُوْ الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى المَسَاكنُ وقال آخر: لِدُوْا لِلْمَوْتِ وَابْنُوْا لِلْخَرَابِ ... فَكُلُّكُمُ يَصِيْرُ إِلَى التُّرَابِ فعاقبة البناء الخراب، وإن كان في الحال مفروحًا به، وعاقبة تغذية السخال الذبح، وإن كانت الآن تُغذَّى لتسمن. ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والخلاصة (¬1): أن الله قيَّضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًا وحزنًا، ويستبين بطلان حذرهم منه، وهذا الذي ذكرنا باختصار ما عليه جمهرة المفسرين والبيانيين، ولا تغتر بقول من شذَّ بإنكار وقوع المجاز في القرآن، مع كونه نزل بلسان عربي مبين، والكلام العربي يجري على طريقتين: إما على الحقيقة، وإما على المجاز، والقرآن إنما نزل على قانون لغتهم لكون من أُنزل عليه عربيًا فصيحًا. قلت: ويحتمل كون الكلام هنا على حذف، بدليل ما سيأتي، فتكون اللام على معناها الأصلي، أعني لام كي، فلا مجاز، والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم ولدًا وقرة عين، فصار لهم عدوًا وحزنًا، ومعنى عداوته إياهم: مخالفته لهم في دينهم، وحملهم على الحق، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه، بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات، ولم يستجيبوا لدعوته، فحلت بهم القوارع، كما هي سنة الله تعالى في خلقه المكذبين للرسل. وقرأ الجمهور (¬2): {وَحَزَنًا} بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان: بضم الحاء وإسكان الزاي، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، وهما لغتان، كالعدم والعُدْم، والرشد والرُشْدِ، والسَّقَم والسُّقْم. ثم بيَّن أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنودهما لبني إسرائيل حمق وطيش، فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} تعليل لما قبله، أو اعتراض لقصد التأكيد لاعتراضه بين المعطوف الذي هو: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} وبين المعطوف عليه الذي هو: {فَالْتَقَطَهُ}؛ أي: كانوا (¬3) خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن رُبّي عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديه، أو كانوا خاطئين في كل ما يأتون، وما يذرون، فليس ببدع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[9]

منهم أن قتلوا ألوفًا لأجله، ثم أخذوه يربونه ليكبر، ويفعل بهم ما كانوا يحذرون. وأُضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان (¬1)، وإن كان هامان لا جنود له؛ لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال. وقرىء {خاطيين} بغير همز، فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت، وهو الظاهر، وقيل: من خطأ يخطو؛ أي: خاطين الصواب. 9 - ولما التقطوه همُّوا بقتله، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} حين رآه فرعون وهم بقتله، وهي آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام، وقيل: كانت من بني إسرائيل من سبط يوسف عليه السلام. أي: قالت لفرعون حين أخرجته من التابوت، وهمَّ فرعون بقتله لقول الكهنة، كما سيأتي: {قُرَّتُ عَيْنٍ}؛ أي: لذة عين، ومسرة قلب؛ أي: هذا الغلام قرة عين {لِي وَلَكَ} يا فرعون {لَا تَقْتُلُوهُ}؛ أي: لا تقتلوا يا فرعون هذا الغلام، خاطبته بلفظ الجمع تعظيمًا له، ليساعدها فيما تريده. قال ابن عباس: لما قالت آسية ذلك، قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه، وروي أنه لو قال: لي، كما هو لك لهداه الله كما هداها. قال ابن إسحاق: إن الله تعالى ألقى محبته عليه السلام في قلبها، لأنه كان في وجهه ملاحة، فكل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحته رأته يمتص أصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} هذا الغلام؛ أي: أترجى نفعه لنا لو كان له أبوان معروفان، {أَوْ} عسى أن {نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ونتبناه إذا لم يُعرف له أبوان، لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلًا لتبني الملوك، وكانت آسية لا تلد، ولم يكن لفرعون ولد ذكر، وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حال (¬1) من آل فرعون، والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وقالت امرأة فرعون: كذا وكذا، والحال أنهم لا يشعرون؛ أي: لا يعلمون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا من الالتقاط، ورجاء النفع منه، والتبني له. وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ ...} الآية، اعتراض وقع بين المعطوفين لتأكيد خطاهم، كما مر آنفًا، وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان، وقيل (¬2): هذا ابتداء كلام من الله تعالى؛ أي: وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه وبسببه، وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل، وقال ابن عباس: أي: وهم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون: هذا من تمام كلام امرأة فرعون، أي: بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه، وأنه ليس منا، وهذا بعيد، كما قاله الشوكاني. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: عسى أن ينفعنا لنفعه الله، ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه، روي أنه قالت الغواة من قوم فرعون: إن نظن إلا أنَّ هذا هو الذي يحذر منه، رُمي في البحر خوفًا منك فاقتله، فهمّ فرعون بقتله، فقالت آسية: إنه ليس من أولاد بني إسرائيل، فقيل لها: وما يدريك؟ فقالت: إن نساء بني إسرائيل يشفقن على أولادهن، ويكتمنهم مخافة أن تقتلهم، فكيف يُظنُّ بالوالدة أنها تُلقي الولد بيدها في البحر؛ أو قالت: إن هذا كبير، ومولود قبل هذه المدة التي أُخبرت لك، فاستوهبته لما رأت عليه من دلائل النجاة، فتركه، وسمَّته آسية موسى؛ لأن تابوته وُجد بين الماء والشجر، والماء في لغتهم: مو، والشجر: شا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[10]

10 - وبعد أن أخبر الله سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبَّر عن حال من فأرقه بقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى}؛ أي: صار قلب أم موسى {فَارِغًا}؛ أي: خاليًا عن كل شيء إلا من ذكر موسى وهمَّه، و {أَصْبَحَ} هنا بمعنى صار (¬1)، والفؤاد القلب، لكن يقال له: فؤاد إذا اعتُبر فيه معنى التفؤد؛ أي: التحرق والتوقد، كما في "المفردات"، و"القاموس"، فالفؤاد من القلب، كالقلب من الصدر، يعني الفؤاد وسط القلب وباطنه الذي يحترق بسبب المحبة ونحوها، وقال بعضهم: الصدر معدن نور الإِسلام، والقلب معدن نور الإيقان، والفؤاد معدن نور البرهان، والنفس معدن القهر والامتحان، والروح معدن الكشف والعيان، والسر معدن لطائف البيان اهـ. أي: صار فؤاد أم موسى صفرًا من العقل، وخاليًا من اللهم لما غشيها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون، دل عليه الربط الآتي، فإنه تعالى قال في وقعة بدر: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} إشارة إلى نحو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنه لم تكن أفئدتهم هواء؛ أي: خالية فارغة عن العقل والفهم لفرط الحيرة. وقيل معناه (¬2): ناسيًا للوحي الذي أوحى الله - عز وجل - إليها حين أمرها أن تُلقيه في اليم، ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها، ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان، وقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه، وتولَّيتَ أنت قتله، وألقيته في البحر وأغرقته، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه، فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها، والمعنى الأول أولى، وقال أبو عبيدة: فارغًا من الحزن إذ لم يُغرق، وهذا فيه بُعدٌ، وتُبْعِدُهُ القراءات الشواذُّ التي في اللفظة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري (¬1)، والحسمن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، ومحمد بن السميقع، وأبو العالية، وابن محيصن: {فزعًا} بالفاء والزاي والعين المهملة من الفزع؛ أي: خائفًا وجلًا. وقرأ ابن عباس: {قرعًا} بالقاف المفتوحة والراء المهملة المكسورة والعين المهملة، من قرع رأسه إذا انحسر شعره، كأنه خلا من كلا شيء إلا من ذكر موسى، وقيل: {قرعًا} من القارعة، وهي الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة {فزغًا} بالفاء المكسورة والزاي الساكنة والغين المنقوطة، ومعناه ذاهبًا هدرًا تالفًا من الهم والحزن، وقرأ الخليل بن أحمد {فُرُغًا} بضم الفاء والراء. {إِنْ}؛ أي: إنها، فإن شأنية {كَادَتْ}؛ أي: قاربت (¬2) من ضعف البشرية وفرط الاضطراب {لَتُبْدِي بِهِ}؛ أي: لتظهر بموسى، وأنه ابنُها، وتُفشي سرها، وأنها ألقته في النيل، قال في "كشف الأسرار": الباء زائدة؛ أي: تُبديه، أو المفعول مقدر؛ أي: تُبدي القول به؛ أي: بسبب موسى. {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي: شددنا عليه بالصبر والثبات بتذكير ما سبق من الوعد، وهو رده إليها، وجعله من المرسلين، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من المصدقين بما وعدها الله بقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ولم يقل من المؤمنات تغليبًا للذكور، وفيه إشارة إلى أن الإيمان من مواهب الحق، إذ المبني على الموهبة وهو الوحي أولًا، ثم الربط بالتذكير ثانيًا موهبة، وجواب لولا محذوف، تقديره: لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت به، واللام في قوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} متعلق بربطنا، وهذا شبيه بقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. والمعنى: أي أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها شُعاعًا لما دهمها من الجزع والحزن، وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريًا على عادته مع أنداده ولداته، ولولا أن عصمناها، وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها، وأظهرت أنه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[11]

ابنها، وقالت من شدة الوجد: (وا ولداه)، وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدقين بوعدنا: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. 11 - ثم أخبر عن فعلها في تعرف خبره، بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله: {وَقَالَتْ} أم موسى {لِأُخْتِهِ}؛ أي: لأخت موسى عليه السلام الشقيقة؛ أي: وقالت لابنتها، وكانت كبيرة تعي ما يُقال لها، ولم يقُل لبنتها للتصريح بمدار المحبة، وهو الأخوة، إذ به يحصل امتثال الأمر، واسم أخته مريم بنت عمران، وافق اسم مريم أم عيسى، واسم زوجها غالب بن يوشا. وقال الضحاك: اسمها كلثمة، وقال السهيلي: اسمها كلثوم، وهي شقيقته وأمهما يوحانذ، وأبوهما عمران، وهو غير عمران أبي مريم أم عيسى؛ لأن بين عمرانين ألف سنة وثمان مئة سنة اهـ. شيخنا. قال بعضهم: والأصح أن اسمها كلثوم، لا مريم، لما روى الزبير بن بكار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على خديجة رضي الله عنها، وهي مريضة، فقال لها: "يا خديجة، أشعرت أن زوجتي معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثوم أخت موسى، وهي التي علَّمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون" فقالت: آلله أخبرك بهذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فقالت: بالرفاء والبنين، وأطعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة من عنب الجنة، وقولها: بالرفاء والبنين أعرست؛ أي: اتخذت العروس حال كونك متلبسًا بالالتئام والاتفاق؛ أي: بالملاءمة والموافقة بينكما، وهو دعاء يدعى به في الجاهلية لمن تزوج، ولعل هذا قبل ورود النهي عن ذلك، كذا في إنسان العيون. وفيه أن (¬1) هؤلاء النسوة حماهن الله تعالى عن أن يطأهن أحد، فقد ذُكر أن آسية لما ذُكرت لفرعون أحب أن يتزوجها، فتزوجها على كره منها ومن أبيها، مع بذله لها الأموال الكثيرة، فلما زُفَّت له وهمَّ بها أخذه الله تعالى عنها، وكان ذلك حاله معها، وكان قد رضي عنها بالنظر إليها، وأما مريم، فقيل: إنها تزوجت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

بابن عمها يوسف النجار، ولم يقربها، وإنما تزوجها لمرافقتها إلى مصر، لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عيسى - عليه السلام - وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة، ثم عادت مريم وولدها إلى الشام، ونزلا الناصرة، واْخت موسى لم يُذكر أنها تزوجت. انتهى. {قُصِّيهِ}؛ أي: اتَّبعي أثر موسى وتتبعي خبره، وفتشي نبأه، وانظري أين وقع حتى تعرفي خبره. وقوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ} معطوف على محذوف، تقديره: فاتَّبعته أخته، فبصرت به؛ أي: أبصرته. {عَنْ جُنُبٍ} أي: عن بُعد، ولا توهم أنها تراه {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن آل فرعون {لَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: لا يعلمون أنها تقصه، وتتعرف حاله، أو أنها أخته. والمعنى: أي قالت أم موسى لأخته مريم: تتبعي أثره، وتسمعي خبره، وانظري أين وقع، وإلى من صار، فتتبعته فأبصرته من مكان بعيد اختفاء من الناس، والحال أنهم لا يشعرون أنها تقصه، وتتعرف حاله، وأنها أخته، وتطلبه وتبصره. وقرأ الجمهور (¬1): {عَنْ جُنُبٍ} بضمتين، وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي: {جنب} بفتح وسكون، وعن قتادة بفتحهما أيضًا، وعن الحسن بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب، والجُنُب والجانب والجنابة والجناد بمعنى واحد، وقال قتادة: معنى عن جنب أنها تنظر إليه كأنها لا تريده، وقرأ الجمهور: {فَبَصُرَتْ} بفتح الباء وضم الصاد، وقرأ قتادة: {فبصَرت} بفتح الصاد، وعيسى: بكسرها. 12 - ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} التحريم هنا بمعنى المنع، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} لأنه لا معنى للتحريم على صبي غير مكلف؛ أي (¬2): منعنا موسى أن يرضع من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

المرضعات، ويشرب لبن غير أمه، بأن أحدثنا فيه كراهة ثدي النساء والنفار عنها، {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل تقصي أخته أثره، أو من قبل أن نرده على أمه، كما قال في "الجلالين"، أو من قبل مجيء أمه كما قاله أبو الليث، أو في القضاء السابق؛ لأنا أجرينا القضاء بأن نرده إلى أمه كما في "كشف الأسرار". أي (¬1): منعنا موسى أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه، قال الضحاك: كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها، وروي (¬2) أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديًا وهو يصيح، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له، وقربها منه: هل عندك مرضعة تدلينا عليها، لعله يقبل ثديها. {فَقَالَتْ}؛ أي: أخت موسى لآل فرعون، عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} أي: يربونه {لَكُمْ} ويضمنون رضاعه، ويقومون بجميع مصالحه {وَهُمْ}؛ أي: والحال أن أهل ذلك البيت {لَهُ} أي: لهذا الغلام {نَاصِحُونَ}؛ أي: حافظون يبذلون النصح في أمره، ولا يقصرون في إرضاعه وتربيته. قال السدي: لما قالت مريم ذلك أخذوها، وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام، فدلينا على أهله، فقالت: ما أعرفه، روي أنهم قالوا لها: من يكفل؟ قالت: أمي، قالوا: ألأمك لبن؟ قالت: نعم لبن هارون، وكان هارون وُلد في سنة لا يقتل فيها صبي، فقالوا صدقت. روي (¬3): أن هامان لما سمعها قال: إنها لتعرفه وأهله، خذوها حتى تخبر من له؟ فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، تعني أرجعت الضمير إلى الملك، لا إلى موسى، تخلصًا من يده، فقال هامان: دعوها لقد صدقت، فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله، فأتت بأمه، وموسى على يد فرعون يبكي، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[13]

وهو يعلله، أو في يد آسية فدفعه إليها، فلما وجد ريحها استأنس بها، والتقم ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريًا، فقال فرعون: من أنت منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتى بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها، فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي، إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به، وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيًا للتهمة، فرضوا بذلك، فرجعت به إلى بيتها، فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر، فأبدلها الله بعد خوفها أمنًا، وهي موفورة العز والجاه، والرزق الواسع. 13 - وقد جاء في الأثر: "مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها"، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: {فَرَدَدْنَاهُ}؛ أي: فرددنا موسى، وصرفناه {إِلَى أُمِّهِ} ووالدته {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} وتطيب نفسها بوصول ولدها إليها، وتربيتها له في بيتها، {وَلَا تَحْزَنَ} على موسى بفراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ}؛ أي: أن جميع ما وعده من رده إليها، وجعله من المرسلين {حَقٌّ} ثابت لا خلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر آل فرعون {لَا يَعْلَمُونَ} بذلك، بل كانوا في غفلة عن القدر وسر القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق، لا خُلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، فهذا هو الغرض المديني، وما سواه من قرة العين، وذهاب الحزن تبع، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار، فأتت به فرعون، واستمر عنده، يأكل من مأكوله، ويشرب من مائه، ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل. 14 - {وَلَمَّا بَلَغَ} موسى {أَشُدَّهُ}؛ أي: كمال قوته الجسمانية، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وهو (¬1) مفرد على بناء الجمع، كما سبق في سورة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

يوسف {وَاسْتَوَى}؛ أي: انتهى شبابه، وتكامل عقله، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين، وقال في يوسف: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} فقط؛ لأنه أوحي إليه في صباه حين كان في البئر، وموسى عليه السلام أوحي إليه بعد أربعين سنة، كما قال سبحانه: {آتَيْنَاهُ}؛ أي: أعطينا موسى {حُكْمًا}؛ أي: نبوة (¬1) {وَعِلْمًا}؛ أي: فقهًا في الدين، أو علمًا بمصالح الدارين، أو علم الحكماء والعلماء، أو سمتهم قبل استنبائه، فلا يقول قولًا، ولا يفعل فعلًا يُستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة، لأنه تعالى استنبأه بعد الهجرة والمراجعة اهـ. "أبو السعود". والمراد بالهجرة خروجه إلى مدين، وبالمراجعة رجوعه منها اهـ "شهاب"، وكان عمره عند رجوعه من مدين أربعين سنة؛ لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب إلى مدين، وأقام فيها عشر سنين، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه إلى مدين فهو السبب فيه. {وَكَذَلِكَ} أي: كما جزينا موسى وأمه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم؛ أي: وكما جزينا موسى على طاعته إيانا، وصبره على أمرنا بالحكم والعلم، وجزينا أمه على استسلامها أمرنا، حين ألقت ولدها في البحر تصديقًا لوعدنا؛ أي: كما جزيناها برد ولدها إليها، وجعله من المرسلين، نجزي كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه، على إحسانه أيًا كان، والمراد العموم، وفي الآية تنبيه على أنهما كانا محسنين في عملهما، متَّقين في عنفوان عمرهما، فمن أدخل نفسه في زمرة أهل الإحسان جازاه الله بأحسن الجزاء. حكي (¬2): أن امرأة كانت تتعشى، فسألها سائل، فقامت ووضعت في فمه لقمة، ثم وضعت ولدها في موضع، فاختلسه الذئب، فقالت: يا رب ولدي، فأخذ آخذ عنق الذئب، واستخرج الولد من فيه بغير أذًى، وقال لها: هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل. 15 - وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة، ذكر ما كان السبب في هجرته إلى مدين، ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

وتوالي الأحداث الجسام عليه، فقال: {وَدَخَلَ} موسى عليه السلام {الْمَدِينَةَ}؛ أي: مديثة منف، وهي مدينة فرعون موسى، التي كان ينزلها، وفيها كانت الأنهار تجري تحت سويره، وكانت في غربي النيل، على مسافة اثني عشر ميلًا من مدينة فسطاط مصر، المعروفة يومئذ بمصر القديمة، ومنف بفتح الميم وسكون النون، وقيل: بضم الميم وسكون النون، يمنع من الصرف للعلمية والعجمة، أو التأنيث، أصلها مآفة، ومعناها (¬1) بلغة القبط ثلاثون؛ لأنها أول مدينة عُمِّرت بأرض مصر بعد الطوفان، نزلهار بن حام بن نوح في ثلاثين رجلًا، فسُمِّيت مآفت، ثم عُرِّبت فصارت منف، وكانت دار الملك بمصر في قديم الزمان. قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده، وآتاه العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل، فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه، حتى آل الأمر إلى أن خافوه وخافهم، وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفًا فدخلها يومًا {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}؛ أي: حال كونه مستخفيًا، في وقت غفلة كائنة من أهل المدينة؛ أي: وقت غفلتهم من دخوله؛ أي: دخلها في وقت لا يُعتاد دخولها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخلها في الظهيرة عند المقيل، وقد خلت الطرق؛ أي: دخلها وقت كونهم قائلين غافلين، مشغولين بنوم القيلولة، {فَوَجَدَ فِيهَا}؛ أي: في المدينة بعد دخولها {رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} ويتضاربان، ويلازمان مقدمات القتل من الضرب والقتل. {هَذَا} أي: أحدهما {مِنْ شِيعَتِهِ}؛ أي: من شايعه وتابعه في دينه، وهم بنو إسرائيل، قيل: هو السامري {وَهَذَا} أي: الآخر {مِنْ عَدُوِّه}؛ أي: من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون. {فَاسْتَغَاثَهُ}؛ أي: طلب من موسى أن ينصره ويعينه {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ}؛ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

أي: من شيعة موسى {عَلَى} خصمه {الَّذِي} كان {مِنْ عَدُوِّهِ} أي: من عدو موسى، فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل، فالقبطي الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون، استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه، واسمه فليثون، أو فأثون، والإشارة في هذا على الحكاية، وإلا فهو والذي من عدوه ما كانا حاضرين حال الحكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهما لما كانا حاضرين يشار إليهما وقت وجدان موسى إياهما حكى حالهما وقتئذٍ، أو لحكاية الحال عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر، وقال المبرِّد: العرب تشير بهذا إلى الغائب، قال جرير: هَذَا ابْنُ عَمِّي فِيْ دِمَشْقَ خَلِيْفَةٌ ... لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمُ إِلَيَّ قَطِيْنَا ذكره أبو حيان اهـ. وقرأ أبو طالب القارىء (¬1): {على حين} بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض كقوله: عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا وهذا توجيه فيه شذوذ وقرأ ثعيم بن ميسرة {يقتلان} بإدغام التاء في التاء، ونقل فتحها إلى القاف، وقرأ الجمهور: {فاستغاثه}؛ أي: طلب غوثه، ونصره على القبطي، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون بدل الثاء؛ أي: طلب الإعانة على القبطي، قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم؛ لأن الإعانة أولى في هذا الباب، وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى. وليست تصحيفًا فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

مقسم والزعفراني، وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك - يعني الحطب - فاشتد غضب موسى وكان قد أوتي قوة فوكزه فمات، كما قال: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أي (¬1): ضربه موسى بجمع كفه، وقيل: الوكز الضرب في الصدر، وقيل: الوكز الدفع بأطراف الأصابع، {فَقَضَى عَلَيْهِ}؛ أي: قتله موسى، وفرغ من أمره، فندم موسى عليه، ولم يكن قصده القتل بل دفعه، ودفنه في الرمل، وكل شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه. وقرأ عبد الله (¬2): {فلكزه} باللام بدل الواو، وعنه {فنكزه} بالنون، والظاهر أن فاعل {فَقَضَى عَلَيْهِ} ضمير عائد على موسى، وقيل: يعود على الله؛ أي: فقضى الله عليه بالموت، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه؛ أي: فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله بل قصد دفعه، فندم على قتله. {قَالَ هَذَا} القتل {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وإنما أضاف العمل إلى الشيطان، لأنه كان بإغوائه ووسوسته، وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن حنيئذٍ مأمورًا بقتل الكفار، أو لأنه كان مأمونًا عندهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته، لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان، وسماه ظلمًا، واستغفر منه جريًا على سنن المقربين في استعظام ما فرط منهم، ولو كان من محقرات الصغائر، أو كان هذا قَبْلَ النبوة. وقيل (¬3): إن هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى إن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، والمراد بيان كونه مخالفًا لأمر الله تعالى، مستحقًا للقتل، وقيل: هذا إشارة إلى المقتول، يعني أنه من جُنْدِ الشيطان وحزبه، ثم وصف الشيطان بقوله: {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشيطان {عَدُوٌّ} لابن آدم {مُضِلٌّ} له عن طريق الحق والاعتدال {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر العداوة والإضلال. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

[16]

16 - ثم {قَالَ} موسى مناجيًا مع الله سبحانه، وتوسيط (¬1) {قَالَ} بين كلاميه لإبانة ما بينهما من المخالفة، من حيث إنه مناجاة ودعاء بخلاف الأول، يا {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل نفس لم أؤمر بقتلها، يعني القبطي، وقيل (¬2): هو على سبيل الاتضاع لله تعالى، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن هناك ذنب {فَاغْفِرْ لِي} ذنبي، واستر علي، ولا تؤاخذني بما فعلت، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر اهـ. ثم لم يزل موسى عليه السلام يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غُفر له، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه: إني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح، وإنما عده ذنبًا وقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} مع كون المقتول كافرًا من اْجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر بالقتل. ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له، فقال: {فَغَفَرَ لَهُ} ربه؛ أي: فعفا عن ذنبه، ولم يعاقبه عليه. ثم ذكر ما هو كالعلة لما قبله. فقال: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْغَفُورُ} (¬3) بإزالة الزلل {الرَّحِيمُ} بإزالة الخجل؛ أي: إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه، المتفضل عليه بالعفو عنها، الرحيم له بأن لا يعاقبه بعد أن أخلص توبته، ورجع عن حوبته. وفي "الشوكاني": ووجه استغفاره (¬4): أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى، كما هو سنة المرسلين، أو أراد: إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به، والمعنى (¬5) عليه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل القبطي من غير أمر، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به، {فَاغْفِرْ لِي} أي: فاستره علي، ولا توصل خبره إلى فرعون، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي. (¬4) الشوكاني. (¬5) المراح.

[17]

{فَغَفَرَ لَهُ}؛ أي: فستره عن الوصول إلى فرعون {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ}؛ أي: المبالغ في ستر ذنوب عباده {الرَّحِيمُ}؛ أي: المبالغ في رحمتهم بستر ذنوبهم وهذا خلاف الظاهر، فإن موسى عليه السلام ما زال نادمًا على ذلك خائفًا من العقوبة بسببه، كم ذُكر اشتكاؤه من ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقيل: إن هذا كان قبل النبوة، وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة؛ لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. وفي "فتح الرحمن" (¬1): إن قلت: كيف جعل موسى قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلمًا لنفسه، واستغفر منه؟ قلت: أما جعله ذلك من عمل الشيطان، فلكونه كان الأولى له تأخير قتله إلى زمن آخر، فلما عجله ترك الأولى المندوب إليه، فجعله من عمل الشيطان، ولم يكن قصد موسى قتل القبطي، إنما كان يريد دفع أذاه عن الإسرائيلي بدليل أنه لم يضربه بشيء يقتل، وإنما ضربه بجمع يده، بلكمة كانت هي القاضية، فلذلك ندم على فعله، واستغفر ربه؛ لأن في قتل القبطي فتنة، والشيطان تفرحه الفتنة، فلذلك نسبه إلى الشيطان. وأما تسميته ظلمًا فمن حيث إنه حرم نفسه الثواب بترك المندوب، أو من حيث أنه قال ذلك على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن ثمة ذنب، وأما استغفاره من ذلك فمعناه اغفر لي ترك ذلك المندوب انتهى. 17 - ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه، فقال: {قَالَ} موسى يا {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} إما قسم محذوف الجواب، و {ما} إما مصدرية أو موصولة؛ أي: أقسم عليك بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن {فَلَنْ أَكُونَ} بعد ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

هذا أبدًا {ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}؛ أي: معينًا لهم، يقال: ظاهرته؛ أي: قويت ظهوه بكوني معه؛ أي (¬1): أقسم يا رب بنعامك علي بالقوة والمعرفة، فلن أكون معينًا لأحد من المشركين، بل أكون معاونًا للمسلمين؛ أي: إني وان أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله {فلا تجعلني ظهيرًا للمجرمين}. وإما استعطاف؛ أي: بحق إحسانك علي اعصمني، فلن أكون معينًا لمن تؤدي معاونته إلى الجرم. والجرم فعل يوجب قطيعة فاعله، وأصله القطع، قال ابن عطاء: العارف بنعم الله من لا يوافق من خالف ولي نعمته، والعارف بالمنعم من لا يخالفه في حال من الأحوال انتهى. وأراد (¬2) بمظاهرة المجرمين، إما صحبة فرعون، وانتظامه في جماعته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بمركبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، واما مظاهرة من أدَّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى قتل الذي لم يحل له قتله، وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أُومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنًا، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الإسرائيلي كان كافرًا، وإنما قيل له إنه من شيعته؛ لأنه كان إسرائيليًا، ولم يرد الموافقة في الدين فعلى هذا ندم؛ لأنه أعان كافرًا على كافر، فقال: لا أكون بعد هذا ظهيرًا للكافرين، وقيل ليس هذا خبرًا بل هو دعاء؛ أي: فلا تجعلني يا رب ظهيرًا للمجرمين، كما تدل عليه قراءة عبد الله، وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أَوْفَى، وأشبه بنسق الكلام اهـ. ثم إن (¬3) هذا الدعاء، وهو قوله: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} إلخ حسن إذا وقع ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان.

[18]

بين الناس اختلاف وفرقة في دين أو ملك أو غيرهما، وإنما قال موسى هذا عند اقتتال الرجلين، ودعا به ابن عمر - رضي الله عنهما - عند قتال علي ومعاوية، كذا في "كشف الأسرار". 18 - {فَأَصْبَحَ} موسى؛ أي: دخل في الصباح، فأصبح إما تامة؛ أي: دخل في الصباح حالة كونه {فِي الْمَدِينَةِ} التي قتل فيها القبطي، وفي هذا إشارة إلى أن دخول المدينة والقتل كانا بين العشاءين، حين اشتغل الناس بأنفسهم، كما ذهب إليه البعض، حال كونه {خَائِفًا} على نفسه من آل فرعون أن يقتلوه بسبب القبطي {يَتَرَقَّبُ}؛ أي: يتوقع المكروه، وينتظر متى يؤخذ به. وهو الاستفادة منه، والترقب: انتظار المكروه، أو ينتظر الأخبار، وما يقال فيه، وقال ابن عطاء (¬1): خائفًا على نفسه، يترقب نصرة ربه، وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله، بخلاف ما يقوله بعض الناس: إنه لا يسوغ الخوف من دون الله تعالى. وإما ناقصة، والمعنى عليه؛ أي: فصار موسى عليه السلام في تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفًا من جنايته التي جناها، بقتله النفس التي قتلها، وصار يتجسس الأخبار، وشأن عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي، وما هم بالغوه به، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به {فَإِذَا} للمفاجأة؛ أي: فإذا الإسرائيلي {الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ}؛ إي: طلب من موسى النصرة قبل هذا اليوم على دفع القبطي المقتول {يَسْتَصْرِخُهُ}؛ أي: يستغيثه من بعد؛ أي: يستغيث موسى بعالي الصوت من بعيد من الصراخ، وهو الصوت أو شديده كما في "القاموس". والمعنى: إن الإسرائيلي الذي خلَّصه موسى بالأمس يستغيث به الآن ثانيًا من قبطي آخر، فـ {قَالَ لَهُ} أي: لذلك الإسرائيلي المستغيث ثانيًا على قبطي آخر؛ أي: قال له {مُوسَى إِنَّكَ} أيها المستغيث {لَغَوِيٌّ}؛ أي: لذو غواية وضلال، وهو فعيل بمعنى المناوي، {مُبِينٌ} أي: بيِّن الغواية والضلالة لا شك ¬

_ (¬1) النسفي.

[19]

فيه؛ لأنك تسببت لقتل رجل في الأمس، وتُقاتل اليوم رجلًا آخر، يعني: إني وقعت في الأمس فيما وقعت فيه بسببك، فالآن تريد أن توقعني في ورطة أخرى، 19 - ثم دنا منهما {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ} موسى {أَنْ يَبْطِشَ} ويأخذ {بـ} الشدة والعنف القبطي {الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا}؛ أي: عدو لموسى والإسرائيلي، إذ لم يكن على دينهما، ولأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل على الإطلاق، وقرأ الجمهور {يَبْطِشَ} بكسر الطاء، والحسن وأبو جعفر بضمها. {قَالَ} ذلك الإسرائيلي ظانًا أن موسى يريد أن يبطش به بناء على أنه خاطبه بقوله: إنك لغوي مبين، ورأى غضبه عليه، فلما سمع القبطي ذلك .. أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين. أو قال له القبطي منكرًا: أتريد أن تفعل معي كما فعلت بالأمس، وتقتلني كما قتلت من قتلت، وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه. أو من هذا الإسرائيلي وهذا هو الظاهر. {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} يعني القبطي المقتول. {إِنْ تُرِيدُ}؛ أي: ما تريد يا موسى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا}؛ أي: قاهرًا عاليًا {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر، تضرب وتقتل دون أن تنظر في العواقب، والجبار هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل، ولا ينظر في العواقب، {وَمَا تُرِيدُ} يا موسى {أَنْ تَكُونَ} في الأرض {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} بين الناس بالقول والفعل، فتدفع التخاصم بالحسن، أو من المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولما قال هذا انتشر الحديث، وارتقى إلى فرعون وملئه، وظهر أن القتل الواقع في الأمس صدر من موسى، حيث لم يطلع على ذلك إلا ذلك الإسرائيلي، فهموا بقتل موسى، فخرج مؤمن من آل فرعون وهو ابن عم موسى ليخبر موسى. كما قال: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ...} الآية.

الإعراب {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}. {طسم (1)} إن قلنا إنه علم للسورة فهو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة طسم؛ أي: مسماة بهذا اللفظ، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: طسم هذا محله، أو مفعول لفعل محذوف أو لاسم فعل محذوف، فهو مثل أسماء التراجم، وإن قلنا فيه: الله أعلم بمراده به، فلا يحكم عليه بالإعراب، ولا بالبناء؛ لأن الإعراب والبناء فرعان عن إدراك المعنى، وعلى إعرابه، فالجملة مستأنفة. {تِلْكَ} مبتدأ، {آيَاتُ الْكِتَابِ} خبر ومضاف إليه، {الْمُبِينِ}: صفة لـ {الْكِتَابِ}، والجملة مستأنفة، {نَتْلُو}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {عَلَيْكَ}: متعلق به، {مِنْ نَبَإِ مُوسَى} مُوسَى: جار ومجرور ومضاف إليه، {وَفِرْعَوْنَ}: معطوف على موسى، وهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة، الجار والمجرور صفة لمفعول محذوف، تقديره: نتلو عليك شيئًا كائنًا من نبأ موسى وفرعون، ويجوز أن تكون من زائدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى وفرعون والأول أولى؛ لأنه لا ضرورة إلى زيادتها، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان آيات الكتاب المبين، {بِالْحَقِّ}: إما حال من فاعل {نَتْلُو}؛ أي: نتلو عليك حال كوننا متلبسين بالحق والصدق، أو من مفعوله؛ أي: حال كونه؛ أي: الخير متلبسًا بالحق اهـ. شيخنا {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَتْلُو}، فهو بمثابة التعليل؛ أي: لأجل قوم، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قَوْمٍ}، {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: ناصب واسمه، {عَلَا}: فعل ماض وفاعل مستتر {فِي الْأَرْضِ} متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}. وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان نبأ فرعون، لا محل لها من الإعراب، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان في محل الرفع معطوف على جملة {عَلَا}. {يَسْتَضْعِفُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على فرعون، {طَائِفَةً}: مفعول

به، {مِنْهُمْ}: صفة لـ {طَائِفَةً}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {جَعَلَ}، أو صفة لـ {شِيَعًا}، {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب بدل اشتمال من {يَسْتَضْعِفُ}؛ لأن الاستضعاف مشتمل على الذبح والاستحياء، {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يُذَبِّحُ}، {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واصمها ضمير ممستتر، {مِنَ الْمُفْسِدِينَ} خبره، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} {وَنُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجله الفعلية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}، على كونها مسوقة لبيان نبأ موسى وفرعون، أو في على النصب حال من {طَائِفَةً} لتخصصه بالصفة؛ أي: يستضعف طائفة منهم حالة كوننا نريد المن عليهم. {أن}: حرف نصب، {نَمُنَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بـ {أن}، {عَلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {نَمُنَّ}، وجملة {نَمُنَّ} مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {نُرِيدُ}؛ أي: ونريد المن على الذين استضعفوا في الأرض، {اسْتُضْعِفُوا}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، {فِي الْأَرْضِ} متعلق به. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان معطوف على {نَمُنَّ} على كونها منصوبًا بأن المصدرية، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على {نَمُنَّ} أيضًا، {وَنُمَكِّنَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {نَمُنَّ}، {لَهُمْ}: متعلق به، {فِي الْأَرْضِ} متعلق به أيضًا، أو حال من ضمير {لَهُمْ}. {وَنُرِيَ} فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {نَمُنَّ} أيضًا، وهو من رأى البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين،

{فِرْعَوْنَ}: مفعول أول، {وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} معطوفان عليه، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {وَنُرِيَ}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {نُرِيَ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَحْذَرُونَ} خبره، وجملة {كَانُ} صلة لـ {مَا} الموصولة، أو صفة للموصوفة، إن قلنا إنها موصوفة، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يحذرونه. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}. {وَأَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} على كونها مسوقة لبيان نبأ موسى وفرعون، {إِلَى أُمِّ مُوسَى} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بأوحينا {أَنْ أَرْضِعِيهِ}: أن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، {أَرْضِعِيهِ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة مفسرة لـ {أَوْحَيْنَا} لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون {أَن}: مصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: وأوحينا إلى أم موسى بإرضاعك إياه، والجار المحذوف متعلق بـ {أَوْحَيْنَا}. {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {خِفْتِ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بالجواب، {فَأَلْقِيهِ} {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا، {ألقيه}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، {فِي الْيَمِّ}: متعلق بـ {أَلْقِيهِ}، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة {أَنْ أَرْضِعِيهِ} على كونها مفسرة لـ {أوحينا}، {وَلَا تَخَافِي}: جازم وفعل مجزوم وفاعل معطوف على {أَلْقِيهِ}، {وَلَا تَحْزَنِي}: معطوف على [أَلْقِيهِ] أيضًا، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {رَادُّوهُ}: خبره مرفوع بالواو، {إِلَيْكِ}: متعلق بـ {رَادُّوهُ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله، {وَجَاعِلُوهُ}: معطوف على {رَادُّوهُ}، وهو اسم فاعل أضيف إلى مفعوله الأول، {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} في محل نصب مفعوله الثاني.

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)} {فَالْتَقَطَهُ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فأرضعته وألقته، فالتقطه آل فرعون، {الْتَقَطَهُ}: فعل ومفعول، {آلُ فِرْعَوْنَ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ويجوز أن تكون الفاء فصيحة، {لِيَكُونَ لَهُمْ}: اللام، حرف جر وتعليل، أو لام العاقبة، {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد اللام، واسمها ضمير يعود على موسي، {لَهُمْ}: متعلق بـ {عَدُوًّا}؛ أو حال منه، {عَدُوًّا}: خبر {يَكُونَ}، {وَحَزَنًا}: معطوف عليه، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكونه عدوًا لهم وحزنًا، الجار والمجرور متعلق بـ {الْتَقَطَ}. {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: ناصب واسمه، {وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا}: معطوفان على فرعون، {كَانُوا خَاطِئِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}. وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المعطوف عليه، وهو {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ}، والمعطوف وهو {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ}. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، معطوف على {فَالْتَقَطَهُ}، {قُرَّتُ عَيْنٍ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو قرة عين، {لِي}: صفة لـ {قُرَّتُ}، {وَلَكَ}: معطوف على {لِي}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَتِ}، {لَا}: ناهية جازمة، {تَقْتُلُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بلا الناهية، والجملة في محل النصب مقول {وَقَالَتِ}، {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء تعمل عمل كان، واسمها ضمير يعود على موسى، {أَنْ يَنْفَعَنَا}: ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسَى}، ولكنه على تأويل اسم فاعل، أو على تقدير مضاف، والتقدير عسى هذا الغلام نافعًا لنا، أو ذا نفع لنا، وجملة {عَسَى} في محل النصب مقول {قَالَتِ}، {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل، {نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على {يَنْفَعَنَا}، {وَهُمْ}

{الواو}: حالية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {آلُ فِرْعَوْنَ}، وهي من كلام الله تعالى، ويبعد أن يكون من كلام آسية. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَأَصْبَحَ} {الواو}: استئنافية، {أَصْبَحَ}: فعل ماض ناقص، {فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى} اسمها ومضاف إليه، {فَارِغًا}: خبرها، والجملة مستأنفة، {إِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {كَادَتْ}: فعل ناقص من أفعال المقاربة، واسمها ضمير يعود على {أُمِّ مُوسَى}، {لَتُبْدِي} {اللام}: حرف ابتداء، {تُبْدِي}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {أُمِّ مُوسَى}، {بِهِ} متعلق بـ {تُبْدِي}؛ أي: لتبدي القول به، أو {الباء} زائدة؛ أي: لتبديه، وجملة {تبدي} في محل النصب خبر {كاد} وجملة {كاد} في حل الرفع خبر {إِنْ} المخففة، وجملة {إن} المخففة مستأنفة. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود، {أَنْ}: حرف نصب وصدر، {رَبَطْنَا}: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية، {عَلَى قَلْبِهَا}: متعلق بـ {رَبَطْنَا}، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: لولا ربطنا على قلبها موجود، وجواب {لَوْلَا} محذوف، تقديره: لأبدت به، وجملة {لَوْلَا} مستأنفة. {لِتَكُونَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تكون}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، واسمها ضمير يعود على أم موسى، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: خبر {تَكُونَ}، وجملة {تَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكونها من المؤمنين، الجار والمجرور متعلق بـ {رَبَطْنَا}. {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)}.

{وَقَالَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على أم موسى، والجملة معطوفة على جملة {أَصْبَحَ}، {لِأُخْتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَتْ}، {قُصِّيهِ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ}، {فَبَصُرَتْ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فذهبت ترتاده وتقص آثاره فبصرت به، {بصرت}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على أخت موسى، {بِهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {عَنْ جُنُبٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {بصرت} أي: بصرت به حالة كونها مستخفية كائنة عن جنب وبُعد، أو حال من ضمير {بِهِ}؛ أي: بعيدًا، {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {بَصُرَتْ}، والرابط مقدر، والتقدير: فبصرت به وهم لا يشعرون بها. {وَحَرَّمْنَا} {الواو} استئنافية، {حرمنا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {حرمنا}، {الْمَرَاضِعَ}: مفعول به، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {حرمنا}؛ أي: من قبل رده إلى أمه، أو حال من ضمير {عَلَيْهِ}، {فَقَالَتْ} {الفاء}: عاطفة، {قَالَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على أخت موسى، والجملة معطوفة على جملة {بصرت}، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفام الاستخباري، {أَدُلُّكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَدُلُّكُمْ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتْ}، {يَكْفُلُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة لـ {أَهْلِ بَيْتٍ}، {وَهُمْ} {الواو} حالية، {هُمْ}: مبتدأ، {لَهُ}: متعلق بما بعده، {نَاصِحُونَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَكْفُلُونَهُ}. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. {فَرَدَدْنَاهُ} {الفاء}: عاطفة، {رَدَدْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على محذوف، تقديره: فأذنوا لها في إرضاعه فرددناه، {إِلَى أُمِّهِ}: جار

ومجرور متعلق بـ {رددنا}، {كَيْ}: حرف نصب، {تَقَرَّ عَيْنُهَا}: فعل وفاعل منصوب بكي، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة، تقديره: فرددناه إلى أمه لقرة عينها، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: نافية، {تَحْزَنَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على أم موسى، معطوف على {تَقَرَّ}. {وَلِتَعْلَمَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تَعْلَمَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على أم موسى، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: ولعلمها {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المقدر في قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا}، {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَعْلَمَ}، {وَلَكِنَّ} {الواو}: حالية، {لكن}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَهُمْ}: اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبرها، ومفعول {يَعْلَمُونَ}: محذوف، تقديره: كون وعد الله حقًا، وجملة {لكن}: في محل النصب حال من اسم {أَن} ولكن على تقدير الرابط؛ أي: ولتعلم أن وعد الله حق والحال أن أكثرهم لا يعلمون كون وعد الله حقًا. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}. {وَلَمَّا} {الواو}: استئنافية، {لما}: حرف شرط غير جازم، {بَلَغَ أَشُدَّهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} {وَاسْتَوَى}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {بَلَغَ}، {آتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {حُكْمًا} مفعول ثان، {وَعِلْمًا}: معطوف على {حُكْمًا}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} مستأنفة. {وَكَذَلِكَ} {الواو}: عاطفة، {وَكَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، {نَجْزِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {الْمُحْسِنِينَ} مفعول به، والتقدير: ونجزي المحسنين جميعًا جزاء مثل

جزائنا لموسى وأمه، والجملة معطوفة على جملة {لَمَّا}. {وَدَخَلَ} {الواو}: عاطفة على محذوف، تقديره: وغاب عن فرعون مدة طويلة ثم رجع ودخل المدينة، {دَخَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، {الْمَدِينَةَ}: مفعول به على السعة، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من {الْمَدِينَةَ} أو من فاعل {دَخَلَ}؛ أي: مختلسًا، {مِنْ أَهْلِهَا}: جار ومجرور صفة لـ {غَفْلَةٍ}، {فَوَجَدَ}: {الفاء}: عاطفة، {وَجَدَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، معطوف على {دَخَلَ}، {فِيهَا}: متعلق بـ {وَجَدَ}، {رَجُلَيْنِ}: مفعول به لـ {وَجَدَ}؛ لأنه من وجدان الضالة، فيتعدى لمفعول واحد، وجملة {يَقْتَتِلَانِ}: صفة لـ {رَجُلَيْنِ}، {هَذَا}: مبتدأ، {مِنْ شِيعَتِهِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثانية لـ {رَجُلَيْنِ}، وقيل في محل النصب حال من {رَجُلَيْنِ}، لأن سيبويه جوز مجيء الحال من النكرة من غير شرط، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {فَاسْتَغَاثَهُ} {الفاء}: عاطفة، {اسْتَغَاثَهُ الَّذِي}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {وَجَدَ}، {مِنْ شِيعَتِهِ}: جار ومجرور صلة الموصول، {عَلَى الَّذِي}: متعلق بـ {اسْتَغَاثَهُ}، {مِنْ عَدُوِّهِ}: صلة الموصول، {فَوَكَزَهُ مُوسَى}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على {اسْتَغَاثَه}، {فَقَضَى}: فعل وفاعل مستتر يعود على موسى، أو على الوكز المفهوم من وكزه، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {فَقَضَى}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة مستأنفة، {هَذَا}: مبتدأ، {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {عَدُوٌّ}: خبره، {مُضِلٌّ}: صفة لـ {عَدُوٌّ}، {مُبِينٌ}: صفة {مُضِلٌّ}، أو صفة ثانية لـ {عَدُوٌّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة مستأنفة،

{رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه {ظَلَمْتُ نَفْسِي}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَاغْفِرْ} {الفاء}: عاطفة تفريعية، {اغْفِر} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، {لِي}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {إن}، {فَغَفَرَ} {الفاء}: عاطفة تفريعية، {غفر}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}، {لَهُ}: متعلق بغفر، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْغَفُورُ}: خبر أول لـ {إِنَّ} {الرَّحِيمُ} خبر ثان لها، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة مستأنفة، {رَبِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {بِمَآ} {الباء}: حرف جر وقسم، {ما}: مصدرية، {أَنْعَمْتَ}: فعل وفاعل، {عَلَيَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمْتَ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بباء القسم، والجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة، وجواب القسم محذوف، تقديره: لأتوبن، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {عَلَيَّ} متعلقان به {فَلَنْ}: {الفاء}: عاطفة على الجواب المحذوف، {لَنْ أَكُونَ}: ناصب وفعل ناقص، واسمه مستتر فيه يعود على موسى، {ظَهِيرًا}: خبره، {لِلْمُجْرِمِينَ}: متعلق بـ {ظَهِيرًا}، وجملة {أَكُونَ}: معطوفة على جواب القسم المحذوف. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)}. {فَأَصْبَحَ} {الفاء}: عاطفة، {أصبح}: فعل ماض تام بمعنى دخل في الصباح، وفاعله ضمير يعود على موسى، {فِي الْمَدِينَةِ}: متعلق بـ {أصبح}، أو حال من الفاعل، {خَائِفًا}: حال من فاعل أصبح، {يَتَرَقَّبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة الفعلية حال ثانية، أو ثالثة، أو حال من

الضمير في {خَائِفًا} فتكون حالًا متداخلة، ومفعول {يَتَرَقَّبُ} محذوف، تقديره: يترقب المكروه، ويجوز أن يكون {أصبح} ناقصًا واسمها مستتر فيها، {فِي الْمَدِينَةِ} حال {خَائِفًا} خبرها، وجملة {يَتَرَقَّبُ} حال ثانية. أو خبر ثان لها، {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة، {إذا} حرف فجأة، {الَّذِي} مبتدأ، {اسْتَنْصَرَهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، {بِالْأَمْسِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {يَسْتَصْرِخُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ومتعلق {يَسْتَصْرِخُهُ} محذوف, تقديره: على قبطي آخر، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أصبح}. {قَالَ}: فعل ماض، {لَهُ}: متعلق به، {مُوسَى}: فاعل، والجملة مستأنفة، {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَغَوِيٌّ}: {اللام}: حرف ابتداء، {غوي}: خبره، {مُبِينٌ}: صفة {غوي}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}. {فَلَمَّا} {الفاء} عاطفة، {لما}: حرف شرط غير جازم، {أن}: زائدة لاطراد زيادتها بعد {لما} كما هنا. وقيل لو مسبوقة بقسم كقوله: فَأُقْسِمُ أَنْ لَوِ الْتَقَيْنَا وَأَنْتُمُ ... لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ وإنما زاد {أن} بعد {لما} للإشعار بأن موسى لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول، بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه، فعبر القرآن عن ذلك الإبطاء بزيادة {أَن}، وقد تقدم في سورة يوسف ما يماثل هذا في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ}. {أَرَادَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {أَنْ يَبْطِشَ}: ناصب وفعل مضارع منصوب، وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: فلما أن أراد بطشه، {بِالَّذِي}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْطِشَ}، {هُوَ عَدُوٌّ}: مبتدأ وخبر صلة الموصول، {لَهُمَا} متعلق بـ {عَدُوٌّ}، أو صفة له، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر

يعود على الإسرائيلي المستغيث، والجملة الفعلية جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على جملة قوله: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ} {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَتُرِيدُ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، {تريد}: فعل مضارع، وفاعل مستتر وجوبًا يعود على موسى، {أَنْ تَقْتُلَنِي}: ناصب وفعل مضارع منصوب، وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أتريد قتلك إياي، وجملة {أَتُرِيدُ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {كَمَا} {الكاف}: حرف جر. {ما}: مصدرية. {قَتَلْتَ نَفْسًا}: فعل وفاعل ومفعول، {بِالْأَمْسِ} متعلق بـ {قَتَلْتَ}، والجملة الفعلية مع {ما}: المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، والتقدير: أن تقتلني قتلًا كائنًا كقتلك نفسًا بالأمس. {إن}: نافية، {تُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {أَن}: حرف نصب، {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أن}، واسمها ضمير يعود على موسى، {جَبَّارًا} خبرها {فِي الْأَرْضِ} صفة {جَبَّارًا}، وجملة {تَكُونَ}: في تأويل مصدر منصوب علي المفعولية لـ {تُرِيدُ}، والتقدير: إن تريد يا موسى إلا كونك جبارًا في الأرض. {وَمَا} {الواو} عاطفة، {ما}: نافية، {تُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على موسى، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنْ تُرِيدُ}، {أَنْ}: حرف نصب، {تَكُونَ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على موسى، {مِنَ الْمُصْلِحِينَ}: خبر {تَكُونَ}، وجملة {تَكُونَ}: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: وما تريد كونك من المصلحين. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {نَتْلُو عَلَيْكَ}؛ أي: ننزل عليك، والتلاوة: الإتيان بالثاني بعد الأول في القراءة؛ أي: نقرأ قراءة متتابعة بواسطة جبريل، يعني يقرأ عليك جبريل بأمرنا،

{مِنْ نَبَإِ مُوسَى} والنبأ الخبر العجيب العظيم الشأن. {عَلَا}؛ أي: تجبر واستكبر، {شِيَعًا}؛ أي: فرقًا يستخدم كل صنف في عمل من بناء وحفر وحرث، إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، وهو جمع شيعة بالكسر، وهو مَنْ يتقوَّى بهم الإنسان، وينتشرون عنه, لأن الشياع الانتشار والتقوية، يقال: شاع الحديث؛ أي: كثر وقوي. وشاع القوم انتشروا وكثروا. وفي "القاموس": و"التاج": وغيرهما من كتب اللغة: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، والجمع شيع وأشياع، والشيعة الفرقة، وتقع على الواحد والاثنين، والجمع مذكرًا ومؤنثًا، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليًا وأهل بيته، حتى صار لهم اسمًا خاصًا، والواحد شيعي. وقال الزمخشري: {شِيَعًا} فرقًا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه. قال في "كشف الأسرار": كان القبط إحدى الشيع، وهم شيعة الكرامة. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} والاستضعاف جعلهم ضعفاء مقهورين، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل، {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد هنا للتكثير، والمعنى: يقتل بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا. {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} والاستحياء الاستبقاء؛ أي: يتركهن أحياء للخدمة لقول بعض الكهنة له: إن مولودًا يُولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} جمع إمام، وهو من يقتدى به في الدين، أو في الدنيا، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} يقال: مكَّن له إذا جعل له مكانًا موطَّأ ممهدًا يجلس عليه، والمراد هنا نسلطهم على أرض مصر والشام، يتصرفون فيهما كيف يشاؤون. اهـ "أبو السعود". {وَهَامَانَ} وزير فرعون المذكور هنا، وهامان عدو اليهود، وزير إحشو يروش الفارسي، ذُكر في سفر استير من كتب العهد القديم، {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} والحذر الاحتراز عن مخيف كما في "المفردات"؛ أي: ما كانوا

يتوقعونه من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وأصل الوحي الإشارة السريعة، ويقع على كل تنبيه خفي، والإيحاء إعلام في خفاء، قال الإِمام الراغب: يقال: للكلمة الإلهية التي تُلْقى إلى أنبيائه وحي، وذلك: 1 - إما برسول مشاهد يرى ذاته ويسمع كلامه، كتبليغ جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة معينة. 2 - وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى. 3 - وإما بإلقاء في الروع، كما ذكر - صلى الله عليه وسلم -: "إن روح القدس نفث في روعي". 4 - وإما بإلهام، كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}. 5 - وإما بتسخير نحو قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}. 6 - وإما بالمنام كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن" انتهى بإجمال، فالمراد هنا وحي الإلهام، كما ذكره الراغب، فجملة أقسام الوحي ستة. فافهم. {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}؛ أي: في بحر النيل، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان بسبب توقع مكروه يحدث في المستقبل، والحزن - بفتحتين وبضم فسكون - كالرَّشَدِ والرُّشْدِ، والسَّقَمِ والسُّقْمِ، غم يلحق الإنسان بسبب مكروه قد حصل. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} والالتقاط إصابة الشيء وأخذه فجأة، من غير طلب له، ومنه اللقطة، وهو مال بلا حافظ، ثم يُعرف مالكه، واللقيط هو طفل لم يعرف نسبه، يطرح في الطريق أو غيره، خوفًا من الفقر أو الزنى، ويجب أخذه

إن خيف هلاكه بأن وجده في الماء، أو بين يدي سبع، وتفصيله في كتب الفقه، وآل الرجل: خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة، أو الصحبة، أو الموافقة في الدين. {خَاطِئِينَ} والمراد من الخطأ هنا الخطأ في الرأي، وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان لله، والخطأ مقصورًا العدول عن الجهة، والخاطىء من يأتي بالخطأ، وهو يعلم أنه خطأ، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان. يقال: خطىء الرجل إذا ضل في دينه وفعله، والمخطىء من يأتي به، وهو لا يعلم؛ أي: يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه بخلاف ما يريد، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره إذا زل وهفا. {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي} يقال: قرَّت به العين إذا فرحت به وسرت، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} والفؤاد القلب، لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبر فيه معنى التفؤد؛ أي: التحرق والتوقد، كما في "المفردات" و"القاموس"، كما مر في مبحث التفسير بأبسط مما هنا، {فَارِغًا}؛ أي: خاليًا من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد عدوه، نحو ما جاء في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}؛ أي: خلاء لا عقول بها، والفراغ خلاف الشغل. {لَتُبْدِي بِهِ} يقال: بدا الشيء بُدُوًا وبَدْوًا ظهر ظهورًا بيِّنًا، وأبداه أظهره إظهارًا بينًا، والإبداء إظهار الشيء، {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا} والربط الشد وهو العقد القوي، والربط على القلب سنده، والمراد هنا تثبيته، {قُصِّيهِ}؛ أي: اقتفى أثره، وتبعي خبره، أمر من قص أثره قصًا وقصصًا من باب شد. {فَبَصُرَتْ بِهِ}؛ أي: أبصرته، {عَنْ جُنُبٍ}؛ أي: عن بعد، يقال: جنبته وأجنبته ذهبت عن ناحيته وجنبه، ومنه الجنب لبعده عن الصلاة ومس المصحف ونحوهما، والجار الجنب؛ أي: البعيد، ويقال: الجار الجنب أيضًا للقريب اللاصق بك إلى جنبك. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} التحريم هنا بمعنى المنع, لأنه لا معنى للتحريم

الشرعي على صبي غير مكلف، والمراضع جمع مرضع - بضم الميم وكسر الضاد - وهي المرأة التي ترضع؛ أي: من شأنها الإرضاع، وإن لم تكن تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فهي بدون التاء, لأنها من الصفات الثابتة، والمرضعة بالتاء هي التي في حالة إرضاع الولد بنفسها، ففي الحديث: "ليس للصبي خير من لبن أمه، أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل، فان لبن المرأة الحمقاء يسري وأثر حمقها يظهر يومًا". وفي الحديث أيضًا: "الرضاع يغيِّر الطباع"، قالوا: العادة جارية بأن من ارتضع امرأة، فالغالب عليه أخلاقها من خير وشر، كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي. {يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}؛ أي: يضمنون رضاعه والقيام بشؤونه، والكفالة الضمان والعيالة، يقال: كفل به كفالة وهو كفيل إذا تقبل به، وضمنه وكفله فهو كافل إذا عاله، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، وفي "المفردات": النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه. انتهى، والمراد أنهم يفعلون ما ينفعه في غذائه وتربيته، ولا يقصرون في خدمته. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} واحدة الأشد شدة، كانعم ونعمة، وقيل: مفرد على وزن الجمع، كما مر، والشدة القوة والجلادة، وبلوغ الأشد استكمال القوة الجسمانية، وانتهاء النمو المعتد به، {وَاسْتَوَى} والاستواء اعتدال العقل وكماله، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال. {حُكْمًا} والحكم الحكمة، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}؛ أي: في وقت لا يتوقعون دخولها فيه {مِنْ شِيعَتِهِ}؛ أي: ممن شايعه وتابعه في الدين، وهم بنو إسرائيل، {مِنْ عَدُوِّهِ}؛ أي: من مخالفيه في الدين، وهم القبط، والعدو يُطلق على الواحد والجمع، {فَاسْتَغَاثَهُ}؛ أي: طلب غوثه ونصره. {فَوَكَزَهُ}؛ أي: فضربه بجمع يده؛ أي: بيده مجموعة الأصابع، والوكز - كالوعد -: الدفع والطعن والضرب بجمع الكف، وهو بالضم والكسر حين يقبضها، وقال أبو حيان: والوكز الضرب باليد مجموعة كعقد ثلاثة وسبعين. اهـ.

وفي "المصباح": وكزه وكزًا - من باب وعد - إذا ضربه ودفعه، ويقال: ضربه بجمع كفه على ذقنه، {فَقَضَى عَلَيْهِ}؛ أي: فقتله وأنهى حياته، {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}؛ أي: من تزيينه، {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر العداوة والإضلال، {فَاغْفِرْ لِي}؛ أي: فاستر ذنوبي، {ظَهِيرًا}؛ أي: معينًا. {يَتَرَقَّبُ}؛ أي: ينتظر ما يناله من أذى، وفي "المفردات": ترقب احترز راقبًا؛ أي: حافظ، وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعه رقبته، {اسْتَنْصَرَهُ}؛ أي: طلب نصرته ومعونته، {يَسْتَصْرِخُهُ}؛ أي: يطلب الاستغاثة برفع الصوت، {لَغَوِيٌّ}؛ أي: ضال من غوى يغوي كرمى يرمي، وغواية كعداوة. {يَبْطِشَ}؛ أي: يأخذ بصولة وسطوة، {جَبَّارًا} والجبار هو الذي يفعل ما يفعل من غير نظر في العواقب، وقيل: هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى، {مِنَ الْمُصْلِحِينَ}؛ أي: ممن يبغون الإصلاح بين الناس ويدفعون التخاصم بالحسن. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} تنزيلًا لبعد مرتبته في الكمال منزلة بعده الحسي. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} لاستحضار تلك الصورة في الذهن. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} حيث شبه التسليط بالتمكين بجامع استحقاق التصرف في كل، فاستعار له اسمه، فاشتق من التمكين - بمعنى التسليط - نمكن، بمعنى نسلط على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

ومنها: الإضافة للتغليب في قوله: {وَجُنُودَهُمَا} لأن الجنود إنما كانت لفرعون. ومنها: نوع عجيب من الإطناب في قوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} وهو من أجمل الإطناب، وهو أن يذكر الشيء فيؤتي فيه بمعان متداخلة، إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر، فقد قلنا في باب اللغة: إن الخوف هو غم يصيب الإنسان لأمر يُتوقع نزوله في المستقبل، وأما الحزن فهو غم يصيبه لأمر وقع فعلًا ومضى، فنُهيت عنهما جميعًا. ومنها: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية في قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولم يقل سنرده ونجعله رسولًا، وذلك للاعتناء بالبشارة, لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار. ومنها: الكناية في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} فإن ذلك كناية عن فقدان العقل، وطيش اللب، والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها، وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} شبه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع، واستعار لفظ الربط للصبر. ومنها: الاستعارة أو المجاز المرسل في قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} لأن من حرم عليه شيء فقد منعه, لأن الصبي ليس من أهل التكليف. ومنها: صيغة التعظيم في قوله: {لَا تَقْتُلُوهُ} تخاطب فرعون، ولم تقل: لا تقتله، تعظيمًا له، ليساعدها على ما تريده من ترك قتله. ومنها: الكناية في قوله: {يَكْفُلُونَهُ} لأنه كناية عن إرضاعه والقيام بتربيته. ومنها: التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ومنها: الإشارة على الحكاية في قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} وإلا فهو والذي

من عدوه ما كانا حاضرين حال الحكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهما لما كانا حاضرين يشار إليهما وقت وجدان موسى إياهما حكى حالهما وقتئذٍ، كما مر. ومنها: الكناية في قوله: {فَقَضَى عَلَيْهِ} لأنه كناية عن الموت، والقضاء في الأصل فصل الأمر. ومنها: توسيط في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} لإبانة ما بينهما من المخالفة، من حيث أنه مناجاة ودعاء، بخلاف الأول كما مر. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ}. ومنها: الطباق المعنوي بين {جَبَّارًا} {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} لأن الجبار المفسد المخرب المكثر للقتل، ففيه طباق في المعنى. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[20]

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)}. التفسير وأوجه القراءة 20 - {وَجَاءَ رَجُلٌ} قيل: المراد (¬1) بهذا الرجل حزقيل، هو مؤمن آل فرعون، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[21]

وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: طالوت، وقيل: شمعان، {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}؛ أي: من آخر المدينة، أو من أبعدها، وفي سورة يس: قدم {مِنْ أَقْصَى} على {رَجُلٌ} لأنه لم يكن من أقصاها، إنما جاء منها، وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان، وقضيتان متباينتان. اهـ "سمين"، فما هنا في قضية موسى، وما هناك في قضية حوراي عيسى. اهـ، وسيأتي التعليل بغير ذلك عن "فتح الرحمن". وجملة قوله: {يَسْعَى}؛ أي: يُسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم، حتى وصل إلى موسى عليه السلام، صفة لرجل، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال؛ لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}. ويجوز أن يتعلق {مِنْ أَقْصَى} بـ {جَاءَ}، أو صفة لرجل، أي: جاء إلى موسى مسرعًا فوصل إليه. فـ {قَالَ} الرجل {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ}؛ أي: إن أشراف قوم فرعون {يَأْتَمِرُونَ} ويتشاورون {بِكَ}؛ أي: بسببك، وإنما سمي (¬1) التشاور ائتمارًا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر {لِيَقْتُلُوكَ}؛ أي: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلكوك، {فَاخْرُجْ} من هذه المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} في أمري إياك بالخروج، ومن المشفقين عليك، واللام في قوله: {لَكَ} للبيان، كأنه قيل: لك أقول هذه النصيحة، وليس صلة للناصحين, لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، وهو اللام في الناصح، وقيل: يجوز، لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. 21 - {فَخَرَجَ} موسى عليه السلام {مِنْهَا}؛ أي: من المدينة حالة كونه {خَائِفًا} على نفسه من آل فرعون {يَتَرَقَّبُ}؛ أي: يتوقع لحوق الطالبين والتعرض له في الطريق، ويكثر الالتفات، وينظر هل يلحقه أحد يطلبه. {قَالَ} عند ذلك يا {رَبِّ نَجِّنِي}؛ أي: خلصني {مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وادفع ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

عني شر الكافرين وحل بيني وبينهم، واحفظني من لحوقهم، يعني: قوم فرعون، وهذا يدل على أن قتله عليه السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبًا، فاستجاب الله دعاءه ونجاه كما سيأتي. قال بعضهم: إن الله سبحانه إذا أراد بعبده أن يكون له فردًا أوقعه في واقعة شنيعة، ليفر من دون الله إلى الله، فلما ذر إليه خائفًا من الامتحان وجد جمال الرحمن، وعلم أن جميع ما جرى عليه واسطة الوصول إلى المراد، نسأل الله الوصول إليه وهو خير مسؤول، وقصد الذهاب إلى مدين, لأنها ليست تحت سلطنة فرعون، ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة, لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو من ذرية إبراهيم أيضًا. 22 - {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}؛ أي: جعل وجهه نحو مدين، قاصدًا لها؛ أي: سلك في الطريق الذي تلقاء مدين، وينتهي إليها، و {تِلْقَاءَ} تفعال بمعنى حذاء ومقابل، وأصله من اللقاء كما سيأتي في مبحث اللغة إن شاء الله تعالى، ومدين قرية شعيب عليه السلام على بحر القلزم، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام من امرأته قنطور، كان اتخذها لنفسه مسكنًا فنسبت إليه، ولم تكن في ملك فرعون، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، كما بين الكوفة والبصرة، وكان هناك ثلاث طرق فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين، وقالوا: المريب لا يأخذ أعظم الطرق، ولا يسلك إلا بنياتها، فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حافٍ، لا يطعم إلا ورق الشجر. والمعنى: ولما جعل موسى وجهه نحو مدين، وصار متوجهًا إلى جانبها {قَالَ} موسى توكلًا على الله وحسن ظن به، وكان لا يعرف الطرق، {عَسَى رَبِّي}؛ أي: أرجو ربي {أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الطريق الوسط المستقيم الذي يرميني إلى مدين، وكان لمدين ثلاث طرق فأخذ موسى الطريق الوسطى، وجاء الطلاب عقيبه، فقالوا: إن الفار لا يأخذ الطريق الوسط خوفًا على نفسه، بل الطرفين فشرعوا في الآخرين فلم يجدوه.

وقال ابن إسحاق: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب، وبينهما مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. فائدة: قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ...} الآية. قاله هنا بتقديم {رَجُلٌ} على {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، وعكس في سورة يس حيث قال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ...} الآية، قيل موافقة هنا لقوله قبل فوجد فيها رجلين يقتتلان، واهتمامًا ثَمَّ بتقديم {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، لما روي أن الرجل حزقيل، وقيل: حبيب، كان يعبد الله في جبل فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلًا. اهـ من "فتح الرحمن". وحاصل معنى الآيات: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}؛ أي: وجاء (¬1) رجل مؤمن من آل فرعون، يُخفي إيمانه عن فرعون وآله لأسباب، هو بها عليم، يُسرع للحاق بموسى، إشفاقًا وخوفًا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله، وقال: يا موسى إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد، وينصبون لك الحبائل، يريدون أن يقتلوك، فالبدار البدار، والهرب الهرب، قبل أن يقبضوا عليك، وينفذوا ما دبروه، ويقتلوك فأخرج من المدينة مسرعًا، وإني لك لناصح أمين. فانتصح بنصحه، وتقبل قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا}؛ أي: فخرج من مدينة فرعون خائفًا، يترقب لحوق الطالبين، ويلتفت يمينًا وشمالًا، وينظر أيتبعه أحد أم لا؟ ثم لجأ إلى الله تعالى، علمًا منه أن لا ملجأ إلا إليه. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: قال: رب نجني من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف، ووضع الأمور في غير مواضعها، فيقتلون من لا يستحق القتل، ومن لا يُجرم إلى أحد، فاستجاب الله دعاءه، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين. ¬

_ (¬1) المراغي.

[23]

ولما اتجه نحو مدين ماضيًا إليها خارجًا عن مدينة فرعون قال: رب اهدني إلى سواء السبيل، وأرشدني إلى الطريق القويم، ونجني من هؤلاء الظلمة، وقد قال هذا توكلًا على الله، وثقة بحسن توفيقه، وقد كان لا يعرف الطريق، فعنَّ له ثلاث طرائق، فسار في الوسطى، وأخذ طالبوه في الآخرين، وقالوا: المريب لا يسلك أعظم الطرق، بل يأخذ بنياتها - أضيقها غير المشهور -، وقد روي: أنه بقي ثماني ليال وهو حاف لا يطعم إلا ورق الشجر، إذ ليس معه زاد، ولا دابة يركبها. 23 - ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث، فقال: {وَلَمَّا وَرَدَ}؛ أي: ولما وصل موسى وجاء {مَاءَ مَدْيَنَ} وهو (¬1) بئر على طرف المدينة على ثلاثة أميال منها أو أقل كانوا يسقون منها، قال (¬2) ابن عباس - رضي الله عنهما -: ورد موسى عليه السلام ماء مدين وإنه ليتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال، {وَجَدَ عَلَيْهِ}؛ أي: على جانب البئر وفوق شفيرها {أُمَّةً}؛ أي: جماعة كثيرة {مِنَ النَّاسِ}؛ أي: من أهل مدين {يَسْقُونَ} مواشيهم من مائها، قيل: كانوا أربعين رجلًا. {وَوَجَدَ} موسى {مِنْ دُونِهِمُ}؛ أي: من دون الناس الذين يسقون، أي: في مكان أسفل منهم {امْرَأَتَيْنِ} صفورياء وليا، ابنتا يثرون، ويثرون هو شعيب. قاله السهيلي في "كتاب التعريف"، {تَذُودَانِ}؛ أي (¬3): تحبسان وتمنعان أغنامهما عن المتقدم إلى الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وقيل: تكفان أغنامهما عن أن تختلط بأغنام الناس، وقيل تمنعان أغنامهما عن أن تَنِدَّ، وتذهب، والقول الأول أولى لما بعده، وقوله: {قَالَ} موسى للمرأتين {مَا خَطْبُكُمَا}؛ أي: ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس، والخطب (¬4) الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب؛ أي: ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخر والذود، ولم لا تباشران ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن. (¬4) روح البيان.

السقي كدأب هؤلاء. قال بعضهم: كيف استجاز موسى أن يكلم امرأتين أجنبيتين؟. والجواب: كان آمنًا على نفسه معصومًا من الفتنة، فلأجل علمه بالعصمة كلمهما، كما يقال: كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - التزوج بامرأة من غير شهود, لأن الشهود لصيانة العقد عن التجاحد، وقد عُصم الرسول من أن يجحد نكاحًا، أو يُجحد نكاحه، دون غيره من أفراد أمته. وقرأ شَبَمْرٌ (¬1): {خِطبكما} بكسر الخاء؛ أي: من زوجكما, ولم لا يسقي هو، وهذه القراءة نادرة، {قَالَتَا}؛ أي: البنتان {لَا نَسْقِي}، أي: لا نقدر أن نسقي أغنامنا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}؛ أي: حتى يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء. والمعنى (¬2): عادتنا أن لا نسقي مواشينا حتى يصرف الرعاء مواشيهم بعد ريها، ويرجعوا، عجزًا عن مساجلتهم وحذرًا من مخالطة الرجال، فإذا انصرفوا سقينا من فضل مواشيهم، وحذف مفعول السقي والذود والإصدار، لما أن الغرض هو بيان تلك الأفعال أنفسها، إذ هي التي دعت موسى إلى ما صنع في حقهما من المعروف، فإنه عليه السلام إنما رحمهما لكونهما على الذياد والعجز والعفة، وكونهم على السقي غير مبالين بهما، وما رحمهما لكون مذودهما غنمًا ومستقيهم إبلًا مثلًا. وقرأ ابن مصرف (¬3): {لَا نَسْقِي} بضم النون، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وقتادة وأبو عمر وابن عامر: {يُصْدِرَ} بفتح الياء وضم الدال؛ أي: يصدرون بأغنامهم، وقرأ باقي السبعة والأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى: بضم الياء وكسر الدال؛ أي: يصدرون أغنامهم. وقرأ الجمهور (¬4): {الرِّعَاءُ} بكسر الراء جمع تكسير، قال الزمخشري: وأما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

[24]

الرِعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام. انتهى، قلتُ وليس بقياس, لأنه جمع راع، وقياس فاعل الصفة للعاقل أن تُكسر على فُعلة، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا، فليس بقياس، وقرىء {الرعاء} بضم الراء، وهو اسم جمع كالرحال والثناء، قال أبو الفضل الرازي، وقرأ عياش عن أبي عمرو: {الرعاء} بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف. وقولهما: {وَأَبُونَا} وهو شعيب عليه السلام {شَيْخٌ كَبِيرٌ} السن, أو القدر والشرف، لا يستطيع أن يخرج، فيرسلنا للرعي والسقي اضطرارًا، اعتذار إلى موسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما, وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما. 24 - {فَسَقَى لَهُمَا} ماشيتهما رحمة عليهما، وطلبًا لوجه الله تعالى، قيل: عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة، لا يرفعها إلا عشرة رجال، فنحاها بنفسه، واستقى الماء من ذلك البئر، روي (¬1) أن الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجرًا لا يرفعه إلا سبعة رجال، أو عشرة أو أربعون، فرفعه وحده، مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، ولعله زاحمهم في السقي لهما فوضعوا الحجر على البئر لتعجيزه عن ذلك، وهو الذي يقتضيه سوق النظم الكريم. {ثُمَّ} بعد فراغه من السقي {تَوَلَّى}؛ أي: أعرض وانصرف موسى {إِلَى الظِّلِّ}؛ أي: ظلُّ سَمْرةٍ هناك، فجلس فيه ليستريح من حر الشمس، وهو جائع لم يذق طعامًا سبعة أيام، والظل هو المكان الذي لم يقع عليه شعاع الشمس {فَقَالَ} يا {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ}؛ أي: إلى ما تنزله إلى من خير، واللام بمعني إلى متعلق بـ {فَقِيرٌ}؛ و {أَنْزَلْتَ} بمعنى المضارع, {مِنْ خَيْرٍ} بيان لـ {ما} {فَقِيرٌ} خبر {إن}، والمعنى: يا إلهي إني محتاج فقير إلى ما تنزله إلى من خزائن جودك ورزقك أي رزق كان, ولو شق تمرة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

وروي عن ابن عباس أنه قال: لقد قال موسى ذلك، وهو أكرم خلق الله عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع، وقال المفسرون: تعرض لما يطعمه لما ناله من الجوع، ولم يصرح بالسؤال، وحكى ابن جرير: أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضًا أن تطعماه. ويحتمل أن يريد (¬1): رب إني بسبب ما أنزلت إلى من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، صرت فقيرًا في الدنيا، وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة وملك، فقال ذلك رضًا بهذا البدل المديني، وفرحًا به، وشكرًا له. ولما كان موسى عليه السلام جائعًا سأل من الله ما يأكل، ولم يسأل من الناس ففطنت الجاريتان، فلما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس، وأغنامهما قفلت، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلًا صالحًا رحمنا فسقى لنا، ثم تولى إلى الظل فقال: رب إلخ، فقال أبوهما: هذا رجل جائع، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لنا. 25 - {فَجَاءَتْهُ}؛ أي: فجاءت موسى {إِحْدَاهُمَا}؛ أي: إحدى البنتين، عقيب ما رجعتا إلى أبيهما، وهي الكبرى عند الأكثرين، واسمها صفورياء أو صفوراء، فإن قلت: كيف جاز لشعيب إرسال ابنته لطلب أجنبي؟ قلت: لأنه لم يكن له من الرجال من يقوم بأمره، ولأنه ثبت عنده صلاح موسى وعفته، بقرينة الحال، وبنور الوحي. وقرأ ابن محيصن (¬2): {فجاءته احداهما} بحذف همزة إحداهما تخفيفًا، على غير قياس، مثل ويل أمه، في ويل أمه، ويا بافلان، والقياس أن يُجعل بين وبين، ذكره أبو حيان. حالة كونها {تَمْشِي} حال من فاعل جاءته {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}؛ أي: على ما ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

هو عادة الأبكار، مائلة عن الرجال، رافعة كمها على وجهها؛ أي: جاءته مستحية متحفزة، قد سترت وجهها بكم درعها، قال أبو بكر بن طاهر (¬1): لتمام إيمانها، وشرف عنصرها، وكريم نسبها، أتته على استحياء، وفي الحديث: "الحياء من الإيمان"؛ أي: شعبة منه، قال أعرابي: لا يزال الوجه كريمًا ما غلب حياؤه، ولا يزال الغصن رطبًا ما بقي لحاؤه. والجمهور على أن الداعي أباهما، هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه (¬2)، وقال الحسن: هما ابنتا أخي شعيب، وهو مروان، وأن شعيبًا كان قد مات، وقال أبو عبيدة: هارون، وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب يُنسب، وقيل: كان عمهما صاحب الغنم، وهو المزوج، عبَّرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته، والأول أرجح، وهو ظاهر النظم القرآني. {قَالَتْ} استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قالت له لما جاءته؟ {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ}؛ أي: ليكافئك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}؛ أي: جزاء سقيك لنا. فإن قلت: إن موسى (¬3) لم يسق لابنتي شعيب طلبًا للأجر، فكيف أجاب دعوة شعيب في قول ابنته له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}؟ قلت: يجوز أن يكون أجاب دعوته لوجه الله تعالى، على وجه البر والمعروف لا طلبًا للأجر، وإن سمي في الدعوة أجرًا. اهـ "فتح الرحمن"، ولأنه (¬4) كان بين الجبال خائفًا مستوحشًا فأجابها. فانطلقا وهي أمامه، فألزقت الريح ثوبها بجسدها، فوصفته أو كشفته عن ساقيها، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي إليَّ الطريق، فتأخرت، وكانت تقول: عن يمينك وشمالك وقدامك، حتى أتيا دار شعيب، فبادرت المرأة إلى أبيها فأخبرته، فأذن له في الدخول، وشعيب يومئذٍ شيخ كبير، وقد كُفَّ بصره، فسلَّم موسى فرد عليه السلام وعانقه، ثم أجلسه بين يديه، وقدَّم إليه طعامًا فامتنع منه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) فتح الرحمن. (¬4) روح البيان.

وقال: أخاف أن يكون هذا عوضًا لما سقيته، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، لأنه كان من بيت النبوة من أولاد يعقوب، فقال شعيب: لا والله يا شاب، ولكن هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، فتناول هذا، وإنَّ مَنْ فعل معروفًا فأُهدي إليه شيء لم يحرم أخذه، وفي "الكشاف": أنَّ طلب الأجرة لشدة الفاقة غير منكر، وهو جواب آخر، ويشهد لصحته {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} اهـ. والمعنى (¬1): أي فجاءته إحدى المرأتين تمشي، وهي حيية، قد سترت وجهها بثوبها، قائلة: إن أبي يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان, وأسديت إلينا من المعروف بسقي غنمنا، قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعًا من النساء - جريئة على الرجال - خرَّاجة ولَّاجة، وقد أسندت إلى أبيها وعللتها بالجزاء، حتى لا يتوهم من كلامها شيء من الريبة، كما أن في كلامها دلالة على كمال العقل، والحياء والعفة كما لا يخفى. ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركًا بالشيخ وزيارة له، لا طمعًا في الأجر، {فَلَمَّا جَاءَهُ}؛ أي: فلما جاء موسى هذا الشيخ {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}؛ أي: وحدثه حديثه مع فرعون وآله، في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد، وتآمرهم على قتله، وهربه منهم بعد الذي علمه. والقصص مصدر، سمي به المفعول كالعلل؛ أي: المقصوص، يعني: أخبره بجميع ما اتفق له، من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين، {قَالَ} شعيب {لَا تَخَفْ} من حولهم وطولهم، إنك قد {نَجَوْتَ مِنَ} سطوة أولئك {الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: من فرعون وقومه، فإنه لا سلطان لهم بأرضنا، ولسنا في مملكتهم، أو المعنى: قَبِل الله دعاءك في قولك: {نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وفيه (¬2): إشارة إلى أن مَنْ وقع في الخوف يقال له: {لَا تَخَفْ} كما أن من وقع في الأمن يقال له: خف، وقال أويس القرني - رحمه الله تعالى -: كن في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[26]

أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم، يعني: خائفًا مغمومًا. اهـ. ثم إن موسى قد تربى عند فرعون بالنعمة الظاهرة، ولما هاجر إلى الله، وقاسى مشاق السفر والغربة عوَّضه الله عند شعيب النعمة الظاهرة والباطنة، وقد قيل: سَافِرْ تَجِدْ عِوَضًا عَمَّن تُفَارِقُهُ ... وَانْصَبْ فَإِنَّ اكْتِسَابَ الْمَجْدِ فِيْ النَّصَبِ فَالأُسْدُ لَوْلَا فِرَاقُ الْخِيْسِ مَا افْتَرَسَتْ ... وَالسَّهْمُ لَوْلَا فِرَاقُ الْقَوْسِ لَمْ يُصِبِ وقيل أيضًا: بِلَادُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَضَاءً ... وَرِزْقُ اللهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ ... إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أَرْضٌ فَسِيْحُوْا ألا ترى أن موسى عليه السلام وُلد بمصر، ولما ضاقت به هاجر إلى أرض مدين، فوجد السعة مطلقًا، فالكامل لا يكون زمانيًا ولا مكانيًا، بل يسيح إلى حيث أمر الله تعالى، من غير ليِّ العنق إلى ورائه، ولو كان وطنه، فإن الله تعالى إذا كان مع المرء فالغربة له وطن، والمضيق له وسيع. 26 - ولما أمَّنه وطمأنه على نفسه دار الحديث، وكان ذا شجون و {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا}؛ أي: قالت واحدة من البنتين، وهي الكبرى التي استدعته إلى أبيها، وهي التي تزوجها موسى {يَا أَبَتِ}؛ أي: يا أبي ويا والدي {اسْتَأْجِرْهُ} لنا؛ أي: اتخذ موسى أجيرًا لرعي الغنم، والقيام بأمرها. وفيه (¬1): دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة، وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها جميع علماء الإِسلام إلا الأصم، فإنه من سماع أدلتها أصم. وجملة قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى؛ أي: إنه حقيق باستئجارك له، لكونه جامعًا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[27]

بين خصلتي القوة والأمانة؛ أي: إن خير من استعملت على عملك من قوي على عملك وأدى الأمانة. ورُوي: أن أباها قال لها: ما رأيت من قوته وأمانته، فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلا النفر، وأما أمانته، فإنه قال: امشي خلفي وأرشديني الطريق، لأني امرؤ من عنصر إبراهيم، لا يحل لي منك ما حرمه الله تعالى. فخصَّت (¬1) هاتين الخصلتين بالذكر, لأنها كانت تحتاج إليهما في ذلك الوقت، أما القوة فلسقي الماء، وأما الأمانة فلحفظ البصر، وصيانة النفس عنها، كما قال يوسف عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} لأن الحفظ والعلم كان محتاجًا إليهما، أما الحفظ فلأجل ما في خزانة الملك، وأما العلم فلمعرفة ضبط الدخل والخرج، واللام في القوي الأمين للجنس، لا للعهد، فيكون موسى مندرجًا تحته، ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة, لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان: الأمانة والكفاية في القائم بأداء أمر من الأمور تكلل عمله بالظفر، وكفل له أسباب النُّجْح، وقيل القوي في دينه، الأمين في جوارحه. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، وأبو بكر في عمر. 27 - قال المفسرون: فرغب فيه شعيب فـ {قَالَ} له {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ}؛ أي: أزوجك يا موسى {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}؛ أي: الحاضرتين أمامك، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما، وفيه مشروعية عرض وليِّ المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإِسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان. والقصة معروفة. {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} نفسك أو على أن تكون أجيرًا لي {ثَمَانِيَ حِجَجٍ}؛ أي: ثماني سنوات ترعى لي فيها غنمي؛ أي: حال كونك مشروطًا عليك أن تكون لي ¬

_ (¬1) روح البيان.

أجيرًا في رعي غنمي ثماني سنوات، وقوله (¬1): {هَاتَيْنِ} يدل على أنه كان له غيرهما، وهذه مواعدة منه، ولم يكن ذلك عقد نكاح، إذ لو كان عقدًا لقال: قد أنكحتك. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ} الثاني السنين التي شرطتها عليك، فجعلتها {عَشْرًا فـ} إحسان {مِنْ عِنْدِكَ}؛ أي: فإتمامها من عندك تفضلًا، لا من عندي إلزامًا عليك، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}؛ أي: وما أحب أن أشاقك بمناقشة، أو مراعاة أوقات، ولا إتمام عشر، ولا غير ذلك. ثم رغبه في قبول الإجارة فقال: وإنك {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مِنَ الصَّالِحِينَ} في حسن الصحبة، والوفاء بالعهد ولين الجانب؛ أي: ممن تحسن صحبتهم، ويوفون بما تريد من خير لك ولنا، وقيل (¬2): أراد بالصلاح على العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولًا أوليًا. ومراده بالاستثناء (¬3): التبرك به، وتفويض الأمر إلى توفيقه، لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى، وقرأ ورش أحمد بن موسى عن أبي عمرو: {أنكحك احْدَى} بحذف الهمزة، ذكره أبو حيان. واعلم: أن قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} شرط، وليس بصداق، لقوله: تأجرني نفسك، دون تأجرها نفسك. ويجوز أن يكون النكاح جائزًا في تلك الشريعة بشرط أن يكون منعقد العمل في المدة المعلومة لولي المرأة، كما. يجوز في شريعتنا، بشرط رعي غنمها في مدة معلومة. واعلم: أن المهر لا بد وأن يكون مالًا متقومًا؛ أي: في شريعتنا لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وأن يكون مسلمًا إلى المرأة لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} فلو تزوجها على تعليم القرآن، أو خدمته لها سنة يصح النكاح، ولكن يصار إلى مهر المثل، لعدم تقويم التعليم والخدمة، هذا إن كان الزوج ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[28]

حرًا، وإن كان عبدًا فلها الخدمة، فإن خدمة العبد ابتغاء بالمال، لتضمنها تسليم رقبته، ولا كذلك الحر، فالآية سواء حُملت على الصداق، أو على الشرط، فناظرة إلى شريعة شعيب، فإن الصداق في شريعتنا للمرأة، لا للأب. والشرط وإن جاز عند الشافعي، لكنه لكونه جرًا لمنفعة المهر ممنوع عند الإِمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وقال بعضهم: ما حُكي عنهما بيان لما عزما عليه، واتفقا على إيقاعه، من غير تعرض لبيان موجب العقدين في تلك الشريعة تفصيلًا. واعلم: أن في فرار موسى من فرعون إلى شعيب إشارة إلى أنه ينبغي لطالب الحق أن يسافر من مقام النفس الأمارة إلى عالم القلب، ويفر من سوء قرين، كفرعون إلى خير قرين كشعيب، ويخدم المرشد بالصدق والثبات. تنبيه: قوله تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قاله هنا (¬1) بلفظ الصالحين، وفي الصافات بلفظ {الصَّابِرِينَ} حيث قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} لأن ما هنا من كلام شعيب، وهو المناسب للمعنى هنا، إذ المعنى ستجدني من الصالحين في حسن العشرة والوفاء بالعهد، وما هناك من كلام إسماعيل، وهو المناسب للمعنى، ثم إذ المعنى ستجدني من الصابرين على الذبح. 28 - ثم ذكر جواب موسى بقوله: {قَالَ} موسى عليه السلام لشعيب {ذَلِكَ} الذي قلته وعاهدتني فيه، وشارطتني عليه قائم وثابت {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} جميعًا، لا أنا أخرج عما شرطت عليَّ، ولا أنت تخرج عما شرطت على نفسك، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، فأي شرطية (¬2)، منصوبة بـ {قَضَيْتُ}، وما زائدة مؤكدة لإبهام أي في شياعها، والأجل مدة الشيء. والمعنى: أي الأجلين أكثرهما أو أقصرهما {قَضَيْتُ} وأتممت ووفيتك بأداء الخدمة فيه، وجواب الشرط قوله: {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}؛ أي: لا تعدي علي، ولا تجاوز بطلب الزيادة، فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

على الثمان، أو أيَّما الأجلين قضيت فلا إثم علي، يعني: كما لا إثم علي في قضاء الأكثر، كذلك لا إثم علي في قضاء الأقصر. والأول أظهر. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى مَا نَقُولُ} من الشروط الجارية بيننا {وَكِيلٌ}؛ أي: شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحد منا إلى الخروج عنه أصلًا. فجمع شعيب المؤمنين من أهل مدين، وزوجه ابنته صفورياء، ودخل موسى البيت، وأقام يرعى غنم شعيب عشر سنين، كما في "فتح الرحمن". وقرأ الحسن والعباس عن أبي عمرو (¬1): {أيما} بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر: تَنَظَّرْتُ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيَمَا ... عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهْ وقرأ عبد الله {أي الأجلين ما قضيت} بزيادة ما بين {الْأَجَلَيْنِ} و {قَضَيْتُ}. قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين موقع المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام أي زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيدًا للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه، وجرَّدتُ عزيمتي له، وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: {فلا عدوان} بكسر العين. قال أبو حيان (¬2): وظاهر قوله: {أَنْ أُنْكِحَكَ} أن الإنكاح إلى الولي، لا حق للمرأة فيه، خلافًا لأبي حنيفة في بعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود. وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، كما مر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا بلغت البكر فلا تزوج إلا برضاها، قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وبه قال ربيعة والشافعي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

وأبو ثور وأبو عبيد وداود، و {إِحْدَى ابْنَتَيَّ} مبهم، وهذا عرض، لا عقد، ألا ترى إلى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ}، وحين العقد يعين من شاء منهما، وكذلك لم يحد أول أمد الأجارة، والظاهر جواز النكاح بالإجارة، وبه قال الشافعي وأصحابه، وابن حبيب، وقال الزمخشري لهاتين: فيه دليل على أنه كانت له غيرهما. انتهى كما مر، ولا دليل في ذلك لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان، وجاءته إحداهما فأشار إليهما، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما. رُوي (¬1): أنه لما أتم العقد قال شعيب لموسى: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي، وكانت عنده عصيُّ الأنبياء، فأخذ عصًا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب، فمسَّها وكان مكفوفًا، فلم يرضها له خوفًا من أن لا يكون أهلًا لها، وقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلِمَ أن لموسى شأنًا، وحين خرج للرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ عن يمينك، فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينًا - التنين بوزن السكيت: الحية العظيمة، كما في "القاموس" - أخشى منه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين، ولم يقدر على كفها، ومشى على أثرها، فإذا عشب وريف لم يُرَ مثله فنام، فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامية، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولًا .. سُرَّ، ولما رجع إلى شعيب أخبره بالشأن، ففرح شعيب، وعلم أن لموسى والعصا شأنًا، وقال: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع، ودرعاء - أبلق وبلقاء - والدرع البياض في صدور الشاء ونحورها، فأوحى الله سبحانه إليه في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي هو في مستقى الأغنام، ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته، فوفى له بالشرط، وسلَّم إليه الأغنام، قال أبو الليث: مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب، إلا أن الوعد من الأنبياء واجب، فوفاه بوعده. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

29 - والفاء في قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فعقد شعيب العقدين، وباشر موسى ما التزمه، وأتم أبعد الأجلين، وهو عشر سنين، فلما قضى موسى وأتم الأجل المشروط بينهما، وفرغ منه استأذن موسى شعيبًا في زيارة أهله في مصر، فبكى شعيب وقال: يا موسى كيف تفارقني وقد ضعفت وكبرت الآن، فقال له موسى: قد طالت غيبتي عن أمي وخالتي وهارون أخي وأختي في مملكة فرعون، فقام شعيب وبسط يديه، وقال: يا رب بحرمة إبراهيم الخليل وإسماعيل الصفي وإسحاق الذبيح ويعقوب الكظيم ويوسف الصديق رُدَّ عليَّ قوَّتي وبصري، فأمَّن موسى على دعائه، فردَّ الله عليه بصره وقوَّته، ثم أذن له في الذهاب، وأوصاه بابنته. {وَسَارَ} موسى وذهب بإذن شعيب نحو مصر، لصلة رحمه وزيارة أمه وأخيه وأخته، حالة كونه متلبسًا {بِأَهْلِهِ}؛ أي: بزوجته صفورياء وولده منها - فإنها ولدت منه قبل السير - والخادم، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، وكان في البرية والليلة مظلمة باردة، فضرب خيمته على الوادي، وأدخل أهله فيها، وأوى أغنامه حولهم، وقد كان ساقها معه، وكانت امرأته حاملًا، فأخذها الطلق فأراد أن يقدح، فلم يظهر له نار فاغتم لذلك، فحينئذٍ {آنَسَ} وأبصر {مِنْ جَانِبِ} جبل {الطُّورِ نَارًا}؛ أي: من الجهة التي تلي جبل الطور على يسار الطريق نارًا مضيئة، قال بعضهم: أبصر نارًا دالة على الأنوار، لأنه رأى النور على هيئة النار، لكون مطلبه النار، والإنسان يميل إلى الأشياء المعهودة المأنوسة، ولا تخلو النار من الاستئناس خاصة في الشتاء، وكان شتاء، تجلِّى الحق بالنور في لباس النار على حسب إرادة موسى، وهذه سنته تعالى، ألا ترى إلى جبريل أنه عَلِمَ أن النبي عليه السلام أحب دحية، فكان أكثر مجيئه إليه في صورة دحية. فلما آنس نارًا {قَالَ} موسى {لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} هاهنا، واثبتوا فيه، وانتظروني حتى أرجع إليكم فـ {إِنِّي آنَسْتُ} وأبصرت {نَارًا} مضيئة من جانب الطور، فـ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا}؛ أي: من عند النار {بِخَبَرٍ} الطريق إلى مصر، وقد كان

[30]

ضل الطريق وتحيَّر {أَوْ} آتيكم بـ {جَذْوَةٍ}؛ أي: بعود غليظ متقد {مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وتتسخنون بتلك النار؛ أي: لكي تتدفؤوا بها، والجذوة العود الغليظ، سواء كانت في رأسه نار أو لا, ولذلك وصفها بقوله من النار. وقرأ حمزة (¬1): {لأهله امكثوا} في الوصل بضم الهاء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {إني} بفتح الياء، وقرأ الجمهور (¬2): {جذوة} بكسر الجيم، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وأبو حيوة: بضمها، وقرأ عاصم والسلمي وذر بن حبيش: بفتحها. ومعنى الآية (¬3): أي فلما وفي موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمَّل بأهله، وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، وسلك بهم الطريق في ليلة مطيرة وظلمة باردة، ونزل منزلًا، فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئًا، فعجب لذلك، وبينا هو كذلك رأى نارًا تضىء عن بُعد، فقال لأهله: انتظروا قليلًا إني أبصرت نارًا، لعلي آتيكم منها بخبر الطريق، وكانوا قد ضلوا عنه، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار، لتستدفئوا بها من البرد، وكان الوقت شتاء، فترك موسى أهله في المنزل الذي أنزلهم فيه، وذهب إلى النار التي أبصرها. 30 - {فَلَمَّا أَتَاهَا}؛ أي: أتى النار التي أبصرها وجاءها {نُودِيَ} موسى {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ}؛ أي: من طرف الوادي وجانبه، وقوله: {الْأَيْمَنِ} صفة للشاطىء، وهو إما من اليُمْنِ بمعنى البركة، لكونه مباركًا فيه على موسى، أو من اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى؛ أي: من الطرف الذي يلي يمينه دون يساره؛ أي: أتاه النداء من الطرف الأيمن من الوادي. وقوله: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} متعلق بنودي؛ أي: نودي موسى في البقعة المباركة على موسى، والبقعة قطعة من الأرض لا شجر فيها، كما سيأتي في مباحث اللغة، وُصفت بكونها مباركة, لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

إياه، أو متعلق بمحذوف حال من الشاطىء. وقرأ الجمهور (¬1): {فِي الْبُقْعَةِ} بضم الباء، وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي ومسلمة: بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد، قال: سمعت العرب تقول هذه بقعة طيِّبة بفتح الباء. وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل اشتمال من شاطىء الواد, لأنها كانت ثابتة على الشاطىء، وبقيت إلى عهد هذه الأمة، كما في "كشف الأسرار"، وكانت (¬2) عُنَّابًا أو سمرة أو سدرة أو زيتونًا أو عوسجًا، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد، بالغين المعجمة. وفي الحديث: "إنها شجرة اليهود ولا تنطق" يعني إذا نزل عيسى وقتل اليهود فلا يختفي منهم أحد تحت شجرة إلا نطقت، وقالت: يا مسلم هذا يهودي فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجرهم فلا ينطق، كما في "التعريف والأعلام" للإمام السهيلي. {أَنْ} مفسرة بمعنى أي، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أنا الله الذي ناديتك ودعوتك باسمك، وأنا رب الخلائق أجمعين، وهذا أول كلامه لموسى، وهو وإن خالف لفظًا لما في طه والنمل لكنه موافق له في المعنى المقصود، ويجوز (¬3) أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له. والأول أولى. وقرأ الجمهور بكسرة همزة {إني} على إضمار القول، أو على تضمين النداء، معناه: وقُرىء بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر، تقديره: أي يا موسى اعلم أني أنا الله رب العالمين. ومعنى الآية: أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن؛ أي: عن يمين موسى في البقعة المباركة من ناحية ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[31]

الشجرة: يا موسى إني أنا الله ربك ورب العالمين جميعًا، وقد خلق الله فيه علمًا يقينيًا بأن المتكلم هو الله تعالى، وأن ذلك الكلام كلامه، وقد جُعلت الشجرة مباركة, لأنه تعالى كلم موسى هناك، وبعثه نبيًا، 31 - ثم أمره الله سبحانه أن يُلقي عصاه لديه آية على نبوته، فقال: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} معطوف على {أَنْ يَا مُوسَى}، وكلاهما مفسِّر لـ {نُودِيَ}، أي: ونودي أن ألق واطرح من يدك عصاك، فألقاها فصارت حية فاهتزت. {فَلَمَّا رَآهَا}؛ أي: فلما رأى موسى عصاه حية {تَهْتَزُّ}؛ أي: تتحرك تحركًا شديدًا حالة كونها {كَأَنَّهَا جَانٌّ}؛ أي: حية صغيرة في سرعة الحركة، مع عظم جسمها، أو في الهيئة والجثة، فإنها إنما كانت ثعبانًا عند فرعون، والجان حية كحلاء العين لا تؤذي، كثيرة في الدور، {وَلَّى}؛ أي: أعرض عنها حالة كونه {مُدْبِرًا}؛ أي: منهزمًا وهاربًا من الخوف. {وَ} حالة كونه {لَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع إليها, ولم يلتفت، فنودي {يَا مُوسَى أَقْبِلْ} إليها وارجع {وَلَا تَخَفْ} منها {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} من شرها، فإني لا يخاف لدي المرسلون، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت. فإن قلت (¬1): ما الفائدة في إلقائها؟ فلتُ: أن يألفها ولا يخافها عند فرعون إذا ناظره بقلب العصا وغيره من المعجزات، كما في "الأسئلة المقحمة"، وقيل: المعنى أقبل إليَّ يا موسى ولا تخف مما تهرب منه، فإنك آمن من أن ينالك سوء، إنما هي عصاك، أردنا أن نريك فيها آية كبرى، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر. وفيه (¬2): إشارة إلى إلقاء كل متوكأ، غير الله، فمن اتكأ على الله أمن, ومن اتكأ على غيره وقع في الخوف، ريقال: شتَّان ما بين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى عليه السلام، موسى رجع من سماع الخطاب، وأتى بثعبان سلَّطه على عدوه، ونبينا عليه السلام أُسري به إلى محل الدنو فأوحي إليه ما أوحي، ورجع وأتى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[32]

لأمته بالصلاة التي هي المناجاة، فقيل له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. 32 - ثم أراه آية أخرى زيادة في طمأنينته، وأمره بقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ}؛ أي (¬1): ادخل كفك اليمين {فِي جَيْبِكَ}؛ أي: في طرق قميصك وأخرجها {تَخْرُجْ} تلك اليد إذا أخرجتها حالة كونها {بَيْضَاءَ} لها ضوء كضوء الشمس {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وعيب كالبرص، وقيل (¬2): المعنى {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}؛ أي: أدخلها في مِدْرعتك، وهي ثوب من صوف يُلبس بدل القميص، ولا يكون له كم بل ينتهي كمه عند المرفقين، ثم أخرجها {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ}؛ أي: حال كونها مضيئة مشرقة لها شعاع كشعاع الشمس {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وعيب منفَّر كالبرص {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي: وأدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك. {مِنَ الرَّهْبِ} أي: لأجل إزالة الرهب والخوف والفزع الحاصل لك من بياضها فتعود إلى حالها، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك منها، فعلى هذا المعنى فلا يكون تكرارًا مع ما قبله، فالإدخال الأول لطلب بياضها، والثاني لإزالة بياضها. وقيل: معنى {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}؛ أي: اضمم يديك المبسوطتين، تتقي بها الحية، كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى، وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب، فيكون تكريرًا لـ {اسْلُكْ يَدَكَ} هو لغرض آخر، وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جرأة، ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يكون المراد بالضم التجلد، والثبات عند انقلاب العصا حية، استعارة من حال الطائر، فإنه إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، فعلى هذا يكون تتميمًا لمعنى {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}، لا تكريرًا لـ {اسْلُكْ يَدَكَ}، {مِنَ الرَّهْبِ}؛ أي: من أجل الرهب؛ أي: إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدًا، أو ضبطًا لنفسك. وعبارة المراغي هنا (¬3): ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة، ومن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

الدهشة بشعاع يده مرة أخرى أمره ربه أن يضع يده على صدره، ليزول ما به من الخوف، فقال: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}؛ أي: وضع يدك على صدرك يذهب ما بك من خوف، كما يشاهد من حال الطائر، إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، وكان موسى يرتعد خوفًا، إما من آل فرعون، وإما من الثعبان، قال ابن عباس: كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وعبارة أبي حيان: ومعنى قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح - وهو اليد في أحد الموضعين - مضمومًا، وفي الآخر مضمومًا إليه، وذلك قوله هنا: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وفي طه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} فما التوفيق بينهما؟. قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحد من يمنى اليدين ويسراهما جناح. وقرأ الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو (¬1): {من الرَهَب} بفتح الراء والهاء، وحفص: بفتح الراء وسكون الهاء، وباقي السبعة: بضم الراء وإسكان الهاء، وقرأ قتادة والحسن وعيسى والجحدري بضمهما، وقال بعض أهل المعاني: الرَّهْبُ الكُمُّ، بلغة حمير وبني حنيفة، قال الأصمعي: سمعت أعرابيًا يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، فسألته عن الرهب، فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناه: أضمم إليك يدك، وأخرجها من الكم، ذكره الشوكاني. والإشارة في قوله (¬2): {فَذَانِكَ} إلى العصا واليد، وهما مؤنثان، ولكن ذكِّرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ {ثم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[33]

لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا} بالياء في {تكن}، {بُرْهَانَانِ}؛ أي: حجتان نيِّرتان، ومعجزتان باهرتان، ودليلان واضحان كائنان {مِنْ رَبِّكَ} يا موسى واصلان {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ومنهيان إليهم {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن فرعون وملئه {كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}؛ أي: خارجين عن حدود الله وطاعته أبلغ خروج، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين، والجملة تعليل لما قبلها. ومعنى {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ ...} إلخ؛ أي: فما (¬1) تقدم من جعل العصا حية تسعى، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، بعد وضع اليد في الجيب، دليلان واضحان على قدرة ربك، وصحة نبوة من جريا على يده، أرسلناهما إلى فرعون وملئه. ثم أظهر العلة له في إظهار الآيات لهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}؛ أي: خارجين عن طاعة الله سبحانه، مخالفين لأمره منكرين لكل دين جاء به الرسل، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬2): {فذانك} بتشديد النون، وباقي السبعة: بتخفيفها، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل: {فذانيك} بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل، وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضًا: {فذانيك} على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله: عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً ... فَمَا هِيَ إِلَّا لَمْحَةٌ وَتَغِيْبُ وقرأ ابن مسعود: بتشديد النون مكسورة بعدها ياء، قيل: وهي لغة هذيل، وقال المهدوي بل لغتهم تخفيفها. ولما سمع موسى قول الله سبحانه {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه 33 - فـ {قال}؛ أي: موسى يا {رَبِّ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[34]

يا مربي ويا مالك أمري {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ}؛ أي: من القوم، وهم القبط {نَفْسًا} وهو فاتون خباز فرعون، الذي وكزه موسى فقضى عليه {فَأَخَافُ} منهم {أَنْ يَقْتُلُونِ} ـي بمقابلتها، 34 - {وَأَخِي هَارُونُ} بن عمران {هُوَ أَفْصَحُ} وأبين {مِنِّي لِسَانًا}؛ أي: كلامًا، وكان في لسان موسى عقدة من قبل الجمرة التي تناولها, وأدخلها فاه، تمنعه عن إعطاء البيان حقه، ولذلك قال فرعون ولا يكاد يبين {فَأَرْسِلْهُ}؛ أي: فأرسل أخي هارون إلى فرعون وقومه {مَعِيَ} حال كونه {رِدْءًا}؛ أي: معينًا {يُصَدِّقُنِي} بالرفع إما صفة لـ {رِدْءًا}؛ أي (¬1): معينًا مصدقًا لي بتلخيص الحق، وتقرير الحجة وتوضيحها وتزييف الشبهة وإبطالها, لا بأن يقول له: صدقت، أو للقوم: صدِّقوه، يؤيد ذلك المعنى قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} لأن ذلك يقدر عليه الفصيح وغيره، كما في "فتح الرحمن"، أو حال من مفعول {أرسله}، أو مستأنف، وبالجزم على جواب الأمر. وقرأ الجمهور (¬2): {رِدْءًا} بالهمز، وأبو جعفر ونافع والمدنيَّان بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الدال، والمشهور عن أبي جعفر بالنقل, ولا همز ولا تنوين، ووجهه: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ عاصم وحمزة: {يصدقني} بضم القال، فيحتمل الأوجه الثلاثة السابقة، وقرأ باقي السبعة: بالإسكان، وقرأ أُبيُّ وزيد بن علي: {يصدقوني} والضمير لفرعون وقومه، قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم, لأنه لو كان رفعًا لقال: يصدقونني. انتهى، والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي. {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ـي إذا لم يكن معي هارون، لعدم انطلاق لساني بالمحاجة؛ أي: أخاف أن يردوا كلامي، ولا يقبلوا مني دعوتي، ولساني لا يطاوعني عند المحاجة. ومعنى الآية: أي قال موسى: يا رب إني قتلت من قوم فرعون نفسًا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

فأخاف إن أتيتهم ولم أُبن عن نفسي بحجة أن يقتلوني, لأن ما في لساني من عقدة يحول بيني وبين ما أريد من الكلام، وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا، وأحسن بيانًا، فأرسله معي عونًا، يُلخِّص بلسانه الفصيح وجوه "الدلائل" ويجيب عن الشبهات، ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإني أخاف أن يكذبوني، ولساني لا يطاوعني حين المحاجة. الإعراب {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}. {وَجَاءَ رَجُلٌ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فذهب القبطي الذي سمع ما قاله الإسرائيلي، وقد علم أن موسى هو قاتل القبطي الأول إلى فرعون، وأخبره بجلية الأمر، فغضب فرعون، فأمر بقتل موسى، وإلقاء القبض عليه، وجاء رجل إلى موسى بطريق أقرب من طريقهم. {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جَاءَ}، أو صفة لـ {رَجُلٌ}، وجملة {يَسْعَى} صفة لـ {رَجُلٌ}، أو حال منه، إن قلنا إن الجار والمجرور فيما قبله صفة لـ {رَجُلٌ}، لتخصصه بالصفة حينئذٍ {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {رَجُلٌ}، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة {جَاءَ}، {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنَّ الْمَلَأَ} ناصب واسمه، وجملة {يَأْتَمِرُونَ} خبر {إنَّ}، و {بِكَ} متعلق بـ {يَأْتَمِرُونَ}؛ أي: يتشاورون فيك، من الائتمار بمعنى التشاور، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}، {لِيَقْتُلُوكَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يقتلوك}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لقتلهم إياك، الجار والمجرور متعلق بـ {يَأْتَمِرُونَ}. {فَاخْرُجْ} {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان ما

هو النصيحة لك فأقول لك: اخرج، {اخرج}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {لَكَ} جار ومجرور متعلق بـ {النَّاصِحِينَ}، {مِنَ النَّاصِحِينَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَخَرَجَ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فقبل موسى نصيحته فخرج، {خرج}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {مِنْهَا}: متعلق بـ {خرج}، {خَائِفًا}: حال من فاعل {خرج}، {يَتَرَقَّبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، ومفعول يترقب محذوف؛ أي: الشر، أو لحوقهم به، وقيل: يترقب غوث الله، والأول أنسب بالسياق، وجملة {يَتَرَقَّبُ} في محل النصب حال ثانية من فاعل {خرج}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثالثة من فاعل {خرج}، {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {نَجِّنِي}: فعل دعاء، ونون وقاية، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {رَبِّ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {مِنَ الْقَوْمِ} متعلق بـ {نَجِّنِي} {الظَّالِمِينَ} صفة لـ {الْقَوْمِ}. {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}. {وَلَمَّا} {الواو}: استئنافية، {لمّا}: حرف شرط غير جازم، {تَوَجَّهَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة فعل شرط للما، لا محل لها من الإعراب، {تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}: ظرف مكان ومضاف إليه متعلق بـ {تَوَجَّهَ}، و {مَدْيَنَ}: ممنوع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} مستأنفة، {عَسَى}: فعل ماض جامد من أفعال الرجاء، {رَبِّي}: اسمها، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَهْدِيَنِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ونون وقاية، ومفعول به، {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: منصوب بنزع الخافض، أو مفعول ثان على

التوسع، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عَسَى}، ولكنه على تأويل اسم الفاعل؛ أي: عسى ربي هاديًا لي إلى سواء السبيل، وجملة {عَسَى} في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}. {وَلَمَّا} {الواو}: عاطفة، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {وَرَدَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، {مَاءَ مَدْيَنَ}: مفعول به، ومضاف إليه، مجرور بالفتحة, لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث المعنوي، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {وَجَدَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {وَجَدَ}؛ لأن وجد هنا بمعنى لقي، يتعدى لمفعول واحد، {أُمَّةً}: مفعول به لـ {وَجَدَ}، {مِنَ النَّاسِ}: صفة لـ {أُمَّةً}، وجملة {يَسْقُونَ} صفة ثانية لـ {أُمَّةً}، وجملة {وَجَدَ} جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {لَمَّا} الأولى. {وَوَجَدَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على جملة {وَجَدَ} الأولى، {مِنْ دُونِهِمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {وَجَدَ}؛ أي: في مكان أسفل منهم، {امْرَأَتَيْنِ} مفعول به، وجملة {تَذُودَانِ} صفة لـ {امْرَأَتَيْنِ}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف بعاطف مقدر على {وَجَدَ} الثاني؛ أي: فقال لهما، {مَا}: اسم استفهام للاستفهام الاستخباري، في محل الرفع مبتدأ، {خَطْبُكُمَا}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {قَالَتَا} {قال}: فعل ماض، و {التاء} علامة تأنيث الفاعل، وحركت بالفتح لمناسبة ألف التثنية، والألف فاعل، والجملة مستأنفة، {لَا}: نافية، {نَسْقِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول {قَالَتَا}، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يُصْدِرَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد {حَتَّى}، بمعنى إلى، {الرِّعَاءُ}: فاعل مرفوع، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}

بمعنى إلى، والتقدير: إلى إصدار الرعاء عن الماء، الجار والمجرور متعلق بـ {نَسْقِي}، {وَأَبُونَا}: مبتدأ، {شَيْخٌ}: خبر، {كَبِيرٌ}: صفة {شَيْخٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {نَسْقِي}. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}. {فَسَقَى} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {سقى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة معطوفة على جملة {قَالَتَا}، {لَهُمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {سقى}، ومفعول السقي محذوف؛ أي: فسقى غنمهما لأجلهما، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {تَوَلَّى}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {سقى}، {إِلَى الظِّلِّ}: متعلق بـ {تَوَلَّى}. {فَقَالَ} {الفاء} عاطفة، {قال}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، معطوف على {تَوَلَّى}. {رَبِّ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {لِمَا} {اللام}: حرف جر، {ما}: اسم موصول، أو موصوفة في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {فَقِيرٌ}، {أَنْزَلْتَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: لما أنزلته، {إِلَيَّ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْزَلْتَ}، {مِنْ خَيْرٍ}: حال من {ما}، أو من العائد المحذوف، {فَقِيرٌ}: خبر {إن}، وعدي {فَقِيرٌ} باللام, لأنه ضمن معنى سائل، أو طالب، وإلا فهو يتعدى بإلى، و {أَنْزَلْتَ} بمعنى المضارع، والتقدير: يا رب إني فقير؛ أي: سائل وطالب لما تنزله إلى، حال كونه من خير ورزق. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}. {فَجَاءَتْهُ} {الفاء} عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام، تقديره: فرجعتا إلى أبيهما، في زمن أقل مما يرجعان إليه في العادة، فسألهما عن سبب

ذلك، فأخبرتاه بقصة من سقى لهما، فقال لإحداهما: ادعيه لي، فجاءته، {جاءته إحداهما}: فعل وفاعل، ومفعول به وتاء تأنيث، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {تَمْشِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب حال من {إِحْدَاهُمَا}، {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}: حال من فاعل {تَمْشِي}؛ أي: حالة كونها مستحية خفرة، وقيل: واضعة كم درعها على وجهها حياء منه. {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف بعاطف مقدر على {جاءته}، {إِنَّ أَبِي}: ناصب واسمه، {يَدْعُوكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قال}، {لِيَجْزِيَكَ} {اللام} حرف جر وتعليل، {يجزيك}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {أَجْرَ}: مفعول به ثان، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَدْعُوكَ}، {مَا}: مصدرية، {سَقَيْتَ}: فعل وفاعل، {لَنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية مع {مَا} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة {أَجْرَ} إليه؛ أي: ليجزيك جزاء سقيك إيانا. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فأجابها , لا ليأخذ الأجر، ولكن لأجل التبرك بأبيهما، لما سمع منهما أنه شيخ كبير، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم. {جَاءَهُ}: فعل ماض، وفاعل، ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {وَقَصَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {جاء}، {عَلَيْهِ}: متعلق به، {الْقَصَصَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على {جَاءَهُ}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على تلك المحذوفة، {لَا}: ناهية جازمة، {تَخَفْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}. والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {نَجَوْتَ}: فعل وفاعل، {مِنَ الْقَوْمِ}: متعلق به، {الظَّالِمِينَ}: صفة للقوم، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة للنهي عن الخوف. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}.

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {يَا أَبَتِ} {يا}: حرف نداء، {أبت}: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، المعوضة عنها تاء التأنيث، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَتْ}، {اسْتَأْجِرْهُ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قال}. {إِنَّ خَيْرَ}: ناصب واسمه، {خَيْرَ}: مضاف، و {مَنِ}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، {اسْتَأْجَرْتَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: استأجرته، {الْقَوِيُّ}: خبر {إِنَّ}، {الْأَمِينُ}: صفة لـ {الْقَوِيُّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قال}، مسوقة لتعليل الأمر بالاستئجار. {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على شعيب، والجملة مستأنفة، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {أُنْكِحَكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول أول، {إِحْدَى}: مفعول ثان، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: إني أريد إنكاحي إياك إحدى ابنتي، {إِحْدَى} مضاف، {ابْنَتَيَّ}: مضاف إليه مجرور بالياء المدغمة في ياء المتكلم، لأنه من المثنى. {ابْنَتَيَّ} مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، {هَاتَيْنِ}: صفة لـ {ابْنَتَيَّ}، والإشارة لتمييزهما من بين بقية أخواتهما، فقد كان له - كما يروى - سبع بنات، {عَلَى}: حرف جر، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تَأْجُرَنِي}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: نفسك، {ثَمَانِيَ حِجَجٍ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق

بـ {تَأْجُرَنِي}، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بعلى، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال، إما من الفاعل في {أُنْكِحَكَ}، أو من المفعول؛ أي: مشروطًا عليَّ، أو عليك ذلك. {فَإِنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان حقيقة الأمر فأقول لك إن أتممت، {إن}: حرف شرط جازم، {أَتْمَمْتَ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {عَشْرًا}: مفعول به، {فَمِنْ عِنْدِكَ} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، {من عندك}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف، لكونه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: فالإتمام كائن من عندك، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لـ {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قال}. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {أُرِيدُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة معطوفة على جملة {إن} الشرطية، {أَنْ أَشُقَّ}: ناصب وفعل منصوب، وفاعل مستتر، في تأويل مصدر على المفعولية، والتقدير: وما أريد إدخال المشقة عليك، {عَلَيْكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَشُقَّ}، {سَتَجِدُنِي} {السين}: حرف استقبال لتأكيد الاستقبال، {تجدني} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ونون وقاية، ومفعول به، معطوف على ما قبله، {إِنْ شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف، تقديره: إن شاء الله تجدني صالحًا، والجملة معترضة جيء بها للتبرك، {مِنَ الصَّالِحِينَ}: متعلق بـ {تجدني}، أو حال من الياء في {تجدني}، أو مفعول ثان لوجد. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة، {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بَيْنِي وَبَيْنَكَ}: ظرف متعلق بمحذوف، خبر المبتدأ، تقديره:

ذلك المشروط قائم وثابت بيننا لا نحيد عنه، كلانا فيه سواء، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} {أي}: اسم شرط جازم يجزم فعلين، منصوب على المفعولية، مقدمًا على عامله وجوبًا. {ما}: زائدة لتأكيد الإبهام المستفاد من {أي}، {الْأَجَلَيْنِ}: مضاف إليه، {قَضَيْتُ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {أي} على كون فعل شرط لها، {فَلَا} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا, {لَا}: نافية تعمل عمل إن، {عُدْوَانَ}: في محل النصب اسمها، {عَلَيَّ}: خبرها، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {أي} على كونها جوابًا لها، وجملة {أي} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {وَكِيلٌ}، وجملة {نَقُولُ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: على ما نقوله، {وَكِيلٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فتم العقد على النكاح والإجارة، ومارس موسى العمل المشروط عليه في الأجل المضروب، {لما}: حرف شرط غير جازم، {قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {وَسَارَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {قَضَى}، {بِأَهْلِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {سار}، أو حال من فاعل {سار}؛ أي: متلبسًا بأهله، {آنَسَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على تلك المحذوفة، {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {آنَسَ}، أو حال من {نَارًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {نَارًا}: مفعول به. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف بعاطف مقدر على {آنَسَ}، {لِأَهْلِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {قال}؛

{امْكُثُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {آنَسْتُ نَارًا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معللة للأمر بالمكث، {لَعَلِّي}: ناصب واسمه، {آتِيكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول به، {مِنْهَا}: حال من {خبر}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {بِخَبَرٍ}: متعلق {آتِيكُمْ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب حال من فاعل {آنَسْتُ}، {أَوْ جَذْوَةٍ}: معطوف على {خبر}، {مِنَ النَّارِ}: صفة لـ {جَذْوَةٍ}، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجلمة {تَصْطَلُونَ} خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قَالَ}، على كونها معللة للإتيان. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف يقتضيه المقام، تقديره: فسار إليها، {لما}: حرف شرط غير جازم، {أَتَاهَا}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {نُودِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على تلك المحذوفة. {مِنْ شَاطِئِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نُودِيَ}، {شَاطِئِ}: مضاف، {الْوَادِ}: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، وحُذفت في الخط تبعًا للفظ في الرسم العثماني، {الْأَيْمَنِ}: صفة لـ {شَاطِئِ}، {فِي الْبُقْعَةِ}: حال من {شَاطِئِ}، {الْمُبَارَكَةِ}: صفة لـ {الْبُقْعَةِ}، {مِنَ الشَّجَرَةِ}: بدل من قوله: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} بدل اشتمال, لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء؛ أي: أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة، {أَنْ}: مفسرة بمعنى أي, لأن النداء قول، والتقدير: أي يا موسى، وأجاز أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف يفسره جملة النداء؛ أي: نودي بأنه؛ أي: الشأن، {يَا مُوسَى}: منادى

مفرد العلم، وجملة النداء مفسرة لجملة {نُودِيَ} لا محل لها من الإعراب. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَنَا}: ضمير فصل، أو مبتدأ، {اللَّهُ}: خبر {إن}، أو خبر {أَنَا}، {رَبُّ الْعَالَمِينَ} صفة للجلالة، أو بدل منه، أو خبر ثان لـ {إن}، وجملة {إن} جملة مفسرة للنداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)}. {وَأَنْ} {الواو} عاطفة، و {أن}: مفسرة معطوفة على {أَنْ يَا مُوسَى}، {أَلْقِ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، {عَصَاكَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَنْ يَا مُوسَى} على كونها مفسرة للنداء. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فألقاها فصارت ثعبانًا، فلما رآها تهتز إلخ، {لما}: حرف شرط غير جازم، {رَآهَا}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى} ومفعول به, لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما}، لا محل لها من الإعراب، {تَهْتَزُّ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على العصا، والجملة في محل النصب حال من مفعول {رَآهَا}، {كَأَنَّهَا}: ناصب واسمه، {جَانٌّ}: خبره، وجملة {كأن} في محل النصب حال من فاعل {تَهْتَزُّ}، {وَلَّى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، {مُدْبِرًا}: حال من فاعل {وَلَّى}، وجملة {وَلَّى}: جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة، {لم}: حرف جزم، {يُعَقِّبْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على {مُوسَى}، والجملة معطوفة على جملة {وَلَّى}، {يَا مُوسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء معمول لمحذوف، تقديره: فنودي يا موسى، {أَقْبِلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَخَفْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {أَقْبِلْ}، {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {مِنَ الْآمِنِينَ}: جار ومجرور خبر {إن}،

وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالإقبال، والنهي عن الخوف. {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}. {اسْلُكْ يَدَكَ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على قوله: {أَلْقِ عَصَاكَ} بعاطف مقدر؛ لأنه من جملة ما نودي به، {فِي جَيْبِكَ}: جار ومجرور متعلق بـ {اسْلُكْ}، {تَخْرُجْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على اليد، مجزوم بالطلب السابق، {بَيْضَاءَ}: حال من فاعل {تَخْرُجْ}، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {بَيْضَاءَ}، أو صفة له. {وَاضْمُمْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {اسْلُكْ}، {إِلَيْكَ}: متعلق به. {جَنَاحَكَ}: مفعول به، {مِنَ الرَّهْبِ}: متعلق بـ {اضمم} على سبيل التعليل له؛ أي: من أجل الرهب، وقيل: بـ {وَلَّى}؛ أي: هرب من الفزع، وقيل: بـ {مُدْبِرًا}، وقيل: بمحذوف؛ أي: يسكن من الرهب. {فَذَانِكَ} {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا امتثلت ما أمرناك به، وأردت بيان حكمته فأقول لك ذانك إلخ. {ذانك}: اسم إشارة، يشار به إلى المثنى المذكر القريب، في محل الرفع مبتدأ، مبني على الألف لكونه على صورة المثنى، أو مبني على الكسر، و {الكاف}: حرف دال على الخطاب، {بُرْهَانَانِ}: خبر مرفوع بالألف، {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور صفة لـ {بُرْهَانَانِ}؛ أي: مرسلان من ربك، {إِلَى فِرْعَوْنَ}: متعلق بمرسلان، {وَمَلَئِهِ}: معطوف على {فِرْعَوْنَ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {كَانُوا قَوْمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، {فَاسِقِينَ} صفة {قَوْمًا}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل إرسال البرهانين. {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة مستأنفة،

{رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {قَتَلْتُ}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: حال من {نَفْسًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {نَفْسًا} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن وجلمة إن في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء. {فَأَخَافُ} {الفاء}: عاطفة تفريعية لكون ما قبلها علة لما بعدها، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مُوسَى}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَقْتُلُونِ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون, لأن أصله يقتلونني، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية، أو لرعاية الفاصلة في محل النصب مفعول به، وجملة {يَقْتُلُونِ} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أخاف}؛ أي: فأخاف قتلهم إياي، وجملة {أخاف} في محل الرفع معطوفة على جملة {قَتَلْتُ}. {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)}. {وَأَخِي} {الواو}: عاطفة، {أخي}: مبتدأ ومضاف إليه، {هَارُونُ}: بدل عنه، أو عطف بيان له، {هُوَ}: مبتدأ ثان، {أَفْصَحُ}: خبر له، {مِنِّي}: متعلق بـ {أَفْصَحُ}، {لِسَانًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدأ الأول. وجملة الأول معطوفة على جملة {إن}. {فَأَرْسِلْهُ} {الفاء}: عاطفة تفريعية، {أرسله}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، {مَعِيَ}: ظرف متعلق بـ {أرسله}، والجملة الفعلية معطوفة مفرعة على جملة قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}، {رِدْءًا}: حال من مفعول {أرسله}؛ أي: حالة كونه عونًا لي على تبليغ الرسالة، {يُصَدِّقُنِي}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم على قراءة الرفع، أو مجزوم بالطلب السابق على قراءة الجزم، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أخي}، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب

صفة لـ {رِدْءًا}، أو حال من مفعول {أرسله}، أو مستأنفة على قراءة الرفع، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَخَافُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل طلب الإرسال، {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يُكَذِّبُونِ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، لأن أصله أن يكذبونني، حذفت النون الأولى للناصب، والثانية للوقاية، و {الواو}: فاعل، والياء المحذوفة للفاصلة مفعول به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: إني أخاف تكذيبهم إياي في الرسالة. التصريف ومفردات اللغة {وَجَاءَ رَجُلٌ} اسمه حزقيل، وقيل: شمعون، وقيل: سمعان، وهو الذي ذكر في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...} إلخ. {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}؛ أي: أبعدها مكانًا، يقال: قصوت عنه وأقصيت: أبعدت، والقصي البعيد، {يَسْعَى}؛ أي: يسرع في مشيه. {إِنَّ الْمَلَأَ} الملأ أشرات الدولة ووجوهها، {يَأْتَمِرُونَ}؛ أي: يتشاورون من الائتمار، وهو التشاور، يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى واحد, لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء، أو يشير عليه بأمر. وقيل: معناه يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، ولعل هذا أوضح. وقد أورد صاحب "التاج" المعنيين، قال: "ائتمروا وتآمروا: تشاوروا، وائتمروا بفلان هموا به، وأمر بعضهم بعضًا بقتله، وقال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضًا، كما قال: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} " وقال النمر بن تولب: أرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوْا شِيْمَةً ... وَفِيْ كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ {يَتَرَقَّبُ}؛ أي: يلتفت يمنة ويسرة، {تَوَجَّهَ} إلى الشيء إذا صرت وجهه إليه، {تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}؛ أي: جهتها، والتلقاء تفعال من لقيت، وهو مصدر اتسع فيه فاستُعمل ظرفًا، يقال: جلس تلقاءه؛ أي: حذاءه ومقابلته {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛

أي: مستقيمه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}؛ أي: وصل والورود إتيان الماء، وضده الصدور، وهو الرجوع عنه، وفي "المفردات": الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره، {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ}؛ أي: جماعة كثيرة منهم. {مَاءَ مَدْيَنَ} والمراد بماء مدين البئر التي كانوا يستقون منها، ومدين بلدة على بحر القلزم، محاذية لتبوك، فيها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، {تَذُودَانِ}؛ أي: تطردان أغنامهما عن الماء خوفًا من السقاة الأقوياء، ومنه قول الشاعر: لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُوْ تَمِيْمٍ ... فَمَا تَدْرِيْ بِأَيِّ عَصَا تَذُوْدُ {مَا خَطْبُكُمَا}؛ أي: ما شأنكما, ولم لا تردان مع هؤلاء، قال الزمخشري: وحقيقته ما مخطوبكما؛ أي: ما مطلوبكما من الذياد، فسُمِّي المخطوب خطبًا، كما سُمي المشؤون شأنًا في قولك: ما شأنك، يقال: شأنت شأنه؛ أي: قصدت قصده، وفي "القاموس": وشرحه الخطب - مصدر - والشأن، يقال: ما خطبك؛ أي: ما شأنك، وما الذي حملك عليه، والخطب الأمر صغر أو عظم، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه، ولهذه المادة معان كثيرة يرجع إليها في المعاجم المطولة. {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} الصدر عن الشيء الرجوع عنه، يقال في فعله: صدر من باب ضرب ونصر ودخل، والصدر بفتحتين اسم مصدر منه، ويتعدى بنفسه، فيقال صدره غيره؛ أي: رجَّعه وردَّه، ويُستعمل رباعيًا، فيقال: أصدره غيره. اهـ. من "القاموس" و"المختار". والرعاء جمع راع على غير قياس؛ لأن فاعلًا - الوصف المعتل اللام، كقاض - قياسه فُعَلَةٌ، كقضاة ورُماة، خلافًا للزمخشري في قوله: إنه جمع راع على فعال قياس، كصيام وقيام، قال ابن مالك: فِيْ نحْوِ رَامٍ ذُوْ اطِّرَادِ فُعَلَهُ

أما جمع فعال فيطرد في ستة أنواع نوردها فيما يلي: 1 - اسم أو صفة ليست عينهما ياء، على وزن فعل أو فعلة، فالاسم ككعب وكعاب، وثوب وثياب، ونار ونيار، وقصعة وقصاع، وجنة وجنان، والصفة كصعب وصعبة وصعاب، وضخم وضخمة وضخام، وندر مجيئه من معتل العين كضيعة وضياع، وضيف وضياف. 2 - اسم صحيح اللام غير مضاعف، على وزن فعل أو فعلة، كجمل وجمال، وجبل وجبال، ورقبة ورقاب، وثمرة وثمار. 3 - اسم على وزن فعل كذئب وذئاب، وظل وظلال، وبئر وبئار. 4 - اسم على وزن فعل ليست عينه واوًا، ولا لامه ياءً، كرمح ورماح، ودهن ودهان، وأما الدِّهان في قوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} فسيأتي أنه اسم مفرد، ومعناه الجلد الأحمر. 5 - صفة صحيحة اللام على وزن فعل أو فعيلة، ككريم وكريمة وكرام، ومريض ومريضة ومراض، وطويل وطويلة وطوال. 6 - صفة على وزن فعلان، أو فعل أو فعلانة أو فُعلانة، كعطشان وعطشى وعطاش، وريان وريا ورواء، وندمان وندمى وندام، وخمصان وخمصانة وخماص. وما جُمع على فعال من غير ما ذكر فهو على غير القياس، وذلك كراع وراعية ورعاء، وقائم وقائمة وقيام، وصائم وصائمة وصيام، وأعجف وعجفاء وعجاف، وخير وخيار، وجيد وجياد، وجواد وجياد، وأبطح وبطاح، وقلوص وقلاص، وأنثى وإناث، ونطفة ونطاف، وفصيل وفصال، وسبع وسباع، وضبع وضباع، ونُفَسَا ونفَاس، وعُشراء وعشار، هذا ولا ندري كيف ندَّ هذا عن الزمخشري، فقال في كشافه: وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام. والرَّعْي - بالفتح - في الأصل: حفظ الحيوان, إما بغذائه الحافظ لحياته، أو بذبِّ العدو عنه، والرِعْيُ - بالكسر -: ما يرعاه، والمرعى: موضع الشرعي،

ويُسمى كل سائس لنفسه أو لغيره راعيًا، وفي الحديث: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته"، وقيل: الرعاء هم الذين يرعون المواشي، والرعاة هم الذين يرعون الناس، وهم الولاة. {مِنْ خَيْرٍ} والخير يكون بمعنى الطعام، كما في الآية، ويمعنى المال، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} وبمعنى القوة، كما في قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}، وبمعنى العبادة، كما في قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، {ثُمَّ تَوَلَّى}؛ أي: جعل ظهره يلي ما كان يليه وجهه. {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} الاستحياء والحياء: الحشمة، والانقباض، والانزواء، قال في "المصباح": يقال: استحيت بياء واحدة وبياءين، ويتعدى بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه. {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} القصص بفتحتين مصدر بمعنى المقصوص، وقد سُمِّي به فيما بعْدُ المقصوص، يقال: قصَّ عليه الخبر حدَّثه به، ومصدره قصص بفتحتين، أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة، {حِجَجٍ} جمع حجة بكسر الحاء، وهي السنة. {أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}؛ أي: أن أُدخل عليك مشقة، واشتقاق المشقة من الشق، فإن ما يصعب عليك يشق اعتقادك في إطاقته، ويوزع رأيك في مزاولته. {الْأَجَلَيْنِ}؛ أي: الأطول أو الأقرب، {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} والطور اسم جبل مخصوص، والنار يقال: للَّهب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة، ولنار جهنم، {امْكُثُوا} المكث ثبات مع انتظار؛ أي: قفوا مكانكم واثبتوا فيه، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} والجذوة عود غليظ، مهواء كانت في رأسه نار أو لا، وفي "المفردات": الجذوة التي يبقى من الحطب بعد الالتهاب. {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} والشاطىء الجانب، وهو شفير الوادي، وكذلك الشط والسيف والساحل، كلها بمعنى واحد. والوادي في الأصل الموضع الذي

يسيل فيه الماء، ومنه سمي المفرج بين الجبلين واديًا. {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} والبقعة قطعة من الأرض لا شجر فيها، وُصفت بكونها مباركة, لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله إياه. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} الجانُّ الحية الصغيرة التي توجد في كثير من الدور ولا تؤذي، {اسْلُكْ يَدَكَ} من سلك الشيء إذا أنفذه فيه، وفي "المصباح": السلك بالفتح والسلوك كل منهما مصدر لسلك الشيء في الشيء، إذا أنفذه فيه، فإنه من بابي قعد ونصر. اهـ. {فِي جَيْبِكَ} والجيب الفتحة في القميص ونحوه من حيث يخرج الرأس. {جَنَاحَكَ} جناح الإنسان عضده، ويقال: اليد كلها جناح، {مِنَ الرَّهْبِ} الرهب مخافة مع تحزن واضطراب؛ أي: من أجل الرهب، {بُرْهَانَانِ} تثنية برهان، والبرهان فعلان، من قولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان، أو من قولهم: بره الرجل إذا ابيض، ويقال: برهاء وبرهة للمرأة البيضاء، ونظيره تسمية الحجة سلطانًا من السليط، وهو الزيت لإنارتها، وقيل: هو فعلال، لقولهم: برهن. وقال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ سُمِّيت الحجة برهانًا؟ قلت: لبياضها وإنارتها، من قولهم للمرأة البيضاء: برهرهة، بتكرير العين واللام معًا، وهذا تعليل لطيف لا يُحسِّن استنباطه غير هذا الإِمام، ومعنى ذلك أن النون في البرهان زائدة، يقولون: أَبْرَهَ الرجل إذا جاء بالبرهان، وفي معاجم اللغة: وأبره أتى بالبرهان، أو بالعجائب، وغلب الناس، وهذا هو قول الزمخشري، والمحققين، وزعم صاحب "القاموس" في أحد قوليه أن النون أصلية، قال: وبرهن عليه أقام البرهان، والبرهان بالضم الحجة فتدبر. {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} من الفصاحة، والفصاحة لغة الخلوص، يقال: فصح اللبن، وأفصح، فهو فصيح؛ أي: خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية، وقيل: الفصيح الذي ينطق، والأعجم الذي

لا ينطق، وأما في اصطلاح أهل البيان: فالفصاحة خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس، وفصاحة الكلام خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد. {رِدْءًا} والردء المعين من أردأته على عدوه إذا أعنته، يقال: فلان ردء فلان إذا كان ينصره ويشد ظهره، ومنه قول الشاعر: ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قل ومال وفي "الفتوحات": والردء العون، وهو فعل بمعنى مفعول، كالدفء بمعنى المدفوء به، وردأته على عدوه أعنته عليه، وردأت الحائط دعمته بخشبة لئلا يسقط. وقال النحاس: يقال: ردأته وأردأته. فائدة: قال بعضهم في قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه على أن يُخبر عن الحق وأسراره بعبارة لا تكون ثقيلة في موازين العلم، وهذا حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "أنا أفصح العرب، وبُعثت بجوامع الكلم" اهـ "الروح". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بإن واللام في قوله إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك مطابقة لمقتضى الحال. ومنها: إضافة الصفة إلى الموصوف في قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: السبيل الوسط. ومنها: تنكير أمة في قوله: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} للدلالة على الكثرة. ومنها: كثرة الإيجاز في هذه الآيات، أعني قوله: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ

يَسْقُونَ} إلى قوله: {فَسَقَى لَهُمَا} فقد حذف المفعول به في أربعة أماكن، أحدها مفعول {يَسْقُونَ}؛ أي: مواشيهم، والثاني مفعول {تَذُودَان}؛ أي: مواشيهما، والثالث {لَا نَسْقِي}؛ أي: مواشينا، والرابع {فَسَقَى لَهُمَا}؛ أي: مواشيهما، وعلة الحذف أن الغرض هو أن يُعلم أنه كان من الناس سقي، ومن البنتين ذود، وأنهما قالتا: لا نسقي؛ أي: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى سقي، فأما كون المسقي غنمًا أو إبلًا أو غير ذلك، فذلك أمر خارج عن نطاق الغرض. ومنها: الكناية في قوله: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فقد أرادتا أن تقولا له: إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ طاعن في السن, فقد أضعفه الكبر وأعياه، فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا، وإرجائها إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وبذلك طابق جوابهما سؤاله, لأنه سألهما عن علة الذود، فقالتا ما قالتاه. ومنها: الاستعطاف والترحم في قوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير} وفيه أيضًا التعبير بالماضي عن المضارع في قوله: {لِمَا أَنْزَلْتَ}؛ أي: إلى ما تنزله إلي. ومنها: الإشارة في قوله: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف، وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها الرائع الفتان باستحياء, لأن الخفر من صفات الحسان، ولأن التهادي في المشي من أبرز سماتهن. قال الأعشى: كَأنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتهَا ... مَرُّ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}. ومنها: الإتيان بالكلام الجامع المانع الحكيم في قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشؤونك، وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك، وتم أمرك، وسهل

مرادك، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مر العصور، وقادمات الدهور، وفيه التعميم الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص، وأبقى للتحشم والتصوُّن، وخصوصًا بعد أن فهمت غرض أبيها، وهو تزويجها منه. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} حذف وجه الشبه فأصبح مجملًا. ومنها: الطباق بين {يُصَدِّقُنِي} و {يُكَذِّبُونِ}. ومنها: الكناية في قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} كنى عن اليد بالجناح، لأنها للإنسان كالجناح للطائر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}.

المناسبة قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما قال لموسى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} علم (¬1) أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، وحينئذٍ طلب منه أن يؤتيه ما يقوي به قلبه، ويزيل خوفه من فرعون, لأنه إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه، وهربًا من سطوته، فيُرسل معه أخاه هارون وزيرًا .. فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه، ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة فلما عاينوا ذلك، وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة، فقالوا: ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدًا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى: ربي أعلم بالمهتدي منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه (¬2) لما رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد، والنظر في الكون تارة، ورهَّبهم من عذاب الله، وشديد نكاله تارة أخرى .. أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار، وأنه لا مطمع في إيمانه لعتوه وطغيانه، واستكباره في الأرض، حتى قال ما قال. ومن ثم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده، واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله، ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة وجعلها نورًا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله وشديد عذابه. قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن فيما سلف أنه أرسل موسى، بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبي يُرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم، في معاشهم ومعادهم .. أردف ذلك ببيان الحاجة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

إلى إرسال رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت أن لا يعذب أحدًا إلا إذا أرسل رسولًا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيًّا من عند الله سبحانه, لأن ما فُصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما، فتبين أنه بوحي من علام الغيوب. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعًا لمعذرتهم، حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم: هلا أرسلت إلينا رسولًا فنتبعه .. أردفه ببيان أنه حين مجيء الرسول، وإنزال القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجيء معجزات كمعجزات موسى، من مجيء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات، وقالوا: ما هي إلا سحر مفترى، وما في إلا أساطير الأولين، وإن موسى ومحمد ساحران، تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما. ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إن إستطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما، موصل إلى الحق، هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل من يسلك هذه السبيل، ثم ذكر أنه ما أنزل الكتاب منجمًا على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم، بين آن وآخر، لعلهم يرتدعون عن غيِّهم، ويثوبون إلى رشدهم. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن جرير والطبراني عن رفاعة القرظي قال: نزلت {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} في عشرة أنفار أنا أحدهم. وأخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط عن أهل الكتاب، منهم رفاعة - يعني أباه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا، فأوذوا فنزلت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} الآية، وأخرج عن قتادة قال: كنا نحدث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب، كانوا على الحق حتى بعث الله سبحانه محمدًا فآمنوا، منهم عثمان، وعبد الله بن سلام. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ...} الآية، قال (¬2) سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدموا عليه قرأ عليهم {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا. وأخرج (¬3) الطبراني في "الأوسط" بسند فيه من لا يُعرف عن ابن عباس: أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشهدوا معه أحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أحد، فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة، قالوا: يا رسول الله إنا أهل ميسرة، فأذن لنا نجيء بأموالنا، نواسي بها المسلمين، فأنزل الله فيهم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ...} الآيات. فلما نزلت قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} فخرج مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لنا أجران، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول في سورة الحديد.

[35]

ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ...} الآية. فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب. التفسير وأوجه القراءة 35 - فأجاب الله سبحانه موسى إلى ما طلب من إرسال هارون معه، حيث {قَالَ} سبحانه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ}؛ أي: سنقوي ظهرك {بِأَخِيكَ} هارون، ونعينك به على أمرك، فشد العضد كناية عن التقوية، والعضد (¬1) ما بين المرفق والكتف، وهي قوام اليد، وبشدتها تشتد؛ أي: سنقويك به, لأن الإنسان يقوى بأخيه، كقوة اليد بعضدها، وكان هارون يومئذٍ بمصر، ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فت الله في عضدك. وقرأ الجمهور {عَضُدَكَ} بفتح العين وضم الضاد، وقرأ زيد (¬2) بن علي والحسن: {عُضُدك} بضمتين، وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد، وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد، وقرأ عيسى بن عمر: بفتحهما، ويقال: فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحدًا قرأ به. {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}؛ أي: حجة وبرهانًا، أو تسلطًا على فرعون وقومه، وغلبة عليهم؛ أي (¬3): نجعل لكما غلبة بالحجة في الحال، وغلبة في المملكة في ثاني الحال، {فَلَا يَصِلُونَ}؛ أي: فلا يصل فرعون وقومه {إِلَيْكُمَا} بالقتل والأذى، ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة. {بِآيَاتِنَا}؛ أي: بسبب آياتنا التي تظهر على أيدكما، فالآية التي هي قلب العصا حية، تمنع من وصول ضرر فرعون وقومه إلى موسى وهارون عليهما السلام, لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم .. زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء، فصارت مانعة من وصولهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[36]

إليهما بالقتل وغيره. وقوله: {بِآيَاتِنَا} إما متعلق بـ {لَا يَصِلُونَ}. والمعنى عليه: أي سنقويك ونعينك بأخيك، ونجعل لكما تسلطًا عظيمًا، وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب، بسبب كون آياتنا معكما، وهي العصا واليد، أو بـ {الْغَالِبُونَ} من قوله {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} أي أنتما ومن تبعكما الغالبون لفرعون وقومه، بسبب آياتنا وحججنا وسلطاننا الذي نجعله لكما، وفي هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به, لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في سبيل الله سبحانه. وقال أبو السعود: في سورة طه جمعهما في صيغة أمر الحاضر، مع أن هارون لم يكن حاضرًا مجلس المناجاة، بل كان في ذلك الوقت بمصر للتغليب، فغلَّب الحاضر على غيره، وتقدم هناك أن الله في ذلك الوقت أرسل جبريل بالرسالة لهارون، وهو بمصر. اهـ. وقال أبو حيان (¬1): قوله: {بِآيَاتِنَا} يحتمل أن يتعلق بقوله: {وَنَجْعَلُ}، أو بـ {يصلون}، أو بـ {الغالبون}، وإن كان موصولًا، على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل؛ لأنهم يتوسعون فيهما أو بفعل محذوف؛ أي: اذهبا بآياتنا كما عُلِّق في تسع آيات بـ {اذهب}، أو تمتنعان منهم بآياتنا، وهذه أعاريب منقولة انتهى. وقال الأخفش وابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا. 36 - ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجيء موسى إليه فقال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: فلما جاء فرعون وقومه {مُوسَى} عليه السلام حال كونه متلبسًا {بِآيَاتِنَا} ومعجزاتنا، حالة كونها {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على صحة رسالته منه تعالى، والمراد (¬2) بالآيات المعجزات حاضرة كانت كالعصا واليد، أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[37]

مترقبة كغيرها من الآيات التسع، فإن زمان المجيء وقت ممتد يسع الجميع، فلهذا جمع الآيات مع أن الظاهرة منها ثنتان فقط، العصا واليد، وقيل: جمعها، لأن العصا في نفسها آيات عديدة، باعتبار أحوالها. {قَالُوا}؛ أي: قال فرعون وقومه: {مَا هَذَا}؛ أي: ما هذا الذي جئت به يا موسى {إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}؛ أي: سحر مختلق مكذوب، اختلقته من قبل نفسك، لم يُفعل قبل هذا مثله، وذلك لأن النفس خُلقت من أسفل عالم الملكوت متنكسة، والقلب خلق من وسط عالم الملكوت، متوجهًا إلى الله سبحانه، فما كذب الفؤاد ما رأى، وما صدقت النفس ما رأت، فيرى القلب إذا كان سليمًا من الأمراض والعلل الحق حقًا، والباطل باطلًا، والنفس ترى الحق باطلًا والباطل حقًا، ولهذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه". وكان - صلى الله عليه وسلم - مقصوده في ذلك سلامة القلب من الأمراض والعلل، وهلاك النفس، وقمع هواها، وكسر سلطانها، كذا في "التأويلات النجمية". {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} السحر الذي جئت به، أو بهذا الذي جئت به من دعوى النبوة والرسالة {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}؛ أي: واقعًا في أيامهم وكائنًا، أو المعنى: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تدعونا إليه من التوحيد، والذي تدَّعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعًا {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وقد كذبوا، فإنهم سمعوا ذلك على أيام يوسف عليه السلام. 37 - {وَقَالَ} لهم {مُوسَى} عليه السلام، قرىء بالواو وبدونها، على كونها واقعة في جواب سؤال مقدر {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} يريد نفسه، فيعلم أني محق، وأنتم مبطلون، وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده، قبل أن يوضح لهم الحجة. والله أعلم. {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}؛ أي: عاقبة دار الدنيا، وهي الجنة, لأنها خلقت ممرًا إلى الآخرة ومزرعة لها، والمقصود منها بالذات هو الثواب، وأما العقاب فمن نتائج أعمال العصاة وسيآتهم، فالعاقبة المطلقة الأصلية للدنيا هي

العاقبة المحمودة دون المذمومة، ولا اعتداد بعاقبة السوء، ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية. {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشأن والحال {لَا يُفْلِحُ} ولا يظفر {الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بإهلاكها في الكفر والتكذيب؛ أي: لا يفوزون بمطلوب، ولا ينجون من محذور، ومن المحذور العذاب الدنيوي، ففيه إشارة إلى نجاة المؤمن وهلاك الكافر، وإلى أن الواجب على كل نفس السعي في نجاتها, ولو هلك غيرها لا يضرها. وقرأ الجمهور: {وَقَالَ مُوسَى} بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: {قال موسى} بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، ومناسبة (¬1) قراءة الجمهور: أنه لما جاءهم بالبينات قالوا: كيت وكيت، وقال موسى: كيت وكيت، فيتميز الناظر فصل ما بين القولين، وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقينًا أن قول موسى هو الحق والهدى، ومناسبة قراءة ابن كثير (¬2): أنه إذا كانت الجملة الثانية كالمتصلة بالأولى، لكونها جوابًا لسؤال اقتضته الأولى، تنزل الأولى منزلة السؤال، فتفصل الثانية عنها، كما يفصل الجواب عن السؤال. اهـ. "زاده"، كأنه قيل هنا: ماذا قال موسى في جوابهم: فقال: قال موسى ربي أعلم .. إلخ. وقرأ حمزة والكسائي وخلف والمفضل (¬3): {ومن يكون له عاقبة الدار} بالتحتية، على أن اسم يكون عاقبة الدار، والتذكير لوقوع الفصل، ولأنه تأنيث مجازي. وقرأ الباقون: {تكون} بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى. وعبارة النسفي هنا: أي ربي أعلم منكم بحال من أَهّله الله سبحانه للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيًا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى، ولو كان كما تزعمون ساحرًا مفتريًا لما أَهَّلَهُ لذلك, لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زادة. (¬3) زاد المسير.

[38]

ينبىء الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. انتهت. وفي هذا الأسلوب من أدب الخطاب في الحجاج والمناظرة ما لا يخفى (¬1)، فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال، كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما، وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب، فقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}؛ أي: إنه لا ينجح الكافرون، ولا يدركون طلبتهم، وفي هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يحصلون على ضد ذلك، ولله در القائل من بحر الطويل: فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ فائدة: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} الآية. قاله (¬2) هنا بزيادة الباء في قوله: {بِمَنْ جَاءَ} وفي قوله في آخر السورة: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بدون زيادة الباء، تقوية للعامل هنا بحسب الظاهر، لضعفه عن العمل، لكونه اسم تفضيل، وحذفه هناك اكتفاء بدلالة الأول عليه. 38 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} بعدما جمع السحرة وتصدى للمعارضة {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} والأشراف؛ أي: يا أيها القوم {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ} في أي زمن {مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؛ أي: إلهًا غيري، كما يدَّعي موسى، والأمر محتمل أن يكون، وسأحقق ذلك لكم، وهذا الكلام ظاهره الإنصاف، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك في شأن الإله، وتسليمهم إياه اعتمادًا على ما رأوا من عظيم نصفته في القول؛ أي: ليس لكم إله غيري في الأرض. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان قالهما فرعون، قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} كان بينهما أربعون سنة، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى". وخلاصة مقاله (¬1): لا علم لي برب غيري فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به، من أن لكم وله ربًا غيري، ومعبودًا سواي، ونحو الآية قوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} وقوله: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}. قال الرازي: ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض، والبحار والجبال، وخالق الناس، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذي عقل، بل مراده بذلك وجوب عبادته فهو ينفي وجود الإله، ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم، وينقادوا لأمره. اهـ بتصرف. ثم خاطب وزيره هامان، آمرًا له على سبيل التهكم أمام موسى، ليشكك قومه في صدق مقالته، فقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} وهو التراب والماء المختلط؛ أي: أوقد النار على الطين بعد اتخاذه لبنًا، حتى يصير آجرًا، ولم يقل فرعون: اطبخ لي الآجر, لأنه أول من عمل الآجر، ولذلك أمره باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة. {فَاجْعَلْ لِي} من ذلك الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرًا {صَرْحًا}؛ أي: قصرًا عاليًا مشرفًا كالمنارة {لَعَلِّي} أصعد إليه و {أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} وانظر إليه واقفًا عليه؛ أي: فاصنع لي آجرًا، واجعل لي منه قصرًا شامخًا، وبناء عاليًا، أصعد وأرتقي إلى إله موسى، الذي يعبده في السماء، ويدَّعي أنه يؤيده وينصره، وهو الذي أرسله إلينا. وبمعنى الآية قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي ¬

_ (¬1) المراغي.

صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)}. وإنما (¬1) حذف هنا {أَتَاهُمْ كَبُرَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ} وذكره في غافر, لأن ما هنا تقدَّمه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} من غير ذكر أرض، ولا غيرها، فناسبه الحذف، وما هناك تقدمه {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} فناسبه مقابلته بالسماء في قوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}. ثم زاد قومه شكًا في صدقه بقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ}؛ أي: أظن موسى {مِنَ الْكَاذِبِينَ} في ادعائه أن له إلهًا غيري، وأنه رسوله. قاله تلبيسًا وتمويهًا على قومه، لا تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: وإني لأظنه كاذبًا فيما يدعي من أن له معبودًا في السماء، ينصره ويؤيده، وأنه هو الذي أرسله. قال في "الأسئلة المقحمة": ولا يُظن بأن فرعون كان شاكًا في عدم استحقاقه لدعوى الإلهية في نفسه، إذ كان يعلم حال نفسه من كونها أهل الحاجات ومحل الآفات، ولكن كان معاندًا في دعواه، مجاحدًا من غير اعتقاد له في نفسه بالإلهية. وإنما قال هنا (¬2): {لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وقال في غافر: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} موافقة للفاصلة هنا، وعلى الأصل بلا معارض ثَمَّ. واعلم (¬3): أن فرعون أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له، وقومه لغباوتهم وجهلهم، وإفراط عمايتهم يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات، وتأثرهم بالموهمات والخيالات، ولا يُشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافة سطوه، واعتدائه، كما ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) البحر المحيط.

[39]

رأيناه يعرض لكثير من العقلاء، إذا حدَّث رئيس بحضرته بحديث مستحيل يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختُلف في ذلك، فقيل: بناه، وذُكر من وصفه بما الله أعلم به، وقيل: لم يبن. قال أهل السير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة، حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنَّاء، سوى الأتباع والأجراء، وطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب وضرب المسامير، وأمر بالبناء، فبثوه ورفعوه وشيدوه، حتى ارتفع ارتفاعًا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، واشتد ذلك على موسى وهارون, لأن بني إسرائيل كانوا معذبين في بنائه، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنشَّابة فرمى بها نحو السماء فرُدَّت إليه، وهي ملطخة دمًا، فقال قد قتلت إله موسى، وكان فرعون يقصده راكبًا على البراذين، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحيه، فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة منه على عسكره، فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة منه في البحر، وقطعة في المغرب، فلم يبق أحد عمل فيه شيئًا إلا هلك إلا من آمن بموسى. قال أبو الليث: كان بلاط القصر خبث القوارير، وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله، مخافة أن ينسفه الريح، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع. كلمة غريبة: وكتب بهلول على حائط من حيطان قصر عظيم بناه الخليفة هارون الرشيد: يا هارون رفعت الطين ووضعت الدين، رفعت الجص ووضعت النص، إن كان من مالك فقد أسرفت، إن الله لا يحب المسرفين، وإن كان من مال غيرك فقد ظلمت، إن الله لا يحب الظالمين. 39 - ثم ذكر سبحانه ما هو السبب في العناد والجحود، فقال: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ}؛ أي: فرعون {وَجُنُودُهُ}؛ أي: جموعه القبط؛ أي: تعظموا عن الإيمان, ولم ينقادوا للحق {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر وما يليها، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: حالة كونهم متلبسين بغير الحق؛ أي: بالباطل والكفر، أو استكبروا بغير

[40]

استحقاق للتكبر، فالاستكبار (¬1) بالحق لله سبحانه وتعالى، وهو المتكبر على الحقيقة؛ أي: المستحق للكبرياء، كما حكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار"، وكل مستكبر سواه تعالى فاستكباره بغير الحق، والاستكبار التعظيم بغير استحقاق، بل بالعدوان، لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات. {وَظَنُّوا}؛ أي: وظن فرعون وجنوده {أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}؛ أي: لا يردون بالبعث للجزاء. وقرأ حمزة والكسائي ونافع وعلي وخلف ويعقوب (¬2): {لا يرجعون} مبنيًا للفاعل، والجمهور: مبنيًا للمفعول، والمعنى؛ أي: ورأى هو وجنوده كل من سواهم في أرض مصر حقيرًا، عتوًا منهم على ربهم، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يُبعثون، ولا يُثابون، ولا يعاقبون. ومن ثم ركبوا أهواءهم، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم وسيء أقوالهم. 40 - ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة، فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ}؛ أي: أخذنا فرعون وجموعه عقيب ما بلغوا من الكفر والعتو أقصى الغايات. ونظيره (¬3): قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؛ أي: فجمعنا فرعون وجنوده من القبط، {فَنَبَذْنَاهُمْ}؛ أي: فطرحناهم، وألقيناهم {فِي الْيَمِّ}؛ أي: في بحر القلزم، وقيل: هو بحر سمي إسافًا من وراء مصر، حكاه ابن عساكر؛ أي: عاقبناهم بالإغراق فيه، وفيه تعظيم شأن الآخذ، وتحقير شأن المأخوذين، حيث إنهم مع كثرتهم، كحصيات تؤخذ بالكف، وتُطرح في البحر. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي.

[41]

{فَانْظُرْ} يا محمد بعين قلبك {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: كيف كان آخر أمر المشركين، حتى صاروا إلى الهلاك، وبيِّنه لقومك، ليعتبروا به، فإنك منصور عليهم. وفي هذا (¬1): ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه، وشديد احتقاره لفرعون وقومه، واستقلاله لهم، وإن كانوا عددًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده في البحر. ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقومه بالنظر والاعتبار، والتأمل في العواقب، ليعلموا أن هذه سنة الله في كل مكذب برسله، حيث قال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}؛ أي: فانظر أيها المعتبر بالآيات كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وردوا على رسوله نصيحته، ألم نهلكهم، ونورث ديارهم وأموالهم أولياءنا، ونخوِّلهم ما كان لهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، بعد أن كانوا مستضعفين، تُقتَّل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، وإنا بك وبمن آمن بك فاعلون، فمخوِّلوك واياهم ديار من كذبك وردَّ عليك ما أتيتهم به من الحق وأموالهم، بعد أن تستأصلوهم قتلًا بالسيف، سنة الله سبحانه في الذين خلوا من قبله. 41 - ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم في النار، فقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ}؛ أي: صيَّرنا فرعون وقومه في عهدهم {أَئِمَّةً}؛ أي (¬2): رؤساء، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير أيمة بإبدال الهمزة الثانية ياء، {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى النَّارِ}؛ أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والمعاصي؛ أي: جعلناهم قدوة يقتدي بهم أهل الضلال والفساد، فيكون عليهم وزرهم، ووزر من تبعهم، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار؛ لأنهم اقتدوا بهم، وسلكوا طريقتهم تقليدًا لهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[42]

والمعنى (¬1): أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدي بهم أهل العتو والكفر بالله تعالى، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام، التي تلقي بفاعلها في النار، وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله، بل دأبوا على إضلال سواهم، وتحسين العصيان لهم، وبذا قد ارتكبوا جريمتين، فباؤوا بجزائين، جزاء الضلال، وجزاء الإضلال، وقد جاء في الحديث: "من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". ثم ذكر أنه لا نصير لهم، ولا شفيع في ذلك اليوم، فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه؛ أي: ويوم القيامة لا يجدون نصيرًا، يدفع عنهم عذاب الله سبحانه إذا حاق بهم، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون، فكان لهم مطمع في النصرة يومئذٍ بحسب ما يعرفون. 42 - ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم، وبيَّن سوء حالهم في الدارين فقال: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ}؛ أي: ألحقناهم {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} وألزمناهم {لَعْنَةً}؛ أي: طردًا وإبعادًا من الرحمة، أو لعنًا من اللاعنين، لا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون، خلفًا عن سلف، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم، والأول أولى، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}؛ أي: من المطرودين المبعدين. وقيل: من المهلكين الممقوتين، وقال ابن عباس (¬2): من المشوَّهين بسواد الوجوه، وزرقة العيون. و {يَوْمَ} متعلق بـ {الْمَقْبُوحِينَ} على أن اللام معرفة لا موصولة، يقال: قبح الله فلانًا قبحًا وقبوحًا؛ أي: أبعد من كل خير، فهو مقبوح، كما في "القاموس" وغيره. وعليه بني الراغب، حيث قال في "المفردات": {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}؛ أي: من الموسومين بحالة منكرة، كسواد الوجوه وزرقة العين، وسحبهم بالأغلال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

[43]

والسلاسل وغيرها. انتهى باختصار، قال في "الوسيط": فيكون بمعنى المُقَبَّحِين. انتهى. والمعنى (¬1): أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيًا وغضبًا منا عليهم، ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار، وسوء الأحدوثة، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة، فمخزوهم الخزي الدائم، ومهينوهم الهوان اللازم، الذي لا فكاك عنه. ودلت الآية (¬2) على أن الاستكبار من قبائحهم المؤدية إلى هذه القباحة والطرد، قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه سبحانه: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار" وصف الحق سبحانه نفسه بالرداء والإزار، دون القميص والسراويل، لكونهما غير مخيطين، فبَعُدا عن التركيب الذي هو من أوصاف الجسمانيات. واعلم: أن الكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانية، ومن الكبر الامتناع من قبول الحق، ولذا عظَّم الله أمره، فقال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وأقبح كبر بين الناس ما كان معه بخل، ولذلك قال عليه السلام: "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل والكبر" ومن تكبر لرياسة نالها دل على دناءة عنصره، ومن تفكر في تركيب ذاته، فعرف مبدأه ومنتهاه وأوسطه عرف نقصه، ورفض كبره، ومن كان تكبره لغنية، فليعلم أن ذلك ظل زائل، وعارية مستردة. 43 - ثم بيَّن سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى، ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا موسى الكتاب، وأنزلنا عليه التوراة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وفصَّلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا} في الدنيا بالعذاب {الْقُرُونَ الْأُولَى}؛ أي: الأمم التي من قبل موسى وقومه، كقوم نوح وهود وصالح (¬1)، ودُرست معالم الشرائع وطُمست آثارها، واختلَّت نُظُم العالم، وفشا بينهم الشر والفساد، ورُفع الخير فاحتاج الناس إلى تشريع جديد، يُصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم، بتقرير أصول في ذلك التشريع تبقى على وجه الدهور، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور، واختلاف أحوال الناس حالة كون ذلك الكتاب، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}؛ أي: أنوارًا لقلوب بني إسرائيل، تبصر بها الحقائق وأصول الدين، وتميز بها بين الحق والباطل، حيث كانت عمياء عن الفهم والإدراك بالكلية، {و} حالة كونه {هُدًى} للناس؛ أي: هاديًا لهم إلى الشرائع والأحكام، التي هي سبيل الله سبحانه. قال في "إنسان العيون" (¬2): التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبلها من الكتب، فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وحده، وتوحيده، ومن ثمة قيل لها: صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. {وَ} حالة كونه {رَحْمَةً}؛ أي: ذا رحمة لهم، حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى وجنته، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}؛ أي: لكي يتذكروا، ويتعظوا بما فيه فيؤمنوا به، ويشكروه عليه، ولا يكفروه، ويجيبوا داعيه إلى ما فيه خير لهم. قال أبو سعيد الخدري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أهلك الله قومًا ولا قرنًا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء، ولا من الأرض منذ أنزل التوراة على موسى، غير القرية التي مُسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} ". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[44]

44 - ولما قص الله سبحانه وتعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء (¬1)، ورميه في البحر في تابوت، ورده إلى أمه، وتبني فرعون له، وإيتائه الحكم والعلم، وقتله القبطي، وخروجه من منشئه فارًا، وتصاهره مع شعيب، ورعيه لغنمه السنين الطويلة، وعوده إلى مصر، وإضلاله الطريق ومناجاة الله له، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين على يديه، وهما العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون ومحاورته معه، وتكذيب فرعون، وإهلاكه وإهلاك قومه، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة، وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه، فقال: {وَمَا كُنْتَ} يا محمد حاضرًا مع موسى {بِجَانِبِ} الجبل {الْغَرْبِيِّ} من موسى {إِذْ قَضَيْنَا} وأوحينا {إِلَى مُوسَى} في حال رجوعه من مدين إلى مصر {الْأَمْرَ} بالرسالة إلى فرعون وقومه؛ أي: ما كنت حاضرًا معه إذ ناديناه، وألزمناه بالذهاب إلى فرعون وقومه {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}؛ أي: من الحاضرين قصته مع شعيب، فتُخبره للناس على الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة. وخلاصة ذلك (¬2): إن إخبارك بالغيوب الماضية، التي لم تشهدها، وقد قصصتها كأنك سامع راء لها، وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئًا من ذلك، لهو من أعظم البراهين على نبوتك، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله سبحانه كما قال: {لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. فإن قلت (¬3): إن هذا الآية يُغني أولها، أعني قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} عن آخرها، أعني قوله: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وأي فائدة في ذكر آخرها؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) فتح الرحمن بتصرف.

[45]

قلتُ: لا يُغني أولها عن آخرها، إذ معنى أولها وما كنت يا محمد حاضرًا إذ أوصلنا إلى موسى الوحي في الجانب الغربي من جبل الطور، ومعنى آخرها وما كنت من الشاهدين؛ أي: من الحاضرين قصته مع شعيب عليهم السلام، فاختلفت القصتان فلا إيراد على الآية. وقوله: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} إما على (¬1) حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: وما كنت بجانب الجبل الغربي، أو بجانب المكان الغربي الذي وقع فيه مناجاة موسى مع ربه، أو من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع؛ أي: بالجانب الغربي، وعلى كلا التقديرين فجبل الطور غربي من موسى عليه السلام. 45 - {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا}؛ أي: أوجدنا وخلقنا {قُرُونًا}، كثيرة، وأممًا عديدة، بين زمانك يا محمد، وبين زمان موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ}؛ أي: على أولئك القرون {الْعُمُرُ} والأمد والحياة والأجل، فلم يؤمنوا، فأهلكناهم قرنًا بعد قرن؛ أي (¬2): طالت أعمارهم، وامتدت مهلتهم، وتمادت حياتهم، وفترت النبوة، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء، وكادت الأخبار تخفى، لا سيما على آخرهم، فاقتضى الحال التشريع الجديد، فأرسلناك مجددًا لتلك الأخبار، مبينًا ما وقع فيه التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدًا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، ليكون إخبارك عن قصته معجزة لك، وبرهانًا على صدقك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة، ودل به على المسبب الذي هو الوحي، اختصارًا. وعبارة أبي حيان: فإن قلت: كيف يتصل قوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكًا؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكًا من حيث إن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونًا كثيرة فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم ¬

_ (¬1) ووح البيان. (¬2) النسفي.

[46]

العمر؛ أي: أمد القطاع الوحي، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك، وكسبناك العلم بقصص الأنبياء، وقصة موسى. وقد استُدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهودًا في محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي الإيمان به، فلما طال عليهم العمر، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها، وقوله: {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {ثَاوِيًا}؛ أي: مقيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}؛ أي: مع موسى وشعيب والمؤمنين به، نفي لاحتمال كون معرفته للقصة بالسماع ممن شاهدها؛ أي: وما كنت مقيمًا بين أهل مدين، كما أقام موسى فيهم، حالة كونك {تَتْلُو} وتقرأ {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أهل مدين {آيَاتِنَا} الناطقة بالقصة بطريق التعلم منهم، فتقرأ على أهل مكة خبرهم، وتقص عليهم من جهة نفسك، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي، فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي، لا عن مشاهدة للمخبر عنه، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك (¬1)، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها, لتتلوها على أهل مكة، فتكون آية على صدقك، ولولا ذلك لما علمتها أنت، ولم تخبرهم بها. قال الزجاج: المعنى: إنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تُليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك. 46 - {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الطُّور}؛ أي: بجانب الجبل المسمى بالطور {إِذْ نَادَيْنَا}؛ أي: وقت ندائنا موسى {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، واستنبائنا إياه، وإرسالنا له إلى فرعون وقومه، والمراد (¬2) جانب الطور الأيمن، كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} ولم يذكره هنا احترازًا عن إيهام الذم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل بالجانب الأيمن من الأزل إلى الأبد، ففيه إكرام له، وحسن عبارة معه. وقيل معناه: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم، لما أتى الميقات مع السبعين، لأخذ التوراة، إذ قلنا له: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

وقال وهب بن منبه (¬1): لما ذكر الله سبحانه فضل محمد وأمته قال موسى: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك لن تصل إلى ذلك، ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: قال الله تعالى: "يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام؛ أي: أرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك، قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وقد أجبتكم قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني، ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر". وعلى ما قاله وهب يكون المنادى هو أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون معنى الآية: وما كنتَ يا محمد بجانب الطور إذ كلَّمْنا موسى، فنادينا أمتك {وَلَكِنْ} أرسلناك بالقرآن العظيم الناطق بما ذكر {رَحْمَةً} عظيمة كائنة {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: لأجل رحمة كائنة منا لك، وللناس. وقال الأخفش (¬2): هو منصوب، يعني رحمة على المصدر؛ أي: رحمناك رحمة بإرسالك، والوحي إليك، وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك، وقال الزجاج: هو مفعول لأجله؛ أي: فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. وقرأ الجمهور: {رَحْمَةً} بالنصب، فقُدِّر: ولكن جعلناك رحمة، وقُدِّر أعلمناك ونبأناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: بالرفع، وقُدِّر: ولكن هو رحمة، أو أنت رحمة، و {اللام} في قوله: {لِتُنْذِرَ} وتخوِّف بأس الله وعذابه بالقرآن {قَوْمًا} هم أهل مكة (¬3)، متعلقة بالفعل المعلل بالرحمة، وجملة {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} صفة {قَوْمًا}؛ أي: لم يأتهم نذير ينذرهم من بأس ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

الله، لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمس مئة وخمسون سنة، أو بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى مختصة ببني إسرائيل، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويتعظون بإنذارك. وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر، والثواء في أهل مدين، والنداء، للتنبيه على أن كلًّا من ذلك برهان مستقل، على أن حكايته عليه السلام للقصة بطريق الوحي الإلهي، ولو ذكر أولًا نفي ثوائه - صلى الله عليه وسلم - في أهل مدين، ثم نفي حضوره - صلى الله عليه وسلم - عند قضاء الأمر، كما هو الموافق للترتيب الوقوعي، لربما توهم أن الكل دليل واحد كما في "الإرشاد". ثم من التذكير تجديد العهد الأزلي، وذلك بكلمة الشهادة، وهي سبب النجاة في الدارين. واعلم (¬1): أن الله سبحانه لما بيَّن قصة موسى عليه السلام لرسوله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة، التي اتفقت لموسى، فالمراد بقوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه، واستقر شرعه. والمراد بقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أول أمر موسى، والمراد بقوله: {إِذْ نَادَيْنَا} ليلة المناجاة، فهذه أعظم أحوال موسى، ولما بيَّنها لرسوله، ولم يكن في هذه الأحوال حاضرًا بيَّن الله سبحانه أنه بعثه، وعرَّفه هذه الأحوال الدالة على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ومعجزته، كأنه قال: في إخبارك عن هذه الأشياء، من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك. وحاصل معنى الآية (¬2): أي وما كنت بجانب جبل الطور ليلة المناجاة، وتكليم الله موسى حتى تُحدث أخبارها، وتفصِّل أحوالها، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها, ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار، وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم، في معاشهم ومعادهم، لتنذر قومًا لم يأتهم قبلك ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[47]

نذير، وتحذرهم بأس الله، وشديد عقابه على إشراكهم به، وعبادتهم الأوثان والأنداد، لعلهم يرجعون عن غيِّهم، ويتذكرون عظيم خطئهم، وكبير جرمهم، فينيبوا إلى ربهم، ويقروا بوحدانيته، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة. 47 - ثم ذكر الحكمة في إرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إليهم وأن في ذاك قطعًا لمعذرتهم، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة، فقال: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ}؛ أي: أهل مكة، والمصيبة العقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: بما اقترفوا من الكفر والمعاصي، وأسند (¬1) التقديم إلى الأيدي, لأنها أقوى ما يُزاول به الأعمال، وأكثر ما يُستعان به في الأفعال. {فَيَقُولُوا} عند رؤية العذاب، عطف على {تُصِيبَهُمْ}، داخل في حيِّز {لَوْلَا} الامتناعية، على أن مدار امتناع ما يُجاب به هو امتناعه، لا امتناع المعطوف عليه، وإنما ذُكر في حيِّزها للإيذان بأنه السبب الملجىء لهم إلى قولهم، وجواب {لَوْلَا} محذوف، تقديره: ولولا قولهم: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} عند إصابة المصيبة إياهم، بسبب ما قدمت أيديهم في الدنيا موجود لما أرسلناك إليهم، أو لعاجلناهم بالعقوبة بسبب كفرهم، وكلمة {لَوْلَا} في قوله: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا} هي التحضيضية، بمعنى هلا، {رَسُولًا}، مؤيدًا من عندك بالآيات، {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الظاهرة على يده، وهو جواب {لَوْلَا} الثانية {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بها، وجواب {لَوْلَا} الأولى محذوف ثقة بدلالة الحال عليه. والمعنى (¬2): لولا قولهم هذا عند إصابة عقوبة جناياتهم التي قدموها ما أرسلناك، لكن لما كان قولهم ذلك محققًا لا محيد عنه، أرسلناك قطعًا لمعاذيرهم بالكلية، وإلزامًا للحجة عليهم. وعبارة النسفي هنا: {لَوْلَا} الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، والفاء الأولى للعطف، والثانية جواب لولا التحضيضية، لكونها في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[48]

حكم الأمر، إذ الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد. والفاء تدخل في جواب الأمر، والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عُوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولًا، محتجين علينا بذلك، لما أرسلنا إليهم رسولًا، يعني أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة، ولا يُلزموها كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. فإن قلت: كيف (¬1) استقام هذا المعنى، وقد جُعلت العقوبة هي السبب في الإرسال، لا القول، لدخول لولا الامتناعية عليها دونه؟. قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببًا للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت سببًا للقول، وكان وجوده بوجودها جُعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فأُدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفًا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤَوَّل معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلناك إليهم رسولًا. وحاصل معنى الآية (¬2): أي ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحل بهم بأسنا، ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم، واجتراحهم للمعاصي قبل أن نرسلك إليهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولًا قبل أن يحل بنا سخطك، وينزل بنا عذابك، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تُنزلها عليه، ونكون من المؤمنين بألوهيتك، المصدقين برسولك .. لعاجلناهم العقوبة على شركهم، لكنا بعثناك إليهم نذيرًا ببأسنا، كما هو سنتنا في أمثالهم، كما جاء في الآية الكريمة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. والخلاصة: أنا أزحنا العذر، وأكملنا البيان، فبعثناك أيها الرسول إليهم، وقد حكمنا بأنا لا نُعاقب عبدًا إلا بعد إكمال البيان، والحجة، وبعثة الرسل. 48 - {فَلَمَّا جَاءَهُمُ}؛ أي: أهل مكة، وكفار العرب {الْحَقُّ}؛ أي: القرآن، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

لقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ}، {مِنْ عِنْدِنَا}؛ أي: بأمرنا ووحينا، كما في "كشف الأسرار". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - {قَالُوا}؛ أي: قال كفار مكة تعنتًا واقتراحًا، قال بعضهم: قاله قريش بتعليم اليهود {لَوْلَا}؛ أي: هلا {أُوتِيَ} محمد {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من الكتاب جملة لا مفرقًا. قال بعض العلماء (¬1): حجبوا بكفرهم عن رؤية كماليته - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لقالوا: لولا أوتي موسى مثل ما أوتي محمد من الكمالات؛ أي: فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله بالكتاب الكريم، وهم أهل مكة، قالوا تمردًا وعنادًا وتماديًا في الغي والضلال: هلا أُعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة، ومن قلب العصا حية، ومن اليد البيضاء، وتظليل الغمام وغير ذلك. ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين في كل زمان لا يريدون بما يقولون إظهار الحق، بل يقصدون التمادي والإنكار، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة، كما أشار إلى ذلك بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقولون ذلك، أعني قولهم: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى؛ أي: أيقول كفار مكة ذلك ولم يكفروا {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى} وأُعطي من الكتاب. {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هذا القول، كما كفروا بهذا القرآن، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوَّات، فلما طلبوا من محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزات موسى عليه السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول, لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت. ثم بين سبحانه كيفية كفرهم فقال: {قَالُوا}؛ أي: قال كفار مكة هما ¬

_ (¬1) روح البيان.

{سِحْرَانِ}؛ أي: ما أوتي محمد، وما أوتي موسى عليهما السلام سحران {تَظَاهَرَا}؛ أي: تعاونا بتصديق كل منهما الآخر، وذلك أن قريشًا بعثوا رهطًا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم، فسألوهم عن شأنه - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود، قالوا: إن موسى ساحر كما أن محمدًا ساحر. {وَقَالُوا}؛ أي: كفار مكة {إِنَّا بِكُلّ}؛ أي: بكل واحد من الكتابين {كَافِرُونَ}؛ أي: منكرون، والمعنى: إنا بكل من السحرين، أو بكل من الساحرين كافرون، على اختلاف القراءة فيه. وقرأ الجمهور وابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {ساحران} بصيغة اسم الفاعل، وفيمن عنوا به ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: موسى ومحمد، قاله: ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، فعلى هذا هو من قول مشركي العرب. والثاني: موسى وهارون، قاله مجاهد، فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة. والثالث: محمد وعيسى، قاله قتادة. قال ابن كثير: وهذا فيه بُعدٌ, لأن عيسى لم يجر له ذكرها هنا، وعلى هذا هو من قول اليهود، الذين لم يؤمنوا بنبينا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وعبد الله وزيد بن علي {سِحْرَانِ} بكسر السين وسكون الحاء. وفيه ثلاثة أقوال أيضًا: أحدها: التوراة والقرآن، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة. والثالث: التوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد، ومعنى ¬

_ (¬1) زاد المسير.

[49]

الكلام: كل منهما سحر يقوي الآخر، فنسب التظاهر إلى السحرين. توسعًا في الكلام. وقرأ الجمهور (¬1): {تَظَاهَرَا} فعلًا ماضيًا على وزن تفاعل. وقرأ طلحة والأعمش: {أظَّاهرا} بهمزة الوصل، وشدِّ الظاء، وكذا هي في حرف عبد الله، وأصله تظاهرًا، فادغم التاء في الظاء فاجتلبت همزة الوصل، لأجل سكون التاء المدغمة، وقرأ محبوب عن الحسن ويحيى بن الحراث الذماري وأبو حيوة وأبو خلا عن اليزيدي: {تظاهرًا} بالتاء وتشديد الظاء، وقال ابن خالويه: وتشديده لحق؛ لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع. وقال بعضهم: المعنى (¬2): أولم يكفر أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم القبط، بما أوتي موسى من قبل القرآن، قالوا: إن موسى وهارون سحران؛ أي: ساحران تظاهرا، وقالوا: {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}، يقول الفقير: إنه وإن صح إسناد الكفر إلى أبناء الجنس، من حيث إن ملل الكفر واحدة في الحقيقة، فكُفْر ملة واحدة بشيء في حكم كفر الملل الأخرى به، كما أسند أفعال الآباء إلى الأبناء من حيث رضاهم بما فعلوا لكن يلزم على هذا أن يخص ما أوتي موسى بما عدا الكتاب من الخوارق، فإن إيتاء الكتاب إنما كان بعد إهلاك القبط. فالمعنى الأول هو الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم، ويدل عليه صريحًا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ...} الآية. 49 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى قومه، بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر، وأصلح لحالهم في المعاش والمعاد من التوراة والقرآن، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يقولون هذا القول تعجيزًا لهم، وتوبيخًا {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ} سبحانه {هُوَ}؛ أي: ذلك الكتاب {أَهْدَى}؛ أي: أكثر هداية للبشر وأصلح لهم {مِنْهُمَا}؛ أي: مما أوتياه من التوراة والقرآن؛ أي: إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين، وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[50]

في هداية الخلق منهما. {أَتَّبِعْهُ} جواب الأمر؛ أي: فإن أتيتم بذلك الأهدى، وجئتم به فإني لأتركهما وأتبع ما تجيئون به، ومثل هذا الشرط يقوله من وضحت حجته وسنحت محجته؛ لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بيِّن الاستحالة، فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام والتعجيز المشوب بالتوبيخ. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أن التوراة والقرآن سحران مختلفان، وفي إيراد كلمة {إِنْ} مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم، وفيه أيضًا دليل على أن قراءة الكوفيين: {سحران} أقوى من قراءة الجمهور, لأنه رجع الكلام إلى الكتابين، لا إلى الرسولين، ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؛ أي: إن كنتم فيما وصفتم به الكتابين أو الرسولين صادقين جادين. وقرأ زيد بن علي برفع (¬1): {أتبعه} على الاستئناف؛ أي: فأنا أتبعه، قال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة للكتاب. 50 - {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ}؛ أي: فإن لم يستجب لك يا محمد هؤلاء الكفرة دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، ولن يستجيبوا، كقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فحذف المفعول به، وهو دعاؤك للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يتعدى بنفسه إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالبًا. كقوله: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيْبُ إِلَى النِّدَا ... فَلَمْ يَسْتَجِيْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيْبُ أي: فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين، وجواب الشرِط قوله: {فَاعْلَمْ} يا محمد {إنَّمَا يَتَّبِعُونَ}؛ أي: إنما يتبع هؤلاء الكفرة {أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: آراءهم الزائغة واستحساناتهم الزائفة، واختراعاتهم الفاسدة، بلا حجة ولا برهان، إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[51]

وقيل المعنى: فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به، والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ} إنكاري، بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أضل {مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} ومشتهاه في الدين {بِغَيْرِ هُدًى} وبيان وحجة {مِنَ اللَّهِ} سبحانه، بل هو الفرد الكامل في الضلال، وتقييد اتباع الهوى بعدم الهدى من الله لزيادة التقرير، والإشباع في التشنيع والتضليل، وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة. وقال بعضهم: هوى النفس قد يوافق الحق، فلذا قيَّد الهوى به، فيكون في موضع الحال منه. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَا يَهْدِي} ولا يرشد إلى دينه {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين. وينبغي للعاقل أن يكون من أهل الهدى، لا من أهل الهوى، وإذا عرض له أمران فلم يدر أيهما أصوب فعليه بما يكرهه، لا بما يهواه، ففي حمل النفس على ما تكرهه مجاهدة، وأكثر الخير في الكراهية والعمل بما أشار إليه العقل السليم واللب الخالص. والمعنى: أن الله سبحانه لا يوفِّق لإصابة الحق، واتباع سبيل الرشد من خالفوا أمره، وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدلوا عهده، واتبعوا هوى أنفسهم إيثارًا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن. 51 - ولما أثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بيَّن الحكمة في إنزال القرآن منجمًا, فقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ}، قرأ الجمهور {وَصَّلْنَا} مشدد الصاد، والحسن وأبو المتوكل وابن يعمر: بتخفيفها، والضمير في {لَهُمُ} لقريش، والتوصيل مبالغة في الوصل، وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أكثرنا لقريش القول موصولًا بعضه ببعض، بأن أنزلنا عليهم القرآن آية بعد آية، وسورة بعد سورة، حسبما تقتضيه الحكمة، ليتصل التذكير، ويكون أدعى لهم؛ أي: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضًا، ويُخبر عن الأمم الخالية كيف عذبوا {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويتعظون فيؤمنون.

[52]

والمعنى: أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلًا بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة، وترشد إليه المصلحة العامة، وهي أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه، فهم في كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم ورسوخه في نفوسهم، وامتلاء قلوبهم نورًا به، أو تابعنا لهم المواعظ والزواجر، وبيَّنا لهم ما أهلكنا من القرون قرنًا بعد قرن، فأخبرناهم أنا أهلكنا قوم نوح بكذا، وقوم هود بكذا، وقوم صالح بكذا، لعلهم يتعظون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم. 52 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} وأعطيناهم {الْكِتَابَ}؛ أي: التوارة والإنجيل. والمراد بالكتاب الجنس الصادق بالكتابين، وهم مؤمنو أهل الكتاب، {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل إيتاء القرآن، أو من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: {هُمْ بِهِ}؛ أي: بالقرآن {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون كونه من عند الله سبحانه؛ أي: الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كعبد الله بن سلام وأضرابه، هم يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم قد وجدوا في كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه. ونحو الآية قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}. 53 - ثم بيَّن ما أوجب إيمانهم به بقوله: {وَإِذَا يُتْلَى} هذا القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ}؛ أي: صدَّقنا بأنه كلام الله سبحانه، وقالوا: {إِنَّهُ الْحَقُّ} الذي نزل {مِنْ} عند {رَبِّنَا} حقًا و {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل نزوله وقراءته علينا {مُسْلِمِينَ}؛ أي: مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أنه نبي حق؛ أي: وإذا تُلي هذا القرآن عليهم قالوا: صدقنا بأنه نزل من عند ربنا حقًا، وقد كنا مصدقين به قبل نزوله, لأنا وجدنا في كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه. وفي هذا إيماء إلى أن إيمانهم به أمر متقادم العهد، لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة، وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن. 54 - والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بتلك الصفات، أي: أولئك

[55]

الموصوفون بما ذكر من النعوت {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ} أي: يعطون ثوابهم في الآخرة {مَرَّتَيْنِ} مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن، أو بإيمانهم بنبينهم أولًا، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته. والباء في قوله: {بِمَا صَبَرُوا} للسببية أي: بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين، والعمل بالشريعتين. وفي "التأويلات النجمية" (¬1): على مخالفة هواهم، وموافقة أوامر الشرع ونواهيه، وفي الحديث: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل كانت له جارية، فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم تزوجها فله أجره مرتين، وعبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم آمن بالقرآن، فله أجره مرتين" متفق عليه. {وَيَدْرَءُونَ}؛ أي: يدفعون {بـ} ـالخصلة {الْحَسَنَةِ} وبالطاعة الخصلة {السَّيِّئَةَ}؛ أي: القبيحة والمعصية، أو بالقول الحسن القول القبيح، أو بالاحتمال والصفح ما يلاقونه من الأذى. وقيل بالتوبة والاستغفار الذنوبَ. وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله الشركَ. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}؛ أي: وينفقدن مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال النفقات الواجبة لأهلهم، وذوي قرباهم، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ويساعدون البائسين وذوي الخصاصة المعوزين. 55 - ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ}؛ أي: ما لا ينفع في دين ودنيا {أَعْرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: عن اللغو {وَقَالُوا} لِلَّاغين {لَنَا أَعْمَالُنَا} من الحلم والصفح ونحوهما {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} من اللغو والسفاهة وغيرهما، فكل مطالب بعمله، فلا يلحقنا من ضرر كفركم شيء، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء {سَلَامٌ} وأمنة منا، وبراءة من ضررنا عليكم، فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا, ولا نجازيكم عليه, لأن المراد بالسلام هنا سلام متاركة وإعراض عن ¬

_ (¬1) روح البيان.

سوءهم، لا سلام تحية وإكرام. {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}؛ أي: لا نطلب صحبتهم، ولا نريد مخالطتهم ومخاطبتهم، والتخلق بأخلاقهم، ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم، فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون: تبًا لكم تركتم دينكم، فيُعرضون، ولا يردون عليهم، قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال، وقال صاحب "الروح": وحكم الآية وإن كان منسوخًا بآية السيف إلا أنَّ فيها حثًا على مكارم الأخلاق. وفي الحديث: "ثلاث من لم يكنَّ فيه فلا يعتد بعلمه، حلم يرد به جهل جاهل، وورع يحجز عن معاصي الله، وحسن خلق يعيش به في الناس". وما أحسن قول بعضهم: إِذَا رَأَيْتَ أَثِيْمَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُقَبِّحُ لَغْوِيْ ... لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا والمعنى (¬1): أي وإذا سمعوا ما لا ينفع في دين ولا دنيا من السب والشتائم، وتكذيب الرسول .. أعرضوا عن قائليه، ولم يخالطوهم، وإذا سفه عليهم سفيه، وكلمهم بما لا ينبغي رده من القول .. لم يقابلوه بمثله، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام، وقالوا: لنا أعمالنا، لا تثابون على شيء منها, ولا تعاقبون، ولكم أعمالكم لا نطالب بشيء منها، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، سلام عليهم، سلام متاركة وتوديع، فإنا لا نريد طريق الجاهلين، ومثل الآية، قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. روى محمد بن إسحاق أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلًا أو يزيدون من نصارى الحبشة، حين بلغهم خبره، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه، وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت ¬

_ (¬1) المراغي.

أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما رأينا ركبًا أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه. واعلم: أن اللغو عند أهل المعرفة كل ما يشغلك عن العبادة وذكر الحق، وكل كلام بغير خطاب الحال والواقعة، وطلب ما سوى الله سبحانه وتعالى. الإعراب {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة، {سَنَشُدّ} {السين}: حرف استقبال لتأكيد معنى الفعل، {نشد}: فعل وفاعل مستتر، {عَضُدَكَ}: مفعول به، {بِأَخِيكَ} متعلق بـ {نشد}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَنَجْعَلُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على {نشد}، {لَكُمَا} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جعل}، {سُلْطَانًا}: مفعول أول له، {فَلَا} {الفاء}: عاطفة، {لا}: نافية، {يَصِلُونَ}: فعل وفاعل معطوت على {نجعل}، {إِلَيْكُمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَصِلُونَ}، {بِآيَاتِنَا}: إما متعلق بـ {نجعل}، أو بـ {يَصِلُونَ}، أو بمحذوف، تقديره: اذهبا، أو بسلطاننا؛ أي: نسلطكما بآياتنا، أو بمحذوف حال، أو من لغو القسم، ولا أرى موجبًا لترجيح بعضهم على بعض. فاختر منها ما ترى ترجيحه. {أَنْتُمَا}: مبتدأ، {وَمَنِ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على {أَنْتُمَا}، {اتَّبَعَكُمَا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به صلة {مَن} الموصولة، {الْغَالِبُونَ}: خبر {أَنْتُمَا} وما عطف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}.

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فجاءهم موسى بآياتنا فلما جاءهم قال إلخ، {لما}: حرف شرط غير جازم، {جَاءَهُمْ مُوسَى}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاء}، أو بمحذوف حال من {مُوسَى}، {بَيِّنَاتٍ}: حال من {آياتنا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة. {مَا} نافية، {هَذَا}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {سِحْرٌ}: خبر المبتدأ، {مُفْتَرًى}: صفة {سِحْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {سَمِعْنَا}: فعل وفاعل، {بِهَذَا} متعلق بـ {سَمِعْنَا}، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية في قوله: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ}، {فِي آبَائِنَا}: جار ومجرور حال من {هَذَا}؛ أي: حال كونه كائنًا في آبائنا، {الْأَوَّلِينَ} صفة لـ {آبَائِنَا}. {وَقَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل، معطوف على {قَالُوا}، {رَبِّي أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، {بِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قَالَ)، {جَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، {بِالْهُدَى}: متعلق بـ {جَاءَ}، والجملة صلة {من} الموصولة، {مِنْ عِنْدِهِ}: جار ومجرور حال من {الهدى}، {وَمَنْ} اسم موصول في محل الجر معطوف على {من} الأولى، {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، {لَهُ}: خبر مقدم لـ {تَكُونُ}، {عَاقِبَةُ الدَّارِ}: اسمها مؤخر، وجملة {تَكُونُ} صلة {مَن} الموصولة، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} خبره، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول {قَالَ}. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى

الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)}. {وَقَالَ} {الواو}: عاطفة على محذوف، تقديره: وجمع فرعون السحرة وقال، {قَالَ فِرْعَوْنُ}: فعل وفاعل، معطوف على تلك الجملة المحذوفة، {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {الْمَلَأُ}: بدل من {أي}، أو عطف بيان منه، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {ما}: نافية، {عَلِمْتُ}: فعل وفاعل، {لَكُمْ}: حال من {إِلَهٍ}، لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مِنْ}: زائدة، {إِلَهٍ}: مفعول به، {غَيْرِي}: صفة لـ {إِلَهٍ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}: على كونها جواب النداء. {فَأَوْقِدْ} {الفاء}: عاطفة، {أوقد}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {هَامَانُ}. {لِي}: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {مَا عَلِمْتُ}، {يَا هَامَانُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَاجْعَلْ} {الفاء}: عاطفة، {اجعل}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {أوقد}، {عَلَى الطِّينِ}: متعلق بـ {أَوْقِدْ}، {لِي}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لـ {اجعل}، {صَرْحًا}: مفعول أول له. {لَعَلِّي}: ناصب واسمه، {أَطَّلِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة في محل الرفع خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِلَى إِلَهِ مُوسَى}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَطَّلِعُ}؛ {وَإِنِّي} {الواو}: عاطفة، {إني} ناصب واسمه، {لَأَظُنُّهُ} {اللام}: حرف ابتداء، {أظنه}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول، {مِنَ الْكَاذِبِينَ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، وجملة {أظن} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة {لعل}. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}. {وَاسْتَكْبَرَ} {الواو}: عاطفة، {استكبر}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود

على {فرعون}، والجملة معطوفة على جملة {وقال فرعون}، {هو}: تأكيد لضمير الفاعل المستتر في {اسستكبر} يعطف عليه ما بعده، {وَجُنُودَهُ}: معطوف على الفاعل المستتر {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {استكبر}، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {استكبر} وما عطف عليه؛ أي: متلبسين بغير الحق. {وَظَنُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {استكبر}، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {إِلَيْنَا} متعلق بـ {يُرْجَعُونَ}، وجملة {لَا يُرْجَعُونَ} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {ظن}، تقديره: وظنوا عدم رجوعهم إلينا. {فَأَخَذْنَاهُ} {الفاء}: عاطفة، {أخذناه}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {استكبر}، {وَجُنُودَهُ}: معطوف على مفعول {أخذنا}، {فَنَبَذْنَاهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول به معطوف على {أخذناه}، {فِي الْيَمِّ} متعلق بـ {نبذناهم}، {فَانْظُرْ} {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت التعجب من شأنهم فأقول لك انظر، {انظر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام للتعجب في محل النصب خبر مقدم لـ {كَانَ}، {عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}: اسمها ومضاف إليه، وجملة {كَانَ} في محل النصب ساد مسد مفعول {انظر}؛ لأن الاستفهام علقه عن العمل فيما بعده. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}. {وَجَعَلْنَاهُمْ} {الواو}: عاطفة، {جعلناهم أئمة}: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على {نبذناهم}؛ {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، {إِلَى النَّارِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {أَئِمَّةً}، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} {الواو}: عاطفة، {يوم القيامة}: متعلق بـ {يُنْصَرُونَ}، وجملة {لَا يُنْصَرُونَ} في محل النصب معطوفة على جملة {يَدْعُونَ}. {وَأَتْبَعْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} {فِي هَذِهِ}: جار ومجرور حال من

ضمير المفعول، {الدُّنْيَا} بدل من اسم الإشارة، {لَعْنَةً}: مفعول ثان، {وَيَوْمَ}: {الواو}: عاطفة، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {الْمَقْبُوحِينَ} إن قلنا: إن أل فيه معرفة، أو بمحذوف دل عليه قوله: {الْمَقْبُوحِينَ} إن قلنا: إن أل فيه موصولة، تقديره: وقبحوا يوم القيامة، وإنما قدرنا محذوفًا لأن تعلقه بـ {الْمَقْبُوحِينَ} - وهو الظاهر - يمنع منه وجود أن الموصولة فيه, لأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله، على أنهم قد اتسعوا في الظروف والمجرورات {هم}: مبتدأ، {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة {وَأَتْبَعْنَاهُمْ}. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، {لقد} {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان, لأن {أتى} هنا بمعنى أعطى يتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {آتَيْنَا}، {مَا}: مصدرية، {أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ}: فعل وفاعل ومفعول به، {الْأُولَى}: صفة لـ {الْقُرُونَ}، والجملة الفعلية صلة {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد إهلاكنا القرون الأولى، {بَصَائِرَ}: حال من {الْكِتَابَ}، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا بصائر، أو جعله نفس البصائر مبالغة، أو مفعول لأجله، {لَلنَاسِ}: جار ومجرور نعت لـ {بصائر}، {وَهُدًى وَرَحْمَةً}: معطوفان على {بَصَائِرَ}، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَتَذَكَّرُونَ} خبره، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل الإيتاء. {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، {بِجَانِبِ}: جار ومجرور خبر كان، {الْغَرْبِيِّ}: مضاف إليه، وهو على حذف

الموصوف وإقامة الصفة مقامه؛ أي: بجانب الجبل الغربي، حيث ناجى موسى ربه، فتخبر الناس تلك القصة، وجملة {كان} مستأنفة، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله، {قَضَيْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَى مُوسَى} متعلق بـ {قَضَيْنَا}، {الْأَمْرَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، {مِنَ الشَّاهِدِينَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {كان} الأولى، والأمر المقضي هو الوحي الذي أوحي إليه. {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}. {وَلَكِنَّا} {الواو}: عاطفة، {لكنا}: ناصب واسمه، {أَنْشَأْنَا}: فعل وفاعل، {قُرُونًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ}، {فَتَطَاوَلَ} {الفاء}: عاطفة، {تطاول}: فعل ماض، {عَلَيْهِمُ}: متعلق بـ {تطاول}، {الْعُمُرُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَنْشَأْنَا}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {كُنْتَ ثَاوِيًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ثَاوِيًا}، و {مَدْيَنَ} ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، والجملة معطوفة على جملة {كان} الأولى، {تَتْلُو}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {تَتْلُو}، {آيَاتِنَا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {ثَاوِيًا}، أو خبر ثان لـ {كان}. {وَلَكِنَّا} {الواو}: عاطفة، {لكِنَّا}: ناصب واسمه، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {مُرْسِلِينَ}: خبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، {بِجَانِبِ الطُّورِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر {كان}، وجملة

{كان} معطوفة على جملة {كان} الأولى، {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله، {نَادَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه, {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك مهمل؛ لأنها مخففة، {رَحْمَةً}: مفعول لأجله لفعل محذوف، تقديره: ولكن أرسلناك رحمة، {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور صفة لـ {رَحْمَةً}، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة التي قبلها، {لِتُنْذِرَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تنذر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، {قَوْمًا}: مفعول به، وجملة {تنذر} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولكن أرسلناك لإنذارك قومًا، وإنما جر باللام لاختلاف الفاعل، {مَا}: نافية، {أَتَاهُمْ}: فعل ومفعول به، {مِنْ نَذِيرٍ} {مِن}: زائدة، {نَذِيرٍ}: فاعل، {مِنْ قَبْلِكَ}: صفة {نَذِيرٍ}، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَتَذَكَّرُونَ} خبره، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل الإنذار. {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، {لولا}: حرف امتناع لوجود، {أَنْ}: حرف مصدر، {تُصِيبَهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به منصوب بـ {أن} المصدرية، {مُصِيبَةٌ}: فاعل، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: ولولا إصابة المصيبة إياهم موجود، وجواب {لَوْلَا} محذوف أيضًا، تقديره: لما أرسلناك رسولًا، وجملة {لَوْلَا} مع جوابها مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو معطوفة على ما قبلها، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تُصِيبَهُمْ}، {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم. {فَيَقُولُوا} {الفاء}: عاطفة، {يقولوا}: فعل وفاعل معطوف على {تُصِيبَهُمْ}: منصوب بحذف النون، {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب

مقول لـ {يقولوا}، {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا، {أَرْسَلْتَ}: فعل وفاعل، {إِلَيْنَا}: متعلق به، {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يقولوا} على كونها جواب النداء {فَنَتَّبِعَ} {الفاء}: عاطفة سببية، {نتبع}: فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التحضيض، {آيَاتِكَ}: مفعول به ومضاف إليه، {وَنَكُونَ}: فعل مضارع ناقص، معطوف على {نتبع}، واسمها ضمير مستتر يعود على المتكلمين، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: خبر {نكون}، وجملة {نكون} معطوف على جملة {نتبع}، وجملة {نتبع} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: هلا إرسالك إلينا رسولًا، فاتباعنا آياتك، فكوننا من المؤمنين. {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاءهم الحق من عندنا فلما جاءهم الحق، {لمّا}: حرف شرط غير جازم، {جَاءَهُمُ الْحَقُّ}: فعل ومفعول وفاعل، {مِنْ عِنْدِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جاء}، أو حال من {الْحَقُّ}، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على تلك المحذوفة، {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا، {أُوتِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود علي محمد، {مِثْلَ}: مفعول ثان لـ {أُوتِيَ}، وهو مضاف، و {مَا}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {أُوتِيَ مُوسَى}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مثل ما أوتيه موسى. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقول أهل مكة ذلك، {لم}: حرف جزم ونفي، {يَكْفُرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}،

{بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {أُوتِيَ مُوسَى}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما أوتيه موسى، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُوتِيَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جملة مفسرة لكفرهم لا محل لها من الإعراب، {سِحْرَانِ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هما؛ أي: التوراة والقرآن، أو موسى ومحمد عليهما السلام سحران، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {تَظَاهَرَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ {سِحْرَانِ}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا} الأول، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {بِكُلٍّ}: متعلق بـ {كَافِرُونَ}، و {كَافِرُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {فَأْتُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتم هذان سحران تظاهرا، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم ائتوا، {أئتوا}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، {بِكِتَابٍ} متعلق به، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {كتاب}؛ أي: بكتاب كائن من عند الله تعالى، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {هُوَ أَهْدَى}: مبتدأ وخبر، {مِنْهُمَا}: متعلق بـ {أَهْدَى}، والجملة الاسمية في محل الجر صفة ثانية لـ {كتاب}، {أَتَّبِعْهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق، والجملة الفعلية جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، {إن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن، الشرطية على كونه فعل شرط لها، {صَادِقِينَ}: خبر {كان}، وجواب إن الشرطية معلوم مما قبلها،

تقديره: إن كنتم صادقين فاتوا بكتاب من عند الله، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَإنِ} {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فإن أجابوا لك إلى ما طلبته منهم، ولن يجيبوا فالأمر واضح، {إن} حرف شرط، {لَمْ}: حرف جزم، {يَسْتَجِيبُوا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف النون، {لَكَ}: متعلق به، {فَاعْلَمْ} {الفاء}: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، {اعلم}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة، {أَنَّمَا} {أن}: حرف نصب ومصدر، ولكنها كفت عن العمل فيما بعدها بـ {ما} الزائدة، {ما}: كافة لكفِّها ما قبلها عن العمل فيما بعدها، أو يقال: أنما أداة حصر، {يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية سادة مسد مفعولي {اعلم}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة، {مَن}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، {أَضَلُّ}: خبره، {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَضَلُّ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الشرطية، أو مستأنفة، {اتَّبَعَ هَوَاهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة {مِنَ} الموصولة، {بِغَيْرِ هُدًى}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {اتَّبَعَ}، أو من مفعوله، {مِنَ اللَّهِ}: صفة لـ {هُدًى}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} خبره، {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {وَصَّلْنَا}: فعل وفاعل، {لَهُمُ}: متعلق بـ {وَصَّلْنَا}، {الْقَوْلَ}: مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة،

{لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَتَذَكَّرُونَ} خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول, {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، {مِنْ قَبْلِهِ}: حال من {الْكِتَابَ}، أو متعلق بـ {آتَيْنَاهُمُ} {هُمْ}: مبتدأ ثان، {بِهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يُؤْمِنُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ الثاني، وجملة الثاني مع خبره: خبر للأول، وجملة الأولى مع خبره مستأنفة. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {يُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على القرآن، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يُتْلَى}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة قوله: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} على كونها خبر المبتدأ، {آمَنَّا} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {بِهِ}: متعلق بـ {آمَنَّا}، {إِنَّهُ الْحَقُّ}: ناصب واسمه وخبره، {مِنْ رَبِّنَا}: جار ومجرور حال من {الْحَقُّ}، وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل الإيمان به، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ قَبْلِهِ}: حال من {مُسْلِمِينَ}، {مُسْلِمِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إِنَّا}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لبيان أن إيمانهم ليس بدعًا ولا مستحدثًا، وإنما هو أمر متقادم العهد. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {يُؤْتَوْنَ}: فعل ونائب فاعل، {أَجْرَهُمْ}: مفعول ثان لأتى, لأنه بمعنى أعطى، {مَرَّتَيْنِ}: منصوب على المصدرية؛ أي: إيتاءين، أو على الظرفية؛ أي: في وقتين، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية؛ أي: بسبب صبرهم الجار والمجرور متعلق بـ {يُؤْتَوْنَ}. {وَيَدْرَءُونَ}: فعل وفاعل، {بِالْحَسَنَةِ}: متعلق بـ {وَيَدْرَءُونَ}، {السَّيِّئَةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {يُؤْتَوْنَ}، {وَمِمَّا} {الواو}: عاطفة، {مما}: متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}، {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما

رزقناهموه، {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {يَدْرَءُونَ}. {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {سَمِعُوا اللَّغْوَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {أَعْرَضُوا}: فعل وفاعل، {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل الرفع معطوفة على جملة {يُؤْتَوْنَ} على كونها خبر المبتدأ. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {أَعْرَضُوا}، {لَنَا}: خبر مقدم، {أَعْمَالُنَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، معطوف على ما قبله، {سَلَامٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونه في الأصل دعاء، أو وصفه بمحذوف، تقديره: منا، {عَلَيْكُمْ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {لَا}: نافية، {نَبْتَغِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {الْجَاهِلِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المتكلمين في قوله: {لَنَا أَعْمَالُنَا}؛ أي: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، أو سلام منا عليكم، حالة كوننا لا نطلب صحبة الجاهلين ومعاشرتهم. التصريف ومفردات اللغة {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} العضد ما بين المرفق والكتف، وفي "إعراب القرآن": العَضُد بفتح العين وضم الضاد، وبالضم وبالكسر: غليظ الذراع، وهو من المرفق إلى الكتف، جمعه أعضاد وأعضد، وهو قوام اليد، وبشدته تشتد اليد، والمراد بشد العضد التقوية والإعانة، {سُلْطَانًا} والسلطان: التسلط والغلبة، {مُفْتَرًى}؛ أي: مختلق لم يفعل قبل هذا الوقت مثله، أو تعلمته ثم افتريته على الله، اهـ "أبو السعود". {عَلَى الطِّينِ} والطين هو التراب والماء المختلط؛ أي: أوقد لي على الطين

بعد جعله لبنًا فتكون آجرًا، {أَطَّلِعُ}؛ أي: أصعد وأرتقي، والطلوع والاطلاع الصعود، يقال: طلع الجبل واطلع بمعنى، وان نفسك لطلعة إلى هذا الأمر، وإنها لتطلع إليه؛ أي: تُنازع. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} والاستكبار إظهار الكبر باطلًا، بخلاف التكبر، فإنه أعم، والكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، {لَا يُرْجَعُونَ}؛ أي: لا يُردون بالبعث للجزاء، من رُجع رجعًا، إذا رُد وصُرف، {فَنَبَذْنَاهُمْ}؛ أي: فطرحناهم، قال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه، لقلة الاعتداد به، {أَئِمَّةً}؛ أي: قدوة يقتدي بهم أهل الضلال، فيكون عليهم وزرهم وزر من تبعهم، {لَعْنَةً}؛ أي: طردًا من الرحمة. {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} جمع مقبوح، والمقبوح المطرود؛ أي: من المخزيين، يقال: قبَّحه الله إذا طرده ونحاه من كل خير، وفي "المصباح": قبح الشيء قبحًا فهو قبيح، من باب قرب، وهو خلاف حسن، {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}؛ أي: من المبعدين عن الفوز، والتثقيل مبالغة، وقبَّح عليه فعله تقبيحًا، وقال أبو زيد: قبح الله فلانًا قُبْحًا وقُبوحًا: أبعده من كل خير، وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبَّحْتُ بالتشديد، ومثله قول الشاعر: ألَا قَبَحَ الله الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا ... وَقَبَحَ يَرْبُوْعًا وَقَبَحَ دَارِمَا {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} قال الراغب: الهلاك الموت، لم يذكره الله سبحانه حيث يُفقد الذمُّ إلا في قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}، وقوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، وقوله: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}، والقرون جمع قرن، وهو القوم المقترنون في زمان واحد. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} والبصائر جمع بصيرة، وهي نور القلب الذي به يُستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر، والبصيرة العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة، يقال: جوارحه بصيرة عليه؛ أي: شهود، وفراسة ذات بصيرة؛ أي: صادقة، والجمع بصائر، وقوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}؛ أي: أنوارًا لقلوبهم تبصر بها

الحقائق، وتميز بها بين الحق والباطل، بعد أن كانت عُميًا عن الفهم والإدراك بالكلية. {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} والعُمْر والعُمُر بالفتح والضم وبضمتين: الحياة، قال الراغب: العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة؛ أي: طال عليهم الحياة وتمادى الأمد، {ثَاوِيًا}؛ أي: مقيمًا، يقال: ثوى يثوى - من باب ضرب - ثواءً وثويًا، فهو ثاو المكان وفيه وبه أقام، وثوى الرجل إذا مات. قال عُبيد بن الأبرص في مطلع معلَّقته: آذَنَتْنَا بَبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثُّوَاءُ {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} والمصيبة العقوبة، قال الراغب: أصلها في الرمية ثم اختص بالمعاقبة، {تَظَاهَرَا}؛ أي: تعاونا وتناصرا، والتظاهر التعاون. {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} والتوصيل مبالغة في الوصل، وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين، والتوصيل ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض، قال شاعرهم: فَقُلْ لِبَنِيْ مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّتِيْ ... بِحَبْلٍ ضَعِيْفٍ مَا يَزَالُ يُوَصَّلُ والمراد به هنا إنزال القرآن منجمًا مفرقًا يتصل بعضه ببعض. {اللَّغْوَ} اللغو الساقط من الكلام، وكل ما حقه أن يُلغى ويُترك من العبث وسخف القول، {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} الابتغاء الطلب، والجهل معرفة الشىء على خلاف ما هو عليه؛ أي: لا نطلب صحبتهم ولا مخالطتهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب، بمرتبتين تتبع إحداهما ثانيتهما، فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد، وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية،

واختار الشهاب في "حاشيته على البيضاوي" أن يكون كناية تلويحية، قال: الشد التقوية، فهو إما كناية تلويحية عن تقويته, لأن اليد تشد بشد العضد، والجملة تشد بشد اليد، أو استعارة تمثيلية شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بالعضد. ومنها: الإطناب البديع في قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} ولم يقل اطبخ لي الآجر, لأنه تركيبه مع سهولة لفظه ليس بفصيح، وذلك أمر يقرره الذوق وحده، فعبر عن الآجر بالوقود على الطين، فإن هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن وعلو طبقته. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}؛ أي: أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حُذف أداة الشبه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. قال في "حاشية البيضاوي": أي: مشبهًا بأنوار القلوب، من حيث إن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء، لا تستبصر، ولا تعرف حقًا من باطل. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {أَنْشَأْنَا قُرُونًا}؛ أي: أهل قرون, لأن المراد به الأمم, لأنهم يُخلقون في تلك الأزمنة، فنُسبوا إلى القرون بطريق المجاز العقلي. ومنها: جناس التحريف في قوله: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} وهو ما يفوق فيه بين الكلمتين، أو بعضهما بضبط الشكل، مثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري: وَالْحُسْنُ يَظْهَرُ فِيْ شَيْئَيْنِ رَوْنَقُهُ ... بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أوْ بَيْتِ مِنَ الشَّعْرِ ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فإن المراد بما كسبوا، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جُعل كل عمل معبرًا عنه باجتراح الأيدي.

ومنها: حذف الجواب لدلالة السياق عليه في قوله: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} حُذف منه الجواب، تقديره: ما أرسلناك يا محمد رسولًا إليهم , وهو من باب الإيجاز بالحذف. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى}؛ أي: هلا أوتي، فهي للتحضيض، وليست حرف امتناع لوجود. ومنها: تكرار حرف الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا}، وبقوله: {وَلَكِنَّا كُنَّا}، وبقوله: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}. ومنها: تكرار لولا بقوله: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} وبقوله: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} وبقوله: {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ}، ولكن الأولى حرف امتناع لوجود، والأخيرتان حرفا تحضيض. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}. ومنها: تكرار {أُوتِيَ} ثلاث مرات. ومنها: الطباق في قوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}. ومنها: التعجيز في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ} فالأمر خرج فيه عن حقيقته إلى معنى التعجيز. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ...}

الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به، وجاؤوا إليه زرافات ووحدانًا من كل فج عميق، وجابوا الفيافي، وقطعوا البحار للإيمان به، بعد أن سمعوا أخباره، وترامت لهم فضائله وشمائله، وقد كان في هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به، وأن تُحدِّثه نفسه الشريفة بالطمع في إيمانهم، ودخول الهدى في قلوبهم، والانتفاع بما آتاه الله من العرفان، فتكون لهم به السعادة في الدنيا والآخرة .. أردف ذلك الآية الأولى تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم ينجع في قومه الذين يُحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص إنذاره وإبلاغه، فيقبلوا ما جاء به، بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى}، فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به، وقالوا: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا}. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه يكون وبالًا على الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب .. أردف ذلك بيان ما يحصل في هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين، حين يسألهم سؤالات يحارون في الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصًا، ومعذرة تُبرِّر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أولًا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون، ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردًا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي تُنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضًا عما يلقنه من حجة لهول الموقف، واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذٍ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبيَّن أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلًا من ربهم ورحمة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وبخهم (¬1) فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكمًا بهم، وتقريعًا لهم .. أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه، واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض واصطفاءه على غيره من حق الله، لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم، وتفضل به من المنن .. أردف هذا تفصيل ما يجب أن يُحمد عليه منها, ولا يقدر عليه سواه. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) وبَّخ المشركين أولًا على فساد رأيهم في اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله .. عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيًا، ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محض الهوى، كما يُرشد إلى ذلك قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}. أسباب النزول قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬3) مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "يا عماه قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة"، فقال: لولا أن تعيِّرني قريش، يقولون: ما حمله على ذلك إلا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[56]

جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. قوله: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس: أن أناسًا من قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن نتبعك يخطفنا الناس، فنزلت هذه الآية. وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، ونحن أكلة رأس - يريد أنا قليلو العدد - أن يتخطفونا، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى ...} الآية. قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج عنه من وجه آخر أنها نزلت في حمزة وأبي جهل. التفسير وأوجه القراءة 56 - {إِنَّكَ} يا محمد {لَا تَهْدِي} هداية موصلة إلى المقصود لا محالة، {مَنْ أَحْبَبْتَ} هدايته (¬1)، وقيل: أحببته لقرابته؛ أي: إنك يا محمد لا تستطيع هداية من أحببت من قومك، أو من غيرهم هداية موصلة إلى البغية، ولا تقدر أن تدخله في الإِسلام، وإن بذلت فيه غاية الطاقة، وسعيت كل السعي، {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته فيدخله في الإِسلام؛ أي: إن الله سبحانه يقذف في قلب من يشاء نور الهداية فينشرح صدره للإسلام، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة في ذلك، وإنما عليك البلاغ. {وَهُوَ} سبحانه {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}؛ أي: بالمستعدين للهداية من غيرهم، فلا يهدي إلا المستعد لها، فيُمْنَحونها، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، دون من هم من أهل الغواية، كقومك وعشيرتك. وفي "الخازن": {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}؛ أي: بمن قدر له في الأزل أن يهتدي. اهـ. ¬

_ (¬1) الخازن.

[57]

قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولًا أوليًا، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طالب عند الموت: "يا عم قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة" قال: لولا أن تعيرني قريش - يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك، ثم أنشد مخاطبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وَدَعَوْتَنِيْ وَعَلِمْتُ أنَّكَ صَادِقٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِيْنَا وَلَقْدَ عَلِمْتُ بِأن دِيْنَ مُحمدٍ ... مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا لَوْلَا الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيْنَا ولكن أنا على ملة الأشياخ، عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، ثم مات فأتى علي ابنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: عمك الضال قد مات، فقال له: "اذهب فواره"، وما تقدم من أنه لم يؤمن حتى مات هو الصحيح. وبمعنى الآية قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}. فإن قلت (¬1): إن بين هذه الآية وآية {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تناقضًا فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: يُجمع بينهما بأن المنفي هنا خلق الهداية التي هي عبارة عن تقليب القلب من الباطل - وهو ما سوى الله - إلى الحق، وهو الله سبحانه، فليس هذا من شأن غير الله سبحانه، والمثبت هناك الدلالة على الدين القويم، وهذا هو الذي كان من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من كل مرشد. 57 - ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباعهم للهدى، فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: قال مشركو مكة ومن تابعهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} وندخل في ¬

_ (¬1) البيضاوي بتصرف وزيادة.

دينك يا محمد {نُتَخَطَّفْ}؛ أي: نؤخذ ونُخرج {مِنْ أَرْضِنَا} مكة. ومعنى اتباع الهدى معه الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في الدين والسلوك إلى طريق الرشاد، والتخطف هو الانتزاع والاختلاس بسرعة. وقرأ الجمهور: {نُتَخَطَّفْ} بالجزم جوابا للشرط. وقرأ المنقري: بالرفع على الاستئناف، مثل قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} برفع الكاف؛ أي: فهو يدرككم الموت، والمعنى؛ أي: وقال كفار مكة: لقد نعلم يا محمد أنك على الحق، وأنك ما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم، ولكنا نخاف ونخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا العرب أن يتخطفونا؛ أي: أن يأخذونا ويسلبونا ويقتلونا، ويخرجونا من مكة والحرم لإجماعهم على خلافنا، وهم كثيرون، ونحن أكلة رأس؛ أي: قليلون، لا نستطيع مقاومتهم. ثم رد الله ذلك عليهم ردًا مصدرًا باستفهام تقرير مضمن للتوبيخ، فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} والهمزة فيه للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرمًا ذا أمن, لحرمة البيت الذي فيه، وذلك (¬1) أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة. ثم وصف هذا الحرم بقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ}؛ أي: يُجلب إلى ذلك الحرم، ويُجمع إليه، ويُحمل من الشام ومصر والعراق ومن أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكيا وغيرها برًا وبحرًا وجوًا {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} من أنواع الثمار والفواكه والحبوب؛ أي: يُحمل ويُجلب إليه أنواع الثمرات والفاكهات والخضروات والأبازير والبضاعات، من مشارق الأرض ومغاربها، برًا وبحرًا وجوًا، فلا ترى شرقي الفواكه ولا غربيَّها مجمعة إلا في مكة، لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث ¬

_ (¬1) الخازن.

قال: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ومعنى (¬1) الكلية الكثرة، والجملة صفة أخرى لحرمًا، دافعة لما عسى يُتوهم أو تضررهم بانقطاع الميرة، وهو الطعام المجلوب أو بلد إلى بلد. وقرأ الجمهور (¬2): {يُجْبَى} بالتحتية اعتبارًا بتذكير كل شيء، ووجود الفاصل بين الفعل وثمرات، وأيضًا ليس تأنيث ثمرات بحقيقي، واختار قراءة الجمهور أبي عبيد لما ذكرنا، وقرأ نافع وجماعة عز يعقوب وأبو حاتم عز عاصم: {تُجبى} بالتاء الفوقية اعتبارًا بثمرات، وقرأ (¬3) الجمهور أيضًا: {ثَمَرات} بفتحتين، وقرأ أبان بن تغلب: بضمتين، جمع ثُمُر بضمتين، وقرأ بعضهم: {ثمرات} بفتح الثاء لاسكان الميم، وانتصاب {رِزْقًا} على أنه مصدر مؤكد لمعنى يُجبى؛ لأن فيه معنى يرزق؛ أي: يرزقون رزقًا. {مِنْ لَدُنَّا}؛ أي: من عندنا، لا أو عند المخلوقات، فإذا كان حالهم هذا، وهم عبدة الأصنام، فكيف يخافون التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأن ذلك الرزق هو أو عندنا، أي: أكثر أهل مكة جهلة، لا يتفطنون له ولا يتفكرون، ليعلموا ذلك لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم، وعدًا تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم، لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة. وحاصل المعنى: أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أو يكون عذرًا؛ لأنا جعلناكم في بلد أمين، وحرم معظَّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا لكم حال كفركم وشرككم، ولا يكون أمنًا لكم وقد أسلمتم، واتبعتم الحق. قال يحيى بن سلام: يقبل سبحانه: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذ عبدتموني، وآمنتم بي، وقد تفضل عليكم ربكم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[58]

وأطعمكم من كل الثمرات، التي تُجلب أو أرجاء الأرض ونواحيها، من كل بلد رزقًا منه لكم، ولكن أكثر أهل مكة جهلة، لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، ومن ثم قالوا ما قالوا، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم أو ربهم، فهو الذي يُخشى ويُتقى، لا سواه من المخلوقين. 58 - وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}؛ أي: وأهلكنا كثيرًا من أهل قرية بطرت وطغت، وكفرت في معشيتا، وأساءت في حقوق نعم الله عليها من الشكر، تخويف (¬1) لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة، وقابلوها بالبطر فأُهلكوا، ورد لقولهم (¬2): {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ ...} إلخ، فقد اعتقدوا أنهم ما داموا على دينهم فإنهم في أمن، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء، فبيَّن الله لهم أو الأمر بالعكس، وهو إن تركوا دينهم وأسلموا أمنهم الله من عذاب الدنيا والآخرة، وإن داموا على دينهم، يؤمنهم الله أو عذاب الدارين، بدليل أنه أهلك كثيرًا أو القرى بأنواع العذاب لكفرهم. وهذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم، أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية، الذين كانوا في رغد أو العيش، فكذبوا الرسل، فازال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم. وفي أبي السعود: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ...} إلخ، بيَّن الله (¬3) بهذا أو الأمر بالعكس، وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله، ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم؛ أي: وكثيرًا من أهل القرى كان حالهم كحال هؤلاء في الأمن والمخصب، فبطروا وطغوا فدمرهم الله، وخرَّب ديارهم. اهـ. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. اهـ وإجمال ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الفتوحات. (¬3) أبي السعود.

[59]

هذا: إن قولكم لا نؤمن خوفًا من زوال النعم ليس بحق، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم. {فَتِلْكَ} القرى التي تمرون عليها في أسفاركم إلى الشام، كديار ثمود وقوم شعيب، {مَسَاكِنُهُمْ}؛ أي: مساكن الذين ظلموا - ومنازلهم قد خربت - باقية الآثار، تشاهدونها في ذهابكم وإيابكم، حالة كونها {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد هلاكهم {إِلَّا قَلِيلًا} من الزمن للمارة، فإنهم يلبثون فيها يومًا أو بعض يوم للاستراحة والعبرة، ويحتمل (¬1) أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم، فلم يبق أو يسكنها أو أعقابهم إلا قليلًا، إذ لا بركة في سُكنى الأرض الشؤم، وقال بعضهم: سكنها الهام والبوم، ولذا كان أو تسبيحها سبحان الحي الذي لا يموت، وقيل: لم يُعمر منها إلا أقلها، وأكثرها خراب. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} منهم لتلك المساكن؛ لأنهم، يتركوا وارثًا يرث منازلهم وأموالهم، ولم يخلفوا أحدًا يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وصار أمرها إلى الله تعالى؛ لأنه الباقي بعد فناء الخلق، والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل أنه ميراث الله؛ لأنه هو الباقي بعد خلقه. ونحو الآية قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (113)}. 59 - ثم أخبر سبحانه عن عدله، وأنه لا يُهلك أحدًا إلا بعد الإنذار، وقيام الحجة بإرسال الرسل، فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى}؛ أي: وما كانت عادة ربك يا محمد وسنته في كل زمان أن يُهلك أهل القرى قبل الإنذار {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا}؛ أي: في أصلها وكُبْراها التي تلك القرى سوادها وأتباعها، وخص الأصل والكبرى لكون أهلها أفطن وأشرف، والرسل إنما تبعث غالبًا إلى الأشراف، وهم غالبًا يسكنون المدن والقصبات - جمع قصبة - وهي العاصمة. {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} الناطقة بالحق، ويدعوهم إليه بالترغيب حينًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

والترهيب حينًا آخر، وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة. والمعنى (¬1): أي وما صح ولا استقام أو يكون الله سبحانه مهلك القرى الكافرة حتى يبعث في أمها رسولًا، يُنذرهم ويتلو عليهم آيات الله، الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعده من الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى أمها أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها؛ لأن فيها أشراف القيم، وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى، وقال الحسن: أم القرى أولها. وفي "التكملة": الأم هي مكة، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن الأرض دُحيت أو تحتها، فيكون المعنى: وما كان ربك يا محمد مهلك البلدان التي هي حوالي مكة في عصرك وزمانك حتى يبعث في أمها؛ في: في أم القرى التي هي مكة رسولًا، هو أنت. {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} بالعقوبة بعد بعثنا في منها رسولًا يدعوهم إلى الحق، ويرشدهم إليه في حال أو الأحوال {إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}؛ أي: إلا حال كون أهلها ظالمين بتكذيب رسولنا، والكفر بآياتنا، فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية، لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث، وهذه الجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} والاستثناء فيها مفرَّغ من أعم الإرواء، كما قدَّرنا. ودلت الآية (¬2): على أو الظلم سبب الهلاك، ولذا قيل: الظلم قاطع الحياة ومانع النبات، وكذا الكفران، يقال: النعم محتاجة إلى الأكفاء، كما تحتاج إليها الكرائم من النساء، وأهل البطر ليسوا من أكفاء النعم، كما أن الأراذل ليسوا أكفاء عقائل الحُرُم - جمع عقيلة - وعقيلة كل شيء أكرمه، وحرم الرجل أهله، فكما أن الكريمة أو النساء ليست بكفءٍ للرذيل من الرجال، فيفرَّق بينهما للحوق العار، فكذا النعمة تُسْلب من أهل البطر والكبر والغرور والكفران، وأما أهل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[60]

الشكر فلا يضيع سعيهم بل يزداد حسن حالهم، ولله تعالى رزق واسع في البلاد، ولا فرق فيه بين الشاكر والكفور من العباد. فعلى (¬1) العاقل أن يعرف الله تعالى، ويعرف قدر النعمة، فيقيِّدها بالشكر، ولا يضع الكفر موضع الشكر، فإنه ظلم صريح يحصل منه الهلاك مطلقًا، إما للقلب بالإعراض عن الله تعالى ونسيان أن العطاء منه، وإما للقالب بالبطش الشديد، وكم رأينا في الدهر من أمثاله من خرب قلبه، ثم خرب داره، ووجد آخر الأمر بواوه، ولكن الإنسان من النسيان، لا يتذكر ولا يعتبر، بل يمضي على حاله من لغفلة، أيقظنا الله وإياكم من نوم الغفلة في كل لحظة، وشرفنا في جميع الساعات باليقظة الكاملة المحضة. 60 - {وَمَا} مبتدأ متضمنة لمعنى الشرط لدخول الفاء في خبرها، بخلاف الثانية، {أُوتِيتُمْ} أي: أُعطيتم، والخطاب لكفار مكة كما في "الوسيط"، {مِنْ شَيْءٍ} من أسباب الدنيا {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا}، أي: فهو شيء شأنه أن يُتمتع ويُتزين به أيامًا قلائل، ثم أنتم وهو إلى فناء وزوال، سمي منافع الدنيا متاعًا؛ لأنها تفنى ولا تبقى كمتاع البيت. أي (¬2): وما أُعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم فهو شيء عادته أن يُنتفع به، ويُتزين به أيام حياتكم، وقُرىء: {فمتاعًا الحياة الدنيا} بنصب الكلمتين، الأولى على المصدرية، والثانية على الظرفية؛ أي: يتمتعون متاعًا في الحياة الدنيا. {وَمَا} موصولة؛ أي: والجزاء الذي ادُّخِر {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وهو الثواب {خَيْرٌ} لكم في نفسه من ذلك؛ لأنه لذة خالصة من شوائب الألم، وبهجة كاملة عارية من مسة الهمم {وَأَبْقَى} لأنه أبدي، وهذا ينقضي بسرعة؛ أي: فمنافع الآخرة لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا، فتصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها، كالذرة بالقياس إلى البحر، فكيف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

قلتم: تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا؟!. وقيل: {مَا} شرطية {مِنْ شَيْءٍ} بيان لها، وقوله: {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} خبر مبتدأ محذوف، والجملة جوابها، أي: فهو متاع الحياة الدنيا. والمهزة في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية، والآخرة باقية؛ أي: ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الأمر الواضح، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتؤثرون الشقاوة الحاصلة من الكفر والمعاصي على السعادة المتولدة من الإيمان والطاعات. وقرأ الجمهور (¬1): {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بالتاء الفوقانية على خطابهم وتوبيخهم، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة، ونسب هذه القراءة أبو علي في "الحجة" إلى أبي عمرو وحده، وفي "التحرير والتحبير" بين الياء والتاء عن أبي عمرو، وقرأ أبو عمرو: {يعقلون} بالياء إعراض عن خطابهم، وخطاب لغيرهم، كأنه قال انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم، وقراءة الجمهور أرجح لقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ}. ومعنى الآية (¬2): أي وما أُعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد فإنما هو متاع، تتمتعون به في الحياة الدنيا، وتتزينون به فيها، وهو لا يُغني عنكم شيئًا عند ربكم، ولا يُجديكم شروى نقير لديه، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته، لدوامه وبقائه، بخلاف ما عندكم، فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير، ونحو الآية قوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}، وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}، وقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)}. وفي الحديث: "والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر ماذا يرجع إليه". {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي: أفلا عقول لكم أيها القوم، تتدبرون بها فتعوفوا الخير من الشر، وتختاروا لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما، وتؤثروا الدائم الذي لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[61]

نفاد له على الفاني الذي ينقطع، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس، صُرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة الله تعالى، وكأنه - رحمه الله - أخذه من هذه الآية. قوله تعالى (¬1): {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} فإن قلت: لم قاله هنا بالواو وفي الشورى بالفاء، حيث قال: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}؟ قلت: لأن ما هنا لم يتعلق بما قبله كبير تعلق، فناسب الإتيان به بالواو المقتضية لمطلق الجمع، وما هناك متعلق بما قبله أشد تعلق، لأنه عقَّب مالهم من المخافة بما لهم من الأمنة، فناسب الإتيان به بالفاء المقتضية للتعقيب. فإن قلت: قال هنا بزيادة {وَزِينَتُهَا} وفي الشورى بحذفه؟ قلت: لأن ما هنا لسبقه قصد ذكر جميع ما بُسط من رزق أعراض الدنيا، فذكر {وَزِينَتُهَا} مع المتاع، ليستوعب جميع ذلك، إذ المتاع ما لا بد منه في الحياة، من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومنكوح، والزينة ما يتجمل به الإنسان، وحذفه في الشورى اختصارًا لعلمه من المذكور هنا. 61 - ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما في الدنيا من زينة فقال: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أمتاع الدنيا وزينتها كما عند الله، فمن وعدناه وعدًا حسنًا كمن متعناه متاع الحياة الدنيا. وعبارة "أبي السعود" هنا: والفاء لترتيب إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله. اهـ، و {من} (¬2) موصولة مبتدأ؛ أي: فمن وعدناه على إيمانه وطاعته {وَعْدًا حَسَنًا} هو الجنة وما فيها من النعم التي لا تُحصى، فإن حسن الوعد بحسن الموعود به. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

{فَهُوَ}؛ أي: ذلك الموعود له {لَاقِيهِ}؛ أي: لاقي ذلك الوعد الحسن، ورائيه ومصيبه ومدركه لا محالة، لاستحالة الخلف في وعده تعالى محمدًا وأصحابه، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، {كَمَنْ} موصولة خبر للأولى؛ أي: كمن {مَتَّعْنَاهُ} وأعطيناه {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من المال والخدم، كأبي جهل وأضرابه. وقوله تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} للحساب أو النار والعذاب، معطوف (¬1) على قوله: {مَتَّعْنَاهُ} داخل معه في حيز الصلة، مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له. والمعنى: ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أُحضروا للعذاب اقتضاه المقام، والاستفهام للإنكار كما مر؛ أي: ليس حالهما سواء، فإن الموعود بالجنة لا بد أن يظفر بما وُعد به، مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن، وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتع بشيء من الدنيا، يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه، وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟ لا. وقرأ طلحة: {أمن وعدناه} بغير فاء، وقرأ الجمهور: {ثم هو} بضم الهاء، وقرأ الكسائي وقالون: بسكون الهاء إجراءً لثم مجرى الواو والفاء. وعبارة البروسوي هنا قوله: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (¬2) وثم للتراخي في الزمان؛ أي: لتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع، أو في الرتبة. ومعنى الفاء في {أَفَمَنْ} ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله؛ أي: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين؛ أي: لا يسوَّى بينهما، فليس من أكرم بالوعد الأعلى ووجدان المولى، وهو المؤمن، كمن أُهين بالوعيد والوقوع في الجحيم في العقبى، وهو الكافر، وذلك بإزاء شهوة ساعة وجدها في الدنيا، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[62]

ويقال: رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزنًا طويلًا. والمعنى (¬1): أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فآمن بما وعدناه وأطاعنا، فاستحق أن ننجز له وعدنا، فهو لاقيه حتمًا وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا، ونسي العمل بما وعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه وأليم عقابه؟ وهذه الآية تبين حال كل كافر متمتع في الدنيا بالعافية والغنى، وله في الآخرة النار، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة، وخلاصة ذلك: أفمن سمع كتاب الله فصدق به، وآمن بما وعده الله فيه، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا، وقد كفر بالله وآياته، ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه، الجواب الذي لا ثاني له أنهما لا يستويان في نظر العقل الراجح. وتلخيص المعنى: أنهم لما قالوا: تركنا الدين للدنيا .. قيل لهم: لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضي بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم، وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح. 62 - قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} إما معطوف على يوم القيامة، أو منصوب باذكر المقدر، والمراد به يوم القيامة، والضمير للكفار؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينادي الكفار ربهم، وهو عليهم غضبان {فَيَقُولُ} تفسير للنداء؛ أي (¬2): فيقول الله سبحانه لهم توبيخًا وتقريعًا: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم، ومفعولا {تَزْعُمُونَ} محذوفان؛ أي: تزعمونهم شركائي، لدلالة الكلام عليهما؛ أي: أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة معي في استحقاق العبادة، وتزعمون في الدنيا أنهم يشفعون لكم في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

[63]

الآخرة، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم. والمعنى (¬1): أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادي رب العزة هؤلاء الذين يضلون الناس، ويصدون عن سبيل الله، فيقول لهم: أين شركائي من الملائكة والجن والكواكب والأصنام، الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم لي شركاء؟ ليخلصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب، وهذا السؤال للإهانة والتحقير، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون، ونحو الآية قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}. قال في "كشف الأسرار": وسؤالهم عن ذلك ضرب من ضروب العذاب، لأنه لا جواب لهم إلا ما فيه فضيحتهم، واعترافهم بجهل أنفسهم. 63 - ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال، فقال: {قَالَ} (¬2) استئناف مبني على حكاية السؤال، كأنه قيل: فماذا صدر عنهم حينئذ فقيل: قال: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} في الأزل بأن يكونوا من أهل النار، يدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ...} الآية، كما في "التأويلات النجمية". وقال بعض أهل التفسير: معنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ثبت مقتضاه، وتحقق مؤداه، وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وغيره من آيات الوعيد، والمراد بهم شركاؤهم من الشياطين، أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أربابًا من دون الله، بأن أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوهم عنه. وتخصيصهم بهذا الحكم مع شموله للأتباع أيضًا، لأصالتهم في الكفر، واستحقاق العذاب، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة، لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحقارهم وتوبيخهم بالإضلال، وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا {رَبَّنَا}؛ أي: يا مالك أمرنا {هَؤُلَاءِ} الأتباع والعبدى، مبتدأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

{الَّذِينَ} خبره {أَغْوَيْنَا} صلة الموصول، حذف منها العائد، ومرادهم با لإشارة بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم، وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده؛ أي: قال الرؤساء: يا ربنا هؤلاء الأتباع والعبدة هم الذين أغويناهم، وأضللناهم بتسويلنا لهم، ودعوناهم إلى الغي والضلال {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}؛ أي: أضللناهم كما ضللنا، فغووا غيًا مثل غيِّنا. والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان، كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم فقبلوا منا، وهو استئناف (¬1) للدلالة على أنهم غووا باختيارهم، وأنهم لم يفعلوا لهم إلا وسوسة وتسويلًا، وهذا هو الجواب في (¬2) الحقيقة، وما قبله تمهيد له؛ أي: ما أكرهناهم على الغي، وإنما أغوينا بما قضيت لنا ولهم الغواية والضلالة، يعنون (¬3) أنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغوائنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلًا، فلا فرق إذًا بين غيِّنا وغيِّهم، وإن كان تسويلنا داعيًا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، وهو كقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. ولم يقولوا: أغويناهم كما أغويتنا، كما قال إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} تأدبًا مع الرب سبحانه، وقرأ (¬4) أبان عن عاصم وبعض الشاميين: {كَمَا غَوَيْنَا} كسر الواو، قال ابن خالويه، وليس ذلك مختارًا؛ لأن كلام العرب غويت من الضلالة، وغويت من البشم. {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} يا رب منهم، ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوًى منهم، وهو تقرير لما قبله، ولذا لم يُعطف عليه، قوله: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} إيانا مفعول {يَعْبُدُونَ}؛ أي: ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم، ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي. (¬4) البحر المحيط.

[64]

ويطيعون شهواتهم، والمعنى: أن رؤساء الضلال أو الشياطين تبرووا ممن أطاعهم، قال الزجاج: برىء بعضهم من بعض، وصاروا أعداء، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. وحاصل معنى الآية: أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر - الذين حق عليهم غضب الله، ولزمهم الوعيد بقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فدخلوا النار -: ربنا هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم أغويناهم باختيارهم، كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل، لا القسر والإلجاء، فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال. وخلاصة ذلك: أن تبعة غيِّهم واقعة عليهم، لا علينا، إذ لم نلجئهم إلى ذلك، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب، فإن كان تسويلنا لهم داعيًا إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع من الأدلة العقلية، وبعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد، والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفًا عن الكفر داعيًا إلى الإيمان. ثم زاد الجملة الأولى توكيدًا بقوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم، ومما اختاروه من الكفر والمعاصي، اتباعًا لهوى أنفسهم، فلا لوم علينا في الحقيقة بسببهم، ونحو الآية {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}. ثم ذكر ما هو كالعلة لنفي الشبهة عنهم، فقال: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي: هم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم، 64 - ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخًا لهم وتهكمًا بهم، فقال: {وَقِيلَ} من عبد غير الله تعالى توبيخًا وتهديدًا، والقائلون الخزنة {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم العذاب. {فَدَعَوْهُمْ}؛ أي: فدعا العابدون معبوداتهم عند ذلك لشدة حيرتيهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا}؛ أي: المعبودون {لَهُمْ} أي: للعابدين ولا نفعوهم بوجه من وجوه

[65]

النفع، ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، {وَرَأَوُا}؛ أي: كل من العابدين والمعبودين {الْعَذَابَ} قد غشيهم، وتمنوا {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} في الدنيا؛ أي: وتمنوا عندئذٍ كونهم مهتدين في الدنيا، على أن {لَوْ} مصدرية معمولة لمحذوف، وقيل: إن {لَوْ} شرطية جوابها محذوف، تقديره: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة، وقيل: {لَوْ} هنا للتمني؛ أي: تمنوا كونهم مهتدين، لا ضالين (¬1)، وقيل: المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب. وحال المعنى (¬2): أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد في الدنيا: ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلًا منكم شركتهم لله، ليدفعوا العذاب عنكم، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة، فلم يجيبوهم عجزًا منهم عن الإجابة، والمقصود من طلب ذلك منم فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، بدعاء من لا نفع له، ولا فائدة منه. ثم بيَّن حالهم حينئذٍ، وتمنِّيهم أن لو كانوا وُفِّقوا في الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد، فقال: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}؛ أي: وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودوا حين عاينوا لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا، ونحو الآية قوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}. 65 - وبعد أن سُئِلوا عن إشراكهم بالله - توبيخًا لهم - سُئلوا عن تكذيبهم الأنبياء، كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينادي الله سبحانه وتعالى الكفار نداء تقريع وتوبيخ {فَيَقُولُ} الله سبحانه تفسيرًا للنداء {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} الذين أرسلتهم إليكم حين دعوكم إلى توحيدي وعبادتي، ونهوكم عن الشرك والمعاصي؛ أي: أي شيء كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين، حين بلَّغوكم رسالتي، أبالتصديق أم بالتكذيب؟ فهو معطوف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[66]

على ما قبله، فسُئلوا أولًا عن إشراكهم، وثانيًا عن جوابهم الرسل الذين نهوهم عت ذلك. ذكره "أبو السعود". والمعنى (¬1): أي واذكر يا محمد يوم ينادي المشركين ربُّهم، وقد برز الناس في صعيد واحد، منهم المطيع، ومنهم العاصي، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، فيقول لهم: ماذا أجبتم المرسلين، فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام. 66 - ثم بيَّن أنهم لا يحارون جوابًا، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم، فقال: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} أي: فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سُئلوا عن ذلك، ولم يجدوا معذرة يُجيبون بها، فلم يكن لهم إلا السمكوت جوابًا، والمراد بالأنباء (¬2) ما أجابوا به الرسل أو ما يعصها، وإذا كانت الرسل يفوِّضون العلم في ذلك المقام الهائل إلى علَّام الغيوب، مع نزاهتهم عن غائلة السؤال، كما قال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}. فما ظنُّك بهؤلاء الضلال. قال أهل التفسير: أي صارت الأنباء كالعمى عنهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء؛ أي: الأخبار، وقد عكس بأن أثبت العمى الذي هو حالهم للأنباء مبالغة، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء والاشتباه. ثم بيَّن أنه تخفي عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم في الدنيا، فقال: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: فلا يسأل بعضهم بعضًا عن الجواب النافع، كما يتساءل الناس في المشكلات؛ لأنهم يتساوون جميعًا في العجز عن الجواب المنجي، لما اعتراهم من الدهشة، وعظيم الهول فلا نطق ولا عقل، أو لعلمهم بأن الكل سواء في الجهل، وفي "الخازن": {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: لا يجيبون ولا يحتجون، وقيل: يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضًا. اهـ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوى.

[67]

وقرأ الجمهور (¬1): {فَعَمِيَتْ} بفتح العين وتخفيف الميم، وقرأ الأعمش وجُناح بن حُبيش وأبو زرعة هرم بن عمرو بن جرير: بضم العين وتشديد الميم، والمعنى: أُظلمت عليهم الأمور فلم يستطيعوا أن يُخبروا بما فيه نجاة لهم. وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه، وقرأ طلحة: {يَتَسَاءَلُونَ} بإدغام التاء في السين؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضًا فيما يتحاجون به، إذ أيقنوا أنه لا حجة لهم، فهم في عمى وعجز عن الجواب، والمراد بالنبأ الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله. 67 - ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم فيه أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحًا، فإنه مرجوٌّ له الفلاح والفوز في الآخرة، وهذا ترغيب للكافر في الإِسلام، وضمان له بالفلاح، فقال: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} من الشرك {وَآمَنَ} بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا}؛ أي: خالصًا لوجه الله {فَعَسَى}؛ أي: فحق {أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}؛ أي: من الفائزين بالمطلوب عند الله تعالى الناجين من المكروه. و {عَسَى} وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله سبحانه واجب، مفيد للتحقق، على ما هو عادة الكرام، وقيل: إن الترجي هو من التائب المذكور، لا من جهة الله سبحانه، بمعنى فليتوقع الفلاح، والمعنى (¬2): فأما من تاب من المشركين وراجع الحق، وأخلص لله بالألوهية، وأفرد له العبادة وصدَّق نبيَّه، وعمل بما أمر به في كتابه على لسان نبيه فهو من الفائزين الذين أدركوا مطالبهم، وفازوا بجنات النعيم، خالدين فيها أبدًا. قال في "كشف الأسرار": إنما قال: {فَعَسَى} (¬3) يعني إن دام على التوبة والعمل الصالح، فإن المنقطع لا يجد الفلاح، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، فينبغي لأهل الآخرة أن يباشروا الأعمال الصالحة، ويدوموا على أورادهم، وللأعمال تأثير عظيم في تحصيل الدرجات، وجلب المنافع والبركات، ولها نفع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[68]

لأهل السعادة في الدنيا والآخرة، ولأهل الشقاوة لكن في الدنيا فقط، فإنهم يجلبون بها المقاصد الدنيوية من المناصب والأموال والنعم، وقد عوَّض الله سبحانه عن عبادة الشيطان قبل كفره طول عمره، ورأى أثرها في الدنيا، فلا بد من السعي بالإيمان والعمل الصالح. اهـ. 68 - {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أن يخلقه {وَيَخْتَارُ} ما يشاء اختياره واصطفاءه من خلقه كمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فكما أن الخلق إليه فكذا الاختيار في جميع الأشياء له، لا يُسئل عما يفعل وهم يسألون، قال الزجاج: الوقف على {وَيَخْتَارُ} تام، و {مَا} في قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نافية؛ أي: ليس لهم أن يختاروا على الله شيئًا ما وله الخيرة عليهم، وهذا (¬1) متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم، وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وقيل: هذه الآية جواب عن اليهود، حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. ولم يُدخل (¬2) العاطف في {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} لأنه بيان لقوله: {وَيَخْتَارُ}، إذ المعنى: أن الخيرة لله سبحانه، وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، ومن جعل {مَا} موصولة ووصل الكلام على معنى: ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد، بل {مَا} لنفي اختيار الخلق، وتقرير اختيار الحق سبحانه، ومن قال معناه: ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال، و {الْخِيَرَةُ} يستعمل بمعنى المصدر، وهو التخير، وبمعنى المتخير، كقولهم محمد خيرة الله من خلقه. ومعنى الآية (¬3): أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء خلقه، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفي ما يريد أن يصطفيه ويختاره، فيختار أقوامًا لأداء الرسالة وهداية الخلق، وإصلاح ما فسد من نظم العالم، ويميز بعض مخلوقاته ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي.

عن بعض، ويفضله بما شاء، ويجعله مقدمًا عنده، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه، وهو لم يصطف شركاءهم، الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة، فما هم إلا في ضلال مبين، صُدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة لله ورسوله، وتصدوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال. ونحو الآية قوله (¬1)؛ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقال الشاعر: الْعَبْدُ ذُوْ ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسوْمُ وَالْخَيْرُ أجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّوْمُ وروت عائشة عن أبي بكر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أمرًا قال: "اللهم خر لي واختر لي". وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك، فإن الخير فيه"، ويُستحب أن لا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل الله الخيرة فيه، وذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}. وفي الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وعن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ك يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:، إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"، قال: ويسمي حاجته. ثم أكد هذا وقرره بقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}؛ أي: ليس لهم أن ¬

_ (¬1) المراغي.

[69]

يختاروا على الله شيئًا، وله الخيرة عليهم، فله أن يرسل من يشاء رسولًا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة، دون أن يكون ذلك منوطًا بمال أو جاء، كما خُيِّل إلى بعض المشركين، فقالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه في سلطانه أحد، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ}؛ أي: تنزه الله بذاته تنزهًا خاصًا به من أن ينازعه أحد، ويشاركه مشارك، ويزاحم اختيارُهُ اختيارَهُ {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن إشراكهم، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى مشيئته الأزلية في الخلق والاختيار، وأنه فاعل مختار، يخلق ما شاء، كيف يشاء، ممن يشاء، ولما يشاء، متى يشاء، وله اختيار في خلق الأشياء، فيختار وجود بعض الأشياء في العدم فيُبقيه فانيًا في العدم ولا يوجده، وله الخيرة في أنه يخلق بعض الأشياء جمادًا، وبعض الأشياء نباتًا، وبعض الأشياء حيوانًا، وبعض الأشياء إنسانًا، وأن يخلق بعض الإنسان كافرًا، وبعض الإنسان مؤمنًا، وبعضهم وليًا، وبعضهم نبيًا، وبعضهم رسولًا، وأن يخلق بعض الأشياء شيطانًا، وبعضها جنًا، وبعضها ملكًا، وبعض الملك كروبيًا وبعضهم روحانيًا، وله أن يختار بعض الخلق مقبولًا، وبعضهم مردودًا. انتهى. والمعنى (¬1): أي تنزيهًا له وعلوًا عن إشراك المشركين، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء، فإذا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي أحدًا ممن يحب، أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولًا من عظمائهم قال الله لهم: ليس لكم من الأمر شيء، فلا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقادر على هدي عمه، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة في عظمائهم. 69 - ثم بيَّن أن اختياره تعالى مبني على العلم الصحيح، لا اختيارهم، فقال: ¬

_ (¬1) المراغي.

[70]

{وَرَبُّكَ} يا محمد يعلم {مَا تُكِنُّ}؛ أي: تضمر وتخفي {صُدُورُهُمْ}؛ أي: قلوبهم من الشرك أو من عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحقد المؤمنين، {وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي: يظهرون بألسنتهم وجوارحهم كالطعن في النبوة وتكذيب القرآن. قرأ الجمهور (¬1): {تُكِنُّ} بضم التاء الفوقية وكسر الكاف، وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف، أي: إن اختياره من يختار منهم للإيمان مبني على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها، فيختار للخير أهله، فيوفقهم له، ويولي الشر أهله، ويخليهم وإياه. ونحو الآية قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}. 70 - ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، قال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {اللَّهُ}؛ أي: المستحق للعبادة {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا أحد يستحقها {إِلَّا هُوَ} سبحانه جل وعلا. وفي "التأويلات النجمية": {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا} يصلح للألوهية {إِلَّا هُوَ} وهو المتوحد بعز إلهيته، المتفرد بجلال ربوبيته، لا شبيه يساويه، ولا نظير يضاهيه، فلا معبود سواه، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته وهو العليم بكل شيء، القادر على كل شيء. ثم ذكر بعض صفات كماله، فقال: {لَهُ الْحَمْدُ} استحقاقًا على عظمته والشكر استيجابًا على نعمته، {فِي الْأُولَى}؛ أي: في الدنيا {و} في {الْآخِرَةِ}؛ أي (¬2): هو المحمود في جميع ما يفعل في الدنيا والآخرة؛ لأنه المعطي لجميع النعم كلها عاجلها وآجلها، والمفيض لها على الخلق كافة، يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، وبقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}. ابتهاجًا وفرحًا بفضله، والتذاذًا بحمده؛ أي: بلا كلفة. {وَلَهُ الْحُكْمُ} فيما يخلق ويختار، ويعز ويدل، ويحيي ويميت؛ أي: له ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[71]

القضاء النافذ في كل شيء، من غير مشاركة فيه لغيره، فلا معقب لحكمه، ولا راد لفضله، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} بالبعث من القبور يوم القيامة، فيجزي كل عامل جزاء عمله، إن خيرًا وإن شرًا، ولا يخفى عليه منهم خافية. ويقال (¬1): ثمانية أشياء تعم الخلق كلهم: الموت، والحشر، وقراءة الكتاب، والميزان، والحساب، والصراط، والسؤال، والجزاء، فظهر أن الحكم النافذ بيد الله تعالى، ولو كان شيء منه في يد الخلق لمنعوا عن أنفسهم الموت، ودفعوا ملاقاة الأعمال في الحشر، وطريق النجاة التسليم والرضى، والرجوع إلى الله تعالى بالاختيار، فإنه إذا رجع العبد إلى الله تعالى بالاختيار لم يلق عنده شدة، بخلاف ما إذا رجع بالاضطرار، ومن علامات الرجوع إلى الله إصلاح السر والعلانية، والحمد له على كل حال، فإن الجزع والاضطراب من الجهل بمبدأ الأمر ومبديه، وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبتلي، وقيل في الضراء والسراء: لا إله إلا هو، والتوحيد أفضل الطاعات، وخير الأذكار والحسنات، وصورته منجية، فكيف بمعناه. وروي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى لا تسأل منى الغنى فإنك لا تجده، وكل خلق مفتقر إلي، وأنا الغني، ولا تسأل علم الغيب، فإنه لا يعلم الغيب غيري، ولا تسألني أن أكف لسان الخلق عنك، فإني خلقتهم ورزقتهم وأُميتهم وأُحييهم، وهم يذكرونني بالسوء، ولم أكف لسانهم عني، ولا أكف لسانهم عنك، ولا تسأل البقاء، فإنك لا تجده، وأنا الدائم الباقي". 71 - {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين من أهل مكة وغيرهم {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني، عبر عن الإخبار بالرؤية؛ لأنها سببه؛ أي: أخبروني أيها القوم {جَعَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا}؛ أي: دائمًا مستمرًا لا نهار معه ¬

_ (¬1) روح البيان.

من السرد، وهو المتابعة والاطراد، والميم زائدة، وقيل: إن ميمه أصلية ووزنه فعلل، لا فعمل، وهو الظاهر، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار؛ لأن ذهاب الليل بطلوع الشميس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل، كذا في "برهان القرآن"؛ أي: دائمًا مستمرًا {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق الغائر (¬1) {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} صفة لإله. {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} صفة أخرى له، عليها يدور أمر التبكيت والإلزام، قصد انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة؛ أي: أيُّ معبود غير الله سبحانه يأتيكم بضياء النهار، فتستضيئون به، ولم يقل (¬2) هل إله، فذكر بمن لإيراد الإلزام على زعمهم أن غيره آلهة، وفي هذا الأسلوب من التقريع والتبكيت والإلزام ما لا يخفى، وأتى بضياء (¬3)، وهو نور الشمس، ولم يجيء التركيب بنهار تتصرفون فيه، كما جاء بليل تسكنون فيه؛ لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده. بيَّن لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة، ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلًا دائمًا إلى يوم القيامة لم يتمكنوا فيه من الحركة فيه، وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس، ثم امتن عليهم فقال: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ}؛ أي: هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء؛ أي: بنور تطلبون فيه المعيشة، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه، وتصلح به ثماركم وتزهو عنده زرائعكم، وتعيش فيه دوابكم، وعن ابن كثير (¬4): {بضئاء} بهمزتين. ¬

_ (¬1) الغائر، أي: الغير المرئي وليس تحت الأرض بالكلية حتى يكون تكرارًا. اهـ شهاب. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البيضاوي.

[72]

{أَفَلَا تَسْمَعُونَ} ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر، فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتي بالليل، ويزيل النهار إذا شاء، واذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل، ولا يقدر على ذلك سواه تعالى، والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمَّن للإنكار داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: ألا تتفكرون فتسمعون ما يقال لكم. وختم هذه الآية به بناء على الليل لا على الضياء. وقال بعضهم قرن بالضياء السمع، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، يعني استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر. 72 - {قُلْ} لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا} أي: دائمًا، لا ليل معه أبدًا {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بإسكانها في وسط السماء، أو تحريكها فوق الأرض {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ}؛ أي: أيُّ معبود غير الله الذي له عباده كل شيء {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحة من متابعة الأسفار وأشغال النهار؛ أي: تستقرون فيه وتهدؤون، والهمزة في قوله {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} للاستفهام التوبيخي الإنكاري، داخلة على محذوف والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتعرضون عن هذه النعم العظيمة، فلا تبصرون الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك، دون غيره، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار، واذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل فقد لزمتهم الحجة وبطل ما يستمسكون به من الشبه الساقطة، وقرن بالليل قوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك. وجاء تذييل الآيتين بقوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} و {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر، وعبارة "فتح الرحمن": هنا ختم آية الليل بقوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} وآية النهار بقوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لمناسبة الليل المظلم الساكن للسماع، ومناسبة النهار النيِّر للأبصار، وإنما قدم الليل على النهار ليستريح الإنسان فيه، فيقوم إلى تحصيل ما هو مضطر

[73]

إليه من عبادة وغيرها بنشاط وخفة، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم، إذ لا تعب فيها يحتاج إلى ليل يستريح أهلها فيه. انتهى. 73 - واعلم (¬1): أن ذلك الشمس يدور في بعض المواضع رحويًا لا غروب للشمس فيه، فنهاره سرمدي فلا يعيش الحيوان فيه، ولا ينبت النبات فيه من قوة حرارة الشمس فيه، وكذلك يدور ذلك الشمس في بعض المواضع بعكس هذا تحت الأرض ليس للشمس فيه طلوع فليله سرمدي، فلا يعيش الحيوان أيضًا فيه، ولا ينبت النبات ثمة، فلهذا المعنى قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} سبحانه وتعالى، و {مِنْ} هنا للسبب؛ أي: وبسبب (¬2) رحمته إياكم {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: خلقهما لمنفعتكم. ثم علل جعل كل واحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهي {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}؛ أي: في الليل، ثم بعلة الثاني، وهو النهار، وهي {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: في النهار بأنواع المكاسب، وفي هذا مدح للسعي في طلب الرزق، كما ورد في الحديث: "الكاسب حبيب الله" وهو لا ينافي التوكل. ثم ذكر بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين، وهو {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى على هذه الرحمة والنعمة العظيمتين، وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله سبحانه. أي (¬3): ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار، وخالف بينهما، فجعل الليل ظلامًا لتستقروا فيه، راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارًا في شؤونكم المختلفة، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم، وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم، وتخلصوا له الحمد؛ لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

شريك، ومن ثم ينبغي أن لا يكون له شريك يُحمد. والخلاصة: أن الليل والنهار نعمتان تتعقباقبان على مر الزمان، والمرء في حاجة إليهما، إذ لا غنى له عن الكدح في الحياة لتحصيل قوته، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضي لولا ضوء النهار، كما لا يكمل له السعي على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على شيء من ذلك إلا الله الواحد القهار، وقال الزجاج: يجوز أن يكون معنى الآية: لتسكنوا فيهما، ولتبتغوا من فضل الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلًا ونهارًا لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله فيه. انتهى. واعلم (¬1): أنه وإن كان السكون في النهار ممكنًا، وطلب الرزق في الليل ممكنًا، وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء مما له نور، كالسراج والكهرباء، لكن ذلك قليل نادر. مخالف لما يألفه العباد، فلا اعتبار به. قال إمام الحرمين وغيره من الفضلاء (¬2): لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم، ويقصر عند آخرين، وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويًا أبدًا. وسُئل الشيخ أبو حامد عن بلاد بلغار كيف يصلون؛ لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء، ثم تطلع فقال: يُعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم. والأصح عند أكثر الفقهاء أنهم يقدرون الليل والنهار، ويكبرون بحسب الساعات. كما قال عليه السلام في أيام الدجال: "يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة" فيقدَّر الصيام والصلاة في زمنه، كذا ورد عن سيد البشر. قال في "القاموس": بلغر كقرطق، والعامة تقول: بلغار، مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد. انتهى، والفجر يطلع في تلك الديار قبل غيبوبة الشفق في أقصر ليالي السنة، فلا يجب على أهاليها العشاء والوتر لعدم سبب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[74]

الوجوب، وهو الوقت؛ لأنه كما أنه شرط لأداء الصلاة، فهو سبب لوجوبها، فلا تجب بدونه على ما تقرر في الأصول، وكذلك لا تجبان على أهالي بلدة يطلع فيها الفجر لما تغرب الشمس، فيسقط عنهم ما لا يجدون وقته، كما أن رجلًا إذا قطع يداه مع المرفقين أو رجلاه مع الكعبين ففرائض وضوئه ثلاث، لفوات محل الرابع، كذا في كتب الفقه. 74 - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوب بـ {اذكر} أي (¬1): واذكر يا محمد لقومك يوم ينادي الله سبحانه وتعالى المشركين {فَيَقُولُ} توبيخًا لهم {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم شركاء لي، كرر التقريع والتوبيخ لهم على اتخاذ الشركاء، للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله سبحانه من الإشراك، كما لا شيء أدخل في مرضاة الله تعالى من توحيده، ولاختلاف الحالتين؛ لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون. 75 - وقوله: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} عطف على ينادي، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق؛ أي: وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم بما كانوا عليه من الخير والشر، قال مجاهد: هم الأنبياء، وقيل: المراد بالشهيد: العدول من كل أمة، وذلك أنه سبحانه لم يخل عصرًا من الأعصار عن عدول يرجع إليهم في أمر الدين، ويكونون حجة على الناس يدعونهم إلى الدين، فيشهدون على الناس بما عملوا من العصيان. والأول أولى. والمعنى (¬2): أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها، وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله برسالته. ونحو الآية قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} وهذا في موقف من مواقف القيامة، وفي موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة، كما قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ}. ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة، فقال: {فَقُلْنَا} لكل من الأمم ¬

_ (¬1) روح الببان. (¬2) المراغي.

{هَاتُوا} أي: جيبوا، وأصله آتوا {بُرْهَانَكُمْ}؛ أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ادعيتموه من أن معي شركاء مع إعذار الرسل إليكم، وإقامة الحجج عليكم، فعند ذلك خرسوا عن إقامة الحجة، فلم يجيبوا جوابًا، وأيقنوا حينئذٍ بعذاب دائم ونار تتلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون، كما قال: {فَعَلِمُوا} وأيقنوا يومئذ {أَنَّ الْحَقَّ} في الألوهية {لِلَّهِ} وحده، لا يشاركه فيها أحد، {وَضَلَّ}؛ أي: غاب {عَنْهُمْ} غيبة الضائع، وذهب وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: كانوا يختلقونه في الدنيا من الكذب بأن لله شركاء، يستحقون العبادة معه، وهم الأصنام والطواغيت، ولم ينتفعوا بعبادتهم. قال بعضهم: واعلم أن الشركاء لا تنحصر في الأصنام الظاهرة، بل الأنداد ظاهرة وباطنة، فمنهم من صنمه نفسه، ومن صنمه زوجته، حيث يحبها محبة الله، ويطيعها إطاعة الله، ومنهم من صنمه تجارته، فيتكل عليها، ويترك طاعة الله لأجلها، فهذه كلها لا تنفع يوم القيامة. حكي: أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى كان إذا قرأ في الصلاة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} غشي عليه، فسئل فقال: نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونعبد أنفسنا؛ أي: نطيعها في أمرها، ونقول: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ونرجع إلى أبواب غيره. روي: أن زكريا عليه السلام لما هرب من اليهود بعد أن قُتل يحيى عليه السلام وتوابعه ورائه تمثل له الشيطان في صورة الراعي، وأشار إليه بدخول الشجرة، فقال زكريا للشجرة: أكتميني فانشقت فدخل فيها، وأخرج الشيطان هدب ردائه، ثم أخبر به اليهود، فشقوا الشجرة بالمنشار، فهذا الشق إنما وقع له لالتجائه إلى الشجرة. واعلم أن الشرك أقبح جميع السيئات وأساسها، كما أن التوحيد أحسن جميع الحسنات وأساسها. الإعراب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}.

{إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَا}: نافية، {تَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة، {أَحْبَبْتَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: من أحببته. {وَلَكِنَّ} {الواو}: عاطفة، {لَكِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {يَهْدِي مَنْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة {إِنَّكَ}، {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {وَهُوَ} {الواو}: حالية، {وَهُوَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، {بِالْمُهْتَدِينَ}: متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَهْدِي}. {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {إن}، {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى}: جازم وفعل مضارع مجزوم، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين، ومفعول به، {مَعَكَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {نَتَّبِعِ} {نُتَخَطَّفْ}: فعل مضارع مجزوم على كونه جواب الشرط، ونائب فاعل مستتر، {مِنْ أَرْضِنَا}: متعلق بنتخطف، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {أَوَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام التقريري داخلة على محذوف. و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نعصمهم وأم نمكن لهم حرمًا آمنًا، والجملة المحذوفة مستأنفة، {لم}: حرف جزم، {نُمَكِّنْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {لَهُمْ}: متعلق به، {حَرَمًا}: مفعول به، {آمِنًا}: صفة لـ {حَرَمًا}، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، {يُجْبَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، {إِلَيْهِ}: متعلق به، {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ {حَرَمًا} {رِزْقًا}: حال من {ثَمَرَاتُ} لتخصصه بالإضافة، ولكنه على تأويل المشتق؛ أي:

مرزوقًا، {مِنْ لَدُنَّا}: صفة لـ {رِزْقًا} أو مفعول مطلق معنوي لـ {يُجْبَى}؛ لأن معنى الجباية والرزق واحد؛ أي: يرزقون رزقًا. وقيل: مفعول لأجله لـ {يُجْبَى}. {وَلَكِنَّ} {الواو} عاطفة أو حالية، {لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاستدراكية معطوفة على الجملة الاستفهامية أو حال من ضمير {لَهُمْ}؛ أي: أولم نمكن لهم حرمًا آمنًا، حالة كون أكثرهم لا يعلمون ذلك. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}. {وَكَمْ} {الواو}: استئنافية، {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ {أَهْلَكْنَا}، {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتخويف قومه من سوء مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر، {مِنْ قَرْيَةٍ}: تمييز لـ {كَمْ} الخبرية مجرور بـ {من} الزائدة، {بَطِرَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر صفة لـ {قَرْيَةٍ}، {مَعِيشَتَهَا}: منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف متعلق بـ {بَطِرَتْ}، وقيل: منصوب على الظرفية الزمانية؛ أي: أيام معيشتها. ويجوز تضمين {بَطِرَتْ} معنى خسرت، فتكون {مَعِيشَتَهَا} مفعولًا به، واقتصر عليه أبو البقاء. {فَتِلْكَ} {الفاء}: عاطفة، {تِلْكَ}: مبتدأ، {مَسَاكِنُهُمْ}: خبر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية؛ أعني: أهلكنا، {لَمْ تُسْكَنْ}: جازم وفعل مغير ونائب فاعل، {مِنْ بَعْدِهِمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ {تِلْكَ}، أو في محل النصب حال من {مَسَاكِنُهُمْ}، والعامل فيها معنى الإشارة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: سكنى قليلًا، أو صفة لظرف محذوف؛ أي: إلا زمانًا قليلًا، أو مكانًا قليلًا، {وَكُنَّا}: {الواو}: عاطفة أو حالية {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {نَحْنُ}: ضمير فصل، {الْوَارِثِينَ}: خبره، والجملة إما معطوفة على جملة {أَهْلَكْنَا}، أو حال من فاعل {أَهْلَكْنَا}.

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {كَانَ رَبُّكَ} فعل ناقص واسمه، {مُهْلِكَ الْقُرَى}: خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عادة الله تعالى في عباده، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يَبْعَثَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة، {فِي أُمِّهَا} متعلق بـ {يَبْعَثَ}، {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى بعثه رسولًا، الجار والمجرر متعلق بـ {كَانَ}. {يَتْلُوا}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {رَسُولًا}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {آيَاتِنَا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {رَسُولًا}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {مُهْلِكِي الْقُرَى}: خبره ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى، {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأحوال، {وَأَهْلُهَا} {الواو}: حالية، {أَهْلُهَا ظَالِمُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الْقُرَى}؛ لأن المضاف كان مما يقتضي العمل؛ أي: وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. {وَمَا أُوتِيتُمْ} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، {ما}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {أُوتِيتُمْ}: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ {ما} على كونه فعل شرط لها، و {التاء}: نائب فاعل، {مِنْ شَيْءٍ}: حال من {مَا}، أو من الضمير المحذوف الواقع مفعولًا ثانيًا لأتى؛ لأنه بمعنى أعطى، {فَمَتَاعُ}: {الفاء} رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا، {فَمَتَاعُ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو متاع الحياة الدنيا، {الْحَيَاةِ}: مضاف إليه، {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}، {وَزِينتُهَا}: معطوف على {مَتَاعُ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ}. {وَمَا}

{الواو}: حالية، أو عاطفة، {ما}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ {ما} الموصولة، {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، {وَأَبْقَى}: معطوف على {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولكنه على تقدير رابط؛ أي: حالة كون ما عند الله خيرًا منه وأبقى، أو معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ}. {أَفَلَا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف معلوم من السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تعقلون، والجملة المحذوفة مستأنفة، {لَا}: نافية، {تَعْقِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ومفعول {تَعْقِلُونَ} محذوف، تقديره: {تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني، يعني أن من لا يُرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجًا عن حد العقل، ورحم الله سبحانه الإمام الشافعي حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله سبحانه، كما مر. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)}. {أَفَمَنْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمتاع الدنيا وزينتها كما عند الله سبحانه، فمن وعدناه وعدًا حسنًا من متعناه متاع الحياة الدنيا، والجملة المحذوفة مستأنفة، {مَنْ}: اسم موصول مبتدأ، {وَعَدْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {وَعْدًا}: مفعول مطلق، {حَسَنًا}: صفة {وَعْدًا}، والجملة الفعية صلة الموصول. {فَهُوَ} {الفاء}: عاطفة، هو: مبتدأ، {لَاقِيهِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الصلة، {كَمَنْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة، {مَتَّعْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {مَتَاعَ}: مفعول مطلق، {الْحَيَاةِ} مضاف إليه، {الدُّنْيَا}: صفة للحياة، والجملة الفعلية صلة الموصول، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {هُوَ}: مبتدأ،

{يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {الْمُحْضَرِينَ}: {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة. {يَوْمَ} {الواو}: استئنافية، {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم يناديهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، {يُنَادِيهِمْ} فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {فَيَقُولُ} {الفاء}: عاطفة، {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {يُنَادِيهِمْ} على كونها مفسرة لها، {أَيْنَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية مبني على الفتح، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا، {شُرَكَائِيَ}: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {شُرَكَائِيَ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَزْعُمُونَ}: خبره، ومفعولا {تَزْعُمُونَ} محذوفان، تقديرهما: تزعمونهم شركائي، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف من {تَزْعُمُونَ}. {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {حَقَّ}: فعل ماض، {عَلَيْهِمُ}: متعلق به، {الْقَوْلُ}: فاعل، والجملة صلة الموصول، {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {هَؤُلَاءِ}: مبتدأ، {الَّذِينَ}: خبره، {أَغْوَيْنَا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: هؤلاء أتباعنا الذين أغويناهم، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أَغْوَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة على كونها مقول {قَالَ}، {كَمَا} {الكاف}: حرف جر، و {ما}: مصدرية، {غَوَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مع {ما} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، معمول لفعل محذوف، معطوف على {أَغْوَيْنَا}، تقديره: أغويناهم فغووا غيًا كائنًا كغينا، وهذا الإعراب

على ما جرى عليه أبو علي الفارسي، وإعراب الزمخشري بأن {هَؤُلَاءِ} مبتدأ، {الَّذِينَ}: صفته، {أَغْوَيْنَا}: صلته، وجملة {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبره، وهذا الوجه فيه اعتراض، كما تعرفه بالمراجعة إلى المطولات. {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)}. {تَبَرَّأْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مفسرة لما قبلها، مقررة لها، في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {تَبَرَّأْنَا}، {مَا}: نافية، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {إِيَّانَا}: في محل النصب مفعول مقدم لـ {يَعْبُدُونَ}، وجملة {يَعْبُدُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَقِيلَ}: {الواو}: عاطفة، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قيل} معطوفة على جملة {قَالَ}، وإن شئت قلت: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {فَدَعَوْهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {دَعَوْهُم}: فعل ماض وفاعل ومفعول به. والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: {وَقِيلَ} {الفاء}: عاطفة. {لَمْ}: حرف جزم، {يَسْتَجِيبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَدَعَوْهُمْ}. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {دَعَوْهُمْ}، {لَوْ}: حرف شرط، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَهْتَدُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا} في محل الرفع خبر {أَنّ}، وجملة {أَنّ} في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ {لَوْ}، وجواب {لَوْ} محذوف، تقديره: لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة، وجملة {لَوْ} مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)}.

{وَيَوْمَ} {الواو}: عاطفة، {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم يناديهم، والجملة معطوفة على الجملة السابقة، {يَوْمَ}: مضاف، وجملة {يُنَادِيهِمْ} في محل الجر مضاف إليه، كما مر نظيره قريبًا، {فَيَقُولُ}: فعل وفاعل مستتر، معطوف على {يُنَادِيهِمْ} على وجه التفسير له، {مَاذَا} اسم استفهام مركب في محل النصب على المفعولية المطلقة، لا مفعول به، لأن أجاب لا يتعدى إلى الثاني بنفسه بل بالباء، وإسقاط الجار ليس بقياس، {أَجَبْتُمُ}: فعل وفاعل، {الْمُرْسَلِينَ}: مفعول به لـ {أَجَبْتُمُ}، والمعنى: أي إجابة أجبتم المرسلين، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فَعَمِيَتْ} {الفاء}: عاطفة، {عَمِيَتْ}: فعل ماض، {عَلَيْهِمُ}: متعلق به، {الْأَنْبَاءُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ريَقُولُ}، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ {عَمِيَتْ}، والتنوين فيه عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ نودوا وقيل لهم ماذا أجبتم المرسلين، {فَهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَتَسَاءَلُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة {عَمِيَتْ}. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}. {فَأَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنا أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المشركين، وأردت بيان حال المؤمنين فأقول لك أما، {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {تَابَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، والجملة صلة {مَن} الموصولة، {وَآمَنَ وَعَمِلَ}: معطوفان عليه، {صَالِحًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق. {فَعَسَى} {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها، {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، واسمها ضمير مستتر، تقديره: هو يعود على {مَنْ تَابَ} {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على {مِنَ}، {مِنَ الْمُفْلِحِينَ}: خبر {يَكُونَ}، وجملة {يَكُونَ} في تأويل مصدر خبر {عَسَى}، تقديره: فعسى كونه من

المفلحين، وجملة {عَسَى} في محل الرفع خبر {مَن} الموصولة، والجملة الاسمية جواب {أَمَّا} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وإن أردت البسط عن إعراب {أما} الشرطية وفاء الفصيحة فراجع شرحنا "الباكورة الجنية في إعراب الآجرومية" عند قول المتن: فأما الضمة. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}. {وَرَبُّكَ} {الواو}: استئنافية، {رَبُّكَ}: مبتدأ ومضاف إليه، وجملة {يَخْلُقُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَخْلُقُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلته، والعائد محذوف؛ أي: ما يشاء خلقه، وجملة {وَيَخْتَارُ} في محل الرفع معطوفة على جملة {يَخْلُقُ}، {مَا}: نافية، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {لَهُمُ}: خبرها مقدم، {الْخِيَرَةُ}: اسمها مؤخر، والجملة مفسرة لما قبلها مقررة لها، لا محل لها من الإعراب. ويجوز أن تكون مستأنفة. وهنا أوجه من الإعراب لا تخلو عن اعتراض. {سُبْحَانَ اللَّهِ}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سبحوا الله أيها العباد تسبيحًا، أو أسبح الله سبحانًا، والجملة مستأنفة، {وَتَعَالَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ}، والجملة معطوفة على جملة التسبيح، {عَمَّا}: متعلق بـ {تعالى}، وجملة {يُشْرِكُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، أو المصدرية، {وَرَبُّكَ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {وَرَبُّكَ} الأول، {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}، {تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما تكنه صدورهم، {وَمَا} عطف على {مَا} الأولى، وجملة {يُعْلِنُونَ} صلتها. {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}.

{وَهُوَ اللَّهُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {وَرَبُّكَ}، {لَا}: نافية، تعمل عمل إن، {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف جوازًا، تقديره: موجود، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر ثان لـ {هُوَ}، {لَهُ}: خبر مقدم، {الْحَمْدُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ثالث لـ {هُوَ}، {فِي الْأُولَى}: حال من ضمير {لَهُ}، {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الْأُولَى}، {وَلَهُ اَلحُكْمُ} معطوفة على جملة {لَهُ الْحَمْدُ} {وَإِلَيْهِ} {الواو}: عاطفة، {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {لَهُ الْحَمْدُ} عطف فعلية على اسمية. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {أَرَأَيْتُمْ} {الهمزة} للاستفهام الاستخباري، {رَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {إن} حرف شرط جازم، {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {عَلَيْكُمُ}: متعلق بـ {سَرْمَدًا}، أو حال منه، {اللَّيْلَ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {سَرْمَدًا}: مفعوله الثاني، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {سَرْمَدًا}، لأنه بمعنى دائمًا، أو بـ {جَعَلَ}، أو صفة لـ {سَرْمَدًا}، وجواب {إن} الشرطية محذوف، تقديره: إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة فأخبروني ماذا تفعلون، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين الفعل ومعموله، في محل النصب مقول {قُلْ}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {إِلَهٌ}: خبره، {غَيْرُ اللَّهِ}: صفة لـ {إِلَهٌ}، {يَأْتِيكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {بِضِيَاءٍ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {إِلَهٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتُمْ} معلقة عنها باسم

الاستفهام، {أَفَلَا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تسمعون ما يقال لكم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قُلْ}، {لَا}: نافية، {تَسْمَعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {إن}: حرف شرط، {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {عَلَيْكُمُ}: متعلق بـ {سَرْمَدًا}، {النَّهَارَ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {سَرْمَدًا}: مفعول ثان له، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {سَرْمَدًا}، وجواب {إن} الشرطية محذوف، تقديره: فأخبروني ماذا تفعلون، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين الفعل ومعموله على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {إِلَهٌ}: خبره، {غَيْرُ اللَّهِ}: صفة لـ {إِلَهٌ}، والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتُمْ}، علقت عنها باسم الاستفهام، وجملة {يَأْتِيكُمْ} صفة ثانية لـ {إِلَهٌ}، {بِلَيْلٍ}: متعلق بـ {يَأْتِيكُمْ}، وجملة {تَسْكُنُونَ} في محل الجر صفة لـ {لَيْلٍ} ولكنها سببية، {فِيهِ}: متعلق بـ {تَسْكُنُونَ}، وهو الرابط بين الصفة والموصوف، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تعتبرون فلا تبصرون، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قُلْ}، وجملة {تُبْصِرُونَ} معطوفة على تلك المحذوفة. كما مر نظير هذه الآية آنفًا. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. {وَمِنْ} {الواو}: استئنافية، {مِنْ رَحْمَتِهِ}: جار ومجرور متعلق

بـ {جَعَلَ}، و {مِن} هنا بمعنى الباء السببية، كما مر، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {لَكُمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {اللَّيْلَ} مفعول أول له، {وَالنَّهَارَ} معطوف على {اللَّيْلَ}، {لِتَسْكُنُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تسكنوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {فِيهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لسكونكم فيه، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ} {وَلِتَبْتَغُوا}: معطوف على {لِتَسْكُنُوا}، {مِنْ فَضْلِهِ} متعلق بـ {تَبْتَغُوا}، {وَلَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبره، وجملة {لَعَلَّ} معطوفة على جملة {تَسْكُنُوا} على كونها في محل الجر بلام التعليل المقدرة. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}. {وَيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم يناديهم، وجملة {يُنَادِيهِمْ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، وجملة {فَيَقُولُ} معطوفة على جملة {يُنَادِيهِمْ}، {أَيْنَ} خبر مقدم، {شُرَكَائِيَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُ}، {الَّذِينَ}: صفة لـ {شُرَكَائِيَ}، وجملة {كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} صلة الموصول، وقد مر إعراب هذه الآية بلفظها تفصيلًا فجدد به عهدًا. {وَنَزَعْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {نَزَعْنَا}، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {يُنَادِيهِمْ} على كونها مضافًا إليه ليوم، {شَهِيدًا}: مفعول به لـ {نَزَعْنَا}، {فَقُلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {نَزَعْنَا}، {هَاتُوا}: فعل وفاعل، {بُرْهَانَكُمْ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قلنا}، {فَعَلِمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قُلْنَا}، {أَنَّ الْحَقَّ} ناصب واسمه، {لِلَّهِ}: خبره، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، {وَضَلَّ} فعل ماض معطوف على {عَلِمُوا}، {عَنْهم}: متعلق بـ {ضَلَّ}، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {ضَلَّ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} خبره، وجملة {كَانُ} صلة لـ {ما}

الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كانوا يفترونه. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّكَ لَا تَهْدِي} الهداية تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير، وهي التي أثبتها الله سبحانه لرسوله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وتارة يراد بها هداية التوفيق، وشرح الصدر بقذف نور يحيى به القلب، كما جاء في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا}، وهي بهذا المعنى نفيت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية. وفي "روح البيان": الهداية من الله عبارة عن تقليب القلب من الباطل - وهو ما سوى الله - إلى الحق، وهو جانب الله سبحانه، فليس هذا من شأن غير الله تعالى، وفي "عرائس البيان": الهداية مقرونة بإرادة الأزل، ولو كانت إرادة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في حق أبي طالب مقرونة بإرادة الأزل لكان مهتديًا، ولكن كانت محبته وإرادته في حقه من جهة القرابة، ألا ترى أنه إذ قال: "اللهم أعز الإِسلام بعمر" كيف أجابه. انتهى. {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} معنى اتباع الهدى معه الاقتداء به عليه السلام في الدين والسلوك إلى طريق الرشاد. {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} التخطف الاختلاس والانتزاع بسرعة، ويراد به هنا الإخراج من البلاد، {يُجْبَى إِلَيْهِ}؛ أي: جمعه فيه، والجابية الحوض العظيم الجامع له. {بَطِرَتْ}؛ أي: طغت وتمردت وتجبرت وكفرت، {مَعِيشَتَهَا}، أي: في عيشها وحياتها، وفي "الكرخي": بطرت معيشتها؛ أي: كفرت نعمة معيشتها، والمعيشة ما يُعاش به من النبات والحيوان وغيرهما. اهـ، والبطر الطغيان في النعمة، قال بعضهم: البطر والأشر واحد، وهو دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة، وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب، وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح، وفي "القاموس": البطر محرك النشاط، والأشر

وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، وفعل الكل كفرح، وبطر الحق أي: تكبر عنده فلا يقبله. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} بيان للعادة الربانية؛ أي: ما صح وما استقام، وما كان، وما ثبت في حكه الماضي، وقضائه السابق أن يُهلك القرى قبل الإنذار، بل حتى يبعث إلخ. اهـ "أبو السعود". {فِي أُمِّهَا}؛ أي: في أعظمها وأكبرها بالنسبة إلى ما حواليها فعادة الله أن يبعث الرسل في المدائن؛ لأن أهلها أعقل وأنبل وأفطن، وغيرهم يتبعهم اهـ. شيخنا؛ أي: أكثر نبالة، وهي الفضل والشرف، يقال: نبل فلان فهو نبيل؛ أي: شرف فهو شريف. {مِنَ الْمُحْضَرِينَ}؛ أي: الذين يحضرون للعذاب، وقد اشتهر ذلك في اصطلاح القرآن كما قال {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}، وقال: {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} لأن في ذلك إشعارًا بالتكليف والإلزام، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات، بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار. {تَزْعُمُونَ} والزعم القول الفاسد، والحكم بلا دليل، {حَقَّ عَلَيْهِمُ}؛ أي: وجب وثبت. {الْقَوْلُ}؛ أي: مدلول القول ومقتضاه، وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، كما مر في مبحث التفسير، {أَغْوَيْنَا} من أفعل الرباعي كأكرم ثلاثية غوى يغوي كضرب يضرب من الغواية، وهو الضلال. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} من استجاب السداسي، فهو من استفعل بمعنى أفعل الرباعي؛ أي: فلم يجيبوا لهم، فالسين والتاء فيه زائدتان، {فَعَمِيَتْ}؛ أي: خفيت، {الْأَنْبَاءُ}؛ أي: الحجج التي تنجيهم، {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} من التساؤل الذي يدل على المشاركة من الجانبين؛ أي: لا يسأل بعضهم بعضًا. {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}؛ أي: الاختيار عليه، وهو نفي لاختيارهم الوليد

وعروة. اهـ من "الروح"، والخيرة التخير كالطيرة بمعنى التطير، والخيرة الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض، وفي "المفردات": الخيرة الحالة التي تحصل للمستخير والمختار، نحو القعدة والجلسة لحال القاعد والجالس. انتهى، وفي "الوسيط": اسم من الاختيار يقام مقام المصدر، وهو اسم للمختار أيضًا. يقال: محمد خيرة الله من خلقه. {سُبْحَانَ اللَّهِ}؛ أي: تنزيهًا لله أن ينازعه أحد في الاختيار، {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}؛ أي: تخفي، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك، وكننته إذا سترته في بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، {وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي: يظهرونه للغير، {وَلَهُ الْحُكْمُ}؛ أي: القضاء النافذ في كل شيء دون مشاركة لغيره فيه، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل. اهـ. {سَرْمَدًا} السرمد الدائم المتصل، قال طرفة: لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِيْ عَلَيَّ بِغُمةٍ ... نَهَارِيْ وَلَا لَيْلِيْ عَلَيَّ بِسَرْمَدِ وقد اختلف العلماء في اشتقاقه، فقيل: هو من السرد، وهو الاطراد والمتابعة، والميم مزيدة، ووزنه فعمل، كميم دلامص بضم الدال المهملة وكسر الميم من الدلاص، يقال درع دلاص؛ أي: ملساء متينة، وعبارة "زكريا": الدلامص درع براق، يقال: درع دلاص، وأدرع دلاص، الواحد والجمع على لفظ واحد. قاله الجوهري: اهـ، وهذا ما رجحه الزمخشري وغيره، واختار صاحب "القاموس" وبعض النحاة أن الميم فيه أصلية، ووزنه فعلل؛ لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط والآخر. اهـ "شهاب". {وَنَزَعْنَا} يقال: نزع الشيء إذا جذبه من مقره كنزع القوس من كبده. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: طباق السلب في قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي} {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي}.

ومنها: الجناس المغاير بين {يَهْدِي} و {بِالْمُهْتَدِينَ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {حَرَمًا آمِنًا} حيث نسب الأمن إلى الحرم، وهو لأهله، ومثله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} لأن المراد أهلها، بدليل قوله فيما بعد: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا}. ومنها: الكناية في قوله: {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} لأن الكلية كناية عن الكثرة كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. ومنها: أسلوب السخرية والتهكم في قوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} قال الشهاب: استعير العمى لعدم الاهتداء، بجامع عدم الوصول إلى المقصود في كل، ثم اشتق من العمى بمعنى عدم الاهتداء، عميت عليهم الأنباء بمعنى لا تهتدي إليهم الأنباء، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وقيل: إنه من باب القلب، وأصله فعموا عن الأنباء، والقلب من محسنات الكلام، وفيه أيضًا التضمين؛ لأنه ضمن العمى معنى الخفاء فعداه بعلى، ففيه ثلاثة أنواع من البلاغة: الاستعارة - والقلب - والتضمين. ومنها: الطباق بين {تُكِنُّ} و {يُعْلِنُونَ}، وبين {الْأُولَى} و {وَالْآخِرَةِ} وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الإدماج في قوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} وحد الإدماج أن يدمج المتكلم، إما غرضًا في غرض، أو بديعًا في بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين، أو أحد البديعين، والآخر مدج في الغرض الذي هو وجود في الكلام، فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة؛ لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخرة - وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه - مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد، وهذه وإن خرج الكلام فيها مخرج المبالغة في

الظاهر، فالأمر فيها حقيقة في الباطن؛ لأنه أولى بالحمد في الدارين، ورب الحمد والشكر والثناء الحبسن في المحلين حقيقة، وغيره من جميع خلقه إنما يُحمد في الدنيا مجازًا، وحقيقة حمده راجعة إلى ولي الحمد سبحانه. ومنها: التبكيت والتوبيخ في قوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ}، ومثله {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ}. ومنها: فن المناسبة في قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} إلى قوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} والمناسبة قسمان: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية هي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، فإنه سبحانه لما أسند جعل الليل سرمدًا إلى يوم القيامة لنفسه، وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار، لعدم نفوذ البصر في الظلمة، ولما أسند جعل النهار سرمدًا إلى يوم القيامة لنفسه، كأن لم يُخلق فيه ليل البتة قال في فاصلة هذه الآية: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لمناسبة ما بين النهار والإبصار. وأما المناسبة اللفظية فستأتي في غير هذا الموضع. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} فإنه جمع الليل والنهار، ثم قال: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فأعاد السكون إلى الليل، والابتغاء لطلب الرزق إلى النهار، وسماه علماء البديع باللف والنشر المرتب؛ لأنه أعاد الأول على الأول والثاني على الثاني. وضابطه: أن يذكر متعدد على وجه التفصيل، أو الإجمال، ثم يذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يميز ما لكل منها، ويرده إلى ما هو له، فقد زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة: أولها {لِتَسْكُنُوا} في أحدهما، وهو الليل، و {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} في ثانيهما، وهو النهار، ولإرادة شكركم في ثالثهما، وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير أيضًا، وهو أن يذكر

أشياء، ثم تفسرها بما يناسبها. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} للدلالة على التحقق، وفيه الالتفات أيضًا، لإبراز كمال الاعتناء بشأن النزع. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) حديث أهل الضلالة، وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رؤوس الأشهاد بما يفضحهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

ويبيِّن لهم سوء مغبتهم .. أعقبه بقصص قارون، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت في الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف، وزُلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلًا يضرب للناس في ظلمه وعتوه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة، فيندمون على ما فعلوا. قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال، الذي تنوء به العصبة أولو القوة .. أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه وهو في أبهى حليِّه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدًا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة فلا تربطم رابطة، ولا تجمعهم جامعة فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وقد غرَّت هذه المظاهر بعض الجهال، الذين لا همَّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوأ أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفَّقهم الله لهدايته: بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينًا ينصره، ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} لا لفضل منزلته عنده، وكرامته لديه كما بسط لقارون، ويضيَّق على من يشاء، لا لهوانه عليه، ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض. قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قول أهل ¬

_ (¬1) المراغي.

العلم بالدين {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء - وهو الدار الآخرة - وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يترفعون على الناس، ولا يتجبرون عليهم، ولا يفسدون فيهم بأخذ أموالهم بغير حق، ثم بيَّن بعدئذٍ ما يحدث في هذه الدار جزاء على الأعمال في الدنيا .. فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبع مئة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا علَّام الغيوب، فضلًا من الله ورحمة، وجزاء السيئة مثلها لطفًا منه بعباده وشفقة عليهم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) قصص موسى وقومه مع قارون، وبيَّن بغي قارون واستطالته عليهم، ثم هلاكه ونصرة أهل الحق عليه .. أردف هذا قصص محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع قومه وإيذائم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورًا ظافرًا. قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما حكم بأن العاقبة للمتقين .. أكد ذلك بوعد المحسنين، ووعيد المسيئين، ثم وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين. ذكره في "الفتوحات". أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...} الآية (¬2)، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ...}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[76]

التفسير وأوجه القراءة 76 - {إِنَّ قَارُونَ} على (¬1) وزن فاعول اسم أعجمي، كهارون، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وليس بعربي اشتق من قرن. قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. {كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي: من بني إسرائيل، قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم، فجعله أخًا لعمران، وهما ابنا قاهث، وقيل: هو ابن خالة موسى، وكان ممن آمن بموسى، وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، وأحفظهم لها، وكان يسمى المنور لحسن صوته، ثم تغير حاله بسبب الغنى، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى، وهو معنى قوله: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي (¬2): فتطاول قارون وتكبر على موسى وهارون وقومهما، وطلب الفضل عليهم، وحسدهما، وذلك أنهم لما عبروا البحر جُعلت الحبْوَرَة لهارون، وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، وهي رياسة مذبح القرابين، ولست في شيء، وأنا أقرأ بني إسرائيل للتوراة، وليس لي على هذا صبر، ولا أرضى بهذا، ورد على موسى نبوته، فقال موسى: ما أنا جعلتها لهارون، بل الله جعلها له من فضله، قال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني آية تدل عليه، فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل بوضع عصيهم في القبة التي كان يعبد الله فيها، وينزل الوحي عليه فيها، ففعلوا وباتوا يحرسونها فأصبحت عصا هارون مورقة خضراء تهتز؛ أي: صارت ذات ورق أخضر، وكانت من شجرة اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون؛ فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل، وما كان يأتي موسى ولا يجالسه، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) تنوير المقياس.

وجعل موسى يداريه لما بينهما من القرابة، وهو لا يلتفت إليه، بل يؤذيه، ولا يزيد إلا تجبرًا وبغيًا. وقال قتادة: بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته، وقيل: كان عاملًا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم، وقيل: كان بغيه بغير ذلك، مما لا يناسب معنى الآية. ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله: {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: وأعطينا قارون {مِنَ الْكُنُوزِ}؛ أي: من الأموال المدخرة {مَا} موصولة بمعنى الذي، وهي في محل النصب على أنها ثاني مفعولي آتينا؛ أي: أعطيناه من الأموال المدَّخرة المال الكثير الذي {إِنَّ مَفَاتِحَهُ}؛ أي: إن مفاتح صنادقه {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}؛ أي: لتثقل على الجماعة الكثيرة {أُولِي الْقُوَّةِ}؛ أي: أصحاب القوة؛ أي: لتثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها؛ أي: وأعطينا قارون المال المذخور، الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من أقوياء الناس، قال أبو حيان: ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه. قيل: كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتح كنوزه، وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب، فثقلت عليه، فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن مفاتح خزائنه كان يحملها أربعون رجلًا من الأقوياء، وكانت أربع مئة ألف، يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوي يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شيء معين. وقرأ الأعمش (¬1)؛ {مفاتيحه} بياء جمع مفتاح، وقرأ بديل بن ميسرة: {ما إن مفتاحه} بالإفراد، وقرأ أيضًا: {لينوء} بالياء التحتانية، وضمير الفاعل يعود على المفتاح، وقال أبو مسلم: المراد من المفاتح العلم والإحاطة، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، والمعنى حينئذٍ: وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عليها ليثقل على العصبة؛ أي: هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها يُتعب حفظها القائمين بحفظها، انتهى. والظرف في قوله {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} متعلق بمحذوف، ويظهر أن يكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، {إِذْ قَالَ لَهُ}؛ أي: لقارون قومُه؛ أي: المؤمنون من بني إسرائيل على طريق النصيحة، وقال الفراء: هم موسى وحده، فهو جمع أريد به الواحد. {لَا تَفْرَحْ} أي: لا تبطر ولا تأشر بكثرة المال والأولاد، فإن الفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقًا؛ لأنه نتيجة حبها والرضى بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقه لا محالة يوجب الترح (¬1) حتمًا، ولذا قال تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ولم يرخص في الفرح إلا قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} تعالى، والفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير، وقال الشاعر: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِيْ ... وَلَا جَازعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَحَوِّلِ وقال أبو الطيب: أشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا أي: إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتي، حين قال له قومه من بني إسرائيل: لا تُظهر الفرح والبطر بكثرة مالك، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا، وتتلهى عن شؤون الآخرة وفعل ما يُرضي ربك. ثم علل النهي عن الفرح بكونه مانعًا محبة الله تعالى، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}؛ أي (¬2): بزخارف الدنيا، فإن الدنيا مبغوضة عند الله تعالى، وإنما ¬

_ (¬1) التَّرَح - بفتحتين - ضد الفرح اهـ. (¬2) روح المعاني.

[77]

يحب من يفرح بإقامة العبودية وطلب السعادة الأخروية؛ أي: لا يحب البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، قال الزجَّاج: المعنى لا تفرح بالمال، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه. وقرىء (¬1): {الفارحين} حكاه عيسى بن سليمان الحجازي، قال الزجاج: الفرحين والفارحين سعواء، وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ، إن الله لا يحب الفرحين الباغين، وقيل معناه: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين، وقيل (¬2) معناه: أي إنه تعالى لا يُكرم الفرحين بزخارف الدنيا، أو يقربهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته. 77 - ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا: 1 - {وَابْتَغِ}؛ أي: واطلب، {فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ}؛ أي: فيما أعطاك الله سبحانه وتعالى، لم يقل (¬3): با آتاك الله؛ لأنه لم يُرد بمالك، وإنما أراد: وابتغ في حال تملكك، وفي حال قدرتك بالمال والبدن، كما في "كشف الأسرار". {الدَّارَ الْآخِرَةَ}؛ أي: ثواب الله فيها، بصرفه إلى ما يكون وسيلة إليه، من مواساة الفقراء، وصلة الأرحام، وفك الأسارى، ونحوها من أبواب الخير (¬4)، وقرىء: {واتبع} والمعنى؛ أي: واستعمل ما وهبك من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. 2 - {وَلَا تَنْسَ}؛ أي: لا تترك ترك المنسي {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تُحصِّل بها آخرتك، أو تأخذ منها ما يكفيك وتُخرج الباقي؛ أي: ولا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[78]

الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم، وقيل: لا تنسى صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وهذا حديث مرسل، وعمرو بن ميمون لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل المعنى: أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا في مآكلها ومشاربها وملابسها، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني، كما ذكره "الشوكاني". وعن ابن عمر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وعن الحسن: قدِّم الفضل وأمسك ما يُبلِّغ. 3 - {وَأَحْسِنْ} إلى عباد الله إحسانًا {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} سبحانه {إِلَيْكَ} فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك وطلاقة وجهك وحسن لقائهم، والثناء عليهم في غيبتهم. 4 - {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ولا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض؛ أي (¬1): ولا تصرف همتك بما أنت فيه إلى الفساد في الأرض، والإساءة إلى خلق الله، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها، فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لسوء أفعالهم، بل يُحب المصلحين لحسن أعمالهم، أي: إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويُبعدهم من حظيرة قربه وقيل مودته ورحمته، ويعاقبهم بسوء أفعالهم. 78 - ثم بيَّن أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد في كفران النعمة فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ}؛ أي: إنما أعطيت هذا المال حالة كوني {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}؛ أي (¬2): ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

متصفًا بالعلم الذي عندي، وفُضِّلت به على الناس بالمال والجاه، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة واستحقاقي لذلك؛ أي: لأني أقرأ بني إسرائيل للتوراة، كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي؛ أي: فهذا العلم الذي جعله سببًا لما ناله من الدنيا، قيل: هو علم التوراة، وقيل: علمه بوجوه المكاسب والتجارات، وقيل: معرفة الكنوز والدفائن، وقيل: علم الكيمياء. قال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أُنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وغالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى ضم علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبًا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله، وقيل (¬1) المعنى: إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها، لفضل علمه منى، واختار الزجاج هذا المعنى، وأنكر ما عداه. وتلخيص ذلك: إني إنما أعطيته لعلم الله أني له أهلٌ. وقال في "روح البيان": والمعنى أوتيته حال كوني مستحقًا لما فيَّ من علم التوراة، وكان أعلمهم بها، ادعى استحقاق التفضيل على الناس واستيجاب التفوق بالمال والجاه بسبب العلم، ولم ينظر إلى منة الله تعالى وفضله، ولذا هلك، وهكذا كل من كان على طريقه في الادعاء والافتخار والكفران، فإنه يهلك يومًا بشؤم معصيته وصنيعه. انتهى. قال الزجاج (¬2): علم الكيمياء لا حقيقة له، وفي "الكواشي": ومتعاطي هذا العلم الكثير كذبه، فلا يلتفت إليه، قال بعضهم: وهذا أولى من قول الزجاج، فإن فيه إقرارًا بأصله في الجملة، وكذا بوجوده، والكيمياء له حقيقة صحيحة، وقد عمل به بعض الأنبياء، وكُمل الأولياء، فإنه لا شك في الاستحالة والانقلاب بعد تصفية الأجساد، وتطهيرها من الكدورات، وقد بُيِّن في موضعه، ورأيت من وصل إليه بلا تكبر، والله العلم الخبير. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

ونحو الآية قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}، والمرة في قوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} (¬1) للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف؛ والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعلم ما ادعاه ونسي، ولم يعلم حيق زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي. {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل قارون {مِنَ الْقُرُونِ} الكافرة والأمم الماضية {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} بالعدد والعدد؛ أي: من هم أشد من قارون بطشًا {وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للأموال كنمرود وغيره. وقال بعضهم: وأكثر جمعًا للعلم والطاعة، مثل إبليس، ولو كان الله سبحانه يؤتي الأموال من يؤتيه لفضل فيه، وخير عنده، ورضاه عنه .. لم يُهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالًا؛ لأن من يرضي الله عنه فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يُهلك من كان عليه ساخطًا، ألم يشاهد فرعون وهو في أبهة ملكه وحقق أمره يوم هلكه، وفي هذا (¬2) الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له من جهته تعالى على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك الإهلاك، قراءة في التوراة وتلقينًا من موسى، وسماعًا من حُفَّاظ التواريخ، فالمعنى: ألم يقرأ التوراة، ويعلم ما فعله الله سبحانه بأضرابه من أهل القرون السابقة، حتى لا يغتر بما اغتر به. وبعد (¬3) أن هدد سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة، وهو عدم سؤالهم، إذ إنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة؛ فقال: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} عند إهلاكهم، لئلا يشتغلوا بالاعتذار، كما قال تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}؛ أي: لا يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها إذا أراد أن يعاقبهم، اهـ "رازي". ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

أي: إنه تعالى حين أراد عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم، ولا عن كنهها؛ لأنه عليم بها، ولا يعاتبهم عليها، كما قال تعالى: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}، وقال: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، ونحو الآية قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة، كما جاء في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا يُسْأَلُ} مبنيًا للمفعول، و {الْمُجْرِمُونَ} رُفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب، والضمير في {ذُنُوبِهِمُ} عائد على من أُهلك من القرون؛ أي: لا يسأل غيرهم ممن أجرم، ولا ممن لم يجرم عمن أهلكه الله، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وقيل: هو مستأنف مسوق لبيان حال يوم القيامة، قال قتادة: لا يُسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها؛ لأنهم يدخلون النار بغير حساب، وقال قتادة أيضًا ومجاهد: لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه، كقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}. وقرأ أبو جعفر في روايته: {ولا تسأل} بالتاء والجزم {المجرمين} بالنصب، وقرأ ابن سيرين وأبو العالية كذلك في: {ولا تسأل} على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوِّز ذلك إلا أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب بوقوع الفعل عليه، قال صاحب "اللوامح": فالظاهر ما قاله، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء، فإن تركناه على رفعه فله وجهان: أحدهما: أن يكون هاء الضمير في {عَنْ ذُنُوبِهِمُ} عائدة إلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، تقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله التائبون العابدون في سورة التوبة. والثاني: أن يكون بدلًا من أصل الهاء {ذُنُوبِهِمُ} لأنها وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها فإن أصلها الرفع؛ لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[79]

المصدر إلى اسم الفاعل، ذكره أبو حيان. 79 - والفاء في قوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِه} (¬1) للعطف على {قَالَ} وما بينهما اعتراض، وقوله: {فِي زِينَتِهِ} إما متعلق بخرج أو بمحذوف، هو حال من فاعله؛ أي: خرج قارون من بيته حالة كونه كائنًا في زينته الدنيوية من المال والأثاث والجاه. قيل (¬2): خرج قارون يوم السبت، وكان آخر يوم من عمره، متزينًا على بغلته مع أتباعه، وكانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاث مئة غلام، وعن يساره ثلاث مئة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء - بيضاء - سرجها من ذهب، وكان على سرجها الأرجوان بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء، وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح. وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفًا عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رؤي فيه اللباس المعصفر، وهو المصبوغ بالعصفر، وهو صبغ أحمر معروف، وقد نُهي الرجال عن لبس المعصفر؛ لأنه من لباس الزينة وأسباب الكبر، ولأن له رائحة لا تليق بالرجال، وهذا الذي ذكره مفسرو السلف في قصة قارون من الإسرائيليات التي لا أصل لها ولا نقل فيها. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وزينتها من مؤمني بني إسرائيل، على طريقة الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار: {يَا} قوم {لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} من هذه الأموال وهذه الزينة؛ أي: نتمنى أن يكون لنا مثل ما أعطي قارون من هذه الزينة، قالوه (¬3) غبطة، والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح وروح البيان. (¬3) النسفي.

[80]

نعمة صاحبه دونه، وهو كقوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تضر الغبطة؟ قال: "لا، إلا كما يضر العضاه الخبط". والمعنى (¬1): أي قال من كان همه الدنيا وزينتها: يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها، حتى نُنعم عيشًا، ونتمتع بزخارف الحياة، كما يتمتع هو بها. وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم وفي كل بلد وفي كل قرية، فترى الرجل والشاب والمرأة والفتاة يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتي فلان وفلانة من ثوب جميل، أو دابة فارهة، أو مزرعة يحصد غلتها، أو قصر مشيد، أو نحو ذلك. ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم: {إِنَّهُ}؛ أي: إن قارون {لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ أي: لصاحب نصيب وافر من الدنيا؛ أي: إن الله سبحانه قد تفضل عليه وآتاه من بسطة الرزق حظًا عظيمًا، ونصيبًا كبيرًا يغبط عليه، والقائلون هذه المقالة إما جماعة من المؤمنين، قالوا ذلك جريًا على الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنوا مثل ماله، ولم يتمنوا زوال نعمته، ومثل هذا لا ضرر فيه كما مر. 80 - {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بما أعد الله لعباده في الآخرة، وصدقوا به ردًا على أولئك المتمنين {وَيْلَكُمْ} أي: تبًا لكم وخسرًا، كيف تتغالون في طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، وهو (¬2) دعاء بالإهلاك بمعنى ألزمكم الله ويلًا؛ أي: عذابًا وهلاكًا، وقد شاع استعماله في الزجر عما لا يُرتضى، وقد سبق في سورة طه، قال الزمخشري: ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استُعمل في الزجر والردع، والحث على ترك ما لا يرتضى، اهـ. {ثَوَابُ اللَّهِ} في الآخرة {خَيْرٌ} مما تتمنون {لِمَنْ آمَنَ} بالله وصدق به، وآمن برسله {وَعَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[81]

ونعيمه، فإن هذا باق، وذاك فان، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار، وذلك مشوب بالأحزان والمنغصات. ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال: {وَلَا يُلَقَّاهَا}؛ أي: ولا يوفق إلى هذه الكرامة، والمراد بالكرامة الثواب والجنة، أو لا يُعطى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، أو لا يُعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح، {الصَّابِرُونَ} على مخالفات النفس وموافقات الشريعة. والمعنى (¬1): أي ولا يتبع هذه النصيحة، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المحرمات، ورضي بقضاء الله في كل ما قُسم له من المنافع والمضار، وأنفق ماله في كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع، وكان قدوة صالحة في حفظ مجد أمته، ورفع صيتها بين الأمم، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها وإعلاء شأنها، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس، ويلقى المثوبة من ربه. 81 - {فَخَسَفْنَا بِهِ}؛ أي: بقارون {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}؛ أي: زلزلنا به وبمنزله الأرض، وابتلعته جزاء بطره وعتوه؛ أي: إن الله سبحانه غيَّبه وغيَّب داره في الأرض. وفي هذا (¬2): عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالي في الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض، وفي هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يُظهرون النعم إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات أو يصنع الولائم لعرس، أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظار ثرائه وسعة ماله بين عشيرته وبني جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب ثراؤه، ويجعله عبرة لمن اعتبر. فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما في الآخرة فحسب، بل يحصل شؤما في الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم، وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

المال، فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم وأصبحت ملكًا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خُسف قارون بشيء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدًا له، وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعًا في ملك الغاصب واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده. ذكر قصة قارون قال أهل العلم بالأخبار والسير (¬1): كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة، وأجملهم وأغناهم، وكان حسن الصوت فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يُعلِّقوا في أرديتهم خيوطًا أربعة، في كل طرف خيطًا أخضر كلون السماء، يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء، ويعلمون أني منزل منها كلامي، فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرًا، فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير، فإذا لم يُطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، فدعاهم موسى فقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطًا خضرًا كلون السماء، لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى، واستكبر قارون، فلم يطعه، وقال: إنما فعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جُعلت الحبورة لهارون، وهي رئاسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون، فيضعها على المذبح، فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون من ذلك في نفسه، فأتى إلى موسى فقال له: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست في شيء من ¬

_ (¬1) الخازن.

ذلك، وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا، فقال؛ أما أنا ما جعلتها لهارون، بل الله جعلها له، فقال له قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل، فقال: هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها، وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ فقال له قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، واعتزل قارون موسى باتباعه، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه كل وقت، ولا يزيد إلا عتوًا وتجبرًا ومعاداة لموسى، حتى بني دارًا، وجعل لها بابًا من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون، فيُطعمهم الطعام، ويحدثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار، وعلى كل ألف درهم عنها درهم، وكل ألف شاة عنها شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئًا كثيرًا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال لهم: إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، قال: آمركم أن تجيؤوا فلانة البغيَّ، وتجعلوا عليكم لها جُعلًا على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه، فدعوها، فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم، وقيل: طستًا من ذهب، وقيل: قال لها قارون: انزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدًا إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى، فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض، فقام فيهم، فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مئة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت، فقال قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي، قال: ادعوها، فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة إلا صدقت،

فتداركها الله بالتوفيق، فقالت في نفسها أُحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله، فقالت: لا والله، ولكن قارون جعل لي جعلًا على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجدًا يبكي، ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه: أني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت، فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم، وقيل: كان على سريره وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى، ويناشده قارون الله والرحم، حتى قيل: إنه ناشده أربعين مرة، وقيل: سبعين مرة، وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم الأرض، فأوحى الله سبحانه إلى موسى: ما أغلظ قلبك! يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تُغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته، وفي بعض الآثار: لا أجعل الأرض بعدك طوعًا لأحد. قال قتادة: خُسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل، لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة، حتى إذا بلغ قعر الأرض السفلى نفخ إسرافيل في الصور، والله أعلم. حكى المفسرون في أسباب الخسف أمورًا كثيرة، هي غاية في الغرابة، يبعد أن تصدقها العقول، ومن ثم قال الرازي: إنها مضطربة متعارضة، فالأولى طرحها، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب. اهـ. وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض، ثم بيَّن سبحانه أنه لم يجد له شفيعًا ولا نصيرًا يدفع عنه العذاب حينئذٍ فقال: {فَمَا كَانَ لَه}؛ أي: لقارون {مِنْ فِئَةٍ}؛ أي: من جماعة {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ

[82]

اللَّهِ}؛ أي: يمنعونه من عذاب الله سبحانه حين نزل به، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}؛ أي: من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله بوجه من الوجوه، أو من (¬1) المنتقمين من موسى. أي: ما أغنى عنه ماله ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله ولا نكاله، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه. وقصارى ذلك: أنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها، الجاهلة بمقاصد شريعتها في إنفاق الأموال أن تجد مناصًا من خراب الديار، وإضاعة المجد الطارف والتالد، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة، وقد كان ذلك جزاء وفاقًا لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها، ولا يظلم ربك أحدًا، وهكذا حال من تصرف في ماله تصرف السفهاء وركب رأسه، وصار يبعثوه يمنة ويسرة، فإنه سيندم ولات ساعة مندم. وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال وحفظ الشهوات والعقول، وكل الفضائل التي حث عليها الدين وسلك سبيلها السلف الصالح. 82 - ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب صار ذلك زاجرًا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى، وداعيًا إلى الرضى بقضاء الله تعالى وبما قسمه، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله، كما أشمار إلى ذلك بقوله: {وَأَصْبَحَ}؛ أي: وصار {الَّذِينَ تَمَنَّوْا} واغتبطوا {مَكَانَهُ}؛ أي: مثل منزلته ورتبة وجاهه، والكلام على حذف مضاف {بِالْأَمْسِ}؛ أي: بالوقت القريب منه، وهو ظرف لتمنوا، ولم يرد بالأمس خصوص اليوم الذي قبل يومه، بل الوقت القريب، وجملة {يَقُولُونَ} خبر {أَصْبَحَ}. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} و {وي}: كلمة تعجب، والكاف للتعليل؛ أي (¬2): وصار ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراح.

الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب يقولون منتبهين على خطئهم في تمنيهم، لما شاهدوا الخسف به؛ أي: يقول كل واحد منهم: أعجب أنا من خطئي في ذلك التمني، وأندم عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسع المال {مَنْ يَشَاءُ} البسط عليه {مِنْ عِبَادِهِ} وهو مكر منه تعالى كما كان لقارون. {وَيَقْدِرُ}؛ أي: يضيِّق الرزق ويقلله على من يشاء من عباده، اختبارًا منه تعالى، يقال: قدر على عياله بالتخفيف مثل قتر؛ إذا ضيَّق عليهم بالنفقة، فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف ندموا على تمنيهم، حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده، فالكل بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ، و {وَيْ} اسم فعل بمعنى أعجب أنا، والكاف للتعليل، وأن حرف نصب ومصدر. وقال أبو الحسن: {وَيْ} اسم فعل، والكاف حرف خطاب، وأن على إضمار اللام، وقيل: {وَيْ} اسم فعل، وكأن للتحقيق بمعنى قد؛ أي: أعجب أنا، وقد علمت أن كلًّا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة، والقبض للهوان. وعبارة الخازن هنا (¬1): أي وصار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}؛ أي: ألم تعلم أن الله، وقيل: ألم تر أن الله، وقيل: هي كلمة تقرير معناها: أما ترى صنع الله وإحسانه، يبسط الرزق لمن يشاء، وقيل: ويك بمعنى ويلك اعلم أن الله، وروي أن {وَيْ} مفصولة من {كان}، والمعنى: أن القوم ندموا فقالوا متندمين علي ما سلف منهم: وَيْ وكأن، معناها: أظن وأُقَدِّر أن الله يبسط الرزق. انتهت. وعبارة "الفتوحات" هنا: قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} و {وَيْكَأَنَّه} فيه (¬2) مذاهب: ¬

_ (¬1) أنوار التنزيل. (¬2) الجمل.

أحدها: أن {وَيْ} كلمة برأسها، وهي اسم فعل معناها أعجب؛ أي: أن والكاف للتعليل، وأن وما في حيزها مجرورة بها؛ أي: أعجب؛ لأن الله يبسط الرزق إلخ، وقياس هذا القول أن يوقف على {وَيْ} وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي. الثاني: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه، إلا أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبر واليقين، وهذا أيضًا يناسبه الوقف على {وَيح}. الثالث: أن {وَيْكَ} كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب، وأن معمولة لمحذوف؛ أي: أعلم أن الله يبسط ... إلخ، قاله الأخفش، وهذا يناسبه الوقف على {ويك}، وقد فعله أبو عمرو. الرابع: أن أصلها ويلك، فحُذفت اللام، وهذا يناسبه الوقف على الكاف أيضًا، كما فعل أبو عمرو. الخامس: أن {وَيْكَأَنَّ} كلها كلمة مستقلة بسيطة، ومعناها ألم تر، وربما نُقل ذلك عن ابن عباس، ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى إلى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى رحمة لك في لغة حمير، ولم يُرسم في القرآن إلا ويكان وويكأنه متصلة في الموضعين، فعامة القراء اتبعوا الرسم، والكسائي وقف على {وَيْ}، وأبو عمرو على {وَيْكَ}. اهـ "سمين". والمعنى (¬1): أي فلما خسف الله بقارون الأرض أصبح قومه يقولون: إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا لا تدل على رضا الله عن صاحبه، فالله يُعطي ويمنع ويوسع ويضيق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة لا معقب لحكمه، وقد روي عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وان الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب". ¬

_ (¬1) المراغي.

ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد الله، يصرفه كيف يشاء أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن الله قادر على كل ما يريد من رزق وغيره، فقالوا: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ} وأنعم {عَلَيْنَا} فلم يعطنا ما تمنينا {لَخَسَفَ بِنَا} الأرض، كما خسف بقارون، لتوليد الاستغناء فينا مثل ما ولده فيه من الكبر والبغي، ونحوهما من أسباب الهلاك والعذاب، أو المعنى: لولا أن من الله علينا بالإيمان، ولطف بنا برحمته، وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي، ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني لخسف بنا، كما خسف به؛ لأنا وددنا أن نكون مثله. وقرأ الأعمش: {لولا منَّ الله} بحذف {أن}، وهي مرادة؛ لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ، وعنه أيضًا: {لولا منُّ الله} برفع النون وجر الجلالة، وهي واضحة. اهـ "سمين". {وَيْكَأَنَّهُ} قيل: {وَيْ} كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، وأن معمولة لمحذوف، والتقدير؛ انزجروا عن تمنيكم، واعلموا أن الشأن والحال {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ولا يفوزون بمطلب من مطالبهم؛ أي: لا ينجو الكافرون لنعمه، المكذبون برسله، وبما وُعدوا به من ثواب الآخرة، كما كان شأن قارون، قال في "كشف الأسرار": حب الدنيا حمل قارون على جمعها، وجمعها حمله على البغي عليهم، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، وفي الخبر: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، وأعاد (¬1) {ويكأن} هنا لاتصال كل منهما بما لم يتصل به الآخر، والقصد منه تأكيد ما قبله. وقرأ الجمهور (¬2): {لخسف بنا} مبنيًا للمفعول. وقرأ حفص وعصمة وأبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر: مبنيًا للفاعل، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش: {لا نخسف بنا} كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل، هو {بنا}، ويجوز أن يكون المصدر؛ أي: لا نخسف الانخساف، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) البحر المحيط.

[83]

ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بُني إما لـ {بنا} وإما للمصدر، وعن ابن مسعود أيضًا: {لتُخسِّف} بتاء وشد السين مبنيًا للمفعول. 83 - والإشارة في قوله: {تِلْكَ} إلى الجنة، أشار إليها بإشارة البعيد، لقصد التعظيم لها، والتفخيم لشأنها، وهي مبتدأ {الدَّارُ الْآخِرَةُ} صفة لها، وجملة {نَجْعَلُهَا} خبر المبتدأ، كأنه قال: تلك الجنة التي اسمعت خبرها، وبلغك شأنها نجعلها {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: ارتفاعًا وغلبة وتسلطًا على المؤمنين، كما أراد فرعون، كما قال تعالى في أول السور: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}. {وَلَا فَسَادًا}؛ أي: عملًا بمعاصي الله سبحانه فيها، أو ظلمًا وعدوانًا على الناس، كما أراد قارون، كما قال تعالى في حقه على لسان الناصح: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} وفي (¬1) تعليق الوعد بترك إرادتهما، لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما. وذكْر (¬2) العلو والفساد مُنكَّريْن في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يُطلق عليه أنه علوٌّ، وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائنًا ما كان، وأما العلو فالمنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير، والتطاول على الناس، وليس منه طلب العلو في الحق والرئاسة في الدين، ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن. {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: للذين يتقون العلو والفساد في الأرض، وما لا يرضاه الله سبحانه من الأقوال والأفعال، والمعنى؛ أي: تلك (¬3) الدار التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها نجعل نعيها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق، ولا إعراضًا عنه، ولا ظلم الناس ومعصية الله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

وثبت في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه أُوحي إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، وروى مسلم وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". وروى أبو هريرة: أنه جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان جميلًا فقال: يا رسول الله إني رجل حُبِّب إليَّ الجمال، وأُعطيت منه ما ترى، حتى ما أُحبُّ أن يفوقني أحد بشراك نعل، أفمن ذلك؟ قال: "لا، ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس". وعن عدي بن حاتم قال: لما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقى إليه وسادة، وجلس على الأرض، فقال: أشهد أنك لا تبغي علوًا في الأرض ولا فسادًا، فأسلم، أخرجه ابن مردويه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلب الشاة، ويركب الحمار، ويُجيب دعوة المملوك، ويجالس الفقراء والمساكين، قال بعضهم: واحذر أن (¬1) تتزهد أو تتعبد أو تتكرم وفي نفسك استجلاب ذلك، لكونه يرفعك على أقرانك، فإن ذلك من إرادة العلو في الأرض، وما استكبر مخلوق على آخر إلا لحجابه عن معية مع الحق ذلك المخلوق الآخر، ولو شهدها لذل وخضع. وقال بعضهم: العلو النظر إلى النفس، والفساد النظر إلى الدنيا، والدنيا خمر إبليس، من شرب منها شربة لا يفيق إلا يوم القيامة، وقيل العلو الخطرات في القلب، والفساد في الأعضاء، فمن كان في قلبه حب الرياسة والجاه وحظوظ الدنيا، وفي أعماله الرياء والسمعة فهو لا يصل إلى مقام القرب، وكذا من في قلبه سوء العقيدة، وفي جوارحه عبادة غير الله، والدعوة إليها، وأخذ الأموال، وكسر الأعراض، واستحلال المعاصي فهو لا يصل إلى الجنة أيضًا، وهو قرين الشيطان، والشياطين في النار مع قرنائهم. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[84]

{وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة وهي الجنة {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: لمن اتقى عذاب الله بعمل الطاعات، وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون في الاستكبار على الله بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره، ولا كقارون في إرادة الفساد في الأرض. 84 - ثم بيَّن ما يكون في تلك الدار من الجزاء على الأعمال، فقال: {وَمَنْ جَاءَ} الله يوم القيامة متصفًا {بِالْحَسَنَةِ} المقبولة الأصلية المعمولة {فَلَهُ} بمقابلتها {خَيْرٌ مِنْهَا}؛ أي: ثواب خير منها، ذاتًا ووصفًا وقدرًا بالمضاعفة (¬1)، أما الخيرية ذاتًا فظاهرة في أجزية الأعمال البدنية؛ لأنها أعراض وأجزيتها جواهر، وكذا في المالية إذ لا مناسبة بين زخارف الدنيا ونفائس الآخرة في الحقيقة، وأما وصفًا فلأنها أبقى وأنقى من الآلام والأكدار، وأما قدرًا فللمقابلة بعشر أمثالها لا أقل، يعني: أنه يجازي بالحسنة الواحدة عشرًا، فيكون الواحد ثوابًا مستحقًا، والتسعة تفضلًا وجودًا، والتسعة خير من الواحد من ذلك الجنس. ومثل المعمولة ما في حكمها (¬2)، كما لو تصدق عنه غيره، فخرج بالمعمولة ما لو هم بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنه يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة، فلا تضاعف له، كما لو ضرب زيد عمرًا ضربة، وكان لزيد حسنات موجودة، فيؤخذ منها وُيُعطى لعمرو، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف، والتضعيف خاص بهذه الأمة، وأما غير هذه الأمة من بقية الأمم فلا تضعيف لهم. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} وهي ما يذم فاعلها شرعًا، كالشرك والرياء والجهل ونحوها {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} وضع فيه الظاهر موضع الضمير لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفائدة هذه الصورة انزجار العقلاء عن ارتكاب السيئات، {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: إلا مثل ما كانوا يعملونه، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في المماثلة، ومن فضله العظيم أن لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[85]

يجزي السيئة إلا بمثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبع مئة. 85 - {إِنَّ الَّذِي}؛ أي: إن الله الذي {فَرَضَ} وأنزل {عَلَيْكَ} يا محمد {الْقُرْآنَ} وأوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل به {لَرَادُّكَ} ومرجِّعك بعد الموت {إِلَى مَعَادٍ}؛ أي: إلى مرجع عظيم، يغبطك به الأولون والآخرون، وهو المقام المحمود الموعود ثوابًا على إحسانك في العمل، وتحمُّل هذه المشقات التي لا تحملها الجبال. وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالمعاد مكة، تقول العرب: رُدَّ فلان إلى معاده، يعني إلى بلده، يتصرف في الأرض، ثم يعود إلى بلده، والآية نزلت (¬1) بالجحفة بتقديم الجيم المضمومة على الحاء الساكنة، موضع بين مكة والمدينة، وهو ميقات أهل الشام، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلًا من مكة، وكانت تسمى مهيعة، فنزلها بنو عبيد، وهم أخوة عاد، وكان أخرجهم العماليق من يثرب، فجاءهم سيل فأجحفهم؛ أي: ذهب بهم، فسُمِّيَتْ جحفة. وروى مقاتل: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من الغار مهاجرًا إلى المدينة ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - عدل عن الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده وموطنه، ومولد آبائه، وبها عشيرته، وحرم إبراهيم عليه السلام فنزل عليه الملك فقال له: أتشتاق إلى بلدك، ومولدك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فقال جبريل: فإن الله سبحانه يقول لك: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}؛ أي: لراجعك إلى مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العود إليه كل من خرج منه، وهو مكة المشرَّفة وطنك الدنيوي. والمعنى عليه (¬2): أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه لرادك إلى محل عظيم القدر، اعتدته وألفته، وهو مكة، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها عنوة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وقهره أهلها، وإظهار عز الإِسلام، وإذلال المشركين، وهذا وعد من الله سبحانه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة في أذى، وغلبة من أهلها، أنه يهاجر منها، ويعيده إليها ظاهرًا ظافرًا، وهذه إحدى معجزاته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أخبر عن الغيب، ووقع كما أخبر؛ أي: فلا تظن أنه يسلك بك سبيل أبويك إبراهيم في هجرته من حران بلد الكفر إلى الأرض القدسة فلم يعد إليها، إسماعيل من الأرض المقدسة إلى أقدس منها فلم يعد إليها. ولما قال المشركون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك لفي ضلال مبين .. نزل قوله تعالى: {قُلْ} يا محمد لمن خالفك وكذبك من قومك المشركين ومن تبعهم {رَبِّي أَعْلَمُ}؛ أي: يعلم {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} من عنده وما يستحقه من الثواب في المعاد، والإعزاز والنصرة في الدنيا منى ومنكم، يريد به نفسه، {وَ} يعلم {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: بيِّن، وما يستحقه من العقاب في الآخرة والإذلال في الدنيا، يريد به المشركين. ودلت الآية الكريمة (¬1) على أن الله تعالى يفتح على المهتدي ويقهر الضال، ولكل عسر يسر، فسوف يراه من يصبر، فلا ينبغي للعاقل أن ييأس من روح الله، روي أن رجلًا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة فمكث ثلاثة أيام لا يرى أحدًا، ولم يذق شيئًا فتمثل بقوله: إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِيْ ... وَصَارَ الْقِيْرُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيْبِ وَصَارَ الْبَرُّ مَسْكَنَ كُلِّ حُوْتٍ ... وَصَارَ الْبَحْرُ مَرْتَعَ كُلِّ ذِيْبِ فسمع هاتفًا يهتف: عَسَى الْكَرْبُ الَّذِيْ أَمْسَيْتَ فِيْهِ ... يَكُوْنُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيْبُ فَيُأْمَنُ خَائِف وَيُفَكُّ عَانٍ ... وَيَأتِيْ أَهْلَهُ الرَّجُلُ الْغَرِيْبُ قال: فما لبث ساعة إلا فرج الله عنه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[86]

وفي تفسير الآية إشارة إلى أن حب الوطن من الإيمان، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كثيرًا: الوطن الوطن، فحقق الله سبحانه سؤله، ويقال: الإبل تحن إلى أعطانها، وإن كان عهدها بعيدًا، والطير إلى وكره وإن كان موضعًا مجدبًا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر له نفعًا. واعلم (¬1): أن الميل إلى الأوطان، وإن كان لا ينقطع عن الجنان، ولكن يلزم للمرء أن يختار من البقاع أحسنها دينًا، حتى يتعاون بالإخوان، قيل لعيسى عليه السلام: من نجالس يا روح الله، قال: من يزيد في علمكم منطقه، ويذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله، والعاقل يختار الفراق عن الأحباب والأوطان، ولا يجترىء على الفراق عن الملك الديان: لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا فَارَقْتَهُ عِوَضٌ ... وَلَيْسَ لِلَّهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ فاقطع الألفة عما سوى الله اختيارًا قبل الانقطاع اضطرارًا. 86 - ثم ذكره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم، فقال: {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {تَرْجُو} وتطمع قبل إرسالك {أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي: أن يوحى إليك القرآن، والمعنى: سيردك يا محمد إلى معادك وبلدك، كما ألقى إليك القرآن وما كنت ترجوه، فهو تقرير للوعد السابق. وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع؛ أي: ولكن ألقاه إليك رحمة لك منه، فأعمل به، خصك بهذه الرحمة عن جميع الأنبياء؛ لأن كتبهم أنزلت في الألواح والصحف على صورتهم وذاتهم، وكتابك نزل به الروح الأمين على قلبك، ويجوز أن يكون متصلًا حملًا على المعنى، كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك، والأول أولى، وبه جزم الكسائي والفراء. والمعنى (¬2): أي وما كنت يا محمد قبل مجيء الرسالة إليك ترجو أن تكون نبيًا، وينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك وما سيحدث من بعدك، وما فيه من تشريع فيه سعادة البشر في معاشهم ومعادهم، وآداب هي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[87]

منتهى ما تسمو إليه نفوسهم، وتطمح إليها عقولهم، ثم تتلو ذلك على قومك، فإنزاله عليك ليس عن ميعاد، وكونك نبيًا ليس عن تطلب سابق منك، ولكن أنزل إليك القرآن، وجعلك نبيًا لأجل الترحم من ربك. ثم بيَّن ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة، فقال: {لَا تَكُونَنَّ} يا محمد {ظَهِيرًا} أي: معينًا {لِلْكَافِرِينَ} على دينهم بمداراتهم، والتجمل معهم، والإجابة إلى طلبتهم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه، فذكره بنعمه عليه، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه، وقيل: هو تعريض بغيره من الأمة. والمعنى (¬1): أي فأحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك، ولا تكونن عونًا لمن كفروا به، ولكن فارقهم ونابذهم. 87 - ثم شدد عزمه وقواه بأن لا يأبه بمخالفتهم، فقال: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ}؛ أي: لا يصرفنك ويمنعنك الكافرون {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: عن قراءتها، والعمل بها {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ} تلك الآيات القرآنية {إِلَيْكَ} وقرئت عليك، وذلك حين دعوه - صلى الله عليه وسلم - إلى دين آبائهم، وتعظيم أوثانهم، والموافقة إلى أباطيلهم؛ أي: ولا تبال بهم، ولا تهتم بمخالفتهم لك، وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك، ومؤيدك، ومظهر دينك وما أرسلك به على سائر الأديان. قرأ الجمهور (¬2): بفتح الياء وضم الصاد من صده يصده، وشددوا النون، ويعقوب كذلك، إلا أنه خففها، وقرىء: {يصدنك} بضم الياء وكسر الصاد، من أصده بمعنى صده، حكاه أبو زيد عن رجل من كلب. وقال الشاعر: أُنَاسٌ أَصَدُّوْا النَّاسَ بِالْسَّيْفِ عَنْهُمُ ... صُدُوْدَ السَّوَاقِيْ عَنْ أُنُوْفِ الْحَوَائِمِ ثم أمره أن يصدع بالدعوة، ولا يألوا جهدًا في تبليغ الرسالة. فقال: {وَادْعُ} الناس كافة {إِلَى رَبِّكَ}؛ أي: إلى توحيده، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ أي: وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم، واعبده وحده لا شريك له {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بمساعدتهم في الأمور، وفيه تعريض بغيره، كما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[88]

تقدم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يكون من المشركين بحال من الأحوال لكونه معصومًا، والمعنى: ولا تتركن الدعاء إلى ربك، وتبليغ المشركين رسالتك، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته، ومخالفة أمره. 88 - ثم فسر هذا، وبينه بقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}؛ أي: ولا تعتمد على غير الله، ولا تتخذ غيره وكيلًا في أمورك، وهذا تعريض أيضًا لغيره من الأمة. فإن قلت (¬1): النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصومًا من أن يدعو مع الله إلهًا آخر فما فائدة هذا النهي؟ قلت: الخطاب معه - صلى الله عليه وسلم - المراد به غيره، وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلًا على أمورك كلها ولا تعتمد غيره، كما مر آنفًا في حلِّنا. {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع {إِلَّا هُوَ} سبحانه وحده {كُلُّ شَيْءٍ} من الإنسان والحيوان والجن والشياطين والملك ونحوها {هَالِكٌ}؛ أي: معدوم فان زائل في حد ذاته، فإن وجوده كلا وجود؛ لأن وجوده ليس ذاتيًا {إِلَّا وَجْهَهُ}؛ أي: ذاته سبحانه وتعالى، فإنه تعالى واجب الوجود وكل ما عداه ممكن في حد ذاته عرضة للهلاك والعدم، والوجه يعبر به عن الذات، وقال أبو العالية وسفيان (¬2): كل شيء فان إلا ما أريد به وجهه من الأعمال؛ أي: ما يقصد إليه بالقربة. قال الشاعر: أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله: ثَمَانِيَةٌ حُكْمُ الْبَقَاءِ يَعُمُّهَا ... مِنَ الْخَلْقِ وَالْبَاقُوْنَ فِيْ حَيِّزِ الْعَدَمْ هِيَ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَنَارٌ وَجَنَّةٌ ... وَعَجْبٌ وَأَرْوَاحٌ كَذَا اللَّوْحُ وَالْقَلَمْ {لَهُ} سبحانه لا لغيره {الْحُكْمُ}؛ أي: القضاء النافذ في الخلق في ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) القرطبي.

الأولى والآخرة {وَإِلَيْهِ} تعالى، لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون أيها الخلائق عند البعث من القبور، وليجزى المحسن لإحسانه، والمسيء لإساءته. وقرأ عيسى (¬1): {تُرْجَعُونَ} مبنيًا للفاعل. والجمهور مبنيًا للمفعول، ومعنى الآية: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}؛ أي (¬2): ولا تعبد أيها الرسول مع الله - الذي له عبادة كل شيء - معبودًا آخر سواه. ثم علل هذا بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ أي: لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}. ثم بيَّن صفاته تعالى، فقال: 1 - {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}؛ أي: هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}. وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها لبيد": ألَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيْمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ 2 - {لَهُ الْحُكْمُ}؛ أي: له الملك والتصرف والقضاء النافذ في الخلق. 3 - {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. الإعراب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ}. {إِنَّ}: حرف نصب، {قَارُونَ}: اسمها منصوب، ولم ينون لأنه إسم لا ينصرف للعلمية والعجمة، {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{قَارُونَ}، {مِنْ قَوْمِ مُوسَى}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان قصة قارون وما تنطوي عليه من عظات وعبر. {فَبَغَى} {الفاء}: عاطفة، {بغى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {قَارُونَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {كَانَ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {بَغَى}، {وَآتَيْنَاهُ} {الواو}: عاطفة، {آتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة {كَانَ}، {مِنَ الْكُنُوزِ}: متعلق بـ {آتَيْنَاهُ}. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {آتَيْنَاهُ}، {إنَّ}: حرف نصب، {مَفَاتِحَهُ}: اسمها، {لَتَنُوءُ}: {اللام} حرف ابتداء، {تَنُوءُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على المفاتح، {بِالْعُصْبَةِ} متعلق بـ {تَنُوءُ}، {أُولِي الْقُوَّةِ}: صفة لـ {الْعُصْبَةِ} مجرور بالياء المحذوفة لالتقاء الساكنين لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {الْقُوَّةِ}: مضاف إليه، وجملة {تَنُوءُ} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير {مَفَاتِحَهُ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {تَنُوءُ}، وقيل: باذكر مقدرًا، وقال أبو البقاء: ظرف لآتيناه، ويجوز أن يكون ظرفًا لفعل محذوف دل عليه الكلام؛ أي: بغى، {قَالَ}: فعل ماض، {لَهُ}: متعلق بـ {قَالَ}، {قَوْمُهُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {لَا}: ناهية جازمة، {تَفْرَحْ}: فدل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفاعله ضمير يعود على {قَارُونَ}، وجملة {لَا تَفْرَحْ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {لَا}: نافية، {يُحِبُّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}، {الْفَرِحِينَ}: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} مسوقة لتعليل ما قبلها.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)}. {وَابْتَغِ}: فعل أمر وفاعل مستتر مجزوم بحذف حرف العلة، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {لَا تَفْرَحْ}، {فِيمَا} {في} حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية أو موصولة في محل الجر بفي، {آتَاكَ اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاكه الله؛ {ابْتَغِ}: وابتغ بإنفاق ما أعطاك الله في سبيل الخير، الجار والمجرور متعلق بـ {ابْتَغِ}، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل {ابْتَغِ}؛ أي: متقلبًا فيما آتاك، {الدَّارَ}: مفعول {ابْتَغِ}، {الْآخِرَةَ}: صفة له، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: ناهية، {تَنْسَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {نَصِيبَكَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {لَا تَفْرَحْ}، {مِنَ الدُّنْيَا}: جار ومجرور حال من {نَصِيبَكَ}. {وَأَحْسِنْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {وَابْتَغِ}، {كَمَا} {الكاف}: حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية، {أَحْسَنَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أَحْسِنْ}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: وأحسن إحسانًا مثل الإحسان الذي أحسن الله به إليك. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: ناهية، {تَبْغِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، {الْفَسَادَ}: مفعول به، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بتبغ أو بالفساد؛ لأنه بمعنى الإفساد، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها، {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {قَارُونَ}، والجملة مستأنفة

مسوقة للإجابة عن قولهم: إن ما عندك تفضل وإنعام من الله فأنفق منه شكرًا لمن أنعم به عليك، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أُوتِيتُهُ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل ومفعول ثان، {عَلَى عِلْمٍ}: جار ومجرور حال من نائب فاعل، {أوتيت}، {عِنْدِي} ظرف ومضاف إليه صفة لعلم؛ أي: إنما أوتيته حال كوني متصفًا بعلم كائن عندي، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَوَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعلم ما ادعاه ولم يعلم، والجملة المحذوفة مستأنفة، {لَمْ}: حرف جزم، {يَعْلَمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {قَارُونَ} مجزوم بـ {لم}، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {أَنَّ اللَّه}: ناصب واسمه، {قَدْ}: حرف تحقيق، {أَهْلَكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}، {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَهْلَكَ}، {مِنَ الْقُرُونِ}: جار ومجرور حال. {مَنْ هُوَ أَشَدُّ} مقدمة عليه، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أَهْلَكَ}، {هُوَ أَشَدُّ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {مِنْهُ}: متعلق بـ {أَشَدُّ}، {قُوَّةً}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، وجملة {أَهْلَكَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}؛ وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَعْلَمْ}، {وَأَكْثَرُ}: معطوف على {أَشَدُّ}، {جَمْعًا}: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ {أَشَدُّ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة لتربط الجملة بما قبلها على سبيل التهديد والوعيد، {لَا}: نافية، {يُسْأَلُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عَنْ ذُنُوبِهِمُ}: متعلق بـ {يُسْئلُ}، {الْمُجْرِمُونَ}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {أَنَّ}؛ أي: ألم يعلم أنه لا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)}. {فَخَرَجَ} {الفاء}: عاطفة، {خرَجَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على قارون، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ}، وما بينهما اعتراض، {عَلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ {خَرَجَ}، {فِي زِينَتِهِ}: جار ومجرور حال من

فاعل {خَرَجَ}؛ أي: حال كونه متبخترًا في زينته متقلبًا في تعاجيبه، {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ}: فعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {الدُّنْيَا}: صفة للحياة، {يَا لَيْتَ} {يا} حرف نداء والمنادى محذوف، تقديره: يا قوم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {لَيْتَ}: حرف تمنٍ ونصب، {لَنَا}: خبر مقدم لليت، {مِثْلَ}: اسم {لَيْتَ}: مؤخر، وهو مضاف، و {مَا}: مضاف إليه، وجملة {ليت} في محل النصب مقول {قَالَ} على كوثه جواب النداء، {أُوتِيَ قَارُونُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أوتيه قارون، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَذُو} {اللام}: حرف ابتداء، {ذُو حَظٍّ}: خبره، {عَظِيمٍ}: صفة {حَظٍّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)}. {وَقَالَ الَّذِينَ} {الواو}: استئنافية أو عاطفة، {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {قَالَ}، {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل، {الْعِلْمَ}: مفعول ثان، والجملة صلة الموصول، {وَيْلَكُمْ} منصوب بفعل محذوف وجوبًا لجريانه مجرى المثل على سبيل الردع، تقديره: ألزمكم الله ويلكم، و {الكاف}: ضمير المخاطبين في محل الجر مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}. {ثَوَابُ اللَّهِ} مبتدأ ومضاف إليه، {خَيْرٌ}: خبر، {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {آمَنَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {وَعَمِلَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {آمَنَ}، {صَالِحًا}: مفعول به، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا}: نافية، {يُلَقَّاهَا}: فعل مضارع مغيبر الصيغة، و {الهاء}: مفعول ثان، {إِلَّا}: أداة حصر، {الصَّابِرُونَ}: نائب فاعل مؤخر وهو المفعول الأول، والضمير يعود على الإثابة

أو الأعمال الصالحة، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {وَيْلَكُمْ} أو مستأنفة. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)}. {فَخَسَفْنَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال قارون، وما قال له قومه، وأردت بيان ما صار إليه، وما آل إليه أمره فأقول لك {خَسَفْنَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {بِهِ}: متعلق بخسفنا، {وَبِدَارِهِ}: جار ومجرور معطوف على {بِهِ}، {الْأَرْضَ}: مفعول به، {فَمَا} {الفاء}: عاطفة، {مَا} نافية،؛ {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {لَهُ}: خبرها مقدم على اسمها. {مِنْ}: زائدة، {فِئَةٍ}: اسمها مؤخر، {يَنْصُرُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع صفة لفئة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {فِئَةٍ} لتخصصه بالصفة، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {خَسَفْنَا}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {قَارُونَ}، {مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {كَانَ} الأولى. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}. {وَأَصْبَحَ} {الواو}: عاطفة، {أَصْبَحَ}: فعل ماض ناقص، {الَّذِينَ}: اسمها، {تَمَنَّوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مَكَانَهُ}: مفعول به، {بِالْأَمْسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَمَنَّوْا}، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {أَصْبَحَ}، وجملة {أَصْبَحَ} معطوفة على جملة {خَسَفْنَا} {وَيْكَأَنَّ} {وي}: اسم فعل مضارع بمعنى أتعجب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره أنا، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُ}،

و {الكاف}: حرف جر بمعنى لام التعليل، {أن}: حرف نصب ومصدر، {اللَّهَ}: اسمها، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: لمن يشاء البسط له، {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من {مَنْ} الموصولة، وجملة {وَيَقْدِرُ} معطوفة على جملة {يَبْسُطُ}، وجملة {يَبْسُطُ} في محل الرفع خبر {أَنْ} وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، الجار والمجرور متعلق بـ {وي}؛ لأنه اسم فعل مضارع؛ أي: أتعجب لبسط الله الرزق على من يشاء من عباده. {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {مَنَّ اللَّهُ}: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ {أن} المصدرية. {عَلَيْنَا}: متعلق به، و {أَن} وما في حيزها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: لولا مَنُّ الله علينا موجود، {لَخَسَفَ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْلَا}، {خَسَفَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، {بِنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب {لَوْلَا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْلَا} في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}. {وَيْكَأَنَّ} {وي}: اسم فعل مضارع بمعنى أتعجب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، و {الكاف} حرف جر وتعليل، {أَنَّهُ} ناصب واسمه، {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنّ}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف}، والجار والمجرور متعلق بـ {وَيْ}، وجملة {وَيْ} في محل النصب مقول {يَقُولُونَ} مذكورة لتأكيد {وَيْ} الأولى، ومقررة لها. {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}. {تِلْكَ}: مبتدأ، {الدَّارُ}: بدل من اسم الإشارة، {الْآخِرَةُ}: صفة لـ {الدَّارُ}، {نَجْعَلُهَا}: فعل مضارع ومفعول أول وفاعل مستتر يعود على

{اللَّهِ}، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَجْعَل} على كونه مفعولًا ثانيًا له. وجملة {نَجْعَلُهَا} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان أن الآخرة معدة للمتقين. {لَا يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {عُلُوًّا}: مفعول به. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {عُلُوًّا}، أو صلة له. {وَلَا فَسَادًا}: معطوف على {عُلُوًّا}. {وَالْعَاقِبَةُ}: مبتدأ. {لِلْمُتَّقِينَ}: خبره، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {جَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {بِالْحَسَنَةِ}: متعلق بـ {جَاءَ}. {فَلَهُ}: الفاء: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا له، خبر مقدم. {خَيْرٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْهَا}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جواب شرط لها، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط مبتدأ. {جَاءَ}: فعل وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} الشرطية. {بِالسَّيِّئَةِ}: متعلق بـ {جَاءَ}. {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {لا}. {لَا}: نافية. {يُجْزَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {الَّذِينَ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على جملة {مَن} الأولى. {عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {يُجْزَى}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} الموصولة. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)}.

{إِنَّ الَّذِي}: ناصب واسمه. {فَرَضَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {فَرَضَ}. {الْقُرْآنَ}: مفعول به. {لَرَادُّكَ} {اللام}: حرف ابتداء. {رَادُّكَ}: خبر {إنَّ} ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {إِلَى مَعَادٍ}: متعلق بـ {رَادُّكَ}؛ لأنه اسم فاعل. {قُل}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {رَبِّي}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به {أَعْلَمُ}؛ لأنه بمعنى عالم؛ لأن اسم التفضيل لا ينصب الفعول به. {جَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر. {بِالْهُدَى}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَمَنْ}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على {مَنْ} الأولى. {هُوَ}: مبتدأ. {فِي ضَلَالٍ}: خبر. {مُبِينٍ} صفة {ضَلَالٍ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة. {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَرْجُو} خبره، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {إنَّ}. {أَنْ يُلْقَى}: ناصب وفعل مضارع، مغير الصيغة منصوب. {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {يُلْقَى}. {الْكِتَابُ}: نائب فاعل لـ {يُلْقَى}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع، بمعنى: لكن. {رَحْمَةً} مفعول لأجله. {مِنْ رَبِّكَ}: صفة لـ {رَحْمَةً} أي: لكن ألقي إليك الكتاب لأجل رحمة، كائنة من ربك لك ولأمتك. {فَلَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: {لَا تَكُونَنَّ} {لَا}: ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بلا الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، واسمها ضمير مستتر فيها وجوبًا، يعود على محمد. {ظَهِيرًا}: خبرها. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {ظَهِيرًا}، وجملة {تَكُونَن}: في محل النصب مقول

لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {يَصُدُّنَّكَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا}: الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو المحذوفة: لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة مبني على الفتح، والكاف: ضمير المخاطب، في محل النصب مفعول به. {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَصُدُّنَّكَ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: فلا تكونن. {بَعْدَ}: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، حال من آيات الله. {بَعْدَ}: مضاف. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه؛ لأن إذ تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك حينئذ ويومئذ، ويصح أن تكون إذ بمعنى: أن المصدرية، كما ذكره أبو السعود. {أُنْزِلَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الآيات. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَادْعُ}: فعل أمر وفاعل مستتر. {إِلَى رَبِّكَ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {وَلَا يَصُدُّنَّكَ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لَا}: ناهية. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بـ {لا} مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، مبني على الفتح، واسمها ضمير مستتر يعود على محمد {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}. {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية. {تَدْعُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: {تَدْعُ}. {مَعَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {تَدْعُ}. {إِلَهًا}:

مفعول به. {آخَرَ} صفة لـ {إِلَهًا}. {لَا}: نافية تعمل عمل {إنَّ}. {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لا} محذوف، تقديره: موجود. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}. وجملة {لا} في محل النصب حال من الجلالة. {كُلُّ شَيْءٍ}: مبتدأ. {هَالِكٌ}: خبره. {إِلَّا}: أداة استثناء. {وَجْهَهُ}: منصوب على الاستثناء، والهاء مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {لَهُ}: خبر مقدم. {الْحُكْمُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة {وَإِلَيْهِ}: الواو عاطفة. {إِلَيْهِ} متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}. {تُرْجَعُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَهُ الْحُكْمُ}. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ قَارُونَ} اسم أعجمي على وزن فاعول، كهارون، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، كما مر. {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}؛ أي: تكبر وتجبر وطلب الفضل عليهم، وأن يكونوا تحت أمره. اهـ "بيضاوي". ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبرًا وهو أول من جر الثياب على الأرض للخيلاء، قال الراغب: البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يُتحرى تجاوزه، أو لم يتجاوزه. {مِنَ الْكُنُوزِ} جمع كنز. والكنز المال المدفون في باطن الأرض، قال الراغب: الكنز جمع المال بعضه فوق بعض وحفظه، من كنزت التمر في الوعاء، انتهى. والمراد به هنا المال المدخر. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} جمع مفتح بالكسر، وهو ما يُفتح به، أو جمع مفتح بفتح الميم، وهو الخزانة، والمراد هنا المعنى الأول. {لَتَنُوءُ} وفي "القاموس": ناء بالحمل نهض مثقلًا، وناء به الحمل أثقله وأماله كأناءه، وناء فلان أثقل فسقط ضد، اهـ. وفي "المصباح": ناء ينوء نوءًا، مهموز من باب قال، نهض بجهد ومشقة، وناء به الحمل أثقله وأماله، وناء النجم سقط في المغرب مع الفجر، وطلع آخر يقابله من ساعته في المشرق. {بِالْعُصْبَةِ} والعصبة الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض، بلا تعيين

عدد خاص. {الْقُوَّةِ} الشدة. {لَا تَفْرَحْ}؛ أي: لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها، حتى تتلهى عن الآخرة. قال بيهس العذري: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنْيِ ... وَلَا جَازعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَقَلِّبِ والفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية. {وَلَا تَنْسَ} أي: لا تترك ترك المنسي. قال في "المفردات": النسيان ترك الإنسان ضبط ما استُودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، أو عن قصدٍ حتى ينحدف عن القلب ذكره، انتهى. {نَصِيبَكَ} والنصيب ما يكفيك، ويسد حاجتك، ويُصلح أمورك، وفسر بعضهم النصيب بالكفن، وعليه قول الشاعر: نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلُّهُ ... رِدَاءَنِ تُدْرَجُ فِيْهِمَا وَحَنُوْطُ وفسره البيضاوي بما يحتاج إليه منها، اهـ. {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}؛ أي: على حسن تصرف في المتاجر واكتساب الأموال. {مِنَ الْقُرُونِ} جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. {لَذُو حَظٍّ} قال الراغب: الحظ النصيب المقدر. {فَخَسَفْنَا بِهِ} والخسف له معان كثيرة، منها خسف المكان، يقال: خسف المكان يخسف خسوفًا، من باب ضرب؛ أي: ذهب في الأرض وغرق، كما في "القاموس". وخسف القمر زال ضوؤه، وخسفت العين ذهب ضوؤها وغاب. وعين خاسفة إذا غابت حدتها، وخسف في الأرض وخُسف به فيها غاب. وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة، بسند ضعيف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ لبس ثوبًا جديدًا فاختال فيه، خُسف به من شفير جهنم، فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها. قال في "فتح الباري": إن مقتضى الحديث، أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز، ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت، وهو قارون، قال

في "القاموس": التجلجل: السُّؤوخ في الأرض والتحرك والتضعضع، والجلجلة: التحريك. اهـ. {مِنْ فِئَةٍ} قال الراغب: الفئة: الجماعة المتظاهرة، التي يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد، انتهى. من فاء إذا رجع. {مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع. {الَّذِينَ تَمَنَّوْا} والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وأكثره تصور ما لا حقيقة له، والأمنية الصورة الحاصلة في النفس، من تمني الشيء. {وَيْكَأَنَّ} قال الجوهري: وَيْ كلمة تعجب، وقد تدخل على كأن، فتقول ويكأن، وقيل: إنها كلمة تُستعمل عند التنبه للخطأ، وإظهار الندم، قال الخليل: إن القوم تنبهوا وقالوا نادمين على ما سلف منهم وَيْ. {بِالْحَسَنَةِ} والحسنة ما يحمد فاعلها شرعًا، وسميت حسنة لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها في القيامة. {بِالسَّيِّئَةِ} والسيئة ما يُذم فاعلها شرعًا، صغيرة كانت أو كبيرة، وسميت سيئة؛ لأن فاعلها يساء بها عند المجازاة عليها، اهـ "بيجوري على الجوهرة". {فَرَضَ عَلَيْكَ}؛ أي: أوجب عليك. {إِلَى مَعَادٍ} ومعاد الرجل بلده؛ لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه، تقول العرب: رُدَّ فلان إلى معاده؛ أي: إلى بلده. {وَلَا يَصُدُّنَّكَ} أصله يصدوننّك بنونين، أولاهما: مخففة هي نون علامة الرفع، وثانيتهما: مشددة هي نون التوكيد، فدخل عليه الجازم فحذف النون الأولى، فصار ولا يصدُّونُّك، فالتقى ساكنان الواو والنون المدغمة، فحذفت الواو لاعتلالها، ووجود دليل يدل عليها، وهو ضمة الدال، وأثر فيه الجازم لعدم مباشرة الفعل بنون التوكيد لوجود الفاصل، وهو واو الجماعة، ولم يؤثر الجازم في لفظ {وَلَا تَكُونَنَّ}. {وَلَا تَكُونَنَّ} لبنائه على الفتح، لمباشرته بنون التوكيد بلا وجود فاصل،

وإن أثر في محله. {ظَهِيرًا}؛ أي: معينًا. {هَالِكٌ}؛ أي: معدوم. {لَهُ الْحُكْمُ} الحكم: القضاء النافذ، الذي لا معقب له في الدنيا والآخرة، كما مر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: القلب في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}؛ لأن أصل الكلام لتنوء العصبة بالمفاتح؛ أي: لتنهض بها بجهد. ومنها: المبالغة في وصف كنوز قارون، حيث ذكرها جمعًا، وجمع المفاتح أيضًا، وذكر النوء والعصبة وأولي القوة، وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه. ومنها: حسن التعليل في قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فإن التعليل بجملة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} تعليل حسن جميل؛ لأن الفرح المحض في الدنيا، من حيث إنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشيء زائل وظل حائل. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لَا تَفْرَحْ} و {الْفَرِحِينَ} و {الْفَسَادَ} و {الْمُفْسِدِينَ}. ومنها: التتميم في قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}؛ لأنه تتميم لا بد منه؛ لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة، لم يكن له نصيب في الآخرة. ففي الحديث: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". ومنها: التأكيد بـ {إن} واللام واسمية الجملة في قوله: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ

عَظِيمٍ}؛ لأن السامع شاك ومتردد. ومنها: الكناية في قوله: {تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} كنى عن الزمن الماضي القريب بلفظ الأمس. ومنها: الطباق في قوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} {وَيَقْدِرُ}. ومنها: المبالغة في قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا}؛ لأن نفي الإرادة أبلغ من نفي العلو. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى} الآية. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ}؛ لأن أصله فلا يجزون، تشنيعًا عليهم، وتهجينًا لحالهم، بتكرير إسناد السيئة إليهم وفائدة هذه الصورة إنزجار اله غلاء عن ارتكاب السيئات قال الزمخشري إنما كرر ذكر السيئات؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررًا فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: إلا مثل ما كانوا يعملون، فحُذف المثل، وأقيم ما كانوا يعملون مقامه، مبالغة في المماثلة. ومنها: التنكير في قوله: {إِلَى مَعَادٍ} للتفخيم، كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِلَّا وَجْهَهُ} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: إلا ذاته، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة. ومنها: تقديم المعمول على عامله لإنادة الحصر، في قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.

لطيفة: قال بعضهم: من لم تُشبِعْه القناعة لم يكفه ملك قارون، وأنشدوا: هِيَ الْقَنَاعَةُ لَا تَبْغِيْ بِهَا بَدَلاَ ... فِيْهَا النَّعِيْمُ وَفِيْهَا رَاحَةُ الْبَدَنِ انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأجْمَعِهَا ... هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة 1 - استعلاء فرعون افساده في الأرض. 2 - استضعافه بني إسرائيل وقتله أبناءهم، واستبقاؤه نساءهم. 3 - منته تعالى على بني إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون، وجعلهم أئمةً في أمر الدين والدنيا، ووراثتهم أرض الشام. 4 - إغراق فرعون وجنوده. 5 - إلقاء موسى في اليم، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه. 6 - قتل موسى للقبطي ثم هربه إلى أرض مدين، وتزوجه ببنت شعيب وبقاؤه بها عشر سنين. 7 - عودة موسى إلى مصر ومناجاته ربه. 8 - معجزات موسى من العصا واليد البيضاء. 9 - طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ليكون له وزيرًا، وإجابته إلى ذلك. 10 - تبليغه رسالة ربه إلى فرعون، وتكذيب فرعون له، واستكباره في الأرض بغير الحق. 11 - إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بإخباره عن قصص الماضين دون أن يكون حاضرًا معهم، ولا أن يتعلم ذلك من معلم. 12 - إنكار قريش لنبوته بعد أن جاءهم بالحق من ربهم، وقولهم: إن ما جاء به سحر مفترى. 13 - إيمان أهل الكتاب بالقرآن، وإعطاؤه أجرهم مرتين. 14 - إثبات أن الهداية بيد الله سبحانه، لا بيد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يمكنه أن يهدي من يحب.

15 - معاذير قريش في عدم إيمانهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم دحضها. 16 - بيان أن الله لا يعذب أمة، إلا إذا أرسل إليهم رسولًا، حتى لا يكون لهم حجة على الله. 17 - نداء المشركين على رؤوس الأشهاد، وأمرهم بإحضار شركائهم، ونداؤهم ليسألهم عما أجابوا به الرسل، فلم يستطيعوا لذلك ردًا. 18 - بيان أن اختيار الرسل لله لا للمشركين، فهو الذي يصطفي من يشاء لرسالته. 19 - التذكير بنعمته على عباده، باختلاف الليل والنهار. 20 - شهادة الأنبياء على أممهم. 21 - ذكر قارون وبغيه في الأرض، ثم خسف الأرض به. 22 - بيان أن ثواب الآخرة، لا يكون إلا لمن لا يريد العلو في الأرض، ولا الفساد فيها. 23 - مضاعفة الله للحسنات، وجزاء السيئة بمثلها. 24 - الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله، وفتحه لمكة. 25 - بيان أن كل ما في الوجود فهو هالك، إلا الله تبارك وتعالى. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) فرغنا من تفسير هذه السورة في تاريخ 13/ 7/ 1413 من الهجرة النبوية، عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت سورة العنكبوت تسع وستون آية (¬1)، وألف وتسع مئة وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمس مئة وخمسة وتسعون حرفًا. واختلف (¬2) في كونها مكية أو مدنية، أو بعضها مكيًا وبعضها مدنيًا، على ثلاثة أقوال: الأول: أنها مكية كلها، أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وبه قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل. القول الثاني: أنها مدنية كلها، قال القرطبي، وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة. والقول الثالث: أنها مكية، إلا عشر آيات من أولها فمدنية. قال القرطبي: وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام، وقال غيره بالعكس؛ أي: إنها مدنية إلا عشر آيات من أولها فمكية، وحكي عن علي ابن أبي طالب، أنها نزلت بين مكة والمدينة. وهذا قول رابع. فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه الدارقطني في "السنن" عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي في كسوف الشمس والقمر، أربع ركعات وأربع سجدات، يقرأ في الركعة الأولى: العنكبوت، أو الروم، وفي الثانية يسَ. المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬3): 1 - إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعًا، وافتتح هذه السورة بذكر، المؤمنين، الذين فتنهم المشركون وعذبوهم على ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني وزاد المسير. (¬3) المراغي.

الإيمان دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل، تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثًا لهم على الصبر كما قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. 2 - إنه ذكر في السورة السابقة: نجاة موسى من فرعون، وهربه منه، ثم عوده إلى مصر رسولًا نبيًا، ثم ظفره من بعد، بغرق فرعون وقومه، ونصره عليهم نصرًا مؤزرًا، وذكر هنا: نجاة نوح عليه السلام، وأصحاب السفينة، وإغراق من كذبه من قومه. 3 - إنه نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر: أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهنا نعي عليهم أيضًا، وبيَّن أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت. 4 - هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضًا، وبيَّن عاقبة أعمالهما. 5 - ذكر هناك في الخاتمة: الإشارة إلى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، وفي خاتمة هذه، أشار إلى هجرة المؤمنين، بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}. تسميتها: سورة العنكبوت؛ لأن الله سبحانه، ضرب العنكبوت فيها مثلًا للأصنام المنحوتة، بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} .. الآيات. الناسخ والمنسوخ: سورة العنكبوت جميعها محكم (¬1) إلا قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية، فإنها نُسخت بالآية التي في سورة التوبة، وهي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (29). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ لابن حزم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}.

المناسبة قوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى، لما قال في أواخر السورة السالفة: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون، ويستجيبوا بالدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين .. أردف ذلك بتنبيههم، إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فُتنوا. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف: أن العبد لا يترك في الدنيا سدًى، وأن من ترك ما كلف به عذب .. أردف ذلك ببيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها ... لا يضيع الله عمله، ولا يخيب أمله. ثم ذكر: أن طلب ذلك من المكلف، ليس لنفع يعود إلى الله تعالى، فهو غني عن الناس جميعًا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح، تكفير السيئات ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، فضلًا منه ورحمة. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما؛ لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة، فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق، وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما في ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات، يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة، والزلفى عنده، مثل ما أوتي هؤلاء. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية ¬

_ (¬1) المراغي.

لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر القسمين الأولين من أقسام الناس الثلاثة، وهما المؤمن الصادق، والكافر المجاهر، بقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وبين أحوالهما بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .. أردف ذلك بذكر القسم الثالث بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} إلخ، واعلم أن الناس في الدين أقسام ثلاثة: 1 - مؤمن، حسن الاعتقاد والعمل. 2 - كافر، مجاهر بالكفر والعناد. 3 - ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر في فؤاده. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه، لما ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد .. أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينًا آخر، بنحو قولهم لهم: لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحمل تبعات ذنوبكم، ثم رد مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدًا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ... الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .. شرع يبين الأصل الثالث، وهو البعث والنشور، وهذه الأصول الثلاثة، لا يكاد ينفصل بعضها من بعض في الذكر الإلهي، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث. أسباب النزول قوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ...} الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر (¬1): أن ناسًا ممن كانوا بمكة آمنوا، فكتب إليهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، لما نزلت آية الهجرة، لا يُقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة، فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات، فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. قال مقاتل: نزلت في مهجع، مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ: "سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يُدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة" وجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ...} الآية. وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: نزلت في عمار بن ياسر، إذ كان يعذب في الله {أَحَسِبَ النَّاسُ ...} الآية. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما رواه الترمذي وغيره: أن (¬2) هذه الآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان، لما أسلم وكان من السابقين الأولين، وكان بارًا بأمه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت، والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[1]

أو أموت فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يومًا وليلةً، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر وليلةً، لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية آمرًا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به، وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داوود والنسائي أيضًا. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} الآية، روي أن هذه الآية نزلت في عياش ابن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضُرب فارتد، وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بحد ذلك دهرًا وحسن إسلامه. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم (1)} تقدم أن (¬1) قلنا أنه يُنطق بالحروف المقطعة في أوائل السور باسمائها ساكنةً، فيقال: ألف، لام، ميم، والحكمة في البداءة بها التنبيه، وطلب إصغاء السامعين إلى ما يُلقى بعدها، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال، قدم على المقصود شيئًا غيره، ليلتفت المخاطب بسببه إليه، فحينًا يكون كلامًا مفهومًا كقول القائل: اسمع، أو ألق بالك إلي، وحينًا يكون في معنى الكلام المفهوم، كقولك يا علي، وحينًا يكون صوتًا غير مفهوم المعنى، كمن يُصفّر خلف إنسان ليلتفت إليه. فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يقظ الجنان، فهو إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن عن الحكيم الخبير أن يقدم على المقصود حروفًا، هي كالمنبهات، لا يُفهم منها معنى، لتكون أتم في إفادة التنبيه؛ لأنه إذا كان المقدم قولًا مفهومًا، فربما ظن السامع أنه هو المقصود، ولا كلام للمتكلم بعد ذلك، ليصغي إليه، أما إذا سمع صوتًا لا معنى له، جزم بأن هناك كلامًا آخر سيرد بعد، فيُقبل إليه تمام الإقبال، ¬

_ (¬1) المراغي.

[2]

ويُرهف السمع إلى ما سيأتي. وقد ثبت بالاستقراء، أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي، بُدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ}، {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} {يس (1) وَالْقُرْآنِ} {ص وَالْقُرْآنِ} {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} إلا ثلاث سور: {كهيعص (1)} {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}. وقد بُدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البَدْءُ بالقرآن، أو الكتاب من قِبَلِ أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهي شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يُلقى بعدها. 2 - وقد (¬1) حصل التنبيه في القرآن، بغير الحروف التي لا يُفهم معناها كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من قِبَلِ أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله والهمزة في قوله: {أَحَسِبَ}؛ أي: أظن {النَّاسُ} للاستفهام الإنكاري، وقوله: {أَنْ يُتْرَكُوا}؛ أي: أن يُهملوا (¬2) ساد مسد مفعولي حسب، لاشتماله على مسند ومسند إليه، وقوله: {أَنْ يَقُولُوا} بالسنتهم {آمَنَّا} على تقدير الجار؛ أي: لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو على أن يقولوا، وقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}؛ أي: لا يُمتحنون في دعواهم بما يظهرها ويثبتها، حال من نائب فاعل يتركوا؛ أي: أظنوا أنفسهم متروكين بلا فتنة وامتحان، بمجرد أن يقولوا آمنا بالله؛ أي: أظن الناس الذين نطقوا بكلمة الشهادة، أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يُمتحنون ليتميَّز الراسخ في الدين من غيره، وكلًّا نجازي بحسب مراتب عمله، يعني أن الله يمتحنهم بمشاق التكاليف كالممهاجرة والمجاهدة، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين، كعمار بن ياسر وعياش ابن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فكانت صدورهم تضيق بذلك، ويجزعون، فتداركهم الله بالتسلية بهذه الآية. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب في هذه الجماعة، فهي في معناها، باقية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين، بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك. اهـ. واعلم (¬1): أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة، والمقصد الأعلى في العبادة، حصول محبة الله، وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله، فهو أعظم درجة عند الله، لكن للقلب ترجمان، وهو اللسان، وله مصدقات هي الأعضاء، ولها مزكيات، فإذا قال الإنسان باللسان: آمنت، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فلا بد له من شهود، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإِسلام، حصل له على دعواه شهود مصدقات، فإذا بذل نفسه، وما له في سبيل الله تعالى، وزكَّى أعماله بترك ما سوى الله تعالى، زكَّى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فحينئذٍ يحرر اسمه في جرائد المحبين، ويقرر قسمه في أقسام المقربين. قال الزجاج (¬2): لفظ الآية استخبار، ومعناه: معنى التقرير والتوبيخ، والمعنى: أحسب الناس أن يتركوا بأن يقولوا آمنا، ولأن يقولوا آمنا؛ أي: أحسبوا أن يقنع منهم، بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط، ولا يمتحنون بما يبين حقيقة إيمانهم {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}؛ أي: لا يختبرون بما يعلم به صدق إيمانهم من كذبه. ونحو الآية قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}. والخلاصة (¬3): أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا، دون أن يبتلوا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير. (¬3) المراغي.

[3]

بالفرائض البدنية والمالية، كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله، ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين، وإغاثة البائسين والملهوفين. 3 - ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم، بما نال من قبلهم بالمشاق، فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} متصل بأحسب، أو بلا يفتنون؛ أي: وعزتي وجلالي لقد اختبرنا الأمم الذين من قبل هذه الأمة من الأنبياء، وأتباعهم؛ أي: ولقد اختبرنا الأمم السالفة من الأنبياء وأتباعهم، وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء، فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بني إسرائيل بفرعون وقومه، وأصابهم منه البلاء العظيم، والجهد الشديد. وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه، لا جرم ليصيبن أتباعك أذى شديد وجهد عظيم، ممن خالفهم وناصبهم العداء؛ أي (¬1): هذه سنة الله في عباده، وأنه يختبر مؤمن هذه الأمة، كما اختبر من قبلهم من الأمم، كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء، وما وقع مع قومه من المحن، وما اختبر الله به أتباعهم. روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد، لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، وعن أبي سعيد الخدري، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوعك، فوضعت عليه يدي، فوجدت حره بين يدي فوف اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؟ قال: "إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر"، قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء". قلت: ثم من؟ قال: "ثم الصالحون، إن أحدهم كان ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها" ¬

_ (¬1) الشوكاني.

- يمزقها - وإن أحدهم كان ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء"، ونحو الآية قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}. {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بالامتحان {الَّذِينَ صَدَقُوا} في قولهم آمنا {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} منهم في ذلك، ومعنى (¬1): علمه تعالى: وهو عالم بذلك، فيما لم يزل أن يعلمه موجودًا عند وجوده، كما علمه قبل وجوده أنه يوجد، والمعنى (¬2): وليتميزن الصادق منهم من الكاذب، والمعنى: فوالله ليتعلقن علمه تعالى بالامتحان، تعلقًا حاليًا، يتميز به الذين صدقوا في الإيمان بالله، والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب، ويرتب عليهم أجزيتهم من الثواب والعقاب، ولذلك قيل المعنى: ليميزن أو ليجازين يعني: أن بعضهم فسر العلم بالتمييز والمجازاة على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب، فإن المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو سبب لهما. قال ابن عطاء: يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء، وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين، اهـ. واعلم: أن البلاء كالملح، يصلح وجود الإنسان بإذن الله تعالى، كما أن الملح يصلح الطعام، وإذا أحب الله عبدًا جعله للبلاء عرضًا - أي: هَدَفًا - وكل محنة مقدمة لراحة، ولكل شدة نتيجة شريفة. أي: وليظهرن الله سبحانه (¬3)، الصادقين منهم في إيمانهم من الكاذبين، بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازين كلا بما يستحق. وخلاصة ما سلف: اْيها الناس، لا تظنوا أني خلقتكم سدًى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم، وأرقى منه في كل شؤونه، ولا يتم ذلك إلا ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[4]

بتكليفكم بعلم وعمل، واختباركم من آنٍ إلى آخر، بإنزال النوازل والمصائب في الأنفس، والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات وفعل التكاليف، من الزكاة والصيام والحج ونحوها، فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم، وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار، وتفوزون بالنجاح فيه، يكن مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله تعالى فيكم، وفي الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان مليء بأخبار هذا البلاء، وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل. فإن قلت (¬1): لِمَ غاير بين الأسلوبين، حيث عبَّر في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} صيغة الفعل، وفي قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} بصيغة اسم الفاعل؟ قلت: فيه نكتة، وهي أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل، ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه؛ لأن وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإِسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر عن حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات، اهـ "زاده". وقرأ الجمهور (¬2): {فَلَيَعْلَمَنَّ} بفتح الياء واللام في الموضعين؛ أي: ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم، ويميز بينهم، وقرأ علي ابن أبي طالب وجعفر بن محمد في الموضعين: بضم الياء وكسر اللام من أعلم الرباعي، وقرأ الزهري الأولى: كقراءة الجماعة، والثانية: كقراءة علي، ذكره أبو حيان. والمعنى عليه: فليعلمن الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يُعلمُ الناس بصدق من صدق، ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها، وتتميز عن غيرها. 4 - وأم في قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ} (¬3) منقطعة، فتقدر بالهمزة التي للاستفهام التوبيخي، وببل التي للإضراب الانتقالي من قصة إلى قصة، فالكلام انتقال من توبيخ الأول، على حسبانهم بلوغ الدرجات من غير مشاق، بل بمجرد الإيمان، ¬

_ (¬1) زاده بتصرف. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

[5]

فانتقل منه إلى توبيخ أشد، وهو حسبانهم أن يفوتوا عذاب الله ويفروا منه (¬1)، وهم وإن لم يحسبوا أنهم يفوتونه تعالى، ولم يحدثوا نفوسهم بذلك، لكنهم حيث أصروا على المعاصي، ولم يتفكروا في العاقبة، نُزِّلوا منزلة من يحسب ذلك، كما في قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}. أي: بل أظن الذين {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}؛ أي: الشرك والمعاصي {أَنْ يَسْبِقُونَا}؛ أي: أن يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون، وهو ساد مسد مفعولي حسب، لاشتماله على مسند ومسند إليه؛ أي: بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا، ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}؛ أي: بئس وقبح الحكم الذي يحكمونه، حكمهم ذلك، وهو سبقهم إيانا وهربهم منا، فحُذف المخصوص بالذم. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة ابن أبي معيط وحنظلة ابن أبي سفيان والعاص بن وائل. وحاصل معنى الآية (¬2): أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا فلا نقدر على مجازاتهم، ولا نستطيع أن نُجري العدل فيهم، وما قضت به سنتنا في الظالمين باخذهم أخذ عزيز مقتدر، بئس حكمًا يحكمونه هذا الحكم، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى، بل ربيناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم، لعلهم يلمحون في هذا العالم نور جمالي وجلالي. 5 - {مَنْ كَانَ يَرْجُو} ويتوقع ويخاف {لِقَاءَ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: ملاقاة جزائه ثوابًا أو عقابًا، فليستعد لأجل الله، باختياره من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب، واجتنابه عما يسوقه إلى سوء العذاب، والفاء في قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} تعليل للجواب المحذوف، والأجل عبارة عن غاية زمان ممتد عُيِّنت لأمر من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[6]

الأمور؛ أي: فإن الوقت الذي عينه تعالى لذلك {لَآتٍ} لا محالة، وكائن ألبتة، لأن (¬1) أجزاء الزمان على الانقضاء والانصرام دائمًا، فلا بد من إتيان الوقت المعيَّن، وإتيانه موجب لإتيان اللقاء والجزاء {وَهُوَ} سبحانه {السَّمِيعُ} لأقوال العباد {الْعَلِيمُ} بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يفوته شيء ما، فبادروا العمل قبل الفوت، وفي الآية من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب ما لا يخفى. ومعنى الآية (¬2): أي من كان يطمع في ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، ويُبعده من سخطه، فإن أجل الله الذي أجَّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة، والله هو السميع لأقوال عباده، العلم بعقائدهم وأعمالهم، ويجازي كلًّا بما هو أهل له، وفي هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجو والمخوف وعدًا ووعيدًا. 6 - ثم بيَّن سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس بنفع يعود إليه، بل لفائدة المكلف، فقال: {وَمَنْ جَاهَدَ} نفسه بالصبر على طاعة الله تعالى، وجاهد الكفار بالسيف، وجاهد الشيطان بدفع وساوسه، والمجاهدة استفراغ الجهد - (بالضم)؛ أي: الطاقة - في مدافعة العدو، كما سيأتي. {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} لا لله سبحانه؛ لأن منفعة مجاهدته عائدة إليها أي: ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله من نفع ذلك شيء. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}؛ أي: فلا حاجة به إلى طاعتهم ومجاهدتهم، وإنما أمرهم بها رحمة عليهم، لينالوا الثواب الجزيل، كما قال: خلقت الخلق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم فالعالمون هم الفقراء إلى الله تعالى، والمحتاجون إليه في الدارين، وهو مستغن عنهم. وحاصل معنى الآية: أي ومن بذل جهده في جهاد عدو، أو حرب نفس، فإنما يجاهد لنفع نفسه؛ لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[7]

وهربًا من عقابه، وليس بالله إلى فعله حاجة، فهو غني عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر، يفعل ما يشاء، ونحو الآية قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}. 7 - ثم بيَّن بالتفصيل جزاء المطيع، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لنسترن عنهم {سَيِّئَاتِهِمْ} من الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ} الجزاء على العمل {الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الصالحات، فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه وتكفَّر سيئاته به، فلا يُخلَّد في النار، فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير دخول الجنة، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فللعبد ثلاثة أمور من أصناف حسناته (¬1): 1 - عمل قلبه: فهو لا يُرى ولا يسمع، وإنما يُعلَم. 2 - وعمل لسانه: فهو يُسمع. 3 - وعمل أعضائه: وهو يُرى. فإذا أتى بهذه الأشياء الثلاثة، يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيِّه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر. والمراد نجزينهم أحسن جزاء أعمالهم، بأن نُعطي بواحد عشر أمثاله أو أكثر، لا جزاء أحسن أعمالهم فقط، والمراد بأحسن هنا مجرد الوصف. قيل: لئلا يلزم أن جزاءهم بالحسن مسكوت عنه، وهذا ليس بشيء؛ لأنه من باب الأولى، فإنه إن جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه، فهو من باب التنبيه على الأدنى بالأعلى اهـ. "سمين". ومعنى الآية (¬2): أي والذين آمنوا بالله ورسوله، وصح إيمانهم حين ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[8]

ابتلائهم، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم، وعملوا صالح الأعمال فأدوا فرائضه، وقاموا بها حق القيام، فواسوا البائس الملهوف، وأغاثوا المظلوم، وقدموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه، فرأبوا صدعه وسدوا ثغره، وكانوا للمؤمنين سندًا ومعينًا حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضًا .. لنكفرن عنهم سيئاتهم التي فُرِّطت منهم في شركهم، أو صدرت منهم لمامًا في إيمانهم، وندموا على ما اجترحوه منها، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون، فنقبل القليل من الحسنات، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، ونجزي على السيئة بمثلها أو نعفو عنها، ونحو الآية قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}. فإن قلت: إن قوله: {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يستدعي وجود السيئات حتى تكفَّر، وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يقتضي عدمها، فمن أين تكون لهم سيئة؟ قلت: الجواب عن ذلك أن يقال: إنه ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} اهـ. "كرخي". 8 - {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}؛ أي: أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما؛ لأنهما سبب وجود الولد؛ أي (¬1): أمرناه بأن يُحسن إليهما بكل ما يمكنه من وجوه الإحسان، فيشمل ذلك إعطاء المال والخدمة، ولين القول وعدم المخالفة لهما وغير ذلك، وانتصاب حسنًا على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي إيصاءً حسنًا على المبالغة، أو على حذف المضاف؛ أي: ذا حسن، هذا عند البصريين، وأما عند الكوفيين فهو منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف، تقديره: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حُسْنًا. وقرأ الجمهور {حُسْنًا} الحاء وإسكان السين، وقرى أبو رجاء وأبو ¬

_ (¬1) الفتوحات.

العالية والضحاك وابن مسعود: {حسنا} بفتحهما، وقرأ أبي بن كعب وأبو مجلز وعاصم الجحدري: {إحسانا} قال الزجاج (¬1): من قرأ حسنا بضم الحاء وإسكان السين فمعناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن، ومن قرأ إحسانًا، فمعناه: ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه. وكان (حسنا) أعم في البر. فإن قلت: ذكر هنا (¬2) {حُسْنًا} وفي الأحقاف {إِحْسَانًا} حيث قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} الآية، وحذفه في لقمان، حيث قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} مع أن الثلاثة نزلت في سعد بن مالك، وهو سعد ابن أبي وقاص على خلاف فيه، فما الفرق بينه وبينهما؟ قلت: ذكر هنا وفي الأحقاف؛ لأن الوصية فيهما جاءت في سياق الإجمال فحسن ذكره، وفي لقمان جاءت مفصلة لما تقدمهما من تفصيل كلام لقمان لابنه، ولأن قوله بعدها: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} قائم مقامه، فحسن حذفه. فائدة: ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسبب الجفاء وسوء المعاملة، ويعيناه على البر، فمن البر وهما حيان أن ينفق عليهما، ويمتثل أمرهما في الأمور المشروعة، ويجامل في معاملتهما، ومن البر بعد موتهما التصدق لهما، وزيارة قبرهما في كل جمعة، والدعاء لهما في أدبار الصلاة، وتنفيذ عهودهما ووصاياهما. وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} مقول لقول محذوف، تقديره؛ أي (¬3): وقلنا له: وإن جاهداك وكلفاك أيها الإنسان {لِتُشْرِكَ بِي} أي: على أن تشرك بي {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: بآلهيته، وهذا القيد (¬4) لموافقة الواقع فلا مفهوم له؛ لأنه ليس ثم إله لك به علم وإله لا علم لك به، بل الإله واحد، وقيل: عبَّر بنفي العلم عن ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات.

نفي الإله؛ لأن ما لا يُعلم صحته لا يجوز اتباعه، فكيف بما عُلم بطلانه. والمعنى: وقلنا له: وإن طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهًا ليس لك به علم بكونه إلهًا {فَلَا تُطِعْهُمَا}؛ أي: لا توافقهما في الإشراك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما ورد في الحديث الصحيح، ويدخل فيه الأستاذ والأمير إذا أمر بغير معروف وهو ما أنكره الشرع، فلا طاعة لهما. والخلاصة: أي وإن حرَّضاك على أن تتعابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك أن تفعل ذلك. فإن قلت (¬1): لِمَ قال هنا {لِتُشْرِكَ بِي} باللام، وقال في لقمان: {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ} بعلى؟ قلت: قال هنا باللام، موافقةً للفظ اللام في قوله: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} وقال في لقمان بعلى، حملًا على المعنى بطريق التضمين، إذ التقدير: وإن حملاك على أن تشرك بي. وإذا لم تجز (¬2) طاعة الوالدين في هذا المطلب، مع المجاهدة منهما له، فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويُلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله، كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَيَّ} لا إلى غيري {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم يوم القيامة جميعًا؛ أي: مرجع من آمن منكم ومن أشرك، ومرجع من برَّ بوالديه ومن عقّ بهما، {فَأُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فأخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، ثم أجازيكم على أعمالكم المحسن بحسانه، والمسيء بإساءته، فلا تظنوا أني غائب عنكم، وآباؤكم حاضرون فتوافقوا الحاضرين في الحال، فإني حاضر معكم، أعلم ما تفعلون ولا أنسى، فأنبئكم بجميعه، فأجازيكم عليه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ¬

_ (¬1) كرماني بتصرف. (¬2) الشوكاني.

[9]

عبَّر (¬1) عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم؛ أي: أظهر لكم على رؤوس الأشهاد، وأعلمكم أي شيء كنتم تفعلون في الدنيا على الاستمرار، وأرتب عليه جزاءه اللائق به. 9 - ففي الآية بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين، والموصول في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في محل رفع على الابتداء خبره {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}؛ أي: في زمرة الراسخين في الصلاح، ولنحشرنهم معهم، وهم الأنبياء والأولياء، وكل من صلحت سيرته مع الله، والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين، وغاية مأمول الأنبياء والمرسلين. والمعنى: أي والذين آمنوا بالله، وصدقوا رسوله، وعملوا ما يصلح نفوسهم، ويزكي أرواحهم ويطهرهلالندخلنهم في زمرة الصالحين، ونجعلهم في عدادهم، فندخلهم الجنة معهم. 10 - وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} مبتدأ باعتبار مضمونه، والخبر جملة يقول في قوله: {مَنْ يَقُولُ}؛ أي: وبعض الناس يقول: {آمَنَّا بِاللَّهِ}؛ أي: أقررنا بواحدانية الله {فَإِذَا أُوذِيَ} مجهول آذى يؤدي، كما سيأتي في مباحث الصرف؛ أي: إذا فُتن {فِي اللَّهِ}؛ أي: في شأن الله تعالى ولأجله. والأذى (¬2): ما يصل إلى الإنسان من ضرر، إما في نفسه أو في جسمه، أو في حرمه أو في ماله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات، من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به. {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى {كَعَذَابِ اللَّهِ} سبحانه في الآخرة في الشدة والهول، ويستولي عليه خوف البشرية، إذ من لم يكن في حماية خوف الله وخشيته، يفترسه خوف الخلق، فيساوي بين العذابين، فيخاف العاجل الذي هو ساعة، ويهمل الآجل الذي هو باق لا ينقطع، فيرتد عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الدين، ولو علم شدة عذاب الله، وأن لا قدر لعذاب الناس عند عذابه تعالى لما ارتد، ولو قطع إربًا إربًا، ولما خاف من الناس وعذابهم، وفي الحديث "من خاف الله خوف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله يخوِّفه الله من كل شيء". وقال بعضهم: جعل فتنة الناس في الصرف عن الإيمان كعذاب الله في الصرف عن الكفر. وحاصل المعنى (¬1): أي ومن الناس فريق يقول: آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، فارتد عن إيمانه ورجع إلى كفره، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى، ويجعل قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولكنه جعل فتنة الناس صارفةً له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وعذاب الناس له دافع، وعذاب الله ليس له دافع، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده العقاب الأليم. والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدها عذابًا، كما تُقطع السلعة المؤذية ولا تُعدُّ عذابًا، واعلم أن الأقسام ثلاثة: مؤمن ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وكافر ظاهرًا وباطنًا. اهـ "رازي" كما مر. قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله، أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو يعلي وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، عن أن - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أُخفتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال". وخلاصة ذلك: أن من الناس من يدَّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم، فارتدوا عن الإِسلام، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلًا في حنايا ضلوعهم، وشغاف ¬

_ (¬1) المراغي.

قلوبهم، ونحو الآية قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}. {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن جاء نصر قريب من عند ربك للمؤمنين، وفتح وغلبة للأعداء، وكنيمة يغنمونها منهم، فالآية مدنية {لَيَقُولُنَّ} بضم اللام (¬1) نظرًا إلى معنى من، كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظه، وقرىء: {ليقولن} بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري، ذكره أبو حيان في "البحر". أي: ليقولن هؤلاء المنافقون: {إِنَّا كُنَّا} داخلين {مَعَكُمْ} في دينكم ومعاونين لكم على عدوك فأشركونا في المغنم، وهم كاذبون فيما يدعون. ونحو الآية {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. وهم ناس من ضعفة المسلمين، كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم، وكانوا يكتمونه من المسلمين، فرد الله عليهم وتوعدهم، وذكر أنه عليم بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، فقال: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ} سبحانه {بِأَعْلَمَ} منهم {بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}؛ أي: بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء، وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة. والهمزة في قوله: {أَوَلَيْسَ} لاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف تقديره: أيحسبون أن الله لا يعلم ما في صدورهم من النفاق، وليس الله سبحانه باعلم بما في صدور العالمين، وبما في قلوب المنافقين وما تكنه صدورهم، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سر، والمعنى: قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير أو شر. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

والظاهر (¬1): أن هذا النظم من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} نازل في المنافقين، لما يظهر من السياق، 11 - ولقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} بالإخلاص {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} سواء كان نفاقهم بأذية الكفرة أو لا، فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده؛ أي: ليميزن الله بين الطائفتين، ويُظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى. ويصبر في حق الله الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله، والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم، وكفر بالله عز وجل، وإن خفقت ريح الإِسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإِسلام، وزعم أنه من المسلمين. والمعنى: أي وعزتي وجلالي، ليختبرن الله (¬2) عباده بالسراء والضراء، ليميز صادق الإيمان من المنافق، من يطيع الله في كل حال يصبر على اللاواء إذا مسته، ويعدها اختبارًا له، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوَّض فيها إليه. ومن يعصيه إذا حزبه الأمر، واشتد به الخطب لا يجد الصبر إلى قلبه سبيلًا، ونحو الآية قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. فإن قلت (¬3): لِمَ غاير بين أسلوب الجملتين، حيث عبر في الأولى بالفعل حيث قال: {اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وفي الثانية باسم الفاعل، حيث قال: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}؟ قلت: للتفنن أو لرعاية الفاصلة، كما في "البيضاوي". واعلم (¬4): أن حقيقة الإيمان نور، إذا دخل قلب المؤمن لا تخرجه أذية الخلق، بل يزيد بالصبر على أذاهم، والتوكل على الله، فإنه نور حقيقي، أصلي ذاته، لا يتكدر بالعوارض، كنور الشمس والقمر فإنهما إذا طلعا يزداد نورهما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات بتصرف. (¬4) روح البيان.

[12]

بالارتفاع، ولا يقدر أحد أن يطفىء نورهما. وكنور الحجر الشفاف المضيء بالليل، فإنه لا يقبل الانطفاء مثل الشمعة؛ لأن نوره أصلي، ونور الشمعة عارضي. ثم إن في المحن والأذى تفاوتًا، فمن كانت محنته بموت قريب من الناس، أو فقد حبيب من الخلق أو نحوه .. فحقير قدره وكثير من الناس مثله، ومن كانت محنته لله وفي الله .. فعزيز قدره وقليل مثله، وقد كان كفار مكة يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنواع الأذى فصبر. 12 - ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ذكر مقالة الكافريق قولًا واعتقادًا، وهم رؤساء قريش فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله، يعني: كفار مكة كالوليد بن المغيرة وأبي جهل وأصحابهما {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله كعلي وسلمان وغيرهما، واللام للتبليغ؛ أي: قال كفار مكة مخاطبين للمؤمنين استمالة ليرتدوا {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا}؛ أي: اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين من عبادة الأوثان، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر، تنزيلًا للمسلك منزلة السالك فيه. {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي: ذنوبكم عنكم يوم القيامة، إن كان اتباع سبيلنا خطيئةً، تؤاخذون بها عند البعث والنشور، كما تقولون؛ أي: لا بعث ولا مؤاخذة، وإن وقع فرضًا نحمل آثامكم منكم. واللام: في {لْنَحْمِلْ} لام الأمر، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك، وقال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء؛ أي: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز. ثم رد الله عليهم بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} قرأ (¬1) الجمهور: {مِنْ خَطَايَاهُمْ} وقرأ داوود ابن أبي هند، فيما ذكر أبو الفضل الرازي {من خطيئتهم} بالإفراد، قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك إضافته لضمير ¬

_ (¬1) البحر الحيط.

[13]

الجمع، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني، أن داوود هذا قرأ: {من خطيئاهم} بجمع خطيئة جمع السلامة، بالألف والتاء، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ: {من خطيئهم} بفتح الطا وكسر الياء، وينبغي أن يُحمل كسر الياء على أنها همزة سُهِّلت بين بين فأشبهت الياء؛ لأن قياس تسهيلها هو ذلك. أي: والحال أنهم ليسوا بحاملين شيئًا من خطاياهم التي التزموا أن يحملوها كلها، فمن الأولى بيانية، والثانية مزيدة للاستغراق، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل، فقال: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في مقالتهم فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم. ومعنى الآية (¬1): أي وقال الكافرون من قريش، لمن آمن منهم، واتبعوا الهدى: ارجعوا إلى ديننا الذي كنتم عليه، واسلكوا طريقنا، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها، وهي في رقابنا، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي، فرد الله عليهم كذبهم، فقال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: وإن الكفرة لا يحملون ذنوب المؤمنين إذا اتبعوهم في الكفر يوم القيامة، فإن أحدًا لا يحمل وزر أحد، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وقال: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ}. ثم أكد ما سبق وقرره بقوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما قالوا من أنهم يحملون عنهم الخطايا. قال صاحب "الكشاف": وترى (¬2) من المتسمين بالإِسلام من يستن بأولئك، فيقول لصاحبه، إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم كالقتل: افعل هذا وإثمه في عنقي، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم. اهـ. 13 - وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم. بيَّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم، فقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، ليحملن هؤلاء القائلون ذنوب أنفسهم التي عملوها يوم القيامة، والتعبير عنها بالأثقال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الكشاف.

[14]

للإيذان بأنها ذنوب عظيمة {و} يحملون {أَثْقَالًا} وذنوبًا أخرى لإضلالهم {مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي: مع أثقال ضلالهم، فيعذبون بضلال أنفسهم وإضلال غيرهم، من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما أصلًا، فتكون أثقال المضلين زائدةً على أثقال الضالين؛ لأن من دعا إلى ضلالة فاتُّبع، فعليه حمل أوزار الذين اتبعوه، وكذا من سن سنةً سيئة، كما ورد في حديث أبي هريرة الثابت في "صحيح مسلم" وغيره. ثم ذكر أنهم يُسألون يوم القيامة عن افترائهم على ربهم، فقال: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} سؤال تقريع وتبكيت لِمَ فعلوه، ولأيِّ حجة ارتكبوه {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}؛ أي: عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها من قولهم، ولنحمل خطاياكم، فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ومن اعتقادهم أن لا حشر، ويقال لهم: احملوا خطاياهم فلا يحملون، ويقال لهم: افتريتم في الدنيا بحملها، فأين ذلك الوعد والافتراء الآن. قصص نوح عليه السلام 14 - ثم أجمل سبحانه قصة نوح عليه السلام تصديقًا لقوله في أول السورة: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} للدعوة إلى التوحيد وطريق الحق، من قبل إرسالنا إياك يا محمد {نُوحًا} واسمه عبد الغفار، كما ذكره السهيلي في كتاب "التعريف"، وعبد الشاكر، كما ذكره أبو الليث في "البستان"، وسمي نوحًا لكثر نوحه وبكائه من خوف الله تعالى، وُلد بعد مضيّ ألف وست مئة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم عليه السلام، قال في "التحبير" (¬1) روى ابن جرير عن ابن عباس، أن نوحًا بعث وهو ابن ثلاث مئة وخمسين، وهو نوح بن لمك بفتح اللام وسكون الميم والكاف ابن متوشلخ - بضم الميم وفتح التاء الفوقية، والواو وسكون الشين وكسر اللام وبالخاء المعجمة، كما ضبطه ابن الأثير - بن إدريس بن بزد بن أهاليل بن قيتان بن أنوش بن شيث بن آدم، وبين ¬

_ (¬1) التحبير.

آدم ونوح ألف سنة، اهـ. وفي "القرطبي": وكان اسم نوح السكن، وإنما سمي السكن؛ لأن الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم. ووُلد له سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد حام القبط والسودان وبربر، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في كل هؤلاء خير، وقال ابن عباس: في ولد سام بياض وأدمة، وفي ولد حام سواد وبياض قليل، وفي ولد يافث الصفرة والحمرة، وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق، والعرب تسميه يام. {إِلَى قَوْمِهِ} وهم أهل الدنيا كلها، والفرق (¬1) بين عموم رسالته وبين عموم رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى من في زمانه، وإلى من بعده إلى يوم القيامة، بخلاف نوح، فإنه مرسل إلى جميع أهل الأرض في زمانه لا بعده. كما في "إنسان العيون". وهو أول نبي بُعث إلى عبدة الأصنام؛ لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه، فأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك، وأيضًا أول نبي بُعث إلى الأقارب والأجانب، وأما آدم فأول رسل الله إلى أولاده بالإيمان به وتعليم شرائعه، وهو؛ أي: نوح عليه السلام أبونا الأصغر، وقبره بكرك (بالفتح) من أرض الشام، كما في "فتح الرحمن". وفي "الخطيب": (¬2) وأما قبره: فقد روح ابن جرير والأزرقي حديثًا مرسلًا، أن قبره بالمسجد الحرام، وقيل: ببلد البقاع يُعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بُني بسبب ذلك، اهـ. {فَلَبِثَ} نوح عليه السلام؛ أي: مكث وأقام {فِيهِمْ}؛ أي: في قومه بعد الإرسال {أَلْفَ سَنَةٍ} يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته فلم يجيبوه، والألف العدد المخصوص، سمي بذلك لكون الأعداد فيه مؤلفة، فإن الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون وألوف، فإذا بلغ الألف فقد ائتلف وما بعده ويكون مكررًا، قال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخطيب.

بعضهم: الألف من ذلك؛ لأنه مبدأ النظام {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}، قال ابن عباس: كان عمر نوح عليه السلام ألفًا وخمسين سنة بُعث على رأس أربعين سنة، ولبث في قومه تسع مئة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. والعام (¬1) كالسنة، لكن كثيرًا ما تُستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام فيما فيه الرخاء. فإن قلت: لِم غاير بين تمييز العددين، فقال في الأول: سنة، وفي الثاني عامًا؟ قلت: فرارًا من ثقل التكرار؛ لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم أو تهويل أو تنويه، ذكره أبو حيان. فإن قلت: لِمَ خص لفظ العام بالخمسين والألف بالسنة ولم يعكس؟ قلت: إيذانًا بأن نوحًا عاش بعد إغراق قومه ستين سنة في طيب زمان وصفاء عيش، وراحة بال، والعرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة. اهـ. "سمين". وقيل: سمى السنة عامًا لعوم الشمس في جميع بروجها. والعوم السباحة، ويدل على معنى العوم قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. فإن قلت: ما الفائدة في ذكر مدة لبثه؟ قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإِسلام، فقال الله سبحانه له: إن نوحًا لبث هذا العدد الكثير، ولم يؤمن من قومه إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك. اهـ "رازي". فإن قلت (¬2): ما فائدة العدول إلى ما قاله عن تسع مئة وخمسين مع أنه عادة الحُسَّاب؟ قلت: عدل إلى ما قاله؛ لأن: الاستثناء يدل على التحقيق، وتركه قد يُظنُّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[15]

به التقريب، فهو كقول القائل: عاش فلان مئة سنة، فقد يُتوهم السامع أنه يريد مئة سنة تقريبًا لا تحقيقًا. فإن قال: مئة سنة إلا شهرًا .. زال ذلك التوهم وفُهم منه التحقيق، الاستثناء من الألف استُدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتًا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك. ومعنى الآية (¬1): فلبث بين أظهرهم تسع مئة وخمسمين سنة يخوِّفهم من عذاب الله، ولا يلتفتون إليه، وإنما ذكر الألف تخييلًا لطول المدة إلى السامع؛ أي: ليكون أفخم في أذنه، ثم أخرج منها الخمسين إيضاحًا لمجموع العدد. والفاء في قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} للتعقيب؛ أي: أغرقهم عقيب تمام، المدة المذكورة الماء الكثير، المحيط بهم، المرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعًا، أو خمسة عشر ذراعًا. {وَهُمْ ظَالِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم مستمرون على ظلمهم وكفرهم. قال ابن عباس: مشركون، والطوفان - كما سيأتي - يُطلق على كل ما يطوف بالشيء ويحيط به، على كثرة وشدة وغلبة، من السيل والريح والظلام والقتل والموت والطاعون والجدري والحصبة والمجاعة، وقد غلب على طوفان الماء، وقد طاف الماء ذلك اليوم بجميع الأرض، والحال أنهم مستمرون على الظلم والكفر، لم يستمعوا إلى داير الحق هذه الدة المتمادية، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح، وذكَّرهم هذه المدة بطولها 15 - {فَأَنْجَيْنَاهُ}؛ أي: فأنجينا نوحًا من الغرق والابتلاء بمشاق الكفرة {وَ} أنجينا {أَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي: ومن ركب معه فيها من أولاده وأتباعه. واختُلف في عددهم على أقوال: قيل (¬2): كانوا ثمانين، وقيل: ثمانيةً وسبعين، وقيل: عشرة، نصفهم ذكور ونصفهم أناث. {وَجَعَلْنَاهَا}؛ أي: السفينة {آيَةً لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: عبرةً عظيمةً لمن بعدهم من الأهالي يتعظون بها، أو دلالة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي.

يستدلون بها على قدرة الله سبحانه، وقيل: إن الضمير في جعلناها عائد إلى الواقعة، أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق، قال أبو الليث في "تفسيره": وقد بقيت السفينة على الجودي إلى قريب من وقت خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين الطوفان والهجرة الشريفة ثلاثة آلاف وتسع مئة وأربع وسبعون سنة، على ما في "فتح الرحمن"، وكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها؛ لأن الخبر قد بلغه، وقال بعضهم: سفينة نوح أول سفينة في الدنيا، فأبقيت السفن آيةً وعبرةً للخلائق وعلامةً من سفينة نوح، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً}. روي (¬1): أن نوحًا بُعث على رأس الأربعين، ودعا قومه تسع مئة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثر الناس وفشوا، وذلك من أولاد حام وسام ويافث؛ لأنهم لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح، كما في "البستان"، فيكون عمره ألفًا وخمسين عامًا، وهو أطول الأنبياء عمرًا، فلما حضره الموت قال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمرًا، كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت وخرجت،، وما أحسن ما قيل فيها: أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ ... أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ ... وَلا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ قال الحسن: أفضل الناس يوم القيامة المؤمن المعمر، انتهى. اللهم أركبنا جواري الشريعة، وأوصلنا بها إلى صحارى الجنة، فليجِدَّ مَنْ وقع في طوفان نفسه حتى يجد الخلاص، وإليه الملجأ والمناص. وحاصل معنى الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أرسل (¬2) نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا سرًا وجهرًا، وما زادهم ذلك إلا فرارًا من الحق، وإعراضًا عنه، وتكذيبًا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان، فأهلكهم وهم مستمرون في الظلم، لم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحًا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرةً وموعظة أمدًا طويلًا مدة بقائها على جبل الجودي، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}. وقد تقدم تفصيل هذا في سورة هود. العبرة من هذا القصص: لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير أصحابك إلى العلو والنصر كفعلنا بقوم نوح، إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحًا وأتباعه من راكبي السفينة، وجعلناها عبرة للعالمين، وفي ذلك إيماء إلى أن نوحًا قد لبث هذا الأمد الطويل، يدعو قومه ولم يؤمن إلا القليل فصبر وظفر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك. قصة إبراهيم عليه السلام 16 - وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ} منصوب عطفًا على نوحًا؛ أي: ولقد أرسلنا إبراهيم عليه السلام، من قبل إرسالنا إياك يا محمد، أو منصوب باذكر مقدرًا، وقوله: {إِذْ قَالَ} (¬1) بدل اشتمال من إبراهيم؛ لأن الأحيان تشتمل على ما فيها؛ أي: واذكر إبراهيم وقت قوله لقومه، أو ظرف لأرسلناك المقدر؛ أي: ولقد أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن، أو العلم مبلغًا صلح فيه لأن يعظ قومه، ويأمرهم بالعبادة والتقوى. قرأ الجمهور (¬2): {وَإِبْرَاهِيمَ} بالنصب، ووجهه ما قدمنا، وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة: بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره؛ أي: ومن المرسلين إبراهيم. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني.

[17]

وهذه القصة تمثيل لقريش، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم، من رفض الأصنام، والدعوى إلى عبادة الله سبحانه؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إبراهيم إذ قال: {لِقَوْمِهِ} أهل بابل، ومنهم نمرود، وكان نمرود وأهل مدينته عباد أصنام، {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده ولا تشركوا به شيئًا {وَاتَّقُوهُ} أي: خافوا عقابه بامتثال أوامره وأجتناب نواهيه، فقوله (¬1): {اعْبُدُوا اللَّهَ} إشارة إلى إثبات الإله الواحد، وقوله: {وَاتَّقُوهُ} إشارة إلى نفي غيره. وقيل: فاعبدوا الله، إشارة إلى الإتيان بالواجبات، فيدخل فيه الاعتراف بالله، واتقوه: إشارة إلى الامتناع من المحرمات، فيدخل فيه الامتناع من الشرك. {ذَلِكُمْ} المذكور من عبادة الله وتقواه {خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: أفضل لكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي، ومعنى التفضيل مع أنه لا خير قطعًا باعتبار زعمهم الباطل {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر، وتميزون أحدهما عن الآخر، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر الحلم دون نظر الجهل، أو إن كان لكم علم بما هو خير لكم، مما هو شر لكم فاعبدوه واتقوه. ومعنى الآية (¬2): أي واذكر يا محمد لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله، وقدر على النظر والاستدلال، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء لسخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ثم بين لهم فائدة ذلك، فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه، إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم، تميزون بها الخير من الشر، وتعلمون ما ينفعكم في مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية. 17 - ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه، وفساد ما هم عليه بقوله: {إِنَّمَا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}؛ أي: أحجارًا لا تستحق العبادة {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}؛ أي: وتكذبون حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم؛ أي: ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هي مصنوعة بأيديكم لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وتفترون كذبًا حين تسمونها آلهة، وتدعون أنها تشفع لكم عند ربكم، والأوثان هي الأصنام. وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة، وقال الجوهري: الوثن الصنم، والجمع أوثان، وقال بعضهم (¬1): الصنم هو الذي يؤلف على صورة الإنسان سواء كانت من ذهب أو فضة أو حجر أو غيرها، والوثن هو ما يؤلف من حجر أو شجر على غير صورة الإنسان، يقال خلق واختلق؛ أي: افترى لسانًا أو يدًا كنحت الأصنام، كما في "كشف الأسرار". والإفك: أسوأ الكذب، والمعنى: وتكذبون كذبًا حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله، وهو استدلال على شرارة ما هم عليه، من حيث إنه زور وباطل. وقرأ الجمهور (¬2): {وَتَخْلُقُونَ} مضارع خلق الثلاثي {إِفْكًا} بكسر الهمزة وسكون الفاء، وقرأ علي والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي {تخلقون} بفتح التاء والخاء واللام مشددة، قال ابن مجاهد: رويت عن ابن الزبير، وأصله تتخلقون، بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الأهوازي {تُخَلِّقون} من خلَّق المضعف، وقرأ ابن السميفع وأبو المتوكل: {تختلقون} بزيادة التاء، من اختلق من باب افتعل الخماسي، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان {إِفْكًا} بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. قال ابن عباس: وتخلقون إفكا هو نحت الأصنام وخلقا، سماها إفكًا توسعًا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) زاد المسير.

[18]

ثم استدل على شرارة ذاك، من حيث إنه لا يجدي بطائل، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى من الأوثان {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}؛ أي: لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئًا من الرزق. {فَابْتَغُوا}؛ أي: فاطلبوا يا قوم {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} كله فإنه القادر على إيصال الرزق إليكم؛ أي: اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله سبحانه، فهو الذي عنده الرزق كله، فاسألوه من فضله {وَاعْبُدُوهُ} دون غيره لكونه مستحقًا للعبادة لذاته، {وَاشْكُرُوا لَهُ} على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين للنعمة بالشكر، ومستجلبين بالمزيد، فإن الشكر موجب لبقائها، وسبب للمزيد عليها، قال (¬1) ابن عطاء: اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة، وقال سهل: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب، وهذا سبيل العوام. {إِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون بالموت ثم بالبعث، فافعلوا ما أمرتكم به فهو خير لكم. فائدة (¬2): ذكر الرزق أولًا، ثم عرَّفه ثانيًا، في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}؛ لأنه أراد بذلك أن الذين تعبدون من دون الله لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرازق لا غيره، 18 - وقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمعنى عليه أي (¬3): وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به، من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث، فلا تضروني بتكذيبكم، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل، وهم شيث وإدريس ونوح عليهم السلام، فلم يضروهم بتكذيبهم شيئًا، أو من قول الله سبحانه في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشأن قريش، معترض بين أول قصة إبراهيم وآخرها، والمعنى عليه أي: وإن تكذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فذلك عادة الكفار مع من سلف من الرسل {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ} الذي أُرسل إلى أمة من الأمم {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: إلا التبيلغ الواضح الذي لا يبقى معه شك ولا إشكال، ولا شبهة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) المراح.

[19]

إلى القوم الذي أرسل إليهم، وليس عليه هدايتهم وليس ذلك في وسعه. وحاصل معنى الآيتين (¬1): أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئًا من الرزق، الذي لا قوام لكم بدونه، فكيف تعبدونها، ثم ذكر لهم من ينبغي أن يعبد ويبتغى منه الرزق، فقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} إلخ؛ أي: فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم، تدركوا ما تطلبون، واعبدوه وحده، واشكروا له نعمه عليكم، مستجلبين بذلك المزيد من فضله، وبعد أن ذَكَر أنه هو الرازق في الدنيا والمنعم على عباده، بيَّن أن المرجع إليه في الآخرة، فهو الذي يُطلب رضاه، والتقرب إليه والزلفى عنده، فقال: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ أي: واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له، فإنكم إليه ترجعون فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره، وأنتم عباده وخلقه، وفي نعمه تتقلبون، ومن رزقه تأكلون. ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق .. حذرهم من تركه وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل، فقال: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} إلخ؛ أي: وإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين، وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به فلا تضروني بتكذيبكم، فقد كذب أمم من قبلكم رسلهم، كقوم إدريس ونوح، فجرى الأمر على ما سنه الله تعالى في الخلق، من نجاة المصدقين للرسل وهلاك العاصين لهم. {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: وما ضر ذلك الرسل شيئًا، بل هم قد ضروا أنفسهم، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك، وهو المقترن بآيات الله ومعجزاته، وما عليه أن يصدقه قومه، وقد خرجت من عهدة التبليغ، ولا عليَّ بعد ذلك أصدقتم أم كذبتم. 19 - ولما بين الله سبحانه وتعالى (¬2) الأصل الأول وهو التوحيد، وأشار إلى الثاني وهو الرسالة، بقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) النهر.

الذكر الإلهي، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري؛ أي (¬1): لإنكار عدم رؤيتهم، الموجب لتقريرها داخلة على محذوف، والواو عاطفة على كذلك المحذوف، والتقدير: ألم ينظروا؛ أي: أهل مكة وكفار قريش، ولم يروا؛ أي: ولم يعلموا علمًا، جاريًا مجرى الرؤية في الجلاء والظهور {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} أي: يخلقهم ولم يكونوا شيئًا مذكورًا، ويخلقهم من نطفة من غذاء، هو ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة مثل البدء؛ أي: ألم يعلموا كيفية خلق الله ابتداء من مادة ومن غير مادة؛ أي: قد علموا. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: ثم هو يعيد الخلق، ويردهم إلى الوجود في الآخرة عند البعث، وهو معطوف (¬2) على قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} لا على يبدأ، لعدم وقوع الرؤية عنيه، فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق، قياسًا على الإبداء. فإن قلت: أوليس هذا من عطف الخبر على الإنشاء؟ أجيب: بأن الاستفهام فيه لما كان للإنكار، وتقرير الرؤية، كان إخبارًا من حيث المعنى؛ أي: قد رأوا ذلك وعلموه. اهـ "زاده". وقد جُوِّز العطف على (يبدأ) بتاويل الإعادة، بإنشائه تعالى كل سنة ما أنشأه في السنة السابقة، من النبات والثمار وغيرهما، فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث، ووقوعه من غير ريب. {إِنَّ ذَلِكَ} المذكور من الإعادة، أو من الخلق الأول والخلق الثاني {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}؛ أي: سهل لا نصب فيه، إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء من الاْسباب؛ لأنه إذا أراد أمرًا قال: له كن، فيكون. وحاصل المعنى (¬3): أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، أرشد قومه إلى إثيات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم، بعد أن لم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[20]

يكونوا شيئًا مذكورًا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة وتصرفهم في الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده بل هو أهون عليه، كما قال في آية أخرى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وخلاصة هذا: أنتم قد علمتم ذلك، فكيف تنكرون الإعادة، وهي أهون عليه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه (¬1): {تروا} بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء، والجمهور {يُبْدِئُ} مضارع أبدأ الرباعي، وقرأ الزبير وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه {يبدأ} مضارع بدأ الثلاثي، وقرأ الزهري {كيف بدا الخلق} بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفًا، فذهبت في الوصل، وهو تخفيف غير قياسي وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين. والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ثم يخرجه إلى الدنيا، ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات، وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد أولًا، فهو القادر على الإعادة. 20 - ثم أمر الله سبحانه إبراهيم (¬2) أن يأمر قومه بالمسير في الأرض، ليتفكروا ويعتبروا، فقال: {قُلْ} يا إبراهيم، لقومك المنكرين للبعث {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: سافروا في أقطار الأرض ونواحيها {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}؛ أي: فانظروا إلى الأشياء المخلوقة، كيف خلقها ابتداء على كثرتها، واختلاف ألوانها وطبائعها، وألسنتها وأفعالها ومعيشتها، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية، والأمم الخالية وآثارهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيل: إن المعنى: قل يا محمد لمشركي العرب، ومنكري البعث: سيروا في نواحي الأرض فانظروا بأعينكم كيف خلق الله الخلق ابتداء على تلك الأشكال العجيبة، والأحوال الغريبة، لتعلموا قدرة الصانع الحكيم والمدبر العلم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

{ثُمَّ اللَّهُ} الذي بدأ النشاة الأولى وخلقها على تلك الكيفية العجيبة والأشكال الغريبة {ينشئـ} ـها {النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}؛ أي: نشأة ثانية عند البعث. والنشأة (¬1) مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة، قال الراغب: الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان، اهـ. أو على حذف العامل؛ أي: ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة، كقوله تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}؛ أي: فنبتت نباتًا حسنًا، والنشاة الآخرة هي النشأة الثانية، وهي نشأة القيام من القبور، والجملة معطوفة على جملة سيروا في الأرض، داخلة معها في حيز القول، وعطف الإخبار على الإنشاء جائز فيما له محل من الإعراب، وإنما لم تُعطف على قوله: {بَدَأَ الْخَلْقَ}؛ لأن النظر غير واقع على إنشاء النشأة الآخرة، فإن الفكر يكون في الدليل، لا في النتيجة. والمعنى: ثم الله يوجد الإيجاد الآخر، ويحيي الحياة الثانية؛ أي: بعد النشاة الأولى التي شاهدتموها، وهي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان من حيث إن كلًّا إبداع وإخراج من العدم إلى الوجود. وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لما قبلها؛ لأن قدرته لذاته، ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على حد سواء، فيقدر على النشاة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى، فمن علم قدرته تعالى على جميع الأشياء التي منها النشاة الآخرة، لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعدما أخبر الله به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬2): {النشآءة} هنا، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة، وباقي السبعة النشأة على وزن فعلة، وهما كالرآفة والرأفة وهما لغتان، والقصر أشهر، وفي الآية الأولى صرح سبحانه باسمه في قوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} ثم أضمر في قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهنا عكس أضمر في بدأ، ثم أبرزه في قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ} حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه، ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها، وتقرير وجودها إذ كان نزاع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[21]

الكفار فيها، فكأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي ينشأ النشأة الآخرة، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. وحاصل معنى الآية (¬1): أي سيروا في الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيِّرة ثوابتها وسياراتها، والأرض، وما فيها من جبال ومهاد وبراري وقفار وأشجار وثمار وأنهار وبحار، فكل ذلك شاهد على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الذي يقول للشيء كن فيكون، أوليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجده مرة ثانية. وهو القادر على كل شيء، وشبيه بالآية قوله في الآية الأخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. 21 - ولما أقام الدليل على الإعادة، رتب عليها ما سيكون بعدها، فقال: {يُعَذِّبُ} سبحانه بعد النشأة الآخرة {مَنْ يَشَاءُ} ويريد تعذيبه من الكفار والعصاة، {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} رحمته من المؤمنين به، المصدقين لرسله، العاملين بأوامره ونواهيه، وتقديم (¬2) التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب؛ لأن الكلام مع الكفار مكذبي الرسل. {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره {تُقْلَبُونَ}؛ أي: تردون بالبعث، فيفعل بكم ما يشاء من التعذيب والرحمة، مجازاة على أعمالكم. والمعنى: أي يعذب سبحانه من يشاء منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة، بعدله في حكمه بحسب سننه في خلقه، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته، فهو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}؛ أي: وإليه سبحانه تردون بعد موتكم. والمراد: أنه إن تأخر ذلك عنكم، فلا تظنوا أنه قد فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم، وعنده يُدَّخر ثوابكم وعقابكم 22 - {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

بممتنعين عن إجراء حكمه وقضائه عليكم، وإن هربتم {فِي الْأَرْضِ} الواسعة بالتواري فيها {وَلَا} بالتحصن {فِي السَّمَاءِ} التي هي أوسع من الأرض، لو استطعتم الترقي فيها، يعني كنتم في الأرض أو في السماء لا تقدرون أن تهربوا منه، فهو يُدرككم لا محالة، ويُجرى عليكم أحكام تقديره، والخطاب فيها لجميع الناس. والمعنى (¬1): أنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شيء فقير إليه، فلو صعد إلى السماكين أو هبط إلى موضع السُّمولِ في الماء ما خرج من قبضته، وما استطاع الهرب منه، وقيل (¬2): هذا خطاب لقوم فيهم النموود الذي حاول الصعود إلى السماء، وزاد هنا لفظة {ولا في السماء}، واقتصر في الشورى على {في الأرض}؛ لأن ما هنا خطاب لقوم فيهم النمرود، الذي حاول الصعود إلى السماء فأخبرهم بعجزهم، وأنهم لا يفوتون الله لا في الأرض ولا في السماء، وما في الشورى خطاب للمؤمنين بقرينة قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقد حذفا معًا للاختصار في قوله في الزمر {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. اهـ زكريا. ولما بيَّن أنهم مقدور عليهم جميعًا، لا يفلتون منه، ذكر إنه لا يستطيع أحد نصرهم، فقال: {وَمَا} كان {لَكُمْ} أيها الناس {مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ}؛ أي: قريب يلي أموركم ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضي أو سماوي {وَلَا نَصِيرٍ} يدفع عذاب الله عنكم إن قُدِّر عليكم، يعني ليس غيره تعالى يحرسكم مما يصيبكم من بلاء يظهو من الأرض أو ينزل من السماء، ويدفعه عنكم إن أراد بكم ذلك، قال بعضهم: الولي (¬3) الذي يدفع المكروه عن الإنسان والنصير الذي يأمر بدفعه عنه، والولي أخص من النصير، إذ قد ينصر من ليس بولي، انتهى. 23 - ولما قرر التوحيد والبعث، هدد من خالفهما وتوعده فقال: {وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: بدلائله التكوينية والتنزيلية، الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشاة الأولى الدالة على تحقق البعث، والآيات الناقة دخولًا أوليًا، قال في "كشف الأسرار": الكفر بآيات الله أن لا يستدل بها عليه، وتُنسب إلى غيره، ويجحد موضع النعمة فيها. {وَلِقَائِهِ} الذي تنطق به تلك الآيات، ومعنى (¬1) الكفر بلقاء الله: جحود الورود عليه، وإنكار البعث وقيام الساعة والحساب والجنة والنار. {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذُكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه {يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} قنطوا منها في الدنيا، لإنكارهم البعثث والجزاء، فلا يرجون الجنة؛ لأنه لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله، ولا ما أخبرتهم به رسله، أو ييأسون منها يوم القيامة، والتعبير بصيغة الماضي للدلالة على تحققه، واليأس: انقطاع الطمع، كما في "المفردات". {وَأُولَئِكَ} الموصوفون بالكفر بالآيات واللقاء، وباليأس من الرحمة الممتازون بذلك عن سائر الكفرة {لَهُمْ} بسبب تلك الأوصاف القبيحة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: وجيع لا يقادر قدره في الشدة والإيلام. وقرأ الجمور: {يَئِسُوا}! بالهمز، وقرأ الذماري وأبو جعفر بغير همز، بل بياء بدل الهمز، ذكره أبو حيان. كرر سبحانه الإشارة للتأكيد (¬2)، ووصف العذاب بكونه أليمًا للدلالة على أنه في غاية الشدة، وأضاف (¬3) الرحمة إلى نفسه، ولم يُضف العذاب إليها لسبق رحمته، وإعلامًا لعباده بعمومها لهم، ويأسهم من رحمة الله تعالى؛ لأنه سبحانه له في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله، وأخرج نفسه عن محل رحمة الله، وإذا جعل له آلهة لم يقر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

بالحاجة إلى طريق متعين، فييأس من رحمة الله، ولما أنكر الحشر وقال: لا عذاب عذبه الله سبحانه تحقيقًا للأمر عليه، فعدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر. وقال في "الخازن" قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} آخر الآيات في تذكير أهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} إلخ. قال أبو حيان (¬1): والظاهر أن قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} من كلام الله حكاية عن إبراهيم إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقيل: هذه الآيات اعتراض من كلام الله تعالى، بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه؛ أي: وإن تكذبوا محمدًا، فتقدير هذه الجمل اعتراضًا يردُّ على أبي علي الفارسي، حيث زعم أن الاعتراض لا يكون جملتين فأكثر. وفائدة هذا الاعتراض: أنه تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي به، من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، وتكذيبهم إياه، ومحاولتهم قتله، وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية، مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله، وذكر آثار قدرته والمعاد، انتهى. ومعنى الآية: أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه في الكون، دالةً على توحيده، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة، أولئك لا أمل لهم في رحمته؛ لأنهم لم يخافوا عقابه، ولم يرجوا ثوابه، ولهم عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة، ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. الإعراب {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{الم (1)} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذ ألَمَ، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألَمَ هذا محله، أو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اقرأ ألَمَ، أو مفعول لاسم فعل محذوف، تقديره: هاك ألَمَ، أو مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: انظر في ألَمَ، وإعرابه على كل من الأوجه الخمسة، بحركة مقدرة منع من ظهورها سكون الوقف، هذه الأوجه كلها إن قلنا إنه علم للسورة، وإن قلنا إنه من الحروف التي استأثر الله سبحانه بعلمها، فلا محل لها من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، وقد تقدم لنا مرارًا بيان ما فيه من الأقوال المتلاطمة فيه من جهة المعنى والإعراب فجدد العهد بها. {أَحَسِبَ}: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ. {حَسِبَ النَّاسُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ} حرف نصب ومصدر. {يُتْرَكُوا}: فعل مغير، ونائب فاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {حَسِبَ}. {أَنْ يَقُولُوا}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة مع {أَنْ}: المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره أن يتركوا لأجل قولهم آمنا، والجار المحذوف متعلق بـ {يُتْرَكُوا}. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُوا}. {وَهُمْ}: {الواو}: واو الحال. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُفْتَنُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو لا يتركوا. {وَلَقَدْ فَتَنَّا}: {الواو}: استئنافية، {واللام}: موطئة للقسم. {قَدْ}: حرف تحقيق، {فَتَنَّا}: فعل وفاعل، {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. {فَلَيَعْلَمَنَّ}: {الفاء}: عاطفة، {واللام}: موطئة للقسم. {يعلمن} فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. {اللَّهُ}: فاعل. {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم وجملة القسم معطوفة على الجملة التي قبلها. وجملة {صَدَقُوا} صلة الموصول. {وَلَيَعْلَمَنَّ} {الواو}: عاطفة {واللام} موطئة للقسم. {يَعْلَمَنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله. {الْكَاذِبِينَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يَعْلَمَنَّ}.

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}. {أَمْ}: منقطعة تقدر ببل التي للإضراب الانتقالي، وبهزة الاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ. {حَسِبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {أَن} حرف نصب ومصدر. {يَسْبِقُونَا}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن}؛ لأن أصله يسبقوننا، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {حَسِبَ}؛ أي: أم حسب الذين يعملون السيئات سبقهم إيانا. {سَاءَ}: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: هو. {مَا}: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز، وجملة {يَحْكُمُونَ} في محل النصب صفة لـ {ما}، والرابط محذوف، تقديره: ساء هو شيئًا محكومًا لهم، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: حكمهم. ويجوز أن تعرب ما اسما موصولًا فاعل {سَاءَ}، وجملة {يَحْكُمُونَ}: صلتها. ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية؛ أي: حكمهم، وعلى هذين الوجهين يكون التمييز محذوفًا؛ أي: ساء الذي يحكمونه حكمًا، أو ساء حكمهم حكمًا، وعلى كل التقادير فجملة {سَاءَ} مستأنفة. {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَنْ}. {يَرْجُو}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {لِقَاءَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كَانَ}، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فليعمل عملًا صالحًا، ولا يشرك بعبادة ربه، كما صرح به في سورة الكهف، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ}: {الفاء}: تعليلية. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه. {لَآتٍ} {اللام}: حرف ابتداء. {آت}: خبر {إنَّ} مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص. وجملة {إن} في محل الجر يلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية، المتعلقة بالجواب المحذوف {وَهُوَ}: مبتدأ {السَّمِيعُ} خبر أول. {الْعَلِيمُ}:

خبر ثان، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة، أو مستأنفة. {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)}. {وَمَنْ} {الواو} عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {جَاهَدَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّمَا}: الفاء: رابطة الجواب. {إِنَّمَا}: أداة حصر، أو يقال: حرف كاف ومكفوف. {يُجَاهِدُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَنْ}. {لِنَفْسِهِ}: متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونها جواب الشرط، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب، واسمه. {لَغَنِيٌّ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء. {عَنِ الْعَالَمِينَ} متعلق بـ {غَنِيٌّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، من تقرير أن جهاد الشخص لا يصل منه إلى الله نفع. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}. {لَنُكَفِّرَنَّ}: {اللام} موطئة للقسم. {نُكَفِّرَنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَنْهُمْ}: متعلق به. {سَيِّئَاتِهِمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله {وَمَنْ جَاهَدَ}. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {نَجْزِيَنّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {والهاء}: مفعول أول. {أَحْسَنَ الَّذِي} مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها.

{كَانُوا}: فعل نا قص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كَانَ} صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}. {وَوَصَّيْنَا} {الواو}: استئنافية. {وَصَّيْنَا}: فعل وفاعل. {الْإِنْسَانَ}: مفعول به. {بِوَالِدَيْهِ} متعلق بـ {وَصَّيْنَا}. {حُسْنًا}: نعت لمصدر محذوف، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: إيصاءً ذا حسن، أو هو في نفسه حسن على المبالغة، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان حق الوالدين، وتحديد طاعتهما بعدم معصية الله تعالى. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {جَاهَدَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {لِتُشْرِكَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {تُشْرِكَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الإنسان. {بِي}: جار ومجرور متعلق بـ {تُشْرِكَ}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإشراكك بي، الجار والمجرور متعلق بـ {جَاهَدَ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به {لِتُشْرِكَ}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {لَكَ}: خبر مقدم لـ {لَيْسَ}. {بِهِ}: متعلق بـ {عِلْمٌ}. {عِلْمٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ} صلة لـ {ما} الموصولة. {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، {لَا}: ناهية جازمة. {تُطِعْهُمَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}. {إِلَيَّ}: جار ومجرور خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فَأُنَبِّئُكُمْ} {الفاء}: عاطفة تفريعية. {أُنَبِّئُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. {بِمَا}: جار وجرور متعلق بـ {أُنَبِّئُكُم}، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية مفرعة عليها. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَعْمَلُونَ} خبر {كَان}، وجملة

{كاَن} صلة لـ {ما} الموصولة لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ، أو منصوب على الاشتغال كما في "السمين". {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}. {لَنُدْخِلَنَّهُمْ} {اللام}: موطئة للقسم. {نُدْخِلَنّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والهاء مفعول به. {فِي الصَّالِحِينَ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَمِنَ النَّاسِ}: خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حال المنافقين. {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر صلة الموصول. {آمَنَّا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أُوذِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ} {فِي اللَّهِ} متعلق بـ {أُوذِيَ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لـ {إذا}. والظرف متعلق بالجواب الآتي. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتتر. {فِتْنَةَ النَّاسِ} مفعول أول لـ {جَعَلَ}. {كَعَذَابِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}، وجملة {جَعَلَ} جواب {إِذَا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} معطوفة على صلة {مَنْ} الموصولة. {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {إِنَّ}: حرف شرط جازم. {جَاءَ نَصْرٌ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {مِنْ رَبِّكَ} صفة {نَصْرٌ}. {لَيَقُولُنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. {يَقُولُن}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات

النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكتين، في محل الرفع فاعل، والنون الثقيلة نون التوكيد؛ لأن أصله ليقولونن، كما سيأتي في مبحث التصريف، والجملة الفعلية جواب القسم، وجواب {إن} الشرطية محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: وإن جاء نصر من ربك يقولون، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه، وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة {إِذَا} الشرطية. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {مَعَكُمْ}: خبره، وجملة {كاَن} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}. {أَوَ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيحسبون أن الله لا يعلم ما في صدورهم وليس الله إلخ، والجملة المحذوفة مستأنفة {لَيْسَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِأَعْلَمَ}: خبره. والباء: زائدة. {بِمَا}: متعلق بـ {أعلم}. {فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {لَيْسَ} معطوفة على تلك المحذوفة. {وَلَيَعْلَمَنَّ} {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {يَعْلَمَنَّ اللَّهُ}: فعل مضارع ونون توكيد وفاعل. {الَّذِينَ} مفعول به، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}. {وَلَيَعْلَمَنَّ}: {الواو}: عاطفة. {يَعْلَمَنَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر في محل الرفع، مبني على الفتح، والنون للتوكيد. {الْمُنَافِقِينَ}: مفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}.

{وَقَالَ} {الواو}: استئنافية. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {قَالَ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {اتَّبِعُوا}: فعل أمر وفاعل، {سَبِيلَنَا}: مفعول به، والجملة الفعلية مقول {قَالَ}. {وَلْنَحْمِلْ} {الواو}: عاطفة. و {اللام}: لام أمر وجزم. {نَحْمِلْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بلام الأمر. {خَطَايَاكُمْ}: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اتَّبِعُوا}. {وَمَا هُمْ}: {الواو}: حالية. {مَا}: حجازية تعمل عمل {ليَسَ}. {هُمْ}: في محل الرفع اسمها. {بِحَامِلِينَ}: خبرها، والباء: زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {قَالَ}. {مِنْ خَطَايَاهُمْ}: جار ومجرور حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِنْ}: زائدة. {شَيْءٍ}: مفعول به لـ {حَامِلِينَ}: مجرور لفظًا منصوب تقديرًا. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {لَكَاذِبُونَ} {اللام}: حرف ابتداء. {كَاذِبُونَ} خبرها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة لتعليل الجزم بعدم حملهم شيئًا من خطاياهم. {وَلَيَحْمِلُنَّ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {يحملن}: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون المشددة للتوكيد. {أَثْقَالَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَأَثْقَالًا}: معطوف على {أَثْقَالَهُمْ}. {مَعَ أَثْقَالِهِمْ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {أَثْقَالًا}، وجملة القسم مستأنفة. {وَلَيُسْأَلُنَّ}: الواو: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {يسألن}: فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل، والنون المشددة للتوكيد. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف متعلق بـ {يسألن}. والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ}. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يسألن} وهو في موضع المفعول الثاني لـ {سأل}، {كَانُوا}: فعل ناقص وأسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ}: خبره، وجملة {كَانُ} صلة لما الموصولة. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ

الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا نُوحًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لتأييد التكليف الذي ألزم محمد - صلى الله عليه وسلم - به أتباعه؛ أي: إنه ليس مختصًا بمحمد وأتباعه. {إِلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {فَلَبِثَ}: {الفاء}: عاطفة. {لَبِثَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {أَرْسَلْنَا}. {فِيهِمْ}: متعلق به. {أَلْفَ سَنَةٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَبِثَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {خَمْسِينَ}: منصوب على الاستثناء. {عَامًا} تمييز لـ {خَمْسِينَ} منصوب به. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ}: فعل ومفعول به وفاعل، معطوف على محذوف، تقديره: فكذبوه فأخذهم الطوفان. {وَهُمْ ظَالِمُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول {أَخَذَهُمُ}. {فَأَنْجَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ}. {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} معطوف على الضمير، أو مفعول معه. {وَجَعَلْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على {أَنْجَيْنَاهُ} {آيَةً} مفعول ثان لـ {جعل}. {لِلْعَالَمِينَ} صفة لـ {آيَةً}. {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}. {وَإِبْرَاهِيمَ}: {الواو}: استئنافية. {إِبْرَاهِيمَ}: منصوب بفعل محذوف، تقديره: واذكر إبراهيم، والجملة مستأنفة، مسوقة لسوق قصة ثانية بعد قصة نوح. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من إبراهيم، ويصح أن يكون إبراهيم معطوفًا على نوحًا، و {إِذْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، والمعنى حينئذٍ: ولقد أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن مبلغًا، يخاطب فيه قومه بعبارات الوعظ والإرشاد. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر. {لِقَوْمِهِ}: متعلق به، والجملة في

محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَاتَّقُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اعْبُدُوا}. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر. {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ}: خبرها، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم تعلمون خيرية ذلك، فاعبدوا الله واتقوه، والجملة الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {تَعْبُدُونَ}؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله. {أَوْثَانًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تَعْبُدُونَ}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من فاعل تعبدون {لَا}: نافية. {يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل. {لَكُمْ}: متعلق بـ {رِزْقًا}. و {رِزْقًا}: مفعول به. لـ {يَمْلِكُونَ}؛ لأنه بمعنى المرزوق، أو مصدر مؤول من أن والفعل؛ أي: لا يقدرون أن يرزقوكم، ويجوز نصبه على المصدر وناصبه لا يملكون؛ لأنه في معناه، وجملة لا يملكون في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَابْتَغُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: ابتغوا عند الله الرزق. {ابْتَغُوا}: فعل أمر وفاعل. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق به. {الرِّزْقَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَ}. {اعْبُدُوا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {ابْتَغُوا}. {وَاشْكُرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {ابْتَغُوا}. {لَهُ}: متعلق بـ {اشكروا}. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}. و {تُرْجَعُونَ} فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول قال. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة، إن قلنا إنه من كلام إبراهيم، أو اعتراضية إن قلنا إنه من كلام الله سبحانه، يخاطب قريشًا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -. {إن}: حرف شرط. {تُكَذِّبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لاقترانه بقد. {قَدْ}: حرف تحقيق. {كَذَّبَ أُمَمٌ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} على كونه جواب الشرط {مِنْ قَبْلِكُمْ} صفة لـ {أُمَمٌ}، وقيل جواب الشرط محذوف، و {الفاء}: تعليلية للمحذوف؛ أي: فلا يضرني تكذيبكم فقد كذب أمم من قبلكم أنبياءهم ورسلهم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}، أو معترضة لاعتراضها بين كلام إبراهيم وجواب قومه. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {عَلَى الرَّسُولِ}: خبر مقدم. {إِلَّا}: أداة حصر. {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ}: صفة لـ {الْبَلَاغُ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجمل الشرطية. {أَوَلَمْ يَرَوْا}: {الهمزة}: للاستفهام الإتكاري، داخلة على محذوف. و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير ألم ينظر كفار مكة ولم يروا كيف. {لَمْ يَرَوْا}: جازم وفعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال. من {الْخَلْقَ}. {يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعولي {يَرَوْا}؛ لأنها علقت عن العمل في اللفظ بالاستفهام، والرؤية هنا قلبية. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يُعِيدُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} لا على {يُبْدِئُ}. {إِنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرٌ}. و {يَسِيرٌ}: خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود إما إلى {إِبْرَاهِيمَ}، أو إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -،

والجملة مستأنفة. {سِيرُوا}: فعل أمر وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملهّ في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَانْظُرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {سِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب حال من مفعول {بَدَأَ}. {بَدَأَ الْخَلْقَ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مفعول {انْظُرُوا} علق عنها باسم الاستفهام. وفي "البيضاوي": {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} حكاية كلام الله سبحانه لإبراهيم أو محمد عليها السلام، اهـ؛ أي: وليس من مقالة إبراهيم لقومه من عند نفسه، على تقدير أن تكون الآيات المذكورة من قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} من قصة إبراهيم، ومن مقالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه، على جعلها معترضة بين أجزاء قصة إيراهيم إذ لا وجه لهما أن يقولا من عند أنفسهما {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، بل الظاهر أنه كلام أحدهما لقومه على حكاية كلام الله لهم؛ أي: قال الله لي: قل لهم: سيروا في الأرض؛ أي قل لمنكري البعث يسيروا في الأرض ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات، ومن قدر على إنشائها بدءًا يقدر على إعادتها. اهـ "زاده". {ثُمَّ}: حرف عطف. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يُنْشِئُ}: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. {النَّشْأَةَ}: منصوب على المصدرية المحذوفة الزوائد، والأصل الإنشاءة. {الْآخِرَةَ}: صفة لـ {النَّشْأَةَ}، وجله {يُنْشِئُ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {سِيرُوا}. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بقدير. {قَدِيرٌ} خبره، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)}. {يُعَذِّبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {مَنْ}: اسم موصول مفعول به لـ {يُعَذِّبُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلته، والعائد محذوف، تقديره من يشاء تعذيبه، وجملة {يُعَذِّبُ} في محل النصب حاله من الضمير المستكن في قدير، أو خبر ثان لـ {إنَّ} أو مستأنفة {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} معطوف على {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.

{وَإِلَيْهِ}: {الواو}: عاطفة. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُقْلَبُونَ}. {تُقْلَبُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُعَذِّبُ}. {وَمَا أَنْتُمْ}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية حجازية. {أَنْتُمْ}: اسمها، {بِمُعْجِزِينَ}: خبرها. والباء: زائدة. {فِي الْأَرْضِ}: حال من الضمير المستكن في معجزين، {وَلَا فِي السَّمَاءِ}: معطوف على في الأرض، و {لَا} زائدة لتأكيد النفي المستفاد من {مَا}؛ أي: بفائتين الله هربًا، حالة كونكم في الأرض أو في السماء، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من ولي الآتي. {مِنْ} زائدة. {وَلِيٍّ}: مبتدأ مؤخر. {وَلَا نَصِيرٍ}: معطوف على {وَلِيٍّ} والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِآيَاتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}. {وَلِقَائِهِ}: معطوف على {بِآيَاتِ اللَّهِ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {يَئِسُوا}: فعل وفاعل. {مِنْ رَحْمَتِي}: متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أُولَئِكَ}، وجملة {أُولَئِكَ} خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة. {وَأُولَئِكَ}: معطوف على {أُولَئِكَ} على كونه مبتدأ ثانيًا. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أُولَئِكَ}. التصريف ومفردات اللغة {الم (1)} حروف مقطعة، عجزت الخلائق عن معرفة حقائقها. {أَحَسِبَ النَّاسُ} الحسبان بالكسر، الظن كما في "القاموس". وقال في "المفردات": الحسبان هو أن يحكم لأحد النقيضين أحدهما على الآخر. {أَنْ يُتْرَكُوا} الترك: الإهمال. {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}؛ أي: لا يختبرون من فتن

فلان فلانًا، يفتنه من باب ضرب خبره وأحرقه، وأصله يقال فتن الصائغ الذهب، أذابه بالبوتقة ليختبره وليميز الجيد من الرديء، ويقال فتنه يفتنه، من باب ضرب أيضًا إذا أعجبه، واستماله وأوقعه في الفتنة. {أَنْ يَسْبِقُونَا} السبق الفوت، والمراد الفوت عن المجازاة، وأصل السبق المتقدم في السير، ثم تجوز به في غيره من المتقدم. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} الرجاء: ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وتفسيره بالخوف؛ لأن الرجاء والخوف متلازمان، ولقاء الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} الأجل: عبارة عن غاية زمان ممتد، عينت لأمر من الأمور، وقد يطلق على كل ذلك الزمان، والأول هو الأشهر في الاستعمال. {وَمَنْ جَاهَدَ} والمجاهدة استفراغ الجهد (بالضم)؛ أي: الطاقة في مدافعة العدو. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال أبو العباس المشتهر بزروق في شرح الأسماء الحسنى: الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، إذ لا يلحقه نقص، ولا يعترضه عارض، ومن عرف أنه الغني استغنى به عن كل شيء، ورجع إليه بكل شيء، وكان له بالافتقار في كل شيء، وللتقرب بهذا الاسم تعلق بإظهار الفاقة والفقر إليه أبدًا، وخاصية هذا الاسم وجود العافية في كل شيء، فمن ذكره على مرض أو بلاءً، أذهبه الله عنه، وفيه سر للغني، ومعنى الاسم الأعظم لمن استأهل به، انتهى. وفي "الإحياء" يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة: اللهم يا غني يا حميد، يا مبدىء يا معيد، يا رحيم يا ودود، أغني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، فيقال: من داوم على هذا الدعاء، أغناه الله تعالى عن خلقه، ورزقه من حيث لا يحتسب. انتهى. {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} وتكفير الإثم: ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، قال بعضهم: التكفير إذهاب السيئة وإبطالها بالحسنة، وسترها وترك العقوبة عليها. {وَوَصَّيْنَا} وصى: يجري مجرى أمر معنًى وتصرفًا غير أنه يُستعمل

فيما إذا كان في المأمور به نفع عائد إلى المأمور وغيره، يقال: وصيت زيدًا بعمرو، أمرته بتعهده ومراعاته، قال الراغب: الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظ. {مَرْجِعُكُمْ} مصدر ميمي بمعنى الرجوع. {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أوذي ماض مبني للمجهول، من آذى الرباعي، يقال: آذى يؤدي أذى وأذية، ولا تقل إيذاءً، كما في "القاموس"، والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر، في نفسه أو في جسمه أو في قنياته، دنيويًا كان أو أخرويًا كما مر. {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} والفتنة الامتحان والاختبار، تقول: فتثت الذهب، إذا أدخلته النار لتظهر جودته من رداءته، وأطلقت على المحنة؛ لأنها سبب نقاوة القلب. {لَيَقُولُنَّ} الجمهور على ضم اللام، ففيه إسناد الفعل لضمير الجماعة، حملًا على معنى: من بعد أن حمل على لفظها كما مر، وأصله ليقولونن بواو الضمير وثلاث نونات، إحداها نون الرفع، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الجماعة لالتقاء الساكنين فصار ليقولن. {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} جمع خطيئة من الخطأ، وهو في الأصل العدول عن الجهة والطريق، وهي هنا الآثام. {أَثْقَالَهُمْ} جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف كحمل وأحمال، والثقل بكسر أوله وفتح ثانيه والخفة متقابلان، وكل ما يترجح على ما يوزن به، أو يقدر به، يقال: هو ثقيل، وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر، قال الراغب: أثقالهم؛ أي: آثامهم التي تثقلهم وتثبطهم عن الثواب. {أَلْفَ سَنَةٍ} الألف العدد المخصوص، سمي بذلك لكون الأعداد به ؤلفة، فإن الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئات، وألوف، فإذا بلغ الألف، فقد إئتلف وما بعده ويكون مكررًا، قال بعضهم: الألف من ذلك؛ لأنه مبدأ النظام، كما مر والسنة أصلها سنهة لقولهم: سانهت فلانًا؛ أي: عاملته سنة

فسنةً، وقيل: أصلها من الواو لقولهم: سنوات، والهاء للوقف. اهـ "الروح". {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} والطوفان كل ما طاف؛ أي: أحاط بالإنسان لكثرته ماء كان أو غيره، كالظلمة، ولكنه غلب في الماء، كما هو المراد هنا، اهـ "شهاب". {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} والسفينة من سفنه يسفنه قشره ونحته، كأنها تسفن الماء؛ أي: تقشره فهي فعيلة، بمعنى: فاعلة. {أَوْثَانًا} جمع وثن، والفرق بين الصليب والصنم والوثن، أن الصليب: ما نحت على صورة آدمي وعبد، سواء كان من ذهب أو فضة أو غيرهما، والصنم: ما نُحِت على صورة حيوان كعجل وعبد، سواء من شجر أو حجر أو غيرهما، والوثن: كل ما عُبد من دون الله، سواء كان منحوتًا على أي صورة، أو غير منحوت كشجر وحجر وقبر وإنسان، فكل أخص مما بعده، هكذا عرفه بعضهم. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}؛ أي: وتكذبون كذبًا، حيث سميتموها آلهة، قال الراغب: الخلق لا يُستعمل في كافة الناس إلا على وجهين، أحدهما في معنى التقدير، والثاني في الكذب، انتهى. يقال: خلق واختلق؛ أي: افترى لسانًا أو يدًا كنحت الأصنام، والإفك أسوأ الكذب، وسمي الكذب إفكًا؛ لأنه مأفوك؛ أي: مصروف عن وجهه، ويجوز في الإفك هنا أن يكون مصدرًا وأن يكون صفة؛ أي خلقًا إفكًا؛ أي: ذا إفكٍ وباطل. {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} يقال: ملكت الشيء إذا قدرت عليه، ومنه قول موسى: {لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}؛ أي: لا أقدر إلا على نفسي وأخي، ورزقًا مصدر، وتنكيره للتقليل، كما سيأتي، والمعنى: لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، كما مر. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} قال الراغب: الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان، انتهى. يقال: نشأ نشأة إذا حيى وربا وشب، والنشاة مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل؛ أي: ينشىء فينشأون النشأة الآخرة، كما مر.

{مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} قال بعضهم: الفرق بين الولي والنصير، أن الولي هو الذي يدفع المكروه عن الإنسان بنفسه لولايته ومباشرته الدفع، والنصير هو الذي يأمر بدفعه عنه لمناصرته ومعاونته في الدفع، والولي أخص من النصير، إذ قد ينصر من ليس بولي. {أُولَئِكَ يَئِسُوا} واليأس انتفاء الطمع وانقطاعه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار في قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا}. ومنها: الطباق بين {صَدَقُوا} و {الْكَاذِبِينَ}، وبين {آمَنُوا} و {الْمُنَافِقِينَ}، وبين {يُعَذِّبُ} و {وَيَرْحَمُ} وبين {يُبْدِئُ} و {يُعِيدُ}. ومنها: مغايرة الأسلوب في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} حيث عبر في الأول: بصيغة الفعل الماضي، وهي {صَدَقُوا} وفي الثاني: بصيغة اسم الفاعل وهي {الْكَاذِبِينَ}. والنكتة في هذه المخالفة كما مر، أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه؛ لأن الآية وقت نزولها كانت حكايةً عن قوم قريبي عهد بالإِسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر عن حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات والدوام. ومنها: الحذف في قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} فإن جواب الشرط فيه محذوف، كما سبق. ومنها: التأكيدبـ {إن} و {اللام}، في قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}؛ لأن المخاطب منكر. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

ومنها: تغيير الأسلوب في قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} حيث عبر في الأول: بالفعل، وفي الثاني: باسم الفاعل، تفننًا لرعاية الفاصلة. كما في "البيضاوي". ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} حيث استعار الإتباع الذي هو المشي خلف ماش، لسلوك طريقتهم في الدين، فاشتق من الإتباع الذي هو بمعنى السلوك، اتبعوا، بمعنى: اسلكوا على طريقة الاستعارة التبعية. ومنها: مجيء الأمر بمعنى الخبر في قوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} والأصل فيه: إن تتبعونا نحمل خطاياكم، فعدل عنه إلى ما ذكر مما هو خلاف الظاهر من أمرهم بالحمل، إفادةً للمبالغة. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل. ومنها: التفنن في التعبير في قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}، لم يقل إلا خمسين سنة تفننًا؛ لأن التكرار في الكلام الواحد مخالف للبلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم أو تهويل، نحو {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)}. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} شبه الذنوب بالأثقال؛ لأنها تُثقل كاهل الإنسان. ومنها: تنكير الرزق في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} ثم تعريفه، بقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}؛ لأن الأول مقصور عليهم، فاستوجب أن يكون ضئيلًا قليلًا، فنكره تدليلًا على قلته وضآلته، ولما كان الثاني مبتغًى عند الله، استوجب أن يكون كثيرًا؛ لأنه كله عند الله فعرَّفه تدليلًا على كثرته وجسامته. ومنها: الإضمار ثم الإظهار اهتمامًا بشان الأمر الأخير، في قوله: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ألا ترى أنه صرح باسمه تعالى، في

قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} لتفخيم شأن النشأة، وكان القياس أن يقول: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشيء النشأة الآخرة، فأفصح باسمه بعد إضماره، للتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الإعادة. والأصل في الكلام: الإظهار ثم الإضمار، ويليه لقصد التفخيم الإظهار بعد الإظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة الإظهار بعد الإضمار، كما في الآية. ومنها: الجناس غير التام في قوله: {يَسِيرٌ} و {سِيرُوا}. ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لغرض التشنيع عليهم في عبادة الأوثان. ومنها: التكرار في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ} وفي قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ}. ومنها: الحصر في قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ}. ومنها: التعبير بصيغة الماضي عما في المستقبل في قوله: {يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}؛ أي: يأسوا منها يوم القيامة. ومنها: إضافة الرحمة إلى نفسه دون العذاب في قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إشعارًا بسبق رحمته على غضبه، وإعلامًا لعباده بعمومها لهم. اهـ. أبو السعود.

ومنها: تقديم التعذيب على الرحمة في قوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب، كما مر. ومنها: الحصر في قوله: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}. ومنها: الإسناد العقلي في قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ}؛ أي: أهلكهم من إسناد الشيء إلى سببه. ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله تعالى: {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}. ومنها: التعبير عن الإعادة بالنشأة، في قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} للتنبيه على أن البدء يسمى نشأة كإعادة، التغاير بينهما بالوصف، حيث قالوا: نشأة أولى، ونشاة أخرى. اهـ "رازي" اهـ. من "الفتوحات". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه جل وعلا أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}. المناسبة قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن إبراهيم عليه السلام، لما أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية، وإرسال الرسل، والحشر، والجزاء .. أردف (¬1) ذلك ببيان أنهم جحدوا وعاندوا، ودفعوا الحق بالباطل، بعد أن ألزمهم الحجة ولم يجدوا للدفاع سبيلًا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردًا وسلامًا فعاد إلى لومهم بعد أن أُخرج من النار، وقال: إن تَمسُّككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة، ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب وتستبين الأمور للَّبيب الأريب، ويكفر بعضكم بعضًا، فيقول العابد: ما هذا معبودي، ويقول المعبود: ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضًا، فيقول هذا لذاك: أنت الذي أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنى لهما ذلك وهما مجتمعان في النار، وما لهما ناصر يخلِّصهما منها، كما خلَّصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. وعبارة أبي حيان (¬2): لما أمرهم إبراهيم بعبادة الله، وبيَّن سفههم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم .. رجعوا إلى الغلبة، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم: اقتلوه أو حرقوه، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض، أو كبراؤهم، قالوا لأتباعهم اقتلوه فتستريحوا منه عاجلًا، أو حرقوه بالنار، فإما أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

يرجع إلى دينكم إذا أو مضته النار، وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، انتهت. قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة له، لا يفقه قدرها إلا من كان ذكي الفؤاد، قوي الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله في الكون .. أردف ذلك ببيان أنه لم يصدق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به واستقر الإيمان في قلبه، ثم بيَّن أن إبراهيم لما أيس من إيمان قومه، هاجر إلى بلاد الشام فرارًا بدينه، وقصدًا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدد نعمه العاجلة عليه في الدنيا، بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب في عداد الكملة في الصلاح والتقوى. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه لما قص علينا قصص إبراهيم عليه السلام، وما لاقاه من قومه من العتو والجبروت، ثم نصره له نصرًا مؤزرًا .. أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرًا له، وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتنَّ قومه في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاؤوا ضيوفًا لإبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه لما استنصر لوط عليه السلام بربه، بقوله: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} استجاب دعاءه، وبعث لنصرته ملائكة وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوا وبشروه بذرية طيبة، ثم قالوا له: إنا مهلكوا أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر، وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط، وقال: إن في القرية لوطًا، فقالوا: ¬

_ (¬1) المراغي.

[24]

إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابًا بما اجترحوا من السيئات، واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرةً وآيةً بينةً لقوم يعقلون. قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أسلف أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده .. أردف هذا بتمثيل حال من اتخذ معبودًا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتًا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر وبرد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدًا، فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة من ليس بشيء، ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يُدرك مغزاها إلا ذوو الألباب الذين يفهمون خبىء الكلام، وظاهره وسره وعلانيته. ثم ذكر أنه لم يخلق السموات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون، وهي ما أرشد إليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه، وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلَّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفًا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير وشر. التفسير وأوجه القراءة 24 - قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ...} إلخ، رجوع (¬1) إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض، بما تقدم من خطاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على قول من قال إن قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقًا ولاحقًا؛ أي: قال إبراهيم عليه السلام لقومه: اعبدوا الله واتقوه، فما كان جواب قومه آخر الأمر، وهو بالنصب على أنه خبر ¬

_ (¬1) الشوكاني.

كان، واسمها قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا}؛ أي: إلا قول بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: لا تجيبوا إبرايم عن براهينه الثلاثة، الدالة على التوحيد والنبوة والحشر. {اقْتُلُوهُ}؛ أي: اقتلوا إبراهيم بسيف أو نحوه، فتستريحوا منه عاجلًا {أَوْ حَرِّقُوهُ}؛ أي: حرقوا إبراهيم بالنار، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصر على دينه، وفيه (¬1) تسفيه لهم، حيث أجابوا من احتج عليهم بأن يُقتل أو يحرق، وهكذا ديدن كل محجوج مغلوب، وإنما أجابوه بذلك لعدم قدرتهم على الجواب الصحيح، كما قاله الرازي. والفاء في قوله: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} بجعلها بردًا، عاطفة على محذوف، تقديره: فألقوه في النار فانجاه الله سبحانه من أذاها، بأن جعلها عليه بردًا وسلامًا. رُوي أنه لم ينتفع أحد بالنار يومئذ في موضع أصلًا، وذلك لذهاب حرها؛ أي: تشاوروا فيما بينهم، وقالوا: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على تحريقه فأضرموا نارًا عظيمة، فألقوه فيها، فأنجاه الله سبحانه منها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنجاء؛ أي: في إنجاء الله تعالى إبراهيم من تلك النار {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات عجيبة، وآيات واضحة، وعلامات ظاهرة، وبراهين ساطعة على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثرًا إلا ما أحرقت من وثاقه، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون بوجود الله وكمال قدرته، حيث أخمدها في زمن يسير، وأنشأ في مكانها روضًا زاهرًا، وبستانًا فاخرًا وأنيسًا بارًا على ما قيل، وإنما خص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بآيات الله سبحانه بالتفحص عنها، والتأمل فيها، وأما الكافرون فمحرومون من الفوز بمغانم آثارها، وغافلون عن التفكر في حقائقها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

فإن قلت: لِمَ جمع (¬1) الآيات هنا، حيث قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأفردها فيما بعدُ في قوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)}؟ قلت: إن ما هنا إشارة إلى إثبات النبوة القائمة بالنبيين، وهم كثيرون فناسبه الجمع، وما بعدُ إشارة إلى التوحيد القائم بواحد، وهو الله لا شريك له فناسبه الإفراد. اهـ. "زكريا". وعبارة أبي حيان: وجمع هنا (¬2) فقال: {لَآيَاتٍ}؛ لأن الإنجاء من النار وجعلها بردًا وسلامًا، وأنها أثرت في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم، وأن مكانها حالة الرمي صار بستانًا يانعًا إن صح، هو مجموع آيات، فناسب الجمع بخلاف الإنجاء في السفينة فإنه آية واحدة، فلذلك أفرد آية هناك، انتهت. وقرأ الجمهور: {جَوَابَ قَوْمِهِ} بالنصب على أنه خبر {كَانَ} مقدم على اسمها، وما بعده اسمها، وقرأ الحسن وسالم الأفطس وعمرو بن دينار برفعه على أنه اسم {كَانَ}، وما بعده في محل نصب على الخبر. 25 - ثم ذكر ما قاله إبراهيم عليه السلام لهم، بعد إنجائه من النار، بقوله: {وَقَالَ} إبراهيم مخاطبًا لقومه، ومؤنبًا لهم، وموبخًا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان {اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}؛ أي (¬3): إنما اتخذتموها آلهة، لا لحجة قامت بذلك، بل {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}؛ أي: بل لأجل أن تتوادوا وتتحابوا بينكم، وتتلاطفوا بسبب اجتماعكم على عبادتها {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: مدة بقائكم في الدنيا. والمعنى (¬4): أي إنما اجتمعتم على عبادتها في الدنيا، للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض، فأنتم تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم، لا لقيام الدليل ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

عندكم على صحة عبادتها. وقصارى ذلك: أن مودة بعضكم بعضًا هي التي دعتكم إلى عبادتها، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها، فعبدتموها موافقةً لهم لمودتكم إياهم، كما يرى الإنسان أو يوده يفعل شيئًا فيفعله مودةً له ثم ذكر أو حالهم في الآخرة ستكون على نقيض هذا، فقال: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بعد الخروج من الدنيا تنقلب الأمور، ويتبدل التواد تباغضًا، والتلاطف تلاعنًا، حيث {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ} وهم العبدة {بِبَعْضٍ} وهم الأوثان {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ أي: يلعن ويشتم كل فريق منكم ومن الأوثان - حيث ينطقها الله - الفريق الآخر. {وَمَأْوَاكُمُ}؛ أي: مثواكم جميعًا لعابدون والمعبودون والتابعون والمتبوعون {النَّارُ}؛ أي: هي منزلكم الذي تأوون إليه، ولا تُرجعون منه أبدًا {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}؛ أي: من مانعين يخلصونكم منها ما خلصني ربي أو النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصر لوقوعه في مقابلة الجمع؛ أي: وما لأحد منكم من ناصر أصلًا، والخطاب فيه لعبدة الأوثان جميعًا القادة والأتباع. والمعنى: أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة، فتنقلب الصداقة والمودة بغضًا وشنآنًا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن بعضكم بعضًا، فيلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع، كما قال {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} ثم مرجعكم إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله تعالى. وقرأ الحسن (¬1) وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعمش عز أبي بكر، وابن وثاب وابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة: {مودةٌ} برفعها منونة، {بينَكم} بالنصب، فالرفع على أنها خبر إن، وما موصولة، ومودة إما مصدر بمعنى اسم المفعول، أو على حذف مضاف؛ أي: من ¬

_ (¬1) البحر المحيط، والشوكاني، وزاد المسير.

[26]

الأوثان التي اتخذتموها آلهة مودودة محبوبة بينكم، أو سبب مودةٍ وصلة ولقاء بينكم، واجتماع عندها، أو ما مصدرية؛ أي: إن اتخاذكم أوثانًا مودة وصلة واجتماع بينكم؛ أي: سببها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {مودةُ بينكم} برفع مودة غير منونة وإضافتها إلى بينكم، وروى عن عاصم (¬1): {مودةُ} بالرفع أو غير تنوين و {بينَكم} بالفتح؛ أي: بفتح النون جعله مبنيًا لإضافته إلى مبني، وهو في موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة. وقرأ نافع وابن عامر، وأبو بكر عز عاصم بنصب (¬2): {مودةً} منونًا ونصب {بينَكم} على الظرفية، والعامل فيه المودة، قال أبي علي: المعنى اتخذتم الأصنام للمودة، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} بنصب مودة مع إضافته إلى بينكم، وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسمًا لما أضيف إليه. قال المفسرون: معنى الكلام إنما اتخذتموها لتتصل المودة بينكم واللقاء والاجتماع في الحياة الدنيا، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضر. 26 - والفاء في قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} عاطفة على محذوف تقديره: فكذبه قومه فآمن له، أي: لإبراهيم لوط. يقال: آمن له وآمن به متقارب في المعنى. قال (¬3) ابن إسحاق: أول من آمن بإبراهيم لوط، وكان ابن أخيه هاران، وآمنت به سارة، وكانت بنت عمه. والمعنى (¬4): صدَّقه في جميع مقالاته لا في نبوته وما دعا إليه أو التوحيد فقط، فإن كان منزهًا عز الكفر؛ لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر، وما قيل: هذه آمن له حين رأى النار، تحرقه، ينبغي أو يُحمل على ما ذكرنا، أو على أنه يراد بالإيمان الرتبة العالية منه، وهي التي لا يرتقي إليها إلا همم الأفراد. أي: فقال لوط لإبراهيم: صدقتك يا إبراهيم. {وَقَالَ} إبراهيم للوط ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير. (¬3) القرطبي. (¬4) روح البيان.

[27]

وسارة، وهي ابنة عمه، وكانت آمنت به، وكانت تحت نكاحه {إِنِّي مُهَاجِرٌ}؛ في: تارك لقومي وذاهب {إِلَى رَبِّي} أي إلى مكان أمرني روح بالتوجه إليه. قال قتادة: هاجر إبراهيم أو كوثي، وهي قرية أو سواد الكوفة إلى حران مع لوط وسارة زوجته، ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين، ونزل لوط سذوم، وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسًا وسبعين سنة، وهو أول أو هاجر من أرض الكفر. وقال زاده (¬1): يجب الوقف على لوط؛ لأن قوله: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ} من مقول إبراهيم، فلو وُصل لتوهم أن الفعل الثاني للوط فيفسد المعنى. اهـ وهذا على قتل الجمهور، إن الضمير في {قَالَ} لإبراهيم، وقيل: إنه للوط؛ أي: وقال لوط إني مهاجر إلى روح، إلخ، حكاه القرطبي، وعلى هذا فلا يتعين الوقف على لوط، بل يصح وصله بما بعده، اهـ. والأول أولى لرجوع الضمير في {وَوَهَبْنَا لَهُ} إلى إبراهيم. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على أمره فيمنعني أو أعدائي {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة، فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي، ومن لم يقدر في بلدة على طاعة الله، فليخرج إلى بلدة أخرى، وفي "التأويلات النجمية" {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: من الله أعز أو أن يصل إليه أحد، إلا بعد مفارقته لغيره {الْحَكِيمُ} الذي لا يقبل بمقتضى حكمته إلا طيبًا من لوث أنانيته. 27 - {وَوَهَبْنَا لَهُ}؛ أي: لإبراهيم أو عجوز عاقر، وهي سارة {إِسْحَاقَ} ولدًا لصلبه؛ أي: من بعدما وهبنا له إسماعيل أو هاجر بأربع عشرة سنة. {وَيَعْقُوبَ} نافلة، وهي ولد الولد حين أيس من الولادة، قال القاضي (¬2): ولذلك لم يذكر إسماعيل، يعني أن المقام مقام الامتنان، والامتنان بهما أكثر لما ذكر، روي أن الله تعالى وهب له أربعة أولاد، إسحاق أو سارة، وإسماعيل من هاجر، ومدين ومداين من غيرهما. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

{وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ}؛ أي في ذرية إبراهيم ونسله، يعني: في بني إسماعيل وبني إسرائيل {النُّبُوَّةَ} والرسالة، فكثر منهم الأنبياء، يقال أخرج من ذريته ألف نبي، وكان شجرة الأنبياء {وَالْكِتَابَ}؛ أي: جنس الكتاب المتناول الكتب الأربعة، يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فلم ينزل بعده كتاب إلا على ذريته. {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: أتينا إبراهيم وأعطيناه {أَجْرَهُ} وجزاءه بمقابلة هجرته إلينا {في الدُّنْيَا} بإعطاء الولد في غير أوانه، والمال والذرية الطيبة، واستمرار النبوة فيهم، وانتماء أهل الملل إليه، والثناء الحسن، والصلاة عليه إلى آخر الدهر. أي (¬1): فبدل الله سبحانه وحدته بكثرة الذرية، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان لا مال له ولا جاء، وهما غاية اللذة في الدنيا، فأكثر ماله وعظم جاهه، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء، وصار معروفًا بأنه شيخ الأنبياء، بعد أو كان خاملَ الذكر حتى قال قائلهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} وهذا لا يقال إلا في المجهول بين الناس، إلى أنه تعالى اتخذه خليلًا وجعله للناس إمامًا، وقيل (¬2): أعطاه في الدنيا عملًا صالحًا وعاقبةً حسنةً. {وَإِنَّهُ} أي: وإن إبراهيم {في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: لفي عداد الكاملين في الصلاح والتقوى، والمستحقين لتوفير الأجر، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلى أو لدن رب العلمين، وهم الأنبياء وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم، وقصارى أمره أنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسن في الحياتين. ثم اعلم (¬3): بأن الله سبحانه وتعالى منَّ على إبراهيم عليه السلام بهبة الولد، والولد الصالح الذي يدعى لوالديه أو الأجور الباقية الغير المنقطعة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[28]

كالأوقاف الجارية، والمصاحف المتلوة، والأشجار المنتفع بها ونحوها، وكذلك منَّ عليه بأن جعل في ذريته النبوة. ومن الإشارة في الآية أو السعادات أو يكون في ذرية الرجل أهل الولاية الذين هم ورثة الأنبياء، فإن بهم تقدم الدنيا والدين، وتظهر الترقيات الصورية والمعنوية للمسلمين، وتسطع الأنوار إلى جانب أرواح المقربين وأعلى عليين، فيحصل الفخر التام، والشرف الشامل، والانتفاع العام، وهؤلاء من كانوا من النسب الطيني فذاك، وان كانوا من النسب المديني فالأولاد الطيبون، والأحفاد الطاهرون مطلقًا من نعم الله الجليلة: نِعَمُ الإِلهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيْرَةٌ ... وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الأَوْلاَدِ ربنا هب لنا أو أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، آمين. فإن قلت (¬1): قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْيَا} الآية، ذكر ذلك في معرض المدح لإبراهيم عليه السلام أو الامتنان عليه، وأجر الدنيا فانٍ منقطع بخلاف أجر الآخرة، فكيف ذكره دون أجر الآخرة؟ قلت: بل ذكره أيضًا في قوله: {وَإِنَّهُ في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} إذ المعنى إن له في الآخرة أجر الصالحين وافيًا كاملًا، لكن آخره موافقةً للفواصل. قصص لوط عليه السلام 28 - قوله: {وَلُوطًا} منصوب بالعطف على نوحًا، أو على إبراهيم أو بتقدير أذكر. و {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف للعامل في لوطًا، قال الكسائي: والمعنى: ولقد أرسلنا لوطًا من قبلك يا محمد، أو أنجينا لوطًا بين قال لقومه من أهل المؤتفكات {إِنَّكُمْ} يا قوم {لَتَأْتُونَ} وتفعلون {الْفَاحِشَةَ}؛ أي: الخصلة المتناهية في القبح والفحش، وهي اللِّواطة. قرأ أبي عمروحمزة والكسائي وأبو بكر (¬2) {أَئِنَّكُمْ} بالاستفهام الإنكاري ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني.

[29]

التوبيخي، وقرأ الباقون بلا استفهام. وجملة قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا}؛ أي: بتلك الفاحشة {مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قال الزمخشري: جملة (¬1) مستأنفة، مقررة لكمال قبح تلك الخصلة، وأنهم منفردون بها، يسبقهم إلى عملها أحد من الناس، على اختلاف أجناسهم، كأن سائلًا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدًا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازًا منها في طباعهم، لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم، قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط؛ أي: مع طول الزمان وكثرة القرون، انتهى. ويظهر (¬2) أن {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} جملة حالية كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها، غير مسبوقين بها. والمعنى: أي (¬3) واذكر يا محمد لقومك قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم، الذين سكن فيهم وصاهرهم، وانقطع إليهم فصاروا قومه فأنكر عليهم سوء صنيعهم، وقبيح أفعالهم التي اختصوا بها، ولم يسبقهم إليهم أحد من قبلهم لفظاعتها، ونفرة الطباع السليمة منها. 29 - ثم فصل وبيَّن هذه الفاحشة، وكرر الإنكار عليها فقال: 1 - {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} إتيان الشهوة وتلوطونهم، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء، والاستفهام هذا وفيما سبق على قراءة، للإنكار والتوبيخ والتقريع. 2 - {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}؛ أي: تقطعون المارة والمسافرين عن مرورهم في الطريق، قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب، قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث، وقيل: كانوا يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم، والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سببًا لقطع الطريق أو غير تقييد بسبب خاص، قيل: كانوا يفعلون ذلك لكيلا يدخل الناس في بلدهم، ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

ولا يتناولوا من ثمارهم. والمعنى: أي وتقفون في الطرقات تتعرضون للمارة تقتلونهم وتأخذون أموالهم، وقيل المعنى: تقطعون سبيل الولد، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجاء. 3 - {وَتَأْتُونَ}؛ أي: تفعلون وتتعاطون أو غير مبالاة {في نَادِيكُمُ}؛ أي: في متحدثكم ومجلسكم، ومجتمعكم الجامع لأصحابكم، وهو اسم جنس (¬1) إذا أنديتهم في مدائنهم كثيرة، ولا يسمى ناديًا إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يُطلق عليه ناد إلا مجازًا {الْمُنْكَرَ} وهو كل ما تنكره العقول السليمة، والشرائع، والمروءات، وتحكم بقبحه، كاللواطة، والجماع بحضرة الناس، والضراط، وحل الإزار في المجالس، وحل أزراء القباء، والحذف بالبندق، وضرب الأوتار والمزامير، قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه، كان يأخذ ما معه ويلوطه ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاض يقضي بينهم بذلك، ومنه (هواجور) من قاضي سذوم، ومن أخلاقهم الصفير، وتطريف الأصابع بالحناء، والفرقعة؛ في: مد الأصابع؛ أي: جرها حتى تصوِّت، ولذا كُرهت في الصلاة وخارجها لئلا يلزم التشبه بهم، ومن أخلاقهم مضغ العلك - اللبان -. ولا يكره (¬2) للمرأة إن لم تكن صائمةً لقيامه مقام السواك في حقهن، لأن سنها أضعف من سن الرجال، كسائر أعضائها، فيخاف من السواك سقوط سنها، وهو ينقِّي الأسنان ويشد اللثة كالسواك، ويكره للرجل إذا لم يكن من علة كالبخر، لما فيه من التشبه بالنساء، ومن أخلاقهم السباب والفحش في المزاح، يقال المزاح يجلب صغيرة الشرك، وكبيرة الحرب، ومن أخلاقهم اللعب بالحمَام، قيل: كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش، وقيل: كانوا يلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، ومن اْخلاقهم لباس النساء للرجاء، والمكوس على كل عابر، وهم أول من لاط ومن ساحق، ولا مانع أنهم كانوا يفعلون جميع ذلك. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وفي هذا إعلام، أنه لا ينبغي أو يتعاشر الناس على المناكير، ولا ينبغي لهم أن يجتمعوا على الهزء والمناهي والملاهي. وحاصل المعنى (¬1): أي وتفعلون من الأفعال والأقوال في أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة الحصيفة. زعمت الهند (¬2): أن حبس الضراط داء، وإرساله دواء، ولا يحبسون في مجالسهم ضرطة، ولا يرون ذلك عيبًا، وأفلتت من معاوية ريح على المنبر فقال: أيها الناس إن الله خلق أبدانًا وجعل فيها أرياحًا، فمتى يتمالك الناس أن لا تخرج منهم، فقام صعصعة بن صوحان فقال: أما بعد فإن خروج الأرياح في المتوضاة سنة، وعلى المنابر بدعة، وأستغفر الله لي ولكم. ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم، فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}؛ أي: فلما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح، ما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله سبحانه، من إتيان الفواحش التي حرمها الله عليهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا} له استهزاءً؛ أي: إلا قولهم {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ} الذي تعدنا {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تعدنا أو نزول العذاب؛ أي: إن كنت صادقًا فيما تقول، ومنجزًا ما تعد، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك. وهذا الجواب (¬3) صدر منهم في أول مواعظه، فلما ألحق عليهم في الإنكار والنهي، قالوا: أخرجوهم أو قريتكم إنهم أناس يتطهرون، كما جاء في سورة الأعراف، وفي هذا إيماء إلى شديد كفرهم، وعظيم عنادهم؛ أي: فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول رجوعًا إلى التكذيب واللجاج والعناد. وقد تقدم في سورة النمل {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} وتقدم في سورة الأعراف {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[30]

أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فما بين ما هنا وما في السورتين السابقتين معارضة. وقد جُمع (¬1) بين هذه الثلاثة المواضع، بأن لوطًا كان ثابتًا على الإرشاد، ومكررًا للنهي لهم، والوعيد عليهم، فقالوا له أولًا: ائتنا بعذاب الله، كما في هذه الآية، فلما كثر منه ذلك، ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم، كما في الأعراف والنمل، وقيل: إنهم قالوا أولًا: أخرجوهم، من قريتكم، ثم قالوا ثانيًا: ائتنا بعذاب الله، 30 - ثم إن لوطًا لما أيس من إيمانهم وقبولهم نصحه طلب من الله سبحانه نصره عليهم فـ {قَالَ}؛ أي لوط بطريق المناجاة والدعاء يا {رَبِّ} ويا ناصري {انْصُرْنِي} اَننم بإنزال العذاب الموعود {عَلَى} هؤلاء {الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} الذين ابتدعوا الفواحش ورسخوا فيها، وجعلوها سنةً لمن بعدهم، وأصروا عليها، وجعلوا وعيدك لهم تهكمًا وسخرية. وإنما (¬2) وصفهم بالإفساد، ولم يقل عليهم، أو على قومي، مبالغةً في استنزال العذاب عليهم، وإشعارًا بانهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب. قال الطيبي: الكافر إذا وُصف بالفسق أو الإفساد كان محمولًا على غلوه في الكفر. 31 - فاستجاب الله سبحانه دعاءه، وبعث لعذابهم ملائكته، وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم، ولهذا قال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} من الملائكة، وهم جبريل ومن معه {إِبْرَاهِيمَ} الخليل {بِالْبُشْرَى} أي: بالبشارة بالولد، وهو إسحاق، وبالنافلة، وهو يعقوب، وبإهلاك قيم لوط فبشروه بأمرين، بالذرية الطيبة، وبإهلاك قوم لوط، فجاؤوه مبشريق ومنذرين، لكن لما كانت البشارة أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه قدم البشارة على الإنذار، ولما كان في الإهلاك إخلاء الأرض من العباد، قدم على ذلك بشارة إبراهيم بأنه يملأ الأرض أو العباد الصالحين اهـ "أبو السعود" بتصرف. {قَالُوا}؛ أي: قالت الرسل لإبراهيم في تضاعيف الكلام {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} التي هي قرية سذوم، التي كان فيها لوط، والإضافة فيه لفظية؛ لأن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[32]

المعنى على الاستقبال. {إِنَّ أَهْلَهَا}؛ أي: أصحاب هذه القرية {كَانُوا ظَالِمِينَ}؛ أي: مستمرين على الظلم بإصرارهم على الكفر والتكذيب وأنواع المنكرات، والجملة تعليل للإهلاك؛ أي: إهلاكنا لهم بهذا السبب 32 - ولما قالت الملائكة لإبراهيم ذلك: {قَالَ} إبراهيم للرسل إشفاقًا على المؤمنين ومجادلةً عنهم {إِنَّ فِيهَا}؛ أي: من في هذه القرية التي تريدون إهلاكها {لُوطًا} رسول الله، وهو غير ظالم، فكيف تهلكونها؟ قيل سمي بلوط لأن حبه ليط بقلب عمه إبراهيم، أي علق ولصق، وكان إبراهيم يحبه حبًا شديدًا. {قَالُوا}؛ أي: الملائكة في جواب إبراهيم {نَحْنُ أَعْلَمُ} منك يا إبراهيم {بِمَنْ فِيهَا}؛ أي: بمن في تلك القرية أو لوط وغيره، ولسنا بغافلين عن حال لوط، فلا تخف أو يقع حيف على مؤمن، وعزة الله وكبريائه {لَنُنَجِّيَنَّهُ}؛ أي: لننجين لوطًا {وَأَهْلَهُ}؛ أي: ابنتيه زاعورا ورويثا من العذاب. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي ويعقوب (¬1): {لَنُنَجِّيَنَّهُ} بالتخفيف، مضارع أنجى الرباعي أو باب أعلم، وقرأ باقي السبعة بالتشديد مضارع نجى المضعف، وقرأ الجمهور بتشديد النون، وفرقة بتخفيفها. {إلَّا امْرَأَتَهُ} أي: إلا امرأة لوط وزوجته المنافقة واعلة {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: كانت في علم الله وحكمه الأزلي من الباقين في العذاب، المنغمسين فيه بسبب أو للدال على الشر نصيبًا من العذاب كفاعله، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط، وقيل: المعنى من الباقين في القرية، التي سينزل بها العذاب، فتعذب من جملتهم، ولا تنجو فيمن نجا. ومعنى الآية (¬2): أي قال إبراهيم إشفاقًا على لوط ليعلم حاله: إن في القرية لوطًا، وهو ليس من الظالمين لأنفسهم، بل هو رسل الله تعالى وأهل الإيمان به، والطاعة له، فقال الرسل: نحو أعلم منك بمن فيها من الكافرين، وبأن لوطًا ليس منهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[33]

ثم زادوا ما سلف إيضاحًا، وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم: لننجينه وأهله ... إلخ؛ أي: لننجين لوطًا وأتباعه من الهلاك، الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته، فإنها من الباقين في العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي، وفعل الخبائث. 33 - ثم ذكر ما كان من أمر لوط، حين مجيء الرسل ضيوفًا لديه، فقال: {وَلَمَّا}: حرف شرط لا ظرف، خلافًا للفارسي، كما هو مذكور في علم النحو. {أَنْ} زائدة زيدت بعد لما، وهو قياس مطرد، وقال الزمخشري (¬1): (أن) صلة أكدت وجود الفعلين، مترتبًا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحدٍ من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفةً عليهم من قومه، انتهى. أي: ولما {جَاءَتْ رُسُلُنَا} المذكورون بعد مفارقة إبراهيم {لُوطًا سِيءَ}؛ أي: حزن {بِهِمْ}؛ أي: بسببهم؛ أي (¬2): اعتراه المساءة والحزن بسببهم مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء؛ أي: بفاحشة؛ لأنهم كانوا يتعرضون للغرباء، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة، وإنما رأى شبانًا مردًا، حسانًا، بثياب حسان، وريح طيبة، فظن أنهم من الإنس {وَضَاقَ بِهِمْ}؛ أي: بشأنهم {ذَرْعًا}؛ أي: قلبًا؛ أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه؛ أي: طاقته؛ أي: عجز عن تدبير شأنهم، فلم يدر أيأمرهم بالخروج أم بالنزول، كقولهم: ضاقت يده، وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقًا به، قادرًا عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. وقرأ الجمهور (¬3): {سِيءَ} بكسر السين، وضمها نافع وابن عامر والكسائي، وقرأ عيسى وطلحة: {سوء} بضمها، وهي لغة بني هذيل وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما قول وبوع. ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

{وَ} لما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر {قَالُوا} للوط: {لَا تَخَفْ} علينا من قومك {وَلَا تَحْزَنْ} لأجلنا فإنا ملائكة لا يقدرون علينا، أو المعنى: لا تخف علينا، ولا تحزن على هلاك قومك. والمعنى: أي ولما جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه، خاف عليهم من قومه، وحصلت له مساءة وغم بسببهم، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء، وهو عاجز عن مدافعة قومه، وتدبير الحيلة لحمايتهم، ودفع الأذى عنهم، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له: هوِّن على نفسك، ولا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك، فإنهم قد بلغوا في الخبث مبلغًا لا مطمع في رجوعهم عنه، مهما نصحْت وألحفت في الإرشاد. ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه، وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة، فقالوا: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} من العذاب الذي سينزل بقومك {و} منجو {أَهْلَكَ} وأتباعك معك، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فإنها {كَانَتْ} في سابق علم الله وحكمه الأزلي {مِنَ الْغَابِرِينَ}؛ أي: من الهالكين لمظاهرتها إياهم، والميل إلى شد أزرهم، والدفاع عنهم، فقد كانت تدلهم على ضيوفه، فيقصدونهم بالسوء، فصارت شريكة لهم في الجرم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر ونافع وحفص (¬1): {مُنَجُّوكَ} بالتشديد، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش {منجوك} بالتخفيف والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر، ولا يجوز عطف الظاهر على الضمير المخفوض، وحينئذ (أهلك) منصوب على إضمار فعل؛ أي: وننجي أهلك، ومن راعى هذا الموضع عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه؛ لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان، للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[34]

34 - وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يعني سذوم، وكانت مشتملة (¬1) على سبع مئة ألف رجل، كما في "كشف الأسرار". {رِجْزًا} أي: عذابًا {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: نازلًا من جهتها، وهذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز: العذاب الذي يقلق المعذب؛ أي: يزعجه، وهو الرمي بالحجارة، وقيل: إحراقهم بنار نازلة من السماء، وقيل: هو الخسف والحصب، كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون (¬2) الخسف من السماء: أن الأمر به نزل من السماء. وقرأ ابن عامر {منزّلون} بالتشديد، وبها قرأ ابن عباس. وقرى الباقون بالتخفيف، وقرأ ابن محيصن {رُجزًا} بضم الراء، والباء في قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} للسببية؛ أي: بسبب فسقهم المستمر، وفعلهم الخبيث، وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر سين {يَفْسُقُونَ} فانتسف جبريل المدينة وما فيها بأحد جناحيه، فجعل عاليها سافلها، وانصبت الحجارة على من كان غائبًا عنها؛ أي: بعد خروج لوط مع بناته منها. وأشهر الآراء (¬3) أن الزلزلة خسفت بهم الأرض، وابتعلتهم في باطنها، وصار مكان قريتهم بحيرةً ملِحة (البحر الميِّت). 35 - ثم بيَّن أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادَّكر، فقال: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا} أي: ولقد أبقينا من القرية، و {من} (¬4) للتبيين، لا للتبعيض؛ لأن المتروك الباقي ليس بعض القرية بل كلها. {آيَةً بَيِّنَةً}؛ أي: علامة ودلالة واضحة ظاهرة، وهي قصتها العجيبة، وحكايتها السابقة، أو آثار ديارها الخربة، أو الحجارة الممطورة التي رُجموا بها، التي على كل واحد منها اسم صاحبها، فإنها كانت باقية بعدها، وأدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: ظهور الماء الأسود الباقي على وجه أرضيهم حين خسف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[36]

بهم، وهي بين القدس والكرك، وكان منتنًا يتأذى الناس برائحته من مسافة بعيدة، ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر. {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يستعملون عقولهم في الاعتبار، وهو متعلق إما بتركنا أو بينة، وفيه إشارة إلى شرف العقل، فإنه هو الذي يعتبر ويردع الإنسان عن الذنب، والوقوع في الخطر، وخص من يعقل؛ لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها. قيل: كل شيء إذا كثر رخص غير العقل، فإنه إذا كثر غلا، قال أعرابي: لو صُوِّر العقل لأظلمت معه الشمس، ولو صُوِّر الحمق لأضاء معه الليل؛ أي: لكان الليل مضيئًا بالنسبة إليه، مع أنه لا ضوء فيه من حيث إنه ليل. والخلاصة: أي وعزتي وجلالي، لقد أبقينا بما فعلنا بهم عبرةً بينة، وعظة زاجرة، لقوم يستعملون عقولهم في الاستبصار، وجعلناها مثلًا للآخرين. ونحو الآية قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (37) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. قصة شعيب عليه السلام 36 - وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ} متعلق بمحذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين {أَخَاهُمْ} من النسب {شُعَيْبًا} عطف بيان، أو بدل من أخاهم؛ لأنه من نسبهم؛ أي: ولقد أرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبًا. {فَقَالَ} شعيب بطريق الدعوة {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} سبحانه وحده؛ أي: أفردوه بالعبادة، وخصوه بها، وأخلصوها له {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}؛ أي: وارجوا بعبادتكم إياه اليوم جزاء اليوم الآخر وثوابه، وقيل: المعنى خافوا اليوم الآخر، وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم. قال يونس النحوي: معناه: اخشوا الآخرة، التي فيها الجزاء على الأعمال، اهـ. والمراد به يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام، والمعنى؛ أي: توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأحوال، وافعلوا اليوم من الأعمال ما تنتفعون به في

العاقبة، وتأمنون من عذاب الله، وقيل: معناه وارجوا يوم الموت؛ لأنه آخر عمرهم. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مدين؛ أي: لا تفسدوا فيها، ولا تبغوا على أهلها، فتنقصوا المكيال والميزان، وتقطعوا الطريق على الناس حال كونكم {مُفْسِدِينَ} فيها؛ أي: مظهرين ومجاهرين الفساد فيها بالتطفيف؛ أي: لا تعتدوا حال إفسادكم، بل توبوا إلى ربكم، وأنيبوا إليه، وإنما قيد (¬1) العثو بالإفساد وإن غلب فيه؛ لأنه قد يكون فيه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحًا راجحًا، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة، ويمكن (¬2) أن يقال: نصب {مفسدين} على المصدر، كما يقال: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، واجلس قاعدًا؛ أي: قعودًا. فائدة: قال الفخر الرازي (¬3): وأضيف شعيب هنا إلى قومه حيث قال: {أخاهم شعيبًا} بخلاف ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم ولوط، فإنه أضاف القوم إليهم حيث قال: قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط؛ لأن الأصل في جميع المواضع أن يُذكر القوم، ثم يُذكر رسولهم؛ لأن الله سبحانه لا يبعث رسولًا إلى غير معين، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالإضافة لنبيهم، فقيل: قوم نوح وقوم لوط وقوم إبراهيم، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، فقال: وإلى مدين أخاهم شعيبًا، وإلى عاد أخاهم هودًا - رضي الله عنه -. اهـ. وقال الرازي أيضًا: قوله: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} في قصة شعيب لم يُذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذُكر عن غيره ذلك؛ لأن لوطًا كان في زمن إبراهيم، وإبراهيم سبقه بذلك حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق، وإنما ذكر عنه ما اختص به من النهي عن الفاحشة، وأما غيره فجاؤوا في زمن غير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) التفسير الكبير بتصرف.

[37]

مشتهر بالتوحيد فأمروا به، اهـ. 37 - ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال: {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: فكذبوا شعيبًا فيما جاءهم به من عند ربهم، ولم يمتنعوا من الفساد. فإن قيل (¬1): كيف يكذب شعيب في قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا} مع أنه لا يكذب الآمر ولا الناهي، وإنما يكذب المخبر لكون الكذب معناه: عدم مطابقة الخبر للواقع؟ قلنا: ما ذكره من الأمر والنهي يتضمن جملًا إخباريةً، فكأنه قال: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، فالتكذيب يرجع إلى الإخبارات الضمنية. اهـ زاده. {فَأَخَذَتْهُمُ} أي: أهلكتهم {الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة حتى تهدمت عليهم دورهم، فإن قيل (¬2): قال هنا وفي الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وفي هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}؛ أي: صيحة جبريل، فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاوره من الأرض، والقصة واحدة؟ قلنا: يجوز أن يجتمع على إهلاكهم سببان الزلزلة والصيحة، وقيل: لا معارضة؛ لأن المعنى: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، فرجفت في قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب. اهـ. "زاده". {فَأَصْبَحُوا}؛ أي: صاروا {فِي دِيَارِهِمْ}؛ أي: في بلدهم أو في منازلهم، ولم يجمع (¬3) هنا بأن يقال في ديارهم لأمن اللبس {جَاثِمِينَ}؛ أي: باركين على الركب، ميِّتين مستقبلين بوجوههم الأرض؛ أي: فصاروا في مجمعهم ميِّتين لا يتحركون، وذلك بسبب عدم استماعهم إلى داعي الحق، وتزلزل باطنهم، فالجزاء من جنس العمل، وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة في هذه السور الأعراف وهود والشعراء. ¬

_ (¬1) زادة. (¬2) زادة. (¬3) روح البيان.

[38]

قصص هود وصالح عليهما السلام 38 - قوله: {وَعَادًا} منصوب بإضمار فعل دل عليه ما قبله، وهو قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}؛ أي: وأهلكنا عادًا قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح، وهو غير مصروف على تأويل القبيلة {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ}؛ أي: وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم {مِنْ مَسَاكِنِهِمْ}؛ أي: من جهة بقية منازلهم الكائنة باليمن ديار عاد، والحجر ديار ثمود، وهو واد بين المدينة والشام، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها في أسفاركم إلى الشام واليمن. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: وما سبب ذلك الإهلاك إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، من فنون الكفر والمعاصي، وحسنها في أعينهم بوسوسته وإغوائه {فَصَدَّهُمْ} الشيطان، وصرفهم بهذا التزيين {عَنِ السَّبِيلِ}؛ أي: عن الطريق السوي، الذي وجب عليهم سلوكه، الموصل إلى الحق الذي هو التوحيد والطاعة. {وَ} الحال أنهم {كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}؛ أي: والحال أن عادًا وثمود قد كانوا ذوي بصيرة، عقلاء، متمكنين من النظر والاستدلال بواسطة الرسل التي أرسلت إليهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لمتابعتهم الشيطان، فلم ينتفعوا بعقولهم في تمييز الحق من الباطل، فكانوا كالحيوان الغير العاقل، وقيل: المعنى: وكانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم، معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا، باعتبار ما عند أنفسهم. وقرأ ثمود بغير تنوين حمزة والحسن وحفص، وباقي السبعة بالتنوين. وقرأ ابن وثاب {وعاد وثمود} بالخفض فيهما والتنوين عطفًا على مدين؛ أي: وأرسلنا إلى عاد وثمود، وقرأ الأعمش مساكنهم بالرفع من غير من، فيكون فاعلًا لـ {تَبَيَّنَ} ذكره أبو حيان في "البحر". ومعنى الآية (¬1): أي وأهلكنا أيضًا عادًا قوم هود عليه السلام، وكانوا ¬

_ (¬1) المراغي.

[39]

يسكنون الأحقاف، وهي قريبة من بلاد اليمن، وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبًا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتو والتكبر، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة، وتمر عليهم كثيرًا، وترى ما حل بهم، وما سبب ما جرى عليهم، إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله تعالى، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار، فلم يكن لهم عذر في الغفلة، وعدم التدبر في العواقب. قصص موسى عليه السلام 39 - قوله: {وَقَارُونَ} معطوف على عادًا؛ أي: وأهلكنا قارون ابن عم موسى، وقدمه على فرعون لشرف نسبه بقرابته من موسى، ففيه (¬1) تنبيه لكفار قريش على أن شرف نسمبهم لا يخلِّصهم من العذاب، كما لم يخلص قارون. {و} أهلكنا {فِرْعَوْنَ} اللعين {وَهَامَانَ} وزير فرعون؛ أي: أهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل فاستكبروا عن الحق، كما ذكره بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاء هؤلاء الثلاثة المذكورين، وأتباعهم، موسى عليه السلام بالبينات، والدلالات الواضحة، والمعجزات الباهرة. {فَاسْتَكْبَرُوا} عن عبادة الله {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر، وتعظموا عن قبول الحق الذي جاء به موسى. وفي قوله (¬2): {فَاسْتَكْبَرُوا}؛ أي: عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض، إشارة إلى قلة عقولهم؛ لأن من في الأرض يشعر بالضعف، ومن في السماء يُشعر بالقوة، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله سبحانه، فكيف من في الأرض. {وَمَا كَانُوا}؛ أي: وما كان هؤلاء وأتباعهم {سَابِقِينَ} عذابنا فائتين مفلتين منه، بل أدركهم أمر الله فهلكوا، من قولهم: سبق طالبه، إذا فاته ولم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[40]

يدركه، وقيل: المعنى وما كانوا سابقين غيرهم إلى الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة؛ أي تلك عادة الأمم مع رسلهم. ومعنى الآية: أي وأهلكنا أيضًا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة، وفرعون ملك الملوك في عصره ومصره، ووزيره هامان، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات، تدل على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض، وأبوا أن يصدقوه، وأن يؤمنوا به، وما كانوا فائتين الله ولا هاربين من عقابه، بل هو قادر عليهم، وآخذهم أخذ عزيز مقتدر. عاقبة الأمم المكذبة لرسلها 40 - والفاء في قوله: {فَكُلًّا} من الأمم المكذبة {أَخَذْنَا} وعاقبنا {بِذَنْبِهِ}؛ أي: بكفره وتكذيبه، تفسيرية؛ لأنها دخلت على الكلام المفسر، لما يُنبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام؛ أي: كل واحد من الأمم المذكورة أخذنا بذنبه، أي عاقبناه بجنايته، لا بعضهم دون بعض، كما يُشعر به تقديم المفعول. وفيه دليل على أنه تعالى لا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، وأنهم يقولون إنه تعالى لو عاقب ابتداءً جاز، والجواب: نحن لا ننكر أنه تعالى يعاقب الكفار على كفرهم، والمذنبين بذنبهم، وإنما الكلام في أنه لو عاقب ابتداء لا يكون ظالمًا؛ لأنه يفعل ما يشاء بحكم الملك المطلق، والفاء في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} تفصيلية؛ لأنها دخلت على الجملة المفصلة للأخذ المذكور؛ أي (¬1): أهلك الله سبحانه الأمم المكذبة بأربعة ألوان من العذاب: 1 - {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا} وسلطنا {عَلَيْهِ حَاصِبًا}؛ أي: ريحًا عاصفًا فيه حصباء، وهي الحصى الصغار، كقوم عاد إذا قالوا: مَن أشد منا قوة، فجاءتهم ريح صرصر، عاتية، باردة، شديدة الهبوب، تحمل الحصباء فألقتها عليهم، أو أرسل عليهم ملكًا رماهم بها، وهم قوم لوط. ¬

_ (¬1) المراغي.

2 - {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ} وأهلكته {الصَّيْحَةُ}؛ أي: صيحة جبريل كمدين وثمود، حين قامت عليهم الحجة، ولم يؤمنوا، بل استمروا في طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحًا ومن آمن معه، فصاح بهم جبريل صيحة واحدة فانشقت قلوبهم، وزهقت أرواحهم، وأخمدت منهم الأصوات والحركات. 3 - {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} كقارون وأصحابه الذي طغى وبغى، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وتاه بنفسه عجبًا، فخسف الله به وبداره الأرض، وهو الجزاء الوفاق لعمله؛ لأن المال الكثير يوضع غالبًا تحت الأرض. 4 - {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} في الماء، كقوم نوح أغرقوا بالطوفان، وفرعون وهامان وجنودهما، أغرقوا في صبيحة يوم واحد. ثم بيَّن أن هذه العقوبة جزاء ما اجترحوا من الآثام والذنوب، ولم تكن ظلمًا لهم، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ} سبحانه {لِيَظْلِمَهُمْ} بما فعل بهم، بأن يضع العقوبة في غير موضعها، فإن ذلك محال في جهته تعالى؛ لأنه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم طريق الحق والنجاة {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} باستمرارهم على الكفر، وتكذيبهم للرسل، وعملهم بالمعاصي الموجبة للعقوبة والعذاب. والمعنى: أي ولم يكن الله ليهلكهم بغير جرم اجترموه؛ لأن ذلك ليس من سننه تعالى، وهو لا يوافق منهج الحكمة، فلا يصدر عن الحكيم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، وتقلبهم في آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم. قال وهب بن منبه (¬1): قرأت في بعض الكتب حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وظمأ الدنيا ريُّ الآخرة، وريُّ الدنيا ظمأ الآخرة، وفرح الدنيا حزن الآخرة، وحزن الدنيا فرح الآخرة، ومن قدَّم شيئًا من خير أو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

شر وجده، والأمر بآخره، ألا ترى أن هؤلاء المذكورين، لما صار آخر أمرهم التكذيب أوخذوا عليه، ولو صار آخر أمرهم التصديق لسومحوا فيما صدر عنهم أولًا. والحاصل: أنهم لما عاشوا على الإصرار هلكوا على العذاب، ويحشرون على ما ماتوا عليه، ولذا يقولون عند القيام من قبورهم: واويلاه، فقد وعظ الله سبحانه بهذه الآيات أهل مكة، ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، ليعتبروا وينتفعوا بعقولهم، ويجتنبوا عن الظلم والأذى والاستكبار والإفساد، فإن فيه الصلاح والنجاة والفوز بالمراد، لكن التربية والإرشاد إنما تؤثر في المستعد من العباد، والقرآن كالبحر، وإنما يتطهر به من كان من شأنه ذلك، كالإنسان، وأما الكلب فلا. نسأل الله سبحانه الخروج من موطن النفس، والإقامة في حظيرة القدس. 41 - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} وجعلوا لأنفسهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه {أَوْلِيَاءَ} وآلهة وأنصارًا يوالونهم، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سبحانه، سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات؛ أي: صفتهم العجيبة فيما اتخذوه معتمدًا وملجأً {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} التي {اتَّخَذَتْ} ونسجت لنفسها {بَيْتًا}؛ أي: كمثلها فيما نسجته في الوهن، بل ذلك أوهن من هذا؛ لأن له حقيقة وانتفاعًا في الجملة. فالآية (¬1) من قبيل تشبيه الهيئة بالهيئة لتشبيه حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها، واعتمد عليها راجيًا نفعها وشفاعتها بحال العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فكما أن بيتها لا يدفع عنها حرًا ولا بردًا، ولا مطرًا ولا أذًى، وينتقض بأدنى ريح، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعًا لا ضرًا، ولا خيرًا ولا شرًا. ومن تخيل السراب شرابًا، لم يلبث إلا قليلًا حتى يعلم أنه كان تخييلًا، ومن اعتمد شيئًا سوى الله، فهو هباء لا حاصل به، وهلاكه في نفس ما اعتمد. ومن اتخذ سواه ظهيرًا، قطع من نفسه سبيل العصمة، ورد إلى حوله وقوته. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقيل (¬1): معنى هذا المثل: إن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل العنكبوت تتخذ بيتًا من نسجها بالإضافة إلى رجل بني بيتًا بآجر وجص، أو تحته من صخر له حائط، يحول عن تطرق الشرور إلى من فيه، وسقف مظل يدفع عنه البرد والحر، فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا عبادة الأوثان؛ لأنها لا تضر ولا تنفع. قال الفراء (¬2): ولا يحسن الوقف على العنكبوت؛ لأنه لما قصد بالتشبيه بيتها الذي لا يقيها من شيء، شُبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت الأخفش، وغلَّطه ابن الأنباري، قال؛ لأن {اتخذت} صلة للعنكبوت، كأنه قال: كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول، والعنكبوت هي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجًا رقيقًا، كما سيأتي في التصريف. وحاصل المعنى (¬3): أي مثل الذين اتخذوا الأصنام والأوثان من دون الله أولياء، يرجون نصرهم ونفعهم لدى الشدائد في قبيح احتيالهم وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها، اتخذت لنفسها بيتًا يكنها من حر وبرد، ويدفع أذى، فلم يُغن عنها شيئًا حين حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون، لم يُغن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا، ولم يدفعوا عنهم ما أحله الله بهم، من سوء العذاب بكفرهم به وعبادتهم سواه. وخلاصة ذلك: أن بيت العنكبوت لا يكن ولا يمنع أذى الحر والبرد، كما هو شأنها فيما ترون، فكذلك المعبود، ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق، وجر المنافع ودفع المضار، وما عبده الكافرون لم يفدهم شيئًا من ذلك، فكيف يُصرون على عبادتهم؟ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[42]

ثم ذكر جهلهم وسوء تقديرهم لما صنعوا، فقال: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} وأضعفها {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} لا بيت أضعف منه، وأوهن فيما يتخذه الهوام بيتًا، ولا يدانيه في الوهي والوهن شيء من ذلك؛ لأنه بلا أساس، ولا جدار، ولا سقف، لا يدفع الحر والبرد، ولذا كان سريع الزوال، وفيه إشارة إلى أنه لا أصل لموالاة ما سوى الله، فإنه لا أس لبنيانها. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: شيئًا من الأشياء لجزموا أن هذا مثلهم وابتعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله، أو لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأولياء من دون الله، كاتخاذ العنكبوت بيتًا، ما اتخذوهم أولياء. والمعنى: أي لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعلمون أن أولياءهم لا يجدونهم فتيلًا ولا قطميرًا، كما لا يجدي بيت العنكبوت عنها شيئًا .. ما فعلوا ذلك الاتخاذ، لكنهم قد بلغ بهم الجهل وسوء التقدير حدًا لا يستطيعون معه العلم بعواقب ما يفعلون، ومن ثم فهم يحسبون أنهم ينفعونهم ويقربونهم إلى الله زلفى. 42 - ثم زاد الإنكار توكيدًا وتثبيتًا، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} فهو على تقدير القول؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة، تهديدًا لهم أن الله سبحانه يعلم {مَا يَدْعُونَ} ويعبدون، وما استفهامية منصوبة بـ {يَدْعُونَ}، ويعلم معلق عنها؛ أي: يعلم أي شيء يعبدون {مِنْ دُونِهِ}؛ أي: من دون الله {مِنْ شَيْءٍ} من للتبيين؛ أي: سواء كان ما يدعون صنمًا أو نجمًا أو ملكًا أو جنيًا أو غيره لا يخفى عليه ذلك، فهو يجازيهم على كفرهم؛ أي: إن الله يعلم حال ما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان والجن والإنس، وإنها لا تنفعكم ولا تضركم، إن أراد الله بكم سوءًا، وإن مثلها في قلة غنائها لكم كمثل بيت العنكبوت في قلة غنائه لها، ويحتمل كون {مَا} موصولة؛ أي: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، وكونها نافية، والمعنى؛ أي: إن الله يعلم أنه ليس الذين يدعون من دونه شيئًا، إذ هو لحقارته وقلة الاعتداد به لا يسمى شيئًا.

[43]

وقرأ أبو عمرو وسلام (¬1): {يعلم ما} بالإدغام، والجمهور بالفك. وقرأ الجمهور: {تدعون} بتاءالخطاب، وقرأ أبو عمرو وعاصم بخلاف عنه بياء الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيدة لذكر الأمم قبل هذه الآية. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب، القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك معه في عبادته غيره، فاتقوا أيها المشركون به عقابه بالإيمان به، قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، فإنه إن نزل بكم، لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه شيئًا، وهو سبحانه {الْحَكِيمُ}؛ أي: ذو الحكمة البالغة في ترك المعاجلة بالعقوبة، أو الحكيم في تدبير خلقه، فمهلك من استوجب عمله الهلاك، ومؤخر من رأى فيه الرجاء للصلاح والاستقامة. 43 - ولما كان (¬2) الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إن رب محمد لا يستحيي أن يضرب مثلًا بالذباب والبعوضة والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، بيَّن فائدة ضرب الأمثال، فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} والأشباه؛ أي: هذا المثل وغيره من الأمثال المذكورة في القرآن، والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول؛ أي: تشبيه حال الثاني بالأول. {نَضْرِبُهَا}؛ أي: نذكرها ونبينها {لِلنَّاسِ}؛ أي: لأهل مكة وغيرهم تقريبًا لما بعد عن أفهامهم، وإيضاحًا لما أشكل عليهم أمره واستعصى عليهم حكمه، {وَمَا يَعْقِلُهَا}؛ أي: وما يفهم حسن تلك الأمثال، وفائدتها التي ضربناها لأجلها {إِلَّا الْعَالِمُونَ} بالله، الراسخون في العلم، المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي، المتفكرون فيما يُتلى وما يشاهدونه، وهم الذين عقلوا عن الله؛ أي: ما صدر عنه، فعملوا بطاعته، واجتنبوا سخطه، والعالم في الحقيقة من حجزه علمه عن المعاصي، فالعاصي جاهل وإن كان عالمًا صورة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[44]

فإن قيل: لِمَ (¬1) لَمْ يقل وما يعلمها إلا العاقلون، والعقل يسبق العلم؟ قلنا: لأن العقل آلة، تُدرك بها معاني الأشياء بالتأمل فيها، ولا يمكن التأمل فيها والوصول إليها بطريقها إلا بالعلم، ودلت الآية على فضل العلم على العقل، ولا عالم منا إلا وهو عاقل، فأما العاقل فقد يكون غير عالم. 44 - ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله: {خَلَقَ اللَّهُ}؛ أي: أنشا وأوجد سبحانه وتعالى {السَّمَاوَاتِ} السبع {وَالْأَرْضَ} على غير مثال سابق، حالة كونه سبحانه متلبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي (¬2): مراعيًا للحكم والمصالح، على أنه حال من فاعل خلق، أو حالة كونها متلبسة بالحق الذي لا محيد عنه، مستتبعةً للمنافع الدينية والدنيوية، على أنه حال من مفعوله، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على وحدانيته، وعظم قدرته، وسائر صفاته، كما أشار إليه بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: في خلقهما {لَآيَةً} دالة على شؤونه؛ أي: لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته، وتفرده بالإلهية {لِلْمُؤْمِنِينَ} خص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية، والإرشاد في خلقهما للكل؛ لأنهم المنتفعون بذلك. والمعنى: أي: خلق الله السموات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية، ولم يخلقهما عبثًا ولهوًا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها، وعبادته كفاء نعمه، كما جاء في الحديث القدسي، حكايةً عن الله عز وجل: "كنت كنزا مخفيًا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني" وفيه مقال. ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله؛ لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار مؤثرها، كما أثر عن بعض العرب: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير. 45 - ثم خاطب رسوله مسليًا له بقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ}؛ أي: اقرأ يا محمد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

ما أنزل إليك {مِنَ الْكِتَابِ}؛ أي: من القرآن، وأدم تلاوته تقربًا إلى الله بقراءته، وتحفظًا لنظمه، وتذكرًا لمعانيه وحقائقه، فإن القارىء المتأمل ينكشف له في كل مرة ما لم ينكشف قبل، وتذكيرًا للناس، وحملًا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، كما رؤي أن عمر - رضي الله عنه - أتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال: لِم تقطع يدي؟ وكان جاهلًا بالأحكام، فقال له عمر: بما أمر الله في كتابه، فقال: اتل على، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} فقال السارق: والله ما سمعتها ولو سمعتها ما سرقت، فأمر بقطع يده ولم يعذره. فسن عمر التراويح بالجماعة ليسمع الناس القرآن، وهذا هو السب في مشروعية التراويح. وعن علي - رضي الله عنه - من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة، كان له بكل حرف مئة حسنة، ومن قرأ وهو جالس في الصلاة، فله بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأ وهو في غير الصلاة، وهو على وضوء، فخمس وعشرون حسنة، ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات. وعن الحسن البصري، قراءة القرآن في غير الصلاة، أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة، قال الفقهاء أفضل التلاوة على الوضوء والجلوس نحو القبلة، وأن يكون غير مربع ولا متكىء ولا جالس جلسة متكبر، ولكن يجلس نحو ما يجلس بين يدي من يهابه ويحتشم منه. {وَأَقِمِ} يا محمد أنت وأمتك {الصَّلَاةَ}؛ أي: داوم على إقامتها وأدائها على الوجه القيم، مريدًا بذلك وجه الله تعالى، والإنابة إليه مع الخشوع والخضوع له، والمراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة، ولما كان أمره - صلى الله عليه وسلم - بإقامتها متضمنًا لأمر الأمة بها، علل ذلك بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ} المعروفة، وهي المقرونة بشرائطها الظاهرة والباطنة، المستوفية لأركانها وآدابها {تَنْهَى} الناس وتمنعهم؛ أي: من شأنها وخاصيتها أن تنهاهم وتمنعهم {عَنِ الْفَحْشَاءِ}؛ أي: عن الفعلة القبيحة كالزنا والسرقة مثلًا {وَالْمُنْكَرِ}؛ أي: وعن كل ما أنكره الشرع

والعقل، من الذنوب والمعاصي، ففيه عطف العام على الخاص، فكأنها (¬1) تقول له كيف تعصي ربًا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه، وأنت وقد أتيت بما أتيت به من أقوال وأفعال، تدل على عظمة المعبود وكبريائه، وإخباتك له وإنابتك إليه، وخضوعك لجبروته وقهره، إذا عصيته وفعلت الفحشاء والمنكر تكون كالمناقض نفسه بين قوله وفعله. أي: تكون (¬2) الصلاة سببًا للانتهاء عن المعاصي كبائرها وصغائرها، حال الاشتغال بها وغيرها، من حيث إنها تذكر الله وتورث للنفس خشية منه، قيل (¬3): من كان مراعيًا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن فلانًا يصلي بالنهار وشرق بالليل، فقال: "إن صلاته لتردعه". وروي أن فتى من الأنصار، كان يصلي معه - صلى الله عليه وسلم - الصلوات، ولا يدع شيئًا من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال: "إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب". وعن الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. فإن قلت (¬4): لم أمر بهذين الشيئين، تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟ قلت: لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة؟ قلبية: وهي الاعتقاد الحق. ولسانية: وهي الذكر الحسن. وبدنية: وهي العمل الصالح. لكن الاعتقاد لا يتكرر، فإن من اعتقد شيئًا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى، بل ذلك يدوم مستمرًا فبقي الذكر والعبادة البدنية، وهما ممكنا التكرار، فلذلك أمر بهما. وقيل (¬5): معنى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}؛ أي: عن التعطيل ¬

_ (¬1) المراغي (¬2) البيضاوي. (¬3) النسفي. (¬4) الخازن. (¬5) المراح بتصرف.

وهو إنكار وجود الله سبحانه. {وَالْمُنْكَرِ}؛ أي: عن الإشراك، وهو إثبات الألوهية لغير الله تعالى، فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: الله أكبر، فبقول الله ينفي التعطيل، وبقوله: أكبر ينفي الإشراك؛ لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر، فيما فيه الاشتراك، فإذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ} نفى التعطيل، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} نفى الإشراك؛ لأن {الرَّحْمَنِ} من يعطي الوجود بالخلق، و {الرَّحِيمِ} من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أثبت خلاف التعطيل، وإذا قال: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أثبت خلاف الإشرِاك، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نفى التعطيل والإشراك، وكذا إذا قال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} نفى التعطيل؛ لأن طالب الصراط له مقصد، والمعطل لا مقصد له، وإذا قال: {الْمُسْتَقِيمَ} نفى الإشراك؛ لأن {الْمُسْتَقِيمَ} هو الأقرب، والمشرك يعبد الأصنام، ويظنون أنهم يشفعون لهم، وعبادة الله من غير واسطة أقرب، وعلى هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، فقد نفى الإشراك والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر (¬1): أنها سبب للانتهاء عنهما؛ لأنها مناجاة لله تعالى، فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته، وإعراض عن معاصيه. اهـ من "المراح". {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى إياكم برحمته ونعمته في الدنيا، وبالثواب والثناء عليكم منه في الآخرة {أَكْبَرُ} من ذكركم إياه بعبادتكم وصلواتكم، واختار هذا المعنى ابن جرير، ويؤيده حديث "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة ولا غرض، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى. اهـ. أو المعنى: ولذكر الله بسائر أنواعه، من تهليل وتحميد وتسبيح وغير ذلك أكبر؛ أي: أفضل من ¬

_ (¬1) المراح.

الطاعات التي ليس فيها ذكر؛ لأن (¬1) ثواب الذكر هو الذكر، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. أو المعنى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ}؛ أي: والصلاة {أَكْبَرُ} وأفضل من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر، كما في قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} للإيذان بأن ما فيها من ذِكره تعالى، هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات. وقيل المعنى (¬2): أن ذِكر الله أكبر - مع المداومة - من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، وقال الضحاك: ولذكر الله عندما يحرم، فيترك أجل الذكر، وقيل: المعنى: ولذكر الله، للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر؛ أي: كبير، وقيل: ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة؛ أي: أكبر ثوابًا، وقيل: أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة. والذكر النافع: هو الذي كان مع العلم وإقبال القلب، وتفرغه إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} وتفعلون من الذكر ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة؛ أي: يعلم ما تأتون به من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أمركم، وهو يجازيكم كفاء أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، كما جرت بذلك سنته في خلقه، وهو الحكيم الخبير، ولا يخفى ما في ذلك من وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السر والعلن. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} نسأل الله أن يوفقنا للفعل الحسن والصنع الجميل، ويسعدنا بالمقام الأرفع، والأجر الجزيل، بمنه وكرمه. آمين. فصل في ذكر نبذة من أحاديث الذكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "ذكر الله" أخرجه الترمذي. وله عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا"، قالوا: يا رسول الله، والغازي في سبيل الله؟ فقال: "لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويختضب في سبيل الله دمًا، لكان الذاكرون الله كثيرًا أفضل منه درجة". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبق المفردون"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات". ويروى "المفردون" بتشديد الراء وتخفيفها، والتشديد أتم، يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعيًا للأمر والنهي، وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله، لا يخلطون به غيره، أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده، أخرجه البخاري. وروي أن أعرابيًا قال: يا رسول الله؛ أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تفارق الدنيا، ولسانك رطب بذكر الله". الإعراب {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)}. {فَمَا} {الفاء}: عاطفة محذوف معلوم من السياق، تقديره: فدعا إبراهيم قومه إلى التوحيد {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {جَوَابَ قَوْمِهِ}: خبرها مقدم ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {قَالُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم

{كَانَ} مؤخرًا، والتقدير: فما كان جواب قومه إلا قولهم، وجملة {كَانَ} معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {اقْتُلُوهُ}: فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {أَوْ حَرِّقُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اقْتُلُوهُ}. {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فقذفوه في النار فأنجاه الله سبحانه وتعالى. {أَنْجَاهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {مِنَ النَّارِ} متعلق بـ {أَنْجَاهُ}. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار ومجرور، خبرها مقدم على اسمها. {لَآيَاتٍ}: {اللام}: حرف ابتداء. {آيات}: اسمها مؤخر. {لِقَوْمٍ}: جار ومجرور صفة لـ {آيات}، وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة لـ {قَوْمٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل الإنجاء المذكور. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}. {وَقَالَ}: {الواو}: عاطفة. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، معطوف على {أَنْجَاهُ اللَّهُ}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {اتَّخَذْتُمْ}: فعل وفاعل. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {اتَّخَذْ}. {أَوْثَانًا}: مفعول أول له. {مَوَدَّةَ}: مفعول لأجله. {بَيْنِكُمْ}: مضاف إليه لـ {مَوَدَّةَ}. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {اتَّخَذْتُمْ}، أو حال من فاعل {اتَّخَذْ}، وجملة {اتَّخَذ} في محل النصب مقول {قَالَ}، وقد جرينا في الإعراب على قراءة حفص، واخترنا أمثل الأوجه وأسهلها، وهذه الآية قد شغلت المعربين كثيرًا لاختلاف قرائتها، وجهات النظر فيها. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {يَكْفُرُ}. {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ}: فعل وفاعل. {بِبَعْضٍ} متعلق بـ {يَكْفُرُ} أيضًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اتَّخَذْتُمْ}. {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {يَكْفُرُ} {وَمَأْوَاكُمُ}: مبتدأ أو خبر مقدم. و {النَّارُ}: خبر أو مبتدأ مؤخر،

والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية في قوله: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ نَاصِرِينَ} مبتدأ مؤخر. و {مِنْ}: زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلها. {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}. {فَآمَنَ} {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فكذبه قومه فاَمن له لوط. {آمَنَ}: فعل ماض. {لَهُ}: متعلق به. {لُوطٌ} فاعل {آمَنَ}. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {وَقَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم معطوف على {آمَنَ}. {إِنِّي مُهَاجِرٌ}: ناصب واسمه وخبره. {إِلَى رَبِّي}: متعلق بـ {مُهَاجِرٌ} وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ}: خبر أول لـ {إِنَّ}. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان لها. وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول قال. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}. {وَوَهَبْنَا}: فعل وفاعل معطوف على مقدر، مأخوذ من لفظ العزيز؛ أي: أعززناه ووهبنا له، إلخ. {لَهُ} متعلق بـ {وَهَبْنَا}. {إِسْحَاقَ}: مفعول به. {وَيَعْقُوبَ}: معطوف عليه. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {وَهَبْنَا}. {فِي ذُرِّيَّتِهِ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلْنَا}. {النُّبُوَّةَ}: مفعول أول لـ {جَعَلْنَا}. {وَالْكِتَابَ} معطوف على النبوة. {وَآتَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على {جَعَلْنَا}. {أَجْرَهُ} مفعول ثان لـ {وَآتَيْنَاهُ}. لأنه بمعنى أعطينا. {فِي الدُّنْيَا}: حال من ضمير أجره. {وَإِنَّهُ} ناصب واسمه. {فِي الْآخِرَةِ}: حال من ضمير إنه. {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور خبر {إِنَّ} واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {آتَيْنَاهُ}. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)}.

{وَلُوطًا}: معطوف على إبراهيم، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: واذكر لوطًا. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من {لُوطًا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لِقَوْمِهِ} متعلق بـ {قَالَ}. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {لَتَأْتُونَ} {اللام}: حرف ابتداء. {تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {مَا}: نافية {سَبَقَكُمْ}: فعل ومفعول. {بِهَا} متعلق بـ {سَبَقَ}. {مِنْ} حرف جر زائد. {أَحَدٍ}: فاعل. {مِنَ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور صفة لـ {أَحَدٍ}. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير فحشها وهجنة فاعلها، ورجح أبو حيان أن تكون هذه الجملة حالًا من فاعل {تأتون}؛ أي: أتاتون الفاحشة حال كونكم مبتدعين لها غير مسبوقين بها. {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. {أَئِنَّكُمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري {إنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {لَتَأْتُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {تَأْتُونَ الرِّجَالَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تَأْتُونَ}. {وَتَأْتُونَ}: معطوف عليه أيضًا. {فِي نَادِيكُمُ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأْتُونَ}. {الْمُنْكَرَ}: مفعول به. {فَمَا} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فنهاهم عن الفاحشة، فما كان جواب قومه. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {جَوَابَ قَوْمِهِ}: خبر {كَانَ} مقدم ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {قَالُوا} فعل وفاعل في محل النصب بـ {أن}، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على أنه اسم {كَانَ} مؤخر؛ أي: فما كان جواب قومه إلا قولهم. {ائْتِنَا}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. {بِعَذَابِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {إِنْ}: حرف شرط: {كُنْتَ}:

فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها {مِنَ الصَّادِقِينَ} خبره وجواب {إِن} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنت من الصادقين، فائتنا به، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب مقول قالوا. {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {لُوطٌ}، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {انْصُرْنِي}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الرب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {عَلَى الْقَوْمِ}: متعلق بـ {انْصُرْنِي}. {الْمُفْسِدِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}. {وَلَمَّا} {الواو}: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فاستجاب الله دعاء لوط، وأرسل ملائكةً لإهلاكهم، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بالذرية، فجاؤوا أولًا إلى إبراهيم. {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم {جَاءَتْ رُسُلُنَا}: فعل وفاعل. {إِبْرَاهِيمَ}: مفعول به. {بِالْبُشْرَى}: متعلق بـ {جَاءَتْ} والجملة الفعلية فعل شرط لـ {ما} لا محل لها من الإعراب. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على تلك المحذوفة، أعني، قولنا: فجاؤوا أولًا إلى إبراهيم. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {مُهْلِكُو}: خبره مرفوع بالواو. {أَهْلِ}: مضاف إليه، وهو مضاف {هَذِهِ}: مضاف إليه. {الْقَرْيَةِ}: صفة لـ {هَذِهِ} أو عطف بيان له، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّ أَهْلَهَا}: ناصب واسمه. {كَانُوا ظَالِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معللة لما قبلها. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}.

{قَالَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على إبرا هيم، والجملة مستأنفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِيهَا}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لُوطًا}: اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {نَحْنُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {بِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}. {فِيهَا}: جار ومجرور صلة {مَن} الموصولة. {لَنُنَجِّيَنَّهُ}: {اللام}: موطئة للقسم. {نُنَجِّيَنّ}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء: ضمير متصل في محل النصب مفعول به. {وَأَهْلَهُ}: معطوف على الضمير. {إِلَّا}: أداة استثناء. {امْرَأَتَهُ}: منصوب على الاستثناء، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}. {كَانَتْ}: فعل ماض ناقص واسمها يعود على {امْرَأَتَهُ}. {مِنَ الْغَابِرِينَ}: خبرها، وجملة كان في محل النصب حال من {امْرَأَتَهُ}. {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}. {وَلَمَّا}: {الواو}: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاؤوا لوطًا. {لَمَّا}: حرف شرط. {أَنْ}: زائدة كما مر. {جَاءَتْ رُسُلُنَا}: فعل وفاعل. {لُوطًا}: مفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {سِيءَ}: فعل ماض مغير الصيغة كقيل وبيع، ونائب فاعله ضمير يعود على {لُوطًا}. {بِهِمْ}: متعلق به، والجملة جواب لما لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على تلك المحذوفة. {وَضَاقَ}: فعل ماض معطوف على {سِيءَ}، وفاعله ضمير يعود على {لُوطًا}. {بِهِمْ}: متعلق بـ {ضَاقَ}. {ذَرْعًا}: تمييز محول عن نائب الفاعل؛ أي: ضاق ذرعه بهم. {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}.

{وَقَالُوا}: {الواو}: عاطفة. {قَالُوا} فعل وفاعل معطوف على {سِيءَ} على كونه جواب لما. {لَا}: ناهية جازمة. {تَخَفْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {لُوطٌ} مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَلَا تَحْزَنْ} معطوف على {لَا تَخَفْ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {مُنَجُّوكَ}: خبره مرفوع بالواو ومضاف إلى مفعوله. {وَأَهْلَكَ}: منصوب بفعل محذوف، تقديره: وننجي أهلك. ولا يجوز عطفه على الكاف لعدم الفاصل، والجملة المحذوفة في محل الرفع معطوفة على {مُنَجُّوكَ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {امْرَأَتَكَ}: منصوب على الاستثناء، وجملة {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} في محل النصب حال من {امْرَأَتَكَ}، كما مر آنفًا. {إِنَّا مُنْزِلُونَ}: ناصب واسمه وخبره. {عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُنْزِلُونَ}، وجملة {إِنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {رِجْزًا}: مفعول {بِمَا}. {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور صفة لـ {رِجْزًا}. {بِمَا} الباء حرف جر وسبب. {مَا}: مصدرية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْسُقُونَ}: خبره، وجملة {كَان} صلة {مَا} المصدرية. {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بفسقهم، الجار والمجرور متعلق بـ {مُنْزِلُونَ}. {وَلَقَدْ}: الواو استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم. {قَدْ}: حرف تحقيق. {تَرَكْنَا}: فعل وفاعل. {مِنْهَا}: متعلق بـ {تَرَكْنَا}، أو هو المفعول الثاني لها. {آيَةً}: مفعول به، أو مفعولها الأول؛ لأن {تَرَكْ} اختلف فيها النحاة، فمنهم من جعلها تتعدى إلى واحد، ومنهم من جعلها بمعنى صيَّر فتتعدى إلى مفعولين، وهو اختيار ابن مالك. {بَيِّنَةً}: صفة {آيَةً}. {لِقَوْمٍ}: متعلق بـ {تَرَكْنَا}، أو بـ {آيَةً}، أو بـ {بَيِّنَةً}، وهو أظهر، وجملة {يَعْقِلُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ} وجملة {تَرَكْ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)}.

{وَإِلَى}: {الواو}: عاطفة. {إِلَى مَدْيَنَ}: متعلق بمحذوف معطوف على أرسلنا في قصة نوح؛ أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا {أَخَاهُمْ}: مفعول به. {شُعَيْبًا}: بدل، أو عطف بيان منه. {فَقَالَ}: {الفاء}: عاطفة، {قَال}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على شعيب، والجملة معطوفة على أرسلنا المحذوف. {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {اعْبُدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَارْجُوا الْيَوْمَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {اعْبُدُوا}. {الْآخِرَ} صفة لـ {الْيَوْمَ}. {وَلَا تَعْثَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {فِي الْأَرْضِ} متعلق به. {مُفْسِدِينَ} حال من فاعل {تَعْثَوْا} مؤكدة لعاملها، والجملة معطوفة على جملة {اعْبُدُوا}. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}. {فَكَذَّبُوهُ}: {الفاء}: عاطفة. {كَذَّبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: {فَقَالَ}. {فَأَخَذَتْهُمُ}: فعل ومفعول. {الرَّجْفَةُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَكَذَّبُوهُ}. {فَأَصْبَحُوا}: فعل ناقص واسمه معطوف على {كَذَّبُوهُ}. {فِي دَارِهِمْ}: متعلق بـ {جَاثِمِينَ}. {جَاثِمِينَ}: خبر {أَصْبَحُ}. {وَعَادًا}: مفعول لفعل محذوف معلوم من قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، تقديره: وأهلكنا عادًا، والجملة معطوفة على جملة {فَأَخَذَتْهُمُ}، أو على جملة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا}. {وَثَمُودَا}: معطوف على {عَادًا} ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى القبيلة. {وَقَدْ}: {الواو}: عاطفة، أو حالية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {تَبَيَّنَ}: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر، يعود على الإهلاك المفهوم من أهلكنا المقدر؛ أي: وقد تبين لكم إهلاكهم. {لَكُمْ}: متعلق بـ {تَبَيَّنَ}. {مِنْ مَسَاكِنِهِمْ}: متعلق بـ {تَبَيَّنَ} أيضًا؛ أي: والحال أنه قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم حين مررتم عليها، والجملة معطوفة على

أهلكنا المقدر، أو حالية. {وَزَيَّنَ}: {الواو}: استئنافية. {زَيَّنَ}: فعل ماض. {لَهُمُ}: متعلق به. {الشَّيْطَانُ}: فاعل. {أَعْمَالَهُمْ} مفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب إهلاكهم. {فَصَدَّهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {صَدَّهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر. {عَنِ السَّبِيلِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {زَيَّنَ}. {كَانُوا}: الواو: حالية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {مُسْتَبْصِرِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من ضمير لهم. {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)}. {وَقَارُونَ}: معطوف على {عَادًا}. {وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ}: معطوفان عليه. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم. {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَهُمْ مُوسَى}: فعل ومفعول وفاعل مؤخر. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جَاءَ}، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {فَاسْتَكْبَرُوا}: {الفاء}: عاطفة. {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {جَاءَ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {اسْتَكْبَرُوا}. {مَا}: {الواو}: حالية. {مَا}: نافية. {كَانُوا سَابِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {اسْتَكْبَرُوا}. {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ}. {فَكُلًّا}: {الفاء}: تفسيرية؛ لأنها فسرت الأخذ الذي يدل عليه قوله: {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قولنا وما كانوا سابقين، وأردت بيان عاقبة أمرهم فأقول لك: {كُلًّا أَخَذْنَا}. {كُلًّا}: مفعول مقدم لـ {أَخَذْنَا} {أَخَذْنَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو الجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب. {بِذَنْبِهِ} متعلق بـ {أَخَذْنَا}.

{فَمِنْهُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفصيل. {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَخَذْنَا} مفصلة لها. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {حَاصِبًا}: مفعول به، والجملة صلة الموصول. {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: فمنهم من أرسلنا. {أَخَذَتْهُ}: فعل ومفعول. {الصَّيْحَةُ}: فاعل، والجملة صلة الموصول. {وَمِنْهُمْ مَنْ}: مبتدأ وخبر معطوف على جملة {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا}. {خَسَفْنَا}: فعل وفاعل. {بِهِ} متعلق به {الْأَرْضَ}: مفعول به، والجملة صلة الموصول. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. {وَمِنْهُمْ مَنْ}: مبتدأ وخبر معطوف على الجملة الأولى. {أَغْرَقْنَا}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أغرقناه. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا} نافية. {كَانَ اللَّه}: فعل ناقص واسمه {لِيَظْلِمَهُمْ}: اللام حرف نفي وجحود. {يَظْلِمَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لظلمهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر {كَانَ}، تقديره: وما كان الله مريدًا لظلمهم، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا}. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لَكِنْ}: حرف استدراك. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول مقدم. لـ {يَظْلِمُونَ}، وجملة {يَظْلِمُونَ} في محل النصب خبر {كَان}. والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ}، أو حال من مفعول {يَظْلِمَهُمْ}. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}.

{مَثَلُ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {اتَّخَذُوا}؛ أي: حال كونهم مجاورين الله. {أَوْلِيَاءَ}: مفعول به. {كَمَثَلِ}: جار ومجرور خبر المبتدأ. {الْعَنْكَبُوتِ}: مضاف إليه، والجملة مستأنفة. {اتَّخَذَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الْعَنْكَبُوتِ}. {بَيْتًا}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من {الْعَنْكَبُوتِ}. {وَإِنَّ}: {الواو}: حالية، كما في الجمل، أو استئنافية. {إِنَّ}: حرف نصب. {أَوْهَنَ الْبُيُوتِ}: اسمها ومضاف إليه. {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}: خبر {إنَّ}. واللام حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، أو حال من {الْعَنْكَبُوتِ}. {لَوْ}: حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، وجواب {لَوْ} محذوف، تقديره: لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما عبدوها، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَدْعُونَ}. {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما يدعونهم {مِنْ دُونِهِ}: حال من فاعل {يَدْعُونَ}. {مِنْ شَيْءٍ} متعلق بـ {يَدْعُونَ}. ويجوز أن تكون {مَا}: نافية. و {مِنْ شَيْءٍ} مفعول {يَدْعُونَ} على أن {مِنْ} زائدة لسبقها بالنفي، وجملة {مَا يَدْعُونَ}: في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {وَهُوَ}: مبتدأ. {الْعَزِيزُ}: خبر أول {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)}. {وَتِلْكَ}: {الواو}: عاطفة. {تلك}: مبتدأ. {الْأَمْثَالُ}: بدل، أو عطف بيان له، وجملة {نَضْرِبُهَا} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا}. {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {نَضْرِبُهَا}، ويجوز أن

تكون الأمثال خبر {تِلْكَ}، وجملة {نَضْرِبُهَا} حالًا، أو خبرًا ثانيًا له. {وَمَا}: {الواو}: حالية. {مَا}: نافية. {يَعْقِلُهَا}: فعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْعَالِمُونَ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من مفعول {نَضْرِبُهَا}. {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة. {بِالْحَقِّ}: حال من فاعل {خَلَقَ}، أو من مفعوله. والباء للملابسة. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبر {إِنَّ}: مقدم. {لَآيَةً}: اسمها مؤخر. و {اللام}: حرف ابتداء. {لِلْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {لَآيَةً}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (42)}. {اتْلُ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على {مَا}. {إِلَيْكَ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْكِتَابِ}: حال من نائب فاعل أوحي. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {اتْلُ}. {إِنَّ الصَّلَاةَ}: ناصب واسمه، وجملة {تَنْهَى}: خبر {إِنَّ}. {عَنِ الْفَحْشَاءِ}: متعلق بـ {تَنْهَى} {وَالْمُنْكَرِ}: معطوف على {الْفَحْشَاءِ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل إقامة الصلاة. {وَلَذِكْرُ اللَّهِ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: حرف ابتداء. {ذِكْرُ اللَّهِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {أَكْبَرُ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ}: {الواو}: عاطفة. {اللَّهُ}: مبتدأ. وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ} وجملة {تَصْنَعُونَ} صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تصنعونه.

التصريف ومفردات اللغة {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ} أصل (¬1) القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتُبر بفعل المتولي لذلك، يقال: قتل، وإذا اعتُبر بفوت الحياة، يقال: موت. {أَوْ حَرِّقُوهُ} والفرق بين التحريق والإحراق، وبين الحرق، أن الأول: إيقاع ذات لهب في الشيء، ومنه استُعير أحرقني بلومه إذا بالغ في أذيته بلوم، والثاني: إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب، كحرق الثوب بالدق، كما في "المفردات". كما مر. {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وآمن به متقارب في المعنى، كما مر. {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قال في "المفردات": الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، قال بعضهم: معناه إني راجع من نفسي ومن الكون إليه، فالرجوع إليه بالانفصال عما دونه، ولا يصح لأحد الرجوع إليه، وهو متعلق بشيء من الكون، حتى ينفصل عن الأكوان أجمع ولا يتصل بها. {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} وأجر الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة والثناء الجميل والذِكرُ الحسن، {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} جمع صالح وهو الباقي على ما ينبغي، يقال: طعام بعد صالح؛ أي: هو باق على حال حسنة. {لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الفاحشة الفعلة القبيحة، التي تنفر منها النفوس الكريمة. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، وفيه سهولة، وقطع الطريق يقال: على وجهين: أحدهما: يراد به قطع السير والسلوك. والثاني: يراد به الغصب من المارة والسالكين للطريق؛ لأنه يؤدي إلى انقطاع الناس عن الطريق، فجُعل قطعًا للطريق، وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} قال في "كشف الأسرار": النادي مجمع القوم للسمر والأنس، وجمعه أندية اهـ والنادي والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارًا أو المجلس ما داموا مجتمعين فيه وجمعه أندية ولا تقل في جمعه نوادٍ، وغلط صاحب المنجد حيث جمعه على نواد، ويقال: ما يندوهم النادي؛ أي: ما يُسمعهم المجلس. من كثرتهم. وقال الزمخشري: ولا يقال: للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديًا. {الْمُنْكَرَ} قال الراغب: المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه العقول وتحكم بقبحه الشريعة، انتهى. {أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}؛ أي: قرية سذوم {مِنَ الْغَابِرِينَ}؛ أي: الباقين في العذاب، أو القرية، وهو لفظ مشترك في الماضي والباقي، يقال: فيما غير من الزمان؛ أي: فيما مضى. ويقال الفعل ماض وغابر؛ أي: باق. {سِيءَ بِهِمْ}؛ أي: اعتراه المساءة بسببهم، مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء؛ أي: فاحشة. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} الذرع الطاقة والقوة، وفي المصباح ضاق بالأمر ذرعًا عجز عن احتماله، وذرع الإنسان طاقته التي يبلغها وعبارة الزمخشري: وقد جعلت العرب ضيق الذراع، والذرع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقًا له، والأصل فيه: أن الرجل إذا طالت ذراعه، نال ما لا يناله قصير الذراع، فضُرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة، والذراع من الرجل من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى، والذراع من المقاييس طوله بين الخمسين والسبعين سنتيمترًا. {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} الرجز والرجس العذاب من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب وارتعش لما يلحق المعذب من القلب والاضطراب. {وَلَا تَعْثَوْا}؛ أي: ولا تفسدوا، وفي "المصباح" عثا يعثو وعثي يعثى، من باب قال وتعب أفسد، فهو عاث. وفي "القاموس": وعثا كرمى وسعى ورضي عثيًا وعثيًّا وعثيانًا وعثا يعثو عثوًا أفسد. {الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة، وفي "الأساس": ورجفت الأرض فأخذتهم الرجفة. {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} ورجف الشجر وأرجفته الريح، ورجف البعير

تحت الرحل، والمطي تحت رحالها إذا اضطرب. {جَاثِمِينَ}؛ أي: مقيمين من جثم الطائر إذا قعد ولصق بالأرض، والمراد أنهم ماتوا. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يقال استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة. {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} من قولهم: سبق طالبه إذا فاته ولم يدركه، قال الراغب: أصل السبق المتقدم في السير، ثم تجوِّز به في غيره من المتقدم، كما قال بعضهم: إن الله تعالى طالب كل مكلف بجزاء عمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. {أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} قال بعضهم: الأخذ أصله باليد، ثم يستعار في مواضع، فيكون بمعنى القبول، كما في قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}؛ أي: قبلتم عهدي، وبمعنى التعذيب في هذا المقام، قال في "المفردات": الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وذلك تارةً بالتناول، نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} وتارةً بالقهر، نحو {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ويقال: أخذته الحمي، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ. {حَاصِبًا} الحاصب الريح العاصفة فيها حصباء، وفي "المختار": عصفت الريح اشتدت، وبابه ضرب وجلس. اهـ. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} والإغراق كما في "التاج": والغرق الرسوب في الماء؛ أي: السفول والنزول فيه. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} مثل الشيء بفتحتين صفته، كما في "المختار"، والاتخاذ افتعال من الأخذ، والمراد بالأولياء الآلهة والأصنام. {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والغالب في الاستعمال التأنيث، وتاؤه كتاء طاغوت؛ أي زائدة لا للتأنيث، وهي دويبة معروفة تنسج من لعابها خيوطًا، وتصيد بذلك النسيج طعامها، والجمع عناكب وعنكبوتات، والعنكب ذكرها، والجمع عناكب وعناكيب والعنكبة والعنكباة والعكنباة أنثاها، والجمع عناكب وعناكيب. وقال علماء التصريف: والعنكبوت معروف، ونونه أصلية، والواو والتاء مزيدتان بدليل قولهم: في الجمع عناكب وفي التصغير عنيكيب، ويذكّر ويؤنّث، وهذا مطرد في أسماء الأجناس، وقال ابن يعيش في شرح المفصل: ومن ذلك

فعللوت، قالوا عنكبوت وتخربوت، ولم يأت صفةً فالعنكبوت معروفة، وهي دويبة تنسج لها بيوتًا من خيوط واهية، والتخربوت الناقة الفارهة، والواو والتاء في آخرهما زائدتان زيدًا في آخر الرباعي، كما زيدا في آخر الثلاثي من نحو ملكوت ورهبوت. {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} جمع مثل، والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول؛ أي: تشبيه حال الثاني بالأول. {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} قال في "المفردات": ضرب المثل هو من ضرب الدرهم اعتبارًا بضربه بالمطرقة، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} قال الإِمام الراغب في "المفردات": العقل يقال: للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: أقُوْلُ الْعَقْلُ عَقْلاَنِ ... فَمَطْبُوْعٌ وَمَسْمُوْعُ وَلاَ يَنْفَعُ مَطْبُوْعٌ ... إِذَا لَمْ يَكُ مَسْمُوْعُ كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَمْسُ ... وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوْعُ وإلى الأول: أشار عليه السلام بقوله: "ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من العقل"، وإلى الثاني: أشار بقوله: "ما كسب أحد شيئًا أفضل من عقل يهديه إلى هدى، ويرده عن ردى"، وهذا العقل هو المعني بقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وكل موضع ذم فيه الكفار بعدم العقل، فإشارة إلى الثاني دون الأول، وكل موضع رُفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، انتهى. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} التلاوة القراءة على سبيل التوالي، والإيحاء إعلام في الخفاء، ويقال: للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء وحي، والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: الترديد بين قتله وإحراقه في قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق، وفي سورة الأنبياء {حَرِّقُوهُ} اقتصروا على أحد الأمرين، وهو الذي فعلوه، فرموه في النار ولم يقتلوه، اهـ من "النهر". وعبارة الرازي: {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ}؛ أي: قال رؤساء القوم لأتباعهم؛ لأن الجواب لا يصدر إلا من الأكابر، والقتل لا يباشره إلا الإتباع اهـ. ومنها: أسلوب الإيجاز في قوله: {أَوْ حَرِّقُوهُ} أي: حرقوه في النار، وفي قوله: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ}؛ أي: فقذفوه في النار، فأنجاه الله من النار. ومنها: التأكيد بعدة مؤكدات، والإطناب بتكرار الفعل، تهجينًا لعملهم القبيح، وتوبيخًا لهم، في قوله: {إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} الآية. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {إِئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}. ومنها: الاستهزاء والسخرية في قوله: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}؛ أي: إن كنت صادقًا فائتنا به. ومنها: فن الإشارة في قوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا}؛ لأنه ليس المراد إخبارهم يكون لوط في القرية، وإنما هو جدال في شأنه؛ لأنهم ذكروا أن أهلها سيهلكون بسبب إمعانهم في الظلم، فاعترض عليهم، بأن فيها من هو بريء الساحة من الذنب، لم يجترح ذنبًا، ولم يقترف إثمًا، ولم يشارك قومه فيما هم ممعنون فيه من غي وارتكاس، وفي هذا كله أيضًا، إشارة إلى أن من واجب الإنسان المؤمن أن يتحزن لأخيه، وأن يسارع إلى رد الحيف عنه، ويتشمر للدفع عنه، وهذا من بليغ الإشارة وخفيِّها. ومنها: التنكير لإفادة التهويل في قوله: {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: رجزًا عظيمًا هائلًا. ومنها: تقديم المفعول على عامله للعناية والاهتمام في قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا

بِذَنْبِه}. ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}؛ لأن فيه إجمالًا، وفي قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} إلخ؛ لأن فيه تفصيلًا لما أجمل أولًا. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} حيث شبه حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها، واعتمد عليها راجيًا نفعها وشفاعتها، بحال العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فكما أن بيتها لا يدفع عنها حرًا، ولا بردًا ولا مطرًا ولا أذًى، وينتقض بأدنى ريح، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا خيرًا ولا شرًا، فالآية من قبيل تشبيه الهيئة بالهيئة، لتشبيه حال الكفار بحال العنكبوت، وسمي تمثيليًا؛ لأن وجه المشبه فيه صورة منتزعة من متعدد. ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير، وما فيه من جرس عذب بديع، مثل {انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} - {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} ومثل {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} - {آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مثلًا، وهو من خصائص القرآن. ومنها: الطباق في قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْيَا وَإِنَّهُ في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. ومنها: الكناية في قوله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}؛ لأنه كناية عن ضيق صدره وغم قلبه. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}. ومنها: الحال المؤكدة في قوله: {وَلَا تَعْثَوْا في الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} تفخيمًا لشأنها. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ

وَالْمُنْكَرِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. الحمد لله الذي تتم به الصالحات، والصلاة والسلام على أفضل الكائنات، سيدنا محمد وعلى آله وجميع الصحابات (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما يسره الله لنا، من تفسير هذا الجزء الكريم، بتوفيقه ومنه الجسيم، وفضله وكرمه العميم، وكان الفراغ منه منتصف النهار قبيل صلاة الظهر في مكة المكرمة، في المسفلة في اليوم السادس من شهر شعبان، من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاث عشرة سنة، 6/ 8/ 1413 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. وهذا آخر المجلد الحادي والعشرين، ويليه المجلد الثاني والعشرين وأوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} انتهى التصحيح في 16/ 1/ 1418 هـ.

وما أحسن قول القائل: إِذَا رَأيْتَ أَثِيْمَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُقَبِّحُ شَرْحِيْ ... لِمَ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [22]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ كُنْ مِنَ الخَلْقِ جَانِبَا ... وَارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا قَلِّبِ الخَلْقَ كَيْفَ شِئْـ ... ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا آخرُ أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كِظِلِّ سَحَابَةٍ ... أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ اقْبَلَتْ ... وَلاَ تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ آخرُ سَقَامُ الْحِرْصِ لَيْسَ لَهُ شِفَاءُ ... وَدَاءُ الْجَهْلِ لَيْسَ لَهُ طَبْيْبُ آخرُ وَفُيْ الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنِ امْرَأً يَحْيَى بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ آخرُ تَسَاوَى الْكُلُّ مِنَّا فِيْ الْمَسَاويْ ... فَأَفْضَلُنَا فَتِيْلًا مَا يُسَاوِيْ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أطلق ألسن من شاء من عباده بالقرآن العظيم، وأطلع قلوبهم على خبايا معانيه بالفهم القويم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم، وعلى آله وصحبه أولي المعارف والفضل الجسيم. أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء العشرين من القرآن الكريم .. تفرغت - إن شاء الله تعالى - لتفسير الجزء الحادي والعشرين منه، مستمدًا من الله التوفيق والهداية، لأقومِ الطريق في تفسير كتابه بما يناسب ويليق، فقلت: وهذا قولي: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم، وتوهين شبههم .. أردف ذلك بذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسن، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم. ذلك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول، ونسبوا إلى الله سبحانه ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إن شريعتهم باقية على وجه الدهر، لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته، وصدق رسالته، بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو ¬

_ (¬1) المراغي.

تأملوا فيه .. وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاند، ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يتوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين، ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له. ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلًا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانًا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه، لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله تعالى، وليس بمفترًى من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أردف هذا شبهةً أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة، كما أتى بذلك الأنبياء السابقون، كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله سبحانه، لا إليه، فلو علم اْنكم تهتدون بها .. لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم، وطلبهم الآيات الدالة على صدقه، بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر، وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم، ونبأ من بعدهم، وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين. ثم أبان أن الله شهيد على صدقه، وهو العلم بما في السماوات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم،

ويؤمن بالجبت والطاغوت .. فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه، جزاءً وفاقًا على جحوده وانكاره. قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه لما أنذر المشركين بالعذاب، وهددهم أعظم تهديد .. قالوا له تهكمًا واستهزاءً: إن كان هذا حقًا فائتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم، ولا يعجل باستعجالكم؛ لأن الله أجله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته، وارتضته رحمته .. لعجله لكم، ولأوقعه بكم، وانه ليأتيكم فجأةً وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون. قوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما ذكر أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار .. اشتد عنادهم للمؤمنين، وكثر أذاهم لهم، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم. ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس، كريهة لديها .. بين لهم أن المكروه واقع لا محالة، إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى لكم أن يكون ذلك في سبيل الله، لتنالوا جزاءه، ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين، المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بين الأمر للمشركين، وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم .. خاطب المؤمنين بما فيه ذكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله، وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان: أحدهما رشيد، والآخر مفسد، فهو ينصح للمفسد أولًا، فإن لم يسمع .. يعرض عنه ويلتفت إلى الرشيد قائلًا: إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت، ولا تكن كهذا المفسد، فيكون في هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد. قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق، وأنه هو الرازق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه شركاء، اغترارًا بزخرف الدينا وزينتها .. أردف ذلك أن ما في هذه الدنيا باطل، وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هي الحياة الآخرة، التي لا فناء بعدها، فلو أوتوا شيئًا من العلم .. ما آثروا تلك على هذه. ثم أرشد إلى أنهم - مع إشراكهم بربهم - سواء في الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد، كما إذا ركبوا البحر، وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق .. نادوا الله معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجي سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا في الفلك ونحوه لجؤوا إلى الله وحده، مخلصين له العبادة .. ذكر هنا أنهم حين الأمن، كما إذا كانوا في حصنهم الحصين، وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به، ويعبدون معه سواه، وتلك حال من التناقض لا ¬

_ (¬1) المراغي.

يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص، ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاه منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلاً ولا قطميرًا. أسباب النزول قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارمي في "مسنده"، وأبو داود من طريق عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بقوم ضلالةً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم" فنزلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ...} الآية. وعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال (¬2): دخل عمر بن خطاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغيرًا شديدًا، لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فسرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ولو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني .. لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم" أخرجه عبد الرزاق. قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم والبيهقي، وابن عساكر بسند ضعيف، عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: "يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ " قلت: لا أشتهيه، قال: "لكني أشتهيه، وهذا صبح رابعةٍ لم أذق طعامًا، ولم أجده، ولو ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[46]

شئت لدعوت روح فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا لقيت قومًا يخبئون رزق سنتهم، ويضعف اليقين". قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا، ولا أخْبَأ رزقًا لغدٍ". وروى ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: "اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة" قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لتقتلنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك .. اختطفتنا فكنا أكلة رأس، فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ...}. التفسير وأوجه القراءة 46 - {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} أي: ولا تخاصموا اليهود والنصارى أيها المؤمنون {إِلَّا بِالَّتِي} إلا بالخصلة التي {هِيَ أَحْسَنُ} وأسهل (¬1) كمعاملة الخشونة باللين، والغضب بالحلم، والمشاغبة - أي: تحريك الشر وإثارته - بالنصح؛ أي: بتحريك الخير وإثارته، والعجلة بالتاني والاحتياط، على وجه لا يؤدي إلى الضعف، ولا إلى إعظام الدنيا الدنية، يعني: جادلوهم على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه، رجاء إجابتهم إلى الإِسلام، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة. وقرأ الجمهور (¬2): {إِلَّا بِالَّتِي} حرف استثناء، وقرأ ابن عباس: {ألا}: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

حرف تنبيه واستفتاح، تقديره: ألا جادلوهم بالتي هي أحسن. {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬1) بالإفراط في الاعتداء والعناد، فإن الكافر إذا وصف بمثل الفسق والظلم .. حمل على المبالغة فيما هو فيه، أو بإثبات الولد لله، وهم أهل نجران، أو بنبذ العهد ومنع الجزية ونحو ذلك، كقولهم: يد الله مغلولة، فلا بأس بالإغلاظ عليهم، والتخشين في مجادلتهم، فإنه يجب حينئذ الموافقة بما يليق بحالهم، من الغلظة باللسان، وبالسيف والسنان. وعبارة "المراح" هنا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ أي: ولا تخاصموا (¬2) اليهود والنصارى إلا بالأحسن؛ أي: بعدم استخفاف آرائهم، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال؛ لأنهم جاؤوا بكل حسن، غير الاعتراف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم آمنوا بإنزال الكتب، وارسال الرسل، وبالحشر، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن، إلا الذين أشركوا منهم، بإثبات الولد لله، وبالقول بثالث ثلاثة، فيجادلون حينئذٍ بالأخشن، من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم، كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم، فاللائق أن يجادل بالأخشن، ويبالغ في تهجين مذهبه، وتوهين شبهه. اهـ. وعبارة "الخازن" هنا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}؛ أي: أبوا أن يعطوا الجزية، ونصبوا الحرب ففاجؤوهم بالسيف، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ومعنى الآية: إلا الذين ظلموكم؛ لأن جميعهم ظالم بالكفر، وقيل: هم أهل الحرب ومن لا عهد له، وقيل: الآية منسوخة بآية السيف اهـ. هكذا (¬3) فسر الآية أكثر المفسرين، بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: معنى الآية: لا تجادلوا من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وسائر من آمن منهم، إلا بالتي هي أحسن، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

على هذا القول: هم الباقون على كفرهم، وقيل: هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل، قال النحاس: من قال: هي منسوخة، احتج بأن الآية مكيّة، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية ولا غير ذلك، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إن المراد بـ {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الذين نصبوا القتال للمسلمين بالسيف، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. فإن قلت (¬1): كيف قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} مع أن جميع أهل الكتاب ظالمون؛ لأنهم كافرون، وقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؟ قلتُ: المراد بالظلم هنا: الامتناع عن قبول عقد الذمة، أو نقض العهد بعد قبوله. {وَقُولُوا} أيها المؤمنون للذين قبلوا الجزية، إذا حدثوكم بشيء مما في كتبهم {آمَنَّا} بالصدق والإخلاص {بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} من التوراة والإنجيل؛ أي: آمنّا بأنهما منزلان من عند الله تعالى، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإِسلامية، والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه، {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} لا شريك له في الألوهية، ولا ضد له ولا ند، {وَنَحْنُ} معاشر أمة محمد {لَهُ} سبحانه وتعالى، لا لغيره {مُسْلِمُونَ}؛ أي: مطيعون له منقادون خاصةً، ولا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نتخذ أحبارنا ورهباننا أربابًا من دون الله. ويحتمل أن يراد (¬2): ونحن جميعًا منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب، وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم، وفيه تعريض الفريقين، حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى. وأخرج البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني.

[47]

والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون". وفي رواية: وقولوا: "آمنا بالله وبكتبه وبرسله، فإن قالوا باطلًا .. لم تصدقوهم، وإن قالوا حقًا .. لم تكذبوهم". قال ابن الملك (¬1): إنما نهى عن تصديقهم وتكذيبهم؛ لأنم حرفوا كتابهم، وما قالوه إن كان من جملة ما غيروه، فتصديقهم يكون تصديقا بالباطل، وإن لم يكن كذلك .. يكون تكذيبهم تكذيبًا لما هو حق، وهذا أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور والعلوم، فلا يقضى فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف رحمهم الله تعالى. والمعنى (¬2): أي إذا حدثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه، وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم في ذلك .. فقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا، والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد، ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه. 47 - ثم بين أنه لا عجيب في إنزال القرآن على الرسول، فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل، فقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والإشارة فيه إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما بيناه في مواضع كثيرة؛ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع الموافق لإنزال سائر الكتب، أنزلنا عليك القرآن، وقيل: المعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب؛ أي: القرآن. و {الفاء} (¬3) في قوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من الطائفتين، لترتيب ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

بعدها على ما قبلها، فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله. على الوجه المذكور، {يُؤْمِنُونَ بِهِ}؛ أي: بالقرآن، يعني مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأضرابه من أهل الكتاب خاصة، وخصهم بإيتائهم الكتاب، لكونهم العاملين به، وكان غيرهم لم يؤتوه، لعدم عملهم بما فيه، وجحدهم لصفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكورة. وقيل: المراد بهم، من تقدم عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كانوا مصدقين بنزوله حسبما شاهدوا في كتابهم، ومنهم قس بن ساعدة، وبحيرا، ونسطورا، ورقة وغيرهم، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب: للإيذان بأن من بعدهم من معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزع منهم الكتاب بالنسخ، فلم يؤتوه. والإشارة في قوله: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ} إلى أهل مكة {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}؛ أي: بهذا القرآن، وهم من أسلم منهم، وقيل: الإشارة إلى جميع العرب. والمعنى: أي كما أنزلنا الكتب من قبلك أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى، يؤمنون به إذ كانوا مصدقين بنزوله، بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} أي: بالكتاب (¬1) المعظم بالإضافة إلينا، يعني: القرآن، عبر عنه بالآيات: للتنبيه على ظهور دلالته على معانيه، وعلى كونه من عند الله. {إِلَّا الْكَافِرُونَ} المتوغلون في الكفر، والمصممون عليه من المشركين وأهل الكتاب، ككعب بن الأشرف وأصحابه، وأبي جهل وأضرابه، فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيقتها. والمعنى (¬2): أي وما يكذب بآياتنا ويجحد بحقيقتها، إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادًا واستكبارًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[48]

واعلم (¬1): أن المجادلة في الدين، تبطل ثواب الأعمال إذا كانت تعنتًا وترويجًا للباطل، وأما الجدال بالحق لإظهاره، فمأمور به، وقد جادل علي - رضي الله عنه - شخصًا قال: إني أملك حركاتي وسكناتي، وطلاق زوجتي، وعتق أمتي، فقال علي - رضي الله عنه -: أتملكها دون الله، أو مع الله؟ فإن قلت: أملكها دون الله .. فقد أثبت مالكًا دون الله، وإن قلت أملكها مع الله .. فقد أثبت له شريكًا، كذا في "شرح المواقف". 48 - ثم ذكر ما يؤيد إنزاله، ويزيل الشبهة في افترائه، فقال: {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {تَتْلُو} وتقرأ {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل القرآن؛ أي: وما كانت عبادتك يا محمد قبل إنزالنا إليك القرآن، أن تتلو تقرأ شيئًا. {مِنْ كِتَابٍ} من الكتاب المنزلة، {وَلَا تَخُطُّهُ}؛ أي: ولا أن تكتب كتابًا من الكتب المذكورة {بِيَمِينِكَ}؛ أي: بيدك، وذكر اليمين (¬2) لكون الكتابة غالبًا باليمين، لا أنه لا يخط بيمينه ويخط بشماله، فإن الخط بالشمال من أبعد النوادر. قال الشيعة: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحسن الخط قبل الوحي، ثم نهي عنه بالوحي، وقالوا: إن قوله: {وَلَا تَخُطُّهُ} نهي، فليس بنفي الخط. قال في "كشف الأسرار": قرىء {ولا تخطه} بالفتح على النهي، وهو شاذ، والصحيح: أنه لم يكتب. انتهى. وفي "الأسئلة المقحمة" قول الشيعة مردود؛ لأن {وَلَا تَخُطُّهُ} لو كان نهيًا .. لكان بنصب الطاء، أو قال: لا تخططه بطريق التضعيف. {إِذًا}: لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط، أو ممن يعتادهما .. {لَارْتَابَ} وشك في نبوتك {الْمُبْطِلُون} أي: المشركون، وقالوا: لعله التقط ما يتلوه علينا من كتب الله المنزلة على الأنبياء، أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أميًّا لا تقرأ ولا تكتب، لم يكن هناك موضع للريبة، ولا محل للشك أبدًا، بل إنكار من أنكر، وكفر من كفر مجرد عنادٍ وجحود بلا شبهة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وخلاصة ما سلف (¬1): أنك قد لبثت يا محمد في قومك عمرًا طويلًا، قبل أن تأتي بهذا القرآن لا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك في الكتب المتقدمة، كما قال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}. فلا وجه إذًا للشك في أن هذا القرآن منزل من عند الله، وليس مفتعلًا من صنع يدك، تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك، كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}. فإن قلت (¬2): لم سماهم المبطلين، ولو لم يكن أميًا وقالوا: ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا محقين، ولكان أهل مكة أيضًا على حق في قولهم: لعله تعلمه أو كتبه، فإنه رجل قارىء كاتب؟ قلت: لأنهم كفروا به، وهو أمي بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به، لو لم يكن أميًا .. لارتابوا أشد الريب، فحيث إنه ليس بقارىءٍ ولا كاتب، فلا وجه لارتيابهم، قيل: وسماهم مبطلين؛ لأن ارتيابهم على تقدير أنه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته، ووضوح معجزاته. قال في "الأسئلة المقحمة": كيف منّ الله على نبيه بأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وهما من قبيل الكمال، لا من قبيل النقص؟ والجواب: إنما وصفه بعدم القراءة والكتابة؛ لأن أهل الكتاب كانوا يجدون من نعته في التوراة والإنجيل، بأنه لا يقرأ ولا يكتب، فأراد تحقيق ما وعدهم به على نعته إياه، ولأن الكتابة في قبيل الصناعات، فلا توصف بالمدح ولا بالذم، ولأن المقصود من الكتابة والخط: هو الاحتراز عن الغفلة والنسيان، وقد خصه الله تعالى بما فيه غنية عن ذلك، كالعين بها غنية عن العصا والقائد. انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[49]

وقال في "أسئلة الحكم": كان - عليه السلام - يعلم الخطوط ويخبر عنها، فلماذا لم يكتب؟ والجواب: أنه لو كتب لقيل: قرأ القرآن من صحف الأولين. انتهى. قال النيسابوري: إنصا لم يكتب، لأنه إذا كتب وعقد الخنصر يقع ظل قلمه وإصبعه على اسم الله تعالى وذكره، فلما كان ذلك قال الله تعالى: لا جرم يا حبيبي لَمَّا لَمْ ترد أن يكون قلمك فوق اسمي، ولم ترد أن يكون ظل القلم على اسمي، أمرت الناس أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوتك تشريفًا لك وتعظيمًا، ولا أدع بسبب ذلك ظلك يقع على الأرض صيانةً له أن يوطأ بالأقدام. انتهى. فائدة: قيل أول من كتب الكتاب العربي، والفارسي، والسرياني، والعبراني، وغيرها من بقية الاثني عشر، وهي: الحميري، واليوناني، والرومي، والقبطي، والبربري، والأندلسي، والهندي، والصيني - آدم عليه السلام، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض وانفرق .. وجد كل قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيل - عليه السلام - الكتاب العربي، وأما ما جاء "أول من خط بالقلم: إدريس - عليه السلام - ". فالمراد به: خط الرمل. 49 - ثم أكد ما سلف، وبين أنه منزل من عند الله حقًا، فقال: {بَلْ هُوَ}؛ أي: بل هذا القرآن {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}؛ أي: آيات واضحات الإعجاز، ثابتات راسخات {في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} به، يعني: المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده - صلى الله عليه وسلم - وحفظوه بعده. أي (¬1): بل القرآن آيات واضحات، ثابتة راسخة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن، فليس مما يشك فيه، لكونه محفوظًا، من غير أن يلتقط من كتاب، بحيث لا يقدر على تحريفه أحد، بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. ¬

_ (¬1) المراح.

والمعنى: أن المؤمنين يقرؤون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيًا منك، وبعضهم من بعض، وأنت تلقيته من جبريل عن اللوح المحفوظ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. يعني (¬1): كونه محفوظًا في الصدور من خصائص القرآن؛ لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون إلا نظرًا، فإذا أطبقوها .. لم يعرفوا منها شيئًا، سوى الأنبياء، وما نقل عن قارون: من أنه كان يقرأ التوراة على ظهر قلب فغير ثابت. وقال قتادة ومقاتل (¬2): إن الضمير يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بل محمد آيات بينات؛ أي: ذو آيات. وقرأ ابن مسعود: {بل هي آيات بينات}. قال الفراء: معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن آيات بينات، واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع {بل هذا آيات بينات} ولا دليل في هذه القراءة على ذلك؛ لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن، كما جاز أن تكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رجوعها إلى القرآن أظهر، لعدم احتياج ذلك إلى التأويل، والتقدير وقوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (¬3) إضراب عن ارتيابهم؛ أي: ليس القرآن مما يرتاب فيه، لكونه في الصدور، وكونه محفوظًا بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف، ولذا جاء في وصف هذه الأمة: صدورهم أناجيلهم. اهـ. "شهاب". وهو جمع إنجيل، والمعنى: أنهم يقرؤون كتاب الله عز وجل عن ظهر قلب، وهو مثبت محفوظ في صدورهم، كما كان كتاب النصارى مثبتًا في أناجيلهم؛ أي: كتبهم اهـ. "زاده". وفي بعض الآثار: "ما حسدتكم اليهود والنصارى على شيء كحفظ القرآن" قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن. وقال - عليه السلام -: "القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن، كالبيت الخراب". وفي الحديث ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الفتوحات.

الصحيح: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتًا من الإبل من عقالها"؛ أي: من الإبل المعقلة إذا أطلقها صاحبها، والتعاهد والتعهد، التحفظ؛ أي: المحافظة وتجديد الأمر به، والمراد هنا، الأمر بالمحافظة على تلاوته، والمداومة على تكراره. فمن سنة القارىء (¬1): أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة، كيلا ينساه، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أو ذنبًا أكبر من آية أو سورة أوتيها الرجل، ثم نسيها". والنسيان أن لا يمكنه القراءة من المصحف، كذا في "القنية". وكان ابن عيينة يذهب إلى أن النسيان الذي يستحق صاحبه اللوم، ويضاف إليه الإثم: ترك العمل به، والنسيان في "لسان العرب": الترك. قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}؛ أي: تركوا. وقال تعالى: {نَسُوا اللهَ} أي: تركوا طاعته، {فَنَسِيَهُمْ}؛ أي: فترك رحمتهم. قال شارح "الجزرية": وقراءة القرآن من المصحف أفضل من قراءته من حفظه. هذا هو المشهور عن السلف، ولكن ليس هذا على إطلاقه، بل إن كان القارىء من حفظه يحصل له التدبر والتفكر، وجمع القلب والبصر، أكثر مما يحصل له من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن تساويا فمن المصحف أفضل؛ لأن النظر في المصحف عبادة، واستماع القرآن من الغير في بعض الأحيان من السنن. قال إبراهيم الخواص - رحمه الله تعالى -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر والخلاء، وقيام الليل، والتضرع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين. جعلنا الله وإياكم من أهل الصلاح والفلاح، إنه القادر الفتاح فالق الإصباح، خالق المصباح. {وَمَا يَجْحَدُ} وما ينكر {بِآيَاتِنَا} مع كونها كما ذكر {إِلَّا الظَّالِمُونَ}؛ أي: المتجاوزون للحدود في الشر والمكابرة والفساد والعناد؛ أي (¬2): وما يكذب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[50]

بآياتنا، ويبخس حقها، ويردها إلا المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، ونحو الآية قوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}. وإنما قال أولًا: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} وثانيًا: {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وثالثًا: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} مع أن المراد بكل من الثلاثة: اليهود والمشركون، للتفتن وتسجيلًا عليهم باسم كل من الثلاثة. 50 - {وَقَالُوا}؛ أي: قال كفار قريش {لَوْلَا} تحضيضية بمعنى هلا؛ أي: هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أي: على محمد {آيَاتٌ} تكوينية {مِنْ} عند {رَبِّهِ} سبحانه؛ أي: آيات كآيات الأنبياء قبله، وذلك كعصا موسى ويده، وناقة صالح، ومائدة عيسى - عليهم السلام -. وقرأ (¬1) نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص: {آيَاتٌ} بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله بعد: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ} وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وحمزة والكسائي: {آية من ربه} بالإفراد. {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّمَا الْآيَاتُ}؛ أي: إنما أمرها وشأنها {عِنْدَ اللهِ} سبحانه؛ أي: في قدرته وحكمه، ينزلها على من يشاء من عباده، ولا قدرة لأحد على إنزالها، فليس بيدي شيء من أمرها فآتيكم بما تقترحونه {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ}؛ أي: ما أنا إلا مخوف لكم من عذاب الله سبجانه {مُبِينٌ} أي: بين الإنذار والتخويف، أنذركم كما أمرت، وأبين لكم كما ينبغي، ليس قدرتي غير ذلك؛ أي: ليس (¬2) من شأني إلا الإنذار والتخويف من عذاب الله، بما أعطيت من الآيات. قال في "كشف الأسرار": والحكمة في ترك إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآيات المقترحة: أنه يؤدي إلى ما لا يتناهى؛ وأن هؤلاء طلبوا آيات تضطرهم إلى الإيمان، فلو أجابهم إليها، ولم يؤمنوا .. لاستؤصلوا، وعذاب الاستئصال مرفوع عن هذه الأمة ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[51]

ومعنى الآية: أي (¬1) وقال كفار قريش تعنتًا وعنادًا: هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين، كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة، التي ترى رأي العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس، وأدهش للعقول، فتلجىء إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة، فأمره الله أن يجيبهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: قل لهم: إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى الله، ولو علم أنكم تهتدون .. لأجابكم إلى ما سألتم؛ لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم، كما قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}. {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}؛ أي: وليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، إلا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعلي أن أبلغكم رسالة روح، وليس علي هداكم، كما قال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. 51 - ثم بيّن سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم، فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} كلام (¬2) مستأنف وارد من جهته تعالى ردًا على اقتراحهم، وبيانًا لبطلانه. و {الهمزة} فيه: للإنكار، والنفي داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقصر هذا القرآن عن درجة الإعجاز، ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات. {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} الناطق بالحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية، وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها؛ أي: إنزالنا عليك هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) أبو السعود.

وفي "القرطبي": {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} هذا (¬1) جواب لقولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز، الذي قد تحداهم بأن يأتوا بمثله أو سورة منه فعجزوا، ولو أتيتهم بآيات موسى وعيسى .. لقالوا: هذا سحر، ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور لهم، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة اهـ. حال كون ذلك الكتاب {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} بلغتهم (¬2) في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابتة، لا تزول ولا تضمحل، كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان، فهو معجزة ظاهرة باقية، أتم من كل معجزة، وقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، بخلاف قلب العصا ثعبانًا، فإنه لم يبق لنا منه أثر، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان. والمعنى: أي أما كفاهم دليلًا على صدقك، إنزالنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليلًا ونهارًا، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدًا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه، كما قال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الكتاب العظيم الشأن، الباقي على ممر الدهور والأزمان {لَرَحْمَةً} أي: نعمة عظيمة في الدنيا والآخرة {وَذِكْرَى}؛ أي: تذكرةً في الدنيا يتذكرون بها، وترشدهم إلى الحق، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون بما جئت به من عند الله، فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك؛ أي: لقوم همّهم الإيمان، لا التعنت كأولئك المقترحين. والمعنى: أي (¬3) إن في هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر، لرحمةً لمن ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[52]

آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرةً بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم، وكذب بالآيات بعد وضوحها. 52 - وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين، لم يؤمنوا به، أمره أن يكل علم ذلك إلى الله، وهو العلم بصدقه وكذبه، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين من اليهود والمشركين {كَفَى بِاللَّهِ}؛ أي: كفى الله سبحانه، و {الباء}: صلة. {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بما صدر عني وعنكم؛ أي: كفى الله سبحانه عالمًا بما صدر منى، من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم، من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازي كلًّا بما يستحق، وإني لو كنت كاذبًا عليه .. لانتقم منى، كما قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} بل إني صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثم أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات، ثم علل كنايته وأكدها بقوله: {يَعلَمُ} سبحانه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم، لا تخفى عليه من ذلك خافية. أي: هو سبحانه وتعالى العلم بكل ما فيهما، ومن جملته شأني وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلى من التقول عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتي الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردًا ولا دفعًا. ولما بين طريق الجدل، مع كل من أهل الكتاب والمشركين .. عاد إلى تهديد المشركين، وبين مآل أمرهم فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} الذي لا يجوز الإيمان به، كالصنم والشيطان وغيرهما {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} الذي يجب الإيمان به مع تعاضد موجبات الإيمان {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفة {هُمُ} لا غيرهم {الْخَاسِرُونَ} أي: الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة، المغبونون في صفقتهم الأخروية، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وضيعوا الفطرة الأصلية، والأدلة

[53]

السمعية الموجبة للإيمان؛ أي: والذين يعبدون الأوثان والأصنام، ويكفرون بالله مع تظاهر الأدلة التي في الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله، مع تعاضد البراهين على صدقه، أولىك هم الأخسرون أعمالًا، المغبونون في صفقتهم، من حيث أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدي الملك الديان. وخلاصة ذلك (¬1): أن الله سيجزيهم على ما صنعوا، من تكذيبهم بالحق واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه، نارًا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى. فإن قلت: من آمن بالباطل فقد كفر بالله، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد؟ قلت: نعم، فائدته: أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول، فهو كقول القائل: أتقول الباطل، وتترك الحق، لبيان أن الباطل قبيح. 53 - {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} يا محمد استهزاءً وتكذيبًا منهم بذلك، كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى}؛ أي: معين قد جعله الله لعذابهم وعينه، وهو القيامة. وقال الضحاك: الأجل: مدة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا .. صاروا إلى العذاب. {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}؛ أي: لولا ذلك الأجل المضروب .. لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم عاجلًا. وقيل (¬2): المراد بالأجل الممسمى: النفخة الأولى، وقيل: الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

والحاصل: أن لكل عذاب أجلًا، لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، كما في قوله سبحانه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} وفي الآية (¬1) إشارة إلى أن الاستعجال في طلب العذاب في غير وقته المقدر لا ينفع، وهو مذموم، فكيف الاستعجال في طلب مرادات النفس وشهواتها في غير أوانها. والمعنى: أي: ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب بنحو قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولولا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم لجاءهم حين استعجالهم إياه. وجملة قوله: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها، ومعنى بغتة: فجأة؛ أي: وعزتي وجلالي ليأتينهم العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل فجأة، كوقعة بدر، فإنها أتتهم بغتة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا يعلمون بإتيانه، بل يكونون في غفلة عنه، واشتغال بما ينسيهموه. وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه تأكيد لمعنى قوله: {بَغْتَةً} كما يقول القائل: أتيته على غفلةٍ منه بحيث لم يدر، فقوله: بحيث لم يدر: أكد معنى الغفلة. والثاني: يفيد فائدةً مستقلةً، وهي أن العذاب يأتيهم بغتةً، وهم لا يشعرون هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلًا اهـ."كرخي". فإن قلت (¬2): عذاب الآخرة ليس من قبيل المفاجأة، فكيف يأتي بغتةً؟ قلت: الموت يأتيهم بغتةً؛ أي: في وقت لا يظنون أنهم يموتون فيه، وزمانه متصل بزمان القيامة، ولذا عد القبر أول منزل من منازل الآخرة، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات فقد قامت قيامته". وفي البرزخ عذاب، ولو كان نصفًا من حيث أنه حظ الروح فقط. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[54]

54 - ثم زاد في التعجيب من جهلم بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} في الدنيا، كرره للتأكيد، أو ذكره أولًا إخبارًا عنهم، وثانيًا تعجيبًا منهم. اهـ. "كرخي"؛ أي: يطلبون منك يا محمد إيقاع العذاب ناجزًا في غير ميقاته، ويلحون في ذلك، ولو علموا ما هم صائرون إليه .. لتمنوا أنهم لم يخلقوا، فضلًا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه. ثم بين السبب في جهلم وحمقهم فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ}؛ أي: والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} المستعجلين للعذاب يوم القيامة، أي: سيحيط بهم عن قريب؛ لأن ما هو آت قريب. قال في "الإرشاد": وإنما جيء بالاسمية دلالةً على تحقق الإحاطة واستمرارها، وتنزيلًا لحال السبب منزلة المسبب، فإن الكفر والمعاصي الموجبة لدخول جهنم محيطة بهم. انتهى. وقال بعضهم: إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة، ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة. والمعنى عليه (¬1): هي كالمحيطة بهم الآن، لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم. واللام: في قوله: {بِالْكَافِرِينَ} للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على موجب الإحاطة، أو للجنس، فيكون استدلالًا بحكم الجنس على حكمهم. 55 - قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} ظرف لقوله: محيطة، كما في "السمين" أو ظرف لمحذوف، تقديره: يوم يعلوهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم ويسترهم {مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}. والمراد: من جميع جهاتهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال. ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[56]

فإن قيل (¬1): لم خصَّ الجانبين، ولم يذكر اليمين ولا الشمال، ولا الخلف ولا الأمام؟ فالجواب: أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة قدامه وخلفه، ويمينه وشماله، وأما النار من فوق فلا تنزل، وإنما تصعد من أسفل في العادة، وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، بل تطفأ، ونار جهنم تنزل من فوق، ولا تطفأ بالدوس عليها بوضع القدم. {وَيَقُولُ} معطوف على {يَغْشَاهُمُ} أي: يقول الله، أو بعض الملائكة بأمره لهم على سبيل التوبيخ والتقريع {ذُوقُوا} وباشروا {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات، التي من جملتها الاستعجال بالعذاب، فلا تفوتونا. وقرأ (¬2) الكوفيون، ونافع {وَيَقُولُ}؛ أي: الله أو بعض الملائكة، بياء الغيبة، واختار أبو عبيد هذه القراءة لقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} وباقي السبعة: بالنون، نون العظمة، أو نون جماعة الملائكة. وقرأ أبو البرهشيم: {وتقول} بالتاء الفوقية؛ أي: جهنم، كما نسب القول إليها في {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: {ويقال} مبنيًا للمفعول. 56 - وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب تشريف لبعض المؤمنين، الذين لا يتمكنون من إقامة أمور الدين كما ينبغي، لممانعة من جهة الكفار، وإرشاد لهم إلى الطريق الأسلم، وأضافهم إليه بعد خطابهم تشريفًا لهم، وتكريمًا، و {الَّذِينَ آمَنُوا} صفة موضحة، أو مبينة. ¬

_ (¬1) الرازي. (¬2) البحر المحيط.

[57]

وقرأ ابن عامر (¬1) بفتح الياء، والباقون بتسكينها. {إِنَّ أَرْضِي} أي: إن بلاد المواضع التي خلقتها {وَاسِعَةٌ} لا مضايقة لكم فيها، ففيه تحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام؛ أي: يا من شرفكم الله بالعبودية له، هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان فيها، ولا تجاوروا الظلمة، فأرض الله واسعة. قال مقاتل (¬2): نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإِسلام بها، وأما اليوم، فإنا بحمد الله لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من الفتن، وأظهر لأمر الدين من مكة حرسها الله تعالى. اهـ. "قاري". {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}؛ أي: فخصوني بالعبادة، ولا تعبدوا أحدًا سواي، فـ {الفاء}: واقعة في جواب شرط محذوف، حذف الشرط وعوض عنه تقديم المفعول، مع إفادة تقديم المفعول معنى الاختصاص والإخلاص؛ أي: فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض، فأخلصوها لي في غيرها. وقرأ يعقوب (¬3): {فاعبدوني} بالياء. وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة، فاعبدوني حتى أورثكموها. 57 - ولما أخبر تعالى (¬4) عن سعة أرضه، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة، وأمر بعبادته، فكان قد يتوهم متوهم: أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر، إلى دار الإِسلام، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه، وربما أدى ذلك إلى هلاكه .. أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه، وتموت في أي مكان حل، وأن رجوع الجميع إلى جزائه يوم القيامة، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس، سواء كانت نفس إنسان أو غيرها، وهو مبتدأ، وجاز الابتداء ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) زاد المسير. (¬3) نسفي. (¬4) البحر المحيط.

بالنكرة لما فيها من العموم. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: واجدة مرارة الموت، ومتجرعة غصص المفارقة، كما يجد الذائق ذوق المذوق، وهذا مبني على أن الذوق يصلح للقليل والكثير، كما ذهب إليه الراغب، وقال بعضهم: أصل الذوق بالفم فيما يقل تناوله، فالمعنى إذًا: إن النفوس تذوق بملابسه البدن جزءًا من الموت. واعلم (¬1): أن للإنسان روحًا وجسدًا، وبخارًا لطيفًا بينهما هو: الروح الحيواني، فما دام هذا البخار باقيًا على الوجه الذي يصلح أن يكون علاقةً بينهما، فالحياة قائمة، وعند إنطفائه وخروجه عن الصلاحية تزول الحياة، ويفارق الروح البدن مفارقةً اضطرارية، وهو الموت الصوري، ولا يعرف كيفية ظهور الروح في البدن ومفارقته له وقت الموت إلا أهل الانسلاخ التام. {ثُمَّ إِلَيْنَا} لا إلى غيرنا؛ أي: إلى حكمنا وجزائنا {تُرْجَعُونَ} تردون (¬2) من الرجع، وهو: الرد، فمن كانت هذه عاقبته .. ينبغي أن يجتهد في التزود والاستعداد لها، ويرى مهاجرة الوطن سهلةً، واحتمال الغربة هونًا، هذا إذا كان الوطن دار الشرك، وكذا إذا كان أرض المعاصي والبدع، وهو لا يقدر على تغييرها، والمنع منها، فيهاجر إلى أرض المطيعين من أرض الله الواسعة. والمعنى: كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان، ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار، وإن طال لبثه في هذه الدار، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السماوات والأرض. وقرأ علي (¬3): {ترجعون} مبنيًا للفاعل من الرجوع، والجمهور: مبنيًا للمفعول بتاء الخطاب، وروى عن عاصم: بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة: {ذائقة} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[58]

بالتنوين، {الْمَوْتِ} بالنصب. والخلاصة: أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم فإن الموت لا محالة آتٍ، ولله در القائل: الْمَوْتُ فِي كُلِّ حِيْنٍ يُنْشِدُ الْكَفَنَا ... وَنَحْنُ فِيْ غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا لَا تَرْكَنَنَّ إلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ... وَإنْ تَوَشَّحْتَ مِنْ أثْوَابِهَا الْحَسَنَا أَيْنَ الأَحَبَّةُ وَالْجِيْرَانُ مَا فَعَلُوْا ... أَيْنَ الَّذِيْنَ هُمُ كَانُوْا لَهَا سَكَنَا سَقَاهُمُ ألْمَوْتُ كَأسًا غَيْرَ صَافِيَةٍ ... صَيَّرَتْهُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى رَهَنَا ثم إلى الله موجعكم، فمن كان مطيعًا له .. جازاه خير الجزاء، وآتاه أتم الثواب. 58 - ثم بين جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه فرارًا من شرك المشركين، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله، وصدقوا رسوله فيما جاء به من عنده {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ومن الصالحات: الهجرة للدين؛ أي: وعملوا بما أمرهم به، فأطاعوه، وانتهوا عما نهاهم عنه. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} أي: وعزتي وجلالي لننزلنهم {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} مفعول ثان لـ {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}؛ أي: قصورًا (¬1) عالية من الدر والزبرجد والياقوت، وإنما قال ذلك؛ لأن الجنة في جهة عالية، والنار في سافلة، ولأن النظر من الغرف إلى المياه والخضر أشهى وألذ. {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت أشجارها {الْأَنْهَارُ} الأربعة صفة لـ {غُرَفًا} حال كونهم {خَالِدِينَ} أي: ماكثين {فِيهَا} أي: في تلك الغرف مكثًا موبدًا لا نهاية له، جزاءً لهم على ما عملوا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الأعمال الصالحة، والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: نعم أجر العاملين أجرهم. وقرأ ابن مسعود (¬2)، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط مع الشوكاني.

[59]

والربيع بن خثيم، وزيد بن علي: {لنثوينهم} بالثاء المثلثة الساكنة، مكان الباء الموحدة بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو المكسورة المخففة، من الثواء، وهو: الإقامة؛ أي: لنقيمنهم وننزلنهم منزلًا يقيمون فيه. وقرأ الباقون: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بالباء الموحدة من المباءة؛ أي: لنجعلن لهم مكانًا مباءةً؛ أي: مرجعًا يأوون إليه، وبوأ: يتعدى لاثنين، قال تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}. وروي عن ابن عامر: {غرفًا} بضم الراء، وقرأ ابن وثاب [فنعم] بالفاء. والجمهور: بغير فاء. 59 - ثم بين صفات هؤلاء العاملين، الذين استحقوا تلك الجنات بقوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا} على مفارقة أوطانهم والهجرة، وجميع المشاق، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي، والموصول: صفة لـ {الْعَامِلِينَ}، أو نصب على المدح. {وَعَلَى رَبِّهِمْ} لا على غيره {يَتَوَكَّلُونَ}؛ أي: يعتمدون في أمورهم دينًا ودنيا؛ أي: يفوضون أمورهم إليه تعالى في كل إقدام وإجحام. وهذا التوكل من قوة الإيمان، فإذا قوي الإيمان .. يخرج من القلب ملاحظة الأوطان والأموال والأرزاق وغيرها، وتصير الغربة والوطن سواءً، ويكفي ثواب الله بدلًا من الكل، وفي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرًا .. استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد" .. - عليهما السلام -. أما استيجابه الجنة والغرف، فلتركه المسكن المألوف لأجل الدين، وامتثال أمر رب العالمين، وأما رفاقته لهما فلمتابعتهما في باب الهجرة، وإحياء سنتهما، فإن إبراهيم - عليه السلام - هاجر إلى الأرض المقدسة، ونبينا - عليه السلام - هاجر إلى أرض المدينة، وفيه إشارة إلى أن السالك ينبغي له أن يهاجر من أرض الجاه - وهو قبول الخلق - إلى أرض الخمول.

[60]

والمعنى (¬1): أي هؤلاء العاملون، هم الذين صبروا على أذى المشركين، وشدائد الهجرة، وغيرهما من الجهود والمشاق، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم، وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقةً منهم بأن الله معلي كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق لن يفوتهم. 60 - ثم ذكر سبحانه: أن مما يعين على التوكل عليه: معرفة أنه كافي أمر الرزق في الوطن والغربة، فقال: {وَكَأَيِّنْ} اسم مركب من كاف التشبيه، وأي، آخره نون بمعنى كم الخيرية، في محل الرفع مبتدأ. {مِنْ دَابَّةٍ} تمييز له، وهي كل ما يدب على الأرض عاقلًا كان أم لا، من الطيور والسباع والهوام، وجملة: {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} صفة لدابة، وجملة {اللَّهُ يَرْزُقُهَا}: خبر المبتدأ؛ أي (¬2): وكثير من دابة ذات حاجة إلى الغذاء، لا تطيق حمل رزقها لضعفها، أو لا تدخر، وإنما تصبح ولا معيشة عندها، الله يرزقها؛ أي: يعطيها رزقها يومًا فيومًا، حيث توجهت، {و} يرزق {إياكم} حيث كنتم؛ أي: ثم إنها مع ضعفها وتوكلها، وإياكم مع قوتكم واجتهادكم، سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله؛ لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده، فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة والخروج إلى دار الغربة؛ أي: فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش، كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. {وَهُوَ} سبحانه {السَّمِيعُ} الذي يسمع كل مسموع، أو المبالغ في السمع، فيسمع قولكم هذا في أمر الرزق {الْعَلِيمُ} بكل معلوم، أو المبالغ في العلم فيعلم ضمائركم. ومعنى الآية: أي (¬3) هاجروا أيها المؤمنون بالله ورسوله وجاهدوا أعداءَه، ولا تخافوا عيلةً ولا إقتارًا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم، لا تطيق جمع قوتها، ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها، عجزًا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم، يومًا بيوم، وساعةً فساعةً، وهو السميع لقولكم: فلا نخشى من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[61]

فراق أوطاننا العيلة، {الْعَلِيمُ} بما في أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم، من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه، ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه. وقال ابن عباس: لا يدخر الرزق إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق. وقيل عن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه، وروى ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: "اخرجوا إلى المدينة، وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة". قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية. 61 - ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم، وعجب السامع من كونهم يقرون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه، ولا يتركون عباده غيره، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: أهل مكة {مَنْ} استفهام {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} السبع {وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لمصالح العباد، حيث يجريان على الدوام، أتى (¬1) بشيئين: أحدهما: يتعلق بالذوات، وهو خلق السماوات والأرض. والثاني: يتعلق بالصفات، وهو تسخير الشمس والقمر لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات، وغير ذلك من المنافع. {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي: وعزتي وجلالي ليقولن أهل مكة: خلقهن الله - سبحانه وتعالى - إذ لا سبيل لهم إلى الإنكار لما تقرر في العقول، من وجوب انتهاء الممكنات، إلى واحد واجب الوجود، {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ أي (¬2): فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده في الإلهية، مع إقرارهم بتفرده فيما ذكر من الخلق والتسخير، فهو إنكار واستبعاد لتركهم العمل بموجب العلم، وتوبيخ وتقريع عليه، وتعجيب منه. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

[62]

والمعنى (¬1): أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله: من خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس، والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه، ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله هو الله، فانى يؤفكون؛ أي: فكيف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له بعد إقرارهم بأن خالق كل ذلك. تنبيه: ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمةً، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد، لا تتحرك .. ما حصل الليل والنهار، ولا الصيف والشتاء، فحينئذٍ الحكمة إنما هي في تحركهما وتسخيرهما. اهـ. "كرخي". والخلاصة (¬2): أنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسماوات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية، التي كانوا يدينون بها، نحو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. 62 - ولما ذكر اعترافهم بالخلق .. ذكر حال الرزق من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق، فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَبْسُطُ} ويوسع {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} أن يبسط له {مِنْ عِبَادِهِ} مؤمنين وكافرين {وَيَقْدِرُ} أي: يضيق ويقتر {لَهُ}؛ أي: لمن يشاء أن يقدر عليه منهم، كائنًا من كان، على أن (¬3) الضمير مبهم حسب إبهام مرجعه، ويحتمل أن يكون الموسع له، والمضيق عليه واحدًا، على أن البسط والقبض على التعاقب؛ أي: يقدر لمن يبسط له على التعاقب. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[63]

وقرأ علقمة الحمصي: {ويقدر} بضم الياء وفتح القاف وشد الدال، ذكره في "البحر". قال الحسن: يبسط الرزق لعدوه مكرًا به، ويقدر على وليه نظرًا له، فطوبى لمن نظر الله إليه؛ أي: إن الله سبحانه يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى، لا بيد أحدٍ سواه، فلا يؤخرنكم عن الهجرة، وجهاد عدوكم، خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات، لا يعجز عن أرزاقها، ونحو الآية قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}. ثم علل التفاوت في الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة في ذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم، ويعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق، فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسط له، ويعلم من يليق بقبضه فيقبض له، أو فيعلم أن كلًّا من البسط والقبض في أي وقتٍ يوافق الحكمة والمصلحة، فيفعل كلًّا منهما في وقته، وفي الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته .. لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته .. لأفسد ذلك". 63 - ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي: وعزتي وجلالي، لئن سألت يا محمد مشركي العرب {مَنْ نَزَّلَ} مرة بعد مرة {مِنَ السَّمَاءِ} أي: من السحاب {مَاءً}؛ أي: مطرًا {فَأَحْيَا} وأخصب {بِهِ}؛ أي: بسبب ذلك الماء {الْأَرْضَ} بإخراج الزرع والنبات والأشجار منها {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} أي: يبسها وقحطها {لَيَقُولُنَّ}؛ أي: ليقولن المشركون جوابًا لك، نزله {اللَّهُ} سبحانه، وأحيا به الأرض، إذ لا جواب غيره؛ أي: يعترفون بأنه الموجد للممكنات بأسرها، أصولها وفروعها، يجدون إلى إنكاره سبيلًا، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته، الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلًا. والمعنى: أي ولئن سألتهم: من ينزل من السحاب ماءً، فيحيي به الأرض القفر، فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك، لم يجدوا في الجواب إلا سبيلًا واحدةً هي الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر

المخلوقات، ومن عجبٍ أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته، التي لا تقدر على شيء من ذلك. فإن قلت: لِمَ (¬1) زاد {مَنْ} هنا في قوله {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} وحذفها في البقرة، حيث قال هناك: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي الجاثية أيضًا، حيث قال: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}؟ قلت: زادها هنا موافقةً لما قبله من قوله: {مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} بخلاف ذلك في البقرة والجاثية. ثم لما اعترفوا (¬2) هذا الاعتراف في هذه الآيات، وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك، وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمد الله على إقرارهم، وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد، وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله من التوحيد، فقال: {قُلِ} يا محمد متعجبًا من حالهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} والشكر له على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى؛ أي: أحمد الله على أن جعل الحق معك، وأن أظهر حجتك عليهم. وعبارة "القرطبي" هنا: قل الحمد لله على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته، وقيل: قل الحمد لله على إقرارهم بذلك، وقيل: قل الحمد لله على إنزال الماء، وإحياء الأرض بالنبات. اهـ. ثم ذمهم فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: شيئًا من الإشياء، فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم، فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته، وهو الصنم؛ أي: ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه النفع في دينهم، وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الأصنام دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده تعالى. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني.

[64]

والخلاصة: أن اْقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله، وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه، مما هم معترفون بأنه خلقه. قال بعضهم (¬1): قد ذكر الله تعالى آية الرزق، ثم آية التوحيد، ثم كررهما في صورتين أخريين، تنبيهًا منه لعباده المؤمنين على أنه سبحانه لا يقطع أرزاق الكفار، مع وجود الكفر والمعاصي، فكيف يقطع أرزاق المؤمنين مع وجود الإيمان والطاعات، وأنه سبحانه لا يسأل من العباد إلا التوحيد والتقوى والتوكل، فإنما الرزق على الله الكريم، وقد قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما قدر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين، ألا ترى إلى الوحوش والطيور، لا تدخر شيئًا إلى الغد، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا؛ أي: ممتلئة البطون والحواصل، لاتكالها على الله تعالى، بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها، فكيف يهتم الإنسان لأجل رزقه، ويدخر شيئًا لغده، ولا يعرف حقيقة رزقه وأجله، فربما يأكل ذخيرته غيره، ويصل إلى غده، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - لا يدخر لغد إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة، والرزق يطلب الرجل كما يطلبه أجله. انتهى. 64 - ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا، وأنها من جنس اللعب واللهو، وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إشارة تحقير للدنيا، وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، قال الإِمام الراغب: الحياة (¬2) باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، فهي إشارة إلى أن الحياة الدنيا بمعنى الحياة الأولى بقرينة المقابلة بالآخرة، فإنه قد يعبر بالأدنى عن الأول المقابل للآخر، والمراد بالحياة الأولى ما قبل الموت، لدنوه؛ أي: لقربه، وبالآخرة: ما بعد الموت لتأخره. {إِلَّا لَهْوٌ} أي: إعراض عن الآخرة {وَلَعِبٌ}؛ أي: شغل بما لا يعني ولا يهم، قال الرازي: اللهو: هو الإعراض عن الحق بالكلية، واللعب: الإقبال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

على الباطل اهـ. وقيل (¬1): اللهو: الاشتغال بما فيه نفع عاجل، واللعب: الاشتغال بما لا نفع فيه أصلًا. وقيل: اللهو: هو الاستمتاع بلذات الدنيا، وقيل: هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه، واللعب: هو العبث، فاللهو: كل ما يشغل الإنسان عما يهمه ويعنيه، والملاهي: آلة اللهو، ويقال: لعب فلان: إذا لم يقصد بفعله مقصدًا صحيحًا؛ أي: إن (¬2) الدنيا سريعة الزوال، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم، فإنهم يجتمعون عليه، ويفرحون به ساعةً، ثم يتفرقون عنه، فالإعراض عن الحق لهو، والإقبال على الباطل لعب. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن هذه الحياة التي يعيش بها المرء في الدنيا، بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة، وجوار الحق تعالى لهو ولعب، وإنما شبها باللهو واللعب لمعنيين: أحدهما: أن أمر اللهو واللعب سريع الانقضاء، لا يداوم عليه؛ فالمعنى: أن الدنيا وزينتها، وشهواتها لظل زائل، لا يكون لها بقاء، فلا تصلح لاطمئنان القلب بها، والركون إليها. والثاني: أن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفهاء، دون العقلاء وذوي الأحلام، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أنا من ددٍ ولا الدد مني". والدد: اللهو واللعب، فالعاقل يصون نفسه منه. انتهى. قال في "كشف الأسرار": فإن قيل: لما سماها لهوًا ولعبًا، وقد خلقها لحكمةٍ ومصلحةٍ؟ قلنا: إنه سبحانه بني الخطاب على الأعم الأغلب، وذلك أن غرض أكثر الناس من الدنيا اللهو واللعب. انتهى. ¬

_ (¬1) صاوي. (¬2) المراح.

وورد في الخبر النبويّ، حين سُئل عن الدنيا، فقال: "دنياك ما يشغلك عن ربك". قيل: الشر (¬1) كله في بيت واحد، ومفتاحه حب الدنيا. وما أحسن من شبهها بخيال الظل حيث قال: رَأَيْتُ خَيَالَ الظِّلِّ أَعْظَمَ عِبْرَةٍ ... لِمَنْ كَانَ فِيْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ رَاقِيْ شُخُوْصٌ وَأَصْوَاتٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا ... لِبَعْضٍ وَأَشْكَالٌ بِغَيْرِ وِفَاقٍ تَمُرُّ وَتَقْضِي أَوْبَةً بَعْدَ أَوْبَةٍ ... وَتَفْنَى جَمِيْعًا وَالْمُحَرِّكُ بَاقِيْ والمعنى: أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون، إلا شيء يتعلل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا: تَرُوْحُ لَنَا الدُّنْيَا بِغَيْرِ الَّذِيْ غَدَتْ ... وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الأمُوْرِ أُمُوْرُ وَتَجْرِيْ الليَالي بِاجْتِمَاعٍ وَفِرْقَةٍ ... وَتَطْلُعُ فِيْهَا أَنْجُمٌ وَتَغُوْرُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الدَّهْرَ بَاقٍ سُرُوْرُهُ ... فَذَاكَ مُحَالٌ لَا يَدُوْمُ سُرُوْرُ عَفَا الله عَمَّنْ صَيَّرَ الْهَمَّ وَاحِدًا ... وَأَيْقَنَ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُوْرُ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: وإن الحياة الثانية {لَهِيَ الْحَيَوَانُ}؛ أي: لهي الحياة الدائمة، التي لا موت فيها، ولا زوال ولا انقطاع {لَوْ كَانُوا}؛ أي: لو كان هؤلاء المشركون {يَعْلَمُونَ} أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة .. لما آثروا عليها الحياة الدنيا، السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال. وقيل المعنى (¬2): وإن الدار الآخرة لهي الحياة الدائمة الخالدة، التي لا موت ولا فناء فيها، ذهب المفسرون إلى أن معنى الحيوان هنا: الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، فيكون كالنزوان، والغليان، واللهيان، والجولان، والطوفان، وقد قيل في شأن الدنيا: أَحْلاَمُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيْبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[65]

65 - ثم أخبر سبحانه، بأن تلك حال المشركين في الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد .. دعوا الله وحده ليخلصهم منها، كما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}؛ أي: فإذا ركب هؤلاء المشركون في السفينة، لتجاراتهم وتصرفاتهم، وهاجت الرياح، واضطربت الأمواج، وخافوا الغرق .. {دَعَوُا اللَّهَ} سبحانه وتعالى إنجاءَهم من الغرق، حالة كونهم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ أي: الدعاء والتضرع والاستغاثة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه وتعالى. أو المعنى: دعوا الله كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون مع الله آخر، وفي المخلصين ضرب من التهكم. ثم بين (¬1) سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكًا فقال {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} وخلصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك والغرق، ووصلوا {إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} جواب {لما} أي: فاجأ التنجية إشراكهم بالله، ورجعوا القهقرى، وعاودوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد، ونحو الآية قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)}. روى محمد بن إسحاق في "السيرة" عن عكرمة بن أبي جهل، قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة .. ذهبت فارًا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة .. اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجي ها هنا إلا هو. فقال عكرمة: لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضًا غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن خرجت .. لأذهبن، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفًا رحيمًا، فكان كذلك. وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر .. حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح .. ألقوها فيه، وقالوا: يا رب يا رب. قال ¬

_ (¬1) المراغي.

[66]

الرازي في "اللوامع": وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء .. فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء. اهـ. 66 - واللام (¬1) في قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} وفي قوله: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} لام كي، معللة بمحذوف معلوم من السياق، تقديره: فاجؤُوا المعاودة إلى الشرك {لِيَكْفُرُوا}؛ أي: ليكونوا كافرين بما آتيناهم، وأعطيناهم من نعمة النجاة، التي حقها أن يشكروها {وَلِيَتَمَتَّعُوا}؛ أي: ولينتفعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام، وتوادّهم عليها، ويجوز أن تكون في كليهما لام أمر، ومعناه التهديد، كما في {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}؛ أي: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة، وتمتعوا، ويدل على هذا الوجه الأخير، قراءة أبيّ {وتمتعوا} واحتمالها للأمرين، إنما هو على قراءة أبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وورش: بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور: بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وقولنا: لام كي فيه شيء، لأنه ليس الحامل لهم على الإشراك قصد الكفر، والظاهر: أنها لام العاقبة والمآل، كما أشار له "الشهاب". فائدة (¬2): قال الشيخ الشهير، بزورق الفارسي في "شرح حزب البحر": ومن أوراد البحر: الحي القيوم، ويقول عند ركوب السفينة: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}. فإنه أمان من الغرق. انتهى. اقتداة بنوح - عليه السلام - وكذا يقال في كل مركوب غير حيوان، كالسيارة، والباخرة، والطائرة إلى غير ذلك. وفي قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد عظيم لهم؛ أي: فسيعلمون عاقبة ذلك، وما فيه من الوبال عليهم، حين يرون العذاب يوم القيامة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[67]

وقرأ ابن مسعود (¬1): {فتمتعوا فسوف تعلمون} بالتاء فيهما؛ أي: قيل لهم: {تمتعوا فسوف تعلمون}، وكذا في مصحف أبيّ، وقرأ أبو العالية {فيتمتعوا} بالياء مبنيًا للمفعول، ومن قرأ: {وليتمتعوا} بسكون اللام، وكان عنده {اللام} في {لِيَكْفُرُوا} لام كي، فـ {الواو}: عاطفة كلامًا على كلام، لا عاطفة فعل على فعلٍ، وحكى ابن عطية عن ابن مسعود: {لسوف تعلمون} باللام. 67 - ثم ذكرهم (¬2) الله تعالى نعمه، حيث أسكنهم بلدةً أمنوا فيها، لا يغزوهم أحد مع كونهم قليلي العدد، قارين في مكان غير ذي زرع، وهذه من أعظم النعم التي كفروا بها، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} و {الهمزة} فيه: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يشاهد هؤلاء المشركون من قريش، ولم يروا {أَنَّا جَعَلْنَا} بلدهم {حَرَمًا}؛ أي: محترمًا {آمِنًا}؛ أي: مصونًا من النهب والتعدي، سالمًا أهله، آمنًا من كل سوء {وَ} الحال أنه {يُتَخَطَّفُ النَّاسُ} والعرب؛ أي (¬3): يختلسون ويؤخذون {مِنْ حَوْلِهِمْ} وجوانبهم، قتلًا وسبيًا، إذ كانت العرب حوله في تغاورٍ وتناهبٍ. والمعنى (¬4): أي أولم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة، دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدًا حرمنا على الناس أن يدخلوه لغارة، أو حرب، وآمنًا من سكنه من القتل والسبي والنهب، فصاروا في سلامة وعافيةٍ، مما صار فيه غيرهم من العرب؛ لأن الناس حولهم يقتلون ويسبون في كل حين، وتطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا، وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) النهر. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

والخلاصة: أنه تعالى يمتن على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس، سواءً العاكف فيه، والباد، ومن دخله كان آمنًا، فهم في أمنٍ عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسم، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه. ونحو الآية قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. ثم بين سبحانه: أن العقل كان يقضي بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: بعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه بالباطل، وهو الصنم أو الشيطان، يؤمنون دون الحق، وتقديم الصلة (¬1): لإظهار شناعة ما فعلوه. وكذا في قوله: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} المستوجبة للشكر {يَكْفُرُونَ} حيث يشركون به غيره. وعبارة "البيضاوي" هنا: وتقديم الصلتين للاهتمام، أو الاختصاص على طريق المبالغة، و {الهمزة} في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} للاستفهام التوبيخي التقريعي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكذبون رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيؤمنون بالباطل، ويكفرون بنعمة الله. وقرأ الجمهور: {يُؤْمِنُونَ} و {يَكْفُرُونَ} بالياء فيهما، وقرأ السلمي، والحسن: بتاء الخطاب فيهما، ذكره في "البحر". والمعنى: أي (¬2) أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة، أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[68]

والخلاصة: أنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم، إخلاص العبادة له، وأن لا يشركوا به، وأن يصدقوا برسوله ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه، فقاتلوه، وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم، وأذل رقابهم. والخلاصة (¬1): أنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى، وفي أمنٍ ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض؛ لأن دعاءكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص، لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله، كيف تكفرون بها، وقد قطعتم في حال الخوف أنه لا أمن من الأصنام، حيث ألقيتموها في البحر، كيف آمنتم بها في حال الأمن. 68 - ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع .. بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور في غير مواضعها، بكذبهم على الله، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} والاستفهام فيه للإنكار بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا {مِمَّنِ افْتَرَى} واختلق {عَلَى اللَّهِ} سبحانه كذبًا، بأن زعم أن له تعالى شريكًا، وأنه إذا فعل فاحشة .. قال: إن الله أمرني بها، والله لا يأمر بالفحشاء، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ}؛ أي: بالرسول، أو بالقرآن {لَمَّا جَاءَهُ}؛ أي: حين جاءه الحق من غير توقف؛ أي: كذبه حين مجيئه عنادًا دون أن يتأمل فيه أو يتوقف، بل سارع إلى التكذيب أول ما سمعه. وفي قوله (¬2): {لَمَّا جَاءَهُ} من تسْفيه آرائهم وتقبيح طرائقهم، ما لا يخفى، حين كذبوا الحق من غير توقف وتأمل. فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك، فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالمًا يستحق العقاب منه، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك، ومن كذَّب صادقًا يجوز عليه الكذب كان ظالمًا، فكيف من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[69]

كذَّب صادقًا لا يجوز عليه الكذب، فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك، ويكذب الله في تصديقه نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويكذب النبي في رسالة ربه، ويكذب القرآن المنزل من الله تعالى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفام التقريري، وهو أبلغ في إثبات المطلوب، وهددهم وتوعدهم، فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} ومنزل ومأوى {لِلْكَافِرِينَ}؛ أي: مكان يستقرون فيه؛ أي: ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثواء والإقامة في جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب أو الرسول لما جاءهم بلا توقف ولا تأمل. والخلاصة: أن مثوى هؤلاء، وأشباههم جهنم وبئس المصير، فهو (¬1) تقرير لثواثهم وإقامتهم فيها، فإن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على النفي صار إيجابًا؛ أي: ألا يستوجبون الإقامة والخلود في جهنم، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء والتكذيب بالحق الصريح مثل هذا التكذيب الشنيع، أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على الافتراء والتكذيب؛ أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوًى للكافرين، حتى اجترؤوا هذه الجرأة، وقوله (¬2): {لِلْكَافِرِينَ} من وضع الظاهر موضع المضمر؛ أي: مثواهم. 69 - وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين، ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا بهُدى الله، وجاهدوا في سبيله، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}؛ أي (¬3): والذين جدوا واجتهدوا في طاعتنا، وبذلوا وسعهم، وطاقتهم في شاننا وحقنا، وأخلصوا عملهم لوجهنا، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وأطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعداء الظاهرة والباطنة، أما الأول فكجهاد الكفار المحاربين، وأما الثاني فكجهاد النفس والشيطان. وفي الحديث: "جاهدوا أهواءَكم كما تجاهدون أعداءَكم". ويكون الجهاد باليد واللسان. كما قال - عليه السلام -: "جاهدوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الكفار بأيديكم وألسنتكم"؛ أي: بما يسوءهم من الكلام، كالهجوِ ونحوهِ، قال ابن عطاء: المجاهدة: صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه، وقال عبد الله بن المبارك: المجاهدة: علم أدب الخدمة، فإن أدب الخدمة أعز من الخدمة، وفي "الكواشي": المجاهدة: غض البصر، وحفظ اللسان، وخطرات القلب، ويجمعها الخروج عن العادات البشرية. انتهى. {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} أي: وعزتي وجلالي لنرشدنهم {سُبُلَنَا}؛ أي: أي سبل السير إلينا، والوصول إلى جنابنا، ولنوفقنهم طرق مرضاتنا، وإنما جمع السبل؛ لأن الطريق إلى الله تتعدد بعدد أنفاس الخلائق، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يريد المهاجرين والأنصار؛ أي: والذين جاهدوا المشركين، وقاتلوهم في نصرة ديننا، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة والرضوان. وقوله: {وَالَّذِينَ} (¬1): مبتدأ، خبره: القسم المحذوف، وجوابه هو {لَنَهْدِيَنَّهُمْ}، وبهذا ونظيره رد على أبي العباس ثعلب، في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرًا للمبتدأ، ونظيره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}، {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: لمع المخلصين في القول والعمل، بالتوفيق والنصرة والإعانة والعصمة في الدنيا، والثواب والمغفرة في العقبى. وفي "التأويلات النجمية": لمع المحسنين، الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ومن كان الله معه .. لم يخذل ولم يذل. ودخلت (¬2) {لام} التوكيد على {مع}، وفي {مع} قولان: قيل: اسم، وقيل: حرف، فدخول {اللام} عليها ظاهر على القول الأول، و {لام} التوكيد إنما تدخل على الأسماء، وكذا على الثاني من حيث أن فيها معنى الاستقرار، كما في نحو إن زيدًا لفي الدار، و {مع} إذا سكنت عينها تكون حرفًا، لا غير، وإذا فتحت جاز أن تكون اسمًا، وأن تكون حرفًا، والأكثر أن تكون حرفًا جاء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) القرطبي.

لمعنى. اهـ. "قرطبي". وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر، إظهارًا لشرفهم بوصف الإحسان اهـ. "سمين". فإن قلت (¬1): المجاهدة في دين الله إنما تكون بعد الهداية، فكيف جعل الهداية من ثمرتها؟ قلت: معناه: جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها، أو جاهدوا في نيل درجةٍ، لنهدينهم إلى أعلى منها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}. والمعنى: أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علو كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هدايةً إلى سبل الخير، وتوفيقًا لسلوكها، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}. وجاء في الحديث: "من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا على علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعضا علمنا .. لأورثنا علمًا لا تقوم به أبداننا، وقال سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق، فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ} ذا الرحمة {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك، مصدقًا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة، على من جاهد من أعدائه وبالمغفرة والثواب في العقبى. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال عيسى بن مريم - عليه السلام -: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

الإعراب {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. {وَلَا} {الواو}: استئنافية. {لا}: ناهية جازمة. {تُجَادِلُوا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {أَهْلَ الْكِتَابِ}: مفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية إرشاد أهل الكتاب ومجادلتهم. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِالَّتِي}: متعلق بـ {تُجَادِلُوا}. {هِيَ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، وموصوف الموصول محذوف، تقديره: إلا بالمجادلة التي هي أحسن وأسهل. {إِلَّا}: أداة استثناء متصل. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. {ظَلَمُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور حال من واو {ظَلَمُوا}. {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. {وَقُولُوا}: فعل وفاعل معطوف على قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا}. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول: {وَقُولُوا}. {بِالَّذِي}: متعلق بـ {آمَنَّا}. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر يعود على الموصول. {إِلَيْنَا} متعلق بـ {أُنْزِلَ}، والجملة: صلة الموصول. {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} معطوف على {أُنْزِلَ إِلَيْنَا}. وفي الكلام حذف الموصول الاسمي؛ أي: والذي أنزل إليكم. {وَإِلَهُنَا}: مبتدأ. {وَإِلَهُكُمْ}: معطوف عليه. {وَاحِدٌ}: خبر له، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {آمَنَّا} {وَنَحْنُ}: مبتدأ. {لَهُ}: متعلق بـ {مُسْلِمُونَ}. {مُسْلِمُونَ} خبر له، والجملة: معطوفة على جملة {آمَنَّا}. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)}. {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف

صفةٍ لمصدر محذوف، تقديره: وأنزلنا إليك الكتاب، إنزالًا كائنًا كالإنزال الذي أنزلناه على من قبلك. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكَ}: متعلق به. {الْكِتَابَ}: مفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة. {فَالَّذِينَ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت من ذكرته لك، من إنزال الكتاب إليك، وأردت بيان من يؤمن به، ومن لا يؤمن به فأقول لك: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}. {الَّذِينَ}: مبتدأ {آتَيْنَاهُمُ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: صلة الموصول. {يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمِنْ هَؤُلَاءِ}: {الواو}: عاطفة. {وَمِنْ هَؤُلَاءِ}: خبر مقدم. {مِنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، وجملة {يُؤْمِنُ}: صلة {مَنْ} الموصولة. {بِهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُ}. {وَمَا يَجْحَدُ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {يَجْحَدُ}: فعل مضارع. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَجْحَدُ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْكَافِرُونَ}: فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية التي قبلها، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}. {وَمَا كُنْتَ}: {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {كُنتَ}: فعل ناقص واسمه. {تَتْلُو}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. {مِنْ قَبْلِهِ}: متعلق بـ {تَتْلُو} أو حال من {كِتَابٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِنْ} زائدة. {كِتَابٍ}: مفعول {تَتْلُو}. وجملة {تَتْلُو} في محل النصب خبر {كان}. وجملة {كان}: مستأنفة. {وَلَا تَخُطُّهُ} {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {تَخُطُّهُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. {بِيَمِينِكَ}: متعلق به، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كُنْتَ}. {إِذًا}: حرف جواب

وجزاء مهمل، قال على شرط محذوف، تقديره: لو كان شيء من التلاوة والخط. {لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} و {اللام}: واقعة في جواب لو المحذوفة. {ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: جواب لو المحذوفة، وجملة لو المحذوفة: مستأنفة. {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}. {بَلْ}: حرف إضراب. {هُوَ آيَاتٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {بَيِّنَاتٌ}: صفة {آيَاتٌ}. {فِي صُدُورِ الَّذِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة ثانية لـ {آيَاتٌ}؛ أي: راسخة في صدورهم. {أُوتُوا الْعِلْمَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ومفعول ثان؛ لأن أتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة: صلة الموصول. {وَمَا يَجْحَدُ}: {الواو}: استئنافية {ما}: نافية. {يَجْحَدُ}: فعل مضارع. {بِآيَاتِنَا}: متعلق به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الظَّالِمُونَ}: فاعل، والجملة مستأنفة. {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}. {وَقَالُوا} {الواو}: استئنافية. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير نوع آخر من أنواع لجاجهم. {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى: هلا. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: متعلق به. {آيَاتٌ}: نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ}: صفة لـ {آيَاتٌ} أو متعلق بـ {أُنْزِلَ}، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْآيَاتُ}: مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة: في محل النص مقول {قُلْ}. {وَإِنَّمَا}: {الواو}: عاطفة. {إِنَّمَا}: أداة خصر. {أَنَا}: مبتدأ. {نَذِيرٌ}: خبر. {مُبِينٌ}: صفة {نَذِيرٌ}. والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّمَا الْآيَاتُ}.

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}. {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقصر هذا القرآن عن حد الإعجاز ولم يكفهم، والجملة المحذوف: مستأنفة. {لَمْ}: حرف جزم. {يَكْفِهِمْ} فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه: حرف حرف العلة. {أَنَّا} ناصب واسمه. {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْكَ}: متعلق به. {الْكِتَابَ}: مفعول به، وجملة {أَنْزَلْنَا}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {يَكْفِهِمْ}، والتقدير: أقصر هذا القرآن عن حد الإعجاز، ولم يكفهم إنزالنا عليك الكتاب من جهة كونه معجزةً، وجملة {يُتْلَى}: في محل نصب حال من {الْكِتَابَ}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يُتْلَى}. {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَرَحْمَةً} {اللام}: حرف ابتداء، {رَحْمَةً}: اسم {إِنَّ}. {وَذِكْرَى}: معطوف على {رحمة}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لِقَوْمٍ}: صفة لـ {ذِكْرَى} و {رَحْمَةً} وجملة {يُؤْمِنُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}. {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {كَفَى}: فعل ماض. {الباء}: حرف جر زائد. ولفظ جلالة {بِاللَّهِ} فاعل {كَفَى}، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {بَيْنِي}: ظرف متعلق بـ {شَهِيدًا}. {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف على {بَيْنِي}. {شَهِيدًا} تمييز لفاعل {كَفَى}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: في محل النصب حال من لفظ الجلالة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة {مَا} الموصولة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ أول. {آمَنُوا}:

فعل وفاعل صلة الموصول. {بِالْبَاطِلِ}: متعلق بـ {آمَنُوا}. {وَكَفَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {بِاللَّهِ} متعلق بـ {كَفَرُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {هُمُ}: ضمير فصل. {الْخَاسِرُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره: في محل الرفع خبر الأول، وجملة الأول: مستأنفة. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)}. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} {الواو}: استئنافية. {يَسْتَعْجِلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِالْعَذَابِ}: متعلق به، والجملة: مستأنفة مسوقة للتعجب منهم، أو للاستهزاء بهم. {وَلَوْلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود. {أَجَلٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة: وقوعه بعد {لَوْلَا} أو وصفه بما بعده. {مُسَمًّى} صفة لـ {أَجَلٌ}، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: موجود. {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْلَا}. {جَاءَهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية: جواب {لَوْلَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْلَا} معطوفة على جملة {يَسْتَعْجِلُونَكَ}. {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة. و {اللام}: موطئة للقسم. {يأتين}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على {بِالْعَذَابِ}. {الهاء}: مفعول به. {بَغْتَةً}: حال من فاعل {يَأْتِيَنّ} أي: حال كون العذاب باغتًا. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من {الهاء} في {يَأْتِيَنَّهُمْ}، وجملة {يَأْتِيَنَّهُمْ}: جواب القسم، وجملة القسم: معطوفة على جملة {يَسْتَعْجِلُونَ}. {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)}. {يَسْتَعْجِلُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِالْعَذَابِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: مستأنفة، مكررة لتأكيد الجملة السابقة، أو للتعجب من حماقتهم، لأن

من هدد بشيء .. التمس أسباب الوقاية منه، أما هؤلاء فيستعجلون. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ}: {الواو}: حالية. {إِنَّ جَهَنَّمَ}: ناصب واسمه. {لَمُحِيطَةٌ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء. {بِالْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {مُحِيطَةٌ}، وجملة {إن}: في محل النصب حال من {الْعَذَابُ} والرابط: إعادة صاحب الحال بمعناه؛ لأن {جَهَنَّمَ} بمعنى {الْعَذَابِ}، وعبر بالحال وأراد الاستقبال؛ أي: ستحيط بهم للدلالة على التحقق والمبالغة. {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}. يَوْمَ: منصوب على الظرفية متعلق بـ {مُحِيطَةٌ}. {يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {مِنْ فَوْقِهِمْ}: جار ومجرور حال من {الْعَذَابُ}، أو متعلق بـ {يَغْشَاهُمُ}. {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على {مِنْ فَوْقِهِمْ}. {وَيَقُولُ}: {الواو}: عاطفة. {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، أو على الملك الموكل بالعذاب، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {يَغْشَاهُمُ}. {ذُوقُوا}: فعل أمر وفاعل. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)}. {يَا عِبَادِيَ}: منادى مضاف، وجملة النداء: مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {عبادي}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {إِنَّ أَرْضِي}: ناصب واسمه، {وَاسِعَةٌ} خبره، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة واقعة في جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {فَإِيَّايَ}: {الفاء}: واقعة في جواب شرط محذوف، حذف وعوض عنه تقديم المفعول على عامله، تقديره: إن لم تيسر لكم عبادتي في أرض .. فهاجروا منها إلى أخرى، واعبدوا إياي فيها. {إِيَّايَ}: ضمير

نصب في محل النصب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: فاعبدوا إياي. {فَاعْبُدُونِ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجزم جواب للشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف: مستأنفة على كونها جواب النداء. {فَاعْبُدُونِ}: {الفاء} زائدة لتحسين الخط. {اعبدون}: فعل أمر وفاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة: مفعول به، والجملة الفعلية: جملة مفسرة للمحذوفة، لا محل لها من الإعراب. {كُلُّ نَفْسٍ}: مبتدأ ومضاف إليه. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب. {إِلَيْنَا}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، و {تُرْجَعُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم: {نُبَوِّئَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، و {الهاء}: مفعول به أول. {مِنَ الْجَنَّةِ}: حال من غرفًا. {غُرَفًا}: مفعول ثان؛ لأن بوأ يتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق بـ {تَجْرِي}. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة: في محل النصب صفة لـ {غُرَفًا}. {خَالِدِينَ}: حال من هاء {نُبَوِّئَنَّهُمْ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {نِعْمَ}: فعل ماض في أفعال المدح، {أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: فاعل ومضاف إليه، وجملة {نِعْمَ}: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالمدح، المحذوف وجوبًا، تقديره: نعم أجر العاملين أجرهم، {الَّذِينَ}: صفة للعاملين، {صَبَرُوا}: فعل وفاعل صلة الصوصول، {وَعَلَى رَبِّهِمْ}: {الواو}:

عاطفة. {عَلَى رَبِّهِمْ}: متعلق بما بعده، {يَتَوَكَّلُونَ}: فعل وفاعل معطوف على جملة {صَبَرُوا} على كونها صلة الموصول. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}. {وَكَأَيِّنْ} {الواو}: استئنافية. {كَأَيِّنْ}: اسم مركب بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ أول، مبني على السكون لشبهة بالحرف شبهًا معنويًا، لتضمنه معنى رب التكثيرية، {مِنْ دَابَّةٍ}: تمييز {كَأَيِّنْ}: مجرور بـ {مِنْ}. {لَا}: نافية، {تَحْمِلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر. {رِزْقَهَا}: مفعول به، والجملة: في محل الجر صفة لـ {دَابَّةٍ}. {اللَّهُ}: مبتدأ ثان، وجملة {يَرْزُقُهَا}: خبر له، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: مستأنفة، {وَإِيَّاكُمْ}: معطوف على الضمير في {يَرْزُقُهَا}، {وَهُوَ}: مبتدأ، {السَّمِيعُ}: خبر أول، {الْعَلِيمُ}: خبر ثان، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)}. {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {سَأَلْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن}: الشرطية، محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: يقولون خلقهن الله، وجملة {إن} الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ معلقة لسأل عن العمل في المفعول الثاني. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: خبر لـ {مَنْ} الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لسأل، معلقة عنها باسم الاستفهام، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {خَلَقَ}، {وَالْقَمَرَ}: معطوف على {الشَّمْسَ}. {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}: {اللام}: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، {يَقُولُنَّ}:

فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، والنون المشددة: نون التوكيد الثقيلة، {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الله، أو مبتدأ، والخبر: محذوف، تقديره: الله خلقهن، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {لَيَقُولُنَّ}، وجملة {يَقُولُنَّ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، مستأنفة. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت جوابهم هذا، وأردت التعجب منهم .. فأقول لك: قل: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، {أَنَّى}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي بمعنى كيف في محل النصب حال من واو {يُؤْفَكُونَ}. {يُؤْفَكُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بثبوت النون، و {الواو}، نائب فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وفي، الفتوحات " قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: الاستفهام للإنكار والتوبيخ، و {الفاء}: في قوله: {فَأَنَّى}: في جواب شرط مقدر؛ أي: إن صرفهم الهوى والشيطان، فأنى يؤفكون اهـ. "شهاب". {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: خبره، والجملة: مستأنفة، {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْسُطُ} وجملة {يَشَاءُ} صلة {مِنْ} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: لمن يشاء البسط له، {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من العائد المحذوف، أو من {مِنْ} الموصولة، {وَيَقْدِرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {يَبْسُطُ}. {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَقْدِرُ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {بِكُلِّ شَيْءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عَلِيمٌ} {عَلِيمٌ} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}. {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة، {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {سَأَلْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية

على كونها فعل شرط لها، {مَّن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، وهو معلق لـ {سَأَلْ} عن المفعول الثاني، {نَزَّلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مِن} الاستفهامية. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق به، {مَاءً}: مفعول به، وجملة {نَزَّلَ} خبر {مَن} الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ {سأل}، وجواب {إن} الشرطية: محذوف، دل عليه جواب القسم، تقديره: يقولون الله، وجملة {إن} الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين القسم واجوابه {فَأَحْيَا} {الفاء}: عاطفة. {أحيا}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَّن}. {بِهِ}: متعلق بـ {أَحْيَا}، {الْأَرْضَ}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {نَزَّلَ}، {بَعْدِ مَوْتِهَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَحْيَا}، أو حال من الأرض. {لَيَقُولُنَّ} {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، {يقولن}: فعل مضارع بثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو} المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الله، وجملة {يَقُولُنَّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة القسم في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} لأنها مماثلة لها، أو مستأنفة. {قُلِ}: فعل أمر وفاعل ممستتر، والجملة: مستأنفة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لـ {قُلِ}، {بَلْ}: حرف إضراب، {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {هَذِهِ}: مبتدأ. {الْحَيَاةُ}: بدل منه. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةُ}، {إِلَّا}: أداة حصر. {لَهْوٌ}: خبر المبتدأ، {وَلَعِبٌ}: معطوف عليه، والجملة الاسمية: مستأنفة، {وَإِنَّ}: {الواو}: عاطفة. {إِنَّ الدَّارَ}: ناصب واسمه، {الْآخِرَةَ} نعت {الدَّارَ}. {لَهِيَ}: {اللام}: حرف ابتداء. {هِي}: مبتدأ ثان، أو ضمير فصل،

{الْحَيَوَانُ}: خبر {هو}، أو خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، وجملة {كَانُ}: شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجواب {لَوْ} الشرطية: محذوف دل عليه ما قبله، وتقديره: ما آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وجملة {لَوْ} الشرطية: مستأنفة. {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {رَكِبُوا}: فعل وفاعل، {فِي الْفُلْكِ}: متعلق به، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. {دَعَوُا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة، {مُخْلِصِينَ}: حال من فاعل {دَعَوُا}. {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}، {الدِّينَ}: مفعول {مُخْلِصِينَ}. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ}: الفاء: عاطفة، {لَمَّا}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية ومتعلق بجوابه. {نَجَّاهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، {إِلَى الْبَرِّ}: متعلق به، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ {لَمَّا} في محل جر بالإضافة لـ {لَمَّا}. {إِذَا}: فجائية رابطة لجواب {لَمَّا} وجوبًا، حرف لا محل لها من الإعراب، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُشْرِكُونَ}: خبره، والجملة الاسمية جواب {لَمَّا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا}: معطوفة على جملة {إِذَا رَكِبُوا}. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}. {لِيَكْفُرُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل، أو لام العاقبة، {يَكْفُرُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {إن} المضمرة بعد اللام {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يَكْفُرُوا} {آتَيْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول والثاني محذوف تقديره بما آتيناهموه، وهو العائد على الموصول، والجملة صلة الموصول {وَلِيَتَمَتَّعُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد {اللام}، معطوف على {لِيَكْفُرُوا}، وجملة

{يَكْفُرُوا}: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، تقديره: إذا هم يشركون لقصد كفرهم بما آتيناهم، ولقصد تمتعهم وتوادهم بالاجتماع على عبادة الأصنام، الجار والمجرور: متعلق بـ {يُشْرِكُونَ}، ويحتمل كون اللامين لام الأمر، كما مر، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تعنتاتهم واضطراباتهم هذه، وأردت بيان عاقبة أمرهم، فأقول لك: سوف يعلمون ذلك، سوف: حرف تنفيس، وجملة {يَعْلَمُونَ}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: ألم يشاهد هؤلاء المشركون، ولم يروا {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لَمْ يَرَوْا}: جازم وفعل وفاعل مجزوم معطوف على تلك المحذوفة. {أَنَّا}: ناصب واسمه. {جَعَلْنَا}: فعل وفاعل والمفعول الأول محذوف، تقديره: جعلنا بلدهم. {حَرَمًا}: مفعول ثان. {آمِنًا} صفة {حَرَمًا}، وجملة {جَعَلْنَا}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى، تقديره: أولم يروا جَعْلنا بلدهم حرمًا آمنًا. {وَيُتَخَطَّفُ}: {الواو}: حالية. {يُتَخَطَّفُ النَّاسُ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل. {مِنْ حَوْلِهِمْ}: حال من {النَّاسُ}، والجملة الفعلية، في محل النصب حال من ضمير المفعول الأول المحذوف، تقديره: أولم يروا أنا جعلنا بلدهم حرمًا آمنًا، والحال أن الناس يتخطفون من حول بلدهم؛ أي: جعلناهم آمنين قارين في بلدهم، والناس متخطفون من حولهم. {أَفَبِالْبَاطِلِ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، {بِالْبَاطِلِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}: معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة: مستأنفة،

والتقدير: أيكذبون رسولنا فيؤمنون بالباطل: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ}: {الواو}: عاطفة {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}، وجملة {يَكْفُرُونَ}: معطوفة على جملة {يُؤْمِنُونَ}. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم استفهام إنكاري، في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. {افْتَرَى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {افْتَرَى}. {كَذِبًا}: مفعول به، {أَوْ كَذَّبَ}: {أَوْ} حرف عطف وتنويع. {كَذَّبَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {افْتَرَى}. {بِالْحَقِّ} متعلق بـ {كَذَّبَ}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين متعلق بـ {كَذَّبَ}. {جَاءَهُ}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الحق، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {أَلَيْسَ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {فِي جَهَنَّمَ}: خبر مقدم {لَيْسَ}، {مَثْوًى}: اسمها مؤخر، {لِلْكَافِرِينَ}: صفة لـ {مَثْوًى}، والجملة الاستفهامية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {جَاهَدُوا}: صلة الموصول، ومفعول {جَاهَدُوا} محذوف لقصد التعميم، تقديره: والذين جاهدوا الكفار والنفس والهوى والشيطان، {فِينَا}: متعلق بـ {جَاهَدُوا}؛ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {نَهْدِيَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، وضمير الغائبين: في محل النصب مفعول أول، {سُبُلَنَا}: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة، {وَإِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَمَعَ}:

{اللام}: حرف ابتداء، {مَعَ الْمُحْسِنِين}: ظرف ومضاف إليه خبر {إن}، وجملة {إن}: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} المجادلة، والجدال، مصدران لجادل من باب فاعل، كما في "التاج". قال الراغب: الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت قتله، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد آخر عن رأيه، والمعنى: ولا تخاصموا اليهود والنصارى، والجدل: الحجاج والمناظرة. {مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون مطيعون. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} والجحد: إنكار الشيء بعد معرفته، وقيل: الجحد: نفي ما في القلب ثبوته، أو إثبات ما في القلب نفيه، والمراد به هنا، الإنكار عن علم. {وَلَا تَخُطُّهُ}. والخط: كالمد ويقال لما له: طول ويعبر عن الكتابة بالخط. {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}: الارتياب: الشك، وفي "المختار": الريب: الشك. قال الراغب: الريب: أن يتوهم بالشيء أمرًا ينكشف عما يتوهمه، ولهذا قال تعالى: {لَا رَيْبَ} والإرابة: أن يتوهم فيه أمرًا فلا ينكشف عما يتوهمه، والإرتياب: يجري مجرى الإرابة، ونفى عن المؤمنين الارتياب، كما قال: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}. والمبطل: من يأتي بالباطل، وهو نقيض المحق، وهو من يأتي بالحق، لما أن الباطل نقيض الحق، قال في "المفردات": الإبطال: يقال في إفساد الشيء وإزالته، حقًا كان ذلك الشيء أو باطلاً، قال تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وقد يقال فيمن يقول شيئًا لا حقيقة له. {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} والكفاية: ما فيه سد الخلة، وبلوغ المراد في الأمر.

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} والاستعجال: طلب الشيء قبل أوانه. {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} قال الراغب: البغت: مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب، يقال: بغتة: إذا دهمه على حين غفلة. {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله: مما يقل تناوله، فإذا أكثر يقال له: الأكل، واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب؛ لأن ذلك وإن كان في التعارف للقليل، فهو مستصلح للكثير، فخصه بالذكر ليعلم الأمرين، كما في "المفردات". {إِنَّ أَرْضِي}: الأرض: الجرم المقابل للسماء. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ}: {كَأَيِّنْ}: للتكثير بمعنى كم الخبرية، ركب كاف التشبيه مع أي، فجرد عنها معنا الإفرادي، فصار المجموع كأنه اسم مبني على السكون، آخره نون ساكنة، كما في من، لا تنوين تمكين، ولهذا يكتب بعد الياء نون، مع أن التنوين صورة له في الخط. والدابة: كل حيوان يدب ويتحرك على الأرض، مما يعقل ومما لا يعقل. {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الحمل بالفتح: الجنين، وبالكسر: اسم للمحمول على الرأس وعلى الظهر. {رِزْقَهَا} والرزق لغة: كل ما ينتفع به، واصطلاحًا: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} والتسخير جعل الشيء منقادًا للآخر، وسوقه إلى الغرض المختص به قهرًا. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: الإفك بالفتح: الصرف والقلب، وبالكسر: كل مصروف عن وجه الذي يحق أن يكون عليه. {إِلَّا لَهْوٌ} واللهو: كل ما يلهي الإنسان ويشغله عما يهمه، والملاهي: آلات اللهو، لأنها تلهي عن الأذكار والصلوات.

{وَلَعِبٌ} يقال: لعب فلان: إذا لم يقصد بفعله مقصدًا صحيحًا، كفعل الصبيان، وقد قدمنا الكلام فيهما مبسوطًا، فراجعه. {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} والحيوان: مصدر حيِيَ، سمي به ذو الحياة، وأصله: حييان، فقلبت الياء الثانية واوًا، لئلا يحذف إحدى الألفين، وهو أبلغ من الحياة، لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحيوان، كالنزوان واللهيان، لذلك اختير على الحياة في هذا المقام، المقتضى للمبالغة اهـ. من "الروح". والحياة: حركة كما أن الموت: سكون، فمجيئه على بناءٍ دالٍ على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}؛ أي: يضيق ويقتر، ولهذا الفعل خصائص عجيبة، فهو يتوزع على طائفة من المعاني سنذكرها فيما يلي: يقال: قدر الرزق: قسمه وبابه نصر وضرب، وقدر وقدر على عياله: ضيق وقتر، قال في "الأساس": وقدر عليه رزقه، وقدر: قتر، وقدر يقدر من باب علم، قدرًا وقدرةً، ومقدَرةً، ومقدُرةً ومِقدارًا وقدرًا على الشيء: قوي عليه، وقدر يقدر من باب: ضرب قدرًا لأمر: إذا دبره، وقدر الشيء بالشيء: قاسه به، وجعله على مقداره، وقدر يقدر ويقدر: من بابي: نصر وجلس، الله عظمه، وقدر الرجل: فكر في تسوية أمره، وتدبيره، وقدر يقدر - من باب تعب - قدرًا: بفتحتين قصرت عنقه، وقدر على الشيء اقتدر. {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} والركوب: هو الاستعلاء على الشيء المتحرك، وهو متعد بنفسه، كما في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}، واستعماله هاهنا وفي أمثاله بكلمة {فِي}: للإيذان بأن المركوب في نفسه، من قبيل الأمكنة، وحركته قسرية غير إرادية. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} البر: خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، كما في "المفردات".

{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ} الخطف: أخذ الشيء بسرعة. {مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}: وفي "المختار": ثوى بالمكان يثوى، بالكسر: ثواءً ثويًا أيضًا بوزن مضي؛ أي: أقام به، ويقال: ثوى البصرة، وثوى بالبصرة، وأثوى بالمكان لغةً: في ثوى وأثوى غيره، يتعدى ويلزم، وثوى غيره أيضًا تثوية اهـ. والمثوى: المنزل والمحبس. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} الهداية: الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب. {سُبُلَنَا} والسبل: جمع سبيل، وهو من الطرق: ما هو معتاد السلوك، ويلزمه السهولة، ولهذا قال الإِمام الراغب: السبيل: الطريق الذي فيه سهولة. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعريض في قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فإن فيه تعريضًا بكفر أهل الكتاب، حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى. ومنها: التعبير عن القرآن بالآيات، في قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} للتنبيه على ظهور دلالته على معانيه، وعلى كونه من عند الله تعالى. ومنها: الإضافة فيه للتشريف. ومنها: الإطناب في قوله: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط، فيه زيادة في التصوير، واستحضار لنفي كونه كاتبًا. والإطناب يكون حقيقةً ومجازًا، وهذا من النوع الأول، ومثله قولهم: رأيته بعيني، وقبضته بيدي، ووطِئته بقدمي، وذقته بفمي، وكل هذا يظنه الظان

المبتدىء: أنه من قبيل الزيادة والفضول، وأنه لا حاجة إليه، ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين، والقبض لا يكون إلا باليد، والوطْء لا يكون إلا بالقدم، والذوق لا يكون إلا بالفم، وليس الأمر كما توهم، بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله، ويعز الوصول إليه، وهو كثير في القرآن الكريم. ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى}؛ أي: رحمةً عظيمةً. ومنها: التحضيض في قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ}. ومنها: الطباق في قوله: {آمَنُوا بِالْبَاطِلِ}، و {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ}. ومنها: القصر في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: لا غيرهم. ومنها: الإطناب بذكر العذاب مرات، للتشنيع على المشركين في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}، {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى}، {يَسْتَعْجِلُونَ}، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ}، {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ}. ومنها: التعبير بما يدل على الحال عما في المستقبل في قوله: {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} والمعنى: ستحيط بهم عن قريب؛ لأن ما هو آت قريب عبر عنه بالاسم الدال على الحال، دلالةً على تحقق الإحاطة بهم، ومبالغةً فيه. ومنها: التهكم في قوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأنه كناية عن مباشرة العذاب ودخوله. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}. ومنها: الاستعارة في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} حيث شبه تجرعها مرارة الموت، بذوق الذائق الطعام. ومنها: الحصر في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. ومنها: الطباق في قوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}، {وَيَقْدِرُ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {حَرَمًا آمِنًا}؛ أي: آمنًا أهله.

ومنها: الإشارة للتحقير في قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} تحقيرًا للدنيا. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي: كاللهو وكاللعب، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فأصبح بليغًا على حدّ قولهم: زيد أسد. ومنها: الإيجاز بحذف جواب الشرط، لدلالة السياق عليه، في قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛ أي: لو كانوا يعلمون حقارة الدنيا .. ما آثروها على الآخرة. ومنها: تقديم الصلة؛ لإظهار شناعة ما فعلوه، في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} الخ. ومنها: الاستفهام الإنكاري، في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ}. ومنها: الاستفهام التقريري، في قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لِلْكَافِرِينَ} لأن مقتضى السياق: أن يقال: مثوى لهم. ومنها: مراعاة الفواصل، لما لها من وقع عظيم على السمع يزيد الكلام رونقًا وجمالًا، مثل: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} الخ. ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر، في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إظهارًا لشرفهم بوصف الإحسان. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. فائدة: قال بعض العلماء: النبوة والرسالة: كالسلطنة، اختصاص إلهي لا مدخل لكسب العبد فيها، وأما الولاية: كالوزارة، فلكسب العبد مدخل فيها، كما تمكن الوزارة بالكسب، كذلك تمكن الولاية بالكسب، ولقد أحسن من قال في شأن الدنيا:

تَأْمَّلْ فِي الْوُجُوْدِ بِعَيْنِ فِكْرٍ ... تَرَى الدُّنْيَا الدَّنِيةَ كَاَلْخَيَالِ وَمَنْ فِيْهَا جَمِيْعًا سَوْفَ يَفْنَى ... وَيَبْقَى وَجْهُ رِبِّكَ ذُوْ الْجَلاَلِ والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

موضوعات هذه السورة الكريمة 1 - اختبار المؤمنين، ليعلم صدقهم في إيمانهم. 2 - في الجهاد فائدة للمجاهد، والله غني عن ذلك. 3 - الحسنات يكفرن السيئات. 4 - الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وبرهما، مع عدم طاعتهما في الإشراك بالله. 5 - حال المنافق الذي يظهر الإيمان، ولا يحتمل الأذى في سبيل الله تعالى. 6 - حال الكافرين الذين يضلون غيرهم، ويقولون للمؤمنين: نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين. 7 - قصص الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وصالح، وموسى، وهارون، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب. 8 - حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم، مما فيه تقريعهم وتأنيبهم. 9 - حجاج أهل الكتاب، والنهي عن جدلهم بالفظاظة والغلظة. 10 - إثبات النبوة، ببيان صدق معجزته - صلى الله عليه وسلم -. 11 - ذكر بعض شبههم في نبوته، والرد على ذلك. 12 - استعجالهم بالعذاب تهكمًا. 13 - أمر المؤمنين بالفرار بدينهم، من أرض يخافون فيها الفتنة. 14 - العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.

15 - اعترافهم بأن الخالق الرازق هو: الله. 16 - بيان أن الدار الآخرة هي: دار الحياة الحقة. 17 - امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام، ثم كفرانهم بهذه النعمة، بإشراكهم به سواه. والله أعلم * * *

سورة الروم

سورة الروم سورة الروم مكية، إلا قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} فمدنية. قال القرطبي: كلها مكية بلا خلاف، وهي ستون أو تسع وخمسون آيةً، نزلت بعد سورة الانشقاق، وثمان مئة وتسع عشرة كلمةً، وثلاثة آلافٍ وخمس مئةٍ وأربعة وثلاثون حرفًا (¬1). المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أن السورة السابقة بُدِئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا في الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا، حتى يلاقوا ربهم، وأنّهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل، والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدِئت بما يتضمن نصرة المؤمنين، ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون في الله ولوجهه، فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة. 2 - أن ما في هذه السورة، من الحجج على التوحيد، والنظر في الآفاق والأنفس، مفصل لما جاء منه مجملًا في السورة السالفة، إذ قال في السالفة: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، وهنا بين ذلك فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلخ. وقال: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. تسميتها: سميت بالروم لما فيها من ذكر لفظ الروم، وقصتهم. فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الروم .. كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته". ولكنه من "الموضوعات". ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا عن [المراغي] ووقع خلل طباعي هنا في عزو الحواشي.

وأخرج عبد الرزاق، عن معمر عن عبد الملك بن عمير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. الناسخ والمنسوخ: وقال ابن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة الروم آياتها كلها محكمة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}.

المناسبة وقد قدمنا بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، فراجعها. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ..} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .. أردف هذا: أن الإدلة متظاهرة في الأنفس والآفاق، على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدًى، ولا باطلًا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير في أقطار الأرض، ليعلموا حال المكذبين، من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسًا وقوةً، فكذبوا رسلهم، فأهلكهم الله تعالى، وصاروا كأمسِ الدابر، والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم، وفساد أنفسهم، لا بظلم الله تعالى لهم. قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر .. لم يتركه دعوًى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل، بأن أبان: أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته .. لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع، من إفلاس المجرمين، وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبًا، لا يغيبون عنها أبدًا. قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين حال الفريقين، المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعد لكل منهما من الثواب والعقاب .. أرشد إلى ما يفضي إلى الحال الأولى، وينجي من الثانية، ¬

_ (¬1) المراغي.

وهو تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ عن كل ما لا يليق به، وحمده والثناء عليه، بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال، ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم، التي هي أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت .. أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقةً. وعبارة أبي حبان هنا (¬1): لما بين سبحانه وتعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق، وهو حالة ابتداء العالم، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار، وهي حالة الانتهاء .. أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء، والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات، لما يتجدد فيها من النعم، ويحتمل أن يكون كنايةً عن استغراق زمان العبد، وهو أن يكون ذاكرًا ربه، واصفه بما يجب له على كل حال، وقال الزمخشري: لما ذكر الوعد والوعيد .. أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد، وينجي من الوعيد. انتهت. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر بتنزيهه عن الأسواء والنقائص، التي لا تليق بجلاله وكماله، وذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} .. ذكر هنا أدلةً باهرةً، وحججًا ظاهرةً على البعث والإعادة، منها خلقكم من التراب الذي لم يشم رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب .. قام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلةً بهذا النوع، وبسائر الأنواع الأخرى، بالازدواج والتوالد، إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (¬2) دلائل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وجوده، بما ذكره في خلق الإنسان .. أعقبه بذكر الدلائل في الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفي اختلاف ألوان البشر ولغاتهم، التي لا حصر لها، مع كونهم من أبٍ واحد، وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلًا، وحركتهم نهارًا في السعي على الأرزاق، والجد والكد فيها. أسباب النزول قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات، إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} على ما ذكره المفسرون (¬1): أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم؛ لأن فارسًا كانوا مجوسًا أميين، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس، لكونهم أهل كتاب، فبعث كسرى جيشًا إلى الروم، واستعمل عليهم رجلًا يقال له: شهرمان، وبعث قيصر رجابًا وجيشًا، وأمّر عليهم رجلًا يدعى بخين، فالتقيا بأذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، فإنكم إن قاتلتمونا .. لنظهرن عليكم، فأنزل الله هذه الآيات، فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة، فقال: فرحتم بظهور إخوانكم، فلا تفرحوا، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحيّ، فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: اجعل بيننا أجلًا أناحبك عليه، والمناحبة بالحاء المهملة: القمار والمراهنة؛ أي: أراهنك على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإذا ظهرت فارس على الروم .. غَرمتَ، وإذا ظهرت الروم على فارس .. غَرمتُ، ففعلوا، وجعلوا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك قبل تحريم القمار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما هكذا ¬

_ (¬1) الخازن.

ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع، فزايده في الخطر، ومادده في الأجل" فخرج أبو بكر، فلقي أبيًا، فقال: لعلك ندمت، فقال: فتعال أزايدك في الخطر، وأماددك في الأجل، فاجعلها مئة قلوص، ومئة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة .. أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة، فأقم لي ضامنًا كفيلًا، فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد. أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه، وقال: والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلًا، فأعطاه كفيلًا ثم خرج إلى أحد، قال: ثم حين رجع أبي بن خلف إلى مكة، ومات بها من جراحته التي جرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل: كان يوم بدر، وربطت الروم خيولهم بالمدائن، وبنوا بالعراق مدينةً، وسموها روميةً، فقمر أبو بكر، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك قبل أن يحرم القمار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تصدق به". وكان سبب غلبة الروم فارسًا، على ما قاله عكرمة وغيره: أن شهرمان لما غلب الروم .. لم يزل يطؤهم، ويخرب مدائنهم، حتى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب، قال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهرمان: إذا أتاك كتابي .. فأبعث إليّ برأس أخيك فرحان، فكتب إليه: أيها الملك إنك لا تجد مثل فرحان، إن له نكاية وصولة في العدو فلا تفعل، فكتب إليه إن في رجال فارس خلفًا عنه، فعجل إليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدًا إلى أهل فارس: أني قد عزلت عنكم شهرمان، واستعملت عليكم فرحان، ثم بعث مع البريد صحيفةً صغيرةً، وأمره فيها بقتل شهرمان، وقال: إذا ولي فرحان الملك، وانقاد له أخوه .. فأعطه الصحيفة، فلما وصل البريد إلى شهرمان .. عرض عليه كتاب كسرى، فلما قرأه قال: سمعًا وطاعةً، ونزل عن سرير الملك، وأجلس عليه أخاه فرحان، فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان، فلما قرأها .. استدعى بأخيه شهرمان، وقدمه ليضرب عنقه، فقال له: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا

بسفطٍ ففتحه، وأعطاه ثلاث صحائف منه، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت تريد قتلي بكتابٍ واحدٍ، فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان، فكتب إلى قيصر ملك الروم: أما بعد، إن لي إليك حاجةً لا تحملها البريد، ولا تبلغها الصحف، فألقني في خمسين روميًا، حتى ألقاك في خمسين فارسيًا، فأقبل قيصر في خمس مئة ألف رميٍّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق، مخافة أن يريد أن يمكر به، حتى أتاه عيونه فأخبروا: أنه ليس معه إلا خمسون فارسيًا، فلما التقيا .. ضربت لهما قبة فيها ديباج، قد خلاها، ومع كل واحد سكين، ودعيا بترجمان يترجم بينهما، فقال شهرمان: إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا، وأراد أن يقتل أخي فأبيت عليه، ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه، وقد خلعناه جميعًا، ونحن نقاتله معك، فقال: قد أصبتما، وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإن جاوزهما .. فشا، فقتلا الترجمان معًا بسكينهما، فأديلت الروم على فارس عند ذلك، وغلبوهم وقتلوهم، ومات كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، ففرح هو ومن كان معه من المسلمين بذلك، فذلك قوله عز وجل: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}. وهذه آية بينة على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن من عند الله؛ لأنها أنباء عن علم الغيب. وعن قتادة: وكان ذلك قبل تحريم القمار، ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد، أن العقود الفاسدة، كعقد الربا وغيره: جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ...} الآية. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم (1)}؛ أي: هذه سورة ألم، قال بعضهم: الحروف المقطعات مبادي السور، ومفاتيح كنوز العبر، والإشارة هنا بهذه الحروف الثلاثة إلى قوله: أنا الله، ولي جميع صفات الكمال، ومني الغفران والإحسان، إلى غير ذلك. 2 - {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} وقهرت، وهم أهل الكتاب على دين عيسى - عليه السلام - غلبتهم فارس، وهم المجوس عبدة النيران، والغلبة: القهر والاستعلاء على القرن، بما يبطل مقاومته في الحرب، والروم: اسم قبيلة سميت باسم جدّها (¬1) روم بن يونان بن يافث بن نوح - عليه السلام -. وقيل: هم بنو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام - سمي عيص؛ لأنه كان مع يعقوب في بطن، فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل صاحبه، فقال عيص ليعقوب: إن لم أخرج قبلك .. خرجت من جنب أمي، فتأخر يعقوب شفقة لها، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيص أبا الجبارين، والفُرْس بسكون الراء: قوم معروفون، نسبوا إلى فارس بن سام بن نوح عليه السلام؛ أي: غلبتها فارس. 3 - {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}؛ أي (¬2): في أقرب أرض الشام إلى أرض العرب وفارس، وهي أذرعات وكشكر، أو غلبت الروم في أدنى أرضهم، وأقربها إلى عدوهم. {وَهُمْ}؛ أي: الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}؛ أي: من بعد مغلوبيتهم على يد فارس، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، والفاعل: متروك، والأصل: من بعد غلبة فارس إياهم، {سَيَغْلِبُونَ} فارس (¬3)، ولا وقف عليه، 4 - لتعلق {فِي بِضْعِ سِنِينَ} به، وهو ما بين الثلاث إلى العشرة؛ أي: فالروم سيغلبون فارس، فيما بين الثلاث والتسع سنوات من الحرب الأولى، فوقع الغلب للروم على رأس سبع سنين من الحرب الأولى، وعبر بالبضع (¬4)، ولم يعين إبقاءً للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزًا لهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) والواحدي. (¬3) النسفي. (¬4) روح البيان.

والمعنى: أي (¬1) غلبت فارس الروم في أقرب أرض الروم بالنسبة إلى أرض العرب، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس في بضع سنين، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الواقعة الأولى، ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم، يعد من أكبر الدلائل على إعجازه، وأنه كلام الله، العلم بكل شيء لا كلام البشر، وهذا المعنى على القراءة المشهورة، وقرأ علي (¬2)، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، والحسن: {غلبت} مبنيًا للفاعل {سيغلبون} مبنيًا للمفعول، ويجوز على هذه القراءة، أن يكون {غلبت} مبنيًا للفاعل على أن الضمير فيه لفارس، والروم بالنصب مفعوله؛ أي: غلبت فارس الروم. {وَهُمْ}؛ أي: فارس {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} للروم {سَيَغْلِبُونَ} بالبناء للمفعول؛ أي: يكونون مغلوبين في أيدي الروم، ويجوز أن يكون {الرُّومُ} فاعل {غُلِبَتِ} على البناء للفاعل؛ أي: غلبت الروم أهل فارس، وهم؛ أي: الروم بعد غلبهم لفارس {سَيَغْلِبُونَ} بالبناء للمجهول؛ أي: يكونون مغلوبين في أيدي المسلمين، فكان ذلك في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقرأ الجمهور: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} مبنيًا للمفعول، {سَيَغْلِبُونَ} بالبناء للفاعل، وهي القراءة المشهورة التي جرينا عليها في تفسيرنا، وقرأ الجمهور: {غَلَبِهِمْ} بفتح الغين واللام، وقرأ علي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، وأبو حيوة الشامي، وابن السميفع: بإسكان اللام. {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْأَمْرُ} والقضاء والتصرف {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل غلبة الروم على فارس، وهو وقت كونهم مغلوبين {وَمِنْ بَعْدُ}؛ أي: ومن بعد غلبة الروم على فارس، وهو وقت كونهم غالبين. والمعنى (¬3): أن كلا من كونهم مغلوبين أولًا، وغالبين آخرًا، ليس إلا بأمر الله وقضائه، كما قال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فمن غلب .. فهو بأمر الله وقضائه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

وقدره، فهو يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم بما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه. وقرأ الجمهور {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} بضمهما (¬1)؛ أي: من قبل غلبة الروم، ومن بعدها، ولما كانا مضافين إلى معرفة، وحذفت .. بنيا على الضم، والكلام على ذلك، مذكور في علم النحو، وقرأ أبو السماك، والجحدري، وعون العقيلي: {من قبلٍ ومن بعدٍ} بالكسر والتنوين فيهما، قال الزمخشري: على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه، كانه قيل: قبلًا وبعدًا، بمعنى أولًا وآخرًا. انتهى. وقال ابن عطية: ومن العرب من يقول: من قبلٍ ومن بعدٍ، بالخفض والتنوين، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد {لله الأمر من قبلٍ ومن بعدُ} الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين. {وَيَوْمَئِذٍ} أي: ويوم إذٍ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم في بضع سنين {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} للروم، لكونهم أهل كتاب، كما أن المسلمين أهل كتاب، وفيه فأل حسن، لغلبة المؤمنين على الكافرين، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم أولًا، وقد فرح المؤمنون بذلك، وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر، بنزول جبريل بذلك فيه، مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه، قد اجتمعت لهم فرحتان: فرحة بنصر الروم على فارس، وفرحة بنصرهم على المشركين، وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين، من غلبة الروم على فارس، والأول أولى. وقال بعضهم: يفرح المؤمنون بقتل الكفار بعضهم بعضًا، لما فيه من كسر شوكتهم، وتقليل عددهم، لا بظهور الكفار، كما يفرح بقتل الظالمين بعضهم بعضًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[5]

5 - ثم أكد قوله: لله الأمر بقوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} أن ينصره من ضعيف وقوي من عباده، وهذا كلام مستأنف، مقرر لمضمون قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ}؛ أي: المبالغ في العزة والغلبة، فلا يعجزه من يشاء أن ينصر عليه، كائنًا من كان. {الرَّحِيمُ}؛ أي: المبالغ في الرحمة، فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان، أو لا يعز من عادى، ولا يذل من والى، وتقديم وصف العزة لتقدمه في الاعتبار. والمعنى: أي (¬1) ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه، ويغلبه عليه على مقتضى المن التي وضعها في الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم، كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. 6 - وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ}: مصدر (¬2) مؤكد لنفسه؛ أي: وعدهم الله سبحانه بالنصر وبالفرح وعدًا؛ لأن ما قبله، وهو {يَوْمَئِذٍ} إلخ: في معنى الوعد، إذ الوعد هو: الإخبار بإيقاع شيء نافع قبل وقوعه، وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ} إلخ من هذا القبيل، ومثل هذا المصدر، يجب حذف عامله كما قدرنا، يعني انظروا وعد الله، ثم استأنف تقرير معنى المصدر، فقال: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} لا هذا الذي في أمر الروم، ولا غيره مما يتعلق بالدنيا والآخرة، لاستحالة الكذب عليه سبحانه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم المشركون، وأهل الاضطراب {لَا يَعْلَمُونَ} صحة وعده لجهلهم، وعدم تفكرهم في شؤون الله تعالى، نفى عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا فيما سيأتي، والضمير في {يَعْلَمُونَ}: راجع للأكثر. والمعنى: أي وعد الله وعدًا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لجهلم بشؤونه تعالى، وعدم تفكرهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

في النواميس والسنن، التي وضعها في الكون، فإنه قد جعل من تلك السنن: أن وعده لا يخلف، إذ هو مبني على مقدمات ووسائل هو يعلمها، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها، وجعل قانون الغلب في الأمم والأفراد، مبنيًا على الاستعداد النفسي، والاستعداد الحربي، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر، من أناةٍ وصبرٍ وتضحيةٍ بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس. وهكذا حكم الفرد، فهو لا ينجح في الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام، حتى يغلبها بجده وكده، فهذه الأمور وأمثالها، تحتاج إلى دقة نظر، لا يدركها إلا ذوو البصائر. 7 - {يَعْلَمُونَ}؛ أي: يعلم أكثرهم {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: ما أدته إليه حواسهم من زخارفها وملاذها، وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم، الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها، وعكوفهم عليها، فكأن علومهم هي علوم البهائم، ولا يعلمون باطنها، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها، وتنكير {ظَاهِرًا} للتحقير والتخسيس؛ أي: يعلمون ظاهرًا حقيرًا خسيسًا من الدنيا، يعني: أمر معاشهم، كيف يكسبون ويتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون، وكيف يشققون أنهارها، ويبنون قصورها، وقال الحسن: إن أحدهم يأخذ بيده درهمًا. ويقول: وزنه كذا، ولا يخطىء، وكذا يعرف رداءته وجودته، وهو لا يحسن يصلي. وقيل: يعلمون وجودها الظاهر، ولا يعلمون فناءها، وقوله: {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها: أنها مجاز للآخرة تتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، ذكر أبو حيان. ولا فرق (¬1) بين عدم العلم، وبين العلم المقصور على الدنيا، وفي ¬

_ (¬1) روح البيان.

"التيسير": قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} نفي للعلم بأمور الدين، وقوله: {يَعْلَمُونَ}: إثبات للعلم بأمور الدنيا فلا تناقض؛ لأن الأول: نفي الانتفاع بالعلم بما ينبغي، والثاني: صرف العلم إلى ما لا ينبغي، ومن العلم القاصر: أن يهيىء الإنسان أمور شتائه في صيفه، وأمور صيفه في شتائه، وهو لا يتيقن بوصوله إلى ذلك الوقت، ويقصر في الدنيا في إصلاح أمور معاده، ولا بد له منها. {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} التي هي الغاية القصوى، والمطلب الأسنى، والنعمة الدائمة، واللذة الخالصة، {هُمْ غَافِلُونَ}؛ أي: ساهون، لا يلتفتون إليها، ولا يعدون لها ما يحتاج إليه فيها بل لا يخطرونها بالبال ولا يدركون من الدنيا ما يؤدي إلى معرفتها من أحوالها، ولا يتفكرون فيها، أو غافلون عن الإيمان بها، والتصديق بمجيئها. و {وَهُمْ} لثانية: تكرير للأولى للتأكيد، يفيد أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، أو مبتدأ و {غَافِلُونَ} خبر، والجملة: خبر للأولى، وفي الآية تشبيه لأهل الغفلة بالبهائم، المقصور إدراكاتها من الدنيا على الظواهر الحسية، دون أحوالها التي هي من مبادي العلم بأمور الآخرة، وغفلة المؤمنين: بترك الاستعداد لها، وغفلة الكافرين بالجحود بها، وقال بعضهم: من كان عن الآخرة غافلًا .. كان عن الله أغفل، ومن كان عن الله غافلًا .. فقد سقط عن درجات المتعبدين. انتهى. والمعنى (¬1): أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت، وأنها ستلبس ثوبًا آخر في حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة .. لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق، ولا تجد النفوس لاحتمالها سبيلًا، وهي ما قبلت تلك الآلام واحتملتها، إلا لأنها توقن بسعادة أخرى، وراء ما تقاسي من المتاعب في هذه الحياة، ولله در القائل: وَمِنَ الْبَلِيةِ أَنْ تَرَى لَكَ صَاحِبًا ... فِيْ صُوْرَةِ الرَّجُلِ السَّمِيْع الْمُبْصِرِ ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيْبَةٍ فِي مَالِهِ ... وَإِذَا يُصَابُ بِدِيْنِهِ لَمْ يَشْعُرِ 8 - و {الهمزة}: في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، و {فِي أَنْفُسِهِمْ}: ظرف للتفكر، وذكره مع ظهور استحالة كونه في غيرها لتصوير حال المتفكر، فهو من بسط القرآن نحو: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ}. والتقدير (¬1): أقصر كفار مكة نظرهم على ظاهر الحياة الدنيا، ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ}؛ أي: لم يخلق السماوات والأجرام العلوية {وَالْأَرْضَ}؛ أي: الأجرام السفلية {وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: وما بين السماوات والأرض من المخلوقات، ملتبسة بشيء من الأشياء {إِلَّا} حالة كونها ملتبسةً {بِالْحَقِّ} والحكمة والمصلحة، ليعتبروا بها، ويستدلوا بها على وجود الصانع ووحدته وقدرته، وإنما جعل متعلق الفكر والعلم هو الخلق دون الخالق؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يوصف بصورة في القلب، ولهذا روي: "تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في ذات الله". {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} معطوف على الحق؛ أي: وإلا بأجل معين، قدره الله تعالى لبقائها، لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو وقت قيام الساعة، وقوله (¬2): {إِلَّا بِالْحَقِّ} إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية، وقوله: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} إشارة إلى معاد الإنسان، فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات. وقيل: إن قوله: {فِي أَنْفُسِهِمْ}: مفعول للتفكر، والمعنى عليه؛ أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك في خلق الله لهم ولم يكونوا شيئًا، ثم تصريفهم أحوالًا وتارات، حتى صاروا كاملي الخلق، كاملي العقل، فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر على أن يعيدهم بعد فنائهم خلقًا جديدًا، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم فيعاقبه بدون جرم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[9]

صدر منه، ولا يحرم أحدًا منهم جزاء عمله؛ لأنه العدل الذي لا يجور، فهو ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالعدل، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى، فإذا حل الأجل .. أفنى ذلك كله، وبدل الأرض غير الأرض، وبرزوا للحساب جميعًا. ثم ذكر أن كثيرًا من الناس غفلوا عن الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} مع غفلتهم عن الآخرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ}؛ أي: بلقاء حسابه وجزائه بالبعث، و {الباء}: متعلقة بقوله: {لَكَافِرُونَ} و {اللام}: هي المؤكدة، فلا تمنع تعلق ما قبلها بما بعدها، والمراد بهؤلاء الكفار: مطلق الكفار، أو كفار مكة؛ أي: منكرون جاحدون، يحسبون أن الدنيا أبدية، وأن الآخرة لا تكون بحلول الأجل المسمى؛ لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا فيها، ودرسوا عجائبها .. لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم. 9 - ثم نبههم إلى صدق رسله فيما جاؤوا به عنه، بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} و {الهمزة} فيه: للاستفهام التوبيخي، المضمن للتقرير، داخلة على محذوف معلوم من السياق. و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد هؤلاء المكذبون من كفار مكة في أماكنهم، ولم يسيروا ويمشوا في أقطار الأرض ونواحيها {فَيَنْظُرُوا} ويشاهدوا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: كيف كان جزاء الأمم الذين كانوا من قبلهم؛ أي: من قبل أهل مكة، وكيف كان مآلهم حين كذبوا رسلهم، فأهلكوا، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وقد ساروا وقت التجارات في أقطار الأرض، وشاهدوا آثارهم، فكيف لا يتعظون. ثم بين سبحانَهُ مبدأ أحوال تلك الأمم ومآلها، فقال: {كَانُوا}؛ أي: كان الذين من قبلهم {أَشَدَّ} وأقوى {مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مكة {قُوَّةً} في الجسم، وأقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا {وَأَثَارُوا}؛ أي: أثار الذين من قبلهم {الْأَرْضَ}؛ أي: حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، وزاولوا أسباب ذلك، ولم

يكن أهل مكة أهل حرث وزرع {وَعَمَرُوهَا}؛ أي: عمر أولئك الأمم الأرض بفنون العمارات، من الزراعة، والغرس، والبناء، وغيرها مما يعد عمارة {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}؛ أي: عمارة أكثر كمًا وكيفًا وزمانًا من عمارة أهل مكة إياها؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارًا، وأقوى أجسامًا، وأكثر تحصيلًا لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية، والزراعة، والغراس، كيف لا، وأهل مكة أهل وادٍ غير ذي زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلًا، ولا عمارة لهم رأسًا، فما هو إلا تهكم بهم، وتضعيف حالهم في دنياهم. وقرأ أبو جعفر (¬1): {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} بمدة بعد الهمزة. وقال مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع. وقرأ أبو حيوه: {وآثروا الأرض} بحذف ألف بين المثلثة والراء، من الأثرة، وهو الاستبداد بالشيء، وقرىء: {وأثروا الأرض}؛ أي: أبقوا عنها آثارًا. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الباهرات، والآيات الواضحات، والحجج القاطعات، فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، {فَمَا كَانَ اللَّهُ} سبحانه بما فعل بهم من العذاب والإهلاك {لِيَظْلِمَهُمْ} من غير جرم يستدعيه من جانبهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والتكذيب. والمعنى (¬2): أي أولم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة في البلاد التي يسلكونها تجرًا، فينظروا إلى آثار الله فيما كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم في تكذيبهم رسلم، وقد كانوا أشد منهم قوةً، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء، ثم أهلكهم الله تعالى بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بمعصيتهم ربَّهم. والخلاصة (¬3): أنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[10]

كانوا أكثر منكم أموالًا وأولادًا، ومكنوا في الدنيا تمكينًا، لم تبلغوا معشاره، وعمروا فيها أعمارًا طوالًا، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ولما جاءتهم الرسل بالبينات .. كذبوهم، وفرحوا بما أوتوا، فأخذوا بذنوبهم، ولم تغن عنهم أموالهم شيئًا، ولم تحل بينهم وبين بأس الله تعالى. 10 - ثم أكد ما سلف بقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {عَاقِبَةَ} بالرفع، على أنها اسم {كَانَ}، وتذكير الفعل حينئذٍ لكون تانيثها مجازيًا، و {السُّوأَى} خبرها، والمعنى؛ أي: ثم بعد إهلاكهم في الدنيا، كان عاقبة الذين عملوا السيئات في الآخرة الدار السيئة، التي هي نار جهنم، والعقوبة التي هي أسوأ العقوبات وأفظعها، وهي العقوبة بالنار. وفيه وضع الظاهر، وهو {الَّذِينَ} مقام المضمر؛ لأن مقتضى السياق أن يقول: ثم كان عاقبتهم، وقوله: {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}: مفعول لأجله، علة لما أشير إليه من تعذيبهم الدنيوي والأخروي؛ أي: أهلكهم الله سبحانه في الدنيا، ثم كان عاقبتهم في الآخرة الدار السيئة، لأجل أن كذبوا بآيات الله، المنزلة على رسله، ومعجزاته الظاهرة على أيديهم. {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} معطوف على {كَذَّبُوا} داخل معه في حكم العلة؛ أي: لأجل تكذيبهم بايات الله تعالى، واستهزائهم بها، وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده. وقرأ الكوفيون وابن عامر (¬1): {عاقبة} بالنصب، على أنه خير {كَانَ} مقدم، و {السُّوأَى}: مصدر أساؤوا، كالرجعى، أو صفة لمصدر محذوف، و {أَنْ كَذَّبُوا}: اسمها المؤخر، والتقدير: ثم كان التكذيب والاستهزاء عاقبة الذين عملوا السوأى، أو عملوا الأعمال السينة، و {السُّوأَى}: تأنيث الأسوأ، كالحسنى، تأنيث الأحسن، أو مصدر كالبشرى والرجعى، وصف به العقوبة مبالغةً، كأنها نفس السوأى، وقيل: السوأى: اسم لجهنم، كما أن الحسنى اسم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

للجنة، وإنما سميت سوأى؛ لأنها تسوء صاحبها، وقرأ الأعمش، والحسن: {السوى} بإبدال الهمزة واوًا وإدغام الواو فيها، كقراءة من قرأ {بالسو} بالإدغام في يوسف، وقرأ ابن مسعود: {السوء} بالتذكير. وحاصل معنى الآيات (¬1): أن الأمم السالفة المكذبة، عذبوا في الدنيا والآخرة، بسبب تكذيبهم واستهزائهم، وسائر معاصيهم، فلم تنفعهم قوتهم، ولم تمنعهم أموالهم من العذاب والهلاك، فما الظن بأهل مكة، وهم دونهم في العدد وقوة الجسد. فائدة: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قاله (¬2) هنا وفي فاطر وفي أول المؤمن بالواو، وفي آخر سورة المؤمن قاله بالفاء، حيث قال: {أَفلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} لأن ما هنا موافق لما قبله، وهو: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} ولما بعده، وهو {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} وما في فاطر موافق أيضًا لما قبله، وهو {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} ولما بعده وهو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} وما في أول المؤمن موافق لما قبله، وهو {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} وما في آخرها موافق لما قبله، وهو {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} وما بعده، وهو: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)} فناسب فيه الفاء، وفي الثلاثة قبله الواو. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬3) قاله هنا بحذف {كَانُوا} قبل قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} وحذف الواو بعده، وقاله في فاطر بحذف {كَانُوا} أيضًا، وبذكر الواو، حيث قال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وفي أوائل غافر بذكر {كَانُوا} دون الواو وزيادة {هُمُ} حيث قال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) فتح الرحمن.

[11]

وفي آخرها بحذف الجميع، لأن ما في أوائلها وقع فيه قصة نوح، وهي مبسوطة فيه، فناسب فيه البسط، وحذف الجميع في أواخرها، اختصارًا لدلالة ذلك عليه، وذكر هنا وفي فاطر موافقة لذكرها قبل وبعد. 11 - {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}؛ أي: ينشئهم ويخلقهم أولًا في الدنيا، وهو الإنسان المخلوق من النطفة {ثُمَّ يُعِيدُهُ}؛ أي: يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا؛ أي: يحييهم في الآخرة، ويبعثهم بعد الموت، وتذكير الضمير وإفراده، باعتبار لفظ الخلق، {ثُمَّ} بعد بعثكم وإعادتكم {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى موقف حسابه تعالى وجزائه {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون، لا إلى غيره، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الترهيب، والإتيان بضمير الجمع باعتبار معنى الخلق. وقرأ عبد الله وطلحة (¬1): {يبدىء} بضم الياء وكسر الدال، والجمهور: بفتحها، وقرأ أبو بكر، وأبو عمرو، وروح: {يرجعون} بالتحتية على الأصل، والجمهور: بالفوقية على الخطاب. 12 - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}؛ أي: القيامة التي هي وقت إعادة الخلق، ورجعهم إليه للجزاء، والساعة (¬2): جزء من أجزاء الزمان، عبر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك، لسرعة حسابها، كما قال: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أو لما نبه عليه قوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: يسكت المشركون سكوت من انقطعت عن الحجة، متحيرين آيسين من الاهتداء إلى الحجة، أو من كل خير حين عاينوا العذاب، وقرأ (¬3) الجمهور: {يبلس} بكسر اللام على البناء للفاعل، وقرأ علي، والسلمي: بفتحها على البناء للمفعول، من أبلسه: إذا أسكته. ومعنى الآيتين: أي (¬4) الله سبحانه ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[13]

بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، ثم لعيده خلقًا جديدًا بعد إفنائه وإعدامه، كما بدأه خلقًا سويًا ولم يك شيئًا، ثم إليه يردون فيحشرون لفصل القضاء بينهم، فيجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم بين ما سيحدث في ذلك اليوم من الأهوال للأشقياء، والنعيم والحبور للسعداء، فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} .. إلخ؛ أي: ويوم تجيء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم، وحشرهم إلى موقف الحساب، يسكت الذين أشركوا بالله، واجترحوا في الدنيا مساوي الأعمال، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال. 13 - ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام .. نفى ذلك بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ} أي: ولا يكون لهؤلاء المشركين {مِنْ شُرَكَائِهِمْ}؛ أي: من أوثانهم التي عبدوها رجاء الشفاعة، أو رؤسائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة {شُفَعَاءُ} يستنقذونهم، ويجيرونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم، إذ قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وعبر (¬1) بالمضارع المنفي بـ {لَمْ} الذي كان ماضي المعنى، لتحققه في علم الله، وكذا يقال فيما بعده، وصيغة الجمع في قوله: {شُفَعَاءُ} لوقوعها في مقابلة الجمع؛ أي: لم يكن لكل واحد منهم شفيع أصلًا، وأضاف الشركاء إليهم في قوله: {شُرَكَائِهِمْ} لأنهم أشركوهم في أموالهم، وقيل: لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقرأ الجمهور (¬2): {وَلَمْ يَكُنْ} بالياء التحتية، وقرأ خارجة، والأريس كلاهما عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة، بتاء التأنيث. وكتب في المصحف (¬3): {شفعواء} بواو قبل الألف كما كتب: {علمواء} بني إسرائيل في الشعراء، و {السوأى} بالألف قبل الياء إثباتًا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[14]

ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم .. ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله: {وَكَانُوا}؛ أي: وكان عبدة الأصنام يومئذٍ {بِشُرَكَائِهِمْ}؛ أي: بآلهتهم {كَافِرِينَ}؛ أي: جاحدين متبرئين منهم، يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين؛ أي: ويكونون يكفرون بآلهتهم حيث يئسوا منهم، وعبر بالماضي أيضًا، إشارةً إلى تحققه في علم الله تعالى، كما سبق. 14 - ثم بين سبحانه أن الله يميز الخبيثين من الطيبين، فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}؛ أي: ويوم تجيء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله، أعيد لتهويله، وتفظيع ما يقع فيه، وقوله: {يَوْمَئِذٍ} توكيد لفظي لما قبله؛ أي: يوم إذ تقوم الساعة {يَتَفَرَّقُونَ}؛ أي: يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به، فأما أهل الإيمان به .. فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمراد: تفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} لا تفرق المجرمين خاصة، والمراد بالتفرق: أن كل طائفة تنفرد، وليس المراد: تفرق كل فرد منهم عن الآخر، ومثل الآية قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وذلك بعد تمام الحساب، فلا يجتمعون أبدًا، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها، وقال الحسن: لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا .. ليتفرقن يوم القيامة، هؤلاء في أعلى عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين. 15 - ثم بين سبحانه كيفية تفرقهم، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} عظيمة؛ أي: في رياض الجنة، وهي محاسنها وملاذها، وخص الروضة بالذكر، لأنه لم يكن عند العرب شيء أحسن منظرًا، ولا أطيب نشرًا من الرياض، ففيه تقريب المقصود من أفهامهم {يُحْبَرُونَ}؛ أي: يسرون سرورًا تهللت له وجوههم، وبألوان الزهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنيء، وقيل: ينعمون، وقيل: يكرمون، والأولى أولى. 16 - {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} القرآنية التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل {وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} أي: البعث بعد الموت،

[17]

والنشور للدار الآخرة، صرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات، للاعتناء بأمره {فَأُولَئِكَ} الموصوفون بالكفر والتكذيب {فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}؛ أي: مدخلون في العذاب على الدوام، لا يغيبون عنه أبدًا، قال بعضهم: الإحضار: إنما يكون على إكراه، فيجاء به على كراهة؛ أي: يحضرون العذاب في الوقت الذي يحبر فيه المؤمنون في روضات الجنان، فيكون على عذاب وويل وثبور، كما يكون المؤمنون على ثواب وسماع وحبور، أما من يؤمن ويعمل السيئات .. فليس دائم الحضور في العذاب، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض الجنة، فعلى العاقل أن يجتنب عن القيل والقال، ويكسب الوجد والحال، من طريق صالحات الأعمال، فإن لكل عمل صالح أثرًا، ولكل ورع وتقوى ثمرة، فمن حبس نفسه في زاوية العبادة والطاعة، وتخلى في خلوة الذكر والفكر .. تفرج في رياض الجنان بما قاسى الأعضاء والجنان، ومن أغلق باب سمعه عن سماع الملاهي، وصبر عنه .. فتح له باب سماع في الجنة، وإلا فقد حرم من أمثل اللذات، كما أن من شرب الخمر في الدنيا .. لم يشربها في الآخرة. وأشار بالإحضار: إلى أن جهنم سجن الله تعالى، فكما أن المجرم في الدنيا يساق إلى السجن، وهو كاره له، فكذا المجرم في العقبى يساق ويجر إلى النار بالسلاسل والأغلال، فيذوق وبال كفره وتكذيبه، وحضوره محاضر أهل الهوى من أهل الملاهي، وربما يحضر في العذاب من ليس بمكذب، إلحاقًا له في بعض الأوصاف، وإن كان غير مخلد فيه، وربما تؤدي الجراءة على المعاصي، والإصرار عليها إلى الكفر والعياذ بالله تعالى. 17 - و {الفاء}: في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، والتسبيح محمول على حقيقته وظاهره الذي هو تنزيه الله تعالى عن السوء، والثناء عليه بالخير. والمعنى: إذا علمتم أيها العقلاء المميزون، أن الثواب والنعيم للمؤمنين العاملين، والعذاب والجحيم للكافرين المكذبين، فسبحوا الله؛ أي: نزهوه عن كل ما لا يليق بشأنه تعالى، وقولوا: سبحان الله {حِينَ تُمْسُونَ} وتدخلون في

[18]

المساء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وتدخلون في الصباح، والإمساء: الدخول في المساء، كما أن الإصباح: الدخول في الصباح، كما سيأتي في مبحث اللغة. والمعنى: وسبحوه تعالى وقت دخولكم في المساء، وساعة دخولكم في الصباح، 18 - وجملة قوله: {وَلَهُ} سبحانه وتعالى {الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا لغيره، يحمده خاصةً أهل السماوات والأرض، ويثنون عليه (¬1)، معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح، كما في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. وفيه لطيفة: وهو أن الله تعالى، لا أمر العباد بالتسبيح .. كأنه بين لهم أن تسبيحم الله سبحانه لنفعهم، لا لنفع يعود على الله تعالى، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه، لأجل نعمة هدايتهم إلى التوفيق اهـ. "رازي". والمعنى: احمدوه على نعمهِ العظام في الأوقات كلها، فإن الإخبار بثبوت الحمد له تعالى، ووجوبه على أهل التمييز، من خلق السماوات والأرض في معنى الأمر على أبلغ وجه، وتقديم التسبيح على التحميد؛ لأن التخلية بالمعجمة، مقدمة على التحلية بالمهملة، كشرب المسهل مقدم على شرب المصلح، وكالأساس مقدم على الحيطان، وما يبنى عليها من النقوش، والجار والمجرور في قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بنفس الحمد. وقوله: {وَعَشِيًّا} أي: آخر النهار، معطوف على {حِينَ تُمْسُونَ}؛ أي: وسبحوه وقت العشي، وتقديمه على قوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}؛ أي: تدخلون في الظهيرة التي هي وصط النار، لمراعاة الفواصل، وتغيير الأسلوب؛ لأنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي، كالمساء والصباح والظهيرة. وإنما خص (¬2) بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح، لكونه محتاجًا إلى تحصيل مأكول ومشروب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

وملبوس ومركوب، كما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه، فإن الله يطهره في أولهِ، وهو دنياه، وفي آخره وهو عقباه، وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره، وتخصيص (¬1) التسبيح والتحميد بتلك الأوقات، للدلالة على أن ما يحدث فيها من آيات قدرته، وأنواع رحمته، ونعمته، شواهد ناطقة بتنزهه تعالى، واستحقاقه الحمد موجبة لتسبيحه، وتحميده حتمًا. وعبارة "المراغي" هنا: وتخصيص (¬2) هذه الأوقات من بين سائرها، لما فيها من التبدل الظاهر في أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام في المساء، ومن الظلام إلى النور في الصباح، ومن ضياءٍ تامٍ وقت الظهيرة، إلى اضمحلالٍ لذلك الضياء وقت العشي. وهكذا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها: {تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء، و {تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر، {وَعَشِيًّا} صلاة العصر، و {تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر. فالمعنى عليه: فصلوا لله في هذه الأوقات، الصلاة المشتملة على التسبيح والتحميد، وسائر الأذكار. والأولى أن يفسر التسبيح بالتنزيه (¬3)؛ أي: نزهوا الله سبحانه في هذه الأوقات عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال؛ لأنه يتضمن الصلاة؛ لأنَّ التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم، ويتناول التنزيه باللسان، وهو الذكر الحسن، ويتناول التنزيه بالأركان، وهو العمل الصالح، والثاني ثمرة الأول، والثالث ثمرة الثاني، فالإنسان إذا اعتقد شيئًا .. ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال .. ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله، فاللسان: ترجمان الجنان، والأركان: ترجمان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان، فهي مشتملة على الذكر باللسان، والتصديق بالجنان، فهو نوع من أنواع التنزيه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الرازي.

والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع، فيجب حمله على كل ما هو تنزيه، الذي من جملته الصلاة اهـ. "رازي". وقدم (¬1) الإمساء على الإصباح، كما قدم في قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يعقب بما يقابله، فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار، ولما لم يتصرف من العشي فعل لا يقال أعشى، كما يقال: أمسى وأصبح وأظهر .. جاء التركيب {وَعَشِيًّا}. وقرأ عكرمة: {حينا تمسون وحينا تصبحون} بتنوين {حين}، والجملة: صفة حذف منها الرابط، تقديره تمسون فيه، وتصبحون فيه. فصل في ذكر نبذة من الأحاديث الواردة في فضل التسبيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، في كل يوم مئة مرة .. حطت خطاياه، وان كانت مثل زبد البحر". وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مئة مرة .. لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه". أخرجهما الترمذي، وقال فيهما: حسن صحيح. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، متفق عليه، واللفظ للبخاري. وعن جويرية رضي الله عنها بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات غداة من عندها، وهي في مسجدها، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال: "ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد" قالت: نعم، فقال: "لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات، لو وزنت بكلماتك لوزنتهن: سبحان الله وبحمده ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[19]

عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" أخرجه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه، قال: كيف يكتسب ألف حسنة؛ قال: "يسبح الله مئة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة". أخرجه مسلم، وفي رواية غير مسلم: "يحط عنه أربعين ألفًا". وأخرج أبو داود، والطبراني، وابن السني، وابن مردويه: عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يصبح {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك ما فاته في ليلته، ومن قال حين يمسي: أدرك ما فاته في يومه"، وإسناده ضعيف. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى .. فليقل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الآية". 19 - ولما ذكر الإبداء والإعادة .. ناسبه ذكر إخراج الحي من الميت وعكسه، حيث قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالإنسان من النطفة، والطير من البيضة، وأيضًا المؤمن من الكافر، والمصلح من المفسد، والعالم من الجاهل، وأيضًا القلب الحي بنور الله من النفس الميتة عن صفاتها وأخلاقها الذميمة، إظهارًا للطفه ورحمته. {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} كالنطفة والبيضة من الحيوان، أيضًا الكافر والمفسد، والجاهل من المؤمن والمصلح والعالم، وأيضًا القلب الميت عن الأخلاق الحيوانية الشهوانية، من النفس الحية بالأخلاق الحميدة الروحانية. قيل: ووجه (¬2) تعلق هذه الآية بالتي قبلها: أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم، إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم، فإحياء الميت عنده تعالى، كتنبيه النائم، وإماتة الحي، كتنويم المنتبه. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الشوكاني.

[20]

{وَيُحْيِ الْأَرْضَ} بالمطر والنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد قحلها ويبسها، وهو شبيه بإخراج الحي من الميت {وَكَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الإخراج {تُخْرَجُونَ} من قبوركم أحياءً إلى موقف الحساب، فإنه أيضًا يعقب الحياة الموت. خلاصته: أن الإبداء والإعادة في قدرته سواء، قال مقاتل: يرسل الله يوم القيامة ماء الحياة من السماء السابعة، من البحر المسجور، بين النفختين، فينشر عظام الموتى، وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} فكما ينبت النبات من الأرض بالمطر، فكذا ينبت الناس من القبور بمطر البحر المسجور كالمني، ويحيون به. والمعنى: أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها، يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء. وقرأ الجمهور (¬1): {تخرجون} بالتاء المضمومة مبنيًا للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بفتح تاء الخطاب وضم الراء، مبنيًا للفاعل، فأسند الخروج إليهم كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}. 20 - ثم ذكر سبحانه آياته من بدء خلق الإنسان آيةً آيةً إلى حين بعثه من القبر، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ}؛ أي: ومن آياته سبحانه وتعالى، وعلاماته الدالة على بعثكم {أَنْ خَلَقَكُمْ} يا بني آدم في ضمن خلق آدم؛ لأنه خلقه منطويًا على خلق ذرياته انطواءً إجماليًا، أو بوساطة خلق غذائكم {مِنْ تُرَابٍ} لم يشم رائحة الحياة قط، ولا مناسبة بينه ولا بين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، وإنما خلق الله (¬2) الإنسان من التراب، ليكون متواضعًا ذلولًا حمولًا مثله، والأرض وحقائقها دائمة في الطمأنينة والإحسان بالوجود، ولذلك لا تزال ساكنةً وساكتةً، لفوزها بوجود مطلوبها، فكانت أعلى مرتبةً، وتحققت في مرتبة العلو في عين السفل، وقامت بالرضي. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[21]

{ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ} يا بني آدم {بَشَرٌ}؛ أي: آدميون من لحم ودم، عقلاء ناطقون {تَنْتَشِرُونَ} في الأرض، وتتصرفون فيما هو قوام معايشكم، و {إِذَا} فجائية، والانتشار: التصرف في الحاجات. والمعنى: أي (¬1) ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرًا تنتشرون في الأرض، وتتفرقون فيها لطلب معايشكم، فدل بدء خلقكم على إعادتكم، و {إِذَا} الفجائية (¬2) وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد {ثُمَّ} بالنظر إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان، كما حكاه الله سبحانه في مواضع، من كونه نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظمًا مكسوًا لحمًا، فاجأ البشرية والانتشار. وهذا مجمل (¬3) ما فصل في قوله تعالى في أوائل سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ}؛ أي: إن كنتم في شك ن البعث بعد الموت .. فانظروا إلى ابتداء خلقكم، وقد خلقناكم بالأطوار، لتظهر لكم قدرتنا على البعث، فتؤمنوا به، وأنشد بعضهم: خُلِقْتُ مِنَ التُّرَابِ فَصِرْتُ شَخْصًا ... بَصِيْرًا بِالسّؤالِ وَبالْجَوَابِ وَعُدْت إِلَى التُرَابِ فَصِرْتُ فِيْهِ ... كَأَنِّيْ مَا بَرِحْتُ مِنَ التُّرَابِ 21 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} سبحانه وتعالى، الدالة على البعث والجزاء {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ}؛ أي: لأجلكم {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي: من جنسكم في البشرية والإنسانية، لا من جنس آخر. وقيل: المراد: حواء، فإنه خلقها من ضلع آدم، فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم، متضمن لخلقهن من أنفسكم {أَزْوَاجًا}؛ أي: إناثًا، والمعنى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

الأول هو الأوفق بقوله: {لِتَسْكُنُوا} وتميلوا {إِلَيْهَا}؛ أي: إلى تلك الأزواج، وتألفوا بها، فإن المجانسة من دواعي التضام، والتعارف التآنس، كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر، ولا يميل قلبه إليه، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم. وقد ذهب بعض العلماء من الفقهاء وغيرهم، إلى جواز المناكحة والعلوق بين الجن والإنس، فقد جعل الله سبحانه أزواجًا من غير الجنس. والجواب: إن ذلك من النوادر، فلا يعتبر، وليس السكون إلى الجنية كالسكون إلى الإنسية، وإن كانت متمثلة في صورة الإنس. {وَجَعَلَ} سبحانه {بَيْنَكُمْ} وبين أزواجكم من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة، أو رابطة قرابة ورحم {مَوَدَّةً}؛ أي: محبة {وَرَحْمَةً}؛ أي: شفقة؛ أي: تواددًا وتراحمًا، بسبب عصمة النكاح، يعطف به بعضكم على بعض، من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة، فضلًا عن مودةٍ ورحمةٍ، وقال (¬1) مجاهد والحسن، وعكرمة: المودة (¬2) النكاح، والرحمة الولد، كنى بذلك عنهما، وقيل: مودةً للشابة، ورحمةً للعجوز، وقيل: مودة للكبير، ورحمةً للصغير، قاله ابن عباس، وقيل: هما اشتباك الرحم، وقيل: المودة من الرحمن، والبغض من الشيطان. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من خلقهم من تراب، وخلق أزواجهم من أنفسهم، وإلقاء المودة والرحمة بينهم {لَآيَاتٍ} عظيمةً، ودلائل باهرة على عظمة الله سبحانه، وقدرته على البعث والنشور، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويتأملون في صنع الله وفعله، فيعلمون ما في ذلك من الحكم والمصالح؛ لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال، لكون التفكر مادةً له يتحصل عنه، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام. قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المذكورة، من التوانس والتجانس بين الأشياء، كالزوجين، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[22]

وقال في "روح البيان": لعل الوجه في الختم به: أن إدراك ما ذكر، ليس مما يختص بخواص أهل التفكر، وهم العلماء، بل يدركه من له أدنى شيء من التفكر، والتفكر دون التذكر، ولذا لم يذكر التذكر في القرآن، إلا مع أولي الألباب. انتهى. وحاصل معنى الآيتين (¬1): أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء، من إنشاء وإفناء وإيجاد وإعدام، أن خلقكم من تراب بتغذيتكم، إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النبات، والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية، تجعلها صالحة للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون في الأرض، تتصرفون فيها في أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم. ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجًا من جنسكم، لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة، والرحمة، لتدوم الحياة المنزلية على أتمّ نظام، إن فيما ذكر من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة، لعبرةً لمن تأمل في تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهي لم تخلق عبثًا، بل خلقت لأغراضٍ شتى، تحتاج إلى الفكر، حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذهن والعقل الراجح. 22 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} ودلائل وجوده وبراهين قدرته على البعث والنشور {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} على عظمهما وكثافتهما، وكثرة أجزائهما بلا مادة، فهو أظهر قدرة على إعادة ما كان حيًا قبل ذلك؛ أي: خلقه السماوات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت، والسيارة المرتفعة السموات الواسعة الأرجاء وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار، فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة، التي هي أجرام السماوات والأرض، وجعلها باقيةً مادامت هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

الدار، وخلق فيها من عجائب الصنع، وغرائب التكوين، ما هو عبرة للمعتبرين، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم، وينشركم من قبوركم. {وَ} من آياته وقدرته {اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} ولغاتكم اختلافًا لا حد له، من عربية، وفارسية، وفرنسية، وانجليزية، وهندية، وصينية، وتركية، ورومية، وأورمية، إلى نحو ذلك، مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب (¬1): إن الألسنة اثنان وسبعون لسانًا، منها في ولد حامٍ سبعة عشر، وفي ولد سامٍ تسعة عشر، وفي ولد يافثٍ ستة وثلاثون. وهذا من قديم الزمان، وأما الآن فقد صارت تعد بالمئات، وقيل: المراد باللغات الأصوات والنغم، قال الراغب: اختلاف الألسنة، إشارة إلى اختلاف اللغات، واختلاف النغمات، فإن لكل لسان نغمةً يميزها السمع، كما أن له صورة مخصوصةً يميزها البصر، انتهى. فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجهٍ، متفقين في همسٍ واحدٍ، ولا جهارةٍ واحدةٍ، ولا رخاوةٍ ولا فصاحةٍ، ولا لكنةٍ، ولا نظمٍ، ولا أسلوبٍ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، قاله الزمخشري. {وَ} من آياته اختلاف {أَلْوَانِكُمْ} وأشكالكم من البياض والسواد والحمرة، والصفرة والزرقة والخضرة والأدمة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة، ويجمعكم نوع واحد، وهو الإنسانية، وفصل واحد، وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم، لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، ولولا ذلك الاختلاف.، لوقع الالتباس، وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها، وفي هذا من بديع القدرة، وعجيب الحكمة، ما لا يعاقله إلا العالمون، ولا يفهمه إلا المتفكرون. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[23]

فاختلاف الألسنة والأشكال، يحصل به التمييز بين الأشخاص الأصوات والألوان، وهذا مما لا غنى عنه في منازع الحياة، ومختلف أغراضها، فكثيرًا ما نميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هي. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان {لَآيَاتٍ} عظيمة، ودلائل واضحة، كثيرة عددها {لِلْعَالِمِينَ} بكسر اللام؛ أي: لأولي العلم، الذين يفكرون فيما خلق الله تعالى، الذين هم من جنس هذا العالم، من غير فرق بين بر وفاجر، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثًا، بل خلقه لحكمة بالغة، فيها عبرة لمن تذكر، وخص (¬1) العلماء؛ لأنهم أهل النظر والاستدلال، دون الجهال المشغولين بحطام الدنيا وزخارفها، فلما كان الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره إنما يمكن بالعلم ختم الآية بالعالمين، ففيه إشارة إلى كمال وضوح الآيات، وعدم خفائها على أحد من الخلق، من ملك وإنس وجن وغيرهم، وقال في "فتح الرحمن" (¬2): ختم الآية به، لأن الكل يظلهم السماء، ويقلهم الأرض، وكل منهم متميز بلطيفة يمتاز بها عن غيره، وهذا يشترك فيه جميع العالمين. وقرأ الجمهور (¬3): {للعالمين} بفتح اللام؛ لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم، وقرأ حفص، وحماد بن شعيب عن أبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو بكسر اللام، إذ المنتفع بها، إنما هم أهل العلم، كقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. 23 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} سبحانه؛ أي: ومن أعلام قدرته تعالى، على مجازاة العباد في الآخرة {مَنَامُكُمْ} مفعل من النوم؛ أي (¬4): نومكم الذي هو راحة لأبدانكم، وقطع لأشغالكم، ليدوم لكم به البقاء إلى آجالكم {بِاللَّيْلِ} كما هو المعتاد، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

{وَالنَّهَارِ} أيضًا على حسب الحاجة {وَابْتِغَاؤُكُمْ}؛ أي: وطلبكم معاشكم فيهما، {مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: من رزقه، فإن كلًّا من المنام، وطلب القوت، يقع في الليل والنهار، وإن كان الأغلب وقوع المنام في الليل، والطلب في النهار. والمعنى عليه: ومن آياته العظيمة: أنكم تنامون في الليل، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة، كوقت القيلولة، وخصوصًا من كان مشتغلًا في حوائجه في الليل، وابتغاؤكم من فضله فيهما؛ لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل في الليل، كالمسافرين والحراس في الليل وغيرهم، وهذا المعنى هو المناسب للنظم القرآني هاهنا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أي ومن أياته منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله في النهار، وهذا المعنى هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى. قال الزمخشري: والظاهر هو الأول، لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى. وجعلهما (¬1) من جملة الأدلة على البعث، أن النوم شبيه بالموت، والتصرف في الحاجات، والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت. وقدم (¬2) الليل على النهار؛ لأن الليل لخدمة المولى، والنهار لخدمة الخلق، ومعارج الأنبياء - عليهم السلام - كانت بالليل، ولذا قال الإِمام النيسابوري: الليل أفضل من النهار، وقال بعضهم: الليل محل السكون، وهو الأصل، والنهار محل الحركة، وهو الفرع، وقال بعض الكبار: لم يقل تعالى: وبالنهار، ليتحقق لنا أن يريد أننا في منام في حال يقظتنا المعتادة؛ أي: أنتم في منام ما دمتم في هذه الدار، يقظةً ومنامًا بالنسبة لما أمامكم، فهذا سبب عدم ذكر الباء في قوله: {وَالنَّهَارِ}، والاكتفاء بباء الليل. انتهى. يعني لو قيل: وبالنهار .. كان لا يتعين فيه ذلك، لجواز أن يكون الجار والمجرور معمولًا لمحذوف معطوف على المبتدأ، تقديره: ويقظتكم بالنهار، ثم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

حذف لدلالة معمولة، أو مقابله عليه، كقوله: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدَا أي: وسقيتها ماء باردًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور، من إيجاد النوم بعد النشاط، والنشاط بعد النوم، الذي هو الموت الأصغر، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء، مع المفارقة في التحصيل {لَآيَاتٍ} عديدةً على القدرة والحكم، لا سيما البعث {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} الآيات والمواعظ، سماع متفكر متدبر، فيستدلون بذلك على البعث؛ أي: شأنهم أن يسمعوا الكلام من الناصحين، سماع من انتبه من نومه، فجسمه مستريح نشيط، وقلبه فارغ عن مكدرٍ للنصح، مانع عن قبوله، وفيه إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات .. فهو نائم، لا مستيقظ، فهو غير مستأهل لأن يسمع. قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: {يَسْمَعُونَ} لأن من سمع أن النوم من صنع الله الحكيم، لا يقدر أحد على اجتلابه إذا امتنع، ولا على دفعه إذا ورد .. تيقن أن له صانعًا مدبرًا. قال الخطيب: معنى يسمعون هنا: يستجيبون لما يدعوهم إليه الكتاب. واعلم (¬1): أن النوم فضل من الله سبحانه للعباد، ولكن للعباد أن لا يناموا إلا عند الضرورة، وبقدر دفع الفتور المانع من العبادة، ومن آداب النوم: أن ينام على الوضوء، وإذا استطاع الإنسان أن يكون على الطهارة أبدًا فليفعل؛ لأن الموت على الوضوء شهادة، ويستحب أن يضطجع على يمينه، مستقبلًا للقبلة عند أول اضطجاعه، فإن بدا له أن ينقلب إلى جانبه الآخر .. فعل، ويقول حين يضطجع: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العلم، وكان - عليه السلام - يقول: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك ¬

_ (¬1) روح البيان.

أرفعه، إن أمسكت نفسي .. فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها". ويقول عندما يقوم من نومه: "الحمد لله الذي أحيانًا بعدما أماتنا، ورد إلينا أرواحنا، وإليه البعث والنشور". الإعراب {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)}. {الم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الم، إن قلنا: إنه علم للسورة، والجملة مستأنفة، وتقدم البسط في إعرابها مرارًا، فراجعه، {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة، {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق {غُلِبَتِ}. {وَهُمْ} {الواو}: عاطفة. {هم}: مبتدأ، {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {سَيَغْلِبُونَ}، و {غَلَبِهِمْ}: مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: من بعد مغلوبيتهم، وجملة {سَيَغْلِبُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الفعلية، {فِي بِضْعِ سِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {سَيَغْلِبُونَ}. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْأَمْرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، كأنه جواب لسؤال مقدر، وهو أي فائدة في ذكر قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} لأن قوله: {سَيَغْلِبُونَ} لا يكون إلا بعد الغلبة؟ فأجيب بأن فائدته إظهار تمام القدرة، وبيان أن ذلك بأمر الله تعالى وحده. {مِنْ قَبْلُ}: دار ومجروبى حال من الضمير المستكن في متعلق الخبر، {وَمِنْ بَعْدُ} معطوف على {مِنْ قَبْلُ}. وهما ظرفان، بنيا على الضم، لقطعهما عن الإضافة لفظًا، لا معنًى، ثم جرًا بمن، وبقيا على ضمهما؛ أي: من قبل غلب الروم ومن بعده، {وَيَوْمَئِذٍ} {الواو}: استئنافية. {وَيَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ {يَفْرَحُ}. {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ

غَافِلُونَ (7)}. {بِنَصْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَفْرَحُ} أيضًا. {يَنْصُرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: مستأنفة. {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} والجملة: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: من يشاء نصره. {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول، {الرَّحِيمُ}: خبر ثان، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَعْدَ اللَّهِ}: مصدر نائب مناب فعله، منصوب بفعله المحذوف، تقديره: وعدهم الله النصر وعدًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد مضمون الجملة التي قبلها، وهي قوله: {سَيَغْلِبُونَ}، و {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}، {لَا}: نافية. {يُخْلِفُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {وَعْدَهُ}: مفعول به، والجملة: إما مفسرة مقررة لمعنى المصدر، فلا محل لها من الإعراب، أو حال من المصدر؛ أي: حالة كونه غير مختلف، كما في "الكرخي"، {وَلَكِنَّ} {الواو}: حالية، أو استئنافية، {لكن}: حرف نصب واستدراك. {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبرها، وجملة {لَكِنَّ} في محل النصب حال من {وَعْدَ اللَّهِ}، والرابط محذوف، تقديره: حالة كون أكثر الناس لا يعلمونه، أو مستأنفة. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة، {مِنَ الْحَيَاةِ}: جار ومجرور صفة لـ {ظَاهِرًا}، {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}، {وَهُمْ}: مبتدأ، {عَنِ الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {غَافِلُونَ}، {هُمْ} تأكيد لـ {هُمْ} الأول، {غَافِلُونَ}: خبر لـ {هُمْ} الأول، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {يَعْلَمُونَ}. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقصر كفار مكة نظرهم على ظاهر الحياة الدنيا، ولم يتفكروا في أنفسهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لَمْ

يتفكروا}: جازم وفعل وفاعل مجزون بـ {لَمْ} والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، {فِي أَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {يَتَفَكَّرُوا}. {مَا}: نافية. {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة: مستأنفة، لا تعلق لها بما قبلها، أو معلقة للتفكر، فتكون في محل نصب بإسقاط الخافض، كما في "الجمل". {وَمَا} اسم موصول في محل النصب معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {بَيْنَهُمَا} ظرف ومضاف إليه صلة لـ {مَا} الموصولة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَ}، أو حال من الجلالة، {وَأَجَلٍ}: معطوف على {الحق}، {مُسَمًّى} صفة لـ {أَجَلٍ}. {وَإِنَّ} {الواو}: حالية، {إن}: حرف نصب، {كَثِيرًا} اسمها، {مِنَ النَّاسِ} صفة لـ {كَثِيرًا}. {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَافِرُونَ}، و {اللام}: لا تمنع ذلك؛ لأنها وقعت في غير موضعها، وهو خبر {إن}. {لَكَافِرُونَ} {اللام}: حرف ابتداء، {كَافِرُونَ} خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب حال من فاعل {يَتَفَكَّرُوا}. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه السياق، {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد هؤلاء المشركون من أهل مكة في أماكنهم، ولم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لَمْ}: حرف جزم، {يَسِيرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، {فَيَنْظُرُوا}: فعل وفاعل معطوفة على {يَسِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ}: مقدم عليها للزومه الصدارة. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {عَاقِبَةُ الَّذِينَ}: اسمها ومضاف إليه، وجملة: {كَانَ} في محل النصب مفعول {ينْظُرُوا} معلق عنها باسم الاستفهام، {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول. {كَانُوا أَشَدَّ}:

فعل ناقص واسمه وخبره. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَشَدَّ}، {قُوَّةً}: تمييز محول عن المبتدأ، الذي كان اسم {كَان}: منصوب باسم التفضيل، وجملة {كَانَ}: جملة تفسيرية لما قبلها، لا محل لها من الإعراب، {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {كَانُوا}، {وَعَمَرُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كَانُوا}، {أَكْثَرَ}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: عمارة أكثر، {مِمَّا} {مِنْ}: حرف جر، {ما}: مصدرية، {عَمَرُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {من}، والجار والمجرور: متعلق بـ {أَكْثَرَ} والتقدير: عمارة أكثر من عمارتهم. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعل معطوف على {كَانُوا}. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {وَجَاءَتْهُمْ}. {فَمَا كَانَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فكذبوهم فأهلكهم الله، والجملة المحذوفة: معطوفة على {جاءتهم}، {ما}: نافية، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، {اللَّهُ} اسمها، {لِيَظْلِمَهُمْ} {اللام}: حرف جر وجحود، {يَظْلِمَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور: متعلق بمحذوف خبر {كَانَ} على مذهب البصريين، والتقدير: فما كان الله مريدًا لظلمهم، وجملة {كَانَ} معطوفة على تلك المحذوفة. {وَلَكِنْ} {الواو}: حالية، {لَكِنْ}: حرف استدراك، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول مقدم لـ {يَظْلِمُونَ} وجملة {يَظْلِمُونَ} خبر {كَانَ}، والتقدير: ولكن كانوا ظالمين أنفسهم، والجملة الاستدراكية في محل النصب حال من مفعول {يَظْلِمَهُمْ}. {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {عَاقِبَةَ الَّذِينَ}: خبرها مقدم ومضاف إليه، {أَسَاءُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {السُّوأَى}: اسم {كَانَ} مؤخرًا، أي: ثم كانت {السُّوأَى}؛ أي: جهنم، عاقبةً الذين

أساؤوا، وجملة {كَانَ}: معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: فأهلكهم الله في الدنيا، ثم كانت {السُّوأَى} عاقبتهم في الآخرة. {أَنْ}: حرف مصدر، {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، {بِآيَاتِ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، تقديره: ثم كانت السوأى: عاقبتهم، لتكذيبهم بآيات الله تعالى، {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهَا}: متعلق بما بعده، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانُوا}: معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}؛ أي: لتكذيبم بآيات الله، واستهزائهم بها، وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، قد تركتها خوفًا من الإطالة. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}: خبره، والجملة: مستأنفة، {ثُمَّ يُعِيدُهُ} معطوفة على {يَبْدَؤُأ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {إِلَيْهِ}: متعلق، بـ {تُرْجَعُونَ}، {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة {يُعِيدُهُ} على كونها خبر المبتدأ، ولكنها خبر سببي، {وَيَوْمَ تَقُومُ} {الواو}: استئنافية، والظرف: متعلق بـ {يُبْلِسُ}، وجملة {تَقُومُ السَّاعَةُ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {وَلَمْ يَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لَمْ}، {لَهُمْ}: خبر مقدم لها، {مِنْ شُرَكَائِهِمْ} حال من {شُفَعَاءُ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {شُفَعَاءُ}: اسم {يَكُنْ} مؤخر، وجملة {يَكُنْ}: معطوفة على جملة {يُبْلِسُ}، {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِشُرَكَائِهِمْ}: متعلق بـ {كَافِرِينَ}، {كَافِرِينَ}: خبر {كَان}، وجملة {كَان}: معطوفة على جملة {يُبْلِسُ} أيضًا؛ لأنه في تأويل: ويكونون كافرين بشركائهم، كما سبق في مبحث التفسير، {وَيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {يَتَفَرَّقُونَ}، وجملة {تَقُومُ السَّاعَةُ}: مضاف إليه للظرف، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، تأكيد لفظي للظرف قبله، وجملة

{يَتَفَرَّقُونَ}: مستأنفة. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يتفرقون يوم القيامة، وأردت بيان مأوى كل فريق، فأقول لك، {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل، {الَّذِينَ}: مبتدأ، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آمَنُوا}، {فَهُمْ} {الفاء} رابطة لجواب {أَمَّا} واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما}، {هُمْ}: مبتدأ، {فِي رَوْضَةٍ}: متعلق بـ {يُحْبَرُونَ} من الفعل المغير، ونائبه: خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره: خبر للأول، وجملة الأول، مع خبره جواب {أما}، وجملة {أما} من فعل شرطها، وجوابها: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة. {أَمَّا}: حرف شرط، {الَّذِينَ}: مبتدأ، {كَفَرُوا}: صلته {وَكَذَّبُوا}: معطوف على {كَفَرُوا}. {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ}: معطوف على {آيَاتِنَا}. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان، {فِي الْعَذَابِ}: متعلق بـ {مُحْضَرُونَ}. {مُحْضَرُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مع خبره: جواب {أَمَّا}، وجملة {أَمَّا} في محل النصب معطوفة على جملة {أَمَّا} الأولى. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، من تفرق الناس يوم القيامة فرقتين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأردتم أن تكلونوا من أهل الجنة، فأقول لكم

سبحوا الله سبحانًا، {سُبْحَانَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، {حِينَ تُمْسُونَ}: ظرف متعلق بـ {سُبْحَانَ}، وجملة {تُمْسُونَ}: مضاف إليه لـ {حِينَ}، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: ظرف ومضاف إليه معطوف على {حِينَ تُمْسُونَ}. {وَلَهُ} {الواو}: اعتراضية، {لَهُ}: خبر مقدم، {الْحَمْدُ}: مبتدأ مؤخر، {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {الْحَمْدُ}، كما في "الشوكاني"، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة الاسمية: جملة معترضة، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، {وَعَشِيًّا}: ظرف معطوف على {حِينَ}، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: ظرف ومضاف إليه معطوف على {حِينَ تُمْسُونَ}. {يُخْرِجُ الْحَيَّ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، والجملة مستأنفة، أو حال من الجلالة في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ}، {مِنَ الْمَيِّتِ}: متعلق بـ {يُخْرِجُ}، و {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}: معطوف على جملة {يُخْرِجُ} الأول. {وَيُحْيِ الْأَرْضَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يُخْرِجُ} أيضًا: {بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يُحْيِ} {وَكَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية، {كَذَلِكَ} هو: صفة لمصدر محذوف، {تُخْرَجُونَ}: فعل ونائب فاعل، والتقدير: وتخرجون من قبوركم إخراجًا مثل ذلك الإخراج، والجملة الفعلية: مستأنفة. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}. {وَمِنْ} {الواو}: استئنافية. {مِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {أَنْ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، في محل النصب بـ {أَنْ} {خَلَقَكُمْ} المصدرية، {مِنْ تُرَابٍ}: متعلق به، والجملة الفعلية، في تأويل مصدر مرفوع على الابتدائية، والتقدير: وخلقكم من تراب من آياته، والجملة مستأنفة، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {إِذَا}: فجائية {أَنْتُمْ}: مبتدأ،

{بَشَرٌ}: خبره، وجملة {تَنْتَشِرُونَ}: صفة لـ {بَشَرٌ}: أو حال منه، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم والمصدر المؤول من {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على سابقتها، {أَنْ خَلَقَ} معطوفة على ما سبق {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَلَقَ}. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: جار ومجرور حال من أزواجًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَزْوَاجًا}: مفعول {خَلَقَ}، {لِتَسْكُنُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل، {تَسْكُنُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، {إِلَيْهَا} متعلق به، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}؛ أي: لسكونكم إليها، الجار والمجرور: متعلق بـ {خَلَقَ}. {وَجَعَلَ} معطوف على {خَلَقَ} {بَيْنَكُمْ}: ظرف في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}. {مَوَدَّةً}: هو المفعول الأول، {وَرَحْمَةً} معطوف على {مَوَدَّةً}. {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ} خبر {إِنَّ}: مقدم على اسمها، {لَآيَاتٍ} {اللام}: حرف ابتداء، {آيَاتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر، {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَاتٍ}، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ} صفة {لِقَوْمٍ} وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم، {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة: معطوفة على سابقتها أيضًا، {وَاخْتِلَافُ}: معطوف على {خَلْقُ}، {أَلْسِنَتِكُمْ} مضاف إليه، {وَأَلْوَانِكُمْ}: معطوف على {أَلْسِنَتِكُمْ}. {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ} اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء، {لِلْعَالِمِينَ} صفة {لآيَاتٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم. {مَنَامُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على سابقتها، {بِاللَّيْلِ}: متعلق بـ {مَنَامُكُمْ} لأنه مصدر ميمي لـ {نَامُ}، {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {اللَّيْلِ}، {وَابْتِغَاؤُكُمْ}: معطوف على {مَنَامُكُمْ}. {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {وَابْتِغَاؤُكُمْ}، {إِنَّ}: حرف نصب {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم،

{لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، {لِقَوْمٍ} صفة {لَآيَاتٍ}، وجملة {يَسْمَعُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} الغلبة: القهر، كما في "المفردات"، والاستعلاء على القرن بما يبطل مقاومته في الحرب، كما في "كشف الأسرار"، والروم: تارة يطلق على الصنف المعروف، وتارة تطلق على جمع رومي، كفارسي وفرس، وهم بنو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - والروم الأول: منهم بنو روم بن يونان بن يافث بن نوح - عليه السلام -، والفرس: بنو فارس بن سام بن نوح - عليه السلام - كما مر. {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} وأدنى: ألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من دنا يدنو، وهو يتصرف على وجوه: فتارةً يعبر عن الأقل والأصغر، فيقابل بالأكثر والأكبر، وتارةً عن الأحقر والأذل، فيقابل بالأعلى والأفضل، وتارةً عن الأول، فيقابل بالآخر، وتارةً عن الأقرب، فيقابل بالأبعد، وهو المراد في هذا المقام؛ أي: أقرب أرض العرب من الروم، إذ هي الأرض المعهودة عندهم، وهي أطراف الشام، أو في أقرب أرض الروم من العرب، على أن اللام عوض عن المضاف إليه، وهي أرض جزيرة ما بين دجلة والفرات، انتهى من "الروح". وليس المراد بها جزيرة العرب، وروى عن الأصمعي: أن حد جزيرة العرب، من أقصى عدن إلى ريف العراق، طولًا، ومن جدة وما والاها، إلى أطراف الشام عرضًا، وسبب تسميتها جزيرةً إحاطة البحار والأنهار العظيمة بها، كبحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة، والفرات اهـ. "زاده"، وقال ابن جزي في "تفسيره": الجزيرة هنا: بين الشام والعراق، وهي أول الروم إلى فارس، وفي "الخازن" في أدنى الأرض، يعني: أقرب أرض الشام إلى فارس، وقيل: هي أذرعات، وقيل: الأردن، وقيل: الجزيرة اهـ. {فِي بِضْعِ سِنِينَ} وفي "القاموس" البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وفي

"كشف الأسرار" البضع اسم للثلاث والخمس والسبع والتسع، وفي "تفسير المناسبات": وذلك من أدنى العدد، لأنه في المرتبة الأولى، وهي مرتبة الآحاد. وقال المبرد: البضع ما بين العقدين في جمع الأعداد، وعبر بالبضع، وأبهم ولم يعين، وإن كان معلومًا له - صلى الله عليه وسلم - إبقاءً للعباد في ربقة الجهل، تعجيزًا لهم أو لإدخال الرعب والخوف عليهم في كل وقت، كما يؤخذ ذلك من "الرازي". والبضع بالفتح: قطع اللحم، وبالكسر: العدد المنقطع عن العشرة، ويقال: ذلك لما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: بل: هو فوق الخمس دون العشر اهـ. "روح". قال الراغب: الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية، ولم يرخص في الفرح إلا في قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}. وفي "كشف الأسرار": اليوم ترح، وغدًا فرح، اليوم عبرة، وغدًا خبرة، اليوم أسف، وغدا لطف، اليوم بكاء، وغدًا لقاء اهـ. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} والتفكر: تصرف القلب في معاني الأشياء، لدرك المطلوب، وهو، قبل أن يتصفى اللب، والتذكر بعده، ولذا لم يذكر في كتاب الله تعالى مع اللب إلا: التذكر، قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب الفرك، ولكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها، طلبًا للوصول إلى حقيقتها. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} والسير: المضي في الأرض. {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} والعاقبة: إذا أطلقت تستعمل في الثواب، كما في قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة، كما في هذه الآية، وهي آخر الأمر. {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} يقال: ثار الغبار والسحاب، انتشر ساطعًا، وقد أثرته، فالإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع غباره، والثور: اسم البقر الذي يثار به

الأرض، فكأنه في الأصل: مصدر جعل في موضع الفاعل، والبقر: من بقر: إذا شق؛ لأنها تشق بالأرض بالحراثة، ومنه قيل لمحمد بن الحسين بن علي: الباقر، لأنه شق العلم ودخل فيه مدخلًا بليغًا، والمعنى: وقلبوا الأرض للزراعة والحراثة واستنباط المياه، واستخراج المعادن، كما سبق اهـ. من "الروح". {وَعَمَرُوهَا} والعمارة: ضد الخراب؛ أي: عمروا الأرض، بفنون العمارات من الزراعة، والغرس، والبناء وغيرها. {السُّوأَى}: تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، أو مصدر كالبشرى، وصف به العقوبة مبالغةً، كأنها نفس السوأى، وقيل: السوأى، أي: اسم لجهنم، كما أن الحسثى اسم للجنة، وإنما سميت سوأى؛ لأنها تسوء صاحبها، كما سبق. قال الراغب: السوء: كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية من ذوات مال، وفقد حميم، وعبر بـ {السوأى} عن كل ما يقبح، ولذلك قوبل بالحسنى، قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} كما قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} انتهى. {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قال الراغب: الإبلاس: الحزن المعترض من شدة اليأس .. ومنه اشتق إبليس، ولما كان المبلس كثيرًا ما يلزم السكوت، وينسى ما يعينه، قيل: أبلس فلان، إذا سكت وانقطعت حجته اهـ. ويقال: أبلس فلان، فهو مبلس: إذا سكت عن يأس، ويقال: أبلس الرجل: انقطعت حجته فسكت، فهو لازم، لا يتعدى. وفي "الكشاف": الإبلاس: أن يبقى ساكنًا يائسًا متحيرًا، يقال: ناظرته فأبلس: إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج، ومنه الناقة المبلاس: التي لا ترغو. وفي "القاموس": وأبلس: يئس وتحير، ومنه إبليس، أو هو أعجمي، فقول صاحب، المنجد: إنه يقال: أبلسه غلط فظيع، وقد علل علماء التصريف قراءة {يُبْلِسُ} بالبناء للمفعول، بأن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل، ثم حذف

المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، إذ الأصل يبلس إبلاس المجرمين. {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} والروضة: كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة، والمراد بها الجنة، وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة. وفي "الأساس" و"اللسان": بأرضه روضة وروضات ورياض، وروض الغيث الأرض، وأراض المكان واستراض؛ أي: كثرت رياضه. اهـ. قال الراغب: الروض: مستنقع الماء والخضرة، وقوله: {فِي رَوْضَةٍ} عبارة عن رياض الجنة، وهي: محاسنها وملاذها انتهى. {يُحْبَرُونَ}؛ أي: يسرون سرورًا، تهللت له وجوههم، وفي "المفردات": يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم؛ أي: أثره، يقال: حبره: إذا سره سرورًا تهلل له وجهه، ويقال: حبر فلان، إذا بقي بجلده أثر من فرح، والحبر: العالم، لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس، ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها، وإلى هذا المعنى، أشار أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بقوله: والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة، ويقال: التحبير: التحسين الذي يسر به، يقال لعالم: حبر؛ لأنه يتخلق بالأخلاق الحسنة، وللمداد: حبر؛ لأنه يحسن به الأوراق، فيكون الحبرة كل نعمة حسنة اهـ. من "الروح". {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} والسبح: هو المر السريع في الماء أو الهواء، والتسبيح: تنزيه الله، وأصله: المر السريع في عبادة الله، جعل عامًا في العبادات، قولًا كان أو فعلًا أو نيةً، والسبوح والقدوس: من أسماء الله تعالى، وليس في كلامهم فعول سواهما، وسبحان هنا: مصدر كغفران، موضوع موضع الأمر، مثل {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. والتسبيح: محمول على حقيقته، وظاهره الذي هو تنزيه الله تعالى عن السوء، والثناء عليه بالخير، والحين: بالكسر وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان، طال أو قصر، يتخصص بالمضاف إليه، كما في هذا المقام.

والإمساء: الدخول في المساء، كما أن الإصباح: الدخول في الصباح، والمساء والصباح: ضدان، قال بعضهم: أول اليوم: الفجر، ثم الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم الضحوة، ثم الهجير، ثم الظهر، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق. {وَعَشِيًّا}: من عشى العين: إذا نقص نورها، ومنه الأعشى. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ} والخلق: عبارة عن تركيب الأجزاء، وتسوية الأجسام. {مِنْ تُرَابٍ} والتراب: جماد لا حس فيه، ولا حركة. {بَشَرٌ} قال في "المفردات": البشرة ظاهر الجلد، وعبر عن الإنسان بالبشر، اعتبارًا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف، أو الشعر، أو الوبر، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع، وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته، وظاهره بلفظ البشر. {تَنْتَشِرُونَ} قال الراغب: انتشار الناس تصرفهم في الحاجات اهـ. {أَزْوَاجًا} والأزواج: جمع زوج وهو: الفرد المزاوج لصاحبه، وكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى، وزوجةً لغةً رديئةً، وجمعها زوجات، كما في "المفردات". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المماثل في قوله: {غُلِبَتِ}، {سَيَغْلِبُونَ}. ومنها: الطباق بين {قَبْلُ} و {بَعْدُ}. ومنها: الإبهام في قوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} للتفخيم، ولإدخال الرعب في

قلوب المشركين في كل وقت، وللتعجيز لهم بإبقائهم في ربقة الجهل. ومنها: طباق السلب في قوله: {لَا يَعْلَمُونَ}، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. ومنها: تنكير {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ} للتحقير والتخسيس؛ أي: يعلمون ظاهرًا حقيرًا خسيسًا من الدنيا، وفائدته: تقليل معلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه، وهو وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ}، وهذا ما يرجح البدلية. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}؛ أي: المبالغ في العزة والمبالغ في الرحمة. ومنها: التعطف في قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} والتعطف: إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام، أو البيت من الشعر، فقد وردهم للمبالغة في تأكيد غفلتهم عن الآخرة، حتى كأنهم معدن للغفلة، وفيه إفادة الحصر بتكرير الضمير، وفيه الإيتان بالجملة الاسمية، للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} الآية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَسَاءُوا السُّوأَى}. ومنها: إيراد الاستهزاء في قوله: {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} بصيغة المضارع، للدلالة على استمراره وتجدده. ومنها: الطباق في قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وفي قوله: {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ}. ومنها: الالتفات في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للمبالغة في الترهيب. ومنها: الإتيان بلفظ ماضي المعنى في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} وماضي اللفظ والمعنى في قوله: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ} إشارةً إلى تحققه في علم الله تعالى.

ومنها: الإتيان بصيغة الجمع في قوله: {شُفَعَاءُ} لوقوعها في مقابلة الجمع، مع أن المعنى لم يكن لكل واحد منهم شفيع أصلًا. ومنها: إعادة قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} إفادةً لتهويله، وتفظيع ما يقع فيه، وفي قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تهويل له إثر تهويل. ومنها: المقابلة بين حال السعداء والأشقياء في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}. ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: {فِي رَوْضَةٍ}؛ أي: في روضة عظيمة. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} استعار الحي للمؤمن والميت للكافر، وهي استعارة في غاية الحسن والإبداع والجمال. ومنها: اللف والنشر في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأولين، بالقرينين الأخيرين؛ لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه، كشيءٍ واحدٍ، مع إعانة اللف على الاتحاد، ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم فيهما، والظاهر: هو الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن، يسمعونه بالآذان الواعية. ومنها: التنوين في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} للدلالة على عظم شأنها؛ أي: لآياتٍ عظيمةً باهرةً. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}.

المناسبة قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه (¬1) سبحانه لما ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف .. ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق، ونشاهده رأى العين، الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادكر، ونظر في العوالم نظرة متأمل معتبر، في بدائع الأكوان، ليتوصل إلى معرفة مدبرها وخالقها، الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى. قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام الأدلة على الوحدانية، وهي الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهي الأصل الثاني .. أعقب ذلك بهاتين الآيتين، وجعلهما كالنتيجة لما سلف. قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لم قبلها: أن الله سبحانه لما بين قدرته على الإعادة، بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلًا .. أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية، بعد إقامة الدليل عليها. قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد البينات والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر، وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله، ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم؛ لأن الله تعالى قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه، ولا ينقذهم من ذلك، لا هو ولا غيره {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .. أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بامرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنةً ولا يسرةً، فهو فطره الله التي خلق العقول معترفةً بها. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...} الآيات (¬2)، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أرشد إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب المثل .. أعقبه بذكر حال للشركين يعرفون بها، وسيما لا ينكرونها، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

وهي أنهم حين الشدة يتضرعون إلى ربهم، وينيبون إليه، فإذا خلصوا منها .. رجعوا إلى شنثنتهم الأولى، وأشركوا به الأوثان، والأصنام، فليضلوا ما شاؤوا، فإن لهم يومًا يرجعون فيه إلى ربهم، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون، بل هو الهوى المطاع، والرأي المتبع، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا، فإن آتاهم ربهم منها .. رضوا، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده، وقد جعل لذلك أسبابًا، متى سلكها فاعلها .. وصل إلى ما يريد، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون، فكله بقدر الله وقضائه، وعلينا أن نستسلم له، ونعمل ما طلب إلينا عمله، من الأخذ في العمل جهد الطاقة. وقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. أردف ذلك ببيان أنه يحب الإحسان على ذوي القربى وذوي الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق .. لم ينقصه الإنفاف، وإذا قدر .. لم يزده الإمساك. إِذَا جَادَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا ... عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّها تَتَقَلَّبُ فَلاَ الْجُوْدُ يُفْنِيْهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ ... وَلاَ الْبُخْل يُبْقِيْهَا إِذَا هِيَ تَذْهَبُ قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه، وأشركوا به غيره، والشرك سبب الفساد، كما يرشد إلى ذلك قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .. أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله، واجترحوا المعاصي، وفثما بينهم الظلم والطمع، وأكل القوي مال الضعيف، فصب عليهم ربهم سوط عذابه، فكثرت الحروب، وافتن الناس في أدوات التدمير والإهلاك، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها، إلى طائرات قاذفات للحمم والمواد المحرقة إلى مدافع تحصد الناس حصدًا إلى دبابات سميكة الدروع تهد

المدن هدًا، وما الحرب القائمة الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض، فارتكب المظالم، واجترح المآثم، والإنسان في كل عمر هو الإنسان، وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم، فليجعلوا من سبقهم مثلًا لهم، ليتذكروا عقاب الله، وشديد عذابه للمكذبين. قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} ... الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) نهى الكافر عن بقائه على الحالة التي هو عليها، خيفة أن يحل به سوء العذاب .. أردف ذلك أمر رسوله، ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر .. فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحًا .. فقد أعد لنفسه مهادًا يستريح عليه، بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه، ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له في حسبان، والكافر سيلقى في هذا اليوم العذاب والنكال؛ لأن ربه يبغضه ويمقته، جزاء ما دسى به نفسه من سيء العمل. أسباب النزول قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت هذه الآية {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...} الآية. قوله تعالى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس، قال: كان يلبي أهل الشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[24]

ملك، فأنزل الله هذه الآية. {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} الآية. وأخرج جويبر مثله عن داود بن أبي هند، عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه. التفسير وأوجه القراءة 24 - {وَمِنْ آيَاتِه} أي: ومن دلائل قدرته سبحانه وتعالى {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}؛ أي: أن يريكم البرق؛ أي: إراءَته إياكم البرق، أصله: أن يريكم، فلما حذف (أن) لدلالة الكلام عليه سكن الياء، كما في "برهان القرآن" كما في قول طرفة: ألا أيهذا اللائمي أحضرَ الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي والتقدير: أن أحضر، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله، ومنه المثل المشهور: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها (أن) قياسًا، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له، فيكون التقدير في هذين الوجهين: ومن آياته إراءته إياكم البرق، فـ {مِنْ آيَاتِهِ}: مقدم على أنه خبر المبتدأ، وقيل: غير ذلك. والبرق: لمعان السحاب كما سيأتي. وقوله: {خَوْفًا}: مفعول لأجله، بمعنى الإخافة، كقوله: فعلته رغمًا للشيطان؛ أي: إرغامًا له. والمعنى (¬1): يريكم ضوء السحاب، إخافة من الصاعقة، خصوصًا لمن كان في البرية من أبناء السبيل. {وَطَمَعًا} أي: إطماعًا في الغيث، لا سيما لمن كان مقيمًا. قاله الضحاك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فإن قلت: المقيم يطمع لضرورة سقي الزروع والكروم والبساتين ونحوها، وأما المسافر فلا؟. قلت: يطمع المسافر أيضًا في الأرض القفر، لضرورة شربه، وشرب دوابه، وطهارته، وقال يحيى بن سلام: خوفًا من البرد أن يهلك الزرع، وطمعًا في المطر أن يحيي الزرع، وقال ابن بحر: خوفًا أن يكون البرق برقًا خليًا، لا يمطر، وطمعًا أن يكون ممطرًا، وأنشد: لَا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خَلْيًا ... إِنَّ خَيْرَ الْبَرْقِ مَا الْغَيْثُ مَعَهْ ويحتمل انتصاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} على أنهما مصدران في موضع الحال من ضمير المخاطبين؛ أي: حالة كونكم خائفين وطامعين. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: ومن آياته ودلائل قدرته: أن ينزل من السماء والسحاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (¬1): بسكون النون. {مَاءً}؛ أي: مطرًا {فَيُحْيِي بِهِ}؛ أي: بسبب ذلك الماء {الْأَرْضَ} بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: يبسها. فإن قلت (¬2): ما حد المطر؟ قلت: المطر: هو الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت نحو الأرض. فإن قلت: ما حد الأرض؟ قلت: الأرض: جسم غليظ، أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف في مركز العالم، مبين لكيفية الجهات الست، فالمشرق: حيث تطلع الشمس، والمغرب حيث تغيب، والشمال: حيث مدار الجدي، والجنوب: حيث مدار السهيل، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[25]

والفوق: ما يلي المحيط، والأسفل: ما يلي مركز الأرض. فإن قلت: ما النبات؟ قلت: النبات ما الغالب عليه المائية. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من إراءة البرق، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به بعد موتها، {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات على قدرة الفاعل المختار، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يفهمون عن الله سبحانه حججه وأدلته، فكما أنه تعالى قادر على أن يحيى الأرض بعد موتها، كذلك قادر على أن يحيي الموتى، ويبعث من في القبور. قال في "برهان القرآن": ختم الآية بقوله: {يَعْقِلُونَ} لأن العقل ملاك الأمر في هذه الأبواب، وهو المؤدي إلى العلم. انتهى. قال بعض العلماء: العاقل: من يرى بأول رأيه آخر الأمور، ويهتك عن مهماتها ظلم الستور، ويستنبط دقائق القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قال حكيم: العقل والتجربة في التعاون، بمنزلة الماء والأرض، لا يطيق أحدهما بدون الآخر إنباتًا. ومعنى الآية (¬1): أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته: أنه يريكم البرق فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر، الذي ينزل من السماء، فيحيي الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر، إن في ذلك المذكور لبرهانًا قاطعًا، ودليلًا ساطعًا على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضًا هامدةً، لا نبات فيها، ولا شجر، يجيئها الماء فتهتز وتريو وتنبت من كل زوج بهيج، لهي المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها، على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين. 25 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} وحججه الدالة على قدرته على ما يشاء {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ ¬

_ (¬1) المراغي.

وَالْأَرْضُ} أي: قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه من الهيئات، إلى الأجل المقدر لقيامهما، وهو يوم القيامة {بِأَمْرِهِ} أي: بإرادته وقدرته سبحانه، بلا عمد يعمدهما، ولا مستقرٍ يستقران عليه، والتعبير (¬1) عن الإرادة بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادىء والأسباب، والأمر: لفظ عام للأفعال والأقوال كلها، كما في "المفردات". {ثُمَّ} بعد موتكم ومصيركم في القبور {إِذَا دَعَاكُمْ} وناداكم أيها العباد، {دَعْوَةً} واحدةً بالنفخة الأخيرة {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق بدعاكم؛ أي: دعاكم من الأرض التي أنتم فيها، كما يقال: دعوته من أسفل الوادي، فطلع إلى، ولا يجوز أن يتعلق بـ {تَخْرُجُونَ} لأن ما بعد إذا، لا يعمل فيما قبلها. والمعنى: ثم إذا دعاكم بعد انقضاء الأجل، وأنتم في قبوركم دعوةً واحدةً، بأن قال: أيها الموتى أخرجوا، والداعي في الحقيقة هو إسرافيل - عليه السلام - فإنه كما قيل: يدعو الخلق على صخرة بيت المقدس، حين ينفخ النفخة الأخيرة من النفختين. {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} من الأرض. إذا للمفاجأة، ولذلك ناب مناب الفاء في الجواب، فإنهما يشتركان في إفادة التعقيب، أي: فاجأتم الخروج منها بلا توقف ولا إباء، وذلك لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}. وقال الزمخشري (¬2): قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً} بمنزلة قوله: {يُرِيكُمُ} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من البور إذا دعاهم دعوةً واحدةً، يا أهل القبور اخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ {ثُمَّ} بيانًا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف.

[26]

وقرأ حمزة والكسائي (¬1): {تَخْرُجُونَ} بفتح التاء وضم الراء، وباقي السبعة بضمها وفتح الراء. وقال الشوكاني: وقد أجمع القراء على فتح التاء في {تَخْرُجُونَ} هنا، وغلط من قال: إنه قرىء هنا بضمها على البناء للمفعول وإنما قرىء بضمها في الأعراف. انتهى. والمعنى (¬2): أن إمساك هذه العوالم وإقامتها، وتدبيرها وإحكامها، من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها، ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهي أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكًا، وحينئذٍ تخرجون من قبوركم سراعًا، حينما يدعوكم الداعي، ونحو الآية قوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}، وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}. وقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}. 26 - {وَلَهُ} سبحانه خاصةً، لا لغيره {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة {وَ} من في {الْأَرْضِ} من الإنس والجن خلقًا وملكًا وتصرفًا، ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه {كُلٌّ}؛ أي: كل من فيهما وفي غيرهما {لَهُ} سبحانه وتعالى وهو متعلق بقوله: {قَانِتُونَ} من القنوت، وهو الطاعة، والمراد: طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة؛ أي: منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم وعز وذل وغنى وفقر وغيرها، لا يمتنعون عليه تعالى في شأن من شؤونه، فهم مسخرون تحت حكمه على كل حال، وقال الحسن (¬3): {قَانِتُونَ}؛ أي: قائمون بالشهادة على وحدانيته، كما قال الشاعر: وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وقيل: قائمون يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. 27 - {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْق} بمعنى المخلوق؛ أي: ينشئهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

في الدنيا ابتداءً، فإنه أنشأ آدم وحواء، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، ثم يميتهم عند إنتهاء آجالهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ}؛ أي: يعيد الخلق بعد موتهم بالبعث من القبور، فيحييهم الحياة الدائمة، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الخلق؛ أي: ثم يعيدهم في ألآخرة بنفخ صور إسرافيل، فيكونون أحياءً كما كانوا. {وَهُوَ}؛ أي: الإعادة، وذكر الضمير نظرًا للخبر أو لأن التاء فيه تاء المصدر، أو نظرا للمعنى؛ لأنه بمعنى العود، كما في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}؛ أي: مكانًا ميتًا. {أَهْوَنُ}؛ أي: أسهل وأيسر {عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى من البدء (¬1) بالنسبة إلى قدرتكم أيها الآدميون، وبالقياس على قوانينكم، وإلا فهما عليه تعالى سواء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} سواء هناك مادة أم لا، يعني: إن ابتداء الشيء، أشد عند الخلق من إعادته، وإعادته أهون من ابتدائه، فتكون الآية واردةً على ما يزعمون فيما بينهم، ويعتقدون عندهم، وإلا فما شق على الله ابتداء الخلق، فيكون إعادتهم أهون عليه. وقال بعضهم: أفعل هنا ليس للتفضيل، بل هو بمعنى فعيل، فيكون أهون بمعنى هين، مثل الله أكبر بمعنى كبير، قال الفرزدق: إِنَّ الَّذِيْ سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَاِئِمُهُ أَعَزَّ وَأَطْوَلُ أي: عزيزة طويلة، وقيل: الضمير في عليه للخلق، وهو؛ أي: العود أهون؛ أي: أيسر أو أسرع عليهم؛ أي: على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة، فيقومون دفعةً، ويقال لهم: كونوا فيكونون، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفةً، ثم علقةً ثم مضغةَ إلى النشأة، وقرأ (¬2) عبد الله بن مسعود: {وهو عليه هين}. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬3): لم أخر الصلة في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الكشاف.

عَلَيْهِ} وقدمت في قوله: {هُوَ عَلَىّ هيَنٌ}؟ قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: و {هُوَ عَلَىّ هَيّنٌ}، وإن كان مستصعبًا عندك أن يولد بين هرم وعاجز، وأما هنا: فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى. {وَلَه} سبحانه وتعالى، لا لغيره {الْمَثَلُ الْأَعْلَى}؛ أي (¬1): الوصف الأعلى، العجيب الشأن، من القدرة العامة، والحكمة التامة، وسائر صفات الكمال، التي ليست لغيره تعالى ما يدانيها، فضلًا عما يساويها، فالمثل بمعنى الصفة، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي} وقوله: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}؛ أي: صفتها وصفتم، قاله الخليل، وقال مجاهد: المثل الأعلى: قول لا إله إلا الله، وبه قال قتادة، أراد به الوصف بالوحدانية، يعني له الصفة العليا، وهي: أنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه: وقيل: المثل الأعلى: هو أنه ليس كمثله شيء، وقيل: هو أنه ما أراده كان بقول: كن. وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} متعلق (¬2) بمضمون الجملة المتقدمة، على معنى أنه تعالى قد وصف بالمثل الأعلى، وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق؛ أي: نطقًا، وألسنة الدلائل؛ أي: دلالةً، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {الْأَعْلَى}، أو من {الْمَثَلُ}، أو من الضمير في {الْأَعْلَى}. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ} في ملكه القادر الذي لا يغالب، أو القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن ما، وإعادته {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة. قال بعضهم (¬3): دلت الآية على أن السماوات والأرض مشحونة بشواهد وحدته، ودلائل قدرته تعالى، والعجب منك، أنك إذا دخلت بيت غني .. فتراه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

مزينًا بأنواع الزين، فلا ينقطع تعجبك عنه، ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمرك، وأنت تنظر أبدًا إلى الآفاق والأنفس، وهي بيوت الله المزينة بأسمائه وصفاته، وآثاره المتجلية بقدرته، وعجيب آياته، ثم أنت فيما شاهدته أعمى عن حقيقته لعمى باطنك، وعدم دخولك في بيت القلب، الذي بالتفكر المودع فيه يستخرج الحقائق، وبالتذكر الموضوع فيه يرجع الإنسان إلى ما هو بالرجوع لائق، وبالشهود الذي فيه يرى الآيات، ويدرك البينات، ولولا هداية الملك المتعالي .. لبقي الخلق في ظلمات الضلال، فعليك بتوحيد الله تعالى في الليل والنهار، فإنه خير أوراد وأذكار، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وذكر الله سبب الحضور، وموصل إلى مشاهدة المذكور، ولكن الكل بعناية الله الملك الغفور. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. يَا ذَا الَّذِيْ أَنِسَ الْفُؤادُ بِذِكْرِهِ ... أَنْتَ الَّذِيْ مَا إِنْ سِوَاكَ أُرِيْدُ تَفْنَى اللَّيَالِيْ وَالزَّمَانُ بِأَسْرِهِ ... وَهَوَاكَ غَضٌّ فِيْ الْفُؤادِ جَدِيْدُ وحاصل معنى الآية (¬1): أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أن لم يكن شيئًا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأ، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور في عقول المخاطبين، من أن من فعل شيئًا مرةً كانت الإعادة أسهل عليه. والخلاصة: أن الإعادة أسهل على الله من البدء، بالنظر لما يفعله البشر، مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى، أهو عليهم من إيجاده ابتداءً، والمراد بذلك: التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء، وقصارى ذلك: أنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم. روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولو يولد، ولم يكن له كفوًا أحد". {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}؛ أي: وله الوصف البديع في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شيء، تعالى عن الشبيه والنظير، وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم في تدبير خلقه، وتصريف شؤونه، فيما أراد على وفق الحكمة والسداد. 28 - {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا} أي: بين الله سبحانه وتعالى لكم أيها المشركون، شبهًا لما تشركون به، مأخوذًا ذلك المثل {مِنْ} أحوال {أَنْفُسِكُمْ} التي هي أقرب الأمور إليكم، وأعرفها عندكم، بين به بطلان شرككم، فمن ابتدائية، والمثل تشبيه شيء خفي بشيء جلي، قال أبو الليث: نزلت في كفار قريش، كانوا يعبدون الآلهة، ويقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثم صور المثل، فقال: {هَلْ لَكُمْ} والاستفهام فيه للإنكار، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم من العبيد والإماء: تبعيضية، وفي قوله: {مِنْ شُرَكَاءَ} زائدة، لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام. {فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الأموال والأسباب؛ أي: هل ترضون لأنفسكم شركةً في ذلك، والمعنى: هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال، كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم، وهم العبيد والإماء، وجملة قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ}؛ أي: فيما رزقناكم {سَوَاءٌ}؛ أي: مستوون يتصرفون فيه كتصرفكم، من غير فرق بينكم وبينهم، جواب للاستفهام الإنكاري الذي بمعنى النفي، ومحققة لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، وجملة قوله: {تَخَافُونَهُمْ} خبر آخر لـ {أنتم} داخل تحت الاستفهام الإنكاري، كما في "الإرشاد"؛ أي: تخافون مماليككم أن يستقلوا وينفردوا بالتصرف فيه، و"الكاف" في قوله: {كَخِيفَتِكُمْ} نعت لمصدر محذوف، ومعنى قوله: {أَنْفُسَكُمْ} هاهنا أمثالكم من الأحرار، كقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: بعضكم بعضًا.

والمعنى: خيفةً كائنةً مثل خيفتكم من أمثالكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر من الحرية، وملك الأموال وجواز التصرف، والمقصود: نفي الأشياء الثلاثة: الشركة بينهم وبين المملوكين، والاستواء معهم وخوفهم، وليس المراد ثبوت الشركة، ونفي الاستواء والخوف، كما قيل في قولهم: ما تأتينا فتحدثنا. والمراد: نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية. والمعنى (¬1): أي لا ترضون بأن يشارككم فيما بأيديكم من الأموال المستعارة مماليككم، وهم عندكم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل الله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية - التي هي من خصائصه الذاتية - مخلوقه، بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم، ثم تعبدونه. والمراد: إقامة الحجة على المشركين، فإنهم لا بد أن يقولوا: لا نرضى بذلك، فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم، وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة .. بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، ولم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له. وقرأ الجمهور (¬2): {أنفسكم} بالنصب، على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وقرأ ابن أبي عبلة، وابن أبي عبيدة: بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول، مع وجود الفاعل، وفي الآية دليل على أن العبد لا ملك له؛ لأنه أخبر: أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله سبحانه من الأموال. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك التفصيل الواضح المذكور في هذا المثل {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}؛ أي: نبين ونوضح دلائل الوحدة، تفصيلًا واضحًا، وبيانًا جليًا، لا تفصيلًا أدنى منه، فإن التمثيل: تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس، فيكون في غاية البيان والإيضاح. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[29]

وقرأ الجمهور: {نُفَصِّلُ} بالنون، حملًا على رزقناكم. وقرأ عباس عن ابن عمر: بياء الغيبة، مراعيًا لضرب إذ هو مسند للغائب {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يستعملون عقولهم في تدبر الأمور والأمثال؛ لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية؛ باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها. وحاصل معنى الآية (¬1): أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته، بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها، التي هي أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا. وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يفولون في التلبية والدعاء حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وخلاصة المثل: أن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده في التصرف في أمواله، فيكف تجعلون لله الأنداد من خلقه. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}؛ أي: مثل هذا التفصيل البديع، بضرب الأمثال الكاشفة للمعاني، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس، التي هي به ألصق، ولإدراكه أقرب، نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض، التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغي، والحق من الباطل، ولأمرٍ ما كثرت الأمثال في جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين. 29 - ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهًا من أنفسهم، وجهلًا، لا ببرهان قد لاح لهم؛ أي: أعرض عن مخاطبتهم، وبين استحالة تبعيتهم للحق، فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشرك، وكفروا بالله؛ أي (¬2): لم يعقلوا شيئًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

من الآيات، بل اتبعوا {أَهْوَاءَهُمْ} وشهواتهم للتسجيل عليهم، ففي الكلام إضراب مع الالتفات، ووضع الظاهر، أعني: الموصول موضع المضمر، للتسجيل عليهم، بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون؛ لأن مقتضى: السياق أن يقال: بل اتبعتم أهواءكم بغير علم، وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الموصول؛ أي: بل أَتبع الذين ظلموا أهواءهم الزائغة، وآراءهم الفاسدة، حال كونهم جاهلين، ما أتوا به من الضلالة، لا يكفهم عنه شيء، فإن العالم إذا أَتبع هواه .. ربما ردعه علمه. والاستفهام في قوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}؛ أي: خلق فيه الضلالة بصرف اختياره إلى كسبها: إنكاري؛ أي: لا أحد يقدر على هدايته؛ لأن الرشاد والهداية، بتقدير الله تعالى وإرادته {وَمَا لَهُمْ}؛ أي: لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى، والمراد بهم المشركون {مِنْ نَاصِرِينَ} يخلصونهم من الضلال، ويحفظونهم من آفاته؛ أي: ليس لأحدٍ منهم ناصر واحد على ما هو قاعدة مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه؛ أي: هؤلاء ممن أضلهم الله فلا هادي لهم. ومعنى الآية (¬1): أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلًا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، ولو قلبوا وجوه الرأي، واستعملوا الفكر والتدبر .. لربما ردهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنى لهم ذلك. فمن يهدي من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسبًا له باختياره، لسوء استعداده، وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك، وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله، وشديد إنتقامه إذا حل بهم؛ لأنه ما شاء .. كان، وما لم يشأ لم يكن. وفي الآية إشارة إلى (¬2) أن العمل بمقتضى العقل السليم هدى، والميل إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[30]

التقليد للجهلة هوى، فكما أن أهل الهدى منصورون أبدًا، فكذا أهل الهوى، مخذولون سرمدًا وإلى أن الخذلان واتباع الهوى من عقوبات الله المعنوية في الدنيا، فلا بد من قرع باب العفو بالتوبة، والسلوك إلى طريق التحقيق، والإعراض عن الهوى والبدعة، فإنهما شر رفيق. 30 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتوحيده وعبادته فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: قوم ذاتك وعدلها واصرفها {لِلدِّينِ} الحنيفي، وأقبل بكليتك عليه، غير ملتفت عنه يمينًا وشمالًا، أو أخلص عملك لله تعالى، وهذا تمثيل (¬1) لإقباله على الدين، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء .. عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه. و {الفاء} فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان (¬2) حال المشركين اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى .. فقوم وجهك يا محمد للدين الحق، الذي هو دين الإِسلام، وعدله غير ملتفت يمينًا وشمالًا، أو سدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم دين الفطرة. وقوله: {حَنِيفًا} حال من فاعل {أَقِمْ}؛ أي: حال كونك مائلًا إليه عن سائر الأديان، مستقيمًا عليه لا ترجع عنه إلى غيره، ويجوز أن يكون حالًا من {الدِّينِ}؛ أي: حال كون ذلك الدين قويمًا لا اعوجاج فيه، وقال بعضهم: في الآية الوجه، ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه مما يتوجه الإنسان إليه، لتسديده وإقامته، والمعنى عليه: أخلص دينك، وسدد عملك مائلًا إليه عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة. والخطاب عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجميع الأمة، والإفراد في {أَقِمْ} لما أن الرسول إمام الأمة، فأمره مستتبع لأمرهم، وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} منصوب على الإغراء؛ أي: الزموا أيها الناس فطرت الله سبحانه؛ أي: دينه وتوحيده، وترسم ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

{التاء} فيه مجرورةً وليس في القرآن غيرها. اهـ. "الفتوحات". {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}؛ أي: خلق جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم عليها في بطون أمهاتهم، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم، وسألهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فقالوا: {بَلَى} والموصول صفة لـ {فِطْرَتَ اللَّهِ} مؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر، فإن خلق الله الناس على فطرته التي هي عبارة عن قبولهم للحق، وتمكنم من إدراكه، أو عن ملة الإِسلام، من موجبات لزومها، والتمسك بها قطعًا. المعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإِسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبًا للعقل، مساوقًا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا وما خلقوا عليه ما اختاروا عليه دينًا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: "كل عبادي خلقت حنفاء، فاجتالتهم - استخفتهم وأضلتهم - الشياطين عن دينهم، وأمروهم أن يشركوا بي غيري". ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه، الذي رواه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" يعني تكونون أنتم تجدعونها؛ أي: تقطعون أنفها أو أذنها، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ ...} الآية. ومعناه: كل مولود إنما يولد في مبدأ الخلقة، وأصل الجبلة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها .. استمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدين حسنه العقل السليم، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد، فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. وحكي عن عبد الله بن المبارك (¬1): أنه قال في معنى الحديث: "إن كل مولود يولد على فطرته"؛ أي: خلقته التي خلقه الله عليها في علمه، من السعادة ¬

_ (¬1) روح البيان.

والشقاوة، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل: أن يولد بين يهوديين، أو نصرانيين، فيحملانه على اعتقاد دينهما. فإن قلت: الحديث الذي ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا" يعارضه حديث أبي هريرة: "كل مولود يولد على الفطرة" فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: يجمع بينهما بأن المراد بالفطرة: استعداده لقبول الإسلام، كما مر، وذلك لا ينافي كونه شقيًا في جبلته، أو يراد بالفطرة قولهم: {بَلَى} حين قال الله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. قال النووي: لما كان أبواه مؤمنين .. كان هو مؤمنًا أيضًا، فيجب تأويله بأن معناه - والله أعلم -: إن ذلك الغلام لو بلغ لكان كافرًا. انتهى. ثم لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي، المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه" فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه، محكوم له بحكم أبويه الكافرين، كما في "كشف الأسرار". والمعنى: أي الزموا خلقة الله، التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد، وموقنين به، لكونه موافقًا لما يهدي إليه العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد في الحديث المتفق عليه، لأبي هريرة الذي سبق آنفًا، وقوله {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}؛ أي: لدينه وتوحيده تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى لوجوب الامتثال به؛ أي: لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه، وعدم مقتضاه عليه بقبول الهوى، واتباع وسوسة الشيطان، أو هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها تبديل لها من جهة الخالق سبحانه. وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم. وفي "التأويلات النجمية": لا تحويل لما له خلقهم، فطر الناس كلهم على التوحيد، فأقام قلب من خلقه للتوحيد والسعادة، وأزاغ قلب من خلقه للإلحاد

[31]

والشقاوة. انتهى. وقيل: هو نفي معناه النهي؛ أي: لا تبدلوا خلق الله ودينه بالشرك، بيان (¬1) هذا: أن العقل الإنساني كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهي تنبت حنظلًا وفاكهةً ودواءً وسمًا، والنفس ترد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعي، والقليل منه سم لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة، إلا بمعلم يعلمها ذلك، كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه .. لعرف أن الإله واحد، ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل، لا تغير إلا بمؤثر خارجي يضلها بعد علم. {ذَلِكَ} الذي أمرتكم به من التوحيد، أو ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو لزوم فطرة الله المستفاد من الإغراء، أو الفطرة إن فسرت بالمملة، والتذكير بتاويل المذكور، أو باعتبار الخير {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو وصف بمعنى المستقيم المستوي. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}؛ أي: كفار مكة {لَا يَعْلَمُونَ} استقامته حتى يفعلوه، ويعملوا به، فينحرفون عنه انحرافًا، وذلك لعدم تدبرهم وتفكرهم في البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم .. لاتبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه. 31 - وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} تعالى؛ أي: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه: حال من الضمير في الناصب المقدر لـ {فِطْرَتَ اللَّهِ} أو في {أَقِمْ} لعمومه للأمة، وما بينهما اعتراض، وقيل: منصوب على أنه خبر لكان المحذوفة؛ أي: وكونوا منيبين إليه، لدلالة: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

الْمُشْركِينَ} على ذلك، وهو من أناب إذا رجع مرةً بعد أخرى. والمعنى: الزموا فطرة الله، أو فأقيموا وجوهكم للدين، حال كونكم راجعين إليه مالى كل ما أمر به، مقبلين عليه بالطاعة. {وَاتَّقُوهُ} سبحانه وتعالى باجتناب معاصيه، وهو معطوف على الزموا المقدر الناصب لـ {مُنِيبِينَ}. والمعنى: أي فأقم وجهك أيها الرسول، أنت ومن اتبعك حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه وراقبوا أن تفرطوا في طاعته، وترتكبوا معصيته {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الخمس؛ أي: أدوها في أوقاتها على شرائطها وحقوقها. قال الراغب: إقامة الشيء: توفية حقه، ولم يأمر الله بالصلاة حيث أمر، ولا مدح بها حيثما مدح، إلا بلفظ الإقامة، تنبيهًا على أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئاتها. والمعنى: أي وداموا على إقامتها، فهي عمود الدين، وهي التي تذكر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه في اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء والمنكر؛ لأنها تعوِّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته في السر والعلن، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} به غيره المبدلين لفطرة الله تبديلًا، بل أخلصوا له العبادة، ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره واجتناب نواهيه. 32 - وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بدل من {الْمُشْرِكِينَ} بإعادة الجار، وتفريقهم لدينهم: اختلافهم فيما يعبدون على اختلاف أهوائهم، وفائدة (¬1) الإبدال: التحذير عن الانتماء إلى ضرب من أضراب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين. وكانوا شيعًا؛ أي: فرقًا مختلفة يشايع كل منها - أي يتابع - إمامها الذي هو أصل دينها. وقرأ حمزة والكسائي (¬2): {فارقوا دينهم} ورويت هذه القراءة عن علي بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[33]

أبي طالب؛ أي: فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد؛ أي: ولا تكونوا من المشركين، الذين بدلوا دين الفطرة وغيروه، وكانوا في ذلك فرقًا مختلفة، كلها جاذبت الحق، وركنت إلى الباطل، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر الأديان الباطلة. والخلاصة: أن أهل الأديان قبلنا، اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحلٍ باطلة، كل منها تزعم أنها على شيء. {كُلُّ حِزْبٍ} وطائفة وجماعة من هؤلا الذين فارقوا دينهم الحق وأحدثوا من البدع ما أحدثوا، {بِمَا لَدَيْهِمْ}؛ أي: بما عندهم من الدين المعوج، المؤسس على الزيغ والزعم الباطيل {فَرِحُونَ}؛ أي: مسرورون راضون، ظنًا منهم أنه الحق والصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل، والمذاهب الأخرى. 33 - {وَإِذَا مَسَّ} وأصاب {النَّاسَ}؛ أي: أهل مكة {ضُرٌّ}؛ أي: ضرر وشدة وسوء حال، كجوع ووباء وقحط وفقر وغير ذلك من أنواع البلاء {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم، واستغاثوا به حال كونهم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: راجعين إليه من دعاء غيره، ملتجئين به، لا يعولون على غيره، لسلمهم أنه لا فرج عند الأصنام، ولا يقدر على كشف ذلك عنم غير الله، وقيل: مقبلين إليه بكل قلوبهم. والمعنى (¬1): أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر ضر، فأصابهم جدب وقحط مثلًا .. أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه، واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين من شركهم وكفرهم. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ} ومنحهم {مِنْهُ}؛ أي: من عنده سبحانه {رَحْمَةً}؛ أي: خلاصًا وعافيةً من الضر النازل بهم بإجابة دعائهم، وذلك بالخصب والغنى والعافية مثلًا {إِذَا}: فجائية، وقعت في جواب الشرط؛ لأنها كالفاء في إفادة ¬

_ (¬1) المراغي.

[34]

التعقيب. {فَرِيقٌ} وجماعة {مِنْهُمْ}؛ أي: من أولئك المشركين {بِرَبِّهِمْ} الذي كشف عنهم الضر {يُشْرِكُونَ} غيره؛ أي: فاجأ فريق منهم بالعود إلى الإشراك بربهم، الذي عافاهم وخلصهم من ذلك الضر. وتخصيص (¬1) هذا الفعل ببعضهم؛ لما أن بعضهم ليسوا كذلك، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}؛ أي: مقيم على الطريق القصد، أو متوسط في الكفر، لانزجاره في الجملة. وهذا كلام مسوق للتعجيب من أحوالهم، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله تعالى عند نزول الشدايد، والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم؛ أي: ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر، وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعةٍ .. إذا جماعة منهم يشركون به، فيعبدون معه الآلهة والأوثان. والخلاصة: أنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم نعمه .. إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره. 34 - و {اللام}: في قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: أعطيناهم من نعمة الخلاص والعافية: هي لام كي، وقيل: لام الأمر، أمرهم أمر تهديد، كما يقول السيد لعبده متوعدًا، إذا راه قد خالف أمره، اعصني ما شئت، وقيل: هي لام العاقبة؛ أي: ليكون عاقبة أمرهم كفران ما آتيناهم بنسبته إلى الأصنام، أو إلى النجم الفلاني، والمعنى على الأمر؛ أي: فليجحدوا (¬2) نعمي عليهم، وإحساني إليهم كيف شاؤوا، فإن لهم يومًا نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون. ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع، فقال: {فَتَمَتَّعُوا} بكفركم قليلًا إلى وقت آجالكم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والأمر فيه: للتهديد أيضًا؛ أي: فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة في الدنيا فما هي إلا أوقات قصيرة تمضي كلمح البصر، ثم هددهم أشد التهديد بقوله: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[35]

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} في الآخرة إذا وردتم علي عاقبة تمتعكم، وما يصيبكم من شديد عذابي، وعظيم عقابي على كفركم بي في الدنيا. روي عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدني حارس درب .. لخفت فيه، فكيف والمتوعد هو الله، الذي يقول للشيء: كن فيكون. وقرأ الجمهور (¬1): {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بالتاء فيهما، وقرأ أبو العالية: {فيمتعوا} بالياء مبنيًا للمفعول، وهو معطوف على {لِيَكْفُرُوا} {فسوف يعلمون} بالياء على التهديد لهم، وعن أبي العالية: بياء قبل التاء عطف أيضًا على {لِيَكْفُرُوا}؛ أي: لتطول أعمارهم على الكفر، وعنه عن عبد الله: {فليتمتعوا} باللام. وقال هارون: وفي مصحف عبد الله: {يُمتعوا}. 35 - ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره تعالى بلا دليل، فقال: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} و {أَمْ}: منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري المضمن لتوبيخ؛ أي: بل: أأنزلنا على هؤلاء المشركين حجة واضحة كالكتاب {فَهُوَ}؛ أي: ذلك السلطان {يَتَكَلَّمُ} تكلم دلالة {بِمَا كَانُوا بِهِ} تعالى {يُشْرِكُونَ}؛ أي (¬2): بإشراكهم به تعالى، وصحته على أن {ما} مصدرية، أو بالأصنام التي يشركون به تعالى في ألوهيته على أنها موصولة، وهي أولى من جعلها مصدرية، لوجود العائد، والمراد بالاستفهام، النفي والإنكار، أي: لم ننزل عليهم ذلك، ويجوز أن تكون الباء سببية؛ أي: بالأمر الذي بسببه يشركون. والمعنى (¬3): أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأصنام، كتابًا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدعون، وإجمال القصد: أنه لم ينزل بما يقولون كتابًا، ولا أرسل به رسولًا، وإنما هو شيء افتعلوه اتباعًا لأهوائهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[36]

36 - ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلته، إلا من عصمه الله فقال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ}؛ أي: إذا منحنا ورزقنا جنس الإنسان {رَحْمَةً}؛ أي: خصبًا ونعمةً وعافيةً {فَرِحُوا بِهَا}؛ أي: بتلك الرحمة فرح بطر وأشر لا فرح شكر بها وحمد عليها، وابتهاج بوصولها إليهم، وغرتهم الحياة الدنيا، وأعرضوا عن عبودية المولى. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}؛ أي: شدة من بلاءً وضيق مثلًا. {بِمَا قَدَّمَتْ}؛ أي: بسبب شؤم ما قدمته واقترفته {أَيْدِيهِمْ} من المعاصي والذنوب، {هُمْ يَقْنَطُونَ} وييئسون من رحمة الله تعالى؛ أي: فاجأهم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى، والقنوط: اليأس من رحمة الله، كذا قال الجمهور، وقال الحسن: القنوط: ترك فرائض الله سبحانه، وقرأ الجمهور (¬1): {يقنطون} بضم النون. وقرأ أبو عمرو، والكسائي ويعقوب: بكسرها. أي: إن الإنسان قد ركب في طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله سبحانه عنه {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين .. قنط من رحمة الله، وآيس منها، فهو كما قيل: كَحِمَارِ السُّوْءِ إِنْ أعْلَفْتَهُ ... رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم راضون بما قسمه لهم من خير أو شر، علمًا منهم أن الله حكيم لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد، وفي الحديث الصحيح: "عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء .. شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء .. صبر فكان خيرًا له". 37 - ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: ألم يشاهد الناس؛ أي: أهل مكة، ولم يعلموا {أَنَّ اللَّهَ} الرزاق {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسعه {لِمَنْ يَشَاءُ} أن يوسع عليه من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

عباده ويمتحنه بالشكر؛ أي: يوسع لمن يرى صلاحه في ذلك {وَيَقْدِرُ}؛ أي: ويضيق الرزق على من يرى نظام حاله في ذلك، ويمتحنه بالصبر ليستخرج منهم بذلك معلومه من الشكر والكفران والصبر والجزع، فما لهم لا يشكرون في السراء، ولا يتوقعون الثواب بالصبر في الضراء كالمؤمنين. والمعنى: ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا في السراء، ويحتسبوا في الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لم فيها الخير، كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربي عباده بالرحمة، يريبهم بالتعذيب، فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه في الضراء .. لكان خيرًا لهم. والخلاصة: أنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه في الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث في قلوبهم اليأس، بل يكونون في السراء والضراء منيبين إليه، قال شقيق رحمه الله تعالى: كما لا تستطيع أن تزيد في خلقك ولا في حياتك، كذلك لا تستطيع أن تزيد في رزقك، فلا تتعب نفسك في طلب الرزق. فإن قلت: قال هنا (¬1): {أَوَلَمْ يَرَوْا} بلفظ الرؤية، وفي الزمر {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} بلفظ العلم، فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: الفرق بينهما: أن بسط الرزق مما يرى، فناسبه ذكر الرؤية، وما في الزمر تقدمة {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} فناسبه ذكر العلم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من القبض والبسط {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلالات على قدرته التامة، وحكمته البالغة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بها فيستدلون بها على وجود الصانع الحكيم، قال أبو بكر محمد بن سابق: فَكَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَقَلُّبِهِ ... مُهَذِّبِ الَّرأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ يَنْحَرِفُ ¬

_ (¬1) فتح الرحمن بتصرف.

[38]

وَكَمْ ضَعِيْفٍ ضَعِيفٍ فِيْ تَقَلُّبِهِ ... كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيْجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ هَذَا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الإِلهَ لَهُ ... فِيْ الْخَلْقِ سِرٌّ خَفِيٌّ لَيْسَ يَنْكَشِفُ وحكي (¬1): أن بعض العلماء سئل فقيل له: ما الدليل على أن للعالم صانعًا واحدًا؟ قال: ثلاثة أشياء: ذل اللبيب، وفقر الأديب، وسقم الطبيب. قال في "التأويلات النجمية": الإشارة فيه إلى أن لا يعلق العباد قلوبهم إلا بالله سبحانه؛ لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله، وما يسرهم ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي يسرهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله، فالواجب لزوم بابه سبحانه بالإسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار. انتهى. إذ لا يفيد للعاجز طلب مراده من عاجز مثله، فلا بد من الطلب من القادر المطلق، الذي هو الحق سبحانه، نسأل الله سبحانه أن يوقظنا من سنة الغفلة، ولا يجعلنا من المعذبين بعذاب الجهالة، إنه الجواد الكريم، البر الرؤوف الرحيم. 38 - و {الفاء}: في قوله: {فَآتِ}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها المكلف: أن البسط والقبض كليهما بيد الله سبحانه، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك آت؛ أي: أعط يا من بسط الله عليه الرزق {ذَا الْقُرْبَى}؛ أي: صاحب القرابة لك {حَقَّهُ}؛ أي: ما يستحقه عليك، إما على سبيل الوجوب، أو الندب من الصلة والصدقة وسائر المبرات. والخطاب فيه (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال واسع، وقدم الإحسان إلى القرابة؛ لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة، وصلة رحم مرغب فيها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

وبهذه الآية يحتج أبو حنيفة على وجوب النفقة لذوي الأرحام المحارم عند الاحتياج، ويقيسهم الشافعي على ابن العم، فلا يوجب النفقة إلا على الولد والوالدين، لوجود الولادة. {وَ} آت {الْمِسْكِينَ} سواء كان ذا قرابة أم لا {وَابْنَ السَّبِيلِ}؛ أي: المسافر ما يستحقانه من الصدقة والإعانة والضيافة، فإن ابن السبيل هو الضيف، كما في "كشف الأسرار"، والمراد بحقه: الصدقة المندوبة، ولا يصح حملها على الواجبة، وهي الزكاة؛ لأن السورة مكية، والزكاة ما فرضت إلا في السنة الثانية من الهجرة بالمدينة. اهـ. "شيخنا". ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر (¬1): أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان، ولكون ذلك واجبًا لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول. وقد اختلف في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: هي منسوخة بآية الميراث، وقيل: محكمة، وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب، وبه قال مجاهد وقتادة، قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج، وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب، وقيل: المراد بالقربى: قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال القرطبي: والأول: أصح؛ لأن حقهم مبين في كتاب الله سبحانه في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}. والمعنى: أي (¬2) أعط أيها الرسول أنت ومن تبعك من المؤمنين الأقارب الفقراء، جزءًا من مالك، صلةً للرحم، وبرًا بهم؛ لأنهم أحق الناس بالشفقة، وكذا المسكين الذي لا مال له، إذا وقع في ورطة الحاجة .. فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسد عوزه. ومثله: المسافر البعيد عن ماله الذي لا يستطيع إحضار شيء منه، لانقطاع السبل به، فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[39]

طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة. {ذَلِكَ}؛ أي: إيتاء الحق وإخراجه من المال {خَيْرٌ} من الإمساك {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} تعالى؛ أي: يقصدون بمعروفهم إياه تعالى، خالصًا، فيكون الوجه (¬1) بمعنى الذات، أو جهة التقرب إليه، لا جهة أخرى من الأغراض والأعواض فيكون بمعنى الجهة {وَأُولَئِكَ} المعطون حقوق من ذكر، لمن ذكر، لوجه الله تعالى، وطلب رضاه سبحانه {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بالمطلوب في الآخرة، حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم. والمعنى: لهم في الدنيا خير، وهو البركة في أموالهم؛ لأن إخراج الزكاة يزيد في المال، وفي الآخرة خير، وهو الجزاء الجميل، والثواب الجزيل على إخراجهم المال لطاعة الله تعالى. ومعنى الآية (¬2): أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم من فعل الخير الذي يتقبله الله تعالى، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا في صفقتهم، فأعطوا ما يغني، وحصلوا على ما يبقى من النعيم المقيم، والخير العميم، وإنما كان هذا العمل خيرًا لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها في السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهي الأمة الإِسلامية جمعاء، كما جاء في الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا"، ولا يخفى ما لذلك من أثرِ في تولد المحبة والمودة، وفي التكاتف لدفع عوادي الأيام، ومحن الزمان. 39 - ثم ذكر سبحانه وتعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} أي: وما أعطيتم من عطية خالية من العوض، أو ما (¬3) أعطيتم من زيادةٍ محرمة في المعاملة، أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة {لِيَرْبُوَ}؛ أي: ليزيد لكم ذلك المعطى، ويتسبب لكم {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ}؛ أي: في أخذكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البيضاوي.

من أموال الناس؛ أي: ليحصل لكم شيئًا أكثر منه، بأن تعطوا شيئًا وتطلبوا ما هو أفضل منه {فَلَا يَرْبُو} ذلك المعطى ولا يزيد لكم {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه فائدةً، ولا يبارك الله لكم فيه، فليس لكم فيه أجر، وليس عليكم فيه إثم إن كانت في غير المعاملة؛ أي: وما أعطيتم من عطية بلا مقابل ليربح لكم في أموال الناس، بتحصيل مكافأةٍ زائدةٍ عليه .. فلا يربح لكم عند الله سبحانه، فليس لكم عليه أجر. وقيل: الآية في الرجل، يعطي صديقه أو قريبه، ليكثر ماله لا يريد به وجه الله، وقيل: هو الرجل يلتزق بالرجل، فيخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح ماله، لالتماس عونه، لا لوجه الله تعالى، فلا يربو عند الله تعالى؛ لأنه لم يرد بعمله وجه الله تعالى. قرأ الجمهور (¬1): {آتَيْتُمْ} بالمد، بمعنى أعطيتم، وقرأ مجاهد، وحميد، وابن كثير: {أتيتم} بالقصر، بمعنى: ما فعلتم على وجه الإعطاء، فهي راجعة إلى قراءة المد، وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله الآتي: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ}. {من ربوا} كتب (¬2) بالواو للتفخيم على لغة من يفخم في أمثاله من الصلاة والزكاة، أو للتنبيه على أصله؛ لأنه من ربا يربو: إذا زاد، وزيدت الألف تشبيهًا بواو الجمع، وقرأ الجمهور: {ليربو} بالياء وإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والشعبي، ونافع، وأبو حيوة: بالتاء مضمومةً {لتربوا} وإسناد الفعل إليهم؛ أي: لتأخذوا الربا من أموال الناس، أو لتكونوا ذوي زيادات، وقرأ أبو مالك: {ليربوها} بضمير المؤنث. والربا لغةً: مطلق الزيادة، وشرعًا: عقد مخصوص، مشتمل على الزيادة في المقدار، بأن يباع أحد مطعوم بمطعوم، أو نقدٍ بنقد بأكثر منه من جنسه، ويقال له: ربا الفضل، أو في الأجل بأن يباع أحدهما إلى أجل، ويقال له: ربا النساء، وكلاهما محرم، والمعنى عليه: وما أعطيتم من زيادة خالية من العوض عند ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

المعاملة، ليربو ويزيد في أموال الناس، فلا يربو عند الله؛ أي: لا يزيد عنده، ولا يبارك لكم فيه، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}. وقال بعضهم: المراد بالربا في الآية: هو أن يعطي الرجل العطية، أو أن يهدي الهدية ويثاب ما هو أفضل منها، فهذا ربًا حلال جائز، ولكن لا يثاب في القيامة؛ لأنه لم يرد به وجه الله تعالى. والمعنى على هذا القول: أي ومن أهدى هديةً يريد أن ترد بأكثر منها .. فلا ثواب له عند الله تعالى، وقد حرم الله ذلك على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص، كما قال تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}؛ أي: ولا تعط العطاء تريد أكثر منه. روي عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان .. ربًا لا يصح، وهو ربا بالبيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافا، ثم تلا هذه الآية. وقال عكرمة: الربا ربوان: ربًا حلال، وربًا حرام، فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه، وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدي ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر، وليس عليه فيه إثم. ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله، ولا يثاب عليه؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصًا له. واختلف (¬1) العلماء فيمن وهب هبة يطلب عوضها، وقال: إنما أردت العوض، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الوهوب له. فله ذلك عند مالك، وذلك كهبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الشخص لمن فوقه، ولأميره، وقال أبو حنيفة: لا يكون له عوض إذا لم يشترط، وهذان القولان جاريان للشافعي. ¬

_ (¬1) المراح.

[40]

قال صاحب "روح البيان": تشير الآية على القول الأول، إلى أنه لو قال المعطي للآخذ: أنا لا أعطي هذا المال إياك على أنه ربا، وجعله في حل .. لا يكون حلالًا، ولا يخرج عن كونه ربًا؛ لأن ما كان حرامًا بتحريم الله تعالى، لا يكون حلالًا بتحليل غيره، وإلى أن المعطي ولآخذ سواء في الوعيد، إلا إذا كانت الضرورة قويةً في جانب الآخر، فلم يجد بدًا من الأخذ بطريق الربا، بأن لا يقرضه أحد بغير معاوضةٍ. {وَمَا آتَيْتُمْ} وأعطيتم {مِنْ زَكَاةٍ}؛ أي: من صدقة تطوع إلى المساكين، سميت (¬1) زكاة لأنها تزكو وتنمو حالة كونكم {تُرِيدُونَ} بها {وَجْهَ اللَّهِ} سبحانه، وتقصدون ثوابه ورضاه، لا ثواب غيره من المكافأة، ولا رضاه بأن يكون رياءً وسمعةً {فَأُولَئِكَ} المعطون على الصفة المذكورة {هُمُ الْمُضْعِفُونَ}؛ أي: الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب من عشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وبحفظ أموالهم في الدنيا، وبالبركة لها، و {الْمُضْعِفُونَ} بكسر العين على قراءة الجمهور: جمع مضعف، والمضعف: ذو الإضعاف في الأجر، كالمقوي لذي القوة، والموسر لذي اليسار، وقرأ أبيّ: {المضعفون} بفتح العين اسم مفعول، وفي عدوله عن الخطاب إلى الإخبار إيماء إلى أنه لم يخص به المخاطبون، بل هو عام في جميع المكلفين إلى قيام الساعة. واعلم: أن المال عارية مستردة في يد الإنسان، ولا أحد أجهل ممن لا ينقذ نفسه من العذاب الدائم بما لا يبقى في يده، وقد تكفل الله سبحانه بإعواض المنفق. 40 - ولما بين أنه لا زيادة، إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره .. أكد ذلك بقوله: {اللَّهُ} الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره هو {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأوجدكم من العدم، ولم تكونوا شيئًا؛ أي: خلقكم في بطون أمهاتكم أطوارًا، ثم أخرجكم وفيكم الروح {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} ما به قوام شؤونكم في هذه ¬

_ (¬1) روح البيان.

الحياة، وأطعمكم ما عشتم ودمتم في الدنيا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في الدنيا وقت انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة بالنفخة الأخيرة، ليجازيكم بما عملتم في الدنيا من الخير والشر، فهو سبحانه المختص بهذه الأشياء. ثم وبخ هؤلاء المشركين، الذين يعبدون الآلهة والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تحمى ولا تميت بقوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} التي زعمتم أنها شركاء لله، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم نصيبًا من أموالهم. {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ} المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي (¬1): لا يفعل أحد قط شيئًا من تلك الأفعال، والاستفهام فيه: للإنكار بمعنى النفي، و {مِنْ} الأولى والثانية، تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم المنفي، وكل منها مستعملة للتأكيد، لتعجيز الشركاء، والتقدير: من الذي يفعل شيئًا من ذلكم من شركائكم؟ ومعلوم أنهم يقولون: ليس فيهم من يفعل شيئًا من ذلك، فتقوم عليهم الحجة. والمعنى: أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لي في العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟ وإجمال المعنى: أن شركاءكم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله تعالى. ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها فقال: {سُبْحَانَهُ} أي: تنزه الله، أو نزهوه تنزيهًا بليغًا {وَتَعَالَى} تعاليًا كبيرًا {عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: عن إشراك المشركين؛ أي: تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. وقرأ الجمهور (¬2): {يشركون} بياء الغيبة، والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

قيل (¬1): الشرك على أقسام: أعظمها اعتقاد شريك لله في الذات، ويليه أعتقاد شريك لله في الفعل، كقول من يقول: العباد خالقون أفعالهم الاختيارية، ويليه الشرك في العبادة، وهو الرياء، وهذا هو المراد بحديث: "من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري .. تركته وشركَه" بفتح الكاف؛ أي: مع شريكه، والضمير في "تركته" لمن، يعني أن المرائي في طاعته آثم، لا ثواب له فيها. قال الشيخ أبو حامد رحمه الله: إذا كان مع الرياء قصد الثواب راجحًا .. فالذي نظنه - والعلم عند الله - أن لا يحبط أصل الثواب، ولكن ينقص منه، فيكون الحديث محمولًا على ما إذا تساوى القصدان، أو يكون قصد الرياء أرجح. قال الكلاباذي رحمه الله: العمل إذا صح في أوله. لم يضره فساد بعد، ولا يحبطه شيء دون الشرك؛ لأن الرياء: هو ما يفعل العبد من أوله ليرائي به الناس، ويكون ذلك قصده ومراده عند أهل السنة والجماعة، لقوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ولو كان الأمر على ما زعم المعتزلة: من إحباط الطاعات بالمعاصي .. لم يجز اختلاطها واجتماعها، كذا في "شرح المشارق" لابن الملك. قال في "الأشباه": لو افتتح الصلاة خالصًا لله تعالى، ثم دخل في قلبه الرياء، فهو على ما افتتح، والرياء: أن يكون الشخص بحيث لو خلا عن الناس لا يصلي، وإذا كان معهم يصلي، فأما لو صلى مع الناس يحسنها، ولو صلى وحده .. لا يحسن، فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان، ولا يدخل الرياء في الصوم. انتهى. فعلى العاقل أن يجتهد في طريق المراقبة والمشاهدة، حتى يلاحظ الله تعالى في كل فعل باشره من مأموراته، ولا يلاحظ غيره من مخلوقاته، حتى إن الراعي إذا صلى عند الأغنام، لا يلتفت إليها، إذ وجودها وعدمها سواء، فالرياء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

لها هواء، والله تعالى خلق العبد، وخلق القدرة على الحركة، ورزقه القيام بأمره، فما معنى الشركة، نسأل الله سبحانه وتعالى الخلاص من الأغيار، وإخراج الملاحظات والأفكار من القلب الذي خلق للتوجه إليه، والحضور لديه. 41 - {ظَهَرَ}؛ أي: كثر وشاع {الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ} (¬1) كالجدب، وقلة النبات والربح في التجارات، والريع في الزراعات، والدر والنسل في الحيوانات، ومحق البركات من كل شيء، ووقوع الموتان بضم الميم كبطلان، الموت الشائع في الماشية، وظهور الوباء والطاعون في الناس، وكثرة الحرق - بفتحتين - اسم من الإحراق، وغلبة الأعداء، ووجود الفتن والحرب، ونحو ذلك من المضار. {وَ} في {الْبَحْرِ} كالغرق بفتحتين - اسم من الإغراق - وعمي دواب البحر، بانقطاع المطر، فإن المطر لها كالكحل للإنسان، وإخفاق الغواصين؛ أي: خيبتهم من اللؤلؤ، فإنه يتكون من مطر نيسان، فإذا انقطع .. لم ينعقد. والظاهر من الآية (¬2): ظهور ما يصح إطلاق إسم الفساد عليه، سواء كان راجعًا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم، واقترافهم السيئات، وتقاطعم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعًا إلى ما هو من جهة الله سبحانه، بسبب ذنوبهم، كالقحط وكثرة الخوف، والبر والبحر: هما المعروفان المشهوران، وقيل: البر: الفيافي، والبحر: القرى التي على ماء، قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار: البحار، قال مجاهد: البر: ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر: ما كان على شط نهر، والأول أولى. والباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} للسببية، و {ما} إما موصولة أو مصدرية؛ أي: بسبب شؤم المعاصي، التي كسبها الناس في البر والبحر، بمزاولة الأيدي غالبًا، أو بسبب كسبهم، ففيه إشارة إلى أن الكسب من العبد، والتقدير والخلق من الله تعالى، فالطاعة كالشمس المنيرة، تنتشر أنوارها في الآفاق، فكذا الطاعة، تسري بركاتها إلى الأقطار، فهي من تأثيرات لطفه تعالى، والمعصية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

كالليلة المظلمة، فكما أن الليلة تحيط ظلمتها بالجوانب، فكذا المعصية تتفرق شآمتها إلى الأقارب والأجانب، فهي من تأثيرات قهره تعالى. قيل (¬1): أول فساد ظهر في البر قتل قابيل أخاه هابيل، وفي البحر أخذ الجلندي الملك كل سفينة غصبًا، وفي المثل: أظلم من ابن الجلندي، بزيادة ابن كما في "إنسان العيون"، وكان من أجداد الحجاج، بينه وبينه سبعون جدًّا، وكانت الأرض خضرةً معجبة بنضارتها، يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرةً، وكان ماء البحر عذبًا، وكان لا تقصد الأسود البقر، فلما وقع القتل المذكور .. تغير ما على الأرض، وشاكت الأشجار؛ أي: صارت ذات شوك، وصار ماء البحر ملحًا مرًا جدًا، وقصد بعض الحيوان بعضًا، وتعلقت شوكة بنبي، فلعنها، فقالت: لا تلعني فإني ظهرت من شؤم ذنوب الآدميين. و {اللام} في قوله: {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} للعلة، والذوق: وجود الطعم بالفم، وكثر استعماله في العذاب، يعني: أفسد أسباب دنياهم بسوء صنيعهم، ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا، واقترفوا من الذنوب، والإعراض عن الحق، ويعذبهم بالبأساء والضراء والمصائب، وإنما (¬2) قال: {بَعْضَ} لأن تمام الجزاء في الآخرة، ويجوز أن تكون اللام للعاقبة؛ أي: كان عاقبة ظهور الشرور منهم ذلك، نعوذ بالله من سوء العاقبة. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما كانوا عليه من الشرك والمعاصي والغفلات، وتتبع الشهوات، وتضييع الأوقات إلى التوحيد والطاعة، وطلب الحق والجهد في عبوديته، وتعظيم الشرع والتأسف على ما فات. ففيه تنبيه على أن الله تعالى إنما يقضي بالجدوبة، ونقص الثمرات والنبات، لطفًا من جنابه في رجوع الخلق عن المعصية. وقرأ الجمهور: {لِيُذِيقَهُمْ} بالياء، وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق مجاهد، وابن الصباح، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمرو: {لنذيقهم} بالنون، ذكره أبو حيان. ومعنى الآية (¬1): أي ظهر الفساد في العالم، بالحروب والغارات والجيوش والطائرات والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدي الناس، من الظلم وكثرة المطامع وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت في الأرض فسادًا إذ لا رقيب من وازع نفسي، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون. إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يومًا يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إنْ خيرًا .. فخير، وإن شرًا .. فشر، فيخيم العدل على المجتمع البشري، ويشفق القوي على الضعيف، ويكون الناس سواسية في المرافق العامة وحاجَّ المجتمع بقدر الطاقة البشرية. واعلم: أن الله تعالى (¬2) غيَّر بشؤم المعصية أشياء كثيرة، غير صورة إبليس واسمه، وكان اسمه الحارث وعزازيل فسماه: إبليس، وغير لون حام بن نوح، بسبب أنه نظر إلى سوأة أبيه فضحك، وكان أبوه نوح نائمًا، فأخبر بذلك فدعا عليه، فسوده الله تعالى فتولد منه الهند والحبشة، وغير الصورة على قوم موسى فصيرهم دمًا، وعلى قوم عيسى فصيرهم خنازير، وغير ماء القبط ومالهم فصيرهما دمًا وحجرًا، وغير العلم على أمية بن أبي الصلت، وكان من بلغاء العرب - حيث كان نائمًا فأتاه طائر، وأدخل منقاره في فيه، فلما استيقظ نسي جميع علومه، وغير اللسان على رجل بسبب العقوق، حيث نادته والدته، فلم يجب فصار أخرس، وغير الإيمان على برصيصا، بسبب شرب الخمر والزنا بعدما عبد الله تعالى مئتين وعشرين سنة إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[42]

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة (¬1): أن ظهور الفاحشة في قوم وإعلانها سبب لفشو الطاعون والأوجاع، ونقص الميزان، والمكيال سبب القحط وشدة المؤونة وجور السلطان، ومنع الزكاة سبب لانقطاع المطر، ولولا البهائم .. لم يمطروا، ونقض عهد الله وعد رسوله سبب لتسلط العدو، وأخذ الأموال من أيدي الناس، وعدم حكم الأئمة بكتاب الله سبب لوقوع السيف والقتال بين الناس، وأكل الربا سبب للزلزلة والخسف، فضرر البعض يسري إلى الجميع، ولذا يقال: من أذنب ذنبًا فجميع الخلق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماؤه يوم القيامة، فلا بد من الرجوع إلى اله تعالى بالتوبة والطاعة والإصلاح، فإن فيه الفوز والفلاح. 42 - وبعد أن بين (¬2): أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم، أرشدهم إلى أن من كان قبلهم، وكانت أفعالهم كافعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلًا لمن بعدهم، وعبرةً لمن خلفهم فقال: {قُلْ} يا محمد لأهل مكة: {سِيرُوا} أيها المشركون وسافروا {فِي} نواحي {الْأَرْضِ} وأرجائها؛ أي: في أرض الأمم المكذبة المهلكة {فَانْظُرُوا} بأعينكم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: كيف صار آخر آمر الذين كذبوا رسلهم من قبلهم، حين أهلكوا فكانوا كأمس الدابر، فإن منازلهم كانت خاويةً، وأراضيهم مقفرةً، موحشةً، كعاد وثمود وقوم لوط من طوائف الكفار. والنظر على وجهين (¬3): يقال: نظر إليه، إذا نظر بعينه، ونظر فيه: إذا تفكر بقلبه، وهاهنا قال: فانظروا، ولم يقل: إليه أو فيه، ليدل على مشاهدة الآثار ومطالعة الأحوال. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: كان أكثر الذين من قبل {مُشْرِكِينَ} فأهلكوا بشركهم، وهو استئناف للدلالة على أن ما أصابهم لفشو الشرك فيما بينهم، أو كان الشرك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[43]

في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم فإذا أصابهم العذاب بسبب شركهم ومعاصيهم .. فليحذر من كان على صفتهم من مشركي قريش وغيرهم، أن يصيبهم العذاب إن أصروا على ذلك. والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا في البلاد، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرةً لمن بعدهم. ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} فما حل بهم من العذاب، كان جزاء وفاقًا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله. 43 - ولما بين (¬1) الله تعالى أن المعاصي والشرك سبب لسخط الله سبحانه .. أمر رسوله بأن يستقيم على الدين القويم، تثبيتًا للمؤمنين على ما هم عليه، إلا أنه خاطب به سيدهم تعظيمًا له، ولكونه واسطةً بين الله وبين الأمة، فقال: {فَأَقِمْ} يا محمد واصرف وحول {وَجْهَكَ}؛ أي: ذاتك قلبًا وقالبًا {لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}؛ أي: إلى الدين البليغ الاستقامة، الذي ليس فيه عوج أصلًا، وهو دين الإِسلام، والخطاب هنا: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد أمته، والفاء فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد ظهر الفساد في الأرض بسبب ما كسبت أيدي الناس، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: فأقم أنت وأمتك وجوهكم للدين القيم، واثبتوا عليه. وقيل المعنى: أوضح الحق وبالغ في الإعذار {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لَا مَرَدَّ لَهُ}؛ أي: لذلك اليوم، وهو مصدر بمعنى الرد {مِنَ اللَّهِ} إما (¬2) متعلق بيأتي؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد؛ أي: لا يقدر أحد على رده ودفعه، كقوله تعالى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ولا ينفع نفسًا إيمانها حينئذٍ، أو متعلق بمرد؛ لأنه مصدر؛ أي: لا يرده الله تعالى بعد أن يجيء به، لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، وقد وعد ولا خلف في وعده {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ ¬

_ (¬1) زادة. (¬2) النسفي.

[44]

جاء ذلك اليوم {يُصَدَّعُونَ}؛ أي: يتفرقون بعد محاسبة الله تعالى أهل الموقف، فريق في الجنة، وفريق في السعير، 44 - كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ} بالله ورسوله في الدنيا {فَعَلَيْهِ} لا على غيره {كُفْرُهُ}؛ أي: وبال كفره وجزاؤه، وهو النار المؤبدة، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}؛ أي: وحد الله سبحانه، وعمل بالطاعة الخالصة بعد التوحيد {فَلِأَنْفُسِهِمْ} وحدها {يَمْهَدُونَ}؛ أي: يسوون منزلًا في الجنة، ويفرشون ويهيئون له، وأصل (¬1) المهد: إصلاح المضجع للصبي، ثم استعير لغيره، كما في "كشف الأسرار" ومن التمهيد: تمهيد المضاجع في القبور، فإنه بالعمل الصالح يصلح منزل القبر ومأوى الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين: للدلالة على الاختصاص. 45 - ثم بين العلة في تفرقهم، فقال: {لِيَجْزِيَ} الله سبحانه {الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا به وبرسوله في الدنيا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال المأمورات، وهي ما أريد به وجه الله تعالى ورضاه الجزاء الجميل، والأجر الجزيل {مِنْ فَضْلِهِ} وكرمه وإحسانه لا وجوبًا عليه، وهو متعلق بـ {يجزي}، وهو متعلق بيصدعون؛ أي: يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين، ليجزي كلًّا منهما بحسب أعمالهم، فيجازي المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافىء الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف إلى ما شاء الله من المنح والعطايا. وقال ابن عطية: ومقابله محذوف لدلالة ما بعده عليه، تقديره: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله، والكافرين بعدله. وحيث كان جزاء المؤمنين هو المقصود بالذات، أبرز ذلك في معرض الغاية، وعبر عنه بالفضل، لما أن الإثابة عند أهل السنة بطريق التفضل، لا بطريق الوجوب، كما عند المعتزلة. وأشار إلى جزاء الفريق الآخر بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} به وبرسوله؛ أي: إنه يبغضهم ولا يرضى أعمالهم، وذلك يستدعي ¬

_ (¬1) روح البيان.

عقابهم، ولا يخفى ما في ذلك من تهديد ووعيد. وروي أن الله سبحانه، أوحى إلى موسى عليه السلام: "ما خلقت النار بخلًا منى، ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة". نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينزلنا دار أوليائه، ونستعيذ به أن يدخلنا دار أعدائه، مع أحبابنا وأحبائنا، وجميع المسلمين. آمين. الإعراب {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)}. {وَمِنْ} {الواو}: عاطفة. {مِنْ آيَاتِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم {يُرِيكُمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم. {الْبَرْقَ}: مفعول ثان؛ لأن الرؤية هنا بصرية تعدت بالهمزة إلى مفعولين، والجملة الفعلية، مع أن المصدرية المحذوفة - لأن أصله أن يريكم -: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأً مؤخرًا، تقديره: وإراءته إياكم البرق من آياته تعالى، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة التي قبلها. {خَوْفًا وَطَمَعًا}: منصوبان على أنهما مفعولان لأجله، وقد اعترض على هذا الإعراب، بأن من حق المفعول له أن يكون فعلًا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك؟ والجواب عن هذا الاعتراض بأن يقال: بأنه على حذف مضاف؛ أي: يريكم إراءة خوف صاراءة طمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وانتصب انتصابه، ويجوز أن يكونا حالين من كاف يريكم؛ أي: خائفين وطامعين. {وَيُنَزِّلُ}: {الواو}: عاطفة. {يُنَزِّلُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يُنَزِّلُ}. {مَاءً}: مفعول به، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة {يُرِيكُمُ}. {فَيُحْيِي}: {الفاء}: عاطفة. {يُحْيِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {يُنَزِّلُ}، {بِهِ} متعلقان بـ {يُحْيِي} {الْأَرْضَ}: مفعول به، {بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من الأرض. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: جار

ومجرور خبر مقدم لـ {إنَّ}. {لَآيَاتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر، واللام: حرف ابتداء، {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَاتٍ}، وجملة {يَعْقِلُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {أَن}: حرف مصدر، {تَقُومَ السَّمَاءُ}: فعل وفاعل منصوب بأن المصدرية، {وَالْأَرْضُ}: معطوف على {السَّمَاءُ}. والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأً مؤخرًا، والتقدير: وقيام السماء والأرض بأمره كائن من آياته، والجملة الاسمية: معطوفة على الجمل التي قبلها، {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَقُومَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {دَعَاكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {دَعْوَةً}: مفعول مطلق، {مِنَ الْأَرْضِ}: متعلق بـ {دَعَاكُمْ}. والجملة الفعلية: في محل الخفض بـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها. {إِذَا}: فجائية قائمة مقام الفاء في ربط الجواب بالشرط، حرف لا محل لها من الإعراب. {أَنْتُمْ}: مبتدأ، وجملة {تَخْرُجُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب إذا لا محل لها من الإعراب. وجملة {إِذَا}: في محل الرفع معطوفة على جملة {أَنْ تَقُومَ} على كونها مبتدأً مؤخرًا، والتقدير: وقيام السماء والأرض بأمره، ثم خروجكم من الأرض وقت دعوته إياكم كائن من آياته. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)}. {وَلَهُ}: خبر مقدم، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على الجمل التي قبلها، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة {مَن} الموصولة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء به العموم، {لَهُ}: متعلق بـ {قَانِتُونَ}. {قَانِتُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: معطوفة على الجمل التي قبلها، {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يبدؤُا}. {وَهُوَ أَهْوَنُ}: مبتدأ وخبر. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {أَهْوَنُ}، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الإعادة المفهومة من {يُعِيدُ}؛ أي: حالة كون الإعادة أهون عليه من البدء بالنظر إلى ما نعرفه. {وَلَهُ}: خبر مقدم، {المَثَلُ}: مبتدأ مؤخر، {الْأَعْلَى}: صفة لـ {الْمَثَلُ} الجملة: معطوفة على ما قبلها، {فِي السَّمَاوَاتِ}: حال من {الْمَثَلُ}، أو من {الْأَعْلَى}، أو من الضمير فيه، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر، والجملة: معطوفة على ما قبلها، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان. {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}. {ضَرَبَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {لَكُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {ضَرَبَ}، {مَثَلًا}: مفعول أول له، {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: صفة لـ {مَثَلًا}، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، {لَكُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ مَا}: جار ومجرور حال من {شُرَكَاءَ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فعل وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: مما ملكته أيمانكم، {مِنْ}: زائدة، {شُرَكَاءَ}: مبتدأ مؤخر، {فِي مَا} متعلق بشركاء، {رَزَقْنَاكُمْ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: فيما رزقناكموه، والجملة الاسمية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، مبينة لضرب المثل. {فَأَنْتُمْ}: {الفاء}: عاطفة واقعة في جواب الاستفهام، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {فِيهِ}: متعلق بـ {سَوَاءٌ}. {سَوَاءٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الاستفهامية، وجملة {تَخَافُونَهُمْ}: في

محل الرفع خبر ثان لـ {أَنْتُمْ}، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في {سَوَاءٌ}؛ أي: فأنتم متساوون فيه حالة كون بعضكم خائفًا من بعض مشاركته له في المال، {كَخِيفَتِكُمْ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: خيفةً مثل خيفتكم، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، و {أَنْفُسَكُمْ}: مفعوله. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، {لِقَوْمٍ}: متعلق بـ {نُفَصِّلُ}، وجملة: {يَعْقِلُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، والتقدير: نفصل الآيات لقوم يعقلون، تفصيلًا مثل ذلك التفصيل المذكور هنا. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}. {بَلِ}: حرف إضراب وابتداء، {اتَّبَعَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة {ظَلَمُوا}: صلة الموصول. {أَهْوَاءَهُمْ}: مفعول {اتَّبَعَ}، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور حال من الموصول، {فَمَنْ}: {الفاء}: عاطفة، {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يَهْدِي}: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {اتَّبَعَ}، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}، {أَضَلَّ اللَّهُ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: من أضله الله. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ نَاصِرِينَ}: مبتدأ مؤخر، و {مِنْ}: زائدة. ويجوز أن تجعل {ما}: حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة قبلها. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)}. {فَأَقِمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان حال المشركين اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى، وأردت

بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: أقم وجهك للدين القيم، {أَقِمْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد وأمته أسوة له. {وَجْهَكَ}: مفعول به، {لِلدِّينِ}: متعلق بـ {أَقِمْ}، {حَنِيفًا}: حال من فاعل {أَقِمْ}، أو من مفعوله، أو من الدين، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {فِطْرَتَ اللَّهِ}: منصوب على الإغراء بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: الزموا {فِطْرَتَ اللَّهِ}. والجملة المحذوفة: مقول لجواب إذا المقدرة {الَّتِي} في محل النصب صفة لـ {فِطْرَتَ اللَّهِ}، {فَطَرَ النَّاسَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {فَطَرَ}، والجملة: صلة الموصول، {لَا} نافية للجنس {تَبْدِيلَ}: اسمها {لِخَلْقِ اللَّهِ}: خبرها وجملة {لَا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها، {ذَلِكَ الدِّينُ}: مبتدأ وخبر، {الْقَيِّمُ}: صفة لـ {الدِّينُ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَلَكِنَّ}: {الواو}: حالية. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاستدراكية: في محل النصب حال من {الدِّينُ الْقَيِّمُ}، ولكنها على تقدير رابط بينها وبين صاحب الحال؛ أي: والحال أن أكثر الناس لا يعلمون كونه دينًا قيمًا، {مُنِيبِينَ}: حال من فاعل الزموا المضمر، وهو أحسن من جعله حالًا من فاعل {أَقِمْ}. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {مُنِيبِينَ}، {وَاتَّقُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على الزموا المضمر، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {وَاتَّقُوهُ}، {وَلَا تَكُونُوا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: ناهية جازمة، {تَكُونُوا} فعل مضارع ناقص واسمه مجزوم بـ {لَا}: الناهية، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: خبره، والجملة: معطوفة على جملة {وَاتَّقُوهُ}. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}. {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور بدل من قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بإعادة الجار، {فَرَّقُوا دِينَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، {وَكَانُوا شِيَعًا}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على جملة الصلة، {كُلُّ حِزْبٍ}: مبتدأ

ومضاف إليه، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرِحُونَ}، {لَدَيْهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ {ما} الموصولة، {فَرِحُونَ}: خبر للمبتدأ، والجملة: مستأنفة مقررة لما قبلها. {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)}. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف: متعلق بالجواب الآتي، {دَعَوْا رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا}: مستأنفة، {مُنِيبِينَ}: حال من فاعل {دَعَوْا}، {إليه}: متعلق بـ {مُنِيبِينَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَذَاقَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول، {مِنْهُ}: حال من {رَحْمَةً}، {رَحْمَةً}: مفعول ثان لـ {أَذَاقَهُمْ}، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، {إذَا}: فجائية رابطة لجواب {إِذَا} {فَرِيقٌ}: مبتدأ، {مِنْهُمْ}: صفة لـ {فَرِيقٌ}، {بِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {يُشْرِكُونَ}، وجملة {يُشْرِكُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب {إِذَا} وجملة {إذَا}: معطوفة على جملة {إِذَا} الأولى. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)}. {لِيَكْفُرُوا}: {اللام}: لام كي، أو لام العاقبة، وقيل: هي لام الأمر، والمراد بالأمر، التهديد والوعيد، {يَكْفُرُوا}: فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللام: و {الواو}: فاعله، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}: تقديره: لكفرهم بما آتيناهم. والجار والمجرور متعلق بـ {يُشْرِكُونَ}، {آتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني: محذوف، تقديره: بما آتيناهموه، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة، {فَتَمَتَّعُوا}: {الفاء}: عاطفة. {تَمَتَّعُوا}: فعل أمر، و {الواو}: فاعل، والجملة: معطوفة على {يَكْفُرُوا}، ولكن فيه التفات عن

الغيبة إلى الخطاب للمبالغة، فكأنه قال: ليكفروا بما آتيناهم فيتمتعوا به، {فَسَوْفَ}: {الفاء}: عاطفة. {سوف}: حرف استقبال، {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَمَتَّعُوا}. {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، و {همزة}: الاستفهام الإنكاري، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، وفيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بالإعراض عنهم، وبعدهم عن ساحة الخطاب. اهـ. "شيخنا". كما سيأتي في مبحث البلاغة، {سُلْطَانًا}: مفعول به، {فَهُوَ}: {الفاء}: عاطفة. {هُوَ}: مبتدأ. وجملة {يَتَكَلَّمُ}: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {أَنْزَلْنَا}، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَتَكَلَّمُ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ} متعلق بـ {يُشْرِكُونَ}، وجملة {يُشْرِكُونَ}: خبر {كَانُ}، وجملة {كَان}: صلة الموصول. {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)}. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {أَذَقْنَا}: فعل وفاعل. {النَّاسَ}: مفعول أول، {رَحْمَةً}: مفعول ثان، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، {فَرِحُوا}: فعل وفاعل، {بِهَا}: متعلق به، والجملة: جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا}: معطوفة على جملة {إِذَا} الأولى، وما بينهما اعتراض. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {إن}: حرف شرط. {تُصِبْهُمْ} فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ {إن}: الشرطية. {سَيِّئَةٌ}: فاعل، {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: اسم موصول في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ {تُصِبْهُمْ}. {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم، {إِذَا}: فجائية رابطة لجواب {إن} الشرطية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَقْنَطُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل الجزم على كونها جواب

{إِن}: الشرطية، وجملة {إن}: الشرطية معطوفة على جملة {إِذَا} الشرطية. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}. {أَوَلَمْ يَرَوْا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، {لَمْ}: حرف جزم، {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يشاهد هؤلاء المشركون، ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق، {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: خبره، {لِمَنْ}: متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة {مَنْ} الموصولة، {وَيَقْدِرُ} معطوف على {يَبْسُطُ}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَرَوْا}، {إِنَّ} حرف نصب، {فِي ذَلِكَ} خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء. {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَاتٍ}. وجملة {يُؤْمِنُونَ}: صفة قوم. وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)}. {فَآتِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره، إذا عرفت أن القبض والبسط كليهما بيد الله سبحانه، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك أيها المكلف: آت. {آت}: فعل أمر وفاعل مستتر مبني على حذف حرف العلة، {ذَا الْقُرْبَى}: مفعول به أول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {حَقَّهُ}: مفعول ثان ومضاف إليه، {وَالْمِسْكِينَ}: معطوف على {ذَا الْقُرْبَى}، {وَابْنَ السَّبِيلِ}: معطوف عليه أيضًا. {ذَلِكَ خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {خَيْرٌ} وجملة: {يُرِيدُونَ}: صلة الموصول. {وَجْهَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَأُولَئِكَ}: مبتدأ أول، {هُمُ}: مبتدأ ثان، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني: خبر للأول، وجملة الأول: مقول لجواب إذا.

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}. {وَمَا آتَيْتُمْ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {مَا}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، {آتَيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {ما}: الشرطية على كونها فعل شرط لها، والمفعول الثاني لـ {آتِ} محذوف، تقديره: وما آتيتموه {مِنْ رِبًا}: حال من الضمير المحذوف، {لِيَرْبُوَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يربو}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، {يربو}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {ما} أو على {رِبًا}. {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ}: متعلق بـ {يربو}. والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}: تقديره لربائه في أموال الناس، والجار والمجرور متعلق بـ {آتَيْتُمْ}، {فَلَا يَرْبُو}: {الفاء}: رابطة الجواب بالشرط وجوبًا لاقترانه بـ {لا} النافية. {يربوا}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {ما}: الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {ما}: الشرطية في محل النصب معطوف على جملة قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى}: على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة. {مَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: الشرطية، {آتَيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {ما}: الشرطية. {مِنْ زَكَاةٍ}: حال من الضمير المحذوف، {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {آتَيْتُمْ}. {فَاُؤلئكَ}: {الفاء}: رابطة للجواب {أولئك}: مبتدأ {هُمُ}: ضمير فصل {الْمُضْعِفُونَ}: خبره. والجملة الاسمية: في محل الجزم على كونها جوابًا لـ {ما}: الشرطية، وجملة {ما}: الشرطية: معطوفة على جملة {ما} الأولى. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبر. {خَلَقَكُمْ}: صلة الموصول، والجملة الاسمية، متسأنفة، {ثُمَّ رَزَقَكُمْ}: معطوف على {خَلَقَكُمْ}. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}:

معطوف على {رَزَقَكُمْ}. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: معطوف على {يُمِيتُكُمْ}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. {مِنْ شُرَكَائِكُمْ}: جار ومجرور خبر مقدم، و {مَنْ}: للتبعيض. {مِن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {يَفْعَلُ}: صلة الموصول، {مِنْ ذَلِكُمْ}: حال من {شَيْءٍ}؛ لأنه كان في الأصل صفة له، {مِن}: زأئدة. {شَيْءٍ}: مفعول به لـ {يَفْعَلُ}. {سُبْحَانَهُ}؛ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سبحوه سبحانًا، أو أسبحه سبحانًا، والجملة: مستأنفة، {وَتَعَالَى}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على جملة {سُبْحَانَهُ}. {عَمَّا}: متعلق بـ {تَعَالَى}. و {ما}: مصدرية أو موصولة، وجملة {يُشْرِكُونَ}: صلة لها؛ أي: عن إشراكم، أو عن الشريك الذي يشركونه به. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}. {ظَهَرَ الْفَسَادُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير ما عم في مختلف الأنحاء من البر والبحر، من مفسدة وظلم ولهو ولعب وسائر ما يطلق عليه الفساد الذي هو ضد الصلاح، {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: متعلق بـ {ظَهَرَ} أو حال من الفساد، {بِمَا}: متعلق بـ {ظَهَرَ} أيضًا، {ما}: مصدرية أو موصولة، {كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}: فعل وفاعل. والجملة: صلة لـ {ما}: المصدرية؛ أي: بسبب كسبهم، أو صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: بسبب الذي كسبوه. {لِيُذِيقَهُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل متعلقة بمحذوف، تقديره: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وعاقبهم {لِيُذِيقَهُمْ}. وقيل: {اللام}: لام العاقبة والصيرورة؛ لأن ذلك هو ماَلهم وعاقبتهم، وأجاز أبو البقاء تعلق {اللام} بـ {ظَهَرَ}. {يُذِيقَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد {اللام}، {بَعْضَ الَّذِي}: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر محرور بـ {اللام} تقديره: لإذاقته إياهم بعض الدين عملوا؛ أي: جزاءه في الدنيا، {عَمِلُوا}: فعل وفاعل

صلة الموصول. {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبره، وجملة {لَعَلَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، {سِيرُوا}: فعل أمر وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَانْظُرُوا}: {الفاء}: عاطفة. انظروا: فعل وفاعل معطوف على {سِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم. {كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ}: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور صلة الموصول. وجملة {كَانَ}: في محل النصب مفعول {انْظُرُوا}: معلق عنها باسم الاستفهام، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن ما أصابهم كان لفشو الشرك في أكثرهم والفساد والمعاصي في أقلهم. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}. {فَأَقِمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد ظهر الفساد في الأرض، بسبب ما كسبت أيدي الناس، وأردت بيان ما هو اللازم لك ولأمتك .. فأقول لك: {أَقِمْ وَجْهَكَ} الخ، {أَقِمْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، {وَجْهَكَ}: مفعول به، {لِلدِّينِ}: متعلق بـ {أَقِمْ}. {القيم}: صفة {لِلدِّينِ}، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور حال من فاعل {أَقِمْ}، أو من {الدين}. {أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من

قبل إتيان يوم لا مرد له من الله، {لَا}: نافية للجنس، {مَرَدَّ}: اسمها. {لَهُ}: خبرها، والجملة: في محل الرفع صفة لـ {يَوْمٌ}، {مِنَ اللَّهِ}: إما متعلق بـ {يَأْتِيَ} أو بمحذوف أو بمحذوف دل عليه المصدر؛ أي: لا يرده من الله أحد، ولا يجوز تعلقه بـ {مَرَدَّ} لأنه حينئذٍ يكون شبيهًا بالمضاف فيعرب بالفتحة الظاهرة، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {يَصَّدَّعُونَ}. {يَصَّدَّعُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {مَنْ كَفَرَ}: {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {كَفَرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَن}: على كونه فعل شرط لها، {فَعَلَيْهِ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن}: الشرطية وجوبًا، {عَلَيْهِ}: خبر مقدم، {كُفْرُهُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل الجزم جواب {مَنْ}: الشرطية، وجملة {مَن}: الشرطية، وجملة مفسرة لقوله: {يَصَّدَّعُونَ}: فلا محل لها من الإعراب، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، أو فعل الشرط خبره. {عَمِلَ صَالِحًا}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به في محل الجزم بـ {مَن}: الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {فَلِأَنْفُسِهِمْ}: {الفاء}: رابطة الجواب جوازًا. مشاكلة للجواب الماضي {لأنفسهم}: جار ومجرور متعلق بـ {يَمْهَدُونَ}. {يَمْهَدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: معطوفة على جملة {مَن} الأولى. {لِيَجْزِيَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يَجْزِيَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {الَّذِينَ}: مفعول به، الجار والمجرور متعلق بـ {يَصَّدَّعُونَ}، أو بـ {يَمْهَدُونَ}، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ذلك كائن لجزائه الذين آمنوا الخ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف عليه. {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {يجزي}. {إنَّه}: ناصب واسمه. {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل جملة محذوفة معلومة من السياق، تقديره: ويعاقب الكافرين بعدله؛ لأنه لا يحب الكافرين.

التصريف ومفردات اللغة {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} البرق: لمعان السحاب. وفي "إخوان الصفا": البرق: نار وهواء. {خَوْفًا}؛ أي: إخافةً من الصاعقة، خصوصًا لمن كان في البرية، كقولهم: فعلته رغمًا للشيطان؛ أي: إرغامًا له. {وَطَمَعًا}؛ أي: إطماعًا في الغيث، لا سيما لمن كان مقيمًا. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ أي: مطرًا، قال في "إخوان الصفا": المطر: هو الأجزاء المائية، إذا التام بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت إلى الأرض. {فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ}: والأرض: جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف في مركز العالم مبين لكيفية الجهات الست كما مر. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}: من القنوت، وهو الطاعة، والمراد: طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة؛ أي: منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم وعز وذل، لا يمتنعون عليه تعالى في شأن من شؤونه. {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}؛ أي: أسهل وأيسر بالنظر إلى ما نعرفه، قال في "القاموس": هان هونًا، بالضم، وهوانًا ومهانةً: ذل، وهونًا: سهل، فهو هين، بالتشديد والتخفيف وأهون. اهـ. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}؛ أي: الوصف الأعلى: العجيب الشأن من القدرة العامة، والحكمة التامة، وسائر صفات الكمال التي ليس لغيره ما يدانيها، فضلًا عما يساويها. {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا}: يقال: ضرب الدرهم اعتبارًا بضربه بالمطرقة، وقيل له: الطبع اعتبارًا بتأثير السكة فيه، وضرب المثل: هو من ضرب الدرهم، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره، والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر، بينهما مشابهة، لتبيين أحدهما بالآخر وتصويره. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} وأقم من أقام العود وقومه، إذا عدله، والمراد:

الإقبال على دين الإِسلام والثبات عليه، والوجه في الأصل: الجارحة المخصوصة، سميت وجهًا لأن بها تحصل المواجهة، وقد يعبر به عن الذات، كما في قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} وهذا المعنى هو المراد هنا، والدين: في الأصل الطاعة والجزاء، واستعير هنا للشريعة، والفرق بينه وبين الملة اعتباري، فإن الشريعة من حيث إنها يطاع لها وينقاد: دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب: ملة، والإملاء: كالإملال، هو حكاية القول لمن يكتبه. {حَنِيفًا}: وفي "المفردات" الحنف: ميل عن الضلال إلى الاستقامة، وتحنف فلان: تحرى طريق الاستقامة، وسمت العرب كل من اختتن أو حج: حنيفًا، تنبيهًا على أنه على دين إبراهيم - عليه السلام -. {فِطْرَتَ اللَّهِ} والفطرة: الخلقة وزنًا ومعنًى، وقولهم: صدقة الفطرة؛ أي: صدقة إنسانٍ مفطورٍ؛ أي: مخلوق فيؤول إلى قولهم: زكاة الرأس، والمراد بالفطرة هاهنا: هي الحالة التي خلق الله الناس عليها، من القابلية للتوحيد ودين الإِسلام، والتهيؤ لإدراكه عن غير إباء عنه وإنكار له. قال الراغب: فطرة الله ما فطر؛ أي: أبدع وركز في الناس من قوتهم على معرفة الإيمان. {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: هو فطرته المذكورة أولًا. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف. {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}: هو من أناب الرباعي إذا رجع مرةً بعد أخرى، ويقال: ناب نوبةً ونوبًا: إذا رجع مرة بعد أخرى؛ أي: راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل. {وَكَانُوا شِيَعًا}؛ أي: فرقًا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها. وقرره ووضع أصوله. {كُلُّ حِزْبٍ}: الحزب: الجماعة من الناس، والسلاح، وجند الرجل، وأصحابه الذين على رأيه، والنصيب والقسم من القرآن أو غيره، والجمع أحزاب، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا.

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} قال في "المفردات": المس: يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. {سُلْطَانًا}: والسلطان: الحجة، تقول: له سلطان مبين؛ أي: حجة واضحة، وعبارة "القاموس": والسلطان: الحجة وقدرة الملك. اهـ. والسلطان: يذكر؛ لأنه بمعنى الدليل، ويؤنث؛ لأنه بمعنى الحجة. وقيل: هو جمع سليط للدهن، كرغيف ورغفان. {يَقْنَطُونَ}؛ أي: ييئسون من الرحمة، وفي "المصباح": هو بفتح النون وكسرها سبعيتان، وبابه ضرب وتعب. وفي "القاموس": قنط كنصر وضرب وحسب وكرم قنوطًا، وكفرح قنطًا وقناطةً، كمنع وحسب، وهاتان على الجمع بين اللغتين، يئس فهو قنط كفرح، وقنطه تقنيطًا آيسة، والقنط: المنع، وزبيب الصبي. انتهى. {حَقَّهُ}: هو صلة الرحم والبر به. {وَالْمِسْكِينَ}: هو المعدم الذي لا مال له. {وَابْنَ السَّبِيلِ}: هو المسافر، احتاج إلى مال وعز عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة. {رِبًا}؛ أي: زيادة، والمراد بها هنا: الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة. {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}؛ أي: فلا يبارك فيه. {الْمُضْعِفُونَ}؛ أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب، جمع مضعف، وهو اسم فاعل من أضعف، إذا صار ذا ضعف بكسر فسكون، كأن يضاعف له ثواب ما أعطاه، كأقوى وأيسر، إذا صار ذات قوةٍ ويسار فهو لصيرورة الفاعل، ذا أصلهُ. {ظَهَرَ الْفَسَادُ} في "القاموس": فسد كنصر وكرم فسادًا: ضد صلح، فهو فاسد، والفساد أخذ المال ظلمًا، والجدب والمفسدة: ضد المصلحة. اهـ.

{يَصَّدَّعُونَ}: أصله يتصدعون، فأدغمت التاء في الصاد وشددت، والصدع: الشق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما، ومنه استعير صدع الأمر؛ أي: فصله، والصداع وهو: الانشقاق في الرأس من الوجع، ومنه الصديع للفجر؛ لأنه ينشق من الليل، والمعنى: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، وفي "المصباح": صدعته صدعًا من باب نفع، شققته فانصدع، وصدعت القوم صدعًا فتصدعوا، أي فرقتهم فتفرقوا، وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، قيل: مأخوذ من هذا؛ أي: شق جماعاتهم بالتوحيد، وقيل: افرق بذلك بين الحق والباطل. وقيل: أظهر ذلك، وصدعت بالحق تكلمت به جهارًا، وصدعت الفلاة: قطعتها. اهـ. {يَمْهَدُونَ}: وفي "المختار": ومهد الفراش بسطه ووطأهُ. اهـ؛ أي: يتخذون ويهيئون منازلهم، ولتسببهم في تهيئة المنازل لهم وتمهيدها واتخاذها نسب إليه. اهـ. "شيخنا". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين قوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} وبين {يَبْسُطُ}، {وَيَقْدِرُ} وبين {يُمِيتُكُمْ}، و {يُحْيِيكُمْ}، وبين {يَبدَؤُا}، و {يُعِيدُهُ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} وفي قوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ} للتسجيل عليهم بوصف الظلم؛ أي: بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون، وفيه أيضًا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إهانةً لهم، وإيذانًا بأنهم لا يتسحقون الخطاب.

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} شبه إقباله على الدين واستقامته واهتمامه بترتيب أسبابه، بحال من اهتم بشيء محسوس بالبصر، عقد عليه طرفه، ومد إليه نظره، وقوم له وجهه مقبلًا عليه، وفيه المجاز المرسل أيضًا في قوله: {وَجْهَكَ}: حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: توجه إلى الله بكليتك، وفيه أيضًا الاستعارة التصريحية حيث استعار الدين، الذي هو بمعنى الجزاء للشريعة للمجازاة عليها. ومنها: المقابلة بين قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} وبين قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} كما تقول كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الدلالة والشهادة، فهو يشهد بشركهم، أو بالذي يشركون به. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ}، وفيه الكناية أيضًا لأن قوله: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} كناية، لأن الزيادة التي يأخذها المرابي من أموال الناس، لا يملكها أصلًا، فالظرفية: هي موضع الكناية. ومنها: الالتفات في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة للتعظيم، فهو أمدح من أن يقول لهم: فأنتم المضعفون، وفيه حذف المفعول به؛ أي: ثوابهم. ومنها: المقابلة بين قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ}. ومنها: الطباق بين البر والبحر في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} بإطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ

ذَلِكُمْ}. ومنها: جناس المناسبة اللفظي؛ لأن الجناس أصلين: وهما: جناس المزاوجة، وجناس المناسبة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} حيث استعار الصدع بمعنى: الشق في الأجسام الصلبة، للصدع بمعنى التفريق، فاشتق من الصدع بمعنى التفريق {يَصَّدَّعُونَ} بمعنى يتفرقون على سبيلى الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} شبه من قدم الأعمال الصالحة بمن يمهد فراشه ويوطئه للنوم عليه، لئلا يصيبه في مضجعه ما يؤذيه، وينغص عليه مرقده. ومنها: الكناية في قوله: {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فإن عدم محبته تعالى، كناية عن بغضه الموجب لغضبه، المستتبع للعقوبة لا محالة. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك .. ذكر ظهور الصلاح، والكريم لا يذكر لإحسانه عوضًا، ويذكر لعقابه سببًا، لئلا يتوهم به الظلم، فذكر من أعلام القدرة: إرسال الرياح مبشرات ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالمطر لأنها متقدمة. وعبارة "المراغي" هنا: لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر في البر والبحر، بسبب الشرك والمعاصي .. نبّههم إلى دلائل وحدانيته، بما يُشاهدونه أمامهم، من إرسال الرياح بالأمطار فتحيا به الأرض بعد موتها، وجري الفلك حاملةً لما هم في حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (¬1) البراهين الساطعة، الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعوِ بها المشركون، بل لجوافي طغيانهم يعمهون .. سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له أنك لست أول من كُذب، فكثير ممن قبلك جاؤوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرين عليك وعلى قومك سنّتنا، ولننتقمن منهم، ولننصرنك عليهم فالعاقبة للمتقين. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬2) سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من أذى قومه، ببيان أنه ليس ببدع في الرسل، فكأين من رسول قبله قد كُذب، ثم دالت الدولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين .. أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان، لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور، بما يشاهد من الأدلة في الآفاق، مرشدةً إلى قدرته وعظيم رحمته، ثم بما يرى في الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادكر. قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضًا، ولا تكرار النصح إلا إصرارًا، وعنادًا .. أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي في الإعراض، وكثرة العناد، واللجاج، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى، فأنى لك أن تُسمعهم، وكأنهم صم، فكيف يسمعون دعاءَك حتى يستجيبوا لك، إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله، فهو إذا سمع كتابه .. تدبره وفهمه، فيخضع لك بطاعته، ويتذلل بمواعظ كتابه. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته .. أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس في أطوارها المختلفة، من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم، وبين أنه العلم بها في مختلف أحوالها، القدير على تغييرها، واختلاف أشكالها. قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة في شتى السور، وضرب له الأمثال .. أردف ذلك بذكر أحوال البعث، وما يجري فيه من الأفعال والأقوال، من الأشقياء والسعداء، ليكون في ذلك عبرة لمن يدكر. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (¬2) من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر بشتى البراهين، وبديع الأمثال .. أردف ذلك بأنه لم يبق بعد هذا زيادةً لمستزيد، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئًا بعد ذلك .. فهو معاند مكابر، فإن من كذب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل، ولقد أجاد من قال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[46]

قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْس مِنْ رَمَدٍ ... وَينْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ التفسير وأوجه القراءة 46 - {وَمِنْ آيَاتِهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: ومن الدلائل الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، وهو خبر مقدم لقوله: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ}؛ أي: إرساله سبحانه وتهييجه وتحريكه الرياح؛ أي: رياح الرحمة لمنفعة الخلق، وهي ريح الشمال والصبا والجنوب، فإنها رياح الرحمة، وأما الدبور، فإنها ريح العذاب، ومنه قوله عليه السلام: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا". قال في "القاموس" (¬1): الشمال بالفتح ويكسر، ما مهبه بين مطلع الشمس وبنات نعش، أو من طلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، والجنوب: ريح تخالف الشمال، مهبه من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا: ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، ومقابلتها الدبور، والصبا: موصوفة بالطيب والروح، لانخفاضها عن برد الشمال، وارتفاعها عن حر الجنوب، وفي الحديث: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها". وقرأ الجمهور: {الرِّيَاحَ} بالجمع، وقرأ (¬2) ابن كثير، وحمزة، والكسائي، والأعمش: {الريح} بالإفراد على إرادة الجنس. حالة كونها {مُبَشِّرَاتٍ}؛ أي: حالة كون تلك الرياح مبشرات للخلق بالمطر ونحوه، قوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ} الله سبحانه {مِنْ رَحْمَتِهِ} ونعمته، معطوف على {مُبَشِّرَاتٍ} على المعنى، والمراد بالرحمة: المنافع التابعة لنزول المطر، كالخصب المتسبب عن المطر، والروح: الذي يحصل بهبوب الريح، وزكاء الأرض وتصفية الهواء من العفونة، فكأنه قال: ومن آياته: إرسال الرياح ليبشركم بها وليذيقكم من رحمته. ¬

_ (¬1) القاموس. (¬2) البيضاوي.

{وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} والسفن في البحر عند هبوبها {بِأَمْرِهِ}؛ أي: بإرادته وتدبيره {وَلِتَبْتَغُوا}؛ أي: ولتطلبوا {مِنْ فَضْلِهِ} ورزقه بالتجارة في البحر، فالسفن تجري بالرياح، والرياح بأمر الله، فهي في الحقيقة جارية بأمره وقدرته، وفي "الأسرار المحمدية": لا تعتمد على الريح في استواء السفينة وسيرها، وهذا شرك في توحيد الأفعال، وجهل بحقائق الأمور، ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه .. علم أن الريح لا يتحرك بنفسه، بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول، الذي لا محرك له، ولا يتحرك هو في نفسه أيضًا، بل هو منزه عن ذلك، وعما يضاهيه سبحانه وتعالى. اهـ. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم، فتفردون الله بالعبادة، وتستكثرون من الطاعة. ومعنى الآية (¬1): أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شيء: أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر، مبشرات بالغيث، الذي به تحيا الأرض، وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه ما لذّ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلًا من ربكم، وتجري السفن ماخرة للبحار، حاملةً للأقوات وأنواع الثمار، متنقلةً من قطر إلى قطر، فتأتي بما في أقصى المعمور من الشرق، إلى أقصاه في الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجب الثمرات والأقوات في أماكنها، وتكون وقفًا على قومٍ بأعيانهم، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: وليعدكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة، التي لا تحصى، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. تنبيه: فإن قلت (¬2): لم أسقط هنا لفظة {فِيهِ} حيث قال: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ}، وزادها في الجاثية حيث قال: {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} فما الفرق بين الموضعين؟. قلت: الفرق بينهما: أن ما هنا لم يتقدمه مرجع الضمير وهو البحر، وهناك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن بتصرف.

[47]

تقدم مرجعه حيث قال: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ}. 47 - ولما بين سبحانه الأصلين: المبدأ والمعاد .. بين الأصل الثالث، وهو النبوة، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا {مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد {رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ}؛ أي: إلى أقوامهم الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدي الأوثان، من دون الله {فَجَاءُوهُمْ}؛ أي: فجاءت الرسل أقوامهم {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالحجج الواضحة، والبراهين القاطعة، الدالة على صدقهم، وعلى أنها من عند الله، و {الباء}: تصلح (¬1) للتعدية وللملابسة؛ أي: جاء كل رسول قومه بما يخصه من الدلائل الواضحة على صدقه في دعوى الرسالة، كما جئت قومك بالبراهين النيرة، الدالة على صدقك. وقوله: {فَانْتَقَمْنَا} معطوف على محذوف، تقديره: فآمن بهم قوم، وكفر بهم قوم {فَانْتَقَمْنَا} {مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}؛ أي: كفروا، والنقمة: العقوبة، ومنها الانتقام، والإجرام: تكذيب الأنباء، والإصرار عليه، وإنما وضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على مكان المحذوف، والإشعار بكونه علةً للانتقام؛ أي: عاقبناهم وأهلكناهم، ونجينا الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، ونحن فاعلو ذلك بمجرمي قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. {وَكَانَ حَقًّا}؛ أي: واجبًا {عَلَيْنَا} وجوب (¬2) كرم، لا وجوب إلزام. وفي "الوسيط" واجبًا وجوب من أوجبه على نفسه. {نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وإنجاؤهم من شر أعدائهم، ومما أصابهم من العذاب نصر عزيز، وإنجاء عظيم، وهذا تأكيد لبشارة المؤمنين؛ لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم، فإذا قال {حَقًّا} أكد ذلك المعنى، والنصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات، لا يكون ذلك نصرةً، إذ لا عاقبة له. اهـ. من "المراح". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[48]

وفيه (¬1): إخبار من الله سبحانه: بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو لا يخلف الميعاد، أخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه والترمذي، عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقًا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" ثم تلا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ولفظ الترمذي: "من رد عن عرض أخيه .. رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". وقال: حديث حسن. ووقف (¬2) بعض القراء على {حَقًّا} وجعل اسم {كان} ضميرًا فيها وخبرها {حَقًّا}. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والصحيح: أن {نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} اسمها، و {حَقًّا} خبرها، و {عَلَيْنَا} متعلق بـ {حَقًّا} أو بمحذوف هو صفة له. 48 - {اللَّهُ}: الذي يستحق منكم العبادة هو {الَّذِي يُرْسِلُ} ويحرك ويبعث {الرِّيَاحَ}؛ أي: رياح الرحمة كالصبا ونحوها {فَتُثِيرُ}؛ أي: تزعج وترفع {سَحَابًا} ثقالًا بالمطر من حيث هو، وأضاف الإثارة إلى {الرِّيَاحَ}، وإنما المثير هو الله تعالى؛ لأنه سَببها، والفعل قد ينسب إلى سببه كما ينسب إلى فاعله. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن: {يرسل الريح} بالإفراد، وقرأ الباقون: {الرِّيَاحَ} بالجمع. قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة، فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو مفرد، وهذه الجملة: مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على هذا جملة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} إلى قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} معترضةً. {فَيَبْسُطُهُ}؛ أي: يمد السحاب وينشره سبحانه وتعالى {فِي السَّمَاءِ}؛ أي: في سمتها، {كَيْفَ يَشَاءُ}؛ أي: على كيفية وهيئة شاءها سبحانه وتعالى، سائرًا وواقفًا، مسيرة يوم أو يومين، أو أقل أو أكثر من جانب الجنوب أو ناحية الشمال، أو سمت الدبور، أو جهة الصبا إلى غير ذلك؛ أي: يجعله متصلًا تارةً {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}؛ أي: قطعًا تارةً أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعًا متفرقة: جمع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[49]

كسفه، وهي قطعة من السحاب، أو القطن أو غير ذلك من الأجسام، كما سيأتي. {فَتَرَى} يا محمد، أو يا من يتأتى منه الرؤية {الْوَدْقَ}؛ أي: المطر {يَخْرُجُ} بالأمر الإلهي {مِنْ خِلَالِهِ}؛ أي: من خلال السحاب ووسطه وفرجه وشقوقه وثقبه في التارتين، قيل (¬1): السحاب كالغربال، ولولا ذلك .. لأفسد المطر الأرض: روي عن وهب بن منبه: أن الأرض شكت إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أيام الطوفان؛ لأن الله تعالى أرسل الماء بغير وزن ولا قيل، فخرج الماء غضبًا لله تعالى، فخدش الأرض وخددها فقالت: يا رب إن الماء خددني وخدشني، فقال الله تعالى فيما بلغني، والله أعلم: إني سأجعل للماء غربالًا، كيلا يخددك ولا يخدشك، فجعل السحاب غربال المطر. والضمير (¬2) في {خِلَالِهِ} الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير؛ لأن السحاب اسم جنس، يجوز تذكيره وتأنيثه، قيل: ويحتمل أن يعود على {كسفًا} في قراءة من سكن العين، وقرأ أبو العالية والضحاك: {يخرج من خلله}؛ أي: من ثقبه. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ}؛ أي: بذلك الودق {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}؛ أي: أرض من يشاء إصابتها من عباده وبلادهم {إذا} فجائية واقعة في جواب الشرط {هُمْ}؛ أي: عبادة {يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: يفرحون بذلك المطر،؛ أي: فاجؤوا الاستبشار والفرح بمجيء الخصب، وزوال القحط، لحاجتهم إليه أشد الحاجة. 49 - {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة؛ أي: وإن الشأن، وقيل: إن بمعنى قد؛ أي: وقد كانوا، وتكون الجملة حينئذٍ حالًا من فاعل {يَسْتَبْشِرُونَ}، {كَانُوا}؛ أي: أهل المطر {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} المطر {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل التنزيل، كرره للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر، واستحكام يأسهم منه، وقيل: الضمير لإرسال الرياح، أو للسحاب فلا تكرار، {لَمُبْلِسِينَ}؛ أي: آيسين من ¬

_ (¬1) روح. البيان. (¬2) البحر المحيط.

[50]

نزوله، خبر {كَانُوا}، واللام فارقة، وقد سبق معنى الإبلاس في أول السورة. أي: وقد كانوا (¬1) من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة .. وقع منهم موقعًا عظيمًا. والخلاصة: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضًا، إذ هم ترقبوه في إبانة فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها، فتأخر ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدةً، أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. 50 - {فَانْظُرْ} يامحمد نظر اعتبارٍ واستبصارٍ {إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وفوائد المطر، لتستدل بذلك على توحيد الله وتفرده بهذا الصنع العجيب. والمراد برحمة الله (¬2): المطر؛ لأنه أنزله برحمته على خلقه، وآثارها: فوائدها ونتائجها من النبات والأضجار والأزهار والثمار والحبوب. و {الفاء}: للدلالة على سرعة ترتب هذه الأشياء على تنزيل المطر، والخطاب فيه، وإن توجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمراد به جميع المكلفين. والمعنى: فانظروا إلى آثار المطر من النبات والأشجار، وأنواع الثمار والأزهار والزرائع التي بها يكون الخصب. {كَيْفَ يُحْيِ} الله سبحانه وتعالى {الْأَرْضَ} بالآثار والنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد يبسها. قال في "الإرشاد": {كَيْفَ ..} إلخ. في حيز النصب بنزع الخافض، وكيف معلق لانظر؛ أي: فانظروا إلى كيفية الإحياء البديع للأرض بعد موتها، والمراد بالنظر: التنبيه على عظيم قدرته، وسعة رحمته مع ما فيه من تمهيد أمر البعث. {إِنَّ ذَلِكَ} الإله العظيم الشأن، الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[51]

{لَمُحْيِ الْمَوْتَى}؛ أي: لقادر على إحيائهم في الآخرة، وبعثهم ومجازاتهم، فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض بالمطر إحياء لمثل ما كان فيها من القوى النباتية. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده، {قَدِيرٌ}؛ أي: قادر تام القدرة؛ أي: مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياء قالب الإنسان بعد موته في الحشر، وإحياء قلبه بعد موته في الدنيا؛ لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على حدّ سواء، رجع كل شيء إلى قدرته فلم يعظم عليه شيء، فقدرة الله سبحانه هي الكاملة، بخلاف قدرة العبد، فإنها مستفادة من قدرة الله تعالى. وقرأ الحرميان (¬1) - نافع وابن كثير - وأبو بكر وأبو عمرو: {إلى أثر} بالإفراد وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي: {آثار} بالجمع. وقرأ سلام: {إثر} بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الجحدري وابن السميقع وأبو حيوة: {تحي} بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة أو على الآثار على قراءة من قرأ بالجمع، وقرأ زيد بن علي: {نحي} بنون العظمة، والجمهور: {يحيي} بياء الغيبة والضمير لله. ومعنى الآية: أي فانظر (¬2) أيها الرسول أثر الغيث، الذي أنبت به ما أثبت، من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة، وواسع الرحمة، وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها، وتفرقها وتمزقها إربًا إربًا، ومن ثم قال: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى}؛ أي: إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض، قادر على إحياء الأجسام حين البعث، ثم أكد هذا بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فلا يعجزه شيء، فإحياؤكم من قبوركم هين عليه، ونحو الآية قوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 51 - ثم ذمهم على تزلزلهم، وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير .. فرحوا به، وإن أصابهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

السوء .. يئسوا وأبلسوا، وانقطع رجاؤهم من الخير، فقال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن أرسلنا {رِيحًا} مضرة حارةً أو باردةً كالدبور ونحوها، فأفسدت زرع الكفار {فَرَأَوْهُ} ذلك الزرع {مُصْفَرًّا} متغيرًا بتأثير الريح بعد خضرته؛ أي: قد اصفر بعد خضرته، وقرب من الجفاف والهلاك. وقال {مُصْفَرًّا}؛ لأن ذلك صفرة حادثة، وقيل: المعنى فرأوا السحاب مصفرًا؛ لأن السحاب الأصفر لا يمطر، والريح التي تصفر النبات: صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيمًا، والحرور جنب الشمال إذا عصفت، وقرأ صباح بن حبيش {مصفارًا} بألف بعد الفاء، ذكره أبو حيان. و {الفاء}: في قوله: {فَرَأَوْهُ} عاطفة على محذوف كما قدرنا، و {اللام} (¬1) في قوله: {لَظَلُّوا} لام جواب القسم الساد مسد الجوابين، ولذلك فسر الماضي بالاستقبال؛ أي: يظلون ويصيرون {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من اصفرار وتغير الزرع والنبات {يَكْفُرُونَ} من غير توقف ولا تأخر. والمعنى: ولئن أرسلنا ريحًا حارةً أو باردةً فضرب زرعهم بالصفار .. لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله، ويجحدون نعمه، يعني يقيمون على الكفر بالله وبنعمته، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم، وعدم صبرهِم، وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان. يعني (¬2): أن الكفار لا اعتماد لهم على ربهم، فإن أصابهم خير وخصب .. لم يشكروا الله، ولم يطيعوه، وأفرطوا في الاستبشار، وإن نالهم أدنى شيء يكرهونه .. جزعوا ولم يصبروا، وكفروا سالف النعم، ولم يلتجئوا إليه بالاستغفار، وليس كذلك حال المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويصبر عند المحنة، ولا ييئس من روح الله، ويلتجىء إليه بالطاعة والاستغفار، ليستجلب الرحمة في الليل والنهار. وحاصل المعنى: أي ولئن أرسلنا ريحًا حارةً أو باردةً على الزرع الذي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[52]

زرعوه، ونما واستوى على سوقه، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته .. لظلوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم، ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في احتقارهم، لتزلزلهم في عقيدتهم، إذ كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله في كل حال، ويلجؤوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر، ولا ييئسوا من روح الله، ويبادروا إلى الشكر والطاعة إذا أصابهم - جلّ وعلا - برحمته، ويصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة، ولا يكفروا بنعمائه، لكنهم قد عكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم. 52 - ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال: {فَإِنَّكَ} يا محمد {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الدعاء إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لا يسمعون دعاءَك إلى الحق، لعدم فهمهم للحقائق، ومعرفتهم للصواب. وهذه الجملة تعليل (¬1) لمحذوف، تقديره؛ أي: لا تجزع يا محمد ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي، ومن كان كذلك لا يهتدي. اهـ. "شيخنا ". فالكفار في التشبيه كالموتى، لانسداد مشاعرهم عن الحق، وهم الذين علم الله قبل خلقهم أنهم لا يؤمنون به ولا برسله، وفي الآية دليل على أنّ الأحياء قد يسمون أمواتًا إذا لم يكن لهم منفعة الحياة، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أجسادهم مفقودة، وآثارهم بين الورى موجودة. واعلم: أن الكفر موت القلب، كما أن العصيان مرضه، فمن مات قلبه بالكفر .. بطل سمعه بالكلية، فلا ينفعه النصح أصلًا، ومن مرض قلبه بالعصيان، فيسمع سمعًا ضعيفًا كالمريض .. فيحتاج إلى المعالجة في إزالته، حتى يعود سمعه إلى الحالة الأولى. ثم أشار إلى تشبيه آخر بقوله: {وَلَا تُسْمِعُ} يا محمد {الصُّمَّ} جمع أصم ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[53]

وهو فاقد السمع {الدُّعَاءَ} إذا دعوتهم إلى الحق، ووعظتهم بمواعظ الله وذكرتهم الآخرة وما فيها {إِذَا وَلَّوْا} وأعرضوا عن الداعي حال كونهم {مُدْبِرِينَ}؛ أي: تاركين له وراء ظهرهم، فارين منه، وتقييد (¬1) الحكم بإذا إلخ، لبيان كمال سوء حال الكفرة، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، بنبوّ أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه، ولو كان فيهم إحداهما .. لكفتهم، فكيف وقد جمعوهما، فإن الأصم المقبل إلى المتكلم، ربما يتفطن منه بوساطة أوضاعه، وحركات فمه، وإشارات يده ورأسه شيئًا من كلامه، وإن لم يسمعه أصلًا، وأما إذا كان معرضًا عنه .. فلا يكاد يفهم منه شيئًا. ومعنى الآية: أي (¬2) إنك لا تقدر يا محمد أن تفهم هؤلاء المشركين، الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبم فَهْمَ ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى، الذين سلبوا أسماعهم، بأن تجعل لهم أسماعًا، ولا تقدر أن تهدي من تصاموا عن فهم آيات كتابه، فتجعلهم يسمعونها ويفمونها، كما لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إذا ولوا عنك مدبرين هاربين منك. 53 - ثم أشار إلى تشبيهٍ آخر بقوله: {وَمَا أَنْتَ} يا محمد {بِهَادِ الْعُمْيِ} وصارفهم، جمع أعمى، وهو: فاقد البصر {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} وخطئهم، متعلق بالهداية، باعتبار تضمنها معنى الصرف سماهم عميًّا إما لفقدهم المقصود والحقيقي من الإبصار، أو لعمى قلوبهم كما في "الإرشاد"، فإنهم ميتون، والميت لا يبصر شيئًا، كما لا يسمع شيئًا، فكيف يهتدي؛ أي: ليس في طوقك أن تهدي من أضله الله، فترده عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ففيه بيان أن الهداية والضلالة بيده تعالى لا بيد الرسول. والخلاصة: أن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[54]

{إِنْ تُسْمِعُ}؛ أي (¬1): ما تسمع مواعظ القرآن ولا نصائحه {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} التنزيلية والتكوينية، فإن إيمانهم يدعوهم إلى التدبر فيها، وتلقيها بالقبول؛ أي: ما تسمع إلا هؤلاء، لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر، يعني أن الإيمان حياة القلب، فإذا كان القلب حيًا .. يكون له السمع والبصر واللسان، ويجوز أن يراد بالمؤمن: المشارف للإيمان؛ أي: إلا من يشارف الإيمان بها، ويقبل عليها إقبالًا حقيقيًا، وقوله: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تعليل لإيمانهم؛ أي: منقادون لما تأمرهم به من الحق متبعون له. والمعنى: أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه، فيتبعه، إلا من يؤمن بآياتنا؛ لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله .. تدبره وفهمه وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه. 54 - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، فقال: {اللَّهُ} الذي يستحق منكم العبادة مبتدأ وخبره قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ}؛ أي: أوجدكم أيها الإنسان {مِنْ ضَعْفٍ}؛ أي: من أصل ضعيف هو النطفة أو التراب على تأويل المصدر باسم الفاعل، والضعف خلاف القوة {ثُمَّ} للتراخي في الزمان {جَعَلَ}؛ أي: خلق لأنه عدي لمفعول واحد. {مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} آخر، وهو الضعف الموجود في الجنين والطفل {قُوَّةً} هي القوة التي تجعل للطفل من التحرك، واستدعائه اللين، ودفع الأذى عن نفسه بالبكاء، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} أخرى، هي التي بعد البلوغ، وهي قوة الشباب {ضَعْفًا} آخر، وهو ضعف الشيخوخة والكبر، {وَشَيْبَةً}؛ أي: شيبة الهرم، والشيب والمشيب بياض الشعر، ويدل (¬2) على أن كل واحد من قوله {ضَعْفٍ} و {قُوَّةً} إشارة إلى حالة غير الحالة الأولى، ذكره منكرًا، والمنكر متى أعيد ذكره معرفًا أريد به ما تقدم، كقولك: رأيت رجلًا فقال لي الرجل كذا، ومتى أعيد منكرًا أريد به غير الأول، ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}: لن يغلب عسر يسرين، هكذا حققه الإِمام الراغب، وتبعه أجلاء المفسرين، وهو الموافق للقاعدة المشهورة عندهم، التي نظمها السيوطي في "عقود الجمان" بقوله: ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَه ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَه تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرِّفْ ثَانِيْ ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ يقول (¬1) سبحانه وتعالى محتجًا على المشركين المنكرين للبعث: إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ثم جعل لكم قوةً على التصرف، من بعد ضعف الصغر والطفولة، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر، بعد أن كنتم أقوياء في شبابكم، قادر أن يعيدكم مرةً أخرى بعد البلى، وبعد أن تكونوا عظامًا نخرةً. والخلاصة: أن تنقل الإنسان في أطوار الخلق، حالًا بعد حال، من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف، دليل على قدرة الخالق الفعال لما يشاء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم مرة أخرى. {يَخْلُقُ} سبحانه وتعالى {مَا يَشَاءُ} من ضعفٍ وقوةٍ وشبابٍ وشيبةٍ؛ أي: يخلق الأشياء كلها، التي من جملتها الضعف والقوة والشباب والشيبة، فليس هذا كله طبعًا، بل بمشيئة الله سبحانه وتعالى {وَهُوَ} سبحانه {الْعَلِيمُ} بتدبير خلقه {الْقَدِيرُ} على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو كما يفعل هذا، قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء. فائدة: فإن قلت (¬2): كيف قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} مع أن الضعف صفة ومعنى من المعاني، والمخاطبون لم يخلقوا من صفة، بل من عين وهي الماء، أو التراب؟ قلت: المراد بالضعف: الضعيف، من إطلاق المصدر على اسم الفاعل، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

[55]

كقولهم رجل عَدْلٌ؛ أي: عادل، فمعناه من ضعيف وهو النطفة. وقرأ الجمهور (¬1): بضم الضاد في {ضَعْفٍ} في المواضع الثلاثة، وقرأ عاصم وحمزة: بفتجها فيها، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء، وروي عن أبي عبد الرحمن الجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني، وقرأ عيسى: بضمتين فيهما، والظاهر: أن الضم والفتح بمعنى واحد، قال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل. 55 - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}؛ أي: توجد وتحصلت القيامة، سميت (¬2) بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتةً وبداهةً، وصارت علمًا لها بالغلبة، كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة، وفي "فتح الرحمن": ويوم تقوم الساعة التي فيها القيامة {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: يحلف الكافرون، {مَا لَبِثُوا}؛ أي: ما أقاموا في القبور و {مَا} نافية {غَيْرَ سَاعَةٍ}؛ أي: إلا ساعة واحدة، وهي جزء من أجزاء الزمان، واستقلوا مدة لبثهم نسيانًا أو كذبًا أو تخمينًا، ويقال: ما لبثوا في الدنيا، والأول هو الأظهر؛ لأن لبثهم مغيٌّ بيوم البعث، كما سيأتي، وليس لبثهم في الدنيا كذلك. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الصرف الواقع منهم يوم القيامة {كَانُوا}؛ أي: كان المشركون في الدنيا، بإنكار البعث، والحلف على بطلانه، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} {يُؤْفَكُونَ}؛ أي: يصرفون عن الحق والصدق، فيأخذون في الباطل والإفك والكذب، يعني: كذبوا في الآخرة، كما كانوا يكذبون في الدنيا. والمعنى (¬3): أي ويوم تجيء ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله في الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا في قبورهم إلا قليلًا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم في ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[56]

البرزخ على طولها، وهم قد صرفوا في الآخرة عن معرفة مدة مكثهم في ذلك الحين. {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}؛ أي: كذبوا في قولهم: ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا في الدنيا يحلفون على الكذب، وهم يعلمون، والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كي يقلعوا عن العناد، وهويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون في الدنيا، اغترارًا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة. 56 - ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم، وتهكمهم بهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بكتاب الله، {وَالْإِيمَانَ} بالله في الدنيا من الملائكة والإنس لأولئك المنكرين، ردًا لقولهم، وإنكارًا لكذبهم، والله {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي (¬1): في علمه وقضائه الأزلي في أم الكتاب؛ أي: بحسب ما في علم الله تعالى في قبوركم من يوم مماتكم {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} وهو مدة مديدة، وغاية بعيدة لا ساعة حقيقة، وفي الحديث: "ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون"، وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام، والظاهر أربعون سنة، أو أربعون ألف سنة. ثم أخبروا بوقوع البعث تبكيتًا لهم؛ لأنهم كانوا ينكرونه فقالوا؛ {فَهَذَا} اليوم، (الفاء): واقعة في جواب شرط محذوف؛ أي: إن كنتم منكرين البعث.، فهذا اليوم الحاضر هو {يَوْمُ الْبَعْثِ} والحشر الذي أنكرتموه وكنتم توعدون في الدنيا؛ أي: فقد تبين بطلان إنكاركم. وقرأ الحسن (¬2): {البعث} بفتح العين في الموضعين، وقرىء: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح: مصدر. {وَلَكِنَّكُمْ} من فرط الجهل، وتفريط النظر {كُنْتُمْ} في الدنيا {لَا تَعْلَمُونَ} أنه حق سيكون فتستعجلون به استهزاءً. والمعنى: أي فهذا اليوم الحاضر، هو اليوم الذي أنكرتموه في الدنيا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[57]

وزعمتم أنه لن يكون، لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه. 57 - ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء .. ذكر أن المعاذير لا تجدي في هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم فقال: {فَيَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تقوم القيامة أو يوم، إذ يقع ذلك من إقسام الكفار، وقول أولي العلم لهم {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: أشركوا {مَعْذِرَتُهُمْ}؛ أي: عذرهم، وهو فا عل ينفع؛ أي: لا ينفعهم اعتذارهم من ذنوبهم. وقرأ الجمهور وابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (¬1): {لا تنفع} بالتاء الفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: بالياء التحتية هنا، وفي الطول، وافقهم نافع في الطول؛ لأن التأنيث غير حقيقي. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: لا يطلبون بإرضاء الله سبحانه وتعالى بالتوبة الصادقة عن الشرك والمعاصي، ولا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم؛ أي: إزالة عتبهم وغضبهم من التوبة والطاعة، كما دعوا إليه في الدنيا، إذ لا يقبل حينئذ توبة ولا طاعة، وكذلك لا يصح رجوع إلى الدنيا، لإدراك فائت من الإيمان والعمل؛ أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم بتوبة وطاعة؛ أي: لا يطلب منهم الإعتاب؛ أي: الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة. فإن قلت (¬2): كيف قال هنا ذلك مع قوله في فصلت: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} حيث جعلهم هنا مطلوبًا منهم الإعتاب، وجعلهم ثم طالبين له؟ قلت: معنى قوله هنا: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: ولا هم يقالون عثراتهم بالرد إلى الدنيا، ومعنى قوله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}؛ أي: إن يستقيلوا .. فما هم من المقالين، فلا تنافي. والمعنى (¬3): ففي هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) المراغي.

[58]

الدنيا ليتوبوا؛ لأن التوبة لا تقبل حينئذ، فالوقت وقت جزاءٍ، لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}. والخلاصة: أنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها، ولا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله سبحانه من التوبة والعمل الصالح، وذلك لانقطاع التكليف في ذلك اليوم. 58 - {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ضربنا وبينا، وأوضحنا للناس {فِي هَذَا الْقُرْآنِ} الكريم {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}؛ أي (¬1): من كل صفة كأنها في غرابتها كالأمثال، وذلك كالتوحيد والحشر وصدق الرسل وسائر ما يحتاجون إليه، من أمر الدين والدنيا، مما يهتدي به المتفكر، ويعتبر به الناظر المتدبر، أو المعنى: ولقد (¬2) وصفنا لهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة، كالأمثال مثل صفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله تعالى وعلى البعث وصدق الرسل، واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك. ففيه (¬3): إشارة إلى إزالة الأعذار وقطعها عنهم والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وكلمة من في قوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} للتبعيض، كما في "الكرخي". والمعنى: أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارًا وعنادًا، كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن جئت كفار مكة {بِآيَةٍ} تنزيلية من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو بآية تكوينية تدل على صدق الرسل، كالعصا واليد والناقة {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة وغيرهم من فرط عنادهم وقساوة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) الخازن.

[59]

قلوبهم مخاطبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين {إِنْ أَنْتُمْ}؛ أي: ما أنتم أيها المؤمنون {إِلَّا مُبْطِلُونَ}؛ أي: مزورون؛ أي: ما أنت وأصحابك يا محمد إلا أصحاب أباطيل، تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان. والمعنى: أي والله لئن جئتهم بكل الآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترًى، وما هي إلا أساطير الأولين، ونحو هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}. فإن قلت: لم (¬1) أفرد الخطاب في قوله: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ} وجمعه في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}؟ قلت: في ذلك لطيفة، وهي كأن الله تعالى قال: ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل .. أجابوا بقولهم: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون. 59 - {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الطبع الفظيع، الذي طبع على هؤلاء المشركين {يَطْبَعُ اللَّهُ} سبحانه؛ أي: يختم الله بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان. {عَلَى قُلُوبِ} كل الجهلة {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد الله تعالى، ولا يطلبون العلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق، وينجون به من الباطل، ويصرون على خرافات اعتقدوها، وترهات ابتدعوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. والمعنى (¬2): أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبر والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب، لسوء استعدادهم، ولما دسوا به أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم في طغيانهم يعمهون. 60 - ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى ¬

_ (¬1) الفخر الرازي بتصرف. (¬2) المراغي.

عنادهم، فقال: {فَاصْبِرْ} أيها الرسول على ما ينالك من أذى المشركين، قولًا وفعلًا، وبلغهم رسالة ربك فـ {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} سبحانه الذي وعدك من النصر عليهم، والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك في الأرض {حَقٌّ} لا شك فيه ولا بد من إنجازه والوفاء به {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنك على الخفة والقلق جزعًا مما يقولون ويفعلون، فإنهم ضلال شاكون، فلا تستغرب منهم ذلك أو لا يستفزنك عن دينك وما أنت عليه من الحق، أو لا يستحمقنك ولا يستجهلنك، أو لا يحملنك على العجلة في الدعاء عليهم بالعذاب {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} بالله، ولا يصدقون أنبياءه، ولا يؤمنون بكتبه، ولا يعتقدون البعث بعد الموت فيثبطوك عن أمر الله تعالى، والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته. وفي هذا إرشاد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وتعليم له بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم، روي (¬1): أنه لما مات أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغت قريش في أذاه، حتى إن بعض سفهائهم نثر على رأسه الشريف التراب، فدخل عليه السلام بيته، والتراب على رأسه فقام إليه بعض بناته، وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك وكذا أوذي الأصحاب كلهم فصبروا، وظفروا بالمراد، فكانت الدولة لهم دينًا ودنيا وآخرةً. يقال: استخف فلان فلانًا؛ أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي. وقرأ الجمهور: {يَسْتَخِفَّنَّكَ} بالخاء المعجمة والفاء، من الاستخفاف، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: بالحاء المهملة والقاف {يستحفنك} من الاستحقاق؛ أي: لا يزيغنك، فيكونوا أحق بك من المؤمنين، وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب: {يستخفنك} والنهي في الآية من باب لا أرينك هاهنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي: أن رجلًا من الخوارج نادى عليًا، وهو في صلاة الفجر فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} فأجابه وهو في ¬

_ (¬1) روح البيان.

الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} ولا عجيب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من علي - كرم الله وجهه - وهو مدينة العلم. فائدة (¬1): واعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الصدق، فظهر من ظله الإيمان والإخلاص، وخلق الكذب، فظهر من ظله الكفر والنفاق، فأنتج الإيمان المتولد من الصدق، أو يقول المؤمنون يوم القيامة: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، ونحوه، وأنتج الكفر المتولد من الكذب أن يقول الكافرون يومئذ: والله ماكنا مشركين، وما لبثوا غير ساعة، ونحوه من الأكاذيب. الإعراب {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: {الواو}: استئنافية. {مِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم. {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ}: ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به. {مُبَشِّرَاتٍ}: حال من {الرِّيَاحَ}، والمصدر المؤول من الجملة الفعلية: في محل الرفع مبتدأ مؤخر؛ أي: وإرساله تعالى الرياح مبشرات كائن من آياته ودلائل قدرته، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لبيان الآيات. {وَلِيُذِيقَكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {اللام}: حرف جر وتعليل. {يُذِيقَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {مِنْ رَحْمَتِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: معطوفة على جملة مأخوذة من {مُبَشِّرَاتٍ} تقديرها: ومن آياته: أن يرسل الرياح ليبشركم برحمته، وليذيقكم من رحمته، وقيل: {الواو}: زائدة، و {اللام}: متعلقة بـ {يُرْسِلَ}. وعبارة الزمخشري هنا: فإن قلت: (¬2) بما يتعلق {وَلِيُذِيقَكُمْ}؟ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف.

قلت: فيه وجهان: أن يكون معطوفًا على {مُبَشِّرَاتٍ} على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم، وأن يتعلق بمحذوف، تقديره: وليذيقكم، وليكون كذا وكذا أرسلناها، انتهت. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ}: ناصب وفعل مضارع وفاعل معطوف على {وَلِيُذِيقَكُمْ}، {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور حال من {الْفُلْكُ}، {وَلِتَبْتَغُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد {اللام} معطوف عليه أيضًا، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {تَبْتَغُوا}، {وَلَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَشْكُرُونَ}: خبره، وجملة {لَعَلَّ}: معطوفة على جملة محذوفة مماثلة لها، معللة لمعلول محذوف، تقديره: أكرمكم بهذه النعم المذكورة، لعلكم تفردوه بالعبادة والطاعة، ولعلكم تشكرون نعمه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِكَ}: حال من {رُسُلًا}. و {رُسُلًا}: مفعول به، {إِلَى قَوْمِهِمْ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم - وتأنيسه وإيذانًا بنصره، {فَجَاءُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جَاءُوهُمْ}. {فَانْتَقَمْنَا}: فعل وفاعل، {مِنَ الَّذِينَ}: متعلق به، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فكذبوهم {فَانْتَقَمْنَا} منهم، {أَجْرَمُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَكَانَ}: {الواو}: استئنافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {حَقًّا}: خبرها مقدم على اسمها، {عَلَيْنَا}: متعلق بـ {حَقًّا} أو صفة له، {نَصْرُ} {الْمُؤْمِنِينَ}: اسمها مؤخر، والجملة: مستأنفة. {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)}. {اللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، {يُرْسِلُ}: فعل وفاعل

مستتر، {الرِّيَاحَ}: مفعول به، والجملة: صلة الموصول. {فَتُثِيرُ}: {الفاء}: عاطفة، {تثير}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {سَحَابًا}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {يُرْسِلُ}، {فَيَبْسُطُهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {تُثِيرُ}، {فِي السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يبسط}، {كَيْفَ}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الحال بالفعل بعده، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معْنويًا. {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: كيف {يَشَاءُ} بسطه، وجملة {يَشَاءُ}: فعل شرط لـ {كَيْفَ} لا محل لها من الإعراب، وجواب {كَيْفَ} محذوف دل عليه ما قبلها، تقديره: كيف يشاء بسطه يبسطه، وجملة {كَيْفَ} معترضة، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. فالدة: قال ابن هشام: وتستعمل {كَيْفَ} على وجهين (¬1): أحدهما: أن تكون شرطًا فتقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين، نحو كيف تصنع أصنع، ولا يجوز كيف تجلس أذهب باتفاق من النحاة، ولا كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين، إلا قطربًا، لمخالفتهما لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مر. الثاني: قيل: يجوز مطلقًا، وإليه ذهب قطرب والكوفيون، وقيل: يجوز بشرط اقترانها بما قالوا، ومن ورودها شرطًا: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}: وجوابها في ذلك كله: محذوف لدلالة ما قبلها عليه. {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على {يَبْسُطُ}، {فَتَرَى}: {الفاء}: عاطفة، ترى: فعل مضارع وفاعل مستتر، وهي بصرية، {الْوَدْقَ}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {يجعله}، وجملة {يَخْرُجُ}: حال من {الْوَدْقَ}، {مِنْ خِلَالِهِ}: متعلق بـ {يَخْرُجُ}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {أَصَابَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، {بِهِ}: متعلق بـ {أَصَابَ}، ¬

_ (¬1) المغني.

والجملة: في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. {مِنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أَصَابَ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة من الموصولة، والعائد محذوف، {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من {مِنْ} الموصولة، أو من العائد {إذَا}: فجائية، رابطة لجواب {إذا} الشرطية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَسْتَبْشِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {ترى}. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)}. {وَإِنْ}: {الواو}: حالية أو عاطفة، {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {مُبْلِسِينَ}، {أَنْ يُنَزَّلَ}: فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بـ {أَنْ}، ونائب فاعله: ضمير يعود على {الْوَدْقَ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يُنَزَّلَ}، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة {قَبْلِ} إليه، {مِنْ قَبْلِهِ}: جار ومجرور مؤكد للجار والمجرور في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ}، {لَمُبْلِسِينَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {مُبْلِسِينَ}: خبر {كَانُ}، وجملة {كَانُ}: في محل الرفع خبر لـ {إنَّ} المخففة، وجملة {إِن} المخففة في محل النصب حال من فاعل {يَسْتَبْشِرُونَ} أو معطوفة على جملة {إِذَا}. {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}. {فَانْظُرْ}: {الفاء}؛ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن من آياته تعالى أن يرسل الرياح مبشرات، وأردت معرفة ما يترتب عليه من الآثار .. فأقول لك انظر، {انْظُر}: فعل وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {انْظُر}، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب حال من الأرض، وهي معلقة لـ {انْظُرْ} عن العمل في ما بعدها. {يُحْيِ الْأَرْضَ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، {بَعْدَ مَوْتِهَا}: متعلق

بـ {يُحْيِ}، والجملة الفعلية: بدل من {آثَارِ}، فهي في حيز النصب بنزع الخافض. والمعنى: بعد كل هذا فانظر إلى إحيائه البديع للأرض بعد موتها، والمراد التنبيه على عظم قدرته وسعة رحمته. {إِنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه، {لَمُحْيِ الْمَوْتَى}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الضمير المستكن في {مُحْيِ}. {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}. {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط بها، {رِيحًا}: مفعول به، {فَرَأَوْهُ}: {الفاء}: عاطفة، {رأوه}: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {مُصْفَرًّا}: حال من مفعول {رَأَوْهُ}، لأن الرؤية هنا بصرية، {لَظَلُّوا}: {اللام}: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، {ظَلُّوا}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَكْفُرُونَ}، وجملة {يَكْفُرُونَ}: خبر {ظَلُّ}، وجملة {ظَلُّ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن أرسلنا ريحًا، فرأوه مصفرًا .. يكفرون على القاعدة المشهورة: وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)}. {فَإِنَّكَ}: {الفاء}: تعليليلة. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر {إِن}، والجملة الاسمية: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بـ {الفاء} التعليلية المعللة لمحذوف، تقديره: لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي، {وَلَا تُسْمِعُ}: فعل وفاعل مستتر، {الصُّمَّ}: مفعول أول، {الدُّعَاءَ}: مفعول ثان، والجملة: في محل الرفع معطوفة على الجملة التي

قبلها، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل أو الزمان مجرد عن معنى الشرط، {وَلَّوْا}: فعل وفاعل، {مُدْبِرِينَ}: حال من الواو، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف متعلق بـ {تُسْمِعُ}. {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}. {وَمَا أَنْتَ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: حجازية، {أَنْتَ}: في محل الرفع اسمها، {بِهَادِ}: خبر {ما} الحجازية، و {الباء}: زائدة، {الْعُمْيِ}: مضاف إليه، {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}: متعلق بـ {هادي}: على تضمين هادي معنى صارف. وجملة {ما}: الحجازية معطوفة على جملة {إن}، {إن}: نافية، {تُسْمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تُسْمِعُ}. {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {بِآيَاتِنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية: صلة {مَنْ}: الموصولة، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {هم مسلمون}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {يُؤْمِنُ}: عطف اسمية على فعلية. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}. {اللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {خَلَقَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. {مِنْ ضَعْفٍ}: متعلق بـ {خَلَقَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، {مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ}: متعلق بـ {جَعَلَ}. لأنه بمعنى خلق، {قُوَّةً}: مفعول به لـ {جَعَلَ}. والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}. {ثُمَّ جَعَلَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على جملة {جَعَلَ}، {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ}: متعلق بـ {جَعَلَ}، {ضَعْفًا}: مفعول به لـ {جَعَلَ}، {وَشَيْبَةً}: معطوف على {ضَعْفًا}، {يَخْلُقُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَخْلُقُ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلته، وجملة {يَخْلُقُ}: في محل النصب حال أو فاعل {خَلَقَكُمْ} أو مستأنفة {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَلِيمُ}: خبر أول له، {الْقَدِيرُ}: خبر ثان، والجملة

الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {يَخْلُقُ}. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {يُقْسِمُ}، {تَقُومُ السَّاعَةُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {ما}: نافية، {لَبِثُوا}: فعل وفاعل، والجملة: لا محل لها أو الإعراب؛ لأنها واقعة في جواب القسم، {غَيْرَ سَاعَةٍ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَبِثُوا}، {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {يُؤْفَكُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}: مستأنفة؛ أي: يصرفون عز الحق، وهو الصدق، كما صرفوا عن الحق، وهو البعث. {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل، {الْعِلْمَ}: مفعول ثان لـ {آتى}؛ لأنه بمعنى أعطى، {وَالْإِيمَانَ}: معطوف على {الْعِلْمَ}، والجملة الفعلية: صلة الموصول، {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق، {لَبِثْتُمْ}: فعل وفاعل، {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: حال أو فاعل {لَبِثْتُمْ} ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حالة كون مدة لبثكم محسوبة في كتاب الله وعلمه. {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ}: متعلق بـ {لَبِثْتُمْ}، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها أو الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَهَذَا}: {الفاء}: عاطفة. {هَذَا}: مبتدأ. {يَوْمُ الْبَعْثِ}: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {لَبِثْتُمْ}. وفي "البيضاوي": و {الفاء}: في قوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ}: واقعة في جواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين للبعث .. فهذا يومه؛ أي: فقد تبين بطلان إنكاركم. اهـ. {وَلَكِنَّكُمْ}: {الواو}: حالية. {لَكِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه،

وجملة {لَا تَعْلَمُونَ}: خبره، وجملة {كان}: في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن}: في محل النصب حال من {يَوْمُ الْبَعْثِ}. ولكنه على تقدير رابط، والتقدير: فهذا يوم البعث، والحال أنكم لا تعلمونه. {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}. {فَيَوْمَئِذٍ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما أقسم عليه المجرمون، وما رد به عليهم أهل العلم والإيمان، وأردت بيان حال ذلك اليوم .. فأقول لك {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {يَنْفَعُ}، {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ}: فعل ومفعول، {ظَلَمُوا}: صلة الموصول، {مَعْذِرَتُهُمْ}: فاعل {يَنْفَعُ}، وجملة {يَنْفَعُ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {وَلَا هُمْ}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُسْتَعْتَبُونَ}: من الفعل المغير ونائبه: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة {يَنْفَعُ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم، {قَدْ}: حرف تحقيق، {ضَرَبْنَا}: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة، {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {ضَرَبْنَا}، {فِي هَذَا}: جار ومجرور، {الْقُرْآنِ}: بدل منه الجار والمجرور حال من {كُلِّ مَثَلٍ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها أو متعلق بـ {ضَرَبْنَا}، {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: صفة لمفعول محذوف؛ أي: ضربنا موعظة أو قصة من كل مثل، أو مفعول به لـ {ضَرَبْنَا}. {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {جِئْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {بِآيَةٍ}: متعلق به، والجملة: جواب القسم، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم قبله، {لَيَقُولَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة

للأولى، {يَقُولَنَّ}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، {الَّذِينَ}: فاعل، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، وجملة {يَقُولَنَّ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط: محذوف، تقديره: وإن جئتهم بآية .. يقبل الذين كفروا، وجملة إلشرط مع جوابه: جملة معترضة، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. {إِنْ}: نافية، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {مُبْطِلُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {لَيَقُولَنَّ}. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: مثل ذلك الطبع، {يَطْبَعُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَطْبَعُ}، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: صلة الموصول. {فَاصْبِرْ}: {الفاء}: قال الفصيحة؛ لأنها أفصحت عز جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أو حالهم بهذه المثابة، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اصبر، {اصْبِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}: ناصب واسمه، {حَقٌّ}: خبره، وجملة {إِن}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية، {يَسْتَخِفَّنَّ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و {الكاف}: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به، {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة {اصْبِرْ}، وجملة {لَا يُوقِنُونَ}: صلة الموصول. التصريف ومفردات اللغة {الرِّيَاحَ}: أحد جموع الريح، والريح: مؤنثة، وتجمع أيضًا على أرواح وأرياح وريح، كفيل وفيلة، وجمع الجمع: أراويح وأراييح، والرياح أربع:

الجنوب وهي القبلية، والشمال: وهي الشمالية، والصبا: وهي الشرقية، والدبور: وهي الغربية، والثلاثة الأول: رياح الرحمة، والرابعة: هي ريح العذاب. قال وكيع: لولا الريح والذباب .. لأنتنت الدنيا، قيل: الريح تموج الهواء بتأثير الكواكب، وسيلانه إلى إحدى الجهات، والصحيح عند أهل الشرع: ما ذكر في الحديث أو أنها من روح الله تعالى. {فَتُثِيرُ سَحَابًا}: يقال ثار الغبار والسحاب، انتشر ساطعًا، وقد أثرته، والسحاب: اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها، قال في "المفردات": أصل السحب: الجر، ومنه السحاب: إما لجر الريح له، أو لجره الماء. والمعنى: فتنشره تلك الرياح وتزعجه، وتخرجه أو أماكنه. {فَيَبْسُطُهُ}؛ أي: ينشره متصلًا بعضه ببعض؛ أي: ينشره كمال الانتشار، وإلا فأصل الانتشار موجود في السحاب دائمًا. {فِي السَّمَاءِ}؛ أي: في جهتها؛ أي: في جهة العلو، وليس المراد حقيقة السماء المعروفة. {كِسَفًا}: بكسر ففتح، ويجوز تسكين السين: جمع كسفة، وهي قطعة أو السحاب والقطن، ونحو ذلك أو الأجسام المتخلخلة، كما في "المفردات" وفي "القاموس": الكسفة بالكسر: القطعة أو الشيء، والجمع: كسف بكسر فسكون، وجمع الجمع .. أكساف وكسوف، وكسفه يكسفه: قطعه. {الْوَدْقَ}: المطر، قيل: الودق في الأصل: ما يكون خلال المطر، كأنه غبار، وقد يعبر به عن المطر. {مِنْ خِلَالِه}؛ أي: أو فرج السحاب وشقوقه، قال الراغب: الخلل فرجة بين الشيئين، وجمعه خلال، نحو خلل الدار والسحاب. {لَمُبْلِسِينَ}؛ أي: آيسين، في "المصباح": أبلس الرجل إبلاسًا: سكت، وأبلس: أيس، وفي

التنزيل: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. اهـ. {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا}؛ أي: قد اصفر بعد خضرته، وقرب أو الجفاف، والاصفرار، الاتصاف بالصفرة، والصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهو إلى البياض أقرب. {لَظَلُّوا}: من ظل يظل بالفتح، أصله: العمل، بالنهار، ويستعمل في موضع صار كما في هذا المقام. {الصُّمَّ}: جمع الأصم، والصم: فقدان حاسة السمع، وبه شبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله، كما في "المفردات". {الْعُمْيِ}: جمع الأعمى، وهو: فاقد البصر. {مِنْ ضَعْفٍ}: الضعف: بالفتح والضم: خلاف القوة، وفرقوا بأن الفتح لغة تميم، واختاره عاصم وحمزة في المواضع الثلاثة، والضم: لغة قريش، واختاره الباقون، ولذا لما قرأه ابن عمر - رضي الله عنهما - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح أقرأه بالضم، وفي "المصباح": الضعف بفتح الضاد في لغة تميم، وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة والصحة، فالمضموم مصدر ضعف، مثال قرب قربًا، والمفتوح: مصدر ضعف ضعفًا من باب قتل، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد، وهو ضعيف، والجمع: ضعفاء وضعاف أيضًا. اهـ. {قُوَّةً}: قال بعض العلماء: أول ما يوجد في الباطن حول، ثم ما يجريه في الأعضاء قوة، ثم ظهور العمل بصورة البطش والتناول قدرة. {ضَعْفًا وَشَيْبَةً}؛ أي: شيبًا، وهو بياض الشعر الاسود، ويحصل أوله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال، والأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى. اهـ. "الخطيب". {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}؛ أي: توجد وتحصل الساعة؛ أي: القيامة، وهي

النفخة الثانية، وسميت القيامة ساعةً، لحصولها في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتةً وبديهةً، كما مر، وصارت علمًا لها بالغلبة، كالنجم للثريا، وفي "القاموس": والساعة: جزء من أجزاء الجديدين، والوقت الحاضر، والجمع: ساعات وساع، والقيامة أو الوقت الذي تقدم فيه القيامة، والهالكون كالجاعة للجياع، والساعة أيضًا: آلة يعرف بها الوقت بحسب الساعات. مُولّدة: ومنها الساعة الرملية، والساعة المائية، والساعة الشمسية. {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: يحلف الكافرون، يقال: أقسم: إذا حلف، أصله من القسامة، وهي أيمان تقسم على المتهمين في الدم، ثم صار اسمًا لكل حلف. {مَا لَبِثُوا}: يقال: لبث بالمكان: إذا أقام به ملازمًا له. {يُؤْفَكُونَ}: أفك فلان: إذا صرف عن الصدق والخير. {مَعْذِرَتُهُمْ}؛ أي: عذرهم، والعذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبًا، أو فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، وهذا الثالث هو التوبة، فكل توبة عذر، وليس كل عذر توبةً، وأصل الكلمة أو العذرة، وهي الشيء النجس، تقول: عذرت الصبي: إذا طهرته وأزلت عذرته وكذا عَذرت فلانًا: إذا أزلت نجاسة ذنبه بالعفو عنه، كذا في "المفردات"، وقال في "كشف الأسرار": أخذ من العذار وهو الستر. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}: الإعتاب: إزلة العتب؛ أي: الغضب والغلظة، والاستعتاب: طلب ذلك من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته؛ أي: استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيًا عليه، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه، ألا ترى إلى قوله: غضبت تميم أن تقتل عامرًا ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم كيف جعلهم غضابًا ثم قال: فأعتبوا؛ في: أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والصيلم: ماء لبني عامر، والصيلم: الداهية والسيف كما في "الصحاح".

وفي "المصباح": عتب عليه عتبًا من بابي ضرب وقتل، ومعتبًا أيضًا: إذا لامه في سخط، فهو عاتب وعتاب مبالغة، وبه سمي، ومنه عتاب بن أسيد، وعاتبه معاتبة وعتابًا، قال الخليل: حقيقة العتاب: مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، وأعتبني الهمزة للسلب؛ أي: أزال الشكوى، والعتاب واستعتب طلب الإعتاب. والعتبى كالرجعى وزنًا ومعنى، اسم مصدر من أعتب إعتابًا. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}؛ أي: مزورون، يقال: أبطل الرجل: إذا جاء بالباطل، وأكذب: إذا جاء بالكذب، وفي "المفردات": الإبطال: يقال في إفساد الشيء وإزالته، حقًا كان ذلك الشيء أو باطلًا، قال تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}. وقد يقال فيمن يقال فيمن يقول شيئًا لا حقيقة له، قال تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}. وقوله: {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}: (اللام): فيه: مؤكدة، واقعة في جواب القسم، و {يقولن}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، فـ (اللام): مفتوحة باتفاق القراء، والفاعل: هو الاسم الموصول الذي هو من قبيل الظاهر، وهو {الَّذِينَ كَفَرُوا}: إذا علمت هذا فقد علمت أن ما وقع هذا في "الجلالين" من أنه حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين سبق قلم، فليس بصواب. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ}: واعلم أن الطبع أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقض، والطابع والخاتم: ما يطبع به ويختم، والطابع: فاعل ذلك، وبه اعتبر الطبع والطبيعة، التي هي السجية، فإن ذلك هو نقش النفس بصورة ما، إما من حيث الخلقة من من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من جهة الخلقة أغلب. {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} قال في "المفردات": لا يزعجنك ولا يزيلنك عن اعتقادك ودينك بما يوقعون من الشبه. {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}: الإيقان واليقين: أخذ من اليقين، وهو الماء الصافي، كما في "كشف الأسرار".

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنوعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: أسلوب الإطناب في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية. وذلك لتعداد النعم الكثيرة، وكان يكفي أن يقول: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ولكنه أسهب تذكيرًا للعباد بالنعم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {مِنْ رَحْمَتِهِ} لأنه مجاز مرسل علاقته الحالية, لأن الرحمة تحل في الخصب والمطر، فأطلق الحال وأريد المحل، وفسر بعضهم الرحمة بقوله؛ أي: من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا} حذف منه فكذبوهم واستهزؤوا بهم. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} لأن مقتضى السياق أن يقال: فانتقمنا منهم، فوضع الموصول الذي هو من قبيل الظاهر، موضع الضمير، للتنبيه على مكان المحذوف، وللإشعار بكونه علة للانتقام. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} فأسند الإثارة إلى الرياح، مع أن المثير حقيقة هو الله تعالى؛ لأنه سببها، والفعل قد ينسب إلى سببه، كما ينسب إلى فاعله. اهـ. "روح". ومنها: التكرار في قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} للتأكيد، والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر، واستحكام يأسهم منه. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد

يبسها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الخ. شبه الكفار بالموتى وبالصم والعمي في عدم إحساسهم وسماعهم للمواعظ والبراهين، بطريق الاستعارة التصريحية، لانسداد مشاعرهم عن الحق. ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ}؛ أي: من أصل ضعيف. ومنها: الطباق بين {ضَعْفٍ} و {قُوَّةً}. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} لأن معناه المبالغ في العلم والقدرة. ومنها: الجناس التام في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} المراد بالساعة أولًا: القيامة، وبالثانية: الجزء من الزمان، فبينهما جناس كامل. ومنها: الاستعارة التمثيلية التبعية في قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ} الخ. شبه إحداث الله تعالى في نفوس الكفار هيئة تمرنهم وتعودهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات، بسبب إعراضهم عن النظر الصحيح، بالختم والطبع على الأواني، ونحوها في أنهما مانعان، فإن هذه الهيئة مانعة من نفوذ الحق في قلوبهم، كما أن الختم على الأواني ونحوها مانع من التصرف فيها، ثم استعير الطبع لتلك الهيئة، ثم اشتق منه {يَطْبَعُ} فيكون استعارةً تبعية. اهـ. "روح". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما احتوت عليه هذه السورة من الموضوعات 1 - إثبات النبوة بالإخبار بالغيب. 2 - البراهين الدالة على الوحدانية. 3 - الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم. 4 - الأدلة التي في الآفاق، شاهدة على وحدانية الله سبحانه وعظيم قدرته. 5 - الأدلة على صحة البعث. 6 - ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلًا، ولا قطميرًا يوم القيامة. 7 - الأمر بعبادة الله وحده، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها. 8 - النهي عن اتباع المشركين، الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم. 9 - من طبيعة المشرك: الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء. 10 - من دأب الناس: الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. 11 - الأمر بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل. 12 - الدلائل التي وضعها سبحانه في الأنفس شاهدة على وحدانيته. 13 - للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت. 14 - في النظر في آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر. 15 - تسلية الرسول على عدم إيمان قومه، بأنهم صم عمي لا يسمعون ولا يبصرون. 16 - بيان أن الكافرين يكذبون في الآخرة، كما كانوا يكذبون في الدنيا.

17 - الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية في الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية في التكذيب والإنكار. 18 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بإدامة التبليغ، مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة الروم وما يتعلق بها من العلوم، بعون الله ذي الإمداد على كافة العباد، أوائل يوم الأربعاء، السابع عشر من شهر الله رمضان المبارك، المنتظم في شهور سنة ثلاث عشرة وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة لقمان

سورة لقمان سورة لقمان مكية، إلا ثلاث (¬1) آيات: أولاهن قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} إلى تمام الآيات الثلاث .. قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه، وحكى القرطبي عن قتادة: أنها مكية إلا آيتين: أولاهما: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} إلى آخر الآيتين. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم يستثن، وأخرج النسائي وابن ماجه عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. آياتها: أربع وثلاثون آية، وقيل (¬2): ثلاث وثلاثون آية. وكلماتها: خمس مئة وثمان وأربعون كلمة. وحروفها: ألفان ومئة وعشرة أحرف. التسمية: سميت سورة لقمان، لاشتمالها على قصة لقمان الحكيم، التي تضمنت فضيلة الحكمة، وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة، التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان. فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬3): "من قرأ سورة لقمان .. كان لقمان رفيقًا له يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشرًا، بعدد من عمل بالمعروف، ونهى عن المنكر، ولكن فيه مقال. وعن الزهري (¬4) - رحمه الله -: أكثروا قراءة سورة لقمان، فإن فيها أعاجيب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي. (¬3) البيضاوي. (¬4) النسفي.

المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - أنه تعالى قال في السورة السالفة: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وأشار إلى ذلك في مُفْتَحِ هذه السورة بقوله: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)}. 2 - أنه قال في آخر ما قبلها: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} وقال في هذه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا}. 3 - أنه قال في السورة السالفة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال في هذه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ففي كلتيهما إفادة سهولة البعث. 4 - أنه ذكر في السابقة قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)}. وقال في هذه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، فذكر في كل من الآيتين قسمًا لم يذكره في الآخر. 5 - أنه ذكر في السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر في هذه السورة قصة عبد مملوك زهد في الدنيا، وأوصى ابنه بالصبر والمسالمة، وذلك يقتضي ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل، وشاسع البون، كما لا يخفى. الناسخ والمنسوخ منها: وجميع (¬2) هذه السورة محكم، إلا آيةً واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} الآية (23). سبب نزولها: سبب نزول هذه السورة إلا ما استثني منها (¬3): أن قريشًا سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بره والديه، فنزلت: وأما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) ابن حزم. (¬3) المراغي.

الآيات المدنية منها: (28 و 29 و30) فسبب نزولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة .. قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} اعنيتنا أم قومك؟ قال: "كلا عنيت". فقالوا: إنك تعلم أنا أوتينا التوراة، وفيها بيان كل شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك في علم الله قليل"، فأنزل الله سبحانه هؤلاء الآيات {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ...} الآيات الثلاث. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}.

المناسبة قد تقدم لك ذكر مناسبة السورة للسورة، هنا نذكر مناسبة الآيات بعضها لبعض، قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله تعالى، وينتفعون بسماعه، وهم الذين قال الله فيهم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .. أردف ذلك بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله تعالى، وأقبلوا على استماع كلام المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال من أعرض عن الآيات، وبين مآله .. عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات، وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها. قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف كمال قدرته وعلمه، وإتقان عمله .. أردف ذلك بالاستشهاد لما سلف بخلق السماوات والأرض، وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬2) فساد اعتقاد المشركين، بإشراك من لا يخلق شيئًا بمن خلق كل شيء، ثم بين أن المشرك ظالم ضال .. أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة في السماوات والأرض، والباطنة من العلم والحكمة، ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاها لبعض عباده، كلقمان الذي فطر عليها دون نبي أرشده، ولا رسول بعث إليه. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن لقمان أوتي الحكمة، فشكر ربه على نعمه الظاهرة عليه، وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار .. أردف ذلك ببيان: أنه وعظ ابنه بذلك أيضًا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامةً، وصى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعايةً لحقوقهم، وردًا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، على أن لا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبي .. عاد إلى خطاب المشركين، وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك، مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحةً للعيان، يشاهدونها في كل آن في السماوات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم في المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة، ثم أبان أن كثيرًا من الناس يجادلون في توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلي على ما يدعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين .. لم يجدوا جوابًا إلا تقليد الآباء والأجداد، بنحو قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصل إلى النار وبئس القرار. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...} الآيتين، سبب نزولهما: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: نزلتا في النضر بن الحارث، اشترى قينة - مغنية - وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق بها ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

إليه، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه. وروي عن مقاتل: أنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدث بها قريشًا، ويقول لهم: إن محمدًا يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم (1)}؛ أي: هذه (¬1) سورة {ألم}. قال بعضهم: الحروف المقطعات مبادىء السور ومفاتيح كنوز العبر، والإشارة هنا بهذه الحروف الثلاثة إلى قوله: أنا الله ولي جميع صفات الكمال، ومني الغفران والإحسان, وقال بعضهم الألف إشارة إلى ألفة العارفين، واللام إلى لطف صنعه مع المحسنين، والميم إلى معالم محبة قلوب المحبين، وقال بعضهم: يشير بالألف إلى آلائه، وباللام إلى لطفه وعطائه، وبالميم إلى مجده وثنائه، فبآلائه رفع الحجاب عن قلوب الأولياء، وبلطف عطائه أثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده، وثنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه. 2 - {تِلْكَ}؛ أي: هذه السورة وآياتها. {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}؛ أي: آيات من الكتاب المحكم المحروس من التغيير والتبديل، والممنوع من الفساد والبطلان، فهو فعيل بمعنى المفعل، وإن كان قليلًا في كلامهم، كما قالوا: أعقدت اللبن فهو عقيد؛ أي: معقدًا، أو ذي الحكمة لاشتماله عليها، أو الحاكم بين عباده ببيان الأحكام من الحلال والحرام مثلًا. 3 - وقوله: {هُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} من العذاب بالنصب على الحالية من الآيات، والعامل فيها ما في الإشارة من معنى الفعل؛ أي: حالة كون تلك ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

الآيات هاديةً من الضلالة إلى الرشاد، وذات رحمة {لِلْمُحْسِنِينَ}؛ أي: العاملين للحسنات، وبالرفع: خبران آخران لاسم الإشارة. وقال بعضهم (¬1): سماه هدًى لما فيه من الدواعي إلى الفلاح، والألطاف المؤدية إلى الخيرات، فهو هدى ورحمة للعابدين، ودليل وحجة للعارفين. اهـ. وفي "التأويلات النجمية": هدى يهدي إلى الحق، ورحمة لمن اعتصم به، يوصله بالجذبات المودعة فيه إلى الله تعالى، وفي تخصيص كتابه بالهدى والرحمة للمحسنين: دليل على أنه ليس يهدي غيرهم، والمحسن لا يقع مطلقًا إلا مدحًا للمؤمنين، والمحسن: العامل للحسنات، أو من يعبد الله تعالى كأنه يراه، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عن الإحسان .. قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقرأ الجمهور (¬2): {هُدًى وَرَحْمَةً} بالنصب على الحال من الآيات، وقرأ حمزة والأعمش والزعفراني، وطلحة وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر على مذهب من يجيز ذلك. 4 - ثم بين عمل المحسنين فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} المفروضة وغيرها؛ أي: يؤدونها بحقوقها وشروطها في أوقاتها، وعبر عن الأداء بالإقامة، إشارةً إلى أن الصلاة عماد الدين، وفي "المفردات": إقامة الصلاة: توفية شرائطها لا الإتيان بهيئتها، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يعطونها بشرائطها إلى مستحقيها المذكورين في آية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: بمجيء الدار الآخرة بما فيها من الحساب والميزان, والجزاء على الأعمال، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ}؛ أي: يصدقون فلا يشكون في البعث والحساب والجزاء، وإعادة لفظة {هم} للتوكيد في الإيقان بالبعث والحساب، ولما حيل بينه وبين خبره بقوله: {بِالْآخِرَةِ}. وخص هذه العبادات الثلاث؛ لأنها عمدة العبادات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[5]

والمعنى (¬1): أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ، الشافي من الضلال، لمن أحسنوا العمل واتبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل، الذي رسمه الدين في أوقاتها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، ورغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا به ولا اْرادوا به جزاءً ولا شكورًا، 5 - ولما كان المتصفون بهذه الخصال هم الغاية في الهداية والفلاح .. قال: {أُولَئِكَ} المحسنون المتصفون بتلك الصفات الجليلة كائنون {عَلَى هُدًى} وبيان كائن {مِنْ رَبِّهِمْ} بين لهم طريقهم ووفقهم، وفي الآية (¬2) دليل على أن العبد لا يهتدي بنفسه إلا بهداية الله تعالى، ألا ترى أنه قال: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} وهو رد على المعتزلة، فإنهم يقولون: العبد يهتدي بنفسه، قال بعضهم: ثلاث من علامات الهدى: الاسترجاع عند المصيبة، والاستكانة عند النعمة، وترك الامتنان عند العطية. {وَأُولَئِكَ}: المذكورون {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مهروب، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح، وكرر اسم الإشارة تنبيهًا على عظم قدرهم، قال في "المفردات": الفلاح: الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، والأخروي: أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنًى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "المؤمن لا يخلو عن قلة أو علة أو ذلة" يعني: ما دام في الدنيا، فإنها دار البلايا والمصائب والأوجاع. 6 - ولما ذكر (¬3) من صفات القرآن الحكمة وأنه هدى ورحمة، وأن متبعه فائز .. ذكر حال من بدل الحكمة باللهو، وذكر مبالغته في ارتكابه، حتى جعله مشتريًا له وباذلًا فيه رأس عقله، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله سبحانه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

وتعالى فقال: {وَمِنَ النَّاسِ}؛ أي: وبعض الناس، فهذا مبتدأ، وخبره قوله: {مَنْ يَشْتَرِي}؛ أي: وبعض الناس يشتري ويستبدل ويختار {لَهْوَ الْحَدِيثِ} وسفاسفه على ذكر الله وعبادته، و {من} (¬1) مفرد لفظًا، جصع معنى، وروعي لفظها أولًا في ثلاثة ضمائر: {يَشْتَرِي} و {يضل} و {يتخذ}. وروعي معناها ثانيًا في موضعين: وهما: {أُولَئِكَ} {لَهُمْ} ثم رجع إلى مراعاة اللفظ في خمسة ضمائر: وهي: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ} .. إلخ. اهـ. "شيخنا". والاشتراء: دفع الثمن وأخذ المثمن، والبيع: دفع المثمن وأخذ الثمن، وقد يتجوز بالشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء. والمعنى هاهنا: يستبدل ويختار ما يشغله عن مهماته، وليس بمهم بدل مهماته، وقال الحسن: الحديث: كل ما يشغل عن عبادة الله وذكره، من السمر والأضاحيك والخرافات والمغنيات، والمزامير والمعازف والملاهي، والإضافة في لهو الحديث على معني من، لأن اللهو يكون حديثًا وغيره، هو كثوب خز. وقال القرطبي: إن أول ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين. اهـ. "شيخنا" أي: يختار ويأخذ لهو الحديث بدل ما ينفعه في الآخرة، وهو استماع القرآن والعمل به، وعبارة "الروح" هاهنا (¬2): ولهو الحديث: كل ما يلهي ويشغل صاحبه عما يعني من المهمات، كالأحاديث التي لا أصل لها، والأساطير التي لا اعتداد بها، والأضاحيك، وسائر ما لا خير فيه من الكلام، والحديث: يستعمل في قليل الكلام وكثيره؛ لأنه يحدث شيئًا فشيئًا. وقال أبو عثمان النهدي: كل كلام سوى كتاب الله، أو سنة رسوله، أو سيرة الصالحين فهو لهو، وفي "التأويلات النجمية": كل ما يشغل عن الله ذكره ويحجب عن الله سماعه، فهو لهو الحديث، والإضافة فيه بمعنى من البيانية، كما مر، إن أريد بالحديث المنكر, لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فأضيف ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

العام إلى الخاص للبيان، كأنه قيل: من يشتري اللهو الذي هو الحديث، وبمعنى من التبعيضية إن أريد به الأعم من ذلك، كأنه قيل: من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه، وأكثر أهل التفسير على أن الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، قتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبرًا، حين فرغ من وقعة بدر. أي: كان يشتري بماله كتبًا فيها لهو الحديث، وباطل الكلام من فارس، ويحدث بها قريشًا في أنديتهم، ولعلها كانت مترجمة بالعربية. {لِيُضِلَّ} الناس ويصرفهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: عن دينه الحق الموصل إليه، أو ليضلهم ويمنعهم بتلك الكتب المزخرفة عن قراءة كتاب الله الهادي إليه، وإذا أضل غيره فقد ضل هو أيضًا، واللام فيه للتعليل. وقرأ الجمهور (¬1): {لِيُضِلَّ} بضم الياء؛ أي: ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش وابن أبي إسحاق: بفتح الياء، أي: ليضل هو في نفسه، قال الزجاج: من قرأ بضم الياء .. فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره .. فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء .. فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيده سبب نزول الآية. حال كونه {بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ أي: حال كونه جاهلًا بحال ما يشتريه ويختار، هل ينفعه أو يضره، أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن؛ أي: أو جاهلًا بحال تجارته هل تخسره أو تربح له، فلهذا استبدل الخير بما هو شر محض {وَيَتَّخِذَهَا} بالنصب عطفًا على {لِيُضِلَّ}، والضمير المنصوب لـ {سَبِيلِ}، فإنه مما يذكر ويؤنث؛ أي: وليتخذها {هُزُوًا}؛ أي: مهزوءًا بها ومستهزأةً، وبالرفع عطفًا على يشتري فهو من جملة الصلة، وقيل: الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب في يتخذها إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أعني العطف على ¬

_ (¬1) الشوكاني.

يشتري أولى من الاستئناف. والمعنى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوًا ليضل عن سبيل الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وحفص (¬1): {ويتخذها} بالنصب عطفًا، على {لِيُضِلَّ}. وقرأ باقي السبعة: بالرفع عطفًا على {يَشْتَرِي}. وحاصل معنى الآية: أي (¬2) ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهى به عن الحديث النافع للإنسان في دينه، فيأتي بالخرافات والأساطير والمضاحيك، وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث، الذي كان يشتري الكتب ويحدث بها الناس، وربما اشترى الفتيات وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإِسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال والصد عن دين الله، وقراءة كتابه واتخاذه هزوًا ولعبًا. وعن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في الطريق، فسمع مزمارًا فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج إصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان". والخلاصة: أن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، يبعثها على اللهو والمجون، بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف في تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة - عبد أسود - كان يقول راحلة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[7]

فقد ضرب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم دخل المدينة، فهم أبو أبكر بالزجر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهن يا أبا بكر، حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح" فكن يضربن ويقلن: نَحْنُ بَنَاتُ النَّجَّارِ ... حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ ولا بأس في استعمال الطبل والدف في النكاح، وكذا الآلات المشهرة به، والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه، وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. ثم بين عاقبة أمرهم، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الاشتراء والإضلال {لَهُمْ عَذَابٌ} شديد {مُهِينٌ}؛ أي: ذو إهانة وإذلال لهم، لإهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه، وترغيب الناس فيه؛ أي: إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة؛ لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل .. جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق. 7 - ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى في نفسه، فكلما تليت عليه آية .. ازداد إباءً ونفورًا، فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ}؛ أي: على هذا المشتري المستهزىء (¬1)، أفرد الضمير فيه وفيما بعده، كالضمائر الثلاثة الأولى باعتبار لفظ من وجمع في {أُولَئِكَ} باعتبار معناه كما مر، قال في "كشف الأسرار": وهذا دليل على أن الآية السابقة نزلت في النضر بن الحارث. {آيَاتُنَا}؛ أي: آيات كتابنا القرآنية {وَلَّى}؛ أي: أعرض هذا المستهزىء عنها غير معتد بها حال كونه {مُسْتَكْبِرًا}؛ أي: مبالغًا في التكبر ودفع النفس عن الطاعة والإصغاء، وجملة قوله: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} حال من ضمير {وَلَّى} أو من ضمير {مُسْتَكْبِرًا}، والأصل: كأنه، فحذف ضمير الشأن، وخففت المثقلة؛ أي: كأن ذلك المعرض المتكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها, ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع؛ أي: حال كونه مشابهًا حاله حال من {لَمْ يَسْمَعْهَا} وهو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

سامع، وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار، لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها. وجملة قوله: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (¬1) حال ثانية أو بدل من التي قبلها، أو حال من ضمير {لَمْ يَسْمَعْهَا}؛ أي: حال كونه مشابهًا حاله حال من في أذنيه، وقر؛ أي: ثقل مانع من السماع، {فَبَشِّرْهُ}؛ أي: فبشر ذلك المعرض {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: مؤلم؛ أي: فأخبره بأن العذاب لمفرط في الإيلام، لاحق به لا محالة، وذكر البشارة للتهكم. أي (¬2): وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله .. يعرض عن سماعها ويولي مستكبرًا، كأن في أذنيه ثقلًا فلا يصيخ لها, ولا يأبه لتلقفها وتأملها، ونحو الآية قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة. فإن قلت (¬3): لم زاد هنا {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} وحذفه في الجاثية حيث قال هنا: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} مع أنهما نزلا في النضر بن الحارث، حيث كان يعدل عن سماع القرآن إلى اللهو وسماع الغناء؟ قلت: لأنه تعالى بالغ في ذمه هنا، فناسب زيادة ذلك بخلاف ما في الجاثية. 8 - ولما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات بين حال من يقبل عليها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} بآياتنا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: عملوا بموجبها، قال في "كشف الأسرار": الإيمان التصديق بالقلب، وتحقيقه بالأعمال الصالحة، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) فتح الرحمن.

[9]

ولذلك قرن بينهما، وجعل الجنة مستحقة بهما، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}؛ أي: إن الذين آمنوا بالله وبآياته، ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها {لهم} بمقابلة إيمانهم وأعمالهم {جَنَّاتُ النَّعِيمِ}؛ أي: نعيم الجنات، فعكسه للمبالغة. وقيل: جنات النعيم: اسم لإحدى الجنات الثمانية، وهي دار الجلال، ودار السلام، ودار القرار، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. كما روى وهب بن منبه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فجعل لهم جنات النعيم، كما جعل للفريق الأول العذاب المهين. 9 - وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في {لَهُمْ}. وقرأ زيد بن علي: خالدون (¬1) فيها على أنه خبر ثان لـ {إن}. وقرأ الجمهور بالياء. {وَعْدَ اللَّهِ}؛ أي: وعدهم الله سبحانه جنات النعيم وعدًا، فهو مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن معنى {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} وعدهم بها {حَقًّا}؛ أي: حق ذلك الوعد حقًا، فهو تأكيد لقوله: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أيضًا، لكنه مصدر مؤكد لغيره؛ لأن قوله: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} وعد، وليس كل وعد حقًا. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ} الذي لايغلب به غالب فيمنعه من إنجاز وعده أو تحقيق وعيده {الْحَكِيمُ} في كل أفعاله وأقواله، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. ومعنى الآية (¬2): أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم في كتابه، على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه، لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسار، من المآكل والمشارب والملابس والمراكب، ومما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائمًا، لا يظعنون ولا يبغون عنها حولًا {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}؛ أي: ما أخبرنا به كائن لا محالة؛ لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده، وهو الكريم المنان على عباده {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؛ أي: وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[10]

الصادين عن سبيله الحكيم، في تدبير خلقه، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم. 10 - ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله: {خَلَقَ} الله سبحانه وتعالى وأوجد {السَّمَاوَاتِ} السبع وكذا الكرسي والعرش {بِغَيْرِ عَمَدٍ}؛ أي: بغير دعائم وسواري، على أن الجمع لتعدد السماوات، والعمد، بفتحتين: جمع عماد، كأهب وإهاب، وهو ما يعمد به؛ أي: يسند، والأولى أن تكون جملة {تَرَوْنَهَا} مستأنفة، جيء بها للاستشهاد على ما ذكر من خلقه تعالى إياها غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة لعمد؛ أي: خلقها بغير عمد مرئية على أن التقييد للرمز، على أنه تعالى عمدها بعمدٍ لا ترى، هي عمد القدرة. واعلم: أن وقوف السماوات وثبات الأرض على هذا النظام، من غير اختلال، إنما هو بقدرة الله الملك المتعال. {وَأَلْقَى} سبحانه وتعالى وطرح {الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت في نفسها، وثبت بها الأرض، شبه الجبال الرواسي استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا بحصيات قبضهن قابض بيده، فنبذهن في الأرض، وما هو إلا تصوير وتمثيل لقدرته، وإن كل فعل عظيم يتحير فيه الأذهان، فهو هين عليه، والمراد: قال لها: كوني، فكانت فأصبحت الأرض قد أرسيت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا؛ أي: تضطرب اضطرابًا، فلم يدر أحد مم خلقت. وقوله: {أَنْ تَمِيدَ} الأرض، تتحرك وتضطرب {بِكُمْ} في محل نصب على العلة؛ أي: ألقى فيها رواسي كراهية أن تميد بكم، والكوفيون يقدرونه لئلا تميد بكم. والمعنى (¬1): أنه خلقها وجعلها مستقرةً ثابتةً لا تتحرك، بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها، والميد (¬2): اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض، والمعنى: كراهية أن تميل بكم، فإن بساطة أجزائها تقتضي تبدل أحيازها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[11]

وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته، أو لشيء من لوازمه بحيز معين ووضع مخصوص. {وَبَثَّ فِيهَا}؛ أي: وفرق الله سبحانه في الأرض {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}؛ أي: من كل نوع من أنواع الدواب مع كثرتها واختلاف أجناسها، وبث الشيء: تفريقه، كبث الريح التراب، فبث كل دابة في الأرض إشارة إلى إيجاده تعالى، ما لم يكن موجودًا وإظهاره إياه، والدب والدبيب: مشي خفيف - كما سيأتي - ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب؛ لأن السماء في اللغة: ما علاك وأظلك، {مَاءً} هو المطر {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا}؛ أي: في الأرض بسبب ذلك الماء، والالتفات إلى نون العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بأمرهما {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: صنف {كَرِيمٍ}؛ أي: كثير المنفعة، ووصفه بكونه كريمًا لحسن لونه وكثرة منافعه، وقيل المراد بذلك: الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار، قاله الشعبي وغيره، والأول أولى. واعلم: أن كل ما في العالم فهو زوج، من حيث إن له ضدًا ما، أو مثلًا ما، أو تركبًا ما، من جوهر وعرض مادة وصورة، وفيه تنبيه على أنه لا بد للمركب من مركب، وهو الصانع الفرد. ومعنى الآية (¬1): أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة: أن خلق السماوات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هي قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الرعد، وأن ألقى في الأرض، وجعل على ظهرها ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم وتميد بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها، وأن بث فيها من كل دابة؛ أي: وأن ذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها، ومقادير أشكالها وألوانها، إلا الذي فطرها، وأن أنزلنا من السماء ماء، فكان ذلك سببًا لإنبات كل صنف كريم من النبات ذي المنافع الكثيرة، 11 - ثم ¬

_ (¬1) المراغي.

بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه، فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال: {هَذَا} الذي ذكر من السماوات والأرض والجبال والحيوان والنبات {خَلْقُ اللَّهِ}؛ أي: مخلوقة، كضرب الأمير؛ أي: مضروبه، فأقيم المصدر مقام المفعول توسعًا؛ أي: هذا الذي تشاهدونه من السماوات والأرض وما فيهما من الخلق، مخلوق الله وحده، دون أن يكون له شريك في ذلك. {فَأَرُونِي}؛ أي (¬1): فأخبروني أيها المشركون الذين يعبدون هذه الأصنام والأوثان {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} تعالى؛ أي: أي شيء خلق الذين من دونه تعالى مما اتخذتموه شركاء له سبحانه في العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالقكم وخالق هذه الأشياء التي عددتها لكم، و {مَاذَا} بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء، نصب بـ {خَلَقَ}، أو ما مرفوع بالابتداء وخبره ذا وصلته، و {أَرُونِي}: معلق عنه على كلا التقديرين، والاستفهام: للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت. ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعي للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول، لاستحالة أن يفهموا منه شيئًا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه فقال: {بَلِ الظَّالِمُونَ}؛ أي: بل المشركون بالله، العابدون معه غيره من أهل مكة وغيرهم {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: في خطأ واضح ظاهر لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنى لهم أن يرعووا عن غي أو يهتدوا إلى رشد وحق. فقرر ظلمهم أولًا، وضلالهم ثانيًا، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة، ولا يهتدي إلى الحق. ¬

_ (¬1) المراغي.

[12]

قصة لقمان الحكيم 12 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشك. اهـ. "أبو السعود". واختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي، مشتق من اللقم، مرتجلًا إذ لا يعلم له وضع في النكرات، فمن قال: إنه عجمي .. منعه للتعريف والعجمة، ومن قال: إنه عربي .. منعة للتعريف وزيادة الألف والنون، واختلفوا أيضًا هل هو نبي أم رجل صالح، فذهب أكثر أهل العلم أنه ليس بنبي، وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي: أنه كان نبيًا، والأول أرجح، وقيل: لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًا، وهو لقمان بن باعورا بن ناحور بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، فعلى هذا هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقيل: هو لقمان بن عنقا بن سرون، كان عبدًا نوبيًا من أهل أيلة، ذكره السهيلي، أسود اللون ولا ضير، فإن الله تعالى لا يصطفي عباده اصطفاء نبوة أو ولاية وحكمة على الحسن والجمال، وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم، وقيل: كان ابن أخت أيوب، وقيل: كان ابن خالته، وقيل: إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وأخذ عنه العلم، كان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى، فقيل له: فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وفي بعض الكتب: قال لقمان: خدمت أربعة آلاف نبي، واخترت من كلامهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة .. فاحفظ قلبك، وإن كنت في الطعام .. فاحفظ حلقك، وإن كنت في بيت الغير .. فاحفظ عينيك، وإن كنت بين الناس .. فاحفظ لسانك، واذكر اثنين، وأنس اثنين، أما اللذان تذكرهما: فالله والموت، وأما اللذان تنساهما: إحسانك في حق الغير، وإساءة الغير في حقك. وقيل: كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا، وقيل: كان خياطًا، وقيل: كان راعي غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة، فقال: ألست فلانًا الراعي؟ قال: بلى، قال: فبم بلغت ما بلغت، قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك مالا

يعنيني. وقيل: كان عبدًا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين، وقيل: خير السودان بلال بن رباح، ومهجع مولى عمر، ولقمان، والنجاشي رابعهم، وأوتي الحكمة والعقل والفهم. واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يقل نبيًا إلا عكرمة والشعبي، فقالا بنبوته، وعلى هذا تكون الحكمة هي النبوة، ويؤيد كونه حكيمًا لا نبيًا كونه أسود اللون؛ لأنه تعالى لم يبعث نبيًا إلا حسن الشكل حسن الصوت، وما روي أنه قيل له: ما أقبح وجهك يا لقمان، فقال: أتعيب بهذا على النقش أم على النقاش، وما قال عليه السلام: "حقًا أقول لم يكن لقمان نبيًا، ولكن كان عبدًا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة" وهي إصابة الحق باللسان، وإصابة الفكر بالجنان، واصابة الحركة بالأركان، إن تكلم .. تكلم بحكمة، وإن تفكر .. تفكر بحكمة، وإن تحرك .. تحرك بحكمة. أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا لقمان الحكمة؛ أي: العقل والفطنة والإصابة في القول، وقيل: الحكمة: توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شيء كثير، كقوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان, وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو ولا أراك ناجيًا وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه .. زاده الله بذلك عزًا، والذلّ في طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية وقوله: يا بني، لا تكن حلوًا فتبتلع، ولا مرًا فتلفظ. وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلًا .. فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه .. فآخه، وإلا فاحذره. ولما كانت الحكمة من إنعام الله تعالى على لقمان، ونعمة من نعمه .. طالبه بشكره فقال: وقلنا له: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى على ما أعطاك من الحكمة، إذ آتاك الله إياها وأنت نائم غافل عنها جاهل بها، والشكر لله: هو الثناء عليه في مقابلة النعمة، وطاعته فيما أمر به.

والظاهر: أن {أَنِ}: زائدة على هذا التفسير؛ أي: قلنا له: اشكر لله على ما أعطاك، وقيل: هي مفسرة؛ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول؛ لأنه تعليم أو وحي. والمعنى عليه: ولقد أعطينا لقمان الحكمة ووفقناه إياها، وهي شكره وحمده على ما آتاه من فضله، بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له. ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر، فقال: {وَمَنْ يَشْكُرْ} له تعالى على نعمه {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن منفعة شكره التي هي دوام النعمة واستحقاق مزيدها، عائدة إليها مقصورة عليها, ولأن الكفران من الوصف اللازم للإنسان، فإنه ظلوم كفار، والشكر من صفة الحق تعالى، فإن الله شاكر عليم، فمن شكر .. فإنما يشكر لنفسه بإزالة صفة الكفران عنها، واتصافها بصفة شاكرية الحق تعالى، فيفوز بالثواب الجزيل على شكره، وينجو من العذاب الأليم، كما قال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. {وَمَنْ كَفَرَ} نعمة ربه فعليه وبال كفره {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {غَنِيٌّ} عنه وعن شكره {حَمِيدٌ}؛ أي: محمود في ذاته وصفاته وأفعاله، سواء حمده العباد وشكروه، أم كفروه، ولا يحيى عليه أحد ثناء كما يثني هو على نفسه، وعدم التعرض لكونه تعالى شكورًا، لما أن الحمد متضمن للشكر، وهو رأسه، كما قال عليه السلام: "الحمد رأس الشكر، لم يشكر الله عبد لم يحمده" فإثبات الحمد له تعالى إثبات للشكر، قال في "كشف الأسرار": رأس الحكمة: الشكر لله ثم المخافة منه، ثم القيام بطاعته. ولا شك أن لقمان امتثل أمر الله في الشكر وقام بعبوديته. والمعنى: أي ومن كفر نعم الله عليه .. فإلى نفسه أساء؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غني عن شكره؛ لأن شكره لا يزيد في سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو محمود على كل حال كفر العبد أو شكر. وقال يحيى بن سلام: غني عن خلقه، حميد في فعله.

[13]

وعن عبد الله بن دينار: أن لقمان قدم من سفر، فلقي غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت أمري، قال: وما فعلت أمي؟ قال: قد ماتت، قال: ذهب همي، قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جدد فراشي، قال: ما فعلت أختي: قال: ماتت، قال: سترت عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري، وانكسر جناحي، ثم قال: ما فعل ابني؟ قال: مات، قال انصدع قلبي. وقال في "فتح الرحمن": وقبر لقمان بقرية صرفند، ظاهر مدينة الرملة من أعمال فلسطين - بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين - وهي البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها الرملة وغزة وعسقلان، وعلى قبره مشهد، وهو مقصود بالزيارة، وقال قتادة: قبره بالرملة ما بين مسجدها وسوقها، وهناك قبور سبعين نبيًا ماتوا بعد لقمان جوعًا في يوم واحد، أخرجهم بنو إسرائيل من القدس، فألجؤوهم إلى الرملة، ثم أحاطوهم هنا. انتهى. 13 - وجملة قوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} قيل: معطوفة على ما تقدم، والتقدير: ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره، والأولى أن تكون {وَإِذْ} معمولة لـ: اذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة وقت قول لقمان {لِابْنِهِ} قيل: اسمه أنعم، فهو أبو أنعم؛ أي: يكنى به، كما قالوا. وقال السهيلي: اسم ابنه ثاران، في قول ابن جرير والقتيبي، وقال الكلبي: اسمه مكشم، وقال النقاش: أنعم، وقيل: ماتان، قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما، قيل: وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جنبه، وجعل يعظ ابنه موعظةً موعظةً، ويخرج خردلةً خردلةً، فنفذ الخردل، فقال: يا بني وعظتك موعظةً، لو وعظتها جبلًا .. لتفطر، فتفطر ابنه ومات. {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن لقمان {يَعِظُهُ}؛ أي: يعظ الابن، والوعظ: زجر يقترن بتخويف؛ أي: يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد، وتصده عن الشرك. {يَا بُنَيَّ} بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم - بالفتح والكسر - وهو تصغير

رحمة وشفقة وعطوفة، ولهذا أوصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك. وقرأ البزي وابن كثير (¬1): {يا بني} بإسكان الياء، {ويا بني إنها} بكسر الياء. {ويا بني أقم} بفتحها. وقيل: بالسكون في الأولى والثالثة. والكسر في الوسطى، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا، والاجتزاء عن الألف، وقرأ باقي السبعة بالكسر في الثلاثة. {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ}؛ أي: لا تعدل بالله شيئًا في العبادة، ونهيه عن الشرك يدل على أنه كان كافرًا، كما تقدم، وجملة قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} تعليل لما قبلها؛ أي: أنه تسوية من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك؛ لأنه أهم من غيره، وأما عظمه، فلأنه لا يغفر أبدًا، قال الشاعر: الْحَمْدُ للهِ لَا شَرِيْكَ لَهُ ... وَمَنْ أبَاهَا فَنَفْسَهُ ظَلَمَا وكان ابنه وامرأته كافرين، فما زال بهما حتى أسلما، بخلاف ابن نوح وامرأته، فإنهما لم يسلما، وبخلاف ابنتي لوط وامرأته، فإنه ابنتيه أسلمتا دون امرأته، ولذا ما سلمت فكانت حجرًا، كما في بعض الروايات، كما سبق، قيل: وعظ لقمان ابنه في ابتداء وعظه على مجانبة الشرك، والوعظ: زجر النفس عن الاشتغال بما دون الله، وهو التفريد للحق بالكل نفسًا وقلبًا وروحًا، فلا تشتغل بالنفس إلا بخدمته، ولا تلاحظ بالقلب سواه، ولا تشاهد بالروح غيره، وهو مقام التفريد بالتوحيد. وقد اختلف في هذه الجملة (¬2)، فقيل: هي من كلام لقمان، وقيل: من كلام الله تعالى، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح: أنها لما نزلت {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فطابت أنفسهم. أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[14]

ومعنى الآية (¬1): أي واذكر أيها الرسول الكريم لقومك موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه وأحبهم لديه، حين أمره أن يعبد الله وحده، ونهاه عن الشرك، وبين له أنه ظلم عظيم، أما كونه ظلمًا فلما فيه من وضع الشيء في غير موضعه، وأما أنه عظيم، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه، وهو سبحانه وتعالى، ومن لا نعمة لها، وهي الأصنام والأوثان. 14 - وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه، من شكر المنعم الأول، الذي لم يشركه أحد في إيجاده إياه، وذكر ما في الشرك من الشناعة .. أتبعه بوصيته الولد بالوالدين، لكونهما السبب في وجوده، فقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: اعتراض في أثناء وصية لقمان، تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك؛ أي: وأمرنا (¬2) الإنسان ببر والديه وطاعتهما، والقيام بحقوقهما وبالإحسان إليهما، وكثيرًا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وفسر الوصية بقوله الآتي: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وما بينهما: اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، وفي جعل الشكر لها مقترنًا بالشكر لله، دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد، وأكبرها وأشدها وجوبًا. ومعنى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} في بطنها {وَهْنًا}؛ أي: حالة كونها ذات وهن وضعف بحمله، أو تهن وهنًا {عَلَى وَهْنٍ}؛ أي: تضعف ضعفًا فوق ضعف، فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها؛ أي: حملته وهي في ضعف بتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس، وقيل: المعنى: إن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل، وهذه منة خاصة بالوالدة لما فيها من كبير المشقة. وقرأ الجمهور: {وهنًا} بسكون الهاء في الموضعين، وقرأ عيسى الثقفي - وهي رواية عن أبي عمرو: بفتحمهما وهما لغتان، ثم أردفها بمنة أخرى، وهي الشفقة عليه، وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئًا، فقال: {وَفِصَالُهُ}: مبتدأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

خبره {فِي عَامَيْنِ}؛ أي (¬1): وفطام الإنسان من اللبن يقع في تمام عامين من وقت الولادة، وهي مدة الرضاع عند الشافعي، فلا يثبت حرمة الرضاع بعدها، فالإرضاع عنده واجب إلى الاستغناء، ويستحب إلى الحولين، وجائز إلى حولين ونصفٍ، قال في "الوسيط": المقصود ذكر مشقة الوالدة، بإرضاع الولد بعد الوضع عامين. وقرأ الجمهور: {وفصاله} بالألف، وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة والجحدري ويعقوب {وفصله} ومعناه الفطام، وهما لغتان. والمعنى: أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه في تمام عامين، تقاسي فيها الأم في رضاعه وشؤونه في تلك الحقبة جم المصاعب والآلام، التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وقد وصى (¬2) بالوالدين، لكنه ذكر السبب في جانب الأم فحسب؛ لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته في بطنها ثقيلًا، ثم وضعته وربته ليلًا ونهارًا، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله من أبر: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك، ثم فسر هذه الوصية بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} والأولى أن تكون {أَنِ} مفسرة؛ أي: قلنا له: اشكر لي حيث أوجدتك وهديتك بالإِسلام، واشكر لوالديك حيث ربياك صغيرًا، وقاسا فيك ما قاسا من المشقة، حتى استحكمت قواك، وشكر الحق بالتعظيم والتكبير، وشكر الوالدين بالإشفاق والتوقير، وقال الزجاج: هي مصدرية، والمعنى: بأن اشكر لي، وقال النحاس: وأجود منه أن تكون {أَنِ} مفسرة، وفي "شرح الحكم": قرن شكرهما بشكره، إذ هما أصل وجودك المجازي، كما أن أصل وجودك الحقيقي فضله وكرمه، فله حقيقة الشكر، كما له حقيقة النعمة، ولغيره مجازه، كما لغيره مجازها. وفي الحديث: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" فجعل شكر الناس شرطًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

في صحة شكره تعالى. ثم حق المعلم (¬1) في الشكر فوق حق الوالدين، سئل الاسكندر، قيل له: ما بالك تعظم مؤدبك أشد من تعظيمك لأبيك؟ فقال: أبي حطني من السماء إلى الأرض، ومؤدبي رفعني من الأرض إلى السماء: وقيل لبعضهم: ما بالك تعظيمك لمعلمك أشد من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومعلمي سبب حياتي الباقية. ثم علل الأمر بشكره محذرًا إياه بقوله: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ}؛ أي: إلى الرجوع لا إلى غيري، فأجازيك على شكرك وكفرك، ومعنى الرجوع إلى الله: الرجوع إليه، حيث لا حاكم ولا مالك سواه. والمعنى: إليّ رجوعك بالبعث بعد الموت، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمري، وسائلك عما كان من شكرك لي، على نعمي عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرك بهما. قال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى -: من صلى الصلوات الخمس .. فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس .. فقد شكر والديه. وفي الحديث: "من أحب أن يصل أباه في قبره .. فليصل إخوان أبيه من بعده، ومن مات والداه وهو غير بار لهما، وهي حي .. فليستغفر لهما ويتصدق لهما حتى يكتب بارًا لوالديه، ومن زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة .. كان بارًا". فإن قلت (¬2): كيف وقعت الآيتان في أثناء وصية لقمان لابنه؟. قلت: هما من الجمل الاعتراضية التي لا محل لها من الإعراب، اعترض بها بين كلامين متصلين معنًى، تأكيدًا لما في وصية لقمان لابنه من النهي عن الشرك. فإن قلت: لم فصل بين الوصية ومفعولها بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

[15]

وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}؟. قلت: تخصيصًا للأم بزيادة التأكيد في الوصية، لما تكابده من المشاف. 15 - وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين، وأكد حقهما ووجوب طاعتهما، استثنى من ذلك حقوقه تعالى؛ فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ}؛ أي: وإن كلفك الولدان أيها الإنسان وحملاك {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} في العبادة {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ}؛ أي: بشركته إياي في استحقاق العبادة {عِلْمٌ} (¬1) أراد بنفي العلم به نفيه من أصله؛ أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام {فَلَا تُطِعْهُمَا} في الشرك، يعني أن خدمة الوالدين وطاعتهما - وإن كانت عظيمة - فلا يجوز للولد أن يطيعهما في معصية الله تعالى، أيًا كانت شركًا أو غيره؛ أي: فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به. روي أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، قال: لما أسلمت .. حلفت أمي لا تأكل طعامًا، ولا تشرب شرابًا، فناشدتها أول يوم فأبت، وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها، فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مئة نفس، فخرجت واحدة واحدة .. لم أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك منى وعرفت أنني لست تاركًا له أكلت. {وَصَاحِبْهُمَا}؛ أي: وصاحب الوالدين، وعاشرهما أيها الولد {فِي} أمور {الدُّنْيَا} وشؤونها صحابًا {مَعْرُوفًا}؛ أي: صحبةً معروفةً في الشرع، يرتضيها الدين ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما، وعيادتهما إذا مرضًا، ومواراتهما في القبر إذا ماتا، وفي "الخطيب"؛ أي: صاحبهما في أمور الدنيا التي لا تتعلق بالدين ما دمت حيًا ببرهما، إن كانا على دين يقران عليه، ومعاملتهما بالحلم والاحتمال، وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالم الشيم. اهـ. وقوله: {فِي الدُّنْيَا} إشارة (¬2) إلى تهوين أمر الصحبة؛ لأنها في أيام قلائل ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

وشيكة الانقضاء، فلا يصعب عليك تحمل مشقتها، وفي الحديث: "حسن المصاحبة: أن يطعمهما إذا جاعا، وأن يكسوهما إذا عريا" فيجب على المسلم نفقة الوالدين ولو كانا كافرين، وبرهما وخدمتهما وزيارتهما، إلا أن يخاف أن يجلباه إلى الكفر، وحينئذ يجوز أن لا يزورهما, ولا يقودهما إلى البيعة، ويقودهما منها إلى المنزل، وقال بعضهم: المعروف هاهنا: أن يعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله تعالى. ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة فيه .. نفى ذلك بقوله: {وَاتَّبِعْ} في الدين {سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} ورجع {إِلَيَّ} بالتوحيد والإخلاص في الطاعة، وهم المؤمنون الكاملون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن اتبعه إلى يوم الدين؛ أي: واسلك سبيل من تاب من تركه ورجع إلى الإِسلام، واتبع محمد - صلى الله عليه وسلم -. والخلاصة: واتبع سبيلي بالتوحيد والإخلاص والطاعة لا سبيلهما {ثُمَّ} بعد انقضاء حياتكم الدنيا {إِلَيَّ} لا إلى غيري {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: مرجعك ومرجعهما {فَأُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فأخبركم وسائر العباد عند رجوعكم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، فأجازي كلًّا منكم بما صدر منه من الخير والشر، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. نبذة في ذكر أحاديث وآثار وردت في الحث على بر الوالدين روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي هرمت، فأطعمها بيدي وأسقيها وأحملها على عاتقي، فهل جازيتها حقها؟ قال عليه السلام: "لا ولا واحدًا من مئة" قال: ولم يا رسول الله؟ قال: "لأنها خدمتك في وقت ضعفك، مريدة حياتك، وأنت تخدمها مريدًا مماتها, ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا". وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لولا أن أخاف عليكم تغير الأحوال عليكم بعدي .. لأمرتكم أن تشهدوا

[16]

لأربعة أصناف بالجنة: أولهم امرأة وهبت صداقها لزوجها لأجل الله وزوجها راضٍ، والثاني: ذو عيال كثير، يجتهد في المعيشة لأجلهم حتى يطعمهم الحلال، والثالث: التائب من الذنب على أن لا يعود إليه أبدًا كاللبن لا يعود إلى الثدي، والرابع: البار بوالديه". ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "طوبى لمن بر بوالديه، وويل لمن عقهما". وعن عطاء بن يسار: إن قومًا سافروا فنزلوا بريةً فسمعوا نهيق حمار حتى أسهرهم طول الليل، فلما أصبحوا .. نظروا فرأوا بيتًا من شعر فيه عجوز، فقالوا: سمعنا نهيق حمار وليس عندك حمار؟ فقالت: ذاك ابني كان يقول لي: يا حمارة، فدعوت الله أن يصيره حمارًا، فذاك منذ مات ينهق كل ليلة حتى الصباح. وعن وهب: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة .. نام فانكشف عورته، وكان عنده حام ولده فضحك ولم يستره، فسمع سام ويافث صنع حام، فألقيا عليه ثوبًا، فلما سمعه نوح عليه السلام .. قال: غير الله لونك، فجعل السودان من نسل حام، فصار الذل لأولاده إلى يوم القيامة. ثم إن الآية قد تضمنت النهي عن صحبة الكفار والفساق، والترغيب في صحبة الصالحين، فإن المقارنة مؤثرة، والطبع جذاب، والأمراض سارية، وفي الحديث: "لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنم أو جامعهم .. فهو منهم، وليس منا"؛ أي: لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد، ولا تجتمعوا معهم في المجلس الواحد، حتى لا تسري إليكم أخلاقهم الخبيثة، وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة، قال إبراهيم الخواص - رحمه الله تعالى -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر، وإخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع إلى الله تعالى عند السحر، ومجالسة الصالحين. كذا في "البستان". 16 - ثم عاد سبحانه إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه، بعد أن نهى في مطلعها عن الشرك، وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ} قال مقاتل: إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتاه، إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف

يعلمها الله تعالى؟ فرد عليه لقمان، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا}؛ أي: إن الخطيئة أو إن القصة كما قاله المولى الجامي، أو إن الفعلة من الإساءة، أو الإحسان إن تك تلك الخطيئة أو الفعلة {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}؛ أي: وزن حبة واحدة من خردل؛ أي: مقدار ما هو أصغر المقادير التي توزن بها الأشياء من جنس الخردل، الذي هو أصغر الحبوب المقتاتة {فَتَكُنْ} تلك الخطيئة مع كونها في أقصى غايات الصغر {فِي صَخْرَةٍ} تحت الأرضين، وهي التي عليها الثور كما قيل، وهي لا في الأرض ولا في السماء؛ أي: في أخفى مكان وأحرزه، كجوف صخرة ماء، وقال المولى الجامي: في صخرة، هي أصلب المركبات، وأشدها منعًا لاستخراج ما فيها، انتهى. وقال بعضهم: المراد بالصخرة (¬1): أية صخرة كانت, لأنه قال بلفظ النكرة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الأرض على الحوت، والحوت في الماء، والماء على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرةٍ، والصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماوات ولا في الأرض، كذا في "التكملة". هذا ضعيف ليس له أصل، {أَوْ} تكن في {السَّمَاوَاتِ} مع ما بعدها، وفي بعض التفاسير: في العالم العلوي كمحدب السماوات {أَوْ فِي الْأَرْضِ} مع طولها وعرضها، وفي بعض التفاسير: في العالم السفلي كمقعر الأرض {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ}؛ أي: يحضرها فيحاسب عليها؛ لأنه من يعمل مثقال ذرة خيرًا .. يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا .. يره. والمعنى: أي (¬2) يا بني، إن الفعلة من الإساءة والإحسان, إن تك وزن حبة من خردل، فتكن في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة أو في أعلى مكان، كالسماوات أو في أسفله كباطن الأرض، يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها، إن خيرًا .. فخير، وإن شرًا .. فشر، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[17]

وقرأ نافع: {مثقال} بالرفع على أن {تَكُ} تامة، وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة. وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر، وباقي السبعة بالنصب على أن {تَكُ} ناقصة، واسمها: ضمير يفهم من سياق الكلام، تقديره: هي؛ أي: التي سألت عنها، وقرأ عبد الكريم الجزري: {فتكن} بكسر الكاف وشد النون وفتحها من الكن، وهو الشيء المغطى، وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي: {فتكن} بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة، وقرأ قتادة: {فتكن} بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون، من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضًا؛ أي: تستقر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى من قول لقمان {لَطِيفٌ} يصل علمه إلى كل خفي، فإن أحد معاني اللطيف هو العالم بخفيات الأمور، ومن عرف أنه العالم بالخفيات .. يحذر أن يطلع عليه فيما هو فيه، ويثق به في علم ما يجهله، {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم بكنهه يعلم ظواهر الأمور وخوافيها. قال في "شرح حزب البحر": الخبير: هو العلم بدقائق الأمور، التي لا يتوصل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال، ومن عرف أنه الخبير .. ترك الرياء والتصنع لغيره بالإخلاص له، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويحيط بأسرار الضمائر وبطون الخواطر ويحاسب عليها، سواء كانت في صخرة النفوس أو في سماء الأرواح، أو في أرض القلوب، وفيه تنبيه لأهل المراقبة، وتحذير من الملاحظات لاطلاع الحق على نوادر الخطرات وبطون الحركات. 17 - ولما (¬1) نهاه أولًا عن الشرك، وأخبره ثانيًا بعلمه تعالى وباهر قدرته .. أمره بما يتوسل به إلى الله تعالى من الطاعات، فبدأ بأشرفها، وهو الصلاة، حيث يتوجه إليه بها، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف، ممن يبعثه عليه، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه، فكثيرًا ما يؤذى فاعل ذلك، وهذا إنما يريد ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} التي (¬1) هي أكمل العبادات، تكميلًا لنفسك من حيث العمل بعد تكميلها من العلم والاعتقادات؛ لأن النهي عن الشرك فيما سبق قد تضمن الأمر بالتوحيد، الذي هو أول ما يجب على الإنسان؛ أي (¬2): أدّها كاملةً على النحو المرضي لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك .. صفت النفس وأنابت إلى بارئها في السراء والضراء، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفيةً لحق الله عليه، عطف على ذلك تكميله لغيره فقال: {وَأْمُرْ} غيرك بقدر استطاعتك {بِالْمَعْرُوفِ}؛ أي: بالمستحسن شرعًا وعقلًا، وحقيقته: ما يوصل العبد إلى الله تعالى. {وَانْهَ} الناس {عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عن المستقبح شرعًا وعقلًا وتكميلًا لغيرك، وحقيقته: ما يشغل العبد عن الله؛ أي: وانْهَهُمْ بقدر استطاعتك عن معاصي الله ومحارمه، التي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذاب السعير، في جهنم وبئس المصير. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من أذى الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر، أو على ما أصابك من الشدائد والمحن، كالأمراض والفقر والهم والغم، والصبر: حبس النفس عما يقتضي الشرع أو العقل والكف عنه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر؛ لأنهما عمادا الاستعانة إلى رضوان الله تعالى، كما قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. ثم ذكر علة ذلك فقال: {إِنَّ ذَلِكَ} الذي أوصيك به {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ أي: من الأمور التي جعلها الله تعالى محتومة واجبةً على عباده، لا محيص عنها لما لها من جزيل الفوائد وعظيم المنافع في الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة، وأرشدت إليه نصوص الدين. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[18]

ففيه (¬1) إطلاق المصدر؛ أي: العزم على المفعول؛ أي: المعزوم. والمعنى: من معزومات الأمور ومقطوعاتها ومفروضاتها، بمعنى مما عزمه الله؛ أي: قطعه قطع إيجاب، وأمر به العباد أمرًا حتمًا، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل؛ أي: من عازمات الأمور وواجباتها ولازماتها من قوله: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ}؛ أي: جد. وفي هذا (¬2) دليل على قدم هذه الطاعات والحث عليها في شريعة من تقدمنا، وبيان لهذه الأمة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ينبغي أن يكون صابرًا على ما يصيبه في ذلك، إن كان أمره ونهيه لوجه الله؛ لأنه قد أصابه ذلك في ذات الله وشأنه. 18 - وبعد أن أمره بأشياء، حذّره من أخرى فقال: 1 - {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}؛ أي: ولا تعرض بوجهك، ولا تمل خدك عمن تكلمه من الناس، تكبرًا واحتقارًا له، بل أقبل عليه بوجهك كله، متهللًا مستبشرًا من غير كبرٍ ولا عتوٍ، ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وزيد بن علي (¬3): {تصعر} بفتح الصاد وشد العين، وباقي السبعة: بألف. والجحدري: {يصعر} مضارع أصعر. والمعنى: أقبل على الناس بجملة وجهك عند السلام والكلام واللقاء، تواضعًا، ولا تحول وجهك عنهم، ولا تغط شق وجهك وصفحته، كما يفعله المتكبرون استحقارًا للناس، خصوصًا الفقراء، وليكن الغني والفقير عندك على السوية في حسن المعاملة. 2 - {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ} حال كونك {مَرَحًا}؛ أي: ذا مرح وخيلاء وفرح ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

شديد ونشاط وعجب وخفةً؛ أي: مشيًا كمشي المرح من الناس، كما يرى من كثيرهم، لا سيما إذا لم يتضمن مصلحة دينية أو دنيوية؛ أي: ولا تمش في الأرض مختالًا متبخترًا؛ لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون في الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونًا، فإن ذلك يفضي إلى التواضع، وبذا تصل إلى كل خير. روى (¬1) يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم، ما غرك بي، ألم تعلم أني بيت الوحدة، ألم تعلم أني بيت الظلمة، ألم تعلم أني بيت الحق، يا ابن آدم، ما غرك بي لقد كنت تمشي حولي فدادًا - ذا خيلاء وكبر -. وفي الحديث: "من جرّ ثوبه خيلاء .. لا ينظر الله إليه يوم القيامة". ثم ذكر علة النهي بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ} ولا يرضى {كُلَّ مُخْتَالٍ} ومتبختر في مشيه {فَخُورٍ} على الناس، والمختال من الاختيال، وهو التكبر عن تخيل فضيلة فيه، كما سيأتي؛ أي: لا يرضى عن المتكبر المتبختر في مشيته، بل يسخط عليه، وهو بمقابلة الماشي مرحًا، والفخور: هو الذي يفتخر على الناس بما لَهُ من المالِ أو الشرف أو القوة أو غير ذلك، وليس منه التحدث بنعم الله عليه، فإن الله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وهو بمقابلة المصعر خده، وتأخيره لرعاية الفواصل. وفي الحديث: "خرج رجل يتبختر في الجاهلية، عليه حقة، فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". قال بعض الحكماء (¬2): إذا افتخرت بفرسك .. فالحسن والفراهة له دونك، وإن افتخرت بثيابك وآلاتك .. فالجمال لها دونك، وإن افتخرت بآبائك .. فالفضل فيهم لا فيك، ولو تكلمت هذه الأشياء .. لقالت: هذه محاسننا فما لك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[19]

من الحسن شيء، فإن افتخرت .. فافتخر بمعنى فيك غير خارج عنك. وإذا أعجبك شيء من الدنيا .. فاذكر فناءك وبقاءه، أو بقاءك وزواله، أو فناءكما جميعًا، فإذا راقك ما هو لك .. فانظر إلى قرب خروجه من يدك، وبعد رجوعه إليك، وطول حسابه عليك، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر. حكي: أنه حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج موضع بالجوهر، لم ير له نظير، ففرح به الملك فرحًا شديدًا، فقال لمن عنده من الحكماء: كيف ترى هذا؟ فقال: أراه فقرًا حاضرًا ومصيبةً عاجلةً، قال: وكيف ذلك؟ قال: إن انكسر .. كانت مصيبة لا جبر لها، وإن سرق .. صرت فقيرًا إليه، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، فاتفق أنه انكسر القدح يومًا، فعظمت المصيبة على الملك، وقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا. إِنَّمَا الدُّنْيَا كَرُؤْيَا فَرَّحَتْ ... مَنْ رَآهَا سَاعَةً ثُمَّ انْقَضَّتْ 3 - 19 {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}؛ أي: توسط (¬1) فيه، والقصد: ما بين الإسراع والبطء، يقال: قصد فلان في مشيته: إذا مشى مستويًا، لا يدب دبيب المتماوتين، ولا يثب وثوب الشياطين. وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مشى .. أسرع، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة، وقال مقاتل: معناه: لا تختل في مشيتك، وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}. والمعنى (¬2): توسط بين الدبيب والإسراع، فلا تمش كمشي المظهرين الضعف في المشي، فكأنهم أموات، وهم المراؤون الذين ضل سعيهم، ولا كمشي الشطار ووثوبهم، وعليك بالسكينة والوقار. وفي الحديث: "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن". قال بعضهم: إن للشيطان من آدم نزغتين، بأيتهما ظفر قنع: الإفراط والتفريط، وذلك في كل شيء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

يتصور فيه ذلك. وقرىء (¬1): {وأقصد في مشيك} بهمزة القطع. والخلاصة: أي وامش مشيًا مقتصدًا، ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونًا بلا تصنع، ولا مراءة للخلق بإظهار التواضع أو التكبر، روي عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتًا فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء - الفقهاء العالمين بكتاب الله - قالت: كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع. ورأى عمر رجلًا متماوتًا فقال له: لا تمت علينا ديننا - أماتك الله -. ورأى رجلًا مطأطئًا رأسه فقال له: ارفع رأسك فإن الإِسلام ليس بمريض. {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}؛ أي: وانقص من صوتك واخفضه واقصر على قدر الحاجة، ولا تتكلف رفعه في محل الخطاب، والكلام خصوصًا عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند الدعاء والمناجاة، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، والخفض أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه، والصوت هو الهواء المنضغط عند قرع جسمين، كما سيأتي بسطه في مبحث المفردات. ثم علل النهي وبينه بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ}؛ أي: إن أبشع الأصوات وأقبحها، الذي ينكره العقل الصحيح، ويحكم بقبحه برفعها فوق الحاجة بلا داعٍ {لـ} هو {صَوْتُ الْحَمِيرِ} وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيهًا بصوت الحمار في علوه، ورفعه، وهو البغيض إلى الله تعالى. وفي ذلك ما لا يخفى من الذم وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغةً في التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح عند وجوه الناس تهاونًا بهم، أو بترك الصياح جملةً، وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتًا .. كان أعز، وكان أخفض .. كان أذل، قال شاعرهم: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

جَهِيْرُ الْكَلاَمِ جَهِيْرُ الْعُطَاسْ ... جَهِيْرُ الرُّوَاءِ جَهِيْرُ النِّعَمْ وَيَعْدُوْ عَلَى الأيْنِ عَدْوَ الظَّلِيْمِ ... وَيَعْلُو الرِّجَالَ بِخَلْق عَمِمْ (¬1) وقال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق، قال المبرد: تأويله: إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وإنه داخل في باب الصوت المنكر. اهـ. وأفرد الصوت مع إضافته إلى الجمع، لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، بل بيان حال صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس، فإن كل حيوان يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب، كالبعير أو لغير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح، ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار. قال أبو الليث: صوت الحمار كان هو المعروف عند العرب وسائر لناس بالقبح، وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان، وإنما ضرب الله المثل بما هو معروف عند الناس بالقبح؛ لأن أوله زفير وآخره شهيق، كصوت أهل النار، يتوحش من يسمعه ويتنفر منه كل التنفر. والمعنى: أن أنكر أصوات الناس حين يصوتون ويتكلمون، لصوت من يصوت صوت الحمار؛ أي: يرفع صوته عند التصويت كما يرفع الحمار صوته. قال سفيان الثوري: صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمير، فإنها تصيح لرؤية الشيطان، ولذلك سماه منكرًا. وفي الحديث: "إذا سمعتم نهاقة الحمير - وهو بالضم صوتها - فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا، وإذا سمعتم صياح الديكة، بفتح الياء جمع ديك .. فاسألوا من فضله، فإنها رأت ملكًا". وفي الحديث دلالة على نزول الرحمة عند حضور أهل الصلاح، فيستحب الدعاء في ذلك الوقت، وعلى نزول الغضب عند أهل المعصية، فيستحب التعوذ، كما في ¬

_ (¬1) الرواء - بالضم -: المنظر الحسن، والنعم: الإبل، والأين: الإعياء، والخلق: العمم التام.

[20]

"شرح المشارق" لابن الملك. ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب"؛ أي: يقطع كمالها وينقصها مرور هذه الأشياء بين يدي المصلي، أما المرأة فلكونها أحب الشهوات إلى الناس، وأشد فسادًا للحال من الوسواس، وأما الكلب الأسود فلكونه شيطانًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكلب الأسود شيطان" سمى شيطانًا لكونه أعقر الكلاب وأخبثها وأقلها نفعًا وأكثرها نعاسًا، ومن هذا قال الإِمام أحمد بن حنبل: لا يحل الصيد به، وأما الحمار فلكون الشيطان قد تعلق بذنبه حين دخل سفينة نوح عليه السلام، فهو غير مفارق عنه في أكثر الأوقات، وهو السر في اختصاص الحمار برؤية الشيطان. والله أعلم. كما أن وجه اختصاص الديك برؤية الملك، كون صياحه تابعًا لصياح ديك العرش، كما ثبت في بعض الروايات الصحيحة, فالملك غير مفارق عنه في غالب الحالات، وفي الحديث: "إن الله يبغض ثلاثة أصواتها، نهقة الحمير، ونباح الكلب، والداعية بالحرب". 20 - ولما فرع الله سبحانه من قصة لقمان .. رجع إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، وتبكيتهم، وإقامة الحجج عليهم فقال: {أَلَمْ تَرَوْا}؛ أي: ألم تعلموا يا بني آدم {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَخَّرَ} وذلل {لَكُمْ}؛ أي: لمنافعكم، والتسخير سوق الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من (¬1) الكواكب السيارة، مثل الشمس والقمر وغيرهما، والملائكة المقربين، بأن جعلها أسبابًا محصلة لمنافعكم، ومراداتكم، فتسخير الكواكب بأن الله تعالى سيرها في البروج على الأفلاك التي دبر لكل واحد منها فلكًا، وقدر لها القرانات والاتصالات، وجعلها مدبرات العالم السفلي من الزماني، مثل الشتاء والصيف والخريف والربيع، ومن المكاني مثل المعدن والنبات والحيوان والإنسان، وظهور الأحوال المختلفة بحسب ¬

_ (¬1) روح البيان.

الكواكب على الدوام لمصالح الإنسان ومنافعهم منها، وتسخير الملائكة بأن الله تعالى من كمال قدرته وحكمته، جعل كل صنف من الملائكة موكلين على نوع من المدبرات وعونًا لها، كالملائكة الموكلين على الشمس والقمر والنجوم وأفلاكها، والموكلين على السحاب والمطر، وقد جاء في الخبر: "إن على كل قطرة من المطر موكلًا من الملائكة لينزلها حيث أمر". والموكلين على البحور والفلوات والرياح والملائكة الكتاب للناس الموكلين عليهم. ومنها المعقبات من بين أيديهم ومن خلفهم، يحفظونهم من أمر الله، حتى جعل على الأرحام ملائكةً، فإذا وقعت نطفة الرجل في الرحم. يأخذها الملك بيده اليمنى، وإذا وقعت نطفة المرأة .. يأخذها الملك بيده اليسرى، وإذا أمر بمشجها .. يمشج النطفتين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} والملائكة الموكلون على الجنة والنار، كلهم مسخرون لمنافع الإنسان ومصالحهم، حتى الجنة والنار مسخرتان لهم تطميعًا وتخويفًا؛ لأنهم يدعون ربهم خوفًا وطمعًا. {و} سخر لكم {مَا فِي الْأَرْضِ} من الجبال والصحارى والبحار والأنهار والحيوانات والنباتات والمعادن، بأن مكنكم من الانتفاع بها بوسط أو بغير وسط، فيدخل في ذلك جميع مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم، من الأحجار والتراب والزرع والشجر، والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرةً. فالمراد بالتسخير: جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقادًا له وداخلًا تحت تصرفه أم لا، {و} أن الله {أَسْبَغَ} وأتم وأكمل {عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} يقال: سبغت النعمة: إذا تمت وكملت وكثرت. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة (¬1): {وأصبغ} بالصاد، وهي لغة لبني كلب يبدلونها من السين إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صادًا، وباقي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

القراء: بالسين على الأصل، وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وحفص {نِعَمَهُ} جمعًا مضافًا للضمير، وباقي السبعة وزيد بن علي: {نعمةً} على الإفراد. حالة كون تلك النعم {ظَاهِرَةً}؛ أي (¬1): محسوسةً مشاهدة، مثل حسن الصورة وامتداد القامة، والحواس الظاهرة من السمع والبصر والشم والذوق واللمس والنطق، وذكر اللسان والرزق والمال والجاه والخدم والأولاد والصحة والعافية والأمن ووضع الوزر ورفع الذكر، والأدب الحسن، ونفس بلا ذلة، وقدم بلا زلة، والإقرار والإِسلام من نطق الشهادتين، والصلاة والصوم والزكاة، والحج وتعلم القرآن وحفظه، ومتابعة الرسول إلى غير ذلك. {و} حالة كونها {بَاطِنَةً}؛ أي: معقولةً غير مشاهدة بالحس، كنفخ الروح في البدن، وإشراقه بالعقل والفهم والفكر والمعرفة، وتزكية النفس عن الرذائل، وتحلية القلب بالفضائل، ولذا قال عليه السلام: "اللهم كما حسنت خَلقي، فحسن خُلقي" ومحبة الرسول وزينه في قلوبكم، واتصال الذكر على الدوام والرضى والغفران وقلب بلا غفلة، وتوجهٍ بلا علةٍ، وفيض بلا قلةٍ". والمعنى (¬2): أي ألم تروا أيها الناس، أن الله هو الذي سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها ليلًا ونهارًا، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقي الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما في الأرض من الدواب والأشجار والمياه والبحار والسفن والمعادن التي في باطنها إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك وتنتفعون بجميع ذلك، وأتم عليكم نعمة محسوسة وغير محسوسة. والخلاصة: أنه تعالى نبه خلقه إلى ما أنعم به عليهم في الدنيا والآخرة، بأن سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[21]

والباطنة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل. روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس، وقد سأله عن هذه الآية: "الظاهرة: الإِسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيء عملك" وقيل: الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة والعقل، وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاة والجمال وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات، وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة. ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى وجادل بعض الناس دون برهان عقل، ولا مستند من نقل، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ}؛ أي: وبعض الناس، فهو مبتدأ، وخبره قوله: {مَنْ يُجَادِلُ}؛ أي: وبعض الناس والمشركين يخاصم {فِي} توحيد {اللَّهِ} سبحانه وصفاته وينكرها، كالنضر بن الحارث وأبي بن خلف، ويميل إلى الشرك حيث يزعم أن الملائكة بنات الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفاد من عقل {وَلَا هُدًى} مستفادٍ من جهة الرسول {وَلَا كِتَابٍ} أنزله الله سبحانه {مُنِيرٍ}؛ أي: مضيء له بالحجة، 21 - بل يجادل بمجرد التقليد، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: لهؤلاء المجادلين، والجمع باعتبار معنى من {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} تعالى على نبيه من القرآن الواضح، والنور البيّن، فآمنوا به {قَالُوا} لا نتبعه {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الأقدمين من عبادة الأصنام والأوثان والملائكة، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح، فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق الذي كانوا به في دينهم، فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هي من حبائل الشيطان ووساوسه، فقال: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ}؛ أي: يدعو آباءهم، والهمزة فيه (¬1) للاستفهام الإنكاري المضمن للتعجب من التعلق بشبهة هي في غاية البعد من مقتضى العقل، داخلة على محذوف، والضمير عائد إلى الآباء، والجملة في حيز النصب على الحالية من المحذوف. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والمعنى: أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم بما هم عليه من الشرك {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}؛ أي: إلى عذاب النار الشديدة الاتقاد والالتهاب، فهم مجيبون إليه حسبما يدعوهم؛ أي: أيتبعونهم في حال دعاء الشيطان آباءَهم إلى العذاب، مع أنه لا ينبغي أتباعهم في هذه الحال؛ لأنها حال تلفٍ وعذاب. ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير؛ لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم، ويجوز (¬1) أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وفي الآية منع صريح من التقليد، وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله، كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك، وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير. فائدة: والتقليد لغةً (¬2): وضع الشيء في العنق محيطًا به، ومنه القلادة، ثم استعمل في تفويض الأمر إلى الغير كأنه ربطه بعنقه، واصطلاحًا: قبول قول الغير بلا حجة، فيخرج الأخذ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه حجة في نفسه، وفي "التعريفات" (¬3): التقليد: عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدًا للحقية فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادةً في عنقه. انتهى. والمعنى (¬4): أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى الدليل، فربما كان اعتقادهم مبنيًا على الهوى وترهات الأباطيل، سداه ولحمته: ما زينه لهم الشيطان من وساوس لا تستند إلى حجة ولا برهان. والخلاصة: أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) التعريفات. (¬4) المراغي.

والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال، وفي هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدرك الأسفل في هدم العقل وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته. الإعراب {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. {الم (1)}: تقدم إعراب هذه الكلمة مرةً بعد مرةً، فلا عودة ولا إعادة. {تِلْكَ}: مبتدأ. {آيَاتُ الْكِتَابِ}: خبره ومضاف إليه، والجملة: مستأنفة. {الْحَكِيمِ}: صفة لـ {الْكِتَابِ}، وسيأتي معنى إسناد الحكمة إليه في مبحث البلاغة، {هُدًى وَرَحْمَةً}: حالان من {الآيات}، والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة. {لِلْمُحْسِنِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أو بنفس المصدر، تنازع فيه كل من الحالين {الَّذِينَ} صفة {لِلْمُحْسِنِينَ}. {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: كذلك معطوف على الصلة، {وَهُمْ}: مبتدأ، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُوقِنُونَ}، و {هُمْ}: الثاني تأكيد للأول، وجملة {يُوقِنُونَ}: خبر لـ {هُم} الأول، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة الصلة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {عَلَى هُدًى}: خبره، {مِنْ رَبِّهِمْ}: صفة لـ {هُدًى}، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ومدحًا لهم، {وَأُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر للمبتدأ، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}. {وَمِنَ النَّاسِ}: خبر مقدم، {مَنْ}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، {مَنْ}: فعل وفاعل مستتر، وهو عائد الموصول ومفعول به، والجملة الفعلية: صلة {مَنْ} الموصولة، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتقرير حال

اللاهين، الذين يضيعون أوقاتهم باللهو ومضاحيك الكلام، {لِيُضِلَّ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يضل}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {من} منصوب بأن مضمرة بعد {اللام}، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {يَشْتَرِي}؛ أي: يشتري غير عالم بحال ما يشتريه، وجملة {يضل}: مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، تقديره: يشتري اللهو لإضلاله الناس، والجار والمجرور متعلق بـ {يَشْتَرِي}. {وَيَتَّخِذَهَا} الواو: عاطفة. {يتخذها}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول بالنصب معطوف على {يضل}، وبالرفع معطوف على {يَشْتَرِي}. {هُزُوًا}: مفعول ثان لـ {يتخذ}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول {لَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {مُهِينٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره: خبر للأول، وجملة الأول: مستأنفة. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {تُتْلَى}، {آيَاتُنَا}: نائب فاعل لـ {تُتْلَى}. والجملة الفعلية: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، {وَلَّى}: فعل ماض وفاعل مستتر، {مُسْتَكْبِرًا}: حال من فاعل {وَلَّى}، وجملة {وَلَّى}: جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: معطونة على جملة {يَشْتَرِي} على كونها صلة الموصول. {كَأَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي: كأنه، وجملة: {لَمْ يَسْمَعْهَا}: في محل الرفع خبرها، وجملة؛ {كَأَنْ}: في محل النصب حال ثانية من فاعل {وَلَّى}، {كَأَنْ}: حرف نصب وتشبيه، {فِي أُذُنَيْهِ}: خبر مقدم لـ {كَأَنْ}، {وَقْرًا}: اسمها مؤخر، وجملة {كَأَنْ}: حال من فاعل: {يَسْمَعْهَا} أو بدل من جملة {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}، وأجاز الزمخشري أن تون جملتا التشبيه مستأنفتين، {فَبَشِّرْهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،

تقديره: إذا عرفت حال ذلك المعرض، وأردت بيان عاقبته .. فأقول لك: بشره، {بشره}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، {بِعَذَابٍ}: متعلق به، {أَلِيمٍ}: صفة لـ {عذاب}، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {جَنَّاتُ النَّعِيمِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {خَالِدِينَ} حال مقدرة من ضمير لهم، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {وَعْدَ اللَّهِ}: مصدر مؤكد لنفسه منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: وعدهم الله ذلك وعدًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها، وإنما قلنا مؤكد لنفسه لأن معنى {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}: وعدهم الله بها، فأكد معنى الوعد بالوعد، {حَقًّا}: مصدر مؤكد لغيره، منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: حقه حقًا، أي: حق ذلك الوعد حقًا، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها، وإنما قلنا مؤكد لغيره؛ لأن {حَقًّا}: دال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر أول، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، والجملة الاسمية: مستأنفة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة للاستدلال على قدرته تعالى وعزته، {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من {السَّمَاوَاتِ}؛ أي: حالة كونها خاليةً من عمد، {تَرَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والرؤية هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الجر صفة لـ {عَمَدٍ}؛ أي: بغير عمدٍ مرئية لكم. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}.

{وَأَلْقَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {ألقى}. {رَوَاسِيَ}: صفة لمفعول محذوف، تقديره: جبالًا، رواسي، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تَمِيدَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضِ} منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، {بِكُمْ}: متعلق بـ {تَمِيدَ}، والمصدر المؤول من {أَنْ} المصدرية ومدخولها: مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، المعلل للفعل، تقديره: وألقى في الأرض رواسي كراهية ميدها بكم. {وَبَثَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {ألقى}. {فِيهَا}: متعلق بـ {بث}، {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لمفعول به محذوف، تقديره: حيوانات كائنات من كل دابة. {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {خَلَقَ} على طريق الالتفات عن الغيبة إلى التكلم، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أنزلنا}، {مَاءً}: مفعول به، {فَأَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أنزلنا}، {فِيهَا}: متعلق بمحذوف حال {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}: متعلق بـ {أنبتنا} أو صفة لمفعول محذوف؛ أي: نباتًا من كل زوج، {كَرِيمٍ} صفة لـ {زَوْجٍ}. {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، {فَأَرُونِي}: {الفاء}: عاطفة. {أروني}: بمعنى أخبروني فعل أمر وفاعل ومفعول أول، وهو يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل، وهذا أولها، والجملة الاستفهامية المعلقة: سدت مسد المفعولين {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم لـ {خَلَقَ}، أو {ما}: اسم استفهام مبتدأ، {ذا}: اسم موصول خبره، {خَلَقَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل صلة لذا الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما الذي خلقه الذين {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور صلة {الَّذِينَ}، {بَلِ}: حرف للإضراب الانتقالي، {الظَّالِمُونَ}: مبتدأ، {فِي ضَلَالٍ}: خبره، {مُبِينٍ}: صفة لـ {ضَلَالٍ}، والجملة: مستأنفة. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف

تحقيق. {آتَيْنَا}: بمعنى أعطينا فعل وفاعل، {لُقْمَانَ}: مفعول أول، {الْحِكْمَةَ}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة، {أَنِ}: مفسرة لأن الإيتاء فيه معنى القول؛ أي: قلنا له: {اشْكُرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة الفعلية: جملة مفسرة لـ {آتَيْنَا}: لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون {أَنِ}: مصدرية مؤولة ما بعدها بمصدر منصوب على كونه بدلًا من {الْحِكْمَةَ}، والأول: أظهر {لِلَّهِ}: متعلق بـ {اشْكُرْ}. {وَمَنْ يَشْكُرْ}: {الواو}: استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَشْكُرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {من}: على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {إنما}: كافة ومكفوفة {يَشْكُرُ}؛ فعل وفاعل مستتر، {لِنَفْسِهِ}: متعلق به، والجملة: جواب {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية: مستأنفة، {وَمَنْ كَفَرَ}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، {كَفَرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة. {إن الله غني}: ناصب واسمه وخبره. {حَمِيدٌ}: خبر ثان، وجملة {إن}: في محل الجزم جواب {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية، معطوفة على جملة {من} الأولى. {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال لقمان، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {قَالَ لُقْمَانُ}: فعل وفاعل، {لِابْنِهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {وَهُوَ}: {الواو}: حالية. {هو}: مبتدأ، وجملة {يَعِظُهُ}: خبره, والجملة الاسمية, في محل النصب حال من {لُقْمَانُ}. {يَا بُنَيَّ}: {يا}: حرف نداء، {بني}: منادى مضاف إلى ياء

المتكلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}، {لَا}: ناهية، {تُشْرِكْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الناهية، {بِاللَّهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ}: على كونها جواب النداء. {إِنَّ الشِّرْكَ}: ناصب واسمه، {لَظُلْمٌ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، {عَظِيمٌ}: صفة {لَظُلْمٌ}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ}: على كونها معللة للنهي المذكور قبله. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}. {وَوَصَّيْنَا}: {الواو}: اعتراضية. {وصينا الإنسان}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مع ما بعدها، إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين وصايا القمان لابنه، مؤكدة لما اشتملت عليه من النهي عن الشرك، {بِوَالِدَيْهِ}: متعلق بـ {وصينا}، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: معترضة بين المفسَّر الذي هو {وصينا} والمفسِّر الذي هو {أَنِ اشْكُرْ}: لا محل لها من الإعراب، {وَهْنًا}: حال من {أُمُّهُ} ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حالة كونه ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل محذوف وقع حالًا، تقديره حالة كونها تهن وهنًا على. {عَلَى وَهْنٍ} صفة لـ {وَهْنًا}. {وَفِصَالُهُ}: مبتدأ، {فِي عَامَيْنِ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {حَمَلَتْهُ}: على كونها معترضة. {أَنِ}: مفسرة، {اشْكُرْ}: فعل وفاعل مستتر، والجملة: مفسرة لـ {وصينا}، واختار الزجاج أن تكون {أَنِ} مصدرية، والمصدر المؤول منها: منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف: متعلق بـ {وصينا}؛ أي: ولقد وصينا الإنسان بالشكر لي ولوالديه وليس ببعيدٍ {لِي}: جار ومجرور متعلق بـ {اشْكُرْ}، {وَلِوَالِدَيْكَ}: معطوف عليه، {إِلَيَّ}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}.

{وَإِنْ} {الواو}: عاطفة لقول محذوف على {وصينا}؛ أي: ولقد وصينا الإنسان بالشكر لي ولوالديه وقلنا له: {إن جاهداك}، {إن}: حرف شرط، {جَاهَدَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {عَلَى}: حرف جر، {أَنْ}: حرف مصدر. {تُشْرِكَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، {بِي}: متعلق به، والمصدر المؤول من {أَن} المصدرية وما في حيزها: مجرور بـ {عَلَى} والجار والمجرور متعلق بـ {جَاهَدَاكَ}؛ أي: وإن جاهداك على الإشراك بي. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تُشْرِكَ}. {لَيْسَ}: فعل ناقص، {لَكَ}: خبر مقدم لها. {بِهِ}: متعلق بـ {عِلْمٌ}. {عِلْمٌ} اسم ليس مؤخر، وجملة {لَيْسَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {لا}: ناهية، {تُطِعْهُمَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول للقول المحذوف كما قدرنا آنفًا. {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. {وَصَاحِبْهُمَا} {الواو}: عاطفة. {صاحبهما}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على جواب {إن} الشرطية، {فِي الدُّنْيَا}: حال من ضمير المفعول، {مَعْرُوفًا}: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بالمعروف، {وَاتَّبِعْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على الجواب أيضًا، {سَبِيلَ}: مفعول به، {مَنْ}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {أَنَابَ}: صلة {مَنْ} الموصولة، {إِلَيَّ}: متعلق بـ {أَنَابَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {إِلَيَّ}: خبر مقدم، {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {اتبع}، {فَأُنَبِّئُكُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {أنبئكم}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أنبئكم}، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره،

وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة. {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}. {يَا بُنَيَّ}: منادى مضاف، وجملة النداء، معطوفة بعاطف مقدر على جملة النداء في قوله: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} على كونها مقولًا لـ {قال}، {إِنَّهَا}: ناصب واسمه، {إن}: حرف شرط جازم، {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {إن} الشرطية، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير مستتر جوازًا، تقديره: هي يعود على الخطيئة، {مِثْقَالَ حَبَّةٍ}: خبرها، {مِنْ خَرْدَلٍ}: صفة لـ {حَبَّةٍ}، {فَتَكُنْ}: فعل مضارع ناقص معطوف على {تَكُ}، واسمها ضمير يعود على الخطيئة أيضًا، {فِي صَخْرَةٍ} خبر {تكن}، {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ}: معطوفان على {فِي صَخْرَةٍ}، {يَأْتِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، {بِهَا}: متعلق بـ {يَأْتِ}، {اللَّهُ}: فاعل {يَأْتِ}. وجملة {إن} الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر {إنّ}. وجملة {إنّ} واسمها في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {لَطِيفٌ}: خبر أول له، {خَبِيرٌ}: خبر ثان، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قال} على كونها معللةً لما قبلها. {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}. {يَا بُنَيَّ}: منادى مضاف معطوف بعاطف مقدر على قوله: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} على كونه مقول {قال}، {أَقِمِ الصَّلَاةَ}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قال}: على كونها جواب النداء، {وَأْمُرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {أَقِمِ}، {بِالْمَعْرُوفِ}: متعلق به، {وَانْهَ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على أيضًا على {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، {عَنِ

الْمُنْكَرِ}: متعلق بـ {وَانْهَ}، {وَاصْبِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر على أقم. {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {اصبر}، {أَصَابَكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة، {إنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه، {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال} على كونها معللة لما قبلها. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُصَعِّرْ خَدَّكَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية، {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {تُصَعِّرْ}، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أَقِمِ الصَّلَاةَ}. {وَلَا تَمْشِ}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة، {تَمْشِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الناهية، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، {مَرَحًا}: منصوب على الحالية، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا مرح، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: مشيًا مرحًا، أو مفعول لأجله، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ}: حرف ناف وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {فَخُورٍ}: صفة لـ {مُخْتَالٍ}: أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قال} على كونها معللةً لما قبلها. {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}. {وَاقْصِدْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، {فِي مَشْيِكَ}: متعلق بـ {اقصد}، {وَاغْضُضْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، {مِنْ صَوْتِكَ} متعلق بـ {اغضض}. {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ}: ناصب واسمه، {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}: خبره ومضاف إليه، و {اللام}: حرف ابتداء، والجملة: في محل النصب مقول {قال} على كونها معللةً لما قبلها.

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}. {أَلَمْ تَرَوْا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، {لم}: حرف جزم، {تَرَوْا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لم}، والرؤية هنا قلبية، والجملة: مستأنفة مسوقة لتوبيخ المشركين على شركهم مع قيام الحجة، {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {سَخَّرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر {لَكُمْ} متعلق به. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {سَخَّرَ} وجملة {سَخَّرَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعول {تَرَوْا}. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَّا} الموصولة، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. {وَأَسْبَغَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {سَخَّرَ}، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أسبغ}. {نِعَمَهُ}: مفعول به، {ظَاهِرَةً}: حال من {نِعَمَهُ}، {وَبَاطِنَةً}: معطوف على {ظَاهِرَةً}، {وَمِنَ النَّاسِ}: خبر مقدم، {مَن}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يُجَادِلُ}: صلة {مَن} الموصولة، {فِي اللَّهِ}: متعلق بـ {يُجَادِلُ}، والجملة الاسمية: مستأنفة، {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {يُجَادِلُ}، {وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ}: معطوفان على {علم}، {مُنِيرٍ}: صفة لـ {كِتَابٍ}. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمُ}: متعلق به، {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ}: في محل الجر بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، وإن شئت قلت: {اتَّبِعُوا}: فعل أمر وفاعل، {مَا}: اسم موصول مفعول به، والجملة: في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا}، والعائد: محذوف:؛ أي: أنزله الله. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {إذا}، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {يُجَادِلُ} على كونها

صلة لـ {مَا} الموصولة، {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، {نَتَّبِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. والجملة معطوفة على محذوف، هو مقول {قَالُوا}، تقديره: قالوا لا نتبع ما أنزل الله بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، {وَجَدْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به، {آبَاءَنَا}: مفعول به لـ {وجد}؛ لأنه من وجد الضالة، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} الموصولة. {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، تقديره: أيتبعونه، {ولو}: {الواو}: حالية. {لو}: حرف شرط غير جازم، {كَانَ الشَّيْطَانُ}: فعل ناقص واسمه، {يَدْعُوهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَدْعُوهُمْ}، وجملة {يَدْعُوهُمْ}: في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان}: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب، وجواب {لو} الشرطية: محذوف، تقديره: ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير يتبعونه، وجملة {لو} الشرطية: في محل النصب حال من فاعل الفعل المحذوف، الذي هو مدخول همزة الاستفهام، والتقدير: أيتبعونه حال كون الشيطان داعيًا لهم إلى عذاب السعير. التصريف ومفردات اللغة {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: إما فعيل بمعنى مفعل؛ أي: المحكم المحروس من التغيير والتبديل، والممنوع من الفساد والبطلان، فهو فعيل بمعنى مفعل، وإن كان قليلًا في كلامهم، كقولهم: أعقدت الدبس فهو عقيد؛ أي: معقد، أو بمعنى فاعل؛ أي: الحاكم بين العباد ببيان الحلال والحرام، والصحيح والفاسد. {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: وفي "المفردات": إقامة الشيء، توفية حقه، وإقامة الصلاة: توفية شرائطها, لا الإتيان بهيئتها. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}: والاشتراء: دفع الثمن وأخذ المثمن، والبيع: دفع المثمن وأخذ الثمن، وقد يتجوز بالشراء والاشتراء عن كل ما يحصل به شيء، واللهو: مصدر لها يلهو، والمراد به هنا: اسم الفاعل؛ أي:

ما يلهي ويشغل الإنسان عما يهمه من طاعة ربه، كالأحاديث التي لا أصل لها، وكل باطل ألهى عن الخير، والملاهي آلة اللهو، والملهى موضع اللهو، والحديث: يستعمل في قليل الكلام وكثيره، وإضافة اللهو إلى الحديث للبيان، وضابطها: أن يكون المضاف بعد المضاف إليه صالحًا للإخبار به عنه، كخاتم فضة. {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} والوقر الصمم، قال في "المفردات": الوقر: الثقل في الأذن، وفي "فتح الرحمن": الوقر الثقل الذي يغير إدراك المسموعات. {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: والعمد: بفتحتين: جمع عماد، كأهب وإهاب، وهي السارية، وفي "المصباح": وعمدت الحائط عمدًا: دعمته، وأعمدته بالألف لغةً، والعماد: ما يسند به، والجمع عمد بفتحتين، وفيه أيضًا الدعامة بالكسر: ما يسند به الحائط إذا مال يمنعه السقوط، ودعمت الحائط دعمًا من باب نفع. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} قال ابن عباس: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلًا، منها: قاف - وأبو قبيس - والجودي ولبنان - وطور سنين - وطور سيناء، أخرجه ابن جرير في "المبهمات" للسيوطي. اهـ. ابن لقيمة على "البيضاوي"، وفي "المختار" رسا الشيء، ثبت، وبابه عدا وسما، والرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ، واحدتها راسية. اهـ. والإلقاء: طرح الشيء حيث تلقاه وتراه، ثم صار في التعارف اسمًا لكل طرح. {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: الميد: اضطراب الشيء العظيم، كاضطراب الأرض، يقال: ماد يميد ميدًا وميدانًا: إذا تحرك واضطرب. {وَبَثَّ فِيهَا}: وأصل البث: إثارة الشيء، وتفريقه، كبث الريح التراب. {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وهي كل ما يدب على الأرض، من الدب، والدبيب، وكذا الدب: المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان، وفي الحشرات أكثر. {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من السحاب؛ لأن السماء في اللغة: ما علاك وأظلك، كما مر.

{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: صنف. {كَرِيمٍ}؛ أي: كثير المنفعة، قال في "المفردات": وكل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم. واعلم: وفقنا الله تعالى جميعًا للتفكر في عجائب صنعه، وغرائب قدرته، أن عقول العقلاء، وأفهام الأذكياء قاصرة متحيرة في أمر النباتات والأشجار، وعجائبها وخواصها وفوائدها ومضارها ومنافعها، وكيف لا؟ وأنت تشاهد اختلاف أشكالها، وتباين ألوانها، وعجائب صور أوراقها، وروائح أزهارها، وكل لون من ألوانها ينقسم إلى أقسام، كالحمرة مثلًا كوردي وأرجواني وسوسني وشقائق وخمري وعنابي وعقيقي ودموي، ولكي وغير ذلك، مع اشتراك الكل في الحمرة، ثم عجائب روائحها ومخالفة بعضها بعضًا، واشتراك الكل في طيب الرائحة، وعجائب أشكال أثمارها وحبوبها وأوراقها, ولكل لون وريح وطعم وورقٍ وثمرة وزهر وحب خاصية لا تشبه الأخرى، ولا يعلم حقيقة الحكمة فيها إلا الله تعالى، والذي يعرف الإنسان من ذلك بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من بحر. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قال الراغب: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات على ما هي عليه، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في هذه الآية. {وَهُوَ يَعِظُهُ} والوعظ: زجر يقترن بتخويفٍ، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والاسم: العظة والموعظة. {يَا بُنَيَّ}: بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم بالفتح والكسر، وتقدم البحث عن إعرابه، وأصله في سورة يوسف، فراجعه. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: أمرناه، يقال: وصيت زيدًا بعمرو: أمرته بتعهده ومراعاته.

{وَهْنًا}: والوهن: الضعف من حيث الخلق، والخلق. وفي "المختار": الوهن: الضعف، وقد وهن من باب وعد، ووهنه غيره يتعدى ويلزم، ووهن بالكسر يهن وهنًا: لغة فيه، وأوهنه غيره، ووهنه توهينًا. {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} في "القاموس": الفصال: فطم الولد، وفيه أيضًا: وفصل الولد عن الرضاع، وبابه ضرب، والفصال: التفريق بين الصبي والرضاع، ومنه الفصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والعام بالتخفيف: السنة، لكن كثيرًا ما تستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب، ولذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام: فيما فيه الرخاء؛ أي: فطام الإنسان من اللبن، يقع في تمام عامين من وقت الولادة، وهي مدة الرضاع عند الشافعي، كما مر. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} المجاهدة: استفراغ الجهد؛ أي: الوسع في مدافعة العدو. {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قال في "المفردات": المعروف: اسم لكل فعل يعرف بالعقل، والشرع حسنه، والمنكر: ما ينكر بهما, ولهذا قيل للاقتصاد في الجود: معروف، لما كان ذلك مستحسنًا في العقول بالشرع. {إِنَّهَا إِنْ تَكُ} أصله: تكون، حذف الواو لاجتماع الساكنين، الحاصل من سقوط حركة النون بـ {إن} الشرطية، وحذفت النون أيضًا تشبيهًا لها بحرف العلة في امتداد الصوت، أو بالواو وفي الغنة، أو بالتنوين، وقال بعضهم: حذفت تخفيفًا لكثرة الاستعمال، فلا تحذف من مثل لم يصن ولم يخن، فإن وصلت بساكن .. ردت النون وتُحرك نحو {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} المثقال: ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل صنج. وفي "كشف الأسرار": مثقال الشيء: ما يساويه في الوزن، وكثر الكلام فيه، فصار عبارةً عن مقدار الدنيا. انتهى، والحبة: واحد الحبوب، والخردل: نبات له حب صغير جدًا أسود مقرح، الواحدة: خردلة، ويقال: خردل الطعام: أكل خياره، وخردل اللحم: قطع أعضاءه وافرةً صغارًا. {فِي صَخْرَةٍ} الصخر: الحجر الصلب، والمراد بالصخرة: أية صخرة

كانت، لإيراده بلفظ النكرة، كذا قيل: كما مر. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، وعزم الأمور: ما لا يشوبه شبهة، ولا يدافعه ريبة. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} التصعر: التواء وميل في العنق من خلقة أو داء أو من كبر في الإنسان وفي الإبل، والتصعير: إمالته عن النظر كبرًا كما في "تاج المصادر". ولما كان ذلك لغرض من الأغراض التي لا تدوم .. أشار إلى المقصود به بقوله: {لِلنَّاسِ} بلام العلة؛ أي: لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم، وفي "المصباح": الصعر، بفتحتين: ميل في العنق وانقلاب في الوجه إلى أحد الشدقين، وربما كان الإنسان أصعر خلقةً، أو صعره غيره بشيء يصيبه، وهو مصدر من باب تعب وصعر خده بالتثقيل، وصاعره: أماله عن الناس إعراضًا وتكبرًا. انتهى. وخد الإنسان: ما اكتنف الأنف عن اليمين والشمال، أو ما جاوز مؤخر العينين إلى منتهى الشدق، أو من لدن المحجر إلى اللحى، كما في "القاموس". {مَرَحًا} المرح: أشد الفرح والخفة الحاصلة من النعمة، كالأشر والبطر. {مُخْتَالٍ} الاختيالَ والخيلاء: التكبر عن تخيل فضيلة، ومنه لفظ الخيل، كما قيل: إنه لا يركب أحد فرسًا إلا وجد في نفسه نخوةً، فالمختال: المتكبر المتبختر في مشيته. {فَخُورٍ} من الفخر، والفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه، والفخور: الذي يعدد مناقبه تطاولًا بها، واحتقارًا لمن عدم مثلها. {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} القصد: ضد الإفراط والتفريط، والمعنى: واعدل في المشي بعد الاجتناب عن المرح، فيه، حتى يكون مشيًا بين مشيين، لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار. {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} يقال: غض صوته وغض بصره: إذا خفض صوته

وغمض بصره، قال في "المفردات": الغض النقص من الطرف والصوت، والصوت: هو الواء المنضغط عند قرع جسمين، قال بعضهم: الهواء الخارج من داخل الإنسان، إن خرج بدفع الطبع .. يسمى نفسًا، بفتح الفاء، وإن خرج بالإرادة وعرض له تموج بتصادم جسمين .. يسمى صوتًا، وإذا عرض للصوت كيفيات مخصوصة، بأسباب معلومة .. يسمى حروفًا، ويقال: صات يصوت صوتًا فهو صائت، ويقال: صوت تصويتًا فهو مصوت، ورجل صات؛ أي: شديد الصوت بمعنى صائت. {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}: جمع حمار، قال بعضهم: سمي حمارًا لشدته، من قولهم طعنة حمراء؛ أي: شديدة، وحمارة القيظ: شدته. {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} أصل تروا تريوا: تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تروا بوزن تفوا، والتسخير: سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا. {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} يقال: أسبغ الله عليه النعمة: أتمها، وأسبغ الثوب أوسعه وأطاله، وأسبغ الرجل: لبس درعًا سابغةً، وأسبغ له النفقة: وسع عليه وأنفق تمام ما يحتاج إليه، وفي "المصباح": وسبغت النعمة سبوغًا: اتسعت، وأسبغها الله: أفاضها وأتمها، وأسبغت الوضوء: أتممته، وقرىء بالسين وبالصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ صلخ، وفي سقر صقر، وفي سالغ صالغ، ومعنى سالغ من سلغت البقرة والشاة، إذا أسقطت السن التي خلقت بها السديس، والسلوغ في ذوات الأظلاف، بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف. {نِعَمَهُ}: جمع نعمة، وهي في الأصل: الحالة الطيبة التي يستلذها الإنسان، فأطلقت للأمور اللذيدة الملائمة للطبع المؤدية إلى تلك الحالة الطيبة. {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} يقال: جدلت الحبل، إذا أحكمت فتله، ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه.

{إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} والسعر: التهاب النار، وعذاب السعير؛ أي: الحميم، كما في "المفردات". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد المجازي في قوله: {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} لأن فيه وصف الشيء بصفة فاعله، ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو الضمير المجرور، فبانقلابه مرفوعًا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة، وهو من أحسن الصناعة. فائدة: وصف الكتاب هنا بالحكيم مناسب لموضوع السورة؛ لأنه قد كرر في موضوعها الحكمة، حيث قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الخ. فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب المجيد على اصطلاحات القرآن، من التنسيق بين الألفاظ والموضوعات. ومنها: وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة، في قوله: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)}. ومنها: الإيجاز في قوله: {لِلْمُحْسِنِينَ}؛ أي: للذين يعملون الحسنات، ففيه إيجاز بليغ؛ لأن الحسنات لا تحصى، ولكنه خص منها هذه الثلاث المذكورة هنا لفضلها وشرفها. ومنها: الإشارة إلى القريب باسم إشارة البعيد في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}؛ أي: هذه آيات الكتاب تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي. ومنها: الإطناب بتكرار الضمير، وبتكرار اسم الإشارة في قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} لزيادة الثناء عليهم والتشريف لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر؛ أي: هم المفلحون لا غيرهم.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} شبه استبدالهم اللهو عن آيات الله باشتراء من اشترى سلعة خاسرًا، فاستعار اسم الاشتراء له، ثم اشتق منه اشترى بمعنى استبدل، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} لأنه ذكر فيه أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه، فهو تشبيه مرسل مجمل. ومنها: أسلوب التهكم في قوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخريةٌ وتهكمٌ. ومنها: والمعاكسة في الإضافة للمبالغة في قوله: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} لأن المعنى: لهم نعيم الجنات، فعكس للمبالغة كما في "البيضاوي". ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} شبه الجبال الرواسي استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا بحصيات قبضهن قابض بيده، فنبذهن في الأرض، وما هو إلا تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته، وإن كل فعل يتحير فيه الأذهان فهو هين عليه تعالى. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}؛ أي: كراهية أن تميد بكم. ومنها: الالتفات إلى نون العظمة في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} بعد قوله: {خَلَقَ}، {وَأَلْقَى} {وَبَثَّ} كلها بضمير الغائب، التفت في الفعلين إلى نون العظمة، لإبراز مزيد الاعتناء بأمرهما، وتوفيةً لمقام الامتنان، وقال الفخر الرازي: وفي هذا الالتفات فصاحة وحكمة: أما الفصاحة: فهي أن السامع إذا سمع كلامًا طويلًا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه، ألا ترى أنك إذا قلت: قال زيد كذا، وقال خالد كذا، وقال عمرو كذا، ثم إن بكرًا قال قولًا حسنًا يستطاب لما قد تكرر القول مرارًا، وأما الحكمة: فهو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، ومكان، فأسند الإنزال إلى نفسه صريحًا، ليتنبه

الإنسان لشكر النعمة، فيزيد له في الرحمة. اهـ. من "التفسير الكبير". ومنها: إطلاق المصدر على اسم المفعول في قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}؛ أي: مخلوقة. ومنها: الاستفهام للتوبيخ والتبكيت في قوله: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل بإشراكهم في قوله: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وكان الأصل أن يقال: بل هم في ضلال مبين. ومنها: الطباق بين {شكر} و {كَفَرَ}. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {فَخُورٍ} لأن فعولًا من صيغ المبالغة؛ أي: كثير الفخر. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} لزيادة العناية والاهتمام بشأن الخاص. ومنها: تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر مثل {إلي المصير}، {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: لا إلى غيري. ومنها: التمثيل في قوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} مثل ذلك لسعة علم الله، وإحاطته بجميع الأشياء، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، فإنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة. ومنها: التتميم في قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها، وهذا من البديع. ومنها: المقابلة في قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ}، ثم قال: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فقابل بين اللفظين. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} شبه الرافعين أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهيق، ولم يذكر أداة التشبيه، بل أخرجه

مخرج الاستعارة للمبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت. ومنها: الطباق بين قوله: {ظَاهِرَةً} {وَبَاطِنَةً}. ومنها: الإنكار والتوبيخ مع الحذف في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ}؛ أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان إلخ. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال المشرك المجادل في الله بغير علم .. أردف ذلك بذكر حال المستسلم المفوض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلغ رسالات ربه، وتلك وظيفة الرسل، وعلي الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ في جهنم، وبئس المصير.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام الأدلة (¬1) على وحدانيته بخلق السماوات بغير عمد، وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم .. أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك، غير جاحدين له، وهذا يستدعي أن يكون الحمد كله له وحده، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة، فأمرهم عجيب، يعلمون المقدمات، ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها، فيعبدون من لا يستحق عبادةً، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا من الأصنام والأوثان. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرةً وباطنةً، وأن له ما في السماوات وما في الأرض .. أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوبات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها، وتصريف شؤونها كما يريد .. دفع هذا بقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه سخر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض .. ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ...} إلخ. وبعض ما في السماوات بقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}. وبعض ما في الأرض بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن في بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع في شدة وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شيء لإرادة الله تعالى. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال متنوعة .. أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدي فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدي ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك، وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان فيزينن لكم بوساوسه المعاصي والآثام. ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه مما في الكائنات، وهي الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ...} الآية. وأخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .. أتاه أحبار اليهود فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا تريد أم قومك؟ فقال: "كلًّا عنيت"، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هي في علم الله قليل"، فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ}. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[22]

ما أخرجه (¬1) ابن المنذر عن عكرمة قال: إنَّ رجلًا يقال له: الوارث بن عمرو بن الحارث جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب بلادنا؟ وقد تركت أمرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدًا؟ وقد علمت بأيّ أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت: {اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...} الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفاتيح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ". التفسير وأوجه القراءة 22 - {وَمَنْ يُسْلِمْ}: {من}: شرطية. {أسلم} (¬2) إذا عدي بإلى .. يكون بمعنى سلم، وإذا عدي باللام .. تضمن معنى الإخلاص، والوجه: بمعنى الذات؛ أي: ومن يسلم نفسه إلى الله تسليم المتاع للعامل، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكليته إليه، {وَهُوَ مُحْسِنٌ}؛ أي: موحد مخلص في عمله؛ أي: والحال أنه محسن في عمله، آتٍ به على الوجه اللائق، الذي هو حسنه الوصفي المستلزم لحسنه الذاتي، ولا يحصل ذلك غالبًا إلا على مشاهدة، ولذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان في حديث جبريل عليه السلام، "بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وجواب الشرط قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ}؛ أي: تعلق وأخذ {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}؛ أي: بعروة الحبل المعلق في الهواء، المحكمة: تلك العروة الموثقة المأمونة من الانقطاع وسقوط من تمسك وتعلق بها، والاستمساك هنا بمعنى: الإمساك، والسين والتاء فيه زائدتان، وإمساك الشيء: التعلق به، كما سيأتي في مباحث اللغة، والعروة: ما يعلق به الشيء، والمراد بها: مقبض نحو الدلو والكوز، والوثقى: تأنيث الأوثق؛ أي: الوثيقة القوية التي يؤمن من تمسك وتعلق ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

بها من السقوط. والمعنى (¬1): فقد تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وأقواه، وهو تمثيل لحال المتوكل على الله، المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه، بحيث لا يخاف انقطاعه. وخلاصة المعنى (¬2): أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع، مع الإحسان في العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات. . فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه، ومحبته وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح. ثم بين العلة في أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال: {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا إلى أحد غيره {عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ أي: عاقبة أمر المتوكل وأمر غيره، فيجازيه أحسن الجزاء. والمعنى: أي إن مصير أمور الخلائق ومرجعها إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فلا يكون لأحد إذ ذاك أمر ولا نهي، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازي المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب. وقرأ الجمهور (¬3): {وَمَنْ يُسْلِمْ} مضارع أسلم من باب أفعل، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار: {يسلم} بتشديد اللام مضارع سلم المضعف. 23 - ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال: {وَمَنْ كَفَرَ} بالله من قريش أو غيرهم ولم يسلم وجه لله {فَلَا يَحْزُنْكَ} يا محمد {كُفْرُهُ} فإنه لا يضرك في الدنيا ولا في الآخرة، يقال: أحزنه من المزيد، ويحزنه من الثلاثي، كما سيأتي في مبحث التصريف، {إِلَيْنَا} لا إلى غيرنا {مَرْجِعُهُمْ} بعد الموت؛ أي: رجوعهم للمجازاة، ومعنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[24]

حيث لا مالك ولا حاكم سواه، وهو يوم القيامة، {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا من الكفر والمعاصي؛ أي: نُخبرهم بقبائح أعمالهم، فنجازيهم عليها بالعذاب والعقاب، وجمع الضمائر الثلاثة باعتبار معنى {من} كما أن الإفراد في الموضعين باعتبار لفظه. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بما في القلوب من الخير والشر؛ أي (¬1): بالضمائر والنيات المصاحبة بالصدر الذي هو محل القلب؛ أي: عليم بما تسره صدورهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية، فالسر عنده كالعلانية، فيجازي عليها كما يجازي على الأعمال الظاهرة. والمعنى: أن مصيرهم يوم القيامة إلينا، فنخبرهم بما عملوا في الدنيا من خبيث الأعمال، حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار، ثم نجازيهم على ذلك أشد العذاب، ثم بين أنه عادل في الجزاء لسعة علمه، وعظيم إحاطته بكل شيء فقال: {إِنَّ اللَّهَ} تعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فيجازيهم بكل ما عملوا سرًا وعلانيةً، إذ لا يخفى عليه خافية. 24 - ثم بين أن ما يمتعون به في الدنيا عرض قليل، وظل زائل، لا ينبغي لعاقل أن يقيم له وزنًا بجانب العذاب الدائم، فقال: {نُمَتِّعُهُمْ}؛ أي: نمتع الكافرين وننعمهم بمنافع الدنيا {قَلِيلًا}؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، فإن ما يزول وإن كان بعد أمد طويل بالنسبة إلى ما يدوم قليل؛ أي: نبقيهم في الدنيا مدةً قليلةً، يستمتعون بها {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ}؛ أي (¬2): نلجئهم ونردهم في الآخرة قهرًا {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}؛ أي: شديد يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ، فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ، أو نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق، وفي "التأويلات النجمية": غلظة العذاب: عبارة عن دوامه إلى الأبد، انتهى. والغليظ ضد الرقيق كما سيأتي. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[25]

والمعنى: أي (¬1) نمهلهم في الدنيا زمنًا قليلًا، يتمتعون فيه بزخارفها، ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاق على نفوسهم، ونحو الآية قوله: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. 25 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: خلق الأجرام العلوية والسفلية {لَيَقُولُنَّ} في الجواب لك: خلقهن {اللَّهُ} سبحانه وتعالى، لغاية وضوح الأمر، بحيث اضطروا إلى الاعتراف به، وفي هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغًا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود، ولما استبان بذلك صدقه - صلى الله عليه وسلم - وكذبهم .. قال آمرًا رسوله {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على اعترافهم بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به في العبادة التي لا يستحقها سوى الخالق المنعم على عباده، أو المعنى: فقل الحمد لله على ما هدانا من دينه. ثم بين أنهم بلغوا الغاية في الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: بل أكثر المشركين {لَا يَعْلَمُونَ} من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك، أو لا يعلمون شيئًا من الأشياء، فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم بأن يتركوا الشرك، ويعبدوا الله وحده. 26 - ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال .. استدل على ذلك بقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره جميع ما في السماوات والأرض، ملكًا وخلقًا وتصرفًا، وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة غيره تعالى {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْغَنِيُّ} بذاته وصفاته قبل خلق السماوات والأرض وبعده لا حاجة به في وجوده وكماله الذاتي إلى شيء أصلًا، وغني عن ¬

_ (¬1) المراغي.

عبادتهم؛ لأنهم ملكه، وهم المحتاجون إليه، وكلمة (¬1) {هو} للحصر؛ أي: هو الغني وحده، وليس معه غني آخر، دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. {الْحَمِيدُ}؛ أي: المحمود في ذاته وصفاته، وإن لم يكن له حامد .. فهو الحامد لنفسه، أو المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم، وفي هذه الآيات أمور: منها: أنّ التفويض والتوكل وإخلاص القصد والإعراض عما سوى الله تعالى، والإقبال على الله بالتوحيد والطاعة من موجبات حسن العاقبة، وهي الجنة والقربة والوصلة، كما أن الكفر والشرك والرياء والسمعة من أسباب سوء العاقبة، وهي النار والعذاب الغليظ، والفرقة والقطيعة، فالتمسك بأحكام الدين هي العروة الوثقى لأهل اليقين، فإنها لا تنفصم، بخلاف سائر العرى. ومنها: أنّ ليس لعمر الدنيا بقاء، بل هي ساعة من الساعات، فعلى العاقل أن لا يغتر بالتمتع القليل، بل يتأهب لليوم الطويل. ومنها: أنّ الله تعالى قدر المقادير، ودبر الأمور، فالكل يجري في الأفعال والأحوال على قضائه وقدره، وليس على الناصح إلا التبليغ دون الجبر والحزن على عدم القبول، فإن الحجر يصير مرآةً الصيقل. ومنها: أنّ عدم الجريان بموجب العلم من الجهل في الحقيقة. ومنها: أنّ الله تعالى خلق الخلق ليربحوا عليه، لا ليربح عليهم، فمنفعة الطاعات والعبادات راجعة إلى العباد، لا إلى الله تعالى، إذ هو غني عن العالمين، لا ينتفع بطاعاتهم، ولا يتضرر بمعاصيهم، فهو يمن عليهم أن هداهم للإيمان والطاعات، وليس لهم أن يمنوا عليه بإسلامهم، جعلنا الله سبحانه وإياكم من عباده المخلصين، وحفظنا في حصنه الحصين، بمنه وكرمه وتوفيقه الرصين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[27]

27 - ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض .. أتبعه بما يدل على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد، ولا يحصر بحد، فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ}؛ أي: ولو أن جميع ما في الأرض من جنس شجرة أقلام يكتب بها، و {مِنْ شَجَرَةٍ} حال من الموصول، ووجد الشجرة لما تقرر في علم المعاني: أن استغراق المفرد أشمل، فكأنه قال: كل شجرةٍ شجرةٍ حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة، إلا وقد بريت أقلامًا، وجمع الأقلام لقصد التكثير، بحيث تعد كل شجرة من الأشجار أقلامًا، قال أبو حيان: وهذا من وقوع المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}. والمعنى: لو ثبت أن الأشجار كلها أقلام، {وَالْبَحْرُ}؛ أي (¬1): والحال أن البحر المحيط بسعته، وهو البحر الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة، وهو بحر لا يعرف له ساحل، ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى، والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه، وفي هذا البحر عرش إبليس - لعنه الله - وفي مدائن تطفو على وجه الماء، وأهلها من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض، وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان، كسائر الأشجار في الأرض، وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وهو؛ أي: {البحر}: مبتدأ، خبره: قوله: {يَمُدُّهُ}؛ أي: يزيده وينصب فيه، من مد الدواة: جعلها ذات مداد وزاده فيها، فلذا أغنى عن ذكر المداد، {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد نفاده وفنائه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أخرى، نحو بحر الصين، وبحر تُبَّت كَسُكَّر على ما في "القاموس"، وبحر الهند، وبحر السند، وبحر فارس، وبحر الشرق، وبحر الغرب، والله أعلم. ويحتمل أن يكون المراد: الأنهار السبعة من الفرات، ودجلة، وسيحان، وسيحون، وجيحان، وجيحون، والنيل؛ لأن البحر عند العرب الماء الكثير. والمعنى: يمده الأبحر السبعة مدًا لا ينقطع أبدًا، وكتبت بتلك الأقلام ¬

_ (¬1) روح البيان.

وبذلك المداد كلمات الله. وجواب {لو} {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}؛ أي: ما فنيت كلماته التي هي عبارة عن معلوماته، بل نفذت تلك الأقلام وذلك المداد قبل نفاذها، وإيثار جمع القلة في الكلمات للإيذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل من كلمات الله، فكيف بالكثير منها. قال أبو علي الفارسي: المراد (¬1) بالكلمات - والله أعلم - ما في المقدور، دون ما خرج منه إلى الوجود، ووافقه القفال، فقال: المعنى أن الأشجار لو كانت أقلامًا، والبحار مدادًا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته .. لم تنفد تلك العجائب، قال القشيري: رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى، وهو الظاهر من النظم القرآني. وفي "التأويلات النجمية": المعنى (¬2): لو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام، والبحر يصير مدادًا، وبمقدار ما يقابله ينفق القرطاس، ويتكلف الكتاب، حتى تنكسر الأقلام، وتفنى البحار، وتستوفى القراطيس، ويفنى عمر الكتاب .. ما نفدت معاني كلام الله تعالى؛ لأن هذه الأشياء وإن كثرت فهي متناهية، ومعاني كلامه لا تتناهى؛ لأنها قديمة، والمحصور لا يفي بما لا حصر له، انتهى. وقد قصر من جعل الأرض قرطاسًا. وقال النحاس (¬3): قد تبين أن الكلمات هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق. والمعنى عليه (¬4): أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلامًا وجُعل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

البحر مدادًا، وأمدته سبعة أبحر، والخلائق جميعًا يكتبون بها كلمات الله وعجائب صنعه الدالة على عظمته وجلاله .. لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولم تنفد كلمات الله تعالى، وعجائب صنعه، ونحو الآية قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ}. وإنما ذكر السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، وقد تقرر أن العرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مئة، وتريد بذلك الكثرة، كما جاء في الحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله" وفي الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}. كحديث "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء". ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعًا في الأصل للتكثير، وإن كان مرادًا به التكثير .. جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضًا إلا التكثير ليناسب بين اللفظين، فكما يجوز في سبعة واستعمل للتكثير، كذلك يجوز في أبحر واستعمل للتكثير، ذكره أبو حيان. وقصارى ذلك: أنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها، كما ورد في الحديث: "سبحانك لا نحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". وقرأ الجمهور (¬1): {وَالْبَحْرُ} بالرفع على أنه مبتدأ، و {يَمُدُّهُ}: خبره، والجملة: في محل الحال، وقال المبرد: مرتفع بفعل مقدر؛ أي: ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقيل: مرتفع بالعطف على {أن} وما في حيزها، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق (¬2): {والبحر} بالنصب عطفًا على اسم {أن} أو بفعل مضمر يفسره {يمده}. وقرأ عبد الله: {وبحر يمده} بالتنكير وبالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم، وإن كانت الواو للحال .. كان ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[28]

{بحر}: مبتدأ، وهو نكرة، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة: تقدم واو الحال عليها، كقوله: سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَاِرقِ وقرأ الجمهور: {يمده} بالياء من مد الثلاثي، وابن مسعود وابن عباس: بتاء التأنيث، من مد أيضًا، وقرأ عبد الله أيضًا والحسن وابن مطرف وابن هرمز: بالياء من تحت، من أمد الرباعي، وقرأ جعفر بن محمد: {والبحر مداده}؛ أي: يكتب به من السواد، وقال ابن عطية: هو مصدر. انتهى. وقال أبو حيان: وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، تقديرها: وكتب بها الكتَّاب كلمات الله ما نفذت. والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله .. ما نفدت، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده. انتهى. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ}؛ أي: غالب لا يعجزه شيء، قد عز كل شيء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقب لحكمه، {حَكِيمٌ} في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه، لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، فلا تنفد كلماته المؤسسة عليها. فائدة: وقال بعضهم (¬1): وخاصية الاسم العزيز: وجود الغنى والعز صورةً ومعنًى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة .. أغناه الله وأعزه، فلم يحوجه إلى أحد من خلقه، وخاصية الاسم الحكيم: دفع الدواهي وفتح باب الحكمة، من أكثر ذكره .. صرف عنه ما يخشاه من الدواهي وفتح له بابًا من الحكمة. انتهى. 28 - ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علمًا، ولا يعجزه شيء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

فيه متى أراد، فقال: {مَا خَلْقُكُمْ} قال مقاتل وقتادة: إن كفار قريش قالوا: إن الله خلقنا أطوارًا: نطفةً، علقةً، مضغةً لحمًا، فكيف يبعثنا خلقًا جديدًا في ساعة واحدة؟ فأنزل هذه الآية، وقال: ما خلقكم على الله يا أهل مكة إذ خلقكم {وَلَا بَعْثُكُمْ}؛ أي: إحياؤكم وإخراجكم من القبور إذ يبعثكم {إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}؛ أي: إلا كخلق نفس واحدة وبعثها في سهولة الحصول، فالكل هين عليه، إذ لا يشغله شأن عن شأن؛ لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته وقدرته، قلوا أو كثروا، ويقول كن فيكون، كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}، وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}. وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} ومثاله في الدنيا: أن السلطان يضرب النقارة عند الرحيل فيتهيأ الكل في ساعةٍ واحدةٍ. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} يسمع كل مسموع فيدخل فيه ما قالوا في أمر الخلق والبعث، مما يتعلق بالإنكار والاستبعاد، {بَصِيرٌ} يبصر كل مبصر، لا يشغله علم بعضها عن بعض، فكذا الخلق والبعث، وقال بعضهم: بصير بأحوال الأحياء والأموات، 29 - والخطاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ} لكل أحد يصلح للخطاب، أو للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ألم تعلم يا من يصلح للخطاب علمًا قويًا جاريًا مجرى الرؤية. {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُولِجُ} ويدخل بقدرته وحكمته {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}؛ أي: يدخل الليل في النهار، ويضيفه إليه بأن يزيد من ساعات الليل في ساعات النهار صيفًا بحسب مطالع الشمس ومغاربها، يعني: يصير النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات. قال عبد الله بن سلام (¬1): أخبرني يا محمد عن الليل: لم سمي ليلًا؟ قال: لأنه منال الرجال من النساء، جعله الله ألفةً ومسكنًا ولباسًا" قال: صدقت يا محمد، ولم سمي النهار نهارًا؟ قال: "لأنه محل طلب الخلق لمعايشهم، ووقت سعيهم واكتسابهم" قال: صدقت. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}؛ أي: يدخله فيه، ويضم بعض أجزائه إليه، بأن يزيد من ساعات النهار في ساعات الليل شتاءً بحسب المطالع والمغارب، فيصير الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات. أي: ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك: أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات الليل. والخلاصة: أنه يأخذ من الليل في النهار، فيقصر ذلك ويطول هذا، وذاك في مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدىء النهار في النقصان، ويطول الليل إلى الغاية في مدة الشتاء. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لمصالح خلقه ومنافعهم؛ أي: ذللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول، تقديرًا للآجال، وتتميمًا للمنافع، والجملة: معطوفة على {يُولِجُ} والاختلاف بينهما صيغةً، لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر أمر متجدد في كل حين، وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد، وإنما التعدد والتجدد في آثاره، وقد أشير إلى ذلك حيث قيل: {كُلٌّ} من الشمس والقمر {يَجْرِي} بحسب حركته الخاصة القسرية على المدارات اليومية المتخالفة المتعددة حسب تعدد الأيام، جريًا مستمرًا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معلوم، وأجل محدد، قدره الله تعالى لجريهما، إذا بلغه كورت الشمس والقمر، وهو يوم القيامة، كما روي عن الحسن، فإنهما لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ، وذلك لأنه تموت الملائكة الموكلون عليهما، فيبقى كل منهما خاليًا كبدنٍ بلا روح، ويطمس نورهما، فيلقيا في جهنم، ليظهر لعبدة الشمس والقمر والنار أنها ليست بآلهة، ولو كانت آلهةً .. لدفعت عن أنفسها، فالجملة معترضة بين المتعاطفين، أعني: قوله: {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} إلخ. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} مسوقة لبيان الواقع بطريق الاستطراد، هذا وقد جعل جريانهما عبارةً عن حركتهما الخاصة بهما في فلكهما، والأجل المسمى عبارة عن منتهى دورتهما، وجعل مدة الجريان للشمس سنةً، وللقمر شهرًا، فالجملة حينئذٍ: بيان لحكم تسخيرهما، وتنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك

[30]

بحسب انقلاب جريان الشمس والقمر على مداراتهما اليومية. فإن قلت (¬1): لم قال هنا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} بلفظ {إِلَى}، وقال في فاطر والزمر بلفظ (اللام) حيث قال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. قلت: لأن ما هنا وقع بين جملتين دالّتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق، وهما قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} الآية، فناسب ذكر (إلى) الدالة على الانتهاء. والمعنى: لا يزال كل من الشمس والقمر جاريًا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له، وما في فاطر والزمر خالٍ عن ذلك، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهاء به، وما في الزمر ذكر مع ابتداءٍ به فناسب ذكر اللام المعدية. والمعنى: يجري كل مما ذكر لبلوغ أجلٍ. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}؛ أي: عالم بكنهه، معطوف على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} إلخ، داخل معه في حيز الرؤية، فإن من شاهد ذلك الصنع الرائق، والتدبير اللائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه محيطًا بجلائل أعماله ودقائقها؛ أي: وأن الله سبحانه بأعمالكم من خير أو شر خبير بها، مطلع عليها، لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها. قرأ الجمهور (¬2): {تَعْمَلُونَ} بالفوقية على الخطاب، وقرأ السلمي ونصر بن عامر وعياش الدوري عن أبي عمرو: {بما يعملون} بياء الغيبة. 30 - والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى ما تقدم ذكره، و (الباء) في {بِأَنَّ اللَّهَ}: للسببية؛ أي: ذلك المذكور من سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، واختصاص الباري بها كائن بسبب أن الله تعالى: {هُوَ الْحَقُّ} إلهيته فقط الثابت وجوده، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ}؛ أي: يعبدون {مِنْ دُونِهِ} تعالى من الأصنام ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني.

[31]

{الْبَاطِلُ} إلهيته، لا يقدر على شيء من ذلك، فليس في عبادته نفع أصلًا، والتصريح (¬1) بالبطلان، مع أن الدلالة على اختصاص حقية إلهيته به تعالى، مستتبعة للدلالة على بطلان إلهية ما عداه لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد؛ أي: وبسبب ظهور بطلان إلهيته ما يعبدونه من غيره تعالى. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص (¬2): {يَدْعُونَ} بياء الغيبة، وغيرهم {تدعون} بالفوقية، وقال هنا: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} وفي الحج {مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} بزيادة هو لمقام التأكيد. والمعنى: أي إنما يظهر الله آياته للناس، ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل، الذي يضمحل ويفنى، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، {و} بسبب {أَنَّ اللَّهَ} تعالى {هُوَ الْعَلِيُّ} في صفاته {الْكَبِيرُ} في ذاته؛ أي: وأنه تعالى المرتفع على كل شيء، والمتسلط على كل شيء، فكل شيء خاضع له تعالى، وهو الحكم العدل، اللطيف الخبير، وهذه الجملة معطوفةً أيضًا على جملة {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}. والمعنى (¬3): ذلك الصنع البديع، الذي وصفه في الآيات المتقدمة للاستدلال بها على حقية الله تعالى، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه بسبب أنه تعالى، وهو العلي، في مكانته، ذو الكبرياء في ربوبيته وسلطانه. 31 - وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته تعالى، أشار إلى آيةٍ أرضيةٍ بجامع ما اشتركا فيه من الجريان، فقال: {أَلَمْ تَرَ} رؤية عيانيةً أيها الذي من شأنه الرؤية والمشاهدة {أَنَّ الْفُلْكَ} والسفن {تَجْرِي} وتسير {فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} تعالى؛ أي (¬4): بإحسانه ورحمته، أو بالريح لأن الريح من نعم الله تعالى فالباء متعلقة بـ {تَجْرِي} أو بمحذوف حال من فاعله؛ أي: متلبسةً بنعمته تعالى، وإحسانه في تهيئة أسبابه، وفي "الأسئلة المقحمة": تجري برحمة الله، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني. (¬4) النسفي.

حيث جعل الماء مركبًا لكم لتقريب المزار. اهـ؛ أي: تجري في البحر بلطفه بكم، وبرحمته لكم، وذلك من أعظم نعمة عليكم؛ لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق. وقرأ الجمهور: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ} على الإفراد اللفظي، وقرأ (¬1) الأعرج والأعمش وابن يعمر: {بنعمات الله} بكسر النون وسكون العين جمعًا بالألف والتاء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء، وقال أبو حيان: والباء تحتمل السببية؛ أي: تجري بسبب الريح، وتسخير الله تعالى، وتحتمل الحالية؛ أي: مصحوبةً بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. انتهى. وقال ابن عطية: الباء للإلصاق. انتهى. وقرأ موسى بن الزبير: {الفلك} بضم اللام، {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} من للتبعيض (¬2)؛ أي: ليريكم بعض دلائل قدرته وعجائب صنعه، قال يحيى بن سلام: وهو جري السفك في البحر بالريح، وقال ابن شجرة: المراد بقوله: {مِنْ آيَاتِهِ} ما يشاهدونه من قدرة الله تعالى، وقال النقاش: ما يرزقهم الله في البحر. والمعنى: أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهي تسير في البحر حاملة للأقوات والمتاع من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو في حاجة إليها, لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس في أيديهم، وفي هذا دليل على عجيب قدرته، التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء، الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها. ثم ذكر من يستفيد من النظر في الآيات، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من أمر الفلك والبحر {لَآيَاتٍ} عظيمة في ذاتها، كثيرة في عددها، {لِكُلِّ صَبَّارٍ}؛ أي: مبالغ في الصبر على المشاق، فيتعب نفسه في التفكر في الأنفس والآفاق {شَكُورٍ}؛ أي: مبالغ في الشكر على نعمائه، فبعث نفسه في التفكر في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[32]

عدم غرقه، وفي سيره إلى البلاد الشاسعة والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهابًا وإيابًا تارة بريحين، وتارة بريح واحدة، وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام ومن أراد الله تعالى من خلقه، وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه وأموره. اهـ. "خطيب". وهما صفتا المؤمن، فكأنه قيل: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن؛ أي: إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار في الضراء، شكور في الرخاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان, والشكر: نصف الإيمان, واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر". 32 - ثم بين أن المشركين ينسون الله تعالى في السراء، ويلجؤون إليه حين الضراء، فقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ} يقال: غشيه: إذا ستره وعلاه، والضمير لمن ركب البحر مطلقًا، أو لأهل الكفر، ففيه التفات من ضمير الخطاب في {لِيُرِيَكُمْ} إلى ضمير الغيبة في {غَشِيَهُمْ}؛ أي: وإذا علاهم وأحاط بهم {موج}: هو ما ارتفع من الماء {كَالظُّلَلِ}؛ أي: كالجبال، أو كالسحاب في الارتفاع. وقرأ محمد بن الحنفية: {كالظلال}: جمع ظله، كقلال وقلة، شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل أو سحاب أو غيرهما، وإنما شبه (¬1) الموج وهو مفرد بالظلل وهي جمع؛ لأن الموج يأتي شيئًا بعد شيء، ويركب بعضه بعضًا، وقيل: إن الموج في معنى الجمع؛ لأنه مصدر، وأصل الموج الحركة والازدحام، ومنه يقال: ماج الماء: إذا تحرك، وماج الناس: إذا ازدحموا. {دَعَوُا اللَّهَ} وحده حال كونهم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ أي: الدعاء والاستغاثة، لا يذكرون معه غيره، ولا يستغيثون بغيره، ولا يعولون على غيره في خلاصهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر سواه، لزوال ما ينازع الفطرة من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد، والإخلاص: إفراد الشيء من الشوائب. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} الله سبحانه وتعالى من البحر {إِلَى الْبَرِّ} وجاد تحقيق مناهم بسبب إخلاصهم في الدعاء صاروا على قمسين {فـ} قسم {مقتصد}؛ أي: آخذ بالطريق القصد، ومتمسك بالدين المستقيم، وهو التوحيد والطاعة لله سبحانه فيما أمر ونهى، قاله الحسن: وقيل؛ أي: موف بما عاهد عليه الله في البحر، من إخلاص الدين له، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البر سالمًا. وقسم كافر جاحد، ففي الكلام حذف، ويدل على هذا المحذوف قوله: {وَمَا يَجْحَدُ} وينكر {بِآيَاتِنَا}؛ أي: بدلائل قدرتنا التي منها إنجاء هؤلاء من البحر، والقرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ما ينكر بحقيتها {إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ}؛ أي: غدار نقاض للعهد؛ أي: كثير الختر والغدر لما عاهد على نفسه. {كَفُورٍ}؛ أي: كثير الكفران لنعم الله تعالى، وإنما (¬1) يطلق هذا اللفظ على من صار الكفر عادةً ديدنًا له، كما يقال: ظلوم، لمن كان الظلم عادةً له. وختم هذه الآية بصيغتي مبالغة اللتين هما (¬2): {خَتَّارٍ} و {كَفُورٍ} ليكونا في مقابلة ما ختم به الآية التي قبلها، وهما: {صَبَّارٍ} و {شَكُورٍ} فتوازنت الكلمات الأربع لفظًا ومعنًى، أما توازنها لفظًا فظاهر، وأما معنًى، فالختار: هو الغدار، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، فإن الصبار يفوض أمره إلى الله تعالى وأما الغدار: فيعهد ويغدر فلا يصبر على العهد، وأما الكفور: فمقابلته معنًى للشكور واضحةٌ. ومعنى الآية (¬3): أي وإذا أحاطت بهؤلاء المشركين الذين يدعون من دون الله تعالى الآلهة والأصنام الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط بتصرف. (¬3) المراغي.

[33]

جانب، حين يركبون السفن .. فزعوا بالدعاء إلى الله تعالى، مخلصين له الطاعة، لا يشركون به شيئًا، ولا يدعون معه أحدًا سواه، ولا يستغيثون بغيره، فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر .. فمنهم متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موفٍ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه. 33 - ولما ذكر (¬1) الله تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أول السورة إلى هنا .. أمر بالتقوى على سبيل الموعظة، والتذكير بهذا اليوم العظيم، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} نداء (¬2) عام لكافة المكلفين، وأصله لكفار مكة {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} الذي رباكم بنعمه في جميع أطواركم، بقبول التوحيد، وامتثال المأمورات، والتبري من الكفر، واجتناب المنهيات؛ أي: اجعلوا التقوى وقايةً وسترًا لكم من عذاب ربكم. قال بعضهم: مرةً يخوفهم بأفعاله فيقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} ومرةً بصفاته فيقول: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} ومرةً بذاته فيقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، {وَاخْشَوْا} الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى به {يَوْمًا}، قال في "التيسير": يجوز أن يكون على ظاهره؛ لأن يوم القيامة مخوف، وأن يكون على تقدير مضاف؛ أي: وخافوا عذاب يوم {لَا يَجْزِي}؛ أي: لا يدفع فيه، {وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} شيئًا من العذاب، أو لا يقضي عنه شيئًا من الحقوق، أو لا يحمل والد عن ولده شيئًا من سيئاته، ولا يعطيه شيئًا من طاعته، يقال: جزاه دينه، إذا قضاه عنه. والمعنى: أي لا يغني الوالد عن ولده شيئًا، ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه. وقرأ الجمهور (¬3): {لَا يَجْزِي} بفتح الياء مضارع جزي الثلاثي، وقرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

عكرمة: بضم الياء وفتح الزاي مبنيًا للمفعول، وأبو السماك وعامر بن عبد الله وأبو السوار: {لا يجزىء} بضم الياء وكسر الزاي مهموزًا، ومعناه: لا يغني، يقال أجزأت عنه جزاء فلان؛ أي: أغنيت. والولد (¬1) ولو كان يقع على القريب والبعيد؛ أي: ولد الولد، لكن الإضافة تشير إلى الصلبي القريب، فإذا لم يدفع عما هو ألصق به .. لم يقدر أن يدفع عن غيره بالطريق الأولى، ففيه قطع لأطماع أهل الغرور، والمفتخرين بالآباء والأجداد، المعتمدين على شفاعتهم من غير أن يكون بينهم جهة جامعة، من الإيمان والعمل الصالح. {وَلَا مَوْلُودٌ} للشخص بلا واسطة، فلا يطلق إلا على ولد الصلب، بخلاف الولد فإنه يطلق على ولد الولد كما في "الكشاف"، {هُوَ جَازٍ}؛ أي: دافع أو قاض أو حامل {عَنْ وَالِدِهِ} بلا واسطة {شَيْئًا} من العذاب أو من الحقوق أو من الذنوب، وخص الولد والوالد بالذكر تنبيهًا على غيرهما، والمولود: خاص بالصلبي الأقرب كما مر، فإذا لم يقبل شفاعته للأب الأول الذي ولد منه .. لم يقبل لمن فوقه من الأجداد، وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، ولقطع طمع من توقع من المؤمنين: أيشفع أباه الكافر في الآخرة، ولذا قالوا: إن هذا الخبر خاص بالكفار، فإن أولاد المؤمنين وآباءهم ينفع بعضهم بعضًا، قال تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: بشرط الإيمان. قيل معنى هذا الكلام (¬2): أن الله سبحانه ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة، وهما الوالد والولد، فنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه، والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها، فإذا كان يوم القيامة .. فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ولا يهتم بقريب ولا بعيد، كما قال ابن عباس: كل امرىء تهمه نفسه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

ومعنى الآية: أي (¬1) يا أيها المشركون من قريش وغيرهم، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه، في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئًا؛ لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة، ولا الوسائل التي تنفع في الدنيا، بل لا تجدي عنده إلا وسيلة واحدة، هي العمل الصالح الذي قدمه المرء في حياته الأولى. ثم أكد ما سلف بقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى بالحشر والجنة والنار والثواب والعقاب، والوعد: يكون في الخير والشر، بخلاف الوعيد، فإنه في الشر خاصة، كما سيأتي. {حَقٌّ}؛ أي: ثابت كائن لا محالة، ولا خلف فيه؛ أي: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حق, لأن الله سبحانه قد وعد به، ولا خلف لوعده. ثم حذرهم من شيئين فقال: 1 - {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} عن الآخرة، والمراد بالحياة الدنيا: زينتها وزخارفها وآمالها؛ أي: إذا عرفتم ما ذكروا وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم .. فأقول لكم: لا تخدعنكم زينة هذه الحياة القريبة الزوال ولذاتها عن الحياة الأخروية الأبدية، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله في ذلك اليوم، وفي "التأويلات النجمية": فلا تغرنكم بسلامتكم في الحال، وعن قريبٍ ستندمون في المآل. انتهى. 2 - {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ}؛ أي: لا يخدعنكم {بِاللَّهِ} بإطماعكم في سعة رحمة الله وعظيم حلمه وعفوه الشيطان {الْغَرُورُ}؛ أي: المبالغ في الغرور والخداع، بأن يرجيكم التوبة والمغفرة، فيجسركم على ارتكاب المعاصي، وينسيكم الرجوع إلى القبور، ويحملكم على الغفلة عن أحوال القيامة وأهوالها، فلا تتخذوا لها زادًا. قال في "كشف الأسرار" (¬2): الغرة بالله: حسن الظن به مع سوء العمل، وفي الخبر: "الكيس من وإن نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

هواها وتمنى على الله المغفرة"، ونعم ما قيل: إِنَّ السَّفِيْنَةَ لَا تَجْرِيْ عَلَى الْيَبَسِ فلا بد من الأعمال الصالحة، فإن بها النجاة، وبها يلتحق الأواخر الأوائل. ففي الآية حسم لمادة الطمع في الانتفاع بالغير من إهمال الإِسلام أو الطاعات، اعتمادًا على صلاح الغير، فإن يوم القيامة يوم عظيم، لا ينفع فيه من له اتصال الولادة، فما ظنك بما سواها، ويشتغل كل أحد بنفسه، إلا من رحمة الله تعالى، وعن كعب الأحبار: تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة يا ولدي، أما كان لك بطني وعاءً، وحجري وطاءً، وثديي سقاءً، فاحمل عني واحدًا فقد أثقلتني ذنونبي، فيقول: هيهات يا أماه، كل نفس بما كسبت رهينة، فإذا حملت عنك فمن يحمل عني. وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب: {فلا تغرنكم} بالنون الخفيفة وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة {الغرور} بالضم، وهو مصدر، والجمهور: بالفتح، صيغة مبالغة، ويمكن حمل قراءة الضم عليه مبالغة في جعل الشيطان نفس المصدر، على حد زيد عدل. فائدة: قال بعضهم (¬1): لا ينبغي للمؤمن أن يتطير ويعد نفسه من الأشقياء، فيتكاسل في العمل، بل ينبغي له أن يحسن الظن بالله تعالى، ويجاهد في طريقه، فإن للاعتقاد تأثيرًا بليغًا، وقد وعد الله سبحانه، ووعد الشيطان، ووعد الله تعالى صدق محض؛ لأنه هو الولي، ووعد الشيطان كذب محض, لأنه هو العدو، فالإصغاء لكلام الولي خير من استماع كلام العدو، فلا تغتر بتغرير الشيطان والنفس، ولا بالحياة الدنيا، فإن دولتها ذاهبة، وزينتها زائلة، وليس لها لأحدٍ وفاء. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا على أفضل الأعمال، الذي هو التوحيد، وذكر رب العرش المجيد، ويجعلنا في جنات تجري من تحتها الأنهار، ويشرفنا بجوار المصطفى المختار، مع آله الأخيار، وصحابته الأبرار، عليه وعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. 34 - ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء، لا يعلمها إلا هو، فقال: 1 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عِنْدَهُ عِلْمُ} وقت قيام {السَّاعَةِ}؛ أي: لا عند غيره، قال الفراء (¬1): إن معنى هذا الكلام النفي؛ أي: ما يعلمه أحد إلا الله عز وجل، والساعة: جزء من أجزاء الجديدين، سميت بها القيامة؛ لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا؛ أي: عنده تعالى علم وقت قيام الساعة، وما يتبعه من الأحوال والأهوال، وهو متفرد بعلمه، فلا يعلمه أحد سواه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما قال: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} فلا يدري أحد من الناس في أي سنة، وفي أي شهر، وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار تقوم القيامة. 2 - {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون (¬2) وإن علموا الخسوف والكسوف ونزول الأمطار بالأدلة، فليس ذلك غيبًا، بل بأماراتٍ وأدلةٍ تدخل في مقدور الإنسان، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانًا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين. وهذه الجملة: معطوفة على ما يقتضيه الظرف في قوله: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} من الفعل، تقديره: إن الله سبحانه يثبت عنده علم الساعة، وينزل الغيث، كما في "المدارك"، وهذا من (¬3) حيث ظاهر التركيب، وأما من حيث المعنى فهو معطوف على {السَّاعَةِ} فيكون العلم مسلطًا عليه؛ أي: وعنده علم وقت نزول الغيث، وسمي المطر غيثًا؛ لأنه غياث الخلق، به رزقهم، وعليه بقاؤهم فالغيث مخصوص بالمطر النافع. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

والمعنى (¬1): أي وينزل الغيث في زمانه الذي قدره من غير تقديم ولا تأخير إلى محله الذي عينه في علمه، من غير خطأ، ولا تبديل، فهو منفرد بعلم زمانه ومكانه وعدد قطراته، روي مرفوعًا: "ما من ساعة من ليل، ولا نهار، إلا السماء تمطر فيها، يصرفه الله حيث يشاء"، وفي الحديث: "ما سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي .. حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا .. صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". فمن أراد استجلاب الرحمة .. فعليه بالتوبة والندامة والتضرع إلى قاضي الحاجات بأخلص المناجاة. قرأ الجمهور: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} مشددًا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: مخففًا. 3 - {وَيَعْلَمُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي الْأَرْحَامِ}؛ أي: ما في أرحام النساء من الجنين؛ أي: يعلم ذاته، أذكر أم أنثى، حي أم ميت، وصفاته، أتام الخلق أم ناقصة، حسن أم قبيح، أحمر أم أسود، سعيد أم شقي؛ أي: يعلم أوصافه في حالة كونه نطفةً قبل تمام خلقه، وما يعرفه الناس الآن بالعلم الحديث، فبعد تمام خلقه، والأرحام: جمع رحم: بيت منبت الولد ووعاؤه. 4 - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} من النفوس وما تعرف {مَاذَا}؛ أي: أيّ شيء {تَكْسِبُ} وتفعل {غَدًا}؛ أي: يومًا تاليًا ليومها الذي هي فيها؛ أي: لا يعرف (¬2) أحد من الناس ماذا يفعل غدًا، وماذا يحصل له فيه من خير أو شر، ووفاق وشقاق، وربما يعزم على خير فيفعل الشر وبالعكس، وإذا لم يكن للإنسان طريق إلى معرفة ما هو أخص به من كسبه، وإن أعمل حيله، وأنفذ فيها وسعه .. كان من معرفة ما عداه، مما لم ينصب له دليل عليه أبعد، وكذا إذا لم يعلم ما في الغد مع قربه فما يكون بعده لا يعلمه بطريق الأولى. والمعنى: أي وما تدري نفس من النفوس كائنةً ما كان، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء والجن والإنس، ماذا تكسب غدًا من كسب دين أو كسب دنيا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

5 - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} من النفوس وإن أعملت حيلها {بِأَيِّ أَرْضٍ} ومكان {تَمُوتُ}؛ أي: لا تدري أين مضجعها من الأرض، أفي بحر أم في بر أم في سهل أم في جبل، كما لا تدري في أي وقت تموت، وإن كانت تدري أنها تموت في الأرض في وقت من الأوقات، وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به، ثم تدفن في مكان لم يخطر لها ببال قط، ومن ادعى أنه يعلم شيئًا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه. وقرأ الجمهور (¬1): {بِأَيِّ أَرْضٍ}، وقرأ أبي بن كعب وموسى الأهوازي وابن أبي عبلة: {بأية أرض} بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث، وجوز الفراء ذلك، وهي لغة ضعيفة قليلة. فإن قلت (¬2): لم قال تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ولم يقل: بأي وقت تموت، مع أن كلًّا منهما غير معلوم لغيره تعالى، بل نفي العلم بالزمان أولى، لأن من الناس من يدعي علمه بخلاف المكان؟ قلت: إنما خص المكان بنفي علمه؛ لأن الكون في مكان دون مكان في وسع الإنسان واختياره، فاعتقاده علم مكان موته أقرب، بخلاف الزمان، ولأن للمكان دون الزمان تاثيرًا في جلب الصحة والسقم، أو تأثيره فيهما أكثر. تنبيه (¬3): أضاف في الآية العلم إلى نفسه في الثلاثة الأولى من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها, لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم وأفخم، فخصت بالإضافة إليه تعالى، والأخيرتان من صفات العباد، فخصتا بالإضافة إليهم، مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما .. كان انتفاء علم ما عداهما من الخمسة أولى. اهـ. "كرخي". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) الفتوحات.

ببعض نواحي المدينة، فإذا بقبر يحفر فأقبل حتى وقف عليه، فقال: "لمن هذا": قيل لرجل من الحبشة، فقال: "لا إله إلا الله، سيق من أرضه وسمائه، حتى دفن في الأرض التي خلق منها، تقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني" وأنشدوا: إِذَا مَا حَمَامُ الْمَرْءِ كَانَ بِبَلدَةٍ ... دَعَتْهُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فَيَطِيْرُ وفي قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} تنبيه العبد على التيقظ للموت، والاستعداد له بحسن الطاعة، والخروج عن المظلمة، وقضاء الدين، وإثبات الوصية بماله وما عليه في الحضر، فضلًا عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر، فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض، وأنشد بعضهم: مَشَيْنَا فِيْ خُطَىً كُتِبَتْ عَلَيْنَا ... وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطَىً مَشَاهَا وَأَرْزَاقٌ لَنَا مُتَفَرِّقَاتٌ ... فَمَنْ لَمْ تَأتِهِ مِنَّا أَتَاهَا وَمَنْ كُتِبَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ ... فَلَيْسَ يَمُوْتُ فِي أرْضٍ سِوَاهَا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} يعلم الأشياء كلها، هذه الخمسة وغيرها، {خَبِيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها. فإن قلت: لم عد هذه الخمسة المذكورة في الآية فقط، مع أن كل المغيبات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟ قلت: خصها لما أن السؤال عنها ورد كما سبق في سبب النزول، وكان أهل الجاهلية يسألون المنجمين عن هذه الخمسة، زاعمين أنهم يعرفونها، وتصديق الكاهن فيما يخبره من الغيب كفر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى كاهنًا فصدقه فيما يقول .. فقد كفر بما أنزل الله على محمد". والكاهن: هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، وكان في العرب كهنة يدعون معرفة الأمور، فمنهم من يزعم أن له رئيًا من الجن يلقى إليه الأخبار. وفي الحديث: "من سأل عرافًا .. لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". والعراف: من يخبر عن المسروق ومكان الضالة، والمراد: من سأله على وجه

التصديق لخبره، وتعظيم المسؤول، يعني إذا اعتقد أنه ملهم من الله، أو أن الجن يلقون إليه مما يسمعون من الملائكة .. فصدقه فهو حرام، وإذا اعتقد أنه عالم بالغيب .. فهو كفر، كما في حديث الكاهن، وأما إذا سأل ليمتحن حاله، ويخبر باطن أمره، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه .. فهو جائز، فعلم أن الغيب مختص بالله تعالى، لا يعلمه أحد من المخلوقات، إلا أن علم بعضهم بعضه باطلاع الله تعالى، إياه عليه، كالأنبياء. الإعراب {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة أو استئنافية. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُسْلِمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها {وَجْهَهُ}: مفعول به، {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يُسْلِمْ}، و {يُسْلِمْ} يتعدى باللام، ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه إليه، كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد به: التوكل والتفويض إليه، {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: مبتدأ وخبر، و {الواو} فيه: حالية، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {يُسْلِمْ}. {فَقَدِ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {قد}، {قد}: حرف تحقيق، {اسْتَمْسَكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} على كونه جوابًا لها، {بِالْعُرْوَةِ}: متعلق بـ {اسْتَمْسَكَ}، {الْوُثْقَى} صفة لـ {العروة}، وجملة {من} الشرطية: معطوفة على جملة: {وَإِذَا قِيلَ} أو مستأنفة، {وَإِلَى اللَّهِ}: {الواو}: استئنافية أو اعتراضية، {إلى الله}: خبر مقدم، {عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، أو معترضة. {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}.

{وَمَنْ كَفَرَ}: {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، {كَفَرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، {فَلَا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {لا}: ناهية جازمة، {يَحْزُنْكَ}: فعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، {كُفْرُهُ}: فاعل، والجملة: في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: معطوفة على سابقتها. {إِلَيْنَا}: خبر مقدم، {مَرْجِعُهُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {فَنُنَبِّئُهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {ننبئهم}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، كأنه قيل: إلينا يرجعون فننبئهم بما عملوا، {عَمِلُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {عَلِيمٌ}: خبره، {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)}. {نُمَتِّعُهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: مستأنفة، {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {نَضْطَرُّهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {نُمَتِّعُهُمْ}، {إِلَى عَذَابٍ}: متعلق بـ {نَضْطَرُّهُمْ}، {غَلِيظٍ}: صفة {عَذَابٍ}. {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {سَأَلْتَهُمْ}: فعل ماض وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {مَّنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {سأل}، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة الفعلية صلة لـ {مَّنْ} الموصولة. {لَيَقُولُنَّ} {اللام}: واقعة في جواب القسم، مؤكدة للأولى،

{يقولن}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأن أصله ليقولونن، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، والنون المشددة: نون التوكيد الثقيلة، حرف لا محل لها من الإعراب، {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الله، أو مبتدأ، خبره، محذوف؛ أي: الله خالقها، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {لَيَقُولُنَّ}، وجملة {يقولن}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه: مستأنفة، وجواب {إن} الشرطية: محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ يقولون: الله، وجملة {إن} الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين القسم وجوابه. {قُلِ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مقول لـ {قُلِ}، {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي، {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الإضرابية: مستأنفة. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}. {لِلَّهِ}: خبر مقدم، {مَا}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْغَنِيُّ}: خبره الأول، {الْحَمِيدُ}: خبر ثان له، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لو}: حرف شرط غير جازم، {أَنَّمَا} {أن}: حرف نصب ومصدر، {ما}: اسم موصول في محل النصب اسم {أن}، {فِي الْأَرْضِ}: صلة لـ {ما} الموصولة، {مِنْ شَجَرَةٍ}: حال من {ما}، أو من ضمير الاستقرار، {أَقْلَامٌ}: خبر {أن}، وجملة {أن}: من اسمها وخبرها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف وقع فعل شرط لـ {لو} تقديره: ولو ثبت كون ما في

الأرض من شجرة أقلامًا، {وَالْبَحْرُ}: {الواو}: حالية، {البحر}: مبتدأ، {يَمُدُّهُ}: فعل ومفعول به، {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور حال من {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}: فاعل لـ {يَمُدُّهُ}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من {ما} الموصولة في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ}. والرابط: {الواو}: أو ضمير محذوف، تقديره: والحال أن بحرها؛ أي: بحر الأرض يمده سبعة أبحر من بعده. {مَا}: نافية، {نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}؛ فعل وفاعل، والجملة: جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو}: مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عَزِيزٌ}: خبره الأول، {حَكِيمٌ}: خبره الثاني، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}. {مَا}: نافية، {خَلْقُكُمْ}: مبتدأ، {وَلَا بَعْثُكُمْ}: معطوف على {خَلْقُكُمْ}، {إِلَّا}: أداة الاستثناء مفرغ، {كَنَفْسٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، {وَاحِدَةٍ}: صفة {نفس}، والجملة الاسمية: مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {سَمِيعٌ}: خبره الأول، {بَصِيرٌ}: خبره الثاني، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم، {تَرَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لم}، والجملة الفعلية مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يُولِجُ اللَّيْلَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به {فِي النَّهَارِ} متعلق بـ {يُولِجُ}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تر}. وجملة قوله: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ}. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

{وَسَخَّرَ}: {الواو}: عاطفة. {سخر}: فعل ماض وفاعل مستتر، {الشَّمْسَ} مفعول به {وَالْقَمَرَ} معطوف على {الشَّمْسَ}. والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة {يُولِجُ} على كونها خبر لـ {أن}، وسيأتي لك بيان حكمة المخالفة بين صيغتي المتعاطفين في مبحث البلاغة. {كُلٌّ}: مبتدأ، وجملة: {يَجْرِي}: في محل الرفع خبر المبتدأ، {إِلَى أَجَلٍ} متعلق بـ {يَجْرِي}، {مُسَمًّى}: صفة لـ {أجل}. والجملة الاسمية: في محل النصب حال من {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، {وَأَنَّ اللَّهَ}: {الواو}: عاطفة، {أن الله}: ناصب واسمه، {بِمَا تَعْمَلُونَ}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}. وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة {خَبِيرٌ}: خبر {أن}، وجملة {أن}: معطوفة على جملة قوله: {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ}. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّ اللَّه}: جار ومجرور وخبره، والجملة الاسمية: مستأنفة، {أن}: حرف نصب، {اللَّهَ}: اسمها، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْحَقُّ}: خبرها. وجملة {أن}: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كون الله تعالى هو الحق، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ}: {الواو}: عاطفة. {أن}: حرف نصب، {ما}: اسم موصول في محل النصب اسمها، وجملة {يَدْعُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: وأن ما يدعونه، {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور حال من {ما} الموصولة، أو من العائد المحذوف، {الْبَاطِلُ}: خبر {أن}، وجملة {أن}: في محل الجر معطوفة على جملة {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، وجملة {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}: معطوفة عليها أيضًا. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم، {تَرَ}:

فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والجملة الفعلية: مستأنفة، {أَنَّ الْفُلْكَ}: ناصب واسمه، {تَجْرِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْفُلْكَ}، {فِي الْبَحْرِ}: متعلق بـ {تَجْرِي}، {بِنِعْمَتِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَجْرِي}؛ أي: حالة كونها مصحوبة بنعمة الله أو متعلق بـ {تَجْرِي} أيضًا؛ أي: بسبب الريح التي هي النعمة، وجملة {تَجْرِي} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَرَ}. {لِيُرِيَكُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يريكم}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول, لأن رأى هنا بصرية تعدت إلى المفعولين بهمزة النقل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {مِنْ آيَاتِهِ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني {لِيُرِيَكُمْ}، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لاراءَته إياكم بعض آياته، والجار والمجرور متعلق بـ {تَجْرِي}، {إن}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إنَّ}، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء، {لِكُلِّ}: جار ومجرور صفة {لَآيَاتٍ}، {صَبَّارٍ}: مضاف إليه {لِكُلِّ}، {شَكُورٍ}: صفة لـ {صَبَّارٍ}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {غَشِيَهُمْ مَوْجٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة قوله: {أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} أو مستأنفة، {كَالظُّلَلِ}: جار ومجرور صفة لـ {مَوْجٌ}. {دَعَوُا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب {إذا}: لا محل لها من الإعراب، {مُخْلِصِينَ}: حال من الواو في {دَعَوُا}، {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}، {الدِّينَ}: مفعول {مُخْلِصِينَ}، لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة، {لما}: اسم

شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بجوابه، {نَجَّاهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، {إِلَى الْبَرِّ}: متعلق بـ {نَجَّاهُمْ}، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ {لما} في محل جر بالإضافة، وجواب {لما}: محذوف، تقديره: صاروا قسمين، وجملة {لما} معطوفة على جملة {إذا}، {فَمِنْهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفصيلية، {منهم} خبر مقدم، {مُقْتَصِدٌ}: مبتدأ مؤخر؛ أي: فقسم مقتصد كائن منهم، والجملة الاسمية: معطوفة على جواب {لما} المحذوف على كونها تفصيلًا له، ومقابل قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: ومنهم جاحد كافر. {وَمَا يَجْحَدُ}: {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية، {يَجْحَدُ}: فعل مضارع، {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَجْحَدُ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {كُلُّ خَتَّار}: فاعل {يَجْحَدُ}، {كَفُورٍ}: صفة {خَتَّارٍ}، والجملة الفعلية: مستأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة، {النَّاسُ}: بدل لـ {أي}، وجملة النداء: مستأنفة، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَاخْشَوْا يَوْمًا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {اتَّقُوا}، {لَا}: نافية، {يَجْزِي وَالِدٌ}: فعل وفاعل {عَنْ وَلَدِهِ}: متعلق بـ {يَجْزِي}، والجملة الفعلية: في محل النصب صفة لـ {يَوْمًا}، والرابط: محذوف، تقديره: لا يجزي فيه، {وَلَا مَوْلُودٌ}: مبتدأ أول، {هُوَ}: مبتدأ ثان، {جَازٍ}: خبر للمبتدأ الثاني، مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأن أصله: جازي، فأعمل به إعمال قاضٍ، وجملة المبتدأ الثاني: خبر للمبتدأ الأول، أعني: مولود، وجوز الابتداء به مع كونه نكرةً وقوعه في سياق النفي، وجملة المبتدأ الأول: في محل النصب معطوفة على جملة {لَا

يَجْزِي وَالِدٌ} على كونها صفة لـ {يَوْمًا}؛ أي: واتقوا يومًا لا مولود هو جاز عن والده شيئًا، والرابط: محذوف أيضًا، تقديره: هو جاز فيه {عَنْ وَلَدِهِ}: متعلق بـ {جَازٍ}. {شَيْئًا}: مفعول {جَازٍ} أو {يَجْزِي}، فالمسألة من باب التنازع. وفي "السمين": قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ}: جوزوا فيه وجهين: أحدهما: أنه مبتدأ، وما بعده الخبر. والثاني: أنه معطوف على {وَالِدٌ}، وتكون الجملة صفة له. انتهى. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه، {حَقٌّ}: خبره، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ}. {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من المواعظ، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم .. فأقول لكم: لا تغرنكم، {لا}: ناهية جازمة، {تغرن}: في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و {الكاف}: مفعول به {الْحَيَاةُ}: فاعل {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةُ}. والجملة الفعلية: في فحل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ}: فعل ومفعول به معطوف على سابقتها، {بِاللَّهِ}: متعلق به، {الْغَرُورُ}: فاعل. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عِنْدَهُ}: خبر مقدم، {عِلْمُ السَّاعَةِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}: فعل وفاعل مستتر يعود عى الله، ومفعول به، والجمة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على كونها خبرًا

لـ {أن} فهو بمثابة خبر ثان لـ {إن}. {وَيَعْلَمُ مَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف أيضًا على جملة {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، فهو بمثابة خبر ثالث لها، {فِي الْأَرْحَامِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما} الموصولهّ، {وَمَا تَدْرِي}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {تَدْرِي نَفْسٌ}: فعل وفاعل والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {إِنَّ}. {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم لـ {تَكْسِبُ}، ويجوز أن تكون {ما} مبتدأ و {ذا}: اسم موصول خبر لـ {ما}، وجملة {تَكْسِبُ}: صلة لـ {ذا} الموصولة، والجملة الاسمية سادة مسدّ مفعولي {تَدْرِي}. {تَكْسِبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {نَفْسٌ}، {غَدًا}: ظرف زمان منصوب متعلق بـ {تَكْسِبُ}، وجملة {تَكْسِبُ} في محل النصب ساد مسد مفعولي {تَدْرِي} المعلقة بالاستفهام. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}: فعل وفاعل معطوفة على سابقتها، {بِأَيِّ أَرْضٍ}: متعلق بـ {تَمُوتُ}، وهو معلق للدراية عن العمل فيما بعده، {تَمُوتُ}: فعل وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب ساد مسد مفعولي {تَدْرِي}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {عَلِيمٌ}: خبر أول له. {خَبِيرٌ}: خبر ثان له، والجملة: مستأنفة مقررة لما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {يُسْلِمْ وَجْهَهُ}؛ أي: يفوض أمره، إلى الله، مأخوذ من أسلمت المتاع إلى الزبون. اهـ. "بيضاوي"، والزبون بفتح الزاي: المشتري من الزبن، وهو: الدفع. اهـ. "شهاب"؛ لأنه يدفع غيره عن أخذ المبيع، وأسلم إذا عدي بإلى، يكون بمعنى سلم، وإذا عدي باللام، تضمن معنى الإخلاص، والوجه: بمعنى الذات، والمعنى: أقبل بكليته إلى الله. {وَهُوَ مُحْسِنٌ}؛ أي: مطيع لله في أمره ونهيه. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} قال في "المفردات": إمساك الشيء: التعلق به وحفظه، واستمسكت بالشيء: إذا تحربت بالإمساك، انتهى. والسين والتاء فيه زئداتان.

{بِالْعُرْوَةِ}، والعروة: بضم أوله: ما يعلق به الشيء من عروته بالكسر؛ أي: ناحيته، والمراد: مقبض نحو الدلو والكلوز، وفي "القاموس": العروة من الدلو، والكوز المقبض، ومن الثوب أُخْتُ زِرّهِ كالعثرى، وفي "الأساس" و"اللسان": وتستعار العروة لما يوثق به ويعول عليه، فيقال للمال النفيس - والفرس الكريم: لفلان عروة. و {الْوُثْقَى}: الموثقة المحكمة، تأنيث الأوثق، كالصغرى تأنيث الأصغر، والشيء الوثيق: ما يأمن صاحبه من السقوط. والمعنى: فقد تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وأقواه، وأصله: أن من يرقى إلى جبلٍ شاهقٍ، أو يتدلى منه، يستمسك بحبل متينٍ مأمون الانقطاع. {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} يقال: أحزنه، من المزيد، ويحزنه من الثلاثي، وأما حزن الثلاثي ويحزن المزيد، فليس بشائع في الاستعمال. {قَلِيلًا}؛ أي: تمتينًا أو زمانًا قليلًا، فهو إما صفة لمصدر أو ظرف محذوف. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ}: الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره، وهو في التعارف: حمل الإنسان على أمر يكرهه؛ أي: نلجئهم ونردهم في الآخرة قسرًا إلى العذاب. {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}؛ أي: ثقيل، ثقل الأجرام الغلاظ، والغليظ: ضد الرقيق، وأصله: أن يستعمل في الأجسام، لكن قد يستعمل في المعاني، كما في "المفردات". {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} بضم اللام لإسناده إلى ضمير الجماعة، أصله: يقولونن، بواو الضمير وثلاث نونات، فهو مرفوع بالنون المحذوفة لعدم مباشرته بنون التوكيد، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الواو لبقاء دالها وهو ضم اللام، فصار: {يقولن} بضم اللام.

{مِنْ شَجَرَةٍ} الشجر: اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بالتاء، كتمرة وتمر، والشجر ضد النجم، وهو ما له ساق قوي. {أَقْلَامٌ}: جمع قلم، وأصل القلم، القص من الشيء الصلب كالظفر، وخص ذلك بما يكتب به، وفي "كشف الأسرار": سمي قلمًا لأنه قط رأسه، والإقليم: القطعة من الأرض، وتقليم الأظفار: قطعها، والفرق بين القط والقد: أن القط: القطع عرضًا، والقد: القطع طولًا، والقطع: فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه. {وَالْبَحْرُ}؛ أي: المحيط, لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل. اهـ. "شهاب". وهو البحر الأعظم، الذي منه مادة جميع البحار المتصلة به، كبحر الغرب والشرق، والمنقطعة عنه. {يُولِجُ اللَّيْلَ}؛ أي: يدخل، والمراد: أنه يضيف الليل إلى النهار والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادةً ونقصانًا، فالإيلاج: الإدخال، والولوج: الدخول في مضيق. {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}؛ أي: تسير سيرًا سريعًا. قال في "المفردات": الجري: المر السريع، وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه. {لِكُلِّ صَبَّارٍ}؛ أي: مبالغ في الصبر على المشاق. اعلم: أن الصبر تحمل المشاق بقدر القوة البدنية، وذلك في الفعل كالمشي ورفع الحجر، كما يحصل للجسوم الخشنة، وفي الانفعال كالصبر على المرض، واحتمال الضرب والقطع، وكل ذلك ليس بفضيلة تامة، بل الفضيلة في الصبر عن تناول مشتهى لإصلاح الطبيعة، والصبر على الطاعات لإصلاح النفس، فالصبر كالدواء المر وفيه نفعٌ. {شَكُورٍ}؛ أي: مبالغ في الشكر على نعمائه، والشكر: تصور النعمة بالقلب والثناء على المنعم باللسان، والخدمة بالأركان، وجعل الصبر مبدأ، والشكر منتهًى في الآية يدل على كون الشكر أفضل من الصبر.

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} يقال: غشيه: إذا ستره وعلاه وغطاه {مَوْجٌ} هو ما ارتفع من الماء {كَالظُّلَلِ}: الظلل: جمع ظلة بضم الظاء، وهو كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو شجر أو غيرها، شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، وجعل الموج وهو واحد، كالظلل، وهو جمع؛ لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء. {مُقْتَصِدٌ}؛ أي: سالك للقصد؛ أي: للطريق المستقيم، وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة. {خَتَّارٍ}: مبالغة من الختر، من بابي ضرب ونصر، والختر: أشد الغدر وأقبحه، قال في "المفردات": الختر: غدر يختر فيه الإنسان؛ أي: يضعف ويكسر لاجتهاده فيه. اهـ. ومنه قولهم: إنك لا تمد لنا شبرًا من الغدر، إلا مددناك باعًا من ختر. قال الشاعر: وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أبا عُمَيْرٍ ... مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ وقوله: ملأت يديك من غدرٍ وخترٍ، شبه المعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة المكنية وملء اليدين تخييل {لَا يَجْزِي وَالِدٌ} يقال: جزاه دينه: إذا قضاه، وفي "المفردات": الجزاء الغناء والكفاية. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} والوعد: يكون في الخير والشر، يقال: وعدته بنفع وضر وعدًا وميعادًا، والوعيد في الشر خاصةً. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} يقال: غره: إذا خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو، كما في "القاموس". {الْغَرُورُ} قال في "المفردات": الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان، إذ هو أخبث الغاوين. {عِلْمُ السَّاعَةِ} والساعة في الأصل: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الملوين، وسميت القيامة بلفظ الساعة؛ لأنها تقوم في آخر جزء من تلك الأجزاء. {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}؛ أي: المطر، سمي المطر بالغيث؛ لأن به يغاث الخلق

من الجدب والقحط، وبه رزقهم وبقاؤهم، كما مر، ولا يسمى بالغيث إلا المطر النافع. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} جمع رحم، والرحم: بيت منبت الولد ووعاؤه. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} والدراية: المعرفة المدركة بضرب من الحيل، ولذا لا يوصف الله سبحانه بها, ولا يقال: الله الداري. وأما قول الشاعر: لَا هُمَّ لَا أَدْرِيْ وَأنْتَ الدَّارِيْ فقول عربي جلف جاهل، جاهل بما يطلق على الله من الصفات، وما يجوز منها وما يمتنع، أو بطريق المشاكلة، كما في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} والكسب: ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، مثل كسب المال، وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أن يجلب به منفعةً أو يدفع به مضرة، والغد: اليوم يلي يومك الذي أنت فيه، كما أن أمس اليوم الذي قبل يومك بليلة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ لأن الوجه هنا بمعنى الذات، لا خصوص العضو الذي تقع به المواجهة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فقد مثل حال المتوكل المشتغل بالطاعة، بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، وقيل: هو

تشبيه تمثيلي، لذكر طرف التشبيه، فقد شبه من تمسك بالإِسلام بمن أراد أن يرقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق حبل، وحذف أداة التشبيه للمبالغة. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} حيث شبه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه؛ أي: يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ. ومنها: الاستعارة المصرحة في لفظ {غَلِيظٍ} لأن الغليظ ضد الرقيق، فهو حقيقة في الأجسام، فاستعاره للتعذيب الذي هو معنى من المعاني؛ لأنه بمعنى عذاب شديد، فالشدة معنًى من المعاني، فاستعار لها لفظ الغلط على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، لجرياتها في المشتق بعد جريانها في الجامد. ومنها: تقديم ما حقه التأخير لغرض الحصر في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ أي: إليه تعالى، لا إلى أحد غيره. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} حيث أطلق المحل الذي هو الصدر، وأراد به الحال الذي هو القلب؛ لأن المعنى: عليم بخطرات القلوب. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لأن كلمة {هُوَ} هنا للحصر؛ أي: هو الغني وحده، وليس معه غني آخر، كما مرّ. ومنها: توحيد لفظ {شَجَرَةٍ} لإفادة الاستغراق في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} فكأنه قال من كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة، إلا وقد بريت أقلامًا. ومنها: جمع الأقلام لقصد التكثير. ومنها: المخالفة في الصيغة بين {سخر} المعطوف و {يُولِجُ} المعطوف عليه في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لاختلاف مفادهما؛ لأن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد كل حين، فعبر عنه بالصيغة المتجددة حينًا بعد حين، وأما تسخير النيرين، فهو أمر لا يتجدد ولا

يتعدد، بل هو ديمومة متصلة متتابعة، فعبر عنه بالصيغة الماضية الكائنة. ومنها: الطباق بين لفظ {الْحَقُّ} - و {الْبَاطِلُ} في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}. ومنها: كمال الاعتناء بشأن التوحيد في قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} حيث صرحه مع أن ثبوت حقيقة إلهيته تعالى، مستتبع لبطلان إلهيةِ ما عداه. ومنها: صيغ المبالغة في قوله: {صَبَّارٍ شَكُورٍ} وقوله: {خَتَّارٍ كَفُورٍ}. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. فائدة: فإن قيل: إذا أمكن العلم بالغيب لخلص عباده تعالى بتعليمه إياهم، فلم لم يعلم الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - الغيوب المذكورة في الآية؟ فالجواب: أن الله تعالى إنما لم يعلمه ذلك، إشعارًا بأن المهم للعبد أن يشتغل بالطاعة ويستعد لسعادة الآخرة، ولا يسأل عما لا يهم، ولا يشتغل بما لا يعنيه، فافهم جدًّا، واعمل لتكون عاقبتك خيرًا، انتهى من "روح البيان". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما احتوته هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - القرآن هداية، ورحمة للمؤمنين. 2 - قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوًا. 3 - وصف العالم العلوي والعالم السفلي، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله تعالى. 4 - قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه. 5 - الأمر بطاعة الوالدين، إلا فيما لا يرضي الخالق. 6 - النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد، إذا دعوا إلى النظر في الكون، وعبادة الخالق له. 7 - لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات إلى الله سبحانه. 8 - تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين. 9 - تعجيب رسوله من المشركين، بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء، ثم هم يعبدون معه غيره، ممن هو مخلوق مثلهم. 10 - نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها. 11 - الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه، لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها. 12 - تحميق المشركين بأنهم في الشدائد يدعون الله وحده، وفي الرخاء يشركون معه سواه. 13 - الأمر بالخوف من عقاب الله، يوم لا يجزي والد عن ولده.

14 - مفاتيح الغيب الخمسة، التي استأثر الله بعلمها. 15 - إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات، ظاهرها وباطنها (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما كتبناه على هذه السورة الكريمة، وقد فرغنا من تفسيرها قبيل ظهر يوم الأربعاء المبارك، اليوم الثاني من شهر شوال، من شهور سنة 2/ 10/ 1413 هـ. ألف وأربع مئة وثلاث عشرة سنة، من الهجرة النبوية، عليه أفضل الصلوات، وأزكى التحية.

سورة السجدة

سورة السجدة سورة السجدة وتسمى سورة المضاجع، مكية كلها كما رواه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، ورواه ابن مردويه عن ابن الزبير، وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: هي مكية، سوى ثلاث آيات. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} إلى تمام الآيات الثلاث، فمدنية، وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل: إلا خمس آيات من قوله. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} إلى قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. وآياتها: ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون (¬1) بناء على الاختلاف في أنّ آخر الآية: {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أو هو {كَافِرُونَ} فعلى الأول تكون ثلاثين آية، وعلى الثاني تكون تسعًا وعشرين. اهـ. "شيخنا". وكلماتها: ثلاث مئة وثمانون كلمة. وحروفها: ألف وخمس مئة وثمانية عشر حرفًا، نزلت بعد سورة المؤمنون. تسميتها: سميت بسورة السجدة لاشتمالها على آية السجدة. المناسبة: مناسبتها لما قبلها: أن الله (¬2) سبحانه وتعالى لما ذكر فيما قبلها دلائل التوحيد، من بدء الخلق، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة .. ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة. وعبارة المراغي هنا: ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه (¬3): ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

1 - اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية. 2 - أنه ذكر في السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث وهو النبوة. 3 - أن هذه السورة شرحت مفاتيح الغيب، التي ذكرت في خاتمة ما قبلها، فقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} شرح لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} شرح لقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} تفصيل لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} إيضاح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} إلخ شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. الناسخ والمنسوخ منها: قال ابن حزم: سورة السجدة جميع (¬1) آياتها محكمة غير آخرها، وهو قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)} (30) الآية. نسخت بآية السيف. فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه (¬2) مسلم وأصحاب "السنن" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}. وأخرجه البخاري وغيره أيضًا من حديثه، وأخرج أبو عبيد في فضائله، وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم، وصححه، وابن مردويه عن جابر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. وأخرج أبو نصر والطبراني والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة، قرأ في ¬

_ (¬1) ابن حزم. (¬2) الشوكاني.

الركعتين الأوليين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} - و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وفي الركعتين الأخيريين: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} - و {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة .. كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} - و {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، بين المغرب والعشاء الآخرة .. فكأنما قام ليلة القدر. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ في ليلة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، ويس و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .. كن له نورًا وحرزًا من الشيطان، ورفع في الدرجات إلى يوم القيامة". وأخرج ابن الضريس عن المسيب بن رافع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " {الم (1) تَنْزِيلُ} تجيء لها جناحان يوم القيامة، تظل صاحبها وتقول: لا سبيل عليه، لا سبيل عليه". قال الدارمي (¬1): وأخبرنا أبو المغيرة قال: حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرؤوا المنجية، وهي {الم (1) تَنْزِيلُ} فإنه بلغني أن رجلًا كان يقرؤها، ما يقرأ شيئًا غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرف جناحها عليه، وقالت: رب اغفر له، فإنه كان يكثر قراءَتي، فشفعها الرب فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنةً وارفعوا له درجة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) القرطبي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. المناسبة تقدم لنا بيان المناسبة بين السورة والسورة. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه لما أثبت الرسالة في الآية التي قبلها .. بين هنا ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد الله تعالى، وإقامة الأدلة على ذلك.

قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ...} مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الرسالة بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} والوحدانية بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلخ .. أردف ذلك ذكر البعث، واستبعاد المشركين له، ثم الرد عليهم. قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت (¬1) البعث والرجوع إليه .. بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدي الله تعالى أذلاء ناكسي رؤوسهم من الحياء والخجل، طالبي الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة؛ لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت في قضائه، وسبق في وعيده: أن جنهم تمتلىء من الجِنة والناس، ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار، جزاء ما عملتم في الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته. قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر علامة أهل الكفر، من طأطأة الرؤوس خجلًا وحياءً مما صنعوا في الدنيا، وذكر ما يلاقون من العذاب المهين يوم القيامة .. عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان, من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومجافاة جنوبهم للمضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، ثم أردفه ذكر ما يلاقون من نعيم مقيم، وقرة أعين، جزاءً لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم. أسباب النزول قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

البزار عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} وفي إسناده عبد الله بن شبيب ضعيف. وأخرج الترمذي وصححه عن أنس، إن هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وأخرج (¬1) البخاري في "تاريخه" وابن مردويه عنه: نزلت في صلاة العشاء. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضًا في الآية: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء. وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء. وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عنه أيضًا قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راقدًا قط قبل العشاء ولا متحدثًا بعدها، فإن هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نزلت في ذلك. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الم (1)}. قال البقلي - رحمه الله -: الألف إشارة إلى الإعلام، واللام إلى اللزوم، والميم إلى الملك، أعلم من نفسه أهل الكون لزوم العبودية عليهم، وملكهم قهرًا وجبرًا، حتى عبدوه طوعًا وكرهًا. اهـ. وفي "التأويلات النجمية": يشير (¬2) بالألف: إلى أنه ألف المحبون بقربتي فلا يصبرون عني، وألف العارفون بتمجيدي فلا يستأنسون بغيري، والإشارة في اللام, لأني لأحبائي مدخر لقائي، فلا أبالي أقاموا على صفائي، أم قصروا في وفائي، والإشارة في الميم: ترك أوليائي مرادهم لمرادي، فلذلك آثرتهم على جميع عبادي. اهـ. وهذا كله مما لا نقل ولا أصل له. وقال أهل التفسير: {الم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه السورة مسماة بـ {الم (1)}. 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} المتلو عليك يا محمد، وهو القرآن، في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[3]

هذا المقام وجوه من الإعراب، الأوجه الأنسب بما بعده، أنه مبتدأ، وجملة قوله {لَا رَيْبَ فِيهِ} ولا شك حال، من {الْكِتَابِ}؛ أي: حال كونه لا شك فيه عند أهل الاعتبار {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر المبتدأ، فان كونه من رب العالمين، حكم مقصود الإفادة، وإنما كان منه لكونه معجزًا، والضمير (¬1) في {فِيهِ}: عائد إلى مضمون الجملة. والمعنى: تنزيل الكتاب، كائن من رب العالمين، حال كونه لا ريب فيه؛ أي: في كونه منزلًا من رب العالمين, لأنه معجز للبشر؛ أي: إن الكتاب المتلو عليك يا محمد، لا ريب ولا شك في أنه منزل من رب العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر ولا كهانةٍ ولا أساطير الأولين. 3 - فلما أنكرت قريش كونه منزلًا من رب العالمين .. قال: {أَمْ} منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أ {يَقُولُونَ}؛ أي: أيقول أهل مكة {افْتَرَاهُ}؛ أي: افترى محمد هذا القرآن واختلفه من عند نفسه، لا ينبغي ولا يليق منهم هذا القول، فهذا القول منهم منكر متعجب منه، لغاية ظهور بطلانه. فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو معتقد الكفار، مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ، حيث قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب، فقال: {بَلْ هُوَ}؛ أي: هذا القرآن {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: ليس هو كما قالوا مفترًى، بل هو الحق من ربك. ونظم الكلام (¬2): أنه أشار أولًا إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارًا له، وتعجيبًا منه، ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله، وبين المقصود من تنزيله والعلة فيه فقال: {لِتُنْذِرَ} وتخوف يا محمد {قَوْمًا} هم العرب، والظاهر أن المفعول الثاني للإنذار: محذوف، ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البيضاوي.

و {قَوْمًا} هو الأول؛ أي: لتنذر قومًا العقاب. وجملة قوله: {مَا}: نافية {أَتَاهُمْ} وجاءهم {مِنْ}: زائدة {نَذِيرٍ} مخوف {مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: من قبل إنذارك، أو من قبل زمانك، جملة منفية في محل نصب صفة لـ {قَوْمًا}؛ أي: أنزله إليك لتنذر عذاب الله قومًا ما جاءهم منذر من قبلك {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} بإنذارك إياهم؛ أي: رجاء أن يهتدوا أو كي يهتدوا، والترجي معتبر من جهته - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لتنذرهم (¬1) راجيًا لاهتدائهم إلى التوحيد والإخلاص. وفي "الخازن": المراد بالقوم العرب؛ لأنهم كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت قريش أهل الفطرة، وأضل الناس وأحوجهم إلى الهداية، لكونهم أمةً أمية، وقال ابن عباس: يعني أهل الفترة، الذين كانوا بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. وفي الحديث: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: ليس بيني وبين عيسى نبي من العرب، أما إسماعيل عليه السلام، فكان نبيًا قبل عيسى، مبعوثًا إلى قومه خاصةً، وانقطعت نبوته بموته، وأما خالد بن سنان، فكان نبيًا بعد عيسى، ولكنه أضاعه قومه، فلم يعش إلى أن يبلغ دعوته، فعلم من هذا أن أهل الفطرة ألزمتهم الحجة العقلية, لأنهم كانوا عقلاء قادرين على الاستدلال، لكنهم لم تلزمم الحجة الرسالية. وعلم من قوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أن المقصود من البعثة تعريف طريق الحق، وكل يهتدي بقدر استعداده، إلا أن لا يكون له استعداد أصلًا، كالمصرين، فإنهم لن يقبلوا التربية والتعريف، وكذا من كان على جبلتهم إلى يوم القيامة. ألا ترى أن أبا جهل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصل إليه، لكن لما رآه بعين الاحتقار، وأنه يتيم أبي طالب، لا بعين التعظيم، وأنه رسول الله، ووصل إليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

وصول عناد وإنكار، لا وصول قبول وإقرار .. لم يصر جوهرًا للهداية، وهكذا حال ورثته من المصرين والمنكرين. ومعنى الآيتين: أن (¬1) هذا القرآن الذي أنزل على محمد، لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر ولا كهانة، ولا مما تخرصه محمد - صلى الله عليه وسلم - بل هو الحق والصدق من عند ربك، أنزله إليك لتنذر قومك بأس الله وسطوته، أن تحل بهم على كفرهم به، وأنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدًا لم يختلقه كما يزعمون، وفي هذا رد لقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}. 4 - {اللَّهُ}؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة أيها الناس، هو الإله {الَّذِي خَلَقَ} وأوجد {السَّمَاوَاتِ} السبع {وَالْأَرْضَ} على غير مثال سبق؛ أي: أبدع الأجرام العلوية والسفلية {وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: ما بين السماوات والأرض من السحاب والرياح وغيرهما؛ أي: خلقهما وما فيهما وما بينهما {فِي} مقدار {سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الدنيا، التي أولها الأحد وآخرها الجمعة، قاله (¬2) الحسن، وقيل: مقدار اليوم منها ألف سنة من سنين الدنيا، قاله الضحاك، فعلى هذا: المراد بالأيام هنا: هي من أيام الآخرة، لا من أيام الدنيا، أو المعنى: خلقهما (¬3) وما فيهما وما بينهما في ستة أطوارٍ في نظر الناظرين إليها, وليس المراد اليوم المعروف؛ لأنه قبل خلق السماوات لم يكن ليل ولا نهار، وإنما خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، بأن يقول لها: كوني فتكون، ليعلم عباده الرفق والتأني، والتثبت في الأمور وعدم العجلة، وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}. {ثُمَّ} بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما {اسْتَوَى}؛ أي: علا وارتفع سبحانه {عَلَى الْعَرْشِ} استواءٍ يليق بجلاله، لا يكيف ولا يمثل ولا يشبه؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

أي: نُثبِتُه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ونؤمن به ونعتقده على الوجه الذي يليق بجنابه، مع تنزيهه عما لا يجوز عليه من صفات النقص والحدوث {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقته، وكيفيته؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله عز وجل، فالصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ومن بعدهم من الأئمة، لم يشتبه أحد منهم فيه، وقال القرطبي: ليس {ثُمَّ} للترتيب في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بل هي بمعنى الواو. اهـ. وقال الإِمام مالك - رحمه الله -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال الإِمام أحمد - رحمه الله -: أخبار الصفات وأحاديثها وآياتها تمر كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل، فلا يقال: كيف ولم؟ نؤمن بأن الله سبحانه على العرش كيف شاء هو، وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحدها حاد، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل. وقال القرطبي: لم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقةً، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. اهـ. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن، وإحاطته بالسماوات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا، وقد قدمنا البحث عن هذا المقام بأبسط مما هنا في سورة الأعراف وطه الفرقان. {مَا لَكُمْ} يا أهل مكة {مِنْ دُونِهِ} تعالى {مِنْ وَلِيٍّ} يلي أموركم وناصر ينصركم بدفع عذابه عنكم {وَلَا} من {شَفِيعٍ} يشفعكم عنده تعالى، فينقذكم من عذابه، إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه؛ أي: ليس (¬1) لكم أيها الناس من يلي أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرًا، ولا يشفع لكم عنده إذ هو عاقبكم. والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليًا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

يَمنعكم ممن أراد بكم سوءًا، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم إذا هو أراد وقوعه بكم؛ لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. ثم أمرهم بالتذكر والتدبر في الأدلة فقال: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير (¬1): ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها، فالإنكار متوجه إلى عدم الاستماع وعدم التذكر، أو تسمعونها فلا تتذكرون بها، فالإنكار متوجه إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع. والفرق بين التذكر والتفكر (¬2): أن التفكر عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية، وأما التذكر: فهو عند رفع الحجاب والرجوع إلى الفطرة الأولى، فيتذكر ما انطبع في الأزل من التوحيد والمعارف. والمعنى (¬3): أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره تعالى، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس عن أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. 5 - ولما بين سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، وما بينهما .. بين تدبيره لأمرها فقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؛ أي: أمر الدنيا وشأنها وحالا، والأمور التي تقع فيها؛ أي: ينزّل قضاءه وقدره {مِنَ السَّمَاءِ} مدبرًا بوساطة الملائكة الموكلين بأمر الدنيا {إِلَى الْأَرْضِ} مدة دوام الدنيا. وروى (¬4) عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط، يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل صلوات الله عليهم وسلامه، فأما: جبريل، فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الإرشاد. (¬3) المراغي. (¬4) الفتوحات.

{ثُمَّ يَعْرُجُ} ويصعد الأمر المدبر من السماء، المفعول لأهل الأرض، ويرجع {إِلَيْهِ} تعالى التصرف في المخلوقات بالحشر والحساب ووزن الأعمال والتعذيب والتنعيم وغير ذلك، مما يقع في ذلك اليوم {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ}؛ أي: قدره وطوله {أَلْفَ سَنَةٍ}؛ أي: قدر ألف سنة {مِمَّا تَعُدُّونَ} في الدنيا من أيامها، وهو يوم القيامة. والمعنى: أي (¬1) ينتقل التصريف الظاهري من أيدي العبيد يوم القيامة، ويكون لله وحده ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}؛ أي: يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما كنا نعده في هذه الحياة. اهـ. "مراغي". فإن قلت: قال هنا: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وفي سورة المعارج: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فبين الآيتين معارضة من حيث العدد، فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: يجمع بينما بأن المراد من ذكر الألف، وذكر الخمسين: التنبيه على طوله، والتخويف منه، لا العدد المذكور بخصوصه. وقيل: يجمع بينهما: بأن موقف القيامة خمسون موقفًا، كل موقف ألف سنة، فهذه الآية بينت أحد المواقف، وآية {سأل} بينت المواقف كلها، وهذا القول هو الأقرب في الجمع، وقيل: يجمع بيهما: بأن العذاب مختلف، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة. وقيل معنى الآية (¬2): أي يدبر أمر الدنيا من السماء على عباده، ويصعد إليه آثار الأمر، وهي أعمالهم الصالحة، الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون عليهم؛ أي: على غير الملائكة، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة، فينزل في مسيرة خمس ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراح.

مئة سنة، ويعرج في مسيرة خمس مئة سنة، فهو مقدار ألف سنة. والمراد (¬1) بالألف على القول الأول الأرجح: الزمن المتطاول، وليس المقصود منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها, وليس هناك مرتبة فوقه، إلا ما يتفرع منه من أعداد مراتبها. قال القرطبي: المعنى: إن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر. وخلاصة معنى الآية على ما اختاره بعضهم - وهو الظاهر - أي (¬2): يدبر الله سبحانه وتعالى أمر الدنيا مدة أيام الدنيا، فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض، ثم يعود الأمر والتدبير إليه تعالى حين ينقطع أمر الأمراء، وحكم الحكام، وينفرد الله بالأمر في يوم؛ أي: يوم القيامة، كان مقداره ألف سنة؛ لأن يومًا من أيام الآخرة مثل ألف سنة من أيام الدنيا، كما قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فمعنى خمسين ألف سنة على هذا: أنه يشتد على الكافرين، حتى يكون كخمسين ألف سنة في الطول، ويسهل على المؤمنين، حتى يكون كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، فقيامة كل واحد على حسب ما يليق بمعاملته، ففي الحشر مواقف ومواطن بحسب الأشخاص من جهة الأعمال والأحوال والمقامات. وقد اختلف العلماء في تفسسير الآية على وجوه شتى، ضربنا عن ذكرها صفحًا؛ لأنه لا طائل تحتها، هذا ما سنح لي والعلم عند الله العلي. وقرأ ابن أبي عبلة: {يَعْرُجُ} بالبناء للمفعول، والجمهور: مبنيًا للفاعل، وقرأ الجمهور (¬3): {مِمَّا تَعُدُّونَ} بتاء الخطاب، وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش والحسن: بياء الغيبة بخلاف عن الحسن، وقرأ جناح بن حبيش: {ثُمَّ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[6]

تعرج الملائكة} بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه، لسقوطه في سواد المصحف. 6 - {ذَلِكَ}؛ أي: ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: عالم ما غاب عن المخلوقات، وعالم ما شوهد لهم، أو عالم الغيب؛ أي: الآخرة، والشهادة؛ أي: الدنيا، والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى لله سبحانه، باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، وهو مبتدأ خبره {عَالِمُ الْغَيْبِ}، وفي هذا معنى التهديد؛ لأنه تعالى إذا علم بما يغيب ويحضر .. فهو مجاز لكل عامل بعمله، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته. {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب القاهر، الذي لا يغالب على ما أراده، {الرَّحِيمُ} بعباده؛ أي: ذلك (¬1) الله العظيم الشأن، المتصف بالخلق والاستواء وانحصار الولاية والنصرة فيه، وتدبير أمر الكائنات، هو عالم ما غاب عن الخلق وما حضر لهم، ويدبر أمرهما حسبما يقتضيه الغالب على أمره، الرحيم بعباده في تدبيره، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي المصالح، تفضلًا وإحسانًا، لا إيجابًا، وهذه أخبار لذلك المبتدأ. 7 - وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: خبر آخر لذلك المبتدأ؛ أي: الذي جعل كل خلقه على وجه حسن في الصورة والمعنى، على ما يقتضيه استعداده، وتوجبه الحكمة والمصلحة، فالقبيح كالقردة والخنازير حسن في ذاته، وقبحه بالنظر إلى ما هو أحسن منه، لا في ذاته، طول رجل البهيمة والطائر وطول عنقهما، لئلا يتعذر عليهما ما لا بد لهما منه من قوتهما, ولو تفاوت ذلك لما يكن لهما معاش، وكذلك كل شيء من أعضاء الإنسان، مقدر لما يصلح به معاشه، فجميع المخلوقات حسنة، وإن اختلفت أشكالها وافترقت إلى حسن وأحسن، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها, ولذلك قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. اهـ. ¬

_ (¬1) روح البيان.

أيضًا (¬1): ذلك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنه الصدور وتخفيه النفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد في انتقامه ممن كفر به وأشرك معه غيره وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحًا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها. وقرأ زيد بن علي (¬2): {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بخفض الأوصاف الثلاثة، وأبو زيد النحوي: بخفض {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والتاليان وصفان له، ووجه الخفض: أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بـ {يَعْرُجُ}؛ أي: ثم يعرج إليه ذلك؛ أي: الأمر المدبر، ويكون {عَالِمُ} وما بعده: بدلًا من الضمير في {إِلَيْهِ}، وفي قراءة أبي زيد النحوي: يكون {ذَلِكَ عَالِمُ}: مبتدأ وخبرًا، و {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بالخفض بدلًا من الضمير في {إِلَيْهِ}. وقرأ الجمهور (¬3): {خَلَقَهُ} بفتح اللام، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بإسكانها، فعلى القراءة الأولى، هو فعل ماض نعتًا لـ {شَيْءٍ}، فهو في محل جر، وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه: الأول: أن يكون بدلًا من {كُلَّ شَيْءٍ} بدل اشتمال، والضمير عائد إلى {كُلَّ شَيْءٍ}، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة. الثاني: أنه بدل كل من كل، والضمير: راجع إلى الله سبحانه، ومعنى {أَحْسَنَ}: حسن؛ لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة، فكل المخلوقات حسنة. الثالث: أن يكون {كُلَّ شَيْءٍ}: هو المفعول الأول، و {خَلَقَهُ}: هو المفعول الثاني على تضمين {أَحْسَنَ} معنى أعطى، والمعنى: أعطى كل شيء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

خلقه الذي خصه به، وقيل على تضمينه معنى ألهم، قال الفراء: ألهم خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه. الرابع: أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ أي: خلقه خلقًا، كقوله: صنع الله، وهذا قول سيبويه، والضمير يعود إلى الله سبحانه. والخامس: أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه. ومعنى الآية: أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها، فهي متقنة محكمة، فتكون هذه الآية معناها: معنى أعطى كل شيء خلقه؛ أي: لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، ولم يخلق البهيمة على خلق الإنسان، وقيل: هو عام في اللفظ خاص في المعنى؛ أي: أحسن خلق كل شيء حسن، ذكره الشوكاني. قال بعضهم (¬1): لو تصورت مثلًا أن للفيل مثل رأس الجمل، وأن للأرنب مثل رأس الأسد، وأن للإنسان مثل رأس الحمار .. لو جدت في ذلك نقصًا كبيرًا، وعلمت عدم تناسب وانسجام، ولكنك إذا علمت أن طول عنق الجمل، وشق شفته ليسهل تناوله الكلأ عليه أثناء السير، وأن الفيل لولا خرطومه الطويل .. لما استطاع أن يبرك بجمسه الكبير لتناول طعامه وشرابه، لو علمت كل هذا لتيقنت أنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولقلت: تبارك الله أحسن الخالقين. ولما ذكر خلق السماوات والأرض .. شرع يذكر خلق الإنسان، فقال: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ}؛ أي: بدأ خلق آدم أبي البشر عليه السلام من بين جميع المخلوقات {مِنْ طِينٍ}؛ أي: من تراب، فصار على صورة بديعة وشكل حسن، والطين: التراب والماء المختلط، وقد يسمى بذلك وإن زال عنه قوة الماء، وقد يكون المعنى: إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله: منى، والمني من ¬

_ (¬1) أوضح التفاسير.

[8]

الغذاء، والأغذية إما: حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب، وهو الطين. وقرأ الجمهور (¬1): {بدأ} بالهمز، والزهري: بالألف بدلًا من الهمزة، وليس بقياس أن تقول في هذا: هذا، بإبدال الهمزة ألفًا، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين، على أن الأخفش حكى في قرأت، قريت ونظائره، وقيل هي لغة الأنصار، تقول في بدأ: بدي، بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي، فيحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة، أصله بدا ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار، وقال ابن رواحة: بِاسْمِ الإِلهِ وَبِهِ بَدَيْنَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِيْنَا 8 - {ثُمَّ جَعَلَ} وخلق {نَسْلَهُ}؛ أي: نسل الإنسان الذي هو آدم وذريته، {مِنْ سُلَالَةٍ}؛ أي: من نطفة مسلولة؛ أي: منزوعة من صلب الإنسان، ثم أبدل منها قوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}؛ أي: ثم خلق نسل آدم وذريته من ماء ضعيف حقير، أو من ماء ممتهن لا خطر له عند الناس، يخرج من بين الصلب والترائب، وهو المني؛ أي: ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك، من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب، في كل من الرجل والمرأة، كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتي إيضاح هذا عند تفسير قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}. 9 - {ثُمَّ سَوَّاهُ}؛ أي: سوى ذلك النسل وقومه وعدله، بتكميل أعضائه في الرحم، وتصويره على أحسن صورة، وقيل: المعنى: ثم سوى ذلك الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم أبو البشر، وعدل خلقه وسوى شكله، وناسب بين أعضائه، {وَنَفَخَ فِيهِ}؛ أي: في النسل الذي سواه في الرحم، أو في الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم، {مِنْ رُوحِهِ}؛ أي: من روح الله سبحانه وتعالى، والإضافة للتشريف والتكريم، وهذه (¬2) الإضافة تقوي: أن الكلام في آدم، لا في ذريته، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع؛ أي: ونفخ فيه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم، وأضاف الروح إلى نفسه تشريفًا وإظهارًا بأنه خلق عجيب، ومخلوق شريف، وأن له شأنًا له مناسبة إلى حضرة الربوبية، ولأجله قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وفي "الكواشي" جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى، ولذلك أضاف إليه، فصار بذلك حيًا حساسًا، بعد أن ان جمادًا، لا أن ثمة حقيقة نفخٍ. اهـ. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام (¬1): الروح: ليس بجسم يحل في البدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عرض يحل في القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود، والعلم في العالم، بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق أهل البصائر، فالتسوية عبارة عن فعل في المحل القابل، وهو الطين في حق آدم عليه السلام، والنطفة في حق أولاده، بالتصفية وتعديل المزاج، حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية، فيستعدّ لقبول الروح وإمساكها، والنفخ: عبارة عما اشتعل به نور الروح في المحلل القابل، فالنفخ سبب الاشتعال، وصورة النفخ في حق الله تعالى والمسبب غير محال، فعبر عن نتيجة النفخ وهو الاشتعال بالنفخ .. إلى آخر ما ذكره الشيخ. فإن قلت (¬2): قال هنا بلفظ: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} وفي المؤمنين بلفظ {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} فلم غاير بين الأسلوبين؟ قلت: لأن المذكور هنا صفة ذرية آدم، والمذكور هناك صفة آدم عليه السلام. ثم خاطب جميع النوع فقال: {وَجَعَلَ}؛ أي: خلق {لَكُمُ}؛ أي: لمنافعكم يا بني آدم {السَّمْعَ} لتسمعوا الآيات التنزيلية الناطقة بالبعث وبالتوحيد، وإفراد {السَّمْعَ} لكونه مصدرًا يشمل القليل والكثير. {وَالْأَبْصَارَ} لتبصروا الآيات التكوينية المشاهدة فيهما {وَالْأَفْئِدَةَ} لتعقلوا وتستدلوا بها على حقيقة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

الآيتين، جمع فؤاد بمعنى القلب، لكن إنما يقال: فؤاد: إذا اعتبر في القلب معنى التفؤد؛ أي: التوقد. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}؛ أي: تشكرون رب هذه النعم شكرًا قليلًا، على أن القلة بمعنى النفي والعدم، فهو بيان لكفرهم بتلك النعم وربها، وفي قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ} التفات من الغيبة في قوله: {وَنَفَخَ فِيهِ} إلى الخطاب، والنكتة: أن الخطاب إنما يكون مع الحي، فلما نفخ فيه الروح .. حسن خطابه. اهـ. "صاوي". وخص (¬1) {السَّمْعَ} بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم، ولهذا جمعا, لأن السمع قوة واحدة، ولها محل واحد، وهو الأذن، ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على رده، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض، بخلاف الأبصار، فمحلها العين، وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء، وكذلك الفؤاد، له نوع اختيار في إدراكه، فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا. والمعنى: أي وأنعم عليكم فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وجاء الترتيب (¬2) هكذا بتقديم السمع ثم البصر ثم الفؤاد، لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاثة أيام، ثم يبتدىء يبصر، ثم يبتدىء يدرك ويميز، كما هو مشاهد، ثم إن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران، إلا من رحم الله تعالى، فقال: {قَلِيلًا}؛ أي: شكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا تشكرون ربكم على هذه النعم، التي أنعم بها عليكم باستعمالها في طاعته، وعمل ما يرضيه، وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله، وتركهم لشكرها، إلا فيما ندر من الأحوال. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[10]

10 - {وَقَالُوا}؛ أي: وقال (¬1) كفار مكة، كأبي بن خلف وأضرابه من المنكرين للبعث بعد الموت: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أنبعث ويجدد خلقنا إذا متنا وغبنا في الأرض بالدفن فيها، وذهبنا عن أعين الناس، وصرنا ترابًا مخلوطًا بتراب الأرض، بحيث لا نتميز منه؟! و {الهمزة} فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، وذلك المحذوف هو العامل في {إذا}، و {الهمزة} في قوله: {أَإِنَّا} لتأكيد الإنكار السابق وتذكيره؛ أي: {أَإِنَّا} {لـ} نبعث ونكون {فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بعد موتنا وانعدامنا، ونصير أحياء كما كنا قبل موتنا، يعني هذا منكر عجيب، فإنهم كانوا يقرون بالموت ويشاهدونه، وإنما ينكرون البعث، فالاستفهام الإنكاري متوجه إلى البعث دون الموت، وقد تقدم اختلاف القراء في همزة {أَإِذَا ضَلَلْنَا} والتي بعدها. وقرأ الجمهور (¬2): {ضللنا} بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغة الشهيرة الفصيحة، وهي لغة نجد، وقرأ يحيي بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب، بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أهل العالية، وقرأ أبو حيوة {ضللنا} بالضاد المنقوطة، وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي، وقرأ علي وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد بن العاص صللنا بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه: أنتنّا، وعن الحسن: {صللنا} بكسر اللام، يقال: صل يصل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وصل يصل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وأصل يصل بالهمزة على وزن أفعل، وقال الفراء: معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة، وقال النحاس: لا نعرف في اللغة: صللنا, ولكن يقال أصل اللحم وصل، وأخم وخم: إذا أنتن، وحكاه غيره. والمعنى (¬3): أي وقال المشركون بالله، المكذبون بالبعث: أئذا صارت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

لحومنا وعظامنا ترابًا في الأرض، أنبعث خلقًا جديدًا. وخلاصة مقالهم: استبعاد الإعادة، بأنها كيف تعقل، وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت في أجزاء الأرض وهم قد قاسوا قدرة الخالق، الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم، بقدرة المخلوق العاجز، شتان ما بينهما {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}. ثم أضرب (¬1) وانتقل من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأهوال، فقال: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}؛ أي: ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله تعالى على ما يشاء فحسب، بل هم تعدوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم، حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم، ولقاء الله: عبارة عن القيامة وعن المصير إليه؛ أي: بل هم جاحدون بلقاء ربهم مكابرةً وعنادًا، فإن اعترافهم بأنه المبتدىء للخلق، يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة، فمن أنكر لقاء الله .. لقيه وهو عليه غضبان، ومن أقره .. لقي الله وهو عليه رحمن. 11 - {قُلْ} لهم يا محمد، بيانًا للحق، وردًا على زعمهم الباطل {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}؛ أي: يقبض أرواحكم ملك الموت عزرائيل، بحيث لا يترك منها شيئًا، بل يستوفيها، ويأخذها تمامًا على أشد ما يكون من الوجوه وأفظعها، من ضرب وجوهكم وأدباركم، أو يقبض أرواحكم بحيث لا يترك منكم أحدًا، ولا يبقي شخصًا من العدد الذي كتب عليهم الموت، وأما ملك الموت، فيتوفاه الله تعالى، كما روي: "أنه إذا أمات الله الخلائق، ولم يبق شيء له روح .. يقول الله لملك الموت: من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول: يا رب أنت أعلم بمن بقي، لم يبق إلا عبدك الضعيف ملك الموت، فيقول الله: يا ملك الموت قد أذقت أنبيائي ورسلي وأوليائي وعبادي الموت، وقد سبق في علمي القديم، وأنا علام الغيوب، أن كل شيء هالك إلا وجهي، وهذه نوبتك، فيقول: إلهي: ارحم ¬

_ (¬1) روح البيان.

عبدك ملك الموت، والطف به، فإنه ضعيف، فيقول سبحانه وتعالى: ضع يمينك تحت خدك الأيمن، واضطجع بين الجنة والنار ومت فيموت بأمر الله تعالى". وفي الآية (¬1): رد على الكافرين، حيث زعموا أن الموت من الأحوال الطبيعية، العارضة للحيوان بموجب الجبلة. {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}؛ أي: جعل موكلًا بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم {ثُمَّ} بعد موتكم {إِلَى رَبِّكُمْ} لا إلى غيره، {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تبعثون وتردون إلى لقاء ربكم للحساب والمجازاة فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ. وقرأ الجمهور (¬2): {ترجعون} مبنيًا للمفعول، وزيد بن علي: مبنيًا للفاعل. ومعنى الآية: أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم، يستوفي العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. وفي هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة، قادر على الإحياء. فإن قلت (¬3): إن الله تعالى أخبر هنا أن ملك الموت هو المتوفي والقابض، وفي آيةٍ أخرى: أن القابض هو الرسل؛ أي: الملائكة، وفي أخرى أنه هو تعالى، فما وجه الجمع بين هذه الآي؟ قلت: يجمع بينها: بأن ملك الموت يقبض الأرواح، والملائكة أعوان له يعالجون ويعملون بأمره، والله تعالى يزهق الروح، فالفاعل لكل فعل حقيقة، والقابض لأرواح جميع الخلائق هو الله تعالى، وأن ملك الموت وأعوانه وسائط. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[12]

قال ابن عطية: إن البهائم كلها يتوفى الله تعالى أرواحها دون ملك الموت، كأنه يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أن لهم نوع شرف بتصرف ملك الموت والملائكة معه في قبض أرواحهم. انتهى. 12 - والخطاب في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح له، وقال في "الكواشي": {لو} و {إذ} للماضي ودخلتا على المستقبل هنا؛ لأن المستقبل من فعله تعالى كالماضي، لتحقق وقوعه، و {لو} امتناعية، جوابها: محذوف، والمراد بالمجرمين: هم القائلون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} إلخ، أو عام لكل مجرم، والرؤية بصرية. والمعئى: ولو ترى يا محمد إذ المجرمون القائلون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ...} إلخ. {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ أي: مطرقوا رؤوسهم ومطأطئوها في موقف العرض على الله من الحياء والحزن والغم. وقرأ زيد بن علي: {نكسوا رؤوسهم} فعلًا ماضيًا ومفعولًا، وقرأ الجمهور: باسم فاعل مضافًا، حالة كونهم يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}؛ أي: صرنا ممن يبصر ويسمع، وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والمسموعة، وكنا من قبل عميًّا لا ندرك شيئًا {فَارْجِعْنَا}؛ أي: فارددنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ} عملًا {صَالِحًا} حسبما تقتضيه تلك الآيات {إِنَّا مُوقِنُونَ} الآن صدق الرسول، ومؤمنون بك وبكتابك، وجواب {لو}: محذوف كما مر، تقديره: لرأيت أمرًا عجيبًا، وشأنًا فظيعًا، فهذا (¬1) الأمر مستقبل في التحقيق، ماض بحسب التأويل، كأنه قيل: قد انقضى الأمر ومضى، لكنك ما رأيته، ولو رأيته لرأيت أمرًا فظيعًا. 13 - قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} مقول لقول محذوف، معطوف على قول مقدر قبل قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} تقديره: ونقول ردًا لقولهم ذلك: ولو شئنا؛ أي: ولو تعلقت ¬

_ (¬1) روح البيان.

مشيئتنا وإرادتنا تعلقًا فعليًا، بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان, والعمل الصالح بالتوفيق لها, {لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}؛ أي: لأعطيناها إياه في الدنيا، التي هي دار الكسب، فلم يكفر منهم أحد، وما أخرنا ذلك الإعطاء إلى دار الجزاء. قال النحاس في معنى هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة؛ أي: ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا. اهـ. {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}؛ أي: ثبت قضائي، وسبق وعيدي، وهو {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لأجعلن نار جهنم ملأى {مِنَ الْجِنَّةِ} بالكسر، جماعة الجن، والمراد: الشياطين وكفار الجن {و} من {النَّاسِ} الذين اتبعوا إبليس في الكفر والمعاصي {أَجْمَعِينَ} يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، هذا (¬1) هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول: أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا؛ لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم مما يختار الضلالة على الهدى؛ أي: ولولا ذلك .. لأكرمت كل نفس بالمعرفة والتوحيد. وقال بعضهم (¬2): {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}؛ أي: سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ ...} الآية. {لَأَمْلَأَنَّ ...} إلخ. وفي "التأويلات النجمية": {وَلَوْ شِئْنَا} في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة {لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} بإصابة رشاش النور على الأرواح {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قبل وجود آدم وإبليس {لَأَمْلَأَنَّ} إلخ؛ أي: ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم، كما تعلقت بإهداء قوم، وأردنا أن يكون للنار قطان، كما أردنا أن يكون للجنة سكان، إظهارًا لصفات لطفنا، وصفات قهرنا؛ لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفى، والنار وأهلها مظهر لصفات قهري، وإني فعال لما أريد. انتهى. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

فإن قلت (¬1): لم قدم الجن على الإنس في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}؟ قلت: قدمها لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله: {أَجْمَعِينَ} دخول جميع الإنس والجن فيها, لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، فالمعنى: لأملأنها من ذينك النوعين جميعًا، كما ذكره بعض المحققين، ورد: بأنه لو قصد ما ذكر .. كان المناسب التثنية دون الجمع، بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطابًا لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}، فتأمل. ومعنى الآيتين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ...} إلخ؛ أي (¬2): ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أننا لفي خلق جديد، ناكسي رؤوسهم عند ربهم، حياءً وخجلًا منه لما سلف منهم، من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول، وصدقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال .. لرأيت أمرًا فظيعًا، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. ثم ادعوا اطمئنان قلوبهم حينئذٍ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ}؛ أي: إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالًا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيي وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء، ونحو الآية قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ...} الآية. {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}؛ أي: ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[14]

تهتدي به إلى الإيمان, والعمل الصالح .. لفعلنا, ولكن تدبيرنا للخلق على نظمٍ كاملةٍ كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس في المرتبة التي هي أهل لها، بحسب استعدادها، كما توضع في الإنسان العين في موضع لا يصلح له الظفر، والإصبع والمعدة في موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} إلخ؛ أي: ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس، الذين هم أهل لها بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة، كما لا يعيش البعوض والذباب إلا في الأماكن القذرة، ليخلص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية .. ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاءً ولا منفعةً لهما. وهكذا هؤلاء، إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة في الجنة .. لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا كمثل السمك، الذي لا يعيش في البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش في البحر. 14 - فلما بين لهم أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا .. أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}، و {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه لا رجوع لكم إلى الدنيا، وأردتم بيان مآلكم .. فأقول لكم، ذوقوا. و {الباء}: في قوله: {بِمَا نَسِيتُمْ}: للسببية، أتى بها (¬1) إشارةً إلى أنه وإن سبق القول في حق التعذيب، لكنه كان بسبب موجبٍ من جانبهم أيضًا، فإن الله قد علم منهم سوء الاختيار، وذلك السبب هو نسيانهم لقاء هذا اليوم الهائل، وتركهم التفكر فيه، والاستعداد له بالكلية، بالاشتغال باللذات الدنيوية وشهواتها، فإن التوغل فيها يذهل الجن والإنس عن تذكر الآخرة وما فيها، من لقاء الله تعالى، ولقاء جزائه ويسلط عليهم نسيانها، وإضافة اللقاء إلى اليوم، كإضافة ¬

_ (¬1) روح البيان.

المكر في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ}؛ أي: لقاء الله في يومكم هذا. وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعومًا، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم؛ أي: فإذا دخلوا النار .. قالت لهم الخزنة: ذوقوها وجربوها بسبب نسيانكم وترككم الاستعداد للقاء ربكم في يومكم هذا، بترك الإيمان والطاعات. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنكم كنتم في الغفلة، والنائم لا يذوق ألم ما عليه من العذاب ما دام نائمًا، ولكنه إذا انتبه من نومه .. يذوق ألم ما به من العذاب، فالناس نيام، ليس لهم ذوق ما عليهم من العذاب، فإذا ماتوا انتبهوا، فقيل لهم: ذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}؛ أي: تركناكم في العذاب ترك المنسي بالكلية، استهانةً بكم، ومجازاةً لما تركتم، وفي "التأويلات النجمية": {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} من الرحمة، كما نسيتمونا من الخدمة. أي (¬1): فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه، ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}؛ أي: إنا سنعاملكم معاملة الناسي؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئًا، ولا يضل عنه شيء، وهذا أسلوب في الكلام، يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه قوله: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}؛ أي: ذوقوا وباشروا العذاب المخلد في جهنم، الدائم الذي لا ينقطع أبدًا، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، مثل عذاب الحريق، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبب الذي كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي، وهو تكرير (¬2) للأمر للتأكيد وإظهار الغضب عليهم، وتعيين المفعول المطوي للذوق، والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان، بل له أسباب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[15]

أخر، من فنون الكفر والمعاصي، التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا. أي: وذوقوا عذابًا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام، قال الشوكاني: واختلف (¬1) في النسيان المذكور، فقيل: هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر، وقيل: هو الترك، والمعنى على الأول: أنهم لم يعملوا لذلك اليوم، فكانوا كالناسين له، الذين لا يذكرونه، وعلى الثاني: لا بد من تقدير مضاف قبل لقاء؛ أي: ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد، وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام: إن النسيان هنا بمعنى الترك، قال يحيى بن سلام: والمعنى: بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، تركناكم من الخير، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب. انتهى. وقال الرازي في "تفسيره": إن (¬2) اسم الإشارة في قوله: {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إشارة إلى اليوم، وأن يكون إشارة إلى العذاب. انتهى. 15 - وجملة قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} (¬3): مستأنفة لبيان من يستحق الهداية إلى الإيمان, ومن لا يستحقها، تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إنكم أيها المجرمون لا تؤمنون بآياتنا, ولا تعملون بموجبها عملًا صالحًا، ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، و {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} ووعظوا {بِهَا}؛ أي: بآياتنا {خَرُّوا} وسقطوا على وجوههم حال كونهم {سُجَّدًا} لله سبحانه وتعالى؛ أي: ساجدين خوفًا من عذاب الله {وَسَبَّحُوا}؛ أي: نزهوه تعالى عن كل ما لا يليق به من الشرك والشبه والعجز عن البعث وغير ذلك، حال كونهم ملتبسين {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} على نعمائه، كتوفيق الإيمان والعمل الصالح وغيرهما. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الرازي. (¬3) الشوكاني.

والمعنى: قالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، أو: سبحان ربي الأعلى وبحمده، وقال سفيان: صلوا حمدًا لربهم، وجملة قوله: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: إما حال من فاعل: {خَرُّوا}؛ أي: خروا حال كونهم غير متكبرين عن السجود لله تعالى، كما استكبر أهل مكة، أو عطف (¬1) على صلة {الَّذِينَ}؛ أي: لا يتعظمون عن الإيمان والطاعة، كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها. وفي "التأويلات النجمية": {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن سجودك، كما استكبر إبليس أن يسجد لك إلى قبلة آدم، ولو سجد لآدم بأمرك .. لكان سجوده في الحقيقة لك، وكان آدم قبلة للسجود، كما أن الكعبة قبلة لنا في سجودنا لك. انتهى. قال بعضهم: وليس الإنسان بمعصوم عن إبليس في صلاته، إلا في سجوده, لأنه حينئذٍ يتذكر الشيطان معصيته فيحزن، ويشتغل بنفسه، ويعتزل عن المصلي، فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان، غير معصوم من النفس، فخواطر السجود، إما ربانية، أو ملكية، أو نفسية، وليس للشيطان عليه من سبيل، فإذا قام من سجوده .. غابت تلك الصفة عن إبليس، فزال حزنه واشتغل بك. فصل: هذا محل سجود بالاتفاق وهذه الآية من عزائم سجود القرآن، فيسن السجود عند تلاوتها للقارىء والمستمع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد، ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة. متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قرأ ابن آدم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

السجدة فسجد .. اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلتا، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" أخرجه مسلم. وينبغي (¬1) أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها، ففي هذه الآية يقول: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وكره مالك رحمه الله تعالى قراءة السجدة في قراءة صلاة الفجر جهرًا وسرًا، فإن قرأ هل يسجد؟ فيه قولان، كذا في "فتح الرحمن". قال في "خلاصة الفتاوى": رجل قرأ آية السجدة في الصلاة، إن كانت السجدة في آخر السورة، أو قريبًا من آخرها، بعدها آية أو آيتان إلى آخر السورة، فهو بالخيار، إن شاء ركع بها ينوي التلاوة، وإن شاء سجد ثم يعود إلى القيام فيختم السورة، وإن وصل بها سورة أخرى كان أفضل، وإن لم يسجد للتلاوة على الفور حتى ختم السورة، ثم ركع سجد لصلاته. سقط عنه سجدة التلاوة. انتهى. 16 - وجملة قوله: {تَتَجَافَى}؛ أي: ترتفع وتتنحى {جُنُوبُهُمْ}؛ أي: أضلاعهم {عَنِ الْمَضَاجِعِ}؛ أي: عن الفرش ومواضع النوم، إما مستأنفة مسوقة لبيان بقية محاسن المؤمنين، أو حال من فاعل {لَا يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: وهم لا يستكبرون عن السجود حالة كون جنوبهم متجافية مبتاعدة عن مضاجعهم للصلاة، وهم (¬2) المتهجدون في الليل، الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور، والمراد بالصلاة: صلاة التنفل بالليل من غير تقييد، وقال قتادة وعكرمة: هو التنفل ما بين المغرب والعشاء، وقيل: صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء، وقال الضحاك: صلاة العشاء والصبح جماعةً، وقيل: هم الذين يقومون لذكر الله، سواء كان في صلاة أو غيرها. وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال: يجافون جنوبهم إشارة إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

أن حال أهل اليقظة والكشف، ليس كحال أهل الغفلة والحجاب، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم، كأن الأرض ألقتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (¬1): أنه قال في الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}: كلما استيقظوا .. ذكروا الله عز وجل، إما في الصلاة، وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى. وجملة قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حال من ضمير {جُنُوبُهُمْ}؛ أي: تتجافى جنوبهم عن المضاجع، حال كونهم يدعون ربهم على الاستمرار {خَوْفًا} من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته منهم {وَطَمَعًا} في رحمته وثوابه، وانتصاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} على العلة، أو على المصدرية بعامل محذوف. وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}؛ أي: ومما أعطيناهم من المال {يُنْفِقُونَ}؛ أي: يصرفون في وجوه الخير والحسنات، معطوف على {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}. قال بعضهم (¬2): وهذا الإنفاق عام في الواجب والتطوع، وذلك على ثلاثة أضرب: زكاة من نصاب، ومواساة من فضل، وإيثار من قوت. ومعنى الآيتين (¬3): أي ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا، إلا الذين إذا وعظوا بها .. خروا لله سجدًا تذللًا واستكانة لعظمته، وإقرارًا بعبوديته، ونزهوه في سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر، من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعونها. ثم ذكر بقية محاسنهم بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} إلخ؛ أي: يتنحون عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[17]

مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفًا من سخطه وعذابه، وطمعًا في عفوه عنهم وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال، ينفقون في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه. 17 - {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلًا عمن عداهم, لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا تعلم نفس من النفوس؛ أي: نفس كانت {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}؛ أي: ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة من التجافي والدعاء والإنفاق. والمراد: لا تعلم نفس ما أخفي لهم علمًا تفصيليًا، وإلا فنحن نعلم ما أعد للمؤمنين من النعيم إجمالًا، من حيث إنه غرفٌ في الجنة وقصور وأشجار وأنهار وملابس ومآكل وغير ذلك، ذكره أبو السعود. ومحل الجملة: نصب بـ {لَا تَعْلَمُ} سدت مسد المفعولين {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}؛ أي: مما تقر به أعينهم، إذا رأوه، وتسكن به أنفسهم، وتطمئن إليه قلوبهم من النعيم واللذات، التي لم يطلع على مثلها أحد مما يحصل به الفرح. جوزوا ذلك {جَزَاءً} وفاقًا {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبب ما كانوا يعملون في الدنيا، من إخلاص النية وصدق الطوية في الأعمال الصالحة، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم. روى الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر،

ولا يعلم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وانه لفي القرآن: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذه عدة عظيمة، لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها، وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة، فلا نطيل الكلام بذكرها. وقرأ الجمهور (¬1): {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}، فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وحمزة والأعمش ويعقوب: بسكون الياء، فعلًا مضارعًا للمتكلم، وابن مسعود: {ما نخفى} بنون العظمة، والأعمش أيضًا: {أخفيت} وقرأ محمد بن كعب: {ما أخفي}، فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل، وقرأ الجمهور: {من قرة} على الإفراد، وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعوف العقيلي: {من قرات} على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش. الإعراب {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}. {الم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف، إن قلنا إنه علم على السورة، تقديره: هذه السورة: {الم (1)}؛ أي: مسماة به، والجملة مستأنفة، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}: مبتدأ، {لَا}: نافية للجنس، {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها، {فِيهِ}: خبرها، وجملة {لَا}: في محل النصب حال من {الْكِتَابِ}، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر {تَنْزِيلُ}، والجملة: مستأنفة، وهاهنا أعاريب آخر، ضربنا عنها صفحًا، لئلا يطول الكلام، وقد تقدم في أول البقرة ما يشبه هذا. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، {افْتَرَاهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {بَلْ}: حرف إضراب إبطال لإبطال قولهم، {هُوَ الْحَقُّ}: مبتدأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وخبر، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا، {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور حال من {الْحَقُّ}، {لِتُنْذِرَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تنذر}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {قَوْمًا}: مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، تقديره: لإنذارك قومًا، والمفعول الثاني: للإنذار، محذوف، والجار والمجرور: متعلق بمحذوف، تقديره: أنزلناه إليك لتنذر قومًا العقاب، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {مَا أَتَاهُمْ}: {مَا}: نافية. {أَتَاهُمْ}: فعل ومفعول به، {مِنْ}: زائدة، {نَذِيرٍ}: فاعل، والجملة: صفة {قَوْمًا}، {مِنْ قَبْلِكَ}: صفة لـ {نَذِيرٍ}، ويجوز أن يتعلق بـ {أَتَاهُمْ}، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَهْتَدُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. {اللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، {خَلَقَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول، {السَّمَاوَاتِ}: مفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه، {وَمَا}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {بَيْنَهُمَا}: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ {ما} الموصولة، {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: متعلق بـ {خَلَقَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، ولكنها هنا بمعنى الواو، {اسْتَوَى}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {خَلَقَ}، {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلق بـ {اسْتَوَى}، {مَا}: نافية، {لَكُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ دُونِهِ}: حال من {وَلِيٍّ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مِنْ}: زائدة، {وَلِيٍّ}: مبتدأ مؤخر، {وَلَا شَفِيعٍ}: معطوف على {وَلِيٍّ}، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ} أو {اسْتَوَى}، {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفلا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لا}: نافية، {تتذكرون}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل {اسْتَوَى}، {مِنَ السَّمَاءِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُدَبِّرُ}، و {مِنَ} للابتداء، {إِلَى الْأَرْضِ}: متعلق به أيضًا .. و {إِلَى} للانتهاء، {ثُمَّ يَعْرُجُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْأَمْرَ}، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَعْرُجُ}، والجملة الفعلية: حال من الأمر، أي: حال كون ذلك الأمر المدبر يرجع إليه، {فِي يَوْمٍ}: متعلق بـ {يَعْرُجُ} أيضًا، {كَانَ مِقْدَارُهُ}: فعل ناقص واسمه، {أَلْفَ سَنَةٍ}: خبره، وجملة {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {سَنَةٍ}، وجملة {تَعُدُّونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: مما تعدونه. {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)}. {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف على {الْغَيْبِ}. {الْعَزِيزُ}: خبر ثان لاسم الإشارة، {الرَّحِيمُ}: خبر ثالث له، {الَّذِي}: خبر رابع له، ويجوز أن يكون نعتًا لـ {عَالِمُ الْغَيْبِ}، أو رفعه أو نصبه على القطع، {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، {خَلَقَهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الجر صفة لـ {شَيْءٍ} أو في محل النصب صفة لـ {كُلَّ}، وقرىء: خلقه بسكون اللام، فيكون بدل اشتمال من {كُلَّ شَيْءٍ}، والضمير عائد على {كُلَّ شَيْءٍ} {وَبَدَأَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {أَحْسَنَ}. {خَلْقَ الْإِنْسَانِ}: مفعول به، {مِنْ طِينٍ}: متعلق بـ {خَلْقَ}. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {جَعَلَ نَسْلَهُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على

الله، ومفعول به معطوف على {بَدَأَ}، {مِنْ سُلَالَةٍ}: متعلق بـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى الخلق، أو في محل نصب على أنه مفعول ثان له، {مِنْ مَاءٍ}: صفة لـ {سُلَالَةٍ}، {مَهِينٍ} صفة لـ {مَاءٍ}. {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {سَوَّاهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ} إن كان الضمير لـ {الْإِنْسَانِ}، أو معطوف على {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} إن كان الضمير للنسل، {وَنَفَخَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {سَوَّاهُ}، {فِيهِ}: متعلق بـ {نفخ}، {مِنْ رُوحِهِ}: متعلق بـ {نفخ} أيضًا، أو مفعوله إن قلنا {مِنْ}: زائدة. {وَجَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {نفخ}، {لَكُمُ}: متعلق بـ {جعل}. {السَّمْعَ}: مفعول به لـ {جعل}، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}: معطوفان على {السَّمْعَ}، {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أو على الظرفية، والعامل فيه: {تَشْكُرُونَ}، {مَا}: زائدة، زيدت لتأكيد القلة، {تَشْكُرُونَ}: فعل وفاعل؛ أي: تشكرون شكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، والجملة الفعلية: مستأنفة. {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}. {وَقَالُوا}: {الواو}: استئنافية، {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، مسوقة لبيان ضروب من أباطيلهم، {أَإِذَا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، مقدمة على محلها, لأنها داخلة على جواب، {إذا} المقدر، تقديره: إذا ضللنا في الأرض أنبعث، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، {ضَلَلْنَا}: فعل وفاعل، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب

المحذوف، وجملة {إذا}: في محل النصب مقول {قالوا}، {أَإِنَّا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري أيضًا، {إنا}: ناصب واسمه، {لَفِي}: {اللام}: حرف ابتداء، {في خلق}: خبر {إن}، {جَدِيدٍ}: صفة {خَلْقٍ}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قالوا} أيضًا. {بَلْ}: حرف إضراب للإضراب الانتقالي من بيان كفرهم بالبعث، إلى ما هو أدل على قبح صنيعهم، {هُمْ}: مبتدأ، {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ}: متعلق بـ {كَافِرُونَ}. و {كَافِرُونَ}: خبرهم، والجملة: مستأنفة، {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، {يَتَوَفَّاكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، {مَلَكُ الْمَوْتِ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُلْ}، {الَّذِي}: في محل الرفع صفة لـ {مَلَكُ الْمَوْتِ}، {وُكِّلَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله: ضمير يعود على الموصول، {بِكُمْ}: متعلق بـ {وُكِّلَ}، والجملة: صلة الموصول، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {إِلَى رَبِّكُمْ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، و {تُرْجَعُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل معطوف على {يَتَوَفَّاكُمْ} على كونه مقولًا لـ {قُلْ}. {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لو}: حرف شرط غير جازم، {تَرَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، {الْمُجْرِمُونَ}: مبتدأ، {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}: خبر ومضاف إليه، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: حال من الضمير المستكن في {نَاكِسُو}، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه، والظرف: متعلق بـ {تَرَى} لتحقق وقوعه، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، وجعله أبو البقاء مما وقعت فيه، {إِذِ}: موقع إذا، و {تَرَى} بصرية، مفعولها محذوف، أغنى عنه المبتدأ، وجواب {لو}: محذوف، والتقدير: ولو ترى المجرمين وقت نكوسهم رؤوسهم عند ربهم .. لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، {أَبْصَرْنَا}: فعل وفاعل والمفعول محذوف؛ أي: صدق وعدك

ووعيدك، {وَسَمِعْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {أَبْصَرْنَا}، ومفعوله محذوف؛ أي: تصديق رسلك، وجملة {أَبْصَرْنَا}: جواب النداء، وجملة النداء مع جوابه: مقول لقول محذوف، منصوب على الحال من الضمير المستكن في {نَاكِسُو}، تقديره: ناكسوا رؤوسهم، حالة كونهم قائلين: ربنا أبصرنا وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحًا، {فَارْجِعْنَا}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {ارجعنا}: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري، مبني على السكون، وفاعله: ضمير يعود على الله، و {نا}: ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {أَبْصَرْنَا} وإن كانت إنشائية لجوازه، {نَعْمَلْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على المتكلمين، {صَالِحًا}: مفعول به، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {مُوقِنُونَ}: خبره، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}. {وَلَوْ} {الواو}: عاطفة لقول محذوف على قول محذوف عند قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}؛ أي: يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا، ونقول لهم: لو شئنا لآتينا كل نفس هداها في الدنيا إلخ، أو استئنافية، {لو}: حرف شرط، {شِئْنَا}: فعل وفاعل، والجملة؛ فعل شرط {لو}، {لَآتَيْنَا}: {اللام}: رابطة لجواب {لو}، {آتينا}: بمعنى أعطينا، فعل وفاعل، والجملة: جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية: في محل النصب مقول للقول المحذوف، أو مستأنفة، {كُلَّ نَفْسٍ}: مفعول أول لـ {أتينا}، {هُدَاهَا}: مفعول ثانٍ له. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك، {حَقَّ الْقَوْلُ}: فعل وفاعل، {مِنِّي}: متعلق بـ {حَقَّ}، أو حال من {الْقَوْلُ}: وجملة الاستدراك: معطوفة على جملة {وَلَوْ شِئْنَا}، {لَأَمْلَأَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أملأن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله: ضمير يعود على الله، {جَهَنَّمَ}: مفعول به، {مِنَ الْجِنَّةِ}: متعلق بـ {أملأن}،

{وَالنَّاسِ}: معطوف على {الْجِنَّةِ}، {أَجْمَعِينَ}: توكيد لـ {الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه: في محل الرفع بدل من القول، على كونه فاعلًا محكيًا، لـ {حَقَّ} بدل كل من كل. {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}. {فَذُوقُوا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {ذوقوا}: فعل أمر وفاعل، والمفعول: محذوف لدلالة ما بعده عليه؛ أي: فذوقوا العذاب، والجملة الفعلية: معطوفة مفرعة على جملة {حَقَّ الْقَوْلُ}، {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {نَسِيتُمْ}: فعل وفاعل، {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء} تقديره: فذوقوا العذاب بسبب نسيانكم لقاء يومكم هذا، الجار والمجرور: متعلق بـ {ذوقوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {نَسِينَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {فَذُوقُوا}: مؤكدة لها، {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: اسم موصول في محل الجربـ {الباء}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: بما كنتم تعملونه، والجار والمجرور: متعلق بـ {ذوقوا}. {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، {بِآيَاتِنَا}: متعلق به، {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة: مستأنفة، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {ذُكِّرُوا}: فعل ونائب فاعل، {بِهَا}: متعلق بـ {ذُكِّرُوا}، والجملة: في محل الخفض بضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق

بالجواب، {بِهَا} جار ومجرور متعلقان بـ {ذُكِّرُوا}. {خَرُّوا}: فعل وفاعل {سُجَّدًا}: حال من واو {خَرُّوا}، وجملة {خَرُّوا} جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب أيضًا، {وَسَبَّحُوا}: فعل وفاعل معطوف على {خَرُّوا}، {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل {سبحوا}؛ أي: يسبحوا حالة كونهم ملتبسين بحمد ربهم، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: {الواو}: حالية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {خَرُّوا} أو معطوفة على صلة {الَّذِينَ}. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. {تَتَجَافَى}: فعل مضارع، {جُنُوبُهُمْ}: فاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان بقية خصالهم الحميدة، أو حال من فاعل {سبحوا}، {عَنِ الْمَضَاجِعِ}: متعلق بـ {تَتَجَافَى}، {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب حال من ضمير {جُنُوبُهُمْ}؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه {خَوْفًا وَطَمَعًا}: منصوبان، إما: على التعليل، أو على الحال، أو على المصدرية لفعل محذوف؛ أي: يخافون خوفًا، ويطمعون طمعًا، {وَمِمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}، {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: ومما رزقناهموه {يُنْفِقُونَ}، فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {تَتَجَافَى} على كونها مستأنفة. {فَلَا تَعْلَمُ}: {الفاء}: استئنافية أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت الخصال الحميدة المذكورة لهؤلاء، وأردت معرفة جزائهم عند الله تعالى .. فأقول لك: لا تعلم نفس، {لا}: نافية، {تَعْلَمُ نَفْسٌ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة؛ {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، لـ {تَعْلَمُ}؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، {أُخْفِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {ما}، والجملة: صلة الموصول، {لَهُمْ}؛ متعلق بـ {أُخْفِيَ}، {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}: جار ومجرور حال من

نائب فاعل {أُخْفِيَ}. {جَزَاءً}: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: جوزوا ذلك جزاءً، والجملة المحذوفة: مستأنفة على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {جَزَاءً}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: يعملونه. التصريف ومفردات اللغة {افْتَرَاهُ}؛ أي: افتعله واختلقه من عند نفسه. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: التدبير: التفكر في دبر الأمور، والنظر في عاقبتها، وهو بالنسبة إليه تعالى التقدير: وتهيئة الأسباب، وله تعالى مدبرات سماوية كما قال: {فالمدبرات أمرًا}. والمعنى: يدبر الله تعالى أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها. وأضاف التدبير إلى ذاته، إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره لا أثر له. {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} العروج: ذهاب في صعود، من عرج بفتح الراء، يعرج بضمها، من باب نصر، إذا صعد؛ أي: يصعد ذلك الأمر إليه تعالى، ويثبت في علمه موجودًا بالفعل. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم، كما قال الشاعر: يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيوْمُ سَيْرٍ إِلَى الأَعْدَاءِ تَأْوِيْبُ فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم شطرين، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم. {الْغَيْبِ}: ما غاب عن الخلق.

{وَالشَّهَادَةِ}: ما شوهد لهم. {الْعَزِيزُ}: الغالب على أمره، الذي لا يغالب على ما أراده. {الرَّحِيمُ}: المنعم على عباده. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: قال الراغب: الإحسان: يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان. والثاني: إحسان من فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا، وعلى هذا قول أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: الناس على ما يحسنون؛ أي: منسوبون إلى ما يعلمون من الأفعال الحسنة. انتهى. {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ}؛ أي: خلق آدم أبي البشر عليه السلام. {مِنْ طِينٍ}: الطين: التراب والماء المختلط. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ}؛ أي: ذريته، سميت به لأنها تنسل من الإنسان؛ أي: تنفصل، كما قال في "المفردات": النسل الانفصال من الشيء، والنسل: الولد، لكونه ناسلًا عن أبيه. انتهى. {مِنْ سُلَالَةٍ}؛ أي: من نطفة مسلولة؛ أي: منزوعة من صلب الإنسان. {مَهِينٍ}؛ أي: ضعيف حقير، كما في "القاموس". {ثُمَّ سَوَّاهُ}؛ أي: قوم النسل بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي. {وَالْأَفْئِدَةَ}: جمع فؤاد، بمعنى: القلب، لكن إنما يقال: فؤاد، إذا اعتبر في القلب معنى التفؤد؛ أي: التوقد، كما مرّ. {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ}: قال في "القاموس": ضل صار ترابًا وعظامًا وخفي وغاب. انتهى. وأصله: ضل الماء في اللبن: إذا غاب وهلك. والمعنى: هلكنا وصرنا ترابًا مخلوطًا بتراب الأرض، بحيث لا يتميز منه،

أو غبنا فيه بالدفن، وذهبنا عن أعين الناس. {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}: التوفي: أخذ الشيء تامًا وافيًا، واستيفاء العدد، قال في "الصحاح": توفاه الله: قبض روحه، والوفاة: الموت، والملك: جسم لطيف نوراني، يتشكل بأشكال مختلفة، قال بعض المحققين: المتولي من الملائكة شيئًا من السياسة، يقال له: ملك بالفتح، ومن البشر يقال له: ملك بكسر اللام، فكل ملك ملائكة، وليس كل ملائكة ملكًا، بل الملك هم المشار إليهم بقوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ}، {فَالْمُقَسِّمَاتِ}، {وَالنَّازِعَاتِ}: ونحو ذلك، ومنه ملك الموت. انتهى. والموت: صفة وجودية، خلقت ضدًا للحياة. {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} التوكيل: أن تعتمد على غيرك، وتجعله نائبًا عنك، والتوكل: أن تكون نائبًا عن غيرك. فائدة في التفعل والاستفعال: قال الزمخشري: والتوفي: استيفاء النفس، وهي الروح، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}. وإن قلت: كيف نفسر التوفي بالاستيفاء؟ قلت: إنه معلوم أن التفعل فيما يلي: 1 - مطاوعة الرباعي المضعف، نحو نبهته فتنبه، وجمعته فتجمع، وكسرته فتكسر، وقطعته فتقطع. 2 - التكلف: نحو تصبر وتكرم وتشجع؛ أي: تكلف الصبر والكرم والشجاعة. 3 - الاتخاذ: نحو توسد ذراعه؛ أي: اتخذه وسادةً، وتورك البعير؛ أي: اتخذ وركه مطية، وتبنيت يوسف؛ أي: اتخذته ابنًا. 4 - التجنب: نحو تأثم؛ أي: تجنب الإثم، وتهجد؛ أي: تجنب الهجود وهو النوم، وتذمم؛ أي: تجنب الذم. 5 - التدريج: نحو تحفظت الدرس؛ أي: حفظته قسمًا بعد قسم، وتجرعت

الدواء؛ أي: أخذته جرعةً. 6 - الصيرورة: نحو تأيمت المرأة؛ أي: صارت أيمًا؛ أي: لا زوج لها. 7 - الطلب نحو تعجل الشيء؛ أي: طلب عجلته، وتبينه؛ أي: طلب بيانه. 8 - الانتساب نحو تبدى؛ أي: انتسب إلى البادية. وأشهر معاني الاستفعال ما يأتي: 1 - الطلب: نحو استقدمت فلانًا؛ أي: طلبت قدومه، واستخرجت حل المسألة؛ أي: حصلت عليه بعد طلبٍ. 2 - الصيرورة: نحو استحجر الطين؛ أي: صار حجرًا، واستنوَق الجمل؛ أي: صار كالناقة، واسترجلت المرأة؛ أي: صارت كالرجل. 3 - النسبة: نحو استوصبت رأيه؛ أي: أي نسبت إليه الصواب، واستقبحت فعله؛ أي: نسبت إليه القبح. 4 - اختصار اللفظ: نحو استرجع القوم؛ أي: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. 5 - القوة: نحو استهتر؛ أي: اشتد هتاره، واستكبر؛ أي: قوي كبره، وقد تأتي هذه الصيغة بمعنى أفعل، نحو استجاب بمعنى أجاب، وقد تكون مطاوعًا له، نحو أحكمت البناء، فاستحكم، وأقمت اعوجاجه فاستقام. {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} النكس: قلب الشيء على رأسه؛ أي: مطرقوا رؤوسهم. {خَرُّوا سُجَّدًا} قال في المفردات: خر الشيء إذا سقط سقوطًا، وسمع منه خرير، والخرير: يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من العلو، فاستعمال الخرور في الآية تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وقوله: بعد {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تنبيه على أن ذلك الخرير كان تسبيحًا بحمد الله، لا شيئًا آخر. انتهى.

{تَتَجَافَى} التجافي: النبوّ والبعد. أخذ من الجفاء، فإن من لم يوافقك ... فقد جافاك، وتجنب وتنحى عنك. {جُنُوبُهُمْ}: جمع جنب، وهو شق الإنسان وغيره. {عَنِ الْمَضَاجِعِ}: جمع مضجع، كمقعدٍ، بمعنى: موضع الضجوع؛ أي: وضع الجنب على الأرض، قال عبد الله بن رواحة: وَفِيْنَا رَسوْلُ اللهِ يَتْلُوْ كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوْفٌ مِنْ الصُّبْحِ سَاطِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوْبُنَا ... بِهِ مُوْقِنَاتٌ مَا إِذَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيْتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتَ بِالْمُشْرِكِيْنَ الْمَضَاجِعُ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}؛ أي: خبىء لهم. {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}: القرة: بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ما يحصل به القرير؛ أي: الفرح والسرور؛ أي: من شيء نفيس تقربه أعينهم وتسر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {تنذر} - و {نَّذِيرٍ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. وفي قوله: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. ومنها: إطلاق المعين، وإرادة المطلق، في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} لأن المراد هنا: مطلق المدة، لا اليوم الذي هو بين ليلتين. ومنها: الطباق بين {الْغَيْبِ} {وَالشَّهَادَةِ}، وبين {خَوْفًا} {وَطَمَعًا}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}: مثل ناقة الله، وبيت الله، إظهارًا بأنه خلق عجيب ومخلوق شريف. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} والأصل وجعل له السمع، والنكتة: أن الخطاب إنما يكون مع الحي، فلما نفخ

تعالى الروح فيه .. حسن خطابه مع ذريته. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وغرضهم: الاستهزاء والاستبعاد. ومنها: الإضمار في قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}؛ أي: يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} لأن المتوفي حقيقة: هو الله سبحانه وتعالى. ومنها: الاختصاص في قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}؛ أي: إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة. ومنها: حذف جواب {لو} للتهويل، في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}؛ أي: لرأيت أمرًا مهولًا. ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية، في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} حيث لم يقل ولو ترى إذ ينكس المجرمون رؤوسهم، عدل عن الفعلية إلى الاسمية، لتقرير ثباتهم على نكس رؤوسهم، خجلًا وحياءً وخزيًا عندما تبدو مثالبهم، وهناتهم بصورة دميمة شوهاء، تبعث على الهزء بهم، والسخرية منهم، كأنما استمر ذلك منهم لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف. وكذلك عدل عن الفعلية إلى الاسمية المؤكدة في قوله: {إِنَّا مُوقِنُونَ}؛ أي: إنهم ثابتون على الإيقان، راغبون فيه، بعد أن ظهرت لهم المغاب، مناديةً عليهم بالويل والثبور. ومنها: المشاكلة في قوله: {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} وهي الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى؛ لأن الله سبحانه لا ينسى ولا يذهل، وإنما المعنى: نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي المرمي ظهريًا. ومنها: التهكم في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} لأن الذوق حقيقة في الشيء اللذيد.

ومنها: التكرار في قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} للتأكيد والتشديد، ولتبيين المفعول المطوي للذوق الأول، وللإشعار بأن سببه ليس مجرد النسيان، بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا .. اهـ. "أبو السعود". ومنها: الكناية عن كثرة العبادة والتبتل ليلًا في قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} حيث أسند التجافي إلى الجنوب، ولم يقل يجافون جنوبهم، إشارةً إلى أن حال أهل اليقظة ليس كحال أهل الغفلة، فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة، ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم كأن الأرض ألقتهم من نفسها، وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك، كما سبق. ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته للتأكيد، في قوله: {عَذَابَ الْخُلْدِ} مثل عذاب الحريق؛ لأن المعنى العذاب المخلد. ومنها: التنكير في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} لقصد العموم؛ أي: أي نفس كانت من ملك مقرب، ونبي مرسل. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا}؛ أي: ما يؤمن بآياتنا إلا الذين إذا ذكروا بآيات ربهم إلخ. ومنها: حذف العامل في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لقصد الإيجاز؛ أي: جوزوا جزاءً بما كانوا إلخ. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}. المناسبة قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (¬1) حال المجرمين والمؤمنين .. عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوي الفريقان؛ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث .. عاد في آخرها إلى ذكرها مرةً أخرى. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن ¬

_ (¬1) المراغي.

الله سبحانه لما ذكر الرسالة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ...} أعاد هنا ذكر التوحيد، مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما أثبت الرسالة والتوحيد فيما سبق .. عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقًا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة في أولها بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} وفي آخرها بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وذكر التوحيد في أولها بقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وفي آخرها بقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} وذكر الحشر في أولها بقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} وفي آخرها بقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}. أسباب النزول {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الواحدي، وابن عساكر، عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سنانًا، وأنشط منك لسانًا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق فنزلت: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله. وأخرج ابن عدي، والخطيب في "تاريخه" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله. وأخرج الخطيب وابن عساكر، من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط، وذلك في سباب كان بينهما، كذا في هذه الرواية: أنها نزلت في عقبة بن الوليد لا الوليد. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ ...} الآية، سبب نزولها: ما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[18]

أخرجه ابن جرير عن قتادة، قال الصحابة: إن لنا يومًا يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فنزلت هذه الآية. التفسير وأوجه القراءة 18 - {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا}؛ أي: مصدقًا في إيمانه، كعلي بن أبي طالب وأضرابه {كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} أي: كافرًا منافقًا في إيمانه كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وأضرابه. وفي "السمين" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعمد الوقف على قوله: {فَاسِقًا} ويبتدىء بقوله: {لَا يَسْتَوُونَ}؛ أي: الفريقان: المؤمنون والفاسقون في الدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالثواب والكرامة عند الله تعالى، وكان بينهما كلام وتنازع، حتى قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يا فاسق، وفي "الكرخي": {لَا يَسْتَوُونَ}؛ أي: شرفًا ومثوبةً، والضمير في {يَسْتَوُونَ} لمن الواقعة على الفريقين، وفيه مراعاة لمعنى {من} بعد مراعاة لفظها. وعبارة "أبي السعود": قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} ... إلخ. الهمزة فيه: للإنكار، داخلة على مقدر؛ أي: أفبعدما بينهما من التفاوت والتباين، يتوهم كون المؤمن من الذي حكيت أوصافه، كالفاسق الذي ذكرت أحواله، لا، والتصريح بقوله: {لَا يَسْتَوُونَ} مع إفادة الإنكار، لنفي المساواة على أبلغ وجه وآكده للتأكيد، وليبني عليه التفصيل الآتي. انتهت. فالاستفهام للإنكار؛ أي: ليس المؤمن كالفاسق، فقد ظهر ما بينهما من التفاوت، ولهذا قال: {لَا يَسْتَوُونَ}، ففيه زيادة تصريح لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام، قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: {لَا يَسْتَوُونَ} لأجل معنى {من}، وقيل: لكون الاثنين أقل الجمع. والمعنى: أي فهذا الكافر المكذب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله، المصدق ووعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه، كلا، لا يستوون عند الله، ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.

[19]

وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بين، يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه، كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا، إن الفصل بينهما لا يخفى على ذي عينين. ونحو الآية قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}. وقوله: 19 - {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية. وبعد أن نفى استواءهما، أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل، فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله وصدقوهما {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: عملوا الأعمال الصالحة، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى}؛ أي: مساكن فيها البساتين والدور والغرف العالية. وفي "الإرشاد" (¬1) أضيفت الجنة إلى المأوى؛ لأنها الفتاوى الحقيقي، وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، ولذلك سميت قنطرةً؛ لأنها معبر للآخرة لا مقر، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: جنة المآوى كلها من الذهب، وهي إحدى الجنان الثمان، التي هي دار الجلال، ودار القرار، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. وقرأ الجمهور: {جَنَّاتُ} بالجمع. حالة كون تلك الجنات {نُزُلًا}، لهم؛ أي: ثوابًا وأجرًا يكرمون به، كما يكرم الضيف بما يعد له من الطعام النفيس، والنزل، بضمتين في الأصل: ما يعد للنازل والضيف من طعام وشراب، كما سيأتي، ثم صار عامًا في كل عطاء؛ أي: فلهم جنات المأوى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبب أعمالهم الحسنة، التي عملوها في الدنيا نزلًا وجزاءً لهم عليها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[20]

وقرأ الجمهور (¬1): {نزلا} بضم الزاي، وأبو حيوة: بإسكانها، والنزل: عطاء النازل، ثم صار عامًا فيما يعد للضيف 20 - {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا}؛ أي: خرجوا عن دائرة الإيمان والطاعة، بإيثار الكفر والمعصية عليهما، {فَمَأْوَاهُمُ}؛ أي: منزلهم ومقرهم ومرجعهم، الذين يصيرون إليه، ويستقرون فيه هو {النَّارُ} بدل جنات المأوى للمؤمنين {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا}؛ أي: من النار. {أُعِيدُوا فِيهَا}؛ أي: في النار بمقامع الحديد؛ أي: إذا أرادوا الخروج منها .. ردوا إليها راغمين مكرهين، وهذا عبارة عن الخلود فيها، فإنه لا خروج ولا إعادة في الحقيقة، وقيل: إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها .. ردوا إلى مواضعهم، ويروى: أنه يضربهم لهيب النار، فيرتفعون إلى طبقاتها، حتى إذا قربوا من بابها، وأرادوا أن يخرجوا منها .. يضربهم لهيب النار، أو تتلقاهم الملائكة بمقامع، فتضربهم فيهوون إلى قعرها سبعين خريفًا، وهكذا يفعل بهم أبدًا، وكلمة {في} للدلالة على أنهم مستقرون فيها، وإنما الإعادة من بعض طبقاتها إلى بعض. {وَقِيلَ لَهُمْ} والقائل (¬2) لهم هذه المقالة، هم خزنة جهنم من الملائكة، أو القائل لهم هو الله سبحانه جلّ وعلا، وفي هذا القول لهم، حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة ما لا يخفى؛ أي: وقيل لهم إهانةً وتشديدًا عليهم، وزيادة في غيظهم: {ذُوقُوا} وباشروا {عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ}؛ أي: بعذاب النار {تُكَذِّبُونَ} على الاستمرار في الدنيا، وتقولون: لا جنة ولا نار. قال في "برهان القرآن": قال هنا (¬3): {عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ}. وقال في سبأ: {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا} لأن النار في هذه السورة، وقعت موقع الكناية، لتقدم ذكرها، والكنايات لا توصف بوصف العذاب، وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار، فحسن وصف النار، وهذه لطيفة فاحفظها. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) برهان القرآن.

[21]

وقال في "فتح الرحمن" (¬1) ذكر الوصف والضمير هنا، نظرًا للمضاف، وهو، العذاب، وأنثهما ثم نظرًا للمضاف إليه، وهو: النار، وخص ما هنا بالتذكير؛ لأن النار وقعت موقع ضميرها لتقدم ذكره، والضمير لا يوصف، فناسب التذكير، وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار، ولا ضميرها فناسب التأنيث. انتهى. 21 - ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا؛ لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلًا أو آجلًا، فقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ}؛ أي: أهل مكة {مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}؛ أي (¬2): الأقرب، وهو عذاب الدنيا، وهو ما محنوا به من القحط سبع سنين، بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين بالغوا في الأذية، حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام المحترقة والعلهز، وهو الوبر والدم، بأن يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وكذا ابتلوا بمصائب الدنيا وبلاياها، مما فيه تعذيبهم، حتى آل أمرهم إلى القتل والأسر يوم بدر، {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}؛ أي: قبل العذاب الأكبر، الذي هو عذاب الآخرة، فـ {دُونَ} بمعنى قبل. {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل من بقي منهم وشاهده، ولعل في مثل هذا بمعنى كي {يَرْجِعُونَ} ويتوبون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة، ويتوبون عما كانوا فيه. والمعنى: أي وعزتي وجلالي (¬3)، لنبتلينهم بمصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظةً لهم، ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة. 22 - ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} الاستفهام: إنكاري، بمعنى ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[23]

النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا {مِمَّنْ ذُكِّرَ} ووعظ {بِآيَاتِ رَبِّهِ}؛ أي: بالقرآن، {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}؛ أي: عن تلك الآيات، فلم يتفكر فيها, ولم يقبلها, ولم يعمل بموجبها، بل تناساها كأنه لا يعرفها, لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، فجعل الإعراض مكان ذلك. والإتيان (¬1) بـ {ثُمَّ} لاستبعاد الإعراض عنها، مع غاية وضوحها، وإرشادها إلى سعادة الدارين، كقولك لصاحبك: دخلت المسجد، ثم لم تصل فيه، استبعادًا لتركه الصلاة فيه. والمعنى: هو أظلم من كل ظالم، وإن كان سبك التركيب على نفي الأعظم من غير تعرض لنفي المساوي. ثم بين جزاءه على ذلك فقال: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: من كل من اتصف بإجرام، وإن هانت جريمته {مُنْتَقِمُونَ} بالعذاب، فكيف من كان أظلم من كل ظالم، وأشد جرمًا من كل مجرم، يقال: انتقمه: إذا عاقبه على جريمته؛ أي: إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي، روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثلاث من فعلهن .. فقد أجرم، من عقد لواءً في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره، يقول الله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ". واعلم: أن الظلم أقبح الأمور، ولذلك حرمه الله على نفسه، فينبغي للعاقل أن يتعظ بمواعظ الله، ويتخلق باخلاقه، ويجتنب عن أذية الروح - بموافقة النفس والطبيعة - وأذية عباد الله تعالى. 23 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا وأعطينا موسى بن عمران التوراة، كما آتيناك القرآن {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك {مِنْ لِقَائِهِ}؛ أي (¬2): من لقائك موسى عليه السلام ليلة المعراج، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

وقرأ الحسن: {فِي مِرْيَةٍ} بضم الميم، ذكره أبو حيان. عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت ليلة أسري بي موسى رجلًا آدم طوالًا جعدًا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلًا مربوعًا، مربوع الخلق، إلى الحمرة وإلى البياض، سبط الشعر، ورأيت مالكًا خازن النار، والدجال في آيات أراهن الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه". متفق عليه. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي، عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره". أخرجه مسلم. فإن قلت: قد صحّ في حديث المعراج: أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات، فكيف الجمع بين هذين الحديثين؟ قلت: يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر كان قبل صعوده إلى السماء، وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد إلى السماء السادسة .. وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير. فإن قلت: كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت، وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة، وليست دار عمل؟ وكذلك رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الأنبياء وهم يحجون، فما الجواب عن هذا؟ قلت: يجاب عنه بأجوبة: منها: أن الأنبياء كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا، وإن كانوا قد ماتوا, لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار، التي هي دار العمل، إلى أن تفنى، ثم يرحلون إلى دار الجزاء، التي هي الجنة. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم، ومثلوا له كيف كانوا، وكيف كان حجهم وصلاتهم. ومنها: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة، لكن الذكر والشكر

والدعاء لا يرتفع، قال الله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} إلى غير ذلك. وقيل: معنى {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}؛ أي (¬1): من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول، وعبارة النسفي هنا: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}؛ أي (¬2): من لقاء موسى الكتاب، أو من لقائك موسى ليلة المعراج، أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى ربه في الآخرة، كذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وعبارة، "المراح": {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}؛ أي: فلا تكن يا أشرف الخلق في شك من لقاء الكتاب الذي هو القرآن؛ أي: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، فلا تكن في شك من أنك لقيت نظيره. اهـ. كذا في "البيضاوي". وقيل المعنى (¬3): فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، فإنا ألقينا عليه التوراة، وهذا المعنى هو الذي يستدعيه ترتيب الفاء على ما قبلها. فإن قلت (¬4): ما معنى النهي وليس له - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شك أصلًا؟ قلت: فيه تعريض للكفار بأنهم في شك من لقائه، إذ لو لم يكن لهم فيه شك .. لآمنوا بالقرآن، إذ في التوراة وسائر الكتب الإلهية ما يصدق القرآن من الشواهد والآيات، فإيتاء الكتاب ليس ببدع حتى يرتابوا فيه، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. وعبارة "المراغي" هنا: أي (¬5) ولقد آتينا موسى التوراة، مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحي، مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن في شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل، كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}. وذكر موسى من بين سائر الرسل، لقرب عهده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووجود من كان على دينه بينهم، إلزامًا لهم، ولم يذكر عيسى؛ لأن اليهود ما كانوا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان. (¬5) المراغي.

[24]

يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه. وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لما أتى بكل آية، وذكرهم، وأعرض قومه عنها .. حزن حزنًا شديدًا، فقيل له: تذكر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقي مثل ما لقيت، وأوذي كما أوذيت، فإن من لم يؤمن به .. آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بني إسرائيل آذوه أيضًا بالمخالفة له، كقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به. {وَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: وجعلنا الكتاب الذي آتيناه موسى، أو جعلنا موسى، فالضمير إما للكتاب أو لموسى {هُدًى} مرشدًا {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} من الضلالة إلى طريق الهدى، كما جعلناك مرشدًا لأمتك؛ لأنه أنزل إليهم وهم متعبدون به دون بني إسماعيل، وعليهم يحمل الناس في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}. ونحو الآية قوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}. 24 - {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ}؛ أي: من بني إسرائيل {أَئِمَّةً}؛ أي: رؤساء وعلماء، وقيل: أنبياء، قاله قتادة. {يَهْدُونَ} يرشدون الخلق إلى الحق بما في التوراة من الشرائع والأحكام، والحكم {بِأَمْرِنَا} إياهم بذلك، أو بتوفيقنا لهم {لَمَّا صَبَرُوا} على الحق في جميع الأمور والأحوال، و {لَمَّا} (¬1) إما شرطية لما فيها من معنى الجزاء، نحو: أحسنت إليك لما جئتني، وجوابها معلوم مما قبلها، والتقدير: لما صبر الأئمة والعلماء من بني إسرائيل على المشاق وطريق الحق .. جعلناهم أئمة، أو ظرفية بمعنى: حين، فلا جواب لها؛ أي: جعلناهم أئمة حين صبروا على المشاق. وقوله: {وَكَانُوا}؛ أي: أئمة بني إسرائيل {بِآيَاتِنَا} التنزيلية التي في تضاعيف الكتاب {يُوقِنُونَ}؛ أي: يصدقون أنها من عند الله تعالى، لإمعانهم فيها ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

النظر، ولا يشكون فيها كما يشك الكفار من قومك في حق القرآن، ويحتمل (¬1) كونه معطوفًا على {صَبَرُوا} فيكون داخلًا في التعليق، ويحتمل أن يكون معطوفًا على {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ}. والمعنى (¬2): أي وجعلنا من بني إسرائيل رؤساء في الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم، وتقويتنا إياهم؛ لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا، وبما تبين لهم من الحق. وفي ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية، بل رجحهم على الكل بكل كمال، فإن الأفضل أولى بإحراز الفضائل كلها. وقرأ الكوفيون (¬3): {أَئِمَّةً}. قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، وقرأ الجمهور (¬4): {لَمَّا صَبَرُوا} بفتح اللام وتشديد الميم، على أنها شرطية أو ظرفية، كما مر، وقرأ حمزة والكسائي وخلف وورش عن يعقوب ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش: بكسر اللام وتخفيف الميم؛ أي: جعلناهم أئمة لصبرهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، مستدلًا بقراءة ابن مسعود: {بما صبروا} بالباء. 25 - {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {هُوَ} لا غيره {يَفْصِلُ} ويقضي {بَيْنَهُمْ} ويحكم؛ أي: بين المؤمنين والكفار، أو بين بني إسرائيل، أو بين الأنبياء وأممهم المكذبين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيميز بين المحق والمبطل، وكلمة {هُوَ} للتخصيم والتأكيد، وإن ذلك الفصل يوم القيامة، ليس إلا إليه وحده، لا يقدر عليه أحد سواه، ولا يفوض إلى من عداه {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين في الدنيا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[26]

أي: إن ربك يقضي بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون، من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل. 26 - وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} تخويف لكفار مكة، و (الهمزة) فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أغفلوا ولم يبين مآل أمرهم، والفاعل: ما دل عليه قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا}؛ أي: كثرة إهلاكنا؛ لأن كم لا يقع فاعلًا، فلا يقال: جاءني كم رجل، {مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل أهل مكة {مِنَ الْقُرُونِ}؛ أي: من الأمم الماضية، كعاد وثمود حالة كون أهل مكة {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}؛ أي: في مساكن أولئك القرون، والجملة: حال من ضمير {لَهُمْ}؛ أي: أغفلوا من حالهم ومآلهم، ولم يبين لهم مآلهم، وهو الإهلاك إن استمروا على التكذيب كثرة إهلاكنا من قبلهم من القرون، مثل عاد وثمود وقوم لوط، حالة كون أهل مكة يمرون في متاجرهم إلى الشام على ديار الهالكين وبلادهم، ويشاهدون آثار هلاكهم وخراب منازلهم. والخلاصة: أولم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسول ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية، والحال أنهم يمشون في مساكنهم في متاجرهم إلى الشام، ونحو الآية قوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}. وقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. وقرأ الجمهور: {أَوَلَمْ يَهْدِ} بالياء التحتية، وقرأ السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب: بالنون، وهذه القراءة واضحة، قال النحاس: والقراءة بالياء فيه إشكال؛ لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل، فأين الفاعل ليهدوا؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدمنا ذكره. اهـ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإهلاك وما يتعلق به من الآثار {لَآيَاتٍ} عظيمة ومواعظ بليغة، وحججًا قاطعةً لكل مستبصر ومعتبر بها؛ أي: إن في خلاء مساكن القرون

[27]

الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا برسلنا، وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا، لآيات لهم وعظات يتعظون بها, لو كانوا من أولي الحجا. و (الهمزة): في قوله: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}: للتوبيخ المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيعرضون عن آياتنا وعظاتنا وتذكيرنا إياهم، وصموا عنها فلا يسمعونها سماع تدبر وتفكر، ليعتبروا بها، وينتهوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب. 27 - و (الهمزة): في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا}: للاستفهام التوبيخي، المضمن للتقرير، داخلة على محذوف، و (الواو): عاطفة على ذاك المحذوف، {أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} والمراد: سوق السحاب الحامل للماء, لأنه هو الذي ينسب إلى الله تعالى، وأما السقي بالأنهار فمنسوب إلى العبد، وإن كان الإنبات من الله تعالى، ولما كان هذا السوق وما بعده من الإخراج محسوسًا .. حمل بعضهم الرؤية على البصرية، ويدل عليه أيضًا آخر الآية، وهو {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}. وقال في "بحر العلوم": حملًا على المقصود من النظر؛ أي: قد علموا أنا نسوق الماء {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ}؛ أي: التي جرز وقطع نباتها وأزيل بالكلية، لعدم المطر أو لغيره كالرعي، لا التي لا تنبت، لقوله: {فَنُخْرِجُ} من تلك الأرض {بِهِ}؛ أي: بسبب ذلك الماء المسوق {زَرْعًا}؛ أي: نباتًا {تَأْكُلُ مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الزرع؛ أي: من بعضه {أَنْعَامُهُمْ} ودوابهم ومواشيهم، كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها {و} تأكل من بعضه {وَأَنْفُسُهُمْ} كالحبوب التي يقتاتا الإنسان والثمار. والتقدير: أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت والنشر بعد الفساد، ولم يروا أنا نسوق بقدرتنا السحاب الحامل للماء إلى الأرض اليابسة، التي لا نبات فيها، فننزل بها مطرًا، فنخرج به زرعًا أخضر، تأكل منه ماشيتهم، وتتغدى به أجسامهم، فيعيشون به؛ أي: قد علموا ذلك، وشاهدوه، فلا عذر لهم في تكذيبهم البعث بعد الموت. و {الهمزة}: في قوله: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} للتوبيخ داخلة على محذوف،

[28]

و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا ينظرون ذلك بأعينهم، وعموا عنه فلا يبصرون هذه النعم، ويشكرون المنعم، ويوحدونه، لكونه المنفرد بإيجاد ذلك، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئتهم التي كانوا عليها قبل موتهم. والمعنى: ألا ينظرون (¬1) فلا يبصرون ذلك، فيستدلون به على وحدته وكمال قدرته وفضله تعالى، وأنه الحقيق بالعبادة، وأن لا يشرك به بعض خلقه، من ملك إنسان، فضلًا عن جماد لا يضر ولا ينفع، وأيضًا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم وإحيائهم. وقرىء (¬2): {الجرز} بسكون الراء، قوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعًا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره تشريفًا للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. قوله تعالى: {أَنْعَامُهُمْ} قدمت الأنعام في الذكر؛ لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب، ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل، والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل منه قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف وهم بنو آدم. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية: {يأكل} بالياء من أسفل، وقرأ الجمهور: {يُبْصِرُونَ} بياء الغيبة، وابن مسعود: بتاء الخطاب، وجاءت الفاصلة {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}. 28 - ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عن سوء صنيع الكفرة، باستعجال فصل القضاء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[29]

بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب، فقال: {وَيَقُولُونَ}؛ أي: ويقول المشركون عمومًا، أو مشركو مكة على طريق الاستهزاء والاستبعاد والتكذيب: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} الذي تدعي يا محمد؛ أي: في أيّ وقت يكون لك الفتح والنصر علينا والظفر بنا، وكلمة {مَتَى} (¬1): في موضع رفع على الخبرية، أو في موضع نصب على الظرفية، والاستفهام فيها: استفهام استهزاء، لا استفهام سؤال، وذلك (¬2) أن المؤمنين كانوا يقولون لكفار مكة: إن لنا يومًا يفتح الله فيه بيننا وبينكم؛ أي: يحكم ويقضي، يريدون يوم القيامة، أو إن الله سيفتح لنا على المشركين، ويفصل بيننا وبينهم، وكان أهل مكة إذا سمعوه .. يقولون بطريق الاستعجال تكذيبًا واستهزاء: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}؛ أي: في أي وقت يكون الحكم والفصل، أو النصر والظفر علينا {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنه كائن. أي (¬3): متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا، وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين، أذلة، إن كنتم صادقين في الذي تقولون، من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبارة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه، إلا لاستبعادهم حصوله، وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له، 29 - وقد أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم عن استبعادهم موبخًا لهم بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد تبكيتًا لهم، وتحقيقًا للحق: لا تستعجلوا ولا تستهزئوا فإن {يَوْمَ الْفَتْحِ} يوم إزالة الشبهة بإقامة القيامة، فإن أصله: إزالة الإغلاق والأشكال، أو يوم الغلبة على الأعداء {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مفعول به {إِيمَانُهُمْ} فاعل، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: يمهلون ويؤخرون. أما (¬4) إذا كان المراد به يوم القيامة، فإن الإيمان يومئذ لا ينفع الكافر لفوات الوقت، ولا يمهل أيضًا في إدراك العذاب، ولا في بيان العذر، فإنه لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[30]

عذر له، وأما إذا كان المراد يوم النصرة كيوم بدر، فإنه لا ينفع إيمانه حال القتل، إذ هو إيمان يأس، كإيمان فرعون حين ألجمه الغرق، ولا يتوقف في قتله أصلًا. والمعنى (¬1): أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه في الدنيا وفي الآخرة .. لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه في هذا اليوم، ولا تؤخرون للتوبة والمراجعة. والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأني بكم، وقد حل ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان, واستنظرتم حلول العذاب فلم تنظروا، والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم، للتنبيه على أنه ليس مما ينبغي أن يسأل عنه، لكونه أمرًا بينًا غنيًا عن الإخبار، وكذا إيمانهم واستنظارهم يومئذ، وإنما المحتاج إلى البيان، عدم نفع ذلك الإيمان, وعدم الإنظار. 30 - ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال: {فَأَعْرِضْ} يا محمد {عَنْهُمْ}؛ أي: عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك {وَانْتَظِرْ} ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن هؤلاء المشركين {مُنْتَظِرُونَ}؛ أي: متربصون بك الدوائر، كما قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون}. أي (¬2): وانتظر النصرة عليهم وهلاكهم، لصدق وعدي، إنهم منتظرون الغلبة عليك، وحوادث الزمان بك، من موت أو قتل، فيستريحوا منك، أو إهلاكهم، كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية، ويقرب منه ما قيل: وانتظر عذابنا فإنهم منتظرون، فإن استعجالهم المذكور، وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي، في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة. وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك بنصرك وتأييدك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك وفي أصحابك، من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم، وقد أنجز الله وعده، فنصر عبده، وفتح للمؤمنين، وحصل أمانيهم أجمعين، والآية منسوخة بآية السيف، وقيل: غير منسوخة، إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال. وقرأ الجمهور (¬1): {مُنْتَظِرُونَ} بكسر الظاء على صيغة اسم الفاعل؛ أي: انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك، قال أبو حاتم: والصحيح: الكسر، وقرأ ابن السميقع واليماني: {منتظرون} بفتح الظاء على صيغة اسم المفعول، ورويت هذه القراءة عن مجاهد وابن محيصن، قال الفراء: لا يصح إلا بإضمار؛ أي: إنهم منتظريهم. وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)}. إن قلت (¬2): هذا سؤال عن وقت الفتح، وهو يوم القيامة، فكيف طابقه الجواب بقوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ}؟ قلت: لما كان سؤالهم سؤال تكذيب واستهزاء بيوم القيامة، لا سؤال استفهام .. أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء، لا ببيان حقيقة الموقت، وإن فسر الفتح بفتح مكة، أو بيوم بدر .. كان المراد أن المتولين لم ينفعهم إيمانهم حال القتل، كإيمان فرعون، بخلاف الطلقاء الذين آمنوا بعد الأمر، فالجواب بذلك مطابق للسؤال من غير تأويل. انتهى. الإعراب {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)}. {أَفَمَنْ} {الهمزة}: فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح الرحمن.

و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيتوهم كون المؤمن كالفاسق بعدما ثبت ما بينهما من التفاوت، {فمن كان} {من}: اسم موصول مبتدأ، {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {من}، {مُؤْمِنًا}: خبرها، وجملة {كان}: صلة لـ {من} الموصولة، {كَمَنْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: معطوفة على الجله المحذوفة، {كَانَ فَاسِقًا}: فعل ناقص واسمه المستتر وخبره صلة {من} الموصولة، {لَا يَسْتَوُونَ}: فعل مضارع مرفوع بالنون وفاعل، والجملة: مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ومتعلقه محذوف؛ أي: لا يستوون في المآل. {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل، {الَّذِينَ}؛ مبدأ، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}، {فَلَهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا} {لهم}؛ خبر مقدم {جَنَّاتُ الْمَأْوَى}: مبتدأ مؤخر والجملهّ وخبره في محل الرفع خبر للأول وجملة الأول مع خبره جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} من فعل شرطها وجوابها: مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. {نُزُلًا}: حال من {جَنَّاتُ الْمَأْوَى}، {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية أو موصولة، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} المصدرية؛ أي: بسبب عملهم أو صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: سبب الذي كانوا يعملونه، الجار والمجرور صفة لـ {نُزُلًا}؛ أي: نزلًا كائنًا بسبب عملهم، أو بسبب العمل الذي يعملونه. {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة. {أما}: حرف شرط {الَّذِينَ}: مبتدأ أول، {فَسَقُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {فَمَأْوَاهُمُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما}، {مأواهم}: مبتدأ، {النَّارُ}: خبره، والجملة: في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: جواب {أما}، وجملة {أما}: معطوفة على جملة {أما} الأولى، {كُلَّمَا}: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية متعلق بالجواب الآتي، {أَرَادُوا}: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط

لـ {كُلَّمَا}: في محل جر بالإضافة. {أَنْ يَخْرُجُوا}: ناصب وفاعل وفاعل في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَرَادُوا}، {مِنْهَا}: متعلق بـ {يَخْرُجُوا}؛ أي: كلما اْرادوا الخروج منها، {أُعِيدُوا}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، {فِيهَا} متعلق به، والجملة الفعلية: جواب {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّمَا}: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية مأواهم فيها. {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. {وَقِيلَ} {الواو}: عاطفة، قيل: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: متعلق بـ {قيل}، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}: نائب فاعل لـ {قيل} محكي, لأن مرادنا لفظه، لا معناه. وهو مقول له أيضًا. وجملة {قيل}: معطوفة على جملة {أُعِيدُوا}، وإن شئت قلت: {ذُوقُوا}: فعل أمر وفاعل مبنى على حذف النون، {عَذَابَ النَّارِ}: مفعول به، وجملة {ذُوقُوا}: في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}، {الَّذِي} صفة لـ {عَذَابَ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ} متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {نذيقن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير المتكلمين يعود على الله، تقديره: نحن، و {الهاء}: مفعول به. {مِنَ الْعَذَابِ}: متعلق به، {الْأَدْنَى} صفة لـ {الْعَذَابِ}، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة، {دُونَ}: ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال {مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، {الْعَذَابِ} مضاف إليه، {الْأَكْبَرِ}: صفة له، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَنْ أَظْلَمُ}: {الواو}: استئنافية، {من}: اسم استفهام للاستفهام

الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، {أَظْلَمُ}: خبره، والجملة: مستأنفة، {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}: {ذُكِّرَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر، {بِآيَاتِ رَبِّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {ذُكِّرَ}، والجملة الفعلية: صلة الموصول، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {أَعْرَضَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {ذُكِّرَ}، {عَنْهَا} متعلق بـ {أَعْرَضَ}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {مِنَ الْمُجْرِمِينَ} متعلق بـ {مُنْتَقِمُونَ}، و {مُنْتَقِمُونَ} خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم -، {فَلَا تَكُنْ}: {الفاء}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَكُنْ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها: ضمير يعود على محمد، {فِي مِرْيَةٍ}؛ جار ومجرور خبر {تَكُنْ}، {مِنْ لِقَائِهِ}: صفة لـ {مِرْيَةٍ}، وجملة {لا تكن}: معطوفة على جملة القسم، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى}: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {آتَيْنَا}، {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}: متعلق بـ {هُدًى}، أو صفة له. {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {جعلنا} الأول. {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {جعلنا}، {أَئِمَّةً}: مفعول أول لـ {جعلنا}، وجملة {يَهْدُونَ} صفة لـ {أَئِمَّةً}، {بِأَمْرِنَا}: حال من فاعل {يَهْدُونَ}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين، متعلق بـ {جعلنا}؛ أي: جعلناهم أئمةً حين صبروا، {صَبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لما} أو فعل شرط لها، وجوابها: محذوف، تقديره: لما صبروا جعلنا منهم أئمة،

{وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِآيَاتِنَا}: متعلقة بـ {يُوقِنُونَ}، وجملة {يُوقِنُونَ} خبر {كان}، وجملة {كانوا}: إما معطوفة على {صَبَرُوا} أو على {جعلنا} كما مر. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: مبتدأ، وجملة {يَفْصِلُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إنَّ}: مستأنفة، {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {يَفْصِلُ}، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف مضاف إليه متعلق بـ {يَفْصِلُ} {فِيمَا}: متعلق به أيضًا، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِيهِ} متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ} وجملة {يَخْتَلِفُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير {فيه}. {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أغفلوا ولم يهد لهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لم}: حرف جزم، {يَهْدِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}. وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله: محذوف دلت عليه {كَمْ} الخبرية، تقديره: ولم يهدِ لهم كثرة إهلاكنا القرون، والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، {لَهُمْ}: متعلق بـ {يَهْدِ}، {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول به مقدم لـ {أَهْلَكْنَا}، {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِهِمْ} حال {مِنَ الْقُرُونِ} أو متعلق بـ {أَهْلَكْنَا}، {مِنَ الْقُرُونِ}: حال من {كَمْ} لأنه في الأصل تمييز {لَكُم} دخلت عليه {من} البيانية، وجملة {أَهْلَكْنَا}: جملة {أَهْلَكْنَا}: جملة مفسرة لفاعل {يَهْدِ} لا محل لها من الإعراب، {يَمْشُونَ}: فعل وفاعل، {فِي مَسَاكِنِهِمْ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب حال من ضمير {لَهُمْ}، أو مستأنفة مسوقة لبيان وجه

هدايتهم. {إِنَّ}: حرف نصب، {في ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {أَفَلَا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أصموا فلا يسمعون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لا}: نافية، {يَسْمَعُونَ}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا ولم يروا، أو التقدير ألم يشاهدوا ولم يروا إلخ، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لم}: حرف جزم، {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة، {أَنَّا}: ناصب واسمه، {نَسُوقُ الْمَاءَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {إِلَى الْأَرْضِ}: متعلق به، {الْجُرُزِ}: صفة لـ {الْأَرْضِ}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعول {رأى}؛ أي: سوقنا الماء إلى الأرض الجرز. {فَنُخْرِجُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {نَسُوقُ}. {بِهِ}: متعلق بـ {نخرج}، {زَرْعًا}: مفعول به، {تَأْكُلُ}: فعل مضارع، {مِنْهُ}: متعلق به {أَنْعَامُهُمْ}: فاعل، {وَأَنْفُسُهُمْ}: معطوف عليه، وجملة {تَأْكُلُ}: صفة لـ {زَرْعًا}، {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أعموا فلا يبصرون، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {لا}: نافية، {يُبْصِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على تلك المحذوفة. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}. {وَيَقُولُونَ} {الواو}: استئنافية، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، {مَتَى}: اسم استفام في محل النصب على الظرفية مبني على السكون

لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، {هَذَا}: مبتدأ مؤخر، {الْفَتْحُ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، والظرف: متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا، تقديره: هذا الفتح كائن متى؛ أي: في أيّ وقت يكون، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}، {إن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين فمتى هو، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة، {يَوْمَ الْفَتْحِ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {لَا يَنْفَعُ}، {لَا}: نافية. {يَنْفَعُ}: فعل مضارع، {الَّذِينَ}: مفعول به، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {إِيمَانُهُمْ}: فاعل {يَنْفَعُ}. والجملة الفعلية: في محل النصب مقول، لـ {قُلْ} {وَلَا هُمْ}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُنْظَرُونَ}: من الفعل المغير ونائب فاعله خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة {لَا يَنْفَعُ}: على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {فَأَعْرِضْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: أعرض عنهم. {أعرض}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، {وَانْتَظِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {أعرض}، ومفعوله محذوف، تقديره: النصر عليهم، {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}: ناصب واسمه وخبره، ومفعول: {مُنْتَظِرُونَ} محذوف، تقديره: النصر عليكم، وجملة {إن} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل الأمر بالانتظار. التصريف ومفردات اللغة {كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا}: أصل الفسق: الخروج، من فسقت التمرة: إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل في الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقًا،

فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. {جَنَّاتُ الْمَأْوَى}: المأوى: المسكن، قال الراغب: المأوى: مصدر أوى إلى كذا: انضم إليه، وجنة المأوى: كقوله: دار الخلد في كون الدار مضافًا إلى المصدر، وفي "الإرشاد": أضيفت الجنة إلى المأوى؛ لأنها الفتاوى الحقيقي، وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، كما مر. {نُزُلًا}: وهو في الأصل ما يعد للنازل والضيف، من طعام وشراب وصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا: الثواب والجزاء. {فَمَأْوَاهُمُ}: اسم مكان؛ أي: ملجَؤُهم ومنزلهم. {الْأَدْنَى}؛ أي: الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسني جدب وقحط، أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر، هو عذاب يوم القيامة. {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}؛ أي: قبل العذاب الأكبر، فدون هنا بمعنى قبل، كما مر، وذلك لأنه في الأصل أدنى مكان من الشيء، فيقال: هذا دون ذلك: إذا كان أحط منه قليلًا، ثم استعير منه للتفاوت في الأموال. {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} جمع مجرم، اسم فاعل من أجرم الرباعي، يقال: أجرم زيد: إذا فعل الجريمة؛ أي: السيئة، منتقمون: جمع منتقم، اسم فاعل من انتقم الخماسي، يقال: نقمت الشيء ونقمت منه: إذا أنكرته، إما باللسان، وإما بالعقوبة، والنقمة: العقوبة، والانتقام: العقوبة على الجريمة. {فِي مِرْيَةٍ} وفي "المفردات": المرية: التردد في الأمر، وهو أخص من الشك. {مِنْ لِقَائِهِ} يقال: لقيه كرضيه: إذا رآه، قال الراغب: يقال: ذلك في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله.

{أَئِمَّةً}: جمع إمام بمعنى المؤتم، والمقتدى به قولًا وفعلًا، وأصله أأممة بوزن أفعلة جمع إمام، كأسلحة وسلاح، ولكن لما اجتمع المثلان، وهما الميمان، أدغمت الأولى في الثانية، ونقلت حركتها إلى الهمزة فصار أئمة بهمزتين، فأبدل من الهمزة المكسور ياء، كراهة اجتماع الهمزتين. اهـ. "شرح العقائد". {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ}: الجرز: الأرض اليابسة الجرداء، التي لا نبات فيها، قال الزمخشري: الجرز: الأرض التي جرز؛ أي: أزيل نباتها، قيل: هي مشتقة من قولهم: رجل جروز: إذا كان لا يبقي شيئًا إلا أكله، ومنه قول الراجز: خبٌّ جَرُوْزٌ إِذَا جَاعَ بَكَى ... وَيأكُلُ التَّمْرَ وَلاَ يُبْقِي النَّوَى وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شيء تجده، وفي "المختار": أرض جرز وجرز، كعسر وعسر: لا نبات بها؛ أي: قطع وأزيل بالمرة، وقيل: هو اسم موضع باليمن. وفي "المصباح": الجرزة: القبضة من القث ونحوه، أو الحزمة، والجمع: جرز كغرفةٍ وغرف، وأرض جرز بضمتين: قد انقطع الماء عنها فهي يابسة لا نبات فيها. {الْفَتْحِ}: الحكيم، ويقال: للحاكم: الفاتح والفتاح؛ لأنه يفصل بين الناس بحكمه، ومعنى: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}؛ أي: الفصل بيننا وبينكم في الخصومة. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ أي: يمهلون ويؤخرون. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المقابلة اللطيفة بين جزاء الأبرار، وجزاء الفجار في قوله: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} وهي من المحسنات البديعية.

ومنها: الشماتة في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} وهي فن من فنون البديع، لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع، ما عدا ابن أبي الإصبع، وهي: أعني: الشماتة. ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه، وما يتخبط به من أهوال، وإظهار إغتباطك بما أصابه شماتةً به وتشفيًا منه، وفي هذه الآية من ضرورب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر، ومنه قصيدة فتح الفتوح لأبي تمام. ومنها: الاستبعاد المستفاد بـ {ثُمَّ} في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها، مستبعد في حكم العاقل الراجح. ومنها: التعريض في قوله: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} فإنه تعريض للكفار بأنهم في شك من لقائه، إذ لو لم يكن لهم فيه شك .. لآمنوا بالقرآن. ومنها: التأكيد والتخصيص المستفاد من كلمة {هُوَ} في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} لأن المعنى: إن ذلك الفصل يوم القيامة، ليس إلا إليه وحده، لا يقدر عليه أحد سواه، ولا يفوض إلى من عداه، كما سبق. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ}. ومنها: الاستفهامات للتقريع والتوبيخ في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وفي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} وقوله: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} وقوله: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} لأن المقصود في الكل الإنكار والتوبيخ. ومنها: المناسبة المعنوية بين أول الآية وآخرها في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} وهي؛ أي: المناسبة المعنوية: أن يبتدىء المتكلم بمعنى، ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، وهذه الآية قال في أولها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وهي موعظة سمعية، لكونهم لم ينظروا إلى القرون الهالكة، وإنما سمعوا بها، فناسب أن يأتي بعدها بقوله: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}. وفي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} بدأ هذه الآية بهذه الكلمة، وهي موعظة مرئية، فناسب

أن يقول في آخرها: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} لأن الزرع مرئي، لا مسموع، ليناسب آخر كل كلام أوله. ومنها: التعميم بعد التخصيص، أو الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} لأنه إن عم غير المستهزئين .. فهو تعميم بعد تخصيص، وإن خص بهم .. فهو إظهار في مقام الإضمار، تسجيلًا عليهم بالكفر، وبيانًا لعلة عدم النفع وعدم إمهالهم. اهـ. "شهاب". ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أن مشركي العرب لم يأتهم رسول من قبله. 2 - إثبات وحدانية الله تعالى، وأنه المتصرف في الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه. 3 - إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون في يوم كألف سنة مما تعدون. 4 - تفصيل خلق الإنسان في النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرًا سويًا. 5 - وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح. 6 - تفصيل أحوال المؤمنين في الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم في الآخرة. 7 - استعجال الكفار لمجيء يوم القيامة، استبعادًا منهم لحصوله (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) ختمت تسويد هذه السورة بعون الله تعالى، في عصر يوم الجمعة، بعد صلاتها، في تاريخ 10/ 10/ 1413من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب صورة الأحزاب مدنية كلها بالاتفاق (¬1). وآياتها: ثلاث وسبعون آية. وكلماتها: ألف ومئتان وثمانون كلمة. وحروفها: خمسة آلاف وسبع مئة وتسعون حرفًا. التسمية: سميت سورة الأحزاب, لأنه ذكر فيها قصة المشركين الذين تحزبوا على المسلمين، من كل جهة، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبنى قريظة وأوباش العرب على حرب المسلمين، ولكن الله ردهم مدحورين، وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة. الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم (¬2): سورة الأحزاب فيها آيتان من المنسوخ: أولاهما: قوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} الآية (48) نسخت بآية السيف. والآية الثانية: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ} الآية (52) نسخها الله تعالى بآية قبلها في النظم، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية (50). المناسبة: مناسبتها لما قبلها: تشابه (¬3) مطلع هذه السورة وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه من ربه، ومع التوكل عليه. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الناسخ والمنسوخ. (¬3) المراغي.

فضلها: ومن فضائلها (¬1): ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الأحزاب، وعلّمها أهله، وما ملكت يمينه .. أعطي الأمان من عذاب القبر". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: أيها الناس إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، وقد روي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطاب: كم تعدون سورة الأحزاب، قلت: ثنتين أو ثلاثًا وسبعين، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم. وأخرج البخاري في "تاريخه" عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنسيت منها سبعين آيةً ما وجدتها. وأخرج أبو عبيد في "الفضائل" وابن الأنباري، وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة تقرأ في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف .. لم يقرر منها إلا على ما هو الآن. وعن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة، أو أطول منها، وكان فيها آية الرجم، وهي: {إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم} ثم رفع أكثرها فيما رفع، قال ابن كثير: إسناده حسن. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}.

المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبات بين بداية هذه السورة، ونهاية السورة السالفة، وأما قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...} الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر نبيه (¬1) بتقواه والخوف منه، وحذر من طاعة الكفار والمنافقين والخوف منهم .. ضرب لنا الأمثال، ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان، حتى يطيع بأحدهما ويعصي بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صد عن الآخر، فطاعة الله تصد عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني في إنسان. قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان (¬2) فيما سلف أن الدعي ليس ابنًا لمن تبناه، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس أبًا لزيد من حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن في الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر أنت أخي في الدين .. أردف ذلك ببيان أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس أبًا لواحدٍ من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم، وأبوته أشرف من أبوة النسب؛ لأن بها الحياة الحقيقية. وهذه بها الحياة الفانية، بل هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه .. فذلك لارتقائهم الروحي، فإذًا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية بما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان فيما سلف أحكامًا شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية، وأشياء مما كان في الإِسلام، ثم أبطلت ونسخت .. أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

المذكورون في الآية، ما ذكر في آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون في ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار فقال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر عباده بتقواه وعدم الخوف من سواه .. ذكر هنا تحقيق ما سلف، فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءَهم، وهزمهم حين تألبوا عليهم عام الخندق. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ...} سبب نزول هذه الآية: ما (¬1) روى الضحاك عن ابن عباس، قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، دعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوف المنافقون واليهود بالمدينة؛ إن لم يرجع قتلوه، فأنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ....}. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس، قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فخطر خطرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلبًا معكم، وقلبًا معه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...}. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة قالوا: كان رجل يدعى ذا القلبين، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير من طريق قتادة عن الحسن مثله، وزاد: وكان يقول: لي نفس تأمرني، ونفس تنهاني. وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نزلت في رجل من بني ¬

_ (¬1) لباب النقول.

فهم قال: إن في جوفي لقلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: أنها نزلت في رجل من قريش من بني جمع، يقال له: جميل بن يعمر. قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ...} الآية (¬1)، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، في جماعة آخرين عن ابن عمر: أن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ...} الآية. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وكان من خبره أنه سبي من قبيلته "كلب"، وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه، فخير بين أن يبقى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب، وكانت زوجًا لزيد، وطلقها .. قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى عن ذلك، فنزلت الآية لنفي أن يكون للمتبنى حكم الابن حقيقةً في جميع الأحكام التي تعطى للابن. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" عن حذيفة، قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودًا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمةً، ولا أشد ريحًا منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقولون: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون إذا استقبلنا النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا رجلًا، حتى علي فقال: ائتني بخبر القوم، فجئت فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} الآية. قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله سبحانه من بطن الخندق صخرةً بيضاء مدورةً، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعول، فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضرب الثانية فصدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: ضربت الأولى فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور قيصر من أرض الروم، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فأضاء لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون، يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}. قال: ابن أبي حاتم. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في متعب بن قشير الأنصاري، وهو صاحب هذه المقالة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}؛ أي (¬2): يا أيها النبي الكريم، خف الله بطاعته وأداء ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

فريضته، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده. والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، أثبت ودم على تقوى الله تعالى. وناداه (¬1) تعالى بالنبي لا باسمه؛ أي: لم يقل يا محمد، كما قال يا آدم ويا نوح ويا موسى ويا عيسى ويا زكريا ويا يحيي، تشريفًا له، فهو من الألقاب المشرفة، الدالة على علو جنابه - صلى الله عليه وسلم -، وله - صلى الله عليه وسلم - أسماء وألقاب غير هذا، وكثرة الأسماء والألقاب تدل على شرف المسمى، وأما تصريحه باسمه في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فلتعليم الناس أنه رسول الله، وليعتقدوه كذلك، ويجعلوه من عقائدهم الحقة. وقيل المعنى: يا أيها النبي اتق في نقض العهد، ونبذ الأمان، واثبت على التقوى، وزد منها، فإنه ليس لدرجات التقوى نهاية، وإنما حملت على الدوام، لأن المشتغل بالشيء لا يؤمر به، فلا يقال للجالس مثلًا: أجلس، أمره الله تعالى بالتقوى تعظيمًا لشأن التقوى، فإن تعظيم المنادي، ذريعة إلى تعظيم شأن المنادى له. وقال ابن عطاء: معناه يا أيها المخبر عن خبر صدق، والعارف بي معرفةً حقيقةً، اتق الله في أن يكون لك الالتفات إلى شيء سواي. انتهى. ولما وجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بتقوى الولي الودود .. أتبعه بالنهي عن الالتفات نحو العدو والحسود، فقال: {وَلَا تُطِعِ}؛ أي: لا توافق {الْكَافِرِينَ}؛ أي: المجاهرين للكفر كأهل مكة، {وَالْمُنَافِقِينَ}؛ أي: المظهرين للإسلام، المضمرين للكفر، كأهل المدينة فيما طلبوا منك، ولا تساعدهم على شيءٍ، واحترس منهم، فإنهم أعداء الله والمؤمنين. روي (¬2): أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جعل وأبا الأعور عمر بن سفيان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

[2]

السلمي، قدموا المدينة بعد غزوة أحد فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول، وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه، فقالوا: ارفض ذكر آلهتنا وقيل: إنها تنفع وتشفع وندعك وربك، ووازرهم المنافقون على ذلك، فهم المسلمون بقتلهم فنزلت الآية؛ أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك. وقيل المعنى (¬1): أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالًا، فلا تقبل لهم رأيًا، ولا تستشرهم مستنصحًا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك. روي: أنه لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقًا، وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعًا، فحذره الله منهم، ونبهه إلى عداوتهم، ثم علل ما تقدم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ} (¬2) على الاستمرار والدوام، لا في جانب الماضي فقط {عَلِيمًا} بالمصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة، ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة، {حَكِيمًا} لا يحكم بما تقتضيه الحكمة البالغة. قال أبو السعود: وهذه الجملة للأمر والنهي: مؤكدة لمضمون وجوب الامتثال. أو المعنى: أي إن الله سبحانه عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوي عليه جوانحهم، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك، وسائر شؤون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع. والخلاصة: أنه تعالى هو العلم بعواقب الأمور، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير شؤون خلقه، 2 - ثم أكد وجوب الامتثال، بأن الأمر هو مربيك في نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال: {وَاتَّبِعْ} يا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[3]

محمد {مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} من القرآن؛ أي: واعمل بما ينزله إليك ربك من وحيه، وآي كتابه في كل أمورك، ولا تتبع شيئًا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحث، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك. ثم علل ذلك بما يرغبه في اتباع الوحي، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: بما تعمل أنت وأصحابك {خَبِيرًا} لا يخفى عليه شيء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء، وجملة {إن} معللة لأمره باتباع ما أوحي إليه، والأمر له - صلى الله عليه وسلم - أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} على قراءة الجمهور، بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ أبو عمرو السلمي وابن أبي إسحاق (¬1): {بما يعملون} بياء الغيبة هنا، وفيما سيأتي في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}؛ أي: بما يعمل الكفار والمنافقون، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات، وقرأ باقي السبعة {بِمَا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب في الموضعين. 3 - ثم بعد أن أمره باتباع ما أوحي إليه من القرآن، وترك مراسيم الجاهلية، أمره بتفويض أموره إليه وحده، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: اعتمد عليه في شؤونك، وفوض أمورك إليه وحده {وَكَفَى بِاللَّهِ} سبحانه {وَكِيلًا}؛ أي: حافظًا يحفظ من توكل عليه، وكفيلًا له في جميع شؤونه، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره. والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعًا .. لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد بك ضرًا .. لم يمنعه منك أحد. قال الزروقي في "شرح الأسماء الحسنى": الوكيل: هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر، ومن عرف أنه الوكيل .. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه، وخاصيته ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[4]

نفي الجوائح والمصائب وصرفها، فمن خاف ريحًا أو صاعقة أو نحوهما .. فليكثر منه، فإنه يصرف ويفتح له أبواب الخير والرزق. 4 - ثم ذكر سبحانه مثلًا توطئةً وتمهيدًا لما يعقبه من الأحكام القرآنية، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه، فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ}؛ أي: ما خلق الله سبحانه وتعالى {لِرَجُلٍ}؛ أي: لشخص، وهو مخصوص بالذكر من الإنسان، والتنكير (¬1) فيه، و {من} الاستغراقية في قوله: {مِنْ قَلْبَيْنِ} لإفادة التعميم، والقلب: مضغة صغيرة في هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الجانب الأيسر من صدر الإنسان، معلقة بعرق الوتين، وجعلها محلًا للعلم {فِي جَوْفِهِ}؛ أي: في صدره، وذكره لزيادة التقرير، كما في قوله تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وقيل: {من} في قوله: {مِنْ قَلْبَيْنِ}: زائدة في المفعول، وإنما (¬2) امتنع تعدد القلب؛ لأنه معدن الروح الحيواني، المتعلق للنفس الإنساني، ومنبع القوى بأسرها، فيمتنع تعدده, لأنه يؤدي إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصل لها. اهـ. "كرخي". قيل (¬3): نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كما سبق، كان رجلًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر .. انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان، وإحدى نعليه بيده، والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) المرح.

وقيل (¬1): هي مثل ضربه الله للمظاهر؛ أي: كما لا يكون للرجل قلبان، كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه، حتى يكون لَهُ أُمَّان، وكذلك لا يكون الدعي ابنًا لرجلين، وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب ينهاني عن كذا، فنزلت الآية لرد النفاق، وبيان أن النفاق لا يجتمع مع الإِسلام، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد. {وَمَا جَعَلَ} سبحانه {أَزْوَاجَكُمُ}؛ أي: نساءَكم وزوجاتكم أيها الرجال جمع زوج {اللَّائِي} جمع التي {تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ}؛ أي: تقولون لهن، أنتن علينا كظهور أمهاتنا؛ أي: في التحريم، فإن معنى ظاهر من امرأته: قال لها: أنت علي كظهر أمي، فهو مأخوذ من الظهر بحسب اللفظ، كما يقال: لبى المحرم: إذا قال: لبيك، وأفف الرجل: إذا قال: أفٍّ، وتعديته بـ {من} لتضمينه التجنب، وكان طلاقًا في الجاهلية، وكانوا يجتنبون المظاهر، منها كما يجتنبون المطلقة. فمعنى أنت علي كظهر أمي (¬2): أنت علي حرام كبطن أمي، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن، الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية بالظهر عن البطن, لأنه عمود البطن قوام البنية، {أُمَّهَاتِكُمْ}؛ أي: كأمهاتكم في الحرمة. والمعنى: ما جمع الله الزوجية والأمومة في امرأة؛ لأن الأم مخدومة لا يتصرف فيها، والزوجة خادمة يتصرف فيها، والمراد بذلك: نفي ما كانت العرب تزعمه، من أن الزوجة المظاهر منها كالأم؛ أي: ولم يجعل (¬3) الله سبحانه لكم أيها الرجال نساءكم اللاتي تقولون لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبًا، لا من قبل الله سبحانه، بل ألزمكم عقوبةً وكفارةً على ذلك، كما سيأتي بيانها في سورة المجادلة. وقد كان الرجل في الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته .. صارت حرامًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

حرمةً مؤيدةً، فجاء الإِسلام ومنع هذا التأبيد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى تؤدى كفارة - غرامة - لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله له. وقرأ قالون وقنبل (¬1): {اللَّائِي} هنا، وفي المجادلة والطلاق بالهمز من غير ياء، وقرأ ورش: بهمزة مكسورة مسهلة كالياء، بدون ياء بعدها، وقرأ البزي وأبو عمرو: بياء ساكنة بعد ألف محضة بدلًا من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، قال أبو عمرو بن العلاء: هي لغة قريش التي أمر الناس أن يقرؤوا بها، وقرأ باقي السبعة: بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم: {تُظَاهِرُونَ} هنا بتاء الخطاب المضمومة مع كسر الهاء أيضًا، مضارع ظاهر، من باب فاعل الرباعي، وقرأ الحرميان: نافع وابن كثير وأبو عمرو: {تظهرون} بشد الظاء والهاء وفتح التاء بدون ألف، أصله: تتظهرون، وقرأ ابن عامر: {تظاهرون} بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء، مضارع تظاهر، من باب تفاعل، وقرأ حمزة والكسائي: {تظاهرون} بتخفيف الظاء وبالألف بحذف إحدى التاءين؛ لأن أصله: تتظاهرون، ووافقهما ابن عامر في المجادلة، وقرأ باقي السبعة في المجادلة: {تظاهرون} بشد الظاء، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية: {يظهرون} بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر، وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء، وقرأ الحسن: {تظهرون} بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر مشدد الهاء، وقرأ هارون عن أبي عمرو: {تظهرون} بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مخفف الهاء، من ظهر الثلاثي، وفي مصحف أبي: {تتظهرون} بتاءين فتلك تسع قراءات. {وَمَا جَعَلَ} سبحانه وتعالى: {أَدْعِيَاءَكُمْ} الذين تبنيتم، جمع دعي فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مدعو، وهو الذي يدعى ولدًا لغير أبيه ويتخذ ابنًا؛ أي: متبنى، بتقديم الباء الموحدة على النون، {أَبْنَاءَكُمْ}؛ أي: كأبنائكم حقيقة في ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف.

حكم الميراث والحرمة والنسب؛ أي (¬1): ما جعل الدعوة والنبوة في رجلٍ واحدٍ؛ لأن الدعوة عرض، والبنوة: أصل في النسب، ولا يجتمعان في الشيء، وهذا أيضًا ردّ لما كانوا يزعمون، من أن دعي الرجل ابنه، فيجعلون له من الميراث مثل نصيب الذكر من أولادهم، ويحرمون نكاح زوجته إذا طلقها أو مات عنها. والمعنى (¬2): أي ولم يجعل الله من أدعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره ابنًا له بدعواه فحسب، وفي هذا إبطال لما كان في الجاهلية وصدر الإِسلام، من أنه إذا تبنى الرجل ابن غيره .. أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطَّاب عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة سالمًا. ويجوز أن يكون نفي القلبين لتمهيد أصل يحمل عليه نفي الأمومة عن المظاهر منها، والبنوة عن المتبنى، كما مر. والمعنى (¬3): لما لم يجعل الله قلبين في جوف واحدٍ لأدائه إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصلٍ، كذلك لم يجعل الله الزوجة أمًا، والدعي ابنًا لأحدٍ، يعني كون المظاهر منها أمًا، وكون الدعي ابنًا؛ أي: بمنزلة الأم والابن في الآثار والأحكام المعهودة بينهم في الاستحالة، بمنزلة اجتماع قلبين في جوف واحد. وفيه إشارة إلى أن في القرابة النسبية خواص لا توجد في القرابة السببية، فلا سبيل لأحد أن يضع في الأزواج بالظهار وما وضع الله في الأمهات، ولا أن يضع في الأجانب بالتبني ما وضع الله في الأبناء، فإن الولد سر أبيه، فما لم يجعل الله فليس في مقدور أحد أن يجعله. {ذَلِكُمْ} المذكور (¬4) من قولكم للزوجة: أنت علي كظهر أمي، أو للدعي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) النسفي.

أنت ابني {قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} فقط؛ أي: قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ولا تأثير له إذ الإبن يكون بالولادة وكذلك الأم فلا تصير به المرأة أمًا، ولا ابن الغير به ابنًا، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة، وقيل: الإشارة (¬1) إلى الأخير فقط, لأنه المقصود من سياق الكلام؛ أي: دعاؤكم الدعي بقولكم: هذا ابني قولكم بألسنتكم، لا تأثير له في الأعيان، فهو بمعزل عن أحكام البنوة كما زعمتم، والأفواه جمع فم، كما سيأتي. قال الراغب: وكل موضع علق الله فيه حكم القول بالفم فإشارة إلى الكذب، وتنبيه على أن الاعتقاد لا يطابقه. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَقُولُ} القول {الْحَقَّ} والصدق، والكلام المطابق للواقع الذي يجب اتباعه لكونه حقًا في نفسه، لا باطلًا، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم، أو يحكم الحكم الحق، وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا، {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {يَهْدِي} ويرشد {السَّبِيلَ}؛ أي: سبيل الحق لا غيره، فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله هذا؛ أي: يدل على الطريق الموصلة إلى الحق. وقرأ الجمهور: {يَهْدِي} مضارع هدى، وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. ذكره أبو حيان. والمعنى (¬2): أي والله هو الصادق الذي يقول الحق، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمًا إذا حكم بذلك، وهو يبيّن لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ اسمه. وفي هذا: إرشاد للعباد إلى قول الحق، وترك قول الباطل والزور. وخلاصة ما سلف: 1 - أنه لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدي إلى التناقض في أعمال الإنسان، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[5]

فيكون مريدًا للشيء كارهًا له، وظانًا له موقنًا به في حال واحدة، وهذا لن يكون. 2 - أنه لم ير أن تكون المرأة أمًا لرجل وزوجًا له, لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة في المصالح الزوجية على وجوه شتى. 3 - لم يشأ في حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيًا لرجل وابنًا له؛ لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا وغير أصيلٍ. 5 - ولما ذكر أنه يقول الحق .. فصل هذا الحق بقوله: {ادْعُوهُمْ}؛ أي: أنسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم {لِآبَائِهِمْ}؛ أي: إلى آبائهم الذين ولدوهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا: زيد بن محمد، وكذا غيره {هُوَ}؛ أي: الدعاء لآبائهم، فالضمير (¬1) لمصدر {دعوا}، كما في قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، {أَقْسَطُ} وأعدل {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه، وأصوب في حكمه من دعائكم إياهم لغير آبائهم، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة. والمعنى: بالغ في العدل والصدق، وهذه الجملة معللة لما قبلها. وفي "كشف الأسرار": هو أعدل وأصدق من دعائهم إياهم لغير آبائهم. {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا} أنتم أيها الناس، ولم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم، حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم {فَـ} هم {إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} إن كانوا قد دخلوا في دينكم {وَمَوَالِيكُمْ} إن كانوا محررين؛ أي: قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل، قال الزجاج: ويجوز (¬2) أن يكون {مواليكم} أولياؤكم في الدين، وقيل المعنى: فإن كانوا محررين، ولم يكونوا أحرارًا .. فقولوا: موالي فلان. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

فائدة: قال بعضهم (¬1): متى عرض ما يحيل معنى الشرط .. جعلت إن بمعنى إذ، وإذ: يكون للماضي، فلا منافاة هاهنا بين حرفي الماضي والاستقبال، قال البيضاوي: في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} إن تفعلوا جزم بـ {لَمْ} فإنها لما صيرته؛ أي: المضارع ماضيًا صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، وكأنه قال: فإن تركتم الفعل، ولذلك ساغ اجتماعهما؛ أي: حرف الشرط ولم. انتهى. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ} أيها الناس {جُنَاحٌ}؛ أي: ذنب وإثم {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}؛ أي: فيما فعلتموه من تلك الدعوة، مخطئين قبل النهي أو بعده، نسيانًا أو سبق لسان. قال ابن عطية: لا تتصف التسمية بالخطأ إلا بعد النهي، والخطأ: العدول عن الجهة المقصودة؛ أي: لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد بالنسيان، أو سبق اللسان، فقول القائل لغيره: يا بني، بطريق الشفقة، أو يا أبي، أو يا عمي، بطريق التعظيم، فإنه مثل الخطأ لا بأس به، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان. {وَلَكِنْ} الجناح والإثم فيـ {مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}؛ أي: فيما قصدت قلوبكم به بعد النهي، على أن ما في محل الجر عطفًا على {مَا أَخْطَأْتُمْ}، أو المعنى: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، على أن محل {ما} الرفع على الابتداء محذوف الخبر؛ أي: ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك. وخلاصة ما سلف (¬2): أنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأً غير مقصود، كان سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك تعمدين. أخرج ابن جرير وابن المنذر وعن قتادة، أنه قال في الآية: لو دعوت رجلًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[6]

لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه .. لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه. وفي الحديث: "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه .. فالجنة عليه حرام". {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا}؛ أي: ستارًا لذنب من ظاهر زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنًا له، إذا تابا ورجعا إلى أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل، بعد أن نهاهما - {رَحِيمًا} بهما بقبول توبتهما، فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما. فالمغفرة (¬1): هو أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، والرحمة: هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه، لا لعوض. 6 - ثم ذكر سبحانه لرسوله مزيةً عظيمةً، وخصوصيةً جليلةً لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَوْلَى}؛ أي: أرأف وأشفق وأحرس {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: النبي أشد (¬2) ولايةً ونصرةً لهم من أنفسهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس، فإنها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع. روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا وأمهاتنا فنزلت. والمعنى (¬3): النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من أمور الدين والدنيا، كما يشهد به الإطلاق على معنى أنه لو دعاهم إلى شيء ودعتهم نفوسهم إلى شيء آخر .. كان النبي أولى بالإجابة إلى ما يدعوهم إليه من ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغى. (¬3) روح البيان.

إجابة ما تدعوهم إليه نفوسهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم وفوزهم، وأما نفوسهم فربما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وبوارهم، كما قال تعالى حكايةً عن يوسف الصديق عليه السلام: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فيجب أن يكون عليه السلام أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وآثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعولها فداءه في الخطوب والحروب، ويتبعوه في كل ما دعاهم إليه، ويجعلوه مقدمًا على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}. وخلاصة ذلك: أنه تعالى علم شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وفي الحديث: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة"؛ أي: في الشفقة من أنفسهم ومن آبائهم، وفيه أيضًا: "مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذب عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي". وفيه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين". قال في "الأسئلة المقحمة": وفي الآية إشارة إلى أن اتباع الكتاب والسنة أولى، من متابعة الآراء والأقيسة، حسبما ذهب إليه أهل السنة والجماعة. وقيل (¬1): المراد بـ {أَنْفُسِهِمْ} في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل: هي خاصة بالقضاء؛ أي: هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم، وقيل: أولى بهم في الجهاد بين يديه، وبذل النفس دونه، والأول أولى. {وَأَزْوَاجُهُ}؛ أي: زوجاته - صلى الله عليه وسلم - {أُمَّهَاتُهُمْ}؛ أي: مثل أمهاتهم، ومنزلات منزلتهن في التحريم والاحترام والتوقير والإكرام، فلا يحل لأحد منهم أن يتزوج ¬

_ (¬1) الشوكاني.

بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج أمه كما قال تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، والميراث، فهن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولا الخلوة بهن، ولا المسافرة معهن، ولا يرثن المؤمنين، ولا يرثونهن. ثم إن (¬1) حرمة نكاحهن من احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - واحترامه واجب على الأمة، وتخصيص التحريم بهن، يدل على أنه لا يتعدى إلى عشيرتهن فلا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، ولهذا قال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: هي خالة المؤمنين. وقال القرطبي: الذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيمًا لحقهن على الرجال والنساء، كما يدل عليه قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً قال: ثم إن في مصحف أبي بن كعب: {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}، وقرأ ابن عباس: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم}. قيل: كن (¬2) أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق: إن امرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بذلك أن معنى الأمومة: إنما هو تحريم نكاحهن. وظاهر قوله (¬3): {وَأَزْوَاجُهُ}: عموم كل من أطلق عليها أنها زوجة له - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: سواء دخل بهن أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وقيل: لا يثبت هذا الحكم لطلقة، وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

وفي "فتح الرحمن": وإنما (¬1) جعلهن الله كالأمهات، ولم يجعل نبيه كالأب حتى قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} لأنه تعالى أراد أن أمته يدعون أزواجه بأشرف ما تنادى به النساء، وهو الأم، وأشرف ما ينادى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ الرسول، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالًا لنبيه، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده، ولو جعله أبًا للمؤمنين .. لكان أبًا للمؤمنات أيضًا فيحرمن عليه، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه، ولأن من الآباء من يتبرأ من ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه. انتهى. ثم بين سبحانه: أن القرابة أولى بالإرث بها من الأخوة في الدين، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ}؛ أي: ذوو القربات النسبية {بَعْضُهُمْ أَوْلَى} وأحق {بـ} إرث {بَعْضٍ} آخر منهم، فالكلام على حذف مضاف. وهذه الآية كانت ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، وكان (¬2) التوارث في بدء الإِسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته، وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر - رضي الله عنه - وخارجة بن زيد، وبين عمر وشخص آخر، وبين الزبير وكعب بن مالك، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى: يجوز (¬3) أن يتعلق بـ {أَوْلَى} لأن أفعل التفضيل يعمل في الظروف. والمعنى: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله تعالى، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في {أَوْلَى}، والعامل فيها {أَوْلَى} لأنها شبيهة بالظرف؛ أي: حالة كون أولويتهم ثابتةً في كتاب الله تعالى، ولا يجوز أن يكون حالًا من {أولوا} للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

على مذهب الجمهور. انتهى. من "الكرخي". والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، أو القرآن، أو آية المواريث، وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: الأنصار {وَالْمُهَاجِرِينَ} يجوز في {من} وجهان: أحدهما: أنها من الجارة للمفضل عليه، كهي في زيد أفضل من عمرو، المعنى عليه: وأولو الأرحام والقرابات، أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب. والثاني: أنا للبيان، جيء بها بيانًا لأولي الأرحام، فتتعلق بمحذوف، والمعنى: وأولو الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، أولى بالإرث من الأجانب. اهـ. "سمين". والمعنى (¬1): أي وأولو الأرحام أولى بالإرث بحق القوابة، من إرث المؤمنين بحق الدين، ومن إرث المهاجرين بحق الهجرة، فيما كتبه الله سبحانه، وفرضه على عباده. والخلاصة: أن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكمًا شرع لضرورةٍ عارضةٍ في بدء الإِسلام، وهو الإرث بالتآخي في الدين، والتآخي حين الهجرة بين الماجرين والأنصار، حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه. ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} وأصدقائكم؛ أي: إلا أن تحسنوا إلى أصدقائكم من الأجانب {مَعْرُوفًا}؛ أي: وصيةً من الثلث؛ أي (¬2): إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا .. فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم. وهذا الاستثناء إما متصل من أعم ما تقدر فيه الأولوية من النفع، كقولك: القريب أولى من الأجنبي، إلا في الوصية، تريد أحق منه في كل نفع، من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية، والمراد بالأولياء: من يوادونهم ويصادقونهم، ومن يوالونهم ويؤاخونهم، وبفعل المعروف الوصية؛ أي: التوصية بثلث المال، أو أقل منه، لا بما زاد عليه. والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل نفع، من ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقةٍ وغير ذلك، إلا أن تفعلوا إلى أصدقائكم معروفًا بتوصيةٍ لهم من ثلث المال، فهم أولى بالوصية, لأنه لاوصية لوارث، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا؛ أي: الأقارب أحق بالميراث من الأجانب، لكن فعل التوصية أولى للأجانب من الأقارب, لأنه لا وصية لوارث. ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة .. أباح أن يوصى لهم. ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه، الذي لا يغير ولا يبدل، فقال: {كَانَ ذَلِكَ} المذكور في الآيتين: من أولوية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنفسهم، ونسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات {فِي الْكِتَابِ} متعلق بقوله: {مَسْطُورًا}؛ أي: مكتوبًا؛ أي: كان ذلك المذكور من الحكمين مثبتًا في اللوح المحفوظ، أو مكتوبًا في القرآن الكريم. والمعنى: أي (¬1) إن هذا الحكم، وهو كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض: حكم من الله تعالى مقدر مكتوب في الكتاب، الذي لا يبدل ولا يغير وإن كان قد شرع غيره في وقتٍ ما لمصلحةٍ عارضةٍ، وحكمةٍ بالغةٍ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جارٍ في قدره الأزلي، وقضائه التشريعي. واعلم: أنه (¬2) لا توارث بين المسلم والكافر، ولكن صحت الوصية بشيء من مال المسلم للذمي, لأنه كالمسلم في المعاملات، وصحت الوصية بعكسه؛ أي: من الذمي للمسلم، ولذا ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأولياء: هم الأقارب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

من غير المسلمين؛ أي: إلا أن توصوا لذوي قرابتكم بشيء، وإن كانوا من غير أهل الإيمان, وذلك فإن القريب غير المسلم، يكون كالأجنبي، فتصح الوصية له مثله، وأما الوصية لحربي فلا تصح مطلقًا؛ أي: قريبًا أو أجنبيًا؛ لأنه ليس من أهل المواساة، والمعروف له كتربية الحية الضارة لتلدغه، وندبت الوصية. عند الجمهور في وجوه الخير، لتدارك التقاصير. 7 - والظرف في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ}: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك، أو ليكن ذكر منك، يعني لا تنس قصة وقت أخذنا من الأنبياء كافةً عند تحميلهم الرسالة {مِيثَاقَهُمْ}؛ أي: عهودهم المؤكدة باليمين على تبليغ الرسالة، والدعوة إلى التوحيد والدين الحق. ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال: {وَمِنْكَ}؛ أي: وأخذنا منك يا حبيبي خاصةً، وقدم تعظيمًا وإشعارًا بأنه أفضل الأنبياء وأولهم في القرب، وإن كان آخرهم في البعث، وفي الحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؛ أي: لا أقول هذا بطريق الفخر، {و} أخذنا {مِنْ نُوحٍ} شيخ الأنبياء وأول الرسل بعد الطوفان {وَإِبْرَاهِيمَ} الخليل {وَمُوسَى} الكليم {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} روح الله وكلمته خصهم (¬1) بالذكر مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد فضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم من الرسل، قال الزجاج: وأخذ الميثاق حين أخرجوا من صلب آدم مثل الذر، ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق، بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ، فقال: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ}؛ أي: من النبيين {مِيثَاقًا}؛ أي: عهدًا مؤكدًا وثيقًا {غَلِيظًا}؛ أي: شديدًا على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالات، وأداء الأمانات، وهذا هو الميثاق الأول بعينه، والتكرير لبيان هذا الوصف، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانيًا مغلظًا مشددًا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

والمعنى (¬1): أي واذكر أيها الرسول الكريم، العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على أولى العزم الخمسة، وبقية الأنبياء، ليقيمن دينه ويبلغن رسالته، ويتناصرن، كما قال في آية أخرى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الآية. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولًا وأمره بشيء، وقبله .. كان ذلك ميثاقًا عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول، ويفعل .. كان ذلك تغليظًا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة. فإن قلت: لم (¬2) قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية، وقدم نوحًا في آية {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية؟ قلت: قدمه - صلى الله عليه وسلم - هنا إظهارًا لشرفه وفضله عليهم - صلى الله عليه وسلم - عليهم أجمعين، وقدم نوحًا هناك, لأن الآية سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا من العهد الحديث، وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبةً للمقصود من بيان أصالة الدين وقدمه. اهـ. "كرخي". 8 - ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال: {لِيَسْأَلَ} الله سبحانه {الصَّادِقِينَ}؛ أي: الأنبياء {عَنْ صِدْقِهِمْ} في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم؛ لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم. وقيل: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، كما في قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} و (اللام) فيه: لام كي، إما متعلقة بـ {أَخَذْنَا}؛ أي: وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم، لكي نسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما بلغوهم عن ربهم من الرسالة، وقيل: متعلق بمحذوف مستأنف، مسوق لبيان ما هو داع، إلى ما ذكر من أخذ الميثاق وغاية ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

له، لا بـ {أَخَذْنَا} فإن المقصود نفس الميثاق، ثم بيان الغرض منه بيانًا قصديًا، كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة. والمعنى: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوا لقومهم وفي الخبر: "أنه يسأل القلم يوم القيامة، فيقول: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: يا رب سلمتها إلى اللوح، ثم يصير القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح، فيسأل اللوح، فيقر بأن القلم قد أدى الأمانة، وأنه قد سلمها إلى إسرافيل، فيقول لإسرافيل: ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح؟ فيقول: سلمتها إلى جبريل، فيقول لجبريل: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: سلمتها إلى أنبيائك، فيسأل الأنبياء فيقولون: سلمناها إلى خلقك، فذلك قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} قال القرطبي: إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم. وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ}؛ أي: هيأ في الآخرة {لِلْكَافِرِينَ}؛ أي: للمكذبين الرسل {عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: وجيعًا معطوف على محذوف، دل عليه {لِيَسْأَلَ ...} إلخ، فكأنه قال: فأثاب المؤمنين بهم، وأعد للكافرين بهم عذابًا أليمًا، وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلة في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، وأعد لهم عذابًا أليمًا. ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} وتكون جملة {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مستأنفة، لبيان ما أعده للكفار. غزوة الأحزاب المسماة بغزوة الخندق وخلاصة هذه القصة، على ما قاله أرباب السير: أن نفرًا من اليهود قدموا على قريش في شوال سنة، خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسًا وغيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل، ومعها قادتها وزعماؤها, ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمسيرهم .. أمر المسلمين

بحفر خندق حول المدينة، بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وأحكموه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول: لَا هُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيُنَا فَأَنْزَلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَالْمُشْرِكُوْنَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أرَادُوْا فِتْنَةً أَبَيْنَا وفي أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء في بطن الخندق، فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فلما علم بها - صلى الله عليه وسلم - .. أخذ المعول من سلمان، وضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - جانبي المدينة - حتى كأن مصباح في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح، وكبر المسلمون، وهكذا مرة ثانيةً وثالثةً، فكانت تضيء وكان التكبير، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضربت ضربتي الأولى، فبرق البرق الذي رأيتم، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فابشروا" فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يمنيكم، ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وإنكم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ...} إلخ. ونزل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ...} الآية. ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب، الذين حزبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة .. رأوا الخندق حائلًا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت مصادمات بين القوم كرًا وفرًا، فمن المشركين من كان يقتحم

الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من يقتحمه بفرسه فيهلك. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه أنه أسلم، وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان، إلا إذا أخذتم منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم تقية لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدًا, لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنًا، يدفعوها لمحمد فيضرب أعناقها، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد، وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه. وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، دب بينهم ودبيب الفشل، ومما زاد في فشلهم أن بعث الله عليهم ريحًا في ليلةٍ شاتيةٍ شديدة البرد، فجعلت تكفىء قدورهم، وتطرح آنيتهم، وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً يصلي على التل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: "هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم" فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فلم يقم رجل واحد من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان، وقال: "ألم تسمع كلامي منذ الليلة" قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله منعني أن أجيبك الضر والقر، قال: "انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى ترده إلى، انطلق ولا تحدث شيئًا حتى تأتيني"، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده يقول: "يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي"، فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: "شكرًا شكرًا كما رحمتني ورحمت أصحابي"، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف

[9]

وأخلفتنا ينو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، وشرع القوم يقولون: الرحيل الرحيل، والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة، ولم تجاوز عسكرهم، ورحلوا وتركوا ما استثقلوا من متاعهم، فلما رجع أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". اهـ. ملخصًا من كتب السيرة، وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة بما هو معروف، فلا نطيل بذكرها. 9 - ثم شرع سبحانه في تفصيلها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بالله ورسوله {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: اشكروا إنعام الله عليكم بالنصرة، فمعنى ذكر النعمة: شكرها، {إِذْ} ظرف للنعمة؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصرة حين {جَاءَتْكُمْ} وأحاطت بكم {جُنُودٌ} مجندة، وجموع مجمعة، وعساكر مسلحة، والمراد بهم: جنود الأحزاب، الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغزوه بالمدينة، وهم أبو سفيان بن حرب بقريش، ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقةً شديدةً، كما وصف الله سبحانه في هذه الآية، وكانت هذه الغزوة في شوالٍ سنة خمس من الهجرة، قاله ابن إسحاق، وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع، وكانت جملة الأحزاب أثني عشر ألفًا، وجملة المسلمين ثلاثة آلاف، ومكثوا في حفر الخندق ستة أيام، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعةً وعشرين، وقيل: شهرًا، فلما فرغوا من حفره أقبلت قريش، والقبائل، فحاصروا المسلمين خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعةً وعشرين يومًا، والخندق بينهم وبين المسلمين، حتى هزمهم الله سبحانه وتعالى بريح وجنود لم يروها، بلا مقاتلة أحدٍ من المسلمين. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} ليلًا من جانب القهار، عطف على جاءتكم {رِيحًا} شديدةً ناصرةً لكم, وهي ريح الصبا، وهي تهب من جانب المشرق، والدبور من قبل المغرب، قال ابن عباس: قالت الصبا للدبور؛ أي: للريح الغريبة: اذهبي بنا

ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إن الحرائر لا تهب ليلًا، فغضب الله عليها فجعلها عقيمًا، وفي الحديث: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". {وَ} أرسلنا عليهم أيضًا {جُنُودًا} عظيمةً هائلةً {لَمْ تَرَوْهَا}؛ أي: لا ترون أنتم أيها المسلمون تلك الجنود، وهم الملائكة، قيل: كانوا ألفًا، روي (¬1) أن الله تعالى بعث على المشركين ريحًا باردةً، في ليلة شاتية، ولم تجاوز عسكرهم، فأحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وبعث الله عليهم أيضًا الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، ونفثت في روعهم الرعب، وكبرت في جوانب معسكرهم، حتى سمعوا التكبير وقعقعة السلاح، واضطربت الخيول، ونفرت، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان: هلموا إلى، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ أي: الإسراع الإسراع، فانهزموا من غير قتال، وارتحلوا ليلًا، وحملوا ما خف عليهم من متاعهم، وتركوا ما استثقلوه مثله. والمعنى (¬2): أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله، التي أسبغها عليكم، حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بني النضير أجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحًا باردةً، في ليلة باردةً، أحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر ملائكته فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت الخيل بعضها في بعض، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدًا قد بدأكم بالسحر، فالنجاة النجاة، فانهزموا من غير قتال. والخلاصة: أنه تعالى يمتن على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم، وتحزبوا عام الخندق. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[10]

وقرأ الحسن (¬1): {وجنودًا} بفتح الجيم، والجمهور: بالضم، وقرأ أبو عمرو في رواية وأبو بكر في رواية: {لم يروها} بياء الغيبة؛ أي: الكفار، وباقي السبعة والجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: أيها المسلمون. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ (¬2) الجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الأسباب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، {بَصِيرًا}؛ أي: رائيًا، ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، وعصمتكم من شرهم، فلا بد لكم من الشكر على هذه النعمة الجليلة، باللسان والجنان والأركان. وقرأ أبو عمرو بالتحتية؛ أي: بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب للمسلمين، واجتماعهم عليهم من كل جهة؛ أي: وكان الله سبحانه عليمًا بجميع أعمالكم، من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب، لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرًا بها, لا يخفى عليه شيء منها، وهو يجازيكم عليها, ولا يظلم ربك أحدًا. 10 - ثم زاد الأمر تفصيلًا وبيانًا، فقال: {إِذْ جَاءُوكُمْ}: {إِذْ}: هذه وما بعدها: بدل من {إذ} الأولى، والعامل في هذه: هو العامل في تلك، وقيل: منصوبة بمحذوف، هو اذكر؛ أي: اذكروا أيها المؤمنون: هول إذ جاءكم أعداؤكم الأحزاب {مِنْ فَوْقِكُمْ}؛ أي: من أعلى الوادي من جهة المشرق، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان، وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن، وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك، وبنو النضير. {و} جاؤوكم {مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}؛ أي: من أسفل الوادي من جهة المغرب، من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي، ومعه حيي بن أخطب اليهودي، في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل. وقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}: معطوف على ما قبله، داخل في حكم التذكير، والزيغ: الميل عن الاستقامة؛ أي: وإذ مالت الأبصار عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلًا من كل جانب، وقيل: شخصت من فرط الهول والحيرة. والمعنى (¬1): واذكروا حين مالت الأبصار عن مستوى نظرها، حيرةً وشخوصًا، لكثرة ما رأت من العَدد والعُدد، فإنه كان مع قريش ثلاث مئة فرس، وألف وخمس مئة بعير. {وَ} إذ {بَلَغَتِ} ووصلت {الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم؛ أي: ارتفعت القلوب عن أماكنها للخروج، فزعًا وخوفًا، ووصلت في الارتفاع إلى رأس الحلقوم وأسفله، وهو مدخل الطعام والشراب، والحنجرة: منتهى الحلقوم وطرفه الأسفل؛ أي: بلغت رأس الغلصمة والحنجرة من خارج رعبًا وغمًا؛ لأن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغم، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهو مشاهد في مرض الخفقان من غلبة السوداء. قال قتادة: شخصت عن أماكنها، فلولا أنه ضاق الحلقوم بها عن أن تخرج .. لخرجت، وقال بعضهم: كادت تبلغ، فإن القلب إذا بلغ الحنجرة، مات الإنسان، فعلى هذا يكون الكلام تمثيلًا، لاضطراب القلوب من شدة الخوف، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقةً. وقوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ} يا من يظهر الإِسلام على الإطلاق {الظُّنُونَا} المختلفة، المخلصون يظنون النصر والظفر، والمنافقون يظنون خلاف ذلك، معطوف على {زَاغَتِ}. وصيغة المضارع فيه لاستحضار الصورة، والدلالة على الاستمرار، وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر، وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى (¬2) ما قاله الحسن. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[11]

واختلف القراء في الألف التي في {الظُّنُونَا}، وكذا {السبيلا} و {الرسولا}، كما سيأتيان في آخر هذه السورة، فأثبت هذه الألفات نافع وابن عامر وأبو بكر وصلًا ووقفًا، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وبخط جميع المصاحف في جميع البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن، بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضًا بما في أشعار العرب من مثل هذا، وأنشد أبو عمرو في "كتاب الألحان": إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتَ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُوْنَا وقرأ (¬1) أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب، بحذفها في الوصل والوقف معًا، وقالوا هي من زيادات الخط، فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها، وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقرأ ابن كثير والكسائي وحفص وابن محيصن: بإثباتها وقفًا وحذفها وصلًا، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، أما (¬2) إثباتها وقفًا، ففيه اتباع الرسم، وموافقة لبعض مذاهب العرب؛ لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم، وفي تصاريفها؛ اتباعًا للفتحة، والفواصل في الكلام كالمصارع، وقال أبو علي: هي رؤوس الآي، تشبه بالقوافي، من حيث إنها كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو. 11 - {هُنَالِكَ} هو (¬3) في الأصل ظرف للمكان البعيد، لكن العرب تكني بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان، فهو إما ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده؛ أي: في ذلك المكان الهائل، أو في ذلك الدحض الذي تدحض فيه الأقدام {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} واختبروا بالحصر والرعب والخوف والجوع والبرد؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

عوملوا معاملة من يختبر، فظهر المخلصر من المنافق، والراسخ من المتزلزل {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}؛ أي: حركوا تحريكًا شديدًا، وأزعجوا إزعاجًا قويًا، وذلك أن الخائف يكون قلقًا مضطربًا، لا يستقر على مكان، وتكرير حروف لفظه، تنبيه على تكرر معنى الزلل، ولكن صبروا وقاسوا الشدائد في طريق الحق ونصره، واجتهدوا إلى أن فتح الله مكة، واتسع الإِسلام وبلاده وأهاليه. وقرأ الجمهور (¬1): {زلزلوا} بضم الزاي الأولى، وكسر الثانية، على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو: بكسر الزاي الأولى، قاله ابن خالويه، وقال الزمخشري: وعن أبي عمرو إشمام زاي: {زلزلوا}. انتهى، كأنه يعني إشمامها الكسر، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة: أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية، ولم يعتد بالساكن، كما لم يعتد به من قال: منتن، بكسر الميم إتباعًا لحركة التاء، وهو اسم فاعل من أنتن، وقرأ الجمهور: {زلزالًا} بكسر الزاي، والجحدري وعيسى بفتحها، وكذا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح، نحو قلقل قلقالًا، وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل، كصلصال بمعنى مصلصل؛ أي: مصوت. ومعنى الآيتين: أي واذكروا حين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها، حيرةً ودهشةً، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وفزعوا فزعًا عظيمًا، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفي قلبه مرض، يظن أن محمدًا وأصحابه سيستأصلون، ويستولي المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها، تجول في قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرًا بالإخلاص، مكتوبًا له السعادة، أو متشككًا في اعتقاده، ليست له عزيمة صادقة، ثم ذكر أن هذه الشدائد محصت ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[12]

المؤمنين، وأظهرت المنافقين فقال: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}؛ أي: حين ذاك اختبر الله المؤمنين، ومحصهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ في الإيمان من المتزلزل، واضطربُوا اضطربًا شديدًا من الفزع وكثرة العدو. 12 - وقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}: معطوف على {وَإِذْ زَاغَتِ}، والتعبير بالمضارع، لحكاية الحال الماضية كما سيأتي؛ أي: واذكروا حين قال المنافقون، كمعتب بن قشير: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}؛ أي: ضعف اعتقاد في الإيمان, لقرب عهدهم بالإِسلام، والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب. فإن قلت (¬1): ما الفرق بين المنافق والمريض؟ قلت: المنافق من كذب الشيء تكذيبًا لا يعتريه فيه شك، والمريض: من قال الله تعالى في حقه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} كذا في "الأسئلة المقحمة". {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، من النصر والظفر على العدو، واعلاء الدين وهم لم يقولوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالوه باسمه، ولكن الله ذكره بهذا اللفظ، {إِلَّا غُرُورًا}؛ أي: إلا وعد غرور، وهو بالضم لا غير، والقائل لذلك معتب بن قشير ومن تبعه، كما سبق؛ أي: إلا وعدًا باطلًا يغرنا به، ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته. 13 - وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلًا من أهل النفاق والشك (¬2)، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة؛ أي: كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما كان ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله، {وَ} اذكروا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

{إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ} وجماعة، {مِنْهُمْ}؛ أي: من المنافقين، قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين، وقال السدي: هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قيظي وأصحابه، والطائفة: تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}؛ أي: يا أهل المدينة {لَا مُقَامَ لَكُمْ}؛ أي: لا إقامة ولا استقرار لكم هاهنا في العسكر، أو لا موضع إقامة لكم هاهنا جنب هذا العسكر العظيم لكثرة العدو، وغلبة الأحزاب، يريدون لا معسكر لكم هاهنا. وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص والجحدري وأبو حيوة (¬1): بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكانًا؛ أي: لا مكان إقامة، واحتمل أن يكون مصدرًا؛ أي: لا إقامة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة، وباقي السبعة: بفتحها، واحتمل أيضًا المكان؛ أي: لا مكان قيام، واحتمل المصدر؛ أي: لا قيام لكم. {فَارْجِعُوا} إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل، وقد يكون المعنى: لا مقام لكم في دين محمد، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك، وأسلموا محمد إلى أعدائه، ومرادهم الأمر بالفرار، لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجًا لمقالهم، وإيذانًا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقد ثبطوا الناس عن الجهاد، والرباط لنفاقهم ومرضهم، ولم يوافقهم إلا أمثالهم، فإن المؤمن من المخلص لا يختار إلا الله ورسوله. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين خرجوا عام الخندق، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون: ليس هاهنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وفي "المختار" التثريب: التعبير والاستقصاء في اللوم، وثرب عليه تثريبًا: قبح عليه فعله. اهـ. فائدة: يثرب (¬2) هو اسم للمديمة المنورة، لا ينصرف للتعريف وزنة الفعل، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وفيه التأنيث أيضًا، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسمى المدينة بيثرب، وقال: "هي طيبة أو طابة والمدينة"كأنه كره هذا اللفظ, لأن يثرب يفعل من التثريب، وهو التقريع والتوبيخ واللوم، الذي لا يستعمل إلا فيما يكره غالبًا، ولذلك نفاه يوسف عليه السلام، حيث قال لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، وكأن المنافقين ذكروها بهذا الاسم مخالفةً له - صلى الله عليه وسلم -، فحكى الله عنهم كما قالوا. وقال الإِمام السهيلي: سميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عبيل بن مهلاييل بن عوض بن عملاق بن لاود بن إرم، وعبيل: هم الذين سكنوا الجحفة، وهي ميقات الشاميين، فأجحفت بهم السيول فيها؛ أي: ذهبت بهم فسميت الجحفة، وقال بعضهم: هي من الثرب بالتحريك، وهو الفساد، وكان في المدينة الفساد واللؤم بسبب عفونة الهواء، وكثرة الحمى، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كره ذلك فسماها طيبة، على وزن بصرة، من الطيب، وقد أفتى الإِمام مالك - رحمه الله تعالى - فيمن قال: تربة المدينة رديئة بضربه ثلاثين درةً، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يزعم أنا غير طيبة. وفي الحديث: "من سمى المدينة بيثرب .. فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة، هي طيبة". وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين أشار إلى دار الهجرة: "لا أراها إلا يثرب" ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه - صلى الله عليه وسلم - من تسميتها بذلك، كان قبل النهي عن ذلك، وإنما سميت طيبة؛ لطيب رائحة من مكث بها، وتزايد روائح الطيب بها, ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم؛ لأن ترابها يشفي المجذوم، وهو كغراب، علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيآتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرحٍ. انتهى. وفيه إشارة إلى حال أهل الفساد والإفساد في هذه الأمة، إلى يوم القيامة، نسأل الله تعالى أن يقيمنا على نهج الصواب، ويجعلنا من أهل التواصي بالحق، والصبر دون التزلزل والاضطراب.

[14]

وقوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} معطوف على {قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} والتعبير فيه بالمضارع لحكاية الحال الماضية أيضًا؛ أي: ويطلب جماعة منهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الرجوع إلى بيوتهم، وتركهم للقتال، معتذرين بمختلف المعاذير، وجملة قوله: {يَقُولُونَ}: بدل من قوله: {يستأذن} أو حال، أو مستأنف جوابًا لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه هو قولهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا} ومنازلنا في المدينة {عَوْرَةٌ}؛ أي: غير حصينة، وغير محرزة لما فيها, لأنها قصيرة الحيطان، وفي أطراف المدينة، فيخشى عليها من السراق، وأصل العورة في اللغة: الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، كما سيأتي. والمعنى: أنها غير حصينة متخرقة، ممكنة لمن أرادها، فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر، وكان عليه السلام يأذن لهم، وفي الحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك، ثم رد الله عليهم بقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}؛ أي: والحال أن بيوتهم ليست بضائعةٍ، يخشى عليها السراق، بل هي حصينة محرزة. وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعكرمة ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبو طالوت وابن مقسم وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير: {عورة} {بعورة} بكسر الواو فيهما؛ أي: قصيرة الجدران، والجمهور: بإسكانها فيهما، أطلقت على المختل مبالغةً. ثم بيّن سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: {إِنْ يُرِيدُونَ}؛ أي: ما يريدون بالاستئذان {إِلَّا فِرَارًا} وهربًا من القتال، وعدم مساعدة عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فرارًا من الدين والإِسلام. 14 - ثم بيّن وهن الدين وضعفه في قلوبهم إذ ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق، ينقطع بأدنى هزةٍ، فقال: {وَلَوْ دُخِلَتْ} بيوتهم أو المدينة، أسند الدخول إلى بيوتهم، وأوقع عليهم، لما أن المراد فرص دخولها وهم فيها, لا فرص دخولها مطلقًا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور. {مِنْ أَقْطَارِهَا}؛ أي: من جميع جوانبها, لا من بعضها دون بعض؛ أي:

لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية، ودخلها كل من أراد الخبث والفساد، {ثُمَّ سُئِلُوا} من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة {الْفِتْنَةَ}؛ أي: الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا من الإيمان والطاعة .. {لَآتَوْهَا} بالمد؛ أي: لأعطوا تلك الفتنة السائلين لها؛ أي (¬1): أعطوهم مرادهم غير مبالين بما دهاهم من الداهية والغارة بالقصر؛ أي: لفعلوا تلك الفتنة وجاؤوا بها. {وَمَا تَلَبَّثُوا}؛ أي: وما مكثوا وما تأخروا عن الإتيان بتلك الفتنة {إِلَّا}، زمنًا {يَسِيرًا}؛ أي؛ قليلًا قدر ما يسمع السؤال والجواب، فضلًا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها، كما فعلوا الآن، وما ذلك إلا لمقتهم الإِسلام، وشدة بغضهم لأهله، وحبهم بالكفر وأهله، وتهالكهم على حزبه. والمعنى (¬2): لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، من نواحي المدينة وجوانبها، أو دخلوا بيوتهم من جوانبها جميعًا، لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم، ثم سئلوا الفتنة والردة والرجعة إلى الكفر، الذي يبطنونه ويظهرون خلافه من جهة أخرى، عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم .. لآتوها؛ أي: لجاؤوا، وفعلوا تلك الفتنة، أو أعطوا تلك الفتنة لسائلها، وما تلبثوا وجلسوا بها؛ أي: بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثًا يسيرًا حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلًا، بل هم مسرعون إليها، راغبون فيها, لا يقفون عنها إلا قدر زمن وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة، مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة، ولم تكن إذ ذاك عورة. وقال ابن عطية: والمعنى: ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الحرب الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة، والحرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. لطاروا إليها، وأتوها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن والشوكاني.

[15]

مجيبين فيها, ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرًا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {سُئِلُوا}، وقرأ الحسن: {سولوا} بواو ساكنة بعد السين المضمومة، قالوا: وهي من سأل يسال، كخاف يخاف، لغة: من سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان. انتهى. ويجوز أن يكون أصلها الهمز, لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب ثم سهل الهمزة، بإبدالها واوًا، على قول من قال: في بؤس بوس، بإبدال الهمزة واوًا لضم ما قبلها، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو والأعمش: {سيلوا} بكسر السين من غير همز، نحو قيل، وقرأ مجاهد: {سويلوا} بواو بعد السين المضمومة، وياء مكسورة بدلًا من الهمزة، وقرأ الجمهور {لَآتَوْهَا} بالمد؛ أي: لأعطوها، وقرأ نافع وابن كثير: {لأتوها} بالقصر؛ أي: لجاؤوها. وفي هذا إيماء (¬2) إلى أن الإيمان لا قرار له في نفوسهم، ولا أثر له في قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم، وطلبهم الهرب من ميدان القتال. والخلاصة: أن شدة الخوف والهلع الذي تمكن في قلوبهم، مع خبث طويتهم، وإضمارهم النفاق، تحملهه على الإشراك بالله، والرجوع إلى دينهم، عند أدنى صدمةٍ تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهري، لا أثر له في نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذًا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ. 15 - ثم بيَّن أن لهم سابقة عهدٍ بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال: {وَلَقَدْ كَانُوا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان الفريق الذين استأذنوك للرجوع إلى منازلهم في المدينة، وهم بنو حارثة وبنو سلمة {عَاهَدُوا اللَّهَ} سبحانه وحلفوا له {مِنْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[16]

قَبْلُ}؛ أي: من قبل واقعة الخندق، يعني: يوم أحد، حين هموا بالانهزام، ثم تابوا لما نزل فيهم ما نزل كما سبق في آل عمران، وقال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله لأهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا .. لنقاتلن. {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}: جواب قسم؛ لأن {عَاهَدُوا}: بمعنى حلفوا، كما في "الكواشي"؛ أي: لا يتركون العدو خلف ظهورهم ولا يفرون من القتال ولا ينهزمون ولا يعودون لمثل ما في يوم أحد، ثم وقع منهم هذا الاستئذان نقضًا للعهد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بتشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. اهـ. "سمين". {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {مَسْئُولًا} عنه صاحبه يوم القيامة، ومطلوبًا بالوفاء به في الدنيا، ومجازًى على ترك الوفاء به يوم القيامة، يسأل عنه: هل وفي المعهود به، أو نقضه فيجازى عليه؟ وهذا وعيد. والمعنى: أي (¬1) ولقد كان هؤلاء المستأذنون، وهم بنو حارثة وبنو سلمة، قد هربوا يوم أحد، وفروا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله أن لا يعودوا إلى مثلها، وأن لا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين ما للعهد من حرمةٍ فقال: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه. 16 - ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المستأذنين الفارين من قتال العدو ومنازلته في الميدان: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} والهرب، ولا يدفع عنكم ما أبرم في الأزل، من موت أحدكم حتف أنفه، {إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ} قتلة بسيف أو نحوه، إن فررتم من {الْقَتْلِ}، والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، فإنه لا بد لكل شخص من الفناء والهلاك، سواء كان بحتف أنف أو بقتل سيف في وقت ¬

_ (¬1) المراغي.

[17]

معين سبق به القضاء، وجرى عليه القلم، ولا يتغير أصلًا، فإن المقدر كائن لا محالة، والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي بن أبي طالب يقول عند اللقاء: دهم الأمر وتوقد الجمر. أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرّ ... يَوْمَ لَا يَقْدِرُ أَمْ يَوْمَ قَدِرْ يَوْمَ لَا يَقْدِرُ لَا أُرْهِبُهُ ... وَمِنَ الْمَقْدُوْرِ لَا يُنْجِيْ الْحَذِرْ {وَإِذًا}؛ أي: وإن نفعكم الفرار مثلًا، فمتعتم بالتأخير {لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا} تمتيعًا {قَلِيلًا} أو إلا زمانًا قليلًا بعد فراركم إلى أن تنقضي آجالكم، وكل ما هو آتٍ قريب، وعمر الدنيا كله قليل، فكيف مدة آجال أهلها، وقد قال من عرف مقدار: عمرك في جنب عيش الآخرة، كنفس واحد، وقد أجاد من قال: الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ ... وَالْقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ وعن بعض المروانية: أنه مر بحائط مائلٍ فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل أطلب. والمعنى (¬1): أي وإن نفعكم الفرار، بأن دفع عنكم الموت، فمتعتم .. لم يكن ذلك التمتع إلا قليلًا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل، وإن كثر، ولله در أحمد شوقي حيث يقول: دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ ... إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِيْ وقرأ الجمهور (¬2): {تمتعون} بالفوقانية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه: بالتحتية، وفي بعض الروايات: {لا تمتعوا} بحذف النون إعمالًا لإذن، وعلى قراءة الجمهور: هي ملغاة. 17 - ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا، لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم .. أمره الله سبحانه بالجواب عن هذا فقال: {قُل} يا محمد لهؤلاء المستأذنين {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} ويحفظكم {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من قضائه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

والاستفهام فيه إنكاري، ومذهب (¬1) سيبويه على أن {مِنَ} الاستفهامية: مبتدأ، و {ذا}: خبره، و {الَّذِي}: صفة أو بدل منه، وذهب بعض النحاة إلى كون: {مَنْ ذَا} خبرًا مقدمًا، والعصمة: الحفظ والمنع؛ أي: قل لهم: من الذي يحفظكم ويدفع عنكم قضاء الله وحكمه {إِنْ أَرَادَ} الله سبحانه {بِكُمْ سُوءًا}؛ أي: شرًا وضررًا وهلاكًا في أنفسكم، أو نقصًا في الأموال، وجدبًا مرضًا {أَوْ} من الذي يصيبكم بسوء وضرر إن {أَرَادَ} الله سبحانه {بِكُمْ رَحْمَةً}؛ أي: نصرةً وإطالة عمر في عافيةٍ وسلامةٍ وخصبًا وكثرة مال، أو المعنى: من يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمةً، لما في العصمة من معنى المنع، ففي الكلام اختصار كما في قوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا؛ أي: ومعتقلًا رمحًا، والاعتقال: أخذ الرمح بين الركب والسرج، وكما في قوله: علفتها تبنًا وماءً باردًا. والمعنى: لا أحد يستطيع أن يدفع عنكم شرًا قدره الله سبحانه عليكم، من قتل أو غيره، ولا أحد يستطيع أن يصيبكم بسوء، إن أراد الله بكم رحمةً، من خصب وملامة وعافيةٍ. وإجمال القول (¬2): أن النفع والضر بيده سبحانه، وليس بغيره في ذلك تصريف ولا تبديل. ثم أكد هذا بقوله: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ}؛ أي: ولا يجد هؤلاء المنافقون لأنفسهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين الله سبحانه {وَلِيًّا} يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء قبل الوقوع {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم ويخلصهم من السوء، والضرر بعد الوقوع. واعلم (¬3): أن الآية دلت على أمور: الأول: أن الموت لا بد منه، قال بعضهم: إذا بلغ الرجل أربعين سنة .. ناداه منادٍ من السماء: دنا الرحيل فأعد زادًا، وقال الثوري: ينبغي لمن كان له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

عقل إذا أتى عليه عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهيىء كفنه. والثاني: أن الفرار لا يزيد في الآجال، ومن أسوأ حالًا ممن سعى لتبديل الآجال والأرزاق، ورجاء دفع ما قدر له أنه لاقٍ، وأنه لا يقيه منه واقٍ. والثالث: أن من اتخذ الله سبحانه وليًا ونصيرًا .. نال ما يتمناه قليلًا وكثيرًا، ونصر أميرًا وفقيرًا، وطاب له وقته مطلقًا وأسيرًا، فثبت ثبات الجبال، وعامل معاملة الرجال، نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الفرار من نحو بابه، والإقبال على الإدبار عن جنابه، إنه الولي النصير، ذو الفضل الكثير. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}: {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد، {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي} أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة، {اتَّقِ اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ} ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {وَلَا تُطِعِ}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُطِعِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله: ضمير يعود على {النَّبِيُّ}، والجملة: معطوفة على جملة {اتَّقِ اللَّهَ}، {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، {وَالْمُنَافِقِينَ}: معطوف عليه. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}، {عَلِيمًا}: خبر أول له، {حَكِيمًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاتَّبِعْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ} - صلى الله عليه وسلم -، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {اتَّقِ اللَّهَ}، {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {مَا}، {إِلَيْكَ}: متعلق به، {مِنْ

رَبِّكَ}: حال من الضمير المستتر في {يُوحَى}، والجملة الفعلية: صلة الموصول، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}، {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرًا}، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة {مَا} الموصول، {خَبِيرًا} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَتَوَكَّلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على {اتَّقِ}، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {اتَّقِ}، {وَكَفَى}: فعل ماض، {بِاللَّهِ}: فاعل، و {الباء}: زائدة، {وَكِيلًا}: تمييز لفاعل {كفى}. والجملة: مستأنفة. {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)}. {مَا}: نافية، {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للرد على مزاعم المشركين، بأن لبعضهم قلبين، فهو أعقل من محمد، {لِرَجُلٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {جَعَلَ}، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}، {مِنْ}: زائدة، {قَلْبَيْنِ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} {فِي جَوْفِهِ} صفة لـ {قَلْبَيْنِ} {وَمَا} {و}: عاطفة، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. والجملة: معطوفة على جملة {ما} نافية {جَعَلَ} الأولى، {أَزْوَاجَكُمُ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {اللَّائِي}: اسم موصول للجمع المؤنث في محل النصب صفة لـ {أَزْوَاجَكُمُ}. {تُظَاهِرُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مِنْهُنَّ}: متعلق به، {أُمَّهَاتِكُمْ}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {جَعَلَ} الأول، {أَدْعِيَاءَكُمْ}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {أَبْنَاءَكُمْ}: مفعول ثان، {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {قَوْلُكُمْ}: خبره، والجملة: مستأنفة، {بِأَفْوَاهِكُمْ}: حال من {قَوْلُكُمْ}؛ أي: كائنًا بأفواهكم فقط، من غير أن تكون له حقيقة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {يَقُولُ الْحَقَّ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة، {وَهُوَ}: {الواو}: حالية، {هو}: مبتدأ {يَهْدِي}: فعل مضارع

وفاعل مستتر {السَّبِيلَ}: مفعول ثان لـ {يَهْدِي}، والأول محذوف؛ أي: من يشاء، أو منصوب بنزع الخافض، وجملة {يَهْدِي}: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {يَقُولُ}. {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}. {ادْعُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن نسبة كل مولود إلى والده أقوم وأعدل. {لِآبَائِهِمْ}: متعلق بـ {ادْعُوهُمْ}. {هُوَ}: مبتدأ، {أَقْسَطُ}: خبره. والجملة: مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَقْسَطُ} أو حال من الضمير في {أَقْسَطُ}، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: هذا إن علمتم آباءهم. {إن}: حرف شرط، {لَمْ}: حرف جزم. {تَعْلَمُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {آبَاءَهُمْ}: مفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَإِخْوَانُكُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إخوانكم}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم. {فِي الدِّينِ}: حال من {إخوانكم}، {وَمَوَالِيكُمْ}: معطوف على {إخوانكم}. والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. {وَلَيْسَ} {الواو}: عاطفة. {ليس}: فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ}: خبرها مقدم. {جُنَاحٌ}: اسمها مؤخر. {فِيمَا}: جار ومجرور صفة لـ {جُنَاحٌ}. وجملة {ليس}: معطوفة على جملة قوله: {فإن لم تعلموهم}. {أَخْطَأْتُمْ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِهِ}: متعلق بـ {أَخْطَأْتُمْ}. {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {مَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على ما في قوله فيما {أَخْطَأْتُمْ}. ويجوز أن يكون في محل الرفع مبتدأ، وخبره:

محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم تؤاخذون به. {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَّا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ولكن ما تعمدته قلوبكم. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {غَفُورًا}: خبر أول لكان. {رَحِيمًا}: خبر ثان لها، وجملة {كان}: مستأنفة. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}. {النَّبِيُّ أَوْلَى}: مبتدأ وخبر، {بِالْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {أَوْلَى}. والجملة: مستأنفة. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}: مبتدأ وخبر. والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ}: مبتدأ أول. {بَعْضُهُمْ}: مبتدأ ثان أو بدل من أولوا. {أَوْلَى}: خبر للمبتدأ الثاني. وجملة الثاني: خبر الأول. وجملة الأول: معطوفة على الجمل التي قبلها. {بِبَعْضٍ}: متعلق {أَوْلَى}، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: بإرث بعض. {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا؛ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظرف؛ أي: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير في {أَوْلَى} والعامل فيها {أَوْلَى}؛ لأنها شبيهة بالظرف، ولا يجوز أن يكون حالًا من {وَأُولُو} للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها. اهـ. "كرخي". {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {أَوْلَى} أيضًا. {وَالْمُهَاجِرِينَ}: معطوف عليه، {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تَفْعَلُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية. {إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ}: متعلق بـ {تَفْعَلُوا}: بتضمينه معنى تحسنوا أو تسدوا. {مَعْرُوفًا}: مفعول به. والجملة الفعلية، مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ، وخبره: محذوف، والتقدير: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، والجملة الاستدراكية: مستأنفة. {كَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه. {فِي الْكِتَابِ}: متعلق بـ {مَسْطُورًا}. {مَسْطُورًا}. خبر {كَانَ}: وجملة {كَانَ}: مستأنفة.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ أخذنا إلخ. {أَخَذْنَا}: فعل وفاعل. {مِنَ النَّبِيِّينَ}: متعلق به. {مِيثَاقَهُمْ}: مفعول به. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. والجملة المحذوفة: مستأنفة. {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}: معطوفان على {مِنَ النَّبِيِّينَ}: عطف خاص على عام. {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}: معطوفات على {نُوحٍ}. {ابْنِ مَرْيَمَ}: صفة لـ {وَعِيسَى}. {وَأَخَذْنَا}: فعل وفاعل معطوف على لـ {أَخَذْنَا} الأول للتأكيد. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَخَذْنَا}. {مِيثَاقًا}: مفعول به لـ {أَخَذْنَا}. {غَلِيظًا}: صفة {مِيثَاقًا}. {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}. {لِيَسْأَلَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {يسأل}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {الصَّادِقِينَ}: مفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك ليسأل الصادقين. إلخ. والجملة المحذوفة: مستأنفة. {عَنْ صِدْقِهِمْ}: متعلق بـ {يسأل}. {وَأَعَدَّ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ}. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {أعد}. {عَذَابًا}: مفعول به. {أَلِيمًا}: صفة له. وفي "الفتوحات": {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ}: يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون معطوف على ما دل عليه {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ}، إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين. والثاني: أنه معطوف على {أَخَذْنَا}؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا

وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. و {الهاء}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي} أو بدل أو عطف بيان. وجملة النداء: مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {اذْكُرُوا}: فعل أمر وفاعل. {نِعْمَةَ اللَّهِ}: مفعول به ومضاف إليه. والجملة: جواب النداء. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ}؛ لأنه مصدر بمعنى: إنعام الله عليكم، أو بمحذوف حال من {النعمة}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {اذْكُرُوا}، وهو بمنزلة بدل اشتمال من {نِعْمَةَ اللَّهِ}، والمراد بـ {نِعْمَةَ اللَّهِ}: نصرهُ في غزوة الأحزاب. {جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فَأَرْسَلْنَا}: {الفاء}: عاطفة، {أرسلنا}: فعل وفاعل معطوف على {جَاءَتْكُمْ}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أرسلنا}. {رِيحًا}: مفعول به، {وَجُنُودًا}: معطوف على {رِيحًا}. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {تَرَوْهَا}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ}. والجملة الفعلية: صفة لـ {جُنُودًا}. ورأى هنا بصرية. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرًا}. وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة. {بَصِيرًا}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل النصب حال من فاعل {أرسلنا}. {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان بدل من {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}. {جَاءُوكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {مِنْ فَوْقِكُمْ}: متعلق بـ {جَاءُوكُمْ}. {وَمِنْ أَسْفَلَ}: معطوف على {مِنْ فَوْقِكُمْ}. {مِنْكُمْ}: جار ومجرور صفة لـ {أَسْفَلَ}. {وَإِذْ زَاغَتِ}: {الواو}: عاطفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، معطوف على {إِذْ جَاءُوكُمْ}. {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ}: فعل وفاعل معطوف على {زَاغَتِ}. {الْحَنَاجِرَ}: منصوب على الظرفية المكانية، أو على التوسع.

{وَتَظُنُّونَ}: فعل وفاعل معطوف على {زَاغَتِ}، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تظنون}. {الظُّنُونَا}: منصوب على المفعولية المطلقة، و {الألف}: مزيدة تشبيهًا للفواصل بالقوافي. {هُنَالِكَ}: {هنا}: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، و {اللام}: لبعد المشار إليه، و {الكاف}: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ {ابْتُلِيَ}. {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. {وَزُلْزِلُوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {ابْتُلِيَ}. {زِلْزَالًا}: مصدر مبين للنوع. {شَدِيدًا}: صفة لـ {زِلْزَالًا}. {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة، مستأنفة، أو معطوفة على ما سبق. {يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {وَالَّذِينَ}: معطوف على {الْمُنَافِقُونَ}. {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم. {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. {مَا وَعَدَنَا}: {مَا}: نافية. {وَعَدَنَا اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل. {وَرَسُولُهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {غُرُورًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، ولكنه على حديث مضاف؛ أي: وعد غرور. {وَإِذْ}: {الواو}: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على {إذ يقول}. {قَالَتْ طَائِفَةٌ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {مِنْهُمْ}: صفة لـ {طَائِفَةٌ}. {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}: منادى مضاف، ويثرب ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، أو التأنيث المعنوي، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {لَا}: نافية تعمل عمل إن. {مُقَامَ}: في محل النصب اسمها. {لَكُمْ}: خبر {لَا}. وجملة {لَا}: في محل النصب مقول {قَالَتْ} على كونها جواب النداء. {فَارْجِعُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها

أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعتم كلامي، وقبلتم نصحي .. فأقول لكم: ارجعوا. {ارجعوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {وَيَسْتَأْذِنُ}: {الواو}: عاطفة. {يستأذن فريق}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَتْ}. {مِنْهُمْ}: صفة {فَرِيقٌ}. {النَّبِيَّ}: مفعول به. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل. والجملة: في محل النصب حال من {فَرِيقٌ} لوصفه بما بعده. {إِنَّ بُيُوتَنَا}: ناصب واسمه. {عَوْرَةٌ}: خبر {إِنَّ}. وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {وَمَا هِيَ}: {الواو}: حالية. {ما}: حجازية تعمل عمل ليس. {هِيَ}: في محل الرفع اسمها. {بِعَوْرَةٍ}: خبرها. و {الباء}: زائدة. وجملة {ما}: في محل النصب حال من {بيوتنا}. {إِنْ}: نافية. {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل. {إِلَّا}: أداة حصر. {فِرَارًا}: مفعول به. والجملة: مستأنفة. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {دُخِلَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود إلى {بيوتهم}، أو إلى المدينة. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {مِنْ أَقْطَارِهَا}: حال من مرفوع {دُخِلَتْ}. والجملة: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {سُئِلُوا}: فعل ونائب فاعل معطوف على {دُخِلَتْ}. {الْفِتْنَةَ}: مفعول ثان لـ {دُخِلَتْ}. {لَآتَوْهَا}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية. {أتوها}: فعل وفاعل ومفعول به، والمفعول الثاني: محذوف إن قرأنا بالمد؛ لأنه بمعنى أعطي، تقديره: لأعطوها السائلين. والجملة الفعلية: جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. {وَمَا تَلَبَّثُوا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {تَلَبَّثُوا}: فعل وفاعل. {بِهَا}: متعلق بـ {تَلَبَّثُوا}. {إِلا}: أداة استثناء مفرغ. {يَسِيرًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تلبثًا يسيرًا، أو لزمن محذوف؛

أي: زمنًا يسيرًا، والجملة: معطوفة على جواب {لو} الشرطية. {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية. و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {عَاهَدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية، في محل النصب خبر {كان}. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور متعلق بـ {عَاهَدُوا}. وجملة {كان}: جملة قسمية لا محل لها من الإعراب؛ لأنه بمعنى: ولقد أقسموا بالله من قبل. {لَا}: نافية. {يُوَلُّونَ}: فعل وفاعل. {الْأَدْبَارَ}: مفعول ثان لـ {يُوَلُّونَ}، والمفعول الأول: محذوف، تقديره: لا يولون العدو الأدبار، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وجاء على حكاية اللفظ، فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى .. لقيل: لا نولي. {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ}: {الواو}: عاطفة. {كان عهد الله}: فعل ناقص واسمه. {مَسْئُولًا}: خبره. والجملة: معطوفة على جملة القسم. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {لَنْ}: حرف نفي ونصب. {يَنْفَعَكُمُ}: فعل ومفعول به منصوب بـ {لَنْ}. {الْفِرَارُ}: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنْ}: حرف شرط. {فَرَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزمِ بـ {إِنْ}: الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {مِنَ الْمَوْتِ}: متعلق بـ {فَرَرْتُمْ}، {أَوِ الْقَتْلِ}: معطوف عليه، وجواب {إِنْ}: الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن فررتم من الموت .. لن ينفعكم الفرار، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَإِذًا}: {الواو}: عاطفة. {إِذًا}: حرف جواب وجزاء مهمل لعدم تصدرها في أول الكلام المجاب بها، كما هو الغالب والشرط فيها. {لَا}: نافية. {تُمَتَّعُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا.

{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {مَنْ ذَا}: اسم استفهام مركب للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع خبر مقدم. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في مجل النصب مقول {قُلْ}. {يَعْصِمُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق به. والجملة: صلة الموصول {إن}: حرف شرط. {أَرَادَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الحزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {بِكُمْ} متعلقان به {سُوءًا}: مفعول به، وجواب {إن} معلوم مما قبله، تقديره: إن أراد بكم سوءًا فمن الذي يعصمكم، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَوْ أَرَادَ}: فعبم وفاعل مستتر معطوف على {أَرَادَ} الأول. {بِكُمْ} متعلق بـ {أَرَادَ}. {رَحْمَةً}: مفعول به، ولا بد من تقدير محذوف هنا كما مر؛ أي: أو من الذي يصيبكم بسوء، إن أراد بكم رحمة. {وَلَا يَجِدُونَ}: {الواو}: استئنافية. {لا}: نافية. {يَجِدُونَ}: فعل وفاعل. {لَهُمْ}: جار وجرور في محل المفعول الثاني، أو متعلق به إن كان من وجد الضالة. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من {وَلِيًّا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {وَلِيًّا}: مفعول أول لـ {يَجِدُونَ} أو مفعول به له. {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف على {وَلِيًّا}. والجملة الفعلية: مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}: النبي: إما مأخوذ من النبأ، وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، وسمي نبيًا؛ لأنه منبىء؛ أي: مخبر عن الله بما تسكن إليه العقول الزكية، أو من النبوة؛ أي: الرفعة؛ لأنه مرفوع الرتبة على سائر الخلائق، أو رافع رتبة من تبعه، فهو فعيل: إما بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، فأصله على الأول نبييء؛ وعلى الثاني: نبيو. {اتَّقِ اللَّهَ}؛ أي: دم على التقوى، قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل

بطاعة الله سبحانه على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. اهـ. واعلم: أن التقوى في اللغة بمعنى: الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة هو، الاحتواز بطاعة الله من عقوبته، وصيانة النفس عما تستحق به العقوبة، من فعل أو ترك، فالتقوى اسم مصدر من اتقى يتقي اتقاءً: إذا جعل لنفسه وقاية عما يخافه. {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}؛ أي: دم على ما أنت عليه من انتقاء الطاعة لهم، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهنٍ في الدين، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مطيعًا لهم، حتى ينهى عن إطاعتهم، لكنه أكد عليه ما كان عليه، وثبت على التزامه، والإطاعة: الانقياد، والطاعة: اسم مصدر من أطاع يطيع إطاعةً وطاعةً، والفرق بين الطاعة والعبادة: أن الطاعة فعل يعمل بالأمر، بخلاف العبادة. {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ}؛ أي: نساءكم، جمع زوج، كما أن الزوجات جمع زوجة، والزوج، أفصح، وإن كان الثاني أشهر. {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} يقال: ظاهر الرجل من زوجته: إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون: أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، فهو مضارع ظاهر، ومصدره: الظهار بكسر الظاء، كقاتل قتالًا، وهو كما في "القاموس" قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وقد ظاهر وتظهر وظهر، وخصوا الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوب الزوج، ففي قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر إلى المركوب، ومن المركوب إلى المرأة؛ لأنها مركوب الزوج، فكان المُظاهر يقول: أنت محرمة علي لا تركبين، كتحريم ركوب أمي. {أُمَّهَاتِكُمْ}؛ أي: كأمهاتكم، جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق، من أراق، وشذت زيادتها في الواحدة بأن يقال: أمه.

{أَدْعِيَاءَكُمْ}: جمع دعي، وهو من يُدعى لغير أبيه؛ أي: يتخذ ولدًا وابنًا له، وهو المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس, لأن أفعلاء، إنما يكون جمعًا لفعيل المعتل اللام، إذا كان بمعنى فاعل، نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلًا معتل اللام، إلا أنه بمعنى مفعول، فكان القياس جمعه على فعلى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، بأن يقال: دعيًا، فكأنه شبه فعيل بمعنى مفعول في اللفظ، بفعيل بمعنى فاعل، فجمع جمعه. {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}: والأفواه: جمع فم، وأصل فم: فوه بالفتح، مثل ثوب وأثواب، وهو مذهب سيبويه والبصريين، أوفوه بالضم، مثل سوق وأسواق، وهو مذهب الفراء، حذفت الهاء حذفاَ غير قياسي لخفائها، ثم الواو لاعتلالها، ثم أبدلت الواو المحذوفة ميمًا لتجانسهما, لأنهما من حروب الشفة، فصار فمًا. {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}: والسبيل من الطرق: ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة. {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} يقال: فلان يدعى لفلان؛ أي: ينسب إليه، ووقوع اللام هاهنا للاستحقاق. {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}: القسط بالكسر: العدل، بالفتح: هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك غير إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. حكي أن امرأة قالت للحجاج: أنت القاسط، فضربها، وقال: إنما أردت القسط بالفتح، وأقسط هنا أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة، والمعنى بالغ في العدل والصدق. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}؛ أي: إثم، يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم: المائل بالإنسان عن الحق جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، وقال بعضهم: إنه معرب، كناه على ما هو عادة العرب في الإبدال، ومثله الجوهر: معرب كوهر.

{فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} بقطع الهمزة؛ لأن همزة باب الإفعال مقطوعة وفرق بين الخاطىء والمخطيء، بأن الخاطيء من يأتي بالخطأ: وهو يعلم أنه خطأ، والمخطيء: من يأتي بالخطأ، وهو لا يعلم أنه خطأ، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره، إذا زلّ وهنا وخطأ الرجل إذا ضلّ في دينه وفعله، ومنه قوله: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: أرأف وأشفق وأجدر بهم. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: فيما دعاهم إليه من أمر الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم. اهـ. "شيخنا". ويقال: فلان أولى بكذا: أحرى وأليق به. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ}: جمع رحم، وهو القرابة؛ أي: ذوو القرابات. {مَسْطُورًا}؛ أي: مكتوبًا، يقال: سطر فلان كذا؛ أي: كتب سطرًا سطرًا، والسطر: الصف من الكتابة. {مِيثَاقَهُمْ}: الميثاق: عقد يؤكد بيمين. {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصر على الأحزاب، وذكر النعمة: شكرها. {جُنُودٌ}: جمع جند، ويقال للعسكر: الجند؛ اعتبارًا بالغلظ من الجند، وهي الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع جند، نحو: الأرواح جنود مجندة؛ أي: مجمعة، والمراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير من اليهود ورؤسائهم: حيي بن أخطب، وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد، فنبذه كعب بسعي حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف، أو نحو ذلك.

{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}؛ أي: انحرفت عن مستوى نظرها حيرةً ودهشةً، والزيغ: الميل عن الاستقامة، والأبصار: جمع بصر، والبصر: الجارحة الناظرة. {الْحَنَاجِرَ}: جمع حنجرة، وهي: رأس الغلصمة، والغلصمة: رأس الحلقوم، والحلقوم: مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب, وهو تحت الحلقوم. وقال الراغب: الحنجرة: رأس الغلصمة من خارج. اهـ. وهي منتهى الحلقوم وطرفه من أسفله اهـ. "سمين". {هُنَالِكَ}: هو في الأصل للمكان البعيد، لكن العرب تكنى بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان. {زِلْزَالًا} الزلة في الأصل: استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجله تزل، والمزلة: المكان الزلق، وقيل: للذنب من غير قصد: زلة، تشبيهًا بزلة الرجل، والتزلزل: الاضطراب، وكذا الزلزلة: شدة الحركة، وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرر معنى الزلل. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: قال الواغب: المرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، وهو ضربان: جسمي ونفسي، كالجهل والجبن والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم، لقرب عهدهم بالإِسلام. {إِلَّا غُرُورًا}: بضم الغين لا غير, لأنه مصدر؛ أي: وعد غرور لا حقيقة له. {لَا مُقَامَ لَكُمْ}؛ أي: لا ينبغي لكم الإقامة هاهنا. {عَوْرَةٌ} بسكون الواو، وفي الأصل: أطلقت على المختل مبالغة، يقال: عور المكان عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق، وفلان يحفظ عورته؛ أي: خلله، والعورة أيضًا: سوءة الإنسان، وذلك كناية، وأصلها من

العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء، للكلمة القبيحة. {مِنْ أَقْطَارِهَا}: جمع قطر بالضم، وهو الجانب والناحية. {الْفِتْنَةَ}: الردة ومقاتلة المؤمنين. {عَاهَدُوا اللَّهَ} العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، والمعاهدة: المعاقدة. {الْأَدْبَارَ}: جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل، يقال: ولاه دبره: إذا انهزم. {مَسْئُولًا}؛ أي: مطلوبًا حتى يوفى، يقال: سألت فلانًا حقي؛ أي: طالبته به. {أَوِ الْقَتْلِ} والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، قال الراغب: أصل القتل: إزالة الروح عن الجسد، كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موت. انتهى. {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ}: وإذًا: حرف جواب وجزاء كما مر، ولما وقعت هنا بعد عاطف .. جاءت على الأكثر، وهو عدم إعمالها، ولم يشذ ما هنا ما شذ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب. اهـ. "سمين". {يَعْصِمُكُمْ}: والعصمة: الإمساك والحفظ. {سُوءًا}: والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه، والمراد هنا: القتل والهزيمة ونحوهما. {وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: الولي هو الدافع عنهم قبل وقوع السوء بهم والناصر المخرج لهم من السوء بعد وقوعهم فيه، كذا فرق بينهما.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: النداء بوصف النبي في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} إجلالًا له وتعظيمًا. ومنها: تنكير رجل في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} لإفادة الاستغراق والشمول، وإدخال حرف الجر الزائد؛ لتأكيد الاستغراق في قوله: {مِنْ قَلْبَيْنِ}. ومنها: ذكر الجوف في قوله: {فِي جَوْفِهِ} لزيادة التصوير في الإنكار. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {أُمَّهَاتِكُمْ}، وقوله: {أَبْنَاءَكُمْ}؛ أي: مثل أمهاتكم في التحريم، ومثل أبنائكم في الميراث، وفي قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، وأصل الكلام: وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم والإجلال والتكريم. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {أَوْلَى بِبَعْضٍ}؛ أي: أولى بإرث بعض. ومنها: ذكر الخاص بعد العام، إظهارًا لشرفه وفضله في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} إلخ. فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر؛ تنويهًا بشأنهم، وتشريفًا لهم؛ لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل، فآثرهم بالذكر؛ للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده؛ لأنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لهذا السبب. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} حيث شبه الميثاق بجرم

محسوس، واستعار له شيئًا من صفات الإجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه لعظم الميثاق وحرمته وثقل حمله. ومنها: التكرار في قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} لغرض بيان وصف الغلظ. ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ} إلى الغيبة في قوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} لغرض التبكيت والتقبيح للمشركين. ومنها: الطباق بين {أَخْطَأْتُمْ} و {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وبين {سُوءًا} و {رَحْمَةً}؛ لأن المراد بالسوء: الشر، وبالرحمة: الخير، وبين {مِنْ فَوْقِكُمْ} {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}. ومنها: التمثيل في قوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} حيث صور القلوب في خفقانها، واضطرابها، بارتفاعها إلى الحناجر. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} لاستحضار الصورة الماضية، وللدلالة على الاستمرار، وفي قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} للدلالة على استحضار القول، واستحضار صورته، وفي قوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ}. ومنها: الكناية في قوله: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}؛ لأنه كناية عن الفرار من الزحف. ومنها: الكناية في قوله: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}؛ لأنه كناية عن كونها غير حصينة. ومنها: العدول إلى الغيبة في قوله: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} على إرادة حكاية اللفظ، ولو جاء على حكاية المعنى .. لقيل: لا نولي الأدبار على، صيغة التكلم.

ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وهو مما يزيد رونق الكلام، وعذوبته، لما له من وقعٍ رائعٍ وجذب سامع. ومنا: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نصر (¬1) نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فرد عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير .. ظن أزواجه - رضي الله عنهن - أنه اختص بنفائس اليهود ¬

_ (¬1) المراغي.

وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال، ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا، من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب، ونحو ذلك، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن. أسباب النزول قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬1) البخاري بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين .. ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون .. قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. إلى آخر الآية. والحديث أخرجه أيضًا مسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطيالسي وابن جرير وأبو نعيم في "الحلية" وعبد الله بن المبارك في "الجهاد". قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ¬

_ (¬1) البخاري.

وَزِينَتَهَا ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لم أزل حريصًا على أن أسال عمر - رضي الله عنه - عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، اللتين قال الله لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس: عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصاحت علي امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره النهار حتى الليل، فأفزعني، فقلت: خابت من فعلت منهن بعظيمٍ، ثم جمعت على ثيابي فدخلت على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن من أن يغضب الله رسوله فتهلكين، لا تستكثري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك ولا تغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بأبي ضربًا شديدًا، وقال: أنائم هو، ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم، قلت: ما هو، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل مشربةً له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك، أولم أكن حذرتك، أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: لا أدري هوذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلًا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج فقال: ذكرتك له

فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، وقد أثر الرمال بجنبه، متكىء على وسادةٍ من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ فرفع بصره إليّ فقال: "لا" ثم قلت وأنا قائم: استأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: أدع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكأ فقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي، فاعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة على عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا، من موجدته عليهن حين عاتبه الله سبحانه، فلما مضت تسع وعشرون ليلة .. دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلةً أعدها عدًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الشهر تسعٌ وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول مرةٍ، فقال: "إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله سبحانه قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {عَظِيمًا} قلت: أفي هذا أستامر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءَه، فقلن: مثل ما قالت عائشة. الحديث أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن

[18]

الجارود وابن جرير. وأخرج (¬1) مسلم وأحمد والنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لهما فدخلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر، سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدا ناجده، وقال: من حولي يسألنني النفقة آنفًا، فقام أبو بكر، إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده، وأنزل الخيار فبدأ بعائشة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني ذاكر لك أمرًا، ما أحب أن تتعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك" قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ...} الآية. قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله. التفسير وأوجه القراءة 18 - {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}: {قد} (¬2) فيه لتأكيد العلم بالتعويق، ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد، والتعويق: التثبيط، يقال: عاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، كما سيأتي. ومنه عوائق الدهر، والخطاب فيه لمن أظهر الإيمان مطلقًا. والمعنى: قد علم الله سبحانه المثبطين للناس عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الصارفين عن طريق الخير، وهم المنافقون أيًا من كان منهم. {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} من منافقي المدينة، فالمراد: الأخوة في الكفر والنفاق {هَلُمَّ إِلَيْنَا}؛ أي: احضروا وارجعوا إلينا، ودعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك، وهذا يدل على أنهم عند هذا القول ¬

_ (¬1) مسلم. (¬2) روح البيان.

خارجون عن العسكر، متوجهون نحو المدينة فرارًا من العدو، و {هَلُمَّ}: اسم فعل بمعنى أقبل وأحضر وقرب، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وكلمة {إلى} صلة التقريب الذي تضمنه {هَلُمَّ}. والمعنى: قربوا أنفسكم إلينا. قيل (¬1): هم أناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأسٍ، ويريدون أنهم قليلو العدد، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم؛ أي: ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقيل: نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إليهم: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة .. لم يبقوا منكم أحدًا، وإنا نشفق عليكم، فأنتم إخواننا وجيراننا، هلموا إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه على المؤمنين، يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا: لئن قدر اليوم عليكم لم يبق منكم أحدًا، أما ترجعون عن محمد، ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا؛ يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانًا وإحتسابًا. {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ}؛ أي: الحرب والقتال، وهو في الأصل الشدة {إِلَّا} إتيانًا {قَلِيلًا} خوفًا من الموت، فإنهم يعتذرون ويتأخرون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، لا تراهم يبارزون ويقاتلون، إلا شيئًا قليلًا، إذا اضطروا إليه، وهذا على تقدير عدم الفرار، وقيل: المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياءً وسمعةً من غير احتساب، وقال أبو حيان: وقلته: إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وأنه رياء وتلميع لا تحقيق، انتهى. وقال ابن السائب: (¬2) هي في عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[19]

ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة، فإذا جاءهم المنافق .. قالوا له: ويحك، اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر: أن ائتونا فإنا ننتظركم، وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدًا من إتياته، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم .. عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية؟ والمعنى (¬1): أي إن ربك أيها الرسول، ليعلم حق العلم من يثبطون الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصدونهم عنه، وعن شهود الحرب معه، نفاقًا منهم، وتخذيلًا عن الإِسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم خلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدًا فلا تشهدوا معه مشهدًا، فإنا نخاف عليكم الهلاك، ولا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم .. تسللوا لواذًا، وعادوا إلى بيوتهم. 19 - ثم ذكر بعض معايبهم، من البخل والخوف والفخر الكاذب فقال: 1 - {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} حال من فاعل {يَأْتُونَ}؛ أي: حالة كونهم بخلاء عليكم، لا يعاونونكم بحفر الخندق، ولا بالنفقة والنصرة في سبيل الله، فهم لا يودون مساعدتكم، لا بنفس ولا بمالٍ، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: بخلاء بالقتال معكم، وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل: أشحةً بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي. وقرأ الجمهور: بالنصب، وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع. 2 - {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ}؛ أي: الخوف من العدو {رَأَيْتَهُمْ}؛ أي: رأيت يا محمد، أو أيها المخاطب أولئك المعوقين {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يا محمد في تلك الحالة، حالة كونهم {تَدُورُ} وتتحرك {أَعْيُنُهُمْ} وأبصارهم في أحداقهم يمينًا وشمالًا، وذلك شأن الجبان، إذا شاهد ما يخافه، و (الكاف) في قوله: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تدور أعينهم دورانًا كائنًا كدوران عين المغشي عليه من معالجة سكرات الموت وأسبابه، حذرًا وخوفًا ¬

_ (¬1) المراغي.

والتجاءً بك، يقال: غشي على فلان: إذا نابه ما غشي فهمه وستر عقله، كما سيأتي؛ أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي غشيته أسباب الموت، وأحاطت به سكراته، فيذهل عن كل شيء، ويذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء، تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه. والمعنى: أي (¬1) فإذا بدأ الخوف بِكَرِّ الشجعان وفرِّهم في ميدان القتال .. رأيتهم ينظرون إليك، وقد دارت أعينهم في مواضعها، فرقًا وخوفًا، كدوران عين الذي قرب من الموت، وعشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب نبه وعقله، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه. 3 - {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} وحصل الأمن من العدو وجمعت الغنائم .. {سَلَقُوكُمْ}؛ أي: جرحوكم وآذوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}؛ أي: بألسنة سليطةٍ ذربةٍ بذيةٍ خفيفة الحياء، جهروا فيكم بالسوء من القول، قال قتادة: ومعنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، وقالوا: وفروا لنا قسمتنا وسهمنا، فإنا قد ساعدناكم، وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، وبنا نصرتم عليه. وقرأ الجمهور (¬2): {سَلَقُوكُمْ} بالسين، وابن أبي عبلة: بالصاد. أي: فإذا كان الأمن .. تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة في النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم، وأسوؤهم مقاسمةً، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذَ لُهم للحق. اهـ. ثم بيّن ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}: حال من فاعل سلقوكم؛ أي: طعنوكم بألسنةٍ حدادٍ؛ أي: مؤثرة في الإعراض تأثير الحديد في الأجسام، حالة كونهم بخلاء على المال، حريصين على أخذ الغنائم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقرأ الجمهور: {أَشِحَّةً} بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة: {أشحة} بالرفع؛ أي: هم بخلاء حريصون على الغنائم، إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شيء مما وصل إلى أيديهم. والخلاصة: أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء. أَفِيْ السلم أعيار جفاءً وغلظةً ... وَفِيْ الْحَرْبِ أمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَاتِكِ وبعد أن وصفهم بما وصفهم به، من دنيء الصفات .. بين ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله، لعدم تمكن الوازع النفسي في قلوبهم فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من صفات السوء {لَمْ يُؤْمِنُوا} بالإخلاص، حيث أبطنوا خلافًا ما أظهروا، فصاروا أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله {فَأَحْبَطَ اللَّهُ} سبحانه {أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: أظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم أعمال تقتضي الثواب فتبطل؛ لأنهم منافقون، وفي هذا (¬1) دلالة على أن المعتبر عند الله هو العمل المبني على التصديق، وإلا فهو كبناء على غير أساس، أو المراد (¬2) أبطل تصنعهم ونفاقهم، فلم يبق مستتبعًا لمنفعةٍ دنيوية أصلًا. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬3): هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا, ولكن تعليم لمن يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل، انتهى. والمعنى: أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل؛ لأنهم أهل نفاق، فأبطل أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباءً ومنثورًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعرد. (¬3) الكشاف.

[20]

{وَكَانَ ذَلِكَ} الإحباط {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}؛ أي: هينًا على الله، لا يبالي به، لتعلق الإرادة به، إذ هم قوم فعلوا ما يستوجب الإحباط ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله، وتدل عليه حكمته. 20 - ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم فقال: هم {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا}؛ أي: هؤلاء المنافقون لجبنهم المفرط، يظنون أن الأحزاب باقون في معسكرهم، لم يذهبوا، إلى ديارهم، ولم ينهزموا، ففروا إلى المدينة، والأحزاب: هم الذين تحزبوا وتجمعوا على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، وهم قريش وغطفان وبنو قريظة والنضير من اليهود، كما مر. أي: هم (¬1) من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد هزمهم الله، ورحلوا وتفرقوا في كل وادٍ. وإجمال القول: أنهم لم يقاتلوا لجبنهم وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين، لا يلوون على شيء. {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} مرةً ثانية إلى المدينة {يَوَدُّوا} ويتمنوا {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ}؛ أي: خارجون من المدينة إلى البادية ساكنون {فِي الْأَعْرَابِ} لئلا يقاتلوا، والود (¬2): محبة لشيء وتمني حصوله، والبادون: هم الساكنون في البادية، وهم خلاف الحاضرين، والبدو وكذا البادية: خلاف الحضر، كما سيأتي. والأعراب: سكان البادية مطلقًا. حال كونهم {يَسْأَلُونَ} كل قادم من جانب المدينة عَنْ {أَنْبَائِكُمْ}؛ أي: عن أخباركم وعما جرى عليكم من الأحزاب؛ أي: يودون أنهم غائبون عنكم، يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة. أي: وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرةً أخرى .. تمنوا أن لو كانوا مقميمن في البادية، بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذًى ولا مكروه، ويكتفون بأن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[21]

يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفي هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم. وقرأ الجمهور (¬1): {يَسْأَلُونَ} بالهمز مضارع سأل، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصمًا، والأعمش قرؤوا: {يسلون} بغير همز نحو قوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما، ونقلهما صاحب "اللوامح" عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي وقتادة والجحدري والحسن ويعقوب بخلاف عنهما: {يسأل بعضهم بعضًا}؛ أي: يقول: بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: ترائينا الهلال. ثم سلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وحقر شأنهم، فقال: {وَلَوْ كَانُوا}؛ أي: ولو كان هؤلاء المنافقون {فِيكُمْ} أيها المؤمنون في الخندق في هذه الغزوة مشاهدين للقتال، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال {مَا قَاتَلُوا إِلَّا} قتالًا {قَلِيلًا} رياءً وسمعةً وخوفًا من التعبير من غير حسبةٍ. والمعنى: أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم في الكرة السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاءٍ وكرٍّ وفرٍّ وطعنٍ وضربٍ ومحاربةٍ بالسيوف، ومبارزة في الصفوف ما قاتلوا إلا قتالًا يسيرًا رياءً وخوفًا من العار، لا قتالًا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر. وحاصل معنى الآية (¬2): أي وإن يأت الكفار بعدما ذهبوا كرةً ثانية .. تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفرة، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار، والحال أن هؤلاء المنافقين، لو كانوا فيكم هذه الكرة، ولم يرجعوا إلى المدينة، ووقع قتال آخر .. ما قاتلوا معكم إلا قليلًا رياءً وخوفًا من التعيير. 21 - وبعد أن فصل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم .. عاتبهم أشد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتبر لو اعتبروا، وأسوة لو أرادوا التأسي، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون، وهو الظاهر من قوله فيما بعد: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ...} الخ {فِي رَسُولِ اللَّهِ} - صلى الله عليه وسلم - {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؛ أي: خصلة صالحة، حقها أن يقتدى بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الايستحباب في أمور الدنيا، والقدوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًا وإن ضارًا، يقال: تأسيت به؛ أي: اقتديت به. والمعنى (¬1): لقد كان لكم أيها المؤمنون في محمد - صلى الله عليه وسلم - خصلة حسنة، وسنة صالحة، حقها أن يؤتى بها؛ أي: يقتدى فيها، كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، فإنه قد شج فوق حاجبه وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة يوم أحد، وأوذي بضروب الأذى، فوقف ولم ينهزم، وصبر ولم يجزع، فاستسنوا بسنته وانصروه، ولا تتخلفوا عنه. وقال بعضهم: كلمة {فِي} تجريدية، جرد من نفسه شيء وسمي قدوة، وهي هو؛ يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه أسوة وقدوة، يحسن التأسي به، والاقتداء، كقولك: في البيضة عشرون منًا حديدًا؛ أي: هي نفسها هذا القدر من الحديد. وقرأ الجمهور (¬2): {أُسْوَةٌ} بضم الهمزة، وقرأ عاصم: بكسرها، وهما لغتان، كما قال الفراء وغيره، وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لقد كان لكم في رسول الله، حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية، وإن كان سببها خاصًا .. فهي عامة في كل شيء، ومثلها {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[22]

وهذه الجملة: خبرية لفظًا، إنشائيةً معنًى قصد بها الأمر؛ أي: اقتدوا به اقتداءً حسنًا، وهو أن تنصروا دين الله، كما نصر هو بنفسه بالخروج إلى الغزو. و (اللام) في قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ}: ويأمل ثوابه {و} يرجو {الْيَوْمَ الْآخِرَ}؛ أي: نعيمه، أو يخاف الله واليوم الآخر، فالرجاء يحتمل الأمل والخوف متعلقه بحسنة، أو بمحذوف، هو صفة لحسنة؛ أي: كائنة لمن كان يرجو الله، وقال الزمخشري: إنه بدل من {لَكُمْ}، كقوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}. انتهى. ولا يجوز (¬1) على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب اسم ظاهر في بدل الشيء، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر: بِكَمْ قُرَيْشٍ كَفَيْنَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضَلِيْلًا والمراد بـ {مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ}: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله، ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: إنهم يرجون رحمة الله فيه، أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة: تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى. وقوله: {وَذَكَرَ اللَّهَ} سبحانه بلسانه، وجنانه ذكرًا {كَثِيرًا} في جميع أوقاته وأحواله معطوف على {كان}؛ أي: ولمن ذكر الله سبحانه في جميع أحواله، ذكرًا كثيرًا، وجمع (¬2) بين الرجاء لله، وكثرة الذكر له، المؤدية إلى ملازمة الطاعة؛ لأن بهما يتحقق الائتساء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحكيم الترمذي: الأسوة في الرسول: الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول وفعل. 22 - ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب، ومشاهدتهم لتلك الجيوش، التي أحاطت بهم كالبحر المحيط، فقال: {وَلَمَّا رَأَى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}؛ أي: الجنود المجتمعة لمحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم الخندق، والحزب: جماعة فيها غلظ، كما في "المفردات" .. {قَالُوا}؛ أي: قال المؤمنون {هَذَا} البلاء العظيم، والإشارة (¬1) بقوله: {هَذَا} إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل بهم، والبلاء الذي دهمهم {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ} سبحانه وأخبرنا به، {وَرَسُولُهُ} - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} الآية. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم"، وبقوله عليه السلام: "إن الأحزاب سائرون، إليكم بعد تسع ليال أو عشر" كما روي عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "إن الأحزاب سائرون، إليكم تسعًا أو عشرًا؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا من حين الإخبار .. قالوا ذلك، وهذا القول استبشار بحصول ما وعدهم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، من مجيء هذه الجنود، وأنه يعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله تعالى. ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}؛ أي: ظهر صدق خبر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا زَادَهُمْ} ما رأوه {إِلَّا إِيمَانًا} بالله وتصديقًا بمواعيده {وَتَسْلِيمًا} لأوامره ومقاديره، وقال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا وتسليمًا. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2): {وما زادوهم} بالواو وضمير الجميع يعود على الأحزاب؛ أي: ولما أبصر (¬3) المؤمنون الصادقون المخلصون لله في القول والعمل الأحزاب، الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة .. قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والاختبار، الذي يعقبه النصر في نحو قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[23]

خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ...} الآية. وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم" إلخ، وقوله: "إنهم سائرون إليكم تسعًا أو عشرًا"؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر من حين الأخبار، وصدق الله ورسوله في النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله في البلاء والاختبار، وما زادهم ذلك إلا صبرًا على البلاء، وتسليمًا للقضاء، وتصديقًا بتحقيق ما كان الله ورسوله وعدهم. ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول في قوله: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بعد قوله: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر: أرَى الْمَوْتَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ وأيضًا لو أضمرهما .. لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظٍ واحدٍ، وقال صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما، كما في حديث: "بئس خطيب القوم أنت" لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى، 23 - ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء واحتملوا البأساء والضراء بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من المؤمنين المخلصين لله، المصدقين برسوله {رِجَالٌ} كمله، فالتنوين فيه للتعظيم، والكمال {صَدَقُوا} ووفوا {مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}؛ أي: أوفوا بما عاهدوا الله عليه، ونذروا على أنفسهم من الثبات مع الرسول، والمقاتلة لإعلاء الدين، والصبر في اللأواء وحين البأساء؛ أي (¬1): حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر وغيرهم - رضي الله عنهم أجمعين - نذروا أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا. وقيل المعنى (¬2): أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة، من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده، وهم المنافقون. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

قال الحكيم الترمذي - رحمه الله -: خص الله الإنس من بين الحيوان، ثم خص المؤمنين من بين الإنس، ثم خص الرجال من المؤمنين، فقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا} فحقيقة الرجولية الصدق، ومن لم يدخل في ميادين الصدق .. فقد خرج من حدّ الرجولية. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى} ووفى نحبه ونذره فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير هذه المواطن، كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قضاء نذره ووفاءه والقتل في سبيله؛ لكون موقنًا كعثمان وطلحة وغيرهما، فإنهم على نذووهم وقد قضوا بعضها، وهو الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة، ومنتظرون قضاء بعضها الباقي، وهو القتال إلى الموت شهيدًا، وفي وصفهم بالانتظار إشارة إلى كمال اشتياقهم إلى الشهادة. تفصيل (¬1) لحال الصادقين، وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب في الأصل: النذر المحكوم بوجوبه، وهو أن يلتزم الإنسان شيئًا من أعماله ويوجبه على نفسه، وقضاؤه الفراغ منه والوفاءُ به، يقال: قضى فلان نحبه؛ أي: وفي بنذره، ويعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله واستوفى أكله، وقضى من الدنيا حاجته، وذلك، لأن الموت كنذر لازم في عنق كل حيوان. وقال أبو السعود: ويجوز (¬2) أن يكون النحب مستعارًا لالتزام الموت شهيدًا، إما: بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه، وإيراده الالتزام عليه، وهو الأنسب بمقام المدح، وأما ما قيل عن أن النحب استعير للموت؛ لأنه كنذر لازم في رقبة الحيوان، فهو تقبيح للاستعارة، وإذهاب لرونقها. انتهى. ومعنى الآية (¬3): أن من المؤمنين رجالًا أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك كما في يوم أحد، كحمزة بن عبد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعود. (¬3) الشوكاني.

المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، ومنهم من ينتظر قضاء نحبه حتى يحضر أجله، كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه، من الثبات مع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم، وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة. وجملة قوله: {وَمَا بَدَّلُوا} عهدهم وما غيروه {تَبْدِيلًا} وتغييرًا ما، لا أصلًا، ولا وصفًا، كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتًا مستمرًا، راغبين فيه، مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، معطوفة على {صَدَقُوا} وفاعله: فاعله. أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، فقد أخرج الإِمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن أنس، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد .. ليرين الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واهًا: لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون، من ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية. وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم .. فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا, ولم يغيروا ولا بدلوا، فيشهد به انتظارهم أصدق الشهادة، روي أن طلحة - رضي الله عنه - ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد يحميه، حتى أصيبت يده فشلت، وجرح أربعًا وعشرين جراحةً، فقال عليه السلام: "أوجب طلحة الجنة" وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ طلحة الخير، ويوم حنين طلحة الجود، ويوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض، وقتل يوم الجمل، وفي الآية تعريض (¬1) بأرباب النفاق، وأصحاب مرض القلب، فإنهم ينقضون العهود، ويبدلون العقود. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

24 - و (اللام): في قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} يجوز أن يتعلق بـ {صَدَقُوا} أو بـ {زَادَهُمْ} أو بـ {ما بدَّلوا} أو بمحذوف، تقديره: وقع جميع ما وقع؛ ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولًا وفعلًا، قال في "كشف الأسرار": في الدنيا بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب، وجزيل المآب، والخلود في النعيم المقيم، والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} بما صدر منهم من الأقوال والأعمال المحكية في التغيير والتبديل {إِنْ شَاءَ} تعذيبهم؛ أي: إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة. جعل (¬1) المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها، بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها، والسعي لتحصيلها، ومفعول {إِنْ شَاءَ} وجوابها: محذوفان؛ أي: إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ويتوبوا عنه، كما مرّ. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: يقبل توبتهم إن تابوا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ غَفُورًا}؛ أي: ستورًا على من تاب محاءً لما صدر منه {رَحِيمًا}؛ أي: منعمًا عليه بالجنة والثواب. والمعنى (¬2): أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال؛ ليتميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليًا واضحًا، كما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال .. غفر لهم ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[25]

أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب، ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة .. قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين، والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حث عليها في كل حين، وبيان نفعها للتائبين. 25 - ثم رجع يحكي بقية القصص، وفصل ذلك تتميمًا للنعمة التي أشار إليها إجمالًا بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي زلت فيها الأقدام، وما صدر من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال؛ لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها، فقال: {وَرَدَّ اللَّهُ} سبحانه وصرف {الَّذِينَ كَفَرُوا}، وهم الأحزاب، معطوف على قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} أو على محذوف؛ أي: وقع ما وقع من الحوادث، ورد الله الذين كفروا من الذين تحزبوا وتجمعوا لمحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بلدانهم، حالي كونهم ملتبسين {بِغَيْظِهِمْ} وغضبهم وحسرتهم، لم يشف صدورهم {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} حال بعد حال؛ أي: حال كونهم لم يصيبوا ما أرادوا من الغلبة، وسماها خيرًا؛ لأن ذلك كان خيرًا عندهم، فجاء على استعمالهم وزعمهم. والمعنى: أن الله سبحانه ردهم بغيظهم، لم يشف صدورهم، ولا نالوا خيرًا في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيرًا، أي خير، بل رجعوا خاسرين، لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة. {وَكَفَى اللَّهُ} سبحانه {الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}؛ أي: أغناهم عن قتال الأحزاب بما أرسله عليهم من الريح الشديدة والجنود من الملائكة. وحاصل المعنى (¬1): أي فأرسلنا ريحًا وجنودًا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمهم، بفوت ما أملوا من الظفر، وخيبتهم، فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة، والنصر على محمد وصحبه، إذ لم ¬

_ (¬1) المراغي.

[26]

يصيبوا مالًا ولا إسارًا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده. روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". ورويا أيضًا عن عبد الله بن أوفى: قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم". وروى محمد بن إسحاق: أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا, ولكنكم تغزونهم". وقد تحقق هذا، فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزوهم، حتى فتح الله تعالى مكة. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه {قَوِيًّا} على إحداث كل ما يريده، وإيجاده، إذ قال له؛ كن فكان، {عَزِيزًا}؛ أي: غالبًا قاهرًا على كل شيء، لا يغالبه أحد من خلقه، ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته؛ أي: وكان الله عزيزًا بحوله وقوته، فردهم خائبين لم ينالوا خيرًا. 26 - ولما قص أمر الأحزاب، وذكر ما انتهى إليه أمرهمِ .. ذكر حال من عاونوهم من اليهود، فقال: {وَأَنْزَلَ} الله سبحانه اليهود {الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ}؛ أي: عاونوا الأحزاب المردودين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، حين نقضوا العهد وعاضدوهم عليهم حالة كون المظاهرين {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم بنو قريظة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ - رضي الله عنه - {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}؛ أي: من حصونهم وقصورهم، جمع صيصية بالكسر، وهي (¬1) ما يتحصن به، ويجعل وقايةً من المهالك، ولذلك يقال لقرن الثور ¬

_ (¬1) روح البيان.

والظبي وشوكة الديك، وهي في مخلبته التي في ساقه؛ لأنه يتحصن بها ويقاتل. أي: وأنزل الله (¬1) يهود بني قريظة الذي عاونوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجهم من حصونهم وقصورهم، بعد أن نقضوا العهد، بسفارة حيي بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وكان مما قاله له: جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان، وأتباعها, ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله جئتني بذل الدهر، ويحك يا حيي إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يحاوله حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصين، فيكون أسوتهم. ولما أيد الله المومنين، وكبت أعداءهم وردهم خائبين، ورجعوا إلى المدينة، ووضع الناس سلاحهم .. أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن انهض إلى بني قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فسار الناس، فأدركتهم الصلاة فصلى بعض في الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحدًا من الفريقين. {وَقَذَفَ} الله سبحانه وتعالى؛ أي: ألقى ورمى {فِي قُلُوبِهِمُ}؛ أي: في قلوب اليهود الذين ظاهروا الأحزاب {الرُّعْبَ}؛ أي: الخوف والفزع الشديد، حتى سلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأولادهم للأسر، حسبما ينطق به قوله: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يعني رجالهم {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} يعني نساءهم وصبيانهم من غير أن يكون من جهتهم حركة، فضلًا عن المخالفة، وهذه الجملة: مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم. وقرأ الجمهور (¬2): {تقتلون وتأسرون} بالفوقية على الخطاب وكسر السين، وقرأ أبو حيوة: بضمها، وقد حكى الفراء كسر السين وضمها، فهما لغتان. وقرأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[27]

اليماني: بالفوقية في الأول، والتحتية في الثاني، وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه: بالتحتية فيهما. ووجه تقديم مفعول الفعل الأول، وتأخير مفعول الثاني (¬1): أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين، وهو القتل .. كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام. وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل: كان المقتولون من ست مئة إلى سبع مئة، وقيل: ست مئة، وقيل: سبع مئة، وقيل: ثمان مئة، وقيل: تسع مئة. وكان المأسورون سبع مئة. وقيل: سبع مئة وخمسين، وقيل: تسع مئة. والمعنى: أي وألقى الله الرعب والخوف الشديد في قلوبهم حين نازلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحاصرها خمسًا وعشرين ليلةً، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس, لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت" فقال - رضي الله عنه -: وحكمي نافذ فيهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، فقال: إني أحكم أن تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله"، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأخادية، فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتوفي الأيدي، فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين سبع مئة وثمان مئة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء، وسبي أموالهم. والخلاصة (¬2): أنه قذف الرعب في قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر. 27 - {وَأَوْرَثَكُمْ} أيها المؤمنون؛ أي: ملَّككم ملكًا، كالميراث في حصوله بلا مقابل {أَرْضَهُمْ}؛ أي: مزارعهم وحدائقهم {وَدِيَارَهُمْ}؛ أي: منازلهم وحصونهم {وَأَمْوَالَهُمْ}؛ أي: حليهم وأثاثهم ومواشيهم وسلاحهم ونقودهم التي ادخروها، شبهت (¬3) في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على الوارثين، إذ ليسوا في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

علقةٍ منهم من قرابةٍ ولا دين، ولا ولاءٍ، فأهلكهم الله تعالى على أيديهم، وجعل أملاكهم وأموالهم غنائم لهم باقيةً عليهم كالمال الباقي على الوارث. {وَ} أورثكم في علمه وتقديره {أَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} الآن بأقدامكم، ولم تقبضوها كفارس والروم وما ستفتح على المسلمين إلى يوم القيامة من الأراضي والممالك، من وطيء على الأرض، يطأ وطئًا: إذا مشى عليها بالأقدام، قاله عكرمة، واختاره أبو حيان. قال الشوكاني: واختلف (¬1) المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة، فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر، فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين، ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فوعدهم الله بها، وقال قتادة: كنا نتحدث: إنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {لَمْ تَطَئُوهَا} بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي: {لم تطوها} بفتح الطاء وواوٍ ساكنة أبدل همزة تطأ ألفًا على حد قوله: إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِيْ مَرَابِضِهَا ... وَالنَّاسُ لَا يُهْتَدَى مِنْ شَرِّهِمْ أَبَدَا فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقوله: {لَمْ تَرَوْهَا}، {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من المقدورات {قَدِيرًا}؛ أي: قادرًا، فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراثكم الأرض التي تسلمتموها ونصركم عليهم، فقيسوا عليها ما بعدها، إذ لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه. وقال أبو حيان: وختم تعالى هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[28]

28 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم {قُلْ} أمر إيجاب في تخييرهن، وهو من خصائصه عليه السلام {لِأَزْوَاجِكَ} ونسائك، قيل (¬1): هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد تأذى ببعض الزوجات، قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - سألنه شيئًا من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فألى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهن شهرًا، وأنزل الله سبحانه آية التخيير هذه، وكن يومئذٍ تسعًا: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة - واسمها رملة بنت أبي سفيان - وأم سلمة - واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية - وسودة بنت زمعة العامرية، وهذه الخمسة من قريش، وأربع من غيرهم: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية الهارونية وجويرية بنت الحارث الخزاعية والمصطلقية، وهذه كلها بعد وفاة خديجة الكبرى - رضي الله عنها وعنهن -. {إِنْ كُنْتُنَّ} أنتن {تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: التنعم فيها، والسعة في معاشها، {وَزِينَتَهَا}؛ أي: زخارفها ونضارتها ورفايتها {فَتَعَالَيْنَ}؛ أي: أقبِلْنَ إلى بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين، وأجبن إلى ما أعرض عليكن وأسمعنه، وليس المراد حقيقة الإقبال والمجيء، كما يقال: أقبل يكلمني، وذهب يخاصمني، وقام يهددني، كما سيأتي في مبحث التصريف. {أُمَتِّعْكُنَّ} بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: أعطيكن متعة الطلاق، وتقديم التمتع (¬2) على التسريح المسبب عنه من باب الكرم وحسن الخلق، وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الأمر، وقيل: لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها، فإنه طلقة رجعية عند الشافعي، وبائنة عند أبي حنيفة. اهـ. "بيضاوي". والمتعة لغة: اسم مصدر بمعنى التمتع والتلذذ بالأمور، وشرعًا: مال يجب على الزوج لمطلقة قبل وطء لم يجب لها شطر مهر، بأن كانت مفوضةً لم يفرض ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي.

لها شيء، وهي واجبة في المطلقة التي لم يدخل بها, ولم يسم لها مهرًا عند العقد، ومستحبة في غيرها، والحكمة في (¬1) إيجابها: الجبر لما أوحشها الزوج بالطلاق، فيعطيها لتنتفع بها مدة عدتها، ويعتبر قدرها بحسب حال الزوج يسارًا وإعسارًا، كما هو مقرر في محله. وقوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ}؛ أي: أطلقكن، بالجزم معطهوف على {أُمَتِّعْكُنَّ}. {سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ أي: طلاقًا حسنًا من غير ضرار ولا بدعة ولا صريح اللفظ، الذي يقع به الطلاق من غير نيةٍ، وهو لفظ الطلاق عند أبي حنيفة وأحمد، والطلاق والفراق والسراح عند الشافعي ومالك. وقرأ (¬2) الجمهور: {أمتعكن} بالتشديد من متع، وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، وقرؤوا أيضًا: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} بالجزم في الفعلين، وقرأ حميد الخراز: بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والجزم على قراءة الجمهور على أنهما جواب الطلب، وقيل: على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا فيكون قوله: {فَتَعَالَيْنَ} اعتراضًا بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض كقول الشاعر: وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ ... أنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا واتفق الأئمة (¬3) على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدةً، في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها، حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهرٍ أصابها فيه، وهي ممن تحبل .. فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجميع الثلاثة بدعة عند أبي حنيفة وهالك، وقال أحمد: هو محرم، خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلافٍ بينهم. واعلم: أن الشارع إنما كره الطلاق ندبًا إلى الألفة وانتظام الشمل، ولما علم الله أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف، لحقيقةٍ خفيت عن أكثر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[29]

الناس .. شرع الطلاق رحمةً لعباده، ليكونوا مأجورين في أفعالهم، محمودين، غير مذمومين، إرغامًا للشيطان، فإنهم في ذلك تحت إذن إلهي. وإنما كان الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لأنه رجوع إلى العدم، إذ بائتلاف الطبائع ظهر وجود التركيب، وبعد الائتلاف كل العدم، فمن أجل هذه الرائحة كرهت الفرقة بين الزوجين؛ لعدم عين الاجتماع، كذا في "الفتوحات". ومعنى الآية: أي يا أيها النبي الكريم والرسول العظيم، قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خصلتين: أولاهما: إن تكن ممن يحببن لذات الدنيا ونعيمها، والتمتع بزخرفها، فليس لكن عندي مقام، إذ ليس عندي شيء منها، قأقبلن علي أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبًا لخاطرهن، وتعويضًا عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهي كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر، واليسار والإقتار، كما قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}. ثم أسرحكن وأطلقكن على ما أذن الله به وأدب عباده بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وحين نزلت هذه الآية، عرض عليهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وبدأ بعائشة، وكانت أحب أهله إليه فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 29 - ثم تابعها بقية نسائه، ثم ذكر ثانية الخصلتين، فقال: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: إن كنتن تردن طاعة الله وطاعة رسوله، أو المعنى: إن كنتن تردن رسوله وصحبته ورضاه، وذكر الله للإيذان بكرامته - صلى الله عليه وسلم - عنده تعالى: {وَالدَّارَ الْآخِرَةَ}؛ أي: نعيمها الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعًا، {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {أَعَدَّ} وهيأ في الآخرة، {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ}؛ أي: لمن عمل الصالحات منكن بمقابلة إحسانهن، و {من} للتبيين؛ لأن كلهن محسنات أصلح نساء العالمين، ولم يقل: لكن، إعلامًا بأن كل الإحسان في إيثار مرضاة الله ورسوله على مرضاه أنفسهن. وقال أبو حيان: وأوقع الظاهر موقع المضمر، حيث قال: {لِلْمُحْسِنَاتِ} ولم يقل: لكن تنبيهًا على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان،

[30]

كأنه قال: أعد لكن, لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنًا. {أَجْرًا}؛ أي: ثوابًا {عَظِيمًا}؛ أي: كبيرًا في ذاته، حسنًا في صفاته، باقيًا في أوقاته. والمعني (¬1): أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله، وثواب الدار الآخرة .. فأطعنهما، فإن الله أعد للمحسنات منكن في أعمالهن القولية والفعلية ثوابًا عظيمًا، تستحقر الدنيا وزينتها دونه كفاء إحسانهن. والخلاصة: أنتن بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن، وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك. 30 - وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله، أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} الكريم، توجيه (¬2) الخطاب إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن، ونداؤهن هاهنا وفيما بعده بالإضافة إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام {مَنْ يَأْتِ} ويفعل {مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ}؛ أي: بسيئةٍ بليغةٍ في القبح، وهي الكبيرة، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن. وقرأ زيد بن علي والجحدري وعمرو بن فائد الأسواري ويعقوب (¬3): {تأت} بتاء التأنيث، حملًا، على معنى {من}، والجمهور: بالياء، حملًا على لفظ {من} {مُبَيِّنَةٍ} قرىء بكسر الياء، وقرىء بفتحها كما مر في سورة النساء؛ أي: ظاهرة القبح، من بين بمعنى تبين، قيل: هذا كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لا أن منهن من أتت بفاحشة؛ أي: معصية ظاهرة. قال أبو حيان: ولا يتوهم أنها الزنا لعصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، لأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق، وقال بعضهم: لعل (¬1) وجه قول ابن عباس أن الزلة منهن، كسوء الخلق مما يعد فاحشة بالنسبة إليهن؛ لشرفهن وعلو مقامهن، خصوصًا إذا حصل بها أذية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}؛ أي: يعذبن ضعفي عذاب غيرهن؛ أي: مثليه، إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن، ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي .. لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب، وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع، أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات، يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. {وَكَانَ ذَلِكَ}؛ أي: تضعيف العذاب لهن {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}؛ أي: سهلًا لا يصعب عليه ولا يتعاظمه، لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يدعوه إليه لمراعاة حقه، وليس أمر الله كأمر الخلق، حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم. ومعنى الآية (¬2): يا أزواج النبي، من يعص منكم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويطلب ما يشق عليه ويضيق به ذرعًا، ويغتم لأجله .. يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين؛ أي: تعذب ضعفي عذاب غيرها, لأن قبح المعصية أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلًا يسيرًا على الله الذي لا يحابي أحدًا، لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغنٍ عنهن شيئًا بل هو سبب لمضاعفة العذاب. روي: أن رجلًا قال لزين العابدين - رضي الله عنه -: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب، وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله سبحانه في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، وقرأ هذه الآية التي بعدها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وقرأ نافع وحمزة وعاصم والكسائي (¬1): {يُضَاعَفْ} بألف وفتح العين، والحسن وعيسى وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين، والجحدري وابن كثير وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورةً، وزيد بن علي وابن محيصن وخارجة عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر، وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر، ومن فتح العين، رفع العذاب، ومن كسرها نصبه، ومعنى ضعفين؛ أي: عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. قال في "الأسئلة المقحمة": ما وجه تضعيف العذاب لزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ الجواب: لما كان فنون نعم الله عليهن أكثر، وعيون فوائده لديهن أظهر، من الاكتحال بميمون غرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترداد الوحي إلى حجراتهن، بإنزال الملائكة، فلا جرم كانت عقوبتهن عند مخالفة الأمر من أعظم الأمور وأفخمها، ولذا قيل: إن عقوبة من عصى الله تعالى عن العلم، أكثر من عقوبة من يعصيه عن الجهل، وعلى هذا أبدًا. وحد الحر أعظم من حدّ العبد، وحدّ المحصن أعظم من حدّ غير المحصن؛ لهذه الحقيقة. انتهى. وعوتب (¬2) الأنبياء بما لا يعاتب به الأمم. والحاصل: أن الذنب يعظم بعظم جانبه، وزيادة قبحه متابعة لزيادة شرف المذنب والنعمة، فلما كانت الأزواج المطهرة أمهات المؤمنين؛ وأشراف نساء العالمين .. كان الذنب منهن أقبح، على تقدير صدوره، وعقوبة الأقبح أشد وأضعف. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الثواب والعقاب بقدر نفاسة النفس وخستها، يزيد وينقص, وأن زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة، كحدّ الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

تتمة في حكم الخيار المذكور في الآية اختلف (¬1) العلماء في هذا الخيار: هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الاختيار أم لا؟ فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم: إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا .. فارقهن، لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة: لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق، ولو اخترن أنفسهن .. كان طلاقًا. التفريع على حكم الآية: اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود وابن عباس: وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها .. لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها .. يقع طلقةً واحدةً، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقةً بائنةً، إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعيةً، وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج .. يقع طلقةً واحدةً، وإذا اختارت نفسها .. فثلاث، وهو قول الحسن، وبه قال مالك: وروى عن علي رضي الله عنه: أنها إذا اختارت زوجها .. طلقةً واحدةً، وإذا اختارت نفسها .. فطلقةً بائنة، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها .. لا يقع شيء. وعن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدةً أو مئةً أو ألفًا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان طلاقًا، وفي روايةٍ: فاخترناه، فلم يعد ذلك شيئًا. متفق عليه. فصل وجملة (¬2) أزواجه، اللاتي كن تحته وقت هذا التخيير تسع: وهن اللاتي ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات.

مات عنهن، وفي "المواهب": واختلف في عدة أزواجه - صلى الله عليه وسلم - وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله ومن مات عنهن، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها, ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، والمتفق على دخوله بهن إحدى عشرة امرأةً، ست من قريش: خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة. وأربع عربيات: زينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت خزيمة الهلالية "أم المساكين" وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية. وواحدة غير عربية من بني إسرائيل، وهي صفية بنت حيي من بني النضير. ومات - صلى الله عليه وسلم - عن تسع دخل بهن باتفاق. وقد ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج نسوةً غير من ذكرنَ، وجملتهن ثنتا عشرة امرأة: الأولى: الواهبة نفسها له - صلى الله عليه وسلم - وهي أم شريك القرشية، الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، الثالثة: عمرة بنت يزيد، الرابعة: أسماء بنت النعمان، الخامسة: مليكة بنت كعب، السادسة: فاطمة بنت الضحاك، السابعة: عالية بنت ظبيان، الثامنة: قتيلة بنت قيس، التاسعة: سبأ بنت أسماء، العاشرة: شراق بنت خليفة أخت دحية الكلبي، الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم، الثانية عشرة: امرأة من غفار، فهؤلاء. الاثنتا عشرة، جملة من ذكر من أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، وفارقهن في حياته، بعضهن قبل الدخول، وبعضهن بعده على خلاف فيه. فجملة من عقد عليهن ثلاث وعشرون امرأةً، دخل ببعضهن دون بعضٍ، مات عنده منهن بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية وبنت الهذيل باتفاق، واختلف في مليكة وسبأ: هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه لم يدخل بهما، وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك وبنت ظبيان، وقبله باتفاق عمرة وأسماء والغفارية، واختلف في أم شريك: هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة، والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات باتفاقٍ سبع، وثنتان على خلفٍ، والميتات في حياته باتفاق أربع،

ومات - صلى الله عليه وسلم - عن عشرة، واحدة لم يدخل بها، وهي قتيلة بنت قيس، وخطب - صلى الله عليه وسلم - ثماني نسوة لم يعقد عليهن بإتفاق، وأما سراريه التي دخل عليهن بالملك فأربعة: مارية القبطية وريحانة بنت شمعون من بني قريظة، وقيل: من بني النضير، وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش، واسمها نفيسة، والرابعة: أصابها في بعض النبي ولم يعرف اسمها. اهـ. من "المواهب" من المقصد الثاني، وقد بسط الكلام عليهن هناك جدًا فأرجع إليه إن شئت. الإعراب {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {مِنْكُمْ}: حال من المعوقين. {وَالْقَائِلِينَ}: معطوف على {الْمُعَوِّقِينَ}. {لِإِخْوَانِهِمْ}: متعلق بـ {القائلين}، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة لتصوير حال المنافقين، {هَلُمَّ}: اسم فعل أمر بمعنى أقبلوا عند الحجازيين، مبني على الفتح، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنتم، ويلزم عندهم صيغةً واحدةً في المفرد والمذكر وغيرهما، وجاء هنا على لغتهم، وعند بني تميم فعل أمر، وتلحقه علامات التثنية والجمع والتأنيث، ويستعمل لازمًا كما هنا، ومتعديًا كما في الأنعام، {إِلَيْنَا}: جار ومجرور متعلق به، وجملة اسم الفعل: في محل النصب مقول {القائلين}. {وَلَا يَأْتُونَ}: الواو: حالية. {لا}: نافية. {يَأْتُونَ}: فعل وفاعل. {الْبَأْسَ}؛ أي: القتال مفعول به. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من الضمير المستكن في {القائلين}. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {قَلِيلًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: إلا إتيانًا قليلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ أي: إلا إتيانًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا. {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}.

{أَشِحَّةً}: حال من فاعل {يَأْتُونَ}. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {فَإِذَا جَاءَ}: {الفاء}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَ الْخَوْفُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ (إذا) على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {رَأَيْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به, لأن رأى هنا بصرية، يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية: جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، وجملة {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}: حال من مفعول {رَأَيْتَهُمْ}. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {يَنْظُرُونَ}، وهو {الواو}. {كَالَّذِي}: جار ومجرور نعت لمصدر محذوف، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: تدور أعينهم دورانًا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت. {يُغْشَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُغْشَى}. {مِنَ الْمَوْتِ} متعلق بـ {يُغْشَى}. {فَإِذَا ذَهَبَ}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {ذَهَبَ الْخَوْفُ}: فعل وفاعل. والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {سَلَقُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة قوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ}. {بِأَلْسِنَةٍ}: متعلق بـ {سَلَقُوكُمْ}. {حِدَادٍ}: صفة لـ {ألسنة}: {أَشِحَّةً} حال من فاعل {سَلَقُوكُمْ}، أو منصوب على الذم؛ أي: أذم أشحةً {عَلَى الْخَيْرِ}، جار ومجرور متعلق بـ {أَشِحَّةً}. {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {فَأَحْبَطَ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {أحبط الله أعمالهم}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {لَمْ يُؤْمِنُوا} بمعنى: ما آمنوا. {وَكَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {يَسِيرًا}. {يَسِيرًا} خبر {كان}. وجملة {كان}: مستأنفة أو حال من فاعل {أحبط}.

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}. {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {لَمْ يَذْهَبُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مفعول ثان لـ {حسب}، والجملة الفعلية: مستأنفة. {وَإِنْ يَأْتِ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {يَأْتِ الْأَحْزَابُ}: فعل وفاعل مجزوم، بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة. {يَوَدُّوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، والجملة الشرطية: معطوفة على جملة {يَحْسَبُونَ}. {لَوْ}: حرف مصدر ومدخولها محذوف، تقديره: لو ثبت أنهم بادون. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه {بَادُونَ}: خبره {فِي الْأَعْرَابِ}: متعلق به، وجملة {أن}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، تقديره: لو ثبت كونهم في البادية، وجملة الفعل المحذوف: صلة {لو} المصدرية، وجملة {لو} مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يَوَدُّوا}، تقديره: يودوا كونهم في البادية مع الأعراب. {يَسْأَلُونَ}: فعل وفاعل. {عَنْ أَنْبَائِكُمْ}: متعلق به. وجملة {يَسْأَلُونَ}: حال من الضمير المستكن في {بَادُونَ}: وقول المعربين هنا حال من الواو في {بادون} غلط فاحش لأنّ الواو في {بادون} حرف جيء به علامة على الرفع، فلا يصلح أن يكون صاحب حال؛ لأنه لا يكون إلا اسمًا. {وَلَوْ كَانُوا}: {الواو}: استئنافية أو حالية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {فِيكُمْ}: خبره. والجملة: فعل شرط لـ {لو}. {مَّا}: نافية. {قَاتَلُوا}: فعل وفاعل. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا قتالًا قليلًا أو لزمن محذوف؛ أي: إلا زمنًا قليلًا، والجملة الفعلية: جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة، أو حال من فاعل {يَسْأَلُونَ}. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}.

{لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كاَنَ}: فعل ماض ناقص. {لَكُمْ}: خبره مقدم. {فِي رَسُولِ اللَّهِ}: حال من {أُسْوَةٌ} لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {أُسْوَةٌ}: اسمه مؤخر. {حَسَنَةٌ} صفة لـ {أُسْوَةٌ}. وجملة {كَانَ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {لِمَنْ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: لكم بدل بعض من كل. {كَانَ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على من. {يَرْجُو اللَّهَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {كَانَ}. وجملة {كَانَ}: صلة {من} الموصولة. {وَذَكَرَ اللَّهَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على جملة {كَانَ}. {كَثِيرًا}: منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو على الظرفية؛ أي: زمانًا كثيرًا. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}. {وَلَمَّا} {الواو}: استئنافية. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بجوابه. {رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}: فعل وفاعل ومفعول به, لأن رأى هنا بصرية يتعدى إلى مفعول واحد، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ {لما} في محل جر بالإضافة. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {لما} الشرطية، وجملة {لما} الشرطية مستأنفة. {هَذَا مَا}: مبتدأ وخبر، والجملة: مقول لـ {قَالُوا}. {وَعَدَنَا اللَّهُ}: فعل ومفعول أول وفاعل. {وَرَسُولُهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: صلة {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما وعدناه الله، وهو المفعول الثاني لوعد. {وَصَدَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {وَرَسُولُهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية على كونها مقول {قَالُوا}. {وَمَا زَادَهُمْ}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {زَادَهُمْ}: فعل ومفعول به أول، وفاعله: ضمير يعود على رؤية الأحزاب، وذكر الضمير؛ لأن تأنيثها غير حقيقي، أو ضمير يعود على الوعد. والجملة معطوفة

على جملة {قَالُوا}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {إِيمَانًا}: مفعول ثان لـ {زاد}. {وَتَسْلِيمًا}: معطوف عليه. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: خبر مقدم. {رِجَالٌ}: مبتدأ مؤخر. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان حال الصالحين من الصحابة. {صَدَقُوا}: فعل وفاعل صفة {رِجَالٌ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {صَدَقُوا}. {عَاهَدُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة. {عَلَيْهِ} متعلق بـ {عَاهَدُوا}، وهو العائد على {ما} الموصولة. {فَمِنْهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت من المؤمنين رجال، وأردت بيان مراتبهم .. فأقول لك: منهم. {منهم}: خبر مقدم. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {قَضَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. {نَحْبَهُ}: مفعول به. والجملة: صلة {من} الموصولة. {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم. {مَّن}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {يَنْتَظِرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {من}. والجملة صلة الموصول. {وَمَا}: {الواو}: حالية. {مَا}: نافية. {بَدَّلُوا}: فعل وفاعل. {تَبْدِيلًا}: مفعول مطلق مؤكد لعامله، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل {يَنْتَظِرُ}. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)}. {لِيَجْزِيَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يجزي الله الصادقين}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بلام كي، والجار والمجرور: متعلق بمعلول محذوف، تقديره: وقع جميع ما وقع لجزاء الله سبحانه الصادقين: {بِصِدْقِهِمْ}:

متعلق بـ {يجزي}، والجملة المحذوفة: مستأنفة مسوقة لبيان ما دعا إلى وقوع ما حكى من الأقوال والأحوال. {وَيُعَذِّبَ}: فعل مضارع معطوف على {يجزي} منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}. {الْمُنَافِقِينَ}: مفعول به. {إن}: حرف شرط. {شَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، ومفعول {شَاءَ}: محذوف؛ أي: إن شاء تعذيبهم، وجواب {إن} الشرطية: محذوف أيضًا، والتقدير: إن شاء تعذيبهم يعذبهم، وجملة {إن} الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب. {أَوْ يَتُوبَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {يعذب}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يَتُوبَ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}. {غَفُورًا}: خبر أول له. {رَحِيمًا}: خبر ثان. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِغَيْظِهِمْ}: جار ومجرور حال من الموصول؛ أي: ملتبسين بغيظهم. {لَمْ يَنَالُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {خَيْرًا}: مفعول به، والجملة: في محل النصب حال ثانية من الموصول. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ}، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا}: فعل ناقص واسمه وخبره، {عَزِيزًا}: خبر ثان له. والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ}. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)}. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {وَرَدَّ اللَّهُ}. {ظَاهَرُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ظاهروهم. {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}: متعلق

بـ {أنزل}، وهو اسم منقوص مجرور بكسرة مقدرة، ويحتمل كون جملة {أنزل}: مستأنفة مسوقة لبيان قصة غزوة بني قريظة. {وَقَذَفَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {أنزل}. {فِي قُلُوبِهِمُ}: متعلق بقذف. {الرُّعْبَ}: مفعول به لـ {قذف}. {فَرِيقًا}: مفعول مقدم لـ {تَقْتُلُونَ}. {تَقْتُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مبينة ومقررة لقذف الله الرعب في قلوبهم. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {تَقْتُلُونَ}. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على {أنزل}. {وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا}: معطوفات على {أَرْضَهُمْ}. {لَمْ تَطَئُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل المصب صفة لـ {أرضا}. {وَكَانَ اللَّهُ}: فحل ناقص واسمه. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرًا}. {قَدِيرًا}: خبر {كان}. وجملة {كان}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة. و {الهاء}: حرف تنبيه زائد. {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي} أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة مسوقة لتقرير موقف الإِسلام من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ}. {لِأَزْوَاجِكَ}: متعلق به. والجملة: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إن}: حرف شرط. {كُنْتُنَّ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {تُرِدْنَ}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على السكون، لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة: في محل الرفع فاعل. {الْحَيَاةَ}: مفعول به. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةَ}. {وَزِينَتَهَا}: معطوف على الحياة، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {كان}؛ أي: مريدات الحياة الدنيا. {فَتَعَالَيْنَ}: {الفاء}: رابطة لجواب

{إن} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. {تعالين}: فعل أمر مبني على السكون ونون النسوة فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {أُمَتِّعْكُنَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على النبي مجزوم بالطلب السابق و {الكاف}: ضمير الإناث في محل النصب مفعول به والنون علامة جمع الإناث، الجملة جوابية لا محل لها من الإعراب {وَأُسَرِّحْكُنَّ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {أُمَتِّعْكُنَّ}، {سَرَاحًا}: مفعول مطلق. {جَمِيلًا}: صفة له. {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط {كنتنّ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {تُرِدْنَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، {وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ}: معطوفان على لفظ الجلالة. {الْآخِرَةَ}: صفة لـ {الدار}. وجملة {تُرِدْنَ}: في محل النصب خبر {كان}. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية. {إن الله}: ناصب واسمه. {أَعَدَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}. {لِلْمُحْسِنَاتِ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}. {مِنْكُنَّ}: حال من المحسنات {أَجْرًا}: مفعول {أَعَدَّ}، {عَظِيمًا}: صفة {أَجْرًا}. وجملة {أَعَدَّ}: في محل الرفع خبر {إن}. وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ}: منادى مضاف، وجملة النداء، في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَأْتِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَن}: مجزوم بحذف حرف العلة، على كونه فعل شرط لـ {مَنْ}. {مِنْكُنَّ}: حال من فاعل {يَأْتِ}. {بِفَاحِشَةٍ}: متعلق

بـ {يَأْتِ}: {مُبَيِّنَةٍ} صفة لـ {فاحشة}. {يُضَاعَفْ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه جوابًا {لَهَا}: متعلق بـ {يُضَاعَفْ}. {الْعَذَابُ}: نائب فاعل {ضِعْفَيْنِ}: مصدر مبين لعدد عامله، منصوب على المفعولية المطلقة، وجملة {من} الشرطية: في محل النصب مقول {قُل} على كونها جواب النداء. {وَكَانَ}: {الواو}: حالية أو استئنافية. {كان ذلك}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرًا}: خبر {كان}. وجملة {كان}: في محل النصب حال من العذاب أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ}؛ أي: المثبطين، الذين يخذلون المسلمين من التعويق، وهو: التثبيط، يقال: عاقه وهوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، والعائق: الصارف عما يراد منه خير، ومنه عوائق الدهر، وتقول: فلان صحبه التعويق فهجره التوفيق. {هَلُمَّ إِلَيْنَا}؛ أي: أقبلوا إلينا، وهو اسم فعل أمر عند الحجازيين، ويلزم صيغة واحدة في خطاب الواحد وغيره، والمذكر وغيره، وعند بني تميم: فعل أمر وتلحقه علامات التثنية والجمع والتأنيث، فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهلما يا رجلان، هلمّي يا هندُ وهلمّا يا هندان وهلمُمْن يا هندات. {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ}: والبأس في الأصل: الشدة، والمراد به هنا: الحرب والقتال. {أَشِحَّةً}: جمع شحيح، وهو البخيل والحريص، وهو جمع لا ينقاس، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من وادٍ واحد، أن يجمع على أفعلاء، نحو خليل وأخلاء، وظنين وأظناء، وضنين وأضناء، وقد سمع أشحاء، وهو القياس. قال الراغب: الشح بخل مع حرصٍ، وذلك فيما كان عادةً، يقال: رجل شحيح، وقوم أشحة. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ}؛ أي: تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف.

{كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}: يقال: غشى على فلان: إذا نابه ما غشي فهمه؛ أي: ستره. {سَلَقُوكُمْ}؛ أي: آذوكم بالكلام، يقال: سلقه بالكلام: إذا آذاه، كما في "القاموس". وأصل السلق: بسط العضو للضرب، وهو من باب ضرب. اهـ. "شيخنا". وفي "المختار": سلقه بالكلام آذاه، وهو شدة القول باللسان، وقال تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وسلق البصل والبيض أكلاه بالنار إغلاءً خفيفًا، وباب الكل ضرب. اهـ. وفي "المصباح": أنه من باب قتل أيضًا. اهـ. قال القتيبي: المعنى: آذوكم بالكلام الشديد، وعبارة الشهاب: أصل السلق: بسط العضو ومدة للقهر، سوا كان يدًا أو لسانًا، كما قال الراغب، فتفسيره بالضرب مجاز. والحاصل عليه: توصيف الألسنة بالحداد، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، والضرب: تخييل. اهـ. وفي "السمين": يقال: سلقه، اجترأ عليه في خطابه، وخاطبه مخاطبةً بليغة، وأصله البسط، ومنه سلق امرأته؛ أي: بسطها وجامعها، والسليقة: الطبيعية. اهـ. وسلقه بالرمح: طعنه؛ وسلقه بالسوط: ضربه إلى أن نزع جلده، وسلق اللحم عن العظم: قشره، وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالًا عامًا لا غبار عليه. {بِأَلْسِنَةٍ}: جمع لسان، كأسلحة جمع سلاح، وهي الجارحة المعروفة. {حِدَادٍ}: جمع حديد، يقال: لسان حديد، نحو لسان صارم وماض، وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد؛ أي: ذربةٍ سلطة تفعل فعل الحديد. {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}؛ أي: بخلاء حريصين على مال الغنيمة. {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ}: الأحزاب: جمع حزب، وهم الذين تحزبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {يَوَدُّوا}؛ أي: يتمنوا، والود: محبة الشيء وتمني كونه وحصوله. {بَادُونَ}: جمع بادٍ، وهو ساكن البادية، يقال: بدا يبد وبداوةً: إذا خرج

إلى البادية، وهي خلاف الحاضرة، يقال: لقد بدوت يا فلان؛ أي: نزلت البادية وصرت بدويًا، ومالك والبداوة، وتبدى الحضري: إذا سكن البادية، ويقال: أين الناس؟ فتقول: لقد بدوا؛ أي: خرجوا إلى البادية، وكانت لهم غنيمات يبدون إليها. {فِي الْأَعْرَابِ}: قال في "القاموس وشرحه": العرب: بالضم والتحريك، خلاف العجم مؤنث، وهم سكان الأمصار، أو عام، والأعراب منهم: سكان البادية، لا واحد له، ويجمع على أعاريب، وعرب وعاربة وعرب عرباء، وعرب وعربة صرحاء، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، دخلاء، والمعنى هنا: خارجون إلى البدو، مقيمون بين أهله. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ}: قال الراغب: الأسوة بضم الهمزة والإسوة بكسرها: كالقدوة، والقدوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، حسنًا كان أو غيره، ضارًا أو غيره، ويقال: تأسيت به؛ أي: اقتديت. اهـ. والأسوة: بمعنى الاقتداء، وهي اسم وضع موضع المصدر، وهو الائتساء كالقدوة من الاقتداء، وائتسى فلان بفلان؛ أي: اقتدى به. اهـ. "سمين". وفي "المصباح": الإسوة بكسر الهمزة وضمها: القدوة، وتأسيت به وائتسيت: اقتديت. اهـ. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}؛ أي: مات، والنحب: النذر، ووقع قولهم: قضى نحبه عبارة عن الموت, لأن كل حي لا بد له من أن يموت، فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات .. فقد قضى نحبه؛ أي: نذره، والنذر: بفتح النون، وقد وهم صاحب "المنجِد" فضبطه بكسرها، وهذا غريب. وفي "المصباح": نحب نحبًا من باب ضرب بكى، والاسم: النحيب، ونحب نحبًا من باب قتل نذر، وقضى نحبه مات أو قتل في سبيل الله، وفي التنزيل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}. انتهى. وفي "القرطبي": والنحب: النذر والعهد والموت والحاجة والمدة. {بِغَيْظِهِمْ}: والغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه. {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}؛ أي: من حصونهم، جمع صيصية بالكسر، وهي كل ما

يتحصن به ويمتنع، قال الشاعر: فَأصْبَحَتِ النِّيْرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيْمٍ يَبْتِدِرْنِ الصَّيَاصِيَا وفي "القاموس": والصيصية: شوكة الحائك يسوي بها السدى واللحمة، وشوكة الديك التي في رجله، وقرن البقر والظباء، والحصن وكل ما امتنع به. انتهى. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} والأسر: الشد بالقيد، وسمي الأسير بذلك، ثم قيل لكل مأخوذٍ مقيدٍ، وإن لم يكن مشدودًا بذلك. {لَمْ تَطَئُوهَا}: من وطىء يطأ وطئًا: إذا مشى على الأرض. {فَتَعَالَيْنَ}: فعل أمر مبني على سكون الياء ونون النسوة فاعل، كما مر، وأصل الأمر أن يكون الآمر أعلى مكانًا من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه، ثم كثر استعماله حتى صار معناه أقبل، وقال صاحب "الروح" أصل تعالى أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المنخفض، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة كلها, ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيء، بل أراد أجبن علي ما أعرض عليكن، وأقبلن بإرادتكن واخيتاركن لإحدى الخصلتين، كما مر. {وَأُسَرِّحْكُنَّ}: السرح: شجرة له ثمرة، وأصله: سرحت الإبل: إذا أرسلتها لرعي السرح، ثم جعل لكل إرسال في الشرعي، والتسريح في الطلاق: مستعار من تسريح الإبل؛ كالطلاق في كونه مستعارًا من طلاق الإبل. {بِفَاحِشَةٍ}: قال الراغب: الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. انتهى. {ضِعْفَيْنِ}: مثنى ضعف بكسر الضاد، يقال: ضعف الشيء: مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة، فقولهم: لك ضعفه، يعني لك مثلاه أو ثلاثة أمثاله أو أكثر، وفي "المصباح": ضعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. وقال الخليل: التضعيف: أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثليه وأكثر، وكذلك الأضعاف والمضاعفة، وقال الأزهري: الضعف في كلام

العرب المثل، هذا هو الأصل، ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد، ليس للزيادة حد، يقال: هذا ضعف هذا؛ أي: مثله، وهذان ضعفان؛ أي: مثلاه. قال: وجاز في كلام العرب أن يقال: هذا ضعفه؛ أي: مثلاه وثلاثة أمثاله, لأن الضعف زيادة غير محصورة، فلو قال في الوصية: أعطوه ضعف نصيب ولدي .. أعطي مثليه، ولو قال: ضعفيه، أعطي ثلاثة أمثاله، حتى لو حصل للابن مئة؟. . أعطي مئتين في الضعف، وثلاث مئة في الضعفين، وعلى هذا جرى عرف الناس واصطلاحهم، والوصية تحمل على العرف، لا على دقائق اللغة هذا, وللضعف بفتح الضاد والضعف بكسرها والضعف بضمها معان، نظمها بعضهم بقوله: وَفِيّ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ يَكُوْنُ الضَّعْفُ ... وَالْوَهْنُ فِيْ الْجِسّمِ فَذَاكَ الضَّعِيْفُ زِيَادَةُ الْمِثْلِ كَذَا وَالضِّعْفُ ... جَمْعُ ضَعِيْفٍ زَهْوَ شَاكِيْ الضُّرِّ البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد المستفاد من قد في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} فإنها لتأكيد العلم بالتعويق، ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد. ومنها: التندير في قوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وحده: أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة، وهو يقع في الجد والهزل، وهو لا يدخل في نطاق التهكم، ولا في نطاق الهزل الذي يراد به الجد، ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة، وذلك واضح في مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن، حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم حالة الملاحظة، كحالة من يغشى عليه من الموت. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}: شبه اللسان بالسيف المصلت، وحذف ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق، بمعنى الضرب، على طريقة الاستعارة المكنية، ولفظ حداد: ترشيح.

ومنها: التشبيه في قوله: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وفيه أيضًا مجاز بالحذف؛ لأنه على حذف مضاف، تقديره: تدور أعينهم كعين الذي يغشى عليه من الموت. ومنها: الإطناب بتكرار الاسم الظاهر في قوله: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كرر الاسم الشريف؛ للتكريم والتعظيم، ولأنه لو أعادهما مضمرين .. لجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله في لفظة واحدةً، فكان يقول: وصدقا، وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ورد على من قاله حيث قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له: بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله قصدًا إلى تعظيم الله، وقيل: إنه إنما رد عليه؛ لأنه وقف على يعصهما، وعلى الأول استشكل بعضهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فقد جمع بينهما في ضمير واحد، وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعرف بقدر الله تعالى منا، فليس لنا أن نقول كما يقول. اهـ. "سمين". ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}؛ لأن النحب حقيقة في النذر، فاستعير للموت؛ لأنه نهاية كل حي، فكأنه نذر لازم في رقبة الإنسان، ولكن في هذا تقبيح للاستعارة، وإذهاب لرونقها, ولكن الأنسب بمقام المدح أن يكون النحب مستعارًا لالتزام الموت، شهيدًا، إما بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه؛ وإيراده الالتزام عليه. اهـ. "جمل". ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} وفيه التعريض بأرباب النفاق، وأصحاب مرض القلب، فإنهم ينقضون العهود، ويبدلون العقود. ومنها: الاعتراض في قوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} بجملة {إِنْ شَاءَ} للتنبيه على أن أمر العذاب أو الرحمة، موكول لمشيئته تعالى. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} شبهت هذه المذكورات في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على

الوارثين، فعبر فيها بالميراث. ومنها: المقابلة بين قوله: {وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} وبين قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ}؛ لأن التسريح حقيقة في تسريح الإبل للرعي، فاستعير التسريح بمعنى إرسال الإبل للرعي لإطلاق الزوجة عن عقد النكاح، فاشتق منه سرح بمعنى طلق، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الكناية في قوله: {فَتَعَالَيْنَ}؛ لأنه كناية عن الاختيار والإرادة، والعلاقة، هي أن المخير يدنو إلى من يخيره. اهـ. "خطيب". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تسويد الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم ليلة الاثنين المبارك، الليلة الثانية عشرة من شهر ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاث عشرة سنة، 12/ 11/ 1413 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، ويتلوه الجزء الثاني والعشرون من القرآن الكريم بحول الله تعالى وتيسيره، نسأل الله سبحانه الإعانة لنا على الإتمام والإكمال، كما أعان لنا على الابتداء والافتتاح، وأن يجعل في عمرنا البركة إلى إكماله وطبعه والتدرش عليه، وانتفاع المسلمين به، بمنه وكرمه وجوده واحسانه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، آمين آمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، و - صلى الله عليه وسلم - على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. تمّ المجلد الثاني والعشرون من تفسير حدائق الروح والريحان، ويليه المجلد الثالث والعشرون، وأوله قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ...} الآية.

شعرٌ إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يَعِيْبَ قَوْلِيْ ... لِمْ لاَ تَمُرُّ كَرِيْمَا آخرُ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوْتِ آخرُ أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ ... أَظَلَّتْكَ يَوْمًا عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أقْبَلَتْ ... وَلَا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [23]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أجرى السحاب، وهزم الأحزاب، ونصر الأحباب بريح وجنود لم يروها، وعلَّم الإنسان ما لم يعلموها، وأنزل القرآن تنويرًا للصدور، وتزيينًا للنحور، وجعله معجزة باقية على ممر الدهور، والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ذوي النجدة والكرم، وعلى من تبعهم إلى يوم الجزاء من العرب والعجم. أما بعد: فإني لما تفرغت من تفسير الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم .. تصديت لتفسير الجزء الثاني والعشرين منه، مستمدًا من فيض من إذا أراد شيئًا هيَّأ له أسبابه، وفتح بيد التسهيل، والتيسير بابه، فهو المرجو في كل دعاء، والمأمول في كل رجاء، فقلت وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي

أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}. المناسبة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة .. أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال، مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يوفقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب، ولا يخشين من أجله العقاب، وفي الآخرة يرزقن ما لا يحد ولا يوصف من غير نكد ولا كدرٍ. وقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما اختصَّ به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب .. أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء، ثم نهاهن عن رخامة الصوت، ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدًا، حتى لا يطمع فيهن من في قلبه نفاق، ثم أمرهن بالقرار في بيوتهن، ونهاهن عن إظهار محاسنهن، كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى، ثم أمرهن بأهم أركان الدين، وهو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى؛ لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت، وطهرهن تطهيرًا، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن، وما يسمعنه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأشياء، ونهاهن عن أخرى .. ذكر هنا ما أعد ¬

_ (¬1) المراغي.

للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده في الدار الآخرة. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله - سبحانه - لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخيِّر زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحًا جميلًا، وفهم من هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يريد ضررًا لغيره، فمن كان ميله إلى شيء مكنه منه، وترك حظ نفسه لحظ غيره .. ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان في كل شيء كما أعطي ذلك للزوجات، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها، وهي ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتبع، وما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الحق، ومن خالفهما .. فقد ضل ضلالًا مبينًا. وعبارة أبي حيان هنا: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإِسلام فما بعده .. عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين؛ إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم؛ إذ طاعته - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله تعالى، وأمره من أمره انتهى. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) ما ينبغي أن يكون عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ربه من تقواه، وإخلاصه له في السر والعلن، وما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وأقاربه من راحتهم، وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون، كما يومىء إلى ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ...} إلخ .. أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى، وإجلاله بذكره، والتسبيح له بكرة وأصيلًا، فهو الذي يرحمهم، وملائكته يستغفرون لهم كي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان, وكان بعباده المؤمنين رحيمًا. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه الترمذي - وحسنه من طريق عكرمة - عن أم عمارة الأنصارية: أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} إلخ. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لنا لا نذكر في القرآن، كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وأنا أسرح رأسي، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول على المنبر: "يا أيها الناس، إن الله يقول في كتابه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} ". وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس، قال: قالت النساء: يا رسول الله، ما باله يذكر المؤمنين، ولا يذكر المؤمنات؟، فنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} إلخ. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب، وهو يريدها لزيد بن حارثة، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد .. أبت، فأنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ...} الآية، فرضيت وسلمت. وأخرج ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبًا، فأنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ...} الآية كلها. قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أنس أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك أهلك" فنزلت: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}. وأخرج مسلم وأحمد والنسائي قال: لما انقضت عدة زينب .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: "اذهب فاذكرها عليّ"، فانطلق، فأخبرها فقالت: "ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

[31]

أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، ثم أخبرته أن القوم قد خرجوا، فانطلق حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب .. قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} .. قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 31 - {وَمَنْ يَقْنُتْ} ويخضع {مِنْكُنَّ} يانساء النبي - صلى الله عليه وسلم - {لِلَّهِ} سبحانه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، {و} يقنت لـ {رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -؛ بترك النشوز وسوء الخلق، وطلب ما ليس عنده من متاع الدنيا {وَتَعْمَلْ} عملًا {صَالِحًا}؛ أي: مخلصًا لله سبحانه {نُؤْتِهَا}؛ أي: نعطها {أَجْرَهَا} وثوابها {مَرَّتَيْنِ}؛ أي: ضعفين، فتجزى حسنتهن بعشرين حسنة. ومعنى إيتائهن الأجر مرتين: أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلت تلك الطاعة، وفي هذا (¬2) دليل قوي على أن معنى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أنه يكون العذاب مرتين، لا ثلاثًا؛ لأن المراد إظهار شرفهن ومزيتهن في الطاعة والمعصية، تكون حسنتهن كحسنتين، وسيئتهن كسيئتين، ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات .. لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله سبحانه أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني.

مضاعفة أجرهن. فائدة: فإن قلت: لِمَ خص الله سبحانه نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بتضعيف العقوبة على الذنب، والمثوبة على الطاعة؟ قلت: أما الأول: فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهده غيرهن، ولأن في معصيتهن أذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذنب من آذى رسول الله أعظم من ذنب غيره، وأما الثاني: فلأنهن أشرف من سائر النساء؛ لقربهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الطاعة منهن أشرف، كما أن المعصية منهن أقبح. اهـ "فتح الرحمن". وقيل: معنى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}؛ أي: مرة (¬1) على الطاعة والتقوى لله سبحانه، وأخرى على طلبهن رضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقناعة وحسن المعاشرة. وقرأ الجمهور (¬2): {وَمَنْ يَقْنُتْ} بالياء التحتية حملًا على لفظ {مَن} {وَتَعْمَلْ} بالتاء الفوقية حملًا على المعنى، و {نُؤْتِهَا} بنون العظمة. وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية: {ومن تقنت} بتاء التأنيث حملًا على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية رواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بالتحتية في ثلاثتها {يقنت}، {يعمل}، {يؤتها}. {وَأَعْتَدْنَا}؛ أي: هيأنا. {لَهَا}؛ أي: لمن يقنت منكن لله ورسوله في الجنة زيادة على أجرها المضاعف. {رِزْقًا كَرِيمًا}؛ أي: رزقًا حسنًا مرضيًا، وفيه (¬3) إشارة إلى أنَّ الرزق الكريم في الحقيقة هو نعيم الجنة، فمن أراده يترك التنعم في الدنيا، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين" يعني: أن عباد الله الخلص لا يرضون نعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة، فإن نعيم الدنيا فانٍ. والمعنى: أي ومن تطع منكن الله ورسوله، وتعمل صالح الأعمال .. نضاعف لها الأجر والمثوبة لكرامتها علينا بوجودها في بيت النبوة، ومنزل الوحي، ونور ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[32]

الحكمة، وعين الهداية، وهيأنا لها زيادةً على هذا الكرامة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين، منظورًا إليها نظرة المهابة والإجلال، وأما في الآخرة: فلها رفيع الدرجات، وعظيم المنازل عنده تعالى في جنات النعيم. 32 - ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحًا، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يا أزواج النبي {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}؛ أي: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف، بسبب صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن المضاف إلى الشريف شريف. قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النساء؛ لأن أحدًا نفي عام للمذكر والمؤنث، والواحد والجماعة، وقد يقال على ما ليس بآدمي، كما يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} مخالفة حكم الله سبحانه، ورضى رسوله، فهو قيد خيريتهن، وبيان أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا باتصالهن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى (¬1): أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ونزول القرآن فيكن. فكما أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: "لست كأحدكم"، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، بل أنتن أكرم عليَّ، وثوابكن أعظم لديَّ. انتهى. وقد وقعت منهن - ولله الحمد - التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وبعد مماته. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن اتقيتن .. فلستن كأحد من النساء. وقيل: إن جوابه: {فَلَا تَخْضَعْنَ}، والأول أولى؛ لدلالة الجواب المحذوف على نفي المساواة التي يفيدها التشبيه، وعلى هذا: فجملة {فَلَا تَخْضَعْنَ} مستأنفة؛ أي: فلا تخضعن ولا تلنَّ {بِالْقَوْلِ} عند مخاطبة الناس؛ أي: لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تجبن بقولكن قولًا خاضعًا لينًا، كما تفعله المريبات والمُطمعات من النساء المومسات، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة. والخضوع (¬1): التطامن والتواضع والسكون واللين في الكلام، والمرأة مندوبة إلى الغلظة والخشونة في المقالة إذا خاطبت الأجانب؛ لقطع الأطماع، فإذا أتى الرجل باب إنسان وهو غائب، فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه، وترقق الكلام له، فإنه يهيج الشهوة، ويورث الطمع، كما قال: {فَيَطْمَعَ} بالنصب، لوقوعه في جواب النهي؛ أي: فيطمع فيكن، ويقصد الزنا بكن {الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}؛ أي: نفاق، أو محبة فجور، أو شهوة. وقرأ الجمهور (¬2): {فَيَطْمَعَ} بفتح الميم ونصب العين جوابًا للنهي. وقرأ أبان بن عثمان وابن هرمز بالجزم عطفًا على محل فعل النهي، فكسرت العين للالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهي مريض القلب عن الطمع. كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ؛ لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع، وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى {فَيطمِعَ} بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال: وقد روي عن ابن محيصن وذكر أنَّ الأعرج - وهو ابن هرمز - قرأ: {فَيَطْمَعَ} بضم الياء وفتح العين وكسر الميم؛ أي: فيطمع هو؛ أي: الخضوع بالقول، و {الَّذِي}: مفعول، أو {الَّذِي} فاعل والمفعول محذوف؛ أي: فيطمع نفسه. {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} عند الناس بعيدًا من التهمة والريبة والإطماع بجد وخشونة، لا بتكسر وتغنج، كما يفعله المخنث على سنن الشرع، لا ينكر منه سامعه شيئًا، ولا يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه، فالزنا من أسباب الهلاك المعنوي، كالموت من أسباب الهلاك الحسي، وسببه الملاينة في الكلام والمطاوعة. والمعنى: أي يا نساء النبي، إذا استُقصيت النساء جماعة .. لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والكرامة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[33]

والخلاصة: أنه لا يشبهكن أحد من النساء، ولا يلحقكن في الفضيلة والمنزلة أحد إذا اتقيتن؛ أي: إذا استقبلتن أحدًا من الرجال، فلا ترققن الكلام، فيطمع في الخيانة من في قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق، وقلن قولًا بعيدًا عن الريبة، غير مطمع لأحد. وتفسير الاتقاء بهذا المعنى - أعني الاستقبال - أبلغ في مدحهن؛ إذ لم يعلق فضلهن على التقوى، ولا علَّق نهيهن عن الخضوع بها؛ إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، أمر (¬1) تعالى أن يكون الكلام خيرًا، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات. نهاهن عن ذلك، واتقى بمعنى: استقبل، معروف في اللغة، قال النابغة: سَقَطَ النَّصِيْفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنا بِالْيَدِ أي: استقبلتنا باليد. وقال في "الكشاف": إن المعنى: إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات. اهـ. وإجمال هذا (¬2): خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت، ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج، 33 - ولما أمرهن بالقول المعروف .. أتبعه بذكر الفعل، فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي (¬3): والزمنَ يا نساء النبي بيوتكن، واثبتنَ في مساكنكن، فلا تخرجن لغير حاجة. وقيل: هو أمر من الوقار؛ أي: كنَّ أهل وقار وسكون، والخطاب وإن كان لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد دخل فيه غيرهن. روي أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها من الأزواج المطهرة: ما خطت باب حجرتها لصلاة ولا لحج ولا لعمرة، حتى أخرجت جنازتها من بيتها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين؟ فقالت: قيل لنا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، وفي الحديث: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن". وأخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها، وهي في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

قعر بيتها". وقرأ الجمهور (¬1): {وقِرن} بكسر القاف من وقر يقر وقارًا إذا سكن، والأمر منه: قر بكسر القاف، وللنساء قرن مثل عدن وزن من وعد يعد، وأصله: أوقرن. وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر: بفتح القاف، أمر من قر يقر بفتح القاف في المضارع من باب: علم، أصله: اقررن. وقرأ ابن أبي عبلة: {واقرِرن} بألف الوصل وكسر الراء الأولى، وسيأتي البحث عن تصريف كل قراءة في مبحثه إن شاء الله تعالى. {وَلَا تَبَرَّجْنَ}؛ أي: ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}؛ أي: تبرجًا مثل تبرج نساء أهل الجاهلية الأولى؛ أي: إظهارًا مثل إظهار نساء أهل الجاهلية الأولى زينتها ومحاسنها للرجال، أو المعنى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ}؛ أي: ولا تتبخترن في (¬2) مشيكن تبرجًا وتبخترًا مثل تبرج وتبختر نساء أهل الجاهلية الأولى في مشيتها. والتبرج (¬3): أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره، مما تستدعي به شهوة الرجل. قال المبرد: هو مأخوذ من البرج بمعنى: السعة، يقال: في أسنانه برج: إذا كانت متفرقة، وقيل: التبرج: هو التبختر في المشي، وهذا ضعيف جدًا، وقد اختلف (¬4) في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل: ما بين آدم ونوح، وقيل: ما بين نوح وإدريس، وقيل: ما بين نوح وإبراهيم، وقيل: ما بين موسى وعيسى، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - وقيل: الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإِسلام، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق والفجور في الإِسلام، وقال المبرد: الجاهلية الأولى، كما تقول: الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي. (¬3) الشوكاني. (¬4) الشوكاني.

قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى: أن ثم جاهلية أخرى، كذا قال، وهو قول حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى: ما يقع في الإِسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من كان قبلكن؛ أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل. والحاصل: أن الله سبحانه أمرهن (¬1) بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج. وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت هذه الآية بكت، حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. وقيل لسودة: لِمَ لا تحجين وتعتمرين، كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فما خرجت من باب حجرتها، حتى أخرجت جنازتها، كما مرَّ. وبعد أن نهاهن عن الشر .. أمرهن بالخير فقال: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ} التي هي أصل الطاعات البدنية {وَآتِينَ الزَّكَاةَ} التي هي أشرف العبادات المالية؛ أي: إن كان لكن مال، كما في تفسير أبي الليث. {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر والنواهي، فهو تعميم بعد تخصيص، وقال بعضهم: أطعن الله في الفرائض، ورسوله في السنن. والمعنى (¬2): أي وأدين الصلاة على الوجه القيم المعتبر شرعًا، وأعطين زكاة أموالكن، كما أمركن الله. وخَصَّ هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار في طهارة النفس، وطهارة المال، وأطعن الله ورسوله فيما تأتين، وما تذرين، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر، وترك النواهي. ثم ذكر السبب في هذه الأوامر والنواهي على وجه عام، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بتلك الأوامر والنواهي {لِيُذْهِبَ} ويزيل {عَنْكُمُ الرِّجْسَ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أي: الذنب المدنس للأعراض {أَهْلَ الْبَيْتِ}؛ أي: يا أهل بيت الرسول الكريم، والمراد بهم: من حواه بيت النبوة رجالًا ونساءً، وهذا تعليل مستأنف لأمرهن ونهيهن، ولذلك عمم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهن بقوله: {عَنْكُمُ}، وصرح بالمقصود حيث قال: {أَهْلَ الْبَيْتِ}؛ أي: إنما أوصاكن الله - سبحانه - بما أوصاكن من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت، وعدم التبرج، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله؛ ليذهب عنكم الرجس أهل البيت. والمراد بالرجس: الإثم والذنب المدنسان للأعراض، الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل في ذلك كل ما ليس فيه لله رضًا، وانتصاب {أَهْلَ الْبَيْتِ} على المدح، أو على حذف حرف النداء. {وَيُطَهِّرَكُمْ} من الأرجاس والأدران {تَطْهِيرًا} كاملًا، وفي استعارة الرجس للمعصية، والترشيح لها بالتطهير، تنفيرٌ عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد. والمعنى: أي إنما يريد الله بذلك ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول، ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية (¬1)، فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن: زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، قالوا: والمراد بالبيت: بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومساكن زوجاته لقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}، وأيضًا السياق في الزوجات من قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}، وسيأتي بيان أسماء زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، وبيان ترتيبها في الزواج في الفصل الآتي. وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة، وروي عن الكلبي: أن أهل البيت المذكورين في الآية هم: علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم: الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله: {عنكم وليطهركم}، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[34]

ولو كان للنساء خاصة لقال: عنكن ويطهركن، وأجاب الأولون عن هذا: بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل، كما قال سبحانه: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد: زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير. وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين، فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات .. فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا, ولكونهن الساكنات في بيوته - صلى الله عليه وسلم -، النازلات في منازله، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين .. فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة، فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم، الصلاة يرحمكم الله"، كلَّ يوم خمس مرات، وغير ذلك من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول. وأهل البيت على هذا القول هم كل من كان ملازمًا له - صلى الله عليه وسلم - من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان المرء منهم أقرب، وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخص وألزم .. كان بالإرادة أحق وأجدر، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين، منهم: القرطبي وابن كثير وغيرهما. وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، فيشمل جميع بني هاشم. 34 - ثم بين ما أنعم به عليهن من أنَّ بيوتهن مهابط الوحي بقوله: {وَاذْكُرْنَ} للناس بطريق العظة والتذكير {مَا يُتْلَى} ويقرأ {فِي بُيُوتِكُنَّ} ومنازلكن {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} سبحانه القرآنية الدالة على العقائد الصحيحية {وَ} الدالة على {الْحِكْمَةِ}؛ أي: على الحكم والأحكام الشرعية؛ أي: من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله البينة الدالة على صدق النبوة بنظمه المعجز، وبين كونه حكمة منطوية على فنون العلم والشرائع، وحمل قتادة الآيات على آيات القرآن، والحكمة على الحديث الذي هو محض حكمة، وقال مقاتل: المراد بالآيات والحكمة: أمره ونهيه في القرآن؛ أي (¬1): واذكرن نعمة الله عليكن إذ جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله، ¬

_ (¬1) المراغي.

وما ينزل على الرسول من أحكام الدين، ولم ينزل به قرآن، فاحمدن الله على ذلك، واشكرنه على جزيل فضله عليكن، أو اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله، أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها، ويهتدوا بهداها، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها, ولا تتركن الاستكثار من التلاوة. ولا يخفى ما في هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه، كما لا يخفى ما في تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة، إذ فيه الحكمة في صلاح المجتمع في معاشه ومعاده، فمن استمسك به رشد، ومن تركه ضل عن طريق الهدى، وسلك سبيل الردى، والتعرض (¬1) للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنه الأنسب؛ لكونها مهبط الوحي؛ لعمومها جميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول، وعدم تعيين التالي ليعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن تعلمًا وتعليمًا. قال في "الوسيط": وهذا حث لهن على حفظ القرآن، والأخبار، ومذاكرتهن بها للأحاطة بحدود الشريعة. والخطاب وإن اختص بهن .. فغيرهن داخل فيه؛ لأن مبنى الشريعة على هذين: القرآن والسنة، وبهما يوقف على حدود الله ومفترضاته. انتهى. ومن سنة القارىء (¬2) أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة، كيلا ينساه، ولا يخرج عن صدره، فإن النسيان، وهو أن لا يمكنه القراءة من المصحف من الكبائر. ومن السنة أن يجعل المؤمن لبيته حظًا من القرآن، فيقرأ فيه منه ما تيسر له من حزبه، ففي الحديث: "إن في بيوتات المسلمين لمصابيح إلى العرش يعرفها مقربو ملائكة السموات السبع والأرضين السبع، يقولون: هذا النور من بيوتات المؤمنين التي يتلى فيها القرآن". ومن السنة أن يستمع القرآن أحيانًا من الغير، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءة أبي، وابن مسعود رضي الله عنهما. وكان عمر رضي الله عنه يستمع قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان حسن الصوت، واستماع القرآن في الصلاة فرض، وفي خارجها مستحب عند الجمهور، فعليك بالتذكير والتحفظ والاستماع. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[35]

وقرأ زيد بن علي: {ما تتلى} بتاء التأنيث، والجمهور: بالياء. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {كَانَ لَطِيفًا}؛ أي: ذا لطف بكن؛ إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه {خَبِيرًا} بكن؛ إذ اختاركن لرسوله أزواجًا أو لطيفًا بأوليائه، خبيرًا بجميع خلقه، وجميع ما يصدر منهم من خير وشر، وطاعة ومعصية، فهو يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو بليغ اللطف والبر بخلقه كلهم؛ خبيرًا؛ أي: بليغ العلم بالأشياء كلها، فيعلم ويدبر ما يصلح في الدين، ولذلك أمر ونهى، أو: يعلم من يصلح لنبوته، ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته. روي: أن رجلًا تكلم في زين العابدين رضي الله عنه، وافترى عليه، فقال زين العابدين: إن كنت كما قلت: فاستغفر الله، وإن لم أكن نستغفر الله لك، فقام إليه الرجل، وقبل رأسه، وقال: جعلت فداءك، لست كما قلت، فاستغفر لي، قال: غفر الله لك، فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته. 35 - ولما نزل في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نزل .. قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، ولو كان فينا خير لذكرنا، فنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ...} الخ. فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحهن بها معهم: الأولى: الإِسلام، وهو الانقياد لأمر الله تعالى، فذكرها بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}؛ أي: إن الداخلين في السلم بعد الحرب، المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث. وفي "التأويلات النجمية": المسلم: هو المستسلم للأحكام الأزلية بالطوع والرغبة، مسلمًا نفسه إلى المجاهدة والمكابدة ومخالفة الهوى، وقد سلم المسلمون من لسانه ويده. وبدأ سبحانه بذكر الإِسلام الذي هو مجرد الدخول في الدين، والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما سأله جبريل عن الإِسلام قال: "هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان". ثم عطف على المسلمين {وَالْمُسْلِمَاتِ} تشريفًا لهن بالذكر صريحًا، وهكذا فيما بعد، وإن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين وغيرهما، والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث، كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك.

والثانية: الإيمان, وهو تصحيح الاعتقاد، وموافقة الباطن الظاهر، فذكرها بقوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين، وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله والقدر خيره وشره، كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "التأويلات النجمية" المؤمن (¬1): من أمنه الناس، وقد أحيا الله قلبه أولًا بالعقل، ثم بالعلم، ثم بالفهم عن الله تعالى، ثم بنور الله تعالى، ثم بالتوحيد، ثم بالمعرفة، ثم أحياه بالله. قال في "بحر العلوم": ومراد أصحابنا باتحاد الإِسلام والإيمان: أن الإِسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى: قبول ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تعالى، والإذعان له، وذلك حقيقة التصديق. ولذلك لم يصح في الشرع أن يحكم على أحد أنه مسلم وليس بمؤمن، أو مؤمن وليس بمسلم، فلا يمتاز أحدهما عن الآخر، ولم يريدوا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لأن الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه ومواعيده، والإِسلام: هو الخضوع والانقياد لألوهيته، وهذا لا يحصل إلا بقبول الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والإذعان لذلك، فمن لم يقبل شيئًا من هذه الأربعة .. فقد كفر وليس بمسلم. انتهى. وعبارة "فتح الرحمن": قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فإن قلت (¬2): لِمَ عطف أحدهما على الآخر، مع أنهما متحدان شرعًا؟ قلت: ليسا بمتحدين مطلقًا، بل هما متحدان ما صدقًا لا مفهومًا أخذًا من الفرق بين الإِسلام والإيمان الشرعيين؛ إذ الإِسلام الشرعي: هو التلفظ بالشهادتين بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان الشرعي: عكس ذلك، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف اختلافهما مفهومًا، وإن اتحدا ما صدقًا. انتهت. والثالثة: القنوت، وهو الطاعة، وذكرها بقوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}؛ أي: المداومين على الطاعات، القائمين بها من الفريقين، والقانت: العبد المطيع، وكذا القانتة، وقيل: المداوم على الطاعة والعبادة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وفي "التأويلات النجمية" (1): القنوت: استغراق الوجود في الطاعة والعبودية. والرابعة: الصدق في الأقوال والأفعال، وذكرها بقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} في القول والعمل والنية، والصادق والصادقة: هما من يتكلم بالصدق، ويتجنب الكذب، وبقي بما عوهد عليه. وفي "التأويلات النجمية": في عقودهم، ورعاية حدودهم، والصدق: نور أهدي لقلوب الصديقين بحسب قربم من ربهم. والخامسة: الصبر على ما أمر الله به، وفيما ساء وسر، وذكرها بقوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} على الطاعات، وعن المعاصي، والصابر والصابرة: هما من يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق التكليف. وفي "التأويلات": على الخصال الحميدة، وعن الصفات الذميمة، وعند جريان القضاء، ونزول البلاء. والسادسة: الخشوع في الصلاة، وهو أن لا يلتفت، وقيل: هو التواضع، وذكرها بقوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}؛ أي: المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. والخاشع والخاشعة: هما المتواضعان لله، الخائفان منه، الخاضعان في عباداتهم لله تعالى. وفي "التأويلات": الخشوع: إطراق السريرة عند توارد الحقيقة. انتهى. قال بعضهم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له، وفي "القاموس": الخشوع: الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع: في الصوت. والسابعة: الصدقة مما رزق الله، وذكرها بقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} بما وجب في مالهم، والمعطين للصدقات فرضًا أو نفلًا والمتصدِّق والمتصدِّقة: هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه، وقيل: ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل، يقال: تصدق على الفقراء: إذا أعطاهم الصدقة، وهي العطية التي بها تبتغى المثوبة من الله تعالى. وفي "التأويلات": والمتصدقين والمتصدقات بأموالهم وأعراضهم، حتى لا يكون لهم مع أحد خصومة فيما ينال منهم. والثامنة: المحافظة على الصوم، وذكرها بقوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} الصوم المفروض، أو مطلق الصوم فرضًا أو نفلًا. وفي "المفردات": الصوم في الأصل: الإمساك عن الفعل مطعمًا كان أو كلامًا أو مشيًا، وفي الشرع: إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين، والاستمناء، والاستقاءة.

والتاسعة: العفة، وذكرها بقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} فروجهن عن الحرام بالتعفف والتنزه، والاقتصار على الحلال، وحذف مفعول الثاني لدلالة المذكور عليه. والعاشرة: كثرة الذكر، وذكرها بقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ} ذكرًا {كَثِيرًا} بقلوبهم وألسنتهم {وَالذَّاكِرَاتِ} الله كثيرًا، فحذف المفعول، كما في الحافظات؛ لعلمه من المذكور. والذاكر والذاكرة: هما من يذكر الله سبحانه على أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان، والمراد بكثرة الذكر: أن لا ينساه على كل حال، لا الذكر بكثرة اللغات. وفي "التأويلات": بجميع أجزاء (¬1) وجودهم الجسمانية والروحانية، بل بجميع ذرَّات المكونات، بل بالله وبجميع صفاته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أدبار الصلوات، وغدوًا وعشيًا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله. انتهى. والاشتغال بالعلم النافع وتلاوة القرآن والدعاء من الذكر. وفي الحديث: "من استيقظ من منامه، وأيقظ امرأته، فصليا جميعًا ركعتين .. كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات". وعن مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سبق المفردون"، قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات". وقال عطاء بن أبي رباح (¬2): من فوض أمره إلى الله .. فهو داخل في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}، ومن أقر بأن الله ربه، ومحمدًا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة .. فهو داخل في قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}، ومن صان قوله عن الكذب .. فهو داخل في قوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}، ومن صلى، فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله .. فهو داخل في قوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم .. فهو داخل في قوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ}، ومن صام في كل شهر أيام البيض - وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر - .. فهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

داخل في قوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}، ومن حفظ فرجه عما لا يحل .. فهو داخل في قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها .. فهو داخل في قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}. وخبر {إِنَّ} في الجميع هو قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ}؛ أي: هيأ الله سبحانه في الآخرة {لَهُمْ} لهؤلاء المذكورين بسبب ما عملوا من الطاعات العشر المذكورة، وجمعوا بينها. والعطف (¬1) بالواو بين الذكور والإناث، كالمسلمين والمسلمات، كالعطف بين الضدين؛ لاختلاف الجنسين، وأما عطف الزوجين على الزوجين، كعطف المؤمنين والمؤمنات على المسلمين والمسلمات، فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع؛ أي: عطفهما لتغاير الوصفين. {مَغْفِرَةً} لما اقترفوا من الصغائر؛ لأنهن مكفرات بما عملوا من الأعمال الصالحة. وفي "التأويلات": هي نور من أنوار جماله، جعل مغفر الرأس روحهم، يعصمهم مما يقطعهم عن الله. {وَأَجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: ثوابًا جزيلًا على طاعاتهم التي فعلوها من: الإِسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، وهو الجنة. وقيل: سهولة العبادة، ودوام المعرفة اليوم، وتحقيق المسؤول، ونيل ما فوق المأمول غدًا. ووصف الأجر بالعظم (¬2): للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ، ولا شيء أعظم من أجرٍ هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد. اللهم اغفر ذنوبنا، وأعظم أجورنا. والحاصل: أن الله سبحانه ذكر الأوصاف (¬3) التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم، ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده، وهي عشرة: 1 - إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين في القول والعمل. 2 - إسلام الباطن بالتصديق التام، والإذعان لما فرض الدين من الأحكام، وهذا هو الإيمان. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

3 - القنوت: وهو دوام العمل في هدوء وطمأنينة، كما قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، وقال: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} فالإسلام والانقياد: مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق, وينشأ عن مجموعها القنوت والخشوع. 4 - الصدق في الأقوال والأعمال، وهو علامة الإيمان, كما أن الكذب أمارة النفاق، فمن صدق نجا، وفي الحديث: "عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار". 5 - الصبر على المكاره، وتحمل المشاق في أداء العبادات، وترك الشهوات. 6 - الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه، وخوفًا من عقابه، كما جاء في الحديث: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". 7 - التصدق بالمال، والاحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب، وقد ثبت في الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وفي حديث آخر: "والصدقة تطفىء الخطيئة، كما يطفىء الماء النار". 8 - الصوم، فإنه نعم العون على كسر الشهوة، كما روى ابن ماجه من قوله: "والصوم زكاة البدن"؛ أي: إنه يزكيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعًا وشرعًا. 9 - حفظ الفروج عن المحارم والآثام، كما جاء في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}. 10 - ذكر الله كثيرًا بالألسنة والقلوب، كما سبقت أحاديثه: فهؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم، ويؤتيهم الأجر العظيم في جنات النعيم.

[36]

قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها 36 - زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله، وطلاقها منه، وزواجها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإبطال عادة جاهلية، وهي إعطاء المتبنَّى حكم الابن في حرمة زواج امرأته بعد طلاقها. روي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب زينب بنت جحش بن رباب الأسدي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب لمولاه زيد بن حارثة، وكانت زينب بيضاء جميلة، وزيد أسود أفطس، فأبت وقالت: أنا بنت عمتك يا رسول الله، وأرفع قريش، فلا أرضاه لنفسي، وكذلك أباه أخوها عبد الله بن جحش، فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} الآية؛ أي: ما صحَّ واستقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين، فدخل فيه عبد الله وأخته، ولفظ: ما كان، وما ينبغي، ونحوهما معناها: المنع والحظر من الشيء، والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعًا، وقد يكون لما يمتنع عقلًا، كقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}. {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وحكما {أَمْرًا} من أمور الدين والدنيا، مثل نكاح زينب؛ أي: إذا قضى رسول الله، وحكم حكمًا من الأحكام. وذكر (¬1) الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه - صلى الله عليه وسلم - قضاء الله تعالى، كما أنَّ طاعته طاعة الله تعالى. {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}؛ أي: الاختيار {مِنْ أَمْرِهِمْ} ما شاءوا. والخيرة - بالكسر -: اسم مصدر من اختار بمعنى: الاختيار، والمعنى: أنه لا يحل لكل مؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يمتنعوا من قضائه، ويختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب (¬2) عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعًا لاختياره - صلى الله عليه وسلم -، ورأيهم تلوًا لرأيه، فقالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه، وساق عنه إليها مهرها، وإنما جمع الضمير في قوله: {لَهُمُ}، و {مِنْ أَمْرِهِمْ}؛ لأن {مؤمن} و {مُؤْمِنَةٍ} وقعا في سياق النفي، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة. وقال بعضهم (¬3): الضمير الثاني للرسول؛ أي: من أمره، والجمع للتعظيم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

والخلاصة: أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرًا قضى الرسول بغيره، وقال أبو حيان: الخيرة: مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير. وقرىء بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان، وقرأ الحرميان (¬1) - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى: {أن تكون} بتاء التأنيث؛ لكونه مسندًا إلى الخيرة، وهي مؤنثة لفظًا، وقرأ الكوفيون والحسن والأعمش والسلمي: {أَنْ يَكُونَ} بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: {لَهُمُ}، مع كون التأنيث غير حقيقي. وعبارة "الشوكاني": والخيرة: مصدر بمعنى الاختيار، وقرأ ابن السميقع: {الخيرة} بسكون الياء، والباقون بفتحها. انتهت. ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره، فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أمر من الأمور، ويعمل برأيه. وفي "كشف الأسرار": ومن يعص الله، فخالف الكتاب ورسوله، فخالف السنة {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ طريق الحق، وعدل عن الصراط المستقيم {ضَلَالًا مُبِينًا}؛ أي: بيّن الانحراف عن سنن الصواب؛ أي: ضلالًا ظاهرًا واضحًا لا يخفى. والمعنى (¬2): أي ومن يعصِ الله ورسوله ويخالفهما فيما أمرا ونهيا .. فقد جار ومال عن قصد السبيل، وسلك غير طريق الهدى والرضاد، ونحو الآية قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن العبد ينبغي أن لا يكون له اختيار بغير ما اختاره الله، بل تكون خيرته فيما اختاره الله له، ولا يعترض على أحكامه الأزلية عند ظهورها له، بل له الاحتراز عن شر ما قضى الله قبل وقوعه، فإذا وقع الأمر .. فلا يخلو إما أن يكون موافقًا للشرع، أو يكون مخالفًا للشرع، فإن يكن موافقًا للشرع .. فلا يخلو؛ إما أن يكون موافقًا لطبعه، أو مخالفًا لطبعه، فإن يكن موافقًا لطبعه .. فهو نعمة من الله يجب عليه شكرها، ان يكن مخالفًا لطبعه .. فيستقبله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[37]

بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفًا للشرع .. يجب عليه التوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله تعالى من غير اعتراض على الله فيما قدر وقضى وحكم به، فإنه حكيم يفعل ما يشاء بحكمته، ويحكم ما يريد بعزته. انتهى. 37 - ثم ذكر الله سبحانه نبيه بما وقع منه؛ ليزيده تثبيتًا على الحق، وليدفع عنه ما حال في صدور ضعاف العقول، ومرضى القلوب فقال: {وَإِذْ تَقُولُ}. روي (¬1) أنه لما نزلت الآية المتقدمة .. قالت زينب وأخوها عبد الله: رضينا يا رسول الله؛ أي: بنكاح زيد، فأنكحها عليه الصلاة والسلام إياه، وساق إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفة، ودرعًا، وإزارًا، وخمسين مدًا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، وبقيت بالنكاح معه مدةً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يومًا إلى بيت زيد لحاجة، فأبصر زينب، فأعجبه حسنها، فوقع في قلبه محبتها بلا اختيار منه، والعبد غير ملوم على مثله ما لم يقصد المأثم، ونظرة المفاجأة التي هي النظرة الأولى مباحة، فقال عليه الصلاة والسلام عند ذلك: "سبحان الله، يا مقلب القلوب ثبت قلبي" وانصرف، وذلك أن نفسه كانت تمتنع عنها قبل ذلك لا يريدها, ولو أرادها لخطبها، وسمعت زينب التسبيحة، فذكرتها لزيد بعد مجيئه، وكان غائبًا ففطن، فأتى رسول الله تلك الساعة، فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: "ما لك، أرأيت منها شيئًا؟ " قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم علي لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فمنعه عليه الصلاة والسلام، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ}؛ أي: واذكر يا محمد قصة وقت قولك: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالتوفيق للإسلام الذي هو أجل النعم، وللخدمة والصحبة، وهو زيد بن حارثة {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يا محمد بحسن التربية والإعتاق والتبني له، وكان من سبي الجاهلية، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، وأعتقه وتبناه، وهو أول من أسلم من الموالي، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبه، ويحب ابنه أسامة، شهد بدرًا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى بني المصطلق، وخرج أميرًا في سبع سرايا، وقتل يوم مؤتة - بضم الميم وبالهمزة ساكنة -: موضع معروف عند الكرك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومقول القول قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ}؛ أي: أمسك على نكاحك {زَوْجَكَ} زينب، واتركها فيه {وَاتَّقِ اللَّهَ} سبحانه في أمرها, ولا تطلقها ضرارًا، أو تعللًا بتكبرها, ولا تعجل بطلاقها. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}؛ أي: والحال أنك تضمر في قلبك وتستر الأمر الذي الله مظهره للناس، وهو نكاحها إن طلقها زيد. وقيل: حبها، وهو علم بأن زيدًا سيطلقها وسينكحها، يعني: أنك تعلم بما أعلمتك أنها ستكون زوجتك، وأنت تخفي في نفسك هذا المعنى، والله يريد أن ينجز لك وعده، ويبدي أنها زوجتك بقوله: {زَوَّجْنَاكَهَا}، وكان من علامات أنها زوجته إلقاء محبتها في قلبه، وذلك بتحبيب الله تعالى، لا بمحبته بطبعه، وذلك ممدوح جدًا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة"، وأنه لم يقل أحببت، ودواعي الأنبياء من قبيل الإذن الإلهي؛ إذ ليس للشيطان عليهم سبيل. قال في "الأسئلة المقحمة": قد أوحي إليه أن زيدًا يطلقها، وأنت تزوج بها، فأخفى عن زيد سر ما أوحي إليه؛ لأن السر يتعلق بالمشيئة والإرادة، ولا يجب على الرسل الإخبار عن المشيئة والإرادة، وإنما يجب عليهم الإخبار والإعلام عن الأوامر والنواهي، لا عن المشيئة، كما أنه كان يقول لأبي لهب: آمن بالله، وقد علم أن الله أراد أن لا يؤمن أبو لهب، كما قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)}؛ لأن ذلك الذي يتعلق بعذاب أبي لهب إنما هو من المشيئة والإرادة، فلا يجب على النبي إظهاره، ولا الإخبار عنه. {وَتَخْشَى النَّاسَ}؛ أي: تستحييهم، أو (¬1) تخاف لومهم وتعييرهم لك به، بأن يقولوا: أمر مولاه بطلاق امرأته، ثم تزوجها. وفي "التأويلات النجمية": أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة بأن يخطر ببالهم نوع إنكار، أو اعتراض عليه، أو شك في نبوته، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تنزه عن مثل هذا الميل، وتتبع الهوى، فيخرجهم عن الإيمان إلى الكفر، فكانت تلك الخشية إشفاقًا منه عليهم، ورحمة بهم أنهم لا يطيقون سماع هذه الحالة، ولا يقدرون على تحملها. {وَاللَّهُ أَحَقُّ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه أحق وأجدر وأولى {أَنْ تَخْشَاهُ} في كل حال، وتخاف منه، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وتستحييه. وفي"كشف الأسرار": إنما عوتب - صلى الله عليه وسلم - على إخفاء ما أعلمه الله تعالى أنها ستكون زوجة له. قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الوحي .. لكتم هذه الآية: {إِذْ تَقُولُ} الخ، وما نزل على رسول الله آية هي أشد عليه من هذه الآية. وفي "التأويلات": يشير إلى أن رعاية جانب الحق أحق من رعاية جانب الخلق؛ لأن لله تعالى في إبداء هذا الأمر، وإجراء هذا القضاء حكمًا كثيرة، فالواجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عرض له أمر أن، في أحدهما رعاية جانب الحق، وفي الآخر رعاية جانب الخلق، أن يختار رعاية جانب الحق على الخلق، فإن للحق تعالى في إجراء حكم من أحكامه، وإصفاء أمر من أوامره حكمًا كثيرة، كما قال تعالى في إجراء تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب قوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد بن حارثة، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد، فيتزوجها هو، ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول، وعصيان أمر، وأذًى باللسان، وتعظمًا بالشرف قال له: "اتق الله فيما تقول عنها، وأمسك عليك زوجك"، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. انتهى. وحاصل معنى الآية: أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفقه للإسلام، وأنعمته عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله في أمرها, ولا تطلِّقها ضرارًا، وتعللًا بتكبرها، وشموخًا بأنفها، فإن الطلاق يثنيها، وربما لا يجد بعدها خيرًا منها، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك؛ لتكون أسوةً لمن معك، ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في ذلك الحيرة، وخشية أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه، فأنت تخفي في نفسك ما الله مبديه من الحكم الذي ألهمك، وتخاف من اعتراض الناس، والله الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن

تمضي في الأمر قدمًا؛ تعجيلًا لتنفيذ كلمته، وتقرير شرعه. ثم زاد الأمر بيانًا بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}؛ أي: تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس، فلما قضى زيد من زوجته زينب وطرًا، ولم يبق له فيها حاجة، والمراد: قضى وبلغ وأتم وطره منها بنكاحها، والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وتقاصرت همته عنها، وطلقها وانقضت عدتها. وفي "التأويلات" (¬1): أما وطر زيد منها في الصورة: استيفاء حظه منها بالنكاح، ووطره منها في المعنى: شهرته بين الخلق إلى قيام الساعة، بأن الله تعالى ذكره باسمه في القرآن، دون جميع الصحابة، وبأنه آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه بإيثار زينب له. وفي "الأسئلة المقحمة": كيف طلق زيد زوجته بعد أن أمر الله ورسوله بإمساكه إياها؟ والجواب: ما هذا الأمر للوجوب واللزوم، وإنما هو للاستحسان. {زَوَّجْنَاكَهَا} يا محمد؛ أي: جعلناها زوجة لك، هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وهي بنت خمس وثلاثين سنة، والمراد: الأمر بتزويجها، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد، ولا تقدير صداق، ولا شيء مما يعتبر في النكاح في حق أمته؛ أي: زوجناكها, ولم نحوجك إلى وليٍّ يعقد لك عليها تشريفًا لك ولها. ويؤيده ما روى أنس رضي الله عنه: أنها كانت تفخر على سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات، وهو من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. وروي أنها لما اعتدت .. قال رسول الله لزيد: "ما أجد أحدًا أوثق في نفسي منك، اخطب عليَّ زينب"، قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينها، فقلت: يا زينب، أبشري، فإن رسول الله يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن {زَوَّجْنَاكَهَا}، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراغي.

ودخل، وما أوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم، حتى امتد النهار، وجعل زيدٍ سفيرًا في خطبتها ابتلاء عظيم له، وشاهد على قوة إيمانه، ورسوخه فيه. وقرأ الجمهور (¬1): {زَوَّجْنَاكَهَا} بنون العظمة، وقرأ جعفر بن محمد وابن الحنفية وأخواه الحسن والحسين وأبوهم علي: {زوجتكها} بتاء الضمير للمتكلم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ}؛ أي: زوجناكها كيلا يكون فيما بعد {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}؛ أي: ضيق ومشقة وذنب {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}؛ أي: في تزوج زوجات الذين دعوهم أبناء، والأدعياء: جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنًا من غير ولادة. {إِذَا قَضَوْا}؛ أي: إذا قضى الأدعياء {مِنْهُنَّ}؛ أي: من زوجاتهم {وَطَرًا}؛ أي: حاجة؛ أي: إذا لم يبق لهم فيهن حاجة، وطلقوهن، وانقضت عدتهن، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة. وفيه (¬2) دليل على أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل. قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنَّى كحرمة الابن، فبيَّن الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني، وإن أصابوهن؛ أي: وطؤوهن، بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}. والمعنى: أي فلما قضى زيد منها حاجته وملها، ثم طلقها .. جعلناها زوجًا لك لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين، ولا يجدوا في أنفسهم حرجًا من أن يتزوجوا نساءً كنَّ من قبلُ أزواجًا لأدعيائهم. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي: ما يريد تكوينه من الأمور {مَفْعُولًا}؛ أي: مكونًا موجودًا في الخارج لا محالة، لا يمكن دفعه لأحد، ولو كان نبيًا، كما كان تزويج زينب، وكانت كالعارية عند زيد؛ أي: كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاءً ماضيًا مفعولًا نافذًا لا محالة. قال بعضهم: في اعتقادنا أنَّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[38]

زينب بكر، كعائشة رضي الله عنهما؛ لأن زيدًا كان يعرف أنها حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يمسها، وذلك مثل آسية وزليخا، ويكفينا أنَّ ميله - صلى الله عليه وسلم - إليها كان أكثر من غيرها, ولم تلد أيضًا، وكانت عائشة تقول في حق زينب: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما رأيت امرأة قط خيرًا في الدين، وأتقى لله، وأصدق في حديث، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة من زينب. ماتت بالمدينة سنة عشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنها، ودفنت بالبقيع، ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة، وأبدل الله منها لزيد جارية في الجنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استقبلتني جارية لعساء، وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة. قوله: "استقبلتني"؛ أي: خرجت من الجنة، واستقبلته - صلى الله عليه وسلم - بعد مجاوزة السماء السابعة ليلة المعراج، واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلًا، وذلك مستملح، قاله في "الصحاح". وأبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، هي أنه لما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}، وصار يقال له: زيد بن حارثة، ولا يقال له: زيد بن محمد، ونزع عنه هذا التشريف، وعلم الله وحشته من ذلك .. شرَّفه بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب، وزاد في الآية أن قال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ}؛ أي: بالإيمان, فدل على أنه من أهل الجنة، علم بذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى له رضي الله عنه. 38 - ثم بيَّن الله سبحانه أنه لم يكن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرج في هذا النكاح، فقال: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيّ} - صلى الله عليه وسلم - {مِن} زائدة لوقوعها بعد النفي {حَرَجٍ} اسم كان الناقصة؛ أي: ما صح ولا استقام في الحكمة أن يكون على النبي - صلى الله عليه وسلم - حرج وضيق {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} وقسم وقدر له في علمه، كتزوج زينب؛ أي: ليس على النبي حرج وذنب ومنع فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه، بعد فراقه إياها. ثم بين أن الرسول وسحونِ ليس بدعًا في الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري، فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ}: منصوب على المصدرية بفعل محذوف مؤكد لما قبله من نفي الحرج؛ أي: سن الله سبحانه نفي الحرج سنةً؛ أي: جعله طريقة مسلوكة {فِي الَّذِينَ خَلَوْا}؛ أي: مضوا {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من

[39]

الأنبياء؛ حيث وسع عليهم في باب النكاح وغيره، ولقد كان لداودٍ عليه الصلاة والسلام مئة امرأة، وثلاث مئة سرية، ولابنه سليمان عليه السلام ثلاث مئة امرأة، وسبع مئة سرية، فلك التوسعة في أمر النكاح مثل الأنبياء الماضين؛ أي: إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية، أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره. أي: إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن، وفي هذا رد على اليهود الذين عابوه - صلى الله عليه وسلم - وحاشاه بكثرة الأزواج. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: مأموره الذي قدره وحكمه وقضاه {قَدَرًا مَقْدُورًا}؛ أي: قضاء مقضيًا، وحكمًا مبتوتًا كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو كقولهم: ظل ظليل، وليل أليل، في قصد التأكيد. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره. اهـ. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا قضى أمر نبي .. لم يجعل عليه في ذلك من حرج، ولا سبب نقصان، وإن كان في الظاهر سبب نقصان ما عند الخلق، والذي يجري على الأنبياء قضاء مبرم مبني على حكم كثيرة، وليس فيه خطأ، ولا غلط ولا عبث. 39 - ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى، وإخلاص العبادة له، وتبليغ رسالته، فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، والموصول صفة للذين خلوا، أو في محل الرفع على إضمارهم، أو في محل النصب على تقدير: أمدح. وقرأ عبد الله: {الذين بلغوا} جعله فعلًا ماضيًا، وقرأ أبي {رسالة الله} على التوحيد، والجمهور: {يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} جمعًا. والمراد بالرسالة: ما يتعلق بالرسالة، وهي سفارة العبد بين الله، وبين ذوي الألباب من خلقه؛ أي: إيصال الخبر من الله إلى العباد؛ أي: الذين يوصلون ما أمروا بتبليغه إلى الخلق. {وَيَخْشَوْنَهُ}؛ أي: يخافونه في كل ما يأتون ويذرون، لا سيما في أمر تبليغ الرسالة؛ حيث لا يقطعون منها حرفًا، ولا تأخذهم لومة لائم {وَلَا يَخْشَوْنَ} في

تبليغ ما أمروا به {أَحَدًا} من خلقه؛ أي: تعيير أحدا, ولا لومه {إِلَّا اللَّهَ} سبحانه، وفي وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعريض (¬1) بما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من الاحتراز من لائمة الخلق بعد التصريح في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ ...} الآية. مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده، وخشيته في كل فعل وقول، ولا يخشون سواه، ولا يبالون بقول الناس، ولا بتعييرهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه. والمعنى (¬2): أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعًا سنتهم، وسالكًا سبيلهم، هم الذين يبلِّغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه. والخلاصة: كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخشَ أحدًا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوءٍ، أو يمسك بأذى. قال بعضهم: خشية الأنبياء من العتاب، وخشية الأولياء من الحجاب، وخشية عموم الخلق من العذاب. اهـ. وفي "الأسئلة المقحمة": كيف قال سبحانه: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، ومعلوم أنهم خافوا غير الله، وقد خاف موسى عليه السلام حين قال: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}، وكذلك قال يعقوب عليه السلام: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}، وكذلك خاف نبينا - صلى الله عليه وسلم - حين قيل له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وكذلك أخبر الكتاب عن جماعة من الأنبياء أنهم خافوا أشياء غير الله؟ والجواب: أن معنى الآية: لا يعتقدون أنَّ شيئًا من المخلوقات يستقل بإضرارهم، ويستبد بإيذائهم دون إرادة الله ومشيئته؛ لما يعلمون أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره، فأراد بالخوف هنا خوف العقيدة والعلم واليقين، لا خوف البشرية الذي هو من الطباع الخلقية، وخواص البشرية، ونتائج الحيوانية. {وَكَفَى بِاللَّه} سبحانه {حَسِيبًا}؛ أي: محاسبًا لعباده على أعمالهم، فينبغي أن يحاسب العبد نفسه قبل محاسبة الله إياه، ولا يخاف غير الله، لا في أمر النكاح، ولا في غيره، إذا علم أن رضي الله وحكمه فيه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[40]

واعلم: أن السواك والتعطر والنكاح ونحوها من سنن الأنبياء عليهم السلام، وليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن، ثم تستمر تلك العبادة في الجنة إلا الإيمان والنكاح، وقيل: المعنى: وكفى الله ناصرًا ومعينًا وحافظًا لأعمال عباده، ومحاسبًا لهم عليها، أو المعنى: وكفى بالله حاضرًا في كل مكان، يكفي عباده كل ما يخافونه. 40 - ولما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب .. قال الناس: تزوج محمد امرأة ابنه، فأنزل الله سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ} - صلى الله عليه وسلم - بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. والمختار: أنه لا يشترط في الإِسلام معرفة أب النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم جده، بل يكفي فيه معرفة اسمه الشريف، كما في "هداية المريدين"، يقال: فلان محمود، إذا حمد، ومحمد: إذا كثرت خصاله المحمودة، كما في "المفردات". قال زكريا في "شرح المقدمة الجزرية": هو البليغ في كونه محمودًا، وهو الذي حمدت عقائده وأفعاله وأقواله وأخلاقه، سماه به جده عبد المطلب بإلهام من الله سبحانه في سابع ولادته، فقيل له: لِمَ سميت محمدًا، وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءَه وتفاؤله. {أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ أي (¬1): ليس باب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور من خديجة ثلاثة: القاسم، والطيب، والطاهر، وماتوا صغارًا لم يبلغ أحد منهم الحلم، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، ومات رضيعًا، وولد له من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والثلاث الأول متن في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وماتت فاطمة بعد أن قبض - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى بستة أشهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلًا. قال: وأما الحسن والحسين، فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له - صلى الله عليه وسلم -. ولا ينتقض عموم أحد في قوله: {أَبَا أَحَدٍ} بكونه أبًا للطاهر والقاسم وإبراهيم؛ لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال؛ لأن الرجل هو الذكر البالغ من بني آدم، ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم، وكذا الحسن والحسين، كما مر آنفًا. {وَلَكِنْ} كان محمد - صلى الله عليه وسلم - {رَسُولَ اللَّهِ}؛ أي: رسولًا من رب العالمين إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

كافة الثقلين {وَ} كان {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ أي: وكان آخرهم الذي ختموا به. والمعنى (¬1): أي ما كان لك أن تخشى أحدًا من الناس بزواج امرأة متبناك، لا ابنك، فإنك لست أبًا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله في تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد من الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم، كما هو دأب كل رسول مع أمته. وخلاصة ذلك: ليس محمد باب لأحد منكم أبوة شرعية، يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها, ولكنه أب للمؤمنين جميعًا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه، كما أن عليه أن يشفق عليهم، ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم في المعاش والمعاد، وما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. وفي "فتح الرحمن": قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ...} إلخ. هو (¬2) جواب سؤال مقدر تقديره: أمحمد أبو زيد بن حارثة؟. فأجيب: بنفي الأعم المستلزم لنفي الأخص؛ إذ لو اقتصر على قوله: ما كان محمد أبا زيد، لقيل: وماذا يلزم منه، فقد كان للأنبياء أبناء، فجيء بنفي الأعم تمهيدًا للاستدراك بأنه رسول الله، وخاتم النبيين وإن قلتَ: كيف صح نفي الأبوة عنه، وكان أبًا للطيب والطاهر والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد قيد النفي بقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ لأن إضافة الرجال إلى المخاطبين تخرج أبناءه؛ لأنهم رجاله لا رجالهم، ولأن المفهوم منهم بقرينة المقام الرجال البالغون، وأبناؤه ليسوا كذلك، إذ لو كان له ابن بالغ، لكان نبيًا، فلا يكون هو خاتم النبيين. فإن قلت: كيف قال تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وعيسى عليه السلام ينزل بعده وهو نبي؟ قلتُ: معنى كونه خاتم النبيين: أنه لا ينبَّأ أحد بعده، وعيسى نبي قبله، وحين ينزل كان عاملًا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} بتخفيف {لكن} {رَسُولَ} على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه. قيل: أو على العطف على {أَبَا أَحَدٍ}، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالتشديد، والنصب على أنه اسم لكن، والخبر محذوف، تقديره: ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه دليل، كقول الشاعر: فَلَوْ كُنْتُ ظَبْيًا مَا عَرَفْتَ قَرَابَتِيْ ... وَلَكِنَّ زِنْجِيًّا عَظِيْمَ الْمَشَافِرِ أي: أنت لا تعرف قرابتي، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بالتخفيف ورفع رسول الله وخاتم النبيين. أي: ولكن هو رسول الله. وقرأ الجمهور: {وَخَاتَمَ} بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم؛ أي: جاء آخرهم، وقرأ الحسن والشعبي وزيد بن علي والأعرج بخلاف عنه، وعاصم: بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم الذي يتختمون به، ويتزينون بكونه منهم، وقيل: كسر التاء وفتحها لغتان، قال أبو عبيد: الوجه الكسر, لأن التأويل أنه ختمهم، فهو خاتمهم. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من الموجودات {عَلِيمًا}؛ أي: عالمًا. ومن جملة معلوماته هذه: الأحكام المذكورة هنا، وأنه لا نبي بعده، فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي لشأنه، ولا يعلم أحد سواه ذلك. والخلاصة: أنه سبحانه يعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم، ويعلم المصالح في ذلك، ونحو الآية قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (¬2): هي نص على أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده .. فلا رسول بطريق الأولى، والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد إليهم، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر الله في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة، عن: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادَّعى هذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) ابن كثير.

[41]

المقام بعده كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى سبحانه على يدي الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة، والأقوال الباردة. 41 - ثم أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، وبكل ما هو ذكر لله تعالى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وصدَّقوهما {اذْكُرُوا اللَّهَ} سبحانه بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم {ذِكْرًا كَثِيرًا} في (¬1) جميع الأوقات ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، وفي عموم الأمكنة برًا وبحرًا، سهلًا وجبلًا، وفي كل الأحوال حضرًا وسفرًا، صحة وسقمًا، سرًا وعلانيةً، قيامًا وقعودًا، وعلى الجنوب، وفي الطاعة بالإخلاص، وسؤال القبول والتوفيق، وفي المعصية بالامتناع منها، وبالتوبة والاستغفار، وفي النعمة بالشكر، وفي الشدة بالصبر، فإنه ليس للذكر حد معلوم كسائر الفرائض، ولا لتركه عذر مقبول إلا أن يكون المرء مغلوبًا على عقله. ثم إن ذكر الله، وان كان يشمل الصلاة والتلاوة والدراسة ونحوها، إلا أن أفضل الأذكار: لا إله إلا الله، فالاشتغال به منفردًا، ومع الجماعة محافظًا على الآداب الظاهرة والباطنة ليس كالاشتغال بغيره. وقال بعضهم: الأمر بالذكر الكثير إشارة إلى محبة الله تعالى، يعني: أحبوا الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب شيئًا أكثر من ذكره". وقال مجاهد: الذكر الكثير: أن لا ينساه أبدًا، وقال الكلبي: الذكر الكثير بالصلوات الخمس. 42 - وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال. {وَسَبِّحُوهُ}؛ أي: نزهوه تعالى عما لا يليق به {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}؛ أي: أول النهار وآخره، وقد يذكر الطرفان، ويفهم منهما الوسط، فيكون المراد: سبحوه في جميع الأوقات خصوصًا في الوقتين المذكورين المفضلين على سائر الأوقات؛ لكونهما مشهودين على ما دل قوله عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[43]

وملائكة بالنهار"، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما، وخص التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ} تنبيهًا على مزيد شرفه، وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار، وقيل: أفرد التسبيح بالذكر من بين الأذكار؛ لكونه العمدة فيها من حيث إنه من باب التخلية. وفي الحديث: "أربع لا يمسك عنهن جنب: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" فإذا قالها الجنب .. فالمحدث أولى، فلا منع من التسبيح على جميع الأحوال إلا أن الذكر على الوضوء والطهارة من آداب الرجال. وقيل: المراد بالتسبيح بكرة: صلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلًا: صلاة المغرب، وقال قتادة وابن جرير: المراد: صلاة الغداة وصلاة العصر، وقال الكلبي: أما بكرة: فصلاة الفجر، وأما أصيلًا: فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقيل (¬1): خص البكرة والأصيل بالذكر: لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم، وهو يُعَدُّ كأنه حياة جديدة بعد موت، ووقت الأصيل: وقت الانتهاء من العمل اليومي، فيكون الذكر شكرًا له على توفيقه لأداء الأعمال، والقيام بالسعي على الأرزاق، فلم يبق إلا السعي إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة. 43 - ثم ذكر السبب في هذا الذكر والتسبيح، فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}؛ أي: إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير، وتسبحونه بكرةً وأصيلًا هو الإله الذي يصلي عليكم، ويرحمكم، ويثني عليكم في الملأ الأعلى، ويعتني بكم بالرحمة والمغفرة والتزكية {و} تصلي عليكم {ملائكته}؛ أي: تستغفر لكم ملائكته؛ أي: هو الذي يصلي عليكم، ويأمر ملائكته بالدعاء والاستغفار لكم، و {هُوَ} (¬2) معطوف على المستكن في {يُصَلِّي} لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل. فالمراد بالصلاة: المعنى المجازي الشامل للرحمة والاستغفار، وهو الاعتناء بما فيه خيرم، وصلاح أمرهم، فلا يجوز أن يراد بالصلاة أولًا الرحمة، والاستغفار ثانيًا، فإن استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين مما لا مساغ له، بل على أن يراد بها معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردًا له حقيقيًا، وهو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[44]

الاعتناء بما فيه خيرهم وصلاح أمرهم، فإن كلًّا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له. اهـ "أبو السعود". فالله يهديكم برحمته، والملائكة يستغفرون لكم، وفي هذا من التحريض على ذكره، والتسبيح له ما لا يخفى. واللام في قوله: {لِيُخْرِجَكُمْ} متعلق بـ {يُصَلِّي}؛ أي: يصلي عليكم ليخرجكم الله سبحانه بتلك الصلاة والعناية، وإنما لم يقل: ليخرجاكم؛ لئلا يكون للملائكة منة عليهم بالإخراج، ولأنهم لا يقدرون على ذلك؛ لأن الله هو الهادي في الحقيقة لا غير؛ أي: يعتني هو وملائكته بأموركم ليخرجكم {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ أي: من ظلمات المعاصي {إِلَى النُّورِ}؛ أي: إلى نور الطاعات، ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، جمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه. اهـ شيخنا". أي: ليخرجكم بسبب رحمته، ودعاء الملائكة من ظلمات الجهل والشرك والمعصية والشك والضلالة والبشرية وصفاتها، إلى نور العلم والتوحيد والطاعة واليقين والهدى والروحانية وصفاتها. ومعنى الآية (¬1): تثبيت المؤمنين على الهداية، ودوامهم عليها؛ لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية، ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيسًا لهم، وتثبيتًا فقال: {وَكَانَ} سبحانه في الأزل قبل إيجاد الملائكة المقربين {بِالْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بكافتهم قبل وجدانهم العينية {رَحِيمًا}؛ولذلك فعل بهم ما فعل من الاعتناء بصلاحهم بالذات وبواسطة الملائكة، فلا تتغير رحمته بتغير أحوال من سعد في الأزل، وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها. والمعنى (¬2): أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان, وكان رحيمًا بالمؤمنين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصَّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما الآخرة: فإنه آمنهم من الفزع الأكبر، 44 - وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وهذا ما أشار إليه بقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}؛ أي: تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنة هي: التسليم عليهم منه عز وجل. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وقيل: المراد: تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم: سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيمًا، فلما شملتهم رحمته، وأمنوا من عقابه .. حيَّا بعضهم بعضًا سرورًا واستبشارًا، والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار. قال الزجاج: المعنى: فيسلمهم الله من الآفات، ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه. والإضافة (¬1) في {تَحِيَّتُهُمْ} من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير عائد على المؤمنين، والضمير في {يَلْقَوْنَهُ} عائد على الله سبحانه؛ أي: ما يحيون به يوم يلقون الله سبحانه عند الموت، أو عند البعث من القبور، أو عند دخول الجنة: سلام؛ أي: تسليم من الله تعالى عليهم تعظيمًا لهم، أو تسليم من الملائكة بشارة لهم بالجنة، أو تكرمة لهم، كما في قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}، أو إخبارًا بالسلامة من كل مكروه وآفة وشدة. وقيل: الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم، كما ورد أنه لا يقبض روح كل مؤمن إلا سلم عليه، وعن أنس رضي الله عنه: "إذا جاء ملك الموت إلى وليِّ الله سلَّم عليه، وسلامه عليه أن يقول: السلام عليك يا وليَّ الله، قم فأخرج من دارك التي خربتها إلى دارك التي عمرتها، فإذا لم يكن وليًا لله قال له: قم فأخرج من دارك التي عمرتها إلى دارك التي خربتها" ... قال بعضهم: عمارة الدنيا: بزرع الحبوب، وتكثير القوت، وجري الأنهار، وغرس الأشجار، ورفع أبنية الدور، وتزيين القصور، وعمارة الآخرة: بالأذكار، والأعمال، والأخلاق، والأحوال. اهـ. {وَأَعَدَّ} الله سبحانه {لَهُمْ}؛ أي: للمؤمنين في الجنة، وهيأ لهم {أَجْرًا كَرِيمًا}؛ أي؛ ثوابًا حسنًا دائمًا مما تشتهيه أنفسهم، وتلذه أعينهم، وهو نعيم الجنة، وهو بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك. وإيثار الجملة الفعلية دون وأجرهم أجر كريم ونحوه؛ لمراعاة الفواصل، وفيه إشارة إلى سبق العناية الأزلية في حقهم؛ لأن في الإعداد تعريفًا بالإحسان السابق، ¬

_ (¬1) روح البيان.

والأجر الكريم ما يكون سابقًا على العمل، بل يكون العمل من نتائج الكرم. ثم هذه الآية من أكبر نعم الله على هذه الأمة، ومن أدل دليل على أفضليتها على سائر الأمم، والمعنى: أي (¬1): وهيأ لهم ثوابًا حسنًا في الآخرة، يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن، في فسيح الجنات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الإعراب {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)}. {وَمَن}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَقْنُتْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَن} مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها. {مِنْكُنَّ} حال من فاعل {يَقْنُتْ}. {لِلَّهِ}: متعلق بـ {يَقْنُتْ}، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، وذكر الضمير في {مَن} نظرًا للفظ. {وَتَعْمَلْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَن}، معطوف على {يَقْنُتْ} وأنث الضمير هنا نظرًا إلى معنى {مَن}. {صَالِحًا}: مفعول به. {نُؤْتِهَا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. {أَجْرَهَا}: مفعول ثان لآتى؛ لأنه بمعنى: أعطى. {مَرَّتَيْنِ}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لنيابته عن المصدر؛ لأنه بمعنى: إتياءتين، أو منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {نُؤْتِهَا}، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ}. {وَأَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل في محل الجزم، معطوف على {نُؤْتِهَا} على كونها جواب {من} الشرطية. {لَهَا}: متعلق بـ {أَعْتَدْنَا}. {رِزْقًا}: مفعول به. {كَرِيمًا}: صفة {رِزْقًا}. {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}. {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ}: منادى مضاف، معطوف بعاطف مقدَّر على المنادى السابق. ¬

_ (¬1) المراغي.

{لَسْتُنَّ}: فعل ناقص واسمه، مبني على السكون؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير لجماعة الإناث المخاطبات في محل الرفع اسمها، والنون علامة جمع الإناث. {كَأَحَدٍ}: خبر {لَسْتُنَّ}. {مِنَ النِّسَاءِ}: صفة لـ {أحد}. وجملة ليس جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إِنِ}: حرف شرط. {اتَّقَيْتُنَّ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنِ} الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع، ومفعول التقوى محذوف، تقديره: إن اتقيتن الله، وجواب {إِنِ} الشرطية محذوف، تقديره: فإنكن أعظم أجرًا من غيركن، وجملة {إِنِ} الشرطية مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها. {فَلَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتن أنكن لستن كأحد من النساء، وأردتن بيان ما هو اللائق لمنصبكن .. فأقول لكن: لا تخضعن. {لا}: ناهية جازمة. {تَخْضَعْنَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويجوز أن تكون الفاء رابطة الجواب، وجملة {لا تخضعن} في محل جزم بـ {إِنِ} الشرطية على كونها جوابًا لها {بِالْقَوْلِ}، متعلق بـ {تَخْضَعْنَ}، أو حال من ضمير الفاعل؛ أي: لا تلن حال كونكن متلبسات بالقول. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}. {فَيَطْمَعَ}: {الفاء}: عاطفة سببية {يطمع}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. {الَّذِي}: فاعل. {فِي قَلْبِهِ}: خبر مقدم. {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك؛ لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكن خضوع بالقول، فطمع الذي في قلبه مرض. {وَقُلْنَ}: الواو: عاطفة. {قلن}: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل. {قَوْلًا}: مفعول مطلق مبين للنوع. {مَعْرُوفًا}: صفة {قَوْلًا}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَا تَخْضَعْنَ}. {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ

الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}. {وَقَرْنَ}: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قلن}. {في يوتكن}: متعلق بـ {قرن}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَبَرَّجْنَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة في محل الرفع فاعل. {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ}: مفعول مطلق مبيِّن للنوع {الْأُولَى}: صفة للجاهلية، والجملة معطوفة على جملة {قرن}. {وَأَقِمْنَ}: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قرن}. {الصَّلَاةَ}: مفعول به. {وَآتِينَ الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ما قبله. {وَأَطِعْنَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ما قبله عطف عام على خاص. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة. {إِنَّمَا}: كافة ومكفوفة. {يُرِيدُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل جميع ما قبلها. {لِيُذْهِبَ} {اللام}: لام كي. {يذهب}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {عَنْكُمُ}: متعلق بـ {يذهب}. {الرِّجْسَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: إنما يريد الله لإذهاب الرجس عنكم، الجار والمجرور متعلق بـ {يُرِيدُ}، واللام زائدة في المعنى؛ أي: إنما يريد الله إذهاب الرجس عنكم {أَهْلَ الْبَيْتِ}: منصوب على الاختصاص؛ أي: أخصَّ أهل البيت، أو منصوب على أنه منادى مضاف حذف منه حرف النداء. {وَيُطَهِّرَكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به معطوف على {يذهب}. {تَطْهِيرًا}: مفعول مطلق. {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}. {وَاذْكُرْنَ}: {الواو}: عاطفة. {اذكرن}: فعل أمر مبني على السكون، والنون: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قرن}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {يُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل يعود على {مَا}. {فِي بُيُوتِكُنَّ}: متعلق بـ {يُتْلَى}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنْ آيَاتِ

اللَّهِ}: حال من نائب فاعل {يُتْلَى}. {وَالْحِكْمَةِ}: معطوف على {آيَاتِ اللَّهِ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على {اللَّهَ}. {لَطِيفًا}: خبر أول لـ {كَانَ}. {خَبِيرًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ}: ناصب واسمه، {وَالْمُسْلِمَاتِ} معطوف على {الْمُسْلِمِينَ}، وكذا قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ}: معطوفات على {الْمُسْلِمِينَ} على كونها اسمًا لـ {إِنَّ} المكسورة. {فُرُوجَهُمْ}: مفعول {الحافظين}. {وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ}: معطوفان على اسم {إِنَّ} المكسورة، ولفظ {اللَّهَ}: مفعول {الذاكرين}. {كَثِيرًا}: مفعول مطلق لـ {الذاكرين}؛ لأنه صفة مصدر محذوف، أي: ذكرًا كثيرًا. {وَالذَّاكِرَاتِ}: معطوف أيضًا على اسم {إِنَّ}. {أَعَدَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}. {مَغْفِرَةً}: مفعول به لـ {أَعَدَّ}. {وَأَجْرًا}: معطوف على {مَغْفِرَةً}. {عَظِيمًا}: صفة {أَجْرًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية {ما}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لِمُؤْمِنٍ}: خبر {كَانَ} مقدم على اسمها. {وَلَا مُؤْمِنَةٍ}: معطوفة عليه. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {كَانَ}. {قَضَى اللَّهُ}: فعل وفاعل. {وَرَسُولُهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {أَمْرًا}: مفعول به لقضى،

{أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أَنْ}. {لَهُمُ}: خبر مقدم لـ {يَكُونَ}. {الْخِيَرَةُ}: اسم {يَكُونَ} مؤخر. {مِنْ أَمْرِهِمْ}: حال من {الْخِيَرَةُ}، أو متعلق بـ {الْخِيَرَةُ}، وتكون {مِن} بمعنى: في، وجملة {يَكُونَ} مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان، والتقدير: ما كان كون الخيرة في أمرهم كائنًا لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله سبحانه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا في شؤونهم، وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لبيان قصة زينب بنت جحش، وزوجها زيد بن حارثة. {وَمَن}: {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَعْصِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَن} الشرطية مجزوم بحذف حرف العلة. {اللَّهَ}: مفعول به. {وَرَسُولَهُ}: معطوف عليه. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق. {ضَلَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَن} الشرطية. {ضَلَالًا}: مفعول مطلق. {مُبِينًا}: صفته، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَن} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ}. {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}. {وَإِذْ}: {الواو}: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان. {تَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد. {لِلَّذِي}: متعلق بـ {تَقُولُ}، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ}، أو مستأنفة. {أَنْعَمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول. {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}: معطوف على {أَنْعَمَ اللَّهُ}. {أَمْسِكْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على زيد بن حارثة، والجملة في محل نصب مقول {تَقُولُ}. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {أَمْسِكْ}، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: على نفسك. {زَوْجَكَ}: مفعول به، {وَاتَّقِ اللَّهَ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {أَمْسِكْ}. {وَتُخْفِي}: {الواو}: حالية أو عاطفة. {تخفي}: فعل مضارع، وفاعل

مستتر يعود على محمد. {فِي نَفْسِكَ}: متعلق بـ {تخفي}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَقُولُ}، أو معطوفة على جملة {تَقُولُ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تخفي}. {اللَّهُ مُبْدِيهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. {وَتَخْشَى النَّاسَ}: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تخفي}، أو معطوفة عليه. {وَاللَّهُ}: {الواو}: حالية. {الله}: مبتدأ. {أَحَقُّ}: خبره. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تَخْشَاهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدل اشتمال من لفظ الجلالة، والتقدير: والله خشيته أحق وأولى من خشية الناس، أو منصوب بنزع الخافض المتعلق بـ {أَحَقُّ}، تقديره: والله أحق بخشيته من خشية الناس، وجوز أبو البقاء أن يكون {أَنْ تَخْشَاهُ}: مبتدأ، و {أَحَقُّ}: خبره مقدم عليه، والجملة خبر عن لفظ الجلالة، والجملة الاسمية على جميع التقادير حال من فاعل {وَتَخْشَى النَّاسَ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: استئنافية. {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم. {قَضَى زَيْدٌ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لمّا} لا محل لها من الإعراب. {مِنْهَا}: متعلق بـ {قَضَى}. {وَطَرًا}: مفعول {قَضَى}. {زَوَّجْنَاكَهَا}: فعل وفاعل ومفعولان, والجملة جواب {لمّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لمّا} مستأنفة. {لكي}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {كي}: حرف نصب ومصدر. {لَا}: نافية. {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {كي}. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: خبر {يَكُونَ} مقدم على اسمها. {حَرَجٌ}: اسم {يَكُونَ} مؤخر. {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {حَرَجٌ}، وجملة {يَكُونَ} مع {كي} المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {زَوَّجْنَاكَهَا} على أنه تعليل للتزويج؛ أي: زوجناكها لرفع حرج كائن على المؤمنين في حرمة أزواج أدعيائهم عليهم. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {قَضَوْا}: فعل وفاعل. {مِنْهُنَّ}: متعلق بـ {قَضَوْا}. {وَطَرًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}. والظرف متعلق بـ {يَكُونَ} {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معترضة، أو معطوفة على جملة {لمّا}. {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ

أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَى النَّبِيِّ}: خبر {كَانَ} مقدم. {مِن}: زائدة. {حَرَجٍ}: اسم {كَانَ} مؤخر. {فِيمَا}: جار ومجرور صفة {حَرَجٌ}، وجملة {فَرَضَ اللَّهُ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: فرضه الله. {له}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرَضَ}، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لنفي الحرج في زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب. {سُنَّةَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: سن الله له ذلك؛ أي: كثرة النساء سنة الذين خلوا من قبل، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: كسنة الله في الأنبياء الذين خلوا من قبل. {فِي الَّذِينَ}: متعلق بمحذوف حال من {سُنَّةَ اللَّهِ}؛ أي: حالة كونها متبعة في الذين خلوا، وجملة {خَلَوْا} صلة الموصول. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {خَلَوْا}. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ}: فعل ناقص واسمه، {قَدَرًا}: خبره. {مَقْدُورًا}: صفة لازمة له للتأكيد كيوم أيوم، وليل أليل، وظل ظليل. وجملة {كَانَ} مستأنفة. {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}. {الَّذِينَ} بدل من الموصول الأول، أو صفة له، أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين {يُبَلِّغُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول {رِسَالَاتِ اللَّهِ}: مفعول به. {وَيَخْشَوْنَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {يُبَلِّغُونَ}. {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا}: فعل وفاعل ومفعول. {إِلَّا}: أداة استثناء. {اللَّهَ}: مستثنى من {أَحَدًا}، والجملة معطوفة على جملة {يخشون}. {وَكَفَى بِاللَّهِ}: فعل وفاعل، والباء زائدة. {حَسِيبًا}: حال أو تمييز، والجملة مستأنفة. {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}. {مَا}: نافية. {كَانَ مُحَمَّدٌ}: فعل ناقص واسمه. {أَبَا أَحَدٍ}: خبره منصوب بالألف. {مِنْ رِجَالِكُمْ}: صفة لـ {أَحَدٍ}، وجملة {كَانَ} مستأنفة، {وَلَكِنْ}: الواو: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك مهمل لكونها مخففة. {رَسُولَ اللَّهِ}: معطوف على {أَبَا أَحَدٍ}، {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}: معطوف على {رَسُولَ اللَّهِ}، أو خبر

لكان المحذوفة لدلالة السابقة عليها؛ أي: ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمًا}. {عَلِيمًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {اذْكُرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {ذِكْرًا}: مفعول مطلق مؤكد لعامله. {كَثِيرًا}: صفته. {وَسَبِّحُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {اذْكُرُوا}. {بُكْرَةً}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {سبحوه}. {وَأَصِيلًا}: معطوف على {بُكْرَةً}. {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر. {يُصَلِّي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر صلة الموصول. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {يُصَلِّي}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالذكر والتسبيح. {وَمَلَائِكَتُهُ}: معطوف على الضمير المستكن في {يُصَلِّي}. {لِيُخْرِجَكُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يخرجكم}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {مِنَ الظُّلُمَاتِ}: متعلق بـ {يخرج}، وكذا قوله: {إِلَى النُّورِ} متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإخراجه إياكم من الظلمات إلى النور، الجار والمجرور متعلق بـ {يُصَلِّي}. {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}: {وَكَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على الله. {بِالْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {رَحِيمًا}. {رَحِيمًا}: خبر كان، وجملة {كان} مستأنفة. {تَحِيَّتُهُمْ}: مبتدأ، والهاء: مضاف إليه، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: يحيون يوم لقائه بسلام. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، وجملة {يَلْقَوْنَهُ} مضاف إليه للظرف، والظرف متعلق بمحذوف حال من ضمير الغائبين. {سَلَامٌ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان ما أعد لهم في الآخرة، {وَأَعَدَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}، {أَجْرًا}: مفعول به. {عَظِيمًا}: صفة {أَجْرًا}. والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة {وَمَنْ يَقْنُتْ} قال الراغب القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع. {وَأَعْتَدْنَا} والإعتاد: التهيئة من العتاد، وهو العدة. قال الراغب: الإعتاد: ادِّخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد، وقيل: أصله أعددنا، فأبدلت الدال تاء فرارًا من توالي مثلين. {رِزْقًا كَرِيمًا} قال الراغب في "المفردات": كل شيء يشرف في بابه، فإنه كريم. {كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} وأصل أحد: وحد بمعنى: الواحد، قلبت واوه همزةً على خلاف القياس، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه المذكر والمؤنث، والواحد والكثير، كما قاله الزمخشري. وفي "الإتقان": قال أبو حاتم: أحد: اسم أكمل من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان، بخلاف قولك: لا يقوم له أحد، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار أحد، فيكون قد شمل عموم المخلوقين من الدواب والطير الوحشي والأنسي، فيعم الناس وغيرهم، بخلاف قولك: ليس في الدار واحد، فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم، قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد، فيستعمل في الإثبات والنفي، نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}؛ أي: واحد، و {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}، و {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ}، "ولا فضل لأحدٍ على أحد". واحد: يستعمل في المذكر والمؤنث، قال تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} بخلاف الواحد، فلا يقال: كواحد من النساء، بل كواحدة. قلت: ولهذا وصف به في قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} بخلاف الواحد، والأحد: له جمع من لفظه، وهو الأحدون والآحاد، وليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال: واحدون، بل اثنان وثلاثة، والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب بخلاف الواحد. {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} والخضوع: التطامن والتواضع والسكون، والمرأة مأمورة بالغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب. {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف في المضارع بناء

على أنه من باب علم، وأصله: اقررن، نقلت حركة الراء الأولى إلى القاف، وحذفت لالتقاء الساكنين، ثم حذفت همزة الوصل استغناءً عنها بحركة القاف المنقولة من الراء، فصار: قرن، ووزنه الحالي: فَلْنَ، والأصل: افعلن، وقرأ الباقون {قرن} بكسر القاف لما أنه أمر من وقر يقر كوعد يعد وقارًا، إذا ثبت وسكن، وأصله: أوقرن، فحذفت الواو تخفيفًا، ثم الهمزة استغناءً عنها بحركة القاف، فصار: قرن، ووزنه الحالي: علن، أو من قر يقر بكسر القاف في المضارع؛ لأنه من باب ضرب، فأصله: اقررن، نقلت كسرة الراء إلى القاف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فاستغني عن همزة الوصل، فصار: قرن، ووزنه الحالي: فلن. {وَلَا تَبَرَّجْنَ} بترك إحدى التاءين، وأصله: تتبرجن؛ أي: لا تتبخترن في مشيكن. وفي "القاموس": تبرجت المرأة: أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب. انتهى. قال الراغب: يقال: ثوب متبرج: صُوِّر عليه بروج، واعتبر حسنه، فقيل: تبرجت؛ أي: تشبهت به في إظهار الزينة والمحاسن للرجال؛ أي: مواضعها الحسنة، وأصل التبرج صعود البرج، وذلك أن من صعد البرج ظهر لمن نظر إليه، قاله أبو علي. انتهى. وقيل: تبرجت المرأة: ظهرت من برجها؛ أي: من قصرها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ}، كما في "المفردات". {الْجَاهِلِيَّةِ}: هي حالة الجهل بالله، والوثنية في بلاد العرب قبل الإِسلام، أو الزمن الذي تقدمه، وأصح ما قيل في الجاهلية: أنهما جاهليتان: أولى، وأخيرة. فالأولى: هي القديمة، ويقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي تمتد إلى أبعد الآماد، والجاهلية الأخيرة: تمتد من منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي في منتصف الطريق تعرض نفسها على الرجال، فنهين عن ذلك. {الرِّجْسَ} الرجس في الأصل: الشيء القذر، والمراد به هنا: الذنب المدنس للعرض، وعرض الرجل: جانبه الذي يصونه. {أَهْلَ الْبَيْتِ} قال الراغب: أهل الرجل: من يجمعه وإياهم نسب أو دين، أو

ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد وضيعة، فأهل الرجل في الأصل: من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا إذا قيل: أهل البيت، يعني: أهل البيت متعارف في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم. فصل في إجمال أسماء زوجاته - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الكلبي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج خمس عشرة امرأةً، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع، وقد جمع أحمد المرزوقي هذه التسعة بقوله: عَائشَةٌ وَحَفْصَةٌ وَسَوْدَهْ ... صفِيَّةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَرَمْلَهْ هِنْدٌ وَزَيْنَبٌ كَذَا جُوَيْرِيَّهْ ... لِلْمُومِنِيْنَ أُمَّهَاتٌ مَرْضِيَّه 1 - خديجة بنت خويلد، وكانت قبله تحت عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ومات عنها، وتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي، فولدت له هند، ثم مات عنها، وتزوجها بعده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فولدت له ثمانية: القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. فأما الذكور: فماتوا وهم صغار، وأمَّا الإناث فبلغن ونكحن وولدن، ولم يتزوج على خديجة أحدًا، وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين. 2 و3 - سودة بنت زمعة، وقيل: عائشة، وكانت بنت ست سنين، فدخل بها في المدينة وهي ابنة تسع، ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وماتت سنة ثمان وخمسين، وأما سودة: فكانت امرأة ثيبًا، وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس، ومات عنها، فخلف عليها رسول الله، ودخل بها بمكة. 4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خميس بن حذافة السهمي، وكان بدريًا، وماتت بالمدينة في خلافة عثمان. 5 - أم سلمة ابنة أبي أمية المخزومية، وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، شهد بدرًا، وأصابته جراحة يوم أحد فمات عنها، فتزوجها

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الأحزاب. 6 - زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، ويقال لها: أم المساكين، وتوفيت في حياته، ولم يمت غيرها وغير خديجة في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وكانت زينب قبله تحت الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب. 7 - جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت تحت مالك بن صفوان. 8 - أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش، وكانت من مهاجرة الحبشة، فتنصر ومات بها، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي، فخطبها عليه وتزوجها، وهي بالحبشة، وساق النجاشي المهر لها عن رسول الله، وماتت في خلافة أخيها معاوية. 9 - زينب بنت جحش، كما سبقت قصتها. 10 - صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر. 11 - ميمونة ابنة الحارث الهلالية، وكانت قبله تحت عمير بن عمرو الثقفي، فمات عنها، وخلف عليها أبو زهير بن عبد العزى، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد. 12 - امرأة من بني كليب يقال لها: شاة بنت رفاعة، وقيل: سنا بنت الصلت، وقيل: ابنة الصلت بن حبيب، توفيت قبل أن يدخل بها، وقيل: الشنياء دخل بها، ومات ابنه إبراهيم فقالت: لو كان نبيًا ما مات ولده فطلقها. 13 - غزية بنت جابر الكلابية، قال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك، فلما قدمت على النبي، وأراد أن يخلو بها .. استعاذت منه، فردها. 14 - العالية ابنة ظبيان فجامعها، ثم فارقها. 15 - قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث، فتوفي عنها قبل أن يدخل بها، فارتدت. 16 - فاطمة بنت الضحاك، وقيل: تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الحطيم عرضت نفسها عليه فتزوجها وفارقها.

قال ابن الكلبي: أما من خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء ولم ينكحها، فأم هانىء بنت أبي طالب، خطبها ولم يتزوجها. وضباعة ابنة عامر من بني قشير، وصفية بنت بشامة الأعور العنبري، وأم حبيبة ابنة عمه العباس، فوجد العباس أخًا له من الرضاعة فتركها، وجمرة بنت الحارث بن أبي حارثة خطبها، فقال أبوها: بها سوء، ولم يكن بها وجع، فرجع إليها فوجدها قد برصت. وأما سراريه - صلى الله عليه وسلم - فأربع: الأولى: مارية ابنة شمعون القبطية، ولدت له إبراهيم. والثانية: ريحانة ابنة زيد القرظية، وقيل: هي من بني النضير. والثالثة: نفيسة، وهبتها له زينب بنت جحش. والرابعة: أصابها في بعض السبي، ولم يعرف اسمها. وفي "المواهب": رواية أخرى يختلف فيها الأسماء بعض الاختلاف، ويطول بنا القول لو نقلناها، فليرجع إليها من شاء. {وَالْخَاشِعِينَ} قال بعضهم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له. وفي "القاموس": الخشوع: الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع في الصوت. {وَالْمُتَصَدِّقِينَ} وفي "المفردات": الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب. وقيل: يسمَّى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله. {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} وفي "المفردات": الفرج والفرجة: الشق بين الشيئين، كفرجة الحائط، والفرج: ما بين الرجلين، وكني به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. {الْخِيَرَةُ} - بالكسر -: اسم من الاختيار؛ أي: أن يختاروا. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وإمساك الشيء: التعلق به وحفظه. {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الإبداء: الإظهار. {وَطَرًا} قال في "القاموس": الوطر محركة: الحاجة، أو حاجة لك فيها همٌّ وعناية، فإذا بلغتها .. فقد قضيت وطرك.

وفي "الوسيط": معنى قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء. يقال: قضى منها وطرًا: إذا بلغ ما أراد من حاجة فيها، ثم صار عبارة عن الطلاق؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة. انتهى. {حَرَجٌ}؛ أي: ضيق وشدة. قال في "المفردات": أصل الحرج: مجتمع الشجر، وتصور منه ضيق بينها، فقيل للضيق: حرج، وللإثم حرج. {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} والأدعياء: جمع دعي، وهو الذي يُدَّعى ابنًا من غير ولادة. {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ}؛ أي: قسم الله له وقدر، من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه: فروض العساكر لأرزاقهم. {سُنَّةَ اللَّهِ}: اسم موضوع موضع المصدر مؤكد لما قبله من نفي الحرج؛ أي: سن الله نفي الحرج سنة؛ أي: جعله طريقة مسلوكة. {فِي الَّذِينَ خَلَوْا}؛ أي: مضوا، قال في "المفردات": الخلو: يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي .. فسر أهل اللغة قولهم: خلا الزمان بقولهم: مضى وذهب. انتهى. وقال بعضهم: الخلو في الحقيقة حال الزمان والمكان؛ لأن المراد خلوهما عما فيهما بموت ما فيهما. فافهم. {رِسَالَاتِ اللَّهِ} جمع: رسالة، والمراد: ما يتعلق بالرسالة، وهي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خلقه؛ أي: إيصال الخبر من الله إلى العبد. {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} الرسول والمرسل بمعنى واحد، من: أرسلت فلانًا في رسالة، فهو مرسل ورسول. قال القهستاني: الرسول: فعول، مبالغة: مفعول بضم الميم وفتح العين بمعنى: ذي رسالة، اسم من الإرسال، وفعول هذا لم يأت إلا نادرًا. واصطلاحًا: هو من بعث لتبليغ الأحكام ملكًا كان، أو إنسانًا، بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان، وهذا الفرق هو المعول عليه. انتهى. {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} والخاتم - بفتح التاء -: آلة الختم بمعنى ما يختم به، كالطابع بمعنى: ما يطبع به، والمعنى عليه: وكان آخرهم الذي ختموا به، وبكسرها: آخر الشيء؛ أي: كان خاتمهم؛ أي: فاعل الختم. {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} والذكر: إحضار الشيء في القلب، أو في القول، وهو

ذكر عن نسيان، وهو حال العامة، أو إدامة الحضور والحفظ، وهو حال الخاصة؛ إذ ليس لهم نسيان أصلًا، وهم عند مذكورهم مطلقًا. {وَسَبِّحُوهُ} قال في "المفردات": السبح: المر السريع في الماء، أو في الهواء، والتسبيح: تنزيه الله، وأصله: المر السريع في عبادة الله، وجعل عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نية. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الظلمة: عدم النور، ويعبَّر بها عن الجهل والشرك والفسق ونحوها، كما يعبر بالنور عن أضدادها. {تَحِيَّتُهُمْ} من إضافة المصدر إلى المفعول، كما مر؛ أي: ما يحيون به، والتحية: الدعاء بالتعمير بأن يقال: حياك الله؛ أي: جعل لك حياة، ثم جعل كل دعاء تحية لون جميعه غير خارج عن حصول الحياة، أو سبب حياة، إما لدنيا، وإما لآخرة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}؛ أي: كتبرج أهل الجاهلية، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فصار بليغًا. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بعد قوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} إفادة للتعميم، فإن إطاعة الله ورسوله تشمل كل ما تقدم من الأوامر والنواهي. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} حيث استعار الرجس الذي هو القذر للذنب، بجامع التدنيس في كل؛ لأن الذنب يدنس العرض والقلب، كما أن الرجس يدنس الثوب والبدن، وذكر الطهارة ترشيح. ومنها: جعل التطهير ترشيحًا لمزيد التنفير عن المعاصي. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.

ومنها: ذكر التلاوة في البيوت في قوله: {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} دون النزول فيها، مع أنه الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها جميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير، بخلاف النزول. ومنها: عدم تعيين التالي ليعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن تعلمًا وتعليمًا. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَالْحَافِظَاتِ} حذف المفعول لدلالة السابق عليه؛ أي: والحافظات فروجهن، وكذا يقال في: {وَالذَّاكِرَاتِ}. ومنها: التغليب في قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ}؛ حيث أتى بضمير الغائبين تغليبًا للذكور على الإناث. ومنها: التنكير لإفادة العموم في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ}؛ لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: ليس لواحد منهم أن يريد غير ما أراده الله ورسوله، فلما وقعا في سياق النفي .. كانا بمعنى كل مؤمن ومؤمنة. اهـ. "زاده". ومنها: الطباق بين {تخفي}، و {مُبْدِيهِ}، وبين {الظُّلُمَاتِ} و {النُّورِ}؛ فإنه من المحسنات البديعية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {قَدَرًا مَقْدُورًا}، وفيه التأكيد أيضًا؛ كظل ظليل، وليل أليل، ويوم أيوم، كما مر. ومنها: جناس السلب في قوله: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. ومنها: الطباق بين {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، وفيه أيضًا المجاز المرسل من إطلاق الطرفين، وإرادة الكل؛ أي: في جميع الأوقات. ومنها: عطف الخاص في قوله: {وَسَبِّحُوهُ} على العام في قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ} إشعارًا يكون التسبيح هو العمدة في الأذكار من حيث إنه من باب التخلية. ومنها: فن التلفيف في قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وهو أن يأتي بالجواب العام عن نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة إلى بيانها كلها، فيعدل المجيب عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع إلى جواب عام

يتضمن الإبانة عن الحكم المسؤول عنه، وعن غيره مما تدعو الحاجة إلى بيانه، فإن قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ ...} إلخ. جواب عن سؤال مقدر، وهو قول قائل: أليس محمد أبا زيد بن حارثة؟ فأتى في الجواب بقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وكان مقتضى الجواب أن يقول: ما كان محمد أبا زيد، وكان يكفي أن يقول ذلك، ولكنه عدل عنه ترشيحًا للأخبار بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ولا يتم هذا الترشيح إلا بنفي أبوته لأحد من الرجال، فإنه لا يكون خاتم النبيين إلا بشرط أن لا يكون له ولد قد بلغ، فلا يرد أن له الطاهر، والطيب، والقاسم؛ لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال. ثم احتاط لذلك بقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ}، فأضاف الرجال إليهم، لا إليه فالتف المعنى الخاص في المعنى العام، وأفاد نفي الأبوة الكلية لأحد من رجالهم، وانطوى في ذلك نفي الأبوة لزيد، ثم إن هناك تلفيفًا آخر، وهو قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}، فعدل عن لفظ نبي إلى لفظة رسول لزيادة المدح؛ لأن كل رسول نبي، ولا عكس، على أحد القولين، فهذا تلفيف بعد تلفيف. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات

لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) تأديبه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء السورة، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله .. ذكر هنا ما ينبغي أن يكون عليه مع الخلق كافة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أدب نبيه بمكارم الأخلاق بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ...} الآية، وكان كلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبًا .. ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} .. أرشدهم فيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...} إلخ، وبقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه، وأمره بتخييرهن، فاخترن الله ورسوله .. أردف ذلك بذكر ما جازاهن به من تحريم غيرهن عليه، ومنعه من طلاقهن بقوله: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمته بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا} .. أردف ذلك ببيان حال المؤمنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إرشادًا إلى ما يجب عليهم في حقه من الاحترام، والتعظيم في خلوته، وفي الملأ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان في الخلوة بقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...} إلخ، وأنه يجب إجلاله إذا كان في الملأ بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ...} إلخ. قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬2): أن الله سبحانه لما ذكر أن نساء النبي لا يكلمن إلا من وراء حجاب .. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أردف ذلك باستثناء بعض الأقارب، ونساء المؤمنين، والأرقاء لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرًا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وجوب احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - حال خلوته بقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} .. أردف ذلك ببيان ما له من احترام في الملأ الأعلى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، وفي الملأ الأدنى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس عن أم هانىء بنت أبي طالب، قالت: خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: نزلت فيَّ هذه الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجني، فنهي عني؛ إذ لم أهاجر. قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن سعد عن عكرمة قال: نزلت في أم شريك الدوسية. وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت جميلة، فقبلها فقالت عائشة: ما في امرأةٍ حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله: مؤمنة، فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، فلما نزلت .. قالت عائشة: إن الله يسارع لك في هواك. قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البخاري.

الشيخان بسندهما عن عائشة قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وأخرج ابن سعد عن أبي رزين قال: همَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك .. جعلنه في حل من أنفسهم، يؤثر من يشاء على من يشاء، فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ...} الآية. قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ...} سبب نزوله (¬1): ما أخرجه ابن سعد عن عكرمة قال: خيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجه، فاخترن الله ورسوله، فأنزل الله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بني بزينب ابنة جحش، فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين، كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن، ويدعو لهن، ويسلِّمن عليه، ويدعون له، فلما رجع إلى بيته .. رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما .. رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما، أم أخبِر، فرجع حتى دخل البيت، وأرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...} الآية. وفي رواية عنهما عن أنس قال: لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش .. دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البخاري ج 10 ص 149.

وأخرج الترمذي، وحسنه عن أنس قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى باب امرأة عرس بها، فإذا عندها قوم، فانطلق، ثم رجع وقد خرجوا، فدخل، فأرخى بيني وبينه سترًا، فذكرته لأبي طلحة فقال: لئن كان كما تقول .. لينزِلنَّ في هذا شيء، فنزلت آية الحجاب. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال: أوه، لو أُطاع فيكن. . ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأطال الجلوس، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قمت ثلاثًا لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب. قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها .. أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. وأخرج البخاري (¬1) بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجن ليلًا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ آية الحجاب. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض إلى بيته .. بادروه، فأخذوا المجالس، فلا يعرف ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبسط يده إلى الطعام استحياءً منهم، فعوتبوا في ذلك فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...} الآية. ¬

_ (¬1) البخاري.

[45]

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا يقول: لو قد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تزوجت فلانة من بعده، فنزلت: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ...} الآية. وأخرج عن ابن عباس قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده. قال سفيان: ذكروا أنها عائشة. وأخرج عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا، ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث .. لنتزوجن نساءه من بعده، فأُنزلت هذه الآية. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله؛ لأنه قال: إذا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. تزوجت عائشة. قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر؛ لأن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة، أجلٌّ مقامًا من أن يصدر منه ذلك، حتى رأيتُ أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبته، كما في "إنسان العيون". وأخرج جويبر عن ابن عباس: أن رجلًا أتى بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا"، فقال: يا رسول الله، إنها ابنة عمي، واللهِ ما قلت لها منكرًا، ولا قالت لي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد عرف ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني"، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيًا توبة من كلمته. التفسير وأوجه القراءة 45 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} نداء كرامة وتعظيم؛ لأن الشريف ينادى باللقب الشريف، لا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[46]

نداء علامة، مثل: يا آدم ونحوه. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} وبعثناك بعظمتنا إلى كافة الناس، وقوله: {شَاهِدًا} حال من كاف {أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: حالة كونك شاهدًا على أمتك، تشهد لمن صدقك وآمن بك بالإيمان, وعلى من كذبك وكفر بك بالتكذيب، وهي (¬1) حال مقدَّرة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث متحملًا للشهادة في الدنيا، ويكون في الآخرة مؤديًا لما تحمله، ووقت الأداء متأخر عن وقت الإرسال، نحو: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أي: مقدرًا به الصيد غدًا. والمعنى: يا أيها النبي الكريم، إنا أرسلناك بعظمتنا مقدرًا شهادتك على أمتك بتصديقهم وتكذيبهم، تؤديها يوم القيامة أداء مقبولًا قبول قول الشاهد العدل في الحكم. قال مجاهد: شاهدًا على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم. {وَ} حالة كونك {مُبَشِّرًا} للمؤمنين بالجنة، وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر. {وَ} حالة كونك {نَذِيرًا}؛ أي: مخوفًا للكافرين والعصاة بالنار، وبما أعده لهم من عظيم العقاب. 46 - {وَ} حالة كونك {دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}؛ أي: داعيًا لكافة الناس إلى توحيده سبحانه ودينه، وإلى الإيمان بكل ما جاء به، والعمل بما شرعه لهم. {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بأمره له بذلك وتقديره، لا برأيك واجتهادك، وهذا راجع (¬2) إلى قوله: داعيًا فقط، وذلك كما إذا قال شخص: من يطع الملك يسعد، ومن يعصه يشقى، فيكون مبشرًا ونذيرًا، ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك، وأما إذا قال: تعالوا إلى سماطه، وأحضروا إلى خوانه، فيحتاج في ذلك إلى إذنه. وقيل: معنى (¬3) {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بتيسيره وتسهيله، فأطلق الإذن، وأريد به التيسير مجازًا بعلاقة السببية، فإن التصرف في ملك الغير متعسر، فإذا أذن .. تسهل وتيسر، وإنما لم يحمل الأذن على حقيقته، وهو الإعلام بجازة الشيء، والرخصة فيه؛ لانفهامه من قوله: {أَرْسَلْنَاكَ}، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}، وقيد به الدعوة إيذانًا بأنها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة وإمداد من جانب قدسه، كيف لا، وهي صرف الوجوه عن سمت الخلق إلى الخلاق، وإدخال قلادة غير معهودة في الأعناق. {و} حالة كونك {سِرَاجًا}؛ أي: مصباحًا {مُنِيرًا}؛ أي: مضيئًا في الظلام؛ أي: يستضاء به في ظلم الضلالة، كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. ففي الكلام تشبيه بليغ، وقال الزجاج: {وَسِرَاجًا}؛ أي: ذا سراج منير؛ أي: كتاب نير، وفي "الخازن": سماه (¬1) سراجًا منيرًا؛ لأنه جلا به ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير. وقيل: معناه: أمد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار، ووصفه بالإنارة؛ لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه، ودقَّتْ فتيلته. فإن قلت: لم سماه سراجًا، ولم يسمه شمسًا، والشمس أشد إضاءة من السراج وأنور؟. قلتُ: نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء، بخلاف نور السراج، فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة. وعبارة "فتح الرحمن" هنا: فإن قلت (¬2): كيف شبه الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالسراج، دون الشمس، مع أنها أتم؟. قلتُ: المراد بالسراج هنا: الشمس، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}، أو شبهه بالسراج؛ لأنه تفرع منه بهدايته جميع العلماء، كما يتفرع من السراج سرج لا تحصى، بخلاف الشمس. واعلم: أن الله سبحانه وتعالى شبَّه نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالسراج لوجوه (¬3): منها: أنه يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية، كما يهتدى بالسراج المنير في الظلام إلى سمت المرام. ومنها: أن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج، ولا ينقص من نوره شيء. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان.

[47]

ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - يضيء من جميع الجهات الكونية إلى جميع العوالم، كما أنَّ السراج يضيء من كل جانب، وأيضًا: يضيء لأمته كلهم، كالسراج لجميع الجهات إلا من عمي، مثل: أبي جهل، ومن تبعه على صفته، فإنه لا يستضيء بنوره، ولا يراه حقيقة، كما قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. ومنها: أنه سماه سراجًا، ولم يسمه شمسًا، ولا قمرًا، ولا كوكبًا؛ لأنه لا يوجد يوم القيامة شمس ولا قمر ولا كوكب، ولأن الشمس والقمر لا ينقلان من موضع إلى موضع بخلاف السراج، ألا ترى أنه تعالى نقله - عليه السلام - من مكة إلى المدينة. ومعنى الآية (¬1): أي يا أيها الرسول، إنا بعثناك شاهدًا على من بُعثت إليهم، تراقب أحوالهم، وترى أعمالهم، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال، وتؤدِّي ذلك يوم القيامة، وأرسلناك مبشرًا لهم بالجنة إن صدقوك، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك، ومنذرًا لهم بالنار يدخلونها، فيعذبون فيها إن هم كذبوك، وخالفوا ما أمرتهم به، ونهيتهم عنه، وداعيًا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، وسائر ما يجب له من صفات الكمال، وإلى عبادته ومراقبته في السر والعلن، وسراجًا منيرًا يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نورك المهتدون، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة. 47 - وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} معطوف على مقدر يقتضيه المقام، كأنه قال: فدبر أمور الناس، وراقب أحوالهم، وبشر المؤمنين بك، وبما جئت به بأن لهم من الله فضلًا كبيرًا؛ أي: على مؤمني سائر الأمم في الرتبة والشرف، أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان. وروي أن الحسنة الواحدة في الأمم السالفة كانت بواحدة، وفي هذه الأمة بعشر أمثالها إلى ما لا نهاية له. أو هو من عطف جملة على جملة، وهي الذكور سابقًا، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله ¬

_ (¬1) المراغي.

[48]

فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. وأخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قالوا: يا رسول الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)}. 48 - ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهل مكة {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل المدينة. ومعناه: الدوام على عدم طاعتهم، أي (¬1): دم واثبت على ما أنت عليه من مخالفتهم، وترك إطاعتهم، واتباعهم. وفي "الإرشاد": نُهي عن مداراتهم في أمر الدعوة، واستعمال لين الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار، كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغةً في الزجر والتنفير عن المنهي عنه، بنظمه في سلكها، وتصويره بصورتها. أي: لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه، ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة {وَدَعْ أَذَاهُمْ}؛ أي: واترك المجازاة لهم على إيذائهم إياك، ومؤاخذتهم به؛ أي: دع أن تؤذيهم مجازاةً لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فهو مصدر مضاف إلى المفعول، أو المعنى: لا تبال بإيذائهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وهي منسوخة بآية السيف بالنظر إلى الكافر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمة، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك، فاحمر وجهه فقال: "رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وفي "التأويلات": {وَلَا تُطِعِ ...} إلخ؛ أي: لا تتخلق بخلق من أخلاقهم، ولا توافق من أعرضنا عنه، وأغفلنا قلبه عن ذكرنا، وأضللناه من أهل الكفر والنفاق وأهل البدع والشقاق. {وَدَعْ أَذَاهُمْ} بالبحث والمناظرة على إبطالهم، فإنهم عن ¬

_ (¬1) روح البيان.

سمع كلمات الحق لمعزولون، فتضيع أوقاتك، ويزيد إنكارهم. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في كل شؤونك، واعتمد عليه في أمورك خصوصًا في هذا الشأن، فإنه تعالى يكفيكهم، والعاقبة لك. {وَكَفَى بِاللَّهِ} سبحانه لمن استكفاه من جهة كونه {وَكِيلًا}؛ أي: موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال، فهو فعيل بمعنى: المفعول، تمييز من فاعل كفى، وهو الله؛ إذ الباء صلة، والتقدير: وكفى الله من جهة الوكالة، فإن أهل الدارين لا يكفي كفاية الله فيما يحتاج إليه، فمن عرف أنه تعالى هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر .. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه. روي: أن الحجاج بن يوسف سمع ملبيًا يلبي حول البيت، رافعًا صوته بالتلبية، وكان إذ ذاك بمكة فقال: على بالرجل، فأتي به إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، فقال: ليس عن الإِسلام سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ - يعني: أخاه - قال: تركته عظيمًا جسيمًا لباسًا ركابًا خراجًا ولاجًا. قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن سيرته، قال: تركته ظلومًا غشومًا، مطيعًا للمخلوق، عاصيًا للخالق. فقال له الحجاج: ما حملك على هذا الكلام، وأنت تعلم مكانه منى؟ قال: أترى مكانه منك أعز منى بمكاني من الله، وأنا وافد بيته، مصدِّق نبيه، فسكت الحجاج، ولم يحسن جوابًا، وانصرف الرجل من غير إذن، فتعلق بأستار الكعبة، وقال: اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة، فخلص من يد الحجاج بسبب توكله على الله في قوله الخشن، وبعدم إطاعته وانقياده للمخلوق. ومعنى الآية: أي ولا تطع (¬1) يا محمد قول كل كافر ولا منافق في أمر الدعوة، وألن الجانب في التبليغ، وارفق في الإنذار، واصفح عن آذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوِّض أمورك إلى الله، وثقْ به، فإنه كافيك جميع من دونك حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك في جميع أمورك، وكالؤك وراعيك. ¬

_ (¬1) المراغي.

[49]

49 - ولما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها، وخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاء عدتها، كما تقدم .. خاطب المؤمنين هنا مبيِّنًا لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا نَكَحْتُمُ} وتزوجتم {الْمُؤْمِنَاتِ} وعقدتم عليهن عقد النكاح. قال في "بحر العلوم": أصل النكاح: الوطء، ثم قيل للعقد نكاح مجازًا تسمية للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح، وعليه قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}؛ أي: لا يتزوج. ونظيره تسمية النبات غيثًا في قوله: رعينا الغيث؛ لأنه سبب للنبات، والخمر إثمًا؛ لأنها سبب لاكتساب الإثم. انتهى. وفي "القاموس": النكاح: الوطء والعقد. انتهى. وخص المؤمنات (¬1) بالذكر مع أن هذا الحكم الذي في الآية يستوي فيه المؤمنات والكتابيات، تنبيهًا على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيّرًا لنطفته، ويجتنب عن مصاحبة الفواسق، فما بال الكوافر. فالتي في سورة المائدة تعليم ما هو جائز غير محرم من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهذه فيها تعليم ما هو أولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات، وقد قيل: الجنس يميل إلى الجنس. وفي "فتح الرحمن": التقييد بالمؤمنات خرج مخرج الغالب، وإلا فالكتابيات مثلهن فيما ذكر في الآية. انتهى. {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}؛ أي: أطلقتموهن من عقال النكاح، وفككتموهن من حبله {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}؛ أي: من قبل أن تجامعوهن، فإن المس، أي: اللمس كنايةٌ عن الجماع. وقرأ حمزة والكسائي (¬2): {تُماسوهن} بضم التاء ومد الميم، وفائدة (¬3) الإتيان بـ {ثُمَّ} إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق ربما تمكن الإصابة معه، فيؤثر في العدة كما يؤثر في النسب، فلا تفاوت في الحكم بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يطلقها وهي بعيدة منه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

وفيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، كما قال بعضهم: إنما النكاح عقدة، والطلاق يحلها. فكيف تحل عقدة لم تعقد؟. فلو قال: متى تزوجت فلانة، أو كل امرأة أتزوجها .. فهي طالق، لم يقع عليه طلاق إذا تزوج. عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع مطلقًا؛ لأنه تطليق عند وجود الشرط، إلا إذا زوجها فضولي، فإنها لم تطلق، كما في "المحيط". وقال مالك: إن عين امرأة بعينها، أو من قبيلة، أو من بلد، فتزوجها .. وقع الطلاق، وإن عمم فقال: كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم لم يلزمه شيء. والقول الصحيح الموافق لنص الكتاب والسنة: عدم وقوع الطلاق قبل النكاح، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "جعل الله الطلاق بعد النكاح" وأخرجه البخاري في ترجمة باب بغير إسناد. ولحديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق قبل النكاح". ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا تملك، ولا بيع فيما لا تملك". أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه. ثم إن (¬1) حكم الخلوة التي يمكن معها المساس في حكم المساس عند أبي حنيفة وأصحابه. والخلوة الصحيحة: غلق الرجل الباب على منكوحته بلا مانع وطءٍ من الطرفين، وهو ثلاثة: حسي: كمرض يمنع الوطأ، ورتق وهو: انسداد موضع الجماع، بحيث لا يستطاع. وشرعي: كصوم رمضان دون صوم التطوع، والقضاء والنذر والكفارة على الصحيح؛ لعدم وجوب الكفارة بالإفساد، وكإحرام فرض أو نفل، فإن الجماع مع الإحرام يفسد النسك، ويوجب دمًا مع القضاء. وطبعي: كالحيض والنفاس؛ إذ الطباع السليمة تنفر منها، فإذا خلا بها في ¬

_ (¬1) روح البيان.

محل خال عن غيرهما حتى عن الأعمى والنائم، بحيث أمنا من إطلاع غيرهما عليهما بلا إذنهما .. لزمه تمام المهر؛ لأنه في حكم الوطء، ولو كان خصيًا، وهو مقطوع الأنثيين، أو عنينًا، وهو الذي لا يقدر على الجماع، وكذا لو كان مجبوبًا، وهو مقطوع الذكر. وفرض الصلاة مانع كفرض الصوم للوعيد على تركها، والعُدَّة تجب بالخلوة، ولو مع المانع احتياطًا لتوهم شغل الماء، ولأنها حق الشرع والولد. واعلم: أن الحيض والنفاس والرتق من الأعذار المخصوصة بالمرأة، وأما المرض والإحرام والصوم .. فتعتبر في كل من الرجل والمرأة، وتعد مانعًا بالنسبة إلى كليهما، كما في تفسير "أبي الليث". {فَمَا لَكُمْ} أيها الأزواج {عَلَيْهِنَّ}؛ أي: على المطلقات قبل الدخول {مِنْ عِدَّةٍ}؛ أي: أيام معدودة بالأشهر، أو بالأقراء، ينتظرن انقضاءها في زواجها للغير. وعدة المرأة: هي الأيام التي بانقضائها تحل للزوج. وجملة {تَعْتَدُّونَهَا}؛ أي: تحسبونها، في محل الجر على أنها صفة {عِدَّةٍ}؛ أي: تستوفون عددها، أو تعدونها وتحصونها بالأقراء إن كانت من ذوات الحيض، أو بالأشهر إن كانت آيسةً، وفي الإسناد إلى (¬1) الرجال دلالة على أنَّ العدة حقهم، كما أشعر به {فَمَا لَكُمْ}. فدلت الآية على أنه لا عدة على غير المدخول بها، وهذا من الأمر المجمع عليه، كما حكاه القرطبي؛ لبراءة رحمها من نطفة الغير، فإن شاءت تزوجت من يومها، وكذا إذا تيقن بفراغ رحم الأمة من ماء البائع، لم يستبرىء عند أبي يوسف. وقالا أي: الشافعي وأحمد: إذا ملك جارية، ولو كانت بكرًا، أو مشتراة ممن لا يطأ أصلًا، مثل المرأة والصبي والعنين والمجبوب، أو شرعًا كالمحرم رضاعًا أو مصاهرة، أو نحو ذلك .. حرم عليه وطؤها ودواعيه، كالقبلة والمعانقة والنظر إلى فرجها بشهوة، أو غيرها حتى يستبرىء بحيضة، أي: يطلب براءة رحمها من الحمل. وقرأ الجمهور (¬2): {تَعْتَدُّونَهَا} بتشديد الدال، افتعل من: العد؛ أي: تستوفون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

عددها، من قولهم: عدَّ الدراهم فاعتدها؛ أي: استوفى عددها. وقرأ ابن كثير في رواية عنه، وأهل مكة: بتخفيفها، وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى الأولى مأخوذة من الإعتداد؛ أي: تستوفون عددها, ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف. والوجه الثاني: أن يكون المعنى: تعتَدُون فيها، والمراد بالإعتداء هذا: هو ما في قوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، فيكون الآية على القراءة الأخيرة: فما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة. وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير، وقال: إن البزي غلط عليه. وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، وبقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها .. كان الموت كالدخول، فتعتد أربعة أشهر وعشرًا. {فَمَتِّعُوهُنَّ}؛ أي: فأعطوهن المتعة، وهي: درع وخمار وملحفة، كذا قيل. وهو محمول على إيجاب المتعة إن لم يسم لها مهر عند العقد، وعلى استحبابها إن سمي ذلك، فإنه إن سمي المهر عنده، وطلق قبل الدخول، فالواجب نصفه دون المتعة، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}؛ أي: فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهن من المهر. {وَسَرِّحُوهُنَّ}؛ أي: أخرجوهن من منازلكم؛ إذ ليس لكم عليهن من عدة {سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ أي: إخراجًا حسنًا، أي: من غير ضرار ولا منع حق. وقيل: السراح الجميل: أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها. وفي "كشف الأسرار": معنى الجميل: أن لا يكون الطلاق جور الغضب، أو طاعة لغيره، وأن لا يكون ثلاثًا بتًا، أو لمنع صداق، انتهى. والمراد بالسراح هنا: الإخراج من المنازل كما سبق، ولا يصح تفسير السراح بالطلاق السني, لأنه إنما يتسنى في المدخول بها، والضمير لغير المدخول بها. وفي "التأويلات النجمية": وفي الآية إشارة إلى كرم الأخلاق، يعنى: إذا نكحتم المؤمنات، ومالت قلوبهن إليكم، ثم آثرتم الفراق قبل الوصال، فكسرتم

[50]

قلوبهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن ليكون لهن عليكم تذكرةً في أيام الفرقة، وأوائلها إلى أن تتوطن نفوسهن على الفرقة، وسرحوهن سراحًا جميلًا، بأن لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئًا تفضلتم به معهن، فلا تجمعوا عليها الفراق بالحال، والإضرار من جهة المال. انتهى. وينبغي للمؤمن (¬1): أن لا يؤذي أحدًا بغير حق، ولو كلبًا أو خنزيرًا، ولا يظلم، ولو بشق تمرة، ولو وقع شيء من الأذى والجور .. يجب الاستحلال والإرضاء، ورأينا كثيرًا من الناس في هذا الزمان يطلقون ضرارًا، ويقعون في الإثم مرارًا، ويخالعون على المال بعد الخصومات، كأنهم غافلون عما بعد الممات. ومعنى الآية (¬2): أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات، وتزوجتموهن، ثم طلقتموهن من قبل المسيس، فلا عدة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها, ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر. ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة، وأخرجوهن إخراجًا جميلًا، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن، ويسر به أهلوهن، ليكون في ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كن ينتظرن دوامها، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هي المقام إلى أن يلاقين ربهن، أو تموت عنهن بعولتهن. روى البخاري عن سهل بن سعد، وأبي أسيد - رضي الله عنهما - قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه .. بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين - ضَرْبٌ من الثياب مشهور في ذلك الحين -. 50 - وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ...} الآية، ذكر الله سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن؛ أي: مهورهن، فقال: يا أيها النبي الكريم {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ}؛ أي: أبحنا لك بعظمتنا {أَزْوَاجَكَ}؛ أي: نساءك {اللَّاتِي آتَيْتَ} هن، وأعطيت {أُجُورَهُنَّ}؛ أي: مهورهن، عبَّر عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

المهر بالأجر؛ لأن المهر أجر على البضع؛ أي: على المباشرة به، وإيتاؤها؛ إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد، وأيًا ما كان أجزأ. واختلف (¬1) في معنى {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} فقال ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة له لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد: أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك؛ لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: {أَحْلَلْنَا}، و {آتَيْتَ} ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه؛ لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء، والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو الأفضل. ففي (¬2) وصفهن بـ {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} تنبيه على أن الله سبحانه اختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الأفضل والأولى؛ لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره؛ ليتقصى الزوج عن عهدة الدين، وشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجانًا دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره. والمعنى (¬3): أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وقد كان مهره - صلى الله عليه وسلم - لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفًا؛ أي: خمس مئة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله، أربع مئة درهم. {وَ} أحللنا لك {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ويدك أي: السراري اللاتي دخلن في ملكك حالة كونها {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ} سبحانه، ورده {عَلَيْكَ} من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة. وليس المراد بهذا القيد إخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنه تحل له السرية المشتراة والموهوبة والمهداة، ولكنه إشارة إلى ما هو الأفضل والأطيب؛ لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب .. كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب، فما سبط من دار الحرب قيل فيه: سبط طيبة، وممن له عهد قيل فيه: سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيِّب. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

والمعنى: أي وأحللنا لك الإماء اللواتي سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك من الفيء، بفتح الله عليك، وقد ملك صفية بنت حيي بن أخطب في سبي خيبر، ثم أعتقها، وجعل صداقها عتقها، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق أعتقها، ثم تزوجها، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية أم إبراهيم، وكانتا من السراري. وقال في "إنسان العيون": إن سراريه - صلى الله عليه وسلم - أربع: مارية القبطية أم سيدنا إبراهيم رضي الله عنه، وريحانة، وجاريةٌ وهبتها له - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، وأخرى اسمها: زليخا القرظية. انتهى. وكون ريحانة بنت يزيد من بني النضير سرية أضبط على ما قاله العراقي (¬1)، وزوجة أثبت عند أهل العلم على ما قاله الحافظ الدمياطي. وأما صفية بنت حيي الهارونية من غنائم خيبر، وجويرية بنت الحارث بن أبي صوار الخزاعية المصطلقية، وإن كانتا من المسبيات، لكنه - صلى الله عليه وسلم - أعتقهما، فتزوجهما، فهما من الأزواج لا من السراري على ما بيِّن في كتب السير، فالوجه أنَّ المعنى: مما أفاء الله؛ أي: أعاده عليك بمعنى: صيره لك، ورده لك بأي جهة كانت هديةً أو سبية. {وَ} أحللنا لك {بَنَاتِ عَمِّكَ} والبنت: مؤنث الابن، والعم: أخو الأب؛ أي: وأحللنا لك نساء قريش من أولاد عبد المطلب وأعمامه - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر: الحارث، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، وحمزة، والمقوم - بفتح الواو المشددة وكسرها - والمغيرة، والعباس، وضرار، وأبو لهب، وقثم، ومصعب، ولم يسلم من أعمامه الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس. وبنات أعمامه - صلى الله عليه وسلم -: ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وكانت تحت المقداد، وأم الحكيم بنت الزبير، وكانت تحت النضر بن الحارث، وأم هانىء بنت أبى طالب، اسمها: فاختة، وجمانة بنت أبي طالب، وأم حبيبة، وآمنة، وصفية بنات العباس بن عبد المطلب، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب. {و} أحللنا لك {بَنَاتِ عَمَّاتِكَ} جمع عمة، والنعمة: أخت الأب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وعماته - صلى الله عليه وسلم - ست: أم حكيم، واسمها: البيضاء، وعاتكة، وبرة، وأروى، وأميمة، وصفية، ولم تسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت، وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه. واختلف في إسلام عاتكة، وأروى، ولم يتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بنات أعمامه دينًا، وأما بنات عماته دينًا .. فكانت عنده منهن زينب بنت جحش بن رباب؛ لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب، كما في "التكملة". {و} أحللنا لك {بَنَاتِ خَالِكَ} والخال: أخ الأم. {وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} جمع: خالة، والخالة: أخت الأم، والمراد: نساء بني زهرة، يعني أولاد عبد مناف بن زهرة، لا إخوة أمه، ولا أخواتها؛ لأن آمنة بنت وهب أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لها أخ ولا أخت، فإذا لم يكن له - صلى الله عليه وسلم - خال ولا خالة .. فالمراد بذلك: الخال والخالة عشيرة أمه؛ لأن بني زهرة يقولون: نحن أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أمه منهم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "هذا خالي". وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفًا لهن، كما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)}، وإنما (¬1) أفرد العم والخال، وجمع العمات والخالات في الآية، وإن كان معنى الكل الجمع؛ لأن لفظ العم والخال لما كان يعطي المفرد معنى الجنس .. استغني فيه عن لفظ الجمع تخفيفًا للفظ، ولفظ العمة والخالة، وإن كان يعطي معنى الجنس .. ففيه الهاء، وهي تؤذن بالتحديد والإفراد، فوجب الجمع لذلك. ألا ترى أن المصدر إذا كان بغير هاء لم يجمع، وإذا حدد بالهاء جمع، هكذا ذكره الشيخ أبو علي رحمه الله. كذا في "التكملة". وعبارة "فتح الرحمن" هنا (¬2): وإنما أفراد العم والخال، وجمع العمات والخالات؛ لأن العم والخال بوزن مصدرين، وهما: الضم، والمال، والمصدر يستوي فيه المفرد والجمع، بخلاف العمة والخالة، ولا يرد على ذلك جمع العم والخال في قوله في النور: {أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

أَخْوَالِكُمْ}؛ لأنهما ليسا مصدرين حقيقة، فاعتبر هنا حقيقتهما، وثم شبههما. وقوله: {اللَّاتِي} صفة للبنات؛ أي: وأحللنا لك البنات المذكورة اللاتي {هَاجَرْنَ مَعَكَ}؛ أي: خرجن معك من مكة إلى المدينة، وفارقن أوطانهن، والمراد بالمعية (¬1): المتابعة له - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرة، سواء وقعت قبله أو بعده أو معه، وتقييد البنات بكونها مهاجرات معه للإيذان بشرف الهجرة، وشرف من هاجر، وللتنبيه على الأليق والأفضل له - صلى الله عليه وسلم -، فالهجرة وصفهن، لا بطريق التعليل كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}، ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، وأن من هاجر معه منهن يحل له نكاحها، ومن لم تهاجر لم تحل، ويعضده قول أم هانىء بنت أبي طالب: خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحل له؛ لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وهم الذين أسلموا بعد الفتح، أطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخذهم، ولفائدة التقييد بالهجرة أعاد هنا ذكر بنات العم والعمات والخال والخالات، وإن كنَّ داخلات تحت عموم قوله تعالى عند ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وأول بعضهم الهجرة في هذه الآية على الإسلام؛ أي: أسلمن معك، فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة. وقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} بالنصب معطوف على مفعول {أَحْلَلْنَا}؛ إذ ليس معناه إنشاء الإحلال الناجز، بل إعلام مطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق، والمعنى: وأحللنا لك امرأة مؤمنة بالله مصدِّقة بالتوحيد. {إِنْ وَهَبَتْ} تلك المرأة {نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لك بغير صداق، والالتفات للإيذان بأن هذا الحكم مخصوص به لشرف نبوته، وأما من لم تكن مؤمنة .. فلا تحل لك بمجرد هبتها نفسها لك. والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض. والحرة لا تقبل الهبة، ولا البيع، ولا الشراء؛ إذ ليست بمملوكة، فمعناه: إن ملَّكته بضعها بلا مهر، بأي عبارة كانت من: الهبة، والصدقة، والتمليك، والبيع، والشراء، والنكاح، والتزويج، وكان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح ينعقد في حقه بلفظ الهبة وغيرها من غير ولي ولا شهود ولا مهر؛ لقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومعنى الشرط إن اتفق ذلك، أي: وجد اتفاقًا، ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك قبول ذلك، بل مقيَّد بإرادتك، ولهذا قال: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا}؛ أي: أن يجعلها منكوحة له، ويتملك بضعها بتلك الهبة لا بمهر ابتداءً وانتهاءً، وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول. وقيل (¬1): إنه لم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - من الواهبات أنفسهن أحدًا، ولم يكن عنده منهن شيء، وقيل: كان عنده منهن خولة بنت حكيم، كما في "صحيح البخاري" عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين، وقيل غير ذلك. ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يحل لغيره من أمته فقال: {خَالِصَةً لَكَ} إما حال من فاعل {وَهَبَتْ}، قاله الزجاج. أي: حالة كون تلك الواهبة خالصة لك، وخاصة بك. {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن الإحلال للمؤمنين إنما يتحقق بالمهر، أو بمهر المثل إن لم يسم عند العقد، ولا يتحقق بلا مهر أصلًا، أو مصدر مؤكد لعامله المحذوف كالكاذبة؛ أي: خلص لك إحلال المرأة المؤمنة الواهبة خالصةً؛ أي: خلوصًا. وقرأ الجمهور (¬2): {وَامْرَأَةً} بالنصب {إِنْ وَهَبَتْ} بكسر الهمزة؛ أي: أحللناها لك إن وهبت. وقرأ أبو حيوة: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: أحللناها لك. وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام: {أن وهبت} بفتح الهمزة على تقدير لام العلة؛ أي: لأن وهبت، أو على أنه بدل من امرأة بدل اشتمال، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض. وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: {إذ وهبت} ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها. وقرأ الجمهور: {خَالِصَةً} بالنصب، فهو مصدر مؤكد كوعد الله، وصبغة الله؛ أي: أخلص لك إخلاصًا، فأحللنا لك خالصةً بمعنى خلوصًا، ويجيء المصدر على فاعل وفاعلة، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في المصادر عليَّ غير عزيزين، كالخارج، والقاعد، والعاقبة، والكاذبة. انتهى. وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر، وقرىء بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ: {امرأة} بالرفع. وقد أجمع (¬1) العلماء على أن هذا خاص بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يجوز ولا ينعقد النكاح بهبة المرأة نفسها، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه أنه يصح النكاح إذا وهبت، وأشهد هو على نفسه بمهر، وأما بدون مهر، فلا خلاف في أن ذلك خاص بالنبي، ولهذا قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: أوجبنا على المؤمنين {فِي أَزْوَاجِهِمْ}؛ أي: في حقهن من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض، لا يحل لهم الإخلال به، ولا اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما خصه الله به توسعة عليه، وتكريمًا له، فلا يتزوجوا إلا أربعة بمهر وولي وشهود. {وَ} ما فرضنا عليهم في حق {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وأيديهم من الأحكام؛ أي: وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه، لا ممن لا يجوز سبيه كالمعاهدين، وأهل الذمة. وقوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية؛ أي: أحللنا لك أزواجك، وما ملكت يمينك، والواهبة نفسها لك لكيلا يكون عليك حرج. فتكون اللام متعلقةً بـ {أَحْلَلْنَا}، وقيل: متعلقة بـ {خَالِصَةً}، والأول أولى. ولام كي دخلت على كي للتوكيد؛ أي: لئلا يكون عليك ضيق في أمر النكاح، فقوله: قد علمنا .. الخ اعتراض بين قوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} وبين متعلَّقه، وهو {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، مقرر لما قبله من خلوص الإحلال المذكور لرسول الله، وعدم تجاوزه للمؤمنين ببيان أنه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض عليه، تكرمة له، وتوسعة عليه. أي: قد علمنا ما ينبغي أن يفرض عليهم في حق أزواجهن، ومملوكاتهم، وعلى أيّ حد، أو على أي صفة يحق أن يفرض عليهم، ففرضنا ما فرضنا على ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[51]

ذلك الوجه، وخصصناك ببعض الخصائص، كالنكاح بلا مهر وولي وشهود، ونحوها. وفسروا المفروض في حق الأزواج بالمهر، والولي، والشهود، والنفقة، ووجوب القسم، والاقتصار على الحرائر الأربع، وفي حق المملوكات بكونهن ملكًا طيبًا، بأن تكون من أهل الحرب، لا ملكًا خبيثًا، بأن تكون من أهل العهد. وفي الحديث: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"؛ أي: احفظوا الصلوات الخمس، والمماليك بحسن القيام بما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وغيرها، وبغير تكليف على ما لا يطيقون من العمل، وترك التعذيب، قرنه عليه الصلاة والسلام بأمر الصلاة إشارةً إلى أن حقوق المماليك واجبة على السادات وجوب الصلوات. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا}؛ أي: فيما يعسر التحرز عنه {رَحِيمًا}؛ أي: منعمًا على عباده بالتوسعة في مظان الحرج، ونحوه؛ أي: يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه. 51 - {تُرْجِي} وتؤخر يا محمد {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}؛ أي: من أزواجك، وتترك مضاجعتها من غير نظر إلى نوبة وقسم وعدل. {وَتُؤْوِي} وتضم إليك {مَنْ تَشَاءُ} منهن، وتضاجعها من غير التفات إلى نوبة وقسمة أيضًا. فالاختيار بيديك في الصحبة بمن شئت، ولو أيامًا زائدة على النوبة، وكذا في تركها، والمعنى: أي تؤخر وتترك مضاجعة من تشاء من أزواجك، وتضاجع من تشاء منهن، ولا يجب عليك قسم بينهن، بل الأمر في ذلك إليك، على أنه كان يقسم بينهن، وقد كان القسم واجبًا عليه حتى نزلت هذه الآية، فارتفع الوجوب، وصار الخيار إليه، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع، أو المعنى: تطلِّق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، أو المعنى: تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت، كما في "بحر العلوم". وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}، وسيأتي بيان ذلك. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص: {تُرْجِي} بياء ساكنة، والباقون: بهمزة مضمومة، وهما لغتان، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته، إذا أخرته.

و {مَنِ} في قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} مبتدأ بمعنى الذي، أو شرط نصب بقوله: {ابْتَغَيْتَ}، وخبر المبتدأ، أو جواب الشرط على كلا التقديرين {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}؛ أي: ومن ابتغيت وطلبت مضاجعتها حالة كونها {مِمَّنْ عَزَلْتَ} ـها، وتركتها، وطلقتها أولًا بالرجعة {فَلَا جُنَاحَ}؛ أي: فلا إثم ولا لوم ولا عتاب ولا ضيق {عَلَيْكَ} يا محمد في شيء مما ذكر من الأمور الثلاثة. والحاصل: أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجأ، وإرجاء من ضمَّ إليه، وما شاء في أمرهن فعل، توسعةً عليه، ونفيًا للحرج عنه. والمعنى (¬1): أي ومن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق، فلا ضيق عليك في ذلك. والخلاصة: أنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلَّقها من قبل، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، وهو إما أن يطلِّق، وإما أن يمسك، وإذا أمسك ضاجع أو ترك، وقسم أو لم يقسم، وإذا طلَّق؛ فإما أن لا يبتغي المعزولة، أو يبتغيها. والجمهور على أن الآية نزلت في القسم بينهن، فإن التسوية في القسم كانت واجبة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه، وصار الاختيار إليه فيهن، وكان ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. ويروى: أن أزواجه - عليه الصلاة والسلام - لما طلبن زيادة النفقة، ولباس الزينة .. هجرهن شهرًا حتى نزلت آية التخيير، وروى ابن جرير عن أبي رزين قال: لما نزلت آية التخيير .. أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله، اجعل لنا من مالك ومن نفسك ما شئت، ودعنا كما نحن، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهن خمسًا أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، فكان يقسم لهن ما شاء، وآوى إليه أربعًا: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان يقسم بينهن سواء، ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج أحدًا منهن عن القسم، بل كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخيَّر فيه إلا سودة، فإنها رضيت بترك حقها من القسم، ووهبت ليلتها ¬

_ (¬1) المراغي.

لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. ثم بين السبب في الإيواء والإرجاء، وأنه كان ذلك في مصلحتهن، فقال: {ذَلِكَ} المذكور من تفويض الأمر إلى مشيئتك {أَدْنَى} وأقرب إلى {أَنْ تَقَرَّ} وتبرد {أَعْيُنُهُنَّ} وتطيب أنفسهن {و} إلى أن {لَا يَحْزَنَّ}، ولا يتأسفن بما فعلت بهن من إيثار بعض على بعض. {وَ} إلى أن {يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}؛ أي: ويرضين كلهن بما آتيتهن، وقسمت لهن من العدل بينهن تفضلًا وتكرمًا منك، وقوله: {كُلُّهُنَّ} بالرفع تأكيد لفاعل {يرضين}، وهو النون؛ أي: ذلك المذكور أقرب (¬1) إلى قرة عيونهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعًا؛ لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن .. وجدت ذلك تفضلًا منك، وإن رجحت بعضهن .. علمن أنه بحكم الله، فتطمئن به نفوسهن، ويذهب التنافس والتغاير، فرضين بذلك، فاخترنه على الشرط، ولذا قصره الله عليهن، وحرم عليه طلاقهن، والتزوج بسواهن، وجعلهن أمهات المؤمنين. والمعنى: أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أيِّ ذلك فعلت، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارًا منك، لا وجوبًا عليك .. فرحن بذلك، واستبشرن به، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن وعدلك بينهن. والخلاصة: ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن، وانتفاء حزنهن، ووجود رضاهن إذا علمن أن ذلك التفويض من عند الله تعالى، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك. وقرأ الجمهور: {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} مبنيًا للفاعل من: قرت العين، وقرأ ابن محيصن: {تقر} بضم التاء من: أقرر الرباعي، ونصب {أعينهن}، وفاعله: ضمير المخاطب؛ أي: أنت. وقرىء: {تقر} مبنيًا للمفعول، و {أعينهن} بالرفع. وقرأ الجمهور: {كُلُّهُنَّ} بالرفع تأكيدًا لفاعل {يرضين}، وهو: النون. وقرأ أبو إياس ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

حوبة بن عانذ بالنصب تأكيدًا لضمير النصب في {آتَيْتَهُنَّ}. {وَاللَّهُ} وحده {يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الضمائر والخواطر، فاجتهدوا في إحسانها، أو يعلم ما قلوبكم من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، ومن الرضا بما دبَّر له في حقهن من تفويض الأمر إليه - صلى الله عليه وسلم -. روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب، وزيادة الحب لبعض دون بعض. وفي هذا (¬1) حث على تحسين ما في القلوب، ووعيد لمن لم يرضَ منهن بما دبر الله له من ذلك، وفوضه إلى مشيئته، وبعث على تواطىء قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بالسرائر كالظواهر، فيعلم ما تبدونه وما تخفونه {حَلِيمًا} على ذنب من أذنب، فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب، وينيب من ذنوبه من ينيب، فلا تغتروا بتأخيرها، فإنه إمهال لا إهمال. 52 - {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} قرأ الجمهور: {لَا يَحِلُّ} بالياء التحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث؛ ولأن تأنيث الجمع غير حقيقي، وإذا جاز التذكير بغير فصل في قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} كان معه أجوز. وقرأ ابن كثير بالفوقية نظرًا إلى كون الفاعل جمعًا؛ أي (¬2): لا تحل لك واحدة من النساء، مسلمةً كانت أو كتابية، لما تقرر عندهم أن حرف التعريف إذا دخل على الجمع .. يبطل الجمعية، ويراد الجنس، وهو كالنكرة يخص في الإثبات، ويعم في النفي، كما إذا حلف لا يتزوج النساء، ولا يكلم الناس، أو لا يشتري العبيد، فإنه يحنث بالواحد؛ لأن اسم الجنس حقيقة فيه. أي: لا تحل لك يا محمد واحدة من النساء {مِنْ بَعْدُ}؛ أي: من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن بين الدنيا والآخرة فاخترنك؛ لأنه نصابك من الأزواج، كما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أن الأربع نصاب أمتك منهن، أو لا يحل لك النساء بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن .. لم يحل له نكاح أخرى. {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ} بحذف إحدى التاءين، والأصل: تتبدل. {بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} مفعول {تَبَدَّلَ}، و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي تفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم؛ أي: ولا يحل لك أن تتبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهن أو بعضهن، بأن تطلق واحدةً وتنكح مكانها أخرى. أراد الله سبحانه وتعالى لهن كرامة وجزاء على ما اخترن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدار الآخرة، لا الدنيا وزينتها، ورضين بمراده، فقصر رسوله عليهن، ونهاه عن تطليقهن، والاستبدال بهن. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}؛ أي: حسن المبدلات وجمالهن؛ أي: لا يحل لك التبدل بأزواجك، ولو أعجبك حسن غيرهن ممن أردت أن تجعلها بدلًا من إحداهن، والواو (¬1) الداخلة على {لو} عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها، وكلمة {لو} في أمثال هذا الموقع لا يلاحظ لها جواب. والمعنى: ولا يحل لك أن تستبدل بهن حال كونك لو لم يعجبك حسن الأزواج المستبدلة وجمالهن، ولو أعجبك حسنهن؛ أي: لا يحل لك الاستبدال حال عدم إعجاب حسنهن إياك، وحال إعجابه؛ أي: لا يحل لك على كل حال، ولو في هذه الحالة، فالمراد بـ {لو} هنا: استقصاء الأحوال وتعميمها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المرأة التي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - استبدالها هي: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، لما استشهد .. أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخطبها، فنهاه الله عن ذلك، فتركها، فتزوجها أبو بكر بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي ممن أعجبه حسنهن. وفي "التكملة": قيل: يريد حبابة أخت الأشعث بن قيس. انتهى. وفي الحديث: "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من تكون معي في الجنة" فأسماء أو حبابة لم تكن أهلًا لرسول الله في الدنيا, ولم تستأهل أن تكون معه في مقامه في الجنة، فلذا صرفها الله عنه، فإنه تعالى لا ينظر إلى الصورة، بل إلى ¬

_ (¬1) الشوكاني.

المعنى. وفي الحديث: "من نكح امرأة لمالها وجمالها .. حرم مالها وجمالها، ومن نكحها لدينها .. رزقه الله مالها وجمالها". وقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ويدك، استثناء من النساء؛ لأنه يتناول الأزواج والإماء، فإنه يحل له أن يتسرى بهن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ملك بعد هؤلاء التسع: مارية القبطية، فولدت له - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم، ابنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال (¬1): قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة الحسن وابن سيرين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير: إنها محكمة، وإنه حرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج على نسائه، مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله له بذلك. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده .. حرم عليه أن يتزوج غيرهن، وقال أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين: إن المعنى: لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله تعالى. قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير، وقيل: لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات؛ لأنهن لا يصح أن يتصفن بأنهن أمهات المؤمنين، وهذا القول فيه بعد؛ لأنه يكون التقدير: لا يحل لك النساء من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر، وقيل: هذه الآية منسوخة بالسنة، وبقوله سبحانه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، وبهذا قالت عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة، وعلي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو الراجح. ويدل لهذا القول ما أخرجه ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله سبحانه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ...} الآية. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في "ناسخه"، والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر، والحاكم ¬

_ (¬1) المراغي.

وصححه، وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت: لم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم لقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية. وقد اختلف العلماء أيضًا في تحليل الأمة الكافرة له - صلى الله عليه وسلم - (¬1): القول الأول: أنها تحل للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لعموم هذه الآية، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. والقول الثاني: أنها لا تحل له تنزيهًا لقدره عن مباشرة الكافرة، ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية، وتعليل المنع بالتنزيه ضعيف، فلا تنزه عما أحله الله له، فإن ما أحله .. فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح، لا باعتبار غير ذلك، فالمشركون نجس بنص القرآن، ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فإنه نهي عام. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}؛ أي: حافظًا مهيمنًا مطلعًا عليه، لا يخفى عليه شيء، ولا يفوته شيء، فتحفظوا ما أمركم به، ولا تتخطوا ما حد لكم. والرقيب في أسمائه تعالى: هو الذي لا يغفل ولا يذهل، ولا يجوز عليه ذلك، فلا يحتاج إلى مذكر ولا منبه، كما في "شرح الأسماء" للزورقي. وقد بسطت الكلام فيه في كتابي "هدية الأذكياء على طيبة الأسماء" فراجعه. واجمال معنى الآية (¬2): أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله، وحسن صنيعهن في ذلك. ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجًا أخرى غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن، وتنكح بدلها أخرى، مهما كانت بارعة في الحسب والجمال، إلا ما ملكت يمينك منهن، وقد ملك بعدهن مارية القبطية، أهداها له المقوقس القبطي، فتسراها، وأولدها إبراهيم، ومات رضيعًا، وكان الله سبحانه حافظًا ومطلعًا على كل شيء، عليمًا بالسر والنجوى، فاحذروا تجاوز حدوده، وتخطي حلاله إلى حرامه. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[53]

وقد تضمنت الآية الكريمة حكمين (¬1): 1 - أن لا يتزوج عليه السلام غيرهن. 2 - أن لا يستبدل بهن غيرهن. وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها، وقد روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل نظرت إليها"؟ قلت: لا، قال: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. 53 - ثم أدب الله سبحانه عباده بآداب ينبغي أن يتخلقوا بها لما فيها من الحكم الاجتماعية، والمزايا العمرانية، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}؛ أي: حجرات النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال، وهذا (¬2) نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذن منه، وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب بنت جحش، كما سبق في أسباب النزول. فإن قلت: إن الله أضاف البيوت هنا إلى النبي، وفيما سبق إلى الأزواج؛ حيث قال: {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} فبينهما معارضة؟ قلت: لا معارضة؛ لأن الإضافة فيما سبق إضافة سكن، وهنا إضافة ملك، كما يؤخذ من "الفتوحات". وقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو في موضع نصب على الحال؛ أي: إلا مصحوبين بالإذن، أو بنزع الخافض؛ أي: إلا بأن يؤذن لكم، أو منصوب على الظرفية؛ أي: إلا وقت أن يؤذن لكم. أي (¬3): لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأذونًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

لكم ومدعوين {إِلَى طَعَامٍ} ومأكول، وهو متعلق بـ {يُؤْذَنَ} على تضمينه معنى يدعى؛ لشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة، وإن أذن في الدخول، كما أشعر به قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}، وهو حال من فاعل {لَا تَدْخُلُوا} على أن الاستثناء وقع على الظرف والحال، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حال الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه؛ أي: غير منتظرين إناه؛ أي: نضجه وإدراكه واستواءه وصلاحيته للأكل. والأناه - بكسر الهمزة وبالقصر -: مصدر سماعي؛ لأنى الطعام إذا أدرك من باب رمى، وفيه إشارة إلى حفظ الأدب في الاستئذان، ومراعاة الوقت، وإيجاب الاحترام. وقرأ الجمهور (¬1): {غَيْرَ نَاظِرِينَ} بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة {غير} بالجر صفة لـ {طَعَامٍ}. وقال الزمخشري: وليس بالوجه؛ لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير غير ما هو له أن يبرز فيقال: إلى طعام غير ناظرين إناه أنتم، كقوله: هند زيد ضاربته هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين، وقرأ الجمهور: {إِنَاهُ} مفردًا، والأعمش: {إناءه} بمدة بعد النون. والمعنى (¬2): يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه. وخلاصة ذلك: أنكم إذا دعيتم إلى وليمة في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أنَّ الطعام قد تم نضجه، وانتهى إعداده؛ إذ قبل ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم، وقد يلبسن ثياب البذلة، فلا يحسن أن تروهن وهن على هذه الحالة إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه. وقوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} من النهي عن الدخول بغير إذن، وفيه (¬3) دلالة بيِّنة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه؛ أي: ولكن إذا أذن لكم في الدخول، ودعيتم إلى الطعام، فادخلوا بيوته على وجوب الأدب، وحفظ أحكام تلك الجلسة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

{فَإِذَا طَعِمْتُمْ} الطعام وأكلتم وتناولتموه .. فإن الطعم تناول الغذاء {فَانْتَشِرُوا}؛ أي: فأخرجوا من منزله، وتفرقوا واذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب. أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام، وهو التفرق، والمراد: الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل. وفي قوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} لطيفة، وهي (¬1): أن في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن: لا تدخلها إلا بإذن .. يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلًا، ولا بالدعاء، قال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين، إذا قيل لكم: لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم: ادخلوا فادخلوا، وقوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} يفيد الجواز، وقوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} يفيد الوجوب فليس تأكيدًا، بل هو مفيد فائدة جديدة. اهـ "رازي". والآية (¬2) خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام، ولا اللبث بعد الطعام لأمر مهم، وليس كذلك، كما سيأتي. {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} هو مجرور عطفًا على ناظرين؛ أي: غير مستأنسين، أو منصوب على الحالية بعامل مقدر؛ أي: ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين بحديث بعضكم مع بعض، أو بحديث أهل البيت بالسمع له، نهوا أن يطيلوا الجلوس، ويستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدِّثه به، أو يستأنسوا بالحديث مع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، واللام في قوله: {لِحَدِيثٍ} يحتمل أن تكون للعلة؛ أي: مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضًا، وأن تكون المقوية للعامل؛ لأنه فرع؛ أي: لطلب اسم الفاعل للمفعول؛ أي: ولا مستأنسين حديث أهل البيت أو غيرهم، واستئناسه تسمعه. اهـ "سمين" ويحتمل أن تكون بمعنى الباء، والأنس: ضد الوحشة والنفور، كما سيأتي. ¬

_ (¬1) الفخر الرازي. (¬2) البيضاوي.

والمعنى (¬1): أي ولكن إذا دعاكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. فادخلوا البيت الذي أذن لكم في دخوله، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله .. فتفرقوا واخرجوا, ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة. وقال الرازي في قوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} إما أن يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم، فلا يكون منعًا من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير، فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، فيكون الإذن مشروطًا بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام .. فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام، فلا يجوز. فنقول: المراد هو الثاني؛ ليعم النهي عن الدخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام .. فلما هو مذكور في سبب النزول: أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام، ويدخلون من غير إذن، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن. وقال ابن عادل: الأولى أن يقال: المراد هو الثاني؛ لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: {إِلَى طَعَامٍ} من باب التخصيص بالذكر، فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم مثله، فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه .. جاز دخوله بإذنه إلى غير طعام. انتهى. والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال: قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته - صلى الله عليه وسلم - بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام، فياذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذين نزلت فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته باذنه لغير الطعام، واللازم باطل، فالملزوم مثله. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكِّر ¬

_ (¬1) المراغي.

من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه .. جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام. وفي "التأويلات النجمية": إذا انتهت حوائجكم فأخرجوا ولا تتغافلوا, ولا يمنعكم حسن خلقه من حسن الأدب، ولا يحملنكم فرط احتشامه على الإبرام عليه، وكان حسن خلقه جسرهم على المباسطة معه، حتى أنزل الله سبحانه هذه الآية. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ} الاستئناس بعد الأكل الدال على اللبث، {كَانَ} في علم الله سبحانه {يُؤْذِي النَّبِيَّ} - صلى الله عليه وسلم -؛ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، وشغله فيما لا يعنيه، والأذى: هو كل ما يصل إلى الإنسان من ضرر، كما سيأتي. وقيل: إن (¬1) الإشارة بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ} إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور، كما في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}؛ أي: إن ذلك المذكور من الأمرين كان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلحق به الضرر؛ لأنهم يضيقون عليه المنزل، وعلى أهله، ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل إطالتهم كرمًا منه، فيصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله - سبحانه - من يحضره الأدب حتى صار أدبًا لهم، ولمن بعدهم. {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ}؛ أي: يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا {وَاللَّهُ} سبحانه {لَا يَسْتَحْيِي مِنَ} بيان {الْحَقِّ} الذي هو الإخراج لكم؛ أي: لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق، ولا يمتنع من بيانه وإظهاره، والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة، يعني: أن (¬2) إخراجكم حق، فينبغي أن لا يترك حياء، ولذلك لم يتركه الله ترك الحيي، وأمركم بالخروج، وكان - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاءً، وهو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وهذا أدب أدَّب الله به الثقلاء، وعن عائشة رضي الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}، فينبغي للضيف أن لا يجعل نفسه ثقيلًا، بل يخفف الجلوس، وكذا حال العائد، فإن عيادة المرضى لحظة. قيل للأعمش: ما الذي أعمش عينيك؛ قال: النظر إلى الثقلاء، وقد قيل: إِذَا دخَلَ الثَّقِيْلُ بِأرْضِ قَوْمٍ ... فَمَا لِلسَّاكِنِيْنَ سوَى الرَّحِيْلُ وقيل: مجالسة الثقيل حمى الروح، وقيل لأنوشروان: ما بال الرجل يحمل الحمل الثقيل، ولا يحمل مجالسة الثقيل؟ قال: يحمل الحمل بجميع الأعضاء، والثقيل تنفرد به الروح. قيل: من حق العاقل الداخل على الكرام قلة الكلام، وسرعة القيام. ومن علامة الأحمق الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير الوقت، وقد قالوا: إذا أتى باب أخيه المسلم .. يستأذن ثلاثًا، ويقول في كل مرة: السلام عليكم يا أهل البيت، ثم يقول: أيدخل فلان، ويمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، ومقدار ما يفرغ المتوضؤ من وضوئه، والمصلي بأربع ركعات من صلاته، فإن أذن .. دخل، وخفف، وإلا رجع سالمًا عن الحقد والعداوة، ولا يجب الاستئذان على من أرسل إليه صاحب البيت رسولًا، فيأتي بدعوته قال الحامي: أَدِّبُوْا النَّفْسَ أَيُّهَا الأَحْبَابُ ... طُرُقَ الْعِشْقِ فَإِنَّ لَهَا آدَابُ وقرأ الجمور (¬1): {فَيَسْتَحْيِي} بيائين مع سكون الحاء، مضارع استحيا من باب استفعل، وقرأت فرقة: {فيستحي} بياء واحدة مع كسر الحاء مضارع استحا، وهي لغة تميم، وروي عن ابن كثير، واختلفوا في المحذوف منه، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين .. فوزنها: يستفل، وإن كان اللام .. فوزنها: يستفع، والترجيح مذكور في كتب النحو. والمعنى (¬2): أي إن ذلك اللبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤدي النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حوائجه إلى ما فيه من تضييق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

المنزل على أهله، لكنه كان يستحيي من إخراجكم، ومنعكم مما يؤذيه، والله لم يترك الحق، وأمركم بالخروج، وفي هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم، إذا كان في ذلك أذى لرب البيت، ولو كان البيت غير بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالتثقيل مذموم في كل مكان، محتقر صاحبه لدى كل إنسان، وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة، أفردت بالتأليف، ولا سيما في العصر الحديث، وجعلوا التحلل منها، وترك اتباعها مما لا تسامح فيه. ثم ذكر سبحانه أدبًا آخر متعلقًا بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ}؛ أي: وإذا سألتم أيها المؤمنون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج {مَتَاعًا}؛ أي: شيئًا تتمتعون وتنتفعون به من ماعون وغيره {فَاسْأَلُوهُنَّ}؛ أي: فاطلبوا منهن ذلك المتاع {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ أي: من وراء ستر بينكم وبينهن. أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب في صبيحة عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر، كما في "الصحيحين" عنه قال: وافقت ربي عَزَّ وَجَلَّ في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت: لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تمالأن عليه في الغيرة: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت كذلك. ثم بين سبب ما تقدم بقوله: {ذَلِكُمْ}، والإشارة (¬1) فيه إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل: الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب، والأول أولى بقرينة السياق. واسم الإشارة مبتدأ، وخبره {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} أيها الرجال الأجانب، {و} أطهر لـ {قلوبهن}؛ أي: لقلوب النساء الأجنبيات؛ أي: أكثر تطهيرًا لها من الخواطر النفسانية، والخيالات الشيطانية التي تعرض للرجال في أمر النساء، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

وللنساء في أمر الرجال, فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم يَرَ الآخر .. لم يقع في قلبه شيء. قال في "كشف الأسرار": نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة, وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال، وبين أن البشر بشر، وإن كانوا من الصحابة، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء، ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان"، وفي هذا أدب لكل مؤمن, وتحذير له من أن يشق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه. والمعنى (¬1): ذلك السؤال من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان ونزغاته؛ لأن العين رسول القلب، فإذا لم تر العين .. لم يشته القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر, وعدم الفتنة حينئذ أظهر. وجاء في الأثر: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" إذ الرؤية سبب للتعلق والفتنة، ألا ترى إلى قول الشاعر: وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِيْ أَعْيُنِ الْعِيْنِ مَوْقُوْفٌ عَلَى الْخَطَرِ يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا سَاءَ مُهْجَتَهُ ... لَا مَرْحَبًا بِانْتِفَاعٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ ولما ذكر ما ينبغي من الآداب حين دخول بيت الرسول .. أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله: {وَمَا كَانَ} ينبغي {لَكُمْ} أيها المؤمنون {أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} - صلى الله عليه وسلم - أي أن تفعلوا في حياته - صلى الله عليه وسلم - فعلًا يتأذى به بكرهه، كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله. أي: ما صح لكم (¬2)، ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائنًا ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب، ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قصر عليهن .. قصرهن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[54]

الله عليه بقوله: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ}؛ أي: ولا كان لكم أن تتزوجوا أزواجه - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد مفارقته إياهن بموت أو طلاق {أَبَدًا}؛ أي: مدة حياتها زيادة في شرفه، وإظهارًا لعظمته وجلاله، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، ولأن في تزوجهن تركًا لمراعاة حرمته - صلى الله عليه وسلم -، ويقال (¬1): لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، كما قال: "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من يكون معي في الجنة"، ولو تزوجن .. لم يكنَّ معه في الجنة؛ لأن المرأة لآخر أزواجها. والحاصل: أنه يجب على الأمَّة أن يعظِّموه - صلى الله عليه وسلم -، ويوقروه في جميع الأحوال في حال حياته، وبعد وفاته، فإنه بقدر ازدياد تعظيمه وتوقيره في القلوب، يزداد نور الإيمان فيها. ثم بين السبب فيما تقدم بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ} الذكور من إيذائه - صلى الله عليه وسلم -، ونكاح أزواجه من بعده {كَانَ عِنْدَ اللَّهِ} - سبحانه وتعالى - ذنبًا {عَظِيمًا}، وخطبًا جليلًا، وأمرًا خطيرًا، لا يقادر قدره إلا الله تعالى. 54 - ثم بالغ في الوعيد، فقال: {إِنْ تُبْدُوا} أيها المؤمنون وتظهروا على ألسنتكم {شَيْئًا} مما لا خير فيه كنكاحهن {أَوْ تُخْفُوه}؛ أي: تخفوا ذلك الشيء، وتكتموه في صدوركم {فَإِنَّ اللَّهَ} - سبحانه وتعالى - {كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}؛ أي: بليغ العلم بظاهر كل شيء وباطنه، فيجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وعمم (¬2) ذلك ليدخل فيه نكاحهن وغيره؛ أي: يعلم كل شيء من الأشياء، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها. أي: إن ما تكنه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، فالله يعلمه؛ إذ لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)}، ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي الظاهرة والباطنة، والكلام، وإن كان عامًا بظاهره، فالمقصود ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[55]

يتعلق بزوجاته - صلى الله عليه وسلم -. 55 - وروي: أنه لما نزلت آية الحجاب .. قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نكلمهنَّ أيضًا - أي: كالأباعد - من وراء حجاب، فنزلت {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ}، ورخص الدخول على نساء ذوات محارم بغير حجاب؛ أي: لا ذنب ولا إثم على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - {فِي} دخول {آبَائِهِنَّ} عليهن، ونظرهم وكلامهم ورؤيتهم إياهن بلا حجاب، سواء كان الأب أبًا من النسب، أم من الرضاع. {وَلَا} في دخول {أَبْنَائِهِنَّ} عليهن، ونظرهم وكلامهِم بلا حجاب، سواء كان الابن من النسب، أو من الرضاع. {وَلَا} في {إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ}؛ أي: لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب، فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا على غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، فهؤلاء ينظرون إلى الوجه والرأس والساقين والعضدين، ولا ينظرون إلى ظهرها، وبطنها، وفخذها، وأبيح النظر لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن، واحتياجهن إلى مداخلتهم، وإنما لم يذكر العم والخال؛ لأنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمي العم أبًا في قوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، أو لأنه يكره ترك الاحتجاب منهما مخافة أن يصفاهن لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم؛ لجواز النكاح بينهم، فكره لهما الرؤية. وهذا ضعيف جدًا (¬1)، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز النظر إليهما، لا سيما أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، واللازم باطل، فالملزوم مثله. وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها؛ لأنهن يصفنها لأزواجهن، واللازم باطل، فالملزوم مثله. وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة: من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال: إنه سبحانه اقتصر هاهنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاءً بما تقدم، والمضاف إليه في قوله: {وَلَا} جناح عليهن في عدم الاحتجاب عن {نِسَائِهِنَّ} واقع على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي (¬2): ولا جناح على زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم الاحتجاب عن نسائهن؛ أي: عن النساء المسلمات، وإضافتهن لهن من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات.

حيث المشاركة في الوصف، وهو الإِسلام، وأما النساء الكافرات فيجب على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتجاب عنهن، كما يجب على سائر المسلمات؛ أي: ما عدا ما يبدو عند المهنة، أما هو .. فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات. اهـ. شيخنا، وقيل: هو عام في المسلمات والكتابيات، وإنما قال: ولا نسائهن بالإضافة؛ لأنهن من أجناسهن. {وَلَا} جناح عليهن في عدم الاحتجاب عن {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وأيديهن من العبيد والإماء؛ لما في الاحتجاب عن العبيد من المشقة؛ لأنهم يقومون بالخدمة عليهن، فيكون عبد المرأة محرمًا لها، فيجوز (¬1) له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وأن ينظر إليها كالمحارم، وقد أباحت عائشة النظر لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر، وخرجت فأنت حر، وقيل: من الإماء خاصة، فيكون العبد حكمه حكم الأجنبي معها. قال في "بحر العلوم": وهو أقرب إلى التقوى؛ لأن عبد المرأة كالأجنبي خصيًا كان أو فحلًا، وأين مثل عائشة؟ وأين مثل عبدها في العبيد؟ لا سيما في زماننا هذا. وهو قول أبي حنيفة، وعليه الجمهور، فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه، وقد أجاز نظره إلى وجهها وكفيها إذا وجد الأمن من الشهوة، ولكن جواز النظر لا يوجب المحرمية، وقد سبق بعض ما يتعلق بالمقام في سورة النور، فارجع لعلك تجد السرور. قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} يا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا سائر النساء المسلمات، معطوف على محذوف، تقديره: امتثلن ما أمرتن به من الاحتجاب، واتقين الله حتى لا يراكن غير هؤلاء ممن ذكر، وعليكن الاحتياط ما قدرتن، واخشين الله في السر والعلن، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، وهو يجازي على العمل خيرًا أو شرًا. والخلاصة: أنّ الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[56]

شَيْءٍ شَهِيدًا}؛ أي: مطلعًا لا تخفى عليه خافية من الأقوال والأفعال، ولا يتفاوت في علمه الأماكن والأوقات والأحوال. وفي "التأويلات النجمية": يشير بالآية إلى تسكين قلوبهن بعد فطامهن عن مألوفات العادة، ونقلهن إلى معروف الشريعة، ومفروض العبادة، فمن عليهن وعلى أقربائهن بإنزاله هذه الرخصة؛ لأنه ما أخرجهن، وما خلَّى سبيل الاحتياط لهن مع ذلك فقال: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيهن، وفي غيرهن بحفظ الخواطر، وميل النفوس، وهمها. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أعمال النفوس، واحوال القلوب {شَهِيدًا} حاضرًا وناظرًا إليها. قال أبو العباس الفاسي: الشهيد: هو الحاضر الذي لا يغيب عنه معلوم، ولا مرئي، ولا مسموع. فائدة: وجملة الأزواج التي مات عنهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي المرادة في هذه الآية تسع: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب، وجويرية، وقد نظمهن بعضهم فقال: تُوُفِّيْ رَسُوْلُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ ... إِلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ فَعَائِشَةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَصَفِيَّةٌ ... وَحَفْصَةُ تَتْلُوْهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ جُوَيْرِيَّة مَعْ رَمْلَةٍ ثُمَّ سَوْدَةٌ ... ثَلاَثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ لَيَعْذُبُ 56 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره، ويهتمون بإظهار شرفه، وتعظيم شأنه، وذلك من الله تعالى بالرحمة، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار، فقوله: {يُصَلُّونَ} محمول على عموم المجاز؛ إذ لا يجوز إرادة معنيي المشترك معًا، فإنه لا عموم للمشترك مطلقًا؛ أي: سواء كان بين المعاني تنافٍ أم لا. قال القهستاني: الصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الإنس والجن: القيام والركوع والسجود والدعاء ونحوها، ومن الطير والهوام: التسبيح، والصلاة: اسم مصدر من التصلية، وكلاهما مستعمل بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان، فإن مصدرها لم يستعمل، فلا يقال: صليت تصليةً، بل يقال: صليت صلاة. وقال بعضهم: الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبمعنى

التشريف بمزيد الكرامة للنبي، والرحمة عامة، والصلاة خاصة، كما دل العطف على التغاير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، وقال بعضهم: صلوات الله على غير النبي رحمة، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثناء ومدحة، قولًا وتوفيق وتأييد فعلًا، وصلاة الملائكة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -: استغفار، وعلى النبي: إظهار للفضيلة، والمدح قولًا، والنصرة والمعاونة فعلًا. وصلاة المؤمنين على غير النبي: دعاء، وعلى النبي: طلب الشفاعة قولًا، واتباع السنة فعلًا. وقال بعضهم: صلوات الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه إلى المقام المحمود، وهو مقام الشفاعة لأمته، وصلوات الملائكة: دعاؤهم له بؤيادة مرتبته، واستغفارهم لأمته، وصلوات الأمة: متابعتهم له، ومحبتهم إياه، والثناء عليه بالذكر الجميل. وهذا التشريف الذي شرف الله به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أتم من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله تعالى مع الملائكة في هذا التشريف لآدم، وقد أخبر تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي، ثم عن الملائكة، وما أحسن قول بعضهم: يُصَلِّيْ عَلَيْهِ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ ... بِهَذَا بَدَا لِلْعَالَمِيْنَ كَمَالُهُ وقرأ الجمهور: {وَمَلَائِكَتَهُ} بنصب الملائكة عطفًا على لفظ اسم {إِنَّ}، وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو: {وملائكتُه} بالرفع عطفًا على محل اسم {إِنَّ}، والضمير في قوله: {يُصَلُّونَ} راجع إلى الله، وإلى الملائكة، وفيه تشريف للملائكة عظيم، حيث جعل الضمير لله ولهم واحدًا، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمع قول الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله .. فقد رشد، ومن يعصهما .. فقد غوى، فقال: "بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعصى الله ورسوله". ووجه ذلك: أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد، وهذا الحديث ثابت في "الصحيح". وثبت أيضًا في "الصحيح" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديًا ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحدًا، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع بينهما يحمل الذم لذلك الخطيب

الجامع بينهما على أنه - صلى الله عليه وسلم -، فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك. وهذا أحسن ما قيل في الجمع، وقالت طائفة: في الآية حذف، والتقدير: إن الله يصلي، وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد. ولا يرد أيضًا ما قيل: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن ملائكته الدعاء، فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ {يُصَلُّونَ}. ويقال على القول الأول: إنه أريد بـ {يُصَلُّونَ} معنى مجازي يعم المعنيين، كما مر، وذلك بأن يراد بقوله: {يُصَلُّونَ} يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره. فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه، فأي حاجة به إلى صلاتنا؟ أجيب: بأن الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة به إلى صلاة الملائكة أيضًا، وإنما القصد بها تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -، وعود فائدتها علينا بالثواب والقرب منه - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. "خطيب". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بما جاء به محمد {صَلُّوا}؛ أي: اعتنوا واهتموا أنتم أيضًا بالصلاة {عَلَيْهِ} - صلى الله عليه وسلم - قولًا، واتباع سنته فعلًا، فإنكم أولى بذلك، وأحوج إليه؛ أي: صلوا عليه صلاة دائمة {وَسَلِّمُوا} عليه {تَسْلِيمًا} كاملًا بأن تقولوا: اللهم صل على محمد وسلم، أو - صلى الله عليه وسلم -، أو تقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. وقيل: معنى {صَلُّوا عَلَيْهِ}؛ أي: ادعوا له بالرحة المقرونة بالتعظيم، ومعنى {سلموا} عليه؛ أي: حيوه بتحية الإِسلام، وقيل: معنى {صَلُّوا عَلَيْهِ}؛ أي: قولوا: اللهم صل على محمد، ومعنى {سلموا} عليه؛ أي: قولوا: اللهم صلم على محمد، أو انقادوا لأمره وحكمه. والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك، أو على محمد، أو على النبي، أو اللهم صلِّ على محمد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه وسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها، والإرشاد إليها، فذلك أكمل، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة.

فمنها: حديث كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...} الآية .. قلنا: يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" متفق عليه. ومنها: حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله، كيف الصلاة عليك؟ قال: "قل: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد". أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي. ومنها: حديث أبي حميد الساعدي: أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما، كحديث طلحة المذكور، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا، وفي بعضها التقييد بالصلاة، كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه": أن رجلًا قال يا رسول الله، أما السلام عليكم .. فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث. وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله، وجميع التعليمات الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقال بذلك جماعة من العلماء، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولًا عن الشافعي، كما رواه عنهما ابن كثير في "تفسيره". والمراد بآله: الأتقياء من أمته، فدخل فيه بنو هاشم، والأزواج المطهرة، وغيرهم جميعًا.

فإن قلت: أكد السلام بقوله: {تَسْلِيمًا}؛ لأنه مصدر مؤكد لعامله، ولم يؤكد الصلاة؟ قلتُ: لم تؤكد الصلاة بالمصدر؛ لأنها مؤكدة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ...} إلخ، وقيل: إنه من الاحتباك، فحذف عليه من أحدهما، والمصدر من الآخر. فإن قلت: لِمَ خص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، فخصهما بالصلاة؟ قلتُ: لما جاءت هذه الآية عقب ذكر ما يؤذي النبي، والأذية: إنما هي من البشر ناسب التخصيص بهم والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكر بعده؟ فإن قلت: لِمَ خص اللهم في الصلاة الواردة، ولم يقل: يا رب ويا رحمن صلِّ؟. قلت: خص لفظ اللهم؛ لأنه اسم جامع قال على الألوهية وعلامة الإِسلام في قوله: لا إله إلا الله، فناسب ذكره وقت الصلاة عليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جامع لنعوت الكمال، مشتمل على أسرار الجمال والجلال. فإن قلت: لم خص لفظ محمد فيها دون أحمد ومحمود؟ قلتُ: خص لفظ محمد من بين أسمائه؛ لأن معناه: المحمود مرة بعد أخرى، فناسب مقام المدح والثناء. قال في "شرح الكشاف" وغيره: معنى قوله: اللهم صل على محمد: اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء دينه، وإعظام ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وإظهار فضله على الأولين والآخرين، وتقديمه على كافة الأنبياء والمرسلين، ومعنى سلم: اجعله يا رب سالمًا من كل مكروه في الدنيا والآخرة. ولما لم يكن حقيقة الثناء في وسعنا .. أمرنا أن نكل ذلك إليه تعالى، فالله يصلي. ويسلم عليه بسؤالنا: سَلَامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ نَحْوَ جَنَابِهِ ... لأَنَّ سَلَامِي لَا يَلِيْقُ بِبَابِهِ فإن قلت: فما الفائدة في الأمر بالصلاة؟ قلتُ: إظهار المحبة للصلاة، كما استحمد فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إظهارًا

لمحبة الحمد مع أنه هو الحامد لنفسه في الحقيقة. وفي "الفتوحات المكية": إنما شرع السلام من المؤمنين؛ لأن مقام الأنبياء يعطي الاعتراض عليهم لأمرهم الناس بما يخالف أهواءهم، فكان المؤمن يقول: يا رسول الله، أنت في أمان من اعتراض عليك في نفسي، وكذلك السلام على عباد الله الصالحين، فإنهم كذلك يأمرون الناس بما يخالف أهواءهم بحكم الإرث للأنبياء، وأما تسليمنا على أنفسنا، فإن فينا ما يقتضي الاعتراض واللوم منا علينا، فنلزم نفوسنا التسليم فيه لنا, ولا نعترض كما يقول الإنسان: قلت لنفسي كذا، فقالت: لا. ولم نقف على رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تشهده الذي كان يقوله في الصلاة، هل كان يقول مثلنا: "السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أو كان يقول: السلام عليَّ، أو كان لا يقول شيئًا من ذلك، ويكتفي بقوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فإن كان يقول مثل ما أمرنا .. نقول في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون المسلَّم عليه هو الحق سبحانه، وهو مترجم عنه، كما جاء في سمع الله لمن حمده. والوجه الثاني: أنه كان يقام في صلاته في مقام الملائكة مثلًا، ثم يخاطب نفسه من حيث المقام الذي أقيم فيه أيضًا من كونه نبيًا، فيقول: "السلام عليك أيها النبي" فعل الأجنبي، فكأنه جرد من نفسه شخصًا آخر. انتهى كلام "الفتوحات". وإن قيل: ظاهر (¬1) هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت على محمد، وسلمت على محمد، أو الصلاة عليه، والسلام عليه فإن الله سبحانه أمر بإيقاع الصلاة والسلام عليه منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صل عليه وسلم عليه، بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن يصلي عليه ويُسلِّم عليه. أجيب عنه: بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانت شعارًا عظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتشريفًا وتكريمًا له .. وكلنا ذلك إلى الله عز وجل، وأرجعناه إليه، وهذا الجواب كما مر آنفًا ضعيف جدًا، وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صلِّ عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي معناه، كما بيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا، فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية. وإن قيل: السلام (¬1) مخصوص بالحي، والشعبي عليه السلام ميت، فكيف يصح السلام عليه؟ أجيب عنه: بأن المؤمن لا يموت حقيقة، وإن فارق روحه جسده، فالنبي عليه السلام مصون بدنه الشريف من التفسخ والانحلال في التراب، حي بالحياة البرزخية، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ملائكة سياحين، يبلغونني عن أمتي السلام"، ويؤخذ من هذا الحديث: أنه حي على الدوام في البرزخ الدنيوي؛ لأنه محال عادة أن يخلو الوجود كله من واحد يسلِّم على النبي في ليل أو نهار. فإن قلت: لم خص إبراهيم بالذكر في الصلاة، وشبه صلوات نبينا بصلاته؟ قلتُ: أمرنا بالصلاة على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم؛ لأنه حين تم بناء البيت .. دعوا للحجاج بالرحمة، فكافأناهم بذلك، وقال الإِمام النيسابوري: لأنه سأل الله أن يبعث نبينا من ذرية إسماعيل فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة أبي إبراهيم" فكافأه، وشكره، وأثنى عليه مع نفسه بالصلاة التي صلى الله عليه وملائكته. وأيضًا: أُمرنا بالصلاة على إبراهيم, لأن قبلتنا قبلته، ومناسكنا مناسكه، والكعبة بناؤه، وملته متبوعه للأمم، فأوجب الله على أمة محمد ثناءه، فلهذه المعاني خص إبراهيم بالذكر في الصلاة، وشبه صلاة نبينا بصلاته دون صلاة غيره، فاعرف. فإن قلت: تشبيه الصلاة على محمد بالصلاة على إبراهيم يقتضي أفضلية إبراهيم على محمد عليهما الصلاة والسلام، فينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؟ قلت: التشبيه لم يقع بين الصلاة عليهما، بل بين الصلاة على آل محمد، والصلاة على إبراهيم وآله؛ لأن المعنى: اللهم صلِّ على محمد صلاة كاملة، وصلِّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

على آل محمد مثل الصلاة على إبراهيم وآله، فلا يشكل يكون المشبه به أقوى، كما هو المشهور ذكره "القهستاني"، وقال في "الضياء المعنوي": هذا تشبيه من حيث أصل الصلاة، لا من حيث المصلى عليه؛ لأن نبينا أفضل من إبراهيم، فمعناه: اللهم صلِّ على محمد بمقدار فضله وشرفه عندك، كما صليت على إبراهيم بقدر فضله وشرفه. وهذا كقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}؛ أي: اذكروا الله بقدر نعمه وآلائه عليكم، كما تذكرون آباءكم بقدر نعمهم عليكم، وتشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد، وإن كان لا يشبهه من كل وجه، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} من وجه واحد، وهو تخليقه عيسى من غير أب. انتهى. ثم إن الآية الكريمة دلت على وجوب الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق العلماء على وجوبها، كما دلت عليه الآية، ثم إنهم (¬1) اختلفوا فقال قوم: تجب في العمر مرة، واعتمده الكرخي، وعليه أكثر العلماء، وقيل: تجب في كل صلاة في التشهد الأخير، وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقيل: تجب كلما جرى ذكره على لسانه، أو سمعه من غيره، فاختاره الطحاوي من الحنفية، والحليمي من الشافعية، وهو ضعيف، والواجب اللهم صلِّ على محمد، وما زاد سنة. وأما الصلاة عليه في التشهد الأخير: فسنة عند أبي حنيفة ومالك، وشرط لجواز الصلاة عند الشافعى، وركن عند أحمد، فتبطل الصلاة عندهما بتركها عمدًا كان أو سهوًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يُصل عليَّ في صلاته. قالت الحنفية والمالكية: ذلك محمول على نفي الكمال، ولو كانت فريضةً لعلَّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي حين علَّمه أركان الصلاة. وأما الصلاة على غير الأنبياء (¬2): فتجوز تبعًا بأن يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله، ويكره استقلالًا وابتداءً كراهة تنزيه، كما هو الصحيح الذي عليه الأكثرون، فلا يقال: اللهم صلِّ على أبي بكر؛ لأن في العرف شعار ذكر الرسل، ومنه كره أن يقال: محمد عز وجل مع كونه عزيزًا جليلًا، ولتأديته إلى الاتهام ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

بالرفض؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم"، وأما السلام فهو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، فلا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: عليُّ عليه السلام، كما تقول الروافض وتكتبه، وسواء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: السلام عليك أو عليكم، وسلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه، والسلام على الأموات عند الحضور في القبور من قبيل السلام على الحاضر. وأما إفراد الصلاة عن ذكر السلام وعكسه، فقد اختلفت الروايات فيه: منهم من ذهب إلى عدم كراهته، فإن الواو في {وَسَلِّمُوا} لمطلق الجمع من غير دلالة على المعية، وعن إبراهيم النخعي: إن السلام؛ أي: قول الرجل: عليه السلام، يجزىء عن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ}، ولكن لا يقتصر على الصلاة، فإذا صلى أو كتبها .. أتبعها التسليم، ويستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، فيقال: أبو بكر رضي الله عنه، أبو حنيفة رحمه الله، أو نحو ذلك، فليس رضي الله مخصوصًا بالصحابة، بل يقال فيهم: رحمه الله أيضًا، والأرجح في مثل لقمان ومريم والخضر والإسكندر المختلف في نبوته أن يقال: رضي الله عنه، أو عنها, ولو قال: عليه السلام، أو عليها السلام، فلا بأس به، ويقال: تخصيص علي بن أبي طالب بكرَّم الله وجهه من شعار الروافض. وقال الإِمام اليافعي في "تاريخه" (¬1): والذي أراه أن يفرَّق بين الصلاة، والسلام، والترضي، والترحم، والعفو، فالصلاة: مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة، والترضي: مخصوص بالصحابة، والترحم: لمن دونهم، والعفو: للمذنبين، والسلام: مرتبة بين مرتبتي الصلاة والترضي، فحسن أن يكون لمن منزلته بين منزلتين، أعني: يقال لمن اختلف في نبوتهم، كلقمان، والخضر، وذي القرنين، لا لمن دونهم. ويكره أن يرمز للصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخط بأن يقتصر من ذلك على الحرفين هكذا: عم، أو نحو ذلك كمن يكتب: ¬

_ (¬1) روح البيان.

صلعم، يشير به إلى: - صلى الله عليه وسلم -، ويكره حذف واحد من الصلاة والسلام، والاقتصار على أحدهما، وفي الحديث: "من صلى علي في كتاب .. لم تزل صلاته جاريةً له ما دام اسمي في ذلك الكتاب"، كما في "أنوار المشارق" لمفتي حلب. وورد في فضائلها أحاديث كثيرة (¬1): منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "من صلى علي واحدة .. صلى الله عليه بها عشرًا". أخرجه مسلم. ومنها: حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "من صلى عليَّ صلاة واحدة .. صلى الله عليه بها عشرًا، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". أخرجه الترمذي. ومنها: حديث أبي طلحة الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم والبشر في وجه، فقلت: إنا لنرى البِشْر في وجهك، قال: "أتاني الملك، فقال: يا محمد، إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرًا". أخرجه الترمذي أيضًا. ومنها: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ملائكةً سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام". أخرجه الترمذي. ومنها: حديث ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب ومنها: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب صحيح. ومنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى، إذا صلى علينا أهل البيت .. فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". أخرجه أبو داود. ¬

_ (¬1) الخازن.

قال بعضهم: وفي الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - شكر على كونه أفضل الرسل، وكونهم خير الأمم، وأيضًا فيها إيجاب الشفاعة على ذمة ذلك الجناب، فإن الصلاة عليه ثمن الشفاعة، فإذا أدُّوا الثمن في هذا اليوم يرجى أن يحرزوا المثمن يوم القيامة: أَلَا أَيُّهَا الإِخْوانُ صَلُّوْا وَسَلِّمُوْا ... عَلَى الْمُصْطَفَى فِيْ كُلِّ وَقْتٍ وَسَاعَةِ فَإِنَّ صَلَاةَ الْهَاشِمِيِّ مُحَمَّدٍ ... تُنَجِّيْ مِنَ الأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وبقدر صلواتهم عليه تحصل المعارفة بينهم وبينه، وعلامة المصلي: يوم القيامة أن يكون لسانه أبيض، وعلامة التارك: أن يكون لسانه أسود، وبهما تعرف الأمة يومئذ، وأيضًا فيها إثبات المحبة، ومن أحب شيئًا أكثر ذكره. قال سهل بن عبد الله التستري: الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل العبادات؛ لأن الله تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك، يعني أنَّ الله تعالى أمر بسائر العبادات، ولم يفعله بنفسه، وقال الواسطي: صلِّ عليه بالأوتار، ولا تجعل له في قلبك مقدارًا؛ أي: لا تجعل لصلواتك عليه مقدارًا تظن أنك تقضي به من حقه شيئًا، بل بصلواتك عليه استجلاب رحمةً على نفسك به: يَا مَنْ يُجِيْبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِيْ الْظُّلَمِ ... يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ شَفِّعْ نَبِيَّكَ فِيْ ذُلِّيْ وَمَسْكَنَتِيْ ... وَاسْتُرْ فَإِنَّكَ ذُوْ فَضْلٍ وَذُوْ كَرَمِ ثم إن للصلوات والتسليمات مواطن: فمنها: أن يصلِّي عند سماع اسمه الشريف في الأذان. ومنها: أن يصلِّي بعد سماع الأذان بأن يقول: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، فإنه عليه السلام وعد لقائله الشفاعة العظمى. ومنها: أن يصلي عند ابتداء الوضوء، ثم يقول: بسم الله، وبعد الفراغ منه فإنه يفتح له أبواب الرحمة، وفي المرفوع: "لا وضوء لمن لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ومنها: أن يصلي عند دخول المسجد، ثم يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج أيضًا، ثم يقول: اللهم افتح لي أبواب فضلك، واعصمني من الشيطان، وكذا عند المرور بالمساجد، ووقوع نظره عليها، ويصلي في التشهد

الأخير، وقبل: الدعاء وبعده، فإن الصلاة عليه مقبولة لا محالة، فيرجى أو يقبل الدعاء بين الصلاتين أيضًا. ومنها: أن يصلي يوم الجمعة وليلته، فإن الجمعة سيد الأيام، ومخصوص بسيد الأنام، فللصلاة فيه مزية، وزيادة مثوبة وقربة ودرجة. وفي الحديث: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، خلق فيه آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على أو الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي". قيل: يا رسول الله، كيف تعرض عليك صلاتنا وقد رممت؛ أي: بليت؟ قال: "إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، وفي الحديث: "من صلَّى عليَّ يوم الجمعة ثمانين مرة .. غفرت له ذنوب ثمانين سنة، ومن صلَّى عليَّ كل يوم خمس مئة مرة .. لم يفتقر أبدًا". وقال بعضهم: إنَّ من صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجمعة ثلاثة آلاف .. رأى في منامه ذلك الجناب العالي. ذكره علي الصفي في "الرشحات" ويصلي عند الركوب، فيقول: بسم الله، والله أكبر، وصلِّ على محمد خير البشر، ثم يتلو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}. ويصلي في طريق مكة عند الذهاب إليها، وعند استلام الحجر يقبل: اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، وسنة نبيك، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويصلي على جبل الصفا والمروة، وبعد الفراغ من التلبية ووقت الوقوف عند المشعر الحرام، وفي طريق المدينة عند الذهاب إليها، وعند وقوع النظر عليها، وعند دخول الروضة المقدسة، وعند التوجه إلى القبر المقدس، ويصلي بين القبر والمنبر، ويكبر ويدعو ويصلِّي عند استماع ذكره عليه السلام، كما سبق، وكذا وقت ذكر اسمه الشريف، وكتابته، ويصلِّي عند ابتداء درس الحديث، والعلوم الدينية، وما يتعلق بها أو الآلة، وعند تبليغ المن فيقول: الحمد لله رب العالمين أكمل الحمد على كل حال، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عز ذكره الغافلون، اللهم صلِّ عليه، وعلى آله, وسائر النبيين، وآل كلِّ، وسائر الصالحين، نهاية ما ينبغي أو يسلكه السالكون. ويصلي عند ابتداء التذكير والعظة؛ في: بعد الحمد والثناء؛ لأنه موطن تبليغ

العلم المروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، ووقت كفاية المهم، ورفع الهم، ووقت طلب المغفرة والكفارة، فإن الصلاة عليه محاء الذنوب، ووقت النوم والقيام منه، وحين دخول السوق لتربح تجارة آخرته، وحين المصافحة لأهل الإِسلام، وحين افتتاح الطعام فيقول: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، وطيِّب أرزاقنا، وحسِّن أخلاقنا، ويصلي عند اختتام الطعام، فيقول: الحمد لله الذي أطعمنا هذا، ورزقناه من غير حول منا ولا قوة، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد وسلم. ويصلي عند قيامه من المجلس فيقول: صلى الله وملائكته على محمد، وعلى أنبيائه. فإن كفارة اللهو واللغو الواقعين فيه. وفي خطبة النكاح فيقول: الحمد لله الذي أحل النكاح، وحرم السفاح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى الله القادر الفتاح، وعلى آله وأصحابه ذوي الفلاح والنجاح. ومن آداب المصلي أن يصلي على الطهارة، وأن يرفع صوته عند أداء الحديث، وأن يكون على المراقبة، وهو حضور القلب وطرد الغفلة، وأن يصحِّح نيَّته، وهو أن تكون صلاته امتثالًا لأمر الله تعالى، وطلبًا لرضاه، وجلبًا لشفاعة رسوله، وأن يستوي ظاهره وباطنه، فإن الذكر اللساني ترجمان الفكر الجناني، فلا بد من تطبيق أحدهما بالآخر، وإلا فمجرد الذكر اللساني أو غير حضور القلب غير مفيد. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (48)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا}: حرف نداء. {أَيُّ}: منادى نكرة مقصودة. {هَا}: حرف تنبيه زائد. {النَّبِيُّ}: صفة لأي، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِن}، وجملة {إِن} مستأنفة على كونها جواب النداء. {شَاهِدًا}: حال مقدرة من ضمير المفعول. {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا}: معطوفات على {شَاهِدًا}.

{إِلَى اللهِ}: متعلق بـ {دَاعِيًا}. {بِإِذْنِهِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في {دَاعِيًا}. {وَسِرَاجًا}: معطوف على {شَاهِدًا}. {مُنِيرًا}: صفة لـ {سِرَاجًا}. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فعل أمر، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على مقدر، تقديره: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. {بِأَنَّ}: {الباء}: حرف جر، {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {لَهُمْ}: خبر {أن} مقدم على اسمها. {مِنَ اللهِ}: جار ومجرور حال من {فَضْلًا}، و {فَضْلًا}: اسم {أن} مؤخر. {كَبِيرًا}: صفة {فَضْلًا}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: يكون فضل كبير كائن من الله كائنًا لهم، الجار والمجرور متعلق بـ {بَشِّرِ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية جازمة. {تُطِعِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، مجزوم بـ {لا} الناهية. {الْكَافِرِينَ}: مفعول به. {وَالْمُنَافِقِينَ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {بَشِّرِ}. {وَدَعْ أَذَاهُمْ}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على جملة النهي قبله. {وَتَوَكَّلْ}: فعل وفاعل مستتر. {عَلَى اللهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَكَفَى بِاللهِ}: فعل وفاعل و {الباء}: زائدة. {وَكِيلًا}: تمييز، أو حال من الجلالة، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة. {الَّذِينَ}: صفة لأي، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {طَلَّقْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {نَكَحْتُمُ}. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {طَلَّقْتُم}. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَمَسُّوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من قبل مسكم إياهن. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذَا} الشرطية. {مَا}: نافية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {عَلَيْهِنَّ}: حال من {عِدَّةٍ}. {مِن}: زائدة. {عِدَّةٍ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {تَعْتَدُّونَهَا} صفة لـ {عِدَّةٍ}، والجملة الاسمية جواب {إذَا} لا محل لها من

الإعراب، وجملة {إذَا} جواب النداء لا محل له أو الإعراب. {فَمَتِّعُوهُنَّ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عز جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنها لا عدة لكم عليها، وأردتم بيان ما لهن عليكم .. فأقول لكم: متعوهن. {فَمَتِّعُوهُنَّ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا}: المقدرة مستأنفة. {وَسَرِّحُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {متعوهن}. {سَرَاحًا}: مفعول مطلق. {جَمِيلًا}: صفة {سَرَاحًا}. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة. {النَّبِيُّ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَحْلَلْنَا}: فعل وفاعل. {لَكَ}: متعلق بـ {أَحْلَلْنَا}. {أَزْوَاجَكَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إن} مستأنفة على كونها جواب النداء. {اللَّاتِي}: صفة لـ {أَزْوَاجَكَ}. {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول ثان، والأول محذوف، تقديره: آتيتهن أجورهن؛ لأن آتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة صلة الموصول: {وَمَا}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {أَزْوَاجَكَ}. {مَلَكَتْ يَمِينُكَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما ملكته يمينك. {مِمَّا}: جار ومجرور، حال من {ما} الموصولة، أو من العائد المحذوف. {أَفَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْكَ} متعلق بـ {أَفَاءَ}، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما أفاءه الله عليك. {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ}: معطوفات على {أَزْوَاجَكَ}. {اللَّاتِي}: صفة للمذكورات في محل نصب. {هَاجَرْنَ}: فعل وفاعل، صلة الموصولة. {مَعَكَ}: متعلق بـ {هَاجَرْنَ}، {وَامْرَأَةً}: معطوف على مفعول {أَحْلَلْنَا} {مُؤْمِنَةً}: صفة لـ {امْرَأَةً}. {إِن}: حرف شرط. {وَهَبَت}: فعل ماض

وفاعل مستتر يعود على {امرأة} في محل الجزم بـ {إِن} على كونها فعل شرط لها. {نَفْسَهَا}: مفعول به. {لِلنَّبِيِّ}: متعلق بـ {وَهَبَت}، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إنْ وهبت نفسها للنبي أحللناها له، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة. {إِن}: حرف شرط. {أَرَادَ النَّبِيُّ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَسْتَنْكِحَهَا}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على {النَّبِيُّ}، والهاء: مفعول به، والسين والتاء فيه زائدتان، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَرَادَ}، تقديره: إن أراد النبي نكاحها، وجواب {إِن} الشرطية محذوف، تقديره: إن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاحها أحللناها له، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب حال من {النَّبِيُّ}، إنْ وهبت نفسها للنبي .. أحللناها له حالة كون النبي مريدًا نكاحها. {خَالِصَةً}: مصدر معمول لمحذوف، تقديره: خلص خالصة، خلص: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على النكاح بلفظ الهبة؛ أي: خلص النكاح بلفظ الهبة لك خلوصًا، واختص بك، ومجيء المصدر على وزن فاعلة كثير، كالكاذبة والعاقبة، واختار الزجاج وأبو البقاء أن يكون حالًا من امرأة؛ لتخصصها بصفة. {لَكَ}: متعلق بـ {خَالِصَةً}. {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ضمير {لَكَ}. {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {عَلِمْنَا}: فعل وفاعل. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الجار {لِكَيْلَا}، ومتعلقه {أَحْلَلْنَا}. {فَرَضْنَا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما فرضناه. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {فَرَضْنَا}. {فِي أَزْوَاجِهِمْ} متعلق بـ {فَرَضْنَا} أيضًا. و {فِي} بمعنى: الباء السببية. {وَمَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {أَزْوَاجِهِمْ}. {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما ملكته أيمانهم. {لِكَيْلَا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {كَيْ}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية. {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {كي}. {عَلَيْكَ}: خبر

{يَكُونَ} مقدم. {حَرَجٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {يَكُونَ} مع كي المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعدم كون حرج عليك، الجار والمجرور متعلق بـ {أَحْلَلْنَا}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا}: خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. {تُرْجِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تُرْجِي}. {تَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إرجاءَه. {مِنْهُنَّ}: جار ومجرور حال من {مَن} الموصولة. {وَتُؤْوِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على {تُرْجِي}. {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {تُؤْوِي}. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تؤوى}. {تَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة صلة {مَن} والعائد محذوف تقديره: من تشاء إيواءه. {وَمَنِ}: {الواو}: استئنافية. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، أو {مَن} شرطية في محل النصب مفعول مقدم. {ابْتَغَيْتَ}: فعل وفاعل، صلة {مَن} الموصولة، أو في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، والعائد محذوف. تقديره: ومن ابتغيته. {مِمَّنْ}: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. {عَزَلْتَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ممن عزلته، أو لا. {فَلَا} {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ، أو رابطة الجواب بالشرط. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل إن. {جُنَاحَ}: في محل النصب اسمها. {عَلَيْكَ}: خبرها، وجملة {لا} النافية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجمل الاسمية مستأنفة، أو في محل الجزم جواب {مَن} الشرطية، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {أَدْنَى}: خبره، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب

ومصدر. {تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إلى قرة أعينهن، الجار والمجرور متعلق بـ {أَدْنَى}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {يَحْزَنَّ}: فعل مضارع في محل النصب، معطوف على {تَقَرَّ} مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل؛ أي: وذلك أقرب إلى قلة حزنهن. {وَيَرْضَيْنَ}: فعل وفاعل في محل النصب، معطوف على {تَقَرَّ}؛ أي: وأقرب إلى رضائهن جميعًا. {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {يَرْضَيْنَ}. {آتَيْتَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: آتيتهن إياه، وهو المفعول الثاني لآتى؛ لأنه بمعنى: أعطى. {كُلُّهُنَّ}: تأكيد لفاعل {يَرْضَيْنَ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {مَا}: مفعول {يَعْلَمُ}. {فِي قُلُوبِكُمْ}: جار ومجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه صلة لـ {مَا} الموصولة؛ أي: ما استقر في قلوبكم. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره الأول. {حَلِيمًا}: خبر ثانٍ له، وجملة {وَكَانَ} معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}، مؤكدة لها. {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}. {لَا}: نافية. {يَحِلُّ}: فعل مضارع. {لَكَ}: متعلق به. {النِّسَاءُ}: فاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ بَعْدُ}: حال من {النِّسَاءُ}، وبني الظرف على الضم لقطعه عن الإضافة لفظًا لا معنى؛ أي: من بعد هؤلاء التسع المجتمعات في عصمتك. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَبَدَّلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، أصله: تتبدل، وفاعله، ضمير مستتر يعود على محمد. {بِهِنَّ}: متعلق بـ {تَبَدَّلَ}. {مِن}: زائدة. {أَزْوَاجٍ}: مفعول {تَبَدَّلَ}، وجملة {تَبَدَّلَ} مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر معطوف على فاعل {يَحِلُّ} تقديره: لا يحل لك النساء من بعد، ولا تبدل أزواج أخر بهن. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة على جملة محذوفة وقعت حالًا. {لَوْ}: حرف شرط مجردة عن الجواب. {أَعْجَبَكَ}: فعل ماض ومفعول به. {حُسْنُهُنَّ}: فاعل، وجملة {لَوْ}

معطوفة على جملة محذوفة وقعت حالًامن فاعل {تَبَدَّلَ}، والتقدير: ولا يحل لك أن تتبدل بهن حال كونك لو لم يعجبك حسن الأزواج المستبدلة، ولو أعجبك حسنهن؛ أي: لا يحل لك الاستبدال حال عدم إعجاب حسنهن إياك، وحال إعجابه إياك؛ أي: لا يحل لك الاستبدال على كل حال، و {لو} هنا غائية، لا جواب لها، يراد بها استقصاء الأحوال وتعميمها، كما مر في مبحث التفسير. قال الزمخشري: قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في معنى الحال أو الفاعل، وهو الضمير في {تَبَدَّلَ}، لا من المفعول الذي هو {مِنْ أَزْوَاجٍ}؛ لأنه متوغل في التنكير، وتقديره: مفروضًا إعجابك بهن. اهـ "كرخي". {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَا}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من {النِّسَاءُ}، أو في محل الرفع على البدلية من {كَفَرُوا}، أو في محل النصب على الاستثناء من {أَزْوَاجٍ}. {مَلَكَتْ يَمِينُكَ}: فعل وفاعل، صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إلا ما ملكته يمينك. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {رَقِيبًا}، و {رَقِيبًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} مستأنفة مؤكدة لما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة {الَّذِينَ}: صفة لـ {أَيّ}، أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {لَا}: ناهية جازمة. {تَدْخُلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية {بُيُوتَ النَّبِيِّ}: مفعول به على التوسع، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ أعم الأحوال. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُؤْذَنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ {أَن} المصدرية. {لَكُمْ}: جار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُؤْذَنَ}. {إِلَى طَعَامٍ}: متعلق بـ {يُؤْذَنَ}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: لا تدخلوا بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال إلا حالة الإذن لكم؛ في: إلا حالة كونكم مأذونًا لكم. واختار الزمخشري أن يكون استثناء مفرغًا من أعم الظروف؛ أي: لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. {غَيْرَ

نَظِرينَ}: حال من فاعلًا {لَا تَدْخُلُوا}، وقع الاستثناء على الظرف والحال معًا، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين اهـ "سمين". {إِنَاهُ}: مفعول {نَاظِرِينَ} منصوب بفتحة مقدرة للتعذر؛ لأنه اسم مقصور. {وَلَكِنْ}: الواو: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية. {دُعِيتُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {فَادْخُلُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا. {ادخلوا}: فعل أمر وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها أو الإعراب، وجملة {إِذَا} جملة استدراكية معطوفة على جملة {لَا تَدْخُلُوا}. {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {طَعِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَانْتَشِرُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}. {انتشروا}: فعل أمر وفاعل جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} المذكورة قبلها. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {مُسْتَأْنِسِينَ}: معطوف على {غَيْرَ نَاظِرِينَ}، وقيل: هو معطوف على حال مقدرة؛ أي: لا تدخلوها هاجمين، ولا مستأنسين، واختار الزمخشري وغيره أنه مجرور عطفًا على {نَاظِرِينَ}. {لِحَدِيثٍ}: متعلق بـ {مُسْتَأْنِسِينَ}. {إِنَّ ذَلِكُمْ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على اسم الإشارة. {يُؤْذِي النَّبِيَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله. {فَيَسْتَحْيِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على النبي، معطوف على {يُؤْذِي}. {مِنْكُمْ}: متعلق بـ {يَسْتَحْيِي}، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: من إخراجكم. {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَسْتَحْيِي} خبر المبتدأ. {مِنَ الْحَقِّ}: متعلق بـ {لَا يَسْتَحْيِي}، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل

من الزمان. {سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَاسْأَلُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا. {اسْأَلُوهُنَّ}: فعل أمر وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه. {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: حال من ضمير الإناث، أو من واو الفاعل، والجملة الفعلية جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة. {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ. {أَطْهَرُ}: خبر. {لِقُلُوبِكُمْ}: متعلق بـ {أَطْهَرُ}. {وَقُلُوبِهِنَّ}: معطوف على {قُلُوبِكُمْ}، والجملة مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {مَا}: نافية. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لَكُمْ}: خبرها مقدم. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، والتقدير: وما كان إذاية رسول الله كائنًا لكم، والجملة مستأنفة. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بـ {أَن} المصدرية. {مِنْ بَعْدِهِ}: حال من {أَزْوَاجَهُ}، أو متعلق بـ {تَنْكِحُوا}. {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {تَنْكِحُوا}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من جملة {أَنْ تُؤْذُوا} تقديره: وما كان لكم إذاية رسول الله، ولا نكاح أزواجه من بعده أبدًا. {إِنَّ ذَلِكُمْ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على اسم الإشارة. {عِنْدَ اللَّهِ}: حال من {عَظِيمًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {عَظِيمًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.

{إِن}: حرف شرط {تُبْدُوا شَيْئًا}: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {إن} الشرطية، {أَوْ}: حرف عطف. {تُخْفُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {تُبْدُوا}. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية. {إن الله}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {اللَّهَ}. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمًا}. و {عَلِيمًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} المكسورة، وجملة {إِنَّ} من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ {إِنَّ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنَّ} الشرطية مستأنفة. {لَا}: نافية تعمل عمل من المكسورة. {جُنَاحَ} في محل النصب اسمها. {عَلَيْهِنَّ}: خبرها {فِي آبَائِهِنّ}: جار ومجرور، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {لَا}؛ أو حال من الضمير المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا} مستأنفة. {وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ}: معطوفان على {آبَائِهِنَّ}، وكذلك قوله: {وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا}: معطوفات على {آبَائِهِنَّ}. {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ولا ما ملكته أيمانهن. {وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}. {وَاتَّقِينَ اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على محذوف تقديره: امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله. {إِنَّ اللَّه}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {شَهِيدًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {وَمَلَائِكَتَهُ}: معطوف على لفظ الجلالة، وجملة {يُصَلُّونَ} خبر {إِنَّ}. {عَلَى النَّبِيِّ}: متعلق بـ {يُصَلُّونَ}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة استئنافًا نحويًا. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أَيّ}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {صَلُّوا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَسَلِّمُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {صَلُّوا}. {تَسْلِيمًا}: مصدر مؤكد لعامله منصوب على المفعولية المطلقة.

التصريف ومفردات اللغة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. {سِرَاجًا} والسراج في الأصل: الشيء الزاهر بفتيلة. {وَكِيلًا}: فعيل بمعنى المفعول؛ أي: موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قال في "بحر العلوم": أصل النكاح: الوطء، ثم قيل للعقد: نكاح مجازًا تسمية للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح، وعليه قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}؛ أي: لا يتزوج، كما سبق في مبحث التفسير. وفي "القاموس": النكاح: الوطء والعقد. انتهى. {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أصل الطلاق: التخلية من وثاق، يقال: أطلقت الناقة من عقالها وطلقها، وهي طالق وطلق بلا قيد. ومنه استعير طلقت، نحو: خليتها فهي طالق؛ أي: مخلاة عن حبالة النكاح. {مِنْ عِدَّةٍ} العدة لغة: اسم مصدر من اعتد، وشرعًا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها بطلاق أو وفاة. {تَعْتَدُّونَهَا} بوزن تفتعلونها؛ إما من العدد، فالتاء عوض من الدال الأولى، وإما من الإعتداد، فالتاء حينئذ تاء الافتعال. {فَمَتِّعُوهُنَّ}؛ أي: أعطوهن المتعة، وهي قميص وخمار [ما تغطي به المرأة رأسها]، وملحفة [ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها: ملاية]. {وَسَرِّحُوهُنَّ}؛ أي: أخرجوهن من منازلكم. {سَرَاحًا جَمِيلًا}؛ أي: إخراجًا مشتملًا على لين الكلام خاليًا من الأذى. {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} وأصل الحل: حل العقدة، ومنه استعير قولهم: حل الشيء حلالًا، كما في "المفردات". والحلال: ضد الحرام. {أُجُورَهُنَّ} جمع: أجر، والأجر يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد، وهو ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا، وهو هاهنا كناية عن المهر؛ أي: مهورهن؛ لأن المهر أجر على البضع؛ أي: على المباشرة. {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} والفيء: مال راجع من الكفار إلى المسلمين بلا كلفة ولا مشقة ولا مقاتلة، كالجزية والخراج ومال المصالحة، سمي فيئًا تشبيهًا له

بالفيء، الذي هو الظل تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، والغنيمة: ما نيل من أهل الحرب والشرك عنوة. {وَبَنَاتِ عَمِّكَ. . .} إلخ. البنت والابنة: مؤنث الابن، والعم: أخ الأب، والعمة: أخته. {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} والمهاجرة في الأصل: مفارقة الغير، ومتاركته، استعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإِسلام. {أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا}؛ أي: ينكحها، يقال: نكح واستنكح مثل: عجل واستعجل، وعجب واستعجب. قال النابغة: وَهُمْ قَتَلُواْ الطَّائِيَّ بِالْحِجْرِ عَنْوَةً ... أَبَا جَابِرِ وَاسْتَنْكَحُوْا أُمَّ جَابِرِ وهو في اللغة بمعنى: الضم والجمع، ومنه: تناكحت الأشجار: إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض. قال عمر بن ربيعة: واسْتَنْكَحَ الْقَوْمُ الَّذِيْنَ نَخَافُهُمْ ... وَرَمَى الْكَرَى بَوَّابَهُمْ فَتَجَدَّلَا ويجوز أن يراد بالاستنكاح معنى طلب النكاح والرغبة فيه، والمعنى: أراد النبي أن يتملك بضعها بلا مهر. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} قرىء: {ترجيء} مهموزًا وغير مهموز، كما سبق في مبحث القراءة، وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأن الياء مبدل من الهمزة، والإرجاء التأخير، يقال: أرأجت الأمر، وأرجيته: إذا أخرته. وذكر في "القاموس": في الهمزة: أرجأ الأمر: أخره، وترك الهمزة لغة، وفي الناقص: الإرجاء: التأخير. {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}؛ أي: تضم إليك، يقال: آواه إليه بالمد: ضمه إليه، وأوى مقصورًا؛ أي: ضمَّ إليه. {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ}؛ أي: طلبت ردَّها إلى فراشك بعد أن عزلتها، وأسقطتها من القسمة. اهـ "خازن". وفي "القرطبي": {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} ابتغيت: طلبت، والابتغاء: الطلب، وعزلت: أزلت، والعزله: الإزالة، والعزل: الترك والتبعيد. {أَدْنَى أَنْ تَقَرّ} أصله من: القر بالضم، وهو: البرد، وللسرور دمعة قارة؛ أي: باردة، وللحزن دمعة حارة، أو من القرار؛ أي: تسكن أعينهن، ولا تطمح إلى

ما عاملتهن به. قال في "القاموس": قرت عينه تقر بالكسر والفتح قرة - وتضم - وقرورًا: بردت وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وقر بالمكان يقر - بالكسر والفتح - قرارًا: ثبت واستكن كاستقر. {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} بالياء؛ لأن تأنيث الجمع غير حقيقي، ولوجود الفضل، وإذا جاز التذكير بغيره في قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} .. كان معه أجوز، والنساء والنسوان والنسوة - بالكسر -: جموع المرأة من غير لفظها؛ أي: لا تحل لك واحدة من النساء، مسلمة كانت أو كتابية لما تقرر أن حرف التعريف إذا دخل على الجمع يبطل الجمعية، ويراد الجنس، وهو كالنكرة يخص في الإثبات، ويعم في النفي، كما مر. {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ} بحذف إحدى التاءين، والأصل: تتبدل من باب تفعل الخماسي، وبدل الشيء: الخلف عنه، وتبدَّله به وأبدله منه وبدَّله: اتخذه بدلًا، كما في "القاموس". قال الراغب: التبدل والإبدال والتبديل والاستبدال: جعل الشيء مكان آخر، وهو أعم من العوض، فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، والتبديل يقال للتغيير، وإن لم تأت ببدله. انتهى. وقوله: {مِنْ أَزْوَاجٍ} مفعول {تَبَدَّلَ}، و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي تفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم، والمعنى: ولا يحل لك أن تتبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهن أو بعضهن، بأن تطلق واحدة، وتنكح مكانها أخرى. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}؛ أي: أوقعك في العجب. قال الراغب: العجب والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، وقد يستعار للروق، فيقال: أعجبني كذا؛ أي: راقني، والحسن كون الشيء ملائمًا للطبع، وأكثر ما يقال: الحسن بفتحتين في تعارف العامة في المستحسن بالبصر. {رَقِيبًا} يقال: رقبته حفظته، والرقيب: الحافظ، وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعه رقبته. {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}؛ أي: نضجه وإدراكه، وهو بكسر الهمزة وبالقصر مصدر سماعي, لأنى الطعام يأني من باب رمى يرمي إنًى: إذا أدرك، وقياس مصدره: أني، كرمي، ولكنه لم يسمع، ولكن المسموع إنًا بالكسر والقصر بوزن رضا. قال

في "المفردات": الإنا إذا كسر أوله قصر، وإذا فتح مد، وأنى الشيء يأني: قرب إناه، ومثله: آن يئين؛ أي: حان يحين. اهـ. {فَإِذَا طَعِمْتُمْ}؛ أي: تناولتم الطعام، فإن الطعم تناول الغذاء. {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ} من الاستئناس، وهو ضد الوحشة والنفور، كما مر. والاستئناس: طلب الأنس بالحديث، تقول: استؤنست بحديثه؛ أي: طلبت الأنس والسرور به، وما بالدار من أنيس؛ أي: ليس بها أحد يؤانسك أو يسليك. {الحديث} الحديث: يستعمل في قليل الكلام وكثيره؛ لأنه يحدث شيئًا فشيئًا {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيّ} والأذى: ما يصل إلى الإنسان من ضرر؛ إما في نفسه، أو في جسمه، أو فتياته دنيويًا كان أو أخرويًا. {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} من الحياء، والحياء: رقة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته، أو ما يكون تركه خيرًا من فعله. قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبائح، وتركه لذلك. {مَتَاعًا} المتاع: الغرض والحاجة، كالماعون وغيره من أثاث البيت. {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ أي: ستر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: توافق الفواصل في قوله: {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} {عَلِيمًا حَلِيمًا}، {غَفُورًا رَحِيمًا}؛ لأنه من المحسنات البديعية تزيد الكلام رونقًا وحسنًا، وهو من خصائص القرآن الكريم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بتيسيره وتسهيله، فأطلق الإذن، وأريد به التيسير مجازًا مرسلًا بعلاقة السببية؛ فإن التصرف في ملك الغير متعسر، فإذا أذن تسهل وتيسير، وإنما لم يحمل على حقيقته، وهو الإعلام بإجازة الشيء، والرخصة فيه لانفهامه من قوله: {أَرْسَلْنَاكَ}، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}، كما سبق. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا}؛ أي: كالسراج في الاستضاءة

به؛ لأنه يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، كما أن السراج الحسي، هو المصباح يستضاء به في ظلمات الليل، فحذف الأداة ووجه الشبه، وأصل هذا التشبيه: أنت يا محمد، كالسراج الوضاء في الهداية والإرشاد، حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا على حد قولهم: عليٌّ أسد، ومحمد قمر. ومنها: الطباق بين قوله: {مُبَشِّرًا} و {نَذِيرًا}. ومنها: أنه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات بنعوت خمسة، وقوبل كل منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر مقابل الشاهد صريحًا، وهو الأمر بالمراقبة؛ ثقةً بظهور دلالة مقابلة المبشّر عليه، وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر فيما سبق، وقوبل النذير بالنهي عن مداراة الكفار والمنافقين، والمسامحة في إنذارهم، وقوبل الداعي إليه تعالى بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستعداد منه تعالى، والاستعانة به، وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى، فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية، ورشحه بالنبوة، وجعله برهانًا نيرًا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد، حقيقٌ بأن يكتفى به عن كل ما سواه. اهـ "أبو السعود". ومنها: الكناية في قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} كنى بالنهي عن طاعتهم عن النهي عن مداراتهم في أمر الدعوة، وعن استعمال لين الجانب في التبليغ مبالغة في الزجر والتنفير عن المنهي عنه. اهـ "أبو السعود". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}؛ لأن أصل النكاح الوطء، فأطلقه على عقد النكاح مجازًا مرسلًا تسميةً للسبب باسم المسبب، فإن العقد سبب الوطء المباح. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}؛ لأن الطلاق أصل في إطلاق الناقة من عقالها، ثم استعير لتخلية المرأة من حبالة النكاح. ومنا: الكناية في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} كنى عن الجماع بالمس، وهي من الكنايات المشهورة، ومن الآداب القرآنية؛ لأن القرآن يتحاشى الألفاظ البذيئة. ومنها: إسناد العدة إلى الرجال في قوله: {تَعْتَدُّونَهَا} دلالةً على أن العدة حقهم، كما أشعر به قوله: {فَمَا لَكُمْ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ}؛ لأن السراح

حقيقة في تسريح الماشية، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا}؛ لأن الحل أصل في حل العقدة في نحو الحبال، ثم استعير لجعل الشيء حلالًا مأذونًا فيه. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {أَزْوَاجَكَ}. ومنها: الكناية في قوله: {أُجُورَهُنَّ}؛ لأنه كناية عن المهور. ومنها: الالتفات في قوله: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: إن وهبت نفسها لك، والالتفات فيه للإيذان بأن هذا الحكم مخصوص به لشرف نبوته. ومنها: الاعتراض بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} فإنه اعتراض بين قوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}، وبين متعلقه وهو قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، أو قوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ} لتقرير ما قبله وتأكيده. ومنها: الطباق بين {تُرْجِي}، {وَتُؤْوِي}، وبين: {ابْتَغَيْتَ} و {عَزَلْتَ}، وبين {ادخلو} و {انتشروا}، وبين: {تُبْدُوا}، و {تخفوا}. ومنها: طباق السلب في قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ}، {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} إلى الخطاب في قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} لغرض الاعتناء بشأن التقوى. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {بُيُوتَ النَّبِيِّ}؛ لأنها لما أضيفت إليه تشرفت. ومنها: الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد في قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وفيه أيضًا: جناس الاشتقاق. ومنها: الاحتباك في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر؛ لأنه حذف من صلوا المصدر، ومن {سَلِّمُوا} المتعلق؛ لأن أصل الكلام: صلوا عليه صلاةً، وسلموا عليه تسليمًا، وهو من المحسنات البديعية. وفي هذه الجملة تأكيدات اهتمامًا بشأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أكد بـ {إِنَّ} في قوله:

{إِنَّ اللَّهَ} اهتمامًا بشأنه، وجاء بالجملة الاسمية إفادة للدوام، وكانت الجملة اسمية في صدرها {إِنَّ اللَّهَ} فعلية في عجزها {يُصَلُّونَ} للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى على رسوله يتجدد وقتًا فوقتًا على الدوام، فتأمل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) أمر باحترام نبيه في بيته وفي الملأ. نهى عن إيذاء الله بمخالفة أوامره، وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به، ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه. . بين ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنَّ من يؤذي مؤمنًا، فقد احتمل بهتانًا، وإثمًا مبينًا زجرًا لهم عن الإيذاء .. أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر بعض المتأذِّين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة، من التستر، والتميز بالزي، واللباس، حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع. روي: أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلًا لقضاء الحاجة في الغيطان، وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فإذا كلموا في ذلك .. قالوا: حسبناهن إماءً .. طلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر؛ ليتمايزن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر حال هذه الفئات الثلاثة - أعني: المنافقين ومرضى القلوب، والمرجفين في الدنيا - وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون .. عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة، فذكرهم بيوم القيامة، وبين ما يكون لهم في هذا اليوم العظيم. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) فيما سلف أن من يؤذي الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدي إلى الكفر، وقد حصره الله في النفاق، ومرض القلب، والإرجاف على المسلمين .. أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر، كعدم الرضا بقسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للفيء، ونهى الناس عنه أيضًا، وذكر أن بني إسرائيل قد آذوا موسى، ونسبوا إليه ما ليس فيه، فبرأه الله منه؛ لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه، فلا يلحق به ما هو نقص فيه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} الآية, هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى عن إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول أو ¬

_ (¬1) المراغي.

فعل .. أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببًا في الفوز والنجاة في الدار الآخرة، والقرب من الله سبحانه، والحظوة إليه. قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله، وأن من يراعيها .. فله الفوز العظيم، وأن من يتركها يستحق العذاب .. أردف عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية، وأن حصولها عزيز شاق على النفوس، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة، أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. قال نزلت في الذين طعنوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اتخذ صفية بنت حيي، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزل في عبد الله بن أبي وناسٍ معه حين قذنوا عائشة، فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "من يعذرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني"، فنزلت الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاج؛ لحاجتها، وكانت امرأةً جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا. قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن أبي مالك قال: كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[57]

يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...} الآية، ثم أخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي. التفسير وأوجه القراءة 57 - ولما ذكر الله سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم .. ذكر هنا الوعيد الشديد للذين يؤذونه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} سبحانه وتعالى (¬1) بفعل ما يكرهه، وارتكاب ما لا يرضاه بترك الإيمان به، ومخالفة أمره، ومتابعة هواهم، ونسبة الولد والشريك إليه تعالى، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ونفي قدرته على الإعادة، وسب الدهر، ونحت التصاوير تشبيهًا بخلق الله تعالى. وقال ابن عباس (¬2) رضي الله عنهما: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله عز وجل: "كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي .. فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد" أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي أقلب الليل والنهار". متفق عليه. معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر، ويسبوه عند النوازل؛ لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر، فقال الله تعالى: أنا الدهر؛ أي: أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

وقيل: هم أصحاب التصاوير. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة" متفق عليه. وقيل: الكلام على حذف مضاف، والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله سبحانه وتعالى: "من آذى لي وليًا .. فقد آذنته بالحرب"، وقال تعالى: "من أهان لي وليًا .. فقد بارزني بالمحاربة" فمعنى إذاية الله سبحانه: هو مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد. {وَ} يؤذون {رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون، وطعنهم في نكاح صفية الهارونية، وهو الأذى القولي، وكسر رباعيته، وشج وجهه الكريم يوم أحد، ورمي التراب عليه، ووضع القاذورات على ظهر النبوة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ويجوز أن يكون المراد بإيذاء الله ورسوله (¬1): إيذاء رسول الله خاصة بطريق الحقيقة، وذكر الله لتعظيمه، والإيذان بجلالة مقداره عنده تعالى. وأن إيذاءه - صلى الله عليه وسلم - إيذاء له تعالى لما قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}؛ أي: فمن آذى رسوله .. فقد آذى الله. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: طردهم الله سبحانه وتعالى، وأبعدهم من رحمته {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئًا من رحمة الله، جعل ذلك اللعن في الدنيا والآخرة، لتشملهم اللعنة فيما، بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم، ومصاحبة لهم. {وَأَعَدَّ لَهُمْ}؛ أي: هيأ لهم من ذلك {عَذَابًا مُهِينًا} يصيبهم في الآخرة خاصةً؛ أي: نوعًا من العذاب يهانون فيه، فيذهب بعزهم وكبرهم. قال في "التأويلات": لما استحق المؤمنون بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة عليه صلاة الله .. فكذلك الكافرون استحقوا بمخالفة الرسول وإيذائه لعنة الله، فلعنة ¬

_ (¬1) روح البيان.

الدنيا هي الطرد عن جناب الله، والحرمان من الإيمان, ولعنة الآخرة: الخلود في النيران، والحرمان من الجنان، وهذا حقيقة قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}. قال في "فتح الرحمن": يحرم أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل بالاتفاق، واختلفوا في حكم من سبه - والعياذ بالله - من المسلمين، فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كفر كالردة، يقتل ما لم يتب. وقال مالك وأحمد: ويقتل ولا تقبل توبته؛ لأن قتله من جهة الحد لا من جهة الكفر. وأما الكافر إذا سبه صريحًا بغير ما كفر به، من تكذيبه ونحوه، فقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. وقال الشافعي: ينتقض عهده، فيخير الإِمام فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، ولا يرد مأمنه؛ لأنه كافر لا أمان له، ولو لم يشترط عليه الكف عن ذلك، بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به، كتكذيب ونحوه، فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراط. وقال مالك وأحمد: يقتل ما لم يسلم. واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد: أن سابَّه - صلى الله عليه وسلم - يقتل بكل حال، منهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال: هو الصحيح من المذهب. وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكمُ من سب نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأما من سب الله سبحانه وتعالى - والعياذ بالله - من المسلمين بغير الارتداد عن الإِسلام، ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك، فحكمه حكم من سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. نسأل الله العصمة والهداية، ونعوذ به من السهو والزلل والغواية، إنه الحافظ الرقيب. ومعنى الآية (¬1): أن الذين يؤذون الله سبحانه، فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر المعاصي، ومنم اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ويؤذون رسوله كالذين قالوا: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، إلى نحو ذلك من مقالاتهم الشنيعة .. طردهم الله سبحانه في الدنيا والآخرة من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس ¬

_ (¬1) المراغي.

[58]

القرار، وفي الآخرة، حيث يصلون نارًا تشوي الوجوه، وهيأ لهم في الآخرة عذابًا يؤلمهم، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار والخزي والهوان. 58 - ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه .. بيَّن ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بوجه من وجوه الأذى؛ أي: يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}؛ أي: بغير جناية يستحقون بها الأذية، وتقييد أذاهم به بعد إطلاقه في الآية السابقة للإيذان بأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق، وأما أذى هؤلاء .. فقد يكون حقًا، وقد يكون غير حق، أما إذا كان بحق، كما إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة، أو ضرب، فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أيّ وجه كان، ما لم يجاوز ما شرعه الله، والآية عامة لكل أذى بغير حق في كل مؤمن ومؤمنة، فتشمل ما روي أن عمر رضي الله عنه خرج يومًا فرأى جارية مزينة مائلة إلى الفجور، فضربها، فخرج أهلها، فآذوا عمر باللسان. وما روي أن المنافقين كانوا يؤذون عليًا رضي الله عنه، ويسمعونه ما لا خير فيه، وما سبق من قصة الإفك حيث اتهموا عائشة بصفوان السهمي رضي الله عنهما، وما روي أنَّ الزناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لطلب الماء، أو لقضاء حوائجهن، وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء، ولكن ربما كان يقع منهم التعرض للحرائر أيضًا جهلًا، أو تجاهلًا لاتحاد الكل في الزي واللباس، حيث كانت تخرج الحرة والأمة في درع وخمار، وما سيأتي من أراجيف المرجفين، وغير ذلك مما يثقل على المؤمن. ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقال: {فَقَدِ احْتَمَلُوا} واقترفوا، والاحتمال: مثل الاكتساب وزنًا ومعنى، كما في "بحر العلوم". وقال بعضهم: تحملوا. {بُهْتَانًا}؛ أي: افتراء وكذبًا عليهم. {وَإِثْمًا مُبِينًا}؛ أي: ذنبًا ظاهرًا واضحًا لا شك في كونه من البهتان والإثم. واعلم: أن أذى المؤمنين قرن بأذى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن أذى الرسول قرن بأذى الله، ففيه إشارة إلى أن من آذى المؤمنين .. كان كمن آذى الرسول، ومن آذى الرسول .. كان كمن آذى الله تعالى، فكما أنَّ المؤذي لله وللرسول مستحق الطرد

[59]

واللعن في الدنيا والآخرة، فكذا المؤذي للمؤمن. روي: أن رجلًا شتم علقمة رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية. وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقال: "رأيت الليلة عجبًا، رأيتُ رجالًا يعلقون بألسنتهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا". وفي الحديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" بأن لا يتعرض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم، قدَّم اللسان في الذكر؛ لأن التعرض به أسرع وقوعًا وأكثر، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال يكون بها. واعلم أن المؤمن إذا أوذي يلزم عليه أن لا يتأذى، بل يصبر، فإن له فيه الأجر، فالمؤذي لا يسعى في الحقيقة إلا في إيصال الأجر إلى من آذاه، ولذا ورد: "وأحسن إلى من أساء إليك"، وذلك لأن المسيء وإن كان مسيئًا في الشريعة، لكنه محسن في الحقيقة. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "أيُّ الربا أربى عند الله؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىءٍ مسلم، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} ". والمعنى: أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه، وما هم منه براء قد اجترحوا كذبًا فظيعًا، وأتوا أمرًا إدًّا، وذنبًا ظاهرًا، ليس له ما يسوغه أو يقوم مقام العذر له. 59 - ولما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}؛ أي: نسائك، وكانت تسعًا حين توفي - صلى الله عليه وسلم -، وهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة، وزينب، وميمونة، وصفية، وجويرية، وقد سبق تفاصيلهن نسبًا وأوصافًا وأحوالًا، وقد نظمها بعضهم بقوله: تُوُفِّيْ رَسُوْلُ اللهِ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ ... إِلَيْهِنَّ تُعْزَى الْمَكْرُمَاتُ وَتُنْسَبُ

فَعَائِشَةٌ مَيْمُوْنَةٌ وَصَفِيَّةٌ ... وَحْفْصَةُ تَتلُوهُنَّ هِنْدٌ وَزَيْنَبُ جُوَيْرِيَّةٌ مَعْ رَمْلَةٍ ثُمَّ سَوْدَةٌ ... ثَلاَثٌ وَسِتٌّ ذِكْرُهُنَّ لَيَعْذُبُ {وَبَنَاتِكَ} وكانت ثمانيًا، أربع صلبيات ولدتها خديجة، وهي: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهن، متن في حياته - صلى الله عليه وسلم - إلا فاطمة، فإنها عاشت بعده ستة أشهر؛ وأربع ربائب ولدتها أم سلمة، وهي: برة، وسلمة، وعمرة، ودرة، رضي الله عنهن. {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} في المدينة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} مقول القول. والإدناء (¬1): الإرخاء، من الدنو، وهو القرب. والجلباب: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها، و {مِنْ} للتبعيض؛ لأن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض. والمعنى: يرخين ويغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان، كالإماء، حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظنًا بأنهن إماء. وعن السدي: تغطي إحدى عينيها، وشق وجهها، والشق الآخر إلا العين، وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها, لكنها تستر الصدر ومعظم الوجه. قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينًا واحدةً ليعلم أنهن حرائر. {ذَلِكَ} المذكور من الإدناء والتغطية والإرخاء {أَدْنَى} وأقرب إلى {أَنْ يُعْرَفْنَ} فيتميزن عن الإماء والقينات اللاتي هن مواقع تعرض الزناة وأذاهم، كما ذكر في الآية السابقة، ويظهر للناس أنهن حرائر {فَلَا يُؤْذَيْنَ} من جهة أهل الفجور بالتعرض لهن، وليس المراد بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا} لما سلف منهن من التقصير في الستر، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وترك إدناء الجلابيب. {رَحِيمًا} بهن أو بعباده؛ حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها، أو غفورًا للمذنبين، رحيمًا بهم بقبول توبتهم، فيدخلن في ذلك دخولًا أوليًا. قال أنس رضي الله عنه: مرت لعمر بن الخطاب جارية متقنعة، فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع، تتشبهين بالحرائر، ألقي القناع. وفي الآية تنبيه لهنّ على حفظ أنفسهن، ورعاية حقوقهن بالتصاون والتعفف، وفيها إثبات زينتهن، وعزة قدرهن. وقيل المعني: {ذَلِكَ} التنبيه {أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أن لهن قدرًا ومنزلة وعزة في الحضرة {فَلَا يُؤْذَيْنَ} بالأطماع الفاسدة، والأقوال الكاذبة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لهن بامتثال الأوامر {رَحِيمًا} بهن بإعلاء درجاتهن، كما في "التأويلات النجمية". واعلم: أنه فهم من الآية شيئان: الأول: أن نساء ذلك الزمان كنَّ لا يخرجن لقضاء حوائجهن إلا ليلًا تسترًا وتعففًا، وإذا خرجن نهارًا لضرورة .. يبالغن في التغطي، ورعاية الأدب والوقار، وغض البصر عن الرجال الأخيار والأشرار، ولا يخرجن إلا في ثياب دنيئة، فمن خرجت من بيتها متعطِّرة متبرِّجة؛ أي: مظهرة زينتها ومحاسنها للرجال .. فإن عليها ما على الزانية من الوزر، وعلامة المرأة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة الله، وغناها القناعة، وحليها العفة؛ أي: التكفف عن الشرور والمفاسد، والاجتناب عن مواقع التهم. والثاني: أن الدنيا لم تخل عن الفسق والفجور حتى في الصدر الأول، فرحم الله أمرأً غضَّ بصره عن أجنبية، فإن النظرة تزرع في القلب شهوة، وكفى بها فتنة. قال ابن سيرين رحمه الله: إني لأرى المرأة في منامي، فاعلم أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها. فيجب على المرء أن لا يقرب امرأةً ذات عطر وطيب، ولا يمس يدها, ولا يكلمها, ولا يمازحها, ولا يلاطفها, ولا يخلو بها، فإن الشيطان يهيّج شهوته، ويوقعه في الفاحشة. وفي الحديث: "من فاكه امرأةً لم تحل له، ولا يملكها .. حبس بكلِّ كلمةٍ ألف عام في النار، ومن التزم امرأةً حرامًا - أي: اعتنقها - .. قرن مع الشيطان في سلسلة؛ ثم يؤمر به إلى النار" والعياذ بالله من دار البوار.

وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". رواه الطبراني والبيهقي، وهو حديث حسن. وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: كنَّا نغطي وجوهنا من الرجال. رواه الحاكم، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين. ومن صور الاختلاط المحرم: اختلاط البنات مع ابن العم، وابن العمة. ومنها: اختلاط البنات مع ابن الخال وابن الخالة. ومنها: الاختلاط مع أخ الزوج بالنسبة للزوجة. ومنها: اختلاط أخوات الزوجة مع زوجها. ومنها: اختلاط أخ المرأة من الرضاع مع أخوات أخته من الرضاع. ومنها: خلوة خطيب الفتاة بالفتاة، وخروجه معها إلى السوق، وحديثه معها قبل العقد، وإنما جاز له النظر إليها بحضور وليها إذا عزم على الزاوج فقط، إلى غير ذلك من الصور التي تساهل فيها كثير من أهل عصرنا الفاسد. وحاصل معنى الآية: أن الله سبحانه طلب من نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذ خرجن من بيوتهن؛ ليتميزن عن الإماء. وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنّ} .. خرج نساء الأنصار كان رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. وإجمال ذلك: أن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها، بحيث تغطي الجسم والرأس، ولا تبدي شيئًا من مواضع الفتنة، كالرأس والصدر والذراعين، ونحوها، ثم علل ذلك بقوله: ذلك التستر أقرب إلى معرفتهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين مكروهًا من أهل الريبة احترامًا لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عمر ومصر، لا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر فيه الفسق والفجور، وكان الله سبحانه غفورًا لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن، فيثبه عظيم الثواب، ويجزيه الجزاء الأوفى.

[60]

60 - ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم .. حذرهم بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ}، واللام: موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لئن لم ينزجر ويمتنع المنافقون عما هم عليه من النفاق، وأحكامه الموجبة للإيذاء {وَ} لم ينته {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}؛ أي: ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، أو فجور من تزلزلهم في الدين، وما يستتبعه مما لا خير فيه، أو من فجورهم وميلهم إلى الزنا والفواحش {وَ} لم ينته {الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}؛ أي: المخبرون في المدينة الأخبار الكاذبة المشوشة المضعفة لعزائم المسلمين في الجهاد، عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين، بأن يقولوا: انهزموا، وقتلوا، وأخذوا، وجرى عليهم كيت وكيت، وأتاكم العدو، وغير ذلك من الأراجيف المؤذية الموقعة لقلوب المسلمين في الاضطراب والإنكار والرعب {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} جواب القسم المحذوف؛ أي: لنحرضنك يا محمد بقتلهم، ولنامرنك باستئصالهم؛ أي: لنسلطنك يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين جمعوا بين النفاق ومرض القلوب دمارجاف المسليمن، فتستأصلهم بالقتل والتشريد والإجلاء بأمرنا لك بذلك. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والمعنى: إن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامْ ... وَلَيْثِ الْكَتِيْبَةِ فِيْ الْمُزْدَحَمْ أي: إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة. وقوله: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا}؛ أي: في المدينة، معطوف على جواب القسم، و {ثُمَّ} للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم. وعبارة "الكشاف" هنا: إنما عطف بـ {ثُمَّ}؛ لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن الحال المعطوف عليه. اهـ يعني: أنها للتفاوت الرتبي، والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها، وأعظم وأشد عندهن. اهـ "شهاب"؛ أي: لا يساكنونك في المدينة {إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: زمانًا أو جوارًا قليلًا ريثما - قدر ما - يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه، فيهلكوا إن لم ينتهوا،

[61]

وفي "بحر العلوم" ريثما يرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى الآية: والله لئن لم يكف أهل النفاق الذين يستسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وأهل الريب الذين غلبتم شهواتهم، وركنوا إلى الخلاعة والفجور، وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المسلمين، وإبراز ما استكن من خفاياهم، كضعف جنودهم، وقلة سلاحهم، وكراعهم، ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو، وحضد لشوكة المسلمين .. لنسلطنك عليهم، وندعونك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلًا، وتخلو المدينة منهم بالموت أو بالإخراج. والخلاصة: أن الله سبحانه قد توعد أصنافًا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل، أو النفي من البلاد، وهم: 1 - المنافقون الذين يؤذون الله سرًا. 2 - مَنْ في قلوبهم مرض، فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم. 3 - المرجفون الذين يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو قولهم: غلب محمد، وسيخرج محمد من المدينة، وصميؤخذ أسيرًا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين، وسخط الناس منهم. وعبارة النسفي هنا: والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلِّفون من أخبار السوء .. لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسؤهم، ثم بأن نضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زمانًا قليلًا ريثما يرتحلون، فسُمِّي إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز. 61 - ثم بيَّن مآل أمرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فقال: {مَلْعُونِينَ} حال من مقدر حذف هو وعامله، تقديره: يخرجون منها حال كونهم مطرودين عن الرحمة والمدينة، أو حال من فاعل {لَا يُجَاوِرُونَكَ} على أن حرف الاستثناء داخل على الظرف والحال معًا؛ أي: لا يجاورنك إلا حال كونهم ملعونين، ولا (¬1) يجوز أن ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[62]

ينتصب بـ {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا} الآتي؛ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبلها. أي: يخرجون منها حال كونهم ملعونين مطرودين {أَيْنَمَا ثُقِفُوا}؛ أي: في أيِّ مكان وجدوا وأدركوا {أُخِذُوا}؛ أي: مسكوا {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} والتشديد يدل على التكثير، وبه قرأ الجمهور. وقرأت فرقة بالتخفيف، فيكون {تَقْتِيلًا} مصدرًا على غير قياس المصدر، يعني: الحكم فيهم: الأخذ والقتل على جهة الأمر، فما انتهوا عن ذلك، كما في تفسير "أبي الليث". وقال محمد بن سيرين: فلم ينتهوا, ولم يغر الله بهم، والعفو عن الوعيد جائز لا يدخل في الخلف، كما في "كشف الأسرار" وقيل (¬1):هذا دعاء عليهم بأن يأخذوا ويقتلوا تقتيلًا، وهو أولى. وقيل: معنى الآية: إنهم إن أصروا على النفاق .. لم يكن لهم مقامٌ بالمدينة إلا وهم مطردون. والمعنى (¬2): أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله تعالى وبابك، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأً، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتلوا تقتيلًا. 62 - ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله تعالى في أشباههم من قبل، فهو ليس بباع فيهم، كما قال: {سُنَّةَ اللَّهِ} مصدر مؤكد حذف عامله وجوبًا تقديره: سن الله سبحانه ذلك الحكم من لعن المنافقين، وأخْذِهم، وقتلهم أينما ثقفوا {فِي الَّذِينَ خَلَوْا} ومضوا {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبلكم أيها الأمة المحمدية؛ أي: سن الله ذلك في الأمم الماضية سنة، وجعله طريقة مسلوكةً من جهة الحكمة، وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسَعَوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا. {وَلَنْ تَجِدَ} يا محمد {لِسُنَّةِ اللَّهِ} سبحانه وعادته في خلقه {تَبْدِيلًا}؛ أي: تغييرًا أصلًا؛ أي: لا يبدِّلها لابتنائها على أساس الحكمة التي عليها يدور ذلك التشريع، أو لا يقدر أحد على أن يبدلها؛ لأن ذلك مفعول له لا محالة، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[63]

والمعنى: أي إن سنته تعالى في المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم، ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان, فيذلوهم ويقهروهم، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل؛ لابتنائها على الحكمة والمصلحة، ولا يقدر غيره على تغييرها. 63 - {يَسْأَلُكَ} يا محمد {النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ}؛ أي: عن وقت قيامها وحصولها، والساعة (¬1): جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابها، كما قال تعالى: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}. كان المشركون يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك استعجالًا بطريق الاستهزاء والتعنت والإنكار، واليهود امتحانًا لما أن الله تعالى عمّى وقتها؛ أي: أخفاه في التوراة وسائر الكتب، وقيل: السائلون عن الساعة هنا هم أولئك المنافقون والمرجفون لَمَّا توعدوا بالعذاب .. سألوا عن الساعة استبعادًا وتكذيبًا. {قُلْ} يا محمد جوابًا لهم {إِنَّمَا عِلْمُهَا}؛ أي: علم وقت مجيئها {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، كما قال في آية أخرى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. {وَمَا يُدْرِيكَ}؛ أي: وأيُّ شيء يجعلك داريًا وعالمًا بوقت قيامها، والاستفهام للإنكار المضمن معنى التعجب والنفي؛ أي: لا يعلمك بوقت مجيئها شيء أصلًا، فأنت لا تعرفه، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله تعالى. {لَعَلَّ السَّاعَةَ}؛ أي: قيامها {تَكُونُ} شيئًا {قَرِيبًا}، وهو (¬2) خبر {تَكُونُ} على حذف موصوف؛ أي: شيئًا قريبًا. وقيل: التقدير: قيام الساعة، فروعيت الساعة في تأنيث {تَكُونُ}، وروعي المضاف المحذوف في تذكير {قَرِيبًا}. وقيل: كثر استعمال قريبًا استعمال الظروف، فهو ظرف في موضع الخبر. اهـ. أو {تَكُونُ} تامة، والظاهر كما عليه الجماهير أن قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} جملة مستقلة، وقوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ} جملة مستقلة أيضًا، فتأمل. وفيه تهديد للمستعجلين، وإسكات للمتعنتين، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها، وهو رسول الله .. فكيف بغيره من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[64]

الناس؟! قالوا: مِنْ أشراط الساعة أن يقول الرجل: أفعل غدًا، فإذا جاء غد .. خالف قولُه فعلَه، وأن ترفع الأسرار، وتوضع الأخيار، ويرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا والفجور، ورقص القينات، وشرب الخمور، ونحو ذلك من موت الفجاة، وعلو أصوات الفساق في المساجد. والمعنى (¬1): أي يكثر الناس هذا السؤال متى تقوم الساعة، فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالًا لها على طريق التهكم والاستهزاء، والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول، واليهود يسألون سؤال امتحانٍ، واختبار ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردِّ أمرها إلى الله، أم يجيب بشيء آخر؟ فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردِّ ذلك إليه، فقال: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} الذي أحاط علمه بكل شيء، ولم يطلع عليها ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا. ثم أكد نفي علمها عن أحد غيره بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ}، وأيُّ شيءٍ يعلمك وقت مجيئها وقيامها؛ أي: لا يعلمك به أحد أبدًا. ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}؛ أي: لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب، ونحو الآية قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}، وقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}. 64 - ثم بين حال السائلين عنها المنكرين لها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَعَنَ الْكَافِرِينَ} به على الإطلاق، لا منكري الحشر، ولا معاندي الرسول فقط؛ أي: طردهم وأبعدهم من رحمته العاجلة والآجلة، ولذلك يستهزئون بالحق الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه، والاهتمام بالاستعداد له. {وَأَعَدَّ}؛ أي: هيأ {لَهُمْ}؛ أي: للكافرين مع ذلك {سَعِيرًا}؛ أي: نارًا مسعورةً موقودةً شديدة الاتقاد، يقاسونها في الآخرة 65 - حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدرًا خلودهم ومكثهم في السعير {أَبَدًا}؛ أي: دائمًا؛ أي: زمنًا لا انقضاء، ولا نهاية، ولا آخر له. وأكَّد الخلود بالتأبيد والدوام مبالغةً في ذلك، وحالة كونهم {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يلي أمرهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[66]

ويحفظهم من دخول العذاب من أول الأمر {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم ويخلصهم وينقذهم من العذاب بعد دخولها. والمعنى (¬1): أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم من كل رحمة، وأعد لهم في الآخرة نارًا تتقد وتتسعر ليصليهموها ماكثين فيها أبدًا إلى غير نهاية. ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولي والنصير بقوله: {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}؛ أي: لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير، وينجيهم من عذاب الله تعالى بشفاعة أو نصرة، كما هي الحال في الدنيا لدى الظلمة؛ إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلِّص فيها من الورطات، ويدفع المصائب والنكبات. 66 - وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ظرف لقوله: {لَا يَجِدُونَ}، وقيل: لـ {خَالِدِينَ}، وقيل: لـ {نَصِيرًا}، وقيل: لفعل مقدر، وهو: اذكر؛ أي: لا يجدون وليًا ولا نصيرًا حين تصرف وتحول وجوههم في النار من جهة إلى جهة أخرى، كاللحم يشوى في النار، أو يطبخ في القدر، فيدور به الغليان من جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، أو يطرحون فيها منكوسين مقلوبين، وتخصيص الوجوه بالذكر للتعبير عن الكل، وهي الجملة بأشرف الأجزاء وأكرمها، ويقال: تحول وجوههم من الحسن إلى القبح، ومن حال البياض إلى حال السواد. وقرأ الجمهور (¬2): {تُقَلَّبُ} مبنيًا للمفعول. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرؤاسي بفتح التاء؛ أي: {تتقلب}، وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة، وقال ابن خالويه عن أبي حيوة: "نُقلِّب" بالنون {وجوههم} بالنصب، وحكاها ابن عطية أيضًا عن أبي حيوة، وخارجة. زاد صاحب "اللوامح" أنها قراءة عيسى البصري. وقرأ عيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل {تقلب} ضمير يعود على {سعير}، أو على جهنم، أسند إليهما اتساعًا، وقراءة ابن أبي عبلة {تتقلب} بتائين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[67]

وقوله: {يَقُولُونَ} استئناف (¬1) بياني واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل: يقولون متحسرين على ما فاتهم: {يَا لَيْتَنَا}؛ أي: يا هؤلاء ليتنا {أَطَعْنَا اللَّهَ}؛ أي: نتمنى أن نطيع الله في دار الدنيا فيما أمرنا به، ونهانا عنه، فالمنادى محذوف كما قدرنا، ويجوز أن تكون {يا} لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه {وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} فيما دعانا إليه من الحق، فلن نبتلى بهذا العذاب، فتمنوا حين لا ينفعهم التمني؛ أي: ويقولون إذ ذاك على طريق التمني: ليتنا أطعنا الله في الدنيا، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهي، فما كنا نبتلى بهذا العذاب، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة، فيا لها من حسرة وندامة ما أعظمها وأجلها: نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةُ مَنْدَمِ ... وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ ونحو الآية قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}، وقوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}. وهذه الألف في (¬2) {الرَّسُولَا} والألف التي ستأتي في {السبيلا} هي الألف التي تقع في الفواصل، ويسميها النحاة: ألف الإطلاق؛ لمد الصوت بها؛ لأن أواخر آيات هذه السورة الألف، والعرب تحفظ هذا في خطبها وأشعارها. 67 - ثم ذكر بعض معاذيرهم بإبقائهم التبعة على من أضلوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله: {وَقَالُوا}؛ أي: وقال الأتباع من الكافرين، فهو معطوف على {يَقُولُونَ}، والعدول (¬3) إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرًا كقولهم السابق، ولا مسببًا عنه، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربًا من التشفِّي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة، وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم منها. أي: يقولون يومئذ وهم في جهنم: {رَبَّنَا}؛ أي: يا مالك أمرنا {إِنَّا أَطَعْنَا} وامتثلنا {سَادَتَنَا}؛ أي: أئمتنا في الضلالة، يعنون: قادتهم ورؤساءهم الذين لقنوهم الكفر، وأمروهم به {وَكُبَرَاءَنَا}؛ أي: عظماءنا منزلةً في الكفر والدنيا؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) أبو السعود.

وافقناهم فيما هم عليه من الكفر. والسادة: جمع سيد، وهو الإِمام الذي يأمرهم بالكفر ويلقنهم، والكبراء: جمع كبير، وهو مقابل الصغير. والمراد: الكبير رتبةً وحالًا، والتعبير عنهم (¬1) بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}؛ أي: صرفونا عن طريق الإِسلام والتوحيد بما زينوا لنا الكفر والشرك. والمعنى: وقال الأتباع من الكفرة - وهم في جهنم -: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة، وكبراءنا في الشرك، فأضلونا السبيل، وأزالونا عن محجة الحق، وطريق الهدى من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك، والإخلاص لطاعتك في الدنيا، وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم، كما هي عادة المذنب يفعل ذلك، وهو يعلم أنه لا يجد به نفعًا. وفي هذا (¬2): زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا، والتحذير منه، والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله تعالى، ويقتدي به، وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم، ومزيد البلادة، وشدة التعصب. وقرأ الجمهور (¬3): {سَادَتَنَا} جمعًا على وزن: فعلة، أصله: سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة: {ساداتنا} على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس. قال في "بحر العلوم": قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص والكسائي {وأطعنا الرسول فأضلونا السبيل} بغير ألف في الوصل، وقرأ حمزة وأبو عمرو ويعقوب في الوقف أيضًا. والباقون: بالألف في الحالين تشبيهًا للفواصل بالقوافي، فإن زيادة الألف لإطلاق الصوت، وفائدتها الوقف. والدلالة على أنَّ الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستانف، وأما حذفها: فهو القياس؛ أي: في الوصل والوقف. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[68]

68 - ثم ذكر أنم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم أن يضاعف لهم العذاب؛ إذ كانوا سبب ضلالهم ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلصهم مما هم فيه، فقالوا: {رَبَّنَا}؛ أي: يا مالك أمرنا. تصدير الدعاء بالنداء المكرر للمبالغة في الجؤار، واستدعاء الإجابة {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ أي: مثلي العذاب الذي أوتيناه؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، فضعف لضلالهم في أنفسهم عن طريق الهداية، وضعف لإضلالهم غيرهم عنها {وَالْعَنْهُمْ}؛ أي: واطردهم عن رحمتك {لَعْنًا كَبِيرًا}؛ أي: طردًا شديدًا عظيمًا، وأصل الكبير والعظيم أن يستعملا في الأعيان، ثم استعير للمعاني، كما هنا. أي: ربنا عذبهم مثلي عذابنا الذي تعذبنا به، مثلًا على ضلالهم، ومثلًا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيًا عظيمًا، واطردهم من رحمتك. وقرأ الجمهور: {كَثِيرًا} بالثاء المثلثة؛ أي: لعنًا كثير العدد، عظيم القدر، شديد الموقع؛ أي: العنهم اللعن علي إثر اللعن؛ أي: مرة بعد مرة، ويشهد للكثرة قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس لمناسبتها للسياق، وقرأ ابن مسعود وأصحابه وحذيفة بن اليمان وابن عامر وعاصم ويحيى بن وثاب والأعرج بخلاف عنه: {كَبِيرًا} بالياء الموحدة؛ أي: كبيرًا في نفسه، شديدًا عليهم ثقيل الموقع. 69 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَكُونُوا} في أن تؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: نزلت في شأن زينب، وما سمع فيه من مقالة الناس، كما سبق. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمًا، فقال رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". {كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} عليه السلام، كقارون وأشياعه وغيرهم من سفهاء بني إسرائيل، هو قولهم: إنَّ به أدرة، أو برصًا، أو عيبًا، وفيه تأديب للمؤمنين، وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ}؛ أي: فأظهر الله سبحانه براءة موسى عليه السلام: {مِمَّا قَالُوا} في حقه؛ أي: من مضمون ما قالوا، ومؤدَّاه الذي هو الأمر المعيب، فإن البراءة تكون من العيب، لا

من القول، وإنما الكائن من القول التخلص. {وَكَانَ} موسى عليه السلام {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه {وَجِيهًا}؛ أي: ذا جاهٍ ومنزلة ودرجة وقدر، فكيف يوصف بعيب ونقيصة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وجيهًا أي حَظِيًّا، لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، وفيه إشارة إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله مقضيًّا له بالوجاهة، فلا يكون غير وجيه بتعيير بني إسرائيل إياه، كما قيل: إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ يَا مَوْلاَيَ مُطَّرَحًا ... فَعِنْدَ غَيْرِكَ مَحْمُوْلٌ عَلَى الْحِدَقِ واختلفوا فيما أوذي به موسى (¬1)، فروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأ بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمح - أسرع - موسى بأثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: واللهِ ما بموسى من بأس، فقام الحجر حتى نظروا إليه. قال: فأخذ ثوبه، فطفق الحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إن بالحجر ندبًا - أثرًا - ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر. أخرجه البخاري ومسلم. قال في "إنسان العيون": كان موسى عليه السلام إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته، وربما اشتعلت قلنسوته نارًا لشدة غضبه، ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه .. ضربه مع أنه لا إدراك له، ووُجِّه بأنه لما فرَّ .. صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب. انتهى. وقيل في إذاية موسى عليه السلام: إن قارون دفع إلى زانية مالًا عظيمًا على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل: إني حامل من موسى بالزنا، فأظهر الله نزاهته عن ذلك، بأن أقرت الزانية بالمصانعة بينها وبين قارون، وفعل بقارون ما فعل من الخسف، كما فصِّل في سورة القصص. ومعنى الآية (¬2): يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقولٍ يكرهه، ولا بفعلٍ لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبيَّ الله، فرموه ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[70]

بالعيب كذبًا وباطلًا، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور، بما أظهر من الأدلة على كذبهم، وكان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه، لا يسأله شيئًا إلا أعطاه إياه. ولم يعين (¬1) لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير أن لا نعينه حتى لا يكون رجمًا بالغيب دون أن يكون عليه دليل. وقد اختلفوا فيه، أهو عيب في بدنه، كبرص وأدْره، أم هو عيب في خلقه؟ فقد روَوا أنَّ قارون حرَّض بغيًا على قذفه بنفسها، فعصمه الله من كذبها، وقيل: إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور، ومات هناك، ثمَّ استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه. روي عن عبد الله بن مسعود قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قسمًا، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمر وجهه، ثم قال: "رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا، فصبر". وروى أحمد عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "لا يبلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" ومن هذا يتبين أن إيذاءه كان بالقدح في أعماله وتصرفاته، لا بالعيب في بدنه كما روي. وقرأ الجمهور (¬2): {عِنْدَ اللَّهِ} بالنون على الظرفية المجازية. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة: {وكان عبدًا} بالباء الموحدة من العبودية {لله}: بلام الجر، و {عبدًا}: خبر {كَانَ}، و {وَجِيهًا} صفته. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرأ: {وكان عبدًا لله} على قراءة ابن مسعود. 70 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {اتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله في رعاية حقوقه وحقوق عباده، فمن الأول: الامتثال لأمره، ومن الثاني: ترك الأذى، لا سيما في حق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقولوا في أيِّ شأن من الشؤون {قَوْلًا سَدِيدًا}؛ أي: قولًا مستقيمًا عدلًا حقًا موافقًا للصواب. قال قتادة ومقاتل: يعني: قولوا قولًا سديدًا في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما لا يحل. وقال عكرمة: إن القول السديد لا إله إلا الله. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[71]

وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله تعالى، دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين الناس. والظاهر من الآية (¬1): أنه أمرهم بأن يقولوا قولًا سديدًا في جميع ما يأتونه ويذرونه، فلا يخص ذلك نوعًا دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم، فالمقام يفيد هذا المعنى؛ لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولًا يخالف قول أهل الأذى. وقصةُ زينب، وبعثُهم على أن يسدِّدوا قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. حكي أن يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت - من أكابر علماء العربية - جلس يومًا مع المتوكل، فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل، فقال: أيما أحب إليك، ابناي أم الحسن والحسين؟ قال: واللهِ إن قنبرًا خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك، فقال: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات في تلك الليلة، ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد، وكان يعلِّمها فقال: يُصَابُ اَلْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ فِى الْقَوْلِ تُذْهِبُ رَأْسَهُ ... وَعَثْرَتُهُ فِيْ الرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ 71 - ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر، فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}؛ أي: يوفقكم للأعمال الصالحة، أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي: يجعلها مغفورة مكفرة باستقامتكم في القول والفعل، وفيه إشارة إلى أن من وفقه الله لصالح الأعمال، فذلك دليل على أنه مغفور له ذنوبه. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {وَ} يطع {رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التكليفات، والطاعة: هي موافقة الأمر، والمعصية: هي مخالفته {فَقَدْ فَازَ} وظفر في الدارين، والفوز: الظفر بالمطلوب مع السلامة من المكروه {فَوْزًا عَظِيمًا}؛ أي: عاش في الدنيا محمودًا، وفي الآخرة ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[72]

مسعودًا، أو نجا من كل ما يخاف، ووصل إلى كل ما يرجو، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها. وإجمال معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه، فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولًا قاصدًا غير جائر، حقًا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم، فلا يعاقبكم عليها، ومن يطع الله ورسوله، فيعمل بما أمره به، وينتهِ عما نهاه عنها، ويقل السديد من القول .. فقد ظفر بالمثوبة العظمى، والكرامة يوم العرض الأكبر. والخلاصة: أنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير في الأفعال. وبذلك يكونوا قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين: 1 - صلاح الأعمال؛ إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل الصالح يرفع صاحبه إلى أعلى عليين، ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدًا فيها أبدًا. 2 - مغفرة الذنوب، وستر العيوب، والنجاة من العذاب العظيم. 72 - ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب .. بين عظم شأن التكاليف الشرعية، وصعوبة أمرها فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ...} الآية. قال ابن عباس (¬1): أراد بالأمانة: الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنها إذا أدُّوها .. أثابهم، وإن ضيعوها .. عذبهم. وقال ابن مسعود: الأمانة: أداء الصلوات، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان, وأشد من هذا كله: الودائع. وقيل: جميع ما أمروا به ونهوا عنه. وقيل: هي الصوم، وغسل الجنابة، وما يخفى من الشرائع، كالنية في الأعمال. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان الفرج، وقال: هذه الأمانة استودعكها، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. ¬

_ (¬1) الخازن.

وفي رواية عن ابن عباس: هي أمانات الناس، والوفاء بالعود، فحقٌّ على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء، لا في قليل ولا كثير، فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين، وأكثر السلف. فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن .. جوزيتن، وإن عصيتن .. عوقبتن، قلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشيةً وتعظيمًا لدين الله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره. وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا، لو ألزمهن لم يمتنعن من حملها. والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره، ساجدة له. قال بعض أهل العلم: ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن وأجبن بما أجبن. وقيل: المراد من العرض على السموات والأرض والجبال: هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها. والقول الأول أصح. وهو قول أكثر العلماء. وقوله: {إِنَّا} هذه النون (¬1) نون العظمة والكبرياء عند العلماء، فإن الملوك والعظماء يعبِّرون عن أنفسهم بصيغة الجمع، ونون الأسماء والصفات عند العرفاء. فإنها متعددة ومتكثرة {عَرَضْنَا}؛ أي: أظهرنا وأبرزنا {الْأَمَانَةَ}؛ أي: التكاليف الشرعية {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} على أنَّ من أداها فله الثواب، ومن لم يؤدِّها .. فله العقاب. وكان هذا العرض عرض تخيير، لا عرض إلزام {فَأَبَيْنَ}؛ أي: فامتنعت السموات والأرض والجبال عن قبولها على هذا الشرط المذكور. والإباء: شدة الامتناع، فكل إباء، امتناع، وليس كل امتناع إباءً. وأتى بضمير هذه كضمير الإناث؛ لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكرًا، وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أن قد غلَّب المؤنث، وهو السموات على المذكر، وهو الجبال. واعلم: أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ ¬

_ (¬1) روح البيان.

السَّاجِدِينَ}؛ لأن السجود كان هناك فرضًا، وهاهنا الأمانة كانت عرضًا، والإباء هناك كان استكبارًا، وهاهنا كان استصغارًا لقوله تعالى: {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}؛ أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها. اهـ "فتوحات". {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}؛ أي: وخفن من الأمانة وحملها، وقلن: يا رب، نحن مسخرات بأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، ولم يكن هذا القول منهن من جهة المعصية والمخالفة، بل من جهة الخوف والخشية من أن لا يؤدين حقوقها، ويقعن في العذاب، ولو كان لهن استعداد ومعرفة بسعة الرحمة، واعتماد على الله تعالى لما أبين. فإن قلت (¬1): ما ذكر من السموات وغيرها جمادات، والجمادات لا إدراك لها، فما معنى عرض الأمانة عليها؟ قلت: للعلماء فيه قولان: الأول: أنه محمول على الحقيقة، وهو الأنسب بمذهب أهل السنة؛ لأنهم لا يؤولون أمثال هذا، بل يحملونها على الحقيقة خلافًا للمعتزلة وهو القول الثاني. وعلى تقدير الحقيقة فيه وجهان: أحدهما أدق من الآخر: الوجه الأول: أن للجمادات حياةً حقانيةً دلَّ عليها كثير من الآيات، نحو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}، وقوله: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إلى غير ذلك. والوجه الثاني: أن الله تعالى ركَّب العقل والفهم في الجمادات المذكورة عند عرض الأمانة، كما ركب العقل، وقبول الخطاب في النملة السليمانية، والهدهد، وغيرهما من الطيور والوحوش والسباع، بل وفي الحجر والشجر والتراب، فهن بهذا العقل والإدراك سمعن الخطاب، وأنطقهن الله بالجواب، حيث قال لهن: أتحملن هذه على أن يكون لكُنَّ الثواب والنعيم في الحفظ والأداء، والعقاب في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[73]

الغدر والخيانة. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}؛ أي: قبلها الإنسان عند عرض تلك الأمانة عليه، والمراد بالإنسان: الجنس، بدليل قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}؛ أي: تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية، ورخاوة القوة؛ لأن الحمل إنما يكون بالهمة، لا بالقوة. وقال بعضهم: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها، فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلنا له: احمل، فحملها إلى ركبتيه، ثم وضعها، وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها إلى حقوه، ثم وضعها وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها، فقال الله: مكانك، فإنها في عنقك، وعنق ذريتك إلى يوم القيامة. {إِنَّهُ}؛ أي: إن الإنسان {كَانَ ظَلُومًا} لنفسه بمعصية ربه؛ حيث لم يف، ولم يراع حقها. وقيل: المراد بظلمه لها: إتعابه إياها. {جَهُولًا} بكنه عاقبتها. وجملة {إِنَّ} اعتراض وُسِّط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهد تحمله؛ أي: إنه كان مفرطًا في الظلم، مبالغًا في الجهل؛ أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو عهودهم يوم الأرواح، دون من عداهم من الذين لم يبدِّلوا فطرة الله، وجروا على ما اعترفوا بقولهم: بلى. 73 - واللام في قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} - الذين ضيعوا الأمانة بعدما قبلوها {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} - الذين خانوا في الأمانة بعدم قبولها رأسًا - لامُ العاقبة متعلقة بـ {حَمَلَهَا}، وجملة قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} معترضة؛ لأن التعذيب، وإن لم يكن غرضًا له من الحمل، لكان لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها .. أبرز في معرض الغرض، وهذا إشارة إلى الفريق الأول؛ أي: كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذِّب الله هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية. قال في "بحر العلوم": ويجوز أن تكون اللام علة لـ {عَرَضْنَا}؛ أي: عرضنا عليه ليظهر نفاق المنافقين، وإشراك

المشركين، فيعذبهما الله تعالى. {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين حفظوا الأمانة، وراعوا حقها. قال في "الإرشاد": وهذا إشارة إلى الفريق الثاني؛ أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله على هؤلاء من أفراده؛ أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم فرط منهم من فرطات، قلما يخلو الإنسان عنها بحكم جبليته، وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، أو عرضنا عليه ليظهر إيمان المؤمن، فيتوب الله عليه؛ أي: يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات. وقرأ الأعمش (¬1): {فيتوب} بالرفع على جعل العلة قاصرة على ما قبله، وذهب صاحب "اللوامح" أن الحسن قرأ: {ويتوب}: بالرفع، ذكره أبو حيان في "البحر". {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم، أو كان (¬2) غفورًا للظلوم، رحيمًا على الجهول؛ لأن الله سبحانه وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعًا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك. وإجمال الآية (¬3): أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها، وقوة أسرها، مستعدةً لحمل التكاليف بتلقي الأوامر والنواهي، والتبصر في شؤون الدين والدنيا, ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منَّته، وصغر جرمه مستعدًا لتلقيها، والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب، فكان ظلومًا لغيره، وركِّب فيه حب الشهوات، والميل إلى عدم التدبر في عواقب الأمور، ومن ثَمَّ كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى، وتخفف من سلطانها عليه، ونكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى. ثم بين عاقبة تلك التكاليف، فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ ...} الخ. أي: وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

والانقياد لها من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل، وعدم التبصر في العواقب، وتداركهم ذلك بالتوبة. ثم علل قبوله لتوبتهم فقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: وكان ستارًا لذنوب عباده، كثير الرحمة بهم، ومن ثَمَّ قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرِّط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم. نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يُؤْذُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعوله. {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {فِي الدُّنْيَا}: متعلق بـ {لَعَنَهُمُ}. {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيَا}. {وَأَعَدَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدّ}. {عَذَابًا}: مفعول به. {مُهِينًا}: صفة {عَذَابًا}، وجملة {أَعَدَّ} في محل الرفع معطوفة على جملة {لَعَنَهُمُ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ}. {بِغَيْرِ}: متعلق بـ {يُؤْذُونَ} وهو مضاف، {مَا}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه. {اكْتَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بغير الذنب الذي اكتسبوه، أو {مَا} مصدرية، والجملة الفعلية صلته، والمصدر المنسبك منها مضاف إليه لـ {غَيْرِ}؛ أي: بغير اكتسابهم وجرمهم. {فَقَد} {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. {قد}: حرف تحقيق. {احْتَمَلُوا}: فعل وفاعل. {بُهْتَانًا}: مفعول به. {وَإِثْمًا}: معطوف على {بُهْتَانًا}. {مُبِينًا}: صفة. {كَانَ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر

المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنَّ}. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة. {النَّبِيُّ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {لِأَزْوَاجِكَ}: متعلق بـ {قُلْ}، وجملة القول جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}: معطوفان على {أَزْوَاجِكَ}. {يُدْنِينَ}: فعل مضارع وفاعل؛ لأن النون ضمير النسوة. {عَلَيْهِنَّ}: متعلق بـ {يُدْنِينَ}، أو حال مقدمة على صاحبها، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}، وقيل: هو مجزوم بلام الأمر المحذوفة؛ أي: ليدنين. {مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}: متعلق بـ {يُدْنِينَ}. {ذَلِكَ أَدْنَى}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُعْرَفْنَ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة نائب فاعل، والمصدر المنسبك من الفعل مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أي ذلك أدنى وأقرب إلى معرفتهن. {فَلَا}: {الفاء}: عاطفة، {لا}: نافية. {يُؤْذَيْنَ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُعْرَفْنَ}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا}: خبر ثان له، والجملة مستأنفة. {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)}. {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {لَمْ}: حرف جزم. {يَنْتَهِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَّمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء. {الْمُنَافِقُونَ}: فاعل. {وَالَّذِينَ}: معطوف على {الْمُنَافِقُونَ}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن لم ينتهوا نغرينك بهم، وجملة {إن} الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم. {مَرَضٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. {وَالْمُرْجِفُونَ}: معطوف على {الْمُنَافِقُونَ} {فِي الْمَدِينَةِ}: متعلق بـ {مرجفون}. {لَنُغْرِيَنَّكَ}: {اللام}: موطئة

للقسم مؤكدة للأولى، وكُرِّرت لإفادة أن المذكور جواب القسم لتقدمه على الشرط، كما هو القاعدة عندهم. {نغرينك}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا، تقديره: نحن، يعود على الله، والكاف: مفعول به. {بِهِمْ}: متعلق بـ {نغرينك}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب وتراخ. {لَا}: نافية. {يُجَاوِرُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {نغرينك}. {فِيهَا}: متعلق بـ {يجاورون}، أو حال من فاعل {يجاورون} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا}: ظرف زمان متعلق بـ {يجاورون}؛ لأنه صفة لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، أو منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف. إلا جوارًا قليلًا. {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}. {مَلْعُونِينَ}: حال من فاعل {يُجَاوِرُونَكَ}، أو حال من مقدر حذف هو وعامله. تقديره: ثم يخرجون ملعونين. {أَيْنَمَا}: اسم شرط جازم يجزم فعلين، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، والظرف متعلق بالجواب {ما} زائدة زيدت لتأكيد معنى الكلام. {ثُقِفُوا}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {أَيْن} على كونه فعل شرط لها. {أُخِذُوا}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {أَيْن} على كونه جواب الشرط لها، وجملة الشرط مستأنفة. {وَقُتِّلُوا}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل معطوف على {أُخِذُوا}. {تَقْتِيلًا}: مفعول مطلق مؤكد لعامله. {سُنَّةَ اللَّهِ}: مفعول مطلق مؤكد لعاملة المحذوف، تقديره: سنَّ الله ذلك الأخذ والقتل في الذين نافقوا من قبل. {فِي الَّذِينَ}: متعلق بـ {سُنَّةَ اللَّهِ}، أو بعامله المحذوف. {خَلَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {خَلَوْا}. {وَلَنْ تَجِدَ}: {الواو}: عاطفة، {لَن تجد}: ناصب وفعل مضارع منصوب بـ {وَلَنْ تَجِدَ}، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد. {لِسُنَّةِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تَبْدِيلًا}. و {تَبْدِيلًا}: مفعول به لـ {تَجدَ}، والجملة معطوفة على جملة {سن} المحذوفة.

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)}. {يَسْأَلُكَ النَّاسُ}: فعل ومفعول به وفاعل. {عَنِ السَّاعَةِ}: متعلق بـ {يَسْأَلُكَ}، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة {إِنَّمَا}: أداة حصر. {عِلْمُهَا}: مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَمَا}: الواو: عاطفة، {مَا}: اسم استفهام للإنكار مبتدأ، وجملة {يُدْرِيكَ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة؛ أي: أيُّ شيء مدر إياك وقت مجيئها؛ أي: لا تعلمه. {لَعَلَّ السَّاعَةَ}: ناصب واسمه. {تَكُونُ}: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على {السَّاعَةَ} {قَرِيبًا}: خبرها؛ أي: شيئًا قريبًا، وجملة {تَكُونُ} في محل الرفع خبر {لَعَلَّ}، وجملة {لَعَلَّ} في محل نصب مفعول ثانٍ لـ {يُدْرِيكَ}، والتقدير: وما يدريك قرب قيام الساعة. {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَعَنَ الْكَافِرِينَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله. {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَأَعَدَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {لَعَنَ}. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}. {سَعِيرًا}: مفعول به. {خَالِدِينَ}: حال من {الْكَافِرِينَ}. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {أَبَدًا} ظرف زمان متعلق بـ {خَالِدِينَ} أيضًا. {لَا}: نافية. {يَجِدُونَ}: فعل وفاعل. {وَلِيًّا}: مفعول به. لـ {يَجِدُونَ}، {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف على {وَلِيًّا}، وجملة {لَا يَجِدُونَ} حال ثانية من {الْكَافِرِينَ}. {يَوْمَ}: ظرف زمان متعلق بـ {يَقُولُونَ}، أو بمحذوف، تقديره: اذكر، أو متعلق بـ {لَا يَجِدُونَ}. {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {يَوْمَ} إليه. {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {تُقَلَّبُ}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير {وُجُوهُهُمْ}. {يَا لَيْتَنَا}: {يا}: حرف نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا قوم، أو يا هؤلاء. {ليتنا}: ناصب واسمه،

وجملة {أَطَعْنَا اللَّهَ} خبر {لَيْتَ} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَطَعْنَا}: فعل وفاعل. {الرَّسُولَا}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَطَعْنَا اللَّهَ}. {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَطَعْنَا سَادَتَنَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إِنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَكُبَرَاءَنَا}: معطوف على {سَادَتَنَا}، {فَأَضَلُّونَا}: {الفاء}: عاطفة. {أضلونا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أَطَعْنَا}. {السَّبِيلَا}: مفعول ثان لـ {أَضَلُّونَا}، وزيادة الألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف، والإشارة إلى أن الكلام قد انقطع. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {آتِهِمْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنه بمعنى: أعطي. {ضِعْفَيْنِ}: مفعول ثانٍ لـ {آتِهِمْ}. {مِنَ الْعَذَابِ}: صفة لـ {ضِعْفَيْنِ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {وَالْعَنْهُمْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على {آتِهِمْ}. {لَعْنًا}: مفعول مطلق. {كَبِيرًا}: صفة {لَعْنًا}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أي}: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {لَا} ناهية جازمة. {تَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ {لَا} الناهية. {كَالَّذِينَ}: جار ومجرور خبر {تَكُونُوا}، وجملة {تَكُونُوا} جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {آذَوْا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ}: {الفاء}: عاطفة. {بَرَّأَهُ اللَّهُ}: فعل ماض ومفعول به وفاعل، معطوف على جملة {آذَوْا

مُوسَى}. {مِمَّا}: جار ومجرور، متعلق بـ {بَرَّأَ}، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، أو موصولة، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما قالوه فيه, أو من مضمون قولهم: إن قلنا: إنها مصدرية. {وَكَانَ}: فعل ناقص، واسمه مستتر يعود على موسى. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق بـ {وَجِيهًا}. و {وَجِيهًا}: خبر {كان}، وجملة {كان} مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة. {الَّذِينَ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَقُولُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {اتَّقُوا}. {قَوْلًا}: مفعول مطلق. {سَدِيدًا}: صفة {قَوْلًا}. {يُصْلِحْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بالطلب السابق. {لَكُمْ}: متعلق بـ {يُصْلِحْ}. {أَعْمَالَكُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {وَيَغْفِرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، معطوف على جملة {يُصْلِحْ} {لَكُمْ} متعلق بـ {اللَّهَ}. {ذُنُوبَكُمْ}: مفعول به. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشوط، أو الجواب، أو هما. {يُطِعِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} الشرطية، مجزوم بـ {مَن} الشوطية على كونها فعل شرط لها. {اللَّهَ}: لفظ الجلالة مفعول به. {وَرَسُولَهُ}: معطوف عليه. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {قَدْ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {فَازَ}: فعل ماضٍ، وفاعله مستتر في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها. {فَوْزًا}: مفعول مطلق. {عَظِيمًا}: صفة {فَوْزًا}، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة

في محل الرفع خبر {إِنَّا}، وجملة {إِنَّا} مستأنفة. {عَلَى السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {عَرَضْنَا}. {وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}: معطوفان على {السَّمَاوَاتِ}. {فَأَبَيْنَ}: {الفاء}: عاطفة. {أَبَيْنَ}: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والنون فاعل، والجملة معطوفة على جملة {عَرَضْنَا}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يَحْمِلْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به في محل النصب بـ {أَن} المصدرية مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أبين}؛ أي: فأبين حملهن إياها. {وَأَشْفَقْنَ}: {الواو}: عاطفة. {أَشْفَقْنَ}: فعل ماض وفاعل، مبني على السكون. {مِنْهَا}: متعلق بـ {أَشْفَقْنَ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَبَيْنَ}. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فعرضناها على الإنسان، وحملها الإنسان. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنسان. {ظَلُومًا}: خبرها الأول. {جَهُولًا}: خبر ثانٍ لها، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}. {لِيُعَذِّبَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يُعَذِّبَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {اللَّهُ}: فاعل. {الْمُنَافِقِينَ}: مفعول به {وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}: معطوفات على {الْمُنَافِقِينَ}، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتعذيب الله المنافقين الخ، الجار والمجرور متعلق بـ {حَمَلَهَا}، وقيل: بـ {عَرَضْنَا}، واللام لام التعليل، أو لام العاقبة على الخلاف المار فيه. {وَيَتُوبَ}: معطوف على {يُعَذِّبَ}. {اللَّهُ}: فاعل. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {يَتُوبَ}. {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا}: خبر ثانٍ لها، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} يقال: آذى يؤذي أذى وأذيَّة وإذاية، ولا يقال: إيذاءً،

كما في "القاموس"، ولكن شاع بين أهل التصنيف استعماله، كما في "التنبيه" لابن كمال. {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} من الإدناء من الدنو، وهو القرب. والجلابيب: جمع جلباب. وفي "القاموس" وغيره: الجلباب، والجلبَّاب - بتشديد الباء - الأولى: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها، كما في "الكشاف". {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} الانتهاء: الانزجار عما نهي عنه. {وَالْمُرْجِفُونَ} قال في "الأساس": وأرجفوا في المدينة بكذا: إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم، وهذا من أراجيف الغواة، وتقول: إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف. وجاء في غيره ما نصه: أرجف: خاض في الأخبار السيئة والفتن، قصد أن يهيج الناس، وأرجف القوم بالشيء وفيه: خاضوا فيه، وأرجفت الريح الشجر: حركته، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول: زلزلت، وأصل الإرجاف: التحريك، مأخوذ من الرجفة، وهي الزلزلة، ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة، وسمي البحر رجافًا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر: الْمُطْعِمُوْنَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... حَتَّى تَغِيْبَ الشَّمْسُ فِيْ الرَّجَّافِ {لَنُغْرِيَنَّكَ} يقال: غرى بكذا؛ أي: لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء، وهو ما يلصق به الشي، وقد أغريت فلانًا بكذا إغراءً ألهجته به. {مَلْعُونِينَ} قال في "الأساس" و"اللسان": لعنه أهله: طردوه وأبعدوه وهو لعين؛ أي: طريد، وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنة، وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب طردتهما، ويقال للذئب: اللعين، ولعنه وهو ملعَّن؛ أي: مكثر لعنه، وتلاعن القوم وتلعنوا والتعنوا والتعن فلان: لعن نفسه، ورجل لُعَنَةٌ ولُعْنَةٌ، كضُحَكَة وضُحْكَة، ولا تكن لعانًا طعانًا، ولاعن امرأته ولاعن القاضي بينهما: أوقع بينهما اللعان. {أَيْنَمَا ثُقِفُوا}؛ أي: وجدوا وأدركوا. قال الراغب: الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، يقال: ثقفت كذا: إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوِّز به، فاستعمل في الإدراك، وإن لم يكن معه ثقافة.

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ}؛ أي: القيامة؛ أي: عن وقت قيامها، والساعة في الأصل: جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابها. {سَعِيرًا}؛ أي: نارًا مسعورة شديدة الاتقاد، يقال: سعر النار وأسعرها وسعرها: أوقدها. {سَادَتَنَا} جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين؛ لأن أصله سودة، وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام، نحو كامل وكملة، وساحر وسحرة، وسافر وسفرة، وبارٌّ وبررة، وقال تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ}، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} فخرج بالوصف الاسم، نحو: واد وباز، وبالتذكير نحو: حائض وطالق، وبالعقل نحو: سابق ولاحق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو: قاضٍ وغازٍ، فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطرادٍ، وشذ في غير فاعل نحو: سيد وسادة، فوزنها: فعلة، ويجوز أن يكون جمعًا لسائد، نحو: فاجر وفجرة، وكافر وكفرة، وهو أقرب إلى القياس، كما رأيت على أن صاحب "القاموس" لم يلتزم بالقاعدة، فقال: والسائد: السيد أو دونه، والجمع: سادة وسيايد. وقرأ ابن عامر: {سادتنا}، فجمعه ثانيًا بالألف والتاء، وهو غير مقيس أيضًا. {وَكُبَرَاءَنَا} جمع: كبير، وهو مقابل الصغير, والمراد: الكبير رتبةً وحالًا. {فَأَضَلُّونَا} يقال: أضله الطريق، وأضله عن الطريق بمعنًى واحد؛ أي: أخطأ به عنه. {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} أصل البراءة: التفصِّي مما تكره مجاورته؛ أي: فأظهر براءة موسى عليه مما قالوا في حقه. {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} الوجيه: سيد القوم ذو الجاه والوجاهة. وفي "الوسيط": وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه: إذا كان ذا جاه وقدر. {قَوْلًا سَدِيدًا} مستقيمًا مائلًا إلى الحق، من سد يسد سدادًا من باب ضرب: صار صوابًا ومستقيمًا، فإنَّ السداد الاستقامة، يقال: سدد السهم نحو الرمية: إذا لم يعدل به عن سمتها، وخص القول الصدق بالذكر، وهو ما أريد به وجه الله ليس فيه شائبة غيرٍ وكذب أصلًا؛ لأن التقوى صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل

أو ترك، فلا يدخل فيها. {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} يقال: عرض لي أمر كذا؛ أي: ظهر. وعرضت له الشيء: أظهرته وأبرزته إليه، وعرضت الشيء على البيع، وعرض الجند: إذا أمرهم عليه، ونظر ما حالهم. والأمانة: ضد الخيانة، والمراد بها هنا: التكاليف الشرعية، والأمور الدينية المرعية. {فَأَبَيْنَ}؛ أي: امتنعن من حملها، والإباء: شدة الامتناع، كما مر في مبحث التفسير. {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}؛ أي: خفن منها. قال في "المفردات": الإشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأن الشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عدي بـ {من} فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدِّي بـ {على} فمعنى العناية فيه أظهر. {ظَلُومًا} والظلم: وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا: ظلمت السقاء: إذا تناولته في غير وقته، ويسمى ذلك اللبن: الظلم، وظلمت الأرض: إذا حفرتها, ولم تكن موضعًا للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب الذي يخرج منها ظليم. والظلم يقال في مجاوزة الحد الذي يجري مجرى النقطة في الدائرة، ويقال فيما يكثر ويقل من التجاوز، ولذا تستعمل في الذنب الصغير والكبير، ولذا قيل لآدم في تقدمه: ظالم، وفي إبليس ظالم، وإن كان بين الظلمين بون بعيد. قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة: أحدها: بين الإنسان وبين الله سبحانه، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق. والثاني: ظلم بينه وبين الناس. والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وهذه الثلاثة في الحقيقة للنفس، فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم، فقد ظلم نفسه. {جَهُولًا} والجهل: خلو النفس من العلم، وهو على قسمين: ضعيف: وهو الجهل البسيط، وقوي: وهو الجهل المركب الذي لا يدري صاحبه أنه لا يدري, فيكون محرومًا من التعلم، وكذا كان قويًا. وقال بعضهم: الإنسان ظلوم ومجهول؛

أي: من شأنه الظلم والجهل، كما يقال: الماء طهور؛ أي: من شأنه الطهارة. واعلم أنَّ الظلومية والجهولية صفتا ذم عند أهل الظاهر؛ لأنهما في حق الخائنين في الأمانة، فمن وضع الغدر والخيانة موضع الوفاء والأداء .. فقد ظلم وجهل. اهـ "روح". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بإن، وبفعلية الخبر في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} إلخ. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ}، {وَالْمُرْجِفُونَ}: هم من المنافقين، فعمم ثم خصص زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. ومنها: التأكيد بالمصدر. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}؛ لأنه في الأصل إلصاق الشيء بالشيء، فاستعير هنا للتسليط. ومنها: الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد في قوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}، وفيه أيضًا: جناس الاشتقاق. ومنها: الإتيان بعنوان السيادة والكبر في قوله: {سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَعْنًا كَبِيرًا}؛ لأن الأصل في الكبير أن يستعمل في الأجرام، ثم استعير هنا للمعاني. ومنها: التحسر والتفجع بطريق التمني في قوله: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} فأطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: أجسامهم، وفيه أيضًا تخصيص الوجوه بالذكر؛ لأناقة الوجه على جميع الأعضاء، وهو مثابة المقابلة.

ومنها: التشبيه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، وفي قوله: {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} مثَّل للأمانة في ضخامتها وعظمها وتفخيم شأنها بأنها من الثقل، بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال، وهي من القوة والشدة بأعلى المنازل .. لأبت عن حملها، وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، وبين قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وفي ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع: ردَّ العجز على الصدر؛ لأن بدء السورة كان في ذم المنافقين، وختامها كان في بيان سوء عاقبة المنافقين، فحسن الكلام. ومنها: العدول إلى صيغة الماضي في قوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} مع كونه معطوفًا على يقولون قبله؛ للإشعار بأن قولهم ليس مستمرًا، كقولهم السابق، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربًا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة. ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة الذي هو الاسم الجليل في قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} لتهويل الخطب وتربية المهابة. ومنها: الإظهار في موضع الاضمار ثانيًا في قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ} لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين والمؤمنات توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه. ومنها: الاعتراض بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. تنبيه: ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من شؤون الزوجية، وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان

الأخرى، ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم، وسمعوا كلام المبشرين، ظنًا منهم أنهم وجدوا مغمزًا في الإِسلام، وأصابوا هدفًا يصمي الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين، وأنى لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا قبل أن يتكلموا: أَرَى الْعَنْقَاءَ تَكْبُرُ أَنْ تُصَادَا ... فَعَانِدْ مَنْ تُطِيْقُ لَهُ عِنَادَا 1 - تعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم - وكثرتهن، بينما لم يبحْ مثل ذلك لأمته. 2 - إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين، ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما. أسباب تعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش مع خديجة خمسًا وعشرين سنة، لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين، وكان قد تزوجها في شرخ شبابه؛ إذ كانت سنه وقتئذ خمسًا وعشرين سنة، وكانت سنها أربعين، وعاشا معًا عيشًا هنيئًا، شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه، وألحقوا به ضروبًا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيًا لها حتى توفيت، فحزن عليها حزنًا شديدًا، وسمي عام وفاتها: عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته. والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التعدد، وهي قسمان: أسباب عامة، وأسباب خاصة. الأسباب العامة 1 - إن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الوجل والمرأة، وما هو خاص بأحدهما، وكل يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل؛ لتفوق المرسل إليهم، وكثرتهم، وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم. ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحي المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحي الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما روي

عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصاري قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: "خذي فرصة ممسكة - قطعة قطن - فتوضئي" قالها ثلاثًا، وهو في كل ذلك يقول: "سبحان الله" عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة، وأخبرتها بما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن ثمَّ وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدد كثير منهن، وهن يبلِّغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقي عنه إلا أزواجه؛ لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي - صلى الله عليه وسلم - دون تأفُّف ولا استحياء، يرشد إلى ذلك قوله: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" يريد عائشة رضي الله عنها والعرب تقول: امرأة حمراء؛ أي: بيضاء. 2 - إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر، كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة، إلى الإكثار من ذلك؛ لاجتذاب القبائل إليه، ومؤازرتهم له لذود عوادي الضالين، وكفِّ أذاهم عنه، ومن ثَمَّ كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب. 3 - إن المؤمنين كانوا يرون أنَّ أعظم شرف، وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه، وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة .. فقد أدرك ما يرجو، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته، وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأنَّ عليًا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق النسب، وشرف اقترانه بالزهراء، رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبي طالب؛ ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصِّر في القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها. الأسباب الخاصة 1 - تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو الذي أسلم، واضطر إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربًا من اضطهاد المشركين، ومات هناك، وأصبحت امرأته بلا معين، وهي أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظًا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها؛

لأنها مع زوجها على غير رغبتهم. 2 - تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وعمرها زهاء خمسين عامًا، وكان زواجه منها سببًا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير، والبطل العظيم، وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإِسلام أيام غر محجلة إلى أن زواجها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يسر لذوي قرباها وسيلة للعيش، فطعموا من جوع، وأمنوا من مخوف، وأثروا بعد فاقة. 3 - تزوج جويرية، وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق بن خزاعة، جمع قبل إسلامه جموعًا كثيرة لمحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإِسلام فأبوه، فحاربهم حتى هزموا، ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب، فلم تر معينًا لها غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءت إليه، وأدلت بنسبها، وطلبت حريتها، فتذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان لأهلها مع العز والسؤدد، وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها، فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بني المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرًا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر. 4 - تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبي بكر الصديق؛ إذ كان شديد التمسك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مولعًا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها، وفخرًا لذوي قرباها، وكان عبد الله بن الزبير - ابن أختها - يفاخر بني هاشم بذلك. 5 - تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفي مجروحًا في وقعة بدر، وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان، فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ليستديم له بذلك الشرف، فعز هذا على عمر، وأنفت نفسه، فشكاه إلى أبي بكر، فقال له: لعلها تتزوج من هو خير منه، ويتزوج من هي خير منها له. [يريد زواج عثمان بأم كلثوم، وزواج حفصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -]. 6 - تزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، وكانت قد وقعت في السبي مع عشيرتها، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها رأفة بها؛ إذ ذلت بعد عزة،

واسترقت، وهي السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفًا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه. 7 - تزوَّج زينب بنت جحش الأسدية لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب، وهي التبني، بتنزيل الدعيِّ منزلة الابن الحقيقيِّ، وإذ أراد الله سبحانه إبطال هذه العادة .. جعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - أسوةً حسنةً في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد، فأنفت هي وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجًا لدعيٍّ غير كفء، فنزل الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فرضيا بقضاء الله ورسوله، غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعًا، فآثر فراقها، فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإذن في ذلك، فقال له: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشي أن يقول الناس: تزوج محمد من زوجة زيد ابنه، ولما لم يبق لزيد فيها شيء من الرغبة .. طلَّقها، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - إبطالًا لتلك العادة، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء التفسير بشيء من البسط والإيضاح. ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوَّله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خول لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه، لا وجه له من الصحة، فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراضٍ اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنَّه لم يتزوج بكرًا قط إلا عائشة، وأنه تزوج من أمهات من كن في سن الكهولة أو جاوزتها. أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإِسلام يجدر بذوي الحصافة في الرأي أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإِسلام تعدد الزوجات، دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد، لا مجيز له فحسب، وهاك أهم الأسباب: 1 - قد تصاب المرأة أحيانًا بمرض مزمن، أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة، ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج أخرى.

2 - دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى، وتضوي الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد .. لا يجد بعض النساء أزواجًا يحصنونهن ويقومون بشؤونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار، وتعضهن الحياة بأنيابها. 3 - حضت الشريعة الإِسلامية على كثرة النسل؛ لتقوى شوكة الإِسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات؛ لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح فرارًا من حقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثمَّ لجأ كثير من الدول الغربية إلى اربتاط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبًا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية. 4 - دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أنَّ حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين، مما حدا بعض المفكِّرين إلى النظر في توريثهم. 5 - كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال، حتى عجز الطب عن مكافحتها، وتغلغل الداء، وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صك رسميِّ بخلو الزوجين من الأمراض المعدية، والأمراض التي تجعل النسل ضعيفًا ضاويًا، لا يستطيع الكفاح في الحياة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من أغراض ومقاصد وجملة ما تضمنت هذه السورة: 1 - الأمر بتقوى الله سبحانه، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين. 2 - وجوب اتباع ما ينزل به الوحي مع ضرب المثل لذلك. 3 - إبطال العادة الجاهلية، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء. 4 - إبطال التوريث بالحلف، والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة. 5 - ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتدَّ بهم الخطب. 6 - تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا، والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة. 7 - التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع في القول، وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج. 8 - قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 9 - ما أحل الله سبحانه لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك. 10 - النهي عن إيذاء المؤمنين للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه. 11 - الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شيء، إلا الآباء والأبناء والأرقاء. 12 - أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة. 13 - تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.

14 - سؤال المشركين عن الساعة متى هي؟ 15 - النهي عن إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى. 16 - عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة سبأ

سورة سبأ سورة سبأ مكية، قال القرطبي: في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...} الآية، فقالت فرقة: هي مكية، وقالت فرقة: هي مدنية. وآيها: أربع وخمسون. وكلماتها: ثمان مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: ألف وخمس مئة واثنا عشر حرفًا. الناسغ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة سبأ كلها محكمة إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)} الآية، نسخها الله تعالى بآية السيف، وسميت سورة سبأ؛ لذكر قصة سبأ فيها. المناسبة: ووجه اتصالها بما قبلها (¬1): 1 - أن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة. 2 - أنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاءً، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحًا، وطعنهم على من يقول البعث، وقال هنا ما لم يقله هناك. وقال أبو حيان: وسبب نزولها: أن (¬2) أبا سفيان قال لكفار مكة - لما سمعوا {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} -: إن محمدًا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوِّفنا بالبعث، واللاتِ والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، ولا نبعث، فقال الله: قل يا محمد {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}. قاله مقاتل. وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن ذكر هذا السبب ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

فضلها: وروي في فضلها (¬1): أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة سبأ .. لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقًا ومصافحًا، ولكن لا أصل له صحيح، وسميت سورة سبأ لذكر قصة سبأ فيها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة التي قبلها، فلا عود ولا إعادة. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ...} الآيات، مناسبة هذه

الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما بيَّن أنَّ له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم .. أردف ذلك ببيان أنَّ كثيرًا منهم ينكرها أشد الإنكار، ويستهزء بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنًا منهم أنَّ هذه خيالات، بل أضغاث أحلام. وقد ذكر أنَّ مجيئها ضربة لا زب، لتجزى كل نفس بما تسعى من خير أو شر، ثم أعقب هذا ببيان أنَّ الناس فريقان: مؤمن بآيات ربه، يرى أنها الحق، وأنها تهدي إلى الصراط المستقيم، ومعاند جاحد بها، يسعى في إبطالها، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسَّ به نفسه من قبيح الخلال. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله - سبحانه وتعالى - لمَّا (¬2) بين أنهم أنكروا الساعة، ورد عليهم ما قالوا، وأكده كل التأكيد، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسَّ به نفسه من اجتراح المعاصي، وفاسد المعتقدات .. أردف ذلك بذكر مقال للكافرين ذكروه تهكمًا واستهزاءً، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد لعلهم يرجعون عن عنادهم، ويثوبون إلى رشادهم. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنَّ في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله تعالى ورجع إليه .. أردف ذلك بذكر بعض من أنابوا إلى ربهم، فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين، ومن جملتهم: داود عليه السلام، فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوي العَدد والعُدد، ومنحه الصوت الرخيم، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات، وتقف له الطيور الراسيات، وعلمه سرد الدروع؛ لتكون عدة للمقاتلين، درءًا للمجاهدين. قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما منَّ به على داود من النبوة والملك .. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[1]

أردف ذلك بذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح، فتجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد، وتسخير الجن عملة بين يديه، يعملون له شتى المصنوعات، من قصور شامخات، وصور من نحاس، وجفان كبيرة كالأحواض، وقدور لا تتحرك لعظمها؛ إذ كل منهما أناب إلى ربه، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون. وعبارة أبي حيان هنا (¬1): مناسبة قصة داود وسليمان عليهما السلام لما قبلها: هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره؛ إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، من تأويب الجبال والطير مع داود، وإلانة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة. وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده .. ذكر من جملتهم داود، كما قال: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} وبَيَّن ما آتاه الله على إنابته، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}، وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان عليهما السلام احتجاجًا على ما منح محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. رجع إلى التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو انتهى. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْحَمْدُ} بأقسامه الأربعة مستحق {لِلَّهِ} فلا تكون لغيره سبحانه. واعلم (¬2) أنَّ الألف واللام في الحمد؛ إما للجنس، أو للاستغراق، أو للعهد، وعلى كلٍّ منها، فاللام في {لِلَّهِ} إما للملك، أو للاستحقاق، أو للاختصاص، فهذه ثلاثة في الثلاثة الأولى بتسع احتمالات: والأولى منها كون الألف واللام للجنس، واللام ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) سلم المعراج.

للاستحقاق؛ لأنه يلزم من استحقاق الجنس استحقاق الأفراد من باب الأولى، والمعنى حينئذ: جنس الحمد بجميع أفراده وأنواعه مستحق لله تعالى. فإن قلت: لِمَ اختيرت كلمة الحمد دون الشكر حيث لم يقل الشكر لله؟ قلت: اختيرت كلمة الحمد على الشكر؛ لأن الحمد يعم الفضائل والفواضل دون الشكر، فإنه يختص بالفواضل. وإن قلتَ: لِمَ اختيرت كلمة الجلالة دون الرحمن وغيره من الأسماء، حيث لم يقل الحمد للرحمن مثلًا؟ قلتُ: اختيرت الجلالة دون سائر الأسماء والصفات لدلالتها على صفتي الجلال والجمال، وعلى استحقاقه الحمد لذاته؛ لئلا يتوهم اختصاصه بصفة دون أخرى؛ لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق. وقد بسطت الكلام على الحمدلة، وعلى الصور الجارية فيها إلى أن وصلت بمئة وثمانين صورة في بعض مؤلفاتي "سلم المعراج على خطبة المنهاج"، و"فتح الملك العلام على عقيدة العوام"، فراجعه إن أردت الخوض فيها. أي: جميع (¬1) أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد وشاكر ملك لله تعالى، ومخصوص به، لا شركة لأحد فيه؛ لأنه الخالق والمالك، كما قال: {الَّذِي لَهُ} خاصة خلقًا وملكًا وتصرفًا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي (¬2): جميع الموجودات، فإليه يرجع الحمد لا إلى غيره، وكل مخلوق أجرى عليه اسم المالك، فهو مملوك له تعالى في الحقيقة؛ لأن الزنجي لا يتغير عن لونه؛ لأن سمي كافورًا، والمراد: على نعمه الدنيوية، فإنَّ السموات والأرض وما فيهما خلقت لانتفاعنا، فكلها نعمة لنا دينًا ودنيا، فاكتفي بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضًا فيها. وقد صرح في موضع آخر، كما قال: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ}، وهذا القول؛ أي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ ...} إلخ، وان كان حمدًا لذاته بذاته، لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه، فكأنه قال: قولوا يا عبادي: الحمد لله ... إلخ، إذا أردتم ثنائي وشكري. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

والمعنى (¬1): أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض، دون كل ما يعبدونه، ودون كل شيء سواه؛ إذ لا مالك لشيء من ذلك غيره. والخلاصة: أن له عَزَّ وَجَلَّ جميع ما في السمموات وما في الأرض خلقًا وملكًا، وتصرفًا بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة. وعبارة "الشوكاني" هنا: ومعنى (¬2): {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: أي جميع ما هو فيها في ملكه، وتحت تصرفه، يفعل به ما يشاء، ويحكم فيه بما يريد، وكل نعمة واصلة إلى العبد، فهي مما خلقه له، ومنَّ به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم. ولما بيَّن أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به .. بيَّن أن الحمد الأخروي مختص له كذلك، فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}، فهو بيان لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به على أن الجار؛ إما متعلق بنفس الحمد، أو بما يتعلق به الخبر من الاستقرار، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر المحمود عليه ليعم النعم الأخروية، كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}، وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية، كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}؛ أي: لما جزاؤه هذا من الإيمان والعمل الصالح. والمعنى: أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة. وقد قيل (¬3): يحمده أهل الجنة في ستة مواضع: أحدها: حين نودي {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} فإذا ميِّز المؤمنون من الكافرين يقول المؤمنون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، كما قاله نوح عليه السلام حين أنجاه الله من قومه. والثاني: حين جاوزوا الصراط قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[2]

والثالث: حين دنوا إلى باب الجنة، واغتسلوا بماء الحياة، ونظروا إلى الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}. والرابع: حين دخلوا الجنة، واستقبلتهم الملائكة بالتحية قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ [. . . .] الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ}. والخامس: حين استقروا في منازلهم قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ}. والسادس: كلما فرغوا من الطعام قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة على طريق التفضل (¬1): أن الأول: على نهج العبادة، والثاني: على وجه التلذذ، كما يتلذذ العطشان بالماء البارد لا على وجه الفرض والوجوب. وقد ورد في الخبر: "أنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس" والمعنى: أنَّ الحمد في الدنيا عبادة، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج؛ لأنه قد انقطع التكليف فيها. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَكِيمُ} الذي أحكم أمور الدين والدنيا والآخرة، ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمة، وتستدعيه المصلحة {الْخَبِيرُ}؛ أي: بليغ الخبرة والعلم ببواطن الأشياء ومكنوناتها. 2 - ثم بيَّن كونه خبيرًا بقوله: {يَعْلَمُ} سبحانه وتعالى {مَا يَلِجُ} ويدخل {فِي الْأَرْضِ} من البذور والغيث، ينفذ في موضع، وينبع من آخر، ومن الكنوز والدفائن، والأموات، والحشرات، والهوام، ونحوها. وأيضًا: يعلم ما يدخل في أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس، والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام، {و} يعلم {مَا يَخْرُجُ مِنْهَا}؛ أي: من الأرض، كالحيوان من حجره، والزرع والنبات، وماء العيون, والغازات، والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين، ومخلفات الأمم ومصنوعاتهم؛ كمخلفات المصريين القدماء، ونقوش آشور وبابل، وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم، مما استخرجه علماء العاديات من الأوروبيين في القرن الماضي، والعصر الحاضر، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدًا يدل على أن ¬

_ (¬1) روح البيان.

الشرق كان ذا مدنيَّة وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه، وكالأموات عند الحشر ونحوها، وأيضًا: يعلم ما يخرج من أرض البشرية من الصفات المتولدة منها، والأعمال الحسنة والقبيحة. {و} يعلم {مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} كالملائكة، والكتب، والمقادير، والأرزاق، والبركات، والأمطار، والثلوج، والبرد، والأنداء، والشهب، والصواعق ونحوها. وأيضًا: يعلم ما ينزل من سماء القلب من الفيوض الروحانية، والإلهامات الربانية. وقرأ الجمهور (¬1): {يَنْزِلُ} بفتح الياء وتخفيف الزاي مسندًا إلى {مَا}. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندًا إلى الله سبحانه. {و} يعلم {مَا يَعْرُجُ} ويصعد {فِيهَا}؛ أي: في السماء، كالملائكة والأرواح الطاهرة، والأبخرة والأدخنة، والدعوات، وأعمال العباد، والطائرات والمطاود الجوية، وأيضًا: يعلم ما يعرج في سماء القلب من آثار الفجور والتقوى، وظلمة الضلالة، ونور الهدى. ولم (¬2) يقل: إليها؛ لأن قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى هو المنتهى لا السماء، ففي ذكر {فِي} إعلام بنفوذ الأعمال فيها، وصعودها منها إليه تعالى. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الرَّحِيمُ} للحامدين، ولمن تولاه {الْغَفُورُ} للمقصِّرين، ولذنوب أهل ولايته؛ أي: وهو مع كثرة نعمه، وسبوغ فضله، رحيمٌ بعباده، فلا يعاجل بعقوبة، غفورٌ لذنوب التائبين إليه، المتوكلين عليه. فإذا كان الله متصفًا بالخلق والملك (¬3)، والتصرف والحكمة، والعلم والرحمة، والمغفرة، ونحوها من الصفات الجليلة .. فله الحمد المطلق، والحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من جهة التعظيم من نعمة وغيرها، كالعلم والكرم، وأما قولهم: الحمد لله على دين الإِسلام، فمعناه: على تعليم الدين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[3]

وتوفيقه، والحمد القولي: هو حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به نفسه على لسان أنبيائه، والحمد الفعلي هو الإتيان بالأعمال الصالحة البدنية ابتغاءً لوجه الله تعالى، والحمد الحاليُّ هو الاتصاف بالمعارف والأخلاق الإلهية، والحمد عند المحنة: الرضى عن الله فيما حكم به، وعند النعم: الشكر، فيقال في الضراء: الحمد لله على كل حال، نظرًا إلى النعمة الباطنة دون الشكر لله خوفًا من زيادة المحنة؛ لأن الله تعالى قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، والحمد على النعمة، كالروح للجسد، فلا بد من إحيائها، وأبلغ الكلمات في تعظيم صنع الله، وقضاء شكر نعمته: الحمد لله، ولذا جعلت زينة لكل خطبة، وابتداءٍ لكل مدحة، وفاتحةً لكل ثناء، وفضيلةً لكل سورة، ابتدئت بها على غيرها. وفي الحديث: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله، فهو أجذم"؛ أي: أقطع فله الحمد قبل كل كلام بصفات الجلال والإكرام. قال في "فتوح الحرمين": أَحْسَنُ مَا اهْتَمَّ بِهِ ذَوُوْ الْهِمَمِ ... ذِكْرٌ جَمِيْلٌ لِوَليِّ النِّعَمِ 3 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} المراد بهؤلاء القائلين: جنس الكفرة على الإطلاق، أو كفار مكة على الخصوص، ومعنى قوله: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أنها لا تأتي بحال من الأحوال إنكارًا منهم لوجودها، لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم، أو حال حياتهم، مع تحقق وجودها فيما بعد، وعبَّر عن القيامة بالساعة تشبيهًا لها بالساعة التي هي جزء من أجزاء الزمان؛ لسرعة حسابها. قال في "الإرشاد": أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة، لا أنفسهم أو معاصرهم فقط، كما أرادوا بنفي إتيانها وجودها بالكلية، لا عدم حضورها مع تحققها في نفس الأمر، وإنما عبروا عنه بذلك؛ لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها, ولأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا تكون إلا بالإتيان والحضور، وردَّ الله سبحانه عليهم، وأمر رسوله أن يقول لهم: {قُلْ} لهم يا محمد {بَلَى} ردٌّ لكلامهم، وإثبات لما نفوه من إتيان الساعة على معنى ليس الأمر إلا إتيانها {وَرَبِّي} الواو فيه للقسم، أتى به لتأكيد الإتيان؛ أي: أقسمت بربي، ومالك أمري {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الساعة ألبتة، وهو تأكيد لما قبله.

قرأ الجمهور (¬1): {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} بتاء التأنيث؛ أي: لتأتينكم الساعة التي أنكرتم مجيئها، وقرأ طلق المعلم عن أشياخه بياء الغيبة على معنى: ليأتينكم البعث؛ لأنه مقصودهم من نفي الساعة؛ أي: أنهم لا يبعثون، أو على معنى: ليأتينكم يوم القيامة، أو على إسناده إلى الله على معنى: ليأتينكم أمر عالم الغيب على حد قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}؛ أي: أمره، ويبعد أن يكون الضمير للساعة لأن إجراء المؤنث المجازي مجرى المذكر لا يكون إلا في الشعر نحو قوله: وَلَا أرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا ثم بعد أن أكد الجواب بالقسم على البعث، أتبع القسم بقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ} وما بعده ليعلم أنَّ إتيانها من الغيب الذي تفرد به سبحانه وتعالى، وجاء القسم بقوله: {وَرَبِّي} مضافًا إلى الرسول ليدل على شدة القسم؛ إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله. وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب: {عالم} بالرفع على إضمار: هو، وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر {لَا يَعْزُبُ} وقال الحوفي: أو خبره محذوف؛ أي: عالم الغيب هو، وقرأ باقي السبعة: {عَالِمِ} بالجر على أنه بدل من {رَبِّي}، أو نعت له. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {علام} على المبالغة والخفض، وقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ} تشديد للتأكيد بالقسم، كما مر، يريد (¬2) أن الساعة من الغيوب، والله عالم بكلها، والغيب: ما غاب عن الخلق على ما قال بعضهم: العلقة: غيب في النطفة، والمضغة: غيب في العلقة، والإنسان: غيب في هذا كله، والماء: غيب في الهواء، والنبات: غيب في الماء، والحيوان: غيب في النبات، والإنسان: غيب في هذا كله، والله سبحانه وتعالى قد أظهر من هذه الغيوب، وسيظهره بعدما كان غيبًا في التراب. وفائدة الأمر باليمين: أن لا يبقى للمعاندين عذرٌ أصلًا لما أنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب، فضلًا عن اليمين الفاجرة، وإنما لم يصدقوه مكابرة، وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس الكاذبة المكذبة، فمن وكله الله بالخذلان إلى طبيعة نفسه .. لا يصدر منه إلا الإنكار، ومن نظره الله إلى قلبه بنظر العناية .. فلا يظهر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

منه عند سماع قوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} إلا الإقرار والنطق بالحق. ومعنى قوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} تعالى؛ أي: لا يبعد عن علمه، ولا يغيب، ولا يستتر عليه {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}؛ أي: وزن نملة صغيرة، أو مقدار الهباء كائنة {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}، وفيه إشارة إلى علمه بالأرواح والأجسام {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ} المثقال {وَلَا أَكْبَرُ} منه. ورفعهما على الابتداء، فلا وقف عند {أَكْبَرُ}، والخبر: قوله تعالى: {إِلَّا} هو مسطور ومثبت {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} هو اللوح المحفوظ المظهر لكل شيء، وإنما كتب جريًا على عادة المخاطبين، لا مخافة نسيان، وليعلم أنه لم يقع خللٌ وإن أتى عليه الدهر، والجملة مؤكدة لنفي العزوب، والمعنى: إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله تعالى. فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذكر الأكبر، فإن مَنْ علم الأصغر من الذرة لا بدَّ وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: أن المراد من هذا الكلام بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر .. لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر؛ لكونها محل النسيان، وأمَّا الأكبر .. فلا ينسى، فلا حاجة إلى إثباته فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك، فإن الأكبر مكتوب فيه أيضًا. اهـ "كرخي". وقرأ الجمهور (¬1): {يَعْزُبُ} بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها، قال الفراء: والكسر أحبُّ إليَّ، وهما لغتان يقال: عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر: إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور: {وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} برفع الراءين بالرفع على الابتداء، والخبر {إِلَّا فِي كِتَابٍ}، كما مرَّ، أو على العطف على {مِثْقَالُ}، ويكون {إِلَّا فِي كِتَابٍ} تأكيدًا لما تضمن النفي في قوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} تقديره: لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به، فكأنه في كتاب وليس ثَمَّ كتاب حقيقة، وعلى التقدير الأول: الكتاب هو اللوح المحفوظ. وقرأ قتادة والأعمش بفتح الراءين عطفًا على {ذَرَّةٍ} أو على أن {لَا} هي لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح. وقرأ زيد بن علي: {ولا أصغرِ من ذلك ولا أكبرِ} بخفض الراءين بالكسرة، كأنه نوى مضافًا إليه محذوفًا، التقدير: ولا أصغره، ولا أكبره، ومن ذلك ليس متعلقًا بأفعل، بل هو بتبيين؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظًا، فبينه بقوله: {مِنْ ذَلِكَ}. قيل: قوله: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ} إشارة إلى علمه بالأرواح، {وَلَا فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى علمه بالأشباح، وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولًا .. فكذلك يعيدهما ثانيًا. قيل: سبب نزول هذه الآية (¬1): أن أبا سفيان قال لكفار مكة - لما سمعوا {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} -: إن محمدًا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوفنا بالبعث، واللاتِ والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، ولا نبعث، فقال الله: قل يا محمد: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}، قاله مقاتل. وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن ذكر هذا السبب ظهرت به المناسبة بين هذه السورة، والسورة التي قبلها. ومعنى الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الخ: أي (¬2): وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا, ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما نحن بمبعوثين، وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدًا لهم بطلان ما يدعون: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}؛ أي: قل لهم إنها وربي لآتية لا ريب فيها. وهذه الآية إحدى آياتٍ ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكر من أهل الشرك والعناد: فإحداهن: في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)}. وثانيتها: في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[4]

وثالثتها: ما هنا. ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم، وعظيم الإحاطة بالموجودات، مما يؤكِّد إمكان البعث، فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} الخ؛ أي: إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شيء في السموات، ولا في الأرض، من ذرة فما دونها, ولا ما فوقها، أين كانت، وأين ذهبت، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين، فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت، وأين تفرقت، فيعيدها كما بدأها أول مرة، وهو بكل شيء عليم، 4 - ثم بَّين الحكمة في إعادة الأجسام، وقيام الساعة بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، واللام (¬1) فيه علة لقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وبيان لما يقتضي إتيانها، فاللام للعلة عقلًا، وللمصلحة والحكمة شرعًا؛ أي: إتيان الساعة فائدته ومصلحته وحكمته: جزاء المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب. والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} للموصول؛ أي: أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم؛ أي: لهم بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح مغفرة؛ أي: ستر ومحو لما صدر عنهم مما لا يخلو عنه البشر {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعب فيه، ولا منَّ عليه، وهو الجنة، بخلاف رزق الدنيا، فإنه لا يأتي إلا بتسبب وتعب. والمعنى (¬2): أي يبعثهم الله سبحانه من قبورهم يوم القيامة ليثيب الذين آمنوا بالله، وعملوا بما أمرهم به، وانتهوا عما نهاهم عنه، وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه، وعيش هنيء في الجنة، لا تعب فيه، ولا منَّ عليه. والخلاصة: أنَّ الحكمة تقتضي وجودها, وليس هناك مانع منها، فالعلم المحيط بالغيب موجود، فقد وجد المقتضي لوجودها، وارتفع المانع من إتيانها. 5 - ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة، فقال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} واجتهدوا {فِي} إبطال {آيَاتِنَا}، وحججنا وأدلتنا التكوينية، أو التنزيلية المنزلة على الرسل بالرد والطعن فيها، وصدِّ الناس عن التصديق بها حالة كونهم {مُعَاجِزِينَ}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[6]

أي: ظانين ومقدِّرين أنهم يعجزوننا، ويفوتوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نشور، فيكون لهم ثواب وعقاب. قال في "البحر": ظانين في زعمهم وتقديرهم أنهم يفوتوننا، وأن كيدهم للإسلام يتم لهم. قرأ الجمهور (¬1): {مُعَاجِزِينَ} مخففًا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال: {معجِّزين} مثقلًا؛ أي: مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات، مدخلين عليهم العجز في نشاطهم، وهذا هو معنى سعيهم في شأن الآيات، أو معجزين قدرة الله في زعمهم. {أُولَئِكَ} الساعون {لَهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابٌ} عظيم {مِنْ رِجْزٍ}؛ أي: من سيء العذاب، فـ {مِنْ} للبيان، {أَلِيمٌ} بالرفع صفة {عَذَابٌ}؛ أي: شديد الإيلام. وفي "المفردات": أصل الرجز: الاضطراب، وهو في الآية كالزلزلة، والظاهر (¬2) أن قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي {أُولَئِكَ}، وقيل: ومنصوب عطفًا على {الَّذِينَ آمَنُوا}، والمعنى عليه: أي وليجزي الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادًا منهم، وكفرًا، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم، فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم، وبئس المهاد؛ لما اجترحوا من السيئات، ودسوا به أنفسهم من قبيح الأعمال. وإجمال ذلك: أن الساعة آتية لا ريب فيها؛ لينعم السعداء المؤمنون، ويعذِّب الأشقياء الكافرون. قرأ الجمهور: {أَلِيمٌ} بالجر صفة لـ {رِجْزٍ}. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالرفع صفة لـ {عَذَابٌ}، ونحو الآية قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}، وقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}. 6 - ثم استشهد باعتراف أولي العلم ممن آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار وأضرابهما بصحة ما أنزل إليه؛ ليرد به على أولئك الجهلة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة، فقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مستأنف (¬1) مسوق للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات؛ أي: ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن شايعهم من علماء الأمة، أو من آمن من علماء أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، والأول أظهر؛ لأن السورة مكية، كما في "التكملة". {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: النبوة والقرآن والحكمة، والموصول مع صلته مفعول أول لـ {وَيَرَى}. {هُوَ} ضمير فصل يفيد التوكيد، كقوله تعالى: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}. {الْحَقَّ} بالنصب على أنه مفعول ثان لـ {يَرَى}، وبه قرأ الجمهور، وقرأ (¬2) ابن أبي عبلة بالرفع؛ جعل {هُوَ} مبتدأ، و {الْحَقَّ}: خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ {يَرَى}، وهي لغة تميم، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأً، قاله أبو عمر الجرمي. وقوله: {وَيَهْدِي} عطف على {الْحَقَّ}، عطف فعل على اسم، كما في قوله تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}؛ أي: وقابضات، فكأنه قيل: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك الحق، وهاديًا {إِلَى صِرَاطِ} الله {الْعَزِيزِ} في ملكه {الْحَمِيدِ} عند خلقه الذي هو التوحيد، والتوشح بلباس التقوى، وهذا يفيد رهبةً؛ لأن العزيز يكون ذا انتقام من المكذِّب، ورغبة؛ لأن الحميد يشكر على المصدِّق، والمراد: أنه يهدي إلى دين الله، وهو التوحيد. ومعنى الآية (¬3): أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا، وقال العالمون من أهل الكتاب، ومن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن يأتي من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتًا لقيام الساعة، ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر، هو الحق الذي لا شك فيه، وأنه هو الذي يرشد من اتبعه، وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب، ولا يمانع، وهو القاهر لكل شيء، والغالب له، وهو المحمود على جميع أفعاله وأقواله، وما أنزله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[7]

من شرع ودين. وفي الآية: إيماء إلى أن دين الإِسلام (¬1)، وتوحيد الملك العلام، هو الذي يتوصل به إلى عزة الدارين، وإلى القربة والوصلة والرؤية في مقام العين. كما أن الكفر والتكذيب يتوصل به إلى المذمة والمذلة في الدنيا والآخرة، وإلى البعد والطرد والحجاب عما تعانيه القلوب الحاضرة، والوجوه الناظرة. قال بعض الكبار: يشير بالآية إلى الفلاسفة الذين يقولون: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان حكيمًا من حكماء العرب، وبالحكمة أخرج هذا الناموس الأكبر، يعنون: النبوة والشريعة، ويزعمون أن القرآن كلامه، أنشأه من تلقاء نفسه، يسعون في هذا المعنى مجاهدين جهدًا تامًا في إبطال الحق، وإثبات الباطل، فلهم أسوأ الطرد والإبعاد؛ لأن القدح في النبوة ليس كالقدح في سائر الأمور، وأما الذين أوتوا العلم من عند الله تعالى موهبة منه، لا من عند الناس بالتكرار والبحث، فيعلمون أن النبوة والقرآن والحكمة هو الحق من ربهم، وإنما يرون هذه الحقيقة؛ لأنهم ينظرون بنور العلم الذي أوتوه من الحق تعالى، فإنَّ الحق لا يرى إلا بالحق، كما أن النور لا يرى إلا بالنور. ولما كان يرى الحق بالحق .. كان الحق هاديًا لأهل الحق وطالبيه إلى طريق الحق، وذلك قوله: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، فهو العزيز؛ لأنه لا يوجد إلا به، وبهدايته، والحميد؛ لأنه لا يرد الطالب بغير وجدان، كما قال: "ألا من طلبني وجدني". قال موسى عليه السلام: أين أجدك يا رب؟ قال: "يا موسى، إذا قصدت إليَّ فقد وصلت إليَّ" انتهى. 7 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منكري البعث، وهم كفار قريش، قالوا بطريق الاستهزاء مخاطبًا بعضهم لبعض: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنون به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قصدوا بالتنكير الهزء والسخرية؛ أي: هل نرشدكم إلى رجل {يُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم بأمر عجيب، ونبأ غريب، هو: {أنكم إذا} متم و {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}؛ أي: وفرقت أجسادكم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، وصرتم بعد موتكم رفاتًا وترابًا {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: تخلقون خلقًا جديدًا وتبعثون من قبوركم أحياء، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها أولًا، والخلق الجديد إشارة إلى النشأة الثانية. والعامل في {إِذَا} محذوف دلَّ عليه ما بعده؛ أي: تنشأون خلقًا جديدًا، ولا يعمل فيها مزقتم؛ لإضافتها إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا ينبئكم؛ لأن التنبئة لم تقع وقت التمزيق، بل تقدمت عليه، ولا جديد؛ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. قال هذا القول بعضهم لبعض؛ استهزاءً بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به، والتضاحك مما يقوله من ذلك، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة كريبة نادرة؛ لما كان البعث عندهم من المحال .. جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، وأتوا باسمه عليه السلام نكرةً في قوله: هل ندلكم على رجل، وكان اسمه أشهر علم في قريش، بل في الدنيا، وإخباره بالبعث أشهر خبر؛ لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء، والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية، فلذلك نكروا اسمه، كما سبق. وقرأ الجمهور (¬1): {يُنَبِّئُكُمْ} بالهمز والتشديد، وزيد بن علي بإبدال الهمزة ياءً محضةً، وحكى عنه الزمخشري: {ينبئكم} بالهمز من {أنبأ} ومعنى الآية: أي: وقال قريش بعضهم تعجبًا واستهزاءً وتهكمًا وإنكارًا: هل سمعتم برجل يقول: إنا إذا تقطعت أوصالنا، وتفرقت أبداننا، وبليت عظامنا .. نرجع كرةً أخرى أحياءً كما كنا، ونحاسب على أعمالنا، ثم نثاب على الإحسان إحسانًا، ونجزى على اجتراح الآثام آلامًا بنار تلظى، تشوي الوجوه والأجسام. وخلاصة ذلك: أنه يقول: إذا أكلتكم الأرض، وصرتم رفاتًا وعظامًا، وقطعتكم السباع والطير .. ستحيون وتبعثون، ثم تحاسبون على ما فرِّط منكم من صالح العمل وسيِّئه. 8 - ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البعث بين أمرين، فقالوا: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فيما قاله، وهذا أيضًا من كلام الكفار، وأصل (¬2) {أَفْتَرَى}: أافترى بهمزة الاستفهام المفتوحة الداخلة على همزة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الوصل المكسورة للإنكار والتعجب، فحذفت همزة الوصل تخفيفًا مع عدم اللبس، والفرق بين الافتراء والكذب: أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه؛ أي: هل اختلق محمد على الله كذبًا {أَمْ} لم يفترِ، بل {بِهِ جِنَّةٌ}؛ أي: جنون يوهمه ذلك، ويلقيه على لسانه من غير قصد، والجنون: حائل بين النفس والعقل، وهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه، وهما: الكذب على عمد، وهو المعني بالافتراء، والكذب لا عن عمد، وهو المعني بالجنون، فيكون معنى {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}: أم لم يفترِ، فعبر عن عدم الافتراء بالجنة؛ لأن المجنون لا افتراء له؛ لأن الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون، فالإخبار حال الجنة قسيم للافتراء الأخص، لا الكذب الأعم. ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله، فقال: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء كما زعموا، وهو مبرَّأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالحشر والنشر واقعون {فِي الْعَذَابِ} في الآخرة {و} واقعون في الدنيا في {الضَّلَالِ الْبَعِيدِ} عن الصواب والهدى، بحيث لا يرجى الخلاص منه. ووصف الضلال بالبعد على الإسناد المجازي للمبالغة؛ إذ هو في الأصل وصف الضال. لأنه الذي يتباعد عن المنهاج القويم، وكلما ازداد بعدًا عنه .. كان أضل. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه، وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم، وجعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف؛ لأن أسباب العذاب معهم، فكأنهم في وسطه، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على أنَّ علة ما اجترؤوا عليه كفرهم بالآخرة، وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلوا ذلك خوفًا من غائلته. وحاصل الآية (¬1): إثبات الجنون الحقيقي لهم، فإن الغفلة عن الوقوع في العذاب وعن الضلال الموجب لذلك جنون أي جنون، واختلال عقل أي اختلال؛ إذ لو كان فهمهم ادراكهم تامًا وكاملًا .. لفهموا حقيقة الحال، ولما اجترؤوا على سوء المقال. قال بعضهم: كما أن الطفل الصغير يسبى إلى بعض البلاد، فينسى وطنه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

الأصلي بحيث لو ذكر به لم يتذكر، كذلك نفس الإنسان القاسي قلبه، إن ذكر بالآخرة، وهو وطنه الأصلي لم يتذكر، ويكفر به، ويقول مستهزئًا ما يقول، ولا يتفكر أن أجزاءه كانت متفرقة حين كان هو ذرة أخرجت من صلب آدم، كيف جمع الله ذرات شخصه المتفرقة، وجعلها خلقًا جديدًا، كذلك يجمع الله أجزاءه المتفرقة للبعث. والمعنى (¬1): أي ليس الأمر كما زعموا, ولا كما ذهبوا إليه، بل إنَّ محمدًا هو البر الرشيد الذي جاء بالحق، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء، الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل، وأوغلوا في الضلال، وبعدوا عن الإدراك والفهم، وليس هذا إلا الجنون بعينه، وسيؤدي ذلك بهم إلى العذاب؛ إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم، وكذبوه في وعده ووعيده، وتعرضوا لسخطه. 9 - ثم ذكرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات، فقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف (¬2)، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعلوا ما فعلوا من المنكر المستتبع للعقوبة، فلم يروا ولم ينظروا {إِلَى مَا} أحاط بهم من {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، وقدامهم {وَ} إلى {ما} أحاط بهم من {خَلْفَهُمْ} وورائهم حالة كون ما أحاط بهم {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فإنهما أحاطا بهم من جميع جوانبهم، من أمامهم وخلفهم، ويمينهم وشمالهم، حيثما كانوا وساروا، بحيث لا مفر ولا مهرب لهم. والمعنى: أنهم إذا نظروا .. رأوا السماء خلفهم وقدامهم، وكذلك إذا نظروا في الأرض .. رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم، فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله، وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين: أحدهما: أن هذا الخلق الذي خلقه الله تعالى من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث، كما في قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}. والأمر الآخر: التهديد لهم، بأن من خلق السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما .. قادرٌ على تعجيل العذاب لهم. ومن المعلوم (¬1): أن ما بين يدي الإنسان هو كل ما يقع نظره عليه من غير أن يحوِّل وجهه إليه، وما خلفه هو كل ما لا يقع نظره عليه، حتى يحوِّل وجهه إليه، فيعم الجهات كلها. فإن قلت: هلا ذكر الإيمان والشمائل، كما ذكرهما في قوله في الأعراف: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}؟ فالجواب: أنه وجد هنا ما يغني عن ذكرهما من لفظ العموم، والسماء والأرض، بخلاف ما هناك. اهـ "كرخي". ثم بيَّن المحذور المتوقع من جهة السماء والأرض، فقال: {إِنْ نَشَأْ} جريًا على موجب جناياتهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ}؛ أي: نغيبها من تحتهم، كما خسفناها بقارون وأشياعه {أَوْ} إن نشأ {نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} وقطعًا {مِنَ السَّمَاءِ}، كما أسقطناها على أصحاب الأيكة؛ لأن ذلك بما ارتكبوه من الجرائم. ومعنى إسقاط الكسف من السماء (¬2): إسقاط قطع من النار، كما وقع لأصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وأشجار ملتفة؛ حيث أرسل الله تعالى عليهم حرًا شديدًا، فرأوا سحابةً، فجاؤا ليستظلوا تحتها، فأمطرت عليهم النار، فاحترقوا. والمعنى (¬3): أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد، الجاحدون للبعث بعد الممات، فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فيرتدعوا عن جهلهم، ويزدجروا عن تكذيبهم، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم، أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفًا، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم .. فعلنا، لكنا نؤخِّره لحلمنا وعفونا؛ أي: حيثما ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

كانوا .. فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، ولا يخرجوا من ملكوت الله فيهما. وإجمال ذلك: أنه تعالى ذكرهم بأظهر شيء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا, ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام .. لا تعجزه إعادة الأجسام، فهي إذا قيست بها .. كانت كأنها لا شيء، كما قال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}، وفي هذا ما لا يخفي من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد. وقرأ الجمهور (¬1): {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ}، و {نُسْقِطْ} بنون العظمة في الثلاثة، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعيسى والأعمش وابن مطرف: بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة؛ أي: إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في: {نَخْسِفْ بِهِمُ}. قال أبو علي: وذلك لا يجوز؛ لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو: اضرب فلانًا. وقال الزمخشري: وقرأ الكسائي: {نَخْسِفْ بِهِمُ} بالإدغام، وليست بقوية. انتهى. قلت: والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسير الله تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي، ولا الزمخشري. ثم ذكر ما هو كالعلة في الحثِّ على الاستدلال بذلك ليزيح إنكارهم بالبعث، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب، أو فيما تلي من الوحي الناطق بما ذكر {لَآيَةً}؛ أي: لدلالة واضحة تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}؛ أي: راجع إلى ربه، مطيع له في أمره ونهيه، فإن من شأنه الإنابة، والرجوع إلى الله، إذا تأمل فيهما، أو في الوحي المذكور .. ينزجر عن تعاطي القبيح، وينيب إليه تعالى. والمعنى (¬2): أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد، ووقوع المعاد؛ لأن من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[10]

قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها .. قادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام، كما قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)}. فإن قلت: لم قال هنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} بإفراد الآية، وقال فيما بعد: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} بجمعها، فما الفرق بين المقامين؟ قلت: إن ما هنا إشارة إلى إحياء الموتى، فناسبه الإفراد، وما بعد إشارة إلى سبأ قبيلة في البلاد، فصاروا فرقًا، فناسبه الجمع. اهـ "كرخي". وفي الآية (¬1): حثٌّ بليغ على التوبة والإنابة، وزجر عن الجرم والجناية، وأن العبد الخائف لا يأمن قهر الله طرفة عين، فإن الله قادر على كل شيء، يوصل اللطف والقهر من كل ذرة من ذرات العالم. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: إذا صدق العبد في توبته .. صار منيبًا؛ لأن الإنابة ثاني درجة التوبة. وقال أبو سعيد القرشي: المنيب: الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله. وقال بعضهم: الإنابة: الرجوع منه إليه، لا من شيء غيره، فمن رجع من غيره إليه .. ضيع أحد طرفي الإنابة، والمنيب على الحقيقة: من لم يكن له مرجع سواه، ويرجع إليه من رجوعه، ثم يرجع من رجوع رجوعه، فيبقى شبحًا لا وصف له، قائمًا بين يدي الحق، مستغرقًا في عين الجمع: هَجَرْتُ الْخَلْقَ كُلًّا فِيْ هَوَاكَا ... وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَيْ أَرَاكَا فَلَوْ قَطَّعْتَنِيْ فِيْ الْحُبِّ إِرْبًا ... لَمَا سَكَنَ الْفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا وقال بعضهم: هجر النفس: مواصلة الحق، ومواصلة النفس: هجر الحق، ومن الله: الإيصال إلى مقام الوصال. 10 - ثم ذكر سبحانه وتعالى من عباده المنيبين إليه: داود وسليمان، فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا داود عليه السلام {مِنَّا}؛ أي: من ¬

_ (¬1) روح البيان.

جهتنا بلا واسطة {فَضْلًا}؛ أي: زيادة ودرجة؛ أي: نوعًا من الفضل على سائر الأنبياء مطلقًا، سواء كانوا أنبياء بني إسرائيل، أو غيرهم، كما دل عليه قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، والفاضل من وجه، لا ينافي كونه مفضولًا من وجه آخر. وهذا الفضل الذي أعطي داود عليه السلام هو ما ذكر بعد من تأويب الجبال، وتسخير الطير، وإلانة الحديد، فإنه معجزة خاصة به، وهذا لا يقتضي انحصار فضله فيها، فإنه تعالى أعطاه الزبور، كما قال في مقام الامتنان والتفضل: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}. قال في "التأويلات النجمية": والفرق بين داود، وبين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر فضله في حق داود على صفة النكرة، وهي تدل على نوع من الفضل، وشيء منه، وهو الفيض الإلهي بلا واسطة، كما يدل عليه كلمة {مِنَّا}، وقال في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} والفضل الموصوف بالعظمة يدل على كمال الفضل، وكذا قوله: {فَضْلُ اللَّهِ} لما أضاف الفضل إلى الله .. اشتمل على جميع أنواع الفضل. انتهى. ويجوز أن يكون التنكير للتفخيم، و {مِنَّا} لتأكيد فخامته الذاتية لفخامته الإضافية على أن يكون المفضل عليه غير الأنبياء، فالمعنى إذًا: ولقد آتينا داود بلا واسطة فضلًا عظيمًا على سائر الناس، كالنبوة والعلم والقوة والملك والصوت الحسن، وغير ذلك. وقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} مقول لقول محذوف هو بذل من آتينا؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقلنا للجبال: يا جبال أوبي وسبحي مع داود إذا سبح، أو هو مقول لمصدر قول محذوف بدل من {فَضْلًا}؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقَوْلنا: يا جبال أوبي معه. والتأويب على معنيين: أحدهما: الترجيع؛ لأنه من الأوب، وهو الرجوع. والثاني: السير بالنهار كله. فالمعنى على الأول: رجِّعي معه التسبيح، وسبِّحي مرةً بعد مرة، وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها صوتًا مثل صوته، كما خلق الكلام في شجرة موسى عليه السلام، فكان كلما سبَّح سمع من الجبال ما يسمع من المسبح، ويعقل معنى معجزةً له. قالوا: فمن ذلك الوقت يسمع الصدى من

الجبال، وهو ما يرده الجبال على المصوت فيه. والمعنى على الثاني: سيري معه حيث سار، ولعل (¬1) حكمة تخصيص الجبال بالتسبيح أو السير؛ لإنها على صور الرجال، كما دل عليه ثباتها، وقيل: معناه: كان إذا لحقه ملل أو فتور .. أسمعه الله تسبيح الجبال، فينشط له. وقرأ الجمهور: {أَوِّبِي} بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر من التأويب، وهو: الترجيع، أو التسبيح، أو السير، أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق: بضم الهمزة، أمرًا من: آب يؤوب: إذا رجع؛ أي: ارجعي معه. {وَالطَّيْرَ} قرأه الجمهور بالنصب عطفًا على {فَضْلًا} على معنى: وسخرنا له الطير؛ لأن إيتاءَها إياه: تسخيرها له، فلا حاجة إلى إضماره، ولا إلى تقدير المضاف؛ أي: تسبيح الطير، كما في "الإرشاد"، أو عطفًا على محل: {يَا جِبَالُ}؛ لأنه منصوب تقديرًا؛ إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى: وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولًا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي: إنه معطوف على {فَضْلًا} لكن على تقدير مضاف محذوف؛ أي: آتيناه فضلًا، وتسبيح الطير. وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم ومسلمة بن عبد الملك (¬2): بالرفع، عطفًا على لفظ "الجبال"، أو على المضمر في {أَوِّبِي} لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. نزَّل الجبال والطير منزلة العقلاء (¬3)؛ حيث نوديت نداءهم؛ إذ ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته، ومطيع لأمره، فانظر؛ إذ من طبع الصخور الجمود، ومن طبع الطير النفور، ومع هذا قد وافقته عليه السلام، فأشد منها القاسية قلوبهم، الذين لا يوافقون ذكرًا، ولا يطاوعون تسبيحًا، وينفرون من مجالس أهل الحق نفور الوحوش، بل يهجمون عليها بأقدام الإنكار، كأنهم الأعداء من الجيوش. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[11]

قال المولى الجامي: وإنما كان تسبيح الجبال والطير لتسبيحه؛ لأنه لما قوي توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد .. سرى ذلك إلى أعضائه وقواه، فإنها مظاهر روحه، ومنها إلى الجبال والطير فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج، فلا جرم يسبحن لتسبيحه، وتعود فائدة تسبيحها إليه، يعني: لما كان تسبيحها ينشأ عن تسبيحه، لا جرم يكون ثوابه عائدًا إليه، لا إليها؛ لعدم استحقاقها لذلك. انتهى. وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد} معطوف على {آتَيْنَا}؛ أي: ولقد جعلنا الحديد لداود لينًا في نفسه، كالشمع والعجين والمبلول، يصرفه في يده كيف يشاء، من غير إحماءٍ بنار، ولا ضربٍ بمطرقة، أو جعلنا الحديد بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينًا، كالشمع بالنسبة إلى سائر قوى البشرية، وكان داود أوتي شدة قوة في الجسد، وإن لم يكن جسيمًا، وهو أحد الوجهين لقوله: {ذَا الْأَيْدِ} في سورة ص، 11 - وأمرناه بـ {أَنِ اعْمَلْ} واصنع من الحديد لك، ولغيرك دروعًا {سَابِغَاتٍ}؛ أي: واسعات طويلات تامات، تغطي لابسها حتى تفضل عنه، فيجرها على الأرض، وتقيه شر الحرب. والأولى جعل {أَنِ} هنا مصدرية، حذف منها باء الجر، لا مفسرة، وهو عليه السلام أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح حديد مضروبة ثقالًا على لابسها. وقرىء: {صابغات} بالصاد بدلًا من السين، وتقدم أنها لغة في قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ}. قال المفسرون: كان (¬1) داود عليه السلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرًا، فيسأل الناس: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه، فقيَّض الله له ملكًا في صورة آدميّ، فسأله على عادته، فقال له الملك: نعم الرجل لولا خصلة فيه، فسأله عنها، فقال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، ولو أكل من عمل يده. لتمت فضائله، فعند ذلك سأل ربه أن يسبّب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلَّمه تعالى صنعة الدروع، فكان يعمل كل يوم درعًا ويبيعها بأربعة آلاف درهم، أو بستة آلاف، يتفق عليه وعلى عياله ألفين، ويتصدق بالباقي على فقراء بني إسرائيل. وفي الحديث: "كان داود لا يأكل إلا من كسب يده"، وفي الآية دليل على ¬

_ (¬1) روح البيان.

تعلم أهل الفضل الصنائع، فإن العمل بها لا ينقص بمرتبتهم، بل ذلك زيادة في فضلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وفي الحديث: "إن خير ما أكل المرء من عمل يده". {وَقَدِّرْ}؛ أي: واقتصد وتوسَّطْ {فِي السَّرْدِ}؛ أي: في نسج الدروع بحيث تناسب مساميرها لحلقاتها؛ أي: لا تجعل مسمار الدرع دقيقًا فيقلقل، ولا غليظًا فيفصم الحلق، أو المعنى: توسط عند نسج الدروع في حلقاتها؛ أي: لا تعملها صغيرة، فتضعف، ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة، فتثقل على لابسها، أو المعنى: اجعل (¬1) كل حلقة مساوية لأختها، ضيقة، لا ينفذ منها السهم لغلظها, ولا تثقل حاملها، واجعل كلها بنسبة واحدة، وقدر واحد. أو المعنى: قدر وتوسط في سرد الدروع ونسجها, ولا تصرف جميع أوقاتك إلى نسج الدروع، بل اشتغل به مقدار ما تحصل به قوتك وحوائجك، وأما باقي الأوقات .. فاصرفه إلى عبادة ربك. قال الرازي: أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب، وإنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة، فقدر في ذلك العمل، ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب، بل حصِّل فيه القوت فحسب. انتهى. وهذا المعنى هو المناسب لما بعده، وهو قوله: {وَاعْمَلُوا} يا آل داود، خطاب له ولأهله لعموم التكليف، ويجوز أن يكون أمرًا لداود فقط؛ شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع. {صَالِحًا}؛ أي: عملًا صالحًا خالصًا من الأغراض {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا أضيع عمل عامل منكم، فأجازيكم عليه، وهو تعليل للأمر، أو لوجوب الامتثال به، والبصير: هو المدرك لكل موجود برؤيته، ومن عرف أنه البصير .. راقبه في الحركات والسكنات، حتى لا يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق، فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مئة مرة .. فتح الله بصيرته، ووفَّقه لصالح القول والعمل، وإن كان الإنسان لا يخلو عن الخطأ. ¬

_ (¬1) الصاوي.

[12]

وإجمال معنى الآية: وعزتي وجلالي لقد (¬1) أعطينا داود عليه السلام منَّا نعمًا ومننًا فقلنا للجبال وللطير: رجعي معه التسبيح، وردديه إذا سبح ذلك بأن نحمله عليه إذا تأمل عجائبها، فهي له مذكرات، كما يذكر المسبِّح مسبِّحًا آخر، وجعلنا الحديد في يده لينًا، يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم، وأحكم الأوضاع، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة، فلا هي بالضيقة فتضعف، ولا تؤدي وظيفتها لدى الكر والفر، والشد والجذب، ولا هي بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى. وهذا تعليم من الله تعالى له في إجادة نسج الدروع. قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقًا، وكانت قبل ذلك صفائح، فكانت ثقالًا. واعمل يا داوود أنت وآلك بطاعة الله تعالى، فأجازيكم كفاء ما عملتم، ثم علل هذا الأمر بقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ أي: إني مراقب لكم، مطلع عليكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليَّ شيء منها، وفي هذا ما لا يخفي من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل، والإخلاص فيه. 12 - ثم ذكر سبحانه ما أنعم به على ولده سليمان من النبوة والملك والجاه العظيم فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}؛ أي: وسخرنا لسليمان عليه السلام الريح، وهي ريح الصبا. وقرأ الجمهور (¬2): {الرِّيحَ} بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح، كما قاله الزجاج. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والخبر، أي: والريح مسخرة لسليمان، وقرأ الجمهور: {الرِّيحَ} بالإفراد، وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس: {الرياح} بالجمع. {غُدُوُّهَا}؛ أي: جريها وسيرها بالغداة؛ أي: من لدن طلوع الشمس إلى زوالها، وهو وقت انتصاف النهار {شَهْرٌ}؛ أي: مسيرة شهر؛ أي: مسير دواب الناس في شهر. {وَرَوَاحُهَا}؛ أي: جريها وسيرها بالعشي؛ أي: من انتصاف النهار إلى الليل {شَهْرٌ}؛ أي: مسيرة شهر، ومسافته، يعني: كانت تسير في يوم واحد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

مسيرة شهرين للراكب المسرع، والجملة إما مستأنفة، أو حال من الريح. وعن الحسن: كان يغدو من دمشق مع جنوده على البساط، فيقيل باصطخر، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع، واصطخر: بزنة فردوس بلدة من بلاد فارس بناها لسليمان صخر الجني المراد بقوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} ثم يروح من اصطخر، ويبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع، وكابل بضم الباء الموحدة: ناحية معروفة من بلاد الهند، وكان عليه السلام يتغدى بالري، ويتعشى بالسمرقند، والري: من مشاهير ديار الديلم بين قومس والجبال، والسمرقند: أعظم مدينة بما وراء النهر؛ أي: نهر جيحون. قال مقاتل: كان ملك سليمان ما بين مصر وكابل. وقال بعضهم: جميع الأرض، وهو الموافق لما اشتهر عندهم من أنه ملك الدنيا كلها أربعة: اثنان من أهل الإِسلام، وهما: الاسكندر وسليمان، واثنان من أهل الكفر، وهما: نمرود وبختنصر. {وَأَسَلْنَا}؛ أي: أذبنا وأجرينا {لَهُ}؛ أي: لسليمان {عَيْنَ الْقِطْرِ}؛ أي: عين النحاس المذاب أسأله من معدنه، كما ألان الحديد لأبيه داود، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، ولذلك سمي عينًا. وكان ذلك باليمن بقرب صنعاء. وقال القرطبي: والظاهر أن الله جعل النحاس لسليمان في معدنه عينًا تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته. اهـ. واصطناع الناس في النحاس بعد لينه وإذابته - ولو كانت بالنار - من آثار الكرامة التي أعطيها سليمان، ولولاها ما لان النحاس أصلًا؛ لأنه قبل سليمان لم يكن يلين أصلًا بنار ولا بغيرها اهـ "شيخنا". وقوله: {وَمِنَ الْجِنِّ}: خبر مقدم {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}: مبتدأ مؤخر؛ أي: ومن يعمل بين يدي سليمان كائن من الجن. ويجوز أن يكون {مَنْ يَعْمَلُ} منصوبًا بفعل مقدر، و {مِنَ الْجِنِّ} متعلق بهذا المقدر، أو حال من {مَنْ} الموصولة، ويؤيد هذا الاحتمال ما في سورة ص من قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} فإنه منصوب بـ {سَخَّرْنَا} المصرح به. والتقدير: وسخرنا له من يعمل بين يديه وقدامه حال كونه من الجن، وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} متعلق بـ {يَعْمَلُ}؛ أي: يعمل له بإذن ربه؛ أي: بأمره كما ينبيء عنه قوله: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا}؛ أي: ومن يعدل من الجن ويميل عما أمرناه به من طاعة سليمان ويعصه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ

[13]

السَّعِيرِ}؛ أي: ندخله في الآخرة عذاب النار المسعرة. وهذا ما عليه جمهور المفسرين. وقيل: نذقه في الدنيا من عذاب النار، وقال السدي: وكل الله تعالى بالجن ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان .. ضربه بذلك السوط من حيث لا يراه ضربة أحرقته بالنار. والمعنى: أي وسخرنا له من الجن من يبني له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته .. نذقه عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة، وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن، ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المباني الشاهقة، والقصور العظيمة، والتماثيل البديعة. 13 - ثم بيَّن سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ}؛ أي: يعمل الجن لسليمان {مَا يَشَاءُ} سليمان ويريد {مِنْ مَحَارِيبَ} بيان لما يشاء، جمع: محراب، وهو البناء المرتفع الذي يرقى إليه بدرج، والقصر العالي. سمي محرابًا؛ لأنه يذب عنه، ويحارب عليه تشبيهًا بمحراب المسجد؛ لأنه يحارب فيه الشيطان، كما سيأتي البحث عنه في مبحث مفردات اللغة. والمعنى: يبنون له ما يشاء من قصور حصينة، ومساكن شريفة، سميت بذلك؛ لأنها يذب عنها، ويحارب عليها. قال المفسرون: فبنتِ الشياطين لسليمان تدمر على زنة تنصر، وهي بلدة بالشام، والأبنية العجيبة باليمن، وهي صرواج ومرواج وبينون وسلحين وهيذة وهنيذة وفلتوم وغمدان، ونحوها. وكلها خراب الآن، وعملوا له بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء. قصة بناء سليمان لبيت المقدس وروي (¬1): أنه أراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس، فبناه مرارًا، فلما فرغ منه تهدم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود: يا رب، ألم يكن ذلك في سبيلك؟ قال: بلى، ولكنهم أليسوا عبادي، فقال: يا رب، اجعل بنيانه على يدي من هو منى، فأوحى ¬

_ (¬1) روح البيان.

الله تعالى إليه أن ابنك سليمان يبنيه، فإني أملِّكه بعدك، وأسلِّمه من سفك الدماء، وأقضي إتمامه على يده. وسبب هذا: أن الشفقة على خلق الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله بإجراء الحدود المفضية إلى هلاكهم، ولكون إقامة هذه النشأة أولى من هدمها فرض الله في حق الكفار الجزية والصلح إبقاءً عليهم، ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لولي الدم أخذ الفدية أو العفو، فإن أبى فحينئذ يقتل. ألا ترى سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة، فرضي واحد بالدية، أو عفا عن حقه، وباقي الأولياء لا يرون إلا القتل كيف يراعي من عفا، ويرجَّح على من لم يعفُ، فلا يقتل قصاصًا. ثم نرجع إلى القصة: فصلوا فيه زمانًا، وكان مولد سليمان بغزة، وملك بعد أبيه، وله اثنتا عشرة سنة، ولما كان في السنة الرابعة من ملكه في شهر أيار سنة تسع وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام .. ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس وإتمامه حسبما تقدم وصية أبيه إليه، وجمع حكماء الإنس والجن، وعفاريت الأرض، وعظماء الشياطين، وجعل منهم فريقًا يبنون، وفريقًا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام، وفريقًا يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان، وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة والدجاجة، وبنى مدينة بيت المقدس، وجعلها اثني عشر ربضًا، وأنزل كل ربض منها سبطًا من أسباط بني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطًا، ثم بني المسجد الأقصى بالرخام الملون، وسقفه بألواح الجواهر الثمينة، ورصع سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت، وأنبت الله شجرتين عند باب الرحمة إحداهما: تنبت الذهب، والأخرى: تنبت الفضة، فكان كل يوم ينزع من كل واحدة مئتي رطل ذهبًا وفضة، وفرش المسجد بلاطة من ذهب، وبلاطة من فضة، وبألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيتٌ أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه، وكان ذلك بعد هبوط آدم من الجنة بأربعة آلاف سنة وأربع مئة وأربع عشرة سنة، وبين عمارة سليمان لمسجد بيت المقدس، والهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ألفُ سنة وثمان مئة سنة، وقريب من سنتين. ولما فرغ من بناء المسجد .. سأل الله تعالى ثلاثًا: حكمًا يوافق حكمه،

وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله أن لا يأتي إلى هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نرجو أن يكون قد أعطاه إياه"، ولما رفع سليمان يده من البناء .. جمع الناس، فأخبرهم أنه مسجد لله تعالى، وهو سبحانه أمره ببناءه، وأن كل شيء فيه لله، ومن انتقص شيئًا منه فقد خان الله. قال سعيد بن المسيب (¬1): لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس .. تغلقت أبوابه، فعالجها سليمان، فلم تنفتح حتى قال في دعائه: بصلوات أبي داود، وافتح الأبواب، فتفتحت فوزع له سليمان عشر آلاف من قراء بني إسرائيل، خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله يُعبد فيها، واستمر بيت المقدس على ما بناه سليمان أربع مئة سنة وثلاثًا وخمسين سنة، حتى قصده بختنصر، فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ جميع ما كان فيه من الذهب والفضة والجواهر، وحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، واستمر بيت المقدس خرابًا سبعين سنة، ثم أهلك بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، وذلك أنه من كبر الدماغ وانتفاخه .. فعل ما فعل من التخريب والقتل، فجازاه الله تعالى بتسليط أضعف الحيوان على دماغه. {و} يعملون له ما يشاء من {تَمَاثِيلَ} وصور الملائكة والأنبياء على صورة القائمين والراكعين والساجدين على ما اعتادوه، فإنها كانت تعمل حينئذ في المساجد من زجاج ونحاس ورخام ونحوها؛ ليراها الناس، ويعبدوا مثل عباداتهم. ويقال (¬2): إن هذه التماثيل رجال من نحاس، وسأل ربه أن ينفخ فيه فيها الروح، ليقاتلوا في سبيل الله، ولا يعمل فيهم السلاح، وكان إسنفديار منهم، كما في تفسير "القرطبي". وروي: أنهم عملوا أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعيهما، فارتقى عليهما، وإذا قعد أظلهما النسران بأجنحتهما. اهـ. "قرطبي". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

فلما مات سليمان .. جاء إفريدون ليصعد الكرسي، ولم يدر كيف يصعد، فلما دنا منه ضربه الأسد على ساقه فكسر ساقه، ولم يجسر أحد بعده أن يدنو من ذلك الكرسي. واعلم (¬1): أن حرمة التصاوير شرع جديد، وكان اتخاذ الصور قبل هذه الأمة مباحًا، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور"؛ أي: ليذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة، وإنما حرِّم على هذه الأمة؛ لأن قوم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعبدون التماثيل؛ أي: الأصنام، فنهي عن الاشتغال بالتصوير، وأبغض الأشياء إلى الخواص ما عصي الله به. وفي الحديث: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا"، وهذا يدل على أن تصوير ذي الروح حرام. قال بعضهم: هل هو كبيرة أو لا؟ فيه خلاف: فعند من جعل الكبيرة عبارة عما ورد الوعيد عليه من الشرع .. فهو كبيرة، وأما من جعل الكبيرة منحصرة في عدد محصور: فهذا ليس من جملته، فيكون الحديث محمولًا على المستحل، أو على استحقاق العذاب المؤبد، وأما تصوير ما لا روح له: فرخص فيه، وإن كان مكروهًا من حيث إنه اشتغال بما لا يعني. {و} يعملون له ما يشاء من {جِفَانٍ} وقصاع عظيمة كائنة {كَالْجَوَابِ} والحياض الكبار، جمع: جفنة، وهي القصعة الكبيرة التي تشبع عددًا كثيرًا. قيل: يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل، فيأكلون منها، وكان لمطبخه كل يوم اثنا عشر ألف شاة، وألف بقرة، وكان له اثنا عشر ألف خبَّاز، واثنا عشر ألف طبَّاخ، يصلحون الطعان في تلك الجفان لكثرة القوم. قال في "الشرعة": ولا بركة في القصاع الصغار، ولتكن قصعة الطعام من خزف أو خشب، فإنهما أقرب إلى التواضع، ويحرم الأكل في الذهب والفضة، وكذا الشرب منهما. والجوابي: جمع جابية، وهو الحوض الكبير الذي يجبى؛ أي: يجمع فيه الماء للإبل. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقرأ ورش وأبو عمرو (¬1): بإثبات الياء في الوصل دون الوقف، وابن كثير: بإثباتها وقفًا ووصلًا، والباقون: بالحذف وقفًا ووصلًا، وهو (¬2) الأصل اجتزاءً بالكسرة عن الياء، وإجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها، وهو التنوين، وكما تحذف الياء مع التنوين .. تحذف مع ما عاقبه، وهو الألف واللام. {وَ} يعملون له ما يشاء من {قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} جمع قدر، وهو اسم لما يُطبخ فيه اللحم، والراسيات: جمع راسية، من: رسا الشيء إذا ثبت؛ أي: وقدور ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها, ولا تحرك عن أماكنها، وكان يصعد إليها بالسلالم، وكانت باليمن. ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم؛ أي: سليمان وأهله فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، وهو مقول لقول محذوف. و {آلَ}: منصوب على النداء، والمراد به: سليمان؛ لأن هذا الكلام قد ورد في خلال قصته، وخطاب الجمع للتعظيم، أو أولاده، أو كل من ينفق عليه، أو كل من يتأتى منه الشكر من أمته، كما في "بحر العلوم". والمعنى: أي وقلنا له، أولهم: اعملوا يا آل داود بطاعتي كالصلاة ونحوها، واعبدوني شكرًا لما أعطيتكم من الفضل وسائر النعماء، فإنه لا بد من إظهار الشكر كظهور النعمة. وسميت الصلاة ونحوها شكرًا؛ لسدها مسده. فـ {شُكْرًا}: منصوب على العلة، أو منصوب على المصدرية لـ {اعْمَلُوا}؛ لأن العمل للمنعم شكر له، فيكون مصدرًا من غير لفظه، أو لفعل محذوف؛ أي: اشكروا شكرًا، أو حال؛ أي: شاكرين أو مفعول به؛ أي: اعملوا شكرًا، ومعناه: إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرًا على طريق المشاكلة، وسميت الطاعة شكرًا؛ لأنها من جملة أنواعه. ثم بيَّن بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده قليل، فقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}؛ أي: العامل بطاعتي، الشاكر لنعمتي قليل، وارتفاع القليل على أنه خبر مقدم، و {مِنْ عِبَادِيَ}: صفة له، و {الشَّكُورُ}: مبتدأ. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[14]

والمعنى: أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة، والصور المختلفة من النحاس والزجاج والرخام ونحوها، والجفان الكبيرة التي تكفي لعشرات الناس، والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها، وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرًا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا. روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر، فتلا هذه الآية، ثم قال: "ثلاث من أوتيهن .. فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود" فقلنا: ما هُنَّ؟ فقال: "العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية" أخرجه الترمذي. والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول، ويكون بالنية كما قال: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّيْ ثَلاَثَةً ... يَدِيْ وَلسَانِيْ وَالضَّمِيْرَ الْمُحَجَّبَا أي: وقليل من عبادي من يطيعني شكرًا لنعمتي، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضيني، وقد قيل: الشكور: من يرى عجزه عن الشكر، ونحو الآية قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". أخرجه مسلم في "صحيحه". 14 - {فَلَمَّا قَضَيْنَا} وحكمنا {عَلَيْهِ}؛ أي: على سليمان {الْمَوْتَ} وألزمناه إياه، وفصلناه به عن الدنيا {مَا دَلَّهُمْ}؛ أي: ما دل الجن وآل داود {عَلَى مَوْتِهِ}؛ أي: على موت سليمان {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ}؛ أي: إلا هامة الأكل، وسوسة الخشب المسماة بالأرضة، وهي دويبة وسوسة تأكل الخشب، ويقال لها: السرقة، أضيفت إلى فعلها، وهو الأرض بمعنى الأكل، ولذا سميت الأرض مقابل السماء أرضًا، لأنها تأكل أجساد بني آدم، يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضًا إذا أكلتها، فأرضت أرضًا ما لم يسم فاعله، فهي مأروضة حالة كونها {تَأْكُلُ}؛ أي: تلك الدابة {مِنْسَأَتَهُ}؛ أي: منسأة سليمان؛ أي: تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها من النسيء، وهو التأخير في الوقت؛ لأن العصا يؤخر بها الشيء عن الطريق مثلًا، ويزجر بها نحو الكلب ويطرد.

قيل (¬1): إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة، فدعا الشياطين تجتمع حول محرابه، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم، فلم يسمع صوته، ثم جمع فلم يسمع، فنظر فإذا هو قد خر ميتًا، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، فمدة ملكه أربعون سنة. {فَلَمَّا خَرَّ} وسقط سليمان ميتًا بعد سقوط عصاه من تحته {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}؛ أي: علمت الجن علمًا يقينيًا ينتفي عنده الشكوك والشبه بعد التباس الأمر عليهم. من تبينت الشيء: إذا علمته بعد التباسه عليك {أَنْ} مخففة؛ أي: أنهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}؛ أي: ما غاب عن حواسهم كما يزعمونه {مَا لَبِثُوا} وأقاموا {فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}؛ أي: ذي الإهانة والخزي لهم، يعني الأشغال والتكاليف الشاقة، والأعمال الصعبة التي كانوا يعملونها لسليمان عليه السلام. والحال: أنهم لو كان لهم علم بالغيب كما يزعمون .. لعلموا موت سليمان حين مات، ولما لبثوا بعده حولًا في تسخيره إلى أن خرَّ ميتًا، فلما وقع ما وقع علموا أنهم جاهلون، لا عالمون. ويجوز أن يؤخذ تبينت من: تبين الشيء: إذا ظهر وتجلى، فتكون أن مع ما بعدها بدل اشتمال من الجن، نحو: تبين زيد جهله؛ أي: ظهر للإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب. وقال بعضهم: كانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان، فلم يسمع صوته، ثم رجع، فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتًا، ففتحوا عنه، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها في يوم وليلة مقدارًا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه، ويحسبونه حيًا، ولو علموا أنه مات .. لما لبثوا في العذاب سنة، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام .. أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين من الشراب .. سقيناك أطيب الشراب، ولكن ننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون ذلك لها حيث كانت، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ألم ترَ إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الطين يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها به الشياطين تشكرًا لها. قال القفال (¬1): قد دلت هذه الآية على أن الجن لم يسخروا إلا لسليمان، وأنهم تخلصوا بعد موته من تلك الأعمال الشاقة، وإنما تهيَّأ لهم التسخير والعمل، لأن الله تعالى زاد في أجسامهم وقواهم، وغيَّر خلقهم عن خلق الجن الذين لا يرون، ولا يقدرون على شيء من هذه الأعمال الشاقة، مثل: نقل الأجسام الثقال ونحوه؛ لأن ذلك معجزة لسليمان عليه السلام. قال أهل التاريخ: كان سليمان عليه السلام أبيض جسيمًا وضيئًا، كثير الشعر، يلبس البياض، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، وكانت وفاته بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة. قال بعضهم: هذا هو الصحيح؛ أي: كون وفاته بعد الفراغ من البناء، لا قبله بسنة على ما زعم بعض أهل التفسير. وفي "التأويلات النجمية": تشير الآية إلى كمال قدرته وحكمته، وأنه هو الذي سخر الجن والإنس لمخلوق مثلهم، وهم الألوف الكثيرة، والوحوش والطيور. ثم قضى عليه الموت، وجعلهم مسخرين لجثة بلا روح، وبحكمته جعل دابة الأرض حيوانًا ضعيفًا مثَّلها دليلًا لهذه الألوف الكثيرة من الجن والإنس تدلهم بفعلها على علم ما لم يعلموا. وفيه أيضًا إشارة إلى أنه تعالى جعل فيها سببًا لإيمان أمة عظيمة، وبيان حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب، وفيه إشارة أخرى: أن نبيين من الأنبياء اتكأ عصوين، وهما: موسى وسليمان، فلما قال موسى: هي عصاي أتوكأ عليها .. قال ربه: ألقها، فلما ألقاها .. جعلها ثعبانًا مبينًا، يعني: من اتكأ على غير فضل الله ورحمته يكون متكؤه ثعبانًا، ولما اتكأ سليمان على عصاه في قيام ملكه بها، واستمسك بها .. بعث الله أضعف دابة وأخسها لإبطال متكئه ومتمسكه؛ ليعلم أن من قام بغيره زال بزواله، وأنَّ كل متمسك بغير الله طاغوت من الطواغيت {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} انتهى كلامه. ومعنى الآية (¬2): أي إنما لما قضينا على سليمان بالموت .. لم يدل الجن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها؛ إذ بينما هو متكىء عليها، وقد وافاه القضاء المحتوم .. انكسرت، فسقط على الأرض، واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب، كما كانوا يزعمون، ولو علموه لما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حيٌّ. والكتاب الكريم لم يحدِّد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه، حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغي الركون إليه، فليس من الجائز أنَّ خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يومًا كاملًا، دون أن يحادثوه في ذلك، ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا، وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما هو متوكىء عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا، فانكسرت، فخرَّ على الأرض، فعلمت الجن كذبها إذ كانت تدعي أنها تعلم الغيب؛ إذ لو علمته ما لبثت ترهق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلفت بها. وقرأ الجمهور (¬1): {دَابَّةُ الْأَرْضِ} بسكون الراء. وقرأ أبو المتوكل (¬2) وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري: {دَابَّةُ الْأَرْضِ} بفتح الراء. وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة: {مِنْسَأَتَهُ} بألفٍ محضة، وأصله: منسأته، أبدلت الهمزة ألفًا بدلًا غير قياسي. وقال أبو عمرو: أنا لا أهمزها؛ لأني لا أعرف لها اشتقاقًا، فإن كانت مما لا تهز .. فقد احتطت، وإن كانت تهمز .. فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. وقرأ ابن ذكوان وجماعة منهم: بكار والوليد أن ابن عتبة وابن مسلم: {منسأته} بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفًا، وليس بقياس، وضعَّف النحاة هذه القراءة؛ لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنًا غير ألفًا. وقيل: قياسها: التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدًا على سكون هذه القراءة قول الراجز: صَرِيْعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهْ ... كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إِلى مَنْسَأَتِهْ وقرأ باقي السبعة بالهمزة مفتوحة. وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) زاد المسير.

وحذفًا، وقرىء على وزن مفعالة: منساءة. وقرأت فرقة منهم: عمر بن ثابت عن ابن جبير: مفصولة حرف جر {من ساءته} بجر التاء. قيل: ومعناه: من عصاه، يقال لها: ساة القوس وسيتها معًا، وهي يدها العليا والسفلى، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة. وقرأ الجمهور: {تَبَيَّنَتِ} مبنيًا للفاعل. وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه {تبينت} مبنيًا للمفعول، وعن ابن عباس وابن مسعود وأبي وعلي بن الحسن والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف، ولما روي عنهم ذكرها المفسرون، أضرب عن ذكرها صفحًا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفةً كثيرةً. ذكره أبو حيان. الإعراب {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}. {الْحَمْدُ}: مبتدأ، {لِلَّه}: خبر، والجملة مستأنفة. {الَّذِي}: نعت للجلالة. {لَهُ}: خبر مقدم. {مَا}: مبتدأ مؤخر. {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا}، والجملة الاسمية صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} {لَهُ}: {الواو}: عاطفة، {لَهُ}: خبر مقدم. {الْحَمْدُ}: مبتدأ مؤخر. {فِي الْآخِرَةِ} حال من الضمير المستكن في الخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} على كونها صلة الموصول. {وَهُوَ}: مبتدأ {الْحَكِيمُ}: خبر أول {الْخَبِيرُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة، أو خبر ثالث لـ {هُوَ} مسوقة لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {يَلِجُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَا}، والجملة صلة الموصول، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَلِجُ}. {وَمَا يَخْرُجُ}: معطوف على {مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ}. {مِنْهَا}: متعلق بـ {يَخْرُجُ}. {وَمَا يَنْزِلُ}، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}: معطوفان على {مَا يَلِجُ} أيضًا. {مِنَ السَّمَاءِ} متعلقان بـ {يَنْزِلُ}. {وَهُوَ} مبتدأ. {الرَّحِيمُ}: خبر أول.

{الْغَفُورُ}: خبر ثانٍ له، والجملة مستأنفة. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ}. {وَقَالَ}: {الواو}: استئنافية. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {لَا}: نافية. {تَأْتِينَا}: فعل ومفعول. {السَّاعَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {بَلَى}: حرف جواب لإثبات النفي؛ أي: ليس الأمر إلا إتيانها. {وَرَبِّي}: {الواو}: حرف جر وقسم: {رَبِّي}: مقسم به مجرور بواو القسم أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد، وهو القسم بالله عز وجل، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا. {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {تَأْتِيَن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو تأكيد ثالث، والكاف: مفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الساعة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب على كونها مقول {قُلْ}. {عَالِمِ الْغَيْبِ}: صفة لـ {رَبِّي}، أو بدل منه، ويجوز رفعه على كونه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وخبره جملة {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} وقد قرىء بهما كما مرَّ. {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. {لَا يَعْزُبُ}: فعل مضارعِ. {عَنْهُ}: متعلق به. {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}: فاعل {فِي السَّمَاوَاتِ}: حال من {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}. {وَلَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {فِي السَّمَاوَاتِ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {عَالِمِ الْغَيْبِ}، أو خبره على قراءة الرفع. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية {أَصْغَرُ} - بالرفع -: معطوف على {مِثْقَالُ}. {مِنْ ذَلِكَ}: متعلق بـ {أَصْغَرُ}، {وَلَا أَكْبَرُ}: معطوف على {مِثْقَالُ} أيضًا. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {فِي كِتَابٍ}: جار ومجرور، حال من {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}، {مُبِينٍ} صفة وما عطف عليه تأكيدًا للنفي في {لَا يَعْزُبُ}؛ أي: لا يعزب عنه ما ذكر إلا حالة كونه في كتاب مبين. وفي "السمين": قوله: {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ}، العامة على رفع أصغر وأكبر، وفيه وجهان:

أحدهما: الابتداء، وخبره {إِلَّا فِي كِتَابٍ}. والثاني: العطف على {مِثْقَالُ}، وعلى هذا فيكون قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} تأكيدًا للنفي في {لَا يَعْزُبُ} كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال. وقرأ قتادة والأعمش، ورويم عن أبي عمرو ونافع أيضًا، بفتح الراءين، وفيه وجهان: أحدهما: أن {لَا} هى لا التبرئة، بُنى اسمها معها، والخبر قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ}. والثاني: النسق على {ذَرَّةٍ} اهـ. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}. {لِيَجْزِيَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يجزي}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لجزائه الذين، الجار والمجرور متعلق بتأتين، كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها، أو بقوله: {لَا يَعْزُبُ} فكأنه قال: يحصي ذلك ليجزي. {الَّذِينَ}: مفعول به لـ {يجزي}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة مسوقة لبيان مآلهم. {وَرِزْقٌ}: معطوف على {مَغْفِرَةٌ}، {كَرِيمٌ}: صفة {وَرِزْقٌ}. {وَالَّذِينَ}: {الواو} استئنافية، {الذين}: مبتدأ أول، وجملة {سَعَوْ} صلة الموصول. {فِي آيَاتِنَا}: متعلق بـ {سَعَوْ}، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: في إبطال آياتنا بالطعن فيها، أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك. {مُعَاجِزِينَ}: حال من فاعل {سَعَوْ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ ثالث مؤخر. {مِنْ رِجْزٍ} صفة لـ {عَذَابٌ}. {أَلِيمٌ}: صفة ثانية لـ {عَذَابٌ}، والجملة من المبتدأ الثالث وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر

للأول، وجملة الأول مستأنفة. وفي "الفتوحات": قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْ} يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أنه مبتدأ. و {أُولَئِكَ} وما بعده خبره. والثاني: أنه عطف على {الَّذِينَ} قبله؛ أي: ويجزي الذين سعوا، ويكون {أُولَئِكَ} بعده مستانفًا، و {أُولَئِكَ} الذي قبله، وما في حيزه معترضًا بين المتعاطفين. اهـ. "سمين". {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}. {وَيَرَى} {الواو}: استئنافية. {يرى}: فعل مضارع مرفوع، أو: {الواو} عاطفة، {يرى}: فعل مضارع منصوب معطوف على {يجزي}. {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة. {أُوتُوا}: فعل ونائب فاعل. {الْعِلْمَ}: مفعول ثان لـ {أُوتُوا} لأنه بمعنى: أعطوا، وجملة {أُوتُوا} صلة {الَّذِينَ}. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {يرى}؛ لأنها قلبية، وجملة {أُنْزِلَ} صلة {الَّذِي}. {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مِنْ رَبِّكَ}: حال من الضمير المستتر في {أُنْزِلَ}، أو متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {هُوَ} ضمير فصل. {الْحَقَّ} مفعول ثان لـ {يرى}. {وَيَهْدِي}: {الواو}: عاطفة. {يهدي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي أُنْزِلَ}. {إِلَى صِرَاطِ} متعلق به. {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه. {الْحَمِيدِ}: صفة ل {الْعَزِيز}، وجملة {يهدي} في محل النصب معطوف على {الْحَقَّ} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {يرى} عطف فعل على اسم؛ لكونه في تأويل الاسم؛ أي: وهاديًا، ويجوز أن تكون الواو حالية، والجملة في محل النصب حال من {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}. {وَقَالَ}: {الواو}: استئنافية. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول؛ أي: قال بعضهم لبعض: {هَلْ} حرف استفهام. {نَدُلُّكُمْ}: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على {الَّذِينَ}. {عَلَى

{رَجُلٍ}: متعلق بـ {ندل}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {يُنَبِّئُكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {رَجُلٍ}، والجملة في محل الجر صفة {رَجُلٍ}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مُزِّقْتُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إذا مزقتم تبعثون وتحشرون خلقًا جديدًا. والمعنى: أي: ينبئكم أنكم تبعثون وتحشرون وقت تمزقكم، ولا يجوز تعلق {إِذَا} بـ {يُنَبِّئُكُمْ}؛ لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت، ولا بـ {مُزِّقْتُمْ}؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا بـ {جَدِيدٍ}؛ لأن إن ولام الابتداء يمنعان ذلك؛ لأن لهما الصدارة، وأيضًا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. {كُلَّ مُمَزَّقٍ} مفعول به ومضاف إليه. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {لَفِي خَلْقٍ}: خبره، واللام: حرف ابتداء {جَدِيدٍ}: صفة {خَلْقٍ}، وجملة {إِنَّ} سادة مسد مفعولي {يُنَبِّئُكُمْ} الثاني والثالث، وجملة {إِذَا} تكون معترضة بين الفعل والمفعول. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}. يحتمل أن يكون هذا من تمام قول الكافرين، أولا؛ أي: من كلام القائلين: هل ندلكم، ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل: هل ندلكم؛ كأن القائل لما قال له: هل ندلكم على رجل؟ أجابه فقال: هو يفتري على الله كذبًا ... إلخ. اهـ "خطيب". {أَفْتَرَى}: {الهمزة} فيه للاستفهام التقريري، واستغني بها عن همزة الوصل في التوصل إلى النطق بالساكن. {أَفْتَرَى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على رجل. {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {أَفْتَرَى}. {كَذِبًا} مفعول به، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَمْ}: حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام {بِهِ}: خبر مقدم. {جِنَّةٌ}: مبتدأ مؤخر؛ أي: جنون، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {أَفْتَرَى}. {بَلِ}: حرف ابتداء واضراب إبطالي. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}. {فِي الْعَذَابِ}: خبر المبتدأ {وَالضَّلَالِ}: عطف على {الْعَذَابِ}. {الْبَعِيدِ}: صفة لـ {الضلال}، والجمة الاسمية مستأنفة.

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}. {أَفَلَمْ}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعموا فلم يروا؟ أو: الهمزة مقدمة على حرف العطف، والأصل: فألم يروا، والجملة المحذوفة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {لم}: حرف جزم ونفي. {يَرَوْا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} {إِلَى مَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {يَرَوْا}. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَمَا}: معطوف على {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. {خَلْفَهُمْ}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {مِنَ السَّمَاءِ}: حال من {مَا} الموصولة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاءِ}. {إِنْ}: حرف شرط. {نَشَأْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {نَخْسِفْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِهِمُ}: متعلق بـ {نَخْسِفْ}. {الْأَرْضِ}: مفعول به، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة. {أَوْ نُسْقِطْ}: فعل وفاعل مستتر، معطوف على {نَخْسِفْ}. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {نُسْقِطْ}. {كِسَفًا}: مفعول به. {مِنَ السَّمَاءِ}: صفة لـ {كِسَفًا}. {إِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَآيَةً}: {اللام}: حرف ابتداء. {آيَةً}: اسم {إنَّ} مؤخر. {لِكُلِّ عَبْدٍ}: جار ومجرور صفة لـ {آية}. {مُنِيبٍ}: صفة لـ {عَبْدٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قلبها. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا دَاوُودَ} فعل وفاعل ومفعول أول. {مِنَّا}: حال من {فَضْلًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {فَضْلًا}: مفعول ثانٍ لـ {آتَيْنَا}، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجله القسم المحذوف مستأنفة. {يَا جِبَالُ}: منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم، وجملة النداء مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا يا جبال. {أَوِّبِي}: فعل أمر مبني على حذف النون، والياء: فاعل. {مَعَهُ}: ظرف متعلق بـ {أَوِّبِي}، والجملة الفعلية مقول لذلك القول المحذوف على

كونها جواب النداء. {وَالطَّيْرَ}: بالنصب معطوف على محل {يَا جِبَالُ}، وقرىء بالرفع عطفًا على لفظه {وَأَلَنَّا}: فعل وفاعل معطوف على {آتَيْنَا}. {لَهُ}: متعلق بـ {أَلَنَّا}. {الْحَدِيدَ}: مفعول به لـ {أَلَنَّا}. {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}. {أَنِ}: حرف مصدر ونصب {اعْمَلْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَنِ} المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود على {دَاوُودَ}. {سَابِغَاتٍ}: صفة لمفعول محذوف، تقديره: دروعًا سابغات، والجملة الفعلية من {أَنِ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بفعل محذوف، تقديره: وأمرنا بعمل دروع سابغات، والجملة المحذوفة معطوفة على {أَلَنَّا لَهُ}. {وَقَدِّرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {اعْمَلْ}. {فِي السَّرْدِ}: متعلق بـ {قدر}. {وَاعْمَلُوا}: فعل أمر وفاعل، مبني على حذف النون، والجملة مقول القول محذوف، تقديره: وقلنا له واعملوا، والقول المحذوف معطوف على أمرنا المحذوف. {صَالِحًا}: مفعول به، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {بِمَا}: متعلق بـ {بَصِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما تعملونه {بَصِيرٌ}: خبر {إِن}، وجملة {إِن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}. {وَلِسُلَيْمَانَ}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية. {لِسُلَيْمَانَ}: متعلق بمحذوف، تقديره: وسخرنا لسليمان. {الرِّيحَ}: بالنصب مفعول به لذلك الفعل المحذوف، والجملة معطوفة على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ}، أو مستأنفة، وبالرفع: مبتدأ مؤخر، ولسليمان: خبر مقدم؛ أي: والريح مسخرة لسليمان، والجملة مستأنفة. {غُدُوُّهَا}: مبتدأ. {شَهْرٌ}: خبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الرِّيحَ}، أو مستأنفة، وجملة {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} معطوفة على جملة {غُدُوُّهَا شَهْرٌ}. {وَأَسَلْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على سخرنا المقدَّر. {لَهُ}: متعلق بـ {أَسَلْنَا} {عَيْنَ الْقِطْرِ}: مفعول به. {وَمِنَ الْجِنِّ}: {الواو}: عاطفة لفعل محذوف معطوف على سخرنا

المقدَّر سابقًا. {مِنَ الْجِنِّ}: متعلق بالفعل المحذوف: {من}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {سخرنا} المقدر، والتقدير: وسخرنا له من الجن من يعمل، أو: {مِنَ الْجِنِّ} خبر مقدر، و {من} الموصولة مبتدأ مؤخر. {يَعْمَلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر صلة {مَن} الموصولة. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف متعلق بـ {يَعْمَلُ}. {بِإِذْنِ رَبِّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من فاعل {يَعْمَلُ}؛ أي: حالة كونه متلبسًا بأمر ربه. {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة {مَنْ}: اسم شرط جازم في حل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَزِغْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها. {مِنْهُمْ} حال من فاعل {يَزِغْ}. {عَنْ أَمْرِنَا}: متعلق بـ {يَزِغْ}. {نُذِقْهُ} فعل ومفعول، مجزوم بـ {مَن} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على الله. {مِنْ عَذَابِ السَّعِير} متعلق بـ {نُذِقْهُ}، وجملة {مِنْ} الشرطية معطوفة على جملة سخرنا المقدر. {يَعْمَلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مفصلة لما قبلها {لَهُ} متعلق به. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَشَاءُ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما يشاؤه سليمان. {مِنْ مَحَارِيبَ} حال من مفعول {يَشَاءُ} المحذوف. {وَتَمَاثِيلَ}: معطوف على {مَحَارِيبَ}، وهما غير منصرفين لصيغة منتهى الجموع. {وَجِفَانٍ}: معطوف على {مَحَارِيبَ}. {كَالْجَوَابِ}: جار ومجرور صفة لـ {جفان}، وهو مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة تبعًا لرسم المصحف العثماني منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. {وَقُدُورٍ} معطوف على {مَحَارِيبَ}. {رَاسِيَاتٍ}: صفة {قدور}. {وَاعْمَلُوا}: الواو: استئنافية. {اعْمَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا له: اعملوا يا آل داود شكرًا. {آلَ دَاوُودَ}: منادى مضاف حذفه منه حرف النداء، وجملة النداء معترضة بين الفعل ومعموله {شُكْرًا}: مفعول لأجله؛ أي: اعملوا صالحًا لأجل شكر الله، أو منصوب على المصدرية؛ أي: عمل شكر، فكأنه قال: اشكروا شكرًا، أو على الحال؛ أي:

شاكرين الله. {وَقَلِيلٌ}: {الواو}: حالية. {قليل}: خبر مقدم. {مِنْ عِبَادِيَ}: صفة لـ {قليل}، أو حال من الضمير المستكن في {قليل}. {الشَّكُورُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {اعْمَلُوا}، أو مستأنفة. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: استئنافية. {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم. {قَضَيْنَا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {قَضَيْنَا}. {الْمَوْتَ}: مفعول به. {مَا}: نافية، {دَلَّهُمْ}: فعل ماضٍ، ومفعول به. {عَلَى مَوْتِهِ}: متعلقان به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {دَابَّةُ الْأَرْضِ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب شرط لـ {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} مستأنفة. {تَأْكُلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {دَابَّةُ الْأَرْضِ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {دَابَّةُ الْأَرْضِ}. {مِنْسَأَتَهُ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة. {لَمَّا}: حرف شرط. {خَرَّ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على سليمان، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} فعل وفاعل، والجملة جواب {لَمَّا}، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة {لَمَّا} الأولى. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لَوْ}: حرف شرط. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان فعل شرط لـ {لَوْ}. {مَا}: نافية. {لَبِثُوا}: فعل وفاعل. {فِي الْعَذَابِ}: متعلق به. {الْمُهِينِ}: صفة لـ {الْعَذَابِ}، والجملة الفعلية جواب {لَّوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل الرفع خبر {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل النصب مفعول {تبين}، والتقدير: علمت الجن عدم لبثهم في العذاب المهين، لو كان عندهم علم الغيب. التصريف ومفردات اللغة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الحمد: هو الثناء على الله بما هو أهله. {الْحَكِيمُ}: هو الذي أحكم أمر الدارين، ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة. {الْخَبِيرُ} هو الذي يعلم

بواطن الأمور وخوافيها. {يَلِجُ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يدخل فيها من الولوج، وهو الدخول في مضيق. {وَمَا يَعْرُجُ}؛ أي: يصعد. {وَمَا يَعْزُبُ}؛ أي: يبعد. وفي "المصباح": عزب الشي: من بابي: قتل وضرب: إذا غاب وخفي، ومعنى {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ}: أي: لا يبعد عن علمه، والعازب: المتباعد في طلب الكلأ وعن أهله. {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} والمثقال: ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل صنج، كما في "المفردات". والذرة: النملة الصغيرة الحميراء، وما يرى في شعاع الشمس من ذرات الهواء؛ أي: وزن أصغر نملة، أو مقدار الهباء. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ أي: رزق حسن لا تعب فيه، ولا منَّ عليه. {وَالَّذِينَ سَعَوْا}: وفي "المفردات" السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا. {مُعَاجِزِينَ}؛ أي: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نشور، يقال: أعجزت فلانًا، وعاجزته: جعلته عاجزًا. {مِنْ رِجْزٍ} الرجز بمعنى: القذر والشرك والأوثان، كما في قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} سماها رجزًا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب، وكذا سمي كيد الشيطان رجزًا في قوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} لأنه سبب العذاب، وفي "المفردات": أصل الرجز: الاضطراب، وهو في الآية كالزلزلة، كما مرَّ، والرجز - بكسر الراء وضمها -: العذاب، أو سيئه، والإثم والذنب والقذر. {كُلَّ مُمَزَّقٍ} الممزق مصدر ميمي بمعنى: التمزيق، وقياس كل ما زاد على الثلاث أن يجيء مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله، ويجوز أن يكون ظرف مكان، قاله الزمخشري؛ أي: كل مكان تمزيق من القبور وبطون الوحش والطير. اهـ "خطيب". وأصل التمزيق: التفريق، يقال: مزَّق ثيابه؛ أي: فرقها، والمعنى: تنشئون خلقًا جديدًا بعد أن تمزقت وتفرقت أجسادكم كل تمزيق وتفريق، بحيث تصير ترابًا. اهـ "بيضاوي". و {جَدِيدٍ} فعيل بمعنى: فاعل عند البصريين، يقال: جَدَّ الشيء فهو جاد وجديد: كقل فهو قليل، وبمعنى: مفعول عند الكوفيين، يقال: جدَّ النساج الثوب:

إذا قطعه فهو جديد؛ أي: مقطوع. قال في "المفردات": يقال: جددت الثوب: إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوب جديد أصله المقطوع، ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه، والخلق الجديد: إشارة إلى النشأة الثانية، والجديدان: الليل والنهار. {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}؛ أي: جنون. {نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} يقال: خسف به الأرض غاب به فيها، فالباء للتعدية {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} الكسف، كالقطع وزنًا ومعنى، جمع: كسفة، كقطعة. قال في "المفردات": ومعني الكفة: القطعة من السحاب والقطن ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة، ومعنى إسقاط الكسف، من السماء: إسقاط قطع من النار، كما وقع لأصحاب الأيكة. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} قال في "المفردات": النوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى، والإنابة إلى الله: الرجوع إليه بالتوبة، وإخلاص العمل له. {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} فعل أمر من التأويب على قراءة العامة بفتح الهمزة وتشديد الواو، وهو الترجيح، وقيل: التسبيح بلغة الحبشة، والتضعيف يحتمل أن يكون للتكثير، واختار بعضهم أن يكون للتعدي، قال: لأنَّهم فسروه برجعي معه التسبيح، ولا دليل فيه؛ لأنه تفسير معنى، أو أمر من الأوب على قراءة الحسن وابن عباس وقتادة وابن أبي إسحاق: {أَوِّبِي} بضم الهمزة وسكون الواو أمر من آب يؤوب؛ أي: ارجعي معه بالتسبيح. اهـ "سمين". {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}؛ أي: جعلنا الحديد لينًا له في نفسه، كالشمع والعجين من الإلانة، أصله: من اللين ضد الخشونة. {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}؛ أي: دروعًا واسعات طويلات. قال في "القاموس": سبغ الشيء سبوغًا: إذا طال إلى الأرض، وسبغت النعمة: إذا اتسعت، ودروع سابغة: تامة طويلة. انتهى. ومنه استعير إسباغ الضوء، أو إسباغ النعمة، كما في "المفردات". {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} والسرد في الأصل: خرز ما يخشن ويغلظ كخرز الجلد، ثم استعير لنظم الحديد ونسج الدروع، كما في "المفردات"، والمعنى: أي: اجعل النسج على قدر الحاجة. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} قال الراغب: الشهر: مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، أو

باعتبار جزء من اثني عشر جزءًا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة، والمشاهرة: المعاملة بالشهر، كما أن المسانهة والمياومة بالسنة واليوم. {عَيْنَ الْقِطْرِ} والقطر - بكسر العين -: النحاس المذاب. {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا}؛ أي: ومن يعدل عن طاعة سليمان. و {مَحَارِيبَ}: جمع محراب، وهو في اللغة: كل موضع مرتفع، وقيل للذي يصلَّى فيه محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظَّم. وفي "البيضاوي": من محاريب؛ أي أبنية مرتفعة، سميت بالمحاريب؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها. اهـ. وكتب عليها الشهاب قوله: أبنية مرتفعة، هذا أصل معنى المحراب، وسمي باسم صاحبه؛ لأنه يحارب غيره في حمايته، ثم نقل إلى الطاق التي يقف بحذائها الإِمام، وهي مما أحدث في المساجد. وقيل للذي يصلَّى فيه محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظم. قال في "القاموس": المحراب: الغرفة، وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإِمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد من الناس. انتهى. {وَتَمَاثِيلَ} جمع تمثال، وهو الصورة المصورة، أو هو ما تصنعه وتصوره مشبهًا بخلق الله من ذوات الروح. روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظلَّه النسرأن بأجنحتهما، كما مرَّ. {وَجِفَانٍ} جمع: جفنة، وهي القصعة الكبير، فإن أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم الميكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحفة تشبع الرجل، فتفسير الجفان بالصحاف كما فعله البعض منظور فيه. والجفنة خصت بوعاء الأطعمة، كما في "المفردات". {كَالْجَوَابِ}؛ أي: كالحياض الكبار، أصله: الجوابي بالياء، كالجواري جمع جابية من الجباية؛ لاجتماع الماء فيها، وهي من الصفات الغالبة كالدابة. قال الراغب: يقال: جبيت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له: جابية، ومنه استعير جبيت الخراج جباية. {وَقُدُورٍ} جمع: قدر بكسر القاف، وهو إناء يطبخ فيه اللحم ونحوه، كما في "المفردات".

{رَاسِيَاتٍ} جمع: راسية، من رسا الشيء يرسو: إذا ثبت، ولذلك سميت الجبال الرواسي. {الشَّكُورُ}: الباذل وسعه في الشكر، قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافًا واعتقادًا وعملًا. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}: القضاء الحكم, والفصل والموت: زوال القوة الحساسة. {مِنْسَأَتَهُ} المنساة: مفعلة اسم آلة، وهي العصا؛ لأنه ينسأ بها؛ أي: يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقصعة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تعريف طرفي الجملة في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لإفادة الحصر، ومعناه: لا يستحق الحمد الكامل إلا الله، أو لإفادة الاختصاص، ومعناه: جميع أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد مختص به سبحانه، لا شركة لأحد فيه؛ لأنه الخالق المالك، كما يدل عليه ما بعده. ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر في قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}، وفيه أيضًا إطلاق المحمود عليه ليعم النعم الأخروية كلها. اهـ "روح". ومنها: الطباق بين {يَلِجُ}، و {يَخْرُجُ}، وبين: {يَنْزِلُ}، و {يَعْرُجُ}، وبين: {أَصْغَرُ}، و {أَكْبَرُ}. ومنها: إفادة المبالغة بصيغتي فعيل وفعول في قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}. ومنها: المقابلة بين {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآية، وبين {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} فقد جعل المغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين، وجعل العذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين. ومنها: الاستفهام في قوله: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} للاستهزاء والسخرية؛ لأن غرضهم بهذا الكلام الاستهزاء بالرسول والسخرية به.

ومنها: التنكير في قوله: {عَلَى رَجُلٍ} للإبهام والتجهيل، ولم يذكروا اسمه إمعانًا في التجهيل، كأنه إنسان مجهول. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} لما فيه من وصف الشيء بوصف فاعله؛ إذ البعد في الأصل وصف الضال؛ لأنه الذي يتباعد عن المنهاج القويم، وكلما ازداد بعدًا منه كان أضلَّ. ومنها: تقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه، وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم. ومنها: جعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف؛ لأن أسباب العذاب معهم، فكأنهم في وسط. ومنها: وضع الموصول موضع ضميرهم في قوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ} للتنبيه على أنَّ علة ما اجترؤوا عليه كفرهم بالآخرة، وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلوا ذلك خوفًا من غائلته اهـ "روح". ومنها: التنكير في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} لغرض التفخيم؛ أي: فضلًا عظيمًا. ومنها: تأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية في قوله: {مِنَّا} لما فيه من نسبة الفضل إلى الله سبحانه. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ}؛ أي: مسيرة شهر. ومنها: نداء غير العاقل في قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} تنزيلًا له منزلة العاقل. ومنها: حذف الموصوف، وإقامة صفته مقامه تفخيمًا لشأنه في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}؛ أي: دروعًا سابغات. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَنِ اعْمَلْ}، {وَاعْمَلُوا}، {بِمَا تَعْمَلُونَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}؛ لأن السرد في الأصل: خرز ما يخشن ويغلظ الخرز الجلد، ثم استعير لنظم الحديد، ونسج

الدروع، كما في "المفردات". ومنها: الطباق بين {غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا}. ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} فإنه تفصيل لقوله: {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}. ومنها: التشبيه في قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}، ويسمى: التشبيه المرسل المجمل؛ لذكر أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه. ومنها: تقديم المعمول على عامله لرعاية الفواصل في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. ومنها: الإتيان بصيغة فعول في قوله: {مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} لإفادة المبالغة. ومنها: التهكم في قوله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فإنه جمع التأكيد بأن، وباسمية الجملة، وباللام. ومنها: إضافة العام إلى الخاص في قوله: {دَابَّةُ الْأَرْضِ} إن قلنا: إن الأرض بفتح الراء جمع: أرضة؛ لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدواب، كما في "الفتوحات". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)} المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال الشاكرين لنعمه، المنيبين إليه بذكر داود وسليمان .. أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بأنعمه، المعرضين عن ذكره وشكره، من عظيم العقاب بذكر قصة سبأ موعظةً لقريش، وتحذيرًا لمن يكفر ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بالنعم، ويعرض عن المنعم. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما حكى ما أوتوا من النعم في مساكنهم، ثم كفرانهم بها، وما جوزوا به من الخراب والدمار .. قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، ثم جحودهم بها، ثم ما حاق بهم بسبب ذلك. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬2) قصص سبأ، وما كان من أمرهم من اتباع الهوى والشيطان .. أردف ذلك الإخبار بأنهم صدقوا ظن إبليس فيهم، وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال؛ إذ تسلط عليهم, وانقادوا إلى وسوسته، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة، وكذبوا الرسل .. أعقب ذلك بأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين من قوم تهكمًا بهم وتعجبًا من حالهم: ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام، فإن لم يستطيعوا ذلك .. فاعلموا أنهم مبطلون. ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعًا للعباد، يخشى بطشه وسطوته، وهؤلاء ليس لهم شيء من ذلك؛ إذ لا تصرف لهم في شيء في السموات والأرض، لا استقلالًا، ولا شركةً، ولا هم معينون للخالق، ولا تنفع شفاعتهم لديه، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم؟! قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه بعد أن سلب عن شركائهم ملك شيء من الأكوان، وأثبت أن ذلك له وحده .. أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[15]

والرزق، وانفراده بالإلهية، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق، والمشركين به الجماد مبطل، والآخر محق، وقد قام الدليل على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك، وأن يقول لهم: لا تؤاخذون بما نعمل، ولا نؤاخذ بما تعملون، وأن يقول لهم: إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة، وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها، وأن يقول لهم: أعلموني عما ألحقتم به من الشركاء، هل يخلقون، وهل يرزقون؟ كلا، بل الله هو الخالق الرازق الغالب على أمره، الحكيم في كل ما يفعل. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام (¬1) الأدلة على التوحيد، وضرب لذلك الأمثال حتى لم يبق بعدها زيادة مستزيد .. شرع يذكر الرسالة، ويبين أنها عامة للناس جميعًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيحملهم ذلك على مخالفتك، ثم ذكر سؤال منكري البعث عن الساعة استهزاءً بها، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال. أسباب النزول قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآية: ما (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن رباح قال: حدثني فلان أن فروة بن مُسَيْك الغُطَيْفِي قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإِسلام أفقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ...} الآيات. التفسير وأوجه القراءة 15 - {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} بوزن جبل (¬3)؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان لقبيلة سبأ، وهم أولاد سبأ بن يشجب - بالجيم - على ما في "القاموس" - بن يعرب بن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول. (¬3) روح البيان.

قحطان بن عامر، - وهو هود عليه السلام على ما قيل - ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وسبأ: لقب عبد شمس بن يشجب، وإنما لقب به؛ لأنه أول من سبي، كما قاله السهيلي، وهو - أي: سبأ - يجمع قبائل اليمن، ويعرب بن قحطان: أول من تكلم العربية، فهو أبو عرب اليمن، يقال لهم: العرب العاربة، ويقال لمن تكلم بلغة إسماعيل: العرب المستعربة، وهي لغة أهل الحجاز، فعربية قحطان كانت قبل إسماعيل عليه السلام، وهو لا ينافي كون إسماعيل أول من تكلم بالعربية؛ لأنه أول من تكلم بالعربية البينة المحضة، وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن، وكذا لا ينافي ما قيل: إن أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة، فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية، وجاء: من أحسن أن يتكلم بالعربية، فلا يتكلم بالفارسية. واشتهر على ألسنة الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن أفصح من نطق بالضاد". قال جمع من العلماء: لا أصل له، ومعناه صحيح؛ لأن المعنى: أنا أفصح العرب؛ لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد، ولا توجد في غير لغتهم، كما في "إنسان العيون" لعلي بن برهان الدين الحلبي. وعن (¬1) فروة بن مسيك المرادي قال: لما أنزل في سبأ ما أنزل .. قال رجل: يا رسول الله، وما سبأ، أأرض أم امرأة؟ قال: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار". فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة". أخرجه الترمذي مع زيادة، وقال: حديث حسن غريب. وقرأ الجمهور (¬2): {لِسَبَإٍ} بالجر والتنوين على أنه اسم حي؛ أي: الحي الذين هم أولاد سبأ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لسبأ} ممنوع الصرف بتأويل القبيلة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، ويقوِّي القراءة الأولى قوله: {في مساكنهم}، ولو كان على تأويل القبيلة لقال: في مساكنها، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهَا جِلْدُ الْجَوَامِيْسِ ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر: مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِيْنَ مَآرِبُ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُوْنِ مَسِيْلِهِ الْعَرِمَا وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري {لسبأ} بإسكان الهمزة، وقرىء بقلبها ألفًا. {فِي مَسْكَنِهِمْ}؛ أي: في (¬1) بلدهم الذي كانوا فيه باليمن، وهو مأرب كمنزل على ما في "القاموس"، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، وهي المرادة بسبأ بلدة بلقيس في سورة النمل. قال السهيلي: مأرب: اسم ملك كان يملكهم، كما أنَّ كسرى: اسم لكل من ملك الفرس، وخاقان: اسم لكل من ملك الصين، وقيصر: اسم لكل من ملك الروم، وفرعون: لكل من ملك مصر، وتبج لكل من ملك الشعر واليمن وحضرموت، والنجاشي: لكل من ملك الحبشة. وقيل: مأرب: اسم قصر كان لهم، ذكره المسعودي. قال في "إنسان العيون": ويعرب قحطان، قيل له: أيمن؛ لأن هودًا عليه السلام قال له: أنت أيمن ولدي، وسمي اليمن يمنًا بنزوله فيه. وقرأ الجمهور: {في مساكنهم} على الجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. ووجه الاختيار: أنها كانت لهم منازل كثيرة، ومساكن متعددة. وقرأ حمزة وحفص بالإفراد مع فتح الكاف، وقرأ الكسائي: بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب والأعمش، ووجه الإفراد: أنه مصدر يشمل القليل والكثير، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن: مأرب. {آيَةٌ}؛ أي: علامة ظاهرة دالة بملاحظة الأحوال السابقة واللاحقة لتلك القبيلة من الإعطاء والترفية بمقتضى اللطف، ثم من المنع والتخريب بموجب القهر؛ أي: علامة دالة على وجود الصانع المختار، وقدرته على كل ما يشاء من الأمور البديعة، ومجازاته للمحسن والمسيء، وما يعقلها إلا العالمون، وما يعتبرها إلا العاقلون. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{جَنَّتَانِ} بدل من آية، والمراد بهما: جماعتان من البساتين، لا بستانان اثنان فقط. وقرأ ابن أبي عبلة (¬1): {جنتين} بالنصب على أن {آية} اسم كان، و {جنتين} الخبر، ووجه كون الجنتين آية: نبات الخمط والأثل والسدر مكان الأشجار المثمرة. وفي "القرطبي": آية (¬2) دالة عللى قدرة الله تعالى، وعلى أن لهم خالقًا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس اللثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. اهـ. وقد سبق قريبًا أن قوله: {جَنَّتَانِ} بالرفع بدل من {آيَةٌ} التي هي اسم كان بدل مثنى من مفرد؛ لأن هذا المفرد يصدق علم المثنى؛ لأنهما لما تماثلتا في الدلالة، واتحدت جهتها فيهما .. صح جعلهما آيةً واحدة، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} واعتمد أبو حيان كون {جَنَّتَانِ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي جنتان؛ أي: بستانان. اهـ "كرخي". أي: جماعتان من البساتين. جماعة {عَنْ يَمِينٍ}؛ أي: عن يمين بلدتهم ووالديهم؛ لأن بلدتهم كانت في الوادي {و} جماعة عن {الْأَرْضِ}؛ أي: شمال واديهم، كل واحدة من تينك الجماعتين في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة. اهـ "أبو السعود". وفي "القرطبي": قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة؛ أي: كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار تستر الناس بظلالها. اهـ. أو المعنى (¬3): بستانان، لكل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله، وفي "الشوكاني": وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي، والآية: هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما، وعلى رأسها المكتل، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها. وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم: أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذبابًا ولا برغوثًا ولا قملةً ولا عقربًا ولا حيةً، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل .. ماتت عند ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان.

رؤيتهم لبيوتهم. وقوله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} مقول لقول محذوف؛ أي: قيل لهم على لسان نبينهم، أو على لسان الملائكة، أو بلسان الحال، ولم يكن ثَمَّ أمر، ولكن المراد: تمكينهم من تلك النعم. ويقال: كان سبأ ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فقال لهم الأنبياء: كلوا من رزق ربكم؛ أي: مما رزقكم الله سبحانه من أنواع ثمار الجنتين {وَاشْكُرُوا لَهُ} سبحانه على ما رزقكم منها باللسان والجنان والأركان، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه. وجملة قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور} مستأنفة مسوقة لبيان ما يوجب الشكر المأمور به؛ أي: بلدتكم (¬1) هذه بلدة طيبة؛ لكثرة أشجارها وثمارها، وقيل: معنى كونها طيبة: أنها لم تكن سبخة، بل لينة؛ حيث أخرجت الثمار الطيبة. وقيل: إنها طيبة الهواء والماء، كما قال الكاشفي. وفي "فتح الرحمن": وطيبتها: أنها لم يكن بها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، ولا غيرها من المؤذيات، وكان يمر بها الغريب وفي ثيابه القمل، فتموت كلها لطيب هوائها، ومن ثمة لم يكن بها آفات وأمراض أيضًا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت أطيب البلاد هواء وأخصبها. {وَرَبٌّ غَفُورٌ}؛ أي: وربكم الذي رزقكم ما فيها من الطيبات، وطلب منكم الشكر رب غفور لفرطات من يشكره وذنوبهم. قال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب، وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام. وقرأ رويس بنصب الأربعة (¬2). قال أحمد بن يحيى: التقدير: اسكنوا بلدة طيبة، واعبدوا ربًا. غفورًا، وقال الزمخشري: منصوب على المدح. ومعنى الآية: أي وعزتي وجلالي، لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن في نعمة عظيمة، وسعة في الرزق، وكانت لهم حدائق غناء، وبساتين فيحاء عن يمين الوادي وشماله، وقد أرسل الله سبحانه إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[16]

ربهم، ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن، وأحسن إليهم بتلك النعم، فكانوا كذلك إلى حين، 16 - ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل عليهم، كما ذكره بقوله: {فَأَعْرَضُوا ...} إلخ؛ أي: ولما ذكر الله سبحانه ما كان من جانبه من الإحسان إليهم .. ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال: فأعرضوا؛ أي: عما جاء به إليهم أنبياؤهم، وكانوا ثلاثة عشر نبيًا بعدد قراهم, فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعمه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله نعمة علينا, فقولوا لربكم فليحبس عنا هذه النعمة إن استطاع. والمعنى: أعرض أولاد سبأ عن الوفاء، وأقبلوا على الجفاء، وكفروا النعمة، وتعرَّضوا للنقمة، وضيعوا الشكر، فبدلوا وبُدِّل لهم الحال. ثم بيَّن كيفية الانتقام منهم فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: فتحنا عليهم، وسلطنا عليهم {سَيْلَ الْعَرِمِ}؛ أي: سيل السدّ؛ أي: ماء السيول التي اجتمعت في سدهم الذي سدوه بين الجبلين ليجتمع فيه جميع سيول اليمن, والسيل: الماء الذي يأتيك، ولم يصبك مطره، والعرم: السد الذي يحبس الماء ليعلوا على الأرض المرتفعة، قاله السدي. والمعنى: أرسلنا عليهم سيل السد. وقال عطاء: العرم: اسم الوادي. وقال الزجاج: العرم: اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد, فنسب إليه السيل لكونه سبب جريانه؛ لأن الله تعالى أرسل جرذانًا برية كان لها أنياب من حديد, لا يقرب منها هرة إلا قتلتها، فنقبت عليهم ذلك السدَّ، فغرقت جنانهم ومساكنهم، ويقال لذلك الجرذ: الخلد بالضم، لإقامته عند جحره، وهو الفأر الأعمى الذي لا يدرك إلا بالسمع. وقرأ عروة بن الورد: {العرم} بإسكان الراء مخفف العرم, كقولهم في الكَبِد: الكَبْد، ذكره في "البحر". قال ابن عباس ووهب وغيرهما (¬1): كان لهم سد بنته بلقيس، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم, فسد بالصخر والقار بين الجبلين, وجعلت لهم ثلاث أبواب بعضها فوق بعض، وبنت دونه بركه ضخمة, وجعلت فيها ¬

_ (¬1) الخازن.

اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم، يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا عنه سدوها، فإذا جاءهم المطر اجتمع عليهم ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى، ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث الأسفل، فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، فبقوا بعدها مدة، فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذًا يسمى الخلد، فنقَّب السد من أسفله، فغرق الماء جنانهم، وأخرب أرضهم. وقال وهب: رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق .. أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار، فساورتها حتى استأخرت الهرة عنها، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل، وهم لا يعلمون ذلك، فلما جاء السيل وجد خللًا، فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها، ودفن بيوتهم الرمل، فغرقوا ومزقوا كل ممزق حتى صاروا مثلًا عند العرب، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبأ. وقال السهيلي في كتاب "التعريف والأعلام": كان الذي بني السدَّ سبأ بن يشجب، بناه بالرخام، وساق إليه سبعين واديًا، ومات قبل أن يستتمه، فأتم بعده. انتهى. وقال في "فتح الرحمن": فأرسلنا عليهم السيل الذي لا يطاق، فخرب السد، وملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرًا من الناس ممن لم يمكنه الفرار؛ أي: إلى الجبل، وأغرق أموالهم، فتفرقوا في البلاد، فصاروا مثلًا. انتهى. وقيل: الأوس والخزرج منهم. {وَبَدَّلْنَاهُمْ}؛ أي: عوضناهم {بِجَنَّتَيْهِمْ}؛ أي: عن (¬1) جنتيهم المذكورتين، وآتيناهم بدلهما. والتبديل: جعل الشيء مكان آخر، والباء تدخل على المتروك على ما هي القاعدة المشهورة. {جَنَّتَيْنِ} ثاني مفعولي {بَدَّلْنَا}؛ أي: أعطينا بدل ¬

_ (¬1) روح البيان.

الجنتين المذكورتين لهم جنتين أخريين. {ذَوَاتَيْ}: صفة لـ {جَنَّتَيْنِ}؛ أي: صاحبتي {أُكُلٍ} وثمر {خَمْطٍ}؛ أي: مرّ، ويقال في الرفع: ذواتا بالألف، وهي تثنية: ذات, مؤنث: ذي, بمعنى: الصاحب، والأكل - بضم الكاف وسكونه - اسم لما يؤكل والخمط: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة حتى لا يمكن أكله. والمعنى: أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة, والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين صاحبتين ثمر مرٍّ. وقرأ الجمهور بتنوين (¬1): {أُكُلٍ} وعدم إضافته إلى {خَمْطٍ}. وقرأ أبو عمرو: {أُكُلٍ} {خَمْطٍ} بالإضافة؛ أي: ثمر خمط على أن يكون الخمط كل شجر مر الثمر، أو كل شجر له شوك، أو هو الأراك على ما قاله البخاري. والأكل: ثمره. وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو, والخمط على قراءتهم نعت لـ {أُكُلٍ}، أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه. وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب، مثل: ثوب خز، ودار آجر. {و} جنتين ذواتي {أَثْلٍ} لا على {خَمْطٍ}؛ فإن الأصل هو الطرفاء, أو شجر يشبهه أعظم منه طولًا، ولا ثمر له، الواحدة: أثلة, والجمع أثلاث, وقوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} معطوف أيضًا على أكل؛ أي: وذواتي شيء قليل من سدر. وقرىء: {أثلًا} و {شيئًا} بالنصب، حكاه الفضل بن إبراهيم عطفًا على {جَنَّتَيْنِ}. ذكره أبو حيان. قال البيضاوي (¬2): وصف السدر بالقلة لما أن جناه وهو النبق مما يطيب أكله، ولذلك يغرس في البساتين. انتهى. فالسد: شجر النبق على ما في "القاموس". وقال أبو السعود: والصحيح أن السدر صنفان: صنف يؤكل من ثمره, وينتفع بورقه لغسل اليد، وصنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلًا, وهو البري الذي يقال له: الضال. والمراد هاهنا هو الثاني، فكان شجرهم من خير الشجر, فصيره الله من شر الشجر بسبب أعمالهم القبيحة. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي.

[17]

والحاصل: أن الله سبحانه أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبتت بدلها غير المثمرة. ومعنى الآية (¬1): أي فأعرضوا عن طاعة ربهم، وصدوا عن اتباع ما دعتهم إليه الرسل، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرًا ملأ الوادي، وكسر السد، وخرَّبه، وذهب بالجنان والبساتين وأهلك الحرث والنسل، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وبدلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها، كالخمط والأثل وقليل من النبق. 17 - ثم بيَّن سبب ذلك العقاب بقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} فالإشارة (¬2) بـ {ذَلِكَ} إلى مصدر {جَزَيْنَاهُمْ} فمحله النصب على أنه مصدر مؤكد له؛ أي: ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر، أو الإشارة إلى ما ذكر من التبديل، فمحله النصب على أنه مفعول ثان له؛ أي: ذلك التبديل جزيناهم لا غيره {بِمَا كَفَرُوا}؛ أي: بسبب كفرانهم النعمة؛ حيث نزعناها منهم، ووضعنا مكانه ضدها، أو بسبب كفرهم بالرسل. وفي هذه الآية: دليل على بعث الأنبياء بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فإنه روي أن الواقعة المذكورة كانت في الفترة التي بينهما، وما قيل من أنه لم يكن بينهما نبيٌّ يعني به: نبي ذو كتاب، كذا في "بحر العلوم"، فلا يشكل قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: رسول مبعوث بشريعة مستقلة، بل كل من بعث كان مقررًا لشريعة عيسى عليه السلام. والاستفهام في قوله: {وَهَلْ نُجَازِي} إنكاري بمعنى النفي؛ أي: وما نجازي هذا الجزاء الفظيع بسلب النعمة، ونزول النقمة {إِلَّا الْكَفُورَ}؛ أي: إلا المبالغ في الكفران، أو في الكفر، وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها. والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا، وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازي بكل عمل عمله. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {يجازى} بضم الياء وفتح الزاي {الكفور} رفعًا. وقرأ حمزة والكسائي: {نُجَازِي} بالنون وكسر الزاي, {الْكَفُورَ} بالنصب. وقرأ مسلم بن جندب: {يجزى} مبنيًا للمفعول، {الْكَفُورَ} رافعًا، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير، والمجازاة في الشر، لكن في تقييدهما قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أن المؤمن الشاكر يربط بشكره النعم الصورية، والمعنوية من الإيقان والتقوى والصدق والإخلاص والتوكل والأخلاق الحميدة وغير الشاكرين يزيل بكفرانه هذه النعم، فيجد بدلها الفقر والكفر والنفاق والشك والأوصاف الذميمة. ألا ترى إلى حال بلعم، فإنه لم يشكر يومًا على نعمة الإيمان والتوفيق، فوقع فيما وقع، والعياذ بالله تعالى, فلما غرس أهل الكفر في بستان القلب والروح الأشجار الخبيثة .. لم يجدوا إلا الثمار الخبيثة, فما عوملوا إلا بما استوجبوه، وما حصدوا إلا بما زرعوا، وما وقعوا إلا في الحفرة التي حفروا, كما قيل: يداك أوكتا، وفوك نفخ. وهذا مثل مشهور يضرب لمن يتحسر ويتضجر مما يرد عليه منه, يقال: أوكأ على سقائه: إذا سنده بالوكاء، والوكاء: للقربة, وهو الخيط الذي يشد به فوها, وفي الحديث: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله - أي: الذي هو ينبوع الرحمة والخير - ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". فصل في سد مأرب - سد العرم وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة (¬3) , وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه: "وصف جزيرة العرب" قال: في الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شعاب من جبل السراة الشهير, تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبِّر عنه العرب بالميزاب الشرقي، وهو أعظم أودية الشرق, وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول، وانحدرت حتى تنتهي أخيرًا إلى وادي آذنة, ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[18]

وهو يعلو سطح البحر نحو (1100) متر، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهي إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات، وهو مضيق بين جبلين، يقال لكل منهما: بلن، أحدهما: بلن الأيمن، وثانيهما: بلن الأيسر، والمسافة بينهما ست مئة ذراع، يجري السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي آذنة. وقد اختار السبئيُّون المضيق بين جبلي بلن، وبنوا في عرضه سورًا عظيمًا عرف بسد مأرب، أو بسد العرم؛ لأنه لا أنهار عندهم، وإنما يستقي أهلها من السيول التي تتجمع من المطر، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر .. ظمئوا وجفت أغراسهم، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى، فنالهم منه أذى كثير. وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض، تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو (3000) ميل مربع، كانت صحراء جرداء قاحلة، فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضًا وبساتين على سفحي الجبلين، وهي المعبَّر عنها بالجنتين، الجنة اليمنى، والجنة اليسرى. اهـ بتصرف. قال الأصفهاني: إن السد تهدم قبل الإِسلام بنحو أربع مئة سنة، وقال ياقوت: إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد، وقال ابن خلدون: إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد. 18 - وقوله: {وَجَعَلْنَا} معطوف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ}، وهو (¬1) بيان لما أوتوا من النعم البادية في مسايرهم ومتاجرهم، بعد حكاية ما أوتوا من النعم الحاضرة في مساكنهم ومحاضرهم، وما فعلوا بها من الكفران، وما فعل بهم من الجزاء تكملة لقصتهم، وإنما لم يذكر الكل معًا لما في التثنية والتكرير من زيادة تنبيه وتذكير. والمعنى (¬2): وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فنون النعم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين بلادهم اليمنية {وَبَيْنَ الْقُرَى} الشامية {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالمياه والأشجار والثمار والخصب والسعة في العيش للأعلى والأدنى. والمراد بها هنا: فلسطين وأريحا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وأردن ونحوها، والبركة: ثبوت الخير الإلهى, في الشيء، والمبارَك: ما فيه ذلك الخير. {قُرًى ظَاهِرَةً}؛ أي: قرى متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعيق أهلها، أو راكبة متن الطريق، ظاهرة للسابلة، غير بعيدة عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، أو مرتفعة على الآكام، وهي أصح القري. وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زادٍ يحملونه من أرضهم إلى الشام، وقال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن والشام، قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبع مئة قرية، وقيل: هي بين المدينة والشام، وقال المبرد: القرى الظاهرة: هي المعروفة، وإنما قيل لها: ظاهرة؛ لظهورها إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة؛ أي: معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر؛ أي: معروف. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}؛ أي: وجعلنا مسافة السير بينها مقدارًا معينًا واحدًا؛ أي: جعلنا القرى في نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين يليق بحال أبناء السبيل، وذلك نصف يوم. وقال الفراء: أي: جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام. قيل: كان الغادي من قرية يقيل في الأخرى، والرائح منها يبيت في أخرى إلى أن يبلغ الشام، لا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدو ولا سبع، وكل ذلك كان تكميلًا لما أوتوا من أنواع النعماء، وتوفيرًا لها في الحضر والسفر، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء، ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن .. لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد. والحاصل: أن الله سبحانه عدد عليهم النعم, ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري، كما سيأتي. وقوله: {سِيرُوا فِيهَا}؛ أي: في تلك القرى الظاهرة على تقدير القول بلسان المقال أو الحال، فإنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه .. فكأنهم أمروا

[19]

بذلك، وأذن لهم فيه؛ أي: وقلنا لهم: سيروا في تلك القرى لمصالحكم {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا}؛ أي: متى شئتم من الليالي والأيام، أو مكنا لهم من السير فيها متى شاؤوا من الأيام والليالي؛ أي: سيروا فيها أي وقت شئتم حال كونكم {آمِنِينَ} من كل ما تكرهونه من الأعداء واللصوص والسباع بسبب كثرة الخلق، ومن الجوع والعطش بسبب عمارة المواضع، لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، أو سيروا فيها آمنين، وإن تطاولت مدة سفركم، وامتدت ليالي وأيامًا كثيرة، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن لكن لا على الحقيقة، بل على تنزيل تمكينهم من السير المذكور، وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك. وخلاصة ما ذكر (¬1): أنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنيء رغد في بلاد مرضية، وأماكن آمنة، وقرى متواصلة مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماءً وثمرًا، فهو يقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم. 19 - ثم ذكر أنهم بطروا وملوا تلك النعم، وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير، كما طلب بنو إسرائيل الثوم والبصل مكان السلوى والعسل، وقالوا: لو كان جني جناننا أبعد .. لكان أجدر أن نشتهيه، وسألوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز وقفازًا؛ ليركبوا فيها الرواحيل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، كما حكى سبحانه عنهم بقوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ} بيننا؛ أي: بين بلدنا ويمننا، و {بَيْنَ} مقصد {أَسْفَارِنَا} وهو الشام؛ أي: اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد، فلما تمنوا ذلك عجل لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعًا لا يسمع فيها داع ولا مجيب {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} حيث عرضوها للسخط والعذاب بالشرك، وترك الشكر، وعدم الاعتداد بالنعمة، وتكذيب الأنبياء. وقرأ الجمهور من السبعة (¬2): {رَبَّنَا} بالنصب على النداء. وقرؤوا أيضًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

{بَاعِدْ} بصيغة الطلب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: {بعّد} بتشديد العين على صيغة الطلب. وقرأ ابن السميفع: {بعُد} بضم العين فعلًا ماضيًا، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى من بعد الأسفار. وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب: {ربنا} بالرفع على الابتداء والخبر. {باعد} بفتح العين على أنه فعل ماض, والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم, قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد، إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام القرى المتواصلة بطرًا وأشرًا وكفرًا للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: {ربُّنا} بالرفع {بعَّد} بفتح العين مشددة، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى بأن ربهم بعَّد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء, فيكون هذا من جملة بطرهم. وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميقع السابقة آنفًا، مع رفع {بينُ} على أنه الفاعل، كما قيل في قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}. وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة، لكن مع نصب {بين} على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا، وقرىء: {بُعِّد}، وقرأ ابن يعمر: {بين سفرنا} بالإفراد، والجمهور بالجمع. قال النحاس (¬1): وهذه القراءات إذا اختلف معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها, ولكن أخبر عنهم أنهم دعو ربهم أن يبعد بين أسفارهم, فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا, ولهذا قال سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} حيث كفروا بالله، وبطروا نعمته، وتعرضوا لنقمته {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}؛ أي: عظةً واعتبارًا للناس، يتحدثون بهم ويتمثلون بهم. أي: جعلنا أهل سبأ أخبارًا وعظةً وعبرةً لم بعدهم، بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ}؛ أي: فرقناهم في كل جهة من البلاد {كُلَّ مُمَزَّقٍ}؛ أي: غاية (¬2) التفريق وكامله، على أن الممزق مصدر، أو: كل مطرح ومكان تفريق، على أنه اسم مكان, وفي التعبير بالتمزيق ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى. أي: مزقناهم تمزيقًا لا غاية وراءه، بحيث تضرب به الأمثال في كل فرقة ليس بعدها وقال، فيقال: تفرَّقوا أيدي سبأ؛ أي: تفرقوا تفرق أهل هذا المكان من كل جانب، وكانوا قبائل ولدهم سبأ، فتفرقوا في البلاد. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام. والأزد بِعُمَان، وخزاعة بتهامة، وقال الزمخشري (¬1): غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بِعُمَان. وفي "التحرير": وقع منهم قضاعة بمكة، وأسد بالبحرين، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث: أن سبأ أبو عشرة قبائل، فلما جاء السيل على مأرب، وهو اسم بلدهم .. تيامن منهم ست قبائل - أي: تبددت في بلاد اليمن -: كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار التي منها بجلية وخثعم، وطائفة قيل لها حجير، بقي عليها اسم الأب الأول، وتشاءمت أربعة: لخم وجذام وغسان وخزاعة، ومن هذه المتشائمة أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة، وغير ذلك. والمعنى (¬2): أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها، ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرَّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، وصاروا مضرب الأمثال، فيقال للقوم يتفرقون: تفرقوا أيدي سبأ، فنزل آل جفنة بن عمرو الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزل أسد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمانًا، ثم أرسل الله على السَّدِّ السيل فهدَّمه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من قصتهم، وما فعل الله بهم {لَآيَاتٍ} عظيمة، ودلالات واضحة، وعلامات كثيرة، وعبرًا بليغة، وحججًا قاطعة على الوحدانية والقدرة. قال بعضهم: جمع الآيات؛ لأنهم صاروا فرقًا كثيرةً، كل منهم آية مستقلة {لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن المعاصي ودواعي الهوى والشهوات، وعلى البلايا والمشاق والطاعات {شَكُورٍ} على النعم الإلهية في كل الأوقات والحالات، أو لكل مؤمن كامل؛ لأنَّ الإيمان نصف صبر ونصف شكر؛ أو لكل من هو كثير الصبر والشكر، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[20]

وخص الصبار الشكور؛ لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات. والمعنى: أن في (¬1) ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب بعد النعمة والعافية عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام لعبرة لكل عبد صبَّار على المصايب، شكور على النعم. روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته". وكان مطرِّف بن الشخير يقول: نعم العبد الصبَّار الشكور الذي إذا أَعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. قال بعض أهل المعرفة: إن طلب الدنيا شهواتها هو طلب البعد عن الله تعالى وعن جنابه، والميل إلى الدنيا والرغبة في شهواتها من خسة النفس، وركاكة العقل، وهو ظلم على النفس، فمن قطعته الدنيا عن جناب الله .. جعله الله عبرة لأهل الطلب، وأوقعه في وادي الهلاك، فلا بد من الصبر عن الدنيا وشهواتها، والشكر على نعمة العصمة وتوفيق العبودية, الله وإياكم من الراغبين إليه، والمعتمدين عليه، وعصمنا من الرجوع عن طريقه، والضلال بعد إرشاده وتوفيقه، إنه الرحمن الذي بيده القلوب وتقليبها من حال إلى حال، وتصريفها كيف يشاء في الأيام والليالي. 20 - واللام في قوله (¬2): {وَلَقَدْ صَدَّقَ} موطئة للقسم، وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى أهل سبأ لتقدم ذكرهم، والظاهر أنه راجع إلى الناس جميعًا، كما يشهد به ما بعده {إِبْلِيسُ} اللعين من: الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله {ظَنَّهُ}؛ أي: ما ظنه بأهل سبأ من إغوائهم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد وجد إبليس اللعين ظنه بأهل سبأ حين رأى أنهماكهم في الشهوات صادقًا {فَاتَّبَعُوهُ}؛ أي: اتبع أهل سبأ الشيطان في الشرك والمعصية {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: إلا جماعة هم المؤمنون لم يتبعوه في أصل الدين، فـ {مِن} بيانية، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو تبيعيضية؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أي: إلا فريقًا من فرق المؤمنين لم يتبعوه، وهم المخلصون. أو المعنى (¬1): وجد ظنه ببني آدم صادقًا فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين، وذلك أنه حين شاهد آدم عليه السلام قد أصغى إلى وسوسته قال: إن ذريته أضعف منه عزمًا، ولذا قال: لأضلنهم. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن إبليس لم يكن متيقنًا أن يقدر على الإغواء والإضلال، بل كان ظانًا بنفسه أنه يقدر على إغواء من لم يطع الله ورسوله، فلما زين لهم الكفر والمعاصي، وكانوا مستعدين لقبولها حكمة لله في ذلك، وقبلوا منه بعض ما أمرهم به على وفق هواهم، وتابعوه بذلك .. صدق عليهم ظنه؛ أي: وجدهم كما ظن فيهم. اهـ. ومعنى الآية (¬2): أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذي بدَّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط - عقوبة منا لهم - ظنًا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم .. تحقق صدق ظنه فيهم، إلا فريقًا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس. وقرأ ابن عباس وقتادة وطلحة والأعمش وزيد بن علي والكوفيون (¬3): {صَدَّقَ} بتشديد الدال، وانتصب {ظَنَّهُ} على أنه مفعول بـ {صَدَّقَ}، والمعنى: وجد ظنه صادقًا؛ أي: ظن شيئًا، فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة بالتخفيف، فانتصب {ظَنَّهُ} على المصدر، أي: يظن ظنًا، أو على إسقاط الحرف؛ أي: في ظنه، أو على المفعول به، نحو قولهم: أخطأت ظني، وأصبت ظني، وظنه هذا كان حين قال: لأضلنَّهم ولأغوينهم، وهذا مما قاله ظنًا منه، فصدق هذا الظن. وقرأ زيد بن علي والزهري وجعفر بن محمد وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب {إبليس} ورفع ظنه أسند الفعل إلى ظنه؛ لأنه ظن ظنًا، فصار ظنه في الناس صادقًا، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: {إبليس ظنه} برفعهما فـ {ظَنَّهُ} بدل من {إبليس} بدل اشتمال. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[21]

21 - ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة، فقال: {وَمَا كَانَ لَهُ}؛ أي: لإبليس {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على بني آدم {مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء، وإلا فهو ما سلَّ عليهم سيفًا، ولا ضربهم بعصى، والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} متصل مفرغ من أعم العلل؛ أي: وما كان تلسيطنا إياه عليهم لعلة من العلل إلا لأجل أن نعلم ونميَّز {مَنْ يُؤْمِنُ} ويصدِّق {بـ} مجيء {الْآخِرَةِ} مع ما فيها من الأهوال {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}؛ أي: ممن هو في شك في مجيئها، وقيل: الاستثناء فيه منقطع، والمعنى عليه: لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته، والمعنى على الأول: أي: ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلا ليتميز من يؤمن بالآخرة، ومن لا يؤمن بها؛ لأنه سبحانه قد علم ذلك علمًا أزليًا. وقال الفراء: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل: إلا لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياءنا والملائكة، والأولى: حمل العلم هنا على التمييز والإظهار، كما ذكرنا. وقرأ الزهري: {إلا ليعلم} بضم الياء وفتح اللام مبنيًا للمفعول. ومعنى الآية (¬1): أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم به ليظهر حال من يؤمن بالآخرة، ويصدِّق بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب، ولا عقاب. قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصى، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورًا وأماني دعاهم إليها فأجابوه. وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكني أسلطه عليهم كما أسلِّط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حلَّ الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض، وبقي من هو قادر على المقاومة، ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها .. فلا يلومن إلا نفسه، وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصائب وآلام، يثبت لها ذوو العزيمة ¬

_ (¬1) المراغي.

الصادقة، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر. وعبارة "روح البيان" هنا: والمعنى (¬1): وما كان تسلُّطه عليهم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزًا ممن هو في شك منها تعلقًا حاليًا يترتب عليه الجزاء، فعلم الله قديم، وتعلقه حادث؛ إذ هو موقوف على وجود المكلف في عالم الشهادة، فلا يظن ظان بالله ظن السوء أن الله جلّ جلاله لم يكن عالمًا بأهل الكفر وأهل الإيمان, وإنما سلّط عليهم إبليس ليعلم به المؤمن من الكافر، فإن الله بكمال قدرته وحكمته خلق أهل الكفر مستعدًّا للكفر، وخلق أهل الإيمان مستعدًّا للإيمان، كما قال عليه السلام: "خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا"، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، فالله تعالى كان عالمًا بحال الفريقين قبل خلقهم، وهو الذي خلقهم على ما هم به وإنما سلط الله الشيطان على بني آدم لاستخراج جواهرهم من معادن الإنسانية، كما تسلط النار على المعادن لتخليص جوهرها، فإن كان الجوهر ذهبًا فيخرج منه الذهب، وإن كان الجوهر نحاسًا فيخرج منه النحاس، فلا تقدر أن تخرج من معدن النحاس الذهب والفضة، وهو ناري يستخرج جواهرهم من معادنهم بنفخة الوساوس، فلا يقدر أن يخرج من كل معدن إلا ما هو جوهره، وقال بعضهم: العلم هنا مجاز عن التمييز، المعنى: إلا لنميّز المؤمن بالآخرة من الشاكّ فيها، فعلَّل التسلَّط بالعلم، والمراد: ما يلزمه انتهى. {وَرَبُّكَ} يا محمد، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من المخلوقات، {حَفِيظٌ}؛ أي: محافظ، والمعنى: أي (¬2): وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء، وهو يجازيهم جميعًا يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير أو شر، فمن أخبت لله وأناب إليه .. لاقى من الثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دسّ نفسه الأمَّارة بالسوء، وانهمك في شهواته .. لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[22]

وقال بعضهم: الحفيظ (¬1): هو الذي يحفظ كل شيء على ما هو به، والحفيظ من العباد: من يحفظ ما أمر بحفظه من الجوارح والشرائع والأمانات والودائع، ويحفظ دينه عن سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان، فإنه على شفا جرف هار، وقد اكتفنته هذه الملكات المفضية إلى البوار، قال بعضهم: أسباب الحفظ: الجدّ والمواظبة، وترك المعاصي, واستعمال السواك، وتقليل النوم، وصلاة الليل، وقراءة القرآن نظرًا وغير ذلك. 22 - {قُلِ} يا محمد للمشركين إظهارًا لبطلان ما هم عليه، وتبكيتًا لهم {ادْعُوا}؛ أي: نادوا {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}؛ أي: زعمتموهم آلهة ومفعولا {زعم} محذوفان لدلالة السياق عليهما، فحذف الأول وهو الضمير الراجع الموصول تخفيفًا؛ لطول الموصول بصلته، والثاني - وهو آلهة - لقيام صفته, أعني: قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مقامه، والمعنى: ادعوا الذين عبدتموهم من دون لله فيما يهمكم من جلب نفع ودفع ضر لعلَّهم يستجيبون لكم إن صحّ دعواكم. أي: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخًا لهم، ومبينًا لهم سوء ما يصنعون: ادعوا هؤلاء الأصنام في مهام أموركم ليدفعوا الضرّ عنكم، أو يجلبوا النفع لكم لعلهم يستجيبون لكم، إن كان ذلك مكنتهم، وبيدهم مقاليد أموركم، ثم أبان خطأهم، وعظيم جرمهم فقال: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}؛ أي: هؤلاء الآلهة لا يملكون وزن نملة صغيرة، أو وزن هباء كائنة {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} من خير وشر، ونفع وضرّ، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع، أو يخشى منهم ضرّ؛ أي: لا يقدرون فيهما أمرًا ما من الأمور, فنفى عنهم ملك مثقال ذرّة، وإذا انتفى ملك الأحقر .. فملك الأعظم أولى, وذكر (¬2) السموات والأرض لقصد التعميم عرفًا، يعني: أن أهل العرف يعبّرون بهما عن جميع الموجودات، كما يعبّرون بالمهاجرين والأنصار عن جميع الجماعة, أو لأن آلهتهم بعضها سماويّة كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضية كالأصنام, أو لأن الأسباب القريبة للخير والشرّ سماوية وأرضية، ونحو الآية قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[23]

{وَمَا لَهُمْ}؛ أي: لآلهتهم، {فِيهِمَا}؛ أي: في السموات والأرض {مِنْ شِرْكٍ}؛ أي: شركة مع الله لا خلقًا ولا ملكًا ولا تصرفًا، {وَمَا لَهُ}؛ أي: وما لله سبحانه وتعالى {مِنْهُمْ}؛ أي: من آلهتهم {مِنْ ظَهِيرٍ}؛ أي: معين يعينه في تدبير أمورهما. والمعنى (¬1): أي ليس لآلهتهم في السموات والأرض مشاركة مع الله، لا بالخلق، ولا بالملك، ولا بالتصرف، وما لله سبحانه من تلك الآلهة معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض، ومن فيهما. 23 - {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ}؛ أي: ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى، كما يزعمون، إذ لا شفاعة، {عِنْدَهُ} تعالى {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}؛ أي: إلا لشافع أذن له أن يشفع، وهو لا يأذن لأحد من الشفعاء من الملائكة وغيرهم أن يشفع لهؤلاء الكافرين، كما قال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدًا، والشفاعة: طلب الخير من الغير للغير، كما سيأتي في مبحث اللغة مبسوطًا. والاستثناء في قوله (¬2): {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال؛ أي: لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلَّا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين وغيرهم من أهل العلم والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلَّا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له؛ أي: لأجله، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة من أهل الإيمان, وأما من عداهم من غير المستحقين لها كهؤلاء الكفرة .. فلا تنفعهم شفاعة شافع أصلًا، وإن فرض وقوعها وصدورها عن الشفعاء؛ إذ لم يأذن لهم في شفاعتهم، بل في شفاعة غيرهم من المؤمنين، فعلى هذا يثبت حرمانهم من شفاعة هؤلاء الشفعاء من الملائكة وغيرهم بمنطوق النصّ، ومن شفاعة الأصنام بمفهومه؛ إذ حين حرموها من جهة القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها، فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها أولى. وقرأ الجمهور (¬3): {أَذِنَ} بفتح الهمزة؛ أي: أذن الله سبحانه له؛ لأن اسمه مذكور قبل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بضمها على البناء للمفعول، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

والآذن: هو الله سبحانه. و {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} غاية (¬1) لمحذوف يدل عليه قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فإنه يشعر بالاستئذان المستدعي الترقّب والانتظار للجواب، كأنه سئل: كيف يؤذن لهم؟ فقيل: يتربّصون في موقف الاستئذان والاستدعاء، ويتوقّفون على وَجَلٍ، وفزعٍ زمانًا طويلًا، حتى إذا أزيل الفزع، وكشف الخوف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن لهم، وظهرت لهم تباشير الإجابة، والمعنى: حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم من المؤمنين، وأما الكفرة: فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل، وعن التفزيع عن قلوبهم بألف منزل. {قَالُوا}؛ أي: المشفوع لهم للشافعين؛ إذ هم المحتاجون إلى الإذن، والمهتمّون بأمره، {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}؛ أي: في شأن الإذن، {قَالُوا}؛ أي: الشفعاء؛ لأنهم المباشرون للاستئذان بالذات، المتوسّطون بينهم وبينه تعالى بالشفاعة. {الْحَقَّ}؛ أي: قال ربّنا القول الحق، وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. قرأ الجمهور (¬2): {فزّع} مبنيًا للمفعول مشدّدًا من الفزع؛ أي: أطير الفزع عن قلوبهم، وفعَّل يأتي لمعانٍ منها: الإزالة، وهذا منه نحو: قَرّدْتُ البعير؛ أي: أزلت القراد عنه، وقرأ ابن عامر وابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبو المتوكل الناجي وابن السميفع: {فَزّع} مبنيًا لفاعل مشدّدًا من الفزع أيضًا، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في {عَنْ قُلُوبِهِمْ} للملائكة، فهو الله، وإن كان للكفار .. فالضمير لمغويهم، وكلا هاتين بتشديد الزاي من التفزيع، وهو إزالة الفزع، وقرأ الحسن: {فُزع} من الفزع بتخفيف الزاي مبنيًا للمفعول، و {عَنْ قُلُوبِهِمْ} في موضع رفع به، كقولك: انطلق بزيد، وأبو المتوكل أيضًا وقتادة ومجاهد: {فَزّع} مشددًا مبنيًا للفاعل من التفزيع، وقرأ الحسن أيضًا كذلك، إلا أنه خفف الزاي، وقرأ عبد الله بن عمر والحسن أيضًا وأبو أيوب السختياني وقتادة أيضًا وأبو مجلز: {فُزِّغ} مشدّد الراء المهملة مبنيًا للمفعول؛ أي: كشف عن قلوبهم الخوف، والفاعل هو الله، وقرأ ابن مسعود وعيسى: {افرنقع عن قلوبهم} بمعنى: انكشف ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف. (¬2) البحر المحيط.

عنها، من الافرنقاع وهو التفرق، وقال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركِّب قمطر من حروف القمط مع زياد الراء انتهى. فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة، وكذلك الراء، وهو ظاهر كلامه .. فليس بصحيح؛ لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة، وإن عني أنَّ الكلمة فيها حروف، وما ذكروا زائدًا إلى ذلك العين والراء، كمادة فرقع وقمطر، فهو صحيح، ولولا إبهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف. ذكره أبو حيان. ومعنى الآية (¬1): أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة، وَجِلِين، حتى إذا أذن للشافعين، وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين .. قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا: قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. والخلاصة: أن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين، والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة، ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة. وقيل المعنى (¬2): لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم، مطيعون لله دون الجمادات والشياطين، وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: معنى الآية: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة .. قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار. ثمّ ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون، وقصور كل ما سواه فقال: {وَهُوَ} جل شأنه: {الْعَلِيُّ} فوق خلقه بالقهر والاقتدار، فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، لا معقّب لحكمه. {الْكَبِيرُ}؛ أي: المتصف بالكبرياء في ذاته وصفاته، فهو الذي يُحتقر كل شيء في جنب كبريائه؛ أي: وهو سبحانه المنفرد بالعلوّ والكبرياء، لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه، وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[24]

الشفاعة، فهو من (¬1) تمام كلام الشفعاء، قالوه اعترافًا بغاية عظمة جناب العزة، وقصور شأن كل من سواه، وفيه أيضًا ثناء على الله، كما لا يخفى. 24 - ثمّ أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبكِّت المشركين ويوبخهم فقال: {قُلْ} يا محمد لمشركي قومك {قُلْ} استفهام توبيخ وتبكيت؛ أي: قل لهم من {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ} بإنزال المطر {و} من {الْأَرْضِ} بإخراج النبات؛ أي: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم حياة لحروثكم، وصلاحًا لمعايشكم, وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم، ومن الأرض بإخراج أقواتكم، وأقوات أنعامكم؟ فإنْ هم قالوا: لا ندري .. فأجبهم: {قُلِ اللَّهُ} يرزقكم؛ إذ لا جواب سواه عندهم أيضًا إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادًا مع علمهم بصحته، ولأنهم لو تفوهوا به لقيل لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟! والمعنى (¬2): أي فإن أجابوك، وقالوا: الله .. فذلك ظاهر، وإن لم يقولوا ذلك .. فقل: الله يرزق؛ إذ لا جواب سواه، وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى، ومنه تعالى، فإذن إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعُلُوِّه وكبريائه، سواء دفع عنكم ضررًا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع، فإن لم تكونوا كذلك .. فاعبدوه لدفع الضر، وجر النفع. واعلم (¬3): أنَّ الرزق قسمان: ظاهر، وهو الأقوات والأطعمة المتعلق بالأبدان، وباطن، وهو المعارف المتعلقة بالأرواح، وهذا أشرف القسمين، فإن ثمرته حياة الأبد، وثمرة الرزق الظاهر قوة إلى مدة قريبة الأبد، والله تعالى هو المتولي لخلق الرزقين، والمتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين، ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ثم أمره سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلاله، لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعدما سبق تقرير من هو على الهدى، ومن هو على الضلالة، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[25]

{وَإِنَّا}؛ أي: أنا ومن اتبعني، {أَوْ إِيَّاكُمْ} عطف على اسم إن، {لَعَلَى هُدًى} من الله تعالى، {أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: بيِّن واضح، معناه (¬1): ما نحن وأنتم علي أمر واحد، بل أحد الفريقين مهتدٍ، والآخر ضال، وهذا ليس على طريق الشك، بل على جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وصاحبه كاذب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه على الهدى، ومن خالفه في ضلال، فكذبهم من غير أن يصرِّح بالتكذيب، ومنه بيت حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب، وكان قد هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم: أَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وقيل: إن {أَوْ} بمعنى: الواو، على طريق النشر واللف المرتب. ومعنى الآية: إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين، واختلاف الحرفين (¬2)؛ لأن الهادي كمن صعد منارًا ينظر منه الأشياء، ويتطلع عليها، أو يركب جوادًا يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يرى شيئًا، ولا يدري أين يتوجه، أو متردٍّ في بئر عميق، لا يستطيع الخروج منها. والمعنى (¬3): أي أن أحد الفريقين من الذين يوحِّدون الله الخالق الرازق ويخصّونه بالعبادة، والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر، لعلى أحد الأمرين: من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل عاقل أنَّ من عبد الذي يخلق ويرزق، وينفع ويضرّ، هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق، ولا نفع ولا ضرّ، هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى، وهم المسلمون، وفريق الضلالة، وهم المشركون، على وجه أبلغ من التصريح، وهو الإيماء، وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم، وفَلِّ شَوْكَتهِ بالهويني. 25 - ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة، فأسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل للمخاطبين، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: أنتم {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البيضاوي. (¬3) الشوكاني.

[26]

أَجْرَمْنَا}؛ أي: عما فعلنا واكتسبنا من الذنوب، وارتكبنا من الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، {و} نحن {لَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الكفر والكبائر، بل كل مطالب بعمله، وكل زراع يحصد زرعه لا زرع غيره. وهذا أبلغ في الإنصاف (¬1)، وأبعد من الجدل والاعتساف؛ حيث أسند فيه الإجرام، وإن أريد به الزلة وترك الأولى إلى أنفسهم مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص، والطاعة المحضة، ومطلق العمل إلى المخاطبين، مع أن أعمالهم أكبر الكبائر والمعاصي المحضة، والمقصود: المهادنة والمتاركة، وقد نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف، ونحو الآية قوله: {فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. فإن قلتَ: لِمَ ترك كنتم هنا في قوله: {عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وقد ذكره في غير هذا الموضع؟ قلتُ: تركه هنا؛ لأن قوله: {تَعْمَلُونَ} وقع في مقابلة {أَجْرَمْنَا} في قوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا}، وضمير {أَجْرَمْنَا} للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره، وغيره صدر منه ذنب، فعبَّر عنه بالماضي، والمخاطب في {تَعْمَلُونَ} الكفار, وكفرهم واقع في الحال، وفي المستقبل ظاهرًا، فعبّر عنه بالمضارع، فلا يناسبه: كنتم، مع أن الخطاب في ذلك واقع في الدنيا، والخطاب في غيره نحو {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} واقع في الآخرة، فناسبه التعبير بكنتم. اهـ "فتح الرحمن". 26 - ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم؛ إذ أمر رسوله أن يقول لهم بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكفرة {يَجْمَعُ بَيْنَنَا} بينكم {رَبُّنَا} يوم القيامة عند الحشر والحساب، {ثُمَّ يَفْتَحُ}؛ أي: يحكم ربنا، {بَيْنَنَا} وبينكم {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكم العدل, ويفصل بيننا وبينكم بعد ظهور حال كلٍّ منا ومنكم، بأن يدخل المحقين الجنة، والمبطلين النار. {وَهُوَ} سبحانه {الْفَتَّاحُ}؛ أي: الحاكم بالحق، القاضي بالصواب، الفيصل في القضايا المنغلقة. {الْعَلِيمُ} بما ينبغي أن يقضي به، وبمن يقضي له وعليه، ولا يخفى عليه شيء من ذلك, كما لا يخفى عليه ما عدا ذلك، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وهذه الآية منسوخة أيضًا بآية السيف (¬1). ومعنى الآية: أي قل لهم (¬2): إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب، ثم يقضي بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهناك يجزى كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}. وقال الزروقي (¬3): الفتاح: المتفضل بإظهار الخير والسعة على أثر ضيق، وانغلاق باب للأرواح والأشباح في الأمور الدنيوية والأخروية، وقال بعض المشايخ: الفتاح: من الفتح، وهو الإفراج عن الضيق، كالذي يفرّج تضايق الخصمين في الحق بحكمه، والذي يذهب ضيق النفس بخيره، وضيق الجهل بتعليمه، وضيق الفقر ببذله. وقال الغزالي - رحمه الله تعالى -: الفتّاح: هو الذي بعنايته ينفتح كل منغلق وبهدايته ينكشف كل مشكل، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه، ويخرجها من أيدي أعدائه، ويقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}، وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه، ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه، وجمال كبريائه، ويقول: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}، ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق .. فبالأحرى أن يكون فتاحًا، وخاصية هذا الاسم تيسير الأمور، وتنوير القلوب، والتمكين من أسباب الفتح، فمن قرأه في إثر صلاة الفجر إحدى وسبعين مرة، ويده على صدره .. طهر قلبه، وتنور سره، وتيسير أمره، وفيه تيسير الرزق وغيره. والعليم: مبالغة العالم، وهو من قام به العلم، ومن عرف أنه تعالى هو العالم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[27]

بكل شيء، راقبه في كل شيء، واكتفى بعلمه في كل شيء، فكان واثقًا به عند كل شيء، ومتوجهًا له بكل شيء. قال ابن عطاء الله: متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك .. فأرجع إلى علم الله فيك، فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم. وخاصية هذا الاسم تحصيل العلم والمعرفة، فمن لازمه عرف الله حق معرفته على الوجه الذي يليق به تعالى. 27 - ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتًا لهم فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {أَرُونِيَ}؛ أي: اعلموني، أو أبصروني الآلهة {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ} وهم {بِهِ} سبحانه {شُرَكَاءَ} له تعالى، وهذه الرؤية (¬1) هي القلبية، فيكون {شُرَكَاءَ} هو المفعول الثالث؛ لأن الفعل تعدى بالهمزة إلى ثلاثة مفاعيل، الأول: الياء في {أَرُونِيَ}، والثاني: الموصول والثالث: {شُرَكَاءَ}، وعائد الموصول محذوف؛ أي: ألحقتموهم، ويجوز أن تكون هي البصرية، وتعدى الفعل بالهمزة إلى اثنين، الأول: الياء، والثاني: الموصول، ويكون {شُرَكَاءَ} منتصبًا على الحال. والمقصود بأمرهم (¬2): إراءة الأصنام، مع كونها بمرأى منه - صلى الله عليه وسلم -: إظهار خطأهم العظيم، وإطلاعهم على بطلان رأيهم؛ أي: أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء، مع استحقاق العبادة، هل يخلقون، وهل يرزقون؟ وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم, ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء، وأبطل ذلك فقال: {كَلَّا} ردع لهم المشاركة بعد إبطال المقايسة؛ أي: ارتدعوا عن دعوى المشاركة، بل {هُوَ} سبحانه وحده، أو الشأن، كما في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. {اللهِ}؛ أي: المنفرد بالإلهية. {الْعَزِيزُ}؛ أي: الموصوف بالعزة والغلبة القاهرة. {الْحَكِيمُ}؛ أي: الموصوف بالحكمة الباهرة، فأين شركاؤكم التي هي أخس الأشياء وأذلها من هذه الرتبة العالية. ومعنى الآية (¬3): أي ليس الأمر كما وصفتم فلا نظير له تعالى، ولا ندَّ، بل هو الله الواحد الأحد، ذو العزة التي بها قهر شيء، وهو الحكيم في أفعاله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[28]

وأقواله، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة. قال بعضهم (¬1): والتقرب باسم العزيز في التمسك بمعناه، وذلك يرفع الهمة عن الخلائق، فإن العز فيه، ومن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة .. أعانه الله تعالى وأعزه، ولم يحوجه إلى أحد من خلقه، قال السهروردي: من قرأه سبعة أيام متواليات، كل يوم ألفًا .. أهلك خصمه، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة، ويشير إليهم بيده، فإنهم ينهزمون، والتقرب باسم الحكيم أن تراعى حكمته في الأمور كلها، فتجري عليها مقدمًا ما جاء شرعًا، ثم عادة سلمت من معارض شرعي، وخاصية هذا الاسم دفع الدواهي، وفتح باب الحكمة، فمن أكثر ذكره صرف عنه ما يخشاه من الدواهي، وفتح له باب من الحكمة، والحكمة في حقنا إصابة الحق في القول والعمل، وفي حق الله تعالى: معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، قال بعضهم: الحكمة تقال بالاشتراك على معنيين: الأول: كون الحكيم بحيث يعلم الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، والثاني: كونه بحيث تصدر منه الأفعال المحكمة الجامعة. 28 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: وما بعثناك يا محمد إلى قومك خاصة، بل ما أرسلناك {إِلَّا} بعثة، وإرسالة {كَافَّةً}؛ أي: عامة شاملة {لِلنَّاسِ} محيطة (¬2) بأحمرهم وأسودهم، وعربهم وعجمهم، من الكف بمعنى المنع؛ لأنها إذا عمتهم وشملتهم .. فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، فانتصاب {كَافَّةً} على أنها صفة لمصدر محذوف، والتاء للتأنيث، والجار متعلق بها، ويجوز أن تكون حالًا من الكاف، والتاء للمبالغة كتاء علامة؛ أي: ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك جامعًا لهم في الإبلاغ؛ لأن الكف يلزم الجمع، قال الراغب: وما أرسلناك إلا كافًا لهم عن المعاصي، والتاء فيه للمبالغة، انتهى. ولا يجوز أن يكون حالًا من {النَّاسِ}، لامتناع تقدم الحال على صاحبها المجرور عند الجمهور، كامتناع تقدم المجرور على الجار، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا ... فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ عَسِيْرُ وقول الآخر: تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمُ حَتَّى كَأنَّكُمُ عِنْدِيْ وقول الآخر: غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاَتَ حَيْنَ إِبَاءِ وممن رجح كونها حالًا من المجرور بعدها: ابن عطية، وقال: قدمت للاهتمام والتقوى. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيُّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" متفق عليه. وفي الحديث (¬1): بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأنبياء، وأنَّ هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء، وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن، وكان النبي قبله يبعث إلى قومه، أو إلى بلده خاصة، فعمت رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - جميع الخلق، وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. وانتصاب {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} على الحال من الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: وما أرسلناك إلا حالة كونك مبشرًا لمن آمن بالجنة، وحالة كونك منذرًا ومخوفًا لمن كفر بالنار. ومعنى الآية (¬2): أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة، بل أرسلناك إلى الخلق جميعًا، عربهم وعبهم أسودهم وأحمرهم، إنسهم وجنهم، مبشرًا من أطاعني بالثواب العظيم، ومنذرًا من عصاني بالعذاب الأليم، ونحو الآية قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}؛ أي: الكفار {لَا يَعْلَمُونَ} ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل، فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغيِّ والضلال، ونحو الآية قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. وكرر ذكر الناس (¬1) تخصيصًا للجهل بنعمتي البشارة والنذارة، ونعمة الرسالة بهم، وأنهم هم الذين لا يعلمون فضل الله بذلك عليهم ولا يشكرونه، وذلك لأن العقل لا يستقل بإدراك جميع الأمور الدنيوية والدينية والأخروية، والتمييز بين المضار والمنافع، فاحتاج الناس إلى التبشير والإنذار، وبيان المشكلات من جهة أهل الوحي. تتمة: وفي بعض الروايات من الحديث. السابق آنفًا: "فضلت علي الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم"، وهي ما يكون ألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة، "ونصرت بالرعب" يعني: نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعدائي، "من مسيرة شهر بيني وبينهم"، وجعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه المحاربين له أكثر من شهر، "وأحلت لي الغنائم" يعني: أن من قبله من الأمم كانوا إذا غنموا الحيوانات .. تكون ملكًا للغانمين دون الأنبياء، فخص نبينا - صلى الله عليه وسلم - بأخذ الخمس والصفي، وإذا غنموا غيرها من الأمتعة والأطعمة والأموال جمعوه، فتجيء نار بيضاء من السماء، فتحرقه حيث لا غلول، وخص هذه الأمة المرحومة بالقسمة بينهم، كأكل لحم القربان، فإن الله أحله لهم زيادة في أرزاقهم، ولم يحله لمن قبلهم من الأمم، "وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا" يعني: أباح الله لأمتي الصلاة حيث كانوا تخفيفًا لهم، وأباح التيمم بالتراب عند فقد الماء، ولم يبح الصلاة للأمم الماضية إلا في كنائسهم، ولم يجز التطهر لهم إلا بالماء، "وأرسلت إلى الخلق كافة"؛ أي: في زمنه وغيره ممن تقدم أو تأخر، بخلاف رسالة نوح عليه السلام، فإنها وإن كانت عامة لجميع أهل الأرض، لكنها خصت بزمانه، قال في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

"إنسان العيون": والخلق يشمل الإنس والجن، والملك والحيوانات والنبات والحجر. 29 - {وَيَقُولُونَ}؛ أي: المشركون من فرط جهلهم، وغاية غيهم، وشدة تعنتهم وعنادهم مخاطبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين به بطريق الاستهزاء: {مَتَى} يكون {هَذَا الْوَعْدُ} المبشر به والمنذر عنه، يعنون: الجنة والنار. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعوى الوقوع والوجود .. فأخبرونا عن وقت وقوعه، ونحو الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، 30 - ثم أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم عن سؤالهم فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} مبتدأ وخبر؛ أي: وعد يوم، وهو يوم البحث مصدر ميمي، وجملة: {لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ}؛ أي: عن ذلك الميعاد المضروب لكم عند مفاجأته صفة لـ {الميعاد} إن طلبتم التأخير، {سَاعَةً}؛ أي: مقدار أقل قليل من الزمان. {وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} عليه ساعة إن طلبتم الاستعجال، وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد ما لا يخفى؛ حيث جعل الاستئخار في الاستحالة كالاستقدام الممتنع عقلًا؛ أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال، ولا التقدم إليه بالاستعجال. فإن قلت (¬1): كيف انطبق هذا جوابًا لسؤالهم، مع أنهم سألوا عن تعيين وقت الوعد؛ لأن: متى، سؤال عن الوقت المعين، ولا تعرض في الجواب لتعيين الوقت؟ قلت: وجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم: أن سؤالهم، وإن كان على صورة استعلام الوقت إلا أن مرادهم الإنكار والتعنت، والجواب المطابق لمثل هذا السؤال أن يجاب بطريق التهديد على تعنتهم وإنكارهم، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخر عنه ولا تقدمًا عليه اهـ "زاده" بزيادة. ومعنى الآية: أي قل لهم أيها الرسول (¬2): إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء، فتنظروا للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله للعذاب؛ لأن الله جعل لكم أجلًا لا تعدونه. ¬

_ (¬1) الفتوحات بتصرف. (¬2) المراغي.

والخلاصة: دعوا السؤال عن وقت مجيء الساعة، فإنه كائن لا محالة، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون، فهذا أليق بكم، قيل (¬1): هو يوم البعث، وهو السابق إلى الذهن، وقيل: وقت حضور الموت، وقيل: أراد يوم بدر؛ لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا. أقوال، وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان، ويجوز في {مِيعَادُ} أن يكون مصدرًا مرادًا به الوعد، وأن يكون اسم زمان، قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى. وقرأ الجمهور: {مِيعَادُ} يوم بالإضافة، وقرأ ابن أبي عبلة واليزيدي: {ميعاد يومًا} بتنوينهما، قال الزمخشري: وأما نصب {يومًا} فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد، أعني يومًا، وأريد يومًا صفته كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف؛ أي: إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت، وقرأ عيسى: {ميعاد} منونًا، و {يوم}: بالنصب من غير تنوين مضافًا إلى الجملة، واحتمل تخريجه على الظرف على حذف مضاف؛ أي: إنجاز وعد يوم كذا، واحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم. الإعراب {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {كاَنَ}: فعل ناقص، {لِسَبَإٍ}: خبرها مقدم، {فِي مَسْكَنِهِمْ}: حال من {سَبَأ}؛ أي: حال كونهم في مسكنهم {آيَةٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {كاَنَ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {جَنَّتَانِ}: بدل من {آيَةٌ} بدل كل، أو خبر لمبتدأ محذوف، {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}: صفة لـ {جَنَّتَانِ}، {كُلُوا}: فعل أمر وفاعل، {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كُلُوا}، والجملة في محل الرفع مقول لقول محذوف تقديره: وقيل لهم بلسان الحال، أو بلسان المقال: كلوا من رزق ربكم، {وَاشْكُرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {كُلُوا}، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{لَهُ}: متعلق بـ {اشكروا}. {بَلْدَةٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: بلدتكم بلدة طيبة، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {كُلُوا}، {طَيِّبَةٌ}: صفة لـ {بَلْدَةٌ}، {وَرَبٌّ}: خبر لمبتدأ محذوف، {غَفُورٌ}: صفة لـ {رب}، والتقدير: وربكم رب غفور، والجملة معطوفة على ما قبلها. {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}. {فَأَعْرَضُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قيل لهم، وأردت بيان ما فعلوا بعد ذلك .. فأقول لك: أعرضوا، {أعرضوا}: فعل ماض وفاعل، ومتعلقه محذوف تقديره: عن شكر ربهم، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {فَأَرْسَلْنَا}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {أرسلنا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {سَيْلَ الْعَرِمِ}: مفعول به، والجملة معطوفة مفرعة على جملة {أعرضوا}، {وَبَدَّلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به أول معطوف على {أرسلنا}، {بِجَنَّتَيْهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {بدلنا}، {جَنَّتَيْنِ}: مفعول ثان لـ {بدلنا}، {ذَوَاتَيْ}: صفة لـ {جَنَّتَيْنِ} منصوب بالياء؛ لأنه جمع ذات مؤنث، {ذَو}: بمعنى صاحب، {أُكُلٍ}: مضاف إليه، {خَمْطٍ}: صفة {أُكُلٍ}، {وَأَثْلٍ}: معطوف على {أُكُلٍ}، {وَشَيْءٍ}: معطوف عليه أيضًا، {مِنْ سِدْرٍ}: صفة أولى لـ {شَيْءٍ}، {قَلِيلٍ}: صفة ثانية له، {ذَلِكَ}: في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {جَزَيْنَاهُمْ} مقدم عليه؛ لأنه ينصب مفعولين؛ أي: جزيناهم ذلك التبديل، {جَزَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة، {بِمَا} {الباء}: سببية متعلقة بـ {جَزَيْنَاهُمْ}، {ما}: مصدرية، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة لـ {ما} المصدرية؛ أي: بسبب كفرهم، {وَهَلْ}: {الواو}: استئنافية، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري بمعنى: النفي، {نُجَازِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {الْكَفُورَ}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)}.

{وَجَعَلْنَا}: {الواو}: عاطفة، {جعلنا}: فعل وفاعل، معطوف على {بدلناهم} عطف قصة على قصة، {بَيْنَهُمْ}: ظرف مضاف منصوب على الظرفية، متعلق بـ {جعلنا} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {وَبَيْنَ الْقُرَى}: ظرف ومضاف إليه، معطوف على الظرف الأول، {الَّتِي} في محل الجر صفة لـ {الْقُرَى}، {بَارَكْنَا}: فعل وفاعل، {فِيهَا}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {قُرًى}: مفعول أول لـ {جعلنا}، {ظَاهِرَةً}: صفة لـ {قُرًى}، {وَقَدَّرْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {جعلنا}، {فِيهَا}: متعلق بـ {الْأَرْضَ}، أو متعلق بـ {السَّيْرَ}، و {السَّيْرَ}: مفعول به لـ {قَدَّرْنَا}، {سِيرُوا}: فعل أمر وفاعل، {فِيهَا}: متعلق بـ {سِيرُوا}، {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا}: منصوبان على الظرفية، متعلقان بـ {سِيرُوا}؛ {آمِنِينَ}: حال من فاعل {سِيرُوا}، وجملة {سِيرُوا} في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم سيروا، والقول المحذوف معطوف على {قدرنا}. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}. {فَقَالُوا}: {الفاء}: عاطفة، {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف جواب لما المحذوفة، والتقدير: ولما بطروا النعمة، وطغوا، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية .. تمنوا طول الأسفار، والكد في المعيشة، فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، كما يشير إليه كلام القرطبي. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء مقول {قالوا}، {بَاعِدْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول {قالوا} على كونها جواب النداء، {بَيْنَ}: ظرف متعلق بـ {بَاعِدْ}، {أَسْفَارِنَا}: مضاف إليه، {وَظَلَمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قالوا}، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به: {فَجَعَلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على {ظَلَمُوا}، {أَحَادِيثَ}: مفعول ثان، {وَمَزَّقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {جَعَلْنَاهُمْ}، {مُمَزَّقٍ}: منصوب على المفعولية المطلقة لنيابته عن المصدر {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد، {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لها، {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء، {لِكُلِّ صَبَّار}: صفة لـ {آيَات}، {شَكُورٍ}: صفة {صَبَّارٍ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ

عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، {اللام}: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق، {صَدَّقَ}: فعل ماض، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {إِبْلِيسُ}: فاعل، {ظَنَّهُ}: مفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {فَاتَّبَعُوهُ}: {الفاء}: عاطفة، {اتَّبَعُوه}: فعل ماضٍ، وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {صَدَّقَ}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {فَرِيقًا}: منصوب على الاستثناء {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {فَرِيقًا}، {وَمَا}: الواو: حالية أو عاطفة، {مَا}: نافية، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {لَهُ}: خبر كان مقدم، {عَلَيْهِمْ}: حال من {سُلْطَانٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مِنْ}: زائدة، {سُلْطَانٍ}: اسمها مؤخر، والجملة في محل النصب حال من إبليس، أو معطوفة على جملة القسم، {إِلَّا}: أداة استثناء متصل مفرغ من أعم العلل، تقديره: وما كان تسليطنا إياه عليهم لعلة من العلل إلا لأجل أن نعلم ونميز من يؤمن بآياتنا، {لِنَعْلَمَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {نَعْلَمَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {نعلم}، {يُؤْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {بِالْآخِرَةِ}: متعلق به، وجملة {يُؤْمِنُ} صلة الموصول، وجملة {نعلم} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بمعلول محذوف تقديره: وما كان تسليطنا إياه عليهم إلا لعلمنا وتمييزنا من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، {مِمَّنْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {نعلم}؛ لأنه متضمن معنى: نميز، {هُوَ}: مبتدأ، {مِنْهَا}: حال من {شَكٍّ}؛ لأنه في الأصل صفة لـ {شَكٍّ}. {فِي شَكٍّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول، {وَرَبُّكَ}: مبتدأ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {حَفِيظٌ}، {حَفِيظٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والجملة مستأنفة،

{ادْعُوا}: فعل أمر وفاعل، {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول، وجملة {زَعَمْتُمْ}: صلة الموصول، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، صفة للمفعول الثاني المحذوف، والمفعول الأول محذوف أيضًا تقديره: زعمتموهم آلهة كائنة من دون الله تعالى، فحذف الأول لطول الموصول بصلته، وحذف الثاني لقيام صفته، أعني دون الله مقامه، فإذن مفعولا زعم محذوفان جميعًا بسببين مختلفين. {لَا يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل، {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان حال آلهتهم، أو حال من الموصول في قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}. {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {يَمْلِكُونَ}، أو صفة لـ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، {وَلَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {فِي السَّمَاوَاتِ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {مَا}: نافية، {لَهُم}: خبر مقدم، {فِيهِمَا}: حال من شرك؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مِنْ}: زائدة، {شِرْكٍ}: مبتدأ مؤخر، واسم {مَا} على رأي من يجيز تقدم خبرها على اسمها، والجملة معطوفة على جملة {يَمْلِكُونَ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {لَهُ}: خبر مقدم، {مِنْهُمْ}: حال من {ظَهِيرٍ}، {مِنْ} زائدة، {ظَهِيرٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {لَا يَمْلِكُونَ} أيضًا. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}. {وَلَا تَنْفَعُ}: {الواو}: استئنافية، {لا تنفع الشفاعة}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {عِنْدَهُ}: متعلق بـ {تَنْفَعُ} أو حال من الشفاعة، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {لِمَنْ}: متعلق بـ {الشَّفَاعَةُ}، أو بـ {تَنْفَعُ}، {أَذِنَ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، {لَهُ}: متعلق بـ {أَذِنَ}، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {حَتَّى}: حرف جر وغاية لمحذوف يفهم من السياق، كأنه قيل: وكانوا يتربصون ويقفون خائفين وجلين تتقاوسهم المخاوف، وتتقاذفهم الشكوك، أيؤذن لهم أم لا؟ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ}، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {فُزِّعَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَنْ قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل لـ {فُزِّعَ}، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة

{إِذَا} الشرطية مع جوابها في محل الجر بـ {حَتَّى} الجارة، والتقدير: يقفون خائفين منتظرين الإذن إلى قولهم: ماذا قال ربكم وقت إزالة الفزع عنهم، و {حَتَّى}: متعلق بيقفون المحذوف، {مَاذَا}: {ما}: اسم استفهام مبتدأ، {ذا}: اسم موصول خبره، {قَالَ رَبُّكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ذا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما الذي قاله ربكم، والجملة الاسمية محل النصب مقول {قَالُوا}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {الْحَقَّ}: مقول لـ {قَالَ} المحذوف بتضمينه معنى ذكر، تقديره: قال ربنا القول الحق، وهو الإذن في الشفاعة، وجملة {قال} المحذوف في محل النصب مقول {قَالُوا}، ولك أن تعرب القول المحذوف مفعولًا مطلقًا لقال المحذوف، أو مفعولًا به؛ لأنه بمعنى: ذكر، و {الْحَقَّ}: صفة له، {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَلِيُّ}: خبر أول، {الْكَبِيرُ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {مَن}: اسم استفهام مبتدأ، وجملة {يَرْزُقُكُمْ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ} {مِنَ السَّمَاوَاتِ} متعلق بـ {يَرْزُقُكُمْ}، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {اللَّهُ}: مبتدأ خبره محذوف تقديره: الله يرزقنا وإياكم، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الله، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}، {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة، {إنا}: ناصب واسمه، {أَوْ إِيَّاكُمْ}: معطوف على اسم {إن}، {لَعَلَى}: {اللام}: حرف ابتداء، {على هدى}: جار ومجرور، خبر {إن}؛ أي: لكائنون على هدى، وجملة {إن} معطوفة على جملة {الله يرزقنا} على كونها مقولًا لـ {قُلِ}، {أَوْ فِي ضَلَالٍ}: معطوف على {على هدى}، {مُبِينٍ}: صفة {ضَلَالٍ}، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {لَا}: نافية، {تُسْأَلُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {عَمَّا}: متعلق بـ {تُسْأَلُونَ}، و {ما} موصولة أو مصدرية، {أَجْرَمْنَا}: فعل وفاعل، والجملة صلة

لـ {ما} الموصولة، أو المصدرية، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية، {نُسْأَلُ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة معطوفة على جملة {لَا تُسْأَلُونَ}، {عَمَّا}: متعلق بـ {نُسْأَلُ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} المصدرية، أو الموصولة، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {يَجْمَعُ}: فعل مضارع، {بَيْنَنَا}: متعلق بـ {يَجْمَعُ}، {رَبُّنَا}: فاعل {يَجْمَعُ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {يَفْتَحُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {يَجْمَعُ}، {بَيْنَنَا}: متعلق بـ {يَفْتَحُ}، {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {يَفْتَحُ} أيضًا، {وَهُوَ الْفَتَّاحُ}: مبتدأ وخبر أول، {الْعَلِيمُ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {أَرُونِيَ}: فعل أمر والواو فاعل، والنون: للوقاية، والياء: مفعول به أول؛ لأنّ الرؤية علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين، فلما جيء بهمزة النقل تعدت إلى ثلاثة مفاعيل. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرُونِيَ}، والجملة {أَلْحَقْتُمْ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ألحقتموهم، {بِهِ}: متعلق بـ {أَلْحَقْتُم}، {شُرَكَاءَ}: مفعول ثالث لـ {أَرُونِيَ}، وجملة {أَرُونِيَ} في محل النصب مقول {قُلْ}، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل إلى واحد، فلما جيء بهمزة النقل .. تعدت لاثنين، أولهما: ياء المتكلم، والثاني: الموصول، {شُرَكَاءَ}: حال من العائد المحذوف؛ أي: بصّروني الملحقين به حال كونهم شركاء له. {كَلَّا} حرف ردع وزجر مبني على السكون، {بَلْ}: حرف إضراب وابتداء، {هُوَ}: ضمير الشأن مبتدأ أول {اللَّهُ}: مبتدأ ثانٍ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول له، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان له، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مستأنفة، ولك أن تجعل {هُوَ} ضميرًا عائدًا على الله، وتعربه مبتدأ خبره {اللَّهُ}، و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: صفتان للجلالة. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}.

{وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {كَافَّةً}: حال من الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ}، أو من الناس على رأي من يجيز تقدم الحال على الجار والمجرور، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: إرسالة كافة عامة للناس، {لِلنَّاسِ} متعلقان بـ {أَرْسَلْنَاكَ} {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}: حالان من الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ}، {وَلَكِنَّ}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها ومضاف إليه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} عطف اسمية على فعلية. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}. {وَيَقُولُونَ}: {الواو}: استئنافية، {يقولون}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مَتَى}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، {هَذَا}: مبتدأ مؤخر {الْوَعْدُ}: بدل من اسم الإشارة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقولون}، {إِن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: إنْ كنتم صادقين فيما وعدتمونا .. فأخبرونا متى هو، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب مقول {يقولون}، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {لَكُمْ}: خبر مقدم، {مِيعَادُ يَوْمٍ}: مبتدأ مؤخر، وهو مصدر مضاف إلى الظرف، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}، {لَا}: نافية، {تَسْتَأْخِرُونَ}: فعل وفاعل، {عَنْهُ}: متعلق بـ {تَسْتَأْخِرُونَ}، {سَاعَةً}: طرف زمان متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {يَوْمٍ}، وجملة {وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ}: معطوفة على جملة {لَا تَسْتَأْخِرُونَ}. التصريف ومفردات اللغة {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} هو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، والمراد به هنا: القبيلة. {فِي مَسْكَنِهِمْ} والمسكن: موضع السكنى، وهو: مأرب، كمنزل من بلاد

اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. {آيَةٌ}؛ أي: علامة دالة على وجود الله ووحدانيته، وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب. {جَنَّتَانِ}؛ أي: بستانان. {عَنْ يَمِينٍ} واليمين في الأصل: الجارحة، وهي أشرف الجوارح لقوتها، وبها تعرف من الشمال وتمتاز عنها. {وَشِمَالٍ}: ضد اليمين. {فَأَعْرَضُوا}؛ أي: انصرفوا عن شكر هذه النعم، يقال: أعرض: إذا أظهر عرضه؛ أي: ناحيته. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} الإرسال: مقابل الإمساك، والتخلية، وترك المنع. {سَيْلَ الْعَرِمِ} السيل: أصله مصدر، كالسيلان بمعنى: فاض الوادي ماء، وجعل اسمًا للماء الذي يأتيك ولم يصبك مطره، والعرم: من العرامة، وهي الشدة والصعوبة، يقال: عَرَم، كنصر وضرب وكرم وعلم عرامةً وعرامًا بالضم، فهو عارم وعرم: إذا اشتد، وعرم الرجل إذا شرس خلقه؛ أي: ساء وصعب، وأضاف السيل إلى العرم؛ أي: الصعب، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، بمعنى: سيل المطر العرم، أو الأمر العرم، وقيل: العرم بفتح أوله وكسر ثانية، جمع: عرمة، كذلك مثل كلم وكلمة، وهي الحجارة المركومة، كخزّان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبيّ النيل، وقيل: اسم للجرذ؛ أي: الخلد: نوع من الفئران، وقيل: المطر الشديد، وقيل: اسم للوادي، وقيل: غير ذلك من الأقوال المتلاطمة، ولن تجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة، واختار الجلال منها أن يكون العرم جمع عرمة، وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته، وهذا ما نعبّر عنه اليوم بالسدود، وهو أولى ما تفسَّر به الآية، وقد يحدث تصدّع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة. {وَبَدَّلْنَاهُمْ} والتبديل: جعل الشيء مكان آخر، والباء تدخل على المتروك، كما هو القاعدة المشهورة. {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} مثنى: ذوات أو ذات، ولفظ ذوات مفرد؛ لأن أصله: ذوية، فالواو عين الكلمة والياء لامها؛ لأنه مؤنث ذو وذو أصله: ذوي، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها .. قلبت الفًا، فصار: ذوا، ثم حذفت الواو تخفيفًا، فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر إلى لفظه الآن، فيقال: ذاتان، ويجوز أن ينظر إلى أصله،

فيقال: ذواتان. هذا، وذات: مؤنث ذو، ومثناها: ذواتان، والجمع: ذوات، ويعرب المؤنث والمثنى والجمع إعراب نظيره من الأسماء المفردة والمثناة والمجموعة. {أُكُلٍ خَمْطٍ} بضمتين وبضم، فسكون: الثمر أو ما يؤكل، والخمط: المر والحامض، يقال: خمر خمطة؛ أي: حامضة، ولبن خمط؛ أي: متغيِّر، وفي "المختار": الخمط: ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وعن أبي عبيدة: كل شجر ذي شوك، وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة حتى لا يمكن أكله. اهـ. {وَأَثْلٍ} الأثلة: السمرة، وقيل: شجر من العضاة طويلة مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح، فوقعت مجازًا في قولهم: نحت أثلته إذا تنقصته، وفلان لا تنحت أثلته، ولفلان أثلة مال؛ أي: أصل مال، ثم قالوا: أثلت مالًا وتأثلته، وشرف مؤثل وأثيل، وقيل: الأثل: الطرفاء، وهو المعروف في مصر بالأتل، وفي اللغة الأرمية: غاترا، قال الفراء: يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه طولًا، ومنه اتخذ منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وورقه كورق الطرفاء، والواحدة: أثلة، والجمع: أثلال، كما مر وفي الأرمية: بربرس. {مِنْ سِدْرٍ} السدر: شجر النبق يطيب أكله، ولذا يغرس في البساتين، وقيل: إن السدر صنفان، صنف يؤكل ثمره، وينتفع بورقه في غسل الأيدي، وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلًا، وهو الضال في الأرمية: قرقر غبروا. {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} قال في "القاموس": {هَلْ}: كلمة استفهام، وقد يكون بمعنى الجحد وكفر النعمة، وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها. {وَبَيْنَ الْقُرَى}: جمع قرية، والقرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، بلدة كانت أو غيرها. {بَارَكْنَا فِيهَا} والبركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك: ما فيه ذلك الخير. {قُرًى ظَاهِرَةً} أصل ظهر الشيء: أن يحصل على ظهر الأرض فلا يخفى، وبطن الشيء: أن يحصل في بطنان الأرض فيخفى، ثم صار مستعملًا في كل ما برز للبصر والبصيرة. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} والسير: المضي في الأرض. {آمِنِينَ} أصل الأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف.

{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} المباعدة والبعاد: مصدران لباعد، والأسفار: جمع سفر، والسفر: خلاف الحضر، وهو في الأصل كشف الغطاء، وسفر الرجل فهو سافر وسافر: خص بالمفاعلة اعتبارًا بأن الإنسان قد سفر عن المكان، والمكان سفر عنه، ومن لفظ السفر اشتقت السفرة لطعام السفر، ولما يوضع فيه من الجلد المستدير. وقال بعضهم: وسمي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر؛ أي: يكشف عن أخلاق الرجال، ويستخرج دعاوي النفوس ودفائنها. {أَحَادِيثَ} جمع: أحدوثة، وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث، قال ابن الكمال: الأحاديث مبني على واحده المستعمل، وهو الحديث، كأنهم جمعوا حديثًا على أحدثة، ثم جمعوا الجمِع على الأحاديث، وفي "القاموس": الأحاديث: جمع حديث بمعنى الخبر. {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}؛ أي: فرقناهم كل تفريق؛ أي: فرقناهم تفريقًا لا يتوقع بعده عود اتصال. {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الصبار: كثير الصبر عن الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاقّ الطاعات، والشكور: كثير الشكران على النعم، وهما من صيغ المبالغة. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ} وإبليس: مشتق من الإبلاس، وهو الحزن المعترض من شدة اليأس، كما في "المفردات": أبلس: يئس وتحير، ومنه: إبليس، أو هو أعجمي. انتهى. {ظَنَّهُ} والظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ومظنة الشيء - بكسر الظاء -: موضع يظن فيه وجوده. {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الفريق: الجماعة المنفردة عن الناس. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}؛ أي: وجد ظنه فيهم صادقًا؛ لانهماكهم في الشهوات، واستفراغ الجهد في اللذات. {مِنْ سُلْطَانٍ} السلطان: القهر والغلبة، ومنه: السلطان لمن له ذلك. {إِلَّا لِنَعْلَمَ} العلم: إدراك الشيء بحقيقته، والعالم في وصف الله تعالى هو الذي لا يخفى عليه شيء.

{مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}: والشك: اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}؛ أي: محافظ عليه، فإن فعيلًا ومفاعلًا صيغتان متآخيتان في إفادة المبالغة، وقيل: معناه: أي: وكيل قائم على شؤون خلقه. {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} قال في "القاموس": الزعم - مثلثة -: القول الحق، والباطل، والكذب، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه، وفي "المفردات": الزعم: حكاية قول يكون مظنة الكذب، ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذمَّ القائلين به. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} وهي طلب العفو أو الفضل للغير من الغير، يعني: أن الشافع شفيع للمشفوع له في طلب نجاته، أو زيادة ثوابه، ولذا لا تطلق الشفاعة على دعاء الرجل لنفسه، وأما دعاء الأمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسؤالهم له مقام الوسيلة، فلا يطلق عليه الشفاعة؛ إما لاشتراط العلو في الشفيع، وإما لاشتراط العجز في المشفوع له، وكلاهما منتفٍ هاهنا. {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} والتفزيع: إزالة الفزع، وهو انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع، ولذا لا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، وفي "الأساس": وفزَّع عن قلبه: كشف الفزع عنه، فالتضعيف هنا للسلب، كما يقال: قزدت البعير: أزلت قراده. {عَمَّا أَجْرَمْنَا} الإجرام: فعل الجرم، والجرم - بالضم -: الذنب، وأصله: القطع، واستعير لكل اكتساب مكروه، كما في "المفردات". {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ}؛ أي: أعلموني بالدليل وجه الشركة. {كَلَّا}: كلمة للزجر عن كلام، أو فعل صدر من المخاطب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين لفظ {يَمِينٍ} و {وَشِمَالٍ}، وبين {بَشِير} و {نَذِيرٍ}، وبين {تَسْتَقْدِمُونَ} و {تَسْتَأْخِرُونَ}. ومنها: المشاكلة في قوله: {جَنَّتَيْنِ} وهو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في

مقابلته، فقد سمي البدل جنتين للمشاكلة، وإلا فالخمط والأثل والضال ليس بجنة. ومنها: التهكم بهم في قوله: {جَنَّتَيْنِ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا} فإن كلمة {سِيرُوا} مشتقة من السير. ومنها: التنكير في قوله: {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} إلماعًا إلى قصر أسفارهم، فقد كانت قصيرة؛ لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش، ورغد منه، لا يحتاجون إلى مواصلة الكد، وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم. ومنها: التذييل في قوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} فإنه تذييل لقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا}، وهو هنا أن تكون الجملة الثانية متوقفة على الأولى في إفادة المراد؛ أي: وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم، ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور، وفرق بين قولنا: جزيته بسبب كذا، وبين قولنا: ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب، ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول، ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى. ومنها: مقابلة الإيمان بالشك في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} إيذانًا بأن أدنى مرتبة الكفر يوقع في الورطة. ومنها: جعل الشك ظرفًا له، وتقديم صلته عليه، والعدول إلى كلمة {مِنْ} مع أنه يتعدى بفي؛ للمبالغة والاشعار بشدته، وأنه لا يرجى زواله. ومنها: المبالغة في قوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}؛ لأن فعيلًا من صيغ المبالغة. ومنها: فن الفرائد في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها، بحيث لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدَّها، وفي لفظة: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه. ومنها: التعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع ولا يحس في قوله: {قُلِ ادْعُوا

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. ومنها: التوبيخ والتبكيت في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: حذف الخبر لدلالة السياق عليه في قوله: {قُلِ اللَّهُ}؛ أي: قل الله الخالق الرازق للعباد، ودلَّ على المحذوف سياق الآية. ومنها: المبالغة بذكر صيغ المبالغة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وفي قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}؛ لأن فعالًا وفعولًا وفعيلًا من أوزان المبالغة. ومنها: الاستدراج في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه؛ لأنه يستدرج الخصم ويضطره إلى الإذعان والتسليم، والعزوف عن المكابرة واللجاج، فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه المخاطب به: قد أنصفك صاحبك، كقول الرجل لصاحبه: أنا وأنت أحدنا لكاذب، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام. ومنها: المخالفة بين حرفي الجر في قوله: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه، لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلّما يراعى مثله في الكلام، وكثيرًا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور، فيقول له: أنت على ضلالك القديم، كما أعهدك، فيأتي بعلى في موضع: في، وإن كان هذا جائزًا، إلا أن استعمال في هنا أولى لما أشرنا إليه، والاستعارة التصريحية واضحة. ومنها: الأمر في قوله: {أَرُونِيَ} أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهارًا لخطئهم، وإطلاعهم على بطلان رأيهم. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {عَمَّا أَجْرَمْنَا} لأن الإجرام في الأصل: القطع ثم استعير لكل اكتساب مكروه. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا

يَعْلَمُونَ} تخصيصًا للجهل بنعمتي البشارة والنذارة، ونعمة الرسالة بهم. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}. المناسبة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه لما ذكر الأصول الثلاثة، وهو: التوحيد والرسالة والحشر، وكانوا كافرين بها جميعًا .. ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن، وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار، وما يسرونه من ¬

_ (¬1) المراغي.

الحسرة والندامة، حين يرون العذاب، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيء الأعمال، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قول المشركين لرسوله: لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه، بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير، كما قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} .. سلاه على ما ابتلي به من مخالفة مترفي قومه له، وعداوتهم إياه بالتأسي بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعًا من بينهم، فما من نبي بعث في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤها، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}، ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به، فما هم فيه من مال وولد برهان ساطع على محبة الله إياهم، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقتيره، كما يكون للبر .. يكون للفاجر؛ لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية، وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان، وهم في أمن ودعة، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدًا، ثم وعد المنفقين في سبيل الله بالإخلاف، وأوعد الممسكين بالإتلاف. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) أنَّ حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه ليس بدعًا بين الرسل، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم، فكلهم كذبوا، وكلهم أوذوا في سبيل الله، ثم أعقب ذلك بأن ردّ عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله تعالى، ولا سخطه .. أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم: هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون: بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم، ثم بيَّن أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام، ويقال لهم على طريق ¬

_ (¬1) المراغي.

[31]

التوبيخ والتهكم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ...} الآيات، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن ابن رزين قال: كان رجلان شريكان، خرح أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه، وكان يقرأ بعض الكتب، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إلام تدعو فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ فقال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله قد أنزل تصديق ما قلت. التفسير وأوجه القراءة 31 - ثمّ ذكر سبحانه طرفًا من قبائح الكفار، ونوعًا من أنواع كفرهم، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: كفار قريش، {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} الذي ينزل على محمد {وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: ولا بما نزل قبله من الكتب القديمة الدالة على البعث، كالتوراة والإنجيل. والمعني (¬2): أي وقال قوم من مشركي العرب: لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالكتب التي سبقته، ولا بما اشتملت عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء. روي: أن كفار مكة سألوا أهل الكاتب عن وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم، فأغضبهم ذلك، وقالوا ما قالوا. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي.

ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدي الملك الديان للحساب والجزاء، فقال: {وَلَوْ تَرَى} يا محمد، أو يا من يليق بالخطاب {إِذِ الظَّالِمُونَ} المنكرون للبعث؛ لأنهم ظلموا بأن وضعوا الإنكار موضع الإقرار {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ أي (¬1): محبوسون في موقف المحاسبة على أطراف أناملهم، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لو رأيت ذلك .. لرأيت أمرًا فظيعًا شنيعًا تقصر العبارة عن تصويره، وإنما دخلت {لَوْ} على المضارع مع أنها للشرط في الماضي؛ لتنزيله منزلة الماضي؛ لأن المترقب في أخبار الله تعالى، كالماضي المقطوع به في تحقق وقوعه، أو لاستحضار صورة الرؤية ليشاهدها المخاطب. {يَرْجِعُ} ويردُّ، من رجع رجعًا بمعنى: ردَّ. {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}؛ أي: حالة كونهم يتحاورون، ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا متناصرين متحابّين. وفي "السمين" (¬2) قوله: {وَلَوْ تَرَى}: مفعول {تَرَى}، وجواب {لَوْ} محذوفان للعلم؛ أي: ولو ترى يا محمد حال الظالمين وقت وقوفهم عند ربهم، راجعًا بعضهم إلى بعض القول .. لرأيت حالًا فظيعةً، وأمرًا منكرًا، وجملة {يَرْجِعُ} حال من ضمير {مَوْقُوفُونَ} والقول منصوب بـ {يَرْجِعُ}؛ لأنه يتعدى قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ}، وجملة قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} تفسير لقوله: {يَرْجِعُ}، فلا محل له من الإعراب، أو بدل منه؛ أي: حالة كون الاتباع الذين عدوا ضعفاء وقهروا يقولون: {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: للرؤساء الذين بالغوا في الكبر والتعظم عن عبادة الله تعالى، وقبول قوله المنزل على أنبيائه، واستتبعوا الضعفاء في الغي والضلال: {لَوْلَا أَنْتُمْ} موجودون؛ أي: لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان, {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} بالله ورسوله؛ أي: أنتم منعتمونا من الإيمان واتّباع الرسول. ومعنى الآية (¬3): أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين، وما هم فيه من مهانة وذلة، يحاور بعضهم بعضًا، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[32]

الأعمال، والسبب فيما أوقعهم في هذا النكال والوبال .. لرأيت العجب العجاب، والمنظر المخزي الذي يستكين منه المرء خجلًا، ثم فصل ذلك الحوار، فقال: يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا، واستتبعوهم في الغيّ والضلال: لولا أنتم أيها السادة صددتمونا عن الهدى .. لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول، 32 - ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهو واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا؟ فقيل: قال الرؤساء الذين استكبروا عن الإيمان {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} منكرين لكونهم الصادين لهم عن الإيمان, مثبتين ذلك لأنفسهم؛ أي: للمستضعفين {أَنَحْنُ} معاشر الرؤساء {صَدَدْنَاكُمْ}؛ أي: منعناكم وصرفناكم أيها الأتباع {عَنِ الْهُدَى} والإيمان {بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} الهدى، قال العمادى: وإنما وقعت {إِذْ} مضافًا إليها، وإن كانت من الظروف اللازمة للظرفية، لأنه يتوسع في الزمان ما لا يتوسع في غيره، فأضيف إليه الزمان. اهـ. وقيل: إن {إِذْ} هنا بمعنى: أن المصدرية؛ أي: لم نصدكم عنه، كقولك: ما أنا قلت هذا، تريد: لم أقله، مع أنه مقول لغيري، فإن دخول همزة الاستفهام الإنكاري على الضمير يفيد نفي الفعل عن المتكلم، وثبوته لغيره، كما قال: {بَلْ كُنْتُمْ} أنتم {مُجْرِمِينَ}؛ أي: راسخين في الإجرام والإشراك، فبسبب ذلك صددتم أنفسكم عن الإيمان, وآثرتم التقليد، وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبب عداوة في الآخرة، وتبرىء بعضهم من بعض، قال أبو السعود: فأنكروا كونهم الصادين لهم عن الإيمان, وأثبتوا أنهم هم الصادون لأنفسهم بسبب كونهم راسخين في الإجرام. اهـ. والمعنى: أي قال الذين استكبروا في الدنيا، وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا، فكانوا أتباعًا لأهل الضلال منهم: أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله تعالى، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها اجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان. والخلاصة: أننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه، بل كنتم مجرمين، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى، 33 - ثم حكي ردّ المستضعفين على قول المستكبرين بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} عطف على الجملة الاستئنافية.

فإن قلت (¬1): لِمَ عطف هنا، وترك العطف فيما سبق؟ قلت: لأنّ الذين استضعفوا مرَّ أولًا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأول، اهـ "كشاف". أي: قال الذين استضعفوا {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ردًا لما أجابوا به عليهم، ودفعًا لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إضراب على إضرابهم، وإبطال له؛ أي: لم يكن إجرامنا الصاد لنا، بل مكركم لنا ليلًا ونهارًا هو الصاد لنا، والمكر (¬2): صرف الغير عما يقصده بحيلة؛ أي: بل صدّنا مكركم بنا في الليل والنهار، وحملكم إيانا على الشرك والأوزار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه اتساعًا، يعني: في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين مجازًا. والمعنى: أنَّ المستكبرين لما أنكروا أن يكونوا السبب، وأثبتوا أن ذلك باختيارهم .. كر عليهم المستضعفون بقولهم: بل مكر الليل والنهار، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: بل من جهة مكركم لنا ليلًا ونهارًا، أو حملكم إيانا على الشرك، واتخاذ الأنداد، اهـ "عمادي". وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر (¬3): {بل مكرٌ} بالتنوين، {الليلَ والنهارَ} بالنصب على الظرفية، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، وقرأ سعيد بن جبير بن محمد وأبو رزين وابن يعمر أيضًا: {مكرٌّ} بفتح الكاف وتشديد الراء مضافًا مرفوعًا بمعنى: الكرور من كر يكر إذا جاء وذهب، ومعناه: كرور الليل والنهار واختلافهما، ومقصودهم الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله تعالى، وقرأ ابن جبير أيضًا وطلحة وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر؛ أي: صددتمونا مكر الليل والنهار؛ أي: في مكرهما، ومعناه: دائمًا. وقوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرف للمكر؛ أي: بل صدَّنا مكركم الدائم في الليل ¬

_ (¬1) الكشاف. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

والنهار وقت أمركم إيانا، {أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ}؛ أي: بوحدانيته، {وَنَجْعَلَ لَهُ} سبحانه {أَنْدَادًا}؛ أي: أشباهًا وأمثالًا، والمعنى: أي: وقال الأتباع للرؤساء في الضلال: صدَّنا مكركم بنا، وخداعكم في الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر بالله، ونجعل له أمثالًا وأشباهًا في العبادة. وإجمال ذلك: ما صدَّنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار، حتى أزلتمونا عن عبادة الله، فأنتم كنتم تغروننا وتنموننا وتخيروننا أننا على الهدى، وأنا على شيء، وكل ذلك باطل وكذب، ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم، فقال: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} والضمير فيه راجع إلى الفريقين؛ أي: وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين الندامة والحسرة على ما فرط منهم في الدنيا من الكفر وأخفوها عن غيرهم، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}؛ أي: حين رأوا العذاب وعاينوه؛ إذ هم بهتوا مما عاينوا، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة. والخلاصة: أنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعدّه لهم، وقيل: المعنى: أضمر الفريقان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال حين ما نفعتهم الندامة، وأخفاها كل منهما عن الآخر مخافة التعيير، أو المعنى: أظهروا الندامة، فإنه من الأضداد، يكون تارة بمعنى الإخفاء، وتارة بمعنى: الإظهار؛ إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب، كما في أشكيته، وهو المناسب لحالهم، ومنه قول أمرىء القيس: تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ ... عَلَى حِرَاصٌ لَوْ يُسِرُّونَ مُقْتَلِيْ وقيل: معنى أسرّوا الندامة: تبينت الندامة في أسرة وجوههم. {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ}: جمع غل، وهو: قيد وطوق من حديد يجمع اليد إلي العنق، كما سيأتي؛ أي: ونجعل الأغلال يوم القيامة، {فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالحق لما جاءهم في الدنيا حين دخلوا النار في الآخرة من التابعين والمتبوعين، وإيراد المستقبل بلفظ الماضي من جهة تحقيق وقوعه، كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله تعالى، والإظهار لمزيد الذم، أو للكفار على العموم، فيدخل هؤلاء فيهم دخولًا أوليًا أي: وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار، ثم ذكر أنه لا

[34]

جزاء لأمثالهم إلا هذا, فقال: {هَلْ يُجْزَوْنَ} والاستفهام للإنكار؛ أي: ما يجزى الذين كفروا من التابعين والمتبوعين، {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: إلا جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي، أو إلا بما كانوا يعملونه، على نزع الخافض، فلما قيدوا أنفسهم في الدنيا، ومنعوها من الإيمان بتسويلات الشيطان الجني والإنسي .. جُوزوا في الآخرة بالقيد؛ أي: وما يفعل ذلك بهم إلا جزاءً لما اجترحوا من الكفر والآثام. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجني من الشوك العنب. 34 - ولما قص الله سبحانه حال من تقدم من الكفار .. أتبعه بما فيه التسلية لرسوله، وبيان أنَّ كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا} وبعثنا، {فِي قَرْيَةٍ} من القرى، وبلدة من البلدان. قال في "كشف الأسرار": القرية: العصر تقري أهلها وتجمعهم. {مِنْ نَذِيرٍ}؛ أي: نبيًا ينذر أهلها ويحذرهم عقاب الله، وجملة قوله: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} في محل النصب على الحال؛ أي: إلا قال رؤساء تلك القرية المتكبرون المتنعمون بالدنيا؛ أي: إلا قال رؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر فيها لرسلهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ} على زعمكم من التوحيد والإيمان, {كَافِرُونَ}؛ أي: منكرون على مقابلة الجمع بالجمع، وهذه الآية جاءت لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يا محمد (¬1) هذه سيرة أغنياء الأمم الماضية، فلا يهمنَّك أمر أكابر قومك، فتخصيص المتنعمين بالتكذيب مع اشتراك الكل فيه؛ إما لأنهم المتبوعون، أو لأنّ الداعي الأعظم إلى التكذيب والإنكار هو التنعم المستتبع للاستكبار. ومعنى الآية (¬2): أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرًا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا، إلا قال كبراؤها وأولوا النعمة والثروة فيها: إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد، وليس في ذلك من عجيب، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة، فالضدان لا يجتمعان، انغماس في الشهوة، وعلم وحكمة وثروة مادية وثروة روحية. 35 - ثم ذكر تفاخرهم بما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[36]

هم فيه بسطة العيش وكثرة الولد، وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله: {وَقَالُوا}؛ أي: الكفار المترفون للفقراء المؤمنين، فخرًا بزخارف الدنيا، وبما هو فتنة لهم. {نَحْنُ} معاشر الأغنياء. {أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} منكم في الدنيا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في الآخرة على تقدير وقوعها؛ لأن المكرم في الدنيا لا يهان في الآخرة. أي: وقال المستكبرون في كل قرية أرسلنا فيها نذيرًا: إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة الأموال، فنحن لا نعذب؛ لأن ذلك دليل على محبة الله لنا وعنايته بنا، مرادهم: أن الله فضلنا عليكم بالأولاد والأموال في الدنيا، وذلك يدل على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين، وما نحن بمعذبين في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا، ورضاه عنا. هيهات هيهات إنهم قد ضلوا ضلالًا بعيدًا، وأخطؤوا في القياس: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}. وخلاصة آرائهم: نحن في نعمة لا تشوبها نقمة، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا؛ إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفًا لما يرضيه .. لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش، وكثرة الأولاد، 36 - فرد الله عليهم مقالتهم آمرًا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله: {قُلْ} يا محمد ردًا عليهم. {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسعه، {لِمَنْ يَشَاءُ} أن يبسطه له، ويوسعه عليه من مؤمن وكافر. {وَيَقْدِرُ}؛ أي: يضيق على من يشاء أن يقدره، ويضيقه عليه من مؤمن وكافر حسب اقتضاء مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فلا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، فليس في التوسيع دلالة على الإكرام، كما أنه ليس في التضييق دلالة على الإهانة، وفي الحديث: "الدنيا عرض حاضر، يأكل منها بر وفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر". والمعنى: قل لهم أيها الرسول: إن ربي يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه، ويضيّق على من يشاء، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك، ولا لخير فيه، ولا لزلفى استحق بها ذلك، ولا لبغض منه لمن قدر عليه، ولا لمقت منه له، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها لكسب المال، في هذه الحياة، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغي، ومن أخطأها وضل .. لم ينل شيئًا من حظوظها, ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله. ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي، وضيَّق على

[37]

المطيع، وربما عكس الأمر، وقد يوسِّع على المطيع والعاصي تارةً، ويضيِّق عليهما أخرى، يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها، وربما خفي علينا أمرها, ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا .. لاختص به المطيع، ولو كان التضييق دليل الإهانة .. لاختص به العاصي، ومن ثمَّ جاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطي الكافر منها شيئًا"؛ أي: فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجًا له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير، توفيرًا لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه، ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين، أو المغالطة الواضحة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم أهل الغفلة والخذلان، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى {لَا يَعْلَمُونَ} حكمة البسط والقدر، فيزعمون أنَّ مدار البسط هو الشرف والكرامة، ومدار القدر هو الذل والهوان، ولا يدرون أن الأول كثيرًا ما يكون بطريق الاستدراك، والثاني بطريق الابتلاء، ورفع الدرجات حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس، والتضييق منه على آخرين، ومن ثم قال ابن الراوندي: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوْقَا هَذَا الَّذِيْ تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيْرَ زِنْدِيْقَا 37 - ثم بيَّن سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد، بل بالتقوى وصالح العمل، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} وهذا الكلام مستأنف من جهته تعالى مبالغة في تحقيق الحق؛ أي: وما قناطير أموالكم وما جموع أولادكم أيها الناس {بِالَّتِي}؛ أي: بالخصال التي، فإن (¬1) الجمع المكسر عقلاؤه، وغير عقلائه، سواء في حكم التأنيث، أو بالخصلة التي، فيكون تأنيث الموصول باعتبار تأنيث الصفة المحذوفة، ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذين بالنسبة ¬

_ (¬1) روح البيان.

للأولاد خاصةً. وقرأ الجمهور (¬1): {بِالَّتِي}، فإن جمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة، وقرأ الحسن: {باللاتي} جمعًا، وهو أيضًا راجع للأموال والأولاد، وقرىء {بالذي}. و {زُلْفَى} في قوله: {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} مفعول مطلق معنوي لتقربكم منصوب به؛ أي: وليست أموالكم، ولا أولادكم بالخصلة التي تقربكم عندنا تقريبًا، بل الذي يقربكم إلينا التقوى والعمل الصالح، وقرأ الضحاك: {زلَفًا} بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع: زلفة، وهي القربة. وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} استثناء من مفعول {تُقَرِّبُكُمْ}؛ أي: وما الأموال والأولاد تقرب أحدًا إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله، وعلم أولاده الخير، وربَّاهم على الصلاح والطاعة. وقال أبو حيان: والظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء؛ أي: لكن من آمن وعمل صالحًا، فإيمانه وعمله يقربانه، والإشارة بقوله: {فَأُولَئِكَ} إلى {مَنْ}، والجمع باعتبار معناها، أي: فأولئك المؤمنون العاملون ثابت {لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} على أن الجار والمجرور خبر لما بعده، والجملة خبر لـ {أُولَئِكَ}، وإضافة الجزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف؛ أي: تضعيف الأعمال، ثم جزاء الضعف، ثم جزاء الضعف، ومعناه: أن يضاعف لهم الواحدة من حسناتهم عشرًا، فما فوقها إلى سبع مئة إلى ما لا يحصى، أو من إضافة الموصوف إلى صفته، والمعنى عليه: فأولئك لهم الجزاء المضاعف. {بِمَا عَمِلُوا}؛ أي: بسبب ما عملوا من الصالحات، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} أي في غرفات الجنة، وهي قصورها ومنازلها الرفيعة، {آمِنُونَ} من جميع ما يكرهون من المصائب والآفات، كالموت والهرم والمرض والعدو وغير ذلك. وقرأ الجمهور (¬2): {جَزَاءُ الضِّعْفِ} على الإضافة، أضيف فيه المصدر إلى المفعول، وقرأ قتادة والزهري ويعقوب ونصر بن عاصم: برفعهما؛ {جزاء الضعف} على أن الضعف بدل من {جزاء}، وروي عن يعقوب: أنه قرأ {جزاء} بالنصب منونًا، {والضعف} بالرفع على تقدير فأولئك لهم الضعف جزاء، أي حال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[38]

كونه جزاء، وقرأ الجمهور: {فِي الْغُرُفَاتِ} بالجمع مضموم الراء، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف: {في الغرفة} بالإفراد لقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ}. ومعنى الآية (¬1): أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا، لكن من آمن وعمل صالحًا، فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها، أو أكثر إلى سبع مئة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه. روي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة لغرفًا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، فقال أعرابي: لمن هي؟ قال: "لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام". وفي الآية إشارة إلى أنه لا تستحق الزلفى عند الله بالمال والأولاد مما زين للناس حبه، وحب غير الله يوجب البعد عن الله، فالأولى للعاقل أن يأخذ الباقي ويترك الفاني. 38 - ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين .. ذكر حال الكافرين، فقال: {وَالَّذِينَ} وهم كفار قريش، {يَسْعَوْنَ} ويبادرون، {فِي آيَاتِنَا} القرآنية، بالرد والطعن فيها، ويجتهدون في إبطالها حال كونهم {مُعَاجِزِينَ}؛ أي: ظانين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا، فلا يكون لهم مؤاخذة بمقابلة ذلك {أُولَئِكَ} المجتهدون في إبطال آياتنا {فِي الْعَذَابِ}؛ أي: في عذاب جهنم {مُحْضَرُونَ} تحضرهم الزبانية إليها, لا يجدون عنها محيصًا؛ أي: مدخلون في العذاب، مخلدون فيه، لا يغيبون عنه، ولا ينفعهم ما اعتمدوا عليه من الشفعاء. 39 - {قُلْ} يا محمد لأولئك المفتخرين بالأموال والأولاد: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسعه {لِمَنْ يَشَاءُ} البسط له {مِنْ عِبَادِهِ}؛ أي: يوسعه عليه تارة، {وَيَقْدِرُ لَهُ}؛ أي: يضيقه عليه تارة أخرى ابتلاءً وحكمةً، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين، فلا تكرار؛ أي: بل فيه تقرير؛ لأن التوسع والتقتير ليسا لكرامة ولا هوان، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد. اهـ "شهاب". وقيل: "تكرار لما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة، ¬

_ (¬1) المراغي.

وقيل: ما هنا في المؤمن وما سبق في الكافر، وقيل: ذكره توطئة لما بعده، والمعنى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، فلا تخشوا الفقر، وأنفقوا في سبيل الله {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} {مَا}: موصولة، بمعنى: الذي مبتدأ، خبره قوله: {فَهُوَ}، سبحانه {يُخْلِفُهُ} لكم أو شرطية، بمعنى: أيُّ شيء نصب بقوله: أنفقتم، ومن شيء بيان له، وجواب الشرط فهو يخلفه، والمعنى: والذي، أو أي شيء أنفقتموه وصرفتم في طاعة الله تعالى، وطريق الخير والبر، وقيل: المعنى: وما أنفقتم على أنفسكم، أو على عيالكم، أو تصدقتم به، فالله تعالى يعطي خلفًا وعوضًا منه؛ إما في الدنيا بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى، وإما في الآخرة بالثواب والنعيم، أو فيهما جميعًا، فلا تخشوا الفقر، وأنفقوا في سبيل الله تعالى، وتعرضوا لألطاف الله عاجلًا أو آجلًا. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأفضلهم؛ أي: خير من يعطي ويرزق؛ لأن كل من رزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق مملوكه، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله تعالى، أجراه الله على أيدي هؤلاء، وهو الرازق الحقيقي الذي لا رازق سواه، فإن رزق العباد بعضهم بعضًا إنما هو بتيسير الله وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئًا مما رزقه الله .. فهو إنما تصرف في رزق الله له، فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله لأمر الله، وإنفاقه فيما أمره الله تعالى. ومعنى الآية: أي قل لهم أيها الرسول: إن ربي يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينًا، ويضيقه عليه حينًا آخر، فلا تخشوا الفقر، وأنفقوا في سبيله، وتقربوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته، وما أنفقتم من شيء فيما أمركم به ربكم، وأباحه لكم .. فهو يخلفه عليكم، ويعوضكم بدلًا منه في الدنيا وفي الآخرة ثوابًا كل خلف دونه. وفي الحديث: "أنفق بلالًا، ولا تخشى من ذي العرش إقلالًا" وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة؛ إذ قال: "إذا كان لأحدٍ شيء فيلقتصد", ويتأول هذه الآية: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له منه قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فترزقون من حيث لا تحتسبون، ولا رازق غيره. روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من يوم

[40]

يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا". 40 - والظرف في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوب باذكر مقدرًا، أو متصل بقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ}؛ أي: ولو تراهم أيضًا يوم نحشرهم جميعًا للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف؛ أي: واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر الله؛ أي: يجمع المستكبرين والمستضعفين، وما كانوا يعبدون من دون الله حال كونهم {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين لا يشذ منهم أحد {ثُمَّ يَقُولُ} سبحانه {لِلْمَلَائِكَةِ} توبيخًا للمشركين العابدين، وإقناطًا لهم من شفاعتهم، كم زعموا، وقرأ الجمهور: {نحشرهم}، {نقول} بالنون فيهما، وحفص بالياء، ذكره أبو حيان. {أَهَؤُلَاءِ} الكفار {إِيَّاكُمْ} يا ملائكتي {كَانُوا يَعْبُدُونَ} في الدنيا، وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار، و {إِيَّاكُمْ} منصوب بـ {يَعْبُدُونَ}، وتخصيص الملائكة مع أنَّ بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام؛ لأنهم أشرف معبودات المشركين. 41 - {قَالُوا}؛ أي: الملائكة متنزهين عن ذلك، وهو استئناف بياني، {سُبْحَانَكَ}؛ أي: تنزيهًا لك عن الشرك {أَنْتَ وَلِيُّنَا}؛ أي: أنت الذي نواليه ونطيعه ونعبده {مِنْ دُونِهِمْ}؛ أي: من دون المشركين ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم، وليس لنا غيرك وليًا، أي: نحن نتولاك ولا نتولاهم، فبيَّنوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم، ثم أضربوا عن ذلك، ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: {بَلْ كَانُوا}؛ أي: بل كان هؤلاء المشركون في الدنيا من جهلهم وغوايتهم، {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}؛ أي: الشياطين؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله تعالى، وقيل: كانوا يتمثلون لهم ويتخيلون أنهم الملائكة فيعبدونهم، وعبَّر عن الشياطين بالجن؛ لاستتارهم عن الحواس، ولذا أطلقه بعضهم على الملائكة أيضًا، وجزم الكرماني: بأنهم عبدوا الجن كما عبدوا الشياطين، فإذًا الكلام على ظاهره، فلا حاجة إلى التأويل. {أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر المشركين، قيل: الأكثر (¬1) هاهنا بمعنى الكل، والضمير للمشركين، كما هو الظاهر من السياق؛ أي: كل المشركين، وقال بعضهم: الضمير للإنس، والأكثر على معناه؛ أي: أكثر الإنس، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[42]

وقيل: المعنى: أكثر المشركين بالجن، {بِهِمْ}؛ أي: بالجن، وبقولهم الكذب: الملائكة بنات الله، {مُؤْمِنُونَ}؛ أي: مصدقون ومتابعون، ويغترون بما يلقون إليهم من أنهم يشفعون لهم، وعبارة أبي حيان هنا: وإذا هم قد عبدوا الجن .. فما وجه قولهم: أكثرهم بهم مؤمنون، ولم يقولوا جميعهم، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب: أنهم لم يدَّعوا الإحاطة؛ إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع عليهم الملائكة، أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن، لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الإطلاع على جميع أعمال قلوبهم؛ لأن ذلك لله تعالى. اهـ. ومعنى الآية: أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم، والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم، ثم تسأل الملائكة: أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم، وهذا سؤال وجّه إلى الملائكة ظاهرًا، والمراد منه: تقريع المشركين، وتيئيسهم مما علقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم، فهو وارد على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى براء مما وجه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، ولكن جاء ليقول ويقولوا، وشمال ويجيبوا، فيكون توبيخهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم. {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة: تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله، نحن عبيدك، نتبرأ إليك من هؤلاء، وأنت الذي نواليه دونهم، فلا موالاة بيننا وبينهم. والخلاصة: أننا برآء من عبادتهم والرضا بهم، ثم بيَّن أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}؛ أي: بل هم كانوا يعبدون الشياطين؛ لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان، وأضلوهم، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن، مصدقون لهم فيما يقولون؛ إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم، ويستغيثون بهم في قضاء حاجاتهم، كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة. 42 - ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم .. زادهم أسى وحسرة، فقال: {فَالْيَوْمَ}؛ أي: يوم الحشر، والفاء: ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب

الملائكة، فإنه محقق، أجابوا بذلك أم لا، بل لترتيب الإخبار به عليه: اهـ "أبو السعود". أي: فهي للترتيب الذكري، والأظهر كونها استئنافية. {لَا يَمْلِكُ}؛ أي: لا يقدر. {بَعْضُكُمْ} يعني: المعبودين. {لِبَعْضٍ} يعني: العابدين، {نَفْعًا} بالشفاعة وإدخال الجنة. {وَلَا ضَرًّا}؛ أي: ضررًا بالتعذيب، أو دفع ضرر؛ إذ الأمر فيه كله لله؛ لأن الدار دار جزاء، ولا يجازي الخلق أحدٌ غير الله. قال في "الإرشاد": تقييد هذا الحكم بذلك اليوم مع ثبوته على الإطلاق؛ لانعقاد رجائهم على تحقيق النفع يومئذ، وهذا الكلام من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبري مما نسب إليهم الكفرة، يخاطبون على رؤوس الأشهاد إظهارًا لعجزهم، وقصورهم عند عبدتهم، وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية. وقوله: {وَنَقُولُ} معطوف على قوله (¬1): لا يملك؛ أي: واليوم نقول، {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر والتكذيب، فوضعوهما موضع الإيمان والتصديق، وقيل (¬2): عطف على {يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ}، لا على {يَمْلِكُ} كما قيل؛ لأنه ما يقال يوم القيامة خطابًا للملائكة مترتبًا على جوابهم المحكي، وهذا حكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سيقال للعبدة يومئذ، إثر حكاية ما سيقال للملائكة. {ذُوقُوا} وباشروا وادخلوا {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ} في الدنيا {بِهَا}؛ أي: بتلك النار، متعلق بقوله: {تُكَذِّبُونَ}، وتصرون على القول بأنها غير كائنة، فقد وردتموها، وبطل ظنكم ودعواكم. ومعنى الآية: أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان، والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم؛ لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار، لا يملك أحد فيه منفعةً لأحد، ولا مضرةً له، ونقول للمشركين تهكمًا بهم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم، فها أنتم أولاء قد وردتموها، وسمعتم شهيقها وزفيرها, وليس الخُبْرُ كالخَبَرِ، ولا السماع كالمعانية، فعضوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم، فجنيتم صابه وعلقمه في ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

أخراكم. فإن قلت (¬1): وقع الموصول هنا وصفًا للمضاف إليه الذي هو النار، وفي السجدة وقع وصفًا للمضاف إليه الذي هو النار، وفي السجدة وقع وصفًا للمضاف الذي هو العذاب؛ حيث قال هناك: {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، فما الفرق بين الموضعين؟ قلتُ: الفرق بينهما: أنهم ثمة كانوا ملابسين للعذاب، كما صرح به في النظم؛ حيث قال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}، فوصف لهم ما لابسوه، وما هنا عند رؤيتهم النار عقب الحشر، فوصف لهم ما عاينوه، وكونه هنا وصفًا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب نكلف. اهـ "شهاب". الإعراب {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى}. {وَقَالَ}: {الواو}: استئنافية، {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {لَنْ نُؤْمِنَ}: ناصب وفعل مضارع منصوب بـ {لَنْ}، وفاعله ضمير يعود على الذين كفروا، أعني: المتكلمين {بِهَذَا}: متعلق به، {الْقُرْآنِ}، بدل منه، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، {بِالَّذِي}: معطوف على قوله: {بِهَذَا}. {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف وقع صلة الموصول. {وَلَوْ}: {الواو}: استئنافية، {لو}: شرطية {تَرَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، ومفعول {تَرَى}، وجواب {لو} الشرطية محذوفان، تقديره: ولو ترى يا محمد حال الظالمين وقت وقوفهم عند ربهم .. لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}. ¬

_ (¬1) الشهاب.

{إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان {الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذِ} الظرفية، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: متعلق بـ {مَوْقُوفُونَ}، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ}: فعل وفاعل، {إِلَى بَعْضٍ}: متعلق بـ {يَرْجِعُ}، {الْقَوْلَ}: مفعول {يَرْجِعُ}؛ لأنه يتعدى كما مر، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير {مَوْقُوفُونَ}، {يَقُولُ الَّذِينَ}؛ فعل وفاعل، والجملة مفسرة لـ {يَرْجِعُ}، فلا محل لها من الإعراب، وجملة {اسْتُضْعِفُوا} من الفعل ونائب فاعله صلة الموصول، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {يَقُولُ}، {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود {أَنْتُمْ}: مبتدأ والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: موجودون {لَكُنَّا} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْلَا} {كنا}: فعل ناقص واسمه، {مُؤْمِنِينَ}: خبره، وجملة {كان}: جواب {لَوْلَا}، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب شرط غير جازم. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، استئنافًا بيانًا، {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {قَالَ}، {اسْتُضْعِفُوا}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، {أَنَحْنُ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {نَحْنُ}: مبتدأ، {صَدَدْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، {عَنِ الْهُدَى}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {بَعْدَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بمحذوف حال من {الْهُدَى} {بَعْدَ}: مضاف توسعًا في الظروف، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه مبني على السكون، وقيل: {إِذْ} هنا بمعنى: أن المصدرية، وهو مفهوم تفسير الزمخشري. {جَاءَكُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {الْهُدَى}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ} {بَلْ}: حرف إضراب للإضراب الإبطالي، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {مُجْرِمِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا}.

{وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، معطوف على {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} المذكور أولًا، وجملة {اسْتُضْعِفُوا} صلة الموصول، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {قَالَ}، {اسْتَكْبَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {بَلْ}: حرف إضراب، {مَكْرُ اللَّيْلِ}: مبتدأ، خبره محذوف، {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {اللَّيْلِ}، والتقدير: مكر الليل والنهار صدنا، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: سبب كفرنا مكر الليل والنهار؛ أي: مكركم في الليل والنهار، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {مَكْرُ اللَّيْلِ}، {تَأْمُرُونَنَا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {أَنْ نَكْفُرَ} ناصب ومنصوب وفاعل مستتر، {بِاللَّهِ}: متعلق به، وجملة {أَن} المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر، محذوف متعلق بـ {تَأْمُرُونَنَا}، تقديره: إذ تأمروننا بكفرنا بالله سبحانه، {وَنَجْعَلَ}: معطوف على {نَكْفُرَ}، {لَهُ} حال من {أَنْدَادًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَنْدَادًا}: مفعول {نجعل}، ويجوز أن يكون الجار والمجرور في محل المفعول الثاني و {أَنْدَادًا} مفعول أول. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {وَأَسَرُّوا}: {الواو}: استئنافية، أو حالية، {أَسَرُّوا النَّدَامَةَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، أو حال من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} و {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، {لَمَّا}: ظرف بمعنى: حين، متعلق بـ {أسروا}، {رَأَوُا الْعَذَابَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جعلنا} على كونه مفعولًا ثانيًا له، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، {يُجْزَوْنَ}: فعل مضارع ونائب فاعل، {إِلَّا}: أداة حصر واستثناء مفرغ، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {يُجْزَوْنَ}، والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب.

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {فِي قَرْيَةٍ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {مِن}: زائدة، {نَذِيرٍ}: مفعول به، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {قَالَ مُتْرَفُوهَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من {قَرْيَةٍ}، وسوَّغ مجيء الحال من النكرة: وقوعها في معرض النفي {إِنَّا}: ناصب واسمه، {بِمَا}: متعلق بـ {كَافِرُونَ}، {أُرْسِلْتُمْ}: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، {بِهِ}: متعلق بـ {أُرْسِلْتُمْ}، وهو العائد على {ما} الموصولة، {كَافِرُونَ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {قَالَ مُتْرَفُوهَا}، {نَحْنُ أَكْثَرُ}: مبتدأ وخبر، {أَمْوَالًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، {وَأَوْلَادًا}: معطوف على {أَمْوَالًا}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: حجازية، {نَحْنُ}: اسمها {بِمُعَذَّبِينَ}: خبرها، والباء زائدة، وجملة {مَا} معطوفة على الجملة التي قبلها، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {إن}: حرف نصب، {رَبِّي}: اسم {إن}، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {لِمَنْ}: متعلق بـ {يَبْسُطُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِن} في محل النصب مقول {قُلْ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء البسط له، وجملة {وَيَقْدِرُ} معطوف على جملة {يَبْسُطُ}، {وَلَكِنَّ}: {الواو}: عاطفة، أو حالية، {لكن}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبرها، والجملة الاستدراكية في محل النصب معطوفة على جملة {إنَّ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ} أو حال من فاعل {يَبْسُطُ}، والرابط محذوف تقديره: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة بسطه وقبضه. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}.

{وَمَا}: {الواو}: استئنافية {ما}: حجازية، {أَمْوَالُكُمْ}: اسمها، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: معطوف على {أَمْوَالُكُمْ}، {بِالَّتِي}: الباء: زائدة، {التي}: اسم موصول في محل النصب خبر {مَا} الحجازية، والجملة مستأنفة {تُقَرِّبُكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {عِنْدَنَا}: متعلق بمحذوف حال من {زُلْفَى}. و {زُلْفَى}: مفعول مطلق معنوى منصوب بـ {تُقَرِّبُكُمْ}، {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع؛ لأن الخطاب للكفار، و {مَنْ آمَنَ}: ليس منتظمًا في سلكهم، {مَنْ}: اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء، ويجوز أن يعرب {مَنّ}: مبتدأ، وما بعده الخبر؛ لأن الاستثناء منقطع، وإلا بمعنى: لكن، {آمَنَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، {وَعَمِلَ}: معطوف على {آمَنَ}، {صَالِحًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق؛ أي: عملًا صالحًا، {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: تعليلية إن قلنا: إن {مَنْ} منصوب على الاستثناء، {أولئك}: مبتدأ أول، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {جَزَاءُ الضِّعْفِ}: مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ أي: وإنما استثنينا من آمن لكون جزاء الضعف لهم، وإن قلنا: إن {إلا} بمعنى: لكن فـ {مَنْ آمَنَ}: مبتدأ أول، {فَأُولَئِكَ}: مبتدأ ثانٍ، {والفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من معنى الشرط، {بِمَا} متعلق بجزاء، و {ما}: مصدرية أو موصولة، وجملة {عَمِلُوا} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما عملوه، أو صلة لـ {ما} المصدرية، {وَهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {هُمْ}: مبتدأ، {فِي الْغُرُفَاتِ}: متعلق بـ {آمِنُونَ}، و {آمِنُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة قوله: لهم جزاء الضعف. {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية، {الَّذِينَ}: مبتدأ أول، {يَسْعَوْنَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {فِي آيَاتِنَا}: متعلق بـ {يَسْعَوْنَ}، {مُعَاجِزِينَ}: حال من فاعل {يَسْعَوْنَ}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثانٍ، {فِي الْعَذَابِ} متعلق بـ {مُحْضَرُونَ}،

و {مُحْضَرُونَ} خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر الأول، وجملة الأول مستأنفة. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {إِنَّ رَبِّي}: ناصب واسمه، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ} {لِمَنْ}: متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة {مَنْ} الموصولة، {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من العائد المحذوف، {وَيَقْدِرُ لَهُ}: معطوف على {يَبْسُطُ}، {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَنْفَقْتُمْ}، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، كما أشرنا إليه في مبحث التفسير، {أَنْفَقْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {ما} على كونه فعل شرط لها، {مِنْ شَيْءٍ}: حال من {مَا} الشرطية، أو من العائد المحذوف إن كانت موصولة، {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {ما} الشرطية إن كانت شرطية، أو رابطة الخبر بالمبتدأ إن كانت موصولة، {هو}: مبتدأ، وجملة {يُخْلِفُهُ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {ما} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {ما} الشرطية مستأنفة، أو الجملة في محل الرفع خبر {ما} الموصولة، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية، {يوم}: منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يوم يحشرهم، {يَحْشُرُهُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، والجملة المحذوفة مستأنفة، {جَمِيعًا}: حال من مفعول {يَحْشُرُهُمْ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {يحشر}، {لِلْمَلَائِكَةِ}: متعلق بـ {يَقُولُ}، {أَهَؤُلَاءِ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، {هؤلاء}: مبتدأ، {إِيَّاكُمْ}: مفعول به مقدم لـ {يَعْبُدُونَ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْبُدُونَ}: خبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة،

{سُبْحَانَكَ}: منصوب على المفعولية المطلقة يفعل محذوف، وجملة {سُبْحَانَكَ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {أَنْتَ وَلِيُّنَا}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {مِنْ دُونِهِمْ}: حال من ضمير المتكلمين في {وَلِيُّنَا}؛ أي: حالة كوننا مجاوزين إياهم، {بَلْ}: حرف إضراب، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ، {بِهِمْ}: متعلق بما بعده، {مُؤْمِنُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا} أيضًا. {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}. {فَالْيَوْمَ}: {الفاء}: استئنافية، {اليوم}: ظرف متعلق بـ {يَمْلِكُ}، {لَا}: نافية، {يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لِبَعْضٍ}: متعلق بـ {نَفْعًا}، و {نَفْعًا}: مفعول به، {وَلَا ضَرًّا}: معطوف على {نَفْعًا}، {وَنَقُولُ}: {الواو}: عاطفة، {نقول}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {لَا يَمْلِكُ}، وقيل: معطوف على قوله: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ} كما مرَّ في مبحث التفسير، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {نقول}، {ظَلَمُوا}: صلة الموصول، {ذُوقُوا}: فعل وفاعل، {عَذَابَ النَّارِ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول {نقول}، {الَّتِي}: صفة لـ {النَّارِ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {بِهَا}: متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. التصريف ومفردات اللغة {مَوْقُوفُونَ}؛ أي: محبوسون في موقف الحساب، جمع: موقوف، اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي، وفي "المصباح": وقفت الدابة تقف وقفًا ووقوفًا: سكنت ووقفتها أنا يتعدى، ولا يتعدى، ووقفت الرجل عن الشيء وقفًا: منعته عنه، اهـ، وبابه: وعد، كما في "المختار". {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}؛ أي: عدوا ضعفاء، وقهروا، واستفعل هنا بمعنى: الفعل المجرد، وفي {اسْتَكْبَرُوا} للمبالغة في معنى الثلاثي؛ أي: بالغوا في

الكبر والتعظم عن عبادة الله سبحانه وتعالى. {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة. اهـ "روح". والحيلة: ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. اهـ "قسطلاني". {أَنْدَادًا} جمع: ند، كأضداد جمع ضد، والند: المثل والشبه. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} النداة: التحسر في أمر فائت. {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ} جمع غل، قال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع عن تحرك الرأس. انتهى، وهو معتاد بين الظلمة، قال الفقيه: إنه في زماننا جرت العادة بذلك، إذا خيف من الإباق، كما في "الكبرى" ولا يكره أن يجعل قيدًا في رجل عبده؛ لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الفساد، فلا يكره في العبد؛ إذ فيه تحرز من إباقه وصيانة لماله، وحل ربطه بالحبل ونحوه. اهـ من "روح البيان". {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} قال في "كشف الأسرار": القرية: المصر تقري أهلها وتجمعهم، كما سبق. اهـ. {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} المترف: كمكرم: المتنعم والموسع العيش والنعمة، من الترفة بالضم، وهو التوسع في النعمة يقال: أترفه: نعمه، وأترفته النعمة: أطغته .. {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}: مصدر من معنى العامل؛ إذ التقدير: تقربكم قربى، والزلفى والزلفة، والقربى والقربة بمعنى واحد. وقال الأخفش: زلفى: اسم مصدر، كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تقريبًا، وقرأ الضحاك: {زلفا} بضم الزاي وفتح اللام على أنها جمع زلفة كقربة وقرب جمع المصدر، لاختلاف أنواعه. اهـ "سمين". {جَزَاءُ الضِّعْفِ} مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: أن يجازيهم الله الضعف، أو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: لهم الجزاء المضاعف. {فِي الْغُرُفَاتِ} جمع غرفة، وهي البيت فوق البناء، يعني: كل بناء يكون علوًا فوق سفل. {يَسْعَوْنَ} من سعى إذا جد واجتهد في الشيء. {مُعَاجِزِينَ} من المعاجزة، والمفاعلة ليست على بابها؛ أي: ظانين ومعتقدين

عجزنا عن أخذهم. {مُحْضَرُونَ} اسم مفعول من الإحضار. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يقال: نفق الشيء مضى ونفد؛ إما بالبيع نحو نفق البيع نفاقًا، وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقًا، واما بالغناء نحو نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها. {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} يقال: أخلف الله له وعليه: إذا أبدل له ما ذهب عنه. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأورد على هذا وعلى نظائره ابن عبد السلام في أماليه، كما نقله السيوطي في شرح السنن: أنه لا بد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقةً لا صورة. وأجيب بأن الرازقين بمعنى الموصعلين للرزق والواهبين له بجعله حقيقة في هذا، كما صرح به الراغب؛ حيث قال: الرزق: العطاء البخاري، والرازق يقال لخالق الرزق ومعطيه، فيقال رازق لغيره تعالى، ولا يقال لغير الله تعالى رزاق، ولا حاجة إلى ما قيل من أنه من عموم المجاز، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. اهـ "شهاب". فائدة: وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنه خير المنفقين؛ لأن خيرية المنفق بقدر خيرية النفقة، فما ينفق كل منفق في النفقة .. فهو فانٍ، وما ينفق الله من نفقة ليخلفه با فهي باقية، والباقيات خير من الفانيات انتهى. قال في "بحر العلوم": لما كان إقامة مصالح العباد من أجل الطاعات وأشرف العبادات؛ لأنها من وظيفة الأنبياء والصالحين .. دلهم الله سبحانه في الآية على طرف منها حثًا عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، حثًا لأمته عليها: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله، قال العسكري: هذا على التوسع والمجاز، كأن الله تعالى لما كان المتضمِّن لأرزاق العباد والكافل بها .. كان الخلق كالعيال له. وفي الحديث: "إن لله أملاكًا خلقهم كيف يشاء، وصورهم على ما يشاء تحت عرشه، ألهمهم أن ينادوا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في كل يوم مرتين: ألا من وسع على عياله وجيرانه .. وسع الله عليه في الدنيا والآخرة، ألا من ضيَّق .. ضيق الله عليه، ألا إن الله قد أعطاكم لنفقة درهم على عيالكم خير من سبعين قنطارًا

- والقنطار كجبل أحد وزنًا - أنفقوا ولا تخشوا ولا تضيقوا ولا تقتروا وليكن أكثر نفقتكم يوم الجمعة". وفي الحديث: "كل معروف صدقة، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له به صدقة، وما وقى به الرجل عرضه كتب له به صدقة"، ومعنى كل معروف صدقة: أن الإنفاق لا ينحصر في المال، بل يتناول كل بر من الأموال والأقوال والأفعال والعلوم والمعارف، وإنفاق العلوم والمعارف أفضل وأشرف؛ لأن نفع الأموال للأجساد، ونفع العلوم والمعارف للقلوب والأرواح، ومعنى ما وقي به عرضه: ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقى. وفي الحديث: "ينادي مناد كل ليلة: لا دواء للموت، وينادي آخر: ابنوا للخراب، وينادي منادٍ: هب للمنفق خلفًا وينادي مناد: هب للممسك تلفًا". وفي الحديث: "يؤجر ابن آدم في نفقته كلها إلا شيئًا وضعه في الماء والطين" قال القنوي، في شرح هذا الحديث؛ وهذا الحديث - وإن كان من حيث الصيغة مطلقًا - فالأحوال والقرائن تخصصه، وذلك أن بناء المساجد في الرباطات ومواضع العبادات يؤجر الباني لها عليها بلا خلاف، فالمراد بالمذكور هنا إنما هو البناء الذي لم يقصد صاحبه إلا التنزه والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة، وإذا كان كذلك فمطمح همة الباني ومقصده لا يتجاوز هذا العالم، فلا يكون لبنائه ثمرة، ولا نتيجة في الآخرة؛ لأنه لم يقصد بما فعله أمرًا وراء هذه الدار، فأفعاله أعراض زائلة لا موجب لتعدِّيها من هنا إلى الآخرة، فلا إثمار لها، فلا أجر. انتهى. {أَنْتَ وَلِيُّنَا}: مضاف لمفعوله؛ أي: متولي أمورنا، والولي: خلاف العدو. {ذُوقُوا} الذوق في الأصل، وإن كان فيما يقل تناوله كالأكل، لا فيما يكثر تناوله، إلا أنه مستصلح للكثير، كما هنا. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}؛ لأنه حذف فيه

جواب لو الشرطية. ومنها: الإجمال في قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}، ثم التفسير في قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} إلى آخره. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ}؛ أي: لم نصدّكم. ومنها: الطباق بين {اسْتُضْعِفُوا}، و {اسْتَكْبَرُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}؛ لأن الإجرام حقيقة في قطع الأجسام، ثم استعير لاكتساب كل مكروه وسوء. ومنها: التعبير عما في المستقبل بلفظ الماضي في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} إشارةً إلى تحقق وقوعه. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لما فيه من إسناد ما للفاعل إلى ظرفه، نحو: نهاره صائم، وليله قائم، وليل ماكر. ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}، وفي قوله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ} إشارةً إلى تحقق وقوعه؛ لأن المعنى: ونجعل الأغلال يوم القيامة في أعناق الذين كفروا. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} حيث لم يقل في أعناقهم؛ للتنويه بذمهم، والتنبيه على موجب أغلالهم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ}؛ أي: في أهل قرية. ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. ومنها: الطباق بين {يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق، وكان مقتضى السياق: وما أموالهم ... إلخ. ومنها: المقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار في قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ

صَالِحًا}، {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}. ومنها: التكرار لغرض التأكيد على ما قيل في قوله: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} الخ. ومنها: أسلوب التقريع والتوبيخ في قوله: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} الخطاب للملائكة تقريعًا للمشركين. ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: {إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} لرعاية الفاصلة، ولأنه أبلغ في الخطاب، ولو أتى بالضمير متصلًا كان التركيب يعبدونكم، ولم تكن فاصلة. ومنها: الإضافة للتشريف قوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا}. ومنها: الطباق بين {نَفْعًا}، و {ضَرًّا} في قوله: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}. ومنها: التهكم في قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ}. ومنها: الإيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، أي: ما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة، وأنه يقال لهم يومئذ: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون .. أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب، وهو صدهم عن دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وأنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حل بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم، فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه، وأوصاهم، بأن يشمروا عن ساعد الجد طلبًا للحق، متفرقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم في دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرًا، ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطلع على كل شيء، ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة. كفلق الصبح نورًا وضياءً، ولا

[43]

بقاء للباطل، ولا قرار له إذا ظهر نور الحق: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أبطل شبههم، ورد عليهم بما لم يبقَ بعده مستزاد لمستزيد .. هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون: آمنا بالرسول، وأنى لهم ذلك، وقد فات الأوان، وقد كان ذلك في مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل. التفسير وأوجه القراءة 43 - {وَإِذَا تُتْلَى}؛ أي: وإذا قرئت بلسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على مشركي مكة. {آيَاتُنَا} القرآنية الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك حالة كونها، {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالات، ظاهرات المعاني {قَالُوا}؛ أي: قال كفار مكة مشيرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: {مَا هَذَا} التالي لها {إِلَّا رَجُلٌ} حقير لا يعبأ بكلامه، تنكيره للتهكم والتلهي، وإلا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان علمًا مشهورًا بينهم. {يُرِيدُ} ويقصد {أَنْ يَصُدَّكُمْ} ويمنعكم ويصرفكم {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} وأسلافكم من الأصنام منذ أزمنة متطاولة، فيستتبعكم بما يستبدعه من غير أن يكون هناك دين إلهي، وإضافة (¬1) الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغةً في تقريرهم على الشرك، وتنفيرهم عن التوحيد. والمعنى (¬2): وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك .. قالوا: إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدَّعي، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل، ثم زادوا إنكارهم توكيدًا، وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم {وَقَالُوا} ثانيًا: {مَا هَذَا} القرآن الذي يدعي محمد أنه وحي من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

عند ربه {إِلَّا إِفْكٌ}؛ أي: كذب محض، وكلام مصروف عن وجهه لعدم مطابقة ما فيه من التوحيد والبعث الواقع {مُفْتَرًى}؛ أي: مختلف من عند نفسه وقد نسبه إلى ربه ترويجًا للدعوة، واجتلابًا لقلوب الكافة، والافتراء: الكذب محمدًا، قالوه عنادًا ومكابرةً، وإلا فقد قال كبيرهم عتبة بن ربيعة: واللهِ ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر. ثم شددوا في الإنكار، فجعلوه سحرًا بيِّنًا لا شك فيه عندهم، كما حكي عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ثالثًا: {لِلْحَقِّ}؛ أي: للقرآن؛ أي: في شأنه على أن العطف لاختلاف العنوان، بأن يراد بالأول وهو قولهم: {إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} معناه، وبالثاني وهو قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} نظمه المعجز، وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر، وقيل: المراد بالحق هنا: التوحيد، وأمور الإِسلام، وقيل: المراد بالذين كفروا المذكور أولًا: جميع الكفار؛ لأن إنكار القرآن والمعجزة كان متفقًا عليه بين أهل الكتاب والمشركين، وبالثاني المشركون؛ لأنهم أنكروا التوحيد على القول بأن المراد بالحق: التوحيد؛ أي: وقال الذين كفروا للحق والقرآن {لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: حينما جاءهم من الله تعالى، ومعنى التوقع في {لَمَّا}: أنهم كذبوا به وجحدوه على البديهة ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه قبل التدبر والتأمل. {إن} بمعنى ما النافية؛ أي ما {هَذَا} القرآن {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: خيال ظاهر سحريته لا شبهة فيه. والمعنى على القول: بأن المراد بالحق التوحيد والشرائع؛ أي (¬1): وقال المشركون لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه مشتملًا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة، تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وغيَّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد: ما هذا إلا سحر مبين لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا، وأضلَّ أحلامنا، فلم نستطيع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها، ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة لا نجد طريقًا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها، وهي بين أيدينا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[44]

والخلاصة: أنهم نفوا أن يكون وحيًا من عند ربه، وجعلوه إما كلامًا مفترى جاء به لترويج دعوته، وإما سحرًا فعله ليخلب به العقل، ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه من الآباء والأجداد. 44 - فرد الله سبحانه عليهم منكرًا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق، بقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: مشركي العرب. {مِنْ كُتُبٍ}؛ أي: كتبًا، فإن {مِنْ} الاستغراقية داخلة على المفعول للتأكيد؛ أي: وما أعطينا كفار مكة كتبًا دالةً على صحة الإشراك {يَدْرُسُونَهَا}؛ أي: يقرؤونها، كما في قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}، وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}، وفي إيراد الكتب بصيغة الجمع تنبيه على أنه لا بد لمثل تلك من نظائر الأدلة. والدرس: قراءة الكتاب مع التدبر فيه، كما سيأتي في مبحث اللغة، وقرأ الجمهور: {يدرسونها} مضارع درس الثلاثي من باب نصر، وقرأ أبو حيوة: بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع ادرس افتعل من الدرس، ومعناه: يتدارسونها، وعن أبي حيوة أيضًا: يدرسونها من التدريس، وهو تكرير الدرس، ذكره أبو حيان. {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى مشركي مكة {قَبْلَكَ} يا محمد {مِنْ نَذِيرٍ}؛ أي: رسول يدعوهم إلى الإشراك، وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا. وإذا انتفت الكتب الدالة على الإشراك (¬1)، والرسول الجائي به، فمن أين لهم هذه الشبهة، وهذا في غاية تجهيلهم وتسفيه رأيهم، اهـ "بيضاوي". فالمنفي إنما هو وصف الكتب المذكورة، ووصف النذير المذكور لا أصل الكتب، ولا أصل إرسال الرسول. وهناك تفسير آخر ذكره الشهاب حاصله (¬2): أن المنفي أصل الكتب، وأصل إرسال الرسل، وذلك لأن العرب كانوا في فترة؛ إذ لم يبعث لهم نبي بعد إسماعيل، وقد انقضت رسالته بموته. وحاصل المعنى على هذا: أنه لا عذر لهم في الشرك، ولا في عدم تصديقك، بخلاف أهل الكتاب، فإن لهم نوع عذر؛ لأن لهم دينًا وكتابًا، فيشق ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) الشهاب.

[45]

عليهم تركهما، ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينهم، وإن كان هذا احتجاجًا باطلًا اهـ. شيخنا. ومعنى الآية: أي إن الدين الصحيح إنما يأتي بوحي من عند الله، وبكتاب يتزل على الرسول، ليبلِّغه للناس، ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أمية لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفي توحيد الخالق، حتى يكون لهم معذرة فيما يدعون، وحجة على صحة ما يعتقدون، ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والتجهيل لهم. 45 - وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم - لو كانوا يعقلون - سلك بهم سبيل التهديد والوعيد، وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم، ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله، وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية، والقرون المتقدمة، كما كذبك قومك من قريش. {وَمَا بَلَغُوا}؛ أي: وما بلغ كفار مكة، وما وصلوا {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: عشر ما أعطينا أولئك المتقدمين من قوة الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد، وطول الأعمال، فأهلكهم الله تعالى كعاد وثمود، فالمعشار: بمعنى العشر، كالمرباع بمعنى: الربع، وقيل: الضمير في {بَلَغُوا} لكفار الأمم الماضية، والمعنى عليه: وما بلغ أولئك المتقدمون عشر ما آتينا هؤلاء المكذبين لك من البينات والهدى، والأول أولى، وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى والعلم والحجة والبرهان؛ أي: وما بلغ الذين من قبلهم من الأمم معشار ما أعطينا قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - من البيان والبرهان، فإن محمدًا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذَّبوا الكتب والرسل .. أنكر عليهم، وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة، وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل. اهـ "المراح". {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} معطوف على {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على طريق التفسير والتفصيل، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} إلخ، وما بينهما حال، أو اعتراض، اهـ "أبو

السعود". وعبارة "البيضاوي": ولا تكرير؛ لأن الأول للتكثير، والثاني: للتكذيب. انتهت. وعبارة "الشوكاني": والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام؛ لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب .. أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزمًا له، فقد روعيت الدلالة اللفظية، لا الدلالة الالتزامية. وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} معطوف على محذوف، قدَّره البيضاوى بقوله: فحين كذبوا رسلي .. جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، فكيف كان نكيري لهم؛ أي: إنكاري عليهم؛ أي: هو واقع موقعه، فهو في غاية العدل، خالٍ عن الجور والظلم، فأي شيء خطر هؤلاء، بجنب أولئك، فليحذروا من مثل ذلك بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم -، والنكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار؛ أي: إنكار المنكر وإزالته بالعقوبة في الدنيا، جعل تدميرهم إنكارًا تنزيلًا للفعل منزلة القول، كما في قول الشاعر: وَنَشْتُمُ بِالأفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ اهـ "شهاب". قال أبو حيان (¬1): {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} تعظيم للأمر، وليست استفهامًا مجردًا، وفيه تهديد لقريش؛ أي: إنهم معرضون لنكير مثله، والنكير: مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت الياء من نكير تخفيفًا؛ لأن الكسرة أجزأت عنها. ومعنى الآية (¬2): أي ولقد كان فيمن قبلهم من الأمم البائدة، والقرون الخالية قوم نوح وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلي حين أرسلوا إليهم، فحل بهم النكال والوبال، ودمروا تدميرًا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم، كما قال في آية أخرى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[46]

وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك. والخلاصة: أن فيما حل بمن قبلهم من المثلات نكالًا لهم على تكذيبهم رسلهم لعبرة لهم لو كانوا يعقلون، 46 - ثم أطال لهم الحبل، ومد لهم الباع، وأنصفهم في الخصومة فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين، {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}؛ أي: ما أذكركم وما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي {أَنْ تَقُومُوا} من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتتفرقوا من مجمعكم عنده، فالقيام على حقيقته بمعنى القيام على الرجلين ضد الجلوس، ويجوز أن يكون بمعنى القيام بالأمر، والاهتمام بطلب الحق، والمعنى: إنما أعظكم بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق، وتخلصتم إليه، وهي أن تقوموا. {لِلَّهِ}؛ أي: لوجه الله تعالى، وطلب رضاه خالصًا، لا لحمية ولا عصبية ولا للمراء والرياء والتقليد، بل لطلب ظهور الحق حال كونكم متفرقين {مَثْنَى}؛ أي: اثنين اثنين {و} متفرقين {فُرَادَى}؛ أي: فردًا فردًا واحدًا واحدًا {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} معطوف على {تَقُومُوا}؛ أي: ثم تتدبروا وتتأملوا في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به، فتعلموا {مَا بِصَاحِبِكُمْ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ جِنَّةٍ}؛ أي: من جنون يحمله على دعوى النبوة العامة، كما ظننتم، وفائدة التقييد (¬1) بالاثنين والفرادى: أن الاثنين إذا التجأ إلى الله تعالى، وبحثا طلبًا للحق مع الإنصاف .. هُدِيا إليه، وكذا الواحد إذ تفكر في نفسه مجردًا عن الهوى بخلاف كثرة الجمع، فإنه يقل فيها الإنصاف غالبًا، ويكثر الخلاف، ويثور غبار الغضب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب. وفي تقديم {مَثْنَى} إيذان بأنه أوفق وأقرب من الاطمئنان، فإن الاثنين إذا قعدا بطريق المشاورة في شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته، من غير هوى وعصبية، وعرض كل منهما محصول فكره على الآخر .. أدى النظر الصحيح إلى التصديق، ويحصل العلم على العلم. قال الشاعر: إِذَا اجْتَمَعُوا جَاؤُوا بِكُلِّ غَرِيْبَةٍ ... فَيَزْدَادُ بَعْضُ الْقَومِ مِنْ بِعْضِهِم عِلْمَا وأما الفرد (¬2): فيفكر في نفسه أيضًا بعدل ونصفة، هل رأينا في هذا الرجل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

جنونًا قط، أو جربنا عليه كذبًا قط، وقد علمتم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما به من جنة، بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلًا، وأوزنهم حلًا، وأحدهم ذهنًا، وأرصنهم رأيًا، وأصدقهم قولًا، وأزكاهم نفسًا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به، وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين، صادق فيما جاء به، وقيل: تم الكلام عند قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}؛ أي: في السموات والأرض، فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له، ثم ابتدأ فقال: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}، اهـ من "الخازن". والمعنى (¬1): أي قل لهم يا محمد: إني أرشدكم أيها القوم، وأنصح لكم أن لا تبادروا بالتكذيب عنادًا واستكبارًا، بل اتئدوا وتفكروا مليًّا فيما دعوتكم إليه، وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصًا؛ إما واحدًا فواحدًا، وإما اثنين فاثنين، لعلكم تصلون إلى الحق، وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذًا. وإنما طلب إليهم التفكر، وهم متفرقون اثنين اثنين، أو واحدًا فواحدًا؛ لأنّ في الازدحام تهويش الخاطر، والمنع من إطالة التفكير، وتخليط الكلام، وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب، وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة، ما يؤيد صدق هذا، ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدي بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح، فقال: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} إذ ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم لا يتصدّى لادعائه إلا أحد رجلين؛ إما مجنون لا يبالي بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبيّ مؤيد من عند الله بالمجعزات الدالة على صدقه، وإنكم قد علمتم أن محمدًا أرجح الناس عقلًا، وأصدق الناس قولًا، وأزكاهم نفسًا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي، فوجب عليكم أن تصدّقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك، وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم، مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم، وعلموا ما له من صفات الفضل ¬

_ (¬1) المراغي.

[47]

والنبل وكرم الخلال، مما لم يتهيَّأ لأحد من أترابه ولداته. وإذا استبان بالدليل أنَّه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدّعي .. اتضح أنه صادق، كما قال سبحانه: {إِن}؛ أي: ما {هُوَ}؛ أي: صاحبكم {إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ}؛ أي: مخوّف لكم بلسان ينطق بالحق، {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}؛ أي: قدام عذاب الآخرة، إن عصيتموه؛ لأنه مبعوث في نسم الساعة؛ أي: أوّلها وقربها، وذلك لأنّ النسم النفس، ومن قرب منك يصل إليك نفسه، وقيل: المعنى: أي (¬1): ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة إن لم تؤمنوا به؛ أي: ما هذا الوصول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه لكفركم به وعصيانكم أمره، وإنما جعل إنذاره بين يدي عذاب شديد؛ لأنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مبعوث قرب الساعة، كما جاء في الحديث: "بعثت أنا والساعة جميعًا إن كادت لتسبقني". وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا ذات يوم، فقال: "يا صباحاه"، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسيكم، أما كنتم تصدّقوني" قالوا: بلى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا، فأنزل الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}. 47 - ولما نفى عن رسوله الجنون، وأثبت له النبوّة .. أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا, ولا رغبة فيها، حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {مَا}؛ أي: أيُّ شيء {سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: من جُعْلٍ على تبليغ الرسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمراد: نفي السؤال بالكلية؛ أي: لا أسالكم على إنذاركم أجرًا، كقول من قال لمن لم يعطه شيئًا: إن أعطيتني شيئًا .. فخذه، وقال بعضهم؛ لما نزل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .. قال عليه السلام لمشركي مكة: "لا تؤذوني في قرابتي"، فكفوا عن ذلك، فلما سبّ آلهتهم .. قالوا لم ينصفنا يسألنا أن لا نؤذيه في قرابته، وهو يؤذينا بذكر آلهتنا بسوء، فنزل: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ¬

_ (¬1) المراح.

[48]

إن شئتم آذوهم، وإن شئتم امتنعوا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأجر: المودّة في القربى، وقال قتادة: فهو لكم؛ أي: ثمرته وثوابه؛ لأني سألتكم صلة الرحم. {إِنْ أَجْرِيَ} قرأ ابن كثير (¬1) وحمزة والكسائي بإسكان الياء؛ أي: ما أجر تبليغي وثوابه {إِلَّا عَلَى اللَّهِ} لا على غيره، لأني أطلب ثواب الله تعالى لا عرض الدنيا، {وَهُوَ} سبحانه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؛ أي: مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي، وفيه إشارة إلى أنه من شرط دعوة الخلق إلى الله أن تكون خالصة لوجه الله، لا يشوبها طمع في الدنيا دون الآخرة، قال الإِمام الزروقي: الشهيد: هو الحاضر الذي لا يغيب عنه معلوم ولا مرئيّ ولا مسموع. ومعنى الآية: أي قل لهم يا محمد: إني لا أريد منكم أجرًا ولا عطاءً على أداء رسالة ربي إليك، ونصحي لكم، وأمري بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله تعالى، وهو العلم بجميع الأشياء، فيعلم صدقي وخلوص نيتي، وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرًا دنيويًا .. ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له، وقد صدع به: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وبهذا ثبت أنه نبيّ، 48 - ولما استبان أنه ليس بالمجنون، ولا هو بطالب الدنيا .. عُلِم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء، وقذف به الوحي إليه، وأمره أن يبلغه إليهم، كما أشار إلى ذلك بقوله: {قُلْ} يا محمد لمن أنكر التوحيد والرسالة: {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ} ويرمي {بِالْحَقِّ} أي: بالوحي على من يشاء من عباده؛ أي: يلقي الوحي وينزله على من يجتبيه من عباده، فالاجتباء ليس لعلة، والاصطفاء ليس لحيلة، والمعنى: أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله، أو المعنى: يرمي بالحق الباطل فيدمغه ويزيله. {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} قرأ الجمهور (¬2): {عَلَّامُ} بالرفع، والظاهر: أنه خبر ثانٍ لـ {أَنِ}، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف، وقيل: بل من الضمير المستكن في {يَقْذِفُ}، وقرأ عيسى بن عمرو ابن أبي إسحاق وزيد بن علي وابن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة: بالنصب نعتًا لاسم {إِن}، أو بدلًا منه، أو على المدح، قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر، كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) البحر المحيط.

[49]

وقرىء: {الْغُيُوبِ} بالحركات الثلاث في الغين، إما بالضم، فجمع: غيب، والغيب: هو الأمر الذي غاب عن خلقه، وأما الكسر: فكذلك استثقلوا ضمتين والواو، فكسروا الغين لتناسب الكسر مع الياء، والضمة التي على الياء مع الواو، وأما بالفتح: ففعول للمبالغة، كالصبور والشكور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدًّا. أي: عالم (¬1) بكل ما غاب عن خلقه في السموات والأرض، قولًا كان أو فعلًا أو غيرهما، وفي "التأويلات": إنما ذكر الغيوب بلفظ الجمع؛ لأنه عالم بغيب كل أحد، وهو ما في ضمير كل أحد، وأنه تعالى عالم بما يكون في ضمير أولاد كل أحد إلى يوم القيامة، وإنما قال علّام بلفظ المبالغة ليتناول علم معلومات الغيوب في الحالات المختلفة كما هي بلا تغيّر في العلم عند تغير المعلومات من حال إلى حال، بحيث لا يشغله شأن حال عن حال. والمعنى: أي قل يا محمد لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إنّ ربّي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العلم بمن يصطفيهم، كما قال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقد يكون المعنى كما روي عن ابن عباس: إنّ ربي يقذف الباطل بالحق؛ أي: يورده عليه، حتى يبطله ويزيل آثاره، ويشيع الحق في الآفاق، ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإِسلام ونشره بين الناس، وتبلُّج نوره في الكون، ونحوه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} 49 - ثمّ أكد ما سلف بأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه بأنّ الإِسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد {جَاءَ الْحَقُّ}؛ أي: الإِسلام والتوحيد، وزال الشرك وذهب {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} الجديد من الإبداء، بمعنى الابتداء والاستئناف؛ أي: وما يظهر الباطل الجديد الذي لم يسبق {وَمَا يُعِيدُ} الباطل القديم الذي سبق بعد ذهابه من الإعادة بمعنى العود؛ أي: وما يعود الباطل القديم الذي اتصف به المشركون أولًا؛ أي: ذهب الباطل ذهابًا لم يبقَ منه إقبال ولا إدبار، ولا إبداء ولا إعادة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

والمعنى (¬1): زال الشرك وذهب، بحيث لم يبقَ أثره أصلًا، مأخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبقَ له إبداء ولا إعادة، فجعل مثلًا في الهلاك بالكلية، وقيل: الباطل هو إبليس، والمعنى: لا يخلق إبليس أحدًا ابتداءً، ولا يبعثه، إذا مات إعادةً، وقيل: الباطل هو الأصنام؛ أي: لا تخلق أحدًا ابتداءً، ولا تعيد بعثًا للأموات. روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة، وحول الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعهنا بعود في يده، ويقول: " {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} ". والمعنى: أي قل (¬2): جاء الإِسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبقَ منه بقيّة تبدىء شيئًا أو تعيده، وأصله في هلاك الحيّ، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداءٌ؛ أي: فعل أمر ابتداء ولا إعادة؛ أي: فعله ثانيًا، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص. أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ ... فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِيء وَلَا يُعِيْدُ 50 - ولما سدَّ عليهم مسالك القول .. لم يبقَ إلا أن يقولوا عنادًا: إنه قد عرض له ما أضلّه عن محجة الصواب، فأمر رسوله أن يقول لهم: {قُلْ} لهم يا محمد: {إِنْ ضَلَلْتُ} عن الطريق الحق - كما تزعمون وتقولون، لقد ضللتَ حين تركت دين آبائك - {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي}؛ أي: فإن وبال ضلالي وعقابه عليها؛ لأنه سببها؛ إذ هي الحاملة عليه بالذات، والأمارة بالسوء، وبهذا الاعتبار قوبل الشرطية بقوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} إلى الطريق الحق {فَبِمَا يُوحِي}؛ أي: فبسبب ما يوحي إليَّ ربي من الحكمة والبيان، فإن الاهتداء بتوفيقه وهدايته. وفيه (¬3): إشارة إلى أنّ منشأ الضلالة نفس الإنسان، فإذ أوكلت النفس إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[51]

طبعها لا يتولد منها إلا الضلالة، وإن الهداية من مواهب الحق سبحانه، ليست النفس منشأها, ولذلك قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}. {إِنَّهُ} تعالى {سَمِيعٌ} قول كل مهتدٍ وضالٍّ، وإن بالغ في إخفائه {قَرِيبٌ} منّي ومنكم. يعلم الهدى والضلالة، وقال بعضهم: سميع بمنطق كل ناطق، قريب لك شيء، وإن كان بعيدًا، وقرأ الجمهور: {ضَلَلْتُ} بفتح اللام، وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب: بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية، والمعنى: أي: قل أيها الرسول لقومك: إن ضللت عن الهدى، وسلكت غير طريق الحق، فإنما ضرر ذلك على نفسي، وإن استقمت على الحق.، فبوحي الله إليَّ، وتوفيقه للاستقامة على محجّة الحق، وطريق الهدى، إنه سميع لما أقول وتقولون، ويجازي كلًّا بما يستحق، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه. روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا مجيبًا". والخلاصة: أنّ الخير كله من الله، وفيما أنزله عليَّ من الوحي والحق المبين، 51 - ثم ذكر سبحانه حالًا من أحوال الكفار، فقال: {وَلَوْ تَرَى} يا محمد، أو يا من يفهم الخطاب، ويليق به {إِذْ فَزِعُوا}؛ أي: حين يفزع الكفار ويخافون مما نزل بهم، قيل (¬1): المراد: فزعهم عند نزول الموت بهم، وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم، وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فرارًا، ولا رجوعًا إلى التوبة، وقال ابن مغفّل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: هو فزعهم من الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم، فيخير الناس بما لقي أصحابه فيفزعون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ ثمانين ألفًا - وهم السفيانيّ وقومه - يخرجون في آخر الزمان، فيقصدون بالكعبة ليخرّبوها، فإذا دخلوا البيداء، وهي أرض ملساء بين الحرمين - كما في "القاموس" - خسف بهم، فلا ينجو منهم إلَّا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[52]

السري الذي يخبر عنهم، وهو جهينة، فلذلك قيل: عند جهينة الخبر اليقين، وعبَّر بالماضي (¬1) في قوله: {إِذْ فَزِعُوا}؛ لأن المستقبل بالنسبة إلى الله تعالى كالماضي في تحقّقه، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: ولو ترى يا محمد حالهم وقت فزعهم من الموت، أو من عذاب الله، أو من الخسف بهم في البيداء .. لرأيت أمرًا هائلًا. {فَلَا فَوْتَ} لهم من عذاب الله، ولا نجاة بهرب، أو بتحصن، ويدركهم ما فزعوا منه {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى قليبها؛ أي: بئرها القديمة، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، وحيث كانوا، فهم قريب من الله، والجملة معطوفة على فزعوا؛ أي: ولو ترى يا محمد إذ يفزع الكفار، فلا يفوتني أحد منهم، ويؤخذون من مكان قريب .. لرأيت أمرًا فظيعًا، وقرأ الجمهور (¬2): {فَلَا فَوْتَ} مبنيًا على الفتح، و {أُخِذُوا} فعلًا ماضيًا، والظاهر: عطفه على {فَزِعُوا}، وقيل: على {فَلَا فَوْتَ}؛ لأن معناه: فلا يفوتوا وأخذوا، وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة: {فَلَا فَوْتَ}، و {أخذ} مصدرين منوّنين، وقرأ أبي: {فَلَا فَوْتَ} مبنيًا، و {أخذ} مصدرًا منوّنًا، ومن رفع {أخذ} .. فخبر مبتدأ؛ أي: وحالهما أخذ، أو مبتدأ؛ أي: وهناك أخذ، ذكره أبو حيان؛ أي: ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد .. لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه، فهم لا يمكنون من الهرب، ولا يفوتون ذلك العذاب، ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه، ويؤخذون حين الفزع من مكان قريب؛ أي: من الموقف إلى النار، ولم يمكَّنوا أن يُمْعِنوا في الهرب. وفي "الفتوحات": وقوله: {وَأُخِذُوا}، وقوله: {وَقَالُوا}، وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} الثلاثة معطوفة على {فَزِعُوا}، والأربعة بمعنى الاستقبال، وعبّر فيها بالماضي لتحقق الوقوع. اهـ "شيخنا". 52 - {وَقَالُوا}؛ أي: ويقول الكفار عند معاينة العذاب في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[53]

الآخرة: {آمَنَّا بِهِ}؛ أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مرّ ذكره في قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} فلا يلزم الإضمار قبل الذكر، وقيل: الضمير عائد على الله، وقيل: على العذاب، وقيل: على القرآن، والأول أولى. {وَأَنَّى لَهُمُ}؛ أي: وكيف يمكن لهم {التَّنَاوُشُ}؛ أي: التناول السهل؛ أي: وكيف يمكن لهم أن يتناولوا الإيمان تناولًا سهلًا. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فإنّ الإيمان إنما هو في حيّز التكليف، وهي الدنيا، وقد بعد عنهم بارتحالهم إلى الآخرة، وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بالإيمان بعدما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة - وهي غاية رمية حجر - كتناوله من مقدار ذراع في الاستحالة، {وَأَنَّى} هنا للاستفهام الاستبعادي. والتناوش: التناول السهل، وقال ابن عباس: التناوش: الرجوع إلى الدنيا، وقرأ الجمهور: {التَّنَاوُشُ} بالواو، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر: بالهمزة، ويجوز أن يكونا مادّتين إحداهما النون والواو والشين، والأخرى النون والهمزة والشين، وسيأتي البحث عنه في المفردات. 53 - وجملة قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ}؛ أي: بمحمد، أو بالعذاب الشديد الذي أنذرهم إياه، {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل ذلك اليوم في وقت التكليف في محل نصب على الحال من فاعل {قَالُوا}؛ أي: وقالوا آمنا به، والحال أنهم قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا. يعني: تابوا وقد أغلقت الأبواب، وندموا وقد تقطعت الأسباب، فليس إلا الخسران والندم والعذاب والألم. فَخَلِّ سَبِيْلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ لِلْبُكَا ... فَلَيْسَ لأَيَّامِ الصَّفَاءِ رُجُوْعُ أي: لا يقدر الإنسان على شيء إذا مات وصار إلى تحت الأرض، كما كان يقدر إذا كان فوق الأرض وهو حيّ، والمعنى: أي: وقالوا حين إذ أخذوا: آمنّا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكيف يمكن لهم ذلك ويقبل منهم، وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان؛ إذ هذه الدار ليست أهلًا لقبول التكاليف من الإيمان بالله والعمل الصالح، والحال أنهم قد كفروا به من قبل ذلك اليوم في الدنيا، وجملة قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} إمّا معطوف على {وَقَدْ كَفَرُوا} على حكاية الحال الماضية؛ أي: والحال أنهم قد كانوا يتكلّمون بالغي، أو بالشيء الغائب، يقولون: لا بعث

[54]

ولا حساب ولا جنة ولا نار. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} من الصدق، أو عن الحق والصواب، أو أنهم قد كانوا يرجمون بالظن الكاذب، ويتكلمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول من الطاعن، أو العذاب من قطع القول بنفيه، كما قالوا: وما نحن بمعذبين {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}؛ أي: من جهة بعيدة عن حاله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث ينسبونه إلى الشعر والسحر والكهانة والكذب، ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئًا لا يراه من مكان بعيد، لا مجال للظن في لحوقه، فالباء في {بِالْغَيْبِ} بمعنى: في؛ أي: في محل غائب عن نظرهم، أو للملابسة. اهـ "شهاب". وإما معطوف على {قَالُوا}؛ أي: ويقولون: آمنا به، ويقذفون بالغيب الخ، بناء على أنه تمثيل لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدنيا. وقيل: هو مستأنف؛ أي: يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسًا إيمانها، فمثّلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطّلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنّا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد بحال من يقذف شيئًا من مكان بعيد، لا مجال للنظر في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه، لكونه غائبًا عنه بعيدًا. وقرأ الجمهور (¬1): {وَيَقْذِفُونَ} مبنيًا للفاعل على حكاية حال ماضية، وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو: {وَيَقْذِفُونَ} مبنيًا للمفعول، قال مجاهد: ويرجمهم بما يكرون من السماء، وقال الزمخشري: أي: يأتيهم به؛ أي: بالغيب شياطينهم، ويلقِّنونهم إياه، صوقيل: يرمون في النار، وقال أبو الفضل الرازي: يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه: يجازون بسوء أعمالهم، ولا علم لهم بما أتاهم. 54 - {وَحِيلَ}؛ أي: حجز {بَيْنَهُمْ}؛ أي أوقعت الحيلولة والمنع بين هؤلاء الكفار {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ويحبّون من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار، والفوز بالجنة، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا، كما حكي عنهم بقوله: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}. {كَمَا فُعِلَ} ذلك المنع والحيلولة {بِأَشْيَاعِهِمْ}؛ أي: بمن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

اتصف بصفاتهم؛ أي: بأمثالهم ونظرائهم وأشباههم {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبلهم من كفار الأمم الماضية. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} وتهمة مما وجب الإيمان واليقين به، كالتوحيد والبعث ونزول العذاب على تقدير الإصرار، تعليل لما قبله. {مُرِيبٍ} صفة لشك؛ أي: موقع لهم ذلك الشك في الريبة والتهمة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار، (¬1) من: أرابه إذا أوقعه في الريبة، أو ذي ريبة من أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، ودخل فيها، وكلاهما مجاز في الإسناد، إلا أن بينهما فرقًا وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصلح أن يكون مريبًا من الأشخاص والأعيان إلى المعنى، وهو الشك، أي: يكون صفة من أوقع في الريب حقيقة، وقد جعل في الآية صفة نفس الشك الذي هو معنى من المعاني، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك؛ أي: إنهم كانوا في شكّ ذي شكّ، كما تقول: شعر شاعر، وعجب عجيب، وإنما الشاعر في الحقيقة صاحب الشعر، وإنما أسند الشاعرية إلى الشعر للمبالغة، وإذا كان حال الكفرة الشك في الدنيا .. فلا ينفعهم اليقين في الآخرة؛ لأنه حاصل بعد معاينة العذاب، والخروج من موطن التكليف، وقد ذمّوا في هذه الآيات بالشكّ والكفر والرجم بالغيب. والمعنى (¬2): أي وحجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحًا، كما قال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم، فقال: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذّبت رسلها، فتمنوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا, ولكن لم يقبل منهم، ثم علّل عدم قبول إيمانهم حينئذ بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}؛ أي: لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء، وقد تغلغل الشكّ في قلوبهم حين صاروا لا يطمئنّون إلى شيء مما جاءوا به، وفي (¬3) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) النسفي.

هذا ردٌّ على من زعم أن الله لا يعذب على الشك، والله أعلم. الإعراب {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}. {وَإِذَا}: الواو: استئنافية {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمّن معنى الشرط، {تُتْلَى}: فعل مضارع مغيّر الصيغة، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {تُتْلَى}، {آيَاتُنَا}: نائب فاعل لـ {تُتْلَى}، {بَيِّنَاتٍ}: حال من {آيَاتُنَا}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والتالي هو النبي عليه الصلاة والسلام {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} الشرطية مستأنفة لا محل لها من الأعراب {مَا} نافية، {هَذَا}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {رَجُلٌ}: خبر المبتدأ والجملة في محل نصب مقول قالوا، وجملة {يُرِيدُ}: صفة للرجل، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَصُدَّكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود إلى {رَجُلٌ}، و {أَنْ} المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُ}؛ أي: يريد صدّكم، {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {يَصُدَّكُمْ}. {كَانَ}: زائدة، أو شأنية، أو ناقصة، ويضمر لها ضمير يعود على الآباء، والمسألة حينئذ من باب التنازع، وأعمل الثاني لقربه، ولو أعمل الأول لقال: يعبدونه، {يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر {كَانَ} على القول الأخير، وجملة {كَانَ} صلة الموصول، {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {قَالُوا} الأول، {مَا}: نافية. {هَذَا}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة حصر، {إِفْكٌ}: خبر، {مُفْتَرًى}: صفة {إِفْكٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، معطوف على ما قبله، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {لِلْحَقِّ}: متعلق بـ {قَالَ}، {لَمَّا}: ظرف بمعنى: حين، متعلق بـ {قَالَ}،

{جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الحقَّ}، والجملة الفعلية في محل الجرّ مضاف إليه لـ {لَمَّا}، {إِنْ}: نافية مهملة، {هَذَا}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {سِحْرٌ}: خبر، {مُبِينٌ}: صفة {سِحْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَا}: الواو: عاطفة، أو حالية، {مَا}: نافية، {آتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {مِنْ}: زائدة، {كُتُبٍ}: مفعول ثانٍ لـ {آتَيْنَاهُمْ}، وجملة {يَدْرُسُونَهَا}: صفة لـ {كُتُبٍ}، وجملة {آتَيْنَاهُمْ} إما معطوفة على جملة {قَالَ}، أو في محل النصب حال من فاعل {قَالَ}، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {مَا}: نافية، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {آتَيْنَاهُمْ}، {إِلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {قَبْلَكَ}: حال من {نَذِيرٍ}، أو متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {مِنْ نَذِيرٍ} مفعول {أَرْسَلْنَا}، و {مِنْ}: زائدة. {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}. {وَكَذَّبَ}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية، {وَكَذَّبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، معطوف على قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أو مستأنفة، {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور، صلة الموصول، {وَمَا}: الواو: حالية، {ما} نافية. {بَلَغُوا}: فعل وفاعل، {مِعْشَارَ}: مفعول به، {{مَا}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {آتَيْنَاهُمْ} صلة الموصول، والعائد، محذوف تقديره: ما آتيناهموه، وجملة {بَلَغُوا} في محل النصب حال من فاعل {كَذَّبَ}، ولكنها حالة سببيّة، {فَكَذَّبُوا}: {الفاء}: عاطفة تفسيرية {كذبوا رسلي}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} عطف تفسير، {فَكَيْفَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير، فكيف كان نكير، والجملة المحذوفة مستأنفة، {كيف}: اسم استفهام للاستفهام التعجّبي في محل النصب خبر كان مقدم عليها وجوبًا، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {نَكِيرِ}: اسمها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، {نَكِيرِ}: مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة {كَانَ} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة.

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أَعِظُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {بِوَاحِدَةٍ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، {أَن}: حرف نصب ومصدر {تَقُومُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} {لِلَّهِ}: متعلق بـ {تَقُومُوا}، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور على كونه عطف بيان من {وَاحِدَة}، أو بدل منها، أو مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي قيامكم لله مثنى وفرادي، {مَثْنَى}: حال من فاعل {تَقُومُوا}، {وَفُرَادَى}: معطوف عليه؛ أي: حالة كونكم اثنين اثنين، وفردًا فردًا، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {تَتَفَكَّرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {تَقُومُوا}، {مَا}: نافية، {بِصَاحِبِكُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ}: زائدة، {جِنَّةٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول {تَتَفَكَّرُوا} معلقة عنها بـ {مَا} النافية، ولكنها على إسقاط في، كما في "الشهاب"، {إن}: نافية، {هُوَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {نَّذِيرٍ}: خبر المبتدأ، {لَكُمْ}: متعلق بـ {نَّذِيرٍ}، {بَيْنَ}: منصوب على الظرفية الاعتبارية، وهو مضاف {يَدَيْ} مضاف إليه مجرور بالياء، وهو مضاف {عَذَابٍ}: مضاف إليه {شَدِيدٍ}: صفة عذاب، والظرف متعلق بمحذوف حال من {نَّذِيرٍ}. {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {مَا}: اسم شرط في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {سَأَلْتُكُمْ} مقدَّم عليه، {سَأَلْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {مِنْ أَجْرٍ}: حال من {مَا} الشرطية {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة الجواب، {هو}: مبتدأ، {لَكُمْ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}، {إِنْ}: نافية، {أَجْرِيَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر {عَلَى اللَّهِ}: خبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}،

{وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {شَهِيدٌ}، و {شَهِيدٌ} خبر، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {إِنَّ رَبِّي}: ناصب واسمه، وجملة {يَقْذِفُ} خبره، {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {يَقْذِفُ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}، {عَلَّامُ}: خبر ثان لـ {إِنَّ}، أو خبر مبتدأ محذوف، {الْغُيُوبِ}: مضاف إليه. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {جَاءَ الْحَقُّ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {مَا}: نافية، {يُبْدِئُ الْبَاطِلُ}: فعل وفاعل، معطوف على {جَاءَ الْحَقُّ}، {وَمَا يُعِيدُ}: معطوف على {يُبْدِئُ}. {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجلمة مستأنفة، {إِنْ}: حرف شرط، {ضَلَلْتُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة الجواب، {إِنَّمَا}: حرف مكفوف وكاف، {أَضِلُّ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَلَى نَفْسِي}: متعلق بـ {أَضِلُّ}، والجملة في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}، وهي في قوة بنفسي، فيصح مقابلتها مع ما بعدها، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ}: الواو: عاطفة، {إِنْ}: حرف شرط، {اهْتَدَيْتُ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {فَبِمَا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {الباء}: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، أو موصولة في محل الجر بالباء، {يُوحِي}: فعل مضارع، {إِلَيَّ}: متعلق بـ {يُوحِي}، {رَبِّي}: فاعل {يُوحِي}، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، أو الموصولة، والتقدير على الأول: فبسبب إيحاء ربّي إليّ، وعلى الثاني: فبسبب الذي يوحيه إليّ ربي، الجار والمجرور خير لمبتدأ محذوف معلوم مما قبله، تقديره: فاهتدائي كائن بسبب إيحاء ربّي إليّ , أو

بسبب الذي يوحيه إلى ربي، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِن} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {إن} الأولى {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {سَمِيعٌ}: خبره الأول، {قَرِيبٌ}: خبره الثاني، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {تَرَى}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، و {تَرَى}: بصرية مفعولها محذوف {إِذْ}: ظرف لما مضى متعلق بـ {تَرَى} {فَزِعُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، وجواب {لو} محذوف تقديره: ولو ترى حالهم وقت فزعهم .. لرأيت أمرًا عظيمًا مذهلًا، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة مسوقة لتقرير حال الكفار عند فزعهم، {فَلَا}: {الفاء}: عاطفة، أو استئنافية، {لا}: نافية للجنس، {فَوْتَ}: في محل النصب، وخبرها محذوف، تقدير: فلا فوت كائن لهم، والجملة في محل الجرّ معطوفة على جملة {فَزِعُوا}، أو مستأنفة، {وَأُخِذُوا} فعل ونائب فاعل، معطوف على {فَزِعُوا}، {مِنْ مَكَانٍ}: متعلق بـ {أخذوا}، {قَرِيبٍ}: صفة {مكان}، {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {فَزِعُوا}، {آمَنَّا}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق بـ {آمَنَّا}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَأَنَّى}: {الواو}: استئنافية، {أَنَّى}: اسم استفهام للاستفهام الاستبعاديّ، بمعنى: من أين، أو: كيف، في محل الرفع خبر مقدم، {لَهُمُ}: جار ومجرور حال من {التَّنَاوُشُ}، {التَّنَاوُشُ}: مبتدأ مؤخر، {مِنْ مَكَانٍ}: متعلق بـ {التَّنَاوُشُ}، {بَعِيدٍ}: صفة {مَكَانٍ}، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}. {وَقَدْ}: {الواو}: حالية، {قد}: حرف تحقيق، {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}، {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور، حال من فاعل {كَفَرُوا}، وجملة {كَفَرُوا} في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا}، {وَيَقْذِفُونَ}: فعل

وفاعل، معطوف على {قد كفروا} بناءً على أنها حكاية حال ماضية؛ أي: وقد كانوا يقذفون بالغيب، {بِالْغَيْبِ}: متعلق بـ {يقذفون}، {مِنْ مَكَانٍ} متعلق به أيضًا، {بَعِيدٍ}: صفة مكان، {وَحِيلَ}: {الواو}: عاطفة، {حيل}: فعل ماضٍ مغيّر الصيغة على وزن قيل وبيع، {بَيْنَهُمْ}: {بين}: في محل النصب على الظرفية، مبني على الفتح لإضافته إلى المبني، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه، والظرف في محل الرفع نائب فاعل لـ {حيل}، والجملة معطوفة على جملة {وَقَالُوا}، {وَبَيْنَ مَا}: ظرف ومضاف إليه، معطوف على الظرف الأول، {يَشْتَهُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: وبين ما يشتهونه {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية، {فُعِلَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، {بِأَشْيَاعِهِمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {فُعِلَ}، وجملة {فُعِلَ} صلة {ما} المصدرية، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف معمول لفعل محذوف، تقديره: فعلنا بهم فعلًا مثل فعلنا بأشياعهم، ويحتمل كون {ما} موصولة بمعنى: الذي {فُعِلَ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}، والتقدير: فعلنا بهم فعلًا مثل الفعل الذي فعل بأشياعهم، والجملة المحذوفة مستأنفة: {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور، حال من {أشياعهم}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِي شَكٍّ}: خبره، {مُرِيبٍ}: صفة {شَكٍّ}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {إِلَّا إِفْكٌ} الإفك: أشد الكذب، والكذب: ما خالف الواقع. {مُفْتَرًى}: المنسوب إلى الله تعالى، فهو تأسيس، لا تأكيد. {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} والسحر: من سحر يسحر، إذا خدع أحدًا، وجعله مدهوشًا متحيرًا، وهذا إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئًا يعجز عن فعله ادراكه المسحور عليه، كما في "شرح الأمالي". وفي "الفتوحات المكية": السحر: مأخوذ من السحر، وهو ما بين الفجر الأول والفجر الثاني، واختلاطه وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة، فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح، ولا هو بنهار بعدم طلوع الشمس للأبصار، فكذلك ما فعله

السحرة، ما هو باطل محقق، فيكون عدمًا، فإن العين أدركت أمرًا ما لا تشك فيه، ولا هو حق محض، فيكون له وجود في عينه، فإنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين، ويظنه الرائي. انتهى. قال الشيخ الشعراني في "الكبريت الأحمر": هو كلام نفيس، ما سمعنا مثله قط. {مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} والدرس: قراءة الكتاب بإمعان النظر فيه طلبًا لدرك معناه، والتدريس: تكرير الدرس، قال الراغب في "المفردات": درس الشيء، معناه: بقي أثره، وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، ولذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب، ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة .. عبر عن إدامة القراءة بالدرس. {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} قال في "القاموس": والعشير: جزء من عشرة، كالمعشار والعشر، وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره، وقال في "الكشاف": والمعشار: كالمرباع، وهما: العشر والربع، وعبارة "البحر": المعشار: مفعال من العشر، ولم يبقَ على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره، وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع، وقال قوم: المعشار: عشر العشر، وقال الماوردي: المعشار هنا: هو عشر العشير، والعشير: هو عشر العشر، فيكون جزءًا من ألف، قال: وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قال الشوكاني: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقال الجوهري: معشار الشيء: عشره، كما قاله صاحب "القاموس"، وهذا هو المعنى المعروف المعتبر هنا. {نَكِيرِ} والنكير: مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعال كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، ذكره في "البحر". {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ} الوعظ: زجر يقترن به تخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم. اهـ. {وَفُرَادَى} قال الراغب: الفرد: الذي لا يختلط به غيره، فهم أعم من الوتر، وأخص من الواحد، وجمعه: فرادى انتهى. وفي "المختار": الفرد: الوتر، وجمعه: أفراد، وفرادى بالضم على غير القياس، كأنه جمع فردان. {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} التفكر: طلب المعنى بالقلب. {مِنْ جِنَّةٍ}؛ أي: جنون.

{مِنْ أَجْرٍ}؛ أي: جعل {يَقْذِفُ} القذف: الرمي البعيد بنحو الحجارة والسهم، ويستعار لمعنى الإلقاء. {يُبْدِئُ} يقال: أبدأ الشيء: فعله ابتداءً، وأعاده فعله ثانيًا. {فَلَا فَوْتَ}: بعد الشيء عن الإنسان، بحيث يتعذر إدراكه. {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} والفزع: انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف. {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} التناوش بالواو: التناول السهل لشيء قريب، من النوش، يقال: تناوش وتناول إذا مد يده إلى شيء يصل إليه، ومن همزه فإنه أبدل من الواو همزة لانضمامه، نحو: أقتت في وقتت، وفي "المصباح": ناشه نوشًا من باب قال: تناوله، والتناوش: التناول، يهمز ولا يهمز، وتناوشوا بالرماح: تطاعنوا بها. اهـ قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلًا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشًا، ومنه: المناوشة في القتال، وذلك إذا تدانى الفريقان، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل. فَهْيَ تَنُوْشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عُلاَ ... نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلاَ يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ}؛ أي: يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه: هو يقذف بالغيب. {بِأَشْيَاعِهِمْ}؛ أي: بأشباههم ونظرائهم، جمع شيع، وشيع جمع شيعة فالأشياع جمع الجمع، كما في "القرطبي" وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. {فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}؛ أي: موقع في الريبة والظنة، يقال: أراب الرجل؛ أي: صار ذا ريبة، فهو مريب، ومن قال: هو من الريب الذي هو الشك والتهمة، قال: يقال شك مريب، كما يقال: عجيب عجيب، وشعر شاعر في التأكيد. اهـ "قرطبي". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التنكير في قوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} للتهكم والتلهي. ومنها: إضافة الآباء إلى ضمير المخاطبين، لا إلى أنفسهم في قوله: {عَمَّا كَانَ

يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك، وتنفيرهم عن التوحيد. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهارًا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجترىء عليه إلا المتمادون في الكفر، المنهمكون في الغي والباطل، وكان التركيب أن يقال: وقالوا؛ لتقدم المرجع، وفيه تكرار الفعل، وهو قولهم دلالة على الإنكار عليهم. ومنها: زيادة {مِنْ} الاستغراقية في قوله: {مِنْ كُتُبٍ} لتأكيد النفي. ومنها: إيراد {كُتُبٍ} بصيغة الجمع تنبيهًا على أنه لا بد لمثل تلك الشبهة من نظائر الأدلة. ومنها: الطباق بين {مَثْنَى} {وَفُرَادَى} فهو طباق بديع أُتي به احترازًا من القيام جماعة؛ لأن في الاجتماع تشويشًا للخواطر. ومنها: الاستعارة في قوله: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال والشدائد أمام الإنسان. ومنها: الكناية في قوله: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فإنه كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره؛ لأنه إذا هلك لم يكن له إبداء ولا إعادة. ومنها: التعبير بالماضي عن المستقبل في قوله: {إِذْ فَزِعُوا}؛ لأن المستقبل بالنسبة إلى الله تعالى كالماضي في تحققه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} شبه طلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولًا سهلًا لا تعب فيه في الاستحالة. ومنها: الاستعارة التمثيلية أيضًا في قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} تقريرها: أنه شبه حالهم في ذلك؛ أي: في قولهم آمنا به؛ حيث لا ينفعهم الإيمان, بحال من رمى شيئًا من مكان بعيد، وهو لا يراه، فإنه لا يتوهم إصابته، ولا لحوقه لخفائه عنه، وغاية بعده.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية حيث استعار القذف بمعنى رمي الحجارة والحصى؛ لإلقائهم القول الكاذب، وظنهم الفاسد. ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: {يَقْذِفُونَ} حيث عبر عن الماضي بلفظ المضارع. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {مُرِيبٍ} لما فيه من الإسناد إلى الشيء ما لصاحبه؛ لأن الريب صفة للشاك، فأسند إلى الشك إسنادًا مجازيًا لقصد المبالغة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

جملة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام اشتملت هذه السورة على الأمور التالية: 1 - حمد الله سبحانه وتعالى، والثناء عليه بما هو أهله. 2 - مقال المشركين في إنكار البعث، والرد عليهم بأنه آتٍ لا شك فيه. 3 - الاستهزاء بالرسول، وحكمهم عليه بأنه إما مفتري، وإما مجنون. 4 - النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام. 5 - ما كان لسبأ من النعم، ثم زوالها لكفرانهم بها، واتباعهم وسوسة الشيطان. 6 - النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئًا. 7 - الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة، وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر. 8 - بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل لاعتزازهم بأموالهم وأولادهم، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم، ثم رده سبحانه عليهم. 9 - سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم ليكون في ردهم ما يكفي في تبكيتهم. 10 - مقال المشركين عند سماع القرآن، وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله تعالى، بل الداعي مفتر ليصد الناس عن دين الإباء والأجداد. 11 - عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم. 12 - أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم. 13 - إثبات أن الرسول نذير مبين لا مفتر ولا مجنون. 14 - كون الرسول لا يطلب أجرًا على دعوته، بل أجره على الله سبحانه وتعالى.

15 - طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه، وأن لا سبيل إلى تحقيقه (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا قد انتهى تفسير سورة سبأ بتوفيقه سبحانه وتيسيره، في منتصف ليلة السبت المبارك الثالثة عشر من شهر الله المحرم من شهور سنة أربع عشرة وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين. ولما فرغت منها .. تفرغت لتفسير سورة الملائكة بقدر طاقتي مع كثرة العوائق والمعائق والعوانق، وأسأل الله سبحانه وتعالى صرف العوارض والحواجز عني، والتيسير والتسهيل لأوضح المسالك، والتوفيق لما هو المعنى لكتابه في الواقع، إنه الكريم الجواد، والهادي إلى سبيل الرشاد، والموفق لطريق الصواب والسداد، والمسؤول لكل مأمول، والمرجو لفتح أبواب القبول، ونسأله أن يختم أعمالنا بالصالحات، وأعمارنا بالشهادات، وأن يجعل مآبنا إلى فراديس الجنات آمين آمين يا رب العالمين.

سورة فاطر

سورة فاطر سورة فاطر، وتسمى سورة الملائكة أيضًا، مكية، نزلت بعد سورة الفرقان، قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: أنزلت سورة فاطر بمكة. وعدد آياتها: خمس وأربعون آية، وعدد كلماتها: تسع مئة وسبع وتسعون كلمة، وعدد حروفها: ثلاثة آلاف ومئة وثلاثون حرفًا. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الملائكة جميعها محكم إلا قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} الآية (23) نسخ معناها, لا لفظها بآية السيف. انتهى. المناسبة: ومناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها (¬1): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر في آخر سابقتها هلاك المشركين، وإنزالهم منازل العذاب .. لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره، كما جاء في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}. وعبارة أبي حيان هنا (¬2): مناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وإنزالهم منازل العذاب .. تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه، ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}، وقال أيضًا عند قوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}، فأول هذه السورة تتصل بآخر السابقة؛ لأن قوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب، ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمنين وبشّرهم بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة. انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي باب شئت". التسمية: سميت بسورة فاطر أو بسورة الملائكة لذكرهما فيها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}. المناسبة قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة .. أيد ذلك بما

يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينًا، والسعة حينًا آخر، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد، وجلب النعمة لو أراد. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه .. أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر لها. قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلا: أن الله سبحانه لما ذكر الأصل الأول وهو التوحيد .. ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل، فقد كذب كثير منهم قبله، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم، ثم ذكر الأصل الثالث، وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه، وأنه لا ينبغي أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان، فإنه عدو لبني آدم، ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار وبئس القرار. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار .. ذكر هنا أن حزب الشيطان لهم العذاب الشديد، وأن حزب الله لهم المغفرة والأجر الكبير، ثم بين أن الضلال والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية، أو تدسيتها وارتكابها الأجرام والمعاصي، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك واتباعهم لوساوس الشيطان، والله عليم بحالهم، وسيجازيهم بما يستحقون. قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما ذكر أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم .. أردف ذلك ببيان أن هذا اليوم لا ريب فيه، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة، ثم ذكر أن من يريد العزة .. فليطع الله ورسوله، ولا يتعزز بعبادة ¬

_ (¬1) المراغي.

الأصنام والأوثان، كما أخبر الله عنهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)}، وأن العمل الطيب يرفع إلى الله ويحفظ لديه، ويجازي عليه، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم .. فالله يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهد في الآفاق من دلائل القدرة .. ذكر دليلًا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف أطوارها، فقد كانت ترابًا، ثم نطفة، ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرًا سويًا، ومنها ما يمد في عمرها، ومنها ما يخترم قبل ذلك، كما تدل عليه المشاهدة، وكل ذلك يسير على الله سبحانه. قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة على إثبات البعث، وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها .. أردف هذا بذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع، فهذا ماء عذب زلال يجري في الأقاليم والأمصار والبراري والقفار، يسقي منه الإنسان والحيوان، وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما، وهذا ماء ملح أجاجٍ تسير فيه السفن الكبار، ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، ومن كل منهما تأكل لحمًا طريًا فيه لذة للآكلين، وهذان ليل ونهار ضياء وظلام، يدخل أحدهما في الآخر، فأخذ هذا من طول ذاك، ويزيد هذا في قصر ذاك، فيعتدلان، ثم يتقارضان صيفًا وشتاءً، وسخر الشمس والقمر والنجوم الثوابت والسيارات بمقدار معين، وعلى نهج ثابت لا يتغير، وكل ذلك بتقدير العزيز العلم. أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان .. فلا يملكون شروى نقير، ولا يسمعون لكم دعاءً، ولا يستجيبون لدعوة، ويوم القيامة يتبرؤون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير، وهو ربك العلم بما كان وما سيكون. أسباب النزول قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬1) ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أنزلت هذه الآية ¬

_ (¬1) لباب النقول ببعض زيادة.

[1]

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أعز دينك بأحد العمرين: عمر بن الخطاب، أو بأبي جهل عمرو بن هشام" فهدى الله سبحانه عمر رضي الله عنه، وأضل أبا جهل لعنه الله تعالى، ففيهما أنزلت. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: كل المحامد مختصة بالله تعالى لا تتجاوز منه إلى غيره، وهو إن كان في الحقيقة حمدًا لله لذاته بذاته، لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه، وبهذا الاعتبار تكون الجملة مقولًا لقول محذوف تقديره: قولوا يا عبادي عند ثنائي: الحمد لله، والشكر له على نعمه. وهذه السورة (¬1) ختام السور المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة الابتداء. اهـ "خطيب". واعلم (¬2): أن الحمد يتعلق بالنعمة والمحنة؛ إذ تحت كل محنة منحة، فمن النعمة العطاس، وذلك لأنه سبب لانفتاح المسام؛ أي: ثقب الجسد، واندفاع الأبخرة المحتبسة عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر، فهو بحران الرأس، كما أن العرق بحران بدن المريض، ولذا أوجب الشارع الحمد للعاطس. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سبق العطاس بالحمد لله وفي وجع الرأس والأضراس، ومن المحنة التجشي. وفي الحديث: "من عطس أو تجشأ فقال: الحمد لله على كل حال .. دفع الله بها عنه سبعين داءً أهونها الجذام". والتجشي: تنفس المعدة، وذلك لأن التجشي إنما يتولد من امتلاء المعدة من الطعام، فهو من المصائب في الدين خصوصًا إذا وقع حال الصلاة، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول عند كل مصيبة "الحمد لله على كل حال". ثم رتب الحمد على نعمة الإيجاد أولًا؛ إذ لا غاية وراءها؛ إذ كل كمال مبنيٌّ عليها فقال: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: مبدعهما ومخترعهما وخالقهما ابتداءً ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

من غير مثال سبق من الفطر بفتح الفاء بمعنى: الشق، أو الشق طولًا، كما ذهب إليه الراغب، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. وقيل: المعنى: شاقهما لنزول الأرواح من السماء، وخروج الأجساد من الأرض، كما في "البحر". وأما الفطر بكسرها: فهو ترك الصوم. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما كنت أدري ما فاطر السموات حتى اختصم إلى أعرابيان في بئر فقال: أحدهما أنا فطرتها؛ أي: ابتدأت حفرها. والمقصود من هذا: أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم .. فهو قادر على الإعادة. وقرأ الجمهور (¬1): {فَاطِرِ} على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري والضحاك: {فطر} على صيغة الفعل الماضي فعلى القراءة الأولى نعت للاسم الجليل؛ لأن إضافته محضة لكونه بمعنى الماضي، فتفيد التعريف، ومن جعلها غير محضة جعله بدلًا منه، وهو قليل في المشتق، ومثله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} إضافته محضة أيضًا على أنه نعت آخر للاسم الجليل، ورسلًا منصوب بفعل مقدر؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عند البصريين، وجوز الكسائي عمله، أو منصوب بـ {جَاعِلِ}؛ لأن اسم الفاعل بمعنى الماضي، وإن كان لا يعمل عند البصريين إلا معرفًا باللام إلا أنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله، وأما على أن إضافته غير محضة فهو منصوب بـ {جَاعِلِ} بلا خلاف. والمعنى: أي مصير الملائكة وسائط بينه تعالى وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلِّغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام، والرؤيا الصادقة. أو بينه تعالى وبين خلقه؛ حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه. وقال بعضهم: الإلقاء إما صحيح أو فاسد، فالصحيح إلهي رباني متعلق بالعلوم والمعارف أو ملكي روحاني، وهو الباعث على الطاعة وعلى كل ما فيه صلاح، وشحمى إلهامًا. والفاسد نفساني، وهو ما فيه حظ النفس، ويسمى هاجسًا أو شيطاني، وهو ما يدعو إلى معصية، ويسمى وسواسًا. والمراد بالملائكة: بعضهم لا كلهم، جبرائيل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، والحفظة المتعاقبون، والملائكة المسددون حكام العدل، وغيرهم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

كالملك الذي أرسله الله تعالى إلى الأعمى والأبرص والأقرع. وقرأ الجمهور: {جَاعِلِ} بصيغة اسم الفاعل مجرورًا. وقرأ الحسن: {جَاعِلِ} بالرفع والإضافة؛ أي: هو جاعل، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: {جَاعِلِ}: بالرفع بغير تنوين. {الْمَلَائِكَةِ}: نصبًا حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن يعمر وخليد بن نشيط: {جعل} فعلًا ماضيًا (الملائكة) نصبًا، وذلك بعد قراءته فاطر بألف والجر، كقراءة من قرأ: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}، وقرأ الحسن وحميد بن قيس: {رسلا} بإسكان العين، وهي لغة تميم. وقال الزمخشري: وقرىء: {الحمد لله الذي فطر السوات والأرض وجعل الملائكة} فمن قرأ: {فطر} و {جعل} .. فينبغي أن تكون هذه الجمل إخبارًا من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم، كما تقول: الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا، خولنا كذا، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل، كذلك يكون في قوله: {فطر} جعل؛ لأن في ذلك نعمًا لا تحصى، ومن قرأ: {فاطر} {جاعل} .. فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي، فيكون صفة للجلالة. {أُولِي أَجْنِحَةٍ} صفة لرسلًا؛ أي: أصحاب أجنحة {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} صفات لأجنحة، فهي مخفوضة بالفتحة الملفوظة، أو المقدرة؛ لأنها غير مصروفة للعدل والصفة؛ أي: جاعل الملائكة رسلًا أصحاب أجنحة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة؛ أي: ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون أو يسرعون بها، فإن ما بين السماء والأرض، وكذا ما بين السموات مسيرة خمس مئة سنة، وهم يقطعونها في بعض الأحيان في وقت واحد. ففي تعداد الأجنحة (¬1) إشارة إلى كمالية استعداد بعض الملائكة على بعض، وتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى. والمعنى: إن من الملائكة خلقًا لكل منهم جناحان، وخلقًا لكل منهم ثلاثة، وخلقًا آخر لكل منهم أربعة، وعبارة النسفي هنا: والمعنى (¬2): إن الملائكة طائفة، أجنحتهم اثنان اثنان؛ أي: لكل واحد منهم جناحان، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، ولعلَّ الثالث يكون في وسط الظهر بين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

الجناحين، يمدهما بقوة، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة. انتهى. وقال البيضاوي: ولعله لم يرد خصوصية الأعداد المذكورة ونفي ما زاد عليها؛ لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جبرائيل ليلة المعراج وله ست مئة جناح، منها اثنان يبلغان من المشرق إلى المغرب، وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي، وقربه من الملأ الأعلى، وسرعة تنفيذه ما يؤمر به. وذكر السهيلي: أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة ملكية، وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير، ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها أنه يسد ما بين المشرق والمغرب. هذا كلامه، كما في "إنسان العيون". وقال إسماعيل البروسوي: لا يجوز (¬1) العدول عن الظاهر مع إمكان الحمل على الحقيقة. وقد تظاهرت الروايات الدالة على إثبات الأجنحة للملائكة، وإن لم تكن كأجنحة الطير من حيث إن الله تعالى باين بين صور المخلوقات والملائكة، وان كانوا روحانيين، لكن لهم أجسام لطيفة، فلا يمنع أن يكون للأجسام أجنحة جسمانية، كما لا يمنع أن يكون للأرواح أجنحة روحانية نورانية، كما ثبت لجعفر الطيار رضي الله عنه. والحاصل: أن المناسب لحال العلويين أن يكونوا طائرين، كما أن المناسب لحال السفليين أن يكونوا سائرين، ومن أمعن النظر في خلق الأرض والجو .. عرف ذلك، ويؤيد ما قلنا إن البراق، وإن كان في صورة البغل في الجملة، لكنه لما كان علويًا .. أثبت له الجناح، نعم إن الأجنحة من قبيل الإشارة إلى القوة الملكية، والإشارة لا تنافي العبارة هذا. وقيل: لم يجمع الله سبحانه في الأرض لشيء من خلقه بين الأجنحة والقرون والخراطيم والقوائم إلا لأضعف خلقه، وهو البعوض. وجملة قوله: {يَزِيدُ} سبحانه وتعالى {فِي الْخَلْقِ}؛ أي: في أي خلق كان من الملائكة وغيرهم، فاللام للجنس، والخلق بمعنى: المخلوق {مَا يَشَاءُ}؛ أي: كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة. فليس تفاوت أحوال الملائكة في عدد الأجنحة (¬2)، وكذا تفاوت أحوال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

غيرهم في بعض الأمور تستدعيه ذواتهم، بل ذلك من أحكام المشيئة ومقتضيات الحكم. فالآية متناولة لزيادات الصور والمعاني، فمن الأولى حسن الصورة خصوصًا الوجه، قيل: ما بعث الله نبيًا إلا حسن الشكل، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أملح الناس، ومنها ملاحة العينين واعتدال الصورة وسهولة اللسان وطلاقته وقوة البطش والشَّعر الحسن والصوت الحسن، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - طيب النغمة، وفي الحديث: "للهُ أشد أذنًا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب قينة إلى قينته" أي: من استماع مالك جارية مغنية أريد هنا المغنية، وفي الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم"؛ أي: أظهروا زينته بحسن أصواتكم، وإلا فجلَّ كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق، ورخص تحسين الصوت به والتطريب ما لم يتغير المعنى بزيادة أو نقصان في الحروف، ومنها حسن الخط، وفي الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخط الحسن يزيد الحق وضحًا"؟ وهو بالفتح: الضوء والبياض، وفي الحديث: "عليكم بحسن الخط، فإنه من مفاتيح الرزق". وقال البروسوي: حسن الخط مما يرغب فيه الناس في جميع البلاد، فاستكمال صنعة الكتابة من الكمالات البشرية، وان كانت من الزيادات لا من المقاصد، وقد يتعيش بعض الفقراء بمنافع قلمه، ولا يحتاج إلى الغير، فتكون المنة لله على كل حال. ومن الثانية كمال العقل، وجزالة الرأي، وجراءة القلب، وسماحة النفس، وغير ذلك من الزيادات المحمودة، كعلو الهمة؛ أي: التعلق بالمولى لا بالدنيا والعقبى. أو المعنى (¬1): يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء، حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانًا. وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية، كما قيل: وَالنَّاسُ ألْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ ... وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا وجملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} ممكن {قَدِيرٌ}؛ أي: بليغ القدرة تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء، فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء ¬

_ (¬1) المراغي.

[2]

مما يوجب قدرته على أن يزيد كل ما يشاؤه إيجابًا بينًا، ومن الأشياء الإنقاذ من الشهوات، والإخراج من الغفلات، والإدخال في دائرة العلم والشهود الذي هو من باب الزيادات، فمن استعجز القدرة الإلهية فقد كفر. والمعنى: فيزيد كل ما هو أهل للزيادة، وما هو مستعد لها حسية كانت أو معنوية، فلا يمنع عليه فعل شيء أراد لما له من القدرة والسلطان على كل شيء. 2 - و {مَا} في قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ} شرطية في محل النصب بـ {يَفْتَحِ}؛ أي: أيُّ شيء يفتح الله سبحانه {لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}؛ أي: من خزائن رحمته، أية رحمة كانت من نعمة وصحة وعلم وحكمة ورزق ومطر إلى غير ذلك {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}؛ أي: لتلك الرحمة؛ أي: لا أحد من المخلوقات يقدر على إمساك تلك الرحمة، وحبسها عمن فتحت له، فإنه لا مانع لما أعطاه. وفي "الإرشاد": عبر عن إرسالها بالفتح إيذانًا بأنها أنفس الخزائن، وأعزها منالًا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام. قيل: الفتح ضربان (¬1): الأول: فتح إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، ذلك قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}، وقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}. والثاني: فتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية. وذلك قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}، وقوله: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. {وَمَا يُمْسِكْ}؛ أي: وأيّ شيء يمسكه الله سبحانه من رحمته ويحبسه ويمنعه {فَلَا مُرْسِلَ لَهُ}؛ أي: لا أحد من الموجودات يقدر على إرساله وإعطائه، فإنه لا معطي لما منعه، فهو سبحانه المعطي المانع، القابض الباسط، لا معطي سواه، ولا منعم غيره، واختلاف الضميرين بالتأنيث في الأول، والتذكير في الثاني لما أن مرجع الأول مفسر بالرحمة، ومرجع الثاني مطلق في كل ما يمسكه من رحمته وغضبه. ففي التفسير الأول وتقييده بالرحمة إيذان بأن رحمته سبقت غضبه؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان.

في التعلق، وإلا فهما صفتان لله تعالى لا تسبق إحداهما على الأخرى في ذاتهما. {مِنْ بَعْدِهِ} سبحانه؛ أي: فلا مرسل له من بعد إمساكه ومنعه كقوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}؛ أي: من بعد إضلال الله إياه. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك، فلا أحد ينازعه {الْحَكِيمُ} الذي يفعل ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفي "الخازن": {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فيما أمسك {الْحَكِيمُ}؛ أي: فيما أرسل. ومعنى الآية (¬1): مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه وتعالى، فما يعطِ من خير .. فلا يستطيع أحد منعه ولا إمساكه، وأيُّ خير يمسكه .. فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح؛ لأن الأمور كلها بيده تعالى، ومنها البذل والعطاء، والمنع والإمساك، وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك. وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم، والتوجه إليه في قضاء حوائجهم، والتوكل عليه في جميع مآربهم، والإعراض عما سواه من جميع خلقه. ونحو الآية قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}. روى أحمد عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا انصرف من الصلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، وهو بالفتح: الحظ، والإقبال في الدنيا؛ أي: لا ينفع الفتى المحظوظ حظه في الدنيا منك؛ أي: عندك، وإنما ينفعه العمل والطاعة. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد أحق ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وعن معاذ - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم، ويعظم برّهم فاجرهم، ويعن قرّاؤهم أمراءهم على معصية الله، فإذا فعلوا نزع الله يده عنهم". وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي: 1 - {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}. 2 - {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}. 3 - {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. 4 - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. فعلى العاقل أن يجتهد حتى يأتي رزقه الصوري والمعنوي بلا جهد ولا مشقة ولا تعب، اللهم افتح لنا خير الباب، وارزقنا مما رزقت أولي الألباب، إنك مفتِّح الأبواب. 3 - ثم أمر الله سبحانه عباده أن يذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} عامة، فاللام للجنس، أو يا أهل مكة خاصّة، فاللام للعهد {اذْكُرُوا} بلسانكم وجنانكم وجوارحكم. {نِعْمَتَ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: إنعامه {عَلَيْكُمْ} إن جعلت النعمة مصدرًا، أو منة الله حال كونها كائنة عليكم إن جعلت اسمًا؛ أي: راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها. وتخصيص العبادة والطاعة بمعطيها سواء كانت نعمة خارجة كالمال والجاه، أو نعمة بدنيّة كالصحة والقوة، أو نعمة نفسية كالعقل والفطنة، ومعنى أمرهم بالذكر لها: هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها، ورسمت (¬1) لفظة {نِعْمَتَ} بالتاء المبسوطة في أحد عشر موضعًا من القرآن، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ¬

_ (¬1) روح البيان.

ويعقوب ولمّا كان ذكر النعمة مؤذيًا إلى ذكر المنعم قال بطريق الاستفهام الإنكاري: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: هل خالق مغاير له تعالى موجود؛ أي: لا خالق سواه على أن {خَالِقٍ} مبتدأ محذوف الخبر، زيدت عليه {مِنْ} تأكيدًا للعموم. و {غير الله} نعت له باعتبار محله، كما أنه نعت له في قراءة الجر باعتبار لفظه. وقرأ ابن وثاب وشقيق وأبو جعفر وزيد بن علي وحمزة والكسائي (¬1) {غَيْرُ اللَّهِ} بالخفض نعتًا على اللفظ، و {مِنْ خَالِقٍ} مبتدأ و {يَرْزُقُكُمْ} جوّزوا أن يكون خبرًا للمبتدأ، وأن يكون صفته، وأن يكون مستانفًا، والخبر على هذين الوجهين محذوف، تقديره: لكم. وقرأ شيبة وعيسى والحسن وباقي السبعة: {غَيْرِ} بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتًا على الموضع، كما كان على الجر نعتًا على اللفظ، وهذا الوجه أظهر لتوافق القراءتين فيه، وأن يكون خبراَ للمبتدأ، وأن يكون فاعلًا باسم الفاعل الذي هو خالق؛ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن أعماله كقولك، أقائم زيد في أحد وجهيه. وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي: {غيرَ} بالنصب على الاستثناء والخبر إمّا {يَرْزُقُكُمْ} وإما محذوف، و {يَرْزُقُكُمْ} مستأنف، أو صفة أخرى لـ {خَالِقٍ}، وفي "روح البيان": وجملة (¬2) {يَرْزُقُكُمْ} كلام مستأنف لا محل له من الإعراب، ولا مساغ لكونه صفة أخرى لـ {خَالِقٍ}؛ لأن معناه حينئذ نفي وجود خالق موصوف بوصفي المغايرة والرازقية معًا من غير تعرض لنفي وجود ما اتصف بالمغايرة فقط، ولا لكونه خبرًا للمبتدأ؛ لأن معناه نفي رازقية خالق مغاير له تعالى من غير تعرّض لنفي وجوده رأسًا مع أنّه المراد حتمًا. والمعنى: يرزقكم سبحانه وتعالى: {مِنَ السَّمَاءِ} بالمطر {و} من {الْأَرْضِ} بالنبات. وفائدة هذا التعريف: أنه إذا عرف أنه لا رازق سواه .. لم يعلّق قلبه بأحدٍ في طلب شيء، ولا يتذلّل للإنفاق لمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضًا، فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله، وتوهّم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح بشهود تقديره تعالى. وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام؛ أي: لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[4]

معبود بحق في الوجود إلا هو سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوًا كبيرًا، وإذا تبيّن تفرّده تعالى بالألوهية والخالقية والرّازقيّة {فَأَنَّى}؛ أي: فمن أي وجه، وبأي حجة {تُؤْفَكُونَ}؛ أي: تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وعن عبادته إلى عبادة الأوثان، وكيف تصرفون، فالفاء لترتيب إنكار عدولهم عن الحق إلى الباطل على ما قبلها. قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث، وأنتم مقرّون بأنّ الله خلقكم ورزقكم. وفي "الفتوحات"؛ {فَأَنَّى} هنا بمعنى: كيف؛ أي: من أيِّ وجه، ومن أي حالة، وبأي سبب تعبدون غيره، فغيره ليس فيه وصف يقتضي أن تصرفوا لعبادته، فإنه لا يقدر على خلق، ولا على رزق، ولا على غيرها. اهـ شيخنا. ومعنى الآية: يا أيها الناس راعوا نعم الله تعالى واحفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة، فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم، فإلى أيّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق ووضح السبيل. والخلاصة: احفظوا نعم الله تعالى، وأدّوا حقها, ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان. 4 - ثم سلّى الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} ليتأسَّى بمن قبله من الأنبياء، ويتسلّى عن تكذيب كفار العرب؛ أي: وإن استمر المشركون على أن يكذّبوك با محمد فيما بلّغت إليهمِ فلا تحزن واصبر. {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أولوا شأن خطير، وذوو عدد كثير، {مِنْ قَبْلِكَ} فصبروا وظفروا. {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه لا إلى غيره {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} من الرجع، وهو الرد؛ أي: تردّ إليه عواقبها، فيجازي كل صابر على صبره، وكل مكذّب على تكذيبه. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولياء أمته وتسهيل الصبر على الأذيّة إذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثل ما استقبله، وأنهم لمَّا صبروا لله كفاهم، علم أنه يكفيه بسلوك سبيلهم والاقتداء بهم. وقرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (¬1): {ترجع} ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[5]

بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول. والمعنى: أي وإن استمر قومك يا محمد على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين بعد أن أقمت لهم الحجج، وضربت الأمثال فتأسى بمن سبقك من الرسل، فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا, ولا مبدّل لكلماتنا، وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم، فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب. 5 - ثمّ ذكر أن البعث آت لا ريب فيه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} عامة، أو يا كفار مكة خاصة. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} سبحانه إياكم بالبعث والجزاء، وإخباره لكم بالحساب والعقاب والجنة والنار {حَقٌّ}؛ أي: ثابت لا محالة لا خلف فيه. وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى أنّ كل ما وعد به الله من الثواب والعقاب والدرجات في الجنة والدركات في النار والقربات في أعلى عليّين، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر، والبعد إلى أسفل سافلين حق، وصدق لا كذب فيه، فإذا علم ذلك استعدّ للموت قبل نزول الفوت، ولم يهتم للرزق، ولم يتهم الرب في كفاية الشغل ونشط في استكثار الطاعة ورضي بالمقسوم. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: لا تمنعنكم زينة الحياة الدنيا، وزخارفها، وشهواتها عن التزوّد للآخرة؛ بأن يذهلكم التتسع بها عن طلب الآخرة، والسعي لها، وتقطعكم زينتها وشهواتها عن الرياضات والمجاهدات وترك الأوطان ومفارقة الإخوان في طريق الطلب، والمراد: نهيهم عن الاغترار بها، وإن توجّه النهي صورة إليها. وفي بعض الآثار: "يا ابن آدم، لا يغرنك طول المهلة، فإنما يعجل بالأخذ من يخاف الفوت" قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا: أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ}؛ أي: لا يخدعنكم أيها الناس {بِاللَّهِ}؛ أي: بسعة كرمه وعفوه. {الْغَرُورُ} بفتح الغين؛ أي: الشيطان المبالغ في الغرور والخداع؛ بأن يمنّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم، أو لسعة رحمته لكم. وفي "المفردات": الغرور - بالفتح - كل ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشيطان، إذ هو أخبث الغاوين، وبالدنيا، لما قيل الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ.

[6]

والمعنى (¬1): ولا يغرنكم أيها الناس بالله الشيطان المبالغ في الغرور؛ بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي، قائلًا: اعملوا ما شئتم إنّ الله غفور يغفر الذنوب جميعًا، وانه غني عن عبادتكم وتعذيبكم، فإنّ ذلك وإن أمكن، لكن تناول الذنوب بهذا التوقّع من قبيل تناول السم اعتمادًا على دفع الطبيعة. فالله تعالى، وإن كان أكرم الأكرمين مع أهل الكرم، لكنه شديد العقاب مع أهل العذاب. وقرأ الجمهور (¬2): بفتح الغين، وفسّره ابن عباس رضي الله عنه بالشيطان. وقرأ أبو حيوة وأبو السمال ومحمد بن السميقع: بضمّ الغين، جمع: غار مثل: قاعد وقعود، أو مصدر كقوله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، وعليه فالكلام على حذف مضاف؛ أي: صاحب الغرور والخداع، وهو الشيطان، يقال: غرّه غرورًا كلزمه لزومًا ونهكه نهوكًا. ومعنى الآية (¬3): أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شكّ فيه، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، فيذهلنكم التمتع بمتاعها, ولا يلهينكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعًا لوساوس الشيطان. والخلاصة: أنّكم لا تغتروا بالحياة الدنيا، وتتركوا فعل ما أمرتم به، وتفعلوا ما نهيتم عنه. 6 - ثمّ ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ} يا بني آدم لا لغيركم {عَدُوٌّ} عظيم عداوة قديمة بما فعل بأبيكم ما فعل لا تكاد تزول، أو معلن عداوته لكم بوسوسته. {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونكم على حذر منه في جميع أحوالكم؛ أي: فعادوه أنتم أشدّ العداوة بطاعة ربكم، وخالفوه فيما أمركم به من معصية الله، وكذبوه فيما يغرنكم به، فلا تكفي (¬4) العداوة باللسان فقط، بل يجب أن تكون بالقلب والجوارح جميعًا، ولا يقوى المرء على عداوته إلّا بملازمة الذّكر ودوام الاستعانة بالربّ، فإنّ من هجم عليه كلاب الرّاعي يشكل عليه دفعها إلّا أن ينادي الراعي، فإنه يطردها بكلمة منه. ثمّ بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال: {إِنَّمَا يَدْعُو} الشيطان {حِزْبَهُ}؛ أي أشياعه وجماعته وأتباعه المطيعين له إلى معاصي الله سبحانه. {لِيَكُونُوا}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[7]

لأجل أن يكون حزبه {مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ أي: من أصحاب النار المسعرة المتقدة عليهم خالدين فيها معه؛ أي: ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى لذَّات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون. وفي "التأويلات": حزبه المعرضون عن الله المشتغلون بغير الله. قال في "الإرشاد": هذا تقرير لعداوته، وتحذير من طاعته بالتنبيه على أنّ غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى ملاذ الدنيا ليس تحصيل مطالبهم ومنافعهم الدنيويّة، كما هو مقصد المتحابّين في الدنيا عند سعي بعضهم في حاجة بعض، بل هو توريطهم وإلقائهم في العذاب المخلَّد من حيث لا يحتسبون. انتهى. 7 - ثمّ كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه، فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ثبتوا على الكفر بما وجب الإيمان به، وأصرّوا عليه. {لَهُمْ} بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان {عَذَابٌ شَدِيدٌ} معجّل ومؤجّل (¬1)، فمعجّله: تفرقة قلوبهم، وانسداد بصائرهم، وخساسة همّتهم، حتى إنهم يرضون بأن يكون معبودهم الأصنام والهوى والدنيا والشيطان، ومؤجّله: عذاب الآخرة، وهو ممّا لا يخفى شدّته وصعوبته، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، والخبر جملة قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. والمعنى: أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النّار من جراء كفرهم، وإجابتهم دعوة الشيطان، واتباعهم خطواته. {وَالَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: ثبتوا على الإيمان واليقين. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الطاعات الخالصة لله تحصيلًا لزيادة نور الإيمان. {لَهُمْ} بسبب إيمانهم، وعملهم الصالح الذي من جملته عداوة الشيطان {مَغْفِرَةٌ} عظيمة، وهي في المعجل ستر ذنوبهم، ولولا ذلك لافتضحوا، وفي المؤجّل محوها من ديوانهم، ولولا ذلك لهلكوا. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا غاية له، وهو اليوم سهولة العبادة، ودوام المعرفة، وما يناله في قلبه من زوائد اليقين وخصائص الأحوال، وأنواع المواهب، وفي الآخرة: تحقيق المسؤول، ونيل ما فوق المأمول. والمعنى: أي والذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم به، وانتهوا عمّا نهاهم عنه لهم مغفرة من الله لذنوبهم، وأجر كبير كفاء ما ملؤوا به قلوبهم من عامر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

الإيمان, وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال، 8 - والهمزة في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف و {من} اسم موصول في محل الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: أيتساوى الفريقان بعد تباين عاقبتهما، فيكون من زيّن وحسّن له عمله السيء؛ أي: زينه له الشيطان. {فَرَآهُ حَسَنًا}؛ أي: فظنه جميلًا وأضلّه الله، كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح، وهداه الله سبحانه؛ أي: لا يكون مثله دلَّ على الخبر المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ} الخ، فهو تقرير له، وتحقيق للحق ببيان أن الكل بمشيئة الله تعالى، والفاء فيه لتعليل النفي المستفاد من الاستفهام، أي لا يكون مثله؛ لأنّ الله سبحانه يضل {مَنْ يَشَاءُ} أن يضله لاستحسانه الضلال وصرف اختياره إليه، فيردّه إلى أسفل سافلين. {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أن يهديه لصرف اختياره إلى الهدى، فيرفعه إلى أعلى عليين، والفاء في قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} ولا تمت {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على المزين لهم؛ أي: بسببهم، {حَسَرَاتٍ}؛ أي: لأجل حسرتك واغتمامك بعدم إيمانهم للإفصاح، وذهاب النفس كناية عن الموت، وحسرات جمع: حسرة، وهي شدّة الحزن على ما فات، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وجمعه للدلالة على تضاعف اغتمامه - صلى الله عليه وسلم - على أحوالهم، أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر، و {عَلَيْهِمْ} صلة {تَذْهَبْ}، كما يقال: هلك عليه حبًا، ومات عليه حزنًا، ولا يجوز أن يتعلّق بحسرات؛ لأنّ المصدر لا تتقدّم عليه صلته. والمعنى (¬1): إذا عرفت أن الكل بمشيئة الله تعالى، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: لا تهلك نفسك للحسرات على غيّهم، وإصرارهم، والغموم على تكذيبهم وإنكارهم، فقد بدلت لهم النصح، وخرجت عن عهدة التبليغ، فلا مشقة لك من بعد، وإنما المشقّة عليهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم سقطوا عن عينك، ومن سقط عن عينك، فقد سقط عن عين الله، فلا يوجد أحد يرحمه. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {عَلِيمٌ}؛ أي: بليغ العلم. {بِمَا يَصْنَعُونَ}؛ أي: بما يفعلون من القبائح، فيجازيهم عليها جزاءً قبيحًا، فإنهم وإن استحسنوا القبائح ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

لقصور نظرهم، فالقبيح لا يكون حسنًا أبدًا. والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنه من الوعيد الشديد. واعلم أنّ الكافر يتوهم أن عمله حسن، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، ثمّ الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها, ولا يتفكّر في زوالها, ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها، فقد زيّن له سوء عمله. والمعنى: أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك، فإنّ الله حكيم في قدره، فهو يضل من يضل من عباده، ويهدي من يشاء، لما في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام باستعداد النفوس؛ إما بإخباتها لربها، وإنابتها إليه، وميلها إلى صالح العمل، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، ونحو الآية قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}، ثمّ هدّد الكافرين على قبيح أعمالهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}؛ أي: إن الله عليم بما يصنعون من القبائح، فيجازيهم عليه بما يستحقون، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال، وتدك منه الأرض دكًا. وقرأ الجمهور (¬1): {فمن زين} مبنيًا للمفعول {سُوءُ} بالرفع، وقرأ عبيد بن عمير: {زين له سوء} مبنيًا للفاعل، ونصب {سوء}، وعنه أيضًا: {أسوأ} على وزن أفعل منصوبًا، وأسوأ عمله هو الشرك، وقرأ طلحة: {أمن زين له سوء عمله} بغير فاء. قال صاحب "اللوامح": للاستخبار بمعنى العامة للتقرير، ويجوز أن يكون بمعنى: حرف النداء، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب انتهى، ومعنى بالجواب: خبر المبتدأ، وبالتمام: ما يؤدي لأجله؛ أي: يا من زين له سوء عمله تفكر وارجع إلى الله، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقرأ الجمهور: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} مبنيًا للفاعل من ذهب، و {نَفْسُكَ} فاعل. وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن: {تُذْهِبْ} من أذهب مسندًا لضمير المخاطب {نَفْسُكَ} بالنصب، ورويت عن نافع. 9 - ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه، وعظيم قدرته؛ ليتفكّروا في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

ذلك وليعتبروا به فقال: {وَاللَّهُ} وحده، مبتدأ خبره قوله: {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} قرأ الجمهور (¬1): {الرِّيَاحَ} بالجمع، وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي: {الرِّيَاحَ} بالإفراد؛ أي: والإله الذي يستحق منكم العبادة هو الذي أوجد الرياح، وأنشأها من العدم، فهبو بها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأنّ الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشىء السحاب، وقد لا ينشىء، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبّر ومؤثر مقدّر. والمراد بالرياح هنا (¬2): الجنوب والشمال والصبا، فإنها رياح الرحمة لا الدّبور، فإنها رياح العذاب، أما الجنوب فريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وأما الشمال بالفتح ويكسر مهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، وأمّا الصبا: فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار، سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس؛ أي: تميل، ويقال لها: القبول أيضًا بالفتح؛ لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقبلها. {فَتُثِيرُ سَحَابًا}؛ أي: تهيّجه وتحركه من حيث هو، وتنشره وترفعه بين السماء والأرض لإنزال المطر؛ لأنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعًا، والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء. وصيغة المضارع مع مضيّ أرسل وسقنا؛ لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها لتلك الخاصيّة، ولذلك أسند إليها. {فَسُقْنَاهُ}؛ أي: السحاب، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساقه؛ أي: ساق الله سبحانه ذلك السحاب وأجراه {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى الماء، وقال: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ} التفاتا من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وإنَّ الكل منه، والوسائط أسباب. وقال أبو عبيدة: مقتضاه: فتسوقه؛ لأنه قال أولًا: فتثير سحابًا، قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق. اهـ. وقال: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

بالتنكير قصدًا به إلى بعض البلاد الميتة، وهي بلاد الذين تبعّدوا عن مظانّ الماء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (¬1): {مَيِّتٍ} بتشديد الياء، والباقون بتخفيفها. قال المبرّد: ميْت وميّت واحد، وقال هذا قول البصريين وأنشد: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ {فَأَحْيَيْنَا} الفاءات (¬2) الثلاثة للسببية، فإن ما قبل كل واحدة منها سبب لمدخولها غير أن الأولى دخلت على السبب بخلاف الأخيرتين، فإنهما دخلتا على المسبَّب، {بِهِ}؛ أي: بالمطر النازل من السحاب المدلول عليه بالسحاب، فإنّ بينهما تلازمًا في الذهن، كما في الخارج، أو بالسحاب فإنه سبب السبب. {الْأَرْضَ} بإنبات ما ينبت فيها. {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد يبسها؛ أي: صيَّرناها خضراء بالنبات بعد خلوّها منه، وأسند (¬3) الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق، والإحياء إلى المتكلم؛ لأن في الأول تعريفًا بالفعل العجيب، وهو الإرسال والإثارة، وفي الثاني تذكيرًا بالنعمة، فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء. والكاف في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} في حيّز الرفع على الخبريَّة؛ أي: مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الموتى، واخراجهم من القبور يوم الحشر في صحة المقدوريّة وسهولة التأتّي من غير تفاوت بينهما أصلًا سوى الإلف في الأوَّل دون الثاني، فالآية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث حيث دلّهم على مثال يعاينونه غير ما مرّةٍ. وقال بعضهم (¬4): معنى {كَذَلِكَ النُّشُورُ}: أي: في كيفية الإحياء، فكما أنَّ إحياء الأرض بالماء كذلك إحياء الموتى بالماء، كما روي أن الله تعالى يرسل من تحت العرش ماء كمنّي الرجال، فينبت به الأجساد كنبات البقل، ثم يأمر إسرافيل فيأخذ الصور فينفخ نفخة ثانية، فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله: ليرجعنّ كل روح إلى جسده، فتدخل ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح. (¬4) روح البيان.

[10]

الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثمّ تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السمّ في اللديغ، ثمّ تنشق الأرض، فيخرجون حفاة عراة، والله أعلم. 10 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} ويودّ ويطلب {الْعِزَّةَ} والشرف والمنعة. {فـ} ليطلبها من عنده تعالى بلزوم طاعته وتقواه، لا من عند غيره فإنه {لِلَّهِ} وحده لا لغيره {الْعِزَّةَ} والمنعة حال كونها {جَمِيعًا}؛ أي: في الدنيا والآخرة؛ أي: عزة الدنيا والآخرة، لا يملك غيره شيئًا منها، فاستغنى عن ذكر الجواب بذكر دليله إيذانًا بأن اختصاص العزة به تعالى موجب لتخصيص طلبها به تعالى، ونظيره قولك: من أراد العلم فهو عند العلماء؛ أي: فليطلبه من عندهم؛ لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه، فقد أقمت الدليل مقام المدلول. فإن قلت: قد أثبت العزة في آية أخرى لله ولرسوله وللمؤمنين، وهنا خصّها بالله سبحانه، فبينهما معارضة؟. قلت: يجمع بينهما أن عز الربوبيّة والإلهيّة لله تعالى وصفًا، وهذا هو المراد هنا، وعزّ الرسول والمؤمنين له تعالى فعلًا ومنّةً وفضلًا، فإذًا العزة لله جميعًا، فعزة الرسول والمؤمنين أثر عزة الربوبية، وقال الزمخشري: لا تنافي بينهما؛ لأنّ العزة في الحقيقة لله بالذات، وللرسول بواسطة قربه من الله، وللمؤمنين بواسطة الرسول، فالمحكوم عليه أوّلًا غير المحكوم عليه ثانيًا، قيل: معنى هذا الكلام: من كان يريد أن يعلم من له العزة فلله العزة جميعًا؛ أي: العزة كلهامختصة بالله، عزة الدنيا، وعزة الآخرة، وقيل: من كان يريد العزة فليتعزّز بطاعة الله فقال: فهو دعاء، إلى طاعة من له العزة؛ أي: فليطلب العزة من عند الله تعالى بطاعته وتقواه، وذلك أن الكافرين كانوا يتعزّزون بالأصنام، كما قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)}، وأنّ الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطاة قلوبهم كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} فبيّن أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين. اهـ. "خازن" بتصرف. وفي "القرطبي": ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبِّه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أين تستحق، فتكون الألف واللام للاستغراق، وهذا هو المفهوم من هذه الآية.

وقال الشوكاني: والظاهر في معنى الآية: أي: من كان يريد العزة ويطلبها فليطلبها من الله عز وجل، فلله العزة جميعًا ليس لغيره منها شيء، فتشمل الآية كل من طلب العزة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أيّ جهة تطلب. اهـ. {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره فقط من الملائكة الموكّلين بأعمال العباد {يَصْعَدُ} ويعرج ويعلو {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الذي يطلب به العزة، ومعنى صعوده إليه: قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتّصف بكونه طيبًا من ذكر الله، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وتلاوة، وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد والتمجيد وقيل: معنى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ}: أي: إلى سمائه، ومحل قبوله، وحيث يكتب الأعمال المقبولة، كما قال: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}، وقال الخليل عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}؛ أي: ذاهب إلى الشام الذي أمرني بالذهاب إليه. فالظاهر أنّ الكتبة يصعدون بصحيفة إلى حيث أمر الله أن توضع، أو يصعد هو؛ أي: الكلم الطيب بنفسه، فلا حاجة إلى هذه التأويلات، قال بعضهم: بعض الأعمال ينتهي إلى سدرة المنتهى، وبعضها يتعدّى إلى الجنة، وبعضها إلى العرش، وبعضها يتجاوز العرش إلى عالم المثال، وقد يتعدى من عالم المثال إلى اللوح، ثمّ إلى المقام القلمي، ثمّ إلى العماء، وذلك بحسب تفاوت مراتب العمّال في الصدق والإخلاص، وصحة التصوّر والشهود والعيان. انتهى. ولكن لا نقل في ذلك كله، وهو إلى الخرافات أقرب، والأسلم عدم تأويل الآية، كما أشرنا إليه آنفًا. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}؛ أي: يرفع الكلم الطيب ويحقّقه ويقوّيه، ولا ينال الدرجات العالية إلا به؛ إذ الكلم الطيب لا ينفع مع العصيان، فإنّ الأعمال كالمراقي له، وقول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، وهذا المعنى هو الظاهر هنا كما في "الإرشاد"، وقال به الحسن وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وغيرهم، ومعناه، أنه لا يقبل الكلم إلا مع العمل الصالح، وقيل: إن فاعل {يَرْفَعُهُ} هو الكلم الطيب، ومفعوله: العمل الصالح، ويؤيده قراءة نصب العمل, ومعناه: أنّ العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان, وقيل: إن فاعل

{يَرْفَعُهُ} يعود إلى الله عز وجل. والمعنى: إن الله يرفع العمل الصالح إليه ويقبله، كما سيأتي عن قتادة، وقال ابن عطية هذا أرجح الأقوال .. وقيل: العمل الصالح يرفع صاحبه ويشرفه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: المعنى: إن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه؛ أي: يقبله، فيكون قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} على هذا مبتدأ خبره جملة {يَرْفَعُهُ}، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه. وقال أبو حيان: ويجوز (¬1) أن يكون العمل معطوفًا على الكلم الطيب؛ أي: يصعدان إلى الله، و {يَرْفَعُهُ} استئناف إخبار؛ أي: يرفعهما الله تعالى ويقبلهما، ووحّد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفردًا. وصلاح العمل بالإخلاص فيه (¬2)، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه، بل عليه العقاب، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءة للناس لا يتقبلها الله تعالى، كما قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} وروي عن ابن عباس أنه قال: الكلم الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه. وعن الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، من قال وأحسن .. قبل الله منه. والخلاصة: أنّ القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل، وأنشدوا: لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ ... حَتَّى يُزَيِّنَ مَا يَقُوْلُ فِعَالُ وَإذَا وَزَنْتَ فِعَالَهُ بِمَقَالِهِ ... فَتَوَازَنَا فَإِخَالُ ذَاكَ جَمَالُ وقال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، كما سبق. وقرأ الجمهور (¬3): {يَصْعَدُ} من صعد الثلاثي، و {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} بالرفع على الفاعلية، وقرأ على وابن مسعود والسلميّ وإبراهيم: {يَصْعَدُ} من أصعد الرباعي {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} بالنصب على المفعولية، وقرأ الضحاك على البناء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

للمفعول، وقرأ الجمهور: {الْكَلِمُ}، وقرأ أبو عبد الرحمن: {الكلام}، وقرأ الجمهور: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} بالرفع على العطف، أو على الابتداء، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال. وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله .. ذكر أن المرائين لا يتقبّل منهم عمل، ولهم عذاب شديد عند ربهم فقال: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} وانتصاب (¬1) {السَّيِّئَاتِ} على أنها صفة لمصدر محذوف، فإنّ يمكر لازم لا ينصب المفعول به؛ أي: يمكرون المنكرات السيئات، أو مفعول به على التضمين؛ أي: يعملون السيئات، وهي مكرات قريش بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة، وتدارؤهم الرّأي في إحدى الثلاث التي هي الإثبات، والقتل، والإخراج، كما حكى الله سبحانه عنهم في سورة الأنفال بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}. {لَهُمْ} بسبب مكراتهم {عَذَابٌ شَدِيدٌ}؛ أي: بالغ نهاية الشدّة في الدنيا والآخرة لا يدرك غايته، ولا يبالي بما يمكرون به {وَمَكْرُ أُولَئِكَ} المفسدين الذين أرادوا أن يمكروا بالنّبي - صلى الله عليه وسلم -. وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم (¬2) للإيذان بكمال تميّزهم بما هم فيه من الشرّ والفساد عن سائر المفسدين، واشتهارهم بذلك {هُوَ} مبتدأ ثانٍ لا ضمير منفصل لعدم شرطه، خاصةً دون مكر الله بهم، وفي "الإرشاد": لا من مكروا به. {يَبُورُ}؛ أي: يهلك ويفسد ويبطل، فإنّ البوار فرط الكساد كما سيأتي. ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد، كما قيل: كسد حتى فسد، عبر بالبوار عن الهلاك والفساد. ولقد أبارهم الله تعالى إبارة بعد إبارة مكراتهم؛ حيث أخرجهم من مكة، وقتلهم، وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه - صلى الله عليه وسلم - بواحدة منهنَّ {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فللمكر السيء قوم أشقياء غاية أمرهم الهلاك، وللكلم الطيّب والعمل الصالح قوم سعداء، نهاية شأنهم النجاة. قال مجاهد وشهر بن حوشب: المراد بالآية: أصحاب الرياء. ومعنى الآية (¬3): أي والذين يمكرون المكر السيء بالمسلمين بأن يعملوا كل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[11]

ما يكون سببًا في ضعف الإِسلام، والحط من قدره، حتى يمحى أثره من الوجود، كما فعلت قريش في دار الندوة؛ إذ تدارست الرّأي في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحبسه، أو قتله، أو إجلائه من مكة، لهم العذاب الشديد يوم القيامة، ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولي البصائر، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلّا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيرًا فخير، وان شرًّا فشر، فالمرائي لا يروج أمره، ولا يتّفق إلا على غبيّ. أمّا المؤمنون المتفرسون .. فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف عن قريب، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان. وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} إلى الذين يظهرون الحسنات بالمكر، ويخفون السيئات من العقائد الفاسدة ليحسبهم الخلق من الصالحين الصادقين. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، وشدة عذابهم في تضعيف عذابهم، فإنهم يعذّبون بالسيئات التي يخفونها، ويضاعف لهم العذاب بمكرهم في إظهار الحسنات دون حقيقتها، كما قال تعالى: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}؛ أي: مكرهم يبوّرهم ويهلكهم. انتهى. 11 - ثمّ ذكر سبحانه دليلًا آخر على صحة البعث والنشور بما يُرى في الأنفس، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَلَقَكُمْ} يا بني آدم إبتداء خلقًا إجماليًا في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام {مِنْ تُرَابٍ}، وقال قتادة: يعني آدم، والتقدير على هذا: والله خلق أباكم الأول، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب، فالكلام حينئذ على حذف مضاف. وقال بعضهم: من تراب تقبرون وتدفنون فيه؛ أي: خلقكم من تراب لتكونوا متواضعين كالتراب. وفي الحديث: "إن الله جعل الأرض ذلولا تمشون في مناكبها، وخلق بني آدم من التراب ليذلهم بذلك، فأبوا إلّا نخوةً واستكبارًا، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر". {ثُمَّ} خلقكم خلقًا تفصيليًا. {مِنْ نُطْفَةٍ} لتكونوا قابلين لكل كمال، كالماء الذي هو سر الحياة ومبدأ العناصر الأربعة، والنطفة هو الماء الصافي الخارج من بين الصلب والتّرائب، كما سيأتي. وقال بعضهم: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني: آدم، وهو أصل البشر {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أخرجها من ظهر آبائكم بالتناسل والتوالد. وفي "التأويلات": يشير سبحانه بقوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى أنه خلقكم من

أسفل المخلوقات، وهي النطفة؛ لأن التراب نزل دركة المركبية، ثم دركة النباتية , ثم دركة الحيوانية، ثم دركة الإنسانية، ثم دركة النطفة، فهي أسفل سافلي المخلوقات، وهي آخر خلق خلقه الله تعالى من أصناف المخلوقات، كما أن أعلى الشجرة آخر شيء يخلقه الله، وهو البذر الذي يصلح أن توجد منه الشجرة، فالبذر آخر صنف خلق من أصناف أجزاء الشجرة. {ثُمَّ جَعَلَكُمْ} سبحانه {أَزْوَاجًا}؛ أي: أصنافًا، أحمر وأبيض وأسود، أو ذكرانًا وإناثًا، وعن قتادة: جعل بعضكم زوجًا لبعض، فالذكر زوج الأنثى، وفي "التأويلات" يشير إلى ازدواج الروح والقالب فالروح من أعلى مراتب القرب، والقالب من أسفل دركات البعد، فبكمال القدرة والحكمة جمع بين أقرب الأقربين، وأبعد الأبعدين، ورتب للقالب في ظاهره الحواس الخمس، وفي باطنه القوى البشرية، ورتب للروح المدركات الروحانية، ليكون بالروح والقالب مدركًا لعوالم الغيب والشهادة كلها، وعالمًا بما فيها خلافة عن حضرة الربوبية عالم الغيب والشهادة. انتهى. {وَمَا} نافية {تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} من حوامل حملًا، و {مِنْ} مزيدة في الفاعل لاستغراق النفي وتأكيده، والأنثى خلاف الذكر {وَلَا تَضَعُ}؛ أي: لا تلد أنثى من حوامل ولدًا في حال من الأحوال {إِلَّا} حال كونها متلبسة {بِعِلْمِهِ} تعالى، تابعةً لمشيئته، قال في "بحر العلوم": بعلمه في موضع الحال، والمعنى: ما يحدث شيء من حمل حامل، ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم مكان الحمل ووضعه وأيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة وغير ذلك، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره. {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} {ما}: نافية، والتعمير إطالة العمر، والمعمر من أطيل عمره، ويقال للمعمر؛ ابن الليالي، وقوله: {مِنْ مُعَمَّرٍ}؛ أي: من أحد، و {مِنْ} زائدة لتأكيد النفي، كما في من أنثى. وسمي معمرًا باعتبار مصيره (¬1)، يعني: هو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه، والمعنى: وما يمد في عمر أحد وما يطول، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} والضمير راجع إلى المعمر، والنقصان من عمر المعمر محال، فهو من التسامح في العبارة ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثقة بفهم السامع، فيراد من ضمير المعمر ما من شأنه أن يعمر على الاستخدام. والمعنى: وما يمد في عمر أحد، ولا ينقص من عمر أحد، لكن لا معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدًا، بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصًا. {إِلَّا} وهو مثبت {فِي كِتَابٍ} عظيم ولوح محفوظ، أو في علم الله، أو في صحيفة كل إنسان. واعلم: أن الزيادة والنقصان في الآية بالنسبة إلى عمرين كما عرفت، وإلا فمذهب أكثر المتكلمين وعليه الجمهور أن العمر يعني: عمر شخص لا يزيد ولا ينقص، وقيل: الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبت في اللوح، مثل أن يكتب فيه: إن حج فلان فعمره ستون، وإلا فأربعون، فإذا حج فقد بلغ الستين، وقد عمر، وإذا لم يحج فلا يجاوز الأربعين، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وكذا إن تصدق، أو وصل الرحم فعمره ثمانون، وإلا فخمسون، وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الصدقة والصلة تعمران الديار، وتزيدان في الأعمار". وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): وما يعمر من معمر إلا كتب عمره كم هو سنة، وكم هو شهرًا، وكم هو يومًا، وكم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال ابن جبير أيضًا: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره، فالهاء على هذا للمعمر، وعن سعيد أيضًا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي إلى آخره. وعن قتادة: المعمر: من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره: من يموت قبل الستين سنة. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مئة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيُّهما بلغ فهو كتاب، وهذا مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - أي: يؤخر في عمره - فليصل رحمه". والضمير على هذا يرجع إلى المعمَّر. وقيل: المعنى: وما يعمر من معمر؛ أي: هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب، أي: بقضاء من الله ¬

_ (¬1) الفتوحات.

عز وجل، وروي معناه عن الضحاك، فالضمير في عمره يرجع إلى معمر آخر غير الأول على حد: عنده درهم ونصفه؛ أي: نصف درهم آخر. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا يُنْقَصُ} بضم الياء وفتح القاف مبنيًا للمفعول. وقرأ يعقوب وسلّام وعبد الوارث وهارون كلاهما عن أبي عمرو: {ولا يَنقُص} بفتح الياء وضم القاف مبنيًا للفاعل. وقرأ الحسن (¬2) والأعرج والزهري: {من عمْره} بسكون الميم، وقرأ الباقون: بضمها، وهما لغتان، كالسحت والسحت، والنكر والنكر، والعمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة. {إِنَّ ذَلِكَ} المذكور من الخلق وما بعده، أو إن كتابة الأعمال والآجال {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {يَسِيرٌ} غير متعذر عليه، بل هو يسير لا يتعذر عليه منها شيء ولا يعسر لاستغنائه عن الأسباب، فكذلك البعث. اهـ. "قرطبي". وفي "بحر العلوم": إن ذلك إشارة إلى أن الزيادة والنقص على الله يسير، لا يمنعه منه مانع، ولا يحتاج فيه إلى أحد، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير. ومعنى الآية: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ...} الخ؛ أي (¬3): واللهُ خلق الناس من النطفة، والنطفة من الغذاء، والغذاء ينتهي آخرًا إلى الماء والتراب، فهم من تراب صار نطفة، ثم جعلهم أصنافًا ذكرانًا وإناثًا بقدر معلوم؛ بحيث يكاد الفريقان يستويان عددًا، ولو لم يكن كذلك لفني الإنسان والحيوان؛ إذ حفظ النوع لا يتم إلا بتلك المساواة على وجه التقريب، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}؛ أي: ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه، ولو لم يكن كذلك لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين، فيفنى الإنسان والحيوان، ونحو الآية قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}. {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ ...} إلخ؛ أي: لا أحد يقضى له بطول العمر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[12]

إلا وهو بالغ ما قدر له، لا يزيد ذلك ولا ينقص منه، ولا أحد مقدر له قصر العمر بزائد على ما قدر له في الكتاب الذي كتب له، وذلك لحفظ الموازين في الأرض حتى ينتظم العمران، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل، وساء حال الكون؛ إذ يكثر الناس، وتزدحم الأرض، ويشتد الكرب، ومن ثَمّ تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار، وكانت بمقدار، واعتدل النظام بالمرض والموت والوباء والحرب. {إِنَّ ذَلِكَ} النظام البديع للعالم هين على الله؛ لعلمه الشامل وعدم خفاء شيء عليه. 12 - ثم ذكر سبحانه نوعًا آخر من بديع صنعه وعجيب قدرته فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} العذب والملح، وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. إنما سُمي (¬1) العذب بحرًا؛ لكونه مع الملح، كما يقال للشمس والقمر: قمران بالتغليب. قال في "إخوان الصفا": فإن قيل: ما البحار؟ يقال: هي مستنقعات على وجه الأرض، حاصرة للمياه المجتمعة فيها. {هَذَا} البحر {عَذْبٌ}؛ أي: طيب حال. {فُرَاتٌ}؛ أي: بليغ عذوبته وحلاوته بحيث يكسر العطش. {سَائِغٌ شَرَابُهُ}؛ أي: سهل، انحدار مائه في الحلق لعذوبته، فإن العذب لكونه ملائمًا للطبع تجذبه القوة الجاذبة بسهولة. وقرأ الجمهور (¬2): {سَائِغٌ} اسم فاعل من ساغ، وقرأ عيسى بن عمر: {سيغ} على وزن فيعل؛ كميت، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم، وقرأ عيسى أيضًا: {سيغ} مخففًا من المشدد كميت مخفف ميت. {وَهَذَا} البحر الآخر {مِلْحٌ}؛ أي: ذو ملوحة، وهي طعم الملح؛ أي: طعمه كطعم الملح، وقرأ الجمهور: {مِلْحٌ}، وقرأ أبو نهيك وطلحة بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفضل الرازي: وهي لغة شاذة، ويجوز أن يكون مقصورًا من: مالح، فحذف الألف تخفيفًا، وقد يقال: ماء ملح في الشذوذ، وفي المستعمل: مملوح. {أُجَاجٌ}؛ أي: شديد ملوحته، بحيث يحرق الحلق بملوحته، وهو نقيض ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الفرات. قال في "خريدة العجائب": الحكمة في كون ماء البحر ملحًا أجاجًا لا يذاق ولا يساغ, لئلا ينتن من تقادم الدهور والأزمان، وعلى ممر الأحقاب والأحيان، فيهلك من نتنه العالم الأرضي، ولو كان عذبًا لكان كذلك، ألا ترى العين التي ينظر الإنسان بها إلى الأرض والسماء والعالم والألواح، وهي شحمة مغمورة في الدمع، وهو ماء مالح، والشحم لا يصان إلا بالملح، فكان الدمع مالحًا لذلك المعنى انتهى. وأما الأنهار العظيمة العذبة فلجريانها دائمًا لم يتغير طعمها ورائحتها، فإن التغير إنما يحصل من الوقوف في مكان؛ أي: وما يعتدل البحران فيستويان، أحدهما عذب سائغ شرابه يجري في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار. {وَمِنْ كُلٍّ}؛ أي: ومن كل واحد من البحرين المختلفين طعمًا {تَأْكُلُونَ} أيها الناس {لَحْمًا} {طَرِيًّا}؛ أي: غضًا جديدًا من الطراوة، وهي الرطوبة، وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل، وصف السمك بالطراوة لتسارع الفساد إليه، فيسارع إلى أكله طريًا؛ أي: ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطبريي فضلًا من الله سبحانه ومنة. {وَتَسْتَخْرِجُونَ}؛ أي (¬1): من المالح خاصة، ولم يقل منه؛ لأنه معلوم. {حِلْيَةً}؛ أي: زينة؛ أي: لؤلؤًا ومرجانًا، وفي "الأسئلة المقحمة": أراد بالحلية اللآلىء، واللآلىء إنما تخرج من ملح أجاج، لا من عذب فرات، فكيف أضافها إلى البحرين؟. والجواب: قد قيل إن اللآلىء تخرج من عذب فرات، وفي الملح عيون من ماء عذب ينعقد فيه اللؤلؤ والمرجان. انتهى. قال في "الخريدة": اللؤلؤ يتكوَّن في بحر الهند وفارس، والمرجان ينبت في البحر كالشجر، وإذا كلس المرجان عقد الزئبق، فمنه أبيض، ومنه أحمر، ومنه أسود، وهو يقوي العين كحلًا، وينشف رطوبتها. {تَلْبَسُونَهَا}؛ أي: تلبس تلك الحلية نساؤكم، ولما كان تزينهن بها لأجل الرجال فكأنها زينتهم ولباسهم، ولذا أسند إليهم، وقيل: معنى تلبسونها (¬2): تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما. {وَتَرَى} يا من يتأتى منه الرؤية {الْفُلْكَ}؛ أي: أي: السفن {فِيهِ} في كل منهما، وإفراد (¬1) ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق، وما لحق؛ لأن الخطاب لكل أحدٍ يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط. {مَوَاخِرَ}؛ أي: شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة. {لِتَبْتَغُوا} واللام متعلق بمواخر، أو متعلق بمحذوف؛ أي: لتطلبوا بركوبها. {مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: من فضل الله سبحانه ورزقه بالنقلة فيها، قال مجاهد: ابتغاء الفضل: هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة. قال في "بحر العلوم": ابتغاء الفضل: التجارة، وهي أعظم أسباب سعة الرزق وزيادته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تسعة أعشار رزق أمتي في البيع والشراء". {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: ولتشكروا الله سبحانه على ما أنعم عليكم به من ذلك الفضل، وحرف الترجي للإيذان بكونه مرضيًا عنده تعالى. وفي "بحر العلوم": وكي تعرفوا نعم الله فتقوموا بحقها, ولا سيما أنه جعل المهالك سببًا لوجود المنافع وحصول المعايش. واعلم: أنه تعالى ذكر هذه الآية دلالة على قدرته، وبيانًا لنعمته، وقال بعضم: ضرب البحر العذب والملح مثلًا للمؤمن والكافر، فكما لا يستوي البحران في الطعم، فكذا المؤمن والكافر لا يستويان، ولا الكفر والإيمان, فقوله: {وَمِنْ كُلٍّ} الخ إما استطراد في صفة البحرين، وما فيهما من النعم والمنافع، أو تفصيل للأجاج على الكافر من حيث إنه يشارك العذب في منافع كثيرة، كالسمك وجري الفلك ونحوهما، والكافر خلا من المنافع بالكلية على طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. ومعنى الآية: أي وتستخرجون (¬2) الدر والمرجان من الملح الأجاج، ومن العذب الفرات، وتجري السفن في كل منهما تشقه شقًا بحيازيها حين جريها مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم كيف شئتم، وتذهبون فيها إن أردتم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[13]

13 - ولما كان بين الفلك في البحر، والشمس والقمر في مدارهما مناسبة، فإن كلًّا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة .. أردفه بذكر الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، فقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ} ويدخله {فِي النَّهَارِ}؛ أي: يدخل الله سبحانه الليل في النهار بإضافة بعض أجزاء الليل إلى النهار، فينقص الأول ويزيد الثاني، كما في فصل الربيع والصيف. {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} بإضافة بعض أجزاء النهار إلى الليل، كما في فصل الخريف والشتاء. والمعنى (¬1): يدخل بعض ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعًا. و {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؛ أي: ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم. وفي "بحر العلوم": معنى تسخير الشمس والقمر: تصييرهما نافعين للناس، حيث يعلمون بمسيرهما عدد السنين والحساب. انتهى. ومنه (¬2) يعلم حكمة الإيلاج، فإنه بحركة النَّيِّرين تختلف الأوقات، وتظهر الفصول الأربعة التي تتعلق بها المصالح، والأمور المهمة، ثم قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ} عطف على {يُولِجُ}، واختلافهما صيغةً لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدِّد حينًا فحينًا، وأما تسخير النَّيِّرين .. فلا تعدد فيه، وإنما المتعدِّد والمتجدِّد آثاره، وقد أشير إليه بقوله تعالى: {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر {يَجْرِي}؛ أي: بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة جريًا مستمرًا. {لِأَجَلٍ}؛ أي: إلى وقت {مُسَمًّى}؛ أي: معين قدره الله تعالى لجريانهما، وهو يوم القيامة، فحينئذ ينقطع جريهما. وقال بعضهم: كل يجري إلى أقصى منازلهما في الغروب؛ لأنهما يغربان كل ليلة في موضع، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما، فجريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما في فلكيهما، والأجل المسمى: عبارة عن منتهى دوريتهما، ومدة الجريان للشمس سنة، وللقمر شهر، فإذا كان آخر السنة ينتهي جري الشمس، وإذا كان آخر الشهر ينتهي جري القمر، قال في "البحر": والمعنى في التحقيق يجري لإدراك أجلٍ على أن الجري مختص بإدراك أجل. ولما ذكر (¬3) أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة من إرسال الرياح، والإيجاد ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[14]

من تراب، وما عطف عليه، وإيلاج الليل في النهار، وتسخير الشمس والقمر .. أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله، فقال: {ذَلِكُمُ} مبتدأ إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة إشارة تجوّز، فإن الأصل في الإشارة أن تكون إلى محسوس ويستحيل إحساسه تعالى بالحواس، وأشار (¬1) إليه إشارة بعيد مع أنه أقرب من كل قريب للإيذان بغاية العظمة؛ أي: ذلك العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة {اللَّهُ} خبر؛ أي: المعبود بحق في الوجود {رَبُّكُمْ}؛ أي: مالككم أيها المخلوقات خبر ثانٍ، {لَهُ الْمُلْكُ} خبر ثالث؛ أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية والمالكية لما في السموات والأرض، فاعرفوه ووحدوه وأطيعوا أمره، ويجوز أن يكون قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} جملةً مستقلة في مقابلة قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ}؛ أي: تعبدون {مِنْ دُونِهِ}؛ أي: حال كونكم متجاوزين الله وعبادته {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}؛ أي: ما يقدرون أن ينفعوكم مقدار القطمير فضلًا عن هذه المنافع العظيمة العجيبة المذكورة سابقًا. وقرأ الجمهور: {تَدْعُوهُمْ} بتاء الخطاب، وعيسى وسلام ويعقوب بياء الغيبة، ذكره في "البحر المحيط". والقطمير: هو القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة كاللفافة لها. وقيل: هو القمع الذي في رأس التمرة، وقيل: قشر الثوم وأيًا كان هو مثل في القلة والحقارة، كالنقير الذي هو النقرة، والنكتة في ظهر النواة، ومنه ينبت النخل والفتيل الذي في شق النواة على هيئة الخيط المفتول، 14 - ثم بيّن سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله تعالى بأنهم لا ينفعون ولا يضرون. فقال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ}؛ أي: الأصنام للإعانة وكشف الضر، {لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} لأنهم جماد، والجماد ليس من شأنه السماع {وَلَوْ سَمِعُوا} على سبيل الفرض والتقدير. {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}؛ أي: ما أجابوا لكم؛ لأنهم لا لسان لهم، ما أجابوكم لمطلبكم لعجزهم عن النفع بالكلية، فإن من لا يملك نفع نفسه كيف يملك نفع غيره، وقيل (¬2): لو جعلنا لهم سماعًا وحياةً فسمعوا دعاءكم .. لكانوا أطوع لله منكم، ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموه إليه من الكفر. والخلاصة: كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر، وتدعون من بيده النفع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

والضر، وهو الذي ذرأكم في الأرض، وإليه تحشرون؟ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}؛ أي: يجحدون بإشراككم لهم، وبعبادتكم إياهم، ويتبرؤون منها بقولهم: ما كنتم إيانا تعبدون. وإنما (¬1) جيء بضمير العقلاء؛ لأن عبدتهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلًا وغباوةً، ولأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والسمع، ويجوز أن يراد كل معبود من دون الله من الملائكة والجن والإنس والأصنام، فغلَّب غير الأصنام عليها، كما في "بحر العلوم"، ويجوز (¬2) أن يرجع قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} وما بعده إلى من يعقل فقط ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين، والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًا، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم، ويحتمل (¬3) أن يكون قوله: {يَكْفُرُونَ} بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة كل ناطق، ومدافعة كل محتجٍّ فيجيء هذا على طريق التجوز، كقول ذي الرمة: وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاطِقٍ ... تُخَاطِبُنِيْ آثَارُهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيْهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُنِيْ أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ والمعنى: أي وهم يوم القيامة يتبرؤون منكم، ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زيَّنته لكم شياطينكم، ونحو الآية قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}. ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}؛ أي: لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به، وهو الحق سبحانه فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين، والمراد: تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدّعون لهم من الإلهية. والخلاصة: ولا يخبرك يا محمد عن أمر هذه الآلهة، وعن عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم، وهو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان، أو سيكون في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

مستأنف الأزمان. وقال في "التجريد": يحتمل وجهين: الأول: أن يكون ذلك خطابًا للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذّب عابده، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}؛ أي: يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمرًا عجيبًا هو كما قال؛ لأن المخبر عنه خبير. والثاني: أن يكون خطابًا ليس مختصًا بأحد؛ أي: هذا الذي ذكر هو كما ذكر لا ينبئك أيها السامع كائنًا من كنت مثل خيبر. قال الزروقي: الخبير: هو العلم بدقائق الأمور لا يتوصَّل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال، وقال الغزالي: هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرةً ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها. وحظ العبد من ذلك أن يكون خبيرًا لما يجري في بدنه وقلبه من الغش والخيانة والتطوف حول العاجلة، وإضمار الشر وإظهار الخير، والتجمل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه، ولا يكون خبيرًا بمثل هذه الخفايا إلا بإظهار التوحيد وإخفائه وتحقيقه، والوصول إلى الله بالإعراض عن الشرك، وما يكون متعلق العلاقة والميل، وذلك أن التعلق بما سوى الله تعالى لا يفيد شيئًا من الجلب والسلب، فإنه كله مخلوق، والمخلوق عاجز، وليست القدرة إلا لله تعالى، فوجب توحيده والعبادة له والتعلق به. الإعراب {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ}: صفة للجلالة، ومضاف إليه، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله إضافة محضة؛ لأنه بمعنى الماضي، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السموات، {جَاعِلِ}: صفة ثانية للجلالة وهو مضاف {الْمَلَائِكَةِ}: مضاف إليه إضافة محضة أيضًا من إضافة الوصف إلى

مفعوله الأول، {رُسُلًا}: مفعول ثانٍ له على مذهب الكسائي من جواز إعمال الوصف مطلقًا، وإذا كان جاعل بمعنى خالق .. كان {رُسُلًا} حالًا مقدرة، {أُولِي}: صفة رسلًا منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {أَجْنِحَةٍ}: مضاف إليه {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}: صفات لـ {أَجْنِحَةٍ}، الأول مجرور بفتحة مقدرة للتعذر نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف الوصف والعدل التحقيقي؛ لأنه معدول عن العدد المكرر، ومثله: ثلاث ورباع، إلا أنهما مخفوضان بالفتحة الظاهرة. {يَزِيدُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، {فِي الْخَلْقِ}: متعلق بـ {يَزِيدُ}، {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَزِيدُ}، وجملة {يَزِيدُ} مستأنفة مقررة لما قبلها {يَشَاءُ} فعل مضارع مرفوع والفاعل يعود على الله، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}. {مَا}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول به مقدم لـ {يَفْتَحِ}، {يَفْتَحِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {مَا} على كونه فعل شرط لها {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {يَفْتَحِ}، {مِنْ رَحْمَةٍ}: حال من {مَا} الشرطية، {فَلَا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {لا}: نافية للجنس، {مُمْسِكَ}: اسمها {لَهَا} خبرها، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة. {وما}: {الواو}: عاطفة، {مَا}: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول به مقدم. لـ {يُمسِك}، {يُمسِك}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية على كونه فعل شرط لها، {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط، {لا}: نافية للجنس {مُرْسِلَ}: اسمها {لَهُ}: خبرها {مِنْ بَعْدِهِ}: جار مجرور حال من ضمير {لَهُ}؛ أي: حالة كونه كائنًا من بعده إمساكه، وجملة {لا} في محل الجزم بـ {ما} على كونها جواب شرط لها، وجملة {ما} معطوفة على جملة {مَّا} الأولى، {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول، {الْحَكِيمُ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {النَّاسُ}: بدل من أي، أو عطف بيان له، وجملة النداء مستأنفة {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {اللَّهِ}: لفظ جلالة مضاف إليه، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {نِعْمَتَ}؛ لأنها بمعنى الإنعام، وإذا كانت بمعنى المنعم به تعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال منه، {هَلْ}: حرف للاستفهام التوبيخي الإنكارى , {مِنْ}: حرف جر زائد، {خَالِقٍ}: مبتدأ، {غَيْرُ اللَّهِ}: صفة لـ {خَالِقٍ} على المحل أو اللفظ، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: هل من خالق غير الله موجود، وجملة {يَرْزُقُكُمْ} إما حال من الضمير المستكن في خبر المبتدأ، أو مستأنفة، أو هي الخبر، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يَرْزُقُكُمْ}، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاءِ}، {لَا}: نافية للجنس، {إِلَهَ}: اسمها، وخبر {لَا} محذوف تقديره: لا إله موجود، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من المستكن في خبر {لَا}، وجملة {لَا} مستأنفة، مسوقة لتقرير النفي المستفاد مما قبله، {فَأَنَّى}: {الفاء} استئنافية، {أنى}: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب حال من مرفوع {تُؤْفَكُونَ}، و {تُؤْفَكُونَ}: فعل مضارع ونائب فاعل مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية، {إن}: حرف شرط جازم، {يُكَذِّبُوكَ}: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط وجوبًا لكونه مقرونًا بقد، {قد}: حرف تحقيق، {كُذِّبَتْ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، والتاء لتانيث نائب الفاعل. {رُسُلٌ}: نائب فاعل لـ {كذب}، {مِنْ قَبْلِكَ}: صفة لـ {رُسُلٌ}؛وجملة {إنَّ} الشرطية مستأنفة، {وَإِلَى}: الواو:

استئنافية، {إِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تُرْجَعُ}، {تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية متسأنفة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، أي: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {النَّاسُ}: بدل من أي، وجملة النداء مستأنفة، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}: ناصب واسمه {حَقٌّ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة على كونها جواب النداء، {فَلَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن وعد الله حق , وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول: لا تغرنكم الحياة الدنيا، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَغُرَّنَّكُمُ}: فعل مضارع في محل الجزم بلا الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف: مفعول به. {الْحَيَاةُ}: فاعل، {الدُّنْيَا}: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول الجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لا} ناهية {يَغُرَّنَّكُم}: فعل مضارع ومفعول به، في محل الجزم بلا الناهية. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يغرن}، {الْغَرُورُ}: فاعل، وهو من صيغ المبالغة كالصبور والشكور، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها، {إِنَّ الشَّيْطَانَ}: ناصب واسمه {لَكُمْ}: متعلق بـ {عَدُوٌّ} و {عَدُوٌّ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {فَاتَّخِذُوهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه عدو لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اتخذوه عدوًا {اتخذوه}: فعل أمر وفاعل ومفعول أول {عَدُوًّا}: مفعول ثان له، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنَّمَا}: مكفوف وكاف {يَدْعُواْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الشَّيْطَانَ}، {حِزْبَهُ}: مفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها {لِيَكُونُوا}: {اللام}: حرف جر، وتعليل، {يكونوا}: فعل ناقص واسمه منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، {مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}: جار ومجرور مضاف إليه متعلق بمحذوف خبر {يكونوا}، وجملة {يكونوا} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَدْعُواْ}.

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلته {لَهُمْ}: خبر مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر {شَدِيدٌ}: صفته، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة، ويجوز أن يكون الموصول بدلًا من الواو في {لِيَكُونُوا} أو صفة لـ {حِزْبَهُ}، فيكون موضعه النصب، كما يجوز أن يكون محله الجر على أنه بدل من {أَصْحَابِ} أو أنه نعت لأصحاب، {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {آمَنُوا} صلة له، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: عطف على {آمَنُوا}، {لَهُمْ}: خبر مقدم {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ ثانٍ مؤخر، {وَأَجْرٌ}: معطوف على {مَغْفِرَةٌ}، {كَبِيرٌ}: صفة لـ {أجر}، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول معطوف على جملة الموصول الأول. {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}. {أَفَمَنْ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، {منِ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {زُيِّنَ}: فعل ماضٍ، {لَهُ}: متعلق بـ {زُيِّنَ}، {سُوءُ عَمَلِهِ}: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، {فَرَآهُ}: {الفاء}: عاطفة {رأى}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {مَن}، والهاء: مفعول أول لـ {رأى}، و {حَسَنًا}: مفعول ثانٍ؛ أي لأنها قلبية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {زُيِّنَ}، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: كمن هداه الله تعالى، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوفة، والتقدير: هل الفريقان متساويان، فمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، والجملة المحذوفة مستأنفة. {فَإِنَّ}: {الفاء}: تعليلة؛ لتعليل النفي المستفاد من الاستفهام؛ أي: لا يكون مثله؛ لأن الله {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}. {إِنَّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها، وجملة {يُضِلُّ} خبرها، وجملة {إِنَّ} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف؛ أي: لا يكون مثله لإضلال الله من يشاء، وهدايته من يشاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يُضِلُّ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة الموصول.

{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. {وَيَهْدِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {يُضِلُّ}، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يهدي}، وجملة {يَشَاءُ} صلة الموصول، {فَلَا تَذْهَبْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأردت بيان ما هو الأفصح لك .. فأقول لك: {لا تذهب}: {لا}: ناهية جازمة {تَذْهَبْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، {نَفْسُكَ}: فاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تَذْهَبْ}، {حَسَرَاتٍ}: مفعول لأجله، والمعنى: فلا تهلك نفسك للحسرات، وقال المبرد: إنها تمييز، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون حالًا من {نَفْسُكَ} كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {عَلِيمٌ}: خبره {بِمَا}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وجملة {يَصْنَعُونَ} صلة الموصول، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}. {وَاللَّهُ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {فَتُثِيرُ}: {الفاء}: عاطفة {تثير}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الرِّيَاحَ}، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلَ}، والعائد مقدر؛ أي: فتثير بقدرته. {سَحَابًا}: مفعول به {فَسُقْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تثير}، {إِلَى بَلَدٍ}: متعلق بـ {سقنا}، {مَيِّتٍ}: صفة {بَلَدٍ}، {فَأَحْيَيْنَا}: {الفاء}: عاطفة {أحيينا}: فعل وفاعل، معطوف على {سقنا}، {بِهِ}: متعلق بـ {أحيينا}، {الْأَرْضَ}: مفعول به، {بَعْدَ مَوْتِهَا}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {الْأَرْضَ}. {كَذَلِكَ}: خبر مقدم، {النُّشُورُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}.

{مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على {مَن}. {يُرِيدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {الْعِزَّةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كاَنَ}، {فَلِلَّهِ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا {لله}: خبر مقدم {الْعِزَّةُ}: مبتدأ مؤخر، {جَمِيعًا}: حال من {الْعِزَّةُ}، والجملة في محل الجزم جواب {مَن} الشرطية، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة؛ وقال بعضهم: الجملة تعليل للجواب المحذوف، والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها عند الله بطاعته؛ لأن العزة جميعًا لله تعالى، {إِلَيْهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَصْعَدُ}، {يَصْعَدُ الْكَلِمُ}: فعل وفاعل، {الطَّيِّبُ}: صفة لـ {الْكَلِمُ}، والجملة الفعلية في مجل النصب حال من الجلالة، {وَالْعَمَلُ}: مبتدأ {الصَّالِحُ}: صفته، وجملة {يَرْفَعُهُ}: خبر {العمل}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {الْكَلِمُ}، وفاعل {يَرْفَعُهُ} ضمير مستتر يعود على {العمل}، وضمير المفعول يعود على {الْكَلِمُ}؛ أي: العمل الصالح يرفع الكلم، وقيل: الفاعل ضمير الله، فتعود هاء المفعول على العمل، والجملة الاسمية حينئذ مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: الواو: استئنافية، {الَّذِينَ}: مبتدأ أول، {يَمْكُرُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {السَّيِّئَاتِ}: صفة لمفعول مطلق محذوف؛ أي: المكرات السيئات، أو مفعول به على تضمين {يَمْكُرُونَ} بمعنى: يكتسبون، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ ثانٍ مؤخر {شَدِيدٌ} صفته، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجمملة الأول مستأنفة، {وَمَكْرُ أُولَئِكَ}: مبتدأ أول ومضاف إليه، {هُوَ}: مبتدأ ثانٍ، ولا يجوز كونه ضمير فصل لعدم توفر شروطه الستة بكون ما بعده جملة فعلية، وجملة {يَبُورُ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {خَلَقَكُمْ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، {مِنْ تُرَابٍ}: متعلق بـ {خلق}، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}: معطوف على قوله: {مِنْ تُرَابٍ}، {ثُمَّ

جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: نافية، {تَحْمِلُ}: فعل مضارع، {مِنْ}: زائدة، {أُنْثَى}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ}: عطف فعلية على اسمية، {وَلَا تَضَعُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {أُنْثَى}: معطوف على {تَحْمِلُ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِعِلْمِهِ}: حال من فاعل {تَضَعُ}؛ أي: إلا حالة كونها متلبسة بعلمه تعالى. {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: نافية، {يُعَمَّرُ}: فعل مضارع مغير الصيغة {مِن}: زائدة، {مُعَمَّرٍ}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى}، {وَلَا يُنْقَصُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {مِنْ عُمُرِهِ}: جار ومجرور صفة لنائب فاعل محذوف تقديره ولا ينقص شيء من عمره والجملة معطوفة على جملة قوله {وَمَا يُعَمَّرُ}. {إِلَّا}: أداة أستثناء مفرغ {فِي كِتَابٍ}: جار ومجرور حال من نائب فاعل {يُعَمَّرُ} و {يُنْقَصُ}؛ أي: ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: إلا حال كون زيادة عمره ونقصانه كائنين في كتاب. {إِنَّ}: حرف نصب، {ذَلِكَ}: اسمها {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرٌ}، و {يَسِيرٌ}: خبرها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}. {وَمَا}: الواو: استئنافية، {ما}: نافية، {يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {هَذَا عَذْبٌ}: مبتدأ، وخبر، {فُرَاتٌ}: خبر ثانٍ، أو صفة لـ {عَذْبٌ}، {سَائِغٌ}: خبر ثالث، {شَرَابُهُ}: فاعل سائغ؛ لأنه صفة مشبهة؛ أي: تسهل انحداره، ويجوز أن يكون {سَائِغٌ}: خبرًا مقدمًا، {شَرَابُهُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية لـ {عَذْبٌ}، وجملة قوله: {هَذَا عَذْبٌ} في محل النصب حال من البحران، {وَهَذَا}: مبتدأ {مِلْحٌ}: خبر {أُجَاجٌ}: صفة له، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {هَذَا عَذْبٌ}. {وَمِنْ}: الواو: إما عاطفة، والجملة بمثابة التتمة والتكميل للتمثيل، أو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة استطرادية. {مِنْ كُلٍّ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَأْكُلُونَ}، وهنا صفة محذوفة لـ {كُلِّ}؛ أي ومن كل منهما، {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة إما معطوفة

على جملة قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}، أو مستأنفة، {لَحْمًا}: مفعول به، {طَرِيًّا}: صفة له {وَتَسْتَخْرِجُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {تَأْكُلُونَ}، {حِلْيَةً}: مفعول به، {تَلْبَسُونَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صفة لـ {حِلْيَةً}، {وَتَرَى}: الواو: عاطفة {ترى}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على أيِّ مخاطب، {الْفُلْكَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {تَأْكُلُونَ}. {فِيهِ}: متعلق بـ {مَوَاخِرَ}، أو بـ {ترى}، {مَوَاخِرَ} حال من {الْفُلْكَ}؛ لأن الرؤية هنا بصرية {لِتَبْتَغُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تبتغوا}: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لابتغائكم {مِنْ فَضْلِهِ}، الجار والمجرور متعلق بـ {مَوَاخِرَ}، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {تبتغوا}، {وَلَعَلَّكُمْ}: لعل حرف نصب وتعليل، والكاف: اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبرها، وجملة {لعل} معطوفة على جملة {لِتَبْتَغُوا} عطف على علة أو مستأنفة. {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}. {يُولِجُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {اللَّيْلَ}: مفعول به، {فِي النَّهَارِ} متعلق بـ {يُولِجُ}، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَكُمْ}، وجملة {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {يُولِجُ}، {وَالْقَمَرَ}: معطوف على {الشَّمْسَ}، {كُلٌّ}: مبتدأ، وجملة {يَجْرِي}: خبره، {لِأَجَلٍ}: متعلق بـ {يَجْرِي}. {مُسَمًّى}: نعت لـ {أَجَلٍ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الشمس والقمر. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}. {ذَلِكُمُ}: مبتدأ، {اللَّهُ}: خبر أول {رَبُّكُمْ}: خبر ثان {لَهُ}: خبر مقدم {الْمُلْكُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثالث

لـ {ذَلِكُمُ}، وجملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ} مستأنفة، {وَالَّذِينَ}: الواو: استئنافية، أو حالية {الَّذِينَ}: مبتدأ، {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {مِنْ دُونِهِ}: حال من فاعل {تَدْعُونَ}، {مَّا}: نافية، {يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل خبر {الَّذِينَ}. {مِن}: حرف جر زائد، {قِطْمِيرٍ}: مفعول به، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في قوله: {لَهُ الْمُلْكُ}، {إِنْ}: حرف شرط جازم، {تَدْعُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {لَا}: نافية، {يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة، {وَلَوْ سَمِعُوا}: الواو: عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {سَمِعُوا}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب، {مَا اسْتَجَابُوا}: فعل وفاعل، و {ما}: نافية، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على جملة {إِن} الشرطية {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: الواو: عاطفة {يوم القيامة}: ظرف متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}، {يَكْفُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {إِن} الشرطية، {بِشِرْكِكُمْ}: متعلق بـ {يَكْفُرُونَ}، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، {وَلَا يُنَبِّئُكَ} الواو: استئنافية، {لا}: نافية، {يُنَبِّئُكَ}: فعل مضارع ومفعول به {مِثْلُ خَبِيرٍ}: فاعل، والجملة مستأنفة، والأحسن أن يكون الخطاب عامًا؛ أي: أيها السامع كائنًا من كنت، كما مرَّ. التصريف ومفردات اللغة {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ}: أصل الفطر بفتح الفاء: الشق مطلقًا، وقيل: الشق طولًا يقال: فطر الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق، وبابه نصر، كما في "المختار": كأنه شقَّ العدم بإخراجهما منه، وأما الفطر بكسر الفاء فترك الصوم. {رُسُلًا} والرسل: جمع رسول بمعنى المرسل؛ أي: مصيرهم وسائط بينه وبين أنبيائه. {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أولو بمعنى: أصحاب، اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، وإنما كتبت الواو بعد الألف في حالتي الجر والنصب لئلا يلتبس بإلى الجارة، وإنما كتبوه في الرفع حملًا عليهما، والأجنحة: جمع جناح، وهو للطائر

بمنزلة اليد للإنسان. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ} والفتح في الأصل: إزالة الإغلاق، وفي العرف: الظفر، ولما كان سببًا للإرسال والإطلاق استعير له بقرينة لا مرسل له مكان الفاتح. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي: فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الشرك من الأفك بالفتح، وهو: الصرف، يقال: ما أفكك عن كذا؛ أي: ما صرفك عنه، وقيل: هو من الإفك - بالكسر -، وهو الكذب، وفي "المختار": والأفك - بالفتح - مصدر أفكه؛ أي: قلبه وصرفه عن الشيء، وبابه ضرب، ومنه قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} من المرجع بمعنى الرد؛ أي: ترد إليه عواقبها. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغَرور - بفتح الغين المعجمة - فعول من أوزان المبالغة، كالشكور والصبور، وفي "المفردات": الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، سمي به هنا الشيطان؛ لأنه لا نهاية لغروره. {لَكُمْ عَدُوٌّ}؛ أي: عظيم؛ لأن عداوته عامة قديمة، والعموم يفهم من قوله: {لَكُمْ} حيث لم يخص ببعض دون بعض، والقدم يفهم من اسمية الجملة الدالة على الاستمرار اهـ. "كرخي". {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} والذهاب المضي، وذهاب النفس كناية عن الموت، كما سيأتي في البلاغة. {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} والإرسال في القرآن على معنيين: الأول: بمعنى البعثة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ}. والثاني: بمعنى الإطلاق والتسخير، كما في قوله تعالى: {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وفي "المفردات": الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة، وقد يكون ذلك للتسخير كإرسال الريح والمطر، وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} والإرسال يقابل الإمساك. و {الرِّيَاحَ}: جمع ريح بمعنى الهواء المتحرك، أصله روح، ولذا يجمع على أرواح, وأما أرياح قياسًا على رياح فخطأ.

{فَتُثِيرُ سَحَابًا}؛ أي: تهيجه وتنشره بين السماء والأرض لإنزال المطر، فإنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعًا كما مر. والسحاب: جسم يملؤه الله تعالى ماء كما شاء، وقيل: بخار يرتفع من البحار والأرض فيصيب الجبال فيستمسك ويناله البرد، فيصير ماء وينزل، وأصل السحب الجر كسحب الذيل والإنسان على الوجه، ومنه السحاب لجره الماء. {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ} والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، ولاعتبار الأثر، قيل: بجلده بلد؛ أي: أثر، والبلد الميت هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط. قال الراغب: الموت يقال بإزاء القوة النامية الموجودة في النبات. وفي "المصباح": البلد يذكر ويؤنث، والبلدة البلد، وتطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرًا كان أو خلاءً، وفي التنزيل: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}؛ أي: إلى أرض ليس بها نبات ولا مرعى، فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم، فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى، وأطلق الحياة على وجودهما، وميت وميت بمعنى واحد، قاله محمد بن يزيد وأنشد: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْترَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ إِنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيْشُ كَئِيْبًا ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلَيْلَ الرَّجَاءِ ويرى بعضهم: أن الميت بالتخفيف هو الذي مات، والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد، وأنشد: وَمَنْ يَكُ ذَا رُوحٍ فذَلِكَ مَيِّتُ ... وَمَا المَيْتُ إِلَّا مَنْ إِلىَ القَبْرِ يُحْمَلُ والمراد أنه لا نبات فيه. {كَذَلِكَ النُّشُورُ} والنشور إحياء الأموات يقال: نشر الله الميت وأنشره؛ أي: أحياه. {يُرِيدُ الْعِزَّةَ} أي: الشرف والمنعة، قال الراغب: العز حالة مانعة للإنسان من أنه يغلب من قولهم أرض عزاز؛ أي: صلبة. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} والصعود: الذهاب في المكان العالي، استعير لما

يصل من العبد إلى الله، كما استعير النزول لما يصل من الله إلى العبد، والكلم بكسر اللام: اسم جنس؛ لأنه يدل على الماهية من حيث هي هي، وليس بجمع خلافًا لصاحب "القاموس"، ولغيره من النحاة؛ لأنه يجوز تذكير ضميره، والجمع يغلب عليه التأنيث ولا اسم جمع؛ لأن له واحدًا من لفظه، والغالب على اسم الجمع خلاف ذلك، وواحده كلمة، والكلمة فيها ثلاث لغات كلمة بفتح الكاف وكسر اللام، وكلمة بكسر الكاف وسكون اللام، وكلمة بفتح الكاف وسكون اللام، وفي "الروح": والكلم بكسر اللام: اسم جنس كنمر ونمرة، كما ذهب إليه الجمهور، ولذا وصف بالمذكر، لا جمع كلمة، كما ذهب إليه البعض. وأصل الطيب: الذي به يطلب العزة، والكلم الطيب: هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن، وصعوده إلى الله قبوله، والعمل الصالح هو ما كان بإخلاص. {يَرْفَعُهُ}؛ أي: يقبله، والرفع يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها، وتارة في البناء إذا طولته، وتارة في الذكر إذا نوهته، وتارة في المنزلة إذا شرفتها، كما في "المفردات". {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ}؛ أي: يعملون على وجه المكر والخديعة. {السَّيِّئَاتِ}؛ أي: المنكرات السيئات كأن يراؤوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله. وأصل المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وفي "القاموس": المكر: الخديعة والمكرات بفتحات جمع منكرة بسكون الكاف، وهي المرة من المكر الذي هو الحيلة والخديعة. اهـ. شيخنا. وقيل: المراد بالمكر هنا الرياء في الأعمال اهـ "قرطبي" {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}؛ أي: يهلك ويفسد ويبطل ولا يتم لهم، يقال: بار يبور بورًا وبوارًا: هلك، وبارت السوق أو السلعة: كسدت وبار العمل: بطل، وبارت الأرض: لم تزرع وبوّر الأرض تركها أو صيرها بائرة، وأباره: أهلكه. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} والنطفة: هي الماء الصافي الخارج من بين الصلب والترائب قل أو كثر. {مِنْ أُنْثَى} والأنثى خلاف الذكر، ويقالان في الأصل اعتبارًا بالفرجين، كما في "المفردات". {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} والمعمر: من أطيل عمره، والعمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أصل البحر: كل مكان واسع جامع للماء

الكثير، ويقال للمتوسع في العلم: بحر. وفي "القاموس": البحر: الماء الكثير عذبًا أو ملحًا، وقال بعضهم: البحر في الأصل يقال للملح دون العذب، فقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ...} الخ. إنما سمي العذب بحرًا لكونه مع الملح، كما يقال للشمس والقمر: قمران. {هَذَا عَذْبٌ}؛ أي: حلو لذيذ طعمه، {فُرَاتٌ}؛ أي: كاسر للعطش، مزيل له، وقيل: فرات فعال يقال للواحد والجمع، وفي "القاموس": وفرت الماء، ككرم فروتة إذا عذب، {سَائِغٌ شَرَابُهُ}؛ أي: سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس، يقال: ساغ الشراب: سهل مدخله، والشراب ما يشرب، والمراد هنا: الماء. {وَهَذَا مِلْحٌ}؛ أي: ذو ملوحة وحرارة. {أُجَاجٌ}؛ أي: شديد الملوحة والحرارة، وفي "القاموس": وأج الماء أجوجًا بالضم يأجج كيسمع ويضرب وينصر إذا اشتدت ملوحته، وتقول: هجير أجاج للشمس فيه مجاج، وهو لعاب الشمس، وماء أجاج يحرق بملوحته. {مَوَاخِرَ}؛ أي: شواق للماء حين جريانها، يقال: سفينة ماخرة: إذا جرت تشق الماء مع صوت، والجمع: المواخر، كما في "المفردات". {مِنْ قِطْمِيرٍ} القطمير: القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وقيل: هي النكتة في ظهرها، واعلم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة الفتيل، وهو ما في شق النواة، والقطمير وهو اللفافة المذكورة، والنقير وهو ما في ظهرها، والشفروق وهو ما بين القمع والنواة، وقال الجوهري: ويقال: هو النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة، وكلها مذكور في القرآن إلا الأخير، كما ذكرناه في أوائل الكتاب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ

رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} شبه فيه إرسال النعم بفتح الخزائن للإعطاء، واستعير الفتح للإرسال لكونه - أي: الفتح - سببًا للإرسال، واشتق منه: يفتح بمعنى: يرسل على طريقة الاستعارة التصريحيهَ التبعية، وكذلك في قوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} شبه حبس النعم بالإمساك لكونه سببه، فاستعير الإمساك للمنع. ومنها: التعبير عن الإرسال بالفتح إيذانًا بانها أنفس الخزائن وأعزها منالًا، كأنما هي أبواب مؤصدة لا يفتح مغالقها إلا الله سبحانه من صنوف النعم وضروب الآلاء، كالرزق والمطر والصحة والأمن في الأوطان، وغير ذلك مما لا يحصى عدده. ومنها: تنكير {مِنْ رَحْمَةٍ} إفادة للإشاعة والإيهام لتندرج في مطاويها ضروب النعم، كما تقدم؛ أي: أي شيء يفتح الله من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وعلم وحكمة. ومنها: الطباق بين {يَفْتَحِ} و {يمُسِك}، وكذلك بين {يُضِلُّ} {وَيَهْدِي}، وبين {تَحْمِلُ} و {تَضَعُ}. ومنها: الجناس المماثل بين {يُكَذِّبُوكَ} و {كُذِّبَتْ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. ومنها: المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لأنها من المحسنات البديعية اللفظية. ومنها: حذف الخبر لدلالة السياق عليه في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} حذف منه الخبر؛ أي: كمن لم يزين له سوء عمله، ودل على هذا المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ...} الخ. ومنها: الكناية في قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}؛ لأن ذهاب النفس كناية عن موتها؛ لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} لما فيه من الإسناد إلى السبب، والمثير حقيقة هو الله تعالى.

ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} بين ماضيين. {أَرْسَلَ} {فَسُقْنَاهُ} لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، ولأن المراد بيان إحداثها لتلك الخاصية، ولذلك أسند إليها. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {أَرْسَلَ} إلى التكلم في قوله: {فَسُقْنَاهُ}، وقوله: {فَأَحْيَيْنَا} دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وأن الكل منه والوسائط أسباب. ومنها: تنكير بلد في قوله تعالى: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} إشارة إلى أن المقصود بعض البلاد الميتة؟ وهي بلاد الذين تبعدوا عن مظان الماء. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} لوجود الأداة؛ أي: كمثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، أو كيفية الإحياء. ومنها: الاستعارة في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ}؛ لأن الصعود الذهاب في المكان العالي، استعير لما يصل من العبد إلى الله، كما مر. ومنها: المجاز الإسنادي في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، ففيه مجاز في المسند، ومجاز في الإسناد، فالصعود مجاز عن العلم؛ لأن الصعود صفة من صفات الأجرام، والكلم معلوم، فأسند الفعل للمفعول به. ومنها: وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للإيذان بكمال تميزهم بما هم فيه من الشر والفساد عن سائر المفسدين والتخصيص واشتهارهم بذلك. ومنها: الإتيان بضمير {هُوَ} في قوله: {هُوَ يَبُورُ} إفادة للحصر والتخصيص كما مرت الإشارة إليه في مبحث التفسير. ومنها: المجاز الأول في قوله: {مِنْ مُعَمَّرٍ} لأن تسميته معمرًا باعتبار مصيره، فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه. ومنها: الاستخدام في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وهو ذكر الشيء بمعنى، وعود الضمير إليه بمعنى آخر، وهو من المحسنات البديعية؛ لأن المعنى لا ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدًا، بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصًا.

ومنها: المقابلة بين قوله: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ...} إلخ. وهو تركيب استعمل في غير ما وضع له علاقة المشابهة، وليس فيه ذكر للمشبه ولا لأداة التشبيه، فقد مثَّل الله سبحانه للمؤمن والكافر بالبحرين، ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك البحر العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجري الفلك بما ينفع الناس، والكافر خالٍ من النفع، ويقال: إن المؤمن والكافر - وإن اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة - لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية. ومنها: الاستطراد بقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ...} إلى آخر الآية، فإن المقصود من الآية تشبيه المؤمن والكافر بالبحرين، فذكر منافع البحرين يسمى استطرادًا، وهو ذكر الشيء في غير موضعه لمناسبة بينه وبين ذلك الموضع. ومنها: الإتيان بحرف الترجي في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} للإيذان بكونه مرضيًا عنده تعالى. ومنها: التجوز في قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} لأن الأصل في الإشارة أن تكون إلى محسوس، ويستحيل إحساسه تعالى بالحواس. ومنها: الإشارة إليه بإشارة البعيد في قوله {ذَلِكُمُ} مع كونه سبحانه أقرب من حبل الوريد للإيذان بغاية العظمة له تعالى؛ أي: تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أن ملك السموات والأرض له، ¬

_ (¬1) المراغي.

وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئًا، ولا يجلب نفعًا، ولا يدفع ضرًا .. أعقب لهذا بما هو فذلكة لما تقدم، وكالنتيجة له بأنه لا افتقار إلا إليه تعالى، ولا اتكال إليه إلا عليه، وهو الذي تجب عبادته وحده؛ لأن النفع والضر بيده، لا شريك له، ثم بيَّن أنه يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، ولا تستطيع دفع ضر عنها, ولو كانت ذات قرابة منها، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدي نفعًا من يخشى الله ويخاف عقابه، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه، وإلى الله عاقبة الأمور كلها، ومردها إليه. قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين طريق الهدى وطريق الضلالة، وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير، والجاحد المعاند قسا قلبه، ولم يستفد من هديه .. ضرب مثلًا به تنجلي حالهما، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء، وأن هؤلاء المشركيين كالموتى لا يسمعون نصيحة، ولا يهتدون بعظة، وأن الله سبحانه لم يترك أمة سدى، بل أرسل الرسل، فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا، ومنهم من استكبر وعصى وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا، والنار في العقبى. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ....} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر دلائل وحدانيته، وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادًا واستكبارًا .. أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم، وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن أن العلماء هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه .. أردف ذلك بذكر حال العالمين بكتاب الله تعالى، العاملين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة في السر والعلن، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابًا من ربهم كفاء أعمالهم، بل أضعاف ذلك فضلًا عن ربهم ورحمة، ويطمعون في غفران زلاتهم؛ لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل. قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ...} الآيات، مناسبة هذه

[15]

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم أجرهم، أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقسامًا ثلاثة، ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين، وأنهم يدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم يحلون فيها أساور الذهب واللؤلؤ ويلبسون الحرير، ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور، ويقولون: إنه أحلنا دارًا لا نصب فيها ولا تعب. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهم أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزل فيه {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ...} الآية. قوله تعالى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البيهقي في البعث وابن أبي حاتم من طريق نفيع بن الحارث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إن النوم مما يقر الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم، قال: "إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت"، قال: فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة" فنزلت: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}. التفسير وأوجه القراءة 15 - ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الخطاب فيه عام لا خصوص أهل مكة، كما هو الغالب في الآيات المكية، أو خاص بهم؛ لأن الموضوع فيهم، {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}؛ أي: المحتاجون {إِلَى اللَّهِ} سبحانه الاحتياج (¬3) الكثير الشديد في أنفسكم، وفيما يعرض لكم من أمر مهم، أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول. (¬3) روح البيان

خطب ملم، فإن كل حادثٍ مفتقر إلى خالقه ليبديه وينشأه أولًا، ويديمه ويبقيه ثانيًا، ثم الإنسان محتاج إلى الرزق، ونحوه من المنافع في الدنيا مع دفع المكاره والعوارض، وإلى المغفرة ونحوها في العقبى، فهو محتاج في ذاته وصفاته وأفعاله إلى كرم الله تعالى وفضله. وإنما (¬1) خاطب الناس بذلك، وإن كان كل ما سوى الله فقيرًا إليه؛ لأن الناس هم الذي يدّعون الغنى ونسبوه لأنفسهم، قال بعضهم (¬2): إن الله سبحانه ما شرف شيئًا من المخلوقات بتشريف خطاب أنتم الفقراء إلى الله حتى الملائكة المقربين، سوى الإنسان، وذلك أن افتقار المخلوقات إلى أفعال الله تعالى من حيث الخلق ونحوه، وافتقار الإنسان إلى ذات الله وصفاته، فجميع المخلوقات وإن كانت محتاجة إلى الله تعالى لكن الاحتياج الحقيقي إلى ذات الله وصفاته مختص بالإنسان من بينها، كمثل سلطان له رعية، وهو صاحب جمال، فيكون افتقار جميع رعاياه إلى خزائنه وممالكه، ويكون افتقار عشاقه إلى عين ذاته وصفاته، فيكون غنى كل مفتقر بما يفتقر إليه، فغنى الرعية يكون بالمال والملك، وغنى العاشق يكون بمعشوقه. انتهى. قال ذو النون (¬3): الخلق محتاجون إليه تعالى في كل نفس وخطرة ولحظة، وكيف لا ووجودهم وبقاؤهم به. والفقراء (¬4): جمع فقير: والفقير: من صيغ المبالغة كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير والشديد، والفقر: وجود الحاجة الضرورية، وفقد ما يحتاج إليه وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، فإنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب، وإن افتقار سائر المخلوقات بالنسبة إلى فقرهم كالعدم. والمعنى (¬5): يا أيها الناس أنتم أشد الخلق افتقارًا إلى الله تعالى، واحتياجًا إليه في أنفسكم وعيالكم وأموالكم، وفيما يعرض لكم من سائر الأمور، فلا غنى لكم عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، ومن هنا قول الصديق رضي الله عنه: من عرف نفسه عرف ربه. أي: من عرف نفسه بالفقر والذل والعجز والمسكنة عرف ربه ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي. (¬4) روح البيان. (¬5) الصاوي.

بالغنى والعز والقدرة والكمال؛ أي: أنتم مفتقرون إليه تعالى في كل حالة، في حالة الفقر والغنى والضعف والقوة والذل والعز، فالعبد مفتقر لربه في أي حالة كان بها ذلك العبد. {وَاللَّهُ} سبحانه {هُوَ} وحده {الْغَنِيُّ} عن الأشياء كلها المستغني على الإطلاق، فكل أحد يحتاج إليه تعالى؛ لأن أحدًا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان؛ لأن الأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الإمارة، وكذا التاجر يحتاج إلى المكارين، والله الغني عن الأعوان وغيرها. {الْحَمِيدُ}؛ أي: المحمود بكل لسان، المنعم على جميع الموجودات حتى استحق عليهم الحمد على نعمته العامة وفضله الشامل، فالله هو الغني المغني الحميد. وفي "النسفي": ولم يسمهم (¬1) بالفقراء للتحقير، بل للتعريض على الاستغناء، ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء، وذكر الحميد بعده ليدل به على أنه الغني النافع بغناء خلقه، والجواد المنعم عليهم؛ إذ ليس كل غني نافعًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا منعمًا، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم. قال سهل: لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى، ولهم بالفقر، فمن ادعى الغى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه، فينبغي للعبد أن يكون مفتقرًا بالسر إليه، ومنقطعًا عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع، وعلامته: أن لا يسأل من أحد. وقال الواسطي: من استغنى بالله لا يفتقر، ومن تعزز بالله لا يذل. وقال الحسيني: على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيًا بالله، وكلما ازداد افتقارًا ازداد غنى، وقال يحيى: الفقر خير للعبد من الغنى؛ لأن المذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال، وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء، وقال الشبلي: الفقر يجر البلاء، وبلاؤه كله عز. انتهى من "النسفي". ومعنى الآية (¬2): أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم، فإياه فاعبدوا، وإلى رضاه فسارعوا، وهو الغني عن عبادتكم وعن غيرها، وهو المحمود على نعمه، فكل نعمة بكم وبسواكم فهي منه، فله الحمد والشكر على ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) المراغي.

[16]

كل حال. والخلاصة: أنتم في حاجة إليه، وهو ذو الغنى وحده لا شريك له، والمحمود في جميع ما يقول ويفعل، ويشرِّع لكم ولغيركم من الأحكام، 16 - ثم أرشد إلى غناه وقدرته الكاملة بقوله: {إِنْ يَشَأْ} الله سبحانه وتعالى؛ إذهابكم عن وجه الأرض، {يُذْهِبْكُمْ} عنها ويعدمكم كما قدر على إيجادكم وبقائكم {وَيَأْتِ}؛ وينشىء {بِخَلْقٍ}؛ أي: بمخلوق {جَدِيدٍ} مكانكم وبدلكم ليسوا على صفتكم، بل مستمرون على الطاعة، فيكون الخلق من جنسهم، وهو الآدمي، أو يأت بعالم آخر غير ما تعرفونه، فيكون من غير جنسهم. وعلى كلا التقديرين فيه إظهار الغضب للناس الناسين، وتخويف لهم على سرفهم ومعاصيهم. 17 - {وَمَا ذَلِكَ} المذكور من الإذهاب بهم، والإتيان بآخرين {عَلَى اللَّهِ} سبحانه متعلق بقوله: {بِعَزِيزٍ}؛ أي: بمتعذر ولا صعب ولا مستعسر، بل هو هين عليه يسير؛ لشمول قدرته على كل مقدور، ولذلك يقدر على الشيء وضده، فإذا قال لشيء: كن .. كان من غير توقف ولا امتناع، وقد أهلك القرون الماضية، واستخلف الآخرين إلى أن جاء نوبة قريش، فناداهم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وبيَّن أنهم محتاجون إليه احتياجًا كليًا، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، ومع ذلك دعاهم إلى ما فيه سعادتهم وفوزهم، وهو الإيمان والطاعة، وهم مع احتياجهم لا يجيبونه، فاستحقوا الهلاك، ولم يبقَ إلا المشيئة (¬1). ثم إنه تعالى شاء هلاكهم لإصرارهم، فهلك بعضهم في بدر، وبعضهم في غيره من المعارك، وخلق مكانهم من يطيعونه تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه، ويستحقون بذلك فضله ورحمته، واستمر الإفناء والإيجاد إلى يومنا هذا، لكن لا على الاستعجال، بل على الإمهال، فإنه تعالى صبور لا يؤاخذ العصاة على العجلة، ويؤخر العقوبة ليرجع التائب ويقلع العصر. ففي الآية وعظ وزجر لجميع الأجناس من الملوك ومن دونهم، فمن أهمل أمر الجهاد .. لم يجد المهرب من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

بطش رب العباد، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. جعل نفسه عرضة للهلاك والخطر، وعلى هذا فقس. فينبغي للعاقل المكلف أن يعبد الله تعالى ويخافه، ولا يجترىء على ما يخالفه رضاه، ولا يكون أسوأ من الجمادات مع أن الإنسان أشرف المخلوقات. وعبارة "النسفي" هنا: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} كلكم إلى العدم، فإن غناه بذاته لا بكم في القدم، {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو بدون حمدكم حميد، {وَمَا ذَلِكَ} الإنشاء والإفناء {عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}؛ أي: بممتنع، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ويخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئًا. انتهى. ومعنى الآية (¬1): إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم؛ لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم، ويأتِ بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره، وينتهون عما نهاهم عنه، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده، بل هو يسير هين عليه، وليس بخافٍ ما في هذا من تهديد ووعيد وزجر وتأنيب، 18 - ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله: {وَلَا تَزِرُ}؛ أي: ولا تحمل {وَازِرَةٌ}؛ أي: نفس آثمة، وكذا غيرها يوم القيامة {وِزْرَ أُخْرَى}؛ أي: إثم نفس أخرى بحيث تتعرى منه المحمول عنها، بل إنما تحمل كل منهما وزرها الذي اكتسبته، بخلاف الحال في الدنيا، فإن الجبابرة يأخذون الولي بالولي، والجار بالجار. ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى (¬2): {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} لأنهم إنما حملوا أثقال ضلالهم مع أثقال إضلالهم، وكلاهما أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم في قولهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}، ومثل هذا حديث: "من سن سنة سيئة .. فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنة السيئة، لا وزر من عمل بها، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفًى في محلها، ومنه يعلم وجه تحميل ذنوب المظلومين يوم القيامة على الظالمين، فإن المحمول في الحقيقة جزاء الظلم، وإن كان يحصل في الظاهر تخفيف حمل المظلوم، ولا يجري إلا في الذنب المتعدي، وفي الآية إشارة إلى أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

لله تعالى في خلق كل واحدِ من الخلق سرًا مخصوصًا به، وله مع كل واحد شأن آخر، فكل مطالب بما حمل، كما أن كل بذر ينبت بنبات قد أودع فيه، ولا يطالب بنبات بذر آخر؛ لأنه لا يحمل إلا ما حمل عليه، كما في "التأويلات النجمية". وإنما قال (¬1): {وَازِرَةٌ}، ولم يقل: ولا تزر نفس وزر أخرى؛ لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهنّ واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها. {وَإِنْ تَدْعُ} مضارع أسند إلى الغائبة؛ أي: ولو دعت نفس {مُثْقَلَةٌ}؛ أي: نفس أثقلتها الأوزار، وهي تقع على المذكر والمؤنث، والمفعول محذوف؛ أي: أحدًا، فالثقل: الإثم، سمي به لأنه يثقل صاحبه يوم القيامة، ويثبطه عن الثواب في الدنيا، {إِلَى حِمْلِهَا} الذي عليها من الذنوب ليحمل بعضها قيل: في الأثقال في الظاهر، كالشيء المحمول على الظهر حمل بالكسر، وفي الأثقال المحمول في الباطن كالولد في البطن حمل بالفتح، كما في "المفردات". {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ}؛ أي: من حملها {شَيْءٌ} قليل ولا كثير؛ أي: لم تجب لحمل شيء منه. {وَلَوْ} للوصل (¬2)؛ أي: للغاية {كَانَ}؛ أي: المدعو المفهوم من الدعوة، وترك ذكره ليشمل كل مدعو {ذَا قُرْبَى}؛ أي: ذا قرابة من الداعي كالأب والأم والولد والأخ ونحو ذلك؛ إذ لكل واحد منهم يومئذ شأن يغنيه، وحمل يعجزه، وقيل: التقدير: ولو كان الداعي ذا قربى، والمعنيان حسنان. اهـ "جمل". ففي هذا دليل على أنه تعالى لا يؤاخذ بالذنب إلا جانيه، وأن الاستغاثة بالأقربين غير نافعة لغير المتقين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يلقى الأب والأم ابنه فيقول: يا بني، احمل عني بعض ذنوبي، فيقول: لا أستطيع، حسبي ما عليَّ، وكذا يتعلق الرجل بزوجته فيقول لها: إني كنت لك زوجًا في الدنيا، فيثني عليها خيرًا، فيقول: قد احتجت إلى مثقال ذرةٍ من حسناتك، لعلي أنجو بها مما ترين، فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكن لا أطيق، إني أخاف مثل ما تخوفت. فإن قلت (¬3): ما الفرق بين معنى قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ومعنى: ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}؟ قلتُ: إن الأول دال على عدل الله في حكمه، وأن لا يؤاخذ نفسًا بغير ذنبها، والثاني: في بيان أنه لا غياث يومئذ حتى إن نفسًا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب. ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها. قال في "الإشارة": هذه الآية نفي للتحمل اختيارًا، والأولى نفي له إجبارًا، وفيه من (¬1) الإشارة أن الطاعة نور، والعصيان ظلمة، فإذا اتصف جوهر الإنسان بصفة النور، أو بصفة الظلمة .. لا تنقل تلك الصفة من جوهره إلى جوهر إنسان آخر أيًا كان، ألا ترى أن كل أحد عند الصراط يمشي في نوره لا يتجاوز منه إلى غيره شيء، وكذا من غيره إليه. ومعنى الآية (¬2): وان تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئًا، ولو كانت قريبةً لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها، وقرأ الجمهور (¬3): {لَا يُحْمَلْ} بالياء مبنيًا للمفعول، وأبو السمال عن طلحة وإبراهيم بن زاذان عن الكسائي بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، وفاعل {تحمل} ضمير عائد على مفعول {تَدْعُ} المحذوف؛ أي: وإن تدع مثقلة نفسًا أخرى إلى حملها .. لم تحمل منه شيئًا، وقرىء: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} على أن {كَانَ} تامة؛ أي: ولو حضر، آنذاك ذو قربى، ودعته لم يحمل منه شيئًا مثل قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}، ونحو الآية قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}، ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم، فقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} يا محمد بهذه الإنذارات، والإنذار: الإبلاغ مع التخويف {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ}؛ أي: يخافون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

{رَبَّهُمْ} حال كونهم {بِالْغَيْبِ}؛ أي: غائبين عن عذابه وأحكام الآخرة، أو غائبين عن الناس في خلواتهم، فهو حال من الفاعل، أو حال كون ذلك العذاب غائبًا عنهم، فهو حال من المفعول. قال الزجاج: تأويله: إنَّ إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)}، وقوله {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، ومعنى {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: أنهم احتفلوا بأمرها, ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم؛ أي: راعوها، كما ينبغي، وجعلوها منارًا منصوبًا، وعلمًا مرفوعًا، قال في "كشف الأسرار": وغاير بين اللفظين؛ لأن أوقات الخشية دائمة، وأوقات الصلاة معينة منقضية، والمعنى: إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والفساد، وإن كنت نذيرًا للخلق كلهم، وخص الخشية والصلاة بالذكر؛ لأنهما أصلا الأعمال الحسنة الظاهرة والباطنة؛ أما الصلاة .. فإنها عماد الدين، وأما الخشية فإنها شعار اليقين، وإنما يخشى المرء بقدر علمه بالله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقلب لم يكن عالمًا خاشيًا يكون ميتًا، لا يؤثِّر فيه الإنذار، كما قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}، ومع هذا جعل تأثير الإنذار مشروطًا بشرط آخر، وهو إقامة الصلاة، وأمارة خشية قلبه بالغيب محافظة الصلاة في الشهادة، وفي الحديث: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". {وَمَنْ تَزَكَّى} وتطهر من أوضار (¬1) الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذه الإنذارات، وأصلح حاله بفعل الطاعات {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى} ويتطهر {لـ} غرض نفسه لاقتصار نفعه عليها، كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، وقيل: المعنى: ومن يعطي الزكاة .. فإنما ثوابه لنفسه. وقرأ الجمهور (¬2): {وَمَنْ تَزَكَّى} فعلًا ماضيًا {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى} فعلًا مضارعًا من تزكى، وقرأ العباس عن أبي عمرو: {ومن يزكى فإنما يزكى} بالياء من تحت وشد الزاي فيهما، هما مضارعان أصلهما: ومن يتزكى، أدغمت التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله: {يذكرون}، وقرأ ابن مسعود وطلحة: {ومن ازكى} ¬

_ (¬1) أوضار: أوساخ. (¬2) البحر المحيط.

[19]

بإدغام التاء في الزاي، واجتلاب همزة الوصل في الابتداء، وطلحة أيضًا، فإنما يزكى بإدغام التاء في الزاي. {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، {الْمَصِيرُ}؛ أي: الرجوع للمجازاة، لا إلى غيره استقلالًا ولا اشتراكًا، فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء. ومعنى الآية: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ...} الخ؛ أي (¬1): إنما يجدي النصح والإنذار لدى من يخشون الله سبحانه، ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، بل لإيمانهم بما أتيت به، وتصديقهم لك فيما أنبات به عن ربك، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك، لا من طبع الله على قلوبهم، فهم لا يفقهون إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم، ويقيمونها على ما رسمه الدين، فهي التي تطهر قلوبهم، وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له، كما جاء في الحديث: أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". والخلاصة: أنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ثم حثَّ على الأعمال الصالحة، وأبان أن فائدتها عائدة إليهم، فقال: {وَمَنْ تَزَكَّى} الخ؛ أي: ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي .. فنفع ذلك عائد إليه، كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام .. فضرر ذلك راجع إليه، وإلى الله سبحانه مصير كلِّ عامل، وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثل لنفسه. والحاصل (¬2): أن الله سبحانه ذكر أولًا أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانيًا أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمل، ثم ذكر ثالثًا أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء، 19 - ثم ضرب مثلًا للمؤمن والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى}؛ أي: المسلوب حاسة البصر {وَالْبَصِيرُ}؛ أي: الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير. فإن المؤمن (¬3) من أبصر طريق الفوز والنجاة وسلكه، بخلاف الكافر، فكما لا يستوي الأعمى والبصير من حيث الحس الظاهري؛ إذ لا بصر للأعمى .. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[20]

كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن من حيث الإدراك الباطني، ولا بصيرة للكافر، بل الكافر أسوأ حالًا من الأعمى المدرك للحق؛ إذ لا اعتبار بحاسة البصر لاشتراكها بين جميع الحيوانات. 20 - {وَلَا} لتأكيد نفي الاستواء، {الظُّلُمَاتُ} جمع ظلمة، وهي عدم النور، {وَلَا} للتأكيد أيضًا {النُّورُ}، وهو الضوء المنتشر المعين للأبصار، وهذا تمثيل للباطل والحق، فالكافر في ظلمة الكفر والشرك والجهل والعصيان والبطلان لا يبصر اليمين من الشمال، فلا يرجى له الخلاص من المهالك بحال، والمؤمن في نور التوحيد والإخلاص والعلم والطاعة والحقانية بيده الشموع والأنوار أينما سار؛ أي: ولا تستوي الظلمات والنور. وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل، واتحاد الحق، يعني أن الحق واحد، وهو التوحيد. فالموحد لا يعبد إلا الله تعالى، وأما الباطل فطرقه كثيرة، وهي وجوه الإشراك، فمن عابد للكواكب، ومن عابد للنار، ومن عابد للأصنام، ومن عابد للشمس، ومن عابد للملائكة، إلى غير ذلك، فالظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي ذلك النور الواحد. 21 - {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)}؛ أي: شدة حر الشمس، قال الأخفش (¬1): و {لا} في قوله: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} زائدةٌ، والتقدير: وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، والحرور: شدة حر الشمس، قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل: عكسه، وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة، وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح، وقال قطرب: الحرور: الحر، والظل: البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يؤدي، قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحر حرورًا مبالغة في شدة الحر؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وقال الكلبي: أراد بالظل الجنة، وبالحرور النار، وقال عطاء: يعني: ظل الليل وشمس النهار، وقيل: يعني الراحة والشدة. وإنما قدم الأعمى على البصير (¬2)، والظلمات على النور، والظل على الحرور ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[22]

ليتطابق فواصل الآي، والمعنى: كما لا يستوي الظل والحرارة من حيث إن في الظل استراحة للنفس، وفي الحرارة مشقة وألمًا، كذلك لا يستوي ما للمؤمن من الجنة التي فيها ظل وراحة، وما للكافر من النار التي فيها حرارة شديدة، وأفرد (¬1) الأعمى والبصير؛ لأنه قابل الجنس بالجنس؛ إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد، فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد. 22 - ثم ذكر سبحانه تمثيلًا آخر للمؤمن والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ} بنور الإيمان, {وَلَا الْأَمْوَاتُ} بأمراض الشرك والجهل، وهذا التمثيل أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل معه، وأوثرت صيغة الجمع في الطرفين تحقيقًا للتباين بين أفراد الفريقين، فالتفاوت بينهما أكثر؛ إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيًا، فذكر أن الأموات لا يساوون الأحياء، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد. والحي (¬2): ما به القوة الحساسة، والميت: ما زال عنه ذلك، وجه التمثيل أن المؤمن منتفع بحياته؛ إذ ظاهره ذكر، وباطنه فكر دون الكافر؛ إذ ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقال بعض العلماء: هو تمثيل للعلماء والجهال، وتشبيه الجهلة بالأموات شائع، ومنه قوله: لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ ... فَإِنَّهُ الْمَيْتُ ثَوْبُهُ كَفَنُ لأن الحياة المعتبرة هي حياة الأرواح والقلوب، وذلك بالحكم والمعارف، ولا عبرة بحياة الأجساد بدونها لاشتراك البهائم، قال قتادة: هذه الأمور كلها أمثال؛ أي: كما لا تستوي هذه الأشياء .. كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، ولا في المواضع كلها لتأكيد معنى النفي، والفرق (¬3) بين الواوات فيها أن بعضها ضمت شفعًا إلى شفع، وبعضها وترًا إلى وتر. والمعنى (¬4): أي وما يستوي الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وصدقه، وقبل عن الله ما ابتعثه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي. (¬4) المراغي.

به، وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا الثواب والعقاب، ثم ضرب مثلًا آخر لهما بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ ...} إلخ؛ أي: وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تفرِّق بين الهدى والضلال، وكل هذه أمثال ضربها الله سبحانه للمؤمن والإيمان, والكافر والكفر. ونحو الآية قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}. والخلاصة: أن المؤمن بصير سميع نيِّر القلب، يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يتقربه الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم يمشي في ظلمات لا خروج له منها، فهو يتيه في غيه، وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضي به ذلك إلى حرور وسموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم. ثم بيَّن أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {يُسْمِعُ} كلامه إسماع فهم واتّعاظ، وذلك بإحياء القلب. {مَنْ يَشَاءُ} أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفَّقهم لطاعته، فينتفع بإنذارك، {وَمَا أَنْتَ} يا محمد، {بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}؛ أي (¬1): بمفهم من هو مثل الميت الذي في القبور، شبَّه الله سبحانه الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فكما لا يسمع أصحاب القبور ولا يجيبون .. كذلك الكفار لا يسمعون ولا يقبلون الحق. وقرأ الجمهور (¬2): بتنوين {مسمع} وقطعه عن الإضافة، وقرأ الحسن والأشهب وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: بإضافته، والمعنى: إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية، ثم ضرب مثلًا لهؤلاء المشركين، وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ} الخ؛ أي: فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله فتهديهم به إلى سبيل الرشاد .. لا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر والشوكاني.

[23]

تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب، لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازي الدين وأسراره. والخلاصة: كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم، 23 - ثم بين عمل الرسول ووظيفته فقال: {إِنْ أَنْتَ}؛ أي: ما أنت يا محمد {إِلَّا نَذِيرٌ}؛ أي: رسول منذر بالنار والعقاب ومخوف، وأما الإسماع البتة فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى. والمعنى: أي: ما أنت إلا رسول منذر عقاب الله لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم، ولم تكلَّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك. تنبيه: قوله (¬1): {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقوله: {لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وغير ذلك لتمييز مقام الألوهية عن مقام النبوة كيلا يشتبها على الأمة فيضلوا عن سبيل الله، كما ضل بعض الأمم السالفة، فقال بعضهم: عزير ابن الله، وقال بعضهم: المسيح ابن الله، وذلك من كمال رحمته لهذه الأمة وحسن توفيقه. قال بعضهم: فإن قلت: إنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بطرح أجساد الكفار في القليب، ثم ناداهم بأسمائهم، وقال: "هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقًا، فإني وجدت ما وعدني الله حقًا؟ ". فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئًا" فهذا الخبر يقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمع من في القليب، وهم موتى، فيعارض هذه الآية، فما وجه الجمع بينهما؟ قلتُ: يحمل الخبر على أن الله تعالى أحيى أهل القليب حينئذ حتى سمعوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبيخًا لهم، وتصغيرًا ونقمة وحسرة، وإلا فالميت من حيث هو ميت ليس من شأنه السماع، فقد أسمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سماع الله تعالى، وإلا فليس ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

من شأن أحد الإسماع، كما أنه ليس من شأن الميت السماع، وظهر من هذا الجواب أنه لا معارضة بين الآية والحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنتم بأسمع ... " إلخ، يدل على أن الأرواح أسمع من الأجساد مع الأرواح لزوال حجاب الحس وانخراقه، والله أعلم. 24 - ثم بيَّن سبحانه أنه ليس نذيرًا من تلقاء نفسه، بل بإذن ربه وإرادته، وأنه ما جاء إلا بالحق، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {بِالْحَقِّ} إما حال من الفاعل؛ أي: حال كوننا محقين، أو من المفعول؛ أي: حال كونك محقًا، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: إرسالًا متلبسًا بالحق، وهذا أولى لشموله الأولين في المعنى؛ أي: وأرسلناك بالدين الحق الذي هو الإِسلام، أو بالقرآن حال كونك، {بَشِيرًا}؛ أي: مبشرًا للمؤمنين بالجنة {وَنَذِيرًا}؛ أي: منذرًا للكافرين بالنار. والمعنى: أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي، وبالشرائع التي فرضتها على عبادي مبشرًا بالجنة من صدقك، وقبل منك ما جئت به من عندي ومنذرًا بعقاب من كذبك ورد عليك ما أوحيت به إليك، ثم بيَّن فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم، وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال، فقال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ}؛ أي: ما من أمة من الأمم السالفة وأهل عصر من الأعصار الماضية {إِلَّا خَلَا} ومضى ومر {فِيهَا}؛ أي: في تلك الأمة {نَذِيرٌ} من نبي أو عالم ينذرهم من عذاب الله تعالى، والاكتفاء بالإنذار؛ لأنه هو المقصود الأهم من البعثة. قال في "الكواشي": وأما فترة عيسى فلم يزل فيها من هو على دينه، وداع إلى الإيمان. وفي "كشف الأسرار": والآية تدل على أن كل وقت لا يخلو من حجة خبرية، وأن أول الناس آدم، وكان مبعوثًا إلى أولاده، ثم لم يخل بعده زمان من صادق مبلغ عن الله، أو آمر يقوم مقامه في البلاغ والأداء حين الفترة، وقد قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} لا يؤمر ولا ينهى. فإن قيل (¬1): كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)}؟ قلت: معنى الآية: ما من أمةٍ من الأمم الماضية إلا وقد أرسلت إليهم رسولًا ينذرهم على كفرهم، ويبشرهم على إيمانهم؛ أي: سوى أمتك التي بعثناك إليهم، يدل على ذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}، وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ}. وقيل: يجمع بينهما بأن المراد من هذه الآية المذكورة هنا: ما من أمة هلكوا بعذاب الاستئصال إلا بعد أن أقيم عليهم الحجة بإرسال الرسول بالإعذار والإنذار. انتهى ما في "كشف الأسرار". هذا الثاني هو أنسب بالتوفيق بين الآيتين، يدل عليه ما بعده من قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} الخ، وإلا فلا يخفى أن أهل الفترة، ما جاءهم نذير على ما نطق به قوله تعالى: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ}، ويدل عليه أيضًا أن كل أمة أنذرت من الأمم، ولم تقبل .. استؤصلت، فكل أمة مكذبة معذبة بنوع من العذاب، وتمام التوفيق بين الآيتين في سورة يس إن شاء الله تعالى. والمعنى: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}. 25 - ثم سلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من قومه من الإصرار علي العناد والتكذيب، وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل، فقال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ}؛ أي: وإن يكذبوك أيها الرسول مشركو قومك، فلا تبتئس بما يفعلون، {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم الماضية رسلهم، والحال أنه قد {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الباهرة والأدلة القاطعة، {وَبِالزُّبُرِ}؛ أي: وبالكتب التي فيها مواعظ، كزبور داود، وصحف إبراهيم وموسى وشيث وإدريس. {وَبِالْكِتَابِ} والمراد به: الجنس الصادق بالمتعدد {الْمُنِيرِ} صفة للكتاب؛ أي: وبالكتب المنيرة؛ أي: التي توضح وتبين الأحكام والشرائع كالتوراة والإنجيل، والمراد بالبينات: المعجزات الظاهرة الدالة على صدق دعواهم وصحة نبوتهم، وبالزبر: الكتب التي فيها المواعظ والأمثال والحكم، وبالكتاب المنير: الكتب المظهرة

[26]

للحق، الموضحة لما يحتاج إليه من الأحكام والشرائع والدلائل والوعد والوعيد؛ أي (¬1): جاءتهم على إرادة التفصيل دون الجمع؛ أي: بعض هذه المذكورات جاءت بعض المكذبين، وبعضها بعضهم، لا أن الجميع جاءت كلًّا منهم، وعبارة "النسفي" هنا: ولما كانت (¬2) هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادًا مطلقًا، وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزبر والكتاب، وفيه مسلاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو حيان: وإعادة حرف الجر هنا في العطف في الأخيرين هو على سبيل التأكيد، ذكره في سورة آل عمران، 26 - وبعد أن سلاه - صلى الله عليه وسلم - هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ} بأنواع العذاب، {الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: ثبتوا على الكفر وداوموا عليه، وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة، والإشعار بعلية الأخذ، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}؛ أي: إنكاري بالعقوبة، وتغييري عليهم؛ أي: هو واقع موقعه، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في {نَكِيرِ} وصلًا لا وقفًا. وقال ابن الشيخ: الاستفهام فيه للتقرير المضمن للتعجب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - شدة الله عليهم، فحسن الاستفهام على هذا الوجه في مقابلة التسلية، يحذِّر كفار هذه الأمة بمثل عذاب الأمم المكذبة المتقدمة، والعاقل من وعظ بغيره. والمعنى (¬3): أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم فكذبوهم فيما جاؤوهم به .. أخذتهم بالعقاب والنكال، فانظر كيف كان شديد عقابي بهم، وإنكاري عليهم، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا في عمايتهم .. حل بهم مثل ما حلَّ بأولئك، فتلك سنة الله لا تبديل لها ولا تغيير، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} ولا يخفى ما في هذا من شدة التهديد والوعيد. ووجه التسلي (¬4): أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحزن عليهم، وقد نهى الله عن الحزن بقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} وذلك لأنهم كانوا غير مستعدين لما دعوا إليه من الإيمان والطاعة، فتوقع ذلك منهم كتوقع الجوهرية من الحجر القاسي مع أن الحزن للحق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[27]

لا يضيع. قال بعضهم: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين، وعلى قدر ما يقاسيه منهم، وكل من رد رسالة نبي ولم يؤمن بها أصلًا، فإن لذلك النبي أجر المصيبة، وللمصاب أجر على الله سبحانه بعدد من رد رسالته من أمته بلغوا ما بلغوا، وقس على هذا حال الولي الوارث الداعي إلى الله على بصيرة. 27 - ثم ذكر سبحانه نوعًا من أنواع قدرته الباهرة، وخلقًا من مخلوقاته البديعة فقال: {أَلَمْ تَرَ} والاستفهام فيه تقريري (¬1)، والرؤية قلبية، والخطاب فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ألم تعلم يا محمد، يعني: قد علمت، أو لكل من يصلح له؛ أي: ألم تعلم يا محمد {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {أَنْزَلَ} بقدرته وحكمته {مِنَ السَّمَاءِ}؛ أي: من الجهة العلوية سماءً أو سحابًا {مَاءً}؛ أي: مطرًا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}؛ أي: بذلك الماء، والالتفات من الغيبة إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بفعل الإخراج لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة، ولأن الرجوع إلى نون العظمة أهيب في العبارة. {ثَمَرَاتٍ} جمع ثمرة، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وصف سببي للثمرات، والمراد بالألوان: الأجناس والأصناف والهيئات؛ أي: مختلفًا أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها، أو أصنافها على أن كلًّا منها ذو أصناف مختلفة كالعنب، فإن أصنافه تزيد على خمسين وكالتمر فإن أصنافه تزيد على مئة وكالذرة فإن أصنافها تزيد على مئة، أو هيئاتها من الصفرة والحمرة والخضرة والبياض والسواد وغيرها. وقرأ الجمهور: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} على حد اختلف ألوانها، وقرأ زيد بن علي: {مختلفة ألوانها} على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء فيه، وأن لا تلحق، يقول سبحانه: منبِّهًا إلى كمال قدرته: ألم تشاهد (¬2) أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء الواحد، فأنزلنا من السماء ماءً، وأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها وطعومها وروائحها، كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ونحو الآية قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} مبتدأ وخبر، ولكنه على حذف مضاف، والجدد: جمع جدة بالضم بمعنى الطريقة التي يخالف لونها ما يليها، سواء كانت في الجبل أو في غيره، والخطة في ظهر الحمار تخالف لونه، ولما لم يصح الحكم على نفس الجدد بأنها من الجبال .. احتيج إلى تقدير المضاف؛ أي: أن من الجبال ما هو ذو جدد؛ أي: صاحب خطط وطرائق متلونة يخالف لونها لون الجبل، فيؤول المعنى إلى أن من الجبال ما هو مختلف ألوانه؛ لأن بيض صفة جدد، وحمر عطف على بيض، فتلا عليه السلام القرائن الثلاث، فإن ما قبلها {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}، وما بعدها {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}؛ أي: منهم بعض مختلف ألوانه، فلا بد في القرينة المتوسطة بينهما من ارتكاب الحذف، فيقال: ومن الجبال ما هو مختلف ألوانه ليؤول المعنى إلى ما ذكر فيحصل تناسب القرائن. وقرأ الجمهور: {جُدَدٌ} بضم الجيم وفتح الدال، وقرأ الزهري: بضمهما، جمع: جديدة، وروي عنه أنه قرأ بفتحهما، وردها أبو حاتم، وصححها غيره. {بِيضٌ} جمع: أبيض صفة جدد، {وَحُمْرٌ} جمع: أحمر، معطوف على بيض، {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}؛ أي: ألوان تلك الجدد البيض والحمر بالشدة والضعف، فقوله: بيض وحمر، وإن كان صفة لجدد، إلا أن قوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} صفة لكل واحدة من الجدد البيض والحور، بمعنى أن بياض كل واحدة من الجدد البيض، وكذا حمرة الجدد الحمر يتفاوتان بالشدة والضعف، فرب أبيض أشد بياضًا من أبيض آخر، وكذلك رب أحمر أشد حمرةً من أحمر آخر، فنفس البياض مختلف، وكذا نفس العمرة، فلذلك جمع لفظ ألوان مضافًا إلى ضمير كل واحد من البيض والحمر، فيكون كل واحد منهما من قبيل الكلي المشكك، ويحتمل أن يكون قوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} صفة ثالثة لجدد، فيكون ضمير ألوانها للجدد، فيكون تأكيدًا لقوله: {بِيضٌ وَحُمْرٌ}، ويكون اختلاف ألوان الجدد بأن يكون بعضها أبيض، وبعضها أحمر، فتكون الجدد كلها على لونين بياض وحمرة إلا أنه عبر عن اللونين بألوان لكثرة كل واحد منهما باعتبار محاله، كذا في "حواشي ابن الشيخ". قال

بعضهم: من شاهد جبال ديار العرب في طريق الحج وغيرها .. وجد هذه الأقسام كلها، فإنها وجدوها مختلفة متلونة انتهى. وقوله: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} معطوف على {بِيضٌ}، فيكون من تفاصيل الجدد، والصفات القائمة بها كالبيض والحمر، كأنه قيل: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود غرابيب؛ أي: شديدة السواد كالغراب، وإنما وسط الاختلاف؛ لأنه علم من الوصف بالغرابيب أنه ليس في الأسود اختلاف اللون بالشدة والضعف، ويجوز أن يكون غرابيب عطفًا على جدد، فلا يكون داخلًا في تفاصيل الجدد، بل يكون قسيمها، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد وهو السواد. فالغرض من الآية: إما بيان اختلاف ألوان طرائق الجبال، كاختلاف ألوان الثمرات، فترى الطرائق الجبلية من البعيد منها بيض ومنها حمر ومنها سود، وإما بيان اختلاف ألوان الجبال نفسها، وكل منها أثر دال على القدرة الكاملة، كذا في "حواشي ابن الشيخ". والغرابيب: جمع غربيب، كعفاريت وعفريت، يقال: أسود غربيب؛ أي: شديد السواد الذي يشبه لون الغراب، وكذا يقال: أسود حالك، كما يقال: أصفر فاقع، وأبيض يقق محركةً، وأحمر قانٍ لخالص الصفرة وشديد البياض والحمرة. وفي الحديث: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب". يعني: الذي يخضب بالسواد، كما في تفسير "القرطبي" أو الذي يشيب كما في "المقاصد الحسنة"، والسود: جمع أسود، وفي "أبي السعود": قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ}، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} إيراد هاتين الجملتين اسميتين مع مشاركتهما للفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل على تباين الناس في الأحوال لما أنَّ اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر، فعبر عنه بما يدل على الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة فأمر حادث، فعبر عنه بما يدل على الحدوث، ولما كان فيه نوع خفاء علق الرؤية به بطريق الاسفهام التقريري بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما، فإنها مشاهدة غنية عن التأمّل، فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية، فتدبر. انتهى منه. فإن قلت (¬1): إذا كان الغربيب تأكيدًا للأسود، كالفاقع مثلًا للأصفر .. ينبغي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[28]

أن يقال: وسود غرابيب بتقديم السود؛ إذ من حق التأكيد أن يتبع المؤكد، ولا يتقدم عليه. قلت: الغرابيب: تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعده، والتقدير: سود غرابيب سود، فالتأكيد إذًا متأخر عن المؤكد، وفي الإضمار، ثم الإظهار مزيد تأكيد لما فيه من التكرار، وهذا أصوب من كون السود بدلًا من الغرابيب، كما ذهب إليه الأكثر حتى صاحب "القاموس"، كما قال: وأما غرابيب سود .. فبدل؛ لأن تأكيد الألوان لا يتقدم، وقيل هو على التقديم والتأخير؛ أي: سود غرابيب. 28 - {وَمِنَ النَّاسِ}؛ أي: ومن بني آدم {وَالدَّوَابِّ} جمع دابة، وهي ما يدب على الأرض من الحيوان، {وَالْأَنْعَامِ}: جمع نعم محركة، وقد يسكن عينه: الإبل والبقر والضأن والمعز دون غيرها من الدواب، وقوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} صفة لموصوف محذوف؛ أي: ومن هذه المذكورات صنف أو نوع أو بعض مختلف ألوانه، كاختلاف ألوان الثمرات والجبال بأن يكون أبيض وأحمر وأسود وأخضر وأصفر، ولم يقل هنا ألوانها؛ لأن الضمير يعود إلى البعض الدال عليه من التبعيضية في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ}، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء؛ لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله تعالى وبديع صنعه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالدَّوَابِّ} مشدد الباء، والزهري بتخفيفها؛ كراهية التضعيف؛ إذ فيه التقاء الساكنين، كما همز بعضهم {وَلَا الضَّالِّينَ} فرارًا من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين، وحرّك أول الساكنين، وقرأ ابن السميقع: {ألوانها}. وقوله: {كَذَلِكَ} تمّ الكلام عليه، وهو وصف لمصدر محذوف مؤكّد تشبيهي، تقديره: مختلف ألوانه اختلافًا كائنًا كذلك؛ أي: كاختلاف الثمار والجبال. ولما قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}. وعدَّد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه، وعلى صفاته .. أتبع ذلك بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} سبحانه ويخافه {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} به الذين علموه بصفاته، فعظموه (¬2)؛ إذ شرط الخشية معرفة المخشي، والعلم بصفاته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البيضاوي.

وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أخشاكم لله وأتقاكم له"، وفي آخر: "أعلمكم بالله أشدكم له خشية"، ومن كان علمه به أقل كان آمن، ولهذا أتبعه ذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، وهو كلام مستأنف. وفي "الإرشاد": هو تتمة لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} بتعيين من يخشاه من الناس بعد بيان اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم على معنى (¬1): إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشية، وهم العلماء به وبعظيم قدرته، قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل، وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا، وكفي بالاغترار جهلًا، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله .. فليس بعالم. وقال الشعبي: العالم من خاف الله وتقديم (¬2) المخشي وهو المفعول للاختصاص وحصر الفاعلية؛ أي: لا يخشى الله من بين عباده إلا العلماء، ولو أخر لانعكس الأمر، وصار المعنى: لا يخشون إلا الله، وبينهما تغاير، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء دون غيرهم، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله دون غيره. وقرأ الجمهور: بنصب الجلالة ورفع العلماء، وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين: برفع الجلالة ونصب العلماء على أن الخشية استعارة للتعظيم، فإن المعظَّم يكون مهيبًا، فالمعنى عليه: إنما يعظم الله سبحانه من بين جميع عباده العلماء، كما يعظِّم المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وهذه القراءة - وإن كانت شاذة - لكنها مفيدة جدًّا، وجعل عبد الله بن عمر الخشية بمعنى الاختيار؛ أي: إنما يختار الله من بين عباده العلماء، وعلى كل من القراءتين في هذه الآية للعلماء منقبة عظيمة وخصلة حميدة. والمعنى (¬3): أي إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغى.

[29]

معصيته، فخافه ورهبه خشية أن يعاقبه، وقد أثر عن ابن عباس أنه قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئًا، وأحلّ حلاله وحرَّم حرامه وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسبه بعمله. وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغِب فيما رغَّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الآية. وعن عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخطب فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية" أخرجه البخاري ومسلم. ثم بيَّن سبب خشيتهم منه فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} في انتقامه ممن كفر به {غَفُورٌ} لذنوب من آمن به وأطاعه، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى. قيل (¬1): الخشية: تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل يكون تارةً بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته، وخشية الأنبياء من هذا القبيل، فعلى المؤمن أن يجتهد في تحصيل العلم بالله حتى يكون أخشى الناس، فبقدر مراتب العلم تكون مراتب الخوف والخشية وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل: يا رسول الله، أينا أعلم؟ قال: "أخشاكم لله سبحانه وتعالى، إنما يخشى الله من عباده العلماء"، قال: يا رسول الله، فأيُّ الأصحاب أفضل؟ قال: "من إذا ذكرت الله .. أعانك، وإذا نسيت .. ذكّرك"، قالوا: فأيّ الأصحاب شر؟ قال: "الذي إذا ذكرت لم يعنك، وإذا نسيت لم يذكرك"، قالوا: فأيُّ الناس شرٌّ؟ قال: "اللهم اغفر للعلماء، العالم إذا فسد فسد الناس". كذا في "تفسير أبي الليث". نسأل الله سبحانه أن يجعلنا عاملين محقّقين، وفي الخوف والخشية صادقين ومحقّين. 29 - {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: يداومون على تلاوة القرآن، ويعملون بما فيه؛ إذ لا تنفع التلاوة بدون العمل، والتلاوة (¬2): القراءة متتابعة، والقراءة أعم كالدراسة والأوراد الموظّفة، والقراءة منها, لكن التهجّي وتعليم الصبيان لا يعد قراءة، ولذا قالوا: لا يكره التهجّي للجنب والحائض ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[30]

والنفساء بالقرآن؛ لأنه لا يعد قارئًا، وكذا لا يكره لهم التعليم للصبيان وغيرهم حرفًا حرفًا، وكلمةً كلمةً مع القطع بين كل كلمتين، وقيل: معنى {يَتْلُونَ} يتّبعون كتاب الله، من قولهم: تلاه إذا اتبعه؛ لأن التلاوة بلا عمل لا نفع فيها، وقد ورد: "رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه". {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} المفروضة؛ أي: أدّوها بآدابها وشرائطها وأركانها في أوقاتها، وغاير بين الجملتين بالاستقبال والمضي؛ لأن أوقات التلاوة أعم بخلاف أوقات الصلاة، وكذا أوقات الزكاة المدلول عليها بقوله: {وَأَنْفَقُوا} في وجوه البر {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} وأعطيناهم {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} وهي ضد السر؛ أي: إنفاق سر وعلانية، أو ذوي سرّ وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين؛ أي: أنفقوا كيفما أمكن لهم من غير قصد إليهما، فيه حثّ على الإنفاق كيفما تهيّأ، فإن تهيأ سرًا فهو أفضل، وإلا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراءٍ هو عين الرياء، ويمكن أن يراد بالسر صدقة النفل، بالعلانية صدقة الفرض، وفيه أيضًا حث على الإنفاق في جميع الأوقات. وجملة {يَرْجُونَ} خبر {إِنَّ}؛ أي: يقصدون ويطلبون، {تِجَارَةً}؛ أي: مثوبة {لَنْ تَبُورَ} صفة لتجارة؛ أي: لن تبطل ولن تخسر ولن تهلك؛ أي: يأملون من ربهم، ويطلبون منه بأعمالهم المذكورة مثوبة مدّخرة لا تبطل ولا تحبط .. قال في "الإرشاد": وأتى بقوله: {لَنْ تَبُورَ} للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران؛ لأنه اشتراء باقٍ بفانٍ، والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول رجائهم، 30 - وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بـ {يَرْجُونَ} (¬1)، أو بـ {لَنْ تَبُورَ} على معنى أنه ينتفي عنها الكساد، وتنفق عند الله ليوفيهم بحسب أعمالهم وخلوص نياتهم {أُجُورَهُمْ}؛ أي: أجور أعمالهم من التلاوة والإقامة والإنفاق، فلا وقف على لن تبور أي لن تكسد لأجل أن يعطيهم أجور أعمالهم الصالحة وافية كاملة، أو متعلق بمحذوف دل عليه السياق؛ أي: فعلوا ذلك ليوفيهم أجور أعمالهم، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: من جوده وكرمه وخزائن رحمته ما يشاء مما لم يخطر ببالهم عند العمل، ولم يستحقوا له، بل هو كرم محض، ومن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فضله يوم القيامة نصبهم في مقام الشفاعة ليشفعوا فيمن وجبت لهم النار من الأقرباء وغيرهم. وجملة قوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ} تعليل (¬1) لما قبله من التوفية والزيادة؛ أي: غفور لفرطاتهم وفي "بحر العلوم": ستَّار لكل ما صدر منهم مما من شأنه أن يستر، محاء له عن قلوبهم، وعن ديوان الحفظة. {شَكُورٌ} لطاعاتهم؛ أي: مجازيهمِ عليها وومثيب لهم، وقيل (¬2): إن هذه الجملة هي خبر إن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} مع تقدير رابط؛ أي: غفور لهم، وتكون جملة {يَرْجُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل {أَنْفَقُوا}، والأول أولى. وفي "التأويلات النجمية": غفور يغفر تقصيرهم في العبودية، شكور يشكر يسعيهم مع التقصير بفضل الربوبية. وحاصل معنى الآية: أن الذين يتبعون كتاب الله تعالى، ويعملون بما فرض فيه من فرائض، فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرًا وعلانية بلا بسط ولا إسراف، هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربح تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدّموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلًا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانًا لما فرط من زلّاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى، ونحو الآية قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. قال أبو الليث: الشكر على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: الشكر ممن دونه يكون بالطاعة وترك مخالفته. والوجه الثاني: الشكر ممن هو شكله يكون بالجزاء والمكافأة. والوجه الثالث: الشكر ممن فوقه يكون رضي منه باليسير، كما قال بعضهم الشكور: هو المجازي بالخير الكثير على العمل اليسير، والمعطي بالعمل في أيام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[31]

معدودة نعمًا في الآخرة غير مجذوذة، ومن عرف أنه الشكور شكر نعمته، وآثر طاعته، وطلب رحمته، وشهد منته. قال الغزالي: وأحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا يستعملها في معاصيه، بل في طاعته. 31 - {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {مِنَ الْكِتَابِ} وهو القرآن، فـ {مِنَ} للتبيين، أو هو اللوح المحفوظ، فـ {مِنَ} للتبعيض، وجملة قوله: {هُوَ الْحَقُّ}؛ أي: الصدق لا كذب فيه، ولا شكّ خبر الموصول حال كونه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: موافقًا لما قبله من الكتب السماوية المنزّلة على الأنبياء في العقائد وأصول الأحكام، وهو حال مؤكدة؛ أي: أحقه مصدقًا؛ لأنَّ حقيّته لا تنفكّ عن هذا التصديق {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {بِعِبَادِهِ} متعلق بقوله: {لَخَبِيرٌ}؛ أي: محيط ببواطن أمورهم {بَصِيرٌ}؛ أي: عالم بظواهرها، وقدّم الجار والمجرور لرعاية الفاصلة التي على حرف الراء، فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوّة .. لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، يعرف صدقها منه، وتقديم الخبير للتنبيه على أن العمدة في ذلك العلم والإحاطة هي الأمور الروحانية. المعنى (¬1): أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد هو الحق من ربك، وعليك وعلى أمتك أن نعمل به، وتتّبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله، فصار إمامًا لها، إن الله سبحانه خبير بأحوال عباده بصير بما يصلح لهم، فيشرّع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. 32 - {ثُمَّ} للترتيب والتأخير؛ أي: بعدما أوحينا إليك، أو بعد كتب الأولين، كما دلّ ما قبله على كل منهما، وسئل سفيان الثوري على ماذا عطف بقوله: {ثُمَّ}؟ قال: على إرادة الأزل، والأمر المقضي؛ أي: بعدما أردنا في الأزل. {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ}؛ أي: ملكنا بعظمتنا ملكًا تامًا، وأعطينا هذا القرآن عطاءً لا رجوع فيه. {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} المفعول الأول لـ {أَوْرَثْنَا} الموصول، والمفعول الثاني {الْكِتَابَ}، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب. ¬

_ (¬1) المراغي.

والمعنى (¬1): ثم أورثنا الذين اصطفيناهم واختارناهم من عبادنا هذا الكتاب الذي هو القرآن؛ أي: قضينا وقدّرنا في سابق علمنا بأن نورّث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم واستخلاصهم، ولا شكّ أنّ علماء هذه الأمة من الصحابة، فمن بعدهم قد شرفهم الله تعالى على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء، سيّد ولد آدم، قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا، وقيل: إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة؛ أي: أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى. وهذه الأمة اصطفاهم الله تعالى على سائر الأمم، كما اصطفى رسولهم على جميع الرسل، وكتابهم على كل الكتب، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن، بل يشمل من يحفظ منه جزءًا، ولو أنه الفاتحة، فإن الصحابة رضوان لله عليهم أجمعين لم يكن واحد منهم يحفظ جميع القرآن، ونحن على القطع بأنهم مصطفون. ولما كانت الوراثة بالسبب والنسب، وكان السبب جنسًا واحدًا، كالزوجية، وهما صاحبا الفرض، وكان النسب من جنسين: الأصول كالآباء والأمهات، والفروع كل ما يتولّد من الأصول كالأولاد والأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم، وهم صاحب فرض وعصبية، فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف: صنف صاحب الفرض بالسبب، وصنف صاحب الفرض بالنسب، وصنف صاحب الباقي وهم العصبة، كذلك الورثة هاهنا ثلاثة أقسام، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ}؛ أي: فمن الذين اصطفينا من عبادنا {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بما عمل من الصغائر؛ لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع صاحبه من دخول الجنة مع الذين يدخلون الجنة، يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي، ووجه كونه ظالمًا لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات .. لكان لنفسه فيها من الثواب حظًا عظيمًا، وهذا القول هو الراجح، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقيل: الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر، وقيل: هو المقصّر في العمل بالكتاب. واعلم (¬1): أن الظلم ثلاثة أقسام: ظلم بين الإنسان وبين الله، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، وظلم بينه وبين الناس، وظلم بينه وبين نفسه، وهو المراد بما في هذه الآية كما في "المفردات". وتقديم الظالم في الذكر لا يدل على تقديمه في الدرجة لقوله تعالى: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، كما في "الأسئلة المقحمة"، وقال بعضهم: قدم الظالم لكثرة الفاسقين، ولأن الظلم بمعنى الجهل، والركوب إلى الهوى مقتضى الجبلة، والاقتصاد والسبق عارضان، وقال أبو الليث: الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق كي لا يعجب السابق بنفسه، ولا ييأس الظالم من رحمة الله. وقال القشيري: في الإرث يبدأ بصاحب الفرض، وإن قلّ نصيبه، فكذا هاهنا بدأ بالظالم، ونصيبه أقل من نصيب الآخرين، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}؛ أي: متوسط في العمل بالكتاب في أغلب الأوقات، ولا يخلو من خلط شيء أو متوسط في أمر الدين، بحيث لا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ}؛ أي: متقدم إلى ثواب الله وجنته ورحمته {بِالْخَيْرَاتِ}؛ أي: بالأعمال الصالحة، بضم التعليم والإرشاد إلى العلم والعمل {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بإرادته وتوفيقه، جعله في "كشف الأسرار" متعلقًا بالأصناف الثلاثة على معنى ظلم الظالم، وقصد المقتصد، وسبق السابق بعلم الله تعالى، والظاهر تعلقه بالسابق، كما ذهب إليه أجلاء المفسرين على معنى بتيسيره وتوفيقه وتمكينه من فعل الخير، لا باستقلاله، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها قال القشيري: كأنه قال: يا ظالم ارفع رأسك، فإنك وإن ظلمت فما ظلمت إلا نفسك، ويا سابق اخفض فإنك وإن سبقت فما سبقت إلا بتوفيقي. وقرأ الجمهور (¬2): {سَابِقٌ} على صيغة اسم الفاعل، وقرأ أبو عمران الحوفي وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقراءة عن أبي عمرو: {سبَّاق} على صيغة المبالغة، وقيل: المراد بالطوائف الثلاث: التالي للقرآن تلاوة مجرّدة، والقارىء له العامل به، والقارىء العامل بما فيه والمعلم له، وقال الحسن: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[33]

الظالم: الذي رجحت سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق: من رجحت حسناته على سيئاته، وقيل: من ظاهره خير من باطنه، ومن استوى ظاهره وباطنه، ومن باطنه خير من ظاهره، أو من أسلم بعد فتح مكة، ومن أسلم بعد الهجرة قبل الفتح، ومن أسلم قبل الهجرة. والمعنى (¬1): أي أوحينا إليك القرآن، ثمّ أورثناه من اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة التي هي خير الأمم بشهادة الكتاب: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. وجعلناهم أقسامًا ثلاثة: ظالم لنفسه مفرِّط في فعل بعض الواجبات، مرتكب لبعض المحرمات، مقتصد مؤدِّ للواجبات، تارك للمحرمات، تقع منه تارة بعض الهفوات، وحينًا يترك بعض المستحسنات، سابقٌ بالخيرات بإذن الله، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. والخلاصة: أن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصّر في العمل بالكتاب، مسرف على نفسه، ومتردّد بين العمل به ومخالفته، ومتقدم إلى ثواب الله تعالى بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه. {ذَلِكَ} السبق بالخيرات {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الذي لا يقادر قدره، والمن العظيم من الله الكبير، لا ينال إلا بتوفيقه، أو (¬2) ذلك الإيراث والاصطفاء، فيكون بالنظر إلى جميع المؤمنين من الأمة، وكونه فضلًا؛ لأن القرآن أفضل الكتب الإلهية، وهذه الأمة المرحومة أفضل جميع الأمم السابقة، وفي "التأويلات النجمية": {ذَلِكَ}؛ أي: الذي ذكر من الظالم مع السابق في الإيراث والاصطفاء ودخول الجنة، ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذه المعرض الفضل العظيم؛ لأن الفضل العظيم في حق الظالم أن يجمعه مع السابق في الفضل والمقام، كما جمعه معه في الذكر انتهى. 33 - وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين .. بيَّن جزاءهم ومآلهم بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: بساتين استقرار وثبات وإقامة بلا رحيل؛ لأنه لا سبب للرحيل عنها، وهو إما بدل من الفضل الكبير؛ لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب .. نزل منزلة المسبب، وعلى هذا فتكون جملة {يَدْخُلُونَهَا} مستأنفة أو مبتدأ خبره قوله: {يَدْخُلُونَهَا}؛ أي: هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن، ومن دخلها لم يخرج ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) روح البيان.

منها، وهذا هو الأولى بالترجيح، أو الضمير للسابق فقط، وجمعه لأن المراد بالسابق الجنس، وعلى هذا فتخصيص حال السابقين ومآلهم بالذكر، والسكوت عن الفريقين الآخرين وإن لم يدل على حرمانهما من دخول الجنة مطلقًا لكن فيه تحذير لهما من التقصير، وتحريض على السعي في إدراك شؤون السابقين. والأول هو الأصح، وعليه عامة أهل العلم، كما في "كشف الأسرار" قال أبو الليث: في تفسير أول الآية وآخرها دليل على أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون يدخلون الجنة، فأما أول الآية فقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاث، وأما آخر الآية فقوله: {يَدْخُلُونَهَا}؛ إذ لم يقل: يدخلانها. وفي "التأويلات النجمية": لما ذكرهم أصنافًا ثلاثة رتّبها, ولما ذكر حديث الجنة والتنعّم والتزيّن فيها .. ذكرهم على الجمع، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية، نبَّه على أنّ دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله، وليس في الفضل تميّز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالمنعم. وقرأ الجمهور: {يَدْخُلُونَهَا} مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو عمرو: {يَدْخُلُونَهَا} مبنيًا للمفعول، وقرأ زر بن حبيش والزهري {جنة} على الإفراد، والجمهور: {جَنَّاتُ} بالجمع. {يُحَلَّوْنَ} خبر ثان، أو حال مقدرة؛ أي: يلبسون على سبيل التزيُّن والتحلي نساءً ورجالًا {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} {مِن} الأولى تبعيضية، والثانية بيانية، أي: يحلون بعض أساور كائنة من ذهب؛ لأنه أفضل من سائر أفرادها، والأساور جمع أسورة جمع سوار، كما سيأتي. {وَلُؤْلُؤًا} بالنصب معطوف على محل من أساور، واللؤلؤ: الدر؛ أي: ويحلون لؤلؤًا. وقرأ الجمهور: {يُحَلَّوْنَ} بضم الياء وفتح الحاء وشدّ اللام مبنيًا للمفعول، وقرىء بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة، فهي حال إذا لبست الحلىّ، وقرأ عاصم ونافع: {لؤلؤا} بالنصب عطفًا على محل {مِنْ أَسَاوِرَ}، والباقون: بالجر عطفًا على {ذَهَبٍ}. وقال في "بحر العلوم": معطوف على {ذَهَبٍ} فإنهم يسوّرون بالجنسين: أساور من ذهب، ومن لؤلؤ، وذلك على الله يسير، وكم من أمر من أمور الآخرة

[34]

يخالف أمور الدنيا، وهذا منها. {وَلِبَاسُهُمْ}؛ أي: ما يلبسون {فِيهَا}؛ أي: في الجنات {حَرِيرٌ} لا كحرير الدنيا، فإنه لا يوجد من معناه في الدنيا إلا الاسم. والمعنى: أي: بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلىء، ويكون لباسهم فيها حريرًا. 34 - {وَقَالُوا}؛ أي: ويقولون عند دخولهم الجنة حمدًا لربهم على ما صنع بهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: الإحاطة بأوصاف الكمال لمن له تمام القدرة، {الَّذِي أَذْهَبَ}؛ أي: أزال {عَنَّا} بدخولنا الجنة، {الْحَزَنَ}؛ أي: جنس الحزن والغم والهمّ، سواء كان حزن الدنيا، أو حزن الآخرة من همّ المعاش وحزن زوال النعم والجوع والعطش وخوف السلطان ودغدغة التحاسد والتباغض وحزن الأعراض والآفات ووسوسة إبليس والسيئات وردّ الطاعات وسوء العاقبة والموت وأهوال يوم القيامة والنار والمرور على الصراط، وغير ذلك. وقرأ الجمهور: {الْحَزَنَ} بفتحتين، وقرأ جناح بن حُبيش: بضم الحاء وسكون الزاي: أي: ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر، وأراحنا مما كنا نتخوّف من هموم الدنيا والآخرة، ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} لذنوب المذنبين {شَكُورٌ} للمطيعين. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور". رواه البغوي بسنده. والخلاصة: أنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة، ومن أجل المعاش والوساوس، ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلي، وإدخالهم الجنات .. ذكر سرورهم ببقائهم فيها، وأعلمهم بدوامها فقال: {الَّذِي أَحَلَّنَا}؛ أي: أنزلنا {دَارَ الْمُقَامَةِ} والدوام التي يقام فيها أبدًا، ولا ينتقل عنها، {مِنْ فَضْلِهِ} ورحمته وإحسانه من غير أن يوجبه شيء من جهتنا. والمعنى (¬1): {إِنَّ رَبَّنَا} المحسن إلينا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[35]

مع إساءتنا {لَغَفُورٌ} للمذنبين، فيبالغ في ستر ذنوبهم الخارج عن الحصر {شَكُورٌ} للمطيعين، فيبالغ في إثابتهم، فإن الشكر من الله: الإثابة والجزاء الوفاق. وفي "التأويلات النجمية": غفور للظالم لنفسه، شكور للمقتصد والسابق، وإنما قدم ما للظالم رفقًا بهم لضعف أحوالهم. انتهى. 35 - ثمّ وصفوا الله بوصف آخر هو شكر له فقالوا: {الَّذِي أَحَلَّنَا} وأنزلنا {دَارَ الْمُقَامَةِ} مفعول ثان لـ {أحلّ}، وليست بظرف؛ لأنها محدودة مختصة، والمقامة مصدر ميمي بمعنى الإقامة؛ أي: دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدًا، فلا يريد النازل بها ارتحالًا منها, ولا يراد به ذلك {مِنْ فَضْلِهِ}؛ أي: من إنعامه وتفضله من غير أن يوجبه شيء من قبلنا من الأعمال، فإن الحسنات فضل منه أيضًا، فلا واجب عليه. وذلك أن دخول الجنة بالفضل والرحمة، واقتسام الدرجات بالأعمال والحسنات هذا مخلوق تحت رق مخلوق مثله لا يستحق على سيده عوضًا لخدمته، فكيف الظن بمن له الملك على الإطلاق، أيستحق من يعبده عوضًا على عبادته تعالى الله سبحانه عما تقول المعتزلة من الإيجاب. {لَا يَمَسُّنَا}؛ أي: حالة كوننا لا يصيبنا {فِيهَا}؛ أي: في دار الإقامة في وقت من الأوقات {نَصَبٌ}؛ أي: تعب بدن ولا وجع، كما في الدنيا. {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}؛ أي: قال وفتور وضعف ناشىءٍ من تعب؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد، وإذا أرادوا أن يروه سبحانه لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظار وقت، بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلامًا، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه، كما هم بلا كيفية. والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له، وتكرير الفعل للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما. وقرأ الجمهور (¬1): {لُغُوبٌ} بضم اللام، وعلي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي: بفتحها. والمعنى: أي إنَّ ربنا لغفور شكور؛ لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

نقلة، ولا يصيبنا فيها نصب ولا وجع ولا إعياء ولا فتور. والخلاصة: أنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا، فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة، كما قالوا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {ها}: حرف تنبيه زائد، {النَّاسُ}: بدل من أيّ، أو عطف بيان له، وجملة النداء مستأنفة، {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}: مبتدأ وخبر، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بالفقراء؛ لأنه جمع فقير، وفقير صفة مشبهة، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْغَنِيُّ}: خبر أول، {الْحَمِيدُ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة، {إِن}: حرف شرط جازم {يَشَأْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {يُذْهِبْكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إِن} الشرطية مستأنفة، {وَيَأْتِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {يُذْهِبْكُمْ}، {بِخَلْقٍ}: متعلق بـ {يأت}، {جَدِيدٍ}: صفة لـ {خلق}، {وَمَا ذَلِكَ}: الواو: عاطفة {ما}: حجازية، {ذَلِكَ}: اسمها، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {عَزِيزٍ}، {بِعَزِيزٍ}: {الباء}: زائدة {عزيز}: خبر {ما} الحجازية، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِن} الشرطية. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. {وَلَا}: الواو: استئنافية {لا}: نافية، {تَزِرُ}: فعل مضارع، {وَازِرَةٌ}: فاعل، أو صفة لفاعل محذوف؛ أي: نفس وازرة، {وِزْرَ}: مفعول به، {أُخْرَى}: مضاف إليه، {وَإِنْ}: الواو: عاطفة، {إن}: حرف شرط، {تَدْعُ}: فعل مضارع

مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها, {مُثْقَلَةٌ}: فاعل، {إِلَى حِمْلِهَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَدْعُ} ومفعول {تَدْعُ} محذوف للعلم؛ أي: أحدًا من الناس، {لَا}: نافية {يُحْمَلْ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، {مِنْهُ}: حال من {شَيْءٌ}. {شَيْءٌ}: نائب فاعل، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَلَا تَزِرُ}. {وَلَوْ} الواو: عاطفة على جملة محذوفة وقعت حالًا، {لو}: حرف شرط، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على معلوم من السياق تقديره: ولو كان المدعو {ذَا قُرْبَى}: خبر كان منصوب بالألف، وجواب {لو} محذوف تقديره: ولو كان المدعو ذا قربى .. لا يحمل منها شيئًا وجملة {لو} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة محذوفة وقعت حالًا من مفعول {تَدْعُ} المحذوف، والتقدير: ولو كان المدعو غير قربى لا يحمل منه شيء، ولو كان ذا قربى .. لا يحمل منه شيء، والمعنى: لا يحمل منها المدعو شيئًا من حملها: حالة كونه غير قريب لها، وحالة كونه قريبًا لها، وقد مرَّ أمثال ذلك في أوائل الكتاب فراجعها. {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}. {إِنَّمَا} حرف كاف ومكفوف، {تُنْذِرُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {الَّذِينَ}: مفعول به، وجملة {يَخْشَوْنَ} صلتهم، {رَبَّهُمْ}: مفعول به لـ {يَخْشَوْنَ}. {بِالْغَيْبِ}: جار ومجرور حال من فاعل {يَخْشَوْنَ}؛ أي: يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو من المفعول؛ أي: يخشون عذابه غائبًا عنهم , {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَخْشَوْنَ}، {وَمَنْ}: الواو: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {تَزَكَّى}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَن} {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة الجواب {إنما}: كافة ومكفوفة، {يَتَزَكَّى} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {مَن}: {لِنَفْسِهِ}: متعلق بـ {يَتَزَكَّى} على أنه تعليل له، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَن} على كونها جواب شرط لها، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة، {وَإِلَى اللَّهِ}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)}. {وَمَا} الواو: استئنافية، {ما}: نافية، {يَسْتَوِي الْأَعْمَى}: فعل وفاعل، {وَالْبَصِيرُ}: معطوف عليه، والجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل للمؤمن والكافر، والتنافي بينهما في الذات والوصف والمستقر في الآخرة، {وَلَا}: الواو: عاطفة، {لا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، {الظُّلُمَاتُ}: معطوف على {الْأَعْمَى}، {وَلَا النُّورُ}: معطوف على الظلمات، و {لا}: زائدة لتأكيد النفي، {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا}: زائدة لتأكيد النفي، {الظِّلُّ}: معطوف على {الْأَعْمَى}، {وَلَا الْحَرُورُ}: معطوف على {الظِّلُّ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ}: فعل وفاعل، معطوف على قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى}، {وَلَا الْأَمْوَاتُ}: معطوف على {الْأَحْيَاءُ}، و {لا}: زائدة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {يُسْمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، والجملة مستأنفة، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يُسْمِعُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلتها، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية حجازية، {أَنْتَ}: في محل الرفع اسمها، {بِمُسْمِعٍ}: {الباء}: زائدة {مسمع}: خبرها منصوب، والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ}. {من}: اسم موصول في محل النصب مفعول {مسمع}. {فِي الْقُبُورِ}: متعلق بمحذوف صلة {من} الموصولة، {إِنْ}: نافية، {أَنْتَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {نَذِيرٌ}: خبر {أَنْتَ}، والجملة مستأنفة. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {بِالْحَقِّ}: حال من الفاعل؛ أي: محقين، أو من المفعول؛ أي: محقًا، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: إرسالًا متلبسًا بالحق. {بَشِيرًا}: حال من المفعول، {وَنَذِيرًا}: معطوف عليه. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إِنْ}: نافية، {مِن} زائدة، {أُمَّةٍ}: مبتدأ {إِلَّا}: أداة حصر، {خَلَا}: فعل ماضٍ، {فِيهَا} متعلق بـ {خَلَا}، {نَذِيرٌ}: فاعل {خَلَا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنْ}.

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية، {إن}: حرف شرط، {يُكَذِّبُوكَ}: فعل مضارع وفاعل ومفعول، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: فاصبر على تكذيبهم، ولا تتأسف عليه، وجملة {إن} الشرطية مع جوابها مستأنفة، {فَقَدْ}: {الفاء}: تعليلية للجواب المحذوف، أو رابطة الجواب، {قد}: حرف تحقيق، {كَذَّبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل الجواب المحذوف، أو هي الجواب، {جَاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول به، {رُسُلُهُمْ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الموصول على تقدير: قد، {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بمحذوف حال من {رُسُلُهُمْ}، أو متعلق بـ {جَاءَتْهُمْ}، {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ}: معطوفان على البينات بإعادة الجار، {الْمُنِيرِ}: صفة لـ {الكتاب}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {أَخَذْتُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {كَذَّبَ الَّذِينَ}، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {فَكَيْفَ}: {الفاء}: استئنافية، {كيف}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها وجوبًا {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {نَكِيرِ}: اسمها مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفاصلة، وجملة {كَانَ} مستأنفة. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم ونفي، {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم من ذكر اختلاف أحوال الناس، {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {أَنْزَلَ}: خبره، وجملة {أَنَّ} سادة مسد مفعولي {تَرَ} لأنها قلبية، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {مَاءً}: مفعول به لـ {أَنْزَلَ}. {فَأَخْرَجْنَا}: {الفاء}: عاطفة، {أخرجنا}: فعل وفاعل، معطوف على {أَنْزَلَ} على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم، {بِهِ}:

متعلق بـ {أخرجنا}، {ثَمَرَاتٍ}: مفعول {أخرجنا}، {مُخْتَلِفًا}: صفة لـ {ثَمَرَاتٍ}، ولكنها سببية، ولذلك لم يؤنث لأنه أسند إلى جمع تكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث، {أَلْوَانُهَا}: فاعل لـ {مُخْتَلِفًا}، {وَمِنَ الْجِبَالِ}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة {من الجبال}: خبر مقدم، {جُدَدٌ}: مبتدأ مؤخر، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: ومن الجبال ذو جدد وطرق بيض وحمر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {أَنَّ}، فكأنه قال: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، وأنه من الجبال ذو جدد بيض الخ. {بِيضٌ}: صفة لـ {جُدَدٌ}، {وَحُمْرٌ}: معطوف عليه، {مُخْتَلِفٌ}: صفة لـ {جُدَدٌ} أيضًا، {أَلْوَانُهَا}: فاعل مختلف، {وَغَرَابِيبُ}: معطوف على {جُدَدٌ}، {سُودٌ}: بدل من {غَرَابِيبُ}، وجعله الزمخشري معطوفًا على {بِيضٌ}، و {غرابيب}: صفة له مقدمة عليه مبالغة في التأكيد، فكأنه قيل: ومن الجبال جدد ييض وحمر وسود غرابيب؛ أي: شبيه بالغراب. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}. {وَمِنَ}: {الواو}: عاطفة، {من الناس}: خبر مقدم، {وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ}: معطوفان على {النَّاسِ}، {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}: صفة لمبتدأ مؤخر محذوف تقديره: صنف مختلف ألوانه كائن من الناس والدواب، {أَلْوَانُهُ}: فعل مختلف، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ}، {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف تقديره: مختلف ألوانه اختلافًا كائنًا كذلك؛ أي: كاختلاف ألوان الجبال، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {يَخْشَى اللَّهَ}: فعل ومفعول به مقدم على فاعله لإفادة الحصر، {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من {الْعُلَمَاءُ}، و {الْعُلَمَاءُ}: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عَزِيزٌ}: خبر أول له، {غَفُورٌ}: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومفعول

به، صلة الموصول، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَتْلُونَ}، {وَأَنْفَقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَتْلُونَ}. {مِمَّا}: متعلق بـ {أَنْفَقُوا}، {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: رزقناهموه، {سِرًّا وَعَلَانِيَةً}: منصوبان بنزع الخافض؛ أي: في السر والعلانية، أو على الحالية، أو على المفعولية المطلقة، {يَرْجُونَ}: فعل وفاعل، {تِجَارَةً}: مفعول به، جملة {يَرْجُونَ} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {لَنْ}: حرف نصب، {تَبُورَ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {تِجَارَةً}، والجملة في محل النصب صفة لـ {تِجَارَةً}، {لِيُوَفِّيَهُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يوفيهم}: فعل مضارع ومفعول به أول وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {أُجُورَهُمْ}: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {لَنْ تَبُورَ}، على معنى أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، وقيل: متعلق بمحذوف دل عليه السياق تقديره: فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم، {وَيَزِيدَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {لِيُوَفِّيَهُمْ}، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {يزيد}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {غَفُورٌ}: خبر أول له، {شَكُورٌ}: خبر ثان، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها من التوفية والزيادة. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}. {وَالَّذِي}: {الواو}: استئنافية، {الَّذِي}: مبتدأ {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أوحيناه، {مِنَ الْكِتَابِ}: حال من العائد المحذوف، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْحَقُّ}: خبر، والجملة مستأنفة، {مُصَدِّقًا}: حال من {الْكِتَابِ}. {لِمَا}: متعلق بـ {مُصَدِّقًا}، {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه صلة لـ {ما}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {بِعِبَادِهِ}: متعلق بـ {لَخَبِيرٌ}، {لَخَبِيرٌ}: {اللام}: حرف ابتداء، {خَبِيرٌ}: خبر أول لـ {إن}، {بَصِيرٌ}: خبر ثانٍ لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخٍ، {أَوْرَثْنَا}: فعل وفاعل، {الْكِتَابَ}: مفعول ثانٍ قدّم لشرفه، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {أَوْرَثْنَا}، والجملة معطوفة على محذوف معلوم من السياق تقديره: أوحينا إليك هذا الكتاب، ثم أورثناه الذين اصطفينا. {اصْطَفَيْنَا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: اصطفيناهم. {مِنْ عِبَادِنَا}: حال من الموصول، أو من العائد المحذوف، {فَمِنْهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إيراثنا إياهم، وأردت بيان تفاصيلهم .. فأقول لك: {مِنْهُمْ}: خبر مقدم، {ظَالِمٌ}: مبتدأ مؤخر، {لِنَفْسِهِ}: متعلق بـ {ظَالِمٌ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم، {مُقْتَصِدٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، {وَمِنْهُمْ}: خبر مقدم {سَابِقٌ}: مبتدأ مؤخر، {بِالْخَيْرَاتِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على ما قبلها، {بِإِذْنِ اللَّهِ}: حال من الضمير المستكن في {سَابِقٌ}، أو متعلق به، {ذَلِكَ}: مبتدأ {هُوَ}: ضمير فصل، {الْفَضْلُ}: خبر، {الْكَبِيرُ}: صفة له، والجملة مستأنفة. {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}. {جَنَّاتُ}: مبتدأ، {عَدْنٍ} مضاف إليه، وجملة {يَدْخُلُونَهَا}: خبر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، أو {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: بدل من {الْفَضْلُ}، وجملة {يَدْخُلُونَهَا} حال من {جَنَّاتُ}، {يُحَلَّوْنَ}: فعل ونائب فاعل، {فِيهَا}: متعلق به، والجملة الفعلية خبر ثان لـ {جَنَّاتُ}، {مِنْ}: زائدة، {أَسَاوِرَ}: مفعول ثانِ لـ {يُحَلَّوْنَ}، {مِنْ ذَهَبٍ}: صفة لـ {أَسَاوِرَ}، {وَلُؤْلُؤًا}: معطوف على محل {مِنْ أَسَاوِرَ}، {وَلِبَاسُهُمْ}: مبتدأ، {فِيهَا}: حال من ضمير الغائبين، {حَرِيرٌ}: خبر، والجملة معطوفة على جملة {يُحَلَّوْنَ}. {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يُحَلَّوْنَ}: والتقدير: جنات

يدخلونها، ويقولون فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قالوا}، {الَّذِي}: صفة للجلالة {أَذْهَبَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، صلة الموصول، {عَنَّا}: متعلق بـ {أَذْهَبَ}، {الْحَزَنَ}: مفعول به {إِنَّ رَبَّنَا}: ناصب واسمه، {لَغَفُورٌ}: خبر أول لها، واللام: حرف ابتداء، {شَكُورٌ}: خبر ثانٍ، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {الْحَمْدُ}. {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}. {الَّذِي}: بدل من الموصول الأول، أو نعت ثانٍ للجلالة {أَحَلَّنَا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، صلة الموصول، {دَارَ الْمُقَامَةِ}: مفعول ثانٍ لـ {أَحَلَّنَا} {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {أَحَلَّنَا}، {لَا}: نافية، {يَمَسُّنَا}: فعل ومفعول به، {فِيهَا}: متعلق بـ {يَمَسُّنَا}، {نَصَبٌ}: فاعل، والجملة في محل النصب حال من مفعول {أَحَلَّنَا} الأول، {وَلَا يَمَسُّنَا}: فعل ومفعول به، {فِيهَا}: متعلق به، {لُغُوبٌ}: فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} الفقراء: جمع فقير، كالفقائر جمع: فقيرة، والفقير: المكسور الفقار، والفقر ذكره في "تاج المصادر" في باب ضرب، وجعله في "القاموس": من حدِّ كرم، وقال الراغب في "المفردات": يقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال فقر، وإن كان القياس يقتضيه، انتهى. وفهم من هذا أن الفقير صيغة مبالغة، كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير الشديد، والفقر: وجود الحاجة الضرورية، وفقد ما يحتاج إليه. {مُثْقَلَةٌ} والمثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار، قال الراغب: الثقل والخفة متقابلان، وكل ما يترجح عما يوزن به أو يقدر به يقال: هو ثقيل، وأصله في الأجسام، ثم يقال في المعاني: أثقله الغرم والوزر. انتهى .. فالثقل هنا: الإثم، سمي به لأنه يثقل صاحبه يوم القيامة، ويثئطه عن الثواب في الدنيا. {إِلَى حِمْلِهَا} قيل: في الأثقال المحمولة في الظاهر، كالشيء المحمول على الظهر، حمل بالكسر، وفي الأثقال المحمولة في الباطن، كالولد في البطن حمل

بالفتح، كما في "المفردات". وفي "المصباح": الحمل بالكسر ما يحمل على الظهر ونحوه، والجمع أحمال وحمول، وحملت المتاع حملًا من باب ضرب، فأنا حامل، والأنثى حاملة بالتاء؛ لأنها صفة مشتركة، وفي "المختار": قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في البطن، أو على رأس شجرة، والحمل - بالكسر -: ما كان على ظهر أو رأس، قال الأزهري: وهذا هو الصواب، وهو قول الأصمعي. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يقال: وزر يزر كوعد يعد من الباب الثاني وزرًا بالفتح والكسر، وزر يوزر من الرابج حمل، والوزر الإثم والثقل. {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} والإنذار: الإبلاغ مع التخويف. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} والأعمى: فاقد حاسة البصر، والبصير ضده. {وَلَا الظُّلُمَاتُ}: جمع ظلمة، وهي عدم النور. {وَلَا النُّورُ}: وهو الضوء المنتشر المعين للأبصار. {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} قال الراغب: يقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس، ويعبر بالظل عن العز والمنعة، وعن الرفاهية انتهى. والحرور: فعول من الحر غلب على السموم، وهي الريح الحارة التي تؤثر تأثير الشمس تكون غالبًا بالنهار. وعبارة "الزمخشري": الحرور: السموم إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، وقيل: بالنهار خاصة، وفي "المصباح": الحر بالفتح خلاف البرد، يقال: حر اليوم والطعام يحر من باب تعب وحر حرورًا من بابي قعد وضرب لغة، والاسم الحرارة، فهو حار، وحرت النار تحر من باب تعب توقدت وأسعرت، والحرة بالفتح: أرض ذات حجارة سود، والجمع: حرار، مثل: كلبة وكلاب، والحرور وزان رسول: الريح الحارة. قال الفراء: تكون ليلًا ونهارًا، قال أبو عبيدة: أخبرنا رؤبة أن الحرور بالنهار، والمسموم بالليل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الحرور والسموم بالليل والنهار، والحرور مؤنثة، وعبارة "القاموس": والحرور: الريح الحارة بالدليل، وقد تكون بالنهار، وحر الشمس والحر الدائم والنار. انتهى. فائدة: قال الزمخشري: فإن قلت {لا} المقرونة بواو العطف ما هى؟.

قلت: إذا وقعت الواو في النفي .. قرئت بها لتأكيد معنى النفي، انتهي. وقد كررت {لا} هنا خمس مرات اثنين في الأولى {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)}، واثنين في الثانية {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)}، وواحدة في الثالثة {وَلَا الْأَمْوَاتُ}، فالزيادة في عبارتهم شاملة لأصل زيادتها كالأولى من الجملة الأولى، ولتكريرها كالثانية منها. اهـ شيخنا. والحي: من به القوة الحساسة، والميت: من زال عنه ذلك. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} جمع: قبر، وهو مقر الميت، يقال: قبرته جعلته في القبر. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ} الأمة: الجماعة الكثيرة، وتقال لكل أهل عصر, والمراد بها هنا: أهل العصر، فإن قيل: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد لم يرسل إليها رسول ينذرها؟ أجيب: بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخلُ من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. اهـ "خطيب" و"خازن". وهذا يقتضي أن أهل الفترة مكلفون لبقاء آثار الرسل المتقدمة فيهم. تأمل فالمسألة خلافية. {إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} قال الراغب: الخلاء: المكان الذي لا ساتر في من بناء وساكن وغيرهما، والخلو يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي .. فسر أهل اللغة قولهم خلا الزمان بقولهم: مضى وذهب انتهي. {وَبِالزُّبُرِ}: جمع زبور بمعنى المكتوب من: زبرت الكتاب كتبته كتابة غليظة، وكل كتاب غليظ الكتابة يقال له زبور، كما في "المفردات". {ثَمَرَاتٍ} جمع ثمرة، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر. {جُدَدٌ} - بالضم والفتح -: جمع جدة بالضم، وهي الطرق المختلفة الألوان في الجبل وغيره، كما مر. {غَرَابِيبُ} جمع غربيب كعفاريت جمع عفريت، وهو شديد السواد، يقال: أسود غربيب، وأبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قان، وفي الحديث: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني: الذي يخضب بالسواد. وقال امرؤ القيس في وصف فرسه:

العَيْنُ طَامِحَةٌ واليَدُّ سَابِحَةٌ ... والرِّجْلُ لَافِحَةٌ والوَجْهُ غِرْبِيبُ {سُودٌ} جمع أسود، {وَالدَّوَابِّ} جمع دابة، وهي ما يدب على الأرض من الحيوان، وغلب على ما يركب من الخيل والبغال والحمير، ويقع على المذكر. {وَالْأَنْعَامِ}: جمع نعم محركة، وقد يسكن عينه: الإبل والبقر والضأن والمعز دون غيرها، فالخيل والبغال والحمير خارجة عن الأنعام. {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} والعلانية: ضد السر، وهي الإظهار، وأكثر ما يقال ذلك في المعاني دون الأعيان، يقال: أعلنته فعلن؛ أي: أظهرته فظهر. {تِجَارَةً} والتجارة في العرف: تقليب المال لغرض الربح، والمراد من التجارة هنا: المعاملة مع الله لنيل الثواب، والتاجر الذي يبيع ويشتري وعمله التجارة وهي التصرف في رأس المال طالبًا للربح، وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة، وأما تجاه فأصله وجاه وتجوب، فالتاء فيه للمضارعة. {لَنْ تَبُورَ}: البوار: فرط الكساد، والوصف منه: بائر، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد .. عبر بالبوار عن الهلاك مطلقًا، ومن الهلاك المعنوي ما في قولهم: خذوا الطريق ولو دارت، وتزوجوا البكر ولو بارت، واسكنوا المدن ولو جارت. {أُجُورَهُمْ} جمع أجر، والأجر ثواب العمل. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} قال الراغب: الوراثة: انتقال قينة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت، ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا انتهى. {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} والاصطفاء في الأصل: تناول صفو الشيء وخالصه. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}؛ أي: عامل به تارة، ومخالف له أخرى، وإنما قال مقتصد بصيغة الافتعال؛ لأن ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ}؛ أي: متقدم إلى ثواب الله سبحانه، راجع دخول جنته، وأصل السبق: المتقدم في السير، ويستعار لإحراز الفضل كما هنا. {بِالْخَيْرَاتِ}؛ أي: بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة، والخير كل ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع، وضده: الشر.

{مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} والأساور: جمع أسورة، وهو جمع سوار على وزن كتاب وغراب معرب "دستواره". {وَلُؤْلُؤًا} واللؤلؤ: الدر، سمي بذلك لتلألئه ولمعانه. {وَلِبَاسُهُمْ} واللباس: اسم لما يلبس. {حَرِيرٌ}: والحرير من الثياب: ما رق، كما في "المفردات"، وثوب يكون سداه ولحمته إبريسمًا، وإن كان في الأصل الإبريسم المطبوخ، كما في "القهستاني"، ويحرم لبسه على الرجال دون النساء إلا في الحرب، كما هو مبسوط في علم الفروع. {الْحَزَنَ}: الحزن - بفتحتين - والحزن - بالضم والسكون - واحد، وهو: خشونة الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، وضده الفرح. وقيل: الحزن - بالتحريك -: الخوف من محذور يقع في المستقبل. {أَحَلَّنَا}؛ أي: أنزلنا يقال: حلت إذا نزلت من حل الأحمال عند النزول، ثم جرِّد استعماله للنزول فقيل: حل حلولًا وأحله غيره، والمحلة: مكان النزول، كما في "المفردات". {دَارَ الْمُقَامَةِ}: مفعول ثانٍ لـ {أحل}، وليست بظرف؛ لأنها محدودة مختصة، فلو كان ظرفًا لتعدى إليه الفعل بفي، والمقامة - بالضم -: مصدر ميمي، تقول: أقام يقيم إقامة ومقامة. {لَا يَمَسُّنَا} المس، كاللمس، وقد يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. {نَصَبٌ}؛ أي: تعب وكد بالأشغال. {لُغُوبٌ}؛ أي: ضعف وملالة عن كثرة الأشغال، والفرق بين النصب واللغوب: أن النصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب: ما يحدث منه من الفتور والضعف للجوارح. قال أبو حيان: هو لازم من تعب البدن، فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها: عَلْيَاءُ لَا تَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا ... لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ وفي "القاموس": نصب كفرح: أعيا، وفي "المختار": ونصب تعب، وبابه: طرب. {لُغُوبٌ} إعياء من التعب، وفي "القاموس": لغب لغبًا ولغوبًا، كمنع وسمع وكرم: أعيا أشد الاعياء، وفي "المختار": اللغوب - بضمتين -: التعب والإعياء،

وبابه: دخل، ولَغِب بالكسر لغوبًا لغة ضعيفة، فظاهر ما ورد في كتب اللغة أنهما متفقان في المعنى، ولكن الزمخشري فرَّق بينهما تفريقًا دقيقًا، فقال: فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المتنصب للأمر المزاول له، وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تعريف الفقراء في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء فقط، وأن افتقار غيرهم بالنسبة إلى فقرهم كالعدم. ومنها: الطباق بين {يذهب} و {وَيَأْتِ}، بين {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، و {الظُّلُمَاتُ} و {النُّورُ}، و {الظِّلُّ} و {الْحَرُورُ}، و {الْأَحْيَاءُ} و {الْأَمْوَاتُ}، وبين: {نَذِيرًا} و {بَشِيرًا}، وبين {سِرًّا} و {عَلَانِيَةً}. ومنها: جناس الاشتقاق بين {تَزِرُ} و {تَزِرُ} و {وِزْرَ} في قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وبين {حِمْلِهَا} و {يُحْمَلْ} في قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} الآية، شبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير بجامع ظلام الطريق، وعدم الاهتداء على الكافر، ووضوح الرؤية، والاهتداء للمؤمن، ثم استعار المشبه به {الْأَعْمَى} للكافر، واستعار {البصير} للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: تكرار إلا في قوله: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} مبالغة في تأكيد النفي. ومنها: تقديم الأعمى على البصير، والظلمات على النور، والظل على الحروو لتتطابق فواصل الآي.

ومنها: إيثار صيغة الجمع في الطرفين في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} تحقيقًا للتباين بين أفراد الفريقين. ومنها: الاستعارة المرشحة في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} مثل المصرين على الكفر بالأموات، ورشح له بذكر القبور، وترشيح الاستعارة اقترانها بما يلائم المستعار منه، شبه تعالى من طبع على قلبه بالموتى في عدم القدرة على الإجابة، فكما لا يسمع أصحاب القبور ولا يجيبون، كذلك الكفار لا يسمعون ولا يقبلون الحق. ومنها: الاكتفاء في قوله: {يَعْمَلُونَ} لكون الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة. ومنها: إعادة الجار في المعطوف في قوله: {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} لإفادة التأكيد. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لذمهم بما في حيز الصلة، والإشعار بعلية الأخذ. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. ومنها: الالتفات من الغيبة في: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى التكلم في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} لإظهار كمال الاعتناء بفعل الإخراج لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة، ولأن الرجوع إلى نون العظمة أهيب في العبارة. ومنها: التدبيج في قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} والتدبيج: أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو غير ذلك من الفنون، وقد أراد الله سبحانه بذلك الكناية عن المشتبه من الطرق إلى آخر ما ذكروه هنا. ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} فأورد هاتين الجملتين اسميتين مع مشاركتهما للفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل على تباين الناس في الأحوال لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر، فعبر عنه بما يدل على

الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة .. فأمر حادث، فعبر عنه بما يدل على الحدوث، ولما كان فيه نوع خفاء علَّق الرؤية به بطريق الاستفهام التقريري، بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما، فإنها مشاهدة غنية عن التأمل، فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر، كما مر ذلك عن "أبي السعود". ومنها: التقديم والتأخير لغرض الحصر في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقصر الخشية على العلماء قصر صفة على موصوف، فكأنه قيل: إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، أما إذا قدمت الفاعل .. فإن المعنى ينقلب إلى أنهم لا يخشون إلا الله، فيكون قصر موصوف على صفة، وهما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل. ومنها: مغايرة الأسلوب من الاستقبال في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} إلى المضي في قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} للدلالة على أن أوقات التلاوة أعم بخلاف أوقات الصلاة، وكذا أوقات الزكاة المدلول عليها بقوله: {وَأَنْفَقُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحية المرشحة في قوله: {تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} استعار التجارة للمعاملة مع الله تعالى لنيل ثوابه، وشبَّهها بالتجارة الدنيوية، وهي المعاملة مع الخلق بالبيع والشراء لغرض الربح بجامع الاكتساب في كلٍّ، ثم رشحها بقوله: {لَنْ تَبُورَ}. ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} لمرعاة الفاصلة التي على حرف الراء. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} شبه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد ولا تعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث، وفيه أيضًا تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول لشرفه وعظم قدره، وفي هذه الآية أيضًا من البلاغة الجمع ثم التقسيم، وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم، ثم يقسم ما جمعه، فجمع العباد هنا في إيراثهم الكتاب، ثم فصلهم بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} إلخ. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {عِبَادِنَا}. ومنها: التعبير عن المستقبل بالماضي في قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي:

ويقولون عند دخول الجنة: الحمد لله للدلالة على التحقق والوقوع. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}. المناسبة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بيّن ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور .. أردف ذلك بذكر ما لأضدادهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم، وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائد وجور لا يدوم. وعبارة أبي حيان (¬2): لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم .. ذكر حال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

الكافرين، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة، والذين كفروا هم مقابلوهم. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لماذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم، ويدفع العذاب عنهم .. أردف ذلك ببيان أنه محيط بالأشياء علمًا، فلو كان لهم نصير في وقت ما .. لعلمه، إلا أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار، وكان ذلك مظنة أن يقال: كيف يخلدون في العذاب، وقد ظلموا في أيام معدودات .. أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم، وأنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن (¬1) أنه هو الذي استخلفهم في الأرض .. أكد هذا بأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته، وعدم إشراك غيره معه. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام، وبَكَّتهم على هذا أشد التبكيت، وضرب لهم الأمثال ليبين لهم سخف عقولهم وقبح معتقداتهم .. أردف ذلك بذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضًا، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه، وتلك سنة الله سبحانه في الأولين من قبلهم، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما هدد المشركين بجريان سنته فيهم بإهلاكهم، كما أهلك المكذبين من قبلهم .. نبَّههم إلى ذلك بما يشاهدونه من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[36]

آثارهم في رحلاتهم للتجارة في الشام والعراق واليمن، فقد خلت منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد وكثرة المال والولد، وما أغنى ذلك عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم من عذابه لما جاء أمره؛ لأنه لا يعجزه شيء إذا أراده. ثم ذكر حلمه بعباده، وأنه لو أخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانًا يدبّ على وجهها, لكنّه أخر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفي كل عامل جزاء عمله إن خيرًا فخير، وان شرًا فشر، وهو البصير بحال عباده. أسباب النزول قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه أن قريشًا كانت تقول: لو أن الله بعث منّا نبيًا .. ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها, ولا أسمع لنبيّها, ولا أشد تمسكًا بكتابها منا، فأنزل الله سبحانه قوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)}، وقوله: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، وكانت اليهود تستفتح به على النصارى فيقولون: إنا نجد نبيًّا يخرج. التفسير وأوجه القراءة 36 - ولمّا فرغ سبحانه وتعالى من ذكر جزاء عباده الصالحين .. ذكر جزاء عباده الطالحين، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: جحدوا بوجود الله سبحانه، أو كفروا بوحدته {لَهُمْ} بمقابلة كفرهم الذي هو أكبر الكبائر وأقبح القبائح، {نَارُ جَهَنَّمَ} التي لا تشبه نارًا، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ}؛ أي: لا يحكم عليهم بموتٍ ثانٍ، {فَيَمُوتُوا} ويستريحوا من العذاب، ونصبه بأن مضمرة في جواب النفي {وَلَا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[37]

يُخَفَّفُ}؛ أي: لا يهوّن ولا يقلّل ولا يرفع، {عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}؛ أي: من {عذاب جهنم طرفة عين}، بل كلما خبت .. زيد استعارها، كما قال في آية أخرى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وهذه الآية هي مثل قوله تعالى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}؛ وقوله: {عَنْهُمْ} نائب مناب الفاعل، و {مِنْ عَذَابِهَا} في موضع النصب، أو بالعكس، وإن كانت {مِن} زائدة يتعيّن له الرفع {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع، {نَجْزِي} في الآخرة، {كُلَّ كَفُورٍ}؛ أي: كل من هو مبالغ في الكفر، أو في الكفران، لا جزاء أخفّ وأدنى منه. وقرأ الجمهور (¬1): {فَيَمُوتُوا} بالنصب جوابًا للنفي، وقرأ عيسى بن عمر والحسن: {فيموتون} بإثبات النون، قال أبو عثمان المازني: على العطف على {يقضى}، وقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة، ولا وجه لهذا التضعيف، بل هي كقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}؛ أي: فلا يعتذرون، قال ابن عطية: وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: {ولا يخفف} بإسكان الفاء، شبّه المنفصل بالمتصل، كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب. وقرأ الجمهور: {نَجْزِي كُلَّ} مبنيًا للفاعل، ونصب {كل} وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع بالياء مبنيًا للمفعول ورفع {كل}. والمعنى (¬2): أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات , لهم نار جهنم، لا يحكم عليهم فيها بموت ثانٍ فيستريحوا من الآلام، ولا يخفّف عنهم العذاب فيها، بل كلّما خبت زيد سعيرها، ونحو الآية قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}، وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}، وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}. ثم بيّن أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه جاحد بوحدانيته، فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}؛ أي: وهكذا نكافىء كل جاحد لآلاء الله منكر لرسله، فندخله نار جهنم بما قدّم في الدنيا من سيئات عمله. 37 - {وَهُمْ}؛ أي: الكفار، {يَصْطَرِخُونَ}؛ أي: يصيحون ويستغيثون، {فِيهَا}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

أي: في نار جهنم، ويدعون ويتضرعون ويقولون: يا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} من هذه النار، وخلّصنا من عذابها، وردَّنا إلى الدنيا، {نَعْمَلْ} عملًا {صَالِحًا} على أنه صفة لمصدر محذوف، ويصح كونه صفة لمحذوف؛ أي: شيئًا صالحًا؛ أي: نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، وذلك لأنّ قبول الأعمال مبنيّ على الإيمان {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} في الدنيا؛ أي: غير الذي عملناه في الدنيا أولًا، قيدوا العمل الصالح بهذا الوصف إشعارًا بأنهم كانوا يحسبون ما فعلوه صالحًا، والآن تبيّن خلافه؛ إذ كان هوًى وطبعًا ومخالفةً، وللتحسّر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأنّ أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة؛ أي: وهم يسشغيثون ويضجّون في النار يقولون ربّنا أخرجنا منها، وأعدنا إلى دار الدنيا .. نطعك ونعمل غير الذي كنا نعمل من معصيتك، وقد علم منهم أنه لو ردّهم إلى هذه الدار .. لعادوا إلى ما نهوا عنه، فأجاب الله سبحانه عليهم بقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} ونمهلكم يا معشر الكفار في الدنيا، {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ}؛ أي: بقدر ما يتّعظ فيه، {مَنْ تَذَكَّرَ}؛ أي: من أراد أن يتعظ ويؤمن، والهمزة فيه (¬1) للاستفهام التقريري المضمّن للتوبيخ، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المحذوف والتعمير إطالة العمر، والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، و {مَّا} نكرة موصوفة، أو مصدر يراد به الزمان، كقولك: أتيك غروب الشمس. والتقدير: ألم نعطكم مهلة، ولم نعمركم عمرًا أو تعميرًا أو وقتًا وزمنًا يتذكر فيه من تذكر؛ أي: يتمكن فيه من التذكر والتفكر من أراد التذكر والتفكر في شأنه وإصلاح حاله، وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المطاولة أعظم، وهذا الزمن قيل: هو ستون سنة، قاله جماعة من الصحابة، وقيل: أربعون سنة، قاله الحسن ومسروق وغيرهما، وقيل: ثماني عشرة سنة، قاله عطاء وقتادة. وقرأ الأعمش (¬2): {ما يذكّر فيه} بالإدغام من اذكر بالإدغام، واجتلاب همة الوصل ملفوظًا بها في الدرج. يعني: أنه إذا بلغ حدّ البلوغ يفتح الله له نظر العقل، فيلزم حينئذ على المكلف أن ينظر بنظر العقل إلى المصنوعات، فيعرف صانعها ويوحّده ويطيعه، وأَذا بلغ إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الثماني عشرة، أو العشرين، أو ما فوق ذلك يتأكد التكليف، ويلزم الحجة أشدّ من الأول، وفي الحديث: "أعذر الله إلى امرىء أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة"؛ أي: أزال عذره، ولم يبق له موضعًا للاعتذار؛ حيث أمهله طول هذه المدة، ولم يعتذر؛ لأن الستين قريب معترك المنايا، وهو زمن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ولعل سرّ تعيين ستين ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجاوز ذلك" رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، فإذا بلغ الستين وجاوزها .. كانت السبعون آخر زمان التذكُّر؛ لأن ما بعدها زمان الهرم. وكل جماعة من الصحابة فمن بعدهم إذا بلغ أربعين سنة، أو رأى شيبًا .. بالغ في الاجتهاد، وطوى الفراش، وأقبل على قيام الليل، وأقلَّ معاشرة الناس، ولا فرق في ذلك بين الأربعين فما دونها؛ لأن الأجل مكتوم لا يدري متى يحل، أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغافلين، والمعنى (¬1): عشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم من ينتفعون بالحق لانتفعتم به مدة عمركم، ونحو الآية حكاية عنهم: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}. والخلاصة: أنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم؛ لأنكم كنتم عصاة، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}؛ أي: وجاءكم الرسول ومعه كاتب الله ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره وتركتم طاعته. والخلاصة: أنه احتج عليهم بأمرين: طول العمر، وإرسال الرسل. قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} معطوف (¬2) على الجملة الاستفهامية؛ لأنه في معنى: قد عمرناكم، وجاءكم النذير من حيث إن همزة الإنكار إذا دخلت على حرف النفي أفادت التقرير، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) ...} الخ؛ لأنه في معنى: قد شرحنا إلخ. والمراد بالنذير: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه جمهور المفسرين، كما قاله الواحدي، وقيل المراد: أيُّ رسولٍ كان؛ لأن الكلام مع الكفار على الإطلاق، وقيل ما معه من القرآن. وقيل: كمال العقل؛ لأنه فارق بين الخير والشر، أو موت الأقاوب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[38]

والجيران والإخوان، وقيل: الشيب، والمعنى عليه: أولم نعمّركم حتى شبتم، وفيه أن مجيء الشيب ليس بعام للجميع عموم ما قبله، وفي الأثر: ما من شعرة تبيضّ إلا قالت لأختها: استعدّي فقد قرب الموت، وقيل: غير ذلك. قيل: أول من شاب من ولد آدم عليه السلام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: ما هذا يا رب؟ قال: هذا وقار في الدنيا، ونور في الآخرة، فقال: ربّ زدني من نورك ووقارك. وفي الحديث: "إن الله سبحانه يبغض الشيخ الغربيب"؛ أي: الذي لا يشيب، كما في "المقاصد الحسنة". وقيل: أول من صلع من البشر آدم عليه السلام؛ لطوله أثّر فيه حر الشمس؛ لأن طوله كان ستين ذراعًا، والفاء في قوله: {فَذُوقُوا} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم قطع أعذاركم بما ذكر من التعمير ومجيء النذير، وأردتم بيان ما تستحقّون .. قأقول لكم: ذوقوا عذاب جهنم؛ لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فأنتم الظالمون، {فَمَا لِلظَّالِمِينَ} اليوم، {مِنْ نَصِيرٍ} ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله تعالى، والفاء في قوله: {فَمَا} للتعليل؛ أي: فذوقوا العذاب؛ لأنه ليس للظالمين أنفسهم بالكفر والشرك ناصر يدفع عنهم العذاب، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا نائمين، ولذا لم يذوقوا الألم، فلمّا ماتوا وبعثوا وتيقّظوا تيقّظًا تامًا .. ذاقوا العذاب وأدركوه. والمعنى: أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء في حياتكم الدنيا، ولن تجدوا لكم ناصرًا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال، 38 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه، {عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي عالم ما غاب في السموات والأرض عن العباد، وما شوهد لهم؛ أي: يختص بالله سبحانه علم كل شيء غاب عن العباد فيهما، وخفي عليهم، فكيف يخفى عليه أحوالهم، وأنهم لو ردوا إلى الدنيا .. لعادوا لما نهوا عنه؛ أي: أنه تعالى عالم بكل شيء، ومن ذلك أعمالكم لا تخفى عليه منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحًا، كما قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. قرأ الجمهور (¬1): {عَالِمُ غَيْبِ} بإضافة عالم إلى غيب، وقرأ جناح بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[39]

حبيش: {عالم} منوّنًا {غيب} بالنصب، وقيل: المعنى: أي (¬1) إن الله عالم ما تخفون أيها المشركون في أنفسكم، وما تضمرون، وما ستنوون أن تفعلوه، وما هو غائب عن أبصاركم في السموات والأرض، فاتّقوه أن يطَّلع عليكم وأنتم تضمرون الكيد لرسوله، وتريدون إطفاء دينه، وتنصرون آلهتكم التي لا تنفعكم شيئًا يوم القيامة، والمعنى الأول أولى بالسياق، وفي هذا إيماءٌ إلى أنه لو مدّ أعمارهم لم يرجعوا عن الكفر أبدًا، فلا مطمع في صلاحهم، وجملة قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لما قبلها؛ أي: لأنه عليم بما تكنّه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بما عمل؛ أي: لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء .. علم ما فوقها بالأولى، وقيل: هذه الجملة مفسّرة للجملة الأولى. ولم يقل: ذوات الصدور (¬2)؛ لإرادة الجنس، وذات: تأنيث ذي بمعنى: صاحب، والمعنى: عليم بالمضمرات صاحبة الصدور؛ أي: القلوب، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وجعلت الخواطر القائمة بالقلب صاحبة له بملازمتها وحلولها، كما يقال للّبن ذو الإناء، ولولد المرأة وهو جنين: ذو بطنها، فالإضافة لأدنى ملابسة. وفي "التأويلات النجمية": أي عالم بإخلاص المخلصين وصدق الصادقين، وهما من غيب سموات القلوب، وعالم بنفاق المنافقين وجحد الجاحدين، وهما من غيب أرض النفوس انتهى. 39 - ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب قال: {هُوَ}؛ أي: الله سبحانه، وهو مبتدأ، خبره قوله: {الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي (¬3): جعلكم أمة خالفة لمن قبلها، قال قتادة: خلفًا بعد خلف، وقرنًا بعد قرن، والخلف هو التالي للمتقدم، وقيل: جعلكم خلفاءه في أرضه. والخلائف (¬4): جمع خليفة، وأما خلفاء فجمع خليف، كما سيأتي، وكلاهما بمعنى المستخلف؛ أي: جعلكم خلفاء في أرضه ممن كان قبلكم من الأمم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[40]

وأورثكم ما بأيديهم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة، ومن خلافتهم أن الله تعالى استخلفهم في خلق كثير من الأشياء كالخبز، فإنه تعالى يخلق الحنطة بالاستقلال، والإنسان بخلافته يطحنها ويخبزها، وكالثوب فإنه تعالى يخلق القطن والإنسان بخلافته، يغزله وينسج منه الثوب، وهلمّ جرًا؛ أي (¬1): هو الذي ألقى إليكم مقاليد التصرّف، والانتفاع بما في الأرض لتشكروه بالتوحيد والطاعة. {فَمَنْ كَفَرَ} منكم نعمة الخلافة بأن يخالف أمر مستخلفه، ولا ينقاد لأحكامه ويتّبع هواه {فَعَلَيْهِ} لا على غيره {كُفْرُهُ}؛ أي: وبال كفره، وجزاؤه: هو الطرد واللعن والنار، لا يتعدّاه إلى غيره {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا}؛ أي: إلا بغضًا وغضبًا؛ أي: كلما استمروا في كفرهم أبغضهم ربهم وغضب عليهم {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}؛ أي: نقصًا وهلاكًا؛ أي: وكلما اطمأنّوا إلى كفرهم خسروا أنفسهم يوم القيامة، وحق عليهم هو العذاب، والمعنى. أن الكفر لا ينفع عند الله تعالى؛ حيث لا يزيدهم إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار. والتكرير (¬2): للتنبيه إلى اقتضاء الكفر لكل من الأمرين القبييحن: البغض، والخسران على سبيل الاستقلال والأصالة، والتنكير للتعظيم؛ أي: مقتًا عظيمًا ليس وراءه خزي وصغار، وخسارًا عظيمًا ليس بعده شرٌّ وتبارٌّ، 40 - ثم أمره سبحانه أن يوبِّخهم ويبكّتهم فقال: {قُلْ} يا محمد تبكيتًا لهم: {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني {شُرَكَاءَكُمُ}؛ أي: عن آلهتكم وأصنامكم، والإضافة إليهم؛ حيث لم يقل شركائي؛ لأنهم جعلوهم شركاء الله، وزعموا ذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلًا، {الَّذِينَ تَدْعُونَ}؛ أي: تعبدون، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: حال كونكم متجاوزين دعاء الله وعبادته؛ أي (¬3): أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهةً وعبدتموهم من دون الله تعالى، وجملة {أَرُونِي} - أي: أخبروني {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: أيَّ جزءٍ من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه دون الله - بدل من {أَرَأَيْتُمْ} بدل اشتمال، والمعنى: أخبروني عن شركائكم، أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض، وإنما فسّرنا الرؤية بالإخبار؛ لأنّ الرؤية والعلم سبب الإخبار، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

فاستعمل الإراءة في الإخبار، والمراد من الاستفهام في قوله: {مَاذَا خَلَقُوا} الإنكار؛ أي: نفي ذلك، وقيل: إن الفعلان، وهما: أرأيتم وأروني من باب التنازع، وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين، فإن: أرأيتم يطلب: ماذا خلقوا مفعولًا ثانيًا، وأروني يطلبه أيضًا معلقًا له. والمعنى (¬1): أي أخبروني أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان، أروني أيَّ جزءٍ من الأرض، أو من الأناس والحيوان خلقوا حتى يستحقّوا الإلهية، والشركة. والخلاصة: أعلمتم هذه الآلهة ما هي، وعلى أيِّ حال هي، فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة، فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم توهّمتم فيها القدرة، فأروني أثرها؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}؛ أي: بل ألهم شركة مع الله في خلق السمموات أو ملكها أو التصرف فيها؛ ليستحقّوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ}؛ أي: بل أعطينا الشركاء وأنزلنا عليهم، ويجوز أن يكون الضمير للمشركين، ويكون فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة. {كِتَابًا} ينطق بأنا اتخذناهم شركاء، {فَهُمْ}؛ أي: الشركاء أو المشركون، {عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ}؛ أي: على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب بأنّ لهم شركة جعلية. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وأبو عمرو وابن كثير وحفص وأبان عن عاصم (¬2): {عَلَى بَيِّنَةٍ} بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع، قال مقاتل: يقول تعالى: هل أعطينا كفار مكة كتابًا فهم على بيان منه بأنّ مع الله شريكًا. وخلاصة ما تقدم (¬3): أخبروني عمّن تعبدونهم من دون الله هل استبدُّوا بخلق شيء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة الله، أو لهم شركة معه في خلق السموات، وآتيناهم برهانًا بهذه الشركة. والخلاصة: أنّ عبادة هؤلاء؛ إما بدليل من العقل، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئًا، وإما بدليل من النقل، وإنّا لم نؤت المشركين كتابًا فيه الأمر بعبادة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[41]

هؤلاء، وبعد أن نفى ما نفى من الحجج .. أضرب عن ذلك، وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف، وإضلال الرؤساء للأتباع، وقولهم لهم: إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند الله إذا أنتم عبدتموهم، وإلى هذا أشار بقوله: {بَلْ إِنْ} نافية؛ أي: ما {يَعِدُ الظَّالِمُونَ} أنفسهم بالشرك {بَعْضُهُمْ} وهم الرؤساء والأشراف، {بَعْضًا}؛ أي: لبعض، وهم الأتباع، {إِلَّا غُرُورًا}؛ أي: إلا باطلًا لا أصل له، كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم؛ أي (¬1): ما يعد بعضهم بعضًا إلا غرورًا يغرونهم به ويزيّنونه لهم، وهو الأباطيل التي تغرّ، ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذا الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، وهو تغرير محض، يسفّه بذلك آراءهم، وينبئهم على ذميم أحوالهم وأفعالهم، وخسّة هممهم، ونقصان عقولهم بإعراضهم عن الله، وإقبالهم على ما سواه؛ أي (¬2): بل ما يعد الأسلاف للأخلاف، والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى، وبأنها تشفع لهم في الآخرة، فتضر وتنفع، إلا باطلًا، وقيل: إن الشياطين تعد المشركين بذلك، وقيل: المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضًا هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم، فعلى العاقل أن يصحّح التوحيد ويحقّقه، ولا يرى الفاعل والخالق إلا الله سبحانه وتعالى، 41 - ولما أبان حقارة الأصنام .. أرشد إلى عظمته تعالى فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: يحفظهما ويمنعهما من {أَنْ تَزُولَا} وتسقطا وتقعا. أي (¬3): إن الله سبحانه يمنع السموات أن تضطرب وتتحرَّك وتنتقل عن أماكنها، فترتفع أو تستخفض، ويمنع الأرض من مثل ذلك، ويحفظهما برباطٍ خاص، وهو ما يسمّيه العلماء نظام الجاذبية، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجري في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها، ولولا ذلك لتحطّمت هذه الكرات المشاهدة، وزالت عن أماكنها, لكنها به ثبتت في مواضعها، واستقرّت في مداراتها. {وَلَئِنْ زَالَتَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن زالت السموات والأرض عن مقرّهما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

ومركزهما على سبيل الفرض، أو بتخليتهما، كما يكون يوم القيامة، {إِنْ أَمْسَكَهُمَا}؛ أي: ما يمسكها {مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} تعالى؛ أي: ما يقدر أحد على إمساكهما وإعادتهما إلى محلهما ومكانهما من بعده تعالى؛ أي: ما يقدر أحد غيره تعالى على ذلك، أو المعنى: وإن أشرفتا على الزوال ما استطاع أحد غيره تعالى أن يمسكهما ويمنعهما عن السقوط. والخلاصة: أنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير، ونحو الآية قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}. وجملة قوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {كَانَ حَلِيمًا} غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جنايات الكفار حيث أمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّ العظيم كلمة الشرك، {غَفُورًا} لمن رجع عن كلمة الكفر، وقال بالوحدانية، تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض؛ أي: ومن ثَمَّ حلم على المشركين، وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضي تعجيل العقوبة لهم. والخلاصة: أنه يحلم وينظر ويؤجل، ولا يعجّل، ويستر ويغفر. وفي "شرح الأسماء" للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: الحليم: هو الذي يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يستفزّه غضب، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش. انتهى. والفرق بين الحليم والصبور: أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور، كما يأمنها في صفة الحليم؛ يعني: أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم، كما في "المفاتيح". ولعل هذا بالنسبة إلى المؤمنين دون الكفار، فعلى العاقل أن يتخلَّق بهذا الاسم بأن يصفح عن الجنايات، ويسامح في المعاملات، بل يجازي الإساءة بالإحسان, فإنه من كمالات الإنسان. واعلم: أنّ التوحيد سبب لنظام العالم بأسره، ألا ترى أنه لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله؛ أي: لا يوجد من يوحِّد توحيدًا حقيقيًا، فإنه إذا انقرض أهل هذا التوحيد، وانتقل الأمر من الظهور إلى البطون .. يزول العالم، وينتقض أجزاؤه؛ لأنه إذًا يكون كجسد بلا روح، والروح إذا فارق الجسد يتسارع إلى الجسد البلى والفساد.

[42]

ويروى أنّ آخر مولود في النوع الإنساني يكون بالصّين، فيسري بعد ولادته العقم في الرجال والنساء، ويدعوهم إلى الله تعالى، فلا يجاب في هذه الدعوة، فإذا قبضه الله، وقبض مؤمني زمانه .. وبقي من بقي مثل البهائم، لا يَحِلُّون حلالًا، ولا يحرّمون حرامًا، فعليهم تقوم الساعة، وتخرّب الدنيا، وينتقل الأمر إلى الآخرة. 42 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ}؛ أي: أقسم وحلف مشركوا مكة، {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} إما منصوب على المصدرية؛ أي: أغلظ أيمانهم وأشدّها وأوكدها، أو مصدر واقع موقع الحال؛ أي: جاهدين ومبالغين في أيمانهم، والجهد بالفتح: بلوغ الغاية في الاجتهاد، وأما بالضم .. فهو الطاقة، والأيمان: جمع يمين، واليمين في الحلف مستعار من اليمين بمعنى اليد اعتبارًا بما يفعل المحالف والمعاهد عنده. قال الراغب: أي: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى، وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله، ويسمّونه جهد اليمين، وعبارة "الصاوي" هنا: وإنما كان الحلف بالله غاية أيمانهم؛ لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا أرادوا التأكيد والتشديد .. حلفوا بالله، وهي اليمين المغلّظة، كما قال النابغة: حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيْبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ أي: كما أن الله تعالى أعلى المطالب، كذلك الحلف به أعلى الأحلاف روي أن قريشًا بلغهم قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، وحلفت قريش: واللهِ {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}؛ أي: واللهِ لئن جاء قريشًا نبىٌّ منذر مخوّف من عذاب الله {لَيَكُونُنَّ}؛ أي: قريش {أَهْدَى}؛ أي: أطوع وأصوب دينًا، {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}؛ أي (¬1): من كل من اليهود والنصارى وغيرهم؛ لأن {إِحْدَى} شائعة، والأمم جمع، فليس المراد إحدى الأمتين اليهود والنصارى فقط، ولم يقل من الأمم بدون إحدى؛ لأنه لو قال لجاز أن يراد بعض الأمم وأنَّث {إِحْدَى} لكون أمة مؤنثة. والمعنى (¬2): أي وأقسم المشركون بالله أغلظ الإيمان، وبالغوا فيها أشد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[43]

المبالغة، لئن جاءهم من الله رسول ينذرهم بأسه .. ليكوننّ أسلك لطريق الحق، وأشد قبولًا له من أيِّ أمة من الأمم التي قد خلت من قبلهم، أو المعنى: فواللهِ لئن أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم؛ أي: من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلًا لها على غيرها في الهدى والاستقامة، كما يقال للدّاهية العظيمة: هي إحدى الدواهي. والخلاصة: من إحدى الأمم على العموم، أو من الأمة التي يقال لها: إحدى الأمم تفضيلًا لها, ولا ينافي عموم ما هنا قوله في أواخر سورة الأنعام: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}؛ أي: اليهود والنصارى، ثم قوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}؛ أي: إلى الحق؛ لأن (¬1) تخصيص الطائفتين وكتابيهما هناك إنما هو لاشتهارهما بين الأمم، واشتهارهما فيما بين الكتب السماوية. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}؛ أي: نذير أفضل الكل، وأشرف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، {مَا زَادَهُمْ}؛ أي: ما زاد قريشًا ذلك النذير أو مجيئه. {إِلَّا نُفُورًا}؛ أي: إلا تباعدًا عن الحق والهدى، وهربًا منه، وفيه إشعار بأن (¬2) المثبت أصل النفور؛ لكونهم جاهليّة لم يأتهم نذير من عهد إسماعيل، وإسناد الزيادة إليه مجاز؛ لأنه هو السبب في أن زادوا في أنفسهم نفورًا. 43 - {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} بدل من {نُفُورًا}، أو مفعول له؛ أي: ما زادهم إلا عتوًّا وتكبرًا عن الإيمان به، أو ما زداهم إلا نفورًا لأجل الاستكبار والعتوّ، قال في "بحر العلوم": الاستكبار والتكبّر، كالاستعظام والتعظّم لفظًا ومعنى. انتهى. قال بعضهم: إن الله تعالى قد أنشأك من الأرض، فلا ينبغي لك أن تعلو على أمك، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} معطوف على {اسْتِكْبَارًا}، أو على {نُفُورًا}، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الأولى، وأصله: أن مكروا المكر السيء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف اتساعًا، وقال الراغب: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: محمود، وهو أن يتحرَّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، ومذموم، وهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الصاوي.

أن يتحرّى به فعل قبيح. انتهى. ومنه ما في هذه الآية، ولذا وُصف بالسيء. والمعنى: ما زادهم إلا المكر السيء في دفع أمره - صلى الله عليه وسلم -، وفي قتله وإهلاكه، ومعنى الآية؛ أي (¬1): ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية، فما زادهم مجيئه إلا بعدًا عن الإيمان بالله، وانصرافًا عن الحق، واستكبارًا عن اتباع آياته، ومكروا بالناس مكرًا سيئًا، فصدّوهم عن سبيله. والخلاصة: أنه قد تبين أن لا عهد لهم مع ادّعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها فضلت عن الطريق، فدعاها صاحبها، فازدادت بدعائه نفرة، وصارت بحيث يتعذّر أو يتعسّر ردّها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} بكسر همزة السيء، وقرأ الأعمش وحمزة بإسكانها وصلًا، فإما إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإما إسكانًا لتوالي الحركات، وإجراءً للمنفصل مجرى المتّصل، وقد غلّط كثير من النحاة هذه القراءة؛ ونزَّهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها، قالوا: وإنما يقف بالسكون، فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلًا، وتوجيه هذه القراءة ممكن بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف، كما في قول الشاعر: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ ... إِثْمًا مِنَ اللهِ وَلَا وَاغِلِ بسكون الباء من أشرب، ومثله قراءة من قرأ: {وما يشعرْكم} بسكون الراء، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو: {إلى بارئكم} بسكون الهمزة، وغير ذلك كثير في كلامهم، قال أبو على الفارسي: هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف، وروي عن ابن كثير: {ومكر السئْي} بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة، وهو مقلوب السيء المخفّف من السيء، كما قال الشاعر: وَلَا يُجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بِسَئْيٍ ... وَلَا يُجْزُوْنَ مِنْ غِلْظٍ بِلِيْنِ وقرأ ابن مسعود: {ومكرًا سيئًا} عطف نكرة على نكرة، ثم بيّن أن عاقبة مكرهم عادت عليهم بالوبال بقوله: {وَلَا يَحِيقُ}؛ أي: لا يحيط، {الْمَكْرُ السَّيِّئُ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

ولا ينزل وباله. {إِلَّا بِأَهْلِهِ} وهو الماكر، وقد حاق بهم يوم بدر؛ أي: ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم، وقُرىء (¬1): {يَحِيقُ} بضم الياء {الْمَكْرُ السَّيِّئُ} بالنصب؛ أي: ولا يحيق الله المكر السيىء إلا بأهله، روي الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا، فإن الله يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ولا تبغوا, ولا تعينوا باغيًا، فإن الله سبحانه يقول {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، ولا تنكثوا, ولا تعينوا ناكثًا، فإن الله يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} ". وقد وقع مثل هذا في كلام العرب، فقد قالوا: من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا والعبرة في الأمور بالعواقب. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. قال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت (¬2): كثيرًا ما نرى الماكر يفيده مكره، ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك؟ فالجواب: من وجوه: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم؛ حيث قتلوا ببدر. وثانيها: أنه عام، وهو الأصح، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المكر، وقال: "لا تمكروا, ولا تعينوا ماكرًا، فإنه تعالى يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلًا، فلا يريد نقضًا. وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلًا في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى. ثم هدّدهم بأن يحل بهم مثل ما أحلّ بمن قبلهم من العذاب فقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} النظر هنا بمعنى الانتظار، والاستفهام فيه إنكاريّ؛ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون، {إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: إلا عادة الله سبحانه في الأولين؛ أي: في الأمم المتقدّمة بتعذيب مكذبيهم وماكريهم؛ بأن ينزل بهؤلاء العذاب، كما نزل بأولئك. والفاء في قوله: {فَلَنْ} لتعليل (¬3) ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفخر الرازي. (¬3) روح البيان.

[44]

مجيئه، فجعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم؛ أي: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك بعد تكذيبك إلا أن أنزل بهم من العذاب على شركهم بي وتكذيبهم رسولي، مثل ما أنزلت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم؛ لأنه لن {تَجِدَ} أيها المخاطب، أو يا محمد {لِسُنَّتِ اللَّهِ} سبحانه، وعادته في تعذيب الأمم المكذبة. {تَبْدِيلًا}؛ أي: تغييرًا بأن يضع موضع العذاب الرحمة والعفو، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}؛ أي: نقلًا عن المستحق إلى غيره؛ بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم؛ أي: وهذه سنة الله في كل مكذب، فلا تغيّر ولا تبدّل، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى، كما قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما. وفي "الفتوحات": إن قلت (¬1): التبديل: تغيير الشيء عمّا كان عليه مع بقاء مادّته، والتحويل: نقله من مكان إلى آخر، فكيف قال ذلك مع أنّ سنة الله لا تبدّل ولا تحوّل؟ قلتُ: أراد بالأول أنّ العذاب لا يبدّل بغيره، وبالثاني أنه لا يحوّل عن مستحقّه إلى غيره، وجمع بينهما هنا تتميمًا لتهديد المسيء؛ لقبح مكره في قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} اهـ "كرخي". وفي الآية (¬2) تنبيه على أنّ فروع الشرائع وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدّل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره، كما في "المفردات". 44 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} للاستفهام الإنكاري، أو التقريري، وهو الظاهر من دخول همزة الاستفهام على حرف النفي، وعبارة "الصاوي" هنا: والاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، ونفي النفي: إثبات. والمعنى: بل ساروا في الأرض، ومرَّوا على ديار قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغيره، فنظروا آثار ديارهم. انتهى. وهي داخلة على محذوف يقتضيه ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3)

السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد مشركوا مكة في مساكنهم، ولم يسيروا, ولم يذهبوا في نواحي الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق للتجارة. {فَيَنْظُرُوا} ويعرفوا بمشاهدة آثار ديار الأمم الماضية العاتية، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ} كانوا {مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: على أي حالة كان أخذهم، فإنهم هلكوا، لما كذبوا الرسل، وآثار هلاكهم باقية في ديارهم {وَكَانُوا}؛ أي: والحال أنّ الذين من قبلهم كعاد وثمود وسبأ كانوا {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، وأطول منهم أعمارًا، وأكثر منهم أموالًا، فما نفعهم طول المدى، وما أغنى عنهم شدة القوى، وكثرة الغنى، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم، وهناك قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} استئناف إخبار عما كانوا عليه، وهنا قال: وكانوا؛ أي: وقد كانوا، فالجملة حال، فهما مقصدان ذكره أبو حيان. وهذه الجملة مسوقة (¬1) لتقرير معنى ما قبلها، وتأكيده؛ أي: أقعدوا ولم يسيروا في الأرض، فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول، وآثار عذابهم، وما أنزل الله بهم موجودةٌ في مساكنهم، ظاهرة في منازلهم، والحال وآثار أولئك قد كانوا أشد منهم قوة جسم، وأطول أعمارًا، وأكثر أموالًا، وأكبر أبدانًا. والخلاصة: أقعد هؤلاء المشركون بالله في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض التي أهلكتا فيها أهلها بكفرهم بنا، وتكذيبهم رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام في تجاراتهم، فينظروا على أي حالة كان أخذهم، ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم، ونجعلهم مثلًا لمن بعدهم، فيتعظوا لهم، ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام. ثم بين أنهم إذا صاروا على تمردهم وعنادهم .. فهم لا يفلتون من عقابه، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} تقرير لما يفهم مما قبله عن استئصال الأمم السابقة، واللام (¬2) و {من} لتأكيد النفي المستفاد من {ما} والمعنى: استحال من كل الوجوه أن يعجز الله سبحانه شيء ويسبقه ويفوته {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا} تأكيد آخر لـ {ما} النافية، ففي الكلام ثلاث تأكيدات {في الأرض}؛ أي: ما كان ليسبقه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[45]

ويفوته شيء من الأشياء كائنًا ما كان فيهما، {إِنَّهُ} سبحانه، {كَانَ عَلِيمًا}؛ أي: بليغ العلم بكل شيء في العالم مما وجد ويوجد {قَدِيرًا}؛ أي: بليغ القدرة على كل ممكن، ولذلك علم بجميع أعمالهم السيئة، فعاقبهم بموجبها، فمن كان قادرًا على معاقبة من قبلهم كان قادرًا على معاقبتهم إذا كانت أعمالهم مثل أعمالهم، أي: إنه تعالى عليم بمن يستحق أن تعجل له العقوبة، ومن قد تاب وأناب إلى ربه، ورجع عن ضلالته، قدير على الانتقام ممن شاء منهم، وعلى توفيق من أراد بالإيمان. والإشارة في الآية أنه ما خاب له تعالى وليٌ، ولا ربح له عدوٌ فقد وسع لأوليائه فضلًا كثيرًا، ودمرَّ على أعدائه تدميرًا، وسبب الفضل والولاية هو التوحيد، كما أن سبب القهر والعداوة هو الشرك، وأن الله تعالى أمهل عباده، ولم يأخذهم بغتة، ليروا أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام، وليعلموا شفقته وبره وكرمه، وأن رحمته سبقت غضبه. 45 - ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء، فيقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ...} بيَّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا لعلّهم يُنيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه، ويؤوب إلى رشده فقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ} سبحانه {النَّاسَ} جميعًا، ويعاقبهم {بِمَا كَسَبُوا} من الذنوب، وعملوا من الخطايا، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا}؛ أي: على ظهر الأرض ووجهها، والكناية راجعة إلى الأرض، وإن لم يسبق لها ذكر؛ لكونها مفهومة من المقام، وقال أبو حيان: وتقدَّم الكلام على نظير هذه الآية في سورة النحل، وقال هناك: {عَلَيْهَا}، وهنا قال: {عَلَى ظَهْرِهَا}، والضمير عائد على الأرض، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به، وهو قوبه: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}، وقال هناك: {بِظُلْمِهِمْ} وقال هنا: {بِمَا كَسَبُوا} انتهى. وفي "الجمل" وهنا قال: {عَلَى ظَهْرِهَا} استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن والتقلب عليها، والمقام هنا يناسب ذلك؛ لأنه حث على السير للنظر والاعتبار، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كتابه. فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق وجه الأرض وظهر الأرض، مع أن الظهر مقابل الوجه، فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد؟. قلتُ: صح ذلك باعتبارين: فإنه يقال لظاهرها: ظهر الأرض من حيث أن

الأرض كالدابة الحاملة الأثقال، ويقال له: وجه الأرض؛ لكون الظاهر منها كالوجه للحيوان، وأن غيره كالبطن، وهو الباطن منها اهـ "زاده". {مِنْ دَابَّةٍ}؛ أي: من نسمة تدب عليها كائنة ما كانت، سواء كانت من بني آدم؛ لأنهم المكلفون المجازون، ويعضده ما بعد الآية، أو من غيرهم أيضًا، فإن شؤم معاصي المكلفين يلحق الدواب في الصحارى، والطيور في الهواء بالقحط ونحوه، ولذا يقال من أذنب ذنبًا، فجميع الخلق - من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر - خصماؤه يوم القيامة، وقد أهلك الله في زمان نوح عليه السلام جميع الحيوانات إلا ما كان منها في السفينة، وذلك بشؤم المشركين وسببهم، وقال بعض الأئمة: ليس معناه أن البهيمة تؤخذ بذنب ابن آدم، ولكنها خلقت لابن آدم، فلا معنى لإبقائها بعد إفناء من خلقت له. والمعنى: أي ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام .. ما ترك على ظهر الأرض نسمة تدب؛ لشؤم المعاصي التي يفتنون فيها: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ}؛ أي: يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معين معلوم عند الله تعالى، حدده لأخذهم، لا يقصرون دونه، ولا يتجاوزونه إذا بلغوه، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي، وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين، ولو أخذهم بنفس الظلم .. لكان كل يوم إهلاك {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}؛ أي: وقت هلاكهم، وأخذهم، ومجازاتهم، وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن، أو يوم القتل والأسر {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى يجازيهم بما عملوا من خير أو شر؛ لأن الله تعالى {كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} لا يخفى عليه شيء من أمرهم، دقَّ أو جل، ظهر أو بطن. وجملة {إِن} تعليل للجواب المحذوف، كما قدرناه، وهو العامل في إذا، لا جاء، كما توهّمه الشوكاني؛ لأن القاعدة عندهم: أن إذا خافضة لشرطها منصوبة بجوابها. ثم إن البصير هو المدرك لكل موجود برؤيته، وخاصية هذا الاسم وجودز التوفيق عند ذكره، فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مئة مرة فتح الله بصيرته، ووفقه لصالح القول والعمل، نسأل الله سبحانه أن يفتح بصيرتنا إلى جانب اللاهوت،

ويأخذنا عن التعلق بعالم الناسوت، ويختمنا بالخير، ويجعلنا ممن أتاه بقلب سليم. الإعراب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة، {الذين} مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة له، {لَهُمْ}: خبر مقدم {نَارُ جَهَنَّمَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {الذين}، وجملة {الذين} معطوفة على قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} {لَا}: نافية {يُقْضَى}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُقْضَى}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثانٍ للموصول، أو حال من ضمير {لَهُمْ} {فَيَمُوتُوا}: {الفاء}: عاطفة سببية {يموتوا}: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النفي، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكون قضاء عليهم، فموتهم، {وَلَا يُخَفَّفُ}: {الواو} عاطفة {لا}: نافية {يُخَفَّفُ} فعل مضارع مغيَّر الصيغة {عَنْهُمْ}: جار ومجرور نائب فاعل لـ {يُخَفَّفُ} {مِنْ عَذَابِهَا}: متعلق بـ {يخفف}، ويجوز العكس، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {يُقْضَى}، {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف {نَجْزِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله {كُلَّ كَفُورٍ}: مفعول به، والتقدير: نجزي كل كفور جزاء كائنًا كالجزاء المذكور، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية، {هم}: مبتدأ، وجملة {يَصْطَرِخُونَ}؛ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، {فِيهَا}؛ متعلق بـ {يَصْطَرِخُونَ} {رَبَّنَا}؛ منادى مضاف، وجملة النداء مقول لقول محذوف وقع تفسيرًا لـ {يَصْطَرِخُونَ} تقديره؛ وهم يصطرخون فيها يقولون في صراخهم؛ ربنا إلخ، {أَخْرِجْنَا}: فعل أمر، معناه الدعاء، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، و {نا}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف على كونها

جواب النداء، {نَعْمَلْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بالطلب السابق، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب الطلب {صَالِحًا}: صفة أولى لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا، أو لمفعول به محذوف؛ أي: شيئًا صالحًا {غَيْر}: صفة ثانية على كلا التقديرين، وصحَّ الوصف به مع كونه مضافًا إلى المعرفة لعدم تعرفه بالإضافة؛ لأنه من الأسماء المتوغلة في الإبهام {غَيْر} مضاف، {الَّذِي}: مضاف إليه {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {نَعْمَلْ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: كنا نعمله. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري لدخولها على حرف النفي داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نمهلكم ولم نعمركم، بل أمهلناكم وعمرناكم، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف تقديره: فيقال لهم: ألم نمهلكم ولم نعمركم، والقول المحذوف معطوف على القول المحذوف عند قوله: {رَبَّنَا} {وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}: {لم}: حرف جزم {نُعَمِّرْكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بـ {لم}، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة {ما}: نكرة موصوفة بمعنى عمرًا أو زمنًا في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {نُعَمِّرْكُمْ}، أو ظرف متعلق به {يَتَذَكَّرُ}: فعل مضارع {فِيهِ}: متعلق به، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل لـ {يَتَذَكَّرُ}، وجملة {يَتَذَكَّرُ} صفة لـ {ما} {تذكر}: فعل ماض وفاعل مستتر صلة لـ {مَن} الموصولة، {وَجَاءَكُمُ}: {الواو}: عاطفة {جاءكم}: فعل ومفعول. {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فعل ماضٍ ومفعول به وفاعل معطوف على قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}؛ لأن معناه إخبار لكون الاستفهام فيه تقريريًا؛ أي: قد أمهلناكم وعمرناكم وجاءكم النذير، فلا عذر لكم، {فَذُوقُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم تعميرنا إياكم، ومجيء النذير لكم، وأردتم بيان ما هو المستحق لكم .. فأقول لكم: ذوقوا. {ذوقوا}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والمفعول محذوف تقديره: فذوقوا نار جهنم، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مقول للقول

المحذوف {فَمَا} {الفاء}: تعليلية {ما} نافية {لِلظَّالِمِينَ}: خبر مقدم {مِن}: زائدة {نَصِيرٍ}: مبتدأ مؤخر، ويجوز أن تكون {ما} حجازية عند من يجوّز تقديم خبرها على اسمها، إذا كان ظرفًا، والجملة الاسمية في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها معلّلة للأمر بالذوق. {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {عَالِمُ} خبره {غَيْبِ السَّمَاوَاتِ}: مضاف إليه {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة {إِنَّهُ} ناصب واسمه {عَلِيمٌ}: خبره {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: متعلق به، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها من علمه غيب السموات والأرض. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة صلة الموصول {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {خَلَائِفَ}، أو صفة له {فَمَنْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم جعلنا إياكم خلائف في الأرض، وأردتم بيان عاقبتكم، فأقول لكم: {من}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {كَفَرَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، فاعله ضمير يعود على {مَنْ} الشرطية {فَعَلَيْهِ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا {عليه}: خبر مقدم {كُفْرُهُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {وَلَا يَزِيدُ}: {الواو}: عاطفة {لَا}: نافية {يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {الْكَافِرِينَ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مَقْتًا}: مفعول ثان لـ {يَزِيدُ}، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة {مَنْ} الشرطية {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ}: فعل ومفعول أول وفاعل، {إِلَّا}: أداة حصر {خَسَارًا}: مفعول ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وكررت للتوكيد، ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم، واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين، وهما: المقت والخسار.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، ورأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد بلا همز، ولاثنين بالهمز، كما هنا، وهي بمعنى: أخبروني {شُرَكَاءَكُمُ}: مفعول أول لأرى، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}: صفة لـ {شُرَكَاءَكُمُ} {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تدعونهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَدْعُونَ} {أَرُونِي}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول أول، والجملة معترضة، وأعربها الزمخشري بدلًا من {أَرَأَيْتُمْ} {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ، وجملة {خَلَقُوا} خبره؛ أي: أي شيء خلقوه، أو {ما} اسم استفهام مبتدأ، {ذا} اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر لـ {ما}، وجملة {خَلَقُوا} صلة لذا الموصولة؛ أي: ما الذي خلقوه، والاستفهام فيه إنكاري {مِنَ الْأَرْضِ}: متعلق بـ {خَلَقُوا}، والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثانٍ؛ إما لـ {أَرَأَيْتُمْ}، وإما لـ {أَرُونِي}، فالمسألة من باب التنازع، أو مفعول ثانٍ لـ {أَرَأَيْتُمْ} وجملة {أَرُونِي} اعتراضية {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ}: {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري أضرب بها عن الاستفهام الإنكاري إلى استفهام آخر {لَهُمْ}: خبر مقدم {شِرْكٌ}: مبتدأ مؤخر {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {شِرْكٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {أَرَأَيْتُمْ} {أَمْ آتَيْنَاهُمْ}: {أَمْ}: منقطعة أيضًا تفسر ببل، وهمزة الاستفهام {آتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {كِتَابًا}: مفعول ثانٍ، والجملة الإضرابية في محل النصب معطوفة على ما قبلها {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة {هم}: مبتدأ {عَلَى بَيِّنَتٍ} خبره {مِنْهُ}: صفة لـ {بَيِّنَتٍ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {آتَيْنَاهُمْ} {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ}: {بَل}: حرف إضراب وابتداء {إنْ}: نافية {يَعِدُ الظَّالِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب مقول لـ {قُلْ} {بَعْضُهُمْ}: بدل من {الظَّالِمُونَ} بدل بعض من كل {بَعْضًا}: مفعول به لـ {يَعِدُ} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {غُرُورًا}: مفعول ثان لـ {يَعِدُ}، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلا بغرور، أو صفة لمصدر محذوف، أي: إلا وعدًا باطلًا.

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ}: خبره، والجملة مستأنفة {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تَزُولَا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، وجملة {أَنْ} المصدرية مع ما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي: عن زوالها، الجار والمجرور متعلق بـ {يُمْسِكُ}؛ لأنه بمعنى يمنع ويحفظ، أو منصوب على أنه بدل اشتمال من {السماوات} {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة واللام موطئة للقسم {أَنْ}: حرف شرط جازم {زَالَتَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها {إِنْ} نافية {أَمْسَكَهُمَا}: فعل ماض ومفعول به {مِنْ}: زائدة {أَحَدٍ}: فاعل {أمسك} {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور حال من أحد، أو صفة له، وعلى هذا يكون المعنى أحد غيره تعالى، وجملة {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وجواب {إن} الشرطية محذوف دلّ عليه جواب القسم على حد قول ابن مالك: وَاحْذِفْ لدَى اجتماعِ شَرْطٍ وقَسَم ... جَوابَ ما أخّرْتَ فهُوْ مُلْتَزَم وجملة {إن} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين القسم وجوابه. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله {حَلِيمًا}: خبر أول لها {غَفُورًا}: خبر ثان لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)}. {وَأَقْسَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {أَقْسَمُوا} {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: منصوب على المصدرية، أو على الحال؛ أي: جاهدين {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم {جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها {لَيَكُونُنَّ}:

{اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى {يكونن}: فعل مضارع ناقص مرفوع لعدم اتصاله بنون التوكيد لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو} المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع اسمها، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، أصله: ليكونونن، كما سيأتي {أَهْدَى}: خبر {يكون} {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَهْدَى}، وجملة {يكون} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مقول لقول محذوف، تقديره: وأقسموا بالله جهد أيمانهم قائلين لئن جاءهم نذير، وجواب {إن} الشرطية محذوف تقديره: إن جاءهم نذير يكونوا أهدى من إحدى الأمم، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة {لما}: حرف شرط غير جازم {جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب {ما}: نافية {زَادَهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {نَذِيرٌ} ومفعول به أول {إِلَّا}: أداة حصر، {نُفُورًا}: مفعول ثانٍ لزاد، والجملة الفعلية جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة قوله: وأقسموا. {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. {اسْتِكْبَارًا}: مفعول لأجله؛ أي: لأجل الاستكبار، أو بدل من {نُفُورًا}، أو حال من مفعول {زَادَهُمْ}، أي: حال كونهم مستكبرين {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {اسْتِكْبَارًا} {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}: معطوف على {اسْتِكْبَارًا}، أو على {نُفُورًا}، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل: المكر السيء أو أن هناك موصوفًا محذوفًا؛ أي: مكر العمل السيء {وَلَا يَحِيقُ} {الواو}: حالية {لا}: نافية {يَحِيقُ الْمَكْرُ}: فعل وفاعل {السَّيِّئُ} صفته {إِلَّا}: أداة حصر، {بِأَهْلِهِ}: متعلق بـ {يَحِيقُ}، والجملة في محل النصب حال من مكر السيء أو مستأنفة. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. {فَهَلْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت هؤلاء المشركين، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك: هل

ينظرون {هل}: حرف للاستفهام الإنكاري {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل {إِلَّا}: أداة حصر، {سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}: مفعول به، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: سنة الله في الأولين، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة {فَلَنْ}: {الفاء}: تعليلية {لن}: حرف نصب {تَجِدَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب بـ {لن}، {لِسُنَّتِ اللَّهِ}: مجرور باللام، وهو مصدر مضاف إلى فاعله؛ لأنه تعالى سنّها، الجار والمجرور متعلق بـ {تَبْدِيلًا} و {تَبْدِيلًا}: مفعول {تَجِدَ}؛ لأنه من وجد الضالة، بمعنى: أصاب، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية {وَلَنْ تَجِدَ}: فعل وناصب وفاعل مستتر {لِسُنَّتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تَحْوِيلًا}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}. {أَوَلَمْ}: {الهمزة} للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعدوا في منازلهم ولم يسيروا، والجملة المحذوفة مستأنفة {لم}: حرف نفي وجزم {يَسِيرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة {فَيَنْظُرُوا} {الفاء}: عاطفة {يَنْظُرُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يَسِيرُوا} {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر كان مقدم للزومه الصدارة {كَانَ عَاقِبَةُ}: فعل ناقص واسمه {الَّذِينَ}: مضاف إليه {قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، وجملة {كَانَ} في محل النصب مفعول {يَنْظُرُوا} معلقة عنها باسم الاستفهام {وَكَانُوا}: {الواو}: حالية {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {أَشَدَّ}: خبره {مِنْهُمْ} متعلق بـ {أَشَدَّ} {قُوَّةً}: تمييز منصوب باسم التفضيل، وجملة {كَانَ} في محل النصب حال من الذين {وَمَا كَانَ اللَّهُ}: {الواو}: استئنافية {مَا}: نافية {كَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه {لِيُعْجِزَهُ} {اللام}: حرف نفي وجحود {يعجز} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، و {الهاء} مفعول به {مِنْ}: زائدة {شَيْءٍ}: فاعل {فِي السَّمَاوَاتِ}: صفة لـ {شَيْءٍ} {وَاَلأَرضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} وجملة يعجز صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام

تقديره: وما كان الله لإعجاز شيء إياه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر كان، ولكن اللام بمعنى الباء، والتقدير: وما كان الله موصوفًا بإعجاز شيء في السموات والأرض إياه، وجملة {كان} مستأنفة مسوقة لتقرير ما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السابقة {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على الله {عَلِيمًا}: خبر أول لها {قَدِيرًا}: خبر ثانٍ، وجملة {قَدِيرًا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة {لو}: حرف شرط غير جازم، {يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {يُؤَاخِذُ} {كَسَبُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما كسبوه، ويحتمل كون {ما} مصدرية؛ أي: بكسبهم {ما} نافية {تَرَكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله {عَلَى ظَهْرِهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {تَرَكَ} {مِنْ}: زائدة {دَابَّةٍ}: مفعول {تَرَكَ}، وجملة {تَرَكَ} جواب {لو} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ}، {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة {لكن}: حرف استدراك {يُؤَخِّرُهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {إِلَى أَجَلٍ}: متعلق بـ {يؤخر} {مُسَمًّى}: صفة {لِأَجَلٍ}، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة {لو} الشرطية {فَإِذَا جَاءَ} {الفاء}: عاطفة {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {جَاءَ أَجَلُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وجوابه محذوف تقديره: فيجازيهم على أعمالهم، والفاء رابطة الجواب، وجملة إذا معطوفة على الجملة الاستدراكية {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على الله {بِعِبَادِهِ}: متعلق بـ {بَصِيرًا} {بَصِيرًا}: خبر كان، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الجواب المحذوف.

التصريف ومفردات اللغة {يَصْطَرِخُونَ}: أي: يصيحون أشد الصياح للاستغاثة، أصله: يصترخون بوزن يفتعلون من الاصطراخ، والاسطراخ: افتعال من الصراخ، وهو الصياح بجهد وشدة، دخلت الطاء فيه للمبالغة كدخولها في الاصطبار والاصطفاء والاصطناع والاصطياد جريًا على القاعدة المشهورة عند الصرفيين: أن الفعل المبدوء بأحد أحرف الإطباق، وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء، إذا صيغ منه على وزن افتعل، وما يتصرف منه .. أبدلت تاء الافتعال طاء مثال ذلك: الأفعال: صلح ضرب طرد ظلم، إذا بنينا منها صيغة افتعل .. قلنا على القياس: اصتلح اضترب اطترد اظتلم، ولتخفيف اللفظ أبدلت التاء طاء، والمجانسة بينهما ظاهرة، فنقلت إلى اصطلح اضطرب اطرد اظطلم، ويجوز في نحو: اظطلم وجهان آخران: اظّلَم اطلَّم. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} والتعمير: إطالة العمر، والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، كما سبق. {بِذَاتِ الصُّدُورِ} هو المعتقدات والظنون التي في النفوس. {خَلَائِفَ} جمع خليفة، وهو الذي يقوم بما كان قائمًا به سلفه، وأما خلفاء فجمع خليف، وكلاهما بمعنى المستخلف بصيغة اسم المفعول. {مَقْتًا}؛ أي: بغضًاواحتقارًا، قال الراغب: المقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح اهـ. {خَسَارًا}؛ أي: خسارة، فالعمر كرأس المال إذا اشترى به صاحبه رضا الله تعالى ربح، وإذا اشترى سخطه خسر. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: يحفظهما بقدرته، فإن الإمساك ضد الإرسال، وهو التعلق بالشيء وحفظه {أَنْ تَزُولَا}؛ أي: تضطربا وتنتقلا من أماكنهما، والزوال: الذهاب، وهو يقال في كل شيء قد كان ثابتًا قبل، أي: كراهة زوالهما عن أماكنهما، فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ. {حَلِيمًا} والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، كما في "المفردات".

{وَأَقْسَمُوا} أقسم: حلف، أصله: من القسامة، وهي أيمان تقسم على أولياء المقتول، ثم صار اسمًا لكل حلف، كما في "المفردات". {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}؛ أي: غاية اجتهادهم فيها، قال الفراء: للجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك؛ أي: ابلغ غايتك، والجهد بالضم الطاقة، وعند غير الفراء كلاهما بمعنى الطاقة اهـ "زاده". وإنما كان القسم بالله غاية أيمانهم؛ لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق .. حلفوا بالله. {لَيَكُونُنَّ} بضم النون الأولى مضارع، اتصل به واو الجماعة، ولم تباشره نون التوكيد، أصله: ليكونونن بثلاث نونات، أولاها نون الرفع، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، وهو معرب مرفوع بثبوت النون لعدم مباشرته بنون التوكيد لوجود الفاصل، وهو واو الجماعة. {نُفُورًا}؛ أي: تباعدًا عن الحق والهدى. {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}، الاستكبار: التكبر، كالاستعظام بمعنى التعظم. {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} قال الراغب: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، كما مر عنه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} قال في "القاموس": حاق به يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا: أحاط به، كأحاق وحاق بهم العذاب: أحاط ونزل، كما في "المختار"، والحيق: ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، أي: ولا يصيب ولا ينزل. {يَنْظُرُونَ} النظر هنا بمعنى الانتظار {إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} والسنة: الطريقة، وسنة النبي: طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله: طريقة حكمته. {تَبْدِيلًا} بوضع الرحمة موضع العذاب. {تَحْوِيلًا} بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}. ومنها: المبالغة في نحو {كَفُورٍ} و {شكور} ونحو: {حَلِيمًا} {عَلِيمًا} {قَدِيرًا}؛ فإنها من صيغ المبالغة.

ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}؛ لأن همزة الإنكار إذا دخلت على حرف النفي أفادت التقرير, لأنه في معنى: عمرناكم، نظيره قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}؛ لأنه في معنى: قد شرحنا صدرك، ولا تغتر بما ذكره أكثر المفسرين هنا من أن الاستفهام إنكاري؛ لأنه غير صواب، والله أعلم. ومنها: التهكُّم في قوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} مثل قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: خطرات القلوب، ففيه إسناد ما للحال إلى المحل؛ لأن الصدور محل القلوب، فالإضافة فيه لأدنى ملابسة. ومنها: التكرير في قوله: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} لزيادة التشنيع والتقبيح على من كفر بالله تعالى، وللتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة. ومنها: التنكير للتعظيم في كل من الأمرين؛ أي: مقتًا عظيمًا ليس وراءه خزي وصغار، وخسارًا عظيمًا ليس وراءه شرٌّ وتبار. ومنها: الاستفهام الإنكاري للتوبيخ في قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}، وكذلك قوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}. ومنها: الكناية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ لأنه كناية عن حفظهما؛ لأن الإمساك في الأصل: التعلق بالشيء، فكنى به عن الحفظ. ومنها: ائتلاف اللفظ مع المعنى في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، وهو أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضًا، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها غير لائقة بمكانها؛ لأنه كانت هنا جميع الألفاظ المجاورة للقسم كلها من المستعمل المتداول فيه. ومنها: إرسال المثل في قوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قال كعب الأحبار لابن عباس في التوراة: من حفر حفرة لأخيه وقع فيه، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.

ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}؛ لأن إسناد الزيادة للنذير مجاز مرسل؛ لأنه سبب في ذلك كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} اهـ "سمين". ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}؛ لأن همزة الإنكار دخلت على حرف النفي، فأفادت التقرير؛ لأن نفي النفي إثبات، كما مر، فصار المعنى: قد ساروا ونظروا. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ لأن اللام في {لِيُعْجِزَهُ}، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} لتأكيد النفي المستفاد من {ما}، وكذا {لا} في قوله: {وَلَا فِي الْأَرْضِ} تأكيد آخر لـ {ما} النافية، ففي الكلام ثلاث تأكيدات. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} فقد شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها، ويحمل عليها أنواع الأثقال، ثم حذف المشبه به وهو الدابة، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر على طريقة الاستعارة المكنية. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وجملة ما تضمنته هذه السورة: 1 - الأدلة على قدرة الله سبحانه بإبداعه للكون، وأنه المنعم المتفضل. 2 - تذكير الناس بالنعم ليشكروها. 3 - تثبيت فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر قصص المكذبين الأنبياء والمرسلين. 4 - نداء الناس عامة بأن يتحلو بالفضائل، ويتخلوا عن الرذائل، ولا يتبعوا خطوات الشيطان، وينظروا فيما أبدع الرحمن من الآيات في الأرض والسموات. 5 - ضرب الأمثال لما سلف من القسمين، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة. 6 - تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين وصالحين متقين، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقسامًا ثلاثة. 7 - وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين، وما يلقاه كل منهما يوم القيامة (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة فاطر، في اليوم الثاني من شهر صفر المبارك قبيل الظهر من المشهور المنسلكة في سلك سنة أربع عشرة وأربع مئة وألف 2/ 2/ 1414 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، نسأل الله الكريم الرحيم لطفه ورحمته وعفوه العميم وعافيته الدائمة في الدنيا والدين لنا ولأحبابنا ولإخواننا المسلمين، آمين يا رب آمين، بحرمة كتابك الكريم.

سورة يس

سورة يس سورة يس سورة مكية، قال القرطبي: بالإجماع إلا أن فرقة قالت: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} نزلت في بني سلمة من الأنصار، حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس زعمًا صحيحًا، وسيأتي بيان ذلك، وقيل: إلا قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ...} الآية. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: سورة يس نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. تسميتها: وسميت هذه السورة سورة يس؛ لأن الله سبحانه افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وتسمى أيضًا القلب والدافعة والقاضية والمعمِّمة. وآيها: ثلاث وثمانون آية، وكلماتها: سبع مئة وتسع وعشرون كلمة، وحروفها: ثلاثة آلاف حرف. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: سورة يس كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. مناسبتها لما قبلها: 1 - أنه لما ذكر في السورة السالفة قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، وقد أعرضوا عنه وكذبوه .. افتتح هذه السورة بالقسم بصحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم؛ لينذر قومًا ما أنذر آباؤهم. 2 - أنه قال فيما قبلها: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، وقال في هذه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}، وقال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}، وورد في فضلها أحاديث كثيرة:

فمنها: ما روي عن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤا يس على موتاكم". ومنها: ما ذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من ميت يقرأ عليه يس إلا هوّن الله عليه". ومنها: ما في مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر الله له في تلك الليلة". أخرجه أبو نعيم الحافظ. ومنها: ما روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بها قراءة القرآن عشر مرات". ومنها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها، وتغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة: المعممة"، قيل: يا رسول الله، وما المعممة؟ قال: "تعم صاحبها بخير الدنيا، وتدفع عنه أهوال الآخرة، وتدعى أيضًا: الدافعة والقاضية"، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: تدفع عن صاحبها كل سوء، وتقضي له كل حاجة". ومنها (¬1): ما روى الدارمي عن شهر بن حوشب قال: قال ابن عباس: من قرأ يس حين أصبح يعطى يسر يومه حتى يمسي، ومن قرأها في صدر ليلة أعطي يسر ليلته حتى يصبح. ومنها: ما روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن، فلا يقرؤون شيئًا سوى طه ويس"، وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قسوة فليكتب يس في جام؛ أي: إناء بزعفران، ثم يشربه. ومنها: ما روى الثعلبي عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دخل مقبرة، فقرأ سورة يس .. خفف العذاب عن أهلها ذلك اليوم، وكان له بعدد من فيها حسنات" وقال يحيى بن أبي كثير: إن من قرأ سورة يس ليلًا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، وقد حدثني بهذا ¬

_ (¬1) القرطبي.

من جربها، ذكره الثعلبي وابن عطية، وقال ابن عطية: ويصدق ذلك التجربة، اهـ "قرطبي". وفي "البيضاوي": عن ابن عباس (¬1): أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس، من قرأها يريد بها وجه الله غفر له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن عشر مرات، وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس .. نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفًا، يصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون غسله، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت .. لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة، فيشربها وهو على فراشه، فيقبض روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان. اهـ. ومنها: "يس لما قرئت له". قلت: وورد في فضلها أحاديث كثيرة ذكرت أكثرها هنا، وأغلبها أحاديث فيها مقال، وفيها موضوعات، وإنما ذكرتها استئناسًا بها في فضل هذه السورة الكريمة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}. المناسبة قد سبق لك بيان وجه المناسبة بين آخر السورة السابقة وأول هذه السورة. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن هؤلاء المشركين قد ختم الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون .. أردف ذلك بذكر مَثَلٍ لقوم حالهم كحالهم في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب والاستكبار على الرسل، وصم الآذان عن سماع الوعظ

والإرشاد، وهم أهل قرية أنطاكية ببلاد الشام، فقد كان قصصهم مع رسل الله، كقصص قومك معك في العناد والاستكبار والعتو والطغيان (¬1). أسباب النزول قوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات (¬2): ما أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب عنهم فنزلت: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} إلى قوله: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد. قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إلى قوله: {لَا يُبْصِرُونَ} سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزل الله تعالى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إلى قوله: {يُبْصِرُونَ} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو أين هو أين هو؟ ولا يبصر. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري: قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ...} الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا" وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله، قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا الحديث غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية، قلت: فلا وجه لقوله؛ لأنه إذا ثبت أن هذه الآية نزلت بمكة، فلا مانع من نزولها مرتين، وإن لم يثبت نزولها بمكة، فقد تكون السورة مكية إلا آية، كما هو معروف، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - قوله {يس (1)} قرأ الجمهور (¬1): بسكون النون مظهرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش: بإدغام النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح النون، وقال الزجاج: النصب على أنه مفعول لفعل مقدر، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه، أنه اسم للسورة، أو على البناء، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق أيضًا والسمال ونصر بن عاصم: بكسرها على البناء أيضًا كجير، وقرأ الكلبي وهارون الأعور ومحمد بن السميقع: بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط، وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث، وقال الكلبي: هي بلغة طيء، يا إنسان، وقيل: الحركة لالتقاء الساكنين، الفتح لطلب الخفة كأين وكيف، والضم كحيث، والكسر على أصل التقاء الساكنين كأمسِ. وإذا قيل إنه قسم .. فيجوز أن يكون معربًا بالنصب على ما قاله أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين، وعبارة (¬2) ابن الجوزي هنا: وقرأ الحسن وأبو الجوزاء: {يس (1)} بفتح الياء وكسر النون، وقرأ أبو المتوكل الناجي وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعًا، وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السور، وبعض العرب يسن، والقرآن بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين: أحدهما: أن يس اسم للسورة، فكأنه قال: اتل يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف. والثاني: فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود؛ لأنه حرف هجاء. انتهى. وقال صاحب "الروح": {يس (1)} إما مسرود (¬3) على نمط التعديد، فلا حظ له من الإعراب أو اسم للسورة، وعليه الأكثر، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف. (¬2) زاد المسير. (¬3) روح البيان.

محذوف؛ أي: هذه يس، أو النصب على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: اقرأ يس، ويؤيِّد كونه اسم السورة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن خلق آدم بألفي عام، فإذا سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا". قال الشوكاني (¬1): واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل: معناها يا رجل، أو يا إنسان، قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة، ومن قال معناه: يا رجل، أو يا إنسان .. لم يقف عليه، وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد - صلى الله عليه وسلم - دليله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} قال السيد الحموي: يَا نَفْسُ لا تَمْحَضِيْ بِالْوِدِّ جَاهِدَةً ... عَلَى الْمَوَدَّةِ إلَّا آلَ يَاسِيْنَا ومنه قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} أي: على آل محمد، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين، قال الواحدي: قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان؛ يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو بكر الوراق: معناه: يا سيد البشر، وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى، روى ذلك عنه أشهب، وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق: أن معناه: يا سيد، وقال كعب: هو قسم أقسم الله به، وقالت فرقة (¬2): {يا} حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان، انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ورجح الزجاج: أن معناه يا محمد، وقال البقلي: أقسم بيد القدرة الأزلية وسناء الربوبية. واختلفوا هل هو عربي، أو غير عربي؟: فقال سعيد بن جبير وعكرمة: حبشي، وقال الكلبي: سرياني، تكلَّمت به العرب .. فصار من لغتهم، وقال الشعبي: هو بلغة طيء، وقال الحسن: هو بلغة كلب، وذهب قوم (¬3) إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلًا إلى إدراك معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، وقالوا: إن الله تعالى منفرد بعلمها، ونحن نؤمن بأنها من جملة القرآن العظيم، ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[2]

ونكل علمها إليه تعالى ونقرأها تعبدًا وامتثالًا لأمر الله تعالى، وتعظيمًا لكلامه، وإن لم نفهم منها ما نفهمه من سائر الآيات، وهذا القول هو الأصح الأسلم الذي عليه أكثر السلف. 2 - {وَالْقُرْآنِ} بالجر على أنه مقسم به ابتداء، والواو فيه واو القسم؛ أي: أقسم بالقرآن الحكيم، وقيل: الواو للعطف على يس إن جعل يس مقسمًا به؛ أي: أقسم بيس، وبالقرآن الحكيم، قال النقاش: لم يقسم الله سبحانه لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تعظيمًا له وتمجيدًا، فقال في "إنسان العيون". من خصائصه عليه السلام أن الله تعالى أقسم على رسالته بقوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}. اهـ. {الْحَكِيمِ}؛ أي: الحاكم، كالعليم بمعنى العالم، فإنه يحكم بما فيه من الأحكام، فهو فعيل بمعنى: فاعل، أو المحكم المصفى من التناقض والعيب ومن التغير بوجه ما، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهو الذي أحكم نظمه وأسلوبه، وأتقن معناه وفحواه، فهو فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل، فهو عقيد؛ أي: معقد، أو (¬1) ذي الحكمة؛ أي: المتضمن لها والمشتمل عليها، فإنه منبع كل حكمة، ومعدن كل عظة، فيكون بمعنى النسب مثل تأمر بمعنى ذي تمر، أو هو من قبيل وصف الكلام بصفة المتكلم به؛ أي: الحكيم قائله. 3 - {إِنَّكَ} يا أكمل الرسل، ويا أفضل الكل، وهو خطاب المواجهة بعد شرف القسم به، وهو مع قوله: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب للقسم، والجملة لرد إنكار الكفرة بقولهم في حقه - صلى الله عليه وسلم - لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا. قال في "بحر العلوم": هو من الإيمان الحسنة البديعة لتناسب بين المرسل به والمرسل إليه اللذين: أحدهما: المقسم به المنزل، والآخر المقسم عليه، المنزل إليه. انتهى. وهذه الشهادة منه تعالى من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

4 - {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} متعلق بـ {الْمُرْسَلِينَ}، والمعنى: أي: إنك يا محمد لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، وهي التوحيد والاستقامة في الأمور كلها، قال ابن الجوزي: وأحسن (¬1) ما قيل في العربية أن يكون {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خبر {إن}، ويكون قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} خبرًا ثانيًا لها، فيكون المعنى: إنك لمن المرسلين، إنك على صراط مستقيم. اهـ. ويجوز أن يكون على صراط مستقيم حالًا من الضمير المستكن في خبر {إِنّ}، والمعنى: أي: أقسم بالقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنك أيها الرسول لمن المرسلين الذين هم على دين قويم، وشرع مستقيم موصل إلى الجنة والرضى. فإن قلت (¬2): أيُّ حاجة إلى قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}، ومن المعلوم أن الرسل لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلتُ: فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحًا، وإن دل عليه لمن المرسلين التزامًا، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت استقامته، وقد نكره ليدل له على أنه أرسل من بين الصراط على صراط مستقيم لا يوازيه صراط، ولا يكتنه وصفه في الاستقامة، فالتنكير للتفخيم، كما سيأتي. 5 - {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش: برفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا القرآن هو تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه؛ أي: منزل منه سبحانه وتعالى، عبر عن المنزل بالمصدر مبالغةً حتى كأنه نفس التنزيل، ويجوز أن يكون خبرًا لقوله: يس إن جعل اسمًا للسورة؛ أي: سورة يس منزل من العزيز الرحيم، لا مختلق من عند محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وطلحة والأشهب وعيسى بخلاف عنهما: بالنصب؛ إما على المصدرية؛ أي: نزَّل الله ذلك تنزيلًا من العزيز الرحيم، أو على المدح؛ أي: أمدح تنزيل العزيز الرحيم؛ أي: أمدح كتابًا منزلًا من العزيز الرحيم، وقرأ (¬3) أبو حيوة وأبي بن كعب وأبو رزين وأبو العالية ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان. (¬3) زاد المسير.

[6]

والجحدري وأبو جعفر يزيد بن القعقاع: بالجر على أنه نعت للقرآن؛ لأنه بمعنى المنزل، أو بدل منه، وعبر عنه بالمصدر، كما تقول العرب: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه لكمال عراقته في كونه منزلًا من عند الله تعالى، فكأنه نفس التنزيل كما مر آنفًا. والعزيز (¬1): هو الغالب على جميع المقدورات، المتكبِّر الغني عن طاعة المطيعين، المنتقم ممن خالفه، ولم يصدق القرآن، وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة .. أعانه الله تعالى وأعزه، فلم يحوجه إلى أحدٍ من خلقه، والرحيم: هو المتفضل على عباده المؤمنين بإنزال القرآن ليوقظهم من نوم الغفلة، ونعاس النسيان، وخاصية هذا الاسم رقة القلب والرحمة للمخلوقين، فمن دوامه كل يوم مئة مرة .. كان له ذلك، ومن خاف الوقوع في مكروه .. ذكره وقرينه وهو اسم الرحمن. 6 - قوله: {لِتُنْذِرَ} متعلق بـ {تَنْزِيلَ}؛ أي: نزل عليك القرآن لتنذر، أو بفعل مقدر يدل عليه من المرسلين؛ أي: أرسلناك لتنذر؛ أي: لتخوف بالقرآن، {قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} {مَا}: نافية، والجملة صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار، والمعنى: لتنذر قومًا غير منذر آباؤهم الأقربون؛ لتطاول مدة الفترة، ولم يكونوا من أهل الكتاب، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} يعني: العرب، وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} إلى قوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، ويجوز أن تكون {مَا} موصولة، أو موصوفة على أن تكون الجملة مفعولًا ثانيًا {لِتُنْذِرَ} بحذف العائد، والمعنى: لتنذر قومًا العذاب الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذر قومًا عذابًا أنذره آباؤهم الأبعدون في زمن إسماعيل عليه السلام، وإنما وصف الآباء في التفسير الأول بالأقربين، وفي الثاني بالأبعدين؛ لئلا يلزم أن يكونوا منذرين وغير منذرين، فآباؤهم الأقدمون آتاهم النذير لا محالة، بخلاف آبائهم الأدنين، وهم قريش، فيكون ذلك بمعنى قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}، ويجوز ان تكون {مَا} مصدرية، فتكون نعتًا لمصدر مؤكد؛ أي: لتنذر قومًا إنذارًا كائنًا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب، {فَهُمْ}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

أي (¬1): القوم وآباؤهم الأقربون، {غَافِلُونَ} عن أمر الآخرة، جاحدون لها، إن قلنا: إن {مَا} نافية، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر به آباؤهم الأقدمون لامتداد المدرة إن قلنا إن {مَا} موصولة، أو موصوفة. وعبارة "الشوكاني" قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} (¬2) متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأول؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الأوجه الأخيرة متعلق بقوله {لِتُنْذِرَ}؛ أي: فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله. وعبارة "الروح": قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} متعلّق (¬3) بنفي الإنذار مترتب عليه، والضمير للفريقين: القوم والآباء؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم جميعًا لأجله غافلون عن الإيمان والرشد، وحجج التوحيد وأدلة البعث، والفاء داخلة على الحكم المسبَّب عما قبله، فالنفي المتقدِّم سبب له؛ يعني: أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، ويجوز أن يكون متعلقًا بقوله: {لِتُنْذِرَ} ردًا لتعليل إنذاره، فالضمير للقوم خاصة؛ أي: فهم غافلون عما أنذر به آباؤهم الأقدمون؛ لامتداد المدة، فالفاء داخلة على سبب الحكم المتقدم. والمعنى (¬4): أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر، وإصلاح المجتمع، وذكرهم وحدهم هنا؛ لأن الخطاب كان معهم، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة، كما قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، 7 - واللام في قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ}؛ أي: موطئة للقسم؛ أي: لقد حقت كلمة العذاب العاجل ووجبت {عَلَى أَكْثَرِهِمْ}؛ أي: على أكثر أهل مكة، كأبي جهل وأصحابه، {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: في علم الله تعالى، وقتلوا يوم بدر على الكفر؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد وجب وثبت قضاؤنا بالعذاب على أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

على الإطلاق، أو أكثر كفار العرب، أو أكثر القوم الذين تنذرهم، وهم أهل مكة، وهم من مات على الكفر وأصر عليه أول حياته، فيتفرع قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} على ما قبله؛ أي: لا يؤمنون بإنذارك إياهم، والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله؛ أي: لأن الله تعالى قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه، وذهب الجمهور (¬1): إلى أن المراد بهذا القول قوله تعالى لإبليس عند قوله: لأغوينهم أجمعين: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}، وهو المعنيُّ بقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وهذا القول لما تعلق بمن تبع إبليس من الجن والإنس، وكان أكثر أهل مكة ممن علم الله منهم الإصرار على اتباعه، واختيار الكفر إلى أن يموتوا .. كانوا ممن وجب وثبت عليهم مضمون هذا القول، لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه، بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم من التذكير والإنذار، ولما كان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم إصرارهم على الكفر إلى الموت .. كان قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} متفرعًا في الحقيقة على ذلك، لا على ثبوت القول، وفُهِم من قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أن أهل السعادة أقل، إنما كان أهل السعادة أقل؛ لأن المقصود من الإيجاد ظهور الخليفة من العباد، وهو يحصل بواحدٍ مع أن الواحد على الحق، هو السواد الأعظم في الحقيقة. فمن آمن فقد أعلى الدين، ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى، ومن كفر .. فقد أراد إطفاء نور الله، والله متم نوره، ولما قال المشركون يوم أحد: أعل هبل، أعل هبل .. أذلهم الله وهبلهم، وهو صنم كان يعبد في الجاهلية، وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وهو الآن مكبوب على وجهه، وبلط الملوك فوقه البلاط، فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار، وإلا فاسكت، والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها، فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله، لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط. ومعنى الآية (¬2): وعزتي وجلالي لقد وجب العقاب على أكثرهم؛ لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله، لما علم من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[8]

خبث نفوسهم، وسوء استعدادهم، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان، ولا تخبت لله في أيِّ زمان، 8 - ثم ضرب لهم مثلًا، فقال: {إِنَّا} بمقتضى قهرنا وجلالنا {جَعَلْنَا}؛ أي: خلقنا، أو صيرنا، {فِي أَعْنَاقِهِمْ}؛ أي: في أعناق أكثر أهل مكة، جمع: عنق، {أَغْلَالًا} ثقالًا عظيمة، جمع: غل، وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، سواء كان من الحديد أو غيره، وقال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع من تحرك الرأس. اهـ. والفاء (¬1) في قوله: {فَهِيَ} للنتيجة، أو التعقيب؛ أي: فالأغلال منتهية، {إِلَى الْأَذْقَانِ} جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فالأغلال لعظمها وضخامتها منتهية إلى أذقانهم، بحيث لا يتمكَّن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات، ووجه وصول الغل إلى الذقن، هو إما كونه غلظيًا عريضًا يملأ ما بين الصدر والذقن، فلا جرم يصل إلى الذقن، ويرفع الرأس إلى فوق، وإما كون طوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، بحيث يكون في ملتقى طرفين تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجًا عن الحلقة إلى الذقن، فلا يخلِّيه يحرِّك رأسه. {فَهُمْ}؛ أي: أكثر أهل مكة بسبب ذلك {مُقْمَحُونَ}؛ أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، فإن الإقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح قموحًا عند رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب؛ إما لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، قال بعضهم: لفظ الآية - وإن كان ماضيًا - لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، ولهذا قال الفقهاء: كره جعل الغل في عنق عبده؛ لأنه عقوبة أهل النار، قال الفقيه: إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الإباق، بخلاف التقييد، فإنه غير مكروه؛ لأنه سنة المسلمين في المتمردين. هذا والجمهور (¬2) على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر، وعدم امتناعهم منه، وعدم التفاتهم إلى الحق، وعدم انعطاف أعناقهم، نحوه: بحال الذين غلت أعناقهم، فوصلت الأغلال إلى أذقانهم، وبقوا رافعين رؤوسهم، غاضين أبصارهم، فهم أيضًا لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

يطأطئون رؤوسهم له، ولا يكادون يرون الحق، أو ينظرون إلى جهته. قال أبو حيان: والظاهر (¬1) أن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} هو حقيقة لا استعارة، لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون .. أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. انتهى. وقرأ ابن عباس (¬2): {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا} قال الزجاج: أي: في أيديهم، قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالًا، فهي إلى الأذقان، فلفظ {هي} كناية عن الأيدي، لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق .. فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله تعالى: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ}، فقد علم أنه يراد به الأيدي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: {إنا جعلنا في أيديهم أغلالا}، وعن ابن مسعود أنه قرأ: {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا}، كما روي سابقًا عن قراءة ابن عباس. ومعنى الآية: أي إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا، فهي واصلة إلى الأذقان ملصقة بها، فهم من جراء ذلك مقمحون؛ أي: مرفوعو الرؤوس؛ إذ أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجًا من الحلقة إلى الذقن، فلا يمكنه من أن يطأطىء رأسه، فلا يزال مقمحًا. والمراد: منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر، فهم غاضوا أبصارهم، لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطؤون رؤوسهم له، 9 - ثم أكد ما سبق، وزاده بيانًا وتفصيلًا، فقال: {وَجَعَلْنَا} لهم مع ما ذكر سابقًا؛ أي: خلقنا لهم من كمال غضبنا عليهم وصيرنا، {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من قدامهم {سَدًّا} عظيمًا؛ أي: حاجزًا يحجزهم عن الإبصار، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}؛ أي: من ورائهم {سَدًّا} عظيمًا. وقرأ عبد الله وعكرمة والنخعي وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وابن كثير وحفص (¬3): {سَدًّا} بفتح السين في الموضعين، وقرأ الجمهور: بالضم، وكلاهما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

لغتان بمعنى، أي منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان, كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر: وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَالَكَ أَنَّنِيْ ... ضُرِبَتْ عَلَى الأَرْضُ بِالأَسْدَادِ لَا أَهْتَدِيْ فِيْهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةٍ ... بَيْنَ الْعُذِيْبِ وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}؛ أي: غطينا أبصارهم، وجعلنا عليها غشاوة، فالكلام على حذف مضاف، {فَهُمْ} بسبب ذلك، {لَا يُبْصِرُونَ}؛ أي: لا يقدرون على إبصار شيء، والفاء (¬1) داخلة على الحكم المسبب عما قبله؛ لأن من أحاطه السد من جميع جوانبه لا يبصر شيئًا؛ إذ الظاهر أن المراد ليس جهتي القدام والخلف فقط، بل يعم جميع الجهات، إلا أن جهة المقدام لما كانت أشرف الجهات وأظهرها، وجهة الخلف كانت ضدها .. خُصت بالذكر. قال الفراء (¬2): فألبسنا أبصارهم غشاوة؛ أي: عمي فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة: إنَّ المعنى: لا يبصرون الهدى، وقال السدي: لا يبصرون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حين ائتمروا على قتله، وقال الضحاك وجعلنا من بين أيديهم سدًا؛ أي: في الدنيا، ومن خلفهم؛ أي: في الآخرة، فأغشيناهم فهم لا يبصرون؛ أي: عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم: الآخرة، وما خلفهم: الدنيا. وقرأ الجمهور: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بالغين المعجمة؛ أي: غطينا أبصارهم، فهو على حذف مضاف، كما مر، وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وأبو حنيفة وابن مقسم: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بالعين المهملة، من العشاء، وهو ضعف البصر؛ أي: جعلنا عليها غشاوة، ومنه {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ}. والآية إما تتمّة للتمثيل وتكميل له؛ أي: تكميل؛ أي: وجعلنا مع ما ذكر من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

أمامهم سدًا عظيمًا، ومن ورائهم سدًا كذلك، فغطينا بهما أبصارهم، فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلًا، وإما تمثيل مستقل، فإن ما ذكر من جعلهم حصورين بين سدين هائلين قد غطّينا بهما أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا قطعًا كافٍ في الكشف عن فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغيّ والجهالات، محرومين من النظر في الأدلّة والآيات. قال الإِمام (¬1): المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان: قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم، فشبّه ذلك بالغسل الذي يجعل صاحبه مقمحًا لا يرى نفسه، ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق، فشبّه بالسد المحيط، فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق، فلا تتبيّن له الآيات التي في الآفاق، كما أن المقمح لا تتبيّن له الآيات التي في الأنفس، فمن ابتلى بهما حرم من النظر بالكلية؛ لأن الدلائل والآيات مع كثرتها منحصرة فيهما، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} مع قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}. إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق. وقيل (¬2): نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام، وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي .. ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرًا ليرميه، فلما أوما إليه .. رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، قال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، قال: واللهِ ما رأيته، ولقد سمعت صوته، فقال الرجل الثالث: واللهِ لأشدخنَّ رأسه، ثم أخد الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه، حتى خرّ على قفاه مغشيًّا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل، فلما دنوت منه .. فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلًا أعظم منه حال بيني وبينه، فواللاتِ والعزى لو دنوت منه .. لأكلني، فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[10]

مُقْمَحُونَ (8)}؛ أي: إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة، وهو في الصلاة، فها هم مغلولون من كل خير محرومون. {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} الخ؛ أي: وجعلنا من أمامهم سترًا حيث أرادوا أن يرجموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة، وهو في الصلاة، فلم يبصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن خلفهم سدًّا، حتى لا يبصروا أصحابه، فغطَّينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيؤذوه، ومعنى الآية: أي (¬1): إنه زيّن لهم سوء أعمالهم، وأعجبوا بأنفسهم، واستكبروا عن اتباع الرسول، وشمخوا بأنوفهم، ولم يخضعوا لما جاءهم به، وصدوا أبواب النظر عما ينفعهم، ولم يقبلوا شيئًا سوى ما هم عليه، فما مثلهم إلا مثل من أحاط به سدان من الأمام والخلف، فحجباه عن النظر، فهو لا يبصر شيئًا. والخلاصة: أنهم محبوسون في سجن الجهالة، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية، والتفكر في العواقب المستقبلة، 10 - ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أكثر أهل مكة {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}؛ أي: مستو (¬2) عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه؛ لأن قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وإن كانت جملة فعلية استفهامية، لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل، فصح الإخبار عنه، فقد هجر فيه جانب اللفظ، ونظر إلى المعنى، ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد، فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأسًا بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء، كما جرِّد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. فكما أن هذا جرى على صورة النداء، وليس بنداء، كذلك: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} جرى على صورة الاستفهام، وليس باستفهام. وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يؤمن أكثر أهل مكة، استئناف مؤكد لما قبله مبيِّن لما فيه من إجمال ما فيه الاستوار. والمعنى (¬3): أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول إنذارك إياهم وتركه، فإنه قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون؛ إذ قد خبثت نفوسهم، وساء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[11]

استعدادهم، وغشيت أبصارهم، فلا تقدر على النظر في الدلائل المشاهدة، ولا تستطيع التأمل في جمال الكون، كما قال البوصيري: قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ... وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ 11 - قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} الخ؛ أي: ولما بيَّن سبحانه كون الإنذار عندهم كعدمه .. عقبه ببيان من يؤثر فيه الإنذار، فقال: إنما تنذر؛ أي (¬1): ما ينفع إنذارك يا محمد إلا {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}؛ أي: القرآن بالتأمل فيه، أو الوعظ والتذكير، ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان، {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} سبحانه، {بِالْغَيْبِ}؛ أي: خاف عقابه تعالى، والحال أنه غائب عن العقاب، على أنه حال من الفاعل، أو والحال أن العقاب غائب عنه، أي: قبل نزول العذاب وحلوله على أنه خال من المفعول، أو حال كونه غائبًا عن عيون الناس في خلواته، ولم يغتر برحمته، فإنه منتقم قهّار، كما أنه رحيم غفار، وكيف يؤمن سخطه وعذابه بعد أن قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}، ومن كان نعمته بسبب رحمته أكثر، فالخوف منه أتمّ مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة، فظهر وجه ذكر الرحمن مع الخشية، مع أن الظاهر أن يذكر معها ما ينبىء عن القهر {فَبَشِّرْهُ}؛ أي: فبشر من اتبع الذكر وخشي الرحمن، ووحّد الضمير مراعاة للفظ {مَنِ}، {بِمَغْفِرَةٍ} عظيمة لذنوبه، {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}؛ أي: حسن مرضي لأعماله الصالحة، لا يقادر قدره، وهو الجنة وما فيها مما أعدّه الله تعالى لعباده الجامعين بين اتباع ذكره وخشيته. والفاء في قوله (¬2): {فَبَشِّرْهُ} لترتيب البشارة، أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. يقول الفقير: رتّب التبشير بمثنّى على مثنّى، فالتأمل في القرآن، أو التأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة؛ لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم؛ لأن الله تعالى قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومعنى الآية (¬3): أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[12]

الأحكام، وخشي عقاب الله تعالى قبل حلوله، ومعاينة أهواله، فإنه سبحانه عظيم الرحمة، أليم العذاب، كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. فبشِّر هذا الذي اتبع أحكام الدين، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلّات، وأجرٍ كريم، ونعيم مقيم لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونحو الآية قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}. 12 - ولما ذكر سبحانه وتعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنًا .. ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة، والثالث هو التوحيد، فقال: {إِنَّا} من مقام كمال قدرتنا، والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات، وقال بعضهم: جمع الضمير لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة، وينافيه الحصر الدالة عليه قوله: {نَحْنُ} قال في "البحر": كرّر الضمير لتكرير التأكيد، {نُحْيِ الْمَوْتَى}؛ أي: نبعثهم بعد مماتهم، ونجازيهم على حسب أعمالهم، فيظهر حينئذ كمال الإكرام، والانتقام للمبشّرين والمنذرين من الأنام، وقال الحسن والضحاك: أي: نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ الموتى على كل غنيِّ مترف، وسلطان جائر، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق تقول له، ويقول لك، ومجالسة الموتى" قيل: يا رسول الله، وما مجالسة الموتى؛ قال: "كل غني مترف، وسلطان جائر". وفي "التأويلات النجمية": نحيي قلوبًا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى. فالإحياء إذًا مجاز عن الهداية، {نَكْتُبُ}؛ أي: نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ، يدل عليه آخر الآية، أو يكتب رسلنا، وهم الكرام الكاتبون، وإنما أسند إليه تعالى ترهيبًا، ولأنه الآمر به، {مَا قَدَّمُوا}؛ أي: ما أسلفوا من خير أو شر، وإنما (¬1) أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء، ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلًا، {وَآثَارَهُمْ}؛ أي: ونكتب آثارهم؛ أي: ما أبقوه من ¬

_ (¬1) روح البيان.

الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كمن سن سنة حسنة، وكعلم علّموه، أو كتاب ألفوه، أو حبيس وقفوه، أو بناء شيء من المساجد والرباطات والقناطر، أو من السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها، كوظيفة وظّفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة أو مشاهرة، كخراج وغرامة ومكوس وعشور، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم وشيء فيه صد عن ذكر الله تعالى من ألحان وملاهي ونحوها، قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)}؛ أي: بما قدم من أعماله، وأخَّر من آثاره، فعلى العدول أن يرفعوا الأحداث التي فيها ضرر بيِّن للناس في دينهم ودنياهم، وإلا فالراضي كالفاعل، وكل مجزي بعمله. وقرأ الجمهور (¬1): {وَنَكْتُبُ} على البناء للفاعل، وقرأ زر ومسروق: على البناء للمفعول، وقيل: المراد بالآية: آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك، كما مر في أسباب النزول، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية، لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى، سواء كانت في حسنة، أو في سيئة. {وَكُلَّ شَيْءٍ} من الأشياء كائنًا ما كان، سواء كان ما يصنعه الإنسان، أو غيره، وهو منصوب بفعل مضمر يفسّره قوله: {أَحْصَيْنَاهُ}؛ أي: ضبطناه وبينّاه وكتبناه وحفظناه وعددناه وأثبتناه {فِي إِمَامٍ}؛ أي: أصل عظيم الشأن. {مُبِينٍ}؛ أي: مظهر لجميع الأشياء مما كان، وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ، سمِّي إمامًا؛ لأنه يؤتم به ويتبع، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال، وفي ذكر الإحصاء ترغيب وترهيب، فإن المحصي لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال، فعلى العاقل أن يراقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكتة. وقرأ الجمهور (¬2): {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} بنصب {كل} على الاشتغال، وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[13]

ومعنى الآية (¬1): أي إنا نحن نحيي الموتى جميعًا من قبورهم يوم القيامة، ونكتب ما أسلفوا من عمل، وتركوا من أثر حسن بعدهم، كعلم علموه، أو حبيس في سبيل الله وقفوه، أو مستشفى لنفع الأمة أنشؤوه، أو أثر سيء كغرس الأحقاد والأضغان وترتيب مبادىء الشر، والعدوان بين الأنام. روى ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنّ سنة حسنة .. فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنّ سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيئًا، ثم تلا: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} ". والمراد من الكتابة ذلك مجازاتهم عليه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ثم ذكر أن الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بني آدم، بل يتناول جميع الأشياء، فقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}؛ أي: وبينّا كل شيء، وحفظناه في أصل عظيم يؤتم به ويُتبع ولا يخالف، وهو علمنا الأزلي القديم الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها، ونحو الآية قوله: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}. 13 - قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} إلى قوله: {خَامِدُونَ}، يشير (¬2) إلى أصناف ألطافه مع أحبائه، وأنواع قهره مع أعدائه، أمر الله تعالى سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - بإنذار مشركي مكة بتذكيرهم قصة أصحاب القرية، ليحترزوا عن أن يحل بهم ما نزل بكفار أهل القرية. قال في "الإرشاد": ضرب المثل يستعمل على وجهين: الأول: في تطبيق حال غريبة بحالة أخرى مثلها، والمعنى عليه: واجعل يا محمد أصحاب القرية مثلًا وشبهًا لأهل مكة في الغلو في الكفر، والإصرار على تكذيب الرسل؛ أي: طبِّق حالهم بحالهم؛ أي: شبه حالهم بحالهم على أن {مَثَلًا} مفعول ثانٍ، و {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} مفعوله الأول، أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والثاني: في ذكر حال غريبة، وبيانها للناس من غير قصدٍ إلى تطبيقها بنظيرة لها، والمعنى عليه: واذكر لهم وبيِّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، فقوله: {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}؛ أي: مثل أصحاب القرية على تقدير المضاف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وهذا المقدر بدل من الملفوظ، أو بيان له. وقوله: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها، كأنه قيل: واجعل وقت مجيء المرسلين مثلًا، أو بدل من المضاف المقدر، كأنه قيل: واذكر لهم وقت مجيء المرسلين، وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية. والمعنى: أي (¬1): واجعل يا محمد أصحاب قرية أنطاكية مثلًا وشبهًا لهؤلاء المكذبين لك من أهل مكة؛ إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم، كما أصر قومك على تكذيبك عنادًا واستكبارًا، والمشهور لدى المفسرين، ومنهم: قتادة وغيره: أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين، بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه، ويرى ابن عباس، واختاره كثير من أجلة العلماء أن الرسل هم رسل الله تعالى، أرسلهم ردءًا لعيسى عليه السلام، مقررِّين لشريعته، كهارون لموسى عليه السلام، ويؤيد هذا القول: 1 - قولهم: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)}. 2 - أنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا ولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}. 3 - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح، ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهم بطارقة النصارى، وهن: القدس وأنطاكية والاسكندرية ورومية؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطريق من رومية إليها. واسم هذه القرية كما ذكرنا أولًا أنطاكية من قرى الروم، بفتح (¬2) الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة بلاد يقال لها: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

العواصم، وهي ذات عين، وسور عظيم من صخر، داخله خمسة أجبل، دورها اثنا عشر ميلًا، كما في "القاموس" ويقال: أنتاكية بالتاء بدل الطاء، وهو المسموع من لسان الملك في قصة ذكرت في "مشارق الأشواق"، قال الإِمام السهيلي: نسبت أنطاكية إلى أنطقيس، وهو اسم الذي بناها، ثم غيِّرت، وكانت أنطاكية إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى، وهي أنطاكية والقدس والاسكندرية ورومية، ثم بعدها قسطنطينية. قال في "خريدة العجائب": رومية الكبرى: مدينة عظيمة في داخلها كنيسة عظيمة، طولها ثلاث مئة ذراع، وأركانها من نحاس مفرغ مغطّى كلها بالنحاس الأصفر، وبها أيضًا كنيسة بنيت على هيئة المقدس، وبها ألف حمام، وألف فندق، وهو الخان، ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها، وهي للروم مثل مدينة فرانسة للإفرنج، كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم، وبيت ديانتهم، وفتحها من أشراط الساعة. ذكر القصة في ذلك 14 - قال العلماء بأخبار الأنبياء (¬1): بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل أنطاكية، فلما قربا من المدينة .. رأيا شيخًا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب يس، فسلما عليه، فقال الشيخ لهما: من أنتما؛ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال الشيخ لهما: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المريض، ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى، قال الشيخ: إن لي ابنًا مريضًا منذ سنين، قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحًا, ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرًا من المرضى، وكان لهم ملك يعبد الأصنام، اسمه: أنطيخا، وكان من ملوك الروم، فانتهى خبرهما إليه، فدعا بهما، وقال: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى عليه السلام، قال: وفيما جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة ما لا يسمع ويبصر، فقال: وهل لنا إله دون آلهتنا؟ قال: نعم، الذي أوجدك وآلهتك، قال لهما: قوما حتى انظر في أمركما، فتبعهما الناس، فأخذوهما ¬

_ (¬1) الخازن.

وضربوهما، وقال وهب: بعث عيسى عليه السلام هذين الرجلين إلى أنطاكية، فأتياها، فلم يصلا إلى ملكها، وطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله تعالى، فغضب الملك، وأمر بهما فحبسا، وجلد كل واحد منهما مئة جلدة، فلما كُذِّبا وضربا بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين: شمعون الصفي على أثرهما ليبصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرًا، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه وأنس به وأكرمه ورضي عشرته، فقال للملك ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين في السجن، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؛ فقال: حال الغضب بيني وبين ذلك، قال: فإنَّ رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطلع على ما عندهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء، وليس له شريك، فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا، قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون: وما آيتكما؟ قالا: ما تتمنّاه، فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين، وموضع عينيه كالجبهة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشقّ موضع البصر، فأخذا بندقتين من طين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: إن أنت سألت إلهك حتى يصنع لك مثل هذا كان الشرف لك ولإلهك، فقال له الملك: ليس لي عنك سرٌّ مكتوم، فإن الهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل مع الملك على الصنم، ويصلي ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما، قالا: إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك: إن هاهنا ميتًا قد مات منذ سبعة أيام ابن دهقان، وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه، وكان غائبًا، فجاؤوا بالميت، وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية وشمعون يدعو ربه سرًّا، فقام الميت، وقال: إني ميت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركًا، فادخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذِّركم ما أنتم عليه، فآمنوا بالله، ثم قال: فتحت أبواب السماء، فنظرت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار بيده إلى صاحبيه، فعجب الملك من ذلك، فلما علم شمعون أنَّ قوله قد أثر في الملك .. أخبره بالحال ودعاه، فآمن الملك، وأمن معه قوم، وكفر آخرون،

قيل: بل كفر الملك، وأجمع على قتل الرسل هو وقومه، فبلغ ذلك حبيبًا، وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم يذكِّرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} بدل من {إِذْ} الأولى؛ أي: واذكر لهم وقت إرسالنا اثنين إلى أصحاب القرية، واسمهما: يحيى ويونس، وقيل: صادق ومصدوق، وقيل: غير ذلك، ونسبة إرسالهما إليه تعالى بناءً على أنه بأمره تعالى، فكانت الرسل رسل الله، ويؤيِّده (¬1) مسألة فقهية، وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل بأن قال الموكل له: اعمل برأيك يكون وكيلًا للموكل، لا للوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول، ويجوز أن يكون اللهُ أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا} مرتب على محذوف؛ أي: فأتياهم فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة بلا تراخ وتأمل، وضربوهما وحبسوهما كما سبق، {فَعَزَّزْنَا}؛ أي: قويناهما، فحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه، ولأن القصد ذكر المعزوز به، وبيان تدبيره اللطيف الذي به عزّ الحق وذلَّ الباطل. قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم والحسن وأبو حيوة والمفضل وأبان: بتخفيف الزاي، قال الجوهري: {فَعَزَّزْنَا} يخفف ويشدد؛ أي: قوينا وشددنا، فالقراءتان على هذا بمعنًى، وقيل: التخفيف بمعنى:.غلبنا وقهرنا، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}، والتشديد بمعنى: قوينا وكثرنا، {بِثَالِثٍ} هو شمعون الصفار، قاله ابن عباس، ويقال له: شمعون الصخرة أيضًا رئيس الحواريين, وقد كان خليفة عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء، وقال كعب ووهب: اسمه شلوم، وقيل: يونس. قال في "التكملة": اختلف في المرسلين الثلاثة، فقيل: كانوا أنبياء رسلًا، أرسلهم الله تعالى، وقيل: كانوا من الحواريين أرسلهم عيسى بن مريم إلى أهل القرية المذكورة، ولكن لما كان إرساله إياهم عن أمره .. أضاف الإرسال إليه انتهى. علم منه أن الحواريين لم يكونوا أنبياء لا في زمان عيسى ولا بعد رفعه، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: بين عيسى عليه السلام، وان احتمل أن يكون المراد: النبي الذي يأتي بشريعة مستقلة، وهو لا ينافي وجود النبي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

المقرر للشريعة المتقدمة. وقرأ عبد الله: {بالثالث} بالألف واللام، و {قَالُوا}؛ أي: قال الثلاثة جميعًا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} مؤكدين كلامهم لسبق الإنكار، لما أن تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم؛ أي: وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكدًا لسبق التكذيب للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث؛ لأنهم أرسلوا جميعًا بشيء واحد، وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة (¬1) مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في سؤال مقدر، كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ ومعنى الآية (¬2): أي واذكر لهم حين أرسلنا إلى أهل القرية رسولين من عندنا، فأسرعوا في تكذيبهما، فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، فقالوا لأهل القرية إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم بأن تخلصوا له العبادة، وتتبرّؤوا مما تعبدون من الألهة والأصنام، والمشهور: إن الرسولين الأولين كانا: يوحنا وبولس، والرسول الثالث: شمعون، 15 - ثم ذكر شبهةً كثيرًا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية، {قَالُوا}؛ أي: قال أهل أنطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للرسل الثلاثة، وهذه الجملة أيضًا مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية؛ فقيل: قالوا: {مَا أَنْتُمْ} أيها الثلاثة، {إِلَّا بَشَرٌ}؛ أي: آدمي {مِثْلُنَا}؛ أي: مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها، وهذا من قبيل قصر القلب، فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا، ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدَّعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا, ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا .. لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم، وهذا الموضع قد بسط الكلام فيه في كتب البلاغة فراجعها. {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} من وحي سماوي، ومن رسول يبلّغه، فكيف صرتم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

رسلًا، وكيف يجب علينا طاعتكم، وهو تتمّة الكلام المذكور؛ لأنه يستلزم الإنكار أيضًا؛ أي: ما أنزل شيئًا مما تدّعونه ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم وفي قولهم: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ} إيماء إلى أنهم يعترفون بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام. {إِنْ أَنْتُمْ}؛ أي: ما أنتم {إِلَّا تَكْذِبُونَ} في دعوى رسالته، 16 - فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكّد تأكيدًا بليغًا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية حيث: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}؛ وإن كذبتمونا. فأكَّدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ}، وبإن وباللام؛ أي: استشهدوا بعلم الله، وهو يجري مجرى القسم في التوكيد مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله، وزادوا اللام لما شهدوا منهم من شدة الإنكار، 17 - {وَمَا عَلَيْنَا}؛ أي: من جهة ربنا، {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: إلا تبليغ رسالته تبليغًا ظاهرًا واضحًا مبينًا بالآيات الشاهدة بالصحة، فإنه لا بدّ للدعوى من البينة، وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا, وليس في وسعنا إجباركم على الإيمان, ولا أن نوقع في قلوبكم العلم بصدقنا، فإن آمنتم وإلا فينزل العذاب عليكم، وفيه تعريض لهم بأن إنكارهم للحق ليس لخفاء حاله وصحته، بل هو مبنى على محض العناد والحمية الجاهلية. 18 - وهذه الجملة مستأنفة كالتي قلبها، وكذلك قوله: {قَالُوا} لما ضاقت عليهم الحيل، ولم يبقَ لهم علل وحجج، {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} فإنها مستأنفة جوابًا عن سؤال مقدر؛ أي إنا تشاءمنا بكم جريًا على ديدن الجهلة؛ حيث كانوا يتمنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مستجلبًا لكل شرٍّ ووبال، ويتشاءمون بكل ما لا يوافقها، وإن كان مستتبعًا لسعادة الدارين، وقال النقشبندي: قد تشاءمنا بقدومكم؛ إذ منذ قدمتم إلى ديارنا ما نزل القطر علينا، وما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم، أخرجوا من بيننا، واخرجوا إلى أوطانكم سالمين، وانتهوا عن دعوتكم, ولا تتفوّها بها بعد، قيل: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب التفاؤل, ويكره التطيُّر، والفرق بينهما (¬1): أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله, والتطير إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وفي الخبر: لما توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو المدينة .. لقي بريدة بن أسلم، فقال: "من أنت يا فتى"؟ قال: بريدة، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فقال: "برد أمرنا وصلح"؛ أي: سهل، ثم قال عليه السلام: "ابن من أنت يا فتى؟ " قال: ابن أسلم، فقال النبي عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه: "سلمنا من كيدهم". وفي الفقه: لو صاحت الهامة أو طير آخر، فقال رجل: يموت المريض، يكفر، ولو خرج إلى السفر ورجع فقال: ارجع لصياح العقعق، كفر عند البعض وفي الحديث: "ليس عبد إلا سيدخل في قلبه الطيرة، فماذا أحسَّ بذلك .. فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله لا قوّة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير، ثم يمضي بوجهه"؛ أي: يمر إلى جهة حاجته، قالوا: من تطير تطيرًا منهيًا عنه حتى منعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه، كما في "عقد الدر". {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا}؛ أي: والله لئن لم تمتنعوا عن مقالتكم هذه، ولم تسكتوا عنا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}؛ أي: لنرمينكم بالحجارة؛ أي: لئ لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة .. لنرجمنكم بالحجارة. {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ}؛ أي: وليصيبنكم، {مِنَّا}؛ أي: من جهتنا، {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: عذاب شديد وجيع فظيع؛ أي: لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهذا العذاب الأليم، أو ليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب مؤلم. قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به: القتل: وقال قتادة هو على بابه من الرجم بالحجارة، قيل: ومعنى العذاب: القتل: وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص، وهذا هو الظاهر. وفسر بعضهم الرجم بالشتم، فيكون المعنى: لا نكتفي بالشتم، بل يكون شتمنا مؤديًا إلى الضرب والإيلام الحسي. والمعنى (¬1): أي إنا تشاءمنا من تبليغكم ودعوتكم، فقد افتتن بعض القوم بكم، وتفرقت كلمتنا، وانفرط عقد وحدثنا, ولئن لم تنتهوا عن بث هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجمًا، ولنمثلن بكم شر التمثيل، أو لنعذبنكم عذابًا شديدًا، ؤأنتم أحياء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

والخلاصة: إنّا إما أن نقتلكم أو نلقينكم في غيابات السجون , وننكل بكم تنكيلًا عظيمًا، 19 - ثم أجاب عليهم الرسل دفعًا لما زعموه من التطير بهم , فـ {قَالُوا}؛ أي: المرسلون لأهل أنطاكية، {طَائِرُكُمْ}؛ أي: سبب شؤمكم، {مَعَكُمْ}؛ في: من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، لا من قبلنا, وليس هو من شؤمنا؛ أي: سوء حالكم وشدتكم، وإصابة الضرر بكم من الله بسببكم، وهو سوء اعتقادكم, وقبح أعمالكم، فالطائر بمعنى ما يتشاءم به مطلقًا، قال الفراء: طائركم؛ أي: رزقكم وعملكم، وبه قال قتادة، وقال أبو حيان؛ أي: حظكم، وما صار لكم من خير أمر شر معكم؛ أي: من أفعالكم ليس هو من أجلنا، بل بكفركم؛ أي: قالوا لهم: سبب شؤمكم من أفعالكم، لا من قبلنا كما تزعمون، فأنتم أشركتم بالله سواه , وأولعتم بالمعاصي، واجترحتم السيئات، أما نحن فلا شؤم من قبلنا, فإنا لا ندعوا إلا إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، والإنابة إليه، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة. وقرأ الجمهور (¬1): {طَائِرُكُمْ} على وزن اسم الفاعل، وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش: {طيركم} بياء ساكنة بعد الطاء, وقرأ الحسن فيما نقل: {اطيركم} مصدر؛ اطير الذي أصله: تطير، فأدغمت التاء في الطاء, فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر، وقوله: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزتين همزة الاستفهام التوبيخي، وهمزة إن الشرطية، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه؛ أي: هل إن وعظتم بما فيه سعادتكم، وخوفتم .. تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب؟ وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} إضراب (¬2) عما تقضيه الشرطية من كون التذكير سببًا للشؤوم، أو مصحِّحًا للتوعيد؛ أي: ليس الأمر كذلك , بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتجاوز فيه عن الحد، فلذلك أتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان، ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب إكرامه والتبرك به, وهؤلاء القوم في الحقيقة هم النفس وصفاتها، فإنها أسرفت في موافقة الطبع ومخالفة الحق، فكل من كان في يد مثل هذه النفس .. فهو لا يبالي بالوقوع في المهالك, ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

ولا يزال يدعو الناس إلى ما سلكه من شر المسالك، وكل من تخلص عنها وزكاها .. أفلح هو ومن تبعه، ولذا وعظ الأنبياء، وذكَّروا ونبَّهوا الناس على خطئهم وإسرافهم، وردوهم عن طريقة أسلافهم، ولكن الذكرى إنما تنفع المؤمنين. والمعنى (¬1): أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة الله مخلصين له الدين .. تقابلونا بمثل هذا الوعيد، بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف، ومجاوزة الحد في الطغيان، ومن ثَمَّ جاءكم الشؤم، ولا دخل لرسل الله في ذلك. والخلاصة: أنتم قوم مسرفون في ضلالتكم، متمادون في غيِّكم، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابًا للشقاء، ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد، والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات، ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}. وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم (¬2): {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة إن الشرطية، فحققها الكوفيون، وابن عامر، وسهلها باقي السبعة، وقرأ زر بن حبيش وابن السميقع: بهمزتين مفتوحتين {أأن} وهي قراءة أبي جعفر وطلحة، إلا أنهما لينا الثانية بين بين، وقرأ الماجشون، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني: بهمزة واحدة مفتوحة، والحسن بهاء مكسورة، وأبو عمرو في رواية, وزر أيضًا: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضًا والحسن أيضًا وقتادة وعيسى الهمداني والأعمش: {أين} بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ونون مفتوحة، ظرف مكان، وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضًا، فالقراءة الأولى على معنى: هل إن ذكرتم تتطيرون؛ بجعل المحذوف مصب الاستفهام على مذهب سيبويه، وبجعله للشرط على مذهب يونس، فإن قدرته مضارعًا كان مجزومًا، والقراءة الثانية على معنى: ألِئن ذُكِّرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة، والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة، وقراءة الهمزة المكسور ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[20]

وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار؛ أي: إن ذكِّرتم تطيَّرتم, والقراءة الأخيرة: {أين} فيها ظرف مكان، أداة الشرط حذف جزاؤه للدلالة عليه, تقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليه قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ومن جوَّز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد المبرد .. يجوز أن يكون الجواب: طائركم معكم , وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فلما قدم حذفت الفاء. وقرأ الجمهور: {ذُكِّرْتُمْ} بتشديد الكاف، وأبو جعفر وخالد بن إلياس وطلحة والحسن وقتادة وأبو حيوة والأعمش من طريق زائد والأصمعى عن نافع بتخفيفها. 20 - ثم أبان أن الحق لا يعدم نصيرًا، وأن الله يقيِّض له من يدافع عنه فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}؛ أي: من أبعد جوانب أنطاكية، {رَجُلٌ} عظيمُ الشأن, قويُّ الإيمان، فيه (¬1) إشارة إلى رجولية الجائي وجلادته، وتنكيره لتعظيم شأنه, لا لكونه رجلًا منكورًا غير معلوم، فإنه معلوم عند الله تعالى، وكان منزله عند أقصى باب المدينة، وفي مجيئه من أقصى المدينة بيان لكون الرسل أتوا بالبلاغ المبين حتى بلغت دعوتهم إلى أقصى المدينة، حيث آمن الرجل، وكان دور السور اثني عشر ميلًا؛ أي: فلما سمع خبر الرسل مع القوم جاء حالة كونه {يَسْعَى}؛ أي: يسرع في مشيه، فإن السعي: المشي السريع، وهو دون العدو, كما في "المفردات". فإن قلت (¬2): لِمَ قدَّم هنا {مِنْ أَقْصَى} على {رَجُلٌ}، وأخره عنه في سورة القصص؟. قلت: خالف بين الموضعين بالتقديم والتأخير تفننًا في البلاغة, وهو من المحسنات البديعية اللفظية، وذلك الرجل هو حبيب بن موسى النجار المشهور عند العلماء بصاحب يس، وفي بعض التواريخ كان من نسل الإسكندر الرومي, وإنما سمي حبيب النجار؛ لأنه كان نجارًا ينحت الأصنام وغيرها. وقيل: كان إسكافًا, وقيل: كان قصارًا، ويمكن أن يكون جامعًا لهذه الصنائع، وقيل: هو حبيب بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط بتصرف.

[21]

إسرائيل النجار، قيل: كان مجذومًا، فمنزله عند أقصى باب أو أبواب المدينة، عَبَد الأصنام سبعين سنة، يدعوهم لكشف ضره، فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى .. قال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرّج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب، لي سبعون سنةً أدعو هذه الآلهة، فلم تستطع، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئًا، ولا تضر، فآمن، ودعوا ربهم، فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس، فأقبل على التكسب، فإذا تكسب .. تصدق بنصف سبه، والنصف الآخر لنفسه وعياله، فلما همَّ قوعه بقتل الرسل .. جاءهم يسعى، فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا} هؤلاء {الْمُرْسَلِينَ} المبعوثين إليكم بالحق، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال عندما جاء ساعيًا، ووصل إلى المجتمع، ورآهم مجتمعين على الرسل قاصدين قتلًا؟ فقيل: قال: يا قوم، أصله: يا قومي، خاطبهم بيا قومي لتأليف قلوبهم، واستمالتها نحو قبول نصيحته، وللإشارة إلى أنه لا يريد بهم إلا الخير، وأنه غير متهم بإرادة السوء بهم، قال بعضهم: وكان مشهورًا بينهم بالورع واعتدال الأخلاق، وفي قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} تعرض لعنوان رسالتهم حثًا لهم على اتباعهم. 21 - ثم أكد ذلك وكرره فقال: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ}؛ أي: من لا يسألونكم {أَجْرًا} وجعلًا على ما جاوؤكم به أو الهدى؛ أي: لا يطلبون منكم أجرةً ومالًا على النصح لكم، وتبليغ الرسالة إليكم. {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}؛ أي: والحال أنهم مهتدون في أنفسهم إلى خير الدين والدنيا، والمهتدي إلى طريق الحق الموصل إلى هذا الخير إذا لم يكن متهمًا في الدعوة .. يجب اتباعه، وإن لم يكن رسولًا، فكيف وهم ورسل ومهتدون؟! ومن قال: الإيغال هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها .. تكون الآية عنده مثالًا له؛ لأن قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسول مهتدٍ لا محالة إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل، وترغيب فيه، فقوله: {مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} بدل أو المرسلين معمول لاتبعوا النقول، والثاني: تأكيد لفظي للأول، نظير قوله تعالى: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ} هذا عند بعض النحويين، وأما عند جمهورهم فلا يجوز أو يعرب بدلًا إذا صُرِّح بالعامل الرافع أو الناصب. قال في "الإرشاد": تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم أو التنزه عن الغرض الدنيوي الاهتداء إلى خير الدنيا والدين.

[22]

انتهى. وفيه ذم للمتشيخة المزوِّرين الذين يجمعون بتلبيساتهم أموالًا كثيرةً من الضعفاء الحمقى، السائلين، نحو أباطيلهم، ودليل على نقص من يأخذ أجرًا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له، كالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى. والمعنى (¬1): أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعًا لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل، فتقدم للذب عنهم ابتغاء وجه الله ونيل ثوابه، قال: يا قوم، اتبعوا رسول الله الذين لا يطلبون منكم أجرًا على تبليغهم, ولا يطلبون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين روي: أن هذا الرجل يسمى حبيبًا، وكان نجارًا، قال ابن أبي ليلى: سباقوا الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. ورواه الزمخشري حديثًا، وقال ابن كثير: إنه حديث منكر لا أصل 22 - ثم أبان أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه، فقال: {وَمَا لِيَ}؛ أي: وأيُّ شيء ثبت لي، وأي عذر ومانع عرض لي في كوني {لَا أَعْبُدُ} الإله {الَّذِي فَطَرَنِي} وخلقني وطهرني من كتم العدل، ورباني بأنواع اللطف والكرم، وهذا تلطف منه في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح؛ حيث أراهم أنه أختار لهم ما يختار لنفسه، والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره؛ أي: أيُّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؛ أي: لا مانع له من ذلك, فالاستفهام إنكاري. قرأ غير حمزة (¬2): بفتح الياء، وقرأ حمزة بإسكانها، ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ولم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد؛ أي: إليه تعالى لا إلى غيره تردون أيها القوم بعد البعث للمجازاة والمحاسبة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

[23]

فإن قلت (¬1): كيف أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع الذي هو البعث إليهم مع علمه بأن الله فطرهم وإياه، وإليه يرجع هو وهم، فلم يقل: الذي فطرنا وإليه نرجع، أو: فطركم وإليه ترجعون؟. قلت: لأن الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى، توجب الشكر، والبعث بعد الموت للجزاء وعيد من الله يوجب الزجر، فأضاف ما يقتضي الشكر إلى نفسه؛ لأنه أليق بايمانه، وما يقتضي الزجر إليهم؛ لأنه أليق بكفرهم. والمعنى: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق، وعبادة غيره، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب، 23 - ثم أعاد التوبيخ مرةً أخرى، وساق الكلام المساق الأول، وهو إبراز الكلام في صورة النصيحة لنفسه فقال: {أَأَتَّخِذُ}؛ أي: أأعبد {مِنْ دُونِهِ} تعالى، {آلِهَةً} آلهة لا تملك من الأمر شيئًا، وهي الأصنام، وهو إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق؛ أي: لا أتخذ من دون الذي فطرني آلهة باطلة لا تنفعني ولا تضرني، فجعل الإنكار متوجهًا إلى نفسه، وهم المرادون به؛ أي: لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني، ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارًا عليهم، وبيانًا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} وقرأ طلحة بن مصرف {إن يزدني} بفتح الياء؛ أي: إن أرادني الرحمن بضرر؛ أي: إن أراد الرحمن أن يصيبني بسوء ومكروه {لَا تُغْنِ عَنِّي}؛ أي: لا تدفع عني، {شَفَاعَتُهُمْ}؛ أي: شفاعة تلك الآلهة، {شَيْئًا} من الضرر؛ أي: لا تنفعني شيئًا من النفع، إذ لا شفاعة لهم فتنتفع، فنصب {شَيْئًا} على المصدرية، وقوله: {لَا تُغْنِ} جواب الشرط، والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، {وَلَا يُنْقِذُونِ}؛ أي: لا يخلصونني من ذلك الضرر والمكروه بالنصرة والمظاهرة، وهو عطف على {لَا تُغْنِ}، وعلامة الجزم فيه حذف نون الإعراب؛ لأن أصله لا ينقذونني، وهو تعميم بعد تخصيص مبالغةً بهما في عزهم وانتفاء قدرتهم. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[24]

قال الإِمام السهيلي: ذكروا أن حبيبًا كان به داء الجذام، فدعا له الحواري فشفي، فلذلك قال: إن يردن الرحمن. الخ انتهى. وقال بعضهم: إن المريض كان ابنه إلا أن يقال: لا مانع من ابتلاء كليهما، أو أن مرض ابنه في حكم مرض نفسه، فلذا أضاف الضر إلى نفسه، ويحتمل أن الضر ضر القوم؛ لأنه روي شفاء كثير من مرضاهم على يدي الرسل، فأضافه حبيب إلى نفسه على طريقة ما قبله من الاستمالة، وتعريفًا للإحسان بهم بطريق اللطف، 24 - {إِنِّي إِذًا}؛ أي: إذا اتخذت من دونه آلهة، {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: لفي خسران واضح، فإن إشراك ما ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره، ولا خير إلا خيره ضلالٌ بيِّن، لا يخفى على أحدِ ممن له تمييز في الجملة، وهذا تعريض بضلالهم كما سبق. 25 - ثم التفت إلى الرسل، وخاطبهم مصرِّحًا بإيمانه، منيبًا إلى ربه فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الذي أرسلكم، {فَاسْمَعُونِ}؛ أي: فاسمعوا كلامي من الإيمان، فاشهدوا لي بذلك عند ربي، قال المفسرون: أراد قومه قتله، فأقبل هو علي المرسلين فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل، فاسمعوا إيماني، واشهدوا لي به، وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبًا في الدين، وتشددًا في الحق، فلما قال هذا القول وصرَّح بالإيمان .. وثبوا عليه فقتلوه؛ وقيل: وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه، وقيل: حرقوه، وقيل: حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه، بل رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة، وبه قال الحسن , وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، وروي أنه لما قال ذلك .. وثبوا عليه وثبةَ رجلٍ واحد، فقتلوه، ولم يجد من يدافع عنه، قال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة، والمعنى: على أنه خطاب لقومه: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الذي خلقكم وربَّاكم بأنواع النعم، وإنما قال: بربكم، ولم يقل: آمنت بربي؛ ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده هو فيعبدوا ربهم، ولو قال: إني آمنت بربي، لعلهم يقولون: أنت تعبد ربك، ونحن نعبد ربنا، وهوآلهتهم. {فَاسْمَعُونِ}؛ أي: أجيبوني في وعظي ونصحي، واقبلوا قولي، كما يقال: سمع لمن حمده؛ أي: قبله، فالخطاب للكفرة، شافههم بذلك إظهارًا للتصلب في الدين، وعدم المبالاة بالقتل.

[26]

وإضافة الربِّ إلى ضميرهم لتحقيق الحق، والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، كما في"الإرشاد". وإنما أكَّده إظهارًا لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط. 26 - ثم ذكر مآل أمره، وما قاله حين وجد النعيم والكرامة، فقال: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}؛ أي: قيل لحبيب النجار من جهة الرب جل جلاله حين قتلوه: ادخل الجنة إكرامًا له بدخولها حينئذ، كما هي سنة الله سبحانه في عباده الشهداء، وقيل: معناه: البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها، يدخلها بعد البعث، لا أنه أمر بدخولها في الحال؛ لأن الجزاء بعد البعث، وعلى قول من قال: إنه رفع إلى السماء ولم يقتل .. يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله .. نجاه الله من القتل، وقيل له: ادخل الجنة. وإنما لم يقل: قيل له بزيادة لفظة: له؛ لأن الغرض بيان مقول، لا المقول له؛ لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ عن حكاية حاله ومقاله، كأنه قيل: كيف كان بقاؤه عند ربه بعد ذلك التصلب في دينه، والتسخي بروحه لوجهه تعالى، فقيل: قيل له: ادخل الجنة، وكذا قوله تعالى: {قَالَ} الخ مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر نشأ من حكاية حاله، كأنه قيل: فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية؟ فقيل: قال متمنيًا علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة من الكفر، والدخول في الإيمان والطاعة، جريًا على سنن الصالحين في كظم الغيظ، والترحم على الأعداء، وليعلموا أنهم على خفاء عظيم في أمره، وأنه كان على الحق، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا سعادة؛ أي: فلما دخل الجنة وشاهدها قال حبيب النجار: {يَا لَيْتَ قَوْمِي} {يَا} في مثل هذا المقام لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه؛ أي: انتبه أيها المخاطب، أتمنى أن قومي 27 - {يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} {ما}: إما موصولة، والباء صلة {يَعْلَمُونَ}؛ أي: أتمنى علم قومي بالأمر الذي بسببه غفر لي ربي ذنوبي، وهو الإيمان به والطاعة أو: مصدرية، والباء: صلة العلم أيضًا؛ أي: أتمنى علم قومي بغفران ربي لذنوبي، أو استفهامية وردت على الأصل، وهو أن لا تحذف الألف بدخول الجار عليها، والباء: صلة غفر على هذا الوجه؛ أي: أتمنى علم قومي بأيِّ شيء غفر لي ربي ذنوبي، يريد تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم،

والمصابرة على أذيتهم لإعزاز الدين حتى قُتل. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}؛ أي: من المنعمين في الجنة، وإن كان على النصف؛ إذ تمامه إنما يكون بعد تعلق الروح بالجسد يوم القيامة. وفي الحديث المرفوع: "نصح قومه حيًا وميتًا"، وهكذا (¬1) ينبغي للمؤمن أن يكون ناصحًا للناس، إلى تعصُّبهم وتمردهم، ويستوي حاله في الرضى والغضب. قال حمدون القصار: لا يسقط عن النفس رؤية الخلق بحال، ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة، ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} يحدِّث نفسه، إذ ذاك. وقرىء (¬2): من {الْمُكْرَمِينَ} مشدد الراء مفتوح الكاف، وقرأ الجمهور: بإسكان الكاف وتخفيف الراء. ومعنى الآية: أي قال الله سبحانه له: ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل، وأسلفت من إحسان، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره .. قال يا ليت قومي يعلمون بما أنا فيه من نعيم وخير عميم لإيماني بربي، وتصديقي برسله، وصبري على أذى قومي، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر، والدخول في حظيرة الإيمان والطاعة، اتباعًا لسنن أولياء الله الذي يكظمون الغيظ، ويترحمون على الأعداء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نصح قومه حيًا بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وبعد مماته بقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}. الإعراب {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}. {يس (1)}: إن قلنا إنه علم على السورة .. فهو إما خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، والخبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الرفع، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: يس هذا محلها، أو مفعول لفعل محذف على قراءة النصب تقديره: اقرأ يس، أو مجرور بحرف قسم محذوف على قراءة الجر. وإن قلنا إنه من الحروف المقطعة التي وقعت فواتح السور .. فلا توصف بإعراب ولا بناء؛ لأنهما فرع عن إدراك المعنى، ومعناها: لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. {وَالْقُرْآنِ}: الواو: حرف جر وقسم، {وَالْقُرْآنِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، {الْحَكِيمِ}: صفة له، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أقسم بالقرآن الحكيم، وجملة القسم مستأنفة. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: جار ومجرور خبره، واللام حرف ابتداء وتوكيد، وجملة {إنّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {عَلَى صِرَاطٍ}: جار ومجرور خبر ثانٍ لـ {إنَّ}، {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صِرَاطٍ}، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالًا من الضمير المستكن في خبر {إنّ}، وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين؛ أي: من الذين أرسلوا على طريقةٍ مستقيمة، ولا بأس بهذا الإعراب. {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)}. {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ}: بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: نزل العزيز الرحيم القرآن تنزيلًا، أو منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره: أمدح تنزيل العزيز الرحيم، وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل العزيز، وبالجر بدل من {يس (1)}، أو صفة له؛ لأنه بمعنى منزل. {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه، {الرَّحِيمِ}: صفة لـ {الْعَزِيزِ}، {لِتُنْذِرَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تنذر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، {قَوْمًا}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {تَنْزِيلَ}؛ أي: نزلت عليك لإنذارك قومًا، أو متعلق بمعنى قوله: من المرسلين؛ أي: أرسلت لإنذارك قومًا، {مَا}: نافية، {أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ {قَوْمًا}، ويجوز أن تكون {مَا} موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنها مفعول ثان لـ {تنذر}، وجملة {أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} صلة لها، أو صفة لها، والعائد أو الرابط

محذوف تقديره: لتنذر قومًا العذاب الذي أنذره آباؤهم، أو عذابًا أنذره آباؤهم، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: لتنذر قومًا إنذار آبائهم، ويجوز أن تكون زائدةً، وتكون جملة {أُنْذِرَ} صفة لـ {قَوْمًا}، ففي {مَا} أربعة أوجهٍ من الإعراب. {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هم}: مبتدأ، {غَافِلُونَ}: خبره، والجملة في محل النصب، معطوف على جملة {أنذر} على كونها صفة لـ {قَوْمًا}، {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {حَقَّ الْقَوْلُ}: فعل وفاعل، {عَلَى أَكْثَرِهِمْ}: متعلق بـ {حَقَّ}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، والجملة معطوفة على جملة الجواب. {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة جعلنا خبره، {فِي أَعْنَاقِهِمْ}: متعلق بـ {جَعَلْنَا} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {جَعَلْنَا}، {أَغْلَالًا}: مفعول أول لها، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتمثيل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم عن غيهم، {فَهِيَ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هِيَ}: مبتدأ، {إِلَى الْأَذْقَانِ} متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مجموعة أو مرفوعة إلى الأذقان، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة {جَعَلْنَا}، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هُمْ}: مبتدأ {مُقْمَحُونَ}: خبره، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ}، {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {جَعَلْنَا} الأول، {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جَعَلْنَا} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {سَدًّا}: مفعول أول له، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: معطوف على {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، {سَدًّا}: معطوف على {سَدًّا} الأول، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {أغشيناهم}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {جَعَلْنَا}، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُبْصِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على {أغشينا}. {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}.

{وَسَوَاءٌ}: الواو: استئنافية، {سواء}: خبر مقدم، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {سواء}؛ لأنه بمعنى: مستوٍ. {أَأَنْذَرْتَهُمْ}: {الهمزة}: حرف استفهام وتسوية، {أنذرتهم}: فعل وفاعل ومفعول به، {أَمْ}: حرف عطف معادل لهمزة التسوية، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {تُنْذِرْهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على جملة {أَنْذَرْتَهُمْ}، وجملة {أَنْذَرْتَهُمْ} في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى، أو بسابك هو همزة التسوية، مرفوع على كونه مبتدأ لـ {سَوَاءٌ} تقديره: وإنذارك إياهم وعدم إنذارك إياهم سواء؛ أي: مستويان، والجملة مستأنفة، {لَا يُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مؤكدة لما قبلها، أو حال مؤكدة له، {إِنَّمَا}: أداة حصر، {تُنْذِرُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {مَنِ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تُنْذِرُ}، {اتَّبَعَ الذِّكْرَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة {مَن} الموصولة، {وَخَشِيَ الرَّحْمَن}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {اتَّبَعَ}. {بِالْغَيْبِ}: حال من فاعل {خشي}، أو من مفعوله، {فَبَشِّرْهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إنما الإنذار لمن اتبع الذكر، وأردت بيان عاقبته .. فأقول لك: بشره، {بشره}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. {بِمَغْفِرَةٍ}: متعلق به، {وَأَجْرٍ}: معطوف على {مَغْفِرَةٍ}، {كَرِيمٍ}: صفة {أجر}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {نَحْنُ}: مبتدأ، {نُحْيِ الْمَوْتَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَنَكْتُبُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {نُحْيِ}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {نكتب}، وجملة {قَدَّمُوا}: صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما قدموه {وَآثَارَهُمْ}: معطوف على {مَا}، {وَكُلَّ شَيْءٍ}: الواو: استننافية، {كل شيء}: منصوب بفعل مضمر وجوبًا يفسره ما بعده على سبيل الاشتغال تقديره:

وأحصينا كل شيء أحصيناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {أَحْصَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، {فِي إِمَامٍ}: متعلق بـ {أَحْصَيْنَاهُ}، {مُبِينٍ}: صفة {إِمَامٍ}. {وَاضْرِبْ}: الواو: استئنافية، {اضرب}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، {لَهُمْ}: جار ومجرور حال من {مَثَلًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {مَثَلًا}: مفعول ثانٍ لـ {اضرب}؛ لأنه بمعنى: اجعل {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}: مفعول أول له، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية بدل اشتمال من {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}، {جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذْ} إليها. {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان بدل من {إِذْ} الأولى بدل تفصيل من مجمل، وهو يدخل في نطاق بدل المطابق، أو بدل الكل من الكل، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْهِمُ}: متعلق به، {اثْنَيْنِ}: مفعول به لـ {أَرْسَلْنَا}، وجملة {أَرْسَلْنَا}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {فَكَذَّبُوهُمَا}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {فَعَزَّزْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {فَكَذَّبُوهُمَا}، {بِثَالِثٍ}: متعلق بـ {عززنا}، {فَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {عززنا}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {مُرْسَلُونَ}، و {مُرْسَلُونَ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مَا}: نافية، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {بَشَرٌ}: خبر أنتم، {مِثْلُنَا}: صفة {بَشَرٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، والخطاب فيه للرسل الثلاثة، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: نافية، {أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ} فعل وفاعل، {مِنْ}: زائدة {شَيْءٍ}: مفعول {أَنْزَلَ}، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوف على جملة قوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ} {ما}: نافية، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، وجملة {تَكْذِبُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {رَبُّنَا}: مبتدأ، وجملة

{يَعْلَمُ} خبره، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {مرسلون}، {لَمُرسَلُونَ}: خبر {إِنَّ}، و {اللام} حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} في محل النصب سادة مسد مفعول {يَعْلَمُ}، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: نافية، {عَلَيْنَا}: خبر مقدم، {إِلَّا}: أداة حصر، {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، {الْمُبِينُ}: صفة {الْبَلَاغُ}، والجملة معطوفة على جملة {رَبُّنَا}. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {تَطَيَّرْنَا}: فعل وفاعل، {بِكُمْ}: متعلق به، وجملة {تَطَيَّرْنَا} في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إِنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {لَمْ}: حرف جزم، {تَنْتَهُوا}: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: نرجمكم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معترضة، {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، {نرجمن}: فعل مضارع وفاعل مستتر، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، والكاف مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ}: الواو: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، {يمسن}: فعل مضارع مبني على الفتح، والنون للتوكيد، والكاف مفعول به، {مِنَّا}: متعلق بـ {يمسن}، {عَذَابٌ}: فاعل، {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {طَائِرُكُمْ}: مبتدأ، {مَعَكُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {أَئِنْ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، {إن}: حرف شرط {ذُكِّرْتُمْ}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، والقاعدة عند سيبويه: أنه إذا اجتمع شرط واستفهام .. يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط، والتقدير عنده: أإن ذكرتم تتطيرون وتوعدون، وذهب غيره إلى إجابة الشرط، والتقدير

عندهم: أإن ذكرتم تتطيروا بالجزم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {بَلْ}: حرف ابتداء وإضراب، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {قَوْمٌ}: خبر، {مُسْرِفُونَ}: صفة {قَوْمٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}. {وَجَاءَ}: الواو: عاطفة أو استئنافية، {جاء}: فعل ماض، {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}: متعلق بـ {جاء}، {رَجُلٌ} فاعل، وجملة {يَسْعَى} صفة لـ {رَجُلٌ}، أو حال منه لوصفه بصفة محذوفة معلومة من السياق؛ أي: رجل عظيم الشأن عند الله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على الجمل التي قبلها، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على رجل، والجملة مستأنفة، {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}، {اتَّبِعُوا مَنْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية توكيد للجملة التي قبلها، {لَا}: نافية، {يَسْأَلُكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} ومفعول أول، {أَجْرًا}: مفعول ثانٍ، والجملة صلة {مَنْ} الموصوله، {وَهُمْ}: الواو: حالية، {هُمْ}: مبتدأ، {مُهْتَدُونَ}: خبر {هم}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يسأل}، والجمع باعتبار معنى {مَن}، {وَمَا}: الواو: عاطفة، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {لِيَ}: جار ومجرور في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {يَا قَوْمِ}، {لَا}: نافية، {أَعْبُدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ياء المتكلم، {فَطَرَنِي}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، و {تُرْجَعُونَ}: فعل مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، معطوف على {فَطَرَنِي}. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)}. {أَأَتَّخِذُ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {أتخذ}: فعل مضارع وفاعل

مستتر، {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أتخذ} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {آلِهَةً}: مفعول أول له، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنْ}: حرف شرط، {يُرِدْنِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية مفعول به، {الرَّحْمَنُ}: فاعل، {بِضُرٍّ}: متعلق بـ {يُرِدْنِ}، {لَا}: نافية، {تُغْنِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، {عَنِّي} متعلق بـ {تُغْنِ}، {شَفَاعَتُهُمْ}: فاعل {تُغْنِ}، {شَيْئًا}: مفعول مطلق، أو مفعول به، وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلَا}: الواو: عاطفة {لا}: نافية، {يُنْقِذُونِ}: فعل مضارع وفاعل، معطوف على {تُغْنِ} مجزوم بـ {إن} الشرطية، وعلامة جزمه حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية مفعول به؛ لأن أصله: ينقذونني. {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {إِذًا}: حرف جواب وجزاء لا عمل لها لفقد شرطها، {لَفِي}: {اللام}: حرف ابتداء، {في ضلال}: جار ومجرور خبر إن، {مُبِينٍ}: صفة {ضَلَالٍ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {آمَنْتُ}: فعل وفاعل، {بِرَبِّكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَاسْمَعُونِ}: {الفاء}: عاطفة {اسمعوا}: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنْتُ}، {قِيلَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، {ادْخُلِ الْجَنَّةَ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، والجملة الفعلية مستأنفة، وإن شئت قلت: {ادْخُلِ}: فعل أمر وفاعل مستتر، {الْجَنَّةَ}: ظرف مكان متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {رَجُلٌ}، والجملة مستأنفة، {يَا لَيْتَ} {يَا}: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، {لَيْتَ قَوْمِي}: ناصب

واسمه، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، وجملة {لَيْتَ} في محل النصب مقول {قَالَ}، {بِمَا}: متعلق بـ {يَعْلَمُونَ}، {ما}: مصدرية أو موصولة، {غَفَرَ}: فعل ماض، {لِي}: متعلق به، {رَبِّي}: فاعل {غَفَرَ}، والجملة صلة {ما} المصدرية؛ أي: بغفران ربي لي، أو بالسبب الذي غفر به ربي ذنوبي، وهو الإيمان, وقال الفراء: ويجوز جعلها استفهامية؛ يعني: بأي شيء غفر لي ربي؛ ورد عليه بأنها لو كانت استفهامية .. لحذفت ألفها، كما هو القاعدة عند دخول الجار عليها، وأجيب عنه: بأن حذفها أغلبي لا اطرادي، والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر مختص بضرورة الشعر نحو قوله: عَلى مَا قَامَ يَشْتُمُنِيْ لَئِيْمُ ... كَخِنْزِيْرِ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ وحذفها هو المعروف في الكلام نحو قوله: عَلَامَ يَقُوْلُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ كَاهِلِيْ ... إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعَنْ إِذَا الخَيْلُ كَرَّتِ {وَجَعَلَنِي}: الواو: عاطفة، {جعلني}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول أول {مِنَ الْمُكْرَمِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {جعلني} على أنه مفعول ثانٍ لـ {جعل}، والجملة معطوفة على جملة {غَفَرَ لِي}. التصريف ومفردات اللغة {يس (1)} تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الرأي الراجح فيها أنها حروف تنبيه، نحو: ألا ويا، وينطق بأسمائها فيقال: ياسين. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: يس؛ أي: يا إنسان بلغة طيء. {الْحَكِيمِ}؛ أي: ذو الحكمة، يقال: قصيدة حكيمة؛ أي: ذات حكمة، يقال: حكم الرجل من باب كرم؛ أي: صار حكيمًا، ومنه قول النابغة: وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامِ شِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ وأحكمته التجارب: جعلته حكيمًا، وقال آخر: وَقَصِيْدةٍ تَأْتِيْ الْمُلُوْكَ حَكِيْمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا، لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قَالَهَا؟ وعبارة "الكرخي": الحكيم: فعيل بمعنى: مفعل، كقولهم: عقدت العسل فهو

عقيد بمعنى: معقد، وليس بمعنى مفعول، كشيطان رجيم بمعنى: مرجوم، وليس هو في الآية كذلك؛ لأنه إنما يقال محكوم به ونحو ذلك، ولا بمعنى: فاعل؛ أي: حاكم؛ لأن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى، فظهر بذلك أن القرآن محكوم فيه لا حاكم، وأن الحاكم المطلق هو الله تعالى، أو على معنى النسب؛ أي: ذي الحكم؛ لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة، أو المتصف بها على الإسناد المجازي. {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} من الإرسال، والإرسال قد يكون للتسخير، كإرسال الريح والمطر، وقد يكون بمعنى بعث من له اختيار، نحو إرسال الرسل، كما في "المفردات". {فَهُمْ غَافِلُونَ}؛ أي: متصفون بالغفلة، والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس، والنسيان: ذهابه عنها بعد حضوره. قال بعضهم: الغفلة: نوم القلب، فلا تعتبر حركة اللسان إذا كان القلب نائمًا، ولا يضر سكوته إذا كان متيقظًا، ومعنى التيقظ: أن يشهده تعالى حافظًا له رقيبًا عليه قائمًا بمصالحه. {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ}؛ أي: ثبت ووجب، والقول الحكم والقضاء الأزلي. {أَغْلَالًا}: جمع غل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في اليد، وقد تشد به اليد إلى العنق، وفي "المفردات": أصل الغلل: تدرع الشيء وتوسُّطه، ومنه: الغلل للماء الجاري، مختص بما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وغل فلان: قيد به، وقيل للبخيل: هو مغلول اليد. {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وبفتح القاف ومجتمع اللحيين من أسفلهما. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} جمع: مقمح، والمقمح: الذي يرفع رأسه، ويغض بصره من الإقماح، يقال: قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، كما مرَّ، وفي "المختار" الإقماح: رفع الرأس، وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. اهـ. وفي "القاموس": وأقمح الغل الأسير: إذا ترك رأسه مرفوعًا لضيقه. {سَدًّا} السد - بفتح السين وضمها -: الحاجز بين الشيئين والجبل، والجمع: أسداد. قال علي بن أبي طالب: وضرب على قلبه بالأسداد؛ أي: سدت

عليه الطرق، وعميت عليه المذاهب. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}؛ أي: أغشينا أبصارهم؛ أي: غطيناهم، وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي. {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ}؛ أي: عقابه، {بِالْغَيْبِ}؛ أي: قبل حلوله ومعاينة أهواله. {نُحْيِ الْمَوْتَى} والإحياء: جعل الشيء حيًا ذا حس وحركة، والميت: من أخرج روحه. {مَا قَدَّمُوا}؛ أي: أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. {وَآثَارَهُمْ}؛ أي: ما أبقوه بعدهم من الحسنات، كعلم علموه، أو كتاب ألفوه أو بناء في سبيل الله بنوه، أو من السيئات، كغرس بذور الضلالات بين الناس. {أَحْصَيْنَاهُ} قال ابن الشيخ: أصل الإحصاء: العد، ثم استعير للبيان والحفظ؛ لأن العد يكون لأجلهما، وفي "المفردات": الإحصاء: التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصي، واستعمال ذلك فيه؛ لأنهم كانوا يعتمدون عليه في العد اعتمادنا فيه على الأصابع. {فِي إِمَامٍ}؛ أي: أصلٍ يؤتم به، قال الراغب: الإِمام المؤتم به إنسانًا كان يقتدى بقوله وبفعله، أو كتابًا أو غير ذلك، محقًا كان أو مبطلًا، وجمعه: أئمة. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} القرية - بفتح القاف وكسرها -: الضيعة، والمصر الجامع، وجمع الناس، والجمع: قرًى، وقرىء بضم القاف وكسرها، والنسبة إليها: قروي وقرييّ، والمراد بها هنا: أنطاكية كما سبق. {فعززناهما}؛ أي: قويناهما وشددناهما، يقال: عزز المطر الأرض إذا لبدها وسددها، وأرض عزار؛ أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه. {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: التبليغ الواضح الظاهر للرسالة. {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}؛ أي: تشاءمنا، والتطير: التشاؤم، وأصله: من الطير إذا طار إلى جهة اليسار تشاءموا به، وأصل التطير: التفاؤل بالطير، فإنهم يزعمون أن الطائر السانح - أي: الذي طار إلى جهة اليمين - سببٌ للخير، والبارح - أي: الذي طار إلى جهة اليسار - سبب للشر، ثم استعمل في كل ما يتشاءم به، طيرًا كان أو غيره. {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} وفي "المختار": طائر الإنسان: عمله الذي قلّده، والطير

أيضًا الاسم من التطير، ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله، كما يقال: لا أمر إلا أمر الله، وقال ابن السكيت يقال: طائر الله لا طائرك، ولا تقل: طير الله، وتطيَّر من الشيء وبالشيء، والاسم: الطيرة بوزن عنبة، وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} والضر: اسم لكل سوء ومكروه يتضرر به. {وَلَا يُنْقِذُونِ} من الإنقاذ، وهو: التخليص من المخاوف والمكاره. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جمع المؤكدات في قوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} لردِّ إنكار الكفرة بقولهم في حقه - صلى الله عليه وسلم -: لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا، فإنه أكد بالقسم، وبإن، وباللام، وباسمية الجملة؛ لأن المقام مقام الإنكار. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} فإنه شبَّه حال الكفار في امتناعهم من الهدى والإيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسل والأغلال، فأصبح رأسه مرفوعًا لا يستطيع خفضًا له ولا التفاتًا على طريقة الاستعارة التمثيلية. ومنها: القلب في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا}؛ إذ حقيقة الكلام: جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} إن المعنى: اسلكوا فيه سلسلة؛ أي: أدخلوا في عنقه سلسلة. ومنها: التنكير في قوله: {أَغْلَالًا} مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} الآية، فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان، فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة، ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل, أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية، والتأمل في مغاب الآتية والعواقب المستقبلية، قد أحيطوا بسدٍّ من أمامهم، وسد من

ورائهم، فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس، وتتوسم بصيصًا من أمل. ومنها: تكرير الضمير في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} لزيادة التأكيد. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ}؛ لأنه استعار الإحصاء بمعنى العد للإحصاء بمعنى البيان بجامع الضبط في كل، فاشتق من الإحصاء بمعنى البيان، أحصينا بمعنى: بينا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} فقد حذف مفعول {فَعَزَّزْنَا}، والتقدير: فعززهما بثالث. ومنها: التأكيدات في قوله: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} الآيات، ففي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صورة للخبر، فقال أولًا: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} فأورد الكلام ابتدائي الخبر، ثم قال: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فأكده بمؤكدين، وهو: إن، واسمية الجملة، فأورد الكلام طلبيًا، ثم قال: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فترقى في التأكيد بثلاثة، وهي: إن، واللام، واسمية الجملة، فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابًا عن إنكارهم، قيل: وفي قوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} تأكيد رابع، وهو إجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به، وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم، وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان. ومنها: قصر القلب في قوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا, ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم.

ومنها: الطباق في قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}. ومنها: طباق السلب في قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}. ومنها: الجناس الناقص في {نَحْنُ نُحْيِ} لتغير بعض الحروف. ومنها: جناس الاشتقاق بين {أَرْسَلْنَا} و {لَمُرْسَلُونَ}، وبين {تَطَيَّرْنَا} و {طَائِرُكُمْ}. ومنها: الإطناب بتكرار الفعل في قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}. ومنها: الإيغال في قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، الإيغال عندهم: هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها؛ لأن قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسل مهتدون لا محالة، إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل وترغيب فيه. ومنها: الالتفات في قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}، وفائدته: أن في انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم إلى التكلم تلطفًا بهم من جهة، ووعيدًا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولًا إلى نفسه، وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت إلى مخاطبتهم ثانيًا مقرعًا مهددًا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرًا إلى التلطف في النصيحة؛ لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ألا ترى إلى قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني، وإليه أرجع. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}. ومنها: الحذف لدلالة السياق عليه في قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، والتقدير: فلما أشهر إيمانه .. قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة. ومنها: ائتلاف الفواصل في هذه الآي، وهو من خصائص القرآن لما فيه من روعة البيان، وحسن الوقع على السمع، وهو كثير في القرآن. فائدة: من محاسن القرآن الكريم وبلاغته الخارقة الإيجاز في القصص والأنباء، والإشارة إلى روحها وسردها؛ لأن القصد من القصص التذكير والاعتبار،

ولهذا لم يذكر في القصة اسم البلدة، ولا اسم الشخص الذي دعاهم إلى الله تعالى، ولا أسماء الرسل الكرام؛ لأن كل ذلك ليس هو الهدف من القصة، وقس على هذا سائر قصص القرآن. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أجل وأعز وأكرم وأعلم، والحمد لله على إحسانه وإنعامه، وصلِّ وسلم ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار، وصحبه الكرام الأبرار، وأتباعهم إلى يوم العرض على الجبار (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وإلى هنا وقفت الأقلام في تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم، وكان الفراغ منه بمكة المكرمة جوار المسجد الحرام في حي المسفلة في حارة الرشد في أوائل الليلة التاسعة من شهر صفر المبارك من شهور سنة ألف وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، 9/ 2/ 1414 هـ، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين آمين يا رب آمين. تم المجلد الثالث والعشرون، ويليه المجلد الرابع والعشرون، وأوله قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ ...} الآية.

شعرٌ الْعَبْدُ ذُوْ ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُوْمُ وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشَّوَمُ آخرُ أَلَّا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ ... أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ فَلاَ تَكُ فَرْحانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ ... وَلَا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ آخرُ بِلَادُ اللَّهُ وَاسِعَةٌ فَضَاءً ... وَرِزْقُ اللَّهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ ... إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أَرْضٌ فَسِيْحُوْا آخرُ إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُعَيِّبُ شَرْحِيْ ... لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [24]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعر السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا ... حَذَّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ آخرُ فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِيْ وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ آخرُ رَأَيْتُ أَخَا الدَّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيا ... أخا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي آخرُ وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ آخرُ الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ ... وَالقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ آخرُ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسْجُهُ مِن عَنْكَبُوتٍ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، جل على الإنعام، فسبحانه ذا الجلال والإكرام على ما منّ به علينا من الفضل الجسيم، لا سيما تفسير كتابه الكريم، والصلاة والسلام على أفضل الأنام سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه الكرام، ومن حذا حذوهم إلى يوم القيام. أما بعد: فلما استدبرت من تفسير الجزء الثاني والعشرين من القرآن الكريم .. استقبلت تفسير الجزء الثالث والعشرين منه، طالبًا منه سبحانه المعونة والسلامة، والتوفيق والهداية لأصوب الطريق، فيما أنا بصدده من تفسير كتابه، فهو المرجو في كل دعاء، ومنه حصول كل رجاء، فقلت: وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ

إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}. المناسبة قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ ...} الآيات، تقدم أن قلنا غير ما مرة، أنّ تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين، لوحظ فيه العد اللفظي، لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرًا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصة الواحدة، كما هنا، فإنه بعد أن بيّن حال الناصح الشهيد، ودخوله الجنة ... أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم من العذاب الدنيوي، ثم هم يردون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة. قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما بيّن أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل ... أردف ذلك بما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا، وتنبت من كل زوج بهيج، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها، وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا. قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

الأرض وما يطرأ عليها من تغير، مما هو دليل القدرة الشاملة .. أردف ذلك بذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار، وجريان الشمس والقمر، والأجرام السماوية، وهي مخلوقات عظيمة تحت قبضته يتصرف فيها بعظيم سلطانه. قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر على سبيل المنّة على عباده أنه أحيا الأرض، وهي مكان الحيوان .. أردف ذلك بذكر نعمة أخرى على الإنسان، وهي أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر، ويسير فيه كما يسير في البر، جلبا لأرزاقه وتحصيلًا لأقواته من أقاصي البلاد في أنحاء المعمورة. قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق .. أردف ذلك بذكر إعراضهم عن الآيات المنزّلة من عند ربهم، مما فيه تحذيرهم، بأن يحل بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى، إذ قيل لهم: أنفقوا فلم يفعلوا. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمرهم بتقوى الله، وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات .. أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث، واستعجالهم له، استهزاء به وسخرية منه، ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه، وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي، ثم ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، حين يرون العذاب، ويقولون: من أخرجنا من قبورها، فيجابون: بأن ربكم هو الذي قدر هذا، ووعدكم به على ألسنة رسله، وسيوفي كل عامل جزاء عمله. التفسير وأوجه القراءة 28 - فلما قتل حبيب النجار، غضب الله عز وجل له، فعجّل لهم العقوبة، فأمر

[29]

جبرائيل عليه السلام، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ}؛ أي: على قوم حبيب النجار، وهم أهل أنطاكية. {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق. {مِنْ جُنْدٍ} وعسكر {مِنَ السَّماءِ} ولم نرسل عليهم جندًا من الأرض، لإهلاكهم وللانتقام منهم؛ أي: لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم، كما وقع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه، بل كفينا أمرهم بصيحة ملك. {وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ}؛ أي: وما صح واستقام في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاك قومه جندًا من السماء، لسبق قضائنا وقدرنا، بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند، فإنا جعلنا لكل شيء سببا يخصه، حيث أهلكنا بعض الأمم بالحاصب، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالإغراق، وجعلنا إنزال الجند من السماء من خصائصك في الانتصار من قومك. وفي الآية: استحقار لأهل أنطاكية ولإهلاكهم، حيث اكتفى في استئصالهم بما يتوسل به إلى زجر، نحو الطيور والوحوش، من صيحة عبد واحد مأمور، وإيماء إلى تفخيم شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه إذا كان أدنى صيحة ملك واحد، كافيًا في إهلاك جماعة كثيرة، ظهر أن إنزال الجنود من السماء يوم بدر والخندق لم يكن إلا تعظيمًا لشأنه، وإجلالًا لقدره، لا لاحتياج الملائكة إلى المظاهرة والمعاونة. فإن قيل: كما لم ينزل عليهم جندًا من السماء، لم يرسل إليهم جندًا من الأرض أيضًا، فما فائدة قوله: {مِنَ السَّماءِ}؟ فالجواب: أنه ليس للاحتراز، بل لبيان أن النازل عليهم من السماء لم يكن إلا صيحةً واحدة أهلكتهم بأسرهم؛ أي: ليسوا بأحقّاء بأن ننزل لإهلاكهم جندًا من السماء، 29 - بل أهلكناهم بصيحة واحدة، كما يفيده قوله: {إِنْ كانَتْ}؛ أي: ما كانت الأخذة أو العقوبة على أهل أنطاكية {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} صاح بها جبرائيل، فأهلكهم قال المفسرون: أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالنار إذا انطفأت، وهو معنى قوله:

{فَإِذا} هم؛ أي: أهل أنطاكية {خامِدُونَ} أي: قوم خامدون؛ أي: ميتون لا يسمع لهم حسّ، ولا يشاهد لهم حركة، شبّهوا بالنار الخامدة رمزًا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد، يقال: خمدت النار إذا سكن لهبها ولم ينطفىء جمرها، وهمدت إذا طفىء جمرها قال في «الكواشي»: لم يقل: هامدون وإن كان أبلغ لبقاء أجسادهم بعد هلاكهم. و {إذا} فجائية (¬1)؛ أي: فاجأهم الخمود إثر الصيحة، لم يتأخر ووقعت (¬2) الصيحة في اليوم الثالث من قتل حبيب والرسل، أو في اليوم الذي قتلوهم فيه. وفي رواية، في الساعة التي عادوا فيها بعد قتلهم إلى منازلهم فرحين مستبشرين، وإنما عجّل الله عقوبتهم، غضبا لأوليائه الشهداء، ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، كيف كانت الصيحة، ولا كيف نزل بهم العذاب. وتفصيل ذلك لا يعنينا، فالعبرة تحصل بدون بيانه، إذ المراد: انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه على أي نحو كان ذلك العذاب. نسأل الله سبحانه أن يحفظنا من موجبات غضبه وسخطه وعذابه. وقرأ الجمهور (¬3): {صَيْحَةً} بالنصب، على أن {كان} ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق، كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج ومعاذ القارىء {صيحةٌ} بالرفع على أنّ {كان} تامة؛ أي: ما حدثت أو ما وقعت إلا صيحة واحدة. وكان الأصل أن لا يلحق التاء؛ لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بعد إلا من المؤنث لم تلحق العلامة للتأنيث، فيقال: ما قام إلا هند، ولا يجوز (ما قامت إلا هند) عند أصحابنا إلا في الشعر. وجوّزه بعضهم في الكلام على قلّة، ومثله قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبي رجاء، والجحدري، وقتادة، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة، وأبي بحرية {لا ترى إلا مساكنهم} بالتاء. والقراءة المشهورة {لا يرى} بالياء، فأنكر أبو حاتم، وكثير من النحويين هذه القراءة، أعني: قراءة الرفع، بسبب لحوق تاء التأنيث في قوله: {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً}. قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر .. لقال: إن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

[30]

كان إلا صيحة. وقدّر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدّرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة، وقرأ عبد الله بن مسعود: إن كانت إلا زقية واحدة. والزقية: الصيحة. قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف. 30 - {يا حَسْرَةً} يا ندامة {عَلَى الْعِبادِ} المصرين على العناد تعالي، فهذا أوانك ووقت ظهورك، فهذه من الأحوال التي حقّها أن تحضري فيها، وهي ما دل عليه قوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}، فإن المستهزئين بالناصحين الذين نيطت بنصائحهم سعادة الدارين، أحقاء بأن يتحسروا ويتحسّر عليهم المتحسرون، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين. والمراد (¬1) بالعباد هنا: مكذبو الرسل؛ أي: يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة، إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره. ثم بيّن سبب الحسرة والندامة، فقال: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ...} الخ؛ أي: ما جاءهم رسول إلا استهزؤوا به، وكذبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق. والخلاصة: أن المستهزئين بالناصحين المخلصين، المنوط بنصحهم خير الدارين، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية، وعرّضوها لعذاب مقيم، وكأنه قيل: يا حسرة احضري فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها. وقرأ الجمهور (¬2): بنصب {حَسْرَةً} على كونها مشابهة بالمنادى المضاف في طولها، بما تعلق بها من الجار والمجرور، فكأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري، وقيل: إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد المكذبين للرسل حين جاؤوهم فاستهزؤوهم، وقرأ أبي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، والضحاك، ومجاهد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والشوكاني بتصرف.

[31]

والحسن {يا حسرة العباد} بالإضافة إما إلى الفاعل أو إلى المفعول، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب، وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم، وتتحسر عليهم أو من الملائكة، وقرأ أبو الزناد، وابن هرمز، ومسلم بن جندب، وعكرمة {يا حسره على العباد} بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقال ابن خالويه: {يا حسرةَ على العباد} بغير تنوين، قاله ابن عباس، اهـ. ووجهه: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء، كما اجتزأ بالكسرة على الياء فيه، وقد قرىء {يا حسرتا} بالألف؛ أي: يا حسرتي، ويكون من الله على طريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم، شبّه استعظام الله سبحانه لجنايتهم على أنفسهم، بتحسر الإنسان على غيره، لأجل ما فاته من الدولة العظمى، من حيث أن ذلك التحسر يستلزم استعظام ما أصاب ذلك الغير، والإنكار على ارتكابه، والوقوع فيه. وجملة قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ...} إلخ، مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم، وفي «بحر العلوم»: قوله: {ما يَأْتِيهِمْ} إلخ، حكاية حال ماضية مستمرة؛ أي: كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر، ويستحقرون، ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن استهزاء قومه له. 31 - ولما بيّن حال الأولين نبه الحاضرين، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا} وعيد للمشركين في مكة بمثل عذاب الأمم الماضية، ليعتبروا ويرجعوا عن الشرك. والاستفهام للتقرير؛ أي: قد رأوا كثرة إهلاكنا، وكم في قوله: {كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} خبرية؛ أي: ألم يعلم أهل مكة كثرة إهلاكنا من قبلهم، من المذكورين آنفًا، ومن غيرهم بشؤم تكذيبهم. وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا} معلّق عن العمل فيما بعده؛ لأن {كَمْ} لا يعمل فيها ما قبلها، خبرية كانت كما هنا، أو استفهامية، خلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم تر إن زيدا لمنطلق. وإن لم يعمل

في لفظه، فالجملة منصوبة المحل بـ {يَرَوْا}. وقوله: {أَنَّهُمْ}؛ أي: المهلكين من القرون {إِلَيْهِمْ}؛ أي: إلى أهل مكة {لا يَرْجِعُونَ} بدل من {أَهْلَكْنا} على المعنى؛ أي (¬1): ألم يعلموا كثرة إهلاكنا القرون الماضية والأمم السالفة كونهم؛ أي: الهالكين غير راجعين إليهم؛ أي: إلى هؤلاء المشركين؛ أي: أهلكوا إهلاكًا لا رجوع لهم من بعده في الدنيا؛ أي: أفلا يعتبرون، ولم لا ينتبهون، فكما أنهم مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا، فكذلك هؤلاء سيهلكون وينقرضون إثرهم ثم لا يعودون، وقال بعضهم: ألم يروا أن خروجهم من الدنيا، ليس كخروج أحدهم من منزله إلى السوق، أو إلى بلد آخر، ثم عودته إلى منزله عند إتمام مصلحته هناك، بل هو مفارق من الدنيا أبدًا، فكونهم غير راجعين إليهم عبارة عن هلاكهم بالكلية، ويجوز أن يكون المعنى: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة؛ أي: أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، وقال أبو حيان: والذي تقتضيه صناعة العربية أن {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} معمول لمحذوف دل عليه السياق، تقديره: قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون، ولا يصح إبداله مما قبله لفظًا ولا معنًى وقرأ ابن عباس، والحسن إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جهة الإعراب، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب، لتتفق القراءتان ولا تختلفان، وقرأ عبد الله {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا}، و {أَنَّهُمْ} على هذا بدل اشتمال مما قبله، اهـ «البحر». والمعنى (¬2): أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل: كعاد، وثمود. وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، كما تعتقد الدهرية جهلًا منهم، بأنهم يعودون إليها كما كانوا، وهذه الآية ترد قول أهل الرجعة (¬3)؛ أي: من يزعم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[32]

أن من الخلق من يرجع إلى الدنيا قبل القيامة بعد الموت، كما حكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قيل له: إن قومًا يزعمون أن عليًا رضي الله عنه مبعوث قبل يوم القيامة، فقال ابن عباس: بئس القوم نحن، إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه؛ أي: لو كان راجعًا إلى الدنيا لكان حيًا، والحي لا تنكح نساؤه، ولا يقسم ميراثه، كما قال الفقهاء إذا بلغ إلى المرأة وفاة زوجها، فاعتدت وتزوجت وولدت، ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته؛ لأنها كانت منكوحته، ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة، فبقيت على النكاح السابق، ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني. ويجب إكفار الروافض في قولهم: بأن عليًا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، فينتقمون من أعدائهم، ويملؤون الأرض قسطًا كما ملئت جورًا، وذلك القول مخالف للنص. 32 - وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبيّن طريق ذلك، أعقب هذا بأن لهم حسابًا وعقابًا، فقال: {وَإِنْ} نافية أو مخففة {كُلٌّ} تنوينه عوض عن المضاف إليه {لَمَّا} بالتشديد بمعنى: إلا على القول: بأن {إِنْ}: نافية، وبالتخفيف على أن اللام هي الفارقة، و {ما}: زائدة على القول: بأن {إِنْ}: مخففة من الثقيلة. {جَمِيعٌ} فعيل بمعنى مفعول، جمع بين كل وجميع؛ لأن الكل يفيد الإحاطة دون الاجتماع، والجميع يفيد أن المحشر يجمعهم، ولدينا بمعنى عندنا، ظرف لجميع أو لـ {مُحْضَرُونَ} والمعنى على التشديد: وما كل الخلائق إلا مجموعون لدينا، محضرون عندنا للحساب والجزاء، وعلى التخفيف. وإنه كل الخلائق لمجموعون عندنا، محضرون لدينا للحساب والجزاء. وهذه الآية (¬1): بيان لرجوع الكل إلى المحشر، بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا، وأن من مات ترك على حاله، ولو لم يكن بعد الموت بعث وجمع وحبس وعقاب وحساب، لكان الموت راحة للميت، ولكنه يبعث ويسأل، فيكرم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[33]

المؤمن، والمخلص، والصالح والعادل، ويهان الكافر، والمنافق، والمرائي والفاسق، والظالم. فيفرح من يفرح، ويتحسر من يتحسر، فللعباد موضع التحسر إن لم يتحسروا اليوم. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر (¬1): بتشديد {لما}، وباقي السبعة بتخفيفها، فمن شددها كانت عنده بمعنى إلا، و {إِنْ} نافية، ومن خفف {لما} جعل {إِنَّ} مخففة من الثقيلة، واللام في {لَمَّا} فارقة، و {ما} زائدة. فائدة: وقال (¬2) أبو عبد الله الرازي في كون لما بمعنى: إلا معنى مناسب، وهو أن {لَمَّا} كأنها حرفا نفي جميعًا، وهما: لم وما، فتأكد النفي، وإلا كأنها حرفا نفي: «إن ولا»، فاستعمل أحدهما مكان الآخر، انتهى. والمعنى؛ أي: وإن جميع الأمم ماضيها، وحاضرها، وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدي الله، فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له، وما أحسن قوله: ولو أنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كُلِّ حَيِّ وَلكنَّا إذَا مِتنا بُعثنا ... وَنُسأل بعدها عن كلِّ شَيِّ ونحو الآية قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ}. والخلاصة: أن الناس يجمعون للحساب والجزاء، ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر. 33 - ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد، والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها، فقال: {وَآيَةٌ}؛ أي: علامة عظيمة، ودلالة واضحة على البعث والجمع والإحضار، وهو خبر مقدم للاهتمام به، وقوله: {لَهُمُ}؛ أي: لأهل مكة، إما متعلق بآية؛ لأنها بمعنى: العلامة أو بمضمر هو صفة لها، والمبتدأ قوله: {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}؛ أي: اليابسة الجامدة، قرأ أهل المدينة (¬3): {الميِّتة} بالتشديد، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفخر الرازي. (¬3) الشوكاني.

وخففها الباقون، وجملة قوله: {أَحْيَيْناها} مستأنفة مبينة لكيفية كون الأرض الميتة آية، كأن قائلًا قال: كيف تكون آية؟ فقال: أحييناها، والإحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضي الحس والحركة، والمعنى هاهنا: هيجنا القوى النامية فيها، وأحدثنا نضارتها بأنواع النباتات في وقت الربيع، بإنزل الماء من بحر الحياة، وكذلك النشور، فإنا نحيي الأبدان البالية المتلاشية في الأجداث، بإنزال رشحات من بحر الجود، فنعيدهم أحياء كما أبدعناهم أولًا من العدم. وبدأ في تفصيل الآيات بالأرض (¬1)؛ لأنها مستقرهم حركةً، وسكونًا، حياةً وموتًا، فنبههم الله سبحانه بهذا، على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات، وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها، ويتغذون بها. وهو معنى قوله: {وَأَخْرَجْنا مِنْها}؛ أي: من الأرض {حَبًّا} وبزرًا. والحب هو الذي يطحن، والبزر الذي يعصر منه الدهن، وهو جمع حبة، والمراد: جنس الحبوب التي تصلح قواما للناس من الأرز، والذرة، والحنطة، والشعير، وغيرها. {فَمِنْهُ}؛ أي: فمن ذلك الحب {يَأْكُلُونَ} تقديم (¬2) الصلة ليس لحصر جنس المأكول في الحب، حتى يلزم أن لا يؤكل غيره، بل هو لحصر معظم المأكول فيه، ولبيان أنه أكثر ما يقوم به المعاش، فإن الحب معظم ما يؤكل، ويعاش به، ومنه صلاح الإنس حتى إذا قل قل .. الصلاح، وكثر الضر والصياح، وإذا فقد .. فقد النجاح بإخلال الأشباح ولأمر ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكرموا الخبز فإن الله أكرمه، فمن أكرم الخبز أكرمه الله». قال في شرعة الإسلام: ويكرم الخبز بأقصى ما يمكن، فإنه يعمل في كل لقمة يأكلها الإنسان من الخبز ثلاث مئة وستون صانعًا. أولهم: ميكائيل الذي يكيل الماء من خزانة الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس والقمر والأفلاك، وملائكة الهواء، ودواب الأرض، وآخرهم الخباز. ومن إكرام الخبز: أن تلتقط الكسرة من الأرض، وإن قلت، فيأكلها تعظيما لنعمة الله تعالى. وفي الحديث: «من أكل ما يسقط من المائدة .. عاش في وسعة، وعوفي في ولده، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[34]

وولد ولده، من الحمق». ويقال: إن التقاط الفتات مهور الحور العين، ولا يضع القصعة على الخبز، ولا غيرها، إلا ما يؤكل به من الإدام، ويكره مسح الأصابع والسكين بالخبز، إلا إذا أكله بعده، وكذا يكره وضع الخبز جنب القصعة لتستوي، وكذا يكره أكل وجه الخبز أو جوفه، ورمي باقيه لما في كل ذلك من الاستخفاف بالخبز، والاستخفاف بالخبز يورث الغلاء والقحط، كذا في شرح «النقاية والعوارف». ومعنى الآية (¬1): أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزالنا الماء عليها، فتهتز، وتربو، وتنبت نباتًا مختلفًا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبًا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم. 34 - {وَجَعَلْنا فِيها}؛ أي: وخلقنا في الأرض {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين مملوءة {مِنْ نَخِيلٍ} جمع نخلة {وَأَعْنابٍ} جمع عنب؛ أي: من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعا دون الحب، فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف، ولا كذلك الدال على الأنواع. وخصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار، وأنفعها للعباد. فإن قلت (¬2): لم ذكر النخيل دون التمور حتى يطابق الحب والأعناب في كونها مأكولة، لأن التمور والحب والأعناب كلها مأكولة دون النخيل؟ قلت: ذكر النخيل لاختصاص شجرها بمزيد النفع، وآثار الصنع. وذلك لأنها أول شجرة استقرت على وجه الأرض، وهي عمتنا لأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام على ما قيل وهي تشبه الإنسان، من حيث استقامة قدها وطولها. وامتياز ذكرها من بين النبات، واختصاصها باللقاح، ورائحة طلعها كرائحة المني، ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها، ولو قطعت رأسها ماتت كما قالوا: أقرب الجماد إلى النبات المرجان، لأنه ينبت في البحر كالنبات، ويكون له أغصان. وأقرب النبات إلى الحيوان النخل، لأنها تموت بقطع رأسها، ولا تثمر بدون اللقاح، كما ذكر. وأقرب الحيوان إلى الإنسان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

الفرس، ويرى المنامات كبني آدم. ولو أصاب النخلة آفة هلكت، والجمار من النخلة كالمخ من الإنسان. وإذا تقارب ذكورها وإناثها حملت حملًا كثيرًا؛ لأنها تستأنس بالمجاورة. ومن خواص النخلة: أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثوم، وكذا رائحة الخمر. وأما العنب فقد جاء في بعض الكتب المنزلة «أتكفرون بي وأنا خالق العنب». وله خواص كثيرة، وكذا الزبيب. وروي: أنه أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبيب، فقال: «بسم الله، كلوا نعم الطعام الزبيب يشد العصب، ويذهب الوصب، ويطفىء الغضب، ويرضي الرب ويطيب النكهة، ويذهب البلغم، ويصفي اللون». وماء الكرم الذي يتقاطر من قضبانها بعد كسحها ينفع للجرب شربا، ويسقى للمشغوف بالخمر بعد شربه الخمر، من غير علمه، فيبغض الخمر قطعًا. وأول من استخرج الخمر جمشيد الملك، فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة، وعليها عنب، فظنها من السموم، فأمر بحملها حتى يجربها، ويطعم العنب لمن يستحق القتل، فتكسرت حباته فعصروها، وجعلوا ماءها في ظرف، فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير، فأحضر رجلًا وجب عليه القتل، فسقاه من ذلك، فشربه بكره ومشقة ونام نومة ثقيلة ثم انتبه، وقال: اسقوني منه فسقوه أيضًا مرارًا، فلم يحدث فيه إلا السرور والطرب، فسقوه غيره وغيره، فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوه، ووجدوا سرورا وطربا، فشرب الملك فأعجبه، ثم أمر بغرسه في سائر البلاد. وكانت الخمر حلالًا في الأمم السالفة، فحرمها الله تعالى علينا، لأنها مفتاح لكل شر، وجالبة لكل سوء وضر، ومميتة للقلب، ومسخطة للرب. وقد قيل: خير خلكم خل خمركم. وذلك لأن انقلاب الخمر إلى الخل مرضاة للرب. وفيه خواص كثيرة. وأكثر الناس السعال والتنحنح في مجلس معاوية، فأمر بشرب خل الخمر. والخل ورد فيه «نعم الإدام»، وقد تعيش به كثير من السلف الكرام، نسأل الله القناعة على الدوام.

[35]

{وَفَجَّرْنا}؛ أي: شققنا وأسلنا {فِيها}؛ أي: في الأرض {مِنَ الْعُيُونِ}؛ أي: بعضًا من ماء العيون. فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو {مِنْ} زائدة، و {الْعُيُونِ} مفعول به على رأي من جوز زيادتها في الإثبات. وهو الأخفش، ومن وافقه. وقرأ الجمهور {فَجَّرْنا}: بالتشديد. وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف. والفجر، والتفجير كالفتح والتفتيح لفظًا ومعنى. واعلم (¬1): أن تفجير الأنهار والعيون في البلاد، رحمة من الله تعالى، إذ حياة كل شيء من الماء، وللبساتين منه النضارة والنماء. والعيون إما جارية وإما غير جارية، والجارية غير الأنهار، إذ هي أكثر وأوسع من العيون، ومنبعها غير معلوم غالبا كالنيل المبارك، حيث لم يوجد رأسه. وغير الجارية هي الآبار. 35 - واللام في قوله: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} متعلق بـ {جَعَلْنا}، وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادىء الأثمار، والضمير في {مِنْ ثَمَرِهِ} يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل؛ أي: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ورتبنا مبادىء إثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل والأعناب، ويواظبوا على الشكر أداء لحقوقنا. ففيه إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة. وقيل: الضمير راجع إلى ماء العيون؛ لأن الثمر منه، قاله الجرجاني. وقيل: الضمير لله على طريقة الالتفات، والإضافة إليه، لأن الثمر بخلقه كما في «البيضاوي». وقرأ الجمهور (¬2): {ثَمَرِهِ} بفتح الثاء والميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وطلحة، وابن وثاب بضمهما. وقرأ الأعمش بضم الثاء، وإسكان الميم. وقوله: {وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} معطوف على {ثَمَرِهِ}؛ أي: ليأكلوا من ثمره، ويأكلوا من الذي عملته أيديهم. وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة. وقيل: {مَا}: نافية، والمعنى: والحال أنه لم تعمل ذلك الثمر، ولم تصنعه أيديهم؛ لأن الثمر وجد بخلق الله تعالى لا بفعلهم، ومحل الجملة حينئذ النصب على الحال. ويؤيد الأول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

قراءة {وما عملت} بلا هاء، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها. والأيدي في قوله: {أَيْدِيهِمْ} كناية عن القوة، لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده، فصار ذكر اليد غالبًا في الكناية، ومثله {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. وقرأ الجمهور (¬1): {وَما عَمِلَتْهُ} بالضمير، فإن كانت {مَا} موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة، وعيسى وحمزة، والكسائي، وأبو بكر بغير ضمير. ومفعول {عملت} على كلا التقديرين محذوف. وجوز في هذه القراءة أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: وعمل أيديهم، وهو مصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول. والمعنى (¬2): أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها، بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارًا سارحة، في أمكنة تنشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات، ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا. ولما عدد سبحانه هذه النعم .. حض على الشكر، فقال: {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؛ أي: أفلا يشكرون خالق هذه النعم، على ما تفضل به عليهم، من نعم لا تعد ولا تحصى. وهو إنكار واستقباح لعدم شكرهم النعم المعدودة. والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير (¬3): أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها بالتوحيد والتقديس والتحميد، فيرجعون عن عبادة غير الله تعالى. وفي ذلك استدلال على وحدانية الله تعالى، وتعداد للنعم. فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها، فهي نعمة، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية، فإنها تصير أنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة، فإن قوتهم يصير في مكانهم، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة؛ لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة. وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى. فيقول الله تعالى: كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[36]

في الأرض، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين، والأذن وغير ذلك. ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل، فكأنه تعالى قال: نحيى الموتى إحياءً تامًا، كما أحييت الأرض إحياءً تامًا. 36 - وجملة قوله: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها} مستأنفة، مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم، من ترك الشكر لنعمه المذكورة، والتعجب من إخلالهم بذلك. فالمعنى: تنزه بذاته عن كل ما لا يليق مما فعلوه، اه «أبو السعود». وفي «القرطبي»: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها} تنزه (¬1) نفسه سبحانه عن قول الكفار، إذ عبدوا غيره، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير معنى الأمر. والمعنى: سبحوا أيها العباد ربكم، الذي خلق وأوجد الأزواج، والأصناف، والأنواع كلها جميعا. ونزهوه عما لا يليق به من الإشراك، فإنه سبحانه انفرد بخلق هذه الأزواج، فأفردوه بالعبادة والطاعة، ولا تجعلوا له شريكًا مما لا يخلق، ولا ينفع، ولا يضر. وقيل: فيه معنى التعجب. والمعنى: عجبًا لهؤلاء الكفرة في كفرهم، وإعراضهم عن شكر الذي خلق الأزواج كلها، مع ما يشاهدونه من هذه الآيات. وفي الغالب من تعجب من شيء قال: سبحان الله. والأزواج: الأصناف والأنواع، فكل زوج صنف؛ لأنه مختلف في الألوان كألوان العنب، فمنه أبيض، وأسود، وأحمر وكذلك ألوان الرطب. وفي الطعوم: كالرمان، فمنه حامض، وحال، ومر. وفي «الأشكال»: كالمربع، والمدور، والمثلث، والطويل، والعريض. وفي الصغر والكبر. فمعنى ازدواجها: اختلافها فيما ذكر. وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} من نجم، وشجر، ومعدن بيان للأزواج، وكذا ما بعده بيان له. والمراد: كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها. وخلق الأزواج {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: الذكور والإناث وخلق الأزواج {مِمَّا ¬

_ (¬1) القرطبي.

لا يَعْلَمُونَ} من أصناف (¬1) خلقه في البر، والبحر، والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر، ويعلمه الملائكة، ويجوز أن لا يعلمه مخلوق. ويقال: دواب البحر والبر، ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها. فبين الأزواج بهذه الأمور الثلاثة، التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات، وغيره تعالى، لم يخلق شيئًا منها. وإنما ذكر (¬2) الله تعالى كون الكل مخلوقًا، لينزه الله تعالى عن الشريك. فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق، والتوحيد الحقيقي، لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله، فلا تشركوا بالله شيئًا، مما تعلمون ومما لا تعلمون. قال في «بحر العلوم»: ويجوز أن يكون معنى {مِمَّا لا يَعْلَمُونَ}: مما لا يدركون كنهه مما خلق من الأشياء كالثواب والعقاب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أربع لا تدرك غايتها: شرور النفس، وخداع إبليس، وثواب أهل الجنة، وعقاب أهل النار». ومنه الروح، فإنه ما بلغنا أن الله تعالى أطلع أحدًا على حقيقة الروح. وفي الآية (¬3) إشارة إلى أنه ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعًا، إذ الفردية من أخص أوصاف الربوبية، كما قال عبد العزيز المكي رحمه الله تعالى: خلق الأزواج كلها، ليستدل بذلك، إلى أن خالق الأشياء منزه عن الزوج، وإلى أن في كل شيء دليلا على وجوده تعالى، ووحدته، وكمال قدرته. قال أبو العتاهية: فيا عجبًا كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجَاحِدُ ولله فِي كُلٍّ تحريكةٍ ... وتسكينة أبدًا شَاهِدُ وَفيْ كُلٍّ شَيْءٍ لهُ آيةٌ ... تدلُّ على أَنِّهُ وَاحِدُ ومعنى الآية (¬4): أي تنزيهًا لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات، وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء، التي لم يطلعهم عليها، ولم يجعل لهم طريقًا إلى معرفتها تفصيلًا، بل ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[37]

علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ}، ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق، وسعة ملكه، وجلالة قدره. والخلاصة: تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم، من نبات وحيوان وإنسان، وخالق، ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته. وفيه الدليل على عظيم قدرته، وواسع ملكه. 37 - {وَآيَةٌ لَهُمُ}؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا. وهو مبتدأ، خبره قوله: {اللَّيْلُ} المظلم، كأنه قيل: كيف كان آية؟ فقيل: {نَسْلَخُ} ونزيل، وننزع، ونكشط {مِنْهُ}؛ أي: من الليل {النَّهارَ} المضيء؛ أي: نزيل ضوء النهار ونكشفه عن مكان الليل، ونلقي ظله بحيث لا يبقي معه شيء من ضوئه، الذي هو شعاع الشمس في الهواء. مستعار من السلخ، وهي إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال، وإن غلب في الاستعمال تعليقه بالجلد، يقال: سلخت الإهاب بمعنى أخرجتها عنه. قال المرزوقي: دلت الآية على أن الليل قبل النهار؛ لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ، كما أن المعطي قبل العطاء. {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ}؛ أي: داخلون في الظلام مفاجأة، فإن {إذا} للمفاجأة؛ أي: ليس لهم بعد ذلك أمر سوى الدخول فيه. وفيه رمز إلى أن الأصل هو الظلمة، والنور عارض متداخل في الهواء، فإذا خرج منه أظلم. فعلى هذا المعنى، كان الواقع عقيب إذهاب الضوء عن مواضع ظلمة الليل هو ظهور الظلمة، كما كان الواقع عقيب سلخ الإهاب هو ظهور المسلوخ. وأما على معنى الإخراج فالواقع بعده هو الإبصار دون الإظلام، والمقام حينئذ مقام أن يقال: فإذا هم مبصرون، لكن لما كان الليل زمان ترح وألم وعدم إبصار، والنهار وقت فرح وسرور وإبصار، جعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة، إذ زمان السرور ليس فيه مهلة حكمًا، وإن كان ممتدًا، بخلاف زمان الغم، فإنه كان فيه المهلة، وإن كان قصيرًا، كما قيل: سنة الوصل سنة، وسنة الهجر سنة. ولبعضهم: ويوم لا أراك كألفِ شهرِ ... وشهرٌ لا أراك كألفِ عامِ

[38]

وقال آخر: محنُ الزَّمان كثيرةٌ لا تنقضيْ ... وسرورهُ يأْتيك كالأَعياد ومعنى الآية: أي ومن آيات قدرته تعالى الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء: الليل ينزع عنه النهار، فتأتي الظلمة، ويذهب النهار. فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجيء الليل، الذي كان الضياء ساترًا له. وفي الضياء سرور، ولذة، وراحة للنفس، وسعي على الرزق. وفي زواله وحشة، وانقباض تشعر بألمه النفوس، كما أن فيه تركًا للعمل الذي به قوام الحياة. ومن ثم جعل الآية ظهور الليل، ولم يجعلها مجيء النهار، والآية تحصل بكل منهما. والخلاصة: أن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة، من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعي ويفهم. وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه. 38 - وقوله: {وَالشَّمْسُ} معطوف على الليل؛ أي: وآية لهم الشمس المضيئة المشرقة على صحائف الكائنات، كأنه قيل: كيف كانت آية؟ فقيل: هي تجري أو حال كونها جارية، وسائرة إلى مستقر لها. ويجوز أن تكون الواو ابتدائية، {وَالشَّمْسُ} مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفًا مشتملًا على ذكر آية مستقلة. وقوله: لمستقر لها فيه وجوه: الأول: أن الكلام في {لِمُسْتَقَرٍّ} للتعليل، والمستقر: اسم مكان؛ أي: تجري لبلوغ مستقر وحد معين، ينتهي إليه دورها في آخر السنة. فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره. والثاني: أن اللام بمعنى إلى، والمستقر كبد السماء؛ أي: وسطها، والمعنى: تجري إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، وتستقر فيه. شُبه بطء حركتها فيه بالوقفة والاستقرار، وإلا فلا استقرار لها حقيقةً. كما قال في «المفردات» الزوال يقال في شيء قد كان ثابتًا، ومعلوم أن لا ثبات للشمس، فكيف يقال

زوال الشمس؟ فالجواب: قالوه لاعتقادهم في الظهيرة، أن لها ثباتًا في كبد السماء. والثالث: أن اللام لام العاقبة، والمستقر مصدر ميمي؛ أي: تجري بحيث يترتب على جريها استقرارها في كل برج من البروج الاثني عشرة، على نهج مخصوص، بأن تستقر في كل برج شهرا، ويأخذ الليل من النهار في نصف الحول، والنهار من الليل في النصف الآخر منه، وتبلغ نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية انحطاطها في الشتاء. ويترتب عليه اختلاف الفصول الأربعة، وتهيئة أسباب معاش الأرضيات، وتربيتها. والرابع: لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب، فإن لها في دورها ثلاث مئة وستين مشرقًا ومغربًا، تطلع كل يوم من مطلع، وتغرب من مغرب، ثم لا تعود إليها إلى العام القابل. فالمستقر اسم زمان؛ أي: تجري إلى زمان استقرارها، وانقطاع حركتها عند خراب العالم، أو إلى وقت قرارها وتغير حالها بالطلوع من مغربها. وهذا القول هو الراجح، لما روى أبو ذر - رضي الله عنه - قال: دخلت المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلما غابت الشمس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: تذهب تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، ولا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها}. والمعنى المفهوم من الحديث تنتهي في سيرها لمستقر لها، فتقف فيه ولا تنتقل عنه. ومستقرها هو مكان تحت العرش، تسجد فيه كل ليلة عند غروبها، فتستمر ساجدة فيه طول الليل، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولًا، فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق، بل يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من المغرب. وهذا هو الصحيح الواضح، اهـ «فتوحات». قال إمام الحرمين، وغيره من الفضلاء: لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند قوم آخرين. وعند

[39]

خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويين أبدًا. والأرض مدورة مسيرة خمس مئة عام، كأنها نصف كرة مدورة، فيكون وسطها أرفع. وحول الأرض البحر الأعظم، المحيط فيه ماء غليظ منتن، لا تجري فيه المراكب، وحول هذا البحر جبل قاف، خلق من زمرد أخضر، والسماء مقببة عليه، ومنه خضرتها. وقرىء (¬1): {إلى مستقر لها}. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن رباح، وزين العابدين، وابنه الباقر، والصادق بن الباقر، وابن أبي عبدة {لا مستقرَّ لها} نفيًا مبنيًا على الفتح، فيقتضي انتفاء كل مستقر. وذلك في الدنيا؛ أي: هي تجري دائمًا فيها لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة {لا مستقرٌّ لها} برفع مستقر، وتنويه على إعمال {لا} عمل {ليس}، نحو قول الشاعر: تعز فلا شيء على الأرض باقيًا ... ولا وزر مما قضى الله واقيًا {ذلِكَ} الجري البديع، المنطوي على الحكم العجيبة التي تتحير في فهمها العقول والأفهام {تَقْدِيرُ} وتدبير {الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب بقدرته على كل مقدور {الْعَلِيمِ}؛ أي: المحيط علمه بكل معلوم، وتقدير الله الأشياء أن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة البالغة. وقيل معنى الآية: أي والشمس تجري حول مركز مدارها الثابت، الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمي. فقد ثبت أن لها حركةً رحويةً حول هذا المركز، تقدر بمئتي ميل في الثانية الواحدة. وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها، الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها. 39 - {وَالْقَمَرَ} بالنصب، بإضمار فعل يفسره قوله: {قَدَّرْناهُ} كما في زيدا ضربته، فهو من باب الاشتغال، يجوز فيه النصب والرفع. قرأ بالرفع نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وابن محيصن، والحسن بخلاف عنه، والرفع يكون على الابتداء، وما بعده خبر. وقرأ الباقون: بالنصب على الاشتغال، والتقدير: وقدرنا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

القمر قدرناه، والقمر مفعول أول لقدرنا. وقوله: {مَنازِلَ} مفعول ثان له، لأن {قدرنا} بمعنى: صيرنا، فيتعدى إلى مفعولين؛ أي: صيّرنا القمر وعيّنا له منازل، ومواضع من الأبراج ينزل فيها كل ليلة. ويجوز انتصاب {مَنازِلَ} على الظرفية، والكلام حينئذ على حذف مضاف؛ أي: وقدرنا سير القمر في منازل من الأبراج، أو على الحال؛ أي: وقدرنا سيره حال كونه ذا منازل ومواضع ينزل فيها. وتلك المنازل معروفة عند العرب. وهي ثمان وعشرون، ينزل القمر كل ليلة، في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو، لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين. ثم يتقوس، ويدق، ويستتر ليلتين، إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة، إن كان تسعًا وعشرين. وهذه (¬1) المنازل، هي مواقع النجوم، التي نسبت إليها العرب الأنواء، المستمطرة أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية. أولها: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرقة، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك وهو آخر الشامية. والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، والسعد الذابح، والسعد البلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدم الدلو، ومؤخر الدلو، والحوت وهو آخر اليمانية. وهذه المنازل مقسومة على الاثني عشر برجًا، كما استوفينا الكلام عليها في أوائل سورة يونس. فإذا كان في آخر منازله دق، واصفر، واستقوس {حَتَّى عادَ} وصار في التقوس {كَالْعُرْجُونِ}؛ أي: مثل العذق {الْقَدِيمِ}؛ أي: العتيق الذي مر عليه حول. قال الزجاج: العرجون: هو عود العذق، الذي فيه الشماريخ اليابس المنحني، شبه به الهلال إذا انحنى وتقوس. والعذق بالكسر في النخل، بمنزلة العنقود في الكرم. وقال ابن الشيخ: حتى صار القمر في آخر الشهر وأول الشهر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[40]

الثاني في دقته، واستقواسه، واصفراره كالعرجون القديم. فالعرجون إذا قدم، وعتق .. دق وتقوس، واصفر. شبه به القمر في آخر الشهر في هذه الوجوه الثلاثة؛ أي: في عين الناظر، وإن كان في الحقيقة عظيمًا بنفسه. فالعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. والشماريخ، جمع شمراخ أو شمروخ: ما عليه البسر من العيدان الصغار. والقديم: ما تقادم عهده بحكم العادة، ولا يشترط في إطلاق لفظ القديم عليه مدة بعينها، إذ يقال لبعض الأشياء: قديم وإن لم يمض عليه حول. وقيل: أقل هذا القديم الحول. واعلم: أنه قد صح أن دور هذه الأمة، هو الدور القمري العربي، الذي حسابه مبني على الشهر تامًا كان أو ناقصًا، لا الدور الشمسي الذي هو مبني حسابه على الأيام فلا يكون ناقصًا. وقد صام - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أو تسعة رمضانات، خمس منها كانت تسعًا وعشرين يومًا، والباقي ثلاثين. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «شهرا عيد لا ينقصان»؛ أي: حكمهما إذا كانا تسعًا وعشرين، مثل حكمهما، إذا كانا ثلاثين في الفضل والثواب. وقرأ الجمهور (¬1): {العرجون} بضم العين والجيم. وقرأ سليمان التيمي: بكسر العين وفتح الجيم. وهما لغتان. والمعنى؛ أي: وجعلنا لسير القمر منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلة، ينزل في كل واحد منها ليلة واحدة، ثم يستتر ليلتين أو ليلة، إذا نقص الشهر، فإذا كان في آخر منازله دق وتقوس حتى صار كالعرجون القديم، والعذق العتيق الذي عليه الشماريخ. 40 - {لَا الشَّمْسُ} مبتدأ، والخبر ما بعده؛ لأنه لا يجوز أن تعمل {لَا} في المعرفة {يَنْبَغِي} ويتيسر، ويمكن {لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؛ أي (¬2): لا يصح، ولا يمكن، ولا يسهل للشمس أن تدرك القمر في سرعة سيره، وتنزل في المنزل الذي فيه القمر؛ لأن لكل واحد منهما سلطانا على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله سبحانه بالقيامة، فتطلع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

الشمس من مغربها. أو المعنى (¬1): لا يمكن للشمس أن تلحق القمر في سرعة سيره. فإن القمر أسرع سيرا، حيث يقطع فلكه ويدور في منازله الثماني والعشرين في شهر واحد، بخلاف الشمس فإنها أبطأ منه، حيث لا تقطع فلكها ولا تدور في تلك المنازل المقسومة على الاثني عشر برجا إلا في سنة. فيكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يومًا، فهي لا تدرك القمر في سرعة سيره، فإنه تعالى جعل سيرها أبطأ من سير القمر. وأسرع من سير زحل، وهو كوكب في السماء السابعة. وذلك لأن الشمس كاملة النور، فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانًا كثيرًا في مسامتة شيء واحد فتحرقه، ولو كانت سريعة السير .. لما حصل لها لبث في بقعة واحدة، بقدر ما يخرج النبات من الأرض والأوراق والثمار من الأشجار، وبقدر ما ينضج الثمار والحبوب، ويجف. فلو أدركت القمر في سرعة سيره، لكان في شهر واحد صيف وشتاء، فيختل بذلك أحكام الفصول، وتكون النبات وتعيش الحيوان. ويجوز أن يكون المعنى: ليس للشمس أن تدرك القمر في آثاره ومنافعه مع قوة نورها وإشراقها. فإن لكل واحد منهما آثارا ومنافع تخصه، وليس للآخر أن يدركه فيها كما قالوا: الثمرة تنضجها الشمس، ويلونها القمر، ويعطيها الطعم الكوكب. وقالوا: إن سهيلًا، وهو كوكب يمني يعطي الحجر اللون الأحمر، فيصير عقيقًا. ويجوز أن يكون المعنى: {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؛ أي: في مكانه. فإن القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة؛ فهي لا تدركه في مكانه ولا يجتمعان في موضع واحد. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه: وأبينه أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير. وأما قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع لخراب الدنيا. ويأتي في سورة القيامة، أن ¬

_ (¬1) روح البيان.

جمعهما علامة لانقضاء الدنيا، وقيام الساعة. والمعنى (¬1): أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره؛ لأن الشمس تجري في اليوم مقدار درجة، والقمر يسير في اليوم مقدار - 13 - ثلاث عشرة درجة، ولأن لكل منهما مدارًا خاصًا لا يجتمع مع الآخر فيه. {وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ}؛ أي: ولا الليل سابق انقضاء النهار، فلا يأتي الليل في أثناء النهار، كأن يأتي وقت الظهر، ولكن يعاقبه ويناوبه ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه؛ أي: هما (¬2) يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل معناه: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة. وقيل معناه: إن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليل، لا يكون بينهما نهار فاصل. وقرأ عمارة بن عقيل الخطفي: {سابق} بغير تنوين، {النهار} بالنصب، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين. وقيل (¬3): المراد بالليل والنهار آيتاهما، وهما النيران، وبسبق الليل سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها. فيكون التركيب عكسًا للأول، فالمعنى: لا يصح للقمر أيضًا أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها، بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلًا، بل هما يسيران الدهر على نظامهما، ولا يدخل أحدهما على الآخر، ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير، ونقض هذا التأليف، وتطلع الشمس من مغربها، ويجتمع معها القمر. فإن قلت: إذا كان هذا التركيب عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار. قلت: إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سير القمر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[41]

{وَكُلٌّ} والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه، الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر؛ أي: وكلهم؛ أي: وكل من الشموس والأقمار. والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطلعهما، فإنّ اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات، أو العائد إلى الكوكب فإن ذكرهما مشعر بها. {فِي فَلَكٍ} مخصوص معين من الأفلاك السبعة. والفلك: مجرى الكواكب ومسيرها، وتسميته بذلك لكونه كالفلك؛ أي: فلك المغزل. وقال الشوكاني: والفلك: هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة. والخلاف في كون السماء مبسوطة أو مستديرة معروف. والجار والمجرور متعلق بـ {يَسْبَحُونَ}؛ أي: كل من الشموس والأقمار أو كل من الكواكب السيارة يسيرون في فلك خاص به، وهو سماء الدنيا للقمر، والرابعة للشمس. والمعنى: يسيرون بانبساط وسهولة، لا مزاحم لهم سير السابح في سطح الماء. وجوز التعبير عنهم بضمير العقلاء، نسبة السباحة التي هي من أوصاف العقلاء إليهم. فائدة: قال في «فتح الرحمن»: إن قلت: كيف نفى الله تعالى الإدراك للقمر عن الشمس، دون عكسه في قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؟ قلت: لأن سير القمر أسرع؛ لأنه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت جديرةً بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره. 41 - ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعًا آخر مما امتن به على عباده من النعم، فقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ}؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة، أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق، الكائنين في عصر محمد عليه السلام، على كمال قدرتنا. وهو خبر مقدم لقوله: {أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: أنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم {فِي الْفُلْكِ}؛ أي: في السفينة. وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله: {الْمَشْحُونِ}؛ أي: المملوء منهم ومن غيرهم أو المعنى: حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم. وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر، مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضًا، لما أن

[42]

استقرارهم في السفن أشق، واستمساكهم فيها أعجب. وقيل: الضمير في {ذُرِّيَّتَهُمْ} يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران مختلفان. وقيل: الذرية: الآباء والأجداد، والفلك هو سفينة نوح، أي: إن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح. وعبارة «الخازن» حمل آباءهم الأقدمين، في أصلاب الذين كانوا في السفينة، فكانوا ذرية لهم. وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: الذرية اسم للأولاد، والمحمول في سفينة نوح آباء المذكورين، لا أولادهم. قلت: الذرية من أسماء الأضداد عند كثير، تطلق على الآباء والأولاد، والمراد هنا: الفريقان، فمعناه: حملنا آباءهم وأولادهم؛ لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين ظاهرًا، انتهى. قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد؛ لأنها من الذرء بمعنى الخلق، فيصلح الاسم للأصل والنسل. وقيل: الذرية: النطف الكائنة في بطون النساء وشبه البطون بالفلك المشحون. والراجح: القول الثاني ثم الأول ثم الثالث. وقيل: إن الضمير في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ} يرجع إلى العباد المذكور في قوله: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ}؛ لأنه قال بعد ذلك: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}، وقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ}، ثم قال: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} فكأنه قال: وآية للعباد، أنا حملنا ذرية العباد، وهذا قول حسن؛ لأنه لا يلزم عليه اختلاف الضميرين. 42 - {وَخَلَقْنا لَهُمْ}؛ أي: وآية لهم أنا خلقنا لهم {مِنْ مِثْلِهِ}؛ أي: مما يماثل الفلك، ويشابهه {ما يَرْكَبُونَ}؛ أي: ما يركبونه. قال مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير: هي الإبل، خلقها لهم للركوب في البر، مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البر. وعلى هذا، فتعريف الفلك للجنس؛ لأن المقصود من الآية: الاحتجاج على أهل مكة، ببيان صحة البعث وإمكانه. استدل عليهم أولًا بإحياء الأرض الميتة، وجعلها سببا لتعيّشهم، ثم استدل عليهم بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها، على وجهه، يتوسلون بها إلى تجارات البحر، ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان. كما قال

تعالى: {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقيل: تعريفه للعهد الخارجي، والمراد: فلك نوح عليه السلام، المذكور في قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا}، فيكون المعنى: أنا حملنا ذريتهم؛ أي: أولادهم إلى يوم القيامة، في ذلك الفلك المشحون منهم، ومن سائر الحيوانات التي تعيش في الماء، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب. وخلقنا لهم من مثله؛ أي: مما يماثل ذلك الفلك في صورته وشكله من السفن والزوارق والبواخر، قاله الحسن، والضحاك، وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصح؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. فإن قلت (¬1): فعلى هذا لم لم يقل: حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضًا؟ قلت: إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة. ولو قيل: حملناهم لكان امتنانا بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق، وجعل السفن مخلوقة لله تعالى مع كونها من مصنوعات العباد، ليس لمجرد كونها صنعتهم بإقدار الله تعالى وإلهامه، بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته، حسبما يعرب عنه قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا}. والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب؛ لأنها باختيارهم، كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم، بفلك نوح، بالحمل، لكونها بغير شعور منهم واختيار. وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} فبطريق التغليب. وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر؛ لأنه إذا أريد بمثل الفلك: الإبل لكان قوله: {وَخَلَقْنا لَهُمْ} إلخ، فاصلًا بين متصلين، لأن قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} متصل بالفلك. واعتذر عنه في الإرشاد بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد، لكمال التماثل بين الإبل والفلك، فكأنها نوع منه. والمعنى: ومن آيات (¬2) قدرته الدالة على رحمته بعباده، أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة، بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، ليستفيدوا مما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[43]

تحمله من الأقوات وسائر حوائجهم المعيشية، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل، ولا عقب من بعده. ونحو الآية قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}. {وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)}؛ أي: وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية، سفنا برية، وهي الإبل التي تسير في الصحاري، كما قال شاعرهم: سَفائِنُ برٍّ والسَّرابُ بِحَارُهَا ونحوها قطر السكك الحديدية، والسيارات والسفن الهوائية من مطاود، وطائرات تسير في الجو حاملة للناس السلع المختلفة. والذخائر الحربية، ومن جراء هذا لم يعين الكتاب الكريم، ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود، مما هو مخبأ في صحيفة الغيب. وهذا من إعجاز الكتاب الكريم. ونحو الآية: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)}. 43 - ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن، فقال: {وَإِنْ نَشَأْ} إغراقهم {نُغْرِقْهُمْ} في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك. وهذا من تمام الآية التي امتن بها عليهم. ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك. والضمير (¬1) يرجع إما إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال. وتعليق الإغراق بمحض المشيئة. إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم، ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ}؛ أي: فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق، ويدفعه عنهم قبل وقوعه {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ}؛ أي: ينجون منه بعد وقوعه، ولا يخلّصون. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلّصه من ورطة ومكروه 44 - {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم، والغاية المتأخرة؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء، إلا لرحمة عظيمة ناشئة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ، كذا قال ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[45]

الكسائي، والزجاج، وغيرهما. وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي: لكن يغاثون وينقذون لرحمة منا. وقيل: هو منصوب على المصدرية بفعل مقدر؛ أي: إلا أن يرحموا رحمة منا. {و} انتصاب {مَتاعًا} بالعطف على {رَحْمَةً}؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، وتمتيع منا لهم {إِلى حِينٍ}؛ أي: إلى زمان قدر لآجالهم، أو إلا أن يرحمهم الله، ويمتعهم إلى انقضاء آجالهم. وفي الآية رد على ما زعم الطبيعي، من أن السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة، وأن المجوف لا يرسب الماء. فقال تعالى في رده: ليس الأمر كذلك، بل لو شاء الله تعالى إغراقهم، لأغرقهم، وليس ذلك بمقتضى الطبيعة، وإلا لما طرأ عليها آفة ورسوب. وفيها الإشارة إلى أن المنعم عليه، ينبغي أن لا يأمن في حال النعمة عذاب الله تعالى. فإن كفار الأمم السالفة، أمنوا من بطشه تعالى، فأخذوا من حيث لا يشعرون، فكيف يأمن أهل مكة، وأهل السفينة؟! لكن لا يعرفون قدر النعمة إلا بعد تحولها عنهم. ولا قدر العافية إلا بعد الابتلاء بمصيبة، فلا بد من مقابلة النعمة بالشكر والعطاء بالطاعة والاجتهاد في طريق التوحيد والمعرفة. فإن المقصود من الإمهال هو تدارك الحال. والمعنى: أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق، فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منا بهم وتمتيعا لهم إلى حين، بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم، وحفظناهم من الغرق. وإلى هذا أشار بقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (44)}. 45 - {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: لكفار مكة بطريق الإنذار {اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}؛ أي: ما قبلكم من العقوبات النازلة على الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم، واحذروا من أن ينزل بكم مثلها، إن لم تؤمنوا. جعلت الوقائع الماضية باعتبار تقدمها عليهم، كأنها بين أيديهم. {وَما خَلْفَكُمْ}؛ أي: وما بعدكم من العذاب المعد لكم في الآخرة بعد هلاكهم. جعلت أحوال الآخرة باعتبار أنها تكون بعد

[46]

هلاكهم كأنها خلفهم. أو المعنى: {ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}؛ أي: ما أمامكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، فإنهم مستقبلون لها {وَما خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا، فلا تغتروا بها، فإنهم تاركون لها. وقيل: {ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}؛ أي: ما مضى من الذنوب وَما خَلْفَكُمْ؛ أي: ما بقي منها. وقيل غير ذلك. وما قدمناه أولى؛ لأن الله تعالى خوّف الكفار بشيئين: أحدهما: العقوبات النازلة على الأمم الماضية. والثاني: عذاب الآخرة. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إما حال من واو {اتَّقُوا}؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو غاية لهم؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، لما عرفتم أن مناط النجاة، ليس إلا رحمة الله. وجواب {إِذا} محذوف؛ أي: أعرضوا عن الموعظة، حسبما اعتادوه، وتمرنوا عليه، وزادوا مكابرة وعنادا، كما دلت عليه الآية الثانية، أعني: قوله: {إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ}. 46 - {وَمَا} نافية {تَأْتِيهِمْ} تنزل إليهم {مِنْ}: مزيدة لتأكيد العموم {آيَةٍ} تنزيلية، كائنة {مِنْ} تبعيضية {آياتِ رَبِّهِمْ} التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل، من بدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها، والإيمان بها {إِلَّا كانُوا عَنْها} متعلق بقوله: {مُعْرِضِينَ} والجملة حال من مفعول {تأتي}، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي (¬1): وما تأتيهم آية من آيات ربهم، في حال من الأحوال، إلا حال إعراضهم عنها، على وجه التكذيب والاستهزاء. ويجوز أن يراد بالآيات: ما يعم الآيات التنزيلية والتكوينية، فالمراد بإتيانهم: ما يعم نزول الوحي، وظهور تلك الأمور لهم. والمعنى: ما يظهر لهم آية من الآيات الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية، إلا كانوا تاركين النظر الصحيح فيها، المؤدي إلى الإيمان به تعالى. فكل ما في الكون فهو مركز صفة من صفاته تعالى، وسر من أسرار ذاته. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[47]

ومعنى الآيتين (¬1): أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزل الله من الآيات: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله، ومثلاته التي حلت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله، وما خلفكم؛ أي: وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات .. أعرضوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين. ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم، فقال: {وَما تَأْتِيهِمْ ..} إلخ؛ أي: وما تجيء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله، الدالة على توحيده وتصديق رسوله، إلا بادروا بتكذيبها، وأعرضوا عنها، وتركوا النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان به ومعرفة صدق رسوله. الخلاصة: أنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة، ببدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله. 47 - وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق .. بيّن قسوتهم على المخلوقين، فقال: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: للكافرين بطريق النصيحة {أَنْفِقُوا} على المحتاجين {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} تعالى؛ أي: بعض ما أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال. فإن ذلك مما يرد البلاء، ويدفع المكاره؛ أي (¬2): تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال. قال الحسن: يعني: اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا}، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالصانع تعالى. قيل: هم زنادقة، كانوا بمكة. والزنديق: من لا يعتقد إلهًا، ولا بعثًا، ولا حرمة شيء من الأشياء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} استهزاء بهم، وتهكمًا بهم، وبما كانوا عليه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى، حيث كانوا يقولون: لو شاء الله لأغنى فلانًا، ولو شاء الله لأعزه، ولو شاء الله لكان كذا وكذا. وإنما حمل على التهكم، لأن المعطلة ينكرون الصانع، فلا يكون جوابهم المذكور عن اعتقاد وجد. {أَنُطْعِمُ} من أموالنا حسبما تعظوننا؛ أي: لا نطعم، فإن الهمزة للإنكار. {مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ} سبحانه إطعامه {أَطْعَمَهُ}؛ أي: رزقه على زعمكم. وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرازق هو الله، وأنه يغني من يشاء ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا غلط منهم، ومكابرة، ومجادلة بالباطل. فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضا، وأمر الغني أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقوله: {مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله أو إنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلًا. وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ} أيها المؤمنون؛ أي: ما أنتم {إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وخطأ بيّن واضح، ظاهر من تمام كلام الكفار. والمعنى: أنكم أيها المؤمنون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء، أو في اتباعكم محمدًا وترك ما نحن عليه، لفي ضلال وخطأ في غاية الوضوح والظهور. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى، جوابًا وردا لهذه المقالة، التي قالها الكفار. قال القشيري، والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة، وقد كان في كفار قريش وغيرهم، من سائر العرب قوم يتزندقون، فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين، ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. والمعنى (¬1): أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج ¬

_ (¬1) المراغي.

من المسلمين .. قالوا لمن طلب منهم ذلك: لو شاء الله لأغناهم، وأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم. وفي قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله. وإجمال ذلك: أنهم لم يعظموا الخالق، ولم يشفقوا على المخلوق. ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الأمر بالإنفاق، ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه، فقال: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}؛ أي: ما أنتم أيها المؤمنون في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم إلا في جور بيّن، وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر. وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائمًا يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وتلك قربة منهم؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضًا ابتلاء منه لعباده، ولأسباب وحكمة نحن لا نعلمها؛ لا بخلًا منه وشحًا. وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، ليس لحاجة منه إلى مالهم بل ليبلوهم، ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين .. وفي الحديث «لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء لجعلكم فقراء لا غني فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير». وهذه الآية ناطقة بترك شفقتهم على خلق الله. وجملة التكاليف ترجع إلى أمرين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله. وهم قد تركوا الأمرين جميعا. وقد تمسك البخلاء الآن بما تمسكوا به حيث يقولون: لا نعطي من حرم الله، ولو شاء لأغناه. نعم لو كان هذا الكلام صادرا عن يقين وشهود وعيان لكان مفيدًا، بل توحيدًا محضًا يدور عليه كمال الإيمان، ولكنهم سلكوا طريق التقليد والإنكار والعناد ومن لم يهد الله فما له من هاد. وكان لقمان يقول إذا مر بالأغنياء: يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول: إياكم أن تغبنوا مرتين. وعن علي - رضي الله عنه - إن

[48]

المال حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام، قال الفضيل - رحمه الله -: من أراد عز الآخرة، فليكن مجلسه مع المساكين. نسأل الله تعالى فضله الكثير، ولطفه الوفير. فإنه مسبب الأسباب، ومنه فتح الباب. 48 - {وَيَقُولُونَ}؛ أي: أهل مكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين إنكارًا واستبعادًا {مَتى هذَا الْوَعْدُ} بقيام الساعة والحساب والجزاء؛ أي: متى يقع هذا الموعود، الذي تعدوننا به من العذاب والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. أقريب أم بعيد؟ أي: متى إنجاز هذا الوعد، وإلا فالوعد بالبعث كان واقعا لا منتظرا، أو أراد بالوعد الموعود. ومعنى طلب القرب في لفظة {هذَا} إما بطريق الاستهزاء والتهكم وإما باعتبار قرب العهد بالوعد. قال في «كشف الأسرار»: إنما ذكروا بلفظ الوعد الذي يكون في الخير غالبا، دون الوعيد، لأنهم زعموا أن لهم الحسنى عند الله، إن كان الوعد حقًا. يقول الفقير: هذا إنما يتمشى في المشركين دون المعطلة، وقد سبق أنهم زنادقة كانوا بمكة. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} فيما تعدوننا به وتقولونه، فبينوا لنا وقت وقوعه. وهذا (¬1) الاستعجال بهجوم الساعة، والاستبطاء لقيام القيامة إنما وقع تكذيبا للدعوة، وإنكارا للحشر والنشر؛ لأنهم قالوا ذلك استهزاءً منهم، وسخريةً بالمؤمنين، ولو كان تصديقًا وإقرارًا واستخلاصًا من هذا السجن، وشوقًا إلى الله تعالى، ولقائه .. لنفعهم جدًا، ولما قامت عليهم القيامة عند الموت، كما لا تقوم على المؤمنين، بل يكون الموت لهم عيدًا وسرورًا. ومعنى الآية (¬2): أي ويقولون استهزاءً وإنكارًا: متى يحصل هذا البعث، الذي تهددوننا به تارة تصريحًا، وأخرى تلويحًا، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون. والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[49]

49 - فأجابهم ربهم بقوله: {ما يَنْظُرُونَ} والنظر هنا، بمعنى: الانتظار؛ أي: ما ينتظر كفار مكة {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} لا تحتاج إلى ثانية. هي النفخة الأولى، التي هي نفخة الصعق والموت، ينفخها إسرافيل في الصور. {تَأْخُذُهُمْ} مفاجأة، وتصل إلى جميع أهل الأرض والسموات. وجملة قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} في محل النصب على الحال من مفعول {تَأْخُذُهُمْ}؛ أي: والحال أنهم يتخاصمون فيما بينهم، ويتنازعون في تجاراتهم ومعاملاتهم ويشتغلون بأمور دنياهم حتى تقوم الساعة وهم في غفلة عنها. فإن قلت: هم (¬1) ما كانوا منتظرين، بل كانوا جازمين بعدم الساعة والصيحة؟ قلت: نعم إلا أنهم جعلوا منتظرين، نظرًا إلى ظاهر قولهم: متى يقع هذا الوعد؛ لأن من قال: متى يقع الشيء الفلاني، يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تهيج الساعة والرجلان يتبايعان قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها، والرجل يلوط حوضه فلا يسقي منه، والرجل قد انصرف بلبن لقحته فلا يطعمه، والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها. ثم تلا: {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}. والمعنى: أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا، تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم، لا يخطر ببالهم مجيؤها. ونحو الآية قوله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}. وقرأ أبي (¬2): {يَخْتَصِمُونَ} على الأصل. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وهشام، وابن فنطنطين بإدغام التاء في الصاد، ونقل حركتها إلى الخاء، وأبو عمرو أيضًا. وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم الثلاثي، والمفعول محذوف؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[50]

أي: يخصم بعضهم بعضًا، وباقي السبعة بكسر الخاء، وشد الصاد. وفرقة بكسر الياء اتباعًا لكسرة الخاء وشد الصاد. فإن قلت: الصيحة المذكورة هنا مكررة مع الصيحة التي سبقت في قوله: {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)}. قلت: لا تكرار؛ لأن السابقة هي صيحة جبرائيل، لا هلاك أهل أنطاكية مدينة الروم، والمذكورة هنا هي صيحة إسرافيل، حين ينفخ في الصور نفخة الصعق، النفخة الأولى. 50 - ثم بين سبحانه سرعة حدوثها، وأنها كلمح البصر، أو هي أقرب فقال: {فـ} حينئذ {لَا يَسْتَطِيعُونَ}؛ أي: لا يقدرون {تَوْصِيَةً}؛ أي: إيصاء في شيء من أمورهم إذ كانت فيما بين أيديهم؛ أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومزارعهم ومواضعهم. قال ابن الشيخ (¬1): لا يستطيعون توصية ما، ولو كانت بكلمة يسيرة، فإذا لم يقدروا عليها يكونون أعجز عما يحتاجون فيه إلى زمان طويل، من أداء الواجبات، ورد المظالم، ونحوها؛ لأن القول أيسر من الفعل، فإذا عجزوا عن أيسر ما يكون من القول، تبين أن الساعة لا تمهلهم بشيء ما. واختار الوصية من جنس الكلمات، لكونها أهم بالنسبة إلى المحتضر، فالعاجز عنها يكون أعجز عن غيرها. {وَلا إِلى أَهْلِهِمْ} متعلق بقوله: {يَرْجِعُونَ}؛ أي: لا يستطيعون توصية إلى أهليهم إن كانوا بين أهلهم، ولا يرجعون إلى أهلهم ومنازلهم إن كانوا في خارج أبوابهم، بل تبغتهم الصيحة، فيموتون حيث ما كانوا. والمعنى (¬2): أي فلا يستطيعون أن يوصوا في أموالهم أحدًا. إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجًا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا، ويرجعون إلى ربهم. واعلم: أن الموت يدرك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[51]

الإنسان سريعًا، والإنسان لا يدرك كل الأماني. فعلى العبد أن يتدارك الحال بقصر الآمال. وقرأ ابن محيصن {يرجعون} بضم الياء وفتح الجيم. ومن السنة (¬1): حسن الوصية عند الموت، وإن كان الذي يوصي عند الموت كالذي يقسم ماله عند التشبع. ومن مات بغير وصية، لم يؤذن له في الكلام في البرزخ إلى يوم القيامة، ويتزاور الأموات، ويتحدثون وهو ساكت فيقولون: إنه مات بغير وصية، فيوصي بثلث ماله. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الضرار في الوصية من الكبائر، جعلنا الله وإياكم من المتداركين لحالهم، والمتفكرين في مآلهم، والمكثرين من صالح الأعمال، والمنتقلين من الدنيا إلى الآخرة على أحسن الأقوال. 51 - ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}؛ أي: ينفخ في الصور. وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. والنفخ: نفخ الريح في الشيء. وقرأ الجمهور {الصور} بإسكان الواو. وفيه وجهان: أحدهما: أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفيه بعدد كل روح ثقبة هي مقامه. والمعنى حينئذٍ: ونفخ في القرن نفخًا، هو سبب لحياة الموتى. وثانيهما: أنه جمع صورة كصوف جمع صوفة، ويؤيد هذا الوجه قراءة الأعرج {ونفخ في الصوَر} بفتح الواو. فالمعنى عليه: ونفخ في الصور الأرواح، وذلك أيضًا بنفخ القرن. والمراد: النفخة الثانية، التي يحيي الله بها كل ميت، لا النفخة الأولى التي يميت الله بها كل حي. وبينهما أربعون سنة، تبقى الأرض على حالها مستريحة بعدما مر بها من الأهوال العظام والزلازل، وتمطر سماؤها، وتجري مياهها، وتطعم أشجارها، ولا حي على ظهرها من المخلوقات، فإذا مضى بين النفختين أربعون عامًا، أمطر الله من تحت العرش ماءً غليظًا، كمني الرجال، يقال له: ماء ¬

_ (¬1) روح البيان.

الحيوان، فتنبت أجسامهم كما ينبت البقل، وتأكل الأرض ابن آدم إلا عجب الذنب، فإنه يبقي مثل عين الجرادة، لا يدركه الطرف، فينشأ الخلق من ذلك، وتركب عليه أجزاؤه كالهباء في شعاع الشمس. فإذا تكاملت الأجساد، يحيي الله تعالى إسرافيل، فينفخ في الصور، فيطير كل روح إلى جسده، ثم ينشق عنه القبر. {فَإِذا هُمْ} بغتة من غير لبث؛ أي: الكفار، كما دل عليه ما بعد الآية {مِنَ الْأَجْداثِ}؛ أي: من القبور. فإن قيل: أين يكون في ذلك الوقت الأجداث، وقد زلزلت الصيحة الجبال؟ أجيب: بأن الله تعالى، يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه، فيخرج من ذلك الموضع. وهو جدثه. وقرأ الجمهور {الْأَجْداثِ} بالثاء المثلثة. وقرىء {من الأجداف} بالفاء بدل الثاء، وهما لغتان، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة. {إِلى رَبِّهِمْ}؛ أي: دعوة ربهم، ومالك أمرهم على الإطلاق. وهي دعوة إسرافيل للنشور، أو إلى موقف ربهم الذي أعد للحساب والجزاء. وقد صح أن بيت المقدس هي أرض المحشر والمنشر. وكل من الجارين متعلق بقوله: {يَنْسِلُونَ} كما دل عليه قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا}؛ أي: يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار، لقوله تعالى: {لَدَيْنا مُحْضَرُونَ}. وقرأ الجمهور: {يَنْسِلُونَ} بكسر السين، وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضمها. وإذا المفاجأة بعد قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} إشارة إلى كمال قدرته تعالى، وإلى أن مراده لا يتخلف عن إرادته زمانًا، حيث حكم بأن النسلان وهو سرعة المشي، وشدة العدو يتحقق في وقت النفخ، لا يتخلف عنه مع أن النسلان لا يكون إلا بعد مراتب. وهي جمع الأجزاء المتفرقة، والعظام المتفتتة، وتركيبها، وإحياؤها وقيام الحي ثم نسلانه. فإن قلت: قال تعالى في آية أخرى: {فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ}، وقال هاهنا: {فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} والقيام غير النسلان، وقد صدر كل واحد منهما في موضعه بـ {إذا} الفجائية، فيلزم أن يكونا معًا؟ والجواب من وجهين:

[52]

الأول: أن القيام لا ينافي المشي السريع، لأن الماشي قائم، ولا ينافي النظر أيضًا. والثاني: أن الأمور المتعاقبة التي لا يتخلل بينها زمان ومهلة تجعل كأنها واقعة في زمان واحد، كما إذا قيل: مقبل مدبر. والمعنى: أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث، والنشور، والخروج. فإذا هم جميعًا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء. ونحو الآية قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}. 52 - ثم ذكر، أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكي عنهم بقوله: {قالُوا}؛ أي: الكفار في ابتداء بعثهم من القبور، منادين لويلهم، وهلاكهم من شدة ما غشيهم من أمر القيامة {يا وَيْلَنا} ويا هلاكنا، احضر إلينا لنتعجب منك، فهذا أوانك ووقت مجيئك. فويل: منادى مضاف إلى ضمير المتكلمين، وهو كلمة عذاب وبلاء، كما أن كلمة ويح كلمة رحمة. ويحتمل كون المنادى محذوفا؛ أي: قالوا: يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه. قال ابن الأنباري. الوقف على {يا وَيْلَنا} وقف حسن. ثم يبتدىء الكلام بقوله: {مَنْ} استفهام استخباري وتعجب {بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا} كان حفص يقف على {مَرْقَدِنا} وقفة لطيفة دون قطع نفس، لئلا يتوهم أن اسم الإشارة صفة لـ {مَرْقَدِنا}، ثم يبتدىء {هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ} على أنها جملة مستأنفة. ويقال لهذه الوقفة: وقفة السكت. وهي قطع الصوت مقدارًا أخصر من زمان النفس. أي: من أقامنا، وأيقظنا من رقادنا ونومنا إن قلنا: إن المرقد مصدر، أو من مكاننا الذي كنا فيه راقدين إن قلنا. إنه اسم مكان. ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما. قال في «الأسئلة المقحمة»: إن قيل: أخبر الكفار، بأنهم كانوا في القبر قبل البعث، في حال الرقاد، وهذا يرد عذاب القبر؟ قلت: إنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نيامًا، أو أن الله تعالى يرفع

عنهم العذاب بين النفختين، فكأنهم يرقدون في قبورهم كالمريض يجد خفة ما، فينسلخ عن الحس بالمنام. فإذا بعثوا بعد النفخة الآخرة، وعاينوا القيامة دعوا بالويل. ويؤيد هذا الجواب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين النفختين أربعون سنة، وليس بينهما قضاء، ولا رحمة ولا عذاب إلا ما شاء ربك». أو أن الكفار إذا عاينوا جهنم، وأنواع عذابها، وافتضحوا على رؤوس الأشهاد، وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم قالوا: من بعثنا من مرقدنا. وذلك أن عذاب القبر روحاني فقط. وأما عذاب يوم القيامة، فجثماني وروحاني، وهو أشد من الروحاني فقط. قرأ الجمهور: {يا وَيْلَنا}. وقرأ ابن أبي ليلى {يا ويلتنا} بتاء التأنيث وعنه أيضًا {يا ويلتي} بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة. وقرأ الجمهور: {مَنْ بَعَثَنا} بفتح ميم {مَنْ} على الاستفهام. وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر. ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب، وعلى هذه القراءة تكون {مَنْ} متعلقة بالويل. وقرأ الجمهور: {مَنْ بَعَثَنا}. وفي قراءة أبي {من أهبنا} من هب من نومه إذا انتبه. وأنشد ثعلب على هذه القراءة: وَعَاذلةٍ هَبَّت بليلٍ تلومني ... وَلَمْ يعتمدني قبل ذاك عَذولُ وقوله: {هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ} مبتدأ وخبر، و {ما} موصولة، والعائد محذوف؛ أي: هذا البعث هو الذي وعدكموه الرحمن في الدنيا وأنتم قلتم: متى هذا الوعد إنكارًا. {وَصَدَقَ} في أخباره {الْمُرْسَلُونَ} فقد حق عليكم، ونزل بكم. وهو جواب من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين. عدل به عن سنن سؤال الكفار تذكيرًا لكفرهم وتقريعا لهم عليه، وتنبيهًا على أن الذي يهمهم هو السؤال عن نفس البعث، ماذا هو؟ دون الباعث، كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الذي وعدكم ذلك في كتبه، وأرسل إليكم الرسل، فصدقوكم فيه، وليس بالبعث الذي تتوهمونه. وهو بعث النائم من مرقده، حتى تسألوا عن الباعث. وإنما هذا هو البعث الأكبر ذو الأفزاع والأهوال. وفي «فتح الرحمن»، قوله: {قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا ...} إلخ، إذا قلت: قولهم ذلك، سؤال عن الباعث، فكيف طابقه الجواب بقوله: {هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ...} إلخ؟

[53]

قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم بالبعث، وأخبركم به الرسول، وإنما جيء به على هذه الطريقة، تبكيتًا لهم وتوبيخًا. وقيل: هو من كلام الكفرة، يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفرّاء، وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه. قال الزجاج: ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد صفة له، ثم استأنف {ما وَعَدَ الرَّحْمنُ}، ويضمر الخبر حق؛ أي: ما وعد الرحمن حق عليكم. 53 - {إِنْ كانَتْ}؛ أي: ما كانت تلك النفخة الثانية المذكورة {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} لا ثانية لها، صاحها إسرافيل بنفخه في الصور. وقيل: صيحة البعث هو قول إسرافيل على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والأعضاء المتمزقة، والشعور المنتشرة، إن الله المصور الخالق، يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فاجتمعوا وهلموا إلى العرض، وإلى جبار الجبابرة. قال بعضهم: إن هذا القول، ليس غير النفخ في الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد من أحدهما هو المراد من الآخر، أو بأن يقال ذلك أثناء النفخ، بحيث يحصل هو والنفخ معا، إذ ليس من ضرورة التكلم على الوجه المعتاد، حتى يحصل التنافي بينهما. {فَإِذا هُمْ} بغتة من غير لبث ما طرفة عين. و {هُمْ} مبتدأ، خبره قوله: {جَمِيعٌ}؛ أي: مجموعون. وقوله: {لَدَيْنا}؛ أي: عندنا، متعلق بقوله: {مُحْضَرُونَ} للفصل والحساب؛ أي: فإذا هم مفاجأة مجموعون في المحشر، محضرون لدينا بسرعة للحساب والجزاء. وفيه من تهوين أمر البعث والحشر، والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى، كما هو عسير على الخلق يسير على الله تعالى، لعدم احتياجه إلى مزاولة الأسباب، ومعالجة الآلات كالخلق، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون. والمعنى: أي ما كانت إعادتهم إحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة، فإذا هم مجتمعون لدينا، قد أُحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد. ونحو الآية: {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}، وقوله: {وَما أَمْرُ السَّاعَةِ

[54]

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. 54 - ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس، فقال: {فَالْيَوْمَ}؛ أي: فيقال للكفار حين يرون العذاب المعد لهم: اليوم؛ أي: يوم القيامة، وهو منصوب بقوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس برة كانت أو فاجرة {شَيْئًا} نصب على المصدرية؛ أي: شيئًا من الظلم بنقص الثواب أو زيادة العقاب، أو على أنه مفعول به ثان؛ أي: لا تظلم شيئًا مما تستحقه {وَلا تُجْزَوْنَ} أيها الكفار {إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر، والمعاصي، والأوزار. فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما، كأنهما شيء واحد، أو إلا بما كنتم تعملونه؛ أي: بسببه أو في مقابلته. فقوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} ليأمن المؤمن. وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ} إلخ لييأس الكافر. فإن قلت: ما الفائدة في إيثار طريق الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم، والعدول عن الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟ فالجواب: أن قوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} يفيد العموم. وهو المقصود في هذا المقام، فإنه تعالى لا يظلم أحدًا مؤمنًا كان أو مجرمًا. وأما قوله: {لا تُجْزَوْنَ} فإنه يختص بالكافر، فإنه تعالى يجزي المؤمن بما لم يعمله من جهة الوراثة، ومن جهة الاختصاص الإلهي، فإنه تعالى، يختص برحمته من يشاء من المؤمنين، بعد جزاء أعمالهم فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله أضعافًا مضاعفة. أي: ففي هذا اليوم الرهيب، يوم القيامة، لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح جزاءً وفاقًا لما عملت في الدنيا. وهذا حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب، المعد لهم تحقيقًا للحق، وتقريعًا لهم، وتوبيخًا عليهم.

الإعراب {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)}. {وَما} {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {أَنْزَلْنا}: فعل وفاعل، {عَلى قَوْمِهِ} متعلق بـ {أَنْزَلْنا}. {مِنْ بَعْدِهِ}: جار ومجرور، حال من {قَوْمِهِ}، {مِنْ}: زائدة، {جُنْدٍ}: مفعول به، {مِنَ السَّماءِ}: صفة لـ {جُنْدٍ} أو متعلق بـ {أَنْزَلْنا}. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لاحتقار أمرهم. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {مَا}: نافية، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {مُنْزِلِينَ}: خبره. والجملة معطوفة على جملة {أَنْزَلْنا}: معللة لها؛ أي: لأن عادتنا المستمرة في الأزمنة الماضية، قبل زمن محمد - صلى الله عليه وسلم -، أنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار، بل نهلكهم بغير الملائكة. {إِنْ} نافية، {كَانَتْ} فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على العقوبة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {صَيْحَةً} خبر {كَانَ}، {واحِدَةً}: صفة {صَيْحَةً}؛ أي: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وجملة {كَانَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {فَإِذا} الفاء: عاطفة، {إذا}: حرف فجأة، {هُمْ خامِدُونَ}: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {كان}. {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)}. {يا حَسْرَةً} {يا}: حرف نداء، {حَسْرَةً}: منادى شبيه بالمضاف؛ لأنه اتصل به شيء من تمام معناه، منصوب، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة، {عَلَى الْعِبادِ} متعلق بـ {حَسْرَةً}. وجواب النداء محذوف، تقديره: احضري فهذا أوانك. ويحتمل كون المنادى محذوفًا، و {حسرة} منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد. جملة النداء مستأنفة. {مَا}: نافية، {يَأْتِيهِمْ}: فعل، ومفعول به، {مِنْ}: زائدة، {رَسُولٍ}: فاعل يأتي. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل التحسر عليهم. {إِلَّا} أداة استثناء من أعم

الأحوال، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ} متعلق بما بعده، وجملة {يَسْتَهْزِؤُنَ} خبر {كان}، وجملة {كان} في محل النصب على الحال، من الهاء في {يَأْتِيهِمْ}؛ أي: ما يأتيهم رسول في حال من الأحوال؛ إلا حال كونهم مستهزئين إياه. {أَلَمْ}: الهمزة: للاستفهام التقريري، {لَمْ} حرف نفي وجزم، {يَرَوْا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {لَمْ}. والجملة مستأنفة. {كَمْ} خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب، مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنا}؛ لأنها مما يلزم الصدارة، {أَهْلَكْنا} فعل وفاعل، {قَبْلَهُمْ}: متعلق بـ {أَهْلَكْنا}. والجملة الفعلية في محل النصب، سادة مسد مفعولي {يَرَوْا}؛ لأنها قلبية معلقة بكم عن العمل فيما بعدها. {مِنَ الْقُرُونِ} حال من {كَمْ}، {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {إِلَيْهِمْ} متعلق بـ {يَرْجِعُونَ}، وجملة {لا يَرْجِعُونَ} خبر {أن} وجملة {أن} في تأويل مصدر منصوب، على كونه بدلًا من معنى {كَمْ أَهْلَكْنا} والتقدير: ألم يروا إهلاكنا كثيرًا من القرون، كونهم غير راجعين إليهم أو على كونه معمولًا لفعل محذوف، دل عليه السياق؛ أي: وقضينا وحكمنا عدم رجوعهم إليهم. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إِنْ}: نافية، {كُلٌّ}: مبتدأ، {لَمَّا} حرف بمعنى: إلا التي للحصر، {جَمِيعٌ} خبر أول لكل، {لَدَيْنا} متعلق به؛ لأنه بمعنى مجموعون أو بمحضرون، و {مُحْضَرُونَ} خبر ثان للمبتدأ؛ أي: وما كل الخلائق إلا مجموعون عندنا، محضرون لدينا للحساب والجزاء. والجملة معطوفة على جملة {كَمْ أَهْلَكْنا} أو مستأنفة. {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35)}. {وَآيَةٌ} {الواو}: استئنافية، {آيَةٌ} خبر مقدم، {لَهُمُ} صفة لـ {آيَةٌ}، {الْأَرْضُ} مبتدأ مؤخر، {الْمَيْتَةُ} صفة لـ {الْأَرْضُ} وجملة {أَحْيَيْناها} حال من الضمير المستكن في الميتة، أو صفة ثانية لـ {الْأَرْضُ}، لأن أل فيها جنسية فهي بمنزلة النكرات. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَأَخْرَجْنا}: فعل وفاعل، معطوف على {أحيينا}، {مِنْها}: متعلق بـ {أَخْرَجْنا}، {حَبًّا} مفعول به، {فَمِنْهُ} الفاء: استئنافية، {منه} متعلق بـ {يَأْكُلُونَ}، و {يَأْكُلُونَ} فعل وفاعل. والجملة

مستأنفة. {وَجَعَلْنا} فعل وفاعل، معطوف على {أحيينا}، {فِيها} متعلق بـ {جَعَلْنا} على كونه مفعولًا ثانيًا له إن قلنا: إن {جَعَلْنا} من أفعال التصيير، {جَنَّاتٍ} مفعول به أول على التقدير المذكور، {مِنْ نَخِيلٍ} صفة لـ {جَنَّاتٍ}، {وَأَعْنابٍ} معطوف على {نَخِيلٍ}، {وَفَجَّرْنا}: فعل وفاعل، معطوف على {أحيينا}، {فِيها} متعلق بـ {فَجَّرْنا}، {مِنَ الْعُيُونِ} صفة لمفعول {فَجَّرْنا} المحذوف، تقديره: وفجرنا فيها ينابيع كائنات من العيون. {لِيَأْكُلُوا} اللام، حرف جر وتعليل، {يأكلوا} فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {مِنْ ثَمَرِهِ} متعلق بـ {يأكلوا}. والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنا}؛ أي: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب لأكلهم من ثمره؛ أي: من ثمر المذكور من النخيل والأعناب. {وَما} موصولة أو موصوفة، معطوفة على ثمره، {عَمِلَتْهُ} فعل ومفعول، {أَيْدِيهِمْ} فاعل. والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. ويصح كونها مصدرية؛ أي: ومن عمل أيديهم كالدبس والعصير. قال الزمخشري: ويصح أن تكون {ما}: نافية، وتكون الجملة الفعلية حينئذ حالًا من الثمر. {أَفَلا يَشْكُرُونَ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيرون تلك النعم، فلا يشكرون الله عليها؟! {لا} نافية، {يَشْكُرُونَ} فعل وفاعل، معطوف على ذلك المقدر. {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)}. {سُبْحانَ}: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. {سُبْحانَ}: مضاف، {الَّذِي}: مضاف إليه، {خَلَقَ الْأَزْواجَ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة صلة الموصول. {كُلَّها} توكيد للأزواج، {مِمَّا} جار ومجرور، حال من الأزواج، {تُنْبِتُ الْأَرْضُ} فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما تنبته الأرض. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور، معطوف

على الجار والمجرور في قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ}، وكذا قوله: {وَمِمَّا} معطوف عليه، وجملة {لا يَعْلَمُونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}. {وَآيَةٌ} {الواو}: عاطفة، {آيَةٌ} خبر مقدم، {لَهُمُ} صفة لآية، {اللَّيْلُ} مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} {نَسْلَخُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، {مِنْهُ} متعلق بـ {نَسْلَخُ}، {النَّهارَ} مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الخبر العائد إلى الليل، ولكنها حالة سببية. {فَإِذا} الفاء: عاطفة، {إذا} فجائية، {هُمْ مُظْلِمُونَ}: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على جملة {نَسْلَخُ}: عطف اسمية على فعلية. {وَالشَّمْسُ}: مبتدأ، وجملة {تَجْرِي}: خبره، {لِمُسْتَقَرٍّ} متعلق بـ {تَجْرِي}، {لَهَا} صفة لـ {مستقر}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ}. ويجوز أن يكون {الشَّمْسُ} معطوفًا على الأرض، وجملة {تَجْرِي} حال من الشمس. {ذَلِكَ} مبتدأ، {تَقْدِيرُ} خبره، {الْعَزِيزِ} مضاف إليه، {الْعَلِيمِ} صفة لـ {الْعَزِيزِ}. والجملة مستأنفة. {وَالْقَمَرَ} بالنصب منصوب على الاشتغال بفعل مضمر، يفسره المذكور بعده، تقديره: وقدرنا القمر، وجملة {قَدَّرْناهُ} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {مَنازِلَ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {قدرنا} المقدر؛ أي: قدرنا سير القمر في منازل من الأبراج، أو حال من القمر، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: حال كونه ذا منازل، أو مفعول ثان لقدرنا؛ أي: صيّرناه منازل، وبالرفع معطوف على المبتدأ المذكور قبله على أنه مبتدأ، خبره جملة {قَدَّرْناهُ} {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {عَادَ}: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على القمر، {كَالْعُرْجُونِ} {الكاف} اسم بمعنى مثل، في محل النصب خبر عاد، {كَالْعُرْجُونِ}:

مضاف إليه للكاف، {الْقَدِيمِ} صفة لـ {العرجون}؛ أي: حتى صار مثل العرجون القديم. والجملة الفعلية في محل الجر بـ {حَتَّى} بمعنى إلى؛ أي: إلى عوده مثل العرجون القديم، الجار والمجرور متعلق بـ {قدرنا}، {لَا} نافية {الشَّمْسُ} مبتدأ، وجملة {يَنْبَغِي} خبره. والجملة مستأنفة. {لَهَا} متعلق بـ {يَنْبَغِي}، {أَنْ} حرف نصب، {تُدْرِكَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الشمس، منصوب بأن المصدرية {الْقَمَرَ} مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية لينبغي؛ أي: لا ينبغي لها إدراكها القمر. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا} نافية، {اللَّيْلُ}: مبتدأ، {سابِقُ}: خبره، {النَّهارِ} مضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة قوله: {لَا الشَّمْسُ}. {وَكُلٌّ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم؛ ولأن التنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب {فِي فَلَكٍ} متعلق بما بعده، وجملة {يَسْبَحُونَ} خبر المبتدأ، وعبّر عنها بالواو التي للعقلاء، تنزيلًا لها منزلتهم. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (44)}. {وَآيَةٌ} {الواو}: عاطفة، {آيَةٌ} خبر مقدم، {لَهُمْ} صفة له، {أَنَّا} ناصب واسمه، {حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول، {فِي الْفُلْكِ} متعلق بـ {حَمَلْنا}، {الْمَشْحُونِ}: صفة لـ {الْفُلْكِ}، وجملة {حَمَلْنا} في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء؛ أي: وحملنا ذريتهم في الفلك المشحون آية لهم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ}. {وَخَلَقْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على {حَمَلْنا}، {لَهُمْ} متعلق بـ {خَلَقْنا}، {مِنْ مِثْلِهِ} حال من المفعول المؤخر، وهو {ما} الموصولة، {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول {خَلَقْنا}، وجملة {يَرْكَبُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما يركبونه. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية، {إِنْ} حرف شرط، {نَشَأْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، مجزوم

بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {نُغْرِقْهُمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {فَلا صَرِيخَ} {الفاء}: عاطفة، {لا} نافية للجنس تعمل عمل {إِنْ}، {صَرِيخَ} في محل النصب اسمها، {لَهُمْ} خبرها. وجملة {لا} معطوفة على جملة الجواب. واختار ابن عطية كون الفاء: استئنافية، ففيه قطع الكلام عما قبله. {وَلا هُمْ}: {الواو}: عاطفة، {لا}، نافية مهملة، {هُمْ}: مبتدأ، {يُنْقَذُونَ} فعل مغير، ونائب فاعل في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ من أعم العلل، {رَحْمَةً} مفعول لأجله، منصوب بـ {يُنْقَذُونَ}، {مِنَّا} صفة لـ {رَحْمَةً}، {وَمَتاعًا} معطوف على رحمة، {إِلى حِينٍ} متعلق بـ {مَتاعًا} أو صفة له، وتقدير الكلام؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، وتمتيع منا لهم. وسبق بسط الكلام على هذا في مبحث التفسير فراجعه. {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمُ} متعلق بـ {قِيلَ}. {اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ...} إلى آخر الآية نائب فاعل، محكي لـ {قِيلَ}. وجملة {قِيلَ} في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونه فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وجوابه محذوف دل عليه ما سيأتي تقديره: أعرضوا عنه. وجملة {إِذا} مستأنفة. وإن شئت قلت: {اتَّقُوا} فعل أمر، وفاعل، {ما} اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة {اتَّقُوا} في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ظرف، ومضاف إليه صلة لما الموصولة، {وَما خَلْفَكُمْ} معطوف على ما بين أيديكم، {لَعَلَّكُمْ}: {لعل} حرف نصب وتعليل أو ترجّ، والكاف اسمها، وجملة {تُرْحَمُونَ} خبرها. وجملة {لعل} في محل النصب حال من واو اتقوا؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو تعليل للأمر بالتقوى؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، كما سبق هناك {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما} نافية،

{تَأْتِيهِمْ}: فعل، ومفعول به، {مِنْ} زائدة، {آيَةٍ}: فاعل، {مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه صفة لـ {آيَةٍ}. والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إذا}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، {كانُوا} فعل ناقص واسمه، {عَنْها} متعلق بما بعده، {مُعْرِضِينَ}: خبر. {كان}، وجملة {كان} في محل النصب، حال من مفعول تأتي، والتقدير: وما تأتيهم آية من آيات ربهم، في حال من الأحوال إلا حالة كونهم معرضين عنها. {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)}. {وَإِذا} {الواو}: عاطفة، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ} متعلق به، {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: {أَنْفِقُوا} فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لقيل، {مِمَّا} جار ومجرور، متعلق بـ {أَنْفِقُوا}. {رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فعل، ومفعول أول، وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما رزقكم الله إياه. {قالَ الَّذِينَ} فعل، وفاعل. والجملة جواب {إِذا}، وجملة {إِذا} معطوفة على جملة قوله: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}. {كَفَرُوا} فعل، وفاعل، صلة الموصول، {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {قالَ}. {آمَنُوا} فعل، وفاعل، صلة الموصول، {أَنُطْعِمُ} {الهمزة} للاستفهام الإنكاري، {نُطْعِمُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين من الكفار، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول {نُطْعِمُ}، وجملة {نُطْعِمُ} في محل النصب مقول لـ {قالَ} الذين كفروا، {لَوْ} حرف شرط غير جازم، {يَشاءُ اللَّهُ} فعل مضارع، وفاعل، فعل لـ {لو}، {أَطْعَمَهُ} فعل، ومفعول، وفاعل مستتر يعود على الله جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية صلة {مَنْ} الموصولة، {إِنْ} نافية، {أَنْتُمْ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {فِي ضَلالٍ} خبر المبتدأ، {مُبِينٍ} صفة ضلال، الجار والمجرور خبر

المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}. {وَيَقُولُونَ}: {الواو} استئنافية، {يَقُولُونَ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {مَتى} اسم استفهام عن الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، {هذَا}: مبتدأ مؤخر، {الْوَعْدُ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {إِنْ} حرف شرط جازم، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {صادِقِينَ} خبر {كان}، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فيما تدّعون، فبيّنوا لنا وقت وقوعه ومجيئه. وجملة {إِنْ} الشرطية في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}. {ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}. {ما}: نافية، {يَنْظُرُونَ}: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {صَيْحَةً}: مفعول به، {واحِدَةً}: صفة له، {تَأْخُذُهُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب. صفة ثانية لصيحة، أو حال منها لوصفها بواحدة. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية، {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يَخِصِّمُونَ}: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب. حال من مفعول {تَأْخُذُهُمْ}، {فَلا} {الفاء}: عاطفة، {لا} نافية، {يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة مفرعة على جملة {تَأْخُذُهُمْ}. {ولا} {الواو}: عاطفة، {لا} نافية، {إِلى أَهْلِهِمْ} متعلق بـ {يَرْجِعُونَ}، و {يَرْجِعُونَ}: معطوفة على جملة {فَلا يَسْتَطِيعُونَ}. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)}. {وَنُفِخَ} {الواو}: استئنافية، {نُفِخَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور نائب فاعل. والجملة مستأنفة. {فَإِذا} {الفاء}: عاطفة، {إذا} فجائية، {هُمْ}: مبتدأ، {مِنَ الْأَجْداثِ} متعلق بـ {يَنْسِلُونَ}، و {إِلى رَبِّهِمْ}

متعلق بـ {يَنْسِلُونَ} أيضًا، وجملة {يَنْسِلُونَ}: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوف على جملة {نُفِخَ}. {قالُوا} فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {يا وَيْلَنا} {يا}: حرف نداء، {وَيْلَنا}: منادى مضاف. وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {بَعَثَنا}: فعل، ومفعول، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {مَنْ}: الاستفهامية، وجملة {مَنْ} الاستفهامية في محل النصب مقول {قالُوا}. {مِنْ مَرْقَدِنا}: متعلق بـ {بعثنا}، هذا: مبتدأ، {ما}: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: قالت الملائكة أو المؤمنون: هذا البعث ما وعد الرحمن، وجملة القول المحذوف، مستأنفة. {وَعَدَ الرَّحْمنُ}: فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هذا ما وعده الرحمن إياكم. {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على {وَعَدَ الرَّحْمنُ}، والعائد محذوف؛ أي: وصدق المرسلون في إخباره إياكم. {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}. {إِنْ} نافية {كانَتْ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على النفخة؛ أي: ما كانت النفخة المذكورة سابقا، {إِلَّا}: أداة حصر، {صَيْحَةً} خبر {كان}، {واحِدَةً}: صفة لـ {صَيْحَةً}، وجملة كانت مستأنفة. {فَإِذا} {الفاء}: عاطفة، {إذا}: فجائية، {هُمْ}: مبتدأ، {جَمِيعٌ} خبر أول، {لَدَيْنا} متعلق بـ {مُحْضَرُونَ}، و {مُحْضَرُونَ}: خبر ثان. والجملة معطوفة على جملة {كان}. {فَالْيَوْمَ} {الفاء}: استئنافية، {اليوم} ظرف متعلق بـ {تُظْلَمُ}، {لا} نافية، {تُظْلَمُ نَفْسٌ} فعل، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة. {شَيْئًا} مفعول مطلق، {وَلا تُجْزَوْنَ} فعل، ونائب فاعل، معطوف على {لا تُظْلَمُ}، {إِلَّا}: أداة حصر، {ما}: اسم موصول في محل النصب. مفعول ثان لـ {تُجْزَوْنَ}، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره. وجملة {كان} صلة الموصول.

التصريف ومفردات اللغة {مِنْ جُنْدٍ} الجند: العسكر، واحده جندي، والمراد بهم هنا: الجند من الملائكة؛ لأنهم جند الله الأكبر. {خامِدُونَ} والخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا: الموت. {يا حَسْرَةً} والحسرة على ما قال الراغب: الغم على ما فات، والندم عليه، كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء. {مِنَ الْقُرُونِ} جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. {وَفَجَّرْنا} الفجر: شق الشيء شقًا واسعًا، كما في «المفردات». قال بعضهم: التفجير كالتفتيح لفظًا ومعنًى، وبناء التفعيل للتكثير. {فِيها مِنَ الْعُيُونِ} جمع عين، وهي في الأصل: الجارحة. ويقال لمنبع الماء: عين، تشبيهًا بها في الهيئة، وفي سيلان الماء منها، ومن عين الماء اشتق ماء معين؛ أي: ظاهر للعيون. ومعنى {مِنَ الْعُيُونِ}: من ماء العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. {سُبْحانَ الَّذِي} سبحان: علم للتسبيح، الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادًا وقولًا؛ أي: اعتقاد البعد عنه، والحكم به. فإن العلم كما يكون علمًا للأشخاص، كزيد وعمرو، وللأجناس كأسامة .. يكون للمعاني أيضًا. لكن علم الأعيان لا يضاف، وهذا لا يجوز بغير إضافة كما في الآية، أقيم مقام المصدر، وبيّن مفعوله بإضافته إليه. {الْأَزْواجَ}: جمع زوج، وهو ضد الفرد، ويقال للأنواع: أزواج؛ لأن كل نوع زوج بقسيمه. وفي {سُبْحانَ} استعظام ما في حيِّز الصلة، من بدائع آثار قدرته، وروائع نعمائه الموجبة للشكر، وتخصيص العبادة به. والتعجب من إخلال الكفرة بذلك، والحالة هذه، فإن التنزيه لا ينافي التعجب. والمعنى: أسبح الذي أوجد الأصناف والأنواع سبحانه؛ أي: أنزهه عما لا يليق به عقدًا وعملًا تنزيهًا خاصًا به، حقيقًا بشأنه. فهو حكم منه تعالى بتنزهه، وبراءته عن كل ما لا يليق به، كما فعله الكفار من الشرك وما تركوه من الشكر، وتلقين للمؤمنين أن يقولوه، ويعتقدوا مضمونه، ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عنه. وقال بعضهم: {سُبْحانَ} مصدر كغفران أريد به: التنزه التام، والتباعد

الكلي عن السوء على أن تكون الجملة إخبارًا من الله بالتنزه. والمعنى: تنزه تعالى بذاته عن كل ما لا يليق به تنزهًا خاصًا. ومن هو خالق الأصناف والأنواع كيف يجوز أن يشرك به ما لا يخلق شيئًا؟، بل هو مخلوق عاجز. اهـ من «الروح». {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل، وملقى ظله. ومعنى {نَسْلَخُ}: نفصل، يقال: سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها، وأزاله. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخًا، وسلخ الخروف كشط جلده، وسلخت المرأة درعها نزعته، وسلخت الحية انكشفت عن سلختها، وسلخها قشرها. فاستعير السلخ هنا لإزالة الضوء، وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله. {لِمُسْتَقَرٍّ لَها}؛ أي: حول مستقر لها، وهو مركز مدارها. تقدير العزيز والتقدير: تبيين كمية الشيء. وتقدير الله الأشياء على وجهين: أحدهما: بإعطاء القدرة. والثاني: أن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة. {مَنازِلَ}: جمع منزل، وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة. {حَتَّى عادَ}؛ أي: صار في أواخر سيره، وقربه من الشمس. {كَالْعُرْجُونِ} في رأي العين. والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتي عليه الحول تقوّس، ودقّ، واصفرّ. قال أعشى بني قيس: شرق المسك والعبير بها ... فهي صفراء كعرجون القمر والعرجون: بضم العين، ويقال له أيضًا: العرجد، والعرجد بتشديد الدال، أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسًا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، والجمع عراجين. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف، والاعوجاج. والشماريخ جمع شمراخ، والشمراخ كالشمروخ بالضم: عيدان

العنقود، الذي عليه الرطب، وما يجمعه مما فوقه يسمى العذق بكسر العين، كذا في «المصباح». وفيه العذق بكسر العين الكباسة، والكباسة: عنقود النخل، اهـ. {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها}؛ أي: لا يتيسر لها {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؛ أي: أن تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. وقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها} هو أبلغ من (لا ينبغي للشمس)، كما أن، أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، آكد من، لا تكذب أنت لاشتمال الأول على تكرر الإسناد. ففي ذكر حرف النفي مع الشمس دون الفعل، دلالة على أن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها، وقدّر لها. وينبغي من الانفعال، وثلاثية بغي يبغي بمعنى طلب، وأما استعمال انبغي ماضيًا فقليل. قال في «كشف الأسرار»: يقال: بغيت الشيء فانبغى لي، أي: استسهلته فتسهل لي، وطلبته فتيسر لي. والمعنى: لا الشمس يصح لها ويتسهل {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؛ أي: تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. كما مر آنفًا. {فِي فَلَكٍ}؛ أي: في جنس فلك، كقولهم: كساهم الأمير حلة يريدون: كساهم هذا الجنس. والفلك: مجرى الكواكب ومسيرها، وتسميته بذلك لكونه كالفلك، كما في «المفردات». {يَسْبَحُونَ} السبح: المر السريع في الماء أو في الهواء، واستعير لمر النجوم في الفلك، كما في «المفردات». وقال في «كشف الأسرار»: السبح: الانبساط في السير، كالسباحة في الماء، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه. قال الحسن: {يَسْبَحُونَ} يدورون. وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل. {ذُرِّيَّتَهُمْ} الذرية أصلها: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع، وأصله الجمع. وهي من ذرأ الله الخلق، فتركت همزته نحو: برية من برأ. قال في «القاموس»: ذرأ كجعل: خلق، وذرأ الشيء: كثر، ومنه الذرية - مثلثة - لنسل الثقلين، انتهى. {فِي الْفُلْكِ}؛ أي: السفينة {الْمَشْحُونِ}؛ أي: المملوء. ومع ذلك نجّاه الله

من الغرق، فهذا الوصف له دخل في الامتنان. وكانت السفينة مملوءة بالحيوان؛ لأنه جعلها ثلاث طبقات. السفلي: وضع فيها السباع والهوام، والوسطي: وضع فيها الدواب والأنعام، والعليا: وضع فيها الآدميين والطير، اهـ شيخنا. والشحناء: عداوة امتلأت منها النفوس، كما في «المفردات» وهو اسم مفعول من شحن السفينة إذا ملأها، وأتم جهازها كله. ويقال: بينهما شحناء؛ أي: عداوة، وهو مشاحن لأخيه، ويقال للشيء الشديد الحموضة: إنه ليشحن الذباب؛ أي: يطرده، وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء، وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر، يقال: شحنت الكلاب؛ أي: أبعدت الطرد ولم تصد شيئًا، وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب. {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} الغرق: الرسوب في الماء. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} الصريخ فعيل بمعنى: مفعل؛ أي: مصرخ، وهو المغيث، ويطلق أيضًا على الصارخ؛ أي: المستغيث، فهو من الأضداد، ويكون مصدرًا بمعنى الإغاثة. وكل منهما مراد هنا. وفي «الأساس»: وصرخ يصرخ صراخًا وصريخًا وهو صارخ وصريخ. والصراخ: صوت المستغيث، وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة. {مَتى هذَا الْوَعْدُ}؛ أي: متى يتحقق ويجيىء ما وعدنا به. والوعد يستعمل في الخير والشر والنفع والضر، والوعيد في الشر خاصة. والوعد هنا يتضمن الأمرين؛ لأنه وعد بالقيامة. وجزاء العباد إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. {ما يَنْظُرُونَ} من النظر بمعنى الانتظار، كما سبق. {إِلَّا صَيْحَةً} والصيحة: رفع الصوت. {تَأْخُذُهُمْ} والأخذ: حوز الشيء، وتحصيله. وذلك تارة بالتناول نحو: {مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ}، وتارة بالقهر نحو: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}. ويقال: أخذته الحمّى، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ. {يَخِصِّمُونَ} بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة. أصله: يختصمون، فقلبت التاء صادًا، ثم أسكنت وأدغمت في الصاد الثانية، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، فصار {يَخِصِّمُونَ}، وماضيه خصّم، أصله: اختصم، فنقلت حركة التاء إلى الخاء ثم قلبت؛ أي: التاء صادًا وأدغمت في الصاد،

وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بتحريك الخاء، فوقع الإعلال في الماضي كما وقع في مضارعه. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ} الاستطاعة: استفعال من الطوع، وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتيًا. {تَوْصِيَةً} مصدر وصّى توصية كزكّى تزكية، لأن فعله من المضعف المعتل. والوصية اسم مصدر من الإيصاء، يقال: وصّيت الشيء بالشيء إذا وصلته به، ويسمى إلزام شيء من مال أو نفقة بعد الموت بالوصية؛ لأنه لما أوصى به؛ أي: أوجب وألزم وصل ما كان من أمر حياته بما بعده من أمر مماته. {وَلا إِلى أَهْلِهِمْ} الأهل: يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء. والأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع، كما في شرح المشارق لابن الملك. قال الراغب: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب، وعبّر بأهل الرجل عن امرأته. {مِنَ الْأَجْداثِ}؛ أي: القبور، جمع جدث كفرس وأفراس، محركة وهو القبر، كما في «القاموس». وقرىء شاذًا {من الأجداف} بالفاء، وهي لغة في الأجداث يقال: جدث وجدف بمعنى. {فِي الصُّورِ} هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق، وهو شيء مجوّف مستطيل، ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقان. قال أبو الفتح بن جنيّ: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب، جمع بوق على بوقات في قوله: إذا كان بعض النَّاسِ سيفًا لدولةٍ ... ففي النَّاسِ بوقاتٌ لها وطبول والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة مثل: حمام وحمامات، وسرادق وسرادقات وجواب وجوابات، وهو كثير في جمع ما لا يعقل من المذكر. {يَنْسِلُونَ}؛ أي: يعدون بكسر السين وضمها، يقال: نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب، وقيل: ينسل بالضم أيضًا، وهو الإسراع في المشي. وفي القاموس: نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلًا ونسلًا ونسلانًا في مشيه أسرع. ومنه: قول امرىء القيس:

فإن تك قد ساءتك منِّي خليقةٌ ... فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق بين {أَنْزَلْنا} و {مُنْزِلِينَ}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَإِذا هُمْ خامِدُونَ} شبههم بالنار الخامدة، التي صارت رمادًا على حد قول لبيد: وما المرء إلّا كالشِّهاب وضوئهِ ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع شبهوا بالنار الخامدة رمزًا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد. ومنها: حكاية حال ماضية مستمرة في قوله: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ}؛ أي: كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا}. ومنها: التنكير للتفخيم والتعظيم في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ}؛ أي: آية عظيمة باهرة على قدرة الله. ومنها: الطباق بين الموت والإحياء في قوله: {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها}. ومنها: الكناية في قوله: {وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن الأيدي كناية عن القوة؛ لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده، فصار ذكر اليد غالبًا في الكناية. ومثله قوله: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. ومنها: فن التناسب في قوله: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} الآية، وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، لكونه مجملًا يحتاج إلى التفصيل. فقد أجمل الأزواج أولًا، ثم فصله بما بعده، فأحسن التفصيل والترتيب. فقد قدم سبحانه النبات، وانتقل على طريق

البلاغة إلى الأعلى، فثنى بأشرف الحيوان، وهو الإنسان، ليستلزم ذكره بقية الحيوان، ثم ثلّث بقوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فانتقل من الخصوص إلى العموم، ليندرج تحت العموم. فسبحان منزل القرآن على ما فيه من بديع البيان. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} شبّه إزالة ضوء النهار، وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، بجامع الإزالة والتعرية في كل. فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوء، وبدت ظلمته الحالكة. واستعار اسم السلخ للإزالة والإخراج، واشتق منه {نَسْلَخُ} بمعنى نخرج منه النهار على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وفيه من المحسنات أيضًا الطبقات بين الليل والنهار في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}. ومنها: في هذه الآية أيضًا التوشيح، وهو أن يكون في أول الكلام، معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرًا، أو السجع إن كان نثرًا، أو الفاصلة إن كان آية. فإن من كان حافظًا للسورة، متفطنًا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل، علم أن الفاصلة تكون مظلمون؛ لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم؛ أي: دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} فإنه شبه الهلال بالعرجون في الدقة، والتقوس والاصفرار؛ أي: في رأي العين لا في المقدار. ووجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء، ولما لم يذكر سمي مجملًا. ومنها: تقديم المسند إليه لتقوية الحكم المنفي في قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فإنه أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، وآكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. فإن قولك: أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، أبلغ من قولك: لا تكذب، فإنه أشد في نفي الكذب من العبارة الثانية. كما مر.

ومنها: تنزيل غير العقلاء منزلتهم في قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} بدل يسبح. فقد عبر عن الشمس، والقمر، والكواكب، بضمير جمع المذكر تنزيلًا لها منزلة العقلاء. والذي سوّغ ذلك وصفهم بالسباحة؛ لأنها من صفات العقلاء. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَسْبَحُونَ} فإنه استعار المر السريع في الماء، لمر النجوم في الفلك، المعبر عنه عرفًا بالدوران. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا} فقد استعار الرقاد للموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل في كل؛ لأن كلا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل. والمراد: الفعل الاختياري المعتد به، فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل. وإنما قلنا: إنها أصلية؛ لأن المرقد مصدر ميمي، كما تقدم. وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ}؛ أي: تقول لهم الملائكة أو المؤمنون: هذا ما وعدكم به الرحمن. ومنها: الطباق في قوله: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا}. ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التهكم في قوله: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}. ومنها: التنكير في قوله: {تَوْصِيَةً} لغرض التعميم؛ أي: في شيء من أمورهم. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} للدلالة على تحقق الوقوع. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما بيّن أنّ ذلك اليوم كائن لا ¬

_ (¬1) المراغي.

محالة، وأنه سيأتي بغتةً من حيث لا يشعر به أحد، فما هو إلا صيحة واحدة، فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون .. أردف ذلك ببيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم، من ثواب وعقاب، ليكون في ذلك ترغيب في صالح الأعمال، وترهيب من فعل الفجور، واجتراح السيئات. قوله تعالى: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما للمحسنين من نعيم، واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات .. أعقبه بذكر حال المجرمين، وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق، وابتعاد بعضهم من بعض. فيكون لهم عذابان: عذاب النار، وعذاب الوحدة. ولا عذاب فوق هذا. ثم أردف هذا، بأنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا، بما أرسل إليهم من الرسل، الذين بلّغوهم أوامر ربهم ونواهيه. ومنها: نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباعه فيما يوسوس به. ثم ذكر: أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات، ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا. وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى. ثم ذكر مآل أمرهم، وأنهم سيصلون نار جهنم، خالدين فيها أبدًا بما اكتسبت أيديهم. وهم في هذا اليوم، لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت. ثم ذكر: أنه رحمة منه بعباده، لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا شديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق، وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه، ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم، ويجعلهم كالقردة والخنازير، حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا. ثم دفع معذرة أخرى ربما احتجوا بها. وهي أن ما عمروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق. فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمروا في السن ضعفوا عن العمل، وقد عمروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك، كما قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}، ولكن ذلك ما

كفاهم. فهم مهما طالت أعمارهم لا يجديهم ذلك. قوله تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...} الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه، لما ذكر أمر الوحدانية في قوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}، وذكر أمر البعث في قوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} .. ذكر هنا الأصل الثالث، وهو الرسالة في هاتين الآيتين. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما (¬1) ذكر الأدلة على الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والرسالة .. أعاد الكلام في الوحدانية، وذكر بعض دلائلها. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أنهم كفروا بأنعم الله عليهم، وأنكروها .. أردف ذلك ببيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: {قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}. وفي الحقيقة أنها لا هي ناصرة ولا منصورة. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم، ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث .. أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم، دالة على قدرته تعالى، ومبطلة لإنكارهم له. ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث، ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة. فأجابهم عن شبهتهم: بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم، هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها، مهما وزّعت وتفرّقت. ثم ذكر لهم دليلًا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو: أن من قدر على ¬

_ (¬1) المراغي.

[55]

إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من الماء .. قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضا طريا، ثم يبس وبلي، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، وفيه الدليل على قدرته، وهو خلق السموات والأرض، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف، وفيه بطلان لإنكارهم. فأبان أن كل شيء هين عليه، فما هو إلا بقول: {كُنْ} {فَيَكُونُ}. تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون. فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء. أسباب النزول قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه مجاهد، وعكرمة، وعروة بن الزبير، وقتادة أن أبي بن خلف، جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده عظم رميم، وهو يفتّته بيده ويذروه في الهواء، ويقول: أتزعم يا محمد، أن الله يبعث هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار». ثم نزلت هذه الآيات من سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ...} إلى آخرهن. التفسير وأوجه القراءة 55 - ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين .. أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ، ويخاطبون به زيادة لحسرتهم، وتكميلًا لجزعهم، وتتميما لما نزل بهم من البلاء، وما شاهدوه من الشقاء. فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم .. بلغ ذلك من قلوبهم مبلغًا عظيمًا، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها، فقال: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ}؛ أي: يوم القيامة مستقرون {فِي شُغُلٍ} عظيم الشأن، خبر أول لـ {إِنَّ}، والمراد بالشغل هنا: الشأن الذي يصد المرء عما سواه من شؤونه، لإيجابه كمال المسرة والبهجة؛ أي: لكائنون في شغل عظيم بما هم فيه من اللذات، التي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من أقربائهم.

وقوله: {فاكِهُونَ} خبر ثان لـ {تَعْمَلُونَ}؛ أي: متنعمون بنعيم مقيم، فائزون بملك كبير دائم. ويجوز أن يكون {إِنَّ} هو الخبر، {وفِي شُغُلٍ} متعلق به، في محل النصب على الحال؛ أي: متلذذون في شغل، فشغلهم شغل التلذذ لا شغل فيه تعب كشغل أهل الدنيا. والتعبير عن حالهم هذه، بالجملة الاسمية قبل تحققها، تنزيل للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار. والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين. ثم إن الشغل فسّر على وجوه بحسب اقتضاء مقام البيان ذلك، منها افتضاض الأبكار. وفي الحديث: «إن الرجل ليعطى قوة مئة رجل، في الأكل والشرب والجماع»، فقال رجل من أهل الكتاب: إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يفيض من جسد أحدهم، عرق مثل المسك الأذفر، فيضمر بذلك بطنه». وفي الحديث: «إن أحدهم ليفتض في الغداة الواحدة مئة عذراء». قال عكرمة: فتكون الشهوة في أخراهن كالشهوة في أولاهن، وكلما افتضها رجعت على حالها عذراء، ولا تجد وجع الافتضاض أصلًا كما في الدنيا. وجاء رجل فقال: يا رسول الله، أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليفضي في اليوم الواحد، إلى ألف عذراء». وفي «الفتوحات المكية»: ولذة الجماع هناك، تضاعف على لذة جماع أهل الدنيا أضعافًا مضاعفةً، فيجد كل من الرجل والمرأة لذة لا يقدر قدرها، لو وجداها في الدنيا غشي عليهما من شدة حلاوتها، لكن تلك اللذة إنما تكون بخروج ريح إذ لا مني هناك كالدنيا، كما صرحت به الأحاديث، فيخرج من كل من الزوجين ريح، كرائحة المسك، وليس لأهل الجنة أدبار مطلقًا، لأن الدبر إنما خلق في الدنيا مخرجًا للغائط ولا غائط هناك. ولولا أن ذكر الرجل أو فرج المرأة يحتاج إليه في جماعهم، لما كان وجد في الجنة فرج لعدم البول فيها. ونعيم أهل الجنة، والراحة فيها مطلقة إلا راحة النوم، فليس عندهم من نعيم راحته شيء؛ لأنهم لا ينامون.

ومنها: سماع الأصوات الطيبة، والنغمات اللذيذة. ثم إنه ليس في الجنة سماع المزامير والأوتار، بل سماع القرآن، وسماع أصوات الأبكار المغنية، والأوراق، والأشجار، ونحو ذلك. وروي: أن في الجنة أشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع، يهب الله ريحًا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات، لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا. ومنها: التزاور، وفي الحديث: «إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة، في رحال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا، أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا». وروي: «أنهم إذا نظروا إلى الله، نسوا نعيم الجنة». ومنها: شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق، وشغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم، ولا يبالون بهم، ولا يذكرونهم كي لا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظًا فيه النعيم. وهو واحد من حيث هو نعيم، ذكره أبو حيان. والظاهر (¬1): أن المراد بالشغل ما هم فيه من فنون الملاذ، التي تلهيهم عما عداها بالكلية؛ أي: شغل كان كما مر. وفي الآية إشارة إلى أن أهل النار، لا نعيم لهم من الطعام، والشراب، والنكاح، وغيرها. وفي «تذكرة القرطبي»: أن بعض العصاة، ينامون في النار إلى وقت خروجهم منها، ويكون عذابهم نفس دخولهم في النار. فإنه عار عظيم وذل كبير، ألا ترى: أن من حبس في السجن، كان هو عذابًا له بالنسبة إلى مرتبته، وإن لم يعذب بالضرب والقيد ونحوهما. ثم إنا نقول: والعلم عند الله؛ لأنه ليس له مستند، ولا أصل أثر فيه. وقرأ الكوفيون، وابن عامر (¬2): {شُغُلٍ} بضمتين. وقرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين. وهما لغتان، كما قال الفرّاء. وقرأ مجاهد، وأبو السمّال، وابن هبيرة، فيما نقل ابن خالويه عنه: بفتحتين. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

[56]

وقرأ يزيد النحوي، وابن هبيرة فيما نقل أبو الفضل الرازي: بفتح الشين وإسكان الغين. وقرأ الجمهور (¬1): {فاكِهُونَ} بالألف بالرفع على أنه خبر {إِنَّ}. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وأبو رجاء، وشيبة، وقتادة، ومجاهد، ويحيى بن صبيح، ونافع في رواية: بغير ألف. قال الفراء: هما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر. وقال الكسائي، وأبو عبيدة: الفاكه ذو الفاكهة مثل: تامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم. وقال قتادة: الفكهون: المعجبون. وقال أبو زيد: يقال: رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكًا. وقال مجاهد، والضحاك كما قال قتادة. وقال السدي: كما قال الكسائي. وفي «البحر»: {فاكِهُونَ} بغير ألف، معناه: فرحون طربون، انتهى. وقرأ طلحة، والأعمش: فاكهين بالألف وبالياء، نصبا على الحال، و {فِي شُغُلٍ} هو الخبر. وقرىء فكهين بغير ألف وبالياء. وقرىء فكهون بضم الكاف يقال: رجل فكه وفكه. ومعنى الآية: أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فأنى له أن يفكر فيما سواه؟. وهو بذلك، فرح مستبشر، ضحوك السن هادىء النفس، لا يرى شيئًا يغمه، أو ينغص عليه حبوره وسروره. 56 - ثم ذكر ما يكمل به تفكههم، ويزيد في سرورهم فقال: {هُمْ ...} الخ، استئناف، مسوق لبيان كيفية شغلهم، وتفكههم، وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورًا من شركة أزواجهم لهم، فيما هم فيه من الشغل والفكاهة. و {هُمْ} مبتدأ، والضمير لأصحاب الجنة. {وَأَزْواجُهُمْ} عطف عليه. والمراد: نساؤهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين أو أخلاؤهم، كما في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ}. ويجوز أن يكون الكل مرادًا. فقوله: {وَأَزْواجُهُمْ} إشارة (¬2) إلى عدم الوحشة؛ لأن المنفرد يتوحش إذا لم يكن له جليس من معارفه، وإن كان في أقصى المراتب. والجاران في قوله: {فِي ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان.

ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ} متعلق بقوله: {مُتَّكِؤُنَ} وهو خبر المبتدأ قُدّما عليه لرعاية الفواصل. ويجوز أن يكون {فِي ظِلالٍ} خبرًا، ومتكئون على الأرائك خبرًا ثانيًا. والظلال: جمع ظل أو ظلة، وهو الستر الذي يسترك من الشمس. والأرائك: السرر في الحجال، كما سيأتي بسطه. والاتكاء: الاعتماد على الشيء؛ أي: معتمدون في ظلال على السرر في الحجال. والاتكاء على السرر دليل التنعيم والفراغ. فإن قلت: كيف يكون أهل الجنة في ظلال، والظل إنما يكون حيث تكون الشمس، وهم لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا؟. قلت: المراد بالظل هناك: ظل أشجار الجنة من نور العرش، لئلا يبهر أبصار أهل الجنة. فإنه أعظم وأقوى من نور الشمس، وقيل: من نور قناديل العرش. كذا في حواشي ابن الشيخ. وقرأ الجمهور (¬1): {فِي ظِلالٍ} بكسر الظاء وبالألف، جمع ظل كذئب، وذئاب. وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف: {في ظلل} بضم الظاء من غير ألف، جمع ظلة. وعلى القراءتين فالمراد: الفرش والستور، التي تظلل كالخيام والحجال. وقرأ عبد الله {متكئين} بالنصب على الحال. ومعنى الآية (¬2): أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها. وألذ شيء لدى العربي أن يرى مكانًا فيه ظل ظليل وأنهار جارية، وأشجار مورقة وهم فيها متكئون على السرر التي عليها الحجال (الناموسيات). وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة، لدى من نزل عليه التنزيل. وقال الإمام في سورة النساء: إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة. وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السلطان ظل الله في الأرض». ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[57]

57 - وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس، ذكر ما يتمتعون به من مآكل، ومشارب، ولذات جسمانية وروحية. فقال: {لَهُمْ}؛ أي: لأصحاب الجنة {فِيها}؛ أي: في الجنة {فاكِهَةٌ} كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه. وهذه (¬1) الجملة، مسوقة لبيان ما يتمتعون به في الجنة، من المآكل والمشارب، ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحية، بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس، ومحافل القدس تكميلًا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة. والفاكهة: الثمار كلها. والمعنى: لهم في الجنة غاية مناهم فاكهة كثيرة، من كل نوع من أنواع الفواكه، عظيمة لا توصف جمالًا وبهجة، وكمالًا ولذةً، كما روي: أن الرمانة منها تشبع السكن، وهو أهل الدار. والتفاحة تنفتق عن حوراء عيناء. وكل ما هو من نعيم الجنة، فإنما يشارك نعيم الدنيا في الاسم دون الصفة. وفيه إشارة إلى أن لا جوع في الجنة؛ لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع. وجملة قوله: {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ}؛ أي: يطلبون. معطوفة على الجملة السابقة، وعدم الاكتفاء بعطف {ما يَدَّعُونَ} على {فاكِهَةٌ} لئلا يتوهم كون {ما} عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها. و {ما} عبارة عن مدعو عظيم الشأن، معين، أو مبهم. و {يَدَّعُونَ} أصله: يدتعيون على وزن يفتعلون، من الدعاء بمعنى الإتيان بالدعوى، لا من الادعاء بمعنى التمني، كما سيأتي. والمعنى: ولهم ما يدعون الله سبحانه به، لأنفسهم من مدعو عظيم الشأن، أو كل ما يدعون به كائنًا ما كان، من أسباب البهجة وموجبات السرور. قال ابن الشيخ؛ أي: ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب، كما قال الإمام: ليس معناه: أنهم يدعون لأنفسهم شيئًا، فيستجاب لهم بعد الطلب بل معناه: لهم ذلك، فلا حاجة إلى الدعاء، كما إذا سألك أحد شيئًا، فقلت: لك ذلك، وإن لم تطلبه. ويجيء الادعاء بمعنى: التمني من قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. فالمعنى عليه: ولهم ما يتمنونه. وقرىء (¬2) {يدعون} بالتخفيف، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[58]

وم {عناها واض} ح. ومعنى الآية: أي لهم في {ها من الفواكه ما لذ وطاب، مما تقربه أعينهم وتسر به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا. ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون، وتشتاق} إليه نفوسهم. 58 - ثم فسر ذلك الذي يدعون بقوله: {سَلامٌ} بدل من {ما يَدَّعُونَ} كأنه قيل: ولهم سلام وتحية. يقال لهم: {قَوْلًا} كائنًا {مِنْ} جهة {رَبٍّ رَحِيمٍ}؛ أي (¬1): يسلم عليهم من جهته تعالى، بواسطة الملك أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم. فـ {قَوْلًا} مصدر مؤكد لفعل هو صفة لـ {سَلامٌ}، وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صفة له. والأوجه: أن ينتصب {قَوْلًا} على الاختصاص؛ أي: بتقدير أعني، فإن المقام مقام المدح، من حيث إن هذا القول صادر من رب رحيم، فكان جديرا بأن يعظم أمره. والمعنى: أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم تعظيمًا لهم. وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة، كما قال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ}، أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم وفي الحديث: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم، ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» رواه البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب. وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني، الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها. فكأن هذا إجمال لما تقدم من اللذات، التي فصلت فيما سلف. وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن سلامه - تبارك وتعالى - كان قولًا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[59]

منه بلا واسطة، وأكده بقوله: {رَبٍّ} ليعلم أنه ليس بسلام على لسان سفير، وقوله: {رَحِيمٍ}. فالرحمة في تلك الحالة، أن يرزقهم الرؤية حال ما يسلم عليهم، ليكمل لهم النعمة. وفي «حقائق البقلي»: سلام الله أزلي إلى الأبد، غير منقطع عن عباده الصادقين في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب، فيسمعون سلامه، وينظرون إلى وجهه كفاحًا. وقرأ الجمهور (¬1): {سَلامٌ} بالرفع على أنه بدل من {ما} وخبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سلام، كما سيأتي في مبحثه. وقرأ أبي، وعبد الله، وعيسى والقنوي {سلامًا} بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال؛ أي: لهم مرادهم خالصًا. وقرأ محمد بن كعب القرظي (سِلْم) بكسر السين وسكون اللام، ومعناه: سلام. وقال أبو الفضل الرازي: مسالم لهم؛ أي: ذلك مسالم. 59 - {وَامْتازُوا}؛ أي: اعتزلوا، وانفردوا، وتميزوا {الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم. وهو يوم القيامة، والفصل والجزاء من المؤمنين الصالحين. وكونوا على حدة {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: أيها المشركون؛ أي (¬2): ويقال للمشركين: انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين، حين يسار بهم إلى الجنة. إذ لا دواء لألمكم، ولا شفاء لسقمكم. وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء، فإنهم يكونون مع المجرمين. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وقيل: إن لكل كافر في النار بيتًا، فيدخل ذلك البيت، ويردم بابه، فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى. وهو على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[60]

بالإخوان، وعذاب الفرقة عن القرناء، والأصحاب من أسوأ العذاب وأشد العقاب، قاله قتادة. فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض. ودل التعبير (¬1) بالامتياز، على أنه حين يحشر الناس يختلط المؤمن والكافر، والمخلص والمنافق. ثم يمتاز أحد الفريقين عن الآخر، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}. وهو عطف قصة سوء حال هؤلاء وكيفية عقابهم على قصة حسن أولئك ووصف ثوابهم. وكان تغيير الأسلوب لتخييل كمال التباين بين الفريقين، وحاليهما. ويجوز أن يكون معطوفًا على مضمر، ينساق إليه حكاية حال أهل الجنة، كأنه قيل بعد بيان كونهم في شغل عظيم الشأن، وفوزهم بنعيم مقيم، يقصر عنه البيان، فليقروا بذلك عينا، وامتازوا عنهم اليوم أيها المجرمون إلى مصيركم، فكونوا في السعير، وفنون عذابها ولهبها بدل الجنة لهم، وألوان نعمها وطربها. والمعنى (¬2): فارقوا المؤمنين أيها المجرمون، وادخلوا مساكنكم من النار. فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدًا. ونحو الآية قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ}، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}، وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23)}. 60 - ولما أمروا بالامتياز، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت الوجوه، وتنكست الرؤوس، قال سبحانه موبخًا لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ}؛ أي: ألم أوصكم {يا بَنِي آدَمَ} بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، بيانًا للطريق الموصل إلى النجاة بـ {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ}؛ أي: بأن تتركوا طاعة الشيطان، فيما يوسوس به إليكم من معصيتي، ومخالفة أمري. وهذا من جملة (¬3) ما يقال لهم يوم القيامة، بطريق التقريع والتوبيخ، والإلزام والتبكيت، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

بين الأمر بالامتياز، وبين الأمر بدخول جهنم بقوله تعالى: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} الخ. والعهد: الوصية، والتقديم بأمر فيه خير ومنفعة. والمراد هاهنا: ما كلفهم الله تعالى به، على ألسنة الرسل، من الأوامر والنواهي، التي من جملتها، قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}، وقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وغيرها من الآيات الكريمة، الواردة في هذا المعنى. والمراد ببني آدم: المجرمون. وقيل: المراد بالعهد: الميثاق المأخوذ عليهم، حين أخرجوا من ظهر أخرجوا من ظهر آدم عليه السلام. و {أَنْ} في قوله: {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} إما مفسرة للعهد (¬1)، الذي فيه معنى القول بالأمر والنهي، أو مصدرية حذف منها الجار؛ أي: ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان. والمراد بعبادة الشيطان. عبادة غير الله؛ لأن الشيطان لا يعبده أحد، ولم يرد عن أحد أنه عبد الشيطان، إلا أنه عبر عن عبادة غير الله بعبادة الشيطان، لوقوعها بأمر الشيطان، وتزيينه، والانقياد فيما سوله، ودعا إليه بوسوسته. فسمي إطاعة الشيطان، والانقياد له عبادة له، تشبيهًا لها بالعبادة، من حيث إن كل واحد منهما ينبىء عن التعظيم والإجلال، ولزيادة التحذير والتنفير عنها، ولوقوعها في مقابلة عبادته تعالى، قال ابن عباس: من أطاع شيئًا فقد عبده. دل عليه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ}. وقرأ الجمهور (¬2): {أَعْهَدْ} بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسر الهمزة، قاله «صاحب اللوامح»، وقال: لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل بن وثاب {أَلَمْ أَعْهَدْ} بكسر الميم والهمزة، وفتح الهاء. وهي على لغة من كسر أول المضارع، سوى الياء. وروي عن ابن وثاب {أَلَمْ أَعْهَدْ} بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد، انتهى. ثم علل النهي عن عبادة الشيطان، وقبول وسوسته بقوله: {أَنَّهُ}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[61]

لأن الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: عدو ظاهر العداوة لكم، يريد أن يصدكم عما جبلتم عليه من الفطرة، وكلفتم به من الخدمة. ووجه عداوة إبليس لبني آدم: أنه تعالى، لما أكرم آدم عليه السلام .. عاداه إبليس حسدًا. والعاقل لا يقبل من عدوه، وإن كان ما يلقيه إليه خيرًا إذ لا أمن من مكره. فإن ضربة الناصح، خير من تحية العدو. قال بعضهم (¬1): اعلم أن عداوة إبليس لبني آدم، أشد من معاداته لأبيهم آدم عليه السلام. وذلك أن بني آدم، خلقوا من ماء والماء منافر للنار، وأما آدم فجمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب، فبين التراب والنار جامع، ولهذا صدّقه، لما أقسم له بالله أنه لناصح، وما صدقه الأبناء، لكونه لهم ضدا من جميع الوجوه. فبهذا كانت عداوة الأبناء، أشد من عداوة الأب. ولما كان العدو محجوبا عن إدراك الأبصار، جعل الله لنا علامات في القلب، من طريق الشرع، نعرفه بها، تقوم لنا مقام البصر، فنتحفظ بتلك العلامة من إلقائه ووسوسته، وإعانة الله لنا عليه بكلمة الاستعاذة. وفي «التأويلات النجمية»: في الآية (¬2) إشارة إلى كمال رأفته تعالى، وغاية مكرمته في حق بني آدم. إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب، ومناصحة الصديق للصديق، وأنه تعالى يكرمهم ويجلهم عن أن يعبدوا الشيطان لكمال رتبتهم، واختصاص قربتهم بالحضرة، وغاية ذلة الشيطان، وطرده ولعنه من الحضرة. وسماه عدوًا لهم وله، وسمى بني آدم الأولياء والأحباب. وخاطب المجرمين منهم كالمعتذر الناصح لهم بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} ألم أنصح لكم، ألم أخبركم عن خيانة الشيطان وعداوته لكم، وأنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعونًا مهينًا. 61 - {وَأَنِ اعْبُدُونِي} وحدي، وأطيعوني فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه؛ لأن مثلكم يستحق لعبادة مثلي، فإني أنا العزيز الغفور، وإني خلقتكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[62]

لعبادتي، وخلقت المخلوقات لمنافعكم، وعززتكم وأكرمتكم، بأن أسجدت لكم ملائكتي المقربين، وعبادي المكرمين، وهو عطف على {أَنْ لا تَعْبُدُوا} و {أَنْ} فيه كما هي فيه؛ أي: وحدوني بالعبادة، ولا تشركوا بها أحدًا. وتقديم النهي على الأمر، لما أن حق التخلية التقدم على التحلية، وليتصل به قوله تعالى: {هَذَا} التوحيد الذي أمرتكم به. فإنه إشارة إلى عبادته تعالى، التي هي عبارة عن التوحيد والإسلام. {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}؛ أي: قويم لا اعوجاج فيه، موصل إلى النجاة والجنة، لكنكم سلكتم غيره، فوقعتم في مزالق الضلال، وترديتم في مهاوي الردى. والتنكير فيه للتفخيم، كما سيأتي. وفي قوله: {هَذَا صِرَاطٌ} إشارة إلى أن الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها. 62 - وبعد أن نبههم إلى أنهم نقضوا العهد، وبّخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم، ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم، ما يرون من سوء المتقلب في الدنيا والآخرة، فقال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} جواب قسم محذوف، والخطاب لبني آدم. وفي «الإرشاد»: الجملة مستأنفة، مسوقة لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع، ببيان أن جناياتهم ليست بنقض العهد فقط، بل بعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات، النازلة على الأمم الخالية، بسبب طاعتهم للشيطان. والخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة، خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم. أي: وعزتي وجلالي لقد صد الشيطان منكم يا بني آدم {جِبِلًّا كَثِيرًا}؛ أي: خلقًا كثيرًا عن طاعتي، وإفرادي بالألوهية، فاتخذوا من دوني آلهة يعبدونها. وقرأ نافع، وعاصم (¬1): {جِبِلًّا} بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء، والحسن بخلاف عنه. وقرأ العربيان - أبو عمرو وابن عامر - والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء. وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام. والحسن بن أبي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد بضمتين وتشديد. والأشهب العقيلي، واليماني وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء. والأعمش {جِبِلًّا} بكسرتين وتخفيف اللام. وقرىء {جِبِلًّا} بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة نحو: فطرة وفطر. فهذه سبع لغات قرىء بها. وأبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك، أنهم قد قرؤوا جميعًا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، فيكون جبلًا جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق؛ أي: خلقهم. وقرأ علي بن أبي طالب، وبعض الخراسانيين: {جيلًا} بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال. والجبل بالباء الموحدة: الأمة العظيمة، وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف. ولما تصور (¬1) من الجبل العظم، قيل للجماعة العظيمة، جبل تشبيها لها بالجبل في العظم. وإسناد الإضلال إلى الشيطان مجاز عقلي، علاقته السببية. والمعنى: والله لقد أضل الشيطان منكم خلقًا كثيرًا، يعني: صار سببًا لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم، الذي أمرتكم بالثبات عليه. فأصابهم لأجل ذلك، ما أصابهم من العقوبات الهائلة، التي ملأت الآفاق أخبارها، وبقيت مدى الدهر آثارها. وقال بعضهم: وكيف تعبدون الشيطان، وتنقادون لأمره، مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم، جماعة متعددة من بني نوعكم، فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل، فحرموا من الجنة الموعودة لهم. فائدة (¬2): واعلم: أنه إذا جاءك شخص، يأمرك بشيء .. فانظر، إما أن يكون ذلك موافقًا لأمر الله أو لا، فإن لم يكن موافقًا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به. فإن أطعته فقد عبدت الشيطان. وإن دعتك نفسك إلى فعل شيء، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولًا، فإن لم يكن مأذونًا فيه، فنفسك هي الشيطان، أو معها الشيطان يدعوك، فإن اتبعته فقد عبدته. ثم إن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[63]

الشيطان يأمر أولًا بمخالفة الله ظاهرًا، فمن أطاعه فقد عبده، ومن لم يطعه فيقول له: اعبد الله كي لا تهان، وليرتفع شأنك عند الناس، وينتفع بك إخوانك. فإن أجاب إليه فقد عبده. والهمزة في قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا} للاستفهام التوبيخي (¬1)، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون، أنها لضلالهم وطاعتهم إبليس، أو فلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلا، حتى ترتدعوا عما كانوا عليه، كيلا يحيق بكم العقاب. وقرأ الجمهور: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب. وقرأ طلحة، وعيسى بياء الغيبة عائدًا على جبل. وفي «كشف الأسرار»: هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل، مع أنه نور يستضاء به. ثم اعلم (¬2): أن الجاهل الأحمق، والضال المطلق في يد الشيطان، يقوده حيث يشاء، ولو علم حقيقة الحال، وعقل أن الله الملك المتعال، واهتدى إلى طريق التوحيد، الطاعة، ولحفظه الله من تلك الساعة. فإن التوحيد حصنه الحصين، ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين، ومن خرج عنه طالبا للنجاة، أدركه الهلاك ومات في يد الآفات، ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء، كان كمجنون لا يعرف شمسًا من فيء. فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته، وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة. 63 - وبعد أن أنبوا ووبخوا بما سلف، خوطبوا بما يزيدهم حسرةً وألمًا، فقيل لهم من جهة الملائكة: {هذِهِ} النار المسعرة هي {جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ} في الدنيا {تُوعَدُونَ} بها على ألسنة الرسل والمبلغين عنهم. إذ أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان. 64 - ثم أمرهم أمر إهانة، وتحقير لهم، بقوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ}؛ أي: ادخلوا في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[65]

هذا اليوم، الحاضر نار جهنم، وقاسوا حرها وفنون عذابها {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}؛ أي: بسبب كفركم المستمر في الدنيا، وجحودكم بها، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تتنبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا. وفي ذكر اليوم، ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم. يعني: أن أيام لذاتكم قد مضت، ومن هذا الوقت واليوم وقت عذابكم. وخلاصة ذلك (¬1): أنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة: 1 - أنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة بقوله: {اصْلَوْهَا} نحو قوله لفرعون: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}. 2 - أنه ذكر لفظ اليوم، الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم. 3 - أن قوله: {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} يومىء إلى أن هناك نعمة، قد كانت، فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألمًا، وأعظم مضاضةً، كما قيل: أَلَيْسَ بِكَافٍ لذِيْ همَّةٍ ... حياءُ الْمُسِيْءِ مِنَ الْمُحَسِنِ 65 - ثم بين أنهم في هذا اليوم، لا يستطيعون دفاعًا عن أنفسهم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم. فقال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ}؛ أي: ففي هذا اليوم يعني: يوم القيامة نمنع أفواههم من النطق، ونفعل بها ما لا يمكنهم معه أن يتكلموا، فتصير أفواههم كأنها مختومة، فتعترف جوارحهم بما صدر منها من الذنوب، كما قال: {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} باستنطاقنا {بِما كانُوا} في الدنيا {يَكْسِبُونَ} من الذنوب والمعاصي والمراد (¬2): جميع الجوارح، لا أن كل عضو يعترف بما صدر منه فقط. قال بعضهم: لما قيل لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} جحدوا، وقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، وما عبدنا من دونك من شيء، وما أطعنا الشيطان في شيء من المنكرات. فيُختم على أفواههم وتعترف جوارحهم بمعاصيهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والختم لازم للكفار أبدًا. أما في الدنيا فعلى قلوبهم، كما قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ}، وأما في الآخرة، فعلى أفواههم، في الوقت الذي كان الختم على قلوبهم، كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى: {ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} فلما خُتم على أفواههم أيضًا، لزم أن يكون قولهم بأعضائهم لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب واللسان تعين الجوارح والأركان. وفي الكلام، التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم. وقرىء (¬1) {اليوم يُختم على قلوبهم} مبنيًا للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. وقُرىء {وتتكلم أيديهم} بتاءين. وقرأ الجمهور {تكلمنا} و {تشهد}. وقرأ طلحة بن مصرف {ولِتكلمنا ولِتشهد} بلام كي. وقُرىء {ولْتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم} بلام الأمر، والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وقيل: سبب الختم على أفواههم، ليعرفهم أهل الموقف. وقيل: خُتم على أفواههم، لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق، لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانًا لهم في معاصي الله، صارت شهودًا عليهم، فلا ينبغي لأحد أن يلتفت إلى ما سوى الله تعالى، ويصحب أحدًا غير الله لئلا يفتضح ثمة بسبب صحبته. ولقد أجاد من قال: كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبًا ... وارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا قَلِّبِ الْخَلْقَ كَيْفَ شِئْـ ... ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا وجعل (¬2) ما تنطق به الأيدي كلامًا وإقرارًا، لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي. وجعل نطق الأرجل شهادة؛ لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام الحاضر شهادة. وهذا باعتبار الغالب، وإلا فالأرجل قد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[66]

تكون مباشرة للمعصية، كما تكون الأيدي مباشرةً لها. وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب، كما قال: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}. والغالب على الأعضاء الصدق. ويوم القيامة، يوم يسأل الصادقين عن صدقهم، فلا يسأل الأفواه، فإنها كثيرة الكذب، ويسأل الأعضاء، فإنها كثيرة الصدق، فتشهد بالحق. أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم، وأما العصاة من المؤمنين الموحدين، فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضًا بالإحسان. قيل (¬1): أول عظم من الإنسان، ينطق يوم يختم على الأفواه، فخذه من رجله اليسرى وكفها، كما جاء في الحديث. ومعنى الآية: أي ففي هذا اليوم، يُنكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا. كما حكى الله عنهم من قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ}. فيختم على أفواههم، فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم، بما اجترحت من الفسوق والعصيان، الذي لم يتوبوا عنه. 66 - ثم بين سبحانه، أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما أنه قادر على إذهاب البصائر، فقال: {وَلَوْ نَشاءُ} أن نطمس على أعينهم، ونمحو نور أبصارهم. و {لَوْ} للمضي إن دخل على المضارع، ولذا لا يجزمه؛ أي: ولو أردنا عقوبة المشركين من أهل مكة في الدنيا .. {لَطَمَسْنا}؛ أي: لجعلنا الطمس والمحو {عَلى} مواضع {أَعْيُنِهِمْ} ولضربنا عليهم، وأزلنا أثرها، بحيث لا يبقى لها أثر، ولا يبدو لها شق ولا جفن، وتصير مطموسة ممسوحة، كسائر أعضاهم {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ} معطوف على {طمسنا}؛ أي: فبادروا إلى الطريق الواسع الذي اعتادوا سلوكه فرارًا من الطمس والعقوبة ليجوزوه، ويمضوا فيه. {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}؛ أي: فكيف يبصرون الطريق، ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم؟! أي: لا يُبصرون لأن {أنى} بمعنى كيف، وكيف هنا إنكار فتفيد النفي. والمراد (¬2): إن في قدرتنا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[67]

إزالة نعمة البصر عنهم، فيصيروا عميًا، لا يقدرون الى التردد في الطريق لمصالحهم، ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر، فضلًا وكرمًا، فحقهم أن يشكروا عليها، ولا يكفروا. وهذا تهديد لأهل مكة بالطمس، فإن الله قادر على ذلك، كما فعل بقوم لوط حين كذبوه، وراودوه عن ضيفه. وإجمال المراد (¬1): ولو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق، الذي اعتادوا سلوكه .. لم يستطيعوا ذلك. وفي «الخازن»: والمعنى (¬2): ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، وتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون الطريق حينئذ. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني: لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، فأعميناهم عن غيّهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم، فأنى يبصرون، ولم نفعل ذلك بهم، انتهى. وقرأ الجمهور: {فَاسْتَبَقُوا} فعلًا ماضيًا، معطوفًا على {لَطَمَسْنا}. وهو على الفرض والتقدير. وقرأ عيسى بن عمر {فَاسْتَبَقُوا} على الأمر. وهو على إضمار القول؛ أي: فيقال لهم: استبقوا الصراط. وهذا على سبيل التعجيز. إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين. 67 - ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم، وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة، فقال: {وَلَوْ نَشاءُ}؛ أي: ولو أردنا أن نمسخهم، ونحول صورهم الأصلية، ونسقطهم (¬3) عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار {لَمَسَخْناهُمْ} لغيرنا وحولنا صورهم، بأن جعلناها قردةً وخنازير، كما فعلنا بقوم داود عليه السلام، أو بأن جعلناهم حجارة ومدرة. وهذا أشد من الأول وأقبح، لأن الأول خروج عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية، وهذا عن الحيوانية إلى الجمادية، التي ليس لها شعور أصلًا وقطعًا {عَلى مَكانَتِهِمْ}؛ أي: في مكانهم ومنزلهم الذي هم فيه قعود. وقال بعضهم: معنى {لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ}؛ أي: لأقعدناهم على أرجلهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[68]

وأزمناهم، انتهى. {فَمَا اسْتَطاعُوا}؛ أي: فلم يقدروا {مُضِيًّا}؛ أي: ذهابًا وإقبالًا إلى جانب أمامهم {وَلا يَرْجِعُونَ}؛ أي: ولم يقدروا رجوعًا وإدبارًا إلى جهة خلفهم. فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة. قال الحسن: {فلا يستطيعون} أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: لمسخناهم في المكان، الذي فعلوا فيه المعصية. والمعنى (¬1): أي ولو نشاء لمسخناهم مسخًا يحل بهم في منازلهم، لا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا إدبار. وحاصل معنى الآيتين (¬2): ولو نشاء عقوبتهم، بما ذكر من الطمس والمسخ، جريا على موجب جناياتهم، المستدعية لها لفعلنا، ولكنا لم نشأها جريًا على سنن الرحمة، والحكمة، الداعيتين إلى إمهالهم زمانًا إلى أن يتوبوا، ويؤمنوا، ويشكروا النعمة، أو إلى أن يتولد منهم من يتصف بذلك. وقرأ الجمهور (¬3): {عَلى مَكانَتِهِمْ} بالإفراد. وقرأ الحسن، والسلمي، وزر بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم {مكاناتهم} بالجمع. وقرأ الجمهور: {مُضِيًّا} بضم الميم. وقرأ أبو حيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها إتباعًا لحركة الضاد. وقُرىء {مضيًا} بفتحها، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل، كالرسيم والوجيف. 68 - ثم شرع يقطع معذرةً لهم، ربما احتجوا بها. وهي قولهم: أنهم لو عمروا لأحسنوا العمل. فقال: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ}؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا {نُنَكِّسْهُ} ونقلبه {فِي الْخَلْقِ} والشكل والصورة؛ أي: نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولًا، من القوة والطراوة، ونرده إلى أرذل العمر، شبه الصبي في أول الخلق. والمعنى: نقلبه في شكله، ونجعله على عكس ما خلقناه أولًا، ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) أبو السعود. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

[69]

فلا يزال يتزايد ضعفه، وتتناقص قوته، وتنتقض بنيته، ويتغير شكله وصورته، حتى يعود على حالة شبيهة بحال الصبي، في ضعف الجسد، وقلة العقل، والخلو عن الفهم والإدراك. وفي الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك». وفي هذا كله، دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل، قادر على أن بطمس، ويفعل بهم ما أراد. وقرأ الجمهور: {نُنَكِّسْهُ} مشددًا؛ أي: بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف مشددة. وقرأ عاصم، وحمزة مخففا؛ أي: بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الكاف مخففة. والهمزة في قوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس، فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة، غير أنه على تدرج، وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما. وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس (¬1): {تعقلون} بتاء الخطاب. وباقي السبعة بياء الغيبة؛ أي: أفلا يعقلون، أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا، وعجزوا عن العمل، فلو عمروا أكثر مما عمروا، ما ازدادوا إلا ضعفًا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم. وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث، والتفكير، والتروي في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا وجاءتهم النذر فلم يهتدوا فمهما، طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلًا ولا كثيرًا. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}، وقوله: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)}. 69 - ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمدًا شاعر .. رد الله سبحانه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

عليهم، بقوله: {وَمَا عَلَّمْناهُ}؛ أي: وما علمنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {الشِّعْرَ} وليس القرآن بشعر. وهذا رد وإبطال لما كانوا يقولونه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، من أنه شاعر، وما يقوله شعر. والظاهر في الرد أن يقال (¬1): إنه ليس بشاعر، وأن ما يتلوه عليهم ليس بشعر، إلا أن عدم كونه شاعرًا، لما كان ملزومًا لعدم كون معلمه، علمه الشعر، نفي اللازم وأريد نفي الملزوم بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح. والشعر لغة: العلم الدقيق، واصطلاحًا: كلام مقفى، موزون على سبيل القصد والاختيار بأجزاء تفاعيل بحور العروضيين الستة عشر، فخرج بالقصد والاختيار ما كان وزنه اتفاقيًا، كآيات شريفة، اتفق جريان الوزن فيها، نحو قوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا}، وقوله: {وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ}، وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}. وكلمات نبوية، جاء الوزن فيها اتفاقًا، من غير قصد إليه وعزم عليه، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - حين عثر في بعض الغزوات، فأصاب إصبعه حجر فدميت: هل أنتِ إلّا إِصبعٌ دُميت ... وفي سبيلِ اللهِ مَا لقيت وقوله يوم حنين حين نزل، ودعا، واستنصر أو يوم فتح مكة: أَنَا النَّبيُّ لا كذب ... أَنَا ابْنُ عَبْد المُطَّلِبْ وقوله يوم الخندق: بِاسْم الإِلهِ وَبِهِ بَدَيْنَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرهُ شَقَينا {وَما يَنْبَغِي لَهُ}؛ أي: وما كان الشعر يليق به - صلى الله عليه وسلم - ولا يصلح له. وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى، لمراعاة اللفظ والوزن. فالشارع يكون اللفظ منه تبعًا للمعنى، والشاعر يكون المعنى منه تبعًا للفظ. لأنه يقصد لفظًا يستقيم به وزن الشعر أو قافيته، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ. ولو صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام موزون مقفى، كما ذكر آنفًا لا يكون شعرًا لعدم قصده اللفظ، وإنما قصد المعنى، فجاء على تلك الألفاظ. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومعنى قوله: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ}؛ أي: وما علمنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الشعر، بتعليم القرآن على معنى: أن القرآن ليس بشعر. فإن الشعر كلام متكلف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع، منسوج على منوال الوزن والقافية، مبني على خيالات وأوهام واهية. فأين ذلك من التنزيل الجليل، الخطر، المنزه عن مماثلة كلام البشر، المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة، الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة. ومن أين اشتبه عليهم الشؤون، واختلط بهم الظنون، قاتلهم الله أنى يؤفكون. وفي الآية إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معلم من عند الله تعالى؛ لأنه سبحانه علمه علوم الأولين والآخرين، وما علمه الشعر؛ لأن الشعر قرآن إبليس وكلامه؛ لأنه قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال تعالى قرأنك الشعر. واعلم: أن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية؛ أي: وما رمزنا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ولا ألغزنا، ولا خاطبناه بشيءٍ، ونحن نريد شيئًا، ولا أجملنا له الخطاب، حيث لم يفهم، انتهى. وفي «التأويلات النجمية»: يشير قوله: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ} إلى أن كل أقوال، وأعمال، وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن، كلها تجري بتعليم الحق تعالى، حتى الحرف والصنائع. وذلك سر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}. وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين: بواسطة وبغير واسطة. وأما بالواسطة: فبتعليم بعضهم بعضا، وأما بغير الواسطة، فكما علم داود عليه السلام، صنعة اللبوس. وكل حرفة وصنعة يعلمها الإنسان، من قريحته، بغير تعليم أحد، فهي من هذا القبيل، انتهى. ومعنى قوله: {وَما يَنْبَغِي لَهُ}؛ أي: وما يصح لمحمد الشعر، ولا يتسهل ولا يتسخر، ولا يتأتى له لو طلبه؛ أي: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر، لم يتأت له، ولم يكن لسانه يجري به إلا منكسرًا عن وزنه، بتقديم وتأخير أو نحو ذلك، كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط، ولا يحسنه، ولا يحسن قراءة ما كتبه غيره، لتكون الحجة أثبت، وشبهة المرتابين في حقية رسالته أدحض. فإنه لو كان

[70]

شاعرًا لدخلت الشبهة على كثير من الناس، في أن ما جاء به بقوله من عند نفسه؛ لأنه شاعر صناعته نظم الكلام. {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما هذا القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ}؛ أي: إلا تذكير، وعظة، وإرشاد من الله سبحانه وتعالى، للإنس والجن. كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}. {وَقُرْآنٌ}؛ أي: كتاب سماوي، جامع للأحكام {مُبِينٌ}؛ أي: بين كونه كذلك، وأنه ليس من كلام البشر، أو فارق بين الحق والباطل، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المعابد، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين ما قالوا. فعطف (¬1) القرآن على الذكر من عطف الشيء على أحد أوصافه. فإن القرآن ليس مجرد الوعظ، بل هو مشتمل على المواعظ والأحكام ونحوها، فلا تكرار. 70 - {لِيُنْذِرَ}؛ أي: القرآن أو محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما يدل عليه قراءة من قرأ بتاء الخطاب. وهو متعلق بقوله: {وَقُرْآنٌ} أو بمحذوف دل عليه قوله: {إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}؛ أي: إلا ذكر أنزل لينذر، ويخوف القرآن أو محمد به {مَنْ كانَ حَيًّا} من الثقلين؛ أي: عاقلًا فهيمًا يميز المصلحة من المفسدة، ويستخدم قلبه فيما خلق له، ولا يضيعه فيما لا يعنيه. فإن الغافل بمنزلة الميت. وجعل العقل والفهم للقلب، بمنزلة الحياة للبدن، من حيث إن منافع القلب منوطة بالعقل، كما أن منافع البدن منوطة بالحياة. وفيه إشارة، إلى أن كل قلب، تكون حياته بنور الله وروح منه، يفيده الإنذار، ويتأثر به. وأمارة تأثره الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة والمولى. وقال بعضهم: {مَنْ كانَ حَيًّا}؛ أي: مؤمنًا في علم الله. فإن الحياة الأبدية بالإيمان، يعني: أن إيمان من كان مؤمنًا في علم الله، بمنزلة الحياة للبدن. لكونه سببًا للحياة الأبدية. وتخصيص الإنذار بمن كان حي القلب، مع أنه عام له، ولمن كان ميت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[71]

القلب؛ لأنه المنتفع به. ثم الإنذار صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة. وقرأ (¬1) نافع، وابن عامر {لتنذر} بتاء الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ باقي السبعة: بياء الغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أن يعود على القرآن. والمعنى (¬2): أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يُرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملأ الأعلى وليس من كلام البشر. فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله؛ فما استطاعوا، فلجؤوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان. ثم ذكر من ينتفع به فقال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا}؛ أي: لينتفع بنذارته من كان حي القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصده عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض، ما يكون حائلًا بينه وبين الهدى. فهو يتواثب على الإقرار بالحق، إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقًا وضياءً، ويخر له مذعنًا مستسلمًا. وكأن طائفًا من السماء نزل عليه فأثلج صدره، وألان قلبه، فاطمأن له وركن إليه. وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية، وكتب له الفوز والسعادة. وبعدئذ بيّن عاقبة من أعرض عنه، فقال: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ}؛ أي: ويجب القضاء من الله تعالى، وتجب كلمة العذاب. وهي {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. {عَلَى الْكافِرِينَ؛} أي: على المصرين على الكفر به تعالى، الذين هم كأنهم أموات، لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة، التي دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى؛ لأنه إذا انتفت الريبة إلا المعاندة فيحق القول عليهم. وفي إيرادهم في مقابلة {مَنْ كانَ حَيًّا} إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة، وأحكامها، التي هي المعرفة، أموات في الحقيقة، كالجنين ما لم ينفخ فيه الروح. فالمعرفة تؤدي إلى الإيمان والإسلام والإحسان التي لا يموت أهلها، بل ينتقل من مكان إلى مكان. 71 - والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} للاستفهام التقريري للتعجيب خلافًا لما قاله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بعضهم هنا، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر، والضمير للمشركين من أهل مكة، والتقدير: ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا علما يقينيًا هو في حكم المعاينة؛ أي: قد رأوا وعلموا (أنا) نحن بمقتضى جودنا وكرمنا {خَلَقْنا} وأوجدنا {لَهُمْ}؛ أي: لأجلهم وانتفاعهم {مِمَّا عَمِلَتْـ} ـه {أَيْدِينا}؛ أي: مما تولينا إحداثه بيدنا، لم يشاركنا فيه غيرنا، بمعاونة وتسبب؛ أي: مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة. وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق، كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله. وقال في «الأسئلة المقحمة»: الأيدي هنا صلة، وهو كقوله: {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، ومذهب العرب الكناية باليد، والوجه عن الجملة، انتهى. والجمع في الأيدي للتعظيم، كأنه قال: مما عملته يدنا. واليد صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى، نثبته ونعتقده، لا نمثله ولا نكيفه. و {ما} موصولة بمعنى الذي، وحذف العائد لطول الصلة. ويجوز أن تكون مصدرية. {أَنْعامًا} مفعول {خَلَقْنا}، أخّره جمعًا بينه وبين أحكامه، المتفرعة عليه بقوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا} إلخ. جمع نعم. وهي الماشية الراعية. وهي: الإبل والبقر والغنم؛ أي: الضأن والمعز مما في سيره نعومة؛ أي: لين، ولا يدخل فيها الخيل، والبغال، والحمر لشدة وطئها الأرض. وخص بالذكر من بين سائر ما خلق الله من المعادن، والنبات، والحيوان غير الأنعام لما فيها من بدائع الفطرة، كما في الإبل، وكثرة المنافع كما في البقر والغنم. والفاء في قوله: {فَهُمْ لَها مالِكُونَ} للتفريع، و {الفاء} التفريعية هي التي كان ما قبلها علة لما بعدها، عكس التعليلية، أي: فلأجل خلقنا إياها لمنافعهم، هم لتلك الأنعام مالكون ملك التصرف بتمليكنا إياهم، وهم متصرفون فيها بالاستقلال، يختصون بالانتفاع بها، لا يزاحمهم في ذلك غيرهم. ومعنى الآية (¬1): أي أولم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان أنا ¬

_ (¬1) المراغي.

[72]

خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير أنعامًا من الإبل والبقر والغنم، يصرفونها كما شاؤوا بالقهر والغلبة. فهي ذليلة منقادة لهم. فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير، وإن شاءت ساقته وصرفته كما تريد. قال العباس بن مرداس: وَتَضْربُهُ الوَليْدةُ بالهَراوي ... فَلا غَيرٌ لَديْه وَلا نَكِيرُ 72 - ثم ذكر منافعها، فقال: {وَذَلَّلْناها}؛ أي (¬1): وصيرنا تلك الأنعام ذليلة منقادة {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المشركين وغيرهم، بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها، من الركوب والسوق إلى ما شاؤوا، والذبح مع كمال قوتها وقدرتها. فهو نعمة من النعم الظاهرة، ولهذا ألزم الله الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. والفاء في قوله: {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} لتفريع أحكام التذليل عليه، و {من} تبعيضية، والركوب - بفتح الراء - بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب؛ أي: فلأجل تذليلنا إياها لهم، كان بعض منها مركوبهم؛ أي: معظم منافعها الركوب، وقطع المسافات، وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب. وقرأ الجمهور (¬2): {رَكُوبُهُمْ} بفتح الراء، وهو فعول بمعنى مفعول. وقرأ أبي، وعائشة {ركوبتهم} بالتاء، وهي فعولة بمعنى: مفعولة. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وقرأ الحسن، والأعمش، وابن السميفع، وأبو الرهسم: {فمنها رُكوبهم} بضم الراء وبغير تاء، فيقدّر مضاف؛ أي: فمنها ذو ركوبهم، أو فمن منافعها ركوبهم. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز {فمنها رُكوبهم} بضم الراء؛ لأنه مصدر بمعنى: كون الإنسان على ظهر حيوان أو غيره، والمقصود هنا: المركوب. وأجاز ذلك الفرّاء، كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[73]

{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}؛ أي: وبعض منها يأكلون لحمه وشحمه، كالغنم يعني: لا تصلح للركوب، بل للأكل فقط. وليس المراد: أن المركوبة منها كالإبل، لا تؤكل فإنها كما تركب تؤكل. والمعنى: أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليها الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها: ما ينحرون فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها. 73 - {وَلَهُمْ فِيها}؛ أي: في الأنعام المركوبة والمأكولة {مَنافِعُ} أخر غير الركوب والأكل كالجلود، والأصواف، والأوبار، والأشعار، والنسائل؛ أي: النتائج، والحراثة بالثيران. وأجمل المنافع هنا، وفصلها في سورة النحل في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ} الآية، {وَمَشارِبُ} من اللبن، جمع مشروب، جمعه باعتبار أنواع النعم، أو باعتبار هيآت اللبن؛ لأن منه الحليب، والحامض، والخاثر، والجبن، والأقط، والزبد، والسمن. والهمزة في قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيشاهدون هذه النعم التي يتنعمون بها، فلا يشكرون المنعم بها، بأن يوحدوه، ولا يشركوا به في العبادة، فقد تولى المنعم إحداث تلك النعم، ليكون إحداثها ذريعة إلى أن يشكروها، فجعلوها وسيلة إلى الكفران. والمعنى: أي ولهم فيها منافع أخرى، غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية)، ولهم منها مشارب من ألبانها. ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها، فقال: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمتي عليهم، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفرادي بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان بعبادة الأصنام، والأوثان. 74 - ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم، ووضعهم كفران النعمة مكان شكرها. فقال: {وَاتَّخَذُوا}؛ أي: واتخذ هؤلاء المشركون مع هذه الوجوه من الإحسان {مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ أي: متجاوزين الله، المتفرد بالقدرة المتفضل بالنعمة

[75]

{آلِهَةً}؛ أي: معبودات من الأصنام، وأشركوها به تعالى في العبادة {لَعَلَّهُمْ}؛ أي: لعل المشركين {يُنْصَرُونَ}؛ أي: رجاء أن ينصروا من جهة آلهتهم، فيما أصابهم من الأمور، أو ليشفعوا لهم في الآخرة. 75 - وجملة قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} مستأنفة، مسوقة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها. وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء، بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون؛ أي: لا تستطيع تلك الآلهة على نصر المشركين، ولا تقدر على نفعهم في أمر ما. {وَهُمْ} المشركون {لَهُمْ}؛ أي: لآلهتهم {جُنْدٌ}؛ أي: عسكر {مُحْضَرُونَ} إثرهم في النار؛ أي: يشيعون عند مساقهم إلى النار، ليجعلوا وقودًا لها. قال الكواشي: روي: أنه يؤتى بكل معبود من دون الله، ومعه أتباعه كأنهم جنده فيحضرون في النار، هذا لمن أمر بعبادة نفسه، أو كان جمادًا، انتهى. وقيل المعنى: {وَهُمْ}؛ أي: المشركون لآلهتهم بمنزلة الجند، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد، ويخدمونها، ويغضبون لها في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم. وقال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل المعنى: يعبدون الآلهة، ويقومون بها. فهم لهم بمنزلة الجند. هذه (¬1) الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين، وضمير {لَهُمْ} للآلهة. وقيل: و {هُمْ}؛ أي: الآلهة {لَهُمْ}؛ أي: للمشركين جند محضرون معهم في النار، ليكونوا وقودًا لهم، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه: وهذه الأصنام لهؤلاء المشركين، جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرؤون منهم. وقيل المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم، يحضرون يوم القيامة لإعانتهم. والمعنى (¬2): أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة، يعبدونهم طمعًا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى. ثم بيّن بطلان آرائهم، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[76]

وخيبة رجائهم، وانعكاس تدبيرهم. فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ} إلخ؛ أي: لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها. فهي أضعف من ذلك، وأحقر، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع، ولا تعقل. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ}؛ أي: والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهم لا يسوقون إليهم خيرًا ولا يدفعون عنهم ضرًا. والخلاصة: أنّ العابدين وهم المشركون، كالجند لحمايتهم والذب عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة، لا يستطيعون أن يقدموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرة. 76 - ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى، بنحو قولهم: هو شاعر، وهو كاهن، وهو ساحر إلى نحو ذلك، من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته. فقال: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} والفاء: فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: إنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم وأردت بيان ما هو الأصلح لك، والأكثر أجرًا .. فأقول لك: لا يحزنك قولهم؛ أي: لا يهمنك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب والتهجين، وتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم. فـ {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ}؛ أي: جميع ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة، ومن العداوة لك، والبغضاء {وَما يُعْلِنُونَ}؛ أي: وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الشرك، والكفر بالله، والإنكار للرسالة. فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية. قال ابن الشيخ (¬1): والفاء في قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ} جزائية؛ أي: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: أنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم، فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم، وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي. وقرأ الجمهور: {فَلا يَحْزُنْكَ} بفتح الياء وضم ¬

_ (¬1) روح البيان.

الزاي، وهي لغة قريش. وقرأ نافع: بضم الياء وكسر الزاي. وهي لغة بني تميم. وهما لغتان، يقال: حزنه وأحزنه. والمعنى (¬1): أي فلا يحزنك أيها الرسول، قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك. ثم ذكر أنه، سيجازيهم على ما يضمرون في أنفسهم، ويتفوهون بألسنتهم. فقال: {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ}؛ أي: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قول ذلك، إنما هو الحسد، وأنهم يعقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب. والخلاصة: أنّا نعلم ما يسرون من معرفتهم، حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم، ونعاملهم بما يستحقون، يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرًا لديهم. وجملة قوله: {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} تعليل لما قبله من النهي عن الحزن. فإن علمه سبحانه بما يسرون وما يعلنون، مستلزم للمجازاة لهم بذلك، وأن جميع ما صدر منهم، لا يعزب عنه، سواء كان خافيًا أو باديًا سرًا أو جهرًا مظهرًا أو مضمرًا وتقديم (¬2) السر على العلن، إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى، لجميع المعلومات، كأن علمه تعالى، بما يسرون، أقدم منه بما يعلنون، مع استوائهما في الحقيقة. فإن علمه تعالى، بمعلوماته، ليس بطريق حصول صورها، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى. وفي هذا المعنى، لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة. وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو. أو مبادية مضمر في القلب قبل ذلك، فتعلق علمه بحالته الأولى، متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقةً. وفي الآية: إشارة إلى أن كلام الأعداء، الصادر من العداوة والحسد، جدير بأن يحزن قلوب الأنبياء، مع كمال قوتهم، وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[77]

الالتفات، وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله، بأن لها ثمرات كريمة عند الله تعالى. وإذا علم العبد، أن ألمه آت من الحق، هان عليه ما يقاسه، لا سيما إذا كان في الله، كما في «التأويلات النجمية». قال بعضهم: ليخفف ألم البلاء، علمك بأن الله هو المبتلي. قال في «برهان القرآن» قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ} هنا، وفي يونس: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} تشابها (¬1) في الوقف على لفظة {قَوْلُهُمْ} في السورتين؛ لأن الوقف عليه لازم. و {إن} فيهما مكسورةً في الابتداء لا في الحكاية، ومحكي القول فيهما محذوف. ولا يجوز الوصل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن أن يخاطب بذلك، انتهى. 77 - وجملة قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ} مستأنفة (¬2) مسوقة لبيان إقامة الحجة، على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله. فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم، على هذه الصفة من البداية إلى النهاية .. مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم، على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية، المراد به جنس الإنسان، كما في قوله: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين، كما قيل: إنه عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة، ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببًا للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو لا إنسان معين، ويدخل من كان سببًا للنزول تحت جنس الإنسان دخولًا أوليًا. والنطفة هي اليسير من الماء. وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل. والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ} للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، والرؤية قلبية، ¬

_ (¬1) برهان القرآن. (¬2) الشوكاني.

والتقدير: ألم يتفكر الإنسان، المنكر للبعث، أيًا كان، ولم يعلم علمًا يقينيًا، أنا خلقناه من نطفة. وفي «الإرشاد»: وإيراد الإنسان موضع المضمر؛ لأن مدار الاستفهام متعلق بأحواله، من حيث هو إنسان، كما في قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)}. {فَإِذا هُوَ}؛ أي: الإنسان {خَصِيمٌ}؛ أي: شديد الخصومة والجدال بالباطل. {مُبِينٌ}؛ أي: مظهر الجدال في خصومته أو مظهر للحجة. والجملة الاسمية (¬1) معطوفة على الجملة المنفية، داخلة في حيز الاستفهام والتعجيب كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء، وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر، يشهد بصحته، وتحققه مبدأ فطرته شهادةً بينة. فهذا حال الإنسان الجاهل الغافل. ونعم ما قيل: أُعلِّمه الرِّمَاية كُلَّ يومٍ ... فَلمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي أُعلِّمه الْقَوافِي كُلَّ حِينٍ ... فَلمَّا قَالَ قَافيةً هَجَانِي وما قيل: لقَدْ رَبَّيت جَروًا طُولَ عُمرِي ... فَلمَّا صَارَ كلَبًا عَضَّ رِجْلِي قال السمرقندي: العامل في {إذا} المفاجأة معنى المفاجأة، وهو عامل لا يظهر، استغني عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة، عليه، ولا يقع بعدها إلا الجملة المركبة من المبتدأ والخبر. وهو في المعنى فاعل؛ لأن معنى {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: فاجأه خصومة بينة، كما أن معنى قوله: {إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجأهم قنوطهم أو مفعول؛ أي: فاجأ الخصومة، وفاجؤوا القنوط. يعني: خاصم خالقه مخاصمة ظاهرة، وقنطوا من الرحمة. والمعنى (¬2): أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدأ، على سهولة الإعادة. فإن من بدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرًا سويًا يخاصم ربه، فيما قال إني فاعل، فيقول: من يحيي العظام وهي رميم إنكارًا منه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[78]

لقدرته على إحيائها، قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله. والخلاصة: أنه تعالى خلق للإنسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم. وخلقه من نطفة قذرة، ليكون متذللا فطغى وبغى وتجبر وخاصم ربه، واستبعد البعث والإعادة. 78 - وقوله: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا} معطوف (¬1) على الجملة الفجائية؛ أي: ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلًا؛ أي: أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر. وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل، وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه. قال ابن الشيخ: المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي، الذي هو القول السائر، ولا شك أن نفي قدرة الله سبحانه على البعث، مع أنه من جملة الممكنات، وأنه تعالى على كل شيء قدير، من أعجب العجائب. {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} عطف على {ضَرَبَ}، داخل في حيز الاستفهام والتعجيب أو حال بتقدير {قد}. وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: نسي خلقنا إياه من النطفة القذرة؛ أي: ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث. فإنه لا فرق بينهما من حيث إن كلًا منهما إحياء مواتٍ وجماد. وقرأ زيد بن علي {ونسي خالقه} اسم فاعل، والجمهور {خَلْقَهُ}؛ أي: نشأته، مصدرًا. وقوله: {قالَ}؛ أي: الإنسان، كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، نشأ عن حكاية ضرب المثل، كأنه قيل: أي مثل ضرب أو ماذا قال؟ فقيل: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ} منكرًا له أشد النكير، مؤكدًا له بقوله: {وَهِيَ رَمِيمٌ}؛ أي: بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها، ولا لحم، ولا عروق، ولا أعصاب. وهذا (¬2) الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله سبحانه على قدرة العبد فأنكر أن الله تعالى، يحيي العظام البالية، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[79]

وعدم تأنيث الرميم، مع وقوعه خبرًا للمؤنثة، حيث لم يقل: وهي رميمة، لأنه اسم لما بلي من العظام، غير صفة كالرفات والرمة. والأولى: أن يقال: إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما قيل في جريح وقتيل. ومعنى الآية: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ}؛ أي: وذكر أمرًا عجيبًا ينفي به قدرتنا على إحياء الخلق، فـ {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ونسي خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقًا سويًا ناطقًا. ولا شك أن من فعل ذلك، لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياءً، والعظام الرميم بشرًا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء. وإجمال ذلك: أن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله، ذي القدرة العظيمة، التي خلقت السموات والأرض، للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم، وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا، يستبعدون أو يجحدون. ونحو الآية، حكايةً عن المشركين قوله: {وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وقوله أيضًا، على طريق الحكاية: {قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)} {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ}. 79 - ثم أمر الله سبحانه، نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم، وخلقهم من العدم، فقال: {قُلْ} يا محمد، تبكيتًا لذلك الإنسان، المنكر للبعث، بتذكير ما نسيه من الفطرة، الدالة على حقيقة الحال. {يُحْيِيهَا}؛ أي: يحيي تلك العظام الخالق {الَّذِي أَنْشَأَها}؛ أي: خلقها وأوجدها {أَوَّلَ مَرَّةٍ}؛ أي: في أول مرة ولم تكن شيئًا، ومن قدر على النشأة الأولى، قدر على النشأة الثانية. فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وهو من النصوص القاطعة، الناطقة بحشر الأجساد، استدلالًا بالابتداء على الإعادة. وفيه رد على من لم يقل به، وتكذيب له.

{وَهُوَ}؛ أي: الله المنشىء سبحانه {بِكُلِّ خَلْقٍ}؛ أي: مخلوق {عَلِيمٌ} لا تخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائنًا ما كان، يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها. فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتفرقة في المشارق والمغارب، والتي بعضها في أبدان السباع، وبعضها في جدران الرباع، أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض، من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، فيعيد كلا من ذلك، على النمط السابق، مع القوى التي كانت قبل. وقد استدل أبو حنيفة (¬1)، وبعض أصحاب الشافعي، بهذه الآية، على أن العظام، مما تحله الحياة. وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ}؛ أي: من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر. وعبارة الروح هنا: وقد تمسك (¬2) بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة، وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت. وهو الشافعي، ومالك، وأحمد. وأما أصحابنا الحنفية، فلا يقولون بنجاسته كالشعر، ويقولون: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس. واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت؟. فقال أبو حنيفة: يتنجس؛ لأنه دموي، إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له، وتكره الصلاة عليه في المسجد. وقال الشافعي، وأحمد: لا يتنجس به، ولا تكره الصلاة عليه فيه. وعن مالك خلاف، والأظهر عنه: الطهارة، وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها، كقول أبي حنيفة، انتهى. انظر ما بين عبارة الشوكاني، وعبارة البروسوي من التناقض فيما قاله الشافعي. والصواب ما في البروسوي. والمعنى (¬3): أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيي العظام وهي رميم: يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئًا، وهو العليم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[80]

بالعظام، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض، وأين ذهبت؟، لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة. 80 - ثم ذكر دليلًا ثانيًا يرفع استبعادهم، ويبطل إنكارهم. فقال: {الَّذِي جَعَلَ} وخلق {لَكُمْ}؛ أي: لمنفعتكم {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ}؛ أي: الرطب {نارًا} محرقة، بدل من الموصول الأول، وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد، ولتفاوتهما في كيفية الدلالة؛ أي: الذي خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الرطب الندي، كالمرخ والعفار نارًا محرقة. فنبه (¬1) سبحانه، على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه، من إخراج النار المحرقة، من العود الندي الرطب. وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار، إذا قطع عودان وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران. قيل: المرخ هو الذكر، والعفار هو الأنثى. ويسمى الأول الزند، والثاني الزندة. والمرخ (¬2) بالخاء المعجمة: شجر سريع الورى. والعفار بالعين المهملة كسحاب: شجر معروف تقدح منه النار. قال الحكماء: لكل شجر نار إلا العناب. فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه، ويتخذ منه المطرقة، والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار، وهما موجودان في أغلب المواضع من بوادي العرب، يقطع الرجل منهما غصنين كالمسواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى. وذلك قوله تعالى: {فَإِذا أَنْتُمْ} أيها المشركون {مِنْهُ}؛ أي: من الشجر الأخضر، متعلق بـ {تُوقِدُونَ}. و {إذا} للمفاجأة؛ أي: تشتعلون النار وتقدحونها من ذلك الشجر، لا تشكون في أنها نار تخرج منه، كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى، ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب. فإن من قدر على إحداث النار، وإخراجها من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية، كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضًا فطرأ عليه اليبوسة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[81]

والبلى. وعلم منه أن الله تعالى، جامع الأضداد، ألا ترى: أنه جمع الماء والنار في الشجر، فلا الماء يطفىء النار، ولا النار تحرق الشجر. وقرأ الجمهور: {الْأَخْضَرِ} اعتبارًا باللفظ. وقرىء {الخضراء} اعتبارًا بالمعنى. وقد تقرر، أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله تعالى: {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} وقوله: {نَخْلٍ خاوِيَةٍ}. فبنو تميم ونجد يذكرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادرًا. والمعنى (¬1): أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء، حتى صار أخضر ناضرًا، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا توقد به النار، ومن فعل ذلك، فهو قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا، فيبس وبلي. 81 - ثم ذكر بعد ذلك بدليل ثالث على قدرته، أعجب من سابقيه، فقال: {أَوَلَيْسَ} الهمزة (¬2) فيه للإنكار، وإنكار النفي إيجاب، فصار الاستفهام تقريريًا، كما هو القاعدة عندهم، خلافًا لمن تغافل عنها، فجعل الاستفهام في أمثال هذه المواضع إنكاريًا. داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر. فهمزة الاستفهام، وإن دخلت على حرف العطف ظاهرًا، لكنها في التحقيق، داخلة على كلمة النفي قصدًا، إلى إثبات القدرة له وتقريرها. والمعنى: أليس القادر المقتدر، الذي أنشأ الأناسي أول مرة، وأليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارا، وأليس {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ}؛ أي: الأجرام العلوية وما فيها {وَالْأَرْضَ}؛ أي: الأجرام السفلية وما عليها مع كبر جرمهما وعظيم شأنهما {بِقادِرٍ} في تقدير النصب؛ لأنه خبر ليس؛ أي: قادرًا {عَلى أَنْ يَخْلُقَ} في الآخرة {مِثْلَهُمْ}؛ أي: مثل الأناسي في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما، ويعيدهم أحياء كما كانوا. فإن بدهية العقل قاضية بأن من قدر على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

خلقهما فهو على خلق الأناسي أقدر، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}. أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها، وهو المعاد، فإن المعاد مثل الأول في الاشتمال على الأجزاء الأصلية والصفات المشخصة، وإن غايره في بعض العوارض؛ لأن أهل الجنة جرد مرد، وإن الجهنمي ضرسه مثل أحد وغير ذلك. وقال بعضهم: لفظ {مثل} في قوله: {مِثْلَهُمْ} مقحم كقولك مثل يجود؛ أي: على أن يخلقهم. وقرأ الجمهور (¬1): {بِقادِرٍ} بباء الجر، داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي {يقدر} فعلًا مضارعًا. وقوله: {بَلى} جواب من جهته تعالى، وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي، وإيذان بتعين الجواب بهذا نطقوا به، أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام. قال ابن الشيخ: هي مختصة بإيجاب النفي المتقدم ونقضه، فهي هاهنا لنقض النفي الذي بعد الاستفهام؛ أي: بلى إنه قادر، كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}؛ أي: بلى أنت ربنا. وقوله: {وَهُوَ} سبحانه {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} معطوف على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى وهو قادر على أن يخلق مثلهم، وهو المبالغ في الخلق والعلم كمًا وكيفًا، على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الجمهور: {الْخَلَّاقُ} بصيغة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي {وهو الخالق} بصيغة اسم الفاعل. وقال بعضهم معنى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} العليم؛ أي: كثير المخلوقات والمعلومات، يخلق خلقًا بعد خلق، ويعلم جميع الخلق. وذكر البرهان الرشيدي: أن صفات الله تعالى، التي على صيغة المبالغة كلها مجاز؛ لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهية في الكمال، لا يمكن المبالغة فيها، وأيضا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[82]

فالمبالغة تكون في صفات تفيد الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك. واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي. وقال الزركشي في «البرهان»: التحقيق: أن صيغة المبالغة قسمان: أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل. والثاني: بحسب زيادة المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواقع قد يقع على جماعة متعددين. وعلى هذا القسم تنزل صفات الله، وارتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم، في حكيم، معنى المبالغة فيه، تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع. وقال في «الكشاف»: المبالغة في «التواب» للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه. 82 - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال: {إِنَّما أَمْرُهُ}؛ أي: إنما شأنه سبحانه وتعالى: {إِذا أَرادَ شَيْئًا}؛ أي: إذا تعلقت إرادته بوجود شيء من الأشياء {أَنْ يَقُولَ لَهُ}؛ أي: لذلك الشيء {كُنْ}؛ أي: احدث، واحصل {فَيَكُونُ}؛ أي: فيحدث، ويحصل من غير توقف على شيء آخر أصلًا. قرأ الجمهور: {فَيَكُونُ} بالرفع، بناءً على أنه في تقدير فهو يكون فتعطف الجملة الاسمية على الجملة الاسمية المتقدمة، وهي قوله: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ}. وقرأ الكسائي: بالنصب عطفًا على {يَقُولَ}. والمعنى: أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء، أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن، ويحدث فورًا بلا تأخير، ولا افتقار إلى مزاولة عمل، ولا استعمال آلة. 83 - وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة، والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه. فقال: {فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} والفاء، فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه أكمل إيجاب من الشؤون

المذكورة كالإنشاء والإحياء، وأن إرادته لا تتخلف عن مراده ونحو ذلك، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: نزهوا الإله {الَّذِي بِيَدِهِ}؛ أي: تحت يده وقبضته {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: ملك كل شيء، وضبطه وتصرفه عما وصفوه تعالى به من العجز، وتعجبوا مما قالوه في شأنه تعالى من النقصان. ونزهوا الذي {إِلَيْهِ} لا إلى غيره. إذ لا مالك سواه على الإطلاق {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وهو وعد للمقرين، ووعيد للمنكرين؛ لأن الخطاب عام للمؤمنين والكافرين. وقرأ الجمهور: {مَلَكُوتُ}. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي {ملكة} بزنة شجرة. وقرىء {مملكة} بزنة مفعلة. وقرىء {ملك}. والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالفوقية على الخطاب مبنيًا للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب بن مسعود بالتحية على الغيبة مبنيًا للمفعول أيضًا. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل. الإعراب {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56)}. {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {أَصْحابَ الْجَنَّةِ}، {فِي شُغُلٍ}: خبر {إن} الثاني، {فاكِهُونَ}: خبرها الأول. ويجوز العكس. ويجوز أن يتعلق {فِي شُغُلٍ} بـ {فاكِهُونَ} أو في محل نصب على الحال. وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لبيان أحوال الجنة، وتقريرها، إغاظة للكفار وتقريعًا وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. {هُمْ}: مبتدأ، {وَأَزْواجُهُمْ}: معطوف على هم، {فِي ظِلالٍ}: خبر المبتدأ؛ أي: لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية. {عَلَى الْأَرائِكِ}: متعلق بـ {مُتَّكِؤُنَ}، و {مُتَّكِؤُنَ}، خبر ثان لـ {هم}. ويجوز أن يكون {فِي ظِلالٍ}: حالًا من المبتدأ على رأي سيبويه. والجملة الاسمية مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، مسوقة لبيان كيفية شغلهم.

{لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}. {لَهُمْ}، خبر مقدم، {فِيها}: جار ومجرور حال، من ضمير الغائبين، {فاكِهَةٌ}: مبتدأ، مؤخر. والجملة مستأنفة. {وَلَهُمْ}: خبر مقدم، و {ما}: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ويجوز أن تكون {ما}: موصولة أو موصوفة أو مصدرية، وجملة {يَدَّعُونَ}: صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: يدعونه. {سَلامٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: ما يدعون سلام. {قَوْلًا} منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يقال قولًا، وجملة القول المحذوف صفة لسلام. {مِنْ رَبٍّ}: صفة لـ {قَوْلًا}، {رَحِيمٍ} صفة لـ {رَبٍّ}. وجملة {سَلامٌ} مع مبتدئه المحذوف بدل من {ما يَدَّعُونَ} أو مستأنفة. أو {سَلامٌ} مبتدأ، خبره جملة القول المحذوف الناصب لـ {قَوْلًا}، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء؛ أي: سلام، يقال لهم: قولًا من رب رحيم. وقيل: تقديره: سلام عليكم، حال كونه قولًا من رب رحيم. وقيل: إنه مبتدأ، وخبره {مِنْ رَبٍّ}، و {قَوْلًا} مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر. {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}. {وَامْتازُوا} {الواو}: استئنافية، {امْتازُوا}: فعل أمر، وفاعل، مبني على حذف النون، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق به. والجملة في محل النصب. مقول لقول محذوف؛ أي: يقول الله لهم امتازوا اليوم؛ أي: انفردوا عن المؤمنين. وجملة القول المحذوف مستأنفة. {أَيُّهَا} {أي} منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، {ها} حرف تنبيه زائد تعويضا عما فات؛ أي: من الإضافة، {الْمُجْرِمُونَ} بدل من؛ أي: على اللفظ. وجملة النداء أيضًا مقول للقول المحذوف. {أَلَمْ} الهمزة: للاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ والتبكيت {لَمْ}: حرف جزم، {أَعْهَدْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ لَمْ والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقول الله لهم أيضًا: ألم أعهد إليكم.

و {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَعْهَدْ}، {يا بَنِي آدَمَ}: منادى مضاف منصوب بالياء. وجملة النداء في محل النصب، مقول للقول المحذوف. {أَنْ}: مفسرة؛ لأنها وقعت بعد جملة، فيها معنى القول دون حروفه، {لا}: ناهية جازمة، {تَعْبُدُوا}: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بلا الناهية، {الشَّيْطانَ}: مفعول به. والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. ويجوز أن تكون {أَنْ}: مصدرية، فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ترك عبادة الشيطان؛ أي: بترك عبادته. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَكُمْ} متعلق بـ {عَدُوٌّ}، و {عَدُوٌّ} خبر {إن}، {مُبِينٌ} صفة {عَدُوٌّ}. وجملة {أَنْ} في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، على كونها معللة للنهي المذكور قبلها. {وأن}: {الواو}: عاطفة على {أَنْ لا تَعْبُدُوا}، {أَنِ} مفسرة أو مصدرية، {اعْبُدُونِي} فعل أمر، وفاعل، ونون وقاية، ومفعول به، مبني على حذف النون. والجملة إما مفسرة أو في محل جر بحرف جر محذوف؛ أي: بعبادتي. {هذا}: مبتدأ، {صِراطٌ}: خبره، {مُسْتَقِيمٌ}: صفة. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول للقول المحذوف، على كونها معللة لأمر المذكور قبلها. {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {أَضَلَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، {مِنْكُمْ}: متعلق بـ {أَضَلَّ}، {جِبِلًّا}: مفعول به، {كَثِيرًا}: صفة لـ {جِبِلًّا}. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {أَفَلَمْ} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، تقديره: أتشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون. والجملة المحذوفة جملة استفهامية، لا محل لها من الإعراب. {لم}: حرف جزم، {تَكُونُوا} فعل مضارع ناقص واسمه مجزوم بـ {لم}، وجملة {تَعْقِلُونَ} خبره. وجملة {تَكُونُوا}: معطوفة على تلك المحذوفة. {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)}. {هذِهِ جَهَنَّمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، مسوقة لمجابهتهم المصير الهائل، الذي يصيرون إليه، بعد أن بلغ الغاية في تقريعهم وتوبيخهم. {الَّتِي}: صفة لـ {جَهَنَّمُ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تُوعَدُونَ}: من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. {اصْلَوْهَا}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق به. والجملة مستأنفة. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {اصْلَوْهَا} أيضًا، والباء حرف جر وسبب، {مَا}: مصدرية، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكْفُرُونَ} خبره. وجملة {كان} في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب كفركم، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {نَخْتِمُ}، {نَخْتِمُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، {عَلى أَفْواهِهِمْ}: متعلق بـ {نَخْتِمُ} أيضًا. والجملة الفعلية مستأنفة. {وَتُكَلِّمُنا}: الواو عاطفة، {تُكَلِّمُنا}: فعل مضارع، ومفعول به، {أَيْدِيهِمْ}: فاعل. والجملة معطوفة على جملة {نَخْتِمُ}. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}: فعل، وفاعل، معطوف على {تُكَلِّمُنا}، {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {تَشْهَدُ}، و {ما}: مصدرية أو موصولة، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ} خبر {كان}. وجملة {كان} صلة لـ {ما} المصدرية أو موصولة؛ أي: بكسبهم، أو بالذي يكسبونه. {وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط، {نَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}. {لَطَمَسْنا} اللام: رابطة لجواب {لَوْ}، {طمسنا}: فعل، وفاعل، والجملة جواب شرط لـ {لَوْ}، وجملة {لَوْ} مستأنفة أو معطوفة على {نَخْتِمُ}، {عَلى أَعْيُنِهِمْ}: متعلق بـ {طمسنا}، {فَاسْتَبَقُوا} الفاء: عاطفة، {استبقوا} فعل ماض، وفاعل معطوف على {طمسنا}، {الصِّراطَ}: مفعول به على التوسع؛ لأنه ظرف مكان أو

منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى الصراط، {فَأَنَّى} الفاء: عاطفة، {أنى}: اسم استفهام بمعنى: كيف، في محل نصب على الحال، {يُبْصِرُونَ}: فعل، وفاعل معطوف على {استبقوا}. والاستفهام هنا معناه النفي؛ أي: لا يبصرون. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط، {نَشاءُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة فعل شرط لـ {لَوْ} {لَمَسَخْناهُمْ} اللام: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية، {مسخناهم} فعل، وفاعل، ومفعول به، {عَلى مَكانَتِهِمْ}: جار ومجرور حال من مفعول {مسخناهم}. وجملة {لَوْ} الشرطية معطوفة على جملة {لَوْ} الأولى. {فَمَا} الفاء: عاطفة، {ما} نافية، {اسْتَطاعُوا مُضِيًّا} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة {مسخناهم}. {وَلا يَرْجِعُونَ} فعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر، من غير سابك لإصلاح المعنى، معطوف على {مُضِيًّا}، والتقدير: فما استطاعوا مضيًا ولا رجوعًا. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {نُعَمِّرْهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونها فعل شرط لمن الشرطية. {نُنَكِّسْهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونه جوابًا لها. وجملة {مَنْ}: الشرطية مستأنفة. {فِي الْخَلْقِ}: متعلق بننكسه، {أَفَلا} الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، {لا}: نافية، {يَعْقِلُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس فلا يعقلون، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَما}: الواو استئنافية، {ما}: نافية، {عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ}: فعل، وفاعل ومفعولان. والجملة مستأنفة. {وَما}: الواو عاطفة، {ما}: نافية، {يَنْبَغِي} فعل مضارع، وفاعل

مستتر يعود على الشعر، {لَهُ} متعلق بينبغي. والجملة معطوفة على جملة {وَما عَلَّمْناهُ}. {إِنْ} نافية، {هُوَ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {ذِكْرٌ}: خبر، {وَقُرْآنٌ}: معطوف عليه، {مُبِينٌ}: صفة قرآن. والجملة مستأنفة. {لِيُنْذِرَ} اللام حرف جر وتعليل، {ينذر} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد أو على القرآن. والجملة الفعلية مع {أن} المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإنذاره من كان حيا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق، تقديره: أرسل أي: محمد لإنذاره أو أنزل القرآن لإنذاره. والجملة المحذوفة مستأنفة. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول لينذر، {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على {مَنْ}، {حَيًّا}: خبره، وجملة كان صلة لمن الموصولة. {وَيَحِقَّ} فعل مضارع، معطوف على ينذر، {الْقَوْلُ}: فاعل، {عَلَى الْكافِرِينَ} متعلق بيحق، {أَوَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، {يَرَوْا}: فعل، وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {أَنَّا} ناصب واسمه، {خَلَقْنا} فعل، وفاعل، {لَهُمْ} متعلق بـ {خَلَقْنا}، وجملة {خَلَقْنا} في محل الرفع خبر أن، وجملة {أن} سادة مسد مفعولي رأى. وجملة الرؤية معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. {مِمَّا}: جار ومجرور حال من {أَنْعامًا}، {عَمِلَتْ أَيْدِينا} فعل، وفاعل، صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما عملته أيدينا، {أَنْعامًا} مفعول خلقنا، {فَهُمْ} الفاء حرف عطف وتفريع، {لَها} متعلق بمالكون، و {مالِكُونَ}: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة مفرّعة على جملة {خَلَقْنا}. {وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)}. {وَذَلَّلْناها}: فعل، وفاعل، ومفعول، {لَهُمْ}: متعلق بـ {ذَلَّلْناها}. والجملة

معطوفة على جملة {خَلَقْنا}. {فَمِنْها}: الفاء: عاطفة تفريعية، {مِنْها}: خبر مقدم، {رَكُوبُهُمْ}: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة مفرّعة على جملة {ذللنا}. {وَمِنْها}: متعلق بـ {يَأْكُلُونَ}، وجملة {يَأْكُلُونَ} معطوفة على جملة {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} عطف فعلية على اسمية. {وَلَهُمْ} الواو عاطفة، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {فيها}: حال من {مَنافِعُ}، و {مَنافِعُ}: مبتدأ مؤخر، {وَمَشارِبُ} معطوف عليه. والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} {أَفَلا} الهمزة: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيشاهدون تلك النعم، فلا يشكرون المنعم عليها. والجملة المقدرة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {لا}: نافية، وجملة {يَشْكُرُونَ}: معطوفة على تلك المحذوفة، {وَاتَّخَذُوا} {الواو}: استئنافية، {اتَّخَذُوا} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ {اتَّخَذُوا}، {آلِهَةً} مفعول أول لـ {اتَّخَذُوا}. والجملة الفعلية مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {يُنْصَرُونَ} من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل الرفع، خبره. وجملة {لعل} في محل النصب حال من فاعل {اتَّخَذُوا}؛ أي: حالة كونهم راجين النصر من آلهتهم. {لا يَسْتَطِيعُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {نَصْرَهُمْ} مفعول به، {وَهُمْ} {الواو}: حالية، {هُمْ} مبتدأ، {لَهُمْ} حال من جند؛ لأنه كان في الأصل صفة له، {جُنْدٌ} خبرهم، {مُحْضَرُونَ} خبر ثان لهم أو نعت لـ {جُنْدٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَسْتَطِيعُونَ} أو من ضمير {نَصْرَهُمْ}. {فَلا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت قولهم في الله وفيك، وأردت بيان ما هو الأكثر لك أجرا وأرفع لك درجةً فأقول لك. {لا} ناهية جازمة، {يَحْزُنْكَ}: فعل مضارع، ومفعول به، مجزوم بلا الناهية، {قَوْلُهُمْ} فاعل. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {نَعْلَمُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {ما} اسم موصول في محل النصب، مفعول به

لـ {نَعْلَمُ}، وجملة {يُسِرُّونَ} صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يسرونه، {وَما يُعْلِنُونَ} معطوف على {ما يُسِرُّونَ}. {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}. {أَوَلَمْ يَرَ}: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، والواو عاطفة على ذلك المقدر. والجملة المقدرة مستأنفة. {لَمْ} حرف جزم، {يَرَ} فعل مضارع، مجزوم بلم، {الْإِنْسانُ}: فاعل. والجملة معطوفة على تلك المقدرة. {أَنَّا} ناصب واسمه، وجملة {خَلَقْناهُ} خبره، وجملة {أن} في محل النصب، سادة مسد مفعولي {يرى}. {مِنْ نُطْفَةٍ} متعلق بـ {خلقنا}، {فَإِذا} الفاء: عاطفة، {إذا} فجائية، {هُوَ} مبتدأ، {خَصِيمٌ} خبر، {مُبِينٌ} صفة خصيم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {خلقنا}؛ لأنه في تأويل خلقناه من نطفة ففاجأ خصومتنا. {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}. {وَضَرَبَ} {الواو}: عاطفة، {ضَرَبَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، {لَنا} متعلق بـ {ضَرَبَ}، {مَثَلًا} مفعول به. والجملة معطوفة على جملة إذا الفجائية؛ لأنها في تأويل الفعل، كما مر. {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ضرب، {قالَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان. والجملة مستأنفة. {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع، مبتدأ، {يُحْيِ الْعِظامَ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، والجملة خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول قال. {وَهِيَ رَمِيمٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من العظام. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {يُحْيِيهَا} فعل، ومفعول، {الَّذِي} فاعل. والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَنْشَأَها} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به،

والجملة صلة الموصول، {أَوَّلَ مَرَّةٍ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {أنشأ}، {وَهُوَ} مبتدأ، {بِكُلِّ خَلْقٍ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}، {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل أنشأ. {الَّذِي} بدل من الموصول الأول، {جَعَلَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، {لَكُمْ}: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني، {مِنَ الشَّجَرِ} حال من {نارًا}؛ لأنه في الأصل صفة نار، {الْأَخْضَرِ} صفة لـ {الشَّجَرِ} {نارًا}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} وجملة {جَعَلَ} صلة الموصول، {فَإِذا} الفاء: عاطفة، {إذا} حرف فجأة، {أَنْتُمْ} مبتدأ، {مِنْهُ} متعلق بـ {تُوقِدُونَ}، وجملة {تُوقِدُونَ} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {جَعَلَ}؛ لأنه في تأويل ففاجأتم الإيقاد. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)}. {أَوَلَيْسَ} الهمزة: للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، {لَيْسَ الَّذِي}: فعل ناقص، واسمه، {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} صلة الموصول، {بِقادِرٍ} خبر {لَيْسَ}، والباء: زائدة. وجملة {لَيْسَ} معطوفة على تلك المقدرة، والجملة المقدرة مستأنفة. {عَلى أَنْ} متعلق بقادر، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَخْلُقَ} فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله، {مِثْلَهُمْ} مفعول {يَخْلُقَ}، وجملة {يَخْلُقَ} في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلى}، تقديره: بقادر على خلق مثلهم. {بَلى} حرف جواب لإثبات النفي، والواو: عاطفة على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى هو قادر على ذلك. والجملة المحذوفة، جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} مبتدأ وخبر، {الْعَلِيمُ} خبر ثان. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}. {إِنَّما}: كافة ومكفوفة، {أَمْرُهُ} مبتدأ، {إِذا} ظرف لما يستقبل من

الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يَقُولَ}، {أَرادَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، {شَيْئًا} مفعول به. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذا}، {أَنْ} حرف نصب ومصدر، {يَقُولَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، {لَهُ} متعلق بـ {يَقُولَ}. والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية، تقديره: إنما أمره قوله لشيء: كن وقت إرادة إيجاده. والجملة الاسمية مستأنفة. {كُنْ} فعل أمر، تام بمعنى أحدث، وفاعله ضمير يعود على الشيء. والجملة في محل النصب مقول {يَقُولَ}. {فَيَكُونُ} الفاء: عاطفة، {يكون}: فعل مضارع تام، وفاعله ضمير يعود على الشيء. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فهو يكون. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّما أَمْرُهُ}. وقرىء بالنصب عطفًا على {يَقُولَ}. {فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}. {فَسُبْحانَ الَّذِي} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: سبحان الله .. إلخ. وجملة {اذا} المقدرة مستأنفة. {سبحن}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانًا؛ أي: نزّهوه تنزيهًا. وجملة {سبحن}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {سبحن} مضاف، {الَّذِي} مضاف إليه، {بِيَدِهِ}: خبر مقدم، {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: مبتدأ مؤخر مضاف إليه. والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَإِلَيْهِ} متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، و {تُرْجَعُونَ}: فعل، ونائب فاعل، معطوف على جملة الصلة. التصريف ومفردات اللغة {فِي شُغُلٍ} بسكون الغين وضمها، وقد قرىء بهما. وفي «القاموس»: الشغل بالضم وبضمتين، وبالفتح وبفتحتين: ضد الفراغ، وجمعه أشغال وشغول، وشغله كمنعه شغلًا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة، واشتغل به وشغل

كعني، ويقال منه ما أشغله وهو شاذ؛ لأنه لا يتعجب من المجهول. وأنكر شارح «القاموس» أشغل، وقال: لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة. قال في «المفردات» الشغل بضم الغين وسكونها: العارض الذي يذهل الإنسان. وفي «الإرشاد»: والشغل: هو الشأن الذي يصد المرء، ويشغله عما سواه من شؤونه، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة، أو كمال المساءة والغم. والمراد هنا: هو الأول. وما فيه من التنكير والإبهام للإيذان بارتفاعه عن رتبة البيان، والمراد به: ما هم فيه من فنون الملاذ، التي تلهيهم عما عداها بالكلية، كما فصّلناه في مبحث التفسير. {فاكِهُونَ}؛ أي: ناعمون أو متلذذون في النعمة، من الفكاهة بالضم. وهي التمتع والتلذذ، مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه: الفاكهة بالضم: المزاح، والفكاهة بالفتح: مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم. فإذا فسرنا قوله: {فاكِهُونَ} بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح. وفي «القاموس»: الفاكهة: الثمر كله، وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلًا بقوله تعالى: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} باطل مردود. والفاكهاني: بائعها، وكخجل آكلها، والفاكه صاحبها، وفكههم تفكيهًا أتاهم بها، والفاكهة: النخلة المعجبة واسم الحلواء، وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها، والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم. وقال أبو زيد: الفاكه: الطيب النفس، الضحوك. {وَأَزْواجِهِمْ} والمراد: نساءهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين. {فِي ظُلَلٍ} جمع ظل كشعاب جمع شعب. والظل: ضد الضح، أو جمع ظلة، كقباب جمع قبة. وهو الستر الذي يسترك من الشمس. وقال في «المفردات»: ويعبر بالظل عن العز والمنعة، وعن الرفاهة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41)}؛ أي: في عزة ومنعة. وأظلني فلان؛ أي: حرسني، وجعلني في ظله؛ أي: في عزه ومنعته، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} كناية عن نضارة العيش، انتهى.

{عَلَى الْأَرائِكِ} جمع أريكة، وهي كسفينة سرير في حجلة، والحجلة محركة موضع يزين بالثياب والستور للعروس، كما في «القاموس». وقيل: الفرش الكائن في الحجلة، بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء، وقيل مع كسرها، والمراد: نحو قبة تعلق على السرير، وتزين به العروس. {مُتَّكِؤُنَ} من الاتكاء، وهو الاعتماد. {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ}؛ أي: يطلبون مضارع ادعى بوزن افتعل الشيء إذا فعله لنفسه من دعا يدعو بمعنى طلب. وقد أشرب هنا معنى التمني، ومن مجيء الادعاء بمعنى التمني، كما قال في «تاج المصادر» قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. والمعنى هنا: ولهم ما يتمنونه من ربهم. وأصل {يَدَّعُونَ} يدتعيون على وزن يفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار يدتعون، ثم أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال فصار يدعون، اهـ زاده. وقيل: افتعل بمعنى تفاعل؛ أي: ما يتداعونه. {وَامْتازُوا الْيَوْمَ}؛ أي: انفردوا، وابتعدوا عن المؤمنين. يقال: مازه عنه يميزه ميزًا؛ أي: عزله ونحاه. فامتاز والتمييز: الفصل بين المتشابهات. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} والعهد: الوصية، وعرض ما فيه خير ومنفعة. {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} وعبادة الشيطان كناية عن عبادة غير الله تعالى، من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى الشيطان، لأنه الآمر بها، والمزين لها. {جِبِلًّا} والجبل: الجماعة العظيمة من الخلق، أقلها عشرة آلاف، والكثير الذي لا يحصيه إلا الله تعالى. ويقال فيه: جبلًا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلًا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بكسر وسكون الباء. وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق. {اصْلَوْهَا}؛ أي: ذوقوا حرها. يقال: صلى اللحم كرمى يصليه صليا شواه وألقاه في النار، وصلى النار قاسى حرها، وأصله: اصليوها، فأعل كاخشوا. وهو أمر تنكيل وإهانة.

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ} والختم على الأفواه يراد به: المنع من الكلام. والأفواه جمع فم، وأصل فم فوه بالفتح. وهو مذهب سيبويه والبصريين كثوب وأثواب، حذفت الهاء حذفا على غير قياس لخفائها، ثم الواو لاعتدالها، ثم أبدل الواو المحذوفة ميما لتجانسهما؛ لأنهما من حروف الشفة، فصار فم. فلما أضيف رد إلى أصله ذهابا به مذهب أخواته من الأسماء. وقال الفراء: جمع فوه بالضم كسوق وأسواق، اهـ من «الروح». {لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ} طمس الشيء: إزالة أثره بالكلية. يقال: طمسته؛ أي: محوته، واستأصلت أثره كما في «القاموس». {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ} الاستباق افتعال من السبق. والصراط من السبيل: ما لا التواء فيه، بل يكون على سبيل القصد؛ أي: ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم. {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ} المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها، سواء كان ذلك التحويل، بقلبها إلى صورة البهيمية، مع بقاء الصورة الحيوانية، أو بقلبها حجرا ونحوه من الجمادات، بإبطال القوى الحيوانية. {عَلى مَكانَتِهِمْ}؛ أي: في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، والمكانة، بمعنى: المكان، إلا أن المكانة أخص، كالمقامة والمقام. {فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا} أصله: مضوي بزنة فعول، قلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في الياء، وكسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء. ومن قرأ {مضيا} بكسر الميم، فإنما كسرها اتباعًا للضاد. {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ}؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا. والعمر: مدة عمارة البدن بالروح. {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} من التنكيس، وهو أبلغ من النكس، والنكس أشهر. وهو قلب الشيء على رأسه، ومنه: نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه. والنكس في المرض: أن يعود في مرضه بعد إفاقته. والنكس في الخلق: الرد إلى أرذل العمر. {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ} قال الراغب: يقال: شعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا؛ أي: علمت علما في الدقة كإصابة الشعر. وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته. يقال: شعر به كنصر وكرم علم به، وفطن له، وعقله. وفي

«القاموس»: الشعر غُلِّب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا. والجمع أشعار، انتهى. والشعر: ضرب من ضروب الكلام، ذو وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية. وهو يسير مع العواطف والأهواء، ولا يتبع ما يميله العقل والمنطق الصحيح. ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجي، والمدائح، والتفاخر، والتنافر. فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، وبالغ في الذم، وضرب بالحقيقة عرض الحائط، ولا يرى في ذلك ضيرًا، وإذا هو استرضي بعد قليل رفع من هجاه إلى السماكين، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا، مما تراه في شعر الهجائين المداحين، حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا: أعذب الشعر أكذبه. والقرآن الكريم آداب، وأخلاق، وحكم، وأحكام وتشريع. فيه سعادة البشر في دنياهم ودينهم، وآخرتهم فرادى وجماعات، فحاشى أن يكون شعرًا ولا كهانةً ولا سحرًا. {وَما يَنْبَغِي لَهُ} البغاء: الطلب، والانبغاء انفعال منه. يقال: بغيته؛ أي: طلبته فانطلب. {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا} العمل: كل فعل من الحيوان يقصد. فهو أخص من الفعل. قال الراغب: الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة، خص لفظ اليد لقصورنا، إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا. {وَذَلَّلْناها} وفي «المفردات»: الذل: ما كان عن قهر، والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر، وذلت الدابة بعد شماس ذلًا، وهي ذلول ليست بصعب. {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} والركوب بفتح الراء بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب، والركوب بالضم: كون الإنسان على ظهر حيوان. وقد يستعمل في السفينة والسيارة وغيرهما؛ أي: مركوب كان. والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير. {وَمَشارِبُ} جمع مشرب بالفتح مصدر أو مكان. والظاهر أن المراد به: ضروعها، اهـ شيخنا. والشرب: تناول كل مائع ماءً كان أو غيره. {خَصِيمٌ مُبِينٌ} والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية أو هو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مخاصم مجادل. والخصومة: الجدل. قال في

«القاموس»: خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه، وهو شاذ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق. فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره. {وَهِيَ رَمِيمٌ} والرميم كالرمة، والرفات العظم البالي؛ أي: بالية. وفي «المختار»: رم بالفتح يرم رمة بالكسر فيهما إذا بلي، وبابه ضرب، فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث، وقد وقع خبر المؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام: أن فعيلًا بمعنى فاعل، لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفيته، وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية؛ أي: صار بالغلبة اسمًا لما بلي من العظام. {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} والشجر من النبت ما له ساق. والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد، وهو إلى السواد أقرب. فلهذا سمي الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة، ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظرا إلى اللفظ، فإن لفظ الشجر مذكر، ومعناه مؤنث؛ لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة، والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة. {بَلى} كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي. وفي «المفردات»: بلى جواب استفهام مقترن بنفي، نحو قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}. ونعم يقال في الاستفهام المجرد نحو: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ} ولا يقال هاهنا بلى. فإذا قيل: ما عندي شيء فقلت: بلى، فهو رد لكلامه، فإذا قلت: نعم فإقرار منك. انتهى. {فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكوت، والرحموت، والرهبوت، والجبروت مصادر. زيدت الواو والتاء فيها للمبالغة في الملك، والرحمة، والرهبة، والجبر. قال في «المفردات»: الملكوت مختص بملك الله تعالى. والملك ضبط الشيء، والتصرف فيه بالأمر والنهي. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التنوين للتفخيم في قوله: {فِي شُغُلٍ}؛ أي: في شغل عظيم الشأن. ومنها: التعبير بالجملة الاسمية في قوله: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)} عن حالهم هذه، قبل تحققها، تنزيلًا للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار. ومنها: طباق السلب في قوله: {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ}، {وَأَنِ اعْبُدُونِي} فالأول سلب، والآخر إيجاب. ومنها: التنوين في {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} للتفخيم. ومنها: تقديم النهي في قوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} على الأمر في قوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي} رعاية للقاعدة عندهم، من تقديم التخلية على التحلية، وليتصل به قوله: {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}. ومنها: تقديم الجارين على متعلقهما في قوله: {فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ} لمراعاة الفواصل. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} حيث أن الإضلال من الشيطان لكونه سبب ضلالهم. ومنها: الالتفات من قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} الخ إلى الغيبة في قوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ} للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعي أن يعرض عنهم، ويحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم؛ لأن الخطاب لتلقي الجواب، وقد انقطع بالكلية. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}، وفي قوله:

{أَفَلا يَشْكُرُونَ}، وأمثال ذلك. منها: الطباق بين {مُضِيًّا} {يَرْجِعُونَ}. ومنها: وضع الفعل موضع المصدر في قوله: {وَلا يَرْجِعُونَ} لمراعاة الفاصلة؛ لأن الأصل مضيًا ولا رجوعًا. ومنها: الكناية في قوله: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ}؛ لأنه كناية عن نفي كونه شاعرًا، فنفى اللازم الذي هو تعليم الشعر وأراد نفي الملزوم الذي هو كونه شاعرا، بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا} الآية، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار في قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ}. وهو من ألطف العبارة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا} الأنعام تخلق ولا تعمل، ولكن شبّه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرًا بيديه، ويصنعه بنفسه. واستعار لفظ العمل للخلق، بطريقة الاستعارة التمثيلية. ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: {وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ} بعد قوله: {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} الآية. وفائدته تفخيم النعمة، وتعظيم المنة. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}؛ أي: كالجند في الخدمة والدفاع، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {خَصِيمٌ مُبِينٌ}، وقوله: {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، وفي قوله: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}؛ لأنه صيغة مبالغة من الملك، ومعناه: الملك الواسع التام مثل: الرحموت، والرهبوت، والجبروت. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا} حيث استعار المثل الذي هو القول السائر للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر.

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فشبه سرعة تأثير قدرته تعالى، ونفاذها في الأشياء، بأمر المطاع، من غير توقف ولا امتناع. فإذا أراد شيئًا وجد من غير إبطاء ولا تأخير. وهو من لطائف الاستعارة، وعبارة الروح: وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى، فيما أراده بأمر الآمر، المطاع للمأمور المطيع، في سرعة حصول المأمور به، من غير توقف على شيء ما، وهو قول أبي منصور الماتريدي، لأنه قال: لا وجه لحمل الكلام على الحقيقة، إذ ليس هناك قول ولا آمر ولا مأمور. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا وقفت الأقلام في كتابة ما أردنا إيراده على سورة يس من التفسير والتأويل في تاريخ 25/ 2/ 1414، في صباح يوم الجمعة، بعيد صلاة الفجر، اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر المبارك من شهور، سنة ألف وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات، وأتم الصلات، وأزكى التحيات، وعلى آله وأصحابه، وجميع الأمّات. اللهم يا ذا الجلال والإكرام، كما أعنتنا على كتابة ما مضى فأكرمنا بإتمام ما بقي من كتابة تفسير كتابك الكريم، خالصا مخلصا لوجهك الكريم، مع النفع التام به إلى يوم القيامة، لي ولجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

أهم مقاصد هذه السورة 1 - بيان أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم. 2 - المنذرون من النبي - صلى الله عليه وسلم - صنفان: صنف ميؤوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه. 3 - أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم. 4 - ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخلوا النار، ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد. 5 - الدليل الطبيعي والعقلي على البعث. 6 - تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة. 7 - جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم، وسرعة أخذهم، وندمهم حين معاينة العذاب. 8 - الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها. 9 - توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين. 10 - قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمسهم. 11 - الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس. 12 - إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة الصافات

سورة الصافات سورة الصافات مكية قال القرطبي في قول الجميع، وأخرج ابن الضريس، وابن النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: نزلت بمكة. وهي (¬1) مئة واثنتان وثمانون آية، وثمان مئة وستون كلمة، وثلاث آلاف وثمان مئة وستة أو تسعة وعشرون حرفًا. تسميتها: وسميت (¬2) باسم أول كلمة منها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه (¬3) النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات. قال ابن كثير: تفرد به النسائي، وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني، عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ يس والصافات يوم الجمعة، ثم سأل الله، أعطاه سؤله»، وأخرج أبو نعيم في «الدلائل»، والسلفي في «الطيوريات» عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله ملوك حضرموت، عند قدومهم عليه، أن يقرأ عليهم شيئًا مما أنزل الله قرأ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} حتى بلغ {بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} الحديث. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل جن وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرىء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين». المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬4): ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الصاوي. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

1 - أن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة، التي أشير إليها إجمالًا في السورة السابقة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31)}. 2 - أن فيها تفصيل أحوال المؤمنين، وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، مما أشير إليه إجمالًا في السورة قبلها. 3 - المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان. وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك. وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادًا وإعدامًا إلا إذا كان المريد واحدًا، كما يشير إلى ذلك قوله: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا}. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة أول هذه السورة لآخر يس (¬1): أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء كان .. ذكر تعالى هنا وحدانيته. إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودًا وعدمًا إلا بكون المريد واحدًا. وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا}. الناسخ والمنسوخ فيها: ذكر أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ» سورة الصافات كلها محكم إلا أربع آيات: الأولى والثانية: قوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}، نسختا بآية السيف. الثالثة والرابعة: قوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}، نسختا أيضًا بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}. المناسبة قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا ...} الآيات، افتتح سبحانه هذه

السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته وعلمه وقدرته بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وهنا أثبت الحشر، والنشر، وقيام الساعة، ببيان أن من خلق هذه العوالم، التي هي أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى، كما جاء في السورة السابقة: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}، وجاء في قوله: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}. قوله تعالى: {وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا، وشديد إصرارهم على عدم حدوثه .. أردف هذا، ببيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة، إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف، أن الكافرين يندمون يوم القيامة، على ما فرط منهم، من العناد والتكذيب للبعث، حيث لا يجدي الندم .. أردف هذا بذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقي الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشيء مما كنتم تعبدون، أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا، فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم. ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد، أعرضوا عنها استكبارًا، وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعًا لقول شاعر مجنون. ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون، ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق، الذي لا محيص عن تصديقه، وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال، وإلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين .. بيّن هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام والجدل. فإن العذاب واقع بكم لا محالة، جزاء ما قدمتم من عمل. ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم، واللذات التي قصها علينا في تلك الآية، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. التفسير وأوجه القراءة 1 - والواو في قوله: {وَالصَّافَّاتِ} للقسم. والصافات (¬1): جمع صافة بمعنى جماعة صافة، فالصافات بمعنى الجماعات الصافات. ولو قيل: والصافين وما بعدها بالتذكير لم يحتمل الجماعات. والصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، كالناس لأداء الصلاة أو الحرب أو الأشجار في الغرس. وقوله: {صَفًّا} مصدر مؤكد لما قبله؛ أي: صفًا بديعًا. أقسم الله سبحانه، بالملائكة الذين يصفون للعبادة في السماء، ويتراصون في الصف؛ أي: بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد: إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول، واللاتي يقفن صفا صفا، في مقام العبودية والطاعة، أو الصافات أنفسها؛ أي: الناظمات لها في سلك الصفوف، بقيامها في مواقف الطاعة ومنازل الخدمة. وفي الآية (¬2) بيان شرف الملائكة حيث أقسم بهم، وفضل الصفوف. وقد صح أن الشيطان يقف في فرجة الصف، فلا بد من التلاصق والانضمام والاجتماع ظاهرًا وباطنًا. 2 - والفاء في {فَالزَّاجِراتِ} وما بعده للعطف، والترتيب الرتبي، أو الوجودي كما سيأتي. وقوله: {زَجْرًا} مصدر مؤكد لما قبله. والزجر: الصرف عن الشيء بتخويف؛ أي: فأقسمت بالملائكة الذين يزجرون السحاب زجرًا، ويؤلفونه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[3]

ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر فيه، أو الذين يزجرون العباد عن المعاصي، أو الشيطان عن الوسوسة والإغواء، وعن استراق السمع زجرًا بليغًا. 3 - وقوله: فَالتَّالِياتِ معطوف أيضًا على ما قبله. وقوله: {ذِكْرًا} مفعول {التاليات}؛ أي: فأقسمت بالملائكة الذين يتلون ذكرًا عظيم الشأن، من آيات الله وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، وغيرهما من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، أو المراد بالمذكورات: نفوس العلماء، العمال، الصافات أنفسها في صفوف الجماعات، وأقدامها في الصلاة الزاجرات بالمواعظ، والنصائح التاليات، آيات الدارسات شرائعه وأحكامه، أو طوائف الغزاة، الصافات أنفسهم في مواطن الحرب، كأنهم بنيان مرصوص، أو طوائف قوادهم، الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقًا، والعدو في المعارك طردًا، التاليات آيات الله وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك، لا يشغلهم عن الذكر مقابلة العدو. وذلك لكمال شهودهم وحضورهم مع الله. وفي الحديث: «ثلاثة أصوات يباهي الله بهن الملائكة: الأذان، والتكبير في سبيل الله، ورفع الصوت بالتلبية». وهذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء، للدلالة على ترتيبها في الفضل، إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، فيكون من باب الترقي، أو على العكس، فيكون من باب التدلي. وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة، فهو للدلالة على ترتيب الموصوفات في مراتب الفضل، بمعنى: أن طوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا أو على العكس. وفي تفسير الشيخ وغيره: وجاء بالفاء، للدلالة على أن القسم بمجموع المذكورات. وفي «الصاوي» (¬1): الفاء للترتيب في الوجود الخارجي؛ لأن مبدأ الصلاة الاصطفاف، ثم يعقبه زجر النفس، ثم يعقبه التلاوة، وهكذا. ويحتمل أنها للترتيب في المزايا، ثم هو إما باعتبار الترقي، فالصافات ذوات فضل، فالزاجرات أفضل، فالتاليات أكثر فضلًا أو باعتبار التدلي، فالصافات أعلى ثم الزاجرات ثم التاليات، وكل صحيح، انتهى. ¬

_ (¬1) الصاوي.

[4]

والمعنى: أي أقسمت لكم يا بني آدم، أو يا أهل مكة {بالصافات}؛ أي (¬1): بالملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف، بقيامها في مقاماتها المعلومة أو الصافات أقدامها في السماء، لأداء العبادات أو الباسطات أجنحتها في الهواء، واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد. {صَفًّا} بديعًا. {فَالزَّاجِراتِ}؛ أي: فأقسمت لكم بالملائكة التي تزجر السحاب؛ أي: يأتون بها من موضع إلى موضع، أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي، بالإلهامات، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وعن استراق السمع. {زَجْرًا} بليغا. {فَالتَّالِياتِ}؛ أي: فأقسمت لكم بالملائكة، التي تتلو الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، وغيرها من التسبيح، والتقديس، والتحميد، والتمجيد. 4 - {إِنَّ إِلهَكُمْ} يا أهل مكة - فإن الآية (¬2) نزلت فيهم إذ كانوا يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا} - أو يا بني آدم؛ أي: أقسمت لكم بهذه المذكورات، على أن إلهكم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة {لَواحِدٌ} لا شريك له، فلا تتخذوا آلهة من الأصنام والدنيا والهوى والشيطان. إذ لو لم يكن واحدًا لاختل هذا الاصطفاف، والزجر، والتلاوة. وفي «الصاوي»: {وَالصَّافَّاتِ} الواو (¬3): حرف جر وقسم، {وَالصَّافَّاتِ} مقسم به مجرور بواو القسم، وما بعده عطف عليه، وقوله: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)} جواب القسم، وهو المقسم عليه. والمعنى: وحق الصافات وحق الزاجرات وحق التاليات. وإنما خص ما ذكر لعظم قدرها عنده تعالى. ولا يعكر عليه ما ورد من النهي عن الحلف بغير الله تعالى، لأن النهي للمخلوق حذرًا من تعظيم غير الله، وأما هو سبحانه وتعالى، فيقسم ببعض مخلوقاته للتعظيم كقوله: والشمس والليل والضحى والنجم، وغير ذلك. فإن قلت: ما الحكمة في ذكر القسم هنا، لأنه إن كان المقصود المؤمنين، فلا حاجة إليه؛ لأنهم مصدقون ولو من غير قسم. وإن كان المقصود الكفار، فلا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) الصاوي.

حاجة إليه أيضًا، لأنهم غير مصدقين على كل حال؟ قلت: إن الحكمة في القسم، تأكيد الأدلة التي تقدم تفصيلها في سورة يس، ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويزداد الكافرون بعدًا وطردًا. أو الحكمة فيه تعظيم المقسم به، وإظهار شرفه، وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم. وقد أنزل القرآن على لغتهم، وعلى أسلوبهم في محاوراتهم. وقيل: تقدير الكلام فيها وفي أمثالها: ورب الصافات، ورب الشمس، ورب الضحى، ورب التين والزيتون، ورب الذاريات، ورب النجم إلى غير ذلك. وقرأ ابن مسعود (¬1)، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة بإدغام التاء من الصافات والزاجرات والتاليات في صاد {صَفًّا} وزاي {زَجْرًا} وذال ذكرًا وكذلك فعلا في {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا (1)}، وفي {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا} {وَالْعادِياتِ ضَبْحًا} بخلاف عن خلاد في الأخيرين. وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك. قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث، والملائكة مبرؤون عن هذه الصفة. وأجيب عنه بوجهين: الأول: أن الصفات المذكورة جمع الجمع، فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات. الثاني: أنهم مبرؤون عن التأنيث المعنوي، وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة، مع أن علامة التأنيث حاصلة، انتهى. قال الغزالي، رحمه الله سبحانه: الواحد في أسمائه تعالى هو الذي لا يتجزأ ولا يثنى، وهو سبحانه الواحد المطلق أزلًا وأبدًا، وخاصية هذا الاسم، إخراج الكون من القلب، فمن قرأه ألف مرة خرج الخلائق من قلبه، فكفي خوف الخلق. وهو أصل كل بلاء في الدنيا والآخرة. وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يقول في ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[5]

دعائه: «اللهم إني أسألك باسمك الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد»، فقال: سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. قال السهروردي: يذكره من توالت عليه الأفكار الرديئة فتذهب عنه. وإن قرأه الخائف من السلطان بعد صلاة الظهر، خمس مئة مرة فإنه يأمن ويفرّج همه، ويصدقه أعداؤه، انتهى. 5 - وقوله: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} خبر ثان {لأن}؛ أي: مالك السموات والأرض، ومالك ما بينهما من الموجودات، ومربيها، ومبلغها إلى كمالاتها {وَرَبُّ الْمَشارِقِ}؛ أي: مشارق الشمس، وهي ثلاث مئة وستون مشرقًا، تشرق كل يوم من مشرق منها، وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها على حد {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. وإنما اقتصر على المشارق ولم يعكس؛ لأن نفعه أعم من الغروب. يعني: إذا كانت المشارق بهذا العدد، تكون المغارب أيضًا بهذا العدد، فتغرب في كل يوم من مغرب منها. وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أراد به الجهة، فالمشرق جهة والمغرب جهة. وإعادة (¬1) الرب في المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها، وتجددها كل يوم كما ذكر آنفًا. والخلاصة: هو رب جميع الموجودات، وربوبيته لذاته، لا لنفع يعود إليه، بخلاف تربية الخلق. والربوبية بمعنى الخالقية والمالكية، ونحوهما عامة، وبمعنى التربية خاصة بكل نوع بحسبه، فهو تعالى مربي الأشباح بأنواع نعمه، ومربي الأرواح بلطائف كرمه. والرب عنوان الأدعية، فلا بد للداعي من استحضاره لسانًا وقلبًا، حتى يستجاب في دعائه: اللهم ربنا إنك أنت الواحد وحدة حقيقية، ذاتية، لا انقسام لك فيها، فاجعل توحيدنا توحيدًا حقانيًا ذاتيًا سريًا لا مجازية فيه، وإنك أنت الرب الكريم الرحيم، فكما أنك ربنا وخالقنا، فكذا مربينا ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومولانا، فاجعلنا في تقلبات أنواع نعمك، شاغلين بك فارغين عن غيرك، وأوصل إلينا من كل خيرك. فإن قلت (¬1): لم جمع هنا {الْمَشارِقِ} وحذف مقابله، وثنّاه في الرحمن، وجمعه في المعارج، وأفرده في المزمل مع ذكر مقابله في الثلاثة؟. قلت: لأن القرآن نزل على المعهود من أساليب كلام العرب وفنونه. ومنها: الإجمال والتفصيل، والذكر والحذف، والجمع والتثنية، والإفراد باعتبارات مختلفة. فأفرد وأجمل في المزمل بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، لأنه أراد بهما: الجهة، فالمشرق جهة والمغرب جهة. وجمع وفصّل في المعارج بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ}؛ لأنه أراد جميع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبع مئة. وثنّى وفصّل في الرحمن، لأنه أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربهما. وجمع وحذف هنا بقوله: {وَرَبُّ الْمَشارِقِ}، لأنه أراد جميع مشارق السنة، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف، وخص ما هنا بالجمع، موافقة للجموع أول السورة، وبالحذف مناسبة للزينة في قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6)}. إذ الزينة إنما تكون غالبًا بالضياء والنور، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب. وخص ما في الرحمن بالتثنية، موافقة للتثنية في {يَسْجُدانِ}، وفي {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}، وبذكر المتقابلين مقابلة، لبسط صفاته تعالى وإنعامه. ثم خص ما في المعارج بالجمع، موافقة للجمع قبله وبعده، وبذكر المتقابلين موافقةً لكثرة التأكيد في القسم وجوابه. وخص ما في المزمل بالإفراد موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بعده من إفراد ذكر الله تعالى، وبذكر المتقابلين موافقة للحصر في قوله: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}، ولبسط أوامر الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. وإجمال المعنى (¬2): أنه سبحانه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي.

[6]

وتجردوا لعبادته، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون، ويحضون الناس على فعل الخير، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان، ويتلون آياته على أنبيائه، حين نزولهم بالوحي إن ربكم لواحد، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب. 6 - {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا}؛ أي: القربى منكم من الأرض، وأما بالنسبة إلى العرش فهي البعدى منه. والدنيا: تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الْكَواكِبِ} بالجر بدل من الزينة، على أن المراد بها: الاسم؛ أي: ما يزان به، لا المصدر. والتقدير: بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة. وقرأ الجمهور (¬1): {بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} بإضافة زينة إلى الكواكب. والمعنى: زيناها بتزيين الكواكب؛ أي: بحسنها. وقرأ ابن مسعود، ومسروق بخلاف عنه. وأبو زرعة، وابن وثّاب، وطلحة، والأعمش، والنخعي، وحمزة بتنوين {زينة}، وخفض {الْكَواكِبِ} على أنها بدل من الزينة، كما مر آنفًا. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه، وابن وثّاب، ومسروق بخلاف عنهما. والأعمش، وطلحة {بزينةٍ} منونًا ونصب {الْكَواكِبِ} على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف، والتقدير: بأن الله زيّن الكواكب، بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلا من السماء بدل اشتمال. وقرأ زيد بن علي، وابن عباس، وابن مسعود بتنوين {زينة}، ورفع {الكواكب} على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: بزينة هي الكواكب. فإن قلت: لم خص سماء الدنيا بزينة الكواكب، مع أن بقية السموات مزينة بذلك. قلت: لأنا إنما نرى سماء الدنيا دون غيرها. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أن الزينة التي تدرك بالبصر يعرفها الخاصة ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان.

[7]

والعامة، وإلى الزينة التي يختص بمعرفتها الخاصة، وذلك إحكامها وسيرها. والكواكب معلقة في السماء كالقناديل، أو مكوكبة عليها كالمسامير على الأبواب والصناديق. وكون الكواكب زينة للسماء الدنيا، لا يقتضي كونها مركوزة في السماء الدنيا، ولا ينافي كون بعضها مركوزة فيما فوقها من السموات؛ لأن السموات إذا كانت شفافة وأجرامًا صافية، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو في سموات أخرى، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا، وتلوح منها. فتكون سماء الدنيا مزينة بالكواكب. والحاصل: أن المراد هو التزيين في رأي العين، سواء كانت أصول الزينة سماء الدنيا أو في غيرها. وهذا مبني على ما ذهب إليه أهل الهيئة، من أن الثوابت مركوزة في الفلك الثامن وما عدا القمر في الستة المتوسطة، وإن لم يثبت ذلك بنقل، فحقيقة ذلك عند الله تعالى. 7 - وانتصاب (¬1) {حفظًا} على المصدرية بإضمار فعل؛ أي: حفظناها حفظًا أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: زيناها بالكواكب للحفظ أو بالعطف على محل {زينة}، كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء، وحفظًا لها {مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ} برمي الشهب المنقضة منها إليه {مارِدٍ}؛ أي: عال على الله، خارج عن الطاعة، متعرّ عن الخير من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق. ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ}. والمعنى (¬2): أي إنا جعلنا الكواكب والنجوم زينة في السماء القريبة منكم، بما لها من البهجة والجمال وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدًا من الشمس، ضعف بعد الكواكب الذي قبله. {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)}؛ أي: وحفظنا السماء أن يتطاول، لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهال والشياطين، المتمردون من الجن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[8]

والإنس، لأنهم غافلون عن آياتنا، معرضون عن التفكر في عظمتها، فالعيون مفتحة ولكن لا تبصر الجمال، ولا تفكر فيه حتى تعتبر بما فيه. وكانت الشياطين (¬1) أولًا لا يحجبون عن السموات كلها، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها فيلقونها على الكهنة. فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - منعوا من السموات كلها. فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب. وهو الشعلة من النار فلا يخطئه أبدًا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولًا يضل الناس في البراري. 8 - وقوله: {لا يَسَّمَّعُونَ}؛ أي: الشياطين، ولا يصغون {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى} كلام (¬2) مستأنف، مسوق لبيان حال الشياطين، بعد بيان حفظ السماء منهم، مع التنبيه على كيفية الحفظ، وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذاب. والملأ الأعلى: الملائكة أو أشرافهم أو الكتبة وصفوا بالعلو لسكونهم في السموات العلى، والجن والإنس هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. والمعنى: لا يتطلبون السماء والإصغاء إلى الملائكة الملكوتية. وقيل: إن جملة {لا يَسَّمَّعُونَ} صفة لكل شيطان. وقيل: جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى}. وقرأ الجمهور (¬3): {يسْمَعون} بسكون السين وتخفيف الميم، وعدّاه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثّاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص، وعاصم في رواية حفص {يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم بمعنى لا يتسمعون. والقراءة الأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والقراءة الثانية تدل على انتفائهما. وفي ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[9]

معنى القراءة الأولى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}. قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. واختار أبو عبيدة القراءة الثانية، قال: لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه، وتقول: تسمعت إليه. وظاهر (¬1) الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون، وإن سمع أحد منهم شيئًا لم يفلت حرسا وشهبا من وقت بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَيُقْذَفُونَ}؛ أي: يُرجمون، ويُرمون {مِنْ كُلِّ جانِبٍ} من جوانب السماء، ومن كل جهة يصعدون بالشهب، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع. والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة نرى حركتها لقربها منا. وقرأ محبوب عن أبي عمرو {وَيُقْذَفُونَ} مبنيًا للفاعل، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني. 9 - وانتصاب {دُحُورًا} على أنه مفعول لأجله. والدحور: الطرد والإبعاد؛ أي: يقذفون لأجل الطرد والإبعاد عن السماء أو على الحال؛ أي: يقذفون حال كونهم مدحورين مطرودين أو مصدر ليقذفون؛ لأن متضمن معنى الطرد؛ أي: ويدحرون من كل جانب دحورًا، ويقذفون من كل جهة قذفًا. وقيل: هو جمع داحر، نحو: قاعد وقعود، فيكون حالًا أيضًا. وقرأ الجمهور: {دُحُورًا} بضم الدال. وقرأ علي، والسلمي، وابن أبي عبلة، ويعقوب الحضرمي، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر {دحورا} بنصب الدال أي: قذفًا دحورًا بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدرًا كالقبول والولوع إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة. واختلف (¬2)، هل كان هذا الرمي لهم بالشهب، قبل المبعث أو بعده؟ فقال بالأول طائفة، وبالآخر آخرون. وقالت طائفة، بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميًا يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتًا ولا ترمى وقتًا آخر، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر. ثم بعد المبعث، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب. فإن قلت: تقدم (¬1) أن الكواكب ثابتة في السماء أو في العرش زينة، ومقتضى كونها رجوما للشياطين أنها تنفصل وتزول، فكيف الجمع بين ذلك؟. أجيب: بأنه ليس المراد: أن الشياطين بذات الكواكب ترمى، بل تنفصل منها شهب تنزل على الشياطين والكواكب باقية بحالها. إن قلت: إذا كان الشياطين خلقوا من النار فكيف يحترقون؟ أجيب: بأن الأقوى يحرق الأضعف، كالحديد يقطع بعضه بعضًا. إن قلت: إذا كان الشيطان يعلم أنه لا يصل لمقصوده بل يصاب، فكيف يعود مرة أخرى؟. أجيب: بأنه يرجو وصوله لمقصوده وسلامته، كراكب البحر، فإنه يشاهد الغرق المرة بعد المرة، ويعود طمعًا في السلامة. وقيل معنى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى}؛ أي (¬2): إن كثيرًا من أولئك الجهّال، والشياطين محبوسون في هذه الأرض غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها. {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ}؛ أي: وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات. فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرف للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته. وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر، حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعًا سجدًا مذهولين من ذلك الجمال والجلال. {وَلَهُمْ}؛ أي: وللشياطين في الآخرة غير ما في الدنيا، من عذاب الرمي بالشهب. {عَذابٌ واصِبٌ}؛ أي: عذاب دائم غير منقطع، من وصب الأمر وصوبًا ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) المراغي.

[10]

إذا دام. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم. وقال السدي، وأبو صالح، والكلبي: هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب. 10 - وقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء (¬1) من واو {يسمعون}، و {مَنْ} بدل من الواو. والخطف: اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة؛ أي: لا يسمع جماعة الشياطين إلى الملأ الأعلى، إلا الشيطان الذي خطف؛ أي: اختلس الخطفة؛ أي: المرة الواحدة. يعني: كلمة واحدة من كلام الملائكة. {فَأَتْبَعَهُ}؛ أي: أتبع ذلك المختلس، ولحقه {شِهابٌ}؛ أي: شعلة نار ساطعة، والمراد هنا: ما يرى منقضا من السماء. {ثاقِبٌ}؛ أي: مضيء غاية الإضاءة، يثقب بإضاءته ونوره ما يقع عليه؛ أي: كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع. والمعنى (¬2): لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة الواحدة، من كلام الملائكة على وجه المسارقة، فلحقه شهاب مضيء يحرقه، أو يخبله أو يجرحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في نفر من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية»؟ فقالوا: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال: «إنه لا يرمى لموت أحد، ولا لحياته، ولكن الله إذا قضى أمرًا، يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة يقولون؛ أي: - أهل السماء السابعة لحملة العرش -: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، فيستخبر أهل كل سماء أهل سماء، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، فيتخطف الجن فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون، فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة، وما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه». قيل: كان ذلك في الجاهلية أيضًا، لكن غُلِّظ المنع، وشُدد حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: هيئة استراقهم، أن الشياطين يركب بعضهم بعضًا إلى السماء الدنيا، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فيسمع من فوقهم الكلام، فيلقيه إلى من تحته ثم هو يلقيه إلى الآخر، حتى إلى الكاهن. فيرمون بالكوكب فلا يخطىء أبدًا، فمنهم من يحرق بعض أعضائه وأجزائه، ومنهم من يفسد عقله، ومنهم من يجرحه، كما مر. وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيه، وربما ألقاه قبل أن يدركه. ولأجل أن يصيبهم مرة ويسلمون أخرى لا يرتدعون عن الاستراق بالكلية كراكب البحر للتجارة، فإنه قد يصيبه الموج وقد لا يصيبه، فلذا يعود إلى ركوب البحر رجاء السلامة. ولا يقال: إن الشيطان من النار فلا يحترق؛ لأنه ليس من النار الصرف، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، كما مر كل ذلك. ثم إن المراد بالشهاب: شعلة نار تنفصل من النجم، لا أنه النجم نفسه، لأنه قار في الفلك على حاله. وقالت الفلاسفة: إن الشهب إنما هي أجزاء نارية، تحصل في الجو عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة، واتصالها بالنار التي دون الفلك، انتهى. وقال بعض كبار أهل المعرفة: لولا الأثير - الركن من النار - الذي هو بين السماء والأرض ما كان حيوان ولا نبات ولا معدن في الأرض، لشدة البرد الذي في السماء الدنيا. فهو؛ أي: الأثير يسخن العالم لتسري فيه الحياة، بتقدير العزيز العليم. وهذا الأثير الذي هو ركن النار متصل بالهواء، والهواء حار رطب، ولما في الهواء من الرطوبة، إذا اتصل بهذا الأثير أثّر فيه، لتحركه اشتعالًا في بعض أجزاء الهواء الرطبة، فبدت الكواكب ذوات الأذناب، لأنها هواء محترق لا مشتعل، وهي سريعة الاندفاع. وإن أردت تحقيق هذا، فانظر إلى شرر النار، إذا ضرب الهواء النار بالمروحة، يتطاير منها شرر مثل الخيوط في رأى العين، ثم تنطفىء كذلك هذه الكواكب المنقضة. وقد جعلها الله رجوما للشياطين الذين هم كفار الجن، كما قال الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. يقول الفقير (¬1): كلام هذا البعض، يفيد حدوث بعض الكواكب ذوات ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأذناب، من التحريك المذكور، وهي الكواكب المنقضة، سواء كانت ذوات أذناب أو لا، وهذا لا ينافي ارتكاز الكواكب الغير الحادثة في أفلاكها أو تعليقها في السماء، أو بأيدي الملائكة كالقناديل المعلقة في المساجد، أو كونها ثقبًا في السماء، أو عروقًا نيرة من الشمس على ما ذهب إلى كل منها طائفة من أهل الظاهر والحقيقة. قال قتادة: جعل الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك، فقد تكلف ما لا علم به، اهـ من «روح البيان». وقرأ الجمهور (¬1) {خَطِفَ} ثلاثيًا بكسر الطاء. وقرأ الحسن، وقتادة بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم: ويقال: هي لغة بكر بن وائل، وتميم بن مرة. وقرىء {خَطّف} بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن، وقتادة، وعيسى. وعن الحسن أيضًا التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأولى لما سكنت التاء للإدغام والخاء ساكنة كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعا لحركة الخاء. وعن ابن عباس {خِطِف} بكسر الخاء والطاء مخففة، أتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا: نعم. وقرىء {فأتبعه} مخففًا ومشددًا. وقيل في تفسير معنى الآية على نهج ما سبق: {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}؛ أي (¬2): وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث في سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه وبديع قدرته. ثم بيّن من وفّقهم الله تعالى، وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}؛ أي: إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحن إلى مثلها وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثًا عن سر عظمته ومعرفة كنه جماله. وهم من اصطفاهم الله تعالى من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[11]

وهم أنبياؤه، وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين. والخلاصة: أن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد العظيمة البناء، كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافون، والأنبياء، والعلماء المخلصون. أما الجهال، والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون. فلقد يعيش المرء منهم، ويموت وهو لاه عن درك هذا الجمال. إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانًا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضيء قلوبهم، وينير ألبابهم. فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيّض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه والفوز بنعيمه. وقد نحونا بهذا التفسير نحوًا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير، إذ أنهم قالوا: إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء، فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شيء منها، وعصم الله وحيه وكتابه، اهـ. 11 - قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والضمير لمشركي مكة المنكرين للبعث. والمراد (¬1) بالاستفتاء هنا: الاستخبار كما في قوله تعالى في قصة أهل الكهف: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، وليس المراد سؤال الاستفهام بل التوبيخ. والمعنى: فاستخبر يا محمد مشركي مكة، توبيخًا لهم، واسألهم سؤال محاجة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} وأقوى أجسامًا، وأعظم أعضاء، وأحكم خلقة، وأمتن بنية، أو أصعب على الخالق خلقًا، أو أشق إيجادًا {أَمْ مَنْ}؛ أي: أم الذي {خلقنا} هم من السموات والأرض وما بينهما من الملائكة، والمشارق، والمغارب، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة؛ أي: أأنتم أشد خلقًا من هؤلاء المذكورين، أم أشد منكم خلقًا. و {مَنْ} لتغليب العقلاء على ¬

_ (¬1) روح البيان.

غيرهم. قال الزجاج (¬1): المعنى: فاسألهم سؤال تقرير أهم أشد خلقًا؛ أي: أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة، يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقًا من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب. ثم ذكر خلق الإنسان، فقال: {إِنَّا خَلَقْناهُمْ}؛ أي: خلقنا أصلهم، وهو آدم، وهم من نسله {مِنْ طِينٍ لازِبٍ}؛ أي: لاصق يلصق ويعلق باليد، لا رمل فيه. والباء في {لازِبٍ} بدل من الميم، والأصل: لازم مثل: بكة ومكة، كما في كشف الأسرار. واللازب: الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب، ومنه: قول النابغة: لا تَحسبُونَ الْخَيْر لا شَرَّ بَعْدهُ ... وَلا تَحْسَبونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ والمراد من الآية (¬2): إثبات المعاد، ورد استحالتهم إياه. وتقريره: إن استحالة المعاد، إما لعدم قابلية المادة، ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب، الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي، وهما باقيان قابلان الانضمام بعد. وإما لعدم قدرة الفاعل، وهو باطل. فإن من قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة .. قادر على ما لا يعتد به، بالإضافة إليها، وهو خلق الإنسان وإعادته سيما، ومن الطين اللازب بدأهم، وقدرته ذاتية لا تتغير. فهي بالنسبة إلى جميع المخلوقات على السواء. والمعنى في الآية: أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقا أقوى منهم. وأعظم وأكمل وأتم. وقرأ الجمهور (¬3): {أَمْ مَنْ خَلَقْنا} بتشديد الميم، وهي أم المتصلة. وقرأ الأعمش {أمن} بتخفيف الميم دون {أم} استفهامًا ثانيًا تقريريًا أيضًا، فهما جملتان مستقلتان في التقرير على قراءته. و {من}: مبتدأ، والخبر محذوف، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[12]

تقديره: أشد، فعلى أم من هو تقرير واحد، ونظيره: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ}. قيل: وقرىء {لازم} و {لاتب}، ولا أدري من قرأ بذلك. واللاتب: الثابت. قال الأصمعي: واللاتب: اللاصق مثل: اللازب. وفي مصحف عبد الله: {أم من عددنا}، وهو تفسير لمن خلقنا؛ أي: من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين. ومعنى الآية (¬1): أي سل يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث؛ أي أصعب إيجادًا أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟. والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقًا؛ أي: وإذًا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا؟ فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟. ثم زاد الأمر بيانًا، وأوضح هذا التفاوت، فقال: {إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}؛ أي: إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض. وفي هذا شهادة عليهم بالضعف، والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة، وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة، فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين، لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه. 12 - ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق، إلى خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {بَلْ عَجِبْتَ} يا محمد من قدرة الله سبحانه {وَ} هم {يَسْخَرُونَ} منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله، من إثبات المعاد. وفي «المفردات»: {بَلْ عَجِبْتَ} من إنكارهم البعث لشدة تحققك بمعرفته، ويسخرون بجهلهم. قال سعدي المفتي: وهذا إضراب عن الأمر بالاستفتاء؛ أي: لا تستفتهم فإنهم معاندون ومكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء، وانظر إلى تفاوت حالك وحالهم، أنت تعجب من قدرة الله تعالى، على خلق هذه الخلائق العظيمة، ومن قدرته ¬

_ (¬1) المراغي.

على الإعادة، وإنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث. وقال قتادة: عجب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا القرآن، حين أنزل، وضلال بني آدم. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظن، أن كل من يسمع القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن، فسخروا منه، ولم يؤمنوا، عجب من ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)}. والسخرية: الاستهزاء، والعجب والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء. والخلاصة: إن قلوبهم غلف، فلا تنظر فيما حولها من البراهين، والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به. فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله. وقرأ الجمهور (¬1): {عَجِبْتَ} بفتح التاء على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بل عجبت يا محمد، من قدرة الله، على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك، ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث، أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم من الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله تعالى. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن سعدان، وابن مقسم بتاء المتكلم. ورويت عن علي وعبد الله، وابن عباس، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وشقيق، والأعمش، وأنكر شريح القاضي هذه القراءة، وقال: الله لا يعجب. فقال إبراهيم: كان شريح معجبًا بعلمه، وعبد الله أعلم منه يعني: عبد الله بن مسعود. والظاهر: أن ضمير المتكلم هو لله تعالى، والعجب لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. قال الحسن بن الفضل (¬2): التعجب من الله إنكار الشيء، وتعظيمه. ومعنى {بَلْ عَجِبْتَ}؛ أي: استعظمت كفرهم وإنكارهم البعث، وسخطت منه. وقال علي بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[13]

سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بل عجبت من إنكاركم البعث، مع قيام البراهين الدالة عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بالقرآن. قال النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير. قال القاضي زكريا (¬1) قوله: {بل عجبتُ ويسخرون} بضم التاء على قراءة حمزة والكسائي. فإن قلت: ما وجهه، مع أن التعجب، روعة تعتري الإنسان عن استعظام الشيء، والله منزه عنها؟ قلت: أراد بالتعجب: الاستعظام، وهو جائز على الله تعالى، أو معناه: قل يا محمد: بل عجبت. وفي الذي تعجب قولان: أحدهما: كفرهم بالقرآن. والثاني: إنكارهم البعث، انتهى. 13 - {وَإِذا ذُكِّرُوا}؛ أي: ودأبهم المستمر، أنهم إذا وعظوا بشيء من المواعظ {لا يَذْكُرُونَ}؛ أي: لا يتعظون. قال سعيد بن المسيب؛ أي: إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه، ولم يتدبروا، انتهى. وفيه إشارة إلى أنهم نسوا الله غاية النسيان، بحيث لا يذكرونه إذا ذكروا. يعني: بالله تعالى لا يتذكرون. 14 - {وَإِذا رَأَوْا آيَةً} أي: معجزة تدل على صدق القائل بالبعث. والسين، والتاء في قوله: {يَسْتَسْخِرُونَ} للمبالغة والتأكيد؛ أي: يبالغون في السخرية والاستهزاء. أو للطلب على أصله؛ أي: يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. 15 - {وَقالُوا إِنْ هذا}؛ أي: ما هذا الخارق الذي تأتينا به {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: إلا سحر واضح، ظاهر سحريته. وفيه إشارة إلى أن أهل الإنكار إذا رأوا رجلًا يكون آية من آيات الله سبحانه يسخرون منه، ويعرضون عن الإيمان به، ويقولون لما يأتي به: إن هذا إلا سحر مبين، لانسداد بصائرهم عن رؤية حقيقة الحال، بغطاء الإنكار ونسبة أهل الهدى إلى الضلال. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[16]

وحاصل معنى الآيات (¬1): {وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)}؛ أي: وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة؛ لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فماذا تفيد العبر أو تجدي الذكرى مع قوم هذه حالهم. ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال: {وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)}؛ أي: وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، نادى بعضهم بعضًا، متضاحكين مستهزئين: هلموا وانظروا إلى ما يفعله هذا الساحر، الذي يخلب ألبابنا، ويسلب عقولنا، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا. وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم: {وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)}؛ أي: وقالوا: ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة، مما يدعي أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه، إلا ألاعيب ساحر، وخدعة أريب ماهر يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا، وما هي من دلائل الحق في شيء، فإياكم أن تخدعوا بها، وترجعوا عن الدين الحق، الذي عليه آباؤكم، وقد مرت عليه القرون ونحن له متبعون. 16 - ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث، فقالوا: {أَإِذا}؛ أي: أنبعث إذا {مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا}؛ أي: وكان بعض أجزائنا ترابًا وبعضها عظامًا. وتقديم (¬2) التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البالية، فالعامل في إِذا هو ما دل عليه قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وهو أنبعث لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه؛ أي: لا نبعث، فإن الهمزة فيه للإنكار الذي يراد به: النفي. وتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة. وهذا (¬3) الإنكار منهم للبعث هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم، واستهزؤوا بما جاؤوا به من المعجزات. 17 - والهمزة في قوله: {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} للاستفهام الإنكاري أيضًا، والواو للعطف، و {آباؤُنَا} مبتدأ، خبره محذوف عند سيبويه؛ أي: و {آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ}؛ أي: الأقدمون أيضًا مبعوثون؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[18]

لا يبعثون. ومرادهم زيادة الاستبعاد، بناء على أنهم أقدم، فبعثهم أبعد على زعمهم. وقرأ الجمهور: {أَوَآباؤُنَا} بفتح الواو على أن الواو حرف عطف، دخلت عليه همزة الاستفهام. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون بسكون الواو على أن {أو} هي العاطفة. وفي «فتح الرحمن»: ختم الآية هنا بقوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، وختم التي بعدها بقوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}؛ أي: لمجزيون ومحاسبون، لأن الأولى في حق المنكرين للبعث، والثانية في حق المنكرين للجزاء، وإن كان كل منهما مستلزمًا للآخر، انتهى. ومعنى الآية: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ...} إلخ؛ أي (¬1): إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول، وإن كان فيه ما يدهش العقول، لا نتقبل منه تلك المقالة. وهي إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا إن هذا إلا إحدى الكبر، فلا ينبغي أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر. ثم زادوا في استبعادهم وتعظيم تعجبهم، فقالوا: {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)}؛ أي: أيبعث آباؤنا الأولون أيضًا. وهذا أغرب؛ لأن أباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادًا. 18 - وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة .. أجاب عنها بقوله: {قُلْ} لهم أيها الرسول تبكيتًا لهم {نَعَمْ} تبعثون يوم القيامة، بعدما تصيرون ترابًا وعظامًا {وَأَنْتُمْ داخِرُونَ} أي: والحال أنكم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة. ونحو الآية قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ}. و {نَعَمْ} (¬2) بفتحتين، يقع في جواب الاستخبار، المجرد من النفي، ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام. والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب. والدخور: أشد الصغار، والذلة. والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم؛ أي: كلكم مبعوثون، والحال أنكم صاغرون، ذليلون على زعم منكم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[19]

19 - ثم ذكر سبحانه، أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، فقال: {فَإِنَّما هِيَ} الضمير للقصة، أو البعثة المفهومة مما قبلها؛ أي: إنما قصة البعث أو البعثة {زَجْرَةٌ}؛ أي: صيحة {واحِدَةٌ} من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث، لا تحتاج إلى الأخرى. و {هِيَ} إما ضمير مبهم، يفسره خبره، أو ضمير البعثة المذكورة في ضمن {نَعَمْ}؛ لأن المعنى: نعم مبعوثون. والجملة جواب شرط مضمر، أو تعليل لنهي مقدر؛ أي: إذا أمر الله بالبعث، فإنما هي إلخ، أو لا تستصعبوه فإنما هي إلخ. والزجرة: الصيحة، كما سيأتي. وهي النفخة الثانية. {فَإِذا هُمْ} إذا للمفاجأة، والضمير للمشركين. وفي بعض التفاسير للخلائق كلهم؛ أي: فإذا هم قائمون من مراقدهم أحياء {يَنْظُرُونَ} حيارى إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة، أو يبصرون كما كانوا، أو ينتظرون ما يفعل بهم من الحساب والجزاء. 20 - {وَقَالُوا}؛ أي: قال أولئك المبعوثون، لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا: {يا وَيْلَنا}؛ أي: يا هلاكنا احضر إلينا لنتعجب منك، فهذا أوان حضورك. وصيغة الماضي في {قالُوا} للدلالة على التحقق والتقرر. وقوله: {هذا يَوْمُ الدِّينِ} تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، بطريق الاستئناف؛ أي: هذا اليوم، هو اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا، من الكفر والتكذيب للرسل. وإنما علموا ذلك، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجازون بأعمالهم، فلما شاهدوا البعث، أيقنوا بما بعده أيضًا. 21 - فتقول الملائكة لهم بطريق التوبيخ والتقريع: {هذا} اليوم الحاضر هو {يَوْمُ الْفَصْلِ} والقضاء بين الخلائق، أو يوم الفرق بين فريقي الهدي والضلال. {الَّذِي كُنْتُمْ} على الاستمرار {بِهِ تُكَذِّبُونَ}؛ أي: تكذبون به، وتقولون: إنه كذب ليس له أصل أبدًا. وتقديم الجار لرعاية الفاصلة. والمعنى (¬1): أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا، حين رأوا العذاب لنا: الويل والهلاك، فقد حل ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل، كما وعدنا ¬

_ (¬1) المراغي.

[22]

بذلك على ألسنة الرسل، فكذبناهم، وسخرنا منهم، وأنكرنا صدق ما قالوا. ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون، ويقولون: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ...} إلخ؛ أي: هذا اليوم، هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن، بما قدم من عمل، عن المسيء الذي دسّى نفسه، بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان، ومخالفة أوامر الملك الديّان، وينال كل منهما جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من استبرق، ويدخل الثاني في سقر {وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)}. 22 - فيقول الله تعالى للملائكة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشرك، واجمعوهم. والمراد بالظالمين: المشركين من بني آدم. {وَأَزْواجَهُمْ}؛ أي: أشباههم من أهل الشرك، والكفر، والنفاق، والعصيان عابد الصنم مع عبدته، وعابد الكواكب مع عبدتها، واليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والمجوس مع المجوس، وغيرهم من أهل الملل المختلفة. ويجوز أن يكون المراد بالأزواج: نساءهم اللاتي على دينهم، أو قرناءهم من الشياطين، كل كافر مع شيطانه في سلسلة. {وَما كانُوا يَعْبُدُونَ 23 - مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، من الأصنام والشياطين ونحوها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم. وهذا (¬1) العموم المستفاد من {مَا} الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين لا عن العابدين، كما قيل مخصوص لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة، فيخرجون بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)}. ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل، هو زيادة التبكيت لعابديها، وتخجيلهم، وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر. {فَاهْدُوهُمْ}؛ أي: فاهدوا أيها الملائكة الظالمين وأزواجهم ومعبوديهم، وسوقوهم إِلى {صِراطِ الْجَحِيمِ} ودلوهم عليها؛ أي: عرّفوهم طريق جهنم، ووجهوهم إليها. وفي هذا تهكم بهم. ويقال: الظالم في الآية عام على من ظلم نفسه وغيره، فيحشر كل ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[24]

ظالم، مع من كان معينًا له، أهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل الربا مع أهل الربا، وغيرهم كل مع مصاحبه. ومعنى الآية (¬1): أي ويقال للملائكة: احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب، مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوي المعاصي المتشابهة بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معًا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدي الأصنام ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معًا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة، وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك، وكبير المعصية. {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ}؛ أي: أرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها. وفي هذا زيادة في النكاية بهم. والازدراء بشأنهم. إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم. 24 - {وَقِفُوهُمْ}؛ أي: قفوا أيها الملائكة المشركين، واحبسوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك. وجملة قوله: {إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} عن أعمالهم، وأقوالهم، وأفعالهم تعليل للجملة الأولى. وقال الضحاك: عن خطاياهم. وقيل: عن لا إله إلا الله. وقيل: عن ظلم العباد. وقرأ الجمهور: بكسر همزة {إن}. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي: أي: لأنهم أو بأنهم؛ أي: واحبسوهم أيها الملائكة في الموقف، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم، واجترحوا من المعاصي والآثام، وعن تلك العقائد الزائغة التي زينها لهم الشيطان، فأضلهم عن سواء السبيل. 25 - وقولوا أيها الملائكة للمشركين عند ذلك: {مَا لَكُمْ}؛ أي: أي شيء ثبت لكم أيها المشركون حالة كونكم {لا تَناصَرُونَ}؛ أي: لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب، كما كنتم تزعمون في الدنيا، كما قال أبو جهل يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}. وجملة {لا تَناصَرُونَ} حال من معنى الفعل في {ما لَكُمْ}؛ أي: ما تصنعون حال كونكم غير متناصرين، ومعناه: ما سبب عدم تناصركم، ولأي شيء لا ينصر بعضكم بعضًا، وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون. ¬

_ (¬1) المراغي.

[26]

وقرىء {لا تَناصَرُونَ} بتاء واحدة، وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى. وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت، لأنه وقت تنجّز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة، وحالة انقطاع الرجاء منها بالكلية. فالتوبيخ والتقريع حينئذ أشد وقعا وتأثيرا وفي الأثر: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله مم كسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به». وقد جاء في الآثار: «إن مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء الليلة». خصوصا إذا كان مما يتعلق بالله ويقل أهله في هذا الزمان، وانقطعت مذاكرته عن اللسان، لانقطاع ذوق الجنان وانسداد البصيرة. والعياذ بالله من الخذلان والحرمان. والخلاصة: إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم، إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم، وقطع أعذارهم بعد حسابهم. 26 - ثم أضرب سبحانه، عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنا لك، فقال: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: فيقول الله سبحانه: بل هم في هذا اليوم الرهيب {مُسْتَسْلِمُونَ}؛ أي: منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، ذليلون خاضعون بالاضطرار لظهور عجزهم. إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة. فأسلم بعضهم بعضًا إلى الهلكة وخذله عن عجز، فكل مستسلم صاحبه غير منتصر له، كقوم متحابين انكسرت سفينتهم، فوقعوا في البحر، فأسلم كل واحد منهم صاحبه إلى الهلكة لعجزه عن تنجية نفسه فضلًا عن غيره، بخلاف حال المتحابين في الله سبحانه. 27 - {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ}؛ أي: بعض الكفار بوجهه. وهم الأتباع أو الكفرة. والإقبال ضد الإدبار عَلى بَعْضٍ هم الرؤساء أو القرناء حال كونهم {يَتَساءَلُونَ} ويتخاصمون؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا سؤال توبيخ، بطريق الخصومة والجدال، كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ 28 - فقيل: {قَالُوا}؛ أي: الأتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء {إِنَّكُمْ} أيها الرؤساء أو القرناء {كُنْتُمْ} في الدنيا {تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ}؛ أي: بالقوة والإجبار. فـ {عَنِ} بمعنى الباء، واليمين بمعنى القوة كقوله تعالى: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}؛ أي: بالقوة،

[29]

فتجبروننا على الغي والضلال فاتبعناكم خوفًا منكم بسبب القهر والقوة. وعبر (¬1) عن القوة باليمين بمعنى الجارحة؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها، أو كنتم تأتوننا عن اليمين؛ أي: عن الناحية التي كان منها الحق، فتصرفوننا عنها، كما في «المفردات». أو تأتوننا عن الجهة التي كنا نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق، فصدقناكم فأنتم أضللتمونا، كما في «فتح الرحمن» فاليمين إذا بمعنى الحلف؛ أي: تأتوننا بالأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها. والأول أوفق للجواب الآتي، كما في «الإرشاد». أو كنتم تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين، وتسميه السانح. والمعنى (¬2): أي وأقبل التابعون من الكفار على رؤسائهم المضلين لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف، على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار. فألقى الأتباع مسؤولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، ورد الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء في الآية بعد. ثم فصل طريق التساؤل، وكيف يحدث. فقال: {قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا}؛ أي: قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر: إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير، وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغّبوننا فيما تديّنون به وتعتقدونه. ومن ثم أضللتمونا، وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة. 29 - فرد الرؤساء عليهم، وأجابوهم بجوابين: {قالُوا} استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قال الرؤساء أو القرناء؟ فقيل: قالوا: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؛ أي: لم نمنعكم نحن من الإيمان بالقوة والقهر أو بغير ذلك، بل لم تؤمنوا باختياركم، وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه، وآثرتم الكفر عليه؛ أي: فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم، قالوا: إننا ما أضللناكم بل أنتم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[30]

كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر، بما دسيتم به أنفسكم، من أفعال الشرك والمعاصي. إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام، وترتكبون من أنواع الفجور وما كان سببا في الطبع على القلوب والأفئدة حتى لم تعرفوا للحق سبيلا ولا للخير طريقًا. 30 - {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ}؛ أي: من قهر وتسلط نسلب به اختياركم. والسلاطة: التمكن من القهر، ومنه: السلطان: بمعنى الغالب والقاهر. والسلطان يطلق على السلاطة أيضًا، ومنه: ما في هذه الآية ونظائرها {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ}؛ أي: مختارين للطغيان مصرين عليه. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. والمعنى (¬1): أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه، ولم نسلبكم اختياركم. فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقة للسير على سننه واتباع طريقته. فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزيّنه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم لا جبرًا لكم. 31 - ثم ذكروا نتيجة لما تقدم، فقالوا: {فَحَقَّ عَلَيْنا}؛ أي: لزم وثبت علينا {قَوْلُ رَبِّنا} وقضاؤه بتعذيبنا، وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}. {إِنَّا لَذائِقُونَ}؛ أي: العذاب الذي ورد به الوعيد. والمعنى: أي ولأجل أنا بطبعنا، كنا قومًا طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين، ثبت علينا وعيده، بأنا ذائقوا العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازي كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت. وهو الخبير بها، وبما اجترحت. وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما ¬

_ (¬1) المراغي.

[32]

فعلنا باختيارنا، واقتضاه استعدادنا، فلا يلومنَّ كل منا إلا نفسه، ولا يلم بعضنا بعضا، ولا داعي إلى الجدل والخصام وشد النكير، فلا يجنى من الشوك العنب، ولا يعقب الضلال إلا النار عدلًا من ربنا، كما وعد بذلك على ألسنة رسله، وكنا بذلك عالمين، ولكنا كنا عن الخير معرضين، وعن اتباعه مستكبرين 32 - {فَأَغْوَيْناكُمْ}؛ أي: فدعوناكم إلى الغي والضلال، دعوة غير ملجئة، فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد {إِنَّا كُنَّا غاوِينَ}؛ أي: ثابتين على الغواية، فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة، لتكونوا أمثالنا في الغواية؛ أي: إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبنا أن تكونوا مثلنا. وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم. وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب، الذي وعدتم به على ألسنة الرسل. 33 - وبعد أن ذكر حالهم .. أعقبه بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعًا، رؤساء ومرؤوسين. فقال: {فَإِنَّهُمْ}؛ أي: فإن الأتباع والمتبوعين {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يتساءلون، وهو يوم القيامة {فِي الْعَذابِ} متعلق بقوله: {مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانوا مشتركين في الغواية؛ أي: فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية وإن كان المغوون أشد عذابًا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارًا مثل أوزار من أضلوهم، كما ثبت في الحديث. وقد تقدم ذكره مرارًا. 34 - ثم ذكر سبحانه، أن هذا عدل منه على مقتضى سننه، فقال: {إِنَّا كَذلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وهو الجمع بين الضالين والمضلين في العذاب. {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} المتناهين في الإجرام. وهم المشركون، 35 - كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الدعوة والتلقين بأن يقال لهم: قولوا: {لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: يتكبرون، ويتعظمون عن القول بهذه الكلمة المشرّفة. ومحل {يَسْتَكْبِرُونَ} النصب على أنه خبر كان، أو الرفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة. والمعنى: أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقًا لما

[36]

تقتضيه الحكمة، ويوجبه العدل بين العباد. فيعطي كل عامل جزاء ما قدمت يداه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب، فقال: إنهم كانوا إذا لقنوا كلمة التوحيد نفروا منها، وأعرضوا عن قبولها، وصعروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها. واعلم: أنه وقع ذكر {لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ} في القرآن في موضعين: أحدهما: في هذه السورة. والثاني: في سورة القتال في قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ}. وليس في القرآن لهما ثالث. 36 - ثم ذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته، فيما حكاه عنهم بقوله: {وَيَقُولُونَ}؛ أي: المشركون بعضهم لبعض. والهمزة في قوله: {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا} للاستفهام الإنكاري؛ أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا وهي الأصنام. {لِشاعِرٍ}؛ أي: لأجل قول شاعر {مَجْنُونٍ}؛ أي: مغلوب على عقله، يعنون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلط ويهذي. فمثله لا يستمع لكلامه، ولا يصغي إلى قوله. ولقد كذبوا في ذلك حيث جنّنوه وشعّروه، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلًا، وأحسنهم رأيًا، وأشدهم قولًا، وأعلاهم كعبًا في المآثر والفضائل كلها، وأطولهم باعا في العلوم والمعارف بأسرها. ويشهد بذلك خطبة أبي طالب في تزويج خديجة الكبرى في محضر بني هاشم، ورؤساء مضر على ما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية. وقد جمعوا في كلامهم هنا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. فإنكار الأولى في استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ}. 37 - ثم كذبهم سبحانه، فيما قالوا، فقال: {بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ}؛ أي: ليس الأمر على ما قالوه من الشعر والجنون، بل جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق. وهو التوحيد.

[38]

{وَصَدَّقَ}؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - {الْمُرْسَلِينَ} قبله جميعًا في مجيئهم بذلك. فما جاء به هو الذي أجمع عليه كافة الرسل، فأين الشعر والجنون من ساحته الرفيعة؟. والمعنى: أي أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحق الذي لا شك فيه، وهو التوحيد الذي يثبته العقل، ويؤيده البرهان، وبمثله جاء الأنبياء السابقون. فهو لم يكن بدعًا من بين الرسل، بل سار على شاكلتهم، واتبع نهجهم. فكيف يكون من هذه حاله شاعرًا أو مجنونًا؟!. وقرأ عبد الله (¬1): {وصدق} بالتخفيف، {المرسلون} بالواو رفعا؛ أي: وصدق المرسلون في التبشير به، وفي أنه يأتي آخرهم. 38 - {إِنَّكُمْ} بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول والاستكبار {لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ} والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم. وقرأ الجمهور (¬2): {لذائقو العذاب} بحذف النون للإضافة، وأبو السمال وأبان عن ثعلبة عن عاصم بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب، كما حذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ {أَحَدٌ اللَّهُ}. ونقل ابن عطية عن أبي السمال: أنه قرأ {لذائق} منوّنًا، {العذاب} بالنصب. ويخرّج على أن التقدير: جمع، وإلا لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في {إِنَّكُمْ}. وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون، والنصب للعذاب قول الشاعر: فَأَلْفيْتُه غَيْرَ مُسْتَعتبٍ ... وَلا ذَاكِر اللهَ إِلّا قَلِيْلا وقرىء {لذائقون} بالنون {العذاب} بالنصب. والمعنى؛ أي: إنكم أيها الكفار المجرمون لتذوقون العذاب الأليم، الذي لا تنفك أو جاعه عنكم، وما هو أبدًا بمزايلكم. 39 - ثم بيّن العلة في لحوقه بهم، فقال: {وَما تُجْزَوْنَ} أيها الكفرة {إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات، أو إلا بما كنتم تعملونه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[40]

منها؛ أي: وما ينالكم من العذاب إنما هو نتيجة ما قدمتم من عمل وأسلفتم من معصية {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. قال ابن الشيخ (¬1): ولما كان المقام مظنة أن يقال: كيف يليق بالكريم الرحيم المتعالي، عن النفع والضر أن يعذب عباده؟ أجاب عنه بقوله: {وَما تُجْزَوْنَ ...} إلخ. وتقريره: أن الحكمة تقتضي الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، ولا يكمل المقصود من الأمر والنهي إلا بالترغيب في الثواب والترهيب بالعقاب. ولما وقع الإخبار بذلك، وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب. فلهذا السبب وقعوا في العذاب، انتهى. فعلى العاقل: أن يحذر من يوم القيامة وجزائه، فينتقل من الإنكار إلى الإقرار، ومن الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الباطل إلى الحق، ومن الفاني إلى الباقي، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الرياء إلى الإخلاص. وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما علامة المؤمن؟ قال: أربع: أن يطهر قلبه من الكبر والعداوة، وأن يطهر لسانه من الكذب والغيبة، وأن يطهر قلبه من الرياء والسمعة، وأن يطهر جوفه من الحرام والشبهة. وأعظم الكبر أن يتكبر عن قول: لا إله إلا الله الذي هو أساس الإيمان، وخير الأذكار. 40 - وبعد أن أبان حال المجرمين، ذكر حال عباد الله المؤمنين العاملين، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم. فقال: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} استثناء منقطع من ضمير {ذائقون}، وما بينهما اعتراض، جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق، ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم، لا من جهة غيرهم أصلًا، ولكون الاستثناء منقطعا و «إلا» بمعنى لكن. قال في «كشف الأسرار»: تم الكلام هاهنا؛ أي: عند قوله تعالى: {إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. والمعنى: إنكم لذائقوا العذاب الأليم، لكن عباد الله المخلصين لا يذوقونه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

قرأ أهل المدينة والكوفة (¬1): {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام، جمع مخلص بصيغة اسم المفعول، وهو من أخلصه الله واصطفاه لدينه وعبادته، واختاره لجناب حضرته كقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى}؛ أي: اصطفاهم الله تعالى، فلهم سلامة من الأزل إلى الأبد. وقرأ الباقون: بكسر اللام جمع مخلص على صيغة اسم الفاعل، وهو من أخلص عبادته لله تعالى، ولم يشرك بعبادته أحدًا كقوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}. وحقيقة (¬2) الفرق بينهما على ما قال بعضهم: إن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد، وهو من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقًا. والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد، وهو من تخلص من شوائب الغيرية أيضًا. والثاني أوسع فلكًا، وأكثر إحاطة. فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس. فرحم الله حفصا حيث قرأ بالفتح حيثما وقع في القرآن. 41 - وقوله: {أُولئِكَ} إشارة إلى المخلصين، وهو كلام مستأنف. فكأن (¬3) سائلًا سأل ما لهؤلاء المخلصين من الأجر والثواب؟ فقيل: أولئك الممتازون عمن عداهم بالإضافة والإخلاص {لَهُمْ} بمقابلة إخلاصهم في العبودية {رِزْقٌ} لا يدانيه رزق، ولا يحيط به وصف على ما يفيده التنكير. والرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله، كما سيأتي. {مَعْلُومٌ} الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ونحوها من نعوت الكمال. والظاهر: أن معناه: معلوم وجودًا وقدرًا وحسنًا ولذة وطيبًا ووقتًا بكرة وعشيًا، أو دوامًا كل وقت اشتهوه. فإن فيه فراغ الخاطر. وإنما يضطرب أهل الدنيا في حق الرزق، لكون أرزاقهم غير معلومة لهم كما في الجنة. 42 - {فَواكِهُ} بدل من {رِزْقٌ} أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو فواكه، وهو الظاهر، جمع فاكهة. وهي الثمار كلها رطبها ويابسها. وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه؛ أي: ما يؤكل بمجرد التلذذ دون الاقتيات؛ لأنهم مستغنون عن القوت ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[43]

لكون خلقتهم على حالة تقتضي البقاء، فهي محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل، بخلاف خلقة أهل الدنيا فإنها على حالة تقتضي الفناء، فهي ضعيفة محتاجة إلى ما يحصل به القوام. وقال بعضهم: خصها بالذكر؛ لأن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة، فذكرها مغن عن ذكر غيرها. يقول الفقير (¬1): والظاهر أن الاقتصار على الفواكه للترغيب والتشويق من حيث إنه لا يوجد في أغلب ديار العرب خصوصا في الحجاز أنواع الفواكه. وجملة قوله: {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} في محل نصب على الحال من ضمير {لَهُمْ}؛ أي: معظمون عنده تعالى، برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه ولقائه في الجنة، لا يلحقهم هوان. وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولي الهمم. وقال بعضهم: لما فصل خصائص رزقهم بيّن أن ذلك الرزق، يصل إليهم بالتعظيم والإكرام. لأن مجرد المطعوم من غير إعزاز وإكرام يليق بالبهائم. وقرأ الجمهور (¬2) {مُكْرَمُونَ} بتخفيف الراء. وقرأ ابن مقسم {مكرمون} بفتح الراء مشددًا. ومعنى الآية: أي لكن عباد الله، الذين أخلصوا له العمل، وأنابوا إليه أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذ وطاب، فيتمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل، والرائحة الشذية، وتأتيهم وهم مكرمون. كما تقدم للملوك المترفين وذوي اليسار في الدنيا. وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة، إنما هو للتفكه والتلذذ لا للتقوّت، كما مر، لأنهم في غنى عنه لعدم تحلل شيء من أجسامهم بالحرارة الغريزية، حتى يحتاجوا إلى بدل منه. وما جاء في قوله: {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} فهو بيان لأنواع ما يأكلون. 43 - ثم بيّن المكان الذي يأتيهم فيه الرزق، وذكر حالهم إذ ذاك. فقال: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} يجوز أن يتعلق بـ {مُكْرَمُونَ}، وأن يكون خبرًا ثانيًا، وأن يكون حالا. والنعيم: النعمة؛ أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم. فالإضافة للاختصاص، والظرف يقرر محل الرزق والإكرام. 44 - وقوله: {عَلى سُرُرٍ} يحتمل أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[45]

يكون حالًا، وأن يكون خبرًا ثالثًا، جمع سرير. وهو الذي يجلس عليه من السرور إذ كان كذلك لأولي النعمة. ويجوز أن يتعلق {عَلى سُرُرٍ} بقوله: {مُتَقابِلِينَ}؛ أي: حال كونهم متقابلين على سرر. وهو حال من الضمير في قوله: {عَلى سُرُرٍ}. والتقابل وهو أن ينظر بعضهم وجه بعض أتم للسرور والأنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم. ثم أن استئناس بعضهم برؤية بعض صفة الأبرار، فإن من صفة الأحرار أن لا يستأنسوا إلا بمولاهم. وقرأ الجمهور {عَلى سُرُرٍ} بضم الراء. وقرأ أبو السمال بفتحها. وهي لغة بعض تميم وكلب، يفتحون ما كان جمعًا على فعل من المضعف إذا كان اسمًا. والمعنى: أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين ليأنس بعضهم ببعض، ويتمتعوا بطيب الحديث. وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النهى وأرباب الحجا. 45 - وبعد أن ذكر صفة مأكل المخلصين ومسكنهم ذكر صفة شربهم، فقال: {يُطافُ عَلَيْهِمْ} استئناف مبني على ما نشأ عن حكاية تكامل مجالس أنسهم؛ أي: يدار عليهم وهم على سرر {بِكَأْسٍ}؛ أي: بإناء فيه خمر (¬1). فإن الكأس يطلق على الزجاجة ما دام فيها خمر، وإلا فهو قدح وإناء. {مِنْ مَعِينٍ} صفة كأس؛ أي: كائنة من شراب معين؛ أي: ظاهر للعين أو من نهر معين؛ أي: جار على وجه أرض الجنة. فإن في الجنة أنهارا جارية من خمر، كأنها جارية من ماء. وفي الآية إشارة إلى أن قومًا شربوا، ومشربهم الشراب بالكأس، والشراب معين محسوس، وقومًا شربوا، ومشربهم الحب، والحب مغيب مستور، وقومًا شربوا، ومشربهم المحبوب هو سر مكنون. نَسِيْم الحُبِّ يُحْييْكُمْ ... رَحِيقُ الْحُبِّ يُلْهِيْكُمْ مِنَ الْمَحْبُوبِ يَأْتِيْكُم ... إِلَى الْمَحْبُوْب يُنْهِيْكُمْ والمعنى (¬2): أي وكما يتمتعون بطيب المأكل، يتمتعون بجيد الشراب، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[46]

تتميمًا للنعمة، كما هو حال العظماء في الدنيا، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة، كأنها تؤخذ من نهر جار، فلا تقتير ولا بخل، بل كلما طلبوا وجدوا. وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام، كما قال شاعرهم: وَشَمُولَةٍ مِنْ عَهْدِ عَادٍ قَدْ غَدَتْ ... صَرْعَى تُدَاسُ بِأَرجُلِ العُصَّارِ لانَتْ لَهُم حَتَّى انْتَشَوا فَتمَكَّنَتْ ... مِنْهُمْ فَصَاحَتْ فِيْهِمُ بِالثَّارِ 46 - وقوله: {بَيْضاءَ} ممنوع من الصرف لألف التأنيث؛ أي: يطاف عليهم بكأس بيضاء لونًا أشد من لون اللبن، والخمر البيضاء لم تر في الدنيا، ولن ترى. وهذا من جملة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وبيضاء تأنيث أبيض، صفة ثانية أيضًا لكأس، وكذا قوله: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} صفة ثالثة له؛ أي: لذيذة لكل من يشرب منها. ووصفها (¬1) بلذة - الذي هو مصدر - إما للمبالغة؛ أي: كأس لذيذة عذبة شهية طيبة، صارت في لذتها كأنها نفس اللذة، أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ. وصفها باللذة بيانًا لمخالفتها لخمور الدنيا لانقطاع اللذة من خمور الدنيا كلها رأسًا بالكلية. والمعنى (¬2): أي يطاف عليهم بكأس لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع واللون الأسود أو الأصفر أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم. وهي لذيذة الطعم كما هي طيبة اللون وطيبة الريح. وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة، كما قال أبو نواس: صَفْرَاءُ لا تَنْزلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا ... لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج والصفرة بعده، كما قال الآخر: وَحَمْراءُ قَبْلَ الْمَزْجِ صَفْرَاءُ بَعْدَهُ ... أَتَتْ فِيْ ثِيَابِيْ نَرْجِسٍ وَشَقَائِقِ حَكَتْ وَجْنَةً المَحْبُوبِ صِرفًا فَسُلِّطُّوا ... عَليْهَا مَزاجًا فَاكتسبت لَوْن عَاشِق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[47]

47 - ثم زاد في مدحها، وامتيازها عن خمر الدنيا فقال: {لا فِيها غَوْلٌ}؛ أي: ليس في تلك الكأس غول. قال ابن عباس، وقتادة: هو صداع في الرأس. وقال ابن عباس أيضًا، ومجاهد، وابن زيد: وجع في البطن، انتهى. ولكن لفظ الغول يشمل جميع أنواع المفاسد الناشئة من شرب الخمر، فينتفي جميعها من صداع وسكر ومغص وخمار؛ أي (¬1): هي لا تؤثر في الأجسام كما تؤثر خمور الدنيا، فلا تصدع الرأس ولا تفسد العقل بالسكر، كما يكون في خمر الدنيا، كما قال: فَمَا زَالتِ الْكَأسُ تَغتَالُنَا ... وَتَذْهَبُ بالأوَّلِ الأوَّلِ والخلاصة: أنه ليس فيها شيء من أنواع المفاسد التي تكون حين شرب الخمر في الدنيا. فهي لا تحدث صداعًا، ولا خمارًا، ولا سكرًا، ولا عربدةً، ولا نحو ذلك، مما هو لازم لخمور الدنيا. وجملة {لا فِيها غَوْلٌ} من المبتدأ والخبر صفة رابعة لكأس أيضًا، وبطل عمل لا، وتكررت لتقدم خبرها. {وَلا هُمْ}؛ أي: المخلصون {عَنْها}؛ أي: عن خمر الجنة {يُنْزَفُونَ}؛ أي: يسكرون، من نزف الشارب فهو نزيف إذا ذهب عقله من السكر. قرأ الحرميان (¬2): نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمر وابن عامر {ينزفون} بضم الياء وفتح الزاي هنا، وفي الواقعة مبنيًا للمفعول، من نزف الثلاثي، يقال: نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله من السكر. وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء وكسر الزاي فيهما، من أنزف الرباعي، يقال: أنزف الرجل إذا سكر وذهب عقله أو نفد شرابه. وقرأ عاصم: بفتحها هنا، وكسرها في الواقعة. وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي. وقرأ طلحة بفتح الياء وضم الزاي. ثم إنه (¬3) أفرد هذا بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر، كأنه جنس برأسه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[48]

والمعنى: لا فيها نوع من أنواع الفساد من مغص؛ أي: وجع في البطن أو صداع أو حمى أو عربدة؛ أي: سوء خلق. والمعربد مؤذ نديمه في سكره، اه «قاموس»، أي: لا لغو فيها ولا تأثيم ولا هم يسكرون. وفي «بحر العلوم»: وبالجملة ففي خمر الدنيا أنواع من الفساد من السكر، وذهاب العقل، ووقوع العداوة والبغضاء والصداع والخسارة في الدين والدنيا، حتى جُعل شاربها كعابد الوثن ومن القيء والبول، وكثيرًا ما تكون سببًا للقتال والضراب والزنى، وقتل النفس، بغير حق، كما شُوهد من أهلها، ولا شيء من ذلك كله في خمر الجنة. قال بعضهم: جميع البلاء والارتكابات ليس إلا لكثافتنا. فلولا هذه الكثافة، لما عرض لنا الأمراض، والأوجاع، ولم يصدر منا ما يقبح في العقول والأوضاع. ألا ترى: أنه لا مرض في عالم الآخرة، ولا شيء مما يتعلق بالكثافة، ولكن معرفة الله تعالى لا تحصل لو لم تكن تلك الكثافة، فهي مدار الترقي والتنزل. ولذلك لا يكون للملائكة ترقّ وتدل، فهم على خلقتهم وجبلتهم الأصلية. 48 - ثم ذكر محاسن زوجاتهم، ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم. فقال: {وَعِنْدَهُمْ}؛ أي: عند المخلصين {قاصِراتُ الطَّرْفِ}؛ أي: حور قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا يمددن طرفًا إلى غيرهم، ولا يبغين بهم بدلًا لحسنهم عندهنَّ ولعفتهنَّ. {عِينٌ} جمع عيناء بمعنى واسعة الأعين. وهو صفة بعد صفة لموصول، ترك ذكره للعلم به؛ أي: حور قاصرات الطرف حسان الأعين وعظامها واسعات العيون في جمال. 49 - ثم زاد بيانًا في وصف جمالهن بما شبههن به، فقال: {كَأَنَّهُنَّ}؛ أي: تلك القاصرات {بَيْضٌ} بفتح الباء وسكون الياء، جمع بيضة، سمي البيض لبياضه والمراد به هنا: بيض النعام. {مَكْنُونٌ}؛ أي: مصون مستور تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فيكون لونها أبيض في صفرة؛ أي: لم تنله الأيدي، فإن ما مسته الأيدي يكون متدنسا ويقال: هذا من أحسن ألوان النساء. وهو أن تكون المرأة بيضاء مشوبة بصفرة، والعرب تشبه المرأة ببيض النعامة، وتسميهن بيضات الخدور. وهذا عند العرب، وإلا فأحسنها عند العجم والروم الأبيض المشرب

بحمرة، اهـ «قارى». قال المبرد: وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل: {الْمَكْنُونِ} المصون عن الكسر؛ أي: إنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض: اللؤلؤ كما في قوله: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}. والأول أولى. وإنما قال: {مَكْنُونٌ} ولم يقل مكنونات؛ لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ. وقال الطبري: أولى الأقاويل: أن يقال: إن البيض هي الجلدة التي في داخل القشرة قبل أن يمسها شيء؛ لأنه مكنون. يعني: هو البيض أول ما ينحى عنه قشره. والمعنى: أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسه الأيدي، ولم يعله الغبار. وهذا اللون مما تهيم به العرب. فقد شبهت النساء ببيضات الخدور، كما قال امرء القيس: وَبيضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِبَاؤها ... تَمتَّعْتُ مِن لهوٍ بِها غَير مُعجِلِ يقول الفقير: ذكر الله تعالى في هذه الآيات ما كان لذة الجسم ولذة الروح. أما لذة الجسم التنعم بالفواكه، وأنواع النعم، والخمر التي لم يكن عند العرب أحب منها، والتمتع بالأزواج الحسان. وأما لذة الروح فالسرور الحاصل من الإكرام والأنس الحاصل من صحبة الإخوان، والانبساط الحاصل من النظر إلى وجوه الحسان. وفي الحديث: «ثلاث يجلين البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن». قال ابن عباس رضي الله عنهما: والإثمد عند النوم. نسأل الله سبحانه أن يجلي أبصارنا وبصائرنا، ويبارك لنا في أعمارنا، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، آمين. الإعراب {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)}. {وَالصَّافَّاتِ} {الواو}: حرف جر وقسم، {الصَّافَّاتِ} مقسم به، مجرور

بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالصافات. والجملة المحذوفة مستأنفة و {الصَّافَّاتِ} اسم فاعل يعمل عمل الفعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على الملائكة، والمفعول محذوف تقديره: والصافات نفوسهن. {صَفًّا} مفعول مطلق مؤكد لما قبله. {فَالزَّاجِراتِ} الفاء عاطفة، {الزاجرات}: معطوف على الصافات، {زَجْرًا}: مفعول مطلق مؤكد لما قبله، {فَالتَّالِياتِ} الفاء: عاطفة، {التاليات}: معطوف على الصافات، {ذِكْرًا} مفعول به للتاليات، {إِنَّ إِلهَكُمْ}: ناصب واسمه، {لَواحِدٌ}: اللام: حرف ابتداء، {واحد}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {رَبُّ السَّماواتِ}: بدل من واحد أو خبر ثان لـ {إن}، {وَالْأَرْضِ} معطوف على المسوات، {وَما} اسم موصول، معطوف على السموات، {بَيْنَهُما} ظرف مضاف متعلق بمحذوف صلة لما، {وَرَبُّ الْمَشارِقِ}: معطوف على رب السموات، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {زَيَّنَّا} فعل، وفاعل، {السَّماءَ} مفعول به، {الدُّنْيا}: صفة للسماء، {بِزِينَةٍ} متعلق بـ {زَيَّنَّا}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة. {الْكَواكِبِ} بدل من زينة أو عطف بيان له. {وَحِفْظًا}: {الواو}: عاطفة لفعل محذوف معطوف على {زَيَّنَّا}، {حِفْظًا} مفعول مطلق لذلك المحذوف مؤكد له، والتقدير: وحفظناها حفظًا، والفعل المحذوف معطوف على {زَيَّنَّا}، {مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {حفظنا}، {مارِدٍ} صفة لـ {شَيْطانٍ}. {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}. {لا} نافية، {يَسَّمَّعُونَ}: فعل وفاعل، {إِلَى الْمَلَإِ}: متعلق بـ {يَسَّمَّعُونَ}، {الْأَعْلى}: صفة لـ {الْمَلَإِ}. والجملة الفعلية مستأنفة. {وَيَقْذِفُونَ}: فعل، ونائب فاعل، معطوف على {لا يَسَّمَّعُونَ}، {مِنْ كُلِّ جانِبٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {يُقْذَفُونَ}، {دُحُورًا}: مفعول لأجله منصوب بـ {يُقْذَفُونَ}؛ أي: يقذفون للدحور والطرد أو على الحال؛ أي: يقذفون مدحورين أو مفعول مطلق

معنوي. {وَلَهُمْ} {الواو}: عاطفة، {لَهُمْ} خبر مقدم، {عَذابٌ} مبتدأ مؤخر، {واصِبٌ} صفة لـ {عَذابٌ}. والجملة معطوفة على جملة {يُقْذَفُونَ}. {إِلَّا}: أداة حصر واستثناء، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع، بدل من واو {يَسَّمَّعُونَ}، أو في محل النصب على الاستثناء، {خَطِفَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، صلة {مَنْ}: الموصولة، {الْخَطْفَةَ} منصوب على المفعولية المطلقة، {فَأَتْبَعَهُ} الفاء: عاطفة، {أتبعه}: فعل، ومفعول به مقدم، {شِهابٌ} فاعل مؤخر، {ثاقِبٌ} صفة شهاب. والجملة الفعلية معطوفة على جملة {خَطِفَ}. {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)}. {فَاسْتَفْتِهِمْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وإنكارهم للمعاد، وأردت أن تبكتهم وترد عليهم في أمر إثبات المعاد فأقول لك: استفتهم. {استفت}: فعل أمر، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والهاء مفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَهُمْ}: الهمزة حرف استفهام لطلب تعيين أحد الأمرين، و {هُمْ}: مبتدأ، و {أَشَدُّ} خبر، {خَلْقًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل. والجملة الاسمية جملة إنشائية، مسوقة لبيان الاستفتاء وتفسيره، لا محل لها من الإعراب. {أَمْ} حرف عطف، وهي هنا متصلة لمعادلتها بهمزة الاستفهام، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على هم، {خَلَقْنا} فعل، وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أم من خلقناهم. وفي قراءة تخفيف {أمن} الهمزة للاستفهام، {مَنْ} مبتدأ، {خَلَقْنا}: صلة من الموصولة، والخبر محذوف، تقديره: أمن خلقناهم أشد. فهما جملتان مستقلتان. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {خَلَقْناهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {مِنْ طِينٍ}: جار ومجرور، متعلق بخلقناهم، {لازِبٍ}:

صفة {طِينٍ}. وناهيك بهذا دليلًا على ضعفهم، وأن من كان شأنه هذا لا ينبغي له أن يتكبر ويتطاول. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، {عَجِبْتَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على مقدر دل عليه الاستفهام؛ أي: هم لا يقرون، ولا يثبتون المعاد بل عجبت أنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وأثبت المعاد. {وَيَسْخَرُونَ}: فعل وفاعل، والواو حالية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وهم يسخرون. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {عَجِبْتَ}. {وَإِذا ذُكِّرُوا}: الواو عاطفة، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {ذُكِّرُوا} فعل ونائب فاعل والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {لا}: نافية، {يَذْكُرُونَ}: فعل وفاعل، جواب إذا، لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا معطوفة على جملة {يَسْخَرُونَ}. {وَإِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {رَأَوْا آيَةً}: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية. والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذا}، وجملة {يَسْتَسْخِرُونَ} جوابه، وجملة إذا معطوفة على جملة {إِذا}: الأولى. {وَقالُوا}: فعل وفاعل، معطوف على يستسخرون، {إِنْ} نافية، {هذا}: مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {سِحْرٌ}: خبر المبتدأ، {مُبِينٌ}: صفة {سِحْرٌ} والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}. {أَإِذا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر معلوم مما سيأتي تقديره: أنبعث. والجملة المقدرة في محل النصب مقول قالوا. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المقدر، {مِتْنا}: فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذا}؛ أي: أنبعث وقت موتنا وكوننا ترابًا. {وَكُنَّا تُرابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على متنا، {وَعِظامًا}: معطوف على ترابًا، {أَإِنَّا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {لَمَبْعُوثُونَ} اللام: حرف ابتداء، {مبعوثون}:

خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول قالوا. {أَوَآباؤُنَا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى، والواو: عاطفة {آباؤُنَا}: مبتدأ، {الْأَوَّلُونَ} صفة، وخبر المبتدأ محذوف؛ أي: أو آباؤنا مبعوثون. والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة {إن}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - والجملة مستأنفة. {نَعَمْ} حرف جواب قائم مقام المجاب به؛ أي: نعم تبعثون. {وَأَنْتُمْ} الواو حالية، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {داخِرُونَ}: خبره. والجملة في محل النصب حال من فاعل {مبعوثون}: المقدر. {فَإِنَّما} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إنكارهم للبعث، وأردت بيان حقيقة البعث .. فأقول لك إنما هي زجرة. {إنما}: أداة حصر، {هِيَ زَجْرَةٌ}: مبتدأ وخبر، {واحِدَةٌ}: صفة {زَجْرَةٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {فَإِذا} الفاء: عاطفة، {إذا} فجائية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَنْظُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22)}. {وَقالُوا} الواو استئنافية، {قالُوا}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. {يا وَيْلَنا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {هذا يَوْمُ الدِّينِ}: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}: على كونها جواب النداء. {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ}: مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}: {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {يَوْمُ الْفَصْلِ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. {احْشُرُوا الَّذِينَ}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقول الله سبحانه للملائكة: احشروا الذين ظلموا. والجملة المحذوفة مستأنفة. وجملة {ظَلَمُوا} صلة الموصول، ومفعول {ظَلَمُوا} محذوف، تقديره:

أنفسهم. {وَأَزْواجَهُمْ}: معطوف على الموصول أو مفعول معه، {وَما}: اسم موصول معطوف على الموصول أو مفعول معه، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْبُدُونَ}: خبره، وجملة {كانُوا}: صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من فاعل {يَعْبُدُونَ}؛ أي: حال كونهم مجاوزين الله في عبادتهم. {فَاهْدُوهُمْ}: الفاء: عاطفة، {اهدوهم}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {احْشُرُوا}. {إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {اهدوهم}، {وَقِفُوهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على {اهدوهم}. {إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}: ناصب واسمه وخبره. وجملة {إِنَّ}: مستأنفة، مسوقة لتعليل الأمر قبلها. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {لَكُمْ}: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: ما لكم. {لا} نافية، {تَناصَرُونَ}: فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، {هُمُ}: مبتدأ، {الْيَوْمَ}: متعلق بما بعده، {مُسْتَسْلِمُونَ}: خبرهم. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (30)}. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} {الواو}: استئنافية، {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ}: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {عَلى بَعْضٍ}: متعلق بأقبل، وجملة {يَتَساءَلُونَ} في محل النصب حال من الفاعل والمجرور. {قالُوا}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كُنْتُمْ} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول قالوا. {تَأْتُونَنا}: فعل، وفاعل، وفعول به. والجملة الفعلية في

محل النصب خبر كان {عَنِ الْيَمِينِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {تَأْتُونَنا}: أي حالة كونكم أقوياء إن فسرنا اليمين بالقوة والقهر أو مقسمين حالفين إن فسرنا اليمين بالحلف. {قالُوا}: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. {بَلْ} حرف إضراب للإضراب الإبطالي، {لَمْ} حرف جزم ونفي، {تَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص واسمه، {مُؤْمِنِينَ}: خبره. والجملة في محل النصب مقول قالوا. {وَما} الواو عاطفة، {ما} نافية، {كانَ} فعل ماض ناقص، {لَنا} خبرها مقدم، {عَلَيْكُمْ} حال من سلطان، و {مِنْ} زائدة، {سُلْطانٍ}: اسم كان مؤخر، وجملة كان في محل النصب معطوفة على جملة الإضراب على كونها مقول قالوا. {بَلْ} حرف إضراب للإضراب الإبطالي، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {قَوْمًا}: خبره، {طاغِينَ}: صفة لـ {قَوْمًا}. والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}. {فَحَقَّ} الفاء: عاطفة تفريعية، {حق}: فعل ماض، {عَلَيْنا}: متعلق به، {قَوْلُ رَبِّنا}: فاعل، ومضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة الإضراب. {إِنَّا لَذائِقُونَ} ناصب واسمه، واللام: حرف ابتداء، {ذائقون}: خبره. وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَأَغْوَيْناكُمْ} الفاء: عاطفة، {أغويناكم} فعل وفاعل ومفعول، معطوف على حق، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {غاوِينَ}: خبره. وجملة {إن}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {فَإِنَّهُمْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما جرى بين الأتباع والرؤساء من المخاصمة، وأردت بيان مصائرهم وعواقبهم فأقول لك: إنهم. {إنهم} ناصب واسمه، {يَوْمَئِذٍ} {يوم} منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف حال من ضمير الغائبين، {يوم}: مضاف، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ يتساءلون ويتلاومون. {فِي الْعَذابِ}: متعلق بـ {مُشْتَرِكُونَ} و {مُشْتَرِكُونَ}: خبر {إنهم}. وجملة {إن} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّا} ناصب

واسمه، {كَذلِكَ}: صفة لمصدر محذوف مقدم على فعله، تقديره: إنا نفعل بالمجرمين فعلًا كائنًا كذلك. {نَفْعَلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {بِالْمُجْرِمِينَ}: متعلق به، وجملة {نَفْعَلُ}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كانُوا}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة. إِذا: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: جار ومجرور، متعلق به، ونائب فاعله جملة محذوفة، تقديرها: إذا قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله. وجملة {قِيلَ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذا}، والظرف متعلق بـ {يَسْتَكْبِرُونَ}. وجملة {لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ} مقول قول محذوف تقديره: قولوا {قولوا}: فعل أمر وفاعل. والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. وإن شئت قلت: {قولوا}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل {إن}، {إِلهَ}: في محل النصب، اسمها، وخبر {لَا} محذوف، تقديره: لا إله موجود إلا الله، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {اللَّهُ} بدل من الضمير المستكن في خبر {لا}، وجملة {لا}: في محل النصب مقول للقول المحذوف. وجملة {يَسْتَكْبِرُونَ} في محل النصب خبر {كان}، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {يَسْتَكْبِرُونَ}. {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، {إنا} ناصب واسمه، {اللام}: حرف ابتداء، {تاركوا آلهتنا}: خبر {إن}، ومضاف إليه، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}، {لِشاعِرٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تاركوا}، {مجنون}: صفة لـ {شاعر}، {بَلْ}: حرف إضراب وابتداء للإضراب الإبطالي، {جاءَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على محمد، {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {جاءَ}، والجملة مستأنفة. {وَصَدَّقَ

الْمُرْسَلِينَ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على جاء، {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {لَذائِقُوا الْعَذابِ}: خبر {إن}، ومضاف إليه، واللام حرف ابتداء، {الْأَلِيمِ}: صفة لـ {الْعَذابِ}. وجملة {إن} مستأنفة. {وَما} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {تُجْزَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل. والجملة معطوفة على جملة {إن}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {تُجْزَوْنَ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره. وجملة {كان}: صلة {ما}: الموصولة، والعائد محذوف تقديره: تعملونه. ويحتمل كون {ما} مصدرية، والكلام حينئذ على حذف مضاف، والتقدير: وما تجزون إلا جزاء عملكم. {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن، {عِبادَ اللَّهِ}: مستثنى من الواو في {تُجْزَوْنَ}، {الْمُخْلَصِينَ}: صفة لعباد الله، {أُولئِكَ}: مبتدأ أول، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {رِزْقٌ}: مبتدأ ثان مؤخر، {مَعْلُومٌ}: صفة {رِزْقٌ}، وجملة المبتدأ الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {فَواكِهُ}: بدل أو عطف بيان لـ {رِزْقٌ} بدل كل من كل، {وَهُمْ} {الواو}: عاطفة أو حالية، {هُمْ}: مبتدأ، {مُكْرَمُونَ}: خبره. والجملة إما معطوفة على جملة {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}: أو حال من ضمير {لَهُمْ}. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {مُكْرَمُونَ} أو خبر ثان لهم أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في {مُكْرَمُونَ}. {عَلى سُرُرٍ} متعلق بـ {مُتَقابِلِينَ} أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله أعني: {فِي جَنَّاتِ}، وكذا {مُتَقابِلِينَ}: حال من الضمير المستكن فيه، {يُطافُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عَلَيْهِمْ} متعلق به، {بِكَأْسٍ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. والجملة الفعلية صفة

لـ {مُكْرَمُونَ} أو حال من الضمير في {مُتَقابِلِينَ}: أو جملة مستأنفة. {مِنْ مَعِينٍ}: جار ومجرور صفة لكأس، {بَيْضاءَ}: صفة ثانية لكأس، {لَذَّةٍ} صفة ثالثة له، وصفت بالمصدر مبالغة أو على حذف مضاف؛ أي: ذات لذة. {لِلشَّارِبِينَ} متعلقان بـ {لَذَّةٍ} {لا}: نافية ملغاة لتكررها، {فِيها}: خبر مقدم، {غَوْلٌ}: مبتدأ مؤخر. والجملة في محل الجر صفة رابعة لكأس. {وَلا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، {هُمْ عَنْها}: متعلق بـ {يُنْزَفُونَ}، وجملة {يُنْزَفُونَ}: من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَعِنْدَهُمْ} {الواو}: عاطفة، {عِنْدَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، {قاصِراتُ الطَّرْفِ}: مبتدأ مؤخر، و {الطَّرْفِ}: مضاف إليه مرفوع المحل، على أن {قاصِراتُ}: صفة مشبهة، أو منصوب المحل على أن {قاصِراتُ} اسم فاعل. و {عِينٌ}: صفة لـ {قاصِراتُ}. والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}. {كَأَنَّهُنَّ}: ناصب واسمه، {بَيْضٌ}: خبره، {مَكْنُونٌ} صفة {بَيْضٌ}، وجملة {كأن}: في محل الرفع ثانية لـ {قاصِراتُ}. التصريف ومفردات اللغة {وَالصَّافَّاتِ}: هم جماعة الملائكة، يقفون صفوفًا لكل واحد منهم، مرتبة معينة في الشرف والفضيلة. {صَفًّا}: والصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، كالناس والأشجار. تقول: صففت القوم، من باب رد، فاصطفوا إذا أقمتهم على خط مستقيم، لأداء الصلاة أو لأجل الحرب. {فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (2)}: أصل الزجر: الدفع عن الشيء بتسلط وصياح، ثم استعمل في السوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهي. والمراد بها هنا: الملائكة؛ لأن لهم تأثيرًا في قلوب بني آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير. يقال: زجرت البعير إذا حثثته ليمضي، وزجرت فلانًا عن سوء فانزجر؛ أي: نهيته فانتهى فزجر البعير كالحث له، وزجر الإنسان كالنهي. وفي «كشف الأسرار»: الزجر: الصرف عن الشيء بتخويف. وفي «المفردات»: الزجر: الطرد بصوت، ثم يستعمل في الطرد

تارةً، وفي الصوت أخرى. {لَواحِدٌ}؛ أي: لا ثاني له سبحانه. وفي «المفردات» الوحدة: الانفراد. والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح وصفه، فيقال: عشرة واحدة، ومئة واحدة. فالواحد لفظ مشترك، يُستعمل في خمسة أوجه: الأول: ما كان واحدًا في الجنس أو في النوع كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، وزيد وعمرو واحد في النوع. والثاني: ما كان واحدًا بالاتصال، إما من حيث الخلقة كقولك: شخص واحد، وإما من حيث الصناعة كقولك: حرفة واحدة. والثالث: ما كان واحدًا لعدم نظيره. إما في الخلقة كقولك: الشمس واحدة، وإما في دعوى الفضيلة كقولك: فلان واحد دهره، وكقولك: هو نسيج وحده. والرابع: ما كان واحدًا لامتناع التجزي فيه، إما لصغره كالهباء، وإما لصلابته كالماس. والخامس: للمبتدأ إما لمبدأ العدد، كقولك: واحد اثنين، وإما لمبدأ الخط كقولك: النقطة الواحدة. والوحدة في كلها عارضة، فإذا وصف الله عز وجل بالواحد فمعناه: هو الذي لا يصح التجزي، ولا التكثر. ولصعوبة هذه الوحدة قال الله تعالى: {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، انتهى. {الدُّنْيا} مؤنث الأدنى؛ أي: قرب السموات من أهل الأرض. {مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ}؛ أي: متعر عن الخير، متجرد عنه من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه: الأمرد لتجرده عن الشعر، والمارد والمريد بمعنى واحد، وهو المتعري عن كل خير. وفي «المختار»: مرد من باب ظرف، فهو مارد ومريد، وهو العاتي.

{لا يَسَّمَّعُونَ} أصل {يَسَّمَّعُونَ}: يتسمعون، فأدغمت التاء في السين بعد تسكينها وقلبها سينًا من التسمع، وتعديته بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. {إِلَى الْمَلَإِ} والملأ: جماعة يجتمعون على رأي واحد، فيملؤون العيون رواءً، والنفوس جلالة وبهاء. والملأ الأعلى هم الملائكة أو أشرافهم، كما مر. {وَيُقْذَفُونَ} القذف: الرمي البعيد، لاعتبار البعد فيه قيل: منزل قذف وقذيف، وقذفته بحجر رميت إليه حجرًا، ومنه: قذفوه بالفجور؛ أي: رموه. {دُحُورًا} مصدر دحره إذا طرده وأبعده، وبابه خضع، يقال: دحره دحرًا ودحورًا إذا طرده. {عَذابٌ واصِبٌ}؛ أي: دائم غير منقطع، من وصب الأمر وصوبا إذا دام. وفي «المختار»: وصب الشيء يصب بالكسر وصوبًا دام، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا}، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}، انتهى. قال في «المفردات» الوصب: السقم اللازم. {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} والخطف: الاختلاس بسرعة. والمراد هنا: اختلاس الكلام؛ أي: كلام الملائكة مسارقة. {فَأَتْبَعَهُ} في «المختار»: تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مر به فمضى معه، وكذا اتبعه وهو افتعل، وأتبعه على أفعل. وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل: ردفه وأردفه، ومنه: قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ}. قال ابن الكمال: الفرق بين أتبعه وتبعه أنه يقال: أتبعه إتباعًا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا إذا مر به ومضى معه. {شِهابٌ} والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة. وفي «القاموس»: الشهاب ككتاب شعلة من نار ساطعة، انتهى. والمراد هنا: ما يُرى منقضًّا من السماء. {ثاقِبٌ} قال في «المفردات»: الثاقب: النيِّر المضيء، يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه، انتهى؛ أي: مضيء في الغاية، كأنه يثقب الجو بضوئه، يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع. {فَاسْتَفْتِهِمْ} والفتيا والفتوى: الجواب عما يشكل من الأحكام. يقال: استفتيته فأفتاني بكذا. قال بعضهم: الفتوى من الفتي، وهو الشاب القوي، وسمي الفتوى فتوى؛ لأن المفتي يقوي السائل في جواب الحادثة، وجمعه

فتاوى، بالفتح والكسر، والمراد بالاستفتاء هنا: الاستخبار، يقال: استفتى فلانًا إذا استخبره، وسأله من أمر يريد علمه. {أَشَدُّ خَلْقًا}؛ أي: أصعب خلقًا، وأشد إيجادًا. {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} قال في «المفردات»؛ اللازب: الثابت الشديد الثبوت، ويعبر باللازب عن الواجب، فيقال: ضربة لازب، اهـ. والباء بدل من الميم، والأصل لازم مثل: بكة ومكة، يقال: لزب يلزب لزوبا من باب دخل اشتد وثبت، ولزب به لصق، ولزب يلزب لزبًا من باب تعب، ولزب يلزب لزبًا ولزوبًا من باب كرم الطين لزق وصلب، ولزب الشيء دخل بعضه في بعض. واللازب اسم فاعل: الثابت، يقال: صار الأمر ضربة لازب؛ أي: صار لازمًا ثابتًا. {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} والسخرية: الاستهزاء والعجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب: ما يعرف سببه، ولهذا قيل: لا يصح على الله التعجب. إذ هو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية. {يَسْتَسْخِرُونَ} والسين والتاء للمبالغة والتأكيد؛ أي: يبالغون في السخرية والاستهزاء أو للطلب على أصله؛ أي: يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. قوله: {أَإِذا مِتْنا} إلخ، أصله: أنبعث إذا متنا. فبدّلوا الفعلية بالاسمية وقدّموا الظرف، وكرّروا الهمزة مبالغة في الإنكار وإشعارًا بأن البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارًا، اهـ «بيضاوي». {نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ}؛ أي: صاغرون. وكلمة {نَعَمْ} بفتحتين: تقع في جواب الاستخبار المجرد من النفي، ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام. والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب. والدخور: أشد الصغار والذلة، يقال: دخر يدخر من باب فتح، ودخر يدخر من باب تعب دخرًا ودخورًا؛ أي: ذل وصغر، ويقال: أدخرته فدخر؛ أي: أذللته فذل. {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ} والزجرة: الصيحة، من زجر الراعي غنمه، أو إبله إذا صاح عليها. وهي النفخة الثانية. {يا وَيْلَنا} قال الزجاج: الويل: كلمة يقولها

القائل وقت الهلكة. {يَوْمُ الدِّينِ} والدين: الجزاء كما جاء في قولهم: كما تدين تدان. {يَوْمُ الْفَصْلِ}؛ أي: الفرق بين المحسن والمسيء، وتمييز كل منهما عن الآخر. {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: اجمعوا، الحشر يأتي بمعنى البعث، وبمعنى الجمع والسوق، وهو المراد هاهنا دون الأول، كما لا يخفى. {وَقِفُوهُمْ} أمر من وقفه وقفًا بمعنى حبسه، لا من وقف وقوفًا بمعنى دام قائمًا. فالأول متعد، والثاني لازم. والمعنى: احبسوا المشركين أيها الملائكة عند الصراط. {مُسْتَسْلِمُونَ} من الاستسلام، يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، وأصله: طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} يقال: أقبل عليه بوجهه، وهو ضد الإدبار. {مِنْ سُلْطانٍ}؛ أي: قهر وتسلط. والسلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطه فتسلط، ومنه: سمي السلطان بمعنى الغالب والقاهر، كما مر. {رزق} والرزق اسم لما يسوقه الله تعالى، إلى الحيوان، فيأكله. قال أحمد بن رسلان في زبده: يرزقُ مَن يَشاءُ ومنْ شَاءَ أَحْرَمَا ... والرِّزقُ مَا ينفعُ ولو مُحَرَّمَا {فَواكِهُ} جمع فاكهة، وهي كل ما يتفكه به؛ أي: يتنعم بأكله من الثمار كلها رطبها ويابسها. {عَلى سُرُرٍ} جمع سرير، وهو الذي يجلس عليه من السرور، إذ كان كذلك لأولي النعمة. وسرير الميت يشبه به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق بالميت برجوعه إلى الله، وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن». {مُتَقابِلِينَ} من التقابل، وهو أن ينظر بعضهم وجه بعض. {يُطافُ عَلَيْهِمْ} والطواف: الدوران حول الشيء، وكذا الإطافة كما قال في «التهذيب». {بِكَأْسٍ} والكأس يطلق على الزجاجة، ما دام فيها خمر، وإلا فهو قدح وإناء، وتسمى الخمر نفسها كأسا. قال الأعشى: وكأسٍ شَربتُ عَلى لَذَّةٍ ... وَأُخْرى تَدَاويتُ مِنهَا بِهَا لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أنِّي امْرُؤٌ ... أَتَيْتُ المَعِيشَةَ مِنْ بَابِهَا

والكأس مؤنثة بدليل ضميرها وصفتها، وتجمع على كؤوس وأكؤس وكاسات وكئاس. {مِنْ مَعِينٍ} قال أبو حيان: اسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف؛ أي: من شراب معين، أو نهر معين ظاهر للعيون، أو خارج من العيون. وهو صفة للماء، من عان الماء، إذا نبع وصف به خمر الجنة؛ لأنها تجري كالماء. ومعنى {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}؛ أي: بخمر من نهر جار على وجه الأرض. {بَيْضاءَ}؛ أي: ذات بياض. {لَذَّةٍ}؛ أي: ذات لذة أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ كقولك: رجل طب؛ أي: طبيب. فاللذ وصف، واللذة مؤنثة. وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس، واسم للشيء اللذيذ. {لا فِيها غَوْلٌ} والغول اسم بمعنى الغائلة، يُطلق على كل أذية ومضرة. والغول أيضًا ما يغتال العقول، يقال: غاله يغوله غولًا إذا أفسده، ويقال: غالته الخمر شربها فذهبت بعقله أو بصحة بدنه. والغول مصدر، وهو الصداع، والسكر، وبُعد المسافة، والمشقة، وما انهبط من الأرض، والتراب الكثير. ويقال: غاله الشيء إذا أخذه من حيث لم يدر، وأهلكه من حيث لا يحس به. ومنه سمي السعلاة غولا بالضم. والسعلاة: سحرة الجن، كما سبق في سورة الحجر. وفي «بحر العلوم»؛ ومنه الغول الذي يراه بعض الناس في البوادي ولا يكذبه ولا ينكره إلا المعتزلة من جميع أصناف الناس، حتى جعلوه من كذبات العرب، مع أنه يشهد بصحته قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان»، انتهى. {يُنْزَفُونَ} بالبناء للمجهول، من نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف، ويقال للمطعون: نزف فمات إذا خرج دمه كله. وفي «المفردات»: نزف الماء، نزحه كله من البئر شيئًا بعد شيء، ونزف دمه ودمعه؛ أي: نزح كله، ومنه قيل: سكران نزف؛ أي: نزف فمه بسكره. وقرىء {ينزفون} بالسكر من قولهم: أنزف القوم إذا نزف ماء بئرهم، انتهى. {قاصِراتُ الطَّرْفِ}؛ أي: حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن إلى

غيرهم، من القصر بمعنى الحبس والمنع. وطرف العين: جفنه. والطرف: تحريك الجفن، وعُبر به عن النظر؛ لأن تحريك الجفن يلازمه النظر. {عِينٌ} جمع عيناء بمعنى واسعة العين، وهي التي اتسع شقها سعةً غير مفرطة. وأصل {عِينٌ} فعل بالضم نظير حمر، كسرت الفاء لتسلم الياء كما في بيض جمع بيضاء وأبيض. قال في «المفردات»: يقال للبقر الوحشي: عيناء وأعين لحسن عينه، وشُبّه بها الإنسان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإتيان بأسلوب القسم في قوله: {وَالصَّافَّاتِ} إلخ، إظهارًا لشرف المقسم به، وتأكيدًا للمقسم عليه، على ما هو المألوف في كلامهم. وقد أنزل القرآن على لغتهم، وعلى أسلوبهم في محاوراتهم. ومنها: التأكيد بأن، واللام في قوله: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)} ومقتضى الكلام يقتضيه لإنكار المخاطبين الوحدانية. ومنها: إعادة لفظ الرب في قوله: {وَرَبُّ الْمَشارِقِ} لما فيها من غاية ظهور آثار الربوبية، وتجددها كل يوم، فإنها ثلاث مئة وستون مشرقًا. ومنها: الاكتفاء بالمشارق عن ذكر المغارب، على حد قوله تعالى: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. واقتصر على المشارق ولم يعكس؛ لأن شروق الشمس سابق على غروبها، وأيضا فالشروق أبلغ في النعمة، وأكثر نفعًا من الغروب. ومنها: جمع المشارق موافقةً للجموع أول السورة. منها: تخصيص المشارق بالذّكر مناسبة للزينة في قوله: {بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} إذ هي إنما تكون غالبًا بالضياء والنور، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب.

ومنها: جناس الاشتقاق بين {زينا، وزينة}. ومنها: مراعاة الفواصل في قوله: {شهاب ثاقب، وعذاب واصب، وطين لازب}؛ لأنها من المحسنات البديعية. ومنها: الجناس بين {خَطِفَ} و {الْخَطْفَةَ}، وبين {أغويناكم} و {غاوِينَ}. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} وردت الهداية بطريق التهكم؛ لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم. ومنها: الطباق في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)}؛ لأن السخرية في مقابلة التعجب. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ}؛ لأن الأصل فيه: إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله، فحذف لدلالة السياق عليه. ومنها: التغليب في قوله: {أَمْ مَنْ خَلَقْنا} فإن فيه تغليب العقلاء على غيرهم، حيث عبّر بمن التي للعاقل. ومنها: الجناس المماثل بين {وَيَسْخَرُونَ} و {يَسْتَسْخِرُونَ}. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {قالُوا يا وَيْلَنا} للدلالة على تحقق وقوعه. وفيه أيضًا نداء غير العاقل لشدة الدهشة والحيرة. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38)}؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: إنهم لذائقوا العذاب، فقد التفت من الغيبة إلى الخطاب لمجابهتهم بالغضب، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم؛ لأن الغضب عليهم بلغ أقصى الغاية. ومنها: الكناية في قوله: {قاصِراتُ الطَّرْفِ} كني بذلك عن الحور العين، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن. ومنها: القصر في قوله: {لا فِيها غَوْلٌ} فهو من قصر المسند إليه على المسند يعني: عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي، إذ خمور الجنة لا تتجاوز

الاتصاف بفي كخمور الدنيا، اهـ من «الروح». ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملًا، وذكر الأداة فصار مرسلًا، والمراد بالبيض: بيض النعام، وأول من شبه المرأة بالبيضة امرؤ القيس بقوله: وبيضةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِبَاؤهَا ... تَمتَّعْتُ مِنَ لَهْوٍ بها غَيْر مُعْجِلِ والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه: أحدها: بالصحة والسلامة عن الطمث، ومنه: قول الفرزدق: خَرَجْنَ إِلَيَّ لَمْ يطمثهُنَّ قَبلِي ... وَهُنَّ أَصحُّ مِن بَيْضِ الْحَمَامِ والثاني: في الصيانة والستر، لأن الطائر يصون بيضه ويحصنه. والثالث: في صفاء اللون ونقائه؛ لأن البيض يكون صافي اللون نقيّه إذا كان تحت الطائر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}. المناسبة قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) حال أهل الجنة وما يتمتعون ¬

_ (¬1) المراغي.

[50]

به من النعيم المقيم، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل، والمشارب، وجميل المساكن، والأزواج الحسان .. بيّن هنا أنهم لخلوّ بالهم من المشاغل وطيب نفوسهم، يسمر بعضهم مع بعض، ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم، من شتى الشؤون مع اختلاف الأهواء، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك، لولا لطف ربه به، وقد كان مآله أن صار في سواء الجحيم، ثم ذكر نعمة ربه عليه، بسبب ما كان يدين به في الدنيا. قوله تعالى: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف (¬1) ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة، ورغّب فيها بقوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)} أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار، وما يلاقون فيها من العذاب اللازب، الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسوا به أنفسهم من سيء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله. وعبادة الأصنام والأوثان. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين، دون نظر ولا تدبر .. أردفه ما يوجب التسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم، قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم، وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات، إن عليك إلا البلاغ. التفسير وأوجه القراءة 50 - قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)} معطوف (¬2) على {يُطافُ}؛ أي: يطاف على عباد الله المخلصين في الجنة بشراب، فيشربون فيتحدثون على الشراب، كما هو عادة الشربة في الدنيا، فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[51]

يتساءلون عن الفضائل، والمعارف، وعما جرى عليهم ولهم في الدنيا. فالتعبير عنهم بصيغة الماضي للتأكيد، والدلالة على تحقق الوقوع حتمًا. وفي الآية، إشارة إلى أن أهل الجنة، هم الذين كانوا ممن لم يقبلوا على الله بالكلية، وإن كانوا مؤمنين موحدين، وإلا كانوا في مقعد صدق مع المقربين. ولا تكرار في هذه والجملة مع ما سبق من نظيرها؛ لأن تلك في بيان حال الكفرة. وهذه في بيان حال أصحاب الجنة. والمعنى (¬1): أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء، إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم: وَمَا بَقيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلّا ... مُحَادثةُ الْكِرام عَلَى الشَّرَابِ وَلَثمُكَ وَجنَتَي قَمَرٍ مُنِيرٍ ... يَجُولُ بِوَجْهِهِ مَاءَ الشَّبَابِ والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف، وفيما سلف لهم من شؤون الدنيا، وأحلى تذكرًا، ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال واطمئنان النفس وخلوها من المخاوف العاجلة والآجلة. 51 - ثم فصّل هذا التساؤل وبيّنه، فقال: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من العباد المخلصين في تضاعيف محاوراتهم، وأثناء مكالماتهم {إِنِّي كانَ لِي} في الدنيا {قَرِينٌ}؛ أي: مصاحب وجليس، كافر بالبعث، منكر له، 52 - كما يدل عليه قوله: {يَقُولُ} لي على طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث {أَإِنَّكَ} أيها المؤمن {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ}؛ أي: لمن المعتقدين بالبعث والمقرين الجزاء. وهذا (¬2) الاستفهام من القرين، لتوبيخ ذلك المؤمن، وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا. 53 - ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده، وفي زعمه. فقال: {أَ} ندان ونجازى {إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)}؛ أي: هل نحن مجزيون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

بأعمالنا، ومحاسبون بعد أن صرنا ترابًا وعظامًا. والاستفهام للإنكار. جمع مدين، من الدين بمعنى: الجزاء، ومنه: كما تدين تدان؛ أي: أئنا نحن لمبعوثون ومجزيون؛ أي: لا نبعث ولا نجازى. قرأ الجمهور (¬1): {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بتخفيف الصاد من التصديق؛ أي: لمن المصدقين بالبعث. وقرىء بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، وهو بعيد؛ لأنها من التصدق لا من التصديق. ويمكن تأويلها: بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث. وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى، والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ووافقه الكسائي؛ إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها، ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدةٍ غير مطولة، وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين. وقد مضت قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميهما. قال قرة بن ثعلبة النهراني (¬2): كانا شريكين في بني إسرائيل بثمانية آلاف درهم، أحدهما يعبد الله، واسمه يهوذا، ويقصر في التجارة والنظر، والآخر وهو كافر اسمه نطروس، كان مقبلا على ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة، ما قصه الله في كتابه في سورة الكهف. وقال الزمخشري (¬3): نزلت في رجل، تصدق بماله لوجه الله تعالى، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ فقال: تصدقت به ليعوّضني الله تعالى في الآخرة خيرًا منه. فقال: أإنك لمن المصدقين بيوم الدين، أو لمن المتصدقين لطلب ثواب الله تعالى، والله لا أعطيك شيئًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط مع زيادة من المراح. (¬3) الكشاف.

[54]

54 - {قالَ} ذلك الرجل، الذي هو من أهل الجنة لجلسائه فيها، بعد ما حكى لهم، ما قال له قرينه في الدنيا: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين، الذي قال لي تلك المقالة، كيف منزلته في النار؟. ولما كان قرينه ينكر البعث علم أنه في النار. قال ابن الأعرابي: والاستفهام هنا هو بمعنى الأمر؛ أي: اطلعوا، وقيل: القائل هو الله سبحانه، وقيل: الملائكة. والأول أولى، فقال له جلساؤه: أنت أعرف به منا، فاطلع أنت، فذهب ذلك المؤمن إلى بعض أطراف الجنة، فاطلع، عندها إلى النار، فرآه؛ أي: فرأى ذلك الرجل المؤمن قرينه، في سواء الجحيم؛ أي: في وسط النار. قال الزجاج: سواء كل شيء وسطه، وسمي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة منه إلى جميع الجوانب. وقال ابن عباس: في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار، ويناظرونهم؛ لأن لهم في توبيخ أهل النار لذةً وسرورًا. وقرأ الجمهور (¬1): {مُطَّلِعُونَ} بتشديد الطاء المفتوحة، وفتح النون، {فَاطَّلَعَ} فعلًا ماضيًا، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي: {مُطَّلِعُونَ} بإسكان الطاء وفتح النون، {فَاطَّلَعَ} بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام، فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس، وابن محيصن، وعمار بن أبي عمار، وأبي سراج، وقرىء {فاطلع} مشددًا مضارعًا، منصوبًا على جواب الاستفهام. وقرىء {مطلعون} بالتخفيف، {فأطلع} مخففًا فعلًا ماضيًا. وقرىء {فأطلع} مخففًا مضارعًا منصوبًا. وقرأ أبو البرهشيم، وعمار بن أبي عمار، فيما ذكره خلف عن عمار: {مطلعون} بتخفيف الطاء وكسر النون، {فَاطَّلَعَ} ماضيًا مبنيًا للمفعول. وأورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم، والوجه {مطلعي} كما قال: أو مخرجي هم. وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله: هم الفاعلون للخير والآمرونه. أو يقال: إن كسر النون في الجمع لغة، وإن كان لا يقع إلا في الشعر. وحاصل معنى الآيات (¬2): أي قال قائل من أهل الجنة: إني كان لي قرين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[55]

في الدنيا، يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبًا: أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا، أئنا لمحاسبون، بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا، ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان، ولا يقبله عاقل فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعد من البله والمجانين الذين لا ينبغي مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام. فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين .. 55 - وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة، أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من دخول النار فـ {قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؛ أي: قال لجلسائه من أهل الجنة ليزيدهم سرورًا على أن عصمهم الله تعالى من مثل حاله، ووفقّهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياءه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين، وكيف خذله الله تعالى، وأوقعه في الهلكة؟. واعلم: أنه لا ينبغي لنا أن نخوض في بيان كيفية الاطلاع، إذ ذاك مع شاسع المسافات واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار، فإن ذلك من أمور الغيب، التي يجب أن نؤمن بها دون بحث في شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها. 56 - فاطلع ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرها وشديد لهبها، {قالَ} ذلك القائل المؤمن، مخاطبًا لقرينه، متشمتًا به حين رآه على صورة قبيحة، وقال خليل العصري: رآه تبدلت حالته، فلولا ما عرّفه الله به، لم يعرفه، فقال له عند ذلك: {تَاللَّهِ}؛ أي: أقسمت لك بالله المنتقم {إِنْ}؛ أي: إن الشأن {كِدْتَ}؛ أي: قاربت {لَتُرْدِينِ}؛ أي: لتهلكني بالإغواء. والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك، أصله: ترديني بياء المتكلم، فحذفت اكتفاء بالكسرة، كما سيأتي؛ أي: إن الشأن، قاربت لتهلكني بدعائك إياي، إلى إنكار البعث والقيامة، وقرىء (¬1): {لتغوين}؛ أي: لتضلني عن الدين، 57 - {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} علي بهدايتي إلى الحق، وعصمتي من الباطل {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}؛ أي: من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك، وفي «التأويلات ¬

_ (¬1) البيضاوي والمراح.

[58]

النجمية»: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي}؛ أي: حفظه وعصمته وهدايته {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معكم فيما كنتم فيه من الضلالة في البداية، وفيما أنتم فيه من العذاب والبعد في النهاية. وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها، ليعلم أن غيبة الأشياء وحضورها عند الله سبحانه سواء، لا يزيد حضورها في علم الله تعالى شيئًا، ولا ينقص غيبتها من علمه شيئًا، سواء في علمه وجودها وعدمها، بل كانت المعدومات في علمه موجودة. 58 - وقوله: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)} رجوع إلى محاورة جلسائه في الجنة، بعد إتمام الكلام مع قرينه، سرورًا بفضل الله العظيم، والنعيم المقيم، فإن تذكر الخلود في الجنة لذة عظيمة، والهمزة فيه للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، وفيها معنى التعجب، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أنحن مخلدون، منعمون في الجنة، فما نحن بميتين؛ أي: بمن شأنه الموت 59 - {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى} التي كانت في الدنيا، وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال؛ أي: لا نموت في الجنة أبدًا، سوى موتتنا الأولى في الدنيا، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل يعني: إنه مستثنى مفرّغ معرب، على حسب العوامل، منصوب بميتين، كما ينصب المصدر بالفعل المذكور قبله في مثل قولك: ما ضربت زيدًا إلا ضربة واحدة، فكأنه قيل: وما نحن نموت موتة إلى موتتنا الأولى. وقيل: نصبها على الاستثناء المنقطع، بمعنى؛ لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا. وقيل: {إِلَّا} هنا بمعنى بعد وسوى، وقرأ زيد بن علي {وما نحن بمائتين}، {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)} كالكفار، فإن النجاة من العذاب أيضًا نعمة جليلة، مستوجبة للتحدث بها، كما أن العذاب محنة عظيمة، مستدعية لتمني الموت كل ساعة. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «الموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده». والمعنى (¬1): أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا ¬

_ (¬1) المراغي.

[60]

بمعذبين إلا موتتنا الأولى بخلاف الكفار، فإنهم يموتون مثلنا، ثم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقيل لحكيم: ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى معه الموت. والخلاصة: أن المؤمن غبط نفسه، بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب. وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون فيها، حصل لهم من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك، وبما ذكر في كتابه، نحو قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى}، وفي نفي العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب، كما قال: إِذَا شِئتَ أَنْ تَحيَا حَيَاةً هَنيَّه ... فَلا تتَّخِذ شَيئًا تَخَافُ لَهُ فَقْدَا وإلى نفي الهرم واختلال القوى، لأنه ضرب من العذاب أيضًا. 60 - ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته، فقال: {إِنَّ هَذَا} الأمر العظيم، الذي نحن فيه من النعمة والخلود والأمن من العذاب {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والظفر الجسيم، والسعادة الأبدية، والسلامة السرمدية؛ أي: لهو السعادة والظفر بكل المراد، إذ الدنيا وما فيها تحتقر دونه، كما تحتقر القطرة من البحر المحيط، والحبة من البيدر الكبير، وقرىء {أإن هذا لهو الفوز} بزيادة همزة الاستفهام، قاله في المراح. والمعنى (¬1): أي إن هذا الأمر العظيم، والنعيم المقيم، والخلود الدائم الذي نحن فيه، لهو الفوز العظيم، الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه. 61 - وقوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}؛ أي: لنيل هذا المرام الجليل من تمام كلامه؛ أي: لنيل مثل هذا العطاء، يجب أن يعمل العاملون، ويجتهد ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[62]

المجتهدون، فإن هذه هي التجارة الرابحة، لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع، المشوبة بفنون الآلام والبلايا والصداع، فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع، وخيرها زائل، وصاحبها عن قريب منها راحل، وقيل (¬1): إن هذا من كلامه سبحانه وتعالى، فهو ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته، ويقال: المعنى حينئذ: فليحتمل المحتملون الأذى؛ لأنه قد حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات، كما قال بعضهم: حُفَّتِ الجَنَّةُ بِمَكْرُوهَاتِنَا ... وَحُفَّت النِّيْرَانُ مِن شَهَواتِنَا يعني: جُعلت الجنة مخفوفة بالأشياء التي كانت مكروهة لنا، وجعلت النار محاطة بالأشياء التي هي محبوبة لنا، فما بين المرء وبين الجنة حجاب إلا المكاره، وهو حجاب عظيم صعب خرقه، وما بين النار وبينه حجاب إلا الشهوات، وهو حجاب حقير سهل لأهله، والعياذ بالله سبحانه، من الإقبال على الشهوات، والإدبار عن الكرامات في الجنات، وقيل: من قول الملائكة، والأول أولى. 62 - والهمزة في قوله: {أَذلِكَ} للاستفهام التقريري. والمراد (¬2): حمل الكفار على إقرار مدخولها، وذلك إشارة إلى نعيم الجنة، وهو مبتدأ، خبره {خَيْرٌ} وهو وارد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، وانتصاب {نُزُلًا} على التمييز أو على الحالية، وهو ما يهيأ من الطعام النفيس للقادم؛ أي: الضيف ومنه: إنزال الأجناد لأرزاقهم؛ أي: أنعيم الجنة، ورزقها المعلوم للمؤمنين خير طعامًا {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}؛ أي: ثمرها الذي كان طعام أهل النار، فأيهما خير في كونهما نزلا، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق، مرة كريهة الرائحة، تكون بتهامة يعرفها المشركون، سميت بها الشجرة الموصوفة بقوله: {إِنَّها شَجَرَةٌ ...} إلخ، والإضافة فيها من إضافة المسمى إلى الاسم، واختلف (¬3) فيها، هل هي من شجر الدنيا، التي يعرفها العرب، أم لا؟ على قولين: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[63]

أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، فقال قطرب: إنها شجرة مرة، تكون بتهامة، من أخبث الشجر، وقال غيره: هو كل نبات قاتل، فعلى هذا، ففي الكلام استعارة. والقول الثاني: أنها عبارة عن أطعمة كريهة في النار، وفي ذكره {نُزُلًا} دلالة على أن ما ذكره من النعيم لأهل الجنة، بمنزلة ما يُعد ويرفع للنازل، ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. والمعنى: أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة، كرامة مني لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار، من الزقوم المر البشع. والحاصل: أن الله سبحانه، أمر رسوله أن يورد ذلك على كفار قومه، ليصير ذلك زاجرًا لهم عن الكفر والمعاصي، وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم. 63 - قال قتادة: لما ذكر الله سبحانه هذه الشجرة، افتتن بها الكفار، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة؟، فأنزل الله سبحانه {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)}؛ أي: إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء، واختبارًا للكافرين. فهم حين سمعوا أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك، والنار تحرق الشجر، مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها كحيات جهنم مثلا فهو أقدر على خلق الشجر فيها، وحفظه من الاحتراق. وقيل المعنى (¬1): أنا جعلناها فتنة؛ أي: عذابًا لهم في الآخرة، فإن الفتن تأتي بمعنى الإحراق، وابتلاءً لهم في الدنيا حيث فتنوا وضلوا عن الحق بسببها، فإن الفاتن قد يطلق على المضل عن الحق، فإن الكفار لما سمعوا كون هذه الشجرة في النار، فتنوا به في دينهم، وتوسلوا به إلى الطعن في القرآن، والنبوة والتمادي في الكفر. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[64]

64 - ثم بيّن سبحانه أوصاف هذه الشجرة، ردًا على منكريها، فقال: {إِنَّها}؛ أي: إن هذه الشجرة الموسومة بالزقوم {شَجَرَةٌ تَخْرُجُ}؛ أي: تنبت {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}؛ أي: في قعر جهنم وأسفلها، فمنبعها في قعرها، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، ولما كان أصل عنصرها النار لم تحرق بها كسائر الأشجار، ألا ترى، أن السمك لما تولد في الماء لم يغرق، بخلاف ما لم يتولد فيه. ولعل (¬1) هذا رد على ابن الزبعرى وصناديد قريش، وتجهيل لهم حيث قال ابن الزبعرى لهم: إن محمدًا يخوفنا بالزقوم، والزقوم بلسان البربر، الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقمينا، فأتتهم بالزبد والتمر، فقال استهزاءً: تزقموا فهذا ما توعدكم به محمد، فقال: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)}؛ أي: فليس الزقوم ما فهم هؤلاء الجهلة الضلال. 65 - {طَلْعُها}؛ أي: حملها وثمرها الذي يخرج منها ويطلع، مستعار من طلع النخلة، لمشاركته له في الشكل والطلع كما سيأتي: شيء يخرج من النخل، كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، قالوا أول الثمر: طلع ثم خلال، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، اهـ أبو السعود. {كَأَنَّهُ}؛ أي: كأن ذلك الطلع وثمره في تناهي قبحه وشناعة منظره {رُؤُسُ الشَّياطِينِ}؛ لأن صورة الشيطان أقبح الصور، وأكرهها في طباع الناس وعقائدهم، ومن ثمة إذا وصفوا شيئًا بغاية القبح والكراهة قالوا: كأنه شيطان وإن لم يروه، فتشبيه الطلع برؤوس الشياطين، تشبيه بالمخيّل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، قال تعالى حكاية: {ما هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}، وفيه إشارة، إلى أن من كان هاهنا معلوماته في قبح صفات الشياطين، يكون هناك مكافأته في قبح صورة الشياطين. والمعنى (¬2): أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رؤوس الشياطين، والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة، لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[66]

شيطان، ألا ترى إلى امرىء القيس، وقد سلك هذا السبيل، ونهج هذا النهج، فقال: أَيَقتُلُنِي والمَشْرفِيُّ مُضَاجِعيْ ... وَمسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأنْيَابِ أَغْوَالِ فشبه سنان الرمح بأنياب الغول، ولم يرها، فشبه المحسوس بالمتخيل وإن كان غير مرئي، للدلالة على أنه غاية في القبح، وعلى العكس من هذا، تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه، أنه خير محض لا شر فيه، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف عليه السلام: {ما هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}. وقال الزجاج والفراء (¬1): الشياطين حيات هائلة، قبيحة المنظر، لها رؤوس وأعراف، جمع عرف بضم العين، وهو شعر تحت الرأس، وهي من أقبح الحيات وأخبثها، وأخفها جسمًا. وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح، معروف باليمن، بناحية يقال لها: الأستن، ويقال له: الشيطان، قال النحاس: وليس ذلك معروفًا عند العرب، وقيل: هو شجر خشن منتن، مر، منكر الصورة، يسمى ثمره رؤوس الشيطان، يوجد بين مكة واليمن. 66 - {فَإِنَّهُمْ}؛ أي: الكفار {لَآكِلُونَ مِنْها}؛ أي: من شجرة الزقوم، أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة، {فَمالِؤُنَ مِنْهَا}؛ أي: من شجرة الزقوم {الْبُطُونَ}؛ أي: بطونهم، والمالىء اسم فاعل، من ملأ الإناء ماء كما سيأتي، والبطون: جمع بطن، وهو خلاف الظهر، وذلك لغلبة الجوع عليهم، أو أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة وفاكهتهم، 67 - {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ} بعد الأكل منها {عَلَيْها}؛ أي (¬2): على الشجرة التي ملؤوا منها بطونهم بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استسقاؤهم كما ينبىء عنه كلمة {ثُمَّ} فتكون للتراخي الزماني، ويجوز أن تكون للرتبي، من حيث إن كراهة شرابهم وبشاعته، لما كانت أشد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[68]

وأقوى بالنسبة إلى كراهة طعامهم، كان شرابهم أبعد من طعامهم من حيث الرتبة، فيكونون جامعين بين أكل الطعام الكريه البشع، وشرب الشراب الأكره الأبشع، {لَشَوْبًا}؛ أي: لشرابًا مخلوطًا ممزوجًا {مِنْ} دم وصديد بماء {حَمِيمٍ}؛ أي: متناه في الحرارة، والشوب: الخلط، قال الفراء: يقال: شاب طعامه وشرابه، إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبًا وشبابة، والحميم: الحار الذي قد انتهى حره؛ أي: إن لهم شرابًا من دم أو قيح أسود، أو صديد ممزوجًا مشوبًا بماء حار، غاية الحرارة يقطع أمعاءهم. وقرأ الجمهور (¬1): {شوبا} بفتح الشين، وقرأ شيبان النحوي: بالضم، قال الزجاج: الفتح للمصدر، والضم للاسم، يعني: أنه فعل بمعنى مفعول كالنقض بمعنى المنقوض. 68 - {ثُمَّ} بعد ما ملؤوا بطونهم منها، وشربوا عليها شوبًا من حميم {إِنَّ مَرْجِعَهُمْ}؛ أي: مصيرهم ومنقلبهم {لَإِلَى الْجَحِيمِ}؛ أي: إلى (¬2) دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها، وقيل: الجحيم خارج عنها لقوله تعالى: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)}، يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم من الجحيم إلى شجرة الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يمتلئوا، ثم يسقون من الحميم، ثم يردون إلى الجحيم، كما يرد الإبل عن موارد الماء، ويؤيده قراءة ابن مسعود {ثم إن مقيلهم}، وفي الحديث: «يا أيها الناس اتقوا الله، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت، لأمرت على أهل الدنيا معيشتها، فكيف بمن هو طعامه وشرابه، وليس له طعام غيره»، وقرأ ابن مسعود {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم}. وقال أبو حيان (¬3): ولما كان الأكل يعقبه ملء البطن، كان العطف بالفاء في قوله: {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ}، ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل، أتى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط بتصرف.

[69]

بثم، المفيدة للتراخي والمهلة، في قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}، ولما ذهب بهم من منازلهم، التي أسكنوها في النار، إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها، والسقي من الحميم، وتراخي رجوعهم إلى منازلهم، أتى بـ {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} للدلالة على ذلك؛ لأن الرجوع يدل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما. وحاصل معنى قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها} إلى آخر الآيات الثلاث؛ أي: فإنهم (¬1) ليأكلون من ثمرها، فيملؤون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه، ونهاية نتنه، وبشاعة رائحته، ولكن ماذا يعملون، وقد غلب عليهم الجوع، والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضر بما يقاربه فيه، وبعد أن وصف طعامهم وبيّن شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع، فقال: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}؛ أي: ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش، يستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم، شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطع أمعاءهم، ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك، لا مأوى لهم إلا نار جهنم، وبئس المصير، فقال: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}؛ أي: ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه، وتارة في تلك. والخلاصة: أنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم، ثم يسقون الحميم، ثم يرجعون إلى تلك الدركات. 69 - ثم علل استحاققهم للوقوع، في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به، فقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69)}؛ أي: وإنما استحقوا هذا العذاب الشديد؛ أي: لأنهم أي: لأن أصحاب الزقوم وجدوا آباءهم ضالين، ¬

_ (¬1) المراغي.

[70]

مخطئين في نفس الأمر، عن الهدى وطلب الحق، ليس لهم ما يصلح شبهة، فضلا عن صلاحية الدليل، فقلدوهم في ضلالاتهم وجهالاتهم، 70 - {فَهُمْ}؛ أي: الكافرون الظالمون بسبب تقليدهم آباءهم {عَلى آثارِهِمْ}؛ أي: على آثار الآباء وأعقابهم {يُهْرَعُونَ}؛ أي: يسرعون من غير أن يتدبروا أنهم على الحق، أو لا، مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يزعجون ويحثون حثا على الإسراع على آثارهم. والمعنى: يتبعون آباءهم في سرعة، كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، وفي هذا دليل، على أن التقليد شؤم على المقلد، وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر، والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية، غير هذه في ذم التقليد، لكفت. 71 - {وَلَقَدْ} جواب قسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد {ضَلَّ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل قومك قريش {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} من الأمم السابقة، أضلهم إبليس، ولم يذكر لأن في الكلام دليلًا، فاكتفي بالإشارة. والمعنى: أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم الماضية، فعبدوا مع الله تعالى آلهة أخرى، كما فعل قوم إبراهيم، وقوم هود، وقوم صالح. 72 - ثم ذكر رحمته بعباده، وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أرسلنا في أولئك الأولين رسلًا أولي عدد كثير، ذوي شأن خطير، بيَّنوا لهم بطلان ما هم عليه، وأنذروهم عاقبته الوخيمة، وأوضحوا لهم الحق. فلم ينجح ذلك فيهم، 73 - {فَانْظُرْ} يا محمد، أو أيها المخاطب {كَيْفَ كانَ}؛ أي: أي حالة كانت {عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}؛ أي: آخر أمر الذين أنذروا من عذاب الله تعالى، فلم يلتفتوا إلى الإنذار، ولم يرفعوا له رأسًا من الدمار والهلاك، فقد دمرهم الله تعالى، ونجى المؤمنين ونصرهم. والخطاب (¬1): إما للرسول، أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[74]

وسماع أخبارهم، وحيث كان المعنى: أنهم أهلكوا إهلاكًا فظيعًا، 74 - استثني منهم المخلصين بقوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}؛ أي: الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان، والعمل بموجب الإنذار، واصطفاهم بالقرب والرضا. يعني: أنهم نجوا مما أهلك به كفار الأمم الماضية. وقرىء (¬1) {المخلصين} بكسر اللام؛ أي: الذين أخلصوا لله طاعاتهم، ولم يشوبوها بشيء مما بغيرها؛ أي: لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه أنجاهم من عذابه. ففازوا بالنعيم المقيم، في جنات عرضها السموات والأرض. وفي الآية (¬2): تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيان أنه تعالى، أرسل قبله رسلًا إلى الأمم الماضية، فأنذروهم بسوء عاقبة الكفر والضلال، فكذبهم قومهم ولم ينتهوا بالإنذار، وأصروا على الكفر والضلال، فصبر الرسل على أذاهم، واستمروا على دعوتهم إلى الله تعالى، فاقتد بهم، وما عليك إلا البلاغ، ثم إن عاقبة الإصرار الهلاك، وغاية الصبر النجاة والفوز بالمراد، فعلى العاقل تصحيح العمل بالإخلاص، وتصحيح القلب بالتصفية. قال الواسطي: مدار العبودية على ستة أشياء: التعظيم، والحياء، والخوف، والرجاء، والمحبة، والهيبة، فمن ذكر التعظيم يهيج الإخلاص، ومن ذكر الحياء يكون العبد على خطرات قلبه حافظًا، ومن ذكر الخوف يتوب العبد من الذنوب ويأمن من المهالك، ومن ذكر الرجاء يسارع إلى الطاعات، ومن ذكر المحبة يصفو له الأعمال، ومن ذكر الهيبة يدع التملك والاختيار، ويكون في إرادته تابعًا لإرادة الله تعالى، ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا، ومن الله سبحانه التوفيق، بطريق التحقيق، وقد ذكر الله سبحانه، في هذه السورة ست قصص من قصص الأنبياء: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[75]

الأولى منها: قصص نوح عليه السلام 75 - ولما ذكر سبحانه، أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين، وحسن عاقبة المنذرين بالكسر، وسوء خاتمة المنذرين، بالفتح ذكر تفصيل ما أجمله، فقال: {وَلَقَدْ} جواب قسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد {نادانا نُوحٌ} عليه السلام، ودعا واستنصر بنا على كفار قومه، لما بالغوا في إيذائه وهموا بقتله، حين دعاهم إلى الدين الحق. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} له نحن إذ لبينا نداءه، وأهلكنا من كذب به من قومه، والنداء: الدعاء بقرينة {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}. والمعنى (¬1): وبالله لقد دعانا نوح، وهو أول المرسلين حين يئس من إيمان قومه، بعدما دعاهم إليه أحقابا ودهورا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا ونفورًا، فأجبناه أحسن الإجابة، حيث أوصلناه إلى مراده من نصرته على أعدائه، والانتقام منهم بأبلغ ما يكون، فوالله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه، والجمع دليل العظمة والكبرياء. أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} قال: «صدقت ربنا أنت أقرب من دُعي، وأقرب من بُغي، فنعم المدعو، ونعم المُعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير». 76 - ثم بيّن سبحانه، أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه: 1 - {وَنَجَّيْناهُ}، أي: ونجينا نوحًا {وَأَهْلَهُ}؛ أي: وأهل دينه، وهم من آمن معه، وكانوا ثمانين، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} والغرق العميم، وقيل: من أذى قومه دهرًا طويلًا، ومن كل ما يكربه ويسوؤه، والكرب: الغم الشديد كما سيأتي في مبحث اللغة. 2 - 77 {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ} ونسله {هُمُ} فحسب {الْباقِينَ} في الدنيا دون غيرهم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[78]

كما يُشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله سبحانه، أهلك الكفرة بدعائه، ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين، ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده، وقد روي: أنه مات كل من كان معه في السفينة، غير أبنائه وأزواجهم، وهم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة، قال قتادة: إنهم كلهم من ذرية نوح، وكان له ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم، واليهود، والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، وكنعان، والسند، والهند، والنوبة، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر، وغيرهم. ويافث أبو الترك، والخزر، والصقالب، ويأجوج ومأجوج، وما هنا لك. وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين (¬1)، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شيء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبةً، ولا أن الغرق عم الأرض جميعًا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقون، إنما هو بالنسبة لذرية من معه في السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه، وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة، من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق، كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية. 3 - 78 {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ}؛ أي: على نوح، وأبقينا له ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا، {فِي الْآخِرِينَ}؛ أي: فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، 79 - ثم ذكر سبحانه، أنه سلم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء، فقال: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)}؛ أي: وقلنا له: عليك السلام في الملائكة، والإنس، والجن، وعلى هذا التفسير المتروك محذوف، كما قدرنا: والسلام من الله تعالى، وقيل: المتروك نفس قوله: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ}؛ أي: تركنا هذا الكلام بعينه في الآخرين، وارتفاعه على الحكاية كقولك: قرأت سورة أنزلناها، فلم ينتصب السلام، لأن الحكاية لا تغير عن وجهها. والمعنى: يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له على الدوام أمةً بعد أمة. وقوله: {فِي الْعالَمِينَ} على هذا المعنى بدل من قوله: {فِي الْآخِرِينَ} لكونه ¬

_ (¬1) المراغي.

[80]

أدل منه على الشمول والاستغراق، لدخول الملائكة والثقلين فيه. والمراد (¬1): الدعاء بثبات هذه التحية واستمرارها أبدًا في العالمين، من الملائكة والثقلين جميعًا. وفي «تفسير القرطبي»: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة، فقال نوح: لا أحملكما لأنكما سبب الضر والبلاء، فقالا: احملنا، فنحن نضمن لك أن لا نضر أحدًا ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)} لم يضراه، ذكره القشيري. وفي «التأويلات النجمية»: يشير بهذا إلى أن المستحق لسلام الله، هو نوح روح الإنسان؛ لأنه ما جاء أن الله سلم على شيء من العالمين غير الإنسان، كما قال تعالى ليلة المعراج: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فقال عليه السلام: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وما قال: وعلى ملائكتك المقربين. وإنما كان اختصاص الإنسان بسلام من بين العالمين؛ لأنه حامل الأمانة الثقيلة التي أعرض عنها غيره، فكان أحوج شيءٍ إلى سلام الله، ليعبر بالأمانة على الصراط المستقيم، الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تكون دعوة الرسل حينئذٍ، رب سلم سلم». وهل سمعت أن يكون لغير الإنسان العبور على الصراط، وإنما اختصوا بالعبور على الصراط؛ لأنهم يؤدون الأمانة إلى أهلها. وهو الله تعالى، فلا بد من العبور على صراط الله، الموصل إليه لأداء الأمانة، وقرأ ابن مسعود (¬2) {سَلامًا} منصوبًا بتركنا. 80 - ثم علل ما فعله به، بأنه جزاء على إحسانه فقال: {إِنَّا كَذلِكَ} الكاف متعلق بما بعدها؛ أي: مثل ذلك الجزاء الكامل، من إجابة الدعاء، وإبقاء الذرية، والذكر الجميل، وتسليم العالمين أبدًا، {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: الكاملين في الإحسان والإخلاص، لا جزاءً أدنى منه، فهو تعليل لما فعل بنوح، من الكرامات السنية، بأنه مجازاة على إحسانه، 81 - وقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} تعليل لكونه من المحسنين، بخلوص عبوديته وكمال إيمانه، وفيه إظهار لجلالة قدر الإيمان وأصالة أمره، وترغيب في تحصيله والثبات عليه، وفي «كشف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[82]

الأسرار» خص (¬1) الإيمان بالذكر، والنبوة أشرف منه، بيانًا لشرف المؤمنين، لا لشرف نوح، كما يقال: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم. قال عباس بن عطاء: أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين، وأدنى مراتب النبيين أعلى مراتب الصديقين، وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين. 82 - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا} بالطوفان {الْآخَرِينَ}؛ أي: المغايرين لنوح وأهله، وهم كفار قومه أجمعين، ولم نُبق لهم عينًا ولا أثرًا، وهو معطوف على {نَجَّيْناهُ}، وأتى بـ {ثُمَّ} لما بين الإنجاء والإغراق من التفاوت الرتبي، وكذا إذا كان عطفًا على {تَرَكْنا}، وليس للتراخي؛ لأن كلًا من الإنجاء والإبقاء إنما هو بعد الإغراق دون العكس، كما يقتضيه التراخي. والثانية منها: قصص إبراهيم عليه السلام 83 - ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم، وبيّن أنه ممن شايع نوحًا فقال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ}؛ أي: وإن ممن شايع نوحًا وتابعه ووافقه في أصول الدين والدعوة إلى الله سبحانه، وإلى توحيده والإيمان به {لَإِبْراهِيمَ} وإن اختلفت فروع شريعتهما، ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أي: وإن من أهل دينه وعلى سننه أو ممن شايعه ووافقه على التصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين، وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح فقط، والذين قبل نوح ثلاثة: إدريس، وشيث، وآدم، فجملة {مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ} من الأنبياء ستة، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وست مئة وأربعون سنة، قال الأصمعي: الشيعة: الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وفي بعض التفاسير أن الهاء في {شِيعَتِهِ} عائد على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان غير مذكور. والمعنى عليه: وإن من شيعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لإبراهيم، فإبراهيم وإن كان سابقًا في الصورة، لكنه متابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة، ولذا اعترف بفضله، ومدح ¬

_ (¬1) روح البيان.

[84]

دينه، ودعا فيه حيث قال: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} كذا قال الفراء والكلبي وغيرهما، ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق. 84 - والظرف في قوله: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصةً إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من الشرك والشك. وقيل: من الغل، والغش، والحقد، والحسد يحب للناس ما يحب لنفسه، وقيل: خالص من جميع آفات القلوب، وقيل: سليم من العلائق بما في الكونين، ومعنى مجيئه به ربه: إخلاصه له، كأنه جاء به متحضنًا إياه بطريق التمثيل، وإلا فليس القلب مما ينقل من مكان إلى مكان حتى يجاء به، وفي الشوكاني: ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته. والثاني: عند إلقائه في النار. وقيل: الظرف متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة؛ أي: تابعه إذ جاء ربه بقلب سليم، واعترضه أبو حيان بلزوم الفصل بينه وبين معموله بأجنبي، وهو قوله: {لَإِبْراهِيمَ} وبلزوم عمل ما قبل اللام الابتدائية فيما بعدها، وأجيب: بأنه يتوسع في الظروف ما لا يُتوسع في غيرها. ومعنى قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ...} إلخ؛ أي (¬1): وإنّ ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه في اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين، إبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه، {إِذْ جاءَ رَبَّهُ ...} إلخ؛ أي: إذا أخلص قلبه لربه، وجعله خاليا من كل شؤون الحياة الدنيا، فلا غش لديه، ولا حقد، ولا شيء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة. 85 - ثم فصّل ما سلف، فقال: {إِذْ قالَ} والظرف بدل من {إِذْ} الأولى، أو متعلق بـ {سَلِيمٍ}؛ أي: اذكر إذ قال، أو جاء ربه بقلب سليم حين قال: {لِأَبِيهِ} آزر بن باعر بن ناحور بن فالغ بن صالح بن أرفخشد بن سام بن نوح {وَقَوْمِهِ} وكانوا عبدة الأصنام {ماذا تَعْبُدُونَ} استفهام إنكار وتوبيخ؛ أي: أي شيء ¬

_ (¬1) المراغي.

[86]

تعبدون؛ أي: حين قال لأبيه آزر وقومه الكفار، منكرًا عليهم عبادة الأصنام والأوثان؛ أي: شيء تعبدون، إذ لا ينبغي لعاقل، أن يركن إلى مثل هذه المعبودات، التي لا تضر ولا تنفع. 86 - ثم بيّن الإنكار وفسّره بقوله: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري. والإفك (¬1): أسوأ الكذب، وهو لا يثبت ويضطرب، ومنه: ائتفكت بهم الأرض. وانتصاب {إِفْكًا} على أنه مفعول لأجله، و {آلِهَةً} مفعول به لـ {تُرِيدُونَ}. فقدم المفعول على الفعل للعناية، ثم المفعول له على المفعول به؛ لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك آلهتهم، وباطل شركهم؛ أي: أتريدون آلهة من دون الله، تعبدونها إفكًا وكذبًا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل، من نص ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأي، وقيل: انتصاب {إِفْكًا} على أنه مفعول به لـ {تُرِيدُونَ}، و {آلِهَةً} بدل منه جعلها نفس الإفك مبالغة. وهذه أولى من الوجه الأول. وقيل: انتصابه على الحال من فاعل {تُرِيدُونَ}؛ أي: أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. 87 - {فَما} مبتدأ، خبره {ظَنُّكُمْ}؛ أي: فأي شيء ظنكم واعتقادكم {بِرَبِّ الْعالَمِينَ} إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؛ أي: أتظنون أن يغفل عنكم أو لا يؤاخذكم بما كسبت أيديكم؛ أي: لا ظن فكيف القطع. فالاستفهام للإنكار، وهو تحذير مثل: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. أو المعنى (¬2): أتظنون أنه من جنس هذه الأجسام، حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية، أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية، 88 - {فَنَظَرَ نَظْرَةً} واحدة {فِي النُّجُومِ} جمع نجم، وهو الكوكب الطالع؛ أي: في علمها وحسابها، إذ لو نظر إلى النجوم أنفسها لقال: إلى النجوم، وكان القوم يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، واعتذر عن التخلف عن عيدهم؛ أي: عن الخروج إلى معبدهم 89 - {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}؛ أي: سقيم القلب مما تفعلون أو سقيم فيما مضى أو سقيم في المستقبل سقمًا أموت به أو سقيم سقمًا خفيًا مما هو موجود في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[90]

الحال، إذ كان الإنسان لا ينفك من خلل يعتريه، وإن كان لا يحس به، كما ذكره في «المفردات». ففي كلامه تعريض وتورية. وقال ابن عطاء (¬1): إني سقيم من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام أو بصدد الموت. فإن من في عنقه الموت سقيم. وقد فوجىء رجل فاجتمع عليه الناس وقالوا: مات، وهو صحيح فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟. وأيًا ما كان فلم يقل إبراهيم إلا عن تأول. فإن العارف لا يقع في انتهاك الحرمة أبدًا. وكان ذلك من إبراهيم لذب عن دينه، وتوسل إلى إلزام قومه. أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكر: نظر في النجوم. والمعنى هنا: فأطال إبراهيم الفكر فيما هو فيه {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}؛ أي (¬2): أحس بخروج مزاجي عن حال الاعتدال، ولا أرى في نفسي خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه، أن لا يخرج معهم في يوم عيدهم، حين طلبوا منه الخروج، لينفذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم، وإعلان الحرب عليهم، في عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقًا فيما يقول، إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذي بال، يخاف منه الخطر على نفسه، أن يكون مهمومًا مغمومًا مفكرًا في عاقبة ما يعمل. 90 - وكان القوم يتطيرون من المريض (¬3)، فلما سمعوا من إبراهيم ذلك، هربوا منه إلى معبدهم، وتركوه في بيت الأصنام فريدا ليس معه أحد، وذلك قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ}؛ أي: فتول قومه، وأعرضوا وتفرقوا عن إبراهيم {مُدْبِرِينَ}؛ أي: هاربين مخافة العدوى؛ أي: السراية، وتركوه في مكانه. فائدة: قال عز الدين بن عبد السلام: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا. فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[91]

ذلك المقصود مباحًا وواجب إن كان ذلك المقصود واجبًا، فهذا ضابطه، انتهى. وفي «الأسئلة المقحمة»: ومن الناس من يجوّز الكذب في الحروب لأجل المكيدة والخداع، وإرضاء الزوجة، والإصلاح بين المتهاجرين، والصحيح: أنه لا يجوز الكذب أيضًا في هذه المواضع؛ لأن الكذب في نفسه قبيح، والقبيح في نفسه لا يصير حسنًا باختلاف الصور والأحوال، وإنما يجوز في هذه المواضع بتأويل وتعريض لا بطريق التصريح، مثاله نحو قول الرجل لزوجته إذا كان لا يحبها: كيف لا أحبك وأنت حلالي وزوجتي وقد صحبتك. فأما إذا قال صريحا: بأني أحبك وهو يبغضها، فيكون كذبًا محضًا، ولا رخصة فيه. وفي «فتح الرحمن» قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)} لم يقل: إلى النجوم مع أن النظر إنما يتعدى بإلى، كما في قوله تعالى: {وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}؛ لأن {فِي} بمعنى إلى كما في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ}، أو أن النظر هنا بمعنى الفكر، وهو يتعدى بفي، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ}. فصار المعنى هنا: ففكر في علم النجوم. فإن قلت: لم لم يجز النظر في علم النجوم كما جاز لإبراهيم؟. قلت: إذا كان الناظر فيه كإبراهيم في أن الله أراه ملكوت السموات والأرض، جاز له النظر فيه. 91 - {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ}؛ أي: ذهب إبراهيم إلى آلهتهم وأصنامهم في خفية، وأصله: الميل بحيلة من روغة الثعلب، وهو ذهابه في خفية وحيلة {فَقالَ} إبراهيم للأصنام استهزاء وسخرية: {أَلا تَأْكُلُونَ} أيتها الأصنام من الطعام الذي يصنعونه لكم، وخاطبا كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة، وكانوا يضعون الطعام عند الأصنام لتحصل لهم البركة بسببها، ويأكلوه إذا رجعوا من عيدهم، وقيل: تركوه للسدنة، وقيل: إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئًا بها، 92 - والاستفهام في قوله: {ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)} للتهكم بهم؛ أي: أي مانع ثبت لكم غير ناطقين بجوابي 93 - {فَراغَ} إبراهيم؛ أي: مال مستعليًا {عَلَيْهِمْ} حال كونه يضربهم {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}؛ أي: ضربًا حاصلًا باليد اليمنى. فانتصابه على أنه مصدر مؤكد، لفعل محذوف، أو مصدر لراغ؛ لأنه بمعنى ضرب أو على

[94]

الحالية؛ أي: أقبل عليهم مستخفيًا حال كونه ضاربًا باليمين. فالمصدر بمعنى الفاعل؛ أي: ضربًا شديدًا قويًا. وذلك لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما، وقوة الآلة تقتضي قوة الفعل وشدته. وقيل: ضربًا بالقوة والمتانة. وعلى ذلك مدار تسمية الحلف باليمين؛ لأنه يقوّي الكلام ويؤكده. وقيل: ضربًا بسبب الحلف، وهو قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ}. ومعنى الآيات: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} إلخ؛ أي: فذهب مستخفيًا إلى أصنامهم التي يعبدونها، وقال لها استهزاءً: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدم إليكم، وكانوا يصنعون في أيام أعيادهم طعامًا لدى هذه الأصنام لتبارك فيه. وقال أيضًا: {ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)}؛ أي: أي شيء منعكم الإجابة عن سؤالي، ومراده بذلك: التهكم بهم، واحتقار شأنهم، {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}؛ أي: فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة، حتى تركهم جذاذًا إلا كبيرهم، كما تقدم في سورة الأنبياء، 94 - فلما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام، وجدوها مكسورة، فسألوا عن الفاعل، فظنوا أن إبراهيم عليه السلام، فعله، فقيل: فائتوا به. {فَأَقْبَلُوا}؛ أي: توجه المأمورون بإحضاره {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى إبراهيم، قال ابن الشيخ: قوله: {إِلَيْهِ} يجوز أن يتعلق بما قبله وبما بعده، وقوله: {يَزِفُّونَ} حال من واو {أقبلوا}؛ أي: حال كونهم يسرعون من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوها، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها. وقرأ الجمهور (¬1): {يَزِفُّونَ} بفتح الياء من زف إذا أسرع، أو من زفاف العروس، وهو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم، وقرأ مجاهد، وعبد الله بن يزيد، والضحاك، ويحيى بن عبد الرحمن المقري، وابن أبي عبلة {يزفون} مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي والفراء: لا نعرفها بمعنى زف. وقرأ حمزة، ومجاهد أيضًا، وابن وثّاب، والأعمش {يزفون} بضم الياء من أزف الرباعي، دخل في الزفيف؛ أي: الإسراع، فهي للتعدي، قاله الأصمعي، وقرىء {يزفون} مبنيًا للمفعول. وقرىء ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[95]

{يزفون} كيرمون بسكون الزاي من زفاه إذا حداه، فكان بعضهم يزفو بعضًا لتسارعهم إليه. وحكى الثعلبي عن الحسن، ومجاهد، وابن السميفع: أنهم قرؤوا {يرفون} بالراء المهملة، وهي ركض بين المشي والعدو. 95 - {قَالَ} إبراهيم عليه السلام؛ أي: بعدما أتوا به، وجرى بينهم وبينه من المحاورات، ما نطق به قوله تعالى في سورة الأنبياء: {قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62)} إلى قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}؛ أي: قال لهم حال كونه يؤنبهم ويعيّبهم: {أَتَعْبُدُونَ} بهمزة الاستفهام الإنكاري {ما تَنْحِتُونَـ} ـه من الأصنام. فما موصولة؛ أي: أتعبدون أصنامًا أنتم تنحتونها، وتبرونها، وتصلحونها. والنحت: النجر والبري، يقال: نحته ينحته بالكسر نحتًا إذا براه والنحاتة: البراية، 96 - وجملة قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} في محل النصب حال من فاعل {تعبدون} مؤكدة للإنكار والتوبيخ، أي: والحال أنه تعالى خلقكم، والخالق هو الحقيق بالعبادة دون المخلوق. {وَما تَعْمَلُونَ}؛ أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام وغيرها، فإن (¬1) جواهر أصنامهم ومادتها بخلقه تعالى، وشكلها وإن كان بفعلهم، لكنه بإقدار الله تعالى إياهم عليه، وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد والأسباب، فلم يلزم أن يكون الشيء مخلوقًا لله ومعمولًا لهم. ويجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: خلقكم وخلق عملكم. ولكن جعلها موصولةً أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام. وظهر من فحوى الآية: أن الأفعال مخلوقة لله تعالى، مكتسبة للعباد، حسبما قالته أهل السنة والجماعة، وبالاكتساب يتعلق الثواب والعقاب. والمعنى: أي قال لهم: أتعبدون من دون الله تعالى، أصنامًا أنتم تنحتونها بأيديكم، فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم، تجعلونه معبودًا لكم، أفلا عاقل منكم، ينهاكم عن مثل هذا، والله خلقكم، وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[97]

97 - ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية، التي لم يستطيعوا دفعها، عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة، فتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن يبنوا له حائطًا من حجارة، ويملؤوه حطبًا ويضرموه، ثم يلقوه فيه. فـ {قَالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض: {ابْنُوا لَهُ}؛ أي: لإبراهيم؛ أي: لأجل الانتقام منه لآلهتكم {بَنَيْنا} رفيعًا عريضًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ابنوا حائطًا من حجر، طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه حطبًا، وأشعلوه نارًا، واطرحوه فيها كما قال تعالى حكاية عنهم: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}؛ أي: فارموه في النار الشديدة الاتقاد والالتهاب. واللام فيه عوض عن المضاف إليه؛ أي: في جحيم ذلك البنيان. وقال السهيلي في «التعريف»: قائل هذه المقالة لهم فيما ذكر الطبري، اسمه الهيزن، رجل من أعراب فارس، وهم الترك، وهو الذي في الحديث: «بينا رجل يمشي في حلة، يتبختر فيها فخسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة». 98 - ثم ألقوه فيها، ونجاه الله منها، وجعلها بردًا وسلامًا، وهو معنى قوله: {فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا}؛ أي: شرًا، وهو أن يحرقوه بالنار عليه السلام؛ أي: لما قهرهم بالحجة، وألقمهم الحجر قصدوا أن يكيدوا به ويحتالوا لا هلاكه كما كاد أصنامهم بكسره إياهم، لئلا يظهر للعامة عجزهم. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ}؛ أي: الأذلين بإبطال كيدهم، وجعله في نحورهم، وجعله برهانًا نيرًا على علوّ شأنه عليه السلام، بجعل النار عليه بردا وسلاما على ما سبق تفصيل هذه القصة في سورة الأنبياء؛ أي: إن إبراهيم في وقت المحاجة، حصلت له الغلبة، وعندما ألقوه في النار، صرف الله عنه ضرر النار، فصار هو الغالب عليهم. فإن قلت (¬1): لم ابتلاه الله تعالى بالنار في نفسه؟. قلت: لأن كل إنسان يخاف بالطبع من ظهور صفة القهر، كما قيل لموسى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[99]

عليه السلام: {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى}. فأراه تعالى أن النار لا تضر شيئًا إلا بإذن الله تعالى، وإن ظهرت بصورة القهر وصفته. وكذلك أظهر الجمع بين المتضادين، بجعلها بردا وسلاما. وفيه معجزة قاهرة لأعدائه، فإنهم كانوا يعبدون النار والشمس والنجوم، ويعتقدون وصف الربوبية لها، فأراهم الحق تعالى، أنها لا تضر إلا بإذن الله تعالى. وقد ورد في الخبر: أن النمرود لما شاهد النار، كانت على إبراهيم بردًا وسلامًا قال: إن ربك لعظيم نتقرب إليه بقرابين. فذبح تقربًا إليه آلافًا كثيرة، فلم ينفعه لإصراره على اعتقاده وعمله وسوء حاله. 99 - وبعد أن يئس من إيمانهم، أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم، كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {وَقالَ} إبراهيم بعدما أنجاه الله تعالى من النار، قاله لمن فارقه من قومه، فيكون ذلك توبيخًا لهم، أو لمن هاجر معه من أهله، فيكون ذلك ترغيبًا لهم. {إِنِّي ذاهِبٌ}؛ أي: مهاجر من أرض قومي، الذين فعلوا ما فعلوا، تعصبًا للأصنام، وكفرًا بالله، وتكذيبًا لرسله؛ أي: مهاجر من أرض حران، أو من بابل، أو قرية بين البصرة والكوفة، يقال لها: هرمز بحره {إِلى رَبِّي}؛ أي: إلى حيث أمرني ربي بالمهاجرة إليه. وهو الشام، أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى؛ أي: موضع كان، فإن الذهاب إلى ذات الرب محال، إذ ليس في جهة من الأرض. وفي «بحر العلوم»: ولعله أمره الله تعالى، بأن يهجر دار الكفر، ويذهب إلى موضع، يقدر فيه على زيارة الصخرة التي هي قبلته، وعلى عمارة المسجد الحرام، أو هي القرية التي دفن فيها، كما أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، بالهجرة من مكة إلى المدينة. وفي بعض التواريخ: دفن إبراهيم بأرض فلسطين، وهي بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة؛ البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها: الرملة، وغزة، وعسقلان، وغيرها. {سَيَهْدِينِ}؛ أي: سيرشدني إلى مقصدي الذي أردت، وهو الشام أو إلى موضع يكون فيه صلاح ديني، أو سيثبتني على هداي ويزيدني هدى. وبتّ القول بذلك لسبق الوعد بذلك، أو لفرط توكله على ربه،

[100]

أو للبناء على عادته تعالى معه، ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام، حيث قال: {عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}، ولذلك أتى بصيغة التوقع. وهذه (¬1) الآية أصل في الهجرة، من ديار الكفر إلى أرض، يتمكن فيها من إقامة وظائف الدين والطاعة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، هاجر مع لوط وصار إلى الأرض المقدسة. 100 - ولما هاجر من وطنه، ودخل الأرض المقدسة، طلب الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي} ولدًا صالحًا {مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: بعض الكاملين في الصلاح، يعينني على الدعوة والطاعة، ويؤنسني في الغربة، هكذا قال (¬2) المفسرون، وعللوا ذلك، بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عليه عند الإطلاق، وإذا وردت مقيدةً، حملت على ما قيدت به، كما في قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)} وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله: {فَبَشَّرْناهُ} على لسان الملائكة {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}؛ أي: ذي حلم، وحلم؛ أي: بلوغ. يدل على أنه ما أراد بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} إلا الولد، والغلام (¬3): من جاوز العشر، وأما من دونها فصبي، كما قاله بعض أهل اللغة كما سيأتي، والحليم: من لا يعجل في الأمور، ويتحمل المشاق، ولا يضطرب عند إصابة المكروه، ولا يحركه الغضب بسهولة، ولقد جمع فيه ثلاث بشارات: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحلم فإن الصبي لا يوصف بالحلم، وأنه يكون حليمًا، وأي حلم يعادل حلمه، حين عرض عليه أبوه الذبح، وهو مراهق فاستسلم. روي: أن إبراهيم عليه السلام، لما جعل الله النار عليه بردًا وسلامًا، وأهلك عدوه النمرود، وتزوج بسارة، وكانت أحسن النساء وجهًا، وكانت تشبه حواء في حسنها، عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام، فلما دخل الأرض المقدسة، دعا ربه أن يرزقه الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)}؛ أي: رب هب لي أولادًا مطيعين، يعينونني على الدعوة، ويؤنسونني في الغربة، ويكونون عوضًا من قومي وعشيرتي الذين فارقتهم، 101 - فاستجاب ربه دعاءه، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح العجائب.

{فَبَشَّرْناهُ} على لسان الملائكة {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}؛ أي: بمولود ذكر يبلغ الحلم، ويكون حليما، وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم؛ لأنه لازم لتلك السن، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر، وحسن الصبر، والإغضاء عن كل أمر. وهذا (¬1) الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق، باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل، ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة، وولد له إسحاق، وعمره تسع وتسعون سنة، وأي حلم مثل حلمه، عرض عليه أبوه، وهو مراهق أن يذبحه فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، فما ظنك به بعد بلوغه؟ وما نعت الله سبحانه، نبيًا من الأنبياء بالحلم غير إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام. فإن قلت (¬2): لم ختم هنا الآية بـ {حَلِيمٍ}، وفي الحجر والذاريات بـ {عَلِيمٍ}؟. قلت: ختم في ذينك بـ {عَلِيمٍ} إشعارًا بشرف العلم، وختم هنا بـ {حَلِيمٍ} لمناسبة حلم الغلام، لوعده بالصبر في جوابه، لسؤال أبيه في ذبحه، حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. الإعراب {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)}. {فَأَقْبَلَ}: الفاء: عاطفة، {أقبل بعضهم}: فعل، وفاعل، {عَلى بَعْضٍ}: متعلق بـ {أقبل} والجملة معطوفة على {يُطافُ عَلَيْهِمْ}. {يَتَساءَلُونَ}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من الفاعل، ومن المجرور. {قالَ قائِلٌ}: فعل، وفاعل، {مِنْهُمْ} صفة لـ {قائِلٌ}، والجملة مستأنفة. {إِنِّي}: ناصب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص، {لِي} خبرها مقدم، {قَرِينٌ}: اسمها مؤخر. وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {قَرِينٌ}، والجملة صفة لـ {قَرِينٌ}، {أَإِنَّكَ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي، {إِنَّكَ} ناصب واسمه، {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} خبره، واللام حرف ابتداء، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}. {أَإِذا مِتْنا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: أندان ونجازى، {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ} أو مفعول لـ {الْمُصَدِّقِينَ}؛ أي: لمن المصدقين المداناة والمجازاة وقت موتنا ... إلخ، {مِتْنا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذا}؛ أي: أندان وقت موتنا، {وَكُنَّا تُرابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الخفض، معطوف على متنا، {وَعِظامًا}: معطوف على {تُرابًا}، {أَإِنَّا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، مؤكدة للأولى، {إنا} ناصب واسمه، {لَمَدِينُونَ}: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ {يَقُولُ}، على كونها مفسرة للمحذوفة، أو مفعول لـ {الْمُصَدِّقِينَ}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على المؤمن القائل، والجملة مستأنفة. {هَلْ}: حرف استفهام بمعنى الأمر، كأنه قال: اطلعوا كما مر في مبحث التفسير. {أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَاطَّلَعَ} الفاء عاطفة، {اطلع} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على القائل المؤمن، والجملة معطوفة على جملة {قالَ}. {فَرَآهُ} الفاء: عاطفة. {رآه}: فعل ماض، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على القائل المذكور، والجملة معطوفة على جملة {اطلع}، ورآى هنا بصرية. {فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} جار ومجرور

ومضاف إليه، متعلق بـ {رآى}، {قَالَ} فعل وفاعل مستتر، يعود على القائل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {تَاللَّهِ} التاء: حرف جر وقسم، ولفظ الجلالة مقسم به مجرور بتاء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم بالله، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ}. {إِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا؛ أي: إنه، {كِدْتَ} فعل ناقص واسمه؛ لأنه من أفعال المقاربة. {لَتُرْدِينِ} اللام: حرف ابتداء، فارقة بين النافية والمخففة. {تردين}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير مستتر يعود على القرين، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية، ولرعاية الفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كاد}، وجملة {كاد} في محل الرفع خبر {إِنْ}، وجملة {إِنْ} المخففة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {وَلَوْلا}: الواو عاطفة، {لَوْلا}: حرف امتناع لوجود، {نِعْمَةُ رَبِّي}: مبتدأ، ومضاف إليه، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجودة. {لَكُنْتُ} اللام: رابطة لجواب {لَوْلا}، {كنت}: فعل ناقص واسمه، {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} خبره، وجملة {كان} جواب {لَوْلا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْلا} معطوفة على جملة {إِنْ} المخففة على كونها جواب القسم. {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}. {أَفَما نَحْنُ}: الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، تقديره: أنحن مخلدون منعمون، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. {ما}: نافية حجازية. {نَحْنُ} في محل الرفع اسمها. {بِمَيِّتِينَ} خبرها، والباء زائدة، وجملة {ما}: الحجازية معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {مَوْتَتَنَا} منصوب على المفعولية المطلقة بميتين. {الْأُولى}: صفة لـ {مَوْتَتَنَا}، {وَما}: {الواو}: عاطفة. ما: حجازية. {نَحْنُ}: اسمها. {بِمُعَذَّبِينَ} خبرها، وجملة {ما} معطوفة على جملة ما الأولى.

{إِنَّ هذا} ناصب واسمه. {لَهُوَ} اللام: حرف ابتداء. {هو} ضمير فصل، {الْفَوْزُ} خبر {إِنَّ}، {الْعَظِيمُ} صفة لـ {الْفَوْزُ}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {لِمِثْلِ هذا}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {يعمل}. {فَلْيَعْمَلِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حال أهل الجنة، وأردت بيان ما ينبغي لكل عامل، فأقول لك، واللام: لام الأمر، مبني على السكون لسبقه بالفاء. {يعمل} فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر، {الْعامِلُونَ}: فاعل مرفوع بالواو. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)}. {أَذلِكَ}: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري؛ لأن المراد من الكلام: حمل الكفار على الإقرار بمدخولها، لا كما قاله بعضهم من أنها للإنكار. {ذلِكَ}: مبتدأ، {خَيْرٌ} خبره، {نُزُلًا} تمييز لخير، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، {أَمْ}: عاطفة متصلة. {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}: معطوف على ذلك. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: قل لهم يا محمد، على سبيل التقرير: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا ...} الخ. {إِنَّا} ناصب واسمه. {جَعَلْناها} فعل وفاعل، ومفعول أول، {فِتْنَةً} مفعول ثان، {لِلظَّالِمِينَ} صفة لـ {فِتْنَةً}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {إِنَّها} ناصب واسمه، {شَجَرَةٌ} خبره، والجملة مستأنفة. {تَخْرُجُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على شجرة. {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} متعلق بـ {تَخْرُجُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ {شَجَرَةٌ}، وجملة {إن} مستأنفة. {طَلْعُها} مبتدأ، {كَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {رُؤُسُ الشَّياطِينِ} خبر كأن، ومضاف إليه، وجملة التشبيه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة ثانية لـ {شَجَرَةٌ}. {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}.

{فَإِنَّهُمْ} الفاء عاطفة، {إنهم} ناصب واسمه، {لَآكِلُونَ} خبره مرفوع بالواو، واللام حرف ابتداء، {مِنْها} متعلق بـ {آكلون}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {فَمالِؤُنَ} الفاء: عاطفة. {مالؤن} معطوف على {آكلون}، {مِنْها} متعلق بـ {مالؤن}، {الْبُطُونَ} مفعول لـ {مالؤن}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {إِنَّ} حرف نصب، {لَهُمْ} خبرها مقدم، {عَلَيْها}: حال من {شوبا}، {لَشَوْبًا} اسمها مؤخر، واللام: حرف ابتداء، {مِنْ حَمِيمٍ} صفة {لَشَوْبًا}. وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} في قوله: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها}. {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، {إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} ناصب واسمه، {لَإِلَى الْجَحِيمِ} خبره، واللام حرف ابتداء، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} المذكورة قبلها. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {أَلْفَوْا} فعل ماض، وفاعل، وهي من أخوات ظن تنصب مفعولين. {آباءَهُمْ} مفعول أول، {ضالِّينَ} مفعول ثان. وجملة ألفى في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل رجوعهم إلى الجحيم. {فَهُمْ} الفاء: عاطفة. {هم} مبتدأ، {عَلى آثارِهِمْ} متعلق بـ {يُهْرَعُونَ}. {يُهْرَعُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو: نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على جملة {ألفى}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {ضَلَّ} فعل ماض، {قَبْلَهُمْ} متعلق بـ {ضَلَّ}. أو حال مما بعده، {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}: فاعل، ومضاف إليه. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَلَقَدْ} {الواو}: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {أَرْسَلْنا}: فعل، وفاعل، {فِيهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنا}. {مُنْذِرِينَ} مفعول به. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها. {فَانْظُرْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنا أرسلنا

إليهم منذرين، وأردت معرفة عاقبتهم فأقول لك: انظر كيف إلخ. {انظر} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو على أي مخاطب، {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب خبر {كَانَ} مقدم عليها وجوبًا، {كَانَ} فعل ماض ناقص، {عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} اسمها، ومضاف إليه، وجملة {كانَ} في محل النصب، مفعول {انظر}، معلق عنها باسم الاستفهام. وجملة {انظر}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. إِلَّا أداة استثناء بمعنى لكن؛ لأن الاستثناء منقطع. {عِبادَ اللَّهِ} منصوب على الاستثناء. {الْمُخْلَصِينَ} صفة له. {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77)}. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {نادانا}: فعل، ومفعول. {نُوحٌ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {فَلَنِعْمَ} الفاء: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. {نعم} فعل ماض لإنشاء المدح. {الْمُجِيبُونَ} فاعل نِعْمَ، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نحن وجملة {نعم} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم الثاني، معطوفة على جملة القسم الأول. {وَنَجَّيْناهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على نادانا، {وَأَهْلَهُ} معطوف على ضمير المفعول أو مفعول معه، {مِنَ الْكَرْبِ} متعلق بـ {نجينا}. {الْعَظِيمِ}: صفة لـ {الْكَرْبِ}. {وَجَعَلْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على {نَجَّيْناهُ}. {ذُرِّيَّتَهُ} مفعول أول لـ {جعلنا}. {هُمُ} ضمير فصل، لا محل لها من الإعراب، {الْباقِينَ} مفعول ثان لـ {جعلنا}. {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)}. {وَتَرَكْنا} {الواو}: عاطفة. {تَرَكْنا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {نَجَّيْناهُ}. {عَلَيْهِ}: جار ومجرور صفة لمفعول {تَرَكْنا}

المحذوف، تقديره: وتركنا ثناء كائنًا عليه، {فِي الْآخِرِينَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَرَكْنا} على أنه مفعول ثان له، {سَلامٌ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة ما فيه من معنى الدعاء. {عَلى نُوحٍ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، بدل من مفعول {تَرَكْنا} المحذوف على أنها مفسرة له. {فِي الْعالَمِينَ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {فِي الْآخِرِينَ}. وفي «السمين»: قوله: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ}: مبتدأ وخبر، وفيه أوجه: أحدها: أنه مفسر لـ {تَرَكْنا}. والثاني: أنه مفسر لمفعوله؛ أي: تركنا عليه شيئًا، وهو هذا الكلام، وقيل: ثم قول مقدر؛ أي: فقلنا: سلام. وقيل: ضمّن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلّط تركنا على ما بعده. وقال الزمخشري: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} هذه الكلمة، وهي: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)}. يعني: يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له. وهو من الكلام المحكي، كقولك: سورة أنزلناها. وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولًا بتركنا، لا أنه ضمّن معنى القول، بل هو على معناه، بخلاف الوجه الذي قبله، وهو أيضًا من أقوالهم، اهـ من «الفتوحات». {إِنَّا} ناصب واسمه، {كَذلِكَ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: جزاء كائنًا كذلك المذكور. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل مجازاة نوح بتلك الكرامة السامية، وهي خلود ذكره وتسليم العالمين عليه أبد الدهر. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {مِنْ عِبادِنَا} خبره، {الْمُؤْمِنِينَ} صفة لـ {عِبادِنَا} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ. {أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على {نَجَّيْناهُ}. {وَأَهْلَهُ} فالترتيب حقيقي؛ لأن نجاتهم حصلت قبل غرق الباقين، ولكن بينهما تراخ. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة عطف قصة ثانية على القصة الأولى، أو استئنافية {إِنَّ} حرف نصب. {مِنْ شِيعَتِهِ} خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَإِبْراهِيمَ} اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} أو مستأنفة.

{إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)}. {إِذْ}: ظرف ما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقومك قصة حين جاء إبراهيم. {جاءَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {رَبَّهُ} مفعول به. {بِقَلْبٍ} متعلق بـ {جَاءَ}، {سَلِيمٍ} صفة قلب، {إِذْ} بدل من {إِذْ} الأولى، وجملة {قالَ} في محل الجر مضاف إليه، {لِأَبِيهِ} متعلق بـ {قالَ}، {وَقَوْمِهِ} معطوف على أبيه. {ماذا} اسم استفهام مركب في محل النصب، مفعول مقدم لـ {تَعْبُدُونَ} أو {ما} مبتدأ، {ذا} اسم موصول خبره، وجملة {تَعْبُدُونَ} صلة لذا الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما الذي تعبدونه، والجملة الفعلية أو الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}. {أَإِفْكًا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي. {إِفْكًا} مفعول من أجله، منصوب بـ {تُرِيدُونَ}. {آلِهَةً} مفعول به لـ {تُرِيدُونَ}. {دُونَ اللَّهِ} ظرف متعلق بـ {تُرِيدُونَ}. و {تُرِيدُونَ}: فعل، وفاعل. والجملة الفعلية مستأنفة، وقدمت معمولات الفعل عليه اهتماما بها. وقيل: {إِفْكًا}: مفعول به لـ {تُرِيدُونَ}، {آلِهَةً}: بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، فأبدلها منه وفسره بها. وقيل: {إِفْكًا}: حال من فاعل {تُرِيدُونَ}؛ أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين أو ذوي إفك. {فَما} الفاء عاطفة، {ما}: اسم استفهام للإنكار والتوبيخ في محل الرفع مبتدأ. أي: ليس لكم سبب ولا عذر يحملكم على الظن. {ظَنُّكُمْ} خبر المبتدأ، {بِرَبِّ الْعالَمِينَ} متعلق بظنكم. والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها. {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)}. {فَنَظَرَ}: الفاء: استئنافية. {نظر} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم. والجملة مستأنفة. {نَظْرَةً} مفعول مطلق. {فِي النُّجُومِ} متعلق بنظر. {فَقالَ} الفاء: عاطفة. {قال}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على نظر.

{إِنِّي سَقِيمٌ} ناصب واسمه وخبره. والجملة في محل النصب مقول {قال}. {فَتَوَلَّوْا}: الفاء: عاطفة، {تولوا}: فعل، وفاعل، معطوف على قال. {عَنْهُ} متعلق بـ {تولوا}، {مُدْبِرِينَ} حال من الواو في {تولوا}، {فَراغَ} الفاء: عاطفة. {راغ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، معطوف على تولوا، {إِلى آلِهَتِهِمْ} متعلق بـ {راغ}، {فَقالَ} الفاء: عاطفة. {قال}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على راغ. {أَلا} الهمزة: للاستفهام السخري {لا}: نافية، وجملة {تَأْكُلُونَ} في محل النصب مقول {قال}، {ما}: اسم استفهام مبتدأ، {لَكُمْ}: خبره. والجملة في محل النصب مقول لـ {قال}: المحذوف، والتقدير، فقال: ألا تأكلون فلم ينطقوا فقال: ما لكم لا تنطقون. وجملة {لا تَنْطِقُونَ} في محل النصب حال من كاف المخاطبين. {فَراغَ} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فلم يجيبوا، {راغ}: فعل ماض، وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {راغ} {ضَرْبًا} مصدر واقع موقع الحال؛ أي: فراغ عليهم ضاربا أو مصدر لفعل مقدر؛ أي: يضرب ضربًا. والجملة في محل النصب على الحال. و {بِالْيَمِينِ} متعلق بضربًا أو بعامله المحذوف. {فَأَقْبَلُوا} الفاء: عاطفة. {أقبلوا}: فعل، وفاعل، معطوف على راغ، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {أقبلوا}، ويجوز تعلقه بما بعده، وجملة {يَزِفُّونَ}: حال من فاعل {أقبلوا}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر. والجملة مستأنفة. {أَتَعْبُدُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {تَعْبُدُونَ}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب، مقول قال. {ما} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَنْحِتُونَ} صلته، والعائد محذوف تقديره: ما تنحتونه. {وَاللَّهُ} {الواو}: حالية، {اللَّهُ} مبتدأ، وجملة {خَلَقَكُمْ} خبره. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تَعْبُدُونَ}. {وَما تَعْمَلُونَ}: ما: اسم موصول، معطوف على كاف {خَلَقَكُمْ}، أو {ما}: مصدرية، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ ما الموصولة؛ أي: وما تعملونه أو لـ {ما} المصدرية؛ أي: وعملكم. {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}.

{قالُوا}: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {ابْنُوا}: فعل أمر، والواو فاعل، مقول لـ {قالُوا}، {لَهُ} متعلق بـ {ابْنُوا}، {بُنْيانًا}: مفعول به. {فَأَلْقُوهُ}: الفاء: عاطفة. {ألقوه}: فعل أمر، والواو فاعل، والهاء مفعول به. والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة {ابْنُوا}. {فِي الْجَحِيمِ}: متعلق بـ {ألقوه}، {فَأَرادُوا} الفاء: عاطفة. {أرادوا}: فعل، وفاعل، معطوف على قالوا. {بِهِ} متعلق بـ {أرادوا}، {كَيْدًا} مفعول به. {فَجَعَلْناهُمُ}: فعل، وفاعل، ومفعول أول. {الْأَسْفَلِينَ}: مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة {أرادوا}. {وَقالَ} {الواو}: عاطفة. {قالَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فخرج من النار سالمًا، وقال: إني ذاهب. {إِنِّي ذاهِبٌ}: ناصب واسمه وخبره. والجملة في محل النصب مقول قال، {إِلى رَبِّي} متعلق بـ {ذاهِبٌ}، {سَيَهْدِينِ}: السين حرف استقبال، {يهدين}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة، أو اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لـ {قالَ}. {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {هَبْ} فعل دعاء مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، {لِي} متعلق بـ {هَبْ}، {مِنَ الصَّالِحِينَ}: صفة لمفعول محذوف؛ أي: ولدًا من الصالحين، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ} على كونها جواب النداء. {فَبَشَّرْناهُ} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فاستجبنا له فبشرناه. {بشَّرناه} فعل، وفاعل ومفعول به، {بِغُلامٍ} متعلق بـ {بشرناه}، {حَلِيمٍ} صفة لـ {غلام}. والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة. التصريف ومفردات اللغة {يَتَساءَلُونَ} من باب تفاعل، يدل على المشاركة من الجانبين، كما هو صريح لفظ السياق. {قَرِينٌ}؛ أي: خليل، وصاحب، وجليس. {لَمَدِينُونَ}؛

أي: لمجزيون، جمع مدين، كمبيع من الدين، بكسر الدال بمعنى الجزاء، يقال: دانه يدينه بمعنى: جزاه، نظير باعه يبيعه. {مُطَّلِعُونَ}؛ أي: مشرفون فناظرون إلى أهل النار، من اطلع بمعنى استشرف من باب افتعل. {سَواءِ الْجَحِيمِ}؛ أي: في وسط جهنم. وسمي وسط الشيء، سواء لاستواء المسافة منه، إلى جميع الجوانب، كما مر. {كِدْتَ}؛ أي: قاربت. {لَتُرْدِينِ} لتهلكني بالإغواء. والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك. أصله: لترديني بياء المتكلم، فحذفت اكتفاء بكسر نون الوقاية ولرعاية الفاصفة. {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} من الإحضار، وهو لا يستعمل إلا في الشر، كما في كشف الأسرار؛ أي: لمن المساقين إلى العذاب. {نَزَلَ} النزل بضمتين أو بضم النون وسكون الزاي: المنزل، وما يهيأ للضيف من الطعام، والجمع أنزال والنزل أيضًا بضمتين: الطعام ذو البركة، والقوم النازلون، وريع ما يزرع ونماؤه، والعطاء، والفضل، والزيادة. ومنه قولهم: العسل ليس من أنزال الأرض؛ أي: من ريعها، وما يحصل منها. {الزَّقُّومِ} وفي «المفردات»: شجرة الزقوم، عبارة عن أطعمة كريهة في النار، ومنه: استعير زقم فلان، وتزقّم إذا ابتلع شيئًا كريها. قال في «القاموس»: الزقَّم: اللقم، والتزقم: التلقم، وأزقمه فازدقمه أبلعه فابتلعه، والزقوم كتنور: الزبد بالتمر، وشجرة بجهنم، ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار، وفي «الخازن»: والزقوم: ثمر شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم، يكره أهل النار على تناولها، فهم يتزقمونه على أشد كراهية. وقيل: هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. {طَلْعُها}؛ أي: حملها وثمرها، والطلع في الحقيقة اسم لثمر النخيل في أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والطلع من النخل شيء يخرج منه، كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، وما يبدو من ثمرته في أول ظهورها. {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} جمع مالىء اسم فاعل من ملأ المهموز. والملء: حشو الإناء لا يحتمل الزيادة عليه، يقال: ملأ الإناء ماء يملؤه فهو مالىء ومملوء، والبطون جمع بطن، وهو خلاف الظهر في كل شيء.

{لَشَوْبًا} والشوب: الخلط، وهو بفتح الشين مصدر على أصله، وقيل: يراد به: اسم المفعول، ويدل على قراءة بعضهم {لشوبا} بالضم. قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى: المشوب كالنقض بمعنى: المنقوض، والفعل منه شابه يشوبه، من باب قال إذا خلطه فهو الخلط. {مِنْ حَمِيمٍ} والحميم: الماء الحار الذي قد انتهى حره، وهو المقصود، هنا، ويطلق على الماء البارد، فهو من الأضداد. {أَلْفَوْا آباءَهُمْ}؛ أي: وجدوا من الإلفاء، وهو الوجدان. {عَلى آثارِهِمْ}؛ أي: آثار الآباء، جمع أثر. {يُهْرَعُونَ}؛ أي: يسرعون إسراعًا شديدًا. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يزعجون ويحثون حثًا على الإسراع على آثارهم. وفي «المصباح»: هرع وأهرع بالبناء للمفعول فيهما؛ إذا أُعجل، اهـ. {مِنَ الْكَرْبِ} والكرب: الغم الشديد، والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض، وهو قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة ذلك، ويصح أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب. {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} في «المختار»: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره. وفي «المصباح»: الشيعة: الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسمًا لجماعة مخصوصة، والجمع: شيع مثل: سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع، انتهى. مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد به الكبار حتى تستوقد، اهـ «قرطبي». وفي «الأساس»: شيعته يوم رحيله، وشايعتك على كذا تابعتك عليه، وتشايعوا على الأمر، وهو شيعته وشيعه وأشياعه، وهذا الغلام شيع أخيه، إذا ولد بعده، وآتيك غدًا أو شيعه. قال الشاعر: قَالَ الخَليطُ غَدًا تَصُدُّ عَنَّا ... أَو شِيَعَه أَفَلا تُشَيِّعَنَا وأقمت عنده شهرًا أو شيع شهر، وكان معه مئة رجل، أو شيع ذلك، ونزلوا موضع كذا، أو شيعه، وشاع الحديث والسر، وأشاعه صاحبه، ورجل مشياع مذياع، وشاع في رأسه الشيب، وشاعكم الله تعالى بالسلام، وشاعكم

السلام. قال الشاعر: أَلا يَا نَخلَةً فِي ذَاتِ عِرقِ ... بُرودُ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلامُ لمحة عن الشيعة: وقول صاحب «المصباح»: اسم لجماعة مخصوصة، أراد الشيعة، أقدم الفرق الإسلامية، وقد ظهروا بمذهبهم السياسي في آخر عصر عثمان - رضي الله عنه -، ونما وترعرع في عهد علي - رضي الله عنه -، وقوام هذا المذهب: أن الإمامة ليست من المصالح العامة، التي تفوّض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها وتفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويجب أن يكون معصومًا عن الكبائر والصغائر، وأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كان هو الخليفة المختار من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أفضل الصحابة، ولها فرق كثيرة يرجع إليها في «كتاب الملل والنحل» للشهرستاني وكتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم. {أَإِفْكًا} الإفك: أسوأ الكذب. {فِي النُّجُومِ} جمع نجم، وهو الكوكب الطالع. وفي «القرطبي»: فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم، منظورًا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم معتقدهم عذرًا لنفسه، وذلك أنهم أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} قال في «المفردات»: السَّقَمُ والسُّقْمُ: المرض المختص بالبدن، والمرض قد يكون في البدن وفي القلب. {فَراغَ} قال في «القاموس»: راغ الرجل والثعلب روغًا وروغانًا، مال وحاد إلى الشيء في خفية؛ أي: فذهب خفية إلى أصنامهم. وأصل الروغ والروغان: الميل. قال شاعرهم: وَيُريكَ من طَرَفِ اللِّسَان حَلاوةً ... وَيرُوغُ عَنكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعلَبُ وفي «المختار»: راغ الثعلب من باب قال وروغانًا بفتحتين، والاسم منه الرواغ بالفتح. {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}؛ أي: بالقوة والشدة. {يَزِفُّونَ}؛ أي: يسرعون، من زف النعام زفيفًا إذا أسرع. ويزفون بضم الياء، من أزف إذا دخل في الزفيف

أو من أزفه إذا حمله على الزفيف؛ أي: يزف بعضهم بعضا. وفي «المفردات»: أصل الزفيف في هبوب الريح وسرعة النعامة، التي تخلط الطيران بالمشي، وزفزف النعام إذا أسرع. {ما تَنْحِتُونَ} والنحت: نجر الشجر والخشب ونحوهما من الأجسام. ففي «المختار»: نحته براه، وبابه ضرب وقطع أيضًا نقله الأزهري، والنحاتة: البراية. {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} من الجحمة، وهي شدة التأجج والالتهاب. {فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا} والكيد: ضرب من الاحتيال كما في «المفردات». {بِغُلامٍ} والغلام: الطارّ الشارب، والكهل ضده، أو من حين يولد إلى أن يشيب كما في «القاموس». وقال بعض أهل اللغة: الغلام من جاوز العشر، وأما من دونها فصبي. {حَلِيمٍ} والحليم من لا يعجل في الأمور، كما سبق. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتمًا. ومنها: جناس الاشتقاق بين {فاطلع، ومطلعون}. ومنها: التعبير بالماضي في قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} لإفادة التحقق والوقوع. ومنها: الجمع بين المؤكدات في قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} أكده بإن وبضمير الفصل وباللام وباسمية الجملة إفادةً، لفخامة تلك النعمة وعظمها. إذ الدنيا وما فيها تحتقر دونها، كما تحتقر القطرة من البحر المحيط، والحبة من البيدر الكبير. ومنها: القصر في قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}؛ أي: لا لغيره من الحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع.

ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}؛ لأن في التعبير بـ {خَيْرٌ} تهكمًا بهم. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {طَلْعُها}؛ لأن الطلع حقيقة في أول ما يخرج من ثمر النخل، فاستعير لما يخرج من شجرة الزقوم، بجامع الطلوع والبروز في كل. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}. فتشبيه طلعها برؤوس الشياطين في الشناعة والقبح، تشبيه بالمخيل، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، في نحو قوله: {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} فيما حكى الله سبحانه، عن صواحبات يوسف عليه السلام. فمنها: الإتيان بصيغة الجمع في قوله: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} للدلالة على العظمة والكبرياء. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {مُنْذِرِينَ} و {الْمُنْذَرِينَ}؛ لأن المراد بالأول: الرسل، وبالثاني: الأمم. ومنها: الكناية في قوله: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} كني به عن الثناء الحسن الجميل. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ}؛ لأنه حذف منه المفعول به؛ أي: ثناء حسنًا. ومنها: مراعاة الفواصل في قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} إلخ؛ لأنه من المحسنات البديعية، وهو من خصائص القرآن. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ} شبه إقباله على ربه مخلصًا بقلبه، بمن قدم على الملك بتحفة ثمينة جميلة، ففاز بالرضى والقبول.

منها: تقديم المعمولات على العامل في قوله: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} لإظهار العناية والاهتمام بها. ومنها: جناس الاشتقاق بين {ابْنُوا} {بُنْيانًا}، وبين {فَنَظَرَ} {نَظْرَةً}. ومنها: فن الرمز والإيماء في قوله: {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}. وهو أن يريد المتكلم إخفاء أمر ما في كلامه، فيرمز في ضمنه رمزا إما تعمية للمخاطب، وتبرئة لنفسه، وتنصلا من التبعة، وإما ليهتدى بواسطته إلى طريق استخراج ما أخفاه في كلامه، وقد كان قوم إبراهيم نجّامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم التنجيم على أنه يسقم، فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}؛ أي: مشارف للسقم، وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى، فقال ذلك ليوجسوا خوفا، ويتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد ففعل بالأصنام ما فعل، وقد يوهم ظاهر الكلام، أنه ارتكب بذلك جريرة الكذب، والأنبياء معصومون عنه، والصحيح: أن الكذب حرام، إلا إذا عرّض عنه، وورّى. ولقد نوى إبراهيم أن من في عنقه الموت سقيم. ومنها: الإيجاز في قوله: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}. فقد انطوت هذه البشارة الموجزة على ثلاث: أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما. وأي حلم أدل على ذلك من حلمه، حين عرض عليه أبوه الذبح، فلم يضطرب، ولم يتخاذل، ولم يعترض على مشيئة أبيه، بل قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، ثم استسلم لذلك، ولم يكن ليدور له في خلد، أن الله سيفديه، وسيهييء له كبش الفداء. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)}. المناسبة قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...} مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما قال (¬1): {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)} .. أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به، ¬

_ (¬1) المراغي.

[102]

وبلوغه سن المراهقة بقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}. إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه، وإطاعته في تنفيذ ما أمر به، وصبره عليه، ولما حان موعد التنفيذ، كبّه على وجهه للذبح، فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم، ثم بشره بإسحاق نبيًا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق، وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات. التفسير وأوجه القراءة 102 - والظرف في قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ}؛ أي: مع إبراهيم، متعلق بقوله: {السَّعْيَ}. وجاز (¬1) التعلق به؛ لأنه ظرف فيكفيه رائحة من الفعل، لا ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعي، ولم يكن معًا كذا في «بحر العلوم». والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنّا بشرناه بغلام حليم، وأردت بيان عاقبته فأقول لك: لما بلغ الغلام أوان أن يسعى مع إبراهيم في أشغاله وحوائجه ومصالحه، وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. {قالَ} إبراهيم للغلام، وهذا جواب الشرط {يا بُنَيَّ} تصغير شفقة {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} قربانًا لله تعالى؛ أي: أرى هذه الصورة بعينها، أو ما هذه عبارته وتأويله؛ أي: قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئًا فعلوه. وقيل: إنه (¬2) رآى ليلة التروية، كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله تعالى هذا الحلم، أم من الشيطان، فمن ثمة سمّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله تعالى، فمن ثمة سمي يوم عرفة، ثم رأى في الليلة الثالثة مثل ذلك، فهم بنحره، فسمي اليوم يوم النحر. {فَانْظُرْ} يا بني {ماذا} منصوب بقوله: {تَرى} من الرأي فيما ألقيت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

إليك. سأله عما يبديه قلبه ورأيه أي شيء هو؟ هل هو الإمضاء أو التوقف؟. فقوله: {تَرى} من الرأي الذي يخطر بالبال، لا من رؤية العين. قال العلماء بالسير وأخبار الماضين (¬1): لما دعا إبراهيم ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)}، وبشر به قال: هو إذا لله ذبيح. فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك. هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح، فقال للغلام: انطلق نقرب لله قربانًا، فأخذ سكينًا وحبلًا، وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال، فقال الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال: يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر ... إلخ. فإن قلت: لم شاوره في أمر قد علم أنه حتم من الله تعالى، وما الحكمة في ذلك؟. قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، وإنما شاوره ليعلم ما عنده، فيما نزل به من بلاء الله تعالى، وليعلم صبره على أمر الله، وعزيمته على طاعته، ويثبت قدمه، ويصبّره إن جزع، ويراجع نفسه، ويوطنها، ويلقي البلاء، وهو كالمستأنس، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى، قبل نزوله، وتكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرّط منه ذلك. فإن قلت: لم كان ذلك في المنام دون اليقظة، وما الحكمة في ذلك؟. قلت: إن هذا الأمر كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد في المنام كالتوطئة له، ثم تأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فإذا تظاهرت الحالتان، كان ذلك أقوى في الدلالة. ورؤيا الأنبياء وحي وحق. وفي أسئلة الحكم: لم أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده في المنام، ورؤيا الأنبياء حق، وقتل الإنسان بغير حق من أعظم الكبائر؟. قيل: أمره في المنام دون اليقظة؛ لأنه ليس شيء أبغض إلى الله من قتل المؤمن، وقيل: ليعلم أن رؤيا الأنبياء، ويقظتهم سواء في وجوب العمل به. ¬

_ (¬1) الخازن.

وقرأ الجمهور: {تَرَى} بفتح التاء والراء. وقرأ عبد الله، والأسود بن يزيد، وابن وثّاب، وطلحة، والأعمش، ومجاهد، وحمزة، والكسائي بضم التاء وكسر الراء. وقرأ الضحاك، والأعمش أيضًا بضم التاء وفتح الراء، فالأول: من الرأي، والثاني: ماذا ترينه وما تبديه لأنظر فيه، والثالث: ما الذي يخيّل إليك ويوقع في قلبك. والمعنى (¬1): أي لما كبر وترعرع، وصار يذهب مع أبيه، ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه قال له: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟، وقد قص عليه ذلك، ليعلم ما عنده فيما نزل به، من بلاء الله، فيثبّت قدمه إن جزع، وليوطّن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى. ثم بيّن أنه كان سميعًا مطيعًا منقادًا لما طلب منه بقوله: {قالَ} الغلام {يا أَبَتِ}؛ أي: يا أبي ويا والدي. ولما كان خطاب الأب يا بنيّ، على سبيل الترحم والشفقة، قال هو: يا أبت على سبيل التعظيم والتوقير {افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} به من الذبح. فحذف الجار أولًا على القاعدة المطردة، ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوبًا بإيصاله إلى الفعل أو حذفا دفعةً. أو المعنى: افعل أمرك على إرادة المأمور به. والإضافة إلى المأمور. وصيغة (¬2) المضارع حيث لم يقل: ما أمرت للدلالة على أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به. وفي «البيضاوي»: وإنما ذكر بلفظ المضارع. لتكرار الرؤيا، انتهى. ولعله فهم من كلامه، أنه رأى ذبحه مأمورًا به، ولذا قال: {ما تُؤْمَرُ}؛ أي: قال الغلام لأبيه: افعل ما أمرت به. قال ابن إسحاق وغيره: لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية، وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب، أخبره بما أمره الله به، فقال: افعل ما تؤمر. والمعنى (¬3): أي قال الغلام: يا أبت سميعًا دعوت، ومن مجيب طلبت، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[103]

وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به، وما عليّ إلا الانقياد، وامتثال الأمر. وعلى الله المثوبة، وهو حسبي، ونعم الوكيل، ولما خاطبه بقوله: يا بني، على سبيل الترحم، أجابه بقوله: يا أبت، على سبيل التوقير والتعظيم، وفوّض الأمر إليه حيث استشاره، وأن الواجب عليه إمضاء ما رآه. ثم أكد امتثاله للأمر بقوله: {سَتَجِدُنِي} يا أبي {إِنْ شاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى صبري {مِنَ الصَّابِرِينَ} على قضاء الله تعالى وبلائه، أو من الصابرين على الذبح. فاستعان بالله في الصبر على بلائه، حيث قال: إن شاء الله. ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى، والتجأ إليه لم يعطب. قال الذبيح (¬1): {مِنَ الصَّابِرِينَ} أدخل نفسه في عداد الصابرين، فرق عليه وموسى عليه السلام تفرد بنفسه، حيث قال للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا}، فخرج، والتفويض أسلم من التفرد، وأوفق لتحصيل المرام، ولما كان إسماعيل في مقام التسليم، والتفويض إلى الله تعالى، وقف وصبر، ولما كان في صورة المتعلم، ومن شأن المتعلم، أن يتعرض لأستاذه فيما لم يفهمه، خرج ولم يصبر، وقال بعضهم: ظاهر موسى تعرض، وباطنه تسليم أيضًا؛ لأنه إنما اعترض على الخضر بغيرة الشرع. والمعنى: أي سأصبر على القضاء، واحتمل هذه اللأواء غير ضجر ولا برم بما قضي وقدّر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه، مادحًا له: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ}. 103 - ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا، فقال: {فَلَمَّا أَسْلَما}؛ أي: استسلما لأمر الله، وأطاعاه، وإنقادا له؛ أي: استسلم إبراهيم وابنه لأمر الله، وانقادا، وخضعا له. وعن قتادة: معنى {أَسْلَما}؛ أي: أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه. وقرأ الجمهور: {أَسْلَما}. وقرأ عبد الله، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[104]

والضحاك، وجعفر بن محمد، والأعمش، والثوري {سلّما}؛ أي: فوّضا أمرهما إليه تعالى في قضائه وقدره، وروى عن ابن عباس: أنه قرأ {استسلما} ثلاث قراءات يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}؛ أي: أسقط إبراهيم الغلام، وأوقعه على جبينه على الأرض. والجبين: أحد جانبي الجبهة، فللوجه جبينان، والجبهة بينهما. قال في «القاموس»: تلّه: صرعه، وألقاه على عنقه وحده، والجبين: أحد جانبي الجبهة، فللوجه فوق الصدغ جبينان، عن يمين الجبهة وشمالها. قال الراغب: أصل التل: المكان المرتفع، والتليل: العنق، وتلّه للجبين: أسقطه على التل أو على تليله؛ أي: عنقه. وقال غيره: صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن، ويحزنا الشيطان. وكان ذلك عند الصخرة التي بأصل جبل ثبير أو في الموضع المشرف على مسجد منى، أو في المنحر الذي ينحر فيه اليوم عند الجمار، أو في مكة عند المقام، وقيل: بالشام، وروي: أن إبليس عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى، وعزم على الذبح، ومنه شرع رمي الجمرات في الحج، فهو من واجبات الحج، يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة. قال في «التأويلات النجمية»: ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية في حفظ حق الربوبية في القصة: أن إسماعيل، أمر أباه أن يشد يديه ورجليه، لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب، ثم لما هم بذبحه قال: افتح القيد عني، فإني أخشى أن أعاتب، فيقال لي: أمشدود اليد حبيبي يطيعني. ولقد قيل في المعنى: وَلَو بِيَدِ الحَبيبِ سُقيتُ سُمَّا ... لَكَانَ السُّمُّ مِن يَدهَ يَطِيْبُ 104 - {وَنادَيْناهُ}؛ أي: ونودي إبراهيم من جانب الجبل {أَنْ} مفسرة لمفعول {وَنادَيْناهُ} المقدر؛ أي: ناديناه بلفظ هو قولنا {أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}

[105]

بالعزم على الإتيان بالمأمور به، وترتيب مقدماته. وفي «شرح الفصوص» للمولى الجامي: معناه؛ أي: حققت الصورة المرئية، وجعلتها صادقة مطابقة للصورة الحسية الخارجية بالإقدام على الذبح، والتعرض لمقدماته. وقد قيل: إنه أمر السكين، بقوته على حلقه مرارًا، فلم يقطع، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلب السكين، فعند ذلك وقع النداء. والمعنى: أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء. وقال القرطبي: قال أهل السنة: إن نفس النسخ لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه. فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. 105 - قال: ومعنى {صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}: فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل في هذا الباب. وقد اختلف في جواب {لما} ماذا هو؟ فقيل: هو محذوف (¬1) إيذانًا بعدم وفاء التعبير بتفاصيله، كأنه قيل: كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى، على ما أنعم به عليهما من رفع البلاء، بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفّق أحد لمثله، وإظهار فضلهما بذلك على العالمين، مع إحراز الثواب العظيم، إلى غير ذلك، هكذا قال البصريون، وقال الكوفيون: الجواب: هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس: بأن الواو من حروف المعاني، ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش: الجواب: وتلّه للجبين، والواو زائدة، وروي هذا أيضًا عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأول. وقرأ زيد بن علي {وناديناه} قد صدقت بحذف {أن}. وقرىء {صدَقت} بتخفيف الدال. وقرأ فيّاض {الريا} بكسر الراء والإدغام. وقوله: {إِنَّا} نحن {كَذلِكَ}؛ أي: كما جزينا إبراهيم وابنه بتفريج الكرب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[106]

{نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: نجزي كل محسن، بامتثال الأمر، تعليل لتفريج تلك الكربة عنهما بإحسانهما، قال مقاتل: جزاه الله سبحانه، بإحسانه في طاعته، العفو عن ذبح ابنه. والمعنى (¬1): أي إنا كما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله حين أعد العدة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضي بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا، نجزي كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير. 106 - ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه، مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة، فقال: {إِنَّ هذا} الذبح المأمور به {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}؛ أي: لهو الابتلاء البيّن الظاهر، والذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو إن هذا لهو المحنة البينة الصعوبة، التي لا محنة أصعب منها، والمعنى؛ أي: إن هذا الذي كان، لهو محنة أيما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله سبحانه أن يبتلي من شاء من عباده بما شاء من التكاليف، قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها، وبما لأجله شرعها. وقيل المعنى: إن هذا الفداء الآتي لهو النعمة الظاهرة، حيث سلم الله ولده من الذبح، وفداه بالكبش، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه، والأول أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول، فقال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به، في أن يذبح ولده، قال: وهذا من البلاء المكروه. 107 - {وَفَدَيْناهُ}؛ أي: وفدينا إسماعيل {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}؛ أي: بمذبوح عظيم الشأن، متقبل عند الله تعالى. قيل: معناه: بكبش سمين اسمه جرير، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى، فقبله، وكان في الجنة يرعى، حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت، فإذا هو بكبش أملح ¬

_ (¬1) المراغي.

[108]

انحط من الجبل، فقام عند إبراهيم، فأخذه فذبحه، ثم اعتنق ابنه، وقال: يا بني اليوم وهبت لي. وروي: أنه لما ذبحه قال جبرائيل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي ذلك سنة في الإسلام. والفادي في الحقيقة هو إبراهيم. وإنما قال: {وَفَدَيْناهُ}؛ لأن الله هو المعطي له، والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد. وقيل المعنى: وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير، قاله الحسن البصري، فإنه قال: ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. قال الزجاج: قد قيل: إنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي. ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداءً له، وخلصناه به من الذبح، لكن ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه، والذبح بالكسر: اسم للمذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح: المصدر، ومعنى {عَظِيمٍ}: عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة، وإنما عظم قدره لأنه فدي به نبي ابن نبي، وأي نبي من نسله سيد المرسلين. وقيل معنى {عَظِيمٍ}؛ أي: عظيم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عظّموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم». 108 - ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى، فقال: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ}؛ أي: على إبراهيم؛ أي: أبقينا له ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلًا {فِي الْآخِرِينَ}؛ أي: في الأمم المتأخرة التي تأتي بعده إلى يوم القيامة، فصار محببًا بين الناس جميعًا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبجّلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون: إنا على ملة أبينا إبراهيم. وذلك استجابة لدعوته حين قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)}. 109 - ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة، فقال: {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109)}؛ أي: وقلنا له: عليك السلام في الملائكة، والإنس والجن. أو (¬1) المعنى؛ أي: تركنا على ¬

_ (¬1) المراح.

[110]

إبراهيم في الباقين من الأمم هذا الكلام بعينه، كما سبق في قصة نوح. والمعنى: أثبت الله التسليم على إبراهيم، وأدامه في الآخرين، فيسلمون عليه؛ أي: يدعون له بثبوت هذه التحية. 110 - {كَذلِكَ}؛ أي: مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بالثناء الحسن. فالكاف (¬1) متعلقة بما بعدها. وذلك إشارة إلى بقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم، لا إلى ما أشير إليه فيما سبق، فلا تكرار؛ أي: مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي المنقادين لأوامرنا، لا جزاء أدنى منه، يعني أن إبراهيم من المحسنين، وما فعلناه مما ذكر مجازاة على إحسانه. 111 - {إِنَّهُ}؛ أي: إن إبراهيم {مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والاطمئنان. وفي «التأويلات النجمية» أي من عبادنا المخلصين، لا من عباد الدنيا، والهوى، والسوى. وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: لم قال هنا: كذلك نجزي المحسنين بحذف إنا، وأثبته في آخر غيرها من القصص؟ قلت: حذفه في قصة إبراهيم اختصارًا واكتفاءً بذكره له قبل في قصته بقوله: وناديناه أن يا إبراهيم الآية، مع أن ما بعد قصته كان من تكملتها، وهو قوله: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} بخلاف سائر القصص، انتهى. 112 - ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة، وهي نعمة الولد، فقال: {وَبَشَّرْناهُ}؛ أي: إبراهيم، والتبشير: هو الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر به. {بِإِسْحاقَ} من سارة رضي الله عنها حال كونه {نَبِيًّا} أي: مقضيًا بنبوته، مقدرًا كونه {مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: بشرنا إبراهيم بولد يولد له، ويصير نبيًا بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، وانتصاب {نَبِيًّا} على الحال، وهي حال مقدرة، والأولى (¬2) أن يقال: إن من فسّر الذبيح بإسحاق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، وإيماء إلى أنه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[113]

الغاية لها، لتضمنها معنى الكمال، والتكميل بالفعل على الإطلاق. و {مِنَ الصَّالِحِينَ} كما يجوز أن يكون صفة لـ {نَبِيًّا} يجوز أن يكون حالًا من الضمير المستتر فيه، فتكون أحوالًا متداخلةً. وفي «التأويلات النجمية»: {نَبِيًّا}؛ أي: ملهمًا من الحق تعالى، كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي: {مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي: من المستعدين لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة، انتهى. والمعنى: أي وآتينا إبراهيم إسحاق، ومننا بنعمة النبوة له، وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا، وصبره على بلوانا. 113 - {وَبارَكْنا عَلَيْهِ}؛ أي: على إبراهيم في أولاده {وَعَلى إِسْحاقَ} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء من بني إسرائيل، وغيرهم كأيوب وشعيب، أو (¬1) أفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثَّرنا نسلهما، وجعلنا منه أنبياء ورسلًا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة، فيقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما}؛ أي: ومن ذرية إبراهيم وإسحاق {مُحْسِنٌ} في عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة {وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالكفر والمعاصي {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر ظلمه. وفيه تنبيه على أن الظلم في أولادهما وذريتهما لا يعود عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء يجازى بما صدر من نفسه طاعة أو معصية، لا بما صدر من أصله وفرعه، كما قال: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}. وأن النسب لا تأثير له في الصلاح، والفساد والطاعة والعصيان فقد يلد الصالح العاصي، والمؤمن الكافر، وبالعكس، ولو كان ذلك بالطبيعة لم يتغير، ولم يتخلف. فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال المبين، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فقد ماتوا على الشرك، إلا من أنقذه الله بالإسلام. أَتَفْخَرُ باتِّصَالِكَ مِنْ عَلِيِّ ... وَأصْلُ الْبَولَةِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ ¬

_ (¬1) المراغي.

وَلَيْسَ بنَافِعٍ نسبٌ زَكِيٌّ ... تُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ الْقِبَاحُ وقال بعضهم: وَمَا يَنْفَعُ الأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ ... إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ من باهله وباهلة: قبيلة عرفوا بالدناءة؛ لأنهم كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية، ويأكلون نقيّ عظام الميتة، وفي المثل: ذهب الناس إلا النسناس، وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس، أو هم خلق في صورة الناس. فعلى العاقل ترك الاغترار بالأنساب والأحساب، والاجتهاد فيما ينفعه يوم الحساب. والمعنى: أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله، فآمن بربه، وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومنهم من ظلم نفسه، ودسّاها بالكفر والفسوق والمعاصي. والخلاصة: أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة ولا عيب عليهم في شيء منه، كما قال: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}. تتمة: مَنِ الذبيح، أإسحاق أم إسماعيل؟ ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب، وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها: أولًا: فمن قائل: إنه إسحاق، ويؤيده: 1 - ما روي عن يوسف عليه السلام: أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب عن أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. 2 - ما روي عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، فقال: أنا فلان بن فلان بن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. 3 - ما حكاه البغوي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعباس: أنه

[114]

إسحاق. ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون منه، وكان يحدث بها عن الكتب القديمة وهي جامعة بين الغث والسمين، ثقة بأن عمر رضي الله عنه قد استمع منه. ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها، وعزل جيدها من بهرجها، وصحيحها من سقيمها. ثانيًا: ومن قائل: إنه إسماعيل، وهو الذي يساوقه صحيح النظر، ونصوص القرآن. ويؤيده: 1 - رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء ابن أبي رباح عنه أنه قال: المفدي هو إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود. 2 - روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال الذبيح إسماعيل. 3 - أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله بذبحه من ابني إبراهيم هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى، فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وقال: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ}، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق، وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا. وعلى الجملة: فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها، يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب، على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان، ومن الفضل الذي ذكره الله له لصبره، لما أمر به، فجحدوا ذلك، وزعموا أنه إسحاق؛ لأنه أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرًا مطيعًا لربه. القصة الثالثة: قصة موسى وهارون عليهما السلام 114 - ولما فرغ الله سبحانه، من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح، وما منّ عليه بعد ذلك من النبوة .. ذكر ما منّ به على موسى وهارون. فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنعمنا {عَلى مُوسى} بن عمران وَأخيه الشقيق {هارُونَ} بن

[115]

عمران، وهو أكبر من موسى سنًا بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية 115 - {وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما} وهم المؤمنون من بني إسرائيل؛ أي: خلّصناهم {مِنَ الْكَرْبِ} والبلاء {الْعَظِيمِ}؛ أي: الشديد. والمراد بالكرب العظيم: هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون وقومه إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء، وقيل هو الغرق الذي أهلك به فرعون وقومه، والأول أولى. 116 - ولما كانت التنجية عبارة عن التخليص من المكروه، وهي لا تقتضي الغلبة أتبعها بقوله: {وَنَصَرْناهُمْ}؛ أي: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على أعدائهم، وأيّدناهم عليهم {فَكانُوا} بسبب نصرنا إياهم {هُمُ} فحسب {الْغالِبِينَ} على أعدائهم فرعون وقومه القبطيين، غلبةً لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى، فصّل النعم التي أنعم بها على موسى وهارون وقومهما. فقال أولًا: {وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما}؛ أي ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى، من المهانة والمذلة، التي لولا الفهم لها، لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال، وحيازته، والتمتع بلذات الدنيا. وقال ثانيًا: {وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)}؛ أي: ونصرناهم على أعدائهم، فغلبوهم، وملكوا أرضهم وأموالهم، وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم، فكانوا أصحاب الصولة، والسلطان، والدولة، والرفعة. 117 - وقال ثالثًا: {وَآتَيْناهُمَا}؛ أي: وأعطينا موسى وهارون بعد التنجية المذكورة {الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ}؛ أي: الكتاب الجلي الواضح المتناهي في البيان، والتفصيل لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة، فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، كما قال تعالى:

[118]

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ}، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}. 118 - وقال رابعًا: {وَهَدَيْناهُمَا} بذلك الكتاب {الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ أي: الموصل إلى الحق والصواب، بما فيه من تفاصيل الشرائع، وتفاريع الأحكام. 119 - وقال خامسًا: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِما}؛ أي: أبقينا لهما ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلًا {فِي الْآخِرِينَ}؛ أي: فيمن بعدهم من الأمم. وهذا ما تصبو إليه النفوس. قال شاعرهم: وإنَّمَا المَرءُ حَديْثٌ بَعدَهُ ... فَكُن حَدِيثًا حَسنًا لِمنْ وَعَى وقال الآخر: الذِّكْرُ لِلإنْسَا ... نِ عُمرٌ ثَانِيْ 120 - فهم يسلمون عليهما، ويقولون: {سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120)} ويدعون لهما دعاء دائمًا إلى يوم الدين، ولا شيء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال، كما ورد في الحديث: «من أصبح آمنًا في سربه، معافى في بدنه، فكأنما حيزت الدنيا له بحذافيرها». 121 - ثم ذكر سبب هذه النعم، فقال: {إِنَّا كَذلِكَ}؛ أي: مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الذين هما من جملتهم، لا جزاء قاصرًا عنه 122 - {إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} يشير إلى (¬1) أن طريق الإحسان هو الإيمان. فالإيمان هو مرتبة الغيب، والإحسان هو مرتبة المشاهدة. ولما كان الإيمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله، والجري على مقتضى العلم. القصة الرابعة: قصة إلياس عليه السلام 123 - {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)} إلى بني إسرائيل. قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فهو إسرائيلي من سبط هارون. وقرأ الجمهور (¬1): {إِلْيَاسَ} بهمزة مكسورة مقطوعة. وقرأ ابن ذكوان بوصلها، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر، وقرأ ابن مسعود، والأعمش، ويحيى بن وثّاب {وإن إدريس لمن المرسلين}. وقرأ أبّي {وإن إيليس} بهمزة مكسورة، ثمّ تحتية ساكنة، ثمّ لام مكسورة، ثم تحتية ساكنة، ثم سين مهملة مفتوحة. وحاصل قصته: كما قال محمد بن إسحاق، وعلماء السير والأخبار: لما (¬2) قبض الله عز وجل، حزقيل النبي عليه السلام، عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك، ونصبوا الأصنام، وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيا، وكان أنبياء يبعثون من بعد موسى عليه السلام في بني إسرائيل، بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة. وكان يوشع لما فتح الشام، قسمها على بني إسرائيل، وإن سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها، وهم الذين بعث إليهم إلياس، وعليهم يومئذ ملك اسمه آجب، وكان قد أضل قومه، وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان له صنم من ذهب، طوله عشرون ذراعًا، وله أربعة أوجه، اسمه بعل. وكانوا قد فتنوا به، وعظّموه، وجعلوا له أربع مئة سادن، وجعلوهم أنبياء. فكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها عنه، ويبلغونها الناس. وهم أهل بعلبك، وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وهم لا يسمعون له، ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك، فإنه آمن به وصدقه. فكان إلياس يقوم بأمره، ويسدده، ويرشده، وكان للملك امرأة جبارة، اسمها أربيل، وكانت قتالة للأنبياء والصالحين، يقال: إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا، وقد تزوجت سبعةً من ملوك بني إسرائيل، وقتلتهم كلهم غيلة، إنها ولدت سبعين ولدًا. وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب، فغضبت من رجل مؤمن اسمه مزدكي له جنينة تصغير جنة، كان يتعيّش منها في جنب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

قصرها، فحسدته، فأخذتها وقتلته، فبعث الله سبحانه وتعالى إلياس إلى الملك وزوجته، وأمره أن يخبرهما أن الله عز وجل قد غضب لوليّه، حين قُتل ظلمًا، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما، ويردا الجنينة على ورثة المقتول .. أهلكهما في جوف الجنينة، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها، ولا يتمتعان فيها إلا قليلا، فجاء إلياس، فأخبر الملك بما أوحى الله إليه في أمره، وأمر امرأته، والجنينة. فلما سمع الملك ذلك غضب، واشتد غضبه عليه، وقال: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلا، وهمّ بتعذيب إلياس وقتله. فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هاربا، ورجع الملك إلى عبادة بعل، ولحق إلياس بشواهق الجبال، فكان يأوي إلى الشعاب والكهوف، فبقي سبع سنين على ذلك خائفًا مستخفيًا، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه، وقد وضعوا عليه العيون، والله يستره منهم. فلما طال الأمر على إلياس، وسكنى الكهوف في الجبال، وطال عصيان قومه ضاق بذلك ذرعًا، فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه، ألست أميني على وحي، وحجتي في أرضي، وصفوتي من خلقي، سلني أعطك، فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال: يا رب تميتني وتلحقني بآبائي، فإني قد مللت بني إسرائيل، وملّوني، فأوحى الله تعالى إليه يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعرّى منك الأرض وأهلها، وإنما صلاحها وقوامها بك وبأشباهك، وإن كنتم قليلا سلني أعطك. فقال إلياس: إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل، قال الله عز وجل: وأي شيء تريد أن أعطيك؟ قال: تملكني خزائن السماء سبع سنين، فلا تسير عليهم سحابة إلا بدعوتي، ولا تمطر عليهم قطرة إلا بشفاعتي، فإنه لا يذلهم إلا ذاك. قال الله عز وجل: يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: فست سنين، قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك، قال: فخمس سنين، قال: أنا أرحم بخلقي، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، قال إلياس: فبأي شيء أعيش يا رب؟ قال: أسخّر لك جيشا من الطير ينقل لك طعامك وشرابك من الريف، والأرض التي لم تقحط. قال إلياس: قد رضيت، فأمسك الله عز وجل عنهم المطر، حتى هلكت الماشية والهوام والشجر، وجهد

الناس جهدًا شديدًا، وإلياس على حاله مستخفيًا من قومه، يوضع له الرزق حيث كان، وقد عرف قومه ذلك. قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمر إلياس بعجوز، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: نعم شيء من دقيق وزيت قليل، قال: فدعا به ودعا فيه بالبركة، ومسه حتى ملأ جرابها دقيقًا، وملأ خوابيها زيتًا، فلما رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا، وكذا، فوصفته بصفته فعرفوه، وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه، فوجدوه، فهرب منهم، ثم إنه آوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل، ولها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب، به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا لابنها فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع الياس، وآمن به، وصدّقه، ولزمه، وذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد كبر، وأسنّ، واليسع غلام شاب. ثم إن الله تعالى أوحى إلى الياس: أنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص الله من البهائم، والدواب، والطير، والهوام، والشجر بحبس المطر، فيزعمون أن الياس قال يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم بالفرج مما هم فيه من البلاء، لعلهم يرجعون عما هم فيه، وينزعون عن عبادة غيرك، فقيل له: نعم. فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال: إنكم قد هلكتم جوعًا وجهدًا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنزعتم ودعوت الله تعالى، ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، فقالوا: يا الياس أنصفت، فخرجوا بأوثانهم ودعوها، فلم تفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فقالوا: إنا قد أهلكنا فادع الله لنا، فدعا إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق، ثم أرسل الله عز وجل عليهم المطر، وأغاثهم، وحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزعوا عن كفرهم، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا، وكذا، فاخرج إلى موضع

[124]

كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به، أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كالنار حتى وقف بين يدي إلياس، فوثب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع يا إلياس ما تأمرني؟ فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به. ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فصار إنسيًا ملكيًا أرضيًا سماويًا. وسلط الله عز وجل على آجب الملك وقومه عدوًا لهم، فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم. فقتل آجب وامرأته أربيل في الجنينة التي اغتصبتها امرأة الملك من ذلك المؤمن، فلم تزل جثّتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما، ورمّت عظامهما. ونبأ الله سبحانه وتعالى اليسع، وبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل، وأوحى إليه، وأيّده، فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظّمونه وحكم الله تعالى فيهم قائم، إلى أن فارقهم اليسع. روى السدي عن يحيى بن عبد العزيز عن أبي روّاد قال: إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس، ويوافيان الموسم في كل عام، وقيل: إن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار. فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)}. 124 - والظرف في قوله: {إِذْ قالَ} متعلق (¬1) بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصة وقت قوله {لِقَوْمِهِ} بني إسرائيل: {أَلا تَتَّقُونَ} وتخافون عذاب الله تعالى، ونقمته إن خالفتم أمره. و {أَلا} بالتخفيف حرف عرض، وهو الطلب برفق ولين. وقيل: إن الهمزة في {أَلا} للاستفهام، و {لا} نافية، ويكون الاستفهام بمعنى الأمر؛ أي: اتقوا الله. وقيل: الظرف متعلق بالمرسلين. والأول أولى. 125 - والهمزة في قوله {أَتَدْعُونَ}؛ أي: أتعبدون {بَعْلًا}؛ أي: صنمًا. للإنكار؛ أي: لا تعبدوه، ولا تطلبوا منه الخير، فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[126]

الشام، وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك، وكان من ذهب، طوله عشرون ذراعًا كما مر في القصة. أي: أتعبدون صنمًا عملتموه ربًا {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ}؛ أي: وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق. ثم إن الخلق حقيقة في الاختراع والإنشاء والإبداع، ويستعمل أيضًا بمعنى التقدير والتصوير، وهو المراد به هاهنا؛ لأن الخلق، بمعنى: الاختراع لا يتصور من غير الله تعالى، حتى يكون هو أحسنهم. والمعنى: أحسن المصورين أو أحسن الخالقين لو وجدوا. 126 - وانتصاب الاسم الشريف في قوله: {اللَّهَ رَبَّكُمْ} على أنه بدل من {أَحْسَنَ} هذا على (¬1) قراءة حمزة، والكسائي، والربيع بن خيثم، وابن أبي إسحاق، ويحيى بن وثاب، والأعمش. فإنهم قرؤوا بنصب الاسمين. وقيل: النصب على المدح. وقيل: على عطف البيان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس، وأولى ما قيل: إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. وحكي عن الأخفش: أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على {أَحْسَنَ الْخالِقِينَ} على جهة التمام؛ لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعًا. والمعنى: إنه خالقكم وخالق من قبلكم، فهو الذي تحق له العبادة. وقوله: {وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} معطوف على {رَبَّكُمْ} على كلا الوجهين. والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم، للإشعار ببطلان آرائهم أيضًا 127 - {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: إلياس. {فَإِنَّهُمْ}؛ أي: فإن قومه بسبب تكذيبهم إياه {لَمُحْضَرُونَ}؛ أي: لمدخلون في النار والعذاب، لا يغيبون منها، ولا يخفف عنهم كقوله: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ}، لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفًا. 128 - وقوله: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)} استثناء متصل من فاعل {كذبوه}. فيه دلالة على أن من قومه من ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[129]

لم يكذبه، ولم يحضر في العذاب، وهم الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان، والعمل بموجب الدعوة والإرشاد. والمعنى: أي إلا قومًا منهم أخلصوا العمل لله، وأنابوا إليه، فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدموا من ذخر طيب. 129 - {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ}؛ أي: وأبقينا على إلياس {فِي الْآخِرِينَ} من الأمم 130 - {سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130)} أي: هذا الكلام بعينه، فيدعون له، ويثنون عليه إلى يوم القيامة. وهو لغة (¬1) في إلياس كسيناء في سينين، فإن كلا من طور سيناء وطور سينين بمعنى الآخر، زيد في أحدهما الياء والنون، فكذا إلياس وإلياسين. وقرىء بإضافة {آل} إلى {ياسين}؛ لأنهما في المصحف مفصولان. فيكون ياسين أبا إلياس، والآل هو نفس إلياس. وقرأ (¬2) زيد بن علي، ونافع، وابن عامر {على إل ياسين}، وزعموا أن {آل} مفصولة في المصحف، و {ياسين} اسم لإلياس. قيل: اسم لأبي إلياس؛ لأنه إلياس بن ياسين، وآل ياسين هو ابنه إلياس. وقرأ باقي السبعة {على إلياسين} بهمزة مكسورة؛ أي: إلياسيين. جمع المنسوبين إلى إلياس معه، فسلم عليهم. وهذا يدل على أن من قومه من كان تبعه على الدين، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس، فلما جمعت خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف، فالتقى ساكنان الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع، فحذفت لالتقائهما كما الأشعرون في جمع أشعري، والأعجمون في جمع أعجمي. وحكى أبو عمرو: أن مناديًا نادى يوم الكلاب هلك اليزيديون، وقال الزمخشري: لو كان جمعا لعرّف بالألف واللام. وقرأ أبو جعفر، والحسن {على الياسين} بوصل الألف على أنه جمع يراد به: إلياس وقومه المؤمنون، وحذفت ياء النسب كما قالوا: الأشعرون، والألف واللام دخلت على الجمع، واسمه على هذا ياس. وقرأ ابن مسعود، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس {سلام على إدراسين}. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبًا، فياسين، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[131]

وإلياس، وإلياسين واحد. 131 - {إِنَّا كَذلِكَ}؛ أي: مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إحسانًا مطلقًا، ومن جملتهم إلياس 132 - {إِنَّهُ}؛ أي: إن إلياس. لا شبهة في أن الضمير لإلياس، فيكون إلياس وإلياسين شخصًا واحدًا، وليس إلياسين جمع إلياس، كما دل عليه من قبله من قوله: سلام على نوح، وسلام على إبراهيم، وسلام على موسى وهارون {مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والاطمئنان. القصة الخامسة: قصة لوط عليه السلام 133 - {وَإِنَّ لُوطًا} هو لوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليه السلام {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قومه، وهم أهل سدوم بالدال المهملة. فكذبوه وأرادوا إهلاكه، فقال: رب نجني وأهلي مما يعملون، 134 - فنجاه الله وأهله. فذلك قوله تعالى: {إِذْ نَجَّيْناهُ} والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، ولا يصح تعلقه بالمرسلين؛ لأنه لم يرسل وقت تنجيته؛ أي: اذكر يا محمد لقومك قصة وقت تنجيتنا إياه {وَأَهْلَهُ}؛ أي: أهل بيته يعني: ابنتيه: زاعورا، ورينا {أَجْمَعِينَ} تأكيد لما قبله 135 - {إِلَّا عَجُوزًا}؛ أي: إلا (¬1) امرأته الخائنة واهلة الكافرة. وكان نكاح الوثنيات، والإقامة عليهن جائزا في شريعته. وسميت المرأة المسنة عجوزًا لعجزها عن كثير من الأمور، كما في «المفردات». {فِي الْغابِرِينَ} صفة لـ {عَجُوزًا}؛ أي: إلا عجوزا مقدرًا غبورها في الباقين في العذاب والهلاك، وهم قومه، فلا بد من تقدير «مقدرًا»؛ لأن الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم. وقيل للباقي: غابر تصورا، بتخلف الغبار عن الذي يعدو، فيخلفه أو في الماضين الهالكين، وقيل للماضي: غابر تصورا لمضي الغبار عن الأرض. 136 - {ثُمَّ} بعد تنجيتهم {دَمَّرْنَا}؛ أي: أهلكنا {الْآخَرِينَ}؛ أي: من بقي بعد لوط وابنتيه بالإئتفاك بهم، وإمطار الحجارة عليهم، فإنه تعالى لم يرض بالإئتفاك حتى أتبعه مطر من حجارة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[137]

وجعلنا محلاتهم من الأرض بحيرة ذات ماء رديء الطعم، منتن الريح. 137 - {وَإِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على قربات ديار قوم لوط المهلكين ومنازلهم سدوم، وعمورًا، وصبورًا، ودادوما في متاجركم إلى الشام، وتشاهدون آثار هلاكهم. فإن سدوم أعظم قراهم في طريق الشام، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)}. وقوله: {مُصْبِحِينَ} حال من فاعل {تمرون}؛ أي: حال كونكم داخلين في الصباح. 138 - {وَ} ملتبسين {بِاللَّيْلِ}؛ أي: مساءً. ولعلها وقعت بقرب منزل يمر به المرتحل عنه صباحًا، والقاصد له مساء. ويجوز أن يكون المعنى: نهارًا وليلًا، على أن يعمم المرور للأوقات كلها من الليل والنهار، ولا يخصص بوقتي الصباح والمساء. والمعنى: أي وإنكم لتمرون عليهم، وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل، فترون آثار ديارهم التي عفت وأصبحت خرابًا يبابًا، لا أنيس فيها، ولا جليس، ولا ديار، ولا نافخ نار. والهمزة في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أفتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به، وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فإن من قدر على إهلاك أهل سدوم، واستئصالهم بسبب كفرهم وتكذيبهم، كان قادرًا على إهلاك كفار مكة، واستئصالهم لاتحاد السبب ورجحانه؛ لأنهم أكفر من هؤلاء، وأكذب كما يشهد به قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ}. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي جهل: «إن هذا أعتى على الله من فرعون». فعلى العاقل: أن يعتبر، ويؤمن بوحدانية الحق، ويرجع إلى أبواب فضله وكرمه ورحمته، ويؤدب عجوز نفسه الأمارة، ويحملها على التسليم والامتثال كي لا تهلك مع أهل القهر والجلال. القصة السادسة: قصة يونس عليه السلام 139 - {وَإِنَّ يُونُسَ} بن متى بالتشديد، وهو اسم أبيه أو أمه. وفي «كشف الأسرار»: اسم أبيه متى، واسم أمه تنجيس. كان يونس من أولاد هود عليه

[140]

السلام، كما في «أنوار المشارق». وهو ذو النون، وصاحب الحوت؛ لأنه التقمهُ. وأما ذو النون المصري من أولياء هذه الأمة. فقيل: إنما سمي به لأنه ركب سفينة مع جماعة، فقد واحدٌ منهم ياقوتًا فلم يجده، فآل رأيهم إلى أن هذا الرجل الغريب قد سرقه، فعوتب عليه، فأنكر الشيخ فحلف، فلم يصدقوه، بل أصروا على أنه ليس إلا فيه، فلما اضطر توجه ساعة، فأتى جميع الحوت من البحر في فيها يواقيت. فلما رأوا ذلك اعتذروا عن فعلتهم، فقام وذهب إلى البحر، ولم يغرق بإذن الله تعالى. فسمي ذا النون. {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى بقية ثمود. وهم أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية. وقيل: بضمها قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل. ولما بعث إليهم دعاهم إلى التوحيد أربعين سنة، وكانوا يعبدون الأصنام، فكذبوه وأصروا على ذلك، فخرج من بين أظهرهم، وأوعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث أو بعد أربعين ليلة. ثم إن قومه لما أتاهم أمارات العذاب، بأن أطبقت السماء غيمًا أسود يدخن دخانًا شديدًا، ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، حتى إذا صار بينهم وبين العذاب قدر ميل، أخلصوا الله تعالى بالدعاء والتضرع، بأن فرقوا بين الأمهات والأطفال، وبين الأتن والجحوش، وبين البقر والعجول، وبين الإبل والفصلان، وبين الضأن والحملان، وبين الخيل والأفلاء، ولبسوا المسوح، ثم خرجوا إلى الصحراء متضرعين ومستغفرين حتى ارتفع الضجيج إلى السماء، فصرف الله عنهم العذاب، وقبل توبتهم. ويونس ينتظر هلاكهم، فلما أمسى سأل محتطبًا مر بقومه كيف كان حالهم؟ فقال: هم سالمون وبخير وعافية وحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وخرج من ديارهم مستنكفًا خجلًا منهم، ولم ينتظر الوحي، وتوجه إلى جانب البحر، 140 - وذلك قوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ}. والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة وقت إباقه؛ أي: هربه، ولا يصح تعلقه بالمرسلين؛ لأنه لم يرسل إذا أبق. وأصله: الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه بطريق

[141]

المجاز تصويرًا لقبحه، فإنه عبد الله فكيف يفر بغير الإذن وإلى أين يفر والله محيط به، وقد صح أنه لا يقبل فرض الآبق ولا نفله حتى يرجع، فإذا كان الأدنى مأخوذا بزلة فكيف الأعلى؟. {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}؛ أي: إلى السفينة المملوءة من الناس، والدواب، والمتاع. ويقال: إلى الفلك المجهز الذي فرغ من جهازه. روي: أن يونس لما دخل السفينة، وتوسطت البحر احتبست عن الجري، ووقفت، وكان ذلك بدجلة؛ لأنه أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل. فقال الملاحون: هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجري. وقال الإمام: فقال الملاحون: إن فيكم عاصيًا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقال التجار: قد جربنا مثل هذا، فإذا رأينا نقترع فمن خرج سهمه نرميه في البحر، لأن غرق الواحد خير من غرق الكل. فاقترعوا ثلاث مرات، فخرجت القرعة على يونس في كل مرة، 141 - وذلك قوله تعالى: {فَساهَمَ}؛ أي: فتساهموا. فساهم يونس واقترع؛ أي: خرجت عليه القرعة. والمفهوم من تفسير الكاشفي: أن الضمير في {ساهم} إلى يونس. والسهم: ما يرمى به من القداح ونحوه. وقيل: الضمير إلى القوم، والمعنى: فقارع أهل الفلك من الآبق، وألقوا السهام على وجه القرعة، فخرجت قرعة الرمي على يونس {فَكانَ} يونس {مِنَ الْمُدْحَضِينَ}؛ أي: فصار من المغلوبين. وأصل المدحض: المزلق: عن مقام الظفر والغلبة. ومنه قول الشاعر: قَتَلْنَا المُدحِضِيْنَ بِكُلِّ فَجٍّ ... فَقَد قَرَّتْ بِقَتلِهِمُ الْعُيُوْنُ أي: قتلنا المغلوبين. 142 - ولما خرجت القرعة على يونس قال: أنا العبد الآبق، أو يا هؤلاء أنا والله العاصي، فتلفف في كسائه، ثم قام على رأس السفينة، فرمى بنفسه في البحر. {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ}؛ أي: فابتلعه الحوت العظيم. وقال في «كشف الأسرار»: فصادفه حوت جاء من قبل اليمن، فابتلعه فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى. وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} حال من مفعول {فَالْتَقَمَهُ}؛ أي: داخل في

[143]

الملامة. ومعنى دخوله في الملامة: كونه يلام سواء استحق اللوم أم لا، أو آت بما يلام عليه، فيكون المليم بمعنى من يستحق اللوم سواء لاموه أم لا، يقال: ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه. فالهمزة على هذا للتعدية، لا على التقديرين. وقيل: المليم: المعيب، يقال: ألام الرجل إذا عمل شيئًا صار به معيبًا. قال سعيد بن جبير: لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرًا فاه، ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت، روي: أن الله تعالى أوحى إلى السمكة أني لم أجعله لك رزقًا، ولكن جعلت بطنك له وعاء، فلا تكسري منه عظمًا، ولا تقطعي منه وصلًا. فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة، كما دل عليه كونه منبوذًا على الساحل، وهو سقيم. 143 - {فَلَوْلا أَنَّهُ}؛ أي: يونس {كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} في بطن الحوت، وهو قوله: {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، أو من الذاكرين الله كثيرًا بالتسبيح مدة عمره، وعن سهل، من القائمين بحقوق الله تعالى، قبل البلاع ذكرًا أو صلاة أو غيرهما. 144 - {لَلَبِثَ} يونس {فِي بَطْنِهِ}؛ أي: في بطن الحوت وجوفه {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: إلى يوم يبعث الخلائق، وهو يوم القيامة؛ أي: لصار بطن الحوت له قبرًا إلى يوم البعث. وقيل: للبث في بطنه حيًا. واختلف (¬1) المفسرون في كم أقام في بطن الحوت؟. فقال السدي، ومقاتل بن سليمان، والكلبي: أربعين يومًا، وقال الضحاك: عشرين يومًا، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقيل: ساعة واحدة قال في «كشف الأسرار»: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يبقى هو والحوت إلى يوم البعث. والثاني: يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث: يموتان ثم يحشر يونس من بطنه، فيكون بطن الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة، فلم يلبث فيه لكونه من المسبحين. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[145]

وفيه (¬1): حث على إكثار الذكر، وتعظيم لشأنه، وإشارة إلى أن خلاص يونس القلب إذا التقمه حوت النفس لا يكون إلا بملازمة ذكر الله تعالى، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء. والعمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع يجد متكأً. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سبح يونس في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة، فقال تعالى: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في يوم وليلة عمل صالح، قال: نعم. فشفعوا له، فأمر الحوت فقذفه بالساحل في أرض نصّبين» وهي بلدة قاعدة ديار ربيعة. وذلك قوله تعالى: {فَنَبَذْناهُ}. وحاصل المعنى (¬2): أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة؛ أي: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال: أنا الآبق، وألقى نفسه في الماء، فالتقمه الحوت. وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه. وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل، فلولا أنه كان من الذاكرين الله كثيرًا، والمسبحين بحمده طوال عمره للبث ميتًا في بطنه إلى يوم البعث. إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام، ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها. 145 - {فَنَبَذْناهُ}؛ أي: فألقينا يونس من بطن الحوت {بِالْعَراءِ}؛ أي: بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت؛ أي: أمرنا الحوت، وحملناه على لفظه، ونبذه، ورميه بالمكان الخالي {وَهُوَ سَقِيمٌ}؛ أي: والحال أن يونس عليل البدن من أجل ما ناله في بطن الحوت من ضعف بدنه، فصار كبدن الطفل ساعة يولد، لا قوة له، أو بلي لحمه ونتف شعره، حتى صار كالفرخ ليس عليه شعر وريش، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[146]

ورق عظمه وضعف، بحيث لا يطيق حر الشمس، وهبوب الرياح. أي (¬1): فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم، سقيم النفس لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه إذ أعرضوا عن دعوته، ولم يصدقوه فيما جاء به. وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة في دنياهم وآخرتهم، ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له. 146 - ثم بيّن لطفه به، ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس، ولا لزمهرير البرد. فقال: {وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ}؛ أي: فوقه مظللة عليه {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}؛ أي: من قرع، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، فهو موضوع لمفهوم كلي متناول للقرع، والبطيخ، والقثاء، والقند، والحنظل، ونحوها، مما كان ورقه كله منبسطًا على وجه الأرض، ولم يقم على ساق، واحدته يقطينة، أطلق هنا على القرع استعمالًا للعام في بعض جزئياته. وقال في «القاموس»: اليقطين: ما لا ساق له من النبات ونحوه، وبهاء القرعة الرطبة، انتهى. قال ابن الشيخ: ولعل (¬2) إطلاق اسم الشجرة على القرع، مع أن الشجر في كلامهم اسم لكل نبات يقوم على ساقه، ولا ينبسط على وجه الأرض مبني على أنه تعالى أنبت عليه شجرةً، عريشًا لما نبت تحتها من القرع، بحيث استولى القرع على جميع أغصانها، حتى صارت كأنها شجرة من يقطين. وكان هذا الإنبات كالمعجزة ليونس، فاستظل بظلها، وغطته بأوراقها عن الذباب، فإنه لا يقع عليها كما يقع على سائر العشب، وكان يونس حين لفظه البحر، متغيرًا يؤلمه الذباب، فسترته الشجرة بورقها، قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك تحب القرع، قال: أجل، هي شجرة أخي يونس. وروي: أنه تعالى قيّض له أروية وهي الأنثى من الوعل، تروح عليه بكرةً وعشية، فيشرب من لبنها حتى اشتد لحمه، ونبت شعره، وعادت قوته. والمعنى: أي (¬3) فأنبتنا حواليه شجرة من موز يتغطى بورقها، ويستظل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[147]

بأغصانها، فتقيه لفح الشمس، ووهجها، وبرد الصحراء، وشديد حرها. وكذلك يأكل من ثمارها، فتغنيه من طلب الغذاء من أي جهة أخرى. قيل: تخصيص القرع؛ لأنه يجمع الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وإن الذباب لا يقربه. 147 - ثم ذكر أنه لما شُفي من سقمه، ونجا من الهلاك، ورضي ربه عنه عاد إلى قومه ليتم دعوته، ويبلّغ رسالته، كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْناهُ}؛ أي: يونس مرة أخرى {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ} هم قومه الذين هرب منهم. وقيل المراد: إرساله السابق، وهو إرساله إليهم قبل أن يخرج من بينهم، والتقمه الحوت. أخبر أولًا بأنه من المرسلين على الإطلاق، ثم أخبر بأنه قد أرسل إلى مئة ألف جمة. وكان توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه. وهو ما جرى بينه وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله، وتعيينه لوقت حلوله، وتعللهم، وتعليقهم لإيمانهم بظهور أماراته. ليعلم أن إيمانهم الذي سيحكى بعد، لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتيب الإيمان عليه بالفاء. واختلف (¬1) أهل العلم، هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر، أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟. والراجح: أنه كان رسولًا قبل أن يذهب إلى البحر، كما يدل عليه ما تقدم في سورة يونس، وبقي مستمرًا على الرسالة. وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته. والمعنى (¬2): وكنا أرسلناه إلى مئة ألف. فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانيًا؛ أي: وأرسلناه إلى قوم عددهم مئة ألف. {أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس: معناه: ويزيدون على ذلك، فـ {أَوْ} عنده بمعنى الواو. وقيل معناه: بل يزيدون، فـ {أَوْ} بمعنى بل. وقيل: {أَوْ} على أصلها، ومعناها: من الشك. والمعنى: أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم. قال: هؤلاء مئة ألف أو يزيدون على ذلك، فالشك على تقدير المخلوقين. إذ الشك على الله محال. والأصح هو قول ابن عباس الأول. والمعنى عليه: وأرسلناه إلى قوم عدادهم مئة ألف، وإلى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[148]

قوم يزيدون على ذلك. وأما الزيادة فقال ابن عباس: كانت عشرين ألفًا، ويعضده ما روى عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} قال: يزيدون عشرين ألفًا، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. وقيل: يزيدون بعضًا وثلاثين ألفًا. وقيل: سبعين ألفًا. والمقصود من هذا الكلام على جميع التقادير: وصفهم بالكثرة. وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: {أَوْ} للشك (¬1) وهو على الله محال. قلت: {أَوْ} بمعنى: بل، أو بمعنى الواو، أو المعنى: أو يزيدون في نظرهم، فالشك إنما دخل في قول المخلوقين، انتهى. وقرأ جعفر بن محمد {ويزيدون} بدون ألف الشك. 148 - {فَآمَنُوا}؛ أي: بعدما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانًا خالصًا {فَمَتَّعْناهُمْ} بالحياة الدنيا، وأبقيناهم {إِلى حِينٍ} انقضاء آجالهم، ومنتهى أعمارهم. وهذا كناية عن رد العذاب عنهم، وصرف العقوبة. والمعنى: أي (¬2) فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم، وقد كانوا مئة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم، وآمنوا به؛ لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطؤوا، وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم. فلما عاد إليهم، ودعاهم إلى ربه لبوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم، وهلكوا فيمن هلك. فائدة: هاهنا مسألتان (¬3): 1 - أن القرآن الكريم لم يبين لنا مم أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها. 2 - أنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت، وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح، ولم يؤثر ذلك وأيا كان، فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة، أو ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

كثيرة، معجزة لذلك النبي الكريم. وصارت (¬1) قصة يونس آخر القصص، لما فيها من ذكر عدم الصبر على الأذى والإباق. ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص، من ذكر سلام وما يتبعه للتفرقة بينهما، وبين أرباب الشرائع الكبار، وأولي العزم من الرسل، أو اكتفاءً بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة، قاله البيضاوي. وقال بعضهم: وجهه أن إلياس ويونس سواء في أن كلّا منهما ليسا من أرباب الشرائع الكبار، وأولي العزم من الرسل، فلا بد لتخصيص أحدهما بالسلام من وجه، وأن التسليم المذكور في آخر السورة شامل لكل من ذكر هنا، ومن لم يذكر، فحينئذ كان الظاهر أن يقتصر على ذكر سلام نوح ونحوه، ثم يعمم عليهم، وعلى غيرهم، ممن لم يكن في درجتهم. روي: أن يونس عليه السلام نام يومًا تحت الشجرة، فاستيقظ وقد يبست، فخرج من ذلك العراء ومر بجانب مدينة نينوى، فرأى هنا لك غلامًا يرعى الغنم، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس، قال: فإذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم مني السلام، وأخبرهم أنك لقيت يونس ورأيته، فقال الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أن من يحدث، ولم يكن له بينة قتلوه، وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فمن يشهد لي، فقال له يونس: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة، فقال الغلام ليونس: مرهما بذلك، فقال لهما: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر الملك أن يقتل، فقال: إن لي بينة، فأرسل معه جماعة فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: أنشدكما الله عز وجل؛ أي: أسألكما بالله تعالى، هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم. فرجع القوم مذعورين، فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام، فأجلسه في منزله، فقال له: أنت أحق مني بهذا المقام والملك، فأقام بهم الغلام أربعين سنة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وروي في بعض التفاسير: أن قومه آمنوا، فسألوه أن يرجع إليهم، فأبى يونس، لأن النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيمًا فيهم. وروي: أنه لما استيقظ فوجد أنه قد يبست الشجرة، فأصابته الشمس حزن كذلك حزنًا شديدًا، فجعل يبكي فبعث الله إليه جبرائيل وقال: قل له: أتحزن على شجرة لم تخلقها أنت ولم تنبتها ولم تربها؟ وأنا الذي خلقت مئة ألف من الناس أو يزيدون، تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة وقد تابوا، وتبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس؟ وأنا أرحم الراحمين. الإعراب {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى}. {فَلَمَّا بَلَغَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت دعاءَهُ لنا، وتبشيرنا إياه وأردت بيان عاقبة الولد .. فأقول لك: لما بلغ. {لما}: اسم شرط غير جازم، في محل نصب على الظرفية الزمانية {بَلَغَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الغلام. والجملة فعل شرط لـ {لما}، في محل جر بالإضافة. {مَعَهُ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من فاعل بلغ؛ أي: حالة كون الغلام مصاحبًا لأبيه، {السَّعْيَ}: مفعول به، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم. والجملة جواب لما، لا محل لها من الإعراب، وجملة لما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يا بُنَيَّ}: {يا} حرف نداء، {بُنَيَّ}: منادى، مضاف إلى ياء المتكلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَرى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {إبراهيم}. {فِي الْمَنامِ}: متعلق بـ {أَرى}. وجملة {أَرى} في محل الرفع خبر {إِنْ}، وجملة {إِنْ}: في محل النصب مقول {قالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَذْبَحُكَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. وجملة أذبح في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: مع معموليها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {أَرى}، والتقدير: إني أرى في المنام ذبحي إياك. {فَانْظُرْ}: الفاء: عاطفة

{انظر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الغلام. والجملة معطوفة على جملة {إِنِّي أَرى} على كونها جواب النداء. {ماذا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم لـ {تَرى}، {تَرى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الغلام. وجملة {تَرى} في محل النصب مفعول به لـ {أنظر}، معلق عنها لفظًا. و {تَرى} هنا من الرأي، لا من رؤية العين ولا المتعدية إلى مفعولين. وإن شئت، {ما}: اسم استفهام مبتدأ، و {ذا} اسم موصول خبر {ما}، وجملة {تَرى} صلة ذا الموصولة. والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مفعول به لـ {أنظر}. {قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الغلام، والجملة الفعلية مستأنفة. {يا}: حرف نداء، {أَبَتِ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المعوّض عنها تاء التأنيث، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. {افْعَلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، {ما}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ {افْعَلْ}. وجملة افعل في محل النصب مقول قال، {تُؤْمَرُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر. والجملة صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تؤمر به. {سَتَجِدُنِي}: السين حرف استقبال، {تجد}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل النصب مفعول أول لتجد، {مِنَ الصَّابِرِينَ} متعلق بـ {وجد} على كونه مفعولًا ثانيًا له. والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال. {إِنْ}: حرف شرط، {شاءَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، ولفظ الجلالة {اللَّهُ} فاعل شاء، ومفعول شاء محذوف تقديره: إن شاء الله صبري، وجواب {إن} الشرطية محذوف، تقديره: إن شاء الله صبري ستجدني من الصابرين. وجملة {إِنْ} الشرطية معترضة، لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الفعل ومعموله. {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109)}.

{فَلَمَّا} الفاء: الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال إبراهيم وما قال الغلام، وأردت بيان عاقبتهما .. فأقول لك: لما أسلما. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية، {أَسْلَما}: فعل ماض، والألف فاعل. والجملة فعل شرط لـ {لما}، في محل جر بالإضافة. {وَتَلَّهُ}: {الواو}: عاطفة، {تَلَّهُ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والهاء ضمير عائد على الغلام في محل النصب مفعول به. والجملة معطوفة على جملة {أَسْلَما}: على كونها فعل شرط لـ {لما}. {لِلْجَبِينِ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من ضمير المفعول في {تَلَّهُ}: أو متعلق بـ {تل}، {وَنادَيْناهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {أَسْلَما}، وجواب لما الشرطية محذوف تقديره: ظهر صبرهما، أو أجزلنا لهما أجرهما، أو كان ما كان مما تنطق به الحال. وقال الكوفيون والأخفش: الجواب: وتله للجبين بزيادة الواو. وقيل: وناديناه بزيادة الواو أيضًا، والأول أرجح. {أَنْ} مفسرة؛ لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه، {يا إِبْراهِيمُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مفسرة لنادينا المذكور، {قَدْ} حرف تحقيق، {صَدَّقْتَ} فعل وفاعل، {الرُّؤْيا} مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة للنداء المذكور، لا محل لها من الإعراب. {إِنَّا} ناصب واسمه، {كَذلِكَ} صفة لمصدر محذوف مقدم على عامله، {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: جملة مفسرة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ هذا}: ناصب واسمه. {لَهُوَ} اللام: حرف ابتداء. {هو}: ضمير فصل، {الْبَلاءُ}: خبر {إِنَّ}. {الْمُبِينُ}: صفة لـ {لبلاء}، وجملة {إِنَّ} جملة مفسرة لـ {نادَيْناهُ}، لا محل لها من الإعراب. {وَفَدَيْناهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على جواب لما المذكور، أو المحذوف على الخلاف المار فيه. {بِذِبْحٍ} متعلق بـ {فَدَيْناهُ}، {عَظِيمٍ}: صفة لـ {ذبح}، {وَتَرَكْنا} فعل، وفاعل، معطوف على جملة {لما}. {عَلَيْهِ} متعلق بـ {تَرَكْنا} ومفعول {تَرَكْنا} محذوف. {فِي الْآخِرِينَ} صفة لذلك المحذوف، والتقدير: وتركنا له ثناء حسنًا كائنًا في الآخرين. {سَلامٌ} مبتدأ، {عَلى إِبْراهِيمَ} خبره. والجملة الاسمية

في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا سلام على إبراهيم. {كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}. {كَذلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، مقدم على عامله. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والتقدير: نجزي المحسنين جزاءً كائنًا كذلك الجزاء المذكور. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {مِنْ عِبادِنَا} خبره. والجملة مستأنفة. {عباد} مضاف. {نا}: مضاف إليه، {الْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {عِبادِنَا}، {وَبَشَّرْناهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {بشرنا} الأولى. {بِإِسْحاقَ} متعلق بـ {بَشَّرْناهُ}. {نَبِيًّا}: حال من {إسحاق}. {مِنَ الصَّالِحِينَ}: صفة لـ {نَبِيًّا} أو حال ثانية. {وَبارَكْنا} فعل وفاعل {عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ} متعلقان بـ {بارَكْنا}. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما}: خبر مقدم. {مُحْسِنٌ}: مبتدأ مؤخر، {وَظالِمٌ}: معطوف عليه. {لِنَفْسِهِ}: متعلق بـ {ظالِمٌ}، {مُبِينٌ}: صفة لـ {ظالِمٌ}. والجملة مستأنفة. {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {مَنَنَّا}: فعل، وفاعل جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. {عَلى مُوسى}: متعلق بـ {مَنَنَّا}، {وَهارُونَ}: معطوف على {مُوسى}، {وَنَجَّيْناهُما}: فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على {مَنَنَّا}، {وَقَوْمَهُما} معطوف على ضمير {هما}، {مِنَ الْكَرْبِ}: متعلق بـ {نَجَّيْناهُما}، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الْكَرْبِ}، {وَنَصَرْناهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {مَنَنَّا}، {فَكانُوا}: فعل ناقص واسمه، معطوف على {نَصَرْناهُمْ}، {هُمُ}: ضمير فصل {الْغالِبِينَ} خبر {كان}، {وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ}: فعل، وفاعل، ومفعولان، معطوف على {مَنَنَّا}، {الْمُسْتَبِينَ}: صفة

لـ {الْكِتابَ}، {وَهَدَيْناهُمَا}: فعل، وفاعل، ومفعول أول، معطوف على {مَنَنَّا}، {الصِّراطَ}: مفعول ثان لـ {آتينا}، {الْمُسْتَقِيمَ} صفة لـ {الصِّراطَ}، {وَتَرَكْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على {مَنَنَّا}، {عليهما} متعلق بـ {تَرَكْنا}، {فِي الْآخِرِينَ} صفة لمفعول {تَرَكْنا} المحذوف؛ أي: وتركنا لهما ثناء حسنًا كائنًا في الآخرين. {سَلامٌ}. مبتدأ {عَلى مُوسى}: خبر. {وَهارُونَ}: معطوف على {مُوسى}. والجملة مقول لقول محذوف؛ أي: وقلنا سلام على موسى وهارون. {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {كَذلِكَ}: صفة لمصدر محذوف مقدم على عامله، {نَجْزِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {الْمُحْسِنِينَ}: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنا؛ أي: إنا مجازو، المؤمنين جزاء كائنًا كذلك الجزاء المذكور {إِنَّهُما} ناصب واسمه، {مِنْ عِبادِنَا} خبر {إن}، {الْمُؤْمِنِينَ} صفة لـ {العباد}، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها {وإن} {الواو}: استئنافية أو عاطفة قصة على قصة. {إِنَّ} حرف نصب، {إِلْياسَ} اسمها، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خبرها، واللام حرف ابتداء. والجملة مستأنفة أو معطوفة على ما سبق من القصص. {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد قصة وقت قول إلياس لقومه، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {إِلْياسَ}. والجملة في محل الجر مضاف لـ {إِذْ}، {لِقَوْمِهِ} متعلق بـ {قالَ}، {أَلا} حرف عرض، مبني على السكون. وقيل: الهمزة للاستفهام الأمري.

{لا}: نافية. {تَتَّقُونَ}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: عذاب الله. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول قال. {أَتَدْعُونَ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَتَذَرُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على {تَدْعُونَ}، {أَحْسَنَ الْخالِقِينَ}: مفعول به، ومضاف إليه، {اللَّهَ}: بالنصب بدل من أحسن الخالقين، {رَبَّكُمْ}: بدل من لفظ الجلالة، {وَرَبَّ آبائِكُمُ}: معطوف على ربكم، {الْأَوَّلِينَ}: صفة لـ {آبائِكُمُ}: فالكلمات الثلاث منصوبة. وقرىء بالرفع على أنها أخبار لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الله، أو {اللَّهَ}: مبتدأ، و {رَبَّكُمْ}: خبره. والجملة الاسمية بدل من {أَحْسَنَ الْخالِقِينَ}. {وَرَبَّ آبائِكُمُ}: معطوف على {رَبَّكُمْ}، {فَكَذَّبُوهُ}: الفاء: عاطفة. {كذبوه}: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة قال. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت دعوته إياهم إلى الإيمان، وتكذيبهم له وأردت بيان عاقبة أمرهم فأقول لك {إنهم} ناصب واسمه {لَمُحْضَرُونَ}: خبره، واللام: حرف ابتداء. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {عِبادَ اللَّهِ} منصوب على الاستثناء من فاعل {كذبوا}، {الْمُخْلَصِينَ}: نعت لعباد الله، {وَتَرَكْنا}: فعل، وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به. والجملة مستأنفة. ومفعول {تَرَكْنا} محذوف؛ أي: ثناء حسنًا {فِي الْآخِرِينَ}: صفة لذلك المحذوف، {سَلامٌ} مبتدأ، {عَلى إِلْ ياسِينَ}: خبر. والجملة الاسمية مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا سلام على إلياسين. {إِنَّا} ناصب واسمه، {كَذلِكَ} صفة لمصدر محذوف، مقدم على عاملة، وجملة {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {مِنْ عِبادِنَا} خبره، {الْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {العباد}. وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (135)}.

{وَإِنَّ} الواو: استئنافية أو عاطفة قصة على قصة. {إِنَّ}: حرف نصب. {لُوطًا}: اسمها، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: خبر {إِنَّ}، واللام: حرف ابتداء. والجملة مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. {نَجَّيْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {وَأَهْلَهُ} معطوف على ضمير {نَجَّيْناهُ}، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد لما قبله، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {عَجُوزًا} منصوب على الاستثناء. {فِي الْغابِرِينَ} صفة {عَجُوزًا}. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)}. {ثُمَّ}: حرف عطف للترتيب مع التراخي. {دَمَّرْنَا}: فعل، وفاعل، معطوف على {نَجَّيْناهُ}، {الْآخَرِينَ}: مفعول به، {وَإِنَّكُمْ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه، {لَتَمُرُّونَ} اللام: حرف ابتداء، {تمرون}: فعل، وفاعل، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {تمرون}، {مُصْبِحِينَ} حال من فاعل {تمرون}. وهو من أصبح التامة. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر، وجملة {إن} معطوفة على جملة قوله: {وَإِنَّ لُوطًا} أو مستأنفة {وَبِاللَّيْلِ}: {الواو}: عاطفة، {بِاللَّيْلِ} جار ومجرور، متعلق بمحذوف، معطوف على مصبحين على كونه حالًا من فاعل {تمرون}؛ أي: وملتبسين بالليل. {أَفَلا}: الهمزة للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر معلوم من المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، {لا}: نافية. {تَعْقِلُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، والتقدير: أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به، وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}. {وَإِنَّ} الواو: عاطفة قصة على قصة أو استئنافية، {إِنَّ} حرف نصب، {يُونُسَ}: اسمها، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: خبرها، واللام: حرف ابتداء. والجملة

مستأنفة. أو معطوفة على ما سبق من القصص. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصة وقت إباقه. {أَبَقَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على يونس. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِلَى الْفُلْكِ} متعلق بـ {أَبَقَ}، {الْمَشْحُونِ}: صفة لـ {الْفُلْكِ}. {فَساهَمَ}: الفاء: عاطفة، {ساهم} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على يونس. والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {أَبَقَ}. {فَكانَ}: الفاء: عاطفة، {كان}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على يونس، {مِنَ الْمُدْحَضِينَ:} خبر {كان}، وجملة {كان} معطوف على جملة {ساهم}. {فَالْتَقَمَهُ}: الفاء: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {كان}، {التقمه}: فعل، ومفعول، {الْحُوتُ}: فاعل. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {وَهُوَ}: {الواو}: حالية، {هُوَ مُلِيمٌ}: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {التقمه}. {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}. {فَلَوْلا} الفاء: استئنافية، {لولا}: حرف امتناع لوجود، {أَنَّهُ}: ناصب واسمه، {كان}: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على يونس. {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: فلولا كونه من المسبحين موجود، {لَلَبِثَ} اللام: رابطة لجواب {لولا}، {لبث}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على يونس، {فِي بَطْنِهِ}: متعلق بـ {لبث}، {إِلى يَوْمِ}: جار ومجرور، متعلق بلبث أيضًا، {يُبْعَثُونَ}: فعل مضارع، مغيّر الصيغة، ونائب فاعل. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمِ}، وجملة {لبث} جواب {لولا}، لا محل لها من الإعراب. وجملة {لولا} مستأنفة. {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ

إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)}. {فَنَبَذْناهُ} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: أمرنا الحوت بنبذه فنبذناه. {نبذناه}: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {بِالْعَراءِ} متعلق بـ {نبذنا}، {وَهُوَ} {الواو}: حالية، {هُوَ سَقِيمٌ}: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {نبذناه}. {وَأَنْبَتْنا}: فعل، وفاعل، معطوفة على {نبذنا}، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {أَنْبَتْنا}، {شَجَرَةً}: مفعول به، {مِنْ يَقْطِينٍ}: صفة لـ {شَجَرَةً}، {وَأَرْسَلْناهُ} فعل وفاعل، ومفعول، معطوف على {أنبتنا}، {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {أرسلنا}. {أَوْ} حرف عطف بمعنى الواو. {يَزِيدُونَ}: فعل، وفاعل، صفة لموصوف محذوف، تقديره: وإلى عدد يزيدون على ذلك، {فَآمَنُوا}: الفاء: عاطفة، {آمنوا}: فعل، وفاعل، معطوف على أرسلناه، {فَمَتَّعْناهُمْ} الفاء: عاطفة، {متعناهم}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على آمنوا، {إِلى حِينٍ} متعلق بـ {متعناهم}. التصريف ومفردات اللغة {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}؛ أي: فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله، وحاجات المعيشة. {أَسْلَما}؛ أي: استسلما، وانقادا لأمر الله تعالى. يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. قرىء بهن جميعًا، كما مر. {وَتَلَّهُ}؛ أي: كبه على وجهه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}؛ أي: صرعه، وأسقطه، فوقع أحد جنبيه على الأرض، تواضعًا على مباشرة الأمر بصبر، وجلد. وفي «المصباح»: والجبين: جانب الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، قاله الأزهري، وابن فارس، وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن بضمتين مثل: بريد وبرد، وأجبنة مثل أسلحة. وفي «القاموس»: تله تلا من باب قتل، فهو متلول وتليل أو ألقاه على عنقه وخده. قال الراغب: أصل التل: المكان المرتفع، والتليل: العنق وتله للجبين: أسقطه على التل أو على تليله.

{صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}؛ أي: حققت ما طلب منك. {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}؛ أي: الاختبار البيّن الذي يتميز فيه المخلص من غيره. {بِذِبْحٍ}؛ أي: بحيوان يذبح، وهو كبش، قرّبه هابيل، فذبحه إبراهيم فداءً لولده، وقد بقي قرناه معلقين على الكعبة إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير. قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة. وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وأن رأس الكبش لمعلق بقرنية في ميزاب الكعبة وقد يبس، اهـ الخازن. ومن المعلوم المقرر، أن كل ما هو من الجنة لا تؤثر فيه النار، فلم يطبخ لحم الكبش، بل أكلته السباع والطيور، تأمل. {وَبَشَّرْناهُ}: من التبشير، وهو الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر به، ومنه: تباشير الصبح لما ظهر من أوائل ضوئه. {وَبارَكْنا عَلَيْهِ}؛ أي: أفضنا البركات عليه. {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114)} المنان في صفة الله تعالى، المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضًا. يقال: منّ عليه منّا إذا أعطاه شيئًا، ومنّ عليه منّة إذا أعد نعمته عليه، وامتن وهو مذموم من الخلق، لا من الحق كما قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ}. {الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ}؛ أي: البليغ المتناهي في البيان. فاستبان مبالغة بان بمعنى: ظهر ووضح، وجعل الكتاب بالغا في بيانه من حيث إنه لكماله في بيان الأحكام، وتمييز الحلال عن الحرام، كأنه يطلب من نفسه أن يبيّنها، ويحمل نفسه على ذلك. وقيل: هذه السين كهي في قوله: {يَسْتَسْخِرُونَ}. فإن بان، واستبان، وتبين واحد نحو: عجل، واستعجل، وتعجل. فيكون معناه: الكتاب المبين. {بَعْلًا} والبعل هو الذكر من الزوجين. ولما تصور من الرجل استعلاء على المرأة، فجعل سائسها والقائم عليها شبّه كل مستعل على غيره به، فسمّي باسمه، فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله: بعلا لاعتقادهم ذلك. فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من الشام، وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك، وكان من ذهب طوله عشرون ذراعًا، كما مر. وفي «تاج العروس»: قال الأزهري: هما

اسمان جعلا اسمًا واحدًا لمدينة بالشام، والنسبة إليها بعلي أو بكي على ما ذكر في عبد شمس. {وَتَذَرُونَ}؛ أي: تتركون. وسمعنا عمن له نصاب في العربية أن كلمتي ذر ودع أمران في معنى الترك، إلا أن {دع} أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به، و {ذر} أمر له بتركه بعدما علمه. وروي: أن بعض الأئمة سأل الإمام الرازي عن قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125)} لم لم يقل: وتدعون أحسن الخالقين، وهذا أقرب من الفصاحة للمجانسة؟ فقال الإمام: لأنهم اتخذوا الأصنام آلهةً، وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارًا. فكذلك قيل لهم: {وَتَذَرُونَ} ولم يقل: وتدعون، هذا. وقد أمات العرب ماضي دع وذر، ومصدرهما ولكن روي في الحديث: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات»؛ أي: عن تركهم الجمعات. وقال في «القاموس»: ودعه؛ أي: اتركه، أصله: ودع كوضع، وقد أميت ماضيه، وإنما يقال في ماضيه: تركه، وجاء في الشعر ودعه، وهو مودوع. وقرىء شاذًا {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ}، وهي قراءته - صلى الله عليه وسلم -. وقال الجوهري: ولا يقال وادع، وينافيه وروده في الشعر والقراءة إلا أن يحمل قولهم: «وقد أميت ماضيه» على قلة الاستعمال. فهو شاذ استعمالًا، صحيح قياسًا. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفًا. {إِلَّا عَجُوزًا} العجوز: المرأة المسنة، سميت عجوزا لعجزها عن كثير من الأمور، كما في «المفردات». {ثُمَّ دَمَّرْنَا} التدمير: إدخال الهلاك على الشيء؛ أي: أهلكنا. {أَبَقَ}؛ أي: هرب من قومه بغير إذن ربه. وأصل الإباق: هرب العبد من سيده، ولكن أطلق هنا على يونس على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، أو على طريق المجاز المرسل، والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق، وفي «المصباح»: أبق العبد أبقا من بابي تعب وقتل في لغة، والأكثر من باب ضرب إذا هرب من سيده من غير خوف ولا كد. والإباق بالكسر اسم منه، فهو آبق، والجمع أباق، مثل:

كافر وكفار. {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}؛ أي: المملوء بالأحمال، يقال: شحن السفينة ملأها كما في «القاموس». {فَساهَمَ}؛ أي: فقارع من في الفلك؛ أي: عمل قرعة. والسهم: ما يرمى من القداح ونحوه. والمعنى: فقارع أهل الفلك عن الآبق، وألقوا السهام على وجه القرعة. {فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}؛ أي: فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. قال في «القاموس»: دحضت رجله زلقت، والشمس زالت دحوضا بطلت، انتهى. {فَالْتَقَمَهُ} الالتقام: الابتلاع، يقال: لقمت اللقمة، والتقمتها إذا ابتلعتها؛ أي: فابتلعه الحوت العظيم. {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: داخل في الملامة، يقال: ألام فلان إذا فعل ما يلام عليه. وفي «المصباح»: لامه لومًا من باب قال عذله، فهو ملوم على النقص. والفاعل لائم، والجمع لوم مثل: راكع وركع، وألامه بالألف لغة، فهو ملام، والفاعل مليم، والاسم الملامة، والجمع ملاوم، واللائمة مثل الملامة، وألام الرجل إذا فعل ما يستحق عليه اللوم، وتلوّم تلوّمًا مكث. {فَنَبَذْناهُ} النبذ: إلقاء الشيء، وطرحه لقلة الاعتداد به. {بِالْعَراءِ}؛ أي: بالمكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه، وهو مشتق من العري. وهو عدم السترة، شبهت الأرض الجرد بذلك لعدم استتارها بشيء. والعراء بالقصر: الناحية، ومنه: اعتراه؛ أي: قصد عراه. وعبارة «القاموس»: العراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء، وجمعه أعراء، وأعرى سار فيه وأقام. {مِنْ يَقْطِينٍ}؛ أي: دباء القرع العسلي المعروف الآن. وقيل: الموز. وهو أظهر، لأن أوراقه أعرض. قال في القاموس: اليقطين: ما لا ساق له من النبات ونحوه، وبهاء القرعة الرطبة. وعبارة الزمخشري: واليقطين: كل ما ينبسط على وجه الأرض، ولا يقوم على ساق كشجرة البطيخ، والقثاء، والحنظل. وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل: هو الدباء. وإنما خص القرع لأنه يجمع بين برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} حيث لم يقل: ما أمرت، للدلالة أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به. ومنها: الطباق بين {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ}، وبين {مُحْسِنٌ وَظالِمٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {بَعْلًا}؛ لأن البعل في الأصل: الذكر من الزوجين، شبه كل مستعل على غيره به، فسمي به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: التشبيه في قوله: {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}. شبه خروجه بغير إذن ربه بإباق العبد من سيده، ثم اشتق منه أبق بمعنى خرج بغير إذن ربه، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، أو على طريق المجاز المرسل، والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَنادَيْناهُ} لما فيه من إسناد الفعل إلى الآمر لكونه سببه؛ لأن المنادى جبرائيل. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)} إشعارًا بفخامة الأمر. لأنه أكده بـ {أن}، وبضمير الفصل، وباللام، وباسمية الجملة. ومنها: الكناية في قوله: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)}؛ لأنه كناية عن الثناء الحسن والذكر الجميل. ومنها: الإسناد المجازي، في قوله: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ}؛ لأنه من قبيل إسناد الفعل إلى السبب الحامل على الفعل. ومنها: الكناية في قوله: {فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}؛ لأنه كناية عن رد العذاب

عنهم، وصرف العقوبة. ومنها: استعمال العام بمعنى الخاص في قوله: {يَقْطِينٍ}؛ لأن اليقطين في الأصل: كل ما لا ساق له، فأطلق هنا على القرع فقط استعمالًا للعام في بعض جزئياته. ومنها: الاستعارة التصريحية التحقيقية في قوله: {وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)}؛ لأنه استعير {الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} من معناه الحقيقي، وهو الطريق المستوي للدين الحق، وهو ملة الإسلام. وهذا أمر تحقق عقلًا، فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم. ومنها: الطباق في قوله: {مُصْبِحِينَ} {وَبِاللَّيْلِ}. ومنها: الزيادة، والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}. المناسبة قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه السورة بتبكيت قريش، وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة، وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين، وبيّن ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين، وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء، تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل .. أمره هنا أيضًا بالتشديد عليهم ثانيًا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها، وهي جعل البنات لله، وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع ¬

_ (¬1) المراغي.

ثالثًا على استهانتهم الملائكة بجعلهم إناثًا، ثم أبطل كلًا من هذين بالحجة، التي لا يجد العاقل محيصًا عن التصديق بها والإذعان لها. قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت فساد آراء المشركين ومذهبهم .. أتبع ذلك بما نبه به، إلى أن هؤلاء المشركين، لا يقدرون على حمل أحد على الضلال، إلا إذا كان مستعدًا له، وقد سبق في حكم الله تعالى، أنه من أهل النار، وأنه لا محالة واقع فيها. ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيهًا إلى فساد قول من ادعى، أنهم أولاد الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدد (¬1) المشركين بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .. أردفه بما يقوي قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوعده بالنصر، والتأييد، كما جاء في آية أخرى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. أسباب النزول قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخبره جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: أنزلت هذه الآية في ثلاثة أحياء من قريش: سليم وخزاعة وجهينة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ...} سبب نزوله: ما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن. فأنزل الله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ ..} الآية. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك، قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[149]

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} الآية. فأمرهم أن يصفوا. قوله تعالى: {أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ} سبب نزوله: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس، قال: قالوا: يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجله لنا. فنزلت: {أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)} الآية، صحيح على شرط الشيخين. التفسير وأوجه القراءة 149 - ولما كانت قريش، وقبائل من العرب، يزعمون أن الملائكة بنات الله، أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - باستفتائهم على طريقة التوبيخ والتقريع. فقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ} يا محمد؛ أي: استخبر يا محمد هؤلاء المشركين، وسلهم. والفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الله سبحانه موصوفًا بنعوت الكمال، والعظمة والجلال متفردًا بالخلق والربوبية، وجميع الأنبياء مقرين بالعبودية، داعين للعبيد إلى حقيقة التنزيه والتوحيد، وأردت توبيخ هؤلاء المشركين وتقريعهم على زعمهم الفاسد، فأقول لك: استخبرهم على سبيل التوبيخ والتجهيل؛ أي: سل قريشًا وبعض طوائف العرب نحو: جهينة، وبني سلمة، وخزاعة، وبني مليح. فإنهم كانوا يقولون: إن الله تعالى تزوج من الجن، فخرجت منها الملائكة، فهم بنات الله. ولذا يسترهن عن العيون، فأثبتوا الأولاد لله تعالى، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور، وقسموا القسمة الباطلة، حيث جعلوا الإناث لله تعالى، وجعلوا الذكور لأنفسهم. فإنهم كانوا يفتخرون بذكور الأولاد، ويستنكفون من البنات، ولذا كانوا يقتلونهن، ويدفنونهن حياء، كما قال تعالى: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} الآية. ومن (¬1) هنا أنه: من رأى في المنام أنه اسود وجهه، فإنه يولد له بنت. وفي «الكشاف» قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} معطوف (¬2) على مثله في أول السورة؛ أي: على قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} وإن تباعدت المسافة بينهما، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولًا، ثم ساق الكلام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الزمخشري.

[150]

موصولًا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزي، التي قسموها، حيث جعلوا لله تعالى الإناث، ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن، وو وأدهم، واستنكافهم عن ذكرهن. وهذا العطف الذي قاله الزمخشري بعيد. أي: سلهم يا محمد {أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ} اللاتي هي أوضع الجنسين {وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الذين هم أرفعهما. وفيه تفضيل لأنفسهم على ربهم، وذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، وارتكبوا (¬1) في زعمهم ثلاثة أنواع من الكفر: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام، وتفضيل أنفسهم حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى، واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله تعالى، حيث أنثوهم، وهم الملائكة بدأ أولًا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله: {أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ}، وعدل عن قوله: ألربكم إلى ما قاله، لما في ترك الإضافة إليهم من تخسيسهم وشرف نبيه بالإضافة إليه. والمعنى (¬2): أي سل يا محمد قريشًا مؤنبًا لها، ومقرعًا على ضعف أحلامها، وسفاهة عقولها: ألربي البنات، ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟. وإنكم لتكرهون البنات، وتبغضونها أشد البغض، كما جاء في قوله: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ...} الآية. وفيه إشارة إلى كمال جهالة الإنسان، وضلالته. إذا وكل إلى نفسه الخسيسة، وخلي إلى طبيعته الركيكة، أنه يظن بربه ورب العالمين نقائص لا يستحقها أدنى عاقل، بل غافل من أهل الدنيا. 150 - ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم، فقال: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا} جمع أنثى {وَهُمْ شاهِدُونَ}؛ أي: والحال أنهم حاضرون، خلقنا إياهم إناثًا، فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت، والتهكم بهم، ويجوز أن تكون (¬3) {أَمْ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري، وأن تكون متصلة معادلة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) زاده.

[151]

للهمزة، كأن المستفهم يدعي ثبوت أحد الأمرين عندهم، ويطلب تعيينه منهم قائلًا: أي هذين الأمرين تدعونه، اهـ «زاده». والمعنى على الأول: أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق، وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثًا، والأنوثة من أخس صفات الحيوان. ولو قيل لأدناهم: فيك أنوثة لتمزقت نفسه من الغيظ لقائله، ففي جعلهم الملائكة إناثًا استهانة شديدة بهم. أي: كيف جعلوهم إناثًا وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم. وهذا كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}. فبيّن سبحانه، أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل، حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم. وهذا (¬1) ترق في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل حتى يقوم الدليل، والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل. 151 - ثم بيّن فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة، فقال: {أَلا} حرف تنبيه {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن هؤلاء المشركين {مِنْ إِفْكِهِمْ}، أي: من أجل كذبهم الأسوأ. وهو متعلق بقوله: {لَيَقُولُونَ} 152 - {وَلَدَ اللَّهُ}: فعل، وفاعل. {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} فيما يتدينون به من قولهم: ذلك كذبًا بيّنًا لا ريب فيه. قرأ الجمهور: {وَلَدَ اللَّهُ} فعلًا ماضيًا، مسندًا إلى الله سبحانه. وقرىء (¬2) بإضافة {وَلَدَ} إلى {اللَّهُ} على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: يقولون الملائكة ولد الله. وولد فعل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد، والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، والقليل والكثير. وفيه (¬3) تجسيم له تعالى، وتجويز الفناء عليه؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام القابلة للكون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[153]

والفساد. يعني: انتبهوا، واعلموا أن مبنى مذهبهم الفاسد ليس إلا الإفك الصريح، والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل قطعي أو شبهة دليل. فإنه تعالى لم يلد ولم يولد. 153 - ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم، ونقض الدعوى من أساسها مبينًا أن العقل لا يتقبلها. فقال: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري الاستبعادي، دخلت على ألف الافتعال، أصله: أاصطفى، فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناءً بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء لنفسه؛ أي: أتقولون: إنه تعالى اختار البنات على البنين مع نقصانهن رضى بالأخس الأدنى؛ أي: أي شيء يحمله على أن يختار البنات، ويترك البنين. والعرف، والعادة، والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا. ونحو الآية قوله: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}. وقرأ (¬1) نافع في رواية عنه، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش بهمزة وصل مكسورة تثبت ابتداء وتسقط درجًا، ويكون الاستفهام منويًا، قاله الفراء. وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن {أَصْطَفَى} وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول، وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل، فقد حكى جماعة من المحققين، منهم: الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام، كما في قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا}. وقيل: هو على إضمار القول. 154 - {مَا لَكُمْ}؛ أي: أي (¬2) شيء ثبت لكم في هذه الدعوى {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} على الغني عن العالمين بهذا الحكم، تقضي ببطلانه بديهة العقول، ارتدعوا عنه، فإنه جور. قال ابن الشيخ: هاتان جملتان استفهاميتان، ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب. استفهم أولًا عما استقر لهم، وثبت استفهام إنكار، ثم استفهم استفهام تعجب من حكمهم هذا الحكم الفاسد، وهو أن يكون أحسن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[155]

الجنسين لأنفسهم، وأخسهما لربهم. والمعنى: أي شيء ثبت لكم، كيف تحكمون لله بالبنات، وهو القسم الذي تكرهون، ولكم بالبنين، وهو القسم الذي تحبونه. 155 - {أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155)} بحذف إحدى التاءين من تتذكرون. والهمزة فيه للتوبيخ، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتلاحظون ذلك الحكم فلا تتذكرون بطلانه، فترجعوا عنه، فإنه مركوز في عقل ذكي وغبي. وقرأ طلحة بن مصرف (¬1): {تذكرون} بسكون الذال وضم الكاف. 156 - ثم انتقل إلى تبكيت آخر، فقال: {أَمْ لَكُمْ}؛ أي: بل ألكم {سُلْطانٌ مُبِينٌ} وحجة واضحة ظاهرة، نزلت عليكم من السماء، بأن الملائكة بنات الله، ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي. وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي 157 - {فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ} الناطق بصحة دعواكم، فالباء: للتعدية، أو فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} فيما تقولونه. فإذا لم ينزل عليكم كتاب سماوي فيه ذكر ذلك الحكم، فلم تصرون على الكذب، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم مع الاستهزاء بهم والتعجيب من جهلهم. 158 - ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب، وسقوطهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي جناياتهم لآخرين، فقال {وَجَعَلُوا}؛ أي: وجعل هؤلاء المشركون {بَيْنَهُ} تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ}؛ أي: الملائكة. وسموا جنة لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار {نَسَبًا}؛ أي: مشاكلة، ومناسبة. فقالوا: الملائكة بنات الله، والنسب، والنسبة اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض كالنسبة بين الأخوة وبني العم، ويقال: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والمعنى (¬1): وجعل المشركون بما قالوا نسبة بين الله، وبين الملائكة، وأثبتوا بذلك جنسية جامعة له تعالى، وللملائكة. وقال مجاهد، والسدي، ومقاتل: إن القائل بذلك كنانة، وخزاعة. قالوا: إن الله سبحانه خطب إلى سادات الجن، فزوّجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وفي ذكر الله الملائكة، بهذا الاسم في هذا الموضع إشارة إلى أن من صفته الاجتنان، وهو من صفات الأجرام، لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك، وفيه إشارة أيضًا إلى جنة الإنسان، وقصور نظر عقله من كمال أحدية الله، وجلال صمديته، إذا وكل إلى نفسه في معرفة ذات الله، وصفاته، فيقيس ذاته على ذاته، وصفاته على صفاته، فيثبت له نسبًا كما له نسب، ويثبت له زوجة وولدًا كما له زوجة وولد. وهو سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ثم إن هذا أعني: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} إلخ، عبارة عن قولهم: الملائكة بنات الله. وإنما أعيد ذكره تمهيدًا لما يعقبه من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمت الجنة؛ أي: الملائكة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسبًا. {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن هؤلاء الكفرة {لَمُحْضَرُونَ} النار معذبون بها، لا يغيبون عنها لكذبهم وافترائهم في ذلك، والمراد به. المبالغة في التكذيب ببيان أن الذي يدعي هؤلاء المشركون لهم تلك النسبة، ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال، يكذبون في ذلك، ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكمًا مؤكدًا. والمعنى: أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون، أن بينه تعالى، وبينهم نسبًا أن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار، ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم. وقيل: علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب، والأول أولى؛ لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد به: العذاب كما مر. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[159]

159 - ثم إن الله سبحانه نزّه نفسه عما قالوه من الكذب، فقال: {سُبْحانَ اللَّهِ}؛ أي: تنزه الله تعالى تنزهًا لائقًا بجنابه {عَمَّا يَصِفُونَ} به من الولد، والنسب. أو نزهوه تنزيهًا عن ذلك أو ما أبعد، وما أنزه من هؤلاء خلقه وعبيده عما يضاف إليه من ذلك. فهو تعجب من كلمتهم الحمقاء، وجعلتهم العوجاء. 160 - {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} استثناء منقطع (¬1) من الواو في {يَصِفُونَ}؛ أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصين الذين أخلصهم الله بلطفه من ألواث الشكوك والشبهات، ووفقهم للجريان بموجب اللب برآء من أن يصفوه به. وجعل أبو السعود قوله: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} بتقدير قول معطوف على علمت الجنة تقديره ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك، وقالوا: سبحان الله عما يصفون به من الولد والنسب، لكن عباد الله المخلصين، الذين نحن من جملتهم، برآء من ذلك الوصف، بل نصفه بصفات العلى، فيكون المستثنى أيضًا من كلام الملائكة، وقد قرىء {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام وكسرها، ومعناهما من بيناه قريبًا، وقيل: هو استثناء من المحضرين؛ أي: إنهم يحضرون النار إلا من أخلص. فيكون متصلًا لا منقطعًا. وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة. 161 - ثم خاطب الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص، فقال: {فَإِنَّكُمْ} أيها المشركون. عود إلى خطابهم لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام {وَما تَعْبُدُونَ}؛ أي: ومعبوديكم. وهم الشياطين الذين أغووهم 162 - {ما أَنْتُمْ} {ما} نافية، و {أَنْتُمْ} خطاب لهم ولمعبوديهم تغليبًا للمخاطب على الغائب {عَلَيْهِ} الضمير عائد لله، و {على} متعلقة بقوله: {بِفاتِنِينَ} جمع فاتن. والفاتن هنا: بمعنى المضل والمفسد، يقال: فتن فلان على فلان امرأته؛ أي: أفسدها عليه وأضلها حاملًا إياها على عصيان زوجها، فعدّى الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث. ومفعول {بِفاتِنِينَ} محذوف. والمعنى (¬2): ما أنتم بفاتنين أحدًا من عباده؛ أي: بمضلين ومفسدين بحمله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[163]

على المعصية والخلاف. 163 - {إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)} منهم؛ أي: داخلها لعلمه تعالى بأنه يصر على الكفر بسوء اختياره، ويصير من أهل النار لا محالة، فيضلون بتقدير الله من قدّر الله أن يكون من أهل النار، وأما المخلصون منهم فإنهم بمعزل عن إفسادهم وإضلالهم، فهم لا جرم برآء من أن يفتنوا بكم، ويسلكوا مسلككم في وصفه تعالى بما وصفتموه به. وقرأ الجمهور (¬1): {صَالِ} بكسر اللام، لأنه منقوص مضاف، حذفت الياء لالتقاء الساكين، وحمل على لفظ {مَنْ}، وأفرد كما أفرد {هُوَ}. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة {صالوا الجحيم} بضم اللام مع واو بعدها. وروي عنهما: أنهما قرأا بضم اللام بدون واو. فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو، حملا على معنى {مَنْ}، وحذفت نون الجمع للإضافة. وأما بدون الواو، فيحتمل أن يكون جمعا وإنما حذفت الواو خطًا كما حذفت لفظًا، ويحتمل أن يكون مفردًا، وحقه على هذا كسر اللام. والمعنى (¬2): أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل النار، وهم المصرون على الكفر، وإنما يصر على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وأنه ممن يصلى النار؛ أي: يدخلها، فهو لا محالة يكبكب فيها. قال لبيد بن ربيعة: أَحْمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ ... بِيَدَيْه الْخَيرُ مَا شَاءَ فَعَلْ مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ واحتج (¬3) أهل السنة والجماعة بهذه الآية وهي قوله: {فَإِنَّكُمْ} إلخ، على أنه لا تأثير لإلقاء الشيطان ووسوسته، ولا لأحوال معبودهم في وقوع الفتنة، وإنما المؤثر هو قضاء الله، وتقديره، وحكمه بالشقاوة، ولا يلزم منه الجبر، ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[164]

وعدم لوم الضال والمضل بما كسبا، لما أشير إليه، من أنهم لا يقدرون على إضلال أحد، إلا إضلال من علم الله منه اختيار الكفر، والإصرار عليه. وعلم الله، وتقديره، وقضاؤه فعلًا من أفعال المكلفين، لا ينافي اختيار العبد، وكسبه. 164 - قوله: {وَما مِنَّا} حكاية اعتراف الملائكة للرد على عبدتهم، كأنه قيل: ويقول الملائكة الذين جعلتموهم بنات الله، وعبدتموهم بناءً على ما زعمتم، من أن بينهم وبينه تعالى مناسبة، وجنسية جامعة. وما منا أحد؛ أي: وما أحد كائن منا معشر الملائكة {إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} في السموات، يعبد الله فيه، لا يتجاوزه. وفي «السمين»: في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أن {مِنَّا} صفة لموصوف محذوف هو مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: {إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} تقديره: ما أحد منا إلا له مقام معلوم. وحذف المبتدأ مع {مَنْ} جيد فصيح. والثاني: أن المبتدأ محذوف أيضًا، و {إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} صفة حذف موصوفها، والخبر على هذا هو الجار المتقدم، والتقدير: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، انتهى. وقيل: التقدير: وما منا إلا من له مقام معلوم. يعني (¬1): أن جبرائيل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم؛ أي: مرتبة، ومنزلة، ووظيفة لا يتعداها. فمنا الموكل بالأرزاق، ومنا الموكل بالآجال، ومنا الموكل بإنزال الوحي، ومنا راكع لا يقيم صلبه، ومنا ساجد لا يرفع رأسه خضوعًا لعظمته، وخضوعا لهيبته، وتواضعًا لجلاله، ولكل منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف. ففي الآية تنبيه على فساد قول المشركين: إنهم أولاد الله؛ لأن مبالغتهم في إظهار العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، فكيف يكون بينه تعالى وبينهم جنسية؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح، بل والعالم مشحون بالأرواح، فليس فيه موضع بيت ولا ¬

_ (¬1) الخازن.

[165]

زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله. ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالتستر في الخلوة، وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين. 165 - {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} في مواقف الطاعة، ومواطن الخدمة، قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض، قيل (¬1): إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين، 166 - {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}؛ أي: المنزهون لله تعالى، المقدسون له عما أضافه إليه المشركون. وقيل: المصلون. وقيل: المراد بقولهم: {الْمُسَبِّحُونَ} مجموع التسبيح باللسان، وبالصلاة. والمقصود أن هذه الصفات هي صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله سبحانه. 167 - {وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167)} هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين. و {إِنْ} هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وفي الإتيان بإن المخففة، واللام إشارة إلى أنهم كانوا يقولون ما قالوه مؤكدين جادين، فكم بين أول أمرهم وآخره. والمعنى: وإن الشأن كانت قريش تقول قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل: 168 - {لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)}؛ أي: كتابًا من كتب الأولين من التوراة والإنجيل 169 - {لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)}؛ أي: لأخلصنا العبادة لله، ولما خالفنا كما خالفوا. 170 - والفاء في قوله: {فَكَفَرُوا بِهِ} عاطفة على محذوف تقديره: فجاءهم ذكر؛ أي ذكر سيد الأذكار، وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأسفار. وهو القرآن الكريم فكفروا به، وأنكروه، وقالوا في حقه وفي حق من أنزل عليه ما قالوا. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}؛ أي: عاقبة كفرهم، وغائلته من المغلوبية في الدنيا والعذاب الأليم في العقبى. وهو وعيد لهم وتهديد. 171 - قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا} جملة مستأنفة مقررة للوعيد. قرأ الجمهور ¬

_ (¬1) روح البيان.

[172]

بالإفراد. وقرأ الضحاك بالجمع، انتهى من البحر. والمراد بالكلمة (¬1): ما وعدهم الله تعالى من النصر والظفر على الكفار. قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. وقال الفراء: سبقت كلمتنا بالسعادة لهم. والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا. فإنه قال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} إلخ، ثم إن السبق والتقدم الموقوف على الزمان إنما هو بالنسبة إلى الإنسان، وإلا فالأمر بالإضافة إلى الله كائن على ما كان؛ أي: وعزتي وجلالي لقد سبقت، وتقدمت في الأزل، أو كتبت في اللوح المحفوظ كلمتنا؛ أي: وعدنا على ما لنا من العظمة. {لِعِبادِنَا} الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {الْمُرْسَلِينَ}؛ أي: الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة. 172 - ثم فسر ذلك الوعد بطريق الاستئناف، فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن عبادنا المذكورين {لَهُمُ} خاصة {الْمَنْصُورُونَ} فمن نصرناه فلا يغلب، كما أن من خذلناه لا ينصر. 173 - ثم عمم فقال: {وَإِنَّ جُنْدَنا} وحزبنا من المرسلين، وأتباعهم المؤمنين {لَهُمُ}؛ أي: لا غيرهم {الْغالِبُونَ} على أعدائهم في الدنيا والآخرة. قال الشيباني: جاء هنا بالجمع مع كون المسند إليه مفرد اللفظ، من أجل أنه رأس آية. ووصفهم (¬2) بالغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبتهم لهم، فخرج الكلام الغالب، فالحكم للغالب، والنادر كالمعدوم، والمغلوبية قد تكون لعارض لمخالفة أمر القائد، والطمع في الدنيا، والعجب، والغرور بكثرة العدة والعدد، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن كما قال سبحانه: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. 174 - ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم، والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات، فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[175]

أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمت أن النصرة والغلبة لك ولأتباعك، وأردت بيان ما هو الأصلح لك: فأقول لك: تول عنهم؛ أي: أعرض عن كفار مكة، واصبر على أذاهم {حَتَّى حِينٍ}؛ أي: إلى مضي زمن معلوم عند الله، ومدة يسيرة تؤمر بعدها بجهادهم. فكان - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر مأمورًا بالتبليغ والإنذار، والصبر على أذى الكفار، تأليفًا لهم، ثم أمر بالجهاد في السنة الثانية من الهجرة، وهي مدة الكف عن القتال، قال السدي ومجاهد: حتى نأمرك بالقتال. وقيل: إلى يوم بدر. وقيل: إلى يوم فتح مكة، فالآية محكمة لا منسوخة بآية القتال، وقيل: الآية منسوخة بآية السيف. 175 - {وَأَبْصِرْهُمْ} يا محمد، وانظر إليهم على أسوأ حال وأفظع نكال، حل بهم من القتل والأسر، والمراد بالأمر بإبصارهم: الإيذان بغاية قربه، كأنه بين يديه يبصره في الوقت، وإلا فمتعلق الإبصار لم يكن حاضرا عند الأمر {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يقع بهم. و {سوف} للوعيد، لا للتبعيد، أو فسوف يبصرون ما قضينا لك من التأييد، والنصرة، والثواب في الآخرة، أو انظر إليهم إذا عذبوا، فسوف يبصرون ما أنكروا، أو أعلمهم فسوف يعلمون. والمعنى (¬1): أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال، بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك، وإقبال الناس عليه أفواجًا زرافات ووحدانًا، مصداقًا لوعده بقوله: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا (3)}. وفي «التأويلات النجمية»: فسوف يبصرون جزاء ما عملوا من الخير والشر، انتهى. و {سوف} للوعيد، ليتوبوا ويؤمنوا دون التبعيد؛ لأن تبعيد الشيء المحذر منه كالمنافي لإرادة التخويف به. 176 - ولما نزل قوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا استعجالًا، واستهزاء لفرط جهلهم: متى هذا؟ فنزل قوله: {أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)} والهمزة (¬2): للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أبعد هذا التكرير من الوعيد ينكرون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[177]

عذابنا، فيستعجلون به. 177 - {فَإِذا نَزَلَ} العذاب الموعود {بِساحَتِهِمْ}؛ أي: بفنائهم، وقربهم، وحضرتهم، كأنه جيش قد هزمهم، فأناخ بفنائهم بغتة. {فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ}؛ أي: قبح وبئس صباح الكافرين، الذين أنذروا بعذابنا، وكذبوا به فلم يؤمنوا، والمخصوص بالذم: صباحهم، واللام فيه: للجنس. فإن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع، والإبهام، والتفصيل، فلا يجوز أن تكون للعهد، والصباح: مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت منهم الإغارة في الصباح سموها صباحًا وإن وقعت ليلًا. وقرأ عبد الله: {فبئس}. قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل. قيل: المراد به: نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بساحتهم يوم فتح مكة. وقرأ الجمهور (¬1): {نزل} مبنيًا للفاعل. وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل، وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فلما دخل القرية قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاث مرات». متفق عليه. 178 - ثم كرر سبحانه ذكر ما تقدم، تأكيدًا لوعيد العذاب، فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم يا محمد {حَتَّى حِينٍ}. وقيل: المراد من الآية الأولى: ذكر أحوالهم في الدنيا، وهذه ذكر أحوالهم في الآخرة. فعلى هذا القول يزول التكرار. 179 - {وَأَبْصِرْ} العذاب إذا نزل بهم {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما سيحل بهم من فنون العذاب. وهذا (¬2): تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إثر تسلية، وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول، من الإيذان بأن ما يبصره عليه السلام، من فنون المسار، وما يبصرون من أنواع المضار، لا يحيط به الوصف والبيان، وفي «البرهان»: حذف الضمير من الثاني اكتفاء بالأول. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[180]

والمعنى: أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين، وخلهم وفريتهم على ربهم، إلى أن يأذن بهلاكهم، وانظر إليهم فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة. 180 - ثم ختم سبحانه السورة، بخاتمة شريفة جامعة، لتنزيهه تعالى عما لا يليق به، مع وصف نفسه بصفات الكمال، ومدحه للرسل الكرام، فقال: {سُبْحانَ رَبِّكَ} يا محمد. خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والإضافة فيه للتشريف، وقوله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} بدل من الأول {عَمَّا يَصِفُونَ}؛ أي: نزّه يا محمد (¬1) من هو مربيك، ومكملك، ومالك العزة والغلبة والقوة على الإطلاق، عما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه من الأولاد، والأزواج، والشركاء، وغير ذلك من الأشياء، التي من جملتها ترك نصرتك عليهم، كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، قال في «بحر العلوم»: أضاف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذي العزة كقولك: صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، فلا عزة إلا له سبحانه، على أن العزة ذاتية، أو لمن أعزه من الأنبياء وغيرهم، فالعزة حادثة كائنة بين خلقه، وهي وإن كانت صفة قائمة بغيره تعالى، إلا أنها مملوكة له مختصة به، يضعها حيث يشاء، كما قال تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ}. وفيه إشعار بالسلوب والإضافات، كما في قوله تعالى: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)}. وذلك أن قوله: {سُبْحانَ} إشارة إلى السلوب كالجلال، فإن كلا منهما يفيد ما أفاد الآخرة في قولنا: سبحان ربنا عن الشريك والشبيه، وجل ربنا عنهما، وقوله: {رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} إشارة إلى الإضافات كالإكرام، وإنما قدم السلب على الإضافة، لأن السلوب كافية فيها ذاته، من حيث هو هو، بخلاف الإضافات، فإنه لا بد في تحققها من غيره؛ لأن الإضافة لا توجد إلا عند وجود المضافين. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: {سُبْحانَ اللَّهِ} كلمة مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته، فما كان من أسمائه سلبًا فهو مندرج ¬

_ (¬1) روح البيان.

[181]

تحت هذه الكلمة، كالقدوس: وهو الطاهر من كل عيب، والسلام: وهو الذي سلم من كل آفة، فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه، وكل نقص فهمناه. 181 - ثم إن المرسلين لما كانوا وسائط بين الله، وبين عباده، نبه على علو شأنهم بقوله: {وَسَلامٌ}؛ أي: وسلامة، ونجاة من كل المكاره، وفوز بجميع المآرب، كائن {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الذين يبلّغون رسالات الله إلى الأمم، ويبيّنون لهم ما يحتاجون إليه من الأمور الدينية والدنيوية، أولهم آدم، وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، فهو تعميم للرسل، بالتسليم بعد تخصيص بعضهم فيما سبق؛ لأن تخصيص كل واحد بالذكر يطول. 182 - {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ أي: على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء، وقيل: الغرض من ذلك: تعليم المؤمنين أن يقولوه، ولا يخلّوا به، ولا يغفلوا عنه، لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى، من الأجر يوم القيامة، فليكن أخر كلامه إذا قام من مجلسه {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)}. وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، ولا مرتين، يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)}. والمعنى: أي تنزيهًا لربك أيها الرسول، رب القوة والغلبة، عما يصفه به هؤلاء المفترون، من مشركي قريش من نحو قولهم: ولد الله، وقولهم: الملائكة بنات الله، وأمنة من الله سبحانه للمرسلين، الذين أرسلهم إلى أممهم من العذاب الأكبر، ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين، الجن والإنس، خالصًا له دون من سواه؛ لأن كل نعمة لعباده، فهي منه. الإعراب {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ (150)}.

{فَاسْتَفْتِهِمْ} الفاء: عاطفة، عطفت هذه الجملة على قوله في أول السورة: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا}، وإن بعد المدى، قال البيضاوي: {فَاسْتَفْتِهِمْ}، معطوف على مثله في أول السورة، فأمر أولًا باستفتائهم عن وجه إنكار البعث، وساق الكلام في تقريره، جاريًا لما يلائمه من القصص، موصولًا بعضها ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات، ولأنفسهم البنين في قولهم: الملائكة بنات الله، وإن شئت قلت: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الله موصوفًا بصفات الكمال، وأردت توبيخ هؤلاء المشركين على زعمهم الفاسد .. فأقول لك: استفتهم على سبيل التوبيخ. {استفتهم} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة أو الجملة معطوفة على ما تقدم في أول السورة. {أَلِرَبِّكَ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، {لِرَبِّكَ}: خبر مقدم. {الْبَناتُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ {استفتهم}؛ لأنه بمعنى: اسألهم. و {لَهُمُ}: خبر مقدم. {الْبَنُونَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها. {أَمْ}: حرف عطف معادلة للهمزة؛ كأن المستفهم يدّعي ثبوت أحد الأمرين، ويطلب تعيينه منهم قائلًا: أي هذين الأمرين تدعونه. {خَلَقْنَا}: فعل، وفاعل، {الْمَلائِكَةَ}: مفعول به. {إِناثًا}: حال من الملائكة. والجملة معطوفة عليه جملة {أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ}. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هُمْ}: مبتدأ. {شاهِدُونَ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من الملائكة أيضًا، ولكنها حال سببية، والرابط مقدر، تقديره: أم خلقنا الملائكة إناثا، والحال أنهم شاهدون خلقهم. {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)}. {أَلا} حرف تنبيه واستفتاح، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {مِنْ إِفْكِهِمْ}: متعلق بـ {يقولون} {لَيَقُولُونَ} اللام: حرف ابتداء، وجملة {يقولون}: خبر

{إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لإبطال مذهبهم الفاسد، ببيان أنه إفك صريح، لا دليل يدعمه. {وَلَدَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {يقولون}. {وَإِنَّهُمْ}: {الواو}: حالية، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {لَكاذِبُونَ}: اللام: حرف ابتداء، {كاذبون}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب حال من فاعل {يقولون}. {أَصْطَفَى} الهمزة المفتوحة، للاستفهام الإنكاري، استغني بها عن همزة الوصل، في التوصل إلى النطق بالساكن. {أَصْطَفَى الْبَناتِ} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول به، {عَلَى الْبَنِينَ}، متعلق بـ {أَصْطَفَى} بتضمينه معنى أفضل. وجملة الاستفهام، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {ما} اسم استفهام على وجه الإنكار في محل الرفع مبتدأ، و {لَكُمْ} خبره، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل النصب على الحال من فاعل {تَحْكُمُونَ} أو على المفعولية المطلقة، والتقدير: أي حكم تحكمون. و {تَحْكُمُونَ}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة أيضًا. فليس لإحدى الجملتين تعلق بالأخرى، كما مر. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155)} الهمزة للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتغفلون عن الحقائق فلا تذكرون. {لا}: نافية. {تَذَكَّرُونَ}: فعل، وفاعل معطوف على تلك المحذوفة. {أَمْ}: حرف عطف بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام الإنكاري. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {سُلْطانٌ}: مبتدأ مؤخر. {مُبِينٌ}: صفة {سُلْطانٌ}. والجملة معطوفة على جملة {أَصْطَفَى الْبَناتِ}. {فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}. {فَأْتُوا} الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت افتراءهم فيما يقولون، وأردت الزام الحجة لهم .. فأقول لك: قل لهم: ائتوا بكتابكم. {ائتوا}: فعل أمر، وفاعل. {بِكِتابِكُمْ}: متعلق به. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنْ}: حرف شرط. {كُنْتُمْ صادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم

بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فائتوا بكتابكم، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَجَعَلُوا} فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَيْنَهُ}: ظرف، متعلق بـ {جَعَلُوا} على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {جَعَلُوا}. {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ}: ظرف ومضاف إليه، معطوف على الظرف الأول. {نَسَبًا} مفعول أول لـ {جعل}، {وَلَقَدْ}: {الواو}: حالية، واللام: موطئة للقسم. {قد} حرف تحقيق. {عَلِمَتِ الْجِنَّةُ}: فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب على الحال من الجنة. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {لَمُحْضَرُونَ}: اللام: حرف ابتداء. {محضرون}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب، سادة مسد مفعولي {علم}. {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)}. {سُبْحانَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {سُبْحانَ}، وجملة {يَصِفُونَ}: صلة {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: عما يصفونه به، {إِلَّا}: أداة استثناء، {عِبادَ اللَّهِ}: استثناء منقطع من المحضرين، كأنهم ليسوا من جنسهم، ويحتمل أن يكون استثناء من فاعل {جَعَلُوا} أو من فاعل {يَصِفُونَ}؛ أي: لكن عباد الله المخلصين ناجون. {الْمُخْلَصِينَ} صفة {فَإِنَّكُمْ} {الفاء}: استئنافية. {إنكم}: ناصب واسمه، {وَما تَعْبُدُونَ}: {الواو}: واو المعية، {ما} اسم موصول في محل النصب على أنه مفعول معه، وقد سدت مسد خبر {إن}؛ أي: إنكم وآلهتكم قرناء، لا تزالون تعبدونها على حد قولهم: كل رجل وضيعته؛ أي: مقترنان. وجملة {إن}: مستأنفة. {ما}: نافية أو حجازية. {أَنْتُمْ}: اسمها، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {فاتنين}، {بِفاتِنِينَ}: خبر {ما}، والباء: زائدة. والجملة مستأنفة. ويجوز أن تكون جملة {ما}: الحجازية خبر {إن}: على أن {الواو}: عاطفة لا معية في قوله: {وَمَا

تَعْبُدُونَ}. ومفعول {فاتنين}: محذوف؛ أي: أحدًا. والمعنى: ما أنتم ولا معبودكم بفاتنين؛ أي: مفسدين عليه تعالى أحدًا من عباده. {إِلَّا}: أداة استثناء من مفعول فاتنين المحذوف. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، {هُوَ}: مبتدأ، {صالِ}: خبر مرفوع بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وقد أفرد حملًا على لفظ {مَنْ}: كما أفرد لفظ {هُوَ}، كذلك {الْجَحِيمِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَما مِنَّا} {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {مِنَّا}: خبر مقدم، والمبتدأ محذوف أقيمت صفته مقامه، والتقدير: وما كائن منا أحد إلا له مقام معلوم {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لَهُ}: خبر مقدم. {مَقامٌ}: مبتدأ مؤخر. {مَعْلُومٌ}: صفة {مَقامٌ}. والجملة الاسمية صفة للمبتدأ المحذوف. وما كائن منا إلا أحد موصوف بكون مقام معلوم له على حد قوله: أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلّاعِ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُونِي ويجوز أن تكون {مِنَّا}: صفة لمحذوف هو المبتدأ، والخبر جملة {إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}؛ أي: وما أحد كائن منا، إلا له مقام معلوم. {إِلَّا}: أداة حصر، {لَهُ}: خبر مقدم، {مَقامٌ}: مبتدأ مؤخر، {مَعْلُومٌ}: صفة {مَقامٌ}، والجملة خبر لذلك المحذوف. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}. {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {لَنَحْنُ} اللام: حرف ابتداء. {نحن}: مبتدأ أو ضمير فصل، و {الصَّافُّونَ}: خبر {نحن}، وجملة {نحن}: خبر {إِنَّا}: أو {الصَّافُّونَ}: خبر {إِنَّا}، وجملة {إن}: معطوفة على جملة قوله: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)}. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} معطوف أيضًا على الآية السابقة، {وإن} {الواو}: عاطفة. {إن}: مخففة من الثقيلة مهملة، أو اسمها ضمير الشأن، {كانُوا}: فعل ناقص واسمه. {لَيَقُولُونَ}: اللام: حرف ابتداء، وجملة {يقولون}: خبر {كان}، وجملة {كان} في محل

الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة معطوفة على ما قبلها. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم {إِنْ}: حرف نصب، {عِنْدَنا}: ظرف، ومضاف إليه، خبر {أَنَّ} مقدم على اسمها، {ذِكْرًا} اسمها مؤخر. {مِنَ الْأَوَّلِينَ} صفة لـ {ذِكْرًا} وجملة {أن} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر، مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف بعد {لَوْ} الشرطية؛ لأن {لَوْ}: الشرطية، لا يليها إلا الفعل، والتقدير: لو ثبت كون ذكر من الأولين عندنا. {لَكُنَّا} اللام: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية، {كنا}: فعل ناقص واسمه، {عِبادَ اللَّهِ} خبره، {الْمُخْلَصِينَ} صفة لعباد الله، وجملة {كان}: جواب لـ {لَوْ} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول لـ {يقولون}. {فَكَفَرُوا بِهِ} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاءهم ذكر أي ذكر {فَكَفَرُوا بِهِ}. {كفروا}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، {بِهِ} متعلق بـ {كفروا}، {فَسَوْفَ} الفاء: عاطفة، {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد، {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {كفروا}. {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)}. {وَلَقَدْ سَبَقَتْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {سَبَقَتْ كَلِمَتُنا}: فعل، وفاعل. {لِعِبادِنَا}: متعلق بـ {سَبَقَتْ}. {الْمُرْسَلِينَ} صفة لـ {عبادنا}، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {لَهُمُ} اللام: حرف ابتداء. {هم}: ضمير فصل، {الْمَنْصُورُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} جملة مفسرة لـ {كَلِمَتُنا}، لا محل لها من الإعراب. {وَإِنَّ جُنْدَنا} {الواو}: عاطفة، {إِنَّ} حرف نصب، {جُنْدَنا} اسمها، {لَهُمُ} اللام: حرف ابتداء، {هم} ضمير فصل، {الْغالِبُونَ} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: معطوفة على جملة {إِنَّ} المذكورة قبلها. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}.

{فَتَوَلَّ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن النصر، والغلبة، والعاقبة لك، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: تول عنهم. {تول}: فعل أمر، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {عَنْهُمْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تول}، {حَتَّى حِينٍ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تول} أيضًا. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأَبْصِرْهُمْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومفعول به. معطوف على تول، {فَسَوْفَ}: الفاء: عاطفة. {سوف}: حرف تنفيس. {يُبْصِرُونَ}: فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: ما يحيق بهم جزاء كفرهم. والجملة معطوفة على جملة {أَبْصِرْهُمْ} عطف إخبار على إنشاء. {أَفَبِعَذابِنا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد هذا التكرير من الوعيد، ينكرون عذابنا، فيستعجلون به. {بعذابنا}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {يَسْتَعْجِلُونَ}، {يَسْتَعْجِلُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {فَإِذا نَزَلَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت هذا الوعيد المكرر لهم، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك إذا نزل. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {نَزَلَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على العذاب، {بِساحَتِهِمْ} متعلق بـ {نَزَلَ}. والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَساءَ} الفاء: رابطة لجواب إذا وجوبًا لكون الجواب جملة جامدية، {ساء} فعل ماض لإنشاء الذم، {صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} فاعل، ومضاف إليه، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: صباحهم، وجملة {إذا} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَتَوَلَّ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {عَنْهُمْ} متعلق به، والجملة معطوفة على نظيرتها السابقة آنفًا. {حَتَّى حِينٍ}: متعلق بـ {تول} أيضًا. {وَأَبْصِرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -،

معطوف على {تول}، وحذف المفعول اختصارا لدلالة الأول عليه، {فَسَوْفَ} الفاء: عاطفة، {سوف يبصرون} فعل وفاعل، معطوف على {أبصر}. {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)}. {سُبْحانَ}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبح ربك سبحانًا، والجملة مستأنفة. {رَبِّكَ}: مضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، {رَبِّ الْعِزَّةِ}: بدل من ربك، بدل كل من كل. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {سُبْحانَ}، وجملة {يَصِفُونَ}: صفة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يصفونه به. {وَسَلامٌ} {الواو}: عاطفة. {سَلامٌ}: مبتدأ، سوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء به، {عَلَى الْمُرْسَلِينَ}: خبر، والجملة معطوفة على جملة {سُبْحانَ} عطف إخبار على إنشاء؛ لأنه في معنى الإنشاء. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله، {رَبِّ الْعالَمِينَ}: صفة للجلالة أو بدل منه، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فَاسْتَفْتِهِمْ} من الاستفتاء، وهو طلب الفتوى، والفتوى، وكذا الفتيا: الجواب عما أشكل من الأحكام، يقال: استفتيته فأفتاني بكذا، والمراد بالاستفتاء هنا: الاستخبار. {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا} الإناث ككتاب، جمع الأنثى، من أنث أنوثة إذا ضعف، والألف في الأنثى، ألف التأنيث المقصورة، فلذلك لا يصرف. {مِنْ إِفْكِهِمْ} والإفك: أسوأ الكذب، وأقبحه، وأشده عقوبة. {أَصْطَفَى الْبَناتِ} بفتح الهمزة على أنها همزة الاستفهام الإنكاري، دخلت على ألف الافتعال، أصله أاصطفى، فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام. وأصل {أَصْطَفَى}: اصتفى من الصفوة، قلبت تاء الافتعال طاء، لوقوعها بعد حرف الإطباق. والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء لنفسه.

{أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155)} بحذف إحدى التاءين لثقل توالي المثلين، أصله: تتذكرون، إحداهما تاء المضارعة، والأخرى تاء المطاوعة. {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} الجنة بكسر الجيم: جماعة الجن، والملائكة أيضًا كما في «القاموس»، والمراد هنا: الملائكة، وسموا جنة لاجتنانهم، واستتارهم عن الأبصار، ومنه: سمي الجنين، وهو المستور في بطن الأم، والجنون، لأنه خفاء العقل، والجنة بالضم: الترس، لأنه يجن صاحبه، ويستره. والجنة بالفتح، لأنها كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. فمن له اجتنان عن الأعين .. فهو جنس يندرج تحته الملائكة، والجن المعروف. قالوا: الجن واحد، ولكن من خبث من الجن، ومرد، وكان شرًا فهو شيطان. ومن طهر منهم، ونسك، وكان خيرًا فهو ملك. قال الراغب: يقال الجن على وجهين: أحدهما: للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس، فعلى هذا يدخل فيه الملائكة والشياطين، فكل ملائكة جن، وليس كل جن ملائكة. وقيل الثاني: بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة أقسام: أخيار وهم الملائكة، وأشرار وهم الشياطين، وأوساط فهم أخيار وأشرار وهم الجن. ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله: {وَمِنَّا الْقاسِطُونَ}. {نَسَبًا} النسب، والنسبة: اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول: كالاشتراك بين الآباء والأبناء. ونسب بالعرض: كالنسبة بين الإخوة وبني العم. وقيل: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه. {بِفاتِنِينَ} والفاتن هنا بمعنى: المضل والمفسد، يقال: فتن فلان على فلان امرأته؛ أي: أفسدها عليه، وأضلها حاملا لها على عصيان زوجها، فعدّي الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث. {إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)} صال بالكسر أصله: صالي على وزن فاعل

من الصلي، وهو الدخول في النار، يقال: صلي فلان النار يصلي صليًا من الباب الرابع، دخل فيها واحترق، فأعلّ كقاض، فترفعه بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، فلما أضيف إلى الجحيم سقط التنوين، وأفرد حملًا على لفظ {مَنْ}. والمعنى: داخل النار، ومعذب فيها. {كَلِمَتُنا}؛ أي: وعدنا. {لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ}؛ أي: الغالبون في الحرب، وغيرها. {وَإِنَّ جُنْدَنا}؛ أي: أتباع رسلنا. والجند: العسكر. وفي المصباح: الجند: الأنصار، والأعوان، والجمع أجناد، وجنود، والواحد جندي، فالياء للوحدة مثل: روم رومي، وجند بفتحتين: بلد باليمن، اهـ. {بِساحَتِهِمْ} قال الراغب: الساحة: المكان الواسع، ومنه: ساحة الدار، والسائح: الماء الجاري في الساحة، وساح فلان في الأرض مر مر السائح، ورجل سائح وسياح. وفي «حواشي ابن الشيخ»: الساحة: الفناء الخالي من الأبنية، وفناء الدار بالكسر ما امتد من جوانبها معدًا لمصالحها، وجمعها سوح، فألفها منقلبة عن واو، فتصغر على سويحة. وفي «المصباح»: الفناء بوزن كتاب: الوصيد، وهو سعة أمام الدار وقيل: ما امتد من جوانبه، اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {الْبَناتِ} {الْبَنِينَ}. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ}. وكان مقتضى السياق أن يقال: وجعلتم للإيذان بانقطاعهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم، وتحكى جناياتهم لآخرين كما في «الكرخي». ومنها: تتابع الاستفهامات، وتكراره في قوله: {أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}، وقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا}، وقوله: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155)} وقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)} للتقريع والتوبيخ.

ومنها: جمع المؤكدات لتحقيق المعنى، وتقريره في قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)}، {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)}. فقد أكدت كل من الجملتين بأن، وباللام، وباسمية الجملة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} فقد شبه العذاب النازل بهم، بعدما أنذروا به، فلم يبالوا الإنذار، وأصموا آذانهم عنه بجيش، أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم، فلم يكترثوا لإنذاره، ولم يتخذوا الأهبة والاحتياط حتى اجتاحهم جيش العدو، ففي الضمير المستتر في {نَزَلَ} استعارة بالكناية. والنزول: تخييل، كما في «البيضاوي». ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: {فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساء صباحهم. ومنها: حذف مفعول {أبصر} الثاني إما اختصارًا لدلالة الأول عليه، وإما اقتصارًا، اهـ «سمين». ومنها: إضافة رب إلى العزة في قوله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذي العزة كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه به. ومنها: تعميم الرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم في قوله: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - التوحيد، ودليله في الآفاق والأنفس. 2 - خلق السموات والأرض، ووصفه سبحانه لذلك. 3 - إنكار المشركين للبعث، وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار، وهم يطلعون عليهم. 4 - وصف الجنة، ونعيمها. 5 - قصص بعض الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل. 6 - دفع فرية قالها المشركون، وتوبيخهم عليها، إذ قالوا: الملائكة بنات الله. 7 - تنزيه الله عن ذلك. 8 - بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوي الأحكام الضعيفة، المستعدة للإضلال. 9 - وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون. 10 - مدح المرسلين، وسلام الله عليهم. 11 - حمد الله، وثناؤه على نفسه، بأنه رب العزة، ورب الخلق أجمعين. والله أعلم * * *

سورة ص

سورة ص سورة ص مكية، قال القرطبي عند الجميع. ويقال لها: سورة داود عليه السلام. وآيها ست، وقيل: ثمان وثمانون آية. وكلماتها: سبع مئة واثنتان وثلاثون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفًا، وقيل: تسعة وتسعون. التسمية: واسمها: سورة ص، ويقال لها: سورة داود لذكر قصة داود فيها، وسميت سورة ص، وهو حرف من حروف الهجاء، إشارة إلى فضل هذا الكتاب المعجز، الذي تحدى الله به الأولين والآخرين، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية. الناسخ والمنسوخ فيها: قال محمد بن حزم - رحمه الله -: سورة ص كلها محكم إلا آيتين: أولهما: قوله تعالى: {إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} الآية (70) نسخت بآية السيف. الثانية: قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} الآية (88)، نسخت أيضًا بآية السيف. فضلها: ومن فضائلها: ما روي (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ سورة ص .. كان له بوزن كل جبل سخّره الله لداود عشر حسنات، وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير». ولكن فيه مقال. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬2): أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين: ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

1 - أنه ذكر فيها من قصص الأنبياء، ما لم يذكر في تلك كداود، وسليمان. 2 - أنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار، أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرًا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين، وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم .. بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها، أنه لما ذكر عن الكفار، أنهم كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين؛ لأخلصوا العبادة لله، وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به .. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن؛ لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز مشاقة للرسول الذي جاء به، ثم ذكر من أهلك من القرون، التي شاقّت الرسل ليتعظوا. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة، وآخر السابقة آنفًا. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ..} الآية، مناسبة هذه الآية لما

قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنهم إنما توانوا، وتكاسلوا عن النظر والاستدلال، لأنهم لم ينزل بهم العذاب .. بيّن في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين، كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وفي هذا، تخويف لأولئك الكافرين، الذين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما تقدم، أن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد، والنبوات، والمعاد .. فأشار إلى الأولى بقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا}، وإلى الثانية بقولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا}. أشار هنا إلى الثالثة بقوله: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)} سخريةً وتهكمًا حين سمعوا بالمعاد، وأن هناك دارًا أخرى يحاسبون فيها، ويجازون على ما يعملون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين، وعلى ما يقولون في شأنه من أنه شاعر، وأنه مفتر كذاب. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر رسوله، بالصبر على أذى المشركين .. أردف ذلك، ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاق والأذى، مثل ما حدث له، فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم، وأحسن عاقبتهم، ترغيبًا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد، كما كان ذلك عاقبة من قبله. قوله تعالى: {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1)، لما مدح داود، وأثنى عليه بما سلف .. أردف ذلك، ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوقًا إليه السامع، ومعجبًا له. قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما قص علينا قصص داود عليه السلام، والخصمين .. أردف ذلك، ببيان أنه فوّض إلى داود خلافة الأرض، وأوصاه بالحكم بين الناس ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

بالحق، وعدم اتباع الهوى، حتى لا يضل عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب، وسوء المنقلب، إذ قد نسي يوم الحساب والجزاء. أسباب النزول قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه (¬1) ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرق عليه، فوثب، فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك، يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال، يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرًا، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين، ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)}. فنزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} إلى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {ص} تقدم (¬2) الكلام في مثل هذا مرارًا، وقلنا: إن هذه حروف يراد بها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

تنبيه المخاطب، للإصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته. نحو: ألا ويا. وينطق بأسمائها فيقال: صاد بالسكون. وقال الشوكاني: وقد اختلف في معنى «صاد»، فقال الضحاك: معناه: صدق الله، وقال عطاء: صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله، صادق الوعد، صانع المصنوعات، صبور على ذنوب عباده، الصمد لحوائج عباده. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله تعالى، وروي عنه: أنه قال: هو اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة، وقيل: هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة، قيل: وهو إما اسم للحروف مسرودا على نمط التعبد، أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ. وقرأ الجمهور (¬1): {صاد} بسكون الدال، كسائر حروف التهجي في أوائل السور، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف، وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن أبي عبلة، وأبو السمال «صاد» بكسر الدال من غير تنوين، والظاهر: أنه كسر لالتقاء الساكنين، وهو حرف من حروف المعجم، نحو: ق، ونون. وقال الحسن: هو أمر من صادى يصادي إذا عارض والمعنى: صاد القرآن بعملك؛ أي: عارضه بعملك، وقابله فاعمل به، ومنه: الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة، الخالية من الأجسام. وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا. وعنه: أن المعنى: أتله، وتعرض لقراءته، وعنه أيضًا: صاديت بمعنى: حادثت؛ أي: حادث. وهو قريب من القول الأول. وقرأ عيسى بن عمر، ومحبوب عن أبي عمر، وفرقة {صاد} بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، طلبا للتخفيف، وكذا قرأ: {قاف، ونون} بفتح الفاء والنون، وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني.

منه حرف القسم، نحوه: قوله: الله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقيل: نصب على الإغراء. وقيل: معناه: صاد محمد - صلى الله عليه وسلم - قلوب الخلق، واستمالها حتى آمنوا به. وروي عن ابن أبي إسحاق أيضًا. أنه قرأ {صاد}، بالكسر والتنوين، تشبيهًا لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور، وابن السميقع: {صاد}، بالضم من غير تنوين على البناء، نحو: منذ، وحيث، فجملة القراءات في {ص} خمس. والجمهور على السكون. قال ابن جرير الطبري: والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون؛ لأن ذلك القراءة التي جاء بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم، وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات، فيعربن إعراب الأسماء والأدوات الأصوات، فيسلك بهن مسالكهن، فتأويلها إذا كانت كذلك تأويل نظائرها التي تقدم بيانها فيما مضى، اهـ. والواو في قوله: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} هي واو القسم. والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره، وعلو منزلته. وفي المراد (¬1) بالذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشرف؛ أي: والقرآن صاحب الشرف، والعظمة، والمنزلة كما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}؛ أي: شرفكم؛ أي: أن من آمن به له شرف في الدارين، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي. والثاني: البيان؛ أي: والقرآن صاحب البيان؛ أي: الذي يبين ما يحتاج إليه في الدين من العقائد والأحكام، قاله قتادة. والثالث: التذكير، والموعظة؛ أي: القرآن صاحب الموعظة والتذكير لمن اتعظ، قاله الضحاك، ورجح الطبري القول الثالث، وهو أنه بمعنى التذكير. قال: لأن الله تعالى أتبع ذلك قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)}، فكان معلوما بذلك، أنه إنما أخبر عن القرآن، أنه أنزله ذكرًا لعباده ذكرهم به، وأن الكفار من الإيمان به في عزة وشقاق، اهـ. وقال ابن كثير: إن في هذا القرآن ¬

_ (¬1) زاد المير.

لذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر. وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم {فِي عِزَّةٍ}؛ أي: استكبار عنه وحمية، {وَشِقاقٍ}؛ أي: ومخالفة له، ومعاندة، ومفارقة، اهـ. وقولنا: والواو في قوله: {وَالْقُرْآنِ} للقسم إن جعل (¬1) {ص} اسمًا للحرف ومذكورًا للتحدي أو للرمز بكلام، مثل: صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو اسمًا للسورة خبرًا لمحذوف؛ أي: هذه السورة {ص}، وللعطف إن جعل مقسمًا به؛ أي: أقسمت بـ {ص} وبالقرآن ذي الذكر، والجواب محذوف دل عليه ما في {ص} من الدلالة على التحدي، والتقدير؛ أي: أقسمت بـ {ص} وبالقرآن ذي الذكر أنه لمعجز، أو الواجب العمل به، أو إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لصادق. «وفي الشوكاني»: واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟. فقال الزجاج، والكسائي، والكوفيون، غير الفراء: إن الجواب قوله: {إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ}. وقال الفراء: لا نجده مستقيمًا لتأخره جدًا عن قوله: {وَالْقُرْآنِ}. ورجح هو، وثعلب: أن الجواب قوله: {كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}. ومعناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذفت اللام، ومثله قوله: «والشمس وضحاها قد أفلح». فإن المعنى: لقد أفلح، غير أنه لما اعترض بينهما كلام تبعه قوله: {قَدْ أَفْلَحَ}. وقال الأخفش: الجواب هو قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)}. وقيل: الجواب هو صاد؛ لأن معناه: حق وثبت إرسالك أقسمت بالقرآن، أو حق واجب اتباعك أقسمت بالقرآن. أو المعنى: والقرآن ذي الذكر لقد صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - كقولك: وجب والله نزل والله، ذكره ابن الأنباري. وروي أيضًا عن ثعلب، والفراء. وهو مبني على أن جواب القسم، يجوز تقدمه، وهو ضعيف جدًا. وقيل: الجواب محذوف، تقديره: أقسمت بالقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يزعم الكفار. ويدل على هذا المحذوف قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)}، ذكره جماعة من المفسرين، وإلى نحوه ذهب قتادة. وهو الذي رجحه الطبري في تفسيره. وقال ابن عطية: والقول بالحذف أولى. وقيل: إن قوله: {ص} مقسم به، وعلى هذا القول تكون ¬

_ (¬1) البيضاوي. .

[2]

الواو في {وَالْقُرْآنِ} للعطف عليه كما مر. ومعنى الآية: أي أقسم (¬1) بالقرآن ذي الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لصادق فيما يدعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده تعالى. 2 - ولما كان الإقسام بالقرآن دالًا على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب .. قال سبحانه مبينًا للسبب الحقيقي في كفرهم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ إضراب، وانتقال من قضية إلى أخرى. بيّن به سبب قولهم بتعدد الآلهة؛ أي: ليس الحامل لهم عليه الدليل، بل مجرد الحمية، والخصام، والشقاق، اهـ شيخنا. وكأنه قال: لا ريب فيه قطعًا، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه، بل هم {فِي عِزَّةٍ} عن قبول الحق؛ أي: في تكبر، وتجبر، وأنفة، وحمية جاهلية. وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، ومحبوب عن أبي عمرو، وحماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون بن أبي جعفر {في غرة} بغين معجمة، وراء غير معجمة؛ أي: في غفلة عن قبول الحق {وَشِقاقٍ}؛ أي: مخالفة للحق، ومعاندة له، وامتناع عن قبوله، وعداوة عظيمة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: أي إن الذين كفروا من أهل مكة، لم يكفروا بهذا القرآن، لعدم وجدانهم فيه، ما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق، ومشاقتهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على مخالفته. 3 - ثم حذرهم، وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم، فقال: {كَمْ أَهْلَكْنا} {كَمْ} هي الخبرية الدالة على عدد كثير، وهي في محل نصب بـ {أَهْلَكْنا} على أنها مفعول به. و {مِنْ} في قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} لابتداء الغاية. وقوله: {مِنْ قَرْنٍ} تمييز لكم الخبرية. والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. والمعنى: أهلكنا كثيرًا من القرون الخالية، والأمم الماضية الذين كانوا ¬

_ (¬1) المراغي.

أمنع من هؤلاء، وأشد قوة، وأكثر أموالًا بسبب تكذيبهم رسلهم واستكبارهم عن قبول الحق. {فَنادَوْا}؛ أي: فدعوا، واستغاثوا بنا عند نزول بأسنا، وحلول نقمتنا، وعقوبتنا، أو تابوا، واستغفروا عند نزول العذاب بهم لينجوا من ذلك، {وَ} الحال أنه {لاتَ} الحين، والزمن {حِينَ مَناصٍ}؛ أي: زمن فرار، وفوت من عذابنا. وجملة {لاتَ} حال من ضمير {نادوا}؛ أي: نادوا واستغاثوا طلبًا للنجاة، والحال أنه ليس الحين، والوقت حين مناص؛ أي: وقت فرار، وفوت، ونجاة من عذابنا لكونه حالة اليأس. فقوله: {لاتَ} هي (¬1) لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد، كما زيدت على رب وثم، وخصت (¬2) بنفي الأحيان، ولم يبرزوا إلا أحد معموليها اسمها أو خبرها. والأكثر حذف اسمها. وفي بعض التفاسير: {لاتَ} بمعنى: ليس بلغة أهل اليمن، انتهى. والوقف عليها بالتاء عند الزجاج، وأبي علي، وعند الكسائي. نحو: قاعدة، وضاربة. وعند أبي عبيد على {لا}، ثم يُبتدأ {تحين مناص}، لأنه عنده أن هذه التاء تزاد مع حين، فيقال: كان هذا تحين كان ذاك كذا. وقرأ الجمهور (¬3): {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} بفتح التاء، ونصب النون. وعلى قول سيبويه عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات، ولا فرار. وعلى قول الأخفش يكون {حِينَ} اسم {لاتَ}، عملت عمل إن، نصبت الاسم ورفعت الخبر، والخبر محذوف تقديره: ولات حين مناص لهم. وقرأ أبو السمال {وَلاتَ حِينَ} بضم التاء، ورفع النون. فعلى قول سيبويه {حِينَ مَناصٍ} اسم {لاتَ}، والخبر محذوف. وعلى قول الأخفش مبتدأ، والخبر محذوف، وقرأ عيسى بن عمر {وَلاتَ حِينَ} بكسر التاء، وجر النون. والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة في جر ما بعد {لاتَ} أن الجر هو على إضمار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[4]

{مِنْ}. كأنه قال: لات من حين مناص، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؛ أي: من جذع على أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيرًا. وقرأ عيسى أيضًا {وَلاتَ} بكسر التاء، و {حِينَ} بنصب النون، وتقدم تخريج نصب {حين ولات}، روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها. والمعنى (¬1): أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم، فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فقد فات الأوان، وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب، ونحو الآية قوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وقوله: {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)} وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)}. 4 - {وَعَجِبُوا}؛ أي: عجب كفار أهل مكة، الذين وصفهم الله تعالى، بأنهم في عزة وشقاق {من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}؛ أي: رسول ينذرهم، ويخوفهم من عذاب الله، إن استمروا على الكفر من جنسهم، بل أدون منهم في الرياسة الدنيوية، والمال على معنى: أنهم عدوا ذلك خارجًا عن احتمال الوقوع، وأنكروه أشد الإنكار، لا أنهم اعتقدوا وقوعه، وتعجبوا منه، قالوا: إن محمدًا مساو لنا في الخلقة الظاهرة، والأخلاق الباطنة، والنسب، والشكل، والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي، ولم يتعجبوا من أن تكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة. فلما تحيروا في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نسبوه إلى السحر والكذب، كما قال حكايةً عنهم: {وَقالَ الْكافِرُونَ} فيه وضع الظاهر موضع المضمر غضبا عليهم، وإيذانًا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه، إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {هَذَا} الرجل الذي يدّعي النبوة والرسالة {سَاحِرٌ} فيما يظهره من الخوارق {كَذَّابٌ} فيما يسنده إلى الله من الإرسال، والإنزال. ولم يقل: كاذب لرعاية ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

الفواصل، ولأن الكذب على الله ليس كالكذب على غيره، ولكثرة الكذب في زعمهم، فإنه يتعلق بكل آية من الآيات القرآنية، بخلاف إظهار الخوارق، فإنه قليل بالنسبة إليه. هكذا لاح لي هذا المقام. 5 - ثم أنكروا ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد، وما نفاه من الشركاء لله. فقالوا: {أَجَعَلَ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {الْآلِهَةَ} وصيّرها {إِلهًا واحِدًا} وقصرها على الله سبحانه. والهمزة (¬1) فيه للإنكار، والاستبعاد. والآلهة: جمع إله، وحقه أن لا يجمع، إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبودات جمعوه، فقالوا: آلهة. و {إِلهًا واحِدًا} مفعول ثان لجعل؛ لأنه بمعنى صيّر؛ أي: صيرهم إلهًا واحدًا في زعمه، وقوله: لا في فعله؛ لأن جعل الأمور المتعددة شيئًا واحدا بحسب الفعل محال؛ أي: أصيّر محمد - صلى الله عليه وسلم - بزعمه الآلهة إلهًا واحدًا بأن نفى الألوهية عنهم، وقصرها على واحد؟ أيسعنا، ويكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلموا أنهم جعلوا الإله الواحد آلهة. {إِنَّ هذا} القول الصادر من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو التوحيد {لَشَيْءٌ عُجابٌ}؛ أي: لأمر بليغ في العجب، لأنه خلاف ما اتفق عليه آباؤنا إلى هذا الآن. والعجاب بمعنى العجيب، كما سيأتي وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب، إلا أن العجيب أبلغ منه، والعجّاب بالتشديد أبلغ من العجاب بالتخفيف. وقرأ الجمهور (¬2): {عُجابٌ} مخففًا، وهو صيغة مبالغة كرجل طوال وسراع في طويل وسريع. وقرأ علي، والسلمي، وعيسى بن عمر، وابن مقسم {عجاب} مشددًا، وقالوا: رجل عجّاب، وطعام طيّاب. وهو أبلغ من فعال المخفف. وفي «فتح الرحمن»: قوله: {وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ} قاله هنا بالواو، وفي {ق} بالفاء حيث قال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)}؛ لأن ما هناك أشد اتصالًا منه هنا؛ لأن ما هنا متصل بما قبله اتصالًا معنويًا فقط، وهو أنهم عجبوا من مجيء المنذر، وقالوا: هذا ساحر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[6]

كذاب. وما في {ق} متصل بما قبله اتصالًا لفظيًا ومعنويًا، وهو أنهم عجبوا عقب الإخبار عنهم بأنهم عجبوا، فقالوا: هذا شيء عجيب. فناسب فيه ذكر الفاء دون ما هنا، انتهى. وحاصل معنى قوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ ...} إلى آخر الآيتين؛ أي: وما (¬1) كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعي النبوة، ويدعو إلى الله، وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم، ما يجعله يمتاز عنهم، ويختص بهذا المنصب، وتلك المنزلة الرفيعة. ومن ثم قالوا: ما هو إلا خدّاع كذّاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي. ثم ذكر شبهتهم في إثبات كذبه من وجوه ثلاثة: 1 - {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا ...} إلخ؛ أي: أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو. وقد أنكروا ذلك، وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك، وتعجبوا منه، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم، لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده محقًا صادقًا. ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل. ونحو الآية قوله تعالى: {أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)}. وقد قدمنا في مبحث الأسباب، سبب نزول هذه الآية. 6 - {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ}؛ أي: وذهب الأشراف من قريش، وهم خمسة وعشرون نفرا عن مجلس أبي طالب. بعدما أسكتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجواب الحاضر، وشاهدوا تصلبه - صلى الله عليه وسلم - في الدين، وعزيمته على أن يظهره على الدين كله، ويئسوا مما كانوا يرجونه، بتوسط أبي طالب من المصالحة، على الوجه المذكور ¬

_ (¬1) المراغي.

فيما روي عن ابن عباس، كما سبق: أنه لما أسلم (¬1) عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا، وشق ذلك على قريش، فاجتمع خمسة وعشرون نفرًا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال، فلا تمل كل الميل على قومك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ماذا يسألونني؟ قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، وندعك وإلهك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطونني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟. قالوا: نعم. فقال: قولوا: لا إله إلا الله فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ كيف يكفينا إلها واحد في حوائجنا كما يقول محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ، والرؤساء. منهم: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب. {أَنِ} مفسرة للمقول المدلول عليه بالانطلاق؛ لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول؛ أي: وانطلق الملأ منهم، حالة كونهم يقول بعضهم لبعض على وجه النصيحة: {امْشُوا}؛ أي: سيروا على طريقتكم، وامضوا. وليس المراد بالمشي: المتعارف، بل الاستمرار على الشيء، اه كرخي. فلا فائدة في مكالمة هذا الرجل. وحكى المهدوي: أن قائلها عقبة بن أبي معيط. وقال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا؛ أي: اكثروا، واجتمعوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه: الماشية للتفاؤل، انتهى. قلت: وهذا بعيد من السياق. وقرأ ابن أبي عبلة بحذف {أَنِ} من قوله: {أَنِ امْشُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض: اذهبوا. {وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ}؛ أي: واثبتوا على عبادة آلهتكم، متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح. وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن الكفار إذا تراضوا فيما بينهم بالصبر ¬

_ (¬1) المراح.

على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم، والاستقامة في دينهم، بل الطالب الصادق، والعاشق الوامق أولى بالصبر والثبات على قدم الصدق، في طلب المحبوب المعشوق. وقوله: {إِنَّ هذا} تعليل للأمر بالصبر، ولوجوب الامتثال به؛ أي: إن هذا الذي شاهدناه من محمد - صلى الله عليه وسلم - من أمر التوحيد، ونفي آلهتنا، وإبطال أمرنا {لَشَيْءٌ يُرادُ} من جهته - صلى الله عليه وسلم - إمضاؤه، وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتناع، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه، بواسطة أبي طالب، وشفاعته، وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، وتحملوا ما تسمعونه في حقها من القدح، وسوء المقالة، هذا ما ذهب إليه أبو السعود في «الإرشاد». وقال في «تفسير الجلالين»: إن هذا لأمر يراد بنا، ومكر يمكر علينا، وقال سعدي المفتي: وسنح بالبال، أنه يجوز أن يكون المراد، أن دينكم لشيء يستحق أن يطلب، ويعض عليه بالنواجذ، فيكون ترغيبًا وتعليلًا للأمر السابق. وقال «صاحب الروح»: ويجوز أن يكون المعنى: إن الصبر والثبات على عبادة الآلهة التي هي الدين القديم يراد منكم، فإنه أقوى ما يدفع به أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قالوا: نتربص به ريب المنون، فيكون موافقا لقرينه في الإشارة إلى المذكور فيما قبله. أو إن شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، لشيء يراد دفعه، وإطفاء نائرته بأي وجه كان، قبل أن يعلو ويشيع، كما دل عليه اجتماعهم على مكره - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، فأبى الله إلا أن يتم نوره. ومعنى الآية (¬1): أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب، بعد ما بكّتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشاهدوا تصلبه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى، ويقلبون وجوه الرأي فيما يفعلون، ويقولون: ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

اثبتوا على عبادتها متحملين القدح فيها والغض من شأنها والاستهزاء بأمرها، ثم عللوا الأمر بالصبر، بما شاهدوا من تصلبه - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ}؛ أي: إن هذا لأمر عظيم، يريد محمد - صلى الله عليه وسلم - إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم. 7 - ثم ذكروا أيضًا ما ظنوا أن فيه إبطالًا لدعواه، فقالوا: 2 - {ما سَمِعْنا بِهذا} الذي يدعونا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} وهي ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث، ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام، وحاشاه وإنما خصوا النصرانية؛ لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب، وقوله: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ظرف لغو لـ {سَمِعْنا}. وقيل المعنى: ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، من التوحيد في الملة الآخرة؛ أي: في الملة التي أدركنا عليها آباءنا، وهي ملة قريش ودينهم الذي هم عليه. فإنها متأخرة عما تقدم عليها من الأديان والملل. وفيه إشارة إلى ركون الجهال إلى التقليد والعادة، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلال وأخطاء طريق العبادة. والملة كالدين اسم لما شرع الله تعالى لعباده، على لسان أنبيائه، ليتوصلوا به إلى ثواب الله. فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين، مجاز مبني على التشبيه، كما سيأتي. ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: {إِنْ} نافية بمعنى: ما أي: ما {هذا} الذي يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد {إِلَّا اخْتِلاقٌ}؛ أي: كذب اختلقه من عند نفسه لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوي، ولا من عقل فيما يزعمون. 8 - ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، وهو مثلهم، أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون، فقالوا: 3 - {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ}؛ أي: على محمد - صلى الله عليه وسلم - {الذِّكْرُ}؛ أي: القرآن، والوحي {مِنْ بَيْنِنا}؛ أي: دوننا، والاستفهام فيه للإنكار، والاستبعاد؛ أي: كيف يكون

ذلك ونحن رؤساء الناس، وأشرافهم، وأكبرهم سنًا، وأكثرهم أموالًا وأعوانًا، وأحقاء بكل منصب شريف؟. ومرادهم: إنكار كون القرآن ذكرًا، منزلًا من الله تعالى، وأمثال هذه المقالات الباطلة، دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد، على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بشرف النبوة من بينهم، وحرمانهم منه، وقصر النظر على متاع الدنيا، وغلطوا في القصر، والقياس. أما الأول: فلأن الشرف الحقيقي، إنما هو بالفضائل النفسانية دون الخارجية. وأما الثاني: فلأن قياس نفسه - صلى الله عليه وسلم - بأنفسهم فاسد. إذ هو روح الأرواح، وسيد الخليقة، فأنى يكون هو مثلهم؟. وأما الصورة الإنسانية فميراث عام من آدم عليه السلام، لا تفاوت فيما بين شخص وشخص، نعم، وجهه - صلى الله عليه وسلم - كان يلوح منه أنوار الجمال، بحيث لم يوجد مثله فيما بين الرجال. فإن قلت: لم قال هنا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} بلفظ {أَأُنْزِلَ}؟ وقال: في سورة القمر: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} بلفظ {أُلْقِيَ}؟. فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: فما هنا حكاية عن كفار قريش، فناسب التعبير بـ {أُنْزِلَ} لوقوعه إنكارًا لما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم، من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وما في القمر حكاية عن قوم صالح، وكانت الأنبياء تلقي إليهم صحفًا مكتوبة، فناسب التعبير - {أُلْقِيَ}. وقدم الجار والمجرور على الذكر هنا، موافقة لما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنكرين، وعكس في القمر جريا على الأصل، من تقديم المفعول بلا واسطة على المفعول بواسطة، اهـ من «فتح الرحمن». والمعنى (¬1): أي إنه من البعيد أن يختص محمد - صلى الله عليه وسلم -، من بيننا، بإنزال القرآن عليه، وفينا ذو الجاه والشرف والرياسة والكياسة. كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. ثم نعى عليهم ¬

_ (¬1) المراغي.

تعرضهم لهذا التفضيل، وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ}. فهذا منهم دليل على الجهل، وقلة العظة. ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن، وميلهم إلى التقليد فقال: {بَلْ هُمْ}؛ أي: كفار قريش {فِي شَكٍّ} وريب {مِنْ ذِكْرِي}؛ أي: من القرآن الذي أنزلت على رسولي، أو من الوحي إليه يرتابون فيه لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة، الدالة على أنه حق منزل من عند الله تعالى. والإخبار بأنهم في شك، يقتضي كذبهم في قولهم: {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ}. وليس في عقيدتهم ما يجزمونه، فهم مذبذبون بين الأوهام، ينسبونه تارة إلى السحر، وأخرى إلى الاختلاق. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن القرآن قديم؛ لأنه سماه الذكر ثم أضافه إلى نفسه، ولا خفاء بأن ذكره قديم؛ لأن الذكر المحدث يكون مسبوقًا بالنسيان، وهو تعالى منزه عنه. أي: بل هم في شك، من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها، لزال هذا الشك عنهم، إذ هي دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال، لم يصلوا إلى الحق في أمره. ثم ذكر: أن سبب هذا الشك، هو الحسد لمجيء النبوة إليه من بينهم، وسيزول حين مجيء العذاب، فقال: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ}؛ أي: بل السبب في شكهم، أنهم لم يذوقوا عذابي، فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك .. لصدقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه. والخلاصة: أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب، فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكري. وفي ذكر {لَمَّا} (¬2) دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع؛ لأنها للتوقع؛ أي: بل لم يذوقوا بعد عذابي، فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

الحال. وفيه تهديد لهم؛ أي: سيذوقون عذابي فيلجئهم إلى تصديق الذكر حين لا ينفع التصديق. وفيه إشارة إلى أنهم مستغرقون في بحر عذاب الطرد والبعد، ونار القطيعة، لكنهم عن ذوق العذاب بمعزل، لغلبة الحواس إلى أن يكون يوم تبلى السرائر. فتغلب السرائر على الصور، والبصائر على البصر، فيقال لهم: ذوقوا العذاب يعني: كنتم معذبين وما كنتم ذائقي العذاب. فالمعنى: لو ذاقوا عذابي، ووجدوا ألمه لما أقدموا على الجحود، دل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». 9 - ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش، فقال: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} {أَمْ} (¬1) منقطعة تقدر ببل وبهمزة الإنكار. والخزائن: جمع خزانة بالكسر بمعنى المخزن والمستودع؛ أي: بل أعندهم مفاتيح خزائن رحمة ربك يا محمد، {الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب الذي لا يغالب {الْوَهَّابِ}؛ أي: المعطي بغير حساب، أو الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، يتصرفون فيها حسبما يشاؤون، حتى يصيبوا بها من شاؤوا، ويصرفوها عمن شاؤوا، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم. والمعنى: أن النبوة عطية من الله تعالى يتفضل بها على من يشاء من عباده، لا مانع له. والمعنى: أي بل أيملكون خزائن رحمة الله، القهار لخلقه الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها، فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاؤون ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم. فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم. والخلاصة: أن أمر النبوة ليس بأيديهم، بل بيد العليم بكل شيء {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}. ونحو الآية قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (100)}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

10 - ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب. فقال: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما}؛ أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء، حتى يعطوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء. وقوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ} جواب شرط محذوف؛ أي: إن كان لهم ملك ذلك فليصعدوا في الأسباب، والطرق التي توصلهم إلى السماء، أو إلى العرش، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العوالم بما يشتهون، أو فليصعدوا ويمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد، وقتادة. ومنه: قول زهير: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بُسُلَّمِ قال الربيع بن أنس: الأسباب: أدق من الشعر، وأشد من الحديد، ولكن لا ترى. والمعنى: أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية، والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشؤون الغيبية، ويفكروا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء، فإن كان الأمر كما يزعمون، فليصعدوا في المعارج والمناهج، التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه، ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيه إلا بذلك. وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه. والخلاصة (¬1): أنه ليس لهم شيء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله تعالى، بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاؤون. فذلك من شؤونه تعالى، فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء. 11 - ثم وعد سبحانه، نبيه بالنصر والغلبة عليهم، فقال: {جُنْدٌ} هو جمع معد للحرب {ما} مزيدة للتقليل والتحقير، نحو: أكلت شيئًا ما {هُنالِكَ} مركب من ¬

_ (¬1) المراغي.

ثلاث كلمات (¬1): إحداها: {هنا}: وهو اسم إشارة للمكان القريب. والثانية: اللام وهي للتأكيد. والثالثة: الكاف وهي للخطاب. قالوا واللام فيها كاللام في {ذلِكَ} في الدلالة على بعد المشار إليه. فجند خبر مبتدأ محذوف، و {ما}: زائدة أو صفة لـ {جُنْدٌ}، و {هُنالِكَ}: ظرف {مَهْزُومٌ}؛ أي: مغلوب مكسور. وهو صفة ثانية لـ {جُنْدٌ}. و {مِنَ الْأَحْزابِ} صفة ثالثة لـ {جُنْدٌ}؛ أي: هم (¬2) جند حقيرون ضعيفون من المتحزبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات، وذلك الموضع هو مكة، وذلك الانهزام يوم فتح مكة، فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما؟. ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية. والمعنى (¬3): أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك، بحسب أهوائهم هم جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين، مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم، كما حدث في بدر وغيرها. فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية؟. وهذا خبر من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، ولم يكن له يومئذ جند أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع، وهذا من أعظم المعجزات، وأدل الدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصدق كتابه، وأنه من عند الله تعالى لا من عند البشر، وهذا الكلام متصل بما تقدم وهو قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)}. هم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم، وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك، ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله تعالى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[12]

12 - ثم ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات الآتية: ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم، وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم. فقال: 1 - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل قومك يا محمد. وهم قريش {قَوْمُ نُوحٍ} وأنّث الفعل باعتبار المعنى. لأنهم بمعنى: أمة، وطائفة، وجماعة؛ أي: كذبوا نوحًا رسلهم وقد دعاهم إلى الله وتوحيده ألف سنة إلا خمسين عامًا. وقالوا: إنه مجنون، وهزؤوا به. وكلما ألحف في الدعوة، زادوا عتوًا وعنادًا. فدعا ربه، وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا}. فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. ونجى الله نوحًا، ومن آمن معه، كما قال: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)}. 2 - {وَ} كذبت أيضًا قبلهم {عادٌ} وهم قوم هود رسولهم هودًا، فكذبوه، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، كما قال في سورة الحاقة: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7)} الآيات. 3 - {وَ} كذب {فِرْعَوْنُ} وقومه رسولهم موسى بن عمران. وقد بعث الله إليهم موسى، وأيده بآياته التسع، فأصر على الجحود والعناد، وبغى، وتجبر، وقال: أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ونجى موسى وقومه بني إسرائيل، كما قال في سورة يونس: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} الآيات. وقوله: {ذُو الْأَوْتادِ}؛ أي: صاحب الأوتاد صفة لـ {فِرْعَوْنُ}، جمع وتد بفتح الواو وكسر التاء بزنة كتف، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب، قال المفسرون: لقب بذلك؛ لأنه كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد ينصب أربع خشب في الهواء، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا من حديد، ويتركه في الهواء حتى يموت، وقال مجاهد: كان يمد

[13]

المعذب مستلقيًا بين أربعة أوتاد في الأرض، ويشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي: ويرسل عليه العقارب والحيات. وقال بعضهم: وهذا المعنى أنسب لما ذكروه في قصة آسية، امرأة فرعون، في سورة التحريم، من أنها لما آمنت بموسى عليه السلام، أوتد لها فرعون بأوتاد في يديها ورجليها، كما سيأتي هناك. وقيل: المراد بالأوتاد: الجموع، والجنود الكثير، سموا بذلك، لأنهم كانوا يقوون أمره، ويشدون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة، على هذا القول قال ابن قتيبة: العرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكا دائما شديدا؛ لأنه استقام له الأمر أربع مئة سنة من غير منازع. ويكفي دليلًا على كثرة جموع فرعون: أنه قال في حق بني إسرائيل: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، مع أنهم كانوا ينيفون على ست مئة ألف مقاتل سوى الصغير والشيخ، ووجه تخصيص هذه الاستعارة: أن أكثر بيوت العرب كانت خيامًا، وثباتها بالأوتاد. 4 - 13 {وَ} كذبت قبلهم {ثَمُودُ} وهم قوم صالح رسولهم صالحًا عليه السلام، أرسل الله سبحانه إليهم صالحًا، وكانت الناقة له آيةً، فكذبوه، فعقروها. فأرسل عليهم صاعقة، فأهلكتهم، وجعلتهم كهشيم المحتظر، كما ذكر في سورة القمر قصتهم. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)} إلى أن قال: {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}. 5 - {وَ} كذبت قبلهم {قَوْمُ لُوطٍ} رسولهم لوطًا عليه السلام، فكذبوه، فأرسل الله عليهم حاصبًا، كا ذكره في سورة القمر: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34)}. قال مجاهد: كانوا أربع مئة ألف بيت، في كل بيت عشرة. وقال عطاء: ما من أحد من الأنبياء، إلا ويقوم معه يوم القيامة قوم من أمته، إلا لوطًا فإنه يقوم وحده. كما في «كشف الأسرار». 6 - {وَ} كذبت قبلهم {أَصْحابُ الْأَيْكَةِ}؛ أي: أصحاب الغيضة رسولهم شعيبًا، وهم قوم شعيب. أرسله الله إليهم فكذبوه، فأهلكهم كما ذكرهم في سورة الحجر: {وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ}. والأيكة: الشجر

[14]

الملتف بعضه على بعضه لكثرته. قيل: نسبوا إلى الأيكة لأنهم كانوا يسكنونها. وقيل: هي اسم بلد لهم. وقوله: {أُولئِكَ الْأَحْزابُ} بدل (¬1) من الطوائف المذكورة؛ أي: كذب أولئك المذكورون المتحزبون؛ أي: المجتمعون على تكذيب أنبيائهم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، أو المعنى: أولئك المذكورون من الأمم هم الأحزاب، الذين تحزبوا على تكذيب أنبيائهم، كما تحزب على تكذيبك قومك. ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة، هم أكثر منهم عددًا، وأقوى أبدانًا، وأوسع أموالًا وأعمارًا. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، كالأحزاب الذين تحزبوا عليك. 14 - وقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} كلام مستأنف جيء به تهديدًا لما يعقبه. و {إِنْ}: نافية. والمعنى: ما كان حزب من أولئك الأحزاب، إلا كذب جميع الرسل؛ لأنه تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه، تكذيب لجميع الرسل. أو المعنى (¬2): ما كل حزب وجماعة من أولئك الأحزاب، إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع، لتدل على انقسام الآحاد على الآحاد، كما في قولك: ركب القوم دوابهم. والاستثناء مفرّغ من (¬3) أعم الأحكام في حيز المبتدأ؛ أي: ما كل واحد منهم محكوم عليه بحكم، إلا محكومًا عليه بأنه كذب الرسل. أو من (¬4) أعم الأحوال؛ أي: ما كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله، إلا وقع منه تكذيب الرسل. ويجوز (¬5) أن يكون قوله: {أُولئِكَ الْأَحْزابُ}: مبتدأ، وقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ}: خبره محذوف الرابط. والمعنى: أولئك الأحزاب ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل. {فَحَقَّ}؛ ثبت، ووقع، ووجب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني. (¬5) روح البيان.

[15]

على كل منهم {عِقابِـ} ـي الذي كانت جناياتهم، توجبه من أصناف العقوبات المفصلة في مواقعها، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان، وقوم هود بالريح، وفرعون وقومه بالغرق، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. والمعنى: أي إن كل هذه الأمم الخالية، والقرون الماضية وقد كانوا أشد من قومك هؤلاء، أهل مكة، كذبوا أنبياءهم، فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء، إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابي؟. وفي الآية زجر وتخويف للسامعين. وقرأ يعقوب (¬1): {عقابي} بإثبات الياء، وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي. وفي «فتح الرحمن» (¬2): ختم أواخر آياته هنا، بما قبل آخره ألف، وآيات قوله في {ق}: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى قوله: {فَحَقَّ وَعِيدِ} بما قبل آخره ياء، أو واو، موافقةً لبقية فواصل السورتين، انتهى. 15 - ثم بيّن عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم، فقال: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ} الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء تحقير لشأنهم، وتهوين لأمرهم، أي: وما ينتظر هؤلاء الكفرة، من أهل مكة، الذين هم أمثال أولئك الطوائف المذكورة المهلكة في الكفر والتكذيب {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} هي النفخة الثانية؛ أي: ليس بينهم وبين حلول ما أعد لهم من العقاب الفظيع إلا هي، حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية: المبنية على الحكم الباهرة، كما نطق به قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}. ثم إن (¬3) الانتظار يحتمل أن يكون حقيقةً أو استهزاءً، فهم وإن كانوا ليسوا بمنتظرين، لأن تأتيهم الصيحة إلا أنهم جعلوا منتظرين لها تنبيهًا على قربها منهم، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان.

[16]

فإن الرجل إنما ينتظر الشيء، ويمد طرفه إليه مترقبًا في كل آن حضوره، إذا كان الشيء في غاية القرب منه. وجملة قوله: {ما لَها مِنْ فَواقٍ} صفة ثانية لـ {صَيْحَةً}. وقرأ حمزة والكسائي: {مِنْ فَواقٍ} بضم الفاء. وقرأ الباقون: بفتحها. وهما لغتان فيه؛ أي: ما للصيحة من توقف وتأخر مقدار فواق إذا جاءت. ففي الكلام حذف، والفواق بالضم كغراب، ويفتح كما في «القاموس»: ما بين حلبتي الحالب من الزمن؛ لأن الناقة تحلب أولًا. ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل، لإدرار اللبن، ثم تحلب ثانية. يعني: إذا جاء وقت الصيحة، لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً}. فالفواق: عبارة عن الزمان اليسير. وفي الحديث: «من اعتكف قدر فواق، فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل». وفي الحديث: «من قاتل في سبيل الله، فواق ناقة وجبت له الجنة». 16 - {وَقالُوا}؛ أي: قال كفار مكة بطريق الاستهزاء والسخرية عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة. والقائل (¬1): النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة الخزاعي، وأضرابه، وكان النضر من شياطينهم، ونزل في شأنه في القرآن بضع عشرة آية، وهو الذي قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} {رَبَّنا} وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال. {عَجِّلْ لَنا}، أي: أسرع لنا {قِطَّنا}؛ أي: نصيبنا، وحظنا من العذاب {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ}؛ أي: قبل يوم المحاسبة، وهو يوم القيامة على ما زعمه محمد - صلى الله عليه وسلم -، والقط في الأصل: القطعة من الشيء، والمراد هنا: النصيب والحظ؛ لأنه قطعة من الشيء مفرزة، فالمعنى: عجّل لنا قسطنا، وحظنا، ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة، ويقال لصيحة الجائزة أيضًا: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس. فالمعنى عليه: عجّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

قال سهل بن عبد الله التستري رحمة الله عليه: لا يتمنى الموت إلا ثلاثة: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى، أو مشتاق محب لقاء الله تعالى، انتهى. وقال إسماعيل بن أبي خالد (¬1): المعنى: عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير. ومعنى الآية: سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم، وحظهم من العذاب. وهو مثل قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ}، وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به. ومعنى الآية: أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة. 17 - ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغاية، إذ قالوا: إنه ساحر كذاب، وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا .. أمره الله سبحانه وتعالى بالصبر على سفاهتهم، فقال: {اصْبِرْ} يا محمد {عَلى ما يَقُولُونَ}؛ أي: على ما يقوله كفار قومك لك مما تكره من مقالاتهم الباطلة، التي من جملتها، قولهم في تعجيل العذاب: {رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ...} إلخ. فإنا ممتحنوك بالمكاره، كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم عاجلوا الظفر لك على من كذبك وشاقك سنتنا في الرسل، الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك، وهذه الآية منسوخة بآية السيف. ثم شرع في ذكر قصص لجملة من الأنبياء: كداود، وسليمان، وأيوب، وغيرهم، والقصد به تسليته - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: اذكر ما حصل لهم من المشاق والمحن، فصبروا حتى فرّج الله عنهم، فصارت عاقبتهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل، اهـ «نهر». قصص داود عليه السلام {وَاذْكُرْ} يا محمد من الذكر القلبي؛ أي: تذكر بقلبك، أو من الذكر ¬

_ (¬1) الشوكاني.

اللساني؛ أي: واذكر لقومك قصة داود؛ أي: وتذكر يا محمد {عَبْدَنا} المخصوص بعنايتنا القديمة {داوُدَ} بن ايشا، من سبط يهودا بن يعقوب عليه السلام، بينه وبين موسى عليه السلام، خمس مئة وتسع وستون سنة، وقام بشريعة موسى، وعاش مئة سنة. {ذَا الْأَيْدِ}؛ أي: صاحب القوة في الدين القائم بمشاقه وتكاليفه. وفي «الكواشي»: ويجوز أن يراد القوة في الجسد والدين، انتهى. والمعنى: اذكر قصته، فإنك تجد فيها ما تتسلى به؛ أي: تذكر قصته ومن نفسك عن أن تترك ما كلفت به من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، لئلا يلقاك من المعاتبة مثل ما وقع لداود. اهـ «أبو السعود». واعلم: أنه تعالى ذكر أولًا قوة داود في أمر الدين، ثم زلته بحسب القضاء الأزلي، ثم توبته بحسب العناية السابقة، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بتذكر حاله، وقوته في باب الطاعة، ليتقوى على الصبر، ولا يزل عن مقام استقامته، وتمكينه كما زل قدم داود، فظهرت المناسبة بين المسندين، واتضح وجه عطف و {اذْكُرْ} على {اصْبِرْ}. وجملة قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لكونه ذا الأيد، من الأوب، وهو الرجوع؛ أي: وإنما وصفناه بالقوة في الدين؛ لأنه كان رجاعًا إلى الله ومرضاته سبحانه؛ أي: رجاعًا عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله سبحانه وتعالى، فهو تعليل لكونه ذا الأيد، ودليل على أن المراد به: القوة في أمر الدين، وما يتعلق بالعبادة لا قوة البدن؛ لأن كونه راجعًا إلى مرضاة الله تعالى، لا يستلزم كونه قويّ البدن. وقد روي: أنه لم يكن جسيمًا كسائر الأنبياء، بل قصير القامة، وأكثر القوى البدنية كان فيمن زاده الله بسطةً في جسمه. وفي «التأويلات النجمية»: تشير الآية إلى كماليته في العبودية، بأنه لم يكن عبد الدنيا، ولا عبد الآخرة، وإنما كان عبدنا خالصًا مخلصًا، وله قوة في العبودية ظاهرًا وباطنًا، فأما قوته ظاهرًا، فبأنه قتل جالوت، وكثيرًا من جنوده بثلاثة أحجار رماها عليهم، وأما قوته في الباطن، فلأنه كان أوابا، وقد سرت أوابيته في الجبال والطير، فكانت تؤوب معه، انتهى. ومن قوة عبادته كان يصوم

[18]

يومًا، ويفطر يومًا، وكان ينام النصف الأول من الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسده. ومعنى الآية: أي واذكر يا محمد لقومك، قصة عبدنا داود ذي القوة في الطاعة، والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف الدهر. وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ولا يفر إذا لاقى». وإنما كان هذا النوع أحب، لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخف، وأنشط في العبادة، وقيل معناه: ذو القوة في الملك. وإنه كان رجاعًا إلى الله تعالى في جميع شؤونه، فكان كلما ذكر، ذنبه، أو خطر على باله، استغفر الله تعالى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة»، وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا ذكر داود، وحدّث عنه، قال: «كان أعبد البشر»، وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لأحد أن يقول: إني أعبد من داود». 18 - ثم عدد سبحانه نعمه عليه، فقال: 1 - {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ}؛ أي: ذللناها مع داود، و {مع} متعلق بالتسخير، وإيثارها على اللام لكون تسخير الجبال له عليه السلام، لم يكن بطريق تفويض التصرف فيها إليه، كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام، لكون سيرها معه، بطريق التبعية له، والاقتداء به، فتكون {مع} على حالها، ويجوز أن تكون {مع} متعلقة بما بعدها، وهو قوله: {يُسَبِّحْنَ}. وجملة التسبيح، حال من الجبال؛ أي: حالة كون الجبال يقدسن الله سبحانه مع داود، وينزهنه عما لا يليق به من النقائص، وفي هذا، بيان ما أعطاه الله تعالى، من البرهان والمعجزة، وهو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[19]

تسبيح الجبال معه، ولم يقل: مسبحات، للدلالة على تجدد التسبيح حالًا بعد حال، قال في «كشف الأسرار»: كان داود يسمع، ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به، كرامة له، ومعجزة، انتهى. واختلفوا في كيفية التسبيح، فقيل: بصوت يتمثل له، وهو بعيد، وقيل: بلسان الحال، وهو أبعد. وقيل: بخلق الله في جسم الجبل، حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا، فحينئذ يسبح الله معه، كما يسبح الأحياء العقلاء، وهذا قول أهل الظاهر. وقال مقاتل: كان داود، إذا ذكر الله، ذكرت الجبال معه. انتهى. والظاهر: أن تسبيح الجبال مع داود على حقيقته، لكن لما كان على كيفية مخصوصة، وسماعه على وجه مخصوص، خارج عن العقول .. كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته، وقد سبق مرارًا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه. وقوله: {بِالْعَشِيِّ}؛ أي: في آخر النهار {وَالْإِشْراقِ}؛ أي: في أول النهار. متعلق بـ {يُسَبِّحْنَ}. ووقت الإشراق حين تشرق الشمس؛ أي: تضيء ويصفو شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق، فكان داود يسبح عقب صلاته، عند طلوع الشمس، وعند غروبها، 19 - وقوله: {وَالطَّيْرَ} معطوف على {الْجِبالَ}. وقوله: {مَحْشُورَةً} حال من الطير، والعامل فيه {سَخَّرْنَا}؛ أي: وسخرنا الطير معه، حال كونها محشورة، مجموعة إليه من كل جانب، وناحية، وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها، كما في «كشف الأسرار»: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان داود، إذا سبح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، وذلك حشرها. وقيل: كانت تجمعها الريح إليه، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين، بأن يقال: والطير يحشرن؛ لأن الحشر جملةً أدل على القدرة منه، متدرجًا كما يفهم من لفظ المضارع، وليس مرادًا، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئًا فشيئًا، إذ حاشرها، هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة، أدل على القدرة، ذكره أبو حيان. {كُلٌّ}؛ أي: كل واحد من الجبال والطير {لَهُ}؛ أي: لأجل داود؛ أي: لأجل تسبيحه. فهو على حذف المضاف. {أَوَّابٌ}؛ أي: رجاع إلى التسبيح، إذا

سبح، سبحت الجبال، والطير معه، ووضع الأواب موضع المسبح؛ لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجّاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع، والفرق بينه وبين ما قبله وهو {يُسَبِّحْنَ}: أن {يُسَبِّحْنَ} يدل على الموافقة في التسبيح، وهذا يدل على المداومة عليها، وقيل: الضمير في {لَهُ} لله؛ أي: كل من داود، والجبال، والطير، لله أواب، أي: مسبح لله، مرجع التسبيح له. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} بنصبهما كما مر بيان وجهه، وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} برفعهما مبتدأ وخبرًا. روي: أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه ما أعطى داود، من حسن الصوت، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود، تحركت من لذة السماع، فوافقته في الذكر والتسبيح، ولما سمعت الطيور نغماته، صفرت بصفير التنزيه والتقديس، ولما أصغت الوحوش إلى صوته، دنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها، فقبل الكل فيض المعرفة، والحالة بحسب الاستعداد، ألا ترى إلى الهدهد، والبلبل، والقمري، والحمامة، ونحوها، فالتأثر، والحركة، والبكاء، ونحوها، ليست من خواص الإنسان فقط، بل إذا نظرت بنظر الحقيقة، وجدتها في الحيوانات، بل في الجمادات أيضًا، لكونها أحياءً بالحياة الحقيقة. قال بعضهم (¬2): سبحت الجبال، وكذا الطير، لتسبيح داود، ليكون له عملها؛ لأن تسبيحها، لما كان لتسبيحه منتشأ منه، لا جرم، يكون ثوابه عائدًا إليه، لا إليها، لعدم استحقاقها لذلك، بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه، أو عمل بقوله .. يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه، لأحيائه وإيقاظه له، فهو صيده وأحق به، وتخصيص العشي والإشراق لما فيهما من زيادة ظهور أنوار قدرته، وآثار بركة عظمته، ولأن وقت الإشراق، وقت إقبال المخلوقات إلى طلب الأرزاق والمعاش، ووقت العشي، وقت إقبال المصلين إلى المناجاة، وعرض الحاجات على رب البريات. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[20]

والمعنى (¬1): أي إنه تعالى، سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس، وآخر النهار، وتسبيحها معه، تقديسها لله سبحانه بحال، تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر، يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرًا، في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، وسمعه يترنم بقراءة الزبور .. يقف ويسبح معه. وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل، والصوت المتقبل، الذي يعجب منه الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان؟!. ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}؛ أي: كل من الجبال، والطير، مرجاع إلى أمره، يسبح تبعًا له. 2 - 20 {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ}؛ أي: قوينا ملكه بكثرة الجنود، وبسطة الثراء والهيبة، ونفوذ الكلمة، والنصر على الأعداء، قيل: كان أربعون ألفا لابسي درع يحرسونه، فإذا أصبح قيل: ارجعوا، فقد رضي عنكم نبي الله، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يحرس أيضًا، إلى نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، ومن ذلك أخذ السلاطين الحرس في السفر والحضر، فلا يزالون يحرسونهم في الليالي، ولهم أجر في ذلك، وقرأ الجمهور: {وَشَدَدْنا} مخففًا. والحسن، وابن أبي عبلة بشد الدال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ادعى رجل على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى، إلى داود عليه السلام: أن اقتل المدعي إليه. فأعلم الرجل فقال: صدقت يا نبي الله، إن الله لم يأخذني بهذا الذنب، ولكن إني قتلت أبا هذا الرجل غيلة، فقتله داود، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبًا أظهره الله عليه فقتله، فهابوه وعظمت هيبته في القلوب، والغيلة بالكسر: هو أن يخدع شخصا، فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله. 3 - {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ}؛ أي: وأعطينا داود عليه السلام الحكمة؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

العلم النافع، والإتقان للعمل. فهو لا يقدم على عمل، إلا إذا عرف موارده، ومصادره مباديه، وغاياته على نحو ما قال الشاعر: قَدِّرْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الْخَطْوِ مَوْضِعَهَا ... فَمَنْ عَلَا زَلَقًا عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا أو العلم للأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاه، إن كان متعلقًا بكيفية العمل، واعلم: أن الحكمة نوعان: أحدهما: الحكمة المنطوق بها، وهي علم الشريعة. والثاني: الحكمة المسكوت عنها، وهي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها عوام العلماء، على ما ينبغي، فيضرهم أو يهلكهم، كما روي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجتاز في بعض سكك المدينة مع أصحابه، فأقسمت عليه امرأة أن يدخلوا منزلها، فدخلوه فرأوا نارًا موقدة، وأولاد المرأة يلعبون حولها، فقالت: يا نبي الله، الله أرحم بعباده، أم أنا بأولادي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل الله أرحم، فإنه أرحم الراحمين». فقالت: يا رسول الله، أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار؟ فقال: «لا» فقالت: فكيف يُلقي الله عبيده فيها، وهو أرحم الراحمين بهم؟. قال الراوي: فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «هكذا أوحي إلي». 4 - {وَفَصْلَ الْخِطابِ}؛ أي: الخطاب الفاصل بين الحق والباطل، والكلام المبين للحق، أو الخطاب المفصول؛ أي: الكلام الملخص المبين الذي ينبه المخاطب على المرام من غير إلباس، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والفصل إما بمعنى الفاعل أو المفعول أو الإفصاح، والبيان في الخطاب والكلام؛ أي: البيان بحقيقة الأمر، وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب، ولا شك، ولا توقف، فيكون بمعنى فصل الخصام بتبيين الحق وتمييزه من الباطل، والفصل على حقيقته، وأريد بالخطاب: المخاصمة لاشتمالها عليه. والمعنى (¬1): أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف، ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[21]

ومزيد في الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكن الذي لا يتوافر لكثير من الناس. وقال الشعبي (¬1): {فَصْلَ الْخِطابِ} هو قوله: أما بعد. وهو أول من قال: أما بعد، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن .. يفتتح بذكر الله، وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له .. فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد. قضية من قضاياه التي حكم فيها 21 - ولما مدح الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام، بما تقدم ذكره .. أردف ذلك بذكر هذه القصة الآتية، لما فيها من الأخبار العجيبة، فقال: {وَهَلْ أَتاكَ} وجاءك، ووصلك يا محمد {نَبَأُ الْخَصْمِ}؛ أي: خبر تحاكم الخصم، وترافعهم إلى داود عليه السلام، والاستفهام هنا معناه: التعجب، والتشويق، إلى استماع ما في حيزه، للإيذان بأنه من الأخبار البديعة، التي حقها أن لا تخفى على أحد. والنبأ: الخبر العظيم الشأن. والخصم بمعنى: المخاصم، وأصل المخاصمة: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر، بضم الخاء؛ أي: بجانبه، ولما كان الخصم في الأصل، مصدرًا متساويًا إفراده، وجمعه أطلق على الجمع في قوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا}؛ أي: إذ تسور الخصوم، وصعدوا أعلى سور الحصن، وحائطه، ونزلوا منه، ودخلوا {الْمِحْرابَ}؛ أي: ودخلوا بعد نزولهم من فوق السور البيت، الذي كان داود يجلس فيه، ويشتغل بعبادة ربه، يقال: تسور المكان، إذا علا سوره، وسور المدينة: حائطها المحيط بها، وقد يطلق على حائط مرتفع، وهو المراد هنا. والمراد من المحراب: البيت الذي كان داود عليه السلام، يدخل فيه، ويشتغل بطاعة ربه، قيل: كان ذلك البيت غرفة، وسمي ذلك البيت محرابًا، لاشتماله على المحراب، على طريقة تسمية الشيء بأشرف أجزائه، و {إِذْ} متعلقة بمحذوف، وهو التحاكم الذي قدرنا أولًا؛ أي: هل أتاك نبأ تحاكم الخصم، إذ تسوروا المحراب؛ أي: تصعدوا سور الغرفة، ونزلوا إليه. ¬

_ (¬1) النسفي.

[22]

والمراد بالخصم المتسورين: جبرائيل، وميكائيل بمن معهما من الملائكة على صورة المدعي، والمدعى عليه، والشهود، والمزكين من بني آدم. 22 - {إِذْ دَخَلُوا}؛ أي: الخصوم {عَلَيْهِ}؛ أي: على داود. والظرف بدل من الظرف الأول. {فَفَزِعَ} داود، وخاف {مِنْهُمْ}؛ أي: من المتسورين عليه، وإنما فزع منهم، لأنهم أتوه ليلًا في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس، لأنه كان مغلقا، ودخلوا عليه، وهو يتعبد في البيت بغتة من فوق؛ أي: من غير الباب على خلاف العادة. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه إدمي بحيلة. وفيه (¬1) إشارة إلى كمال ضعف البشرية، مع أنه كان أقوى الأقوياء، إذ فزع منهم، ولعل فزع داود، كان لاطلاع روحه على أنه تنبيه له، وعتاب فيما سلف منه، كما سيأتي. وجملة قوله: {قالُوا لا تَخَفْ} مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لداود حين فزع منهم؟؛ أي: فلما رأوه فزعًا، قالوا إزالة لفزعه، وخوفه: لا تخف منا. قال في «التأويلات النجمية»: يشير إلى أنه لا تخف من صورة أحوالنا، فإنا جئنا لتحكم بيننا بالحق، ولكن خف من حقيقة أحوالنا. فإنها كشف أحوالك، التي جرت بينك وبين خصمك أوريا. وارتفاع {خَصْمانِ} على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: نحن فريقان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصمًا تجوزًا. والحاصل: أنه أطلق لفظ الخصم فيما سبق على الجمع بدليل {تسورا}، وهنا بلفظ التثنية. لما ذكرنا أولًا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد، والمثنى، والمجموع، وهو جائز؛ أي: وثني هنا بتأويل الفريق، وهم وإن لم يكونوا فريقين بل شخصين اثنين، بدليل أن هذا أخي، الآية، لكن جعل مصاحب الخصم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[23]

خصمًا، فكانا بمن معهما فريقين من الخصوم، فحصل الانطباق بين صيغة التثنية في قوله: {خَصْمانِ}، وبين ما مر من إرادة الجمع، وقرأ أبو يزيد الجراد عن الكسائي {خصمان} بكسر الخاء. وقوله: {بَغَى} واعتدى {بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ} هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى سبيل التعريض لداود، لا على تحقيق البغي من أحدهما، فلا يلزم الكذب، إذ الملائكة منزهون عنه، فلا يحتاج إلى ما قيل: إن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة، فلما رآهما اخترعا الدعوى، كما في «شرح المقاصد» {فَاحْكُمْ} يا داود {بَيْنَنا بِالْحَقِّ}؛ أي: بالعدل {وَلا تُشْطِطْ}؛ أي: ولا تجر في الحكومة. وهو تأكيد للأمر بالحكم بالحق. والمقصود من الأمر والنهي الاستعطاف. {وَاهْدِنا}؛ أي: وأرشدنا يا داود {إِلى سَواءِ الصِّراطِ}؛ أي: إلى الصراط السوي، والطريق الحق، واحملنا عليه بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور، وإرشاده إلى منهاج العدل. وقرأ الجمهور: {وَلا تُشْطِطْ} مفكوكًا من أشط الرباعي. وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة، وقتادة، والحسن، وأبو حيوة {تُشْطِطْ} من شط الثلاثي. وقرأ قتادة أيضًا: {تشط} مدغمًا من أشط الرباعي. وقرأ زيد: {تشاطط} بضم التاء، وبالألف، على وزن تفاعل مفكوكًا. وعن قتادة أيضًا: {تشطط} من شطط المضعف، ذكره أبو حيان في «البحر». والمعنى (¬1): أي هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلقوا سور غرفة داود، ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه، في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم فزع منهم، ظنًا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، إذ كان منفردًا في محرابه للعبادة، فقالوا له: لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض، فاحكم بيننا حكمًا عادلًا، ولا تجر، واهدنا إلى الطريق السوي، ولا تشطط في الحكومة. 23 - ثم فصلوا موضع الخصومة، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا} الحاضر معي ¬

_ (¬1) المراغي.

{أَخِي} في الدين أو في الصحبة، والتعرض لذلك، تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه، وقال أبو حيان (¬1): والأخوة هنا مستعارة، إذ هما ملكان، لكنهما لما ظهرا في سورة إنسانين تكلما بالأخوة، ومجازها أنها أخوة في الدين، والإيمان، أو على معنى الصحبة، والمرافقة، أو على معنى الشركة والخلطة، لقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ}، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء، ويندب إلى العدل، والقائل منهما هذا الكلام، هو المدعي منهما. و {أَخِي} عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر {لإن} عند الزمخشري. {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} قرأ الجمهور: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} بكسر التاء فيهما، وقرأ الحسن، وزيد بن علي: بفتحها. وقرأ الجمهور: {نَعْجَةً} بفتح النون، والحسن، وابن هرمز: بكسر النون، وهي لغة لبعض بني تميم، وهي لغة شاذة، والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يكنى بها عن المرأة. قال الواحدي: النعجة: البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج، والكناية (¬2) والتعريض أبلغ في المقصود، وهو التوبيخ، فإن حصول العلم بالمعرض به يحتاج إلى تأمل، فإذا تأمله، واتضح قبحه .. كان ذلك أوقع في نفسه، وأجلب لخجالته وحيائه. وعني بهذا داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعنى بقوله: «ولي نعجة واحدة» أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود، كما سيأتي بيان ذلك، وقرأ حفص عن عاصم: {ولي} بفتح الياء، والباقون بإسكانها على الأصل. {فَقالَ} الأخ لي: {أَكْفِلْنِيها}؛ أي: أكفلني هذه النعجة الواحدة؛ أي: ضمها لي إلى ما عندي، وأنزل لي عنها حتى أكفلها، وأضمها إلى ما عندي، وأصير بعلًا لها، قال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي بالتنازل عنها، وفي «الروح»: أي ملكنيها، وحقيقته؛ أي: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، والكافل؛ هو الذي يعولها وينفق عليها وعزني أي غلبني في الخطاب أي: في مخاطبته، ومحاورته إياي، محاجة بأن جاء بحجاج، لم أقدر على رده، وعن ابن عباس ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[24]

- رضي الله عنهما -: كان أعز مني، وأقوى على مخاطبتي، لأنه كان الملك، فالمعنى: كان أقدر على الخطاب لعزة ملكه، كما في الوسيط، أو غلبني بعزه، وسلطانه، أو أراد (¬1) خطيب المرأة؛ أي: خطبها هو وخطبتها أنا، وعزني في الخطاب؛ أي: غلبني في خطبتها حيث زوجها دوني، وقرأ أبو حيوة، وطلحة {وعزني} بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: حذف الزاي الواحدة تخفيفًا. وقرأ (¬2) ابن مسعود، وعبيد بن عمير، وأبو وائل، ومسروق، والضحاك، والحسن: {وعازني في الخطاب} بألف وتشديد الزاي؛ أي: غالبني من المعازة، وهي المغالبة. والمعنى: أي إن أخي هذا يملك تسعًا وتسعين نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال: ملكنيها، وغلبني في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردًا، ولا دفعًا. قال أبو حيان: والظاهر، إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها، من كونها أنثى الضأن، ولا يكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن ذلك الإخبار، كان صادرًا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة، والفرض لها من غير تلبس بشيء منها، فمثلوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وأراد انتزاعها منه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، ويدل على ذلك قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ}، وهذا التصوير، والتمثيل أبلغ في المقصود، وأدل على المراد انتهى. 24 - ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة بقوله: {قَالَ} داود بعد اعتراف المدعى عليه، أو على تقدير صدق المدعي، وإلا فالمسارعة إلى تصديق أحد الخصمين، قبل سماع كلام الآخر لا وجه له، وفي الحديث: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما، حتى تسمع من الآخر»، وقيل (¬3): الكلام على تقدير أي: لئن كان ما تقول، لقد ظلمك. وقيل: ثم حذف؛ أي: فأقر المدعى عليه، فقال: لقد ظلمك، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه، لأنه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه؛ أي: قال داود للمدعي: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} أخوك. جواب قسم محذوف، قصد به - عليه السلام - المبالغة في إنكار فعل صاحبه، وتهجن طمعه، في نعجة من ليس له غيرها، مع أن له قطيعًا منها؛ أي: والله لقد ظلمك أخوك {بِسُؤالِ} إضافة {نَعْجَتِكَ} الواحدة {إِلى نِعاجِهِ} التسع والتسعين. والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله، وتعديته إلى مفعول آخر بـ {إِلى} لتضمنه معنى الإضافة والضم، كأنه قيل: بضم نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب. قال النحاس: ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ}؛ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبّت، وفي هذا إشارة، إلى أن الظلم في الحقيقة من شيم النفوس، فإن وجدت ذا عفة، فالعلة كما قال يوسف: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} الآية، فالنفوس جُبلت على الظلم، والبغي، وسائر الصفات الذميمة، ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام، كذا في «التأويلات النجمية»، يقول الفقير: هذا بالنسبة إلى أصل النفوس وحقيقتها، وإلا فنفوس الأنبياء مطمئنة، لا أمارة، كما مر بسط الكلام على ذلك، في سورة يوسف. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ}؛ أي: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، جمع خليط كظريف وظرفاء، والخلطة: الشركة، وقد غلبت في الماشية {لَيَبْغِي}؛ أي: ليتعدى {بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} ويظلمه غير مراع لحق الصحبة والشركة، وهذا من كلام داود، يدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرًا، وقرىء {ليبغي} بفتح الياء، على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله: ليبغين كقوله: إضرب عنك الهموم طارقها. يريد اضربن. ويكون على هذا القراءة، على تقدير قسم محذوف، ذلك القسم وجوابه خبر لـ {إِنَّ}. وعلى قراءة الجمهور يكون: {لَيَبْغِي} خبرًا لـ {إِنَّ}. وقرىء {ليبغ} بحذف الياء كقوله: محمد تفد نفسك كل نفس؛ أي: تفدى على أحد القولين. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} منهم. فإنهم يجتنبون عن البغي، والعدوان {وَقَلِيلٌ ما هُمْ}؛ أي: وهم قليل، فهم مبتدأ، و {قَلِيلٌ} خبره قدم عليه للاهتمام به، وإنما أفرد تشبيها بفعيل، بمعنى مفعول. و {ما} مزيدة لتأكيد القلة، أو للإبهام أو التعجب من قلة الموصوفين بالإيمان، وصالح العمل. {وَظَنَ

داوُدُ}؛ أي: علم وأيقن داود {أَنَّما فَتَنَّاهُ} و {ما} كافة زائدة؛ أي: علم داود أنا فتناه، واختبرناه بهذه الواقعة؛ لأنها جارية مجرى الامتحان. والظن هنا مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة، يعني: أن الظن الغالب لما كان يقارب العلم استعير له، فالظن يقين، لكنه ليس بيقين عيان، فلا يقال فيه: إلا العلم. والمعنى (¬1): وعلم داود بما جرى في مجلس الحكومة، إنما فعلنا به الفتنة والامتحان لا غير، بتوجيه الحصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال، فتنبه لذلك {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} لذنبه إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب، كما استغفر آدم عليه السلام بقوله: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} إلخ، وموسى عليه السلام بقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ}، وغيرهما من الأنبياء الكرام، على ما بيّن في موضعه. والمعنى: أنه عند ما تخاصما إليه، وقال ما قال، علم عند ذلك أنه المراد، وأن مقصودهما التعريض به، وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته، قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى داود بينهما، نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراداه. ورأى أنهما تحولا إلى صورتهما، وذهبا، وعرجا نحو السماء بمرأى منه، وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم داود أنه إنما عُني به. وقرأ الجمهور (¬2): {فَتَنَّاهُ} بتخفيف التاء، وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، بتشديد التاء والنون جميعًا مبالغة، وقرأ الضحاك {أفتناه} كقوله: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت. وقرأ قتادة، وأبو عمرو في رواية، وعبيد بن عمير، وابن السميقع: {افتناه} بتخفيفهما، والألف ضمير الخصمين. وقد اختلف المفسرون في ذنب داود، الذي استغفر له، وتاب منه على أقوال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

منها: ما روي (¬1): أن جماعة من الأعداء، طمعوا في أن يقتلوا نبي الله، داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه، ويشغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم، وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم، فخافوا فوضعوا كذبا، فقالوا: {خَصْمانِ}؛ أي: نحن فريقان إلى آخر القصة. فعلم عليه السلام غرضهم، فهمّ أن ينتقم منهم، فاستغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم. وقيل: إن دخولهم على داود كان فتنة له، إلا أنه عليه السلام، استغفر لذلك الداخل، العازم على قتله. ومنها: أن أوريا بن حنانا، كان قد خطب امرأة، اسمها نشابع بنت شايع، فأجابوه، ثم خطبها داود، في حال غيبة أوريا في غزواته، فزوجت نفسها منه عليه السلام لجلالته، فعُوتب على ذلك، وعلى هذا القول فمعنى {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}؛ أي: غلبني في خطبة امرأة. ومنها: ما قيل: كان أهل زمان داود عليه السلام، يسأل بعضهم بعضًا أن يطلق له امرأته، حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام، ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك. وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها، ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل فتزوجها، وهي أم سليمان عليه السلام، وكانت من أجمل النساء، وكان ذلك جائزًا في شريعته، معتادًا فيما بين الناس غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى {أَكْفِلْنِيها}: انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطنيها، فعوتب داود بشيئين: أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن. والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه، وهذا وإن كان جائزًا في شريعته، إلا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ¬

_ (¬1) المراح.

ومنها: ما قيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه، ليس بسبب أوريا وامرأته، وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ}. فلما كان هذا الحكم مخالفًا للصواب، اشتغل بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام، مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى، والله أعلم. وقال البيضاوي: وما قيل: إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارًا، وأمر أن يتقدم حتى قتل، فتزوجها يعني: امرأته، هراء وافتراء، اهـ. وقال الخازن في «تفسيره»: اعلم: أن من خصه الله بنبوته، وأكرمه برسالته، وشرّفه على كثير من خلقه، وائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه .. لا يليق أن ينسب إليه، ما لو نسب إلى آحاد الناس، لاستنكف أن يحدث عنه، فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء، والصفوة الأمناء ذلك؟! اهـ. قال الخازن: وقال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل القصة: يرجع إلى أمرين: إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته. قال: وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل، أن يظن بداود عليه السلام هذا، اهـ. وحاصل معنى قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ...} إلخ؛ أي: وإن كثيرًا ممن يتعاملون معًا، يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي: والظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ إلا من يخافون ربهم، ويؤمنون به، ويعملون صالح الأعمال. فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوي خشيةً من خالقها، وما أقل هؤلاء عددًا، وأندرهم وجودًا، كما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}. ثم ذكر أن داود، كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال، ثم تبين له غير ما كان قد ظن. فقال: {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ}؛ أي: وظن أن دخولهما

[25]

عليه في ذلك الوقت، ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى، لأجل أن يغتالوه، فلم يقع ما كان قد ظنه، فاستغفر ربه من ذلك الظن، إذ لم يقع ما كان قد ظنه. {وَخَرَّ}؛ أي: سقط داود حال كونه {راكِعًا}؛ أي: ساجدًا على تسمية السجود ركوعًا؛ لأنه مبدؤه، لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع، وفي كل من الركوع والسجود التحني والخضوع، وبه (¬1) استشهد أبو حنيفة، وأصحابه في سجدة التلاوة، على أن الركوع يقوم مقام السجود، أو المعنى: خر للسجود راكعًا؛ أي: مصليًا إطلاقًا للجزء وإرادة للكل، كأنه أحرم بركعتي الاستغفار. والدليل على الأول؛ أي: على أن الركوع هاهنا بمعنى السجود، ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقول في سجدة ص وسجدة الشكر: «اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود سجدته» وقيل (¬2): بل كان ركوعهم سجودًا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعًا. {وَأَنابَ}؛ أي: ورجع داود إلى ربه؛ أي: رجوع بالتوبة من جميع المخالفات، التي هي الزلات، وما كان من قبيل ترك الأولى والأفضل. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ص، وقال: «سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا». وهذه السجدة (¬3) من عزائم السجود عند أبي حنيفة، ومالك - رحمهما الله تعالى - وكل منهما على أصله. فأبو حنيفة يقول: هي واجبة، ومالك يقول: هي فضيلة، وعند الشافعي، وأحمد سجدة شكر، تستحب في غير الصلاة، فلو سجد بها في الصلاة بطلت عندهما، كما في «فتح الرحمن». 25 - ثم أخبر سبحانه، أنه قبل استغفاره، وتوبته بقوله: {فَغَفَرْنا لَهُ}؛ أي: لداود {ذلِكَ} الذنب الذي استغفر منه، وكان ذلك في شهر ذي الحجة، كما في «بحر العلوم». وروي: أنه عليه السلام، بقي في سجوده أربعين يومًا وليلة، لا يرفع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[26]

رأسه إلا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه، حتى نبت منه العشب حول رأسه، ولا يشرب ماء إلا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبًا إلى الله في العفو عنه، حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك، حتى وثبت ابن له، يقال له: إيشا على ملكه، فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل. فلما نزلت توبته بعد الأربعين، وغفر له حاربه، فهزمه، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين»؛ أي: لأحدهما أولًا، وللآخر بعده «فاقتلوا الآخر منهما». لأنه كالباغي. هذا إذا لم يندفع إلا بقتله. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ} تام، ثم يبتدىء الكلام بقوله: {وَإِنَّ لَهُ}؛ أي: لداود {عِنْدَنا لَزُلْفى}؛ أي: لقربة وكرامة بعد المغفرة، كما وقع لآدم عليه السلام. {وَحُسْنَ مَآبٍ}؛ أي: ومآبًا حسنًا؛ أي: مرجعًا طيبًا. هو الجنة. وفي «كشف الأسرار»: يعني الجنة هي مآب الأنبياء، والأولياء. 26 - ولما تمم الله سبحانه، قصة داود، أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه. والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على {غفرنا}؛ أي: فغفرنا له ذلك، وقلنا له: {يا داوُدُ إِنَّا} استخلفناك على الأرض أو {جَعَلْناكَ خَلِيفَةً} لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. والخلافة (¬1): النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير، استخلف الله أولياءه في الأرض، إذ الوجوه الأول محال في حق الله تعالى، فالخليفة عبارة عن الملك النافذ الحكم، وهو من كان طريقته وحكومته على طريقة النبي وحكومته، والسلطان أعم، والخلافة في خصوص مرتبة الإمامة أيضًا أعم. والمعنى: استخلفناك على الملك في الأرض، والحكم فيما بين أهلها؛ أي: جعلناك أهل تصرف نافذ الحكم في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين ¬

_ (¬1) روح البيان.

على بعض البلاد، ويُملكه عليها، وكانت النبوة قبل داود في سبطه، والمُلك في سبط آخر، فأعطاهما الله تعالى داود عليه السلام، فكان يدبر أمر العباد بأمره تعالى، وفيه دليل بيّن على أن حاله عليه السلام، بعد التوبة، كما كان قبلها لم يتغير قط، بل زادت اصطفائيته كما قال في حق آدم عليه السلام: «ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى». والمعنى (¬1): أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان، وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرًا، ولا يقيمون في وجهك عصا. ثم ذكر ما يستتبع ذلك، فقال: {فَاحْكُمْ}؛ أي: فافصل الخصومة الواقعة {بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكم العدل المنزل من عندي، والذي شرعته لعبادي لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة، وبه يكون الحاكم عادلًا لا جائرًا؛ لأن الأحكام (¬2) إذا كانت مطابقة للشريعة الحقّية الإلهية، انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه، أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه، ولطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يُفضي إلى هلاك الملك. ثم أكد ما سلف بالنهي عن ضده، فقال: {وَلا تَتَّبِعِ} يا داود {الْهَوى}؛ أي: ما تهواه النفس، وتشتهيه في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا، قال بعضهم: وهذا يؤيد ما قيل: إن ذنب داود الهم الذي هم به حين نظر إلى امرأة أوريا، وهو أن يجعلها تحت نكاحه، أو ما قيل: إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي، وتظليم الآخر قبل مسألته. وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم. ثم بين سوء عاقبة ذلك، فقال: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بالنصب على أنه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

جواب النهي؛ أي: فيكون الهوى أو اتباعك للهوى سببًا لضلالك عن دلائله، التي نصبها على الحق تكوينًا وتشريعًا. قال بعضهم: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى}؛ أي: ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسل الله تعالى، انتهى. فإن قلت (¬1): كيف يكون اتباع الهوى سببًا للضلال؟. قلت: لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، فيشغل عن طلب السعادات الروحانية، التي هي الباقيات الصالحات، فمن ضل عن سبيل الله، الذي هو اتباع الدلائل المنصوبة على الحق، أو اتباع الحق في الأمور، وقع في سبيل الشيطان، بل في حفرة النيران والحرمان. ويجوز (¬2) أن يكون الفعل في {فَيُضِلَّكَ} مجزومًا بالعطف على النهي، وإنما حرّك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول أعني: النصب يكون المنهي عنه الجمع بينهما. وعلى الوجه الثاني، يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة. والمعنى (¬3): أي فيكون اتباعك للهوى سببًا في الضلال عن الدلائل التي نُصبت، والأعلام التي وضعت للإرشاد، إلى سبل السلام بإصلاح حال المجتمع في دينه ودنياه. وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس. ثم بيّن غائلة الضلال، ووخامة عاقبته. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال ببيان غائلته، وإظهار {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، كما سيأتي في مبحث البلاغة. {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}؛ أي: أليم والباء في {بِما نَسُوا} للسببية أو تعليلية. ومعنى النسيان: الترك. {يَوْمَ الْحِسابِ} مفعول لنسوا؛ أي: لهم عذاب أليم، بسبب نسيانهم يوم الحساب والمجازاة، وترك العمل له، قال الزجاج؛ أي: بتركهم العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون ويذكرون. وقال عكرمة، والسدي: في الآية تقديم، وتأخير، والتقدير: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

ولهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا؛ أي: تركوا القضاء بالعدل، والأول أولى، ولما كان (¬1) الضلال عن سبيل الله مستلزما لنسيان يوم الحساب، كان كل منهما سببا، وعلة لثبوت العذاب الشديد. وتأدب سبحانه وتعالى مع داود؛ أي: وقَّره وعظَّمه حيث لم يُسند الضلال إليه بأن يقول: فلئن ضللت عن سبيلي، فلك عذاب شديد، لما هو مقتضى الظاهر، بل أسنده إلى الجماعة الغائبين، الذين داود عليه السلام، واحد منهم. والمعنى: أي إن الذين يتركون الحق، ويضلون عن سبيل معالمه لهم، من الله العذاب الشديد يوم الحساب، لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسَّى نفسه، وسلك بها سبيل المعاصي .. فقد حق عليه العذاب، الذي كتبه على العاصين، جزاءً وفاقًا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق، ومخالفة الهوى. الإعراب {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)}. {ص} إن قلنا: إنه علم للسورة، ففيه سبعة أوجه من الإعراب، كما هو معلوم في أسماء التراجم. والأول منها: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة {ص}. والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا نحويًا. وإن قلنا: إنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .. فليس موصوفًا بإعراب، ولا بناء؛ لأن الإعراب والبناء فرع عن إدراك المعنى، ومعناه غير معلوم لنا. {وَالْقُرْآنِ}: {الواو}: حرف جر وقسم. {الْقُرْآنِ}: مقسم به، مجرور بواو القسم. {ذِي ¬

_ (¬1) روح البيان.

الذِّكْرِ}: صفة لـ {الْقُرْآنِ} مجرور بالياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم، محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم بالقرآن. وجوابه محذوف، قدّره الحوفيّ: لقد جاءكم الحق. وقال ابن عطية: تقديره: ما الأمر كما تزعمون يا أهل مكة، وقال الزمخشري: تقديره: إن هذا القرآن لمعجز. وجملة القسم مستأنفة. {بَلِ}: حرف عطف وإضراب انتقالي، {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا}: صلته. {فِي عِزَّةٍ}: خبر المبتدأ. {وَشِقاقٍ}: معطوف على {عِزَّةٍ}. والجملة الاسمية معطوفة على جملة القسم. {كَمْ}: خبرية، بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنا}، {أَهْلَكْنا}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: متعلق بـ {أَهْلَكْنا} {مِنْ قَرْنٍ}: تمييز {كَمْ} الخبرية، {فَنادَوْا}: الفاء: عاطفة، {نادوا}: فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على {أَهْلَكْنا}. {وَلاتَ}: الواو حالية، {لاتَ}: حرف نفي تعمل عمل ليس، ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسمها محذوف، تقديره: ولات الحين {حِينَ مَناصٍ} خبرها منصوب. والجملة في محل النصب حال من فاعل {نادوا}: والرابط مقدر تقديره: فنادوا بالفرار، والحال أنه ليس الحين حين فرار لهم. {وَعَجِبُوا}: فعل، وفاعل، معطوف على نادوا، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {جاءَهُمْ}: فعل ماض في محل النصب بأن المصدرية، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول به، {مُنْذِرٌ}: فاعل جاء، {مِنْهُمْ} صفة {مُنْذِرٌ}. وجملة {جاءَهُمْ}: مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: عجبوا من مجيء منذر منهم، والجار المحذوف متعلق بـ {عَجِبُوا}. {وَقالَ الْكافِرُونَ}: فعل، وفاعل، معطوف على ما قبله، {هذا ساحِرٌ}: مبتدأ وخبر. {كَذَّابٌ}: خبر ثان أو نعت لـ {ساحِرٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}. {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ}: الهمزة للاستفهام التعجبي؛ أي: تعجبوا من هذا الحصر؛ لأنهم قاسوا الغائب على الشاهد جهلًا منهم، وارتطامًا منهم بسوء الغفلة. {جَعَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {الْآلِهَةَ} مفعول أول، {إِلهًا} مفعول ثان، {واحِدًا} صفة لـ {إِلهًا}. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {إِنَّ هذا}: ناصب واسمه.

{لَشَيْءٌ}: اللام حرف ابتداء. {شيء}: خبر {إِنَّ}، {عُجابٌ}: صفة {شيء}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل التعجب المفهوم مما قبلها. {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)}. {وَانْطَلَقَ}: {الواو}: استئنافية. {انْطَلَقَ الْمَلَأُ}: فعل، وفاعل، {مِنْهُمْ}: حال من الملأ، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير تآمرهم بعد انصرافهم، من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب. {أَنِ}: مصدرية؛ أي: بأن امشوا، وعند إضمار القول تسقط {أَنِ}. أو مفسرة لانطلقوا؛ لأنه متضمن معنى القول. {امْشُوا}: فعل أمر، وفاعل في محل النصب بأن المصدرية، وأن المصدرية مع مدخولها منصوبة بنزع الخافض، المتعلق بقول محذوف؛ أي: وانطلق الملأ منهم قائلين: بأن امشوا، أو انطلق الملأ منهم قائلين: {امْشُوا}. {وَاصْبِرُوا}: فعل، وفاعل، معطوف على {امْشُوا}، {عَلى آلِهَتِكُمْ}: متعلق بـ {اصْبِرُوا}، {إِنَّ هذا}: ناصب واسمه {لَشَيْءٌ}: خبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة {أَنِ} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر، وجملة {يُرادُ}: صفة {لَشَيْءٌ}، {ما}: نافية، {سَمِعْنا}: فعل، وفاعل، {بِهذا}: متعلق بـ {سَمِعْنا}، والإشارة إلى التوحيد الذي يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فِي الْمِلَّةِ}: جار ومجرور، حال من اسم الإشارة، {الْآخِرَةِ}: نعت لـ {الْمِلَّةِ}، والمراد بها: ملة عيسى. {إِنْ}: نافية، {هذا}: مبتدأ، إِلَّا: أداة حصر، {اخْتِلاقٌ}: خبر لهذا؛ أي: افتعال ومحض كذب. والجملة مستأنفة. {أَأُنْزِلَ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، {أُنْزِلَ}: فعل ماض مبني للمجهول، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أُنْزِلَ}، {الذِّكْرُ}: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ بَيْنِنا}: جار ومجرور، حال من ضمير عليه، {بَلْ}: حرف إضراب انتقالي عن مقدر، فكأنه قال: إنكارهم للذكر ليس عن علم، بل هم في شك. {هُمْ} مبتدأ. {فِي شَكٍّ}: خبره. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب، أو معطوفة على ذلك المقدر. {مِنْ ذِكْرِي}: متعلق بـ {شَكٍّ}، {بَلْ}: حرف للإضراب الانتقالي أيضًا. {لَمَّا}: حرف نفي وجزم بمعنى: لم،

{يَذُوقُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمَّا}، والواو فاعل، و {عَذابِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المحذوفة لمراعاة الفواصل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب شكهم؛ أي: سببه أنهم لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن، وآمنوا به. {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)}. {أَمْ}: حرف عطف منقطعة بمعنى: بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، {عِنْدَهُمْ}: خبر مقدم، {خَزائِنُ}: مبتدأ مؤخر، {رَحْمَةِ رَبِّكَ}: مضاف إليه، {الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}: صفتان لـ {رَبِّكَ}. والجملة جملة إنشائية، معطوفة على الجمل التي قبلها أو مستأنفة. {أَمْ}: حرف عطف منقطعة بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام أيضًا، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {مُلْكُ السَّماواتِ}: مبتدأ مؤخر. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّماواتِ}. {وَما}: معطوف عليه أيضًا، {بَيْنَهُما}: ظرف صلة لـ {ما} الموصولة. والجملة معطوفة على ما قبلها. {فَلْيَرْتَقُوا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن زعموا ذلك، وأردت تبكيتهم، فقل لهم: ارتقوا في الأسباب؛ أي: اصعدوا في المعارج الموصلة إلى العرش حتى تستووا عليه. واللّام: لام الأمر، {يرتقوا}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والواو فاعل، {فِي الْأَسْبابِ}: متعلق بـ {يرتقوا}. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {جُنْدٌ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم جند، {ما}: نكرة تامة، صفة أولى لجند على سبيل التحقير؛ أي: هم جند حقير. فإن {ما} إذا كانت صفة تستعمل للتعظيم أو التحقير، والثاني هو المراد هنا، ولك أن تعربها زائدة. {هُنالِكَ} {هنا}: اسم إشارة يشار به إلى المكان في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، و {اللام}: لبعد المشار إليه، والكاف حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ {مَهْزُومٌ}، و {مَهْزُومٌ}: صفة ثانية لـ {جُنْدٌ}، {مِنَ الْأَحْزابِ}: صفة ثالثة لـ {جُنْدٌ}؛ أي: هم جند حقير مهزوم هنالك؛ أي: في مكة يوم الفتح، أو في بدر كائن من الأحزاب المتحزبة

على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان عاقبتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الآية اختلافًا كثيرًا؛ لأنها تحتمل عدة أوجه، ذكرنا أهمها، وأوضحها، وأسهلها على المبتدىء خوف الإطالة. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)}. {كَذَّبَتْ}: فعل ماض، {قَبْلَهُمْ}: ظرف متعلق به. {قَوْمُ نُوحٍ}: فاعل. {وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ}: معطوفان عليه. {ذُو الْأَوْتادِ}: صفة لـ {فِرْعَوْنُ}، مرفوع بالواو المحذوفة، لالتقاء الساكنين. والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أحوال الطغاة، وبيان مصائر العتاة. {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ}: معطوفات أيضًا على {قَوْمُ نُوحٍ}. {أُولئِكَ}: مبتدأ، {الْأَحْزابُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع، بدل من الفاعل، وما عطف عليه، ولك أن تجعل اسم الإشارة بدلًا مما قبله، و {الْأَحْزابُ}: بدل منه. {إِنْ}: نافية، لا عمل لها لانتقاض النفي بإلا، {كُلٌّ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {كَذَّبَ الرُّسُلَ}: فعل ماض، وفاعل يعود على كل، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {فَحَقَّ}: الفاء: عاطفة، {حق}: فعل ماض، {عِقَابِ}: فاعله مرفوع، وعلامة رفعه، الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، لمراعاة الفواصل، والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبَ}. {وَما}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية، {يَنْظُرُ هؤُلاءِ}: فعل، وفاعل. {إِلَّا}: أداة حصر، {صَيْحَةً}: مفعول به، {واحِدَةً} صفة لـ {صَيْحَةً}. والجملة مستأنفة: مسوقة لتقرير عقاب كفار مكة، بعد بيان عقاب من سبقوهم في الغواية. {ما}: نافية حجازية أو تميمية، {لَهَا}: خبر مقدم، {مِنْ}: حرف جر زائد. {فَواقٍ}: اسم ما مؤخر أو مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة الثانية لـ {صَيْحَةً}. {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً

كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)}. {وَقالُوا}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لسرد أنماط من تمحلهم واستهزائهم، بعد أن نزل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...} الآية. {رَبَّنا}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالُوا}. {عَجِّلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الله {لَنا} متعلقان به. {قِطَّنا}: مفعول به، {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {عَجِّلْ}. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالُوا}: على كونها جواب النداء. {اصْبِرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {عَلى ما}: متعلق بـ {اصْبِرْ}، وجملة {يَقُولُونَ}: صلة لما الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: على ما يقولونه. {وَاذْكُرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة {اصْبِرْ}. {عَبْدَنا} مفعول به. {داوُدَ}: بدل من عبدنا، {ذَا الْأَيْدِ}: صفة لـ {داوُدَ}، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}: ناصب واسمه، وخبره، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل كونه من أصحاب الأيد. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {سَخَّرْنَا الْجِبالَ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل قوته في الدين، وكونه رجاعًا إلى مرضاته تعالى، {مَعَهُ}: حال من الجبال، أو متعلق بـ {يُسَبِّحْنَ}، {يُسَبِّحْنَ}: فعل، وفاعل، والمفعول محذوف لعلمه؛ أي: يسبحن الله تعالى، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الجبال. {بِالْعَشِيِّ}: متعلق بـ {يُسَبِّحْنَ}، {وَالْإِشْراقِ}: معطوف على {العشي}، {وَالطَّيْرَ}: معطوف على الجبال، أو مفعول به لفعل محذوف، دل عليه ما قبله؛ أي: سخرنا الطير معه، {مَحْشُورَةً}: حال من الطير، {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوّغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم، {لَهُ}: متعلق بـ {أَوَّابٌ}، و {أَوَّابٌ}: خبر {كُلٌّ}. والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها. {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {سَخَّرْنَا}، {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ}: فعل، وفاعل، ومفعولان، معطوف على سخرنا أيضًا، {وَفَصْلَ الْخِطابِ}: معطوف على الحكمة.

{وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)}. {وَهَلْ أَتاكَ} {الواو}: استئنافية، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التعجبي، {أَتاكَ}: فعل ماض، ومفعول به، {نَبَأُ الْخَصْمِ}: فاعل، ومضاف إليه. والجملة مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بمضاف محذوف تقديره: نبأ تخاصم الخصم إلى داود وقت تسورهم المحراب، {تَسَوَّرُوا}: فعل، وفاعل، {الْمِحْرابَ}: مفعول به. والجملة في محل الجر مضاف لـ {إِذْ}. {إِذْ}: بدل من {إِذْ}: الأولى، وجملة {دَخَلُوا}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {عَلى داوُدَ}: متعلق بـ {دَخَلُوا}، {فَفَزِعَ}: الفاء: عاطفة، {فزع}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {فزع}. والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة {دَخَلُوا}. {قالُوا}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {لا}: ناهية جازمة. {تَخَفْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود {عَلى داوُدَ}. والجملة في محل النصب مقول قالوا. {خَصْمانِ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {بَغى بَعْضُنا}: فعل، وفاعل، {عَلى بَعْضٍ}: متعلق بـ {بَغى}. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة خصمان. {فَاحْكُمْ}: الفاء: الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت نحن خصمان، وأردت النصيحة لنا .. فأقول لك احكم. {احكم}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {داوُدَ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بَيْنَنا}: ظرف مضاف، متعلق بـ {احكم}، {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {احكم}: أو حال من فاعل {احكم}، {وَلا تُشْطِطْ}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُشْطِطْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {داوُدَ}. والجملة معطوفة على جملة {احكم}، مؤكدة لها. {وَاهْدِنا}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {احكم}، {إِلى سَواءِ الصِّراطِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {اهْدِنا}.

{إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ}. {إِنَّ هَذَا} ناصب واسمه {أَخِي} بدل من هذا، أو خبر {إِنَّ}، {لَهُ}: خبر مقدم، {تِسْعٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر {إِنَّ} أو خبر ثان لها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان الخصومة على كونها، مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَتِسْعُونَ}: معطوف على تسع، {نَعْجَةً}: تمييز للعدد قبله منصوب به، {وَلِيَ}: خبر مقدم، {نَعْجَةً}: مبتدأ مؤخر، {واحِدَةٌ} صفة {نَعْجَةً}. والجملة معطوفة على جملة {إِنَّ}. {فَقالَ}: الفاء: عاطفة، {قال}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ. والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على خبر {إِنَّ}. {أَكْفِلْنِيها}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ونون وقاية، ومفعولان. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ}. {وَعَزَّنِي}: {الواو}: عاطفة. {عَزَّنِي}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ونون وقاية، ومفعول به، {فِي الْخِطابِ}: متعلق بـ {عَزَّنِي}. والجملة معطوفة على جملة «قال». {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود. والجملة مستأنفة. {لَقَدْ}: اللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {ظَلَمَكَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب، مقول قال. {بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {ظَلَمَكَ}، {إِلى نِعاجِهِ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف تقديره: ليضمها إلى نعاجه. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعًا وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}. {وَإِنَّ كَثِيرًا} {الواو}: عاطفة، {إِنَّ كَثِيرًا}: ناصب واسمه، {مِنَ الْخُلَطاءِ}: صفة لـ {كَثِيرًا}، {لَيَبْغِي}: اللام: حرف ابتداء، {يبغي بعضهم}: فعل، وفاعل، {عَلى بَعْضٍ}: متعلق بـ {يبغي}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر

{إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة جواب القسم. {إِلَّا}: أداة استثناء، {الَّذِينَ}: مستثنى متصل من الخلطاء، في محل النصب على الاستثناء، مبني على الفتح، {آمَنُوا}: فعل، وفاعل صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}، {وَقَلِيلٌ} {الواو}: حالية، {قَلِيلٌ}: خبر مقدم، {ما}: زائدة لتأكيد القلة، {هُمْ}: مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب حال من المستثنى. {وَظَنَّ داوُدُ}: فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: قال الملكان: قضى الرجل على نفسه، فتنبه وظن داود {أَنَّما}: {إِنَّ}: حرف نصب ومصدر، ولكنها كفت عن العمل بما، {ما}: كافة لكفها، ما قبلها عن العمل فيما بعدها. {فَتَنَّاهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، وجملة {أنما} مع مدخولها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {ظَنَّ}؛ أي: فتنتنا إياه. {فَاسْتَغْفَرَ} الفاء: عاطفة، {استغفر}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود، {رَبَّهُ}: مفعول به. والجملة معطوفة على جملة {ظَنَّ}. {وَخَرَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {استغفر}، {راكِعًا}: حال من فاعل خر، {وَأَنابَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على خر، {فَغَفَرْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على استغفر، {لَهُ}: متعلق بـ {غفرنا}، {ذلِكَ}: مفعول به. {وَإِنَّ لَهُ}: {الواو}: عاطفة، {إِنَّ}: حرف نصب، {لَهُ}: خبر {إِنَّ}: مقدم على اسمها، {عِنْدَنا}: ظرف متعلق بمحذوف حال من زلفى، {لَزُلْفى}: اللام حرف ابتداء، {زلفى}: اسم {إِنَّ}: مؤخر، والتقدير: وإنّ زلفى عندنا لكائن له، {وَحُسْنَ مَآبٍ}: معطوف على زلفى. وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {غفرنا}: عطف اسمية على فعلية. {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ}. {يا داوُدُ}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {جَعَلْناكَ}: فعل، وفاعل، ومفعول به أول، {خَلِيفَةً}: مفعول ثان، {فِي الْأَرْضِ} صفة لـ {خَلِيفَةً}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}،

وجملة {إن}: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فَاحْكُمْ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدم تقديره: إذا عرفت، جعلنا إياك خليفة في الأرض، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: احكم بين الناس. {احكم}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {بَيْنَ النَّاسِ}: متعلق بـ {احكم}، {بِالْحَقِّ}: حال من فاعل {احكم}. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَتَّبِعِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، {الْهَوى}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {احكم}. {فَيُضِلَّكَ} الفاء: عاطفة سببية، {يضلك}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الهوى، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {يضلك}. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر، معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن اتباعك الهوى فإضلاله الناس عن سبيل الله. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يَضِلُّونَ}: فعل، وفاعل صلة الموصول، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَضِلُّونَ}، {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذابٌ}: مبتدأ مؤخر، {شَدِيدٌ}: صفة {عَذابٌ}، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي عن اتباع الهوى. {بِما}: الباء: حرف جر وسبب، {ما}: مصدرية، {نَسُوا}: فعل ماض، وفاعل، {يَوْمَ الْحِسابِ}: مفعول به. والجملة الفعلية صلة {ما}: المصدرية، {ما}: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب نسيانهم يوم الحساب، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر المبتدأ أعني قوله: {لَهُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {ذِي الذِّكْرِ} والذكر: الشرف، والنباهة، أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين، من الشرائع والأحكام وغيرها، من أقاصيص الأنبياء،

وأخبار الأمم الماضية، والوعد، والوعيد، اهـ. {فِي عِزَّةٍ}: قال الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ويمدح بالعزة تارة، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأنها الدائمة الباقية، وهي العزة الحقيقية، ويذم بها أخرى، كما في قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)}؛ لأن العزة التي هي التعزز والاستكبار، وهي في الحقيقة ذل، وقد تستعار للحمية، والأنفة المذمومة، وذلك في قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}. انتهى. {وَشِقاقٍ}؛ أي: مخالفة لله ولرسوله، وعداوة لهما من قولهم: فلان في شق صاحبه. {مِنْ قَرْنٍ} والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} في «الوسيط»: والمناص: المنجأ؛ أي: النجاة والفوت عن الخصم، على أنه مفعل من ناصه ينوصه إذا فاته، أريد به: المصدر، ويقال: ناص ينوص؛ أي: هرب، ويقال؛ أي: تأخر. ومنه: ناص قرنه؛ أي: تأخر عنه حينًا. وفي «المفردات»: ناص إلى كذا التجأ إليه، وناص عنه تنحى ينوص نوصا، والمناص: الملجأ، انتهى. وفي «المختار»: النوص: التأخر. يقال: ناص عن قرنه؛ أي: فر وراغ، وبابه قال: ومناصًا أيضًا. ومنه قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ}؛ أي: ليس وقت تأخر وفرار. والمناص أيضًا: المنحى، والمفر، اهـ. وقال النحاس: ويقال: ناص ينوص إذا تقدم، فعلى هذا يكون من الأضداد، اهـ «قرطبي». وأما لاتَ فأصلها: لا، النافية، ثم زيدت عليها التاء لتأنيث اللفظ، أو للمبالغة في معناه، وخصت بنفي الأحيان، وزيادة التاء هنا أحسن منها، في ثُمَّت، ورُبَّت. لأن {لا} محمولة على ليس، وليس تتصل بها التاء، ومن ثم لم تتصل بلا المحمولة على {إن}. وهي كلمتان عند الجمهور {لا}: النافية، وتاء التأنيث. وحركت لالتقاء الساكنين. {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ} جمع إله، وحقه أن لا يجمع، إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبودات جمعوه، فقالوا: آلهة، {لَشَيْءٌ

عُجابٌ} العجاب بمعنى: العجيب. وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب، إلا أن العجيب أبلغ منه، والعجاب بالتشديد، أبلغ من العجاب بالتخفيف. مثل: كبار في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)}، فإنه أبلغ من الكبار بالتخفيف. والمعنى: بليغ في العجب. {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} الانطلاق: الذهاب. والملأ: الأشراف لا مطلق الجماعة. ويقال لهم: ملأ، لأنهم إذا حضروا مجلسا، ملأت العيون وجاهتهم، والقلوب مهابتهم. فائدة: جميع القراء يكسرون النون في الوصل، من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا، اهـ خطيب. {فِي الْمِلَّةِ} والملة كالدين: اسم لما شرع الله لعباده، على ألسنة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى ثواب الله وجواره. فإطلاق كل منهما في طريقة المشركين مجاز، مبني على التشبيه. {خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} والخزائن: جمع خزانة، بكسر الخاء بمعنى: المخزن كما مر. {فِي الْأَسْبابِ} جمع سبب. قال الراغب: السبب: الحبل الذي يصعد به النخل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببًا، انتهى. والمعنى: فليصعدوا في المعارج والطرق، التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد، وقتادة، وقيل: المراد بالأسباب: السموات، لأنها أسباب الحوادث السفلية. وقيل: أبوابها، انتهى «أبو السعود». {جُنْدٌ} الجند: العسكر المعد للحرب. {مَهْزُومٌ} والهزم: الكسر، يقال: هزم العدو كسرهم، وغلبهم، والاسم الهزيمة، وهزمه يهزمه فانهزم غمزه بيده، فصارت فيه حفرة، كما في «القاموس». {مِنَ الْأَحْزابِ} جمع حزب، والحزب: جماعة فيه غلظ، كما في «المفردات». وهم المجتمعون لإيذاء محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكسر شوكته، وإبطال دينه. {ذُو الْأَوْتادِ} جمع وتد محركة، وبكسر التاء، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب. يقال: وتد يتد، من باب وعد إذا دق، وغرز الوتد في

الأرض أو في الحائط، وفيه لغات: فتح الواو، وكسر التاء وهي الفصحى، وبفتحتين، وود بإدغام التاء في الدال، بوزن وج، اهـ «سمين». وفي «المصباح»: الوتد بكسر التاء، في لغة أهل الحجاز، وهي الفصحى، وجمعه أوتاد، وفتح التاء لغة، وأهل نجد يسكنون التاء، فيدغمون بعد القلب فيبقى ود، ووتدت الوتد أتده وتدا، من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض، وأوتدته بالألف لغة، انتهى. {وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ} قال الراغب: الأيك: شجر ملتف، وأصحاب الأيكة؛ أي: الغيضة، قيل: نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها، وقيل: اسم بلد، كما في «المفردات»، وهم قوم شعيب، كما مر. {مَا لَها مِنْ فَواقٍ} والفواق، بالضم: كغراب، ويُفتح كما في «القاموس»: ما بين حلبتي الحالب من الوقت، ورضعتي الرضيع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته، وأفاقت الناقة ساعة ليرجع اللبن إلى ضرعها، يقال: أفاقت الناقة تفيق إفاقة، رجعت، واجتمعت الفيقة في ضرعها. والفيقة: اللبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق، وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال: ناقة مفيق ومفيقة، وقيل: {فَواقٍ} بالفتح: الإفاقة، والاستراحة كالجواب من أجاب، قاله المؤرخان: السدوسي، والفراء، ومن المفسرين: ابن زيد، والسدي. وأما المضمون فاسم لا مصدر. والمشهور: أنهما بمعنى واحد مقصاص الشعر وقصاصه، اهـ «سمين». وفي «المختار»: الفواق: الزمن الذي بين الحلبتين؛ لأنها تحلب ثم تترك ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقًا. وفي الحديث: «العيادة قدر فواق ناقة». وقوله تعالى: {مِنْ فَواقٍ} يقرأ بالفتح، والضم؛ أي: ما لها من نظرة، وراحة، وإفاقة، اهـ. {عَجِّلْ لَنا قِطَّنا}؛ أي: نصيبنا، وحظنا. والقط: القطعة من الشيء، من قط الشيء إذا قطعه، ومنه: قط القلم، والمعنى: قطعة مما وعدتنا به، ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قط، لأنها قطعتان يقطعان، وقيل للجائزة أيضًا: قط، لأنها قطعة من العطية، ويجمع على قطوط مثل: حمل وحمول، وعلى قططة مثل: قرد وقردة، وفي القلة: على أقططة وأقطاط مثل: قدح وأقدحة وأقداح، اهـ

«سمين». قال الراغب: أصل القط: الشيء المقطوع عرضًا، كما أن القد هو المقطوع طولًا. {ذَا الْأَيْدِ} الأيد بوزن البيع، مفرد. وهو مصدر، وليس جمع يد. وفي المصباح: آد الرجل يئيد أيدًا وإيادًا بكسر الهمزة مثل: باع يبيع بيعًا، إذا اشتد وقوي، فهو أيد بوزن سيد وهين، ومنه قولهم: أيدك الله تأييدًا اهـ «مصباح». {إِنَّهُ أَوَّابٌ} من الأوب. وهو الرجوع؛ أي: رجاع إلى الله، ومرضاته، من قولهم: آب إذا رجع. قال عبيد بن الأبرص: وَكُلُّ ذِيْ غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَؤُوْبُ {وَالطَّيْرَ} جمع طائر، كركب وراكب، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء. {هَلْ أَتاكَ} {هَلْ} هنا كلمة يراد منها: التعجيب، والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها. {نَبَأُ الْخَصْمِ} والنبأ: الخبر العظيم الشأن. والخصم: جماعة المخاصمين، ويستعمل للمفرد والجمع مذكرًا ومؤنثًا. قال الشاعر: وخصم عضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا {تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ}؛ أي: قصدوا سوره، ونزلوا من أعلاه. والسور: الحائط المرتفع. وجمع الضمير في {تَسَوَّرُوا}؛ لأن الخصم بمعنى المخاصم، والمنازع، وقد يقع للاثنين، والجمع، والمؤنث، فيقال: هما خصم، وهم خصم، وهي خصم؛ لأنه مصدر في أصله، وقد تقدم له نظير، وهو ضيف في قوله: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ}. والمحراب: الغرفة التي كان يتعبد فيها، ويشتغل بطاعة ربه. {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} والفزع: انقباض، ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف. وهو من جنس الجزع. ولا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. {وَلا تُشْطِطْ}؛ أي: ولا تجر. وهو بضم التاء، وسكون الشين، وكسر الطاء الأولى من أشطط يشطط إذا تجاوز الحد. قال أبو عبيدة: شططت في الحكم، وأشططت فيه إذا جرت فيه. فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل. {نَعْجَةً} النعجة

الأنثى من المعز، وقد يكنى بها عن المرأة. {أَكْفِلْنِيها}؛ أي: اجعلني كافلها، والمراد: ملكنيها. وفي «المختار»: كفل عنه بالمال لغريمه، وأكفله المال ضمنه إياه، وكفله إياه بالتخفيف، فكفل هو من باب نصر ودخل، وكفّله إياه تكفيلًا مثله. {وَعَزَّنِي}؛ أي: وغلبني. وفي المثل: من عز بز، أي: من غلب سلب. وفي «المختار»: وعز عليه غلبه، وبابه: رد، والاسم: العزة، وهي الغلبة، والقوة. وعزه في الخطاب، وعازه؛ أي: غلبه. {فِي الْخِطابِ}؛ أي: في مخاطبته إياي، ومحاجته. إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده، الخلطاء الشركاء خلطوا أمر الواحد خلطا، وأوردت معاجم اللغة للخليط عدة معان. منها: المخالط، والمشارك، والقوم الذين أمرهم واحد، والزوج، والجار والصاحب، وخليط الرجل مخالطه، كالجليس بمعنى المجالس. {فَتَنَّاهُ}؛ أي: ابتليناه. {خَرَّ}؛ أي: سقط. {راكِعًا}؛ أي: ساجدًا قال الشاعر: فَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ رَاكِعَا ... وَتَابَ إِلَى اللهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبْ {وَأَنابَ}؛ أي: رجع إلى ربه. والزلفى: القرب من الله، والإزلاف: التقريب والازدلاف: الاقتراب، ومنه: سميت المزدلفة لقربها من الموقف. اهـ من «الروح». البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}؛ لأن القرن حقيقة في مئة عام مثلًا، والإهلاك لأهله، ففيه إطلاق الظرف وإرادة المظروف. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَقالَ الْكافِرُونَ} بدل. وقالوا

تسجيلًا عليهم، بهذا الوصف القبيح، وإشعارًا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول، لما تقرر عندهم، من أن نسبة أمر إلى المشتق يفيد علّيّة المأخذ. ومنها: الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء في قوله: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ} تحقيرًا لشأنهم، وتهوينًا لأمرهم. ومنها: صيغة المبالغة في كل من {كذاب، العزيز، الوهاب، أواب}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ}؛ لأن السبب في الأصل: الحبل، استعير لمعارج السموات، وطرقها أو أبوابها. ومنها: المجاز المبني على التشبيه في قوله: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}؛ لأن الملة حقيقة فيما شرع الله لعباده على يد الأنبياء. فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين مجاز، كما في «الروح». ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ} لزيادة التعجب، والإنكار. أكده بـ {إِنَّ}، وباللام، وباسمية الجملة. ومنها: زيادة {ما} في قوله: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ} للدلالة على القلة والتحقير. ومنها: الاستعارة البليغة في قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ}. شبه ملك فرعون في ثباته ورسوخه بخيمة عظيمة، شدت أطنابها بالأوتاد لتثبت، وترسخ، ولا تقتلعها الرياح، ثم استعيرت له استعارة بالكناية، وأثبت له لوازم المشبه به. وهو الأوتاد، تخييلًا، ووجه تخصيص هذه الاستعارة، أن أكثر بيوت العرب كانت خياما، وثباتها بالأوتاد، ويجوز أن يكون المعنى: ذو الجموع الكثيرة، سموا بذلك لأنهم يشدون البلاد والملك، ويشد بعضهم بعضا كالوتد يشد البناء، والخباء، فتكون الأوتاد استعارة تصريحية. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ}.

ومنها: تصدير الدعاء بالنداء في قوله: {رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا} للإمعان في الاستهزاء، والسخرية كأنهم يدعون ذلك، بكمال الرغبة والابتهال. ومنها: العدول عن الاسمية إلى الفعلية في قوله: {يُسَبِّحْنَ} حيث لم يقل: مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح، وحدوثه شيئًا بعد شيء، وحالًا بعد حال، وكأن السامع حاضر تلك الحال، يسمع تسبيحها. ومنها: الطباق في قوله: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ}؛ لأن المراد بهما: المساء، والصباح. ومنها: أسلوب التشويق، والتعجيب في قوله: {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ}؛ لأن المراد بالاستفهام هنا: التشويق والتعجيب، كما مر. ومنها: الكناية في قوله: {وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ}؛ لأن النعجة في الأصل: الأنثى من الضأن، فصارت هنا كناية عن المرأة. ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلخ. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَخَرَّ راكِعًا}؛ أي: مصليًا، إذ فسر الركوع بالصلاة، لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إيذانًا بكمال شناعة الضلال عنه. ومنها: توافق الفواصل، مراعاة لرؤوس الآيات مثل: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ}، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ}، {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}. المناسبة قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله، لهم العذاب الشديد يوم الحساب، لظنهم أنه ليس بكائن .. أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه؛ لأنه سبحانه، لم يخلق الخلق عبثًا، بل خلقهم لعبادته ¬

_ (¬1) المراغي.

[27]

وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك، ببيان فضل القرآن، الذي أنزله على رسوله هاديًا للناس، ومنقذًا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها .. سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع. قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء: ربنا عجل لنا قطنا .. أمره بالصبر على أذاهم لوجهين: أحدهما: إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره، فعليه أن يقتدي بهم، ويجعلهم أسوة له. وثانيهما: ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها، من أن من أطاع الله، كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه، كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة، وعلى ما يلاقيه من المكاره. التفسير وأوجه القراءة 27 - {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما} من المخلوقات، جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من أمر البعث، والحساب، أي: ما خلقنا هذه الأشياء خلقًا {باطِلًا}؛ أي: عبثًا خارجًا عن الحكمة الباهرة، بل (¬2) خلقناها للدلالة على قدرتنا، وليكون مدارًا للعلم والعمل، ومذكرًا للآخرة وما فيها من الحساب والجزاء، فإن الدنيا لا تخلو عن الصفو والكدر، وكل منهما يفصح عما في الآخرة من الراحة والخطر، وأيضًا ليكون مرآة يشاهد فيها المؤمنون الذين ينظرون بنور الله، شواهد صفات الجمال والجلال، فانتصاب {باطِلًا} إما على المصدرية؛ أي: خلقًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

باطلًا، أو على الحالية؛ أي (¬1): ذوي باطل، بمعنى مبطلين عابثين، كقوله: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)}، أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: للعبث واللهو، بل للحكمة. والمعنى: أي وما أوجدنا السماء، وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض، وما فيها من فوائد في ظاهرها، وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون، وما لا يعلمون لهوًا ولعبًا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير، والقطمير، والقليل، والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ونحو الآية قوله: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. ثم بيّن أن هذا الظن الفاسد، قد ظنه الذين كفروا بالله تعالى، وجحدوا آياته. فقال: {ذلِكَ}؛ أي: كونه خلقًا باطلًا خاليا عن الغاية، والحكمة الباهرة. {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي (¬2): مظنون كفار مكة، فإنهم وإن كانوا مقرين بأن الله هو الخالق، لكن لما اعتقدوا بأن الجزاء الذي هو علة خلق العالم باطل، لزمهم أن يظنوا أن المعلول باطل، ويعتقدوا ذلك؛ أي: أنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض، ويقولون: إنه لا قيامة، ولا بعث، ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلًا. والفاء في قوله: {فَوَيْلٌ}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت كون مظنونهم هذا، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك: الهلاك كل الهلاك، أو شدة الهلاك حاصل {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} خبر لويل. {مِنَ النَّارِ} {مِنَ}: تعليلية، مفيدة لعلية النار، لثبوت الويل لهم صريحًا، بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم؛ أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان.

[28]

وكفرهم، فلا بد من رؤية الحق حقًا، والباطل باطلًا، وتدارك زاد اليوم؛ أي: يوم الجزاء ظاهرًا وباطنًا، ليحصل الخلاص والنجاة، والنعيم واللذات في أعلى الدرجات. 28 - ثم بيّن سبحانه (¬1)، أن مقتضى عدله وحكمته، أن لا يساوي بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسوا أنفسهم بكبير الآثام، والذنوب. فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة كما تعطون على تقدير وقوعها، فنزلت الآية. و {أَمْ} فيه منقطعة، تقدر ببل التي للإضراب الانتقالي، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أنجعل الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، كالمفسدين في الأرض بالشرك والمعاصي؛ أي (¬2): لا نجعلهم سواء. فلو بطل البعث والجزاء، كما يظن الكفار، لا ستوت عند الله، حال من أصلح، ومن أفسد، ومن سوّى بينهما كان سفيهًا، والله تعالى منزه عن السفه، فإنما بالإيمان، والعمل الصالح يرفع المؤمنين ويرد الكافرين إلى أسفل سافلين. ثم أضرب سبحانه إضرابًا آخر، وانتقل عن الأول إلى ما هو أوضح استحالة منه، فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}؛ أي: بل أنجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين، والمنافقين، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه، من المسلمين؛ أي: لا نجعلهم مثلهم. وقيل (¬3): إن الفجار هنا خاص بالكافرين. وقيل: المراد بالمتقين: الصحابة. ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال ابن عباس: الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل: في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر عليا، وحمزة، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، ووصف كلا بما ناسبه. اهـ من «البحر». ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

أي (¬1): كما لا نجعل (¬2) أهل الإيمان والعمل الصالح، الذين هم مظاهر صفات لطفنا وجمالنا، كالمفسدين الذين هم مظاهر صفات قهرنا وجلالنا، كذلك لا نجعل أهل التقوى كالفجار، والفجور: شق سر الديانة، أنكر التسوية أولًا بين أهل الإيمان والشرك، ثم بين أهل التقوى والهوى يعني: من المؤمنين، وهو المناسب لمقام التهديد، والوعيد كي يخاف من الله تعالى، كل صنف بحسب مرتبته، ويجوز أن يكون تكرير الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين، يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم. واعلم (¬3): أن الله تعالى، سوّى بين الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا، بل الكفار أوفر حظا من المؤمنين؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، لكن الله جعل الدار الآخرة، للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهم المؤمنون المخلصون، المنقادون لله ولأمره، وإنما لم يجازه في هذه الدار، لسعة رحمته، وضيق هذه الدار، فلذا أخر الجزاء إلى الدار الآخرة، فإذا ترقى الإنسان من الهوى إلى الهدى، ومن الفجور إلى التقوى .. أخذ الأجر بالكيل الأوفى. والمعنى (4): أي بل أنجعل من آمنوا بربهم، واعتقدوا أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم، فأدوا ما يجب للخلق والخالق، وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه، وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسوا أنفسهم بفعل شيء من كبائر الآثام، خوفًا من يوم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تُقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد إلا لمن أذن له الله، كمن كفروا به، وعاثوا في الأرض فسادًا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء، والحساب، والإعادة بعد الموتة الأولى، ويقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غي، أو يكفوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات بما وسوس إليهم به ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[29]

الشيطان، أن لا حلال، ولا حرام، ولا جنة، ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وإذا كان هذا حقا، واقتضته الحكمة، وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي، على ما دنس به نفسه من شرك بربه، واجترح للإثم، والعصيان، ومخالفة أمر الواحد الديان. والعقول السليمة، والفطر الصحيحة، ترشد إلى هذا، وتؤيده، وتدل عليه، وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي، قد يزداد في دنياه مالًا وولدًا، ويتمتع بصنوف اللذات من الدور، والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهمة، والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينما نرى المطيع لربه المظلوم من بني جنسه، قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسد به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، أن يترك الناس سدى، يفعلون ما شاؤوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظالم من الظالم، ويرجع الحق إلى صاحبه، وربما لا يحصل هذا في هذا الدنيا، فلا بد من دار أخرى، يكون فيها العدل، والإنصاف، والكيل بالقسط، والميزان، وتلك هي الدار التي وعد بها الرحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده لحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم. 29 - ولما كان القرآن، هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة، وكان منبع السعادات والخيرات .. وصفه أولًا، ثم بيّن المصلحة، فقال: {كِتابٌ}: خبر مبتدأ محذوف، وهو عبارة عن القرآن؛ أي: هذا كتاب {أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} يا محمد. صفة لكتاب {مُبارَكٌ} خبر ثان للمبتدأ المحذوف، ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب، لما تقرر عندهم، من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح، عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، قرأ الجمهور: {مُبارَكٌ} بالرفع على الصفة لـ {كِتابٌ}، وقرىء {مباركا} بالنصب على الحال اللازمة، والتقدير؛ أي: هذا القرآن الذي نتلوه عليك يا محمد، كتاب أنزلناه إليك، كثير المنفعة دينًا ودنيا، لمن آمن به، وعمل بأحكامه، وحقائقه، وإشاراته، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير.

{لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ} متعلق بـ {أَنْزَلْناهُ}؛ أي: أنزلناه ليتفكروا في آياته بالفكر السليم، فيعرفوا ما يتّبع ظاهرها من المعاني الفائقة، والتأويلات اللائقة؛ أي: ليتفكروا في معاني آياته، ويتأملوا فيها، وفي الآية دليل على أن الله سبحانه، إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة، بدون تدبر. وقرأ الجمهور (¬1): {لِيَدَّبَّرُوا} بياء الغيبة وشد الدال، وأصله: {ليتدبروا}. وقرأ علي رضي الله عنه بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر، وشيبة {لتدبروا} بتاء الخطاب، وتخفيف الدال، وجاء كذلك عن عاصم، والكسائي بخلاف عنهما، والأصل: لتتدبروا بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها، أهي تاء المضارعة، أم التاء التي تليها؟. {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ}؛ أي: وليتعظ به أصحاب العقول الخالصة عن شوب الوهم. عمم (¬2) التدبر لعموم العلماء، وخص التذكر بخصوص للعقلاء؛ لأن التدبر للفهم، والتذكر لوقوع الإجلال، والخشية الخاص بأكابر أهل العلم. فعلم (¬3) أن المقصود من كلام الحق التفكر، والتذكر والاتعاظ به، لا حفظ الألفاظ فقط، وكان الصحابة يكتفون ببعض السور القرآنية، ويشتغلون بالعمل بها، فإن المقصود من القرآن العمل به. والمعنى (¬4): أي أنزلنا إليك هذا الكتاب، النافع للناس، المرشد لهم، إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، ليتدبرها أولوا الحجا، الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم، فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا، وما تدبره بحسن تلاوته، وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثم قال الحسن البصري: قد قرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[30]

القرآن عبيد وصبيان، لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن، فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء، ولا الورعة لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء، فمن (¬1) اقتفى بظاهر المتلو، كان مثله، كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها قال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعوّذوا بالله من فخر القراء، فإنهم أشد فخرًا من الجبابرة». ولا أحد أبغض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من قارىء متكبر. وعن علي رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعوذوا بالله من دار الحزن، فإنها إذا فتحت، استجارت منها جهنم سبعين مرة، أعدها الله للقراء المرائين بأعمالهم، وإن شر القراء لمن يزور الأمراء». وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي رحمه الله تعالى: رب تال، يفوه بالقرآن، وهو يفضي به إلى الخذلان. قصص سليمان حين عُرض عليه الصافنات الجياد 30 - ثم أخبر سبحانه، بأن من جملة نعمه على داود، أنه وهب له سليمان ولدًا، فقال: {وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ}؛ أي: وآتينا داود ابنًا يسمى سليمان من (¬2) المرأة التي أخذها من أوريا. والهبة (¬3): عطاء الواهب بطريق الإنعام والإحسان لا بطريق العوض والجزاء، الموافق لأعمال الموهوب له. فسليمان النعمة التامة على داود؛ لأن الخلافة الظاهرة الإلهية، قد كملت لداود، وظهرت أكمليتها في سليمان، وكذا على العالمين لما وصل منه إليهم من آثار اللطف والرحمة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أولادنا من مواهب الله، ثم قرأ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ}. وروي: أن داود عليه السلام، عاش مئة سنة، ومات يوم السبت فجأة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[31]

ويوم السبت لهم، كيوم الجمعة لنا، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه؛ أي: الغرفة، وينزل، وقال: جئت لأقبض روحك، فقال: دعني حتى أنزل وأرتقي، فقال: ما لي إلى ذلك سبيل، نفدت الأيام، والشهور، والسنون، والآثار، والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها، فسجد داود على مرقاة من الدرج، فقبض نفسه على تلك الحال، وموت الفجأة رحمة للصالحين، وتخفيف ورفق بهم، إذ هم المنقطعون المستعدون، فلا يحتاجون إلى الإيصاء، وتجديد التوبة، ورد المظالم بخلاف غيرهم، ولذا كان من آثار غضب الله على الفاسقين، وأوصى داود لابنه سليمان بالخلافة. ثم مدح الله سبحانه، وأثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ} والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: نعم العبد هو؛ أي: سليمان لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني. وهو مقام النبوة والخلافة. وقيل: إن المدح هنا بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ} هو لداود. والأول أولى. وجملة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لما قبلها من المدح. والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة، كما تقدم بيانه، أي: إن سليمان رجاع إلى الله سبحانه، بإخلاص العبودية، بلا علة دنيوية ولا أخروية، أو رجاع إلى الله في جميع الأحوال، في النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر. والمعنى: أي ما أحقه بالمدح والثناء؛ لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات اعتقادًا منه، بأن كل شيء من الخير، لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه. 31 - ثم ذكر حالًا من أحواله، التي تستحق الإطراء والثناء، فقال: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ}؛ أي: قرّب إليه، وأظهر له {بِالْعَشِيِّ}؛ أي: في آخر النهار {الصَّافِناتُ}؛ أي: الخيول القائمة على ثلاثة قوائم، جاعلة طرف حافر، الرابعة على الأرض لنشاطها {الْجِيادُ}؛ أي: السريعة الجري والعدو، والظرف متعلق بمحذوف؛ أي: اذكر يا محمد لقومك، ما صدر عن سليمان حين عرضت عليه الجياد الصافنات، من العصر إلى آخر النهار لينظر إليها، ويتعرف أحوالها مقدار صلاحيتها للقيام بالمهام، التي توكل إليها حين الغزو وغيره، وقد وصفها

[32]

بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها. وقيل: وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلَّص. والصافنات: جمع صافن. قال الزجاج: الصافن هو الذي يقف على إحدى اليدين، ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها، حتى كأنه يقوم على ثلاث: وهي الرجلان، وإحدى اليدين، وقد يفعل بإحدى رجليه، وهي علامة الفراهة، والجياد: جمع جواد، يقال للفرس إذا كان شديد العدو، وقيل: إنها الطوال الأعناق، من الجيد، وهو العنق. قيل: كانت مئة فرس، وقيل: ألفا، وقيل: كانت عشرين ألفًا، وقيل: كانت عشرين فرسًا، وقيل: إنها خرجت له من البحر، وكانت لها أجنحة. روي: أن سليمان عليه السلام، غزا أهل دمشق ونصيبين، وهي قاعدة ديار ربيعة، فأصاب ألف فرس عربي، أو أصابها أبوه من العمالقة، فاستخلف عنه فيها؛ لأنها من مال المصالح، وعلى كل تقدير قعد سليمان يومًا، بعدما صلى الظهر على كرسيه، وكان يريد جهادًا، فاستعرض تلك الأفراس؛ أي: طلب عرضها عليه، فلم تزل تعرض عليه، وهو ينظر إليها، ويتعجب من حسنها حتى غربت الشمس، وغفل عن صلاة العصر، وكانت فرضًا عليه، كما في «كشف الأسرار»، وعن ورد: كان له وقتئذ من الذكر، وتهيبه قومه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته بسبب السهو والنسيان، فاستردها، فعقرها تقربا إلى الله، وطلبا لمرضاته على أن يكون العقر قربة في تلك الشريعة، ولذا لم ينكر عليه، أو مباحا في ذلك اليوم، وإنما أراد بذلك: الاستهانة بمال الدنيا، لمكان فريضة الله، كما قاله أبو الليث. فلم يكن من قبيل تعذيب الحيوان، فلما عقرها لله تعالى، أبدله الله خيرًا منها، وأسرع. وهي الريح تجري بأمره حيث شاء. 32 - {فَقالَ} سليمان: {إِنِّي أَحْبَبْتُ}؛ أي: آثرت {حُبَّ الْخَيْرِ}؛ أي: حب الخيل {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}؛ أي: على ذكر ربي يعني: صلاة العصر، قاله عليه السلام عند غروب الشمس اعترافًا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة، وندمًا

[33]

عليه، وتمهيدًا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها، والتعقيب بالفاء باعتبار أواخر العرض المستمر دون ابتدائه، والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب، لا لتحقيق مضمون الخبر، وأصل {أَحْبَبْتُ} أن يُعدى بعلى؛ لأنه بمعنى: آثرت، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى}، وكل من أحب شيئًا فقد آثره، لكن لما أنيب مناب أنبت، وضمن معناه، عدى تعديته بعن، و {حُبَّ الْخَيْرِ} مفعوله؛ أي: مفعول به لأنبت المضمن، والذي أنيب مناب الذكر، هو الاطلاع على أحوال الخيل، لا حب الخيل، إلا أنه عدّي الفعل إلى حب الخيل، للدلالة على غاية محبته لها، والخير: المال الكثير، والمراد به: الخيل التي شغلته عليه السلام. ومعنى الآية: أنبت حب الخيل؛ أي: جعلته نائبًا عن ذكر ربي، ووضعته موضعه، وكان يجب لمثلي، أن يشتغل بذكر ربه، وطاعته. {حَتَّى تَوارَتْ} الشمس، واستترت {بِالْحِجابِ}؛ أي: بما يحجبها عن الأبصار، وهو معربها، قال قتادة، وكعب: الحجاب: جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف، وقيل: هو جبل دون قاف، بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه، اهـ «خازن». وسمي الليل حجابًا، لأنه يستر ما فيه، والضمير في {تَوارَتْ} للشمس، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها، إذ لا شيء يتوارى حينئذ غيرها. و {حَتَّى} متعلقة بقوله: {أَحْبَبْتُ}، وغاية له باعتبار استمرار المحبة، ودوامها حسب استمرار العرض. والمعنى: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى توارت؛ أي: غربت الشمس، تشبيهًا لغروبها في مغربها، بتواري الجارية المخبأة بحجابها؛ أي: المستترة بخبائها وخدرها. وقيل: الضمير في {تَوارَتْ} للصافنات؛ أي: حتى توارت بحجاب الليل؛ أي: بظلامه؛ لأن ظلام الليل يستر كل شيء. 33 - وقوله: {رُدُّوها عَلَيَّ} من تمام مقالة سليمان، والخطاب لأهل العرض من قومه؛ أي: أعيدوا تلك الخيل علي، والفاء في قوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} عاطفة على مقدر يقتضيه السياق، و {طفق} من أفعال الشروع بمعنى:

أخذ، وشرع. ومسحته بالسيف كناية عن الضرب. والسوق: جمع ساق كدور ودار، والسوق: ما بين الكعبين: كعب الركبة، وكعب القدم، والتقدير: فردوها عليه، فأخذ يمسح بالسيف مسحًا سوقها وأعناقها؛ أي: يقطع أعناقها، ويعرقب رجلها؛ أي: هو وأصحابه، أو يذبح بعضها، ويعرقب بعضها إزالة للعلاقات، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق سبحانه، واستغفارا وإنابة إليه بالترك والتجريد، وفي الآية إشارة إلى أن حب غير الله شاغل عن الله، وموجب للحجاب، وأن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة، يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله. قال الحسن: إن سليمان، لما شغله عرض الخيل، حتى فاتته صلاة العصر، غضب لله، وقال: ردوها علي؛ أي: أعيدوها إلي. وقيل: الضمير في {رُدُّوها} يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، والخطاب للملائكة الموكلين بالشمس، يعني: ردوا الشمس، فردوها إلى موضع وقت صلاة العصر، حتى صلى العصر في وقتها. وقال الإمام في «تفسيره»: الصواب أن يقال: إن رباط الخيل، كان مندوبًا إليه في دينهم، كما هو مندوب إليه في شرعنا، ثم إن سليمان عليه السلام، احتاج إلى الغزو، فجلس على كرسيه، وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا وحظ النفس، وإنما أجريها وأحبها، لأمر الله تعالى، وتقوية دينه، وهو المراد من قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}، ثم إنه أمر بإجرائها وتسييرها، حتى توارت بالحجاب؛ أي: غابت عن بصره، فإنه كان له ميدان واسع، مستدير، يسابق فيه بين الخيل، حتى تتوارى عنه، وتغيب عن عينه، ثم أنه أمر الرائضين بأن يردوها، فردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه، طفق يمسح سوقها وأعناقها؛ أي: بيده حبًا لها، وتشريفًا وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان، في قهر الأعداء، وإعلاء الدين، وهو قول الزهري، وابن كيسان وليس فيه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام، فهو أحق بالقبول عند أولي الأفهام، وقال ابن جرير الطبري (¬1) (23/ 156): حدثني علي حدثنا أبو ¬

_ (¬1) الطبري.

صالح قال: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ}. يقول: جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبًا لها، وقال الطبري: وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية؛ لأن نبي الله عليه السلام، لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانا بالعرقبة يعني ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف ويهلك مالًا من أمواله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها، اهـ. وخلاصة معنى الآية على هذا القول (¬1): أن سليمان احتياطًا للغزو، أراد أن يعرف قوة خيوله، التي تتكون منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال: إني ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر الله، وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها سرورًا بها، وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما بها فربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضي. وقال الشوكاني: وقد اختلف (¬2) المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح: قطع أعناقها وعراقيبها بالسيف، وقال آخرون منهم: الزهري، وقتادة: إن المراد بالمسح: كشف الغبار عن سوقها وأعناقها، وإزالته عنها، حبا لها وتشريفا لها، والقول الأول أولى بسياق الكلام، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه، حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه، ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك، وما صده عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا، أن يكون الغرض من ردها عليه، هو كشف الغبار عن سوقها، وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال، لا يصدر عن النبي، فإن هذا مجرد استبعاد، باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا، مع جواز أن يكون في شرع سليمان، أن مثل هذا مباح، على أن إفساد المال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[34]

المنهي عنه في شرعنا، إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح، فقد جاز مثله في شرعنا، كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، من إكفاء القدور، التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة، من إحراق طعام المحتكر. وقرأ الجمهور (¬1): {مَسْحًا}، وزيد بن علي: {مساحًا} على وزن قتال، وقرأ الجمهور: {بِالسُّوقِ} بغير همز على وزن فعل، وهو جمع ساق كدار ودور، وقرأ ابن كثير: {بالسؤق} بالهمز. وقال أبو علي: هي لغة ضعيفة، وليست ضعيفة؛ لأن أبا حيّة النميري، كان يهمز كل واو قبلها ضمة، سماعًا، وكان ينشد: حب المؤقد بن أبي مؤسى وجاءت هذه القراءة على هذه اللغة، وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: {بالسؤوق} بوزن الرؤوس، رواهما بكار عن قنبل، وقرأ زيد بن علي {بِالسَّاقِ} مفردًا اكتفي به عن الجمع لأمن اللبس. 34 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ابتلينا سليمان، واختبرناه (¬2) بمرض عضال {وَأَلْقَيْنا}؛ أي: طرحناه {عَلى كُرْسِيِّهِ} وسرير ملكه حال كونه {جَسَدًا}؛ أي: جسمًا ضعيفًا، لشدة وطأته عليه، والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح. {ثُمَّ أَنابَ}؛ أي: رجع سليمان بعد إلى حاله الأولى، واستقامت له الأمور كما كان، وما روي من قصص الخاتم، والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود، دسوها على المسلمين، وأبي قبولها العلماء الراسخون، ومن ثم قال الحافظ بن كثير: وقد رويت هذه القصة، مطولة عن جماعة من السلف رحمهم الله تعالى كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين. وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط بتصرف وزيادة من زاد المسير. (¬2) المراغي.

وهذه هي التي سنذكرها بعد. وعبارة «الخازن» هنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ} بن داود عليهما السلام؛ أي (¬1): اختبرناه، وابتليناه، بسلب ملكه عنه، وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها: صيدون، وبها ملك عظيم الشأن، ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله تعالى، قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا، لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة، تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها، وسبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك، يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنًا وجمالًا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حبًا لم يحبه شيئًا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إني أذكر أبي، وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، فقال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانًا أعظم من سلطانه، وهداك إلى الإسلام، وهو خير من ذلك، قالت: إن ذلك كذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما تراه من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيًا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها، حتى لا تنكر منه شيئًا، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه؛ إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه، فألبسته ثيابًا مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها، تغدوا إليه في ولائدها، فتسجد له، ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه، وتروح في كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحًا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقًا، وكان لا يرد عن ¬

_ (¬1) الخازن.

أبواب سليمان؛ أي: ساعة أراد دخول شيء من بيوته، دخل حاضرًا كان سليمان أو غائبًا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني، ورق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلّم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمرهم، فقال: افعل. فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى، وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضّله الله تعالى به، حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحكمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك، ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه من ذلك، حتى ملىء غضبًا، فلما دخل سليمان داره دعاه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى، فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيرًا في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر عمري؟. فقال آصف: إن غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحًا، في هوى امرأة، فقال سليمان: في داري؟ قال: في دارك، قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الظهيرة فأتي بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم، فلبسها، ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، وأمر برماد، ففرش له، ثم أقبل تائبًا إلى الله تعالى، حتى جلس على ذلك الرماد، وتمعك به في ثيابه تذللًا إلى الله تعالى، وتضرعًا إليه يبكي، ويدعو، ويستغفر مما كان في داره، فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، ثم رجع إلى داره، وكانت له أم ولد، يقال لها: أمينة، كان إذا دخل الخلاء، أو أراد إصابة امرأة من نسائه، وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يومًا عندها، ثم دخل مذهبه، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد، في صورة سليمان، لا تنكر منه شيئًا، فقال: خاتمي أمينة، فتناولته إياه، فجعله في يده، ثم

خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس، وخرج سليمان، فأتى أمينة وقد تغيرت حالته، وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: سليمان بن داود، فقالت: كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه، وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج، فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول، يزعم أنه سليمان، فلما رأى سليمان ذلك، عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق، ويعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة، ويشوي الأخرى فيأكلها، فمكث على ذلك أربعين صباحًا عدة ما كان يعبد الوثن في داره، ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل، أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم؟ قالوا: نعم، فقال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه، فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره، ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم؟ فدخل على نسائه، فقال: ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشد ما يدع امرأة في دمها، ولا يغتسل من الجنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الحسن: ما كان الله سبحانه وتعالى، ليسلط الشيطان على نساء نبيه عليه السلام، قال وهب: ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل، فقال: ما في الخاصة أشد مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحًا، طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، فأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه، فلما أمسى أعطاه سمكتيه، فباع سليمان إحداهما بأرغفة، وبقّر بطن الأخرى ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في يده، ووقع لله ساجدا، وعكفت عليه الطير والجن، وأقبل الناس عليه، وعرف الذي كان دخل عليه، لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر، فطلبوه حتى أخذوه، فأُتي به، فأدخله في جوف صخرة، وسد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به، فقذفوه في البحر، فعلى هذا الجسد الذي ألقي

على كرسيه صخر سمي به، وهو جسم لا روح فيه؛ لأنه كان متمثلًا بما لم يكن كذلك، والخطيئة تغافله عن حال أهله؛ لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ، والسجود للصورة بغير علمه لا يضره. وقيل في سبب فتنة سليمان عليه السلام: إن جرادة كانت أبر نسائه عنده، وكان يأتمنها على خاتمه، فقالت له يوما: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، فأحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي بقوله: نعم، وذكروا نحو ما تقدم، وقيل: إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده، فأعاده في يده فسقط، وكان فيه ملكه، فأيقن سليمان بالفتنة، فأتاه آصف، فقال: إنك مفتون بذلك، والخاتم لا يتماسك في يدك، ففر إلى الله تائبًا، فإني أقوم مقامك، وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك، ففر سليمان إلى الله تعالى تائبًا، وأعطى آصف الخاتم، فوضعه في يده، فثبت في يده، فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته، أربعة عشر يومًا، إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه، وتاب عليه، فرجع إلى ملكه، وجلس على سريره، وأعاد الخاتم في يده، فثبت، فهو؛ أي: آصف الجسد الذي ألقي على كرسيه. وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله تعالى إليه، احتجبت عن الناس ثلاثة أيام، فلم تنظر في أمور عبادي، فابتلاه الله تعالى، وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم، وأخذ الشيطان إياه، قال القاضي عياض، وغيره من المحققين: لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به، وتسليطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه، وإن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا، والذي ذهب إليه المحققون، أن سبب فتنته، ما أخرجاه في «الصحيحين»، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كلهن تأتي بفارس، يجاهد في سبيل الله تعالى، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله تعالى، فلم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا، فلم تحمل منه إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، وايم الله الذي نفسي

[35]

بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون، وفي رواية: لأطوفن بمئة امرأة، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، قال العلماء: والشق: هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وهي عقوبته، ومحنته؛ لأنه لم يستثن، لما استغرقه من الحرص، وغلب عليه من التمني، وقيل: نسي أن يستثني، كما صح في الحديث، لينفذ أمر الله، ومراده فيه، وقيل: إن المراد بالجسد، الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد له ولد، فاجتمعت الشياطين، وقال بعضهم: لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان، فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين، فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه، فعاتبه الله تعالى على خوفه من الشياطين، ولم يتوكل عليه في ذلك، فتنبه لخطئه، فاستغفر ربه. فذلك قوله عز وجل: {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ}؛ أي: رجع إلى ملكه بعد الأربعين يومًا. 35 - وقيل: أناب إلى الاستغفار. وهو قوله: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي}؛ أي: سأل ربه المغفرة، فقال: رب اغفر لي؛ أي: قال سليمان وهو بدل من أَنابَ، وتفسير له: رب اغفر لي ما صدر مني، من الزلة التي لا تليق بشأني. وتقديم (¬1) الاستغفار على استيهاب الملك الآتي، لمزيد اهتمامه بأمر الدين، وجريا على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين، في تقديم الاستغفار على السؤال، ولكون ذلك أدخل في الإجابة. {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي}؛ أي: لا يكون، ولا يحصل {لِأَحَدٍ} من الخلق {مِنْ بَعْدِي} إلي يوم القيامة. وقيل (¬2): لا تسلبنيه في باقي عمري، وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري، وقرأ الجمهور (¬3): {مِنْ بَعْدِي} بسكون الياء، ونافع، وأبو عمر بفتح الياء. وذلك (¬4) بأن يكون الظهور به بالفعل في عالم الشهادة، في الأمور العامة والخاصة مختصًا بي. وهو الغاية التي يمكنه بلوغها، دل على هذا المعنى قوله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) النسفي. (¬4) روح البيان.

- صلى الله عليه وسلم -: «إن عفريتًا من الجن، تفلّت عليّ البارحة، ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، ويلعب به ولدان أهل المدينة، فذكرت دعوة أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، فرددته خاسئًا»؛ أي: ذليلا مطرودا، لم يظفر بي، ولم يغلب على صلاتي، فدل على أن الملك الذي آتاه الله سليمان، ولم يؤت أحدًا غيره من بعده، هو الظهور بعموم التصرف في عالم الشهادة لا التمكن منه، فإن ذلك مما آتاه الله غيره من الكمل نبيا كان أو وليا. ألا ترى: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأمكنني الله منه»؛ أي: من العفريت، فعلمنا أن الله تعالى، قد وهب التصرف فيه، بما شاء من الربط وغيره، ثم إن الله تعالى ذكره، فتذكر دعوة سليمان، فتأدب معه كمال التأدب، حيث لم يظهر بالتصرف في الخصوص .. فكيف في العموم؟. فرد الله ذلك العفريت، ببركة هذا التأدب خاسئًا عن الظفر به، وكان في وجود سليمان عليه السلام، قابلية السلطنة العامة، ولهذا ألهمه الله تعالى، أن يسأل الملك المخصوص به، فلم يكن سؤاله للبخل، والحسد، والحرص على الاستبداد بالنعمة والرغبة فيها، كما توهمه الجهلة. وعبارة «الخازن» هنا: فإن قلت: قول سليمان: {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} مشعر بالحسد، والحرص على الدنيا. قلت: لم يقل ذلك حرصًا على طلب الدنيا ولا نفاسة بها، ولكن كان قصده في ذلك، أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى، وهذا على قول من قال: إن الشيطان استولى على ملكه، وقيل: سأل ذلك ليكون علمًا وآية لنبوته، ومعجزة دالة على رسالته، ودلالة على قبول توبته، حيث أجاب الله تعالى دعاءه، ورد ملكه إليه، وزاده فيه، وقيل: غير ذلك. وعبارة «فتح الرحمن»: إن قلت: كيف (¬1) قال سليمان ذلك، مع أنه يشبه الحسد والبخل بنعم الله تعالى على عباده، بما لا يضر سليمان؟. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[36]

قلت: المراد، لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي لبس خاتمي، وجلس على كرسيي، أو أن الله تعالى، علم أنه لا يقوم غيره مقامه، بمصالح ذلك المكان، واقتضت حكمته تعالى تخصيصه به، فألهمه سؤاله، انتهى. ثم علل المغفرة والهبة معًا، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ} يا إلهي {الْوَهَّابُ}؛ أي: الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبي، وحقق رجائي، فإن قيل (¬1): قوله: {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} هل يتناول النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ قلنا: أما بالصورة فيتناول، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا لعدم استحقاقه؛ لأنه عُرض عليه - صلى الله عليه وسلم - ملك أعظم من ملكه، فلم يقبله، وقال: الفقر فخري. وأما بالمعنى: فلم يتناول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال: «فضلت على الأنبياء بست» يعني: على جميع الأنبياء، ولا خفاء في أن سليمان عليه السلام، ما بلغ درجة واحد من أولي العزم من الرسل، مع اختصاصه بصورة الملك منهم، وهم معه مفضولون بست فضائل من النبي - صلى الله عليه وسلم -. 36 - ثم أخبر سبحانه، بأنه أجاب دعاءه، ووفقه لتحصيل ما أراد، وعدد نعمه عليه. فقال: 1 - {فَسَخَّرْنا لَهُ}؛ أي: فذللنا لطاعة سليمان إجابة لدعوته {الرِّيحَ}. قال أبو عمرو: إنها ريح الصبا؛ أي: جعلناها مطيعة له، لا تخالفه إجابة لدعوته، فعاد أمره عليه السلام، على كان عليه قبل الفتنة، فيكون ذلك مسببًا عن إنابته إلى ربه. وفيه: إشارة إلى أن سليمان، لما فعل بالصافنات الجياد. ما فعل في سبيل الله، عوّضه الله مركبًا مثل الريح، كان غدوها شهرا، ورواحها شهرًا. كما في «التأويلات النجمية». وقد سبق أيضًا «كشف الأسرار»: قال البقلي، رحمه الله: كان سليمان عليه السلام، من فرط حبه جمال الحق، يحب أن يظهر إلى صنائعه، وممالكه ساعة، فساعة من الشرق إلى الغرب، حتى يدرك عجائب ملكه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[37]

وملكوته، فسخر الله له الريح، وأجراها بمراده، وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه. وقوله: {تَجْرِي} وتهب {بِأَمْرِهِ}؛ أي: بأمر سليمان. بيان لتسخيرها له. وقوله: {رُخاءً} حال من ضمير {تَجْرِي}؛ أي: حالة كون تلك الريح، لينة الهبوب، طيبة لا عاصفة تزعزع، ولا ينافي (¬1) هذا قوله في آية أخرى {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ}؛ لأن المراد: أنها في قوة العاصفة ولا تعصف. وقيل: إنها كانت تارة رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان، ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين، أو المعنى: لينة في أثناء سيرها عاصفة في أوله. وقوله: {حَيْثُ أَصابَ} ظرف لـ {تَجْرِي}؛ أي: تجري إلى حيث قصد وأراد من النواحي والأطراف. واعلم: أن المراد بقوله: {بِأَمْرِهِ}: جريان الريح بمجرد أمره من غير جمعية خاطر، ولا همة قلب، فهو الذي جعل الله من الملك، الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لا مجرد التسخير، فإن الله تعالى، سخر لنا أيضًا ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، ولكن إنما تفعل أجرام العالم لهمم النفوس، إذا أقيمت في مقام الجمعية، فهذا التسخير عن أمر الله، لا عن أمرنا، كحال سليمان عليه السلام، والمعنى؛ أي: فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح، تجري لينةً طائعة له، لا تمتنع عليه إلى أي جهة قصد. وقرأ الجمهور (¬2): {الرِّيحَ} بالإفراد. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. 2 - 37 {وَالشَّياطِينَ} معطوف على الريح {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من الشياطين، وهو مبالغة بأن اسم فاعل من بنى، وكانوا يعملون له عليه السلام، ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان، كالجواب وقدور راسيات، كما سبق في سورة سبأ، ويبنون له الأبنية الرفيعة بدمشق واليمن، ومن بنائهم: بيت المقدس واصطخر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[38]

وهي من بلاد فارس، تنسب إلى صخر الجنّيّ، المراد بقوله تعالى: {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ}. {وَغَوَّاصٍ} معطوف على {بَنَّاءٍ}. مبالغة غائص. اسم فاعل من غاص الماء يغوص غوصًا؛ أي: يغوصون في الماء، ويستخرجون له من البحر الدرر، والجواهر، والحلي، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر. والمعنى: أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغواصين في البحار، منهم يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور، أو الحصون والقناطر، أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار، لجعلهما حلية لمن في قصورة لبوا طلبه سراعًا. 3 - 38 {وَآخَرِينَ} معطوف على {كُلَّ بَنَّاءٍ}، داخل في حكم البدل؛ أي: وسخرنا له شياطين آخرين، مخالفين أمره ليصفدهم في الأصفاد، وقوله: {مُقَرَّنِينَ} بصيغة اسم المفعول، من التفعيل، صفة لـ {آخَرِينَ} من قرّنت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته به، وشدد العين للمبالغة والكثرة، {فِي الْأَصْفادِ} متعلق بمقرنين، جمع صفد محركة، وهو القيد من الحديد، ويسمى الأغلال، والسلاسل. ومعنى الآية: وسخرنا له شياطين آخرين لا يبنون، ولا يغوصون، فقرنهم، وأوثقهم في الأصفاد، والسلاسل، والأغلال من الحديد، لكفهم عن الشر والفساد. وخلاصة ما سلف (¬1): أن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره، وضعه في السلاسل والأغلال، كفا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره، فإن قيل: إن (¬2) هذه الآية، تدل على أن الشياطين لها قوة عظيمة، قدروا بها على تلك الأبنية العظيمة، التي لا يقدر عليها البشر، وقدروا على الغوص في البحار، واستخراج جواهرها، وأنى يمكن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

تقييدهم وتصفيدهم بالأغلال والأصفاد؟. وفيه إشكال، وهو أن هذه الشياطين، إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة، فإن كانت كثيفة، وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة، إذ لو جاز أن لا يراهم مع كثافة أجسادهم، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية، وأصوات هائلة لا نراها، ولا نسمعها، وذلك سفسطة، وإن كانت أجسادهم لطيفة، واللطافة تنافي الصلابة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة، بحيث يقدر بها على ما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الجسم اللطيف، يكون ضعيف القوام، تتمزق أجزاؤه بأدنى المدافعة، فلا يطيق تحمل الأشياء الثقيلة، ومزاولة الأعمال الشاقة، وأيضا لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال، قلنا: إن أجسادهم لطيفة، ولكن شفافة، ولطافتها لا تنافي صلابتها، بمعنى الامتناع من التفرق، فلكونها لطيفة لا ترى، ولكونها صلبة يمكن تقييدها، وتحملها الأشياء الثقيلة ومزاولتها الأعمال الشاقة، ولو سلم أن اللطافة تنافي الصلابة، إلا أنا، لا نسلم أن اللطيف الذي لا صلابة له، يمتنع أن يتحمل الأشياء الثقيلة، ويقدر على الأعمال الشاقة، ألا ترى: أن الرياح العاصفة تفعل أفعالًا عجيبة، لا تقدر عليها جماعة من الناس. وفي «الأسئلة المقحمة»: الجن أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، ولا دليل يقضي بأن تلك الأجسام لطيفة أو كثيفة، بل يجوز أن تكون لطيفة، وأن تكون كثيفة، وإنما لا نراهم لا للطافتهم كما يزعمه المعتزلة، ولكن لأن الله تعالى لم يخلق فينا إدراكًا لهم، انتهى. والحق أن يقال (¬1): إنا لا نعلم حقيقة تلك القيود، ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين، وكيف يبنون أو يغوصون؟. فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئًا من أحواله، فعلينا أن نؤمن، بأن سليمان لعظم ملكه، لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله، بل سخر معهم الجن، فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن، دون دخول في التفاصيل خوفًا من الزلل الذي لا ¬

_ (¬1) المراغي.

[39]

تؤمن مغبته، ولا نصل أخيرًا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيد فيه. روي (¬1): أن الله تعالى أجاب دعاء سليمان، بأن سخر له ما لم يسخره لأحد من الملوك، وهو الرياح، والشياطين، والطير، وسخر له من الملوك، ما لم يتيسر لغيره مثل ذلك، فإنه روي: أنه ورث ملك أبيه داود، في عصر كيخسرو بن سياوش، وسار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره إلى كيخسرو، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث إلا قليلًا حتى هلك، ثم سار إلى مرو ثم سار إلى بلاد الترك فوغل فيها، ثم جاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس، فنزلها أيامًا، ثم عاد إلى الشام، ثم أمر ببناء بيت المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة، ثم إلى صنعاء، وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء، وهي بلقيس، ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. وغزا بلاد المغرب، والأندلس، وطنجة وإفرنجة، ونواحيها. 39 - ثم ذكر سبحانه، أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع، كما شاء، دون رقيب ولا حسيب. فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا} وهو معمول لقول محذوف؛ أي (¬2): فسخرنا له جميع ما ذكر، وقلنا له: هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم والبسطة، والتسلط على ما لم يتسلط عليه غيرك، عطاؤنا الخاص بك، الذي لا يقدر عليه غيرنا. {فَامْنُنْ}؛ أي: فأعط منه من شئت من قولهم: من عليه منا إذا أنعم عليه. {أَوْ أَمْسِكْ}؛ أي: وامنع منه من شئت. و {أَوْ} هنا للإباحة. وقوله: {بِغَيْرِ حِسابٍ} حال من المستكن في الأمر؛ أي: حالة كونك غير محاسب على منّه وإحسانه، ومنعه وإمساكه، لا حرج عليك فيما أعطيت، وفيما أمسكت، لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق. وقيل (¬3): الإشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإمساك: إطلاقهم أو إبقائهم في القيد. وفي «المفردات»: قيل: تصرف فيه تصرف من لا يحاسب؛ أي: تناول كما تحب في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي.

[40]

وقت ما تحب، وعلى ما تحب، وأنفقه كذلك، انتهى. قال الحسن. ما أنعم الله على أحد نعمة، إلا كان عليه تبعة إلا سليمان. فإن أعطى أجر عليه، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة وإثم. وهذا مما خص به، والتبعة: ما يترتب على الشيء من المضرة، وكل حق يجب للمظلوم على الظالم بمقابلة ظلمه عليه، قال بعض المحققين: كان سؤال سليمان ذلك عن أمر ربه، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان امتثال أمر وعبادة، فللطالب الأجر التام على طلبه، من غير تبعة حساب ولا عقاب، فهذا الملك والعطاء، لا ينقصه من ملك آخرته شيئًا، ولا يحاسب عليه أصلًا، كما يقع لغيره، وأما ما روي: أن سليمان آخر الأنبياء دخولًا الجنة لمكان ملكه، فعلى تقدير صحته، لا ينافي الاستواء بهم في درجات الجنة، ومطلق التأخر في الدخول لا يستلزم الحساب. وقد روي: أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمس مئة سنة، ويجوز أن يكون بغير حساب حالًا من العطاء؛ أي: هذا عطاؤنا ملتبسًا بغير حساب، لغاية كثرته، كما يقال للشيء الكثير: هذا لا يحيط به حساب أو صلة له، وما بينهما اعتراض على التقديرين. 40 - وبعد (¬1) أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا، التي يحار العقل في إدراكها أبان ما له في الآخرة عند ربه، من مقام كريم وجنات نعيم، فقال: {وَإِنَّ لَهُ}؛ أي: لسليمان عليه السلام {عِنْدَنا لَزُلْفى}؛ أي: لقربى في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا {وَحُسْنَ مَآبٍ}؛ أي: وحسن مرجع، وهو الجنة؛ أي: وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا، فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدًا في الدنيا، يكون سعيدًا في الآخرة، ويفوز برضا ربه وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة في الدنيا، والكرامة، والمثوبة لديه في جنات النعيم، وجملة {إِنَّ} حال من الضمير في {سخرنا}؛ أي: أعدنا له الملك، والحال أن منزلته عندنا، لم تزل بزوال الملك، ولم تتغير بتغيره، بل ¬

_ (¬1) المراغي.

[41]

وقع له امتحان ظاهري فقط، ورتبته على ما هي عليه، اهـ شيخنا. وختم سبحانه وتعالى قصته، بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} دفعًا لما يتوهم من نقصان درجاتهما في الآخرة، بسبب ما أوتيا في الدنيا من الملك العظيم، والتسخير العجيب. وقرأ الجمهور: {وَحُسْنَ مَآبٍ} بالنصب عطفًا على {لَزُلْفى}. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة بالرفع، ويقفان على {لَزُلْفى} ويبتدآن {وَحُسْنَ مَآبٍ}. وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره: وحسن مآب كائن له، وعلى قراءة الجمهور {لَزُلْفى} اسم {إِنَّ}، والخبر {لَهُ}، والعامل في عند الخبر كما سيأتي، وفي الحديث: «أرأيتم ما أعطي سليمان بن داود من ملكه، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعًا، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعًا لربه». ولذا وجد الزلفى وحسن المرجع، فطوبى له، حيث كان فقيرًا في صورة الغني. روي: أن سليمان عليه السلام، فتن بعد ما ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة، ثم انتقل إلى حسن مآب. قصص أيوب عليه السلام 41 - {وَاذْكُرْ} يا محمد لقومك، أو تذكر بقلبك، ليكون أسوة لك، فهو معطوف على {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ}، وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان، لكمال الاتصال بينه وبين داود، حتى كأن قصتهما قصة واحدة. {عَبْدَنا أَيُّوبَ}؛ أي: قصة عبدنا أيوب بن آموى بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وأمه من أولاد لوط بن هاران، وزوجته رحمة بنت أفراثيم بن يوسف عليه السلام، أو ليّا بنت يعقوب عليه السلام، ولذا قال في «كشف الأسرار»: كان أيوب في زمان يعقوب. أو ما خير بنت ميشا بن يوسف. والأول أشهر الأقاويل. قال القرطبي: لم يؤمن بأيوب إلا ثلاثة نفر، وعمره ثلاث وتسعون، وقوله: {أَيُّوبَ} عطف بيان للعبد. وقوله: {إِذْ نادى رَبَّهُ} بدل اشتمال من {عَبْدَنا}؛ أي: واذكر إذ دعا أيوب ربه، وتضرع إليه بلسان الاضطرار، والافتقار {أَنِّي}؛ أي: بأني {مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ}؛ أي: أصابني

{بِنُصْبٍ}؛ أي: ضر وبلاء {وَعَذابٍ}؛ أي: إيجاع وألم شديد. فعطفه على النصب من عطل المسبب على السبب. وقرأ الجمهور: {أَنِّي} بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه. لأنه غائب. وقرأ عيسى بن عمر: بكسرها على إضمار القول، وأسند المس إلى الشيطان، قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسب إليه، وقد راع الأدب في ذلك، حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه أحد إلا هو. والمعنى: واذكر يا محمد لقومك، صبر أيوب حين نادى ربه، وقال: رب إني أصبت بالمرض، وتفرق الأهل، وضياع الولد. ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري، من أن أيوب، كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك، كان سببًا لما مسه الله به من النصب والعذاب. وقرأ الجمهور: {بِنُصْبٍ} بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب كوثن ووثن، وأسد وأسد. وقيل: هو لغة في النصب نحو: رشد ورشد، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة، ونافع في رواية عنه، وأبو عمارة في حفص، والجعفي، وأبو معاذ عن نافع بضمتين، ورويت هذه القراءة عن الحسن. وقرأ زيد بن علي، والحسن في رواية، والسدي، وابن أبي عبلة، ويعقوب، والجحدري بفتحتين، وقرأ أبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات، وقال أبو عبيدة: إن النَّصَبَ - بفتحتين -: التعب والإعياء. وعلى بقية القراءات: الشر والبلاء. ومعنى قوله: {وَعَذابٍ}؛ أي: ألم. قال قتادة، ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال، قال النحاس: وفيه بعد كذا قال. والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي، وهو التعب والإعياء، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو الألم، وكلاهما راجع إلى البدن.

[42]

وليس هذا المذكور هنا تمام دعائه عليه السلام، بل من جملته قوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فاكتفي هاهنا عن ذكره، بما في سورة الأنبياء، كما ترك هناك ذكر الشيطان، ثقة بما ذكره هنا، فإن قلت: لا قدرة للشيطان البتة على إيقاع الناس في الأمراض، والأسقام، لأنه لو قدر على ذلك لسعى في إهلاك الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والصالحين، فهو لا يقدر أن يضر أحدًا إلا بطريق إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فما معنى إسناد المس إليه؟ قلت: إن الذي أصابه، لم يصبه إلا من الله تعالى، إلا أنه أسنده إلى الشيطان، لسؤال الشيطان منه تعالى، أن يمسه الله تعالى بذلك الضر، امتحانا لصبره، ففي إسناده إليه دون الله تعالى، مراعاة للأدب كما مر آنفًا، وقيل: إنه لما عمل بوسوسته، عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فنسبه إليه، فقد قيل: إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل: استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل: إنه قال ذلك؛ لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه، فرفضوه، وأخرجوه من ديارهم، وقيل المراد به: ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه، من تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك. والله أعلم. روي: أن أيوب عليه السلام، كان له أموال كثيرة من صنوف مختلفة، وهو مع ذلك كله، كان مواظبا على طاعة الله، محسنا للفقراء واليتامى، وأرباب الحاجات، فحسده إبليس لذلك، وقال: إنه يذهب بالدنيا والآخرة، فقال: إلهي عبدك أيوب قد أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع النعمة والعافية لتغير عن حاله، فقال تعالى: إني أعلم منه أن يعبدني ويحمدني على كل حال، فقال إبليس: يا رب سلطني عليه، وعلى أولاده وأمواله. 42 - وقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} مقول لقول محذوف، معطوف على مقدر تقديره: واذكر يا محمد، إذ نادى أيوب ربه فاستجبنا له، وقلنا له على لسان جبرائيل، حين انقضاء مدة بلائه: اركض، واضرب برجلك وقدمك الأرض، وهي أرض الجابية بلد في الشام من أقطاع أبي تمام، فضربها، فنبعت عين ماء، فقلنا له: {هَذَا} الماء النابع {مُغْتَسَلٌ}؛ أي: ماء يغتسل به {بارِدٌ} فاغتسل به،

فباغتسالك به يبرأ ظاهرك مما به {وَشَرابٌ} تشرب منه، فيبرأ باطنك مما به، والواو لتأكيد الصفة بالموصوف والظاهر (¬1): أن المشار إليه كان واحدًا، والعين التي نبعت له عينان شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى، وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة، فاغتسل بها، وباليسرى فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: {مُغْتَسَلٌ بارِدٌ}، فإنه يدل على أنه ماء واحد، وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحوًا من أربعين ذراعًا، ثم ركض برجله، فنبعت عين ماء فشرب منها، قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى، والجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات لم يغمض فيهن، ولم ينقلب من جنب إلى جنب، كما في زهرة الرياض. ولا نعلم (¬2) على وجه التحقيق، قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر، ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه، لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفّر منه الناس، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه؛ لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنّا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله تعالى به إليه، أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية، كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا الدواء: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)}؛ أي: حرك الأرض برجلك، واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض. وفي هذا (¬3): إيماء إلى نوع المرض، الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالأكزيما، والحكة، ونحوهما مما يتعب الجسم، ويؤذيه أشد الإيذاء، لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب، أمكن للطبيب أن يبين نوع هذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[43]

المرض على وجه التقريب، لا على وجه التحديد، كما أن في ذلك إيماء، إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية، ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض. وهي كما تفيد بالاستعمال الظاهري تفيد بالشرب أيضًا، كما نرى في العيون التي في البلاد، التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر والحبشة وغيرها، واستعملت مصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية، كمياه فيشي، وسويسرا، وحلوان، وكوسم، وعرر من الحبشة. 43 - وكما دفع عنه سبحانه الضر، إجابة لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده، فقال: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ} معطوف (¬1) على مقدر؛ أي: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر، كما في سورة الأنبياء، ووهبنا له أهله، وكانوا ثلاثة عشر، روى الحسن: أن الله تعالى، أحياهم بعد هلاكهم؛ أي: بما ذكر من أن إبليس هدّم عليهم البناء فماتوا. {وَ} وهبنا له {مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} عطف على {أَهْلَهُ}. فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل؛ أي: زاده على ما كان قبل البلاء، فكانوا مثلي ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} مفعولان لأجله؛ أي: ووهبناهم له لأجل رحمة عظيمة عليه من عندنا، ولتذكير أصحاب العقول السليمة بذلك، ليصبروا على الشدائد كما صبر، ويلجؤوا إلى الله تعالى، فيما ينزل بهم، كما لجأ هو إليه، ليفعل بهم مثل ما فعل به من حسن العاقبة. والمعنى (¬2): أي وجمعنا له أهله بعد التفرق والتشتت، وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه رحمة منا، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة، لتعتبر وتعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن من العسر يسرًا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة: عَسَى فَرَجٌ يَأْتِيْ بِهِ اللهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِيْ خَلِيْقَتِهِ أَمْرُ ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، ماذا كانت حاله في ماله؟، فنُمسك عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[44]

الكلام كما أمسك. 44 - ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} معطوف (¬1) على {ارْكُضْ} أو على {وَهَبْنا} بتقدير: وقلنا خذ بيدك إلخ. والأول أقرب لفظًا، وهذا أنسب معنى، فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة؛ أي: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا}؛ أي: ملء كفك من حشيش، أو عيدان، أو ريحان أو عثكال نخل بشماريخه {فَاضْرِبْ بِهِ}؛ أي: بذلك الضغث زوجك، وبر في يمينك {وَلا تَحْنَثْ} فيها، فإن البر يتحقق بذلك، فأخذ ضغثًا، فضربها به ضربة واحدة، يقال: حنث في يمينه إذا لم يف بها، وكان (¬2) حلف في مرضه ليضربن امرأته مئة سوط إذا برأ. فحلل يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه، وهذه الرخصة باقية إلى يوم القيامة، ويجب أن يصيب المضروب كل واحدةٍ من المئة. والسبب في يمينه، أنها أبطأت عليه ذاهبةً في حاجة، وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين، إذ لم تجد شيئًا، وكان أيوب يتعلق بهما إذا أراد القيام، وقيل: غير ذلك، وهذا الذي ذكرنا أليق بالمقام، والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر، والحشيش، والشماريخ. فإن قلت (¬3): لم قال الله سبحانه، لأيوب عليه السلام: {وَلا تَحْنَثْ}، وقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ}؟. قلت: لأن كفارة اليمين لم تكن لأحد قبلنا، بل هي لنا، مما أكرم الله به هذه الأمة، بدليل قوله تعالى: {لَكُمْ}، كذا في «أسئلة الحكم»، وفي كلام بعض المفسرين: لعل التكفير لم يجز في شرعهم، أو أن الأفضل الوفاء به، انتهى. والمعنى (¬4): أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان، أو كلأ أو عثكال نخل، فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب الكريم لم يبين لنا ¬

_ (¬1) الإرشاد. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

علام حلف، وعلى من حلف. ويذكر الرواة: أنه حلف على زوجته رحمة، بنت أفراثيم، وقد كانت ذهبت لحاجة، فأبطأت عليه، فحلف ليضربنها إن برىء مئة ضربة. فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة، ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به، وبها لحسن خدمتها له، وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه. وفي هذا مخرج، وفرج لمن اتقى الله، وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه: {إِنَّا وَجَدْناهُ}؛ أي: وجدنا أيوب، وعلمناه {صَابِرًا} على ما أصابه في النفس، والأهل، والمال من البلاء الذي ابتليناه، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده، وذهاب ماله، وأهله، وولده، فصبر على ذلك، وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن أيوب عليه السلام، لم يكن ليجد نفسه صابرًا، لولا أنا وجدناه؛ أي: جعلناه صابرًا. يدل على هذا المعنى، قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}؛ أي: هو الذي صبرك وإن لم تكن تصبر، انتهى. روي (¬1): أنه بلغ أمر أيوب عليه السلام، إلى أن لم يبق منه إلا القلب، واللسان، فجاءت دودة إلى القلب فعضته، وأخرى إلى السان فعضته، فعند ذلك دعا أيوب، فوقعت دودة في الماء، فصار علقًا، وأخرى في البر، فصار نحلًا يخرج منه العسل، وفي «زهرة الرياض»: أنه بقي على بدنه أربعة من الديدان: واحد طار ووقع على شجرة الفرصاد فصار دود القز، وواحد وقع في الماء فصار علقًا، وواحد وقع في الحبوب فصار سوسًا، والرابع طار ووقع في الجبال والأشجار فصار نحلًا، وهذا بعد ما كشف الله عنه. {نِعْمَ الْعَبْدُ} أيوب، وحسن {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل (¬2) لمدحه؛ أي: إنما قيل فيه: نعم العبد؛ لأنه رجاع إلى الله تعالى، لا إلى الأسباب، مقبل بجملة وجوده إلى طاعته، أو رجّاع إلى الحضرة في طلب الصبر على البلاء والرضى بالقضاء، ولقد سوى الله سبحانه وتعالى، بين عبديه اللذين، أحدهما: أنعم عليه فشكر، والآخر: ابتلي فصبر، حيث أثنى عليهما ثناءً واحدًا، فقال في وصف سليمان: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وفي وصف أيوب كذلك، ولم يلزم من الأوابية الذنب، لأن بلاء أيوب، كان من قبيل الامتحان. والمعنى: أي (¬1) إنا وجدنا أيوب صابرًا على ما أصابه في النفس والأهل والمال، من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته وأذهب لوعته، وليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شيء من الجزع، فهو كتمني العافية وطلب الشفاء، وقد روي أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيًا ومعي جائع أو عريان. فإن قلت (¬2): كيف وصف الله تعالى أيوب عليه السلام بالصبر، مع أن الصبر ترك الشكوى من ألم البلوى، وهو قد شكا بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}، وقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}؟. قلت: الشكوى إلى الله تعالى لا ينافي الصبر، ولا تسمى جزعًا لما فيها من الجهاد والخضوع والعبودية لله تعالى، والافتقار إليه، ويؤيده قول يعقوب عليه السلام: {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، وقولهم: الصبر ترك الشكوى؛ أي: إلى العباد، أو أنه عليه السلام، طلب الشفاء من الله تعالى، بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه، خيفة على قومه، أن يفتنهم الشيطان، ويوسوس إليهم، أنه لو كان نبيًا لما ابتلي بما هو فيه، ولكشف الله ضره إذا دعاه. ويروى: أن الله تعالى لما أذهب عن أيوب ما كان فيه من الأذى، أنزل عليه ثوبين أبيضين من السماء، فاتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم مشى إلى منزله، فأقبلت سحابة، فسحت في أندر قمحه ذهبًا حتى امتلأ، وأقبلت سحابة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

[45]

أخرى إلى أندر شعيره، فسحت فيه ورقًا حتى امتلأ، وشكر الله خدمة زوجته، فردها إلى شبابها، وجمالها. قصص: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع 45 - {وَاذْكُرْ} يا محمد، أو تذكّر {عِبادَنا}؛ أي: صبر عبادنا المخصوصين من أهل العناية {إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} بن إبراهيم {وَيَعْقُوبَ} بن إسحاق ليكونوا لك قدوة في الصبر، فإبراهيم ألقي في النار فصبر، وإسحاق أضجع للذبح فصبر على قول، ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر. {أُولِي الْأَيْدِي}؛ أي: أصحاب القوى في الأعمال الظاهرة، والأفعال الدينية {وَ} أولي {الْأَبْصارِ}؛ أي: أصحاب الفكر الباطنة والمعارف الإلهية، والأيدي: جمع يد بمعنى: القوة، والتمكن من الأعمال الظاهرة، والأبصار: جمع بصر بمعنى: البصيرة، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان من إدراك المعقولات، والمعنى: أصحاب القوة في الطاعة، والبصيرة في أمور الدين. وكأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة (¬1)، ولا يجاهدون في الله، ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات، في حكم الزمنى، الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة، والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): {أُولِي الْأَيْدِي}؛ أي: أولي القوة في طاعة الله تعالى. {وَالْأَبْصارِ}؛ أي: في المعرفة بالله تعالى، وقيل: المراد باليد. أكثر الأعمال، وبالبصر: أقوى الإدراكات، فعبّر بهما عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وللإنسان قوتان عالمية، وعاملية، وأشرف ما يصدر عن القوة ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الخازن.

[46]

العالمية معرفة الله تعالى، وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته، فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي، والأبصار. وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة (¬1) {عِبادَنا} على الإفراد، و {إِبْراهِيمَ} بدل منه أو عطف بيان، وقرأ الجمهور: {عِبادَنا}: بالجمع، وما بعده من الثلاثة، بدل أو عطف بيان، وقرأ الجمهور: {أُولِي الْأَيْدِي} بالياء. وقرأ عبد الله، والحسن، وعيسى، والأعمش: {الأيد} بغير ياء، فقيل: يراد به: الأيدي حذفت منه الياء اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت {أل} تعاقب التنوين حذفت الياء معها، كما حذفت مع التنوين، وهذا تخريج لا يسوغ؛ لأن حذف هذه الياء مع وجود {أل} ذكره سيبويه في الضرورات. وقرىء {الأيادي} جمع الجمع كأوطف وأواطف. والمعنى: أي واذكر صبر عبادنا، الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة في الدين، والفقه في أسراره، والعمل النافع فيه. 46 - ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات، وجليل المدح بقوله: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ}؛ أي: إنا جعلناهم خالصين بخصلة خالصة عظيمة الشأن، لا شوب فيها {ذِكْرَى الدَّارِ} مصدر، بمعنى التذكر، مضاف إلى مفعوله، وهو خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة لـ {خالصة}، والتقدير: إنا خصصناهم بخصلة خالصة لنا، هي تذكرهم للدار الآخرة دائمًا، ولا هم لهم غيرها، وإطلاق الدار يعني مرادًا بها الدار الآخرة، للإشعار بأنها الدار في الحقيقة، وإنما الدنيا معبر. فإن قيل (¬2): كيف يكونون خالصين لله تعالى، وهم مستغرقون في الطاعة، وفيما هو سبب لها، وهو تذكر الآخرة؟. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[47]

قلت: إن استغراقهم في الطاعة، إنما هو لاستغراقهم في الشوق إلى لقاء الله، ولما لم يكن ذلك إلا في الآخرة، استغرقوا في تذكرها، وفي «التأويلات النجمية»: إنا صفيناهم عن شوب صفات النفوس، وكدورة الأنانية، وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية، ليس لغيرنا فيهم نصيب، ولا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضة، لا إلى أنفسهم، ولا إلى غيرهم، بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهمّ آخر، هي ذكرى الدار الباقية، والمقر الأصلي؛ أي: استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرقين لأنواره، لا التفات لهم إلى الدنيا، وظلماتها أصلًا، انتهى. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وهشام (¬1): {بِخالِصَةٍ} بغير تنوين أضيفت إلى {ذِكْرَى}. وقرأ باقي السبعة بالتنوين، و {ذِكْرَى} بدل من {بِخالِصَةٍ}. وقرأ الأعمش، وطلحة {بخالصتهم}. والمعنى: أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لاتصافهم بخصلة جليلة الشأن، لا يساويها غيرها من الخصال، وهي تذكرهم الدار الآخرة، فهي مطمح أنظارهم، ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون، وما يذرون، ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم. 47 - {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ}؛ أي: لمن المختارين في الدنيا بالنبوة والإسلام {الْأَخْيارِ} عند الله يوم القيامة. والمعنى (¬2): أي وإنهم لمن المختارين، الذين جبلت نفوسهم على الخير فلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام. 48 - {وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ} بن إبراهيم عليهما السلام، وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[49]

وأخيه، للإشعار بعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكر، وذلك لأنه، أسلم نفسه للذبح في سبيل الله، أو ليكون أكثر تعظيما، فإنه جد أفضل الأنبياء والمرسلين. {وَ} اذكر {الْيَسَعَ} هو ابن أخطوب من العجوز، استخلفه إلياس - عليه السلام - على بني إسرائيل، ثم اسُتنبىء، ودخلت اللام على العلم، لكونه منكرا، بسبب طرو الاشتراك عليه، فعرّف باللام العهدية على إرادة اليسع الفلاني، مثل قول الشاعر: رَأَيْتُ الْوَلِيْدَ بْنَ الْيَزِيْدِ مُبَارَكًا أو هي زائدة، وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد اللام وسكون الياء. {وَ} اذكر {ذَا الْكِفْلِ} هو ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب عليه السلام، بعث بعد أبيه إلى قوم في الشام. واختلف في نبوته، والأكثرون على أنه نبي لذكره في سلك الأنبياء، واختلف أيضًا أنه إلياس أو يوشع أو زكريا أو غيرهم؟. وإنما لقّب بذي الكفل؛ لأنه فرّ إليه مئة نبي من بني إسرائيل من القتل، فآواهم وكفلهم بمعنى: أطعمهم وكساهم وكتمهم من الأعداء. {وَكُلٌّ} أي: وكل (¬1) من المتقدمين من داود إلى هنا {مِنَ الْأَخْيارِ}؛ أي: من المشهورين بالخيرية؛ أي: ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه، وهذه الآيات تعزية، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذا اجتهدوا في الطاعات، وقاسوا الشدائد والآفات، وصبروا على البلايا والأذيات من أعدائهم، مع أنهم مفضولون، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك لكونه أفضل منهم، والأفضل يقاسي ما لا يقاسي المفضول، إذ به تتم رتبته، وتظهر رفعته، والأخيار: جمع خيِّر أو خير على التخفيف، كأموات جمع ميِّت أو ميت. 49 - {هَذَا} المذكور من الآيات الناطقة، بمناقب الأنبياء {ذِكْرٌ}؛ أي: شرف لهم، وذكر جميل يذكرون به أبدًا، كما يقول: يموت الرجل ويبقى اسمه وذكره، ويموت الفرس ويبقى ميدانه. ¬

_ (¬1) المراح.

[50]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذا ذكر من مضى من الأنبياء، وفي «التأويلات النجمية»: {هَذَا}؛ أي: القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء وقصصهم، لتعتبر بهم، وتقتدي بهم، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر. كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب، إذا فرغ من فصل من كتابه، وأراد الشروع في آخر: هذا، وكان كيت وكيت، وعلى هذا جاء قوله: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)} كما سيأتي بعد. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله لا ما سواه، وذلك، لأن جنات عدن مقام أهل الخصوص {لَحُسْنَ مَآبٍ} ومرجع في الآخرة، مع ما لهم في الدنيا من الثناء الجميل، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: مآبًا حسنًا، والمآب: المرجع. والمعنى: أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله، ورضوانه، ونعيم جنته. 50 - ثم بيّن حسن المرجع، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عطف بيان لحسن مآب، وأصل العدن في اللغة: الإقامة، ثم صار علمًا بالغلبة على تلك الجنة، وقيل: هو اسم لقصر في الجنة. قرأ الجمهور (¬1): {جَنَّاتِ} بالنصب بدلًا من {حسن مآب}، سواء كان جنات معرفة أو نكرة؛ لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن يكون {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها، إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة، وقد جوزه بعضهم، ويجوز أن يكون نصب {جَنَّاتِ} بإضمار فعل تقديره: سيدخلون جنات. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع، وأبو حيوة {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً} برفع التائين مبتدأ وخبرا، أو كل منهما خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جنات عدن هي مفتحة. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[51]

وقوله: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ} حال من {جَنَّاتِ}. والعامل (¬1) فيها ما في {المتقين} من معنى الفعل. والأبواب مرتفعة باسم المفعول، كقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها}. والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، إذ الأصل: أبوابها. وقيل: إن ارتفاع {الْأَبْوابُ} على البدل من الضمير في {مُفَتَّحَةً} العائد على {جَنَّاتِ}، وبه قال أبو علي الفارسي؛ أي: مفتحة هي الأبواب. والمعنى (¬2): أي حال كون تلك الجنات، مفتحة لهم الأبواب منها؛ أي: إذا وصلوا إليها، وجدوها مفتوحة الأبواب، لا يحتاجون إلى فتح بمعاناة، ولا يلحقهم ذل الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب والإكرام، يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، وقيل: هذا مثل ما تقول: متى جئتني وجدت بابي مفتوحًا، لا تمنع من الدخول، فإن قيل: ما فائدة العدول عن الفتح إلى التفتح؟. قلنا: المبالغة، وليست لكثرة الأبواب بل لعظمها، كما ورد من المبالغة في سعتها، وكثرة الداخلين، ويحتمل أن يكون للإشارة، إلى أن أسباب فتحها عظيمة شديدة، لأن الجنة قد حفت بالمكاره على وجه، لما رآها جبرائيل مع عظمة نعيمها قال: يا رب أنى هذه لا يدخلها أحد. 51 - وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيها} حال من ضمير {لَهُمُ}، والعامل فيه {مُفَتَّحَةً}؛ أي: حال كونهم، جالسين فيها جلسة المتنعمين للراحة. ولا شك أن الاتكاء على الأرائك دليل التنعم، ثم استأنفه لبيان حالهم في الجنات، فقال: {يَدْعُونَ فِيها}؛ أي: يسألون، ويطلبون في الجنات {بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ}؛ أي: بألوان متنوعة متكثرة، وهي ما يؤكل للذة لا للغذاء، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان، بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ، دون التغذي، فإنه لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها. {وَشَرابٌ}؛ أي: ويدعون فيها أيضًا بشراب كثير؛ أي: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[52]

ألوانه. فحذف {كثير} لدلالة الأول عليه، ففيه اكتفاء، ويقال: نطق القرآن بعشرة أشربة في الجنة منها: الخمر الجارية من العيون وفي الأنهار، ومنها: العسل واللبن وغيرهما. ولا شك أن الأذواق المعنوية في الدنيا متنوعة، ومقتضاه تنوع التجليات الواقعة في الجنة، سواء كانت تجليات شرابية أو غيرها. والمعنى (¬1): أي والمآب الحسن، هو جنات استقرار وإقامة، وأبوابها فتحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة، وقرة العيون فيها، ومشاهدة أحوالها التي تسر الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها، وتنعمهم بنعيمها، فقال: متكئين فيها يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك، وإنما (¬2) خص الشراب، والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها؛ لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء، إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه، والتلذذ دون التغذي؛ لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها كما مر قريبًا. 52 - وبعد أن وصف المسكن، والمأكول، والمشروب وصف الأزواج، فقال: {وَعِنْدَهُمْ}؛ أي: وعند المتقين في الجنة أزواج {قاصِراتُ الطَّرْفِ} وحابسات النظر عليهم؛ أي: زوجات قصرن طرفهن؛ أي: نظرهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. قال في «كشف الأسرار»: هذا كقولهم: فلانة عند فلان؛ أي: زوجته {أَتْرابٌ}؛ أي (¬3): متحدات في السن أو متساويات في الحسن، قال مجاهد: معنى أتراب: إنهن متواخيات لا يتباغضن، ولا يتغايرن، وقيل: أتراب للأزواج؛ أي: أقران لهم، والأتراب: جمع ترب، كما سيأتي، واشتقاقه من التراب؛ لأنه يمسهن في وقت واحد، لاتحاد مولدهن. والمعنى: لدات أقران ينشأن معًا، تشبيهًا في التساوي، والتماثل بالترائب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[53]

التي هي ضلوع الصدر، ولوقوعهن على الأرض معًا، يمسهن التراب في وقت واحد. قال في «كشف الأسرار»: لدات مستويات في السن، لا عجوز فيهن، ولا صبية، وقال بعضهم: لدات لأزواجهن؛ أي: هن في سن أزواجهن لا أصغر ولا أكبر، وفيه أن رغبة الرجل فيمن هي دونه في السن أتم، وأنه كان التحاب بين الأقران أرسخ، فلا يكون كونهن لدات لأزواجهن صفة مدح في حقهن. وفي الخبر الصحيح: «يدخل أهل الجنة الجنة، جردًا مردًا، مكهلين أبناء ثلاث وثلاثين سنة، لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من ورائها». والمعنى: أي وعندهم نساء ذوات خفر، قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال، يحب بعضهن بعضا. وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النصب، والتعب والهم الكثير للزوج، ولهن. 53 - وتقول لهم الملائكة: {هذا} المذكور من الثواب والنعيم {ما تُوعَدُونَ} به أيها المتقون في الدنيا على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. {لِيَوْمِ الْحِسابِ}؛ أي: لأجل وقوع يوم الحساب، وهو يوم القيامة؛ أي: لأجل وقوع الحساب والجزاء في يوم القيامة، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء. وقال بعضهم: ويحتمل أن يكون التقدير: هذا ما توعدون بوقوعه في يوم الحساب والجزاء، واللام بمعنى: في الظرفية. وقرأ الجمهور (¬1): {ما تُوعَدُونَ} بتاء الخطاب التفاتًا. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن، ويعقوب {ما يوعدون} بياء الغيبة، إذ قبله {وَعِنْدَهُمْ} واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وأبو حاتم لقوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ}، فإنه خبر. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[54]

والمعنى (¬1): أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة، هو ما وعد الله سبحانه به عباده، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم. 54 - ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم، لا يزول ولا ينقطع، فقال: {إِنَّ هَذَا} الذي ذكرناه من أنواع النعم والكرامات {لَرِزْقُنا}؛ أي: عطاؤنا أعطيناكموه. {ما لَهُ مِنْ نَفادٍ}؛ أي: ليس له انقطاع أبدًا، وفناء، وزوال؛ أي: إن هذا النعيم، وتلك الكرامة لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع، ونحو الآية قوله: {ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ}، وقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير منقطع {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها}. قال ابن عباس (¬2) رضي الله عنهما: ليس لشيء نفاد، ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حيًا. وفي «التأويلات النجمية»: وبقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} إلى قوله: {لِيَوْمِ الْحِسابِ} يشير إلى أن هذه الجنات بهذه الصفات مفتوحة لهم الأبواب، وأبواب الجنة بعضها مفتوحة إلى الخلق، وبعضها مفتوحة إلى الخالق لا يغلق عليهم واحد منها، فيدخلون من باب الخلق، وينتفعون بما أعد لهم فيها، ثم يخرجون من باب الخالق، وينزلون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يقيدهم نعيم الجنة ليكونوا من أهل الجنة، كما لم يقيدهم نعيم الدنيا، ليكونوا من أهل النار، بل أخلصهم من حبس الدارين، ومتعهم بنزول المنزلين، وجعلهم من أهل الله، وخاصته. {إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)}؛ أي: هذا ما رزقناهم في الأزل، فلا نفاد له إلى الأبد، انتهى. فعلى العاقل: الإعراض عن اللذات الفانية، والإقبال على الأذواق الباقية، فالفناء يوصل إلى البقاء، كما أن الفقر يوصل إلى الغنى. ولكل احتياج استغناء. إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِيْ ... وَهَيْهَاتَ الْغُرَابُ مَتَى يَشِيْبُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيْهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيْبُ الإعراب {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}. {وَمَا} الواو: استئنافية، {مَا}: نافية، {خَلَقْنَا}: فعل، وفاعل. {السَّماءَ}: مفعول به. {وَالْأَرْضَ} معطوف عليه، {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما} اسم موصول في محل النصب معطوف على السماء. {بَيْنَهُما} ظرف متعلق بمحذوف صلة لما، {باطِلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: خلقًا باطلًا. ويجوز أن يكون حالًا من فاعل {خَلَقْنَا}؛ أي: مبطلين أو ذوي باطل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقرير مضمون ما تقدم من أمر البعث والحساب والجزاء. {ذلِكَ}؛ أي: خلقها باطلًا لا لحكمة مبتدأ، {ظَنُّ الَّذِينَ} خبر، ومضاف إليه، وجملة {كَفَرُوا} صلته، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَوَيْلٌ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ظنهم ذلك، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك: ويل للذين كفروا. {ويل} مبتدأ، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبره، وجملة {كَفَرُوا}: صلة للموصول. {مِنَ النَّارِ} صفة لـ {ويل}. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى: بل التي للإضراب الانتقالي، وهمزة الإنكار، {نَجْعَلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {الَّذِينَ}: مفعول أول لنجعل، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على {آمَنُوا}، {كَالْمُفْسِدِينَ}: الكاف اسم بمعنى مثل، في محل النصب مفعول ثان لـ {نَجْعَلُ}، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بالمفسدين، {أَمْ} منقطعة بمعنى: بل

الإضرابية، وهمزة الإنكار أيضًا. {نَجْعَلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {الْمُتَّقِينَ}: مفعول أول، {كَالْفُجَّارِ}: الكاف اسم بمعنى: مثل في محل النصب مفعول ثان لـ {نَجْعَلُ}. والجملة معطوفة على ما قبلها. {كِتابٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن كتاب أنزلناه إليك، والجملة مستأنفة، وجملة {أَنْزَلْناهُ}: صفة أولى لكتاب، {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أَنْزَلْناهُ}، {مُبارَكٌ} صفة ثانية له، ومنعه بعضهم بحجة، أن النعت غير الصريح، لا يتقدم على النعت الصريح، فهو عندهم خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف، وقرأ {مباركا}: بالنصب على الحال اللازمة، {لِيَدَّبَّرُوا}: اللام: حرف جر وتعليل، {يدبروا}: فعل، وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل جوازًا، {آياتِهِ}: مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلْناهُ}؛ أي: أنزلناه لتدبرهم آياته. {وَلِيَتَذَكَّرَ} {الواو}: عاطفة، واللام حرف جر وتعليل، {يتذكر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي، {أُولُوا الْأَلْبابِ}: فاعل، ومضاف إليه مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولتذكر أولي الألباب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)}. {وَوَهَبْنا} {الواو}: استئنافية، {وَهَبْنا}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {لِداوُدَ}: متعلق بـ {وَهَبْنا}، {سُلَيْمانَ}: مفعول به، {نِعْمَ}: فعل ماض لإنشاء المدح، {الْعَبْدُ}: فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هو. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {أَوَّابٌ}: خبره. والجملة الاسمية مسوقة لتعليل جملة المدح. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {أَوَّابٌ} أو بـ {نِعْمَ} أو بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد، قصة إذ عرض عليه. {عُرِضَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَيْهِ}

متعلق به، {بِالْعَشِيِّ}: حال من الضمير في {عَلَيْهِ}، أو من {الصَّافِناتُ}، {الصَّافِناتُ}: نائب فاعل لعرض، {الْجِيادُ}: صفة لـ {الصَّافِناتُ}. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ (34)}. {فَقالَ}: الفاء: عاطفة. {قال}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {سُلَيْمانَ}، والجملة معطوفة على جملة {عُرِضَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أَحْبَبْتُ}: فعل، وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قال}. و {أَحْبَبْتُ}: ليست جارية على معناها الأصلي، وإنما هي متضمنة معنى فعل، يتعدى بعلى، وهي بمعنى: آثرت. {حُبَّ الْخَيْرِ}: مفعول به لذلك الفعل، أو مفعول مطلق، {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {أَحْبَبْتُ}، و {عَنْ}: بمعنى على، {حَتَّى}: حرف جر وغاية بمعنى: إلى {تَوارَتْ}: فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الشمس، أو على الخيل، {بِالْحِجابِ}: متعلق بـ {تَوارَتْ}. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى؛ أي: إلى مواراتها بالحجاب، الجار والمجرور متعلق بـ {أَحْبَبْتُ}؛ أي: شغلت عن ذكر ربي إلى مواراتها بالحجاب. {رُدُّوها}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والجملة مقول لقول محذوف؛ أي: قال: ردوها علي. و {عَلَيَّ}: متعلق بردوها، {فَطَفِقَ} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فردوها عليه، {طفق}: فعل ماض من أفعال الشروع، يعمل عمل كان، واسمها ضمير يعود على سليمان، {مَسْحًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: يمسح مسحًا، والجملة المحذوفة في محل النصب خبر {طفق}، وجملة {طفق} معطوفة على الجملة المقدرة. {بِالسُّوقِ}: متعلق بـ {مَسْحًا}، {وَالْأَعْناقِ} معطوف على السوق، {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {فَتَنَّا}: فعل، وفاعل،

{سُلَيْمانَ}: مفعول به، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {وَأَلْقَيْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على {فَتَنَّا}، {عَلى كُرْسِيِّهِ} متعلق بـ {أَلْقَيْنا}، {جَسَدًا}: مفعول به {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {أَنابَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {أَلْقَيْنا}. {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمانَ}، والجملة مستأنفة، مسوقة لتفسير الإنابة. {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قالَ}. {اغْفِرْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر. {لِي} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {وَهَبْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، معطوف على {اغْفِرْ}، {لِي}: متعلق بـ {يهب}، {مُلْكًا}: مفعول به، {لا}: نافية {يَنْبَغِي} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مُلْكًا}، والجملة في محل النصب، صفة لـ {مُلْكًا}. {لِأَحَدٍ}: متعلق بـ {يَنْبَغِي}، {مِنْ بَعْدِي}: جار ومجرور صفة {لِأَحَدٍ}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه. {أَنْتَ}: ضمير فصل، {الْوَهَّابُ}: خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل الدعاء. {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}. {فَسَخَّرْنا}: الفاء: عاطفة على محذوف يفهم من السياق؛ أي: فاستجبنا له دعاءه وأعدنا له هذا الملك السليب، وسخرنا. {سخرنا}: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف. {لَهُ} متعلق بـ {سخرنا}، {الرِّيحَ}: مفعول به. {تَجْرِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الريح، والجملة في محل النصب حال من {الرِّيحَ}. {بِأَمْرِهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {تَجْرِي}، {رُخاءً}: حال من الضمير في {تَجْرِي}. {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بـ {تَجْرِي} أو بـ {سخرنا}. {أَصابَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {سُلَيْمانَ}،

والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}، {وَالشَّياطِينَ}: معطوف على الريح، {كُلَّ بَنَّاءٍ}: بدل من الشياطين، بدل تفصيل من مجمل. {وَغَوَّاصٍ} معطوف على بناء، {وَآخَرِينَ}: معطوف على {كُلَّ بَنَّاءٍ}، أدخل معه في حكم البدل، {مُقَرَّنِينَ}: نعت {لآخرين}، {فِي الْأَصْفادِ} متعلق بـ {مُقَرَّنِينَ}. {هذا}: مبتدأ، {عَطاؤُنا}: خبره، والجملة في محل النصب مقول، لقول محذوف تقديره: وقلنا له: هذا عطاؤنا. {فَامْنُنْ}: الفاء: عاطفة، {امنن}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {سليمان}، والجملة الطلبية معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مقولًا للقول المحذوف. {أَوْ أَمْسِكْ} {أَوْ}: حرف عطف وتخيير، وجملة {أَمْسِكْ}: معطوفة على جملة {امنن}. {بِغَيْرِ حِسابٍ}: متعلق بـ {عَطاؤُنا}: أو متعلق بـ {امنن}، أو {أَمْسِكْ}، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف حال، من الضمير المستتر في الفعلين، أعني: امنن أو أمسك؛ أي: حال كونك غير محاسب عليه. {وَإِنَّ لَهُ} {الواو}: استئنافية، {إِنَّ}: حرف نصب، {لَهُ}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}، {عِنْدَنا}: حال من الضمير المستكن في خبر {إِنَّ}، {لَزُلْفى} اللام: حرف ابتداء. {زلفى}. اسم {إِنَّ}، {وَحُسْنَ مَآبٍ}: معطوف على زلفى، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}. {وَاذْكُرْ عَبْدَنا} {الواو}: عاطفة، {اذْكُرْ}: فعل، وفاعل مستتر، {عَبْدَنا}: مفعول به، {أَيُّوبَ}: بدل منه أو عطف بيان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ}، ولم يذكر ذلك في قصة سليمان، لكمال الاتصال بين سليمان وداود، كأن قصتهما واحدة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من أيوب، {نادى رَبَّهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {أَنِّي}: ناصب واسمه، {مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، {بِنُصْبٍ} متعلق به، {وَعَذابٍ}: معطوف

على نصب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن} واسمها في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: بأني مسني الشيطان، وجملة قوله: {ارْكُضْ}: مقول لقول محذوف تقديره: وقيل له: اركض برجلك. {ارْكُضْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {أَيُّوبَ}، {بِرِجْلِكَ}: متعلق بـ {ارْكُضْ}، ومفعول {ارْكُضْ} محذوف تقديره الأرض. {هذا مُغْتَسَلٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. {بارِدٌ}: صفة لـ {مُغْتَسَلٌ}، {وَشَرابٌ} معطوف على {مُغْتَسَلٌ}، {وَوَهَبْنا}: {الواو}: عاطفة على محذوف، يقتضيه السياق تقديره: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر، ومسحنا به ما ألم به من أوصاب، ووهبنا له، إلخ. {وَهَبْنا}: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، {لَهُ} متعلق بـ {وَهَبْنا}، {أَهْلَهُ}: مفعول به. {وَمِثْلَهُمْ}: معطوف على أهله. {مَعَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من المثل؛ أي: حال كونه كائنًا معهم، {رَحْمَةً}: مفعول لأجله. {مِنَّا}: صفة لـ {رَحْمَةً}، {وَذِكْرى}: معطوف على {رَحْمَةً}، {لِأُولِي}، صفة لـ {ذِكْرى}. {الْأَلْبابِ}: مضاف إليه، {وَخُذْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {ارْكُضْ}، {بِيَدِكَ}: متعلق بـ {خُذْ}، {ضِغْثًا} مفعول به، {فَاضْرِبْ} الفاء: عاطفة، {اضرب}: فعل، وفاعل مستتر، معطوف على {خُذْ}، {بِهِ} متعلق بـ {اضرب}، والمفعول محذوف؛ أي: امرأتك. {وَلا تَحْنَثْ} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية، جازمة، {تَحْنَثْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة {اضرب}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {وَجَدْناهُ صابِرًا}: فعل، وفاعل، ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، والجملة الاسمية مستأنفة. {نِعْمَ الْعَبْدُ}: فعل، وفاعل، والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: هو، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {إِنَّهُ أَوَّابٌ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل المدح. {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ

الْأَبْوابُ (50)}. {وَاذْكُرْ عِبادَنا} {الواو}: عاطفة، {اذْكُرْ عِبادَنا}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ}، {إِبْراهِيمَ}: بدل من عبادنا، أو عطف بيان له. {وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ}: معطوفان على {إِبْراهِيمَ}، {أُولِي}: صفة للثلاثة، {الْأَيْدِي}: مضاف إليه، مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوف، اجتزاء عنها بكسرة الدال؛ لأنه اسم منقوص. {وَالْأَبْصارِ}: معطوف على {الْأَيْدِي}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {أَخْلَصْناهُمْ}: خبره، وجملة {إن}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما وصفوا به من علو الرتبة، وسموها بالعلم والعمل. {بِخالِصَةٍ}: متعلق بـ {أَخْلَصْناهُمْ}، والباء، إما للسببية، إن كان {أَخْلَصْناهُمْ} بمعنى: جعلناهم خالصين، وإما للتعدية، إن كان أخلصناهم، بمعنى: خصصناهم، و {خالصة} صفة لموصوف محذوف؛ أي: بخصلة خالصة. {ذِكْرَى الدَّارِ}: إما خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ذكرى الدار، أو بدل من خالصة، {ذِكْرَى}: مضاف، {الدَّارِ}: مضاف إليه، فهي من إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: ذكرهم الدار الآخرة. {وَإِنَّهُمْ}: الواو عاطفة، {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه. {عِنْدَنا}: حال من اسم {إن}، {لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ}: اللام: حرف ابتداء، {من المصطفين}: خبر {إن}، {الْأَخْيارِ}: صفة له، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. {وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ}: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ}، {وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ}: معطوفان على إسماعيل، {وَكُلٌّ} {الواو}: حالية، {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوّغ الابتداء به، قصد العموم {مِنَ الْأَخْيارِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الثلاثة المذكورة قبله. {هذا ذِكْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، مسوقة للإيذان بانتهاء ما تقدم، والشروع في موضوع آخر. {وإن} {الواو}: استئنافية، {إن}: حرف نصب {لِلْمُتَّقِينَ}: خبر {إن} مقدم على اسمها، {لَحُسْنَ} اللام: حرف ابتداء، {حسن}: اسمها مؤخر، {مَآبٍ}: مضاف إليه، من إضافة الصفة إلى الموصوف، وجملة {إن} مستأنفة. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: بدل، أو عطف بيان لحسن مآب، {مُفَتَّحَةً}: حال من جنات عدن، والعامل فيها ما في المتقين، من معنى

الفعل، {لَهُمُ}: متعلق بـ {مُفَتَّحَةً}، {الْأَبْوابُ}: نائب فاعل لـ {مُفَتَّحَةً}؛ لأنه اسم مفعول من فتّح المضعف. {مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)}. {مُتَّكِئِينَ} حال من الهاء في {لَهُمُ}، والعامل فيها مفتحة، {فِيها}: متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، وجملة {يَدْعُونَ}: إما مستأنفة لبيان حالهم، أو حال من الهاء المذكور، أو من الضمير المستكن في {مُتَّكِئِينَ}، {فِيها}: حال من فاعل يدعون؛ أي: حال كونهم فيها. {بِفاكِهَةٍ}: متعلق بـ {يَدْعُونَ}، {كَثِيرَةٍ}: صفة لـ {فاكهة}، {وَشَرابٍ}: معطوف على فاكهة، {وَعِنْدَهُمْ}: عاطفة، {عِنْدَهُمْ}: خبر مقدم، {قاصِراتُ الطَّرْفِ}: مبتدأ مؤخر، {أَتْرابٌ}: صفة لـ {قاصِراتُ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إن}. {هذا}: مبتدأ، {ما}: اسم موصول في محل الرفع خبر {تُوعَدُونَ}: فعل، ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هذا ما توعدونه. {لِيَوْمِ الْحِسابِ}: متعلق بـ {تُوعَدُونَ}، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف؛ أي: وتقول لهم الملائكة: هذا ما توعدون ليوم الحساب. واللام: فيه للتعليل؛ أي: لأجل يوم الحساب. {إِنَّ هذا}: ناصب واسمه. {لَرِزْقُنا} اللام: حرف ابتداء، و {رزقنا}: خبر {إن}، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {ما}: نافية حجازية، أو تميمية. {لَهُ}: خبر مقدم. {مِنْ}: زائدة، {نَفادٍ}: مبتدأ مؤخر، أو اسم ما مؤخر، والجملة في محل النصب حال من {رزقنا}. التصريف ومفردات اللغة {باطِلًا}؛ أي: عبثًا، ولعبًا. {فَوَيْلٌ}؛ أي: هلاك. {كَالْفُجَّارِ} من الفجر، وهو شق الشيء شقًا واسعًا، والفجور: شق سر الديانة. {مُبارَكٌ}؛ أي: كثير المنافع الدينية والدنيوية، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير. {لِيَدَّبَّرُوا} أصله: يتدبروا فأدغمت التاء في الدال، بعد قلبها

دالاً؛ أي: ليتفكروا في آياته بالفكر السليم، فإن التدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور، والتفكر: تصرف القلب في معاني الأشياء، لدرك المطلوب. {وَلِيَتَذَكَّرَ}؛ أي: ليتعظ. {الْأَلْبابِ} جمع لب، وهو العقل، وقد يجمع على ألب، ويفك إدغامه في ضرورة الشعر. قال الكميت: إِلَيْكُمْ ذَوِيْ آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ ... نَوَازعُ مِنْ قَلْبِيْ ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ {إِذْ عُرِضَ} يقال: عرض له أمر كذا إذا ظهر، وعرضته له؛ أي: أظهرته، وعرض الجند إذا أمرهم بالعرض عليه ونظر ما حالهم. {الصَّافِناتُ} جمع صافن لا صافنة؛ لأنها لذكور الخيل. وصفة المذكر الذي لا يعقل، يجمع هذا الجمع مطردا، كما عرف في النحو، والصفن: الجمع بين الشيئين ضامًا بعضهما إلى بعض، يقال: صفن الفرس قوائمه، إذا قام على ثلاث وثنى الرابعة؛ أي: قلب أحد حوافره، وقام على طرف سنبك يد أو رجل، والسنبك: طرف مقدم الحافر، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يتفق إلا في العربي الخالص، وقد صفن الفرس من باب جلس، والصافن من الناس الذي يصف قدميه، وجمعه صفون كما في «المختار»، وعبارة الزمخشري: الصفون لا يكاد يوجد في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص، وقيل: وصفها بالصفون، والجودة ليجمع ما بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية، يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا، في جريها. {الْجِيادُ}: جمع جواد، وهو السابق أو جمع جود، وهو الذي يسرع في جريه تشبيهًا له بالمطر الجود، قال في «القاموس»: الجواد: السخي، والجمع: الأجواد. والجيّد ضد الرديء. والجمع: الجياد، وقيل: الجواد: هو الفرس الذي يجود عند الركض؛ أي العدو. وفي أدب الكاتب لابن قتيبة: ويقال للفرس: عتيق، وجواد، وكريم، ويقال للبرذون، والبغل، والحمار: فاره. والسوابق من الخيل: أولها: السابق. ثم: المصلي، وذلك لأن رأسه عند صلا السابق، ثم الثالث والرابع، كذلك إلى التاسع والعاشر: السكيت، ويقال أيضًا: السكيت مشددًا، فما جاء بعد ذلك لم يعتد به. والفسكل الذي يجيء في

الحلبة آخر الليل، هذا ما أورده ابن قتيبة. وقد سموا. الثالث: المتلي؛ لأنه يتلي الثاني، وسموا. الرابع: التالي، وسموا. الخامس: المرتاح، وسموا. السادس: العاطف، وسموا. السابع: المؤمل، وسموا. الثامن: الحظي، وسموا. التاسع: اللطيم. {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} والخير: المال الكثير، والمراد به: الخيل التي شغلته عليه السلام، لأنها مال. {مَسْحًا} المسح: القطع. وفي «المختار»: ومسحه بالسيف قطعه. والجمهور: على أن المراد به هنا: القطع من قولهم: مسح علاوته؛ أي: ضرب عنقه، وقطع رأسه، والعلاوة بالكسر: أعلى الرأس أو العنق. قال في «المفردات»: مسحته بالسيف كناية عن الضرب. {بِالسُّوقِ} والسوق: جمع ساق كدور ودار. والساق: ما بين الكعبين: كعب الركبة وكعب القدم. ومن غريب أمر الساق، أن له العديد من المعاني، فأولها، وهو المراد هنا: أنه ما بين الكعب والركبة مؤنث، وجمعه: سوق، وسيقان، وأسوق، وساق الشجر: جذعها، ومن معانيه: ساق الحمام والغراب نباتان، وساق حر ذكر القمارى، ويقال: كشف الأمر عن ساقه؛ أي: اشتد وعظم، وقامت الحرب على ساق؛ أي: اشتدت وولدت المرأة ثلاثة بنين، على ساق واحدة؛ أي: بعضهم في إثر بعض لا جارية بينهم، والحديث في هذه المادة يطول، فنحيل القارىء إلى المعاجم. {وَالْأَعْناقِ} جمع: عنق. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ} الفتنة: الاختبار والابتلاء؛ أي: ابتليناه بسلب ملكه، وكان ملكه مرتبًا في لبس خاتمه، فإذا لبسه سخرت له الجن، والإنس، والرياح، وغيرها، وإذا نزعه زال عنه الملك، اهـ شيخنا. وكان خاتمه من الجنة، نزل به آدم كما نزل بعصى موسى، والحجر الأسود المسمى باليمين، وبعود البخور، وبأوراق التين ساترًا عورته بها. وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله: وَآدَمُ مَعَهُ أُنْزِلَ الْعُوْدُ وَالْعَصَا ... لِمُوْسَى مِنَ الآسِ النَّبَاتِ الْمُكَرَّمِ وَأَوْرَاقُ تِيْنٍ وَالْيَمِيْنُ بِمَكَّةٍ ... وَخَتْمُ سُلَيْمَانَ النَّبِيِّ الْمُعَظَّم

اهـ شيخنا. وفي «القرطبي»: قال جابر بن عبد الله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان نقش خاتم سليمان بن داود، لا إله إلا الله، محمد رسول الله» اهـ. {وَأَلْقَيْنا} الإلقاء: الطرح. {عَلى كُرْسِيِّهِ} الكرسي اسم لما يقعد عليه، والمراد: سريره المشهور. {جَسَدًا} قال في «المفردات»: الجسد: الجسم، لكنه أخص. قال الخليل: لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد، يقال لما له لون، والجسم: يقال لما لا يبين له لون كالماء والهواء، وقال في «أنوار المشارق»: الفرق بين الجسد والبدن أن: الأول: يعم لذي الروح وغيره، ويتناول الرأس والشوى. والثاني: مخصوص بذي الروح، ولا يتناولهما. {لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ}؛ أي: لا تنتقل إلى غيري. {رُخاءً}؛ أي: لينة طيبة لا تزعزع. والرخاء: الريح اللينة من قولهم: شيء رخو كما في «المفردات». وفي «الفتوحات المكية»: أن الهواء، لا يسمى ريحًا إلا إذا تحرك، وتموج، فإن اشتدت حركته كان زعزعًا، وإن لم تشتد كان رخاء، وهو ذو روح يعقل كسائر أجزاء العالم، وهبوبه تسبيحه تجري به الجواري، ويطفأ به السراج، وتشتعل به النار، وتتحرك المياه والأشجار، ويموج البحر، وتزلزل الأرض، ويزجي السحاب. انتهى. {حَيْثُ أَصابَ}؛ أي: أراد، وقصد في لغة حمير وهجر. وفي «القاموس»: الإصابة: القصد؛ أي: حيث قصد، وأراد من النواحي والأطراف، وقد حكى الزجاج عن العرب، أنها تقول: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. قال الشاعر: أَصَابَ الْكَلامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ... فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمُفَصَّلْ {كُلَّ بَنَّاءٍ} وهو مبالغة بأن اسم الفاعل من بني. وكانوا يعملون له - عليه السلام - ما يشاء. {وَغَوَّاصٍ} مبالغة غائص، اسم فاعل من غاص يغوص غوصًا. وهو الدخول تحت الماء، وإخراج شيء منه. {مُقَرَّنِينَ} جمع مقرّن اسم مفعول من قرّن المضعف، يقال: قرّنت البعيرين إذا جمعت بينهما، وقرّنت على التكثير

كما في الآية. وقال ابن الشيخ: {مُقَرَّنِينَ}: صفة لآخرين، وهو اسم مفعول من باب التفعيل، منقول من قرنت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته به، وشدد العين للمبالغة، والكثرة. {فِي الْأَصْفادِ}؛ أي: الأغلال، جمع صفد محركًا، وهو القيد. وفي «المختار»: صفده شده وأوثقه من باب ضرب، وكذا صفّده تصفيدًا، والصفد بفتحتين، والصفاد بالكسر: ما يوثق به الأسير من قد، وقيد، وغل، والأصفاد: القيود، واحدها صفد بالتحريك. قال عمرو بن كلثوم: فَآبُوا بالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوْكِ مُصَفَّدِيْنَا {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ} وهو ابن عيصو بن إسحاق، فليس من بني إسرائيل؛ لأنهم من نسل يعقوب، وهو ابن العيص أخي يعقوب. والذي في «القاموس»: أن عيصو بن إسحاق بواو بعد الصاد، بوزن بيعوا أمرًا بالبيع للجماعة، اهـ. وفي «التحبير»: أيوب هو ابن موص بن رعبل بن عيص بن إسحاق، وعاش ثلاثا وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين، اهـ. وقيل: كانت عشرا. وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أربعين، اهـ. {بِنُصْبٍ} النصب بضم فسكون، وبفتح فسكون، وبضمتين: الداء، والبلاء، قيل: جمع نصب كأسد وأسد، وقيل: هو لغة في النصب. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض: الضرب، والدفع القوي بالرجل، فمتى نسب إلى الراكب، فهو إغراء مركوبه، وحثه للعدو، نحو: ركضت الفرس. ومتى نسب إلى الماشي فوطىء الأرض، كما في الآية، كذا قاله الراكب. والرجل: القدم أو من أصل الفخذ إلى رؤوس الأصابع. {مُغْتَسَلٌ} والمغتسل: هو المكان الذي يغتسل فيه، والماء الذي يغتسل به، والاغتسال: غسل البدن. وغسلت الشيء غسلا، أسلت عليه الماء، فأزلت درنه. {وَشَرابٌ} والشراب: هو ما يشرب، ويتناول من كل مائع ماء كان، أو غيره. {ضِغْثًا} والضغث: الحزمة الصغيرة من الحشيش، والقضبان، ونحوه. وفي

«القاموس»: والضغث بالكسر: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، واضطغثه: احتطبه. وفي «المفردات»: الضغث: قبضة ريحان أو حشيش. وبه شُبِّه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها، انتهى. وأضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها. {وَلا تَحْنَثْ} يقال: حنث في يمينه إذا لم يف بها. وقال بعضهم: الحنث: الإثم. ويُطلق على فعل ما حلف على تركه، وترك ما حلف على فعله، من حيث إن كل واحد منهما سبب له. {أُولِي الْأَيْدِي}؛ أي: ذوي الأيدي. جمع يد بمعنى: الجارحة في الأصل. أريد بها: القوة مجازًا بمعونة المقام. وذلك لكونها سبب التقوي على أكثر الأعمال، وبها يحصل البطش، والقهر، ولم تجمع القوة لكونها مصدرًا يتناول الكثير. {وَالْأَبْصارِ} جمع بصر، حمل على بصر القلب، ويسمى البصيرة، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان، من إدراك المعقولات. قال في «المفردات»: البصر يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة: بصيرة، وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، وجمع البصر أبصار، وجمع البصيرة بصائر. {لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} بفتح الفاء والنون، جمع مصطفى، أصله: مصطفيين بالياءين، وبكسر الأولى. {الْأَخْيارِ} جمع خير كشر، وأشرار، على أنه اسم تفضيل، أو خيّر بالتشديد، أو خير بالتخفيف، كأموات، جمع ميت أو ميت. {بِفاكِهَةٍ} والفاكهة: هي كل ما يؤكل للتلذذ، لا للغذاء. {أَتْرابٌ} أسنانهن واحدة، بنات ثلاث وثلاثين سنة، جمع ترب بالكسر، وهي اللدة؛ أي: من ولد معك، والهاء في اللدة، عوض عن الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة نظير عدة من الوعد. {ما لَهُ مِنْ نَفادٍ} قال في «المفردات»: النفاد: الفناء.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وضع الموصول موضع ضميرهم، للإشعار بعلية الصلة، لاستحقاق الويل. ومنها: المقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار في قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}. وهذه من ألطف أنواع البديع. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} للدلالة على أن اعترافه، وندمه عن صميم القلب، لا لتحقيق مضمون الخبر. ومنها: إضمار ضمير الشمس في قوله: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} من غير سبق ذكرها، لدلالة العشي عليها، إذ لا شيء يتوارى حينئذ غيرها. ومنها: الكناية في قوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ}. كني عن العقر والذبح بالمسح، وهي كناية بليغة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ}. قال في «بحر العلوم»: والأقرب أن المراد: تمثيل كفهم ومنعهم عن الشرور، بالتقرين في الصفد، يعني: أن قولهم لا يمكن تقييدهم بالأصفاد، والأغلال، حقيقة مسلم، ولكن ليس الكلام محمولًا على حقيقته؛ لأنهم لما كانوا مسخرين مذللين لطاعته عليه السلام - بتسخير الله إياهم له - كان قادرًا على كفهم عن الإضرار بالخلق، فشبّه كفهم عن ذلك بالتقرين في الأصفاد، فأطلق على الكف المذكور لفظ التقرين استعارة أصلية، ثم اشتق من التقرين - يعني: المعنى المجازي - لفظ مقرنين بمعنى: ممنوعين عن الشرور. والإضرار استعارة تبعية، انتهى. ومنها: الطباق بين {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ}؛ لأنهما بمعنى: أعط من شئت، وامنع من شئت.

ومنها: مراعاة الأدب في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ}. أسند الضرر إلى الشيطان أدبًا، والخير والشر بيد الله تعالى. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}. استعار الأيدي للقوة في العبادة، والأبصار للبصيرة في الدين. وفيه أيضًا فن التعرض، بأن من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، خليق بالتوبيخ وأسوأ المذام. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ}. ومنها: الاقتصار على الفاكهة في قوله: {يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} إيذانًا بأن مطاعمهم هناك ليست للتغذي، وإقامة الجسم، ولكن لمحض اللذة والتفكه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88}. المناسبة قوله تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه لما وصف ثواب المتقين أولًا .. أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متممًا له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب، وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة، وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب، والتأديب التي ترقى بها ¬

_ (¬1) المراغي.

[55]

النفوس إلى سبيل الكمال، في دنياها وآخرتها. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة، أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى التوحيد، وأثبت أنه نبي، ودعا إلى الحشر والنشر، فقابلوه بالسفاهة، وقالوا: إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك، وقص عليه من قصص الأنبياء، قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك بذكر ثواب أهل الجنة، وعذاب أهل النار .. عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب، التي ذكرها أول السورة، وهي تقرير التوحيد، والنبوة، والبعث. قوله تعالى: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا ...} الآيات، قد سلف (¬1) ذكر هذه القصة في سور البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا، والعبرة منها النهي عن الحسد، والكبر؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما، والمواعظ، والنصائح باب من أبواب التكرير، للمبالغة في النصح والإرشاد. التفسير وأوجه القراءة 55 - {هذا} قال الزجاج: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر في حق المؤمنين، هذا الذي ذكرناه. فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن، ثم يبتدىء، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: هذا المذكور للمؤمنين، وكلاهما من فصل الخطاب، وقال ابن الأثير: {هذا} في هذا المقام من الفصل، الذي هو خير من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى كلام آخر، وقال بعضهم (¬2): هذا من قبيل، ما إذا فرغ الكاتب من فصل، وأراد الشروع في فصل آخر، منفصل عما قبله، قال: {هذا}؛ أي: احفظ ما كان كيت وكيت، وانتظر إلى ما يجيىء. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[56]

والمعنى؛ أي: هذا الذي تقدم، هو ما يكون جزاء للمؤمنين، كفاء ما قدموا من أعمال صالحة. {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ}؛ أي: وإن للذين طغوا على الله، وكذبوا الرسل؛ أي: وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله تعالى، المكذبين لرسله {لَشَرَّ مَآبٍ} وأقبح مرجع في الآخرة وشر منقلب ينقلبون إليه، 56 - ثم بين ذلك فقال {جَهَنَّمَ} بدل من {شر مآب}، أو عطف بيان له أو منصوب بأعني. وقوله: {يَصْلَوْنَها} حال من المستكن في {لِلطَّاغِينَ}؛ أي: حال كونهم يدخلونها، ويجدون حرها يوم القيامة، ولكن اليوم مهدوا لأنفسهم. {فَبِئْسَ الْمِهادُ}؛ أي: قبح الفراش لهم جهنم، والمهد، والمهاد: الفراش، مستعار من فراش النائم، إذ لا مهاد في جهنم، ولا استراحة، وإنما مهادها نار، وغواشيها نار، كما قال في آية أخرى {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ}؛ أي: فراش من تحتهم. و {مِنْ} تجريدية. {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ}؛ أي: أغطية. والمعنى: أي هم يدخلون جهنم، ويقاسون شديد حرها، فبئس شرابًا هي. 57 - ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية، بذوق هذا العذاب. فقال: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ}؛ أي: ليذوقوا هذا العذاب، والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله في القليل، لكنه يصلح للكثير الذي يقال له: الأكل، وكثر استعماله في العذاب تهكمًا. وارتفاع {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} على أنهما خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك العذاب حميم؛ أي: ماء حار بلغ نهاية الحرارة، {وَغَسَّاقٌ}؛ أي: قيح وصديد يسيل من أهل النار، وقيل: هذا في موضع رفع بالابتداء، و {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} خبران له، فيكون الكلام على التقديم والتأخير، فتقدير الآية: حميم وغساق فليذوقوه، قاله الفراء والزجاج، والحميم: الماء الذي انتهى حره، والغساق: ما يسيل من جلد أهل النار من القيح والصديد، كما مر آنفًا. وفي «القاموس»: الغساق: الماء البارد المنتن، لو قطرت منه قطرة في المشرق، لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت قطرة في المغرب، لنتنت أهل المشرق، وقال الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله، إن ناسًا أخفوا لله طاعة، فأخفى لهم ثوابًا في قوله:

[58]

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ}، وأخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة، وقيل: هو مستنقع في جهنم، يسيل إليه سم كل ذي سم من عقرب وحية، يغمس فيه الآدمي، فيسقط جلده ولحمه عن العظام، وقيل: هو ما يسيل من فروج النساء الزواني، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وفي «التأويلات النجمية»: {هذا} الذي مهدوا اليوم {فَلْيَذُوقُوهُ} يوم القيامة، يعني: قد حصلوا اليوم معنى صورته {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} يوم القيامة، ولكن مذاقهم، بحيث لا يجدون ألم عذاب، ما حصلوه بسوء أعمالهم، فليذوقوه يوم القيامة، انتهى. فإذا تنعم المؤمنون بالفاكهة، والشراب .. تعذب الكافرون بالحميم والغساق، وقال مجاهد، ومقاتل: الغساق: هو الثلج البارد، الذي قد انتهى برده. وتفسير الغساق بالبارد، أنسب بما تقتضيه لغة العرب، ومنه قول الشاعر: إِذَا مَا تَذَكَّرْتَ الْحَيَاةَ وَطِيْبَهَا ... إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَاسِقُ أي: بارد. وأنسب أيضًا بمقابلة الحميم. والخلاصة: أي لهم في جهنم ماء حار، يشوي الوجوه، وماء بارد، لا يُستطاع شربه لبرودته. وقرأ ابن أبي إسحاق، وقتادة، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وحفص، والفضل، وابن سعدان، وهارون عن أبي عمرو: {غساق} بتشديد السين. وقرأ باقي السبعة: بتخفيف السين، وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال الأخفش. وقيل: معناهما مختلف. فمن خفف، فهو اسم مثل: عذاب، وجواب، وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة، نحو: ضراب، وقتال. 58 - ثم زاد في التهديد، وبالغ في الوعيد. فقال: {وَ} عذاب {آخَرُ} أو مذوق آخر. وهو مبتدأ خبره {مِنْ شَكْلِهِ}؛ أي: كائن لهم من شكل الحميم، والغساق المذكورين، ومثلها في الشدة والفظاعة، وقوله: {أَزْواجٌ} صفة {وَآخَرُ}. ومعنى {أَزْواجٌ}؛ أي: أجناس، وأنواع، وأشباه؛ أي: وعذاب آخر ذو ضروب، وأجناس كثيرة، كائن لهم من شكل الحميم والغساق المذكورين، ومثلهما في الشدة والفظاعة.

[59]

وحاصل معنى الآية (¬1): أن لأهل النار حميمًا وغساقًا، وأنواعًا أخر من العذاب، من مثل الحميم والغساق في الشدة والفظاعة، وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: فنون أخر، مثل ذلك العذاب، كائن لهم، يشير به إلى أن لكل نوع من المعاصي، نوعًا آخر من العذاب، كما أن كل بذر يزرعونه يكون له ثمرة تناسب البذر. والمعنى (¬2): أي ليس الأمر مقصورًا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه، وأمثال من مثله فظاعةً وشدةً، كالزقوم، والسموم، والزمهرير. وقرأ الجمهور (¬3): {وَآخَرُ} على الإفراد. فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولهم عذاب آخر، وقيل: خبره الجملة بعده؛ لأن قوله: {أَزْواجٌ} مبتدأ، و {مِنْ شَكْلِهِ}: خبره، والجملة خبر {آخَرُ}، وقيل: خبره {أَزْواجٌ}، و {مِنْ شَكْلِهِ}: في موضع الصفة، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد، من حيث هو درجات، ورتب من العذاب، أو سمي كل جزء من ذلك الآخر، باسم الكل. وقرأ الحسن، ومجاهد، والجحدري، وابن جبير، وعيسى، وأبو عمرو: {وأخر} بضم الهمزة على الجمع، وهو مبتدأ، و {مِنْ شَكْلِهِ} في موضع الصفة، و {أَزْواجٌ}: خبره؛ أي: ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، ومثله في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس كثيرة. وأنكر (¬4) أبو عمرو على الجمهور قراءتهم بالإفراد {وَآخَرُ} مفردًا مذكرًا لقوله: {أَزْواجٌ}. وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو، وقال: لو كانت كما قرأ لقال: من شكلها. وقرأ مجاهد: {مِنْ شَكْلِهِ} بكسر الشين، والجمهور بفتحها، وهما لغتان بمعنى: المثل، والضرب. 59 - وقال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم، إذا دخلوا النار: {هذا} الجم الغفير {فَوْجٌ} وجمع {مُقْتَحِمٌ} وداخل {مَعَكُمْ} في النار؛ أي (¬5) هذا جمع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني. (¬5) روح البيان.

كثيف، قد دخل معكم النار، كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال. والمعنى: يقول الخزنة لرؤساء الطاغين، إذا دخلوا النار مشيرين إلى الأتباع الذين أضلوهم: {هَذَا}؛ أي: الأتباع فوج، وجمع تبعكم في دخول النار بالاضطرار، كما كانوا قد تبعوكم في الكفر والضلالة بالاختيار، فانظروا إلى أتباعكم لم يحصل بينكم وبينهم تناصر، وانقطعت مودتكم، وصارت عداوة، قيل: يضرب الزبانية المتبوعين، والأتباع معًا بالمقامع، فيسقطون في النار خوفًا من تلك المقامع. فذلك هو الاقتحام. أي: وهذا حكاية لقول الملائكة، الذين هم خزنة النار، وذلك أن القادة، والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون: الأتباع {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}؛ أي: داخل ومدفوع معكم إلى النار. وقوله: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} من قول القادة والرؤساء، لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا؛ أي: الرؤساء والقادة في شأن الأتباع: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ}؛ أي: لا اتسعت منازلهم في النار. والمعنى: لا كرامة لهم، وجملة (¬1) {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} دعائية، لا محل لها من الإعراب أو صفة للفوج أو حال منه، أو بتقدير القول؛ أي: مقولًا في حقهم: لا مرحبًا بهم. وقيل: إنها من تمام قول الخزنة، والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي. وجملة {إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ}؛ أي: داخلون فيها، كما دخلنا فيها تعليل من جهة القائلين؛ أي: إنهم صالوا النار كما صليناها، ومستحقون لها كما استحققناها. أو تعليل من جهة الخزنة، لاستحقاقهم الدعاء عليهم؛ أي: داخلون النار بأعمالهم السيئة، وباستحقاقهم. وقوله: {لا مَرْحَبًا} مصدر (¬2) بمعنى: الرحب، وهو السعة. و {بِهِمْ} بيان ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[60]

للمدعو عليهم، وانتصابه على أنه مفعول به لفعل مقدر؛ أي: لا يصادفون رحبًا وسعةً، أو لا يأتون رحب عيش، ولا وسعة مسكن، ولا غيره. وحاصله: لا كرامة لهم، أو على المصدر؛ أي: لا رحبهم عيشهم. ومنزلهم رحبًا بل ضاق عليهم، يقول الرجل لمن يدعوه: مرحبًا؛ أي: أتيت رحبًا من البلاد، وأتيت واسعًا وخيرًا كثيرًا قاله الكاشفي. وقال غيره: يُقصد به: إكرام الداخل، وإظهار المسرة بدخوله، ثم يدخل عليه كلمة {لا} في دعاء السوء. وفي بعض شروح الحديث: التكلم بكلمة {مَرْحَبًا} سنة اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: مرحبًا يا أم هانىء حين ذهبت إلى رسول الله عام الفتح. وهي بنت أبي طالب، أسلمت يوم الفتح، ومن أبواب الكعبة باب يسمى باب أم هانىء، لكون بيتها في جانب ذلك الباب، وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم -، قد عُرج به من بيتها. وقال أبو حيان: والظاهر (¬1): أن قوله: هذا فوج مقتحم معكم، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض. والفوج: الجمع الكثير، وهم الأتباع، ثم دعوا عليهم بقولهم: لا مرحبًا بهم؛ لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قُرن معه في العذاب .. ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب. والحاصل: أن الله سبحانه، بعدما وصف مساكنهم ومشاربهم، حكى ما يتناجون به، ويقوله بعضهم لبعض؛ أي: هم يتلاعنون، ويتكاذبون. فتقول الطائفة التي دخلت قبل الأخرى، حين تُقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم. قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبًا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم. قال النابغة: لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلا أَهْلًا بِهِ ... إِنْ كَانَ تَفْرِيْقُ الأَحِبَّةِ فِيْ غَدِ 60 - ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله: إنهم صالوا النار؛ أي (¬2): إنهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[61]

ذائقوا حر النار مثلكم. وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم، وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يرد عليهم الداخلون من الأتباع، ويقولون لهم: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ}؛ أي: قال الأتباع، وهم الفوج المقتحم للنار عند سماع ما قال الرؤساء في حقهم، أو قالت الخزنة؛ أي: قالوا لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم: لا مرحبًا بكم؛ أي: لا كرامة لكم، فإنكم {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا} وأغويتمونا، ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير {فَبِئْسَ الْقَرارُ}؛ أي: قبح المستقر والمنزل لنا، ولكم، والمخصوص بالذم: النار، وهذا كلام يراد به: التشفي منهم؛ لأنه مشترك بينهم، خاطبوا (¬1) الرؤساء مع أن الظاهر: أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة: بل هم لا مرحبًا بهم، قصدًا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء، والتحاكم إلى الخزنة طمعًا في قضائهم، بتخفيف عذابهم، أو تضعيف عذاب خصمائهم؛ أي: بل أنتم أيها الرؤساء، أحق بما قيل لنا من جهة الخزنة، لإغوائكم إيانا مع ضلالكم في أنفسكم. وقوله: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا} تعليل لأحقيتهم بذلك؛ أي: أنتم قدمتم العذاب أو الصلي لنا، وأوقعتمونا فيه، بتقديم ما يؤدي إليه من العقائد الزائغة، والأعمال السيئة، وتزيينها في أعيننا، وإغرائنا عليها، لا أنا باشرنا من تلقاء أنفسنا، وذلك أن سبب عذاب الأتباع، هو تلك العقائد والأعمال، والرؤساء لم يقدموها، بل الذين قدموها هم الأتباع باختيارهم إياها، واتصافهم بها، والذي قدمه الرؤساء لهم، ما يحملهم عليها من الإغواء والإغراء عليها، وهذا القدر من السببية، كاف لنا ولكم في إسناد تقديم العذاب، أو الصلي إلى الرؤساء. {فَبِئْسَ الْقَرارُ}؛ أي: فبئس المقر جهنم، قصدوا بذمها جناية الرؤساء عليهم. 61 - ثم حكى عن الأتباع أيضًا: أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر، وهو: {قالُوا}؛ أي: الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله، داعين على رؤساء الضلال: {رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا} العذاب أو الصلي {فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[62]

النَّارِ}؛ أي: فزده في النار عذابًا ذا ضعف. والضعف: بأن يزيد عليه مثله. و {مَنْ} يجوز أن تكون شرطية، و {فَزِدْهُ} جوابها، وأن تكون موصولة بمعنى: الذي مرفوعة المحل على الابتداء، والخبر {فَزِدْهُ}. والفاء: زائدة لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و {ضِعْفًا} صفة لـ {عَذابًا} بمعنى: مضاعفًا، {وفِي النَّارِ} ظرف لـ {زده} أو نعت لـ {عَذابًا}. والمعنى: أي قال الأتباع دعاء على الرؤساء: ربنا، آت من قدم لنا هذا العذاب، عذابًا مضاعفًا في النار، للضلال، وعذابًا للإضلال. كما ورد في الحديث: «من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها». ونحو الآية قوله: {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}، وقوله: {وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: العذاب الضعف: هو الحيات، والأفاعي، وذلك المضل آذى روح من أضله في الدنيا، فسلط الله عليه المؤذي في الآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعلى العاقل إصلاح الباطن وتزكيته من الأخلاق الذميمة والوصاف القبيحة، وإصلاح الظاهر وتحليته عن الأقوال الشنيعة، والأعمال الفظيعة، ولا يغتر بالقرناء السوء، فإنهم منقطعون غدًا من كل خلة ومودة، ولا ينفع لأحد إلا القلب السليم، والعلم النافع، والعمل الصالح، اللهم اجعلنا من أهل المحبة والرحبة، ولا تجعلنا من أهل السخط والغضب. 62 - وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا، حكى حديثهم عن أعدائهم فيها، فقال: {وَقالُوا}؛ أي: وقال المشركون بعضهم لبعض، على سبيل التعجب والتحسر، إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: {ما لَنا}؛ أي: ما بالنا وشأننا. و {ما} استفهامية مبتدأ، و {لَنا} خبره، وهو مثل قوله: {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} في أن الاستفهام محمول على التعجب، لا على حقيقته، إذ لا معنى لاستفهام العاقل عن نفسه، والفعل المنفي في قوله: {لا نَرى رِجالًا} حال من ضمير {لَنا}؛ أي: أي شيء ثبت لنا، حال كوننا غير رائين رجالًا {كُنَّا} في الدنيا {نَعُدُّهُمْ} ونظنهم {مِنَ الْأَشْرارِ} والأراذل الذين لا خير فيهم، ولا جدوى،

[63]

جمع شر، وهو الذي يرغب عنه الكل، يعنون: فقراء المسلمين كانوا يسترذلونهم، ويسخرون منهم مثل: صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وخباب، وعمار - رضي الله عنهم - وغيرهم من صعاليك المهاجرين، الذين كانوا يقولون لهم: {أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا}، سموهم أشرار، إما بمعنى الأراذل والسفلة الذين لا خير فيهم، ولا جدوى، كما يقال: هذا من شر المتاع، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريدون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول أبو جهل وأضرابه: أين بلال، أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس، وا عجبا لأبي جهل، مسكين أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال: وَنُوْرًا أَضَاءَ الأَرْضَ شَرْقًا وَمَغْرِبًا ... وَمَوْضِعُ رِجْلِيْ مِنْهُ أَسْوَدُ مُظْلِمُ 63 - ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم، فقالوا: {أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} بقطع (¬1) الهمزة على أنها استفهام، والأصل: أاتخذناهم، حذفت همزة الوصل، للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام. و {سِخْرِيًّا} بضم السين وكسرها مصدر سخره، زيد فيه ياء النسبة للمبالغة؛ لأن في ياء النسبة زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص. قالوه إنكارا على أنفسهم، ولوما لها في الاستسخار منهم. فمعنى الاستفهام: الإنكار، والتوبيخ، والتعنيف، واللوم؛ أي: ألأجل أنا قد اتخذناهم في الدنيا سخريا، ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار. {أَمْ} هم معنا في النار، ولكن {زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ} ومالت، ولم تقع عليهم أبصارنا. و {أم} متصلة معادلة {لاتخذناهم}، وفي هذا إنكار على أنفسهم، وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا. والخلاصة (¬2): أن الكفار حين دخلوا النار، ونظروا في جوانبها، ولم يروا المؤمنين، الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا تناجوا، وقالوا: ما بالنا؟ لا نرى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[64]

الذين كنا نتخذهم في الدنيا سخريًا، ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا، ولم ترهم. وقرأ النحويان (¬1) - أبو عمرو والكسائي - وحمزة {أَتَّخَذْناهُمْ} وصلًا. فقال أبو حاتم، والزمخشري، وابن عطية: صفة لـ {رِجالًا}. قال الزمخشري: مثل قوله: {نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ}. وقال ابن الأنباري: حال؛ أي: وقد اتخذناهم. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، الحسن، وقتادة، وباقي السبعة: بهمزة الاستفهام، لتقرير أنفسهم على هذا، على جهة التوبيخ لها، والأسف؛ أي: اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك، وقرأ عبد الله، وأصحابه، ومجاهد، والضحاك، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي: {سخريا} بضم السين ومعناها، من السخرة والاستخدام. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى، وابن محيصن، وباقي السبعة بكسر السين، ومعناها المشهور من السخر، وهو الهزء. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخير. 64 - ثم بيّن أن هذا التناجي، سيكون يوم القيامة، وأنه حق لا مرية فيه، فقال: {إِنَّ ذلِكَ} المذكور الذي حدثناك عنه، أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضًا {لَحَقٌّ}؛ أي: لواقع ثابت في الدار الآخرة، لا يتخلف البتة. هو {تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لذلك، وقيل: بيان لحق، وقيل: بدل منه، وقيل: بدل من محل {ذلِكَ}، ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور، برفع {تَخاصُمُ}. والمعنى: أن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق، لا بد أن يتكلموا به، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للاتباع، وما قالته الأتباع لهم. وقرأ الجمهور: {تَخاصُمُ} بالرفع مضافًا إلى {أَهْلِ}. وقرأ ابن أبي عبلة، {تخاصمَ أهل} بنصب الميم وجر {أَهْلِ} على أنه بدل من {ذلِكَ} أو بإضمار أعني، وقرأ ابن السميقع {تَخَاصَم} فعلًا ماضيًا، {أَهْلِ}: فاعل، فتكون جملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[65]

مستأنفة، وسمى الله تعالى، تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار، وأتباعهم تخاصمًا؛ لأن قولهم: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ}، وقول الأتباع: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} هو من باب الخصومة، فسمي التفاوض كله تخاصمًا، لاستعماله عليه. 65 - {قُلْ} يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لمشركي مكة: {إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ}؛ أي: مخوف بعذاب الله تعالى لمن عصى. أنذركم، وأحذركم عذابه على كفركم ومعاصيكم، وقل أيضًا: {وَما مِنْ إِلهٍ} في الوجود موجود {إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ} الذي لا يقبل الشركة، والكثرة؛ أي: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا ملجأ، ولا مفر إلا إليه، يعني: من عرف أنه الواحد، أفرد قلبه له، فكان واحدًا به، وقد فسر قوله عليه السلام: «إن الله وتر يحب الوتر» يعني: القلب المنفرد له. ومن خاصية هذا الاسم: أن من قرأه ألف مرة، خرج الخلائق من قلبه. وما أحسن قول بعضهم: إِذَا كَانَ مَا تَهْوَاهُ فِيْ الْحُسْنِ وَاحِدًا ... فَكُنْ وَاحِدًا فِي الْحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَهْوَاهُ {الْقَهَّارُ} لكل شيء سواه، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف تكون له شركاء، وأيضًا يقهر العباد بذنوبهم، ومعاصيهم. وقال بعضهم: القهار الذي له الغلبة التامة، على ظاهر كل أمر وباطنه، ومن عرف قهره لعباده، نسي مراد نفسه لمراده، فكان له، وبه، لا لأحد سواه، وخاصية هذا الاسم إذهاب الدنيا، وعظمة ما سوى الله تعالى عن القلب، ومن أكثر ذكره، ظهرت له آثار القهر على عدوه. 66 - {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا} من المخلوقات؛ أي: مالك جميع العوالم، فكيف يتوهم أن يكون له شريك؟ {الْعَزِيزُ} الذي لا يغالبه مغالب في أمر من أموره، وأيضًا العزيز بالانتقام من المجرمين، فالعزة لله تعالى، وبه التعزز أيضًا. قال الشيخ أبو العباس المرسي - رحمه الله -: والله ما رأيت العز، إلا في رفع الهمة عن المخلوقين، وخاصية هذا الاسم: أن من ذكره أربعين يوما، في كل يوم أربعين مرة .. أعانه الله، وأعزه، فلم يحوجه لأحد من خلقه. {الْغَفَّارُ}؛ أي: المبالغ في المغفرة، والستر، والمحو، لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، قال بعضهم: الغفار: كثير المغفرة لعباده، والمغفرة: الستر على الذنوب، وعدم

[67]

المؤاخذة بها، وما جاء على فعال، فمشعر بترداد الفعل، وخاصية هذا الاسم: وجود المغفرة، فمن ذكره إثر صلاة الجمعة مئة مرة، ظهرت له آثار المغفرة. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب». وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تضوّر من الليل، قال: «لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما، العزيز الغفار». ومعنى تضوّر: تلوّى إذا قام من النوم. ومعنى قوله: {قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ}؛ أي: قل (¬1) أيها الرسول لمشركي مكة: إنما أنا نذير، مرسل من ربي، لأحذركم مخالفة أوامره، حتى لا يحل بكم من العقاب، مثل ما حل بالأمم قبلكم، كعاد، وثمود، ولست بالساحر، ولا بالكذاب ولا بالمسيطر الجبار، على نحو ما جاء في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}، وقوله: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ}، وبعد أن ذكر وظيفة الرسول، ذكر ما يبلّغه للناس، فقال: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ} إلخ؛ أي: إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شيء، وغلبه بعزته وجبروته، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده، إذا تاب جلّت أو حقرت. 67 - ثم توعدهم على مخالفته، وترك العمل به، وأمر رسوله أن يجلي لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيهم، ويتوبوا إلى رشدهم، فقال: {قُلْ} يا محمد لمشركي مكة {هُوَ}؛ أي (¬2): هذا القرآن، وما أنبئكم به من أمر التوحيد، والنبوة، وأخبار القيامة، والحشر، والجنة، والنار، وغيرها. {نَبَأٌ عَظِيمٌ} وشأن عظيم؛ لأنه كلام الرب القديم، وارد من جانبه الكريم، يدل على صدقي في دعوى النبوة، والنبأ: كل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى، ولا يستعمل إلا في خبر، ذي فائدة عظيمة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[68]

وقال أبو حيان (¬1): الضمير في قوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ} يعود على ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كونه رسولًا منذرًا، داعيًا إلى الله تعالى، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية، المتصف بتلك الأوصاف، من الوحدانية، والقهر، وملك العالم، وعزته، وغفرانه، وهو خبر عظيم، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. وقال ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن الكريم، وقال الحسن: يوم القيامة، وقيل: قصص آدم، والإنباء به من غير سماع من أحد، وقال صاحب التحرير: سياق الآية وظاهرها: أنه يريد بقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)} ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار، ومقاولة الأتباع مع الرؤساء؛ لأنه من أحوال البعث، وكانت قريش تنكر البعث، والحساب، والعقاب، وهم عن ذلك معرضون. 68 - وجملة قوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} لا تتفكرون فيه، وتعدونه كذبًا لغاية ضلالتكم وغاية جهالتكم، فلذا لا تؤمنون به مع عظمته، وكونه موجبًا للإقبال الكلي عليه، وتلقيه بحسن القبول، فالتصديق فيه نجاة، والكذب فيه هلكة، توبيخ لهم، وتقريع لكونهم أعرضوا عنه. والمعنى (¬2): أي قل لهم يا محمد: إن ما أنبأتكم به، من كوني رسولًا منذرًا، ومن أن الله واحد لا شريك له، خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال، لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة، وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علّهم يرجعون عن غيهم. 69 - ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته، فقال: {مَا كَانَ لِي} قرأ حفص عن عاصم بفتح الياء، والباقون بإسكانها. وهو كلام مستأنف، مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم؛ أي: ما كان لي فيما سبق {مِنْ عِلْمٍ}؛ أي (¬3): علم ما بوجه من الوجوه، على ما يفيده حرف الاستغراق {بِالْمَلَإِ الْأَعْلى}؛ أي: بحال الملأ الأعلى، وهم الملائكة، وآدم عليهم السلام، وإبليس عليه اللعنة، سموا بالملأ الأعلى؛ لأنهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[70]

كانوا في السماء وقت التقاول {إِذْ يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: بحالهم وقت اختصامهم، ورجوع بعضهم إلى بعض، في الكلام في شأن آدم، فإن إخباره عن تقاول الملائكة، وما جرى بينهم من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} حين قال الله لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي؛ أي: فلو لم يكن لي نبوة، ما أخبرتكم عن اختصامهم. و {إِذْ} متعلق بالحال المحذوف، الذي يقتضيه المقام. إذ المراد: نفي علمه بحالهم لا بذواتهم، والحال يشمل الأقوال الجارية فيما بينهم، والأفعال أيضًا، من سجود الملائكة، واستكبار إبليس وكفره، وقيل (¬1): إن الضمير في {يَخْتَصِمُونَ} عائد إلى قريش. يعني: قول من قال منهم: الملائكة بنات الله، والمعنى: ما كان لي علم بالملائكة، إذ تختصم فيهم قريش. والأول أولى. والخلاصة: أي ولولا الوحي، ما كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى، يعني في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. 70 - ثم أكد نبوته بقوله: {إِنْ يُوحى إِلَيَّ}؛ أي: ما يوحى إلى من حال الملأ الأعلى، وغيره من الأمور المغيبة {إِلَّا أَنَّما} بفتح الهمزة، على تقدير لام التعليل؛ أي: إلا لأنما {أَنَا نَذِيرٌ}؛ أي: نبي منذر من العذاب، من جهته تعالى {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر النذارة، والنبوة بالدلائل الواضحة، عبر عن النبي بالنذير؛ لأنه صفته، وخصص النذير مع أنه بشير أيضًا؛ لأن المقام يقتضي ذلك، وجملة قوله: {إِنْ يُوحى إِلَيَّ} إلخ، معترضة بين اختصامهم المجمل، وبين تفضيله بقوله: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ}، قال الفراء، المعنى: ما يوحى إلى إلا أنني نذير مبين، أبيّن لكم ما تأتون من الفرائض، والسنن، وما تدعون من الحرام والمعصية. وقرأ الجمهور (¬2): بفتح همزة {أَنَّما} على أنها وما في حيزها في محل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[71]

رفع، لقيامها مقام الفاعل؛ أي: ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيرًا مبينًا، أو في محل نصب، أو جر بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور، وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة، لأن في الوحي معنى القول، وهي القائمة مقام الفاعل، على سبيل الحكاية، كأنه قيل: ما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين. 71 - ولما ذكر سبحانه، خصومة الملائكة، إجمالًا فيما تقدم ذكرها هنا، تفصيلًا فقال: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} {إِذْ}: هي بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة، وقيل: هي منصوبة بإضمار {اذكر}، والأول أولى، إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يُستخلف في الأرض. وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره، فالثاني أولى. فإن قلت (¬1): كيف يجوز أن يقال: إن الملائكة اختصموا بهذا القول، والمخاصمة مع الله تعالى كفر؟. قلت: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة، والمشابهة تجوز إطلاق اسم المشبه به على المشبه، فحسن إطلاق المخاصمة على المقاولة الواقعة هناك. فإن قلت: إن الاختصام المذكور سابقًا، مسند إلى الملأ الأعلى، وواقع فيما بينهم، وما وقع في جملة البدل هو التقاول الواقع بين الله تعالى، وبينهم، لأنه تعالى، هو الذي قال لهم وقالوا له، فكيف تجعل هذه الجملة بدلا من قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} مبينًا ومشتملًا له؟. قلت: حيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك، صح إسناد الاختصام إلى الله تعالى، لكونه سببًا آمرًا. وقد سبق المراد بالملائكة في سورة الحجر، فارجع. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[72]

{إِنِّي خالِقٌ} فيما سيأتي من الزمن {بَشَرًا}؛ أي: إنسانًا بادي البشر؛ أي: ظاهر الجلد، ليس على جلده صوف ولا شعر، ولا وبر، ولا ريش، ولا قشر، فإن قيل (¬1): كيف صح أن يقول لهم: إني خالق بشرا، وما عرفوا البشر، ولا عهدوا به قبل؟. أجيب: بأنه يمكن أنه يكون قال لهم: إني خالق خلقًا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم، اهـ «خطيب». {مِنْ طِينٍ}؛ أي: من تراب مبلول. متعلق بمحذوف، هو صفة لـ {بَشَرًا}، أو بخالق 72 - {فَإِذا سَوَّيْتُهُ}؛ أي: صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية، أو سوّيت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه، كما في الجنين الذي أتى عليه أربعة أشهر. فلا بد لنفخ الروح من هذه التسوية البتة. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}؛ أي: من الروح الذي أملكه، ولا يملكه غيري. وقيل: هو تمثيل لإضافة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها؛ لأن النفخ: إجراء الريح إلى تجويف جسم صلح لإمساكها والامتلاء بها، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، والمعنى حينئذ: فإذا أكملت استعداده، وأفضت عليه، ما يحيى به من الروح التي هي من أمري، وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته، أو على سبيل التعظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، كما في بيت الله، وناقة الله .. {فَقَعُوا}؛ أي: فاسقطوا {لَهُ}؛ أي: لذلك البشر؛ أي: لتكريمه أمر من وقع، يقع حال كونكم {ساجِدِينَ} لاستحقاقه الخلافة، وهذا السجود من باب التحية والتكريم، فإنه لا يجوز السجود لغير الله تعالى، على وجه العبادة، لا في هذه الأمة، ولا في الأمم السابقة، وإنما شاع بطريق التحية للمتقدمين. ثم أبطله الإسلام، وفيه دليل على أن المأمور به، ليس مجرد انحناء كما قيل، وكذا في قوله: {ساجِدِينَ} فإن حقيقة السجود: وضع الجبهة على الأرض. وقال بعضهم: نفخ الروح عندي، عبارة عن إظهارها في محلها، وعبر عنه بالنفخ؛ لأن البدن بعد ظهور الروح فيه، يكون كالمنفوخ المرتفع الممتلىء، ألا ¬

_ (¬1) خطيب.

[73]

ترى إلى أن الميت يبقى بعد مفارقة الروح كالخشب اليابس، ثم في إضافة الروح، إشارة إلى تقديم روح آدم على أرواح الملائكة وغيرها؛ لأن المضاف إلى القديم قديم، وإن كان جسد بعض الأشياء متقدمًا على جسده. 73 - قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} في الكلام حذف، تدل عليه الفاء، والتقدير: فخلقه فسواه، فنفخ فيه الروح، فسجد الملائكة {كُلُّهُمْ} بحيث لم يبق منهم أحد، إلا سجد {أَجْمَعُونَ} بطريق المعية، بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد. فالأول: لقصد الإحاطة، والثاني: لقصد الاجتماع، قال في «الكشاف»: فإفادا معًا، أنهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد، غير متفرقين في أوقات، وقيل: إنه أكد بتأكيدين، للمبالغة في التعميم. 74 - {إِلَّا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد، والاستثناء متصل؛ لأنه كان من الملائكة فعلًا، ومن الجن نوعًا، ولذلك تناوله أمرهم، وكان اسم إبليس قبل أن يبلس من رحمة الله تعالى، عزازيل والحارث، وكنيته: أبو كردوس وأبو مرة، كأنه سئل كيف ترك السجود، هل كان ذلك للتروي والتأمل، أو غير ذلك؟ فقيل: {اسْتَكْبَرَ} وتعظم عن السجود لآدم. وسببه أنه كان أعور، فما رأى آثار أنوار التجلي على آدم عليه السلام. وقيل: الاستثناء منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم؛ أي: لكن إبليس {اسْتَكْبَرَ} وأنف من السجود جهلًا منه، بأنه طاعة لله تعالى {وَ} كان استكباره استكبار كفر، فلذلك {كانَ مِنَ الْكافِرِينَ}؛ أي (¬1): صار منهم بمخالفته لأمر الله، واستكباره عن طاعته، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، أزلا بالذات، وفي الخارج أبدًا باستقباح أمر الله. ولذا كانت شقاوته ذاتية لا عارضية، وسعادته في البين عارضية لا ذاتية، فالعبرة لما هو بالذات، وذلك لا يزول لا لما هو بالعرض، إذ ذاك يزول. أي (¬2): صار من الكافرين، بإبائه عن أمر الله، بعد أن كان مسلمًا عابدًا لله سبحانه مع الملائكة، نحو ثمانين ألف سنة، وطاف بالبيت أربعة عشر ألف عام، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[75]

على ما قيل، اهـ شيخنا. 75 - {قَالَ} الله تعالى لإبليس مشافهة، حين امتنع من السجود: {يا إِبْلِيسُ}؛ أي: يا خبيث، وهذه مشافهة لا تدل على إكرام إبليس، إذ يخاطب السيد عبده بطريق الغضب، وتمامه في سورة الحجر. {ما} استفهامية؛ أي: أي شيء {مَنَعَكَ} من {أَنْ تَسْجُدَ}؛ أي: أي شيء دعاك إلى ترك السجود {لِمَا}؛ أي: لمن {خَلَقْتُ} وأوجدت {بِيَدَيَّ}؛ أي خصصته بخلقي إياه بيدي كرامة له؛ أي: خلقته بذاتي، من غير توسط أب وأم، فذكر اليد لنفي توهم التجوز؛ أي: لتحقيق إضافة خلقه إليه تعالى، والتثنية في اليد، لما في خلقه من مزيد القدرة، واختلاف الفعل، فإن طينته خمّرت أربعين صباحا، وكان خلقه مخالفًا لسائر أبناء جنسه، المتكونة من نطفة الأبوين، أو من نطفة الأم مميزًا عنهم، ببديع صنعه تعالى. {أَسْتَكْبَرْتَ}؛ أي: أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق التكبر، بقطع الألف، أصله: أاستكبرت، أدخلت همزة الاستفهام للتوبيخ، والإنكار على همزة الوصل، فحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، وبقيت همزة الاستفهام مفتوحة. {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ}؛ أي: من المستحقين للتفوق والعلو، ويحتمل أن يكون المراد بالعالين: الملائكة المهيّمين، الذين ما أمروا بالسجود لآدم، لاستغراقهم في شهود الحق، وهم الأرواح المجردة. والمعنى (¬1): أتركت السجود لاستكبارك الحادث، أم لاستكبارك القديم المستمر؟. لكن جواب إبليس بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لا يطابقه؛ لأنه أجاب: بأنه إنما ترك السجود، لكونه خيرًا منه، وعاليا بالنسبة إليه، وبيّن ذلك بأن أصله من النار، وأصل آدم من الطين، والنار أشرف من الطين؛ لأن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك، والأرض أبعدها منه، وأيضا النار لطيفة نورانية، والأرض كثيفة ظلمانية، واللطافة والنورانية خير من الكثافة والظلمانية، اهـ «زاده». ¬

_ (¬1) زادة.

[76]

وقرأ الجحدري {لما خلقت} بفتح اللام وتشديد الميم، على أنها ظرف بمعنى: حين، كما قال أبو علي الفارسي، وقرأ: {بيدي} على الإفراد. وقرأ الجمهور (¬1): {بِيَدَيَّ} على التثنية، وقرأ {بيدى} كقراءة {بِمُصْرِخِيَّ}، وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا}. وقرأ الجمهور: {أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الاستفهام، فأم متصلة عادلت الهمزة، والاستفهام للتوبيخ والتقريع، وقرأ ابن كثير في رواية عنه، وأهل مكة بألف وصل، ويجوز أن يكون الاستفهام مرادًا، فيوافق القراءة الأولى. كما في قول الشاعر: تَرُوْحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ وقول الآخر: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِيَا ويحتمل أن يكون إخبارًا محضًا، من غير إرادة للاستفهام، فتكون {أَمْ} منقطعة. والمعنى: استكبرت عن السجود الذي أمرت به، بل أ {كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ}. 76 - وجملة قوله: {قالَ} إبليس إبداء للمانع: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}؛ أي: أفضل من آدم، مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، وفي ضمن كلامه هذا: أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن؛ أي: ولو كنت مساويًا له في الشرف، لكان يقبح أن أسجد له، فكيف وأنا خير منه؟. ثم بيّن وجه الخيرية منه بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ} نسب خلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، إذ الشيطان مخلوق من نار وهواء. {وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} نسب خلقه إلى الطين، باعتبار الجزء الغالب أيضًا، إذ آدم مخلوق من العناصر الأربعة. والمعنى (¬2): لو كان آدم مخلوقًا من نار، لما سجدت له؛ لأنه مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؟؛ لأنه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله، فلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

يحسن أن يسجد الفاضل للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر، ظن أن ذلك شرف له، ولم يعلم أن الشرف يكتسب بطاعة الله تعالى، ولقد أخطأ اللعين، حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وزل عما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، وما من جهة الصورة، كما نبه عليه قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. وما من جهة الغاية، وهو ملاك الأمر، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ}، ولذلك أمر الملائكة بسجوده، حين ظهر لهم، أنه أعلم منهم، بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره. ومراده: أن النار أقرب إلى الأشرف الذي هو الفلك. وهي خليفة الشمس والقمر في الإضاءة والحرارة، وهي ألطف من الأرض، وهي مشرقة، وهي شبيه الروح، وأشرف الأعضاء القلب والروح، وهما على طبيعة النار، وكل جسم أشبه النار، كالذهب والياقوت فهو أشرف، والشمس أشرف الأجسام، وهي تشبه النار في الطبع والصورة، وأيضًا لم يتم المزاج إلا بالحرارة، ومآل كل هذه إلى أن أصله خير فهو خير. وهذا ممنوع، ولذا قال من قال: أَتَفْخَرَ بِاتِّصَالِكَ مِنْ عَلِيٍّ ... وَأَصْلُ الْبَوْلَةِ الْمَاءِ الْقَرَاحُ وَلَيْسَ بِنَافِعٍ نَسَبٌ زَكِيٌّ ... تُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ الْقِبَاحُ فيجوز أن يكون أصل أحد الشيئين أفضل، وينضم إليه ما يقتضي مرجوحيته، كما في إبليس، فإنه قد انضم إلى أصله عوارض رديئة، كالكبر والحسد والعجب والعصيان، فاقتضت اللعنة عليه، وأمر آدم عليه السلام بالعكس. وقال في «آكام المرجان»: اعلم أن هذه الشبهة التي ذكرها إبليس، إنما ذكرها على سبيل التعنت، وإلا فامتناعه عن السجود لآدم، إنما كان عن كبر وكفر، ومجرد إباء وحسد، ومع ذلك فما أبداه من الشبهة فهو داحض؛ أي: باطل؛ لأنه رتب على ذلك، أنه خير من آدم، لكونه خلق من نار، وآدم خلق من طين، ورتب على هذا، أنه لا يحسن منه الخضوع، لمن هو دونه، وهذا باطل من وجوه:

الأول: أن النار طبعها الفساد، وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب، فإنه إذا وضع القوت فيه، أخرجه أضعاف ما وضع فيه، بخلاف النار، فإنها آكلة لا تبقي ولا تذر. والثاني: أن النار طبعها الخفة، والطيش، والحدة، والتراب طبعه الرزانة، والسكون، والثبات. والثالث: أن التراب يكون فيه، ومنه أرزاق الحيوانات وأقواتهم، ولباس العباد وزينتهم، وآلات معايشهم ومساكنهم، والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك. والرابع: أن التراب ضروري للحيوان، لا يستغني عنه البتة، ولا عما يتكون فيه ومنه، والنار يستغني عنها الحيوان مطلقًا، وقد يستغني عنها الإنسان أيامًا وشهورًا، فلا تدعوه إليها ضرورة. الخامس: أن النار لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، يكون حاملًا، والتراب لا يفتقر إلى حامل، فالتراب أكمل منها، لغناه وافتقارها. والسادس: أن النار مفتقرة إلى التراب، وليس بالتراب فقر إليها، فإن المحل الذي تقوم به النار، لا يكون إلا متكونا من التراب أو فيه، فهي المفتقرة إلى التراب، وهو الغني عنها. والسابع: أن المادة الإبليسية هي المارج من النار، وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية، فيميل معها كيفما مالت، ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأسره وقهره، ولما كانت المادة الآدمية هي التراب، وهو قوي لا يذهب مع الهواء أينما ذهب، فهو قهر هواه، وأسره، ورجع إلى ربه فاجتباه، فكان الهواء الذي مع المادة الآدمية عارضا سريع الزوال، فزال، فكان الثبات والرزانة أصلًا له، فعاد إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فعاد كل منهما إلى أصله وعنصره، آدم إلى أصله الطيب الشريف، واللعين إلى أصله الرديء الخبيث. والثامن: أن النار وإن حصل بها بعض المنفعة من الطبخ والتسخين والاستضاءة بها، فالشر كامن فيها لا يصدها عنه، إلا قسرها وحبسها، ولولا

[77]

القاصر والحابس لها، لأفسدت الحرث والنسل، وأما التراب، فالخير والبركة كامن فيه، كلما أثير وقُلب ظهر خيره وبركته وثمرته. فأين أحدهما من الآخر، إلى آخر ما ذكره من الوجوه الكثيرة، التي تُدخض شبهه. 77 - {قالَ} الله سبحانه وتعالى، بقهره وعزته {فَاخْرُجْ} الفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا خالفت أمري وأبيت من السجود لآدم، وأردت بيان ما هو الجزاء لك .. فأقول لك: اخرج يا إبليس {مِنْها}؛ أي: من (¬1) الجنة، وقيل: من السماء، وقيل: من زمرة الملائكة، وهو المراد بالأمر بالهبوط، لا الهبوط من السماء، كما قال البيضاوي، فإن وسوسته لآدم، كانت بعد هذا الطرد، قال بعضهم: عظم جناية إبليس يقتضي هبوطه من السماء إلى الأرض، لا التوقف فيها إلى زمان الوسوسة. وأما أمر الوسوسة، فيجوز أن يكون بطريق الصعود إلى السماء؛ ابتلاء من الله تعالى، ودخوله الجنة، وهو في السماء، ليس بأهون من دخوله وهو في الأرض، إذ هو ممنوع من الدخول مطلقا، سواء كان في الأرض أو في السماء، إلا بطريق الامتحان. وفي «الكرخي»: وقيل: اخرج (¬2) من الخلقة التي كنت عليها أولًا، وانسلخ منها؛ لأنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسنًا، وأظلم بعدما كان نورانيًا، وفي «تحفة العارفين» ما نصه: وكان إبليس رئيسًا على اثني عشر ألف ملك، وكان له جناحان من زمرد أخضر، فلما طرد غيرت صورته، وجعله الله منكوسًا على مثال الخنازير: ووجهه كالقردة، وهو شيخ أعور كوسج، وفي لحيته سبع شعرات، مثل شعر الفرس، وعيناه مشقوقتان في طول وجهه، وأنيابه خارجة كأنياب الخنازير، ورأسه كرأس البعير، وصدره كسنام الجمل الكبير، وشفتاه كشفتي الثور، ومنخاراه مفتوحتان مثل: كوز الحجام، اهـ. ولكنها من الإسرائيليات التي لا أصل لها، وإنما نقلناها، لأنه أحق بهذه الصفات القبيحة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[78]

وقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليل للأمر بالخروج؛ أي: مطرود عن كل خير وكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجارة، إهانة له، أو شيطان يرجم بالشهب السماوية، أو الأثيرية. وإلى الثاني ذهب بعض أهل الحقائق. فإن قلت (¬1): إذا كان الرجم بمعنى الطرد، وكذلك اللعنة، لزم التكرار فما الفرق؟. قلت: الفرق يحصل بحمل الرجم على الطرد من الجنة، أو السماء، وبحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة، فيكون أبلغ، ويحصل الفرق، ويزول التكرار، اهـ «خازن». 78 - {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي}؛ أي: إبعادي عن الرحمة، فإن اللعن: طرد، أو إبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره. وتقييدها (¬2) بالإضافة مع إطلاقها في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة، والثقلين أيضًا من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله، وإبعاده من الرحمة، قال بعضهم: اللعنة المطلقة أيضًا هي لعنة الله تعالى؛ لأن اللام عوض عن المضاف إليه، فمآل الآيتين واحد. ويجوز أن يكون المعنى: وإن عليك لعنتي على ألسنة عبادي يلعنونك {إِلى يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي: إلى يوم الجزاء والعقوبة. قال زكريا (¬3): قال سبحانه في سورة الحجر: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} بتعريف الجنس، ليناسب ما قبله من التعبير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ}، وقال هنا: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} بالإضافة ليناسب ما قبله من قوله: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، انتهى. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) متشابه القرآن.

[79]

فإن قلت (¬1): كلمة {إِلى} لانتهاء الغاية، فتقتضي انقضاء اللعنة، عنه، عند مجيء يوم الدين، مع أنها لا تنقطع؟. قلت: معناه: أن اللعنة باقية عليه في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، زيد له على اللعنة من العذاب، بحيث تنسى اللعنة بذلك، فكأنها انقطعت عنده. قال بعضهم: ولا يلزم (¬2) من هذا التوقيت، انقطاع اللعنة عنه في الآخرة، إذ من كان ملعونًا مدة الدنيا، ولم يشم رائحة الرحمة في وقتها، كان ملعونًا أبديًا في الآخرة، ولم يجد أثر الرحمة فيها، لكونها ليست وقت الرحمة للكافر، وقد علم خلوده في النار بالنص، وكذا اللعنة، كما قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} مع ما ينضم إليه من عذاب آخر، ينسى عنده اللعنة، والعياذ بالله تعالى. 79 - وجملة قوله: {قَالَ} إبليس اللعين: {رَبِّ}؛ أي: يا ربي إلخ، مستأنفة كما تقدم فيما قبلها، والفاء في قوله: {فَأَنْظِرْنِي}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا، مطرودًا عن رحمتك، وأردت بيان سؤلي منك .. فأقول لك: يا ربي أمهلني ولا تمتني {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورهم للجزاء، وهو يوم القيامة، يعني: آدم وذريته؛ أي: إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور، للجزاء بعد فنائهم، وأراد بدعائه أن يجد فسحة لإغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية، إذ لا موت بعد يوم البعث، فلم يجب، ولم يوصل إلى مراده. 80 - {قالَ} الله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}؛ أي: من جملة الذين أخرت آجالهم أزلًا، بحسب الحكمة كالملائكة ونحوهم. والفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سألتني الإنظار، وأردت بيان ما أنظرته لك .. فأقول لك: إنك من الممهلين 81 - {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)} عندي، لا عند غيري؛ أي: إلى اليوم (¬3) الذي قدرته، وعينته لفناء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[82]

الخلائق، وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث، الذي هو المسؤول له، قال في «آكام المرجان»: ظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار، وأما ولده وقبيله، فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه، وقال بعضهم: الشياطين يتوالدون ولا يموتون إلى وقت النفخة الأولى، بخلاف الجن، يتوالدون ويموتون، ويحتمل أن بعض الجن أيضًا، منظرون، كما أن بعض الإنس منظرون، كالخضر عليه السلام، وفيه: أن الظاهر: أن يموت الخضر وأمثاله حين يموت المؤمنون، ولا يبقى منهم أحد. وذلك قبل الساعة بكثير من الزمان. ثم إن قوله تعالى: {فَإِنَّكَ} إلخ، إخبار من الله تعالى، بالإنظار المقدر أزلًا، لا إنشاء، لإنظار خاص به قد وقع إجابةً لدعائه، وكان استنظاره طلبًا لتأخير الموت، لا لتأخير العقوبة. هكذا في «الإرشاد». وقال بعضهم: ولا شك أن الله تعالى، استجاب دعاء إبليس، ليكون طول بقائه في الدنيا، أجرا له في مقابلة طول عبادته قبل لعنه، ودعاء الكافر مستجاب في أمور الدنيا، فلا مانع أن يكون إنظاره بطريق الإنشاء، يدل عليه ترتيبه على دعائه الحادث. 82 - {قَالَ} إبليس عليه ما يستحق {فَبِعِزَّتِكَ} والباء فيه للقسم؛ أي: فأقسم بعزتك؛ أي: بقهرك وسلطانك، ولا ينافيه قوله تعالى، حكاية عنه: {فَبِما أَغْوَيْتَنِي}؛ لأن إغواءه إياه، أثر من آثار قدره وعزته، وحكم من أحكام قهره وسلطنته. ولهذه النكتة الخفية ورد الحلف هنا بالعزة، مع أن الصفات اللائقة للحلف كثير. وفي «التأويلات النجمية»: ثم إن إبليس لتمام شقاوته قال: {فَبِعِزَّتِكَ} إلخ، ولو عرف عزته، لما أقسم بها على مخالفته، {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنّ ذرية آدم {أَجْمَعِينَ}؛ أي: لأحملنهم على الغي والضلال، ولأكونن سببًا لغوايتهم وضلالهم بتزيين المعاصي لهم، وإدخال الشكوك والشبهات فيهم، 83 - ثم صدق حيث استثنى، فقال: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} بفتح اللام؛ أي: الذين أخلصتهم واصطفيتهم لطاعتك، وعصمتهم من الشيطان، وقرىء بالكسر على صيغة اسم الفاعل؛ أي: الذين أخلصوا أعمالهم وقلوبهم لله تعالى، من غير شائبة الرياء، قال بعضهم: العبد المخلص، هو الذي يكون سره بينه وبين ربه،

[84]

بحيث لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله، ثم لا شك أن من العباد عبادًا، إذ رأى الشيطان أثر سلطنة ولايتهم، وعزة أحوالهم، يذوب كما يذوب الملح في الإناء، ولا يبقى له حيل، ولا يطيق أن يمكر بهم، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته، بل مكره محيط به، لا بأهل الحق، وهكذا حال ورثة الشيطان من المنكرين المفسدين، مع أهل الله تعالى، فإنهم محفوظون عما سوى الله تعالى مطلقًا. 84 - وجملة قوله: {قالَ فَالْحَقُّ} مستأنفة كالجمل التي قبلها؛ أي: قال الله تعالى: {فَالْحَقُّ} إلخ. الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا حلفت بصفتي على إغوائهم، ثم أغويتهم، لتكون بارا في قسمك، وأردت بيان عاقبتك وعاقبتهم .. فأقول لك: الحق، بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فالحق قسمي، على أن الحق اسم من أسماء الله تعالى، كما في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}، أو نقيض الباطل، عظمه الله تعالى بإقسامه به، ويحتمل أن يكون التقدير: فالحق مني، كما قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} {وَالْحَقَّ أَقُولُ} بالنصب على أنه مفعول لأقول، قدم عليه للقصر؛ أي: لا أقول إلا الحق. 85 - وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ}؛ أي: من جنسك من الشيطان، والجملة جواب القسم، وجملة {وَالْحَقَّ أَقُولُ} معترضة بين القسم وجوابه، {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} في الغواية والضلال بسوء اختياره {مِنْهُمْ}؛ أي: من ذرية آدم {أَجْمَعِينَ} تأكيد للكاف وما عطف عليه؛ أي: لأملأنها من المتبوعين والأتباع أجمعين، لا أترك أحدًا منهم. وفي «التأويلات النجمية»: ولما كان تجاسره في مخاطبته الحق، حيث أصر على الخلاف، وأقسم عليه أقبح وأولى في استحقاق اللعنة، من امتناعه السجود لآدم، قال فالحق إلخ، انتهى. فعلى العاقل أن يتأدب بالآداب الحسنة، قولًا وفعلًا، ولا يتجاسر على الله تعالى أصلًا، ولا يتبع خطوات الشيطان، حتى لا يرد معه النار. وقرأ الجمهور: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} بنصبهما، أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقولهم: أمانة الله لأقومن، والمقسم عليه {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} {وَالْحَقَ

[86]

أَقُولُ} اعتراض بين القسم وجوابه، أو هما منصوبان على الإغراء؛ أي: إلزموا الحق، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء، والخبر الجملة المذكورة بعده، والرابط محذوف، وقرأ ابن السميقع، وطلحة بن مصرف، والحسن، وعيسى، وعبد الرحمن ابن أبي حماد، عن أبي بكر بجرهما. ويخرّج على أن الأول، مجرور بواو القسم، محذوفة، تقديره: فوالحق، و {الْحَقَّ} معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن {أَقُولُ} اعتراض بين القسم وجوابه، وقرأ مجاهد، والأعمش بخلاف عنهما، وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف وعيسى: برفع الأول، ونصب الثاني. وتقدم إعرابهما. وخلاصة هذه القصة (¬1): أن الله سبحانه، أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام، أنه سيخلق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له، متى فرغ من خلقه، وتسويته إجلالًا وإعظامًا له. فامتثل الملائكة كلهم ذلك، إلا إبليس، فلم يكن منهم جنسًا، بل كان من الجن، فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له، وخاصم ربه، وادعى أنه خير من آدم؛ لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به، فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة قدسه، مذمومًا مدحورًا، فسأل النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة، تمرد وطغى، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}. فقال تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}. 86 - ثم أمر الله سبحانه رسوله، أن يخبرهم: بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله تعالى، امتثال أمره، لا عرض الدنيا الزائل، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {ما أَسْئَلُكُمْ}؛ أي: ما أطلب منكم {عَلَيْهِ}؛ أي: على ¬

_ (¬1) المراغي.

القرآن الذي أتيتكم به، أو على تبليغ الوحي، وأداء الرسالة، أو على الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي. {مِنْ أَجْرٍ} تعطونيه عليه أو جعل تجعلونه لي من مال دنيوي، ولكن أعلمكم بغير أجر، وذلك لأن من شرط العبودية الخالصة، أن لا يراد عليها الجزاء، ولا الشكور، فمن قطع رأس كافر في دار الحرب، أو أسره وأحضره عند رئيس العسكر، فيُعطي له مالًا، فقد فعله للأجر، لا لله تعالى، وعلى هذه جميع ما يتعلق به الأعراض الفاسدة. {وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}؛ أي (¬1): من المتصنعين بما ليسوا من أهله، على ما عرفتم من حالي حتى أنتحل النبوة؛ أي: أدعيها لنفسي كاذبًا، وأتقول القرآن من تلقاء نفسي، وكل من قال شيئًا من تلقاء نفسه، فقد تكلف له؛ أي (¬2): من الحاملين للمشقة في التشريع على الناس؛ أي: إن هذا الذي أدعوكم إليه، دين لا يحتاج في معرفة صحته، إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد العقل بصحته، فإني أدعوكم: أولًا: إلى الإقرار بوجود الله سبحانه، ثم أدعوكم: ثانيًا: إلى تنزيهه تعالى، عن كل ما لا يليق به، ثم أدعوكم: ثالثًا: إلى الإقرار بكونه تعالى، موصوفًا بكمال العلم، والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم: رابعًا: إلى الإقرار بكونه تعالى، منزهًا عن الشركاء، ثم أدعوكم: خامسًا: إلى الامتناع عن عبادة الأوثان، ثم أدعوكم: سادسًا: إلى تعظيم الملائكة والأنبياء، ثم أدعوكم: سابعًا: إلى الإقرار بالبعث والقيامة، ثم أدعوكم: ثامنًا: إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة. فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[87]

الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة، التي أدعو الخلق إليها، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد، 87 - وهو المراد من قوله تعالى: {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما هذا القرآن، أو الوحي، أو ما أدعوكم إليه {إِلَّا ذِكْرٌ}؛ أي: عظة من الله تعالى، أو شرف وذكر باق {لِلْعالَمِينَ}؛ أي: للثقلين كافة. وعن مسروق قال: دخلنا على ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم، أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله تعالى، لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين»، متفق عليه. وهذا لفظ البخاري. 88 - {وَلَتَعْلَمُنَّ}؛ أي: وعزة الله وجلاله، لتعلمن أيها المشركون {نَبَأَهُ}؛ أي: نبأ هذا القرآن؛ أي: ما أنبأ به من الوعد، والوعيد، وغيرها أو صحة خبره، وأنه الحق والصدق {بَعْدَ حِينٍ}؛ أي: بعد الموت، أو يوم القيامة، حين لا ينفع العلم. وفيه تهديد. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك حين ظهر وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن بن آدم: عند الموت يأتيك الخبر اليقين، فينبغي للمؤمن، أن يكون بحيث لو كشف الحجاب، ما ازداد يقينًا. ومن كلام علي - رضي الله عنه -: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا، وختم السورة بالذكر، كما افتتحها بالذكر. والله الموفق. الإعراب {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)}. {هذا}: {ها} حرف تنبيه. {ذا}: اسم إشارة، يشار به في محل الرفع مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: هذا العذاب المذكور فيما بعد للكفار. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {لِلطَّاغِينَ}: خبر {إِنَّ} مقدم على اسمها، {لَشَرَّ مَآبٍ}: اللام: حرف ابتداء {شر مآب}: اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {هذا}. {جَهَنَّمَ}: بدل من شر مآب، أو عطف بيان

له، {يَصْلَوْنَها}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من جهنم. {فَبِئْسَ الْمِهادُ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن مآبهم جهنم، وأردت بيان ما يقال فيها عند التعجب .. فأقول لك: بئس المهاد. {بئس}: فعل ماض لإنشاء الذم. {الْمِهادُ}: فاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: جهنم. وجملة {بئس} إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)}. {هذا}: مبتدأ، {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} خبراه، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَلْيَذُوقُوهُ}: الفاء: اعتراضية، واللام: لام أمر وجزم مبني على السكون، {يذوقوه}: فعل، وفاعل مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون، والهاء مفعول به. والجملة الفعلية معترضة، لا محل لها من الإعراب، لوقوعها بين المبتدأ والخبر. {وَآخَرُ} معطوف على حميم، {مِنْ شَكْلِهِ}: جار ومجرور صفة لـ {آخَرُ}، و {أَزْواجٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي أزواج، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة للثلاثة، أو أزواج صفة للثلاثة، أعني: حميم وغساق وآخر. {هذا فَوْجٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، مقول لقول محذوف تقديره: ويقال لهم عند دخولهم النار: هذا فوج. {مُقْتَحِمٌ} صفة لـ {فَوْجٌ}، {مَعَكُمْ}: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة ثانية لـ {فَوْجٌ}، أو حال من الضمير في {مُقْتَحِمٌ} أو من {فَوْجٌ}، {لا}: نافية، {مَرْحَبًا}: مفعول لفعل محذوف تقديره: لا أتيتم مرحبًا، أو لا سمعتم مرحبًا، والجملة مستأنفة، مسوقة للدعاء عليهم بضيق المكان، أو حالية من فوج؛ أي: هذا فوج مقتحم معكم، مقولًا لهم: لا مرحبًا بهم. {بِهِمْ} متعلقان بـ {مَرْحَبًا} {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {صالُوا النَّارِ}: خبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {قالُوا}: فعل، وفاعل، والضمير يعود على الأتباع، والجملة مستأنفة، {بَلْ}: حرف

إضراب، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {لا}: نافية، {مَرْحَبًا}: مفعول لفعل محذوف، تقديره: لا أتيتم ولا وجدتم مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف، هو خبر المبتدأ، والتقدير: قالوا بل أنتم مقول فيكم: لا مرحبًا بكم، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {بِكُمْ} متعلقان بـ {مَرْحَبًا} {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {قَدَّمْتُمُوهُ}: فعل ماض، والتاء فاعل، والميم علامة الجمع، والواو حرف زائد لإشباع ضمة الميم، والهاء مفعول به، {لَنا}: جار ومجرور، متعلق بقدم، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالُوا}. {فَبِئْسَ} الفاء: عاطفة أو استئنافية، {بئس القرار}: فعل وفاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فبئس القرار هي؛ أي: النار. وجملة {بئس}: معطوفة على جملة قوله {بَلْ أَنْتُمْ} على كونها مقولًا لـ {قالُوا} أو مستأنفة. {قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}. {قالُوا}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبَّنا}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. مَنْ {:} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {قَدَّمَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، صلة من الموصولة، {لَنا}: جار ومجرور متعلق بـ {قَدَّمَ}، {هذا}: مفعول {قَدَّمَ}، {فَزِدْهُ}: الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في الموصول من رائحة الشرط، {زده}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به. {عَذابًا}: مفعول ثان لـ {زده}، {ضِعْفًا}: صفة لـ {عَذابًا}؛ أي: مضاعفًا {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {زده} أو صفة ثانية لـ {عَذابًا}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {قالُوا} على كونها جواب النداء. {وَقالُوا}: فعل، وفاعل، معطوف على {قالُوا} الأول، والضمير يعود لكفار مكة، كأبي جهل وأضرابه. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {لَنا}: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في

محل النصب مقول {قالُوا}. {لا}: نافية. {نَرى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الكفار. {رِجالًا}: مفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من ضمير المتكلمين في {لَنا}. {كُنَّا}: فعل ماض ناقص واسمه، والجملة صفة لـ {رِجالًا}. {نَعُدُّهُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر. {مِنَ الْأَشْرارِ} متعلق بـ {نَعُدُّهُمْ}، وجملة {نَعُدُّهُمْ}: في محل النصب خبر {كُنَّا}. {أَتَّخَذْناهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول أول لـ {اتخذنا}، والهمزة للاستفهام التوبيخي التعجبي، وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها. {سِخْرِيًّا}: مفعول ثان لـ {اتخذنا}، والجملة في محل النصب مقول {قالُوا}. {أَمْ}: حرف عطف، متصل بقوله: {ما لَنا}. {زاغَتْ}: فعل ماض. {عَنْهُمُ}: متعلق بـ {زاغَتْ}. {الْأَبْصارُ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {ما لَنا}. {إِنَّ ذلِكَ}: ناصب واسمه {لَحَقٌّ}: خبر، واللام حرف ابتداء، {تَخاصُمُ}: بدل من حق، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تخاصم أهل النار، وجملة المبتدأ المحذوف، وخبره مفسرة لاسم الإشارة. {تَخاصُمُ}: مضاف، {أَهْلِ النَّارِ}: مضاف إليه، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {إِنَّما}: أداة حصر. {أَنَا}: مبتدأ. {مُنْذِرٌ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {مِنْ}: زائدة. {إِلهٍ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر. {اللَّهُ}: خبر المبتدأ. {الْواحِدُ الْقَهَّارُ}: صفتان للجلالة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {رَبُّ السَّماواتِ}: نعت للجلالة، أو بدل منه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على السموات. {وَما بَيْنَهُمَا}: معطوف أيضًا على السموات. {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}: صفتان أيضًا لرب السموات. {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}.

{قُلْ}: فعل، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {هُوَ}: مبتدأ، {نَبَأٌ}: خبره، {عَظِيمٌ}: صفة لـ {نَبَأٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {عَنْهُ}: متعلق بما بعده. {مُعْرِضُونَ}: خبر، والجملة الاسمية في محل الرفع، صفة ثانية لـ {نَبَأٌ}. {ما}: نافية، {كَانَ}: فعل ناقص، {لِي}: خبرها مقدم على اسمها. {مِنْ}: زائدة، {عِلْمٍ}: اسمها مؤخر، {بِالْمَلَإِ}: متعلق بـ {عِلْمٍ}، {الْأَعْلى}: صفة لـ {الملأ}، وجملة {كَانَ} مستأنفة على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {إذ}: ظرف لما مضى، متعلق بـ {عِلْمٍ} أيضًا، وجملة {يَخْتَصِمُونَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ} {إِنْ}: نافية، {يُوحى}: فعل مضارع مغير الصيغة، {إِلَيَّ}: متعلق به، {إِلَّا}: أداة حصر. {أَنَّما}: كاف ومكفوف، {أَنَا}: مبتدأ، {نَذِيرٌ}: خبره، {مُبِينٌ}: صفة {نَذِيرٌ}، والجملة الاسمية صلة {إِنْ} المكفوفة، وجملة {إِنْ} في تأويل مصدر، مرفوع على كونه نائب فاعل، لـ {يُوحى}؛ أي: ما يوحى إلى إلا الإنذار، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى، بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أو متعلق بـ {اذكر} محذوفًا، {قالَ رَبُّكَ}: فعل، وفاعل، {لِلْمَلائِكَةِ}، متعلق بـ {قَالَ}، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِنِّي خالِقٌ}: ناصب واسمه وخبره، {بَشَرًا}: مفعول به لـ {خالِقٌ}. {مِنْ طِينٍ}: صفة لـ {بَشَرًا}، أو متعلق بـ {خالِقٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قالَ}. {فَإِذا}: الفاء: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، {سَوَّيْتُهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}: على كونها فعل شرط لها. {وَنَفَخْتُ}: فعل، وفاعل، معطوف على {سويت}، {فِيهِ}: متعلق بـ {نَفَخْتُ}: {مِنْ رُوحِي}: متعلق بـ {نَفَخْتُ}: أيضًا، {فَقَعُوا}: الفاء: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا. {قعوا}: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون. {لَهُ}: متعلق

بـ {ساجِدِينَ}، و {ساجِدِينَ}: حال من فاعل {قعوا}، والجملة الفعلية جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إن} على كونها مقول {قالَ}. {فَسَجَدَ}: الفاء: عاطفة، {سجد الملائكة}: فعل، وفاعل، {كُلُّهُمْ}: توكيد أول للملائكة، {أَجْمَعُونَ}: توكيد ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إذا}. {إِلَّا}: أداة استثناء، {إِبْلِيسَ}: منصوب على الاستثناء المتصل أو المنقطع. {اسْتَكْبَرَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {إِبْلِيسَ}، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان كيفية إبائه من السجود، وجملة {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ}: معطوفة على جملة {استكبر}، {كان}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {إِبْلِيسَ}، {مِنَ الْكافِرِينَ}: خبرها. {قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {يا إِبْلِيسُ}: منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {مَنَعَكَ}: فعل، ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر لما الاستفهامية، أي: أي شيء مانع إياك من السجود، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تَسْجُدَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {لِما} جار ومجرور، متعلق بـ {تَسْجُدَ}، وجملة {تَسْجُدَ} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {تَسْجُدَ}؛ أي: أي شيء منعك السجود. {خَلَقْتُ}: فعل، وفاعل، {بِيَدَيَّ}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة {لِما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: لما خلقته بيدي. {أَسْتَكْبَرْتَ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها. {أَسْتَكْبَرْتَ}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {أَمْ}: عاطفة متصلة، {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه، {مِنَ الْعالِينَ}: خبره، والجملة

معطوفة على جملة {أَسْتَكْبَرْتَ}، {قالَ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على {إِبْلِيسُ}، والجملة مستأنفة. {أَنَا خَيْرٌ}: مبتدأ وخبر، {مِنْهُ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {خَلَقْتَنِي}: فعل، وفاعل، ومفعول به، ونون وقاية، {مِنْ نارٍ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قالَ}: على كونها مفسرة للخيرية. و {خلقناه}: فعل، وفاعل، ومفعول به معطوف على {خَلَقْتَنِي}، {مِنْ طِينٍ}: متعلق بـ {خَلَقْتَهُ}، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَاخْرُجْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا خالفت أمري، وأبيت من السجود لآدم، وأردت بيان ما هو الجزاء لك .. فأقول لك: اخرج. {اخرج}: فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على {إِبْلِيسُ} {مِنْها}: متعلق بـ {اخرج}، والجملة الفعلية مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ {قالَ}. {فَإِنَّكَ}: الفاء: تعليلية، {إنك رجيم}: ناصب واسمه وخبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالَ} على كونها معللة للأمر بالخروج. {وَإِنَّ}: حرف نصب وتوكيد. {عَلَيْكَ}: خبرها مقدم على اسمها، {لَعْنَتِي}: اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ} في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَاخْرُجْ}، أو على جملة قوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}: {إِلى يَوْمِ الدِّينِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من {لَعْنَتِي}؛ أي: حال كونها مستمرة إلى يوم الدين. {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)}. {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة. {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {فَأَنْظِرْنِي} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا مطرودًا عن رحمتك، وأردت بيان سؤلي منك .. فأقول لك: يا رب أنظرني. {أنظرني}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على لله، والنون للوقاية، والياء مفعول به، {إِلى يَوْمِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب

مقول {قالَ}. {يُبْعَثُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو نائب عن الفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذا}، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَإِنَّكَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سألتني الإنظار، وأردت بيان ما أنظرته لك، فأقول لك: إنك من المنظرين. {إنك}: ناصب واسمه. {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول {قالَ}. {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}. {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بالمنظرين، {الْمَعْلُومِ}: صفة لـ {الْوَقْتِ}، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {إبليس}، والجملة مستأنفة. {فَبِعِزَّتِكَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: {إذا} أنظرتني، وأردت ثأري منهم، فأقول لك: بعزتك. الباء: حرف جر وقسم، {عزتك}: مقسم به، مجرور بباء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف جوازًا، تقديره: أقسم بعزتك. {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} اللام: موطئة للقسم. {أغوين}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على {إبليس}، والنون حرف توكيد، والهاء مفعول به، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد للضمير المنصوب، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول {قالَ}. {إِلَّا}: أداة استثناء. {عِبادَكَ}: مستثنى من ضمير الغائبين. {مِنْهُمُ}: حال من عبادك {الْمُخْلَصِينَ}، صفة لـ {عِبادَكَ}، {قالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَالْحَقُّ}: {الفاء}: استئنافية، {الحق}: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: قسمي. والجملة في محل النصب مقول {قالَ}. {وَالْحَقَّ}: مفعول مقدم لـ {أَقُولُ}، {أَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر

يعود على الله، والجملة معترضة بين القسم وجوابه، {لَأَمْلَأَنَّ} اللام: موطئة للقسم. {أملأن} فعل مضارع، مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون للتوكيد، {جَهَنَّمَ}: مفعول به، {مِنْكَ}: متعلق بـ {أملأن}، {وَمِمَّنْ}: معطوف على {مِنْكَ}، وجملة {تَبِعَكَ}: صلة لـ {من} الموصولة، وجملة {أملأن} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول {قالَ}، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور، حال من فاعل {تَبِعَكَ}، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد للضمير في {مِنْهُمْ} أو للكاف في {مِنْكَ} وما عطف عليه. {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {ما}: نافية، {أَسْئَلُكُمْ}: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول {قالَ}، {عَلَيْهِ}: جار ومجرور، حال من أجر؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {مِنْ}: زائدة، {أَجْرٍ}: مفعول ثان لـ {أسأل}. والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَما}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {أَنَا}: مبتدأ. {مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}: خبره أو {ما}: حجازية. {أَنَا}: اسمها، {مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}: خبرها، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {ما أَسْئَلُكُمْ}: على كونها مقولًا لـ {قُلْ} أو في محل النصب حال من فاعل {أَسْئَلُكُمْ}. {إِنْ}: نافية. {هُوَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرّغ. {ذِكْرٌ}: خبر المبتدأ. {لِلْعالَمِينَ}: متعلق بذكر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَتَعْلَمُنَّ}: {الواو}: عاطفة، واللام: موطئة للقسم {تعلمنّ}: فعل مضارع مرفوع؛ لأن نون التوكيد لم تباشره، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة أيضًا، لالتقاء الساكنين، فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة، {نَبَأَهُ}: مفعول به، {بَعْدَ حِينٍ} منصوب على الظرفية ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {تعلمن}؛ لأن علم هنا عرفانية، ويجوز أن تكون على بابها، فيكون المفعول الثاني {بَعْدَ حِينٍ}. والجملة الفعلية جواب القسم، لا

محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {ما أَسْئَلُكُمْ}: على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ}: هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله تعالى، وكذبوا رسله، من الطغيان. قال الراغب: الطغيان: تجاوز الحد في العصيان. {فَبِئْسَ الْمِهادُ} المهاد: كالفراش وزنًا ومعنى. {فَلْيَذُوقُوهُ} والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله في القليل، لكنه يصلح للكثير الذي يقال له: الأكل، وكثر استعماله في العذاب تهكمًا. {حَمِيمٌ}: وهو الماء الذي انتهى حره. {وَغَسَّاقٌ} وهو ما يغسق، ويسيل من صديد أهل النار، من غسقت العين إذا سال دمعها، وفي «القاموس»: الغساق كسحاب وشداد: البارد المنتن. {مِنْ شَكْلِهِ}؛ أي: من مثل المذوق في الشدة والفظاعة. {أَزْواجٌ}؛ أي: أجناس؛ لأنه يجوز أن يكون ضروبًا. {هَذَا فَوْجٌ} الفوج: الجماعة، والقطيع من الناس، وأفاج: أسرع، وعدا، وند. قال الراغب: الفوج: الجماعة المارة المسرعة، وهو مفرد اللفظ، ولذا قيل: مقتحم لا مقتحمون. {مُقْتَحِمٌ} من الاقتحام، وهو الدخول في الشيء بشدة، والقحمة: الشدة. قال في «القاموس»: قحم في الأمر كنصر قحومًا، إذا رمى بنفسه فيه فجأة، بلا روية. {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} مصدر بمعنى الرحب، وهو السعة. و {بِهِمْ}: بيان للمدعو، وانتصابه على أنه مفعول به، لفعل مقدر؛ أي: لا يصادفون رحبًا وسعة، أو لا يأتون رحب عيش، ولا سعة مسكن ولا غيره. وحاصله: لا كرامة لهم، أو على المصدر؛ أي: لا رحبهم عيشهم، ومنزلهم رحبا بل ضاق عليهم، يقول الرجل لمن يدعوه: مرحبًا؛ أي: أتيت رحبًا من البلاد، وأتيت واسعًا وخيرًا كثيرًا. قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا مرحبًا؛ أي: لا رحبت عليك الأرض، ولا اتسعت. {فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} قال الراغب: الضعف من الأسماء المتضاعفة،

التي يقتضي وجود أحدها وجود الآخر: كالضعف، والزوج، وهو تركب قدرين مساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: ضعفت الشيء وضاعفته؛ أي: ضممت إليه مثله فصاعدًا فمعنى {عَذابًا ضِعْفًا}؛ أي: عذابًا مضاعفًا؛ أي: ذا ضعف، بأن يزيد عليه مثله، ويكون ضعفين؛ أي: مثلين، فإن ضعف الشيء، وضعفيه: مثلاه. {مِنَ الْأَشْرارِ}؛ أي: من الأراذل الذين لا خير فيهم، جمع شر، وهو الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل. {سخريا} بضم السين وكسرها مصدر سخره. قال في «القاموس»: سخر؛ أي: هزىء كاستسخر، والاسم: السخرية والسخري، ويكسر، انتهى، زيد فيه ياء النسب للمبالغة؛ لأن في ياء النسبة، زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص، فالسخري أقوى من السخر. واعلم: أن النسب يحدث في الاسم تغييرات: الأول: زيادة ياء النسب في آخره، وهذه الياء المشددة حرف، بمنزلة تاء التأنيث، لا موضع لها من الإعراب. الثاني: كسر ما قبلها. والثالث: جعل الياء منتهى الاسم، وإنما تطرق التغيير في اللفظ لتغيير المعنى، ألا ترى: أنك إذا نسبت إلى علم، استحال إلى نكرة، بحيث تدخله أداة التعريف كالتثنية والجمع، وصار صفة بمنزلة المشتق بعد الجمود، ويرفع الاسم بعده على الفاعلية. إما مظهرًا أو مضمرًا، تقول: مررت برجل تميمي أبوه، وآخر هاشمي جده، وإذا نسبت إلى المصدر، زادته قوة، كما في قولك: سخريًا. {أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ} يقال: زاغ؛ أي: مال عن الاستقامة، وزاغ البصر كل. {تَخاصُمُ} والتخاصم: مخاصمة بعضهم بعضًا، ومدافعة كل منهم عن الآخر. {بِالْمَلَإِ الْأَعْلى} قال الراغب: الملأ: الجماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواء، والنفوس جلالةً وبهاء.

{فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} أمر من وقع يقع وقوعًا، والأمر: قع؛ أي: اسقطوا له ساجدين: {ما مَنَعَكَ}؛ أي: ما صرفك، وصدك. {مِنَ الْعالِينَ}؛ أي: المستحقين للترفع عن طاعة الله تعالى، المتعالين عن ذلك. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}؛ أي: مرجوم، ومطرود من كل خير. {لَعْنَتِي}؛ أي: طردي. {أنظرني} الإنظار: الإمهال، والتأخير؛ أي: أمهلني. {مِنَ الْمُنْظَرِينَ}؛ أي: من الممهلين. {لَأُغْوِيَنَّهُمْ}؛ أي: لأضلنهم. {الْمُخْلَصِينَ}؛ أي: الذين أخلصتهم للعبادة. {مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}؛ أي: المدعين معرفة ما ليس عندهم، والتكلف في الأصل: التعسف في طلب الشيء، الذي لا يقتضيه العقل. وفي «المفردات»: تكلف الشيء: ما يفعله الإنسان بإظهار كلفة، مع مشقة تناوله في تعاطيه. وصارت الكلفة في التعارف اسمًا للمشقة، والتكلف: اسم لما يفعل بمشقة، أو بتصنع أو تشيع، ولذلك صار التكليف ضربين: الأول: محمودًا، وهو ما يتحراه الإنسان، لتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلًا عليه. والثاني: ما يكون مذمومًا، وإياه عني بقوله: {وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. {وَلَتَعْلَمُنَّ} أصله: لتعلمونن، حُذفت نون الرفع، لتوالي الأمثال، وواو الفاعل لالتقاء الساكنين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَبِئْسَ الْمِهادُ}؛ لأنه مستعار من فراش النائم، إذ لا مهاد في جهنم، ولا استراحة. ومنها: التهكم في قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ}؛ لأن الذوق في الأصل: وجود الطعم بالفم. ومنها: الحصر في قوله: {إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.

ومنها: تخصيص الإنذار، مع أنه بشير أيضًا في قوله: {أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}؛ لأن المقام يقتضي ذلك. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. حيث شبه إضافة ما به الحياة بالفعل، على المادة القابلة لها، بإجراء الريح في جوف جسم، صلح لإمساكها، والامتلاء بها؛ لأنه ليس ثمة نفخ ولا منفوخ. ومنها: إضافة الروح إلى نفسه سبحانه، في قوله: {مِنْ رُوحِي} إظهارًا لشرفه وطهارته أو تعظيمًا له؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، كما في: ناقة الله، وبيت الله. ومنها: الجناس المغاير بين {ساجدين، فسجد} في قوله: {فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة}. ومنها: الإضافة للتخصيص في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} إظهارًا لشدة السخط، والغضب عليه. ومنها: نسبة الإغواء إليه في قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. لكونه سببًا لغوايتهم. منها: الإضافة للتشريف في قوله: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}. ومنها: القصر في قوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ}؛ لأن تقديم المعمول على عامله يفيد القصر. ومنها: مراعاة الفواصل، وهو من خصائص القرآن في قوله: {وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}. ومنها: التشبيه في قوله: {تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}، حيث شبه تقاولهم وما يدور بينهم من حوار، ويتبادلونه من سؤال وجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك.

ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من العبر والمواعظ 1 - حلف المشركين، وإعراضهم عن الحق، مع ضرب المثل لهم، بالأمم الماضية، التي حادت عن الحق فهلكت. 2 - إنكارهم للوحدانية. 3 - إنكارهم لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 4 - إنكارهم للبعث والحساب. 5 - قصص داود، وسليمان، وأيوب، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. 6 - وصف نعيم أهل الجنة. 7 - وصف عذاب أهل النار، وتلاعن بعضهم بعضًا، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟. 8 - قصص آدم، عليه السلام. 9 - قسم إبليس ليغوين بني آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين. 10 - أمر الله سبحانه، نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول للمشركين: ما أطلب منكم أجرًا على تبليغ رسالتي، ولا أنا بالذي يدعي علم شيء، هو لا يعرفه. 11 - أن القرآن أنزل للثقلين كافة. 12 - أن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) هنا وقفت الأقلام على هذه السورة في تاريخ سنة: 8/ 5/ 1414 هـ.

سورة الزمر

سورة الزمر ويقال لها: سورة الغرف، مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر بن زيد، ومجاهد، وقتادة، وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر، سوى ثلاث آيات، نزلت بالمدينة في وحشي، قاتل حمزة {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} الثلاث آيات. وقال آخرون: إلى سبع آيات من قوله: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...} إلى آخر السبع. وآياتها: اثنتان أو خمس وسبعون آية. وكلماتها: ألف ومئة واثنتان وسبعون كلمة. وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وثمانية أحرف. التسمية: سميت سورة الزمر؛ لأن الله تعالى، ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار، أولئك مع الإجلال والإكرام، وهؤلاء مع الهوان والصغار. المناسبة: ومناسبتها لآخر ما قبلها (¬1): أنه ختم السورة قبلها بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}، وبدأ هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}. ذكره أبو حيان. وعبارة المراغي هنا: ووجه اتصالها بما قبلها (¬2): 1 - أنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

لِلْعالَمِينَ}، ووصفه هنا بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}. 2 - أنه ذكر في {ص}، أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، وذكر هنا مثله، إلى نحو ذلك من وجوه الربط، تظهر بالتأمل، اهـ. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الزمر كلها محكم، إلا (¬1) سبع آيات: أولاهن: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، نسخت بآية السيف. والثانية: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}، نسخت بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}. الثالثة: قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}، نسخت بآية السيف. الرابعة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}، نسخ معناها بآية السيف. الخامسة: قوله تعالى: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} نسخت بآية السيف. السادسة: قوله تعالى: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، نسخ معناها بآية السيف. والسابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}، نسخت بآية السيف، انتهى. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه (¬2) النسائي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم، حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر. وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ الزمر، وبني إسرائيل». ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ. (¬2) الشوكاني.

وروي (¬1) من حديث ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر آخر الزمر، فتحرك المنبر مرتين وفيه ضعف. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ سورة الزمر، لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة، وأعطاه الله ثواب الخائفين» وفيه مقال. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}.

المناسبة قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما أبان أنه منزه عن الولد بكونه إلهًا قهارًا، وأن كل المخلوقات في قبضته وسلطانه .. أردف ذلك، بما يدل على كمال قدرته بآياته، التي أوجدها في الأكوان، وفي خلق الإنسان، فبسط سلطانه على الشمس والقمر، وذللهما، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت، الذي لا يعلم مداه إلا هو، كما خلق الإنسان الأول، وجعل له زوجًا من جنسه، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان، ذكر وأنثى، فكانت نواة التناسل في هذه الأنواع، فهل بعد هذا، يجد العاقل معدلًا عن الاعتراف بربوبيته، وعظيم قدرته؟. قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام (¬2) الأدلة على وحدانيته تعالى، وذكر أن المشركين عبدة الأصنام، لا دليل لهم على عبادتها، وكأن عقولهم قد ذهبت حين عبدوها .. أعقب ذلك، ببيان أنه هو الغني، عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة، ولا دفع مضرة، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده، بل يرضى لهم الشكر، وأن كل نفس مطالبة بما عملت، وبعدئذ ترد إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازيها بما كسبت، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون، فإذا أصابهم الضر، رجعوا في طلب دفعه إلى الله تعالى، وإذا ذهب عنهم، عادوا إلى عبادة الأوثان، وقد كان العقل يقضي، وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه، أن يعبدوه في جميع الحالات، ثم أمر رسوله، أن يقول لهم متهكمًا موبخًا: تمتعوا بكفركم قليلا، ثم مصيركم إلى النار، وبئس القرار. قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة، ويعودون إلى الأوثان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

حين الرخاء .. أردفه ذكر أحوال المؤمنين، القانتين، الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نفى المساواة، بين من يعلم ومن لا يعلم .. أردفه أمر رسوله، أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح: 1 - تقوى الله وطاعته، لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته في بلد، تحولوا عنه إلى بلد آخر، يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة، كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال، ولا ميزان. 2 - أنه أمر بعبادة الله وحده، مخلصًا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم، وجدك، وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فأنزل الله سبحانه الآية، وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه، إلى كونه رسولًا من عند الله، واجب الطاعة. 3 - أنه أمر أن يقول لهم: إني أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي. 4 - أنه أمر أن يذكر لهم، أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه، ويخسر أهله؛ لأنهم إن كانوا من أهل النار، فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة، فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده أبدًا. 5 - وصف النار، وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب، التي يخوّف بها عباده. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ...} الآية، سبب (¬1) ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

نزولها: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس قال: إنها نزلت في ثلاثة أحياء: عامر، وكنانة، وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}. قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ...} الآية، سبب نزولها ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عمر قال: إنها نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد، عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج ابن جويبر، عن ابن عباس، قال: نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأخرج جويبر عن عكرمة قال: نزلت في عمار بن ياسر. التفسير وأوجه القراءة 1 - {تَنْزِيلُ الْكِتابِ}؛ أي (¬1): القرآن، وخصوصًا منه هذه السورة الشريفة، وهو مبتدأ، خبره قوله: كائن {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} في حكمه {الْحَكِيمِ} في تدبيره، لا من غيره. كما يقول المشركون: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، تقوله من تلقاء نفسه، وإلى هذا ذهب الزجاج، وقيل معناه: تنزيل الكتاب من الله، فاستمعوا له، واعملوا به، فهو كتاب عزيز، نزل من رب عزيز، على عبد عزيز، بلسان ملك عزيز، في شأن أمة عزيزة، والتعرض لوصفي العزة والحكمة، للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه، ونفاذ أوامره، ونواهيه، من غير مدافع ولا ممانع، وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة، وفي «فتح الرحمن»: العزيز في قدرته، الحكيم في إبداعه. وأجاز (¬2) الفراء، والكسائي: النصب على أنه مفعول به، لفعل مقدر؛ أي: اتبعوا أو اقرؤوا تنزل الكتاب. وقال الفراء: ويجوز نصبه على الإغراء؛ أي: إلزموا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[2]

2 - وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} شروع (¬1) في بيان شأن المنزل إليه، وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل، وكونه من عند الله تعالى، فلا تكرار في إظهار الكتاب في موضع الإضمار لتعظيمه، ومزيد الاعتناء بشأنه، والباء (¬2): إما متعلق بالإنزال؛ أي: بسبب الحق وإثباته وإظهاره، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة؛ أي: أنزلناه إليك حال كوننا محقين في ذلك، أو حال من الكتاب؛ أي: أنزلناه حال كونه ملتبسا بالحق والصواب؛ أي: كل ما فيه من إثبات التوحيد، والنبوة، والمعاد، وأنواع التكاليف حق، لا ريب فيه، موجب للعمل حتمًا. وفي «التأويلات النجمية»: أي من الحق نزل، وبالحق نزل، وعلى الحق نزل. قال في «برهان القرآن»: كل موضع خاطب الله فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} ففيه تكليف، وإذا خاطبه بقوله: {أَنْزَلْنا عَلَيْكَ} ففيه تخفيف، ألا ترى إلى ما في أول السورة {إِلَيْكَ} فكلفه الإخلاص في العبودية، وإلى ما في آخرها {عَلَيْكَ} فختم الآية بقوله: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: لست بمسؤول عنهم، فخفف عنه ذلك، انتهى. والمعنى (¬3): أي هذا الكتاب العظيم، منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه، كما جاء في آية أخرى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}، وبعد أن بيّن شأن المنزل، وأنه من عند الله تعالى، ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزل، من الحق والعدل، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ}؛ أي: إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول، آمرا بالحق، والعدل الواجب اتباعهما، والعمل بهما. ثم أمر رسوله بعبادته، والإخلاص له. فقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ} حال كونك {مُخْلِصًا لَهُ} سبحانه {الدِّينَ} والعمل والطاعة؛ أي: فاعبده تعالى، ممحضًا له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[3]

العبادة، من شوائب الشرك والرياء، بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه على لسان نبيه، من تخصيصه وحده بالعبادة، وأنه لا ند له ولا شريك. والفاء في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ}. فاء: الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها الرسول الكريم، أنا أنزلنا إليك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اعبد الله مخلصًا له الدين، والإخلاص: أن يقصد العبد بنيته، وعمله إلى خالقه، لا يجعل ذلك لغرض من الأغراض. والدين: العبادة، والطاعة، ورأسها: توحيد الله، وأنه لا شريك له. وقرأ الجمهور (¬1): {الدِّينَ} بالنصب على أنه مفعول {مُخْلِصًا}، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، على أنه فاعل، بمخلصًا، على طريقة الإسناد المجازي كشعر شاعر، وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ {مخلَصًا} بفتح اللام كقوله: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}، حتى يطابق قوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ}، والخالص، والمخلص واحد، وفي الآية دليل على وجوب النية، وإخلاصها عن الشوائب؛ لأن الإخلاص من الأمور القلبية، التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة: «أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال: النية»، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، وحديث: «لا قول، ولا عمل إلا بنية». 3 - ثم أكد هذا الأمر بقوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} ألا: حرف استفتاح وتنبيه؛ أي: انتبهوا من غفلتكم أيها العباد، واعلموا أن لله سبحانه، لا لغيره، الدين الخالص من شوائب الشرك، والعبادة الخالصة من شوائب الرياء، لا شركة لأحد معه فيها؛ لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، وفي «الكواشي»: ألا لله الدين الخالص من الهوى، والشك، والشرك، فيتقرب به إليه رحمة، لا أن له حاجة إلى إخلاص عبادته. وفي «التأويلات النجمية»: الدين الخالص: ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب، والمخلص: من خلّصه الله من حبس الوجود، بجوده لا بجهده. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وعن الحسن: الدين الخالص: الإسلام، لأن غيره من الأديان ليس بخالص من الشرك، فليس بدين الله الذي أمر به. فالله تعالى لا يقبل إلا دين الإسلام، وفي حديث رواه الحسن عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء أريد به وجه الله تعالى، وثناء الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - بيده، لا يقبل الله شيئًا شورك فيه»، ثم تلا: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ}. وبعد أن أبان سبحانه، أن رأس العبادة الإخلاص لله، أعقب ذلك بذم طريق المشركين، فقال: {وَالَّذِينَ} عبارة عن المشركين. ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله الآتي: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. {اتَّخَذُوا} يعني عبدوا {مِنْ دُونِهِ} تعالى؛ أي: حال كونهم متجاوزين الله، وعبادته {أَوْلِياءَ}؛ أي: أربابًا وأوثانًا كالملائكة، وعيسى، وعزير، والأصنام، ولم يخلصوا العبادة لله تعالى، بل شابوها بعبادة غيره حال كونهم قائلين: {ما نَعْبُدُهُمْ}؛ أي: الأولياء لشيء من الأشياء {إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}؛ أي: تقريبًا، فهو مصدر مؤكد على غير لفظ العامل، ملاق له في المعنى، وكانوا إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قيل لهم: لم تعبدون الأصنام؟ قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله تعالى. والحاصل: أن الموصول مبتدأ، خبره جملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، وجملة {ما نَعْبُدُهُمْ} إلخ، في محل النصب على الحال، بتقدير القول، والاستثناء مفرّغ من أعم الأشياء. والمعنى: والذين عبدوا من دونه تعالى أوثانًا، ولم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين: ما نعبدهم لشيء من الأشياء، إلا ليقربونا إلى الله تقريبًا، ويشفعوا لنا عنده، وقرىء {ما نعبدكم إلا لتقربونا} حكاية لما خاطبوا به آلهتهم، ذكره في «المراح». {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} خبر الموصول، كما مر؛ أي: إن الله يحكم يوم القيامة، بين المتخذين غير المخلصين، وبين خصمائهم المخلصين للدين، وقد

حذف لدلالة الحال عليه. {فِي ما}؛ أي: في الدين الذي {هُمْ}؛ أي: الفريقان {فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالتوحيد والإشراك، وادعى كل فريق صحة ما انتحله وأخذه، وحكمه تعالى في ذلك، إدخال الموحدين الجنة، والمشركين النار، فالضمير للفريقين. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لا يَهْدِي}؛ أي: لا يوفق الاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة من المكروه، والفوز بالمطلوب {مَنْ هُوَ كاذِبٌ}؛ أي: راسخ في الكذب {كَفَّارٌ}؛ أي: مبالغ في الكفر، فإنهما فاقدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء، لتغييرهما الفطرة الأصلية، بالتمرن في الكفر والضلالة، قال في «الوسيط»: هذا فيمن سبق عليه القضاء، بحرمان الهداية، فلا يهتدي إلى الصدق والإيمان البتة، وكذبهم قولهم في بعض أوليائهم: بنات الله وولده، وقولهم: إن الآلهة تشفع لهم، وتقربهم إلى الله، وكفرهم عبادتهم تلك الأولياء، وكفرانهم النعمة بنسيان المنعم الحقيقي. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر {مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} بصيغة فعال فيهما. وقرأ زيد بن علي: {من هو كذوب كفور} بصيغة فعول فيهما. وحاصل معنى الآية: أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة، ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا، ومن حديث عبادتهم للأصنام: أنهم جعلوا تماثيل الكواكب، والملائكة والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا: إن الإله الأعظم، أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة، وهي تعبد الإله الأعظم، وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها، ماحيةً لها من الأذهان العالقة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة، قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}. قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم، ومن خالقكم، ومن خلق

[4]

السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله. فيقال لهم: فلم تعبدونهم؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله في سورة الأحقاف: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ}. ثم هددهم، وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، وبين خصومهم، وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد، والإشراك يوم القيامة، ويجازي كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار، ثم بيّن نتيجة الحكم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ}؛ أي: إن الله لا يرشد إلى الحق، ولا يوفق له، من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدًا، وأن له ندًا، وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك، من الترهات والأباطيل، التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندًا من نقل. 4 - ثم فصل ما كذبوا فيه، فقال: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} ولا ينبغي له ذلك كما زعم المشركون، بأن الله اتخذ ولدًا {لَاصْطَفى}؛ أي: لاتخذ واختار {مِمَّا يَخْلُقُ}؛ أي: من جنس مخلوقاته {ما يَشاءُ} ويريد، ولم يخص مريم، ولا عيسى، ولا عزيز بذلك، ولخلق جنسًا آخر، أعز وأكرم مما خلق، واتخذه ولدًا لكنه لا يفعله لامتناعه، والممتنع لا تتعلق به القدرة والإرادة، وإنما أمره اصطفاء من شاء من عباده وتقريبهم منه، وقد فعل ذلك بالملائكة وبعض الناس، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}. ولذا وضع الاصطفاء مكان الاتخاذ. ثم نزه سبحانه نفسه، عن أن يكون له ولد، فقال: {سُبْحانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له عن ذلك، وهو مصدر من سبح إذا بعد؛ أي: تنزه تعالى عن ذلك الاتخاذ، وعما نسبوا إليه من الأولاد، والأولياء، وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد؛ أي: أسبحه تسبيحًا لائقًا به، أو سبحوه تسبيحًا حقيقًا بشأنه {هُوَ} مبتدأ، خبره {اللَّهُ} المتصف بالألوهية {الْواحِدُ} الذي لا ثاني له، والولد ثاني والده، وجنسه، وشبهه، وفي «بحر العلوم»: {واحد}؛ أي: موجود جل عن التركيب والمماثلة، ذاتًا وصفةً. فلا يكون له ولد؛ لأنه يماثل الوالد في الذات

[5]

والصفات. {الْقَهَّارُ} الذي بقهاريته لا يقبل الجنس، والشبه بنوع ما. وفي «الإرشاد»: قهار لكل الكائنات، كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه؟. والمعنى: أي تقدس أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط على المخلوقات بقدرته. فذلت له تعالى، عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. 5 - ولما نزه تعالى نفسه، ووصف ذاته بالوحدة، والقهر، ذكر ما دل على ذلك، من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين، وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، فقال: {خَلَقَ} وأوجد {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} وما بينهما من الموجودات، حال كونها ملتبسة {بِالْحَقِّ} والصواب، مشتملة على الحكم والمصالح، لا باطلًا وعبثًا، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه، استحال أن يكون له شريك، أو صاحبة أو ولد. ثم بيّن كيفية تصرفه في السموات والأرض، فقال: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ}؛ أي: يلف ظلام الليل على ضوء النهار ويغطيه به فيجيء النهار ويذهب الليل، والمعنى: يغشي كل واحد منهما الآخر، كأنه يلفه عليه لف اللباس على الملابس. وقيل المعنى: يكوّر الليل؛ أي: يضم بعض ساعاته على النهار، فيطول النهار كما في نهار الصيف، ويكوّر النهار؛ أي: يضم بعض ساعاته على الليل، فيطول الليل كما في ليل الشتاء، والتكوير في اللغة (¬1): طرح الشيء بعضه على بعض، يقال: كوّر المتاع إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه: كوّر العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار: تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، هكذا قال قتادة وغيره، وقال الضحاك؛ أي: يلقي هذا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول، وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ}، أو يجعل كلًا منهما كارًا على صاحبه كرورًا، متتابعًا تتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، وفي التكوير المذكور في الآية إشارة إلى جريان الشمس والقمر في مطالعهما، وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا. ومعنى الآية (¬1): أي خلق هذا العالم العلوي، على ما فيه من بديع الصنع، من شموس وأقمار، تكوّن الليل والنهار، والعالم السفلي، المشتمل على المواليد الثلاثة، من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرًا وباطنًا، لانتفاع الإنسان في سبل معايشه، إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه، خلقهما على أكمل وجه وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب والحكم والمصالح، وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما، فقال: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ} إلخ؛ أي: يغشي كلًا منهما الآخر، كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما، أشبه بتتابع أكوار العمامة، بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها، وهي مكوّرة، فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس، يسير من الشرق إلى الغرب، ويلف حولها طاويًا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويًا النهار، فالأرض كالرأس، والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها، وفي (¬2) هذا إيماء إلى كروية الأرض أولًا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيًا. فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعًا بالرمز والإشارة. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}؛ أي: جعلهما، وهما وسيلتا الليل والنهار، منقادين لأمره تعالى بالطلوع والغروب لمنافع العباد، فأكثر منافع العباد مرتبطة بهما. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

ثم بيّن كيفية هذا التسخير فقال: {كُلٌّ} منهما {يَجْرِي} ويسير في فلكه وبروجه {لِأَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى مدة معينة، هي منتهى دورته، في كل يوم، أو في كل شهر، أو إلى مدة انتهاء حركته، وانقطاع سيره بتصرم الدنيا، وهو يوم القيامة {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، وفي الحديث: وكل بالشمس سبعة أملاك، يرمونها بالثلج، ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته. ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية، ترغيبًا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي. فقال: {أَلا}؛ أي: انتبهوا، واعلموا {هُوَ} سبحانه وحده {الْعَزِيزُ} الغالب القادر على كل شيء، فيقدر على عقاب العصاة، والانتقام منهم. {الْغَفَّارُ}؛ أي: المبالغ في المغفرة، ولذلك لا يعاجل بالعقوبة، وسلب ما في هذه الصنائع البديعة، من آثار الرحمة، وعموم المنفعة. والمعنى: أي انتبهوا أيها العباد، واعلموا أن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه بهذه النعم، هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين، ولا يخفى ما في هذا، من الدلالة على كمال قدرته تعالى، وكمال رحمته، فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين. قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى {الْغَفَّارُ} (¬1): هو الذي أظهر الجميل، وستر القبيح، والذنوب من جملة القبائح، التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، والغفر هو الستر: الأول: ستره على عبده، أن جعل مقابح بدنه، التي تستقبحها الأعين، مستورة في باطنه، مغطاةً بجمال ظاهره، فكم بين باطن العبد، وظاهره في النظافة والقذارة، وفي القبح والجمال، فانظر ما الذي أظهره، وما الذي ستره. والثاني: أن يجعل مستقر خواطره المذمومة، وإرادته القبيحة سر قلبه، حتى لا يطّلع أحد على سر قلبه، ولو انكشف للخلق، ما يخطر بباله في مجاري وسواسه، وما ينطوي عليه ضميره من الغش والخيانة، وسوء الظن بالناس ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

لمقتوه، بل سعوا في تلف روحه وإهلاكه، فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوارفه؟. والثالث: مغفرة ذنوبه التي كان يستحق الافتضاح بها، على ملأ من الخلق، وقد وعد أن يبدل من سيئاته حسنات، ليستر مقابح ذنوبه، بثواب حسناته، إذا مات على الإيمان، وحظ العبد من هذا الاسم، أن يستر من غيره ما يحب أن يستر منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ستر على مؤمن عورته، ستر الله عورته يوم القيامة». والمغتاب، والمتجسس، والمكافىء على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف، وإنما المتصف به من لا يفشي من خلق الله، إلا أحسن ما فيهم، ولا ينفك مخلوق عن كمال، ونقص، وعن قبح وحسن، فمن تغافل عن المقابح، وذكر المحاسن، فهو ذو نصيب من هذا الاسم والوصف، كما روي عن عيسى عليه السلام: أنه مر مع الحواريين بكلب ميت، قد غلب نتنه، فقالوا: ما أنتن هذه الجيفة؟ فقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنهانها، تنبيهًا على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء، ما هو أحسنه. وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي .. أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلي، وبدأها بخلق الإنسان؛ لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل، وقبوله الأمانة الإلهية، ولله در من قال: وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جُرْمٌ صَغِيْرُ ... وَفِيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ 6 - {خَلَقَكُمْ} الله سبحانه وتعالى، أيها الناس جميعًا، على اختلاف ألسنتكم وألوانكم {مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} هي نفس آدم، عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ}؛ أي: خلق {مِنْها}؛ أي: من جنس تلك النفس الواحدة، أو من قصيراها، وهي الضلع التي تلي الخاصرة، أو آخر الأضلاع من جهة السيار {زَوْجَها} حواء. و {ثُمَّ} عطف على محذوف، هو صفة لنفس؛ أي: خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثم جعل منها زوجها فشفعها، وذلك فإن ظاهر الآية يفيد أن خلق حواء بعد خلق ذرية آدم، وليس كذلك. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى، خلق الإنسان من نفس واحدة هي الروح، وخلق منها زوجها، وهو القلب، فإنه خلق من الروح كما خلقت

حواء، من ضلع آدم عليه السلام، فالله تعالى متفرد بهذا الخلق مطلقًا، فينبغي أن يُعرف ويُعبد بلا إشراك به. والمعنى: أي خلقكم سبحانه، على اختلاف ألسنتكم، وألوانكم، من نفس واحدة، وهي آدم، ثم جعل من جنسها زوجها، وهي حواء. والتعبير بالجعل دون الخلق، مع العطف بثم، للدلالة على أن خلق حواء، من ضلع آدم، أدخل في كونه آية دالة على كمال القدرة؛ لأن خلق آدم، هو على عادة الله، المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة، لم تجر به عادة، لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها. ثم ثنى بخلق الحيوان، فقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ}؛ أي: قضى، وقسم لكم. فإن قضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث تكتب في اللوح المحفوظ، وقيل: عبر بالإنزال لما يروى: أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة. أو أحدث لكم، وأنشأ بأسباب نازلة من السماء: كالأمطار، وأشعة الكواكب. وهذا كقوله: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا}. ولم ينزل اللباس نفسه، ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف، واللباس منهما. {مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} ذكرًا، وأنثى، وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. والأنعام: جمع نعم بفتحتين، وهي جماعة الإبل في الأصل، لا واحد لها من لفظها. قال ابن الشيخ في أول المائدة: الأنعام مخصوص بالأنواع الأربعة. وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. ويقال لها: الأزواج الثمانية؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه، وأنثاه زوج بذكره، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار، من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، والخيل، والبغال، والحمير خارجة من الأنعام. وخصت (¬1) هذه الأنواع الأربعة بالذكر، لكثرة الانتفاع بها من اللحم، والجلد، والشعر، والوبر. وفي «التأويلات النجمية»: وأنزل لكم من الأنعام ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثمانية أزواج؛ أي: خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات، وهي الأكل والشرب، والتغوط والتبول، والشهوة والحرص، والشره والغضب، وأصل جميع هذه الصفات، الصفتان الاثنتان: الشهوة والعضب، فإنه لا بد لكل حيوان من هاتين الصفتين، لبقاء وجوده بهما، فبالشهوة يجلب المنافع إلى نفسه، وبالغضب يدفع المضرات. ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر، من الأناسي والأنعام، فقال: {يَخْلُقُكُمْ} الله سبحانه وتعالى، أيها الناس {فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}؛ أي: في أرحامهن {خَلْقًا} كائنًا {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}؛ أي: خلقًا مدرجًا حيوانًا، سويًا من بعد عظام مكسوة لحمًا، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ مخلقة، من بعد مضغ غير مخلقة، من بعد علقة من بعد نطفة، ونظيره قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا (14)} قاله قتادة والسدي. وقال ابن زيد: خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم، من بعد خلقكم في ظهر آدم، عليه السلام. وقوله: {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} متعلق بقوله: يخلقكم وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، قاله مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والخلق في بطون الأمهات. حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان. وإنما قال: {فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} لتغليب من يعقل، ولشرف الإنسان على سائر الخلق، والمشيمة بفتح الميم: محل الولد؛ أي: الجلد الرقيق المشتمل على الجنين. والمعنى: أي يبتدىء خلقكم أيها الناس، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق. فيكون أحدكم أولًا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون عظمًا وعصبًا، ثم يكون لحمًا، وينفخ فيه الروح، فيصير خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ}؛ أي: في ظلمات أغشية ثلاثة، جعلها المولى سبحانه وقاية، للولد، وحفظًا له من التعفن. وقرأ عيسى، وطلحة: {يخلقكم} بإدغام القاف في الكاف، وقرأ حمزة: {أمهاتكم} بكسر بالهمزة، والميم، وقرأ الكسائي: بكسر الهمزة، وفتح الميم،

[7]

وقرأ الباقون: بضم الهمزة، وفتح الميم. والإشارة بقوله: {ذلِكُمُ} إليه سبحانه وتعالى، باعتبار أفعاله المذكورة، ومحله الرفع على الابتداء؛ أي: ذلكم العظيم الشأن الذي عدّت أفعاله {اللَّهُ} المعبود بحق، خبر المبتدأ، وقوله: {رَبُّكُمْ} خبر آخر له؛ أي: مربيكم فيما ذكر من الأطوار، وفيما بعدها، ومالكم المستحق لتخصيص العبادة به، وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: أنا خلقتكم، وأنا صورتكم، وأنا الذي أسبغت عليكم أنعامي، وخصصتكم بجميع إكرامي، وغرقتكم في بحار أفضالي، وعرّفتكم استحقاق شهود جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي، وأدعوكم إلى وحدانيتي، فما لكم لا تنطقون إلي بالكلية؟ وما لكم لا تطلبون مني ولا تطلبونني وقد بشرتكم بقولي: ألا من طلبني وجدني، ومن كان لي كنت له، ومن كنت له يكون له ما كان لي، انتهى. {لَهُ الْمُلْكُ} على الإطلاق في الدنيا والآخرة، ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه، وهو خبر ثالث، وقوله: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} خبر رابع؛ أي: لا معبود إلا هو، كما أنه لا مقصود إلا هو {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؛ أي: فكيف تنصرفون عن عبادته، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره، ومن أي وجه تصرفون، وتردون عن ملازمة بابه، بالعبودية إلى باب عاجز مثلكم من الخلق؛ أي: كيف تصرفون، وتعدلون عن عبادته تعالى، إلى عبادة الأوثان، مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره. والخلاصة: كيف تعبدون معه تعالى سواه؟ أين ذهبت عقولكم، وكيف ضاعت أحلامكم؟!. 7 - ولما ذكر الله سبحانه النعم، التي أنعم بها على عباده، وبيّن لهم من بديع صنعه وعجيب فعله، ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به .. عقّبه بقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا} به تعالى، بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه، ومعرفة شؤونه العظيمة، الموجبة للإيمان والشكر، والخطاب لأهل مكة، كما في «الوسيط»، والظاهر: التعميم لكل الناس، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَنِيٌّ عَنْكُمْ} وعن جميع العالمين؛ أي: فاعلموا أنه

تعالى، غني عن إيمانكم وشكركم؛ أي: غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له، فإنه الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله. {وَ} مع كون كفر الكافر لا يضره، كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضًا {لا يَرْضى لِعِبادِهِ}؛ أي: لأحد من عباده {الْكُفْرَ}؛ أي: لا يحبه، ولا يأمر به، وإن تعلقت به إرادته تعالى من بعضهم؛ أي: عدم رضاه بكفر عباده، لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم، لا لتضرره تعالى به، وإنما قال: {لِعِبادِهِ} ولم يقل: لكم، لتعميم الحكم للمؤمنين والكافرين، وتعليله بكونهم عباده. واعلم (¬1): أن الرضا ترك السخط، والله تعالى لا يترك السخط في حق الكافر؛ لأنه لسخطه عليه أعد له جهنم، ولا يلزم منه عدم الإرادة، إذ ليس في الإرادة ما في الرضا من نوع استحسان، فالله تعالى مريد الخير والشر، ولكن لا يرضى بالكفر والفسوق، فإن الرضا إنما يتعلق بالحسن من الأفعال دون القبيح، وعليه أهل السنة، وكذا أهل الاعتزال، وفي «الخازن»: الرضا عبارة عن مدح الشيء، والثناء عليه بفعله، والله تعالى لا يمدح الكفر، ولا يثني عليه، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد، وقد لا يرضى به، ولا يمدح عليه، وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا، انتهى. والمعنى: أي لا يُحب لعباده الكفر، ولا يأمر به؛ لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية، بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة، من الخشب والنصب، وممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ثم لما ذكر سبحانه: أنه لا يرضى لعباده الكفر، بيّن أنه يرضى لهم الشكر، فقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا}؛ أي: وإن تؤمنوا به تعالى، وتوحدوه، يدل عليه، ذكره في مقابلة الكفر. {يَرْضَهُ لَكُمْ}؛ أي: يرض الشكر، ويحبه عنكم، ويثيبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر؛ لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولأنه على مقتضى السنن القويم والصراط المستقيم العادل، كما قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

لَأَزِيدَنَّكُمْ}. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة (¬1): {يرضه} بضم الهاء مختلسة، وقرأ أبو عمرو، وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف، وقرأ نافع في بعض الروايات، وابن عامر، والكسائي، وابن ذكوان، والدوري مضمومة الهاء مشبعة. ثم ذكر سبحانه: أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل غيره، فقال: {وَلا تَزِرُ}؛ أي: لا تحمل {وازِرَةٌ}؛ أي: نفس حاملة للوزر والإثم {وِزْرَ}؛ أي: حمل، وذنب نفس {أُخْرى}؛ أي: غيرها، وهذا بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلًا؛ أي: ولا تحمل أي نفس أوزار نفس أخرى، بل كل مطالب بعمل نفسه خيرًا كان أو شرًا. ثم بيّن أن جزاء المرء في الآخرة، وفق ما عمل في الدنيا، فقال: {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ}؛ أي: ثم بعد موتكم إلى خالقكم، لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ}؛ أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فيخبركم عند ذلك {بِما كُنْتُمْ} في الدنيا {تَعْمَلُونَ} ـه من خير وشر، فيجازيكم على ذلك ثوابًا وعقابًا، وفيه تهديد شديد. وفي تفسير «أبي السعود» في غير هذا الموضع: عبّر (¬2) عن إظهاره التنبئة، لما بينهما من الملابسة، في أنهما سببان للعلم، تنبيها على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه، غافلين عن سوء عاقبته؛ أي: يظهر لكم على رؤوس الأشهاد، ويعلمكم أي شيء شنيع كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء، انتهى. وحاصل المعنى (¬3): أي ثم بعد موتكم، مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم، البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) أبو السعود. (¬3) المراغي.

[8]

تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم، وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه، فتهلكوا. ثم بيّن أن هذه المجازاة، ليست بالعسيرة عليه سبحانه، فقال: {إِنَّهُ} تعالى، {عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بخطرات القلوب، فضلًا عن غيرها، وهذا تعليل للتنبئة؛ أي: مبالغ في العلم بمضمرات القلوب، فكيف بالأعمال الظاهرة؟ وأصله: عليم بمضمرات صاحبة الصدور، وهي القلب؛ أي: إنه تعالى محيي جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم، مما لا تدركه أعينكم، فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار؟ وفي الآية دليل على أن ضرر الكفر والطغيان يعود إلى نفس الكافر، كما أن نفع الشكر والإيمان يعود إلى نفس الشاكر، والله غني عن العالمين، كما في الأحاديث القدسية: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم - أي: على تقوى أتقى قلب رجل - ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم .. ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، وفي آخر الحديث: «فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». جعلنا الله وإياكم من عباده الصالحين، الصادقين المخلصين في الأقوال والأفعال والأحوال، دون الفاسقين الكاذبين المرائين، آمين يا من يقبل اليسير ويعطي الكثير. 8 - ثم بيّن سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه، فقال: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ}؛ أي: أصاب الإنسان، ووصل إليه {ضُرٌّ}؛ أي: سوء حال أي ضر كان، من مرض أو فقر أو خوف {دَعا رَبَّهُ} في كشف ذلك الضر، حال كونه {مُنِيبًا إِلَيْهِ}؛ أي: راجعًا إليه تعالى، مستغيثًا به في دفع ما نزل به، تاركًا لما كان يدعون، ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك، والإنابة إلى الله: الرجوع إليه بالتوبة، وإخلاص العمل له. والنوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى، وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ

كَفَّارٌ}. وفيه (¬1) إشارة، إلى أن من طبيعة الإنسان، أنه إذا مسه ضرب خشع وخضع وإلى ربه فزع، وتملق بين يديه وتضرع. {ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ} وأعطاه {نِعْمَةً} عظيمة صادرة {مِنْهُ} تعالى، حاصلة من جنابه، وأزال عنه ضره، وكفاه أمره، وأصلح باله، وأحسن حاله {نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ}؛ أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل أن يخوله ما خوله، كقوله تعالى: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ}، وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به، وتركه. أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرع إليه إما بناء على أن {مًا} بمعنى: من كان في قوله تعالى: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3)}، وإما إيذانًا بأن نسيانه، بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو، فضلًا عن أن يعرفه من هو، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويشرك بمعبوده، ويصر على جحوده، وذلك لكون دعائه المحسوس معلولًا بالضر الممسوس، لا ناشئًا عن الشوق إلى الله المأنوس. وهو معنى قوله: {وَجَعَلَ} ذلك الإنسان {لِلَّهِ} سبحانه {أَنْدادًا}؛ أي: شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها، ويعبدها {لِيُضِلَّ} الناس بذلك {عَنْ سَبِيلِهِ} تعالى؛ أي: عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقرأ الجمهور: {لِيُضِلَّ} بضم الياء؛ أي: ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ (¬2) ابن كثير، وأبو عمرو، وعيسى: بفتحها. ثم أمر الله سبحانه، رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يهدد من كان متصفًا بتلك الصفة، فقال: {قُلْ} يا محمد تهديدًا لذلك الضال المضل، وبيانًا لحاله ومآله: {تَمَتَّعْ}؛ أي: عش في الدنيا {بِكُفْرِكَ}؛ أي: في كفرك، واستمتع بزخارفها تمتعًا {قَلِيلًا} فمتاع الدنيا قليل وإن طالت، فهو صفة لمصدر محذوف، أو زمانًا قليلًا، فهو صفة زمان محذوف، فالأمر بالتمتع للتهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[9]

ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ في الآخرة}؛ أي: من ملازميها، والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع، وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل: وإذ قد أبيت قبول ما أمرت به، من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته. والمعنى (¬1): أي وإذا أصاب الكافر بلاء في جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته .. استغاث بربه الذي خلقه، ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضر، وأبدله بالسقم صحة وبالشدة رخاء .. ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل، أن يكشف ما كان به من ضر، فجعل لله شركاء، وأضل الناس، ومنعهم من توحيده والإقرار به، والدخول في الإسلام له، ثم أوعده، وهدده فقال: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ...} إلخ؛ أي: قل أيها (¬2) الرسول لمن فعل ذلك: تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفًا عن النظر إلى أدلة التوحيد، التي أوجدها الله سبحانه في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان زمنًا قليلًا إلى أن تستوفي أجلك، وتأتيك منيتك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدًا. 9 - ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم .. ذكر صفات المؤمنين، فقال: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ} إلخ، وهذا إلى آخره، من تمام الكلام المأمور به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و {أَمَّنْ} بالتشديد، على أن أصله: أم من هو قانت، وهي إما متصلة حذف معادلها، والمعنى: قل له يا محمد: أأنت أيها المشرك أحسن حالًا ومآلًا، أم من هو قانت وعابد لربه، قائم بأداء الطاعات {آناءَ اللَّيْلِ} ودائب على وظائف العبادات في ساعات الليل أوله، وآخره، ووسطه التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وقوله: {ساجِدًا} حال (¬1) من ضمير {قانِتٌ}؛ أي: حال كونه ساجدًا في صلاته {وَقائِمًا} فيها، وتقديم السجود على القيام، لكونه أدخل في معنى العبادة، والواو للجمع بين الصفتين، فالمعنى: {قانِتٌ}؛ أي: قائم طويل القيام في الصلاة، كما يشعر به {آناءَ اللَّيْلِ}؛ لأنه إذا قام في ساعات الليل، فقد أطال القيام بخلاف من قام في جزء من الليل، والمراد بالسجود والقيام: الصلاة، عبّر عنها بهما لكونهما أعظم أركانها، والاستفهام على كونها متصلة للتقرير. ولا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان، وإما منقطعة فتقدّر ببل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: بل أمن هو قانت مطيع لربه ساجدًا وقائمًا كالكافر المقول له: تمتع بكفرك قليلًا؛ أي: لا يستويان، بل هو في الجنة والكافر في النار. وقرأ ابن كثير ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية (¬2): {أمن} بتخفيف الميم، والظاهر: أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير، أم الكافر المخاطب بقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ}، ويدل عليه قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: أمن بتشديد الميم، وهي {أم} أدغمت ميمها في ميم {من}، فاحتملت {أم} أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها، تقديره: أهذا الكافر خير، أم من هو قانت، واحتملت أن تكون منقطعة تقدر ببل والهمزة، والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقرأ الجمهور {ساجِدًا وَقائِمًا} بالنصب على الحال، والضحاك برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر. وقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} حال أخرى (¬3) على الترادف، أو التداخل أو استئناف، كأنه قيل: ما باله يفعل القنوت في الصلاة؟ فقيل: هو يحذر عذاب الآخرة لإيمانه بالبعث. {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}؛ أي: المغفرة أو الجنة، لا أنه يحذر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر؛ أي: حالة كونه يخاف عذاب الآخرة ويرجو جنة ربه، فينجو مما يخافه ويفوز بما يرجوه، ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة ربه لعمله، ويخاف عذابه لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون آمنا، والخوف إذا جاوز حده يكون يائسا، وكل منهما كفر، فوجب أن يعتدل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا»، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز. ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول لهم قولًا آخر، يتبين به الحق من الباطل، فقال: {قُلْ} يا محمد بيانًا للحق، وتنبيهًا على شرف العلم والعمل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} حقائق الأعمال، فيعملون بموجب علمهم، كالقانت المذكور {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ما ذكر، فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم، كالكافر المذكور، أو الذين (¬1) يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق، والذين لا يعلمون ذلك، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد: العلماء، والجهال، ومعلوم عند كل من له عقل، أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل، وقال الزجاج؛ أي: كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل: المراد بالذين يعلمون: هم العاملون بعلمهم، فإنهم المنتفعون به؛ لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم، والاستفهام فيه للتنبيه على كون الأولين في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر، وفي «بحر العلوم»: الفعل منزل منزلة اللازم، ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور. والمعنى: لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لم يوجد. وعبارة المراغي هنا (¬2): أي قل أيها الرسول لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك؟ فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[10]

أعمالهم خيرًا، ولا يخافون من سيئها شرًا، وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام، للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر. ثم بيّن أن ما سلف إنما يفهمه كل ذي لب، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة، فقال: {إِنَّما يَتَذَكَّرُ} ويتعظ، ويتدبر، ويتفكر {أُولُوا الْأَلْبابِ}؛ أي أصحاب العقول الكاملة، السالمة من الشك والشرك، وهم المؤمنون، لا الكفار، وقرىء: {يذكر} بإدغام تاء {يَتَذَكَّرُ} في الذال، وهذا كلام (¬1) مستقل، غير داخل في الكلام المأمور به، وارد من جهته تعالى؛ أي: إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة، أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل والوهم، وهؤلاء بمعزل عن ذلك، قيل: قضية اللب الاتعاظ بالآيات، ومن لم يتعظ فكأنه لا لب له، ومَثَلهُ مَثَلُ البهائم. والخلاصة: أنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك، من له لب وعقل يتدبر به، وقيل لبعض العلماء (¬2): إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك؛ ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب: بأن هذا أيضًا يدل على فضيلة العلم. لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. 10 - ولما نفى الله سبحانه المساواة، بين من يعلم ومن لا يعلم، وبيّن أنه إنما يتذكر أولو الألباب .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه، والإيمان به. فقال: {قُلْ} يا محمد لعبادي المؤمنين: {يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بتوحيد الله {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} بامتثال مأموراته، واجتناب منهياته، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه؛ أي: قل لهم: قولي هذا بعينه؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

قل لهم: ربكم يقول: أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، فإنه أصله: يا عبادي بالياء، حذفت اكتفاءً بالكسرة. والمعنى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: دوموا، واثبتوا على تقوى ربكم؛ لأن بالإيمان حصلت التقوى عن الكفر والشرك، أو اتقوا عذابه وغضبه باكتساب طاعته، واجتناب معصيته، أو اتقوا به عما سواه، حتى تخلصوا من نار القطيعة، وتفوزوا بوصاله ونعيم جماله. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى، بيّن لهم ما في هذه التقوى من الفوائد، فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا}؛ أي: للذين عملوا الأعمال الحسنة على وجه الإخلاص. خبر مقدم {فِي هذِهِ الدُّنْيا} متعلق بأحسنوا {حَسَنَةٌ} عظيمة ومثوبة كبيرة في الآخرة، لا يعرف كنهها، مبتدأ مؤخر. وهي الجنة، والشهود؛ لأن جزاء الإحسان الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، فالمحسن هو المشاهد، وبمشاهدة الله يغيب ما سوى الله تعالى، فلا يبقى إلا هو، وذلك حقيقة الإخلاص، وأما غير المحسن، فعلى خطر لبقائه مع ما سوى الله تعالى، فلا يأمن من الشرك والرياء القبيح، ومن كان عمله قبيحًا لم يكن جزاؤه حسنًا، وقيل: {فِي هذِهِ الدُّنْيا} متعلق بـ {حَسَنَةٌ} على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة، والعافية، والظفر، والغنيمة، والأول أولى. وحاصل المعنى: أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكى نفسه فيها، حسنة من صحة وعافية، ونجاح في الأعمال، التي يزاولها كفاء ما يتحلى به، من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة، فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه {وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه، أرشد الله سبحانه، من كان كذلك إلى الهجرة من مكة إلى المدينة،

وصبّرهم على مفارقة الأوطان، فقال: {وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ} فمن (¬1) تعسر عليه التوفر على التقوى، والإحسان في وطنه. فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك، كما هو سنة الأنبياء، والمرسلين، والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلًا؛ أي: إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى، وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه، فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين، فقد فعل كثير منهم ذلك، وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي، وقد ورد: «إن من فر بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة»، وإنما قال: «بدينه» احترازًا عن الفرار بسبب الدنيا ولأجلها، خصوصًا إذا كان المهاجر إليه أعصى من المهاجر منه، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغّبهم في سعتها وسعة نعيمها، كما في قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ}. والأول أولى. ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة، وعظيم الأجر على ذلك. فقال: {إِنَّما يُوَفَّى} ويعطى {الصَّابِرُونَ} الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وحافظوا على حدوده، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه، لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام، والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل، ومفارقة الأوطان، والمعنى: يعطون {أَجْرَهُمْ} بمقابلة ما كابدوا من الصبر {بِغَيْرِ حِسابٍ}؛ أي: بحيث لا يحصى، ولا يحصر؛ أي: يوفيهم الله، ويعطيهم أجرهم وافيًا كاملًا في مقابلة صبرهم بغير حساب؛ أي (¬2): بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسابه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل، ولا وصف، وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل: أن الآية تدل (¬3) على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له؛ لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[11]

فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله تعالى، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر على الصبر، ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ولا يجلب خيرًا قد سلب، ولا يدفع مكروهًا قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبةً أخرى، ولم يظفر بغير الجزع، وفي الحديث: «أنه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج، فيوفون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء، بل يصب عليهم الأجر صبًا، حتى يتمنى أهل المعافاة في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل». وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أد الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبًا». ثم تلا هذه الآية {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}. وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه». فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه ذا رقة هوّن عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض كمن ليس له ذنب، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله .. ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله»، وإن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل، إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضى، ومن سخط فله السخط، وقال يوسف بن الحسين: ليس بصابر من يتجرع المصيبة، ويبدي فيها الكراهة، بل الصابر من يتلذذ بصبره، حتى يبلغ به إلى مقام الرضا. 11 - وروى مقاتل: أن كفار قريش، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة آبائك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بتلك

[12]

الملة. فقال تعالى له: {قُلْ} يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء المشركين: {إِنِّي أُمِرْتُ} من جانبه تعالى بـ {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} سبحانه، وحده، حال كوني {مُخْلِصًا لَهُ} تعالى {الدِّينَ}؛ أي: العبادة من الشرك والرياء، بأن يكون المقصود من العبادة هو المعبود بالحق، لا غير. والمعنى (¬1): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك: إن الله سبحانه، أمرني أن أعبده مفردًا له الطاعة، دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد، وفي هذا نعي لهم، على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة. 12 - {وَأُمِرْتُ} بذلك {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة؛ أي: لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن السبق في الدين، إنما هو بالإخلاص فيه، فمن أخلص عد سابقا، فإذا كان الرسول، متصفا بالإخلاص قبل إخلاص أمته .. فقد سبقهم في الدارين، إذ لا يدرك المسبوق مرتبة السابق، ألا ترى إلى الأصحاب مع من جاء بعدهم، والظاهر (¬2): أن اللام زائدة، فيكون كقوله تعالى: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، فالمعنى: وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زماني؛ لأن كل نبي يتقدم أهل زمانه في الإسلام والدعاء إلى خلاف دين الآباء، وإن كان قبله مسلمون، قال بعضهم: الإخلاص: أن يكون جميع الحركات في السر والعلن لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء. وقال الزمخشري: فإن قلت (¬3): كيف عطف {أُمِرْتُ} على {أُمِرْتُ} وهما واحد؟. قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه، ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الكشاف.

[13]

13 - {قُلْ} يا محمد لمشركي قومك: {إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وخالفته بترك الإخلاص، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: أخاف من عذاب يوم القيامة، وهو يوم عظيم، لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، بحسب عظم المعصية وسوء الحال، وفيه زجر عن المعصية بطريق المبالغة؛ لأنه عليه السلام، مع جلالة قدره، إذا خاف على تقدير العصيان، فغيره من الأمة أولى بذلك الخوف. قال أكثر المفسرين (¬1): المعنى إني أخاف إن عصيت ربي، بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه، من عبادة غير الله عذاب يوم القيامة، عظيم الشأن والأهوال، وقال أبو حمزة اليماني، وابن المسيّب: هذه الآية منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}، وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب؛ لأن قبله {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ}، فالمراد: عصيان هذا الأمر، وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى. 14 - ثم كرر الأمر مرة أخرى، بالإخلاص في الطاعة، للتهديد والوعيد، فقال: {قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {اللَّهَ} سبحانه، نصب بقوله: {أَعْبُدُ} على ما أمرت به لا غيره، لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، والتقديم مشعر بالاختصاص حالة كوني {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} وعبادتي من كل شائبة شرك، وشك، ورياء، وسمعة. فإن قلت (¬2): ما فائدة التكرار في قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)}، وفي قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)}؟. قلت: هذا ليس بتكرار؛ لأن: الأول: الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى، بالإتيان بالعبادة والإخلاص. والثاني: أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى، وحده بالعبادة، ولا يعبد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[15]

أحدًا غيره، مخلصًا له دينه؛ لأن قوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} لا يفيد الحصر، وقوله: {اللَّهَ أَعْبُدُ} يفيد الحصر. والمعنى: الله أعبد ولا أعبد أحدًا غيره. والحاصل: أنه سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): أولًا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فيها. وثانيًا: بأن يخبرهم بأنه مأمور، بأن يكون أول من أسلم وأطاع وانقاد. وثالثًا: بأن يخبرهم بخوفه من العذاب، على تقدير العصيان. 15 - ورابعًا: بأن يخبرهم، بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله تعالى، وأخلص له الدين، على أبلغ وجه وآكده، إظهارا لتصلبه في الدين، وحسمًا لأطماعهم الفارغة، وتمهيدًا لتهديدهم بقوله: {فَاعْبُدُوا ...} إلخ؛ أي: قد امتثلت أنا ما أمرت به، فاعبدوا يا معشر المشركين {ما شِئْتُمْ} قال في «الإرشاد»: وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى، كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه، أمروا به كي يحل بهم العقاب. ولما قال المشركون: خسرت يا محمد، حيث خالفت دين آبائك، قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لهم: {إِنَّ الْخاسِرِينَ}؛ أي: الكاملين في الخسران، الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه، هم {الَّذِينَ} فالجملة من الموصول، والصلة خبر {إِنَّ} {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بالضلال واختيار الكفر لها؛ أي: أضاعوها، وأتلفوها إتلاف البضاعة، فقوله: {أَنْفُسَهُمْ} مفعول {خَسِرُوا}. {وَأَهْلِيهِمْ} بالضلال، واختيار الكفر لهم أيضًا {يَوْمَ الْقِيامَةِ} يوم يدخلون النار بدل الجنة، حيث عرّضوهما للعذاب السرمدي، وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها. {أَلا} انتبهوا، واستمعوا {ذلِكَ} الخسران {هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ}؛ أي: الظاهر الجلي، حيث استبدلوا بالجنة نارًا، وبالدرجات دركات، كما في «كشف الأسرار»، وفي «التأويلات النجمية»: الخاسر في الحقيقة، من خسر دنياه بمتابعة ¬

_ (¬1) أبو السعود.

[16]

الهوى، وخسر عقباه بارتكاب ما نهى عنه، وخسر مولاه بتولي غيره. والمعنى (¬1): أي قل لهم أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده، هو خسران النفس، وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم، وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة، إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة، ألا هو الخسران المبين، الظاهر لكمال هوله، وفظاعة شأنه. 16 - ثم فصل ذلك الخسران، وبينه بعد إبهامه، تهويلًا وتعظيمًا لأمره فقال: {لَهُمْ} خبر مقدم، والضمير للخاسرين {مِنْ فَوْقِهِمْ} حال من {ظُلَلٌ} وهو مبتدأ مؤخر {مِنَ النَّارِ} صفة لـ {ظُلَلٌ}، والظل: جمع ظلة كغرف وغرفة، كما سيأتي، وهي في الأصل: سحابة تظل، والمراد هنا (¬2): طباق وسرادقات من النار ودخانها، وسميت النار ظلة لغلظها وكثافتها، ولأنها تمنع من النظر إلى ما فوقهم، والمعنى: للخاسرين ظلل وطبقات من النار، ودركات كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض، حال كون تلك الظلل من فوقهم {وَمِنْ تَحْتِهِمْ} أيضًا {ظُلَلٌ} والمراد: إحاطة النار بهم من جميع جوانبهم، كما قال تعالى: {أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها}. ونحو الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ}. والمعنى: أي لهم من فوقهم أطباق من النار، تلتهب عليهم، ومن تحتهم ظلل؛ أي: أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللا لأنها تظلل من تحتها من أهل النار؛ لأن طبقات النار، كان في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، كما قال السدي: هي لمن تحتهم ظلل، وهكذا حتى ينتهي إلى القعر والدرك الأسفل، الذي هو للمنافقين. فالظلل لمن تحتهم، وهي فرش لهم، وكما قال في «الأسئلة المقحمة»: كيف يسمى ما هو الأسفل ظللًا والظلل ما يكون فوقًا؟ والجواب: لأنها تظلل من تحتها. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وفي (¬1) ذلك إشعار بشدة حالهم في النار، وتهكم بهم؛ لأن الظلة إنما هي للاستظلال والتبرد، خصوصًا في الأراضي الحارة كأرض الحجاز، فإذا كانت من النار نفسها كانت أحر، ومن تحتها أغم. {ذَلِكَ} العذاب الفظيع هو الذي {يُخَوِّفُ اللَّهُ} سبحانه {بِهِ} بذلك العذاب {عِبادَهُ} في القرآن ليؤمنوا، ويحذرهم إياه بآيات الوعيد، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه، وفي «الوسيط»: يخوف الله به عباده المؤمنين، يعني: أن ما ذكر من العذاب معد للكفار، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوه، فيتقوه بالطاعة والتوحيد، وهو معنى قوله: {يَاعِبَادِ} بحذف الياء، وأصله يا عبادي بالياء {فَاتَّقُونِ} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي؛ أي: اتقوا هذه المعاصي، الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار. ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين (¬2): أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم، وقيل: هو للكفار وأهل المعاصي، وقيل: هو عام للمسلمين والكفار. وهذه عظة من الله تعالى، بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة، وفيه إشارة، إلى أن الله تعالى، خلق جهنم سوطًا يسوق به عباده إلى الجنة، إذ ليس تحت الوجود إلا ما هو مشتمل على الحكمة والمصلحة، فمن خاف بتخويف الله تعالى إياه، من هذا الخسران .. فهو عبده عبدًا حقيقيًا، ومستأهل لشرف الإضافة إليه. ومعنى قوله: {ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ}؛ أي (¬3): إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون، لا محالة، ليزدجر عباده عن المحارم والآثام، ومعنى قوله: {يا عِبادِ فَاتَّقُونِ}؛ أي: يا عبادي بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي. وهذه منة منه تعالى، منطوية على نهاية اللطف والرحمة. الإعراب {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)}. {تَنْزِيلُ}: مبتدأ، {الْكِتابِ}: مضاف إليه. {مِنَ اللَّهِ}: خبر، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: نعتان للجلالة، ويجوز أن يكون {تَنْزِيلُ}: خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا تنزيل الكتاب؛ أي: هذا القرآن هو الكتاب المنزل، {مِنَ اللَّهِ} متعلق بالمصدر، أو بمحذوف خبر بعد خبر. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أَنْزَلْنا}: فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتابَ}: مفعول به. {بِالْحَقِّ}: حال من الفاعل؛ أي: ملتبسين بالحق، أو من المفعول؛ أي: ملتبسًا بالحق. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {فَاعْبُدِ اللَّهَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إنزالنا عليك الكتاب، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول: اعبد الله مخلصًا له الدين. {اعبد الله} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مُخْلِصًا}: حال من فاعل اعبد، {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصًا}، و {الدِّينَ}: مفعول {مُخْلِصًا} {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}. {أَلا}: حرف استفتاح وتنبيه، {لِلَّهِ}: خبر مقدم، {الدِّينُ}: مبتدأ مؤخر، {الْخالِصُ}: صفة لـ {الدِّينُ}، والجملة الاسمية مستأنفة، مقررة لما قبلها. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية، {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {اتَّخَذُوا} صلة الموصول، {مِنْ دُونِهِ}: مفعول ثان لـ {اتَّخَذُوا}، أو حال من الفاعل، {أَوْلِياءَ}: مفعول أول، {ما} نافية، {نَعْبُدُهُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، هو خبر المبتدأ، والتقدير: والذين اتخذوا من دونه أولياء، يقولون ما نعبدهم، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَلا}: أداة استثناء مفرغ. {لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ}: اللام: لام

كي، {يقربونا}: فعل مضارع، وفاعل، ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأن أصله: يقربوننا. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: إلا لتقريبهم إيانا إلى الله سبحانه، الجار والمجرور متعلق بنعبدهم، والاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: ما نعبدهم لحال من الأحوال إلا لتقريبهم إيانا إلى الله تعالى. {زُلْفى} مصدر مؤكد، ليقربونا من غير لفظه، ولكنه ملاق لعامله في المعنى. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَحْكُمُ}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {بَيْنَهُمْ} متعلق بـ {يَحْكُمُ}، {فِي ما}: متعلق بـ {يَحْكُمُ} أيضًا، {هُمْ}: مبتدأ، {فِيهِ}: متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ}، وجملة {يَخْتَلِفُونَ} خبرهم، والجملة الاسمية صلة {ما} الموصولة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {لا يَهْدِي} خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {مِنْ} اسم موصول، في محل النصب مفعول {يَهْدِي}، {هُوَ كاذِبٌ} مبتدأ وخبر، {كَفَّارٌ} خبر ثان، والجملة الاسمية صلة {مِنْ} الموصولة. {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)}. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {أَرادَ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَتَّخِذَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، منصوب بأن المصدرية {وَلَدًا}: مفعول به، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أَرادَ}، تقديره: لو أراد الله سبحانه، اتخاذه ولدًا لنفسه. {لَاصْطَفى} اللام: رابطة لجواب {لَوْ}، {اصطفى}: فعل، وفاعل مستتر، يعود على {اللَّهُ}، {مِمَّا}: متعلق بـ {اصطفى}، وجملة {اصطفى} جواب {لَوْ}: الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {يَخْلُقُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر

يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما}، والعائد محذوف تقديره: مما يخلقه. {ما يَشاءُ}: ما اسم موصول في محل النصب مفعول {اصطفى}، وجملة {يَشاءُ}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يشاؤه، {سُبْحانَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوه سبحانًا، أو أسبحه سبحانًا. والجملة مستأنفة. {هُوَ اللَّهُ}: مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. {الْواحِدُ الْقَهَّارُ}: نعتان للجلالة، {خَلَقَ السَّماواتِ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة مستأنفة. {وَالْأَرْضَ} معطوف على السموات، {بِالْحَقِّ}: حال من الفاعل أو من المفعول، {يُكَوِّرُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله. {اللَّيْلَ}: مفعول به، {عَلَى النَّهارِ}: متعلق بـ {يُكَوِّرُ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ}، أو مستأنفة مسوقة لبيان كيفية تصرفه. {وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} معطوفة على نظيرتها. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {خَلَقَ السَّماواتِ}، {وَالْقَمَرَ}: معطوف على الشمس. {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم، وجملة {يَجْرِي}: خبره، {لِأَجَلٍ} متعلق بـ {يَجْرِي}، {مُسَمًّى}: نعت {لِأَجَلٍ}. والجملة الإسمية مستأنفة. {أَلا}: حرف استفتاح، {هُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر. {الْغَفَّارُ}: خبر ثان. والجملة الإسمية مستأنفة. {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}. {خَلَقَكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة مستأنفة. {مِنْ نَفْسٍ} متعلق بخلق، {واحِدَةٍ}: صفة {نَفْسٍ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، وسيأتي سر العطف بها في البلاغة. {جَعَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {خَلَقَكُمْ}، {مِنْها}: متعلق بـ {جَعَلَ}، {زَوْجَها}: مفعول به، {وَأَنْزَلَ}: معطوف على خلقكم، {لَكُمْ} حال من ثمانية أزواج، {مِنَ الْأَنْعامِ}

متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}: مفعول به. {يَخْلُقُكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة مستأنفة أو حال من فاعل {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ}. {فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَخْلُقُكُمْ}، {خَلْقًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}: صفة لـ {خَلْقًا} أو متعلق بـ {يَخْلُقُكُمْ}، فيكون المصدر لمجرد التأكيد. {فِي ظُلُماتٍ} جار ومجرور، بدل من الجار والمجرور في قوله: {فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}، أو متعلق بـ {خَلْقٍ} المجرور قبله، {ثَلاثٍ}: صفة {ظُلُماتٍ}، {ذلِكُمُ}: مبتدأ، {اللَّهُ}: خبر أول، والجملة مستأنفة. {رَبُّكُمْ}: خبر ثان، {لَهُ}: خبر مقدم. {الْمُلْكُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر ثالث لاسم الإشارة، وجملة {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} خبر رابع له، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلًا مرارًا، فلا حاجة إلى إعادته. {فَأَنَّى}: الفاء: استئنافية. {أنى}: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال، مبني على السكون، والعامل فيه {تُصْرَفُونَ}، {تُصْرَفُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل. والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}. {إِنْ}: حرف شرط. {تَكْفُرُوا}: فعل، وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إن الله}: ناصب واسمه، {غَنِيٌّ}: خبره. {عَنْكُمْ}: متعلق به، وجملة {إِنْ} في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَلا}: {الواو}: حالية. {لا}: نافية، {يَرْضى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {لِعِبادِهِ} متعلق بـ {يَرْضى}، {الْكُفْرَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في {غَنِيٌّ}. {وَإِنْ تَشْكُرُوا}: فعل، وفاعل مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها،

{يَرْضَهُ}: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إِنْ} الأولى. {لَكُمْ} متعلقان به {وَلا تَزِرُ} {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {تَزِرُ}: فعل مضارع، {وازِرَةٌ}: فاعل {وِزْرَ أُخْرى}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، {إِلى رَبِّكُمْ}. خبر مقدم، {مَرْجِعُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها. {فَيُنَبِّئُكُمْ}: الفاء: عاطفة، {ينبئكم}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على الجملة الاسمية قبلها، {بِما} متعلق بـ {ينبئكم}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة كان صلة لما الموصولة. {إِنَّهُ} ناصب واسمه. {عَلِيمٌ}: خبره، بِذاتِ الصُّدُورِ متعلق بـ {عَلِيمٌ}. وجملة {إِنْ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)}. {وَإِذا} {الواو}: استئنافية، {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مَسَّ الْإِنْسانَ}: فعل، ومفعول به. {ضُرٌّ}: فاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذا} على كونه فعل شرط لها. {دَعا رَبَّهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة جواب {إِذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} مستأنفة. {مُنِيبًا}: حال من فاعل {دَعا}، {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {مُنِيبًا}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {خَوَّلَهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إِذا}. {نِعْمَةً}: مفعول ثان، {مِنْهُ}: صفة لـ {نِعْمَةً}، {نَسِيَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة جواب {إِذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذا} معطوفة على جملة {إِذا} الأولى. {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول نسي. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على

الإنسان. {يَدْعُوا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَدْعُوا}، {مِنْ قَبْلُ}: متعلق به أيضًا، أو حال من فاعل {يَدْعُوا}، وجملة {يَدْعُوا}: خبر {كَانَ}، وجملة {كانَ} صلة لـ {ما} الموصولة، ويصح أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: نسي كونه داعيًا. {وَجَعَلَ}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، معطوف على {نَسِيَ}، {لِلَّهِ}: متعلق بـ {جَعَلَ} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {أَنْدادًا}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}، {لِيُضِلَّ}: اللام لام كي، {يضل}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {عَنْ سَبِيلِهِ}: متعلق بـ {يضل}، وجملة {لِيُضِلَّ}: في تأويل مصدر مجرور باللام، ومفعول الإضلال محذوف؛ أي: لإضلاله الناس، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {تَمَتَّعْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة في محل النصب، مقول لـ {قُلْ}، {بِكُفْرِكَ} متعلق بـ {تَمَتَّعْ} أو حال من فاعل تمتع؛ أي: ملتبسًا بكفرك، {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {مِنْ أَصْحابِ}: خبره، {النَّارِ} مضاف إليه، وجملة إن مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}. {أَمَّنْ} {أم}: متصلة، ومعادلها محذوف، {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {هُوَ قانِتٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة {من} الموصولة، وخبر {من} الموصولة محذوف والتقدير: أهذا الكافر خير، أم الذي هو قانت خير، أو منقطعة، بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام الإنكاري. و {من}: مبتدأ، والخبر محذوف أيضًا، تقديره: بل أمن هو قانت كهذا الكافر لا، والجملة مستأنفة. {آناءَ اللَّيْلِ}: ظرف متعلق بـ {قانِتٌ}، {ساجِدًا}: حال من الضمير المستكن في {قانِتٌ}، {وَقائِمًا}: معطوف على {ساجِدًا}، وجملة {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}: حال ثالثة، وجملة {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}: عطف على جملة {يَحْذَرُ}. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ

يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري، {يَسْتَوِي الَّذِينَ}: فعل، وفاعل، والجملة مقول لـ {قُلْ}، وجملة {يَعْلَمُونَ}: صلة الموصول، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، وجملة {لا يَعْلَمُونَ}: صلة الموصول، والاستفهام إنكاري؛ أي: لا يستويان، وفي الآية تنزيل المتعدي منزلة القاصر. {إِنَّما}: أداة حصر، {يَتَذَكَّرُ}: فعل مضارع، {أُولُوا الْأَلْبابِ}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {يا عِبادِ}: منادى مضاف. {الَّذِينَ}: صفة للمنادي وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلْ}، وجملة {آمَنُوا}: صلة {الَّذِينَ}، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول قُلْ: على كونها جواب النداء. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور خبر مقدم، وجملة {أَحْسَنُوا}: صلة الموصول، {فِي هذِهِ}: متعلق بـ {أَحْسَنُوا}، {الدُّنْيا}: بدل من اسم الإشارة. {حَسَنَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِنَّما}: أداة حصر، {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، {أَجْرَهُمْ}: مفعول به ثان، {بِغَيْرِ حِسابٍ} حال من الأجر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {أُمِرْتُ}: فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إن} والتقدير: إني مأمور، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قُلْ}. {أن}: حرف نصب ومصدر، {أَعْبُدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أن}،

وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {اللَّهَ} مفعول به، وجملة {أن}: المصدرية مع صلتها، في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: أمرت بعبادة الله تعالى، الجار والمجرور متعلق بـ {أُمِرْتُ}. {مُخْلِصًا} حال من فاعل {أَعْبُدَ}. {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصًا}. {الدِّينَ}: مفعول به لـ {مُخْلِصًا}. {وَأُمِرْتُ}: فعل، ونائب فاعل، معطوف على أمرت الأول، {لِأَنْ أَكُونَ}: اللام: حرف جر بمعنى الباء، {أن}: حرف نصب، {أَكُونَ}: فعل مضارع ناقص، منصوب بـ {أن}، واسمها ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} خبرها، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: وأمرت بكوني أول المسلمين من هذه الأمة. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَخافُ} خبره، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قُلْ}. {إن}: حرف شرط، {عَصَيْتُ}: فعل، وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف تقديره: إن عصيت ربي، أخاف عذابه، وجملة {إِنْ} الشرطية معترضة بين الفعل ومفعوله على كونها مقولًا لـ {قُلْ}، {عَذابَ}: مفعول أخاف، {يَوْمٍ}: مضاف إليه، {عَظِيمٍ}: صفة {يَوْمٍ}. {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)}. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {اللَّهَ}: مفعول مقدم، {أَعْبُدُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {مُخْلِصًا}: حال من فاعل أعبد، {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصًا}، {دِينِي}: مفعول {مُخْلِصًا}، ومضاف إليه. {فَاعْبُدُوا}: الفاء: عاطفة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم عبادتي الله، وأردتم بيان ما أقول لكم .. فأقول لكم: اعبدوا. {أعبدوا}: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون. {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعوله، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب

مقول {قُلْ}. {شِئْتُمْ}: فعل، وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما شئتموه. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور، حال من العائد المحذوف. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {إِنَّ الْخاسِرِينَ}: ناصب واسمه. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول به صلة الموصول. {وَأَهْلِيهِمْ}: معطوف على أنفسهم، {يَوْمَ الْقِيامَةِ} ظرف متعلق بـ {خَسِرُوا} أو حال من أهليهم، يعني: أزواجهم وخدمهم. {أَلا}: حرف استفتاح، {ذلِكَ}: مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْخُسْرانُ}: خبر، {الْمُبِينُ}: صفة لـ {الْخُسْرانُ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مِنْ فَوْقِهِمْ}: حال من {ظُلَلٌ}، و {ظُلَلٌ}: مبتدأ مؤخر، {مِنَ النَّارِ} صفة لـ {ظُلَلٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلِ}. {وَمِنْ تَحْتِهِمْ}: خبر مقدم، {ظُلَلٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {ذلِكَ}: مبتدأ، {يُخَوِّفُ اللَّهُ} فعل، وفاعل، {بِهِ}: متعلق بـ {يُخَوِّفُ}، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر عن اسم الإشارة، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب مقول {قُلِ}. {عِبادَهُ} مفعول به لـ {يُخَوِّفُ}، {يا}: حرف نداء، {عباد}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء إما مستأنفة أو مقول {قُلْ}. {فَاتَّقُونِ}: الفاء: زائدة لتأكيد الربط بين النداء وجوابه، {اتقون}: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب مقول {قُلْ}. التصريف ومفردات اللغة {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} {أَلا} (¬1): من حروف التنبيه، وهي: ها، وألا، ¬

_ (¬1) درويش.

وأما، والفرق بين أما، وألا: أن أما: للحال أو للماضي، وألا: للاستقبال، تقول: أما إن زيدا عاقل، تريد أنه عاقل في الحال، ولا تقول: ألا، وتقول: ألا إن زيدا لا يخاف؛ أي: في المستقبل، ولا تقول: أما، والفرق بينهما وبين ها، أنهما لا يدخلان إلا أول الكلام على الجملة بخلاف ها، فتدخل على الضمير وأسماء الإشارة، وإن لم تكن في أول الكلام، وتدخل أما على القسم كثيرا، وألا كثيرا على النداء، إذا تقرر هذا، فهل تكون هنا للاستقبال، مع أن كون الدين لله هو في كل زمان؟ والجواب: أن المراد هنا الاستقبال، بالنسبة لمن يعتنقون الدين الخالص على أنهما يتعاوران؛ أي: تأتي ألا لمجرد الاستفتاح، ولا يكون التنبيه مقصودًا. {زُلْفى}؛ أي: تقريبًا. فهو مصدر مؤكد على غير لفظ العامل، ملاق له في المعنى. وعبارة «السمين»: زلفى مصدر مؤكد على غير العامل، ولكنه ملاق لعامله في المعنى، والتقدير: ليزلفوننا زلفى؛ أي: ليقربونا قربى، وجوز أبو البقاء أن يكون حالًا مؤكدة، انتهى. {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ} التكوير في الأصل: اللف، واللي، من كار العمامة على رأسه، وكورها، وفي تكويرهما أوجه، كما قاله الزمخشري: 1 - جعلهما خلفة، يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، فكأنما ألبسه، ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس. 2 - كون كل منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر، لف عليه ما غيّبه من مطامح الأبصار. 3 - إن هذا يكر على هذا كرورًا متتابعًا، فشبه ذلك، بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض، وهو أوفق للاشتقاق، من أشياء قد ذكرت، وقال الراغب: كور الشيء: إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة، وقوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما، اهـ.

{ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} إن قلت: كيف (¬1) عطف بـ {ثُمَّ} مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه؟ أجيب: بأن {ثُمَّ} هنا للترتيب في الإخبار، لا في الإيجاد، أو المعطوف متعلق بمعنى واحد، فـ {ثُمَّ} عاطفة لا على {خَلَقَكُمْ}، فمعناه: خلقكم من نفس أفردت بالإيجاد، ثم شفعت بزوج، أو هو معطوف على {خَلَقَكُمْ} لكن المراد بـ {خلقهم}: خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة، لا على هذا الخلق الذي هم فيه الآن بالتوالد والتناسل، وذلك لأن الله تعالى، خلق آدم عليه السلام ثم أخرج أولاده من ظهره كالذر، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى ظهره ثم خلق منه حواء، اهـ كرخى. {سُبْحانَهُ} مصدر (¬2) من سبح إذا بعد؛ أي: تنزه تعالى بالذات عن ذلك الاتخاذ، وعما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء، وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد؛ أي: أسبحه تسبيحًا لائقًا به، أو سبحوه تسبيحًا حقيقًا بشأنه. {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} ويقال لها: الأزواج الثمانية؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه، وأنثاه زوج بذكره، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار، من الضأن: اثنين، ومن المعز: اثنين، ومن الإبل: اثنين، ومن البقر: اثنين. والخيل، والبغال، والحمير خارجة من الأنعام، قال في «بحر العلوم»: الواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره، من جنسه، سمي كل واحد منهما زوجًا، فهما زوجان، بدليل قوله تعالى: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}، وعند الحساب: الزوج خلاف الفرد، كالأربعة والثمانية في خلاف الثلاثة والسبعة. {فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}؛ أي: في أرحامهن. جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؛ أي: فكيف تصرفون، وتردون عن ملازمة بابه بالعبودية، إلى باب عاجز مثلكم من الخلق. {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أصله: يرضاه على أن الضمير عائد إلى الشكر، حذف الألف علامة للجزم. وهو باختلاس ضمة الهاء، عند أهل المدينة وعاصم وحمزة، وبإسكان الهاء، عند أبي ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

عمرو، وبإشباع ضمة الهاء عند الباقين. لأنها صارت بخلاف الألف موصولة بمتحرك. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} والوزر: الحمل الثقيل، ووزره: حمله، والمعنى: ولا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى من الذنب والمعصية. {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ} قال الراغب: المس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى، والضر يقابل بالسراء والنعماء، والضرر بالنفع. {ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} من التخول، وهو التعهد؛ أي: المحافظة والمراعاة؛ أي: جعله خائل مال من قولهم: فلان خائل ماله إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومن شأن الغني الجواد، أن يراعي أحوال الفقراء. أو من الخول، وهو الافتخار؛ لأن الغني يكون متكبرًا طويل الذيل؛ أي: جعله يخول؛ أي: يختال ويفتخر بالنعمة. {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا} جمع ند، وهو يقال لما يشارك في الجوهر فقط، كما في «المفردات»، وقال في «بحر العلوم»: هو المثل المخالف؛ أي: أمثالًا يعتقد أنها قادرة على مخالفة الله سبحانه، ومضادته. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الذي هو التوحيد، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، استعير للتوحيد، لأنه موصل إلى الله تعالى ورضاه، قرىء: {ليضل} بفتح الياء؛ أي: ليزداد ضلالًا أو يثبت عليه، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام: لام العاقبة، فإن النتيجة قد تكون غرضا في الفعل، وقد تكون غير غرض، والضلال والإضلال ليسا بغرضين، بل نتيجة الجعل وعاقبته. {آناءَ اللَّيْلِ} جمع إني بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء، اهـ شيخنا. وفي «المصباح»: الآناء على أفعال هي الأوقات، وفي واحدها لغتان: أنى مثل: معى بكسر الهمزة والقصر، وأنى بفتح الهمزة والنون، وهو الساعة، وقيل: مفردها إنْيٌ وإنْوٌ، بكسر الهمزة وسكون النون فيهما، يقال: مضى أنوان وأنيان من الليل؛ أي: ساعتان.

{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وفي «بحر العلوم»: الفعل منزل منزلة اللازم، ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور كما سبق، والمعنى: لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لا يوجد. {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} قال في «المفردات»: توفيةُ الشيء: بذلُه وافيًا كاملًا، واستيفاؤه: تناوله وافيًا. والمعنى: يعطون أجرهم وافيًا بمقابلة ما كابدوا من العسر. {إِنَّ الْخاسِرِينَ}؛ أي: الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه. وفي «المفردات»: الخسران: انتقاص رأس المال، يستعمل في المال، والجاه، والصحة، والسلامة، والعقل، والإيمان، والثواب، وهو الذي جعل الله سبحانه الخسران. {وَأَهْلِيهِمْ} أصله: أهلين لهم، فحذفت النون للإضافة، واللام للتخفيف، جمع أهل، وأهل الرجل: عشيرته، وذوو قرابته، كما في «القاموس». ويفسر بالأزواج، والأولاد، والعبيد والإماء، وبالأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع كما في «شرح المشارق لابن الملك». {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} والظلل: جمع ظلة كغرف جمع غرفة، وهي سحابة، تظل، وشيء كهيئة الصفة، وفي «كشف الأسرار»: الظلة: ما أظلك من فوقك. {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ}؛ أي (¬1): أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، والوهم، وفي «المفردات»: الألباب: جمع لب، واللب: العقل الخالص من الشوائب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل، وليس كل عقل لبًا، ولذا علّق الله سبحانه الأحكام، التي لا تدركه إلا العقول الذكية، بأولي الألباب، نحو قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ}، ونحو ذلك من الآيات، انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} بعد قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} لتعظيمه، ومزيد الاعتناء بشأنه، ولا تكرار فيه؛ لأن الأول في بيان شأن المنزل، وكونه من عند الله، وهذا في بيان شأن المنزل إليه، وما يجب عليه. ومنها: الإتيان بـ {أَلا} التي للتنبيه والاستفتاح في قوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} إشعارًا بأهمية ما بعدها، وطلبًا للإصغاء إليه. ومنها: التأكيد بالمصدر الملاقي لعامله في المعنى في قوله: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}؛ أي: قربى. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}؛ لأن الأصل يحكم بينهم وبين المسلمين، فحذف المقابل إيجازا للكلام، أو اكتفاء بالمذكور. ومنها: الطباق بين {تكفروا، وتشكروا} وبين {يرجو، ويحذر} وبين {فوقهم، وتحتهم} وبين {ضر، ونعمة}. ومنها: أسلوب التدريج في قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}. فإنه عبر (¬1) عن الأزواج بالإنزال؛ لأنها تكونت بالنبات، والنبات بالماء المنزل، وهذا يسمى التدريج، ومنه: قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا} الآية. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}، وفي قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}، وفي قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ}. ومنها: الإيجاز بالحذف، لدلالة السياق عليه، في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

آناءَ اللَّيْلِ}؛ أي: كمن هو كافر جاحد بربه. ومنها: الأمر بالذي يراد به التهديد في قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا}، وفيه إشعار بأن الكفر نوع تشبه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ} على سبيل الاستئناف للمبالغة، اهـ «بيضاوي». ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ}؛ أي: لا يستوي القانت والكافر. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}؛ لأن السبيل حقيقة في الطريق المعتاد سلوكه، فاستعير للتوحيد بجامع الإيصال إلى المقصود في كل؛ لأن التوحيد موصل إلى الله تعالى، وإلى رضاه، كما أن السبيل الحقيقي يوصل إلى المقصد. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا}. والإضافة للملك، والخلق في قوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ}. ومنها: التهويل في قوله: {أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} ففيه تهويل زاجر، فقد جعل الجملة مستأنفة، وصدرها بحرف التنبيه، ووسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرّف الخسران كأنه مما تعورف أمره، واشتهر هوله، ووصفه بالمبين، فجعل خسرانهم غايةً في الفظاعة ونهاية في الشناعة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}. المناسبة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وعيده (¬1) لعبدة الأصنام .. أردف ذلك بوعد من اجتنبوا عبادتها، وابتعدوا عن الشرك، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد، ويحصل بذلك كمال الترغيب والترهيب. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...} الآية، مناسبة ¬

_ (¬1) المراغي.

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها، ومزيد الشوق إليها .. أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا، توجب النفرة منها، كسرعة زوالها وتقضيها وشيكًا تحذيرًا من الاغترار بزهرتها، والركون إلى لذتها. فمثَّل حالها بحال نبات، يسقى بماء المطر، فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتًا متكسرًا. فما أسرع زواله، وأيسر تقضّيه. قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه، والإعراض عن الدنيا .. أردف ذلك ببيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره، ونوّر قلبه، وأشعر نفسه حب العمل به، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله، فلا هادي له، وأن من يتقي بيديه المخاوف، صيانة لوجهه عن النار، ليس حاله كحال من هو آمن، لا يفكر في مآل أمره، وعاقبة عمله. وبعدئذٍ، ذكر أن هؤلاء المشركين، ليسوا بدعًا في الأمم، فلقد كذب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل، والصغار، والقتل، والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالًا ووبالًا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس، بلسان عربي مبين، لعلهم يرعوون، ويزدجرون. قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهي أن تكون عظة، وذكرى لهم، ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيّهم وضلالهم .. أردفه بذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين، وقبح طريقتهم، ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعًا سيموتون، ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدي، فلا داعي إلى الجدل والخلاف بينك - رضي الله عنه - وبينهم. أسباب النزول قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...} الآية،

[17]

سبب نزولها (¬1): ما أخرجه جويبر، بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ...} الآية، أتى رجل من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكًا، فنزلت فيه هذه الآية: {فَبَشِّرْ عِبادِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي. التفسير وأوجه القراءة 17 - {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} والشياطين، وابتعدوا عنها، وتحرجوا {أَنْ يَعْبُدُوها} بدل اشتمال من الشيطان، فإن عبادة غير الله عبادة للشيطان، إذ هو الآمر بها، والمزين لها. قال في «كشف الأسرار»: كل من عبد شيئًا غير الله فهو طاغ، ومعبوده طاغوت. وفي «التأويلات النجمية»: طاغوت كل أحد نفسه، وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضى مولاه، ورجع إليه بالخروج عما سواه بالكلية، وقرأ الحسن: {الطواغيت} جمعًا. وفي «القاموس»: الطاغوت: اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان، وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، انتهى. وقال سهل (¬2): الطاغوت: الدنيا، وأصلها الجهل، وفرعها المآكل والمشارب، وزينتها التفاخر، وثمرتها المعاصي، وميراثها القسوة والعقوبة، ويستعمل لفظ الطاغوت في الواحد والجمع، كما يفهم من «القاموس». قال في «بحر العلوم»: وفي قوله: {أَنْ يَعْبُدُوها} إشارة، إلى أن المراد بالطاغوت هاهنا الجمع. {وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ} سبحانه، وأقبلوا عليه معرضين عما سواه إقبالًا كليًا، قال في «البحر»: واعلم أن المراد باجتناب الطاغوت: الكفر بها، وبالإنابة إلى الله: ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

[18]

الإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى}. وقدم اجتناب الطاغوت على الإنابة إلى الله، كما قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، على وفق كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، حيث قدم نفي وجود الإلهية على إثبات الألوهية لله تعالى، فقوله: {وَالَّذِينَ} مبتدأ، وقوله: {أَنْ يَعْبُدُوها} بدل اشتمال من الطاغوت، وقوله: {وَأَنابُوا} معطوف على {اجْتَنَبُوا}. وجملة {لَهُمُ الْبُشْرى} خبر المبتدأ؛ أي (¬1): والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، ورجعوا إلى عبادة الله تعالى، وأقبلوا عليه معرضين عما سواه، لهم البشرى في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فالثناء عليهم بصالح أعمالهم، وعند نزول الموت، وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر، وعند الوقوف للحساب، وعند جواز الصراط، وعند دخول الجنة، وفي الجنة، ففي كل موقف من هذه الموافق، تحصل لهم البشارة بنوع من الخير، والراحة، والروح، والريحان، وقيل: لهم البشرى بالثواب والرضوان الأكبر على ألسنة الرسل، بالوحي في الدنيا، أو على ألسنة الملائكة عند حضور الموت، وحين يحشرون، وبعد ذلك، وقال بعضهم: لهم البشرى بأنهم من أهل الهداية والفضل من الله، وهي الكرامة الكبرى. والمعنى (¬2): أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه، لهم البشرى، بالثواب العظيم من الله تعالى، على ألسنة رسله حين الموت، وحين يحشرون من قبورهم للحساب. ثم مدحهم، بأنهم نقّاد في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فقال: {فَبَشِّرْ عِبادِ} والأصل عبادي بالياء، فحذفت 18 - {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} الحق من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}؛ أي: محكمه، ويعملون به؛ أي: فبشر يا محمد عبادي الذين اجتنبوا عبادة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم، وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول، بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وفيه (¬1) تصريح بكون التبشير من لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو تبشير في الدنيا، وأما تبشير الملك فتبشير في الآخرة، كما قال: {لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ}، وبالجملة فتبشير الآخرة مرتب على تبشير الدنيا. فمن استأهل الثاني استأهل الأول. قال السدي (¬2): يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه، وقيل: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبح فلا يتحدث، وقيل: يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن، وقيل: يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو، ويتركون العقوبة، وقيل: إن الآية نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، حين جاؤوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسألوه فأخبرهم بإيمانه، فآمنوا، حكاه المهدوي في «التكملة». فيكون المعنى: يستمعون القول من أبي بكر، فيتبعون أحسنه، وهو قول: «لا إله إلا الله». وفي «كشف الأسرار»: مثال هذا (¬3) الأحسن في الدين أن ولي القتيل، إذا طالب بالدم فهو حسن، وإذا عفا ورضي بالدية فهو أحسن، ومن جزى السيئة بالسيئة مثلها فهو حسن، وإن عفا وغفر فهو أحسن، وإن وزن أو كال فهو حسن، وإن أرجح فهو أحسن، وإن اتزن وعدل فهو حسن، وإن طفف على نفسه فهو أحسن، وإن رد السلام فقال: وعليكم السلام فهو حسن، وإن قال عليكم السلام ورحمة الله فهو أحسن، وإن حج راكبًا فهو حسن، وإن فعله راجلًا فهو أحسن، وإن غسل أعضاءه في الوضوء مرة مرة فهو حسن، وإن غسلها ثلاثًا ثلاثًا فهو أحسن، وإن جزى من ظلمه بمثل مظلمته فهو حسن، وإن جازاه بحسنة فهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

أحسن، وإن سجد أو ركع ساكتًا فهو جائز، وإن فعلهما مسبحًا فهو أحسن. ونظير هذه الآية قوله تعالى لموسى عليه السلام: {فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها}، وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، انتهى ما في «الكشف». وهذا (¬1) معنى ما قال بعضهم: يستمعون قول الله فيتبعون أحسنه، ويعملون بأفضله، وهو ما في القرآن من عفو، وصفح، واحتمال على أذى، ونحو ذلك، فالقرآن كله حسن، وإنما الأحسن بالنسبة إلى الآخذ والعامل، قال السيوطي رحمه الله في «الإتقان» (¬2): اختلف الناس، هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟. فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله، وبعض الأئمة الأعلام إلى المنع؛ لأن الجميع كلام الله تعالى، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وذهب آخرون من المحققين، وهو الحق: كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أفضل من {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ}؛ لأن فيه فضيلة الذكر، وهو كلام الله، وفضيلة المذكور، وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية، وسورة {تَبَّتْ} فيها فضيلة الذكر فقط، وهو كلام الله تعالى، والأخبار الواردة في فضائل القرآن، وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل، وكثرة الثواب في تلاوتها لا تُحصى. قال الإمام الغزالي في «جوهر القرآن» (¬3): كيف يكون بعض الآيات والسور أشرف من بعض، مع أن الكل كلام الله؟ فاعلم نوّرك الله بنور البصيرة، وقلّد صاحب الرسالة عليه السلام. فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال: {يس (1)} قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن، وآية الكرسي سيدة القرآن {وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن». ومن توقف في تعديل الآيات، أول قوله - صلى الله عليه وسلم -، أفضل سورة وأعظم سورة، أراد في الأجر والثواب. لا أن بعض القرآن أفضل من بعض، فالكل في فضل الكلام واحد، والتفاوت في الأجر لا في كلام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الاتقان في علوم القرآن. (¬3) جواهر القرآن.

[19]

الله، من حيث هو كلام الله القديم، القائم بذاته. واعلم (¬1): أن استماع القول عند العارفين، يجري في كل الأشياء. فالحق تعالى، يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى، ولا يتحقق بحقيقة سماعه، إلا أهل الحقيقة، وعلامة سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله من جهة التكليف، المتوجه على الأذن، من أمر أو نهي، كسماعه للعلم والذكر والثناء على الحق تعالى، والموعظة الحسنة، والقول الحسن، والتصامم عن سماع الغيبة والبهتان، والسوء من القول، والخوض في آيات الله، والرفث، والجدل، وسماع القيان، وكل محرم وملاه حجر الشارع عليه سماعه، فإذا كان كذلك كان مفتوح الأذن إلى الله تعالى. {أُولئِكَ} المنعوتون بالمحاسن الجميلة، وهو مبتدأ، خبره قوله: {الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} سبحانه للدين الحق، والاتصاف بمحاسنه؛ أي: هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم، الذين وفقهم الله تعالى للرشاد وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع. {وَأُولئِكَ} المذكورون {هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ}؛ أي: أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة التي لا تطيع الهوى، ولا يغلبها الوهم، المستحقون للهداية لا غيرهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها. وفي الكلام (¬2): دلالة على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى، وقبول النفس لها، يعني: أن لكسب العبد مدخلًا فيها بحسب جري العادة، وفيه إشارة إلى أن أولئك القوم، هم الذين عبروا عن قشور الأشياء، ووصلوا إلى لباب حقائقها. 19 - ثم بيّن أضداد المذكورين أولًا، وسجل عليهم الحرمان من الهداية، فقال: {أَفَمَنْ حَقَّ} ووجب {عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ} وقضاؤه {أَفَأَنْتَ} يا محمد {تُنْقِذُ} وتخرج {مَنْ فِي النَّارِ} وهذا بيان لأحوال عبدة الطاغوت بعد بيان أحوال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

المجتنبين عنها، والهمزة للاستفهام الإنكاري (¬1) داخلة على محذوف دل عليه السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و {مَنْ} شرطية و {حَقَّ} بمعنى: وجب، وثبت، وكلمة العذاب قوله تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}، وكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار، والفاء فيه فاء الجزاء، ثم وضع موضع الضمير {مَنْ فِي النَّارِ} لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب، بمنزلة الواقع في النار، وأن اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار؛ أي: تخليصهم، فإن الإنقاذ: التخليص من الورطة، كما في «المفردات». والمعنى: أأنت يا محمد مالك أمر الناس، فمن حق وثبت عليه من الكفار عدلًا في علم الله تعالى، كلمة العذاب، فأنت تنقذه من النار بهدايتك ودعوتك؛ أي: لا تقدر أن تهديه، وتنقذه من النار، فالآية جملة واحدة من شرط وجزاء، وفيه (¬2) إشارة إلى، أن من حق عليه في القسمة الأولى، أن يكون مظهرًا لصفات قهره إلى الأبد لا تنفعه شفاعة الشافعين، ولا يخرجه من جهنم وسخط الله وطرده وبعده جميع الأنبياء والمرسلين، وإنما الشفاعة للمؤمنين بدليل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها}. ومعنى الآية (¬3): التسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان حريصًا على إيمان قومه، فأعلمه الله تعالى، أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله، لا يقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينقذه من النار، بأن يجعله مؤمنًا، قال عطاء: يريد: أبا لهب، وولده، ومن تخلف من عشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب منزلة من قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان، منزلة الإخراج له من عذاب النار. والمعنى (¬4): أي أأنت مالك شؤون الناس ومصرف أمورهم، فمن حقت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[20]

عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال، وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي، فأنت تنقذه من النار، كلا ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم، يجازيهم بحكمته وعدله. 20 - ولما ذكر سبحانه فيما سبق، أن لأهل الشقاوة ظللًا من النار من فوقهم، ومن تحتهم ظللًا، استدرك عنهم من كان من أهل السعادة، فقال: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} اليوم باجتنابهم عن الشرك والمعاصي، والزلات، والشهوات، وعبادة الهوى، والركون إلى غير المولى سبحانه، فقد أنقذهم الله تعالى في القسمة الأولى، من أن يحق عليهم كلمة العذاب، وحق لهم أن يكونوا مظهر صفات لطفه، وفضله إلى الأبد، بأن يكون {لَهُمْ غُرَفٌ}؛ أي: عُلالي متفاوتة بحسب مقاماتهم في التفوى، جمع غرفة، وهي علّيّة من البناء، وسمي منازل الجنة غرفًا، كما في «المفردات»، لعلوها وارتفاعها {مِنْ فَوْقِها}؛ أي: من فوق تلك الغرف {غُرَفٌ}؛ أي: علالي أخر؛ أي: لهم علالي ومنازل بعضها فوق بعض، بيّن (¬1) أن لهم درجات عالية في جنات النعيم، بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم {مَبْنِيَّةٌ} تلك الغرف، الموصوفة بناء المنازل على الأرض الرصانة والإحكام، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها. وفي «بحر العلوم»: {مَبْنِيَّةٌ} بنيت من زبرجد وياقوت ودر، وغير ذلك من الجواهر، وفيه إشارة بأنها مبنية بأيدي أعمال العاملين، وأحوال السالكين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت تلك الغرف المنخفضة والمرتفعة {الْأَنْهارُ} الأربعة من غير تفاوت بين العلو والسفل، وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها، وانتصاب {وَعْدَ اللَّهِ} على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة قبلها؛ لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى الوعد؛ أي: وعدهم الله سبحانه تلك الغرف والمنازل وعدًا، وجملة قوله: {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ} مقررة للوعد؛ أي: لا يخلف الله ما وعد الفريقين من الخير والشر، والخلف: نقض العهد، وهو على الله محال، والميعاد بمعنى الوعد. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[21]

والمعنى (¬1): أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف؛ أي: طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجري من تحتها الأنهار الأربعة، الجارية في الجنة الماء، واللبن، والخمر، والعسل المصفى، ثم أكد حصول ذلك لهم بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ}؛ أي: وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفي بوعده. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراؤون الكوكب الدرّي، الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم»، فقالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» متفق عليه. قوله: «الغابر»؛ أي: الباقي في ناحية المشرق أو المغرب. وفي الآية دقيقة شريفة (¬2): وهي أنه تعالى، لم يذكر في آيات الوعيد البتة، مثل هذا التأكيد، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد، أما قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} ليس تصريحا بجانب الوعيد، بل هو كلام عام، يتناول الوعد والوعيد، فثبت أن ترجيح الوعد حق، خلافًا للمعتزلة. 21 - ولما ذكر سبحانه الآخرة، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها .. أتبعه بذكر الدنيا، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلًا لها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع، فقال: {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم يا محمد، أو أيها المخاطب، أو ألم تر أيها الناظر، والاستفهام فيه تقريريّ، والرؤية إما بصرية أو قلبية، والخطاب إما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو عام، وهو أولى؛ أي: ألم تعلم أيها المخاطب {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ}؛ أي: من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

السحاب {ماءً}؛ أي: مطرًا {فَسَلَكَهُ}؛ أي: فسلك ذلك الماء، وأدخله في الأرض؛ أي: أدخل ذلك الماء النازل من السماء في الأرض، وأسكنه فيها، وجعله {يَنابِيعَ}؛ أي: عيونًا، وركايًا، ومجاري كائنات {فِي الْأَرْضِ} كالعروق في الأجساد. قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل. والمعنى (¬1): أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيونًا جارية، أو جعله في ينابيع؛ أي: في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله عيونًا، وركايًا في الأرض. ونصب {يَنابِيعَ} إما على الظرفية، أو على الحال، أو على أنه مفعول ثان، لجعل المقدر. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ}؛ أي: يخرج بذلك الماء من الأرض، وكلمة (¬2) {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، أو الزمان {زَرْعًا}؛ أي: نباتًا {مُخْتَلِفًا}؛ أي: متنوعًا {أَلْوانُهُ}؛ أي: صفاته، وكيفياته من الطعوم والروائح، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وأغبر وأسود، من المر والحالي والطيّب، وغيره، قال في «المفردات»: اللون معروف، وينطوي على الأبيض، والأسود، وغيرهما، وقد يعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع؛ أي: مختلفًا أجناسه من بر، وشعير، وأرز، وذرة، أو أنواعه كأنواع الحنطة، والشعير، والذرة. {ثُمَّ يَهِيجُ} ذلك الزرع النابت بالماء، وييبس، يقال: هاج النبت إذا تم جفافه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور من منبته. {فَتَراهُ}؛ أي: فتبصر أيها المخاطب ذلك النبت من يبسه {مُصْفَرًّا} بعد خضرته، ونضرته؛ أي: تراه ذا صفرة، والصفرة: لون بين البياض والسواد، كما سيأتي في مبحث اللغة، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ}؛ أي: يجعل الله سبحانه ذلك النبت اليابس {حُطامًا}؛ أي: فتاتًا متكسرًا، كأن لم يغن بالأمس، يقال: تحطم العود إذا تفتت من اليبس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية، علّقت بجعل الله تعالى كالإخراج، وعبّر هنا بلفظ {يَجْعَلُهُ}، وفي الحديد بلفظ (يكون) موافقةً في كل منهما لما قبله، اهـ من «فتح الرحمن». ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[22]

وقرأ الجمهور (¬1): {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} بالرفع عطفًا على ما قبله، وقرأ أبو بشر: بالنصب بإضمار {أن}، ولا وجه لذلك. {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور مفصلًا {لَذِكْرى}؛ أي: لتذكيرًا عظيمًا {لِأُولِي الْأَلْبابِ}؛ أي: لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال، يتذكرون بذلك، أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والإنصرام، كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها، ولا يفتنون بفتنها. قال في «كشف الأسرار»: الإشارة في هذه إلى أن الإنسان يكون طفلًا، ثم شابًا ثم كهلًا، ثم شيخًا ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم آخره يحترم، ويقال: إن الزرع ما لم يؤخذ منه الحب الذي هو المقصود منه، لا يكون له قيمة، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه، لا يكون له قدر ولا قيمة، انتهى. فالمعنى (¬2): إنك أيها الرسول لتشاهد الماء، وقد نزل من السماء، فجرى عيونًا في الأرض، فسُقيت به أنواع مختلفة، من النبات من بر إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتًا متكسرةً، فما أشبه حال الدنيا بحالها، فهي سريعة التقضي، وشيكة الزوال، فليعتبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها، ولا يفتنوا بزخرفها، ونحو الآية قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}. 22 - ثم لما ذكر سبحانه، أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام؛ لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به، فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} والهمزة (¬3) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و {مِنْ} شرطية، جوابها قوله: {فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أو موصولة خبرها محذوف، دل عليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ}. والتقدير: أكل الناس سواء، فمن وسّع الله صدره للإسلام فقبله، واهتدى بهديه {فَهُوَ} بسبب ذلك الشرح {عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره، فصار في ظلمات الضلالة، وبليات الجهالة، والمراد بشرح الصدر: خلقه متسع الصدر مستعدًا للإسلام، فبقي على الفطرة الأصلية، ولم يتغير بالعوارض المكتسبة القادمة فيها، فهو بسبب ذلك، مستقر على نور عظيم من ربه، والمراد بالنور: اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق؛ أي: كمن قسا قلبه، وحرّج صدره، بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره، واستولت عليه ظلمات الغي، والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية، حتى لا يتذكر بها، ولا يغتنمها كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}. يعني ليس من هو على نور، كمن هو على ظلمة، فلا يستويان كما لا يستوي النور والظلمة، والعلم والجهل. واعلم (¬1): أنه لا نور ولا سعادة لمسلم، إلا بالعلم والمعرفة، ولكل واحد من المؤمنين معرفة تختص به، وإنما تتفاوت درجاتهم بحسب تفاوت معارفهم، والإيمان والمعارف أنوار، فمنهم من يضيء نوره جميع الجهات، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، فإيمان آحاد العوام نوره كنور الشمع، وبعضهم نوره كنور السراج، وإيمان الصديقين نوره كنور القمر، والنجوم على تفاوتها، وأما الأنبياء فنور إيمانهم كنور الشمس وأزيد، فكما ينكشف في نورها كل الآفاق مع اتساعها، ولا ينكشف في نور الشمع إلا زاوية ضيقة من البيت، كذلك يتفاوت انشراح الصدور بالمعارف، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث: أنه يقال يوم القيامة: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ونصف مثقال، وربع مثقال، ففيه تنبيه على تفاوت درجات الإيمان، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وبقدره تظهر الأنوار يوم القيامة في المواقف، خصوصًا عند المرور على الصراط. والمعنى (¬1): أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه، وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب، المهيئة للحكمة الممهدة لقبول الحق، والموصلة إلى الرشاد، كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته، وقد روي: أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل حلول الموت. والخلاصة: هل يستوي من أنار الله بصيرته، ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق؟. ونحو الآية قوله: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها}. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية، فقلنا: يا نبي الله، كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب، انشرح وانفسح»، قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت». وأخرج الترمذي عن ابن عمر، أن رجلا قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع»، فقالوا: ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت». ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدّر في الجملة السابقة، فقال: {فَوَيْلٌ} شديد، وهلاك عظيم، وخسران مبين، كائن وثابت {لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: للذين قست، وغلظت قلوبهم {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب؛ أي: إذا ذكر الله تعالى عندهم، وآياته اشمأزوا من أجله، وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) المراغي.

{فَزادَتْهُمْ رِجْسًا}. فإن قلت (¬1): كيف يقسو القلب عن ذكر الله، وهو سبب لحصول النور والهداية؟. قلت: إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به .. قست قلوبهم عن الإيمان به، قيل: إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر، كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق، فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة، كحر الشمس، يلين الشمع ويعقد الملح، فكذلك القرآن يلين المؤمنين عند سماعه، ولا يزيد الكافرين إلا قسوةً، قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وقرىء {عن ذكر الله}؛ أي: فويل للذين غلظت قلوبهم عن قبول ذكر الله، وقال الزجاج، والفراء: {مِنْ} في القراءة المشهورة بمعنى، عن أي: عن ذكر الله، يقال: أتخمت عن طعام: أكلته، ومن طعام أكلته، وهذا الأخير أوضح، وأولى، كما قاله الشوكاني، وقال الله سبحانه وتعالى، لموسى عليه السلام في مناجاته: يا موسى لا تطل في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقلب القاسي مني بعيد، وكن خلق الثياب، جديد القلب، تخف على أهل الأرض، وتعرف في أهل السماء، وفي الحديث: تورث القسوة في القلب ثلاث خصال حب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة. وفي الحديث أيضًا: «أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كل أكول شروب نؤوم، كلوا واشربوا في أنصاف البطون، فإنه جزء من النبوة». {أُولئِكَ} البعداء الموصوفون، بما ذكر من قساوة القلب {فِي ضَلالٍ} بعيد عن الحق {مُبِينٍ} ظاهر كونه ضلالًا للناظر بأدنى نظر. واعلم (¬2): أنّ الآية عامة فيمن شرح صدره للإسلام، بخلق الإيمان فيه، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأبي لهب، وولده، فحمزة وعلي ممن شرح الله صدرهما للإسلام، وأبو لهب ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[23]

وولده من الذين قست قلوبهم، فالرحمة للمشروح صدره، والغضب للقاسي قلبه. 23 - ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} هو القرآن الكريم الذي لا نهاية لحسنه، ولا غاية لجمال نظمه وملاحة معانيه، وهو أحسن مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين، وأكمله وأكثره أحكامًا، وأيضا أحسن الحديث لفصاحته وإعجازه، وأيضا لأنه كلام الله، وهو قديم، وكلام غيره مخلوق محدث، وأيضًا لكونه صدقًا كله إلى غير ذلك، سمي حديثًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه، فلا يدل على حدوث القرآن، فإن الحديث في عرف العامة: الخبر، والكلام. والمعنى: إن فيه مندوحةً عن سائر الأحاديث، وعبر بنزل دون أنزل إشعارًا بأنه متكرر النزول بحسب الوقائع. {كِتابًا} بدل من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، ويحتمل أن يكون حالًا منه {مُتَشابِهًا} معانيه في الصحة، والحسن، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه في الفصاحة، وتجاوب نظمه في الإعجاز، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، وقال قتادة: يشبه بعضه بعضًا في الآي، والحروف، وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه. {مَثانِيَ} صفة أخرى لكتابًا؛ أي: تثنى فيه القصص، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام، وقيل: يثنى في التلاوة، فلا يمل سامعه، ولا يسأم قارئه. وقرأ الجمهور (¬1): {مَثانِيَ} بفتح الياء، وهشام، وابن عامر، وأبو بشر بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوبًا، وسكنت الياء على قول من سكن الياء، في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالًا للحركة عليها، ووصف (¬2) الواحد، وهو الكتاب بالجمع، وهو المثاني باعتبار تفاصيله، كما يقال: القرآن سور وآيات، والإنسان عروق وعظام وأعصاب، وهو جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون، بمعنى مردد ومكرر، لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

ثني من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه، أو لأنه ثني في التلاوة فلا يمل، كما جاء في نعته: لا يخلق على كثرة التردد؛ أي: لا يزول رونقه، ولذة قراءته، واستماعه من كثرة ترداده على ألسنة التالين، وتكراره على آذان المستمعين، وأذهان المتفكرين، على خلاف ما عليه كلام المخلوق، وفي القصيدة البردية: فَلا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى عَجَائِبُهَا ... وَلا تُسَامُ عَلَى الإِكْثَارِ بالسَّأَمِ أي: لا تقابل آيات القرآن مع الإكثار بالملال. وقوله: {تَقْشَعِرُّ}؛ أي: تتقبض، وتتجمع؛ أي: تضطرب، وترتعد {مِنْهُ}؛ أي: من استماعه {جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ} ويخافون {رَبَّهُمْ}؛ أي: عذابه عند استماع وعيده، كلام مستأنف، مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه، بعد بيان أوصافه في نفسه، وتقرير كونه أحسن الحديث، يقال: اقشعر جلده: أخذته قشعريرة؛ أي: رعدة، كما في «القاموس». والجلد: قشر البدن كما في «المفردات». وقال بعضهم: أصل الاقشعرار تغير، كالرعدة يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف. وفي «الإرشاد»: الاقشعرار: التقبض. يقال: اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضًا شديدًا، وتركيبه من القشع، وهو الأديم اليابس، قد ضم إليه الراء ليكون باعثًا ودالًا على معنى زاد، يقال: اقشعر جلده ووقف شعره إذا عرض له خوف شديد، من منكر حائل وهمه بغتةً. والمراد: إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير، أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، وهو الظاهر، إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو يحصل من التأثر القلبي فلا ينكر. والمعنى: إنهم إذا سمعوا بالقرآن، وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية، تقشعر منها جلودهم؛ أي: يعلوها أي: يعلوها قشعريرة ورعدة. {ثُمَّ} إذا ذكروا رحمة الله سبحانه، وعموم مغفرته عند سماع وعده {تَلِينُ

جُلُودُهُمْ}؛ أي: لانت أبدانهم {وَقُلُوبُهُمْ}؛ أي: نفوسهم {إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، واللين: ضد الخشونة، ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخلق ولغيره من المعاني، والجلود: عبارة عن الأبدان والقلوب عن النفوس؛ أي: ثم إذا ذكروا رحمة الله، وعموم مغفرته لانت أبدانهم، واطمأنت قلوبهم إلى ذكر الله ووعده للمؤمنين، وزال عنها ما كان بها من الخشية، والقشعريرة، بسبب سماع وعيده، بأن تبدلت خشيتهم رجاء، ورهبتهم رغبة، وتعدية اللين بـ {إِلى} لتضمنه معنى السكون والاطمئنان، كأنه قيل: تسكن وتطمئن إلى ذكر الله، لينة غير منقبضة، راجية غير خاشعة، أو تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله، على أن المتضمن بالكسر يقع حالًا من المتضمن بالفتح، وإنما أطلق {ذِكْرِ اللَّهِ}، ولم يصرح بالرحمة إيذانًا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى. فإن قلت (¬1): لم ذكرت الجلود وحدها أولًا، ثم قرنت بها القلوب ثانيًا؟. قلت: لتقدم الخشية التي هي من عوارض القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم من أول وهلة، فإذا ذكروا الله، ومبنى أمره على الرأفة والرحمة، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، والقشعريرة لينا في جلودهم، فالجملتان إشارة إلى الخوف والرجاء أو القبض والبسط. والمعنى (¬2): أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنًا كريمًا يشبه بعضه بعضًا، في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء، وأجزاء النبات والزهر، تثني وتردد قصصه وأنباءه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس، قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب، اقشعرت جلود الخائفين لله، وقال العباس بن عبد المطلب: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقشعر جلده من خشية الله، تحاتت عنه ذنوبه، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها»، وقال ابن عمر: وقد رأى ساقطا من ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

[24]

سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن قومًا اليوم إذا سمعوا القرآن، خر أحدهم مغشيًا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن، أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق والإشارة في قوله {ذلِكَ} إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، و {هُدَى اللَّهِ} خبره؛ أي: ذلك الكتاب الذي شرح أحواله هدى الله سبحانه {يَهْدِي بِهِ}؛ أي: بذلك الكتاب {مَنْ يَشاءُ} أن يهديه من المؤمنين المتقين كما قال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} لصرف مقدوره إلى الاهتداء، بتأمله فيما في تضاعيفه من الشواهد الخفية، ودلائل كونه من عند الله تعالى، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين؛ أي: ذلك المذكور أثر هداية الله تعالى؛ أي: ذلك الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته علامة هداية الله، وتوفيقه للإيمان. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: يخلق فيه الضلالة لصرف قدرته إلى مباديها، وإعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية، وعدم تأثره بوعده ووعيده أصلًا {فَما لَهُ}؛ أي: لذلك الضال {مِنْ هادٍ} يهديه إلى الحق، ويخلصه من ورطة الضلال. وفي «التأويلات النجمية»: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بأن يكله إلى نفسه وعقله، ويحرمه من الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم، وقرأ الجمهور: {مِنْ هادٍ} بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء. 24 - والهمزة (¬1) في قوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، و {مَنْ} موصولة، والخبر محذوف، والتقدير: أكل الناس سواء، فمن شأنه وهو الكافر أن يتقي نفسه، ويحفظها بوجهه الذي هو أشرف أعضائه. {سُوءَ الْعَذابِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

العذاب السيء الشديد {يَوْمَ الْقِيامَةِ} لكون يده التي بها كان في الدنيا يتقي المكاره، والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه؛ أي: لا يستويان، فإن الأول في النار، والثاني في الجنة، قال الزجاج: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، كمن يدخل الجنة، قال عطاء، وابن زيد: يُرمى به مكتوفًا في النار، فأول شيء تمس النار منه وجهه، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وقال الأخفش: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أمّن سعد. ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين، من الإهانة في ذلك اليوم. فقال: {وَقِيلَ} تهكمًا واستهزاءً {لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: تقول الخزنة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي: {ذُوقُوا}؛ أي: باشروا {ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}؛ أي: وبال ما كسبت في الدنيا، ودسيتم به أنفسكم، حتى أوقعتموها في الهاوية النار الحامية، وجملة {قِيلَ} معطوفة على جملة {يَتَّقِي}، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: {ذُوقُوا}. وعبارة «المراح» هنا: وتقدير (¬1) الكلام: أكل الناس سواء، فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة، يقي به نفسه العذاب الشديد يوم القيامة، وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا، كمن هو آمن من العذاب؛ أي: لا يستويان. قيل (¬2): يلقى الكافر في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت، مثل الجبل العظيم، فتشتعل النار فيها وهي في عنقه، فحرها على وجهه، لا يطيق دفعها عنه، للأغلال التي في يديه وعنقه، قيل: نزلت هذه الآية في أبي جهل، وأضرابه. 25 - ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراح.

[26]

قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل الكفار المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، من الأمم السابقة؛ أي: كذبوا أنبياءهم كما كذبك قومك {فَأَتاهُمُ الْعَذابُ} المقدر لكل أمة منهم {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}؛ أي: من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم إتيان العذاب والشر، منها بيناهم آمنون رافهون، إذ فوجئوا من مأمنهم. فمعنى: من حيث لا يشعرون آتاهم العذاب، وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب، وقيل: معناه: لا يعرفون له مدفعًا ولا مردًا. وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: أتاهم العذاب في صورة الصحة والنعمة، والسرور وهم لا يشعرون أنه العذاب، وأشد العذاب ما يكون غير متوقع 26 - {فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: أذاق الله سبحانه، الذين من قبلهم {الْخِزْيَ}؛ أي: الذل والهوان والصغار، يعني: أحسوا به إحساس الذائق المطعوم {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} بيان لمكان إذاقة الخزي، وذلك الخزي كالمسخ، والخسف، والغرق، والقتل، والسبي، والإجلاء، ونحو ذلك من فنون النكال، وهو العذاب الأدنى {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ} المعد لهم {أَكْبَرُ} وأشد وأنكى من عذاب الدنيا، لعظمه ودوامه {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}؛ أي: لو كانوا ممن يعلم الأشياء، ويتفكر فيها، ويعمل بمقتضى علمه، لعلموا (¬1) ذلك، واعتبروا به، وما عصوا الله ورسوله، وخلصوا أنفسهم من العذاب، فعلى العاقل أن يرجع إلى ربه بالتوبة والإنابة، كي يتخلص من عذاب الدنيا والآخرة، وعبارة «أبي السعود»: لو كانوا يصدقون، ويوقنون بعذاب الآخرة، ما كذبوا رسلهم في الدنيا، اهـ. وعن الشبلي - رحمه الله - قال: قرأت أربعة آلاف حديث، ثم اخترت منها واحدًا، وعملت به، وخليت ما سواه، لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه، وكان علم الأولين والآخرين مندرجًا فيه، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض أصحابه: «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها»، فإذا كان الصبر على النار غير ممكن للإنسان الضعيف .. فليسلك طريق النجاة، المبعدة عن النار، الموصلة إلى الجنات، وأعلى الدرجات. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[27]

27 - ثم بيّن أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال، والمواعظ، عبرة لهم لو كانوا يعقلون، فقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بيّنا، وأوضحنا {لِلنَّاسِ}؛ أي: لأهل مكة، والمراد (¬1) بالناس: أهل مكة، كما في «الوسيط»، ويعضّده ما قاله بعضهم: من أن الخطاب بقوله: {يا أيها الناس} في كل ما وقع في القرآن لأهل مكة، والظاهر: التعميم لهم، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة؛ أي: أوضحنا وبيّنا لهم {فِي هذَا الْقُرْآنِ} الكريم الحكيم {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}؛ أي: كل صفة غريبة عجيبة، هي في غرابتها وحسنها كالمثل السائر، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كقصة الأولين وقصة المبعوثين يوم القيامة، وغير ذلك. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} به، ويتعظون 28 - وقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}؛ أي: نزل بلغة العرب، حال مؤكدة من {هذَا الْقُرْآنِ} على أن مدار التأكيد هو الوصف؛ أي: المؤكد في الحقيقة هو الوصف، ومفهومه. وبعضهم جعل القرآن توطئة للحال التي هي عربيًا، والحال الموطئة اسم جامد، موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، ويجوز أن ينتصب على المدح؛ أي: أريد بهذا القرآن قرآنًا عربيًا {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}؛ أي: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تناقض، ولا عيب، ولا خلل، والفرق (2) بينه بالفتح وبينه بالكسر: أن كل ما ينتصب كالحائط، والجدار، والعود فهو عوج بفتح العين، وكل ما كان في المعاني والأعيان الغير المنتصبة فهو بكسرها، ولذا قال أهل التفسير: لم يقل مستقيمًا أو غير معوج مع أنه أخصر لفائدتين: إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج ما بوجه من الوجوه لما قال: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}. والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل: غير ذي لبس، وقيل: غير ذي لحن، وقيل: غير ذي شك. كما قال الشاعر: وَقَدْ أَتَاكَ يَقِيْنٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ ... مِنْ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوْبِ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غير ذي عوج؛ أي: غير مخلوق، وذلك لأن كونه مقروءًا بالألسنة، ومسموعًا بالآذان، ومكتوبًا في الأوراق، ومحفوظًا في الصدور لا يقتضي مخلوقيته، إذ المراد: كلام الله القديم القائم بذاته. وفي حقائق البقلي: قرآنًا قديمًا ظهر من الحق على لسان حبيبه، لا يتغير بتغير الزمان، ولا يرهقه غبار الحدثان، لا تعوجه الحروف، ولا تحيط به الظروف، وفي «بحر الحقائق»: صراطًا مستقيمًا إلى حضرتنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ أي: لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى، علة أخرى مترتبة على الأولى، فإن المصلحة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها أولًا، ثم تحصيل التقوى، والمعنى: لعلهم يعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على حدود الله تعالى في القرآن، والاعتبار بأمثاله. والمعنى: وعزتي وجلالي، قد بينا (¬1) لهؤلاء المشركين بالله، أمثال القرون الخالية، تخويفا لهم، وتحذيرا ليتعظوا، ويزدجروا، ويقلعوا عما هم عليه، مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربي لا لبس فيه، ولا اختلاف ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه، ويفردوه بالعبادة، ويتبرؤوا من الآلهة والأنداد. 29 - ثم أورد سبحانه مثلًا من تلك الأمثال، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}؛ أي: بيّن الله تمثيل حالةٍ عجيبة، بأخرى مثلها، ثم بيّن المثل، فقال: {رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} والمراد (¬2) بضرب المثل هنا: تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها، كما مر في أوائل سورة يس. و {مَثَلًا} مفعول ثان لضرب، و {رَجُلًا} مفعوله الأول، أخر عن الثاني للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل. و {فِيهِ} خبر مقدم لقوله: {شُرَكاءُ}، والجملة في حيز النصب على الوصفية لرجلا، ومعنى {مُتَشاكِسُونَ}؛ أي: مختلفون عسروا الأخلاق سيئوها. والمعنى: جعل الله تعالى للمشرك مثلا، حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

عبوديته، عبدًا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه، ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحسره، وتوزع قلبه. {وَرَجُلًا}؛ أي: وجعل للموحد مثلا رجلًا {سَلَمًا}؛ أي: خالصًا {لِرَجُلٍ} فردٍ وسيدٍ واحدٍ، ليس لغيره عليه سبيل أصلًا، فالتنكير في كل منهما للإفراد؛ أي: فردًا من الأشخاص لفرد من الأشخاص، والسلم: بفتحتين وكقتل وفسق مصدر من سلم له كذا؛ أي: خلص له واختص به كما سيأتي، وُصف به مبالغةً كرجل عدل؛ أي: سالمًا أو ذو سلامة واختصاص به، والرجل ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر، وتخصيص الرجل لأنه أنطق، وأفطن وأعرف لما يجرى عليه من الضر والنفع، لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ} للإنكار؛ أي: ما يستوي الرجلان المذكوران المشترك والمختص {مَثَلًا}؛ أي: من جهة الصفة والحال، نصب على التمييز، والوحدة حيث لم يقل: مثلين لبيان الجنس وإرادته، فيعم؛ أي: هل يستوي حالهما وصفاتهما، يعني: لا يستويان. والحاصل: أن الكافر كالعبد الأول، في كونه حيران متفرق البال؛ لأنه يعبد آلهة مختلفة؛ أي: أصنامًا لا يجيء منها خير، بل يكون سببًا لوقوعه في أسفل سافلين، كما أن العبد يخدم ملاكا متعاسرين، مختلفي الأهوية، لا يصل إليه منهم منفعة أصلًا. والمؤمن كالعبد الثاني، في انضباط أحواله واجتماع باله، حيث يعبد ربًا واحدًا يوصله إلى أعلى عليين، كما أن العبد يخدم سيدًا واحدًا يرضى عنه، ويصل إليه بالعطاء الجزيل. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن بخلاف عنه، والجحدري، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب (¬1): {سالما} بالألف وكسر اللام، اسم فاعل من سلم؛ أي: خالصًا عن الشركة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه، وباقي السبعة {سلما} بفتح السين وسكون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

اللام، وهذه أيضًا مصدر وصف به، مبالغة في الخلوص من الشركة، وقرىء {ورجل سالم} برفعهما، وقال الزمخشري؛ أي: وهناك رجل سالم لرجل، انتهى. فجعل الخبر {هناك}، وقرىء {هل يستويان مثلين}، فطابق حال الرجلين، ذكره أبو حيان. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حيث خصمهم، كما قال مقاتل؛ أي: قطعهم بالخصومة، وغلبهم، وأظهر الحجة عليهم، ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل، وقال الشوكاني: وجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تقرير لما قبلها، من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين، بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة، المستحقة لتخصيص الحمد به. ثم أضرب سبحانه، عن نفي الاستواء، المفهوم من الاستفهام الإنكاري، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك، والضلال من فرط جهلهم، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} وهم المشركون {لا يَعْلَمُونَ} عدم استوائهما مع ظهوره، ووضوحه لفرط جهالتهم، أو لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره، فيشركوا به سواه. وعبارة «المراح» في معنى الآية: أي (¬1): واضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك، قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدعي أنه عبده، فهم يتجاذبونه في حوائجهم، وهو متحير في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر، فهو يبقى متحيرًا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته، فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد، يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأي هذين العبدين أحسن حالًا، وأحمد شأنا، وأقل تعبًا؟ وهذا مثل ضربه الله للكافر، الذي يعبد ¬

_ (¬1) المراح.

[30]

آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد الله وحده، انتهى. وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا}؛ أي: هل تستوي صفتاهما، وحالاهما؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}؛ أي: بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو ثبت أن الحمد لله لا لغيره {بَلْ أَكْثَرُهُمْ}؛ أي: أكثر الناس لا يعلمون اختصاص الحمد بالله، فيشركوا به غيره. وفي الآية (¬1): إشارة إلى بيان عدم الاستواء، بين الذي يتجاذبه شغل الدنيا، وشغل العيال، وغير ذلك من الأشياء المختلفة، والخواطر المتفرقة، وبين الذي هو خالص لله، ليس للخلق فيه نصيب، ولا للدنيا نصيب. وهو من الآخرة غريب، وإلى الله قريب منيب. والحاصل: أن الراغب في الدنيا شغلته أمور مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه، وإذا كان في العبادة يكون قلبه مشغولًا بالدنيا، والزاهد قد تفرّغ من جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد ربه خوفًا وطمعًا، والعارف قد تفرغ من الكونين، فهو يعبد ربه شوقًا إلى لقائه، فلا استواء بين البطّالين والطالبين، وبين المنقطعين والواصلين الحمد لله، والثناء له خاصةً. فعلى العاقل الرجوع إلى الله، والعمل بما في القرآن، والاعتبار بأمثاله حتى يكون من الذين يعلمون حقيقة الحال. 30 - ولما لم يلتفتوا إلى الحق، ولم ينتفعوا بضرب المثل .. أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله تعالى، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه تعالى، وهو الحاكم العادل، وهناك يتميز المحق من المبطل، فقال: {إِنَّكَ} يا محمد {مَيِّتٌ}؛ أي: ستموت لا محالة {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وكفار مكة الذين يتربصون بك الموت {مَيِّتُونَ}؛ أي: سيموتون؛ أي: إنكم جميعًا بصدد الموت، والموت يعمكم، ولا معنى للتربص والشماتة، بل هو عين الجهالة. وقرأ الجمهور: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} بالتشديد، وهي تُشعر بالثبوت واللزوم كالحي، وقرأ ابن محيصن، وابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، واليماني، وابن غوث، وابن أبي عبلة {مائت ومائتون}. وهي تُشعر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[31]

بحدوث الصفة. قال الفراء والكسائي: الميت بالتشديد: من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف: من قد مات وفارقته الروح، قال قتادة: نُعيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، ونعيت إليهم أنفسهم. 31 - ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه - صلى الله عليه وسلم - سيموت، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، مع كونه توطئة وتمهيدًا لما بعده، حيث قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ}؛ أي: إنك، وإياهم على تغليب ضمير المخاطب، على ضمير الغائب. وأكد بـ {إن} وإن كان الاختصام مما لا ينكر، لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الاختصام لانهماكهم في الغفلة عنه {يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}؛ أي: عند مالك أمركم {تَخْتَصِمُونَ}؛ أي: تخاصمهم يا محمد، فتحتج أنت عليهم، بأنك بلغتهم ما أرسلت به إليهم من الأحكام والمواعظ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق، حق الاجتهاد، وهم قد لجوا في المكابرة والعناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لومًا ولا تقريعًا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان، وآباؤنا الأولون، وفي «بحر العلوم»: الوجه الوجيه: أن يراد الاختصام العام، وأن يخاصم الناس بعضهم بعضا، مؤمنًا أو كافرًا، فيما جرى بينهم في الدنيا بدلائل: منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة، والله ما يتكلم لسانها، ولكن يداها تشهدان، ورجلاها عليها بما كانت تعيّب لزوجها، وتشهد عليه يداه ورجلاه بما كان يؤذيها». وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه، من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمّلت عليه»، رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من المفلس»؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المفلس، من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت

عليه، ثم طُرح في النار»، أخرجه مسلم. فإن قلت: قال في آية أخرى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}، وبينهما معارضة. قلت: إن في يوم القيامة ساعات كثيرة، وأحوالها مختلفة، مرة يختصمون، ومرة لا يختصمون، كما أنه قال: {فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ}، وقال في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)}. يعني: في حال يتساءلون، وفي حال لا يتساءلون، وكما أنه قال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)}، وفي موضع آخر {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)}، ونحو هذا كثير في القرآن. فائدة: قال ابن مسعود رضي الله عنه: لما دنا فراق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها ثم نظر إلينا، فدمعت عيناه، وقال: «مرحبًا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، أوصيكم بتقوى الله وطاعته، قد دنا الفراق، وحان المنقلب إلى الله تعالى، وإلى سدرة المنتهى، وجنة المأوى، يغسلني رجال أهل بيتي، ويكفنوني في ثيابي هذه إن شاؤوا، أو في حلة يمانية، فإذا غسلتموني وكفنتموني، ضعوني على سريري في بيتي هذا، على شفير لحدي، ثم اخرجوا عني ساعة، فأول من يصلي عليّ، حبيبي جبرائيل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا، فصلوا عليّ»، فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا، وقالوا: يا رسول الله، أنت رسول ربنا، وشمع جمعنا، وبرهان أمرنا، إذا ذهبت عنا فإلى من نرجع في أمورنا؟ قال: «تركتكم على المحجة البيضاء»؛ أي: على الطريق الواضح «ليلها كنهارها»؛ أي: في الوضوح «ولا يزيغ بعدها إلا هالك، وتركت لكم واعظين، ناطقًا وصامتًا، فالناطق القرآن، والصامت الموت، فإذا أشكل عليكم أمر، فارجعوا إلى القرآن والسنّة، وإذا قست قلوبكم، فليّنوها بالاعتبار في أحوال الموت»، فمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه ذلك، من صداع عرض له، وكان مريضًا ثمانية عشر يومًا، يعوده الناس، ثم مات يوم الإثنين، ما بعثه الله فيه، فغسله علي رضي الله عنه وصب الماء - أي: ماء بئر غرس - الفضل بن عباس رضي الله عنهما، ودفنوه ليلة الأربعاء وسط الليل، وقيل: ليلة الثلاثاء في حجرة

عائشة رضي الله عنها. وفي الحديث: «من أصيب بمصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها أفظع المصائب». وأنشد بعضهم: اصْبِر لِكُلِّ مُصِيْبَةٍ وَتَجَلَّدِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيَرُ مُخَلَّدِ وَإِذَا اعْتَرَتْكَ وَسَاوِسٌ بِمُصِيْبَةٍ ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ الإعراب {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17)}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ. {اجْتَنَبُوا}: صلة الموصول. {الطَّاغُوتَ}: مفعول به. {أَنْ}: حرف مصدر، {يَعْبُدُوها}: فعل، وفاعل، ومفعول به، منصوب بأن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر، منصوب على أنه بدل اشتمال، من {الطَّاغُوتَ}، تقديره: والذين اجتنبوا الطاغوت عبادتها. {وَأَنابُوا}: فعل، وفاعل، معطوف على الصلة {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {أَنابُوا}، {لَهُمُ}: خبر مقدم، {الْبُشْرى}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر المبتدأ أعني: الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة. {فَبَشِّرْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت يا محمد ثبوت البشرى لهم، وأردت تبليغ البشارة إليهم .. فأقول لك: بشر عبادي؛ أي: بلّغ بشارتي إليهم. {بشر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {عِبادِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه، فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، اتباعًا لرسم المصحف، وهو مضاف، والياء المحذوفة مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)}. {الَّذِينَ}: في محل النصب صفة لـ {عِبادِ}. {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}: فعل، وفاعل، ومفعول به صلة الموصول، {فَيَتَّبِعُونَ}: الفاء: عاطفة. {يتبعون

أحسنه}: فعل، وفاعل، ومفعول به معطوف على الصلة، {أُولئِكَ}: مبتدأ، {الَّذِينَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {هَداهُمُ اللَّهُ}: فعل، ومفعول به، وفاعل، والجملة صلة الموصول والجملة الاسمية مستأنفة. {وَأُولئِكَ}: مبتدأ، {هُمْ}: ضمير فصل، {أُولُوا الْأَلْبابِ}: خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)}. {أَفَمَنْ}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، والأظهر في {من} كونها شرطية في محل رفع بالابتداء، والخبر الجواب الآتي، أو فعل الشرط، أو هما على الخلاف المذكور في محله. {حَقَّ}: فعل ماض، في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {عَلَيْهِ}: متعلق بحق، {كَلِمَةُ الْعَذابِ}: فاعل، وذكّر الفعل لوجود الفاصل، أو لكون الفاعل مؤنثًا مجازيًا، {أَفَأَنْتَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، كررت لتأكيد الأولى، لطول الفصل، والفاء رابطة لجواب الشرط وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، {أنت} مبتدأ، {تُنْقِذُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملد الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية، معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. والآية جملة واحدة، مركبة من شرط وجواب، معطوفة على جملة محذوفة. {مَنْ}: من اسم موصول في محل النصب، مفعول تنقذ، {فِي النَّارِ}: جار ومجرور صلة من الموصولة، وهو إظهار في مقام الإضمار، والأصل: فأنت تنقذه من النار. {لكِنِ}: حرف عطف وإضراب، بمعنى بل، وليست للاستدراك؛ لأنه لم يسبقها نفي، فالكلام إضراب

من موضوع إلى موضوع مغاير للأول. {الَّذِينَ}: مبتدأ، {اتَّقَوْا}: فعل، وفاعل، صلة الموصول، {رَبَّهُمْ}: مفعول به، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {غُرَفٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الرفع خبر عن الموصول، وجملة الموصول، معطوفة على الجملة التي قبلها. {مِنْ فَوْقِها}: جار ومجرور خبر مقدم، {غُرَفٌ}: مبتدأ مؤخر، {مَبْنِيَّةٌ}: صفة غرف، والجملة في محل الرفع، صفة لـ {غُرَفٌ} الأولى، {مَبْنِيَّةٌ}: صفة لـ {غُرَفٌ} الثانية، وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}: صفة ثانية لـ {غُرَفٌ} أو حال من {غُرَفٌ}. {وَعَدَ اللَّهُ}: مصدر مؤكد لفعل محذوف، دل عليه قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ}؛ لأنه في معنى: وعدهم الله ذلك، والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها. {لا}: نافية، {يُخْلِفُ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، {الْمِيعادَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة، لوجود شرط مجيء الحال، من المضاف إليه. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)}. {أَلَمْ}: الهمزة فيه للاستفهام التقريري، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {تَرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو أي مخاطب، والجملة مستأنفة مسوقة لتمثيل الحياة الدنيا، وسرعة زوالها. {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {أَنْزَلَ}: خبره، وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تر، {مِنَ السَّماءِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {ماءً}: مفعول به، {فَسَلَكَهُ}: الفاء: عاطفة، {سلكه}: فعل، وفاعل يعود على الله، ومفعول به، معطوف على أنزل، {يَنابِيعَ}: حال من مفعول سلكه. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {سلك} أو منصوب بنزع الخافض، {فِي الْأَرْضِ}: صفة له، على أنه اسم مكان. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {يُخْرِجُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على سلكه، {بِهِ}: متعلق بـ {يُخْرِجُ}، {زَرْعًا}: مفعول به، {مُخْتَلِفًا} صفة {زَرْعًا}، {أَلْوانُهُ}: فاعل، مختلفًا، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {يَهِيجُ}: فعل مضارع، وفاعل

مستتر يعود على زرع، معطوف على {يُخْرِجُ}، {فَتَراهُ}: الفاء: عاطفة، {تراه}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يَهِيجُ}، {مُصْفَرًّا}: حال من الضمير، لأن الرؤية بصرية. {ثُمَّ}: حرف عطف، {يَجْعَلُهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول، {حُطامًا}: مفعول ثان، معطوف على تراه، {أَنَّ}: حرف نصب، {فِي ذلِكَ}: خبر مقدم لها، {لَذِكْرى}: اللام: حرف ابتداء، {ذكرى}: اسمها مؤخر، {لِأُولِي الْأَلْبابِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {ذكرى}؛ لأنه بمعنى التذكرة، وجملة {أَنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)}. {أَفَمَنْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من السياق، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أكل الناس سواء، فمن شرح الله صدره إلخ، والجملة المحذوفة مستأنفة. {من} اسم موصول في محل الرفع، مبتدأ، {شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {لِلْإِسْلامِ}: متعلق بـ {شَرَحَ}، {فَهُوَ}: الفاء، عاطفة، {هو}: مبتدأ، {عَلى نُورٍ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أعني: {شَرَحَ}. {مِنْ رَبِّهِ}: صفة لـ {نُورٍ}، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: كمن قسا قلبه، وحرج صدره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة. {فَوَيْلٌ}: الفاء: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عدم استوائهما، وأردت بيان حكم القاسي .. فأقول لك: ويل للقاسية قلوبهم. {ويل}: مبتدأ، سوّغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء، {لِلْقاسِيَةِ} خبر المبتدأ. {قُلُوبُهُمْ}: فاعل القاسية، {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: متعلق بـ {لِلْقاسِيَةِ} {مِنْ}: إما للتعليل؛ أي: من أجل ذكره. وقيل: {مِنْ} بمعنى: عن، والمعنى: غلظت عن قبول الذكر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، أو مستأنفة. {أُولئِكَ}: مبتدأ {فِي ضَلالٍ}: خبر. {مُبِينٍ}: صفة

{ضَلالٍ}، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، {نَزَّلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {كِتابًا} بدل من أحسن الحديث، ويجوز أن يكون حالًا منه. {مُتَشابِهًا}: صفة لـ {كِتابًا}، {مَثانِيَ}: صفة ثانية له، {تَقْشَعِرُّ}: فعل مضارع، {مِنْهُ}: متعلق به، {جُلُودُ الَّذِينَ}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب، صفة ثالثة لـ {كِتابًا}. {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {تَلِينُ جُلُودُهُمْ}: فعل، وفاعل، معطوف على تقشعر، و {قُلُوبُهُمْ}: معطوف على جلودهم، {إِلى ذِكْرِ اللَّهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تَلِينُ} {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ}: مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، {بِهِ}: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول {يَهْدِي}، وجملة {يَشاءُ}: صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاؤه. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جواب الشرط، أو الجواب أو هما، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {فَما}: الفاء: رابطة الجواب، {ما}: نافية، أو حجازية، {لَهُ}: خبر مقدم، أو خبر {ما}: مقدم على اسمها، {مَنْ}: زائدة، {هادٍ}: مبتدأ مؤخر أو اسمها مؤخر. والجملة الاسمية في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، والجملة الشرطية مستأنفة. {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ}. {أَفَمَنْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة

على ذلك المحذوف، والتقدير: أكل الناس سواء، فمن يتقي بوجهه إلخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ}: صلة الموصول، {سُوءَ الْعَذابِ}: مفعول به، {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف، متعلق بـ {يَتَّقِي}، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: كمن أمن من العذاب، والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة. {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)}. {وَقِيلَ}: الواو: عاطفة، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لِلظَّالِمِينَ}: متعلق به، {ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، والجملة معطوفة على جملة {يَتَّقِي}، ويصح أن تكون جملة {قِيلَ}: حالًا من فاعل {يَتَّقِي}، وإن شئت قلت: {ذُوقُوا}: فعل، وفاعل، {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، ولكنه على تقدير مضاف، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، وجملة {كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، {كَذَّبَ الَّذِينَ}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، {فَأَتاهُمُ}: الفاء: عاطفة، {أتاهم العذاب}: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على كذّب، {مِنْ حَيْثُ}: جار ومجرور متعلق بـ {أتى}، وجملة {لا يَشْعُرُونَ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}، {فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ}: فعل ماض، ومفعول أول مقدم على الفاعل، وفاعل مؤخر، {الْخِزْيَ}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {أتاهم}. {فِي الْحَياةِ}: متعلق بـ {أذاقهم}، {الدُّنْيا} صفة للحياة {وَلَعَذابُ} الواو: استئنافية، اللام: حرف ابتداء، {عذاب الآخرة}: مبتدأ، {أَكْبَرُ} خبره، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على مقدر تقديره: وهذا هو العذاب الأدنى. {لَوْ}: حرف شرط، وجملة {كانُوا يَعْلَمُونَ}: فعل شرط لـ {لَوْ}، وجوابه محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون شدة عذاب الآخرة .. لآمنوا بالله ورسوله، وجملة {لَوْ}: الشرطية مستأنفة.

{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {ضَرَبْنا}: فعل، وفاعل، {لِلنَّاسِ} متعلق بـ {ضَرَبْنا} على أنه مفعول ثان لـ {ضَرَبْنا}؛ لأنه بمعنى: جعلنا وبيّنا. {فِي هذَا الْقُرْآنِ}: حال من كل مثل، أو متعلق بـ {ضَرَبْنا}، {مِنْ}: زائدة، {كُلِّ مَثَلٍ}: مفعول أول لـ {ضَرَبْنا} أو {مِنْ}: أصلية صفة لمفعول أول محذوف، تقديره: مثلًا كائنًا من كل مثل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه وجملة {يَتَذَكَّرُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قُرْآنًا}: حال موطئة من القرآن؛ لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق، لما كانت جامدة، والاعتماد فيها على الصفة. {عَرَبِيًّا}: صفة لـ {قُرْآنًا}، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}: صفة ثانية لـ {قُرْآنًا}، ومضاف إليه. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَتَّقُونَ}: خبره، وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)}. {ضَرَبَ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {مَثَلًا}: مفعول ثان لـ {ضَرَبَ}؛ لأنه بمعنى: جعل. {رَجُلًا}: مفعوله الأول أخر عن الثاني، للتشويق إليه، وليتصل به، ما هو من تتمته، التي هي العمدة في التمثيل. {فِيهِ}: خبر مقدم. {شُرَكاءُ}: مبتدأ مؤخر، {مُتَشاكِسُونَ}: صفة لـ {شُرَكاءُ}، والجملة الاسمية صفة لـ {رَجُلًا}. {وَرَجُلًا}: معطوف على {رَجُلًا}. {سَلَمًا}: صفة {رَجُلًا}، نعت بالمصدر على سبيل المبالغة على حد: مررت برجل عدل. {لِرَجُلٍ}: متعلق بـ {سَلَمًا}، {هَلْ}: حرف للاستفهام الإنكاري، {يَسْتَوِيانِ}: فعل، وفاعل، {مَثَلًا}: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: هل يستوي مثلهما؟. والجملة الفعلية، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ

وخبر، والجملة الاسمية معترضة؛ لأن قوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: إضراب انتقالي، مرتبط بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، {أَكْثَرُهُمْ}: مبتدأ، وجملة {لا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة {هَلْ يَسْتَوِيانِ}. {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {مَيِّتٌ}: خبره، والجملة مستأنفة. {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}: ناصب واسمه، وخبره، معطوف على ما قبله. {ثُمَّ}: حرف عطف للترتيب مع التراخي. {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف متعلق بـ {تَخْتَصِمُونَ}، {عِنْدَ رَبِّكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من اسم {إن}، أو من فاعل {تَخْتَصِمُونَ}: أو متعلق بـ {تَخْتَصِمُونَ}، وجملة {تَخْتَصِمُونَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} والطاغوت: يطلق على الواحد والجمع، كما في «المختار»، ويذكر ويؤنث كما في «المصباح». قال الأخفش: الطاغوت: جمع ويجوز أن يكون مفردة مؤنثة؛ أي: تباعدوا عن الطاغوت، وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها، وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هي الأوثان، وقيل: إنه الكاهن، وقيل: إنه اسم أعجمي مثل: طالوت، وجالوت، وهاروت، وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، وعبارة الروح: قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} من الاجتناب، وهو الابتعاد يقال: اجتنبه إذا بعد عنه، والطاغوت: البالغ أقصى غاية الطغيان، وهو تجاوز الحد في العصيان، فلعوت من الطغيان بتقديم اللام على العين، لأن أصله: طغيوت، بني للمبالغة كالرحموت والعظموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت، كأن عين الشيطان طغيان؛ لأن المراد به هو الشيطان، وتاؤه زائدة دون التأنيث، كما قال في «كشف الأسرار»: التاء ليست بأصلية، هي في الطاغوت كهي في الملكوت والجبروت، واللاهوت والناسوت والرحموت والرهبوت. قال

الراغب: هو عبارة عن كل متعد، وكل معبود من دون الله. وفي «القاموس»: الطاغوت: اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان، وكل رأس ضلال، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب، وقال في «كشف الأسرار»: كل من عبد شيئًا غير الله فهو طاغ، ومعبوده طاغوت. وفي «التأويلات النجمية»: طاغوت كل أحد نفسه، وإنما يتجنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضى مولاه، ورجع إليه بالخروج عما سواه، رجوعًا كليًا. {لَهُمْ غُرَفٌ} جمع غرفة، وهي علية من البناء، وسمي منازل الجنة غرفًا، كما في «المفردات». {فَسَلَكَهُ}؛ أي: أدخله {يَنابِيعَ} وفي زاده: الينابيع: جمع ينبوع، وهو إما الموضع الذي يجري فيه الماء من خلال الأرض، أو نفس الماء الجاري، والينبوع يفعول من نبع الماء إذا خرج، وسال. ومضارعه: ينبع بالحركات الثلاث في عين المضارع، فإن كان الينبوع بمعنى المنبع، كان نصب ينابيع على المصدر؛ أي: سلكه سلوكا في ينابيع، وأدخله إدخالًا فيها، على أن يكون {يَنابِيعَ} ظرفًا للمصدر المحذوف، فلما أقيم مقام المصدر، جعل انتصابه على المصدر، وإن كان بمعنى النابع كان انتصابه على الحال؛ أي: نابعات، اهـ. وفي «المختار»: نبع الماء إذا خرج، وبابه: قطع، ودخل، ونبع ينبع نبعانًا بفتح الباء لغة أيضًا، والينبوع: عين الماء، ومنه: قوله تعالى: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}. والجمع ينابيع، اهـ. فما يقوله العامة وهو نبع مولد غير معروف، وإنما النبع مصدر، وشجر تتخذ منه السهام والقسي، يقال: فزعوا النبع بالنبع؛ أي: تلاقوا، وتطاعنوا، وما رأيت أصلب منه نبعًا؛ أي: أشد منه. {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ}؛ أي: من أصفر، وأحمر، وأخضر، وأبيض، وشمل لفظ الزرع جميع ما يستنبت من مقتات وغيره، والزرع في الأصل: مصدر بمعنى الإنبات، عبّر به عن المزروع؛ أي: مزروعا. {فَتَراهُ مُصْفَرًّا}؛ أي: زالت خضرته، ونضارته، اهـ من «النهر». {ثُمَّ يَهِيجُ}؛ أي: ييبس، ويتم جفافه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور وينتشر عن منابته، ويذهب. وفي «المختار»: وهاج

النبت يهيج هياجًا بالكسر وهيجًا وهيجانًا: يبس. وفي المصباح: وهاج البقل يهيج: اصفر. {فَتَراهُ مُصْفَرًّا} قال الراغب: الصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. {حُطامًا}؛ أي: فتاتًا. وفي «المصباح»: حطم الشيء حطمًا من باب تعب، فهو حطم إذا تكسر، ويقال للدابة إذا أسنّت: حطمة، ويتعدى بالحركة فيقال: حطمته حطما من باب ضرب فانحطم، وحطمته بالتشديد مبالغة، وتحطم العود إذا تفتت من اليبس. {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} وأصل الشرح: بسط اللحم، ونحوه. يقال: شرحت اللحم، وشرحته. ومنه: شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهته وروح، كما في «المفردات». وشرح الصدر للإسلام: الفرح به، والطمأنينة إليه، والنور البصيرة، والهدى. {لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} والقسوة: جمود، وصلابة في القلب. يقال: قلب قاس؛ أي: لا يرق ولا يلين، وأصله من حجر قاس، والمقاساة: معالجة ذلك. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} قال في «المفردات»: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع، أو الوحي في يقظته أو منامه، يقال له: حديث، وفي عرف العامة: الخبر والكلام، وأحسنيته لفصاحته وإعجازه. {مُتَشابِهًا}؛ أي: يشبه بعضه بعضا في الحسن، والإحكام. {مَثانِيَ} جمع مثنى بضم الميم وفتح الثاء والنون المشددة على خلاف القياس. إذ قياسه مثنيات. أو جمع مثنى بالفتح مخففًا. وعلى الأول فهو من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وعلى الثاني مفعل بفتح الميم وإسكان الفاء من التثنية بمعنى التكرير أيضًا، بحذف الزوائد، أو جمع مثنى بضم الميم وإسكان الثاء وفتح النون، من أثنى الرباعي؛ أي: مثني عليه بالبلاغة والفصاحة حتى قال بعضهم لبعض: ألا سجدت لفصاحته، ويجوز أن يكون بكسر النون؛ أي: مثن عليّ بما هو أهله من صفاته العظمى، وفي «المفردات»: وسمي سور القرآن مثاني، لأنها تثنى على مرور الأيام، وتكرر، فلا تدرس ولا تنقطع دروس سائر

الأشياء التي تضمحل وتبطل على مرور الأيام، وإنما تدرس الأوراق، كما روي أن عثمان رضي الله عنه حرق مصحفين لكثرة قراءته فيهما. ويصح أن يقال للقرآن: مثاني لما يثنى ويتجدد حالًا فحالًا من فوائده، كما جاء في نعته، ولا تنقضي عجائبه، ويجوز أن يكون ذلك من الثناء، تنبيهًا على أنه أبدًا يظهر منه، ما يدعو إلى الثناء عليه، وعلى من يتلوه ويعلمه، ويعمل به، وعلى هذا الوجه وصفه بالكرم في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}، وبالمجد في قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)}. قال ابن بحر: لما كان القرآن مخالفًا لنظم البشر، ونثرهم حول أسماءه، بخلاف ما سموا به كلامهم على الجملة والتفصيل، فسمى جملته قرآنًا، كما سموا ديوانًا، وكما قالوا: قصيدةٌ وخطبةٌ ورسالةٌ، قال: سورة، وكما قالوا: بيت قال: آية، وكما سميت الأبيات لاتفاق أواخرها قوافي سمى الله القرآن لاتفاق خواتيم الآي فيه مثاني. {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ}؛ أي: تضطرب، وتتحرك، وتشمئز. يقال: اقشعر جلده: أخذته قشعريرة؛ أي: رعدة، كما في «القاموس»، والجلد: قشر البدن، كما في «المفردات»، ويقال: اقشعر جلده إذا تقبّض، وتجمع من الخوف، ووقف شعره كما مر، والمصدر: الاقشعرار، والقشعريرة أيضًا، ووزن اقشعر افعلل، ووزن القشعريرة: فَعْلَليلة، اهـ «سمين». {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يقال: اتقى فلان بكذا، إذا جعله وقايةً لنفسه، والتركيب يدل على دفع شيء عن شيء يضره. {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} تقدم معنى العوج في الكهف، وأن العوج بالكسر مختص بالمعاني دون الأعيان، والسر فيه فارجع إليه هناك، وقيل: المراد بالعوج: الشك، واللبس. قال: وَقَدْ أَتَاكَ يَقِيْنٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ ... مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوْبِ {مُتَشاكِسُونَ}؛ أي: متنازعون مختلفون. قال الزمخشري: التشاكس، والتشاخس: الاختلاف. تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسبابه، وفي «المختار»: رجل شكس بوزن فلس؛ أي: صعب الخلق، وقوم شُكس بوزن قفل، وبابه: سلم. وحكى الفراء: رجل شكس بكسر الكاف، وهو القياسُ. وفي

«الصحاح»: رجل شكس بالتسكين؛ أي: صعب الخلق، وقوم شكس مثل: رجل صدق وقوم صدق، وقد شكس بالكسر من باب سلم شكاسة. وفي «السمين»: والتشاكس: التخالف، وأصله سوء الخلق، وعسره. وهو سبب التخالف، والتشاجر. وفي «القرطبي» {مُتَشاكِسُونَ} من شكس يشكس شكسًا، بوزن قفل، فهو شكس مثل: عسر يعسر عسرًا فهو عسر. يقال: رجل شكس، وشرس، وضرس. {وَرَجُلًا} والرجل: ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر. {سَلَمًا} بفتحتين، وكقتل، وكفسق: مصدر من سلم له من كذا. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} وضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى، وجعلها مثلًا لها. {إِنَّكَ مَيِّتٌ} قال الفراء: الميت بالتشديد: من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف: من فارقته الروح. ولذلك لم يخفف في الآية. قال الخليل: أنشد أبو عمرو: إِنْ تَسْأَلْنِي تَفْسِيْرَ مَيْتٍ وَمَيِّتِ ... فَدُونَكَ قَدْ فَسَّرْتُ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ فَمَنْ كَانَ ذَا رُوْحٍ فَذَلِكَ مَيِّتٌ ... وَمَا الْمَيْتُ إِلّا مَنْ إِلَى الْقَبْرِ يُحْمَلُ البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المبالغة في قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ}، ففي تشبيه الشيطان بالطاغوت، وجوه ثلاثة من المبالغة. 1 - تسميته بالمصدر، كأنه نفس الطغيان. 2 - بناؤه على فعلوت، وهي صيغة مبالغة كالرحموت، وهي الرحمة الواسعة، والملكوت، وهو الملك الواسع. 3 - تقديم لامه على عينه، ليفيد اختصاصه بهذه التسمية. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَبَشِّرْ عِبادِ}. فوضع الظاهر

موضع ضميرهم، تشريفًا لهم بالإضافة، ودلالة على أن مدار اتصافهم بالاجتناب والإنابة: كونهم نقادًا في الدين، يميزون الحق من الباطل، ويؤثرون الأفضل فالأفضل، اهـ من «الإرشاد». ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أوقع الظاهر وهو {مَنْ فِي النَّارِ} موقع المضمر؛ لأن حقه: أفأنت تنقذه، وفيه أيضًا مجاز مرسل، علاقته السببية، فقد أطلق المسبب وأراد السبب؛ لأن الضلال سبب لدخول النار، والمعنى: أفأنت تهديه بدعائك له إلى الإيمان، فتنقذه من النار، وفيه أيضًا تكرير همزة الاستفهام الإنكاري، فالأولى لإفادته، والثانية لتأكيده لطول الكلام، ولولا طوله لم يجز الإتيان بها؛ لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في اسم الشرط، وبأخرى في الجزاء، وقيل: الاتقاء بالوجه، كناية عن عدم ما يتقي به، إذ الاتقاء بالوجه لا وجه له على حد قوله: وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} للدلالة على تحقق وقوع القول، وفيه أيضًا وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: {ذُوقُوا ...} إلخ، اهـ «أبو السعود». ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} لاستحضار الصورة الماضية. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} لدلالة السياق عليه حذف خبره، تقديره: كمن طبع الله على قلبه. وفيها أيضًا الاستفهام الإنكاري. ومنها: وصف الواحد بالجمع في قوله: {مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ}. فإنه وصف الواحد وهو الكتاب بالجمع، وهو المثاني باعتبار تفاصيله؛ لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، فإنه يقال: القرآن أسباع، وأخماس، وسور، وآيات، وأقاصيص وأحكام، ومواعظ مكررات، كما مر.

وفائدة التكرير: فيه ترسيخ الكلام في الأذهان، فإن النفوس تمل عادة من الوعظ والتنبيه، وتسأم النصيحة بادىء الأمر، ففي تكرير النصح والموعظة تعويد لها على استساغة ذلك، والعمل به، وقد ثبت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرر عليهم ما يعظ وينصح به، ثلاثًا وسبعًا أحيانًا، ليركز ذلك في نفوسهم، والمعلم النابه لا يفتأ يردد ما يلقيه على طلابه من دروس، حتى يصبح مستساغًا إليهم، هشًا في نفوسهم، بعد أن كان صعبًا ممجوجًا. ومنها: التهكم في قوله: {فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ}؛ لأن الذوق إنما يكون في المطعوم الحالي، فعبر عن إيصال الصغار والعذاب إليهم بالإذاقة، تهكمًا بهم. ومنها: ضرب المثل في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ ...} الآية. وهو نوع من التشبيه، فقد شبه حال من يعبد آلهة شتى بمملوك اشترك فيه شركاء، شجر بينهم خلاف شديد وخصام مبين، وهم يتجاذبونه، ويتعاورونه في شتى آرابهم، ومتباين أهوائهم، فهو يقف متحيرًا لا يدري لأيهم ينحاز؟، ولأيهم ينصاع، وأيهم أجدر بأن يطيعه؟. وحال من يعبد إلهًا واحدًا، فهو متوفر على خدمته، يلبي كل حاجاته، ويصيخ سمعًا لكل ما ينتدبه إليه، ويطلبه منه. ومنها: تنكير {رجل} في الموضعين للإفراد؛ أي: فردًا من الأشخاص لفرد من الأشخاص. ومنها: تخصيص الرجل؛ لأنه أفطن لما يجرى عليه من الضر والنفع؛ لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا}. ومنها: الاعتراض بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فإن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} اعتراضية، لاعتراضها بين الكلامين، المرتبط أحدهما بالآخر، فإن قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب انتقالي، مرتبط بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا}، فإنه انتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثرهم لا يعلمون ذلك، مع كمال ظهوره، فيبقون

في ورطة الشرك والضلال، لفرط جهالتهم. ومنها: التمهيد بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}، فإنه تمهيد لما يعقبه من الخصام يوم القيامة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد، أوائل ليلة الخميس، الإثني عشر من شهر الجمادي الثانية، من شهور سنة ألف وأربع مئة، وأربعة عشر سنة 12/ 6/ 1414 هـ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، بحول الله تعالى وتيسيره. ويتلوه المجلد الخامس والعشرون بتوفيقه، وأوله قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ}، نسأل الله سبحانه الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، دائمًا إلى يوم الدين، آمين.

شعرٌ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوت وَكُلُّ ذِيْ غَيْبَةٍ يَؤوْبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَؤُوْبُ إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا ... كُنْ سَاتِرًا حَلِيْمَا يَا مَنْ يُقَبِّحُ سَطْرِيْ ... لِمْ لاَ تَمُرُّ كَرِيْمَا آخرُ الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ آخرُ رَأيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا ... أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهْوَ لَا يَدْرِيْ آخرُ السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا ... حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [25]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الكبير المتعال، واسع الكرم والجود والفضل والنَّوال، وأشهد أن لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأَشهد أن سيّدنا محمدًا عبده ورسوله، المرسل رحمةً للأنام، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان عليه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الكرام، والتابعين لهم وكل من تمسّك بدين الهدى والسلام، واهتدى بهدي القرآن. أمّا بعد: فلما فرغت من تفسير الجزء الثالث والعشرين من القرآن الكريم بمعونة الله سبحانه وتعالى .. تفرغت للشروع في تفسير الجزء الرابع والعشرين منه، قاصدًا الشروع فيه بتوفيق الله سبحانه وتعالى، فقلت مستمدًا من الله تعالى التوقيق والهداية لأصوب الطرق وأرجح الأقاويل في تفسير كتابه، وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ

شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. المناسبة قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه (¬1) لما ذكِر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض قبائحهم، وأعقبه بمثل يشرح حالهم .. أردف ذلك بنوع آخر منها، وهو أنَّهم يكذبون فيثبتون لله ولدًا، ويثبتون له شركاء، ويكذبون القائل المحقّ، فيكذبون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقه، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء، أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق ووعد المصدّقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب. قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ....} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أنه يؤتي المؤمنين ما يشاؤون في الجنة، ويكفر سيئاتهم .. أردف ذلك ببيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمّهم، ولا يضرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى، فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضلّ له، وهو ذو العزّة المنتقم الجبّار. ¬

_ (¬1) المراغي.

ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثمّ سألهم سؤال تعجيز: هل ما تعبدونه من صنم أو وثن يستطيع أن يكشف ضرًّا أراده الله بأحدٍ، أو يمنع خيرًا قدّره الله لأحد؟ إذًا فالله حسبي وعليه أتوكّل. وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم، أمره الله سبحانه أن يقول لهم: اعملوا كما تشاؤون، وعلى نحو ما تحبّون، إنّي عامل على طريقتي، ويوم الحساب ترون المحقّ من المبطل، ومن سيحلّ به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لربّ العالمين. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر محاجّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بالأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى (¬1) .. سلّاه على إصرارهم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه، كما قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وأزال عن قلبه الخوف، فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق، وأنه ليس عليه إلّا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضلّ فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى. ثمّ ذكر أنّه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها، ويقطع صلتها بها، ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردّها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر. ثُمَّ أبان أنّ هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئًا، ولا تعقل شيئًا، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم، وأنه إذا قيل: لا إله إلّا الله وحده .. ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام .. ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ....} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر حبّ المشركين للشرك، ونفرتهم من التوحيد .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالالتجاء إليه، لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، وبيانًا بأنّ سعيه مشكور، وجدّه معلوم لديه، وتعليمًا لعباده أن يلجؤوا إليه حين الشدّة، ويدعوه بأسمائه الحسنى. ثمّ ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال، وما ينتظرهم من العذاب. قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا ...} الآيات، مناسبة هذه لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة .. حكى عنهم هناةً أخرى، هي: أنهم حين الوقوع في الضرّ من فقر وضرّ يفزعون إلى الله تعالى، ويلجؤون إليه، علمًا منهم أنه لا دافع له إلَّا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله .. زعموا أن ذلك بكسبهم وحسن صنيعهم وجميل تدبيرهم، وفي الحقيقة أنّ ما أُوتوه إنما هو فتنة لهم، واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، وما هذه المقالة ببدع منهم، بل قالها كثير قبلهم، فلم ينفعهم ذلك شيئًا. ثمَّ ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله، يبسطه تارةً ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرًا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرًا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش، ورغد عظيم منه. أسباب النزول قول تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ....} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، قال لي رجل: قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنّها فلتخيلنك، فنزلت: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد: أنها نزلت في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم عند الكعبة، وفرحهم عند ذر الآلهة.

[32]

التفسير وأوجه القراءة 32 - ثمّ بيّن سبحانه وتعالى، حالى كل فريق من المختصمين، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ} و (الفاء): فاء الفصيحة؛ أو استئنافية، والاستفهام فيه، للإنكار، والتقدير: إذا عرفت أنه يقع التخاصم بين المحق والمبطل يوم القيامة، وأردت بيان حالهما .. فأقول لك: لا أحد أشدّ ظلمًا من الكاذبين، وأقبح افتراءً من المفترين ممن كذب على الله سبحانه، فزعم أنّ له ولدًا أو شريكًا أو صاحبةً، وفي "بحر العلوم": فيه دلالة بينة على أن الاختصام واقعٌ يوم القيامة بين الظالمين والمظلومين. والمعنى: أظلم كل ظالم من الكاذبين من افترى على الله سبحانه، بأن أضاف إليه الشرك والولد. {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} وهو الحق؛ أي: بالأمر الذي هو عين الحقّ ونفس الصدق، وهو كل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد، والأوامر والنواهي والبعث والنشور والثواب والعقاب. {إِذْ جَاءَهُ} ذلك الصدق على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فاجأَه بالتكذيب ساعة مجيئه، وأوّل ما سمعه من غير تدبّر فيه ولا تأمّل. والمعنى: أي لا أحد من الكاذبين يبلغ ظلمهُ ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادَّعى أنّ الملائكة بنات الله، وهو أيضًا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور، وفي قوله: {إِذْ جَاءَهُ} بيان بأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال روية في التمييز بين الحقّ والباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون. وبعد أن ذكر حالهم .. أردفه بذكر وعيدهم على طريق الاستفهام الإنكاري، فقال: {أَلَيْسَ} لهؤلاء المفترين على الله سبحانه، المكذبين بالصدق حين جاءهم، {فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى}؛ أي: منزل ومسكن في نار جهنم، وقوله: {لِلْكَافِرِينَ} إظهار في مقام الإضمار. والاستفهام (¬1) في {أَلَيْسَ} إنكاري، وإنكار النفي نفي له، ونفي النفي إثبات. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[33]

والمعنى: إن جهنّم منزل ومقام للكاذبين المكذبين، المذكورين وغيرهم من الكفار، جزاءً لكفرهم وتكذيبهم. 33 - ثمَّ ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدِّقين، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} مبتدأ، والموصول عبارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من المؤمنين، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)} فإنّ المراد موسى عليه السلام وقومه، وخبر المبتدأ: قوله: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصدق والتصديق، {هُمُ الْمُتَّقُونَ}؛ أي: المنعوتون بالتقوى التي هي أجلُّ الرغائب وعنوان النجاة، فقال الإِمام السهيلي (¬1) رحمه الله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدّق به، أبو بكر الصديق، وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدّق به عليُّ بن أبي طالب، وقال السدي: الذي جاء بالصدق: جبريل، والذي صدّق به: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال قتادة ومقاتل وابن زيد: الذي جاء بالصدق: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدّق به: المؤمنون، وقال النخعي: الذي جاء بالصدق وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة، وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله، وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا القول ابن جرير، وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود: والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به ولفظ {الَّذِي} كما وقع في قراءة الجمهور، وإن كان مفردًا فمعناه: الجمع؛ لأنه يراد به الجنس، كما يفيده قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. ودلّت الآية (¬2) على أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يصدّق أيضًا بما جاء به من عند الله، ويتلقاه بالقبول، كما قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} ومن هنا قال بعضهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل إلى نفسه أيضًا، وقرأ أبو صالح: {وصدَقَ به} مخفّفًا؛ أي: صدق به الناس. 34 - ثمّ ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدِّقين في الآخرة، بقوله: {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المتقين بمقابلة محاسن أعمالهم في الدنيا. {مَا يَشَاءُونَ} في الآخرة مدّخرًا لهم، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ أي: كل ما يشاؤونه من جلب المنافع، ودفع المضارّ في الآخرة لا في الجنة فقط، لما أنّ بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات، والأمن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[35]

من الفزع الأكبر، وسائر أهوال يوم القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة، ويقال أجمع العبارات لنعيم الجنة قوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} وأجمع العبارات لعذاب الآخرة قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}. وفي "التأويلات النَّجمية": {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ لأنهم تقرّبوا إلى الله تعالى بالاتّقاء به عما سواه، فأوجب الله سبحانه في ذمة كرمه أن يتقرّب إليهم بإعطاء ما يشاؤون من عنده، بحسب حسن استعدادهم. {ذَلِكَ}؛ أي: حصول ما يشاؤونه، وهو مبتدأ، خبره: {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}؛ أي: ثواب الذين أحسنوا أعمالهم، بأن عملوها على مشاهدة الحق، وقد ثبت في "الصحيح" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك". 35 - ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم، فقال: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ} سبحانه ويستر، {عَنْهُمْ أَسْوَأَ} وأقبح وأفحش العمل {الَّذِي عَمِلُوا}، من الذنوب والسيئات، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأنَّ الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم .. غفر لهم ما دونه بطريق الأولى، و (اللام) (¬1): إما متعلقة بـ {الْمُحْسِنِينَ}؛ يعني الذين أحسنوا رجاء أن يكفّر الله عنهم، أو بالجزاء؛ يعني جزاهم كي يكفّر عنهم، كذا في "كشف الأسرار". وقال أبو السعود - رحمه الله -: (اللام): متعلق بقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ}، باعتبار فحواه الذي هو الوعد؛ أي: وعدهم الله تعالى جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسارّ؛ ليكفر عنهم بموجب الوعد أسوأ الذي عملوا، دفعًا لمضارهم، أو بمحذوف تقديره: يسّر لهم ذلك ليكفر. وقرأ الجمهور (¬2): {أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا}، والظاهر أنه اسم تفضيل، وقيل: إنّ أفعل هنا ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشجّ أعدل بني مروان؛ أي: عادل، فكذلك هذا؛ أي: سيّىء الذي عملوا، ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم وحامد بن يحيي عن ابن كثير: {أسواء} هنا وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة بزنة أجمال، جمع سوء، ولا تفضيل فيه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

والمعنى (¬1): لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم، وتقرّ به أعينهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملًا، فأخلص لربه في السرّ والنجوى، وراقبه في أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النقير والقطمير والجليل والحقير. {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضرّ عنهم، والنفس: إذا علمت زوال المكروه عنها .. كان لها في ذلك سرور ولذّة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها. ولما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم .. ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم، فقال: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ}؛ أي: ويعطيهم ثوابهم {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: على حسن ما كانوا يعملونه؛ أي: ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساوئها، فهو معطوف على {يُكَفِّرَ}، والظاهر: أنّ الأسوأ والأحسن بمعنى السيء والحسن، فأفعل التفضيل ليس (¬2) على بابه، فبهذا الاعتبار عمّ الأسوأ جميع معاصيهم، والأحسن جميع حسناتهم، ولولا هذا التاوبل .. لاقتضى النظم أنه يكفّر عنهم أقبح السيئات فقط، ويجزيهم على أفضل الحسنات فقط، هذا مراده، والله أعلم بمعاني كتابه. اهـ شيخنا، وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب؛ لأنّ دفع المضارّ أهمُّ من جلب المسارّ، وفي ذكر تكفير الأسوأ؛ إشارة إلى استعظامم للمعصية مطلقًا، لشدّة خوفهم من الله تعالى، وإلى أنّ الحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى لحسن إخلاصهم فيه. واعلم (¬3): أنّ سبب اِلتكفير والأجر الأحسن هو الصدق، وهو من المواهب لا من المكاسب في الحقيقة، وإن كان حصول أثره منوطًا بفعل العبد، ويجري في القول والفعل والوعد والعزم. والصدق: وديعة الله في عباده، ليس للنفس فيه نصيب؛ لأنّ الصدق سبيل إلى الحق، وأبى الله أن يكون لصاحب النفس إليه سبيل. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

[36]

36 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: "يا معاذ، أخلص دينك يكفك القليل من العمل". ولما قالت قريش: لئن لم تنته يا محمد عن تعييب آلهتنا .. لنسلّطنّها عليك فتصيبك بخبل وتعتريك بسوء .. أنزل الله سبحانه قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. قرأ الجمهور (¬1): {عَبْدَهُ}، بالإفراد، والمراد به: النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخولًا أوّليًّا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر ومجاهد وابن وثّاب وطلحة والأعمش: {عباده} بالجمع والمراد بهم: الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور؛ لقوله عقبه: {وَيُخَوِّفُونَكَ}. وقرىء {بكافي عبده} على الإضافة، و {يكافي عباده} مع نصب {عباده}، بصيغة المضارع. والهمزة فيه للاستفهام التقريري؛ لأنّه أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها، وكونها للتقرير معناه: طلب الإقرار بما بعد النفي، وكونها للنفي معناه: نفي النفي الذي دخل عليه، ونفي النفي إثبات، فمآل المعنيين واحد، اهـ "كرخي". والكفاية: ما فيه سدّ الخلّة وبلوغ المراد في الأمر؛ أي: هو تعالى كافٍ عبده محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أمر من يعاديه، وناصره عليه، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد بالعبد والعباد: ما يعمّ المسلم والكافر، قال الجرجاني: إنّ الله كاف عبده المؤمن، وعبده الكافر، هذا بالثواب، وهذا بالعقاب اهـ. والمعنى (¬2): أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات، ويزيل عنهم المصائب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفي من عبَدَه، وتوكّل عليه، وأتى بالكلام على طريق الإنكار للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسّر لأحد أن ينكرها. ثمّ رتّب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف، فقال: {وَيُخَوِّفُونَكَ}؛ أي: يخوفك المشركون يا محمد، {بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دون الله تعالى، ويقولون: إنّك تعيبها، وإنها لتصيبك بسوء كالهلاك أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[37]

الجنون أو فساد الأعضاء، وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية؛ أعني: قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} نزلت مرة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومرة في شأن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - كسورة الفاتحة حيث نزلت مرةً بمكة ومرةً بالمدينة. أي (¬1): ويخوّفك المشركون بغير الله تعالى من الأوثان والأصنام عبثًا وباطلًا، لأنّ كل نفع أو ضرّ فلا يصل إلّا بإرادته تعالى، وقد روي أنهم خوّفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا، لئن لم تكفّ عن ذكرها .. لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوءٍ، وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأْس، فقال له سادنها: أحذّركها يا خالد، فإن لها شدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس، وفي الآية إيماء إلى أنّه سبحانه يكفي نبيّه - صلى الله عليه وسلم - دينه ودنياه، ويكفي أتباعه أيضًا، ويكفيهم شرّ الكافرين، ونحو الآية قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}، وقوله تعالى: حكايةً عن إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}. ثم بيّن شديد جهلهم لتوعّدهم بما لا يضرّ ولا ينفع فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: ومن يجعله الله ضالًا عن الطريق القويم والفهم المستقيم، حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخوفه بما لا ينفع ولا يضرّ أصلًا. {فَمَا لَهُ}؛ أي: لذلك الضالّ {مِنْ هَادٍ}، يهديه إلى خير ما، 37 - {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} سبحانه؛ أي: ومن يرشده إلى الصراط المستقيم {فَمَا لَهُ}؛ أي: لذلك الهادي {مِنْ مُضِلٍّ} يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخلّ بسلوكه طريق الهدى، إذ لا رادّ لفعله. ولا معارض لإرادته. والمعنى: أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه، وحبّه للإثم والفسوق ومعصية الرسول .. فما له من هاد يهديه إلى الرشاد، ويخلّصه من الضلال {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ}؛ أي: ومن يوفّقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية نفسه، وتحبيبها إلى صالح العمل .. فلا مضلّ له يصرفه عن مقصده، أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه، إذ لا معقّب لحكمه، ولا معارض لإرادته. وفي "التأويلات النجمية": فيه إشارة إلى أن رؤية الخير والشر من غير الله تعالى ضلالة، والتخويف بمن دون الله غاية الجهالة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[38]

والاستفهام في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ} سبحانه {بِعَزِيزٍ}؛ أي: بغالب منيع يعزّ من يعبده {ذِي انْتِقَامٍ} من أعدائه لأوليائه .. للتقرير (¬1)؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي .. أفاد تحقيقًا وتقريرًا، كما مرّ. والمعنى: أنَّ الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام وعقوبة ينتقم من عصاته بما يصبّه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه. 38 - ثمّ أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان، مع تفرّده تعالى بالخالقية لكل شيء، وعدم خلقها شيئًا، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يا محمد؛ أي: وعزّتي وجلالي، لئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوّفونك بآلهتهم، فقلت لهم: {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: من اخترع هذين الجنسين المعبّر عنهما بالعالم .. {لَيَقُولُنَّ} هؤلاء الكفرة في الجواب خلقهنّ {اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ لوضوح الدليل على اختصاصه بالخالقية. و {اللام} الأولى: توطئة وتمهيد للقسم، والثانية تأكيد له، وهو سادّ مسدّ جوابين. وفي هذا (¬2) أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أنَّ الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه فكيف استَحْيَنَتْ عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول، وكمال الإدراك، والفطنة التافة، ولكنهم لمَّا قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم .. هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى إنّ الإيمان الفطري مركوز في جبلة الإنسان من يوم الميثاق، إذ أشهدهم الله على أنفسهم، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة"، فلا يزال يوجد في الإنسان وإن كان كافرًا أثر ذلك الإقرار، ولكنّه غير نافع إلَّا مع الإيمان الكسبيّ بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاؤوا به. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

ثمّ أمر الله سبحانه رسوله أن يبكّتهم ويوبِّخهم بعد هذا الاعتراف، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد تبكيتًا وتوبيخًا لهم: {أَفَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني، جعل الرؤية وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازًا عن الإخبار، {مَا تَدْعُونَ}؛ أي: تعبدون، و {مَا}: عبارة عن الآلهة، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه، {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} والضرّ: سوء الحال أيًّا كان، من مرض وضيق معيشة وشدّة وبلاء، و {الهمزة} في {أَفَرَأَيْتُمْ}: للاستفهام الإنكاريّ، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكّرتم ما أقررتم فرأيتم ... إلخ. والظاهر (¬1): أن {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا لم يكن خالق سواه تعالى .. فأخبروني عن آلهتكم التي تعبدونها، أنَّه إن أرادني الله بضرّ .. هل من كاشفات ضُرّه، {أَوْ} أنه إن {أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}؛ أي: بنفع من صحةٍ أو غنًى أو غير ذلك من المنافع، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}؛ أي: أخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر، أو منع ما أراده الله لي من الخير، وإذا لم تكن لها قدرة على شيء .. فلا ينبغي التعويل عليها، ولا الكدُّ في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية في جلب السرّاء ودفع الضراء، والضرّ: سوء الحال أيًّا كان من مرضٍ وضيق معيشةٍ وشدةٍ؛ والكشف: الإظهار والإزالة ورفع شيء عما يواريه ويغطيه. وحاصل المعنى (¬2): أي إذا حققتم وأيقنتم أن خالق العالم العلويّ والسفلي هو الله تعالى .. فأخبروني أنّ آلهتكم إن أرادني الله بضرّ هل هنّ يكشفن عنّي ذلك الضرر والبلاء ويدفعنه عنّي؛ أي: لا تقدر على دفعه وإزالته، أو أرادني برحمة ونفعٍ من المنافع، هل من ممسكات رحمته فيمنعنها عنّي؟ أي: لا تقدر على إمساك تلك الرحمة ومنعها، وتعليق إرادة الضُّرِّ والرحمة بنفسه - صلى الله عليه وسلم - للردّ في نحورهم، حيث كانوا خوّفوه مضرّة الأوثان، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصح، وإنما قال: {كَاشِفَاتُ} و {مُمْسِكَاتُ} إبانةً لكمال ضعفها، وإشعارًا بأنوثتها، كما قال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} وهم كانوا يصفونها بالأُنوثة، مثل العزى ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) المراغي.

واللات ومناة، فكأنه قال: كيف أشركتم به تعالى هذه الأشياء الجماديّة البعيدة من الحياة والعلم والقدرة والقوّة والتمكّن من الخلق؟ هلّا استحييتم من ذلك؟ وجواب هذا الاستخبار محذوف، تقديره: فإنهم سيقولون لا تقدر على شيء من ذلك. وقرأ الجمهور (¬1): {كَاشِفَاتُ} و {مُمْسِكَاتُ} على الإضافة، وقرأ شيبة والأعرج وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه وأبو عمرو وأبو بكر: بتنوينهما، ونصب ما بعدهما، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو؛ لأنّ {كَاشِفَاتُ} اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن وعاصم. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية .. سألهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا، وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئًا من قدر الله، ولكنها تشفع، فنزل قوله: {قُلْ} يا محمد لهم {حَسْبِيَ اللَّهُ}؛ أي: الله كافيّ في جميع أموري من جلب نفع أو دفع ضرّ، فلا أخاف شيئًا من أصنامكم التي تخوّفونني بها {عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره أصلًا {يَتَوَكَّلُ} ويعتمد {الْمُتَوَكِّلُونَ}؛ أي: المعتمدون لعلمهم بأنّ ما سواه تحت ملكوته تعالى، وفيه إشارة إلى أن من تحول عن الكافي إلى غير الكافي .. لم يتمّ أمره، فلا بدّ من التوكّل على رب العباد، والتسليم له والانقياد، وفي الحديث: "من أحبّ أن يكون أقوى الناس .. فليتوكّل على الله، ومن أحبت أن يكون أغنى الناس .. فليكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس .. فليتق الله عزّ وجلّ. وفي الحديث الصحيح: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت .. فاسأل الله، وإذا استعنت .. فاستعن بالله، واعلم أنّ الناس لو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك .. لم يضرُّوك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك .. لم ينفعوك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا". ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[39]

ونحو الآية قول هود عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} حين قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}. فالعصمة من الله تعالى. حكي: أن سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخطأ الجيش بأرض الروم، وأسر، فانطلق هاربًا يلتمس الجيش، فإذا بأسدٍ فقال له: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان مرادي كيت وكيت، فأقبل الأسد يتبصبص حتى قام إلى جنبه، فركب عليه، فكان كلما سمع صوتًا أهوى إليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد. وفيه إشارات: منها: أن الحيوان المفترس لا يقدر على الإضرار إذا كان المرء في عصمة الله، فكيف الجماد؟ ومنها: أنَّ طاعة الله تعالى والتوكل عليه سبب النجاة من المهالك. ومنها: أنَّ الاستشفاع برسول الله والتقرب إليه بالإيمان والتوحيد والعمل بسنّته، يهدي إلى سواء الصراط، كما هدى سفينة - رضي الله عنه -. فعلى العاقل إخلاص التوحيد، والإعراض عما سواه تعالى، فإنّه تعالى كاف لعبده في كل حال من الأحوال، وفي كل أمر من الأمور. 39 - ولمَّا أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها .. أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد {يَا قَوْمِ} ـي {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ أي: على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها، فإن (¬1) المكانة تستعار من العين للمعنى، كما استعير هنا، وحيث: للزمان مع كونهما للمكان. وقرأ أبو بكر: {مكاناتكم} بالجمع. {إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي وحالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، ولا يزيد حالي إلا قوةً ونصرةً وحذف ذلك للعلم به مما قبله. 40 - {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ} بسوء أعماله، و {مَنْ} مفعول {تَعْلَمُونَ}. {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} ويذلّه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

ويهينه في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنّه المبطل، وخصمه المحقّ. والمراد بهذا العذاب، عذاب الدنيا، وما حلّ بهم من القتل والأسر والقهر والذلّة وخزي أعدائه، دليل على غلبته، فقد نصره الله سبحانه، وعذَّب أعداءه، وأخزاهم يوم بدر. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ}؛ أي: ينزل عليه من أفعاله من الحلول بمعنى النزول، {عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي: دائم إلى الأبد، لا يفارقه ولا ينقطع عنه، وهو عذاب النار. يعني: أنتم الهالكون؛ بسبب كونكم على البطلان، ونحن الناجون؛ بسبب كوننا على الحق، فسوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف يغالبكم الله، ولا جواب لكم، ويعذّبكم ولا شفيع لكم، ويدمّر عليكم ولا صريخ. والمعنى (¬1): اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوّة والشدّة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضًا في تقرير ديني، والسعي في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أنّ العذاب والخزي في الدنيا يصيبني أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أيُّنا المبطل، أنا أو أنتم، ويحل علي العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم. 41 - ثمّ لمّا كان يعظم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إصرارهم على الكفر .. أخبره بأنه لم يكلّف إلَّا بالبيان، لا بأنه يهدي من ضلّ فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}؛ أي؛ القرآن {لِلنَّاسِ}؛ أي: لأجل نفعهم واهتدائهم به، فإنه مناط لمصالحهم في المعاش والمعاد، وفيه بيان ما كُلّفوا به، و {بِالْحَقِّ} إما حال من فاعل {أَنْزَلْنَا}؛ أي: حال كوننا محقّين في إنزاله، أو من مفعوله؛ أي: حال كون ذلك الكتاب متلبسًا بالحق والصدق؛ أي: كل ما فيه حقٌّ وصواب لا ريب فيه، موجب للعمل به حتمًا. {فَمَنِ اهْتَدَى} بأن عمل بما فيه {فَلِنَفْسِهِ}؛ أي: إنما نفع به نفسه {وَمَنْ ضَلَّ} بأن لم يعمل بما فيه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما أن وبال ضلاله مقصور عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: بمكلف بهدايتهم مخاطب، بل ليس عليك إلا البلاغ، ¬

_ (¬1) المراغي.

[42]

وقد فعلت؛ أي: وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، وما وظيفتك إلا البلاغ، وقد بلّغت أيّ بلاغ، وفي "فتح الرحمن" قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} قاله هنا بحذف فإنما يهتدي المذكور في يونس والإسراء، اكتفاءً بما ذكره بقوله قبل: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، انتهى. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أنّ القرآن مذكّر جوار الحق للناس الذين نسوا الله وجواره، فمن تذكّر بتذكيره، واتَّعظ بوعظه، واهتدى بهدايته .. كانت فوائد الهداية راجعةً إلى نفسه، بأن تنوّرت بنور الهداية، فانمحى عنها آثار ظلمات صفاتها الحيوانيّة السبعية الشيطانية الموجبة لدخول النار. {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فإنه يوكله إلى نفسه وطبيعته، فتغلب عليه الصفات الذميمة، فيكون حطب النار. {وَمَا أَنْتَ} يا محمد عليهم بوكيل تحفظهم من النار، إذا كان في استعدادهم الوقوع فيها. وحاصل معنى الآية (¬2): إنّا أنزلنا إليك يا محمد القرآن بالحقّ؛ لتبلّغه للإنس والجنّ مبشّرًا برحمة الله، ومنذرًا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم، والهادي لهم إلى الصراط المستقيم. {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ}؛ أي: فمن عمل بما فيه واتّبعه .. فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار. {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}؛ أي: ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضل عن المحجة .. فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك؛ لأنّه يكسبها سخط الله، وأليم عقابه في دركات الجحيم. {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} {وَمَا أَنْتَ} أيّها الرسول {عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}؛ أي: برقيب على من أرسلت عليهم ترقب أعمالهم، وتحفظ عليهم أفعالهم، إنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب، ونحو الآية قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}. وهذه الآيات منسوخة بآية السيف (¬3)، فقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويعملوا بأحكام الإِسلام. 42 - ثمّ ذكر سبحانه وتعالى نوعًا من أنواع قدرته البالغة، وصنعته العجيبة، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

{اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}؛ أي (¬1): يقبض الأرواح الإنسانية عن الأبدان، بأن يقطع تعلّقها عنها، وتصرُّفها فيها ظاهرًا وباطنًا، وذلك عند الموت، فيزول الحسّ والحركة عن الأبدان، وتبقى كالخشب اليابس، ويذهب العقل والإيمان والمعرفة مع الأرواح؛ أي: يقبض الأنفس التي بها الحياة، والأنفس التي بها الإدراك جميعًا. {حِينَ مَوْتِهَا}؛ أي: حين موت أبدانها وأجسادها، فالكلام على حذف مضاف، كما في "الوسيط". والموت: زوال القوّة الحسّاسة. كما أنّ الحياة وجود هذه القوة، ومنه سمِّي الحيوان حيوانًا، ومبدأ هذه القوّة هو الروح الحيواني، الذي محلّه الدماغ، كما أنّ محلّ الروح الإنساني القلب الصنوبري، ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة، ثمّ إنّ الإنسان ما دام حيًّا فهو إنسان بالحقيقة، فإذا مات .. فهو إنسان بالمجاز؛ لأنَّ إنسانيته في الحقيقة إنما كانت بتعلُّق الروح الإنسانيّ وقد فأرقه. {و} يتوفى الأنفس {الَّتِي لَمْ تَمُتْ}؛ أي: ويقبض الأرواح المدركة التي لم تمت أجسادها. {فِي مَنَامِهَا}؛ أي: حين نومها، بأن يقطع تعلُّقها عن الأبدان، وتصرّفها فيها ظاهرًا وباطنًا، فالنائم يتنفّس ويتحرّك ببقاء الروح الحيوانيّ، ولا يعقل ولا يميّز بزوال الروح الإنساني. وقوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} راجع إلى قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}؛ أي: فيمسك الله الأنفس التي قضى وحكم عليها موت أجسادها عنده، ولا يردُّها إلى أجسادها، وذلك الإمساك إنما هو في عالم البرزخ، التي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية، وهو غير البرزخ بين الأرواح المجرّدة والأجسام التي قبل النشأة الدنيويّة، ويسمّى عالم المثال؛ أي: يمسك أنفس الإماتة عنده، ولا يردها إلى البدن، وأسند القبض إليه تعالى؛ لأنّه الآمر للملائكة القابضين، وفي "زهرة الرياض" التوفي من الله تعالى: الأمر بخروج الروح من البدن، ولو اجتمعت الملائكة .. لم يقدروا على إخراجها، فالله يأمرها بالخروج، كما أمرها بالدخول، ومن الملائكة المعالجة. وقوله: {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ...} إلخ، راجع إلى قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

مَنَامِهَا}؛ أي: ويرسل أنفس الإدراك، وهي النائمة إلى أبدانها عند اليقظة، والنّزول من عالم المثال المقيّد، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معلوم، وهو الوقت المضروب لموتها، وهو غاية لجنس الإرسال؛ أي: لا لشخصه، حتى يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى، فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الإدراك، وخلق الغفلة، والآفة في محل الإدراك، وتوفيها في حالة النوم بخلق الموت، وإزالة الحس بالكلية، فيمسك التي قضى عليها الموت، بأن لا يخلق فيها الإدراك، ويرسل الأخرى بأن يعيد إليها الإحساس، اهـ "جمل". وقرأ الجمهور: {قَضَى عَلَيْهَا} مبنيًّا للفاعل، {الْمَوْتَ} نصبًا، وقرأ ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي: مبنيًّا للمفعول، {الْمَوْتَ} رفعًا. وعبارة النسفي هنا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وتوفّيها: إماتتها.، وهو: أن يسلب ما هي به حيّة حسّاسة درّاكة. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}؛ أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ أي: يتوفّاها حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى، حيث لا يميِّزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك، ومنه قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} {فَيُمْسِكُ} الأنفس {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الحقيقيّ؛ أي: لا يردُّها في وقتها حيّةً. {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} النائمة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت ضربه لموتها، وقيل: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}؛ أي: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفّى في المنام، هي نفس التمييز لا نفس الحياة، إذْ لو زالت .. زال معها النفَس، بفتح الفاء، والنائم يتنفس، ولكل إنسان نفسان، إحداهما: نفس الحياة، وهي التي تفارقه عند الموت، والأخرى: نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، اهـ. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف. وعبارة المراغي: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}؛ أي (¬1): الله هو الذي ¬

_ (¬1) المراغي.

[43]

يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلّقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}؛ أي: ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها من التصرّف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا يردّها إلى الأجساد، {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى، وهو وقت الموت. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إنّ في ابن آدم نفسًا وروحًا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي هي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفَس - بفتح الفاء والتحرُّك - فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. وأخرج أحمد والبخاريّ وأبو داود وابن أبي شيبة عن أبي قتادة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم ليلة الوادي: "إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردّها عليكم حين شاء". {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإرسالها إلى أجل مسمّى. {لَآيَاتٍ} عجيبة، دالّة على كمال قدرته تعالى، وحكمته وشمول رحمته {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان، وتوفيها (¬1) عنها تارةً بالكلية، كما عند الموت وإمساكها باقية بعد الموت لا تفنى بفناء الأبدان، وأخرى عن ظواهرها فقط، كما عند النوم، وإرسالها حينًا بعد حين إلى انقضاء آجالها، وانقطاع أنفاسها؛ أي: لآيات عظيمة دالة على قدرته لقوم يُجيلون فيه أفكارهم فيعتبرون. 43 - ثمّ أنكر سبحانه على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا} فـ {أَمِ} منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: أبل اتخذ هؤلاء المشركون من أهل مكة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: من دون إذنه تعالى {شُفَعَاءَ} تشفع لهم عنده تعالى في جلب منفعة أو دفع مضرّة، هي الأصنام، جمع شفيع، وهو من يطلب الخير من الغير للغير. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[44]

واجمال المعنى: أنّه لا ينبغي لهم ذلك إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتهكم بهم، ويحمقهم على ما يفعلون، فقال: {قُلْ} لهم أيها الرسول {أَ} تتخّذونهم شفعاء كما تزعمون، {وَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ} لكم {شَيْئًا} من حوائجكم {وَلَا يَعْقِلُونَ} أنكم تعبدونهم، فـ {الهمزة} (¬1): لإنكار الواقع واستقباحه. والتوبيخ عليه، دالة على محذوف كما قدّرنا، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أيشفعون ولو كانوا إلخ، وجواب {لَوْ}: محذوف، تقديره: تتخذونهم؛ أي: وإن كانوا بهذه المنزلة تتخذونهم شفعاء. ومعنى (¬2) {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا}: أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولًا أوليًا، ولا يعقلون شيئًا من الأشياء؛ لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء؛ لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون. والمعنى: قل لهم يا محمد: أفتتخذون الأصنام شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلونه، فضلًا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله سبحانه، ويعقلوا أنكم تعبدونهم. وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن اتخاذ الأشياء للعبادة أو للشفاعة بالهوى والطبع، لا بأمر الله تعالى ووفق الشرع يكون ضلالةً على ضلالة، وأن المقبول من العبادة والشفاعة ما يكون بأمر الله ومتابعة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على وفق الشرع. 44 - ثم أمر سبحانه رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد، بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقًا للحق؛ {لِلَّهِ} سبحانه، لا لغيره {الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} نصب على الحال من الشفاعة، فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وأكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعدًا؛ لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والخلاصة (¬3): أنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

إلا أن يكون المشفوع له مرتضى، والشفيع مأذونًا له، وكلاهما مفقود هاهنا. قال البقلي: بين أنه تعالى، مرجع الكل: الشافع والمشفوع فيه، حتى يرجع العبد العارف إليه بالكلّية، ولا يلتفت إلى أحد سواه، فلا يصل إليه أحد إلا به تعالى. ونِعْمَ ما قالت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى -: محبّة الله تعالى ما أبقت محبة غيره، ومحبّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مندرجة في محبة الله تعالى. وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن للأنبياء والعلماء والشهداء والأطفال شفاعة؟ قلت: معناه: أن أحدًا لا يملكها إلا بتحليلها من الله تعالى، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. ثمّ بين العلة في أن الشفاعة جميعًا له تعالى، فقال: {لَهُ} تعالى، وحده {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: له السلطان في السموات والأرض، وكل من فيهما ملك له، ومنه ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله، الذي لا يتصرّف أحد في شيء منه إلَّا بإذنه ورضاه، وفيه إشارة (¬1) إلى أن الله تعالى هو المالك حقيقةً، فإن ما سواه عبد ولا ملك للعبد، ولو ملّكه مولاه، وإنما هو عارية عنده، والعارية مردودة إلى مالكها. {ثُمَّ إِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ أي: إليه مصيركم بعد البعث لا إلى أحد سواه، لا استقلالًا ولا اشتراكًا، فيفعل يومئذ ما يريد، وهو معاقبكم على إشراككم به سواه، إن أنتم متم على هذه الحال. وفي "الكواشي": يحيى أعمالكم، ثم إلى حسابه ترجعون؛ أي: تردّون فيجازيكم، فاحذروا سخطه، واتّقوا عذابه، فيا ربح الموحّدين يومئذ، ويا خسارة المشركين. وخلاصة ذلك: اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا، وعلى ضرّكم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدّمتم من عمل خيرًا كان أو شرًّا، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد، الذي تقشعر منه الجلود خشيةً. واعلم: أن افتخار الخلق في الدنيا بعشرة، ولا ينفع ذلك يوم القيامة: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[45]

الأول: المال، فلو نفع المال لأحدٍ .. لنفع قارون، قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}. والثاني: الولد، فلو نفع الولد لأحد .. لنفع إبراهيم عليه السلام أباه آزر، قال تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. والثالث: الجمال، فلو نفع الجمال .. لنفع أهل الروم؛ لأنّ لهم تسعة أعشار الجمال، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. والرابع: الشفاعة، فلو نفعت الشفاعة .. لنفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحبّ إيمانه، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} كأنه قال: أنت شفيعي في الجنايات، لا شريكي في الهدايات. والخامس: الحيلة، فلو نفعت الحيلة .. لنفع الكفار مكرهم، قال تعالى: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}. والسادس: الفصاحة، فلو نفعت الفصاحة .. لنفعت العرب، قال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}. والسابع: العزّ، فلو نفع العزّ .. لنفع أبا جهل، قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}. والثامن: الأصدقاء، فلو نفع الأصدقاء .. لنفعوا الفسّاق، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين (67)}. والتاسع: الأتباع، فلو نفع التبع .. لنفع الرؤساء، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}. والعاشر: الحسب، فلو نفع الحسب .. لنفع يعقوب اليهود؛ لأنهم أولاد يعقوب، قال تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. فإذا عرفت هذه الأمور المذكورة .. فارجع يا أخي إلى الله تعالى من الأسباب الغير النافعة، وذلك بكمال الإيمان والتقوى. 45 - ثم ذكر سبحانه هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة، وتناقض بين الاعتراف بالألوهية، والإنكار لها، فقال: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} سبحانه

حال كونه {وَحْدَهُ}؛ أي: منفردًا، دون آلهة المشركين، وانتصاب {وَحْدَهُ} على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والعامل في {إِذَا}: جوابها، وهو قوله: {اشْمَأَزَّتْ}؛ أي: انقبضت ونفرت وذعرت وأنكرت {قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: قلوب الذين لا يصدّقون بيوم القيامة. {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}؛ أي: من الله تعالى؛ يعني الأوثان فرادى، أو مع ذكر الله. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: يفرحون ويظهر في وجوههم البشر، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها ونسيانهم الحق، والاشمئزاز (¬1): أن يمتلىء القلب غيظًا وغمًا، ينقبض عنهما أديم الوجه، كما يرى في وجه العابس المحزون، وهو غاية ما يمكن من الانقباض، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة، والاستبشار: أن يمتلىء القلب سرورًا، فتنبسط له بشرة الوجه، وهو غاية ما يمكن من الانبساط، ففيه مبالغة أيضًا في بيان حالهم القبيحة، والعامل في {إِذَا} الشرطية: هو العامل في {إِذَا} المفاجأة على القول بأنها ظرف، تقديره: وقت ذكر الذين من دونه، فاجَؤُوا وقت الاستبشار. والمعنى (¬2): أي إنه إذا قيل: لا إله في الكون إلا الله وحده .. نفرت قلوب أولئك المشركين، الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى .. استبشروا وفرحوا لفرط افتتانهم بهنّ، ونسيانهم حق الله تعالى. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في الآية: {اشْمَأَزَّتْ}: قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة، أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبي بن خلف، ونحو الآية قوله تعالى حكايةً عنهم: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. واعلم (¬3): أن هؤلاء المشركين كأمثال الصبيان، فكما أنهم يفرحون بالأفراس الطينية، والأسود الخشبية، وبمذاكرة ما هو لهو ولعب، فكذا أهل الأوثان، لكون نظرهم مقصورًا على الصور والأشباح، فكل قلب لا يعرف الله، فإنه لا يأنس بذكر الله، ولا يسكن إليه، ولا يفرح به، فلا يكون مسكن الحق. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[46]

قال السيد الألوسي في "تفسيره" ناعيًا حال المسلمين اليوم: وقد رأينا (¬1) كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة، التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم، ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم، توافق أهواءهم ومعتقداتم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي: يا فلان أغثني، فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} فغضب وبلغني أنّه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. انتهى. 46 - فعلى العاقل أن لا ينقطع عن الذكر، ويستبشر به، فالله تعالى معه معينه، ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء إلى الخير، وصمموا على كفرهم .. أمره الله سبحانه أن يرد الأمر إليه، فقال: {قُلِ} محمد: {اللَّهُمَّ} والميم فيه عوض عن حرف النداء، والمعنى: قل يا محمد: يا الله يا {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} نصب بالنداء؛ أي: يا خالق السموات والأرض على أسلوب بديع {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: يا عالم كل ما غاب عن العباد وكل ما شهدوه؛ أي: التجىء يا محمد إليه تعالى بالدعاء حين تحيّرت في أمر الدعوة، وضجرت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد، فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بأحوالها برمتها. {أَنْتَ} وحدك {تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ}؛ أي: بيني وبين قومي، وكذا بين سائر العباد {فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}؛ أي: فيما يختلفون فيه من أمر الدين؛ أي: تحكم حكمًا يسلمه كل مكابر، ويخضع له كل معاند، وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي، والثاني أنسب بما بعد الآية. والمعنى: أي قل يا محمد: يا الله، يا مبدع السموات والأرض، ويا عالم ما غاب عنّا، وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك، فتفصل بينهم ¬

_ (¬1) الألوسي.

[47]

بالحق يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، من القول فيك، وفي عظمتك وسلطانك، فتقضي بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده .. اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه .. استبشروا وفرحوا، فتجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءَتِهِ، فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين، وتخاصم المتخاصمين. أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن عائشة - رضي الله تعالى عنهما - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل .. افتتح صلاته: "اللهم ربّ جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". 47 - ثمّ لما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله، والاستبشار عند ذكر الأصنام .. ذكر ما يدل على شدة عذابهم، وعظيم عقوبتهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشرك والمعاصي {مَا فِي الْأَرْضِ} من الأموال والذخائر حال كونه {جَمِيعًا} حال من {مَا} الموصولة؛ أي (¬1): لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر. {و} ملكوا {مِثْلَهُ}؛ أي: مثل ما في الأرض، {مَعَهُ}؛ أي: مع ما في الأرض {لَافْتَدَوْا بِهِ}؛ أي: لجعلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم. {مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ}؛ أي: من العذاب الشديد المعد لهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لكن لا مال يوم القيامة، ولو كان لم يقبل الافتداء به، وهذا وعيد شديد، وإقناط لهم من الخلاص، والظرف متعلق بـ {افْتَدَوْا}، كما في "الجمل". وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى أن هذه الجملة لا تقبل يوم القيامة لدفع العذاب، واليوم هاهنا تقبل ذرّة من الخير، ولقمة من الصدقة، وكلمة من التوبة والاستغفار، كما أنهم لو تابوا وبكوا في الآخرة بالدماء .. لا يرحم بكاؤهم، وبدمعة واحدة اليوم يمحى كثيرٌ من ذنوبهم. والمعنى (¬2): أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[48]

الأموال، وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة .. لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد، الذي سيعذبون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران. 48 - {وَبَدَا لَهُمْ}؛ أي: وظهر لهم في ذلك اليوم الرهيب {مِنَ} عذاب {اللَّهِ} سبحانه وفنون العقوبات. {مَا لَمْ يَكُونُوا} في الدنيا. {يَحْتَسِبُونَ} به ويظنونه؛ أي: بدا لهم يوم القيامة من فنون العذاب، ما لم يكن في حسابهم وظنهم في الدنيا أنه نازل بهم يومئذ؛ أي: وظهر لهم من عذاب الله، الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم، ولم يحدّثوا به أنفسهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم، وتهديد بالغ غايةً لا غاية وراءها، قال مجاهد: عملوا أعمالًا توهموا أنها حسنات، فإذا هي سيئات، وعن سفيان الثوري: أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء من هذه الآية. {وَبَدَا لَهُمْ}؛ أي: ظهر لهم في ذلك اليوم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم. {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} في الدنيا؛ أي: ظهر لهم جميع ما اجترحوه من السيئات، وارتكبوه من الآثام، وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير {وَحَاقَ بِهِمْ}؛ أي: نزل وأصاب وأحاط بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: وبال استهزائهم، وجزاء مكرهم، وكانوا يستهزئون بالكتاب، ويسخرون من المسلمين، ويهزؤون بالبعث والعذاب، ونحو ذلك؛ أي: أحاط بهم العذاب من كل الجوانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة؛ لاستهزائهم بما كانوا ينذرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 49 - قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ} المراد بالإنسان هنا (¬1): الجنس، باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل: المراد به: الكفار فقط، والأول أولى، ولا يمنع حمله على الجنس خصوص سبَبِه؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاءً بحق النظم القرآني، ووفاءً بمدلوله، و {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنّ المشركين ليشمئزّون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، وأردت بيان حالهم فيما إذا أصابهم الضر .. فأقول لك. إن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه {ضُرٌّ} من مرض أو فقر أو غيرهما، {دَعَانَا} وتضرع إلينا في رفعه ودفعه؛ أي: دعوا لدفعه من اشمأزوا عن ذكره، وهو الله سبحانه وتعالى، فيا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

عجبًا لحالهم مع الله سبحانه لمناقضتهم وتعكيسهم في التسبب، حيث جعلوا الكفر سببًا في الالتجاء إلى الله، بأن أقاموه مقام الإيمان مع أن الواجب أن يجعل الإيمان سببًا فيه، وإنما أتى هنا بـ {الفاء} في قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ}، وعطف بـ {الواو} في أول السورة في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ}؛ لأن ما هنا كلام مرتب على ما قبله؛ لأنه ترتب على قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} إلخ، وأما ما في أول السورة فلم يترتب على ما قبله، وإنما هو ذكر كلامٍ اقتضى عطفه على ما قبله بالواو لمناسبة ما قبله. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ}؛ أي: أعطيناه {نِعْمَةً} صادرة {مِنَّا} تفضلًا وإحسانًا، فإن التخويل مختص بما كان بطريق التفضل، لا يطلق على ما أعطي بطريق الجزاء، أي: إذا أعطيناه مالًا أو عافيةً في البدن تفضلًا منا {قَالَ} ذلك الإنسان {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ}؛ أي: إنما أوتيت هذه النعمة والضمير للنعمة، إن قلنا {ما} كافة في {إِنَّمَا} وتذكير (¬1) الضمير: نظرًا لكونها بمعنى الفضل أو الإنعام أو الشيء، أو لـ {ما} إن قلنا إنها موصولة، والأول أولى. {عَلَى عِلْمٍ}؛ أي: بسبب علم منى بوجوه المكاسب، أو على علم منى بأني ساعطاه، لما لي من الفضل والاستحقاق، أو على علم من الله سبحانه باستحقاقي وبفضلي، أو {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}؛ أي: على خير علمه الله منى، فإن كانت النعمة سعةً في المال .. قال: إنما حصل هذا بكسبي واجتهادي، وإن كات صحةً .. قال: إنما حصلت هذه الصحة بسبب العلاج الفلاني، وقوله: {بَلْ هِيَ}؛ أي: تلك النعمة {فِتْنَةٌ} ومحنة وابتلاء لذلك الإنسان، أيشكر أم يكفر، رد لما قاله ذلك الإنسان، أي: ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك أتشكر أم تكفر، قال الفراء: أنث الضمير في قوله: {هِيَ}؛ لتأنيث الفتنة، ولو قال: بل هو فتنة .. لجاز، وقال النحاس: بل عطيته فتنة، وقيل: تأنيث الضمير: باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأوّل في قوله: {أُوتِيتُهُ} باعتبار معناها {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر الناس وهم الكفار {لَا يَعْلَمُونَ} أنّ التخويل والإعطاء والبسط استدراج وامتحان. والمعنى (¬2): أي إن أمر المشرك عجيب، يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[50]

أصيب بضر من فقر أو مرض .. جأر إلى الله، واستعان به لكشف ذلك الضرّ عنه، وإذا تغيرت الحال، ونال شيئًا من الرخاء، أو زال عنه ما به من العلة .. قال: إنما أوتيت هذا لعلمي بوجوه المكاسب، وجدّي واجتهادي، أو لذهابي إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج، فلم أدخر دواء نافعًا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه. وهذا منه تناقض عجيب، ففي الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه، ويقطع صلتها عن المنعم بها، الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق أن ما أعطيه من النعم، إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصي، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله، وامتحان لم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدعون من الدعاء ما لا يفقهون. 50 - ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم، بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم، فقال: {قَدْ قَالَهَا}؛ أي: قد قال (¬1): تلك الكلمة أو الجملة، وهي قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: قد قال الذين من قبل قومك يا محمد مثل هذه المقالة، وهم قارون وقومه، حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وهم راضون به؛ يعني لما رضي قوم قارون بمقالته .. جمعوا معه، وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بالذين من قبلهم: جميع من تقدمنا من الخيار والشرار، فيجوز أن يوجد في الأمم المتقدمة من يقول تلك الكلمة غير قارون أيضًا، ممن أبطرته النعمة، واغترّ بظاهرها. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}؛ أي: فما دفع عن أولئك القائلين من الأمم المتقدمة {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئًا من عذاب الله تعالى؛ يعني أن النعمة لم تدفع عنهم النقمة والعذاب ولم ينفعهم ذلك، ويجوز أن تكون {ما} في قوله: {فَمَا أَغْنَى}: نافية، كما فسرناها، وأن تكون استفهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم ذلك. 51 - {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}؛ أي: جزاء سيئات كسبهم، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمّي الجزاء سيئات؛ لوقوعه في مقابلة سيئاتهم، فهو من باب المشاكلة، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ففيه رمز إلى أن جميع أعمالهم من قبيل السيئات. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

والمعنى: أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنهم وقعوا في العذاب ولم تنفعهم أموالهم، وهذا كما قال اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}. والمعنى (¬1): أي قد زعم مثل هذا الزعم، وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئًا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا، ويجمعون من حطامها، حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله، واستهزائهم بهم. ثم بين ما سلف بقوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}؛ أي: فحل بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا، كالخسف الذي لحق قارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة، ثم أوعد سبحانه مشركي قومه - صلى الله عليه وسلم - على ما سينالهم في الدنيا والآخرة، فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشرك {مِنْ هَؤُلَاءِ} المشركين المعاصرين لك يا محمد؛ أي: أفوطوا في الظلم والعتو، و {مِنْ} للبيان، أو للتبعيض. {سَيُصِيبُهُمْ}؛ أي: سيحل بهم، {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} من الكفر والمعاصي، كما أصاب أولئك، و {السين}: للتأكيد، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر؛ أي: والذين كفروا بالله من قومك، وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضًا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية، وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير. {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} الله تعالى؛ أي: وما هم بفائتين الله هربًا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه، ويصنع بهم ما شاء من العقوبة؛ يعني يدركهم العذاب، ولا ينجون منه بالهرب. 52 - ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته، وبديع حكمته، فقال: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} و {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف معلوم من السياف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير (¬2): أقالوا تلك الكلمة؛ يعني قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}؛ أي: أقالوا ذلك ولم يعلموا، أو أغفلوا عن فضل الله ولم يعلموا {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسّعه {لِمَنْ يَشَاءُ} أن يوسّع عليه، ليختبره أيشكر أم يكفر. {وَيَقْدِرُ} الرزق ويقبضه عمن يشاء القبض ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

عنه، ويضيّقه عليه، ليمتحنه أيصبر أم يقنط؛ أي: يبسط ويقبض من غير أن يكون لأحد مدخل ما في ذلك، حيث حبس عنهم الرزق سبع سنين، ثم بسط لهم سبعًا، روي: أنهم أكلوا في سنين القحط الجيف والجلود والعظام والعلهز، وهو: الوبر: بأن يخلط الدم بأوبار الإبل، ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع، فلم ينفعهم ذلك، حيث أصرّوا على الكفر والعناد. والمعنى (¬1): أي أو لم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارةً، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعةٍ وبسطةٍ في المال. فائدة: ويرد بهذه الآية على من يرى الغنى من الكيس، والفقر من العجز، أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "أتدري لم رزقت الأحمق" قال: يا رب لا، قال: "ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال، فالكل بيد الله تعالى" {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور} وبه ظهر فساد قول ابن الراوندي: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوْقَا هَذَا الَّذِيْ تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيْرَ زِنْدِيْقَا أي: كافرًا نافيًا للصانع العدل الحكيم، قائلًا: لو كان له الوجود .. لما كان الأمر كذلك، ولقد أحسن من قال: كَمْ مِنْ أَدِيْبٍ فَهِمٍ عَقْلُهُ ... مُسْتَكْمِلِ الْعَقْلِ مُقِلٍّ عَدِيْمِ وَمِنْ جَهُوْلٍ مُكْثِرٍ مَالُهُ ... ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيْمِ يعني: أن من نظر إلى التقدير .. علم أن الأمور الجارية على أهل العالم كلها على وفق الحكمة، وعلى مقتضى السلمة، ففيه إرشاد إلى إثبات الصانع الحكيم، لا إلى نفي وجوده. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من البسط والقبض {لَآيَاتٍ} دالةً على أن الحوادث كافةً من الله تعالى بوسطٍ عاديٍّ، أو غيره؛ أي: لدلالات {لِقَوْمٍ ¬

_ (¬1) المراغي.

يُؤْمِنُونَ} بالله تعالى، ويقرّون بوحدانيته، وهم الذين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه، وإنما خص المؤمنين بذلك؛ لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكّرون فيها، والمستدلون بها على مدلولاتها. الإعراب {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)}. {فَمَنْ}: {الفاء}: استئنافية، أو فصيحة، كما مر في بحث التفسير. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ومعناه النفي؛ أي: لا أحد {أَظْلَمُ} خبره، والجملة: مستأنفة. {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ}. {كَذَبَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {كَذَبَ}، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ}: معطوف على {كَذَبَ عَلَى اللَّهِ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون، والظرف: متعلق بـ {كَذَبَ}. {جَاءَهُ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الصدق، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه. {إِذْ}. {أَلَيْسَ} {الهمزة}: للإستفهام التقريري. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {فِي جَهَنَّمَ}: خبرها مقدم على اسمها. {مَثْوًى}: اسمها مؤخر. {لِلْكَافِرِينَ}: صفة لـ {مَثْوًى}، أو متعلق بـ {مَثْوًى}؛ لأنه اسم مكان من ثوى؛ أي: أقام، وجملة {لَيْسَ}: جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)}. {وَالَّذِي} {الواو}: استئنافية. {الَّذِي}: مبتدأ، وجملة {جَاءَ بِالصِّدْقِ}: صلة الموصول. {وَصَدَّقَ بِهِ} معطوف على الصلة و {الَّذِي}: جنس، المراد به بالنسبة للصلة الأولى: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالنسبة للصلة الثانية: المؤمنون، ولذلك روعي معنى: {الَّذِي} في: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان، {هُمُ}: ضمير فصل. {الْمُتَّقُونَ}: خبر {أُولَئِكَ}. وجملة المبتدأ الثاني مع خبره: خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: مستأنفة. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَا}: اسم موصول

في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: خبر ثان لـ {الَّذِي}. {يَشَاءُونَ}: فعل وفاعل، صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: لهم ما يشاؤونه {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من العائد المحذوف؛ أي: لهم ما يشاؤونه حال كونه مدّخرًا لهم عند ربهم. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية: حال ثانية من العائد المذكور؛ أي: حال كون ذلك جزاء المحسنين. {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}. {لِيُكَفِّرَ}: {اللام}: حرف جرّ وتعليل. {يُكَفِّرَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} الجار والمجرور: متعلق بمحذوف تقديره: يسر لهم ذلك لتكفير الله عنهم، أو متعلق بـ {الْمُحْسِنِينَ} و {اللام}: للعاقبة؛ أي: الذين أحسنوا؛ لتكون عاقبتهم التكفير {عَنْهُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُكَفِّرَ}، {أَسْوَأَ} مفعول به. {الَّذِي} مضاف إليه. {عَمِلُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة وليس المراد هنا باسم التفضيل معناه على بابه، وإنما هي من إضافة الشيء إلى بعضه من غير تفضيل. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي} عطف على ما تقدم {أَجْرَهُمْ} مفعول به ثانٍ لـ {يَجْزِيَ}، وجملة {كَانُوا يَعْمَلُونَ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: بأحسن الذي كانوا يعملونه، واسم التفضيل في قوله: {أَسْوَأَ} و {أَحْسَنِ}: ليس على بابه، لئلا يلزم علينا أنه يكفّر عنهم أقبح السيئات فقط، ويجزيهم أفضل الحسنات فقط، كما مرّ في بحث التفسير. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}. {أَلَيْسَ}: {الهمزة}: فيه للاستفهام التقريري. {لَيْسَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِكَافٍ}: {الباء}: زائدة، {كَافٍ}: خبر {لَيْسَ}، {عَبْدَهُ}: مفعول {بِكَافٍ}، والمراد به: النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الجنس عامة، كما مر، وجملة {لَيْسَ}: إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَيُخَوِّفُونَكَ}: {الواو}: حالية، أو استئنافية.

{يُخَوِّفُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. {بِالَّذِينَ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من {عَبْدَهُ}: إن كان المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: أليس الله كافيك حال تخويفهم إيّاك، أو مستأنفة مسوقة لتفنيد ما يعمدون إليه من التخويف بالأصنام، إن كان المراد بالعبد الجنس. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور، صلة {الَّذِينَ}. {وَمِنْ} {الواو}: استئنافية. {مِنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يُضْلِلِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {اللَّهُ}: فاعل. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط، {مَا} تميمية، أو حجازية. {لَهُ}: خبر مقدم أو خبر {مَا} مقدم. {مِنْ}: زائدة، {هَادٍ}: مبتدأ مؤخر، أو اسمها مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَهْدِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {مِنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {ما}: حجازية، {لَهُ}: خبرها مقدم، {مِنْ} زائدة، {مُضِلٍّ}: اسمها مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مِنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {أَلَيْسَ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لَيْسَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {بِعَزِيزٍ}: خبر {لَيْسَ}: و {الباء} زائدة {ذِي انْتِقَامٍ} صفة لـ {عَزِيزٍ} تابع لِلَفْظِهِ وجملة {لَيْسَ} جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم. {سَأَلْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {مَنْ}: اسم استفهام، في محل الرفع مبتدأ. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {مَنْ} الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ {سَأَل} المعلقة عن العمل فيه بالاستفهام. {لَيَقُولُنَّ}

و {اللام}: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى. {يَقُولُنَّ}: فعل مضارع معرب لعدم مباشرة نون التوكيد له مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة؛ لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة للالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل. {اللَّهُ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الله، أو مبتدأ والخبر: محذوف؛ أي: الله خلقها، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {لَيَقُولُنَّ}: وجملة {يَقُولُنَّ}: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابها: مستأنفة، وجواب الشرط: محذوف، دلّ عليه جواب القسم، جريًا على القاعدة المشهورة فيما إذا اجتمع شرط وقسم، والتقدير: إن سألتهم من خلق السموات والأرض .. يقولوا: الله، وجملة الشرط: معترضة بين القسم وجوابه. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، والجملة: مستأنفة. {أَفَرَأَيْتُمْ}: {الهمزة}: فيه للاستفهام التوبيخي، و {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا لم يكن خالق سواه تعالى .. فأقول لكم: أخبروني عن آلهتكم التي تعبدونها، أنه إن أرادني الله بضرّ إلخ. {رَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، بمعنى أخبروني. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {رَأَيْتُمْ}. {تَدْعُونَ}: فعل وفاعل وصلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف تقديره: ما تدعونه {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من العائد المحذوف، وجملة {رَأَيْتُمْ}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ويجوز أن تكون {الهمزة} للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكّرتم ما أقررتم به، فرأيتم ما تدعون من دون الله ... إلخ. {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. {إِنْ}: حرف شرط جازم {أَرَادَنِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل ونون وقاية، ومفعول به في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {بِضُرٍّ}: متعلق بـ {أَرَادَنِيَ}، وجواب {إِنْ} الشرطية: محذوف، تقديره: إن أرادني الله بضر .. فهل يكشفن عني ضرّه، وجملة {إِنْ} الشرطية: معترضة بين الفعل ومفعوله، لا محل لها من الإعراب. {هَلْ}: حرف استفهام، {هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ {رَأَيْتُمْ} علق عنها بالاستفهام،

{أَوْ أَرَادَنِي}: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به معطوف على {أَرَادَنِي} الأول. {بِرَحْمَةٍ}: متعلق بـ {أَرَادَنِي}. {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}: مبتدأ وخبر في محل النصب معطوف على {هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} على كونها مفعولًا ثانيًا لـ {رَأَيْتُمْ}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {حَسْبِيَ} مبتدأ {اللَّهُ}: خبر، أو بالعكس، والجملة: مقول لـ {قُلْ}، و {عَلَيْهِ} متعلق بـ {يَتَوَكَّلُ}. {يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}: فعل مضارع وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية. {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قُلْ}. {اعْمَلُوا}: فعل أمر وفاعل. {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: حال من فاعل {اعْمَلُوا}، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها جواب النداء. {إِنِّي عَامِلٌ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {فَسَوْفَ}: {الفاء}: عاطفة، {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، وجملة العلم: معطوفة على جملة {اعْمَلُوا}: على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَعْلَمُونَ}. {يَأْتِيهِ عَذَابٌ}: فعل ومفعول وفاعل صلة {مَنْ} الموصولة. {يُخْزِيهِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به صفة لـ {عَذَابٌ}. {وَيَحِلُّ}: فعل مضارع. {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {يَحِلُّ}، {عَذَابٌ}: فاعل. {مُقِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة: معطوفة على جملة {يَأْتِيهِ} على كونها صلة {مَنْ} الموصولة. {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْكَ}: متعلق به، {الْكِتَابَ}: مفعول به، {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، {بِالْحَقِّ}: حال من فاعل {أَنْزَلْنَا}؛ أي: حالة كوننا متلبسين بالحق، أو من المفعول؛ أي: حالة كونه متلبسًا

بالحق، وجملة {أَنْزَلْنَا}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة، {فَمَنِ}: {الفاء}: عاطفة، {مَنِ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {اهْتَدَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لا. {فَلِنَفْسِهِ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {لِنَفْسِهِ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهدايته لنفسه، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {إن}. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط على الخلاف السابق. {ضَلَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ}، على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة الجواب جوازًا، {إِنَّمَا}: أداة حصر. {يَضِلُّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. {عَلَيْهَا} متعلق بـ {يَضِلُّ}، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وإنما جزمت المضارع المحل لا اللفظ؛ مشاكلة للماضي الواقع شرطًا، وجملة {مَنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية حجازية، {أَنْتَ}: في محل الرفع اسمها. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {وَكِيلٍ}، و {بِوَكِيلٍ}: خبر لـ {ما} الحجازية منصوب بفتحة مقدرة، و {الباء}: زائدة، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: {فَإِنَّمَا يَضِلُّ} على كونها جوابًا لـ {مَن} الشرطية، وجمع ضمير {عَلَيْهِمْ} نظرًا لمعنى {مَنْ} الشرطية. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {حِينَ مَوْتِهَا}: متعلق بـ {يَتَوَفَّى} {وَالَّتِي}: معطوف على {الْأَنْفُسَ}، وجملة {لَمْ تَمُتْ}: صلة التي الموصولة. {فِي مَنَامِهَا}: جار ومجرور متعلق {يَتَوَفَّى} والمعنى: الله يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ أي: يتوفّاها حين تتام {فَيُمْسِكُ}. {الفاء}: عاطفة. {يُمْسِكُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود

على {اللَّهُ}. {الَّتِي}: مفعول به لـ {يُمْسِكُ}. {قَضَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {قَضَى}. {الْمَوْتَ}: مفعول به لـ {قَضَى} وجملة {قَضَى}: صلة الموصول. {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يُمْسِكُ}. {إِلَى أَجَلٍ} متعلق بـ {يرسل} أو بـ {يُمْسِكُ}. {مُسَمًّى}: نعت لـ {أَجَلٍ}. {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لها. {لَآيَاتٍ}: {اللام}: حرف ابتداء. {آيَاتٍ}: اسمها مؤخر. {لِقَوْمٍ}: صفة {لَآيَاتٍ} وجملة {يَتَفَكَّرُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ} وجملة {إنَّ} مستأنفة. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)}. {أَمِ}: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية، وهمزةِ الاستفهام الانكاري. {اتَّخَذُوا}: فعل ماض وفاعل. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، متعلق به على كونه مفعولًا ثانيًا له {شُفَعَاءَ}: مفعول أول له، والجملة: مستأنفة. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة {أَوَلَوْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أيشفعون، {وَلَوْ}: {الواو}: حالية، {لَوْ}: حرف شرط مهمل، بمعنى قد. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {لَا يَمْلِكُونَ} خبر {كَانُ}، {شَيْئًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق، كما مر مرارًا. {وَلَا يَعْقِلُونَ}: معطوف على {لَا يَمْلِكُونَ}. و {لَوْ}: مهملة لا جواب لها؛ أي: أيشفعون حال كونهم لا يملكون شيئًا ولا يعقلون شيئًا، ويجوز أن تكون {الواو}: عاطفة، و {لَوْ} على معناها، وجوابها، محذوف، تقديره: تتخذونهم شفعاء، وجملة {لَوْ} معطوفة على تلك المحذوفة. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {لِلَّهِ}: خبر مقدم، {الشَّفَاعَةُ}: مبتدأ مؤخر، {جَمِيعًا}: حال من {الشَّفَاعَةُ} على رأي سيبويه، أو

من الضمير المستقر في الخبر على مذهب الجمهور، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {لَهُ}: خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {مُلْكُ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب وتراخ، {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، و {تُرْجَعُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على محذوف معلوم من السياق، تقديره: يتصرف فيكم في الدنيا كيف يشاء، ثم إليه ترجعون في الآخرة. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {ذُكِرَ اللَّهُ}: فعل ونائب فاعل. {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة؛ أي: حالة كونه منفردًا في الذكر دون الشركاء، ومنصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه؛ أي: ذُكَر ذِكْر انفراد، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها. {اشْمَأَزَّتْ}: فعل ماض. {قُلُوبُ}: فاعل، {الَّذِينَ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية: جواب {إِذَا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ}: صلة الموصول. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة، {وَإِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {ذُكِرَ الَّذِينَ}: فعل ونائب فاعل، فعل شرط لـ {إِذَا}. {مِنْ دُونِهِ}: جار ومجرور، صلة الموصول، {إِذَا}: فجائية، خلف عن {الفاء} الرابطة، حرف لا محل لها من الإعراب، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَسْتَبْشِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: معطوفة على جملة {إِذَا} الأولى. {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}. {قُلِ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُمَّ}: منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية، مبني على الضم، والميم المشددة: عوض عن حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قُلِ}. {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ}: منادى ثان، حذف منه حرف النداء، مضاف إلى ما بعده، منصوب؛ أي: يا فاطر السموات، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، وجملة النداء: معطوفة بعاطف مقدر على جملة النداء الأول، على كونها مقولًا لـ {قُلِ}، وهناك أعاريب أخرى، سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وكذلك {عَالِمَ الْغَيْبِ

وَالشَّهَادَةِ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، معطوف على النداء الأول ومضاف إليه. {أَنْتَ}: مبتدأ، وجملة {تَحْكُمُ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قُلِ}. {بَيْنَ عِبَادِكَ}: متعلق بـ {تَحْكُمُ}، {فِي مَا}: متعلق بـ {تَحْكُمُ} أيضًا. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَخْتَلِفُونَ}: خبر {كَانُوا}، {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ}، وجملة {كَانُ} من اسمها وخبرها: صلة لـ {مَا} الموصولة. فائدة في {اللَّهُمَّ}: مذهب الخليل وسيبويه: أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه صار عندهم مع الميم بمنزلة الصوت؛ أي: غير متمكن في الاستعمال. وذهب المبرد والزجاج: إلى جواز وصفه بمرفوع على اللفظ، ومنصوب على المحل، وجعل {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: صفة له. قال أبو حيان: والصحيح مذهب سيبويه؛ لأنه لم يسمع مثل اللهم الرحمن الرحيم ارحمنا، والآية ونحوها محتملة للنداء. وقال ابن هشام: وإنما قال في {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إنه على تقدير (يا)، ولم يجعله صفة على المحل؛ لأنّ عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصلت به الميم المعوضة عن حرف النداء .. أشبه الأصوات، فلم يجز نعته؛ أي: فقد صار مثل هلا، إذ الميم بمنزلة صوت مضموم إلى اسم الله، مع بقائهما على معنييهما. {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {أَنَّ}: حرف نصب ومصدر. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، خبر مقدم لـ {أَنَّ} وجملة {ظَلَمُوا}: صلة الموصول، {مَا}: اسم موصول في محل النصب، اسم {أَنَّ} مؤخر عن خبرها. {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} الموصولة، {جَمِيعًا}: حال من اسم {أَنَّ}، {وَمِثْلَهُ}: معطوف على {مَا}، {مَعَهُ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {مِثْلَهُ}؛ أي: حال كون ذلك المثل منضمًا إلى {مَا فِي الْأَرْضِ}، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف، هو فعل شرط لـ {لَوْ}، تقديره: ولو ثبت كون ما في الأرض للذين ظلموا، ومثله معه .. لافتدوا به من سوء

العذاب. {لَافْتَدَوْا}: {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية، {افْتَدَوْا}: فعل وفاعل، {بِهِ} متعلق بـ {افْتَدَوْا}. و {مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ}: متعلق به أيضًا. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق به أيضًا، أو حال من فاعل {افْتَدَوْا}؛ أي: حال كونهم في ذلك اليوم العصيب، والجملة الفعلية: جواب {لو} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية؛ مستأنفة. {وَبَدَا} {الواو}: عاطفة، {بَدَا}: فعل ماض، {لَهُمْ}: متعلق به، {مِنَ اللَّهِ}: حال من فاعل {بَدَا}. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {لَوْ} الشرطية. {لَمْ يَكُونُوا}: جازم وفعل ناقص واسمه، وجملة {يَحْتَسِبُونَ}: في محل النصب خبر {يَكُونُوا}؛ أي: لم يكونوا محتسبين، وجملة {يَكُونُوا}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {بَدَا}: فعل ماض. {لَمْ}: متعلق به. {سَيِّئَاتُ مَا}: فاعل، ومضاف إليه، والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها، ولك أن تجعل الكلامين مستأنفًا مسوقًا لإِبراز وعيدهم في أبلغ ما يكون الوعيد والتهديد. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: سيئات ما كسبوه. {وَحَاقَ}: فعل ماض، معطوف على {بَدَا}، {بِهِمْ}: متعلق بـ {حَاقَ}، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {وَحَاقَ}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كَانُوا}، وجملة {كَانُوا}: صلة الموصول. {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)}. {فَإِذَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المشركين ليشمأزّون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر آلهتهم، وأردت بيان حالهم فيما إذا أصابهم الضرّ .. فأقول لك: إن شأن غالب نوع الإنسان، أنّه إذا مسّه ضرّ إلخ. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {مَسَّ}: فعل ماض. {الْإِنْسَانَ}: مفعول به. {ضُرٌّ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها. {دَعَانَا}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة الفعلية: جواب {إِذَا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا

المقدرة: مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ. {إِذَا}: ظرف لما يسسّقبل من الزمان. {خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً}: فعل وفاعل، ومفعولان. {مِنَّا}: صفة لـ {نِعْمَةً}، والجملة الفعلية، في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف: متعلق بالجواب. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: جواب {إِذَا} وجملة {إِذَا}: معطوفة على جملة {إِذَا} الأولى. {إِنَّمَا}: أداة حصر {أُوتِيتُهُ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {عَلَى} {عِلْمٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من تاء المتكلم في {أُوتِيتُهُ}، حالة كوني عالمًا أني سأعطاه، لما أتمتع به من جدارةٍ واستحقاق. {بَلْ}: حرف إضراب للإضراب الانتقالي. {هِيَ فِتْنَةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}: ناصب واسمه. وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاستدراكية: معطوفة على الجملة الإضرابية، ويصح أن تكون حالية. {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {قَالَهَا}: فعل ومفعول. {الَّذِينَ}: فاعل، و {الهاء}: عائدة على مقالتهم، وهي {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}؛ لأنها كلمة. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: صلة الموصول، والجملة الفعلية: مستأنفة. {فَمَا}: {الفاء}: عاطفة، {مَا}: نافية. {أَغْنَى}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: متعلق به {مَا}: فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {قَدْ قَالَهَا}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا}: صلة الموصول. {فَأَصَابَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة {أَصَابَهُمْ}: فعل ومفعول {سَيِّئَاتُ}: فاعل، و {مَا}: مضاف إليه، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي سيئات ما كسبوه. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة، {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {ظَلَمُوا}: صلة الموصول. {مِنْ هَؤُلَاءِ}: جار ومجرور حال من واو {ظَلَمُوا}. {سَيُصِيبُهُمْ}: فعل ومفعول به، {سَيِّئَاتُ}: فاعل. و {مَا} مضاف إليه، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: {قَدْ قَالَهَا}، وجملة {كَسَبُوا} صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَمَا}: {الواو}: حالية، {ما}: نافية حجازية. {هُمْ}: اسمها. {بِمُعْجِزِينَ}:

خبرها، و {الباء}: زائدة، والجملة: في محل النصب حال من مفعول {سَيُصِيبُهُمْ}. {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. {أَوَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقالوها ولم يعلموا؟ والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لَمْ يَعْلَمُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة: على تلك المحذوفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: خبره. وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {يَعْلَمُوا}. {لِمَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {وَيَقْدِرُ}: معطوفة على جملة {يَبْسُطُ}. {إِنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدّم. {لَآيَاتٍ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء. {لِقَوْمٍ} صفة {لَآيَاتٍ}. وجملة {يُؤْمِنُونَ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} أصله: مثوي بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، مشتق من ثوى بالمكان: إذا أقام به، يثوى ثويًا وثواءً، مثل مضى يمضي مضيًا ومضاءً، ولو كان من أثوى الرباعي .. لكان مثوًى بضم الميم، وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصحى. وحكى أبو عبيدة: أثوى، اهـ "قرطبي" بزيادةٍ. ومعنى المثوى: المقام والمستقر. والمعنى: أنّ جهنم منزل ومقام للكاذبين المكذبين المذكورين وغيرهم من الكفار جزاءً لكفرهم وتكذيبهم. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؛ أي: يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، والكفاية: ما فيه سد الخلة، وبلوغ المراد في الأمر. {يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} مكانتكم: اسم مكان من مادة كان، ووزنه

مفعلة، أصله: مكونة نقلت حركة الواو إلى الكاف، ثم أبدلت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، وقيل: إن الميم أصلية، فهي من مادّة مكن وعليه فهو مصدر ميمي. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} أصله. يتوفي، قلبت ياؤه ألفًا؛ لتحركها بعد فتح. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} أصله: تموت بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد، ثم دخل الجازم على الفعل فسكن آخره، فصار اللفظ تموت، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه تفل، ويقال توفاه الله: قبض روحه، كما في "القاموس". والأنفس: جمع نفس بسكون الفاء، وهي النفس الناطقة المسماة عند أهل الشرع بالروح الإضافي الإنساني السلطاني فسميت نفسًا باعتبار تعلقها بالبدن، وانصياعها بأحكامه، والتلبس بغواشيه، وروحًا باعتبار تجردها في نفسها، ورجوعها إلى الله تعالى، فالنفس: ناسوتية سفلية، والروح: لاهوتية علوية. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} والموت: زوال القوة الحساسة، كما أن الحياة وجود هذه القوة، ومنه سمي الحيوان حيوانًا، ومبدأ هذه القوة هو الروح الحيواني، الذي محله الدماغ، كما أن محل الروح الإنساني القلب الصنوبري، ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة. اهـ من "الروح". والمنام والنوم واحد، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطبات البخار الصاعد إليه، وقيل: النوم؛ هو أن يتوفى الله النفس من غير موت، كما في الآية، وقيل: النوم: موت خفيف، والموت: نوم ثقيل، وهذه التعريفات كلها صحيح بنظرات مختلفة. اهـ. منه {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} إمساك الشيء: التعلق به وحفظه، والقضاء: الحكم. {شُفَعَاءَ} جمع شفيع، والشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة: الانضمام إلى آخر مسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى رتبةً إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة يوم القيامة. {اشْمَأَزَّتْ} من الشمز، والشمز: نفور النفس مما تكره، وتَشمّز وجهه:

تقبض، والاشمئزاز؛ هو أن يمتلىء القلب غيظًا وغمًا، ينقبض منه أديم الوجه، وهو غاية ما يمكن من الانقباض، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة، كما مر. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}؛ أي: يفرحون ويظهر في وجوههم البشر، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم الحق، والاستبشار: هو أن يمتلىء القلب سرورًا حتى تنبسط له بشرة الوجه، ويتهلل، ففيه مبالغة أيضًا في بيان حالهم القبيحة. {لَافْتَدَوْا} أصله: لافتديوا، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، يقال افتدى: إذا بذل المال عن نفسه، فإن الفداء: حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه؛ أي: لجعلوا كل ذلك فديةً لأنفسهم من العذاب الشديد، لكن لا مال يوم القيامة، كما مر. {وَبَدَا لَهُمْ} فيه إعلال بالقلب، أصله: بدو، بوزن فعل، قلبت واوه ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ} فيه من مباحث الصرف الادغام، أصله: مسس، أدغمت السين في السين. {دَعَانَا} أصله: دعونا، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} أصله: أؤتي، أبدلت الهمزة الثانية واوًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، وسكنت الياء، فصارت حرف مد لتطرفها إثر كسرة. {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}؛ أي: محنة وابتلاء له، أيشكر أم يكفر، تقول فتنت الذهب: إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته وتختبره. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} أصله: أغني بوزن أفعل؛ لأنه رباعي، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أصله: فأصوبهم، بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الصاد، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {سَيُصِيبُهُمْ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: سيصوبهم، نقلت حركة الواو إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، ثم قلبت ياءً حرف مد، وقوله:

{سَيِّئَاتُ} أصله سوءات بوزن فيعلات، قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، لما اجتمعتا، وسبقت إحداهما ساكنةً. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين قوله: {مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}. ومنها: الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني؛ أعني قوله: {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} دون الأول، أعني قوله: {أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة، كذا في "الإرشاد". ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} حيث أدخل همزة الإنكار على كلمة النفي. فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها، فصار الاستفهام تقريريًا، وكذا الحكم في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}. ومنها: الطباق بين قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} وقوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ} وبين قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وقوله: {فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يُضْلِلِ} و {مُضِلٍّ} وقوله: {يَهْدِ اللَّهُ} و {هَادٍ}. ومنها: الطباق بين قوله: {بِضُرٍّ} وقوله: {بِرَحْمَةٍ}، وفي قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} وقوله: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. ومنها: المجاز في قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ} حيث جعل الرؤية، وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازًا عن الإخبار، كما في "الروح". ومنها: التهديد في قوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}؛ لأنه أمر تهديد. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} حيث استعار اسم

المكان للحال، فشبهت الحال بالمكان القارّ فيه، ووجه الشبه: ثباتهم في تلك الحال ثبات المتمكن في مكانه. ومنها: المقابلة في قوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {إِنِّي عَامِلٌ}؛ أي: على مكانتي. ومنها: المجاز في الإسناد في قوله: {عَذَابٌ مُقِيمٌ}؛ أي مقيم فيه صاحبه، كما في "الشهاب". ومنها: الطباق بين الإمساك والإرسال في قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} وقوله: {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ...}. ومنها: المقابلة الرائعة في قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...} الآية. فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والإشمئزاز. ومنها: الطباق في قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}. وكذلك بين الغيب والشهادة في قوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.

المناسبة قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا .....} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) أوعد الكافرين فيما سلف أردفه بذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين، بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه، وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين، ومنبهة لهم من ضلالهم. وعبارة "أبي حيان" هنا (¬2): ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما شدّد على الكفار، وذكر ما أعدّ لهم من العذاب، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه .. لافتدى به من عذاب الله .. ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب، إذا آمن العبد ورجع إلى الله، وكثيرًا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة، ليرجو العبد ويخاف، وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته، وقال عبد الله وعليّ وابن عمر: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى انتهى. قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لم من الأهوال يوم القيامة، ووعد المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم .. أردف ذلك ذكر حالٍ لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان يوم العرض والحساب. قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬3) بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك .. عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعًا أوحي إليهم أن لا يعبدوا إلا الله وحده، وأن لا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك .. حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرةً أخرى، بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ لو عرفوه .. لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركةً له في العبودية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر عظمته، بأنه خالق كل شيء وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض .. أردف ذلك بذكر دلائل أخرى، تدل على كمال قدرته، وعظيم لسلطانه، فذكر مقدمات يوم القيامة، من نفخ الصور النفخة الأولى، التي يموت بها أهل الأرض جميعًا، ثم النفخة الثانية، التي يقوم بها الناس جميعًا من قبورهم، ثم ذكر الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفى كل نفس جزاءً ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العلم بأفعالهم جميعًا. قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال، بقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} .. فصل ذلك، فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمي، وهو أشد وقعًا على الأبي العيوف، الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار. قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما ذكر أحوال الأشقياء، وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال .. أردفها بذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النديم، وما يقال لهم وما يقولون، ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبّحون بحمد ربهم، ويعظّمونه، وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضي بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون: الحمد لله رب العالمين، على ما تفضّل به علينا وأنعم. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما تقدم في سورة الفرقان من حديث الشيخين، وما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أنزلت هذه الآية في مشركي أهل مكة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

وأخرج الحاكم والطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نقول ما لمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة .. أنزل فيهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...} الآية. وأخرج الطبراني بسند فيه ضعف، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي قاتل حمزة، يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه: كيف تدعوني، وأنت تزعم أن من قتل، أو زنى، أو أشرك .. {يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} وأنا صنعت ذلك، فهل تجد لى من رخصة، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} الآية. فقال وحشي: هذا شرط شديد، فلعلّي لا أقدر على هذا، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} فقال وحشيّ: هذا أرى بعده مشيئة، فلا أدري أيغفر لي أم لا، فهل غير هذا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ...} الآية. فقال وحشي: هذا نعم فأسلم. قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ...} الآية، سيأتى سبب نزولها في سورة الكافرون، وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن الحسن البصري قال. قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتضلل آباءك وأجدادك يا محمد، فأنزل الله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} إلى قوله: {مِنَ الشَّاكِرِينَ}. قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم: إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} الآية. والحديث في "الصحيح" بلفظ: فتلا، دون فأنزل. وأخرج أحمد بسنده، عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أنَّ الله عزّ وجل يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجده، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والحديث رجاله رجال الصحيح.

[53]

وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت آية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ... قالوا: يا رسول الله، هذا الكرسي هكذا، فكيف العرش، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} الآية. قال الحافظ السيوطي في "الإتقان" ج 1 ص 34: الحديث في "الصحيح" بلفظ: فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أصوب، فإنَّ الآية مكية. وأقول: لفظ تلا، الواقع في "الصحيح": لا ينافي أنها نزلت، ثم تلاها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما كونها مكيةً، فإن ثبت نزولها؛ أعني هذه الآية بمكة .. فلا مانع من نزولها مرتين، وإن لم يثبت نزولها بمكة بالسند الصحيح .. فقد تكون السورة مكية، إلا آية. والله أعلم. التفسير وأوجه القراءة 53 - ولما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد .. عقّبة بذكر سعة رحمته، وعظيم مغفرته، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبشرهم بذلك، فقال: {قُلْ} يا محمد، تبشيرًا لعبادي بسعة رحمتي: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} وأفرطوا وجاوزوا الحد في الجناية. {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بالانهماك في المعاصي، وارتكاب الكبائر والفواحش: {لَا تَقْنَطُوا} ولا تيأسوا {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} سبحانه ومغفرته، فهو يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب إليه، ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت ذنوبه، وكانت كزبد البحر. وقرأ الجمهور: {يَا عِبَادِيَ} بإثبات الياء وصلًا ووقفًا. وروى أبو بكر عن عاصم: أنه يقف بغير ياء، وقرأ الجمهور: {تَقْنَطُوا} بفتح النون، وقرأ أبو عمرو والكسائي: بكسرها، وتعدية (¬1) الإسراف بـ {عَلَى}؛ لتضمين معنى الجناية، قال البيضاوي ومن وافقه: إضافة العبادة تخصّصه بالمؤمن على ما هو عرف القرآن، يقول الفقير: قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ينادى على خلافه؛ لأن العباد فسر هناك ببختنصر وقومه، وكانوا كفارًا بالاتفاق، إلا أن يدعى الفرق بين الإضافة بالواسطة وبغيرها، وقال في "الوسيط": المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك، وقتل النفس والزنا ومعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - والقتال معه، ¬

_ (¬1) روح البيان.

فأنزل الله هذه الآية، ورآها أصحابه من أوسع الآيات في مغفرة الذنوب. انتهى. وعلى كل تقدير، فخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ، فدخل فيه كل مسرف. واعلم (¬1): أن هذه الآية أرجى آيةٍ في كتاب الله سبحانه؛ لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولًا أضاف العباد إلى نفسه، لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب، ثم عقّب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين، من باب الأولى، وبفحوى الخطاب. وبعد أن نهاهم عن القنوط .. أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه، وجاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يخالج القلب عند سماعه ظن، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ}؛ أي: أفراد جنس الذنوب حال كونها، {جَمِيعًا} فالألف واللام فيه: لاستغراق أفراد الجنس؛ أي: إن الله سبحانه يغفر كل ذنب، كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. فيا لها من بشارةٍ ترتاح لها قلوب المؤمنين، المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم. ثم ذكر علة ذلك، فقال: {إِنَّهُ} سبحانه {هُوَ} وحده {الْغَفُورُ} بمحو ما يوجب العقاب عمن تاب {الرَّحِيمُ} بالتفضّل بالثواب له؛ أي: كثير المغفرة والرحمة، عظيمهما وبليغهما واسعهما، وصيغة (¬2) المبالغة: راجعة إلى كثرة الذنوب، وكثرة المغفور والمرحوم. فمن أبى هذا الفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقْنيط عباد الله، وتَأْيِيْسهم من رحمته، أولى بهم مما بشرهم الله به .. فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الذي سلكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما صح عنه من قوله: "يسروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا". وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية": {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "ألا ومن أشرك" ثلاثَ مرات. وروى أحمد أيضًا عن عمرو بن عنبسمة - رضي الله عنه - قال: جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخ كبير، يتوكأ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غدراتٍ وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألست تشهد أن لا إله إلا الله"؟ قال: بلى، وأشهد أنه رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قد غفر لك غدراتك وفجراتك". وروى البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ناسًا من أهل الشرك، كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} والمراد من الآية الأولى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ...} الآية. فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد: أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، والإخلاص في العمل، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع، كما قال عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}. وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل، أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آيةٍ في كتاب الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وإن أجمع آيةٍ في القرآن بخير وشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وإن أكثر آيةٍ في القرآن فرجًا في سورة الغرف: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وإن أشد آيةٍ في كتاب الله تفويضًا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فقال له مسروق: صدقت.

فإن قلت (¬1): حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي، وإطلاقًا في الإقدام عليها، وذلك لا يمكن. قلت: المراد منها: على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنّه لا مخلص له من العذاب، فإن من اعتقد ذلك .. فهو قانط من رحمة الله تعالى، إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب .. زال عقابه، وصار من أهل المغفرة والرحمة، فمعنى أن الله يغفر الذنوب جميعًا؛ أي: إذا تاب، وصحت التوبة .. غفرت ذنوبه، ومن مات قبل أن يتوب .. فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فإن شاء .. غفر له، وعفا عنه، وإن شاء .. عذّبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته، فالتوبة واجبة على كل أحد، وخوف العذاب مطلوب، فلعل الله تعالى يغفر مطلقًا، ولعله يعذّب ثم يعفو بعد ذلك، والله أعلم. قال الشوكاني (¬2): وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين، من تقيد هذه الآية بالتوبة، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين، وزعموا أنهم قالوا ذلك: للجمع بين الآيات .. فهو جمع بين الضب والنون، وبين الملاح والحادي، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة .. لم يكن لها كثير موقع، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}. فلو كانت التوبة قيدًا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} انتهى. وقال البروسوي في "الروح": واعلم (¬3): أن أهل السنة لم يشترطوا التوبة في غفران الذنوب مطلقًا؛ أي: سواء كانت كبائر أو صغائر، سوى الشرك. ودل عليه آثار كثيرة. روي: أن الله تعالى يقول يوم القيامة لبعض عصاة المؤمنين: "سترتها عليك في الدنيا"؛ أي: الذنوب "وأنا أغفرها لك اليوم" فهذا وأمثاله يدل على المغفرة بلا توبة. والفرق بين الشرك وسائر المعصية: هو أن الكافر لا يطلب العفو والمغفرة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[54]

لمعاصيه، اهـ. 54 - وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين: 1 - الإنابة إليه بقوله: {وَأَنِيبُوا} يا عبادي وارجعوا {إِلَى رَبِّكُمْ} سبحانه، بالتوبة من المعاصي {وَأَسْلِمُوا}؛ أي: أخلصوا العمل {لَهُ}؛ أي: لوجهه طلبًا لمرضاته، فإن السالم بمعنى الخالص، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} في الدنيا والآخرة {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}؛ أي: لا تمنعون من عذاب الله إن لم تتوبوا قبل نزوله، والظاهر من آخر الآية: أن الخطاب للكفار، فالمعنى: فارجعوا أيها الناس من الشرك إلى الإيمان، وأخلصوا له تعالى التوحيد. وفي "الأسئلة المقحمة": الفرق بين التوبة والإنابة: أن التائب يرجع إلى الله تعالى خوفًا من العقوبة، والمنيب يرجع حياءً منه، وشوقًا إليه، قال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله -: إذا صدق العبد في توبته .. صار منيبًا؛ لأن الإنابة ثاني في درجة التوبة. وفي "التأويلات النجمية": التوبة لأهل البداية، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة، والأوبة للمتوسط، وهي الرجوع من الدنيا إلى الآخرة، والإنابة لأهل النهاية، وهي الرجوع مما سوى الله إلى الله، بالفناء في الله تعالى، وقال الجنيد رحمه الله: معنى أنيبوا إلى الله: انقطعوا عن الكل بالكلية، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد، ولا للغير عليه أثر، وللأكوان على سره خطر، ومن كان لنا كان حرًا مما سوانا. اهـ. والظاهر: أن الله سبحانه جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإنابة إليه، والإخلاص له، والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه. والمعنى (¬1): أيها الناس، أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وافراده بالألوهية، قبل أن يأتيكم العذاب، ثم لا تجدوا نصيرًا ولا معينًا من عذابه النازل بكم. 2 - 55 اتباع الأحسن بقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}؛ أي: أحكم ¬

_ (¬1) المراغي.

[56]

ومحكم ما أنزل إليكم {مِنْ رَبِّكُمْ} سبحانه، دون منسوخه ومتشابهه، أو عزائمه دون رخصه. وقيل: العفو دون الانتقام، وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية، وقال الحسن: الزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل عليكم من ثلاثة أوجه، ذكر القبيح لتجتنبوه، وذكر الأحسن لتؤثروه، وذكر الأوسط لئلا يكون عليكم جناح في الإقبال عليه، أو الإعراض عنه، وهو المباحات. وفي "فتح الرحمن" (¬1): إن قلت: كيف قال: ذلك مع أن القرآن كله حسن؟. قلت: معناه أحسن وحي، أو أحسن كتاب أنزل إليكم، وهو القرآن كله، أو أحسن القرآن آياته المحكمات، أو آياته التي تضمنت أمر طاعة، أو إحسان انتهى. أي: واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ}؛ أي: البلاء والعقوبة {بَغْتَةً}؛ أي: فجأة، ويجوز أن يكون المراد بالعذاب الآتي بغتة هو الموت؛ لأنه مفتاح العذاب الأخروي، وطريقه، ومتصل به {وَأَنْتُمْ} لغفلتكم؛ أي: والحال أنكم لغفلتكم {لَا تَشْعُرُونَ}؛ أي: لا تدركون بالحواس مجيئه؛ لتتداركوا وتتأهّبوا؛ أي: من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه، لا تشعرون به، وقيل (¬2): أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، والأول أولى؛ لأنّ الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب، لا عذاب الآخرة ولا الموت؛ لأنه لم يسند الإتيان إليه، 56 - ولما خوّفهم بالعذاب .. ذكر علّة ذلك فقال: 1 - {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} مفعول لأجله (¬3) للأفعال السابقة، التي هي الإنابة والإخلاص واتباع القرآن، والتنكير في {نَفْسٌ}؛ لأن القائل بعض الأنفس، أو للتكثير والتعميم؛ ليشيع في كل النفوس. والمعنى: افعلوا ما ذكر من المأمورات؛ يعني أمرتكم به كراهية أن تقول كل ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[57]

نفس أو بعض الأنفس {يَا حَسْرَتَا} بالألف بدلًا من ياء الإضافة؛ إذ أصله يا حسرتي، تقول العرب: يا حسرتي يا لهفي، ويا حسرتا ويا لهفا، ويا حسرتاي ويا لهفاي، بالجمع بين العوضين، تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة، كما في "كشف الأسرار" والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر الجهل عنه، الذي حمله على ما ارتكبه، وقال بعضهم الحسرة: أن تاسف النفس أسفًا تبقى منه حسيرة؛ أي: منقطعة. والمعنى: يا حسرتي ويا ندامتي احضري، فهذا أوان حضورك لأتعجب منك. وقرأ الجمهور (¬1): {يَا حَسْرَتَا} بالألف بدلًا من الياء المضاف إليها، والأصل: يا حسرتي، وقرأ أبو جعفر: {يا حسرتي} بالياء على الأصل، وقرأ ابن كثير: {يا حسرتاه} بهاء السكت وقفًا. {عَلَى مَا فَرَّطْتُ}؛ أي: على تفريطي وتقصيري، فـ {مَا} مصدرية. {فِي جَنْبِ اللَّهِ}؛ أي: في جانبه وحقه، وهو طاعته وإقامة حقه، وسلوك طريقه، وقيل في أمره، وحدّه الذي حده لنا. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} {إنَّ} هي (¬2) المخففة، و {اللام}: هي الفارقة، والسخر: الاستهزاء، ومحل الجملة: النصب على الحال، والمعنى: فرطت، والحال أني كنت في الدنيا من المستهزئين بدين الله، وأهله، قال قتادة: لم يكفهم ما ضيعوا من طاعة الله تعالى، حتى سخروا بأهل طاعته. والخلاصة (¬3): بادروا إلى العمل، واحذروا أن تقول بعض الأنفس يا حسرتا على تقصيري في طاعة الله، وسخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين. 2 - 57 {أَوْ تَقُولَ} نفس {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} بالإرشاد إلى الحق، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} من الشرك والمعاصي. والمعنى: أي أو تقول لو أن الله أرشدني إلى دينه وطاعته .. لكنت ممن اتقى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[58]

الله، فترك الشرك والمعاصي، وفي الخبر: "ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة، فيقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فيكون عليه حسرةً، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعلّلون به من العلل الباطلة، كما في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} فهي كلمة حق يريدون بها باطلًا. 3 - 58 {أَوْ تَقُولَ} نفس {حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} عيانًا ومشاهدةً {لَوْ} للتمني {أَنَّ لِي كَرَّةً}؛ أي: رجعة إلى الدنيا {فَأَكُونَ} بالنصب في جواب التمني؛ أي: أتمنى كون كرة ورجعة لى إلى الدنيا، فكوني {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في العقيدة والعمل. وخلاصة ذلك: أنّ هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا؛ لتدارك ما فات، وكلمة أو في مواضعها للدلالة على أنها لا تخلو النفس عن هذه الأقوال، تحيرًا وتعللًا بما لا طائل تحته، وندمًا حيث لا ينفع الندم، وقيل: إن قومًا يقولون هذا، وقومًا يقولون ذاك. 59 - فأجابها سبحانه بقوله: {بَلَى ...} الخ. فإن قلت (¬1): كلمة {بَلَى} مختصة بإيجاب النفي، ولا نفي في واحدة من تلك المقالات. قلت: إنها رد للثانية، وكلمة {لَوْ} تتضمن النفي؛ لأنها لامتناع الثاني لامتناع الأول؛ أي: لو أن الله هداني .. لكنت من المتقين، ولكن ما هداني، فقال تعالى: بلى قد هديتك. {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} التنزيلية القرآنية، وهي سبب الهداية، وفصله عن قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} لما أن تقديمه على الثالث يفرّق القرائن الثلاث التي دخلها {أَوْ}، وتأخير {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي ...} إلخ. يخل بالترتيب الوجودىّ؛ لأنه يتحسر بالتفريط عند تطاير الكتب، ثم يتعلل بفقد الهداية عند مشاهدة أحوال المتقين واغتباطهم، ثم يتمنّى الرجعة عند الاطلاع على النار، ورؤية العذاب، وتذكير (¬2) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[60]

الخطاب في قوله: {جَاءَتْكَ} و {كَذَّبْتَ} و {اسْتَكْبَرْتَ} و {كُنْتَ} باعتبار معنى النفس، وهو الإنسان؛ لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث، قال المبرّد: تقول العرب: نفس واحد؛ أي: إنسان واحد، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور، وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر والزعفراني وابن مقسم ومسعود بن صالح والشافعي عن ابن كثير ومحمد بن عيسى باختياره ونصير والعبسي: بكسرها في جميعها، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير، وروت القراءَتين أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الحسن والأعرج والأعمش: {جَاءَتْكَ} بالهمزة من غير مد، وهو مقلوب من {جاءتك}، قدمت لام الكلمة وأخرت العين، فسقطت الألف، كما سقطت في رمت {فَكَذَّبْتَ بِهَا}؛ أي: قلت: إنها ليست من عند الله تعالى {وَاسْتَكْبَرْتَ}؛ أي: تعظمت عن الإيمان بها {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} والجاحدين بها. والمعنى (¬1): أي إنه لا فائدة في شيء من تلك المقالات، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي الذي أرسلته إليك، وفي كتابي الذي يتلوه عليك، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار، فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين، ويستنّ بسنّتهم، ويتّبع مناهجهم. وفي "التأويلات النجمية": {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} من الأنبياء ومعجزاتهم، والكتب وحكمها ومواعظها وأسرارها وحقائقها ودقائقها وإشاراتها {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عن اتباعها، والقيام بشرائطها {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}؛ أي: كافري النعمة، بما أنعم الله به عليك من نعمة وجود الأنبياء، وإنزال الكتب، وإظهار المعجزات. 60 - {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} لرب العالمين {تَرَى} وتبصر أو تعلم يا محمد {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه، كاتخاذ الولد والصاحبة والشريك حال كونهم {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} لما أحاط بهم من العذاب، وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وقوله: {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: حال (¬2) قد اكتفي فيها بالضمير عن الواو، على أن الرؤية بصرية، أو مفعول ثان لها على أنها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[61]

عرفانية. والمعنى: تراهم يا محمد، أو أيها المخاطب حال كونهم مسودّي الوجوه، أو تراهم مسودّي الوجوه بما ينالهم من الشدة، أو بما يتخيّل من ظلمة الجهل والكفر سوادًا مخالفًا لسائر أنواع السواد، هو سواد يدل على الجهل بالله، والكفر به، والكذب عليه. وقرىء {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} بنصبهما فـ {وُجُوهُهُمْ}: بدل بعض من كل، وقرأ أبي: {أجوههم} بإبدال الواو همزة. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن يوم القيامة تكون الوجوه بلون القلب، فالقلوب الكاذبة لما كانت مسودة بسواد الكذب، وظلمة الكفر .. تلونت وجوههم بلون القلوب. انتهى. والاستفهام في قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى}؛ أي: مقام ومنزل، {لِلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان والطاعة، للتقرير؛ أي: لهم مقام ومنزل في نار جهنم، خالدين مخلدين فيها أبد الآباد، وهو إشارة إلى قوله: {وَاسْتَكْبَرْتَ}. والكبر: هو بطر الحق، وغمط الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح. ومعنى الآية (¬1): أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدًا، وأن له شريكًا، وعبدوا آلهةً من دونه، مجللةً بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها. ثم علل هذا وأكده بقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}؛ أي: أليست النار كافيةً لهم سجنًا وموئلًا، ولهم فيا الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق، وعن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر، يلحقهم الصغار، حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم". 61 - {وَيُنَجِّي اللَّهُ} سبحانه وتعالى من عذاب جهنم {الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي حال كونهم متلبسين {بِمَفَازَتِهِمْ} وظفرهم بالمطلوب الذي هو النعيم المقيم، والمفازة (¬2): مصدر ميمي بمعنى الفوز، كما سيأتي، والفوز: الظفر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

بالمطلوب مع السلامة من المكروه، و {الباء}: متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول، مفيدة لمفازة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب؛ أي: ينجيهم الله سبحانه من مثوى المتكبرين، حال كونهم متلبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يحشر الله مع كل امرىءٍ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف .. قال له: لا ترع، فما أنت بالمراد به، ولا أنت المعني به، فإذا كثر ذلك عليه .. قال: فما أحسنك، فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني، أنا عملك الصالح، حملتني على ثقلي، فوالله لأحملنك ولأدفعنّ عنك، فهي التي قال الله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}. ثم بين هذه المفازة بقوله: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والجملة: حال أخرى من الموصول، مفيدة لكون نجاتهم وفوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن؛ أي: ينجيهم الله سبحانه من مثوى المتكبرين، حال كونهم متلبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة، وحالة كونهم غير مسبوقين بمساس السوء والعذاب في أبدانهم، وبمساس الحزن والغمّ في قلوبهم أي: لا يمسهم (¬1) أذى جهنم، ولا يحزنون على ما فاتهم من مآب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه؛ نعيم مقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر. وخلاصة ذلك: أنهم أمِنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شرّ، وفازوا بكل خير ومسرة. وقرأ الجمهور (¬2): {بِمَفَازَتِهِمْ} على الإفراد، والسلمي والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر: على الجمع، من حيث إن النجاة أنواع والأسباب مختلفة، وقال أبو علي: المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، وقال الفراء: كلا القراءتين صواب، تقول قد تبين أمر الناس، وأمور الناس. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[62]

62 - {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ومبدع كل مخلوق من خير وشر، وإيمان وكفر، لكن لا بالجبر، بل بمباشرة الكاسب لأسبابها. قال في "التأويلات النجمية": دخل أفعال العباد وأكسابهم في هذه الجملة، ولا يدخل هو وكلامه فيها؛ لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب، ولأنه تعالى يخلق الأشياء بكلامه، وهو كلمة {كن} الموجودة في الدنيا والآخرة، كائنًا ما كان، من غير فرق بين شيء وشيء. {وَهُوَ} سبحانه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يتولى التصرف فيه كيفما يشاء؛ أي: الأشياء كلها موكولة إليه تعالى، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له، والوكيل (¬1): هو القائم على الأمر، الزعيم بإكماله، والله تعالى هو المستكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر، ومن عرف أنه الوكيل .. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه. وخاصية هذا الاسم: نفي الجوائح والمصائب، فمن خاف ريحًا أو صاعقة أو نحوهما فليكثر من ذكره، فإنه يصرف عنه، ويفتح له أبواب الخير والرزق. والمعنى: أي وهو سبحانه القائم على كل الأشياء، يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهي محتاجة إليه في بقائها، كما هي محتاجة إليه في وجودها. 63 - ثم فصل ذلك بعض التفصيل، فقال: {لَهُ} سبحانه وحده لا لغيره {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جمع مقليد، أو مقلاد، كما سيأتي. وهو المفتاح؛ أي: له تعالى وحده مفاتيح خزائن العالم العلوي والسفلي، لا يتمكن من التصرف فيها غيره؛ أي: هو حافظ الخزائن ومدبّرها ومالك مفاتيحها، فله التصرف في كل شيء مخزون فيها. والخلاصة: هو القادر عليهما، والحافظ لهما. وقال قتادة ومقاتل: له مفاتيح السموات والأرض، بالرزق والرحمة، وقال الكلبي: له خزائن السموات بالمطر، وخزائن الأرض بالنبات، وروي أنه سأل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[64]

عثمان - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تفسير قوله تعالى: {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فقال: "يا عثمان، ما سألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والأرض: "لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير". والمعنى على هذا: إن لِلَّه هذه الكلمات، يوحد بها ويمجد بها، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها .. أصابَهُ خيرهما، أخرجه أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} - سبحانه - التنزيلية والتكوينية، المنصوبة في الآفاق والأنفس، الناطقة بكونه تعالى خالقًا للأشياء كلها، وكونه مالكًا مقاليد السموات والأرض بأسرها. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} خسرانًا (¬1) لا خسران وراءه؛ لأنهم اختاروا العقوبة على الثواب، وفتحوا أبواب نفوسهم بمفتاح الكفر والنفاق، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن ربحت تجارته، لا ممن خسرت صفقته. قال البيضاوي (¬2): وهذا كلام متصل بقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} وما بينهما: اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد، مطلع على أفعالهم، مجاز عليها، وتغيير النظم للأشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله، وفي هلاك الكافرين بأن خسروا أنفسهم، وللتصريح بالوعد، والتعريض بالوعيد قضية للكرم، أو بما يليه، والمراد بآيات الله، دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض، أو كلمات توحيده وتمجيده، وتخصيص الخسار بهم؛ لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب. انتهى. 64 - والهمزة في قوله: {قُلْ} أيها الرسول {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} للاستفهام الإنكاري (¬3) التوبيخي، داخلة على محذوف، كنظائره فيما سبق، و {الفاء}: عاطفة على المحذوف، و {غَيْرَ اللَّهِ}: منصوب بـ {أَعْبُدُ}، و {أَعْبُدُ}: معمول لـ {تَأْمُرُونِّي} على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت .. بطل عملها، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) الشوكاني.

والتقدير: قل يا محمد لمشركي قومك، الداعين لك إلى عبادة الأصنام، القائلين لك: هو دين آبائك: أتدعونني إلى عبادة الأصنام بعد مشاهدة هذه الآيات، وتأمرونني أن أعبد غير الله أيها الجاهلون، ويجوز أن يكون {غير} منصوبًا بفعل مقدر؛ أي: فتلزمونني غير الله؛ أي: عبادة غير الله، أو أعبد غير الله أعبد، ويجوز أن يكون {غير} منصوبًا بـ {تَأْمُرُونِّي}، و {أَعْبُدُ} بدل اشتمال منه، وأن مضمرة معه أيضًا، أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار، لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك. وقرأ الجمهور (¬1): {تَأْمُرُونِّي} بإدغام النون في نون الوقاية، وسكون الياء وفتحها ابن كثير، وقرأ ابن عامر: {تأمرونني} بنونين على الأصل. ونافع: {تأمروني} بنون واحدة مكسورة وفتح الياء، قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة، وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى، وهو لحن؛ لأنها علامة رفع الفعل. انتهى. وفي المسألة خلاف: منهم من يقول: المحذوفة نون الرفع، ومنهم من يقول: نون الوقاية، وليس بلحن؛ لأن التركيب متفق عليه. والخلاف جرى في أيهما حذف، ونختار أنها نون الرفع، ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل .. ناداهم بالوصف المقتضي ذلك، فقال: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}. والمعنى (¬2): أي قل أيها الرسول الكريم لمشركي قومك، الداعين لك إلى عبادة الأصنام، والقائلين لك: هو دين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتي الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية، أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشيء سواه. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن قريشًا دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطوه مالًا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطَؤُوون عقبه؛ أي: يغطون دعوته ويزيلونها، وقالوا: هذا لك يا محمد، وتكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، قال: حتى انظر ما يأتيني من ربي، فنزل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة، ونزل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[65]

إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وعنه أيضًا: أن المشركين من جهلهم، دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة آلهتهم، وهم يعبدون معه إلهه. 65 - ثم بين أنه حذّر وأنذر عباده من الشرك، بلسان جميع الأنبياء، فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} أيها الرسول {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} فرضًا، وإفراد (¬1) الخطاب، باعتبار كل واحد من الأنبياء، كأنه قيل: أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو: لئن أشركت {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}؛ أي: ليبطلن ثواب عملك، وإن كنت كريمًا علي. {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في صفقتك، بسبب حبوط عملك، و {اللام}: الأولى: موطئة للقسم، والأخريان: للجواب، وهو كلام وارد على طريقة الفرض، لتهِييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟! وعطف الخسران على الحبوط من عطف المسبب على السبب، قال التفتازاني: فالمخاطب هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم إشراكِه مقطوع به، لكن جيء بلفظ الماضي إبرازًا للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض والتقدير، تعريضًا لمن صدر عنهم الإشراك، بأنه قد حبطت أعمالهم، وكانوا من الخاسرين. وقال في "كشف الأسرار": هذا خطاب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به غيره، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هذا أدب من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد لغيره؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك، ومداهنة الكفار، قال في "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن الموحى إليهم جمع، ولما أوحى إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟. قلت: معناه: ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}، أو فيه إضمار نائب الفاعل، تقديره: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدأ فقال: و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}، أو فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أوحي إليك: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك اهـ "فتح الرحمن". ¬

_ (¬1) روح البيان.

[66]

وقال الشوكاني: هذا الكلام (¬1) من باب التعريض لغير الرسل؛ لأن الله سبحانه قد عصمهم من الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه: التحذير والإنذار للعباد من الشرك؛ لأنه إذا كان موجبًا لإحباط عمل الأنبياء على الفرض والتقدير .. فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد أوحي إليك: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك، قال مقاتل؛ أي: أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد، والتوحيد: محذوف، ثم قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} يا محمد {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. انتهى. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الإنسان ولو كان نبيًا، لئن وكل إلى نفسه .. ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه، وليحبطن عمله، بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة، ويثبت معه في الإبداع سواه. ومعنى الآية (¬2): أي ولقد نزل عليك الوحي من ربك، بأنه إذا حصل منك إشراك به، بعبادة صنم أو وثن .. ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير، كصلة رحم وبر ببائس فقير، ولا تنالنَّ به ثوابًا ولا جزاءً، ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحي إلى الرسل من قبلك بمثل هذا. وقرأ الجمهور: {لَيَحْبَطَنَّ} بالبناء للفاعل {عَمَلُكَ} رفع به، وقرىء: {لُيحبِطن} بضم الياء من أحبط علمه {عملَك} بالنصب؛ أي: ليحبطن الله عملك، أو الإشراك عملك، وقرىء {لنُحبطن} بالنون {عملك} بالنصب، فاحذر أن تشرك بالله شيئًا، فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللإيذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله، فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة، مقيّد بما إذا مات وهو كذلك، بدليل قوله في الآية الأخرى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. 66 - ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام، وأمره بعبادته وحده، فقال: {بَلِ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[67]

اللَّهَ فَاعْبُدْ} و {الفاء} فيه واقعة في جواب الشرط المحذوف، تقديره؛ لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت فاعبد الله دون ما سواه من الأنداد والأوثان، فحذف الشرط، وأقيم المفعول مقامه، ووجه الرد: ما يفيده التقديم من القصر، قال الزجاج: و {الفاء} في {فَاعْبُدْ} للمجازاة، وقال الأخفش: زائدة، وقال عطاء ومقاتل: معنى {فَاعْبُدْ}: وحد؛ لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده. {وَكُنْ} يا محمد {مِنَ الشَّاكِرِينَ} ربك على إنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والعبادة والدعاء إلى دينه، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه، لا بسعيك وعملك. وقرأ عيسى: {بل اللهُ} بالرفع، والجمهور: بالنصب. واعلم: أن الشكر على ثلاث درجات (¬1): الأولى: الشكر على المحابِّ، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس. والثانية: الشكر على المكارهِ، وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره. والثالثة: أن لا يشهد غير المنعم، فلا يشهد النعمة ولا الشدة، وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات؛ لأنه في مقام السر، فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله والتوجه إليه، من غير التفات إلى يمين وشمال. 67 - ثم أكد ما سلف بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؛ أي: ما عظموه سبحانه وتعالى حق تعظيمه، حيث جعلوا له شريكًا، وأمروا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يكون مثلهم في الشرك، قال أبو حيان؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره؛ إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدره، ولما (¬2) كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته، وقدّره في نفسه حق تقديره، وعظمه حق تعظيمه. قيل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

وقرأ الأعمش (¬1): {حق قدَره} بفتح الدال، وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة: {وما قدَّروا} بتشديد الدال، {حق قدره} بفتح الدال؛ أي: ما عظموه حقيقة تعظيمه، والضمير في {قَدَرُوا}: قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: إلى كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورةً لهم، وردًّا عليهم، وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا، وجاؤوا بكل تخليط. روى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد: إنا نجد في كتابنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ يجعل السموات على إِصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وهو يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، حتى قلنا: ليَخِرَّنَّ به. وفي "التأويلات النجمية" (¬2): ما عرفوا الله حق معرفته، وما وصفوه حق وصفه، وما عظموه حق تعظيمه، فمن وصفه بتمثيل أو جنح إلى تعطيل. فقد حاد عن الألسنة المثلى، وانحرف عن الطريقة الحسنى، وصفوا الحق بالأعضاء، وتوهموا في نعته الأجزاء، فـ {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. انتهى. ثم نبههم سبحانه على عظمته وجلالة شأنه، فقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا}: حال لفظًا، وتأكيد معنى، ولذا قال أهل التفسير: تأكيد الأرض بالجميع؛ لأن المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية والغائرة؛ أي: الظاهرة وغير ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) التأويلات النجمية.

الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها، وقوله: {وَالْأَرْضُ}: مبتدأ، خبره، قوله: {قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} والجملة الاسمية: حال من لفظ الجلالة في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ}؛ أي: ما قدروا الله وعظموه حق قدره وعظمته؛ أي: ما عظموه التعظيم اللائق به تعالى، حيث عبدوا معه غيره، حالة كون جميع الأرض مقبوضة، ومملوكة يوم القيامة؛ أي: في ملكه (¬1) وتصرّفه من غير منازع، يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم، وأنها؛ أي: جميع الأرضين، وإن عظمن .. فما هنّ بالنسبة إلى قدرته تعالى، إلا قبضة واحدة، ففيه تنبيه على غاية عظمته، وكمال قدرته، وحقارة الأفعال العظام بالنسبة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة حقيقةً ولا مجازًا على ما في "الإرشاد" ونحوه. وقيل: القبضة (¬2) المرة من القبض بالكف، والكلام حينئذ على حذف مضاف. والمعنى: والأرضون جميعًا قبضته؛ أي: ذوات قبضته يقبضهنّ قبضة واحدة؛ يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهنّ، لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة واحدة بكف واحد، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر؛ لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة، الدالة على كمال القدرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرض مع سعتها وبسطها في قبضة الرحمن يوم القيامة. وقرأ الجمهور: برفع {قَبْضَتُهُ} على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن: بنصبها، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية؛ أي في قبضته، وقدم الأرض لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها، ولما كان في دار الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة دون دار الآخرة فالأمر فيها لله وحده ظاهرًا وباطنًا .. قال {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} اهـ "خطيب". وفي "القرطبي": إنما خص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضًا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي.

وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ} مبتدأ {مَطْوِيَّاتٌ} خبره {بِيَمِينِهِ} متعلق بـ {مَطْوِيَّاتٌ}؛ أي: مجموعات وملفوفات ومدرجات بيمينه تعالى يوم القيامة؛ أي: والسموات على سعتها وعظمها مطويات بيمينه، من طويت الشيء طيًّا؛ أي: أدرجته إدراجًا. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم. والمعنى: أن الأرض جميعًا تحت ملكه يوم القيامة، يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طي السجل للكتب، بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض". وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه، وقال ابن كثير: وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وقال بعضهم: المعنى: والأرض جميعًا قبضته تعالى، يقبضها بشماله يوم القيامة، والسموات مطويات يطويها بيمينه، بدليل مقابلة السماء بالأرض، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقبض الله السموات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض". وفيه إشعار بطلاق اسم الشمال على اليد الأخرى، وهما صفتان ثابتتان لله تعالى، نثبتهما ونعتقدهما بلا تكييف ولا تمثيل، وخص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة؛ لأن الدعاوى تنقطع فيه، كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كما مر. وقرأ الجمهور (¬1): {مَطْوِيَّاتٌ} بالرفع، على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال، كالتي قبلها، وقرأ عيسى والجحدري؛ بنصب {مطويات}، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[68]

ووجه ذلك: أن {السموات} معطوفة على {وَالْأَرْضُ}، وتكون {قَبْضَتُهُ} خبرًا عن {الأرضُ} {وَالسَّمَاوَاتُ} وتكون {مَطْوِيَّاتٌ} حالًا أو تكون {مطويات} منصوبة بفعل مقدر، و {بِيَمِينِهِ} الخبر. ثم نزه سبحانه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما ينسبونه إليه من الصاحبة والولد، {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: وترفع عن شركة ما يشركونه به من المعبودات التي يعبدونها ويجعلونها شركاء له، مع هذه القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة، أي: ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو عما يشركونه به من الشركاء، فما على الأول مصدرية، وعلى الثاني موصولة. 68 - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}؛ أي: نفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، التي هي للإماتة، فالمراد بها: النخفة الأولى، بقرينة النفخة الآتية، التي هي للبعث، والنفخ: نفخ الريح في الشيء، يقال: نفخ بفمه: أخرج منه الريح. والنفخ في القرآن على خمسة أوجه (¬1): الأول: نفخ جبرائيل عليه السلام في حبيب مريم عليها السلام، كما قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}؛ أي: نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا، فسبحان من أحبل رحم امرأة، وأوجد فيها ولدًا بنفخ جبرائيل. والثاني: نفخ عيسى عليه السلام في الطين، كما قال تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو الخفاش، فسبحان من حول الطين طيرًا بنفخ عيسى عليه السلام. والثالث: نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام، كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}؛ أي: أمرت الروح بالدخول فيه، والتعلق به، فسبحان من أنطق لحمًا، وأبصر شحمًا، وأسمع عظمًا، وأحيا جسدًا بروح منه. والرابع: نفخ ذي القرنين الحديد في النار، كما قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ انْفُخُوا} الآية، فسبحان من حول قطعة حديد نارًا بنفخ ذي القرنين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والخامس: نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد، كما يطفأ السراج بنفخ واحد، وتوقد النار بنفخ واحد، وسبحان من ردّ الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد، وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة. والصور: قرن من نور، ألقمه الله تعالى إسرافيل، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والعرش على كاهله، وإن قدميه قد خرجتا من الأرض السفلى، حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام، على ما رواه وهب، وعظم دائرة القرن، مثل ما بين السماء والأرض، وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي: الصور: قرن من نور، له أربع عشرة دائرة، الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والاْرض، فيه ثقب بعدد أرواح الخلائق، وباقي ما يتعلق بالنفخ والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل، فارجع. وقرأ الجمهور (¬1): الصور، بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي: بفتحها، جمع صورة، قال ابن عطية: والصور هنا: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا المعنى، ومن يقول: الصور: جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث، انتهى. {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: خرَّ (¬2) وسقط ومات جميع من في السموات السبع، وجميع من في الأرضين السبعة؛ أي: خروا أمواتًا من الفزع وشدة الصوت. وقرىء: {فصُعق} بضم الصاد، والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} متصل وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، فإنهم يموتون من بعد، قال السدي: وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش، فيكون المجموع اثني عشر ملكًا، وآخرهم موتًا ملك الموت، وروى النقاش: أنه جبريل، كما جاء في الخبر: "إن الله تعالى يقول حينئذ: يا ملك الموت، خذ نفس إسرافيل، ثم يقول من بقي، فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول خذ نفس ميكائيل، حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل، فيقول تعالى: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

يقول يا جبرائيل من بقي، فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الدائم الباقي وجبرائيل الميت الفاني، فيقول: يا جبرائيل لا بد من موتك، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه، فيموت، فلا يبقى في الملك والملكوت حي من إنس وجن، وملك وغيرهم، إلا الله الواحد القهار". وقال بعض المفسرين: المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما؛ لأنهما وما فيهما خلقًا للبقاء، والموت لقهر المكلّفين، ونقلهم من دار إلى دار، ولا تكليف على أهل الجنة، فتركوا على حالهم بلا موت، وهذا الخطاب بالصعق: متعلق بعالم الدنيا، والجنة والنار عالمان بانفرادهما، خلقا للبقاء، فهما بمعزل عما خلق للفناء، فلم يدخل أهلهما في الآية، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وغيرهما من الآيات، فلا تناقض. انتهى. قلت: وليس في القرآن ولا في صحيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله تعالى من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة: لا ندري من هم. فإن قلت (¬1): فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية، وبين الفزع الذي في آية النمل، وهي قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}؟ قلت: لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع، وكذا بمعنى الغشي، إذ ليس كل من له فزع مغشيًا عليه، هذا ما تيسر لي في هذا المقام، والله أعلم باسرار كتابه. {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ}؛ أي: في الصور نفخة {أُخْرَى}؛ أي: غير الأولى، وهي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، {فَإِذَا هُمْ}؛ أي: جميع الخلائق {قِيَامٌ} جمع قائم؛ أي (¬2): قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم {يَنْظُرُونَ}؛ أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ماذا يُفعلُ بهم وقيل: ينظرون إلى السماء، كيف غيرت، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وإلى الأرض كيف بدلت، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم، واشتغلوا بأنفسهم، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم. وقرأ الجمهور: {قِيَامٌ} بالرفع على أنه خبر و {يَنْظُرُونَ}، في محل النصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر {يَنْظُرُونَ} والعامل في الحال ما عمل في {إِذَا} الفجائية، قال الكسائي: كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسًا. قال في "المدارك" (¬1): دلت الآية على أن النفخة اثنتان، الأولى: للموت والثانية: للبعث، والجمهور على أنها ثلاث، الأولى للفزع، كما قال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ}، والثانية: للموت، والثالثة: للإعادة، انتهى. فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى {فَصَعِقَ}: خروا أمواتًا، وإن كانت ثلاثًا يكون معناه: مغشيًا عليهم، فتكون هذه النفخة؛ أي: الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة، كما ذهب إليه البعض، هذا والذي (¬2) يظهر من "خريدة العجائب" أن نفخة الفزع هي أول النفخات، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة، ومضت .. أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع، ويديمها ويطولها فلا يبرح كذا عامًا يزداد الصوت كل يوم شدةً، فيفزع الخلائق، وينحازون إلى أمهات الأمصار، وتعطل الرعاة السوائم، وتأتي الوحوش والسباع، وهي مذعورة من هول الصيحة، فتختلط بالناس، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه، وبين نفخة الفزع والنفخة الثانية أربعون سنة، ثم تقع النفخة الثانية والثالثة، وبينهما أربعون سنة، أو شهرًا أو يومًا أو ساعة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين النفختين أربعون، قالوا: أربعون يومًا" قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرًا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون سنةً، قال: أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون، كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظم واحد، وهو عجيب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة، متفق عليه. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

[69]

قال الإِمام الغزالي - رحمه الله -: اختلف الناس في أمد المدة التي بين النفختين، فاستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة، وحدّثني من لا أشك في علمه: أن أمد ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لأنه من أسرار الربوبية، فإذا أراد الله إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش، فيها بحر الحياة، فتمطر به الأرض، فإذا هو كمنيّ الرجال، بعد أن كانت عطشى فتحيى وتهتز، ولا يزال المطر عليها حتى يعمها، ويكون الماء فوقها أربعين ذراعًا، فإذا الأجسام تنبت من عجيب الذنب، وهو أول ما يخلق من الإنسان، بدىء منه، ومنه يعود، وهو عظم على قدر الحمصة، وليس له مخ، فإذا نبت كما نبت البقل .. تشتبك بعضها في بعض، فإذا رأس هذا على منكب هذا، ويد هذا على جنب هذا، وفخذ هذا على حجر، هذا لكثرة البشر، والصبي صبي والكهل كهل، والشيخ شيخ، والشاب شابّ، ثم تهب ريح من تحت العرش، فيها نار، فتنسف ذلك عن الأرض وتبقى الأرض بارزة مستوية، كأنها صحيفة واحدة، ثم يحيي الله سبحانه إسرافيل، فينفخ في الصور من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح لها دوي كدوي النحل، فتملأ الخافقين، ثم تذهب كل نفس إلى جثتها بإعلام الله تعالى، حتى الوحش والطير وكل ذي روح، فإذا الكل قيام ينظرون، ثم يفعل بهم ما يشاء سبحانه وتعالى. قلت: ولكن ليس فيما نقلنا من ذلك نص صريح، ولا حديث صحيح، كأنه من الإسرائيليات. والله أعلم. 69 - {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ}؛ أي: صارت عَرجَات القيامة مشرقةً ومضيئةً، وذلك حين ينزل الله إلى كرسيه لفصل القضاء بين عباده؛ أي: أضاءت إضاءةً عظيمةً، حتى تميل إلى الحمرة، والمراد بالأرض: الأرض الجديدة التي يوجدها الله تعالى ذلك الوقت، ليحشر الناس عليها، وليس المراد بها أرض الدنيا؛ لقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} {بِنُورِ رَبِّهَا}؛ أي: عدل ربها؛ أي: بما أقام فيها من العدل، استعير له النور؛ لأنه يزين البقاع، ويظهر الحقوق، كما يسمى الظلم ظلمةً، وفي الحديث: "الظلم ظلمات يوم القيامة" يعني شدائده؛ يعني الظلم سبب لشدائد صاحبه، ولكون المراد بالنور العدل، أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض، فإن تلك الإضافة إنما تحسن إذا أريد به تزين الأرض بما ينشر فيها من الحكم والعدل، أو المعنى: أشرقت بنورٍ خلقه الله في الأرض يوم القيامة، بلا توسط أجسام مضيئة، كما في

الدنيا، يعني: يشرق بذلك النور وجه الأرض المبدلة، بلا شمس ولا قمر ولا غيرهما من الأجرام المنيرة، ولكون المعنى ذلك أضيف النور إلى الاسم الجليل، وفي الحديث الصحيح: "يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس بها علم أحد". قرأ الجمهور: {أشرقت} مبنيًا للفاعل؛ أي: أضاءت، وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير: على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء: تشرق إذا امتلأت به. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}؛ أي: وضع الكتاب للحساب والجزاء، من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال في الأيمان والشمائل، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، واكتفي باسم الجنس عن الجمع، إذ لكل أحد كتاب على حدة، وقيل: المعنى: وضع الكتاب في الأرض بعدما كان في السماء، قال بعضهم: هذا على إطلاقه غير صحيح؛ لأن كتاب الأبرار في عليين، وكتاب الفجار في سجين، فالذي في السماء يوضع في الأرض حتى اللوح المحفوظ، وأما ما في الأرض فعلى حاله. {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ}؛ أي: جيء بهم إلى الموقف، فسئلوا عمّا أجابتهم به أممهم، {وَالشُّهَدَاءِ} الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقيل: الشهداء للأمم، وعليهم من الحفظة والمؤمنين، كما في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} وقيل: المراد بالشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله تعالى، وفيه (¬1) إشارة إلى أن النبيين والشهداء إذا دعوا للقضاء والحكومة والمحاسبة فكيف يكون حال الأمم، وأهل المعاصي والذنوب. {وَقُضِيَ}؛ أي: حكم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين العباد {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ أي: والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم؛ أي: لا يظلمون بنقص ثواب، وزيادة عقاب على ما جرى به ¬

_ (¬1) روح البيان.

[70]

الوعد والوعيد، 70 - وكما فتح الآية بإثبات العدل .. ختمها بنفي الظلم، فقال {وَوُفِّيَتْ}؛ أي: وفرت وأعطيت {كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس المكلفة {مَا عَمِلَتْ}؛ أي: جزاء ما عملت من الخير والشر، والطاعة والمعصية. {وَهُوَ} تعالى {أَعْلَمُ} منهم ومن الشهداء {بِمَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا، لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب وشاهد، إذ هو خالق الأفعال، فلا يفوته شيء من أفعالهم، وإنما {وضع الكتاب وجيءَ بالنبيين والشهداء}؛ لتكميل الحجة، وقطع المعذرة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إذا كان يوم القيامة .. بدّل الله الأرض غير الأرض، وزاد في عرضها وطولها كذا وكذا، فإذا استقر عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم أسمعهم الله تعالى كلامه، يقول: "إن كتابي كانوا يكتبون ما أظهرتم، ولم يكن لهم علم بما أسررتم، فأنا عالم بما أظهرتم وبما أسررتم، ومحاسبكم اليوم على ما أظهرتم وعلى ما أسررتم، ثم أغفر لمن أشاء منكم". 71 - ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مع إمامهم ومعبوداتهم {إِلَى جَهَنَّمَ} حال كونهم {زُمَرًا}؛ أي: جماعة جماعةً متفرقةً بعضها إثر بعض؛ أي: سيقوا إليها بعد إقامة الحساب بأمر يسير من قبلنا، وذلك بالعنف والإهانة، حال كونهم أفواجًا متفرقة بعضها في إثر بعض، مترتبةً حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، وتتلقاهم جهنم بالعبوسة، كما تلقوا الأوامر والنواهي والآمرين والناهين بمثل ذلك، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا}؛ أي: جاؤوا جهنم وقربوا إليها، و {حَتَّى} هذه (¬1) هي الابتدائية، التي تبتدِىء الجمل بعدها كما في "أبي السعود"، وجواب {إِذَا} قوله: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}؛ أي: فتحت أبواب جهنم السبعة؛ ليدخلوها، كما قال تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} وفائدة (¬2) إغلاقها إلى وقت مجيئهم: تهويل شأنها، وإيقاد حرّها، قال في "أسئلة الحكم": أهل النار يجدونها مغلقة الأبواب، كما هي حال السجون في الدنيا، فيقفون هنالك، حتى يفتح لهم إهانةً وتوبيخًا. يقول الفقير: هذا من قبيل العذاب الروحاني، وهو أشد من العذاب الجسماني، فليس وقوفهم عند الأبواب أولى لهم من تعجيل العذاب، يؤيده أن ¬

_ (¬1) الارشاد. (¬2) روح البيان.

الكافر حين يطول قيامه في شدة وزحمة وهول، يقول: يا رب أرحني ولو كان بالنار، وفيه إشارة إلى الأوصاف الذميمة النفسانية السبعة، وهي الكبر والبخل والحرص والشهوة والحسد والغضب والحقد، فإنها أبواب جهنم، وكل من يدخل فيها لا بدّ له من أن يدخل من باب من أبوابها، فلا بد من تزكيتها وتخلية النفس عنها. {وَقَالَ لَهُمْ}؛ أي: للذين كفروا {خَزَنَتُهَا}؛ أي: خزنة جهنم وزبانيتها وحرّاسها تقريعًا، وتوبيخًا لهم، وزيادة في الإيلام والتوجيع، واحدها خازن، وهو حافظ الخزانة وما فيها، والمراد: حفظة جهنم وزبانيتها، وهم الملائكة الموكّلون بتعذيب أهلها {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرة {رُسُلٌ مِنْكُمْ}؛ أي: من جنسكم، آدميون مثلكم؛ ليسهل عليكم مراجعتهم وفهم كلامهم. وقرىء: {نذر}، كما في "المراح" {يَتْلُونَ}؛ أي: يتلو أولئك الرسل، ويقرؤون {عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} التي أنزلها عليهم؛ لتبليغها إليكم {وَيُنْذِرُونَكُمْ}؛ أي: يخوفونكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؛ أي: لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة، وذلك لأن الإضافة اللامية تفيد الاختصاص، ولا اختصاص ليوم القيامة بالكفار، وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضًا في أوقات الشدة، فلذلك حمل على الوقت. وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث أنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعلّلون به في الدنيا؛ لانكشاف الأمر وظهوره، ولهذا {قَالُوا بَلَى} قد أتونا، وتلوا علينا، وأنذرونا، فأقرّوا في وقت لا ينفعهم الإقرار والاعتراف {وَلَكِنْ حَقَّتْ} ووجبت {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} وهي قوله تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} وقد كنا ممن تبع إبليس، فكذبنا الرسل، وقلنا ما نزل الله من شيء، إن أنتم إلا تكذبون. ومعنى الآية: أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقًا عنيفًا، أفواجًا متفرقةً بعضها في إثر بعض، بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشرُّ، بزجرٍ وتهديدٍ ووعيدٍ، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعاتٍ جماعات، مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى، ونحو الآية قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}؛ أي: يدفعون إليها دفعًا. {إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}؛ أي: حتى إذا وصلوا إليها .. فتحت لهم

[72]

أبوابها سريعًا؛ ليدخلوها، كأبواب السجون، لا تزال مغلقة حتى يأتي أرباب الجرائم، الذين يسجنون فيها، فتفتح؛ ليدخلوها، فإذا دخلوها .. أغلقت عليهم. ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ والإهانة، فقال: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} إلخ؛ أي: ألم يأتكم رسل من جنسكم، تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم، والاعتراف بوحدانيته، وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين، مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم، فأجابوهم معترفين، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا، لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود، قالوا: بلى، قد أتانا رسل ربنا، فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم، لما سبق لنا من الشقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار، ونحو الآية قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}. 72 - وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف {قِيلَ} لهم؛ أي: قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} التي قد فتحت لكم، فتدخلوها حالة كونكم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: ماكثين فيها أبدا؛ أي: مقدرًا خلودكم فيها مدة لا نهاية لها، ولا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها. وفيه (¬1): إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إظهارًا لصفة القهر، أن يخلق النار، ويخلق لها أهلًا، كما أنه تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلًا، إظهارًا لصفة اللطف، فلهذه الحكمة قيل: في الأزل قهرًا وقسرًا: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}، وهي الصفات الذميمة السبع التي مرّ ذكرها، خالدين فيها، بحيث لا يمكن الخروج من هذه الصفات الذميمة بتبديلها، كما يخرج المتقون منها. {فَبِئْسَ} وقبح {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}؛ أي: منزل المتكبرين عن الإيمان والطاعة والحق، والمخصوص بالذم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[73]

محذوف وجوبًا، تقديره: بئس مثواهم جهنم. والمعنى: أي فبئس المصير، وبئس المقيل لكم، بسبب تكبّركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيّركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل. و {اللام}: فيه للجنس، ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كون مثواهم جهنم، لتكبرهم عن الحق، مع أن دخولهم النار بسبق كلمة العذاب عليهم، فإنها إنما حقت عليهم بناءً على تكبرهم وكفرهم، فتكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن ذلك السبق، وفيه (¬1) إشارة إلى أن العصاة صنفان، صنف منهم متكبرون، وهم المصرون متابعو إبليس، فلهم الخلود في النار، وصنف منهم متواضعون، وهم التائبون متابعو آدم، فلهم النجاة، وبهذا الدليل ثبت أن ليس ذنب أكبر بعد الشرك من الكبر، بل الشرك أيضًا يتولد من الكبر، كما قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. 73 - ولما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم .. ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة، فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ}؛ أي: ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم بلا تعب ولا نصب، بل بروح وطرب للإسراع إلى دار الكرامة، وذلك قبل الحساب، أو بعده يسيرًا أو شديدًا، وهو الموافق لما قبل الآية من قوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} حال كونهم {زُمَرًا}؛ أي: جماعات متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة، والمراد: المتقون عن الشرك، فهؤلاء عوام أهل الجنة، وفوق هؤلاء من قال الله تعالى فيهم: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} وفوقهم من قال فيهم: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)}. والمعنى (¬2): أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب، وفودًا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصدّيقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والمراد بالسوق هنا: الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، وبالسوق المتقدم: طردهم إلى العذاب والهوان، كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا}؛ أي: الجنة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وقرأ الكوفيون: {وَفُتِحَتْ} بالتخفيف؛ أي: والحال أنه قد فتحت أبوابها الثمانية قبل مجيئهم؛ لئلا يصيبهم وصب الانتظار، مع أن دار الفرح والسرور لا تغلق للأضياف والوافدين باب الكرم، فـ {الواو}: واو الحال، وجواب {إذا} محذوف دل عليه السياق، والتقدير؛ أي: حتى إذا وصلوا إليها، وقد فتحت لهم أبوابها قبل مجيئهم، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه، وتقف منتظرةً حضوره فرحًا بمقدمه، فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فإن قلت (¬1): يرد على كون أبواب الجنان مفتحةً لهم قبل مجيئهم إليها، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أول من يستفتح باب الجنة". قلت: قد حصل الفتح المقدم على الوصول بدعوته - صلى الله عليه وسلم - الاستفتاح، ولو لم يكن دعاؤه قد سبق .. لما فتحت، ثم تبقى الأبواب بدعائه مفتوحةً ببركة دعائه المقدم على ذلك، وفي الحديث: "أنا أول من يقرع باب الجنة، والجنة محرمة على جميع الأمم، حتى أدخلها أنا وأمتي، الأول فالأول". وقيل: تقدير الجواب: حتى إذا جاؤوها، وقد فتحت أبوابها .. كان ما كان مما يقصر عنه البيان. وفي "الخازن": فإن قلت (¬2): قال في أهل النار: {فُتِحَتْ} بغير واو، وهنا زاد حرف {الواو} فما الفرق بين الموضعين؟ قلت: فيه وجوه: أحدها: أنها زائدة عند الأخفش والكوفيين، وهو خطأ عند البصريين؛ لأن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. بزيادة وتصرف.

الواو من حروف المعاني، فلا تزاد عندهم، وزيدت الواو على القول بزيادتها للإيذان بأنها كانت مفتحةً قبل مجيئهم إليها، وحذفت الواو في الآية الأولى؛ لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها، والحكمة في ذلك: أن الجنة إذا جاؤوها، ووجدوا أبوابها مفتحة .. حصل لهم السرور والفرح بذلك، وأهل النار إذا رأوها مغلقة .. كان ذلك نوع ذل وهوان لهم. والثاني: أنها واو الحال، بتقدير: قد؛ أي: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت، أبوابها فرحوا بها، كما مر في حلنا. والثالث: أنها واو الثمانية، زيدت هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية، ونقصت فيما سبق؛ لأن أبواب جهنم سبعة، والعرب تعطف فيما فوق السبعة، تقول ستة سبعة وثمانية وتسعة، وفيه أن واو الثمانية غير مطردة مقصورة على السماع. فإن قلت: على هذا إن قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} شرط، فأين جوابه؟ قلت: فيه وجوه: أحدها: أنه محذوف، والمقصود أن يدل على أنه بلغ من الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره، ولا يحتاج إلى ذكره. والثاني: أن الجواب هو قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} بجعل {الواو} فيه زائدةً. والثالث: الجواب محذوف دل عليه قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} والتقدير: حتى إذا جاؤوها، وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها، فحذف دخلوها لدلالة الكلام عليه. قلت: والأوضح الأخصر: أن تكون {الواو} في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} عاطفة على جواب محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: حتى إذا جاؤوها فرحوا بمجرد رؤيتها، وفتحت لهم أبوابها ازديادًا في سرورهم، وقال لهم خزنتها: سلام علكيم إلخ. تكرمةً لهم، والله أعلم بمراده في كتابه. فائدة: في ذكر أحاديث مناسبة للآية:

منها: ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله .. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" أخرجه مسلم وغيره. وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة". وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الجنة ثمانية أبواب، منها: باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". وقد ثبت كون أبواب الجنة ثمانية بالأحاديث الصحيحة، منها: ما ذكر آنفًا، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلا بينهما يسير الراكب سبعين عامًا، وما بين كل مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة". وفي رواية: "كما بين مكة وبصرى". وكون أبواب جهنم سبعة فمذكور بقوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}. ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين، فقال: {وَقَالَ لَهُمْ}؛ أي: للمتقين عند دخولهم الجنة {خَزَنَتُهَا}؛ أي: حفظة الجنة، رضوان وغيره من الملائكة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه، وهذا لعوام أهل الجنة، وأما خواصهم، فيقول الله لهم: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}. فإن السلام في الجنة من وجوه: فالسلام الأول: وإن كان سلام الله، ولكن بالواسطة. والثاني: سلام خاص بلا واسطة بعد دخولهم الجنة {طِبْتُمْ} نفسًا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى: طبتم في الدنيا، فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم {فَادْخُلُوهَا}؛ أي: الجنة حالة كونكم {خَالِدِينَ} فيها؛ أي: ماكثين فيها أبدًا، لا زوال ولا فناء ولا تحول عنها. و {الفاء}: للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، سواء كان طيبًا بعفو أو بتعذيب، إذ كل منهما مطهر، وإنما طهر ظاهرهم؛ لحسن إقرارهم

[74]

وأعمالهم البدنية، وباطنهم؛ لحسن نياتهم وعقائدهم. وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها .. وجدوا عند بابها شجرة، يخرج من تحتها عينان، فيغتسل المؤمن من أحدهما فيطهر ظاهره، ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه، وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة، يقولون: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}. 74 - {وَقَالُوا}؛ أي: وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث والثواب بالجنة؛ أي: صدقنا وأعطانا ما وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا، وقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} معطوف على الصلة؛ أي (¬1): أورثنا وأعطانا أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه من أرض الجنة، على الاستعارة، وإيراثها: إعطاؤها وتمليكها، مخلفةً عليهم من أعمالهم، أو تمكينهم من التصرف فيما فيها تمكين الوارث فيما يرثه، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار، لو كانوا مؤمنين، قاله أكثر المفسرين، وقيل: إنها أرض الدنيا، وعلى هذا: ففي الكلام تقديم وتأخير، وقيل: أورثنا من آدم؛ لأنها كانت في أول الأمر له لقوله تعالى: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} فلما عادت إلى أولاده .. كان ذلك إرثًا لهم منه. اهـ شيخنا. حالة كوننا {نَتَبَوَّأُ} ونتخذ {مِنَ الْجَنَّةِ} منازل {حَيْثُ نَشَاءُ}؛ أي: يتبوأ كل واحد منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة، لا من جنة غيره، على أن فيها مقاماتٍ معنوية، لا يتمانع واردوها، كما قال في "التفسير الكبير": قال حكماء الإِسلام: الجنة نوعان: جسمانية، وروحانية، فالجنات الجسمانية: لا تحتمل المشاركة، وأما الروحانية: فحصولها لواحد لا يمنع حصولها لآخر، انتهى. وقيل: معنى {حَيْثُ نَشَاءُ} أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يدخلون الجنة قبل الأمم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[75]

فينزلون فيها حيث شاؤوا؛ أي: يتخير كل واحد منهم أين ينزل تكرمةً له، وإن كان لا يختار إلا ما قسم له، وأما بقية الأمم، فيدخلون بعد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينزلون فيما فضل عنهم، اهـ "خازن" و"خطيب". والمعنى (¬1): أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءةً ومسكنًا حيث شئنا، قال تعالى: {فَنِعْمَ} وحسن {أَجْرُ الْعَامِلِينَ}؛ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى، وقيل: من تمام قول أهل الجنة، والمعنى عليه؛ أي: فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا، والمخصوص بالمدح الجنة. 75 - ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أعطيه المؤمنون من الدرجات .. أتبعه بذكر أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، وبيان مستقرهم في الجنة، وهم الملائكة، فقال صارفًا الخطاب لأشرف الخلق؛ لأنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وَتَرَى} يا محمد في ذلك اليوم {الْمَلَائِكَةَ}؛ أي: القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق، حالة كونهم {حَافِّينَ}؛ أي: محدقين {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}؛ أي: حوله، و {مِن}: مزيدة، أو لابتداء الحفوف، يقال: حفوا حوله حفوفًا: طافوا به واستداروا حوله، ومنه الآية؛ أي: تراهم يا محمد أو أيها المخاطب، الملائكة حالة كونهم محيطين بجوانب العرش، التي يمكن الحفوف بها، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتمجيد والتقديس، وإدخال {مِن}: يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي: إن {مِن} زائدة. اهـ "خطيب"؛ أي: فهي ابتدائية، كما حكاه البيضاوي أيضًا، حالة كونهم {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الجملة: حال ثانية، أو مقيدة (¬2) للأولى؛ أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق به حال كونهم متلبسين بحمده، ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه، تلذذًا به، يعني: يقولون: سبحان الله وبحمده، تلذذًا لا تعبدًا وتكليفًا؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم، وذلك يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح، وأفهم أن منتهى درجات العلّيين، ولذاتهم، الاستغراق في صفاته تعالى، اهـ "كرخي". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والمعنى (¬1): أي ترى يا محمد، أو أيها الرائي، الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلون حول العرش شكرًا لربهم، وتنزيهًا له عن كل نقص. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: حكم بين العباد {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالعدل، بإدخال بعضهم الجنة، وبعضهم النار، أعاذنا الله منها، أو بين الملائكة، بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم في درجاتهم، والأول أولى. {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: على ما قضى بيننا بالحق، وأنزل كلا منا منزلته التي هي حقه، والقائلون (¬2): هم المؤمنون، حمدوا الله على قضائه بينهم، وبين أهل النار بالحق، وقيل: القائلون: هم الملائكة، حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم، وقضائه بين عباده بالحق، والمقصود من هذا الإبهام: التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء، ليس إلا أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين. والمعنى: أي وختمت خاتمة القضاء بينهم، بالشكر للذي بدأ خلقهم، وصورهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، التي لا يعلم عددها إلا هو، وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد، وختمها بالحمد للتنبيه إلى تحميده، في بداية كل أمر ونهايته. وقال قتادة: افتتع الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}. وعلم مما ذكر: أنهم يقدمون التسبيح على التحميد، فالتسبيح: عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفًا بصفات الإكرام، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله تعالى وتمجيده وتسبيحه، فكان ذلك سببًا لمزيد التذاذهم، والله تعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

الإعراب {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم -، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان: أن الإنابة مطلوبة؛ لأن الفسحة عظيمة للمسرف. {يَا عِبَادِيَ}: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة، وقرىء {يا عباد} بحذفها. {الَّذِينَ} نعت لـ {عِبَادِيَ}. {أَسْرَفُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ {أَسْرَفُوا} {لَا}: ناهية. {تَقْنَطُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تَقْنَطُوا}، والجملة الفعلية: في محل النصب وقول {قُلْ} على كونها جواب النداء. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}، ومفعول به، {جَمِيعًا}: حال من {الذُّنُوبَ}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القنوط. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، أو مبتدأ {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} خبران لـ {إنَّ} أو لـ {هُوَ}، والجملة: خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل غفران الله الذنوب جميعًا. {وَأَنِيبُوا}: فعل أمر وفاعل. {إِلَى رَبِّكُمْ}: متعلق بـ {أَنِيبُوا}، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {لَا تَقْنَطُوا}. {وَأَسْلِمُوا}: فعل وفاعل معطوف على {وَأَنِيبُوا}، {لَهُ}: متعلق بـ {أَسْلِمُوا}. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور حال من واو الفاعل في الفعلين، {أن} حرف مصدر {أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} فعل ومفعول وفاعل، منصوب بـ {أن} المصدرية وجملة {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل إتيان العذاب إياكم. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع التراخي. {لَا}: نافية، {تُنْصَرُونَ}: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {أَنْ يَأْتِيَكُمُ}: على كونها مضافًا إليه للظرف؛ أي: من قبل إتيان العذاب إياكم، ثم عدم نصركم. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)}.

{وَاتَّبِعُوا}: {الواو}: عاطفة، {اتبعوا}: فعل أمر وفاعل معطوف على {أَنِيبُوا}. {أَحْسَنَ}: مفعول به، وهو مضاف و {مَا}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {مَا} {إِلَيْكُمْ}: متعلق به {مِنْ رَبِّكُمْ}: متعلق بـ {أُنْزِلَ} أيضًا، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور حال من فاعل {اتَّبِعُوا}، وجملة {أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ}: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. {بَغْتَةً}: حال من {الْعَذَابُ}؛ أي: باغتًا. {وَأَنْتُمْ} {الواو}: حالية. {أنتم}: مبتدأ، وجملة {لَا تَشْعُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ضمير المخاطبين. {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)}. {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ}: فعل وفاعل، منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم، كراهية قول نفس، أو مخافة قول نفس. {يَا حَسْرَتَا}: {يا}: حرف نداء، {حَسْرَتَا}: منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المنقلبة ألفًا للتخفيف {حسرة} مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف؛ في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء: في محل النصب مقول لـ {تَقُولَ}. {عَلَى} حرف جر {مَا}: مصدرية. {فَرَّطْتُ}: فعل وفاعل، {فِي جَنْبِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {فَرَّطتُ}، وجملة {فَرَّطْتُ}: صلة {مَا} المصدرية {مَا} مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره: على تفريطي في جنب الله، الجار والمجرور: متعلق بـ {حسرتى}. {وَإِنْ كُنْتُ}: {الواو}: حالية {إن} مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، تقديره: وإنه {كُنْتُ}: فعل ناقص واسمه. {لَمِنَ السَّاخِرِينَ} {اللام}: حرف ابتداء، {من الساخرين}: جار ومجرور خبر {كان}، وجملة {كان}: في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة: في محل النصب حال من فاعل {فَرَّطْتُ}؛ أي: حال كوني من الخاسرين. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل. {تَقُولَ}: معطوف على {تَقُولَ} الأول، منصوب بـ {أَن} المصدرية، وفاعله: ضمير مستتر يعود على {نَفْسٌ}. {لَوْ}: حرف شرط. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {هَدَانِي}: فعل وفاعل مستتر

ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الوفع خبر {أنَّ} وجملة {أنَّ}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، وقع شرطًا لـ {لو} الشرطية، والتقدير: لو ثبت هداية الله إياي .. {لَكُنْتُ}: {اللام}: رابطة لجواب {لَّوْ} الشرطية. {كنت} فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْمُتَّقِينَ}: خبره، وجملة {كان}: جواب {لَّوْ} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَّوْ} الشرطية: في محل النصب مقول {تَقُولَ}. {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}. {أَوْ تَقُولَ}: معطوف على {تَقُولَ} الأول {حِينَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {تَقُولَ}، {تَرَى الْعَذَابَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ورأى هنا: بصرية، تتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ}. {لَوْ} حرف تمنٍّ، {أَنَّ}: حرف نصب، {لِي}: خبرها مقدم على اسمها. {كَرَّةً}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف، تقديره: أتمنى كون كرة لي إلى الدنيا. {فَأَكُونَ} {الفاء}: عاطفة {أَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد {الفاء} العاطفة على اسم خالص؛ لأنها عطفت مصدرًا مؤولًا على اسم خالص، واسمها: ضمير يعود على {نَفْسٌ}. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: خبرها، وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر معطوف على {كَرَّةً}؛ أي: لو أن لي كرة فكوني من المحسنين، أو {الفاء}: عاطفة سببية {أَكُونَ} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {الفاء} السببية الواقعة في جواب التمنى، وجملة {أَكُونَ}: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: أتمنى كون كرة لي، فكوني من المحسنين. والفرق بين الوجهين: أنه على الأول يكون من جملة المتمني، ويكون إضمار {أَنْ} جائزًا، لا واجبًا، وعلى الثاني: يكون مترتبًا على التمني، ويكون إضمار {أَنْ} واجبًا. اهـ شيخنا. {بَلَى}: حرف جواب، {قَدْ}: حرف تحقيق. {جَاءَتْكَ آيَاتِي}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية: جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {فَكَذَّبْتَ} {الفاء}: عاطفة. {كذبت}: فعل وفاعل معطوف على {جَاءَتْكَ}. {بِهَا}: متعلق

به. {وَاسْتَكْبَرْتَ}: فعل وفاعل معطوف على {كذبت}، {وَكُنْتَ}: فعل ناقص واسمه {مِنَ الْكَافِرِينَ}: خبره، وجملة {كان}: معطوفة على جملة {كذبت}. فائدة: ألف الفصل تزاد بعد واو الجماعة، مخافة التباسها بواو النسق، مثل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، ومثل {كَفَرُواْ}، و {رُدُّواْ} ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو، ثم اتصلت بكلام بعدها .. ظنّ القارىء أنها كفر، ورد، فحيزت الواو لما قبلها بألف الوصل، ولما فعلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها، نحو ساروا، وجاؤوا فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها. نحو كانوا وباتوا؛ ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكمًا واحدًا، اهـ "إعراب القرآن". {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف زمان متعلق بـ {تَرَى}. {تَرَى الَّذِينَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ومفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة. {كَذَبُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {كَذَبُوا}. {وُجُوهُهُمْ}: مبتدأ. {مُسْوَدَّةٌ}: خبر، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من الموصول. {أَلَيْسَ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري؛ لأنها دخلت على النفي، ونفي النفي: إثبات، فصار تقريريًا. {فِي جَهَنَّمَ}: خبر {ليس}: مقدم. {مَثْوًى}: اسمها مؤخر. {لِلْمُتَكَبِّرِينَ}: صفة لـ {مَثْوًى}، وجملة {ليس}: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، مسوقة لتعليل اسوداد وجوههم، كأنه قال: لأن لهم في جهنم مقرًا ومقامًا. اهـ شيخنا. {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}. {وَيُنَجِّي}: {الواو}: استئنافية. {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة. {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِمَفَازَتِهِمْ}: متعلق بـ {يُنَجِّي}، {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية: مفسرة للمفازة، لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية {هُمْ}: مبتدأ وجملة

{يَحْزَنُونَ}: خبره، والجملة: معطوفة على جملة {لَا يَمَسُّهُمُ} على كونها مفسرة، ويمكن أن تكون حالًا من الذين اتقوا، و {الواو}: حينئذ واو الحال، وأجاز الزمخشري أن تكون مستأنفة. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)}. {اللَّهُ}: مبتدأ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية: مستأنفة. {وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {وَكِيل}، و {وَكِيل}: خبر {هُوَ}، والجملة: مستأنفة {لَهُ}: خبر مقدم. {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة أيضًا. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة. {الذين}: مبتدأ أول، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {بِآيَاتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان، {هُمُ}: ضمير فصل. {الْخَاسِرُونَ}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المتبدأ الثاني، مع خبره: خبر المبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مع خبره معطوفة على جملة قوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} عطف أحد المتقابلين على الآخر، ولا يمنع من هذا العطف كون المعطوف جملةً اسمية، والمعطوف عليه جملة فعليه. {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: قل يا محمد، لمشركي قومك: أتدعونني إلى عبادة آلهتهكم، فتأمرونني أن أعبد غير الله {غيرَ اللهِ}: مفعول مقدم لـ {أَعْبُدُ}، {تَأْمُرُونِّي}: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به مرفوع، وعلامة رفعة النون المدغمة في نون الوقاية، والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، على كونها معترضة بين الفعل ومفعوله، والجملة المحذوفة: مقول لـ {قُلْ}. {أَعْبُدُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، وجملة {أَعْبُدُ}: في تأويل مصدر بأن المصدرية المقدرة، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {تَأْمُرُونِّي}، والتقدير: أتدعونني إلى عبادة آلهتكم، فتأمرونني عبادة غير الله سبحانه. {أَيُّهَا}: {أي}: منادى نكرة مقصودة،

و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الْجَاهِلُونَ}: صفة لـ {أي}: أو بدل منه، أو عطف بيان له، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قُلْ} وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، أعرضنا عنها خوفًا للإطالة. {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {إِلَيْكَ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب الفاعل، وقيل: نائب الفاعل محذوف، يدل عليه سياق الكلام؛ أي: أوحي إليك التوحيد. {وَإِلَى الَّذِينَ}: معطوف على {إِلَيْكَ}. {مِنْ قَبْلِكَ}: صلة الموصول، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، مبني على الفتح. {إن}: حرف شرط. {أَشْرَكْتَ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: يحبط عملك، وجملة {إن} الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. {لَيَحْبَطَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم موكدة للأولى. {يَحْبَطَنَّ}: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، ونون التوكيد: حرف لا محل له من الإعراب. {عَمَلُكَ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وهذا القسم مع جوابه: جواب للقسم الأول. {وَلَتَكُونَنَّ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {تَكُونَنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير مستتر يعود على محمد. {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: خبرها، وجملة {تَكُونَنَّ}: معطوفة على جملة {يَحْبَطَنَّ}. {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}. {بَلِ}: حرف عطف وإضراب، ولفظ الجلالة {اللَّهَ} مفعول لفعل محذوف. {الفاء}: واقعة في جواب الشرط المحذوف، تقديره: لا تعبد ما أمرك الكفار

بعبادته، بل إن عبدت فاعبد الله دون ما سواه من الأنداد والأوثان، {اعْبُدْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، مبني على السكون، والجملة الفعلية: في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط: معطوفة على جملة النهي المحذوف، كما قدرناه آنفًا، وقال الأخفش: {الفاء}: زائدة، كما مر البسط فيه في مبحث التفسير. {وَكُنْ}: فعل أمر ناقص معطوف على {اعْبُدْ}، واسمه: ضمير مستتر يعود على محمد، {مِنَ الشَّاكِرِينَ}: خبره. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {قَدَرُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. {حَقَّ قَدْرِهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: ما علموا كنهه، وما عرفوه حق معرفته. {وَالْأَرْضُ}: {الواو}: حالية. {الْأَرْضُ}: مبتدأ، {جَمِيعًا}: حال من {الْأَرْضُ} {قَبْضَتُهُ}: خبر المبتدأ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {قَبْضَتُهُ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من لفظ الجلالة؛ أي: ما عظموه حق عظمته، والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة. {وَالسَّمَاوَاتُ}: مبتدأ، {مَطْوِيَّاتٌ}: خبر {بِيَمِينِهِ}: متعلق بـ {مَطْوِيَّاتٌ} والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {وَالْأَرْضُ}. {سُبْحَانَهُ}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، وجملة التسبيح: مستأنفة. {وَتَعَالَى}: فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله. {عَمَّا}: متعلق بـ {تَعَالَى}، والجملة: معطوفة على جملة التسبيح، وجملة {يُشْرِكُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة؛ أي: عما يشركونه به، أو لـ {ما} المصدرية؛ أي: عن إشراكهم. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}. {وَنُفِخَ}: {الواو}: استئنافية. {نفخ}: فعل ماض مغير الصيغة. {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة: مستأنفة. {فَصَعِقَ} {الفاء}: عاطفة، {صعق}: فعل ماض. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع

فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {نفخ}. {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَن} الموصولة، {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}، {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَن}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَن} الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: إلا من شاء الله بقاءَهُ. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {نُفِخَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {فِيهِ}: متعلق بـ {نُفِخَ}. {أُخْرَى}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {نفخ في الصور}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: حرف فجأة، مبني على السكون. {هُمْ}: مبتدأ. {قِيَامٌ}: خبر، وجملة {يَنْظُرُونَ}: خبر ثان أو صفة لـ {قِيَامٌ}، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} عطف اسمية على فعلية؛ لأنها في تأويل الفعل؛ أي: ثم نفخ فيه أخرى، ففاجأهم القيام من قبورهم. {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)}. {وَأَشْرَقَتِ}: {الواو}: عاطفة. {أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ}: فعل وفاعل معطوف على {ثُمَّ نُفِخَ}، {بِنُورِ رَبِّهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَشرقت} {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}: {الواو}: عاطفة. {وُضِعَ الْكِتَابُ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {أَشْرَقَتِ}، {وَجِيءَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {بِالنَّبِيِّينَ}: نائب فاعل، {وَالشُّهَدَاءِ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها. {وَقُضِيَ}: {الواو}: عاطفة، {قضي}: فعل ماض مغير الصيغة، {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {قضي}. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {قُضِيَ}، ويجوز العكس، {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير {بَيْنَهُمْ}. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)}. {وَوُفِّيَتْ}: {الواو}: عاطفة {وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {قُضِيَ}، {مَا}: اسم موصول بمعنى الذي، في محل النصب مفعول ثان لـ {وُفِّيَتْ}، وجملة {عَمِلَتْ}: صلته، والعائد: محذوف؛ أي: جزاء ما عملته، ولك أن تجعل {مَا}: مصدرية؛ أي: عملهم، {وَهُوَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر،

و {الواو}: حالية، أو عاطفة، والجملة في محل النصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ}؛ أي: وفي الله تعالى جزاء عمل كل نفس حال كونه عالمًا بما عملت، أو معطوفة على جملة {وُفِّيَتْ}، {بِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ}؛ وجملة {يَفْعَلُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة. {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}. {وَسِيقَ}: {الواو}: عاطفة. {سِيقَ الَّذِينَ}: فعل ونائب فاعل، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {إِلَى جَهَنَّمَ}: متعلق بسيق. {زُمَرًا}: حال من الموصول، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {وُفِّيَتْ} مسوقة لتفصيل توفية الحقوق. {حَتَّى} ابتدائية، أو حرف جر وغاية، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها. {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}: فعل ونائب فاعل، والجملة: جواب {إِذَا}، لا محل لها من الإعراب، والظرف: متعلق بالجواب، وجملة {إِذَا}: مستأنفة، أو مجرورة بـ {حَتَّى} والجار والمجرور: متعلق بـ {سيق}؛ أي: وسيق الذين كفروا إلى جهنم، إلى فتح أبوابها وقت مجيئهم إياها، والأول أولى. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}. {وَقَالَ}: فعل ماض، {لَهُم}: متعلق به، {خَزَنَتُهَا}: فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {فُتِحَتْ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري {لَمْ}: حرف جزم {يَأْتِكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ}. {رُسُلٌ}: فاعل {مِنْكُمْ}: صفة لـ {رُسُلٌ}، والجملة الاستفهامية: في محل النصب مقول {قَالَ}، {يَتْلُونَ}: فعل وفاعل. {عَلَيْكُمْ}: متعلق به. {آيَاتِ رَبِّكُمْ} مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة ثانية لـ {رُسُلٌ}، {وَيُنْذِرُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على {يَتْلُونَ}، {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {هَذَا}: نعت لـ {يَوْمِكُمْ} أو بدل منه أو عطف بيان له. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة:

مستأنفة. {بَلَى}: حرف جواب لإثبات النفي؛ أي: بلى أتونا وتلوا علينا. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة على الجواب المحذوف، {لَكِنْ}: حرف استدراك مهملة. {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ}: فعل وفاعل معطوف على الجواب المحذوف. {عَلَى الْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {حَقَّتْ}. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {ادْخُلُوا ...} إلى آخر الآية، نائب فاعل محكي ومقول له، والجملة: مستأنفة، وإن شئت قلت: {ادْخُلُوا}: فعل أمر وفاعل، {أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}: مفعول به، على السعة، والجملة: في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {خَالِدِينَ}: حال مقدرة من فاعل {ادْخُلُوا}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {فَبِئْسَ}: {الفاء}: استئنافية. {بئس}: فعل ماض لإنشاء الذم. {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم، محذوف، تقديره: هي، وجملة الذم: مستأنفة. {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا}. {وَسِيقَ الَّذِينَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {سيق} الأول، {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. {إِلَى الْجَنَّةِ}: متعلق بـ {سيق}، {زُمَرًا}: حال من فاعل {اتَّقَوْا} وجملة {اتَّقَوْا}: صلة الموصول، {حَتَّى}: حرف ابتداء، أو حرف جر وغاية {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بالجواب المحذوف. {جَاءُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها. {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}: فعل مغير ونائب فاعل، معطوف على {جَاءُوهَا}، وجواب {إِذَا}: محذوف دلالةً على أنه شىء لا يكتنه ولا يحيط به الوصف، تقديره: حتى إذا جاؤوها، وفتحت أبوابها .. رأوا بهجتها، وجملة {إِذَا}: مستأنفة، أو مجرورة بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، والتقدير: وسيق الذين اتقوا إلى الجنة، إلى رؤيتهم بهجتها وقت مجيئها، وفتح أبوابها، والجار والمجرور: متعلق بـ {سِيقَ}، {وَقَالَ}: فعل ماض، {لَهُم}: متعلق به، {خَزَنَتُهَا}: فاعل والجملة: معطوفة على جواب {إِذَا} المحذوف، وقيل: {الواو}: في {وَفُتِحَتْ}: زائدة في جواب {إِذَا}. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)}.

{سَلَامٌ}: مبتدأ، {عَلَيْكُمْ}: خبره، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}، {طِبْتُمْ}: فعل ماض وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَادْخُلُوهَا} {الفاء}: عاطفة تفريعية، {ادْخُلُوهَا}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على {طِبْتُمْ}. {خَالِدِينَ}: حال من فاعل {ادخلوا}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على مقدر، تقديره: فدخلوها وقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا} {الَّذِي}: صفة للجلالة. {صَدَقَنَا وَعْدَهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة: صلة الموصول، {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على {صَدَقَنَا}. {نَتَبَوَّأُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب حال من مفعول {وَأَوْرَثَنَا} الأول. {مِنَ الْجَنَّةِ}: متعلق بمحذوف حال من {حيث} المذكورة بعده. {حَيْثُ}: ظرف مكان متعلق بـ {نَتَبَوَّأُ}، أو مفعول به لـ {نَتَبَوَّأُ}؛ أي: نتبوأ أيَّ مكان شئنًا حال كونه من الجنة، {نَشَاءُ} فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة في محل جر بالإضافة. {فنَعْمَ}: {الفاء}: استئنافية. {نعم}: فعل ماض من أفعال المدح {أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: فاعل، والجملة: مستأنفة، والمخصوص بالمدح: محذوف، تقديره: هي أي الجنة في محل رفع مبتدأ وجملة {نعم} في محل رفع خبر؛ أي: الجنة. {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}. {وَتَرَى}: {الواو}: استئنافية، {تَرَى الْمَلَائِكَةَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: مستأنفة، و {ترى} بصرية. {حَافِّينَ}: حال من {الْمَلَائِكَةَ} {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَافِّينَ}، وجملة {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: حال ثانية من {الْمَلَائِكَةَ}، {وَقُضِيَ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {قُضِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {بَيْنَهُمْ}: ظرف نائب عن الفاعل أو متعلق بـ {قُضِيَ}، ونائب الفاعل: مصدر مفهوم من الفعل؛ أي: قضي القضاء. {بِالْحَقِّ}: حال من المصدر المحذوف الواقع نائب فاعل، ولك أن تعلق الظرف بـ {قضي}. و {بِالْحَقِّ}: نائب فاعل، وجملة {قضي}: معطوفة على جملة {ترى}، أو مستأنفة، {وَقِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}:

نائب فاعل محكي لـ {قيل} والجملة معطوفة على جملة {قضي} وإن شئت {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مبتدأ أو خبر {رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة للجلالة، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. التصريف ومفردات اللغة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} الإسراف: تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثر استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا: الإفراط في المعاصي. قال الراغب: السرف: تجاوز الحد في كل ما يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: يتناول الإسراف في الأموال وفي غيرها. انتهى. {لَا تَقْنَطُوا}؛ أي: لا تيأسوا، من قنط يقنط بكسر النون، من باب جلس، وبفتحها من باب طرب وسلم، وقرىء: بضمها شاذًا من باب دخل، وفي "المختار": القنوط: اليأس، وبابه: جلس ودخل وطرب وسَلم، فهو قنوط وقنط وقانط. اهـ. وفي "المفردات": القنوط: اليأس من الخير. {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} والرحمة من الله: الإنعام والإعطاء والتفضل. {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} من الإنابة، وهو: الرجوع إلى الله بالطاعة، فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: أنوبوا، نقلت حركة الواو إلى النون فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد فصار {أنيبوا}. {وَأَسْلِمُوا لَهُ} من الإِسلام وهو: الانقياد والإخلاص له. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} صيغة المبالغة فيهما راجعة إلى كثرة الذنوب، وكثرة المغفور والمرحوم. اهـ من "الروح". {أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو القرآن، فإن ما أنزل إلينا من ربنا كتب كثيرة، أحسنها القرآن. اهـ. شيخنا. {يَا حَسْرَتَا} بالألف بدلًا عن ياء المتكلم، إذ أصله: يا حسرتي، تقول العرب: يا حسرتي يا لهفي، ويا حسرتا ويا لهفا، ويا حسرتاي ويا لهفاي، بالجمع بين العوض والمعوّض، تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة، كما في "كشف الأسرار". وقد أوضحنا إعراب هذه الكلمة أي إيضاح في رسالتنا "هدية أولي العلم

والإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها إن شئت. والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر الجهل عنه الذي حمله على ما ارتكبه، وقال بعضهم: الحسرة: أن تأسف النفس أسفًا، تبقى منه حسيرًا؛ أي: منقطعةً، وقال الخازن: الحسرة: الاغتمام والحزن على ما فات. اهـ. {عَلَى مَا فَرَّطْتُ} قال الراغب: الإفراط: أن يسرف في المتقدم، والتفريط: أن يقصر فيما هو المراد، فإن الفرط المتقدم. {فِي جَنْبِ اللَّهِ}؛ أي: في عبادته وطاعته، والجنب والجانب: كلاهما بمعنى جهة الشيء المحسوسة، وإطلاق الجنب على الطاعة مجاز بالاستعارة، كما سيأتي في مبحثه إن شاء الله تعالى، يقال هو في جنب فلان وفي جانبه؛ أي: في جهته وناحيته، ثم اتسع فيه، فقيل: فرط في جنبه؛ أي: في حقه، اهـ "سمين". وقال الراغب: أصل الجنب: الجارحة، جمعه جنوب، ثم استعير في الناحية التي تليها، كاستعارة سائر الجوارح لذلك، نحو اليمين والشمال، وقوله: {فِي جَنْبِ اللَّهِ}؛ أي: في أمره وحده الذي حده لنا. {لَمِنَ السَّاخِرِينَ}؛ أي: من المستهزين بدين الله تعالى وأهله. {كَرَّةً}؛ أي: رجعةً إلى الدنيا، يقال: كر عليه عطف، وعنه رجع، والكرة: المرة والحملة، كما في "القاموس". {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} المفازة: إما مصدر ميمي أو اسم مكان، وعلى كل حال أصله مفوزة، بوزن مفعلة، نقلت حركة الواو إلى الفاء، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فصار مفازة. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}؛ أي: قيم بالحفظ والحراسة، فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: مفاتيح، لفظ فارسي معرب، واحده إقليد، معرب إكليد، وهو في الفارسي بمعنى: المفتاح في العربي، وإن كان شائعًا بين الناس بمعنى الفعل، جمع جمعًا شاذًا، كالمذاكير، جمع ذكر، وإلا فحقه أن يجمع على أقاليد، وهو إما جمع مقلاد بوزن مفعال، فالياء فيه: منقلبة عن الألف في المفرد، أو جمع مقليد، ولا قلب فيه، أو لا واحد له من لفظه، كأساطير وأخواته، ويقال أيضًا: إقليد وأقاليد.

{لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} في "المصباح": حبط العمل يحبط، من باب تعب، حبطًا بالسكون وحبوطًا: فسد وهدر، وحبط يحبط من باب ضرب لغةً، وقرىء بها في الشواذ، وحبط دم فلان حبطًا، من باب تعب: هدر، وأحبطت العمل والدم بالألف: أهدرته. اهـ. {تَأْمُرُونِّي} أصله: تأمرونني، بإظهار النونين، ثم أدغمت أولاهما، وهي علم الرفع في الثانية، وهو للوقاية، وقد قرأ ابن عامر: على الأصل؛ أي: بإظهارهما، ونافع: بحذف الثانية، فإنها تحذف كثيرًا. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} القدر: التعظيم، كما في "القاموس". فالمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، حيث جعلوا له شريكًا، ويقال: قدر الشيء قدره: من التقدير، كما في "المختار". وقال الراغب في "المفردات": ما عرفوا كنهه. {قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} القبضة: المرة من القبض؛ أطلقت بمعنى القبضة، وهي: المقدار المقبوض بالكف، تسميةً بالمصدر، أو بتقدير ذات قبضته، وفي "المفردات": القبض: التناول بجميع الكف، نحو قبض السيف وغيره، ويستعار القبض لتحصيل الشيء، وإن لم يكن فيه مراعاة الكف، كقولك: قبضت الدار من فلان؛ أي: حزتها. {مَطْوِيَّاتٌ}: جمع مطوية، اسم مفعول من طوى الثلاثي، أصله: مطوُيات، اجتمعت الواو الثانية والياء، وسبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، ثم كسرت الواو، مناسبة الياء. {فَصَعِقَ} يقال: صعق الرجل: إذا فزع فأغمي عليه، وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرًا، كما في "المشارق". {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} والكتاب في الأصل: اسم للصحيفة مع المكتوب فيه. {قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أصله: قوام، قلبت الواو ياءً؛ لوقوعها بعد كسرة وقبل ألف. {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} أصله: جيء بوزن فعل، مبني للمجهول، استثقلت الكسرة على الياء حيث ينتقل من ضمة إلى كسرة، فحذفت حركة الياء فسكنت، ثم حركت الفاء بالكسر؛ لمناسبة الياء، فقيل جيء؛ لان الياء صارت حرف مدّ لما سكنت إثر كسرة، {وَالشُّهَدَاءِ} جمع شهيد، ككرماء جمع كريم، وشرفاء جمع شريف.

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} وأصل {سيق}: سوق بوزن فعل، مبني للمجهول، استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى فاء الكلمة فسكنت الواو بعد كسرة، فقلبت ياءً حرف مد، والسوق: الحث على السير بعنف وإزعاج، علامةً على الإهانة والاحتقار، والزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والزمر: جمع زمرة، وهي الجمع القليل، ومنه قيل شاة زمرة: قليلة الشعر، واشتقاقها من الزمر؛ وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه. {خَزَنَتُهَا} واحدهم خازن، نحو سدنة وسادن. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أصله: طيب، بوزن فعل من باب باع، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، فصار اللفظ: طابتم، فالتقي الساكنان فحذفت الألف فصار طبتم، فاحتيج إلى معرفة عين الفعل المحذوفة، هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة الفاء، وعوض عنها شكلة مجانسة لتلك العين المحذوفا، التي هي ياء، والمجانس لها هو الكسرة، فقيل {طِبْتُمْ} بوزن فلتم، بكسر الفاء. {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ} يقال بوأت له مكانًا: سويته وهيأته. {حَافِّينَ}؛ أي: محدقين محيطين بالعرش، مصطفين بحافته وجوانبه. اهـ "خازن". وعبارة السمين: قوله: حافين: جمع حاف، وهو المحدث بالشيء، من حففت بالشيء: إذا أحطت به، وهو مأخوذ من الحفاف وهو الجانب، وقال الفراء، وتبعه الزمخشري: لا واحد لـ {حَافِّينَ} من لفظه، وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون حافًا، إذ الحفوف هو الإحداق بالشيء والإحاطة به، وهذا لا يتحقق إلا في جمع. اهـ. وأصله: حاففين، أدغمت عينه في لامه، فقيل: حافين. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: واعلم: أنه قال علماء البيان: اشتمل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} على سبعة فنون من علمي البيان والبديع، نلخصها فيما يأتي. 1 - إقباله تعالى على عباده، وفي ذلك منتهى الاطمئنان لهم، لمحو ما سبق

من الذنوب والأوضار، والإشعار بأن أمامهم مندوحة من الوقت لاستدراك ما فرّط، ورأب ما انصدع. 2 - نداؤهم، وفي ذلك من التودد إليهم، والتلطف بهم ما يهيب بذوي المسكة من العقول منهم إلى المبادرة بالإنابة، والرجوع بالتوبة. 3 - إضافتهم إليه إضافة تشريف لهم. 4 - إضافة الرحمة إلى لفظ الجلالة، الجامع لجميع الأسماء والصفات، إشعارًا بأنها هي الأصل في معاملته لعباده. 5 - إعادة الظاهر بلفظه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}. 6 - الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} لتخصيص الرحمة بالاسم الكريم، والأصل لا تقنطوا من رحمتي. 7 - الاتيان بالجملة المعرّفة الطرفين، المؤكدة بأن وضمير الفصل والصفتين الموضوعتين للمبالغة. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فهذه سبعة فنون كاملة في آية واحدة. ومنها: إطلاق الخاص، وإرادة العام في قوله: {أَسْرَفُوا} لأن الإسراف في الأصل: خاص بالإفراط في صرف المال، والمراد: ما يعم الإسراف في الأموال وغيرها. ومنها: إطلاق العموم بمعنى الخصوص في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية. ومنها: التنكير لإفادة التقليل في قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي الكافر؛ لأنها التي تقول ذلك، وقيل للتكثير والتعميم؛ ليشيع في كل النفوس. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} حيث شبهت الطاعة بالجنب بمعنى الجهة المحسوسة، بجامع تعلق كل بصاحبه، فالطاعة

لها تعلق بالله، كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتهما، فشبّه الخيرات والبركات بخزائن، واستعار لها لفظ المقاليد بمعنى المفاتيح. ومعنى الآية: خزائن رحمته وفضله بيده سبحانه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} مثّل عظمته وكمال قدرته، وحقارة الأجرام العظام، التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئًا عظيمًا بكفه، وطوى السموات بيمينه، بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في "تلخيص البيان": وفي الآية استعارة، ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره، كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه، مضمومات بيمينه. ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال، في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)}. ومنها: الاتيان بصيغة الماضي في قوله: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} إشعارًا بتحقق وقوعه. ومنها: تقديم المعمول على عامله؛ لإفادة القصر في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}. ومنها: عطف المسبب على السبب في قوله: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فإن عطف الخسران على الحبوط، من عطف المسبب على السبب. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بِنُورِ رَبِّهَا} فإنه شبه العدل بالنور، بجامع الإظهار في كل، فإن العدل يظهر الحقوق، كما أن النور يظهر ما خفي في الظلام، فاستعار اسم المشبّه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية.

ومنها: إبهام القائل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}؛ لتهويل المقول. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب * * *

مجمل موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصف الكتاب الكريم. 2 - الأمر بعبادة الله وحده، والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام. 3 - إقامة الأدلة على وحدانية الله. 4 - طبيعة المشرك في السرّاء والضراء. 5 - ضرب الأمثال في القرآن، وفائدة ذلك. 6 - تمني المشركين الفداء حين يرون العذاب. 7 - الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا. 8 - ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن. 9 - ذكر أحوال يوم القيامة. 10 - وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر، وما يشاهدونه من الأهوال. 11 - وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم. 12 - بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة غافر

سورة غافر سورة غافر، وتسمى سورة المؤمن وسورة الطول، مكية نزلت بعد الزمر قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين نزلتا بالمدينة، وهما قوله: {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي بعدها، وقال الزجاج: وذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة. وآيها: خمس وثمانون، وقيل: اثنتان وثمانون آية. وكلماتها: ألف ومئة وتسع وتسعون. وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وستون حرفًا. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة المؤمن كلها محكم، غير آيتين: أولاهما: قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} الآية (55). نسخ الأمر بالصبر بآية السيف. والآية الثانية: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} الآية (77)، نسخت أيضًا بآية السيف، انتهى. تسميتها: سميت سورة غافر؛ لأن الله سبحانه ذكر هذا الوصف الجليل، الذي هو من صفات الله الحسنى في مطلع السورة الكريمة {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}. وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها. المناسبة لما قبلها: 1 - أنه (¬1) ذكر في سابقتها ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب؛ ليكون ذلك استدعاءً للكافر إلى الإيمان، والإقلاع عن الكفر. 2 - أنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه، وهم في ¬

_ (¬1) المراغي.

المحشر، وهم في النار. وقال أبو حيان (¬1): مناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر: أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين .. ذكر هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ليكون ذلك استدعاءً للكافر إلى الإيمان، وإلى الإقلاع عما هو فيه، وأن باب التوبة مفتوح، وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم إليه؛ ليرتدع عما هو فيه، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر. انتهى. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه (¬2) محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضّلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي". وأخرج أبو عبيد في "فضائله" عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: إن لكل شيء لبابًا، ان لباب القرآن آل حم. وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في "الشعب" عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرج أبو عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر عنه قال: إذا وقعت في آل حم .. وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن. وأخرج أبو الشيخ وأبونعيم والديلميّ عن أنس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحواميم ديباج القرآن". وأخرج البيهقي في "الشعب" عن خليل بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحواميم سبع، وأبواب النار سبع، تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب، تقول: اللهم، لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني". وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

"الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حم المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وآية الكرسي حين يصبح .. حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي .. حفظ بهما حتى يصبح. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال (¬1): إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا، فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجّب منه؛ إذ هبط على روضات دمثات، فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن، وقال سعيد بن ابن إبراهيم: كل آل حم تسمى العرائس. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة .. فليقرأ الحواميم". وعنه أيضًا: "مثل الحواميم في القرآن، كمثل الحبرات في الثياب". ذكرهما الثعلبيّ، اهـ "قرطبي". وقال الجوهري وأبو عبيد: وآل حم سور في القرآن، فأما قول العامة: الحواميم فليس من كلام العرب، وقال أبو عبيد: الحواميم سور في القرآن على غير قياس، قال: والأولى أن تجمع بذوات حم. فتلخص من مجموع هذه الأخبار (¬2): أن هذه السور السبع تسمى الحواميم، وتسمى آل حم، وتسمى ذوات حم، فلها جموع ثلاثة، خلافًا لمن أنكر الأول منها. تأمل. وقال محمد بن القاسم الأنباري (¬3): العرب تقول: وقع في الحواميم وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة: حَلفْتُ بِالسَّبْعِ اللَّوَاتِيْ طُوِّلَتْ ... وَبِمِئِيْنَ بَعْدَهَا قَدْ أُمِئِيَتْ وَبِمَثَانٍ ثُنيَتْ فَكُرِّرَتْ ... وَبِاالطَّوَاسِيْنِ اْللَّوَاتِيْ ثُلِّثَتْ وَبِالْحَوَامِيْمِ اللَّوَاتِيْ سُبِّعَتْ ... وَبِاْلْمُفَصَّلِ اللَّوَاتِيْ فُصِّلَتْ ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الفتوحات. (¬3) زاد المسير.

فمن قال وقع في آل حميم .. جعل حاميم اسمًا لكلهن، ومن قال: وقع في الحواميم جعل حم، كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصواب أن تقول: قرأت آل حاميم. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}.

المناسبة لقد قدمنا لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر سابقتها، وأما قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بين أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس، وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، إذا هم عملوا بهديه .. ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله، وإخفاء نوره، ثم أرشد رسوله أن لا يغتر بأحوال أولئك المجادلين، وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم، يتصرفون في البلاد للتجارة لسعة الرزق، والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية، ممن كذبوا رسلهم، فحل بهم البوار في الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة، في جهنم وبئس القرار. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة ومجادلتهم للرسل بالباطل؛ لإطفاء نور دعوتهم .. أردف ذلك ببيان أن أشرف المخلوقات، وهم الملائكة الذين يحملون العرش، والحافون حول العرش، يحبون المؤمنين، ويطلبون لهم ولآبائهم وأزواجهم وذريّاتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين، ولا تقم لهم وزنًا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم .. ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه، وهم حملة العرش ومن حوله، وهم الحافون به من الملائكة. انتهى. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله .. أردف ذلك ببيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم، وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[1]

إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم، وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته، بإظهاره للآيات، وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات؛ لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحي على من يشاء من عباده؛ لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء. قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاق .. أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة، تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة .. أردفه بتخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم، ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاؤوهم بالبينات. أسباب النزول قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي عن أبي مالك: أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)}: اسم (¬2) للسورة، ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هذه السورة مسماة بحم، نزلت منزلة الحاضر المشار إليه؛ لكونها على شرف الذكر والحضور. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: حمَ اسم الله الأعظم، وعنه قال: {حم (1)} اسم الله الأعظم، وعنه قال: {آلر} و {حم (1)} و {نَ}: حروف، اسمه الرحمن مقطعة، وقيل الحاء: افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنَّان، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

والميم: افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل: {حم (1)} معناه: حم بضم الحاء؛ أي: قضي وبين ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقرأ الجمهور (¬1): بفتح الحاء مشبعًا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بإمالته إمالةً محضةً، وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش: بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: {حم (1)} بسكون الميم، كسائر الحروف المقطعة، وقرأ الزهري: بضمها، على أنه خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: بفتحها، على أنه منصوب بفعل مقدر؛ أي: اقرأ حم، وإنما منعت من الصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية وشبه المعجمة، وذلك أنه ليس في الأوزان العربية وزن فاعيل، بخلاف الأعجمية، نحو قابيل وهابيل، أو على أنها حركة بناء تخفيفًا، كأين وكيف، وعلة البناء فيه: الشبه الوضعي، وقرأ أبو السمال: بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم، وقرأ الجمهور: بوصل الحاء بالميم، وقرأ أبو جعفر؛ بقطعها. وعبارة "المراغي" هنا: {حم (1)} تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغني عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك: أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام، نحو {ألا} و {يا} وينطق بأسمائها، فيقال: حاميم بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجوالقي والحريري وابن الجوزي، وقالوا: لا يقال ذلك، بل يقال: آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب "الصحاح": نقل عن الفراء أن قول العامة: الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم .. فقد وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات: وَجَدْنَا لَكُمْ فِيْ آلِ حَم آيَةً ... تَأَوَّلَهَا منَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ يريد بذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. انتهى. وقال الشوكاني: وقد اختلف في معناه، فقيل هو اسم من أسماء الله تعالى، ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[2]

وقيل: اسم من أسماء القرآن، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ووقع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وجعلاه بمعنى حم؛ أي: قضي ووقع، وقيل: معناه حم أمر الله؛ أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه، وهذا تكلف لا موجب له، وتعسف لا مُلجِىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله سبحانه بعلم معناه، كما قدمنا تحقيقه في أول سورة البقرة. انتهى. 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} هو خبر لـ {حم (1)} على تقدير أنه مبتدأ؛ أي: سورة حم الكتاب المنزل {مِنَ اللَّهِ} إلخ. فالمصدر بمعنى اسم المفعول، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره {مِنَ اللَّهِ} والمصدر على معناه، وهذا أولى الوجوه؛ أي: تنزيل هذا الكتاب الكريم كائن من الله تعالى، لا كما يقول الكفار {الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب القاهر على ما أراد {الْعَلِيمِ} بكل المعلومات، ولعل تخصيص هذين الوصفين لما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلم الدالين على القدرة الكاملة والعلم البالغ، وفي "فتح الرحمن": العزيز الذي لا مثل له، العليم بكل المعلومات، أو الكثير العلم بخلقه، وبما يقولونه ويفعلونه. والمعنى: أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب، القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه وبما يقولون وما يفعلون، وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقول ولا مما يجوز أن يكذب به 3 - {غَافِرِ الذَّنْبِ} صفة أخرى للجلالة، والإضافة حقيقيّة؛ لأنه لم يرد به زمان مخصوص؛ لأن صفات الله تعالى أزلية منزهة عن التجدد والتقيد بزمان دون زمان، وإن كان تعلقها حادثًا بحسب حدوث المتعلقات كالذنب في هذا المقام، واسم الفاعل يجوز أن يراد به الاستمرار، بخلاف الصفة المشبهة، والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره، ولم يقل: غافر الذنوب بالجمع، إرادةً للجنس، كما في الحمد لله. والمعنى: ساتر جميع الذنوب، صغائرها وكبائرها، بتوبة وبدونها، ولا يفضح صاحبها يوم القيامة، كما يقتضيه مقام المدح العظيم {وَقَابِلِ التَّوْبِ} والقابل في الأصل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، والتوب مصدر، كالتوبة: وهو ترك الذنوب على أحد الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت، وأقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا

الثالث هو التوبة، والتوبة في الشرع: هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربعة .. فقد كملت شرائط التوبة، فالتوبة هي الرجوع عما كان مذمومًا في الشرع إلى ما هو محمود في الدين، والاستغفار: عبارة عن طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية والإعراض عنها، فالتوبة مقدمة على الاستغفار، والاستغفار لا يكون توبة بالإجماع، ما لم يقل معه: تبت وأسأت ولا أعود إليه أبدًا، فاغفر لى يارب. وتوسيط الواو بين الغافر والقابل؛ لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة في موصوف واحد بالنسبة إلى طائفة هي طائفة المذنبين التائبين، فالمغفرة بمحو الذنوب بالتوبة، والقبول بجعل تلك التوبة طاعة مقبولًا يثاب عليها، فقبول التوبة كناية عن أنه تعالى يكتب تلك التوبة للتائب طاعة من الطاعات، وإلا لما قبلها؛ لأنه لا يقبل إلا ما كان طاعة، أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهم الاتحاد، بأن يذكر الثاني لمجرد الإيضاح والتفسير، أو لتغاير موقع الفعلين ومتعلقهما؛ لأن الغفر: هو الستر مع بقاء الذنب، وذلك لمن لم يتب من أصحاب الكبائر، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والقبول بالنسبة إلى التائبين عنها. وفي "الأسئلة المقحمة": قدم المغفرة على التوبة؛ ردًا على المعتزلة، ليعلم أنه تعالى ربما يغفر من غير توبة {شَدِيدِ الْعِقَابِ}؛ أي: مشدد العقاب لمن مات على الشرك، فهو اسم فاعل، كما قبله، فصح جعله نعتًا للمعرفة، حيث يراد به الدوام والثبوت، وليس بصفة مشبهة، حتى تكون الإضافة لفظية، بأن يكون من إضافة الصفة إلى فاعلها، ولئن سلم .. فالمراد الشديد عقابه باللام فحذفت للازدواج مع {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} في الخلو عن الألف واللام {ذِي الطَّوْلِ}؛ أي: صاحب الفضل والإحسان على من آمن به بترك العقاب المستحق، وذي الغنى على من لم يؤمن به، والطول بالفتح: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول؛ أي: زيادة وفضل، وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر؛ لأنه إذا كان طويلًا .. ففيه كمال وزيادة، كما أنه إذا كان قصيرًا .. ففيه قصور ونقصان، وسمي الغني أيضًا طولًا؛ لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر، كما أنه بالطول ينال ما لا ينال بالقصر، كذا في "تفسير الإِمام" في سورة النساء، والمراد هنا:

[4]

الفضل بترك العقاب المستحق، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات الرحمة: دليل سبقها ورجحانها. والمعنى: أي وهو سبحانه الإله الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعثا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم، التي لا يطيقون القيام بشكرها، ولا شكر واحدة منها، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. وذكر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}؛ لترغيب عباده العاصين، وذكر: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحث على فعل المراد من تنزيل الكتاب، وهو التوحيد والإيمان بالبعث، والإخلاص لله في العمل، والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه، كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} ليبقى العبد بين الخوف والرجاء {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} سبحانه، فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه {إِلَيْهِ} تعالى فحسب، لا إلى غيره، لا استقلالًا ولا اشتراكًا {الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع والمآب؛ أي: رجوع الخلق إليه سبحانه في الآخرة، فيجازي كلا من المطيع والعاصي. 4 - ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله، أنزله ليهتدى به في الدين .. ذكر أحوال من يجادل فيه بقصد إبطاله، فقال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: ما يخاصم وينازع في دفع آيات الله وإبطالها. وتكذيبها؛ أي: ما يخاصم في آيات الله تعالى التنزيلية، أو التكوينية بالطعن فيها، بأن يقول في حقها سحرًا أو شعرًا أو أساطير الأولين أو نحو ذلك، وباستعمال المقدمات الباطلة لإدحاضه وإزالته وإبطاله، لقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} فحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وأريد بالجدال المذكور هنا: الجدال بالباطل، أما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم .. فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، ومن أفضل الطاعات، كالجهاد في سبيل الله تعالى.

{إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بها، وأما الذين آمنوا .. فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها، فضلًا عن الطعن فيها، ولما حكم سبحانه وتعالى على المجادلين في آيات الله بالكفر .. نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: {فَلَا يَغْرُرْكَ} يا محمد {تَقَلُّبُهُمْ}؛ أي: تنقلهم {فِي الْبِلَادِ} للتجارات النافقة، والمكاسب المربحة، سالمين غانمين بمراداتهم، فإنهم يمهلون ولا يهلون، و {الفاء}: في قوله: {فَلَا يَغْرُرْكَ}: واقعة في جواب شرط محذوف، والغرة: غفلة في اليقظة، والتقلب: التنقل في البلاد والتصرف فيها بالتجارة. والمعنى: فإذا علمت يا محمد أنهم محكوم عليهم بالكفر .. فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم، وتقلبهم في بلاد الشام واليمن للتجارات المربحة، وهي رحلة الشتاء والصيف. وقرأ الجمهور: {فَلَا يَغْرُرْكَ} بالفك، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير: {فلا يغرك} بالإدغام مفتوح الراء، وهي لغة تميم. ومعنى الآية: أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه، كقولهم مرة: أنه شعر، وأخرى: أنه سحر، وثالثة: أنه أساطير الأولين، إلى أشباه ذلك من سخيف المقال، إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره، وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر". أما الجدل لتقرير الحق، وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن .. فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى عن قوم نوح لنوح {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنه - قال: هاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". رواه مسلم. وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علي {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر .. نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن

[5]

ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر .. نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}؛ أي: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة في البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمن، ورحلة الصيف في الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا .. فإنهم لا يهملون، قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. وقال في "عين المعاني": فلا يغررك أيها المغرور، والمراد غيره - صلى الله عليه وسلم - خطاب للمقلدين من المسلمين. انتهى. وفي هذا تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، ووعيد لهم، 5 - ثم قال مسليًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوةً في سلفه الأنبياء، فان أقوامهم كذبوهم، وما آمن منهم إلا قليل، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل قريش {قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ}؛ أي: القبائل من الكفار الذين تحزبوا على الرسل وعادوهم وحاربوهم {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد قوم نوح، مثل عاد وثمود وأضرابهم، وبدأ بقوم نوح إذ كان أول رسول في الأرض؛ أي: لأن آدم إنما أرسل إلى أولاده. أي: كذبت (¬1) قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم، كما هي سنتنا في أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك. {وَهَمَّتْ}؛ أي: قصدت وعزمت {كُلُّ أُمَّةٍ} من تلك الأمم المكذبة أن يوقعوا الشر {بِرَسُولِهِمْ} الذي أرسل إليهم، والهم كما سيأتي: تصميم القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، قال في "الأسئلة المقحمة": لم يقل: برسولها؛ لأنه أراد بالأمة هاهنا الرجال دون النساء، وبذلك فسروه، وقال في "عين المعاني": برسولهم تغليب للرجال {لِيَأْخُذُوهُ}؛ أي: ليأسروه ويحبسوه فيعذبوه أو يقتلوه، من الأخذ بمعنى الأسر. وفيه (¬2): إشارة إلى أن كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد له من أرباب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[6]

الجحود والإنكار وأهل الاعتراض، كما كانوا في عهد كل نبي ورسول، وقال قتادة والسدي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} والعرب تسمي الأسير الأخيذ. وقرأ الجمهور: {بِرَسُولِهِمْ}، وقرأ عبد الله: {برسولها}، عاد الضمير إلى لفظ أمة. والمعنى: أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه {وَجَادَلُوا}؛ أي: وخاصموا رسولهم {بِالْبَاطِلِ} من القول الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلًا. قال في "فتح الرحمن": الباطل: ما كان فائت المعنى من كل وجه، مع وجود الصورة، إما لانعدام الأهلية، أو لانعدام المحلية، كبيع الخمر وبيع الصبي، انتهى. {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}؛ أي: ليزيلوا بذلك الباطل، الحق الذي لا محيد عنه، كما فعل هؤلاء المشركون من قومك؛ أي: وخاصموا رسولهم بالباطل، بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها، كقولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله تعالى، وليطفئوا النور الذي أوتيه. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا الإيمان {فَأَخَذْتُهُمْ} بالإهلاك جزاء لهمّهم بالأخذ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}؛ أي: عقابي الذي عاقبتهم به، فإن آثار دمارهم ترونها حين تمرون على ديارهم عبرة للناظرين، ولآخذنّ هؤلاء أيضًا لاتحادهم في الطريقة، واشتراكهم في الجريمة. والاستفهام فيه (¬1) استفهام تعجيب من استئصالهم، واستعظام لما حل بهم، وليس استفهامًا عن كيفية عقابهم، واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة؛ لأنها فاصلة، والأصل: عقابي. والمعنى (¬2): فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم، فلم أبق منهم ديارًا ولا نافخ نار، وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين، كما قال: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} 6 - وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الأمم المكذبة، المتحزبة على رسلهم، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به .. وجب أيضًا {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك؛ أي: كفروا ربك، وتحزبوا عليك، وهموا بما لم ينالوا، فالموصول عبارة عن كفار قومه - صلى الله عليه وسلم -، وهم قريش، لا عن الأمم المهلكة. وقوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في حيز النصب بحذف لام التعليل، وإيصال الفعل؛ أي: كذلك حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من قومك؛ لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها، التي هي عذاب النار، وملازموها أبدًا لكونهم كفارًا معاندين، متحزبين على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة، فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقًا، وأحق استيجابًا، فعلة واحدة تجمعهم، وهي أنهم أصحاب النار. والمعنى (¬1): أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها، أن يحل بها عقابي .. وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك؛ لأن الأسباب واحدة، والعلة متحدة، وهي كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء، لإصلاح نظم العالم وسعادته في دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية، والسمو بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعًا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله تعالى. وقيل: هو؛ أعني قوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في محل الرفع على أنه بدل من {كَلِمَتُ رَبِّكَ} بدل الكل. والمعنى عليه: أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار؛ أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال، كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة، فالتشبيه واقع بين حالتيهم، والجامع للطرفين: إيجاب العذاب، ومحل الكاف على كلا التقديرين، النصب، على أنه نعت لمصدر محذوف، وفي الآية إشارة إلى أن الإصرار مؤد إلى الأخذ والانتقام في الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يرجع إلى الله، ويتوب ويتعظ بغيره، قبل أن يتعظ الغير به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

به، عصمنا الله تعالى وإياكم من أسباب سخطه. وفي مصحف عبد الله (¬1): {وكذلك سبقت} وهو تفسير معنى، لا قراءة، وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر: {كلمات} على الجمع، وأبو رجاء وقتادة وباقي السبعة: على الإفراد. 7 - ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله، فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} والموصول: مبتدأ، {وَمَنْ حَوْلَهُ}: معطوف على {الَّذِينَ}: وخبر المبتدأ: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن تكون من في محل نصب عطفًا على {الْعَرْشَ}، والأول أولى. {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}؛ أي: ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل، متلبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}؛ أي: بربهم إيمانًا حقيقًا بحالهم، والتصريح به مع إغناء ما قبله عن ذكره، لإظهار فضيلة الإيمان، وإبراز شرف أهله، وقد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف. وقال بعضهم (¬2): أشار بالإيمان إلى أنهم في مرتبة الإدراك بالبصائر، محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار، كحال البشر ما داموا في موطن الدنيا، وأما في الجنة .. فقيل: لا يراه الملائكة، وقيل: يراه منهم جبريل خاصة مرةً واحدة، ويراه المؤمنون من البشر في الدنيا بالبصائر، وفي الآخرة بالأبصار؛ لأن قوله {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قد استثني منه المؤمنون، فبقي على عمومه في الملائكة والجن، وذلك لأن استعداد الرؤية إنما هو لمؤمني البشر؛ لكمالهم الجامع {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} استغفارهم: شفاعتهم وحملهم على التوبة، وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم، وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة، وإن تخالفت الأجناس؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. وقال أبو حيان: فإن قلت: ما فائدة قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت: فائدته: إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه، كما وصف ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك. انتهى. والمعنى (¬1): إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله، ينزهون الله تعالى متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو، ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به، من توحيد الله، والبراءة من كل معبود سواه. ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم، من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته، ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة، فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذي العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه وتوسطهم في نفاذ أمره. ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين، فقال حاكيًا عنهم: {رَبَّنَا} فهو على (¬2) تقدير القول على أنه بيان لاستغفارهم؛ أي: يقولون: ربنا، أو على أنه حال؛ أي: يستغفرون للذين آمنوا قائلين: ربنا {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} نصب كل من {رَحْمَةً وَعِلْمًا} على التمييز المحول عن الفاعل؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، والمراد: أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وتقديم الرحمة على العلم، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقًا من الرحمة؛ لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي "عين المعاني": ملأت كل شيء نعمةً وعلمًا به، قال بعضهم: دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه؛ لأن كل موجود له رحمة دنيوية ألبتة، وأقلها الوجود، وللشيطان إنظار إلى يوم الدين، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك. {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} عن الشرك والمعاصي {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}؛ أي: تمسكوا بدينك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. و {الفاء} فيه: لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، فما بعد {الفاء} مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم، إذ المعنى: فاغفر للذين علمت منهم التوبة من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[8]

الكفر والمعاصي، واتباع سبيل الإيمان والطاعة. وفيه: إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى. {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}؛ أي: واحفظهم من عذاب جهنم، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد، وذلك لأن معنى الغفران: إسقاط العذاب، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة، فلا بدّ من الثبات عليها، وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة، وتصفية القلب عن الأهواء والبدع. والمعنى (¬1): فاصفح عن المسيئين إذا تابوا، وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية، بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدل القول لديك، قال مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية. قيل (¬2): هذا الاستغفار في مقابلة قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فلما صدر هذا منهم أولًا .. تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم، وهو كالتنبيه لغيرهم، على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه، أن يستغفر له، وعلى كل مَنْ آذى غيره، أن يَجْبُرَهُ بإيصال نفع إليه، ذكره في "المراح". 8 - {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} عطف على {وَقِهِمْ} وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار، وهو رفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة {جَنَّاتِ عَدْنٍ}؛ أي: بساتين إقامةٍ وخلودٍ {الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} إياها، وقد وعد الله تعالى بأن يدخل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، جنات عدن، إما ابتداءً، أو بعد أن يعذبهم بقدر عصيانهم. وروي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة، يدخلها النبيون وأئمة العدل، فعلى هذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

يكون {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: موضع أهل الخصوص لا أهل العموم، ومثلها: الفردوس، إذ لكل مقام عمل يخص به، فإذا كان العمل أخص وأرفع .. كان المقام أرقى وأعلى. وقرأ الجمهور (¬1): {جَنَّاتِ} جمعًا، وزيد بن علي والأعمش {جنة عدن} بالإفراد، وكذا في مصحف عبد الله. {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} في محل النصب عطفًا على الضمير في {وَأَدْخِلْهُمْ}. والمعنى: وأدخل معم من صلح من هؤلاء صلاحًا مصححًا لدخول الجنة في الجملة، وإن كان دون صلاح أصولهم، وذلك ليتم سرورهم، ويتضاعف ابتهاجهم، وفيه إشارة إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته؛ لينالوا بها الجنة ونعيمها. وقرأ ابن أبي عبلة: {صلح} بضم اللام، يقال: صلح فهو صليح، وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى: {وذريتهم} بالإفراد، والجمهور: بالجمع. والمعنى (¬2): أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية؛ لتقر بهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور، يكون أكمل للبهجة وأتم للانس. قال سعيد بن جبير: يدخل المؤمن الجنة فيقول: يا رب، أين أبي وجدي وأمي، وأين ولدي وولد ولدي. وأين زوجاتي؟ فيقال: إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؟ فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم تلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} إلى قوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} ويقرب من هذه الآية قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة .. نودي في أطفال المسلمين: أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، فينادى فيهم: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: يا ربنا، ووالدينا معنا، فينادى فيهم الثانية: أن امضوا إلى الجنة زمرًا، فيقولون: ووالدينا معنا، فيبتسم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[9]

الرب تعالى، فيقول: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم". {إِنَّكَ} يا ربنا {أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ما {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة، من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد والوفاء به 9 - {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ}؛ أي (¬1): واحفظهم عما يسوْءُهم يوم القيامة، وادفع عنهم العقوبات؛ لأن جزاء سيئة سيئة، فتسميتها سيئة. إما لأن السيئة اسم للملزوم، وهو الأعمال السيئة، فأطلق على اللازم، وهو جزاؤها، أو المعنى: قهم جزاء السيئات، على حذف المضاف، على أن {السَّيِّئَاتِ} بمعنى الأعمال السيئة، وهو تعميم بعد تخصيص، لقوله: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أو عذاب القبر وموقف القيامة والحساب والسؤال والصراط ونحوها، أو مخصوص بمن صلح من الأتباع، والأول دعاء للأصول، قال أبو السعود: والضمير في {وَقِهِمْ}: راجع للمعطوف، وهو الآباء والأزواج والذرية. {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}؛ أي: ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ونجيته من عذابك؛ لأن (¬2) المعافى من العذاب مرحوم، ويجوز أن يكون المراد بـ {السَّيِّئَاتِ} الأولى: المعاصي في الدنيا، فمعنى قوله: {وَمَنْ تَقِ ....} إلخ؛ أي: ومن تقه المعاصي في الدنيا .. فقد رحمته في الآخرة، كأنهم طلبوا لهم السبب بعدما سألوا المسبب {وَذَلِكَ} المذكور من الرحمة والوقاية {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز أجمل منه، والظفر الجسيم الذي لا مطمع وراءه لطامع؛ إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكًا لا تصل العقول إلى كنه جلاله. 10 - ولما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار .. ذكر أحوالهم بعد دخول النار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسله {يُنَادَوْنَ}؛ أي: تناديهم الملائكة، وهم خزنة جهنم من مكان بعيد، تنبيهًا على بعدهم عن الحق: {لَمَقْتُ اللَّهِ} جواب قسم محذوف، والمقت: البغض ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء، ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ لدلالة المقت الثاني عليه، والمعنى: والله لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء {أَكبَرُ} وأشد {مِنْ مَقْتِكُمْ} وبغضكم {أَنْفُسَكُمْ} الأمارة بالسوء، وذلك أن الكفار يمقتون في جهنم أنفسهم الأمارة بالسوء، التي وقعوا بها فيما وقعوا فيه من العذاب المخلد باتباع هواها؛ أي: يغضبون عليها حتى يأكلوا أناملهم، ويبغضونها أشد البغض، وينكرونها أشد الإنكار، ويظهرون ذلك على رؤوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة من مكان بعيد. والظرف في قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ} في الدنيا من جهة الأنبياء {إِلَى الْإِيمَانِ} فتأبون قبوله {فَتَكْفُرُونَ} بالله تعالى وتوحيده، اتباعًا لأنفسكم، ومسارعة إلى هواها .. متعلق بالمقت الأول، ولا يقدح فيه وجود الخبر في "العين"؛ لأنَّ في الظروف اتساعًا. والمعنى: إن الذين كفروا تناديهم الملائكة يوم القيامة، وهم يتلظون النار، ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم، ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيء الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار، والله إن مقت الله إياكم في الدنيا حين تدعون إلى الإيمان، فتكفرون، أشد من مقتكم أنفسكم اليوم، وأنتم على هذه الحال. وقال الأخفش: {اللام} في قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ}: لام الابتداء، دخلت على معمول خبر {إنَّ}. وقيل: الظرف في قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ}: متعلق بمحذوف، تقديره: اذكروا إذ تدعون في الدنيا. والخلاصة (¬1): أن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الايمان في الدنيا فتركوه، وأبو أن يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة. قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير. ¬

_ (¬1) المراغي.

[11]

11 - ثم ذكر ما يقولونه حين ينادون بهذا النداء، فقال: {قَالُوا}؛ أي: قالت الكفرة حين خوطبوا بهذا الخطاب: {رَبَّنَا}؛ أي: يا ربنا ويا مالك أمرنا {أَمَتَنَا} إماتتين {اثْنَتَيْنِ}؛ أي: جعلتنا نطفًا لا حياة لنا في أصلاب آبائنا، وجعلتنا أمواتًا بانقضاء آجالنا {وَأَحْيَيْتَنَا} إحياءَتين {اثْنَتَيْنِ}؛ أي: إحياءةً بنفخ الروح فينا في بطن أمهاتنا، وإحياءةً بالبعث من قبورنا، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}. ووجه هذا القول: أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، ولا يلزم منه أن لا عذاب في القبر، ولا حياة ولا موت، فإنهم إنما لم يذكروها؛ لأن حياة القبر ليست كحياة الدنيا، ولا كحياة الآخرة، كما في "الأسئلة المقحمة". وقد ذهب إلى هذا المعنى جمهور السلف. وقيل المعنى (¬1): أمتنا إماتتين اثنتين: مرةً بقبض أرواحنا، ومرةً بعدما سألنا منكر ونكير في القبور، وأحيَيتنا إحياءَتين اثنتين مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور ومرةً عند البعث، وهذا أنسب بحالهم، فإنَّ مقصودهم تعديد أوقات البلاء، وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة، فهذه الأربعة أوقات المحنة؛ فأما الحياة في الدنيا، فليست من أقسام أوقات البلاء، فلهذا السبب لم يذكروها. وقال ابن زيد: المراد بالآية: أنهم خلقهم في ظهر آدم، واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. وحاصل المعنى على القول الأول: أي قالوا: ربنا خلقتنا أمواتًا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أولًا بنفخ الأرواح فينا، ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث. نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -، وجعلوا ذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا ...} الآية. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا، فقال حاكيًا عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل، ¬

_ (¬1) المراح.

[12]

والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا {مِنْ سَبِيلٍ}؛ أي: من طريق؛ أي: فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ فإنك قادر على ذلك، وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيرًا أو تعللًا: عسى أن يتاح لهم الفرج، ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} وقوله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} 12 - فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض البات مع ذكر السبب، فقال: {ذَلِكُمْ} الذي أنتم فيه من العذاب، وهو مبتدأ، خبره قوله: {بِأَنَّهُ}؛ أي: بسبب أن الشأن {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ} في الدنيا؛ أي: عبد {وَحْدَهُ} أي: حال كونه منفردًا، فهو في موضع الحال من الجلالة .. {كَفَرْتُمْ} بتوحيده؛ أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب كائن بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره .. كفرتم به وتركتم توحيده {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ} غيره من الأصنام أو غيرها {تُؤْمِنُوا} بالإشراك به، وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهذه الجملة علة لمحذوف، تقديره: فأجيبوا بأنه لا سبيل إلى رجوعكم إلى الدنيا، ولا إلى خروجكم من النار؛ لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه؛ لأنكم كنتم فيها إذا دعي الله وحده ... كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصةً، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم، فقال: {فَالْحُكْمُ} حينئذ {لِلَّهِ} وحده دون غيره الذي لا يحكم إلا الحق، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها {الْعَلِيِّ}؛ أي: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا في صفاته {الْكَبِيرِ} الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك، إذ ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ولا نهاية لعقوبته، فلا سبيل لكم إلى الخروج من النار أبدًا، إذ أشركتم به سواه.

[13]

وكأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذه الآية (¬1)، وقيل للخوارج: حرورية؛ لتجليتهم بحروراء واجتماعهم فيها، وهي كحلولاء، وقد تقصر، قرية بالكوفة، والخوارج: قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن طاعة علي - رضي الله عنه - عند التحكيم بينه وبين معاوية، وذلك أنه لما طالت محاربة على ومعاوية .. اتفق الفريقان على التحكيم إلى أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - في أمر الخلافة، وعلي - رضي الله عنه - ارتضى بما يريانه، فقال القوم المذكور: إن الحكم إلا لله، فقال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل، وكانوا اثني عشر ألف رجلٍ أنكروا الخلافة، واجتمعوا ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الداء وقطعوا السبيل،، فخرج إليهم علي - رضي الله عنه - وأمرهم بالرجوع فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان، هي كزعفران، بليدة قديمة بالقرب من بغداد، فقتلهم واستأصلهم ولم ينج منهم إلا قليل، وهم الذي قال - صلى الله عليه وسلم - في حقهم: "يخرج قوم من أمتي في في آخر الزمان، يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم، وصومه في جنب صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم". والحاصل: أن الخوارج من الفرق الضالة لفسادهم في الاعتقاد، وبإنكار الحق وفساد الاعتقاد، ساء حال أكثر العباد في أكثر البلاد، خصوصًا في هذه الأعصار، فعلى العاقل أن يجيب دعوة الله ودعوة رسوله قولًا وعملًا وحالًا واعتقادًا، حتى يفوز بالمرام، ويدخل دار السلام، ولا يكون كالذين أرادوا أن يتداركوا الحال بعد مضي الفرصة. 13 - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كبريائه وعظمته، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}؛ أي: دلائل قدرته وشواهد وحدته في الأنفس والآفاق، رعايةً لمصالح أديانكم، وفيه إشارة إلى أن ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق الأشياء، إلا بإراءة الحق تعالى إياه. {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا}؛ أي: سبب رزق، وهو المطر مراعاةً لمصالح أبدانكم، فإن آيات الحق بالنسبة إلى حياة الأديان بمنزلة الأرزاق بالنسبة إلى حياة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[14]

الأبدان. والمعنى: أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في العالم العلويّ والسفلي من الآيات العظام، الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرّده بالألوهية، كما قال: وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ ... تدلُّ على أنَّه واحدُ ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو المطر فقال: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا}؛ أي: وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشته بأبدع الحلي والمناظر. وقرأ الجمهور: {يُنَزِّلُ} بالتشديد من نزل المضاعف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتخفيف، من أنزل الرباعي. {وَمَا يَتَذَكَّرُ} ويتعظ ويعتبر بتلك الآيات الباهرة، فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} ويرجع إلى طاعة الله وتوحيده عن الإنكار به، ويتفكَّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونعمته الشاملة، الظاهرة والباطنة، الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى، ومن ليس كذلك وهو المعاند، فهو بمعزل من التذكر والاتعاظ. والخلاصة: أن دلائل التوحيد مركوزة في العقول، لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه .. زال الغِطاء وظفر بالفوز، وظهرت له سبيل النجاة. 14 - ولما ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد .. أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له، فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ} والفاء: فيه للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: {فَادْعُوا اللَّهَ} سبحانه أيها المؤمنون، واعبدوه وحده حال كونكم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ أي: مخلصين له دينكم وطاعتكم وعبادتكم التي أمركم بها، من الشرك، والالتفات إلى ما سواه بموجب إنابتكم إليه، وإيمانكم به، وخالفوا

[15]

المشركين في مسلكهم {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} إخلاصكم وغاظهم إنابتكم إلى ربكم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم. وقد ثبت في "الصحيح" عن عبد الله بن الزبير - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاهٍ". 15 - وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق .. ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته، فقال: 1 - {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}؛ أي: هو سبحانه أرفع الموجودات وأعظمها شأنًا؛ لأن كل شيء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وأنه أزلي أبدي، ليس لوجوده أول ولا آخر، وأنه العالم بكل شيء. 2 - {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر ثان عن المبتدأ المتقدم؛ أي: هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات، وكذلك قوله: 3 - {ذُو الْعَرْشِ} خبر ثالث، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، والرفيع: صفة مشبهة، أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور، وتفسيره بالرافع؛ ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، بعيد في الاستعمال كما في "الإرشاد". والمعني: رفيع الصفات والأفعال عن كل ما لا يليق به {ذُو الْعَرْشِ} العظيم أي: مالك العرش وخالقه ومدبره، فهو مستول على معالم الأجسام، وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح، وهي مسخرة له، وإلى ذلك أشار بقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك .. فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ

مِنْ أَمْرِهِ} في محل رفع على أنها خبر رابع للمبتدأ المتقدم، أو هي خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وسبحانه وتعالى يلقي الوحي بقضائه وإرادته {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه، وسمي الوحي روحًا؛ لأن القلوب تحيا به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالروح. والمعنى (¬1): ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد، فكما أن الروح سبب لحياة الأجسام، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب، فإن حياة القلوب إنما هي بالمعارف الإلهية الحاصلة بالوحي، فاستعير الروح للوحي؛ لأنه يحيى به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة، وقوله: {مِنْ أَمْرِهِ}: متعلق بـ {يُلْقِي}، و {مِنْ} بمعنى الباء، أو لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف على أنه حال من الروح؛ أي: حال كونه ناشئًا، ومبتدأ من أمره تعالى. وقوله: {لِيُنْذِرَ}: غاية للإلقاء؛ أي: لينذر الله تعالى، أو الملقى عليه أو الروح، والإنذار: دعوة إبلاغ مع تخويف. وقرأ الجمهور (¬2): {لِيُنْذِرَ} مبنيًا للفاعل ونصب اليوم، والفاعل: هو الله سبحانه، أو الرسول، أو من يشاء، والمنذر به: محذوف تقديره: لينذر العذاب الواقع {يَوْمَ التَّلَاقِ} وقرأ أبي وجماعة: كذلك، إلا أنهم رفعوا {يَوْمَ} على الفاعلية مجازًا، وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب "اللوامح": {ليُنذَر} مبنيًا للمفعول، {يَوْمَ التَّلَاقِ} الرفع، وقرأ ابن عباس والحسن واليماني: فيما ذكر ابن خالويه {لتنذر} بالتاء، فقالوا: الفاعل: ضمير الروح؛ لأنها تؤنث أو فيه ضمير المخاطب وهو الرسول، وقرىء: {التَّلَاقِ} و {اْلتَّنَادِ} بياء وبغير ياء، و {يَوْمَ التَّلَاقِ}: هو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد، وأهل السموات وأهل الأرض، والعابدون والمعبودون، والعاملون والأعمال، والأولون والأخرون، والظالمون والمظلومون، وأهل النار مع الزبانية. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[16]

والمعنى: لينذر الله سبحانه، أو الرسول الموحى إليه الناس العذاب يوم القيامة. 16 - وقوله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ}: بدل من {يَوْمَ التَّلَاقِ}؛ أي: لينذر الرسول الناس عذاب يوم هم خارجون من قبورهم، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ مستويةً، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون كما في الحديث: "يحشرون حفاةً عراةً غرلًا"؛ أي: لينذر الناس عذاب يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون يوم هم ظاهرون، لا يكنهم شيء ولا يسترهم شيء {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ} سبحانه {مِنْهُمْ}؛ أي: من أعيانهم وأعمالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة {شَيْءٌ} ما مع كثرتهم، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} وكانوا في الدنيا يتوهمون أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب .. فإن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم يومئذ لا يتوّهمون ذلك أصلًا، وهذه الجملة مستأنفة، مبنية لبروزهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير {بَارِزُونَ} ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا للمبتدأ؛ أي: لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يعني: يوم القيامة، جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال: لمن الملك اليوم؛ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقيل: ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟ فيجيب ذلك المنادي بعينه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أو يجيبه أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم؛ لحصول العلم الضروري بالوحدانية للكافر أيضًا، لكن الكافر يقوله صغارًا وهوانًا وعلى سبيل التحسر والندامة، والمؤمن ابتهاجًا وتلذذًا. وهذا يسمى سؤال التقرير، فإن قلت: كيف خص ذلك بيوم مخصوص، والملك لله في جميع الأيام والأوقات. قلت: هو وإن كان لله في جميع الأيام، إلا أنه سبحانه ملك عباده في الدنيا،

[17]

ثم تكون دعاويهم منقطعة يوم القيامة، لا يدعي مدع مُلكًا ومِلكًا يومئذ، ولذا قال - سبحانه وتعالى -: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}. والمعنى على الأول: أي يقول الرب تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه، فيقول {لِلَّهِ}؛ أي: هو {لِلَّهِ الْوَاحِدِ} في ذاته وصفاته وأفعاله، الذي لا مثل له ولا ند {الْقَهَّارِ} لكل شيء سواه بقدرته، الغالب بعزته. 17 - وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم .. أردفها ببيان صفات عدله وفضله، فقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} من تمام الجواب على القول: بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم، فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم؛ أي: يقول الله سبحانه في هذا اليوم الرهيب: تجزى كل نفس من النفوس المكلفة، برةً أو فاجرةً بما كسبت من خير أو شر، لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص ثواب، أو زيادة عذاب. والمعنى: أي اليوم يثاب كل عامل بعمله فيلاقي أجره، ففاعل الخير يجزى الخير، وفاعل الشر يجزى بما يستحق، ولا يبخس أحد ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا، فينقص منه إن كان محسنًا، ولا يحمل على مسيء إثم ذنب لم يعمله. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يحكيه عن ربه - عزَّ وجلَّ -: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظَّالموا" إلى أن قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا .. فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك .. فلا يلومن إلا نفسه". ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاءٍ، فقال: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسًا واحدة، لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، ويصل إليهم ما يستحقونه سريعًا، فالجملة: تعليل لقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} إلخ. فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاق ويوم البروز، ربما يوهم استبعاد وقوع الكل فيه.

[18]

أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يعصَ الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} إلى قوله: {الْحِسَابِ}، ونحو الآية قوله {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}. 18 - {وَأَنْذِرْهُمْ}؛ أي: وخوف يا محمد مشركي قومك {يَوْمَ الْآزِفَةِ}؛ أي: عذاب يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب و {يَوْمَ الْآزِفَةِ}: منصوب على أنه مفعول به لـ {أنذرهم}؛ لأنه المنذر به، و {الْآزِفَةِ}: فاعلة من أزف الأمر على وزن علم، إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة؛ لأزوفها، وهو القرب؛ لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده. وفي الحديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين، إن كادت لتسبقني" والإشارة بهاتين: إلى السباسة والوسطى؛ يعني أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان، مقدار فضل الوسطى على السبابة، شبه القرب الزماني بالقرب المساحي؛ لتصوير غاية قرب الساعة. وجملة قوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}: بدل من {يَوْمَ الْآزِفَةِ} فإن القلوب ترتفع عن أماكنها من شدة الفزع، فتكون عند الحناجر، جمع حنجرة، وهي: الحلقوم؛ أي: وأنذرهم يوم الآزفة، إذ تزول القلوب عن أماكنها، وترتفع من شدة الفزع إلى الحلقوم، فتلتصق بها، فلا تعود إلى أماكنها، فيستروحوا ويتنفّسوا ولا تخرج فيستريحوا بالموت، وقيل: ينتفخ السحر؛ أي: الرئة؛ خوفًا، فيرتفع القلب إلى الحنجرة حال كون أصحاب تلك القلوب {كَاظِمِينَ}؛ أي: مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويظهروا خوفهم، فهو حال من أصحاب القلوب على المعنى، إذ الأصل إذ قلوبهم لدى حناجرهم، بناء على أن التعريف اللامي بدل من التعريف الإضافي، يقال: كظم غيظه: إذا ردّ غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر. والمعنى: حال كونهم كاظمين صابرين على الغم والكربة، ساكتين حال

[19]

امتلائهم بهما؛ يعني لا يمكنهم أن ينطقوا ويصرّحوا بما عندهم من الحزن والخوف من شدة الكربة وغلبة الغمّ عليهم، فقوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}: تقرير للخوف الشديد، وقوله: {كَاظِمِينَ}: تقرير للعجز عن الكلام، فإن الملهوف إذا قدر على الكلام، وبث الشكوى .. حصل له نوع خفة وسكون، وإذا لم يقدر عظم اضطرابه واشتدّ حاله. والخلاصة: أن ذلك اليوم يعظم فيه الخوف، حتى يخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هي ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم، فيموتوا. ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد، فقال: {مَا لِلظَّالِمِينَ}؛ أي: ما للكافرين في ذلك اليوم {مِنْ حَمِيمٍ}؛ أي: قريب مشفق {وَلَا} من {شَفِيعٍ يُطَاعُ}؛ أي (¬1): ولا من شفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معًا، وعلى أن يطاع مجاز عن يجاب وتقبل شفاعته؛ لأن المطيع في الحقيقة يكون أسفل حالًا من المطاع، وليس في الوجود من هو أعلى حالًا من الله تعالى، حتى يكون مطاعًا له تعالى، وفي الآية بيان أن لا شفاعة في حق الكفار؛ لأنها وردت في ذمهم، وإنما قال: {لِلظَّالِمِينَ} موضع للكافرين، وإن كان أعم منهم ومن غيرهم من العصاة بحسب الظاهر، تسجيلًا لهم بالظلم، ودلالة على اختصاص انتفاء كل واحد من الحميم والشفيع المشفع بهم، فثبت أن لعصاة المسلمين حميمًا وشفيعًا، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين والملائكة أجمعين. والمعنى (¬2): أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطّعت بهم الأسباب من كل خير. 19 - ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء، فقال: {يَعْلَمُ} سبحانه {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}؛ أي: النظرة الخائنة للأعين، وإسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر، أو المعنى: يعلم سبحانه خائنة الأعين؛ أي: خيانة الأعين واستراقها النظر على أنها مصدر كالعافية، كقوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[20]

تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ}؛ أي: خيانة منهم، والخيانة: مخالفة الحق، بنقض العهد في السر، ونقيضها الأمانة، والمراد هنا: استراق النظر إلى غير المَحْرم، كفعل أهل الريب والنظرة الثانية إليه. وفي الخبر: "يا ابن آدم، لك النظرة الأولى معفوة" لوقوعها مفاجأةً دون الثانية، لكونها مقارنة للقصد وهي منْ قبيل زنى النظر، وذلك لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنةً. والمعنى: أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده، وما نظرت به إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: في الآية هي الرجل يكون في القوم، فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غضوا .. نظر إليها، وإذا نظروا .. غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها. أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر. وقال الشوكاني: {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} (¬1): هي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهذه الجملة خبر آخر لقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ}؛ قال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير؛ أي: يعلم الأعين الخائنة، وقال قتادة: {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: الغمز بالعين فيما لا يحب الله، وقال الضحاك: هو قول الإنسان: ما رأيت وقد رأى، ورأيت وما رأى، وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة، والأول: أولى، وبه قال مجاهد. اهـ. {و} يعلم سبحانه {مَا تُخْفِي الصُّدُورُ} والقلوب من الضمائر وتسره من معاصي الله؛ أي: لا يخفى عليه شيء من أمورهم، حتى ما يحدّثون به أنفسهم، وتضمره قلوبهم خيرًا كان أو شرًا، فقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} في قوة التعليل للأمر بالإنذار. 20 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى: {يَقْضِي}؛ أي: يحكم {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، ففيه تشديد لخوف المكلف. والمعنى (¬2): أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[21]

الصدور من النوايا، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزي الذين رددوا النظر وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ}؛ أي: يعبدونهم {مِنْ دُونِهِ} تعالى، وهم الأصنام والأوثان {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا، ولا يقدرون على شيء. وفي "الإرشاد": هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال في حقه: يقضي ولا يقضي. والمعنى: أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك، لا يقضون بشيء؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا ولا يقدرون على شيء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء. وقرأ الجمهور (¬1): {يَدْعُونَ} بياء الغيبة؛ لتناسب ضمائر الغيبة قيل: يعني: يدعو الظالمون، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وشيبة وهشام: بالفوقية على الخطاب لهم؛ أي: قل لهم يا محمد والذين تدعون من دونه {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {العَلِيمُ} بأحوالهم وأفعالهم، فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية؛ أي: إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل شيء ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعًا يوم الجزاء، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله تعالى، وهذا تقرير (¬2) لعلمه تعالى بخائنة الأعين، وقضائه بالحق، فإن من يسمع ما يقولون ويبصر ما يفعلون، إذا قضى .. قضى بالحق، ووعيد لهم على ما يفعلون ويقولون، وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فإنهم عارون عن التلبس بهاتين الصفتين، فكيف يكونون معبودين؟ 21 - ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة .. أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا، فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} و {الهمزة}: فيه: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن شدة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[22]

بأس الله، ولم يسيروا في نواحي الأرض وأرجائها {فَيَنْظُرُوا} يجوز أن يكون مجزومًا بالعطف على {يَسِيرُوا} وأن يكون منصوبًا على أنه جواب الاستفهام {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: كيف كان حال من قبلهم، ومآلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد وثمود وأضرابهم، وكانت ديارهم ممر تجار قريش {كَانُوا}؛ أي: كان الذين من قبلهم {هُمْ أَشَدَّ} وأكثر {مِنْهُمْ}؛ أي: من مشركي مكة {قُوَّةً}؛ أي: قدرةً وتمكنًا من التصرفات. وإنما (¬1) جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه. وقرأ الجمهور: {أَشَدُّ مِنْهُمْ} بالغيبة، وقرأ ابن عامر {أشد منكم} على الالتفات. {و} أكثر {آثَارًا فِي الْأَرْضِ} مثل: القلاع الحصينة والمدن المتينة {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} سبحانه؛ أي: عاقبهم وأهلكهم {بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ}؛ أي: للأمم المكذبة {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من عذاب الله تعالى {مِنْ وَاقٍ} يقيهم وحافظ يحفظهم ودافع يدفع عنهم العذاب. وقرأ ابن كثير: {واقي} بالياء في الوقف 22 - {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من الأخذ {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة والحجج الواضحة {فَكَفَرُوا} بما جاؤوهم به وكذّبوا رسلهم {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} تعالى أخذًا عاجلًا {إِنَّهُ} تعالى {قَوِيٌّ}؛ أي: متمكن مما يريد غاية التمكن {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لأهل الشرك، لا يعتبر عقاب دون عقابه، فهؤلاء المشركون من أهل مكة قد شاهدوا مصارعهم وآثار هلاكهم، فباي وجه أمنوا أن يصيبهم مثل ما أصابهم من العذاب، أو المعنى: أنه قوي على الانتقام من الأعداء للأولياء، شديد العقاب في الانتقام من الأعداء. وفي "فتح الرحمن": قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...} الآية. فإن قلت: لم قال هنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} بضمير الجمع، وفي التغابن: بإفراده، حيث قال هناك: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ....} الآية؟ ¬

_ (¬1) روح البيان.

قلت: جمع الضمير هنا؛ موافقة لما قبله في قوله: {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وأفرده ثم؛ لأنه ضمير الشأن، زيد توصلًا إلى دخول {أن} على {كان}. والحال: أن الله سبحانه (¬1) حذّر هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارًا، كعاد وثمود، والسعيد من وعظ بغيره، فقال واعظًا ومذكّرًا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد، فيروا عاقبة الذي كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشدّ منهم بطشًا، وأبقى في الأرض أثرًا، فلم تنفعهم شدة قواهم وعظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي، واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعًا، وصارت مساكنهم خاويةً بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم. فائدة: وفي "شرح الأسماء" للزورقي: القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يمسّه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام، ومن عرف أن الله تعالى هو القوي .. رجع إليه عن حوله وقوته، وخاصيته: ظهور القوة في الوجود، فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة، ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك، ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة .. كان له ذلك، وكفي أمره. الإعراب {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)}. {حمَ (1)} تقدم القول في إعراب فواتح السور، وأيسر ما فيها: أنها خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مسماة بـ {حم (1)}، والخبر؛ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف على قراءة السكون، أو ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الزهري، والجملة: مستأنفة ¬

_ (¬1) المراغى.

استئنافًا نحويًا. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}: مبتدأ. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور، خبره، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {الْعَزِيزِ}: صفة أولى للجلالة. {الْعَلِيمِ}: صفة ثانية لها. {غَافِرِ الذَّنْبِ}: صفة ثالثة. {وَقَابِلِ التَّوْبِ}: معطوف على {غَافِرِ}. فإن قلت: لم زيدت الواو في هذه الصفة دون باقيها؟ قلت: زيدت هنا لإفادة الجمع بين رحمتي: مغفرة الذنب وقبول التوب. {شَدِيدِ الْعِقَابِ}: صفة رابعة. {ذِي الطَّوْلِ}: صفة خامسة. {لَا}: نافية. {إلَهَ}: اسمها، وخبرها: محذوف، تقديره: موجود. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُو}: بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا}، والجملة الاسمية: مستأنفة، أو حال لازمة من لفظ الجلالة. {إليه}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل النصب حال من ضمير {هُوَ}، أو مستأنفة. {مَا}: نافية. {يُجَادِلُ} فعل مضارع. {فِي آيَاتِ اللَّهِ}: متعلق به. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {فَلَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن المجادلين في آيات الله كفار .. فلا يغررك إمهالهم وتقلبهم في أسفارهم للتجارة المربحة، فإنهم مأخوذون بكفرهم. {لَا}: ناهية جازمة. {يَغرُرْكَ}: فعل مضارع ومفعول به، مجزوم بـ {لا} الناهية. {تَقَلُّبُهُمْ}: فاعل. {فِي الْبِلَادِ}: متعلق بـ {تَقَلُّبُهُمْ} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}. {كَذَّبَتْ}: فعل ماض. {قَبْلَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {قَوْمُ نُوحٍ}. {قَوْمُ نُوحٍ}: فاعل. {وَالْأَحْزَابُ}: معطوف على {قَوْمُ نُوحٍ}. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: حال من {الْأَحْزَابُ}، والجملة الفعلية: مستأنفة. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ}: فعل وفاعل معطوف على {كَذَّبَتْ}. {بِرَسُولِهِمْ}: متعلق بـ {همت}. {لِيَأْخُذُوهُ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يأخذوه}: فعل وفاعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور: متعلق بـ {همت}؛ أي: وهمت كل أمة برسولها إيقاعه

في الشر لأخذهم إياه وقتله. {وَجَادَلُوا}: فعل وفاعل معطوف على {همت} {بِالْبَاطِلِ}: متعلق بـ {جادلوا}. {لِيُدْحِضُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يدحضوا}: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {بِهِ}: متعلق بـ {يدحضوا}. {الْحَقَّ}: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} الجار والمجرور متعلق بـ {جادلوا}؛ أي: جادلوا بالباطل لدحضهم الحق بالباطل. {فَأَخَذْتُهُمْ}: {الفاء}: عاطفة {أخذتهم}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {جادلوا}، {فَكَيْفَ}: {الفاء}: عاطفة. {كيف}: اسم استفهام في محل النصب خبر كان مقدم عليها وجوبًا. {كاَنَ}: فعل ماض ناقص. {عِقَاب}: اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة {كاَنَ}: معطوفة على جملة {أخذتهم}. {وَكَذَلِكَ}: الواو: استئنافية. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: حقًا مثل ما حق قضاءه، وحكمه بالتعذيب على الأمم المكذبة المذكورة {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة {عَلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {حَقَّتْ}، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أنّ}: في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلًا من {كَلِمَتُ رَبِّكَ}: بدل كل من كل؛ أي: حق على الذين كفروا كونهم من أصحاب النار. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)}. {اَلَذِينَ}: مبتدأ، وجملة {يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} صلة الموصول. {وَمَنْ حَوْلَهُ}: معطوف على الموصول، {حَوْلَهُ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة {مَنْ} الموصولة، وجملة {يُسَبِّحُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل {يُسَبِّحُونَ}؛ أي: ملابسين بحمده تعالى. {وَيُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُسَبِّحُونَ}، {بِهِ}: متعلق بـ {يومنون}، {وَيَسْتَغْفِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {يُسَبِّحُونَ}: {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {يَسْتَغْفِرُونَ}، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {رَبَّنَا}: منادى مضاف

منصوب حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء: في محل النصب مقول لقول محذوف، وقع حالًا من فاعل {يَسْتَغْفِرُونَ}؛ أي: حال كونهم قائلين {رَبَّنَا}، {وَسِعْتَ}: فعل وفاعل، {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به. {رَحْمَةً وَعِلْمًا}: تمييزان محولان من فاعل {وَسِعْتَ}؛ أي: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف. {فَاغفِر}: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كانت رحمتك واسعةً، وعلمك واسعًا .. فنقول لك: {اغفر}، (اغفر): فعل دعاء وفاعل مستتر، {لِلَّذِينَ}: متعلق به، والجملة الدعائية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول للقول المحذوف، وجملة {تَابُوا}: صلة الموصول. {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {تَابُواْ}، {وَقِهِمْ}: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به أول معطوف على {فَاغفِر}. {عَذَابَ الْجَحِيمِ}: مفعول ثان. {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، كرره للمبالغة في الجؤار. {وَأَدْخِلْهُمْ}: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: مفعول ثان، والجملة: معطوفة على جملة {قِهِمْ} {الَّتِي}: صفة لـ {جَنَّاتِ}. {وَعَدتهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة {الَّتِي}، والعائد: محذوف، تقديره: إياها. {وَمَن}، في قوله: {وَمَنْ صَلَحَ}: اسم موصول في محل النصب معطوف على ضمير {أدخِلْهُم} أو على ضمير {وَعَدْتَهُمْ} والأول: أرجح، كما قاله الفراء. {صَلَحَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، صلة {مَنْ} الموصولة. {مِنْ آبَائِهِمْ}: جار ومجرور حال من فاعل {صَلَحَ}. {وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}: معطوفان على {آبَائِهِمْ}. {إنَّكَ}: ناصب واسمه. {أَنْتَ}: ضمير فصل. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول للقول المحذوف. {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}.

{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ}: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعولان معطوف على {وَأَدْخِلْهُمْ}. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {تَقِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {مِنَ} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {السَّيِّئَاتِ}: مفعول به. {يَوْمَئِذٍ}: {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ {تَقِ}. {يَوْمَ}: مضاف. {إذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين. {فَقَد}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا. {قد}: حرف تحقيق. {رَحِمْتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {مِنَ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: مقول للقول المحذوف. {وَذَلِكَ} {الواو}: عاطفة {ذَلِكَ}: مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل. {الْفَوْزُ}: خبر. {الْعَظِيمُ}: صفة لـ {الْفَوْزُ} والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على ما قبلها، على كونها مقولًا للقول المحذوف. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {يُنَادَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {لَمَقْتُ اللَّهِ}: {اللام}: حرف ابتداء، أو لام قسم. {مقت الله}: مبتدأ، ومضاف إليه، وهو من إضافة المصدر لفاعله، والمعفول به محذوف؛ أي: إياكم. {أَكبَرُ}: خبر المبتدأ. {مِنْ مَقْتِكُمْ}: متعلق بـ {أَكبَرُ} {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول {مَقْتِكُمْ}: وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ {يُنَادَوْنَ} أو جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مفعول ثان لـ {يُنَادَوْنَ}. {إذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {مقت الله}. {تُدْعَوْنَ}: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذْ}. {إِلَى الْإِيمَانِ}: متعلق بـ {تُدْعَوْنَ}. {فَتَكْفُرُونَ}: {الفاء}: عاطفة. {تكفرون}: فعل وفاعل

معطوف على {تُدْعَوْنَ}. {قَالُواْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَمَتَّنَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول قالوا على كونها جواب النداء. {اثْنَتَيْنِ}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مما ناب فيه العدد عن المصدر؛ أي: إماتتين اثنتين. {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} منصوب على المفعولية المطلقة أيضًا؛ أي: إحياءَتين اثنتين. {فَاعْتَرَفْنَا}: {الفاء}: عاطفة. {اعترفنا}: فعل وفاعل معطوف على {أحييتنا}، {بِذُنُوبِنَا}: متعلق به. {فَهَل}: {الفاء}: عاطفة {هل}: حرف استفهام. {إِلَى خُرُوجٍ}: خبر مقدم. {مِنْ سَبِيلٍ}: {من} حرف جر زائد. {سَبِيلٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {اعترفنا} على كونها مقول {قَالُوا}. {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)}. {ذَلكُم}: مبتدأ، {بِأَنَّهُ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. {أنه}: ناصب واسمه، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {دُعِيَ اللَّهُ}: فعل ماض ونائب فاعل، {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة، والجملة الفعلة: في محل الجر مضاف إليه، على كونها فعل شرط لها، وجملة {كَفَرْتُمْ}: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا}: من فعل شرطها وجوابها: في محل الرفع خبر {أن}: وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلكم كائن بسبب كفرانكم توحيد الله تعالى وقت دعائه. {وَإِن}: {الواو}: عاطفة، {إنْ}: حرف شرط، {يُشْرَكْ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط له. {بِهِ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يشُرَك}، {تُؤْمنُواْ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إذا}، {فالحكم}: {الفاء}: عاطفة؛ لأن هذا الكلام من جملة ما يقال لهم. {الحكم}: مبتدأ. {لله}: خبره، {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}: صفتان للجلالة، والجملة معطوفة على جملة قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ ...} إلخ؛ لأنها من جملة ما يقال لهم في الآخرة. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)}. {هُوَ اْلَذِى}: مبتدأ وخبر {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأنه من رأي البصرية، تعدى بالهمزة إلى مفعولين، والجملة: صلة الموصول، والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتعليل كون الحكم لله تعالى. {وَيُنَزِّلُ}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة {يُرِيكُمْ}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {ينزل} وكذلك {لَكمُ}. {رِزْقًا}: مفعول به. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {يَتَذَكَّرُ}: فعل مضارع. {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية أو حال من ضمير المخاطبين، وجملة {يُنِيبُ}: صلة الموصول، {فَادْعُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن التذكر خاص بمن ينيب، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم {ادْعُوا اللَّهَ}. {ادْعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به. {مُخْلِصِينَ}: حال من فاعل {ادعوا}. {لَه}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}. {الدِّينَ}: مفعول {مُخْلِصِينَ} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة. {لو}: حرف شرط. {كَرِهَ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف، تقديره: إخلاصكم أو دعوتكم، والجملة: فعل شرط لـ {لو} وجوابها محذوف دل عليه السياق، تقديره: ولو كره الكافرون فادعوه: وجملة {لو} الشرطية: معطوفة على جملة شرط محذوف، تقديرها: إن رضي الكافرون دعوتكم .. فادعوه وإن كره الكافرون .. فادعوه والجملة المحذوفة: في محل النصب حال من فاعل: فادعوا؛ أي: {فَادْعُوُه} حال كونكم سواء عليكم رضاؤهم وكراهتهم. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو سبحانه رفيع الدرجات، والجملة: مستأنفة. {ذُو الْعَرْشِ}: خبر ثان، وجملة {يُلْقِي الرُّوحَ} خبر ثالث {يُلْقِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {الرُّوحَ}: مفعول به، والمراد بـ {الرُّوحَ} هنا: الوحي {مِنْ أَمْرِهِ}: حال من {الرُّوحَ}؛ أي: حال كونه ناشئًا {مِنْ أَمْرِهِ}. {عَلَى مَنْ}: متعلق بـ {يُلْقِي}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة {مَن} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: على من يشاؤه

{مِنْ عِبَادِهِ}: حال من العائد المحذوف. {لِيُنْذِرَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {ينذر}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، أو على الرسول، {يَوْمَ التَّلَاقِ}: مفعول به على التوسع ومضاف إليه، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} تقديره: لإنذاره الناس عذاب {يَوْمَ التَّلَاقِ}. والجار والمجرور: متعلق بـ {يُلْقِي}. {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}. {يَوْمَ}: بدل من {يَوْمَ التَّلَاقِ}: بدل كل من كل منصوب على المفعولية. {هُمْ بَارِزُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل الجر بإضافة {يَوْمَ} إليه. {لَا}: نافية. {يَخْفَى}: فعل مضارع. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، {مِنْهُمْ}: حال من {شَيْءٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {شَيْءٌ}: فاعل {يَخْفَى}. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير {بَارِزُونَ}. {لِمَنِ} {اللام}: حرف جر. {من}: اسم استفهام في محل الجر بـ {اللام} الجار والمجرور: خبر مقدم. {الْمُلْكُ}: مبتدأ مؤخر. {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {الْمُلْكُ} والجملة من المبتدأ والخبر: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الرب سبحانه لهم {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وجملة القول المحذوف: مستأنفة، أو حال من الجلالة؛ أي: لا يخفي على الله منهم شيء حال كون الله قائلًا لهم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} {لِلَّهِ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الملك كائن لله سبحانه. {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: صفتان للجلالة، والجملة الاسمية: مقول لقول محذوف، تقديره: ويقول الرب أيضًا في الجواب: الملك {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وجملة القول المحذوف: معطوفة على القول المحذوف قبله، وقال الزمخشري: ينادي منادٍ فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيبه أهل المحشر: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. {الْيَوْمَ}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {تُجْزَى}، {تُجْزَى}: فعل مضارع مغير الصيغة {كُلُّ نَفْسٍ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية من تتمة المقول للقول المحذوف سابقًا. {بِمَا}: {الباء}: حرف جر وسبب. {ما}: موصولة أو مصدرية، الجار والمجرور متعلق بـ {تُجْزَى}. {كَسَبَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: بما كسبته أو لـ {ما} المصدرية؛ أي: بكسبها, ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: جزاء ما

كسبته. {لا}: نافية للجنس. {ظُلْمَ}: اسمها. {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر {لَا}، تقديره: لا ظلم كائن اليوم، وجملة {لَا}: من اسمها وخبرها من تتمة القول المحذوف. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل عدم الظلم؛ أي: إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب، فهو سريع في حسابه، عادل في حكمه. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)}. {وَأَنْذِرْهُمْ}: {الواو}: استئنافية. {أنذرهم}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول أول. {يَوْمَ الْآزِفَةِ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: مستأنفة. {إِذِ}: بدل من {يَوْمَ الْآزِفَةِ}: بدل كل من كل. {الْقُلُوبُ}: مبتدأ {لَدَى}: منصوب على الظرفية بفتحة مقدرة. {الْحَنَاجِرِ}: مضاف إليه، والظرف: متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: إذ القلوب مرتفعة لدى الحناجر، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذِ}، {كَاظِمِينَ}: حال من الضمير المستكن في الخبر، وعوملت {الْقُلُوبُ} في جمعها بالياء والنون معاملة أصحابها؛ أي: حال كون أصحابها {كَاظِمِينَ}. {مَا}: نافية، تميمية أو حجازية. {لِلظَّالِمِينَ}: خبر مقدم أو خبر لـ {مَا} الحجازية مقدم على اسمها. {مِنْ}: زائدة، {حَمِيمٍ}: مبتدأ مؤخر أو اسمها مؤخر. {وَلَا شَفِيعٍ}: معطوف على {حَمِيمٍ} وجملة {يُطَاعُ}: صفة لـ {شَفِيعٍ} والجملة الاسمية: في محل النصب حال من أصحاب {الْقُلُوبُ} أيضًا، وقوله: {لِلظَّالِمِينَ} إظهار في مقام الإضمار؛ أي: حالة كونهم عادمي {حَمِيمٍ} ينفعهم وعادمي {شَفِيعٍ} يقبل في حقهم. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: مفعول به، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الأعين الخائنة، والجملة الفعلية: خبر رابع للمبتدأ المحذوف الذي أخبر عنه بـ {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وما بعده، أو هو خبر من أخبار {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ} أو حال لازمة من {سَرِيعُ الْحِسَابِ}. {وَمَا}: اسم

موصول في محل النصب معطوف على {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}. {تُخْفِي الصُّدُورُ}: فعل وفاعل، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: تخفيه الصدور {وَاللَّهُ}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية. {اللهُ}: مبتدأ، وجملة {يَقْضِي}: خبره. {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {يَقْضِي} أو حال من فاعل {يَقْضِي}. والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة {يَعْلَمُ} عطف اسمية على فعلية. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {يَدْعُونَ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يدعونهم. {مِنْ دُونِهِ}: متعلق بـ {يَدْعُونَ}، وجملة {لَا يَقْضُونَ}: خبر المبتدأ. {بِشَيْءٍ}: متعلق بـ {يَقْضُونَ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: خبران لـ {إِنَّ}. وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)}. {أَوَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن انتقام الله سبحانه من الأمم المكذبة للرسل، ولم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَسِيرُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، و {الواو}: فاعل {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {فَيَنْظُرُوا}: {الفاء}: عاطفة. {ينظروا}: فعل وفاعل معطوف على {يَسِيرُوا}. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر مقدم لـ {كَانَ}. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ الَّذِينَ}: اسمها، وجملة {كَانَ}: في محل النصب ساد مسد مفعول {ينظروا}: معلق عنها باسم الاستفهام. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {كَانُوا}: وجملة {كَانَ}: صلة الموصول. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {هُمْ} ضمير فصل {أَشَدَّ}: خبر {كَانَ}. {مِنْهُمْ} متعلق بـ {أَشَدَّ}، {قُوَّةً}: تمييز محول عن اسم {كَانَ}، {وَآثَارًا}: معطوف على {قُوَّةً}. {فِي الْأَرْضِ}: صفة لـ {آثارا}، وجملة {كَانَ}: مستأنفة، وجاز دخول ضمير الفصل بين معرفة ونكرة، وهو لا يقع إلا بين معرفتين؛ لأن النكرة هنا وهي {أَشَدَّ} بمثابة المعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها؛ لأن اسم التفضيل

المقرون بـ {مِنَ} لا تدخل عليه أل. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}: {الفاء}: عاطفة. {أخذهم الله}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {كَانُوا}. {بِذُنُوبِهِمْ}: متعلق بـ {أخذهم} {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {كَانَ}: فعل ماض ناقص. {لَهُمْ}: خبر كان مقدم. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {وَاقٍ}. {مِنَ}: زائدة {وَاقٍ}: اسم {كَانَ} مؤخر، وجملة {كَانَ}: معطوفة على جملة {أخذ}. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {أنهم}: ناصب واسمه. {كَانَتْ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على الرسل. {تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {تَأْتِيهِمْ} والجملة الفعلية: خبر {كان} وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {أَن}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر مجرور بالياء، والتقدير: ذلك الأخذ والعذاب كائن بسبب إتيان رسلهم بالبينات وكفرهم بها. {فَكَفَرُوا}: {الفاء}: عاطفة. {كفروا}: فعل وفاعل معطوف على {كَانَتْ}. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}: معطوف على {كَفَرُوا}، {إِنَّهُ قَوِيٌّ}: ناصب واسمه وخبره الأول، {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبر ثان لها، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {غَافِرِ الذَّنْبِ} والغافر: الساتر، والذنب: الإثم، يستعمل في كل فعل يضرّ في عقباه، اعتبارًا بذنب الشيء؛ أي: آخره. {قابل التوب} والقابل: هو الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذها, والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، وقبلتُ عذره وتوبته وغير ذلك، والتوب: مصدر، كالتوبة وهو ترك الذنب على أحد الوجوه كما مر. وفي "المختار": التوبة: الرجوع عن الذنب، وبابه: قال، يقال: تاب يتوب توبًا وتوبة أيضًا, وقال الأخفش: والتوب: جمع توبة، كدوم ودومة، اهـ. {ذِي الطَّوْلِ} والطول: الفضل والزيادة والإنعام الواسع، وفي "الصحاح": والطول بالفتح: المن, يقال منه: طال يطول - من باب قال - إذا امتن عليه. وقال

الماوردي: الفرق بين المن والفضل: أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق، والطَّول: مأخوذ من الطَّول، كأنه طال بإنعامه على غيره، وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. اهـ. {الْمَصِيرُ}: المرجع، وأصله: المصير، بوزن المفعل بكسر العين؛ لأنه من يفعِل المكسور العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد. {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: من جدلت الحبل، أحكمت فتله، فإن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه. {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} والغرة: غفلة في اليقظة، قال في "المفردات": التقلب: التصرف، وقال الراغب: البلد: المكان المحدود، المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه: بلاد وبلدان. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} قصدت، والهم: عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر. {لِيَأْخُذُوهُ} من الأخذ بمعنى الأسر، والأخيذ: الأسير؛ أي: ليأسروه ويحبسوه. كما مر. {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}؛ أي: ليزيلوا الحق. {حَقَّتْ}؛ أي: وجبت. {كَلِمَتُ رَبِّكَ}؛ أي: حكمه بالإهلاك. {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أمر من وقى يقي وقايةً، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، وفيه إعلالان، حذف فاء الكلمة وهي الواو، إذ قياس مضارعه: يوقي، حذفت الواو التي هي فاء الكلمة؛ لوقوعها بين عدوّتَيها الياء والكسرة، وحذف لام الكلمة؛ لبناء الأمر على ما يجزم به مضارعه، فلم يبق إلا عين الكلمة. {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} أصله: توقي، حذفت فاء الكلمة التي هي الواو للعلة السابقة، ثم حذفت لام الكلمة وهي الياء للجازم، فلم يبق من الكلمة إلا عينها فصار الفعل على وزن "تع". {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} من المناداة، وهي وكذا النداء: الدعوة ورفع الصوت، أصله: يناديون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان،

فحذفت الألف دالة عليها. {لَمَقْتُ اللَّهِ} والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، والبغض: نفار النفس من الشيء ترغب عنه، وهو ضد الحب، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ومقت الله: غضبه وسخطه، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وحذف مفعوله؛ أي: مقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء. {إِذْ تُدْعَوْنَ} أصله: تدعوون، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {أَمَتَّنَا} من أمات الرباعي، أصله: أموت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار أمات، ثم أسند الفعل إلى تاء الفاعل فسكن آخره، وهو التاء لام الكلمة، فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف لبقاء دالها، فصار أمتْتَنا، فأدغمت التاء الأولى التي هي لام الكلمة في تاء الفاعل فصارت {أَمَتَّنَا}. {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ} فيه إعلال بالقلب، أصله: دعو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أصله: العليو، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنةً فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء. {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: ينوب، نقلت حركة الواو إلى النون فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مد. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} والرفيع: إما صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم، كما هو المشهور بمعنى عظيم الصفات، أو صيغة مبالغة محولة عن اسم الفاعل، فيصح فيه الوجهان. كما في "السمين". {يَوْمَ التَّلَاقِ} التلاقي: مصدر تلاقى الخماسي، وقياسه: أن يكون ما قبل آخره مضمومًا، لكنه كسر لمناسبة الياء. {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} يقال: برز بروزًا: خرج إلى البراز؛ أي: الفضاء، كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر. {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} أصله: تجزى، بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {يَوْمَ الْآزِفَةِ} هو يوم القيامة، سميت بذلك لأزوفها؛ أي: لقربها من أزف الرحيل؛ أي: قرب. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزفًا من باب تعب وأزوفًا: دنا وقرب، وأزفت الآزفة: القيامة. وفي "الأساس": أزف الرحيل: دنا وعجل، ومنه

أقبل يمشي الأزفى بوزن الجمزى، وكأنه من الوزيف، و {الهمزة}: بدل عن واو. وفي "الروح": الآزفة فاعلة من أزف الأمر على وزن علم: إذا قرب، والمراد: القيامة، ولذا أنث، ونظيره: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}؛ أي: قربت القيامة، وسميت بالآزفة لأزوفها، وهو القرب, لأن كل آت قريب، وإن استبعد اليائس أمده. {لَدَى الْحَنَاجِرِ} جمع حنجرة، وهي الحلقوم، وفي "القاموس": والحنجور: السِقط الصغير, وقارورة للذريرة، والحلقوم كالحنجرة، والحناجر جمعه. {كَاظِمِينَ} يقال: كظم غيظه؛ أي: رد غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر. {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: يطوع، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} فيه إعلال بالقلب، أصله: خاونة؛ لأنه من خان يخون، واوي العين، قلبت الواو في الوصف همزةً حملًا له في الإعلال على فعله خان، حيث أعل بقلب الواو عينه ألفًا لتحركها بعد فتح، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ}: أصله يدعوون بواوين: الأولى لام الكلمة، والثانية واو الجماعة، فاستثقلت الضمة على الواو لام الكلمة فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة وبقيت واو الجماعة، فوزنه يَفعون. {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أصله: يقضيون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان فحذفت الياء، ثم ضمت الضاد لمناسبة الواو. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {الذَّنْبِ} و {التَّوْبِ}، وبين {أَمَتَّنَا} {وَأَحْيَيْتَنَا}. ومنها: الحصر في قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: المقابلة في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} فقد قابل بين التوحيد والإشراك، والكفر والإيمان.

ومنها: إيراد {إِذَا} وصيغتي الماضي في الشرطية الأولى، و {إِنَّ} وصيغتي المضارع في الشرطية الثانية؛ للدلالة على كمال سوء حالهم، كما في "أبي السعود". ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ ...} إلخ. في كلا الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، كما في "أبي السعود". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} فإنه من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأنه أطلق الرزق وأراد المطر؛ لأن الماء سبب في جميع الرزق. ومنها: الكناية في قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} فإنه كناية عن الوحي؛ لأنه كالروح للجسد، فهو مجاز مرسل، علاقته: السببية، وجعله الزمخشري استعارة تصريحية، وليس ببعيد. ومنها: الإسجال بغير مغالطة في قوله: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} وهو فن طريف من فنون البلاغة، وهو أن يقصد المتكلم غرضًا من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض إسجالًا منه على الممدوح به، وبيان ذلك: أن يذكر شرطًا يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يخبر بوقوعه وإن لم يكن قد وقع بعد ليقع المشروط، اهـ "درويش". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ}؛ لأن المراد بالإماتتين الإثنتين: خلقهم أمواتًا أولًا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ثانيًا، وقد أوضح ذلك بقوله في آية أخرى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ففي تسمية خلقهم أمواتًا إماتة مجاز مرسل؛ لأنه باعتبار ما كان، اهـ "درويش". ومنها: الاستفهام بمعنى اليأس في قوله تعالى: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ففي هذا الاستفهام يأس مقنط، واستحالة مفرطة، كأنهم لفرط ما يكابدونه يتمنون الخروج من هذا الأسى المطبق من الهول المستحكم. ومنها: تنكير {خُرُوجٍ} للدلالة على أي خروج كان، سواء أكان سريعًا أم بطيئًا، وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا.

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} لتجسيد الهول في ذلك اليوم الذي تكون فيه مشارفتهم للنار، فعند ذلك ترفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا ويستريحوا, ولا هي ترجع إلى مواطنها فيتنفسوا الصعداء ويتروّحوا, ولكنها معترضة كالشَّجا. ومنها: عكس الظاهر في قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} إذ لا شفيع لهم أصلًا، فضلًا عن أن يكون مطاعًا، وكان الظاهر أن يقال: ولا يطاع فيهم شفيع. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}؛ لأن إسناد الخيانة إلى النظرة مجاز؛ لأن الخائن هو الناظر. ومنها: التهكم في قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}؛ لأن هذا تهكم بهم؛ لأن الجماد لا يقال فيه: يقضي ولا يقضي. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...} إلخ. وفيه تهديد للمشركين بذكر عاقبة من كانوا قبلهم من الأمم المكذبة للرسل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات

لما قبلها: أن الله سبحانه لما سلى (¬1) رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا الرسل قبله، بمشاهدة آثارهم .. سلاه أيضًا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتي من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه، وأمروا بقتل أبناء بني إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفًا أن يبدل دينهم، أو يعيث في الأرض فسادًا، فتعوذ موسى بربه ورب بني إسرائيل من كل جبار متكبر، لا يؤمن بالجزاء والحساب. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن ذلك المؤمن لما سمع رأي فرعون في موسى، وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك .. أعاد النصح مرةً أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم، ويتوبون إلى رشدهم، فذكرهم بأس الله سبحانه وسننه في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل، من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلًا في الأخرين، وكان لسان حاله يقول: هاأناذا قد أسمعت ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون. اهـ. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته .. أبان هنا أنه بلغ من عتوِّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى - عليه الصلاة والسلام - أن أمر وزيره هامان أن يبني له قصرًا شامخًا من الآجر؛ ليصعد به إلى السماء ليطلع إلى إله موسى - عليه الصلاة والسلام -، ومقصده من ذلك الاستهزاء به، ونفي رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران. قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى (¬2) عن موسى أنه ما زاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله على أن استعاذ بالله من شره .. أردف ذلك ببيان أن الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[23]

قيض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم، ويذب عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد في إزالة ذلك الشر. التفسير وأوجه القراءة 23 - ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا بها، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى}؛ أي: وعزّتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران حال كونه متلبسًا ومؤيدًا {بِآيَاتِنَا} وهي المعجزات التسع {و} بـ {سُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: وبحجةٍ قاهرةٍ ظاهرة واضحة، وهي العصا، وأفردها بالذكر مع اندراجها تحت الآيات، تفخيمًا لشأنها، فهو من قبيل عطف الخاص على العام. وقيل (¬1): هو التوراة. 24 - {إِلَى فِرْعَوْنَ} أعظم عمالقة مصر {وَهَامَانَ} وزيره وخصهما بالذكر؛ لأن الإرسال إليهما إرسال إلى القوم؛ لكونهم تحت تصرف الملك والوزير تابعين لهما، والناس على دين ملوكهم. {وَقَارُونَ} ابن عم موسى، خصه (¬2) بالذكر؛ لكونه بمنزلة الملك من حيث كثرة أمواله وكنوزه، ولا شك أن الإرسال إلى قارون متأخر عن الإرسال إلى فرعون وهامان, لأنه كان إسرائيليًا ابن عم موسى، مؤمنًا في الأوائل، أعلم بني إسرائيل، حافظًا للتوراة، ثم تغير حاله بسبب الغنى، فنافق كالسامري، فصار ملحقًا بفرعون وهامان في الكفر والهلاك، فاحفظ هذا {فَقَالُوا}؛ أي: قال هؤلاء الثلاثة وأتباعهم في حق ما أظهره موسى من المعجزات خصوصًا في أمر العصا: إنه {سَاحِرٌ} وقالوا فيما ادعاه عليه السلام من رسالة رب العالمين: إنه {كَذَّابٌ} والكذاب: الذي عادته الكذب، بأن يكذب مرة بعد أخرى، ولم يقولوا: سحار؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر، وأن سحرتهم أسحرُ منه، كما قالوا: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)}. وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان عاقبة من هو أشد من قريش، بطشًا، وأقربهم زمانًا، 25 - ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة .. لجؤوا إلى استعمال القوة، ما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} موسى {بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

{قَالُوا} لاستكمال شقاوتهم {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}؛ أي: تابعوه في الإيمان والتوحيد، والقائل فرعون وذوو الرأي من قومه، أو فرعون وحده؛ لأنه بمنزلة الكل، كما قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}؛ أي: أبقوا بناتهم أحياءً لخدماتنا فلا تقتلوهن. والمعنى (¬1): أعيدوا عليهم القتل، وذلك أنه قد أمر بالقتل قُبيل ولادة موسى عليه السلام بإخبار المنجمين بقرب ولادته، ففعله زمانًا طويلًا ثم كف عنه؛ مخافة أن تفنى بنو إسرائيل، وتقع الأعمال الشاقة على القبط، فلما بعث موسى وأحسّ فرعون بنبوته .. أعاد القتل غيظًا وحنقًا، ظنًا منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده. قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول, لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى .. أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبةً لهم، فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان, ولئلا يكثر جمعهم ويشتدّ عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ} فرعون وقومه أو غيرهم؛ أي (¬2): وما مكرهم وسوء صنيعهم بالأنبياء والمؤمنين {إِلَّا فِي ضَلَالٍ}؛ أي: في ضياع وبطلان وخسران لا يغني عنهم شيئًا، وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم. وفي "التأويلات النجمية": عزم على إهلاك موسى وقومه، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله، إتمامًا لاستحقاقهم العذاب، ولكن من حفظ الحق تعالى كان كما قال: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}؛ أي: في ازدياد ضلالتهم بربهم، يشير إلى أن من حفر بئرًا لولي من أوليائه .. ما يقع فيه إلا حافره، وبذلك أجرى الحق سنته. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[26]

والمعنى (¬1): أي وما مكر الكافرين وقصدهم وهو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب سدًى وباطلًا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان, وإن فعل بهم ما فعل، وأن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بد واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. والخلاصة: أن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة، ويذهب هباءً أمام تلك القوة القاهرة، وسيكون النصر للمتقين. 26 - ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بني إسرائيل، بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} اللعين لملئه: {ذَرُونِي}؛ أي: اتركوني {أَقْتُلْ مُوسَى} إنما قال هذه لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى؛ مخافة أن ينزل بهم العذاب، أو كانوا يكفونه عن قتله؛ تهوينًا لأمره، واستصغارًا لشأنه؛ أي: أتركوني أقتله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك؛ أي: لا يهولنكم شأنه؛ لأنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، وكان إذا هم بقتله .. كفوه، وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه، وهو أضعف ن ذلك شأنًا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته .. أدخلت الشبهة في نفوس الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويدارونه حتى يكف عن قتله. وربما يكون قد قال ذلك تمويهًا على قومه، وإيهامًا أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفّه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} فإن ظاهره الاستعانة به بدعائه ربه سبحانه، كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به، مظهرًا أنه لا يبالي بدعائه ربه، كما يقول القائل ذروني أفعل كذا وما كان فليكن. ¬

_ (¬1) المراغي.

ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله، فقال: {إِنِّي أَخَافُ} إن لم أقتله {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}؛ أي: أن يغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادة فرعون وعبادة الأصنام لتقربهم إليه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في أرض مصر {الْفَسَادَ}؛ أي: يوقع بين الناس ما يفسد دنياهم من التخالف والتجارب والتهارج، إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. فمعنى (¬1): {أو} وقوع أحد الشيئين، جَعَلَ اللعين ظهور ما دعا إليه موسى - عليه الصلاة والسلام - وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادًا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه، وبدأ فرعون بذكر الدين أولًا لأن حبّ الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم اهـ. "خطيب" وفي الآية إشارة إلى أن فرعون من عمى قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوّته، أو يذره قومه، ولم يعلم أن الله يهلكه ويهلك قومه، وينجي موسى وقومه، وقد خاف من تبديل الدين أو الفساد في الأرض، ولم يخف هلاك نفسه وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين. والمعنى: أي (¬2) إني أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله سبحانه، ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشرد، ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر، وتعدم المكاسب. والخلاصة: أنه يقول: إنّي أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مر. وقرأ الكوفيون ويعقوب (¬3): {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ} بأو التي للإبهام وترديد الخوف بين تبديل الدين وظهور الفساد، وقرأ باقي السبعة {وأن يظهر} بدون ألفٍ، على معنى وقوع الأمرين جميعًا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء من {إِنِّي أَخَافُ}، وقرأ أنس بن مالك وابن المسيب ومجاهد وقتادة وأبو رجاء والحسن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر والشوكاني.

[27]

والجحدري ونافع وأبو عمرو وحفص: {يُظْهِرَ} بضم الياء وكسر الهاء، من أظهر الرباعي، وفاعله: ضمير {مُوسَى} و {الْفَسَادَ}: منصوب على أنه مفعول به، وقرأ باقي السبعة والأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى: {يَظهَر} بفتح الياء والهاء من ظهر الثلاثي، مبنيًا للفاعل ورفع {الفساد} على الفاعلية، وقرأ زيد بن علي: {يُظهَر} بضم الياء وفتح الهاء، مبنيًا للمفعول {الفساد} رفعًا على النيابة عن الفاعل، وقرأ مجاهد: {يظّهّرَ} بشد الظاء والهاء {الفساد} رفعًا. 27 - ولما سمع موسى عليه السلام بمقالة فرعون .. استعاذ بالله من شر كل متكبر عن الإيمان به منكر بالبعث والنشور، فصانه من كل بلية، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَقَالَ مُوسَى} عليه السلام لقومه حين سمع بما يقوله اللعين من حديث قتله عليه السلام: {إِنِّي عُذْتُ} واستجرت {بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ}. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي هنا وفي الدخان (¬1): {عذتُّ} بإدغام الذال في التاء، وقرأ الباقون: بالإظهار، وخص (¬2) اسم الرب؛ لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وإضافته إليه وإليهم للحث على موافقته في العياذ به تعالى، والتوكل عليه، فإن في تظاهر النفوس تأثيرًا قويًا. في استجلاب الإجابة، وهو السبب الأصلي في اجتماع الناس لأداء الصلوات الخمس والجمعة والأعياد والاستسقاء ونحوها. {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}؛ أي: من شر كل متعظم عن الإيمان بالله سبحانه، والتكبر: تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته. {لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} والجزاء صفة لما قبله، عقب به لأن طبع المتكبر القاسي وشأنه إبطال الحق، وتحقير الخلق، لكنه قد ينزجر إذا كان مقرًّا بالجزاء، وخائفًا من الحساب، وأما إذا اجتمع التكبر والتكذيب بالبعث .. كان أظلم وأطغى، فلا عظيمة إلا ارتكبها، فيكون بالاستعاذة أولى وأحرى. وصدر (¬3) الكلام بـ {إنّ} تأكيدًا وإشعارًا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، والمسلم إذا قال عند القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساس شياطين الجن، فكذلك إذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي.

قال: أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس. والمعنى (¬1): أي إني استجرت بالله ربي وربكم، واستعصمت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء؛ لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب .. لم يكن للثواب على الإحسان راجيًا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفًا، وإنما لم يسم فرعون باسمه، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من جبابرة أركانه وغيرهم؛ لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله، وهي التكبر وما يليه من عدم الإيمان بالبعث، وإنما قال: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ولم يقل منه سلوكًا لطريق التعريض، وتحاشيًا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه، فهو واف بالغرض، ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر. فائدة: سئل أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أي ذنب أخوف على سلب الإيمان؟ قال: ترك الشكر على الإيمان, وترك خوف الخاتمة، وظلم العباد، فإن من كان فيه هذه الخصال الثلاث .. فالأغلب أن يخرج من الدنيا كافرًا إلا من أدركته السعادة. وفي الخبر: "إن الله سخر الريح لسليمان عليه السلام فحملته وقومه على السرير، حتى سمعوا كلام أهل السماء، فقال ملك - لآخر إلى جنبه -: لو علم الله في قلب سليمان مثقال ذرة من كبر .. لأسفله في الأرض مقدار ما رفعه مِنَ الأرض إلى السماء". وفي الحديث: "ما من أحد إلا وفي رأسه سلسلتان: إحداهما إلى السماء السابعة، والأخرى إلى الأرض السابعة، فإذا تواضع .. رفعه الله بالسلسلة التي في السماء السابعة، وإذا تكبر .. وضعه الله بالسلسلة التي في الأرض السابعة" فالمتكبر ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

أيًا كان مقهور لا محالة، ما يقال (¬1): إن أول ما خلق درة بيضاء، فنظر إليها بالهيبة فذابت وصارت ماء، وارتفع زبدها، فخلق الله منه الأرض فافتخرت الأرض وقالت: من مثلي، فخلق الله الجبال فجعلها أوتادًا في الأرض، فقهر الأرض بالجبال، فتكبرت الجبال فخلق الحديد، وقهر الجبال به، فتكبر الحديد فقهره بالنار، فتكبرت النار فخلق الماء فقهرها به، فتكبر الماء فخلق السحاب، ففرق الماء في الدنيا فتكبر السحاب فخلق الرياح، ففرقت السحاب فتكبرت الرياح، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتًا وكنًا من الحر والبرد والرياح، فتكبر الآدمي فخلق النوم فقهره به، فتكبر النوم فخلق المرض فقهره به، فتكبر المرض فخلق الموت فقهره به، فتكبر الموت فقهره بالذبح يوم القيامة، حيث يذبح بين الجنة والنار، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}؛ يعني إذا ذبح الموت .. فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة بالسوء، فلا بد من إزالته 28 - ولما استعاذ موسى عليه السلام بالله، واعتمد على فضله ورحمته .. فلا جرم صانه الله تعالى من كل بلية، وأوصله إلى كل أمنية، وقيض له إنسانًا أجنبيًا، حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة، كما حكى الله تعالى عنه بقوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} كائن {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فهو صفة ثانية لـ {رَجُلٌ} وقوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}: صفة ثالثة، قدم الأول؛ أعني مؤمن، لكونه أشرف الأوصاف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود، وذلك لأنه لو أخر عن {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .. لتوهم أن {من} صلته، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون، وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون؛ أي: ابن عمه، وهو منذر موسى عليه السلام بقوله: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، كما سبق في سورة القصص، واسمه شمعان بالشين المعجمة بوزن سلمان، وهو أصح ما قيل فيه، قاله الإِمام السهيلي. وقرأ الجمهور (¬2): {رَجُلٌ} بضم الجيم، وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون الجيم، وهي لغة تميم ونجد، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وقرىء: بكسر الجيم، وفي "تاريخ الطبري": اسمه جبر، وقيل: حبيب النجار، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم، وهو غير حبيب النجار صاحب يس، وقيل: خربيل بن نوحائيل أو حزقيل، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو - رضي الله عنه - أفضلهم" كما في "إنسان العيون" نقلًا عن "العرائس". وقال ابن الشيخ في "حواشيه": روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، والثالث: أبو بكر الصديق وهو أفضلهم" انتهى. وقال صاحب "روح البيان": يمكن أن يقال لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية، وتفضيل علي في السبق، وعدم صدور الكفر عنه، ولو لحظةً، فأفضلية كل منهما من جهة أخرى. ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطيًا، لا إسرائيليًا، وأيضًا أن فرعون أصغى إلى كلامه واستمع منه، ولو كان إسرائيليًا لكان عدوًا له، ولم يكن ليصغي إليه. قال في "التكملة": فإن قلت: الآل قد يستعمل في غير القرابة بدليل قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم؟ فالجواب: أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون وإنما كان مؤمنًا، فإذا لم يكن من أهل دينه .. فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته. انتهى، وقيل: كان إسرائيليًا ابن عم قارون، أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل، وقيل: كان عربيًا موحدًا ينافقهم لأجل المصلحة، {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}؛ أي: يستره ويخفيه من فرعون وملثه، لا خوفًا بل ليكون كلامه بمحل من القبول، وقيل: خوفًا، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمئة سنة، وكتمه، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى .. قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا}؛ أي: أتقصدون قتله ظلمًا بلا دليل، والاستفهام إنكاري، {أَنْ يَقُولَ}؛ أي: لأن يقول أو كراهة أن يقول: {رَبِّيَ اللَّهُ}

وحده لا شريك له، وهو في موضع نصب بنزع الخافض، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة، مثل: صديقي زيد لا غير {و} الحال أنه {قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} والمعجزات الظاهرة الواضحة التي شاهدتموها {مِنْ رَبِّكُمْ} لم يقل من ربه, لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم .. دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره، والاعتراف به وترك المكابرة معه؛ لأن ما كان من قِبَلِ رَبِّ الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه. وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقبل عقبة بن أبي معيط، ورسول الله يصلي عند الكعبة، أو لقيه في الطواف، فأخذ بمجامع ردائه - صلى الله عليه وسلم -، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقًا شديدًا، وقال له: أنت الذي تنهانا عما يعبد آباؤُنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا ذاك"، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ بمنكبيه - صلى الله عليه وسلم - والتزمه من ورائه، ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} رافعًا صوته، وعيناه تسفحان دمعًا أي: تجريان حتى أرسلوه، أخرج البخاري بمعناه. وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى, لأنه كان يظهر إيمانه، وكان بمجمع طغاة قريش، وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر، وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه، فقال: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِيْنِهِ ... فَكُلُّ قَرِيْنٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه، وخصهم بمشاهدته، وتلقى الروح عنه؟ وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأَسرَّهُ، فجعله في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -! إذ جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرًا بعد اليوم، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه. والمعنى (¬1): أي وقال رجل من آل فرعون بكتم إيمانه منهم، خوفًا على ¬

_ (¬1) المراغي.

نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلًا ما زاد على أن قال: ربي الله، وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه، ومثل هذه المقالة لا تستدعي قتلًا، ولا تستحق عقوبةً، فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله، وتوقف عن قتله. وخلاصة ذلك: أترتكبون هذه الفعلة، القبيحة الشنعاء وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله، وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله، ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط، بإيراده في صورة الاحتمال من الظن بعد القطع يكون قتله منكرًا، فقال: {وَإِنْ يَكُ} الرجل الذي تريدون قتله {كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فيحتاج في دفعه إلى قتله؛ يعني: أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره، كالزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته، وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين، لكون طباع الناس آبية عن قبوله، ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} في قوله فكذبتموه وقصدتم له بسوء {يُصِبْكُمْ} ويحل بكم {بَعْضُ} العذاب {الَّذِي يَعِدُكُمْ} ويخبركم بوقوعه عليكم، وهو عذاب الدنيا، فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيًا. والحاصل: أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله، بل يكفيكم أن تعرضوا عنه، وأن تمنعوه عن إظهار دينه. أي (¬1): إن لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه، وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم، فذكر البعض ليوجب الكل، لا أن البعض هو الكل، وحذفت النون من يكن في الموضعين؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، كما قاله سيبويه، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم من شِقَّي الترديد كونه كاذبًا، وصرح بإصابة البعض دون الجميع، مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله، وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون، ويجوز أن يكون المعنى: يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض ما يعدهم, لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، كأنه خوّفهم بما هو ظهر احتمالًا عندهم. وفي "عين المعاني": ¬

_ (¬1) روح البيان.

لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر، وقد يكون البعض بمعنى الكل، كما في قوله: قَدْ يُدَرِكُ الْمُتَأَنِّيْ بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُوْنُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ وقول الآخر: إِنَّ الأُمُوْرَ إِذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُوْنَ الشُّيُوْخِ تَرَى فِيْ بَعْضِهَا خَلَلاَ وكما في قوله تعالى: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}؛ أي: جميعه، وفي قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}؛ أي: بكلها، كما في "كشف الأسرار" وقال أبو الليث: {بَعْضُ} هنا: صلة يريدُ يُصِبْكم الذي يعدم. وعبارة "فتح الرحمن" هنا: وإن قلت: كيف قال المؤمن ذلك في حق موسى عليه السلام، مع أنه صادق عنده وفي الواقع، ويلزم منه أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟. قلت: كلمة {بَعْضُ}: صلة، أو هي بمعنى كل، كما قيل به في البيتين السابقين وفي الآيتين، أو ذكر البعض تنزلًا وتلطفًا بهم، مبالغًا في نصحهم، لئلا يتهموه بميل ومحاباة، أو هي باقية على معناها, لأنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فهلاكهم في الدنيا بعض ما وعدهم به. والمعنى: أي إن كان كاذبًا في قيله: أن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه .. فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقًا في قيله ذلك .. أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطًا على الكفر، وسخطًا على قتل رسوله، وفي قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} مبالغة في التحذير، فإنه إذ حذرهم من بعض العذاب .. أفاد أنه مهلك مخوف، فما بال كله إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وهذا من تمام كلام الرجل المؤمن، والمسرف: هو الذي يتجاوز الحد في المعصية، أو هو السفاك للدم بغير حق، والكذاب: هو الذي يكذب مرةً بعد أخرى، وقيل: هو الكذاب على الله سبحانه, لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وهو احتجاج آخر ذو وجهين:

[29]

أحدهما: أنه لو كان مسرفًا كذابًا .. لما هداه الله تعالى إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات. وثانيهما: أنه إن كان كذلك .. خذله الله تعالى وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم، وقد عرّض به لفرعون, لأنه {مُسْرِفٌ} حيث قتل الأبناء بلا جرم {كَذَّابٌ} حيث ادعى الألوهية، لا يهديه الله سبيل الصواب، ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره، 29 - ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى .. خوفهم في ذلك بعذاب الله تعالى فقال: {يَا قَوْمِ}؛ أي: يا قومي {لَكُمُ الْمُلْكُ} والسلطان {الْيَوْمَ} حال كونكم {ظَاهِرِينَ} أي غالبين عالين على بني إسرائيل والعامل في الحال وفي قوله: {الْيَوْمَ} ما تعلق به لكم {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: أرض مصر، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت، ومعنى الظهور: الاستعلاء على الناس والغلبة عليهم. {فَمَنْ يَنْصُرُنَا} ويمنعنا ويحفظنا {مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}؛ أي: من سطوته وأخذه وعذابه، ويحول بيننا وبينه {إِنْ جَاءَنَا} وحل بنا، وفي هذا (¬1) تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، والاستفهام فيه: إنكاري؛ أي: لا ناصر لنا؛ أي: فلا تفسدوا أمركم، ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله، فإنه إن جاءنا .. لم يمنعنا منه أحد. وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصةً، ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوْءُهم من مجيء بأس الله سبحانه؛ تطييبًا لقلوبهم، وإيذانًا بأنه ناصح لهم، ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه. ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح .. جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكًا يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم، كما حكى سبحانه عنه بقوله: {قَالَ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[30]

فِرْعَوْنُ} بعدما سمع نصحه، إضرابًا عن المجادلة {مَا أُرِيكُمْ}؛ أي: ما أشير عليكم {إِلَّا مَا أَرَى} وأستصوبه من قتله، قطعًا لمادة الفتنة {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} وطريق الصواب، فهو من الرأي، ويجوز أن يكون من الرؤية بمعنى العلم؛ أي: لا أعلمكم إلا ما أعلم، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره، ولقد كذب حيث كان مستشعرًا للخوف الشديد، ولكنه كان يظهر الجلادة وعدم المبالاة، ولولاه لما استشار أحدًا. وقرأ الجمهور (¬1): {الرَّشَادِ} بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل: بتشديدها، على أنه صيغة مبالغة، كضراب، وقال النحاس: هي لحن ولا وجه لذلك، وقال أبو الفتح: هو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي، يقال: رشد فهو رشّاد كعبّاد من عبد، وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم. والمعنى (¬2): أي قال فرعون مجيبًا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأي سوى ما ذكرته، من وجوب قتله حسمًا للفتنة، وإني لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أَعدُّ غير هذا صوابًا. 30 - ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكيًا عنه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} من آل فرعون، مخاطبًا لقومه واعظًا لهم. وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وذلك من أجل علة الخوف والقهر، ولأن الجهاد بالحجة والبرهان أكبر من الجهاد بالسيف والسنان {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في تكذيب موسى عليه السلام، والتعرض له بسوء، كالقتل والأذى {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}؛ أي: مثل عذاب أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم العظيمة، وعقوباتهم الهائلة، على طريق ذكر المحل وإرادة الحال. فإن قلت: الظاهر أن يقال: مثل أيام الأحزاب، إذ لكل حزب يوم على حدة. قلت: جمع الأحزاب مع تفسيره بالطوائف المختلفة المتباينة الأزمان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[31]

والأماكن، أغنى عن جمع اليوم، إذ بذلك ارتفع الالتباس، وتبين أن المراد الأيام لا اليوم الواحد، 31 - ثم فسر الأحزاب فقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} بدل من المثل الأول، والمراد بالدأب واليوم واحد، إذ المعنى: إني أخاف عليكم مثل حال قوم نوح وشأنهم في العذاب، حيث أغرقوا بالطوفان الذي استأصل كل ما على وجه الأرض؛ أي: أخاف عليكم مثل عذاب قوم نوح {وَ} مثل عذاب {عَادٍ} قوم هود، حيث أهلكوا بريح صرصر عاتية {وَ} مثل عذاب {ثَمُودَ} قوم صالح، حيث أهلكوا بالصيحة الطاغية {وَ} مثل عذاب الأقوام {الَّذِينَ} كانوا {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد هؤلاء المذكورين من كفار الأمم المكذبة لرسلها، كقوم لوط وشعيب عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. والحاصل: أن حزقيل خوفهم بعذاب معجل في الدنيا. والمعنى: أي وقال ذلك المؤمن ناصحًا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم إن كذبتم موسى، وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيًا ولا عاصمًا، وهذه سنة الله في المكذبين جميعًا، فحذار حذار أيها القوم، إني لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم، وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي، وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وإلى هذا أشار بقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم، ولا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام؛ أي: وما أهلك الله سبحانه هذه الأمم المذكورة ظلمًا لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم وتكذيبهم رسله، بعد أن جاؤوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره وحكمه، وأحلّ بهم وعيده وانتقامه، حيث استأصلهم وقطع دابرهم كالأمس الدابر. 32 - وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي، خوفهم العذاب الأخروي فقال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)}؛ أي: عذاب يوم التناد، وهو يوم القيامة، لما فيه من العذاب على المصرين والمؤذين للرسل والأنبياء، فهو منصوب على المفعولية به، ولكنه على حذف مضاف كما قدرنا، سمي يوم التناد؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة، كقولهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا} أو يتصايحون بالويل

[33]

والثبور، بنحو قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الجنة والنعيم المقيم حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من عذاب النار حقًا؟ قالوا: نعم، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله. وقرأ الجمهور (¬1): {التَّنَادِ} بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل: التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم؛ أي: نادى بعضهم بعضًا، وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس والضحَّاك وعكرمة: بتشديد الدال؛ أي: يوم فرار بعضهم من بعض، قال بعض أهل اللغة: هو لحن؛ لأنه من ند يندّ: إذا مرّ على وجهه هاربًا، قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنةٌ على معنى التنافي، قال الضحاك: معناه: أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم .. ندّوا هربًا فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفًا من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ}. والمعنى على قراءة الجمهور: يوم ينادي بعضهم بعضًا، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، أو ينادى فيه بسعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادى فيه: كل أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني. 33 - وقوله تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ} بدل من يوم التناد، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم يولّي بعضكم بعضًا دبره، حال كونكم {مُدْبِرِينَ}؛ أي: منصرفين من الموقف إلى النار، أو فارّين منها, لأنهم إذ سمعوا زفير النار .. ندّوا هاربين، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكةُ صفوفًا، فبينما هم يموج بعضهم في بعض .. إذا سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، وحال كونكم {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}؛ أي: ما لكم من عاصم يعصمكم من عذابه تعالى، ويحفظكم في فراركم حتى تعذَّبوا في النار، والجملة: حال أخرى من ضمير {تُوَلُّونَ}. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

والمعنى: أي إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضًا ليستغيث به من شدّة الهول، أو حين ينادي أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ قالوا: نعم، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله، قالوا: إن الله حرّمهما على الكافرين يوم تولّون مدبرين هربًا من زفير النار وشهيقها، فلا يُجْديكم ذلك شيئًا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب فتردّون إليه، ونالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم. ولما يئس الرجال المؤمن من إيمانهم .. نبّه إلى شدّة ضلالتهم وعظيم جهالتهم، فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى طريق النجاة، ويوفّقه إلى الخلاص، وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه. وفي الآيات (¬1): إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهارًا لفضله ومنته، يخرج الحيّ من الميّت، كما أخرج من آل فرعون مؤمنًا حيًّا قلبه بالإيمان, من بين كفارٍ أموات قلوبهم بالكفر، ليتحقق قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وإذا شاء إظهارًا لعزته وجبروته يعمي ويصمّ الملوك، والعقلاء مثل: فرعون وقومه، لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة، ولا يسمعوا الحجج الباهرة، مثل: ما ناصحهم با مؤمن آل فرعون ليتحقّق قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ...} الآية. كما في "التأويلات النجمية". وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه خالق الضلالة، وإنما الشيطان ونحوه من الوسائط، فالجاهل يرى القلم مسخّرًا للكاتب، والعارف أنه مسخر في يده لله تعالى؛ لأنه خالق الكاتب والقلم وكذا فعل الكاتب. وفي قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إشارة (¬2) إلى أنّ التوفيق والاختيار للواحد القهار، فلو كان لآدم .. لاختار قابيل، ولو كان لنوح .. لاختار كنعان، ولو كان لإبراهيم .. لاختار آزر، ولو كان لموسى .. لاختار فرعون، ولو كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[34]

لاختار عمّه أبا طالب. ويقال: سبعة أمور عامة، وسبعة في جنبها خاصة، الأمر عام والتوفيق خاص، والنهي عام والعصمة خاص، والدعوة عام والهداية خاص، والموت عام والبشارة خاص، والحشر يوم القيامة عام والسعادة خاص، وورود النار عام والنجاة منها خاص، والخلق عام والاختيار خاص؛ يعني: ليس كل من خلقه الله تعالى اختاره، بل خص منه قومًا، وكذا خلق أمورًا وأشياء فخصّ منها البعض ببعض الخواص. ثم العجب أنّ مثل موسى عليه السلام يكون وسط قومه لا يهتدون به، وذلك لأنّ صاحب المُرة لا يجد حلاوة العسل، والضرير لا يرى الشمس، وليس ذلك إلا من سوء المِزاج وفساد الحال وفقدان الاستعداد. 34 - ثم قال مؤمن آل فرعون موبّخًا لهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ}؛ أي: وعزة الله وجلاله لقد جاءكم يا أهل مصر {يُوسُفُ} بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان قد أقام فيهم نبيًا عشرين سنةً، وقيل: المراد بيوسف هنا: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، وحكى النقاش عن الضحاك: أن الله بعث إليهم رسولًا من الجن، يقال له: يوسف، والأول أولى. أي: ولقد جاء أيها القبطيون آباءَكم الأقدمين يوسف بن يعقوب {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل موسى {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الواضحة التي من جملتها تعبير الرؤيا وشهادة الطفل على براءة ذمته، وقد كان بعث إلى القبط قبل موسى بعد موت الملك، وكان فرعون موسى قد أدرك أيام يوسف بن يعقوب، فعاش إلى زمانه، وذلك لأنّ فرعون موسى قد عُمّر أكثر من أربع مئة سنة. وكان (¬1) بين إبراهيم وموسى تسع مئة سنة على ما رواه ابن قتيبة في كتابه "المعارف"، فيجوز أن يكون بين يوسف وموسى مدة عمر فرعون تقريبًا، فيكون الخطاب لفرعون، وجُمع لأنّ المجيء إليه بمنزلة المجيء إلى قومه، وإلا فأهل ¬

_ (¬1) روح البيان.

عصر موسى لم يروا يوسف بن يعقوب، والأظهر أنه على نسبة أحوال الآباء إلى الأبناء، وتوبيخ المعاصرين بحال الماضين {فَمَا زِلْتُمْ}؛ أي: فما برحتم مستمرين {فِي شَكٍّ} وريب {مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ}؛ أي: في حقية الذي جاءكم به من الدين الحق، الذي هو التوحيد {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} ومات يوسف {قُلْتُمْ} ضمًّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد موت يوسف {رَسُولًا} أصلًا فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أنَّ ذلك لا يحدد عليهم الحجة، وقرىء (¬1): {ألن يبعث} بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا على نفي البعثة. والمعنى (¬2): أي ولقد جاء آباءَكم يوسفُ من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولًا من بعده يدعو إليه، ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائِكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم لما تقدم من أنّ الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها إذا تواطؤوا واتفقوا عليه، كما جاء في قصص ثمود حين كذب قدار فعقر الناقة، فنسب التكذيب والعقر إلى ثمود جميعها، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}. وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهِّي والتمنِّي من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارًا منهم برسالته، بل هو ضمّ إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده. وفي الآية (¬3): إشارة إلى أنَّ في الإنسان ظلوميةً وجهوليةً لو خلّي وطبعه .. لا يؤمن بنبّي من أنبياء الله ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى، وهذه طبيعة المتقدّمين والمتأخرين منهم، وإنما المهتدي من يهديه الله تعالى بفضله وكرمه، ومن إنكارهم الطبعيّ: أنهم ما آمنوا بنبوّة يوسف، فلما هلك .. أنكروا أن يكون بعده رسول الله، وذلك من زيادة شقاوة الكافرين، كما أن من كمال سعادة المؤمنين أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[35]

يؤمنوا بالأنبياء قبل نبيهم. {كَذَلِكَ}؛ أي: أضلالًا مثل ذلك الإضلال الفظيع الواقع لهم {يُضِلُّ اللَّهُ} سبحانه ويصد عن سبيل الحق وقصد السبيل {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} منهمك في المعاصي متجاوز الحد فيها، مستكثر منها {مُرْتَابٌ} شاك في وحدانيته ووعده ووعيده؛ لغلبة الوهم عليه وانهماكه في التقليد. 35 - والموصول في قوله (¬1): {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ}: بدل من {مَنْ} الموصولة، والجمع باعتبار معناها؛ إذ لا يريد مسرفًا واحدًا بل كل مسرف، أو عطف بيان لها، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، أو مبتدأ وخبره {يَطْبَعُ}. والمراد بالمجادلة: ردّ الآيات والطعن فيها {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}؛ أي: بغير حجة وبرهان صالحة للتمسك بها {أَتَاهُمْ} صفة لسلطان {كَبُرَ}؛ أي: عظم من هو مسرف مرتاب أو الجدال، ففاعله: ضمير يعود على {مَنْ} في قوله: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. وقيل: ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، وهذا أولى كما في "الشوكاني"؛ أي: عظم الجدال {مَقْتًا}؛ أي: من جهة البغض الشديد والنفور القوي {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه، متعلق بـ {كَبُرَ} وكذلك قوله: {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن، يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وقيل: ابتداء كلام من الله سبحانه. والمعنى (¬2): أي إنّ هؤلاء المسرفين المرتابين هم الذين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسّكون بتقليد الآباء والأجداد ويتمسَّكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأي، كبر ذلك الجدال بغضًا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

ثم بيَّن أنّ هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال: {كَذَلِكَ}؛ أي: كما طبع الله سبحانه على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم وختم عليها {يَطْبَعُ اللَّهُ} سبحانه، ويختم {عَلَى كُلِّ قَلْبِ} شخص {مُتَكَبِّرٍ} عن الإيمان {جَبَّارٍ} عن قبول الحق والهدى، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل. أي (¬1): يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبو أن يوحدوا الله تعالى ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف وغيره مما مرّ قريبًا. قال صاحب "الروح": واعلم (¬2): أنّ الطابع هو الله تعالى، والمطبوع هو القلب، وسبب الطبع هو التكبّر والجبارية، وحكمه أن لا يخرج من القلب ما فيه من الكفر والنفاق والزيغ والضلال، فلا يدخل فيه ما في الخارج من الإيمان والإخلاص والسداد والهدى، وهو أعظم عقوبة من الله سبحانه، فعلى العاقل أن يتشبّث بالأسباب المؤدّية إلى شرح الصدر لا إلى طبع القلب، قال إبراهيم الخوَّاص: - رحمه الله -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبّر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين. وقرأ الجمهور (¬3): بإضافة {قَلْبِ} إلى {مُتَكَبِّرٍ} واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وعليها ففي الكلام حذف تقديره: كذلك يطبع الله على كل قلب كل شخص متكبر جبار، فحذف كل الثاني لدلالة الأول عليه. والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام، والأعرج بخلاف عنه: بتنوين {قلب} على أنّ {متكبّر} صفة له فيكون القلب مرادًا به الجملة، ونسب التكبر إلى القلب؛ لأنه هو الذي يتكبَّر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[36]

الجسد كله ألا وهي القلب". وقال مقاتل: المتكبّر: المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبّار: المسلّط على خلق الله، وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. قال في "الكواشي": وكل على كلا القراءَتين لعموم الطبع جميع القلب لا لعموم جميع القلوب. انتهى. وقرأ ابن مسعود: (على قلب كل متكبر). وفي الآية ذم للمتكبر والجبار، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطأهم الناس لهوانهم على الله" وذلك لأنّ الصورة المناسبة لحال المتكبر الجبار صورة الذر، كما لا يخفى على أهل القلب. 36 - ثمّ لمّا سمع فرعون هذا .. رجع إلى تكبّره وتجبّره، معرضًا عن الموعظة، نافرًا من قبولها {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} اللعين لوزيره، قصدًا إلى صعود السموات لغاية تكبره وتجبره: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي} أمر من بني يبني بناء، {صَرْحًا}؛ أي: قصرًا مشيدًا بالآجر؛ أي: بناء عاليًا رفيعًا مكشوفًا ظاهرًا لا يخفى على الناطرين، وإن بعد من الآجر وهو الطوب المحروق، كما قال في سورة القصص: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} ولهذا كره الآجر في القبور، كما في "عين المعاني"؛ أي: لأنّ فرعون أول من اتخذه. قال في "كشف الأسرار": كان هامان وزير فرعون، ولم يكن من القبط ولا من بني إسرائيل؛ يقال: إنه لم يغرق مع فرعون وعاش بعده زمانًا شقيًا محزونًا يتكفف الناس. {لَعَلِّي أَبْلُغُ} وأصعد من ذلك الصرح {الْأَسْبَابَ} والطرق العلوية 37 - {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}؛ أي: طرقها وأبوابها، وهو بيان للأسباب؛ لأن الشيء إذا أبهم ثم فسّر .. كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وقيل: أسباب السموات: الأمور التي يستمسك بها، وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: ما فائدة التكرار هنا؟. قلت: فائدته: أنه إذا أبهم ثم أوضح .. كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات .. أبهمها ثم أوضحها. اهـ. {فأطلع} وأنظر {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} بفتح الهمزة ونصب العين على جواب الترجي، وقرأ الجمهور {فأطلع} بالرفع عطفًا على {أبلغ}، فهو على هذا داخل

في حيّز الترجي، وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى بن عمر وحفص وأبو حيوة وزيد بن علي والزعفراني وابن مقسم {فَأَطَّلِعَ} بالنصب على جواب الترجي، كما قاله أبو عبيد وغيره، أو على جواب الأمر في قوله: {ابْنِ لِي صَرْحًا} نظير قوله: يَا نَاقُ سِيْرِيْ عَنَقًا فَسِيْحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيْحَا قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع, لأنّ معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} ولعلي أطلع بذلك، وفي هذا دليل على أنّ فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ}؛ أي: أظن موسى {كَاذِبًا} في ادعائه بأن له إلهًا، أو فيما يدّعيه من الرسالة. يقول الفقير: لم يقل: كذّابًا، كما قال عند إرساله إليه لأن القائل هنا هو فرعون وحده وحيث قال كذّاب. رجعت المبالغة إلى فرعون وهامان وقارون، فافهم. والمعنى: أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن، وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان، ابن لي قصرًا منيفًا عالي الذرا، رفيع العماد، علَّني أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها .. رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكُّم وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض. والخلاصة: أن هذا نفي لرسالته من عند ربه، ثم أكّد هذا النفي الضمني بالتصريح به بقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فيما يقول ويدعي من أنّ له في السماء ربًا أرسله إلينا، وقد قال هذا (¬1) تمويهًا وتلبيسًا على قومه، توصلًا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أنّ الإله ليس في السماء فحسب، وكأنه يقول: لو كان الإله موجودًا لكان له محل، ومحله إما الأرض، وإما السماء، ولم نره في الأرض فإذًا هو في السماء، والسماء لا يتوصّل إليها إلا بسلّم، فيجب أن يبني الصرح لنصل إليه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع، فقال: {وَكَذَلِكَ}؛ أي: ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط {زُيِّنَ} وحسَّن {لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ}؛ أي: عمله السيء فانهمك فيه انهماكًا بليغًا لا يرعوي عنه بحال {وَصُدَّ}؛ أي: صرف فرعون ومنع {عَنِ السَّبِيلِ}؛ أي: عن سبيل الرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، وبالتوسط هو الشيطان، ولذا قال في آية أخرى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وهذا عند أهل السنة، وأما عند المعتزلة فالمزيّن والصاد هو الشيطان. أي (¬1): ومثل ذلك التزيين المذكور من بناء الصلاح والإطلاع إلى إله موسى، زيّن الشيطان لفرعون عمله السيىء من الشرك والتكذيب، فتمادى في غيّه واستمرّ في طغيانه، ولم يرعو عنه بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا بسوء استعداده وتدسيته نفسه، والسير بها قدمًا في شهواتها، دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيّها، ويثوب بها إلى رشدها. والنفسُ كالطِّفلِ إِنْ تهملْهُ شبَّ على ... حُبِّ الرضاعِ وإِنْ تفطمْهُ يَنفَطِمِ وقرأ الجمهور (¬2): {وَصُدَّ} بفتح الصاد والدال؛ أي: صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون: {وصدَّ} بضم الصاد مبنيًا للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في {زُيِّنَ} من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثّاب وعلقمة: {صدّ} بكسر الصاد وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منوّنًا على أنه مصدر معطوف على {سُوءُ عَمَلِهِ}؛ أي: زين له الشيطان سوء العمل والصدّ. ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدًى، وأنّ الله ناصرٌ أولياءَهُ ومهلكٌ أعداءَهُ، متَبّرُ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، وإلى هذا أشار بقوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} واحتياله الذي يحتال به ليطلع على إله موسى {إِلَّا فِي تَبَابٍ}؛ أي: إلا في خسار وهلاك وذهاب مال؛ لأنها نفقة تذهب باطلًا سُدًى، دون أن يصل إليه شيء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[38]

38 - ثم إنّ ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير، كما حكى الله عنه بقوله: {وَقَالَ} الرجل {الَّذِي آمَنَ} من آل فرعون {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما دلَلْتكم عليه، أصله: يا قومي اتبعوني {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}؛ أي: أدلُّكم سبيلًا يصل إلى المقصود والرشد، والرشاد: الاهتداء لمصالح الدين والدنيا، وفيه تعريض بأن ما سلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال، وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء، وللوليّ أن يهدي سبيل الرشاد بتبعيّة النبي عليه السلام، كما يهدي النبي إليه؛ أي: اقتدوا بي في الدين، أهدكم سبيل الرشاد وهو الجنة. وقرأ معاذ بن جبل (¬1): {الرشّاد} بتشديد الشين، ما تقدم قريبًا الكلام على هذه القراءة، والرد على من جعلها في كلام فرعون، ووقع في المصحف {اتبعون} بدون ياء، كذلك قرأ أبو عمرو ونافع: بحذفها في الوقف، وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب وابن كثير: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأ الباقون: بحذفها وصلًا ووقفًا، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف. والمعنى (¬2): أي يا قوم إن اتبعتموني فقبلتم منّي ما أقول لكم .. سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى، 39 - ثم زهّدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدّوا عن التصديق برسول الله فقال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} يتمتّع بها أيامًا، ثم تنقطع وتزول؛ أي: تمتّع يسيرٌ وانتفاعٌ قليل لسرعة زوالها؛ لأنَّ الدنيا بأسرها ساعة، فكيف عمر إنسان واحدٍ، قال محمد بن علي الترمذي - رحمه الله -: لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم، ولم يزل طالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أُمة إلا حذّر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، كأنهم قالوا: وما سبيل الرشاد؟، فقال: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ ...} إلخ. يعني: لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبّة للدنيا وطلب لها {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}؛ أي: الاستقرار؛ لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرّة لا تزول لخلودها ودوام ما فيها، فالدائم خير من المنقضي، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا، والآخرة خزفًا باقيًا .. لكانت الآخرة خيرًا من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[40]

الدنيا، فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ، والآخرة ذهب باقٍ. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله لو أمرتنا أن لنبسط لك لنفعل، فقال: "ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثمّ راح وتركها" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...} الآية. قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الحياة الدنيا متاع، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها .. سرّتك، وإذا غبت عنها .. حفظتك في نفسها ومالها". وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بنيّ أكثر ذكر الموت، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت .. زهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وإنّ الآخرة دار قرار، والدنيا غرّارة، والمغرور من اغْترّ بها". والمعنى (¬1): أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجِّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى، تستمتعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هي دار الاستقرار التي لا زوال لها, ولا انتقال منها, ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيمْ وإما عذاب أليم. 40 - ثم بيّن كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار إلى أنّ جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب، فقال: {مَنْ عَمِلَ} في هذه الدار الدنيا {سَيِّئَةً}؛ أي: معصيةً من المعاصي كائنةً ما كانت {فَلَا يُجْزَى} في الآخرة {إِلَّا مِثْلَهَا} ولا يعذب إلا بقدرها، عدلًا من الله سبحانه، فخلود الكافرين في النار مثل لكفره ولو ساعةً لأَبديّة اعتقاده، وأما المؤمن العاصي فعقابه منقطع، إذ ليس على عزم أن يبقى مصرًّا على المعصية. والظاهر: شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك، وفي الآية دليل على أنّ الجنايات سواء كانت في النفوس ¬

_ (¬1) المراغي.

أو الأعضاء أو الأموال تغرم بأمثالها، والزائد على الأمثال غير مشروع {وَمَنْ عَمِلَ} عملًا {صَالِحًا} وهو (¬1) كل ما طلب به رضي الله تعالى أيّ عملٍ كان من الأعمال المشروعة، سواء كان {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ} كان من {أُنْثَى} ذكرهما ترغيبًا لهما في الصالحات {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنه {مُؤْمِنٌ} بالله وبما جاءت به رسله جعل العمل عمدة، والإيمان حالًا للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدون الإيمان, إذ الأحوال مشروطة على ما تقرّر في علم الأصول {فَأُولَئِكَ} الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} حالة كونهم {يُرْزَقُونَ فِيهَا}؛ أي: يُعطَون فيها من نعيمها {بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ أي: بغير تقدير وموازنة بعملهم، بل أضعافًا مضاعفة، فضلًا من الله ورحمة. وفي "التأويلات النجمية": {بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ أي: مما لم يكن في حساب العبد أن يرزق مثله، قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير، وقيل: العمل الصالح هو لا إله إلا الله، وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأخوان - حمزة والكسائي - والصاحبان نافع وابن عامر وحفص (¬2): {يَدْخُلُونَ} بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى: بضمها مبنيًا للمفعول. والمعنى: أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي، كائنةً ما كانت فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره وانتهى عمّا نهى عنه، ذكرًا كان أو أنثى وهو مؤمن بربّه، مصدق بأنبيائه ورسله .. فأولئك يدخلون الجنة، ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل، بل يجازون أضعافًا مضاعفةً بلا انقضاء ولا نفاد. الإعراب {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

{وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {مُوسَى}: مفعول به، والجملة الفعلية، جواب لقسم محذوف، تقديره: والله لقد أرسلنا موسى، وجمله القسم: مستأنفة. {بِآيَاتِنَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {مُوسَى}؛ أي: حالة كونه مؤيّدًا بآياتنا التكوينية والتنزيلية {وَسُلْطَانٍ}: معطوف على {آياتنا} {مُبِينٍ}: صفة {وَسُلْطَانٍ}. {إِلَى فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} {وَهَامَانَ وَقَارُونَ}: معطوفان على {فِرْعَوْنَ} وكل من الثلاثة مجرور بالفتحة، لأنها من الأسماء الأعجمية. {فَقَالُوا} {الفاء}: عاطفة. {قالوا}: فعل وفاعل معطوف على {أَرْسَلْنَا}. {سَاحِرٌ كَذَّابٌ}: خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ساحر كذاب، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَلَمَّا} {الفاء}: استئنافية. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. {جَاءَهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}. ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ {لما} في محل جر بالإضافة {بِالْحَقِّ}: متعلق بجاءهم. {مِنْ عِنْدِنَا}: متعلق بمحذوف حال من الحق. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {لما}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما}: مستأنفة. {اقْتُلُوا}: فعل أمر وفاعل، {أَبْنَاءَ الَّذِينَ}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {مَعَهُ} ظرف متعلق بـ {آمَنُوا} {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على {اقْتُلُوا}. {وَمَا}: {الواو}: حالية {مَا}: نافية {كَيْدُ الْكَافِرِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه، وهو إظهار في مقام الإضمار؛ أي: وما كيدهم بموسى عليه السلام. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرّغ. {فِي ضَلَالٍ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {قَالُوا} والرابط اسم الظاهر القائم مقام الضمير؛ لأنّ الأصل أن يقال: وما كيدهم. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)}. {وَقَالَ} {الواو}: عاطفة. {قَالَ فِرْعَوْنُ}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا} {ذَرُونِي}: فعل أمر وفاعل، ونون وقاية، ومفعول به، والجملة: في محل النصب

مقول قال. {أَقْتُلْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، مجزوم بالطلب السابق. {مُوسَى}: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلْيَدْعُ}: {الواو}: عاطفة. {واللام}: حرف جزم وطلب. {يدع}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}. {رَبَّهُ}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {ذَرُونِي}، والمقصود بالأمر هنا: التعجيز بزعمه. {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَخَافُ}: من الفعل المضارع، والفاعل المستتر: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال}، على كونها مسوقة لتعليل القتل {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يُبَدِّلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله: ضمير يعود على {مُوسَى}، {دِينَكُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إني أخاف تبديله دينكم الذي أنتم عليه، {أَوْ} حرف عطف. {أَنْ يُظْهِرَ}: معطوف على {أَنْ يُبَدِّلَ}، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يُظْهِرَ}. {الْفَسَادَ}: مفعول {يُظْهِرَ}، والتقدير: أو إظهاره الفساد في الأرض. {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}. {وَقَالَ} {الواو}: عاطفة {قال موسى}: فعل وفاعل معطوف على قالوا أيضًا. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {عُذْتُ}: فعل وفاعل في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال}. {بِرَبِّي} متعلق بـ {عُذْتُ}، {وَرَبِّكُمْ}: معطوف على {ربي}. {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {عُذْتُ} وجملة {لَا يُؤْمِنُ}: صفة لـ {مُتَكَبِّرٍ}. {بِيَوْمِ الْحِسَابِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُ}. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}. {وَقَالَ} {الواو}: استئنافية. {قال رجل}: فعل وفاعل. {مُؤْمِنٌ}: صفة أولى لـ {رَجُلٌ}. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} نعت ثان له. {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {رَجُلٌ} ومفعوله، والجملة: في محل الرفع صفة ثالثة

لـ {رَجُلٌ}، وجملة {قال}: مستأنفة مسوقة لإيراد الحل الملائم للعقدة القصصية بعد أن عاذ موسى بربه ليكفيه شر هذا اللعين. {أَتَقْتُلُونَ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {تقتلون رجلًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول قال {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {يَقُولَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {رَجُلًا} والجملة الفعلية مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لأجله؛ أي: أتقتلونه لأجل قوله: {رَبِّيَ}: مبتدأ، {اللَّهُ}: خبره أو بالعكس والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ {يَقُولَ}، {وَقَدْ}: {الواو}: حالية. {قد}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ: جاء. {مِنْ رَبِّكُمْ}: حال من {البينات} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من {رَجُلًا} فإن قيل: هو نكرة .. فالجواب: أنه في حيز الاستفهام، وكل ما سَوّغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال منها، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل {يَقُولَ}. اهـ "سمين". {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {يَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {إن} الشرطية، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير مستتر يعود على {رَجُلًا}. {كَاذِبًا}: خبرها. {فَعَلَيْهِ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {عليه}: خبر مقدم. {كَذِبُهُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {أَتَقْتُلُونَ} على كونها مقولًا لـ {قال} {وَإِنْ يَكُ}: جازم ومجزوم. {صَادِقًا}: خبر {يَكُ}. {يُصِبْكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {بَعْضُ الَّذِي}: فاعل ومضاف إليه، وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على جملة {إِن} الأولى، وجملة {يَعِدُكُمْ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يعدكموه، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَهْدِي}: خبره وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قال} على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَهْدِي}. {هُوَ مُسْرِفٌ}: مبتدأ وخبر. {كَذَّابٌ}: خبر ثان،

والجملة الاسمية: صلة {مَنْ} الموصولة. {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}. {يَا قَوْمِ}: {يا} حرف نداء. {قوم}: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء، في محل النصب مقول {قَالَ}؛ لأنه من تتمة كلام الرجل المؤمن. {لَكُمُ}: خبر مقدم. {الْمُلْكُ}: مبتدأ مؤخر، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بما تعلق به الخبر. {ظَاهِرِينَ}: حال من الضمير في {لَكُمُ} والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به لكم. اهـ "سمين". {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {ظَاهِرِينَ}؛ أي: غالبين في الأرض، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَمَنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردت النصيحة لكم .. فأقول لكم {مَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {يَنْصُرُنَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. {مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْصُرُنَا}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قَالَ}، ويصح أن تكون {الفاء}: عاطفة ما بعدها على جملة قوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وإن طال الفصل، {إِنْ}: حرف شرط جازم. {جَاءَنَا}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الـ {بَأْسِ} ومفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن جاءنا بأس الله فمن ينصرنا منه، وجملة {إِن} الشرطية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَالَ فِرْعَوْنُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {مَا}: نافية. {أُرِيكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {أُرِيكُمْ}. والجملة الفعلية: في محل النصب، مقول {قَالَ}. {أَرَى}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: إلا ما أراه لنفسي. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية. {أَهْدِيكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {سَبِيلَ الرَّشَادِ}: مفعول ثان لـ {أَهْدِيكُمْ} والجملة الفعلية: في محل

النصب معطوفة على جملة {مَا أُرِيكُمْ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ}. {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)}. {وَقَالَ} {الواو}: عاطفة. {قال الذي}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَ فِرْعَوْنُ}، وجملة {آمَنَ}: صلة الموصول، وجملة النداء. في قوله {يَا قَوْمِ}: في محل النصب مقول {قال}، {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَخَافُ}: خبره. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَخَافُ}، {مِثْلَ}: مفعول به لـ {أَخَافُ}. {مِثْلَ}: مضاف. {يَوْمِ}: مضاف إليه. {يَوْمِ}: مضاف. {الْأَحْزَابِ}: مضاف إليه، وكثرة الإضافة لا تخرج الكلام عن الفصاحة، لورودها في الكتاب والسنة. {مِثْلَ}: بدل عن {مِثْلَ} الأول، أو عطف بيان له وهو مضاف، {دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} مضاف إليه. {وَعَادٍ وَثَمُودَ}: معطوفان على {قَوْمِ نُوحٍ}. {وَالَّذِينَ}: في محل الجر معطوف على {قَوْمِ نُوحٍ} أيضًا. {مِنْ بَعْدِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، {وَمَا اللَّهُ}: {الواو}: عاطفة، {ما}: حجازية: {اللَّهُ} اسمها، وجملة {يُرِيدُ}: خبرها، {ظُلْمًا}: مفعول به لـ {يُرِيدُ}. {لِلْعِبَادِ}: متعلق بـ {ظُلْمًا} وجملة {ما} الحجازية: معطوفة على جملة {يَا قَوْمِ} على كونها مقولًا لـ {قال}. {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}. {وَيَا قَوْمِ}: معطوف على جملة النداء الأول، {إِنِّي}: ناصب واسمه. {أَخَافُ}: خبره، وجملة {إن}: معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها مقولًا لـ {قال} {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَخَافُ} {يَوْمَ التَّنَادِ}: مفعول به لـ {أَخَافُ}. {يَوْمَ}: مضاف، {التَّنَادِ}: مضاف إليه مجرور بالمضاف، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة تبعًا لرسم المصحف، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. {يَوْمَ}: بدل من {يَوْمَ} الأول. {تُوَلُّونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون. {مُدْبِرِينَ}: حال من فاعل {تُوَلُّونَ}، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {مَا}: نافية حجازية. {لَكُمْ}: خبرها مقدم {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {عَاصِمٍ} {مِنْ}: زائدة. {عَاصِمٍ}: اسمها مؤخر، وجملة {مَا} الحجازية: في محل النصب

حال ثانية من فاعل {تُوَلُّونَ}، ولك أن تهمل {مَا}؛ لتقدم خبرها، {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة. {ما}: تميمية أو حجازية. {لَهُ}: خبرها مقدم أو خبر مقدم {مِنْ}: زائدة. {هَادٍ}: اسمها مؤخر أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قال}. {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية أو عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {جَاءَكُمْ يُوسُفُ}: فعل ماض ومفعول به وفاعل، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من {يُوسُفُ}؛ أي: من قبل موسى، فبناء الظرف على الضم؛ لأن المضاف إليه منوي معناه {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جَاءَكُمْ} {فَمَا}: {الفاء}: عاطفة. {ما}: نافية. {زِلْتُمْ}: فعل ماض ناقص و {التاء}: اسمها. {فِي شَكٍّ}: خبرها، وجملة {زال} معطوفة على جملة {جَاءَكُمْ} {مِمَّا}: جار ومجرور صفة لـ {شَكٍّ} وجملة {جَاءَكُمْ}: صلة لـ {ما} الموصولة. {بِهِ}: متعلق بـ {جَاءَكُمْ} {حَتَّى}: حرف جر وغاية لقوله: {ما زلتم}، {إِذَا}: ظرف لما: يستقبل من الزمان. {هَلَكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {يُوسُفُ}. والجملة: في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب. {قُلْتُمْ}: فعل وفاعل جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} من فعل شرطها وجوابها: في محل الجر بـ {حَتَّى} تقديره: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} إلى قولكم وقت هلاكَه: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}: الجار والمجرور صفة ثانية لـ {شَكٍّ} أو متعلق بـ {زال} {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ} ناصب وفعل وفاعل {مِنْ بَعْدِهِ} جار ومجرور حال من {رَسُولًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول

{قُلْتُمْ}. {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}. {كَذَلِكَ}: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. {يُضِلُّ الله}: فعل وفاعل، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يُضِلُّ}. {هُوَ}: مبتدأ. {مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}: خَبرَانِ لَهُ، والجملة الاسمية: صلة {مَنْ} الموصولة، والتقدير: {يُضِلُّ الله} سبحانه {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}: إضلالًا مثل الإضلال الفظيع الواقع لفرعون وقومه، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَ}، {الَّذِينَ}: مبتدأ، {يُجَادِلُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول. {في آيَاتِ اللهِ}: متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}، {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ}: متعلق به أيضًا، وجملة {أَتَاهُمْ}: في محل الجر صفة لـ {سُلْطَانٍ}. {كَبُرَ}: فعل ماض قال على التعجب والاستعظام لجدالهم، وفاعله: ضمير مستتر يعود على المصدر المفهوم من {يُجَادِلُونَ}. {مَقْتًا}: تمييز محول عن الفاعل؛ أي: كبر مقت جدالهم؛ أي: المقت المرتب على جدالهم. {عِنْدَ اللهِ} متعلق بـ {كَبُرَ}، {وَعِنْدَ الَّذِينَ}: معطوف على {عِنْدَ اللهِ}، وجملة {آمَنُوا}: صلة {الَّذِينَ} وجملة {كَبُرَ}: من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، كبر جدالهم وعظم عند الله وعند الذين آمنوا من جهة كونه ممقوتًا، والجملة الاسمية: مستأنفة؛ لأنه ابتداء كلام من الله تعالى. قال أبو حيان في "النهر": والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون {الَّذِينَ}: مبتدأ، وخبره {كَبُرَ} والفاعل: ضمير المصدر المفهوم من {يُجَادِلُونَ}، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب لحسن مجاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وهنا أوجه عن الإعراب، أوصلها بعضهم إلى عشرة لا طائل تحتها، وأولاها بالذكور، وأقربها إلى المعقول ما ذكرناه، وقال أبو البقاء: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} فيه أوجه: أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين، وهم يرجع على قوله: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}؛ لأنه في معنى الجمع.

والثاني: أن يكون مبتدأ، والخبر {يَطْبَعُ الله} والعائد: محذوف؛ أي: على كل قلب متكبر منهم. {كَذَلِكَ}: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، وما بينهما معترض. الثالث: أن يكون الخبر {كَبُرَ مَقْتًا}؛ أي: كبر قولهم مقتًا. والرابع: أن يكون الخبر محذوفًا؛ أي: معاندون، ونحو ذلك. والخامس: أن يكون منصوبًا بإضمار أعني. وقال الزمخشري: الذين يجادلون بدل من {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} نظرًا لمعنى مَنْ لا للفظ بها, لأنها جمع في المعنى لأنه لا يريد مسرفًا واحدًا، فكأنه قال: كل مسرف، {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: طبعًا مثل ذلك الطبع. {يَطْبَعُ الله}: فعل وفاعل. {عَلَى كُلِّ}: متعلق بـ {يطبع}، {كُلِّ}: مضاف. {قَلْبِ}: مضاف إليه. {قَلْبِ}: مضاف. {مُتَكَبِّرٍ}: مضاف إليه. {جَبَّارٍ}: صفة {مُتَكَبِّرٍ} أو {مُتَكَبِّرٍ} على تنوين {قَلْبِ} صفة أولى له، {جَبَّارٍ}: صفة ثانية له. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا في تَبَابٍ (37)}. {وَقَالَ}: {الواو}: عاطفة. {قال فرعون}: فعل وفاعل معطوف على الجمل التي قبلها، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {يَا هَامَانُ}: منادى مفرد العلم في محل النصب مبني على الضم، وجملة النداء، في محل النصب مقول {قَالَ}، {ابْنِ}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير مستتر يعود على {هامان}، تقديره: أنت، والجملة: في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {لِي}: متعلق بمحذوف حال من {صَرْحًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليه. {صَرْحًا}: مفعول به، {لَعَلِّي}: ناصب واسمها، وجملة {أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}: خبر {لعل}، وجملة {لعل} في محل النصب مقول {قال}. {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}: بدل من الأسباب بدل كل من كل، وفائدة الإبدال: أن الشيء إذا أبهم ثم أوضح .. كان تفخيمًا لشأنه، وهذا هو مراد فرعون. {فَأَطَّلِعَ}: بالنصب {الفاء}: عاطفة سببية. {أطلعَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {الفاء} السببية

الواقعة في جواب الأمر، وهو {ابْنِ} أو في جواب الترجي وهو {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} وفاعله: ضمير مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ} تقديره: أنا، والجملة الفعلية، صلة أن المضمرة وأن مع صلتها: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ليكن بناؤُك صرحًا لي فاطلاعي إلى إله موسى، أو ليكن بلوغي الأسباب أسباب السموات، فاطلاعي على إله موسى، وقرىء {فأطلع} بالرفع، على أن {الفاء}: عاطفة مجردة عن معنى السبب على {أَبْلُغُ} فهو داخل في حيز الترجي، {إِلَى إِلَهِ مُوسَى}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أطلع} {وَإِنِّي}: {الواو}: عاطفة، {إني}: ناصب واسمه، {لَأَظُنُّهُ}: {اللام}: حرف ابتداء. {أظنه}: فعل مضارع ناسخ، وفاعل مستتر، ومفعول أول. {كَاذِبًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: معطوفة على جملة {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي} على كونها مقولًا لـ {قال}، {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية. {كَذَلِكَ}: {الكاف}: صفة لمصدر محذوف تقديره: تزيينًا مثل ذلك التزيين المذكور؛ أي: كتزيين القول المذكور له، {زُيِّنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لِفِرْعَوْنَ}: متعلق به، {سُوءُ عَمَلِهِ}: نائب فاعل لـ {زُيِّنَ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَصُدَّ}: فعل ماض مغير الصيغة معطوف على {زُيِّنَ}، ونائب فاعله: ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}، {عَنِ السَّبِيلِ} متعلق بـ {صُدَّ} {وَمَا}: {الواو}: عاطفة أو حالية. {ما}: نافية. {كَيْدُ فِرْعَوْنَ}: مبتدأ ومضاف إليه، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {في تَبَابٍ}: خبر المبتدأ، والجملة، معطوفة على جملة {زُيِّنَ}: أو حال من نائب فاعل {زُيِّنَ}. {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)}. {وَقَالَ الَّذِي}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَ فِرْعَوْنُ}، {آمَنَ}: فعل ماض وفاعل مستتر صلة {الَّذِي} {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قال}، {اتَّبِعُونِ}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {النون}: للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية: في محل النصب مفعول به، وقرىء: بإثباتها وحذفها وصلًا ووقفًا، هذا بالنظر للفظ، وأما في الرسم فهي محذوفة لا غير, لأنها من ياءات الزوائد، والجملة

الفعلية: في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء. {أَهْدِكُمْ}؛ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله: ضمير مستتر وجوبًا، تقديره: أنا و {الكاف}: مفعول به، {سَبِيلَ}: مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض، {الرَّشَادِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية. جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، ولكنها في محل النصب مقول {قال}. {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}. {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قال}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، بمعنى ما النافية وإلا المثبتة، {هَذِهِ}: مبتدأ. {الْحَيَاةُ} بدل، {الدُّنْيَا}: نعت {الْحَيَاةُ} {مَتَاعٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قال}. {وَإِنَّ}: {الواو}: عاطفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {الْآخِرَةَ}: اسمها {هِيَ}: ضمير فصل أو مبتدأ. {دَارُ الْقَرَارِ}: خبر {إِنَّ} أو خبر {هِيَ}، والجملة خبر {إنّ}، وجملة {إنّ}: في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قال}، {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، {عَمِلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {سَيِّئَةً}: مفعول به {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية جوازًا. {لا}: نافية. {يُجْزَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر تقديره: هو يعود على {مَنْ}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مِثْلَهَا}: مفعول ثان لـ {يُجْزَى} والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: في محل النصب مقول {قال}، {ومن}: {الواو}: عاطفه. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، {عَمِلَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}، {صَالِحًا}: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. {مِنْ ذَكَرٍ}: حال من فاعل {عَمِلَ}. {أَوْ أُنْثَى}: معطوف على {ذَكَرٍ}. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل

النصب حال من فاعل {عَمِلَ}. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مِنْ} الشرطية وجوبًا. {أولئك}: مبتدأ. {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {يُرْزَقُونَ}: فعل ونائب فاعل. {فِيهَا}: جار ومجرور حال من {واو}: {يُرْزَقُونَ} أو متعلق به {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لمفعول به محذوف، تقديره: {يُرْزَقُونَ} رزقًا واسعًا بلا حساب ولا تبعة، وجملة {يُرْزَقُونَ}: في محل النصب حال من {واو} {يَدْخُلُونَ}. التصريف ومفردات اللغة {وَسُلْطَانٍ} والسلطان: الحجة والبرهان. {فِرْعَوْنَ}: ملك القبط بالديار المصرية. {وَهَامَانَ}: وزيره. {وَقَارُونَ}: كان أكثر الناس في زمانه تجارةً ومالًا. {كَذَّابٌ} والكذاب: هو الذي عادته الكذب، بأن يكذب مرةً بعد أخرى، ولم يقولوا: سحار؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر، وأن سحرتهم أسحر منه، كما قالوا: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)} كما مر في مبحث التفسير. {أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}: {الهمزة}: فيه مبدلة من واو أصله أبناو أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {واستحيوا}: أصله استحييوا: أمر من استحيي من باب استفعل، ومضارعه: يستحييون استثقلت الضمة على الياء الثانية، فنقلت إلى الأولى بعد سلب حركتها، ثم حذفت الياء الثانية لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ لأنها لما سلبت حركتها .. سكنت فوزنه استفعوا. {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} من عاذ يعوذ، كقال يقول، أصله: عوذ، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار عاذ، كقال، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك .. سكن آخره، فالتقى ساكنان: الألف والذال الساكنة، فحذفت الألف ثم سلبت حركة الفاء وعوض عنها شكلة مجانسة للعين المحذوفة التي هي الواو، والمجانس لها هو الضمة، فقيل: عذت بوزن قلت بضم الفاء، والعوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به. {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}؛ أي: اتركوني، يقال: ذره؛ أي: دعه، يذره تركًا ولا

تقل وذرًا، وأصله: وذره يذره، كوسعه يسعه، لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل كما في "القاموس". {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} والرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون، وولى عهده وصاحب شرطته، وهو الذي نجا مع موسى - عليه الصلاة والسلام -، وهو المراد بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وآل الرجل، خاصته الذي يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، واسمه: شمعان، بالمعجمة على وزن سلمان، كما مر. وأصله: أهل أبدلت الهاء همزةً توصلًا لإبدالها ألفًا، ثم أبدلت ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الهمزة المفتوحة قبلها، وقيل: إن أصله أول، قلبت الواو همزةً لتحركها وانفتاح ما قبلها. قال الشاطبي - رحمه الله تعالى - مبينًا الخلاف في كلمة آل: فإِبدالُهُ من هَمزةٍ هاءٌ اصْلُها ... وقد قالَ بعضُ النَّاسِ مِنْ واوٍ ابْدِلا {بِالْبَيِّنَاتِ} وهي الشواهد الدالة على صدقه. {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا}: {يَكُ}: مضارع كان، وأصله: يكون بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت إثر ضم فصارت حرف مد، ولما دخل الجازم {إِنْ} الشرطية على الفعل .. سكن آخره فصار اللفظ يكونْ، فالتقى ساكنان فحذفت الواو لذلك، ثم حذفت النون أيضًا حذفًا غير مطرد، كما ذكره في "الخلاصة" بقوله: وَمِنْ مُضَارعٍ لكَانَ مُنْجَزِمْ ... تُحْذَفُ نُوْنٌ وَهُوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} المسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري. {يَوْمَ التَّنَادِ} هو يوم القيامة، تَسَمَّى بذلك لأن الناس ينادي فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة. قال أمية بن أبي الصلت: وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيْهَا إِذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِ وأصله: يوم التنادي بالياء، على أنه مصدر تنادى القوم بعضهم بعضًا تناديًا بضم الدال، ثم كسر لأجل مناسبة الياء المحذوفة لتناسب الفواصل، وأصل هذه الياء واو من الندوة، وهو مكان الالتقاء. {يَوْمَ تُوَلُّونَ} أصله: توليون استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت اللام لمناسبة الواو.

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} الدأب: العادة المستمر عليها والشأن. {فَمَا زِلْتُمْ} من زال يزال، كخاف يخاف أصل زال: زول، كخاف أصله: خوف قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، سكن آخره فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار اللفظ: زلتم فحذفت حركة الفاء، ونقلت إليه شكلة العين المحذوفة، وهي الكسرة لأن ماضيه من باب فعل بكسر العين، فقيل {زِلْتُمْ} بوزن فِلتم. {يُضِلُّ الله} أصله: يضال نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية، {مُرْتَابٌ} فيه إعلال بالقلب، أصله: مرتيب بصيغة اسم الفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {صَرْحًا} والصرح: القصر الشامخ المنيف. وفي "المصباح": الصرح بيت واحد يبنى مفردًا طويلًا ضخمًا. وفي "الكشاف": الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعد اشتقوه من صرح الشيء بالتشديد إذا ظهر، فإنه يكون لازمًا أيضًا، وفي "السمين" في سورة النمل: الصرح: القصر أو صحن الدار أو بلاط يتخذ من زجاج، وأصله: من التصريح، وهو: الكشف. اهـ. وهذه المادة عجيبة في مدلولها, لإنها تدل في جميع مشتقاتها على الظهور والإبانة، قالوا: لبن صريح: إذا ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح، من عرب صرحاء غير هجناء، ونسب صريحٍ، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحةً؛ أي: مجاهرةً، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، وصرح بما في نفسه وبنى صرحًا وصروحًا وقعد في صرحة داره؛ أي: في ساحتها. {الْأَسْبَابَ}: جمع سبب، وهو ما يتوصل به إلى شيء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا: الأبواب، قال زهير بن أبي سلمى: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ والسبب أيضًا: من مقطعات الشعر حرف متحرك وحرف ساكن، أو حرفان متحركان، والأول يسمى خفيفًا، والثاني ثقيلًا. {إِلَّا في تَبَابٍ} والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}. {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أصله:

فأطتلع، أبدلت تاء الافتعال طاءً وأدغمت فيها الطاء. {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} أصله: أظننه بوزن أفعله، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء فسكنت فأدغمت في الثانية. {سَبِيلَ الرَّشَادِ} والرشد والرشاد: الاهتداء لمصالح الدنيا والدين. {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} والمتاع: اسم مصدر من تمتّع بمعنى المتعة، وهي التمتع والانتفاع، لا بمعنى السلعة؛ لأنّ وقوعه خبرًا عن الحياة الدنيا يمنع منه. اهـ من "الروح". البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: عطف الخاص على العام في قوله: {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ تفخيمًا لشأن الخاص. ومنها: تخصيص فرعون وهامان بالذكر؛ لأنّ الإرسال إليهما إرسال إلى القوم كلهم. ومنها: المبالغة في قوله: {كَذَّابٌ}، وفي قوله: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. ومنها: المقابلة بين القتل والاستحياء في قوله: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}. ومنها: إطلاق الجمع على الواحد في قوله: {قَالُوا اقْتُلُوا} لأنّ القائل هو فرعون وحده؛ لأنه بمنزلة الكل، كما في قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ} إشعارًا بعلة الحكم، وذمًّا لهم بالكفر، وحق العبارة أن يقال: وما كيدهم. ومنها: الاعتراض بهذه الجملة في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه، وإضمحلاله بالمرة، اهـ "أبو السعود". ومنها: الإتيان بلام الأمر في قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} للتعجيز؛ لأنه أمر تعجيز بزعمه أنّ موسى لا يمنعه ربّه منه. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا}.

ومنها: الطباق بين قوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} وقوله: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا}. ومنها: إعادة النكرة نكرة في قوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} بعد قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} لأنّ المراد بالنكرة الثانية غير الأولى, لأنّ المراد بالأولى شمعان ابن عمّ فرعون، وبالثانية موسى جريًا على القاعدة المشهورة عندهم المذكورة في قول بعضهم: ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ ... إِذَا أَتَت نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِيْ ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ ومنها: الحصر المستفاد من تعريف طرفي الجملة في قوله: {رَبِّيَ الله} مثل: صديقي زيد لا غير. ومنها: الإتيان بضمير المخاطبين في قوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} حيث لم يقل من ربه، تهييجًا لهم على التأمل في أمره، والاعتراف به، وترك المكابرة معه؛ لأنّ ما كان من قبل رب الجميع يجب اتباعه، وإنصاف مبلغه. اهـ من "الروح". ومنها: التعريض في قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} لأنه عرّض به لفرعون؛ لأنه {مُسْرِفٌ} حيث قتل الأبناء بلا جرم {كَذَّابٌ} حيث ادّعى الألوهية، لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة، بل يفضحه ويهدم أمره. ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) ...} إلخ. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ}، وقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} وقوله: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ}. ومنها: الإسناد العقلي في قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي} لما فيه من إسناد ما للعَمَلَةِ إلى الآمر. ومنها: الإبهام ثم الإيضاح في قوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} لأنّ في إبهامها أولًا، ثم إيضاحها تفخيمًا لشأنها، وتشويقًا للسامع إلى معرفتها.

ومنها: المقابلة بين قوله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} وقوله: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} فقد قابل بين الدنيا والآخرة، وهي من المحسنات البديعية. ومنها: التنوين في قوله: {مَتَاعٌ} إفادة للتقليل. ومنها: التعريض في قوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فإن فيها تعريضًا بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال. ومنها: المقابلة في قوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً}، وقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}. ومنها: الطباق في قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدُّنْيَا وَلَا في الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (63) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}.

المناسبة قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (¬1) هذا المؤمن لما رأى تمادي قومه في تمردهم وطغيانهم .. أعاد إليهم النصح مرةً أخرى، فدعاهم أولًا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بيّن لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هي الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله، الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا ببيان أنْ الأصنام لا تستجاب لها دعوه، فلا فلائدة في عبادتها، ومردُّ الناس جميعًا إلى الله العلم بكل الأشياء، وهو الذي يجازي كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار، ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله، وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به، ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبّروه له، وحفظه مما أرادوه به من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم ردّ على أولىك المبطلين المجادلين، تسليةً لرسوله، وتصبيرًا له على تحمل أذى قومه .. أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله تعالى، فهو ينصر الأنبياء والرسل، ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم، ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أنّ النصرة لهم آخرًا مهما تقلبت بهم الأمور. وعبارة أبي حيان هنا قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر (¬2) ما حل بآل فرعون، واستطرد من ذلك إلى ذكر شيء من أحوال الكفار في الآخرة .. عاد إلى ذكر ما منح رسوله موسى عليه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

السلام، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} تأنيسًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتذكيرًا لما كانت العرب تعرفه من قصة موسى عليه السلام. انتهى. قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه لما ذكر (¬2) فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أَقْبسة وَهْميّة وقَضايا جَدلية، كقولهم: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} وقولهم: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)} .. ذكر هنا برهانًا يؤيد إمكان حدوثه، ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداءً على عِظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك .. فهو قادر على إعادتكم، كما جاء في الآية الأخرى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}. قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلّا بطاعة الله، والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء؛ أي العبادة لا جرم، أمر الله تعالى بها في هذه الآية، ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود .. ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار، وخلق السموات والأرض، وخلق الإنسان في أحسن صورة، ورزقه من الطيبات. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ...} الآية، سبب نزولها (¬3): ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية: إن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الدجال يكون منّا في آخر الزمان، ويكون من أمره كذا وكذا، فعظّموا أمره وقالوا: نصنع كذا وكذا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}، قال: لا يبلغ الذي يقول: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} فأمر نبيّه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[41]

أن يتعوّذ من فتنة الدجال، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية. قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} قال عظمة قريش. التفسير وأوجه القراءة 41 - ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءَهم إلى الله، وصرّح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة، من إبهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى لتذكيرهم، كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرًا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة، فقال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي} الاستفهام فيه: للتوبيخ المضمن للتعجب؛ أي: أي شيء ثبت لي من المصالح حال كوني {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}؛ أي: إلى الإيمان الذي يوجب لكم النجاة من النار، شفقةً عليكم، واعترافًا بحقكم. {و} أيّ شيء ثبت لكم من المصالح في أنكم {تَدْعُونَنِي إِلَى} الكفر الذي يوجب لي الهلاك في {النَّارِ}. وفي "روح البيان" قوله: {أَدْعُوكُمْ} في موضع (¬1) الحال من المنويّ في الخير، وتدعونني عطف عليه، ومدار التعجب دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قيل: أخبروني كيف هذا الحال، أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر، وقال بعضهم: معنى {مَا لِي أَدْعُوكُمْ} ما لكم أدعوكم. إلخ. فهو من قبيل ما لي أراك حزينًا؟ أي: ما لك تكون حزينًا؟ قال الزمخشري (¬2): فإن قلت: لِمَ جاء بالواو في النداء الأول والثالث دون الثاني؟. قلت: لأنّ الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث: فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. اهـ "سمين". وعبارة الكرخي: ترك العطف في النداء الثاني؛ لأنه تفصيل لإجمال الأول، وهنا عطف لأنه ليس بتلك المثابة؛ لأنه كلام مباين للأول والثاني، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف.

[42]

فحسن إيراد الواو العاطفة فيه. اهـ. والمعنى: أي أخبروني كيف أنتم وما حالكم أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله، وإجابة رسوله، وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعونني إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟ 42 - ثم فسّر الدعوتين على سبيل السلف والنشر المشوّش بقوله: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ} أي: بوحدانيته {و} لـ {أُشْرِكَ بِهِ} سبحانه {مَا}؛ أي: مخلوقًا {لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}؛ أي: ليس لي علم بشركته مع الله في المعبودية، وقيل: علم بربوبيته، والمراد: نفي المعلوم رأسًا، وهو المعبود، فضلًا عن عبادته. وهذه الجملة (¬1): بدل من {تَدْعُونَنِي} الأول على جهة البيان والتعليل لها والدعاء، كالهداية في التعدية بإلى واللام، وأتي في قوله: {تَدْعُونَنِي} بجملة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وأتي في قوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ} إلخ. بجملةٍ اسمية؛ ليدل على ثبوت دعوته وتقويتها. اهـ "سمين". أي: وأنا أدعوكم {إِلَى} توحيد {الْعَزِيزِ} في انتقامه ممن أشرك به، وإلى عبادة {الْغَفَّارِ} لذنب من آمنَ بِهِ؛ أي: أدعوكم إلى الإيمان بالعزيز الذي لم يكن له كفوًا أحد، وأما المخلوقات فبعضها أكفاء بعض، وأيضًا إلى القادر على تعذيب المشركين به، الغفار لمن تاب ورجع إليه، القادر على غفران ذنوب المذنبين. والمعنى: أي تدعونني إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة، والقدرة على التعذيب والغفران. 43 - ثم أكّد ما سلف بقوله: {لَا جَرَمَ} {لا}: كلمة (¬2) نفي ورد لما ادعوه وزعموه من الكفر والإشراك، و {جَرَمَ}: فعل ماض بمعنى حق: وثبت، وفاعله: قوله تعالى: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}؛ أي: إلى عبادته وإشراكه من الأوثان والأصنام {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} للناس {في الدُّنْيَا} إلى عبادته {وَلَا} استجابة دعوة أحدٍ لها {في الْآخِرَةِ} للشفاعة. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

والمعنى: لا أكفر بالله ولا أشرك به ما ليس لي به علم, لأنه قد حق ووجب وثبت عدم دعوة آلهتكم إلى عبادة نفسها أصلًا، ومن حق المعبود أن يدعو الناس إلى عبادته بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهذا الشأن منتفٍ عن الأصنام بالكلية، لأنها في الدنيا جمادات لا تستطيع دعاء غيرها، وفي الآخرة إذا أنشأها الله حيوانًا ناطقًا .. تتبرأ من عبدتها. أو المعنى: حتى وثبت عدم استجابة دعوة أحد من الناس لها؛ أي: ليس لها استجابة دعوة أحد من الناس، لا في الدنيا بالبقاء والصحة والغنى ونحوها, ولا في الآخرة بالنجاة ورفعة الدرجات وغيرهما، كما قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} فكيف تكون الأصنام ربًّا وليس لها قدرة على إجابة دعاء الداعين، ومن شأن الرب استجابة الدعوات وقضاء الحاجات. وقيل: {جَرَمَ} بمعنى: كسب وفاعله: مستكن فيه؛ أي: لا أكفر بالله ولا أشرك به شيئًا لدعوتكم إيّاي إلى ذلك، بل كسب ذلك الدعاء إلى الكفر والإشراك، وأفاد وأثبت بطلان دعوته؛ أي: بطلان دعوة المدعو إليه بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته؛ كأنه قيل: إنكم تزعمون أن دعاءكم إلى الإشراك يبعثني على الإقبال عليه، وأنه سبب الإعراض وظهور بطلانه، وقال: {جَرَمَ}: فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بد من لا بد، فعل من التبديد، وهو التفريق. والمعنى: لا قطع؛ أي: لا انقطاع لبطلان ألوهية الأصنام؛ أي: لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقًا، فيكون {جَرَمَ} اسم لا مبنيًا على الفتح لا فعلًا ماضيًا، كما هو على الوجهين الأولين. وفي "القاموس": {لَا جَرَمَ}؛ أي: لا بدّ أو حقًا أو لا محالة، أو هذا أصله، ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم، فلذلك يجاب عنه باللام فيقال: لا جرم لآتينّك. انتهى. وفي "المختار": وقولهم لا جرم، قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرَت على ذلك وكثرت، حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنه باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: لا جرم لآتينك. اهـ. والخلاصة: حقًا إن ما تدعونني إليه من الأصنام لا يجب دعوة من يدعوه،

[44]

فهو لا ينفع ولا يضرّ في الدنيا ولا في الآخرة. وقوله: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا}؛ أي: مرجعنا {إِلَى اللهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: بالموت ومفارقة الأرواح الأجسادَ: معطوف على قوله: {إنما تدعونني} داخل في حكمه، وكذا قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: المجاوزين الحدّ في الضلال والطغيان، كالإشراك وسفك الدماء {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها وخالدون فيها. والمعنى: وحق أن مرجعنا ومصيرنا إليه سبحانه بالموت أولًا، وبالبعث آخرًا، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، وحق أن المسرفين؛ أي: المستكبرين من معاصي الله هم أصحاب النار، قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين، وقال مجاهد والشعبيُّ: هم السفهاء السفّاكون للدماء بغير حقها، الذين ركبوا أهواءَهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي، 44 - ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم؛ ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم، فقال: {فَسَتَذْكُرُونَ}؛ أي: فسيذكر بعضكم بعضًا عند معاينة العذاب {مَا أَقُولُ لَكُمْ} من النصائح وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، فتندمون حيث لا ينفع الندم، وفي هذا الإبهام من التهديد والتخويف ما لا يخفي. ثمّ ابتدأ كلامًا آخر يبيِّن به اطمئنانه إلى ما يجري به القدر، ويخبئه له الغيب، كما هو دأب المؤمنين الصادقين، فقال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي}؛ أي: أرد أمري وشأني {إِلَى اللهِ} سبحانه وتعالى، وأسلمه إليه وأتوكل عليه ليعصمني من كل سوء، قاله؛ لما أنهم كانوا توعّدوه بالقتل. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فطلبوه فلم يقدروا عليه، وقيل (¬1): القائل هو موسى عليه السلام، والأول أولى. وحقيقة التفويض: تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى، كما في "عين المعاني": وكمال التفويض أن لا يرى لنفسه ولا للخلق جميعًا قدرةً على النفع والضرّ، كما في "عرائس" البقلي: قال بعضهم: التفويض قبل نزول القضاء، والتسليم بعد نزوله. ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال: {إِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يعلم المحق من المبطل، فيحرس من يلوذ به من المكاره ويتوكل عليه؛ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[45]

أي: إن الله سبحانه خبير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة. ودلت الآية (¬1): على أن الله تعالى مطلع على العباد وأحوالهم، فلا بد من تصحيح الحال ومراقبة الأحوال، وروي أنّ نبيًّا من الأنبياء كان يتعبّد في جبل وكان في قرية عين جارية، فجاز بها فارس، وشرب منها ونسي عندها صرّة فيها ألف دينار، فجاء آخر فأخذ الصرة، ثم جاء رجل فقير على ظهره حزمة حطب، فشرب واستلقى ليستريح، فرجع الفارس لطلب الصرة فلم يرها، فأخذ الفقير فطلبها منه فلم يجدها عنده، فعذبه حتى قتله، فقال ذلك النبي: إلهي، ما هذا أخذ الصرة، بل أخذها ظالم آخر، وسلّطت هذا الظالم عليه حتى قتله، فأوحى الله تعالى إليه أن اشتغل بعبادتك، فليس معرفة مثل هذا من شأنك، إن هذا الفقير قد قتل أبا الفارس، فمكّنته من القصاص، وأنّ أبا الفارس قد كان أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة فرددته إليه من تركته، ذكره الغزالي - رحمه الله تعالى -. 45 - ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوة، فقال: {فَوَقَاهُ الله} سبحانه وتعالى؛ أي: فوّض ذلك المؤمن أمره إلى الله تعالى، فوقاه الله تعالى؛ أي: حفظه الله سبحانه وتعالى {سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}؛ أي: حفظه الله تعالى من شدائد مكرهم، وما همُّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم؛ أي: حفظه الله مما أرادوا به من المكر السيء في الدنيا، إذ نجّاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم. {وَحَاقَ}؛ أي: أحاط ونزل بـ {آلِ فِرْعَوْنَ} وقومه {سُوءُ الْعَذَابِ}؛ أي: العذاب السيء في الدنيا بالغرق في اليم. والمراد بآل فرعون: فرعون وقومه، وترك التصريح به (¬2) للاستغناء بذكرهم عن ذكره؛ لكونه أولى منهم بذلك من حيث كونه متبوعًا لهم، ورئيسًا ضالًا، أو المراد بآل فرعون: نفسه، والأول أولى، وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوا بالسوء، وقد روي عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه .. قصد فرعون قتله فهرب ونجا، وهذا عذابهم في الدنيا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[46]

46 - ثم بيَّن عذابهم في البرزخ بقوله: {النَّارُ}؛ أي: نار جهنم، وهو مبتدأ، خبره: {يُعْرَضُونَ}؛ أي: يعرض فرعون وآله {عَلَيْهَا}؛ أي: على النار، ومعنى عرضهم على النار: إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها {غُدُوًّا وَعَشِيًّا}؛ أي: في أول النهار وآخره، وذكر الوقتين: إما للتخصيص، وإما فيما بينهما، فالله تعالى أعلم بحالهم إما أن يعذّبوا بجنس آخر، أو بنفس عنهم، وإما للتأييد كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}؛ أي: على الدوام، فارتفاع {النَّارُ} (¬1) علي أنها بدل من {سُوءُ الْعَذَابِ} وقيل: على أنها خبر مبتدإٍ محذوف، أو مبتدأً، خبره: {يُعْرَضُونَ} كما مر، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب، وهي على تقدير فعل يفسره {يُعْرَضُونَ} من حيث المعنى؛ أي: يدخلون النار، يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفراء الخفض على البدل من {الْعَذَابِ}. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار مرتين، فيقال: يا آل فرعون هذه داركم، قال ابن الشيخ في "حواشيه": وهذا يؤذن بأنّ العرض ليس بمعنى التعذيب والإحراق بل بمعنى الإظهار والإبراز، وأنّ الكلام على القلب، كما في قولهم: عرضت الناقة على الحوض، فإن أصلح: عرضت الحوض على الناقة بسوقها إليه، وإيرادها عليه (¬2)، فكذا هنا أصل الكلام: تعرض عليهم؛ أي: على أرواحهم، بأن يساق الطير التي أرواحهم فيها؛ أي: في أجوافها إلى النار، وفي الحديث: إن أحدكم إذا مات .. عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة .. فمن الجنة، وإن كان من أهل النار .. فمن النار، يقال: هذا مقعدك حين يبعثك الله يوم القيامة. أخرجه البخاري ومسلم. يقول الفقير: أما كون أرواحهم في أجواف طير سود .. فليس المراد ظرفية الأجواف للأرواح حتى لا يلزم التناسخ، بل هو تصوير لصور أرواحهم البرزخية، وأما العرض بمعنى الإظهار .. فلا يقتضي عدم التعذيب، فكل روح إما معذَّب أو منعم، وللتعذيب والتنعيم مراتب، ولأمر ما ذكر الله تعالى عرض أرواح آل فرعون على النار، فإنّ عرضها ليس كعرض سائر الأرواح الخبيثة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وهذا العرض ما دامت الدنيا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} وتعود الأرواح إلى الأبدان، يقال للملائكة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: فرعون وقومه {أَشَدَّ الْعَذَابِ} وأغلظه؛ أي: عذاب جهنم، فإنه أشد مما كانوا فيه، فإنه للروح والجسد جميعًا، وهو أشد مما كان للروح فقط، كما في البرزخ، وذلك أن الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسي جسماني، ولكن ذلك نعيم أو عذاب معنوي روحاني، حتى تبعث أجسادها فترد إليها، فتعذب عنه ذلك حسًا ومعنًى أو تنعم. ويجوز أن المعنى (¬1): أدخلوا آل فرعون أشد عذاب جهنم، فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض، وفي الحديث: "أهون أهل النار عذابًا رجل في رجليه نعلان من نار، يغلي منهما دماغه". ومعنى الآية (¬2): أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشي، وينفس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. قال بعض العلماء: وفي الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحدكم إذا مات .. عرض عليه مقعده بالغداة والعشي" ... الحديث. كما مر ثم قرأ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}. قال العلماء (¬3): عذاب القبر هو عذاب البرزخ، أضيف إلى القبر؛ لأنه الغالب، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما أراد به، قبر أو لم يقبر، بأن صلب أو غرق في البحر، أو أحرق حتى صار رمادًا، وذري في الجو، قال إمام الحرمين: من تفرقت أجزاؤه يخلق الله الحياة في بعضها أو كلها، ويوجه السؤال عليها، ومحل العذاب والنعيم؛ أي: في القبر هو: الروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة، قال اليافعي: وتختص الأرواح دون الأجساد بالنعيم والعذاب ما دامت في علّيين أو سجين، وفي القبر يشترك الروح والجسد. قال الفقيه أبو الليث: الصحيح عندي أن يقر الإنسان بعذاب القبر ولا يشتغل بكيفيته، وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحسن محسن مسلم أو كافر .. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[47]

إلا أثابه الله" قلنا يا رسول الله: ما إثابة الكافر؟ قال: "المال والولد والصحة وأشباه ذلك" قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: "عذابًا دون العذاب" وقرأ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. وقد أثبت علماء الأرواح حديثًا (¬1): نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد، يقوم أحدهما مذعورًا كئيبًا وجلًا مما شاهد في نومه بينما نرى الثاني مستبشرًا فرحًا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروي أنه كان في حديقةً غناء، وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء وجمال ورواء. وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة ونافع وحمزة والكسائي وحفص (¬2): {أَدْخِلُوا} أمرًا للخزنة، من أدخل الرباعي، وهو على تقدير القول كما ذكرنا، وقرأ علي والحسن وقتادة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر: {ادخلوا} بهمزة وصل من دخل الثلاثي، أمرًا لآل فرعون بالدخول، بتقدير حرف النداء؛ أي: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب. 47 - والظرف في قوله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ} متعلق (¬3) بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك وقت محاجة ومخاصمة أهل النار في النار، سواء كانوا آل فرعون أو غيرهم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، ثم شرح مخاصمتهم بقوله: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} منهم في القدر والمنزلة والحال في الدنيا {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن الانقياد للأنبياء والاتباع لهم، أي: أظهروا الكبر باطلًا، وهم رؤساؤُهم، ولذا لم يقل الكبراء؛ لأنه ليس الكبرياء صفتهم في نفس الأمر {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ} في الدنيا {تَبَعًا}؛ أي: أتباعًا في كل حال خصوصًا فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب، جمع تابع، كخدم جمع خادم، كما سيأتي البحث عنه في المفردات. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} ونافعون لنا اليوم ودافعون {عَنَّا نَصِيبًا}؛ أي: بعضًا وجزءًا {مِنَ النَّارِ} باتباعنا إياكم، فقد كنا في الدنيا ندفع المؤونة عنكم، يقال: ما يغني عنك هذا؛ أي: ما يجزيك وينفعك، و {نَصِيبًا}: منصوب بمضمر يدل عليه {مُغْنُونَ} فإن أغنى إذا عدي بكلمة عن .. لا يتعدى إلى مفعول آخر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[48]

بنفسه، كما سيأتي. 48 - {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تكبروا وتعظموا عن الإيمان, وهم القادة للسفلة {إِنَّا كُلٌّ}؛ أي: كلنا نحن وأنتم، وبهذا صح وقوعه مبتدأَ خبره: {فِيهَا}؛ أي: في النار، فكيف نغني عنكم، ولو قدرنا .. لأغنينا عن أنفسنا. وقرأ الجمهور (¬1): {كُلٌّ} بالرفع على الابتداء، وخبره: {فِيهَا} والجملة: خبر {إِنَّ} وقرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر {إنا كلًّا} بنصب كل. قال الزمخشري وابن عطية: على التوكيد لاسم {إن} وهو معرفة، والتنوين عوض عن المضاف إليه، فكأنه قال: إنا كلنا فيها، وخبر {إن} هو {فِيهَا}. قال أبو حيان: والذي أختاره في هذه القراءة: أن {كلا}: بدل من اسم {إن} لأن {كلًّا} يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه، فكأنه قال: إنّ كلًّا فيها، وقيل: حال من الضمير المستكن في خبر {إن} أعني فيها؛ أي: إنا كائنون فيها، حال كوننا كلًّا. ومعنى الآية (¬2): أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا، فهل تقدرون أن تحملوا عنا قسطًا من العذاب فتخففوه عنا؟ فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولولا أنتم .. لكنا مؤمنين، ومقصدهم من هذا المقال: تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، فرد عليهم أولىك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} الخ؛ أي: قال: رؤساؤهم الذي أبو الانقياد للأنبياء: إنا جميعًا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا .. لدفعناه عنكم. وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء. {إِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {قَدْ حَكَمَ} وقضى {بَيْنَ الْعِبَادِ} بماهية (¬3) كل أحد، فأدخل المؤمنين الجنة على تفاوتهم في الدركات، والكافرين النار على طبقاتهم في الدرجات، ولا معقب لحكمه؛ أي: حكم بينهم بفصل قضائه، فلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[49]

يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، وكل منا كافر وكل منا يستحق العقاب، ولا يغني أحد عن أحد شيئًا. 49 - ولما يئس الأتباع من المتبوعين .. رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ} من الضعفاء والمستكبرين جميعًا لما ذاقوا شدة العذاب، وضاقت حيلهم. {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ}؛ أي: للقوام بتعذيب أهل النار، جمع خازن من الخزن وهو: حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل حفظ، كحفظ السر ونحوه، ووضع {جَهَنَّمَ} موضع الضمير؛ للتهويل والتفظيع، وهي اسم لنار الله الموقدة: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} شافعين لنا {يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا}؛ أي: في مقدار يومٍ واحدٍ من أيام الدنيا {مِنَ الْعَذَابِ}؛ أي: شيئًا منه، فقوله: {يَوْمًا}: ظرف لـ {يُخَفِّفْ} ومفعوله: محذوف و {مِنَ الْعَذَابِ}: بيان لذلك المحذوف، واقتصارهم (¬1) في الاستدعاء على تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأسًا، أو تخفيف قدر كثير منه في زمان مديد لعلمهم بعدم كونه في حيز الإمكان. والمعنى (¬2): أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، رجاء أن يجدوا لديهم فرجًا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم شيئًا من العذاب. 50 - فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب، فـ {قَالُوا}؛ أي: الخزنة لهم بعد مدة {أَوَلَمْ تَكُ}: {الهمزة} فيه: للاستفهام التوبيخي التقريعي، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: ألم تنبهوا على هذا ولم تك {تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ} في الدنيا على الاستمرار {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالحجج الواضحة الدالة على سوء عاقبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي، أرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة؛ أي: أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به، وتبرؤوا مما دونه من الآلهة، فأجابوهم فـ {قَالُوا} أي الكفرة في جواب الخزنة {بَلَى} أي أتونا بها فكذبناهم كما في سورة المُلك أي قالوا أتونا بها فكذبناهم ولم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

نؤمن بهم ولا بما جاؤوا به من البينات الواضحة والبراهين الساطعة وحينئذ، تهكم بهم خزنة جهنم فـ {قَالُوا} لهم: إذا كان الأمر كذلك. {فَادْعُوا} أنتم بأنفسكم، فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره منا, ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم في الإجابة، بل إقناطهم منها، وإظهار حقيقتهم حسبما صرحوا به في قولهم {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} لأنفسهم، فالمصدر مضاف لفاعله، أو وما دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب عنهم، فالمصدر مضاف إلى مفعوله {إِلَّا في ضَلَالٍ}؛ أي: إلا في ضياع وبطلان لا يجاب, لأنهم دعوا في غير وقته. والمعنى (¬1): أي قالوا لهم؛ أي: قالت الخزنة لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم .. فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا نعدو لمن كفر بالله، وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئًا، فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا، فإنه لا يستجاب لكم، ولا يخفف عنكم. روى الترمذي وغيره، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يلقى على أهل النار الجوع، حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلون لا يغني عنهم شيئًا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم .. شواها، فإذا وقع في بطونهم .. قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فيجيبونهم {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ}. وقد اختلف العلماء (¬2) في أنه هل يجوز أن يقال: يستجاب دعاء الكافرين فمنعه الجمهور لقوله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ} ولأن الكافر لا يدعو الله, لأنه لا يعرفه, لأنه وإن أقر به لما وصفه بما لا يليق به نقض إقراره، وما روي في الحديث: "إن دعوة المظلوم وإن كان كافرًا تستجاب". فمحمول على كفران النعمة، وجوزه بعضهم لقوله تعالى حكايةً عن إبليس: {رب أنظرني}؛ أي: أمهلني ولا تمتني سريعًا، فقال الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} فهذه إجابة لدعائه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[51]

فإذا ثبت أن الله تعالى يجيب الدعوات، لا ما سواه من الأصنام ونحوها .. فلا بد من توحيده، وإخلاص الطاعة والعبادة له، وعرض الافتقار إليه، إذ لا ينفع الغير لا في الدنيا ولا في الآخرة، جعلنا الله سبحانه وإياكم من التابعين للهدى، المحفوظين من الهوى، آمين. 51 - وجملة قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا}: مستأنفة من جهته تعالى، والإتيان بالنون دلالةً على استحقاقه العظمة، أو باعتبار الصفات أو المظاهر، والنصر: العون؛ أي: نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}: معطوف على {رُسُلَنَا}؛ أي: لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم واتبعوهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة المغلوبية امتحانًا، إذ العبرة إنما هي بالعقوبات وغالب الأمر، وأيضًا ما يقع في بعض الأحيان من الانهزام إنما كان يعارض كمخالفة أمر القائد، كما في غزوة أحد، وكطلب الدنيا والعجب والغرور كما في بعض وقائع المؤمنين، وأيضًا أن الله تعالى ينتقم من الأعداء ولو بعد حين، كما بعد الموت؛ ألا ترى أن الله انتقم ليحيى عليه السلام بعد استشهاده من بني إسرائيل، بتسليط بختنصر عليهم حتى قُتل منهم سبعون ألفًا. والظاهر (¬1) في دفع التعارض بين قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} وبين قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن - رحمه الله تعالى - من أنه: لم يقتل من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر كما في "تفسير القرطبي" في سورة البقرة، وكان زكريا ويحيى وشعيب ونحوهم عليهم السلام ممن لم يؤمر بقتال {وَ} ننصرهم {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وهو يوم القيامة؛ أي: لننصرنهم في الدنيا والآخرة، وعبّر عن يوم القيامة بذلك للاشعار بكيفية النصرة، وإنها تكون عند جمع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب، وهم الملائكة والمؤمنون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

وقرأ الجمهور: {يَقُومُ} بالياء، وابن هرمز وإسماعيل والمنقري عن أبي عمرو: بتاء تأنيث الجماعة. ذكره أبو حيان. قال الزجاج: الأشهاد: جمع شاهد مثل: صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال، ولكن ما جاء منه مسموعًا أدي على ما سمع ولا يقاس عليه، فهو على هذا جمع شهيد مثل: شريف وأشراف. والمعنى (¬1): أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا، إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل، كما فعلنا شرح وقومه، من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقًا ونجينا موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا، كما نصرنا شعيبًا بعد مهلكِه، بتسليطنا على من قَتلهُ مَنْ سلطنا حتى انتصرنا بهم ممن قَتله. 52 - وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها بالشهادة، بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، وأن الأمم قد كذبتهم، فيجازيهم الله بأعمالهم، فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم ويدخلهم النار، وهو معنى قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} بدل من اليوم الأول، والمعذرة: مصدر ميمي بمعنى العذر؛ أي: يوم لا ينفع الظالمين عذرهم عن كفرهم لو اعتذروا في بعض الأوقات؛ لأن معذرتهم باطلة، فيقال لهم: اخسؤُوا ولا تكلمون، ويجوز أن يكون عدم نفع المعذرة لأنه لا يؤذن لهم فيعتذرون، فيكون من نفي المقيد والقيد لا معذرة ولا نفع يومئذ، وفي "عرائس البيان" ظلمهم عدولهم عن الحق إلى الخلق، واعتذارهم في الآخرة لا في الدنيا. وقرأ الجمهور: {تنفع} بالفوقية، وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية، والكل جائز ¬

_ (¬1) المراغي.

[53]

في اللغة. {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ}؛ أي: البعد عن الرحمة {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}؛ أي: الدار السيء، والمقر الفظيع، وهي جهنم بخلاف المؤمنين العارفين، فإنهم تنفعهم معذرتهم لتنصلهم، فلهم من الله الرحمة ولهم حسن الدار، وإنما قال: {سُوءُ الدَّارِ} (¬1): فإن جهنم حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليها حديد، وشرابها صديد، وكلامها هل من مزيد، وأسوأ الظالمين المشركون كما قال تعالى حكايةً عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأسوأ المشركين المنافقون، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} لاستهزائهم بالمؤمنين. فليحذر العاقل عن الظلم سواء كان لنفسه بالإشراك والمعصية، أو لغيره بكسر العرض وأخذ المال ونحوهما, وليتذكر الإنسان يومًا بقول فيه الظالمون: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}. وروي أن أهل النار يبكون بكاءً شديدًا حتى الدم، فيقول مالك: ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا. فعلم: أنه لا تنفع المعذرة والبكاء في الآخرة، فليتدارك العاقل تقصيره في الدنيا بالندامة والصلاح والتقوى، ليستريح في الآخرة، ويصل إلى الدرجات العلى، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فمن أراد اللحوق بزمرتهم فليكن على حالهم وسيرتهم، فإن الله ينصرهم في دنياهم وآخرتهم، فإن طاعة الله وطاعة الرسول توصل العبد إلى المراد وإلى حيز القبول. والمعنى (¬2): أي إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم, لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل، كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلَهُمْ} في هذا اليوم طرد من رحمة الله تعالى، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم. 53 - ولما بين سبحانه أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة .. ذكر نوعًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[54]

من تلك النصرة في الدنيا فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي فقد أعطينا بمحض فضلنا {مُوسَى} بن عمران {الْهُدَى}؛ أي: ما يهتدي به من الضلالة إلى الحق من المعجزات والصحف والشرائع والتوراة {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: وأبقينا في بني إسرائيل من بعد موت موسى من الهدى المذكور {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة فإن معجزاته انقرضت بموته. والإيراث (¬1): ميراث الدين, والمراد بالكتاب: التوراة، ولما كان الإيراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال .. تعذّر حمله على معناه هنا، فأريد به الترك مجازًا، إشعارًا بأن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب في باب الدين. والمعنى: وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة، إذ سائر ما اهتدى به في أمر الدين قد ارتفع بموت موسى عليه السلام, وبقيت فيهم التوراة، وتوارثوها خلفًا عن سلف، وقرنًا بعد قرن، وقيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى من الزبور والإنجيل. 54 - وقوله: {هُدًى وَذِكْرَى}: منصوبان على أنه مفعولان لأجله؛ أي: أورثناهم الكتاب لأجل هدايتهم من الضلالة إلى الحق, ولأجل البيان لهم أحكام شريعتهم وعظةً وتذكرةً {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: لأصحاب العقول السليمة، العاملين بما في تضاعيف ذلك الكتاب دون الذين لا يعقلون, أو حالان من {الْكِتَابَ} على أنهما مصدران بمعنى اسم الفاعل؛ أي: أبقينا فيهم الكتاب حال كونه هاديًا لهم من الضلالة والجهالة، وحال كونه مذكرًا وواعظًا لأصحاب العقول الكاملة منهم. والفرق بين الهدى والذكر (¬2): أن الهدى ما يكون دليلًا على شيء آخر، وليس من شرطه أن يذكر شيئًا آخر كان معلومًا ثم صار منسيًا، وأما الذكرى فليس من ذلك، وكتب الأنبياء مشتملة على هذين القسمين, فإن بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة. والمعنى (¬3): أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدي به ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[55]

الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفًا عن سلف، وصارت هدايةً لهم، وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة، التي بعدت من شوائب التقليد والوهم. 55 - وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين، وضرب لذلك مثلًا بحال موسى .. خاطب نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فَاصْبِرْ} وهذا كلام مرتب على قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى} إلخ جملة معترضة سيقت للبيان والتأكيد لنصرة الرسل، و {الفاء} فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت يا محمد ما وعدت به من نصرة الرسل، وما فعلناه بموسى، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اصبر على ما أصابك من أذية المشركين، فهو غير منسوخ بآية السيف، إذ الصبر محمود في كل المواطن، وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف {إِنَّ وَعْدَ اللهِ} سبحانه إياك بالنصرة، وظهور الإِسلام على الأديان كلها، وفتح مكة ونحوها {حَقٌّ} لا يحتمل الإخلاف أصلًا، واستشهد بحال موسى وفرعون {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} تداركًا لما فرط منك من ترك الأولى في بعض الأحيان، فإنه تعالى كافيك في نصرة دينك وإظهاره على الدين كله، وفي "عين المعاني": واستغفر من ذنب إن كان منك، وقيل: هذا تعبد من الله لرسوله؛ ليزيد به درجة, لأنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو ليصير ذلك سنة لمن بعده، وفي "عرائس البقلي": واستغفر لما جرى على قلبك من أحكام البشرية. اهـ. وقيل: المراد ذنب أمتك، فهو على حذف مضاف. وقيل المراد: الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: ودم على اعتقاد تنزيه ربك عن كل ما لا يليق به، حال كونك متلبسًا بحمده بلسانك، أو المعنى: دم على قولك: سبحانه الله وبحمده {بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}؛ أي: في آخر النهار وأوله. وقيل المراد: صل في الوقتين: صلاة العصر وصلاة الفجر: قاله الحسن وقتادة، وقيل: هما صلاتان: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس. فالمقصود من ذكر العشي والإبكار: الدلالة على المداومة عليهما في جميع الأوقات، بناءً على أن الإبكار عبارة: عن أول النهار إلى نصفه، والعشي عبارة: عن نصف النهار إلى أول النهار من اليوم الثاني، فيدخل فيهما كل الأوقات.

[56]

والمعنى (¬1): أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك على من كذبك، وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرًا له طرفي النهار كما جاء في الآية الأخرى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}. وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله، وأن لا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب، حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}. 56 - ولما ابتدأ سبحانه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله، واتصل الكلام بعضه ببعض، على النسق المتقدم .. نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} ويخاصمون {في آيَاتِ اللهِ} سبحانه ويجحدون بها {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} وحجة قاهرة {أَتَاهُمْ} في ذلك من جهته تعالى؛ أي: جادلوا في ردها بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهته تعالى، وتقييد (¬2) المجادلة بذلك مع استحالة إتيانه؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين البتة {إِنَّ}: نافية {في صُدُورِهِمْ}؛ أي: في قلوبهم، عبر بالصدر عن القلب؛ لكونه موضع القلب {إِلَّا كِبْرٌ} وحسد، وفي الحصر إشعار بأن قلوبهم قد خلت عن كل شيء سوى الكبر؛ أي: ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق، وتعظم عن التكبر والتعليم، أو إلا إرادة الرياسة والتقدم على النبي والمؤمنين، أو إلا إرادة أن تكون النبوة لهم دونك يا محمد، حسدًا وبغيًا، ولذلك يجادلون فيها, لأن فيها موقع جدال ما، أو أن لهم شيئًا يتوهم أن يصلح مدارًا لمجادلتهم في الجملة، واعتبرت الإرادة في هذين الوجهين؛ لأن نفي الرياسة والنبوة ليستا في قلوبهم. وجملة قوله: {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}: صفة {كِبْرٌ} فالضمير راجع إلى الكبر، بتقدير مضاف؛ أي: ما هم ببالغي مقتضى كبرهم، وهو دفع الآيات، فإني أنشر أنوارها في الآفاق، وأعلي قدرك، أو ما هم بمدركي مقتضى ذلك الكبر، وهو ما أرادوه من الرياسة والنبوة، وقال ابن قتيبة: المعنى: إن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

في صدورهم إلا كبر؛ أي: تكبر على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك. والمعنى (¬1): أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة، وهم المشركون أوِ اليهود، ما يحملهم على هذا الجدال إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك، وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوّتك .. لزمهم أن يكونوا تحت لوائك، وطوع أمرك ونهيك, لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا في خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر، وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس ذلك بالذي يدرك بالأماني. والخلاصة: أنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلّهم. قال المفسرون: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} الآية، وإن نزل في مشركي مكة، لكنه عام لكل مجادل مبطل، فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم، ويكلؤه ويحفظه منهم، فقال: {فَاسْتَعِذْ} يا محمد {بِاللهِ} سبحانه والتجىء إليه من شرهم وكيدهم وبَغيهمْ عليك، واطلب السلامة منه من كيد كل من يحسدك ويبغي عليك {إِنَّهُ} سبحانه {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْبَصِيرُ} لأفعالهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية. وقيل (¬2): المجادلون هم اليهود كما مرت الإشارة إليه، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح بن داود، يريدون أن الدجال يخرج في آخر الزمان، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله تعالى، فرِجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرًا، ونفى أن يبلغوا متمنّاهم، فإن الدجال وإن كان يخرج في آخر الزمان، لكنه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[57]

ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون، بحيث لا ينجو منهم واحد، فمعنى قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ}؛ أي: من فتنة الدجال، فإنه ليس فتنة أعظم من فتنة الدجال. 57 - وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه، وهو أمر البعث؛ أي: لخلق السموات والأرض ابتداءً من غير مثال سابق مع عظمهن {أَكْبَرُ}؛ أي: أعظم في النفوس، وأجل في الصدور {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} مرةً ثانيةً، وهي الإعادة لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فمن قدر على خلق الأعظم الأقوى بلا أصل ولا مادة .. وجب أن يقدر على خلق الأذل الأضعف من الأصل والمادة بطريق الأولى، فكيف يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وينكرون الخلق الجديد يوم البعث؟ وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشقّ من علاج الشيء الصغير, فمن قدر على ذلك .. قدر على ما دونه، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} وقال أيضًا: {وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني الكفار {لَا يَعْلَمُونَ} أنّ الإعادة أهون من البداية، لقصورهم في النظر والتأمل، لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم؛ أي: ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبّرون هذه الحجة ولا يتأملونها, ولا يعلمون أنّ الله سبحانه لا يعجزه شيء. قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظّمته اليهود، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال. فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الدجال وعن هشام بن عروة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة، خلق أكبر من الدجال" أخرجه مسلم، معناه: أكبر فتنةً، وأعظم شوكة من الدجال. وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال فقال: "إنه

أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية" متفق عليه. ولأبي داود والترمذي عنه قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، لكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأنّ الله ليس بأعور. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "بين عينيه كافر، ثم تهجّي ك ف ر، يقرؤه كل مسلم". وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فذكر الدجال فقال: "إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالث تمسك السماء قطرها، والأرض نباتها كله، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت، ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك، قال: فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعًا، وأعظمه أسمنةً، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك .. ألست تعلم أني ربك، فيقول: بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه" قالت: ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدّثهم، قالت: وأخذ بلحمتي الباب فقال: "مه يا أسماء" فقلت: يا رسول الله، لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال: "إن يخرج وأنا حي .. فأنا حجيجُه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن" قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله، والله. إنا لنعجن عجينًا فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: "يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس" وفي رواية عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يمكث الدجّال في الأرض أربعين سنةً، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار" هذا حديث أخرجه البغوي بسنده، والذي جاء في "صحيح مسلم" قال: قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض قال: "أربعون يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه" قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم كسنة، أتكفينا صلاة يوم، قال: "لا، أقدروا

له قدرة" قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض، قال: "كالغيث استذرته الريح" وفي رواية أبي داود عنه: "فمن أدركه منكم .. فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته" وفيه: "ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله". وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن مع الدجال إذا خرج ماءً ونارًا، فأما الذي يرى الناس أنه نار .. فماء بارد، والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة، فمن أدرك ذلك منكم .. فليقع في الذي يرى أنه نار، فإنه ماء عذب بارد". متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أحدّثكم حديثًا عن الدجال ما حدَّث به نبي قومه، إنه أعور، وإنه يجيء بمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه". متفق عليه. وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ما سأل أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال ما سألته، وإنه قال لي: "ما يضرّك" قلت: إنهم يقولون: إن معه جبل خبر ونهر وماء، قال: "هو أهون على الله من ذلك". متفق عليه. وسيأتي تفسير هذه الجملة الأخيرة إن شاء الله تعالى. وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع الدجال .. فليتأمنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات" أو قال: "لما يبعث به من الشبهات" أخرجه أبو داود. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافّين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق" متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة، حتى ينزل مدبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك" أخرجه مسلم. وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

"الدجال يخرج بأرض بالمشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة" أخرجه مسلم. وعن مجمع بن جارية الأنصاري، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال النواوي - رحمه الله تعالى -: قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذاهب الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه عورٌ، ابتلى الله تعالى به عباده، فأقدره على أشياء من المقدورات، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا، والخصب معه وجنته وناره، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء، خلافًا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافًا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنها لو كانت حقًا .. لضاهت معجزات الأنبياء، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدّع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الربوبية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذا الدلائل لا يغترّ بها إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة، رغبةً في سد الرمق، أو خوفًا من فتنته, لأنّ فتنته عظيمةٌ جدًّا، تدهش العقول وتحير الألباب، ولهذا حذّرت الأنبياء من فتنته، فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه؛ لما سيق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرةً. قوله في حديث المغيرة بن شعبة: قلت يا رسول الله: إنهم يقولون: إنّ معه

[58]

جبل خبز ونهر ماء، قال: "هو أهون على الله من ذلك" معناه: هذا أهون على الله تعالى من أن يجعل ما خلقه الله عزّ وجل على يده مضلًا للمؤمنين، ومشككًا لقلوبهم، بل إنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس معناه: أنه ليس معه شيء من ذلك, لأنه ثبت في الحديث أنَّ معه ماءً ونارًا، فماؤه نار، وناره ماء بارد. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى من "الخازن". 58 - ولمّا ذكر سبحانه الجدال بالباطل .. ذكر مثالًا للباطل والحق، وأنهما لا يستويان، فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى}؛ أي: المشرك الجاهل الغافل {وَالْبَصِيرُ}؛ أي: الموحد العالم المستبصر، والمراد بالأعمى: من عمي قلبه عن رؤية الآيات والاستدلال بها، والبصير: من أبصرها، قال الشاعر: أَيُّهَا الْمُنْكِحَ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرُكَ اللَّهُ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِيْ أي: فكما لا تساوي بينهما فكذلك لا تساوي بين المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، وقدَّم الأعمى على البصير في نفي التساوي؛ لمناسبة ما قبله من نفي النظر والتأمل، وفي "السمين": وقدم الأعمى مع كونه أخسّ الوصفين؛ لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {وَ} ما يستوي {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا} الأعمال {الصَّالِحَاتِ} وقدمهم على المسيء لمجاورة البصير ولشرفهم عليه {وَلَا الْمُسِيءُ}؛ أي: ولا الذين كفروا بالله ورسوله وعملوا السيئات، والمسيء (¬1): اسم جنس يعم المسيئين. والمعنى: وما يستوي المحسن والمسيء؛ أي: الصالح والطالح، فلا بد أن يكون لهم حالة أخرى، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت، وهي فيما بعد البعث وهو احتجاج آخر على حقيقة البعث والجزاء، وزيادة {لَا} في المسيء؛ لتأكيد النفي لطول الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين، ولأنّ المقصود نفي مساواته للمحسن, لأنه كما لا يساوي المحسن المسيء فيما يستحقه المسيء من المهانة ¬

_ (¬1) روح البيان.

والحقارة، كذلك لا يساوي المسيء المحسن فيما يستحقه المحسن من الفضل والكرامة. والعاطف في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير، مع أنَّ المجموع؛ أي: مجموع الغافل والمستبصر هو مجموع المسيء والمحسن، لتغاير الوصفين؛ يعني: أن المقصود في الأولين إلى العلم، فإن العمى والبصيرة في القلب، وفي الأخيرين إلى العمل, لأن الإيمان والأعمال في الجوارح، وإلا ففي الحقيقة المراد بالبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات واحد، وبالأعمى والمسيء واحد، ويجوز أن يراد الدلالة بالصراحة والتمثيل على أن يتحد الوصفان في المقصود، بأن يكون المراد بالأولين أيضًا: المحسن والمسيء، فالصراحة بالنسبة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء، والتمثيل بالنسبة إلى ما قبله، فإن الأعمى والبصير من قبيل التمثيل. {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} {مَا}: زائدة لتأكيد معنى القلة، و {قَلِيلًا}: مفعول مطلق على أنه صفة لموصوف محذوف؛ أي: تتذكرون تذكرًا قليلًا أيها الكفار المجادلون؛ يعني: وإن كنتم تعلمون أن التبصر خير من الغفلة، ولا يستويان، وكذا العمل الصالح خير من العمل الفاسد، لكنكم لا تتذكرون إلا تذكرًا قليلًا، أو لا تتذكرون أصلًا، فإنه قد يعبّر بقلة الشيء عن عدمه، مثل: أن يقال: فلان قليل الحياء، أي: لا حياء له. وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة (¬1): {يتذكرون} بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم للمناسبة؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ قتادة وطلحة وأبو عبد الرحمن وعيسى والكوفيون {تَتَذَكَّرُونَ} بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ: هو إظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ. كما سيأتي في مبحث البلاغة إن شاء الله تعالى. ومعنى الآية (¬2): أي وما يستوي الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه، فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته، وقدرته على خلق ما يشاء، ويؤمن بذلك ويصدق به، والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكّر فيها ويتعظ بها، ويعلم ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[59]

تدل عليه من توحيده، وعظيم سلطانه، وقدرته على خلق الأشياء جميعها، صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للإيضاح، تبيّن للناس المعقولات وهي لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما انْبَهَم منها، وخفي من أمرها، كما قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. {وَالَّذِينَ آمَنُوا ...} إلخ؛ أي: وكذلك لا يستوي المؤمنون المطيعون لربهم، والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)}. {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}؛ أي: ما أقل ما تتذكرون حجج الله، فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم .. لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فني من خلقه، وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة. 59 - ولمّا قرّر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر .. أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة، فقال: {إِنَّ السَّاعَةَ}؛ أي: إن القيامة، ومر وجه التسمية بها مرارًا {لَآتِيَةٌ} أكّد؛ باللام (¬1) لأنّ المخاطبين هم الكفار، وجرّد في سورة طه حيث قال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}؛ لكون المخبَر ليس بشاك في الخبر. كذا في "برهان القرآن" {لَا رَيْبَ فِيهَا}؛ أي: لا شك في مجيئها لوضوح شواهدها، ومنها ما ذكر بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ ...} إلخ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}؛ يعني الكفار {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يصدقون بها لقصور أنظارهم على الظواهر، وقوة اللهم بالمحسوسات، وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس، إلا من عصمه الله تعالى، ونظر إلى قلبه بنظر العناية. والمعنى (¬2): أي إن يوم القيامة الذي يحيي الله فيه الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فايقنوا بمجيئه، وإنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم، واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[60]

على قلب بشر، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رؤوسهم، وعاثوا في الأرض فسادًا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب. 60 - ثمّ لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة .. أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه، وهو قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ} أيها الناس {ادْعُونِي}؛ أي: وحّدوني واعبدوني {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}؛ أي: أثبكم بقرينة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}؛ أي: يتعظمون عن طاعتي أو توحيدي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} يوم القيامة حال كونهم {دَاخِرِينَ}؛ أي: صاغرين ذليلين، {وإن}: فسر الدعاء بالسؤال بجلب النفع، ودفع الضر كان الاستبكار الصارف عنه منزّلًا منزلة الاستكبار عن العبادة، فأقيم الثاني مقام الأول للمبالغة، أو المراد بالعبادة: الدعاء، فإنه من أفضل أبوابها، فأطلق العام على الخاص، ففيه مجاز مرسل، والأول (¬1) أولى؛ لأنّ الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء لغةً وشرعًا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك .. فهو مجاز. وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يسأل الله .. يغضب عليه". أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. وعن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء مخ العبادة" أخرجه الترمذي. وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. فإن قلت (¬2): كيف قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد يدعو الإنسان ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

كثيرًا فلا يستجاب له. قلت: الدعاء له شروط: منها: الإخلاص في الدعاء، وأن لا يدعو وقلبه لاهٍ مشغول بغير الدعاء، وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحةً للإنسان، وأن لا يكون فيه قطيعة رحم، فإذا كان الدعاء بهذه الشروط .. كان حقيقًا بالإجابة، فإما أن يعجّلها، وإما أن يؤخّرها له، يدل له ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء .. إلا استجيب له، فإما أن يعجّل له به في الدنيا، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل" قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: دعوت ربي فما استجاب لي" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. يقال: ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة، ادعوني بلا خفاء استجيب لكم بالوفاء، ادعوني بلا خطأ استجيب لكم بالعطاء، ادعوني بشرط الدعاء، وهو الأكل من الحلال. قيل: الدعاء مفتاح الحاجة، وأسنانه لقمة الحلال، وقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله تعالى، وفيه لطفٌ بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل، حيث توعّد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشرِّ به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة. وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيّد بالمشيئة؛ أي: أستجب لكم إن شئت، كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}؛ أي: الله، وقرأ الجمهور والحسن وشيبة (¬1): {سَيَدْخُلُونَ} مبنيًا للفاعل، وقرأ زيد بن علي بن وابن كثير وابن محيصن وورث وأبو جعفر: {سيُدخلون} بضم الياء وفتح الخاء مبنيًا للمفعول، واختلف عن عاصم وأبي عمرو. فيا عباد الله، وجّهوا رغباتكم، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم، بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[61]

ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا. 61 - ولما أمر بالدعاء والاشتغال به، لا بد أن يسبق بمعرفة المدعو .. ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه، فقال: {الله} الذي أمرتم بالدعاء له، واللجوء إليه هو {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ}؛ أي: خلق لمصالحكم {اللَّيْلَ} مظلمًا {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} من الحركات في طلب الكسب، ولتستريحوا فيه من تعب النهار، فإن الليل لكونه باردًا رطبًا، تضعف فيه القوى المحرّكة، ولكونه مظلمًا، يؤدّي إلى سكون الحواسّ، فتستريح النفس والقوى والحواس بقلة أشغالها وأعمالها والنوم {و} جعل لكم {النَّهَارَ مُبْصِرًا}؛ أي: مضيئًا لتبصروا فيه حوائجكم، وتتصرّفوا في طلب معايشكم؛ أي: مبصرًا فيه أو به، يعني: يبصر به المبصرون الأشياء، ولكونه حارًّا يقوّي الحركات في اكتساب المعاش، فإسناد الإبصار إلى النهار مجاز فيه مبالغة، ولقصد المبالغة عدل به عن التعليل إلى الحال، بأن قال: {مُبْصِرًا} دون لتبصروا فيه أو به؛ يعني: أنّ نفس النهار لما جُعِلَ مبصرًا .. فُهم أنّ النهار لكمال سببيّته للإبصار، وكثرة آثار القوة الباصرة، جعل كأنه هو المبصر. فإن قيل (¬1): فلِمَ لَمْ يَسْلك في الليل سبيل المبالغة؟. قلنا: لأنّ نعمة النهار لشبهها بالحياة أتمّ وأولى من نعمة الليل، التي تشبه الموت، فكانت أحق بالمبالغة، إذ المقام مقام الامتنان، ولأنّ الليل يوسف بالسكون؛ لسكون هوائه وصفًا مجازيًا متعارفًا، فسلوك سبيل المبالغة فيه يرفع الاشتباه، كما أشير إليه في "الكشاف". ثمّ إذا حملت الآية على الاحتباك كما جرينا عليه أولًا .. فقيل: التقدير حينئذ: الله الذي جعل لكم الليل مظلمًا لتسكنوا فيه، والنهار مبصرًا لتنتشروا فيه، ولتبتغوا من فضله، فحذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر كذا أفاده سعدي المفتي. والمعنى (¬2): أي إنّ الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له، ولا تنبغي العبادة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[62]

لغيره، وهو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة، والتردّد في طلب المعاش، والحصول على ما يفي بحاجات الحياة، وجعل النهار مضيئًا بشمسه. ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات، وصنوف الزراعات والحراثات. ثمّ ذكر نتيجة لما تقدم فقال: {إِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {لَذُو فَضْلٍ} عظيم، وإحسان قديم {عَلَى النَّاسِ} بخلق الليل والنهار لا يوازيه فضل، ولا يدانيه طول، فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى. ثمّ بيّن أن كثيرًا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم، فقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها، كما هو شأن الكفّار، وإما لإهمالهم النظر، وغفلتهم عمّا يجب من شكر المنعم، كما هو حال الجاهلين، وتكرير {النَّاسِ} (¬1)؛ لتنصيص تخصيص الكفران بهم، بإيقاعه على صريح اسمهم الظاهر، الموضوع موضع الضمير الدال على أنّ ذلك كان شأن الإنسان وخاصته في الغالب. أي: لا يشكرون فضل الله وإحسانه، لجهلهم بالمنعم، وإغفالهم مواضع النعم؛ أي: رفعة شأنها، وعلوّ قدرها، وإذا فقدوا شيئًا منها .. يعرفون قدرها، مثل أن يتفق لبعض والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في بئر عميق مظلم مدة مديدة، فإنه حينئذ يعرف قدر نعمة الهواء الصافي، وقدر نعمة الضوء. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}، وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}. 62 - ثم بين كمال قدرته، المقتضية لوجوب توحيده، فقال: {ذَلِكُمُ} المتفرّد بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية {الله}؛ أي: المعبود بالحق، المستحق منكم العبادة دون غيره {رَبُّكُمْ}؛ أي: مالككم {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من المخلوقات، علويّها وسُفليّها {لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، أخبار مترادفة، تخصّص السابقة منها اللاحقة وتقرّرها. قال في "كشف ¬

_ (¬1) روح البيان.

[63]

الأسرار": {كُلِّ} هنا بمعنى البعض، وقيل: عام خصّ منه ما لا يدخل في الخلق. وقرأ الجمهور: {خَالِقُ} بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي {خالق} بفتح القاف بنصبه على الاختصاص، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي: فكيف تنقلبون أيها المشركون عن توحيده، ومن أيّ وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره، وقرأ طلحة في رواية {يؤفكون} بياء الغيبة، والجمهور: {تُؤْفَكُونَ} بتاء الخطاب، وقال الراغب: قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي: تصرفون من الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، كما سيأتي. ومعنى الآية: أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد، خالق جميع الأشياء، لا إله غيره، ولا ربّ سواه فكيف تنقلبون عن عبادته والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئًا، وهي مخلوقة منحوتة بأيديكم. 63 - ثم ذكر أنّ هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير، فقال {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له ولا مصحّح له أصلًا؛ أي: كما صرف قومك وهم قريش عن الحق، وحرموا من التحلي به مع قيام الدلائل {يُؤْفَكُ} ويصرف عنه {الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}؛ أي: يصرف عنه كل جاحد قبلهم أو بعدهم بآياته أيّ آية كانت، لا إفكًا آخر له وجه ومصحح في الجملة؛ أي: كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله .. ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى. 64 - وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار، ذكر منها خلق الأرض والسماء، فقال: {الله} الذي يستحق منكم العبادة هو {الَّذِي جَعَلَ} وسير {لَكُمُ}؛ أي: لمصالحكم وحوائجكم {الْأَرْضَ قَرَارًا}؛ أي (¬1): مستقرًا. أي: موضع قرار ومكان ثبات وسكون، فإن القرار كما يجيء بمعنى الثبات والسكون، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ويجيء بمعنى ما قرّ فيه، وبمعنى المطمئن من الأرض. كما في "القاموس" قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: {قَرَارًا}؛ أي: منزلًا في حال الحياة وبعد الممات {و} جعل {السَّمَاءَ بِنَاءً} قبةً مبينةً ومظلةً مرفوعة فوقكم، فالبناء بمعنى المبني، ومنه أبنية العرب لمضاربهم, لأن السماء في نظر العين كقبة مضروبة على فضاء الأرض. وفي "التأويلات النجمية": خلق الأرض لكم استقلالا, ولغيركم طفيليًّا. وتبعًا، لتكون مقركم، والسماء أيضًا خلق لكم لتكون سقفكم، مستقلّين به، وغيركم تبع لكم فيه. والمعنى (¬1): أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرًا تعيشون عليها، وتتصرّفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفًا محفوظًا مزيّنًا بنجوم، ينشأ عنها الليل والنهار، والظلام والضياء. وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان .. ذكر دلائل الأنفس فقال: {وَصَوَّرَكُمْ} في الأرحام {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} من صور الدوابّ، ويقال: أحكم صوركم، ويقال: {وَصَوَّرَكُمْ}؛ أي: أحدث صورتكم على غير نظام واحد {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ولم يخلق الله تعالى حيوانًا أحسن صورةً من الإنسان. وهذا بيان لفضله المتعلق بأنفسهم، و {الفاء} (¬2): في {فَأَحْسَنَ}: تفسيرية، فإن "الإحسان عين التصوير، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أدّبني فأحسن تأديبي" فإن "الإحسان عين التأديب، فإن تأديب الله لمثله لا يكون إلا حسنًا بل أحسن. والمعنى: وصوّركم أحسن تصوير، حيث خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء والتخطيطات، متهيِّئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: خلق ابن آدم قائمًا معتدلًا، يأكل ويتناول بيده، وغير ابن آدم يتناول بفيه. وقرأ الجمهور (¬3): {صُوَرَكُمْ} بضم الصاد وفتح الواو، وقرأ الأعمش وأبو رزين: بكسرها؛ فرارًا من الضمة قبل الواو استثقالًا، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها: شاذٌّ، وقالوا: قوة وقوى بكسر القاف على الشذوذ أيضًا، قال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[65]

الجوهري: والصور بكسر الصاد: لغة في الصور بضمها، وقرأت فرقة: {صوركم} بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ أي: من المأكولات اللذيذة، والمشروبات الحلوية. والمعنى: أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلًّا منكم منتصب القامة، بادي البشرة، متناسب الأعضاء، متهيأً لمزاولة الصناعات واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب. {ذَلِكُمُ} الموصوف بما ذكر من الصفات الجميلة، مبتدأ، خبره: {الله}؛ أي: المستحق منكم العبادة {رَبُّكُمْ} الذي ربَّاكم بما يصلحكم، خبر آخر {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} صفة خاصة بالله تعالى، أي: تقدّس وتنزّه وتعالى بذاته عن أن يكون له شريك في العبادة، إذ لا شريك له في شيء من تلك النعم، أو المعنى: كثر خيره، وتزايد برّه، {رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: مالكهم ومربّيهم، والكل تحت ملكوته، مفتقرٌ إليه في ذاته ووجودهِ وسائر أحواله جميعًا، بحيثُ لو انقطع فيضه عنه آنًا .. لانعدم بالكلية. أي (¬1): ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا ينبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا مَنْ لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزّه، وهو رب العالمين. 65 - ثم نبَّه إلى وحدانيته، وأمر بإخلاص العبادة له، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَيُّ}؛ أي: المتصف بالحياة الدائمة، المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقة لا يموت، ويميت الخلق {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله {فَادْعُوهُ}؛ أي: فاعبدوه خاصةً لاختصاص ما يوجبه به تعالى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}؛ أي: الطاعة والعبادة من الشرك الجلي والخفيّ، مقرين له بالعبودية، قائلين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: من قال: لا إله إلا الله .. فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ¬

_ (¬1) المراغي.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فعلى هذا هو من كلام المأمورين بالعبادة؛ أي: ولما كان تعالى موصوفًا بصفات الجلال والعزّة .. استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى، على أنه استئناف لحمد ذاته بذاته. اهـ "شهاب". والمعنى: أي هو سبحانه الحيّ الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة، غير دائمها, لا معبود بحق غيره، ولا تصلح الألوهية إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئًا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندًّا ولا عدلًا، ثمّ أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه، وجليل إحسانه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}؛ أي: احمدوه سبحانه، فهو مالك جميع أصناف الخلق، من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها, ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن نفع غيرها وضرّه. الإعراب {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)}. {وَيَا قَوْمِ} {الواو}: عاطفة. {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف معطوف على المنادى الأول. {مَا}: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل الرفع مبتدأ، {لِي}: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية، في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أَدْعُوكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر. {إِلَى النَّجَاةِ}: متعلق بـ {أَدْعُوكُمْ} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير {لِي}. {وَتَدْعُونَنِي} {الواو}: حالية. {تدعونني}: فعل وفاعل ومفعول به مرفوع بثبات النون والنون الثانية للوقاية، و {الياء}: مفعول به. {إِلَى النَّارِ}: متعلق بـ {تدعونني}، وهذه الجملة (¬1) مستأنفة أخبر عنهم بذلك بعد استفهامه عن دعائه لهم، ويجوز أن يكون التقدير: وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالًا؛ أي: ما لي أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلى النار. اهـ "سمين". وعبارة أبي السعود: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ}: {مَا}: مبتدأ، والظرف بعدها خبر عنها، وجملة ¬

_ (¬1) الفتوحات.

{أَدْعُوكُمْ ...} إلخ. حال، والاستفهام المفاد بـ {مَا} تعجبي، ومدار التعجب: دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قال: أخبروني، كيف هذه الحال، أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر؟!. {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)}. {تَدْعُونَنِي}: فعل مضارع وفاعل ونون وقاية ومفعول به مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية: بدل من جملة {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} أو مستأنفة مسوقة لبيانها {لِأَكْفُرَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {أكفر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على المؤمن. {بِاللهِ}: متعلق بـ {أكفر} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: تدعونني إلى كفري بالله، والدعاء يتعدى كالهداية بـ {إلى} وباللام. {وَأُشْرِكَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {أكفر} {بِهِ}: متعلق بـ {أشرك}، و {مَا}: مفعول به، {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص، و {لِي}: خبرها المقدم، {بِهِ} متعلق بـ {عِلْمٌ} و {عِلْمٌ}: اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة {لَيْسَ}: صلة لـ {ما} الموصولة {وَأَنَا} {الواو}: حالية. {أنا}: ضمير المتكلم في محل الرفع مبتدأ. {أَدْعُوكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ياء المتكلم في {تَدْعُونَنِي} أو معطوفة على {تَدْعُونَنِي}، {إِلَى الْعَزِيزِ}: متعلق بـ {أَدْعُوكُمْ}، {الْغَفَّارِ} صفة لـ {الْعَزِيزِ}. {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدُّنْيَا وَلَا في الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)}. {لَا}: نافية لرد ما قبلها، كما مر في مبحث التفسير. {جَرَمَ}: فعل ماض بمعنى حق ووجب. {أَنَّمَا}: {أن}: حرف نصب وتوكيد ومصدر. {ما}: اسم موصول في محل النصب اسمها، فكان حقها أن تكتب مفصولة من النون، كما هو القاعدة: أن الموصولة مفصولة، والكافَّة متصلة بها لكنها رسمت في المصحف متصلةً بالنون؛ تبعًا للرسم العثماني. {تَدْعُونَنِي}: فعل مضارع وفاعل ونون وقاية

ومفعول به. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تَدْعُونَنِي} وهو العائد إلى {ما} الموصولة، والجملة الفعلية: صلة لـ {مَا} الموصولة. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص، {لَهُ}: خبرها مقدم، {دَعْوَةٌ}: اسمها مؤخر، {في الدُّنْيَا}: صفة لـ {دَعْوَةٌ}. {وَلَا في الْآخِرَةِ}: معطوف على {في الدُّنْيَا} وجملة {لَيْسَ}: في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أن}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {جَرَمَ} تقديره: حق وثبت بطلان دعوة ما تدعونني إليه في الدنيا والآخرة. {وَأَنَّ}: {الواو}: عاطفة {أَن}: حرف نصب. {مَرَدَّنَا}: اسمها. {إِلَى اللهِ} خبرها، وجملة {أَن}: معطوفة على جملة {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي} على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، تقديره: جرم بطلان دعوة ما تدعونني إليه، وكون مردنا إلى الله تعالى. {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} ناصب واسمه {هُمْ}: ضمير فصل. {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبره، وجملة {أَن}: في تأويل مصدر معطوفة على ما قبله؛ أي: وحق كون المسرفين من أصحاب النار. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}. {فَسَتَذْكُرُونَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان عاقبتكم .. فأقول لكم، و {السين}: حرف استقبال. {تذكرون}: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قال}. {أَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية: صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد: محذوف، تقديره: ما أقوله، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {تذكرون}، {إِلَى اللهِ}. متعلق بـ {أفوض}. {إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ}: ناصب واسمه وخبره. {بِالْعِبَادِ}: متعلق بـ {بَصِيرٌ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول {قال}. {فَوَقَاهُ الله}: {الفاء}: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: وقصدوا قتله فهرب منهم فوقاه الله، {وقاه الله}: فعل ماض ومفعول به أول وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {سَيِّئَاتِ}: مفعول به ثان {سَيِّئَاتِ}: مضاف {مَا}: اسم موصول

في محل الجر مضاف إليه. {مَكَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما مكروه. {وَحَاقَ}: فعل ماض معطوف على {وقاه}. {بِآلِ فِرْعَوْنَ}: متعلق بـ {حاق}، {سُوءُ الْعَذَابِ}: فاعل ومضاف إليه. {النَّارُ}: مبتدأ، {يُعْرَضُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {يُعْرَضُونَ}، {غُدُوًّا وَعَشِيًّا}: ظرفان متعلقان بـ {يُعْرَضُونَ}، {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بقول محذوف، تقديره: ويقال يوم تقوم الساعة، والقول المحذوف: مستأنف، وجملة {تَقُومُ السَّاعَةُ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {أَدْخِلُوا}: فعل أمر وفاعل، {آلَ فِرْعَوْنَ}: مفعول به أول. {أَشَدَّ الْعَذَابِ}: مفعول به ثان، والجملة الفعلية: في محل الرفع نائب فاعل محكي للقول المحذوف. {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية، {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر لقومك يا محمد قصة {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ}، والجملة المحذوفة: مستأنفة، {يَتَحَاجُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {في النَّارِ}: متعلق بـ {يَتَحَاجُّونَ}. {فَيَقُولُ}: {الفاء}: حرف عطف وتفصيل. {يقول الضعفاء}: فعل وفاعل والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {يَتَحَاجُّونَ}، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {يقول}، وجملة {اسْتَكْبَرُوا}: صلة الموصول. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا} فعل ماض ناقص واسمه. {لَكُمْ}: متعلق بـ {تَبَعًا}، {تَبَعًا} خبر {كان}، وجملة {كان}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {يقول}. {فَهَلْ}: الفاء عاطفة. {هل}: حرف استفهام. {أَنْتُمْ مُغْنُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {إن}، {عَنَّا}: متعلق بـ {مُغْنُونَ}، {نَصِيبًا}: منصوب بفعل محذوف دل عليه مغنون تقديره: هل أنتم دافعون عنا نصيبًا، كما مر في بحث التفسير. {مِنَ النَّارِ} صفة لـ {نَصِيبًا}. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ

الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)}. {قَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، وجملة {اسْتَكْبَرُوا}: صلة {الَّذِينَ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُلٌّ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد العموم. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر {كُلٌّ}، وجملة المبتدأ مع خبره: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قَالَ} {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه، وجملة {قَدْ حَكَمَ}: خبر {إِنَّ} {بَيْنَ الْعِبَادِ}: متعلق بـ {حَكَمَ} وجملة {إِنَّ} مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}، {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل معطوف على {قَالَ} الأول، {في النَّارِ}: جار ومجرور صلة {الَّذِينَ}. {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَالَ}. {ادْعُوا رَبَّكُمْ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {يُخَفِّفْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله. {عَنَّا}: متعلق بـ {يُخَفِّفْ}، {يَوْمًا}: ظرف متعلق بـ {يُخَفِّفْ} أيضًا {مِنَ الْعَذَابِ}: صفة لمحذوف هو مفعول {يُخَفِّفْ}؛ أي: يخفف عنا شيئًا من العذاب في يوم، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب الطلب. {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ (50)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {أَوَلَمْ تَكُ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف دل عليه السياق، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تنتهوا عن هذا ولم تك تأتيكم إلخ. والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {لَمْ}: حرف جزم، {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير مستتر يعود على الرسل. {تَأْتِيكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به. {رُسُلُكُمْ}: فاعل {تَأْتِيكُمْ} وقد تنازعه كل من {تَكُ} فأعطي فاعلًا للثاني وأضمر في الأول، ويجوز العكس. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {تَأْتِيكُمْ} وجملة {تَأْتِيكُمْ}: في محل النصب خبر تك، وجملة تك معطوفة على الجملة المحذوفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَلَى}: حرف جواب لإثبات النفي نائب عن الجواب، تقديره: بلى أتتنا رسلنا فكذبنا، والجملة المحذوفة

في محل النصب مقول {قَالُوا}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {فَادْعُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك، وأردتم بيان جزائكم .. فأقول لكم: ادعوا {ادعوا}: فعل أمر وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول {قَالُوا}: {وَمَا} {الواو}: عاطفة: {ما}: نافية. {دُعَاءُ الْكَافِرِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {في ضَلَالٍ}: خبر المبتدأ، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {فَادْعُوا}. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {لَنَنْصُرُ}: {اللام}: حرف ابتداء {ننصر}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {رُسُلَنَا}: مفعول به {وَالَّذِينَ}: معطوف على {رُسُلَنَا}، وجملة {ننصر}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ضياع دعائهم، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {في الْحَيَاةِ}: متعلق بـ {ننصر} {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ}. {وَيَوْمَ}: ظرف معطوف على {في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: لننصرنهم في الحياة الدنيا وفي يوم يقوم الأشهاد، وجملة {يَقُومُ الْأَشْهَادُ} من الفعل والفاعل: في محل الجر مضاف إليه {يَوْمَ}: بدل من {يَوْمَ} قبله، {لَا}: نافية. {يَنْفَعُ}: فعل مضارع {الظَّالِمِينَ}: مفعول به، {مَعْذِرَتُهُمْ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه. لـ {يوم} {وَلَهُمُ}: {الواو}: عاطفة. {لَهُمُ}: خبر مقدم. {اللَّعْنَةُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {لَا يَنْفَعُ}. {اللَّعْنَةُ}: خبر مقدم. {سُوءُ الدَّارِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل. {مُوسَى}: مفعول أول. {الْهُدَى}: مفعول ثان،

والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم، مستأنفة مسوقة لإيراد نموذج عظيم من نماذج النصر الذي وعد الله أنبياءه في الدنيا. {وَأَوْرَثْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {آتَيْنَا}، {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول أول، {الْكِتَابَ}: مفعول ثان. {هُدًى وَذِكْرَى}: منصوبان على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: لأجل الهدى والذكرى، أو على أنهما مصدران في موضع الحال {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بذكرى أو صفة له. {فَاصْبِرْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت وعد الله النصر لأنبيائِهِ، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {اصبر}، {اصبر}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، {إِنَّ وَعْدَ اللهِ}: ناصب واسمه، {حَقٌّ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر. {وَاسْتَغْفِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {اصبر} {لِذَنْبِكَ}: متعلق بـ {استغفر}، {وَسَبِّحْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف أيضًا على {اصبر} {بِحَمْدِ رَبِّكَ}: حال من فاعل {سبح}، {بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} متعلق بـ {سبح}. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. وجملة {يُجَادِلُونَ}: صلة الموصول. {في آيَاتِ اللهِ}: متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {يُجَادِلُونَ} تقديره: حال كونهم غير مستندين في جدالهم إلى حجة، وجملة {أَتَاهُمْ} صفة {سُلْطَانٍ} {إِنْ}: نافية، {في صُدُورِهِمْ}: خبر مقدم، {إِلَّا}: أداة حصر. {كِبْرٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنْ} وجملة {إِنْ}: مستأنفة. {مَا}: حجازية {هُمْ}: في محل الرفع اسمها. {بِبَالِغِيهِ}: {الباء}: زائدة في خبر {مَا} الحجازية. {بالغيه}: خبر {ما} الحجازية، وجملة {مَا} الحجازية: في محل الرفع صفة لـ {كِبْرٌ}. {فَاسْتَعِذْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المجادلين، وأردت بيان ما هو الأصلح له .. فأقول لك: {استعذ بالله} {استعذ}: فعل أمر وفاعل مستتر {بِاللهِ}: متعلق بـ {استعذ}

والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل، {السَّمِيعُ}: خبر أول لها، {الْبَصِيرُ}: خبر ثان، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)}. {لَخَلْقُ}: {اللام}: حرف ابتداء، {خلق السموات}: مبتدأ ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {أَكْبَرُ}: خبره، والجملة الاسمية: مستأنفة. {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}: متعلق بـ {أَكْبَرُ}، {وَلَكِنَّ}: {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف نصب واستدراك. {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبرها، والجملة الاستدراكية: معطوفة على الجملة التي قبلها، أو في محل النصب حال، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية. {يَسْتَوِي الْأَعْمَى}: فعل وفاعل. {وَالْبَصِيرُ}: معطوف على {الْأَعْمَى}، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة، {وَالَّذِينَ}: معطوف على {الْأَعْمَى}، {آمَنُوا}: صفة {الَّذِينَ}، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {آمَنُوا}، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: زائدة للتوكيد. {الْمُسِيءُ}: معطوف على {الْأَعْمَى}. {قَلِيلًا}: مفعول مطلق أو ظرف زمان؛ لأنه صفة مصدر أو ظرف محذوف؛ أي: تذكرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، {مَا} زائدة لتأكيد القلة. {تَتَذَكَّرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِنَّ السَّاعَةَ}: ناصب واسمه. {لَآتِيَةٌ}: {اللام}: حرف ابتداء. {آتية}: خبره، والجملة: مستأنفة. {لَا} نافية. {رَيْبَ}: في محل النصب اسمها. {فِيهَا}: جار ومجرور خبر {لَا}، وجملة {لَا} في محل الرفع خبر ثان لـ {إن} {وَلَكِنَّ} {الواو}: عاطفة أو حالية، {لكنَّ}: حرف نصب واستدراك {أَكْثَرَ النَّاسِ}: اسمها، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ}: خبرها، وجملة {لكن}: معطوفة أو حالية كما سبق. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ

اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)}. {وَقَالَ} {الواو}: استئنافية. {قَالَ رَبُّكُمُ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {كَلِمَتُ}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية. ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَسْتَجِبْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بالطلب السابق. {لَكُمْ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب الطلب. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَسْتَكْبِرُونَ}: صلة {الَّذِينَ}، {عَنْ عِبَادَتِي} متعلق بـ {يَسْتَكْبِرُونَ}، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ}: فعل وفاعل ومفعول به على السعة. {دَاخِرِينَ}: حال، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قَالَ} {الله الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {جَعَلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول، {لَكُمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ}؛ لأنه بمعنى خلق، {اللَّيْلَ}: مفعول به، {لِتَسْكُنُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل. {تسكنوا}: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {فِيهِ}: متعلق بـ {تسكنوا} والجملة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {لَكُمُ}، {فِيهِ}: متعلق بـ {تسكنوا}، {وَالنَّهَارَ}: معطوف على {اللَّيْلَ}. {مُبْصِرًا}: حال من {النهار}. {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه {لَذُو فَضْلٍ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء. {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بـ {فَضْلٍ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَشْكُرُونَ}: خبره، وجملة {لكن}: معطوفة على جملة {إِنَّ}. {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (63)}. {ذَلِكُمُ الله}: مبتدأ وخبر أول، والجملة: مستأنفة. {رَبُّكُمْ}: خبر ثان. {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: خبر ثالث، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: خبر رابع. {فَأَنَّى}: {الفاء}: استئنافية أو عاطفة، {أنى}: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال مبني على السكون. {تُؤْفَكُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لإفادة التعجب من حالهم، أو معطوفة على الجملة التي قبلها. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إفكًا مثل إفك هؤلاء

المشركين. {يُؤْفَكُ الَّذِينَ}: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. {كَانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه. {بِآيَاتِ اللهِ}: متعلق بـ {يَجْحَدُونَ} وجملة {يَجْحَدُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان}: صلة الموصول. {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}. {الله الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، {جَعَلَ}: فعل ماض بمعنى صير، وفاعل مستتر. {لَكُمُ}: حال من {قَرَارًا}. {الْأَرْضَ}: مفعول أول، {قَرَارًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: صلة {الَّذِي}، {وَالسَّمَاءَ}: معطوف على {الْأَرْضَ}، {بِنَاءً}: مفعول ثان. {وَصَوَّرَكُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {جَعَلَ}، {فَأَحْسَنَ} عطف على صوركم {صُوَرَكُمْ} مفعول به {وَرَزَقَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {جَعَلَ} {مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: متعلق بـ {رزقكم}. {ذَلِكُمُ الله}: مبتدأ وخبر أول. {رَبُّكُمْ}: خبر ثان، والجملة: مستأنفة. {فَتَبَارَكَ}: {الفاء}: عاطفة أو استئنافية. {تبارك الله}: فعل وفاعل. {رَبُّ الْعَالَمِينَ}: نعت للجلالة، والجملة الفعلية: مستأنفة أو معطوفة على الجملة الاسمية. {هُوَ الْحَيُّ}: مبتدأ وخبر أول، والجملة: مستأنفة، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: خبر ثان {فَادْعُوهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من الصفات لله تعالى، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {ادعوه} {ادعوه}: فعل أمر وفاعل ومفعول به. {مُخْلِصِينَ}: حال من فاعل {ادعوه}. {لَهُ}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}، {الدِّينَ}: مفعول لـ {مُخْلِصِينَ}، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: مبتدأ وخبر. {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: نعت للفظ الجلالة، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لقول محذوف، حال من فاعل {ادعوه} تقديره: فادعوه مخلصين له الدين حال كونكم قائلين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

التصريف ومفردات اللغة {إِلَى النَّجَاةِ}؛ أي: إلى الإيمان بالله، الذي ثمرته وعاقبته النجاة. {إلى النار}؛ أي: إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار. {أَدْعُوكُمْ} أصله: أدعوكم بوزن أفعل سكنت الواو لوقوعها بعد ضَمة فصارت حرف مَدّ {النجاة} أصله: النجوة، بوزن فعلة كالدعوة، نقلت حركة الواو إلى الجيم، ثم قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {تَدْعُونَنِي} أصله: تدعوونني، حذفت الضمة التي على الواو تخفيفًا، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعونني. {مَرَدَّنَا} أصله مرددنا، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء فسكنت، ثم أدغمت في الدال الثانية. {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي} قال في "القاموس": فوض إليه الأمر: رده إليه. انتهى. وحقيقة التفويض: تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى كما في "عين المعاني". {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: الذين يغلب شرهم على خيرهم. {فَوَقَاهُ الله} فيه إعلال بالقلب، أصله: وفيه، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} ومعنى عرضهم على النار: إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف: إذا قتلوا به. قال في "القاموس": عرض القوم على السيف: قتلهم، وعلى السوط: ضربهم. {غُدُوًّا} وزنه فعول، أصله: غدووًا، أدغمت واو فعول في واو لام الكلمة. {وَعَشِيًّا} لامه واو، أصله: عشيو، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنة فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء. {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ} أصله: يتحاججون، سكنت الجيم الأولى وأدغمت في الثانية، والتحاج بالتشديد: التخاصم كالمحاجة. {مُغْنُونَ} أصله: مغنيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت النون لمناسبة الواو. {تَبَعًا}: جمع تابع، كخدم جمع خادم، قال في "القاموس": التبع: محركة التابع يكون واحدًا وجمعًا؛ أي: أتباعًا في كل حال، خصوصًا فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب، أو مصدر وصف به. {نَصِيبًا} وهو الحظ المنصوب؛ أي: المعين كما في "المفردات". {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} جمع خازن، والخزن: حفظ الشيء في الخزانة، ثم يعبر به عن كل حفظ، كحفظ السر

ونحوه. قاله الراغب. {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}: جمع شاهد، مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء فيه مسموعًا أدي على ما سمع فهو على هذا جمع شهيد مثل شريف وأشراف. {مَعْذِرَتُهُمْ} والمعذرة: بمعنى العذر. {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أصله: أتيهم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} أصله: استعوذ، بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى العين فسكنت، فالتقت ساكنةً، مع الذال آخر الفعل المسكن لبناء الأمر، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. {الْمُسِيءُ} أصله: المسوىء، بوزن الفعل، نقلت حركة الواو إلى السين فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مد. {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والحذف، أصله: أستجوب: فعل مضارع مرفوع بالضمة، ثم وقع جوابًا للأمر فجزم بالسكون، ثم نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان فحذفت الواو، فوزنه استفل. {دَاخِرِينَ}: اسم فاعل من دخر كمنع وفرح إذا صغر وذل. وفي "المصباح": دخر الشخص يدخر بفتحتين دخورًا: ذل وهان؛ وأدخرته بالألف لتعدية. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} السماء، أصله: السماو من السمو، والهمزة: مبدلة من واو لتطرفها إثر ألف زائدة، وكذلك قوله: {بِنَاءً}: أصله: بناو؛ لأنك تقول: بنيت البنيان، أبدلت الياء همزةً لتطرفها إثر ألف زائدة. {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ} قال الراغب: الأفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب: المؤتفكات. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تكرير نداء قومه في قوله: {يَا قَوْمِ}؛ مبالغة في التنبيه والتحدي وقرع العصا وإمحاض النصيحة لهم، والإيقاظ من سنة الغفلة. ومنها: الإتيان بالواو في النداء الثالث دون الثاني, لأن النداء الثاني بمثابة بيان للأول، وتفسير له، فأعطي حكمه في عدم دخول الواو عليه، وأما الثالث:

فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}. ومنها: الطباق بين {غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، وبين الأعمى، والبصير في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} وفيه الاستعارة اللطيفة: استعار {الْأَعْمَى} للكافر {وَالْبَصِيرُ} للمؤمن. ومنها: المقابلة بين {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} وبين {الَّذِينَ آمَنُوا} {والمسيء}. فائدة: واعلم: أن التقابل يجيء على ثلاث طرق: إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية. والثانية: أن يتأخر المتقابلان، كقوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}. والثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)} وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم {الْأَعْمَى} في نفي التساوي؛ لمجيئه بعد صفة الذم في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} كما مر اهـ "سمين". ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لإفادة التهويل والتفظيع, لأن مقتضى السياق أن يقال: {وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ} لخزنتها، والتفخيم فيه من وجهين: أحدهما: وضع الظاهر موضع المضمر. والثاني: ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه, لأن جهنم أفظع من النار إذ النار مطلقة وجهنم أشدها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} لأن الايراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال، فلما تعذّر حمله على معناه هنا .. أريد به الترك مجازًا كما مر، فاستعير الإيراث للترك ثم اشتق من الإيراث بمعنى الترك، وأورثنا بمعنى تركنا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} على

قراءة التاء الفوقانية, لأن ما قبله وما بعده على الغيبة، وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ: هي إظهار العنف الشديد والإنكار البليغ، كما في "الكرخي" وغيره. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {ادْعُونِي} لأن الدعاء مجاز عن العبادة، علاقته السببية, لأن الدعاء سبب العبادة. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} فقد أسند الإبصار إلى النهار, لأنه يبصر فيه، ولأن الإبصار في الحقيقة لأهل النار. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} فقد كان السياق يقتضي أن يقول: ولكن أكثرهم لا يشكرون، فلا يتكرر ذكر الناس، ولكن في هذا التكرار تخصيصًا لكفران النعمة بهم، وأنهم هم المتميزون بهذه الصفة المستولية على الطباع, تتوالى عليهم النعم وتترادف الآلاء, وهم مصرون على الجحود والكفران, وكان ذلك شأن الإنسان وخاصته. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}. ومنها: التأكيد بأن واللام في قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} لأن المخاطبين هنا هم الكفار وهم منكرون، وجرد في طه عن اللام حيث قال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}؛ لكون المخبر ليس بشاك في الخبر كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) في الْحَمِيمِ ثُمَّ في النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا في الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}. المناسبة قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما أثبت لنفسه صفات الجلال ¬

_ (¬1) المراغي.

والكمال .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهي هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة لا الأحجار المنصوبة والخشب المصورة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفةً وجنينًا إلى الشيخوخة ثم الموت. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ ...} الآيات، وهذه الآيات عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة، وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله تعالى .. أمر هنا رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، فإن الله سبحانه سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أوعد المبطلين، وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته، بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أطال الكلام في هذه السورة في توبيخ الذين يجادلون في آيات الله طلبًا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا .. ختمها بتهديدهم، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر

[66]

منهم عددًا، وأشد قوةً وآثارًا في الأرض، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا العباس، تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنى لهم ذلك، هيهات هيهات فذلك لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا، سنة الله في عباده أن لا ينفع الإيمان حين حلول العذاب، وأحاط بهم، وما أحسن قول بعضهم: صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلاَبِ أَسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول وعليك بدين آبائك وأجدادك، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 66 - {قُلْ} يا محمد لمشركي مكة حين قالوا لك: ارجع إلى دين آبائك: {إِنِّي نُهِيتُ} وزجرت ومنعت، من النهي، وهو طلب الترك {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} وتعبدون {مِنْ دُونِ اللهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: منعت من عبادة الأصنام والأوثان التي تعبدونها من دون الله تعالى {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ}؛ أي: حين جاءني الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، الدالة على وحدانيته تعالى: {مِنْ رَبِّي} فإنها توجب التوحيد؛ أي: منعني ربي من الإشراك وقت مجيء الآيات القرآنية من ربي، وذلك (¬1) لأنه لا نهي ولا وجوب عند أهل السنة إلا بعد ورود الشرع، ويجوز أن يقال: كان منهيًا عن عبادتها عقلًا بحسب دلالة الشواهد على التوحيد، فأكد النهي بالشرع، ويجوز أنه نهي له - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: غيره. وفي قوله: {مِنْ رَبِّي} إشارة إلى أن دلائل التوحيد، وشواهد أنوار الحقيقة لا تطلع إلا من مطلع الهداية الأزلية، ولكن ينبغي للملتمسين أن يتوجهوا إلى ذلك الجانب بالإعراض عن السوى وترك أصنام البدع والهوى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[67]

وفي "الخطيب" (¬1): لما أورد على المشركين تلك الأدلة، الدالة على إثبات إله العالم .. أمره بقوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} إلخ؛ أي: قل لهؤلاء الذين يجادلونك في ألبعث، مقابلًا لانكارهم بالتوكيد {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ}؛ أي: نهيًا عامًا ببراهين العقول، ونهيًا خاصًا بأدلة النقل، أن أعبد الذين تعبدون من دون الله حين جاءني البينات من ربي؛ أي: دلائل التوحيد العقلية والنقلية. اهـ. وخلاصة المعنى (¬2): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك من قريش وغيرهم: إني نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتني الأدلة من عند ربي، وهي آيات الكتاب الذي أنزله علي، وهي مؤيدة لأدلة العقل، ومنبهة لها، وجملة ذلك: أن الايات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس. ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله تعالى .. أردف ذلك بأنه أمر بعبادته تعالى فقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أمرت بأن أنقاد أو أخلص، فالأول على أن يكون {أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} من قولم: أسلم أمره إلى الله؛ أي: سلم وفوض، وذلك إنما يكون بالرضا والانقياد لحكمه، والثاني مفعول {أُسْلِمَ} محذوفًا؛ أي: أمرت أن أسلم أمري أو أخلص توحيدي وطاعتي له. اهـ "زاده"؛ أي: أمرت بالانقياد والخضوع أو بالإخلاص له. قال في "برهان القرآن": مدح سبحانه نفسه وختم ثلاث آيات على التوالي بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وليس له في القرآن نظير. 67 - ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...} وعبارة زاده هنا: لما استدل على ثبوت الإله ووجوده بأربع من دلائل الآفاق، وهي الليل والنهار، والأرض والسماء، وبثلاث من دلائل الأنفس، وهي التصوير وحسن الصورة، ورزق الطيبات .. ذكر من دلائل الأنفس كيفية تكون البدن من ابتداء كونه نطفة إلى آخر الشيخوخة والموت، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الخ. انتهى. أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي خلقكم وأوجدكم يا بني آدم {مِنْ تُرَابٍ}؛ ¬

_ (¬1) الخطيب. (¬2) المراغي.

أي: في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب؛ أي: خلق أباكم الأول - وهو آدم - من تراب وخلقه من تراب، يستلزم خلق ذريته منه. {ثُمَّ} خلقكم خلقًا تفصيليًا {مِنْ نُطْفَةٍ}؛ أي: من منى، قال الراغب: النطفة: الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل؛ أي: ماء الصلب يوضع في الرحم. كما قال ابن سينا: لَا تُكْثِرَنَّ مِنَ الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ ... مَاءُ الحَيَاةِ يُصَبُّ فِيْ الأَرْحَامِ والمعنى: خلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلقكم من نطفة نسلًا بعد نسل، أو خلق كل واحد منكم من التراب، بمعنى أن كل إنسان مخلوق من المني، وهو من الدم، وهو من الأغذية الحيوانية والنباتية، والحيوانية لا بد أن تنتهي إلى النباتية، وإلا لزم أن يتسلسل الحيوانيات إلى غير النهاية، والنبات إنما يتولد من الماء والتراب، أو خلق قالبكم في بدء أمركم من الذرة الترابية، التي استخرجها من صلب آدم، ثم أودعها في قطرة نطفة بنيه. {ثُمَّ} خلقكم {مِنْ عَلَقَةٍ} وهي الدم الجامد، لأن المني يصير على هذا الشكل بعد أربعين يومًا في بطن الأم. {ثُمَّ} خلقكم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم {يُخْرِجُكُمْ} من بطون أمهاتكم حالة كونكم {طِفْلًا}؛ أي: أطفالًا صغارًا، حال من الكاف في {يُخْرِجُكُمْ} ولما كانت الحال مفردة، وصاحبها جمعًا، وهذا لا يسوغ .. أولناها بالجمع ليحصل التطابق، وأفرده هنا؛ لكونه اسم جنس وضع موضع الجمع؛ أي: الأطفال، أو المعنى: ثم يخرج كل واحد منكم من رحم الأم حال كونه طفلًا، لتكبروا شيئًا فشيئًا. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}؛ أي: كمالكم في القوة والعقل، قال في "القاموس": الأشد واحد، جاء علي بناء الجمع بمعنى القوة، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وفي "كشف الأسرار": يقال: إذا بلغ الإنسان إحدى وعشرين سنة .. دخل في الأشد، وذلك حين اشتد عظامه، وقويت أعضاؤه {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا}؛ أي: تصيروا إلى حالة الشيخوخة، والشيخ: يقال لمن طعن في السنن، واستبانت فيه، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، أو إلى ثمانين. كما في "القاموس". قال في "كشف الأسرار" يقال: إذا ظهر البياض بالإنسان .. فقد شاب. وإذا دخل في الهرم .. فقد شاخ. قال الشاعر:

وَمَنْ عَاشَ شَبَّ وَمَنْ شَبَّ شَابَ ... وَمَنْ شَابَ شَاخَ وَمَنْ شَاخَ مَاتَ روي: أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، قد شبت فقال: "شيبتني هود وأخواتها"؛ يعني: سورة هود، وكان الشيب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلًا، يقال: كان شاب منه إحدى وعشرون شعرةً بيضاء، ويقال: سبع عشرة شعرة. قال أنس: لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء، وقال بعض الصحابة: ما شاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسئل آخر منهم، فأشار إلى عنفقته؛ يعني كان البياض في عنفقته؛ أي: في شعيرات بين الشفة السفلى والذقن، وإنما اختلفوا لقلتها، يقال: كان إذا ادهن خفي شيبة. والحاصل (¬1): أن {اللام} التعليلية في {لِتَبْلُغُوا}: معطوفة على علة أخرى ليخرجكم مناسبة لها، والتقدير: لتكبروا شيئًا فشيئًا، ثم لتبلغوا غاية الكمال، وقوله {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} معطوف على {لِتَبْلُغُوا}. وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام: {شُيُوخًا} بضم الشين، وقرأ الباقون: بكسرها، وقرىء: {شيخًا} بالإفراد لقوله: طفلًا. يعني: أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث: الطفولية وهي حالة النمو، والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف، ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيخوخة، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى}؛ أي: يقبض روحه ويموت {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضًا، وقوله: {وَلِتَبْلُغُوا}: متعلق (¬2) بفعل مقدر بعده؛ أي: ولتبلغوا جميعًا {أَجَلًا مُسَمًّى}؛ أي: وقتًا محدودًا معينًا لا تتجاوزونه هو وقت الموت، أو يوم القيامة يفعل ذلك؛ أي: ما ذكر من خلقكم من تراب وما بعده من الأطوار المختلفة، ولكون المعنى على هذا لم يعطف على ما قبله من {لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} و {لِتَكُونُوا شُيُوخًا}، وإنما قلنا: أو يوم القيامة؛ لأن الآية تحتوي على جميع مراتب الإنسان، من مبدأ فطرته إلى منتهى أمره، فجاز أن يراد أيضًا يوم الجزاء؛ لأنه المقصد الأقصى، وإليه كمِّيَّةُ الأحوال {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}؛ أي: ولكي تعقلوا ما في ذلك الانتقال من طور، إلى طور من فنون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[68]

الحكم والعبر، وتستدلوا به على وجود خالق القوى والقدر؛ أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم، وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة. ومعنى الآية (¬1): أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المني، والمني مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهي إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء، ثم ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً إلى مراتب كثيرة، حتى ينفصل الجنين من بطن الأم. وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب: 1 - الطفولة. 2 - بلوغ الأشد. 3 - الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة، وهو يفعل ذلك ويبقيكم لتبلغوا الأجل المسمى، وهو يوم القيامة، وتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم. 68 - وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر، استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُحْيِي} الأموات كما في الأرحام وعند البعث {وَيُمِيتُ} الأحياء كما عند انقضاء الأجل وفي القبر بعد السؤال، وأيضًا يحيي القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه، ويميت القلوب بنار قهره، فإذا حيي القلب .. مات النفس، وإذا مات القلب .. حيي النفس {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا}؛ أي: فإذا قدر شيئًا من الأشياء، وأراد كونه وحصوله .. {فَإِنَّمَا يَقُولُ} سبحانه {لَهُ}؛ أي: لذلك الأمر {كُنْ}؛ أي: أحدث {فَيَكُونُ} ذلك الأمر؛ أي: فهو يحدث ويوجد من غير توقف على شيء من الأشياء أصلًا. وهذا تمثيل (¬2) لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور حقيقةً، وذهب بعضهم إلى أنه حقيقة، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة، فيقول ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[69]

بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو مركب من الأصواب والحروف: {كن}؛ أي: احدث، فيكون؛ أي: فيحدث. ومعنى الآية (¬1): أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء، وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها .. فإنما يقول له: كن فيكون، بلا معاناةٍ ولا كلفةٍ. 69 - ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد أو أيها المخاطب {إِلَى} حال {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} ويخاصمون {فِي آيَاتِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: في إبطالها ودفعها {أَنَّى يُصْرَفُونَ}؛ أي: كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها؟ أي: انظر يا محمد إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة، الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها، وتعجب من أحوالهم الشنيعة، وآرائهم الركيكة، كيف يصرفون عن تلك الآيات القرآنية، والتصديق بها إلى تكذيبها، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها بالإيمان وانتفاء الصوارف عنها بالكلية. وتكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع من هذه السورة (¬2): إما لتعدد المجادل بأن يكون في أقوام مختلفة، أو المجادل فيه بأن يكون في آيات مختلفة أو للتأكيد. وعبارة أبي السعود قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ...} إلخ، تعجيب من أحوالهم الشنيعة، وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ ...} الخ: بيان لابتناء جدالهم على معنى فاسد، لا يكاد يدخل تحت الوجود، فلا تكرار فيه. والخلاصة: أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة، الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها، كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها، وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[70]

وأنها في نفسها موجبة للتوحيد. 70 - ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ}؛ أي: بكل القرآن. وعبارة "السمين" هنا: يجوز في الموصول أوجه من الإعراب؛ إما أن يكون بدلًا من الموصول قبله، أو بيانًا له، أو نعتًا أو خبرًا لمبتدأ محذوف، أو منصوبًا على الذم، وعلى هذه الأوجه فقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: جملة مستأنفة سيقت للتمهيد، ويجوز (¬1) أن يكون مبتدأ، والخبر: الجملة من قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، ودخول {الفاء} فيه: واضح اهـ. قال في "الإرشاد": إنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة؛ لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها. اهـ. {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} من سائر الكتب؛ أي: هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الالهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات، ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وكته جدالهم، وتكذيبهم عند مشاهدتهم لعقوباته، وهي جملة مستأنفة مسوقة للتهديد، 71 - والظرف (¬2) في قوله: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}: متعلق بـ {يَعْلَمُونَ}؛ أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وقت كون الأغلال في أعناقهم. فإن قلت (¬3): إن {إِذِ} ظرف للزمن الماضي، و {يَعْلَمُونَ} مستقبل لفظًا ومعنًى، فهو مثل قولك: سوف أصوم أمس، فهو لا يجوز؟. قلت: إن وقت العلم مستقبل تحقيقًا، وماضٍ تنزيلًا وتأويلًا؛ لأن ما سيعلمونه يوم القيامة، فكأنهم علوه في الزمن الماضي، لتحقق وقوعه {فَسَوْفَ} بالنظر إلى الاستقبال التحقيقي، و {إذ} بالنظر إلى المضي التأويلي، و {الْأَغْلَالُ}: جمع غل بالضم، وهو: ما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه كما سيأتي؛ يعني: تغل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[72]

أيديهم إلى أعناقهم مضمومةً إليها {وَالسَّلَاسِلُ} معطوف على {الْأَغْلَالُ}، والجار: في نية التأخير، والتقدير: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وهو جمع سلسلة بالكسر، وذلك لأن السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، ولما كان في السلسلة بالكسر إيصال بعض الخلق بالبعض .. سميت بها. 72 - وجملة قوله: {يُسْحَبُونَ} {فِي الْحَمِيمِ}: حال من فاعل {يَعْلَمُونَ} أو من ضمير {أَعْنَاقِهِمْ}؛ أي: سوف يعلمون عاقبة وبالهم حال كونهم مسحوبين؛ أي: مجرورين، تجرّهم على وجوههم خزنة جهنم بالسلاسل إلى الحميم؛ أي: إلى الماء المسخن بنار جهنم، ولا يكون إلا شديد الحرارة جدًّا، لأن ما سخن بنار الدنيا التي هي جزء واحد من سبعين جزءًا من نار جهنم، إذا كان لا يطاق حرارته .. فكيف ما يسخن بنار جهنم، وفي كلمة {فِي} إشعار بإحاطة حرارة الماء لجميع جوانبهم، كالظرف للمظروف، حتى كأنهم في عين الحميم ويسحبون فيها، والظاهر أن معنى {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ}؛ أي: يجرون إلى النار على وجوههم. ويجوز (¬1) أن يرتفع {السلاسل} على أنه مبتدأ، وخبره: محذوف لدلالة {فِي أَعْنَاقِهِمْ} عليه، ويجوز أن يكون الخبر {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} بحذف العائد؛ أي: يسحبون بها في الحميم، وعلى هذا قراءة الجمهور برفع {السلاسل}، وقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وعكرمة وزيد بن علي وأبو الجوزاء: {والسلاسل} بالنصب (¬2) على المفعول، وقرؤوا {يسحبون} بفتح الياء مبنيًا للفاعل، فيكون {السلاسل} مفعولًا مقدمًا، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية، وقرأ فرقة منهم ابن عباس {والسلاسل} بجر اللام، قال ابن عطية: على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، وقال الزجاج: المعنى على هذه القراءة وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل {يُسْحَبُونَ} على تقدير عطف {السلاسل} على {الْأَغْلَالُ} وعلى تقدير كونها مبتدأ، وخبرها: {فِي أَعْنَاقِهِمْ} النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[73]

{ثُمَّ} بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}؛ أي: يحرقون بالنار، وهي محيطة بهم، من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود، ومن كانوا في النار وكانت هي محيطة بهم، وصارت أجوافهم مملوءة بها، لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون، والمراد: بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب، وينقلون من لون إلى لون. حكي: أنه توفيت النوارة - امرأة الفرزدق - فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة، وخرج فيها الحسن البصري، فقال الحسن للفرزدق: يا أبا فراس، ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت .. قام الفرزدق على قبرها وأنشد هذه الأبيات: أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِيْ ... أَشَدَّ مِنَ القَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا إِذَا جَاءَنِيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيْفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوْقُ فَرَزْدَقَا لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى ... إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا ومعنى الآية: أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به، وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار، ونحو الآية قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} وقوله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}. 73 - ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فقال: {ثُمَّ}؛ أي: بعد الإحراق {قِيلَ لَهُمْ}؛ أي: يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق {أَيْنَ مَا}؛ أي: أين الشركاء الذين {كُنْتُمْ} في الدنيا على الاستمرار {تعبدون} هم 74 - {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ رجاء شفاعتهم ادعوهم ليشفعوا لكم ويعينوكم، وهو نوع آخر من تعذيبهم {قَالُوا}؛ أي: يقولون: {ضَلُّوا عَنَّا}؛ أي: الشركاء؛ أي: غابوا {عَنَّا}؛ أي: عن أعيننا، وإن كانوا قائمين؛ أي: غيرها لكين، من قول العرب: ضل المسجد والدار؛ أي: لم

يعرف موضعهما، وذلك (¬1) قبل أن يقرن بهم آلهتهم، فإن النار فيها أمكنة متعددة، وطبقات مختلفة، فلا مخالفة بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، على أن يكون {ضل} بمعنى ضاع وهلك، تنزيلًا لوجودهم منزلة الضيفاع والهلاك، لفقدهم النفع الذي يتوقعونه منهم، وإن كانوا مع المشركين في جميع الأوقات. ثم أضربوا عن ذلك، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم، فقالوا: {بَل} تبين لنا أنا {لَمْ نَكُنْ نَدْعُو} ونعبد {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: في الدنيا بعبادتهم {شَيْئًا} ينفع لما ظهر لنا اليوم، أنهم لم يكونوا شيئًا يعتد به، كقولك: حسبته شيئًا فلم يكن؛ أي (¬2): بل لم نكن نعبد من قبل هذا البعث شيئًا يضر وينفع، ويبصر ويسمع، وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلةً، قالوا ذلك: لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا ينفع ولا يضر. وليس هذا إنكار لوجود عبادتهم لها، بل اعتراف ببطلانها وعدم نفعها لم، أو المعنى: بل لم نكن نعبد من قبل هذا اليوم شيئًا من دون الله أصلًا، فيكون إنكارًا لعبادة الأصنام {كَذَلِكَ}؛ أي (¬3): مثل ضلال آلهتهم عنهم {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الالهة أو طلبتهم الالهة .. لم يتصادفوا، وهذا بالنظر إلى التفسير الأول في قوله: {ضَلُّوا عَنَّا}؛ أي: غابوا عن أعيننا، أو كما أضل الله هؤلاء المجادلين حيث لم يهتدوا في الدنيا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، من العقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة، يضل الله سائر الكافرين، الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين، وهذا بالنظر إلى التفسير الثاني في {ضَلُّوا عَنَّا}، ومعنى إضلال الله سبحانه عبده: هو عدم عصمته إياه مما نهاه عنه، وعدم معونته وإمداده بما يتمكن به من الإتيان بما أمره به، أو الانتهاء عما نهاه عنه، كما في "تفسير الفاتحة" للشيخ صدر الدين القنوي - رحمه الله -. والمعنى (¬4): أي ثم يسألون، ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتهم تعبدونها من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) النسفي. (¬4) المراغي.

[75]

دون الله، ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا، وأخذوا طريقًا غير طريقنا، وتركونا في البلاء، لا بل الحق أننا ما كنا ندعو في الدنيا شيئًا يعتد به، وهذا كما تقول: حسبت أن فلانًا شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرًا. والخلاصة: أنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة عاطلة {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}؛ أي: كما أضل الله تعالى هؤلاء المجادلين، وأبطل كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر، فلا ينتفعون بشيء منها. 75 - ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب، فقال: {ذَلِكُمْ} الإضلال أيا الكفار، والالتفات؛ للمبالغة في التوبيخ، أو ذلكم العذاب الذي نزل بكم وهو العذاب المذكور بقوله: {إِذِ الْأَغْلَالُ}، قال ابن الشيخ: ولا يخلو عن بعد. {بِمَا} {الباء}: سببية؛ أي: بسبب ما {كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ} وتبطرون وتتكبرون {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: في الدنيا {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الشرك والطغيان، و {الباء}: صلة الفرح؛ أي: تفرحون فرحًا بغير الحق، وهو الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله وكتبه، أو الفرح بالمال والأتباع والصحة {وبـ} سبب {مَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} وتختالون وتتوسعون في العدوان. وفي "المفردات": الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، ولم يرخص إلا في الفرح بفضل الله ورحمته وبنصر الله، والمرح بفضل الله ورحمته وبنصر الله، والمرح: شدة الفرح والنشاط والتوسع فيه. كما سيأتي. والمعنى (¬1): أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب بسبب فرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتّعكم باللّذّات 76 - {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم، كما قال تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} حال كونكم {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في جهنم؛ أي: مقدّرين الخلود فيها أبدًا {فَبِئْسَ} وقبح {مَثْوَى}؛ أي: مقرّ ومنزل {الْمُتَكَبِّرِينَ} عن قبول الحق، والمخصوص بالذم: جهنم؛ أي: فحينئذ يقال {بِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} على الله في الدنيا، من أن يوحدوه ويؤمنوا برسله. ¬

_ (¬1) المراغي.

[77]

وكان (¬1) مقتضى النظم القرآني أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، ليناسب عجز الكلام صدره كما يقال: زر بيت الله فنعم المزار، فصلّ في المسجد الحرام فنعم المصلى، لكن لما كان الدخول المقصود بالخلود سبب الثواء؛ أي: الإقامة .. عبّر بالمثوى الذي هو محل الإقامة، فاتحد آخر الكلام بأوله. وفي الآية: ذمّ الكبر، فلا بدّ من علاجه بضدّه وهو التواضع، وعن بعض الحكماء افتخر الكلأ في المفازة على الشجر، فقال: أنا خير منك، يرعاني البهائم التي لا تعصي الله طرفة عين، فقال الشجر: أنا خير منك، يخرج منّي الثمار ويأكلها المؤمنون، وتواضع القصب، قال: لا خير فيّ، لا أصلح للمؤمنين ولا للبهائم، فلما تواضع رفعه الله، وخلق فيه السكّر الذي هو أحلى شيء، فلما نظر إلى ما وضع الله فيه من الحلاوة وتكبّر، فأخرج الله منه رأس القصب، حتى اتخذ منه الآدميون المكنسات، فكنسوا بها القاذورات، فهذا حال كبر غير المكلف، فكيف حال المكلف؟ 77 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، فقال: {فَاصْبِرْ} يا محمد على أذيّة قومك لك، بسبب تلك المجادلات وغيرها، إلى أن يلاقوا ما وعدت لهم من العذاب {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}؛ أي: إنّ وعده بتعذيبهم والانتقام منهم {حَقٌّ}؛ أي: ثابت كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ}؛ أي: فإن نرك، و {مَا}: مزيدة لتأكيد الشرطية، ولذا لحقت النون الفعل، ولا تلحقه مع إن وحدها، فلا تقول: إن تكرمني .. أكرمك بنون التأكيد، بل إما تكرمني .. أكرمك؛ أي: فإن نرك يا محمد في الدنيا {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب بالقتل والأسر والقهر، وجوابه: محذوف؛ أي: فذاك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن تراه؛ أي: أو نُمتْكَ قبل إنزال العذاب بهم {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} وهو جواب {نَتَوَفَّيَنَّكَ}؛ أي: يردون إلينا يوم القيامة لا إلى غيرنا لنجازيهم بأعمالهم. ومعنى الآية (¬2): أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلها عليك، وعلى تكذيبهم إيّاك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك، من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[78]

الآخرة، كما قال: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} إلخ؛ أي: فإما نرينك في حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة، كالقتل والأسر يوم بدر، فذاك ما يستحقّونه، أو نتوفّينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، وننتقم منهم أشدّ الانتقام، وناخذهم أخذ عزيز مقتدر، ونحو الآية قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}. وقرأ الجمهور (¬1): {يُرْجَعُونَ} بياء الغيبة مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب: بفتح الياء، وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب. 78 - ثم ردّ سبحانه وتعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} روي إن الذين كانوا يجادلون في آيات الله تعالى، اقترحوا معجزات زائدة على ما أظهره الله على يده - صلى الله عليه وسلم -، من تفجير العيون، وإظهار البساتين، وصعود السموات ونحوها، مع كون ما أظهره من المعجزات كافية في الدلالة على صدقه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد بعثنا {رُسُلًا} ذوي عدد كثير إلى قومهم {مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: من قبل بعثتك يا محمد، أو من قبل زمانك {مِنْهُمْ}؛ أي: من أولئك الرسل، خبر مقدم {مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: صفة {رُسُلًا} من قصّ عليه إذا بيّن، وأخبر؛ أي: من بيّناهم وأخبرناهم وسميناهم لك في القرآن، فأنت تعرفهم؛ أي: أنبأناك بأخبارهم، وما لقوه من قومهم {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}؛ أي: لم نسمّهم، ولم نخبرك خبرهم، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين قومهم. وعن علي وابن عباس: أن الله بعث نبيًا أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه. قال بعضهم: لعل معناه: أن الله بعث نبيًا أسود إلى السودان، فلا يخالف ما ورد من أنّ الله تعالى ما بعث نبيًا إلا حسن الاسم، حسن الصورة حسن الصوت، وذلك لأنَّ في كل جنس حسنًا بالنسبة إلى جنسه. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والحاصل (¬1): أنّ المذكور قصصهم من الأنبياء أفراد معدودة، وقد قيل: عدد الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألفًا، قال في "شرح المقاصد": روى أحمد في "مسنده" عن أبي ذرّ الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كم عدد الأنبياء؟ فقال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" فقلت: فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلاث مئة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا" وفي رواية مئتا ألف وأربعة وعشرون ألفًا، كما في "شرح العقائد" للتفتازاني. قال ابن أبي شريف: لم أر هذه الرواية. لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر على عددهم؛ لأنّ خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط، لا يفيد إلا الظن، ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقادات، وهاهنا حصر عددهم يخالف ظاهر قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا} إلخ. ويحتمل أيضًا مخالفة الواقع، وإثبات من ليس بنبي إن كان عددهم في الواقع أقلّ مما ذكر، ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر، فالأولى عدم التنصيص على عدد. والمذكور في القرآن باسم العلم على ما ذكر بعض المفسرين: ثمانية وعشرون، وهم: آدم ونوح وإدريس وصالح وهود وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويوسف ولوط ويعقوب وموسى وهارون وشعيب وزكريا ويحيى وعيسى وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وأيوب ويونس ومحمد وذو القرنين وعزيز ولقمان على القول بنبوة هذه الثلاثة الأخيرة، وفي "الأمالي": وَذُوْ القَرْنَينِ لَم يُعْرَفْ نَبِيًّا ... كَذَا لُقْمَانُ فَاحْذَرْ عَنْ جِدَالِ وذلك لأنّ ظاهر الأدلّة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى، وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما، كتبع، فإنه عليه السلام قال: "لا أدري أهو نبي أم ملك" وكالخضر، فإنه قيل: نبي، وقيل: ولي، وقيل: رسول، فلا ينبغي لأحد أن يقطع بنفي أو إثبات، فإن اعتقاد نبوّة من ليس بنبي كفر، كاعتقاد نفي نبوة نبي من الأنبياء، يعني إذا كان متفقًا على نبوته أو عدم نبوته، وأما إذا كان فيه خلاف .. فلا يكفر؛ لأنه كالدليل الظنّي، والكفر في القطعيّ. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} لاستغنائك عن ذلك، تخفيفًا لك عمَّا لا يعنيك، وهذا أمارة كمال العناية فيما قصّ عليه، وفيما لم يقصص عليه. والمعنى: أي ولقد أرسلنا رسلًا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن، وبما لاقوه من قومهم، وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم. {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ}، أي: وما صحّ وما استقام لرسول منهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ومعجزة تقترح عليه {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وإرادته، لا من قبل نفسه فإن المعجزات تشعب فنونها عطايا من الله تعالى، قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنيّة على الحكم البالغة، كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها، ولا استبداد بإتيان المقترح بها، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كأنه قيل: ما من رسول من قبلك سواء كان مذكورًا أو غير مذكور، أعطاه الله آيات ومعجزات إلا جادله قومه فيها، وكذّبوه عنادًا وعبثًا، فصبروا وظفروا، فاصبر كما صبروا، تظفر كما ظفروا {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} سبحانه بالعذاب في الدنيا والآخرة .. {قُضِيَ بِالْحَقِّ}؛ أي: حكم بين الرسل ومكذّبيهم بإنجاء المحق، وإهلاك المبطل وتعذيبه {وَخَسِرَ}؛ أي: هلك أو تحقّق، وتبيّن أنه خسر {هُنَالِكَ}؛ أي: وقت مجيء أمر الله تعالى، وهو اسم مكان استعير للزمان {الْمُبْطِلُونَ} المتمسّكون بالباطل على الإطلاق، فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولًا أوليًا، جمع مبطل، والمبطل: صاحب الباطل والمتمسك به العامل له، كما أن المحق صاحب الحق والعامل به، والباطل؛ ضد الحق. ولم يقل هنا (¬1): وخسر هنالك الكافرون، لما سبق من نقيض الباطل الذي هو الحق. كما في "برهان القرآن". وفي الآية إشارة إلى أنه يجب الرجوع إلى الله قبل أن يجيء أمرُه وقضاؤه بالموت والعذاب، فإنه ليس بعده إلا الأحزان. وحاصل المعنى (¬2): أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذّبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك، فصبر على ما أوذي، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل التعنّت والعناد، لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[79]

للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوّتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحًا ولا جرم، لم يجابوا إلى ما طلبوا لأنَّ المصلحة في عدم إجابتهم إليه، فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين .. قضي بالعدل، فنجّي رسله والذين امنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته، وزعموا أن له شريكًا. 79 - ثمّ امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى، فقال: {اللَّهُ} الذي يستحق منكم العبادة هو {الَّذِي جَعَلَ} وخلق {لَـ} أجلـ {كُمْ} ومصلحتكم {الْأَنْعَامَ}؛ أي: الإبل، جمع نعم بفتحتين، وهو في الأصل الماشية الراعية، والكثير استعماله في الإبل، وقيل: الأنعام: الأزواج الثمانية. كما سيأتي عن بعضهم {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {من}: لابتداء الغاية، ومعناها: ابتداء الركوب، والأكل منها؛ أي: تعلقهما بها أو للتبعيض؛ أي: لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها، لا أن كلًّا من الركوب والأكل مختص ببعض معيّن منها، بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر، بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما، وهذا أولى. وتغيير (¬1) النظم في الجملة الثانية؛ لمراعاة الفواصل مع الإشعار بأصالة الركوب؛ لأنّ الغرض إنما يكون في المنافع، والركوب: متعلق بالمنفعة؛ لأنه إتلاف المنفعة، بخلاف الأكل، فإنه متعلق بالعين، لأنه إتلاف العين، ولا يقدح في ذلك كون الأكل أيضًا من المنافع، ولهذا جاء {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}. 80 - {وَلَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في الأنعام أيضًا {مَنَافِعُ} أخرى غير الركوب والأكل، كألبانها وأوبارها وجلودها، أو كالصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك، وقوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} معطوف على قوله: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا}، و {حَاجَةً}: مفعول {لِتَبْلُغُوا}؛ أي: ولتقضوا بها حاجة في قلوبكم، يحمل أثقالكم عليها من بلد إلى بلد {وَعَلَيْهَا}؛ أي: على الإبل في البر {وَعَلَى الْفُلْكِ}؛ أي: السفن في البحر {تُحْمَلُونَ} نظيره {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[81]

قال في "الإرشاد": لعل المراد به (¬1) حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب، والجمع بينها وبين الفلك؛ لما بينهما من المناسبة التامة، حتى سمّيت سفائن البر؛ وإنما قال: {وَعَلَى الْفُلْكِ}، ولم يقل: في الفلك، كما قال {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} للمزاوجة؛ أي: ليزاوج ويطابق قوله: {وَعَلَيْهَا} فإن محمولات الأنعام مستعلية عليها، فذكرت كلمة الاستعلاء في الفلك أيضًا للمشاكلة. انتهى. وفي "المدارك": الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له، يستعليها، فلما صحّ المعنيان. صحت العبارتان. انتهى. وقال بعض المفسرين: المراد (¬2) بالأنعام في هذا المقام: الأزواج الثمانية. كما ذكرناه أولًا: وهي الإبل والبقر والضان والمعز باعتبار ذكورتها وأنوثتها. فمعنى الركوب والأكل منها: تعلقهما بالكل، لكن لا على أنّ كلًّا منهما يجوز تعلقه بكل منها، ولا على أنّ كلًّا منهما مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر، بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم، وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل والبقر، والمنافع تعمُّ الكل، وبلوغ الحاجة عليها يعمّ البقر. انتهى. 81 - ثمّ ذكر أنّ هناك آيات من آياته الباهرة، التي لا مجال لإنكارها، فقال: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}؛ أي: يبين لكم سبحانه دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} فإن كلًّا منها من الظهور بحيث لا يكاد يتجرأُ على إنكارها من له عقل في الجملة؛ أي: فإنها كلها من الظهور وعدم الخفاء، بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم. والمعنى (¬3): أَيْ أَيَّ آيَةٍ من تلك الآيات تنكرون، فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار، وإضافة (¬4) الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة، وتهويل إنكارها كما سيأتي. فإن قلت: كان الظاهر أن يقال: فأية آيات الله بتاء التأنيث، لكون {أيّ} ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان. (¬3) البيضاوي. (¬4) روح البيان.

[82]

عبارةً عن المؤنث لإضافته إليها .. قلت: تذكير {أيّ} هو الشائع المستفيض، والتأنيث قليل؛ لأنّ التفرقة بين المذكّر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة، وإنسان وإنسانة غريب، وهو في أيّ أغرب لإبهامه، فإن قصد التمييز والتفرقة ينافي الإبهام، وهذا في غير النداء، فإن اللغة الفصيحة الشانعة أن تؤنث أيّ الواقعة في نداء المؤنث، كما في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} ولم يسمع أن يقال: يا أيها المرأة بالتذكير، ومن قلة تأنيث أيّ قوله: بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبِ واعلم: أنّ جميع أجزاء العالم آيات بينات، وحجج واضحات، ترشدك إلى وحدانية الله تعالى وكمال قدرته. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ لكن هداية الله تعالى إلى جهة الإرشاد، وكيفيته أصل الأصول. والمعنى (¬1): أي إنّ له تعالى آيات يراها خلقه عيانًا، ويشاهدونها متجدّدةً كل يوم، وفي كل آن فأيًا منها تنكرون، وبأيها تعترفون، وهي ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها. وقصارى ذلك: أنكم لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا. 82 - و {الهمزة} (¬2) في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، و {الفاء}: عاطفة على مقدر يقتضيه السياق؛ أي: أقعد قومك قريش في منازلهم فلم يسيروا ولم يسافروا {فِي} نواحي {الْأَرْضِ} وأرجائها {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ} كانوا {مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم المهلكة فيعتبروا بهم؛ يعني: أنهم قد ساروا في أطراف الأرض، وسافروا إلى جانب الشام واليمن، وشاهدوا مصارع المكذبين من الأمم السالفة، وآثارهم، فليحذروا من مثل عذابهم، فلا يكذّبوك يا محمد، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة، وما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[83]

صاروا إليه من سوء العاقبة. ثمّ بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة، فقال: {كَانُوا}؛ أي: تلك الأمم {أَكْثَرَ} عددًا {مِنْهُمْ}؛ أي: من قومك {قُوَّةً} في الأبدان والعدد {وَآثَارًا} باقية بعدهم {فِي الْأَرْضِ} من الأبنية والقصور والمصانع وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيه ماء المطر، ويقال له: الصهريج وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار فيها؛ أي: كانوا أكثر منهم عددًا، وأقوى منهم أجسادًا، وأوسع منهم أموالًا، وأظهر منهم آثارًا في الأرض بالعمائر والمصانع والحرث {فَمَا أَغْنَى} ودفع {عَنْهُمْ}؛ أي: عن تلك الأمم المهلكة {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد شيئًا من عذاب الله تعالى حين جاءهم؛ فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخبيبة والخسار .. فكيف هؤلاء الفقراء المساكين، ويجوز أن تكون {مَا} الأولى استقهامية؛ أي: أيّ شيء أغنى عنهم، أو نافية؛ أي: لم يغن عنهم، و {مَا} الثانية: يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية، وهذه {الفاء}؛ أعني: قوله: {فَمَا أَغْنَى} لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، وما كانوا يكسبون بذلك، زعمًا منهم أنَّ ذلك يغني عنهم، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب، كما في قولك: وعظته فلم يتعظ؛ أي: لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ، مع أنه عكس المتوقع. وحاصل معنى الآية (¬1): أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى ما حلّ بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددًا، وأشد بطشًا، وأقوى جندًا، وأبقى في الأرض أثرًا؛ لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهرامًا ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلّت بهم نقمتنا .. لم يغن ذلك عنهم شيئًا، ولا ردّ عنهم العذاب الذي حل بهم. 83 - و {الفاء} في قوله (¬2): {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والدلالات الواضحة تفسيرية وتفصيلية لما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، إذ التفسير يعقب المفسّر، وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي: أظهروا الفرح بذلك، واستحقروا علم الرسل، والمراد بعلمهم: ما لهم من العقائد الزائفة، والشبه الباطلة، كما قالوا: لا نبعث ولا نعذّب، وما أظنّ الساعة قائمة ونحو ذلك، وتسميتها علمًا مع أنّ الاعتقاد الغير المطابق للواقع حقّه أن يسمّى جهلًا؛ للتهكُّم بهم، فهي علم على زعمهم لا في الحقيقية، أو المراد: علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}. فلما (¬1) جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، والإعراض عن الملاذّ والشهوات .. لم يلتفتوا إليها، وصغّروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به، أو المراد: علم الفلاسفة والدهريين، وهو علم الطبائع والتنجيم، فإن الحكماء كانوا إذا سمعوا بوحي الله .. دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم، ويكتفون بما يكسبونه بنظر العقل، ويقولون: نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا، كما قال سقراط لما ظهر موسى عليه السلام: نحن قوم مهذّبون، لا حاجة بنا إلى من يهذّبنا، وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم؛ لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة، فكناه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأبي جهل، لأنه لو كان له علم حقيقة .. لآمن بالرسول عليه السلام، وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنه لما كذّبهم قومهم .. أعلمهم الله تعالى بأنه مهلك الكافرين، ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه، واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين به مرحين، ويدل عليه قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ}؛ أي: نزل بالكفار وأصحابهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي: وبال استهزائهم بالأنبياء، واستحقارهم لعلومهم، وما أخبروا به من العذاب ونحوه، فلم يعجزوا الله في مراده منهم. والمعنى (¬2): أي فلما جاء هذه الأمم المكذّبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان.

[84]

الواضحة، والبراهين الظاهرة .. فرحوا بما عندهم من شبهات ظنّوها علمًا نافعًا، كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، وقولهم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاءً وسخريةً. 84 - ثمّ ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال: {فَلَمَّا رَأَوْا}؛ أي: فلما رأت الأمم السالفة المكذبة، وعاينوا {بَأْسَنَا}؛ أي: شدّة عذابنا في الدنيا، ووقعوا في مذلة الخيبة، ومنه قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}؛ أي: شديد .. {قَالُوا} مضطزين {آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} لا شريك له {وَكَفَرْنَا}؛ أي: حجدنا {بِمَا كُنَّا بِهِ}؛ أي: بسبب الإيمان به يعنون الأصنام التي يعبدونها، وهذه {الفاء}: (¬1) لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعًا لما قبلها، واقعًا عقيبه؛ لأن مضمون قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ} إلخ. هو أنهم كفروا، فصار مجموع الكلام بمنزلة أن يقال: فكفروا ثم لما رأوا باسنا .. آمنوا. أي (¬2): فلما عاينوا عذابنا النازل بهم .. قالوا: آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدي فتيلًا ولا قطميرًا. ثم بيّن أن ذلك لا يفيدهم شيئًا، فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئًا. نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ ... والْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ 85 - فقال سبحانه: {فَلَوْ يَكُ} أصله يكن حذفت النون لكثرة استعماله {يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ}؛ أي: تصديقهم بالوحدانية اضطرارًا، وقوله: {إيمانهم}: يجوز (¬3) أن يكون اسم {كان} و {يَنْفَعُهُمْ}: خبره مقدما عليه، وأن يكون فاعل {يَنْفَعُهُمْ} واسم {كان}: ضمير الشأن المستتر فيه {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}؛ أي: حين رؤيتهم شدة عذابنا، والوقوع فيه لامتناع قبوله حينئذٍ امتناعًا عاديًا، كما يدل عليه قوله: {سُنَّتَ اللَّهِ ...} إلخ. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

فامتنع القبول؛ لأنهم لم يأتوا به في الوقت المأمور به، لذلك قيل: {فَلَمْ يَكُ} بمعنى: لم يصحّ ولم يستقم، فإنه أبلغ في نفي النفع من لم ينفعهم إيمانهم، وهذه الفاء: للعطف على {آمَنُوا} كأنه قيل: فآمنوا فلم ينفعهم، لأنّ النافع هو الإيمان الاختياري الواقع مع القدرة على خلافه، ومن عاين نزول العذاب .. لم يبق له القدرة على خلاف الإيمان فلم ينفعه، وعدم نفعه في الدنيا دليل على عدم نفعه في الآخرة. والمعنى (¬1): أي فلم يفدهم إيمانهم عندما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئًا، كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}. وبعد إذ ذكر سبحانه أنّ هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذّبين فقال: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ} (¬2): من المصادر المؤكدة لفعل محذوف، و {خَلَتْ} من الخلوّ، يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصوّر في الزمان المضي .. فسّر أهل اللغة قولهم: خلا الزمان، بقولهم: مضى وذهب؛ أي: سنّ الله سبحانه عدم قبول إيمان من آمن وقت رؤية البأس ومعاينته، سنةً ماضيةً في عباده مطّردةً؛ أي: في الأمم السالفة المكذبة كلها، ويجوز أن ينتصب {سُنَّتَ اللَّهِ} على التحذير؛ أي: احذروا يا أهل مكة سنة الله المطّردة في المكذبين السابقين، والأول أولى، والسنة: الطريقة والعادة المسلوكة، وسنة الله: طريقة حكمته. والمعنى: أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا، إذا عاينوا عذابه أن لا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به، وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان. وقصارى ذلك (¬3): أن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب أن لا تقبل منه توبة، وقد جاء في الحديث: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

فإذا غرغر، وبلغت الروح الحلقوم .. فلا توبة، ولهذا قال: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمبطِلُونَ} و {هُنَالِكَ} (¬1): اسم مكان، في الأصل موضوع للإشارة إلى المكان، وقد استعير في هذا المقام للزمان، لأنه لم أشير به إلى مدلول قوله: {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} و {لَمَّا} للزمان .. تعيَّن أن يراد به الزمان، تشبيهًا له بالمكان في كونه ظرفًا للفعل كالمكان. والمعنى على ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هلك الكافرون بوحدانية الله تعالى، المكذبون بها وقت رؤيتهم البأس والعذاب. وقال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه تبيّن لهم خسرانهم، إذا رأوا العذاب، ولم يرج فلاحهم، ولم يقل: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمبطِلُونَ} كما قال فيما سبق، لأنه متصل بإيمان غير مسجد، ونقيض الإيمان: الكفر كما في "برهان القرآن"؛ أي فحسن موقعه هنا، كما حسن موقع قوله: {الْمبطِلُونَ} هناك على ما عرف سره في موضعه. الإعراب {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {إِنِّي}: ناصب واسمه. {نُهِيتُ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول لـ {قُل}، {أَن}: حرف نصب ومصدر. {أَعْبُدَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أَعْبُدَ} والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافص تقديره: قل: إني نهيت عن عبادة الذين. وجملة {تَدْعُونَ} صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: تدعونهم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من فاعل {تَدْعُونَ}؛ أي: مجاوزين الله، أو من العائد المحذوف. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًا، والظرف: متعلق ¬

_ (¬1) روح البيان.

بـ {نُهِيتُ}، {جَاءَنِيَ}: فعل ونون وقاية ومفعول به. {الْبَيِّنَاتُ} فاعل؛ والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {مِنْ رَبِّي}: حال من {الْبَيِّنَاتُ} أو متعلق بـ {جاء}، {وَأُمِرْتُ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل في محل النصب معطوف على {نُهِيتُ}. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {أُسْلِمَ}: فعل مضارع ونائب فاعل يعود على محمد منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: وأمرت بالإسلام. و {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {أُسْلِمَ}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية تكوّن البدن. {خَلَقَكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. {مِنْ تُرَابٍ}: متعلق بـ {خلق} {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}: معطوفان على {مِنْ تُرَابٍ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {يُخْرِجُكُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ} {طِفْلًا}: حال من {الكاف} في {يُخْرِجُكُمْ} على تأويله بالجمع؛ أي: أطفالًا، ليطابق الحال صاحبه، {ثُمَّ}: حرف عطف. {لِتَبْلُغُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {تبلغوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة {أَشُدَّكُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}. والجار والمجرور: متعلق بمحذوف معطوف على {يُخْرِجُكُمْ} والتقدير: ثم يخرجكم طفلًا، ثم يبقيكم لبلوغكم أشدكم. {ثُمَّ}: حرف عطف. {لِتَكُونُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تكونوا}: فعل مضارع ناقص واسمه {شُيُوخًا}: خبره، والجملة مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}؛ أي: ثم لكونكم شيوخًا، الجار والمجرور: معطوف على الجار والمجرور قبله. {وَمِنْكُمْ} {الواو}: استئنافية {منكم}: خبر مقدم {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {يُتَوَفَّى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {يُتَوَفَّى}. والجملة الفعلية: صلة {مَّن} الموصولة {وَلِتَبْلُغُوا}: {الواو}: عاطفة، {لِتَبْلُغُوا}: {اللام}: حرف

جر وتعليل. {تبلغوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة. {أَجَلًا}: مفعول به {مُسَمًّى}: صفة لـ {أَجَلًا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} والجار والمجرور: متعلق بمحذوف معطوف على {يُتَوَفَّى}، والتقدير: ومنكم من يتوفى من قبل، ومنكم من يبقي لبلوغكم أجلًا مسمى {وَلَعَلَّكُمْ}: {الواو}: عاطفة {لعل}: حرف ترّج وتعليل. و {الكاف}: اسمها، وجملة {تَعْقِلُونَ}: خبرها، وجملة {لعل}: معطوفة على جملة {لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}؛ أي: ثم يبقيكم لبلوغكم أشدكم، ولجعلكم عاقلين. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. وجملة {يُحْيِي}: صلة الموصول. {وَيُمِيتُ}. معطوف على {يُحْيِي}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قَضَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. {أَمْرًا}: مفعول به، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب. {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {إنما}: كافة ومكفوفة. {يَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {لَهُ}: متعلق بـ {يَقُولُ}، والجملة الفعلية: جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {يُحْيِي}؛ أي: وهو الذي يحيي ويميت، يقول: كن وقت قضائه أمرًا {كُنْ}: فعل أمر تام، وفاعل مستتر يعود على {أَمْرًا} والجملة: في محل النصب مقول {يَقُولُ}. {فَيَكُونُ}: {الفاء}: استئنافية. {يكون}: فعل مضارع تام، وفاعله: ضمير يعود على {أَمْرًا} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو يكون، والجملة الاسمية: مستأنفة. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري التعجبي. {لم}: حرف نفي وجزم، {تَرَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، والجملة: مستأنفة. {إِلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {تَرَ}. {يُجَادِلُونَ}:

فعل وفاعل صلة الموصول. {فِي آيَاتِ اللَّهِ}: متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}، {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال، {يُصْرَفُونَ}: فعل ونائب فاعل، ومتعلقه: محذوف، تقديره: كيف يصرفون عن الإيمان بالكلية. {الَّذِينَ}: في محل الجر بدل من {الَّذِينَ} الأول. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة: صلة الموصول. {بِالْكِتَابِ}: متعلق بـ {كَذَّبُوا} {وَبِمَا}: جار ومجرور معطوف على {بِالْكِتَابِ} {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {بِهِ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {رُسُلَنَا}: مفعول به، والجملة: صلة الموصول {فَسَوْفَ}: {الفاء}: استئنافية {سوف}: حرف تنفيس. {يَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للتهديد، هذا ويجوز أن تعرب الذين خبرًا لمبتدأ محذوف، أو منصوبًا على الذم، ويجوز أن يكون مبتدأ، خبره: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} و {الفاء}: رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، {إِذ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون المقدر، والظرت: متعلق بـ {يَعْلَمُونَ}، أو هي في محل النصب مفعول به لـ {يَعْلَمُونَ} ولا يتنافى كون الظرف ماضيًا، و {سوف يعلمون} مستقبلًا، ففي جعلها مفعولًا به تناف من استحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي، ولك أن تقول: لا منافاة؛ لأنّ الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقّنة مقطوعًا بها .. عبّر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. {الْأَغْلَالُ} مبتدأ، {فِي أَعْنَاقِهِمْ}: خبر. {وَالسَّلَاسِلُ}: معطوف على {الْأَغْلَالُ}، والظرف: في نية التأخير عنهما، فهو خبر عنهما معًا، والجملة الاسمية: في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إِذِ}؛ أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وقت كون الأغلال والسلاسل في أعناقهم. {يُسْحَبُونَ}: فعل ونائب فاعل. {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}. {فِي الْحَمِيمِ}: متعلق بـ {يُسْحَبُونَ} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير {أَعْنَاقِهِمْ} لوجود شرطه وهو كون المضاف بعضًا من المضاف إليه. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {يُسْجَرُونَ}. وجملة {يُسْجَرُونَ}: في محل النصب معطوفة على جملة {يُسْحَبُونَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {قيِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة {لَهُمْ}: متعلق بـ {قيِلَ} وجملة {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ}:

نائب فاعل محكي لـ {قيِلَ}. وجملة {قِيلَ}: معطوفة على جملة {يُسْجَرُونَ}. وإن شئت قلت: {أَيْنَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف: متعلق بمحذوف خبر مقدم {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيِلَ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تُشْرِكُونَ}: خبره {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {تُشْرِكُونَ}. وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة. {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {ضَلُّوا}: فعل وفاعل. {عَنَّا}: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا} {بَل}: حرف إضراب للإضراب الانتقالي. {لَمْ}: حرف جزم {نَكُنْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} واسمها ضمير يعود على المتكلمين. وجملة {نَدْعُو}: خبرها. {مِنْ قَبْلُ}: جار ومجرور حال من {شَيْئًا} أو متعلق بـ {نَدْعُو}. {شَيْئًا}: مفعول به لـ {نَدْعُو} وجملة {لَمْ نَكُنْ}: في محل النصب معطوفة على جملة {ضَلُّوا} على كونا مقولًا لـ {قَالُوا}. {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف: {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة؛ أي: يضل الله الكافرين كلهم إضلالًا مثل إضلالهم المذكور. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ. {بِمَا}: خبر، والجملة: في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وتقول لهم الخزنة: ذلكم ... إلخ. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. وجملة {تَفْرَحُونَ}: خبره. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {تَفْرَحُونَ}، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: حال من فاعل {تَفْرَحُونَ} وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة أو لـ {ما} المصدرية، وقوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}: معطوف على قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ}. {ادْخُلُوا}: فعل وفاعل، والجملة: أيضًا مقول لقول محذوف؛ أي: ويقال لهم: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}. {أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}: مفعول به على السعة {خَالِدِينَ}: حال من فاعل {ادْخُلُوا}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {فَبِئْسَ} {الفاء}: استئنافية أو عاطفة {بئس}: فعل ماض من أفعال الذم. {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: فاعل ومضاف إليه، والمخصوص بالذم: محذوف، تقديره: هي،

وجملة {بئس}: مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم، أو معطوفة على جملة {ادْخُلُوا}. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)}. {فَاصْبِرْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بدا لك منهم ما بدا من صد وإعراض، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {اصبر} ولا تبتئس فإنا سننتقم لك منهم {اصبر}: فعل أمر وفاعل مستتر، تقديره: أنت، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على أنها مسوقة لتعليل الأمر بالصبر. {فَإِمَّا} {الفاء}: عاطفة. {إما} {إن}: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة، و {ما}: زائدة، {نُرِيَنَّكَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و {نون} التوكيد الثقيلة: حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن. والكاف: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول أول {بَعْضَ الَّذِي}: مفعول ثان لـ {رأى}، لأنه من رأى البصرية، تعدّت إلى المفعول الثاني بالهمزة. {نَعِدُهُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول، وجواب {إن} الشرطية: محذوف، تقديره: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} وهو القتل والأسر يوم بدر، فذاك غاية أملك، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة {اصبر} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، {أَوْ}: حرف عطف: {نَتَوَفَّيَنَّكَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية بالعطف على {نُرِيَنَّكَ} مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن، و {الكاف}: ضمير المخاطب في محل النصب مفعول به. {فَإِلَيْنَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية جوازًا. {إلينا}: جار ومجرور متعلق بـ {يُرْجَعُونَ}، {يُرْجَعُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: في محل الجزم جواب للشرط الثاني، وجواب الشرط الأول: محذوف كما مرّ آنفًا، والتقدير: فإما نرينّك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل والأسر يوم بدر، فذاك المطلوب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل

يوم بدر {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام. وإنما حذف جواب الأول دون الثاني؛ لأن الأول إن وقع .. فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه معلوم، وهو حصول المراد على التمام، وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم .. فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس، على أنه وإن تأخر جزاؤُهم عن الدنيا .. فهو حتم في الآخرة ولا بد منه. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق. {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل. {رُسُلًا}: مفعول به. {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، أو صفة لـ {رُسُلًا} والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {مِنْهُمْ}: خبر مقدم {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. وجملة {قَصَصْنَا}: صلة لـ {مَنْ} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: قصصناهم {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {قَصَصْنَا}، والجملة الاسمية: في محل النصب صفة لـ {رُسُلًا} أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {وَمِنْهُمْ} {الواو}: عاطفة. {مِنْهُمْ}: خبر مقدم {مَنْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوف على جملة قوله: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا}. {لَمْ}: حرف جزم {نَقْصُصْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} وفاعله: ضمير مستتر، تقديره: نحن. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {نَقْصُصْ} والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة. والعائد: محذوف، تقديره: من لم نقصصهم عليك. {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: نافية. {كاَنَ}: فعل ماض ناقص {لِرَسُولٍ}: خبرها مقدم على اسمها. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَأْتِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، وفاعله: ضمير يعود على {رسول}. {بِآيَةٍ}:

متعلق بـ {يَأْتِيَ} والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كاَنَ} مؤخرًا، والتقدير: وما كان الإتيان بآية كائنًا لرسول من الرسل إلا بإذن الله تعالى، وجملة {كاَنَ}: معطوفة على جملة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا} أو مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، {بِإِذْنِ اللَّهِ} متعلق بـ {يَأْتِيَ}؛ أي: وما كان لرسول أن يأتي بآية في جال من الأحوال، إلا بإذن الله، {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب. {قُضِىَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {قُضِيَ}، وجملة {قُضِيَ}: جواب {إذا} وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {كاَنَ} أو مستأنفة. {وَخَسِرَ}: {الواو}: عاطفة. {خسر}: فعل ماض. {هُنَالِكَ}: ظرف مكان متعلق بـ {خسر}، {الْمُبْطِلُونَ}: فاعل لـ {خسر}، والجملة: معطوفة على جملة {قُضِيَ} على كونها جواب {إذا} الشرطية. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}. {اللَّهُ}: مبتدأ {الَّذِي}: خبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعداد بعض آلائه سبحانه. {جَعَلَ}: فعل ماض بمعنى خلق، وفاعله: ضمير مستتر، والجملة: صلة الموصول. {لَكُمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ}، {الْأَنْعَامَ}: مفعول به {لِتَرْكَبُوا}: {اللام}: حرف جرّ وتعليل. {تركبوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {مِنْهَا} - أي: بعضها - متعلق بـ {تركبوا} والجملة الفعلية مع أن المضمرة. في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} والجار والمجرور: متعلق بـ {جَعَلَ}، والتقدير: الله الذي خلق لكم الأنعام لمنفعة ركوبكم إياها. {وَمِنْهَا}: {الواو}: عاطفة، {مِنْهَا}: متعلق بـ {تَأْكُلُونَ}: قدمه عليه لرعاية الفواصل. {تَأْكُلُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {تركبوا}؛ أي: خلقها لركوبكم إياها ولأكلكم منها. {وَلَكُمْ} {الواو}: اعتراضية. {لَكُمُ}: خبر مقدم. {فِيهَا}: حال من {مَنَافِعُ}، و {مَنَافِعُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معترضة لا محل لها من

الإعراب، لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه. {وَلِتَبْلُغُوا}: {الواو}: عاطفة، {اللام}: حرف جرّ وتعليل، {تبلغوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {تبلغوا} {حَاجَةً} مفعول به. {فِي صُدُورِكُمْ}: صفة لـ {حَاجَةً} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} والجار والمجرور: معطوف. على الجار والمجرور في قوله: {لِتَرْكَبُوا} والتقدير: الله الذي خلق لكم الأنعام لركوبها، ولبلوغ حاجة في صدوركم عليها. {وَعَلَيْهَا} {الواو}: استئنافية. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {تُحْمَلُونَ}، {وَعَلَى الْفُلْكِ}: معطوف على {عَلَيْهَا}، {تُحْمَلُونَ}: فعل مضارع مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {وَيُرِيكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول أول. {آيَاتِهِ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {جَعَلَ}، {فَأَيَّ}: {الفاء}: استئنافية، {أي}: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي، منصوب على أنه مفعول مقدم وجوبًا لـ {تُنْكِرُونَ}؛ لأن اسم الاستفهام مما يلزم الصدارة. {آيَاتِ اللَّهِ} مضاف إليه {تُنْكِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للتوبيخ والتقريع. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. {أَفَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد قومك قريب في منازلهم ولم يسيروا في الأرض؛ والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لم}: حرف نفي وجزم. {يَسِيرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لم} {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَسِيرُوا} والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. {فَيَنْظُرُوا} {الفاء}: عاطفة أو سببية واقعة في جواب الاستفهام {ينظروا}: فعل وفاعل معطوف على {يَسِيرُوا} {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب خبر {كاَنَ} مقدم وجوبًا {كاَنَ}: فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ}: اسم {كاَنَ}. {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: صلة {الَّذِينَ}، وجملة {كاَنَ}: في محل النصب مفعول {ينظروا}: معلق عنها باسم الاستفهام. {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. {كَانُوا أَكْثَرَ}: فعل ناقص واسمه، وخبره {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَكْثَرَ}

وجملة {كان}: مستأنفة مسوقة لبيان مبدأ أحوالهم وعواقبها، {وَأَشَدَّ}: معطوف على {أَكْثَرَ} {قُوَّةً}. تمييز محوّل عن اسم {كان} {وَآثَارًا}: معطوف على {قُوَّةً} {فِي الْأَرْضِ}: صفة لـ {آثارًا}: {الفاء}: عاطفة. {ما}: نافية أو استفهامية في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَغْنَى}. {أَغْنَى}: فعل ماض {عَنْهُم}: متعلق بـ {أَغْنَى}، {مَا}: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع فاعل {أَغْنَى} أو مصدرية والمصدر المؤوّل بها: فاعل {أَغْنَى}؛ {كَانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه. وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما كانوا يكسبونه، أو صلة لـ {مَا} المصدرية، والمصدر المؤوّل فاعل {أَغْنَى}؛ أي: لم يغن عنهم، أو أيّ شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم، وجملة {فَمَا أَغْنَى}: معطوفة على جملة {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ}. {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)}. {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ}: {الفاء}: تفصيلية تفسيرية. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية {جَاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول به {رُسُلُهُمْ}: فاعل. {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جَاءَتْهُمْ} أو حال من {الرسل} والجملة: فعل شرط لـ {لمّا} في محل جر بالإضافة. {فَرِحُوا}: فعل وفاعل، والجملة: جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة لما: جملة مفسرة لجملة قوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ}: لا محل لها من الإعراب، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {فَرِحُوا}، {عِندَهُم}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {ما} {مِنَ الْعِلْمِ}: حال من {ما} الموصولة، أو من الضمير المستكن في الظرف {وَحَاقَ}: فعل ماض معطوف على {فَرِحُوا}. {بِهِم}: متعلق بـ {حاق}. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {حاق} {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ} وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كان} وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة. {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب. {لما}: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. {رَأَوْا}: فعل وفاعل. {بَأْسَنَا}: مفعول به لرأى

لأنها بصرية، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ {لمّا} في محل جر بالإضافة، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما}: معطوفة على جملة {لما} الأولى، {آمَنَّا} فعل وفاعل {بِاللهِ}: متعلق بـ {آمَنَّا} والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة حال لازمة. {وَكَفَرْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنَّا}. {بِمَا}: متعلق بـ {كفرنا} {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {مُشْرِكِينَ} {مُشْرِكِينَ}: خبر {كان} وجملة كان صلة لـ {ما} الموصولة. {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}. {فَلَمْ} {الفاء}: عاطفة، {لم}: حرف جزم: {يَكُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها: ضمير الشأن. {يَنْفَعُهُمْ}: فعل ومفعول. {إِيمَانُهُمْ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر {يكون}، وجملة {يكون}: معطوفة على جملة {قَالُوا آمَنَّا}. {لَمَّا}: ظرف زمان مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بـ {إِيمَانُهُمْ}. {رَأَوْا بَأْسَنَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {لمّا}. {سُنَّتَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل مقدر من لفظه؛ أي: سنّ الله سبحانه وتعالى بهم ذلك سنة من قبلهم؛ أي: سنته فيمن قبلهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {الَّتِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {سُنَّتَ اللَّهِ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب {فِي عِبَادِهِ}: متعلق بـ {خَلَتْ}، {وَخَسِرَ} {الواو}: استئنافية {خسر}: فعل ماض {هُنَالِكَ}: متعلق به {الْكَافِرُونَ}: فاعل، والجملة: مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ}: ماض مغيّر الصيغة من النهي، وهو الزجر عن شيء. {أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يقال: أسلم أمره لله: إذا سلّم، وذلك إنما يكون بالرضى والانقياد لحكمه، وأسلمت له الشيء: إذا جعلته سالمًا خالصًا له. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}

قال الراغب: النطفة: الماء الصافي، ويعبّر بها عن ماء الرجل؛ أي: ماء الصلب يوضع في الرحم كما مرّ. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد. {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} والطفل: الولد ما دام ناعمًا، كما في "المفردات" والصغير من كل شيء أو المولود. كما في "القاموس" وحد الطفل: من أول ما يولد يستهل صارخًا إلى انقضاء ستة أعوام كما مرّ. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} قال في "القاموس": الأشد: مفرد جاء علي بناء الجمع من الشدة بمعنى القوّة، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين. {شُيُوخًا}: جمع شيخ، وهو: من طعن في سنّ الكبر واستبانت فيه الشيخوخة، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، أو إلى ثمانين كما في "القاموس". {أَجَلًا مُسَمًّى}؛ أي: وقتًا محدّدًا معيّنًا لموتكم. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أصل يميت يموت بوزن بفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ. {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} من القضاء بمعنى التقدير، عبّر به عن لازمه الذي هو إرادة التكوين، كأنه قيل: إذا قدّر شيئًا من الأشياء وأراد كونه. {إِذِ الْأَغْلَالُ}: جمع غلّ بضم الغين المعجمة، وهو: ما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه، وغل فلان: قيد به؛ أي: وضع في عنقه أو يده الغلّ. {فِي أَعْنَاقِهِمْ} جمع عنق وهي الرقبة. {وَالسَّلَاسِلُ} جمع سلسلة بالكسر، وهي الدائرة من حديد أو نحوه تتصل أجزاؤُها أو حلقاتها بعضها ببعض، ومنه سلاسل البرق؛ أي: ما استطال منه في عرض السحاب وسلاسل الكتاب سطوره. قال الراغب: وتسلسل الشيء: اضطرب كأنه تصوّر منه تسلسل متردد، فتردّد لفظه تنبيه على تردد معناه، وماء مسلسل؛ أي: متردد في مقرّه، وأما السلسلة بالفتح فهو إيصال الشيء بالشيء، ولما كان في السلسلة بالكسر إيصال بعض الخلق بالبعض؛ سميت بها. {يُسْحَبُونَ} من السحب، وهو: الجرّ بعنف، ومنه السحاب؛ لأنّ الريح تجرُّه، أو لأنه يجرّ الماء، وسحبه كمنعه، جرّه على وجه الأرض. {فِي الْحَمِيمِ} والحميم: الماء الذي تناهى حرّه. قال في "القاموس": الحميم: الماء الحار، والماء البارد ضد، والقيظ والعرق؛ أي: على التشبيه. كما في "المفردات". {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود. {ضَلُّوا عَنَّا} من قول العرب، ضل المسجد والدار؛ أي: لم يعرف موضعهما.

{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} قال في "القاموس": الفرح السرور والبطر انتهى، والبطر النشاط والأشر وقلّة احتمال النعمة والأشر شهدّة البطر، وهو أبلغ عن البطر، والبطر: أبلغ من الفرح، وفي "المفردات" الفرح: انشراح الصدر بلذّة عاجلة، ولم يرخّص إلا في الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبنصر الله، والبطر: دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله؛ نرئينّك: نقلت حركة الهمزة إدي الراء، ثم حذفت للتخفيف فوزنه نُفِلَنَّكَ. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} قياسه نوعدهم، حذفت فاؤه حذفًا مطردًا لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة. وقوله: {أشَدُّ قُوَة} أصله أشدد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} يقال: أغنى عنه كذا: إذا كفاه ونفعه، وهو إذا استعمل بعن .. يتعدّى إلى مفعول؛ أي: لم يدفع ولم ينفع، وأصله: أغني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {فَلَمَّا رَأَوْا} أصله: رأيوا، بوزن فعلوا قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين. {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ} أصله: يكون، دخل الجازم {لم}: فصار يكون فالتقي ساكنان فحذفت الواو فصار يكن بوزن يفل، ثم حذفت النون حذفًا غير مطرد، فصار بوزن يفُ، وقد تقدم القول في حذف نون المضارع المجزوم بشرط كونه مجزومًا بالسكون، غير متصل بضمير نصب ولا بساكن، وقد وقع ذلك في التنزيل في ثمانية عشر موضعًا، وقد سمع حذفها في الشعر إذا وليها ساكن، كما في قول الخنجر بن صخر الأسديّ: فَإِنْ لَمْ تَكُ الْمِرْآةُ أَبْدَتْ وَسَامَةً ... فَقدْ أَبْدَتِ الْمِرْآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ فحذف النون مع ملاقاة الساكن، والمرآة بكسر الميم ومدّ الهمزة: آلة الرؤية، فكأنه نظر وجهه فيها فلم يره حسنًا، فتسلّى بأنه يشبه الضيغم وهو الأسد، والوسامة بفتح الواو: الحسن والجمال، وحمله جمهور النحاة على الضرورة. {سُنَّتَ اللَّهِ} من المصادر المؤكدة لعاملها المحذوف من لفظها، والسنة الطريقة والعادة المسلوكة، وسنة الله: طريقته وحكمته كا مرّ. {قَدْ خَلَتْ} من الخلوّ وهو المضي، أصله: خلو قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلا فصار خلا، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فالتقى ساكنان الألف والتاء، فحذفت الألف لذلك فوزنه:

فعت. فائدة: رسمت {سُنَّتَ} مجرور التاء ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون: بالتاء، وأمال الكسائي الهاء في الوقف. اهـ "خطيب". البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {نُهِيتُ} و {أمرت} في قوله: {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ}؛ أي: خلق أصلكم آدم من تراب. ومنها: وضع المفرد موضع الجمع في قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}؛ أي: أطفالًا لإرادة الجنس. ومنها: الطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} في قوله: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}. ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ}. ومنها: تكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع من هذه السورة. إما لتعدد المجادل، بأن يكون في أقوام مختلفة، أو تعدّد المجادل فيه بأن يكون في آيات مختلفة أو للتأكيد. ومنها: وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة في قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} لأنّ المعتاد وقوع المجادلة في بعض موضوع الكتاب لا في الكل. ومنها: صيغة الماضي في الصلة الثانية أعني: {كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} للدلالة على التحقق كما أنّ صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكرُّرها.

ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)} للدلالة على التحقيق والوقوع، لأنّ مقتضى الظاهر أن يقال: ثمّ يقال لهم، وفي قوله: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا}؛ أي: يقولون. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} إلى الخطاب في قوله: {ذَلِكُم} الإضلال أيها الكفار للمبالغة في التوبيخ. ومنها: الجناس الناقص بين {تَفْرَحُونَ} و {تَمْرَحُونَ}. ومنها: جناس الاشتقاق بين {أَرْسَلْنَا} و {رُسُلًا}. ومنها: طباق السلب في قوله: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}. ومنها: الإتيان بخلاف مقتضى الظاهر في قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} لأن الظاهر أن يقال: فبئس مدخل المتكبّرين، فعبّر عن المدخل بالمثوى؛ لكون دخولهم بطريق الخلود. اهـ "أبو السعود". وفي "السمين": ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين؛ لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم الثواء، فلذلك خصّه بالذّم، وإن كان الدخول أيضًا مذمومًا. اهـ. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} لأن {هُنَالِكَ}: موضوع للإشارة إلى المكان، فاستعير هنا للزمان. ومنها: التعبير بالماضي في قوله: {وَخَسِرَ} للدلالة على تحقق الوقوع. ومنها: المزاوجة في قوله: {وَعَلَى الْفُلْكِ} لأنّ مقتضى الظاهر أن يقال: وفي الفلك، كما في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} ليزاوج ويطابق قوله: {وَعَلَيْهَا}. ومنها: الاستطراد في قوله: {وَعَلَى الْفُلْكِ} وهو ذكر الشيء في غير موضعه لمناسبة بينه وبين ذلك الموضوع، لأنّ المقام مقام الامتنان بخلق الأنعام. ومنها: إضافة الآيات إلى الاسم الجليل في قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} لتربية المهابة وتهويل إنكارها. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}.

ومنها: التهكم في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وهو في اصطلاح البيانيين الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجل الذي موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد، والعلم في موضع الجهل تهاونًا من القائل بالمقول له، واستهزاءً به. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما حوته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصف الكتاب الكريم. 2 - الجدل بالباطل في آيات الله. 3 - وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله. 4 - طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول، ثم رفض هذا الطلب. 5 - إقامة الأدلة على وجود الإله القادر. 6 - إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة. 7 - قصص موسى عليه السلام مع فرعون، وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه. 8 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى قومه، كما صبر أولوا العزم من الرسل. 9 - تعداد نعم الله سبحانه على عباده في البر والبحر. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة فصلت

سورة فصلت سورة فصلت: وتسمى (¬1) سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح: مكية، قال القرطبي: في قوله الجميع. وآيها: ثلاث أو أربع وخمسون آية. وكلماتها: سبع مئة وتسع وتسعون كلمةً. وحروفها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسون حرفًا. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه (¬2) "الناسخ والمنسوخ": سورة فصلت كلها محكمة، إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} الآية (34) نسخت بآية السيف. اهـ. مناسبتها لما قبلها: (¬3) أنهما اشتركتا في شيئين: أحدهما: في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلخ. وهددهم هنا بقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}. وثانيهما: أن كلتيهما بُدِئت بوصف الكتاب الكريم. وقال أبو حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬4): أنه قال في آخر السابقة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى آخرها. فضمن وعيدًا وتهديدًا وتقريعًا لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتابًا مفصلًا آياته، بشيرًا لمن اتبعه، ونذيرًا لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه، ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي، ثم قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} فكان هذا كله مناسبًا لآخر سورة المؤمن، من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الناسخ والمنسوخ. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

واستئصال أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حل بعاد وثمود من استئصالهم. انتهى. ومن فضائلها: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة السجدة أعطاه الله تعالى بكل حرف منها عشر حسنات" ذكره البيضاوي. ولكن لا أصل له. ومما يدل على فضلها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم، وصححه ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في "الدلائل" وابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: اجتمعت قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر بم يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عتبة: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك .. فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم .. فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل، إن كان إنما بك الحاجة .. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وإن كان إنما بك الباءة .. فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرغت قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا، قال: "لا" فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك، قال ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك قال: والذي نصبها بنيةً - يريد الكعبة - ما فهمت شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال، لا والله ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة. ومنه ما أخرجه أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن ربيعة: {حم (1)} أتى أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذني

قط كلامًا مثله، وما دريْت ما أردّ عليه، وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - صلى الله عليه وسلم - أول هذه السورة عليه. وعرض هذه السورة على عتبة بن ربيعة للرد عليهم مما يدل على فضلها وجزالتها وبلاغتها، وفي رواية أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينَه وبينَه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة .. قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1)} ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأرعد الشيخ ووقف شعره، وأمسك على فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئًا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}.

المناسبة المناسبة بين آخر السابقة وأول هذه السورة: أن السابقة ختمت بتهديد المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، وهذه بدئت ببيان سبب إعراضهم بأن على قلوبهم أكنةً، وفي آذانهم وقر. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) ما يذكر المشركون من الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته .. أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان، وحملهم عليه قسرًا، فإنه بشر مثلهم، ولا ميزة له عليهم، إلا بأن الله أوحى إليه ولم يودع إليهم. ثم ذكر أن خلاصة الوحي علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسُّه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك بالتهديد لمن يشرك بالله، ولا يزكي نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات، بأن لهم عند ربهم أجرًا دائمًا غير مقطوع ولا ممنوع. قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحي، أن إلهكم إله واحد، فاخلصوا له العبادة .. أردف هذا بما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض، على أطوار مختلفة متعاقبة، وأكمل لكل منها ما هي مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب؛ فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العلم بكل ما فيها، لا يخفى عليه شيء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شيء في خلقهما وتقديرهما تعالى عن ذلك. قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ...} الآيات، مناسبتها لما ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

قبلها: أن الله سبحانه لما أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم أن لا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصاييح، وأوجد في الأرض جبالًا رواسي، ثم أعرضوا عن كل ذلك، ولم يبق حينئذ طريق لعلاجهم .. أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم، إن هم أصروا على عنادهم كما نزل بعاد وثمود من قبلهم. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا، وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون .. أردف ذلك بذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم للزجر، وأكثر في الاعتبار لمن اعتبر. أسباب النزول قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم عن ابن مسعود قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة أنفار: قرشي وثقفيان، أو ثقفي وقرشيان، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال: أترون أن الله سمع كلامنا هذا، فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا .. سمعه، وإذا لم نرفعه .. لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا .. سمع كله، قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله - عز وجل -: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي (¬1): هذه السورة مسماة بـ {حم (1)} فيكون إطلاق الكتاب عليها في قوله: {كِتَابٌ} إلخ. باعتبار أنها من الكتاب وجزء من أجزائه، وقيل: {حم (1)} اسم للقران، فيكون إطلاق الكتاب عليه حقيقة، وإنما (¬2) افتتح السورة بـ {حم (1)} لأن معنى حم بضم الحاء وتشديد الميم على ما قال سهل - رحمه الله تعالى - قضي ما هو كائن. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[2]

ولما كانت هذه السورة مصدرةً بذكر الكتاب الذي قدرت فيه الأحكام، وبينت .. ناسب أن تفتح بـ {حم (1)} رعايةً لبراعة الاستهلال، وإنما سميت هذه السور السبع بـ {حم (1)}؛ لاشتراكها في الاشتمال على ذكر الكتاب، والرد على المجادلين في آيات الله تعالى، والحث على الإيمان بها، والعمل بمقتضاها ونحو ذلك. وقال بعضهم: معنى الحاء. والميم؛ أي: هذا الخطاب والتنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب المعظم، وقيل: هو قسم أقسم به تعالى؛ أي: بحياتي ومجدي هذا تنزيل، أو بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي، أو بالحجر الأسود والمقام، فإنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة، وسران عظيمان من أسرار الله تعالى، فناسب أن يقسم بهما، أو هذه الحروف {تَنْزِيلٌ} إلخ. نزل بها جبريل عليه السلام من عند الله تعالى وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين. 2 - وقوله: {تَنْزِيلٌ}: خبر بعد خبر؛ أي: هذه السورة مسماة بحم، منزلة من عنده تعالى؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، ومعنى كونها منزلة: أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر جبريل أن يحفظ تلك الكلمات، ثم ينزل بها على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤديها إليه، فهلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل .. سمي ذلك تنزيلًا، وإلا فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل، وقوله: {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} متعلق بـ {تَنْزِيلٌ} مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم؛ للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة، لا بد وأن يكون مدارًا للمصالح كلها، 3 - وقوله: {كِتَابٌ}: خبر آخر مشتق من الكتب، وهو الجمع، فسمي كتابًا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين، وقوله: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} صفة {كِتَابٌ}؛ أي: كتاب بينت آياته بالأمر والنهي، والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والقصص والتوحيد، وقرىء: {فَصَلت} (¬1) بفتح الفاء والصاد مخففةً؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أي: فرقت بين الحلال والحرام، أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولهم: فصلت العير؛ أي: انفصلت، وفصل من البلد؛ أي: انفصل منه، حالة كونه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}؛ أي: مجموعًا من لسان العرب ولغتهم، حال من {كتاب} لتخصصه بالصفة، ويقال لها: الحال الموطئة، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، وهذا أولى من نصبه على المدح؛ أي: أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآنًا عربيًا أو على المصدرية؛ أي: يقرؤه قرآنًا، وبوجود كلمةٍ عجمية فيه معرّبة لا يخرج عن كونه عربيًا؛ لأن العبرة للأكثر، وذلك كالقسطاس، فإنه رومي معرب بمعنى الميزان والسجيل، فإنه فارسي معرب سنك وكل، والصلوات فإنه عبراني معرب صلوتا، بمعنى المصلي، والرقيم فإنه رومي بمعنى الكلب، والطور فإنه الجبل بالسرياني {لِقَوْمٍ} عرب {يَعْلَمُونَ}؛ أي: كائنًا لقوم يعلمون معانيه، لكونه على لسانهم، فهو صفة أخرى لـ {قُرْآنًا} وفي "التأويلات النجمية": {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} العربية والعربية بحروفها مخلوقة، والقرآن منزه عنها، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. اهـ. أو متعلق بـ {فُصِّلَتْ} والأول أولى. وقال الضحاك؛ أي: يعلمون أن القرآن منزل من عند الله تعالى، وقال مجاهد؛ أي: يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وحاصل معنى الآية (¬1): أي هذا القرآن منزل من الله الرحمن الرحيم على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخص هذين الوصفين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بالذكر؛ لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمةً لهم، ولطفًا بهم، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. هو {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} وبينت وميزت لفظًا بفواصل ومقاطع ومبادىء للسور وخواتم لها، وميزت معنًى بكونها وعدًا ووعيدًا ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس وقصص الأولين وتواريخ الماضي، حال كونه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}؛ أي: أنزلناه بلغة العرب ليسهل عليهم فهمه، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، وفي هذا امتنان من الله عليهم ليسهل عليهم قراءته ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

وفهمه {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} معانيه لكونه جاء بلغتهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة وغيرهم لا يفهمه إلا بواسطتهم، 4 - حالة كونه {بَشِيرًا}؛ أي: مبشرًا، وليائه بالجنة والنعيم المقيم، إن داموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه {وَنَذِيرًا}؛ أي: منذرًا مخوفًا لأعدائه بالعذاب الأليم، إن هم أصروا على التكذيب به، والجدل فيه بالباطل، وترك أوامره وفعل نواهيه، فهما صفتان أخريان لـ {قُرْآنًا} أو حالان من {كِتَابٌ} وقرأ (¬1) زيد بن علي: {بشير ونذير} برفعهما على أنهما صفتان لـ {كِتَابٌ} أو على أنهما خبران لمبتدأ محذوف. ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره مع كونه على لغتهم، والضمير (¬2) لأهل مكة أو العرب أو المشركين، دل عليه ما سيجيء من قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}؛ أي: فأعرض المشركون عما اشتمل عليه من النذارة {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ـه سماع تفكر وتأمل وقبول، حتى يفهموا جلالة قدره وجزالة معانيه فيؤمنوا به، وفي "التأويلات النجمية": فأعرض أكثرهم عن أداء حقه، فهم لا يسمعون بسمع القبول والانقياد، وفيه إشارة إلى أن الأقل هم أهل السماع، وإنما سمعوا بأن أزال الله تعالى بلطفه ثقل الآذان، فامتلأت الأذهان بمعاني القرآن. والمعنى (¬3): أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضًا عن الحق، 5 - ثم صرحوا بنفرتهم منه وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللًا واحتقارًا لدعوته: 1 - {وَقَالُوا}؛ أي: المشركون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دعوته إياهم إلى الإيمان، وللعمل بما في القرآن {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ}؛ أي: في أغطية متكاثفة مثل الكنانة التي فيها السهام {مِمَّا تَدْعُونَا} يا محمد {إِلَيْهِ}؛ أي: في أغطية تمنعنا من فهم ما تدعونا وتورده علينا، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وحذف متعلق حرف الجر أيضًا، والأكنّة: جمع كنان كأسلحة جمع سلاح وهو الغطاء، قال مجاهد: الكنان للقلب: كالجنة للنبل، شبهوا (¬4) قلوبهم بالشيء المحوي المحاط ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

بالغطاء، المحيط له بحيث لا يصيبه شيء من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده. فإن قلت: لِمَ عبَّر هنا بكلمة في حيث قال: {فِي أَكِنَّةٍ}، وعبر بكلمة على في سورة الكهف حيث قال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} فما الفرق بين المقامين؟ قلت: عبر هنا بكلمة {فِي} لأن القصد هنا المبالغة في عدم القبول، والأكنة إذا احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، لا يمكن أن يصل إليها شيء؛ وليست تلك المبالغة في {عَلَى}، والسياق في الكهف للعظمة، فيناسبه أداة الاستعلاء. اهـ سعدي المفتي. أي: إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك يا محمد. 2 - {وَفِي آذَانِهِمْ} وأسماعنا {وَقْرًا}؛ أي: صمم يمنعها من استماع قولك، وفي "القاموس": الوقر: ثقل في الأذن أو ذهاب السمع كله، شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث إنها تمج الحق ولا تميل إلى استماعه. وفي "التأويلات النجمية": {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}: ما ينفعنا كلامك، قالوه حقًا، وإن قالوا على سبيل الاستهزاء والاستهانة، لأن قلوبهم في أكنة حب الدنيا وزينتها مقفولة بقفل الشهوات والأوصاف البشرية، ولو قالوا ذلك على بصيرة .. لكان ذلك منهم توحيدًا، فتعرضوا للمقت لما فقدوا من صدق القلب. وقرأ طلحة بن مصرف (¬1): {وقر} بكسر الواو وسكون القاف، وقرىء: {وقر} بفتحتين، وقرأ الجمهور: {وَقْرٌ} بفتح الواو وسكون القاف. 3 - {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} عظيم، وستر غليظ يمنعنا عن إجابتك، وعن التواصل والتوافق معك، روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوابًا وقال: يا محمد، بيننا وبينك حجاب استهزاءً منه، و {مِنْ}: للدلالة (¬2) على أن الحجاب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[6]

مبتدأ من الجانبين، بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ولم يبق ثمة فراغ أصلًا، فيكون حجابًا قويًا عريضًا مانعًا من التواصل بخلاف ما لو قيل: بيننا وبينك، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين، فيكون حجابًا في الجملة، لا كما ذكروا: هذا فائدة زيادة من في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه، وإنما (¬1) اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأن القلب محل المعرفة، والسمع والبصر أقوى ما يتوسل إلى تحصيل المعارف، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة .. كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب. وقصارى ما يقولون (¬2): أن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صممًا، ولتباعد الدّينين وتباين الطريقين، كأن بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاب كثيف وحاجز منيع، ثم بارزوه بالخلاف، وشن الغارات الجدلية، بما لم يبق بعده مجال للوفاق، فقالوا: {فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنَا عَامِلُونَ} على ديننا، وقال الكلبي (¬3): اعمل في هلاكنا، فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: اعمل لآخرتك، فإنا عاملون لدنيانا، وقيل: فأعمل في إبطال أمرنا جهد طالتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك، وتشتيت شمل من آمن بك، حتى تبطل دعوتك. 6 - ثم أمره سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء المشركين، جوابًا لهم عما يقولون: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ أي: إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، إلا أني يوحي إلى {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ أي: ما إلهكم الذي يستحق العبادة منكم إلا إله واحد لا غيره، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

وهذا تلقين للجواب عما ذكره المشركون. وقرأ الجمهور: {قُلْ} على صيغة الأمر، وقرأ ابن وثاب والأعمش: {قال} بصيغة الماضي، وقرأ الجمهور: {يُوحَى}: بفتح الحاء مبنيًا للمفعول، وقرأ النخعي والأعمش: {يوحي} بكسرها مبنيًا للفاعل؛ أي: يوحي الله إلى. والمعنى: أي إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرًا، فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلى التوحيد والأمر به، فعلي البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم، وإن أبيتم هلكتم. وقبل المعنى (¬1): أني لست من جنس مغاير لكم، من ملك وجن حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبىء عنه قولكم: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} بل إنما أنا بشر وآدمي مثلكم، مأمور بما أمرتم به، حيث أخبرنا الله جميعًا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إلهكم محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه - صلى الله عليه وسلم - للكفرة، كما في قوله: {مِثْلُكُمْ}، وقد أوحي إلى دونكم، فصرت بالوحي نبيًا، ووجب عليكم اتباعي {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}؛ أي: وجهوا استقامتكم وامتثالكم وطاعتكم إليه تعالى لا إلى غيره؛ أي: توجهوا إليه تعالى قلبًا وقالبًا، بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يمينًا وشمالًا (¬2)، ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان، من اتخاذ الأولياء والشفعاء؛ أي: توجهوا بالكلية إلى سبيلة لا إلى غيره، وهذا من جملة المقول (¬3)، و {الفاء}: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من إيحاء الوحدانية، فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد، والإخلاص في الأعمال، وعدي فعل الاستقامة بإلى لتضمنه معنى توجهوا، والاستقامة: الاستمرار على جهة واحدة، وطريقة مستقيمة. {وَاسْتَغْفِرُوهُ} تعالى مما كنتم عليه من الشرك وسوء العقيدة والعمل، وقال الحسن في معنى الآية: إن الله سبحانه علم رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتواضع بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، ولهذا كان يعود المريض، ويشيع الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) روح البيان.

[7]

إكاف من ليف. وفي الآية: إشارة إلى أن البشر كلهم متساوون في البشرية، مسدود دونهم باب المعرفة؛ أي: معرفة الله بالوحدانية بالآلات البشرية من العقل وغيره، وإنما فتح هذا الباب على قلوب الأنبياء بالوحي، وعلى قلوب المؤمنين بالتبليغ والإلهام. وحاصل المعنى (¬1): أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جني، لا يمكنكم التلقي مني، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعًا من آدم، فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم، يتب عليكم ويغفر لكم. ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} بالله تعالى غيره في العبادة والطاعة؛ أي: وهلاك وخسار كائن لمن أشرك بربه في ذاته وصفاته وأفعاله، 7 - ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يمنعونها ولا يخرجونها إلى المستحقين، ولم يواس البائس الفقير بشيء من ماله يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة، وقيل المعنى لا يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها، وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات، ويسقون الحجيج ويطعمونهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت فيهم هذه الآية، وقوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}: معطوف على {لَا يُؤْتُونَ} داخل (¬2) معه في حيز الصلة، واختلافهما بالفعلية والاسمية؛ لما أن عدم إيتائها متجدد، والكفر أمر مستمر؛ أي: منكرون للآخرة بما فيها من الحساب والجزاء، جاحدون لها، والمجيء بضمير الفصل، لقصد الحصر، وكان يقال (¬3): الزكاة قنطرة الإِسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها .. هلك، وإنما جعل منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة؛ لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله .. فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته، وصدق نيته، وصفاء طويته، وما خدع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[8]

المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا بها لانت شكيمتهم وزالت عصبيتهم، وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بمنعهم للزكاة، فعرضوا أنفسهم للحرب والطعن والضرب، إبقاءً على أموالهم، ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم. وقصارى ذلك: دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل، التي من أهمها البخل بالمال، ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وإنكار البعث والجزاء، ونحو الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}. 8 - وبعد أن ذكر وعيد المشركين، أردفه وعد المؤمنين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله سبحانه، وصدقوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال الأوامر، واجتنبوا السيئات بترك النواهي {لَهُمْ} عند ربهم في الآخرة {أَجْرٌ} وثواب {غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير مقطوع أبدًا، ولا ممنوع عنهم، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ: إذا قَطعْتُه، وقيل: غير منقوص، من مَنَنْت حقه: إذا نَقَصْته، وقال مجاهد: غير محسوب عليهم، وقيل: غير ممنون عليهم على طريق الحذف والإيصال؛ أي: لا يمن به عليهم فيتكدر بالمنة؛ أي: بالامتنان عليهم؛ أي: عد النعمة عليهم، لأنه إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه، والمنة في الأصل: النعمة الثقيلة التي لا يطلب معطيها أجرًا ممن أعطاها إليه، ثم استعملت بمعنى الامتنان؛ أي: عد النعمة على من أعطاها إليه، وقال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة .. كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة، ونحو الآية قوله: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}، وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن من آمن، ولم يعمل صالحًا .. لم يؤجر إلا ممنونًا؛ أي: ناقصًا، وهو أجر الإيمان، ونقصانه من ترك العمل الصالح، فيدخل النار ويخرج منها بأجر الإيمان ويدخل الجنة، ولكنه لا يصل إلى الدرجات العالية المنوطة بالأعمال البدنية، مثل: الصلاة والصوم والحج ونحوها. 9 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخهم ويقرعهم، فقال: {أَئِنَّكُمْ} أيها ¬

_ (¬1) روح البيان.

المشركون {لَتَكْفُرُونَ}؛ أي: لتنكرون {بـ} توحيد الإله العظيم الشأن ذي القدرة الباهرة والحكمة البالغة {الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} وأوجدها وأبدعها {فِي يَوْمَيْنِ} قيل: اليومان، يوم الأحد والاثنين؛ أي: قدر وحكم في الأزل بأنها ستوجد في مقدار يومين من أيام الآخرة، ويقال: من أيام الدنيا، كما في "تفسير" أبي الليث، وفي "عين المعاني" تعليمًا للتأني، وإن أمكن الإيجاد في الحال بلا إمهال، ووجه حمل اليومين على المعنيين المذكورين: أن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض، وتسوية السموات، وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها؛ يعني: أن اليوم عبارة: عن زمان كون الشمس فوق الأرض، ولا يتصور ذلك قبل خلق الأرض والسماء والكواكب، فكيف يتصور الأرض في يومين؟ ويجوز أن يراد خلق الأرض في يومين؛ أي: في نوبتين، على معنى أن ما يوجد في كل نوبة يوجد بأسرع ما يكون، فيكون اليومان مجازًا عن دفعتين، على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم، وقال سعدي المفتي: الظاهر أن اليوم على هذا التفسير بمعنى مطلق الوقت. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {أَئِنَّكُمْ}: بهمزتين الثانية بين بين، وقرأ ابن كثير: بهمزة بعدها ياء خفيفة؛ أي: قل أيها الرسول لمشركي قومك، توبيخًا وتقريعًا لهم: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلكم في نوبتين، فتقولوا: إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد، وتقولوا: إنه لم يبعث أنبياء أي: كيف تقولون هذا مع أنه خلق الأرض في يومين؟. وقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا}؛ أي: أشباها وأمثالًا من الملائكة والجن والأصنام التي تعبدونها من دونه، معطوف على {تَكْفُرُونَ} داخل في حكم الإنكار والتوبيخ، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع، لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد بمعنى تصفون له شركاء وأشباهًا وأمثالًا من الآلهة، والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد، فضلًا عن الأنداد. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن ينكر عليهم أمرين (¬2): الأول: كفرهم بالله بإلحادهم في ذاته وصفاته، كالتجسم واتخاذ الصاحبة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[10]

والولد، والقول بأنه لا يقدر على إحياء الموتى، وأنه لا يبعث البشر رسلًا. والثاني: إثبات الشركاء والأنداد له تعالى، فالكفر المذكور أولًا مغاير لإثبات الأنداد له؛ ضرورة عطف أحدهما على الآخر. {ذَلِكَ} العظيم الشأن، الذي فعل ما ذكر من خلق الأرض في يومين، وهو مبتدأ، خبره: قوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة، فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندًا له تعالى؟ وعبارة المراغي هنا: {ذَلِكَ} الذي (¬1) خلق الأرض في نوبتين - نوبةً جعلها جامدةً بعد أن كانت كرةً غازيةً، ومرةً جعلها ستًا وعشرين طبقةً في ستة أطوار، كما بين ذلك علماء طبقات الأرض الجيولوجيا - هو {رَبُّ الْعَالَمِينَ} لا ربها وحدها، فهو مربي المخلوقات جميعًا، فإن رباها في نوبتين .. فقد ربى غيرها في نوبات، يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شيء منها ندًا له، وضريبًا؟ 10 - ثم بين أحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره، فقال: {وَجَعَلَ فِيهَا}؛ أي: في الأرض {رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت {مِنْ فَوْقِهَا}؛ أي: من فوق الأرض، وهو معطوف على {خَلَقَ}: داخل في حكم الصلة؛ أي: كيف تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها، والجعل (¬2): إبداعي، والمراد: تقدير الجعل، لا الجعل بالفعل، والمراد بالرواسي: الجبال الثابتة المستقرة، و {مِنْ فَوْقِهَا} متعلق بجعل أو بمضمر، هو صفة لـ {رَوَاسِيَ}؛ أي: كائنةً (¬3) من فوقها، مرتفعة عليها، لتكون منافعها ظاهرةً للطلاب، وليظهر للناظر ما فيها من وجوه الاستدلال، وإلا فالجبال التي أثبتت فوق الأرض لا تمنعها عن الميدان، ولو كانت تحتها كأساطين الغرف، أو مركوزة فيها كالمسامير. لمنعتها عنه. والمعنى (¬4): أي كائنةً من فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه، وليتفكر بقلبه أن الجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها .. لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، وقيل: جملة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح.

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}: مستأنفة غير معطوفة على {خَلَقَ} لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي، والأول أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها، فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى {مِنْ فَوْقِهَا}: أنها مرتفعة عليها، لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها. وعبارة المراغي: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا}؛ أي (¬1): وجعل في الأرض جبالًا ثوابت مرتفعةً عليها، أسسها في الأرض وهي الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هي التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور، ضاربة في جميع الطبقات، واصلة إلى أول طبقة وهي الطبقة الصوانية، التي لولاها لم تكن الأرض أرضًا، ولم نستقر عليها، فأرضنا كرة من النار، غطيت بطبقة صوانية فوقها طبقات، ألطف منها تكون فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة، وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلومترات، وصارت مخازن المياه والمعادن، وهداية للطرق، وحافظة للهواء والسحاب. انتهى. {وَبَارَكَ فِيهَا}؛ أي: في الأرض؛ أي: أنزل البركة والخير فيها، بشق الأنهار وخلق الأشجار والثمار، وأصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات؛ أي: وجعلها مباركةً كثيرة الخيرات، بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخازن للمعادن، كالذهب والفضة والحديد والنحاس {وَقَدَّرَ فِيهَا}؛ أي: وأوجد في الأرض {أَقْوَاتَهَا}؛ أي: أقوات أهلها وأرزاقهم، من الأنواع المختلفة المناسبة لها على مقدار معين، تقتضيه الحكمة البالغة؛ أي: قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم، من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجًا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم، وتنتقل المحصولات والمنتوجات من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض، وانتظام أمور العالم. وأضاف (¬2) الأقوات إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت. قاله السدي. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقُرِىء (¬1): {وقسم فيها أقواتا}؛ أي (¬2): قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم. وقيل: قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، وقيل: قدر البر لأهل قطر من الأرض، والتمر لأهل قطر آخر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك سائر الأقوات، وقيل: إن الزراعة أكثر الحرف بركةً، لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض، قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}؛ أي: مع اليومين الأولين من أيام الآخرة (¬3)، أو من أيام الدنيا، فخلق الأرض في يومين، وقدر الأقوات في يومين، وهما يوم الثلاثاء والأربعاء، فصارت أربعة أيام، رد الآخر على الأول في الذكر؛ أي: أن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في يومين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في يومين، فيكون ذلك في أربعة أيام. كما يقول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يومًا؛ أي: في تتمة خمسة عشر يومًا. وقصارى ذلك: أن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها، وتقدير الأقوات في أربعة أيام، حالة كون تلك الأيام الأربعة {سَوَاءً}؛ أي: مستويةً كاملة تامة بلا زيادة ولا نقصان. وقرأ الجمهور: {سَوَاءً} بالنصب على الحال من {أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} لتخصصه بالإضافة، أو من الأرض، أو من الضمائر الراجعة إليها، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة لـ {الأَيَّامٍ}؛ أي: استوت تلك الأيام وتمت سواءً؛ أي: استواءً وتمامًا، وقرأ أبو جعفر؛ برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي سواء؛ أي: تلك الأربعة مستوية تامة، وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد: بخفضه، على أنه صفة لـ {أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}؛ أي: في أربعة أيام مستوية تامة كاملة. وقوله: {لِلسَّائِلِينَ}: متعلق بمحذوف، تقديره: هذا الحصر في الأربعة للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، القائلين: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ فالسؤال استفتائي، و {اللام}: للبيان أو متعلق بقدر. قال في "بحر العلوم" وهذا هو الظاهر؛ أي: قدر فيها أقواتها لأجل السائلين؛ أي: لأجل الطالبين لها، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

[11]

المحتاجين إليها من المقتاتين، فإن أهل الأرض كلها طالبون للقوت، محتاجون إليه، فالسؤال استعطافي، واللام للأجل. قال الفراء (¬1): في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواءً كاملةً للمحتاجين في أربعة أيام، واختار هذا ابن جرير. 11 - ولما انتهى من الكلام في الأرض .. أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب؛ أي: لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها .. ذكر كيفية خلقه للسموات، فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى} سبحانه وتعالى؛ أي: وجه قصده وإرادته {إِلَى} خلق {السَّمَاءِ} وتكوينها، قال الرازي: هو من قولهم: استوى إلى مكان كذا: إذا توجه إليه توجهًا لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم: استقام إليه، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}. والمعنى: ثم دعاه سبحانه داعي الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، والإرادة التامة إلى خلق السموات وسمكها بعد خلق الأرض وما فيها {وَهِيَ دُخَانٌ}؛ أي: والحال أن السماء أمر ظلماني مثل الدخان المرتفع من النار، الذي لا تماسك فيه؛ أي: مثل السحاب الغير المتماسك. و {الواو} (¬2): للحال، والضمير للسماء، لأنها من المؤنثات السماعية، والدخان أجزاء أرضية لطيفة؛ أي: غير متماسكة، ترتفع في الهواء مع الحرارة. وفي "المفردات": الدخان: العثان المسْتَصْحِب لِلَهب، والبخار: أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجفة من سطوح المياه. والمعنى: والحال أن السماء دخان؛ أي: أمر ظلماني يشبه الدخان، وهو المرتفع من النار وهو من قبيل التشبيه البليغ ولما كانت أول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيهًا لها به، من حيث إنها أجزاء متفرقة غير متواصلة، عديمة النور كالدخان، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه. كما في "حواشي ابن الشيخ". وقال بعضهم: {وَهِيَ دُخَانٌ}؛ أي: دخان مرتفع من الماء؛ يعني: السماء، بخار الماء كهيئة الدخان. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وكان عرش الرحمن قبل خلق السموات والأرض على الماء، كما قال الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق السموات والأرض .. أمر الريح فضربت الماء فاضطرب الحاء اضطرابًا شديدًا فأزبد وارتفع، فخرج منه دخان، فأما الزبد: فبقي على وجه الماء، فخلق فيه اليبوسة، وأحدث منه الأرض، وأما الدخان: فارتفع وعلا، فخلق منه السموات. فإن قلت: هذه (¬1) الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السماء، وقوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء، فكيف الجمع بينهما؟ قلت: الجواب المشهور: أنه تعالى خلق الأرض أولًا، ثم خلق السماء بعدها، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدّها، وفيه جواب آخر، وهو أن يقال: إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض، فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين، وليس الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضًا، فيكون المعنى: قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء، فعلى هذا يزول الإشكال. والله أعلم بالحقيقة. ولعل تقديم (¬2) بيان ما يتعلق بالأرض وأهلها، لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم، مما يحملهم على الإيمان، ويزجرهم عن الكفر والطغيان. {فَقَالَ لَهَا}؛ أي: للسماء {وَلِلْأَرْضِ} التي قدر وجودها، ووجود ما فيها: {ائْتِيَا}؛ أي: كُونا واحدُثَا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما، وهو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقًا فعليًا، بطريق التمثيل، بعد تقدير أمرهما، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، كما في قوله: {كُن} بأن شبه تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع، فيتمثل أمره، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها. ومعنى {ائْتِيَا} (¬3): افعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

الأحسن؛ أي: افعله. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء .. فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض .. فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك. وقرأ الجمهور: {ائْتِيَا} أمرًا من الإتيان، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: {آتيا} {قالتا آتينا} بالمد فيهما، وهو إما من المؤاتاة وهي الموافقة؛ أي: لتوافق كل منكما الأخرى، أو من الإيتاء وهو الإعطاء، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني أفعلا كأكرما، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان، بل يكون القول لهما متعاقبًا. وقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}: مصدران (¬1) واقعان في موقع الحال، والطوع الانقياد والاختيار والإرادة، ويضاده الكره؛ أي: كونا أو افعلا ما أمرتكما به حالة كونكما طائعتين منقادتين مختارتين أو كارهتين؛ أي: افعلا سواء شئتما ذلك أو أبيتما، وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما، واستحالة امتناعهما من ذلك، لا إثبات الطوع والكره لهما، لأنهما من أوصاف العقلاء ذوي الإرادة والاختيار، والأرض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الإرادة والاختيار. وقرأ الأعمش: {كرها} بضم الكاف وهو بمعنى الفتح. {قَالَتَا}؛ أي: السماء والأرض {أَتَيْنَا} وفعلنا أمرك حالة كوننا {طَائِعِينَ}؛ أي: منقادين وطائعين أمرك، وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية، وحصولهما كما أمرتا به، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريًا على مقتضى الحكمة البالغة، فإن الطوع منبىء عن ذلك، والكره موهم لخلافه. فإن قلت: لِمَ قال (¬2): {طَائِعِينَ} على وزن جمع العقلاء المذكور، لا طائعتين حملًا على اللفظ أو طائعات حملًا على المعنى، لأنها سماوات وأرضون؟ قلت: جمعهما جمع العقلاء لخطابهما بما يخاطب به العقلاء، ونظيره: {سَاجِدِينَ} في قوله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}؛ أي: لما وصفتا بأوصاف العقلاء .. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[12]

عوملتا معاملة العقلاء، وجمعتا لتعدد مدلولهما. والمعنى (¬1): أي فقال لتلك العوالم السماوية، وللأرض التي دارت حولها: ائتيا كيف شئتما، طائعتين أو كارهتين، فأجابتا فقالتا: أتينا طائعين. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - قال الله تعالى للسموات: أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك، وأجري رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقي أنهارك، وأخرجي شجرك وثمارك، طائعتين أو كارهتين، قالتا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبّر عن سببها بالجاذبية، فهي حركة تجري جري طاعة، لا جري قسر، فإنا نشاهد أنا نرمي الحجر إلى أعلى قسرًا، فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهي الأرض، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة، طوعًا لا قسرًا، لأن القسرية كرمي الحجر إلى أعلى سريعة الزوال، أما حركة الطاعة .. فهي دائمة ما دام المطيع متخلقًا بخلقه الذي هو فيه. 12 - وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} تفسير (¬2) وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر، وجوابه لا أنه فعل مرتب على تكوينها، والضمير لـ {السَّمَاءِ} على المعنى، فإنه في معنى الجمع لتعدد مدلوله، فـ {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} حال، أو هو؛ أي: الضمير مبهم يفسره {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} كضمير ربه رجلًا فـ {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: تمييز. والمعنى: خلقهن وأحكمهن وفرغ منهن، حال كونهن سبع سموات، أو خلقهن من جهة كونهن سبع سموات، خلقًا إبداعيًا؛ أي: على طريق الاختراع لا على مثال، وأتقن أمرهن بأن لا يكون فيهن خلل ونقصان، حسبما تقتضيه الحكمة، أو مفعول ثان لـ {قَضَاهُنَّ} لتضمنه معنى التصيِير؛ أي: صيرهن سبع سموات {فِي يَوْمَيْنِ}؛ أي: في وقت مقدر بيومين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة، خلق السموات يوم الخميس، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم في يوم الجمعة، وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما، فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواضع من التنزيل. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والمعنى (¬1): فأتم خلقهن خلقًا إبداعيًا، وأتقن أمرهن في يومين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام. وفي "فتح الرحمن": إن قلت (¬2): الكلام هنا يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام، وهو مخالف لما ذكره في سورة الفرقان وغيرها، أنها خلقت في ستة أيام. قلت: يومًا خلق الأرض من جملة الأربعة بعدهما، والمعنى في تتمة أربعة أيام، وهي مع يومي خلق السموات ستة أيام، يوم الأحد والاثنين لخلق الأرض، ويوم الثلاثاء والأربعاء للجعل المذكور في الآية وما بعده، ويوم الخميس والجمعة لخلق السموات. فإن قلت: السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها بأضعاف، فما الحكمة في أنه تعالى خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، والسموات وما فيها في يومين؟ قلت: لأن السموات وما فيها من عالم الغيب والملكوت والأمر، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك والخلق، والأول أسرع من الثاني، أو أنه تعالى فعل ذلك في الثاني مع قدرته على فعله ذلك دفعةً واحدة؛ ليعرفنا أن الخلق على سبيل التدريج لنتأنى في أفعالنا، فخلق ذلك في أربعة أيام لمصالح وحكم اقتضت ذلك، ولهذا خلق العالم الأكبر في ستة أيام، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}: عطف على {فَقَضَاهُنَّ}؛ أي: وخلق في كل سماء منهن أمرها؛ أي: مخلوقها وسكانها، والإيحاء: عبارة: عن التكوين، والخلق مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت؛ أي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج وغيرها، مما لا يعلمه إلا الله سبحانه. قاله قتادة والسدي؛ قال الراغب: يقال للإبداع: أمر، وقد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

حمل على ذلك في هذه الآية. اهـ. أو المعنى (¬1): {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ}؛ أي: ألقى إلى أهل كل سماء أوامره وكلفهم بما يليق بهم من التكاليف، فمنهم قيام لا يقعدون إلى قيام الساعة، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم أبدًا إلى غير ذلك، والإيحاء حينئذ على معناه، ومطلق عن القيد المذكور، والآمر هو الله تعالى، والمأمور أهل كل سماء، وأضيف الأمر إلى نفس السماء؛ للملابسة، لأنه إذا كان مختصًا بالسماء .. فهو أيضًا بواسطة أهلها. {وَزَيَّنَّا} التفات إلى نون العظمة، لإبراز مزيد العناية بالأمر {السَّمَاءَ الدُّنْيَا}؛ أي: القريبة إلى أهل الأرض {بِمَصَابِيحَ}؛ أي: بكواكب تضيء في الليل كالمصابيح، فإنها ترى كلها متلألئة على السماء الدنيا، كأنها فيها، فالمراد بالمصابيح: جميع الكواكب النيرة التي خلقت في السموات من الثوابت والسيارات، وليس كلها في السماء الدنيا، وهي التي تدنو وتقرب من أهل الأرض، فإن كل واحد من السيارات السبع في فلك مستقل، والثوابت مركوزة في الفلك الثامن، المعبر عنه بالكرسي، إلا أن كونها مركوزة فيما فوق السماء الدنيا، لا ينافي كونها زينة لها؛ لأنَّا نرى جميع الكواكب كالسرج الموقدة فيها، وقيل: إن في كل سماء كواكب تضيء، وقيل: بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا، وقوله: {وَحِفْظًا}: مصدر مؤكد لفعل محذوف معطوف على {زَيَّنَّا}؛ أي (¬2): وحفظنا السماء الدنيا من الآفات ومن المسترقة {حِفْظًا}، وهي الشياطين الذين يصعدون السماء لاستراق السمع، فيرمون بشهب صادرة من نار الكواكب، منفصلة عنها، ولا يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنها قارة في الفلك على حالها، وما ذلك إلا كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية بحالها، لا ينتقص منها شيء، والشهاب: شعلة نار ساقطة. وقيل المعنى (¬3): أي وحفظنا تلك المصابيح حفظًا من الاضطراب في سيرها، ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد، ما دام هذا النظام باقيًا حتى يأتي اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها، كما قال سبحانه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[13]

{ذَلِكَ} المذكور من خلق الأرض في يومين وما بعده إلى هنا {تَقْدِيرُ} وتدبير الإله القدير {الْعَزِيزِ} الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره {الْعَلِيمِ} بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها. 13 - وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا}: متصل بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ ...} إلخ؛ أي: فإن أعرض كفار قريش عن الإيمان بعد هذا البيان، وهو بيان خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما .. {فَقُلْ} لهم يا محمد: {أَنْذَرْتُكُمْ}؛ أي: أنذركم وأخوفكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به؛ أي: أنذركم وأخوفكم {صَاعِقَةً}؛ أي: عذابًا هائلًا شديد الوقع، كأنه صاعقة؛ يعني أن الصاعقة في الأصل قطعة من النار، تنزل من المساء فتحرق ما أصابته، استعيرت هنا للعذاب الشديد، تشبيهًا له بها في الشدة والهول؛ أي: أنذركم عذابًا شديدًا {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}؛ أي: مثل عذاب شديد نزل بعاد قوم هود وبثمود قوم صالح. أي (¬1): لم يبق في حقكم علاج إلا إنزال العذاب الذي نزل على من قبلكم من المعاندين المتمردين، المعرضين عن الله تعالى وطلبه وطلب رضاه، فهم سلف لكم في التكذيب والجحود والعناد، وقد سلكتم طريقهم، فتكونون كأمثالهم في الهلاك، قال مقاتل: كان عاد وثمود ابني عم، وموسى وقارون ابني عم، وإلياس واليسع ابني عم، وعيسى ويحيى ابني خالة. وإنما خص (¬2) هاتين القبيلتين؛ لأن قريشًا كانوا يمرون على بلادهم في أسفارهم إلى الشام، فيرون آثارهم في الحجر. وقرأ الجمهور: {صَاعِقَةِ} في الموضعين بالألف، وقرأ ابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن: {صعقة} بغير ألف في الموضعين، والصعقة: المرة من الصعق، أو الصعق، يقال: صعقته الصاعقة صعقًا؛ أي: أهلكته إهلاكًا فصعق صعقًا، والصاعقة: المهلكة من كل شيء، 14 - والظرف في قوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ}: متعلق بمحذوف حال من صاعقة عاد وثمود؛ أي: حال كون تلك الصاعقة نازلةً بهم وقت مجيء الرسل إليهم؛ أي: إلى عاد وثمود {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}؛ أي (¬3): من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

قبلهم، يعني الرسل الذي أرسلوا إلى آبائهم، فالضمير عائد إلى عاد وثمود {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}؛ أي: ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم، وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم، وهما هود وصالح، والضمير عائد إلى الرسل. قوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} الظاهر (¬1): أنه من إطلاق الجمع على المثنى، فإن الجائي إلى عاد هود، وإلى ثمود صالح {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} متعلق بـ {جَاءَتْهُمُ}؛ أي: جاءتهم من جميع جوانبهم، واجتهدوا بهم من كل جهة من جهات الإرشاد وطرق النصيحة، تارةً بالرفق، وتارةً بالعنف، وتارةً بالتشويق، وأخرى بالترهيب، فليس المراد الجهات الحسية والأماكن المحيطة بهم، أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار من الوقائع، ومن جهة الزمان المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} فيراد بالرسل ما يعم المتقدمين منهم والمتأخرين، أو ما يعم رسل الرسل أيضًا، وإلا فالجائي رسولان كما سبق، وليس في الاثنين كثرة؛ أي: إذ جاءتهم الرسل وخاطبوهم بـ {أَلَّا تَعْبُدُوا} أيها القوم {إِلَّا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: يأمرونهم بعبادة الله وحده، فـ {أنْ}: مصدرية ناصبة للفعل وصلت بالنهي، كما توصل بالأمر في مثل قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا}، ويجوز (¬2) أن تكون تفسيرية، أو مخففةً من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن محذوف. ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل، فقال: {قَالُوا}؛ أي: قال قوم عاد وثمود استخفافًا برسلهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا}؛ أي: إرسال الرسل، فإنه ليس هنا في أن تقدر المفعول مضمون جواب الشرط كثير معنى .. {لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}؛ أي: لأرسل الملائكة بدلكم، ولم يتخالجنا شك في أمرهم فآمنا بهم، لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال .. قيل: لأنزل {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} على زعمكم، فهو ليس إقرارًا منهم بالإرسال {كَافِرُونَ}؛ أي: كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا؟. ومعنى الآية (¬3): أي قل أيها الرسول لمشركي قومك، المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى .. فإني أنذركم بحلول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

نقمته بكم، كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها، كعاد وثمود ومن على شاكلتهما، ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير، كما ذكر الله ذلك سبحانه بقوله: {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} إلخ؛ أي: قالوا: إنا لا نصدق برسالتكم، فما أرسل الله بشرًا، ولو أرسل رسلًا .. لأنزل ملائكة، وإذًا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا، وقد تقدم في غير ما موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاؤوا بها، وقوله: {بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}: ليس إقرارًا منكم بكونهم رسلًا بل ذكروه استهزاءً بهم، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}. أخرج البيهقي في "الدلائل" وابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالمًا بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم يجبه - صلى الله عليه وسلم -، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا، إن كنت تريد الرياسة؟ عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة - الميل إلى قربان النساء - .. زوجناك عشر نسوة تختارهن أي بنات شئت من قريش، وإن كان المال مرادك .. جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ .. قال - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم .. قالوا: لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا بسحر ولا كهانة، ولما بلغ: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} .. أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدًا إذا قال شيئًا .. لا يكذب؛ فخفت أن ينزل بكم العذاب. وأخرج أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -

[15]

على عتبة بن ربيعة: {حم (1)} أتى أصحابه فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلامًا ما سمعت أذني قط كلامًا مثله، وما دريت ما أرد عليه. وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها، فأعدناها تكميلًا للفائدة، وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - صلى الله عليه وسلم - أول هذه السورة عليه. 15 - ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالًا، وبين معاذيرهما .. أردف ذلك بذكر ما لكل منهما من الجناية، وما حل به من العذاب، فقال: {فَأَمَّا عَادٌ} ولما (¬1) كان التفصيل مسببًا عن الإجمال السابق .. أدخل عليه {الفاء} السببية، هكذا ذكره صاحب "روح البيان" والأولى جعلها فصيحية كما سيأتي في مبحث الإعراب، والتقدير: إذا عرفت أن كلًّا من القبيلتين كفروا برسلهم، فأخذتهم الصاعقة، وأردت بيان ما لكل منهما من الجريمة والعقوبة .. فأقول لك: أما عاد قوم هود {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: تكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله، وتعظموا فيها على أهلها {بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتعظم، بل ركنوا إلى قوة نفوسهم. ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر منهم من الأقوال الدالة على الاستكبار، فقال: {وَقَالُوا} اغترارًا بتلك القوة الموقوفة على عظم الأجسام: {مَنْ} للاستفهام الإنكاري؛ أي: لا أحد {أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؛ أي: قدرةً وكان طول كل واحد منهم ثمانية عشر ذراعًا، وبلغ من قوتهم أن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل، ويجعلها حيث شاء، وكانوا يظنون أنهم يقدرون على دفع العذاب بفضل قوتهم، فخانتهم قواهم لما استمكن منهم بلواهم، وقد رد الله سبحانه عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} و {الهمزة}: فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا عن قدرة الله القاهرة، ولم يعلموا علمًا جليًا شبيهًا بالمشاهدة والعيان {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} وخلق الأشياء كلها خصوصًا الأجرام العظيمة كالسموات والجبال ونحوها؟، وإنما (¬2) أورد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

في حيز الصلة خلقهم دون خلق السموات والأرض؛ لادعائهم الشدة في القوة {هُوَ} سبحانه {أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}؛ أي: قدرة، لأن قدرة الخالق لابد وأن تكون أشد من قدرة المخلوق، إذ قدرة المخلوق مستفادة من قدرة الخالق، والقوة: عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف. ولما كانت (¬1) صيغة التفضيل تستلزم اشتراك المفضل والمفضل عليه في الوصف الذي هو مبدأ اشتقاق أفعل، ولا اشتراك بينه تعالى وبين الإنسان في هذه القوة لكونه منزهًا عنها .. أريد بها القدرة مجازًا لكونها مسببة عن القوة بمعنى صلابة البنية {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا} المنزلة على الرسل {يَجْحَدُونَ} والجحود: الإنكار مع العلم؛ أي: ينكرونها وهم يعرفون حقيقتها، كما يجحد المودع الوديعة وينكرها، وهو عطف على {فَاسْتَكْبَرُوا} وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء. والمعنى: أنهم جمعوا بين الاستكبار وطلب العلوّ في الأرض، وهو فسق وخروج عن الطاعة بترك الإحسان إلى الخلق، وبين الجحود بالآيات وهو كفر وترك لتعظيم الحق، فكانوا فسقةً كفرةً، وهذان الوصفان لما كانا أصلي جميع الصفات الذميمة .. لا جرم سلّط الله عليهم العذاب، كما قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} إلخ. ومعنى الآية (¬2): أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربّهم، ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم، وقالوا: من أشد منا قوة حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا؟ وقد كانوا قومًا طوال القامة، شديدي الأسر، فاغترّوا بأجسامهم حين تهدّدهم رسولهم بالعذاب، فردّ الله عليهم موبّخًا لهم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} إلخ؛ أي: أما يفكّرون فيمن يبارزون بالعداوة، إنه العظيم الذي خلق الأشياء كلها، وركّب فيها قواها الحاملة لها، وأنّ بطشه لشديد، وأنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول: كن فيكون، وكانوا يعرفون أنّ آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حقّ لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله، وقد يكون المعنى: إنهم جحدوا الأدلّة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

16 - ثمّ ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: على عاد {رِيحًا صَرْصَرًا} لتقلعهم من أصولهم؛ أي: ريحًا باردة تهلك وتحرق بشدّة بردها، كإِحراق النار بحرّها من الصرّ وهو البرد الذي يصرّ أي: يجمع ويقبض؛ أي: ريحًا عاصفةً تصرصر؛ أي: تصوّت في هبوبها، قيل: إنها الدبور مقابل القبول؛ أي: الصبا التي تهبّ من مطلع الشمس، فيكون الدبور ما تهبّ من مغربها {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} جمع (¬1) نحسة من نحس على وزن علم؛ أي: في أيام منحوسات مشؤومات ليس فيها شيء من الخير، فنحوستها أن الله تعالى أدام تلك الرياح فيها على وتيرة وحالة واحدة بلا فتور، وأهلك القوم بها، لا كما يزعم المنجّمون من أنّ بعض الأيام قد يكون في حدّ ذاته نحسًا، وبعضها سعدًا، استدلالًا بهذه الآية، لأنّ أجزاء الزمان متساوية في حدّ ذاتها، ولا تمايز بينها إلا بحسب تمايز ما وقع فيها من الطاعات والمعاصي، فيوم الجمعة مثلًا سعد بالنسبة إلى المطيع، نحس بالنسبة إلى العاصي، وإن كان سعدًا في حدّ نفسه، قال رجل عند الأصمعيّ: فسد الزمان، فقال الأصمعي: إِنَّ الْجَدِيْدَيَنِ فِيْ طُوْلِ اخْتِلَافِهِمَا ... لَا يَفْسَدَانِ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْنَّاسُ وقيل: نَذُمُّ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِيْنَا ... وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ إِذًا هَجَانَا يعني: كانت (¬2) الريح من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، وهو آخر الشهر، ويقال لها: أيام الحسوم، وسيأتي تفصيلها في سورة الحاقة إن شاء الله تعالى، وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال الضحّاك: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: إذا أراد الله بقوم خيرًا .. أرسل عليهم المطر، وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد بقوم شرًّا. حبس عنهم المطر، وسلّط عليهم كثرة الرياح، وقيل: معنى {نَحِسَاتٍ}: باردات، وقيل: متتابعات، وقيل: شداد، وقيل: ذوات غبار. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقرأ الحرميان (¬1) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج: {نحسات} بسكون الحاء، جمع نحس بسكون الحاء، فاحتمل أن يكون مصدرًا وصف به، وتارةً يضاف إليه، واحتمل أن يكون مخفّفًا من فعل، وقرأ قتادة وأبو رجاء والجحدري وشيبة وأبو جعفر والأعمش وباقي السبعة: بكسر الحاء وهو القياس، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}، واختار أبو عبيد القراءة الثانية. والمعنى (¬2): فأرسلنا عليهم ريحًا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبّت .. سمع لها صوت قويّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغترُّوا به أيام مشؤومات نكدات متتابعات، كما قال في آية أخرى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}. ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}؛ أي: لكي نذيقهم بسبب ذلك الاستكبار عذاب الذل والهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقرىء: {لتذيقهم} بالتاء، وقال الزمخشري: أسنادًا للإذاقة إلى الريح، أو للأيام النحسات، وإضافة (¬3) العذاب إلى الخزي: من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على طريق التوصيف بالمصدر للمبالغة؛ أي: العذاب الخزي؛ أي: الذليل المهان على أنّ الذليل المهان في الحقيقة أهل العذاب لا العذاب نفسه {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ}؛ أي: وعزتي وجلالي لعذاب الآخرة {أَخْزَى}؛ أي: أذل وأزيد خزيًا، وأشد إهانةً من عذاب الدنيا، وهو في الحقيقة أيضًا وصف للمعذّب، وقد وصف به العذاب على الإسناد المجازي لحصول الخزي بسببه {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ أي: لا يمنعون من العذاب النازل بهم، ولا يدفعه عنهم دافع، لأنهم لم ينصروا الله ودينه، وأما المؤمنون فإنهم وإن كانوا ضعفاء .. فقد نصرهم الله تعالى، لأنهم نصروا الله ودينه، فعجبًا من القوة في جانب الضعف، وعجبًا من الضعف في جانب القوة، وفي الحديث: "إنكم تنصرون بضعفائكم"؛ أي: الضعفاء الداعين لكم بالنصرة، وقال خالد بن برمك: اتقوا مجانيق الضعفاء؛ أي: دعواتهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[17]

يقول الفقير (¬1): إنما عذّبت بريح صرصر، لأنهم اغتروا بطول قاماتهم، وعظم أجسادهم، وزيادة قوّتهم، فظنّوا أنّ الجسم إذا كان في القوة والثقل بهذه المرتبة .. فهو يثبت في مكانه. ويستمسك، ولا يزيله عن مقرّه شيء من البلاء، فسلّط الله عليهم الريح، فصارت أجسامهم كريشة في الهواء. وكان - صلى الله عليه وسلم - يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح، ويقول: "اللهم اجعلها رحمةً ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها لنا رياحًا"؛ أي: رحمةً "ولا تجعلها ريحًا"؛ أي: عذابًا، وأراد به أن أكثر ما ورد في القرآن من الريح بلفظ المفرد فهو عذاب، نحو: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وإن جاء في الرحمة أيضًا نحو: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وكل ما جاء بلفظ الجمع على الرياح فهو رحمة لا غير، ويقول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: عند هبوب الرياح، وعند سماع الصوت والرعد والصواعق أيضًا: "اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك". 17 - وبعد أن ذكر قصص عاد، أتبعه بقصص ثمود فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ}؛ أي: قبيلة ثمود، فهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، ومن نوّنه وصرفه جعله اسم رجل، وهو الجدّ الأعلى للقبيلة. وقرأ الجمهور (¬2): {وَأَمَّا ثَمُودُ} بالرفع ومنع الصرف، وقرأ الأعمش وابن وثاب بالرفع والصرف، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعاصم في رواية: بالنصب والصرف، وقرأ الحسن وابن هرمز وعاصم في رواية: بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء، والجملة بعده: الخبر، وأما النصب. فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحيّ، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة، كما مرّ آنفًا. {فَهَدَيْنَاهُمْ}؛ أي: فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية، وبيّنا لهم طريق النجاة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الآيات الشريفة، ورحمنا عليهم بالكلية، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدّق رسله، قال الفرّاء: معنى الآية: دللناهم على مذهب الخير والنجاة بإرسال الرسل. والمراد بالهداية، الدلالة على ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

يوصل إلى المطلوب، سواء ترتّب عليها الاهتداء أم لا، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وليس المراد الدلالة المقيدة بكونها موصلة إلى البغية، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}؛ أي: اختاروا الضلالة من عمى البصيرة، وافتقادَها على الهداية، والكفر على الإيمان، والمعصيةَ على الطاعة. وقيل (¬1): إن ثمود في الابتداء آمنوا وصدّقوا، ثمّ ارتدُّوا وكذّبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال، فتكون الهداية حينئذ بمعنى الدلالة المقيدة، قال ابن عطاء: ألبسوا لباس الهداية ظاهرًا وهم عواري، فيتحقق عليهم لباس الحقيقة، فاستحبُّوا العمى على الهدى، فردُّوا إلى الذي سبق لهم في الأزل. والمعنى (¬2): أي وأما ثمود فبيّنا لهم الحقّ على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبيل النجاة، بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعيّة، فكذبوا واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان. ثمّ ذكر جزاءَهم على ما اختاروه لأنفسهم، فقال: {فَأَخَذَتْهُمْ}؛ أي: أهلكتهم {صَاعِقَةُ الْعَذَابِ}؛ أي: نار من العذاب {الْهُونِ}؛ أي: نار نازلة من السماء هي من العذاب المهين؛ أي: نزلت صاعقة من السماء، فأهلكتهم وأحرقتهم، فيكون من إضافة النوع إلى الجنس بتقدير من؛ أي: من جنس العذاب المهين الذي بلغ في إفادة الهوان للمعذّب إلى حيث كان عين الهون وصِف به العذاب للمبالغة، كأنه عين الهوان. والهون: مصدر بمعنى الهوان والذلة، كما سيأتي. وقرأ ابن مقسم: {عذاب الهوان} بفتح الهاء وألفٍ بعد الواو. و {الباء} في قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} للسببية؛ أي: بسبب الذي كانوا يكسبونه من اختيار الضلالة والكفر والمعصية، أو بسبب كسبهم. يقول الفقير: أما حكمة الابتلاء بالصيحة .. فلعدم استماعهم الحق من لسان صالح عليه السلام، مع أن الاستحباب المذكور صفة الباطن، وبالصيحة تنشقُّ المرارة، فيفسد الداخل والخارج، وأما بالنار فلإحراقهم باطن ولد الناقة بعقر أمّه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[18]

فابتلوا بالإحراق الظاهر، ألا ترى أنَّ يعقوب عليه السلام ذبح جديًا بين يدي أمه، فابتلي بفراق يوسف واحتراقه على ما قاله البعض؛ أي: فأرسلنا عليهم صيحةً ورجفةً وذلًا وهوانًا بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله 18 - {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله من تلك الصاعقة، وكانوا مئةً وعشرة أنفس {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الشرك، أو عقر الناقة. أي: ونجينا صالحًا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب، فلم يمسسهم سوء، ولا نزل بهم مكروه بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم، 19 - والظرف في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ}: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك المعاندين لك، حال الكفار يوم يحشر ويجمع أعداء الله المذكورون، من عاد وثمود وهو يوم القيامة، لا الأعداء من الأولين والآخرين لما سيأتي من قوله تعالى: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} والتعبير بالأعداء للذم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من فنون العذاب، بمعنى أنهم يجمعون {إِلَى النَّارِ}؛ أي: إلى موقف الحساب؛ إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، وإما لأنّ حسابهم يكون على شفيرها، وفي الآية إشارة إلى أنّ من لم يمتثل أوامر الله، ولم يجتنب عن نواهيه، ولم يتابع رسوله .. فهو عدو الله، وإن كان مؤمنًا بالله، مقرًّا بوحدانيته، وأنّ وليّ الله من كان يؤمن بالله ورسله، ويمتثل أوامر الله بمتابعة الرسول، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته، كما يحشر الأعداء إلى نار البعد وجحيمه. وقرأ الجمهور (¬1): {يُحْشَرُ} مبنيًا للمفعول، و {أَعْدَاءُ} رفعًا على النيابة، وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة: {نحشر} بالنون وضمّ الشين {أعداء} نصبًا على المفعولية، وقرىء (¬2): {يحشر} بالبناء للفاعل، ونصب {أَعْدَاء} وقرىء: بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين {فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، وهو كناية عن كثرة أهل النار، وفيه إشارة إلى أنّ في الوزع عقوبة لهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[20]

20 - وقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} غاية (¬1) لـ {يُحْشَرُ} ولـ {يُوزَعُونَ} و {ما}: مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور؛ يعني: أنّ وقت مجيئهم النار لابدّ أن يكون وقت الشهادة عليهم؛ أي: حتى إذا حضروا النار جميعًا، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا .. {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ}؛ أي: آذانهم بما سمعت من المعاصي، لأنهم كانوا استعملوها في الدنيا في معاصي الله بغير اختيارها، فشهدت عليهم بما سمعت من شرّ، وأفرد السمع لكونه مصدرًا في الأصل، {و} شهدت عليهم {أَبْصَارُهُمْ} بما نظرت إلى حرام {و} شهدت عليهم {جُلُودُهُمْ}؛ أي: ظواهر أبدانهم وبشراتها بما لامست محظورًا، والجلد: قشر البدن، وقيل: المراد بالجلود الجوارح والأعضاء، وقال السدّي وعبيد الله بن أبي جعفر والفرّاء: أراد بالجلود الفروج، والأول أولى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا، ويقال: تخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها، لا أنّ كلًّا منها تخبر بجناياتها المعهودة فقط، فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة، وفنون كفرهم ومعاصيهم، وتلك الشهادة بأن ينطقها الله تعالى كما أنطق اللسان، إذ ليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلًا، وكما أنطق الشجرة والشاة المشوية المسمومة، بأن يخلق فيها كلامًا، كما عند أهل السنة. ووجه تخصيص الثلاثة من الحواس الخمس بالشهادة (¬2)، وهي السمع والبصر والجلد التي هي آلة اللمس دون غيرها، وهو الذوق والشمّ؛ لأنّ الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسةً لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم المشموم، فكانا داخلين في جنس اللمس، وإذا عرفت وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال؛ لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس، فكأن تأتي المعصية من جهتها أكثر، وأما على قول من فسّر الجلود بالفروج، فوجه تخصيصها بالسؤال: ظاهر، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحًا، وأجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بواسطتهما. ومعنى الآية (¬3): أي واذكر يا محمد لقريش المعاندين لك، حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار، فيحبس أولهم على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[21]

آخرهم، ليتلاحقوا ويجتمعوا، حتى إذا وقفوا على النار .. شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجوارحهم بما كانوا يعملون في الدنيا من المعاصي، بعلامات متمايزة، تدلّ على الأخلاق المختلفة، لكل خلق منها علامة خاصة، نحن لا نعرف الآن كنهها، وربما كانت سوائل روحيةً، كل سائل يدل على خلق من الأخلاق، كما يكون في أنواع النبات والشجر روائح مختلفة، فالعلم والحلم والنشاط وحب الناس لها سوائل جميلة، والجهل والطيش والكسل وبغض الناس لها سوائل رديئة، وتلك السوائل تلازمهم، فتكون مشقيةً لهم، ومضايقةً أو مفرحةً لهم ومنعمةً، وهكذا الأجسام بعد الموت لا تشبه نفس نفسًا أخرى في أوصافها، فهذه هي الشهادة التي تشهد بها أسماعهم وأبصارهم وجلودهم، هكذا قيل في تفسير الشهادة، والراجح أنها بإنطاق الله إياها. 21 - ثم ذكر سبحانه أنهم لاموا جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة، فحكى عنهم قولهم لها {وَقَالُوا}؛ أي: الكفرة {لِجُلُودِهِمْ} توبيخًا لها: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}؛ أي: وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة لجلودهم حين شهدوا عليهم: لم شهدتم علينا، وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي، فكيف يشهدون عليهم الآن. وقرأ زيد بن علي {لم شهدتنّ} بضمير المؤنثات. وصيغة (¬1) جمع العقلاء في خطاب الجلود، وكذا في قوله تعالى: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} إلخ، لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء، ولعلّ تخصيص الجلود لأنها بمرأى منهم، بخلاف غيرها، أو لأنّ الشهادة منها أعجب وأبعد، إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر. {قَالُوا}؛ أي: الجلود {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} سبحانه {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ناطق، وأقدرنا على بيان الواقع، فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها، وفي الآية إشارة إلى أن الأرواح والأجسام متساوية في قدرة الله تعالى، إن شاء .. جعل الأرواح بوصف الأجسام صُمًّا بُكْمًا عميًّا فهم لا يعقلون، وإن شاء. جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع وتبصر وتعقل. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

أي (¬1): قالت الجلود: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق؛ بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح، وفي "صحيح مسلم": عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضحك فقال: "هل تدرون ممّ أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: ألم تجِرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجير على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، قال: ثمّ يخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن، وسحقًا. فعنكن كنت أناضل". {وَهُوَ خَلَقَكُمْ}؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى خلقكم وأوجدكم أيها الكفرة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} من العدم المحض {وَإِلَيْهِ} تعالى {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولًا، وعلى إعادتكم ورجعكم؛ أي: ردّكم إلى جزائه ثانيًا، لا يتعجّب من إنطاقه لجوارحكم، فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحةً كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكن قليلًا من الناس من يفطن إلى ذلك، فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداءً .. قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثمّ قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ أي: وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازي كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل: مستأنف من كلام الله تعالى 22 - {وَمَا كُنْتُمْ} أيها الكفرة {تَسْتَتِرُونَ} في الدنيا بنحو الحيطان عند الإقدام على الأفعال القبيحة مَخافة {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} في الآخرة، وقوله (¬2): {أَنْ يَشْهَدَ} في موضع الجر على تقدير المضاف؛ أي: مخافة أن يشهد، أو في موضع النصب بإسقاط الخافض؛ أي: من أن يشهد لأنّ استتر لا يتعدّى بنفسه، و {لا}: في الموضعين زائدة لتأكيد النفي. وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع، تقريرًا لجواب الجلود. والمعنى: وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش، مخافة أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنها كانت أجسامًا صامتة غير ناطقة، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم، كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل، مخافة الافتضاح عندهم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسًا، فضلًا عن شهادة الأعضاء، وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمرّ عليه حال إلا وعليه رقيب، وأن الله معه أينما كان. وفي الحديث: "أفضل إيمان المرء: أن يعلم أن الله معه حيث كان". وقيل: هذا من كلام الجلود، وبختهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا، فقالت لهم: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} إلخ؛ أي (¬1): وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش بالحيطان والحجب، حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء، قال عبد الأعلي بن عبد الله الشاميّ فأحسن: الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوْبُ تَزِيْدُ ... وَتُقَالُ عَثْرَاتُ الْفَتَى فَيَزِيْدُ هَلْ يَسْتَطِيْعُ جُحُوْدَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ ... رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُوْدُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيْهِ فَيَشْتَهِيْ ... تَقْلِيْلَهَا وَعَنِ الْمَمَاتِ يَحِيْدُ ولما كان (¬2) الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية .. كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا، أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ} عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه {لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} من المعاصي فاجترأتم على فعلها، قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما تظهر دون ما نسرُّ. والخلاصة: أنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أنَّ أعضاءَكم وجسمكم الأثيريّ الذي هو على صورة الجسم الظاهريّ قد سطّرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ، فلذلك ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[23]

كنتم تستترون عنها بترك الذنوب، وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي للمؤمن أن تمرّ عليه حال إلا وهو يفكر في أنّ الله رقيب عليه، كما قال أبو نوّاس: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيْبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيْبُ فائدة: وفي "فتح الرحمن" قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} الآية، قاله (¬1) هنا بزيادة {مَا} بعد {جاء}، وقال بحذفها في قوله في النمل: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا}، وفي الزمر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} مرتين، وفي الزخرف: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} لأنّ الكلام هنا في أعداء الله أبسط وآكد منه في البقية، فناسب ذكر {مَا} للتأكيد هنا دون البقية. 23 - {وَذَلِكُمْ} الظن أيها الأعداء، وهو مبتدأ (¬2) خبره قوله: {ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} وهو أنَّ الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وإلا فالله تعالى عالم بجميع الكليات والجزئيات، وهو خالق الأعمال وسائر الأعراض، والجواهر والمطلع على البواطن والسرائر، كما هو مطلع على الظواهر، والتغاير بين العنوانين أمر جليّ، لظهور أنَّ ظنَّ عدم علم الله غير الظن بالرب، فيصح أن يكون خبرًا له {أَرْدَاكُمْ} خبر آخر له؛ أي: أهلككم وطرحكم في النار {فَأَصْبَحْتُمْ}؛ أي: صرتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم {مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: من الكاملين في الخسران حيث ظننتم بالله ظنّ السوء، وسوء الظن بالله من أكبر الكبائر كحب الدنيا، وقيل (¬3): إنّ {أَرْدَاكُمْ}: في محل نصب على الحال المقدرة، وقيل: إن {ظَنُّكُمُ}: بدل من {ذَلِكُمْ} و {الَّذِي ظَنَنْتُمْ}: خبره و {أَرْدَاكُمْ}: خبر آخر أو حال، وقيل: إن {ظَنُّكُمُ}: خبر أول، والموصول وصلته خبر ثان، و {أَرْدَاكُمْ}: خبر ثالث، والمعنى: أنّ ظنكم بأنّ الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون، أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الكاملين في الخسران. وحاصل معنى الآية (¬4): أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[24]

وهو أنّ الله لا يعلم كثيرًا من قبائح أعمالكم ومساويها، هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى، فصرتم اليوم من الهالكين، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة من القوّة العاقلة، والأعضاء الكاملة إلى الشقاء، فكفرتم نعم الخالق والرازق، وانهمكتم في الشهوات والمعاصي. أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد والطيالسي وعبد بن حميد وابن مردويه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله تعالى، فإن قومًا قد أرداهم سوءُ ظنهم بالله، فقال الله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} ". قال العلماء (¬1): الظنّ قسمان: 1 - حسن، وهو أن يظن بالله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة والفضل والإحسان، قال - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله عَزَّ وَجَلَّ: "أنا عند ظنّ عبدي بِي". 2 - قبيح، وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأعمال، وقال قتادة: الظن نوعان: منجٍ ومردٍ. فالمنجي: قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)}، وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}. والمردي: هو قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون على المعاصي، ولا يتوبون منها، ولا يتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثمّ قرأ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} الآية، وقال الحسن البصري: إن قومًا ألهتهم الأماني، حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وقد كذب، ولو أحسن الظن .. لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} الآية. 24 - ثمّ أخبر عن حالهم فقال: {فَإِنْ يَصْبِرُوا} في النار على العذاب، وأمسكوا عن الاستغاثة والجزع مما هم فيه، انتظارًا للفرج، زاعمين أنّ الصبر مفتاح الفرج ¬

_ (¬1) المراغي.

{فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}؛ أي: محل ثواءٍ وإقامة أبّدت لهم بحيث لا خلاص لهم منها، فلا ينفعهم صبرهم. وقيل المعنى (¬1): فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار .. فالنار مثوًى لهم. والالتفات (¬2) فيه عن الخطاب إلى الغيبة؛ للإشعار بإبعادهم عن حيّز الخطاب، والإبقاء في غاية دركات النار {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}؛ أي: يسألوا العتبى، وهو الرجوع إلى ما يُحبّونه جزءًا مما هم فيه .. {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}؛ أي: من المجابين إلى العتبى لأنهم لا يستحقون ذلك، فيكون صبرهم وجزعهم سواءً في أنّ شيئًا منهما لا يؤدّي إلى الخلاص، ونظيره قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: وإن يبدوا معاذير .. فلن تقبل منهم، ولا تقال لهم العثرات. والمعنى (¬3): وإن يطلبوا الرضى .. لم يقع الرضى عنهم، بل لابدّ لهم من النار. وقرأ الجمهور: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} بفتح التحتية وكسر الفوقية الثانية مبنيًا للفاعل، وقرؤُوا: {مِنَ الْمُعْتَبِينَ} بفتح الفوقية اسم مفعول، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري وأبو العالية: {وإن يُستعتبوا} بضم التحتية مبنيًا للمفعول {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} اسم فاعل؛ أي: وإن طلب منهم أن يرضوا ربهم .. فما هم بفاعلين، ولا يكون ذلك منهم، لأنهم فارقوا الدنيا دار الأعمال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بعد الموت مستعتب" وقال أبو ذؤيب: أَمِنَ الْمَنُوْنِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ وقيل المعنى: أنهم إن أقالهم الله، وردهم إلى الدنيا .. لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. وبعدما ختمت تفسير هذه الآية في اليوم السادس والعشرين من رمضان .. نمت وقت الضحوة قبيل الظهر، ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك النومة، كأني من مقدمة جيشه من فرسانهم، وأردت إدراك واحد من العدو شرد منا، وأجريت فرسي وراءَهُ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يجري فرسه معي، وقربت ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

عمامتي إلى السقوط من رأسي لذلك الجري، فأصلحها لي النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأسي، فالحمد لله والشكر له على هذه البشارة العظيمة. الإعراب {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)}. {حم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مُسمّاة بحم، أو مبتدأ خبره: محذوف؛ أي: سورة حم هذا محلها، أو مفعول به لفعل محذوف؛ أي: اقرأ حم، والجملة على كل التقادير: مستأنفة، ويجري فيه من أوجه الإعراب ما يجري في أسماء التراجم إن قلنا: إنها اسم للسورة، وإن قلنا: إنها رمز أو مما استؤثر الله سبحانه بعلمه .. فلا محل لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى. {تَنْزِيلٌ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن منزّل من الرحمن الرحيم، و {مِنَ الرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {تَنْزِيلٌ} و {الرَّحِيمِ} صفة لـ {الرَّحْمَنِ}، وأجاز الزجاج أن يكون {تَنْزِيلٌ}: مبتدأ، وقوله: {كِتَابٌ} الآتي: خبره وسوّغ الابتداء بـ {تَنْزِيلٌ}: تخصُّصه بالصفة، وعليه درج الجلال وشرّاحه، وما ذكرناه أولًا أولى. {كِتَابٌ}: بدل من {تَنْزِيلٌ} أو خبر بعد خبر {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}: فعل مغيّر ونائب فاعله، والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة لـ {كِتَابٌ}. {قُرْآنًا}: حال مقصودة من {كِتَابٌ} لتخصصه بالصفة و {عَرَبِيًّا}: صفة له أو حال منه أو حال أخرى من {كِتَابٌ} أو هو حال موطئة و {عَرَبِيًّا}: هي الحال المقصودة، ذكره في "الفتوحات". {لِقَوْمٍ} متعلق بـ {فُصِّلَتْ} وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة {لِقَوْمٍ}. {بَشِيرًا} إما صفة ثانية لـ {قُرْآنًا} أو حال ثانية من {كِتَابٌ}. {وَنَذِيرًا}: معطوف على {بَشِيرًا}، {فَأَعْرَضَ}: {الفاء}: عاطفة {أَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الرفع معطوفة على جملة {فُصِّلَتْ}: على كونها صفة لـ {كِتَابٌ} والرابط: محذوف، تقديره: فأعرض عنه أكثرهم {فُصِّلَتْ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَسْمَعُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل الرفع معطوفة على جملة {أَعْرَضَ}. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ

فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}. {وَقَالُوا}: {الواو}: استئنافية أو عاطفة. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: {فَأَعْرَضَ}. {قُلُوبُنَا}: مبتدأ، {فِي أَكِنَّةٍ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِمَّا}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {أَكِنَّةٍ}؛ أي: في أكنة تمنعنا مما تدعونا إليه، وقال أبو البقاء: هو محمول على المعنى، إذ معنى {فِي أَكِنَّةٍ}: أنها مَحْجُوبة عن سماع ما تدعونا إليه {تَدْعُونَا}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد ومفعول به، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تَدْعُونَا} وهو العائد على {ما} الموصولة {وَفِي آذَانِنَا}: خبر مقدم. {وَقْرٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {قُلُوبُنَا}، {وَمِنْ بَيْنِنَا}: {الواو}: عاطفة. {مِنْ بَيْنِنَا} خبر مقدم {وَبَيْنِكَ}: معطوف عليه {حِجَابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة {قُلُوبُنَا}. {فَاعْمَلْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت، ما قلنا لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فنقول {اعمل ...}: إلخ. {اعمل}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {إِنَّنَا}: ناصب واسمه. {عَامِلُونَ}: خبره، وجملة {إِن}: في محل النصب مسوقة لتعليل الأمر قبلها؛ أي: فاستمرّ على دعوتك، فإننا مستمرون على ديننا، وهو الإشراك. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة، {إِنَّمَا}: أداة حصر؛ أو {إِنَّمَا}: مكفوفة وكافة. {أَنَا}: مبتدأ. {بَشَرٌ}: خبر {مِثْلُكُمْ}: صفة لـ {بَشَرٌ} والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {إِلَيَّ}: متعلق بـ {يُوحَى}، {أَنَّمَا} مكفوفة وكافة. {إِلَهُكُمْ}: مبتدأ. {إِلَهٌ}: خبر. {وَاحِدٌ}: صفة لـ {إِلَهٌ}، والجملة الاسمية: صلة لـ {أَن} المكفوفة، و {أَن} المكفوفة مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائب فاعل لـ {يُوحَى} والتقدير: يوحى إليّ كون إلهكم إلهًا واحدًا، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُلْ} أو في محل الرفع خبر ثان لـ {أَنَا}.

{فَاسْتَقِيمُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه يوحى إلى التوحيد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {اسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}. {اسْتَقِيمُوا}: فعل أمر وفاعل، {إِلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة. مستأنفة. {وَاسْتَغْفِرُوهُ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على {اسْتَقِيمُوا}، {وَوَيْلٌ} {الواو}: عاطفة. {ويل}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة: قصد الدعاء {لِلْمُشْرِكِينَ}: خبر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}. {الَّذِينَ} صفة {لِلْمُشْرِكِينَ}، وجملة {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: صلة {الَّذِينَ} {وَهُمْ} {الواو}: عاطفة. {هُمْ}: مبتدأ. {بِالْآخِرَةِ}: متعلق بـ {كَافِرُونَ}. {هُمْ} الثانية تأكيد للأولى، {كَافِرُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: {لَا يُؤْتُونَ} على كونها صلة الموصول. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {آمَنُوا}، {لَهُمْ}: خبر مقدم، {أَجْرٌ}: مبتدأ مؤخر، {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: صفة {أجر}، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ}: مستأنفة أو في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {أَئِنَّكُمْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ. {إنكم}: ناصب واسمه. {لَتَكْفُرُونَ} {اللام}: حرف ابتداء {تكفرون}: فعل وفاعل. {بِالَّذِي}: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قُلْ} {خَلَقَ الْأَرْضَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، {فِي يَوْمَيْنِ}: متعلق بـ {خَلَقَ}. {وَتَجْعَلُونَ}: فعل وفاعل معطوف على

{تكفرون}. {لَهُ}: متعلق بـ {تَجْعَلُونَ} على أنه مفعول ثان له. {أَنْدَادًا}: مفعول أول له، {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)}. {وَجَعَلَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {خَلَقَ} وما بينهما اعتراض. {فِيهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {جعل} على كونه مفعولًا ثانيًا له. {رَوَاسِيَ}: مفعول أول لـ {جعل} ولم ينون لأنه على زنة مفاعل، ولك أن تعلق الجار والمجرور بـ {جعل} على أنه بمعنى خلق، و {رَوَاسِيَ}: مفعول به لـ {جعل} لأنه يتعدى إلى مفعول واحد. {مِنْ فَوْقِهَا} صفة لـ {رَوَاسِيَ} وما أجمل وقع هذا النعت؛ لئلا يتوهم أنها من تحتها، فتكون ممسكة لها ومانعة من الميدان. {وَبَارَكَ فِيهَا}: معطوف على {جَعَلَ فِيهَا}. {وَقَدَّرَ فِيهَا}: معطوف على {جعل} أيضًا. {أَقْوَاتَهَا}: مفعول به لـ {قدر}. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}: متعلق بـ {قدر} {سَوَاءً}: بالنصب منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا؛ أي: استوت الأيام الأربعة استواءً لا تزيد ولا تنقص، أو حال من {أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} لتخصصه بالإضافة؛ أي: حال كونها مستوية كاملة تامةً بلا زيادة ولا نقصان، كما مر بسطه في مبحث التفسير، وقرىء: بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف هي؛ أي: تلك الأيام الأربعة مستوية تامة، وبالجر على أنه صفة لـ {أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}؛ أي: في أربعة أيام مستوية تامة كاملة. {لِلسَّائِلِينَ}: متعلق بـ {قَدَّرَ}؛ أي: قدر فيها أقواتها للسائلين؛ أي: لأجل الطالبين للأقوات، المحتاجين إليها من المقتاتين بها، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الحصر في الأربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، وجواب لسؤالهم في كم مدة خلقت الأرض وما فيها، كما مر بسطه أيضًا فراجعه. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب للترتيب الذكري لا الزماني، {اسْتَوَى}: فعل ماض وفاعل يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقَ}، {إِلَى السَّمَاءِ}:

متعلق بـ {اسْتَوَى}. {وَهِيَ دُخَانٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب حال من {السَّمَاءِ}. {فَقَالَ} {الفاء}: عاطفة. {قال}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {اسْتَوَى}، {لَهَا}: متعلق بـ {قَالَ}. {وَلِلْأَرْضِ}: معطوف على {لَهَا}، {ائْتِيَا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والاْلف: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}: مصدران في موضع الحال من فاعل {ائْتِيَا}؛ أي: حالة كونكما طائعتين أو كارهتين، {قَالَتَا}: فعل وفاعل. التاء علامة تأنيث الفاعل. والجملة مستأنفة {أَتَيْنَا} فعل وفاعل {طَائِعِينَ}: حال من فاعل: {أَتَيْنَا}، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَتَا}. {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}. {فَقَضَاهُنَّ}: {الفاء}: عاطفة. {قَضَاهُنَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول أول. {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: مفعول ثان؛ لأن {قضى} هنا: بمعنى صير، ويجوز أن يكون {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: حالًا من مفعول {قَضَاهُنَّ} إذا كان {قضى} بمعنى صنع؛ أي: صنعهن حالة كونهن معدودة بالسبع، ويجوز أن يكون بدلًا من الضمير، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: {اسْتَوَى}، {فِي يَوْمَيْنِ}: متعلق بـ {قضى}. {وَأَوْحَى} فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الله. {فِي كُلِّ سَمَاءٍ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلقان بـ {أوحى}. {أَمْرَهَا} مفعول به ومضاف إليه. {وَزَيَّنَّا}: فعل وفاعل {السَّمَاءَ}: مفعول به. {الدُّنْيَا}: صفة للسماء، {بِمَصَابِيحَ}: متعلق بـ {زَيَّنَّا} وهو غير منصرف؛ لكونه على زنة مفاعيل، والجملة: معطوفة على جملة {قَضَاهُنَّ}. {وَحِفْظًا} {الواو}: عاطفة {حِفْظًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: وحفظناها حفظًا من استراق الشياطين السمع بالشهب، والجملة المحذوفة: معطوفة على جملة {زَيَّنَّا}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، والإشارة إلى ما ذكر كله بتفاصيله، وأفرد الكاف لأنه ليس المراد تعين المخاطبين. {تَقْدِيرُ}: خبر المبتدأ. {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه. {الْعَلِيمِ}: صفة لـ {الْعَزِيزِ} والجملة الاسمية: مستأنفة. {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}. {فَإِنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،

تقديره: إذا قلت لهم ما ذكر من دلائل التوحيد، ولم يقبلوا التوحيد، وأردت بيان ما تقول لهم في حالة إعراضهم .. فأقول لك: إن أعرضوا {إن}: حرف شرط. {أَعْرَضُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَقُلْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {أَنْذَرْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {صَاعِقَةً}: مفعول ثان. {مِثْلَ}: صفة لـ {صَاعِقَةً}. {صَاعِقَةً}: مضاف إليه، وهو مضاف {عَادٍ}: مضاف إليه. {وَثَمُودَ}: معطوف على {عَادٍ}، ولم يصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، كما مر في مبحث التفسير، وجملة {أَنْذَرْتُكُمْ}: في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان. {جَاءَتْهُمُ}: فعل ومفعول به، و {التاء}: تاء التأنيث. {الرُّسُلُ}: فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والظرف: متعلق بمحذوف حال من {صَاعِقَةِ عَادٍ}، والتقدير: حالة كونها نازلةً بهم وقت مجيء الرسل إياهم. {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {جَاءَتْهُمُ} {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} معطوف على {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، وجعل بعضهم الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من {الرُّسُلُ}؛ أي: حال كون الرسل كائنين من بين أيدي عاد وثمود ومن خلفهم. {أَلَّا تَعْبُدُوا}: يجوز في {أن} ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن. {لا}: ناهية جازمة، {تَعْبُدُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، و {الواو}: فاعل. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والتقدير: إذ جاءتهم الرسل بعدم عبادتهم إلا الله، والجار والمجرور: متعلق بمحذوف حال من {الرُّسُلُ}؛ أي: حالة كونهم قائلين: بأن لا تعبدوا إلا الله.

والوجه الثاني: أن تكون مصدرية تنصب الفعل المضارع. و {لا}: نافية؛ {لأن} {لا} النافية لا تمنع عمل العامل فيما بعدها. والوجه الثالث: أن تكون مفسرةً؛ لأن مجيء الرسل يحتمل القول، وتكون الجملة: لا محل لها من الإعراب. {قَالُوا}: فعل وفاعل. والجملة: مستأنفة. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {شَاءَ رَبُّنَا}: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَأَنْزَلَ}: {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية. {أنْزَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الرب. {مَلَائِكَةً}: مفعول به، والجملة: جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَإِنَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلنا لكم، وأردتم بيان حالنا .. فنقول لكم: إنا بما أرسلتم ... إلخ، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {كَافِرُونَ}. {أُرْسِلْتُمْ}: فعل مغير ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق بـ {أُرْسِلْتُمْ} والجملة: صلة الموصول. {كَافِرُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قصة عاد وثمود إجمالًا، وأردت بيان قصتها تفصيلًا .. فأقول لك: {أما عاد} {أما}: حرف شرط وتفصيل. {عَادٌ}: مبتدأ، {فَاسْتَكْبَرُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما}، واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما}، {اسْتَكْبَرُوا}: فعل ماض وفاعل، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به. {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: حال من فاعل {اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: غير محقين في استكبارهم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب {أما} الشرطية؛ وجملة {أما} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة؛ وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {اسْتَكْبَرُوا}. {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَشَدُّ}: خبره، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مِنَّا}: متعلق بـ {أَشَدُّ}. {قُوَّةً}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل.

{أَوَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه السياق، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا وضلوا ولم يروا، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَرَوْا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {خَلَقَهُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة {الَّذِي}. {هُوَ} مبتدأ. {أَشَدُّ}: خبره، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَشَدُّ}، {قُوَّةً}: منصوب على التمييز، وجملة المبتدأ: في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَرَوْا}؛ لأنها علمية تتعدى إلى مفعولين. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {يَجْحَدُونَ} وجملة {يَجْحَدُونَ} خبر {كَانُوا} وجملة {كَانُوا}: معطوفة على جملة قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} وجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} مع المعطوفة عليها المقدرة معترضة. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}. {فَأَرْسَلْنَا}: {الفاء}: عاطفة، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {كَانُوا}. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}. {رِيحًا}: مفعول به، {صَرْصَرًا}: صفة لـ {رِيحًا}. {فِي أَيَّامٍ}: صفة ثانية لـ {رِيحًا} أو حال منها. {نَحِسَاتٍ}: صفة لـ {أَيَّامٍ}، {لِنُذِيقَهُمْ}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {نُذِيقَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول منصوب بأن مضمرة. {عَذَابَ الْخِزْيِ}: مفعول ثان. {فِي الْحَيَاةِ} متعلق بـ نذيق. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ} وجملة {نذيقهم}: صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} والجار والمجرور: متعلق بـ {أرسلنا}؛ أي: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} لإِذاقتنا إياهم {عَذَابَ الْخِزْيِ}. {وَلَعَذَابُ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: حرف ابتداء. {عَذَابُ الْآخِرَةِ}: مبتدأ ومضاف إليه {أَخْزَى}: خبره، والجملة: مستأنفة. {وَهُمْ}: {الواو}: عاطفة. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا يُنْصَرُونَ}: خبره، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا

كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}. {وَأَمَّا}: {الواو}: عاطفة، {أما}: حرف شرط. {ثَمُودُ}: مبتدأ. {فَهَدَيْنَاهُمْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}، {هَدَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب {أَمَّا}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما}: معطوفة على جملة قوله: {فَأَمَّا عَادٌ}. {فَاسْتَحَبُّوا} {الفاء}: عاطفة، {اسْتَحَبُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {هديناهم}: {الْعَمَى}: مفعول به. {عَلَى الْهُدَى}: متعلق بـ {اسْتَحَبُّوا}؛ لأنه متضمن معنى آثروا {فَأَخَذَتْهُمْ}. {الفاء}: عاطفة. {أَخَذَتْهُمْ}: فعل ومفعول به. {صَاعِقَةُ الْعَذَابِ}: فاعل. {الْهُونِ}: صفة لـ {الْعَذَابِ} والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {اسْتَحَبُّوا}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَخَذَتْهُمْ} {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة. {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أخذتهم}، {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَتَّقُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا}: معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)}. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة ويوم يحشر أعداء الله والجملة المحذوفة مستأنفة. {يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ}: فعل ونائب فاعل، {إِلَى النَّارِ}: متعلق بـ {يُحْشَرُ} والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة. {هم}: مبتدأ، وجملة: {يُوزَعُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {يُحْشَرُ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان في محل النصب على الظرفية. {مَا} زائدة زيدت لتأكيد معنى الظرفية. {جَاءُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. {شَهِدَ}: فعل ماض. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {سَمْعُهُمْ}: فاعل. {وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}: معطوفان على {سَمْعُهُمْ} والجملة الفعلية: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب وجملة {إِذَا}:

في محل الجر بـ {حَتَّى} والجار والمجرور: متعلق بـ {يُوزَعُونَ} والتقدير: فهم يوزعون إلى شهادة سمعهم وأبصارهم عليهم وقت مجيئهم النار، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {شَهِدَ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا}: صلة لـ {ما} الموصولة. {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}. {وَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {شَهِدَ}، {لِجُلُودِهِمْ} متعلق بـ {قَالُوا} {لِمَ} (اللام): حرف جر، (مَ): اسم استفهام للاستفهام التوبيخي التعجبي، في محل الجر بـ {اللام} مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة. الجار والمجرور: متعلق بـ {شَهِدْتُمْ}، و {شَهِدْتُمْ}: فعل وفاعل. {عَلَيْنَا}: متعلق بـ {شَهِدْتُمْ} والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {أَنْطَقَنَا}: فعل ومفعول. {اللَّهُ}: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {أَنْطَقَ}: فعل ماض وفاعل مستتر. {كُلَّ شَيْءٍ}: مفعول به، والجملة: صلة الموصول. {وَهُوَ} {الواو}: عاطفة {هُوَ} مبتدأ {خَلَقَكُمْ}: فعل ماض ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {أَنْطَقَ}، {أَوَّلَ مَرَّةٍ}: ظرف متعلق بـ {خَلَقَكُمْ}. {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}. {تُرْجَعُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقَكُمْ}. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة أو استئنافية. {ما}: نافية، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَسْتَتِرُونَ}: خبر {كان} وجملة {كان}: معطوفة على جملة {أَنْطَقَنَا}: إن كان من كلام الجلود، أو مستأنفة إن كان من كلام الله تعالى، {أَنْ}: حرف مصدر. {يَشْهَدَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَنْ}، {عَلَيْكُمْ}: متعلق به، {سَمْعُكُمْ}: فاعل. {وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}: معطوفان على {سَمْعُكُمْ}،

و {لا}: في الموضعين: زائدة لتأكيد نفي ما قبلها، وجملة {يَشْهَدَ} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وما كنتم تستترون من شهادة سمعكم إلخ. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك. {ظَنَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ}. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا} نافية. {يَعْلَمُ كَثِيرًا}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. {مِمَّا}: صفة لـ {كَثِيرًا} وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {لَا يَعْلَمُ}: خبر {أَنَّ} وجملة {أَنَّ}: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {ظَنَنْتُمْ}؛ أي: ولكن ظننتم عدم علم الله سبحانه كثيرًا مما تعملون. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}. {وَذَلِكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ. {ظَنُّكُمُ}: خبره، والجملة: معطوفة على جملة الاستدراك. {الَّذِي}: صفة لـ {ظَنُّكُمُ} أو بدل منها. {ظَنَنْتُمْ}: فعل وفاعل، وهو بمعنى الاعتقاد يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك المفعول محذوف، تقديره: ظننتموه، وهو العائد على الموصول. {بِرَبِّكُمْ}: متعلق بـ {ظَنَنْتُمْ} وجملة {ظَنَنْتُمْ}: صلة الموصول. {أَرْدَاكُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الظن ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ثان لاسم الإشارة، أو حال من {ظَنُّكُمُ}، {فَأَصْبَحْتُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {أَصْبَحْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {مِنَ الْخَاسِرِينَ}: خبره، وجملة {أصبح}: معطوفة على جملة {أَرْدَاكُمْ}، {فَإِنْ}: {الفاء}: استئنافية. {إن}: حرف شرط جازم. {يَصْبِرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَالنَّارُ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا. {النَّارُ}: مبتدأ. {مَثْوًى}: خبر. {لَهُمْ}: صفة لـ {مَثْوًى} والجملة الاسمية: في محل الجزم {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {يَسْتَعْتِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَمَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {ما} النافية. {ما}: حجازية: أو تميمية. {هُمْ}: اسمها، أو مبتدأ. {مِنَ الْمُعْتَبِينَ}: خبرها، أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها،

وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: ميزت آياته لفظًا باعتبار فواصل الآيات ومقاطعها ومبادىء السور، ومعنًى بكونها وعدًا ووعيدًا وقصصًا وأحكامًا، وخبرًا وإنشاءً كما في "الشهاب". {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}؛ أي: لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي؛ أي: لم يقبله ولم يعمل به، فكأنه لم يسمعه. {فِي أَكِنَّةٍ} جمع كنان، كأغطية جمع غطاء، وهي خريطة السهام، والمراد: أنها في أغطية متكاثقة، والكنان في الأصل: الغطاء الذي يكنّ فيه الشيء؛ أي: يحفظ ويستر، وأصل أكنة: أكننة بوزن أفعلة، نقلت حركة النون الأولى إلى الكاف فسكّنت فأدغمت في النون الثانية، فصار أكنة بوزن أفلة. {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} قال في "القاموس": الوقر: ثقل في الأذن، أو ذهاب السمع بالكلية، فهو بمعنى الصمم. {فَاعْمَلْ}؛ أي: فاستمر على دينك الذي هو التوحيد. {إِنَّنَا عَامِلُونَ}؛ أي: مستمرون على ديننا الذي هو الإشراك. {يُوحَى إِلَيَّ} أصله: يوحى بضم الياء، فيقال: تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار يوحى بالألف في آخره، ولكن كتبت بصورة الياء إشارةً إلى أن أصله ياء. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}؛ أي: أخلصوا له العبادة، وفيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: فاستقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ، مأخوذ من الاستقامة، والاستقامة: الاستمرار على جهة واحدة ولزومها، بحيث لا يلتفت عنها إلى غيرها. {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}؛ أي: هلاك لهم جملة خبرية اللفظ، إنشائية المعنى، قصد بها الدعاء. {غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير مقطوع من قولهم: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته، ومنه قول ذي الإِصبع: إِنِّيْ لَعَمْرُكَ مَا بابِيْ بِذِيْ غَلَقٍ ... عَلَى الصَّدِيْقِ وَلَا خَيْرِيْ بِمَمْنُوْنِ {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت لا تتحرّك ولا تميل، جمع راسيةٍ، من رسا الشيء يرسو رسوًّا: نظير سما يسمو سموًا إذا ثبت، وأرساه: غيره إذا أثبته، ومنه المرساة وهو أنجر السفينة إذا وقفت على الأنجر، وفي {رَوَاسِيَ}: إعلال بالقلب، أصله: رواسو من الرسو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة. {وَقَدَّرَ فِيهَا

أَقْوَاتَهَا} جمع قوت، والقوت من الرزق: ما يمسك الرمق، ويقوم به بدن الإنسان، يقال: قاته يقوته: إذا أطعمه قوته، والمقيت المقتدر الذي يعطي كل أحد قوته، ومن بلاغات الزمخشري: إِذَا حَصَّلْتُكَ يَا قُوْتُ ... هَانَ عَلَيَّ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} جمع يوم، أصله: أيوام بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنةً فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} والاستواء: ضدّ الاعوجاج، من قولهم: استوى العود: إذا اعتدل واستقام، وحمل في هذا المقام على معنى القصد والتوجه، يقال: استوى إلى مكانه، كذا كالسهم المرسل إذا توجه إليه توجهًا مستويًا من غير أن يلوي على غيره، والمعنى: وجّه سبحانه قصده وإرادته إلى خلق السماء. {وَهِيَ دُخَانٌ}؛ أي: كالدخان، وفي "المفردات": الدخان: العثان المستصحب للهب، والبخار: أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه، قال الراغب: قوله تعالى: {وَهِيَ دُخَانٌ}؛ أي: هي مثل الدخان، إشارة إلى أنها لا تماسك بها. انتهى. وعبارة "السمين": قوله: {وَهِيَ دُخَانٌ} الدخان: ما ارتفع من لهب النار، ويستعار لما يرى من بخار الأرض عند جدبها، وقياس جمعه في القلة: أدخنة، وفي الكثرة دخيان، مثل: غراب وأغربة وغربان، وقوله: {وَهِيَ دُخَانٌ} في باب التشبيه الصوريّ؛ لأنَّ صورتها صورة الدخان في رأي العين. اهـ، وقال بعضهم: وهي دخان؛ أي: دخان مرتفع من الماء، يعني السماء بخار الماء كهيئة الدخان. انتهى. {قَالَتَا} الأصل في تاء التأنيث المتصلة بالفعل الماضي: السكون، ولكنها هنا لما التقت بالألف ساكنةً .. حركت بالفتح لمناسبة الألف. وقوله: {طَائِعِينَ} فيه، إعلال بالإبدال، أصله: طاوعين، أبدلت الواو همزةً في الوصف، حملًا له في الإعلال على فعله. {بِمَصَابِيحَ} جمع مصباح، والياء فيه: مبدلة من الألف، حيث كسر ما قبلها في صيغة منتهى المجموع. {رِيحًا صَرْصَرًا} من الصر، وهو: البرد أو من الصرير، وفي "القاموس": الصرّة بالكسر، شدّة البرد، أو البرد. كالصر فيهما، وأشدّ الصياح وبالفتح: الشدّة من الكرب والحرب والحرّ، وصرّ يصر: من باب ضرب صرًّا وصريرًا: إذا صوّت وصاح شديدًا كصرصر، وفي "السمين": قوله:

{صَرْصَرًا} والصرصر: الريح الشديدة، وقيل: هي الباردة من الصرّ وهو البرد، وقيل: هي الشديدة السموم، وقيل: هي المصوّتة، من صرّ الباب؛ أي: سمع صريره، والصرة: الصيحة، ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} وهي الصيحة، قال الراغب: صرصر لفظه من الصرّ، وذلك يرجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد اهـ. {نَحِسَاتٍ} بكسر الحاء جمع نحسة بكسرها، فهو وصفٌ على فعل، وفعله فعل بكسر العين أيضًا، يقال: نحِسَ فهو نَحِسٌ، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ، وأشِرَ فهو أَشِرٌ. {عَذَابَ الْخِزْيِ} من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: العذاب الخزي ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} فلو لم يكن من إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظ {أَخْزَى} الذي يقتضي المشاركة. و {أَخْزَى} أصله: أخزي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا؛ لتحركها بعد فتح. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} حقيقة الاستحباب: أن يتحرّى الإنسان في الشيء أن يحبّه، واقتضى تعديته بـ {عَلَى} تضمُّنه معنى الإيثار والاختيار، كما في "المفردات"؛ أي: اختاروا الضلالة على الهدى، وأصله: استحببوا بوزن استفعلوا، نقلت حركة الباء الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في الباء الثانية. {الْعَمَى} أصله: العمي، بوزن فعل، فقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} الهون: مصدر بمعنى الهوان والذلة، يقال: هان هونًا وهوانًا: إذا ذلّ. {أَعْدَاءُ اللَّهِ} جمع عدوٍ، وأصله: أعداو، أبدلت الواو همزة لتطرفها بعد ألف أفعال الزائدة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} من وزع الثلاثي لا من أوزع الرباعي، كما وهمه بعضهم، يقال: وزعته عن كذا كوضع كففته، وفي معاجم اللغة: وزع يزع من باب فتح، ووزع يزع من باب ضرب، وزع فلان بفلان: كفّه ومنعه، وزع الجيش حبس أولهم على آخرهم، فمعنى {يُوزَعُونَ}: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم. {وَجُلُودُهُمْ} جمع جلد، والجلد: قشر البدن. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أرداكم فيه إعلال بالقلب، أصله: أرديكم بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وفي "القاموس": العتبى: الرضا، واستعتبه أعطاه العتبى، كأعتبه وطلب إليه العتبى، وفي "المفردات": أعتبته: أزلت عنه عتبة، نحو: أشكيته، ومنه {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} والاستعتاب: أن يطلب من الإنسان أن يذكر عتبه فيعتب، والعتب: الشدة والأمر الكريه، والغلظة التي يجدها

الإنسان في نفسه على غيره، فمعنى {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}؛ أي: يطلبوا العتبى؛ أي: الرضا والرجوع لهم إلى ما يحبّون جزعًا مما هم فيه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وبين {طَوْعًا} و {كَرْهًا}، وبين {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. ومنها: المجاز في قوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} حيث شبّهوا قلوبهم بالشيء المحوي المحاط بالغطاء، المحيط له بحيث لا يصيبه شيء، من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} حيث شبّهوا أسماعهم بآذان بها صمم، من حيث إنها تمجّ الحق ولا تميل إلى استماعه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} حيث شبّهوا حال أنفسهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال شيئين بينهما حجاب عظيم، يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ويراه ويوافقه. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. ومنها: الترهيب والتنفير من الشرك في قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} إثر ترغيبهم في التوحيد. ومنها: التحذير والتخويف من منعِ الزكاة حيث جعله من أوصاف المشركين. ومنها: اختلاف جملتي الصلة بالفعلية والاسمية في قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} لما أنّ عدم إيتائها متجدد والكفر أمر

مستمر، فالأولى تفيد التجدّد، والثانية تفيد الاستمرار. ومنها: الاستفهام في قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} للإنكار والتشنيع لكفرهم، وفيه أيضًا جمع المؤكدات الهمزة وإن واللام لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. ومنها: التشبيه البليغ الصوري في قوله: {وَهِيَ دُخَانٌ}؛ أي: كدخان، ففيه تشبيه بليغ صُوري؛ لأنّ صورتها صورة الدخان في رأي العين، والمراد بالدخان البخار الذي تتشكّل منه الطبقات الهوائية، فتسميتها دخانًا تشبيهًا لها به من حيث إنها أجزاء متفرقة غير متواصلة، عديمة النور كالدخان، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا} فقد شبه تأثير قدرته تعالى فيهما، وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجّه نحو المأمور المطيع فيمتثل أمره، فعبّر عن الحالة المشبّهة بما يعبر به عن الحالة المشبّه بها ذكره في "الروح". ومنها: المجاز العقلي في قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا} حيث أسند القول للأرض والسماء مع كونهما غير عاقلين تنزيلًا لهما منزلة العقلاء، ويجوز أن يكون هذا من باب الاستعارة المكنية، فقد شبّههما بمخلوقين حيّين عاقلين، ثمّ حذف المشبه به وأثبت شيئًا من لوازمه لتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة الطائع، كما تقول: نطقت الحال بكذا بدل دلّت، فيجعل الحال كالإنسان الذي يتكلّم في الدلالة والبرهان، ثم يتخيل له النطق الذي هو من لوازم المشبّه به، وينسب إليه. ومنها: تنزيل غير العقلاء، منزلة العقلاء الذكور في قوله: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} حيث جمعه جمع المذكر السالم. ومنها: الالتفات في قوله: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} التفت فيه من الغيبة في قوله: {خَلَقَ} و {قَدَّرَ} إلى التكلم، فقد أسند التزيين إلى ذاته سبحانه لإبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} فقد خاطبهم أولًا بقوله: {أَئِنَّكُمْ} فلما لم يأبهوا لخطابه، ولم يستوعبوا نصحه .. التفت من

الخطاب إلى الغيبة؛ لأنهم فعلوا الإعراض فليس له إلا أن يعرض عن خطابهم، ليصح التلاؤم ويناسب اللفظ المعنى، وهذا من أرفع أنواع البلاغة وأرقاها، وكم للالتفات من أسرار ذكروها في محلها. ومنها: العدول عن صيغة المضارع المستقبل، إلى الماضي في قوله: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ} للدلالة على أن ما ينذرهم به أمر متحقّق لا مندوحة عنه، وعبارة "الروح": وصيغة الماضي فيه الدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به. ومنها: الإسناد المجازيّ في قوله: {عَذَابَ الْخِزْيِ} فإنه أضاف العذاب إلى الخزي الذي هو الذلّ والاستكانة، وهو في الأصل صفة المعذّب، ولكنّه جنح إلى وصف العذاب به للمبالغة. ومنها: المشاركة في قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} وجعل الخزي هذه المرّة خبرًا للمشاكلة، على حدّ قول الشاعر: قَالُوْا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ: اطْبُخُوْا لِيْ جُبَّةً وَقَمِيْصَا أي: خيطوا لي، فأطلق الخياطة بلفظ الطبخ، لمشاكلة ما قبله. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فقد شبّه الكفر بالعمى؛ لأنّ الكافر ضال عن القصد، متعسف الطريق كالأعمى، وشبّه الإيمان بالهدى؛ لأن المؤمن مهتد إلى محجّة القصد وسواء السبيل، ثم حذف المشبّه في كليهما وأثبت المشبّه به الذي هو العمى والهدى. ومنها: الطباق بين {الْعَمَى} و {الْهُدَى}. ومنها: صيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود في قوله: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} وكذا في قوله: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ ...} إلخ. لوقوعهما في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء كما مرّ. ومنها: تخصيص الجلود، لكون شهادتها أعجب من شهادة السمع والبصر، إذ ليس شأنها الإدراك. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} إلى الغيبة في قوله: {فَإِنْ يَصْبِرُوا ...} إلخ. للإشعار بإبعادهم عن حيّز الخطاب،

والإبقاء في غاية دركات النار. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مع أنّ هذه المحاورة بعد البعث والرجوع إلى الله، لما أنّ المراد بالرجوع ليس مجرد الردّ إلى الحياة بالبعث، بل ما يعمه ويعمّ ما يترتّب عليه من العذاب الخالد المترقّب عند المخاطبة، فغاب المتوقع على الواقع. اهـ "أبو السعود". ومنها: عطف العامّ على الخاص في قوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} إذ المراد بالجلود: الجوارح. مطلقًا، فعطفها على ما قبلها من عطف العام على الخاصّ. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. فائدة: قال الشيخ النيسابوري: خلق الله السماء قبل خلق الأرض؛ ليعلم أنّ فعله خلاف أفعال الخلق؛ لأنه خلق أولًا السقف ثم الأساس، ورفعها على غير عمد؛ دلالةً على قدرته وكمال صنعه، وروي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السموات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعةٍ منه، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وسمي الجمعة لاجتماع المخلوقات لها وتكاملها، ولمَّا لم يخلق الله في يوم السبت شيئًا .. امتنع بنو إسرائيل من الشغل فيه، كما في "فتح الرحمن". والظاهر: أنه ينبغي أن يكون المراد به أنه تعالى خلق العالم في مُدّة لو حصل فيها فلك وشمس وقمر .. لكانَ مبدأ تلك المدة أول يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، كما في "حواشي ابن الشيخ". وفي كلام بعضهم أولى الأسبوع الأحد لغةً، وأوله السبت عرفًا؛ أي: في عرف الفقهاء. واستشكل: هل تسمية الأيام بهذه الأسماء، هي من الله تعالى أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من العرب؟ وروي: "أن الله تعالى خلق يومًا فسمّاه الأحد، ثم خلق ثانيًا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثًا فسماه الثلاثاء، بضم الثاء المثلثة وفتحها، ثم خلق رابعًا فسماه الأربعاء، بتثليث الباء الموحّدة، ثم خلق خامسًا فسماه الخميس"، وعلى هذا

فالتسمية من الله تعالى، إلا السبت فلم يذكره، وبهذا يندفع ما قال السهيلي: تسمية هذه الأيام طارئة، ولم يذكر الله منها في القرآن إلا يوم الجمعة والسبت، والعرب أخذوا معاني الأسماء من أهل الكتاب، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعًا لهم، فلم يسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحد والاثنين إلى غير ذلك، إلا حاكيًا للغة قومه، لا مبتدِئًا بتسميتها. هذا كلام السهيليّ، وعلى هذا فالتسمية من العرب. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}.

المناسبة قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على الكفر والمعاصي .. أردف ذلك بذكر السبب الذي من أجله وقعوا في الكفر، ثم حكى عنهم جنايةً أخرى، وهي أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن .. أعملوا الحيلة في عدم اسماع الناس له، حتى لا يتدبرّوا معناه، فتشاغلوا حين قراءَته يرفع الأصوات، وإنشاء الأشعار حتى يهوّشوا على القارىء، ويغلبوا على قراءَته، ثم ذكر أنهم حين يقعون في العذاب الشديد، يطلبون أن يروا من كانوا السبب في وقوعهم في الضلال من الجنّ والإنس، ليدوسوهم تحت أقدامهم، انتقامًا منهم على أن صيروهم في هذه الهاوية. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما أسلف القول في وعيد الكفار بما لم يبق بعده في القوس منزع .. أعقبه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين، كما هي سنة القرآن من اتباع أحدهما بالآخر، كما جاء في قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنّ قرناء السوء يدعون إلى المعاصي .. أردف ذلك بذكر حال أضدادهم، الذين يدعون الناس إلى توحيد الله تعالى وطاعته، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابًا عند الله تعالى، ثمّ أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى، لما في ذلك من تألّف القلوب وارعواء النفوس عن غيّها وثوبها إلى رشدها، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبّلها إلا الصابرون على احتمال المكاره، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله، ثمّ ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية، وهي أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شيء مما شرعه الله تعالى .. فليتعوّذ من شرّه، ولا يطعه في أمره، والله سميع لما يقول، ¬

_ (¬1) المراغي.

عليم بكل ما يفعل، وهو المجازي له على ذلك. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمَّا ذكر في الآيات السابقة. أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى .. (¬1) أردفه بذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته؛ تنبيهًا إلى أنَّ الدعوة إلى الله تقرير الدلائل على ذاته وصفاته، ثمّ ذكر منها الدلائل الفلكية، وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثمّ أتبعها بآيات أرضية تشاهد رأْي العين في كل حين؛ وهي حال الأرض حين خلوِّها من المطر والنبات، ثم حالها بعد نزول المطر، فهي تنتعش بعد أن كانت ميتةً، وتهتزّ بعد أن كانت ساكنةً، والذي أحياها هو الذي يحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما بيّن أنّ الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة .. أعقب هذا بتهديد من ينازع في تلك الدلائل بإلقاء الشبهات، ثم هدّدهم بضروب من التهديد، فهدّدهم بقوله: {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} وبقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وبقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ...} إلخ. قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدَّد الملحدين في آياته .. سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه، وحثّه على الصبر، وأن لا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}. وقولهم: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن .. لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة، ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العجم، بأنه لو نزل كما يريدون .. لأنكروا أيضًا، وقالوا: ما لنا ولهذا، ثمَّ ذكر أنَّ القرآن هدايةٌ وشفاء للمؤمنين، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه، ثم ذكر أنَّ الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، فقومك ليسوا ببدع فيها بيت الأمم، ثم أبان أن المرء وما عمل، فمن أحسن فلنفسه، ومن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[25]

أساء .. فعليها، ولا يظلم ربك أحدًا. أسباب النزول قوله تعالى: {فَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن بشير بن تميم: أنها نزلت في أبي جهل وعمَّار بن ياسر. قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لو أنزل هذا القرآن أعجميًا وعربيًا، فأنزل الله تعالى: {لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} الآية، وأنزل الله بعد هذه الآية فيه بكل لسان، قال ابن جرير: والقراءة على هذا أعجميّ بلا استفهام. التفسير وأوجه القراءة 25 - {وَقَيَّضْنَا}؛ أي: قدّرنا وهيّأنا وسبّبنا وقرنّا {لَهُمْ}؛ أي: لكفار مكة وسلّطنا عليهم في الدنيا {قُرَنَاءَ} جمع قرين؛ أي: أخدانًا وأصحابًا من شياطين الإنس والجن، وأصدقاء يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، وهو القشر الأعلى، وهو حجة على القدرية، فإن هذا يدل على التخلية بينهم وبين التوفيق، لأجله صاروا قرناءهم، وهم لا يقولون بموجب الآية {فَزَيَّنُوا}؛ أي زيّن القرناء وحسّن {لَهُمْ}؛ أي: لكفار مكة، أو لجميع الكفرة {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها {وَ} زيّنوا لهم {مَا خَلْفَهُمْ} من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا مكروه عوض، وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه، وروي عن الزجاج أيضًا أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا، وعلى القول الأول جعل أمر الدنيا بين أيديهم، كما يقال: قدَّمت المائدة بين أيديهم، والآخرة لما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

كانت تأتيهم بعد هذا جعلت خلفهم، كما يقال لمن يجيء بعد الشخص: أنه خلفه، وهذا هو الذي تقتضيه ملاحظة الترتيب الوجوديّ، وقيل: ما بين أيديهم: الآخرة؛ لأنها قدّامهم وهم متوجّهون إليها، وما خلفهم الدنيا لأنهم يتركونها خلفهم، وفي "عرائس البيان": زيَّنت النفس الشهوات، والشياطين التسويف والإمهال، وهذا ما بين أيديهم وما خلفهم. وقال الجنيد: لا تألف النفس الحق أبدًا، وقال ابن عطاء: النفس قرين الشيطان وإلفه، ومتبعه فيما يشير إليه مفارق للحق مخالف له، لا يألف الحق ولا يتبعه، قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من طول الأمل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من نسيان الذنوب. انتهى. {وَحَقَّ}؛ أي: وجب وثبت {عَلَيْهِمُ}؛ أي: على كفار مكة {الْقَوْلُ}؛ أي: قول العذاب وقضاؤه وكلمته؛ أي: تقرّر عليهم كلمة العذاب، وتحقق موجبها ومصداقها، وهي قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}، وقوله: {فِي أُمَمٍ} حال من الضمير في {عَلَيْهِمُ}؛ أي: حالة كونهم كائنين في جملة أمم، وقيل: {فِي} بمعنى مع، وهذا كما ترى صريح في أنّ المراد بأعداء الله فيما سبق المعهودون من عاد وثمود، لا الكفار من الأولين والآخرين، كما قيل. وقوله: {قَدْ خَلَتْ} صفة لـ {أُمَمٍ}؛ أي: مع أمم من الأمم الكافرة التي قد خلت ومضت {مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} على الكفر والعصيان، كدأب هؤلاء الكفار، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير للأولين والآخرين، وأصل الخسارة: إفساد الاستعداد الفطري، كإفساد بعض الأسباب البيضة، فإنها إذا فسدت .. لم ينتفع بها. وفي "كشف الأسرار": إذا أراد الله بعبد خيرًا .. قيّض له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويدعونه إليها، وإذا أراد الله بعبد سوءًا .. قيض له أخدان سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، فإنه مسلّط على الإنسان بالوسوسة، وشر من ذلك النفس الأمارة بالسوء، تدعو اليوم إلى ما فيه هلاكها وهلاك العبد، وتشهد غدًا عليه بما دعته إليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الرابحين لا من الخاسرين، وأن يكون

[26]

عونًا لنا على النفس وإبليس وسائر الشياطين، ويجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ومعنى الآية (¬1): أي وسلَّطنا عليهم أخدانًا وأعوانًا من شياطين الجنّ والأنس، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا، من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وما خلفهم من أمر الآخرة، فألقوا إليهم أن لا جنّة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، فسهل عليهم فعل ما يشتهون، وركوب كل ما يتلذذون به من الفواحش، ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الذين كفروا من قبلهم، ممن فعلوا فعلهم، ثمّ علّل استحقاقهم للعذاب، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}؛ أي: لأنَّهم استووا جميعًا في الخسار والدمار، واستحقوا اللعن والخزي في الحياة الدنيا والآخرة. 26 - وبعد أن أخبر عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم .. أخبر عن مشركي قريش، وأنهم كذبوا بالقرآن، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله من رؤساء المشركين كأبي جهل وأضرابه لأعقابهم وأشقيائهم، أو قال بعضهم لبعض: {لَا تَسْمَعُوا}؛ أي: لا تستمعوا {لِهَذَا الْقُرْآنِ} ولا تنصتوا له، وقيل: معنى لا تسمعوا لا تطيعوا، يقال: سمعت لك؛ أي: أطعتك {والْغَوْا}؛ أي: ائتوا باللغو والباطل من الكلام الذي لا طائل تحته {فِيهِ}؛ أي: في حال قراءة القارىء له، وعارضوه (¬2) بالخرافات، وهي الهذيان والأحاديث التي لا أصل لها، مثل: قصة رستم وإسفنديار، وبإنشاء الأرجاز والأشعار، وبالتصدية والمكاء؛ أي: بالتصفيق والصفير، وارفعوا أصواتكم بها لتشوشوا على القارىء، فيختلط عليه ما يقرؤُه {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}؛ أي: تغلبونه على قراءته، فيترك القراءة، ولا يتمكن السامع أيضًا من سماعه، أرادوا بذلك التلبيس والتشويش والأذية، وأيضًا خافوا من أنه لو سمعه الناس .. لآمنوا به، وكان ذلك غالبًا شأن أبي جهل وأصحابه وقال أبو العالية وقَعُوا فيه وعَيّبوه، وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول: وقرأ الجمهور والفراء (¬3): بفتح الغين مضارع لَغِي بكسرها، أو من لغَى بالفتح يلغَى بالفتح أيضًا، كما حكاه الأخفش. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[27]

وقرأ عيسى بن عمر وقتادة وأبو حيوة وابن أبي إسحاق والزعفراني بخلاف عنهما، والجحدري وبكر بن حبيب السهمي كذا في "كتاب ابن عطية" وفي "كتاب اللوامح": وأما في "كتاب ابن خالويه" فعبد الله بن بكر السهمي؛ أي: قرؤُوا: بضم الغين، مضارع لغَى بفتحها وهما لغتان، وقال الأخفش: يقال لَغَى يَلْغَى بفتح الغين، وقياسه الضم، لكنه فتح لأجل حرف الحلق، فالقراءة الأولى من يَلْغَى، والثانية من يَلْغُو، وقال صاحب "اللوامح": ويجوز أن يكون الفتح من لغى الشيء يلغى به: إذا رمى به، فيكون {فِيهِ} بمعنى: به؛ أي: ارموا به وانبذوه، وأما معنى الضم؛ أي: أدخلوا فيه اللّغو، واللّغْوُ (¬1) من الكلام، ما لا يعتد به، وهو الذي لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغاء، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. والمعنى: أي وقال الذين كفروا بالله ورسوله: لا تنصتوا لسماع هذا القرآن وعارضوه باللغو والباطل، وبإنشاد الشعر والأراجيز، حتى تهوشوا على القارىء، لعلكم تغلبون على قراءَته وتميتون ذكره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، إذا قرأ القرآن .. يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه، ويقولون: الغوا فيه بالمكاء والصفير وإنشاد الشعر، قال ابن عباس: قال أبو جهل: إذا قرأ محمد .. فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. 27 - ثم أوعد الكفار بالعذاب الشديد، فقال: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: فوعزتي وجلالي لنذيقن هؤلاء القائلين واللاغين، أو جميع الكفرة، وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا {عَذَابًا شَدِيدًا} في الدنيا، لا يقادر قدره، كما دل عليه التنكير الوصف، وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل، يؤتى به لأجل التجربة، وإذا كان ذلك الذوق، وهو قدر قليل عذابًا شديدًا .. فقس عليه ما يعده {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي (¬2): جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ، فإذا كانت أعمالهم أسوأ .. كان جزاؤها كذلك، فالأسوأ قصد به الزيادة المطلقة، وإنما أضيف إلى ما عملوا؛ للبيان والتخصيص، أو المعنى (¬3): ولنجزينهم سيئات أعمالهم التي بعضها أسوأ من بعض، بحسب تفاوت مراتبها في الإثم، وأفعل التفضيل ليس على بابه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[28]

وفي "فتح الرحمن": المراد به سيئة، إذ لا يختص جزاؤهم بأسوأ عملهم، فلا يجازيهم على محاسن أعمالهم، كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام، وقرى الأضياف؛ لأنها محبطة بالكفر. أو المعنى (¬1): ولنجزينهم أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم، وهو الكفر، وعلى غيره بحسب ما يليق به. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أبا جهل وأصحابه {عَذَابًا شَدِيدًا} في الدنيا يوم بدر {أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرة. والمعنى: أي فلنذيقن الكافرين عذابًا لا يحاط بوصفه، ولنجازينهم بأسوأ أعمالهم؛ لأن أعمالهم الحسنة كصلة الأرحام وإكرام الضيف قد أحبطها الكفر، ولم يبق لهم إلا القبيح، ومن ثم لم يجازوا إلا على السيئات، وفي هذا تعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، وتهديد ووعيد لمن يصدر منه حين سماع القرآن ما يهوش على القارىء، ويخلط عليه في القراءة. 28 - ثم بين العذاب الشديد الذي يحيق بهم، فقال: {ذَلِكَ} المذكور من الجزاء، وهو مبتدأ، خبره: قوله: {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ}؛ أي: جزاء معد لأعدائه {النَّارُ} عطف بيان لـ {الجزاء} أو بدل منه، أو ذلك (¬2) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة، لا عن الجزاء، وما بعده: جملة مستقلة مبينة لما قبلها؛ يعني: أن {الجزاء} مبتدأ و {النَّارُ}: خبره، أو {النَّارُ}: مبتدأ، خبره: قوله: {لَهُمْ}، وجملة قوله: {فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ}: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور؛ أي: النار كائنة لهم حالة كونها موصوفة يكون دار الخلد والإقامة المؤبدة فيها؛ أي: هي بعينها دار إقامتهم، لا انتقال لهم منها، على أن {فِي} للتجريد لا للظرفية، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله؛ مبالغةٌ لكماله فيها، كما يقال: في البيضة عشرون منًا من حديد، وقيل: هي على معناها؛ أي: للظرفية، والمراد: أن لهم في النار المشتملة على الدور دارًا مخصوصةً هم فيها خالدون، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}: منصوب (¬3) بفعل مقدر؛ أي: يجزون جزاءً، و {الباء} الأولى: متعلقة بي {جَزَاءً} والثانية: بـ {يَجْحَدُونَ} وقدمت عليه؛ لمراعاة الفواصل؛ أي: بسبب ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[29]

ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة، أو يلغون فيها، وذكر الجحود؛ لكونه سببًا للغو، إقامةً للسبب مقام المسبب؛ أي: يجزون جزاءً بسبب جحدهم بآيات الله، قال مقاتل: يعني القرآن، يجحدون أنه من عند الله. والمعنى: أنهم مخلّدون فيها أبدًا، لا انقطاع لعذابها ولا انتقال منها، فهي جزاء لهم على جحودهم لآياتنا، واستكبارهم عن سماعها. 29 - ثم بين أنهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن أضلوهم من شياطين الإنس والجن، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: قالوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب، وذكره بلفظ الماضي؛ تنبيهًا على تخقق وقوعه؛ أي: يقولون: يا {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {أَرِنَا}؛ أي: أبصرنا الشيطانين {اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا}؛ أي: حملانا على الضلال بالتسويل والتزيين {مِنَ} نوعي {الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} لأن الشيطان بين جني وإنسي، بدليل قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ويقال: أحدهما قابيل بن آدم؛ لأنه أول من سن القتل بغير حق، والذي من الجن إبليس؛ لأنه أول من سن الكفر والشرك، فيكون معنى: {أَضَلَّانَا}: سنا لنا الكفر والمعصية، كما في "عين المعاني" ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: "ما من مسلم يقتل ظلمًا .. إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمه؛ لأنه أول من سن القتل" أخرجه الترمذي وغيره، ويروى: أن قابيل شدت ساقاه بفخذيه، يدور مع الشمس حيث دارت، يكون في الشتاء في حظيرة ثلج، وفي الصيف في حظيرة نار. وقيل: المراد: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن والإنس، من الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر والمعاصي. وقرأ الجمهور (¬1): {أَرِنَا} بكسر الراء، بمعنى: أبصرنا، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر السوسي عن أبي عمرو والمفضل: {أرنا} بسكون الراء تخفيفًا، كفَخْذٍ في فَخِذَ بمعنى أعطِنا هُما، وقرأ الدوري: باختلاس كسرة الراء. وقال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك بكسر الراء .. فمعناه: أبصرنِيهِ، وبالسكون: أعطنيه، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، وشدد ابن كثير النون من {اللذين} ¬

_ (¬1) البحر المحيط وغيره.

[30]

{نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا}؛ أي: ندسُّهما بأقدامنا لنتشفى وننتقم منهما، أو نجعلهما. تحت أقدامنا في النار {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} فيها مكانًا، وأشد عذابًا منا، أو ليكونا من الأذلين المهانين. وخلاصة المعنى: ويقول الكافرون يوم القيامة، وهم يتقلبون في العذاب: ربنا أرنا شياطين الإنس والجن الذين أوقعونا في الضلال، نَدُسُّهم تحت أقدامنا، انتقامًا منهم ومهانةً لهم، أو ليكونا مباشرين للنار، ويكونا وقايةً بيننا وبينها، فتخفَّف عنا حرارتها نوعَ خِفةٍ. 30 - ثم لما ذكر سبحانه عقاب الكافرين وما أعده لهم .. ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم به، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحده لا شريك له، اعترافًا بربوبيته، وإقرارًا بوحدانيته، فربُّنا الله من باب: صديقي زيد، يفيدُ الحصرَ {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}؛ أي: ثبتوا على الإقرار بقولهم: {رَبُّنَا اللَّهُ} ومقتضياته بأن لا تزل قدمهم عن طريق العبودية قلبًا وقالبًا ولا تتخطاه، وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات بصفة الدوام إلى وقت الوفاة، فـ {ثُمَّ} للتراخي في الزمان، أو في الرتبة، فإن الاستقامة لها الشأن كله؛ يعني: أن المنتهى وهي الاستقامة، لكونه مقصودًا أعلى حالًا من المبدأ، وهو الإقرار واستقامة الإنسان: لزومه للمنهج المستقيم. وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: تعريض لليهود والنصارى؛ لأنهم لم يستقيموا على دينهم، حتى قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} و {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ونحو ذلك، وكفر بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن الاستقامة: أن لا يرى المرء النفع والضر إلا من الله، ولا يرجو من أحد دون الله، ولا يخاف أحدًا غيره. وفي "التأويلات النجمية": تشير الآية إلى يوم الميثاق، لما خوطبوا بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىَ}؛ أي: ربنا الله، وهم الذريات المستخرجة من ظهر آدم عليه السلام، أقروا بربوبيته ثم استقاموا على إقرارهم بالربوبية، ثابتين على أقدام العبودية لما أخرجوا إلى عالم الصورة، ولهذا ذكر بلفظ {ثُمَّ}؛ لأنه للتراخي، فأقروا في عالم الأرواح، ثم استقاموا في عالم الأشباح، وهم المؤمنون، بخلاف المنافقين والكافرين، فإنهم أقروا ولم يستقيموا على ذلك.

وقال جماعة من الصحابة والتابعين: معنى الاستقامة: إخلاص العمل لله، وقال قتادة وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية. {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} من جهته تعالى، يمدونهم فيما يعرض لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام، كما أن الكفرة يمدّهم ما قيّض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، وكذا تتنزل عند الموت بالبشرى، وفي القبر وعند البعث إذا قاموا من قبورهم، {أنْ} مفسرة، بمعنى؛ أي: أو مخففة من الثقيلة، والأصل: بأنه، و {الهاء}: ضمير الشأن أو المصدرية، ولا على الوجهين الأولين: ناهية، وعلى الثالث: نافية؛ أي: يتنزلون متلبسين بهذه البشارة، وهي {لا تخافوا}، ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، فلا ترون مكروهًا فإن الخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما خلفتم من أهل وولد، فإن الله تعالى يخلفكم عليهم بخير، ويعطيكم في الجنة أكثر من ذلك وأحسن، ويجمع بينكم وبين أهليكم وأولادكم المسلمين في الجنة، فإن الحزن غم يلحق من فوات نافع أو حصول ضار. وفي قراءة عبد الله: {لا تخافوا} بإسقاط {أنْ}؛ أي: تتنزل عليهم الملائكة قائلين: {لا تخافوا ولا تحزنوا}. وفي "التأويلات النجمية": الخوف (¬1) إنما يكون في المستقبل من الوقت، وهو بحلول مكروه أو فوات محبوب، والملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون، وكل محذور لهم لا يكون، والحزن من حزونة الوقت، والذي هو راض بجميع ما يجري مستسلم للأحكام الأزلية، فلا حزونة في عيشه، بل من يكون قائمًا بالله، وهائمًا في الله، دائمًا على الله، لا يدركه الخوف والحزن، والملائكة يبشرونهم أن لا تخافوا ولا تحزنوا على فوات العناية في السابقة. انتهى. وقال مجاهد (¬2): لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[31]

خليفتكم عليهم. وقال عطاء: لا تخافوا رد ثوابكم، فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإنّي أغفرها لكم، والظاهر: عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة، كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع {وَأَبْشِرُوا}؛ أي: سروا وافرحوا {بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا على ألسنة الرسل، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها. 31 - وهذا من بشارتهم في أحد المواطن الثلاثة، وعن ثابت: بلغنا إذا انشقت الأرض يوم القيامة .. ينظر المؤمن إلى حافظيه قائمين على رأسه، يقولان له: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة الموعودة، وأنك سترى اليوم أمورًا لم تر مثلها، فلا تهولنك، فإنما يراد بها غيرك {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهذا من بشارتهم (¬1) في الدنيا؛ أي: نحن أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات، من أن ذلك بتوفيق الله وتأييده لهم بواسطة الملائكة، قال جعفر - رحمه الله تعالى -: من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض .. كانت الملائكة أولياءه، ومن عملها على مشاهدته تعالى .. فهو وليه؛ لأَنه يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} و {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} {فِي الْآخِرَةِ} نمدكم بالشفاعة، ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادي والتخاصم. وقيل: هذا من قول الله تعالى؛ أي: نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه .. فاز بكل مطلب، ونجا من كل مكروه. وقال مجاهد: تقول الملائكة لهم: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة .. قالوا لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. والمعنى (¬2): أي نحن أعوانكم في أمور دنياكم، نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤمنكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث والنشور، ونجاوز بكم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[32]

الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. {وَلَكُمْ} أيها المؤمنون لا لغيركم من الأعداء {فِيهَا}؛ أي: في الآخرة {مَا تَشْتَهِي} وتحب {أَنْفُسُكُمْ} من صنوف اللذات وفنون النعم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}؛ أي: ما تتمنون وتطلبون، افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، والفرق بين الجملتين: أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أو لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهًى للنفس، كالفضائل العلمية ونحوها، وعدم الاكتفاء بعطف {مَا تَدَّعُونَ} على {مَا تَشْتَهِي} للإشباع في البشارة، والإيذان باستقلال كل منهما، 32 - وقوله: {نُزُلًاُ} حال من {مَا تَدَّعُونَ}؛ أي: من الموصول، أو من ضميره المحذوف، تقديره: ما تدعونه مفيدة لكون ما يدعونه ويتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور، كالنزل، وهو: ما يهيأ للنزيل؛ أي: الضيف من الرزق، كأنه قيل: وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف، وأما أصل كرامتكم فمما لا يخطر ببالكم، فضلًا عن الاشتهاء أو التمني. وقرأ الجمهور: {نُزُلًا}، بضمتين، وقرأ أبو حيوة بإسكان الزاي؛ أي: حالة كون ما تدعونه نزلًا؛ أي: رزقًا كائنًا {مِنْ} رب {غَفُورٍ} للذنوب العظام، مبدل للسيئات بالحسنات {رَحِيمٍ} بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات. وفي "التأويلات النجمية": {نُزُلًا}؛ أي: فضلًا وعطاءً وتقدمةً لما سيديم إلى الأبد من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف، وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن، خصوصًا لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان، ويظهر في كل وقت وموطن، ما لم يظهر قبله وفي غيره، ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال، ومن هنا قالوا: ما ازداد القوم شربًا إلا ازدادوا عطشًا، وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة. انتهى. حكي: أن يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - كتب إلى أبي يزيد البسطامي - رحمه الله -: سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه، فكتب إليه أبو يزيد: شَرِبْتُ الْحُبَّ كَاسًا بَعْدَ كَأْسٍ ... فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَلَا رُويْتُ 33 - {وَمِن} للاستفهام الإنكاري، وهو مبتدأ، خبره: {أَحسَنُ}. و {قَولَا} تمييز

محول عن المبتدأ؛ أي: وقول من أحسن {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}؛ أي: من قول من دعا غيره إلى توحيده وطاعته {وَعَمِلَ صَالِحًا} فيما بينه وبين ربه {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ابتهاجًا وسرورًا بأنه منهم، واتخاذًا للإسلام دينًا ونحلةً، إذ لا يقبل طاعةً بغير دين الإِسلام، من قولهم: هذا قول فلان؛ أي: مذهبه، لا أنه تكلم بذلك فحسب. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال: {إنى} بنون واحدة مشددة، والجمهور: {إنَّنِى} بها وبنون الوقاية. وفيه رد على من يقول: أنا مسلم - إن شاء الله - فإنه تعالى قال مطلقًا غير مقيد بشرط إن شاء الله. وقال علماء العقائد: إن قاله للشك .. فهو كفر لا محالة، وإن كان للتأدب مع الله، وإحالةً للأمور إلى مشيئة الله تعالى أو للشك في العاقبة والمآل، لا في الآن والحال، أو للتبرك بذكر الله، أو للتبرُّؤ من تزكية نفسه، والإعجاب بحاله .. فجائز، لكن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك. والمعنى: لا أحد أحسن قولًا ممن جمع بين هذه الخصال الثلاث، وحكم الآية عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة، التي هي الدعوة إلى الله والعمل الصالح، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، والقول المذكور؛ أي: كونه من المسلمين دينًا لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقه، ولا أكثر ثوابًا من عمله، وإن نزلت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو في أصحابه - رضي الله عنهم - أو في المؤذنين، فإنهم يدعون الناس إلى الصلاة، فالأولى حمل الآية على العموم، كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سببًا في نزولها دخولًا أوليًا. فإن قلت: السورة بكاملها مكية بلا خلاف، والأذان إنما شرع بالمدينة. قلت: يجعل هذا من باب ما تأخر حكمه عن نزوله، وكم في القرآن من هذا النوع، وإليه ذهب بعض الحفاظ كابن حجر وغيره. فائدة: وأول من أذن في السماء جبرائيل (¬1)، ثمَّ ميكائيل عليهما السلام عند ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

البيت المعمور، وأول من أذن في الإِسلام بلال الحبشي - رضي الله عنه - وكان أول مشروعيته في أذان الصبح، قالت النوار أم زيد بن ثابت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن، إلى أن بني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده، فكان يؤذن بعده على ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره، وأول من أقام عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب رؤيا الأذان، وزاد بل الذي أذان الصبح بعد الحَيَّعَلات: الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: اليقظة الحاصلة للصلاة، خير من الراحة الحاصلة بالنوم، ويقول المجيب عنده: صدقت وبالخير نطقت، وأول من زاد الأذان الأول في الجمعة عثمان - رضي الله عنه - زاده ليؤذن أهل السوق فيأتون إلى المسجد، وكان في زمانه - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أذان واحد حين يجلس الإِمام على المنبر، وأول من رزق المؤذنين عثمان - رضي الله عنه - والجهر في الأذان واجب لإعلام الناس، ولذا سن أن يكون في موضع عال، ولو أذن لنفسه .. خافت، وأما التكبيرات في الصلاة .. فالمؤذن يرفع صوته لتبليغ التكبير لمن بَعُدَ عن الإِمام من المقتدين، فإن كان في صوت الإِمام كفاية .. فالتبليغ مكروه، كما في "إنسان العيون". يقول الفقير: أما سر عدد المنارات في الحرم النبوي وهي اليوم خمس .. فإشارة إلى الأوقات الخمسة، فهو صورة الدعوات الخمس في الساعات الأربع والعشرين المشتمل عليها الليل والنهار، وأول من قدر الساعات الاثنتي عشرة نوح عليه السلام في السفينة، ليعرف بها مواقيت الصلوات. 34 - وبعد أن ذكر (¬1) محاسن الأعمال التي بين العبد وربه، ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض، ترغيبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبر على أذى المشركين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، فقال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ} التي يرضي الله بها ويثيب عليها {وَلَا السَّيِّئَةُ} التي يكرهها الله ويعاقب عليها، {لا} الثانية: مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الجزاء وحسن العاقبة، وقد يكون المعنى: ولا تستوي دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى، والصبر على سفاهة الكفار وإذايتهم وترك الانتقام منهم، وما أظهروه من ¬

_ (¬1) المراغي.

الغلظة والفظاظة في قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}. وقولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}. والخلاصة (¬1): أن فعلك أيها الرسول حسنة، وأن فعلهم سيئة، فإنك إذا صبرت على أذيتهم وجهالتهم، وتركت الانتقام منهم ولم تلتفت إلى سفاهتهم .. فقد استوجبْتَ التعظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا يكن إقدامهم على تلك السيئة مانعًا لك من الاشتغال بهذه الحسنة. وإذا فسرت (¬2) {الْحَسَنَةُ} و {السَّيِّئَةُ} بالجنس، على أن يكون المعنى: لا تستوي الحسنات، إذ هي متفاوتة في أنفسها كشعب الإيمان التي أدناها إماطة الأذى، ولا السيئات لتفاوتها أيضًا، من حيث إنها كبائر وصغائر .. لم تكن زيادة {لَا} الثانية لتأكيد النفي على ما أشار إليه في "الكشاف". ولا وجه لتخصيص {الْحَسَنَةُ} بنوع من أنواع الطاعات (¬3)، وبتخصيص {السَّيِّئَةُ} بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل: الحسنة: التوحيد، والسيئة: الشرك. وقيل: الحسنة: المداراة، والسيئة: الغلظة. وقيل: الحسنة: العفو، والسيئة: الانتصار. وقيل: الحسنة: العلم، والسيئة: الفحش. ثم ذكر بعض الحسنات، ووضحها بذكر بعض ضروبها، فقال: {ادْفَعْ} أيها الرسول السيئة حين اعترضتك من بعض أعاديك {بـ} الخصلة {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ما يمكن دفعها به من الحسنات، كالإحسان إلى من أساء، فإنه أحسن من العفو. والمعنى: أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، والذنوب بالعفو، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات واحتمال المكاره، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعد أخرى، ولم يقابل سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله .. استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صِلْ من قطعك، واعفُ عمن ظلمك، وأحسنْ إلى من أساء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

إليك"، وما أمر - صلى الله عليه وسلم - غيره بشيء إلا بعد التخلق به وإخراجه (¬1) مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع مع أن الظاهر أن يقول: {فادفع} بـ {الفاء} السببية للمبالغة؟ ولذلك وضع {أَحْسَنُ} موضع الحسنة؛ لأنه أبلغ في الدفع بالحسنة، فإن من دفع بالحسنى .. هان عليه الدفع بما دونها. ثم بين نتائج الدفع بالحسنى، فقال: {فَإِذَا} فعلت الدفع المأمور به .. صار {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} وشحناء؛ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ أي: صديق قريب. قال مقاتل: نزلت هذه في أبي سفيان بن حرب، وذلك أنه لان للمسلمين بعد الشدة؛ أي: شدة عداوته للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمصاهرة التي جعلت بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم فصار وليا بالإِسلام، حميمًا بالمصاهرة، والأولى حمل الآية على العموم؛ أي: فإذا فعلت ذلك .. صار الذي بينك وبينه عداوة في الدين، كأنه ولي في الدين حميم؛ أي: قريب في النسب؛ أي: صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك. والمعنى (¬2): أي إنك إن فعلت ذلك .. انقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة، قال عمر - رضي الله عنه - ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك .. عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي: أن رجلًا شتم قنبرًا مولى علي بن أبي طالب، فناداه علي: يا قنبر، دع شاتمك والْهُ عنه، ترضِ الرحمن، وتسخط الشيطان، وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل: وَلَلْكَفُّ عن شَتْمِ اللَّئِيْمِ تَكَرُّمًا ... أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِيْنِ يُشْتُمُ وقال آخر: وَمَا شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى سَفِيْهٍ ... إِذَا سَبَّ الْكَرِيْمَ مِنَ الْجَوَابِ مُتَارَكَةُ السَّفِيْهِ بِلَا جَوَابٍ ... أَشَدُّ عَلَى السَّفِيْهِ مِنَ السُّبَابِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[35]

وقال محمود الورّاق: سَأُلْزِمُ نَفْسِيْ الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ ... وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ لَدَيَّ الْجَرَائِمُ فَمَا النَّاسُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلاَثَة ... شَرِيْفٌ وَمَشْرُوْفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأمَا الَّذِيْ فَوْقِيْ فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ ... أتَبِّعُ فِيْهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأمَّا الَّذِيْ دُوْنِيْ فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ ... إِجَابَتِهِ عِرْضِيْ وَإنْ لَامَ لاَئِمُ وَأمَّا الَّذِيْ مِثْلِيَ فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا ... تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْفَضْلَ بِالْحِلْمِ حَاكِمُ وقال آخر: إِنَّ الْعَدَاوَةً تَسْتَحِيْلُ مَوَدَّةً ... بِتَدَارُكِ الْهَفَوَاتِ بِالْحَسَنَاتِ و {إذا} في (¬1) قوله: {فَإِذَا الَّذِي}: للمفاجأة، ظرف مكان لمعنى التشبيه، وهذا مبني على القول باسميتها، وجاز تقدم هذا الظرف على عامله المعنوي، مع أنه لا يجوز تقديم معموله عليه؛ لأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها، والموصول: مبتدأ، وجملة التشبيه: خبره، والتقدير: فالذي بينك وبينه عداوة، مشبهه في المحبة بالصديق الحميم وقت فعلك ما ذكر. والمعنى: فإذا فعلت مع عدوك ما ذكر .. فاجأك في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهًا في المحبة بالصديق الذي لم تسبق منه عداوة. اهـ شيخنا. 35 - ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريقة بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أي: وما يلقى هذه الخصلة الحميدة والفعلة الجميلة، وهي دفع السيئة بالحسنة. وقرأ طلحة بن مصرف وابن كثير (¬2): {وما يلاقاها} من الملاقاة من باب فاعل المعتل، وقرأ الجمهور {وما يلقى} من التلقية من فعل المضعف كزكى، كأن هذه الخصلة الشريفة غائبة؛ أي: ما يصادفها وما يوافقها وما يعطاها {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك الانتقام؛ أي: إلا الذين شأنهم الصبر، فإنه يحبس النفس عن الانتقام؛ أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) البحر المحيط.

[36]

الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس، ويصعب احتماله في مجرى العادة، إلا على من عصمه الله تعالى ووفقه. وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - في تفسير ذلك: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقًا .. غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا .. غفر الله لك {وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أي: وما يوفّقها {إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ أي: إلا صاحب نصيب وافر، وحظ كامل من السعادة في الدنيا والاخرة، ومن الفضائل النفسانية (¬1)، والقوة الروحانية، فإن الاشتغال بالانتقام لا يكون إلا لضعف النفس وتأثرها من الواردات الخارجية، فإن النفس إذا كانت قوية الجوهر .. لم تتأثر من الواردات الخارجية، وإذا لم تتأثر منها .. لم يصعب عليها تحمّل المكاره، ولم تشتغل بالانتقام. والحاصل: أنه يلزم تزكية النفس حتى يستوي عندها الحلو والمرّ، ويكون حضور المكروه كغيبته، ففي الآية مدح لهم بفعل الصبر، وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة؛ أي: وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقال الجنيد: وما يوفق لهذا المقام، إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه، وقال ابن عطاء الله: إلا ذو معرفة بالله وأيامه، والحظ: النصيب المقدّر. 36 - ثم ذكر طريقًا لمنع تهييج الشر، ودفع الغضب إذا بدت بوادره، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} أصله: إن ما، على أن {إن}: شرطية، و {ما}: مزيدة لتأكيد معنى الشرط، والنزغ: شبه النخس كما في "الإرشاد" شبه به وسوسة الشيطان لأنها تبعث على الشر، وجعل نازغًا على حدّ جدّ جدّه فـ {مِنْ} ابتدائية؛ أي: نزغ صادر من جهته، أو المراد: وإما ينزغنك نازغ وصفًا للشيطان بالمصدر، فكلمة {من}: تجريدية جرّد من الشيطان شيطانًا آخر، وسمّاه نازغًا. والمعنى: وإن يوسوس إليك الشيطان، ويصرفك عما وصيتك به من الدفع بالتي هي أحسن، ودعاك إلى خلافه .. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شرّه، ولا تطعه {إنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ السَّمِيعُ} باستعاذتك {الْعَلِيمُ} بنتتك، وفي جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير، قال الدميري في "حياة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[37]

الحيوان": أجمعت الأمة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، وإنما المراد: تحذير غيره من فتنة القرين، ووسوسته له وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز عنه حسب الإمكان انتهى. وحاصل المعنى (¬1): أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء .. فاستعذ بالله من كيده وشرّه، واعتصم من خطراته، إنه هو السميع لاستعاذتك منه، واستجارتك به من نزغاته، ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العلم بما ألقى في روعك من نزغاته، وحدّثتك به نفسك، وما قصدت من صلاح، ونويت من إحسان. ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا، فيصرف عن الدفع بالتي هي أحسن، فيقول لك: إن فلانًا عدوّك الذي فعل بك كيت وكيت، فانتهز الفرصة وخذ ثأرك منه، لتعظم في عينه وأعين الناس، ولا يظنن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة، إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب، التي ربما لا يخطر ببال شياطين الجن، نعوذ بالله من شر كل شيطان. والخلاصة: إنّ صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى .. فاستعذ بالله من شره، وامض لشأنك ولا تطعه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا غضبت وكنت قائمًا .. فاقعد، وان كنت قاعدًا .. فقم، فاستعذ بالله من الشيطان" عصمنا الله وإياكم من كيده وشره، ورد مكره إليه، فلا نتوكَّل ولا نعتمد إلا عليه. فإن قلت (¬2): قال هنا: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بزيادة {هُوَ} و {أل} وفي الأعراف قال: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بدونهما، فما الفرق بين الموضعين؟. قلت: بينهما فرق فارق؛ لأنّ {ما} هنا: متصل بمؤكدين: بالتكرار وبالحصر، فناسب التأكيد بما ذكر، و {ما} في الأعراف خال عن ذلك، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفةً والمسند نكرةً. 37 - ثمّ شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة، الدالة على كمال قدرته وقوة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) فتح الرحمن.

تصرفه، للاستدلال بها على توحيده، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ}؛ أي: ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}؛ أي: تعاقبهما واختلافهما بالزيادة والنقصان، قال الإمام المرزوقي: الليل بإزاء النهار، والليلة بإزاء اليوم. {وَالشَّمْسُ} المشتمل عليه النهار {وَالْقَمَرُ} المشتمل عليه الليل؛ أي: تذلُّلهما لما يراد منهما، وقدّم الليل على النهار لسابقيته في الوجود، والشمس على القمر لشرفها عليه بأصالة نورها؛ يعني: تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي يتفرّع عليه منافع الخلق، ومصالحهم، وتذلُّل الشمس والقمر لما يراد منهما من أظهر العلامات الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وكمال علمه وحكمته. والمعنى (¬1): أي ومن حجج الله تعالى على خلقه، ودلائله على وحدانيته وعظيم سلطانه الليل والنهار، ومعاقبة كل منهما صاحبه، والشمس ونورها، والقمر وضياؤه، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار، والأسابيع والشهور والأعوام، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات. ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلويّ والسفليّ .. نبّه إلى أنهما مخلوقان مسخّران له تعالى، وهما تحت قهره وسلطانه، فلا تعظّموهما وعظّموا خالقهما، فقال: {لَا تَسْجُدُوا} أيها الناس {لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامره، يجريان لمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما، وهما لا يستطيعان لكم نفعًا ولا ضرًّا {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الضمير للأربعة (¬2)، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، وإن كان المناسب تغليب المذكر، وهو ما عدا الشمس على المؤنث وهو الشمس، أو لأنها عبارة عن الآيات وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر؛ للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية، بنظمهما في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها، وهو السر في نظم الكل في آياته تعالى؛ أي: فله تعالى فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونهما، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما، فيستحقا بها العبادة من دون الله، ولو شاء الله .. لأعدمهما أو طمس نورهما، وفي هذا ردّ على الصابئين، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[38]

وغيرهم من الناس الذين عبدوا الكواكب والنجوم، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يقصدون الله، فنهوا عن تلك الواسطة، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه. وقيل: وجه تخصيصه أنه أقصى مراتب العبادة {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ} تعالى لا غيره {تَعْبُدُونَ}؛ أي: إن كنتم تعبدون إياه .. لا تسجدوا لغيره، فإن السجود أقصى مراتب العبادة، فلا بدّ من تخصيصه به تعالى. فإن قيل (¬1): لِمَ لَمْ يجز أن تكون الشمس قبلةً للناس عند سجودهم؟. قلنا: لأنها جوهر مشرق عظيم الرفعة، لها منافع في صلاح أحوال الخلق، فلو أذن في جعلها قبلةً في الصلاة، بأن يتوجّه إليها، ويرجع ويسجد نحوها .. لربما غلب على بعض الأوهام أن ذلك الركوع والسجود للشمس لا لله، بخلاف الأحجار المعيّنة، فإنها ليس في جعلها قبلةً ما يوهم الإلهية. 38 - {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا}؛ أي: تعظموا عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله تعالى، وأبوا إلا اتخاذ الواسطة، فذلك لا يققل عدد من يخلص عبادته لله تعالى، وقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} علة للجزاء المحذوف؛ أي: فإن الملائكة المقربين عند الله {يُسَبِّحُونَ لَهُ}؛ أي: ينزهونه عن الأنداد وسائر ما لا يليق به {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}؛ أي: دائمًا وفي جميع الأوقات، وظهر من هذا التقرير أن تخصيص الملائكة مع وجود غيرهم من العبّاد المخلصين؛ لكثرتهم، وأيضًا الشمس والقمر عندهم، فيردّون العبادة عنهما غيرةً بتخصيصها بالله تعالى {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}؛ أي: والحال أن الذين عند ربك لا يملُّون عن عبادته وتسبيحه، ولا يفترون عنهما، فإن التسبيح منهم كالتنفس منا. ومعنى الآية (¬2): فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب، وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله .. فالله لا يعبأ بهم، فالملائكة الذين في حضرة قدسه، وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته، بل يسبِّحون له ويصلّون ليلًا ونهارًا وهم لا يَفْتَرون عن ذلك ولا يملُّون. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[39]

فصل وهذه السجدة (¬1) من عزائم سجود التلاوة، وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء: وهما وجهان لأصحاب الشافعي: أحدهما: أنه عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وهو قول ابن مسعود والحسن، وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد؛ لأنَّ ذكر السجدة قُبيله. والثاني: وهو الأصح عند أصحاب الشافعي، وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيِّب وقتادة، وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة؛ لأنَّ عنده يتمّ الكلام. 39 - ولما ذكر الدلائل الفلكية .. أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته {أَنَّكَ} يا محمد أو أيها الناظر، فالخطاب هنا لكل من يصلح له أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {تَرَى الْأَرْضَ} وتبصرها حال كونها {خَاشِعَةً}؛ أي: يابسةً جدبةً فارغةً من النبات، مستعار من الخشوع بمعنى التذلل {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} والمطر {اهْتَزَّتْ}؛ أي: تحركت بالنبات {وَرَبَتْ}؛ أي: انتفخت وعلت قبل أن تنبت لأنّ النبت إذا دنا أن يظهر .. ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصدّعت عن النبات؛ أي: انشقّت. وعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير (¬2)، والتقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء .. ربت واهتزّت؛ أي: انتفخت وتحركت بالنبات، وقيل: الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات، وقد يكوننان بعده. وقيل: اهتزّت: استبشرت بالمطر، وربت انتفخت بالنبات. وقرأ أبو جعفر وخالد {وربأت} بالهمزة {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بما ذكر بعد موتها. والاحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة، فالمراد بإحياء الأرض: تهييج القوى النامية فيها، وإحداث نضارتها بأنواع النباتات؛ أي: إن الإِله الذي أحيا الأرض بالنبات بعد يبسها وجدبها {لَمُحْيِ الْمَوْتَى} بالبعث والنشور {إِنَّهُ} سبحانه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإحياء ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[40]

{قَدِيرٌ}؛ أي: قادر لا يعجزه شيء كائنًا ما كان، وقد وعد بذلك، فلا بد من أن يفي به، والحكمة في إحياء الموتى هي المجازاة والمكافأة. ومعنى الآية (¬1): ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث وإحياء الموتى بعد بلائها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها: أنك ترى الأرض يابسةً غبراء لا نبات بها ولا زرع، فإذا نزل عليها الغيث من السماء .. تحركت بالنبات، وانتفخت وأخرجت ألوان الزرع والثمار، ما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها، ثمَّ تصدّعها وتشقُّقها إذا حان ظهور النبات منها، وتراه يسمو في الجوّ ويغطّي قشرتها، ثم تتشعّب عروقه، وتغلظ سوقه، إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة، وأخرج منها النبات وجعلها تهتز بالزرع، قادر على أن يحيي أموات بني آدم بعد مماتهم، وهو القدير على كل شيء، لا يعجزه شيء كائنًا ما كان. 40 - {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ}؛ أي: يميلون عن الاستقامة {فِي آيَاتِنَا} والعدل فيها بالطعن فيها، بأنها كذب أو سحر أو شعر، ويتحريفها بحملها على المحامل الباطلة. وقرأ حمزة: {يلحدون} بفتح الياء والحاء من لحد الثلاثي، وهو بمعنى ألحد. ففي الآية قراءَتان سبعيتان. وهما: ضم الياء وكسر الحاء. من ألحد الرباعي، وهي قراءة الجمهور، وفتح الياء والحاء من لحد الثلاثي، وهي قراءة حمزة، وهما لغتان، لحد بمعنى: جار عن الحق، وألحد بمعنى: جادل ومارى {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} في وقت من الأوقات، بل نحن نعلمهم فنجازيهم بإلحادهم. والمعنى: أي إن الذين يميلون عن الحق في حججنا تكذيبًا بها، وجحودًا لها، نحن بهم عالمون، لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وسنجازيهم بما يستحقون، ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد، كان يقول الملك المعنيب: إن الذين ينازعونني في ملكي أعرفهم ولا شك فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، ثم بيّن كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر، فقال {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف ¬

_ (¬1) المراغي.

يقتضيه السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمن يلحد في آياتنا خير أم من يؤمن بها خير؟ فمن يلقي بإلحاده في النار على وجهه وهم الكفرة بأنواعهم خير، {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا} بإيمانه من النار {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهو المؤمنون على طبقاتهم؛ يعني: أن الثاني في المعطوف والمعطوف عليه خير من الأولى. وقابل الإلقاء (¬1) في النار بالاتيان {آمِنًا} مبالغة في مدح حال المؤمنين بالتنصيص على أنهم آمنون يوم القيامة من جميع المخاوف، فلو قال: أم من يدخل الجنة .. لجاز من طريق الاحتمال أن يبدلهم الله من بعد خوفهم أمنًا. ولك أن تقول: في الآية احتباك، حذف من الأول مقابل الثاني، ومن الثاني مقابل الأول، والتقدير: أفمن يأتي خائفًا ويلقى في النار خير أم من يأتي آمنًا ويدخل الجنة؛ يعني: أن الثاني خير من الأول. والغرض من هذا الاستفهام (¬2): التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة، حين يجمع الله تعالى عباده للعرض عليه للحكم بينهم بالعدل. اهـ "خطيب". وترسم {أَمْ} مفصولةً مِنْ مَنْ اتباعًا لمصحف الإِمام، كما ذكره شيخ الإِسلام في "شرح الجزرية". ومعنى الآية: أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسل، خير أم من آمن بها وجاء يوم القيامة من الآمنين، حين يجمع الله العباد للمجازاة، لا شكّ أنهما لا يستويان. وظاهر الآية: العموم، وتمثيل حال المؤمن والكافر. وقيل: المراد بـ {مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ}: أبو جهل، وبـ {مَنْ يَأْتِي آمِنًا}: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: حمزة، وقيل: عمر بن الخطاب، وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وحملها على العموم أولى، اعتبارًا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها .. هدَّدهم بقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} من الأعمال المؤدّية إلى ما ذكر من الإلقاء في النار، والاتيان آمنًا، وآثروا ما شئتم، فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، ولا تضرّون إلا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[41]

أنفسكم، فمن أراد الجزاء .. فليعمل له، فإنه لامقيه، وفيه تهديد شديد؛ لظهور أن ليس المقصود الأمر بكل عمل شاؤوا. قال في "الأسئلة المقحمة": هو أمر وعيد، ومعناه: أن المهلة ما هي لعجز ولا لغفلةٍ، وإنما يعجل من يخاف الفوت، وهو أبلغ أسباب الوعيد {إِنَّهُ} تعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم بحسب أعمالكم؛ أي: إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم خيرًا أو شرًّا. 41 - ثمّ بيّن أولئك الملحدين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ}؛ أي: بالقرآن، فيكون (¬1) من وضع الظاهر موضع ضمير الآيات؛ أي: إن الذين بادهوا القرآن بالكفر والإنكار عليه {لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: حين جاءهم، وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر وإعادة نظر، وكذّبوا به على البديهة قبل التدبّر ومعرفة التأويل، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} إلخ. بدل الكل بتكرير العامل، وخير {إِنَّ} هو الخبر السابق، وهو {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}؛ لأنّ إلحادهم في الآيات كفر بالقرآن، فلهذا اكتفي بخبر الأول عن الثاني، إلا أنه غير معهود إلا في الجار والمجرور لشدة الاتصال. قال الرضي: ولا تكرر في اللفظ في البدل من العوامل إلا حرف الجر؛ لكونه كبعض حروف المجرور، وقيل: مستأنف، وخبرها محذوف، مثل: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} وذلك بعد قوله: {حَمِيدٍ}. وقال الكسائي: سدّ مسدّه الخبر السابق، وقوله: {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن الذكر إلخ. جملة حالية من {الذكر} مفيدة لغاية شناعة الكفر به؛ أي: إن الذين كفروا بالذكر، والحال أن الذكر {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}؛ أي: كثير المنافع، عدم النظير لا يخفون علينا، أو سوف نصليهم نارًا، فهو (¬2) من العز الذي هو خلاف الذل، أو منيع لا تتأتى معارضته وإبطاله وتحريفه، فهو من العزة بمعنى الغلبة، فالقرآن وإن كان لا يخلو عن طعنٍ باطلٍ من الطاعنين، وتأويل فاسد من المبطلين، إلا أنه يؤتى بحفظةٍ، ويقدّر له في كل عصر منعة يحرسونه بإبطال شبه أهل الزيغ والأهواء، وردّ تأويلاتهم الفاسدة، فهو غالب بحفظ الله إياه، وكثرة منعته على كل من يتعرض له بالسوء. 42 - وقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ}؛ أي: التكذيب {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}؛ أي: من الكتب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[43]

السابقة عليه، كالتوراة والإنجيل والزبور {وَلَا} وَلَا يأتي {مِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: من بعده كتاب يكذّبه وينسخه. قاله سعيد بن جبير والكلبي، صفة أخرى لـ {كِتَابٌ} أو المعنى: لا يتطرّق إليه الباطل، ولا يجد إليه سبيلًا من جة من الجهات الست، حتى يصل إليه ويتعلق به؛ أي: متى راموا إبطالًا له لم يصلوا إليه، ذكر أظهر الجهات وأكثرها في الاعتبار وهو جهة القدّام والخاف، وأريد الجهات بأسرها، فيكون قوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ ...} إلخ، استعارةً تمثلية، شُبّه الكتاب في عدم تطرّق الباطل إليه بوجه من الوجوه، بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن عبّر عن المشبّه بما عبّر به عن المشبّه به، فقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ ...} إلخ. أو المعنى: لا يأتيه الباطلُ فيما أخبر عما مضي، ولا فيما أخبر عن الأمور الآتية، أو الباطل هو الشيطان؛ أي: لا يستطيع أن يزيد فيه ولا ينقص منه. وقال الزجاج: معناه: إنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه، فيأتيه الباطل من خلفه. وبه قال قتادة والسدّي. قصارى ذلك: أَنَّ الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد إليه سبيلًا من جهة من الجهات حتى يصل إليه، فكل ما فيه حق وصدق، وليس فيه ما لا يطابق الواقع، {تَنْزِيلٌ}؛ أي: هو تنزيل، أو (¬1) صفة أخرى لـ {كِتَابٌ} مفيدة لفخامته الإضافية بعد إفادة فخامته الذاتيه، وكل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن {مِنْ حَكِيمٍ}؛ أي: حكيم مانع عن تبديل معانيه بإحكام مبانيه {حَمِيدٍ}؛ أي: حميد مستحق للتحميد بإلهام معانيه، أو يحمده كل خلق في كل مكان بلسان الحال والمقال بما وصل إليه من نعمه، أو المعنى: هو تنزيل من عند ذي الحكمة بتدبير شؤون عباده، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكاتب، بل هو أجلّها. 43 - ثم سلّى سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ما كان يتأثر له، من أذيّة الكفار، فقال: {مَا يُقَالُ لَكَ}؛ أي: ما يقال في شأنك وفي شأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفّار قومك {إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} من جهة قومهم؛ أي: إلا مثل ما قد قيل في حقهم وفي حق الكتاب السماوية المنزّلة عليهم، مما لا خير فيه، من الساحر ¬

_ (¬1) روح البيان.

والكاهن والمجنون والأساطين ونحوها؛ أي (¬1): ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربّك، إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، فاصبر على ما نالك منهم من أذًى كما صبر أولو العزم من الرسل. وقد يكون المعنى: ما يقال لك من التوحيد، وإخلاص العبادة له إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك التوحيد، وإن اختلفت في غيره تبعًا للزمان والمكان. وقيل (¬2): هو استفهام؛ أي: أيُّ شيء يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك؟ ونحو الآية على المعنى الأول قوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} وعلى المعنى الثاني قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}. ثمَّ ذكر علة أمره بالصبر فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأنبيائه ومن آمن بهم {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم الذين لم يؤمنوا بهم. وبما أنزل إليهم، والتزموا الأذيّة بهم، وقد نصر من قبلك من الرسل، وانتقم من أعدائهم، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضًا، أو المعنى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لمن يستحق مغفرته من الموحّدين، الذين بايعوك وبايعوا من قبلك من الأنبياء {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} للكفار المكذّبين، المعادين لرسل الله تعالى. أو المعنى (¬3): إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم، بالصفح عنهم، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره، ومات على ذلك قبل التوبة. وفي الآية (¬4): إشارة إلى حال العلماء والدعاة، فإنهم ورثة الأنبياء، فلهم أعداء وحسّاد يطلقون ألسنتهم في حقهم باللوم والطعن بالجنون والجهل ونحو ذلك، ولكنهم يصبرون على الجفاء والأذى، فيظفرون بمراداتهم كما صبر الأنبياء فظفروا وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}؛ أي: ظاهرًا بهلاك قومهم، أو بإجابة الدعوة وباطنا بالتخلق بالأخلاق الإلهية مثل الصبر، فإنه نصر أيُّ نصر، إذ به يحصل المرام، وبالصبر ينقلب الإنسان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[44]

من حال إلى حال أخرى أحسن من الأولى، كما ينقلب النحاس بالإكسير فضةً أو ذهبًا. ودلّت الآية أيضًا (¬1): على أنه ليس من الحكمة أن يقطع لسان الخلق بعضهم عن بعض، ألا ترى أنه تعالى لم يقطع لسان الخلق عن ذاته الكريمة، حتى قالوا في حقه تعالى: إن له صاحبةً وولدًا ونحو ذلك، فكيف غيره تعالى من الأنبياء والمرسلين والعلماء والمقرّبين، فالنار لا ترتفع من الدنيا إلا يوم القيامة، وإنما يرتفع الاحتراق بها، كما وقع لإبراهيم عليه السلام وغيره من الخواض، فكل البلايا كالنار، فبطون العلماء والأولياء وقلوب الصديقين في سلامة من الاحتراق بها، فإنه لا يجري إلا ما قضاه الله تعالى، ومن آمن بقضاء الله .. سَلِمَ من الاعتراض والانقباض، وهكذا شأن الكبار، نسأل الله الغفَّار السلامة من عذاب النار. 44 - ثمَّ أجاب عن شبهةٍ قالوها: وهي هلا نزل القرآن بلغة العجم، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ}؛ أي: ولو جعلنا هذا الذكر والقرآن الذي تقرؤهُ على الناس {قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا}؛ أي: قرآنا منتظمًا على لغة العجم مؤلفًا عليها. والأعجمي في الأصل يقال لذات من لا يفصح عن مراده بلغة لسانه، وان كان من العرب، ولكلامه الملتبس الذي لا يوضّح المعنى المقصود، أطلق ما هنا على كلام مؤلّف على لغة العجم بطريق الاستعارة، تشبيهًا له بكلام من لا يفصح، من حيث إنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب، وهذا جواب لقول قريش تعنّتًا: هلّا أنزل القران بلغة العجم .. {لَقَالُوا}: جواب {لو} الشرطية؛ أي: لقال كفار قريش: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: هلّا بيّنت آياته، وفصلت دلائله بلسان نفقهه من غير ترجمان عجمي، وهو من كان منسوبًا إلى أمة العجم فصيحًا كان أو غير فصيح، و {لَوْلَا} هنا: حرف تحضيض بمعنى: هلّا، وحرف التحضيض إذا دخل على الماضي .. كان معناه: اللوم والتوبيخ على ترك الفعل، فهو في الماضي بمعنى الإنكار. والاستفهام في قوله: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} للإنكار، وهو من جملة كلام المشركين، مقرر للإنكار المفهوم من التحضيض، والأعجمي: كلام لا يفهم معناه، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ولغة العجم كذلك بالنسبة إلى العرب. و {الهمزة} الأولى فيه: للاستفهام الإنكاري، والثانية: جزء كلمة، و {الياء}: فيه ليست للنسبة، بل للمبالغة في الوصف كالأحمري. والمعنى: ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا .. لأنكروا وقالوا؛ لولا فصلت آياته بلسان نفهمه، إن كان من عند الله أهو؛ أي: القران أعجميٌّ وهو؛ أي: المرسل به أو المرسل إله عربي، فكيف يرسل الكلام العجمي مع الرسول العرب؟ أو كيف يرسل الكلام العجميّ إلى القوم العربي؟ لحصول التنافي بين الكلام وبين الآتي به، أو بين الكلام وبين المخاطب به، مع كون المرسل إليه أمةً جمةً. وحاصل المعنى: أي (¬1) ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم .. لقال قومك من قريش: هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب، حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه وكانوا يقولون منكرين: أقرآن أعجمي ولسان المرسل إليهم عربي. وخلاصة ذلك: لو نزل بلسان أعجمي .. لقالوا: هلّا بيّنت آياته باللسان الذي نفهمه، ولقالوا: أكلام أعجمي، والمرسل إليهم عرب خلص. قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وحفص (¬2): بهمزتين محققتين، وقرأ الجمهور: {أعجمي} بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي حمزة أعجمي، وقياسها في التخفيف: التسهيل بين بين، أي: وقالوا منكرين: أهو قرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله: أعجمي وعربي؛ أي: أهو قرانٌ أعجمي ونحن عرب؟ مالنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلّام والضحاك وابن عباس وابن عامر: بخلاف عنهما، وأبو العالية ونصر بن عاصم وهشام: بهمزة واحدة هي أصل الكلمة وسكون العين بدون استفهام ولا إنشاء، والكلام حينئذ على الإخبار، والتفصيل في قوله: {لَوْلَا فُصِّلَتْ} بمعنى: التفريق والتمييز، لا بمعنى التبيين، كما في القراءة الأولى، والمعنى حينئذ: ولو جعلنا المنزّل كله أعجميًّا .. لقالوا: لولا فصلت آياته وميّزت، بأن جعل بعضها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

أعجميًا لإفهام العجم، وبعضها عربيًا لإفهام العرب، فهو؛ أي: القرآن حينئذ أعجمي وعربي. وقرأ عمرو بن ميمون: {أعجمي} بهمزة استفهام وفتح العين. والمقصود من هذا الكلام (¬1): بيان أنّ آيات الله على أيّ وجه جاءتهم .. وجدوا فيها متعنتًا يتعلّلون به؛ لأنّ القوا غير طالبين للحق، وإنما يتبعون أهواءَهم. وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى إزالة العلة وإزاحتها لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة وصحة الشريعة، فإنه لا نهاية للتعليل بمثل هذه التعلُّلات؛ لأنه تعالى لو جعل القرآن أعجميًا وعربيًا .. لقالوا: لولا جعله عبرانيًا وسريانيًا. ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم ببيان حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين، ردًّا على قولهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ...} إلخ: {هُوَ}؛ أي: هذا الذكر والقرآن {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم {وَشِفَاءٌ} لما في الصدور من شكّ وشبهة، ولما في الأبدان من الأسقام والآلام؛ أي: قل (¬2) لهم: إن هذا القرآن الذين صدقوا بما جاء به من عند ربهم هادٍ إلى الحق، شافٍ لما في الصدور من ريبة وشك، ومن ثم جاء بلسانهم معجزًا بيّنًا في نفسه، مبيّنا لغيره، ونحو الآية قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} أو هو شفاء (¬3) حيث استراحوا به من كدّ الفكرة، وتحير الخواطر، أو شفاء لضيق صدور المريدين؛ لما فيه من التنعم بقراءَتِهِ، والتلذذ بالتفكر فيه، أو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق، لما فيه من لطائف المواعيد، أو شفاء لقلوب العارفين، لما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز. {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} به ولا يصدقونك، مبتدأ، خبره: قوله: {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي: ثقل وصمم على أن التقدير هو؛ أي: القرآن في آذانهم وقر، على أن {وَقْرٌ} (¬4): خبر للضمير المقدر و {فِي آذَانِهِمْ}: متعلق بمحذوف وقع حالًا عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[45]

{وَقْرٌ} لبيان محل الوقر، وهو أوفق لقوله: {وَهُوَ}؛ أي: القرآن {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الكفار المعاندين {عَمًى} وذلك لتصاممهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، وهو بفتح الميم المنونة؛ أي: ذو عمى على معنى عميت قلوبهم عنه، وهو مصدر عمي يعمى كعلم كما سيأتي. وفي "المفردات": محتمل لعمى البصر والبصيرة جميعًا. وقرأ الجمهور (¬1): {عَمًى} بفتح الميم منونًا على أنه مصدر عمي، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وابن عمر ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وابن هرمز: {عم} بكسر الميم وتنوينه على أنه اصم منقوص وصف به مجازًا، وقرأ عمرو بن دينار (¬2): بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لقوله أولًا: {هُدًى وَشِفَاءٌ} ولم يقل: هاد وشاف. والمعنى: أي والذين لا يؤمنون بالله ورسوله، وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن، فلا يستمعون له، بل يعرضون عنه، وهو عليهم عمًى، فلا يبصرون حججه ومواعظه، ونحو الآية قوله في وصفه: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}. ثم مثل حالم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه، فقال: {أُولَئِكَ} البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامم عن الحق الذي يستمعونه، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها {يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم للقرآن، بمن ينادى ويصاح به من مسافة بعيدة، لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات. قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادى من مكان بعيد، ولثاقب الرأي إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب، وقال مجاهد: من مكان بعيد من قلوبهم، وقال الضحاك: ينادون القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد؛ يعني: يقال: يا فاسق يا منافق يا كذا ويا كذا، فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وخزيهم. 45 - ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعًا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن، فقد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

اختلف من قبلهم في التوراة، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب، وأنزلنا عليه التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ}؛ أي: في ذلك الكتاب، فمن مصدق له ومن مكذب، وغيّروه من بعده بخمس مئة عام، وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن، فمن مؤمن به ومن كافر، وإن كانوا لا يقدرون على تحريفه، فإنا له لحافظون، فالاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، غير مختص بقومك، ففيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: أي والله لقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها، فمن مصدق بها ومن مكذب، وهكذا شأن قومك معك، فمن مصدق بكتابك ومن مكذب به، فلا تأس على ما فعلوا معك، واسلك سبيل أولي العزم من الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، فقد أوذوا وصبروا، وكان النصر حليفهم، والتوفيق أليفهم، وكتب الله لهم الفَلَجَ والظفر والفوز على أعدائهم المشركين، وأهلك الله القوم الظالمين. ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين، ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول، وجحدهم بكتابه، فقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وقضاء نفذ منه في حق أمتك المكذبة، وهي العدة بتأخير عذابهم، وتأخير الفصل بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله سبحانه: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. {لَقُضِيَ} في الدنيا، وحكم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين المكذبين والمؤمنين باستئصال المكذبين، كما فعل بمكذبي الأمم السالفة. يقول الفقير: وإنما (¬1) لم يفعل الاستئصال؛ لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان نبي الرحمة، ولأن مكة كانت مهاجر الأنبياء والمرسلين، ومهبط الملائكة المقربين، بأنواع رحمة رب العالمين، فلو وقع فيها الاستئصال .. لكانت مثل ديار عاد وثمود، ووقعت النفرة منها لقلوب الناس، وقد دعا إبراهيم عليه السلام بقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فكان من حكمته أن لا يجعل الحرم المبارك الآمن مصارع السوء، وأن يقيه من نتائج سخطه. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[46]

والمعنى (¬1): أي ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة .. فعجل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، بإهلاك المكذبين، كما فعل بمكذبي الأمم السالفة. ثم بين ما يقتضي إهلاكهم فقال: {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإن كفار قومك {لـ} كائنون {فِي شَكٍّ} وريب {مِنْهُ}؛ أي: من حقية هذا القرآن {مُرِيبٍ}؛ أي: موجب ذلك الشك للإضطراب فيه موقع في الإنكار به، والشك: عبارة عن تساوي الطرفين في التردد فيهما من غير ترجيح، والوهم: ملاحظة الطرف المرجوح، وكلاهما تصور لا حكم معه؛ أي: لا تصديق معه أصلًا، وقيل: إن المراد بالكناية: اليهود؛ أي: وإنهم في شك من التوراة مريب، والأول أولى. أي: وإن قومك يا محمد لفي شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا، بل كانوا شاكين غير محققين لشيء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك. 46 - ثم بين أن الجزاء من جنس العمل، وأنه لا يظلم ربك أحدًا، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا}؛ أي: عمل عملًا صالحًا؛ أي: عملًا موجبًا لصلاح صاحبه، بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها {فَلِنَفْسِهِ}؛ أي: ضعطه أو فنفعه لنفسه لا لغيره {وَمَنْ أَسَاءَ}؛ أي: ومن عمل عملًا فيه إساءة أدب الله ورسوله، بأن كذب كتب الله ورسله، وعمل بخلاف ما أمر به ونهى عنه {فَعَلَيْهَا}؛ أي: فعلى نفسه ضرر إساءته وعقابها، لا على غيرها، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. والمعنى: أي من عمل بطاعة الله في هذه الحياة الدنيا، فائتمر بأمر، انتهى عما نهى عنه .. فلنفسه جزاء عمله وثوابه؛ لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم، ومن عصى الله سبحانه .. فعلى نفسه جنى؛ لأنه أكسبها سخطه وأليم عذابه، وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب. {وَمَا رَبُّكَ} أيها الرسول {بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بحامل عقوبة ذنب على غير ¬

_ (¬1) المراغي.

مكتسبه، فلا يُعذِبُ أحدًا إلا بذنبه، ولا يقع منه الظلم لأحدٍ، كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} بل هو (¬1) العادل المتفضل، الذي يجازي كل أحد بكسبه، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله، أو إثابة الغير بعمله، وتنزيل التعذيب بغير إساءة، أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه سبحانه؛ أي: هو تعالى منزه عن الظلم، يقال: من ظلم وعلم أنه يظلم .. فهو ظلام، وقال بعضهم: أصله: وما ربك بظالم، ثم نقل مع ثفيه إلى صيغة المبالغة، فكانت المبالغة راجعةً إلى النفي، على معنى أن الظلم منفي عنه نفيًا مؤكدًا مضاعفًا، ولو جعل النفي داخلًا على صيغة البالغة بتضعيف ظالم بدون نفيه، ثم أدخل عليه النفي .. لكان المعنى: أن تضعيف الظالم منفي عنه تعالى، ولا يلزم منه نفيه عن أصله، والله تعالى منزه عن الظلم مطلقًا. ويجوز أن يقال: صيغة المالغة باعتبار كثرة العبد، لا باعتبار كثرة الظلم، كما قال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وفي الحديث القدسى: "إني حرمت الظلم على نفسي، وعلى عبادي فلا تظالموا" والظلم: هو التصرف في ملك الغير، أو مجاوز الحد، وهذا محال في حق الله تعالى؛ لأن العالم كله مثك له سبحانه وتعالى، وليس فوقه أحد يحد له حدًا فيتجاوز عنه. فالمعنى: تقدست وتعاليت عن الظلم، وهو ممكن في حق العباد، ولكن الله منعهم عنه. وفي الحديث: "من مشى خلف ظالم سبع خطوات .. فقد أجرم. قال الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}. وفي آخر: "من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم .. فقد خرج عن الإِسلام". الإعراب {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَقَيَّضْنَا}: {الواو}: استئنافية. {قضينا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {لَهُمْ}: متعلق به. {قُرَنَاءَ}: مفعول به. {فَزَيَّنُوا}: {الفاء}: عاطفة، {زينوا}: فعل وفاعل، معطوف على {قضينا}. {لَهُمْ}: متعلق بـ {زينو}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {زينوا}. {بَيْنَ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، {أَيْدِيهِمْ}: مضاف إليه. {وَمَا خَلْفَهُمْ}: معطوف على {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. {وَحَقَّ}: فعل ماض، معطوف على {قضينا}. {عَلَيْهِمُ}: متعلق بـ {حق}. {الْقَوْلُ}: فاعل. {فِي أُمَمٍ}: متعلق بمحذوف حال من ضمير {عَلَيْهِمُ}؛ أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم، أو مندرجين في جملة أمم، {قَدْ}: حرف تحقيق. {خَلَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صفة لـ {أُمَمٍ}. {مِنْ قَبْلِهِمْ} متعلق بـ {خَلَتْ}. {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: متعلق بمحذوف صفة ثانية لـ {أُمَمٍ} أو حال منها لتخصصها بالصفة. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانُوا خَاسِرِينَ}: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل استحقاقهم العذاب. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، وجملة القول: مستأنفة مسوقة لتقرير حالهم ومكابرتهم عند قراءة القرآن. {لَا}: ناهمة جازمة، {تَسْمَعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة: في محل النصب مقول لـ {قال} {لِهَذَا}: متعلق بـ {تَسْمَعُوا}. {الْقُرْآنِ}: بدل من اسم الإشارة. {وَالْغَوْا}: فعل أمر وفاعل، معطوف على {لَا تَسْمَعُوا}. {فِيهِ}: متعلق بـ {وَالْغَوْا} {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَغْلِبُونَ}: خبره، وجملة {لعل}: في محل النصب مقول {قال} على أنها مسوقة لتعليل الأمر قبلها. والمراد بالغلبة: حمله على السكوت عن القراءة؛ لئلا يستهوي القلوب ويستميلها بقراءة ما لم تعهده من بيان. {فَلَنُذِيقَنَّ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الذين كفروا ومكابرتهم عند قراءة القرآن، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك: لنذيقن ... إلخ. و {اللام}: موطئة للقسم {نذيقن}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد.

{الَّذِينَ} مفعول به أول، والجملة: جواب القسم لا محل لها، وجملة القسم: مقول لجواب إذا المقدرة. وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول {عَذَابًا}: مفعول ثان لـ {نذيقن}. {شَدِيدًا}: صفة {عَذَابًا}. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم. {نجزين}: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون توكيد ومفعول أول، والجملة: معطوفة على جملة {نذيقن}. {أَسْوَأَ}: مفعول ثان لـ {نجزينهم}. {الَّذِي}: مضاف إليه. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كَانُوا}: صلة الموصول. {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {جَزَاءُ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {أَعْدَاءِ اللَّهِ}: مضاف إليه. {النَّارُ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: جزاؤهم النار، أو مبتدأ، خبره: ما بعده، وهذا الإعراب هو الأوضح في معنى الكلام، وأما جعله بدلًا أو عطف بيان لجزاء .. فمعترض بأن علامة البدل: صحة حلوله محل المبدل عنه، فيصير التقدير: ذلك المذكور من الإذاقة والجزاء النار، وهذا لا يصح. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {فِيهَا}: حال من دار الخلد. و {دَارُ الْخُلْدِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: إما خبر عن النار بناءً على إعرابها مبتدأ، أو حال منها، أو مستأنفة مستقلة مقررة لما قبلها، وهذا أقعد بمكان البلاغة كما سيأتي. {جَزَاءً}: مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر، وهو مصدر مؤكد لعامله، تقديره: يجزون جزاء، والجملة: مستأنفة، أو منصوب بالمصدر المذكور قبله، أو مصدر واقع موقع الحال من النار. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {جَزَاءً} الثاني أو الأول. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {يَجْحَدُونَ} لتضمنه معنى يكفرون، وذلك أولى من جعلها زائدة، وجملة {يَجْحَدُونَ}: خبر {كان} وجملة {كان}: صلة لما الموصولة. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، والجملة: في محل النصب مقول {قال}. {أَرِنَا} {أر}: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع الباري

سبحانه، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله. و {نا}: مفعول أول، {اللَّذَيْنِ}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قال} على كونها جواب النداء؛ لأن الرؤية بصرية، وقد عديت إلى اثنين بالهمزة، وجملة {أَضَلَّانَا}: صلة لـ {الَّذِينَ}، {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: جار ومجرور حال من فاعل {أَضَلَّانَا}. {نَجْعَلْهُمَا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق. {تَحْتَ أَقْدَامِنَا}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {نجعل} على كونه مفعولًا ثانيًا له، والجملة الفعلية: لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جملة جوابية. {لِيَكُونَا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {يكونا}: فعل مضارع ناقص واسمه، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {مِنَ الْأَسْفَلِينَ}: جار ومجرور خبر {يكونا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور: متعلق بـ {نَجْعَلْهُمَا}؛ أي: نجعلهما تحت أقدامنا لإرادة كونهما من الأسفلين في النار. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {قَالُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {رَبُّنَا اللَّهُ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب. {اسْتَقَامُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا}، {تَتَنَزَّلُ}: فعل مضارع. {عَلَيْهِمُ}: متعلق به. {الْمَلَائِكَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لبيان حال المؤمنين في الدنيا. {أَلَّا}: {أن}: حرف نصب ومصدر. {لا}: نافية، {تَخَافُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، أو {أن}: مخففة من الثقيلة، و {لا}: ناهية. {تَخَافُوا}: مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وعلى كلا التقديرين {أن} ومدخولها: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بأن لا تخافوا، الجار والمجرور: متعلق بمحذوف حال من {الْمَلَائِكَةُ} تقديره: قائلين بـ {أَلَّا تَخَافُوا}. {وَلَا تَحْزَنُوا}: معطوف على {تَخَافُوا}. {وَأَبْشِرُوا}: معطوف أيضًا على {تَخَافُوا}. {بِالْجَنَّةِ}: متعلق بـ {أبشروا}. {الَّتِي}: صفة لـ {الجنة}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص، واسمه، وجملة {تُوعَدُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة

الموصول. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي وقع حالًا من {الْمَلَائِكَةُ} لأنه من تتمة مقول الملائكة. {فِي الْحَيَاةِ}: متعلق بـ {أَوْلِيَاؤُكُمْ}؛ لأنه جمع ولي من الولاية بمعنى الحفظ؛ أي: نحن الحفظة لأعمالكم. {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةِ}. {وَفِي الْآخِرَةِ}: معطوف على ما قبله. {وَلَكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {لكم}: خبر مقدم. {فِيهَا}: جار ومجرور حال من ضمير المخاطبين، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} على كونها مقول القول، {تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: تشتهيه أنفسكم. {وَلَكُمْ}: خبر مقدم. {فِيهَا}: حال من ضمير المخاطبين. {مَا}: المحم موصول في محل الرفع، مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها، وجملة {تَدَّعُونَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما تدعونه. {نُزُلًا}: مصدر واقع في موضع الحال من الهاء المحذوفة في {تَدَّعُونَ} أو من {مَا} الموصولة؛ أي: ولكن فيها ما تدعونه حال كونه معدًا لكم. {مِنْ غَفُورٍ}: صفة لـ {نُزُلًا}. {رَحِيمٍ}: صفة {غَفُورٍ} أو هو جمع نزل كصابر وصبر، فيكون حالًا من {الواو} في {تَدَّعُونَ}، أو من {الكاف} في {لكم}، فعلى هذا تتعلق {مِنْ غَفُورٍ} بـ {تَدَّعُونَ}؛ أي: ما تطلبونه من {غَفُورٍ رَحِيمٍ}. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم استفام في محل الرفع مبتدأ. {أَحْسَنُ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {قَوْلًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَحْسَنُ}، {دَعَا}: فعل ماض وفاعل مستتر. {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {دَعَا} والجملة الفعلية: صلة {مَن}

الموصولة. {وَعَمِلَ صَالِحًا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {دَعَا}. {وَقالَ}: معطوف على ما قبله أيضًا. {إِنَّنِي}: {إن}: حرف نصب، و {النون}: للوقاية، و {الياء}: اسمها. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: خبرها، وجملة {إن}: في محل النصب مقول {قال}. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)}. {وَلَا}: {الواو}: استئنافية. {لا}: نافية. {تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ}: فعل وفاعل. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: زائدة لتأكيد النفي. {السَّيِّئَةُ}: معطوف على الحسنة، والجملة الفعلية: مستأنفة. {ادْفَعْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {بِالَّتِي}: متعلق بـ {ادْفَعْ}. {هِيَ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبر، والجملة: صلة الموصول. {فَإذَا} {الفاء}: إما تعليلية وهي التي كان ما بعدها علة لما قبلها، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا دفعت بالتي هي أحسن، وأردت بيان ثمرته .. فأقول لك: إذا الذي ... إلخ. {إذا}: فجائية، في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بمعنى التشبيه الآتي، والظرف يتقدم على عامله؛ لأنهم يتوسعون في الظروف ما لا يتوسعون في غيرها، أو حرف لا تحتاج إلى متعلق تتعلق به. {الَّذِي}: مبتدأ. {بَيْنَكَ}: منصوب على الظرفية الاعتبارية. متعلق بمحذوف خبر مقدم. {وَبَيْنَهُ}: معطوف على {بَيْنَكَ}. {عَدَاوَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. {كَأَنَّهُ} {كأن}: حرف نصب وتشبيه، و {الهاء}: اسمها. {وَلِيٌّ}: خبرها، {حَمِيمٌ}: صفة {وَلِيٌّ} وجملة {كأن}: في محل الرفع خبر الموصول؛ أعني: {الَّذِي} والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، والتقدير؛ فأقول لك: الذي بينك وبينه عداوة مشبه بولي حميم في تلك الحضرة؛ أي: في المكان الذي حصل فيه دفع السيئة بالحسنة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة، ويجوز أن تكون الجملة التشبيهية في محل نصب على الحال، والموصول: مبتدأ أيضًا، و {إذا} التي للمفاجاة: خبره، والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو: العامل في هذه الحال، ومحط الفائدة في هذا الكلام هو الحال، والتقدير: ففي الحضرة المعادي مشبهًا لولي الحميم، وقدمه أبو البقاء على

ما قبلها. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، أو اعتراضية. {ما}: نافية. {يُلَقَّاهَا}: فعل مضارع مغير الصيغة، ومفعول ثان، والضمير لخصلة دفع السيئة بالحسنة. {إِلَّا}: أداة حصر. {الَّذِينَ}: نائب فاعل لـ {يلقى} والجملة الفعلية: مستأنفة أو اعتراضية، وجملة {صَبَرُوا}: صلة الموصول. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {يُلَقَّاهَا}: فعل مضارع ومفعول ثان. {إلا}: أداة حصر. {ذُو}: نائب فاعل لـ {يلقى}. {حَظٍّ}: مضاف إليه، {عَظِيمٍ}: صفة {حَظٍّ} والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها. {وَإِمَّا}: {الواو}: استئنافية أو عاطفة. {إما} {إن}: حرف شرط أدغمت نونها في {ما} الزائدة. {يَنْزَغَنَّكَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {إِنَّ} الشرطية؛ مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. و {الكاف}: مفعول به. {مِنَ الشَّيْطَانِ}: حال من {نَزْغٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها و {نَزْغٌ}: فاعل. {فَاسْتَعِذْ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا. {استعذ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {استعذ}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على جملة {ادْفَعْ}، أو مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل أو مبتدأ. {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ خبرَانِ لـ {إن} أو لـ {هُوَ} والجملة: خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالاستعاذة. {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)}. {وَمِنْ}: {الواو}: استئنافية. {آيَاتِهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {اللَّيْلُ}: مبتدأ مؤخر. {وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}: معطوفات على {اللَّيْلُ} والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان جمل من آيات الله {لَا}: ناهية جازمة. {تَسْجُدُوا}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {لَا} الناهية. {لِلشَّمْسِ}: متعلق به. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها {لِلْقَمَرِ}: معطوف

على {لِلشَّمْسِ} والجملة: مستأنفة. {وَاسْجُدُوا}: فعل أمر وفاعل معطوف على {لَا تَسْجُدُوا}، {لِلَّهِ}: متعلق بـ {سجدوا}. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {خَلَقَهُنَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. {إِن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {إِيَّاهُ}: ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول مقدم لـ {تَعْبُدُونَ} وجملة {تَعْبُدُونَ}: خبر {كان} وجواب {إِن} الشرطية: محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فاسجدوا لله الذي خلقهن. وجملة {إِن} الشرطية: مستأنفة .. {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}. {فَإِنِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أمرتهم بالسجود، وأردت بيان ما هو اللازم لك إذا أبوا من السجود .. فأقول لك: {إنْ}: حرف شرط، {اسْتَكْبَرُوا}: فعل ماض وفاعل، في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجوابها: محذوف، تقديره: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن السجود .. فدعهم وشانهم، وجملة {إنْ} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {فالَذِينَ} {الفاء}: تعليلية للجواب المحذوف. {الذين}: مبتدأ. {عِنْدَ رَبِّكَ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، والظرفية هنا ظرفية مكانة وتشريف، وهي عبارة عن الزلفى والكرامة. {يُسَبِّحُونَ}: فعل وفاعل. {لَهُ}، متعلق بـ {يُسَبِّحُونَ}. {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: ظرفان متعلقان بـ {يُسَبِّحُونَ} أيضًا، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مسوقة لتعليل الجواب المحذوف. {وَهُمْ}: {الواو}: حالية. {هم} مبتدأ، وجملة: {لَا يَسْأَمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {يُسَبِّحُونَ}. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم. {أَنَّكَ}: ناصب واسمه. {تَرَى}: فعل مضارع،

وفاعل مستتر يعود على محمد أو على أي مخاطب. {الْأَرْضَ}: مفعول به؛ لأن رأى بصرية. {خَاشِعَةً}: حال من {الْأَرْضَ} ولك أن تجعل الرؤية علمية، فيكون {خَاشِعَةً}: مفعولًا ثانيًا لها وجملة {تَرَى} في محل الرفع خبر {أَنّ} وجملة {أنّ} في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء والتقدير ومن آياته رؤيتك {الْأَرْضَ خَاشِعَةً}؛ أي: خشوعها ويبوستها، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}. {فَإِذَا} {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، {الْمَاءَ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. {اهْتَزَّتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضَ}. {وَرَبَتْ}: معطوف عليه، والجملة الفعلية: جواب {إذا}: لا محل لها من الإعراب وجملة {إذا} معطوفة على جملة {أَنَّكَ}، والتقدير: {وَمِنْ آيَاتِهِ} رؤيتك {الْأَرْضَ خَاشِعَةً} واهتزازها وربوها وقت إنزالنا الماء عليها، {إِنَّ الَّذِي}: ناصب واسمه، وجملة {أَحْيَاهَا}: صلة الموصول. {لَمُحْيِ}: {اللام}: حرف ابتداء، {محي الموتى} خبر {إِنَّ} وجملة {إِن} مستأنفة، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}. و {قَدِيرٌ} خبر {إنّ} وجملة {إنّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل جملة {إِنَّ} المذكورة قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يُلْحِدُونَ}: فعل وفاعل. {فِي آيَاتِنَا}: متعلق به، والجملة: صلة الموصول. {لَا}: نافية. {يَخْفَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لبيان حال الملحدين. {عَلَيْنَا}: جار ومجرور متعلقان بـ {يَخْفَوْنَ}. {أَفَمَنْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري؛ أي: لتقرير وتعيين أحد المستويين، داخلة على محذوف معلوم من السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أمن يلحد في آياتنا خير أم من يؤمن بها خير؟ فمن يلقى في النار خير أم من يدخل الجنة خير؟ والجملة المحذوفة: مستأنفة أو إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {من}: اسم موصول مبتدأ. {يُلْقَى}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر. {فِي النَّارِ}:

متعلق به، والجملة: صلة الموصول {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على تلك المحذوفة. {أَمْ}: حرف عطف. {مَنْ}: اسم موصول معطوفة على {مَنْ} الأولى، وجملة {يَأْتِي}: صلته. {آمِنًا}: حال من فاعل {يَأْتِي}. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {يَأْتِي} أو بـ {آمِنًا}، وكان مقتضى السياق أن يقال: أم من يدخل الجنة، ولكن عدل عنه إلى ما ذكر، ليصرح بأمنهم انتفاء الخوف عنهم أصلًا، وذلك أثلج لصدورهم وأقر لعيونهم. {اعْمَلُوا}: فعل أمر وفاعل. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة للتهديد، وجملة {شِئْتُمْ}: صلة الموصول، والعائد: محذوف؛ أي: ما شئتموه. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {بِمَا} متعلق بـ {بَصِيرٌ} وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما}. {بَصِيرٌ} خبر {إن} وجملة {إن}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {بِالذِّكْرِ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {كَفَرُوا} {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على الذكر، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا} وخبر {إِنَّ}: محذوف، تقديره: لا يخفون علينا، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة، وهذا الوجه أظهر الأوجه الجارية في خبر {إِنَّ}، ويؤيده كون {إنَّ} الثانية بدلًا من {إن} الأولى، فيجري عليها ما يجري على الأولى، فيكون خبرها نفس خبرها، وقيل: إنه محذوف، تقديره: معذبون أو مهلكون، وقيل: إنه محذوف، تقديره: نجازيهم، وقيل: خبرها: قوله: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ} وقيل: خبرها قوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} كما هو مبين في المطولات مع علته. {وَإِنَّهُ}: {الواو}: حالية. {إنه}: ناصب واسمه. {لَكِتَابٌ} {اللام}: حرف ابتداء. {كتاب}: خبره {عَزِيزٌ}: صفة {كتاب} والجملة: في محل النصب حال من {الذكر} وجملة {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ}: صفة ثانية لـ {كتاب}. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} متعلق بـ {يَأْتِيهِ}. {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}: معطوف على {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}. {تَنْزِيلٌ}: خبر ثان لـ {إِنَّهُ}، {مِنْ حَكِيمٍ}: متعلق بـ {تَنْزِيلٌ} {حَمِيدٍ}: صفة لـ {حَكِيمٍ}. {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)}.

{مَا}: نافية. {يُقَالُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {لَكَ}: متعلق بـ {يُقَالُ}. {إلَّا}: أداة حصر. {مَا}: نائب فاعل لـ {يُقَالُ}؛ أي: إلا مثل ما قيل للرسل. {قَدْ}: حرف تحقيق. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {مَا} والجملة صلة لـ {مَا}، {لِلرُّسُلِ}: متعلق بـ {قِيلَ}، {مِنْ قبْلِكَ}: حال من {الرسل}. وجملة {مَّا يُقَالُ}: مستأنفة مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم - على ما يناله من أذى الكفار. {إنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لَذُو}: {اللام}: حرف ابتداء، {ذو} خبر {إِنَّ}. {مَغفِرَةٍ}: مضاف إليه. {وَذُو عِقَابٍ}: معطوف على {ذو مغفرة}. {أَلِيمٍ}: صفة {عِقَابٍ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر الدال عليه السياق؛ أي: فاصبر على أذاهم، واعف عنهم {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}. {وَلوْ}: {الواو}: استئنافية، {لو}: حرف شرط، {جَعَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {قُرْآنًا}: مفعول ثان. {أَعْجَمِيًّا}: صفة {قُرْآنًا}. {لَقَالُوا}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية. {قالوا}: فعل وفاعل جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة مسوقة للرد على تساؤلهم {لولَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا. {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعله، والجملة: في محل النصب مقول {قالوا} {أَأَعْجَمِيٌّ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {أعجمي}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: القرآن {أعجمي}. {وَعَرَبِيٌّ}: {الواو}: عاطفة. {عربي}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهو؛ أي: المرسل به {عربي} والجملة: معطوفة على جملة {اعجمي}، والجملتان: في محل النصب مقولتان {لَقَالُوا}. {قُل}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {هُوَ}: مبتدأ. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور حال من {هُدًى}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليه، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {هُدًى}: خبر المبتدأ. {وَشِفَاءٌ}: معطوف على {هُدًى}، والجملة الاسمية: في محل النصب

مقول {قالوا} {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة. {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صلته والعائد محذوف تقديره لا يؤمنون به، {فِي آذَانِهِمْ}: خبر مقدم. {وَقْرٌ}: مبتدأ مؤخر، ولا بد من تقدير رابط؛ أي: منه، والجملة الاسمية: خبر {الَّذِينَ}، وجملة {الَّذِينَ}: معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قُل}، {وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَيْهِمْ}: حال من {عَمًى}، و {عَمًى}: خبر المبتدأ، والجملة: معطوفة على ما قبلها. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، وجملة {يُنَادَوْنَ}: خبره، والجملة: مستأنفة، أو في محل النصب مقول {قُل}. {مِنْ مَكَانٍ}: متعلق بـ {يُنَادَوْنَ}: {بَعِيدٍ}: صفة {مَكَانٍ}. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فعل وفاعل ومفعولان، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لبيان أن الاختلاف في أمر الكتب المنزلة ليس بدعًا، بل هو قديم في الأمم السالفة. {فَاخْتُلِفَ}: {الفاء}: عاطفة. {ختلف}: فعل ماض مغير الصيغة، {فيه}: جار ومجرور نائب فاعل لـ {اختلف}، والجملة: معطوفة على جملة {اختلف}. {وَلوْلَا}: {الواو}: عاطفة، {لولا}: حرف امتناع لوجود {كلِمَةٌ}: مبتدأ، خبره: محذوف وجوبًا لسد جواب {لولا}: مسده، تقديره: موجودة. {سَبَقَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {كلِمَةٌ}. {مِنْ رَبِّكَ}: متعلق بـ {سَبَقَتْ} والجملة الفعلية: صفة لـ {كلِمَةٌ}. {لَقُضَى}: {اللام}: رابطة لجواب {لولا}. {قضي}: فعل ماض مغير الصيغة. {بَيْنَهُمْ}: منصوب على الظرفية الاعتبارية، والظرف: متعلق بـ {قضي} على كونه نائب فاعل له، وقيل: نائب فاعله ضمير يعود على المصدر المفهوم من {قضي}؛ أي: {لَقُضِىَ} القضاء {بَيْنَهُمْ} والجملة الفعلية: جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا}: معطوفة على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى}. {وَإِنَّهُم}: {الواو}: عاطفة {إنهم}: ناصب واسمه. {لَفِى}: {اللام}: حرف ابتداء. {في شك}: جار ومجرور خبر {إنّ}. {مّنْهُ}: متعلق بمحذوف صفة لـ {شَكٍّ}. {مُرِيبٍ}: صفة ثانية لـ {شَكٍّ} أو {مِنْهُ}: متعلق

بـ {شَكٍّ} {مُرِيبٍ} صفة لـ {شَكٍّ}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {لولا}. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {عَمِلَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها. {صَالِحًا}: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف، {فَلِنَفْسِهِ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا. {لنفسه}: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فعمله لنفسه، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَّنْ}، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَّنْ} الشرطية: مستأنفة. {ومَنَ}: {الواو}: عاطفة. {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب. {أَسَاءَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَّن} على كونه فعل شرط لها. {فَعَلَيْهَا}: {الفاء}: رابطة الجواب. {عليها}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فإساءته {عليها} والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَّن} الشرطية على كونا جوابًا لها، وجملة {مَّنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {مَّنْ} الأولى. {وَمَا رَبُّكَ}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: حجازية. {رَبُّكَ}: اسمها، {بِظَلَّامٍ}: {الباء}: زائدة. {ظلام}: خبرها منصوب. {لِلْعَبِيدِ}: متعلق بـ {ظلام} وجملة {مَا} الحجازية: معطوفة على جملة {مَّنْ} الشرطية. التصريف ومفردات اللغة {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ}؛ أي: يسرنا وهيأنا، من التقييض بمعنى التيسير والتهيئة، يقال: قيضته له؛ أي: هيأته ويسرته، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة، يقال: ثوبان قيضان؛ أي: كل منهما مكافىء للآخر في الثمن. {قُرَنَاءَ}: جمع قرين، بمعنى: نظير؛ أي: أخدانًا وأصحابًا وأصدقاء من غواة الجن والإنس، يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، والقيض: القشر الأعلى من البيض. {وَالْغَوْا فِيهِ}: فعل أمر من لغي بالكسر يلغى بالفتح، وفيها معنيان: أحدهما: أنه من لَغِيَ: إذا تكلم باللغو، وهو: ما لا فائدة فيه. والثاني: أنه من لَغَى بكذا: إذا رمى به، فتكون في بمعنى الباء؛ أي: ارموا

به وانبذوه، وإما أن يكون من لَغى بالفتح يلغى بالفتح أيضًا، كسَعى يسعى، حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم، كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق، وقرىء: بضم الغين، من لغا يلغو كدعا يدعو، هذا ما قرره السمين. وعبارة الزمخشري: {وَالْغَوْا فِيهِ} بفتح الغين وضمها، يقال: لَغى يلغي ولغا يلغو، واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. والمعنى هنا؛ أي: عارضوه باللغو والباطل حين يقرأ لتشوّشوا عليه، وأصله على قراءة الفتح: الغيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف فصار والغوا، وعلى قراءة الضم الغووا، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان فحذفت الألف، ثم حركت عين الكلمة بالضم؛ لتدل على الواو المحذوفة فصار: والغوا. {رَبَّنَا أَرِنَا} من رأى البصرية، و {الهمزة}: للتعدية إلى مفعول ثان، فالضمير مفعول أول، والموصول مفعول ثان. كما مر. وأصله: أرئينا؛ أي: صيرنا رائين بأبصارنا، فحذفت الياء التي هي لام الكلمة لبناء الفعل على حذف حرف العلة، و {الهمزة}: الثانية التي هي عين الكلمة لنقل حركتها إلى الراء قبلها، التي هي فاء الكلمة، فصار وزنه أفنا، فان الهمزة الموجودة ليست من الكلمة بل هي لتعدية الفعل. اهـ شيخنا. {أَضَلَّانَا} أصله: أضللانا، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان لخوف مكروه في المستقبل، والحزن: غم يلحق الإنسان من فوات نافع أو حصول ضار. قوله: {اسْتَقَامُوا} أصل: استقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت ثم قلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} جمع ولي، أصله: أولياي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {مَا تَدَّعُونَ} أصله: تدتعيون، تفتعلون، أبدلت تاء الافتعال دالًا وأدغمت فيها الدال فاء الكلمة، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت العين لمناسبة الواو، فهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب. وفي المصباح: وادعيت الشيء تمنيته وادعيته طلبته. اهـ. {وما يلقاها} أصله: يلقيها بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها،

من التلقية نظير زكى تزكيةً. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} أصله: إن ما على أن {إنْ}: شرطية، و {ما} مزيدة لتأكيد معنى الشرط والاستلزام، فلذا لحقت نون التوكيد بفعل الشرط، فإنها لا تلحق الشرط ما لم يؤكد، والنزغ والنسغ بمعنًى وهو شبه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي، والمراد: الوسوسة. وفي معاجم اللغة: نزغ ينزغ، من باب ضرب نزغًا، نزغ بين القوم: أفسد، ويقال: نزغ الشيطان بينهم؛ أي: أغرى بعضهم ببعض، ونزغه الشيطان إلى المعاصي؛ أي: حثه، ونزغ الشيطان: وساوسه وما يحمل الإنسان على المعاصي. {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} من السآمة، وهي الملالة؛ أي: لا يملون ولا يفترون. {اهْتَزَّتْ} من الاهتزاز؛ وهو التحرك؛ أي: تحرك بالنبات. {وَرَبَتْ} يقال: ربا ربوًا وربًا: زاد ونما، والفرس ربوًا: إذا انتفخ من عدْوٍ أو فَزع. وقال الراغب: {وَرَبَت}؛ أي: زادت زيادة المتربي، ويقال: للموضع المرتفع: ربوة ورابية، وأصله: ربو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما اتصلت تاء التأنيث بالفعل .. التقى ساكنان فحذفت الألف. {يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} من الإلحاد، والإلحاد في الأصل: مطلق الميل والانحراف، ومنه اللحد؛ لأنه في جانب القبر، ثم خص في العرف بالانحراف عن الحق إلى الباطل؛ أي: يميلون عن الاستقامة، وهو بضم الياء: مضارع ألحد في دين الله؛ أي: جار وعدل، وقرىء: بفتح الياء مضارع لحد من باب قطع لغة فيه. وقال في "الكشاف": يقال: ألحد الحافر ولحد: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق. {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أصله: يخفيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {يُلْقَى فِي النَّارِ} فيه إعلال بالقلب، أصله: يلقى بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {الْقِيَامَةِ} الياء فيه منقلبة عن واوه. {شِئْتُمْ} أصله: شيء بوزن فعل، بكسر العين، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك .. سكن آخره فالتقى ساكنان: الألف وآخر الفعل، فحذفت الألف فصار اللفظ شأت، فحذفت حركة فائه، ونقلت إليها حركة مجانسة لتلك العين المحذوفة؛ لتدل عليها، ولما كانت العين هنا ياءً .. نقلت إلى الفاء كسرة؛ لأنها هي التي تناسب الياء، وهكذا كل أجوف من هذا النوع.

{قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} قال أبو حيان: والياء فيه: للمبالغة في الوصف، وليس النسب فيه حقيقيًا كأحمري ودراري. قال الرازي في "لوامحه": فهي كياء كرسي وبختي، وفرق بينهما الشيخ، فقال: ليست كياء كرسي وبختي، فإن ياء كرسي وبختي بنيت الكلمة عليها بخلاف أعجمي، فإنهم يقولون: رجل أعجم وعجمي، والأعجمي: هو الذي لا يفصح ولا يفهم كلامة. {يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أصله: يناديون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {مَكَانٍ} أصله: مكون بوزن مفعل اسم مكان، نقلت حركة الواو إلى الكاف، ثم أبدلت الواو ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها حالًا. {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} مصدر: عمِيَ يعمَى كصدِي يصدى صدًى، هوِي يهوَى هوًى. {وَمَنْ أَسَاءَ} الأصل فيه: أسوأ، بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى السين، ثم أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن. {بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: بذي ظلم؛ فظلام: صيغة نسب، كتمار ويقال وخباز، لا صيغة مبالغة، وهذا التقرير أحسن من غيره. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} وقد تقدم إجراؤها كثيرًا. ومنها: التجريد في قوله: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله، مبالغةً لكماله فيها، وله أقسام. فمنه: ما يكون بدخول في المنتزع منه كما هنا: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ}؛ أي: في جهنم، وهي دار الخلد، لكنه انتزع منها دارًا أخرى مبالغة. ومنه: ما يكون بـ {من} التجريدية كقولهم: لي من فلان صديق حميم؛ أي: قد بلغ فلان حدًا من الصداقة، يصح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها، وله أقسام كثيرة مذكورة في محلها.

ومنها: الحصر المستفاد من تعريف طرفي الجملة في قوله: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}؛ أي: ما لنا رب إلا الله سبحانه، مثل: صديقي زيد. ومنها: الإيجاز البليغ في قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}؛ لأن الاستقامة كلمة شملت جميع صفات التقوى. ومنها: الطباق بين الحزن والبشارة في قوله: {وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا} وفي قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وفي قوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، وفي قوله: {عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ لأن الولاية بمعنى الصداقة. ومنها: الجناس المماثل بين {الْحَسَنَةُ} و {أَحْسَنُ} في قوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} مبالغةً في التأكيد. ومنها: جناس الاشتقاق بين {ولا} و {قال} في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}، وفي قوله: {يَنْزَغَنَّكَ مِنَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}؛ لأن النزل حقيقة فيما يعد للضيف من الطعام النفيس، ثم استعير لرزق الجنة. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} شبه وسوسة الشيطان بالنزغ الذي هو النخس والطعن؛ لأنها بعث على الشر وتحريك على ما لا ينبغي، وفيه أيضًا لتجريد المشتمل على من التجريدية في قوله: {مِنَ الشَّيْطَانِ}؛ لأنه جرد من الشيطان شيطانًا آخر، وسماه نازغًا. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ لأنه ذُكِرَتْ فيه أداة التشبيه فهو مرسل، وحذف منه وجه الشبه فهو مجمل. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} مستعار الخشوع بمعنى التذلل، شبه يبس الأرض وخلوها عن الخير والبركة بكون الشخص خاشعًا ذليلًا عاريًا لا يؤبه به لدناءة هيئته، فهي استعارة تبعية بمعنى يابسة جدبة.

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا}؛ لأن الإحياء في الحقيقة: إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضى الحس والحركة، استعارة لإنبات الأرض، فالمراد بإحياء الأرض: تهييج القوى النامية فيها، وإحداث نضارتها بأنواع النبات. ومنها: الاحتباك في قوله: {أَفَمَنْ يلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهو: أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر، وأصل الكلام: {أَفَمَنْ} يأتي خائفًا و {يلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي امِنًا} ويدخل الجنة. ومنها: الأمر التهديدي في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}؛ لأن المقصود بالأمر هنا: التهديد والوعيد لا طلب الفعل. ومنها: الطباق بين {مغفرة وعقاب}، وبين {أعجمي} و {عربي}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} حالهم في عدم قبول المواعظ وإعراضهم عن القرآن وما فيه، بحال من ينادى من مكان بعيد فلا يسمع ولا يفهم ما ينادى به، والجامع عدم الفهم في كل. ومنها: وضع الظاهر موضع ضمير الآيات في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} وكان مقتضى السياق أن يقال: إن الذين كفروا بها؛ لتقدم المرجع في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يلْحِدُونَ في آيَاتِنَا}؛ لأن هذه الجملة بدل من تلك الجملة. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} شبه الكتاب في عدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه، بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن عبر عن المشبه بما عبر به عن المشبه به، فقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ ...} إلخ. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} فإنه أطلق الأعجمي هنا على كلام مؤلف على لغة العجم بطريق الاستعارة، تشبيهًا له بكلام من لا يفصح، من حيث إنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي: هاد وشاف لهم، ففي إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل.

ومنها: المقابلة في قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}. ومنها: الاعتراض التذييلي المقرر لمضمون ما قبله في قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإنه مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله، أو إثابة الغير بعمله، وتنزيل التعذيب بغير إساءة، أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره من الله سبحانه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقع الفراغ من تفسير هذه السورة الكريمة أوائل ليلة الجمعة، الليلة الثامنة عشرة من شهر الله رجب الفرد، من شهور سنة 18/ 7/ 1414 ألفٍ وأربع مئة وأربع عشرة من الهجرة النبوية، عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات، وعلى جميع الآل والصحابات، ونتفرّغ بحول الله تعالى وتيسيره لتفسير سورة غافر، نسأل الله تعالى الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، آمين آمين، ألف ألف آمين، يا رب العالمين. وهذا آخر ما وفقني الله سبحانه من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم، فالحمد لله على ما حبا، والشكر له على ما أسدى، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى، سيدنا محمد خير من وحّد ودعا، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين. اللهم وفقنا بالصالحات، وجنبنا عن الموبقات، واختم لنا بالشهادات، وألهمنا العمل لما يرضيك، والبعد عما يسخطك بفضلك وجودك وكرمك وإحسانك. وكان الفراغ من هذا المجلد يوم الأربعاء، وقت الضحوة، اليوم الرابع من شهر شوال، من شهور سنة أربع عشرة وأربع مئة وألف 4/ 10/ 1414 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات، في مكة المكرمة، جوار الحرم الشريف، حارة الرشد من المسفلة، أمام المسجد السندي. وهذا آخر المجلد الخامس والعشرين، ويليه المجلد السادس والعشرون، وأوله قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}.

شعرٌ إِذَا مَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُقَبِّحُ سَطْرِيْ ... لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا آخرُ الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالعِلْمُ مَقْسُوْمُ وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّوْمُ آخرُ أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُل يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي أُعَلِّمُهُ الْقَوَافِيَ كُلَّ حِيْنٍ ... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِيْ آخرُ لَقَدْ رَبَّيْتُ جَرْوًا طُوْلَ عُمْرِيْ ... فَلَمَّا صَارَ كَلْبًا عَضَّ رِجْلِيْ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [26]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ أتَاكَ الرُّوْحُ يَلْفِظُ بِالْغَوَالِيْ ... وَيَرْمِي بِالزَّبَرْجَدِ وَالَّلآلِيْ يقُوْلُ لِسَابِحِيْهِ وَخَائِضِيْهِ ... هَلُمُّوْا فَالنَّفَائِسُ فِيْ خِلاَلِيْ آخرُ كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبًا ... وَارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا قَلِّبِ الخَلْقَ كَيْفَ شِئـ ... ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا آخرُ بِلاَدُ اللهِ وَاسِعَة فَضَاءً ... وَرِزْقُ اللهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ ... إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أرْضٌ فَسِيْحُوْا آخرُ لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلَاوَةَ قَوْلِهِ ... حَتَّى يُزَيِّنَ مَا يَقُوْلُ فِعَالُ وَإِذَا وَزَنْتَ فِعَالَهُ بِمَقَالِهِ ... فَتَوَازَنَا فَإِخَاءُ ذَاكَ جَمَالُ آخرُ مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيْرَةٌ لَا تَنْقَضِيْ ... وَسُرُوْرُهُ يَأْتِيْكَ كَالأَعْيَادِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حمدًا لك يا فارق الفرقان، ويا منزل القرآن، على ما أكرمتنا بنعمة الإيمان وخصصتنا بصنوف العرفان، والصلاة والسلام على من اصطفيته، من ولد عدنان، وأرسلته لهدايتنا بأفضل الأديان، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه، من حازوا قصب الميدان، ومن تبعهم في الإِسلام والإيمان والإحسان، إلى يوم العرض، والوقوف بين يدي الرحمن. أما بعد: فلما تجهزت تفسير الجزء الرابع والعشرين من القرآن الكريم، تجشمت لتفسير الجزء الخامس والعشرين منه، مستمدًا من الله سبحانه التوفيق والهداية، لأقوم الطريق، في تفسير كتابه الكريم، مستعيذًا به من الزيغ والزلل والخطأ فيه، وأقول: وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}. المناسبة قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية

لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدد (¬1) الكافرين، بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملًا غير منقوص، إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًا فشرّ .. أردف ذلك ببيان، أنّ هذا اليوم، لا سبيل للخلق إلى معرفته، فلا يعلمه إلا هو، وأنّ علم الحوادث المقبلة في أوقاتها المعينة، مما استأثر الله به، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمرات من الأكمام، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع، ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة، ينادي المشركين، تهكمًا وتقريعًا لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون فيجيبون الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة في الألوهية، وقد غابوا عنم، فلا يرجون منهم نفعًا ولا يفيدونهم خيرًا، وأيقنوا حينئذٍ أن لا مهرب لهم من العذاب. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (¬2) {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا ...} الآية .. كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة وكأن سائلًا قال: ومتى ذلك؟ فقيل: لا يعلمها إلا الله، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعيين وقتها، وإنما يرد ذلك إلى الله، ثم ذكر سعة علمه، وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى. قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما بيّن حال الكافرين في الآخرة، وذكر أنهم حينئذٍ يتبرؤون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم في الدنيا .. أردف ذلك ببيان، أنَّ الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحس بخير وقدرة، انتفخت أوداجه، وصعّر خدّيه، ومشى الخيلاء، وإن أصابته محنة وبلاء، تطامن واستكان ويئس من الفرج، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع، وشدة جزعه من الفقد، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة، وتطامنه حين زوالها، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن المنعم، في حالي وجودها وفقدها، أما في حال وجودها فواضح، وأما في حال فقدها، فلأن التضرع جزعًا إنما كان على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[47]

الفقد، الدال على الشغل عن المنعم بالنعمة. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أوعد (¬1) على الشرك وهدّد وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة، ويتبرؤون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع لاستيلاء الخوف عليهم، لما يرون من شديد الأهوال، وأردف ذكر طبيعة الإنسان، وأنه متبدل لا يثبت على حال واحد، فإن أحسّ القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة .. أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى التأمل والتفكر، فيما بين أيديهم من "الدلائل" ليرعووا عما هم فيه من الغي والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله تعالى حقًا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. أسباب النزول قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما روي أن المشركين، قالوا: يا محمد، إن كنت نبينا، فأخبرنا متى تقوم الساعة؟ فنزلت هذه الآية ردًا عليهم. التفسير وأوجه القراءة 47 - {إِلَيْهِ} سبحانه تعالى، لا إلى غيره {يُرَدُّ} ويرجع {عِلْمُ السَّاعَةِ} إذا سئل عن القيامة، يقال: الله يعلم، إذ لا يعلمها إلا الله، فإذا جاءت، يقضي بين المحسن والمسيء بالجنة والنار، يعني: إذا سئل عنها (¬3) أحد، وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه تعالى، لا إلى غيره، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه تعالى، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنّ جبرائيل عليه السلام، سأل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل". ونحو الآية: قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}، وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة، بيّن أنه اختص أيضًا بعلم الغيب، ومعرفة ما سيحدث في مستأنف الأزمنة، فقال: {وَمَا} نافية {تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ} {مِنْ}: مزيدة (¬1) للتنصيص على الاستغراق، فإنه قبل دخولها، يحتمل نفي الجنس، ونفي الوحدة. والمعنى: ما تخرج أيّ ثمرة من الثمرات {مِنْ أَكْمَامِهَا}؛ أي: من أوعيتها، يعني: الكفُرَّى قبل أن ينشق، وقيل: قشرها الأعلى من الجوز واللوز والفستق وغيرها، جمع كم بالكسر، وهو وعاء الثمرة وغلافها؛ أي: ما يغطّي الثمرة، كما أنّ الكم بالضم، ما يغطي اليد من القميص. قال أبو عبيدة (¬2): أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة، واحدها كم وكمة. قال الراغب: الكم ما يغطي اليد من القميص، وما يغطي الثمرة، وجمعه أكمام، وهذا يدل على أنّ الكم بضم الكاف؛ لأنه جعله مشتركًا بين كم القميص، وما يغطي الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم، ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة والحسن، بخلاف عنه، ونافع وابن عامر في غير رواية، والمفضل وحفص وابن مقسم (¬3): {مِنْ ثَمَرَاتٍ} بالجمع، وقرأ باقي السبعة، والحسن في رواية طلحة والأعمش: {مِنْ ثَمَرَةٍ} بالإفراد. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} حملًا في بطنها، أيًا كان إنسانًا أو غيره {وَلَا تَضَعُ} أي: ولا تلد ذلك العمل، بمكان على وجه الأرض {إِلَّا بِعِلْمِهِ} سبحانه وتعالى (¬4)، استثناء مفرغ من أعم الأحوال، ولم يذكر متعلق العلم للتعميم؛ أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة: ولا حمل حامل، ولا وضع واضع ملابسًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

بشيء من الأشياء إلا ملابسًا بعلمه المحيط، واقعًا حسب تعلقه به، يعلم وقت خروج الثمرة من أكمامها وعددها وسائر ما يتعلق بها، من أنها تبلغ أوان النضج، أو تفسد قبله ونحوه ووقت العمل، وعدد أيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة. والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك، ووقت الوضع وما يتعلق به. وفي "حواشي ابن الشيخ"، المعنى: أنّ إليه يضاف علم الساعة؛ أي: علم وقت القيامة، فإذا سئلت عنه، فرد العلم إليه تعالى فقل: الله أعلم، كما يردّ إليه علم جميع الحوادث الآتية من الثمار والنبات وغيرهما، والمعنى: أي: وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هي مغلّفة به، وما تحمل أنثى حملها ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ونحو الآية قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}. وفي هذا (¬1): دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشيء مما يقولون البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف، قد يصيب وربما لا يصيب، وعلم الله هو المقطوع به، الذي لا يشركه فيه أحد. ولما كان (¬2) ما يخرج من أكمام الشجرة، وما تحمل الإناث وتضعه، هو إيجاد أشياء بعد العدم، ناسب أن يذكر مع علم الساعة، إذ في ذلك دليل على البعث، إذ هو إعادة بعد إعدام، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم، وسؤالهم سؤال التوبيخ، فقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} وفي ذلك تهكم بهم وتقريع، والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله، فيندرج فيه عباد الأوثان؛ أي: واذكر يا محمد لقومك، يوم ينادي الله سبحانه وتعالى المشركين وذلك يوم القيامة، فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِي} الذين كنتم تزعمون، أنهم شركائي في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[48]

يدفعوا عنكم العذاب، وهذا على طريقة التهكم بهم. قرأ الجمهور (¬1): {شُرَكَائِي} بسكون الياء، وقرأ ابن كثير: بفتحها. {قَالُوا}؛ أي: قال المشركون {آذَنَّاكَ}؛ أي: أخبرناك وأعلمناك {مَا مِنَّا}؛ أي: ليس منا {مِنْ شَهِيدٍ}؛ أي: من أحد يشهد لهم اليوم بالشركة، إذ تبرأنا منهم، لما عاينا الحال، والشهيد من الشهادة، أو ما منا من أحد يشهدهم ويعاينهم، لأنهم ضلوا عنهم حينئذٍ، فهم لا يبصرونهم في ساعة التوبيخ، فالشهيد من الشهود. والمعنى (¬2): أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم ينادي سبحانه عباده المشركين، على رؤوس الأشهاد، تهكمًا بهم، واستهزاء بأمرهم: أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ فيجيبون ويقولون: أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم، أن معك شريكًا، ونفي الشهادة يراد به التبرؤ منهم؛ لأنّ الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله، كما حكى الله عنهم، أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. والخلاصة: أن قوله: {آذَنَّاكَ} إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة، وأنهم لم يبقوا على الشرك، وعلى تلك الشهادة، كأنهم يقولون: أنت أعلم به، ثم يأخذون في الجواب. 48 - {وَضَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: غاب عن المشركين {مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}؛ أي: الآلهة التي كانوا يعبدونها من قبل يوم القيامة، فأخذ بها بطريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله الذي حل بهم، وظهر عدم نفعهم، فكان حضورهم كغيبتهم {وَظَنُّوا}؛ أي: أيقنوا {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: من مهرب؛ أي: وأيقنوا حينئذٍ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله تعالى. والمحيص (¬3): المحيد والمعدل والمميل والمهرب، والظن معلق عنه بحرف النفي، والتعليق أن يوقع ما ينوب عن المفعولين جميعًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[49]

49 - ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ}؛ أي: لا يمل ولا يضجر {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ}؛ أي: من دعائه الخير، وطلبه السعة في النعمة وأسباب المعيشة، فحذف الفاعل، وأضيف إلى المفعول، والمعنى: أن الإنسان في حال إقبال الخير إليه، لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، ولا يمل من طلبها أبدًا، وفيه إشارة إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير، بحيث لا يتطرق إليه السآمة فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية. والخير هنا (¬1): المال والصحة والسلطان والرفعة، قال السدي: والإنسان هنا، يراد به الكافر، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، والأولى حمل الآية على العموم، باعتبار الغالب، فلا ينافيه خروج خلص العباد، وقرأ عبد الله بن مسعود {لا يسأم الإنسان من دعاء المال} وفي "البحر المحيط": وقرأ عبد الله {من دعاء بالخير} بباء داخلة على الخير. والمعنى (¬2): أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه، ومسألته إياه، أن يؤتيه صحة وعافية، وسعة في الرزق، فهو مهما أوتي من المال، فهو لا يقنع، وقد جاء في الأثر: "منهومان لا يشبعان، طالب علم، وطالب مال"، وجاء أيضًا: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنّى لهما ثالثًا". {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ}؛ أي: وإن أصابه البلاء والشدة والفقر، والمرض الدي أنهك قواه، واضمحل به جسمه {فَيَئُوسٌ} من روح الله وفضله {قَنُوطٌ} من رحمته وإحسانه، وقيل: يؤوس من إجابة دعائه، قنوط بسوء الظن بربه، وقيل: يؤوس من زوال ما به عن لمكروه، قنوط بما يحصل له من ظن دوامه، وهما صيغتا مبالغة، يدلان على أنه شديد اليأس، عظيم القنوط، والفرق بين اليأس والقنوط، أن الياس من صفة القلب، وهو قطع الرجاء من رحمة الله تعالى، والقنوط من صفة البدن، بأن يظهر أثر اليأس في بدنه، فيتضاءل ويحزن وينكسر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[50]

ويتذلل، وبدأ بصفة القلب؛ لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار، وبهذا ظهر الفرق بينهما، وقال بعضهم: هما مترادفان وذكرهما معًا للتأكيد. والحاصل: أن اليأس من صفة القلب، والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، اهـ "كرخي"، وهذا صفة الكافر لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. وفي "فتح الرحمن" (¬1): ولا ينافي ما هنا من قوله: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} ما سيأتي من قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} لأن المعنى قنوط من الصنم، دعّاء لله، أو قنوط بالقلب دعاء باللسان، أو الأولى في قوم والثانية في آخرين؛ انتهى. وخلاصة ذلك؛ أن الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحسّ بخير بطر وتعظم، وإن شعر ببؤس ذل وخضع، فهو شديد الحرص على الجمع، شديد الجزع على الفقد. 50 - ثم ذكر حال هذا اليؤوس القنوط {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن أذقنا الإنسان وأعطيناه {رَحْمَةً مِنَّا}؛ أي: نعمة من عندنا {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} وأصابته، وذلك بتفريج تلك الضراء عنه، كالمرض والضيق، بالرحمة، كالصحة والسعة {... لَيَقُولَنَّ} ذلك الإنسان: {هَذَا} الخير {لِي}؛ أي: مستحق لي، وصل إليّ؛ لأني استحقه، لما لي من الفضل وعمل البر، فاللام (¬2): للاستحقاق، أو لي لا لغيري، فلا يزول عني أبدًا، فاللام للاختصاص، فيكون إخبارًا عن لازم الاستحقاق، لا عن نفسه، كما في الوجه الأول، ومعنى الدوام استفيد من لام الاختصاص؛ لأنّ ما يختص بأحدٍ، الظاهر أنه لا يزول عنه، فذلك المسكين لم ير فضل الله، وتوفيقه، فادّعى الاستحقاق في الصورة الأولى، واشتغل بالنعمة عن المنعم، وجهل أن الله تعالى أعطاه ليبلوه أيشكر أم يكفر، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

فلو أراد لقطعها منه، وذلك في الصورة الثانية. والمعنى (¬1): أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم في نفسه، أو شدة وجهد في معيشته فوهبنا له العافية بعد السقم، والغنى بعد الفقر، ليقولن هذا حقي قد وصل إلي؛ لأني استوجبه بما حصل لي من ضروب الفضائل، وأعمال البر والقرب من الله، لا تفضل منه عليّ، أو لا يعلم أن هذه الفضائل، لو وجدت فإنما هي بفضل الله وإحسانه، وهو لا يستحق على الله شيئًا. والخلاصة: أي ولئن آتيناه خيرًا وعافية وغنى، من بعد شدة ومرض وفقر .. ليقولن هذا الخير شيء أستحقه على الله، لرضاه بعملي، فظن أن تلك النعمة التي صار فيها، وصلت إليه باستحقاقه لها، ولم يعلم أنّ الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع، قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ} أي: القيامة {قَائِمَةً}؛ أي: ستقوم؛ أي: ما أظنها تقوم كما يخبرنا به الأنبياء، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على شيء من الآثام، التي يقترفها الإنسان في دنياه، ويجترمها مدى حياته الدنيوية. أوْلست على يقين من البعث. وما نتج هذا إلا من شدة رغبته في الدنيا، وعظيم نفرته من الآخرة، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا، يقول: إنها لي، وأنا جدير بها، لما لي من فضل به استحققتها، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول: وما أظن الساعة قائمة، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية: الجنس، باعتبار غالب أفراده؛ لأنّ اليأس من رحمة الله، والقنوط من خيره، والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين، أو المتزلزلين في الدين، المتظهّرين بالإِسلام، المبطنين للكفر. {وَلَئِنْ رُجِعْتُ} ورددت {إِلَى رَبِّي} وبعثت على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء، من قيام الساعة، وحصول البعث والنشور {إِنَّ لِي عِنْدَهُ ...}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي.

[51]

عند ربي في الآخرة {لَلْحُسْنَى}؛ أي: للحالة الحسنة من الكرامة، فظنّ أنه استحقّ خير الدنيا بما فيه من الفضل، واستحق خير الآخرة بذلك الفضل، الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، فقاس أمر الآخرة على أمر الدنيا بالوهم المحض، والأمنية الكاذبة، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد. وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال، ذكر أنه سيظهر لهم، أنّ الأمر بعكس ما يظنون وبضد ما يعتقدون، فقال: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: فعزتي وجلالي، لنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون فيه إلينا، وهو يوم القيامة {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسوا به أنفسهم من الخطايا، ثمّ لنجازينهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار، لا بالكرامة والإحسان {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، أي: من عذاب شديد، بسبب ذنوبهم، لا يعرف كنهه، ولا يمكنهم التفصي ولا الفكاك منه، لغلظته وإحاطته بجميع جهاتهم، وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها، ولا يجدون عنها حولًا، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم. وفي "بحر العلوم" غليظ؛ أي؛ شديد أو عظيم، بدل ما اعتقدوه لأنفسهم من الإكرام والإعزاز من الله تعالى. 51 - وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه، بعد وقوعه في الجهد الجهيد، حكى أفعاله فقال: {وَإِذَا} نحن {أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ}؛ أي: على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده، فكشفنا عنه المرض، ووهبنا له الصحة والعافية، ورزقناه سعة العيش {أَعْرَضَ} عمّا دعوناه إليه: من طاعتنا، وعن الشكر على نعمتنا، كأنه لم يلق شدة قط، فنسي المنعم، وكفر بنعمته بترك شكره وطاعته {وَنَأَى}؛ أي: تباعد بنفسه عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأمرنا بكليته، لا {بِجَانِبِهِ} وعطفه فقط، ولم يمل إلى الشكر والطاعة تكبرًا وتعظمًا فالجانب مجاز عن النفس، كما في قوله تعالى: {فِي جَنبِ اللهِ}، ويجوز (¬1) أن يراد به عطفه، فيكون على حقيقته، وهو عبارة عن الانحراف والازورار؛ لأنّ نأى الجانب عن الشكر، ¬

_ (¬1) روح البيان.

يستلزم الانحراف عنه، كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه، فالباء للتعدية، والمعنى: حينئذٍ انحرف عن شكرنا. وقرأ يزيد بن القعقاع (¬1): {وناء بجانبه} بالألف قبل الهمزة. {وَإِذَا مَسَّهُ}؛ أي: وإذا مس هذا الإنسان المعرض المتكبر {الشَّرُّ}؛ أي: جنس الشر كالبلاء والمحنة، وإنما جيء بلفظ الماضي، {وإذا} لأنّ المراد: الشر المطلق، الذي حصوله مقطوع به {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}؛ أي: فهو ذو دعاء كثير؛ أي: وإذا مسه البلاء والجهد والفقر والمرض، فذو دعاء كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازًا، يقال: أطال فلان الكلام وأعرض الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة وامتداد فمعنى الاتساع يؤخذ من تنكير عريض، فإنه يدل على التعظيم ومعنى: الامتداد يؤخذ من معنى الطول اللازم للعرض. وإنما قال: {عَرِيضٍ} (¬2) ولم يقل: طويل، مع أن كلًّا منهما كناية عن الكثرة؛ لأنّ قوله: عريض أبلغ من قوله: طويل إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك؛ أي: متسعًا فما ظنك بطوله، وقد استعير (¬3) العرض هنا لكثرة الدعاء ودوامه، وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب، ولا منافاة بين قوله: فيؤوس قنوط، وبين قوله: فذو دعاء عريض؛ لأنّ الأول في قوم، والثاني في آخرين، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر، أو قنوط بالقلب، وذو ودعاء عريض باللسان، أو قنوط من الصنم، ذو دعاء عريض لله تعالى كما مر. والمعنى: أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة، وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

[52]

ثابت القدم من المسلمين. 52 - ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني أيها المشركون؛ لأنّ الرؤية سبب للإخبار {إِنْ كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سبحانه {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ}؛ أي: كذّبتم به من غير نظر، واتباع دليل، ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه، مع تعاضد موجبات الإيمان به {مَن} استفهام {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} وخلاف {بَعِيدٍ} عنه؛ أي: لا أحد أضلّ منكم لفرط شقاوتكم وشدة عداوتكم والأصل: من أضل منكم فوضع {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب في ضلالهم، فإن (¬1) من كفر بما نزل من عند الله، بأن قال: أساطير الأولين ونحوه، فقد كان مشاقًا لله؛ أي: معاديًا ومخالفًا له تعالى خلافًا بعيدًا عن الوفاق، ومعاداة بعيدة عن الموالاة ولا شك أن من كان كذا، فهو في غاية الضلال، وفي الآية إشارة إلى أن كل بلاءً وعناء ونعمة ورحمة ومضرة ومسرة، ينزل بالعبد، فهو من عند الله تعالى فإن استقبله بالتسليم والرضى صابرًا شاكرًا للمولى في الشدة، والرخاء والسراء والضراء، فهو من المهتدين المقربين، وإن استقبله بالكفر والجزع، فهو من الأشقياء المبعدين المضلّين، وفي الحديث القدسي: "إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل .. استحييت منه يوم القيامة، أن أنصب له ميزانًا وأنشر له ديوانًا". قال بعض الكبار (¬2): النعمة توجب الإعراض كما قال الله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ ...} إلخ، ومس الضر يوجب الإقبال على الله، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ...} إلخ، فالله تعالى رحيم على العبد بدفع النعمة والصحة عنه، لأنها مظنة الإعراض والبلاء للولاء كاللهب للذهب، فالبلاء كالنار، فكما أن النار لا تبقى من الحطب شيئًا إلا وأحرقته، فكذا البلاء لا يبقى من ضر الوجود شيئًا، فالطريق إلى الله على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة إذ الأنبياء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[53]

والأولياء جاؤوا وذهبوا من طريق البلاء، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبدًا، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا، فهي دار محنة، وقد ورد: "الدنيا سجن المؤمن" فالمؤمن لا يستريح في الدنيا، ولا يخلو من قلة أو علة أو ذلة، وله راحة عظمى في الآخرة، والكافر خاسر في الدنيا والآخرة، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي، ويخاف من الزلق، ومن مكر الله تعالى. وفي "فتح الرحمن": قال هنا (¬1): {ثُمَّ كَفَرْتُمْ} عاطفًا بثم، وفي الأحقاف قال: {وكَفَرْتُمْ} عاطفًا بالواو، فما الفرق بين الموضعين قلتُ: عطف هنا بـ {ثُمّ} لأن المعنى: ثم كان عاقبة أمركم بعد الإمهال، للنظر والتدبر الكفر، فناسب ذكر {ثُمَّ} الدالة على الترتيب، وما في الأحقاف لم ينظر فيه إلى ترتيب كفرهم على ما ذكر، بل عطف على {كَفَرْتُمْ} و {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} بالواو، فناسب ذكرها لدلالتها على مطلق الجمع. والمعنى (¬2): أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن، الذي جئتهم به من عند ربك: أخبروني أيها القوم: إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون، من عند ربي، ثم كفرتم به .. أفلا تكونون مفارقين للحق، بعيدين من الصواب، وقد كانوا كلما سمعوا القرآن، أعرضوا عنه، وبالغوا في النفرة منه، حتى قالوا {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر، والتأمل فيه، فإن دلّ دليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك، فالإصرار على الإعراض والإنكار، بعيدان عن الصواب وعما يحكم به العقل، فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى. وخلاصة ذلك: قل لهم: من أشد ذهابًا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله، وخلاف له، وبعد عنه. 53 - وبعد أن ذكر أدلة التوحيد، والنبوة، أجاب عن شبهات المشركين، وتمويهات الضالين، فقال: {سَنُرِيهِمْ}؛ أي: سنري كفار قريش {آيَاتِنَا}؛ أي: ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي.

دلائلنا الدالة على قدرتنا. ووحدانيتنا المذكورة في القرآن، المبينة لهم فيما أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، من الحكمة الدالة على صدق القرآن وحقيقته، وكونه من عند الله تعالى حالة كون تلك الآيات {فِي الْآفَاقِ}؛ أي: في آفاق الأرض ونواحيها والمراد (¬1) بالآيات الآفاقية: ما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث الآتية، كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، وآثار النوازل الماضية، الموافقة لما هو المضبوط، المقرّر عند أصحاب التواريخ، والحال، أنه - صلى الله عليه وسلم - أميّ لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحدًا، وما يسر الله له، ولخلفائه من الفتوح، والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق، والمغارب، على وجه خارق للعادة، إذا لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم {و} حالة كونها {فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: في أنفس أهل مكة، والمراد بالآيات التي في أنفسهم، هو ما ظهر بين أهل مكة من القحط والخوف، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد، قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا قتل أهلها وأسرهم. وقيل (¬2): المراد بالآفاق: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتراكيب الغريبة، كقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}. واعتذر بأن معنى السين - مع أن اراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك - أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زمانًا فزمانًا، ويزيدهم وقوفًا على حقائقها يومًا فيومًا، قالوا: الآفاق هو العالم الكبير، والأنفس هو العالم الصغير {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ويتضح {لَهُم}؛ أي: لأهل مكة بما أريناهم من تلك الآيات. المذكورة في القرآن، أو في الحكمة {أَنَّهُ}؛ أي: أنّ القرآن أو الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فالقصر المستفاد من تعريف المسند حقيقي ادعائي، أو الله أو التوحيد فالقصر إضافي تحقيقي؛ أي: لا الشركاء ولا التشريك، والأول أولى، والضمائر في {سَنُرِيهِمْ} {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} {وَلَهُمْ} للمشارفين منهم على الاهتداء، أو للجميع، على أنه من وصف الكل بوصف البعض. والمعنى (¬1): أي سنري هؤلاء المشركين، وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة، وبمكة بما أجريناه على يدي نبينا، وعلى يدي خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإِسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه، حتى يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن وعده صادق، وأنه مظهر دينك على الأديان كلها. والخلاصة: سنيسر لهم من الفتوح، ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجري على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود الخارقة للعادة، فيستبين لهم أنّ هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم في قليل من الزمان. ثمّ وبّخهم على إنكارهم تحقّق هذه الإراءة وحصولها فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} استئناف وارد (¬2) لتوبيخهم على تردّدهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى والهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف يقتضيه السياق، والباء مزيدة للتأكيد؛ أي: ألم يغن، ولم يكف ربك {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه؛ أي: ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة، المبينة لحقّية القرآن، ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء، وقد أخبر بأنه من عنده، فعدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم، كما يصرحه قوله الآتي: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} وقرىء (إن) بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على الاستئناف. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[54]

والمعنى (¬1): أي كفى بالله شهيدًا على أفعال عباده، وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صادق، فيما أخبر به عنه، كما قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية، وقال أيضًا: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}. وقصارى ذلك: ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة، التي أوضحها سبحانه في هذه السورة، وفي كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله، وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث. 54 - وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج، حتى لم يبق بعدها مقال لمتعنت، ولا جاحد بيّن سبب عنادهم واستكبارهم، فقال: {أَلَا} كلمة استفتاح، تنبه السامع على ما يقال {إِنَّهُمْ}؛ أي: كفار مكة {فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك عظيم وشبهة شديدة، وقرأ (¬2) السلمي والحسن {فِي مِرْيَةٍ} بضم الميم، وهو لغة في مكسورة الميم {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} بالبعث والجزاء، فإنهم استبعدوا إحياء الموتى بعدما تفرقت أجزاؤهم وتبددت أعضاؤهم، ومن ثمّ لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم، عند لقائه، كالتفكر في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن القرآن حق لا شك فيه، وفيه إشارة (¬3) إلى أن الشك أحاط بجميع جوانبهم، إحاطة الظرف بالمظروف، لا خلاص لهم منه، وهم مستمرون دائمون فيه {أَلَا إِنَّهُ} سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ} من الموجودات؛ أي: بجميع الأشياء جملها وتفاصيلها، ظواهرها وبواطنها {مُحِيطٌ} أحاط علمه بجميع المعلومات، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن من أحاط علمه بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. والمعنى: أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

أمكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفي جزاءها على ما قدّمت من عمل، الإعراب {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}. {إِلَيْهِ}: جار ومجرور، متعلق بـ {يُرَدُّ}، {يُرَدُّ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عِلْمُ السَّاعَةِ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة {وَمَا}: {الواو} عاطفة. {ما} نافية، {تَخْرُجُ}: فعل مضارع، {مِن}: حرف جر زائد. {ثَمَرَاتٍ} فاعل. {مِنْ أَكْمَامِهَا} متعلق بـ {تَخْرُجُ}، والجملة معطوفة على جملة {يُرَدُّ}، وقيل: {ما}: موصولة في محل جر، معطوف على الساعة؛ أي: علم الساعة، وعلم التي تخرج من ثمرات، ومن الأولى للاستغراق، ومن الثانية لابتداء الغاية. {وَمَا}: {الواو} عاطفة. {ما} نافية. {تَحْمِلُ}: فعل مضارع، {مِنْ}: زائدة، {أُنْثَى}: فاعل، {وَلَا}: الواو عاطفة. {لا} نافية، وفاعله ضمير يعود على أنثى، والجملة معطوفة على ما قبلها {تَضَعُ} فعل مضارع والفاعل يعود على {أُنْثَى}، {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ، من أعم الأحوال، {بِعِلْمِهِ} جار ومجرور، متعلق بمحذوف، وقع حالًا من أعم الأحوال، والتقدير: وما يحدث شيء من خروج ثمرة، أو حمل حامل، أو وضع واضع ملابسًا بحال من الأحوال، إلا حالة كونه ملابسًا بعلمه المحيط. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}. {وَيَوْمَ}: {الواو} استئنافية. {يوم}: ظرف زمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك، قصة يوم يناديهم، والجملة المحذوفة مستأنفة. {يُنَادِيهِمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}. {أَيْنَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، {شُرَكَائِي}: مبتدأ

مؤخر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب، مفعول ثان لـ {يُنَادِيهِمْ}، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {آذَنَّاكَ}: فعل ماض وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالوا}، {مَا}: نافية، {مِنَّا}: جار ومجرور خبر مقدم، {مِنْ}: حرف جر زائد، {شَهِيدٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب، سادّة مسدّ المفعول الثاني والثالث لـ {آذَنَّاكَ} علق عنهما بما النافية؛ لأنه بمعنى أعلمناك، فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، {وَضَلَّ}: {الواو} عاطفة {ضل}: فعل ماض، {عَنْهُمْ}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَدْعُونَ}: خبره، {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {يَدْعُونَ}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {ضلَّ} معطوفة على جملة {قَالُوا}. {وَظَنُّوا}: {الواو} عاطفة {ظنوا} فعل وفاعل، معطوف على قالوا. {مَا}: نافية، {لَهُمْ}: خبر مقدم {مِن}: زائدة {مَحِيصٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي ظنّ؛ لأنه علق عنهما بما النافية. {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}. {لَا}: نافية، {يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَسْأَمُ}، {وَإِنْ}: الواو: عاطفة. {إن}: حرف شرط جازم. {مَسَّهُ الشَّرُّ}: فعل ومفعول به، وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَيَئُوسٌ}: الفاء رابطة الجواب وجوبًا، {يئوس}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهو يؤوس {قَنُوطٌ} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل الجزم، بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {لَا يَسْأَمُ}. {وَلَئِنْ} {الواو} عاطفة، واللام موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم {أَذَقْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، {رَحْمَةً}: مفعول ثان لـ {أَذَقْنَاهُ}. {مِنَّا} صفة لـ {رَحْمَةً}. {مِنْ بَعْدِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَذَقْنَاهُ}،

{ضَرَّاءَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث الممدودة {مَسَّتْهُ}: فعل ماض ومفعول به. وفاعل مستتر يعود على ضرّاء، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة لـ {ضَرَّاءَ}، وجواب الشرط محذوف، لسد جواب القسم مسده، تقديره: وإن أذقناه رحمة منا، يقول هذا لي، وجملة {إن} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه على القاعدة المشهورة، فيما إذا اجتمع شرط وقسم، يكون الجواب للسابق، وجواب الآخر محذوف {لَيَقُولَنَّ} اللام: رابطة لجواب القسم، مؤكدة للأولى {يقولن}: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم. مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة الفعلية جواب القسم. لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة قوله: وإن مسه الشر {هَذَا}: مبتدأ. {لي} جار ومجرور خبر المبتدأ، واللام فيه للاستحقاق؛ أي: استحقه بعملي، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول {ليقولن}. {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما} نافية. {أَظُنُّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر {السَّاعَةَ}: مفعول أول لـ {أَظُنُّ}، {قَائِمَةً}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: هذا لي، على كونها مفعولًا لـ {يَقُولُ}، {وَلَئِنْ} {الواو}: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. {إنْ} حرف شرط جازم، {رُجِعْتُ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {إِلَى رَبِّي}: متعلق بـ {رُجِعْتُ}، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده، على القاعدة المذكورة في قوله: واحذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلَتَزَمْ والتقدير: وإن رجعت إلى ربي فإن لي عنده للحسنى، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه، لا محل لها من الإعراب. {إنَّ} حرف نصب. {لي}: خبر مقدم لـ {إنَّ}، {عِنْدَهُ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال

من الحسنى {لَلْحُسْنَى}: اللام: حرف ابتداء. {الحسنى} اسم {إنَّ} مؤخر. وجملة {إنَّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة قوله: هذا لي، على كونها مقولًا ليقولن {فَلَنُنَبِّئَنَّ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الكافر المذكور، وأردت بيان عاقبته .. فأقول لك، {لننبئن} واللام: موطئة للقسم، {ننبئن}: فعل مضارع مبني على الفتح، في محل الرفع، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: نحن، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل النصب. مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {ننبئن} على كونه مفعولًا ثانيًا له، وما موصولة أو مصدرية. {عَمِلُوا} فعل وفاعل، صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما عملوه، أو صلة لما المصدرية؛ أي: بعملهم. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة، واللام موطئة للقسم. {نذيقن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول، {مِنْ عَذَابٍ} جار ومجرور متعلق بـ {نذيقن} على كونه مفعولًا ثانيًا له {غَلِيظٍ} صفة لـ {عَذَابٍ}، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}. {وَإذَا} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَنْعَمْنَا}: فعل وفاعل. {عَلَى الْإِنْسَانِ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {أَعْرَضَ} فعل وفاعل مستتر يعود على الإنسان، وجملة أعرض جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا مستأنفة. {وَنَأَى} {الواو}: عاطفة. {نأى}: فعل ماض وفاعل مستتر. معطوف على أعرض، {بِجَانِبِهِ}

متعلق بـ {نَأَى}، {وَإذَا} {الواو}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {مَسَّهُ الشَّرُّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، {فَذُو دُعَاءٍ} الفاء: رابطة لجواب إذا وجوبًا {ذو}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو ذو دعاء. {ذو} مضاف {دُعَاءٍ}: مضاف إليه، {عَرِيضٍ}: صفة {دُعَاءٍ}، والجملة الاسمية جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} الأولى. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة، {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، ومفعول {رأى} الأول: محذوف، وتقديره: أرأيتم أنفسكم. والثاني: هو الجملة الاستفهامية. {إنْ} حرف شرط. {كان}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر فيها، تقديره: هو يعود على القرآن. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: جار ومجرور خبر {كان}، {ثُمّ}: حرف عطف وترتيب، {كَفَرْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم، معطوف على {كان}. وجواب الشرط محذوف تقديره: فأنتم أضل من غيركم، أو ليس ثمة أضل منكم، وجملة الشرط جملة اعتراضية، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المفعولين الأول والثاني. {بِهِ} متعلقان به {مَنْ}: اسم استفهام، في محل الرفع مبتدأ، {أَضَلُّ}: خبره. {مِمَّنْ} متعلق بـ {أَضَلُّ}، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتُمْ}، {هُوَ}: مبتدأ، {فِي شِقَاقٍ} خبر، {بَعِيدٍ} صفة {شِقَاقٍ}، والجملة الاسمية صلة من الموصولة. {سَنُرِيهِمْ} السين حرف استقبال. {نريهم}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول {آيَاتِنَا} مفعول ثان. والرؤية هنا بصرية، فلذلك عدّيت إلى اثنين

فقط، والجملة الفعلية مستأنفة. {فِي الْآفَاقِ} حال من آياتنا، {وَفِي أَنْفُسِهِمْ}: معطوف على في الآفاق، {حَتَّى}: حرف جر وغاية {يَتَبَيَّنَ}: فعل مضارع منصوب، بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، {لَهُمْ} متعلق بـ {يَتَبَيَّنَ}، {أَنَّهُ الْحَقُّ} ناصب واسمه، وخبره، وجملة أنّ في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية ليتبين، تقديره: حتى يتبين لهم كونه الحق من ربهم، وجملة يتبين صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى تبين كونه الحق، الجار والمجرور متعلق بـ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا}، {أَوَلَمْ يَكْفِ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف يقتضيه السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يغنهم ولم يكفهم، والجملة المحذوفة جملة استفهامية، لا محل لها من الإعراب، {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَكْفِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، {بِرَبِّكَ} الباء زائدة، {رَبِّكَ}: فاعل مجرور لفظًا مرفوع محلًا، والمفعول محذوف تقديره: أو لم يكفك ربك، أو لم يكفهم ربك، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، {أَنَّهُ}: ناصب واسمه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {شَهِيدٌ}، و {شَهِيدٌ}: خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر، مرفوع على كونه بدلًا من ربك، والتقدير: أو لم يكف ربك شهادته على كل شيء، {أَلَا} حرف استفتاح {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {فِي مِرْيَةٍ}: خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة، {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {مِرْيَةٍ}، أو صفة له، {أَلَا}: حرف استفتاح، {إنَّه} ناصب واسمه {بِكُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {مُحِيطٌ}، و {مُحِيطٌ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة أيضًا. التصريف ومفردات اللغة {إِلَيْهِ يُرَدُّ} وهو من المضاعف، أصله: يردد بوزن يفعل نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية، فصار يرد بوزن يفل، {مِنْ أَكْمَامِهَا} قال في "القاموس": الكم بضم الكاف، مدخل اليد ومخرجها من الثوب، والجمع أكمام وكممة، وبكسرها وعاء الطلع وغطاء النور كالكمامة،

والكمة بالكسر فيهما، والجمع أكمّة وأكمام وكمام، ويؤخذ من "الأساس"، وغيرها من المعاجم الكبرى، الكم بضم الكاف مدخل اليد ومخرجها من الثوب، جمعه أكمام، وكممة بكسر الكاف، والكمة بضم الكاف، القلنسوة المدورة، وكل ظرف غطيت به شيئًا، وألبسته إياه فصار له، كالغلاف، والكم بكسر الكاف، الغلاف الذي يحيط بالزهر، أو الثمر، أو الطلع فيستره، ثم ينشق عنه جمعه أكمة، وأكمام وكمام وأكاميم، ومن ذلك أكمام الزرع؛ أي: غلفها التي يخرج منها، وأكمة الخيل مخاليها المعلقة على رؤوسها، الواحد منها كمام، والكمامة بكسر الكاف غطاء الزهر، ووعاء الطلع. والكمامة أيضًا بالكسر، والكمام ما يكم به فم الحيوان، لئلا يعضّ، أو يأكل إلى آخر هذه المادة المطولة. {مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: مهرب، اسم مكان، من حاص كمبيع من باع، وأصله: محيص بكسر الياء، بوزن مفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الحاء، فسكنت فصارت حرف مد، من حاص يحيى حيصًا ومحيصًا إذا هرب، وفي "المفردات": أصله من قولهم: وقع في حيص بيص؛ أي: في شدة، وحاص عن الحق، يحيص إذا حاد عنه إلى شدة ومكروه. وفي "القاموس": حاص عنه إذا عدل، وحاد، والمحيص المحيد والمعدل والمميل والمهرب. {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} وفي "المختار": اليأس القنوط، وقد يئس من الشيء من باب فهم، وفيه لغة أخرى، يئس ييئس بالكسر فيهما، وهي شاذة. ورجل يؤس وييئس، أيضًا، وبمعنى علم في لغة النخع، ومنه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وآيسه من كذا، فاستيأس منه، بمعنى أيس اهـ. وفيه أيضًا أيس منه، لغة في يئس، وبابهما فهم، وآيسه منه غيره بالمد، مثل أيأسه، وكذا أيسه بتشديد الياء تأييسًا اهـ، وفيه أيضًا لقنوط اليأس، وبابه جلس ودخل وطرب وسلم، فهو قنط وقنوط وقانط، فأما قنط يقنط بالفتح فيهما، وقنط يقنط بالكسر، فإنما هو على الجمع بين اللغتين اهـ، والفرق بين اليأس والقنوط، أن اليأس انقطاع الرجاء القلبي من حصول الخير، والقنوط ظهور أثر ذلك على البدن، من المذلة والانكسار والحزن.

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ} أصله: أظنن بوزن أفعل، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء، فسكنت فأدغمت في النون الثانية، فصار أظن بوزن أفل {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} قرأه الجمهور {نأى}، وفيه إعلال بالقلب أصله: نأي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، وقرأ ابن ذكوان وغيره عن ابن عامر {وناء} بتقديم الألف على الهمزة بوزن بآء إما لأنه من ناء ينوء، بمعنى نهض، وليس من النأي أو من نأى، ووقع في الكلمة قلب مكاني، حيث قدمت لام الفعل التي هي الياء، وجعلت مكان العين التي هي الهمزة، ثم أبدلت الياء المقدمة ألفًا، لتحركها بعد فتح، والله أعلم، وعلى أنه من ناء ينوء، فاصله: نوأ بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا، لتحركها بعد فتح، ومعناه: نهض، وفي "الفتوحات": ناء بتأخير الهمزة عن الألف بوزن قال، ونأى بتقديم الهمزة على الألف بوزن رمى، اهـ. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} أصله: سنرئيهم، بوزن سنفعل نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثم سكنت الياء لوقوعها بعد كسرة، لتكون حرف مد. والآفاق جمع أفق بضمتين، كأعناق وعنق أبدلت همزته ألفًا. وهي الناحية من نواحي الأرض، وكذا آفاق السماء نواحيها وأطرافها كذا قال أهل اللغة، ونقل الراغب: أنه يقال: أفق بفتحتين كجبل وأجبال، وأفق فلان؛ أي: ذهب في الآفاق، والآفاقي الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهًا في ذلك بالذاهب في الآفاق، والنسبة إلى الأفق أفقي بفتحهما، قلت: ويحتمل أنه نسبة إلى المفتوح، واستغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم، وله نظائر اهـ "فتوحات". {فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} لقاء فيه إعلال بالقلب أصله: لقاي أبدلت الياء همزة، لتطرفها إثر ألف زائدة. {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} من الإحاطة، والإحاطة إدراك الشيء بكماله، وفيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: محوط بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت إثر كسرة، فقبلت ياء حرف مد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: الحصر المستفاد من تقديم المعمول على عامله، في قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ}؛ أي: لا إلى غيره. ومنها: الطباق بين {رَحْمَةً} و {ضَرَّاءَ}. ومنها: وصف الجنس بوصف غالب أفراده، في قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ} لأن اليأس من رحمة الله، لا يتأتى إلا من الكافر. ومنها: المبالغات في قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} وقد تضمن هذا الكلام مبالغات، حيث أكد بالقسم، وبإن، وبتقديم الظرفين، وبالعدول إلى صيغة التفضيل، إذ الحسنى تأنيث الأحسن، وإنما يقول ذلك، لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا، يستحقه، فيستحق مثله في الآخرة. اهـ "كرخي". ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}؛ لأن الجانب مجاز عن النفس، كالجنب في قوله تعالى: {فِي جَنبِ اللهِ} علاقته الكلية والجزئية. ومنها: الاستعارة المكنية، التخيلية في قوله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فقد شبه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد، ثم أثبت له العرض، فاستعار العرض لكثرة الدعاء وديمومته، وهو من صفات الأجرام، ويستعار له الطول أيضًا، ولكن استعارة العرض أبلغ؛ لأنه إذا كان عرضه كذلك، فما ظنك بطوله، والطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه بهذه المثابة .. فناهيك بطوله. ومنها: تنكير عريض للدلالة على العريض. ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة 1 - وصف الكتاب الكريم. 2 - إعراض المشركين عن تدبره. 3 - جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين. 4 - إقامة الأدلة على الوحدانية. 5 - إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم. 6 - شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها. 7 - ما يفعله قرناء السوء من التضليل والصد عن سبيل الله. 8 - ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن. 9 - طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقامًا منهم. 10 - ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب. 11 - إعادة الأدلة على الوحدانية. 12 - القرآن هداية ورحمة. 13 - إحاطة علم الله وعظيم قدرته. 14 - من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة. 15 - آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته. 16 - شك المشركين في البعث والنشور ثم الرد عليهم (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تفسير هذه السورة يوم السبت وقت الضحوة، في السابع من شهر شوال، من شهور سنة ألف وأربع مئة، وأربع عشرة، سنة 7/ 10/ 1414 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.

سورة الشورى

سورة الشورى سورة الشورى، وتسمّى سورة حم عسق، وسورة حم عسق مكية في قول (¬1) ابن عباس والجمهور، وحكي عن ابن عباس: إلا أربع آيات، نزلت بالمدينة، أولها: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، وقيل: فيها من المدني: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ}، إلى قوله {بِذَاتِ الصُّدُورِ}، وقوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} إلى قوله: {مِنْ سَبِيلٍ}. وآيها: ثلاث وخمسون آية، نزلت بعد فصّلت. وكلماتها: ثمان مئة وست وثمانون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف، وخمس مئة، وثمانية وثمانون حرفًا، والله تعالى أعلم. ومناسبتها لما قبلها (¬2): اشتمال كل منهما على ذكر القرآن، ودفع مطاعن الكفار فيه، وتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وقال أبو حيان (¬3): مناسبة أول هذه السورة لأخر ما قبلها، أنه قال فيما قبلها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ...} الآية، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال، لما كفروا به، وقال هنا: {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل الإيحاء السابق في القرآن، الذي كفر به هؤلاء {يُوحِي إِلَيْكَ}؛ أي: إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع، يتعهدك وقتًا بعد وقت. ومن فضائلها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حم عسق، كان ممن يصلي عليه الملائكة، ويستغفرون له ويسترحمون له". الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله، محمد بن حزم: سورة الشورى كلها محكم، غير ثماني آيات: ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

أولاهنّ: قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية (5) نسخت بالآية التي في سورة المؤمن: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7). الآية الثانية: قوله تعالى: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} نسخت بآية السيف. الآية الثالثة: قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (15)، نسخت بقوله تعالى في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. الآية الرابعة: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية (20)، نسخت بقوله تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ}. الآية الخامسة: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} الآية (23)، مختلف في نسخها، ناسخها قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} الآية (47) سبأ. الآية السادسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} (39). الآية السابعة: قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} (41) الآيتان، نسختا بقوله عزّ وجل: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}. الآية الثامنة: قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الآية (48) نسخت بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيَمِ {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}.

المناسبة قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ...} الآيات، مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة: أنه قال في آخر السابقة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ...} الآية، ولما كان في ذلك، الحكم عليهم بالضلال لما كفروا به، قال هنا كذلك؛ أي: مثل الإيحاء السابق في القرآن، الذي كفر به هؤلاء يوحي إليك؛ أي: إن وحيه تعالى إليك، متصل غير منقطع، يتعهّدك وقتًا بعد وقت. وبيّن سبحانه: أنّ ما جاء في هذه السورة، موافق لما في تضاعيف الكتب، المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة إلى التوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والتزهيد في جمع حطام الدنيا، والترغيب فيما عند الله، ثم ذكر أن ما في السموات والأرض فهو ملكه وتحت قبضته، وله التصرف فيه إيجادًا وإعدامًا، وتكوينًا وإبطالًا وأنّ السموات والأرض على عظمهما، تكاد تتشقّق فرقًا من هيبته، وجلاله سبحانه، وأن الملائكة ينزّهونه عما لا يليق به، من صفا النقص، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين، ثم أردت هذا بتسلية رسول - صلى الله عليه وسلم -، بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان، فيستطيع أن يردّهم إلى سواء السبيل، بل ليس عليه إلا البلاغ، وعلينا حسابهم، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما (¬1) بيّن فيما سلف، أنه هو الرقيب على عباده، المحصي لأعمالهم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - نذير فحسسب، وليس عليه إلا البلاغ .. ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب، ليفهمه قومه من أهل مكة، وما حولها كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وينذرهم، بأن يوم القيامة آت لا شك فيه، وأن الناس إذ ذلك فريقان: فريق يدخل الجنة، بما قدّم من صالح ¬

_ (¬1) المراغي.

الأعمال، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيِّء الأفعال، ثم ذكر أنّ حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارًا، ولم يشأ أن يكون قسرًا وجبرًا، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل، فمن أخبت لله وأناب وعمل صالحًا أفلح، وفاز بالسعادة، ومن عاث في الأرض فسادًا، واتجهت همته إلى ارتكاب الثرور والآثام خسر، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المهاد، ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وأن الله وكيل عليهم، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم .. طلب إليه هنا، أن يدع الاهتمام بأمرهم، ويقطع الطمع في إيمانهم، مبينًا أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وهو سبحانه الولي حقًا، القادر على كل شيء فقد عدلوا إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال. قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما عظم (¬1) وحيه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأبان ما له من كبير الخطر، حين نسبه إليه تعالى، وأنه صادر من عزيز حكيم، لا يوحي إلا بما فيه مصلحة البشر، ومنفعتهم في دينهم ودنياهم .. ذكر هنا تفصيل هذا الوحي، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصّى به أكابر الأنبياء، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة، وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد، وترك الأنداد والأوثان، وأنّ الله يهدي من يشاء من عباده لهدي دينه، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد، وأنه لولا الكلمة السابقة من الله، بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد .. لعجّل لهم العقوبة في الدنيا، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى، ليسوا على يقين من أمرهم، وإيمانهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

وإنما هم مقلّدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرههم وشك مريب، وشقاق بعيد. قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه، لما (¬1) أمرهم بالوحدة في الدين وعدم التفرّق فيه، وذكر أنهم قد تفرّقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم بغيًا وحسدًا وعنادًا واستكبارًا، أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها، والدعوة إليها، وأن لا يتبع أهواءهم الباطلة. ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه، فلا يأمرهم بما لا يعمله، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه، ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعًا واحد، وأنّ كل امرىء مسؤول عن عمله، وأن الله يجمع الناس يوم القيامة، ويجازيهم بأعمالهم. وقد اشتملت هذه الآية الكريمة، على عشرة أوامر ونواه، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه، ولا نظير لها في ذلك إلا آية الكرسي، فهي عشرة فصول أيضًا. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر فيما سلف، أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة، بيّن هنا أنّ الذين يخاصمون في دين الله، من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه أفواجًا، حجتهم في الصرف عنه زائفة، لا ينبغي النظر إليها، وعليهم غضب من ربهم، لمكابرتهم للحقّ بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. رُوي: أن اليهود قالوا للمؤمنين: إنكم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوّة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم، ونبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليست كذلك، وإذًا لأخذ باليهودية أولى فدحض الله سبحانه وتعالى هذه الحجة، بأنّ الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه. دالة ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، واليهود قد شادوها، فوجب الاعتراف بنبوّته، ثم أردف ذلك تخويفهم يوم القيامة، حتى يستعدوا له ويتركوا المماراة بالباطل، ثم ذكر أن المشركين يستعجلون به استهزاء، وإنكارًا لوجوده، والمؤمنون خائفون منه لعلمهم بالجزاء حينئذٍ، ثم أعقب ذلك بذكر أن المماراة في الساعة ضلال بيّن، لتظاهر الأدلة على حصولها لا محالة. أسباب النزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة، قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال المشركون بمكة، لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجًا، فأخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا، فنزلت: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ...} الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ ...} الآية، قال: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1) عسق (2)} اسمان (¬2) للسورة، ولذلك فصل بينهما في الكتابة، وعدّا آيتين، بخلاف كهيعص والمص والمر، فإنها آية واحدة. وقيل: هما اسم واحد للسورة وآية واحدة، وفصلت لتطابق سائر الحواميم، فعلى الأول: يكونان خبرين لمبتدأ محذوف. وعلى الثاني: يكون خبرًا لذلك المبتدأ المحذوف، وقرأ ابن مسعود وابن عباس {حم (1) عسق (2)} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحاء حكم الله، والميم ملك الله، 2 - والعين علوّ الله، والسين سناء الله، والقاف قدرة الله، أقسم الله بها، فكأنه يقول: فبحكمي وملكي وعلوي وسنائي وقدرتي، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

[3]

لا أعذب عبدًا قال: لا إله إلا الله مخلصًا فلقيني بها. ومعناه على ما قاله أبو الليث في تفسيره: لا يعذبه عذابًا دائمًا خالدًا. وفي الحديث: "افتتحوا صبيانكم بلا إله إلا الله، ولقنوا موتاكم بلا إله إلا الله" والحكمة في ذلك أنّ حال الصبيان حال حسن لا غلّ - غش - في قلوبهم، وحال الموتى حال الاضطرار، فإذا قلتم في أول ما يجري عليكم القلم، وآخر ما يجفّ عليكم القلم، فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك. واختلفوا (¬1) في حم، فأخرجها بعضهم من حيّز الحروف، وجعلها فعلًا فقال: معناها حم الأمر؛ أي: قضي، وبقي عسق على أصله، وفي "المراغي": وقد تقدم قولنا: إن الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور، حروف تنبيه، نحو: ألا ويا، ونحوها، يؤتى بها لإيقاظ السامع، وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام، المشتملة عليها هذه السورة، وينطق بأسمائها هكذا {حاميم عين سين قاف}. وقيل غير ذلك، مما هو متكلف متعسف، لم يدل عليه دليل، ولا جاء به حجة، ولا شبهة حجة، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى، فيقال: الله أعلم بمراده بذلك. 3 - {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} في ملكه: {الْحَكِيمُ} في صنعه، والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ليوحي، والجلالة فاعله؛ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، يوحي الله العزيز الحكيم إليك، في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم، على أن مناط المماثلة هو الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق، وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ويجوز أن يكون الكاف في حيز النصب، على أنه نعت لمصدر مؤكد ليوحي؛ أي: مثل إيحاء هذه السورة؛ يوحي الله العزيز الحكيم إليك، عند إيحاء سائر السور، وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايرًا على أن مدار ¬

_ (¬1) الخازن.

المثلية كونه بواسطة الملك. وإنما ذكر (¬1) بلفظ المضارع، مع أن مقتضى المقام، أن يذكر بلفظ الماضي، ضرورة أن الوحي إلى الذين من قبله قد مضى، دلالة على استمرار الوحي، تجدده وقتًا فوقتًا، وأن إيحاء مثله عادته تعالى، ويجوز أن يكون إيذانًا أن الماضي والمستقبل بالنسبة إليه تعالى واحد، كما في "الكواشي". وقيل (¬2): إن المضارع استعمل في حقيقته، ومجازه مستعمل في المستقبل، بالنظر إلى ما لم ينزل عليه من القرآن إذ ذاك وفي الماضي بالنظر لما أنزل بالفعل، وبالنظر إلى ما أنزل على الرسل السابقين، ووجه الشبه أن الموحى به في الكل، يرجع لأمور ثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث. فهذا القدر موجود في القرآن وغيره من الكتب، اهـ شيخنا. وفي "زاده": ووجه المشابهة الاشتراك في الدعوة إلى التوحيد، والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في أمور الآخرة اهـ. وقال الشوكاني: والمعنى: أي (¬3) مثل ذاك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله، المنزلة عليهم، المشتملة على الدعوة إلى التوحيد، والبعث يوحي الله إليك يا محمد في هذه السورة، وقيل: إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله: كذلك إليها اهـ. وقرأ الجمهور (¬4): {يُوحِي} بكسر الحاء مبنيًا للفاعل، والفاعل الله، وهي واضحة اللفظ والمعنى: وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان {نوحي} بنون العظمة مع كسر الحاء، وقرأ مجاهد، وابن كثير وابن محيصن وعباس ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو {يوحى} بفتح الحاء مبنيًا للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على ذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحى هو إليك، أو القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة؛ أي: يوحى إليك هذا اللفظ أو القرآن، أو مصدر يوحي وارتفاع اسم الجلالة، على أنه فاعل لفعل محذوف، كأنه قيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[4]

من يوحي فقيل: يوحي الله العزيز الحكيم، أو على الابتداء، والتقدير: الله العزيز الحكيم هو الموحي. وعلى قراءة النون يكون قوله: الله العزيز الحكيم، في محل النصب، والمعنى عليه: نوحي إليك هذا اللفظ. والمعنى (¬1): أي بمثل ما في هذه السورة من الدعوة إلى التوحيد، والنبوة والإيمان باليوم الآخر، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق، وتبعيدها عن رذائل الأخلاق، والعمل على سعادة المرء والمجتمع، يوحي إليك الله العزيز في ملكه الغالب بقهره، الحكيم بصنعه المصيب في قوله وفعله، كما أوحي إلى الأنبياء بمثله من قبلك. وسيأتي تفصيل هذا في سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، فقد ذكر في أولها التوحيد، وفي وسطها النبوة، وفي آخرها المعاد، ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. أي: إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية، ليس إلا هذه المطالب الثلاثة العالية، التي لا تتم السعادة إلا بها، ولا الفوز بالنعيم في الدارين إلا بسلوكها. 4 - ثم بيّن سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال: {لَهُ} سبحانه لا لغيره {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يختص به جميع ما في العوالم العلوية والسفلية، خلقًا وملكًا وعلمًا، ذكر سبحانه هذا الوصف لنفسه، وهو ملك جميع ما في السموات والأرض لدلالته على كمال قدرته، ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَلِيُّ}؛ أي: الرفيع الشأن {الْعَظِيمُ} الملك والقدرة والحكمة، أو هو العلي؛ أي: المرتفع عن مدارك العقول، إذ ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهو العظيم الذي يصغر عند ذكره وصف كل شيء سواه، والعظيم من العباد، الأنبياء والعلماء الوارثون لهم، فالنبي عظيم في حق أمته، والأستاذ عظيم في حق تلميذه، وإنما العظيم المطلق، هو الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

والخلاصة (¬1): أي إن ما في السموات والأرض تحت قبضته، وفي ملكه، وله التصرف فيه إيجادًا وإعدامًا، وهو المتعالي فوقه، العظيم عن مماثلته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. 5 - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ}؛ أي: تقرب السموات يتشققن من عظمة وخشية وهيبة الإله الذي {مِنْ فَوْقِهِنَّ}؛ أي: فوق السموات بالألوهية والقهر والعظمة والقدرة، والتفطر التشقق، قال (¬2) الضحاك والسدي: يتشققن من عظمة الله وجلاله من فوقهن. وقيل: المعنى: تكاد كل واحدة تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين: اتخذ الله ولدًا، وقيل: من فوقهن من فوق الأرضين، والأول أولى، ومن في قوله: من فوقهن لابتداء الغاية؛ أي: يبتدىء التفطر من جهتهن الفوقانية إلى جهتهن التحتانية. ووجه تخصيص (¬3) جهة الفوق، أنها أقرب إلى أعظم الآيات، وأدلها على القدرة الباهرة من العرش والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار الملكوت العظمى، فكان المناسب أن يكون تفطر السموات مبتدأ من تلك الجهة، بأن يتفطر أولًا أعلى السموات ثم إلى أن ينتهي إلى أسفلها، بأن لا تبقى سماء إلا سقطت على الأخرى. وقيل: تتشققن من ادعاء الولد له، كما قال تعالى في سورة مريم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}، فتخصيصها حينئذٍ للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض، إذا أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى، وقيل: لنزول العذاب منهن. وقرأ الجمهور: {تَكَادُ} بالفوقية، وكذلك {تتفطرن} قرؤوه بالفوقية مع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

تشديد الطاء، وقرأ نافع والكسائي وابن وثاب {يكاد}، {يَتَفَطَّرْنَ} بالتحتية فيهما. وقرأ أبو عمرو والمفضل وأبو بكر وأبو عبيد: {ينفطرن} بالتحتية والنون من الانفطار كقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}. وبعد أن بيّن كمال عظمته، باستيلاء هيبته على الجسمانيات، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ} هذا كلام مستأنف، لا تعلق له بما قبله؛ أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق به، من الشريك والولد، وسائر صفات الأجسام، حال كونهم متلبسين {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} سبحانه وتعالى، فقدم التسبيح على الحمد؛ لأنّ التخلية مقدمة على التحلية، وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب؛ أي: يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل: معنى {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} بأمر ربهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: للمؤمنين بالشفاعة، لقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، فالمطلق محمول على المقيد، أو يستغفرون للمؤمن والكافر والفاسق، بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم، من الشفاعة والإلهام، وترتيب الأسباب، المقوبة إلى الطاعة، واستدعاء تأخير العقوبة، جمعًا في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، وتكون الآية عامة، وهذا لا ينافي كون الملائكة لاعنين للكفار من وجه آخر، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وفي الحديث: "ما فيها موضع أربع أصابع، وفي رواية موضع راحة، إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، يسبّحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض". وهذا يدل على أن المراد بالملائكة في الآية: ملائكة السموات كلها، وقال مقاتل: حملة العرش، وإليه ذهب الكاشفى في تفسيره، ويدل عليه قوله تعالى، في أوائل سورة المؤمن: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}. يقول الفقير: تخصيص ملائكة العرش، لا ينافي من عداهم، فلعله من باب الترقي؛ لأنّ آية سورة المؤمن - غافر - مقيّدة بحملة العرش، وباستغفار المؤمنين، وهذه الآية مطلقة في حق كل من الملائكة والاستغفار. ثم بيّن سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده، فقال: {أَلَا} للتنبيه؛

[6]

أي: اعلموا {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {هُوَ الْغَفُورُ}؛ أي: كثير المغفرة لعباده، يغفر ذنوب المقبلين {الرَّحِيمُ}؛ أي: كثير الرحمة بهم، بأن يرزقهم جنته وقربه، وبرحمته يأمر الملائكة بالاستغفار لبني آدم، مع كثرة عصيانهم، والكفار الذين يرتكبون الشرك، والذنوب العظام، لا يقطع رزقهم ولا صحتهم، وتمتعاتهم من الدنيا، وإن كان يريد أن يعذّبهم في الآخرة. يقول الفقير: إن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للمؤمنين، فالمؤمنون يسلّمون عليهم كما يقولون في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذ لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالمنة لله تعالى على كل حال. وفي الآية: إشارة إلى أن قومًا من الجهلة يقولون على الله ما لا يعلمون، ومن عظم افترائهم تكاد السموات تنشق من فوقهم؛ لأنّ الله تعالى ألبسها أنوار قدرته، وأدخلها روح فعله، حتى عقلت عبودية صانعها؛ وعرفت قدسه وطهارته عن قول الزائغين، وإشارة الملحدين، والملائكة يقدسون الله، عما يقولون فيه من الزور والبهتان، والدعاوى الباطلة، ويستغفرون للمؤمنين، الذين لم يبلغوا حقيقة عبوديته، فإنهم هم القابلون للإصلاح، لاعترافهم بعجزهم، وقصورهم، دون المصرين المبتدعين. وفي الآية: إيماء أيضًا إلى قبول استغفار الملائكة، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة، الرحمة بهم، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة، لعلهم يرعوون عن غوايتهم، ويثوبون إلى رشدهم، وينيبون إلى ربهم، 6 - ثم أبان وظيفة الرسل، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}؛ أي: أصنامًا وأندادًا وشركاء، أشركوهم معه تعالى، في العبادة {اللَّهُ} سبحانه {حَفِيظٌ}؛ أي: رقيب {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أحوالهم، ومطلع على أعمالهم، ليس بغافل عنهم، فيجازيهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده {وَمَا أَنْتَ} يا محمد - صلى الله عليه وسلم - {بِوَكِيلٍ}؛ أي: بموكول إليه أمورهم، ولا بموكل بهم، حتى تسأل عنهم وتؤخذ بهم، وإنما وظيفتك الإنذار وتبليغ الأحكام، قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.

[7]

وفيه إشارة، إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه، وترك لله حدًّا، ونقض له عهدًا، فهو متخذ الشياطين أولياء؛ لأنه يعمل بأوامرهم، وأفعاله موافقة لطباعهم، الله حفيظ عليهم بأعمال سرهم وعلانيتهم، إن شاء عذّبهم، وإن شاء عفا عنهم، وما أنت عليهم بوكيل، لتمنعهم عن معاملتهم، فعلى العاقل أن لا يتخذ من دون الله أولياء، بل يتفرد بمحبة الله تعالى وولايته، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} حتى يتولاه في جميع أموره. وما أحوجه إلى أحد سواه. حكاية: وقال الأستاذ أبو علي الدقاق - رحمه الله تعالى -: ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث، أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح، يسمى سهل بن عبد الله، لو دعا لك، لعل الله يستجيب له، فاستحضره فقال: ادع الله لي، فقال: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي حبسك مظلومون، فأطلق كل من حبسه، فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية، فأره عز الطاعة، وفرج عنه، فعوفي، فعرض مالًا على سهل، فأبى أن يقبله، فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء، فنظر إلى الحصباء في الصحراء، فهذا هي جواهر فقال: من يُعطى مثل هذا، يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ فالمعطي والمانع والضار والنافع هو الله، الولي، الوكيل، الذي لا إله غيره. والمعنى: أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام، والأوثان، يعبدونها، الله هو المراقب لأعمالهم، المحصي لأفعالهم، وأقوالهم، المجازي لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون، ولست أنت أيها الرسول، بالحفيظ عليهم، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم، إن عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم، إلا إذا شاء ربك. 7 - والإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} إلى مصدر أوحينا، ومحل الكاف النصب على المصدرية. وقرآنًا عربيًا مفعول به لأوحينا؛ أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع، الواضح المفهم، أوحينا إليك إيحاء لا لبس به، عليك وعلى قومك.

والمعنى (¬1): أي أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، بلسان قومك، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه. {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}؛ أي (¬2): لتخوف أهل مكة بعذاب الله، على تقدير إصرارهم على الكفر، والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم، سميت أم القرى تشريفًا لها، وإجلالًا لاشتمالها على البيت المعظم، ومقام إبراهيم عليه السلام، ولما رُوي من أن الأرض دحيت من تحتها، فمنزلة القرى منها. البنات من الأمهات {وَمَنْ حَوْلَهَا}؛ أي: حول أم القرى من العرب، وتفسير من حولها بالعرب لا ينافي عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينافي حكم ما عداه. وقيل: من أهل الأرض كلها شرقًا وغربًا، وبذلك فسره البغوي فقال: من قرى الأرض كلها، وكذا القشيري حيث قال: العلم محدق بالكعبة ومكة؛ لأنهما سرة الأرض. والمعنى (¬3): أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البيّن، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا بلسان قومك، لاخفاء فيه عليك، ولا عليهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، ولتنذر به أهل مكة، وما حولها من البلاد، إلى منقطع الأرض كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه. وقصارى ذلك: أنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم، ولا بالوكيل، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا، لتنذر أهل مكة وما حولها، وخص هؤلاء بالذكر؛ لأنهم أول من أنذروا، ولأنهم أقرب الناس إليه، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة، كيف وقد جاء في آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}. وهذا الإنذار يعم شؤون الدنيا وشؤون الآخرة، ثم خصَّ من بينها أمور الآخرة، بيانًا لعظيم أهوالها، وشديد نكالها فقال: {وَتُنْذِرَ} أهل مكة ومن حولها {يَوْمَ الْجَمْعِ}؛ أي (¬4): بيوم القيامة وما فيه من العذاب، سمي يوم الجمع: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

لأنه يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين، وأهل السموات وأهل الأرض، أو الأرواح والأشباح أو الأعمال والعمال، أو الظالم والمظلوم، فالباء محذوف من اليوم، كا قال: لتنذر بأسًا شديدًا؛ أي: ببأس شديد. كما قاله أبو الليث. فيكون مفعولًا به لا ظرفًا، كما في "كشف الأسرار". وقد سبق نظير ذلك في سورة المؤمن: عند قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ}. وجملة قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ أي: لا شك في يوم الجمع، جملة معترضة، مقررة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب، أو صفة ليوم الجمع، أو حال منه، أي: لا بدّ من مجيء ذلك اليوم، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته، لأنه لا بدّ من جزاء العاملين من المنذرين وأهل الجنة والنار، وارتياب الكفار فيه لا يعتد به. أو لا شك في الجمع أنه كائن، ولا بد من تحققه. والمعنى (¬1): أي ولتنذر الخلائق كافة، عقاب الله، يوم جمعهم للعرض والحساب، وهو يوم لا شك فيه، لتظاهر الأدلة على تحققه، عقلًا ونقلًا، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، ولما فيه من نصوص قاطعة، على وجوده، لا تحتمل تأويلًا، ولا تفسيرًا. ثم ذكر عاقبة العرض والحساب، فقال: {فَرِيقٌ} منهم، وهم المؤمنون {فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ} منهم وهم الكافرون {فِي السَّعِيرِ}؛ أي: في النار سميت بها لالتهابها، وذلك بعد جمعهم في الموقف؛ لأنهم يجمعون فيه أولًا، ثم يفرّقون بعد الحساب، وقرأ الجمهور (¬2): برفع {فَرِيقٌ}: في الموضعين، إما على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور، وسوّغ الابتداء بالنكرة، كونه في معرض تفصيل، أو كونه موصوفًا بصفة محذوفة؛ أي: فريق منهم، كما قدّرناه أولًا في حلنا، أو على أن الخبر مقدّر قبله، أي: منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير. وجاز حينئذٍ الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها، وهو الجار والمجرور المحذوف، ووصفها بقوله في الجنة، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو ضمير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع؛ أي: هم فريق في الجنة وفريق في السعير، وقرأ زيد بن عليّ {فريقًا} بالنصب في الموضعين على الحال، من جملة محذوفة؛ أي: افترقوا حال كونهم فريقًا كذا وفريقًا كذا. وجوّز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقًا. والضمير المجرور في منهم للمجموعين، لدلالة لفظ الجمع عليه، فإن المعنى يوم يجمع الخلائق في موقف الحساب. وفي "التأويلات النجمية" (¬1): وتنذر يوم الجمع بين الأرواح والأجساد، لا شك في كونه، وكما أنهم اليوم فريقان: فريق في جنة القلوب، وراحات الطاعات، وحلاوات العبادات، وتنعّمات القربات، وفريق في سعير النفوس، وظلمات المعاصي، وعقوبات الشرك، والجحود، فكذلك غدًا، فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، قابضًا على كفّه، ومعه كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان" قلنا: لا يا رسول الله، فقال: للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقرّوا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفًا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم، إلى يوم القيامة"، ثم قال: للذي في يساره: "هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقروا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذًا؟ قال: اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيّ عمل، ثمّ قال: فريق في الجنة وفريق في السعير، عدل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

من الله تعالى، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده". 8 - ثم سلى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم، بتولي قومه عنه وعدم استجابة دعوته، وأعلمه أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء، والمضل من أراد، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، جمع الناس على الهداية، أو على الضلالة {لَجَعَلَهُمْ} في الدنيا، والضمير لجميع الناس المشار إليهم بالفريقين {أُمَّةً وَاحِدَةً} مهتدين أو ضالين، وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: على دين واحد. قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ} في الدين الحق {مَنْ يَشَاءُ} أن يدخله {فِي رَحْمَتِهِ} وجنته ويدخل في الضلال من يشاء أن يدخله في عذابه ونقمته، ولا ريب في أن مشيئة الله تعالى، لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله، ومن ضرورة اختلاف الرحمة اختلاف حال الداخلين فيهما قطعًا، فلم يشأ جعل الكل أمةً واحدة، بل جعلهم فريقين {وَالظَّالِمُونَ}؛ أي: المشركون {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ} ما يلي أمرهم ويغنيهم وينفعهم، فـ {مِنْ}: مزيدة لاستغراق النفي {وَلَا} من {نَصِيرٍ} ما يدفع العذاب الواقع عنهم ويخلصهم منه، وفيه إيذان، بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم، لا من جهته تعالى، كما في الإدخال في الرحمة. قال سعدي المفتي في "حواشيه" (¬1): لعل تغيير المقابل حيث لم يأت المقابل، ويدخل من يشاء في نقمته، بل عدل إلى ما في النظم، للمبالغة في الوعيد، فإن في نفي من يتولاهم وينصرهم في دفع العذاب عنهم، دلالة على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ عنه، وأيضًا فيه سلوك طريق {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} وأيضًا ذكر السبب الأصلي في جانب الرحمة ليجتهدوا في الشكر، والسبب الظاهري في جانب النقمة ليرتدعوا عن الكفر. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

وفي "التأويلات النجمية": ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدة، كالملائكة المقربين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}، الآية، أو جعلهم كالشياطين، المبعدين، المطرودين، المتمردين، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت، أن يجعلهم مركبين من الجوهر الملكي، والشيطاني، ليكونوا مختلفين، بعضهم الغالب عليه الوصف الملكي، مطيعًا لله تعالى، وبعضهم الغالب عليه الوصف الشيطاني، متمردًا على الله تعالى، ليكونوا مظاهر صفات لطفه وقهره، ويدل على هذا التأويل، قوله: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}؛ أي: ليكونوا مظاهر صفات لطفه، {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}؛ أي: ليكونوا مظاهر صفات قهره، انتهى. وحاصل المعنى (¬1): أي ولو شاء الله لجعل الجميع مؤمنين، كما تريد وتحرص عليه، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين وبعضهم كفارًا، وهم الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيًا على التكليف والاختيار، يدخل المرء فيه بمحض الرضا. والتأمل في الأدلة الموصلة إلى الهدى، وبذلك يتم الفوز والسعادة في الدارين، وينفر منه من دنس نفسه بأدران الشرك، وركب رأسه وأطاع هواه، فكان من الخاسرين، ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء، فكان الناس جميعًا أمة واحدة، ولكن له الحجة البالغة والمثل الأعلى، ولم يشأ ذلك، فلا تأس على عدم إيمان قومك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، كما قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}، وقد جاء هذا المعنى في غير آية سلف كثير منها، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}. 9 - وجملة قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء كون الولي والنصير للظالمين. و {أَمِ} (¬2) هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، وبالهمزة المفيدة لإنكار الوقوع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

ونفيه على أبلغ وجه وآكده، لا لإنكار الواقع واستقباحه كما قيل، إذ المراد بيان أن ما فعلوا من اتخاذ الأولياء، ليس في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء، وهو أظهر الممتنعات؛ أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام، التي يعبدونها ليس ذلك في شيء. والفاء (¬1) في قوله {فَاللَّهُ} سبحانه وتعالى - {هُوَ الْوَلِيُّ}؛ أي: هو الحقيق بأن يتخذوه وليًا، فإنه هو الخالق الرازق، الضار النافع - فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن أرادوا أن يتخذوا وليًا في الحقيقة، فأقول لهم: الله سبحانه هو الولي، الذي يجب أن يتولى ويعتقد أنه المولى، لا ولي سواه، وهو متولي الأمور من الخير والشر، والنفع والضر. قلت: ويحتمل أن تكون الفاء تعليلية، لكون ما بعدها علة لإنكار اتخاذ الأولياء من دون الله، كقولك: أتضرب زيدًا فهو أخوك، على معنى: لا ينبغي أن تضربه، لكونه أخاك، والمعنى هنا: لا ينبغي لهم أن يتخذوا أولياء من دون الله، لأنّ الله هو الولي الحقيقي. {وَهُوَ} سبحانه؛ أي: ومن شأنه أنه {يُحْيِ الْمَوْتَى} ليس في السماء والأرض معبود يحيي الموتى غيره {وَهُوَ} سبحانه على كل شيء من الإحياء والإماتة {قَدِيرٌ} فهو الحقيق بأن يتخذ وليًا، فليَخصُّوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء. ومعنى الآية (¬2): أي إن هؤلاء المشركين من قومك، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون الله، وقد ضلوا ضلالًا بعيدًا، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فإن أرادوا وليًا بحق يدفع عنهم الملمات ويجلب لهم الخيرات، فالله هو القادر على ذلك وهو محيي الموتى، ويحشرهم يوم القيامة، فجدير بمثله أن يتخذ وليًا، لا من لا يستطيع دفع الشر عن نفسه، ولا جلب الخير لها، ونحو الآية قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[10]

يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}. 10 - وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرًا، منع الكافرين أن يتنازعوا معهم، في شأن من شؤون الدين فقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ} هذا (¬1) حكاية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين؛ أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: في أمر من أمور الدين {فَحُكْمُهُ}؛ أي: حكم ذلك المختلف فيه مفوض {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين، ومعاقبة المبطلين، وهذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه ومرجعه إلى الله، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحق من المبطل، ويتميز فريق الجنة وفريق النار، وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويمكن (¬2) أن يكون معنى قوله: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين، أنه يرد إلى كتاب الله تعالى، ومثله قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. وقد حكم سبحانه وتعالى بأن الدين هو الإِسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقًا إلا في الدار الآخرة، وعدهم الله بذلك يوم القيامة. ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: {ذَلِكُمْ} الحاكم بهذا الحكم العظيم الشأن، وهو مبتدأ {اللَّهُ} خبر {رَبِّي} ومالكي لقب لله سبحانه، {عَلَيْهِ} خاصة لا على غيره {تَوَكَّلْتُ} في كل أموري، التي من جملتها رد كيد أعداء الدين {وَإِلَيْهِ} لا إلى أحد سواه {أُنِيبُ}؛ أي: أرجع في كل ما يعنّ لي، من معضلات الأمور، التي منها كفاية شرهم والنصر عليهم. ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) الشوكاني.

[11]

ولما كان التوكل أمرًا واحدًا مستمرًا، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدد موادها، أوثر في الأول صيغة الماضي، وفي الثاني صيغة المضارع، وفيه إشارة إلى أنه إذا اشتغلت قلوبكم بحديث نفوسكم لا تدرون، أبالسعادة جرى حكمكم، أم بالشقاوة مضى اسمكم، فَكِلوا الأمر فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكر فيما ليس لعقولكم سبيل إلى معرفته وعلمه من عواقبكم. والمعنى: أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات، من الإحياء والإماتة والحكم بين المختلفين، هو ربي وحده، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، عليه توكلت في دفع كيد الأعداء. وفي جميع شؤوني، وإليه أرجع في كل المهمات، وإليه أتوب من الذنوب. وفي هذا تعريض لهم، بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليًا لا يجديهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه، إذ من شأن العاقل أن لا يفعل إلا ما يفيده في دينه أو دنياه. 11 - ثم بين الأسباب، التي تحمله على أن يلتجىء إليه، وتجعله الحقيق بذلك فقال: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والفاطر: هو الخالق المبدع، وقرأ الجمهور: {فَاطِرُ} بالرفع، على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة فيه محضة، ويكون {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} معترضًا بين الصفة والموصوف، وقرأ زيد بن علي {فَاطِرُ} بالجر على أنه نعت للاسم الشريف، في قوله: {إِلَى اللَّهِ}، وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء، في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غيره على المدح. والمعنى: أي أنه الجدير بأن يعتمد عليه ويستعان به؛ لأنه خالق العوالم جميعها علويها وسفليها، على عظمتها التي ترونها، لاآلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئًا. ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به، فقال: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}؛ أي:

خلق لكم من جنسكم {أَزْوَاجًا}؛ أي: نساء وحلائل، أو المراد: حواء لكونها خلقت من ضلع آدم. وقال مجاهد: نسلًا بعد نسل {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}؛ أي: خلق للأنعام من جنسها إناثًا، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافًا من الذكور والإناث، وهي الثمانية التي ذكرها في سورة الأنعام {يَذْرَؤُكُمْ} من الذرء، وهو البث، أو يخلقكم وينشئكم، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام، إلا أنه (¬1) غلب فيه العقلاء على غيرهم، حيث لم يقل يذرؤكم وإياهن، وغلب فيه المخاطبين على الغائبات، حيث لم يقل يذرؤها وإياكم؛ لأن الأنعام ذكرت بلفظ الغيبة، فإن {كم} مخصوص بالعقلاء، ففيه تغليبان {فِيهِ}؛ أي: في هذا الجعل والخلق أزواجًا المدلول عليه بالفعل؛ لأنه يكون بين ذكوره وإناثهم تناسل وتوالد، أو في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجًا، ففيه بمعنى به، واختير فيه على لفظ به؛ لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع، والمعدن للبث والتكثير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ}؛ أي: كذاته سبحانه وتعالى {شَيْءٌ} من الموجودات، قيل (¬2): إِنّ كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التمثيل والتقدير: ليس مثله شيء، فتكون الكاف زائدة، وقيل: المثل زائدة، والتقدير: ليس كهو شيء كقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}؛ أي: بما آمنتم به، وذلك لأن المراد نفي المثلية، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زائدة، لزم إثبات المثل له تعالى؛ لأن المنفي مثل المثل. وقيل: المعنى ليس كذاته شيء؛ لأنهم يقولون: مثلك لا يبخل، يريدون به نفي البخل عن ذاته، ويقصدون المبالغة في نفي ذلك البخل؛ لأنهم إذا نفوه عمن يقوم مقامه، فقد نفوه عنه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين ليس كمثله شيء، وبين ليس كالله شيء، وقال أبو البقاء (¬3) مرجحًا لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى إثبات المحال إذ يكون المعنى أن له تعالى مثلًا وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو مع أن إثبات المثل لله سبحانه وتعالى محال انتهى. ولكنه يندفع ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) النسفي. (¬3) العكبري.

أورده بما ذكرنا، من كون الكلام خارجًا من مخرج الكناية. وقال الإمام الراغب في "المفردات": المثل عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى نفي التشبيه، من كل وجه، خصه بالذكر فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} انتهى. والشيء عبارة عن الموجود، وهو اسم لجميع المكونات، عرضًا كان أو جوهرًا. وعند سيبويه الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه موجودًا أو معدومًا، ومن (¬1) فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها، وتدبرها حق تدبرها .. مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات، على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل، معنى قوله: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى: {السَّمِيعُ} لجميع المسموعات بلا أذن {الْبَصِيرُ} لجميع المرئيات بلا حدقة، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له. وحاصل معنى الآية: أي ومن حكمته تعالى لبقاء العمران في هذه الحياة، إلى الأجل الذي حدده في علمه، أن خلق لكم من جنسكم زوجات، لتتوالدوا ويكثر النسل، ويستمر بقاء هذا النوع، وجعل للأنعام مثل هذا، وبهذا تنتظم شؤون الحياة لهذا الخليفة، الذي جعله الله في الأرض وتقضى مآربه الدنيوية، من مأكول ومشروب، وتستمر تغذيته على أتم النظم وأكمل الوجوه، فيشكر ربه على ما أولى، ويعبده على ما أنعم، فيفوز بالسعادة في الحياة الآخرة، كما فاز في الدنيا. وبعد أن ذكر بعض صنعه، الدال على عظمته، أرشد إلى بعض صفاته العظيمة، فقال: 1 - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ أي: ليس كخالق الأزواج شيء؛ لأنه الفرد ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[12]

الصمد، وقد يكون المعنى: ليس مثله شيء في شؤونه التي يدبرها، بمقتضى قدرته، الشاملة، وعلمه الواسع، وحكمته الكاملة، ومن ثم، جعل هذا التدبير المحكم لإحاطة علمه بكل شيء. 2 - {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي: وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول البصير بأعمالهم لا يخفي عليه شيء مما كسبت أيديهم من خير وشر. 3 - 12 {لَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: جميع خزائن السموات والأرض، من الأرزاق والرحمة. قال الجواليقي في كتابه "المعرب": المقليد: المفتاح، فارسي، معرب لغة في الأقليد، والجمع مقاليد، فالمقاليد: المفاتيح، وهي كناية عن الخزائن، وقدرته عليها، وحفظه لها، قال النحاس: والذي يملك المفاتيح، يملك الخزائن، انتهى. وفيه مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها؛ أي: له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض، فبيده مقاليد الخير والشر، فما يفتح من رحمة، فلا ممسك لها، وما يمسك منها، فلا مرسل له من بعده، وقد بين هذا بقوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ أي: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه {وَيَقْدِرُ}؛ أي: يضيق ويقتر على من يريد، بحسب السنن والنواميس، التي وضعها بين عباده في هذه الحياة. ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ أي: إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع عليه، وتقتير على من يقتر عليه، ومن الذي يصلحه البسط في الرزق، ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه التقتير، ومن الذي يفسده لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة وعلمه المحيط، فلا يوسع الرزق، إلا إذا علم سعته خير للعبد، وكذا التضييق. ثم إن الرزق قسمان: رزق صوري: وهي المأكولات والمشروبات الحسية، ورزق معنوي: وهي العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية، فالأول داخل في الآية

[13]

بطريق العبارة، والثاني بطريق الإشارة. 13 - {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} شروع في تفصيل ما أجمله، أولًا بقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} اهـ "خطيب". والخطاب في {لَكُمْ} لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بين وأوضح وسن لكم من التوحيد، ودين الإسلام، وأصول الشرائع والأحكام، سنةً وطريقًا واضحًا؛ أي: سن الله سبحانه لكم، يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} عليه السلام؛ أي (¬1): أمر به نوحًا من التوحيد الذي لم يختلف فيه الرسل، وتوافقت عليه الكتب، أمرًا مؤكدًا، فإن التوصية معربة عن تأكيد الأمر، والاعتناء بشأن المأمور به؛ لأن الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به، مقترنًا بوعظه، وقدم نوحًا لأنه أول أنبياء الشريعة، فإنه أول من أُوحي إليه الحلال والحرام، وأول من أوحي إليه تحريم الأمهات والأخوات والبنات وسائر ذوات المحارم، فبقيت تلك الحرمة إلى الآن {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: وشرع لكم يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أوحينا إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وشرائع الإسلام، والبراءة من الشرك، والتعبير عنه بالموصول، لتفخيم شأنه. وتغيير التوصية إلى الإيحاء في جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -، للتصريح برسالته قطعًا لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما بعده، مع تقدمه عليه زمانًا، وتقديم توصية نوح، للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينًا قديمًا، والتعبير بالأصل في الموصولات، وهو الذي في جانب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - للتعظيم، وتوجيه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - بطريق التلوين للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى، شرعه لهم على لسانه {وَ} شرع الله لكم أيضًا {مَا وَصَّيْنَا}؛ أي: أمرنا {بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} ابن مريم - على نبينا، وعليهم الصلاة والسلام - أمرًا أكيدًا. وحكمة تخصيص هؤلاء الخمسة بالذكر هنا، أنهم أكابر الأنبياء، ومشاهيرهم، من أولى العزم، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وحاصل المعنى (¬1): أي شرع لكم من الدين، ما شرع لنوح ومن بعده، من أرباب الشرائع، وأولي العزم من الرسل، وأمرهم به أمرًا أكيدًا، وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر، كما تقدم آنفًا، لعلو شأنهم، وعظيم شهرتهم، ولاستمالة قلوب الكفار إلى اتباعه، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوتهم، واختصاص اليهود بموسى عليه السلام، والنصارى بعيسى عليه السلام، وإلا فكل نبي مأمور بما أمروا به، من إقامة دين الإِسلام، وهو التوحيد وأصول الشرائع والأحكام، مما لا يختلف باختلاف الأعصار، كالإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات. وفي الآية: إيماء إلى أن ما شرعه لهم، صادر عن كامل العلم والحكمة، وأنه دين قويم أجمع عليه الرسل، وما أوحاه إليه، هو إما ما ذكر في صدر السورة، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا} الآية، وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواضع، التي من جملتها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. ثم فصل ما شرعه بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} المراد (¬2) بإقامته تعديل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، أو المواظبة والتشمر له و {أَنْ} تفسيرية بمعنى أي؛ أي: أقيموا الدين لأنه قد تقدمها ما في معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية في محل رفع خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو أن أقيموا إلخ، أو في محل نصب، بدلًا من الموصول، أو في محل جر، بدلًا من الدين، اهـ "سمين". وعبارة "أبي السعود": ومحل {أَنْ أَقِيمُوا} إما النصب على أنه بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين، أو الرفع على أنه جواب سؤال، نشأ من إبهام المشروع، كأنه قيل: وما ذاك، فقيل، هو إقامة الدين؛ أي: أقيموا دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله وباليوم الآخر، وسائر ما يكون الرجل به مؤمنًا، {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}؛ أي: في الدين، الذي هو عبارة عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) أبو السعود.

الأصول، والخطاب فيه متوجه إلى أمته - صلى الله عليه وسلم -، فهذه وصية لجميع العباد؛ أي (¬1): لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله، وطاعة رسله وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع، وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة، وتتعارض فيها الأمارات، وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد، ومواطن الخلاف. واعلم (¬2): أن الأنبياء عليهم السلام مشتركون، ومتفقون في أصل الدين، وجميعهم أقاموا الدين، وقاموا بخدمته، وداموا بالدعوة إليه، ولم يختلفوا في ذلك، وباعتبار هذا الاتفاق، والاتحاد في الأصول، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} من غير تفرقة بين نبي ونبي، ومختلفون في الفروع والأحكام، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وهذا الاختلاف الناشىء من اختلاف الأمم، وتفاوت طبائعهم لا يقدح في ذلك الاتفاق، ثم أمر عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، ونهاهم عن التفرق فيه، فإن يد الله ونصرته مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب الشاة البعيدة، النافرة، والمنفردة عن الجماعة. أوصى حكيم أولاده عند موته، وكانوا جماعة، فقال: ائتوني بعصي، فجمعها، فقال لهم: اكسروها وهي مجموعة، فلم يقدروا على ذلك، ثم فرقها فقال: خذوا واحدة واحدة فاكسروها فكسروها، فقال لهم: هكذا أنتم بعدي بن تغلبوا ما اجتمعتم، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم فأهلككم، وكذا القائمون بالدين، إذا اجتمعوا على إقامته، ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدوهم، وكذا الإنسان في نفسه، إذا اجتمع في نفسه على إقامة الدين، لم يغلبه شيطان من الإنس والجن بما يوسوس به إليه، مع مساعدة الإيمان، والملك بإقامته له. وقال علي رضي الله عنه: لا تتفرقوا فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، وكونوا عباد الله إخوانًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وكان (¬1) - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته يعبد ربه، بشريعة إبراهيم عليه السلام، حتى جاءه الوحي، وجاءته الرسالة. ولم يكن على ما كان عليه قومه، باتفاق الأمة وإجماع الأئمة. والخلاصة (¬2): أننا شرعنا لكم، ما شرعنا للأنبياء قبلكم، دينًا واحدًا في الأصول، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال، كالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحرمنا عليكم الزنا، وإيذاء الخلق، والاعتداء على الحيوان، فكل هذا قد اتحد فيه الرسل، وإن اختلفوا في تفاصيله. ثم ذكر سبحانه وتعالى، أن ما شرعه لعباده شق على المشركين، فقال: {كَبُرَ}؛ أي: عظم وشق {عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} يا محمد من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، واستبعدوه حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله وحده، ضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يظهرها على من ناوأها؛ أي: عاداها. والمعنى: أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتقريعهم على ذلك، لأنهم توارثوا ذلك كابرًا عن كابر، ونقلوه عن الآباء والأجداد، كما حكى سبحانه عنهم بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين، ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَجْتَبِي إِلَيْهِ}؛ أي: إلى دينه الحق؛ أي: يختار لتوحيده والدخول في دينه {مَنْ يَشَاءُ} اجتباءه من عباده، والاجتباء (¬3): الجمع على طريق الاصطفاء، وهو هنا مأخوذ من الجباية، وهي جلب الخراج، وجمعه لمناسبة النهي عن التفرق في الدين، ولأن الاجتباء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

بمعنى الاصطفاء لا يتعدى بإلى إلا باعتبار تضمين معنى الضم والصرف. والمعنى: الله سبحانه يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتلبه إليه، وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه {وَيَهْدِي إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الدين بالإرشاد والتوفيق، وإمداد الألطاف {مَنْ يُنِيبُ} ويقبل إليه؛ أي: يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته، ويقبل إلى عبادته. ويجوز (¬1) أن يكون الضمير في {إِلَيْهِ} لله في كلا الموضعين، فالمعنى: الله يجمع إلى جنابه على طريق الاصطفاء من يشاء من عباده، بحسب استعداده، ويهدي إليه بالعناية من ينيب، واجتباء الله تعالى العبد، تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء عليهم السلام، ولبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء. فعليك أيها المؤمن الإتيان بجميع القرب بقدر الاستطاعة في كل زمان وحال، فإن المؤمن بن تخلص له معصية أبدًا، من غير أن تخالطها طاعة، لأنه مؤمن بها أنها معصية، فإن أضات إلى هذا الخليط استغفارًا وتوبة، فطاعة على طاعة، وقربة على قربة، فيقوى جزاء الطاعة التي خالطها العمل السيء، وهو الإيمان بأنها معصية، والإيمان من أقوى القرب وأعظمها عند الله تعالى، فإنه الأساس الذي ابتنى عليه جميع القرب، وفي الخبر الصحيح: "وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" وكان قربه تعالى من العبد، ضعف قرب العبد منه، وعلى كل حال، لا يخلو المؤمن من الطاعة والقرب، والعمل الصالح يمحو الخطايا، فإن العبد إذا رجع عن السيئة وأناب إلى الله وأصلح عمله، أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمه الفائتة. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: بلغني أن رجلًا من بني إسرائيل، ذبح عجلًا بين يدي أمه، فيبست يده، فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[14]

وهو يتبصبص؛ أي: يضطرب ويحرك الذنب، فأخذه ورده إلى وكره، فرحمه الله تعالى لذلك، ورد عليه يده بما صنع، والوكر: بفتح الواو، عش الطائر. والمعنى (¬1): أي الله يصطفي من يشاء من عباده، ويقربهم إليه تقريب الكرامة، ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الحق، من راجع التوبة من معاصيه. 14 - ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال، لماذا صار الناس متفرقين في الدين، مع أنهم أمروا بالأخذ به، وعدم التفرق فيه، فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا}؛ أي (¬2): وما تفرقت اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} بحقيقته؛ أي: إلا حال مجيء العلم. أو إلا وقت مجيء العلم بحقية ما شاهدوا في رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، والقرآن من دلائل الحقية، حسبما وجدوه في كتابهم، أو العلم بمبعثه {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}؛ أي: ما تفرقوا إلا لأجل البغي والعدوان، على محمد - صلى الله عليه وسلم - والحسد له، فيما بينهم لابتغاء طلب الدنيا، وطلب ملكها وسياستها وجاهها وشهرتها، وللحمية الجاهلية؛ لأن لهم في ذلك شبهة، كما يدل عليه قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} وقيل: المراد بهم: كفار قريش، تفرقوا بعدما جاءهم العلم، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيًا منهم عليه، وحسدًا له فيما بينهم، وكانوا يقولون فيما حكاه الله عنهم، بقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} الآية، وقيل: المراد بهم: كفار الأمم الماضية، وأنهم فيما {بَيْنَهُمْ} اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم وكفر قوم. والمعنى (¬3): أي وما تفرقت الأمم إلا من بعدما علموا، أن الفرقة ضلالة، وقد فعلوا ذلك بغيًا وطلبًا للرياسة، وللحمية حمية الجاهلية، التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبًا وتدعو إليه، وتقبح ما سواه طلبًا للأحدوثة بين الناس، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

والسيطرة عليهم. والخلاصة: أن الأمم قديمها وحديثها، أمروا باتفاق الكلمة، وإقامة الدين، وبلغهم أنبياؤهم ذلك، وما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بذلك، بغيًا وحسدًا وعنادًا وحبًا للرياسة، فدعت كل طائفة إلى مذهب، وأنكرت ما عداه. ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره عنهم إلى وقت معلوم، فقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} ووجبت {مِنْ رَبِّكَ} وهي العِدَة بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وتلك الكلمة، كقوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: إلى وقت معين، معلوم عند الله تعالى، وهو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدرة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأوقع القضاء بينهم، باستئصالهم لاستيجاب جنايتهم لذلك قطعًا، وقيل: لقضي بين من آمن منهم، ومن كفر، بنزول العذاب بالكافرين، ونجاة المؤمنين. والمعنى: أي ولولا الكلمة السابقة من ربك، بإنظار حسابهم، وتأخيره إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا، بما دسَّوا به أنفسهم، من كبير الآثام وقبيح المعاصي. ثم ذكر أن تفرقهم في الدين باق في أعقابم، مضافًا إليه الشك في كتابهم، مع انتسابهم إليه فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا} وأعطوا {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة والإنجيل، من اليهود والنصارى المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد (¬1) من قبلهم: من سلف اليهود والنصارى {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ}؛ أي: من القرآن، أو من محمد - صلى الله عليه وسلم - {مُرِيبٍ}؛ أي: مقلق مدخل في الريبة؛ أي: موقع في الريب، ولذلك لم يؤمنوا. وقال مجاهد: معنى من بعدهم: من قبلهم، يعني: من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى، والمعنى عليه؛ أي: وإن المشركين الذين أورثوا الكتاب؛ أي: القرآن من بعدما أوتي أهل الكتاب كتابهم، لفي ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[15]

شك منه؛ أي: من القرآن، والإيراث في الأصل: تملك قهري، يثبت لقريب الميت بموته، والشك (¬1): اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما {مُرِيبٍ}؛ أي: موقع ذلك الشك في القلق، أي: الاضطراب، ولذلك لا يؤمنون لمحض البغي، والمكابرة، بعدما علموا بحقيته، كدأب أهل الكتابين. والريب: قلق النفس واضطرابها، ويسمى الشك بالريب؛ لأنه يقلق النفس، ويزيل طمأنينتها، كما سيأتي في مبحث اللغة، قرأ الجمهور: {أُورِثُوا}، وقرأ زيد بن علي: {ورّثوا} مشدد الراء، مبنيًا للمفعول، وقرىء {ورثوا} بتخفيف الراء، مبنيًا للفاعل. والمعنى (¬2): أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده - صلى الله عليه وسلم - وورثوا التوراة، والإنجيل عن السابقين لهم، لفي شك من كتابهم، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك أقض مضاجعهم، وأوقعهم في اضطراب وقلق. وقصارى ذلك: أنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم؛ لأنهم شكوا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهي. 15 - {فَلِذَلِكَ}؛ أي: فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم، القديم الحقيق، بأن يتنافس فيه المتنافسون {فَادْعُ} يا محمد الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين، والعمل بموجبه، فإن كلا من تفرقهم وكونهم في شك مريب، ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، سبب للدعوة إليه، والأمر بها، وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية، والأمر بالاتفاق، والنهي عن التفرق حتى يتوهم شائبة التكرار؛ أي: فلأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبًا، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم {وَاسْتَقِمْ} عليه وعلى الدعوة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

إليه {كَمَا أُمِرْتَ} وأوحي إليك من عند الله تعالى، والمراد: الثبات والدوام عليهما؛ لأنه كان مستقيمًا في هذا المعنى؛ أي: واثبت أنت ومن اتبعك على عبادة الله كما أمركم {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: ولا تتبع أيها الرسول أهواءهم المختلفة الباطلة، والضمير للمشركين، وكانوا يهوون أن يعظم عليه السلام آلهتهم وغير ذلك، أو للذين شكوا في الحق الذي شرعه الله لكم، من الذين أورثوا الكتاب من قبلكم، فتشكوا فيه كما شكوا؛ أي (¬1): فلأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع الناس كافة إلى الاتفاق على الملة الإسلامية، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله تعالى، ولا تتبع أهواءهم المختلفة. {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي كتاب كان من الكتب المنزلة، لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، وذلك لأن كلمة {ما} من ألفاظ العموم؛ أي: وقل لهم يا محمد: صدقت بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء، من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، لا أكذب بشيء منها، وفي هذا (¬2) تعريض بأهل الكتاب، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض، وتأليف لقلوبهم إذ آمن بما آمنوا به. والمعنى: وقيل لهم يا محمد: آمنت بما أنزل الله على الأنبياء، من كتاب صح أن الله أنزله، وهو الإيمان بجميع الكتب المنزلة؛ لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض منها، وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ} بذلك الذي أمرت به {لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}؛ أي: لكي أعدل وأسوي بينكم؛ أي: بين شريفكم ووضيعكم في تبليغ الشرائع، وفي الحكم، وفصل القضايا بينكم، عند المحاكمة والمرافعة إليّ، فاللام لام كي، والمأمور به محذوف، كما قدرناه. وقيل: اللام بمعنى الباء؛ أي: وأمرت بأن أعدل بينكم في الحكم، إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ، وأسوي بين أكابركم وأصاغركم، فيما يتعلق بحكم الله تعالى، فلا أخصّ البعض بأمر أو نهي، وقيل: اللام زائدة. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

والمعني: أمرت أن أعدل بينكم، والأول أولى. والظاهر (¬1): أن الآية عامة في كل شيء، المعنى: أمرت لأعدل بينكم في كل شيء {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {رَبُّنَا}؛ أي: معبودنا وخالقنا ومتولي أمورنا {وَرَبُّكُمْ}؛ أي: ومعبودكم وخالقكم ومتولي أموركم أيضًا، لا الأصنام والهوى، فنحن نقر بذلك اختيارًا، وأنتم وإن لم تفعلوه، فله يسجد من في السموات والأرض، طوعًا وكرهًا {لَنَا} لا لكم {أَعْمَالُنَا} لا يتخطانا جزاؤها، ثوابًا كان أو عقابًا {وَلَكُمْ} لا لنا {أَعْمَالُكُمْ} لا يجاوزكم آثارها لا ننتفع بحسناتكم، ولا تضرنا سيئاتكم، ونحو الآية قوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}؛ أي: لا حجاج ولا خصومة بيننا وبينكم، لأن الحق قد ظهر ووضح وليس للمحاجة مجال في المخالف إلا معاند أو مكابر، وسيأتي الوقت الذي يستبين فيه الحق، ويتضح فيه سبيل الرشاد، وإلى ذلك أشار بقوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} وبينكم يوم القيامة في المحشر، فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه، ومثل الآية قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}. {وَإِلَيْهِ} سبحانه وتعالى، لا إلى غيره {الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع والمعاد بعد مماتنا يوم الحساب، فيجازي كل نفس بما كسبت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، قيل: الخطاب لليهود، وقيل: للكفار على العموم. وهذه الأوامر والنواهي (¬2)، وإن وجهت في الظاهر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهي له ولأمته، كما هي القاعدة من أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر لأمته، إلا إذا ورد دليل على التخصيص، قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل (¬3): ليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة، لا مطلقًا، حتى لا تكون منسوخة بآية القتال، يعني: هذه الآية إنما تدل على المتاركة القولية، لحصول الاستغناء عن المحاجة القولية معهم؛ لأنهم قد عرفوا صدقه من الحجج، وإنما كفروا عنادًا، وبعدما ظهر الحق وصاروا محجوجين كيف يحتاج إلى المحاجة القولية، فلا يبقى بعد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[16]

هذا إلا السيف، أو الإسلام، فقد قوتلوا بعد ذلك. فعلى العبد قبول الحق بعد ظهوره، والمشي خلف النصح بعد إضاءة نوره، فإن المصير إلى الله تعالى، والدنيا دار عبور، وإن الحضور في الآخرة، والدنيا دار التفرق والفتور، فلا بد من التهيُّؤ للموت، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى لرجل في الطواف: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين، حتى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدة. والثانية: تغلق باب العز، وتفتح باب الذل. والثالثة: تغلق باب الراحة، وتفتح باب الجهد. والرابعة: تغلق باب النوم، وتفتح باب السهر. والخامسة: تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر. والسادسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت، وأنشدوا: إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطُنَا ... طَلَّقُوْا الدُّنْيَا وَخَافُوْا الْفِتَنَا نَظَرُوْا فِيْهَا فَلَمَّا عَلِمُوْا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا جَعَلُوْهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوْا ... صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْهَا سُفُنَا 16 - {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ} ويخاصمون ويجادلون {فِي اللَّهِ} وينازعون نبيه - صلى الله عليه وسلم -، في دين الله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ}؛ أي: من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه لظهور حجته، ووضوح محجته، والتعبير (¬1) عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه والضمير في {لَهُ} راجع إلى الله، وقيل: راجع إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأول أولى كما عرفت. وفيه إشارة إلى أنهم استجابوا له تعالى يوم الميثاق بقولهم: بلى حين قال ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

لهم المولى: ألست بربكم، ثم لما نزلوا من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح، نسوا الإقرار والعهد، فأخذوا في المحاجة والإنكار، بخلاف المؤمنين، فإنهم ثبنوا على التصديق والإقرار، قال مجاهد: وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود، وقال قتادة: هم اليهود والنصارى ومحاجتهم قولهم: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة، بأنهم أهل كتاب، وأنهم أولاد الأنبياء، وكان المشركون يقولون: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} فنزلت هذه الآية. والموصول مبتدأ أول {حُجَّتُهُمْ} مبتدأ ثان {دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} خبر الثاني، والجملة خبر الأول؛ أي: زائلة باطلة بل لا حجة لهم أصلًا، وإنما عبّر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة على زعمهم الباطل {وَعَلَيْهِمْ}؛ أي: وعلى أولئك المحاجين {غَضَبٌ} عظيم من الله تعالى، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره، ومجادلتهم بالباطل {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة على كفرهم الشديد، وضلالهم البعيد، لا يعرف كنهه، وهو عذاب النار. والمعنى (¬1): أي والذين يجادلون المؤمنين، المستجيبين لله ورسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم وعليهم غضب منه؛ لأنهم ماروا في الحق بعدما تبين، ولهم عذاب شديد يوم القيامة، لتركهم الحق، بعد أن وضحت محجته عنادًا واستكبارًا 17 - {اللَّهُ} الذي يستحق منكم العبادة، أيها الناس هو {الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ}؛ أي: جنس الكتاب حال كونه متلبسًا {بِالْحَقِّ} في أحكامه وأخباره، بعيدًا من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام {وَالْمِيزَانَ}؛ أي: وأنزل الشرع الذي (¬2) يوزن به الحقوق، ويسوى به بين الناس على أن يكون لفظ الميزان، مستعارًا للشرع، تشبيهًا له بالميزان العرفي، من حيث إنه يوزن به الحقوق الواجبة الأداء، سواء كان من حقوق الله، أو من حقوق العباد، أو نفس العدل والتسوية، بأن أنزل الأمر به في الكتب الإلهية، فيكون تسمية العدل بالميزان، تسمية المسمى باسم آلته، فإن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

الميزان آلة العدل، أو أنزل آلة الوزن، والوزن معرفة قدر الشيء، فيكون المراد بالميزان معناه الأصلي وإنزاله إما حقيقة لما رُويَ أن جبرائيل عليه السلام نزل بالميزان, فدفعه إلى نوح عليه السلام، فقال له: مر قومك يزنوا به، وقيل: نزل آدم عليه السلام، بجميع آلات الصنائع، وإما مجاز عن إنزال الأمر به، واستعماله في الإيفاء والاستيفاء. والمعنى (¬1): الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق، الذي لا شبهة فيه، بعيدة من الباطل، الذي لا خير فيه، وأنزل العدل ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم بينهم بحكمه، الذي أمر به في كتابه، ونحو الآية قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. ثم رغب سبحانه وتعالى في الآخرة، وزهد في الدنيا، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ} ويعلمك يا محمد، بحال القيامة من (¬2) الإدراك بمعنى الإعلام؛ أي شيء يجعلك داريًا؛ أي: عالمًا بحال الساعة، التي هي من العظم والشدة والخفاء، بحيث لا تبلغها دراية أحد، وإنما يُدرى ذلك بوحي منا. قال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن، وما أدراك فقد عقب ببيانه نحو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}، وكل موضِع ذكر فيه وما يدريك لم يعقبه بذلك، نحو: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} {لَعَلَّ السَّاعَةَ} التي يخبر بمجيئها الكتاب الناطق بالحق {قَرِيبٌ}؛ أي: شيء قريب، أو قريب مجيئها، وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل، لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه، فكان الظاهر أن يقال: قريبة، لكونه مسندًا إلى ضمير الساعة، إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له، وقيل: القريب بمعنى ذات قرب، على معنى النسب، وإن كان على صورة اسم الفاعل، كلابنٍ وتامرَ بمعنى ذي لبن، وذي تمر؛ أي: لبني وتمريّ لا على معنى الحدث كالفعل، فلما لم يكن في معنى الفعل حقيقة لم يلحقه تاء التأنيث، أو الساعة بمعنى البعث، تسمية باسم ما حل فيه، وقال الزمخشري: لعل مجيء الساعة، قريب بتقدير المضاف. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[18]

والمعنى: أن القيامة على جناح الإتيان، فاتبع الكتاب يا محمد، واعمل به، وواظب على العدل، قبل أن يفاجئك اليوم، الذي يوزن فيه الأعمال، ويُوفَّى جزاؤها، وفيه زجرهم عن طول الأمل، وتنبيههم على انتظار الأجل وهجومه، نبهنا الله تعالى وإياكم أجمعين آمين. والمراد بذلك (¬1): حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته. 18 - روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا: متى الساعة: استهزاء بها، وتكذيبًا لمجيئها، فأنزل الله الآية. ويدل على ذلك قوله {يَسْتَعْجِلُ بِهَا}؛ أي: بمجيئها {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} استعجال إنكار، واستهزاء، وتكذيب بمجيئها، ولا يشفقون منها، ويقولون متى هي، ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق، أهو الذي نحن عليه، فنفوز بالنجاة، أم الذي عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فنكون من الخاسرين، فإنهم لما لم يؤمنوا بها، لم يخافوا ما فيها، فهم يطلبون وقوعها استبعادًا لقيامها، والعجلة (¬2): طلب الشيء وتحريه قبل أوانه. وبعد أن بين حال المشركين في شأنها، ذكر حال المؤمنين بها، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا بمجيئها {مُشْفِقُونَ مِنْهَا}؛ أي: خائفون منها، وجلون من مجيئها؛ لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم، وهم موقنون أنهم محاسبون، ومجزيون على أعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر {وَيَعْلَمُونَ} علم اليقين {أَنَّهَا}؛ أي: أن مجيئها {الْحَقُّ} لا ريب فيه، فهم يستعدون له ويعملون من أجله، ونحو الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}. رُوي أن رجلًا، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فقال: يا محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بنحو من صوته: "هاؤم" فقال له: متى الساعة؟ فقال له: "إنها كائنة، فما أعددت لها"؟ فقال: حب الله، ورسوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت مع من أحببت". ثم بين ضلال الممارين فيها فقال: {أَلَا} انتبهوا واعلموا {إِنَّ الَّذِينَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

يُمَارُونَ} ويجادلون {فِي السَّاعَةِ}؛ أي: القيامة، وينكرون مجيئها، عنادًا، ويخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة، من (¬1) المماراة، وهي المخاصمة والمجادلة، أو من المرية، وهي الشك والريبة، فمعناه في الأصل: تداخلهم المرية والشك فيها، فيؤدي ذلك إلى المجادلة، ففسر المماراة بلازمها {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عن الحق، لأنهم لم يتفكرون في الموجبات للإيمان بها، من الدلائل التي هي مشاهدة لهم، منصوبة لأعينهم، مفهومة لعقولهم، ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء، قادر على الإعادة، فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات؛ لأنه كإحياء الأرض بعد موتها، فمن لم يهتد إلى تجويزه، فهو من الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد. ووصف (¬2) الضلال بالبعد، من المجاز العقلي؛ لأن البعد في الحقيقة للضال، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، ويحتمل أن يكون المعنى: في ضلال ذي بعد، أو فيه بعد، لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانًا قريبًا وبعيدًا. والمعنى (¬3): أي ألا إن الذين يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها، لفي جور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الرشاد، وبعد من الصواب؛ لأن الذي خلق السموات والأرض، قادر على إحياء الموتى، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وفي الآية أمور (¬4): الأول: ذم الاستعجال، ولذا قيل: العجلة من الشيطان، إلا في ستة مواضع: أداء الصلاة إذا دخل الوقت، ودفن الميت إذا حضر، وتزويج البكر إذا أدركت. وقضاء الدين إذا وجب، وإطعام الضيف إذا نزل، وتعجيل التوبة إذا أذنب. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

والثاني: الإيمان والتصديق، فإنه الأصل، وذلك بجميع ما يكون به المرء مؤمنًا، خصوصًا الساعة، وكذا الاستعداد لها بالأعمال الصالحة. والثالث: مدح العلم، لكن إذا قرن بالخوف والخشية والعمل الصالح، كان أمدح، فإن العلم ليس جالبًا للسؤدد إلا من حيث طرده الجهل فلا تعجب بعلمك، فإن فرعون علم بنبوة موسى وإبليس علم بحال آدم، واليهود علموا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحرموا التوفيق للإيمان. والرابع: ذم الشك والتردد، فلا بد من اليقين الصريح، بل من العيان الصحيح. والخامس: أن الشقاوة والسعادة أزليتان، وإنما يشقى السعيد لكون سعادته عارضة، وإنما يسعد الشقي لكون شقاوته عارضة، فكل يرجع إلى أصله، فنسأل الله سبحانه الهدى، نعوذ به تعالى من الهوى. الإعراب {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}. {حم (1) عسق (2)}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة حم عسق، إن قلنا إنه اسم للسورة، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، والجملة مستأنفة، {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف {يُوحِي} فعل مضارع مرفوع {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {يُوحِي}، {وَإِلَى الَّذِينَ}: معطوف على إليك، {مِنْ قَبْلِكَ}: صلة الذين، {اللَّهُ} فاعل، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} نعتان للجلالة، والجملة الفعلية مستأنفة، والتقدير: يوحي الله العزيز الحكيم إليك، وإلى الذين من قبلك من الرسل: إيحاء مثل إيحاء هذه السورة، وقرىء {يُوحِي} بالبناء للمجهول، فنائب الفاعل هو الجار والمجرور، ولفظ الجلالة فاعل لفعل محذوف دل عليه {يُوحِي}، كأنّ سائلًا سأل، فقال: من الموحي، فأجاب يوحي الله العزيز الحكيم، والجملة المحذوفة، مستأنفة استئنافًا

بيانيًا {لَهُ}: خبر مقدم، {مَا} مبتدأ مؤخر {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا} والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل الإيحاء {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على ما في السموات، {وَهُوَ} مبتدأ {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: خبران له، والجملة مستأنفة. {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}. {تَكَادُ}: فعل مضارع من أفعال المقاربة {السَّمَاوَاتُ}: اسمها {يَتَفَطَّرْنَ} فعل وفاعل، {مِنْ فَوْقِهِنَّ}: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {تَكَادُ} وجملة {تَكَادُ} مستأنفة، ومعنى {مِنْ} في قوله {مِنْ فَوْقِهِنَّ} الابتداء؛ أي: يبتدىء انفطارهن من جهتهن الفوقانية، {وَالْمَلَائِكَةُ} مبتدأ. وجملة {يُسَبِّحُونَ}: خبره، {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: حال من فاعل {يُسَبِّحُونَ}، والجملة الاسمية مستأنفة {وَيَسْتَغْفِرُونَ} فعل وفاعل معطوف على {يُسَبِّحُونَ}، {لِمَنْ} جار ومجرور متعلق بـ {يَسْتَغْفِرُونَ}، {فِي الْأَرْضِ} صلة {لِمَنْ} الموصولة {أَلَا} حرف استفتاح وتنبيه، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل، {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: خبران؛ لـ {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ} مبتدأ {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل من أخوات ظنّ {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور في محل المفعول الثاني: {أَوْلِيَاءَ}: مفعول أول لـ {اتَّخَذُوا}، والجملة الفعلية صلة الموصول، {اللَّهُ} مبتدأ ثان، {حَفِيظٌ} خبره {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {حَفِيظٌ}، وجملة المبتدأ الثاني خبر الأول، وجملة الأول مستأنفة {وَمَا} {الواو}: عاطفة {مَا}: نافية حجازبة {أَنْتَ}: اسمها، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {وَكِيلٍ}: و {بِوَكِيلٍ} خبرها، والباء زائدة، وجملة {مَا} الحجازية معطوفة على جملة قوله: الله حفيظ عليهم، على كونها خبرًا لقوله: والذين اتخذوا من دونه. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}. {كَذَلِكَ}: {الواو} استئنافية {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف تقديره:

إيحاء مثل إيحاء هذه السورة، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا، {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل {إِلَيْكَ}: متعلق له، والجملة مستأنفة {قُرْآنًا}: مفعول {أَوْحَيْنَا}، {عَرَبِيًّا} صفة {قُرْآنًا}، {لِتُنْذِرَ} اللام: حرف جر وتعليل {تُنْذِر} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - {أُمَّ الْقُرَى} مفعول به، {وَمَنْ} معطوف على أم القرى، {حَوْلَهَا}: ظرف مكان، متعلق بمحذوف صلة لـ {مَنْ} الموصولة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإنذارك أم القرى ومن حولها، الجار والمجرور متعلق بـ {أَوْحَيْنَا}، {وَتُنْذِرَ} معطوف على {لِتُنْذِرَ}. {يَوْمَ الْجَمْعِ} مفعول به ثان لـ {تُنْذِر}، والمفعول الأول محذوف؛ أي: وتنذر الناس يوم الجمع، أي: عذابه، فحذف المفعول الأول من الإنذار الثاني، كما حذف المفعول الثاني من الإنذار الأول. تقديره: لتنذر أم القرى عذاب الله، إن لم يؤمنوا، {لَا} نافية للجنس {رَيْبَ}: اسمها، و {فِيهِ}: خبرها، والجملة في محل النصب حال من {يَوْمَ الْجَمْعِ} واختار الزمخشري أن تكون معترضة {فَرِيقٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل {فِي الْجَنَّةِ} خبره، والجملة مستأنفة، {وَفَرِيقٌ}: مبتدأ، {فِي السَّعِيرِ} خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}. {وَلَوْ}: {الواو} استئنافية {لَوْ}: حرف شرط {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، لا محل لها من الإعراب {لَجَعَلَهُمْ}: اللام: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية {جَعَلَهُمْ أُمَّةً}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان {وَاحِدَةً}: صفة أمة، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة، {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة {لَكِنْ}: حرف استدراك {يُدْخِلُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، {فِي رَحْمَتِهِ}: متعلق بـ {يُدْخِلُ} والجملة الاستدراكية

معطوفة على جملة {لَوْ} الشرطية {يَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إدخاله في رحمته {وَالظَّالِمُونَ} {الواو}: عاطفة {الظَّالِمُونَ} مبتدأ {مَا} نافية، {لَهُمْ}: خبر مقدم {مِنْ} زائدة {وَلِيٍّ} مبتدأ مؤخر {وَلَا نَصِيرٍ}: معطوف عليه وجملة النفي خبر الظالمون، وجملة الظالمون معطوفة على جملة الاستدراك، {أَمِ} منقطعة تقدر ببل الإضرابية، وبهمزة الاستفهام الإنكاري {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل، {مِنْ دُونِهِ}: في محل المفعول الثاني و {أَوْلِيَاءَ} مفعول {اتَّخَذُوا} الأول، والجملة الفعلية مستأنفة. منقطعة عما قبلها {فَاللَّهُ}: الفاء: عاطفة ما بعدها على ما قبلها، أو الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إنكار ولي سواه تعالى، وأردت بيان ما هو الولي حقًا، فأقول لك {اللَّهُ} مبتدأ {هُوَ}: ضمير فصل، {الْوَلِيُّ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية، أو مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {وَهُوَ} مبتدأ، وجملة {يُحْيِ الْمَوْتَى}: خبره، والجملة معطوفة على ما قبلها {وَهُوَ} مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)}. {وَمَا}: {الواو} استئنافية. {مَا} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {اخْتَلَفْتُمْ} فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {فِيهِ} متعلق بـ {اخْتَلَفْتُمْ}، {مِنْ شَيْءٍ}: حال من {مَا} الشرطية، أو من الضمير في فيه {فَحُكْمُهُ}: الفاء: رابطة لجواب {مَا} الشرطية وجوبًا {حُكْمُهُ}: مبتدأ {إِلَى اللَّهِ}: خبره؛ أي: راجع إلى الله، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة {ذَلِكُمُ} مبتدأ {اللَّهُ}: خبره {رَبِّي} خبر ثان {عَلَيْهِ} متعلق بـ {تَوَكَّلْتُ}، وجملة {تَوَكَّلْتُ}: في محل الرفع خبر ثالث {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {أُنِيبُ}،

وجملة {أُنِيبُ}: خبر رابع. {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}. {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: بالرفع خبر خامس لـ {ذَلِكُمُ}، وقرىء بالجر، قال أبو البقاء: هو بدل من الهاء في {عَلَيْهِ} وقال الزمحشري: نعت لقوله: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، فتكون جملة {لَكُمْ}: معترضة بين الموصوف وصفته، {جَعَلَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على {اللَّهِ}، {لَكُمْ}: متعلق به على أنه مفعول ثان له، إن كان بمعنى التصيير، ومتعلق به إن كان بمعنى الخلق {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حال من أزواجًا؛ لأنه كان صفة لأزواجًا، و {أَزْوَاجًا}: مفعول أول لـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى التصيير، ومفعول به إن كان بمعنى الخلق، والجملة الفعلية خبر سادس لـ {ذَلِكُمُ}. {وَمِنَ الْأَنْعَامِ}: حال من أزواجًا المذكور بعده، و {أَزْوَاجًا} معطوف على أزواجًا الأول، {يَذْرَؤُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به {فِيهِ}: متعلق بـ {يَذْرَؤُكُمْ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل جعل، أو في محل الرفع خبر سابع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ}: فعل ماض ناقص، والكاف زائدة، {مِثْلِهِ} خبر ليس مقدم على اسمها، {شَيْءٌ}: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل جعل، أو خبر ثامن، {وَهُو} {الواو}: استئنافية، {هُو}: مبتدأ، {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} خبران له، والجملة مستأنفة، أو حال، {لَهُ} خبر مقدم، {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة خبر تاسع، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة خبر عاشر {لِمَنْ}: متعلق بـ {يَبْسُطُ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة {مَنْ} الموصولة {وَيَقْدِرُ}: معطوف على {يَبْسُطُ}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {بِكُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}، و {عَلِيمٌ}: خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ

إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}. {شَرَعَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، {لَكُمْ} متعلق به، {مِنَ الدِّينِ}: حال من المفعول الآتي، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول شرع، وجملة شرع مستأنفة، مسوقة لتفصيل ما أجمله أولًا، ولك أن تجعله الخبر الحادي عشر، {وَصَّى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، {بِهِ} متعلق بـ {وَصَّى}، {نُوحًا}: مفعول به، وجملة {وَصَّى}: صلة لـ {مَا} الموصولة {وَالَّذِي}: معطوف على {مَا} وجملة {أَوْحَيْنَا} صلة له، والعائد محذوف تقديره: والذي أوحيناه، {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أَوْحَيْنَا}، {وَمَا}: معطوف على {مَا} الأولى أيضًا، {وَصَّيْنَا}: فعل وفاعل {بِهِ}: متعلق به {إِبْرَاهِيمَ} مفعول به، {وَمُوسَى وَعِيسَى}: معطوفان على إبراهيم، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} الموصولة، {أَنْ} تفسيرية بمعنى أي، لأنها سبقت بما فيه معنى القول دون حروفه، وهو {وَصَّى}، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة، مع ما بعدها بمصدر، في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو أن أقيموا أو في محل نصب بدلًا من الموصول، وهو ما، و {أَقِيمُوا الدِّينَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية {تَتَفَرَّقُوا}: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، و {فِيهِ}: متعلق به، والجملة معطوفة على {أَقِيمُوا}، {كَبُرَ}: فعل ماض، {عَلَى الْمُشْرِكِينَ}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، وجملة {تَدْعُوهُمْ}: صلة لـ {مَا} {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تَدْعُوهُمْ}، و {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَجْتَبِي}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {يَجْتَبِي}، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة {يَشَاءُ}: صلة له، {وَيَهْدِي}: معطوف على {يَجْتَبِي}، {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {يَهْدِي}، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يُنِيبُ}: صلته. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. {وَمَا} {الواو} استئنافية {ما} نافية، {تَفَرَّقُوا} فعل وفاعل والجملة

مستأنفة، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {مِنْ بَعْدِ} متعلق بـ {تَفَرَّقُوا}، {مَا} مصدرية، {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} فعل ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية مع {مَا} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، والتقدير: من بعد مجيء العلم إياهم. والاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا في حال مجيء العلم إياهم، {بَغْيًا} مفعول لأجله أو منصوب على الحال بتأويله بمشتق؛ أي: باغين، {بَيْنَهُمْ} متعلق بـ {بَغْيًا}؛ أي: لم يكن تفرقهم لقصور في البيان والحجج ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. {وَلَوْلَا}: {الواو}: استئنافية، {لولا}: حرف امتناع لوجود {كَلِمَةٌ} مبتدأ، محذوف الخبر وجوبًا، وجملة {سَبَقَتْ} صفة للكلمة، {مِنْ رَبِّكَ} متعلق بـ {سَبَقَتْ}، {إِلَى أَجَلٍ} متعلق بـ {سَبَقَتْ} أيضًا، {مُسَمًّى} صفة لـ {أَجَلٍ}، {لَقُضِيَ} اللام: رابطة لجواب {لولا}، {قضي}: فعل ماض مغير الصيغة {بَيْنَهُمْ}: ظرف اعتباري في محل الرفع، نائب فاعل، والجملة الفعلية جواب {لولا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مستأنفة، {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة، {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {أُورِثُوا}: فعل ماض ونائب فاعل، {الْكِتَابَ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول {مِنْ بَعْدِهِمْ} متعلق بـ {أُورِثُوا}، {لَفِى}: اللام: حرف ابتداء، {في شك}: جار ومجرور خبر {إنَّ}. {مِنْهُ}: صفة أولى لـ {شَكٍّ}، {مُرِيبٍ}: صفة ثانية له، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {لولا}. {فَلِذَلِكَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما شرعنا لكم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: لذلك فادع {لذلك}: جار ومجرور متعلق بـ {ادع}، واللام: فيه بمعنى إلى {فَادْعُ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والفاء: الثانية تأكيد للأولى، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا

المقدرة {وَاسْتَقِمْ}: معطوف على ادع، {كَمَا}: الكاف نعت لمصدر محذوف، و {مَا}: موصولة. {أُمِرْتَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: واستقم استقامة، كالاستقامة التي أمرت بها، من قبل، {وَلَا} {الواو}: عاطفة {لا}: ناهية، {تَتَّبِعْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بلا ناهية، {أَهْوَاءَهُمْ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَقِمْ}. {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. {وَقُلْ} {الواو}: عاطفة {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على قوله {فَادْعُ}، {آمَنْتُ}: فعل وفاعل {بِمَا}: متعلق بـ {آمَنْتُ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، وجملة {أَنْزَلَ اللَّهُ}: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنزله الله، {مِنْ كِتَابٍ}: حال من العائد المحذوف {وَأُمِرْتُ}: فعل ماض ونائب فاعل معطوف على {آمَنْتُ}، {لِأَعْدِلَ} اللام: لام الصيرورة {أَعْدِلَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الصيرورة، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا {بَيْنَكُمُ}: متعلق به، والتقدير: وأمرت للعدل بينكم؛ أي: بالعدل بينكم {اللَّهُ رَبُّنَا}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {وَرَبُّكُمْ}: معطوف على ربنا {رَبُّنَا}: خبر مقدم {أَعْمَالُنَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}: مبتدأ وخبر معطوف على ما قبله {لَا}: نافية للجنس {حُجَّةَ}: اسمها، {بَيْنَنَا}: ظرف متعلق بمحذوف، هو خبر {لَا} والجملة في محل النصب، مقول {قل} {وَبَيْنَكُمُ} معطوف على {بَيْنَنَا}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَجْمَعُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قل}، {بَيْنَنَا} ظرف متعلق بـ {يَجْمَعُ} {وَإِلَيْهِ}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل للنصب مقول {قل}. {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ

غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو} استئنافية، {الَّذِينَ}: مبتدأ أول، وجملة {يُحَاجُّونَ} صلة {الَّذِينَ}، {فِي اللَّهِ} متعلق بـ {يُحَاجُّونَ}، وهو على حذف مضاف؛ أي: في دين الله {مِنْ بَعْدِ}: متعلق بـ {يُحَاجُّونَ}، أو حال من الجلالة، و {مَا} مصدرية {اسْتُجِيبَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُ}: جار ومجرور في محل الرفع، نائب فاعل لـ {اسْتُجِيبَ}، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر، ومجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد الاستجابة له. {حُجَّتُهُمْ}: مبتدأ ثان {دَاحِضَةٌ}: خبره {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف متعلق بداحضة. والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة {وَعَلَيْهِمْ} {الواو}: عاطفة {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم. {غَضَبٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: حجتهم داحضة على كونها خبرا للمبتدأ الأول، {وَلَهُمْ}: خبر مقدم {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر {شَدِيدٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ} والجملة معطوفة على ما قبلها، {اللَّهُ}: مبتدأ {الَّذِي}: خبره، والجملة مستأنفة، {أَنْزَلَ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. والجملة صلة الموصول، {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، أو حال من فاعله، أو من الكتاب، {وَالْمِيزَانَ}: معطوف على الكتاب {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. أو استئنافية {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع، مبتدأ {يُدْرِيكَ}: فعل مضارع ومفعول أول. وفاعله ضمير يعود على ما. والجملة خبر المبتدأ، والجملة معطوفة أو مستأنفة، {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}: ناصب واسمه وخبره. وجملة {لَعَلَّ} في محل النصب، مفعول ثان لـ (يُدري)؛ لأنها عاقت عن العمل في لفظه بالترجي، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: لعل مجيء الساعة قريب. {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}. {يَسْتَعْجِلُ}: فعل مضارع {بِهَا}: متعلق به، {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة

مستأنفة. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}: صلة الموصول. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مُشْفِقُونَ}: خبره. والجملة معطوفة على جملة {يَسْتَعْجِلُ}، {مِنْهَا}: متعلق بـ {مُشْفِقُونَ}، {وَيَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {مُشْفِقُونَ}، {أَنَّهَا الْحَقُّ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها، سادة مسد مفعولي {يَعْلَمُونَ}، {أَلَا}: أداة استفتاح، {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يُمَارُونَ}: صلة الموصول. {فِي السَّاعَةِ}: متعلق بـ {يُمَارُونَ}، {لَفِي ضَلَالٍ}: اللام: حرف ابتداء. {فِي ضَلَالٍ}: جار ومجرور خبر {إِنَّ}. {بَعِيدٍ}: صفة لـ {ضَلَالٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} قرأ ابن كثير: {يُوحِي} بالبناء للمجهول. وفيه إعلال بالقلب، أصله: يوحي، قلبت الياء ألفا، لتحركها بعد فتح، وحذفت منه همزة أفعل في صورة ابتداء المضارع بهمزة المتكلم، فرارا من توالي الأمثال، وفي غيرها، حملا عليها، كما هو مقرر في محله. {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ}: مضارع كاد من باب خاف، بمعنى قرب، فيه إعلال بالنقل والتسكين، والقلب أصله: تكود بوزن تفعل مضارع كود بكسر العين، يكود بفتحها، نقلت حركة {الواو} إلى الكاف فسكنت، لكنها أبدلت ألفا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {يَتَفَطَّرْنَ}؛ أي يتشققن، وأصل الفطر: الشق طولا؛ أي يتشققن من عظمة الله تعالى، وخشيته وإجلاله، كقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. {يُسَبِّحُونَ}؛ أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق به. {مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ} والأولياء الشركاء والأنداد. {حَفِيظٌ}؛ أي: رقيب على أحوالهم وأعمالهم. {بِوَكِيلٍ}؛ أي: بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ فحسب. {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}؛ أي: لتخوف أهل مكة بعذاب الله، إن أصروا على الكفر: والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم. كأم النحل، وهو يعسوبها، سميت مكة بأم القرى، تشريفا لها. وإجلالا لاشتمالها على الكعبة المشرفة، شرفنا الله

سبحانه، وجميع المسلمين بجوارها. {فِي السَّعِيرِ}؛ أي: في النار، سميت بالسعير لالتهابها واتقادها بهم. {لَجَعَلَهُمْ}؛ أي: في الدنيا. {أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: جماعة متفقة مهتدين أو ضالين. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيّ}؛ أي: المعين، الناصر لمن آمن به. {أُنِيبُ} مضارع أناب الرباعي، وأصله: أأنوب بوزن يؤكرم، حذفت الهمزة الثانية لتوالي الأمثال، فصار أنوب بوزن أكرم، نقلت حركة الواو إلى النون، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. ففيه إعلال بالنقل والتسكين، والقلب والحذف. {يَذْرَؤُكُمْ}؛ أي: يكثركم أيها الناس، والأنعام، من الذرء وهو البث، قال في "القاموس": ذرأ كجعل خلق، والشيءَ كَثَّره، ومنه الذرية، مثلثة لنسل الثقلين، وقال شارحه في "التاج": وقد يطلق على الآباء والأصول أيضًا، قال تعالى: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}، والجمع ذراري كسراري. {لَهُ} جمع مقلاد، وفيه إعلال بالقلب حيث قلبت ألفه ياء، لوقوعها بعد كسرة، عند بناء اللفظ على صيغة منتهى الجموع، وتقدم البسط فيه في سورة الزمر، فجدد به عهدًا، قال الجواليقي في كتابه "المعرب": المقليد: المفتاح، فارسي معرب لغة في الأقليد، والجمع مقاليد، فالمقاليد المفاتيح، وهي كناية عن الخزائن، وقدرته عليها وحفظه لها، وفيه مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها. {شَرَعَ لَكُمْ}؛ أي: سن لكم {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} التوصية وكذا الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظه. {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}؛ أي: حافظوا عليه، ولا تخلوا بشيء من مقوماته، والمراد بالدين: دين الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله واليوم الآخر، وسائر ما يكون به العبد مؤمنًا، كما مرّ {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}؛ أي: ولا تختلفوا فيه، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضًا. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ}؛ أي: عظم عليهم وشق. {يَجْتَبِي إِلَيْهِ}؛ أي: يصطفي ويجتلب إليه، والاجتباء افتعال من الجباية وهي الجمع، قال الراغب: يقال: جبيت الماء في الحوض؛ أي: جمعته فيه، ومنه قوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، قال تعالى: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان

وتساويهما، مريب؛ أي: موقع في القلق والاضطراب من الريبة، والريبة قلق النفس واضطرابها، وفي "القاموس": أراب الأمر، صار ذا ريب. {وَاسْتَقِمْ} أصله: استقوم بوزن استفعل نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: أهوايهم من الهوى، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أصله: يحاججون بوزن يفاعلون، أدغمت الجيم الأولى في الثانية. {اسْتُجِيبَ لَهُ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: استجوب بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. {دَاحِضَةٌ} باطلة، وفي "المختار": دحضت حجته بطلت، وبابه خضع، وأدحضها الله، ودحضت رجله زلقت، وبابه قطع، والإدحاض الإزلاق، والدحض بتشديد الدال وسكون الحاء المهملتين، وبفتح الحاء أيضًا، وآخره ضاد معجمة هو الزلق. {وَالْمِيزَانَ} أصله: الموزان مفعال من الوزن، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة، والوزن معرفة قدر الشيء بآلة. {وَمَا يُدْرِيكَ} من الإدراء بمعنى الإعلام؛ أي: أيّ شيء يجعلك داريًا؛ أي: عالمًا بحال الساعة. {قَرِيبٌ}؛ أي: شيء قريب، أو قريب مجيئها، وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه. فكان الظاهر فيه أن يقال: قريبة لكونه مسندًا إلى ضمير الساعة، إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له. فائدة: فإن قلت: متى يستوي المذكر والمؤنث؟ قلت: يستوي المذكر والمؤنث في خمسة أوزان: الأول: فعول بفتح الفاء، بمعنى، فاعل كرجل صبور بمعنى صابر، وامرأة صبور بمعنى صابرة، ولو كان فعول بمعنى مفعول، لحقته التاء الفاصلة جوازًا نحو: جمل ركوب وناقة ركوبة. والثاني: فعيل بمعنى مفعول، نحو: رجل جريح، وامرأة جريح، بمعنى مجروحة، فإن كان فعيل بمعنى فاعل، لحقته التاء الفاصلة، نحو: امرأة رحيمة وظريفة.

والثالث: مفعال بكسر الميم كمنحار، يقال: رجل منحار، وامرأة منحار، أي: كثير النحر، وشذ ميقانة من اليقين، وهو عدم التردد، يقال: رجل ميقان لا يسمع شيئًا إلا أيقنه، وامرأة ميقانة. والرابع: مفعيل بكسر الميم، كمعطير من العطر، وشذ امرأة مسكينة، لخروجه عن القاعدة، ومع ذلك فإنه محمول على فقيرة، وسمع امرأة مسكين على القياس، حكاه سيبويه. والخامس: مفعل بكسر الميم وفتح العين كمغشم، وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته، ومدعس من الدعس، وهو الطعن. {يُمَارُونَ} أصله: يماريون استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الراء، لمناسبة الواو، قال الراغب: المرية التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية، انتهى. ويحتمل أن يكون من مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها بشدة الحلب، فيكون تفسيره بيجادلون حملًا له على الاستعارة التبعية، كما سيأتي في مبحث البلاغة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه في قوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} حيث استعمل المضارع في حقيقته ومجازه، فهو مستعمل في المستقبل بالنظر لما ينزل عليه من القرآن، إذ ذاك، وفي الماضي بالنظر لما أنزل بالفعل، وبالنظر لما أنزل على الرسل السابقين. ومنها: جمع المؤكدات مع صيغة المبالغة في قوله: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وهي {لَا} و {إِنَّ} وضمير الفصل. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}؛ أي: لتنذر أهل مكة؛ لأنّ الإنذار لأهل القرية لا لها.

ومنها: الاحتباك في هذه الآية، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، والتقدير: لتنذر أم القرى العذاب، وتنذر الناس يوم الجمع؛ أي: عذابه. ومنها: الطباق بين {الْجَنَّةِ} و {السَّعِيرِ} وبين {يَبْسُطُ} {وَيَقْدِرُ}. ومنها: مخالفة مقتضى الظاهر في قوله: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ولكن يدخل من يشاء في رحمته، ويدخل من يشاء في غضبه، ولكنه عدل عن ذلك إلى ذكر الظالمين، تسجيلًا عليهم باسم الظلم، ومبالغة في الوعيد. ومنها: الإتيان بجملة معرّفة الطرفين في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} لغرض إفادة حصر الولاية في الله سبحانه وتعالى. ومنها: إيثار صيغة الماضي في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، وصيغة المضارع في قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} لكون التوكل أمرًا واحدًا مستمرًا، فيناسبه الماضي، وكون الإنابة متعددة، متجددة، بحسب تجدد موادها، فيناسبها المضارع، وفيهما أيضًا تقديم المعمول على عامله، لإفادة الحصر. ومنها: زيادة الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لتأكيد نفي المثلية. ومنها: الكناية في قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن المقاليد المفاتيح. وهو كناية عن الخزائن؛ لأن فيه مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها، إلا من بيده مفاتيحها. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى نون العظمة في قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه إليه، وهو السر في تقديمه على ما بعده، مع تقدمه عليه زمانًا. ومنها: التعبير بالأصل في الموصولات، وهو الذي للتعظيم. ومنها: توجيه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - بطريق التلوين، للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه. ومنها: الكناية في قوله: {وَاسْتَقِمْ}؛ لأنه كناية عن الثبات والدوام على الدعوة.

ومنها: المجاراة معهم في قوله: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} لأنه لا حجة لهم أصلًا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة معهم على زعمهم الباطل. ومنها: التنوين في قوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} دلالة على عظم الغضب عليهم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَالْمِيزَانَ} حيث استعار الميزان العرفي للشرع، الذي يوزن به الحقوق الواجبة الأداء، سواء كان من حقوق الله، أو من حقوق العباد، بجامع العدل والتسوية في كل، ويحتمل أن يكون المراد بالميزان: العدل والتسوية؛ أي: أنزل العدل في الكتب الإلهية، فيكون تسمية العدل بالميزان، تسمية المسمى باسم آلته، فإن الميزان آلة للعدل. ومنها: الاحتباك في قوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} حيث ذكر الاستعجال أولًا، وحذف الإشفاق، وذكر الإشفاق ثانيًا وحذف الاستعجال؛ لأن التقدير: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها. فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون فلا يستعجلون بها. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} إذا قلنا إنه مأخوذ من مريت الناقة، وفسرناه بيجادلون، حيث شبه المجادلة بمماراة الحالب للضرع، لاستخراج ما فيه من اللبن، من حيث إن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، بكلام فيه شدة اهـ "روح البيان". ومنها: المجاز العقلي في قوله: {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} ففيه وصف الشيء بوصف صاحبه؛ لأن البعد في الحقيقة للضال؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}. المناسبة قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما

قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فيما سبق، أنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على الدلائل الموصلة إلى السعادة، وأن المتفرقين في الدين، استوجبوا شديد العذاب، لكنه أخره إلى يوم معلوم .. أرشد هنا إلى أن ذلك من لطف الله بعباده، ولو شاء لجعلهم في عماية من أمرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، ولو شاء لعجل لهم العذاب. ثم بين أن من يعمل للآخرة يرجو ثوابها .. يضاعف له فيها الجزاء إلى سبع مئة ضعف، ومن يعمل للدنيا وجلب لذاتها .. يؤته ما يريد، وليس له في الآخرة نصيب من نعيمها، ثم أعقب هذا، بذكر ما وسوست به الشياطين للمشركين، وزينت لهم به، من الشرك بالله وإنكار البعث، إلى نحو ذلك. ثم بين أنهم كانوا يستحقون العذاب العاجل على ذلك، لكنه أجله لما سبق في علمه، من أنظارهم إلى يوم معلوم، ثم ذكر مآل كل من الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، فالأولون خائفون، وجلون من جزاء ما عملوا، والآخرون مترفون منعمون. قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في الآيات السالفة، أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم في روضات الجنات، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرة أعينهم، رحمة من لدنه .. ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة، ببشارة منه لهم، ثم أعقب هذا، بأن أمر رسوله بأن يقول لهم: إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرًا، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته، ثم رد عليهم قولهم: أن القرآن مفترى، بأنه لا يفتري الكذب على الله إلا من كان مختومًا على قلبه، ومن سنن الله تعالى إبطال الباطل ونصرة الحق، فلو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كذابًا مفتريًا، لفضحه وكشف باطله، ولكن أيده بالنصر والقوة، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه القرآن، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه ويزيدهم من نعمه، وأوعد الكافرين بشديد العقاب، كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف، أنه يجيب دعاء المؤمنين إذا هم أنابوا إليه وأخبتوا .. ذكر هنا أنه لا يعطيهم كل ما يطلبون من الأرزاق، بل ينزلها بقدر بحسب ما يعلم من مصلحتهم، فإن كثرة الرزق تجعل الناس يتجبرون ويتكبرون، والله هو الخبير بما يصلح حالهم من فقر وغنى. قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، فتمنيناها، ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق، لا يمنعه منهم، وهو المتولي أمورهم بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة، ثم أقام الأدلة على ألوهيته بخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا، من الأمراض والأسقام والفقر والغنى، فبكسب الإنسان واختياره، كما دلت على صدق ذلك التجارب، ثم أعقب ذلك، بآية أخرى على ألوهيته، وهي جريان السفن في البحار، فتارة بجعل الريح ساكنة، فتظل السفن على سطحها، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها، أو تنجو بحسب تقديره تعالى. قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) دلائل توحيده، وعظيم قدرته وسلطانه، بخلق السموات والأرض وجري السفن ماخرات في البحار .. أردف ذلك بالتنفير من الدنيا وزخرفها؛ لأن المانع من النظر في الأدلة، إنما هو الرغبة فيها، طلبًا للرياسة والجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين المرء، لم يلتفت إليها، وانتفع بالأدلة ووجه النظر إلى ملكوت السموات والأرض، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به، وتوكل عليه واجتنب كبائر الذنوب والفواحش، وكان منقادًا له، مطيعًا لأوامره، تاركًا لنواهيه وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يبرم أمرًا إلا بعد ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

مشورة، وانتصر لنفسه ممن ظلمه. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قالت الأنصار: لو جمعنا لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - مالًا، فأنزل الله سبحانه {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال بعضهم: إنما قال هذا، ليقاتل عن أهل بيته وينصرهم، فأنزل الله {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} إلى قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فعرض لهم التوبة إلى قوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. وأخرج أحمد بسنده عن طاووس قال: سأل رجل ابن عباس، عن معنى قول الله عز وجل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: قربى محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة، فنزلت: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؛ أي: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم وصححه عن علي، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة، وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا، وأخرج الطبراني عن عمرو بن حريث مثله، وعمرو بن حريث، مختلف في صحبنه كما في "الإصابة". التفسير وأوجه القراءة 19 - {اللَّهُ} سبحانه وتعالى: {لَطِيفٌ}؛ أي: بر بليغ البر {بِعِبَادِهِ} يفيض عليهم (¬2) من فنون ألطافه، ما لا يكاد يناله أيدي الأفكار والظنون، وقولنا: من فنون ألطافه يؤخذ ذلك من صيغة لطيف، فإنها للمبالغة، وتنكيره أيضًا، وقولنا: ما لا يكاد، إلخ، مأخذه مادة الكلمة، فإن اللطف إيصال النفع إلى العبد على ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

وجه فيه دقة: وقال مقاتل: لطيف بالبار والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم، وقال القرطبي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقيل (¬1): كثير الإحسان بهم بالحياة والعقل ودفع أكثر البليات عنهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، وتأخير العذاب عمن يستحقون العذاب. والمعنى (¬2): أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم، ومن جملة ذلك، الرزق الذي يعيشون به في الدنيا، وهو معنى قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} منهم أن يرزقه كيفما يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا، فيخص كلا من عباده، الذين عمهم جنس لطفه، بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم البالغة، فلا مخالفة بين عموم الجنس وخصوص النوع، يعني: أن المخصوص بمن يشاء هو نوع البر وصنفه، وذلك لا ينافي عموم جنس بره بجميع عباده، على ما أفادته إضافة العباد إلى ضميره تعالى، حتى يلزم التناقض بين الكلامين، فالله تعالى يبرهم جميعًا، لا بمعنى أن جميع أنواع البر، وأصنافه يصل إلى كل أحد فإنه مخالف الحكمة الإلهية، إذ لا يبقى الفرق حينئذٍ بين الأعلى والأدنى، بل يصل بره إليهم على سبيل التوزيع، بأن يخص أحدًا بنعمة وآخر بأخرى، فيرجع بذلك كل واحد منهم إلى الآخر، فيما عنده من النعمة، فينتظم به أحوالهم، ويتم أسباب معاشهم، وصلاح دنياهم وعمارتها، فيؤدي ذلك إلى فراغهم لاكساب سعادة الآخرة، وقال بعضهم: معناه: يرزق من يشاء بغير حساب، إذ الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضًا. {وَهُوَ} سبحانه {الْقَوِيُّ}؛ أي: العظيم القوة الباهرة، والقدرة البالغة وهو يناسب عموم لطفه للعباد، قيل: والقوة في الأصل: صلابة البنية وشدتها المضادة للضعف، ولما كانت محالًا في حق الله تعالى، حملت على القدرة، لكونها مسببة من القوة. قلت: ولا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن القوة صفة ثابتة لله تعالى، أثرها ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[20]

عدم الضعف في أفعاله، والقدرة صفة ثابتة لله تعالى، أثرها عدم العجز عن إيجاد أي ممكن كان وإعدامه {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء، وهو يلائم تخصيص من يشاء بما شاء. والمعنى (¬1): أنه تعالى بر بعباده، يرسل إليهم أعظم المنافع، ويدفع عنهم أكبر البلاء، فيرزق البر والفاجر، لا ينسى أحدًا منهم، ويوسع الرزق على من يشاء منهم، ويقتره على من يشاء، ليمتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني، وليحتاج بعض إلى بعض، كما قال: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، ونحو الآية قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك، فقال: {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}؛ أي: وهو القادر على ما يشاء، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء مما يريده. 20 - وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا في يده، أتبعه بما يزهد في التكالب على طلب رزق البدن، ويرغب في الجد في طلب رزق الروح، والسعي في رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها، فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} ويقصد بعمله الصالح {حَرْثَ الْآخِرَةِ} وثوابها، والحرث في الأصل (¬2): إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ويطلق على ثمرات الأعمال، ونتائجها بطريق الاستعارة، المبنية على تشبيهها بالغلال، الحاصلة من البذور، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور، من حيث إنها فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة. والمعنى: من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} وثوابه؛ أي: نضاعف له ثوابه، ونعط له بالعمل الواحد عشر حسنات إلى سبع مئة فما فوقها، وقيل: نزد له في توفيقه، وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات له. وقيل: نزد له في قوته ونشاطه، أو نزد له على ما قصده من حرث الآخرة، بالبسط له في الدنيا. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

ولم يقل في حقه (¬1): وله في الدنيا نصيب، مع أن الرزق المقسوم له، يصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك، والإشعار بأنه في جنب ثواب الآخرة ليس بشيء، ولذلك قال سليمان عليه السلام: لتسبيحة خير من ملك سليمان. فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب، أو لأجل دفع العقاب، فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح؛ لأن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع، إلا إذا كانت تلك الرغبة فيه، رغبة فيه لكونه إيمانًا وطاعة، وأما الرغبة فيه لطلب الثواب، وللخوف من العقاب فغير مفيد، لأنه يكون عليلًا مريضًا. والجواب: أن الحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض، والبذر الصحيح الجامع للخيرات، والسعادات، ليس إلا عبودية الله تعالى، فلا يكون العمل أخرويًا إلا بأن يطلب فيه رضي الله تعالى. {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ} ويقصد بأعماله الصالحة {حَرْثَ الدُّنْيَا}؛ أي: ثوابها ومتاعها وزخارفها وطيباتها، والمراد: الكافر أو المنافق، حيث كانوا مع المؤمنين في المغازي وغرضهم الغنيمة، ودخل فيه أصحاب الأغراض الفاسدة جميعًا. {نُؤْتِهِ}؛ أي: نعطه شيئًا كائنًا {مِنْهَا}؛ أي: من الدنيا حسبما قسمنا له أزلًا، لا ما يريده ويبتغيه، وقوله: منها متعلق بكائنًا المحذوف، الواقع صفة للمفعول الثاني، ويجوز أن تكون كلمة من للتبعيض؛ أي: بعضها، ومآل المعنى واحد، دلت الآية على أن طالب الدنيا لا ينال مراده من الدنيا. وفي الحديث: "من كانت نيته الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له". {وَمَا لَهُ}؛ أي: لمريد الدنيا {فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}؛ لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها. و {مَنْ}: مزيدة للاستغراق؛ أي: ما له نصيب وحظ في الآخرة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

إذ كانت همته مقصورة على الدنيا، ولكل امرىء ما نوى، فيكون محرومًا من ثواب الآخرة بالكلية، وقرأ الجمهور (¬1): {نَزِدْ} و {نُؤْتِهِ} بالنون فيهما، وابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري، كلاهما عن أبي عمرو بالياء فيهما، وقرأ سلام: {نؤتهُ منها} بضم الهاء، وهي لغة الحجاز، ذكره في "البحر المحيط". وقال الإمام الراغب: إن الإنسان في دنياه حارث، وعمله حرثه، ودنياه محرثه، ووقت الموت وقت حصاده، والآخرة بيدره، ولا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده. حكي: أن رجلًا ببلخ، أمر عبده أن يزرع حنطة، فزرع شعيرًا، فرآه وقت الحصاد وسأله، فقال العبد: زرعت شعيرًا على ظن أن ينبت حنطة، فقال مولاه: يا أحمق، هل رأيت أحدًا زرع شعيرًا فحصد حنطة، فقال العبد: فكيف تعصي أنت، وترجو رحمته، وتغتر بالأماني، ولا تعمل العمل الصالح. وكما أن في البيدر مكيالًا، وموازين وأمناء وحفاظًا وشهودًا، كذلك في الآخرة مثل ذلك، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزًا بين النقاوة والحطام، كذلك في الآخرة تمييزٌ بين الحسنى والآثام، فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه، وجعل له منه زادًا لا بد، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف، بل كالدقلي والحنظل في الربيع، يرى غض الأوراق، حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلًا، وإذا حضر مجتناه في البيدر، لم يفد نائلًا. ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زادًا، وادخرت عدةً وعتادًا. ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر، خبيثة الباطن، نهى الله تعالى عن الاغترار بها، فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} فالقذر قذر، وإن كان في ظرف من الذهب، فالعاقل لا يتناوله. وحاصل معنى الآية (¬2): من كان يريد بأعماله، وكسبه ثواب الآخرة، نوفقه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[21]

لصالح الأعمال، ونجزه بالحسنة عشر أمثالها، إلى ما شاء الله تعالى، ومن كان سعيه موجهًا إلى شؤون الدنيا وطلب طيباتها واكتساب لذاتها، وليس له هم في أعمال الآخرة، نؤته منها ما قسمناه له، وليس له في ثواب الآخرة حظ، فالأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى، قال قتادة: إن الله يعطي على نية الآخرة، ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. وقال ابن عباس: من يؤثر دنياه على آخرته .. لم يجعل الله له نصيبًا في الآخرة إلا النار، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئًا، إلا رزقًا فرغ منه وقسم له. وأخرج أحمد والحاكم وصححه، وابن مردويه ابن حبان عن أبي بن كعب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا .. لم يكن له في الآخرة من نصيب". وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} الآية، ثم قال: "يقول الله لابن آدم: تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك". وعن علي كرم الله وجهه قال: الحرث: حرثان، فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات. ونحو الآية قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}. 21 - ولما بين القسطاس الأقوم في أعمال الآخرة وأعمال الدنيا .. أردفه بالتنبيه إلى ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أم (¬1) منقطعة، مقدرة ببل التي للإضراب الانتقالي من قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ}، والهمزة التي للتقرير والتوبيخ، وشركاؤهم شياطينهم من الإنس والجن، والضمير في {لَهُمْ} للمشركين من قريش، وإضافة الشركاء إلى ضميرهم في قولنا: ¬

_ (¬1) روح البيان.

شركاؤهم على حقيقتها. والمعنى: بل ألهم شركاء من الشياطين؛ أي: نظراء يشاركونهم في الكفر والعصيان، ويعاونونهم عليه بالتزيين والإغراء {شَرَعُوا} وسنوا {لَهُمْ} بالتسويل والتزيين {مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ} ويأمر {بِهِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، كالشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا، وسائر مخالفات الشريعة، وموافقات الطبيعة؛ لأنهم لا يعلمون غيرها، وتعالى الله عن الإذن في مثل هذا والأمر به، والتعبير عنه بالدين للمشاكلة؛ لأنه ذكر في مقابلة دين الله، أو للتهكم، وقيل: شركاءهم أوثانهم، فالهمزة للإنكار، فإن الجماد الذي لا يعقل شيئًا، كيف يصح أن يشرع دينًا، والحال أن الله تعالى، لم يشرع لهم ذلك الدين الباطل، وإضافتها إليهم حينئذٍ؛ لأنهم الذين جعلوها شركاء لله، وإسناد الشرع إليها، مع كونها بمعزل عن الفاعلية، إسناد مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم، كقوله تعالى: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. والمعنى (¬1): أي هم ما اتبعوا، ما شرع الله من الدين القويم، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، فحرموا عليهم ما حرموا من البحيرة، والسائبة والوصيلة، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو أولئك، من الضلالات والجهالات، التي كانوا قد اخترعوها في الجاهلية. وقد ثبت في "الصحيح"، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال:" رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قمعة يجر قصبة أمعائه في النار؛ لأنه أول من سيّب السوائب، وحمل قريشًا على عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة"، وقصارى ذلك: أن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا. ثم بين أنه رحمة بعباده، أخر عذاب المشركين ليوم معلوم، ولم يعجله لهم، فقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ}؛ أي: القضاء السابق بتأخير العذاب عنهم، أو العدة لهم، بأن الفصل يكون يوم القيامة، حيث قال: {بَلِ السَّاعَةُ ¬

_ (¬1) المراغي.

[22]

مَوْعِدُهُمْ} والفصل: القضاء بين الحق والباطل، كما في "القاموس"، ويوم الفصل هو اليوم الذي فيه يبين الحق من الباطل، ويفصل بين الناس بالحكم، كما في "المفردات": {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا، فعوجلوا بالعقوبة. والضمير في {بَيْنَهُمْ} راجع إلى المؤمنين والمشركين، أو إلى المشركين وشركائهم. والمعنى: أي ولولا القضاء السابق منه تعالى، بتأخير العذاب إلى يوم القيامة، لعوجلوا بالعذاب في الدنيا. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} أنفسهم، وهم المشركون والمكذبون {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا والآخرة؛ أي: نوع من العذاب متفاقم ألمه، وأقام المظهر مقام المضمر، تسجيلًا عليهم بالظلم، ودلالة على أن العذاب الأليم، الذي لا يكتنه كنهه، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم، وانهماكهم فيه. والمعنى: أي وإن الظالمين أنفسهم، بشرع ما لم يأذن به الله، مما ابتدعوه من التحليل، والتحريم، لهم عذاب شديد الإيلام في جهنم، وبئس المصير، وقرأ الجمهور (¬1): وإن الظالمين بكسر الهمزة على الاستئناف، والإخبار بما ينالهم في الدنيا، من القتل والأسر والنهب، وفي الآخرة من النار، وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب: {وأنّ} بفتح الهمزة، عطفًا على كلمة الفصل، فهو في موضع رفع؛ أي: ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا، وفصل بين المتعاطفين بجواب {لولا}، كما فصل في قوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}. 22 - ثم ذكر أحوال أهل العقاب، وأهل الثواب يوم القيامة، مبتدئًا بالأولين، فقال: {تَرَى} وتبصر يا محمد، أو يا من يصلح للرؤية {الظَّالِمِينَ}؛ أي: المشركين يوم القيامة {مُشْفِقِينَ}؛ أي: خائفين {مِمَّا كَسَبُوا}؛ أي: لأجل ما كسبوا واقترفوا في الدنيا من الشرك والمعاصي؛ أي (¬2): مشفقين إشفاقًا ناشئًا من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

السيئات، التي عملوها في الدنيا ومن أجلها، فكلمة من للتعليل، وليست صلة مشفقين، حتى يحتاج إلى تقدير المضاف، مع أنه أيضًا معنى صحيح؛ لأنه أبلغ وأدخل في الوعيد {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}؛ أي: والحال أن وبال ما كسبوه، وجزاءه، لا حق بهم لا محالة، أشفقوا أو لم يشفقوا والجملة حال من ضمير مشفقين، أو اعتراض. قال سعدي المفتي: يعني ينعكس الحال في الآخرة، فالآمنون في الدنيا يشفقون في الآخرة، والمشفقون في الدنيا يأمنون في الآخرة؛ أي: ترى الظالمين خائفين، وجلين أشد الخوف والوجل، لأجل ما كسبوا في الدنيا من السيئات، والحال أن جزاءه واقع بهم، نازل عليهم لا محالة، أشفقوا أو لم يشفقوا، وذكر الآخرين بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع، وكسر الهوى، وتزكية النفس وتصفية القلب وتحلية الروح، مستقرون {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}؛ أي: في أطيب بقاع الجنات وأنزهها، كما أنها في الدنيا أحسن أمكنتها. قال في "حواشي الكشاف": الروضة اسم لكل موضع فيه ماء وعشب، وفي "كشف الأسرار": هي الأماكن المتسعة، المونقة ذات الرياحين. والزهر، انتهى. وفي الحديث: ثلاث يجلون البصر، النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن. قال ابن عباس: رضي الله عنه: والإثمد عند النوم، قال الراغب: قوله: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} إشارة إلى ما أعد لهم في العقبى من حيث الظاهر، وقيل: إشارة إلى ما أهلهم له من العلوم والأخلاق التي من تخصص بها طاب قلبه؛ أي: والذين آمنوا بالله، وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه، لهم في الآخرة روضات الجنات، متمتعين بمحاسنها ولذاتها. ثم بين ما يكون لهم من النعيم، في تلك الروضات، فقال: {لَهُمْ} خبر مقدم {مَا يَشَاءُونَ} مبتدأ مؤخر؛ أي: ما يشتهونه من فنون المستلذات من مآكل ومشارب، ومناظر مما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حاصل لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} على أن عند ربهم ظرف للاستقرار العامل في {لَهُمْ}، وقيل: ظرف ليشاؤون على أن يكون عبارة عن كونهم عند الله.

[23]

وفي الآية (¬1): احتباك، حيث أثبت الإشفاق أولًا، دليلًا على حذف الأمن ثانيًا، وأثبت الجنات ثانيًا، دليلًا على حذف النيران أولًا، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى ما ذكر للمؤمنين، وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}؛ أي: ذاك المذكور من أجر المؤمنين، هو الفضل العظيم، والمن الجسيم، الذي يصغر دونه ما لغيرهم من الدنيا، أو تحقر عنده الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها. وهذا في حق الأمة، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فمخصوص بالفضل العظيم، كما قال تعالى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}. 23 - {ذَلِكَ}؛ أي: الفضل الكبير، وهو مبتدأ، خبره قوله: {الَّذِي}؛ أي: ذلك الفضل المذكور هو الثواب الذي {يُبَشِّرُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى به {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: يبشرهم به على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول؛ لأنهم لا يجوزون حذف المفعول الجار والمجرور، إلا على التدريج، بخلاف مثل: السمن منوان بدرهم؛ أي: منه؛ أي (¬2): ذلك الذي أخبرتكم بأني أعددته في الآخرة من النعيم، والكرامة، لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال. هي البشرى التي أبشركم بها في الدنيا، ليتبين لكم أنها حق، وأنها كائنة لا محالة. والخلاصة: أن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل، بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، هم المبشرون بتلك البشارة. يقول الفقير: حكمة تخصيص الروضة، وتعميم المشيئة، أن أكثر بلاد العرب خالية عن الأنهار الجارية والروضات، وأنهم لا يجدون كل المشتهيات، فيشوقهم بذلك ليكونوا على أهبة وتدارك، ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا، فإن الدنيا محل البلاء والآفات، والآخرة دار النعيم والضيافات، وتدارك كل ما فات، فمن أحب مولاه اجتهد في طريق رضاه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

قال شقيق البلخي رحمه الله تعالى: رأيت في طريق مكة مقعدًا، يزحف على الأرض، فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من سمرقند، قال: قلت: وكم لك في الطريق؟ فذكر أعوامًا تزيد على العشرة، فرفعت طرفي انظر إليه متعجبًا، فقال لي: يا شقيق، مالك تنظر إليّ، فقلت: متعجبًا من ضعف مهجتك، وبعد سفرتك، فقال لي: يا شقيق، أما بعد سفرتي فالشوق يقربها، وأما ضعف مهجتي فمولاها يحملها، يا شقيق، أتعجب من عبد ضعيف يحمله المولى اللطيف، فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده .. هان عليه بذل وجوده. قرأ الجمهور (¬1): {يُبَشِّرُ}: بتشديد الشين من بشر المضاعف، وعبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة، في رواية: والكسائي وحمزة {يبشر} ثلاثيًا، وقرأ حميد بن قيس ومجاهد: {يبشر} بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر الرباعي، وهو معدى بالهمزة، من بشر، اللازم المكسور الشين، وأما بشر بفتحها فمتعد، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية؛ لأن المتعدي إلى واحد، وهو مخفف لا يعلى بالتضعيف إليه، فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. وبعد أن ذكر سبحانه، ما أخبر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأحكام، التي اشتمل عليها كتابه، أمره أن يخبرهم: بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرًا، فقال: {قُلْ} يا محمد لقريش قومك {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة {أَجْرًا}؛ أي: جعلا ولا نفعًا، كما لا يطلب الأنبياء من قبلي أجرًا على تبليغهم الرسالة {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} المودة (¬2) مودة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والقربى مصدر، كالزلفى بمعنى القرابة، التي هي بمعنى الرحم. و {فِي} للسببية، أو بمعنى اللام، متعلقة بالمودة، ومودته كناية عن ترك أذيته، والجري على موجب قربته سمى عليه السلام المودة أجرًا، واستثناها منه تشبيهًا لها به، والاستثناء من قبيل قول من قال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائبِ وذلك لأنه لا يجوز من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب الأجر، أيًا كان على تبليغ الرسالة؛ لأن الأنبياء لم يطلبوه، وهو أولى بذلك؛ لأنه أفضل، ولأنه صرح بنفيه في قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}، ولأن التبليغ واجب عليه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق به، ولأن متاع الدنيا أخس الأشياء، فكيف يطلب في مقابلة تبليغ الوحي الإلهي الذي هو أعز الأشياء؛ لأن العلم جوهر ثمين، والدنيا خزف مهين، ولأن طلب الأجر يوهم التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة. وقرأ الجمهور {إِلَّا الْمَوَدَّةَ} وقرأ زيد بن علي {إلا مودة}. فمعنى الآية (¬1): قل لا أسألكم على التبليغ أجرًا أصلًا، إلا أن تودوني لأجل قرابتي منكم وبسببها، وتكفوا عني الأذى، ولا تعادوني إن كان ذلك أجرًا يختص بي، لكنه ليس بأجر؛ لأنه لم يكن بطن من بطونكم يا قريش، إلا وبيني وبينها قرابة فإذا كانت قرابتي قرابتكم، فصلتي، ودفع الأذى عني لازم لكم في الشرع والعادة والمروءة، سواء كان مني التبليغ أو لا، وقد كنتم تتفاخرون بصلة الرحم، ودفع الأذى عن الأقارب، فما لكم تؤذونني والحال ما ذكر. ويجوز أن يراد بالقربى: أهل قرابته - صلى الله عليه وسلم - على تقدير المضاف وبالمودة مودة أقربائه، وترك أذيتهم، فكلمة {فِي} على هذا للظرفية، والظرف حال من المودة، والمعنى: إلا أن تودوا أهل قرابتي، مودةً ثابتة، متمكنة فيهم. وقد اختلف في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، يرجع إليه في المطولات، وأحسن ما قرأناه في صددها، ما ذكره مجاهد وقتادة. وخلاصته: أنكم قومي، وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك، فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني. وفي "الخازن": فإن قلت (¬2): طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي، لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

يجوز، لقوله في قصة نوح عليه السلام وغيره من الأنبياء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)}. قلت: لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، بقي الجواب عن قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فالجواب عنه من وجهين: الأول: معناه لا أطلب منكم إلا هذا، وهذا في الحقيقة ليس بأجر، نظير قوله: (وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ)، البيت، معناه: إذا كان هذا عيبهم، فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم؛ ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب، وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين، كان في أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى. فقوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فالمودة في القربى ليست أجرًا في الحقيقة؛ لأن قرابته قرابتهم، فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم، فثبت أن لا أجر البتة. والوجه الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، ثم ابتدأ فقال: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؛ أي: لكن أذكركم المودة في قرابتي، الذين هم قرابتكم، فلا تؤذوهم. واختلف أهل العلم في قرابته - صلى الله عليه وسلم -. فقيل: علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وقيل: أهل بيته من تحرم عليهم الصدقة من أقاربه، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين لم يفترقوا في الجاهلية، ولا في الإِسلام. روى مسلم عن زيد بن أرقم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"، فقال له حصين: من أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرمت عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، انتهى.

{وَمَنْ يَقْتَرِفْ} ويكتسب {حَسَنَةً}؛ أي حسنة (¬1) كانت سيما مودة قربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن السدي: أنها المودة في آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ومودته فيهم، والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولًا أوليًا لذكرها عقب ذكر المودة في القربى؛ أي: ومن يكتسب حسنة واحدة، ولو مثقال ذرة {نَزِدْ لَهُ}؛ أي: لذلك العامل {فِيهَا}؛ أي: في جزاء تلك الحبسنة {حُسْنًا}؛ أي: فضلًا وزيادة على قدر ما يستحقه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، فما فوق، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. وقرأ الجمهور (¬2): {نَزِدْ لَهُ} بالنون، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي: {يزد} بالياء؛ أي: يزد الله. وقرأ الجمهور: {حُسْنًا}: بالتنوين، وعبد الوارث عن أبي عمرو: {حسنى} بغير تنوين، على وزن رجعى وبشرى، وزيادة حسنها مضاعفة أجرها. والمعنى (¬3): أي ومن يعمل عملًا فيه طاعة الله ورسوله، نزد له فيه أجرًا وثوابًا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أمثالها، إلى سبع مئة ضعف إلى ما فوق ذلك، فضلًا منا ورحمة. ونحو الآية قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ}؛ أي: كثير المغفرة للمذنبين {شَكُورٌ}؛ أي: كثير الشكر للمطيعين بتوفيقه الثواب، والتفضل عليه بالزيادة، فالشكر (¬4) من الله مَجَازٌ عن هذا المعنى؛ لأن معناه الحقيقي، وهو فعل ينبيء عن تعظيم المنعم، لكونه منعمًا لا يتصور من الله سبحانه، لامتناع أن ينعم عليه أحد، حتى يقابل بالشكر، شبهت الإثابة والتفضل بالشكر، من حيث إن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير، وإكرامًا لأجله؛ أي: إنه تعالى يغفر الكثير من ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[24]

السيئات، ويكثر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر. قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات. 24 - ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ووبخهم على مقالهم، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ} أم منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي من قوله: أم لهم شركاء إلخ، وبهمزة الاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي: بل أيقول كفار مكة {افْتَرَى} محمد واختلق {عَلَى اللَّهِ} سبحانه {كَذِبًا} بدعوى النبوة وتلاوة القرآن؛ أي (¬1): أيقع في قلوبهم ويجري على ألسنتهم، أن ينسبوا مثله - صلى الله عليه وسلم -. إلى الافتراء على الله، وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها، وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعًا لهم، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج، الذي يعاضده الدليل، ويؤيده البرهان، افتراءً على الله، واختلاقًا للكذب عليه، وفي ذلك أتم دلالة على بعده - صلى الله عليه وسلم - من الافتراء. وخلاصة ذلك: أنهم قالوا: إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن، ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه، وليس بوحي من عند ربه، كما يدعي. ثم زاد في استبعاد الافتراء من مثله - صلى الله عليه وسلم -، والإنكار له، على أتم وجه، فقال: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى خذلانك {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} لتجترىء بالافتراء عليه، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان في مثل حالهم، قد ختم الله على قلبه، وأعمى بصيرته. والخلاصة: أنه إن يشأ يجعلك منهم؛ لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. وفي "التأويلات النجمية": يعني أنك إن افتريته ختم الله على قلبك، ولكنك لم تكذب على ربك، فلم يختم على قلبك، وما أجمل هذا التعريض بانهم مفترون، وأنهم في نسبة الافتراء إليه مفترون أيضًا، وشبيه بالآية قول أمين نسب ¬

_ (¬1) المراغي.

إلى الخيانة: لعل الله خذلني لعل الله أعمى بصيرتي، لا يريد بمقاله إثبات الخذلان وعمى القلب، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططًا وأتي أمرًا إدّا، وقال قولًا نكرًا. ثم أكد استبعاد إلافتراء منه وزاده إيضاحًا، فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} استئناف مقرر لنفي الافتراء غير معطوف على {يَخْتِمْ} كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل، وصيغة المضارع. فائدة (¬1): وكتب {يمح} في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا، (ويدع الإنسان)، و (يدع الداع) و (سندع الزبانية)، مما ذهبوا فيه إلى الحذف، والاختصار نظرًا إلى اللفظ، وحملًا للموقف على الوصل. يعني: أن سقوط الواو لفظًا لالتقاء الساكنين، حال الوصل، وخطًا أيضًا، حملًا للخط على اللفظ؛ أي: على أنه خلاف القياس، وليس سقوطها منه، لكونه مجزومًا بالعطف على ما قبله، لاستحالة المعنى؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقًا لا معلقًا بالشرط. والمعنى: كيف يكون منه الافتراء على الله، وقد جرت عادته تعالى، أن يمحو الباطل ويمحق الشرك، ويثبت الحق والإِسلام والتوحيد بكلماته؛ أي: بقضائه أو بوحيه. أو بما أنزله من القرآن. وينشره بين الناس، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كل يوم قوة وانتشارًا، فلو كان مفتريًا كما تدعون، لكشف افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه. وقد يكون المعنى: أن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر، ويكون المراد يمحو الله باطلهم وما بهتوك به. ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه، الذي لا مرد له فيكون هذا كلامًا معترضًا بين ما قبله وما بعده، مؤكدًا لما سبق من الكلام، من كونهم مبطلين في نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثًا. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: عالم بما في قلب العباد؛ أي: بما تضمره القلوب، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها، من المحو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

والإثبات. ولم يقل (¬1): ذوات الصدور لإرادة الجنس، وذات هنا تأنيث ذي، بمعنى صاحب، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه؛ أي: عليم بالمضمرات صاحبة الصدور، وهي الخواطر القائمة بالقلب، من الدواعي والصوارف الموجودة فيه، وجعلت صاحبة للصدور بملازمتها، وحلولها فيها، كما يقال للبن: ذو الإناء ولولد المرأة وهو جنين ذو بطنها، وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يتصرف في عباده بما يشاء، من إبعاد قريب، وإدناء بعيد. والمعنى: أي فيعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وتجري الأمور بحسب علمه الواسع، المحيط بكل شيء. 25 - ثم امتن على عباده بقبول توبتهم، إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} من الذنوب {عَنْ عِبَادِهِ} بالتجاوز عما فرط منهم في الزمن الماضي، من الذنوب، واقترفوا فيه من السيئات؛ لأنه إن لم يقبل كان إغراء بالمعاصي، وعدى القبول بعن؛ لتضمنه معنى التجاوز، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي عامة للمؤمن والكافر والولي والعدو، ومن تاب منهم، قبل الله توبته. فصل في ذكر التوبة وحكمها قال العلماء (¬2): التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي .. فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا، فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة، كان فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

فشروطها أربعة: هذه الثلاثة. والشرط الرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فهذه شروط التوبة الصحيحة. وقيل: التوبة الانتقال عن المعاصي نيةً وفعلًا، والإقبال على الطاعات نيةً وفعلًا، وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقد ورد في الحث على التوبة كثير من الأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما. فمن ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه، في اليوم أكثر من سبعين مرة" أخرجه البخاري. ومنها: ما رُوي عن الأغر بن بشار المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة"، أخرجه مسلم. ومنها: ما رُوي عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن، من رجل نزل في أرض دوية، مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه، فنام نومة فاسيقظ، وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكان الذي كنت فيه، فانام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه. فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" متفق عليه، الدوية الفلاة والمفازة. ومنها: ما رُوي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للَّه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أصله في أرض فلاة" متفق عليه. ومنها: لمسلم عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه. وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتي شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته،

فبينا هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". ومنها: ما رُوي عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل بالمغرب بابًا، عرضه تفسيرة سبعين عامًا، للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية، أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. ومنها: ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ، يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. ومنها: ما رُوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها". أخرجه مسلم. وروى جابر رضي الله عنه أن أعرابيًا دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر، فلما فرغ من صلاته، قال له علي رضي الله عنه: إن سرعة اللسان بالاستغفار، توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة، قال: التوبة اسم يقع على ستة معان، على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم. وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، وإذابتها في الطاعة، كما ربيتها في المعصية. والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} في المستقبل؛ أي: يعفو عن صغائرها في المستقبل، بمحض فضله، وإن لم يتوبوا؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. وقيل: يعفو عن السيئات صغائرها وكبائرها، غير الشرك لمن يشاء بمحض فضله ورحمته. وفي "التأويلات النجمية": ويعفو عن كثير من الذنوب، التي لا يطلع العبد عليها، فيتوب عنها، وأيضًا يعفو عن كثير من الذنوب، قبل التوبة، ليصير العبد به قابلًا للتوبة، وإلا لما تاب {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كائنًا ما كان من خير أو شر، فيجازي

[26]

بالثواب أو بالعقاب، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم والمصالح. وفي "التأويلات النجمية": ويعلم ما تفعلون من السيئات والحسنات، مما لا تعلمون أنها من السيئات والحسنات، فبتلك الحسنات يعفو عن السيئات، وفي هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى، والإخلاص له وإمحاض التوبة. وقرأ الجمهور (¬1): {مَا تَفْعَلُونَ} بياء الغيبة، وقرأ عبد الله وعلقمة وحمزة والكسائي وخلف وحفص: {مَا تَفْعَلُونَ} بتاء الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأن هذا الفعل وقع بين خبرين. 26 - والموصول في قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في موضع نصب على المفعولية، والفاعل ضمير يعود على الله سبحانه؛ أي: يستجيب الله سبحانه، للذين آمنوا دعاءهم ويعطيهم ما طلبوه منه. يقال: استجاب وأجاب بمعنًى وقيل: المعنى: يقبل الله عبادة الذين آمنوا، وعملوا الصالحات؛ أي: يقبل عبادة المؤمنين المخلصين، ويثيبهم على طاعاتهم، يعني: يعطيهم الثواب في الآخرة. والإثابة (¬2) معنى مجازي للإجابة؛ لأن الطاعة لما شبهت بالدعاء، باعتبار ما يترتب عليها من الثواب، كانت الإثابة عليها، بمنزلة إجابة الدعاء، فعبر بها عنها، وقيل: إن الموصول في محل رفع على الفاعلية؛ أي: يجيب الذين آمنوا ربهم إذا دعاهم إلى طاعته، كقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}، والأول أولى باعتبار السياق {وَيَزِيدُهُمْ} الله سبحانه على ما طلبوه، أو على ما يستحقونه من الثواب {مِنْ فَضْلِهِ} وكرمه وجوده ما يشاء تفضلًا وكرمًا منه، وهو معطوف على {يَسْتَجِيبُ} على الوجه الأول أعني: نصب الموصول، وعلى الوجه الثاني، أعني: رفع الموصول يكون قوله. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} معطوفًا على مقدر تقديره: ويستجيبون لله تعالى بالطاعة، ويزيدهم على ما استحقوه من الثواب تفضلًا منه، وقيل: معنى ويزيدهم من فضله: يشفعهم في إخوانهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[27]

والمعنى (¬1): أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء. وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب، أردف بما أعده للكافرين من العذاب فقال: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ} يوم القيامة {عَذَابٌ شَدِيدٌ}؛ أي: وجيع مؤلم بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد، فالمؤمنون استجاب لهم دعاءهم وزادهم من فضله، وهؤلاء الكفرة لا يستجيب لهم دعاءً {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}. 27 - {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ}؛ أي: لجمعيهم، ووسعه عليهم {لَبَغَوْا}؛ أي: جميعهم {فِي الْأَرْضِ}؛ أي: لطغوا وعصوا وأفسدوا فيها، لأن الغنى مبطرة مأشرة؛ أي: داع إلى البطر والأشر، أو لظلم بعضهم بعضًا، وقيل: المعنى: لو جعلهم سواءً في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطلت الصنائع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بغيهم في الأرض، طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبًا بعد مركب. وملبسًا بعد ملبس، وقال بعضهم: لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب، لتفرغوا للفساد في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد، ونعم ما قيل: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ أي: داعية إلى الفساد. ومعنى الفراغ: عدم الشغل، ولزوم البغي على بسط الرزق على الغالب، وإلا فقد يكون الفقير مستكبرًا وظالمًا، يعني: أن البغي مع الفقر أقل؛ لأن الفقر مؤد إلى الانكسار والتواضع غالبًا، ومع الغنى أكثر وأغلب؛ لأن الغنى مؤد إلى البغي غالبًا، فلو عم البسط كل واحد من العباد، لغلب البغي، وانقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. وذكروا في كون بسط الرزق موجبًا للطغيان وجوهًا (¬2): الأول: أن الله لو سوى في الرزق بين الكل. امتنع كون البعض محتاجًا إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

ثانيها: أن هذه الآية مختصة بالعرب، فإنهم كما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم، ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم، قدموا على النهب والغارة. ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة .. عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية، وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه .. انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وكفى بحال قارون عبرة. قال علماؤنا (¬1): أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبده، أنه لو بسط عليه الرزق .. قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا مصلحة له، فليس ضيق الرزق هوانًا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى قومًا مع علمه بأنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب من الصلاح، وبالجملة فالأمر مفوض إلى مشيئته تعالى، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح، في كل فعل من أفعاله تعالى. وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، قال: "إن من عبادي المؤمنين، من يسألني الباب من العبادة، وإني عليم أني لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه، إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده الفقر، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده الغنى، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير"، ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين، الذين لا يصلحهم إلا الغنى فلا تفقرني برحمتك. {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ} سبحانه وتعالى من الرزق لعباده {بِقَدَرٍ}؛ أي: بتقدير أزلي {مَا يَشَاءُ} أن ينزله مما تقتضيه مشيئته، وهو مفعول ينزل {إِنَّهُ} سبحانه {بِعِبَادِهِ}؛ أي: بأحوال عباده {خَبِيرٌ بَصِيرٌ}؛ أي: محيط بخفايا أمورهم، وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم، ما يليق بشأنهم، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[28]

فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعًا لبغوا, ولو أفقرهم جميعًا لهلكوا، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم (¬1): {يُنَزِّلُ} بتشديد الزاي. وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف. والمعنى (¬2): أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وطلب ما ليس لهم طلبه؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون، عبرة لمن اعتبر، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم، وهو أعلم بحالهم، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، بحسب ما يعلم من المصلحة في ذلك. والخلاصة: أنه تعالى خبير بما يصلح عباده، من توسيع الرزق، وتضييقه، فيقدر لكل واحد منهم ما يصلحه. فيبسط ويقبض ويعطي ويمنع، ولو أغناهم جميعًا لبغوا. ولو أفقرهم جميعًا لهلكوا، فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم، الجامع بين الأمرين، فخوف الأغنياء يَزَعُهُم عن الظلم، وخوف الفقراء من الأغنياء، يدعوهم إلى التعاون معهم ليفوزوا بمبتغاهم، ويزعهم عن البغى، وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك. 28 - وبعد أن بين أنه لا يعطي عباده ما زاد على حاجتهم؛ لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم في دينهم، ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث، فهو لا يمنعه عنهم، فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى الإله: {الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} والمطر من السماء على الأرض، فيغيثهم به من الجدب، ولذلك خص بالنافع منه. فإن المطر قد يضر. وقد لا يكون في وقته. قال الراغب: الغيث يقال في المطر. والغوث في النصرة {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} أي: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضًا، لتذكير كمال النعمة. فإن حصول النعمة بعد اليأس والبلية، أوجب لكمال الفرح. فيكون أدعى إلى الشكر. وقرأ الجمهور: {قَنَطُوا} بفتح النون، وقرأ الأعمش وابن وثاب بكسرها. {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}؛ أي: يبسط بركات الغيث ومنافعه وما ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

[29]

يحصل به من الخصب في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان، وفي "فتح الرحمن": {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}: وهي الشمس، وذاك تعديد نعمة غير الأولى. وذلك أن المطر إذا جاء بعد القنوط حسن موقعه، فإذا دام سئم، وتجيء الشمس بعده عظيمة الوقع {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْوَلِيُّ}؛ أي: السيد المالك، الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة {الْحَمِيدُ}؛ أي: المستحق للحمد على ذلك وغيره، لا غيرُه. وقال بعضهم: قوله: {وَهُوَ الْوَلِيُّ}؛ أي: متولي المطر، ومتصرفه، يرسده مرة بعد مرة {الْحَمِيدُ}؛ أي: الأهل لأن يحمد على صنعه. إذ لا قبح فيه؛ لأنه بالحكمة. ودل الغيث على الاحتياج، وعند الاحتياج تتقوى العزيمة، والله تعالى يجيب دعوة المضطر. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلًا قال لعمر رضي الله عنه: اشتد القحط وقنط الناس. فقال: مطروا إذن، ثم قرأ هذه الآية. والمعنى: أي وهو الذي ينزل المطر من السماء، فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه، وينشر بركات الغيث، ومنافعه، وما يحصل به من الخصب، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه، ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحت العرش بحرًا، ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي الله سبحانه إليه. فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ويوحي إلى السماء أن غربليه. فتغربله فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها, ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم، ووزن معلوم، إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء، فإنه نزل بغير قيل ولا وزن. وروي: أن الملائكة يعرفون عدد المطر، ومقداره في كل عام؛ لأنه لا يختلف فيه البلاد، وفي الحديث: كما من سنة بامطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي، حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". 29 - ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ} سبحانه وتعالى؛ أي:

ومن دلائل قدرته تعالى، الموجبة لتوحيده، وصدق ما وعد به من البعث {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: خلقهما على هذه الكيفية العجيبة والصنعة الغريبة، فإنهما بذاتهما وصفاتهما يدلان على شؤونه العظيمة، والإضافة (¬1) في {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: السموات المخلوقة، والأرض المخلوقة {وَمَا بَثَّ} وفرق ونشر {فِيهِمَا}؛ أي: في السموات والأرض، معطوف على السموات؛ أي: وفي خلق ما بث فيهما، أو على الخلق؛ أي: في خلق السموات والأرض، وفي ما بث فيهما {مِنْ دَابَّةٍ}؛ أي: من حي. فهو من إطلاق المسبب، وهو الدبيب وإرادة السبب، وهو الحياة. فتكون الدابة بمعنى الحي، فتتناول الملائكة، فإن الملائكة ذووا حركات طيارون في السماء، وإن كانوا لا يمشون في الأرض. وفي "الخازن": فإن قلت: كيف (¬2) يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة؟ قلت: الدبيب في اللغة: المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، فيوصفون بالدبيب، كما يوسف به الإنسان. وقيل: يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعًا من الحيوانات، يدبون دبيب الإنسان، وقيل: يحتمل أنه من إطلاق المثنى على المفرد، فيعود الضمير في {فِيهِمَا} إلى الأرض فقط، كما في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} وإنما يخرجان من أحدهما وهو الملح. يقول الفقير: إن للملائكة أحوالًا شى، وصورًا مختلفة، لا يقتضي موطنهم الحصر، في شيء من المشي والطيران، فطيرانهم إشارة إلى قوتهم في قطع المسافة، وإن كان ذلك لا ينافي أن يكون لهم أجنحة ظاهرة، فلهم أجنحة يطيرون بها. ولهم أرجل يمشون بها. والله أعلم. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {عَلَى جَمْعِهِمْ}؛ أي: على جمع الأجسام وحشرهم بعد البعث للمحاسبة {إِذَا يَشَاءُ}؛ أي: في أي وقت شاء جمعهم {قَدِيرٌ}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[30]

قادر متمكن منه. وقوله: {هُوَ} (¬1) مبتدأ. و {قَدِيرٌ} خبره. و {عَلَى جَمْعِهِمْ} متعلق بقدير، وإذا مجردة عن معنى الشرط، متعلقة بجمعهم لا بقدير، لفساد المعنى. فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته، و {إذا} عند كونها بمعنى الوقت، مجردة عن الشرط كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}. والمعنى (¬2): أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر، خلق السموات والأرض، وما نشر فيهما من دابة، تدب وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين، وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل، وهو اللطيف الخبير. وقصارى ذلك: أنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة، إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر خلقه وتفريقه. 30 - ثم ذكر سبحانه دستورًا للناس في أعمالهم، إذا تأملوه .. أقلعوا عما يرتكبونه من الآثام، فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ}؛ أي (¬3): والذي وصل إليكم أيها الناس {مِنْ مُصِيبَةٍ} أي مصيبة كانت، من الآلام والأسقام والقحط والخوف، حتى خدش العود وعثرة القدم واختلاج العرق وغير ذلك، في البدن، أو في المال، أو في الأهل والعيال، ويدخل فيه الحدود على المعاصي، كما أنه يدخل في قوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ما لم يجعل له حد {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}؛ أي: فهو واقع بكم بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال، مما يزاول بها، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق، أقله التقصير. وفي الحديث: "لا يرد القدر إلا بالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقوله: لا يرد القدر إلخ؛ لأن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لدفع البلاء، وجلب الشرح؛، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، وقال الضحاك: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، وأي معصية أقبح من نسيان القرآن، وتلا الآية. وقرأ نافع وابن عامر (¬1): {بما كسبت} بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء. و {ما} في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ} هي الشرطية، ولهذا دخلت الفاء في جوابها، على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور، وجوز الأخفش الحذف كما في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، وقول الشاعر: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ الله مِثْلَانِ وقيل: هي الموصولة، فيكون الحذف والإثبات جائزين، والأول أولى، وقال الزجاج: إثبات الفاء أجود؛ لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، ومن حذف الفاء، فعلى أن {ما} في معنى الذي، وقال بعضهم: {ما} موصول مبتدأ، دخلت الفاء في خبره، لتضمنه معنى الشرط. والمعنى: والذي أصابكم، فواقع بما كسبت أيديكم، قال الحسن: المصيبة هنا: الحدود على المعاصي، والأولى العمل على العموم، كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها. {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} من الذنوب التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة، وهذا من تتمة قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. والمعنى (¬2): أي وما يحل بكم أيها الناس، من المصائب في الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم، على ما اجترحتم من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم، فلا يعاقبكم بها، وقد ثبتت الأدلة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الصحيحة، أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا. يؤجر عليه، أو يكفر عنه من ذنوبه، وقيل: هذه الآية مختصة بالكافرين، على معنى أن ما يصابون به، بسبب ذنوبهم، من غير أن يكون ذلك مكفرًا عنهم لذنب، ولا محصلًا لثواب، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم، فلا يعاجلهم في الدنيا، بل يمهلهم إلى الدار الآخرة، والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة، كما يصدق على هو الذنب ورفع الخطاب به. فالله سبحانه (¬1) جعل للذنوب أسبابًا، لها نتائجها ومسبباتها، فشارب الخمر، يصاب بكثير من الأمراض الجسمية، والعقلية في الدنيا، وهي أثر من آثار ما اجترح من الذنوب، والتاجر غير الأمين، أو الكذاب، تصاب تجارته بالكساد، ويشهر بين الناس بالخيانة، فيحجمون عن معاملته، والحكام المرتشون، الظلمة، الذين يجمعون أموالهم بالسحت، يصابون بالفقر والعدم، ويصبحون مثلًا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر .. يصب أولادهم، فيصبحوا بحال يرثى لها، ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة، والأمم الظالمة، التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة، والذلة بعد العزة، وما الأمثال في ذلك بعزيزة. وقد تقدم أن قلنا في غير موضع: إن عقاب الأفراد في الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرًا ما نرى سكيرًا عربيدًا، لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرًا يخون الأمانة، ولا يصاب بكساد في تجارته، وحينئذٍ يكون عقاب كل منهما مؤجلًا ليوم الحساب، إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة, عما فرط منهما من الذنوب، والآثام. وأما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات، فهو محقق في الدنيا، ولدينا عظة التاريخ في القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها، وخالفت نواميس العمران، إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين. ومثلًا ¬

_ (¬1) المراغي.

[31]

للآخرِين ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. وفي الحديث الصحيح: "والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها". ولما نزلت هذه الآية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده، ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر". وروى الترمذي، وجماعة عن علي - كرم الله وجهه - قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} قال - صلى الله عليه وسلم -: "وسأفسرها لك يا علي، ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاءً في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يعود بعد عفوه"، والآثار في هذا الباب كثيرة. وقال الواحدي: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عما عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة انتهى. والخلاصة: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب، ويعفو عن كثير من الذنوب. 31 - ولما كان من يعاقب بدون الموت، ربما ظن أنه عاجز فائت، قال: {وَمَا أَنْتُمْ} أيها الناس، أجمعون عربكم وعجمكم {بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: بفائتين عليه تعالى. هربًا في الأرض. ولا في السماء، لو كنتم فيها, لو أراد محقكم بالكلية، يعني: لو أراد الله سبحانه، ابتلاءكم وعقوبتكم .. فلا تفوتونه حيثما كنتم، ولا تسبقونه، ولا تقدرون أن تمنعوه من تعذيبكم، بل ما قضاه عليكم من المصائب واقع عليكم، نازل بكم {وَمَا لَكُمْ} أيها الناس، عند الاجتماع. فكيف عند الانفراد {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء عظمة وكبرًا وعزة {مِنْ وَلِيٍّ} يوالي أموركم بالاستقلال، فيحميكم مما قضاه الله

[32]

من المصائب {وَلَا نَصِيرٍ} يدفعها عنكم، أو يمنعكم من عذاب الله، في الدنيا والآخرة. والمعنى (¬1): أي وما لكم من دون الله ولي يليكم، بالدفاع عنكم، إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم، ولا لكم نصير ينصركم، إذا هو عاقبكم فينتصر لكم، فاحذروا معاصيه، واتقوا مخالفة أوامره، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده. 32 - ثم ذكر سبحانه، آية أخرى من آياته العظيمة، الدالة على توحيده، وصدق ما وعد به، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ}؛ أي: ومن دلائل قدرته وباهر حكمته وعظيم سلطانه {الْجَوَارِ}؛ أي: السفن الجارية {فِي الْبَحْرِ}؛ أي: في الماء الكثير العميق؛ أي: تسخيره البحر، لتجري فيه الفلك بأمره، حالة كون تلك الجواري {كَالْأَعْلَامِ} في عظمها وارتفاعها؛ أي: كالجبال الشاهقة، والمدن العالية. أي (¬2): ومن دلائل قدرته تعالى، السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف، شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة. ومع ذلك جعل تعالى، للماء قوة يحملها بها، ويمنع من الغوص، ثم جعل الرياح سببًا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو، أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، والجواري جمع جارية، وأصله: السفن الجواري، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وحسن ذلك قوله: {فِي الْبَحْرِ} فدل ذلك على أنها صفة للسفن. وإلا فهي صفة غير مختصة. فكان القياس أن لا يحذف الموصوف، ولا يقام مقامه. ويمكن أن يقال: إنها صفة غالبة، كالأبطح فجاز أن تلي العوامل، بغير ذكر الموصوف، وقرىء {الجواري} بالياء ودونها، وسمع من العرب الإعراب في الراء. و {فِي الْبَحْرِ} متعلق بالجواري، و {كَالْأَعْلَامِ} في موضع الحال، والأعلام: الجبال، ومنه قول الخنساء: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[33]

وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ قال الخليل: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم. وقال مجاهد: الأعلام القصور، واحدها علم. 33 - {إِنْ يَشَأْ} الله سبحانه وتعالى. وهو شرط، جوابه قوله: {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تجريها {فَيَظْلَلْنَ}؛ أي: فيصرن (¬1) تلك السفن من ظل، بمعنى صار، أي: يصرن تلك السفن، بعدما كانت جواري بريح طيبة {رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}؛ أي: ثوابت على ظهر البحر. غير جاريات ولا متحركات أصلًا. وقرأ الجمهور (¬2): {يَشَأْ} بالهمزة، وقرأ ورش عن نافع بلا همزة، وقرأ جمهور السبعة: {الرِّيحَ}: بالإفراد، وقرأ نافع {الرياح} بالجمع، وقرأ الجمهور: {فَيَظْلَلْنَ}: بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها، وهي لغة قليلة، والقياس الفتح لأن الماضي بكسر العين، فالكسر في المضارع شاذ. والمعنى: إن يشأ الله، الذي قد أجرى هذه السفن في البحر، أن لا تجري فيه، أسكن الريح التي تجري بها، فتثبت في موضع واحد، وتقف على ظهر الماء، لا تتقدم ولا تتأخر. ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتي فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من أمر السفن، اللاتي يجرين تارة، ويركدن تارة أخرى، على حسب مشيئة الله تعالى {لَآيَاتٍ} عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دالة على ما ذكر من شؤونه {لِكُلِّ صَبَّارٍ}؛ أي: لكل من كان كثير الصبر على احتمال البلايا في طاعة الله تعالى {شَكُورٍ}؛ أي: كثير الشكر على نعمائه، باستعمال كل عضو من الأعضاء، فيما خلق له، قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، قال عون بن عبد الله: فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ غَيْرُ شَاكِرِ ... وَكَمْ مِنْ مُبتَلَىً غَيْرُ صَابِرِ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني والبحر المحيط.

[34]

ويجوز أن يكون (¬1) مجموع صبار، شكور كناية عن الآتي بجميع ما كلف من الأفعال والتروك، فالمعنى: لكل مؤمن كامل في خصائل الإيمان، وثمراتها ترجع كلها إلى الصبر والشكر، فإن الإيمان نصفه صبر عن المعاصي، ونصفه شكر، وهو الإتيان بالواجبات. والمعنى: أي إن في جري هذه الجواري في البحر، بقدرته تعالى، لحجة بينة على قدرته على ما يشاء، لكل ذي صبر على طاعته، شكور لنعمه وأياديه عنده، والمؤمن إذا كان في ضراء كان من الصابرين، وإذا كان في السراء كان من الشاكرين. 34 - وقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} معطوف على {يُسْكِنِ}؛ أي: يُهلكهن الله تعالى بالغرق، والمراد: أهلهن بما كسبوا من الذنوب، وقيل: بما أشركوا. والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال: أوبقه إذا أهلكه كما في "القاموس". والمعنى: إن يشأ يسكن الريح، فيركدن على ظهره، أو يرسلها بشدة، فيغرقهن بعدله، وإيقاع الإيباق عليهن، مع أنه حال أهلهن للمبالغة والتهويل، يعني: أن المراد إهلاك أهلها بسبب ما كسبوا من الذنوب الموجبة للهلاك. قال سعدي المفتي (¬2): والظاهر أنه لا مانع من إبقاء الكلام على حقيقته فالآية مثل قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} إلخ؛ أي: يوبق سفائنهم بشؤم ما كسبوا {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فلا يوبق أموالهم، انتهى. وإجراء حكمه على العفو، في قوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} لما أن المعنى: أو يرسلها فيوبق ناسًا، وينجي آخرين، بطريق العفو. وقرأ الأعمش (¬3): {ويعفو} بالواو، وعن أهل المدينة {ويعفو} بنصب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[35]

الواو، وقرأ الجمهور: {وَيَعْفُ}: مجزومًا، عطفًا على {يُوبِقْهُنَّ}، فأما قراءة الأعمش، فإنه أخبر تعالى، أنه يعفو عن كثير؛ أي: لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان، فهو كلام مستأنف، وأما النصب، فبإضمار أن بعد الواو، كالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ}، وبعد {الواو} في قول الشاعر: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبْوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ ... رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهْ سَنَامُ رُوي بنصب (ونأخذ) ورفعه وجزمه، وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم؛ أي: يقع إيباق، وعفو عن كثير، وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط. إذ هو معطوف عليه. وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب، لكن هذا عطف فعل على فعل، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم. والمعنى (¬1): أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف، فيغرق السفن بذنوب راكبيها, ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها، لأهلك كل من ركب البحر. والخلاصة: أنه لو شاء أسكن الريح. فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر، ولو شاء لأرسلها عاتية قوية، فأخرتها عن سيرها، وصرفتها ذات اليمين، وذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق، ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة، لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم. 35 - وقوله: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} بالرفع. مستأنف على أنه جملة فعلية، ويكون الموصول فاعلًا. أو على أنه جملة اسمية، فيكون خبرًا لمبتدأ محذوف، يعود على الله، ويكون الموصول مفعولًا؛ أي: وهو سبحانه يعلم الذين يجادلون إلخ. وهذه قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ، وبالنصب معطوف على تعليل مقدر ¬

_ (¬1) المراغي.

[36]

للإغراق؛ أي: يغرقهم لينتقم منهم، ويعلم الذين يجادلون {فِي آيَاتِنَا} بالتكذيب ويسعون في دفعها {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: من مهرب من عذاب الله، وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم، والنفي معلق عن العمل، وبالجزم عطفًا على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين أمور ثلاثة: إهلاك قوم، ونجاة قوم، وتحذير آخرين؛ لأن قوله: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} إلخ يتضمن تحذيرهم من عقاب الله تعالى. وعلى هذه القراءة، فلا يوقف على كثير، بخلاف القراءتين الأوليين، فالوقف عليه تام. أما القراءة الأولى، أعني (¬1): قراءة الرفع، فقرأ بها الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وزيد بن علي، وأما الثانية أعني: قراءة النصب، فقرأ بها الجمهور، وأما القراءة الثالثة فشاذة. والمعنى (¬2): أي وليعلم الذين ينازعون في آياتنا على جهة التكذيب، لها أنه لا مخلص لهم، ولا مهرب إذا وقفت السفن، أو إذا عصفت الريح، فيكون ذلك سببًا لاعترافهم، بأن الإله النافع الضار، ليس إلا الله سبحانه وتعالى. والخلاصة: فكما لا مخلص لهم إذا وقفت، أو عصفت الرياح؛ كذا لا مهرب لهم من عذابه بعد البعث، فلا بد من الاعتراف بأن الضار والنافع ليس إلا الله، وأن كل أمر حدث فإنما هو بتأثيره. 36 - ولما ذكر سبحانه دلائل التوحيد .. ذكر التنفير عن الدنيا، فقال: {فَمَا أُوتِيتُمْ}؛ أي: أعطيتم أيها الناس {مِنْ شَيْءٍ}: مما ترغبون فيه، وتتنافسون به، من الغنى، والسعة في الرزق، والمال، والبنين {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؛ أي: فهو متاعها ومنفعتها، تتمتعون وتنتفعون به مدة حياتكم القليلة، فيزول ويفنى؛ ولله در القائل: إِنَّمَا الدُّنْيَا فَنَاءٌ ... لَيْسَ للدُّنْيَا ثُبُوْتْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسَجَتْهُ الْعَنْكَبُوْتْ وفي هذا، تحقير لشأن هذه الحياة، وزينتها، وما فيها من النعيم الزائل، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{فما} (¬1) موصولة، متضمنة لمعنى الشرط، من حيث إن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع به في الحياة الدنيا, ولذا دخلت الفاء في جوابها، وقدر المبتدأ لأن الجواب لا يكون إلا جملة. يعني: أن سببيته مقصود فيها الإعلام لتضمنها الترغيب في الشكر، بخلاف الثانية أعني: قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} إلخ، فان المقصود فيها، بيان حال أن ما عند الله، سبب للخيرية والدوام، وقيل: إن {ما} شرطية، على أنها مفعول ثان لـ {أُوتِيتُمْ} بمعنى أعطيتم، والأول هو ضمير المخاطبين، قائم مقام الفاعل، ومن شيء بيان لها، لما فيها من الإبهام. ثم رغبهم في ثواب الآخرة، وما عند الله من النعيم المقيم فقال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} يسبحانه وتعالى، من ثواب الآخرة {خَيْرٌ} ذاتًا، لخلوص نفعه من المكدرات {وَأَبْقَى} زمانًا، حيث لا يزول ولا يفنى، بخلاف ما في الدنيا، أي: وما عند الله تعالى من ثواب الطاعات والجزاء عليها، والنعيم المقيم خير من زهرة الدنيا؛ لأنه باق سرمدي، وما في الدنيا زائل فانٍ، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني، وفيه إشارة إلى أن الراحات في الدنيا لا تصفو، ومن الشوائب لا تخلو، وإن اتفق لبعضهم منها في الأحايين، فإنها سريعة الزوال وشيكة الارتحال، وما عند الله من الثواب الموعود، خير وأبقى من هذا القليل الموجود، بل ما عند الله من الألطاف الخفية والمقامات العلية، والمواهب السنية خير وأبقى مما في الدنيا والآخرة. ثم بين سبحانه، أنه لا يكون خيرًا إلا لمن اتصف بصفات: 1 - {لِلَّذِينَ آمَنُوا} تنازع فيه كل من خير، وأبقى؛ أي: ما عند الله تعالى خير، للذين صدقوا وحدانية الله، وآمنوا برسوله، وعملوا على ما يوجبه الإيمان. 2 - {وَ} خير للدَّين {عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}؛ أي وخير للذين على من رباهم بإحسانه يعتمدون، وإليه يفوضون أمورهم. ولا يلتفتون إلى غيره في مهام أمورهم. رُوي: أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق ¬

_ (¬1) روح الببان.

[37]

بماله. فلامه المسلمون، وخطأه الكافرون. 3 - 37 {وَ} خير لـ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} ويبتعدون {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} وعظائم الذنب، كالقدف والشرب والسرقة والغيبة والنميمة {وَ} يبتعدون {الْفَوَاحِشَ} التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم، من قول أو فعل، اختص بصيغة الفحش، وهي فوق الكبائر، كالزنا واللواط، والموصول في محل الجر، معطوف (¬1) على الذين آمنوا عطف الصفة على الصفة؛ لأن الذات واحدة، والعطف إنما هو بين الصفات، والكبائر: جمع كبيرة، وهي ما أوجب الله عليه الحد في الدنيا. والعذاب في الآخرة، كالقدف والشرب والسرقة. والفواحش: جمع فاحشة، بمعنى قبيحة مفرطة في القبح، وهي ما اختص من الكبائر بصفة الفحش، فكأنها فوقها كالشرك، والقتل والزنا واللواط وعقوق الوالدين، فيكون عطف الفواحش على الكبائر، من عطف البعض على الكل، إيذانًا بكمال شناعته، وقيل: هما واحد، والعطف لتغاير الوصفين، وقرأ الجمهور {كَبَائِرَ} بالجمع هنا وفي النجم، وقرأ حمزة والكسائي: {كبير الإثم} بالإفراد، وهو يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام. و {وَإِذَا} في قوله: 4 - {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ظرفية مجردة عن معنى الشرط، متعلقة بيغفرون، و {ما} زائدة، و {هم} مبتدأ، وجملة {يَغْفِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية هي المعطوفة على الصلة، وهي {يَجْتَنِبُونَ} عطف اسمية على فعلية، والتقدير: والذين يجتنبون كبائر الإثم وهم يغفرون، لا أنها شرطية، والاسمية جوابها لخلوها عن الفاء الرابطة. والغضب: ثوران دم القلب إرادَة الانتقام، ولذلك قال عليه السلام: "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم. ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه". والمغفرة هنا بمعنى العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ، والمعنى والذين هم، يعفون ويتجاوزون ويحلمون ويكظمون الغيظ، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[38]

وقت غضبهم على أحد، ويتجرعون كاسات الغضب النفسانية، بأفواه القلوب الروحانية الربانية ويسكنون صورة الصفة الشيطانية، وفيه دلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب لعزة منالها, لا يزيل الغضب أخلاقهم، كسائر الناس، وذلك لأن تقديم الفاعل المعنوي، أو التقديم مطلقًا يفيد الاختصاص. والخلاصة: أي (¬1) وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم، إذ من سجاياهم الصفح والعفو، وليس من طباعهم الانتقام، وقد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله. وقوله: 5 - 38 {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}، أي: أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من توحيده. والبراءة من عبادة كل ما يعبد من دونه، معطوف (¬2) على الموصول الأول عطف خاص على عام، لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان, قيل: نزلت الآية في الأنصار، دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان, فاستجابوا له من صميم القلب، ولا يلزم منه أن تكون الآية مدنية، فإن كثيرًا منهم أسلموا بمكة قبل الهجرة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل. وقوله: 6 - {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} المفروضة؛ أي: أدوها لموا قيتها بشروطها وأركانها وهيئاتها، معطوف على استجابوا، فهو من أوصاف الأنصار أيضًا، وخص الصلاة من بين أركان الدين، كالزكاة والصوم والحج لما لها من الخطر في صفاء النفوس، وتزكية القلوب، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولأنه (¬3) ما بين العبد والإيمان إلا إقامة الصلاة كما أنه ما بينه وبين الكفر إلا ترك الصلاة، فإذا أقام الصلاة فقد آمن، وأقام الدين، كما أنه إذا تركها فقد كفر وهدم الدين، وفي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

الحديث: "أول ما يحاسب العبد يوم القيامة بصلاته، فإن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر". وقوله: 7 - {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} معطوف على الصلة. أعني: استجابوا عطف اسمية على فعلية. وشورى مصدر. كالفتيا بمعنى التشاور؛ أي: وأمرهم ذو تشاور بينهم لا ينفردون برأي، حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه. قال سعدي المفتي: فإن قلت: لا حاجة إلى إضمار المضاف لظهور صحة: وشأنهم تشاور بينهم. قلت: المصدر المضاف من صيغ العموم، فيكون المعنى: جميع أمورهم تشاور، ولا صحة له إلا أن يقصد المبالغة في كثرة ملابستهم به، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله: ذو شورى لبيان حاصل المعنى انتهى. وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا، وذلك من فرط تدبرهم وتفقههم في الأمور، وفي "عين المعاني": {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} حين (¬1) سمعوا بظهوره - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع رأيهم في دار أبي أيوب، على الإيمان به والنصر له، وقيل: لها العموم؛ أي: لا يستبدون برأيهم فيما لا وحي فيه من أمر الدين، بل يشاورون الفقهاء، وقيل: في كل ما يعرض من الأمور، انتهى. وقال علي رضي الله عنه: نعم الموازنة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد قال حكيم: اجعل سرك إلى واحد، ومشورتك إلى ألف، وقيل: من بدأ بالاستخارة وثني بالاستشارة لحقيق أن لا يضل رأيه، وقال الإسكندر: لا يستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير، فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها، يقال: أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط، وأورع النساء لا يستغني عن الزوج. وعن الحسن (¬2): ما تشاور قوم؛ إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن ¬

_ (¬1) عين المعاني. (¬2) المراغي.

العربي: الشورى ألفة للجماعة، وصقال للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا, ولأمرٍ ما أصبحت الحكومات في العصر الحاضر، لا تبتُّ في مهام الأمور، إلا إذا عرضت على مجالس الشورى - البرلمان، مجلس الشيوخ، والنواب - وكأني بك قد سمعت قول بشار بن برد في فوائد الشورى: إِذَا بَلَغَ الرَّأيُ الْمَشُوْرَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأيِ لَبِيْبٍ أَوْ مَشوْرَةِ حَازِمِ وَلاَ تَجْعَلِ الشُّوْرَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً ... فَرِيْشُ الْخَوَافِيْ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ وَمَا خَيْرُ كَفٍّ أَمْسَكَ الْغِلُّ أُخْتَهَا ... وَمَا خَيْرُ كَفٍّ لَمْ تُؤَيَّدْ بِقَائِمِ وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في الكثير من الأمور، ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله تعالى. أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى أبي بكر، وتشاوروا في قتال من ارتدوا، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وقد كان فيه الخيرة للإسلام والمسلمين، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وقد. ونحو الآية قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. وقوله: 8 - {وَ} الذين {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} من الأموال {يُنْفِقُونَ} في سبيل الخير، ويتصدقون منه على المحاويج، معطوف على الصلة أيضًا، ولالتفات إلى إنفاق الكافر، فإنه لم يستجب لربه بالإيمان والطاعة، فخيره محبط بكفره. ولعل (¬1) فصله عن قرينه بذكر المشاورة، لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات، كما في "الإرشاد". قال سعدي المفتي: ثم إن إدخال هذه الجملة يعني: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} بين خصال الإيمان, لعله لمزيد الاهتمام بشأن المشاورة، للمبادرة إلى التبيه على أن استجابتهم للإيمان كانت عن بصيرة، ورأي سديد، انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

ثم ذكر سبحانه وتعالى، الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها، فقال: 9 - 39 {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ}؛ أي: وصل إليهم الظلم {يَنْتَصِرُونَ}؛ أي: ينتقمون ممن ظلمهم معطوف على الموصول الأول. والمعنى: إذا وصل إليهم الظلم، والتعدي من ظالم متعد، ينتقمون ويقتصون ممن بغى عليهم، على الوجه الذي جعله الله، ورخصه لهم، لا يتجاوزون ذلك الحد المعين، وهو رعاية المماثلة، وأما غيرهم فليسوا كذلك، فهذا هو معنى التخصيص هنا، وقد ذكر (¬1) سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح، كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى، ليس من صفات من جعل الله له العزة، حيث قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. وقال في "الروح": وهذا وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم، بسائر أمهات الفضائل، من الدين والتيقظ، والحلم والسخاء. وذلك لأن البغي إنما يصيبهم من أهل الشوكة والغلبة، فإذا انتقموا منهم على الحد المشروع، كراهة التذلل، باجتراء الفساق عليهم، وردعًا للجاني عن الجراءة على الضعفاء، فقد ثبت شجاعتهم وصلابتهم في دين الله، وكان النخعي رحمه الله تعالى، إذا قرأ هذه الآية يقول: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترىء عليهم السفهاء. قال الشاعر: وَلَا يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الأَذَلَّانِ عِيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسفِ مَرْبُوْطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يشَجُّ فَلَا يَرْثِيْ لَهُ أَحَدُ أي: لا يصبر على ظلم يراد في حقه، إلا الأذلان هما في غاية الذل، وهما الحمار المربوط على الذل، بقطعة حبل بالنية، والوتد الذي يدق ويشق رأسه، فلا يرحم له أحد. ولفظ البيت خبر، والمعنى: نهي عن الصبر على الظلم، وتحذير وتنفير للسامعين عنه. واعلم (¬2): أن المؤمنين فريقان: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أ - فريق يعفو اتباعًا، لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}. ب - فريق ينتصر ممن ظلمه، وهو المذكور في هذه الآية. والخلاصة: أن العفو ضربان: 1 - ضرب يكون فيه العفو سببًا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ومنع استفحال الشر، وهذا محمود، وحثت عليه الآيات الكريمة، التي ذكرت آنفًا. 2 - ضرب يكون فيه العفو سببًا لجراءة الظالم، وتماديه في غيه، وهذا مذموم، وعليه تحمل الآية، التي نحن بصدد تفسيرها، فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود، والانتصار من المخاصم العصر على جرمه، والمتمادي في غيه محمود، وإلى هذا أشار المتنبي: إِذَا أنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيْمَ تَمَرَّدَا فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السِّيْفِ بِالعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السِّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى الإعراب {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، {لَطِيفٌ} خبر. {بِعِبَادِهِ} متعلق: بـ {لَطِيفٌ} والجملة مستأنفة، وجملة {يَرْزُقُ}: خبر ثان. {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ {يَرْزُقُ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلتها، {وَهُوَ}: {الواو}: عاطفة {وَهُوَ الْقَوِيُّ}: مبتدأ وخبر {الْعَزِيزُ} خبر ثان، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر يعود على {مَنْ}، وجملة {يُرِيدُ}: خبرها،

{حَرْثَ الْآخِرَةِ}: مفعول يريد. {نَزِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله، {لَهُ}: متعلق بـ {نَزِدْ}، {فِي حَرْثِهِ}: متعلق بـ {نَزِدْ} أيضًا، وجملة {مَنْ} هو الشرطية، مستأنفة، مسوقة لبيان الفرق بين عملي العاملين، {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، {كَانَ}: فعل شرط لها. وجملة {يُرِيدُ} خبر {كَانَ}. {حَرْثَ الدُّنْيَا}: مفعول {يُرِيدُ}، {نُؤْتِهِ} جواب الشرط {مِنْهَا} متعلق بـ {نُؤْتِهِ}، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة من الأولى، {وَمَا لَهُ} {الواو}: عاطفة، أو حالية {مَا}: نافية، أو حجازية عند من يجيز تقدم خبرها على اسمها، {لَهُ} خبر مقدم، {فِي الْآخِرَةِ} حال، {مَنْ} حرف جر زائد، {نَصِيبٍ} مبتدأ مؤخر، أو اسم {مَا} مؤخر، والجملة معطوفة على جملة من الشرطية، أو حال من ضمير المفعول في {نُؤْتِهِ}، أي: نؤته منها حال كونه عادم النصيب في الآخرة. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التوبيخي. {لَهُمْ} خبر مقدم، {شُرَكَاءُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وجملة {شَرَعُوا} صفة لـ {شُرَكَاءُ}، {لَهُمْ} متعلق بـ {شَرَعُوا}، {مِنَ الدِّينِ}: حال من {مَا} الموصولة، المذكورة بعده، {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول {شَرَعُوا}، وجملة {مَا لَمْ يَأْذَنْ} صلة لما الموصولة {بِهِ} متعلق بـ {يَأْذَنْ}، ولفظ الجلالة {اللَّهُ} فاعل، {وَلَوْلَا}: {الواو}: عاطفة {لولا}: حرف امتناع لوجود، و {كَلِمَةُ الْفَصْلِ} مبتدأ، والخبر محذوف وجوبًا والجملة الاسمية شرط لـ {لَوْلَا}، لا محل لها من الإعراب، {لَقُضِيَ} اللام: رابطة لجواب {لَوْلَا}، {قضي} فعل ماض مغير الصيغة، {بَيْنَهُمْ} ظرف في محل الرفع، نائب فاعل لقضي، وجملة {قضي} جواب {لَوْلَا}، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة {لَوْلَا} معطوفة على جملة قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} {الواو}: استئنافية، {إِنَّ الظَّالِمِينَ}: ناصب

واسمه {لَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}، وجملة {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}. {تَرَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على أي مخاطب، {الظَّالِمِينَ}: مفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة مستأنفة. {مُشْفِقِينَ} حال من الظالمين، {مِمَّا}: متعلق بـ {مُشْفِقِينَ}، وجملة {كَسَبُوا}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما كسبوه، {وَهُوَ وَاقِعٌ}: {الواو} حالية، {هو واقع}: مبتدأ وخبر {بِهِمْ}: متعلق بـ {وَاقِعٌ}، والجملة حال من العائد المحذوف، {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية، {الذين}، مبتدأ، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}، {رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، {لَهُمْ} خبر مقدم، {مَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، وجملة {يَشَاءُونَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، {عِنْدَ رَبِّهِمْ} متعلق بالاستقرار العامل فأنهم، {ذَلِكَ}: مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْفَضْلُ} خبر {الْكَبِيرُ} صفة لـ {الْفَضْلُ}، والجملة مستأنفة. {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {الَّذِي} خبره، والجملة مستأنفة، {يُبَشِّرُ اللَّهُ} فعل وفاعل، {عِبَادَهُ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يبشر الله به عباده، {الَّذِينَ}: صفة للعباد، {آمَنُوا} صلة الموصول،

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {آمَنُوا}، {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {لَا}: نافية، {أَسْأَلُكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، {عَلَيْهِ}: حال من {أَجْرًا}. و {أَجْرًا} مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {الْمَوَدَّةَ}: منصوب على الاستثناء، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا؛ أي: لا أسألكم عليه أجرًا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعًا؛ أي: لا أسألكم أجرًا ماليًا، ولكني أسألكم أن تودوا أهل قرابتي، الذين هم قرابتكم، {فِي الْقُرْبَى}: متعلق بـ {الْمَوَدَّةَ}، أو حال منها، {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما، {يَقْتَرِفْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {حَسَنَةً}: مفعول به، {نَزِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، {لَهُ}: متعلق بـ {نَزِدْ}، {فِيهَا}: حال من {حُسْنًا}، و {حُسْنًا}: مفعول به، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ} على كونها مقولًا لـ {قُلْ}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه {غَفُورٌ شَكُورٌ}: خبران له، وجملة إن مستأنفة. مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}. {أَمْ}: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {افْتَرَى}: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به. {كَذِبًا}: مفعول {إِنْ}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول. {فَإِنْ يَشَإِ}: الفاء: استئنافية. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَشَإِ اللَّهُ}: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {يَخْتِمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {إن}

على كونه جواب الشرط. {عَلَى قَلْبِكَ}: متعلق بـ {يَخْتِمْ}، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَيَمْحُ اللَّهُ}: {الواو}: استئنافية. {يَمْحُ}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو المحذوفة لفظًا، لالتقاء الساكنين، المحذوفة خطًا، تبعًا للفظ، منع من ظهورها الثقل، ولفظ الجلالة فاعل، والجملة مستأنفة غير داخلة في جواب الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقًا. {الْبَاطِلَ}: مفعول به، {وَيُحِقُّ الْحَقَّ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}. {بِكَلِمَاتِهِ}: متعلق بـ {يُحِقُّ}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {عَلِيمٌ}: خبره. {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبره، {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، صلة الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان قبول التوبة. {عَنْ عِبَادِهِ}: متعلق بـ {يَقْبَلُ}. {وَيَعْفُو}: معطوف على يقبل، {عَنِ السَّيِّئَاتِ}: متعلق به. {وَيَعْلَمُ}: معطوف على {يَقْبَلُ} أيضًا، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَفْعَلُونَ}: صلة الموصول. {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}. {وَيَسْتَجِيبُ}: {الواو}: عاطفة. {يَسْتَجِيبُ}؛ فعل مضارع معطوف على {يَقْبَلُ}، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله. {الَّذِينَ}: في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: ويستجيب للذين آمنوا دعاءهم، فحذف الجار، كما حذف في قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ}؛ أي: كالوا لهم، وأجاز "السمين" أن يكون اسم الموصول فاعلًا، والجملة مستأنفة، والسين والتاء زائدتان؛ أي: يجيبون ربهم إذا دعاهم إلى طاعته، ويجوز أن يكون الموصول مفعولًا به، بعد أن تقررت زيادة السين والتاء؛ أي: يجيب الله الذين آمنوا، والأول أقوم، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} معطوف على {آمَنُوا}، {وَيَزِيدُهُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على {يستجيب}، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {يَزِيدُهُمْ}، {وَالْكَافِرُونَ}: مبتدأ، {لَهُمْ}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ

مؤخر، {شَدِيدٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية خبر لـ {الْكَافِرُونَ}، وجملة {الْكَافِرُونَ} مستأنفة. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)}. {وَلَوْ}: {الواو} استئنافية، {لو}: حرف شرط غير جازم. {بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لو}، لا محل لها من الإعراب، {لِعِبَادِهِ}: متعلق ببسط، {لَبَغَوْا} اللام: رابطة لجواب {لو} الشرطية. {بَغَوْا}: فعل وفاعل. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة جواب {لو}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو}: الشرطية مستأنفة. {وَلَكِنْ}: {الواو}: عاطفة، {لَكِنْ}: حرف استدراك مهمل، {يُنَزِّلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {لو} الشرطية. {بِقَدَرٍ}: حال من {ما} الموصولة، المذكورة بعده. {ما}: اسم موصول في محل النصب، مفعول {يُنَزِّلُ}، وجملة {يَشَاءُ} صلته. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {بِعِبَادِهِ}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، و {خَبِيرٌ بَصِيرٌ}: خبران لـ {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة {لو} الشرطية. {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ}: فعل وفاعل مستتر. ومفعول به، والجملة صلة الموصول {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُنَزِّلُ}. {مَا}: مصدرية، {قَنَطُوا}: فعل وفاعل، صلة ما المصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد قنوطهم، {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، {وَهُوَ}: {الواو} حالية، {هُوَ الْوَلِيُّ}: مبتدأ وخبر، {الْحَمِيدُ}: خبر ثان، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {يَنْشُرُ} و {يُنَزِّلُ}. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}.

{وَمِنْ}: {الواو}: استئنافية. {مِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم. {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان بعض الأدلة على توحيده وقدرته تعالى. {وَمَا}: في محل رفع، معطوف على {خَلْقُ}، أو في محل جر، معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، وهذا الأخير أرجح، لسلامته من التقدير، إذ لا بد من تقدير مضاف على الأول؛ أي: خلق ما بث، و {بَثَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الله}، {فِيهِمَا}: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما بثه فيهما، {مِنْ دَابَّةٍ}: حال من العائد المحذوف. {وَهُوَ}: {الواو} حالية. {هُوَ}: مبتدأ. {عَلَى جَمْعِهِمْ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {جَمْعِهِمْ}، وجملة {يَشَاءُ}: في محل جر بإضافة الظرف إليه. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {بَثَّ}. {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {مَا}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {أَصَابَكُمْ}: فعل ومفعول به، في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونه فعل شرط لها. وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {مَا}، {مِنْ مُصِيبَةٍ}: حال من فاعل {أَصَابَكُمْ}، {فَبِمَا}: الفاء: رابطة لجواب {ما} الشرطية وجوبًا، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بواجب الحذف، لوقوعه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: فذلك كائن بما كسبت أيديكم، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {ما} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة. {كَسَبَتْ}: فعل ماض، {أَيْدِيكُمْ}: فاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: فبما كسبته أيديكم، ويجوز أن تكون {ما} موصولة، والفاء: داخلة في الخبر، تشبيهًا للموصول بالشرط. {وَيَعْفُو}: {الواو}: عاطفة، {يَعْفُو}: فعل مضارع،

وفاعل مستتر يعود على {الله}، {عَنْ كَثِيرٍ}: متعلق بـ {يَعْفُو}، والجملة معطوفة على جملة {ما} الشرطية، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {مَا}: حجازية. {أَنْتُمْ}: اسمها، {بِمُعْجِزِينَ}: الباء زائدة، معجزين خبر لـ {مَا}، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق {بِمُعْجِزِينَ}. أو حال من الضمير المستكن في {مُعْجِزِينَ}، {وَمَا}: {الواو} عاطفة. {مَا}: نافية، أو حجازية {لَكُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من {وَلِيٍّ} و {نَصِيرٍ}، {مِنْ}: زائدة، {وَلِيٍّ} مبتدأ مؤخر، أو اسم ما مؤخر، {وَلَا نَصِيرٍ}: معطوف عليه، والجملة معطوفة على جملة {ما} الأولى. {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}. {وَمِنْ آيَاتِهِ}: {الواو} عاطفة، {مِنْ آيَاتِهِ}: خبر مقدم، {الْجَوَارِ}: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا وخطًا. أو خطًا فقط، {فِي الْبَحْرِ}: حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، أو متعلق بالجوار، {كَالْأَعْلَامِ}: حال ثانية على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني هي حال من الضمير في {الْجَوَارِ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {إِنْ}: حرف شرط، {يَشَأْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الله}، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {يُسْكِنِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الله}، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونه جواب شرط لها، {الرِّيحَ}: مفعول به، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة، {فَيَظْلَلْنَ}: الفاء عاطفة، {يَظْلَلْنَ}: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، لكونه معطوفًا على {يُسْكِنِ}، مبني على السكون، لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة في محل الرفع اسمها؛ لأنه من ظل الناقصة. {رَوَاكِدَ}: خبرها. {عَلَى ظَهْرِهِ}: متعلق بـ {رَوَاكِدَ}. {إِنَّ} حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم، {لَآيَاتٍ}: اللام: حرف ابتداء، {آيَاتٍ}: اسمها مؤخر. {لِكُلِّ صَبَّارٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، صفة {لَآيَاتٍ}، {شَكُورٍ}: صفة

{صَبَّارٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}. {أَوْ}: حرف عطف، {يُوبِقْهُنَّ}: فعل مضارع، معطوف على {يُسْكِنِ الرِّيحَ}؛ أي: يفرقهن بعصف الريح عليهن، قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف يوبقهن، قلت: على {يُسْكِنِ}؛ لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح، فيركدن على ظهره، أو يعصفها فيفرقن بعصفها، أو بطروء خلل على أجهزتها، {بِمَا}: متعلق بـ {يُوبِقْهُنَّ}، و {ما} إما موصولة أو مصدرية، والباء للسببية؛ أي: بسبب ما كسبوه من الذنوب، أو بسبب كسبهم، وجملة {كَسَبُوا} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: بما كسبوه، أو صلة لـ {مَا} المصدرية، {وَيَعْفُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {يُسْكِنِ} أيضًا، مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة {عَنْ كَثِيرٍ}: متعلق بـ {يَعْفُ}، والمعنى: أو إن يشأ يهلك ناسًا، وينج ناسًا، على طريق العفو عنهم. {وَيَعْلَمَ}: {الواو} عاطفة. {يَعْلَمَ}: فعل مضارع، معطوف على تعليل مقدر تقديره: يفرقهم لينتقم منهم {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} وللمعطوف حكم المعطوف عليه، تبعه بالنصب، {الَّذِينَ}: فاعل. {يُجَادِلُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {فِي آيَاتِنَا}: متعلق بـ {يُجَادِلُونَ}، وقرىء {يَعْلَمَ}: بالرفع على الاستئناف، على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهو سبحانه يعلم الذين، ويكون الموصول مفعولًا به، والفاعل ضمير يعود على المبتدأ المحذوف، وتكون الجملة اسمية، أو على أن الفاعل هو الموصول، وتكون الجملة فعلية، وقرىء بالجزم عطفًا على الجواب السابق، كأنه قال: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم، ونجاة آخرين، وتحذير آخرين. {مَا}: نافية أو حجازية. {لَهُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ}: زائدة. {مَحِيصٍ}: مبتدأ مؤخر، أو اسم ما مؤخر. وجملة النفي، سدت مسد مفعولي يعلم المعلقة بالنفي عن العمل. {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ (36)}. {فَمَا}: الفاء: استئنافية، {مَا}: اسم شرط جازم، في محل النصب، مفعول ثان مقدم لـ {أُوتِيتُمْ}. {أُوتِيتُمْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل، في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونه فعل شرط لها، والمفعول الأول، هو ضمير المخاطبين، {مِنْ شَيْءٍ} بيان لـ {مَا}، متعلق بمحذوف حال من {مَا}، {فَمَتَاعُ} الفاء: رابطة لجواب الشرط {مَتَاعُ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فهو متاع الحياة الدنيا. {الْحَيَاةِ}: مضاف إليه. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ} صلة لـ {مَا} الموصولة {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، {وَأَبْقَى}: معطوف على {خَيْرٌ}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {مَا} الشرطية، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَبْقَى} أو بـ {خَيْرٌ} على الخلاف المذكور في محله، {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَعَلَى} {الواو}: عاطفة. {وَعَلَى رَبِّهِمْ} متعلق بـ {يَتَوَكَّلُونَ}، و {يَتَوَكَّلُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {آمَنُوا} على كونه صلة الموصول. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}. {وَالَّذِينَ}: في محل الجر معطوف على {لِلَّذِينَ}، وجملة {يَجْتَنِبُونَ}: صلة الموصول. و {كَبَائِرَ الْإِثْمِ}: مفعول به، {وَالْفَوَاحِشَ}: معطوف على {كَبَائِرَ}. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يَغْفِرُونَ}، {مَا}: زائدة، {غَضِبُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَغْفِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {يَجْتَنِبُونَ} على كونها صلة الموصول، عطف اسمية على فعلية، والتقدير: والذين يجتنبون كبائر الإثم، وهم غافرون وقت

غضبهم، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، وجملة {اسْتَجَابُوا} صلة له. {لِرَبِّهِمْ}: متعلق بـ {اسْتَجَابُوا}، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {اسْتَجَابُوا}، {وَأَمْرُهُمْ}: {الواو}: حالية. {أَمْرُهُمْ}: مبتدأ، {شُورَى}: خبر. {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {شُورَى}؛ لأنه مصدر. كالرجعى والبشرى، أو صفة لـ {شُورَى}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {اسْتَجَابُوا}، {وَمِمَّا} {الواو}: عاطفة، {مِمَّا} متعلق بـ {يُنْفِقُونَ}، {رَزَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول، صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما رزقنا هموه {يُنْفِقُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {اسْتَجَابُوا}، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول أيضًا. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يَنْتَصِرُونَ}، {أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذَا}. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَنْتَصِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول، والتقدير: والذين هم منتصرون وقت إصابة البغي إياهم. التصريف ومفردات اللغة {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} قال أبو علي رحمه الله: معنى اللطيف هو الذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليهم المثالب، وعلى هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا من أظهر الجميل وستر القبيح". وقيل: هو الذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير، وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله، وقيل: هو الذي يعين على الخدمة، ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه، ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله، ولا يؤيس آمله، وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقد ذكرنا هذه المعاني في "الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى"، عند اسمه اللطيف، ولله الحمد، اهـ. وقيل: هو العالم بخفيات الأمور، وقيل: هو معطي الإحسان في صورة الامتحان. كإعطاء يوسف الصديق، الملك في صورة الابتلاء برقه؛ لأنه من اللطف، وهو إيصال النفع على وجه فيه دقة، كما ذكرناه في كتابنا: "هدية الأذكياء في شرح طيبة الأسماء".

{وَهُوَ الْقَوِيُّ} من القوة، والقوة في الأصل: صلابة البنية وشدتها المضادة للضعف، وهي محالة على الله سبحانه وتعالى، فهي في حقه تعالى بمعنى القدرة، لكونها مسببة عن القوة، فمعنى القوي: هو ذو القدرة التامة، التي يوجد بها كل شيء من الكائنات، ويعدمه على طبق مراده، كما ذكرناه في كتابنا المذكور. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها، بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال، الحاصلة من البذور، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور، اهـ "أبو السعود". من حيث إنها فائدة تحصل بعمل الدنيا. {نَزِدْ لَهُ} فيه إعلال بالنقل والتسكين، أصله: نزيد فعل مضارع جزم لوقوعه جواب الشرط. فلما سكن آخره التقى ساكنان، فحذفت الياء بعد نقل حركتها إلى الزاي، فصار وزنه نفل. {نُؤْتِهِ مِنْهَا} وزنه نفعه لحذف لامه، لمناسبة جزم الفعل، الواقع جوابًا للشرط. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}؛ أي: في الكفر، وهم الشياطين. {شَرَعُوا لَهُمْ}؛ أي: زينوا لهم. {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب. {كَلِمَةُ الْفَصْلِ} هي القضاء، والحكم السابق منه بالنظرة إلى يوه القيامة. {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} جمع روضة، والروضة: مستنقع الماء والخضرة، وروضات الجنات أطيب بقاعها وأنزهها. {يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} والبشارة الإخبار بحصول ما يسر في المستقبل. {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} المودة: مودة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والقربى: مصدر، كالزلفى بمعنى القرابة التي هي بمعنى الرحم. {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} قال الراغب: أصل القرف والاقتراف: قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجذع، وما يؤخذ منه قرف، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنيًا كان أو سوئيًا، وفي الإساءة أكثر استعمالًا، ولهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والفرق بين الافتراء والكذب: أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه.

{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وزنه يفع، حذفت منه الواو في رسم المصحف لغير داع، ولا يصح عطفه على {يَخْتِمْ}؛ لأن الباطل ممحو لا محالة، فالمشيئة تتعلق بمحوه لا محالة، ولهذا الحذف نظائر في المصحف، كقوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} الإسراء، وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} القمر. وقوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} العلق. وقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} التحريم. قوله: {لَبَغَوْا} أصله: لبغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. {وَمَا أَصَابَكُمْ} أصله: أصوبكم بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الصاد، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {مُصِيبَةٍ} أصله: مصوبة بوزن مفعلة، نقلت حركة الواو إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ. {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أصله: يعفو، بوزن يفعل، سكنت {الواو} لوقوعها متطرفة إثر ضمة. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} قال أهل اللغة: أعجزته: أي: صيرته عاجزًا، وأعجزته فيه سبقته. {الْجَوَارِ} السفن، وهي بحذف الياء في الخط؛ لأنها من ياءات الزوائد، وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كل من الوصل والوقف، وقد قرىء بها جميعها. قال أبو حيان: جمع جارية، وهي صفة جرت مجرى الأسماء، فوليت العوامل. وقال الشهاب الحلبي: فإن قلت: الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها، امتنع حذف الموصوف، فلا تقول: مررت بماش؛ لأن المشي عام، وتقول: مررت بمهندس وكاتب، والجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف، وهو السفن، فلا يجوز حذفه. والجواب: أن محل الامتناع إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد، بأن تغلب عليها الاسمية، كالأبطح والأبرق، وإلا جاز حذف الموصوف، وعلى هذا فقوله: {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} حالان، انتهى. وإلى هذا يشير صنيع الجلال، حيث فسر الجوار بالسفن فقط، ولم يفسرها بالسفن الجارية، ففيه إشارة إلى أن المراد

بالجواري ذاتُ السنفن، لا مع وصف الجري. {كَالْأَعْلَامِ} جمع عَلَم بفتحتين، كسبب وأسباب، وهو الجبل، وكل مرتفع. قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ {فَيَظْلَلْنَ} من ظل، بمعنى صار. {رَوَاكِدَ}؛ أي: ثوابت لا تجري، يقال: ركدت السفينة إذا سكنت وثبتت، وركد الماء ركودًا من باب قعد، وسكن، والشمس إذا قامت مقام الظهيرة، وكل ثابت في مكان فهو راكد، وركد الميزان استوى، وركد القوم هدؤوا، والمراكد: المواضع التي يركد فيها الإنسان وغيره اهـ "قرطبي". {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يهلكهنّ يقال: وبق يبق مثل: وعد يعد، ووبق يبق من باب تعب يتعب وبقًا، بسكون الباء ووبق يوبق وبقًا، بفتح الباء ووبوقًا وموبقًا، واستوبق هلك، فهو وبق، وأوبقه إيباقًا، أهلكه وذلَله وحبسه. {مَحِيصٍ} أصله: محيص بوزن مفعل، اسم مكان، نقلت حركة الياء إلى الحاء، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد. {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} والإثم الذنب، والكبائر جمع كبيرة، والهمزة فيه مبدلة من الياء الموجودة في المفرد، لوقوعها حرف مد ثالثًا، زائدًا في اسم مؤنث {وَالْفَوَاحِشَ} جمع فاحشة، وهي القبيحة، أو المفرطة في القبح، قال في "القاموس": الفاحشة الزنا، وما يشتد قبحه من الذنوب، فيكون عطف الفواحش على الكبائر من عطف البعض على الكل، إيذانًا بكمال شناعته، وقيل: هما واحد، والعطف لتغاير الوصفين، كأنه قيل: يجتنبون المعاصي، وهي عظيمة عند الله تعالى في الوزن، وقبيحة في العقل والشرع. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} والغضب: ثوران دم القلب إرادة الانتقام، والمغفرة هنا بمعنى: العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مصدر كالفتيا، بمعنى التشاور، وأصله: من الشور: وهو الإخراج، سميت المشاورة به؛ لأن كل واحد من المتشاورين في الأمر، يستخرج من صاحبه ما عنده.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاكتفاء في قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}؛ أي: ويحرم من يشاء. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {حَرْثَ الْآخِرَةِ} حيث شبه ما يعمله العامل من العمل الصالح بالحرث، الذي هو إلقاء البذر في الأرض، أو الزرع الحاصل منه، ثم حذف المشبه، وهو العمل الصالح، وأبقي المشبه به، وهو الحرث، للدلالة على نتائج الأعمال وثمراتها، وشبه بالزرع، من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا, ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة. ومنها: الطباق بين {حَرْثَ الْآخِرَةِ} و {حَرْثَ الدُّنْيَا}. ومنها: المشاكلة أو التهكم في قوله: {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ}؛ لأن ذكر الدين للمشاكلة؛ لأنه في مقابلة دين الله تعالى، أو للتهكم بهم. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {شَرَعُوا} حيث أسند التشريع إلى الشركاء التي هي الأصنام، مع كونها بمعزل عن الفاعلية، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم، كقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تسجيلًا عليهم بالظلم، ودلالة على أن العذاب الأليم، الذي لا يكتنه كنهه، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم وإنهماكهم فيه. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؛ أي: إلا المحبة لأهل قرابتي حيث أطلق الحال، وهو القرابة، وأراد المحل، وهو أهلها فقد جعلوا مكانًا ومقرًا لها. ومنها: الطباق بين {يَمْحُ} و {يُحِقُّ} وبين {الْحَقَّ} و {الْبَاطِلَ} في قوله

تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ}. ومنها: الاحتباك في قوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} حيث أثبت الإشفاق في الظالمين، أولًا: دليلًا على حذف الأمن, ثانيًا: في الذين آمنوا، وأثبت الجنات ثانيًا في الذين آمنوا، دليلًا على حذف النيران أولًا في الظالمين. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً}؛ لأن الاقتراف حقيقة في قشر اللحاء عن الشجرة، والجليدة عن الجذع، فاستعير للاكتساب مطلقًا، حسنًا كان أو سوءًا. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في شكور، من قوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} حيث شبهت الإثابة والتفضل بالشكر، الذي هو فعل ينبيء عن تعظيم المنعم لكونه منعمًا، لامتناع أن ينعم عليه تعالى أحد حتى يقابل بالشكر؛ أي: شبهت الإثابة بالشكر، من حيث إن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير، وإكرامًا لأجله، فاستعير اسم المشبه به الذي هو الشكر، للمشبه الذي هو الإثابة، ثم اشتق من الشكر، بمعنى الإثابة شكور، بمعنى: مثيب على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} دلالة على الاستمرار. ومنها: صحة التفسير، في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى، لا يستقل اللهم بمعرفة فحواه، لكونه مجملًا يحتاج إلى بيان المراد منه، وقد يكون بيانه بعد الجار والمجرور، كما في هذه الآية، وقد جاءت صحة التفسير فيها مؤذنة بمجيء الرجاء بعد اليأس، والفرج بعد الشدة، والمسرة بعد الحزن، ليكون ذلك أحلى موقعًا في القلوب.

ومنها: عطف العام على الخاص، في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} فالغيث خاص، والرحمة عام. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: يثيبهم على أعمالهم؛ لأن الإجابة مجاز عن الإثابة؛ لأن الطاعة لما شبهت بدعاء ما يترتب عليها من الثواب، كانت الإثابة عليها بمنزلة إجابة الدعاء، فعبر بها عنها. ومنها: إطلاق اسم المسبب، وهو الدابة على السبب، في قوله تعالى: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} فإن الدبيب مجاز أريد به سببه، وهو الحياة، فتكون الدابة بمعنى الحي، فتتناول الملائكة أيضًا كما مر. وقيل: إنه من نسبة الشيء إلى الكل مرادًا به البعض؛ لأن الدابة إنما تكون في الأرض، والمراد بضمير التثنية: الأرض فقط، كما في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} وإنما يخرجان من البحر الملح لا العذب. ومنها: التشبيه المرسل المجمل، في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)}؛ أي: كالجب الذي الضخامة والعظم. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}؛ أي: عظيم الصبر كبير الشكر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}. المناسبة قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم، ممن بغى عليهم .. أردف ذلك بما يدل على أن ذلك الانتصار، مقيد بالمثل؛ لأن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، ثم ¬

_ (¬1) المراغي.

ندب إلى العفو والإغضاء من الزلات، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس، ويبغي في الأرض بغير الحق، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين، وأجزل ثواب فاعله. قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله لما ذكر أن الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي، والعدوان بغير الحق .. أردف ذلك ببيان أن من أصله فلا هادي له، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة، يطلبون الرجوع إلى الدنيا، وأنهم يعرضون على النار، وهم خاشعون أذلاء، ينظرون من طرف خفي، وأن الذين آمنوا يقولون: إن الكافرين لفي خسران مبين، فقد أضاعوا النفس والأهل، ولا يجدون لهم، ناصرًا يخلصهم مما هم فيه من العذاب. قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر ما سيكون يوم القيامة، من الأهوال وعظائم الأمور، حذر من هذا اليوم. فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذٍ ملجأ يقيهم من عذاب الله تعالى، ولا ينكرون ما اقترفوه؛ لأنه مكتوب في صحائف أعمالهم. ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك، فلا تأبه بهم، ولا تهتم بشأنهم. ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان، وأنه يفرح حين النعمة، ويجحد نعم ربه حين الشدة، ثم قسم هبته لعباده في النسل أربعة أقسام: فمنهم من وهب الإناث، ومنهم من وهب الذكران، ومنهم من أعطي الصنفين ومنهم العقيم الذي لا نسل له. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده .. أردفها تقسيم النعم الروحية، وأن الناس محجوبون عن ¬

_ (¬1) المراغي.

[40]

ربهم؛ لأنهم في عالم المادة، وهو منزه عنها, ولكن من رق حجابه وخلصت نفسه، وأصبح في مقدوره أن يتصل بالملأ الأعلى .. يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة: 1 - أن يحس بمعان تلقى في قلبه، أو يرى رؤيًا منامية، كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده. 2 - أن يسمع كلامًا من وراء حجاب، كما سمع موسى عليه السلام، من غير أن يبصر من يكلمه، فهو قد سمع كلامًا، ولم ير المتكلم. 3 - أن يرسل إليه ملكًا، فيوحي ذلك الملك ما يشاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله، أوحى إليه القرآن، وما كان قبله يعلم ما القرآن، وما الشرائع التي بها هداية البشر، وصلاحهم في الدارين. التفسير وأوجه القراءة 40 - وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ}؛ أي: جناية {سَيِّئَةٌ}؛ أي: جناية {مِثْلُهَا}؛ أي: مماثلة للأولى في الكم والكيف، بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة، مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير، بالإشارة إلى أن البادىء هو الذي فعله لنفسه، فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتمًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرِّ، وفيه تنبيه على حرمة التعدي. والمعنى: أي وجزاء سيئة المسيء، عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه. وإطلاق (¬1) السيئة على الثانية، مع أنها جزاء مشروع مأذون فيه، وكل مأذون حسن لا سيء, لأنها تسوء من نزلت به، كما في آية أخرى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}، يريد ما يسؤهم من المصائب والبلايا، أو للمشاكلة، لتشابههما في الصورة. كما في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} وعلى هذا فالسيئة مقابل الحسنة، بخلافها في الوجه الأول. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والخلاصة: أنه يجب، إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، قال الحسن: إذا قال: لعنك الله، أو أخزاك الله، ذلك أن تقول: أخزاك الله، أو لعنك الله، وإذا شتمك فلك أن تشتمه بما شتم ما لم يكن فيه حد، كلفظ الزنا، أو كلمة لا تصلح، فلا تجري المقابلة في الكذب والبهتان، قال في "التنوير": لو قال لآخر: يا زاني، فقال له الآخر: لا بل أنت الزاني، حدا بخلاف ما لو قال له: مثلًا يا خبيث، فقال: أنت، تكافئا, ولو لم يجب، بل رفع الأمر إلى القاضي ليؤدبه جاز، وظاهر الآية العموم. وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان: إن هذا خاص بالمجروح، ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره. وفي الآية حث على العفو؛ لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة في الجزاء، وتقديرها عسر سياق، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالمًا. ونحو الآية: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}. وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي زينب وعندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلت علي تسبني، فردعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تنته، فقال لي: "سبيها"، فسببتها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل سرورًا. وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب، بلسان عائشة، لما أن لها حقًا في الرد، وقد رأى فيه المصلحة. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المستبان ما قالا من شيء فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم"، ثم قرأ: " {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ". وقصارى ذلك (¬1): أن كل جناية على النفس، أو المال، تقابل بمثلها ¬

_ (¬1) المراغي.

قصاصًا؛ لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد، إذ في طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه، والزيادة على قدر الذنب ظلم، والشرائع تنزه عن ذلك، ومن ثم شرع الله القصاص، وندب إلى الفضل، وهو العفو، فقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}. وعن بعض الفقهاء في هذه الآية (¬1): وقد قيل: إنه الشافعي رحمه الله تعالى: أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه، مثل ما خانه من غير علمه، واستشهد على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند، زوجة أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك"، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه، كذا ذكره القرطبي في "تفسيره". وجاء تتمة لهذه الآية، قوله: {فَمَنْ عَفَا} عن المسيء إليه جنايته؛ أي: ترك القصاص وسامح له {وَأَصْلَحَ} ما بينه وبين من يعاديه، بالعفو والإغضاء عما صدر منه، قال في "الحواشي السعدية": الفاء للإفصاح؛ أي: إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة، وهي عسرة جدًّا، وأردتم بيان ما هو الأولى، فأقول: الأولى العفو، والإصلاح، إذا كان قابلًا للإصلاح بأن لم يصر على البغي. وفي الحديث: "ما زاد الله العبد بالعفو إلا عزًا". {فَأَجْرُهُ}؛ أي: فأجر عفوه وإصلاحه حق واجب {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى، بطريق وعده المحتوم، فيجزيه أعظم الجزاء، وهذه عدة منبئة عن عظمة شأن الموعود، وخروجه عن الحد المعهود، وفي إبهام (¬2) الأجر وجعله حقًا على العظيم الكريم جل شأنه، زيادة في الترغيب في العفو والحث عليه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة، أمر الله مناديًا ينادي: ألا، ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا وذلك قوله: {فَمَنْ عَفَا ...} " الآية. ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته، التي هي سبب الفوز والنجاة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[41]

فقال: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}؛ أي: المتجاوزين الحد في الانتقام، وفي هذا تصريح، بما تضمنه سالف الكلام، من حسن رعاية طريق المماثلة، وأنها قلما تخلو عن الاعتداد والتجاوز عن الواجب، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحمية، وحينئذٍ، يدخل المنتقمون في زمرة من لا يحبهم الله سبحانه وتعالى. وفي "الروح": قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}؛ أي: البادئين بالسيئة، والمتعدين في الانتقام، وهو استئناف تعليل، متعلق بقوله: {وَجَزَاءُ} إلخ. وقوله: {فَمَنْ عَفَا} إلخ، اعتراض يعني: إنما شرعت المجازاة وشرطت المساواة؛ لأنه لا يحب الظالمين. 41 - واللام في قوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}: لام (¬1) الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم، وليس بجيد إذا جعلنا {مَنِ} شرطية، و {مَنِ} شرطية لدخول الفاء في جوابها، وهو قوله: (فأولئك)، أو موصولة، ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط، وقوله: بعد ظلمه من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: بعد ما ظلم. وقرىء به، وتذكير الضميرين باعتبار لفظ {مَنْ}. والمعنى: ولمن انتقم، واقتص بعد ظلم الظالم إياه، يعني: في الحقوق المالية {فَأُولَئِكَ} المنتصرون. فهو إشارة إلى {مَنْ} والجمع باعتبار المعنى. {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب. والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة، والآية دفع لما تضمنه السياق، من إشعار المسند باب الانتصار. والمعنى: ولمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون، لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهوا إليهم عقوبة ولا أذى, لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فلا سبيل لأحد عليه بالمعاتبة، أو المعاقبة. 42 - ولما نفى سبحانه وتعالى السبيل على من انتصر بعد ظلمه .. بين من عليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[43]

السبيل، فقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} بالمعاقبة والمؤاخذة {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}؛ أي: يبتدئونهم بالإضرار، أو يعتدون في الانتقام {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يعملون في الأرض البغي والعدوان والإفساد بقتل الأنفس، وأخد الأموال {بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: بلا حق يكون لهم في ذلك، كذا قال الأكثر، وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي، وقيل: يتكبرون ويتجبرون ويتطاولون على الناس، وقيل: ظلم الناس صدُّهم عن سبيل الله، وبغيهم: أخذ أموالهم، وقتل أنفسهم بلا حق يكون لهم في ذلك، قيل (¬1): ويظلمون الناس، أي: يضعون الأشياء في غير مواضعها، من القتل وأخذ الأموال، والأذى باليد واللسان، والبغي بغير الحق، فهو نوع من أنواع الظلم، خصه بالذكر تنبيهًا على شدته، وسوء حال صاحبه. والمعنى: أي إنما الحرج والإثم على الذين يبتدئون الناس بالظلم، أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم، أو يتكبرون في الأرض تجبرًا وفسادًا {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الظلم، والبغي بغير الحق {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم. 43 - ثم رغب سبحانه وتعالى في الصبر والعفو، فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ} على الأذى، معطوف على قوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}. وجملة قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} إلخ. اعتراض، اهـ "سمين". واللام فيه للابتداء، و {من} موصولة مبتدأ {وَغَفَرَ}؛ أي: عما لمن ظلمه ولم ينتصر، وفوض أمره إلى الله تعالى، وكرره اهتمامًا بالصبر، ترغيبًا فيه، والصبر هنا: هو الإصلاح المتقدم. فأعيد هنا، وعبر عنه بالصبر؛ لأنه من شأن أولي العزم، وأشار إلى أن العفو المحمود ما نشأ عن التحمل لا عن العجز، اهـ "شهاب". {إِنَّ ذَلِكَ} المذكور من الصبر والمغفرة {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ أي: من معزومات الأمور ومهماتها وواجباتها؛ أي: من الأمور التي يجب عزم العبد عليها بإيجابها على نفسه، وتصميم قلبه عليها. لكونه من الأمور المحمودة عند ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[44]

الله سبحانه وتعالى، فإن الصبر والعفو مندوب إليه، وقد ينعكس الأمر في بعض الأحوال، ويكون ترك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى. وحكي: أن رجلًا سب رجلًا في مجلس الحسن، رحمه الله تعالى، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام، فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فإن قلت: قاله هنا بلام التأكيد، وقاله في {لُقْمَانَ} بدونها، فما الفرق بين الموضعين. قلت: لأن الصبر على مكروه حدث بظلم، كقتل ولد أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم، كموت ولد، كما أن العزم على الأول أوكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول، فكان أنسب لتوكيد وما في {لُقْمَانَ} من القبيل الثاني، فكان أنسب بعدمه اهـ "كرخي". والمعنى: أي ولمن صبر عن الانتصار بغير انتقام ولا شكوى، وستر السيئة، فقد فعل ما يشكر عليه ويستحق به الأجر وجزيل الثواب، ورُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر رضي الله عنه: "يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيفضي عنها إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة، يريد بها كثرة إلا زاده الله عَزَّ وَجَلَّ بها قلة". 44 - {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: يخلق فيه الضلالة من الهوى، أو بتركه على ما كان عليه من ظلم الناس {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ} يلي أمره، وناصر ينصره {مِنْ بَعْدِهِ}؛ أي: من بعد خذلانه تعالى إياه. وظاهر الآية: العموم، وقيل: هي خاصة بمن أعرض عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعمل بما دعاه إليه، من الإيمان بالله والعمل بما شرعه، والأول أولى. والمعنى: أي أنه ما شاء الله كان، ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن، فمن

[45]

هداه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. والخلاصة: أن من خذله الله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، باجتراح الآثام والمعاصي، فليس له من ولي يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح. ثم ذكر تمني الكافرين الرجوع إلى الدنيا، فقال: {وَتَرَى} أيها المخاطب؛ لأن الخطاب (¬1) لكل من يتأتى منه الرؤبة البصرية {الظَّالِمِينَ}؛ أي: المشركين المكذبين بالبعث {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}؛ أي: حين يرون العذاب يوم القيامة، وينظرونه، وصيغة الماضي، للدلالة على التحقق، حال كونهم {يَقُولُونَ} فالجملة في موضع الحال من {الظَّالِمِينَ}؛ لأن الرؤية هنا بصرية {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ}؛ أي: رجعة إلى الدنيا {مِنْ سَبِيلٍ}؛ أي: طريق، فالمرد: مصدر ميمي بمعنى الرد، وهل للاستفهام المضمن معنى التمني 45 - {وَتَرَاهُمْ}؛ أي: تبصر الظالمين أيها الرائي حال كونهم {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}؛ أي: على النار المدلول عليها بالعذاب، حال كونهم {خَاشِعِينَ} حال من فاعل {يُعْرَضُونَ}. و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الذُّلِّ} للتعليل متعلقة بـ {خَاشِعِينَ}. وقرأ طلحة: {من الذل} بكسر الذال (¬2). والجمهور: بالضم؛ أي: يعرضون عليها خاضعين حقيرين، بسبب ما لحقهم من الذل والهوان، ويصح تعلقها بينظرون، ويوقف على خاشعين، و {مِنَ} في قوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}؛ أي: ضعيف. لابتداء الغاية. والمعنى: حال كونهم يبتدىء نظرهم إلى النار، من تحريك لأجفانهم ضعيف، يعني: يسارقون النظر إلى النار، خوفًا منها، وذلة في أنفسهم، كالمقتول ينظر إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وهكذا الناظر إلى المكاره، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحابِّ، وقيل: هل المراد بالطرف: العين، أو المصدر، قلنا: كلاهما يناسب المقام، وقال الكلبي: ينظرون بأبصار قلوبهم، ولا ينظرون بأبصار ظواهرهم؛ لأنهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

يسحبون على وجوههم، أو لأنهم يحشرون عميًّا، فينظرون كنظر الأعمى إذا خاف حسًا، يقول الفقير: لا حاجة إلى حمل الآية على ما ذكر من الوجهين؛ لأن لهم يوم القيامة أحوالًا شتى، بحسب المواطن، فكل من النظر والسحب والحشر أعمى، ثابت صحيح. وقال يونس (¬1): إن {مِنْ} في {مِنْ طَرْفٍ} بمعنى الباء؛ أي: ينظرون بطرف ضعيف من الذل والخوف، وبه قال الأخفش. وفي الآية: إشارة إلى أن النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا، تتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة، لتقبل الصلاح، بعلاج الرياضات الشرعية، وتخشع، إذ لم تخشع في الدنيا من القهّار، فلا تنفعها ندامة، ولا تسمع منها دعوة، ولها نظر من طرف خفي، من خجالة المؤمنين، إذ يعيرونها بما ذكروها، فلم تسمع وهي نفوس الظالمين. وحاصل المعنى (¬2): أي وترى الكافرين بالله، حين يعاينون العذاب يوم القيامة، يتمنون الرجعة إلى الدنيا، ويقولون: هل من رجعة لنا إليها، وتراهم أيضًا في ذلك اليوم، يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء؛ لأنهم عرفوا ذنوبهم وانكشف لهم عظمة من عصوه يسارقون النظر إليها خوفًا منها، وحذرًا من الوقوع فيها، كما ينظر من قدم للقتل إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وإنما ينظر ببعضها. ولما وصف حال الكفار، حكى ما يقوله المؤمنون فيهم، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا} وجاهدوا في الله تعالى حق جهاده، وربحوا على ربهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق {إِنَّ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: المتصفين بحقيقة الخسران، وهو انتقاص رأس المال، وينسب إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، ويستعمل ذلك في القنيات الخارجة، كالمال والجاه في الدنيا، وهو الأكثر. وفي القنيات النفيسة، كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله سبحانه الخسران، وكل خسران ذكره الله في القرآن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[46]

الكريم، فهو على هذا المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية، والتجارات البشرية، وخبر {إن} قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ}؛ أي: إن الكاملين في الخسران، هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} والظرف إما متعلق بـ {خَسِرُوا} فيكون القول في الدنيا، أو متعلق بـ {قَالَ}؛ أي: يقولون لهم حين يرونهم على تلك الحالة، وعبر بالماضي، إشعارًا بتحققه، كما مر آنفًا، أما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها، وأما خسرانهم لأهليهم، فلأنهم إن كانوا معهم في النار. فلا ينتفعون بهم، وإن كانوا في الجنة، فقد حيل بينهم وبينهم، وقيل: خسران الأهل، أنهم لو آمنوا، لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين. وفي "التأويلات النجمية": إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم، بإبطال استعدادهم، إذ صرفوه في طلب الدنيا وزخارفها والالتذاذ بها، وخسروا أهليهم، إذ لم يقوا أنفسهم وأهليهم نارًا، بقبول الإيمان, وأداء الشرائع {أَلَا} حرف تنبيه {إِنَّ الظَّالِمِينَ}؛ أي: المشركين الذين كانوا في جهنم، شهوات النفس جثيًا في الدنيا {فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} في الآخرة؛ أي: دائم لا ينقطع إلى الأبد، وهذا إما من تمام كلام المؤمنين، أو من كلام الله سبحانه تصديقًا لهم. والمعنى: أي ويقول المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين غبنًا لا غبن بعده، هم الذين خسروا أنفسهم، فأدخلوا في النار، وحرموا نعيم الأبد، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوي قراباتهم. 46 - ثم صدقهم ربهم فيما قالوا، فقال: ألا إن الكافرين لفي عذاب سرمدي، لا مهرب لهم منه ولا خلاص، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأي سبيل، فقال: {وَمَا كَانَ لَهُمْ}؛ أي: للظالمين {مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ} بدفع العذاب عنهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا؛ أي: لا يجدون لهم أعوانًا وأنصارًا ينقذونهم، مما حل بهم من العذاب، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم، لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}؛ أي: يرد الله إضلاله بان يشغله بغيره {فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} يؤدي سلوكه إلى النجاة؛ أي:

[47]

ومن يضلله الله تعالى، لما علم من استعداده للشر والفساد وارتكاب الشرور والآثام، فلا سبيل له إلى الوصول إلى الحق في الدنيا, ولا إلى الجنة في الآخرة. حكي: أن شيخًا حج مع شاب، فلما أحرم قال: لبيك، فقيل له: لا لبيك، فقال الشاب للشيخ: ألا تسمع هذا الجواب، فقال: كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة، قال: فلأي شيء تتعب، فبكى الشيخ، فقال: فإلى أي باب ألتجىء فقيل له: قد قبلناك. فهذا من هداية الله الخاصة، فافهم جيدًا. 47 - {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} إذا دعاكم إلى الإيمان, على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} وهو يوم القيامة، أو يوم الموت {لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} و {مِنْ} إما متعلقة بـ {يَأْتِيَ}؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم، لا يقدر أحد على رده، ودفعه، أو متعلقة بـ {مَرَدَّ}؛ أي: لا يرده الله، بعد أن حكم به على عباده، ووعدهم به. والمعنى: أجيبوا داعي الله، وهو رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، واتبعوه فيما جاءكم به من عند الله تعالى، من قبل أن يأتي يوم لا يستطيع أحد أن يرده، إذا جاء به الله. {اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} تلتجئون إليه، ولا مفر تفرون إليه؛ أي (¬1): ما لكم مخلص ما، من العذاب على ما دل عليه، تأكيد النفي بـ {من} الاستغراقية {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}؛ أي: إنكار ما لما اقترفتموه؛ لأنه مدون في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم، ولعل المراد: الإنكار المنجي، وإلا فهم يقولون {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وغير ذلك، ولذلك تشهد عليهم أعضاؤهم، أي: ما لكم من إنكار يومئذٍ، بل تعترفون بذنوبكم. والنكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار، وقال مجاهد: {مَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}؛ أي: ناصر ينصركم، وقيل: النكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم؛ أي: لا تجدون يومئذٍ منكرًا لما ينزل بكم من العذاب، قاله الكلبي وغيره، والأول أولى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[48]

والمعنى: أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا تستطيعون إنكار ما اجترحتموه من السيئات؛ لأنه قد كتب في صحفكم، وتشهد به ألسنتكم وجوارحكم، ونحو الآية قوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)} 48 - وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها, ولا موكلًا بهم رقيبًا عليهم، تلوين للكلام، وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة، وتوجيه منه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي: فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه، فما أرسلناك رقيبًا ومحاسبًا عليهم، وحافظًا لأعمالهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}؛ أي: ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد فعلت فلا يهمنك إعراضهم، وهذا منسوخ بآية السيف. والمعنى: أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق، ودعوتهم إليه من الرشد، ولم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم وشأنهم، فإنا لم نرسلك رقيبًا عليهم، تحفظ أعمالهم وتحصيها، فما عليك إلا أن تبلغهم، ما أرسلناك به إليهم، فإذا أنت بلغته فقد أديت ما كلفت به، ونحو الآية {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. قال الغزالي رحمه الله تعالى في "شرح الأسماء": الحفيظ من العباد: من يحفظ جوارحه وقلبه، ويحفظ دينه من سطوة الغضب، وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان، فإنه على شفا جرف هار، وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى النار، وقد عرف كلها من لسان الشارع - صلى الله عليه وسلم -، فليسارع العبد إلى دفع الموبقات، وجلب المنجيات بإصلاح النفس، والتخلق بالأخلاق الإلهية، فإن النفس طاغية مؤدية إلى الإفلاس والخسار. وبعدئذٍ ذكر طبيعة الإنسان، وغريزته في هذه الحياة، فقال: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: إذا أعطينا الإنسان {مِنَّا رَحْمَةً}؛ أي: نعمة صادرة من جهتنا، كالصحة والغنى {فَرِحَ بِهَا} بطرًا لأجلها والمراد بالإنسان: الجنس لا الواحد، ولهذا قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ}؛ أي: الإنسان {سَيِّئَةٌ}؛ أي: بلاءً وشدة ومرض

وفقر {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملته أنفسهم من كفرانهم، بنعم الله تعالى وعصيانهم فيها، وذكر الأيدي؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها، فجعل كل عمل كالصادر بالأيدي على طريق التغليب. {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: جنسه {كَفُورٌ}؛ أي: بليغ الكفر، ينسى النعمة بالكلية، وبذكر البلية ويستعظمها, ولا يتأمل سببها، بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها؛ أي: كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه، غير شكور له عليها، وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين، لغلبتهم فيما بين الأفراد، يعني: أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده، للملابسة على المجاز العقلي، وتصدير الشرطية الأولى بإذا المفيدة للتحقق مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة، للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع، وأنه مقتضى الذات، كما أن تصدير الثانية بـ {إن} وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم، للإيذان بندرة وقوعها. وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما سيأتي جميع ذلك في مبحث البلاغة. والمعنى: أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم، فأعطيناه من لدنا سعة في الرزق، أو في الصحة، أو في الأمن سر بما آتيناه، وإن أصابته فاقة، أو مرض بما أسلف من معصية ربه، جحد نعمتنا، وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة. والخلاصة: أن الإنسان إن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلي بمحنة يئس وقنط. واعلم: أن نعمة الله تعالى، وإن كانت في الدنيا عظيمة، إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة، كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سمي الإنعام بها إذاقة فالإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به، ووقع في العجب والكبر، وظن أنه فاز بكل المنى، ودخل في قصر السعادات، ولذا ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة، وإلا لاختار الباقي على الفاني؛ لأن الفاني كالخزف مع أنه قليل، والباقي كالذهب مع أنه كثير.

[49]

49 - ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه، فقال: {لِلَّهِ} سبحانه وتعالى لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: له التصرف فيهما بما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع؛ أي: يختص به سبحانه ملك العالم كله، لا يقدر أن يملكه أحد سواه، فله التصرف فيه، وقسمة النعمة والبلية على أهله، وليس عليهم إلا الشكر في النعمة، والصبر في البلية، والرضى والتسليم للأحكام الأزلية. والمعنى: أي إنه تعالى خالق السموات والأرض، ومالكهما، والمتصرف فيهما، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} مما يعلمونه، ومما لا يعلمونه على أي صورة شاء {يَهَبُ} سبحانه وتعالى {لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} لا ذكور معهن مثل ما وهب لشعيب ولوط عليهما السلام، والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض، والوهاب هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعطي كلًّا على قدر استحقاقه ولا يريد عوضًا، والجملة بدل من يخلق بدل البعض، وإنما قدم الإناث على الذكور مع شرفهم؛ لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، إذ في التقديم تشريف لهن، وإيناس بهن، ولذلك جعلن من مواهب الله تعالى مع ذكر اللام الانتفاعية أو لرعاية الترتيب الواقع أولًا في الهبة بنوع الإنسان، فإنه تعالى وهب لآدم أولًا زوجته حواء عليهما السلام، بأن ولَّدها منه، وخلقها من قصيراه، وهي أسفل الأضلاع، أو آخر ضلع في الجنب، كما في "القاموس". قال في "الكواشي": ويجوز أنهن قدمن توبيخًا لمن كان يئدهن، ونكرن إيماء إلى ضعفهن ليرحمن، فيحسن إليهن. وقال في "الشرعة وشرحه": وليزداد فرحًا بالبنات، مخالفة لأهل الجاهلية، فإنهم يكرهونها، بحيث يدفنونها في التراب في حال حياتها، وفي الحديث: "من بركة المرأة تبكيرها بالبنات"؛ أي: يكون أول ولدها بنتًا، ألم تسمع قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} الآية، حيث بدأ بالإناث {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} لا إناث معهم، كما وهب إبراهيم عليه السلام، من غير أن يكون في ذلك مدخل لأحد، ومجال اعتراض.

[50]

وعرف الذكور للمحافظة على الفواصل، أو لجبر التأخير، يعني: أن الله تعالى أخر الذكور، مع أنهم أحقاء بالتقديم، فتدارك تأخيرهم بتعريفهم؛ لأن في التعريف العهدي تنويهًا وتشهيرًا، كأنه قيل: ويهب لمن يشاء الفرسان، الأعلام، الذين لا يخفون عليكم. وفي الحديث: "إن أولادكم هبة الله لكم، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، وأموالهم لكم إن احتجتم إليها". 50 - {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ}؛ أي: يقرن بين الإناث والذكور، فيجعلهم {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} فيصير أولاده ذكرانًا وإناثًا، فيهبهما جميعًا لمن يشاء، بأن يولد له الذكور والإناث، مثل ما وهب لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح، قاسم، وعبد الله، وإبراهيم. ومن البنات أربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهن. قال مجاهد: معنى يزوجهم: هو أن تلد المرأة غلامًا، ثم تلد جارية. ثم تلد غلامًا، ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توأمًا، غلامًا وجارية {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لا يولد له ذكر ولا أنثى، فـ {مَنْ} عبارة عن الرجل والمرأة. فلا يلد ولا تلد. والعقيم: الذي لا يولد له، يقال: رجل عقيم؛ أي: لا يولد له، وامرأة عقيم؛ أي: لا تلد، كما في عيسى ويحيى عليهما السلام، فإنهما ليس لهما أولاد، أما عيسى فلم يتزوج، وإن كان يتزوج حين نزوله في آخر الزمان، ويكون له البنات كما قيل: وأما يحيى فقد تزوج، ولكن لم يقرب لكونه عزيمةً في شريعته، وبعضهم لم يكن له أولاد، وإن حصل له قربان النساء. ومعنى الآية: (¬1) أي يخلق ما يشاء، فيرزق من يشاء البنات فحسب، ويرزق من يشاء البنين فحسب، ويعطي من يشاء الزوجين الذكر والأنثى، ويجعل من يشاء لا نسل له، وفي هذا إيماء إلى أن الملك ملكه من غير منازع ولا مشارك، يتصرف فيه كيف يشاء، ويخلق ما يشاء، فليس لأحد أن يعترض عليه، أو يدبر بحسب هواه، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام، وقد قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان {إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمٌ} بمن يستحق كل نوع من هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

[51]

الأنواع {قَدِيرٌ} على ما يريد أن يخلق، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم. وفي "فتح الرحمن": فإن قلت (¬1): لم قدم الإناث مع أن جهتهن التأخير، ولم عرف الذكور دونهن؟. قلت: لأن الآية سيقت لبيان عظمة ملكه ومشيئته، وأنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاء عبيده، كما قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ولما كان الإناث مما لا يختاره العباد، قدمهن في الذكر، لبيان نفوذ إرادته ومشيئته وانفراده بالأمر، ونكرهن وعرف الذكور لانحطاط رتبتهن، لئلا يظن أن التقديم كان لأحقيتهن به ثم أعطى كل جنس حقه من التقديم والتاخير، ليعلم أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، بل لمقتضى آخر فقال: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}. وقال أبو حيان: ولما (¬2) ذكر الهبة في الإناث، والهبة في الذكور، اكتفى عن ذكرها في قوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}، ولما كان العقيم ليس بمحمود قال: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا}، وهو قسيم لمن يولد له، وتغيير العاطف في الثالث؛ لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه في الرابع لإفصاحه، بأنه قسيم المشترك بين الأقسام الثلاثة، ذكره "البيضاوي"، ولما كان الخنثى مما يحزن بوجوده لم يذكره سبحانه وتعالى، قالوا: وكانت الخلقة مستمرة ذكرًا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى، فسئل فارض العرب ومعمرها، عامر بن الظرب عن ميراثه، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم، فلما جن عليه الليل، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار، وأنكرت خادمته حاله، فسألته، فقال: بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه، فقالت له: ما هو، فقال شخص له ذكر وفرج، كيف يكون حاله في الميراث، قالت له الأمة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح، فعرضها عليهم فرضوا بها، وجاء الإِسلام على ذلك، وقضى بذلك علي كرم الله وجهه. 51 - {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ}؛ أي: وما صح لفرد من أفراد البشر يا محمد {أَنْ ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) البحر المحيط.

{يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} سبحانه بوجه من الوجوه، إلا بإحدى طرق ثلاث: 1 - {إِلَّا وَحْيًا} استثناء من أعم الأحوال؛ أي: ما كان له أن يكلمه الله في حال من الأحوال، إلا حالة كونه وحيًّا وإلهامًا، وإلقاء من الله تعالى في روعه وقلبه، كما أوحى إلى أم موسى، وإلى إبراهيم في ذبح ولده، وكما روى ابن حبان في "صحيحه"، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن روح القدس نفث في روعي، إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب". 2 - {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ أي: أو إلا حالة كونه من وراء حجاب، بأن يسمعه كلامه جهرة، من غير أن يبصر السامع من يكلمه، فهو تمثيل له بحال الملك المحتجب، الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب، يسمع صوته، ولا يرى شخصه، وإلا فالله تعالى منزه عن الاستتار بالحجاب، الذي هو من خواص الأجسام، فالحجاب يرجع إلى المستمع، لا إلى الله تعالى المتكلم، وذلك كما كلم الله تعالى موسى في طوى والطور، ولذا سمي كليم الله؛ لأنه سمع صوتًا دالًا على كلام الله تعالى، من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسبًا لأحد من الخلق. 3 - {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}؛ أي: أو إلا حالة كونه بأن يرسل رسولًا؛ أي: ملكًا من الملائكة، إما جبرئيل أو غيره {فَيُوحِيَ} ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري {بِإِذْنِهِ}؛ أي: بأمره تعالى وتيسيره {مَا يَشَاءُ} الله سبحانه أن يوحيه إليه من أمر أو نهي، كما كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى غيره من الأنبياء، وهذا هو الذي بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في عامة الأوقات من الكلام، فيكون إشارة إلى التكلم بواسطة الملك. رُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من الأنبياء من يسمع الصوت، فيكون بذلك نبيًا، ومنهم من ينفث في أذنه وقلبه، فيكون بذلك نبيًا، وإن جبرئيل يأتيني فيكلمني، كما يكلم أحدكم صاحبه". وروى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن

[52]

هشام رضي الله عنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحيانًا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني، فأعي ما يقول"، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي، في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد يسيل عرقًا. قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر، إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيًّا، أو يكلمه من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو يرسل رسولًا. وقرأ الجمهور: {حِجَابٍ}: مفردًا. وابن أبي عبلة {حجبًا}: جمعًا. وقرأ الجمهور بنصب {أَوْ يُرْسِلَ}، وبنصب {فَيُوحِيَ} على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحيًّا، ووحيًا في محل الحال والتقدير: إلا موحيًا، أو مرسلًا، ولا يصح عطف {أَوْ يُرْسِلَ} على {أَنْ يُكَلِّمَهُ}؛ لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل رسولًا، وهو فاسد لفظًا ومعنى. وقرأ نافع وأهل المدينة {أو يرسل رسولًا فيوحي}. بالرفع فيهما، على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أو هو يرسل. وجملة قوله: {إِنَّهُ عَلِيٌّ}؛ أي: متعال عن صفات المخلوقين؛ لا يأتي جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة {حَكِيمٌ} يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلمه تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، إما إلهامًا، وإما خطابًا من وراء حجاب تعليل لما قبلها. 52 - قال المفسرون: فلما قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تكلم الله وتنظر إليه، إن كنت نبيًا كما كلمه موسى، نزل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} والكاف صفة لمصدر محذوف. والروح (¬1): هو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، حيث يحييها حياة طيبة؛ أي: يحصل لها به ما هو مثل الحياة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وهو العلم النافع، المزيل للجهل الذي هو كالموت. وقال الراغب: سمي القرآن روحًا لكونه مببًا للحياة الأخروية، الموصوفة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}. ومعنى {مِنْ أَمْرِنَا}؛ أي: روحًا ناشئًا، ومبتدأ من أمرنا، والمعنى: وإيحاء مثل إيحائنا إلى سائر رسلنا، أوحينا إليك روحًا وقرآنًا ناشئًا بأمرنا وإرادتنا، ونازلًا من عندنا رحمةً وحياةً لعبادنا. وقيل: الروح هو جبرائيل عليه السلام، والمعنى: أوحينا إليك جبرائيل بأمرنا وإرادتنا، كما أوحيناه إلى سائر رسلنا، فإن قلت: كيف علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، أن الذي تجلى له جبرائيل، وأن الذي سمعه كلام الله تعالى؟ قلت: خلق الله تعالى له علمًا ضروريًا، علم به ذلك، والعلم الضروري يوجب الإيمان الحقيقي، ويتولد من ذلك اليقين، فإن الخشية على قدر المعرفة. ثم ذكر سبحانه صفة رسوله، قبل أن يوحي إليه، فقال: {مَا كُنْتَ} يا محمد {تَدْرِي} وتعلم قبل النبوة في أربعين سنة. وجملة {مَا كُنْتَ} حال من كاف {إِلَيْكَ} كما في تفسير "الكواشي" {مَا الْكِتَابُ} والقرآن، أي: أي شيء هو. والمعنى: ما تدري جواب هذا الاستفهام، والكلام على حذف مضاف؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وذلك أدخل في الإعجاز، وأدل على صحة نبوته، والاستفهام معلق للفعل عن العمل، وما بعده ساد مسد المقعولين {وَلَا} تدري ما {الْإِيمَانُ} بتفاصيل ما في تضاعيف القرآن، من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإن درايته - صلى الله عليه وسلم - له مما لا ريب فيه قطعًا، فإن أهل العلم اتفقوا على أن الرسل عليهم السلام، كانوا مؤمنين قبل الوحي، معصومين من الكبائر، ومن الصغائر الموجبة، لنفرة الناس عنهم، قبل البعثة وبعدها، فضلًا عن الكفر، وهو مراد من قال: لا يعرف القرآن قبل الوحي، ولا شرائع الإيمان ومعالمه، وقيل: المراد بالإيمان: الكلمة التي بها دعوة الإيمان والتوحيد، وهي لا إله إلا الله، محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان بهذا التفسير إنما علمه بالوحي لا بالعقل. قال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل، من الحج

والختان والنكاح، وإيقاع الطلاق، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والمصاهرة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانوا عليه في مثل هذه الشرائع، وكان يوحد، ويبغض اللات والعزى، ويحج ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم عليه السلام، ويتعبد بها حتى جاءه الوحي، وجاءته الرسالة. والمعنى: أي (¬1) ما كنت قبل الأربعين، وأنت بين ظهراني قومك، تعرف ما القرآن، ولا تفاصيل الشرائع، ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك، وقيل: معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ}؛ أي: الروح الذي أوحينا إليك، والجعل بمعنى التصيير، لا بمعنى الخلق، وحقيقته أنزلناه؛ أي: ولكن جعلنا الروح والقرآن الذي أوحيناه إليك {نُورًا} وضياء، ودليلًا على التوحيد {نَهْدِي} ونرشد {بِهِ مَنْ نَشَاءُ} هدايته {مِنْ عِبَادِنَا} بالتوفيق، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتَهْدِي} بهذا النور، وترشد من نشاء هدايته {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وطريق قويم الذي هو الإِسلام، وسائر الشرائع والأحكام، وقوله (¬2): {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} تقرير لهدايته تعالى، وبيان لكيفيتها ومفعول {لَتَهْدِي} محذوف ثقة بغاية الظهور، كما قدرناه. والمعنى: أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورًا عظيمًا، نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا، ونرشده إلى الدين الحق، وإنك لتهدي بذلك النور، من نشاء هدايته إلى الحق القويم. ونحو الآية قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} الآية. وقرأ الجمهور (¬3) {لَتَهْدِي} مبنيًا للفاعل مضارع هدى، وقرأ ابن حوشب: مبنيًا للمفعول، إجابة سؤاله - صلى الله عليه وسلم - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وقرأ ابن السميقع: بضم التاء وكسر الدال، من أهدى الرباعي، وعن الجحدري مثلها، ومثل قراءة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[53]

حوشب، وفي قراءة أبي {وإنك لتدعو}. 53 - ثم بين الصراط المستقيم بقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ} بدل من الصراط الأول، وفي إضافة الصراط إلى الاسم الشريف، من التعظيم له، والتفحيم لشأنه ما لا يخفى ووصف الجلالة بقوله: {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقًا وملكًا وعبيدًا لتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه، فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقًا وملكًا وتصرفًا، مما يوجب ذلك أتم إيجاب. وقال بعضهم (¬1): معنى الآية: دعونا يا محمد أقوامًا في الأزل، فأجابوا، فأنت تهديهم إلينا وتدلهم علينا، وإنما كان عليه السلام هاديًا؛ لأنه نور كالقرآن، ولمناسبة نوره مع نور الإيمان والقرآن قيل: كان خلقه القرآن. وحاصل المعنى: أي هذا الطريق، هو الطريق الذي شرعه الله، مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقب لحكمه. {أَلَا} كلمة تذكرة لتبصرة، أو تنبيه لحجة {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا إلى غيره {تَصِيرُ الْأُمُورُ}؛ أي: ترجع أمور ما فيهما قاطبةً بارتفاع الوسائط والتعلقات، يعني: يوم القيامة، فيحمل لفظ تصير على الاستقبال؛ أي: انتبهوا وتذكروا أن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله، لا إلى غيره، فيضع كلًّا منهم في موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم، وفي هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم ووعيد للظالمين، وفيه وعد بالبعث المستلزم للمجازاة. وقال في "بحر العلوم": إلى الله سبحانه، تصير أمور الخلائق كلها، في الدنيا والآخرة، فلا يدبرها إلا هو، حيث لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره. وعن سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف، فلم يبق إلا قوله تعالى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} وغرق مصحف، فانمحى كل شيء إلا ذلك، كذا في "عين المعاني" للسجاوندي انتهى "قرطبي". ¬

_ (¬1) روح البيان.

الإعراب {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ}: {الواو}: عاطفة، {جزاء سيئة}: مبتدأ، {سَيِّئَةٌ} خبر، {مِثْلُهَا}: صفة لـ {سَيِّئَةٌ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ}، أو مستأنفة، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}: الفاء: فاء الإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن جزاء سيئة سيئة مثلها، وأردت بيان أجر من عما وأصلح .. فأقول لك: {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما مر مرارًا، {عَفَا}: فعل ماض في محل الجزم فعل شرط، {وَأَصْلَحَ}: معطوف عليه، {فَأَجْرُهُ} الفاء: رابطة الجواب وجوبًا، {أجره}: مبتدأ، {عَلَى اللَّهِ}: خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب الشرط، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَلَمَنِ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: حرف ابتداء، {من} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، {انْتَصَرَ} فعل ماض في محل الجزم فعل شرط، {بَعْدَ}: ظرف متعلق بـ {انْتَصَرَ}. {ظُلْمِهِ} مضاف إليه للظرف، وهو مضاف إلى الهاء، من إضافة المصدر إلى مفعوله، وتؤيده قراءة من قرأ: {من بعد ما ظلم} بالبناء للمفعول، {فَأُولَئِكَ} الفاء: رابطة، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {ما}: نافية، {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم، {مِنْ سَبِيلٍ}: مبتدأ مؤخر. و {من}: زائدة، والجملة خبر عن اسم الإشارة، وجملة الإشارة في محل جزم جواب الشرط، وجملة الشرط وجوابه خبر لـ {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}. {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {السَّبِيلُ}: مبتدأ، {عَلَى الَّذِينَ}: خبره، وجملة {يَظْلِمُونَ

النَّاسَ}: صلة الموصول، والجملة الاسمية مستأنفة معترضة، {وَيَبْغُونَ}: معطوف على {يَظْلِمُونَ}، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يبغون}، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: حال من فاعل {يبغون}؛ أي: حال كونهم غير محقين، {أُولَئِكَ}: مبتدأ {لَهُمْ}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ} والجملة خبر لاسم الإشارة. وجملة اسم الإشارة مستأنفة، أو حال من الموصول، {وَلَمَنْ}: {الواو} عاطفة، و {اللام}: حرف ابتداء. كما مر نظيره، {من}: اسم موصول مبتدأ، {صَبَرَ} صلته {وَغَفَرَ}: معطوف عليه {إِنَّ ذَلِكَ}: ناصب واسمه، {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: اللام: مؤكدة للأولى. {من عزم الأمور} جار ومجرور خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} في محل الرفع خبر لـ {من} الموصولة، وفي الرابط قولان: أحدهما: هو اسم الإشارة إذا أريد به المبتدأ، ويكون حينئذٍ على حذف مضاف، تقديره: إن صبر ذلك لمن عزم الأمور. الثاني: أنه ضمير محذوف، تقديره: لمن عزم الأمور منه أو له، وجملة قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ} معطوفة على قوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}، وجملة قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ ...} إلخ، معترضة، وجوز الحوفي وغيره أن تكون {من}: شرطية، و {إِنَّ ذَلِكَ}: جوابها على حذف الفاء، على حد حذفها في البيت المشهور: مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وعلى جعل اللام للقسم، فإن ذلك جواب القسم المقدر، وحذف جواب الشرط للدلالة عليه، وتقدر الفاء الرابطة للجواب. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. {وَمَنْ}: {الواو} عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط جازم، في محل النصب مفعول مقدم، {يُضْلِلِ}: فعل شرط مجزوم بـ {مَنْ}. {اللَّهُ}: فاعل، {فَمَا} الفاء رابطة. {ما} نافية. {لَهُ} خبر مقدم. {مِنْ وَلِيٍّ}: مبتدأ مؤخر، و {من} زائدة، {مِنْ بَعْدِهِ}: صفة لـ {وَلِيٍّ}، والجملة الاسمية جواب {مَنْ} الشرطية. وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على الجمل التي قبلها، أو مستأنفة، {وَتَرَى}

{الواو}: استئنافية. {ترى} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على أي مخاطب، {الظَّالِمِينَ} مفعول به, لأن رأى هنا بصرية. {لَمَّا} ظرف بمعنى حين، متعلق بـ {يَقُولُونَ}. {رَأَوُا الْعَذَابَ} فعل وفاعل ومفعول به. والجملة مضاف إليه لـ {لما}، وجملة {يَقُولُونَ} حال من {الظَّالِمِينَ}، {هَلْ}: حرف استفهام واستخبار مع الدهشة {إِلَى مَرَدٍّ}: خبر مقدم، {مِنْ سَبِيلٍ}: مبتدأ مؤخر، و {من} زائدة. والجملة الاستفهامية مقول القول لـ {يَقُولُونَ}، {وَتَرَاهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {ترى الظالمين}، {يُعْرَضُونَ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل {عَلَيْهَا} متعلق بـ {يُعْرَضُونَ} وجملة {يُعْرَضُونَ} حال من مفعول {تراهم}، حال أولى، أو حال من واو {يُعْرَضُونَ}، {خَاشِعِينَ} حال ثانية. {مِنَ الذُّلِّ} متعلق بـ {خَاشِعِينَ}، وجملة {يَنْظُرُونَ} حال ثالثة، أو من مرفوع {يُعْرَضُونَ}، {مِنْ طَرْفٍ} متعلق بـ {يَنْظُرُونَ}، {خَفِيٍّ} صفة {طَرْفٍ}. {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}. {وَقَالَ الَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية. {قال الذين}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {إِنَّ الْخَاسِرِينَ}: ناصب واسمه، {الَّذِينَ}: خبره، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول {قال}، {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول، {وَأَهْلِيهِمْ}: معطوف على {أَنْفُسَهُمْ}، منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف، متعلق بـ {خَسِرُوا}، ويصح أن يتعلق بـ {قال} كما مر. {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه، {إِنَّ الظَّالِمِينَ}: ناصب واسمه، {فِي عَذَابٍ}: خبره، {مُقِيمٍ} صفة {عَذَابٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، إن قلنا من كلام الله سبحانه، تصديقًا لكلامهم، أو مقول لـ {قال} إن قلنا من تمام كلامهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص.

{لَهُمْ}: خبرها مقدم. {مِنْ أَوْلِيَاءَ}: اسمها مؤخر، و {من} زائدة، وجملة {يَنْصُرُونَهُمْ} صفة لـ {أَوْلِيَاءَ}، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من {أَوْلِيَاءَ}، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة قوله: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ}، {وَمَنْ} {الواو} عاطفة، {مَن} اسم شرط جازم في محل النصب، مفعول مقدم، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، {فَمَا} الفاء: رابطة، {ما} نافية، {لَهُ}: خبر مقدم. {مِن}: زائدة. {سَبِيلٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جواب {مَن} الشرطية، وجملة {مَن} الشرطية معطوفة على ما قبلها. {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}. {اسْتَجِيبُوا}: فعل وفاعل، بمعنى {أجيبوا}. مبني على حذف النون، {لِرَبِّكُمْ} متعلق به، {مِنْ قَبْلِ} متعلق به أيضًا؛ أي: أجيبوه بالتوحيد والعبادة. {أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل إتيان يوم. {لَا}: نافية للجنس، {مَرَدّ}: اسمها، {لَهُ}: خبرها، {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {مَرَدَّ}؛ لأنه مصدر ميمي، وأجاز بعضهم تعلقه بـ {يَأْتِيَ}؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يتاح لأحد رده. وجملة {لَا}: في محل الرفع صفة لـ {يَوْمٌ}، {مَا لَكُمْ} {ما}: نافية، {لَكُمْ} خبر مقدم، {مِنْ مَلْجَإٍ}: مبتدأ مؤخر، و {من}: زائدة. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف متعلق، بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، أو من ضمير المخاطبين، والجملة مستأنفة، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {لَكُمْ}: خبر مقدم، {مِنْ نَكِيرٍ}: مبتدأ، و {مِن} زائدة، والجملة معطوفة على التي قبلها. {فَإِنْ أَعْرَضُوا}: الفاء: استئنافية، {إِنْ}: حرف شرط، {أَعْرَضُوا}: فعل ماض وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {فَمَا} الفاء: رابطة الجواب وجوبًا، {ما}: نافية، {أَرْسَلْنَاكَ}: فعل

وفاعل ومفعول به، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {حَفِيظًا}، و {حَفِيظًا} حال من مفعول {أَرْسَلْنَاكَ}، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، والأولى أن يكون جواب الشرط محذوفًا، والفاء عاطفة على الجواب المحذوف، المقدر بما يناسب المقام؛ أي: فلا تبتئس ولا تحاول اقتسارهم. {إن}: نافية، {عَلَيْكَ}: خبر مقدم، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة، {إنا}: ناصب واسمه {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، متعلق بالجواب الآتي، {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل، وفاعل، ومفعول، {مِنَّا}: حال من {رَحْمَةً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {رَحْمَةً}: مفعول ثان، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها. {فَرِحَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ}. {بِهَا}: متعلق بـ {فَرِحَ}، والجملة جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية. {وإنْ}: {الواو}: عاطفة، {إِنْ} حرف شرط، {تُصِبْهُمْ}: فعل مضارع، ومفعول به، مجزوم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، {سَيِّئَةٌ} فاعل، {بِمَا} متعلق بـ {تُصِبْهُمْ}، و {ما} موصولة، وجملة {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} صلة، والعائد محذوف؛ أي: قدمته. وعبر بالأيدي؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها كما مر. {فَإِنّ} الفاء: رابطة لجواب {إِنْ} الشرطية، أو علة للجواب المقدر، والتقدير: وإن تصبهم سيئة نسوا النعمة فورًا؛ لأن الإنسان كثير كفران النعمة، {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {إِنَّ} في محل الجزم جواب {إِنْ} الشرطية، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إذا} الشرطية. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}. {لِلَّهِ}: خبر مقدم {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة

الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان سعة ملكه، {يَخْلُقُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر. و {ما}: مفعول به، وجملة {يَشَاءُ}: صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {يَخْلُقُ}: في محل النصب حال من الجلالة، {يَهَبُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، {لِمَنْ يَشَاءُ} متعلق بـ {يَهَبُ}، {إِنَاثًا}: مفعول به، وجملة {يَهَبُ}: بدل من جملة {يَخْلُقُ}: بدل مفصل من مجمل، وجملة {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}: معطوفة على ما قبلها، {أَوْ}: حرف عطف، {يُزَوِّجُهُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} مفعول به ثان، بدليل ما بعده، على تضمينه معنى التصيير؛ أي: يجعل أولاده ذكورًا وإناثًا. واختار أبو البقاء والخطيب إعراب {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} حالين. {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول، و {عَقِيمًا}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا}، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} ناصب واسمه وخبره، {قَدِيرٌ}: خبر ثان له، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {ما}: نافية {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {لِبَشَرٍ}: خبر {كَانَ} مقدم، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يُكَلِّمَهُ اللَّهُ}: فعل مضارع، ومفعول وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، وجملة {أَنْ} المصدرية مع مدخولها، في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسما لـ {كَانَ}، والتقدير: وما كان تكليم الله سبحانه، إنسانًا كائنًا له، في حال من الأحوال، إلا في حالة كونه وحيًّا، إلخ. وجملة {كَانَ} مستأنفة. مسوقة لبيان كيفية تكليم الله لعباده، {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأحوال، {وَحْيًا}: مصدر واقع موقع الحال؛ أي: موحيًا، أو مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: إلا أن يوحي إليه وحيًّا {أَوْ} حرف عطف، {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: متعلق بمقدر، معطوف على المقدر العامل في وحيًّا؛ أي: أو إلا أن يكلمه الله من وراء حجاب، أو مسمعًا من وراء حجاب، {أَوْ}: حرف عطف، {يُرْسِلَ}: فعل مضارع، منصوب بأن

مضمرة جوازًا بعد أو، العاطفة على اسم خالص، أعني: وحيًّا، كما قال ابن مالك: وَإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ ... تَنْصِبُهِ إِنْ ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِفْ وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {رَسُولًا}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر، معطوف على وحيًّا تقديره: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًّا، أو إرسال رسول، فكأنه قال إلا موحيًا، أو مرسلًا رسولًا، أو إلا أن يوحي، أو {يُرْسِلَ} {رَسُولًا}، {فَيُوحِيَ}: الفاء: عاطفة، {يُوحِيَ}: فعل مضارع، معطوف على يرسل، وفاعله ضمير يعود على {رَسُولًا}، {بِإِذْنِهِ}: متعلق بـ {يوُحِى}، {ما}: مفعول به، وجملة {يَشَاءُ}: صلة لـ {ما} الموصولة {إِنَّهُ عَلِيٌّ}: ناصب واسمه وخبره. {حَكِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}. {وَكَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية، والكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى غيرك، {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ} متعلق بـ {أَوْحَيْنَا}، {رُوحًا}: مفعول به. {مِنْ أَمْرِنَا}: نعت لـ {رُوحًا}. وقيل: حال، و {مِنْ} تبعيضية؛ أي: حال كون هذا الروح، وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك؛ لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن، والجملة الفعلية مستأنفة. {ما}: نافية. {كُنْتَ} فعل ناقص واسمه، والجملة حال من كاف إليك، {ما}: استفهامية معلقة لـ {تَدْرِي} عن العمل، في محل رفع مبتدأ، و {الْكِتَابُ}: خبر، والجملة الاسمية في محل نصب، سدت مسد مفعولي {تَدْرِي}، {وَلَا الْإِيمَانُ}: عطف على {الْكِتَابُ}. {وَلَكِنْ} {الواو}: حالية، أو عاطفة، {لَكِنْ} حرف استدراك مهمل، {جَعَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {نُورًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من {الْكِتَابُ}، أو معطوفة على جملة {كَانَ}،

{نَهْدِي} فعل مضارع، وفاعل مستتر، {بِهِ} متعلق بـ {نَهْدِي}. {مَنْ}: مفعول به، وجملة {نَشَاءُ}: صلة {مَنْ} الموصولة، {مِنْ عِبَادِنَا} حال من {مَنْ} الموصولة، أو من عائده المحذوف، وجملة {نَهْدِي} في محل النصب، صفة لـ {نُورًا}. {وَإِنَّكَ} {الواو} استئنافية {إنك} ناصب واسمه، {لَتَهْدِي} اللام: حرف ابتداء، وجملة {تَهْدِي}: في محل الرفع خبر {إِنّ}، وجملة {إِنّ} مستأنفة. {إِلَى صِرَاطٍ} متعلق بـ {تهدي}. {مُسْتَقِيمٍ} صفة لـ {صِرَاطٍ}: {صِرَاطِ اللَّهِ} بدل من {صِرَاطٍ} الأول، بدل معرفة من نكرة {الَّذِي}: نعت للجلالة، {لَهُ}: خبر مقدم، {مَا}: مبتدأ مؤخر، {فِي السَّمَاوَاتِ} صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، والجملة الاسمية صلة الذي {أَلَا}: حرف استفتاح، {إِلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {تَصِيرُ}. {الْأُمُورُ}: فاعل. والمراد بهذا المضارع الديمومة، كقولك: زيد يعطي ويمنع؛ أي: من شأنه ذلك، وليس المراد حقيقة المستقبل؛ لأن الأمور منوطة به تعالى كل وقت. التصريف ومفردات اللغة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ} والسيئة: فعيلة من السوء، وهو القبيح. {وَلَمَنِ انْتَصَرَ}؛ أي: سعي في نصر نفسه بجهده. {مِنْ سَبِيلٍ}؛ أي: من عقاب وعتاب، والسبيل في الأصل: الطريق الذي فيه سهولة. {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}؛ أي: لمن الأمور المشكورة عند الله تعالى، والأفعال التي ندب إليها عباده، ولم يرخص بالتهاون فيها من العزم، والعزم: عقد القلب على إمضاء الأمر. والعزيمة: الرأي الجد كما في "المفردات" {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ}؛ أي: أجيبوا، فالسين والتاء فيه زائدتان. {لَا مَرَدَّ لَهُ}؛ أي: لا يرده بعدما حكم به. أصله: مردد بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قيل المراد به: العضو، وهو العين، وقيل المراد به: المصدر، يقال: طرفت عينه تطرف طرفًا؛ أي: ينظرون نظرًا خفيًا. وفي "المصباح": طرف البصر طرفًا، من باب ضرب تحرك، وطرف العين نظرها، ويطلق على الواحد وغيره, لأنه مصدر اهـ، وفي "المختار": وطرف بصره من باب ضرب، إذا أطبق

أحد جفنيه على الآخر، والمرة منه طرفة، يقال: أسرع من طرفة العين {خَفِيٍّ} أصله: خفيي بوزن فعيل، أدغمت ياء فعيل في لام الكلمة {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} من الخسران، وهو انتقاص رأس المال، وينسب إلى الإنسان، فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، كما سبق. {وَأَهْلِيهِمْ} قال ابن الملك في "شرح المشارق": الأهل يفسر بالأزواج والأولاد. وبالعبيد والإماء، وبالأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع. {مِنْ مَلْجَإٍ}؛ أي: ملاذ تلجؤون إليه، ومهرب ومفر تفرون إليه، وفي "المصباح": لجأ إلى الحصين وغيره، لجأ من بابي نفع وتعب، والتجأ إليه اعتصم به، فالحصن ملجأ بفتح الميم والجيم، وألجأته إليه ولجأته بالهمزة والتضعيف، اضطررته إليه وأكرهته، اهـ. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الملك بالضم: الاستيلاء على الشيء والتمكن من التصرف فيه، وفي "المصباح": وملك على الناس أمرهم ملكًا، من باب ضرب، إذا تولى السلطنة، فهو ملك، والاسم الملك بضم الميم اهـ. {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} قال الراغب: كفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها. وأعظم الكفر: جحودهم الوحدانية والنبوة، فمعنى كفور: نسّاء للنعمة، ذكّار للبلية. {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ} والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض، وفي "المختار": وهب له شيئًا يهبه وهبًا، بوزن وضع يضع وضعًا، ووهَبًا أيضًا بفتح الهاء، وهبة بكسر الهاء، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء فيهما، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة اهـ. فأصل يهب: يوهب؛ لأنه حذفت فاؤه فوزنه يعل. {إِنَاثًا} جمع أنثى خلاف الذكر. {الذُّكُورَ} جمع ذكر، وهو ضد الأنثى، والخنثى: إنسان له ذكر وفرج، وأول ظهوره في الجاهلية الأولى، زمن عامر بن الظرب ملك العرب، كما سبق. {ذُكْرَانًا} جمع ذكر أيضًا. {عَقِيمًا} وفي "المصباح": العقيم الذي لا يولد له، يطلق على الذكر والأنثى، وفي "القاموس" العقم بالضم: هرمة تقع في الرحم، فلا تقبل الولد، يقال: عقمت كفرح ونصر وكرم عقمًا وعقمًا، ويضم، وعقمها الله تعقيمًا وأعقمها، ورحم عقيمة وامرأة معقومة، وامرأة عقيم، والجمع عقائم وعقم، ورجل عقيم كأمير لا يولد له، والجمع عقماء وعقام، اهـ. وفي "الروح": وأصل العقم:

اليبس المانع من قبول الأثر، والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل، فالعقم كما يقع صفة للمرأة، يقع صفة للرجل، بأن يكون في مائه ما يمنع العلوق من الأعذار. {إِلَّا وَحْيًا} قال الراغب: ومعنى الوحي: الإشارة السريعة، يقال: أمر وحي؛ أي: سريع، ثم اختص في عرف اللغة بالأمر الإلهي الملقى إلى الأنبياء، وفي "المصباح": الوحي: الإشارة، والرسالة، والكتابة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه وحي كيف كان، قاله ابن فارس، وهو مصدر وحى إليه يحي من باب وعى، وأوحى إليه بالألف مثله، وجمعه وحي، أصله: وحوي بوزن فعول، مثل: فلوس، وبعض العرب تقول: وحيت إليه، ووحيت له، وأوحيت إليه وله، ثم غلب استعمال الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى، ولغة القرآن الفاشية أوحى بالألف، اهـ. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والصراط من السبيل مالا التواء فيه؛ أي: لا اعوجاج بل يكون على سبيل القصد. {تَصِيرُ الْأُمُورُ} أصله: تصير بوزن تفعل نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس المزاوجة اللفظي في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}؛ لأن إطلاق السيئة على الثانية، مع أنها جزاء وقصاص مشروع مأذون فيه، وكل مأذون حسن لا سيء لقصد المزاوجة، ويعبر عنها بعضهم بالمشاكلة، ومثله قوله تعالى في سورة البقرة: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فسمى جزاء الاعتداء اعتداء، مع أنه مأذون فيه، ليكون في نظم الكلام مزاوجة؛ أي: مشاكلة. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لما يرون العذاب لاستقباله.

ومنها: التكرار في قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} اهتمامًا بشأن الصبر وترغيبًا فيه، والصبر هنا: هو الإصلاح المتقدم فأعيد هنا، وعبر عنه بالصبر؛ لأنه من شأن أولي العزم، وأشار إلى أن العفو المحمود ما نشأ عن التحمل، لا عن العجز، اهـ "شهاب". ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}؛ لأن مقتضى الظاهر: أن يقال: ألا إنهم في عذاب مقيم، تسجيلًا عليهم باسم الظلم. ومنها: تلوين للكلام، وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة، وتوجيه له إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}؛ أي: فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه، فما أرسلناك رقيبًا. ومنها: تصدير الشرطية الأولى بإذا المفيدة للتحقيق، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة في قوله: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} للتنبيه على أن إيصال النعمة أمر محقق الوجود كثير الوقوع، وأنه مقتضى الذات، كما أن تصدير الشرطية الثانية في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بـ {إن} المفيدة للشك، مع إسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم، للإيذان بندرة وقوعها، وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، وفيه أيضًا المجاز العقلي، حيث أسند هذه الخصلة إلى الجنس والكل، مع كونها من صفات المجرمين فقط، نظرًا لغلبتهم فيما بين الأفراد، يعني: أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده، لعلاقة الملابسة. ومنها: التقسيم في قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}. ومنها: الطباق بين الذكور والإناث.

ومنها: التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}؛ لأنه حقيقة فيما يحيي به الروح، فاستعير للقرآن بجامع حصول الحياة بكل منهما، وإن كانت مختلفة. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَلَا الْإِيمَانُ}؛ لأنه كناية عن الأحكام المشروعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) كان الفراغ من تفسير هذه السورة الكريمة، في تاريخ: 25/ 11/ 1414 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، في عصر يوم الجمعة، بعد صلاته، قبيل الغروب، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، تسليمًا كثيرًا.

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - إنزال الوحي على رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - اختلاف الأديان ضروري للبشر. 3 - أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل. 4 - اختلاف المختلفين في الأديان بغي وعدوان منهم. 5 - إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن قامت الأدلة على صدقه. 6 - استعجال المشركين لمجيء الساعة، وإشفاق المؤمنين منها. 7 - من يعمل للدنيا يؤت منها، وما له حظ في الآخرة، ومن يعمل للآخرة، يوفقه الله للخير. 8 - ينزل الله الرزق بقدر، بحسب ما يرى من المصلحة. 9 - من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض، وجرى السفن في البحار. 10 - متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا. 11 - جزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله سبحانه. 12 - تمني المشركين يوم القيامة العودة إلى الدنيا، حين يرون العذاب. 13 - نظر المشركين إلى النار بطرف خفي، إذا عرضوا عليها خاشعين من الذل. 14 - ليس على الرسول إلا البلاغ. 15 - يهب الله سبحانه لمن يشاء الإناث، ولمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا. 16 - أقسام الوحي إلى البشر.

17 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي، ما كان يدري شيئًا من الشرائع. 18 - هدايته إلى صراط مستقيم. والله أعلم * * *

سورة الزخرف

سورة الزخرف سورة الزخرف: قال القرطبي: هي مكية بالإجماع، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة حم الزخرف بمكة، قال مقاتل: إلا قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} يعني: فإنها نزلت بالمدينة. وآياتها (¬1): تسع وثمانون آية، وكلماتها: ثمان مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف وأربع مئة حرف. التسمية: سميت سورة الزخرف، لما فيها من التمثيل الرائع، لمتاع الدنيا الزائل، وبريقها الخادع، بالزخرف اللامع الذي ينخدع به الكثيرون، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. ولهذا يعطيها الله تعالى للأبرار والفجار، وينالها الأخيار والأشرار، أما الآخرة فلا يمنحها الله تعالى إلا لعباده المتقين، فالدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء. ووجه مناسبتها لما قبلها (¬2): أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك. والحاصل: أن مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين. الأول: تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة، في وصف القرآن الكريم، وبيان مصدره، وهو الوحي الإلهي. الثاني: التشابه في إيراد الأدلة، القاطعة على وجود الله عَزَّ وَجَلَّ ووحدانيته، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها، وأهوال النار التي تعرض لها الكفار، ومقارنته بنعيم الجنة، وإعداده للمؤمنين المتقين، انتهى من "التفسير المنير". ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

فضلها: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الزخرف، كان ممن يقال لهم يوم القيامة: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ولكن فيه مقال. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم (¬1): سورة الزخرف جميعها محكم غير آيتين: أولاهما: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} (الآية 83) نسخت بآية السيف. والثانية: قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} (الآية 89) نسخت أيضًا بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}. المناسبة قد تقدم آنفًا بيان المناسبة بين السورتين, بأن هذه بدئت بذكر الكتاب المبين، الذي فيه بيان الصراط المستقيم، الذي ختمت به السورة السابقة.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن المشركين منهمكون في كفرهم، وإعراضهم عما جاء به القرآن، من توحيد الله تعالى والبعث .. أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون، من سمائه وأرضه ليقولن الله، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأصنام والأوثان، ثم ذكر سبحانه وتعالى جليل أوصافه، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشًا، وجعل فيها طرقًا لتهتدوا بها في سيركم، ونزل من السماء ماء بقدر الحاجة، يكفي زرع النبات وسقي الحيوان، وخلق أصناف المخلوقات، من حيوان ونبات، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها، وتشكروا الله على ما آتاكم، وتقولوا لولا لطف الله بنا ما كنا لذلك بمطيقين، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون، فيجازي كل نفس بما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنهم يعترفون بالألوهية، وأنه خالق السموات والأرض .. أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض، يصفونه بصفات المخلوقين، المنافية لكونه خالقًا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له، ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران، وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفي الأولاد، وما لو بشر به أحدهم اسودَّ وجهًا وامتلأ غيظًا، ومن يتربى في الزينة، وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة، ولا يؤيد رأيًا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم في جعلهم الملائكة إناثًا، وزاد في الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك، ثم توعدهم على هذه المقالة، وأنه يوم القيامة يجازيهم بها. ثم حكي عنهم شبهة أخرى، قالوا لو شاء الله أن لا نعبد الملائكة ما عبدناها, لكنه شاء عبادتها, لأنها هي المتحققة فعلًا، فتكون حسنة، ويمتنع

[1]

النهي عنها، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هي ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دخل لها في حسن أو قبح، وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي .. نفى أن يكون لهم دليل نقلي على صحة ما يدعون، ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء، دون حجة ولا برهان، وهم ليسوا ببدع في ذلك، فكثير من الأمم قبلهم، قالوا مثل مقالهم، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السويّ، فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذة بالقذة، فكان عاقبة أمرهم أن حل بهم نكالنا، كما يشاهدون ويرون من آثارهم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ...} الآيات، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من المنافقين: إن الله صاهر الجن فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ...} الآيات. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)} (¬2) كونه اسمًا للقرآن؛ أي: هذا القرآن يسمى بـ {حم}، أو اسمًا للسورة؛ أي: هذه السورة تسمى بـ {حم}، وقيل: {حم} إشارة إلى الاسمين الجليلين من أسمائه تعالى، وهما: الحنان والمنان. فالحنان: هو الذي يقبل على من أعرض عنه. وفي "القاموس": الحنان كشداد، اسم لله تعالى ومعناه: الرحيم انتهى. والمنان: هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، كما في "القاموس": المنان من أسماء الله تعالى، المعطي ابتداء، انتهى. وقد جعل في داخل الكعبة ثلاث اسطوانات. الأولى: اسطوانة الحنان. والثانية: اسطوانة المنان، والثالثة: اسطوانة الديان، وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيمًا لها، كما قيل: بيت الله، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان بتصرف.

[2]

وناقة الله، فأشار بهذه الأسماء الثلاثة، حيث جعلت في داخل الكعبة، المشار بها إلى الذات الأحدية، إلى أن مقتضى الذات هو الرحمة، والعطاء في الدنيا، والمجازاة والمكافأة في الآخرة، وبرحمته أنزل القرآن، 2 - كما قال مقسمًا به: {وَالْكِتَابِ} بالجر على أنه مقسم به، إما ابتداء أو عطفًا على {حم (1)} على تقدير كونه مجرورًا بإضمار باء القسم، على أن مدار العطف المغايرة في العنوان، ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد مضمون الجملة القسمية، ومعنى إقسام الله بالأشياء: استشهاده بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، اهـ "بيضاوي". {الْمُبِينِ}؛ أي: البين لمن أنزل عليهم، لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم، فيكون من أبان بمعنى بان؛ أي: ظهر، أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة، فيكون من أبان بمعنى أظهر وأوضح. وقال سهل: بين فيه الهدى من الضلالة، والخير من الشر، وبين سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، وقال بعضهم (¬1): المراد بالكتاب: الخط والكتابة، يقال: كتبه كتبًا وكتابًا خطه، أقسم به تعظيمًا لنعمته فيه، إذ فيه كثرة المنافع، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط والكتابة، فالمتقدم إذا استنبط علمًا وأثبته في كتاب، وجاء المتأخر وزاد عليه، تكاثرت به الفوائد، يقول الفقير: لعل السبب في حمل الآية على هذا المعنى الغير الظاهر، لزوم اتحاد المقسم به والمقسم عليه، على تقدير حملها على القرآن، وليس بذلك، كما سيأتي، 3 - وجواب القسم قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ}؛ أي: أقسمت لك بالكتاب المبين، إنا صيرنا ذلك الكتاب {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بإنزاله بلغة العرب ولسانها, ولم نصيره أعجميًا بإنزاله بلغة العجم، مع كونه كلامنا وصفتنا قائمة بذاتنا، عرية عن كسوة العربية، منزهة عنها وعن توابعها {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ أي: لكي تفهموا القرآن العربي، وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق، ولتقفوا على ما تضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر، وتعرفوا حق النعمة في ذلك، وتنقطع أعذاركم بالكلية، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

إذ لو أنزلناه بغير لغة العرب ما فهمتموه، فلعل هنا مستعارة لمعنى كي، وهو التعليل، وسببية ما قبلها لما بعدها, لكون حقيقة الترجي والتوقع ممتنعة في حقه تعالى. لكونها مختصة بمن لا يعلم عواقب الأمور. وحاصل معناها: الدلالة على أن الملابسة بالأول لأجل إرادة الثاني، من شبه الإرادة بالترجي، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} في موضع النصب على المفعول له، وإنما سمي {قُرْآنًا}؛ لأنه جعل بعض سوره مقرونًا بآخر. فإن قلت: إن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} يدل على أن القرآن مجعول، والمجعول مخلوق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "القرآن كلام الله غير مخلوق". قلت: المراد بالجعل هنا: تصيير الشيء على حالة دون حالة، وقال بعضهم: أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنًا عربيًا، فالقسم والمقسم عليه من بدائع الأقسام لكونهما من واحد، فالمقسم به ذات القرآن العظيم، والمقسم عليه وصفه، وهو جعله قرآنًا عربيًا، فتغايرا، فكأنه قيل: والقرآن إنه ليس بمجرد كلام مفترى على الله وأساطير، بل هو الذي تولينا إنزاله على لغة العرب، فهذا هو المراد بكونه جوابًا لا مجرد كونه عربيًا، إذ لا يشك فيه. وإنما جعله مقسمًا به إشارة إلى أنه ليس عنده شيء أعظم قدرًا، وأرفع منزلة منه حتى يقسم به، فإن المحب لا يؤثر على محبوبه شيئًا، فأقسم به، ليكون قسمه في غاية الوكادة، وكذا لا أهم من وصفه فيقسم عليه. والمعنى (¬1): أي أقسمت بالكتاب المبين، لطريق الهدى والرشاد، الموضح لما يحتاج إليه البشر في دنياهم ودينهم، ليفوزوا بالسعادة على أننا جعلناه قرآنًا عربيًا، إذ كنتم أيها المنذرون به عربًا لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ، ولتتدبروا معانيه، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا: نحن عرب، وهذا كلام أعجمي لا نفقه شيئًا مما فيه. 4 - ثم بين شرفه في الملأ الأعلى تعظيمًا له، وليطيعه أهل الأرض، فقال: ¬

_ (¬1) المراغي بتصرف.

[5]

{وَإِنَّهُ}؛ أي: وان ذلك الكتاب يعني: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ وهو خبر أول لـ {إن}، والجملة معطوفة على جواب القسم، وسمي (¬1) اللوح المحفوظ أم الكتاب؛ لأنه أصل الكتب السماوية، فإن جميعها مثبتة فيه على ما هي عليه عند الأنبياء، ومأخوذة مستنسخة منه. وقوله: {لَدَيْنَا} بدل من الجار والمجرور قبله، أو حال من الضمير المستكن فيه. والمعنى: وإن هذا القرآن مثبت في اللوح المحفوظ، ومحفوظ لدينا، أو حال كونه محفوظًا لدينا عن تبديل وتغيير. وقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} خبران آخران لـ {إن} أيضًا؛ أي: وإن هذا الكتاب لعليّ؛ أي: لرفيع القدر من بين الكتب السماوية شريف حكيم؛ أي: ذو حكمة بالغة، أو محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، أو محكم لا يتطرق إليه نسخ بكتاب آخر، ولا تبديل. والمعنى (¬2): أي وإن هذا الكتاب في علمه الأزلي رفيع الشأن، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر، وهدايتهم إلى سبيل الحق، ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}. وقرأ الجمهور: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} بضم الهمزة، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي بكسرها، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق غفلة منه، وقال ابن جريج: المراد بقوله: {وَإِنَّهُ}: أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وقال قتادة: أخبر عن منزلته وشرفه وفضله؛ أي: إن كذبتم به يا أهل مكة، فإنه عندنا شريف رفيع، محكم من الباطل، انتهى. 5 - وبعدما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم، وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه، ويؤمنوا به، ويعملوا بموجبه، عقب ذلك بإنكار أن يكون بخلافه، فقال: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ} والهمزة (¬3) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير؛ أي: أنهملكم يا أهل مكة إهمالًا، فننحي عنكم الذكر والقرآن، ونبعده عنكم، ونمسك عن إنزاله لكم. والمعنى: أنمسك عن إنزال ما لم ينزل منه، ونرفع ونزيل ما نزل منه، ونترك عنكم الأمر والنهي والوعد والوعيد، مأخوذ من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض؛ أي: طردها عنه. والمراد بالغرائب: البعران الأجانب؛ لأن الإبل إذا وردت الماء ودخلت فيها ناقة غريبة من غيرها ذبت وطردت عن الحوض، وقوله: {صَفْحًا} مفعول لأجله؛ أي: أفنضرب عنكم الذكر ونرفعه صفحًا وإعراضًا عنكم، أو حال من فاعل نضرب، أي: نضرب عنكم الذكر صافحين؛ أي: معرضين عنكم، أو مصدر معنوي لنضرب، فإن تنحية الذكر عنهم إعراض؛ أي: أفنعرض عنكم بترك إنزال الذكر صفحًا وإعراضًا لأجل {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}؛ أي: منهمكين في الإسراف، مجاوزين الحد في المعاصي، مصرين عليها على معنى: أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة، وتبقوا في العذاب الخالد، لكنا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وإنزال الكتاب المبين. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا, ولكن عاد بعائدته ورحمته، فكرره عليهم عشرين سنة، أو ما شاء الله سبحانه. وقرأ (¬1) نافع وحمزة والكسائي {إن كنتم قومًا مسرفين} بكسر الهمزة على أنها الشرطية. والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، وقد تشكل هذه القراءة بأن إسرافهم كان متحققًا. فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق، أو على المتحقق الذي انبهم زمانه. وقرأ الجمهور {أَنْ كُنْتُمْ} بفتح الهمزة؛ أي: من أجل أن كنتم، واختار أبو عبيد قراءة الفتح لما ذكر. وقرأ زيد بن علي {إذ كنتم} بالذال مكان النون. والمعنى (¬2): أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن لانهماككم في الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه، كلا لا نفعل ذلك رحمةً بكم، وقد كانت حالكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[6]

تدعو إلى تخليتكم، وما تريدون حتى تموتوا على الضلال، أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي من قدر له الهداية، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة. 6 - ثم قال مسليًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - على تكذيب قومه، آمرًا له بالصبر، مهددًا للمشركين، منذرًا لهم بشديد العقاب: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)} {كَمْ} خبرية (¬1) بمعنى عدد كثير في موضع النصب، على أنه مفعول مقدم لأرسلنا، و {مِنْ نَبِيٍّ} تمييز و {فِي الْأَوَّلِينَ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، أو بمحذوف مجرور على أنه صفة لنبي. والمعنى: كثيرًا من الأنبياء أرسلنا في الأمم الأولين والقرون الماضين. 7 - {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ} ضمير يأتيهم إلى الأولين، وهو حكاية حال ماضية مستمرة، كما سيأتي؛ لأن {مَا} إنما تدخل على مضارع في معنى الحال، أو على ماض قريب منها؛ أي: وما أتى وجاء أولئك الأولين نبي من الأنبياء والمرسلين {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}؛ أي إلا كانوا يستهزؤون بذلك النبي ويكذبونه؛ أي: إلا كانوا مستمرين على التكذيب. يعني: أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق، هو التكذيب والاستهزاء، كما استهزأ قومك بك، فلا ينبغي لك أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم إياك؛ لأن المصيبة إذا عمت خفت 8 - {فَأَهْلَكْنَا} واستأصلنا بسبب تكذيبهم أنبياءهم قومًا {أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا}؛ أي: أشد بطشًا وأخذًا وصولة، من هؤلاء القوم المسرفين. وهم قريش؛ أي: أهلكنا قومًا أشد قوة وجلدًا، وأكثر عُددًا وعَددًا، من هؤلاء القوم الذين كذبوك، بسبب تكذيبهم أنبياءهم، و {بَطْشًا} تمييز، وهو الظاهر، أو حال من فاعل {أَهْلَكْنَا}؛ أي: باطشين. والبطش: تناول الشيء بصولة، والأخذ بشدة، كما سيأتي في مبحث المفردات. وهذا وعد له - صلى الله عليه وسلم - ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين، ووصفهم بأشدية البطش؛ لإثبات حكمهم لهؤلاء المشركين بطريق ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأولوية. والمعنى: أي (¬1) وكثيرًا ما أرسلنا في الأمم الغابرة رسلًا قبلك، كما أرسلناك إلى قومك قريش، وكلما أتى نبي أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق، استهزؤوا به، وسخروا منه، كما يفعل قومك بك، فقومك ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت بباع في الرسل، فلا تأس على ما تجد منهم، ولا يشقن ذلك عليك، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم، واحتذوا حذوهم، ونهجوا نهجهم حذو القذة بالقذة، وكن كما كان أولو العزم من الرسل، واصبر كما صبروا على ما أوذوا في سبيل الله. ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله، تسلية لرسوله وتحذيرًا لهم، فقال: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا}؛ أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم، وقد كانوا أشد بطشًا من قومك، وأشد قوة، فأحرى بهؤلاء أن لا يعجزونا، ونحو الآية: قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} الآية. {وَمَضَى}؛ أي: سلف، وسبق في القرآن غير مرة {مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: ذكر صفتهم وبيان قصتهم وخبرهم وشديد عقوبتهم، التي حقها أن تسير مسير المثل، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم. وفي هذا كما مر، تهديد شديد؛ لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به، هلكوا مثلهم، وفي الآية (¬2) إشارة إلى كمال ظلومية نفس الإنسان وجهوليته، وكمال حلم الله سبحانه وكرمه، وفضل ربوبيته، بأنهم وإن بالغوا في إظهار أوصافهم الذميمة، وأخلاقهم اللئيمة، بالاستهزاء من الأنبياء والمرسلين، والاستخفاف بهم إلى أن كذبوهم، وسعوا في قتلهم من أهل الأولين والآخرين، وكذلك يفعل أهل كل زمان مع ورثة الأنبياء، من العلماء العاملين الناصحين لهم، والداعين إلى الله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[9]

والهادين لهم، فالله تعالى لم يقطع عنهم مراحم فضله وكرمه، وكان يبعث إليهم الأنبياء، وينزل عليهم الكتب، ويدعوهم إلى جنابه، وينعم عليهم بعفوه وغفرانه، ومن غاية إفضاله وإحسانه تأديبًا وترهيبًا بعباده، أهلك بعض المتمردين المتمادين في الباطل، ليعتبر المتأخرون من المتقدمين. والخلاصة: أي وقد مضت سنتنا في المكذبين لرسلهم من قبلكم، ورأيتم ما حل بهم، فاحذروا أن يحل بكم مئل ما حل بهم، ونحو الآية: قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}. وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}. 9 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لئن سالت يا محمد هؤلاء الكفار من قومك {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية {لَيَقُولُنَّ}؛ أي: ليقولن هؤلاء المشركون من قومك اعترافًا بالصانع، وإقرارًا بربوبيته {خَلَقَهُنَّ}؛ أي: خلق هذه الأجرام المذكورة، وأوجدها الخالق {الْعَزِيزُ} في حكمه وملكه {الْعَلِيمُ} بأحوال خلقه، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم؛ لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله، وجعلوه شريكًا له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات، وهي الأصنام، فجعلوها شركاء لله سبحانه. قال في "الإرشاد": ليسندن خلقها، وينسبنه إلى من هذا شأنه في الحقيقة، وفي نفس الأمر، لا أنهم يعبرون عنه بهذا العنوان، وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم. وفي "فتح الرحمن": ومقتضى جواب قريش أن يقولوا: خلقهن الله، فلما ذكر الله تعالى المعنى، جاءت العبارة عن الله بالعزيز العلم، ليكون ذلك توطئة لما عدده بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها، وقطعها عن الكلام الذي حكي معناه عن قريش، وهو قوله: الذي ... إلخ. والمعنى (¬1): أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك: من ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

خلق السموات والأرض؟ لأجابوك بقولهم: خلقهن العزيز في سلطانه، وانتقامه، من أعدائه، العلم بهن، وما فيهن، لا يخفى عليه شيء من ذلك. والخلاصة: أنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه، وهم مع هذا، يعبدون معه تعالى غيره من الأصنام والأوثان. 10 - ثم وصف سبحانه نفسه، بما يدل على عظيم نعمته على عباده، وكمال قدرته في مخلوقاته، فقال: {الَّذِي جَعَلَ} وصير {لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}؛ أي: فراشًا وبساطًا، وهذا كلام مستأنف غير متصل بما قبله، ولو كان متصلًا بما قبله من جملة مقول الكفار .. لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مهادًا. وقرأ (¬1) الجمهور: {مِهَدًا}. وقرأ الكوفيون {مهدا}. والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ، لقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}؛ أي: بسطها لكم تستقرون فيها، وفي "بحر العلوم" جعل الأرض مسكنًا لكم تقعدون عليها، وتنامون، وتتقلبون كما يتقلب أحدكم على فراشه ومهاده. وفي "الخازن": معناه: جعلها واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها, ولما كان المهد موضع راحة الصبي، شبهها به، وسمى الأرض مهادًا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق، انتهى. {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا}؛ أي: في الأرض {سُبُلًا}؛ أي: طرقًا تسلكونها في أسفاركم، إلى حيث تريدون، لقضاء حوائج الدين والدنيا، وقيل: معايش تعيشون بها {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بها، وتصلون إلى مقاصدكم ومنافعكم، أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي. والمعنى (¬2): والعزيز العليم هو الإله الذي مهد لكم الأرض، وجعلها لكم وطاءًا تطؤونها بأقدامكم. وتمشون عليها بأرجلكم، وجعل لكم فيها طرقًا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم. والخلاصة: أن الخلق كلهم يتربون على الأرض، وهي موضع راحتهم كما يربي الصبي على مهده. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[11]

11 - {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ أي: وهو الإله الذي نزل من السماء ماء {بِقَدَرٍ}؛ أي: بمقدار ووزن ينفع العباد والبلاد ولا يضرهم؛ أي: ينزله بقدر الحاجة، وحسبما تقتضيه المصلحة، ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زروعكم، ويهدم منازلكم، ويهلككم بالغرق كما في الطوفان، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة، والتقتير أخرى. وهذه (¬1) عادة الله سبحانه في عامة الأوقات، وقد ينزل بحسب الحكمة ما يحصل به السيول فيضرهم، وذلك في عشرين أو ثلاثين سنة مرة ابتلاء منه لعباده، وأخذًا لهم بما اقترفوا كما جرب ذلك {فَأَنْشَرْنَا بِهِ}؛ أي: فأحيينا بذلك الماء {بَلْدَةً مَيْتًا}؛ أي: أرضًا مقفرة من النبات والنماء، خالية منه بالكلية، والإنشار: إحياء الميت، شبه زوال النماء عنها بزوال الحياة عن البدن، وتذكير ميتا؛ لأن البلدة في معنى البلد، أو المكان، أو الفضاء. وقال سعدي المفتي: لا يبعد، والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلدة، وتذكير الميت إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره كما سيأتي في مبحث البلاغة، وميتًا مخففًا من الميت مشددًا، قرأ الجمهور (¬2): ميقال بالتخفيف. وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الإحياء الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض {تُخْرَجُونَ} من قبوركم، وتبعثون أحياء، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، فتشبيه إحيائهم بإحياء البلدة الميت، كما يدل على قدرة الله تعالى وحكمته مطلقًا، فكذلك يدل على قدرته على القيامة والبعث. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث لتقويم سند الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[12]

وقرأ الجمهور (¬1): {تُخْرَجُونَ} مبنيًا للمفعول، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وعبد الله بن جبير المصبح وعيسى وابن عامر والأخوان حمزة والكسائي: {تُخْرَجُونَ} مبنيًا للفاعل. والمعنى: أي (¬2) وهو الإله الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة، فلا يجعله كثيرًا حتى لا يكون عذابًا، كالطوفان الذي أنزل على قوم نوح، ولا قليلًا لا يكفي النبات والزرع، لئلا تهلكوا جوعًا، فتحي به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر، وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء 12 - {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}؛ أي: خلق أصناف المخلوقات بأسرها، كما قال: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} لا يشذ شيء منها عن إيجاده واختراعه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الأزواج: الضروب والأنواع، كالحلو والحامض، والأبيض والأسو د. والذكر والأنثى، وقيل: كل ما سوى الله فهو زوج كفوق وتحت، ويمين وشمال، وقدام وخلف، وماض ومستقبل، وذات وصفات، وأرض وسماء، وبر وبحر، وشمس وقمر، وليل ونهار، وصيف وشتاء، وجنة ونار إلى غير ذلك مما لا يحصى، وكونها أزواجًا يدل على أنها ممكنة الوجود، وأن محدثها فرد منزه عن المقابل والمعارض {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ}؛ أي: من السفن الجارية في البحر {وَالْأَنْعَامِ}؛ أي: من الإبل والدواب، أعني: الخيل والبغال والحمير {مَا تَرْكَبُونَ}؛ أي: ما تركبونه في البحر والبر على تغليب إحدى اعتباري الفعل لقوته على الآخر، فإن ركب يعدى إلى الأنعام بنفسه، يقال: ركبت الدابة وإلى الفلك بواسطة حرف الجر، يقال: ركبت في الفلك، وتقديم البيان على المبين للمحافظة على الفاصلة النونية. وتقديم الفلك على الأنعام, لأن الفلك أدل دليل على القدرة الباهرة، والحكمة البالغة. والمعنى: أي وهو الإله الذي خلق سائر الأصناف، مما تنبت الأرض من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[13]

نبات، وأشجار، وثمار، وأزاهير، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها، وجعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار، إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم، ومن الأنعام ما تركبونه في البر، كالإبل والخيل والبغال والحمير، ومما سَيَجِدُّ من وسائل المواصلات، وطرق النقلة برًا وبحرًا، كما جاء في سورة النحل، من قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} من الباخرة، والطائرة، والسيارة إلى غير ذلك. 13 - {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}؛ أي: لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام، والظهور للأنعام حقيقة لا للفلك، فدل على تغليب الأنعام على الفلك، وإيراد لفظ ظهور بصيغة الجمع، مع أن ما أضيف إليه مفرد، نظرًا للمعنى؛ لأن مرجع الضمير جمع في المعنى، وإن كان مفردًا في اللفظ {ثُمَّ تَذْكُرُوا} بقلوبكم {نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ} وارتفعتم {عَلَيْهِ}؛ أي: على ظهر ما تركبونه. والمراد: الذكر بالقلوب؛ لأنه هو الأصل، وله الاعتبار، فقد ورد "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، بل إلى قلوبكم ونياتكم"، وبه يظهر وجه إيثار تذكروا على تحمدوا. والمعنى: ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استعليتم عليه، معترفين بها مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم {وَتَقُولُوا} متعجبين من ذلك {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ} وذلل {لَنَا هَذَا} المركوب، وقرأ علي بن أبي طالب {سبحان من سخر لنا هذا} {وَمَا كُنَّا لَهُ}؛ أي: لهذا المركوب {مُقْرِنِينَ}؛ أي: مطيقين بتذليلها، وقرىء {مقترنين} اسم فاعل من اقترن، يعني: ليس عندنا من القوة والطاقة، أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها، فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته، وهذا من (¬1) تمام ذكر نعمته تعالى، إذ بدون اعتراف المنعم عليه، بالعجز عن تحصيل النعمة، لا يعرف قدرها، ولا حق المنعم بها 14 - {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا} ومالك أمرنا، لا إلى غيره {لَمُنْقَلِبُونَ}؛ أي: راجعون بالموت، فيجازي كل نفس بما عملت، فاستعدوا لهذا اليوم، ولا تغفلوا عن ذكره في حلكم وترحالكم ¬

_ (¬1) روح البيان.

يوم ظعنكم وإقامتكم، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة، وفيه إقرار بالرجوع إلى الله بالبعث، لأن الراكب في مظنة الهلاك بالغرق إذا ركب الفلك، وبعثور الدابة، إذ ركوبها أمر فيه خطر، ولا تؤمن السلامة فيه. وجاء في الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع رجله في الركاب قال: "بسم الله"، فهذا استوى على الدابة قال: "الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا" إلى قوله: "لمنقلبون"، وكبر ثلاثًا، وهلل ثلاثًا. وقالوا: إذا ركب في السفينة، أو الباخرة، أو الطائرة، أو السيارة قال {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}. ويقال عند النزول منها: "اللهم أنزلنا منزلًا مباركًا، وأنت خير المنزلين"، كما يدل عليه قصة ركوب نوح عليه السلام السفينة، ونزوله منها. ومعنى الآية (¬1): أي لكي تستووا، على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام، ثم تذكروا نعمة ربكم، الذي أنعم بها عليكم، فتعظموه وتمجدوه، وتقولوا تنزيهًا له عما يصفه المشركون: سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه، وما كنا لولا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك، فالأنعام مع قوتها ذللها للإنسان، ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد، ولولا ذلك ما استطاع الانتفاع بها، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس بن مرداس، فقال في وصف الجمل: وَتَضْرِبُهُ الوَليْدة بالهَرَاوى ... فلا غيرٌ لَدَيْهِ وَلَا نَكِيْرُ واعلم: أنه سبحانه وتعالي، عين لنا ذكرًا خاصًا حين ركوب السفينة، وهو قوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}، وذكرًا آخر حين ركوب الأنعام، وهو قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا}، وذكرًا ثالثًا حين دخول المنازل، وهو قوله: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[15]

وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر ركب راحلته، ثم كبر ثلاثًا، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. قال القرطبي: علمنا (¬1) سبحانه وتعالى ما نقول، إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، فكم من راكب دابة عثرت به، أو شمست، أو تقحمت (¬2) أو طاح عن ظهرها، فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور، واتصالًا بسبب من أسباب التلف، أمر أن لا ينسى عند اتصاله به موته، وأنه هالك لا محالة، فمنقلب إلى الله عز وجل، غير منفلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه، حتى يكون مستعدًا للقاء الله والحذر من أن يكون ركوبه ذلك، من أسباب موته في علم الله، وهو غافل عنه، انتهى. 15 - ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار، الذين تقدم ذكرهم، فقال: {وَجَعَلُوا}؛ أي: وجعل بعض مشركي العرب {لَهُ} سبحانه وتعالى {مِنْ عِبَادِهِ} ومخلوقاته، والمراد بالعباد: الملائكة، وهو حال من {جُزْءًا}؛ أي بنات وإناثًا، والجاعلون (¬3) هم قبائل من العرب قالوا: إن الله صاهر الجن فولدت له الملائكة وقال بعضهم: الآية ردٌّ علي بني مليح حيث قالوا: الملائكة بنات الله ومليح بالحاء المهملة مصغرًا كزبير حي من خزاعة كما في "القاموس" والجعل هنا بمعنى الحكم بالشيء والاعتقاد به قال في "القاموس": الجزء البعض، وأجزأت الأم ولدت الإناث. {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}؛ أي: إناثًا انتهى. وإنما عبر عن الولد بالجزء لأنه بعض أبيه وجزء منه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن فاطمة مني"؛ أي: قطعة منى وقال ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) يقال: تقحم الفرس براكبه إذا ألقاه على وجهه. (¬3) روح البيان.

أيضًا: "فاطمة بضعة مني" والبضعة القطعة والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات ومنه قول الشاعر: إذا اجزأت حرة يومًا فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكار أحيانًا وقد جعل صاحب "الكشاف" تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير وصرح بأنه مكذوب على العرب. ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد، وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ} وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} وقيل: المراد بالجزء هنا: الملائكة، فإنهم جعلوهم أولاد الله سبحانه وتعالى، قاله مجاهد والحسن. ومعنى الآية (¬1): واعتقد المشركون، وحكموا، وأثبتوا له تعالى ولدًا حال كون ذلك الولد من الملائكة الذين هم عباده، فقالوا: الملائكة بنات الله بعد اعترافهم بألسنتهم، واعتقادهم أن خالق السموات والأرض هو الله، فكيف يكون له ولد، والولادة من صفات الأجسام، وهو خالق الأجسام كلها، ففيه تعجب من جهلهم، وتنبيه على قلة عقولهم حيث وصفوه بصفات المخلوقين، وإشارة إلى أن الولد لا يكون عبد أبيه، والملائكة عباد الله فكيف تكون البنات عبادًا، وقيل: الجزء هاهنا بمعنى النصيب، كما في قوله تعالى: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}؛ أي: نصيب. ومعنى الآية: معنى قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} وذلك أنهم جعلوا البنات لله والبنين لأنفسهم كما سيأتي. والحاصل (¬2): أن مقالتهم هذه، أعني قولهم: إن الملائكة بنات الله، تقتضي الكفر من وجهين: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

الأول: كون الخالق جسمًا محدثًا، لمشابهة الولد له، فلا يكون إلهًا ولا خالقًا. والثاني: الاستخفاف به، إذ جعلوا له أضعف نوعي الإنسان وأخسهما. ثم أكد كفرهم بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: إن الكافر، يعني: قائل ذلك {لَكَفُورٌ}؛ أي: لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه {مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره؛ لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله، ولذلك يقولون ما يقولون سبحانه وتعالى عما يصفون. 16 - ثم زاد في الإنكار عليهم والتعجب من حالهم، فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} وأم (¬1) منقطعة، مقدرة ببل الإضرابية، وبالهمزة، على أنها للإنكار والتوبيخ، والتعجب من شأنهم، وتنكير بنات لتربية الحقارة، كما أن تعريف البنين في قوله: {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} لتربية الفخامة، وقدم البنات لكون المنكر عليهم نسبتهن إلى الله تعالى، فكان ذكرهن أهم بالنظر إلى مقصود المقام، والالتفات إلى خطابهم لتأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ، والإصفاء: الإيثار. والمعنى (¬2): بل أأتخذ من خلقه البنات، التي هي أخس الصنفين، واختار لكم البنين، الذين هم أفضلهما على معنى: هبوا أنكم اجترأتم على إضافة جنس الولد إليه سبحانه وتعالى، مع ظهور استحالته وامتناعه، أما كان لكم شيء من العقل، ونبذة من الحياء، حتى اجترأتم على ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه، بخير الصنفين وأعلاهما، وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فإن الإناث كانت أبغض الأولاد عندهم، ولذا وأدوهن، ولو اتخذ لنفسه البنات، وأعطى البنين لعباده، لزم أن يكون حال العبد أكمل، وأفضل من حال الله، ويدفعه بديهة العقل، فما أنتم إلا حمقى جهلاء، ونحو الآية قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} جائرة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[17]

17 - ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم والإنكار عليهم، فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ}؛ أي: أخبر أحد المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله، كبني مليح {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}؛ أي: بولادة ما جعله شبهًا للرحمن، والالتفات هنا إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم، أن يعرض عنهم ويحكي لغيرهم تعجبًا منها، وضرب هنا بمعنى جعل، المتعدي إلى مفعولين، حذف الأول منهما، لا بمعنى بين، ومثلًا بمعنى شبيه، لا بمعنى القصة العجبة، كما في قولهم: ضرب له المثل بكذا. والمعنى: وإذا أخبر أحد المشركين بولادة ما جعله مثلًا للرحمن، وشبيهًا له تعالى، إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويماثله {ظَلَّ} من الظلول بمعنى الصيرورة؛ أي: صار {وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}؛ أي: شديد السواد من سوء ما بشر به، ولذا قيل: من رأى في المنام أن وجهه أسود، ولدت له بنت، ويحتمل أن يكون اسوداد الوجه عبارة عن الكراهة، {وَهُوَ كَظِيمٌ}؛ أي: حزين؛ أي: والحال أنه مملوء من الكرب والكآبة، يقال: رجل كظيم ومكظوم؛ أي: مكروب كما في "القاموس". وقرىء (¬1): {مسود ومسواد} بالرفع، واسم ظل حينئذٍ إما ضمير يعود على أحد، وجملة {وجهه مسود} من المبتدأ والخبر خبرها، وإما وجه فمسود، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو مسود، فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل. والمعنى (¬2): أي وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين، بما جعله مشابهًا للرحمن، وهو الأنثى .. أنف من ذلك، واغتم، وعلته الكآبة من سوء ما بشر به، فصار وجهه متغيرًا، وأضحى ممتلئًا غيظًا، شديد الحزن، كثير الكرب، فكيف تأنفون أنتم من البنات، وتنسبونها إلى الله سبحانه وتعالى. ونحو الآية قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) ¬

_ (¬1) المراح والبيضاوي. (¬2) التفسير المنير.

[18]

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} الآية ورُوي (¬1): أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى، فهجر البيت الذي ولدت فيه، فقالت: مَا لأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِيْنَا ... يَظَلُّ فِيْ الْبَيْتِ الَّذِيْ يَلِينَا غَضْبَانَ أَنْ لَا نَلِدَ الْبَنِيْنَا ... لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا شِيْنَا وَإِنَّمَا نَأُخُذُ مَا أُعْطِيْنَا يقول الفقير: هذه (¬2) صفة المشركين، فإنهم جاهلون بالله، غافلون عن خفي لطفه، تحت جلي قهره، وأما الموحدون فحالهم الاستبشار، بما ورد عن الله أيا كان، إذ لا يفرقون بين أحد من رسله، كما أن الكريم لا يغلق بابه على أحد من الضيفان، والفاني عما سوى الله تعالى ليس له مطلب، وإنما مطلبه ما أراد الله تعالى. 18 - ثم كرر الإنكار وأكده، فقال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري الاستقباحي داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، و {مَن} واقعة على الأنثى، والتنشئة: التربية، والحلية ما يتحلى به الإنسان ويتزين، والتقدير (¬3): أيجترئون ويبلغون الغاية في إساءة الأدب ويجعلون لله تعالى الأنثى التي تنشأ وتربى وتكبر في الحلية والزينة لنقصها، إذ لو كملت في نفسها، لما تكملت بالزينة، وهي أيضًا ناقصة العقل، لا تقدر على إقامة الحجة عند الخصام كما قال {وَهُوَ}؛ أي: ذلك المنشأ في "الحلية" ذكر الضمير باعتبار لفظ من؛ أي: وهو مع ما ذكر من نقص ذاتها {فِي الْخِصَامِ}؛ أي: مع من يخاصمه ويجادله؛ أي: في الجدال الذي لا يكاد يخلو الإنسان منه في العادة {غَيْرُ مُبِينٍ}؛ أي: غير قادر على تقرير دعواه، وإقامة حجته، كما يقدر الرجل عليه، لنقصان عقله وضعف رأيه، وربما يتكلم عليه، وهو يريد أن يتكلم له، وهذا بحسب الغالب، وإلا فمن الإناث من هو أهل الفصاحة، والفاضلات على الرجال. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الفتوحات.

قال الأحنف: سمعت كلام أبي بكر - رضي الله عنه - حتى مضى، وكلام عمر - رضي الله عنه - حتى مضى، وكلام عثمان - رضي الله عنه - حتى مضى، وكلام علي - رضي الله عنه - حتى مضى، لا والله، ما رأيت أبلغ من عائشة - رضي الله عنها - وقال معاوية - رضي الله عنه -: ما رأيت أبلغ من عائشة، ما أغلقت بابًا، فأرادت فتحه، إلا فتحته، ولا فتحت بابًا، فأرادت إغلاقه إلا أغلقته، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حقا: "إنها ابنة أبي بكر" إشعارا بحسن فهمها، وفصاحة منطقها. والمعنى (¬1): أي أو قد جعلوا لله الأنثى التي تتربى في الزينة، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة، ولا تقرير دعوى، لنقصان عقلها وضعف رأيها، وما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك. وفي قوله {يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} إيمأ (¬2) إلى ما فيهن من الدعة والراحة ورخاوة الخلق، بضعف المقاومة الجسمية واللسانية، كما أن فيه دلالة على أن النشوء في الزينة، ونعومة العيش من المعايب والمذام للرجال، وهو من محاسن ربات الحجال، فعليهم أن يجتنبوا ذلك، ويأنفوا منه، ويربؤوا بأنفسهم عنه، قال شاعرهم: كُتِبَ القَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذَّيُوْلِ ورُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: اخشوشنوا في الطعام، واخشوشنوا في اللباس، وتمعددوا؛ أي: تزيوا بزي معد في تقشفهم، وفي الآية، دلالة على أن التحلي بالذهب والحرير مباح للنساء، وأنه حرام على الرجال؛ لأنه تعالى جعل ذلك عنوانا على الضعف والنقصان، وإنما زينة الرجال الصبر على طاعة الله تعالى، والتزين بزينة التقوى. وفيها إشارة (¬3) إلى أن المرء المتزين كالمرأة، فالعاقل يكتفي بما يدفع الحر والبرد، ويجتهد في تزيين الباطن، فإنه المنظر الإلهي، ولو كانت للنساء عقول ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[19]

راجحة، لما ملن إلى التزين بالذهب والفضة والحلي والحلل. وقرأ الجمهور (¬1): {ينشأ} مبنيا للفاعل؛ أي: بفتح الياء وإسكان النون. وقرأ الجحدري في رواية مبنيا للمفعول مخففا. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري في رواية والأخوان - حمزة والكسائي - وحفص والمفضل وأبان وابن مقسم وهارون، عن أبي عمرو وخلف: بضم الياء، وفتح النون، وتشديد الشين، مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن في رواية {يناشؤ} على وزن يفاعل، مبنيا للمفعول، والمناشاة بمعنى: الإنشاء. كالمعالاة بمعنى الإعلاء، واختار قراءة الجمهور أبو حاتم، واختار أبو عبيد قراءة ابن عباس، قال الهروي الفعل على القراءة الأولى لازم، وعلى الثانية متعد 19 - {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ}؛ أي: سموا الملائكة {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} وحكموا لهم بذلك، وهذا بيان لتضمن كفرهم المذكور لكفر آخر، وتقريع لهم بذلك، وهو جعلهم أكمل العباد، وأكرمهم على الله، أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا، وفيه رد لقولهم: الملائكة بنات الله، وفي قولهم هذا كفر من ثلاثة أوجه: 1 - أنهم نسبوا إلى الله الولد. 2 - أنهم أعطوه أخس النصيبين. 3 - أنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا، وقرأ الجمهور: {إِنَاثًا}، وقرأ زيد بن علي {أنثا}: جمع الجمع. وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والابنان - ابن كثير وابن عامر - ونافع: {عند الرحمن} بالنون ظرفا، وهو أدل على رفع المنزلة، وقرب المكانة، لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}، وقرأ عبد الله وابن عباس وابن جبير وعلقمة وباقي السبعة: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جمع عبد لقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، وقرأ الأعمش {عباد الرحمن} جمعًا، وبالنصب ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حكاها ابن خالويه، قال: وهي في مصحف ابن مسعود كذلك، والنصب على إضمار فعل، أي: الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وأنشؤوا عباد الرحمن إناثًا، وقرأ أبي: {عبد الرحمن} مفردًا، ومعناه الجمع؛ لأنه اسم جنس. وقد رد الله سبحانه وتعالى مقالهم، فقال: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} والهمزة للاستفهام الإنكاري، وهو من الشهود (¬1) بمعنى الحضور، لا من الشهادة؛ أي: أحضروا خلق الله تعالى إياهم، فشاهدوهم إناثًا حتى يحكموا بأنوثتهم، فإن ذلك إنما يعلم بالمشاهدة، وهو تجهيل لهم وتهكم بهم، فإنهم إنما سمعوه من آبائهم، وهم أيضًا كذابون جاهلون، وفيه تخطئة للمنجمين، وأهل الحكمة المموهة في كثير من الأمور، فإنهم بعقولهم القاصرة حكموا على الغيب. قال العماد الكاتب: أجمع المنجمون في سنة اثنتين وثمانين، وخمس مئة في جميع البلاد، على خراب العالم في شعبان، عند اجتماع الكواكب الستة، في الميزان، بطوفان الريح، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم، فشرعوا في حفر مغارات، ونقلوا إليها الأزواد، والماء، وتهيؤوا، فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون، بمثل ريح عاد، ونحن جلوس عند السلطان، والشموع تتوقد فلا تتحرك، ولم نر ليلة في ركودها مثلها. ونحو الآية قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} وفي هذا تجهيل لهم، ورمي لهم بالسفه والحمق، وقرأ الجمهور (¬2): {أَشَهِدُوا}: بهمزة الاستفهام، داخلة على شهدوا، ماضيًا مبنيًا للفاعل؛ أي: أحضروا خلقهم، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى، وقرأ نافع بهمزة استفهام، داخلة على أشهدوا رباعيًا، مبنيًا للمفعول {أشهدوا}: بلا مد بين الهمزتين، ورُوي عنه بمدة بينهما، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد، وفي رواية أبي عمرو، ونافع بتسهيل الثانية بلا مد، وقرأ جماعة كذلك بمد بينهما، وعن علي والمفضل عن عاصم، تحقيقهما بلا مد، وقرأ الزهري وناس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[20]

{اشهدوا} بغير استفهام مبنيًا للمفعول رباعيًا، فقيل: المعنى على الاستفهام، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها. وقيل: سألهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما يدريكم أنهم إناث"، فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عنها في الآخرة؛ أي: ستكتب شهادتهم هذه، التي شهدوا بها في الدنيا، أي: يكتب الملك ما شهدوا به على الملائكة، في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة، ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلًا. وقال سعدي المفتي (¬1): السين في {سَتُكْتَبُ} للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستعطاف إلى التوبة، قبل كتابة ما قالوه، وفي الحديث: "كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح الله أو يستغفره". وفي هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر، وأن التقليد لا يغني من الحق شيئًا، ثم في الآية إشارة إلى أن الله تعالى أمهل عباده، ولم يأخذهم بغتة في الدنيا، ليرى العباد أن العفو والإحسان، أحب إليه من الأخذ والانتقام، وليتوبوا من الكفر والمعاصي. وقرأ الجمهور (¬2): {سَتُكْتَبُ} بالتاء من فوق، مبنيًا للمفعول، {شَهَادَتُهُمْ} بالرفع مفردًا، وقرأ الزبيري كذلك، إلا أنه بالياء، وقرأ الحسن كذلك إلا أنه بالتاء، وجمع شهادتهم، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجحدري والأعرج {سنكتب} بالنون مبنيًا للفاعل. {شهادتهم}: على الإفراد، وقرأت فرقة {سيكتب} بالياء مبنيًا للفاعل؛ أي: الله {شهادتهم} بالنصب. 20 - ثم حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، فنًّا آخر من فنون كفرهم بالله، جاؤوا به ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

للاستهزاء والسخرية، فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: وقال (¬1) المشركون العابدون للملائكة: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ} عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء {مَا عَبَدْنَاهُمْ}؛ أي: ما عبدنا الملائكة، أرادوا بذلك أن ما فعلوه حق مرضي عنده تعالى، وأنهم إنما يفعلونه بمشيئة الله تعالى، لا الاعتذار من ارتكاب ما ارتكبوه، بأنه بمشيئة الله إياه منهم، مع اعترافهم بقبحه، ومبنى كلامهم الباطل على مقدمتين: إحداهما: أن عبادتهم لهم بمشيئة الله تعالى. والثانية: أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى، ولقد أخطؤوا في الثانية. حيث جهلوا أن المشيئة عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائنًا ما كان، من غير اعتبار الرضى والسخط في شيء من الطرفين. والمعنى (¬2): أي وقال عباد الملائكة: لو أراد الله تعالى عدم عبادتنا للملائكة ما عبدناهم، فإنه قادر على أن يحول بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، التي هي على صورة الملائكة التي هي بنات الله، فإنه عالم بذلك، وهو قد أقرنا عليه، فنحن لا نؤاخذ بذلك، إذ هو وفق مشيئته تعالى، ويريدون بذلك القول أن الله راض بعبادتهم للأصنام، وهو احتجاج بالقدر، وكلمة حق يراد بها باطل، لأن المشيئة لا تستلزم الأمر إذ هي بترجيح بعض الممكنات على بعض بحسب ... ؟ والله يأمر بالخير والإيمان ونحن لا نعلم مشيئته أو إرادته إلا بعد وقوع الفعل منا، وقد جمعوا في هذا القول أفانين من الكفر وضروبًا من الترهات والأباطيل ذكره ابن كثير ومنها: 1 - أنهم جعلوا لله ولدًا، تقدس سبحانه وتعالى عن ذلك. 2 - دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا. 3 - عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان، ولا إذن من الله عز وجل، بل بالرأي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والهوى وتقليد الأسلاف وتخبط الجاهلية. 4 - احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وقد جهلوا في هذا جهلًا كبيرًا، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، فإنه منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب، يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}. وقال عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}. ونحو الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}. ثم رد الله سبحانه عليهم مقالهم، وبين جهلهم بقوله: {مَا لَهُم}؛ أي: ما لهؤلاء المشركين {بِذَلِكَ}؛ أي (¬1): بصحة ما قالوا، واحتجوا به من كون ما فعلوه بمشيئة الارتضاء، لا بمطلق المشيئة، فإن ذلك أمر محقق، ينطق به ما لا يحصى من الآيات الكريمة {مِنْ عِلْمٍ} ويقين يستند إلى دليل وبرهان ما {إِنْ هُمْ}؛ أي: ما هم {إِلَّا يَخْرُصُونَ}؛ أي: يكذبون، فإن الخرص: الكذب، وكل قول بالظن والتخمين سواء طابق الواقع أو لا؛ أي: ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، متمحلون تمحلًا باطلًا، متقولون على الله ما لم يقله، فإن الله يأمر بالحق والإيمان والخير، ولا يرضى لعباده الكفر والفحشاء، والآية دليل على جهلهم الفاضح وكذبهم وافترائهم الباطل، وقاله هنا بلفظ {يَخْرُصُونَ}، وفي الجاثية بلفظ {يَظُنُونَ}؛ لأن ما هنا متصل بقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} الآية؛ أي: قالوا: الملائكة بنات الله، وأن الله سبحانه قد شاء منا عبادتنا إياهم، وهذا كذب، فناسبه {يَخْرُصُونَ}، وما هناك متصل بخلطهم الصدق بالكذب، فإن قولهم: نموت ونحيا صدق، وكذبوا في إنكارهم البعث، وقولهم: وما يهلكنا إلا الدهر، فناسبه {يَظُنُونَ}؛ أي: يشكون فيما يقولون، اهـ "كرخي". ¬

_ (¬1) روح البيان.

[21]

يقول الفقير: إسناد المشيئة إلى الله إيمان وتوحيد، إن صدر من المؤمن، وإلا فكفر وشرك؛ لأنه من العناد والعصبية والجهل بحقيقة الأمر فلا يعتبر. 21 - وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل، أتبعه ببطلانه بالنقل، فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ} أم منقطعة، تقدر ببل الإضرابية وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أأعطيناهم {كِتَابًا} ينطق بصحة ما يدعونه من عبادة غير الله، وكون الملائكة بناته {مِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل القرآن، أو من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو من قبل ادعائهم هذه الدعوى {فَهُمْ بِهِ}؛ أي: بذلك الكتاب المعطى لهم {مُسْتَمْسِكُونَ}؛ أي: متمسكون آخذون عاملون به، وعليه معولون. والمعنى (¬1): أي بل أأعطيناهم كتابًا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون مكتوبًا فيه اعبدوا غير الله فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون؛ أي: وليس الأمر كذلك. 22 - والخلاصة: أنه لا كتاب لهم، ولما بين أنهم لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل .. ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد، فقال: {بَلْ قَالُوا}؛ أي: بل لا حجة لهم يتمسكون بها، لا من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع إلا قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} وأسلافنا {عَلَى أُمَّةٍ}؛ أي: على دين وطريقة ساروا عليها في عبادتهم الأصنام فقلدناهم {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} ورأيهم؛ أي: على دينهم وطريقتهم {مُهْتَدُونَ}؛ أي: سائرون سالكون، و {مهتدون} خبر {إنا} والظرف صلة له، قدم عليه للاختصاص واستعمل بعلى لتضمنه معنى الثبوت؛ أي: ثابتون مستمرون على طريقتهم، وهذا اعتراف صريح منهم بأنه ليس لهم مستند ولا حجة. والمعنى: أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، وقد قالوا: إنهم أرجج منا أحلامًا وأصح أفهامًا ونحن سائرون على طريقتهم وسالكون نهجهم ولم نأت بشيء من عند أنفسنا ولم نغلط في الاتباع ¬

_ (¬1) المراغي.

[23]

واقتفاء الآثار، كما قال قيس بن الخطيم: كُنَّا عَلَى أُمَّةِ ابائِنَا ... وَيَقْتَدِيْ بِالأوّلِ الآخِرُ والخلاصة: أنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. وقرأ الجمهور (¬1): {أمة} بضم الهمزة أي على دين. وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والجحدري بكسر الهمزة وهي الطريقة الحسنة، لغة في الأمة بالضم، قاله الجوهري. وقرأ ابن عباس {أمة} بفتح الهمزة؛ أي: على قصد وحال، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول. 23 - ثم بين سبحانه، أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم، ونظراؤهم من الأمم السالفة، المكذبة للرسل، فقال: {وَكَذَلِكَ}؛ أي (¬2): والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة، وتشبثهم بذيل التقليد، فهو خبر لمبتدأ محذوف، كما قدرنا، وما بعده مستأنف {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد {فِي قَرْيَةٍ} من القرى {مِنْ نَذِيرٍ}؛ أي: من نبي منذر قومه من عذاب الله {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}؛ أي: متنعموها وأغنياؤها وجبابرتها {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} وأسلافنا {عَلَى أُمَّةٍ}؛ أي: على طريقة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} وطريقتهم {مُقْتَدُونَ}؛ أي: متبعون وقوله: {مَا أَرْسَلْنَا} كلام مستأنف قال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضًا سند غيره، وخص (¬3) المترفين بتلك المقالة، للإيذان بأن التنعيم وحب الطالة، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد، يقال: أترفته النعمة أطغته، والمراد بالمترفين: الأغنياء والرؤساء، الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش في الدنيا، وأشغلتهم عن نعيم الآخرة، ويدخل فيهم كل من يتمادى في الشهوات، ويتبالغ في النفرة من لوازم الدين، من الشرائع والأحكام، ويحتمل كون كذلك صفةً لمصدر محذوف مع فعله، والمعنى عليه؛ أي (¬4): ومثل هذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[24]

المقال الشنيع، المتناهي في الشناعة، قالت الأمم السالفة لأخوانك الأنبياء، فلم نرسل قبلك في قرية رسولًا، إلا قال رؤساؤها وكبراؤها لرسولهم المرسل، للإنذار من عذاب الله، إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم سائرون، نفعل مثل ما فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون، فقومك أيها الرسول، ليسوا ببدع في الأمم، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم، من أهل الشرك، في جواباتهم، بما أجابوك به، واحتجاجهم بما احتجوا به، لمقامهم على دينهم الباطل. ونحو الآية قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} وإنما قال أولًا: {مُهْتَدُونَ}. وثانيًا: {مُقْتَدِرُونَ}؛ لأن الأول وقع في محاجتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين، وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه ذكر {مُهْتَدُونَ} والثاني، وقع حكاية عن قوم، ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فناسبه ذكر {مُقْتَدِرُونَ}، وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك، ضلال قديم. 24 - ثم ذكر تعالى جواب الرسل لأقوامهم عن التقليد، فقال: {قَالَ} كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم، عند تعللهم بتقليد آبائهم {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} الهمزة: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف. والواو: عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم {بِأَهْدَى}؛ أي: بدين أهدى وأرشد {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}؛ أي: من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء وإنما عبر عنها بذلك، مجاراة معهم على مسلك الإنصاف؛ أي: قال لهم رسولهم: أتتبعون آباءكم، وتسيرون على طريقتهم، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق، وأدل على سبيل الرشاد، مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة. وتلخيص ذلك: أتتبعون آباءكم وتقلدونهم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، وقرأ ابن عامر وحفص: {قال أولو جئتكم} بصيغة الماضي، وقرأ الجمهور {قل} بصيغة الأمر؛ أي: قل يا محمد لقومك: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين، الذي وجدتم عليه آباءكم. وهذا تجهيل لهم، حيث

[25]

يقلدون ولا ينظرون في الدلائل، وقرأ الجمهور (¬1): {جِئْتُكُمْ}: بتاء المتكلم، وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وأبو شيخ الهتائي وخالد {جئناكم}: بنون المتكلمين، وقيل: إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم، كأنه قال لكل نبي قل بدليل قوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}؛ أي: قال كل أمة لنذيرها، مجيبين إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال، {إنا بما أرسلتم به كافرون}، وإن كان أهدى مما كنا فيه؛ أي: ثابتون على دين آبائنا، لا ننفك عنه، ولو جئتنا بما هو أهدى منه، فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به، ما انقادوا لك لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحق وأهله، وحينئذ لم يبق لهم عذر، 25 - ومن ثم قال: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}؛ أي: من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم بالاستئصال، وذلك الانتقام مثل ما أوقعه بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، من الأمم المكذبة لرسلها، أو بالقحط والقتل والسبي، كما في هذه الأمة {فَانْظُرْ} أيها الرسول {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الأمم المذكورة؛ أي: كيف كان عاقبة أمرهم ومآله، حين كذبوا بآياتنا، ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم، فأنت لا تكترث بتكذيب قومك، فإن الله ينتقم منهم باسم المنتقم، القاهر القابض، كما انتقم من أولئك الأمم المكذبة لرسلها. وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيد وتهديد لهم. وحاصل معنى الآية (¬2): أي قالوا: لا نعمل برسالتك، ولا سمع لك، ولا طاعة، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف، والمراد: أنهم لو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به أيها الرسول، لما انقادوا لذلك، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله، وقوله: {بِمَا أُرْسِلْتُمْ} يعني: بكل ما أرسل به الرسل، فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه لفظ الجمع؛ لأن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) التفسير المنير.

تكذيبه تكذيب لمن سواه، وما بعد الإصرار على الكفر، إلا النقمة والإهلاك، فقال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} إلخ؛ أي: فانتقمنا من الأمم المكذبة للرسل، بأنواع من العذاب كعذاب قوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم، كيف بادوا وهلكوا، وإن آثارهم موجودة عبرة للناظر المعتبر، وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة، وسلوة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإرشاد له، إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته. الإعراب {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)}. {حم (1)}: تقدم القول فيه معنى وإعرابًا، فلا عود ولا إعادة، {وَالْكِتَابِ}: {الواو}: حرف جر وقسم، {الكتاب}: مقسم به، مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم، محذوف وجوبًا، وجملة القسم مسأنفة، أو معطوفة على القسم قبله، إن قلنا إن {حم} قسم أيضًا، {الْمُبِينِ}: صفة لـ {الكتاب}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {جَعَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {قُرْآنًا}: مفعول ثان، {عَرَبِيًّا}: صفة {قُرْآنًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، {لَعَلَّكُمْ}: {لعل} حرف نصب وتعليل، مستعارة لكي التعليلية، والكاف: اسمها، وجملة {تَعْقِلُونَ}: خبرها، وجملة {لعل}: جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب، أو مجرورة بلام التعليل، المقدرة المتعلقة بـ {جَعَلْنَاهُ}، {وَإِنَّهُ}: {الواو}: عاطفة، {إنّه}: ناصب واسمه، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}: متعلق بمحذوف خبر {إنّ}؛ أي: مثبت {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}، {لَدَيْنَا} ظرف متعلق بمحذوف حال من {أُمِّ الْكِتَابِ} أو بدل من الجار والمجرور قبله؛ أي: محفوظ الدينا، {لَعَلِيٌّ}: اللام: حرف ابتداء، {عليّ}: خبر ثان لـ {إنّ}، {حَكِيمٌ}: خبر ثالث لها، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} الأولى، على كونها جوابًا

ثانيًا للقسم، واعترض بعضهم على هذا الإعراب؛ لأن فيه تقديم الخبر غير المقرون باللام على المقرون بها، وقال أبو البقاء: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} يتعلق بـ {عليّ}، واللام: لا تمنع من ذلك، و {لَدَيْنَا} بدل من الجار والمجرور، ويجوز أن يكون حالًا من {الكتاب}، {أو من أم}، ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين خبرًا لـ {إن} الخبر قد لزم أن يكون {علي}: من أجل اللام، ولكن يجوز أن يكون كل واحد منهما صفة للخبر، فصارت حالًا يتقدمها، انتهى. {أَفَنَضْرِبُ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، {نضرب}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، {عَنْكُمُ}: متعلق بـ {نضرب}، {الذِّكْرَ} مفعول به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {صَفْحًا} مفعول مطلق معنوي لنضرب، أو حال من فاعل نضرب؛ أي: صافحين، {أَن} حرف نصب ومصدر، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه في محل النصب بأن المصدرية، {قَوْمًا} خبرها، {مُسْرِفِينَ} صفة لـ {قَوْمًا}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر، مجررو بلام التعليل المقدرة، والتقدير: أفنضرب عنكم الذكر لأجل كونكم قومًا مسرفين، الجار والمجرور متعلق بـ {نضرب}، وقرىء بكسر الهمزة، فهي حينئذ شرطية، جوابها محذوف، تقديره: إن كنتم قومًا مسرفين، نضرب عنكم الذكر، وجملة الشرط مستأنفة. {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}. {وَكَمْ} {الواو}: استئنافية، {كم}: خبرية، بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَرْسَلْنَا} وجوبًا، مبني على السكون لشبهها بالحرف شبهًا معنويًا، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ نَبِيٍّ}: تمييز لـ {كم} الخبرية، {فِي الْأَوَّلِينَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية، {يَأْتِيهِمْ}: فعل مضارع، ومفعول به، {مِنْ}: زائدة، {نَبِيٍّ}: فاعل

{يَأْتِيهِمْ}، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}، {إِلَّا}: أداة استثناء، من أعم الأحوال، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ} وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كَانُوا}، وجملة {كان} في محل النصب على الحال، من أعم الأحوال؛ أي: وما يأتيهم من نبي في حال من الأحوال، إلا حال كونهم مستهزئين به. {فَأَهْلَكْنَا} الفاء: حرف عطف وتفريع، {أهلكنا} فعل وفاعل، {أَشَدَّ}: مفعول به، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَشَدَّ}، {بَطْشًا} تمييز منصوب باسم التفضيل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: وما يأتيهم من نبي، مفرعة على استهزائهم، {وَمَضَى مَثَلُ}: {الواو}: عاطفة، {مضى مثلُ}: فعل وفاعل معطوف على {أهلكنا}. {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}. {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {سَأَلْتَهُمْ}: فعل ماض وفاعل ومفعول أول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {مَنْ}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، وجملة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: خبره، والجملة الاستفهامية في محل النصب، مفعول ثاني لـ {سَأَلْتَهُمْ} المعاقة عن العمل بالاستفهام. {لَيَقُولُنَّ}: اللام: واقعة في جواب القسم، مؤكدة الأولى؛ لأنه المتقدم كما هي القاعدة، {يقولن}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون للتوكيد، ولو كان مجزومًا في جواب الشرط لكان الحذف للجازم، ولكنه لا يجوز للقاعدة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن سألتهم من خلق السموات والأرض؟ يقولوا: خلقهن العزيز العلم، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين القسم وجوابه، {خَلَقَهُنَّ}: فعل ومفعول، {الْعَزِيزُ}: فاعل، {الْعَلِيمُ}: صفة لـ {الْعَزِيزُ}، وكرر الفعل للتأكيد، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول ليقولن، {الَّذِي}: اسم موصول في محل الرفع،

صفة ثانية لـ {الْعَزِيزُ}، أو بدل منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، {جَعَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، {لَكُمُ} متعلق بـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى خلق، وإن كان بمعنى صير فيكون متعلقًا، بمحذوف حال من مهدًا، {الْأَرْضَ}: مفعول به أول و {مَهْدًا} مفعول ثان، أو حال، والجملة الفعلية صلة الموصول، {وَجَعَلَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر معطوف على {جَعَلَ} الأول، {لَكُمْ} متعلق بـ {جَعَلَ}، أو في موضع المفعول الثاني، {فِيهَا} حال من {سُبُلًا}، و {سُبُلًا} مفعول به، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَهْتَدُونَ}: خبره، وجملة {لعل} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)}. {وَالَّذِي}: معطوف على الموصول الأول، وجملة {نَزَّلَ}: صلته، {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {نَزَّلَ}، {مَا}: مفعول به، {بِقَدَرٍ}: متعلق بـ {نَزَّلَ} أيضًا، أو صفة لـ {مَا}، {فَأَنْشَرْنَا}: الفاء: عاطفة، {أنشرنا}: فعل وفاعل معطوف على {نَزَّلَ}، وفيه التفات، وسيأتي سره في مبحث البلاغة. {بِهِ}: متعلق بـ {أنشرنا}، {بَلْدَةً} مفعول به، {مَيْتًا}: صفة {بَلْدَةً}. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف، {تُخْرَجُونَ}: فعل ونائب فاعل؛ أي: تخرجون من قبوركم بالبعث، إخراجًا. مثل إخراج النبات من الأرض، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَالَّذِي}: معطوف أيضًا على الموصول الأول. {خَلَقَ}: فعل وفاعل مستتر، {الْأَزْوَاجَ}: مفعول به، {كُلَّهَا}: توكيد لـ {الأزواج}، {وَجَعَلَ}: معطوف على {خَلَقَ}، داخل في حيز الصلة، {لَكُمْ}: في محل المفعول الثاني لـ {جعل}، {مِنَ الْفُلْكِ} حال من {مَا} الموصولة المذكورة بعده، {وَالْأَنْعَامِ} معطوف على {الْفُلْكِ}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {جعل}، وجملة {تَرْكَبُونَ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما تركبونه. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}.

{لِتَسْتَوُوا}: اللام: لام كي، {تستووا} فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة جوازًا، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لاستوائكم على ظهوره، الجار والمجرور متعلق بـ {جعل}. {عَلَى ظُهُورِهِ} متعلقان به {ثُمَّ}: حرف عطف، {تَذْكُرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تستووا}، {نِعْمَةَ رَبِّكُمْ}: مفعول به، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {تَذْكُرُوا}، {اسْتَوَيْتُمْ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ} متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ {إذَا}؛ أي: وقت استوائكم عليه. {وَتَقُولُوا}: فعل وفاعل معطوف على {تَذْكُرُوا}، {سُبْحَانَ} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا؛ أي: نسبح الذي سخر لنا هذا سبحانًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول تقولوا، {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر، مضاف إليه، لـ {سُبْحَانَ}، {سَخَّرَ}: فعل وفاعل مستتر صلة الموصول، {لَنَا}: متعلق به، {هَذَا}: مفعول به، لـ {سَخَّرَ}، {وَمَا}: الواو حالية، {ما}: نافية، {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه، {لَهُ}: متعلق بـ {مُقْرِنِينَ}، {مُقْرِنِينَ}: خبر {كُنَّا}، وجملة {كُنَّا} في محل النصب، حال من ضمير لنا، {وَإِنَّا}: الواو، حالية أيضًا، {إنا}: ناصب واسمه، {إِلَى رَبِّنَا}: متعلق بـ {منقلبون}، {لَمُنْقَلِبُونَ} اللام: حرف ابتداء، {منقلبون} خبر {إنَّ} مرفوع الواو، والجملة الاسمية في محل النصب، حال ثانية من ضمير لنا. {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)}. {وَجَعَلُوا}: {الواو}: استئنافية. {جعلوا}: فعل وفاعل، {لَهُ} في محل المفعول الثاني. {مِنْ عِبَادِهِ}: حال من {جُزْءًا}، و {جُزْءًا} مفعول أول لـ {جعل}، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنَّ الْإِنْسَانَ}: ناصب واسمه، {لَكَفُورٌ} اللام: حرف ابتداء، {كفور}: خبر {إِنَّ}. {مُبِينٌ}: صفة {كفور}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة، لتعليل ما قبلها، {أَمِ}: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية،

وهمزة الاستفهام الإنكاري. {اتَّخَذَ}: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، {مِمَّا}: جار ومجرور، في موضع المفعول الثاني لـ {اتَّخَذَ}، وجملة {يَخْلُقُ}. صلة لـ {ما} الموصولة، {بَنَاتٍ} مفعول أول لـ {اتَّخَذَ}، وجملة {اتَّخَذَ} مستأنفة، {وَأَصْفَاكُمْ} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {اتَّخَذَ}، {بِالْبَنِينَ} متعلق بـ {أصفاكم}، {وَإِذَا بُشِّر} {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، {بُشِّرَ أَحَدُهُمْ}: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {بِمَا} متعلق بـ {بُشِّرَ}، {ضَرَبَ}: فعل ماض بمعنى {جعل}، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أَحَدُهُمْ}، {لِلرَّحْمَنِ}: جار ومجرور، حال من {مَثَلًا}، والمفعول الأول محذوف، تقديره: بما ضربه. {مَثَلًا} مفعول ثاني لـ {ضَرَبَ}، وجملة {ضَرَبَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير المفعول المحذوف، {ظَلَّ وَجْهُهُ}: فعل ناقص واسمه، {مُسْوَدًّا} خبره، والجملة جواب {إذا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، {وَهُوَ كَظِيمٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير وجهه؛ لأن المضاف كان جزءا للمضاف إليه {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}. {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والواو: عاطفة لفعل محذوف على ذلك المحذوف، والتقدير: أيجترؤون على الله، ويبالغون في إساءة الأدب، ويجعلون لله من ينشَّأ في الحلية، والجملة المحذوفة مستأنفة، {يجعلون}: فعل وفاعل، {لله}: في محل المفعول الثاني، {من}: اسم موصول، في محل النصب مفعول أول، لـ {يجعلون} المقدر، {يُنَشَّأُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {من} الموصولة، {فِي الْحِلْيَةِ} متعلق بـ {يُنَشَّأُ}، {وَهُوَ}: {الواو} حالية. هو: مبتدأ، {فِي الْخِصَامِ}: متعلق بـ {مُبِينٍ} المذكور بعده، {غَيْرُ مُبِينٍ} خبر المبتدأ، والجملة

الاسمية في محل النصب حال من نائب فاعل {يُنَشَّأُ}، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، {الَّذِينَ} صفة لـ {الْمَلَائِكَةَ}، {هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية صلة الموصول، {إِنَاثًا}: مفعول ثان لـ {جعلوا}، {أَشَهِدُوا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، {شهدوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {خَلْقَهُمْ}: مفعول {شهدوا} {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة مستأنفة أيضًا، {وَيُسْأَلُونَ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {سَتُكْتَبُ}، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ويسألون شهادتهم في الآخرة. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}. {وَقَالُوا}: {الواو}: استئنافية. {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان نوع آخر من أنواع كفرهم، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم، {شَاءَ الرَّحْمَنُ}: فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عدم عبادتنا الملائكة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية، {عَبَدْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {لَوْ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل النصب مقول {قالوا}، {مَا}: نافية. {لَهُمْ}: خبر مقدم، {بِذَلِكَ}: متعلق بـ {عِلْمٍ} المذكور بعده {من}: زائدة، {عِلْمٍ} مبتدأ مؤخر، ولك أن تجعل {مَا} حجازية، على رأي من يجيز تقديم خبرها على اسمها، والجملة مستأنفة، {إِنْ}: نافية. {هُمْ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، وجملة {يَخْرُصُونَ}: خبر المبتدأ؛ أي: ما هم إلا خارصون كاذبون، والجملة مستأنفة، {أَمْ}: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، {آتَيْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، {كِتَابًا}: مفعول ثان، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {مِنْ قَبْلِهِ} متعلق بـ {آتينا}، أو صفة لـ {كِتَابًا}، {فَهُمْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {هُمْ}:

مبتدأ، {بِهِ}: متعلق بما بعده، {مُسْتَمْسِكُونَ} خبر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {آتَيْنَاهُمْ} مفرعة عليها، {بَل}: حرف إضراب وابتداء، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {وَجَدْنَا}: فعل وفاعل، {آبَاءَنَا}: مفعول أول لـ {وَجَدْنَا}، {عَلَى أُمَّةٍ} في موضع المفعول الثاني، وجملة {وَجَدْنَا} في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة، {إنّا}: ناصب واسمه، {عَلَى آثَارِهِمْ}: متعلق بـ {مُهْتَدُونَ}، و {مُهْتَدُونَ}: خبر {إنّ}، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة {إنّ} الأولى على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)}. {وَكَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية، {كذلك}: جار ومجرور، خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: والأمر كائن كذلك، والجملة مستأنفة مستقلة جيء بها للتخلص، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، {مَا}: نافية، {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان أن التقليد بهم ضلال قديم، {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {فِي قَرْيَةٍ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} أيضًا، أو حال من {نَذِيرٍ}، {مِنْ} زائدة، {نَذِيرٍ}: مفعول {أَرْسَلْنَا}، {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأحوال، {قَالَ مُتْرَفُوهَا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب على الحال؛ أي: وما أرسلنا من نذير في قرية، في حال من الأحوال، إلا حال كون مترفيها قائلين: إنا وجدنا آباءنا إلخ. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {وَجَدْنَا آبَاءَنَا}: فعل وفاعل ومفعول أول، {عَلَى أُمَّةٍ} في محل المفعول الثاني لـ {وَجَدْنَا}، وجملة {وَجَدْنَا}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالَ}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {عَلَى آثَارِهِمْ} متعلق بـ {مُقْتَدُونَ}، و {مُقْتَدُونَ}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} الأولى. {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}.

{قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر، يعود على إلى {نَذِيرٍ}، والجملة مستأنفة، {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم، إلخ، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قَالَ}، {لو}: حرف شرط غير جازم {جِئْتُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، {بِأَهْدَى} متعلق بـ {جِئْتُكُمْ}، وجواب {لو} محذوف، تقديره: تقتدون بآبائكم، وجملة {لو} الشرطية معطوفة على تلك المحذوفة. {مِمَّا} متعلق بـ {أهدى}. {وَجَدْتُمْ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: في موضع المفعول الثاني لـ {وَجَدْتُمْ}، {آبَاءَكُمْ} مفعول أول لـ {وَجَدْتُمْ}، وجملة {وجد} صلة لـ {ما} الموصولة، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِنَّا} ناصب واسمه، {بِمَا} متعلق بـ {كَافِرُونَ} المذكور بعده، {أُرْسِلْتُمْ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل، {بِهِ} متعلق بـ {أُرْسِلْتُمْ}، وجملة {أُرْسِلْتُمْ}: صلة لـ {ما} الموصولة، {كَافِرُونَ} خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}، {فَانْتَقَمْنَا} الفاء: عاطفة {انتقمنا}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا} مفرع عليه، {مِنْهُمْ} متعلق بـ {انتقمنا} {فَانْظُرْ}: الفاء: عاطفة، {انظر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو على أي مخاطب، والجملة معطوفة على جملة {انتقمنا}، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب، خبر كان مقدم عليه وجوبًا، {كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: فعل ناقص واسمه، ومضاف إليه، وجملة {كاَنَ} في محل النصب مفعول {انظر} معلق عنها باسم الاستفهام. التصريف ومفردات اللغة {حم (1)} هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وعلى خطورة الأحكام المبينة في السورة. {وَالْكِتَابِ} القرآن. {الْمُبِينِ}؛ أي: الموضح لطريق الهدى، المبعد من الضلالات، قال الراغب: قوله: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ. والكتاب في الأصل: اسم للصحيفة مع المكتوب فيها. {أَفَنَضْرِبُ} يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه؛ أي: تركته،

{صَفْحًا} الصفح: الإعراض، يقال: صفح كمنع أعرض وترك، وصفح عنه عما، وصفح السائل رده، كأصفحه، وسمي العفو صفحًا؛ لأنه إعراض عن الانتقام من صفحة الوجه؛ لأن من أعرض عنك، فقد أعطاك صفحة وجهه، والمعنى هنا: إعراضًا عنكم، كما مر. {قَوْمًا مُسْرِفِينَ} السرف: تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان. {أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} قال الراغب: البطش تناول الشيء بصولة، والأخذ بشدة. {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} ومضى فيه إعلال بالقلب، أصله: مضي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا فصار مضى. {لَيَقُولُنَّ} أصله: يقولونن، حذفت نون علامة الرفع لتوالي الأمثال، والواو لالتقاء الساكنين، فصار يقولن. {مَهْدًا} والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ {سُبُلًا} جمع سبيل، وهو من الطريق ما هو معتاد السلوك، وقال الراغب: السبيل: الطريق الذي فيه سهولة. {مَاءً بِقَدَرٍ}؛ أي: بمقدار ما تحتاجون إليه، فلا يكون قليلًا لا ينفع، ولا يكون كثيرًا فيؤذي ويضر. {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}، وفي "المبصاح": ونشر الموتى نشورًا. أحياهم ونشرهم الله يتعدى ولا يتعدى، ويتعدى بالهمزة أيضًا، فيقال: أنشرهم الله، ونشرت الأرض نشورًا أيضًا حييت وأنبتت، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أنشرتها إذا أحييتها بالماء، والإنشار: الإحياء. {مَيْتًا} مخفف من الميت بالتشديد؛ أي: خاليةً عن النماء والنبات بالكلية. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أصله: تستويون استثقلت الضمة على الياء، فحذفت تخفيفًا، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الواو، لمناسبة واو الجماعة بعدها، فوزنه لتفتعوا؛ لأن نون الرفع حذفت للناصب بعد لام التعليل. {مُقْرِنِينَ} مطيقين، يقال: أقرن الشيء إذا أطاقه. قال الزمخشري: وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينةً للضعيف، وقال الأخفش وأبو عبيدة: ومقونين ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيدي، والقوة من قولهم: هو قرن فلان، إذا كان مثله في القوة، ويقال: فلان مقرن لفلان؛ أي: ضابط له، وأقرنت كذا؛ أي: أطقته، وأقرن له أطاقه وقوي عليه، كأنه صار له قرنًا، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}؛ أي: مطيقين. قال في "القاموس": أقرن للأمر، أطاقه وقوي عليه، كاستقرن،

وعن الأمر ضعف ضد انتهى. {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} والجعل هنا، بمعنى: الحكم بالشيء، والاعتقاد به، يقال: جعلت زيدًا أفضل الناس؛ أي: حكمت به ووصفته. وقال في "القاموس": الجزء البعض، وأجزأت الأم ولدت الإناث، ويفتح، والجمع أجزاء، وبالضم موضع ورملٌ، وَجَزأَهُ كَجَعَلَهُ قَسَّمَهَ أجزاءً كَجَزّأَهَ بالتضعيف وبالشيء اكتفى، كاجتزأ وتجزأ. {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} أصله: أصفوكم من الصفوة قلبت الواو ياءً. لوقوعها رابعةً، ثم قلبت ألفًا لتحركها بعد فتح، ومعناه: اختار لكم. {ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ}؛ أي: جعل {مَثَلًا}؛ أي: مشابهًا بنسبة البنات إليه؛ لأن الولد يشبه الوالد. {كَظِيمٌ}؛ أي: ممتلىء غيظًا وغمًا. {يُنَشَّأُ}؛ أي: يربى. {فِي الْحِلْيَةِ}؛ أي: في الزينة، والحلية ما يتحلى به الإنسان ويتزين، والجمع حلي بكسر الحاء وضمها وفتح اللام. {يَخْرُصُونَ}؛ أي: يكذبون. وفي "المصباح": وخرص الكافر خرصًا، من باب قتل كذب فهو خارص. وفي "القاموس" و"التاج": الخراص الكذاب. وقال الراغب: الخرص: كل قول مقول عن ظن وتخمين، يقال له: خرص، سواء كان ذلك مطابقًا للشيء، أو مخالفًا له، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم، ولا غلبة ظن، ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين، كفعل الخارص في خرصه، وكل من قال قولًا على هذا النحو، يسمى كاذبًا. وإن كان مطابقًا للقول المخبر به. {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} يقال: استمسك به إذا اعتصم به. وفي "المفردات": إمساك الشيء: التعلق به وحفظه، واستمسكت بالشيء، إذا تحريت الإمساك، انتهى. {عَلَى أُمَّةٍ} الأمة: الدين والطريقة التي تؤم؛ أي: تقصد. قال الراغب: الأمة كل جماعة يجمعهم أمر، إما دين واحد أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا. {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} وفي "الروح": الأثر بفتحتين بقية الشيء. والآثار الأعلام، وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثاره، قال الراغب: أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده، ومن هذا يقال للطريق المستدل به على

من تقدم آثاره. {مُهْتَدُونَ} جمع مهتد، أصله: مهتديون استثقلت الحركة على الياء، فحذفت فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الدال لمناسبة الواو. {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} جمع مترف اسم مفعول. وفي "القاموس": وترف كفرح، تنعم، وأترفته النعمة أطغته، أو نعمته كترفته تتريفًا، والمترف كمكرم، المتروك، يصنع ما يشاء فلا يمنع، والمتنعم لا يمتنع من تنعمه، انتهى. {مُقْتَدُونَ} جمع مقتد، أصله: مقتديون استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الدال لمناسبة الواو، ومعناه: سالكون طريقتهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: فن التناسب في قوله: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} الآية، فقد أقسم سبحانه بالقرآن، وإنما يقسم بعظيم، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن، بأنه قرآن عربي، مرجو له أن يعقل به العالمون، فكان جواب القسم مصصحًا للقسم، وتم التناسب بين القسم والمقسم به؛ لأنهما من واد واحد. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}؛ لأن لفظ الأم حقيقة في الأنثى الوالدة، فاستعار للوح المحفوظ، بجامع الأصالة في كل. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ لأنه استعار كلمة {لعل} الموضوعة للترجي، والتوقع لمعنى كي، وهو التعليل لكون حقيقة الترجي والتوقع ممتنعةً في حقه تعالى، لكونها مختصةً بمن لا يعلم عواقب الأمور. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ} شبه حال الذكر وتنحيته، بحال غرائب الإبل وذود هاشم، استعمل ما كان مستعملًا في تلك القصة هاهنا، بجامع التنحية والإبعاد في كل.

ومنها: حكاية حال ماضية في قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ}؛ لأن {ما} إنما تدخل على مضارع في معنى الحال، أو على ماض قريب منها. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}؛ أي: كالمهد والفراش، حذفت من الأداة، ووجه الشبه فأصبح بليغًا. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَأَنْشَرْنَا}؛ لأن الإنشار حقيقة في إحياء الصيت وبعثه، فاستعاره لإنبات الأرض فاستعير الإنشار بمعنى إحياء الأموات لإنبات الأرض، فاشتق منه أنشرنا، بمعنى: أنبتنا على طريقة الاستعارة التبعية. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم، حيث عبر بنون العظمة، لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء، والإشعار بعظم خطره. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {بَلْدَةً مَيْتًا} حيث استعار الميت، الذي هو حقيقة فيمن خرجت روحه، للمكان الخالي من النبات. ومنها: التعبير عن إخراج النبات بالإنشار، الذي هو إحياء الموتى حيث قال: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ}، وعن إحياء الموتى بالإخراج حيث قال: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} تفخيمًا لشأن الإنبات، وتهوينًا لأمر البعث، لتقويم سند الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} فقد حذف الموصوف، وهو الله تعالى، وأقام صفاته مقامه؛ لأن الكلام مجزأ، فبعضه من قولهم، وبعضه من قول الله تعالى، فالذي هو من قولهم: خلقهن، وما بعده، هو من قول الله تعالى، وأصل الكلام أنهم قالوا: خلقهن الله، بدلالة قوله في آية أخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ثم لما قالوا: خلقهن الله، وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات، وأقيمت مقام الموصوف، كأنه كلام واحد، ونظير هذا أن تقول للوجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول: أكرمني زيد، فتقول: أنت، واصفًا له، الكريم الجواد المفضال الذي من صفته كذا وكذا.

ومنها: تنكير بنات في قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} لتربية الحقارة. ومنها: تعريف البنين في قوله: {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} لتربية الفخامة. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} إلى الغيبة في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ} للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم، ويحكي لغيرهم تعجبًا منها. ومنها: التأكيد بـ {إنَّ} واللام، مع صيغة المبالغة في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُور}؛ لأن فعولًا وفعيلًا من صيغ المبالغة. ومنها: الأسلوب التهكمي للتوبيح والتقريع في قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}. ومنها: الطباق بين لفظ البنين والبنات. ومنها: التجهيل لهم والتهكم بهم في قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فإنهم إنما سمعوه من آبائهم وهم أيضًا كذابون جاهلون. ومنها: فن الإلجاء في قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} وهو أن يبادر المتكلم الخصم، بما يلجئه إلى الاعتراف بحقيقة نفسه، ودخيلة قلبه، فالتعبير في الآية بالتفضيل المقتضي أن ما عليه آباؤهم فيه هداية، لم يكن إلا لإلجائهم إلى الاعتراف بحقيقة نياتهم، التي يضمرونها، كأنه يتنزل معهم إلى أبعد الحدود، ويرخي لهم العنان إلى أقصى الآماد، ليعترفوا التالي بمكابرتهم التي لا تجدي معها المناصحة في القول، ولا ينفع في تذليلها الإتيان بالحجة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)}.

المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) في الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائغة، هو تقليد الآباء والأجداد، وبين أنه طريق باطل ونهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد .. أردف هذا بأن ذكر لهم أن أشرف آبائهم، وهو إبراهيم عليه السلام، ترك دين الآباء، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم، فيجب عليكم تقليده، وحين عدل عن طريق آبائه، جعل الله دينه باقيًا في عقبه إلى يوم القيامة، وأديان آبائه درست وبطلت. ثم ذكر أن قريشًا وآباءهم مدَّ لهم في العمر والنعمة، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات، وأعرضوا عن توحيد الله تعالى، وشكره على آلائه، حتى جاءهم الرسول منبهًا لهم، مذكرًا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض، وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة، فكذبوه وقالوا: ساحر كذاب، ثم حكى عنهم، قالوا: هلا نزل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه، كثير المال، من إحدى القريتين، مكة والطائف، فرد عليهم مقالهم، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده، فجعل منهم الغني والفقير، والسيد والمسود، والملوك والسوقة، والأقوياء والضعفاء، ولم يغير أحد ما حكم به في أحوال دنياهم على حقارتها، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجةً وأشرف غايةً وأعظم مرتبةً وهو منصب النبوة. ثم ذكر أن التفاوت في شؤون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، والسير به على النهج القويم، فلولاه ما صرف بعضهم بعضًا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل المعيشة، ثم أعقب هذا ببيان أنه لولا أن يرغب الناس في الكفر، إذا رأوا الكفار في سعة من الرزق، لمتعهم بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم ¬

_ (¬1) المراغي.

أبوابًا من فضة ومسقفا وسرُرًا ومصاعد عليها يظهرون، وزينة في كل شيء، ولكن كل هذا متاع قليل زائل، والآخرة هي الباقية، وهي لمن يتقي الله تعالى، ويجتنب الكفر والمعاصي ولم يفعل ذلك بالمؤمنين، فيوسع عليهم جميعًا ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي؛ لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبًا للدنيا، وهذا إيمان المنافقين، ومن ثم ضيق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض، ليكون من يدخله فإنما يدخله للدليل والبرهان، وابتغاء رضوان الله ومثوبته. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) بين أن المال متاع الدنيا، وهو عرض زائل، ونعيم الآخرة هو النعيم المقيم الدائم، الذي أعده الله سبحانه للمتقين .. ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه، صار كالأعشى عن ذكر الله، وصار من جلساء الشياطين، الضالين المضلين، الذين يصدونه عن السبيل القويم، ويظن أنه مهتد؛ لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه، فيألفه ولا ينكره، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة، تبرأ الكافر من الشيطان قرينه، وقال له: ليت بيني وبينك بعدما بين المشرقين، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان في العذاب لا يخفف عنه شيئًا منه، لاشتغال كل منهما بن بنفسه. ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، وقلما تجديهم المواعظ، فإذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمي، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين، ثم سلى رسوله، وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم، إما حال حياته أو بعد موته، ثم أمره أن يستمسك بما أمره الله به، فيعمل بموجبه، فإنه الصراط المستقيم النافع في الدين والدنيا، وفيه الشرف العظيم له ولقومه، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها، ثم أرشد إلى أن بغض ¬

_ (¬1) المراغي.

الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبي، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعًا من بينهم في الإنكار عليها، حتى يعارض ويبغض. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لكونه فقيرًا عدم المال والجاه .. بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة، أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش، فقال: إني غني كثير المال، عظيم الجاه، فلي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري تحتي، وموسى فقير مهين، وليس له بيان ولا لسان، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش، وأيضًا فإنه لما قال {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السلام، وهما أكثر الأنبياء أتباعًا، وقد جاءا بالتوحيد، ولم يكن فيما جاءا به، إباحة اتخاذ آلهة من دون الله تعالى. ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال: هلا ألقي إلى موسى مقاليد الملك، فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقًا، زعمًا منه أن الرياسة من لوازم الرسالة، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه، وأعقب هذا، بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى في دعواه الرسالة، أطاعوه لضلالهم وغوايتهم، ولما لم تجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم، وجعلناهم قدوةً للكافرين، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرةً لهم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ ...} الآيتين، سبب نزولهما (¬1): ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس: أن العرب قالوا: وإذا كان النبي بشرًا، فغير محمد - صلى الله عليه وسلم - أحق بالرسالة، حيث قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} يكون أشرف من محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعنون: الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[26]

رَحْمَتَ رَبِّكَ} يعني النبوة، فيضعونها حيث شاؤوا. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشًا قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يأخذه، فقيضوا لأبي بكر الصديق طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني، قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: ربنا، قال: وما العزى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم فسكت طلحة فلم يجبه، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا ...} الآية. قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ...} سبب نزولها: ما رُوي: أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعب نفسه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غيًّا، فنزلت الآية {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 26 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قريش، وقت قول إبراهيم عليه السلام، بعد الخروج من النار {لِأَبِيهِ} تارخ الشهير بآزر، وكان ينحت الأصنام {وَقَوْمِهِ} المنْكَبِّين على التقليد وعبادة الأصنام، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسك بالبرهان ليسلكوا مسلك الاستدلال، أو ليقتدوا به إن لم يكن لهم بد من التقليد، فإنه أشرف آبائهم، وبراء مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: بريء، كما سيأتي في مبحث التصريف. والمعنى (¬2): أني بريء من عبادتكم لغير الله، إن كانت ما مصدرية، أو من ¬

_ (¬1) التفسير المنير. (¬2) روح البيان.

[27]

معبودكم إن كانت موصولة حذف عائدهما 27 - {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} وخلقني استثناء (¬1) منقطع إن كانوا عبدة الأصنام؛ أي: لكن الذي خلقني لا أبرأ منه، أو متصل على أن ما تعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم يعبدون الله والأصنام، أو صفة على أن ما موصوفة؛ أي: إني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فإن {إلا}، بمعنى غير، لا يوصف بها إلا جمع منكور غير محصور، وهو هنا آلهة، كما هو مذهب ابن الحاجب {فَإِنَّهُ}؛ أي: فإن الذي فطرني {سَيَهْدِينِ}؛ أي: سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن، ولذا أورد كلمة التسويف هنا، بعدما قال في الشعراء: فهو يهدين بلا تسويف، والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار؛ أي: دوام الهداية حالًا واستقبالًا، فهو هاديه في المستقبل والحال. والمعنى: أي واذكر (¬2) أيها الرسول لقومك قريش المنكبين على تقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام، كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه، حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام، حين قال لهم: إني بريء مما تعبدون إلا من عبادة الله الذي خلقني، وخلق الناس جميعًا، وإنه سيهديني إلى سبيل الرشاد، ويوفقني إلى اتباع الحق؟ وقد جزم بذلك لثقته بربه ولقوة يقينه. فينبغي لكم يا أهل مكة أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين وترجعوا إلى النظر واتباع الحق. وقرأ الجمهور (¬3): {بَرَاءٌ} بفتح الباء وألف وهمزة بعد الراء، وهو مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما، يقال: نحن البراء منك، وهي لغة أهل العالية، وبها قرأ الأعمش. وقرأ الزعفراني والقورحي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع بضم الباء بزنة طوال، يقال: طويل وطوال وبريء وبراء، وهي لغة نجد وقرأ الأعمش: {إنِّي} بنون مشددة دون نون الوقاية، والجمهور {إِنَّنِي} بنونين الأولى مشددة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[28]

فإن قلت: قال هنا: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} بزيادة سين التسويف، وقال في الشعراء: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} بلا زيادة سين الاستقبال، فما الفرق بين الموضعين. قلت: زاد السين للتأكيد؛ لأن المقام قام التبرُّؤ من عبادة الأصنام، فهو أْشد حاجة إلى التأكيد، وما في الشعراء بيان لعداوة الأصنام له، فلا حاجة إلى التأكيد، هكذا ظهر الفرق لي بعد تأمل شديد، والله أعلم باسرار كتابه. 28 - {وَجعَلَهَا}؛ أي (¬1): وجعل إبراهيم كلمة التوحيد، التي كان ما تكلم به من قوله: إنني براء إلى سيهدين عبارةً عنها، يعني: أن البراءة من كل معبود سوى الله تعالى، توحيد للمعبود بالحق، وقول بلا إله إلا الله {كَلِمَةً بَاقِيَةً}؛ أي: دائمة مستمرة جارية {فِي عَقِبِهِ} وذريته حيث وصاهم بها، كما نطق به قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} الآية، فالقول المذكور بعد الخروج من النار، وهذا الجعل بعد حصول الأولاد الكبار، فلا يزال فيهم نسلًا بعد نسل، من يوحد الله سبحانه، ويدعو إلى توحيده، وتفريده إلى قيام الساعة، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} علة (¬2) للجعل، والضمير للعقب، وإسناد الرجوع إليهم من وصف الكل بحال الأكثر، والترجي راجع إلى إبراهيم عليه السلام؛ أي: جعلها باقيةً في عقبه وخلفه، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد منهم. فائدة: قال بعضم في سبب تكريم وجه علي بن أبي طالب؛ بأن يقال: كرم الله وجهه، أنه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد بن هاشم: أنها كانت إذا أرادت أن تسجد للصنم، وهو في بطنها، يمنعها من ذلك. وقرأ حميد بن قيس {كلمة} بكسر الكاف وسكون اللام، وقرىء {في عقبه} بسكون القاف؛ أي: في ذريته، وقرىء {في عاقبه}؛ أي: من عقبه؛ أي: من خلفه، ذكره في "البحر". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[29]

والمعنى: أي (¬1) وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمةً في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه إلى يوم القيامة، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم، كأهل مكة، بدعاء الموحد منهم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بني لهم البيت، وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه في ملته الحنفية، وتأثروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة، وقال ابن العربي (¬2): إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين، إحداهما قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فقد قال: إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}. وقيل (¬3): الفاعل في جعلها الله سبحانه وتعالى؛ أي: وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقيةً في عقب إبراهيم، وقيل: الضمير في {لَعَلَّهُمْ} راجع إلى أهل مكة؛ أي: لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون، وجعلها إلخ، قال السدي: لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله تعالى. 29 - ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم، فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ} إضراب عن محذوف؛ أي: فلم يحصل ما رجاه، بل متعت وأنعمت منهم هؤلاء المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة {وَآبَاءَهُمْ} بالمد في العمر والبسط في النعمة، فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات، وشغلوا بها عن كلمة التوحيد {حَتَّى جَاءَهُمُ}؛ أي: جاء هؤلاء المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {الْحَقُّ} أي: القرآن {وَرَسُولٌ مُبِينٌ}، محمد - صلى الله عليه وسلم - ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة، أو مبين التوحيد بالآيات البينات والحجج الواضحات، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه، فحتى ليست ¬

_ (¬1) التفسير المنير. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[30]

غاية للتمتع، بل لما تسبب عنه من الاغترار المذكور وما يليه. والمعنى (¬1): أي بل متعت هؤلاء المشركين، من أهل مكة وآباءهم من ذرية إبراهيم بطول العمر، والسعة في الرزق، وأنعمت عليهم في كفرهم فاغتروا بالمهلة، وأكبوا على الشهوات وطاعة الشيطان، وشغلوا بالتنعم عن كلمة التوحيد، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم، والرسول المبين، الذي أوضح مبدأ التوحيد بالبراهين الساطعة، وشرع الله وأحكامه بالأدلة القاطعة، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور (¬2): {بَلْ مَتَّعْتُ} بتاء المتكلم، وقرأ قتادة والأعمش: {بل متعت} بتاء الخطاب، ورواها يعقوب عن نافع، قال صاحب "اللوامح": وهي من مناجاة إبراهيم عليه السلام ربه تعالى، والظاهر: أنه من مناجاة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قال: يا رب بل متعت، وقرأ الأعمش: {بل متعنا} بنون العظمة، وهي تعضد قراءة الجمهور، قال الزمخشري: فإن قلت: فما وجه من قرأ: {بل متعت} بفتح التاء؟. قلتُ: كأن الله سبحانه وتعالى خاطب نفسه، واعترض على ذاته في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}، فقال مخاطبًا لنفسه: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد، وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم؛ لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببًا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادًا، فمثاله: أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول: أنت السبب في ذلك، بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله. 30 - ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق، فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ}؛ أي: ولما جاء أهل مكة القرآن العظيم، الذي هو الحق من الله، لينبههم عما هم ¬

_ (¬1) التفسير. (¬2) البحر المحيط.

[31]

فيه من الغفلة، ويرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا كفرًا وعتوا، وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق، والاستهانة به حيث {قَالُوا هَذَا} الحق والقرآن {سِحْرٌ} وهو (¬1) إراءة الباطل في صورة الحق؛ أي: هذا القرآن كلام باطل، ليس من عند الله تعالى: {وَإِنَّا بِهِ}؛ أي: يكون هذا القرآن من عند الله تعالى {كَافِرُونَ}؛ أي: جاحدون منكرون، فسموا القرآن سحرًا وكفروا به واستحقروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى (¬2): أي وحينما جاءهم القرآن والرسول المؤيد بالمعجزات دليلًا على صدقه، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل، وليس بوحي من عند الله تعالى، وقالوا: إنا بما أرسل به جاحدون، مكابرةً وعنادًا وحسدًا وبغيًا، فضموا إلى شركهم وضلالهم تكذيب الحق ورفضه والاستهزاء به، والتصريح بالكفر برسالته وإنكار نبوته. 31 - ثم ذكر فنًا آخر من أفانين كفرهم فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: وقال كفار مكة {لَوْلَا} حرف تحضيف؛ أي: هلا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} إن كان حقًا من عند الله تعالى {عَلَى رَجُلٍ مِنَ} إحدى {الْقَرْيَتَيْنِ} مكة والطائف {عَظِيمٍ} ذلك الرجل بالمال والجاه، كالوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فهو على نهج قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)}؛ أي: من أحدهما، وذلك (¬3) لأن من للابتداء، وكون الرجل الواحد من القريتين بعيد، فقدر المضاف، ومنهم من لم يقدر مضافًا وقال: أراد على رجل كائن من القريتين كلتيهما، والمراد به: عروة المذكور؛ لأنه كان يسكن مكة والطائف جميعًا. وكان له في مكة أموال يتَّجرُ بها، وكان له في الطائف بساتين وضياع، فكان يتردد إليهما، فصار كأنه من أهلهما، يقول الفقير: هنا وجه خفي، وهو أن النسبة إلى القريتين قد تكون بالمهاجرة من إحداهما إلى الأخرى، كما يقال: المكي، المدني، والمصري، الشامي وذلك بعد الإقامة في إحداهما أربع سنين، صرح ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) التفسير المنير. (¬3) روح البيان.

[32]

بذلك أهل أصول الحديث. ثم إنهم لم يتفوهوا (¬1) بهذه الكلمة العظيمة، حسدًا على نزوله على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، دون من ذكر من عظمائهم، من اعترافهم بقرآنيته، بل استدلالًا على عدمها، بمعنى أنه لو كان قرآنا، لنزل على أحد هذين الرجلين، بناءً على ما زعموا، من أن الرسالة منصب جليل. لا يليق به إلا من له جلالة من حيث المال والجاه، ولم يدروا أن العظيم من عظّمه الله، وأعلى قدره في الدارين، لا من عظمه الناس، إذ رب عظيم عندهم حقير عند الله تعالى، وبالعكس، وأن الله يختص برحمته من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وفي قوله: {عَظِيمٍ} عظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعظم شأنه وفخم. والمعنى (¬2): أي وقال كفار قريش وأمثالهم: هلا أنزل هذا القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكة أو الطائف، وهما الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. 32 - وهذا اعتراض منهم على الله، الذي أنزل القرآن على رسوله، فأنكر الله سبحانه عليهم ذلك، وجهلهم، وعجب من حالهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} استفهام إنكار، وتجهيل لهم، وتعجب من تحكمهم، والمراد بالرحمة: النبوة، أو ما هو أعم، يعني: أبيدهم مفاتيح الرسالة والنبوة، فيضعونها حيث شاؤوا. ثم بين سبحانه: أنه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا، فقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين أهل الأرض {مَعِيشَتَهُمْ}؛ أي: أسباب معيشتهم، والمعيشة: ما يعيش به الإنسان ويتغذى به، ويجعله سببًا في قوام بنيته، إذ العيش الحياة المختصة بالحيوان، وهو يعم الحلال والحرام عند أهل السنّة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قسمةً تقتضيها مشيئتنا، المبنية على الحكم والمصالح، ولم نفوض أمرنا إليهم، علمًا منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية، كما دل عليه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

تقديم المسند إليه، وهو نحن، إذ هو للاختصاص. والحاصل (¬1): نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم، وهو أدنى من الرسالة، فلم نترك اختيارها إليهم وإلا لضاعوا وهلكوا فما ظنهم في أمر الدين؛ أي: فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل وأعظم، وهو الرسالة، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء، بل الحكم لله وحده؟ وإذا كان الله سبحانه، هو الذي قسم بينهم أرزاقهم، ورفع درجات بعضهم على بعض، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر الرسالة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه؟ قال مقاتل: يقول تعالى: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا! وفي قوله (¬2): {قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا، وحث على التوكل على الله تعالى. وقرأ الجمهور: {مَعِيشَتَهُمْ} بالإفراد، وعبد الله والأعمش وابن عباس ومجاهد وابن محيصن وسفيان {معائشهم} على الجمع. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزق وسائر مبادىء المعاش {دَرَجَاتٍ} نصب (¬3) بنزع الخافض؛ أي: إلى درجات متفاوتة، بحسب القرب والبعد، حسبما تقتضيه الحكمة، فمن ضعيف وقوي وفقير وغني وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم، أو تمييز محول عن المفعول {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}؛ أي: خادمًا وعاملًا وأجيرًا من التسخير، بمعنى: الاستخدام، ولكون المراد هنا الاستخدام دون الهزء؛ لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم السين في الرواية المشهورة عنهم، فما كان من التسخير فهو مضموم، وما كان من الهزء فهو مكسور، وقرأ الجمهور (¬4): {سُخْرِيًّا} بضم السين، وعمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم، وابن عامر بكسرها، وهو من التسخير بمعنى الاستعباد والاستخدام والاستعمال. ويبعد أن يكون {سُخْرِيًّا} هنا من الهزء، وقد قال بعضهم؛ أي: يهزأ الغني بالفقير، وهذا وإن كان مطابقًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

للمعنى اللغوي، ولكنه بعيد من معنى القرآن، ومناف لما هو مقصود السياق. والمعنى (¬1): فاضلنا بينهم فجعلنا بعضهم أفضل من بعض، في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والحلم، ليستخدم بعضهم بعضًا، فيستخدم الغني الفقير والرئيس المرؤوس والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه في العقل، والعالم الجاهل، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم، ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين، فجعل البعض محتاجًا إلى البعض لتحصيل المساواة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا ويعطي هذا هذا. وحاصل معنى الآية (¬2): أي إن هؤلاء المشركين تجازوا حدودهم وأقدارهم، فأرادوا أن يجعلوا ما لله لأنفسهم، وليس الأمر مردودًا إليهم، بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فإنه لا ينزلها إلا على من بلغ مرتبة روحانية خاصةً، وكان ذا فضائل قدسية، وكمالات خلقية، مستهينًا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها، فهم ليسوا لها بأهل، فضلًا عن أن يهبوها لمن يشاؤون، ونحن الذين قسموا الأرزاق والحظوظ بين العباد، ونفضل بعضهم على بعض درجات في القوة، والضعف والعلم والجهل والشهرة والخمول والغنى والفقر؛ لأنا لو سوينا بينهم في هذه الأحوال لم يتعاونوا فيما بينهم، ولم يتمكنوا من استخدام بعضهم بعضًا، فيكون بعضهم سببًا لمعاش بعض، وإلا فسد نظام العالم، وليس المعنى في الاستخدام أو الاستئجار، أو الاستعمال على عمل شيء من الذل والمهانة؛ لأن حقوق العامل مصونة في الإسلام، وعلى صاحب العمل واجبات خلقية ومادية كثيرة، توجب عليه الترفع عن الغبن، والظلم والأذى والإساءة، فإذا عجزوا عن تغيير نظام الدنيا، فكيف يعترضون على حكمنا بتخصيص الرسالة والنبوة في بعض العباد، وقصارى ذلك: أنا قسمنا بينهم أرزاقهم، أفلا يقنعون بقسمتنا في أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من عبادنا؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) التفسير المنير والمراغي.

[33]

ثم علل ما سلف بقوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} وفضله بالنبوة، وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}؛ أي: مما يجمع هؤلاء الكفار من حطام الدنيا الدنية الفانية، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام، وكثير من جهلة بني آدم، والعظيم من رزق من تلك الرحمة العظيمة، لا مما يجمعون من الدنيء الحقير، يظنون أن العظمة به. وفيه (¬1): إشارة إلى أن الله يعطي الفقير من فقراء البلد، لا يؤبه به ما لا يعطي لعلمائه، وأفاضله من حقائق القرآن، وأسراره، فإن قسمة العلم والمعرفة بيده سبحانه، كقسمة النبوة والرسالة، فما لا يحصل بالدرس قد يحصل بالوهب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} ترسم (¬2) هذه التاء مجرورةً في الموضعين من هذه السورة، اتباعًا لرسم مصحف الإمام عثمان - رضي الله عنه -، وكذا ترسم مجرورةً في سورة الأعراف في قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وفي سورة الروم في قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} وفي سورة هود في قوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وفي سورة مريم في قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}، وفي البقرة في قوله: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}، وفيما عدا هذه السبعة المواضع، ترسم مربوطةً على صورة الهاء، وأبو عمرو وابن كثير والكسائي يقفون عليها بالهاء كسائر الهاءات الداخلة على الأسماء، كفاطمة وقائمة، وهي لغة قريش، والباقون يقفون عليها بالتاء تغليبًا لجانب الرسم، وهي لغة طيء. 33 - ثم بين الله سبحانه وتعالى، حقارة الدنيا وخستها بقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} وهنا لا بد (¬3) من تقدير مضاف، فإن لولا لانتفاء الثاني، لوجود الأول، ولا تحقق لمدلول لولا ظاهرًا؛ أي: ولولا كراهة أن يرغب الناس في الكفر، إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا، وتوهم أن ذلك لفضيلة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

[34]

في الكفار، ويجتمعوا على الكفر، ويكونوا في الكفر أمةً واحدة {لَجَعَلْنَا} لحقارة الدنيا، وهوانها عندنا {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} لشر الخلائق وأدناهم منزلة، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}. {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال (¬1) من {لِمَن} أو اللام بمعنى على، وجمع الضمير باعتبار معنى من، كما أن إفراد المستكن في {يَكْفُرُ} باعتبار لفظها، والبيوت جمع بيت، وهو اسم لمبني مسقف، مدخله من جانب واحد، كما سيأتي في مبحث اللغة {سُقُفًا} متخذة {مِنْ فِضَّةٍ} جمع سقف، وهو سماء البيت. وقرأ الجمهور (¬2): {سُقُفًا} بضمتين، كرهن ورهن، قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما، وقرأ أبو رجاء بضم فسكون وهي لغة تميم، وهي أيضًا جمع سقف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وسكون القاف على الإفراد. وقال الفراء: جمع سقيف كرغيف ورغف وكثيب وكُثُب، وقرىء بفتحتين، كأنه لغة في سقف، وقرىء سقوفًا جمعًا على فعول، نحو: كعب وكعوب، والفضة: جسم ذائب، صابر، منطرق، أبيض رزين، كما سيأتي في مبحث اللغة {وَمَعَارِجَ} معطوف على {سُقُفًا}، جمع معرج بفتح الميم وكسرها، بمعنى: السلم، والمعارج: المصاعد، والسلالم، وقرأ الجمهور: {وَمَعَارِجَ} جمع معرج، وطلحة {ومعاريج} جمع معراج، والمعنى: وجعلنا لهم مصاعد ومراقي من فضة، حذف لدلالة الأول عليه. {عَلَيْهَا}؛ أي: على المعارج {يَظْهَرُونَ}؛ أي: يصعدون إلى العلالي والسطوح 34 - {وَلِبُيُوتِهِمْ}؛ أي: وجعلنا لبيوتهم، ولعل تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير {أَبْوَابًا} جمع باب، وهو مدخل الشيء ومخرجه؛ أي: مداخل {وَسُرُرًا} جمع سرير، وهو الذي يجلس عليه أو ينام فيه؛ أي: وجعلنا لبيوتهم أبوابًا وسررًا من فضة {عَلَيْهَا}؛ أي: على السرر {يَتَّكِئُونَ}؛ أي: يعتمدون ويجلسون عليها من الاتكاء، وهو الاعتماد على الشيء والاستناد إليه، وقرأ الجمهور {سُررًا} بضم السين. وقرىء بفتحها، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب، وذلك في جمع فعيل المضعف، إذا كان اسمًا باتفاق، وصفةً نحو: ثوب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[35]

جديد وثياب جدد، باختلاف بين النحاة ذكره في "البحر" 35 - {وَزُخْرُفًا} إما معطوف على {سُقُفًا}، والزخرف حينئذ بمعنى ما يزين به البيت من أثاث وأمتعة ومواعين كالأواني والمفارش وما يزين به الجدار؛ أي: ولجعلنا لبيوتهم زينةً تزوق بها البيوت من الأثاث والمواعين، أو معطوف على محل {مِنْ فِضَّةٍ} فيكون بمعنى الذهب، فيكون أصل الكلام: ولجعلنا لبيوتهم سقفًا من فضة ومن زخرف يعني: بعض السقف من فضة وبعضها من ذهب، فيكون نصبه على هذا بنزع الخافض؛ أي: أبوابًا وسررًا من فضة ومن ذهب، فلما حذف الخافض انتصب. والمعنى (¬1): أي ولولا كراهية أن يكون الناس كلهم على ملة الكفر ميلا إلى الدنيا وزخرفها، فلا يبقى في الأرض مؤمن، لأعطينا الكفار ثروات طائلةً، وجعلنا سقف بيوتهم وسلالمهم ومصاعدهم التي يرتقون ويصعدون عليها، وأبواب البيوت والسرر التي يتكئون عليها من فضة خالصة وذهب خالص وزينةٍ ونقوش، فائقة لهوان الدنيا عند الله تعالى. {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إن نافية، ولما بالتشديد بمعنى إلا؛ أي: وما كل ذلك المذكور من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا لا دوام له ولا حاصل إلا الندامة والغرامة، وقرىء بتخفيف لما على أنّ {إن} هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وما صلة، والتقدير: وإن الشأن كل ذلك لمتاع الحيياة الدنيا {وَالْآخِرَةُ} بما فيها من فنون النعم التي يقصر عنها البيان حال كونها مدخرة {عِنْدَ رَبِّكَ} كائنةً {لِلْمُتَّقِينَ} عن الشرك والمعاصي؛ أي: لمن اتقى الشرك والمعاصي، وآمن بالله وحده، وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى ونعيمها الدائم الذي لا يزول. وقرأ الجمهور (¬2): {لَمَّا} بفتح اللام وتخفيف الميم، وإن: هي المخففة من الثقيلة، واللام: هي الفارقة بين الإيجاب والنفي، و {ما}: زائدة، و {مَتَاعُ}: خبر {كُلُّ}، وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وعيسى وعاصم وحمزة {لمّا} ¬

_ (¬1) التفسير المنير. (¬2) البحر المحيط.

بتشديد الميم، و {إن}: نافية، و {لما} بمعنى إلا، كما مر آنفًا. وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة {لما} بكسر اللام، وخرجوه على أن {ما} موصولة، والعائد محذوف تقديره: للذي هو متاع الحياة الدنيا، كقوله: تمامًا على الذي هو أحسن، وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة، وكل مبتدأ وخبره في المجرور؛ أي: وإنه كل ذلك كائن، أو مستقر للذي هو متاع الحياة الدنيا ذكره في "البحر المحيط". وعبارة "المراغي" في معنى هذه الآية؛ أي: ولولا أن يعتقد كثير من الجهلة، أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم لجعلنا لبيوتهم سقفًا من فضة، ومصاعد من فضة وسررًا من فضة عليها يتكئون، وزينةً في كل ما يرتفق به من شؤون الحياة. ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهي متاع الحياة الفانية، فقال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ} إلخ؛ أي: وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عد ولا إحصاء، أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا. وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للؤمنين، حتى يصير الناس كلهم مبسوطين، لأخلت بالمقصود من الإيمان؛ لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات، والرقي العقلي، فقل من يتخلص من شرك هذه الآفات، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول، أشبه بالقاذورات للأجسام، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب، فيلقي فيها بيوضه لتفرخ في القروح والعيون، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذوات، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين، وتلقي إليها بذور الفساد، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيًا وعارًا في الدنيا والآخرة، وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ...} إلخ. وأخرج الترمذي وابن ماجه والبغوي والطبراني عن سهل بن سعد رضي الله

[36]

عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء". ومعنى هوان الدنيا على الله، أنه سبحانه، لم يجعلها مقصودةً لنفسها، بل جعلها طريقًا موصلًا إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاءٍ، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملّكها في الغالب الجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء، وأبغضها وأبغض أهلها، ولم يرض العاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها. 36 - {وَمَنْ يَعْشُ} هذه الآية متصلة بقوله أول السورة: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}، أي: لا نضربه عنكم، بل نواصله لكم، فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه، إلى تأويل المضلين وأباطيلهم، نقيض له شيطانًا. و {يَعْشُ}: من عشا يعشو عشًا إذا تعاشى بلا آفة وتعامى؛ أي: نظر نظر العشا، ولا آفة في بصره، والعشا بالفتح والقصر ظلمة تعرض في العين، كما سيأتي. و {من} فيه شرطية؛ أي: ومن يتعام عن القرآن ويعرض {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} سبحانه {نُقَيِّضْ لَهُ}؛ أي: نهيىء له {شَيْطَانًا} ونسلطه عليه ونضمه إليه ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض، وهو القشر الأعلى اليابس {فَهُوَ}؛ أي: ذلك الشيطان {لَهُ}؛ أي: لذلك العاشي والمعرض {قَرِينٌ}؛ أي: مصاحب وملازم له، لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه، ويزين له العمى على الهدى، والقبيح بدل الحسن، أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره، ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه، والعشا في العين ضعف البصر، والمراد هنا: عشا البصيرة. رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أراد الله بعبد شرًا، قيض له شيطانًا قبل موته بسنة، فلا يرى حسنًا إلا قبحه عنده، حتى لا يعمل به، ولا يرى قبيحًا إلا حسنه حتى يعمل به، وينبغي أن يكون هذا الشيطان غير قرينه الجني الكافر، وإلا فكل أحد له شيطان هو قرينه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: "وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" أخرجه مسلم بمعناه.

والمعنى: أي ومن يتعام عن ذكر الله، ويعرض عنه، وينهمك في لذات الدنيا وشهواتها .. نسلط عليه شياطين الإنس والجن، يزينون له أن يرتع في الشهوات، ويلغ في اللذات، فلا يألو جهدًا في ارتكاب الآثام، والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة، ونخلق الحيات والعقارب والحشرات في المحالّ العفنة، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم في الذنوب لاستعدادهم لها، فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة، والأدواء التي لا يجدي فيها علاج، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، وأنّى لهم أن تنفعهم تلك الذكرى، فقد فات الأوان ولا ينفع الندم على فائت. نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ ... وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ قال الزجاج: معنى الآية: إن من أعرض عن القرآن، وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين، يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينًا له، فلا يهتدي مجازاةً له، حين آثر الباطل على الحق المبين اهـ. وقرأ الجمهور (¬1): {وَمَنْ يَعْشُ} بضم الشين من عشا يعشو كدعا يدعو؛ أي: يتعام بلا آفة في بصره، كعرج بفتح الراء، ويتجاهل عن ذكره وهو يعرف الحق، وقيل: يقل نظره في شرع الله، ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الله، والذكر هنا يجوز أن يراد به القرآن، ويحتمل أن يكون مصدرًا أضيف إلى المفعول؛ أي: يعش عن أن يذكر الرحمن. وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن سلام البصري: {ومن يعش} بفتح الشين، يقال: عشي الرجل يعشى عشيًا، من باب رضي إذا عمي وكان في بصره آفة، كعرج بكسر الراء، وقرأ زيد بن علي {يعشو} بالواو. قال الزمخشري: على أن {من}: موصولة غير متضمنة معنى الشرط، وحق هذا القارىء أن يرفع {نُقَيِّضْ} انتهى، ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن تكون {مَنْ} شرطية، {يعشو} مجزوم بحذف الحركة تقديرًا، وقرأ الجمهور: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[37]

{نُقَيِّضْ لَهُ} بالنون. وقرأ السلمي وعلي بن زيد وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه، والعليمي عن أبي بكر {يقيض} بالياء مبنيًا للفاعل؛ أي: يقيض الرحمن. وقرأ ابن عباس {يقيض له} بالبناء للمفعول {شيطان} الرفع؛ أي (¬1): ييسر له شيطان ويعد له، وهذا عقاب على الكفر بالختم 37 - {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإن الشياطين الذين قيض كل واحد منهم، لكل واحد ممن يعشو {لَيَصُدُّونَهُمْ}؛ أي: ليمنعون قرناءهم، فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من، كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها {عَنِ السَّبِيلِ}؛ أي: عن الطريق المستبين الذي من حقه أن يسبل، وهو الذي يدعو إليه القرآن {وَيَحْسَبُونَ}؛ أي: والحال أن العاشين يظنون {أَنَّهُمْ}؛ أي: أن الشياطين {مُهْتَدُونَ}؛ أي: إلى السبيل المستقيم؛ أي: يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم، وإلا لما اتبعوهم، أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة، أنهم في أنفسهم مهتدون؛ لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين، مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك، لاتحاد مسلكهما. والمعنى (¬2): أي وإن هؤلاء الشياطين، الذين يقيضهم الله سبحانه وتعالى لكل من يعشو عن ذكر الرحمن، ليحولن بينهم وبين سبيل الحق، ويوسوسن لهم، أنهم على الجادة، وسواهم على الباطل، فيطيعونهم ويكرهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته. 38 - ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} حتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطة، ومع هذا غاية لما قبلها، فإن الابتدائية لا تنافيها. والمعنى: يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة، وقرأ أبو جعفر (¬3) وشيبة وقتادة والزهري والجحدري وأبو بكر والحرميان - نافع وابن كثير - {حتى إذا جاآنا} على التثنية؛ أي: العاشي والقرين إعادةً على لفظ {من}، والشيطان: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

القرين وإن كان من حيث المعنى صالحًا للجمع. وقرأ الأعمش (¬1) والأعرج وعيسى وابن محيصن والأخوان - حمزة والكسائي - {جاءنا} على الإفراد، والضمير عائد على لفظ {من}، أعاد أولًا على اللفظ، ثم جمع على المعنى، ثم أفرد على اللفظ، ونظير ذلك: قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أفرد أولًا، ثم جمع في قوله: {خَالِدِينَ}، ثم أفرد في قوله: {رِزْقًا}. رُوي: أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله تعالى إلى النار {قَالَ} العاشي الكافر، مخاطبًا لشيطانه {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}؛ أي: يا هذا القرين، أتمنى لو كان بيني وبينك في الدنيا بعد كالبعد الذي بين المشرق والمغرب، حتى لا تصدني عن سبيل الله سبحانه، أو تمنى ذلك في الآخرة وهو الظاهر؛ لأنه جواب إذا التي للاستقبال؛ أي: بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق، فغلب المشرق فثناهما، كما قالوا: العمران في أبي بكر وعمر، والقمران في الشمس والقمر، واختار تغليب المشرق على المغرب لمناسبة الشيطان؛ لأنه حيث يطلع قرن الشيطان، كما في الحديث الصحيح. وقال مقاتل: أي مشرقي الشمس، مشرقها في أقصر يوم من السنة، ومشرقها في أطول يوم من السنة، قاله ابن السائب أيضًا، يعني: أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة، من مشرق أقصر يوم في السنة، والأول (¬2) أولى، وبه قال الفراء {فَبِئْسَ الْقَرِينُ}؛ أي: الصاحب المقارن لي، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: أنت أيها الشيطان. والمعنى (¬3): أي يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين، حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا، وعرض عليها، أعرض عن قرينه، الذي وكل به، وتبرأ منه، وقال: ليت بيني وبينك بعدما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين، أنت أيها الشيطان؛ لأنك قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العذاب المهين، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[39]

والخزي الدائم، والعيش الضنك، والمحل المقض المضجع. 39 - ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ، توبيخًا وتأنيبًا، فقال: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم، يعني: يوم القيامة، فهو حكاية لما سيقال لهم حينئذ، من جهة الله تعالى، توبيخًا وتقريعًا؛ أي: لن ينفعكم اليوم تمنيكم لمباعدتهم {إِذْ ظَلَمْتُمْ}؛ أي: لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا، باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي، وإذ للتعليل، متعلق بالنفي، كما قال سيبويه، إنها بمعنى التعليل، حرف بمنزلة لام العلة {أَنَّكُمْ}؛ أي: أنتم وشياطينكم {فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} تعليل لنفي النفع؛ أي: لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم القرناء في العذاب، كما كنتم في الدنيا مشتركين في سببه، ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن عامر، على اختلاف عليه فيها، بكسر همزة {إنّ}. وقرأ الجمهور: بفتح همزة {إنّ} على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية لينفعكم؛ أي: لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، بمعنى لن يحصل لكم التشفي، يكون قرنائكم معذبين مثلكم، حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}، ونظائره: لتشفوا بذلك، قال المفسرون: لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب؛ لأن لكل أحد الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه. وفي الآية (¬1): إشارة إلى حال التابع والمتبوع، من أهل الأهواء والبدع، فإن المتبوع منهم، كان شيطان التابع في الإضلال عن طريق السنة، فلما فات الوقت وأدرك المقت، وقعوا في التمني الباطل، قيل: فَضِّلِ الْيَوْمَ عَلَى الْغَدِ ... إِنَّ لِلتَّأْخِيْرِ آفَاتِ فعلى العاقل تدارك حاله وتفكر مآله، والهرب من الشيطان الأسود والأبيض، قبل أن يهرب هو منه. ومعنى الآية: أي (¬2) ولن ينفعكم في هذا اليوم اشتراككم في العذاب، أنتم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[40]

وقرناؤكم، كما كان ينفع في الدنيا الاشتراك في المهام الدنيوية، إذ يتعاونون في تحمل أعبائها، ويتقاسمون شدتها وعناءها، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته ولا قدرة له على احتماله وقد يكون المعنى: ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسي، فإن المكروب في الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك في البلوى، فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخرًا: يُذَكِّرُنِيْ طُلُوْعُ الشَّمْسِ صَخْرَا ... وَأَذْكرُهُ بِكُلِّ مَغِيْبِ شَمْسِ فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِيْن حَوْلِيْ ... عَلَى إِخْوانِهِمْ لقَتَلْتُ نَفْسِيْ وَمَا يَبْكوْنَ مِثْلَ أَخِيْ وَلَكِنْ ... أعَزِّيْ النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّيْ وقصارى ذلك: أنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه، وقد يكون المعنى: ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم، فأنتم وقرناؤكم مشتركون في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا، 40 - ولما وصفهم فيما سلف بالعشى، وصفهم هنا بالعمى والصمم، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينه ضعف في البصر، وكلما زاد انهماكه فيها، كان ميله إلى الجسمانيات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل، فقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنت تتعب نفسك يا محمد، في دعاء قومك إلى التوحيد، فأنت تسمع الحق الصم؛ أي: الذين تصامّوا عن سماعه {أَوْ تَهْدِي} وترشد إلى الحق {الْعُمْيَ}؛ أي: الذين تعاموا عن إبصاره {و} تهدي {مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: بين لا يخفى على أحد؛ أي: ومن كان في علم الله، أنه يموت على الضلالة، فهو معطوف على العمى، باعتبار تغاير الوصفين؛ أي: أنت لا تسمعهم؛ أي: لا ينتفعون بسماعك، يشير (¬1) إلى أن من سددنا بصيرته، ولبسنا عليه رشده، ومن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

صببنا في مسامع قلبه رصاص الشقاء والحرمان، لا يمكنك يا محمد مع كمال نبوتك هدايته، وإسماعه من غير عنايتنا السابقة، ورعايتنا اللاحقة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعب نفسه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غيًّا وتعاميًا عما يشاهدونه من شواهد النبوة، وتصامًّا عما يسمعونه من بينات القرآن، فنزلت الآية، وهو إنكار تعجب، من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، بعد تمرنهم على الكفر، واستغراقهم في الضلال، بحيث صار عشاهم عمى مقرونًا بالصمم، فنزل منزلة من يدعي أنه قادر على ذلك لإصراره على دعائهم قائلًا: أنا أسمع وأهدي، على قصد تقوي الحكم، لا التخصيص، فعجب تعالى منه. ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط، بحيث لا ارعواء له عنه، لا توهم القصور من قبل الهادي، ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء، يعني: لا يقدر على إسماع الصم وهداية العمي، وجعل الكافر مؤمنًا إلا الله وحده، لعظم قدرته وإحاطة تعلقها بكل مقدور. ومعنى الآية: أي أفانت (¬1) تسمع من قد سلبهم الله استماع حججه التي ذكرها في كتابه، أو تهدي إلى طريق الحق، من أعمى قلوبهم عن أبصارها، واستحوذ عليهم الشيطان، فزين لهم طريق الردى. والخلاصة: أن ذلك ليس إليك إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب، وتوجيهها إلى حيث شاء، فعليك البلاغ وعلينا الحساب. 41 - وبعد أن أيأسه من إيمانهم، سلاه بالانتقام منهم لأجله، إما حال حياته، أو بعد مماته، فقال: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} أصله (¬2): إن ما على أن {إن} للشرط و {ما} مزيدة للتأكيد، بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة؛ أي: فإن قبضناك وأمتناك يا محمد، وأذهبناك من الدنيا، قبل أن نبصرك عذابهم، ونشفي بذلك صدرك، وصدر المؤمنين {فَإِنَّا مِنْهُمْ}؛ أي: من هؤلاء المشركين {مُنْتَقِمُونَ} لا محالة في الدنيا والآخرة 42 - {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} أو إن أردنا أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[43]

نريك العذاب الذي وعدناهم {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} لا يفوتوننا؛ لأنهم تحت قهرنا وقدرتنا. وفي الآية تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأنه تعالى ينتقم من أعدائه ومنكريه، إما في حال حياته، وإما بعد مماته، وإنه قادر على انتقامهم بواسطته كما كان في يوم بدر، أو بغير واسطة، كما كان في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - وغيره. وقرىء {نرينك} بالنون الخفيفة. ومعنى الآية (¬1): أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين، بموت أو غيره، فإنا منهم منتقمون، كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم، المكذبة لرسلها، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم، وعلائك عليهم، فإنا عليهم مقتدرون، فنظهرك عليهم، ونخزيهم بيديك، وأيدي المؤمنين، وفي التعبير بالوعد، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، إشارة إلى أن ذلك سيقع حتمًا، وهكذا كان، فإنه لم يقبض رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقر عينيه من أعدائه، وحكمه في نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم، قاله السدي، واختاره ابن جرير. 43 - ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يستمسك بما أوحى به إليه، فيعمل به، فقال: {فَاسْتَمْسِكْ} يا محمد {بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ}؛ أي: تمسك بالقرآن الذي أنزل عليك بمراعاة أحكامه، وإن كذب به من كذب، سواء عجلنا لك الموعود، أو أخرناه إلى يوم الآخرة {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: طريق سوي لا عوج له، وهو طريق التوحيد ودين الإسلام، والجملة تعليل لقوله: {فَاسْتَمْسِكْ}. وفي "التأويلات النجمية": فاعتصم بالقرآن، فإنه حبل الله المتين، بأن تتخلق بخلقه وتدور معه حيث يدور، وقف حيث ما أمرت، وثق بربك فإنك على صراط مستقيم، تصل به إلى حضرة جلالنا 44 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك {لَذِكْرٌ}؛ أي: لشرف عظيم {لَكَ} خصوصًا {وَلِقَوْمِكَ}؛ أي: لأمتك عمومًا كما قال عليه السلام: "إن لكل شيء شرفًا يباهى به، وإن أمتي تباهي وشرفها القرآن" ¬

_ (¬1) المراغي.

فالمراد بالقوم (¬1): الأمة، كما قال مجاهد، وقال بعضهم: ولقومك من قريش حيث يقال: إن هذا الكتاب العظيم، أنزله الله على رجل من هؤلاء، قال في "الكواشي": أولاهم بذلك الشرف الأقرب، فالأقرب منه - صلى الله عليه وسلم -، كقريش، ثم بني هاشم، وبني المطلب. قال ابن عطاء: شرف لك بانتسابك إلينا، وشرف لقومك بانتسابهم إليك؛ أي: لأن الانتساب إلى العظيم عظم، وإلى الشريف شرف. ثم جمع الله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه فقال: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه، وعن تعظيمكم وشرككم على أن رزقتموه، وخصصتم به من بين العالمين. وقال القرطبي والصحيح: أنه شرف لمن عمل به كان من قريش، أو من غيرهم، انتهى. ومعنى الآية (¬2): أي فخذ يا محمد بهذا القرآن، المنزل على قلبك، فإنه هو الحق المفضي إلى الصراط المستقيم، والموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم، وإنه لشرف عظيم لك، ولقومك؛ لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم، فهم أفهم الناس به، فينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به، وسوف تسألون يوم القيامة عن حقه، وأداء شكر النعمة فيه. أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا إن الله تعالى، علم ما في قلبي من حبي لقومي، فبشرني فيهم"، فقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} الآية، فجعل الذكر والشرف لقومي، إلى أن قال: "فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي، والشهيد من قومي، وإن الله قلب العباد ظهرًا وبطنًا، فكان خير العرب قريش، وهي الشجرة المباركة". ثم قال عدي: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عنده قريش بخير، إلا سره، حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم اهـ. ونظير الآية، قوله في سورة الأنبياء: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[45]

أي: شرفكم، فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم، وصاروا عيالًا عليهم، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهي، وأنباء وقصص، وحكمة وأدب. وروى الترمذي عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن هذا الأمر في قريش، لا ينازعهم فيه أحد، إلا أكبه الله تعالى على وجهه، ما أقاموا الدين"، وفي الآية، إيماء إلى أن الذكر الجميل، والثناء الحسن، أمر مرغوب فيه، ولولا ذلك ما امتن الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - به، ولما طلبه إبراهيم عليه السلام بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} وقال ابن دريد: إِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيْثٌ بَعْدَهُ ... كُنْ حَدِيْثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى وقال المتنبي: ذِكْرُ الْفَتَى عُمْرُهُ الثَّانِيْ وَحَاجَتُهُ ... مَا قَاتَهُ وَفُضُوْلُ الْعَيْشِ أَشْغَالُ وخلاصة ما سلف: أن القرآن نزل بلغة العرب، وقد وعد الله بنشر هذا الدين، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة، فهم الملزمون بنشرها، ونشر هذا الدين للأمم الأخرى، فمتى قصروا في ذلك، أذلهم الله تعالى في الدنيا، وأدخلهم النار في الآخرة، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب، ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم، فينشروا هذا القرآن، ويكتبوا المصاحف باللغة العربية، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة، كالإنجليزية والألمانية والروسية والأرومية، تعرِّف الأمم كلها هذا الدين، معرفةً حقةً خاليةً من الخرافات، التي ألصقها به المبتدعون ويعود سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز. 45 - ثم وبخ مشركي قريش، بأن ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، لم يأت في شريعة من الشرائع فقال: {وَاسْأَلْ} يا محمد {مَنْ أَرْسَلْنَا} في محل النصب على أنه مفعول {اسأل}، وهو على حذف المضاف. لاستحالة السؤال من الرسل حقيقةً، والمعنى: واسأل أمم من أرسلنا {مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} وعلماء دينهم.

وفائدة هذا المجاز: التنبيه على أن المسؤول عنه، عين ما نطقت به ألسنة الرسل، لا ما يقوله أممهم وعلماؤهم من تلقاء أنفسهم {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؛ أي: هل حكمنا بعبادة الأوثان، وهل جاءت في ملة من مللهم، والمراد به: الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والتنبيه على أنه ليس بباع ابتدعه، حتى يكذب ويعادى له، فإنه أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة. قال ابن الشيخ: السؤال يكون لرفع الالتباس، ولم يكن رسول الله يشك في ذلك، وإنما الخطاب له والمراد غيره، قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما نزلت هذه الآية، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أساس". والمعنى (¬1): أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل، هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذاك في ملة من الملل، أو المراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المسلمين على التوحيد، والتنبيه على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس ببدع من بين الرسل في الأمر، حتى يكذب ويعادى له؟ وقصارى ذلك: أن الرسل جميعًا دعوا إلى ما دعا إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام، ونحو الآية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وجعل الزمخشري السؤال في الآية مجازًا على النظر في أديانهم، والفحص عن مللهم، على أنه نظير قولهم: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك. وللآية وجه آخر (¬2)، بحملها على ظاهرها من غير تقدير مضاف، وهو ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم -، لما أُسري به إلى المسجد الأقصى، حشر إليه الأنبياء، والمرسلون من قبورهم، ومثلوا له، فأذّن جبرائيل، ثم أقام، وقال: يا محمد تقدم فصل بإخوانك الأنبياء والمرسلين، فلما فرغ من الصلاة، قال له جبرائيل: زعمت قريش، أن لله شريكًا، وزعمت اليهود والنصارى، أن لله ولدًا، سل يا محمد، هؤلاء النبيين، هل كان لله شريك؟ ثم قرأ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[46]

الآية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا أسأل، وقد اكتفيت، ولست بشاكّ فيه، فلم يشك فيه، ولم يسأل، وكان أثبت يقينًا من ذلك. قال أبو القاسم، المفسر في كتاب "التنزيل" له: إن هذه الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيت المقدس، ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام، أقروا لله تعالى بالوحدانية، وقالوا: بعثنا بالتوحيد، انتهى. قصة موسى عليه السلام مع فرعون اللعين 46 - ولما أعلم سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوه، وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد، أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون، وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد بعثنا موسى بن عمران عليه السلام، حال كونه متلبسًا {بِآيَاتِنَا} ومعجزاتنا التسع الدالة على صحة نبوته {إِلَى فِرْعَوْنَ} اللعين {وَمَلَئِهِ}؛ أي: أشراف قومه، والإرسال إلى الأشراف إرسال إلى الأراذل؛ لأنهم تابعون لهم {فَقَالَ} موسى لهم {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إليكم فاتبعوني وأطيعوا أمري 47 - {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} موسى {بِآيَاتِنَا} ليسعدوا وينتهوا وينتفعوا بها، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} مرتب على محذوف، تقديره: فطلبوا منه الآيات الدالة على صدقه، فلما جاءهم إلخ، كما يدل عليه ما في سورة الأعراف من قوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} إلخ. {إِذَا} فجائية رابطة لجواب لما الشرطية {هُمْ مِنْهَا}؛ أي: من تلك الآيات {يَضْحَكُونَ} استهزاء بها، ويسخرون منها، ويهزؤون بها؛ أي: فاجؤوا المجيء بها بالضحك، سخرية من غير توقف، ولا تأمل، وإذا هنا حرف فجأة لا ظرف، كما زعمه الزمخشري؛ أي: استهزؤوا بها، وكذبوها أول ما رأوها، ولم يتأملوا فيها، وقالوا: سحر وتخييل ظلمًا وعلوًا. والمعنى (¬1): أي فلما جاءهم موسى بالأدلة على صدق قوله، فيما يدعوهم إليه من توحيد الله، وترك عبادة الآلهة، إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك ¬

_ (¬1) المراغي.

[48]

المعجزات، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على، ما كان يلقاه من قومه المشركين، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم، الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله، وتكذيب. رسله، وندب له أن يستن بسنة أولي العزم من الرسل، في الصبر على أذي أقوامهم، وتكذيبهم لهم، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك، كسنته في الكافرين قبلهم، وظفره بهم، وعلو أمره، كما فعل بموسى عليه السلام وقومه، الذين آمنوا معه من إظهارهم على فرعون وملئه. 48 - {وَمَا نُرِيهِمْ}؛ أي: وما أرينا فرعون وملأه {مِنْ آيَةٍ} من تلك الآيات؛ أي: حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا في دعواه الرسالة {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}؛ أي: إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، وآكد في الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله؛ أي: كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها، وأعظم قدرًا، مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها. وقيل المعنى (¬1): إن الأولى تقتضي علمًا، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح، ومعنى الأخوة بين الآيات: أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى، كما يقال: هذه صاحبة هذه؛ أي: هما قرينتان في المعني، وقيل: المعني أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر أو سائر الآيات، ومثل هذا: قول القائل: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلُ النَّجُوْمِ الَّتِيْ يَسْرِيْ بِهَا السَّارِيْ وجملة قوله: {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} في محل جر، صفة لـ {آيَةٍ}. ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم، فقال: {وَأَخَذْنَاهُمْ}؛ أي: أخذنا فرعون وقدمه {بِالْعَذَابِ} وعاقبناهم بالسنين، والطوفان والجراد والدم والطمس ونحوها، وكانت هذه الآيات دلالات ومعجزات لموسى، وزجرًا وعذابًا للكافرين {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ أي: لكي يرجعوا (¬2) عما هم عليه أو الكفر، فإن من جهولية نفس ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[49]

الإنسان، أن لا يرجع إلى الله على أقدام العبودية، إلا أن يجر بسلاسل البأساء والضراء إلى الحضرة الإلهية، فكلمة لعل، مستعارة لمعنى كي، وهو التعليل كما سبق في أول هذه السورة؛ أي: عاقبناهم بالعذاب لكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي، 49 - ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات، ظنوا أن ذلك من قبيل السحر {وَقَالُوا}؛ أي: فرعون وقدمه في كل مرة أو العذاب، لما ضاق نطاق بشريتهم {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} نادوه بذلك في مثل تلك الحالة؛ أي: عند طلب كشف العذاب بدعائه، لغاية عتوهم وغاية حماقتهم، أو سبق ذلك إلى لسانهم، على ما ألفوه من تسميتهم إياه بالساحر لفرط حيرتهم، قال سعدي المفتي: والأظهر: أن النداء كان باسمه العلم، كما في الأعراف، لكن حكى الله تعالى هذا كلامهم لا بعبارتهم، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم، من اعتقادهم أنه ساحر، لاقتضاء مقام التسلية ذلك، فإن قريشًا أيضًا سموه ساحرًا، وسموا ما أتى به سحرًا، وعن الحسن قالوه على الاستهزاء، وقال بعضهم: قالوه تعظيمًا، فإن السحر كان عندهم علمًا عظيمًا، وصفةً ممدوحةً والساحر فيهم عظيم الشأن، فكأنهم قالوا: يا أيها العالم بالسحر الكامل، الحاذق فيه، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ليكشف عنا العذاب {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}؛ أي: بسبب ما أخبرتنا من عهده إليك، أنا من آمنا به كشفه عنا، أو بعهده عندك، وهو النبوة، فإن النبوة تسمى عهد الله، والباء حينئذ للقسم؛ أي: ادع الله بحق ما عندك من النبوة، أو بما عهده عندك من استجابة دعوتك في كل شيء. قال في "التأويلات النجمية": ما قالوا مع هذا الاضطرار: يا أيها الرسول، وما قالوا: ادع لنا ربنا؛ لأنهم ما رجعوا إلى الله بصدق النية، وخلوص العقيدة. ليروه بنور الإيمان رسولًا، ويروا الله ربهم، وإنما رجعوا بالاضطرار لخلاص أنفسهم، لا لخلاص قلوبهم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}؛ أي: لمؤمنون على تقدير كشف العذاب عنا بدعوتك وعد منهم، معلق بشرط الدعاء، ولهذا تعرضوا للنبوة على تقدير صحتها، وقالوا: ربك، لا ربنا، فإنه إنما يكون ربهم بعد الإيمان؛ لأنهم قائلون بربوبية فرعون.

[50]

50 - وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} مرتب على محذوف تقديره: فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب، فلما كشفنا وأزلنا عنهم العذاب النازل بهم {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}؛ أي: فاجؤوا نقص عهدهم بالاهتداء، وهو الإيمان؛ أي: بادروا النكث ولم يؤخروه، وعادوا إلى كفرهم، وأصروا عليه، ولما نقضوا عهودهم صاروا ملعونين، ومن آثار لعنهم الغرق كما يأتي، فعلى العاقل الوفاء بالعهد، وقرأ أبو حيوة {يَنْكُثُونَ} بكسر الكاف. والمعنى: فدعانا موسى فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا، ونقضوا العهد، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى، يعدونه في كل مرة أن يؤمنوا به، إذا كشف الرجز، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه، ونحو الآية: ما جاء في سورة الأعراف من قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)}. 51 - ثم أخبر سبحانه، عن تمرد فرعون وعتوه وعناده، فقال: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ} بنفسه، أو بمناد أمره بالنداء {فِي قَوْمِهِ}؛ أي: في مجمعهم وفيما بينهم، بعد أن كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمنوا فـ {قَالَ يَا قَوْمِ} يريد الأقباط {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} الهمزة فيه للاستفهام التقريري. لا ينازعني فيه أحد، ولا يخالفني مخالف، وهي أربعون فرسخًا في أربعين، وفي "فتح الرحمن": وهو من نحو الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، وأسوان بالضم، بلد بصعيد مصر، كما في "القاموس". قال في "روضة الأخبار": مصر بلدة معروفة، بناها مصر بن حام بن نوح، وبه سميت مصر مصرًا. {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ}؛ أي: أنهار (¬1) النيل، فاللام عوض عن المضاف إليه، والمراد بها: الخلجان الكبار الخارجة من النيل، ومعظمها أربعة أنهر، نهر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

الملك وهو نهر الإسكندرية، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس، وهو بوزن سكين بلدة بجزيرة من جزائر بحر الروم، قرب دمياط، ينسب إليها الثياب الفاخرة، كما في "القاموس" {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}؛ أي: من تحت قصري، أو بأمري، والواو في قوله: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} إما عاطفة لهذه الأنهار على ملك، فجملة {تَجْرِي} حال منها، أو {الواو} للحال، فـ {هذه} مبتدأ و {الأنهار} صفتها، و {تجري} خبر للمبتدأ. قال في "خريدة العجائب": ليس في الدنيا نهر أطول من النيل؛ لأن مسيرته شهران في الإِسلام، وشهران في الكفر، وشهران في البرية، وأربعة أشهر في الخراب، ومخرجه أو بلاد جبل القمر، خلف خط الاستواء، وسمي جبل القمر؛ لأن القمر لا يطلع عليه أصلًا، لخروجه عن خط الاستواء، وميله عن نوره، وضوءه يخرج في بحر الظلمة؛ أي: البحر الأسود، ويدخل تحت جبل القمر، وليس في الدنيا نهر يشبه النيل إلا نهر مهران، وهو نهر السند، وقال الضحاك (¬1): أراد بالأنهار القوّاد والرؤساء والجبابرة، وأنهم تحت لوائه، وقيل: أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى؛ لأن هذن التفسيرين يشبهان تفسير الباطنية، والهمزة في قوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتتعامون فلا تبصرون عظمتي وقدرتي، وعجز موسى، 52 - و {أم} في قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} منقطعة، تقدر ببل الإضرابية، وبهمزة الاستفهام التقريري؛ لأن غرضه حملهم على الإقرار بخيريته، كأنه قال إثر ما عدد أسباب فضله، ومبادىء خيريته، أَثَبَت عندكم واستقر لديكم، أنى أنا خير من هذا الذي هو مهين؛ أي: بل أنا خير {مِنْ هَذَا} الساحر {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}؛ أي: ضعيف، حقير، فقير، ذليل، لا قدر ولا ملك له، من المهانة، وهي الذلة {وَلَا يَكَادُ}؛ أي: لا يقرب {يُبِينُ} الكلام، ويوضحه ويبينه للكنة، ورتة في لسانه، فكيف يصلح للنبوة والرسالة، يريد أنه ليس معه من آيات الملك والسياسة، ما يعتضده ويتقوى به، كما قالت ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قريش: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وهو في نفسه، خال عما يوصف به الرجال من الفصاحة والبلاغة، وكان الأنبياء كلهم فصحاء بلغاء، قاله افتراءً على موسى، وتنقيصا له في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه من نوع رتة، حدثت بسبب الجمرة، وقد كانت ذهبت عنه لقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)} والرتة: غير اللثغة، وهي حبسة في اللسان، تمنعه من الجريان، وسلاسة التكلم، واللثغة: إبدال حرف بحرف، كإبدال الراء غينًا، والسين ثاء مثلثة. وفي "التأويلات النجمية": تشير الآية، إلى أن من تعزز بشيء من دون الله، فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء، فلما تعزز فرعون بملك مصر، وجري النيل بأمره، كان فيه هلاكه، وكذلك من استصغر أحدًا سلط عليه، كما أو فرعون استصغر موسى عليه السلام وحديثه، وعابه بالفقر واللكنة، فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ}، فسلطه الله عليه، وكان هلاكه على يديه، وفيه إشارة أخرى، وهي أن قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ}، هو من خصوصية صفة إبليس، فكانت هذه الصفة توجد في فرعون، وكان من صفة فرعون قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، ولم توجد هذه الصفة في إبليس، وقرأ الباقر {يبين} بفتح الياء، من بان إذا ظهر. والمعنى (¬1): أي بل أنا ولا شك خير وأفضل بما لي من الملك والسلطة والسعة والجاه من هذا؛ أي: من موسى الذي هو ضعيف، حقير ممتهن في نفسه، لا عز له، ولا يكاد يبين الكلام، ويفصح عما يريد، لما في لسانه من العقدة بسبب الجمرة، وهذا حكم عليه بما يعلى منه في الماضي، دون أو يعلم أو الله الكريم، أزال عنه عقدته حين دعاه، فقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} فحل عقدة لسانه، كما جاء في قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}. قال الحسن البصري: إنه قد بفتح منها شيء، يسأل زواله، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اهـ. والأشياء الخلقية لا يعاب بها المرء ولا يذم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[53]

لكنه أراد الترويج على رعيته، وصدهم عن الإيمان به. 53 - ثم ذكر شبهةً مانعة له من الرياسة، وهي أنه لا يلبس لبس الملوك، فلا يكون رئيسًا ولا رسولًا لتلازمهما في زعمه، فقال: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} قاله توبيخًا (¬1) ولومًا على ترك الفعل، على ما هو مقتضى حرف التحضيض، الداخل على الماضي، والأسورة جمع سوار بالكسر والضم، وهو ما يلبس في الساعد، والذهب جسم ذائب صاف، منطرق، أصفر، كما سيأتي. والمعنى: فهلا أُلقي على موسى، وأُعطي مقاليد الملك، إن كان صادقًا في مقالته في رسالته، فيكون حاله خيرًا من حالي، والملقي هو رب موسى من السماء، وإلقاء الأسورة كناية عن إلقاء مقاليد الملك؛ أي: أسبابه التي هي كالمفاتيح له، وكانوا إذا سودوا رجلًا سوروه بسوارين، وطوقوه بطوق من ذهب علما على رياسته، ودلالة لسيادته؛ أي: فهلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب، فيتحلى بها إن كان صادقًا، في أن له ربًا أرسله إلينا، كما جرت عادتهم بذلك، وهذا شبيه بما قال كفار قريش في عظيم القريتين. وقرأ الضحاك (¬2): {فَلَوْلَا أُلْقِيَ}: مبنيا للفاعل؛ أي: الله {أساورة}: بالنصب، وقرأ الجمهور: {أساورة}: بالرفع. وقرأ أبي وعبد الله: {أساوير} جمع إسوار، لغة في سوار، وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والأعرج ومجاهد وأبو حيوة وحفص: {أَسوِرَةٌ} جمع سوار، نحو: خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش {أساوير}، ورويت عن أبي وعن أبي عمرو. ثم ذكر شبهةً أخرى، وهي أنه ليس له خدم أو الملائكة تعينه، فقال: {أَوْ} هلا {جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}؛ أي: حالة كونهم متقارنين متتابعين، أو مقرونين بموسى منضمين إليه: إن كان صادقًا يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون أمه، كما نفعل نحو، إذا أرسلنا رسولًا في أمر هام يحتاج إلى دفاع، وفيه خصام ونزاع، وهو بهذا، أوهم قومه أن الرسل لا بدّ أن يكونوا على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[54]

هيئة الجبابرة، أو يكونوا محفوفين بالملائكة. 54 - ثم ذكر أن هذه الخدع قد غلبت عليهم، وسحرت ألبابهم لغفلتهم، وضعف عقولهم، فاعترفوا بربوبيته، وكذبوا بنبوة موسى، فقال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ}؛ أي: فاستجهل قومه، واستحمق عقولهم بقوله وكيده، وبما أبداه لهم من عظمة الملك والرياسة، وجعلها مناطًا للعلم والنبوة، وأنه لو كانت هناك نبوة، لكان هو أولى بها {فَأَطَاعُوهُ} أي: فامتثلوه فيما أمرهم به من تكذيب موسى وإقرار ربوبيته، وجملة قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}؛ أي: خارجين عن طاعة الله تعالى، تعليل لطاعتهم له؛ أي: أطاعوه فيما أمرهم به؛ لأنهم كانوا قومًا ذوي فسق وضلال وغي، ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق، الغوي، اللعين. 55 - ذم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله، على وضوح الدليل، وظهور الحق، فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا}؛ أي: أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم، وبغيهم في الأرض، والأسف محركًا: الغضب، وقيل: مسند الغضب، وقيل: السخط (¬1)، وحقيقته ثوران دم القلب إرادة الانتقام، فمتى كان ذلك على من دونه، انتشر فصار غضبًا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنًا. والمعنى: فلما أغضبنا فرعون وقومه مسند الغضب، بالإفراط في العناد والعصيان، وغضب الله نقيض الرضى، أو إرادة الانتقام، أو تحقيق الوعيد، أو الأخذ الأليم، أو البطش الشديد، أو هتك الأستار والتعذيب بالنار، أو تغيير النعمة، وقيل: المعنى: أغضبوا رسولنا موسى عليه السلام. بتكذيبه وعدم طاعته {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: أردنا أن نعجل لهم انتقامنا وعذابنا، وأن لا نحلم عنهم، وفي "كشف الأسرار": أحللنا بهم النقمة والعذاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} في "البحر"، تفسير للانتقام؛ أي: فأهلكناهم المطاع والمطيعين له {أَجْمَعِينَ} بالإغراق في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[56]

اليم، لم نترك منهم أحدًا، وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به، وهو الماء في قوله: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}. أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في "الشعب"، وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه .. فإنما ذلك استدراج منه له"، وقرأ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}. 56 - {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا}؛ أي: قدوة لمن عمل بعلمهم من الكفار، في استحقاق العذاب ككفار قومك. وقرأ الجمهور (¬1): {سَلَفًا} بفتح السين واللام جمع سالف، كخدم وخادم وحرس وحارس، يعني: اسم جمع له؛ لأن فَعَلًا ليس من أبنية المجموع المكسرة، قال ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة؛ أي: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون. وقرأ (¬2) أبو عبد الله. وأصحابه، وسعيد بن عياض والأعمش وطلحة والأعرج وحمزة والكسائي: {وسلفا} بضم السين وضم اللام جمع سليف، كسرر وسرير، وقال أبو حاتم: هو جمع سلف، كخشب وخشب، وقرأ علي وابن مسعود ومجاهد وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس والأعرج أيضًا {وسلفا} بضم السين وفتح اللام جمع سلفة، كغرفة وغرف، وهي الفرقة المتقدمة والقطيعة من الناس. {و} جعلناهم أيضًا {مثلًا} وعبرةً وتذكرةً {لِلْآخِرِينَ}؛ أي: لمن يأتي بعدهم من الكافرين؛ أي: جعلناهم حديثًا عجيب الشأن، سائرًا مسير المثل، يحدث به الآخرون من الكفار، يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، فاللام متعلق بكل من {سَلَفًا} {وَمَثَلًا} على سبيل التنازع. الإعراب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية، {إِذْ}: ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ قال إبراهيم، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}، {لِأَبِيهِ}: متعلق بـ {قَالَ}. {وَقَوْمِهِ}: معطوف على {أَبِيهِ}، {إِنَّنِي}: ناصب واسمه، والنون نون الوقاية، {بَرَاءٌ}: خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {مِمَّا}: متعلق بـ {بَرَاءٌ}، وجملة {تَعْبُدُونَ} صلة لما الموصولة {إِلَّا}: أداة استثناء، {الَّذِي} مستثنى في محل النصب على الاستثناء، والاستثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا، بناء على أنهم كانوا يشركون مع الله الأصنام، ورجح أبو حيان كون الاستثناء منقطعًا، إذ كانوا لا يعبدون الله مع الأصنام، {فَطَرَنِي}: فعل وفاعل مستتر، ونون وقاية ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {فَإِنَّهُ} الفاء: تعليلية. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {سَيَهْدِينِ} خبره، والسين للتأكيد، لا للاستقبال كما مر؛ أي: يديم هدايتي في المستقبل والحال، والمفعول به محذوف؛ أي: سيهديني لرعاية الفاصلة، وجملة {إن} جملة تعليلة، لا محل لها من الإعراب، {وَجَعَلَهَا}: {الواو}: عاطفة، {جعلها}: فعل وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمُ}، أو على الله، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {قَالَ}، {كَلِمَةً}: مفعول ثان، {بَاقِيَةً}: صفة لـ {كَلِمَةً}، {في عَقِبِهِ} متعلق بـ {بَاقِيَةً}، {لَعَلَّهُمْ} ناصب واسمه وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبره، وجملة {لعل} تعليلية، لا محل لها من الإعراب، {بَلْ} حرف عطف وإضراب عن محذوف، تقديره: فلم يحصل ما رجاه إبراهيم. {مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على الجملة المحذوفة، {وَآبَاءَهُمْ}: معطوف على هؤلاء، أو مفعول معه {حَتَّى} حرف جر وغاية، {جَاءَهُمُ الْحَقُّ}: فعل، ومفعول، وفاعل في محل النصب بأن المضمرة بعد حتى الجارة، {وَرَسُولٌ}: معطوف على {الْحَقُّ}، {مُبِينٌ} صفة رسول، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى

مجيء الحق إياهم ورسول مبين، الجار والمجرور متعلق بـ {مَتَّعْتُ}. {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}. {وَلَمَّا} {الواو}: عاطفة، أو استئنافية، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {جَاءَهُمُ الْحَقُّ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}، لا محل لها من الإعراب، {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب لما، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على جملة قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ}، أو مستأنفة، {هَذَا سِحْرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {وَإِنَّا}: {الواو}: عاطفة، {إِنَّا}: ناصب واسمه، {بِهِ}: متعلق بـ {كَافِرُونَ}، و {كَافِرُونَ}: خبر {إن}، وجملة {إنّ} معطوفة على ما قبلها، على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}، {وَقَالُوا} فعل وفاعل، معطوف على جملة {قَالُوا} الأولى {لَوْلَا}: حرف تحضيض بمعنى هلا. {نُزِّلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {هَذَا}: نائب فاعل، {الْقُرْآنُ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا}، {عَلَى رَجُلٍ} متعلق بـ {نُزِّلَ}، {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} صفة أولى لـ {رَجُلٍ}. {عَظِيمٍ} صفة ثانية له، {أَهُمْ}: الهمزة: للاستفام الإنكاري التجهيلي، {أَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَقْسِمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة إنشائية. {رَحْمَتَ رَبِّكَ}: مفعول به، ومضاف إليه، {نَحْنُ}: مبتدأ، وجملة {قَسَمْنَا}: خبره، والجملة مستأنفة. {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {قَسَمْنَا}، {مَعِيشَتَهُمْ}: مفعول به، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: حال من ضمير {مَعِيشَتَهُمْ}؛ لأن المضاف كالجزء من المضاف إليه، {وَرَفَعْنَا}: فعل وفاعل، معطوف على {قَسَمْنَا}، {بَعْضَهُمْ}: مفعول به. {فَوْقَ بَعْضٍ}: ظرف متعلق بـ {رَفَعْنَا}، {دَرَجَاتٍ}: تمييز محول عن المفعول، أو منصوب بنزع الخافض، كما مر، {لِيَتَّخِذَ} اللام: حرف جر وتعليل. {يَتَّخِذَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة

بعد لام كي، {بَعْضُهُمْ} فاعل، {بَعْضًا}: مفعول أول لـ {يَتَّخِذَ}. {سُخْرِيًّا}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لاتخاذ بعضهم بعضًا سخريًا، والجار والمجرور متعلق بـ {رفعنا}، {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ}: {الواو}: استئنافية، {رحمت ربك}: مبتدأ ومضاف إليه، {خَيْرٌ}: خبر، والجملة مستأنفة، {مِمَّا}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، وجملة {يَجْمَعُونَ}: صلة لما الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما يجمعونه. {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية، {لولا}: حرف امتناع لوجود، {أَن} حرف مصدر ونصب، {يَكُونَ}: فعل ناقص منصوب بـ {أَن}، {النَّاسُ}: اسمها. {أُمَّةً}: خبرها، {وَاحِدَةً}: صفة {أُمَّةً}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر، مجرور بإضافة المبتدأ المقدر إليه، وخبر ذلك المبتدأ محذوف وجوبًا، والتقدير: ولولا كراهية كون الناس أمة واحدة موجود، والجملة الاسمية شرط لـ {لولا}، لا محل لها من الإعراب، {لَجَعَلْنَا}: اللام: رابطة لجواب {لولا}. {جعلنا}: فعل وفاعل، {لِمَنْ}: في موضع المفعول الثاني لـ {جَعَلْنَا}، وجملة {يَكْفُرُ}: صلة {مَن} الموصولة، {بِالرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {يَكْفُرُ}، {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من {لِمَنْ يَكْفُرُ} بإعادة الجار، {سُقُفًا} مفعول أول لـ {جعلنا}، {مِنْ فِضَّةٍ} صفة لـ {سُقُفًا}، وجملة {جعلنا} جواب {لولا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مستأنفة، {وَمَعَارِجَ} معطوف على {سُقُفًا}، {عَلَيْهَا} متعلق بـ {يَظْهَرُونَ}، وجملة {يَظْهَرُونَ} صفة لـ {مَعَارِجَ}. {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}. {وَلِبُيُوتِهِمْ}: معطوف على قوله {لبيوتهم}، وكرر لفظ البيوت لزيادة التقرير، {أَبْوَابًا} معطوف بعاطف مقدر على {سُقُفًا}، أو منصوب بفعل محذوف،

مماثل للأول، فيكون من عطف الجمل؛ أي: ولجعلنا لبيوتهم أبوابًا {وَسُرُرًا}: معطوف على أبوابًا، {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {يَتَّكِئُونَ}، وجملة {يَتَّكِئُونَ} صفة لـ {سُرُرًا}، {وَزُخْرُفًا}: معطوف على أبوابًا، أو مفعول به لفعل محذوف؛ أي: ولجعلنا لهم زخرفًا، وعطفه الزمخشري على محل {مِنْ فِضَّةٍ}، كأنه قال: سقفًا من فضة وذهب؛ أي: بعضها من فضة وبعضها من ذهب. {وَإِنْ}: {الواو}: استئنافية. {إِنْ}: نافية، {كُلُّ ذَلِكَ}: مبتدأ. {لَمَّا} بالتشديد، حرف بمعنى إلا الاستثنائية، استثناء مفرغًا، {مَتَاعُ}: خبر المبتدأ. {الْحَيَاةِ}: مضاف إليه، {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةِ}، والجملة الاسمية مستأنفة، وقرىء بتخفيف لما، و {إِنْ} حينئذ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، {كُلُّ ذَلِكَ}: مبتدأ، {لَمَّا}: اللام: حرف ابتداء، {ما}: زائدة، {مَتَاعُ الْحَيَاةِ}: خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر خبر لـ {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة مستأنفة، {وَالْآخِرَةُ} مبتدأ، {عِنْدَ رَبِّكَ} ظرف متعلق بمحذوف حال من {الْآخِرَةُ} أو من الضمير المستكن في الخبر، {لِلْمُتَّقِينَ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يَعْشُ}: فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ}: متعلق بـ {يَعْشُ}، {نُقَيِّضْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، {لَهُ}: متعلق بـ {نُقَيِّضْ}، {شَيْطَانًا}: مفعول به، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {فَهُوَ} الفاء: عاطفة تفريعية، {هو}: مبتدأ، {لَهُ} حال من {قَرِينٌ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {قَرِينٌ} خبر هو، والجملة الاسمية معطوفة على جملة جواب الشرط، {وَإِنَّهُمْ} {الواو}: عاطفة، {إنهم} ناصب واسمه، {لَيَصُدُّونَهُمْ} اللام: حرف ابتداء، {يصدونهم}: فعل وفاعل ومفعول به، {عَنِ السَّبِيلِ} متعلق بـ {يصدونهم} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {من} الشرطية، أو على جملة

الجواب {وَيَحْسَبُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على جملة {إنّ}، {أَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {مُهْتَدُونَ}: خبره، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب؛ أي: يحسبون اهتداءهم. {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)}. {حَتَّى}: حرف ابتداء وغاية، لدخولها على الجملة {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {جَاءَنَا}: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على العاشي، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على العاشي، والجملة جواب {إِذَا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} في محل الجر بـ {حَتَّى} الجارة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: فهو له قرين، إلى قوله: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} وقت مجيئه إيانا. {يَا لَيْتَ}: {يَا}: حرف نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا هذا القرين، {لَيْتَ}: حرف تمن ونصب، {بَيْنِي} ظرف متعلق بمحذوف، خبر {لَيْتَ} مقدم على اسمها، {وَبَيْنَكَ}: معطوف على {بَيْنِي}، {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}: اسم {لَيْتَ} مؤخر، ومضاف إليه، وجملة النداء مع جملة التمني في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَبِئْسَ}: الفاء: استئنافية. {بِئْسَ} فعل ماض من أفعال الذم. {الْقَرِينُ}: فاعل، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا تقديره: أنت، وجملة {بِئْسَ} في محل الرفع خبر لهذا المخصوص، المحذوف، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}. {وَلَنْ}: {الواو}: استئنافية، {لن} حرف نصب، {يَنْفَعَكُمُ} فعك مضارع منصوب بـ {لن}، والكاف مفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على التمني المفهوم من {ليت}، والجملة مستأنفة، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {يَنْفَعَكُمُ}، {إِذْ}: حرف تعليل بمعنى اللام، أو ظرف لما مضى من الزمان، بدل من اليوم، {ظَلَمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف

لـ {إِذْ}، أو في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بـ {إِذْ} التعليلية؛ أي: ولن ينفعكم تمنيكم اليوم، وندمكم لظلمكم في الدنيا، {أَنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {فِي الْعَذَابِ} متعلق بـ {مُشْتَرِكُونَ}، و {مُشْتَرِكُونَ} خبر {أنّ}، وجملة {أَنّ} مسوقة لتعليل الظلم، لا محل لها من الإعراب، وقرىء أنكم بفتح الهمزة، ففاعل النفع حينئذ المصدر، المؤول من {أَنّ} والتقدير: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لظلمكم في الدنيا. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}. {أَفَأَنْتَ}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنت تتعب نفسك، فأنت تسمع الصم، والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم -، {أَنْتَ}: مبتدأ، {تُسْمِعُ الصُّمَّ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، {أَوْ}: حرف عطف، {تَهْدِي الْعُمْيَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {تُسْمِعُ}، {وَمَنْ}: اسم موصول في محل النصب، معطوف على العمي، {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {مَنْ}، {فِي ضَلَالٍ}: خبرها، {مُبِينٍ} صفة {ضَلَالٍ}، وجملة {كَانَ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكر، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك: {إما نذهبن بك} {إن} حرف شرط جازم {ما} زائدة {نَذْهَبَنَّ} فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف، لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير يعود على الله سبحانه، {بِكَ}: متعلق بـ {نَذْهَبَنَّ}، {فَإِنَّا} الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إِنَّا} ناصب واسمه، {مِنْهُمْ} متعلق بـ {مُنْتَقِمُونَ}، و {مُنْتَقِمُونَ} خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة،

{أَوْ} حرف عطف وتفصيل، {نُرِيَنَّكَ} فعل مضارع في محل الجزم بـ {إن} الشرطية معطوف على {نَذْهَبَنَّ} لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، والكاف مفعول أول، {الَّذِي} مفعول ثان لـ {أرى}؛ لأنها بصرية تعدت بالهمزة إلى مفعولين، {وَعَدْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وعدناهموه، {فَإِنَّا} الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {إنا}: ناصب واسمه، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {مُقْتَدِرُونَ}، و {مُقْتَدِرُونَ} خبر {إن}، وجملة {إنّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية المقدرة بالعطف على كونها جوابًا لها. {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}. {فَاسْتَمْسِكْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك استمسك. {استمسك}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {بِالَّذِي} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {أُوحِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول. {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {أُوحِيَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {عَلَى صِرَاطٍ} خبره {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صِرَاطٍ}، وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، {وَإِنَّهُ}: {الواو}: عاطفة، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَذِكْرٌ} اللام: حرف ابتداء، {ذِكْرٌ} خبر {إن}. {لَكَ} متعلق بـ {ذِكْرٌ}، أو صفة له، {وَلِقَوْمِكَ}: معطوف على {لَكَ}، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إنّ} الأولى، {وَسَوْفَ}: {الواو}: عاطفة، {سوف}: حرف تسويف، {تُسْأَلُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {إن} عطف فعلية على اسمية، {وَاسْأَلْ}: {الواو}: عاطفة، {اسأل}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة معطوفة على جملة {استمسك}، {مَنْ}: اسم موصول في محل

النصب مفعول أول لـ {اسْأَلْ}، {أَرْسَلْنَا}: فعل وفاعل، صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من أرسلناه. {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {مِنْ رُسُلِنَا}: حال من {مِنْ} الموصولة، أو من العائد المحذوف، {أَجَعَلْنَا}: الهمزة: للاستفهام الاستخباري {جعلنا}: فعل وفاعل، {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}: في موضع المفعول الثاني لـ {جعلنا}، {آلِهَةً}: مفعول أول لـ {جعلنا}، وجملة {يُعْبَدُونَ}: صفة لـ {آلِهَةً}، وجملة {جعلنا} في محل النصب سدت مسد المفعول الثاني، لـ {سأل} المعلق عنها بهمزة الاستفهام. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {قَدْ} حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، {بِآيَاتِنَا}: حال من موسى، {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {وَمَلَئِهِ} معطوف على {فِرْعَوْنَ}، {فَقَالَ} الفاء: عاطفة، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مُوسَى}، والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}، {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: ناصب واسمه وخبره، ومضاف إليه، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة على مقدر تقديره: فطلبوا منه الآيات، {لما} حرف شرط غير جازم، {جَاءَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، {بِآيَاتِنَا} متعلق بـ {جَاءَهُمْ}، والجملة فعل شرط لـ {لما}، لا محل لها من الإعراب، {إِذَا}: حرف فجأة رابطة لجواب {لَمَّا}، {هُمْ}: مبتدأ. {مِنْهَا}: متعلق بـ {يَضْحَكُونَ}، وجملة {يَضْحَكُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المقدرة. {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}.

{وَمَا}: {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، {ما}: نافية، {نُرِيهِمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، {مِنْ}: زائدة، {آيَةٍ} مفعول ثان لـ {نُرِي}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هِيَ أَكْبَرُ}: مبتدأ وخبر، {مِنْ أُخْتِهَا}: متعلق بـ {أَكْبَرُ}، والجملة الاسمية صفة لـ {آيَةٍ}، {وَأَخَذْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، {بِالْعَذَابِ} متعلق بـ {أخذنا}، والجملة معطوفة على جملة {نُرِيهِمْ}، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبره، وجملة {لعل} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب، {وَقَالُوا} فعل وفاعل، معطوف على {أخذناهم}، {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ}: {يَا}: حرف نداء، {أي} منادى نكرة مقصودة في محل النصب، مبني على الضم. {ها}: حرف تنبيه زائد، تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة، مبني بسكون على الألف المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين. {السَّاحِرُ} بدل من أي، أو نعت لها، وجملة النداء في محل النصب، مقول {قَالُوا}. {ادْعُ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، {لَنَا}: متعلق به، {رَبَّكَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {ادْعُ}، و {ما} إما موصولة أو مصدرية، {عَهِدَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، {عِنْدَكَ} متعلق بـ {عَهِدَ}، والجملة الفعلية صلة لـ {مَا} الموصولة، أو لـ {ما} المصدرية، {إِنَّنَا}: ناصب واسمه، {لَمُهْتَدُونَ} اللام: حرف ابتداء، {مُهْتَدُونَ}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {فَلَمَّا} الفاء، عاطفة على مقدر، يقتضيه المقام تقديره: فدعا موسى، فكشفنا عنهم العذاب، فلما كشفنا عنهم العذاب إلخ، {لَمَّا} حرف شرط غير جازم، {كَشَفْنَا} فعل وفاعل، فعل شرط لـ {لَمَّا}، {عَنْهُمُ}: متعلق بـ {كَشَفْنَا}، {الْعَذَابَ} مفعول به {إِذَا}: فجائية رابطة لجواب {لَمَّا} الشرطية، حرف لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} معطوفة على تلك المحذوفة، كما قدرنا آنفًا {هُمْ يَنْكُثُونَ} مبتدأ وخبر. {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)}.

{وَنَادَى}: {الواو}: استئنافية، {نادى فرعون}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {فِي قَوْمِهِ}: متعلق بـ {نادى}، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة مفسرة لجملة {نادى}، {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول {قَالَ}، {أَلَيْسَ}: الهمزة: للاستفهام التقريري. لدخولها على النافي، {لَيْسَ}: فعل ناقص، {لِى}: خبرها مقدم، {مُلْكُ مِصْرَ}: اسمها مؤخر، وجملة {ليس} في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَهَذِهِ}: في محل الرفع معطوف على اسم {ليس}، {الْأَنْهَارُ} بدل من اسم الإشارة، {تَجْرِي} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْأَنْهَارُ}، {مِنْ تَحْتِي} متعلق بـ {تَجْرِي}، والجملة الفعلية حال من الأنهار، ويحتمل كون اسم الإشارة مبتدأ، و {الْأَنْهَارُ} بدل منه، وجملة تجري خبره، والجملة الاسمية حال من ياء المتكلم في {لِي}، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور في {لِي}، {أَفَلَا}: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتتعامون فلا تبصرون، والجملة المحذوفة في محل النصب، مقول {قَالَ}، {لَا}: نافية، {تُبْصِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل، وهمزة الاستفهام، {أَنَا}: مبتدأ، {خَيْرٌ} خبره، {مِنْ هَذَا}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، {الَّذِي}: بدل من اسم الإشارة، والجملة معطوفة على ما قبلها، على كونها مقول {قَالَ}، {هُوَ مَهِينٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لَا}: نافية، {يَكَادُ}: فعل مضارع من أفعال المقاربة، واسمها ضمير يعود على الموصول، وجملة {يُبِينُ}: خبرها، وجملة {يَكَادُ}: معطوفة على الجملة الابتدائية، على كونها صلة الموصول، {فَلَوْلَا}: الفاء: عاطفة، {لولا}: حرف تحضيض بمعنى هلا،

{أُلْقِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أُلْقِيَ}، {أَسْوِرَةٌ}: نائب فاعل لـ {أُلْقِيَ}، {مِنْ ذَهَبٍ}: صفة لـ {أَسْوِرَةٌ}، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على كونها مقول {قَالَ}، {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل، {جَاءَ}: فعل ماض، {مَعَهُ}: متعلق بـ {قَالَ}، {الْمَلَائِكَةُ}: فاعل، {مُقْتَرِنِينَ}: حال من الملائكة، والجملة معطوفة على جملة {أُلْقِيَ}، {فَاسْتَخَفَّ}: الفاء: عاطفة، {ستخف} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنُ}، {قَوْمِهِ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {نَادَى}، {فَأَطَاعُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {استخف}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، {قَوْمًا} خبره، {فَاسِقِينَ} صفة {قَوْمًا}، وجملة {إنّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل إطاعتهم. {فَلَمَّا آسَفُونَا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكر من طاعتهم له، وأردت بيان عاقبتهم .. فأقول لك، {لَمَّا آسَفُونَا}، {لَمَّا}: حرف شرط غير جازم، {آسَفُونَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}، {انْتَقَمْنَا}: فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {انْتَقَمْنَا}، والجملة الفعلية جواب {لما}، وجملة {لَمَّا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {فَأَغْرَقْنَاهُمْ}: الفاء: عاطفة {أَغْرَقْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {انْتَقَمْنَا} عطفا تفسيريا، {أَجْمَعِينَ} تأكيد لضمير المفعول، {فَجَعَلْنَاهُمْ} الفاء: عاطفة، {جَعَلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {سَلَفًا} مفعول ثان، {وَمَثَلًا}: معطوف على {سَلَفًا}. {لِلْآخِرِينَ} صفة لـ {مَثَلًا} و {سَلَفًا} على سبيل التنازع، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَغْرَقْنَاهُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّنِي بَرَاءٌ} بفتح الباء وألف وهمزة بعد الراء، وهو في الأصل وقع موقع الصفة مبالغة، ولذلك استوى فيه المذكر والمؤنث، والواحد والاثنان والجمع، يقال: نحن البراء. وأما البريء فهو يؤنث ويجمع، يقال: بريء وبريؤون وبريئة وبريئات. وفي "المختار": وتبرأ من كذ فهو براء منه بالفتح والمد، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنه مصدر. وفي "القاموس": وأنا براء منه، لا يثنى ولا يجمع ولا

يؤنث؛ أي: بريء. {فَطَرَنِي} خلقني، والفطر: ابتداء خلق من غير مثال، من قولهم: فطرت البئر إذا أنشات حفرها من غير أصل سابق. {فِي عَقِبِهِ}؛ أي: في ذريته، قال الراغب: العقب مؤخر الرجل، واستعير للولد وولد الولد، انتهى. وفي "القاموس": العقب ككتف الجري بعد الجري، والولد وولد الولد. {هَذَا سِحْرٌ} والسحر: إراءة الباطل في صورة الحق. {مَعِيشَتَهُمْ} والمعيشة: ما يعيش به الإنسان، ويتغذى، ويجعله سببًا في قوام بنيته، إذ العيش الحياة المختصة بالحيوان، كما سبق. وأصل معيشة: بوزن مفعلة، نقلت حركة الياء إلى العين فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد. {سُخْرِيًّا} والسخري: هو الذي يقهر على العمل، وهو بضم السين نسبة إلى السخرة، وهي العمل بلا أجرة، وفي "القاموس": وسخره كمنعه سخريًا بالكسر، ويضم كلفه ما لا يريد وقهره، ويبعد أن تكون من السخرية التي هي بمعنى الاستهزاء؛ أي: ليستهزىء الغني بالفقير، وهو هنا من التسخير، بمعنى الاستخدام والاستعمال. {لِبُيُوتِهِمْ} والبيوت والأبيات جمع بيت، وهو اسم لمبنى مسقف، مدخله من جانب واحد، بني للبيتوتة، قال الراغب: أصل البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه، والبيوت بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر، ومن صوف ووبر، وبه شبه بيت الشعر. {سُقُفًا} جمع سقف، كرهن ورهن، وهو سماء البيت وعلوه. {مِنْ فِضَّةٍ} والفضة: جسم ذائب، صابر، صاف، منطرق، أبيض، رزين بالقياس إلى باقي الأجساد، سميت فضة لتفضضها وتفرقها في وجوه المصالح. {وَمَعَارِجَ} جمع معرج بفتح الميم وكسرها بمعنى: السلم، وهو المسمى الآن: سنسير، وهذا من معجزات القرآن، إذ لم يكن معروفًا في عصر التنزيل، قال الراغب: العروج: ذهاب في صعود، والمعارج المصاعد، وسميت المصاعد من الدرج معارج؛ لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج. {يَظْهَرُونَ} يقال: ظهر على الشيء، إذا علاه وارتقى إليه، وأصل ظهر الشيء أن يحصل شيء على ظهر الأرض فلا يخفى، ثم صار مستعملًا في كل بارز للبصر والبصيرة، {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} جمع باب، والباب: يقال لمدخل الشيء، وأصل ذلك مداخل الأمكنة، كباب المدينة والدار

والبيت. {وَسُرُرًا} جمع سرير، قال الراغب: السرير الذي يجلس عليه من السرور إذا كان ذلك لأولي النعمة، وسرير الميت تشبيه به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله، وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن للمؤمن". {يَتَّكِئُونَ} من الاتكاء، وهو الاعتماد. {وَزُخْرُفًا} هو في الأصل: بمعنى الذهب، ويستعار لمعنى الزينة، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا}. قال الراغب: الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف، كما قال تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}؛ أي: ذهب مزوق. قال ابن زيد: الزخرف هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة، والأثاث. قال الحسن: النقوش، وأصله: الزينة، يقال: زخرفت الدار؛ أي: زينتها، وتزخرف فلان؛ أي: تزين. وأوردت معاجم اللغة معاني عديدة للزخرف، منها: الذهب، وحسن الشيء، وزخرف الكلام أباطيله المموهة، وزخرف الأرض ألوان نباتها، والجمع زخارف. {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ويعش بضم الشين، من عشا يعشو عشا إذا تعاشى بلا آفة وتعامى؛ أي: نظر نظر العشا, ولا آفة في بصره، ويقال: عشي يعشى، كرضي يرضى إذا كان في بصره آفة مخلة بالرؤية. قال الراغب: العشا بالفتح والقصر ظلمة تعرض في العين، يقال: رجل أعشى، وامرأة عشواء. وفي "القاموس": العشا سوء البصر بالليل والنهار، وخبطه خبط عشواء، ركبه على غير بصيرة، والناقة العشواء التي لا تبصر أمامها. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} نسبب ونقدر ونسلط ونضمه إليه ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض، وهو القشر الأعلى اليابس، ويقال قيض الله كذا، قدره له، وقيض الله فلانًا لفلان، جاءه به. {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} أصله: يصددونهم بوزن يَفْعُلُون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الصاد فسكنت، وأدغمت في الدال الثانية {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}، أي: بعد المشرق، وكثيرًا ما تسمي العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما، قال الفرزدق: أَخَذْنَا بِآفَاقِ السّمَاءِ عَلَيْكُمُ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُوْمُ الطَّوَالِعُ يريد الشمس والقمر، وبعد المشرقين بعد أحدهما من الآخر. {فَاسْتَمْسِكْ

بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أصله أؤحي بهمزتين الأولى مضمومة والثانية ساكنة، أبدلت الساكنة حرف مدٍّ مجانسًا لحركة الأولى المضمومة فأبدلت واوًا. {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} الأخت تأنيث الأخ، وجعلت التاء فيها كالعوض عن المحذوف منه. {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا} {يَا أَيُّهَ} حذف الألف التي بعد الهاء من رسم المصحف العثماني هنا كما حذفت من قوله تعالى في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} ومن قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} من سورة النور اتباعًا للخط تحت اللفظ. {ادْعُ} وزنه أنْ لحذف لامه الواو، لبناء الأمر من معتل الآخر على ذلك، {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} وأصل العهد بمعنى التوصية أن يتعدى بإلى إلا أنه أورد هنا بدلها لفظ {عِنْدَكَ} إشعارًا بأن تلك الوصية مرعية محفوظة عنده، لا مضيعة ملغاة. قال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال وعهد فلان إلى فلان بعهد؛ أي: ألقى العهد إليه، وأوصاه بحفظه. {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}؛ أي ينقضون العهد، والنكث في الأصل: نقض الحبل والغزل ونحوه ذلك، واستعير هنا لنقض العهد كما سيأتي. {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} وفي "القاموس": مصّروا المكان تمصيرًا: جعلوه مصرًا فتمصّر، ومصر: علم للمدينة المعروفة، سميت لتمصّرها، أو لأنه بناها مصر بن حام بن نوح، وقال بعضهم: مصر بلد معروف، من مَصَرَ الشيء يمصره، إذا قطعه، سمي به لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة، انتهى. {هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} مهين صفة مشبهة بوزن فعيل بمعنى ضعيف وحقير. {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أصله يبين بوزن يفعل، نقلت حركته الياء إلى الباء فسكنت إثر كسرة. فصارت حرف مدٍّ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بموسى لثغة في لسانه، واللثغة بالضم أن تصير الراء غينًا أو لامًا، والسين ثاءً، وقد لثغ من باب ضرب فهو ألثغ: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ} جمع سوار، كاخمرة جمع الخمار، على تعويض التاء من ياء أساوير، يعني الياء المقابلة لألف أسوار، ونظيره: زنادقة وبطارقة، فالهاء فيهما عوض عن ياء زناديق وبطاريق، المقابلة لياء زنديق وبطريق، قال في "القاموس": السوار بالكسر والضم القلب، كالأسوار بالضم. والجمع أسورة وأساور وأساورة. وفي "المفردات": سوار المرأة أصله: دستوراه، فهو فارسي

معرب عند البعض، انتهى. {مِنْ ذَهَبٍ} والذهب: جسم ذائب، صاف، منطرق، أصفر، رزين بالقياس إلى سائر الأجسام. {مُقْتَرِنِينَ}؛ أي: مقرونين به يعينونه على من خالفه. {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} وجد أحلامهم خفيفة يغترون بالتلبيسات الباطلة، وقال الراغب: حملهم على أن يخفوا معه، أو وجدهم خفافًا في أبدانهم وعزائمهم. وفي "القاموس": استخفه ضد استثقله، واستخف فلانًا عن رأيه حمله على الجهل والخفة، وأزاله عما كان عليه من الصواب. وأصله: استخفف بوزن استفعل، نقلت حركة الفاء الأولى إلى الخاء فسكنت، وأدغمت في الفاء الثانية. {فَأَطَاعُوهُ} فيه إعلال بالنقل والتمسكين والقلب، أصله: فأطوعوه، نقلت حركة {الواو} إلى الطاء، فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها، في الحال. {فَلَمَّا آسَفُونَا} منقول من أسف يأسف، كعلم يعلم إذا اشتد غضبه. وفي "القاموس": الأسف محركة أشد الحزن، وأسف عليه غضب. وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معًا، وقد يقال: لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب إرادة الانتقام، كما مر. وأصله: أأسفونا بهمزتين الأولى همزة التعدية، والثانية فاء الفعل، فأبدلت الثانية الساكنة حرف مد مجانسًا لحركة الأولى المفتوحة، والمجانس لها هو الألف. {سَلَفًا} إما مصدر سلف يسلف، كطلب يطلب، بمعنى التقدم وصف به الأعيان للمبالغة، فهو بمعنى متقدمين ماضين، أو جمع سالف كخدم جمع خادم، ولما لم يكن المتقدم متعديًا باللام، فسروه بالقدرة مجازًا لأن المتقدمين يلزمهم غالبًا أن يكونوا قدوةً لمن بعدهم. {لِلْآخِرِينَ} اللام متعلق بكل من {سَلَفًا} و {مَثَلًا} على سبيل التنازع؛ أي: عظةً للكفار المتأخرين عنهم، والعظة ليس من لوازمها الاتعاظ، أو قصة عجيبةً تسير مسير الأمثال لهم، فيقال: مثلكم مثل قوم فرعون كما مر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: المجاز المرسل في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}؛ لأن المراد بالكلمة الجملة التي قالها بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ففيه إطلاق اسم الجزء على الكل. ومنها: صيغة المضارع في قوله: {سَيَهْدِينِ} للدلالة على الاستمرار؛ أي: دوام الهداية حالًا واستقبالًا. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لما فيه من إسناد ما للبعض إلى الكل نظرًا بحال الأكثر؛ لأن الرجوع إنما يحصل من البعض لا من الكل. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فِي عَقِبِهِ} لأن العقب حقيقة في مؤخر الرجل، فاستعير للولد وولد الولد، كما قاله الراغب. ومنها: التكرير في قوله: {وَلِبُيُوتِهِمْ} لزيادة التقرير. ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}، وفي قوله: {يَتَّكِئُونَ} رعاية للفاصلة. ومنها: الجناس المماثل بين {أَهُمْ يَقْسِمُونَ}، وبين {نَحْنُ قَسَمْنَا}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} لأن حق العبارة، ليتخذوهم سخريًا لغرض الإيضاح والبيان. ومنها: التجهيل والتعجيب من تحكمهم في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}. ومنها: إطلاق العام دارادة الخاص في قوله: {رَحْمَتَ رَبِّكَ}؛ لأن المراد بالرحمة هنا النبوة. ومنها: تقديم المسند إليه، وهو نحن على المسند، وهو قسمنا، في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} لإفادة الاختصاص. ومنها: التخصيص في قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} لغرض التأكيد.

ومنها: التعريض إلى تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -، في وصف رجل بعظيم، في قوله: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لأنه في تقدير ولولا، كراهية أن يكون الناس ... إلخ. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {وَزُخْرُفًا}؛ لأن الزخرف في الأصل اسم لكل ما يتزين به، والمراد به هنا: الذهب. ومنها: الطباق بين {الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ} في قوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ}؛ لأنه مستعار للإعراض عنه. ومنها: النكرة الواقعة في سياق الشرط في قوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} لإفادة العموم، ولذلك أعاد عليه الضمير مجموعًا، في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ}، وفي قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. ومنها: التغليب في قوله: {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}؛ لأن فيه تغليب المشرق على المغرب، كالعمرين والقمرين. ومنها: إعادة النكرة معرفة في قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} إفادة بأنه نفس الأول، كما قال السيوطي في "عقود الجمان": ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ تَغَايَرَتْ، وإنْ يُعَرَّفْ ثَانِ ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} وفيه أيضًا الاستعارة التصريحية، حيث شبه الكفار بالصم العمي، بجامع عدم الاهتداء إلى المقصود في كل. ومنها: الكناية في قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ}؛ لأنه كناية عن الموت.

ومنها: الإبهام في قوله: {بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} لغرض التفخيم والتعظيم. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} لتغيير الشكل، وبعض الحروف بينهما، وفيه أيضًا المجاز المرسل، فقد أوقع السؤال على الرسل، مع أن المراد أممهم، لعلاقة الهداية المفضية بهم إلى معرفة اليقين، وقيل: هو على حذف مضاف، ففيه مجاز بالحذف؛ أي: واسأل أمم من أرسلنا من قبلك. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ لأن كلمة لعل مستعارة لمعنى كي، وهو التعليل. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}؛ لأن النكث في الأصل: نقض الحبل والغزل مثلًا، فاستعير لنقض العهد بجامع الانفكاك في كل. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} علاقته المحلية، فقد جعل قومه محلًا لندائه وموقعًا له، والمعنى: أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم، وفيه أيضًا الإسناد المجازي؛ لأنه أسند النداء إلى نفسه، مع أن المنادى غيره كقولهم: قطع الأمير اللص إذا أمر بقطعه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات

لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) طرفًا من قصة موسى عليه السلام، ذكر طرفًا من قصة عيسى عليه السلام، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره لما نزل {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}، ونزل: كيف خلق من غير فحل، قالت قريش: ما أراد محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذكر عيسى إلا أن نعبده، كما عبدت النصارى عيسى عليه السلام، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلًا. قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف: أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .. أردف ذلك ببيان أحوال ذلك اليوم: فمنها: أن الأخلاء يتعادون فيها، إلا من تخالوا على الإيمان والتقوى. ومنها: أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها, ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم. ومنها: أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم، فيطاف عليهم بصحاف من ذهب، فيها ما لذ وطاب من المآكل، وبأكواب وأباريق فيها شهي المشارب، ويقال لهم: هذا النعيم كفاء ما قدمتم، من عمل بأوامر الشرع ونواهيه، وأسلفتم من إخلاص لله وتقوى له. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬2) ما أعد لأهل الجنة من النعيم المقيم، والتمتع بفنون اللذات، من المآكل والمشارب والفواكه .. أعقب ذلك، بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم، الدائم، الذي لا يخفف عنهم أبدًا، وهم في حزن لا ينقطع، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاءً وفاقًا، لما دسوا به أنفسهم من سيء الأعمال، ثم أردف ذلك، بمقال أهل النار، لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم، أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب، ثم إجابته لهم عن ذلك، ثم وبخهم على ما عملوا في الدنيا واستحقوا به العذاب. ثم ذكر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

ما أحكموا تدبيره من رد الحق، دماعلاء شأن الباطل، ظنًا منهم أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، وقد وهموا فيما ظنوا، فإن الله عليم بذلك، ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول، أو فعل. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر مقال أهل النار لخزنة جهنم، وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مماهم فيه من العذاب، وحسبانهم أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم: أمر هنا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين إحقاقًا للحق: إن مخالفته لهم في عبادة ما يعبدون، لم يكن بغضًا منه لهم، ولا عداوة لمعبوديهم، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم، وبنوا عليه عبادتهم لهم، من كونهم بنات الله، تنزه ربنا عما يقولون. ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم. ثم أخبر بأن لا معبود في السماء، ولا في الأرض سواه، وهو الحكيم العلم بكل شيء، وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب. ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم، فهم يعبدون غير الله ويقولون: إن الخالق للكون سمائه وأرضه، هو الله سبحانه، ثم أردف هذا، بأنه لا يعلم الساعة إلا هو سبحانه، وأنه يعلم شديدَ حزنك على عدم إيمانهم وعدم استجابتهم لدعوتك، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم، وسيأتي اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم، وقبيح فعالهم من عبادة غير الله سبحانه وتعالى، والإشراك به ما لا ينفع ولا يضر من مخلوقاته. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه أحمد بسند صحيح، والطبراني عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش: "إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير"، فقالوا: ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[57]

ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا صالحًا، وقد عبد من دون الله، فأنزل الله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ...} الآية. قال الواحدي (¬1): وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة عبد الله بن الزِّبَعْرَى السهمي، مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} .. قال ابن الزِّبَعْرَى: خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرًا، وبنو مليح الملائكة، ففرح قومه بذلك من قوله فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، ونزلت هذه الآية المذكورة هنا. وقد مضى هذا في سورة الأنبياء، ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعرى مندفع من أصله، وباطل برمته، فإن الله سبحانه قال: إنكم وما تعبدون، ولم يقل: ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء، كالمسيح، وعزير، والملائكة. قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان، وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون الله يسمع كلامنا، فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فنزلت هذه الآية: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 57 - {وَلَمَّا ضُرِبَ} وجعل عيسى {ابْنُ مَرْيَمَ} عليه السلام {مَثَلًا}؛ أي: مثالًا ومشابها للأصنام، من حيث إن النصارى اتخذوه إلهًا، وعبدوه من دون الله؛ أي: ضربه عبد الله بن الزبعرى السهمي مثلًا لأصنامهم، كان من مردة قريش قبل أن يسلم. قال في "القاموس": الزِّبَعْرَى بكسر الزاي وفتح الباء والراء والد عبد الله الصحابي القرشي الشاعر، انتهى. ومعنى ضربه مثلًا أي (¬3): جعله مثالًا ونظيرًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) لباب النقول. (¬3) روح البيان.

[58]

ومقياسًا لأصنامهم في بيان إبطال ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كون معبودات الأمم دون الله {حَصَبُ جَهَنَّمَ ...} الآية، حين قرأه على قريش فامتعضوا من ذلك امتعاضًا شديدًا؛ أي: غضبوا وشق عليهم ذلك، فقال ابن الزبعرى بطريق الجدال: هذا لنا ولآلهتنا خاصة، أم لجميع الأمم"؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرًا، وبنو مليح الملائكة، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم، ففرح به قومه، وضحكوا، وارتفعت أصواتهم، وذلك قوله تعالى: {إِذَا} فجائية {قَوْمُكَ} قريش يا محمد {مِنْهُ}؛ أي: من ذلك المثل الذي ضربه ابن الزبعري؛ أي: لأجله وبسببه {يَصِدُّونَ}؛ أي: يضجون ويصيحون ويرفعون أصواتهم بالضحك، فرحًا بذلك المثل المضروب، ظنا منهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صار ملزمًا به، مغلوبًا محجوجًا عليه، وقرأ أبو جعفر (¬1) والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب وعامر ونافع والكسائي {يصدون} بضم الصاد؛ أي: يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل. وقرأ ابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة وباقي السبعة بكسرها؛ أي: يصيحون ويضحكون فرحًا بضرب المثل. قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش (¬2): هما لغتان، مثل: عكف يعكف، ويعكف بالكسر والضم، ومعناهما يضجون. قال الجوهري: صد يصد صديدًا؛ أي: ضج؛ وقيل: إنه بالضم الإعراض، وبالكسر الضجيج قاله قطرب قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لقال: إذا قومك منه يصدون، وقال الفراء: هما سواء منه وعنه. وقال أبو عبيدة: من ضم فمعناه: يعدلون، ومن كسر فمعناه: يضجون. 58 - {وَقَالُوا}؛ أي: قال قومك قريش {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} عندك من عيسى، فإن آلهتهم خير عندهم من عيسى {أَمْ هُوَ}؛ أي: أم عيسى خير من آلهتنا، وظاهر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

أن عيسى خير من آلهتنا، فحيث كان هو في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها، فالاستفهام إنكاري؛ لأن المعنى: ليست خيرًا منه، وقيل: معناه أآلهتنا خير أم هو؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - فنعبده ونطيعه، ونترك آلهتنا، قاله قتادة، ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود {أآلهتنا خير أم هذا}، والأول أولى لتناسق الضمائر في قوله: إن هو إلا عبد، ذكره في "البحر". وقرأ الجمهور (¬1): {ءَألِهَتُنَا} بتسهيل الهمزة الثانية بين بين، وقرأ الكوفيون ويعقوب: بتحقيقها، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر: بهمزة واحدة على مثال الخبر، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها، واحتمل أن يكون خبرًا محضًا، حكوا: أن آلهتهم خير ثم عن لهم أن يستفهموا على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام، وهذا يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى عليه السلام، فعلى قراءة (¬2) ورش تكون: {أَمْ} منقطعة لا عاطفة، تقدر ببل والهمزة، وأما على قراءة العامة، فتكون متصلة عاطفة على آلهتنا عطف المفردات، والتقدير: أآلهتنا أم هو خير؛ أي: أيهما خير، فالهمزة لطلب التعيين. وعلى قراءة ورش يكون هو مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: بل أهو خير، وليست {أَمْ} حينئذ عاطفة اهـ "سمين". {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ}؛ أي: ما ضرب قومك لك هذا المثل في عيسى، وما ذكروه {إِلَّا} ليجادلوك ويخاصموك {جَدَلًا}؛ أي: جدالًا وخصامًا، ونزاعًا في الحق على أنه منصوب على المصدرية، أو ما ضربوه لك إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق، حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك، أو إلا حال كونهم مجادلين على أنه مصدر وقع موقع الحال. وقرأ ابن مقسم: {إلا جدالا} بكسر الجيم وبألف. وقال بعضهم: مرادهم بهذا الكلام؛ إن قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: آلهتكم خير من عيسى، فقد أقر بأنها معبودة، - صلى الله عليه وسلم - وإن قال: عيسى خير من آلهتكم، فقد أقر بأن عيسى يصلح لأن يعبد، - صلى الله عليه وسلم - وإن قال: ليس واحد منهم خيرًا فقد نفى عيسى، فراموا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

بهذا السؤال أن يجادلوه ولم يسألوه للاستفادة، فبين الله سبحانه: أن جدالهم ليس لفائدة، إنما هو لخصومة نفس الإنسان فقال: {بَلْ هُمْ}؛ أي: قومك قريش {قَوْمٌ خَصِمُونَ}؛ أي: لدد شداد الخصومة بالباطل، مجبولون على اللجاج والخلاف، كما قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وذلك لأنهم قد علموا أن المراد من قولهَ: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هؤلاء الأصنام بشهادة المقام، لكن ابن الزبعرى لما رأى الكلام محتملًا للعموم بحسب الظاهر، وجد مجالًا للخصومة. وفي الحديث: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أتوا الجدل"، ثم قرأ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ} الآية، أخرجه سعيد بن منصور، وأحمد في جماعة عن أبي أمامة. ومعنى الآية (¬1): أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلًا، وجادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادة النصارى له إذا قومك من هذا المثل، يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحًا وسرورًا، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا في حجة، ثم فتحت عليهم، وقالوا: إن آلهتنا ليست خيرًا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم، كان أمر آلهتنا أهون، ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول، لا لإظهار الحق، فإن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنما ينطبق على الأصنام والأوثان، ولا يتناول عيسى والملائكة، ولكنهم قوم ذوو لدد في الخصومة، مجبولون على سوء الخلق واللجاج. قال الزمخشري (¬2): إن ابن الزبعرى بخبه وخداعه، وخبث دخلته، لما رأى كلام الله ورسوله محتملًا لفظه وجه العموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، لا غير، وجد للحيلة مساغًا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال، وحب المغالبة والمكابرة، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجاب عنه ربه، بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} فدل به على أن الآية خاصة في الأصنام، انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الكشاف.

[59]

59 - ثم بين أن عيسى عبد من عبيده، الذين أنعم الله عليهم بقوله: {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما عيسى بن مريم {إِلَّا عَبْدٌ} مربوب {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بفضلنا (¬1) عليه بالنبوة، أو بخلقه بلا أب، أو بقمع شهوته لا ابن الله، والعبد لا يكون مولى ولا إلهًا، كالأصنام {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا} أي: آية وعبرة {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يعرفون به قدرة الله سبحانه حيث خلقه من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، وكل مريض؛ أي: جعلناه أَمرًا عجيبًا حقيقًا، بأن يسير ذكره، كالأمثال السائرة. والمعنى (¬2): أي ما عيسى بن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها، فهو رفيع المنزلة على القدر، وقد جعلناه آية على قدرتنا، بأن خلقناه من غير أب وشرفناه بالنبوة، وصيرناه عبرة سائرة تفتح للناس باب التذكر والفهم، وليست مخالفة العادة بموجبه لعبادته كما يزعم النصارى، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم 60 - {وَلَوْ نَشَاءُ} {لو} للمضي، وإن دخل على المضارع ولذا لا يجزمه، ويتضمن {لَوْ} معنى الشرط؛ أي: ولو شئنا {لـ} أهلكناكم يا كفار مكة و {جعلنا} بدلًا {مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} يسكنون {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} عنكم؛ أي: يكونون خلفًا عنكم يعمرون الأرض، ويعبدونني، ويطيعونني، ومقصود الآية: أنا لو شئنا لأسكنا الملائكة الأرض، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم: بنات الله، قاله السدي. ونحوه عن مجاهد. وقيل المعنى (¬3): ولو شئنا {لَجَعَلْنَا}؛ أي: أولدنا؛ أي: لخلقنا بطريق التوالد {مِنْكُمْ} وأنتم رجال من الإنس ليس من شأنكم الولادة. كما ولدنا حواء من آدم، وعيسى من غير أب، وإن لم تجر العادة بذلك {مَلَائِكَةً} كما خلقناهم بطريق الإبداع {فِي الْأَرْضِ} مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين في السماء {يَخْلُفُونَ}؛ أي: يخلفونكم، ويصيرون خلفاء بعدكم مثل أولادكم فيما تأتون وتذرون، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، مع أن شأنهم التسبيح، والتقديس في السماء، فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية، كيف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[61]

يتوهم استحقاقهم للمعبودية، أو انتسابهم إليه بالولادة. يعني: أن الملائكة مثلكم في الجسمية واحتمال خلقها توليدًا لما ثبت أنهم أجسام، والأجسام كلها متماثلة، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر، كما جاز خلقها إبداعًا، وذات القديم الخالق لكل شيء متعالية عن مثل ذلك. فقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ ...} إلخ، لتحقيق (¬1) أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله، وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك، وهو توليد الملائكة من الرجال، مع التنبيه على سقوط الملائكة أيضًا عن درجة المعبودية، والمعنى الأول أولى وفي الآية إشارة، إلى أن الإنسان لو أطاع الله تعالى؛ لأنعم الله عليه، بأن جعله متخلقًا باخلاق الملائكة، ليكون خليفة الله في الأرض بهذه الأخلاق، ليستعد بها إلى أن يتخلق باخلاق الله، فإنها حقيقة الخلافة. والمعنى على القول الأول: ولو شئنا لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا، وفي الآية على هذا المعنى تهديد وتخويف لكفار قريش، وقد يكون المعنى: ولو شئنا لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، كما يخلفكم أولادكم، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر، وجعلناه رجلًا. والخلاصة (¬2): أننا لو شئنا لجعلنا في الأرض عجائب، كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكًا فيخلفه، فباب العجائب وتغير السنن لا حد له عندنا، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها. 61 - {وَإِنَّهُ} أي: وإن عيسى بن مريم عليه السلام بنزوله في آخر الزمان {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي (¬3): لشرط من أشراط الساعة، يعلم بنزوله قربها، وتسميته علمًا لحصوله به، فهي على المبالغة في كونه مما يعلم به، فكأنه نفس العلم بقربها، أو المعنى: إن حدوثه بغير أب، أو إحياءه الموتى دليل على صحة البعث، الذي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وهذا المعنى قاله (¬1) ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي والضحاك وابن زيد، يعني: عود الضمير على عيسى عليه السلام. وقال الحسن وقتادة أيضًا وابن جبير: الضمير يعود على القرآن؛ أي: وإن هذا القرآن يدل إنزاله على قرب الساعة، أو إنه به تعلم الساعة وأهوالها. وقالت فرقة: الضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو آخر الأنبياء تميزت به الساعة نوعًا وقدرًا من التمييز، ونفي التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه، والأول أولى، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة على عيسى. وروي: أن عيسى عليه السلام، ينزل على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها: أفيق بوزن أمير، قرية بين حوران والغور، وعليه ممصرتان، يعني: ثوبين مصبوغين بالأحمر، فإن العصر الطين الأحمر، والممصر المصبوغ به، كما في "القاموس" وشعر رأسه دهين، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة الصبح، وفي رواية في صلاة العصر، فيتأخر الإِمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل اليهود والنصارى إلا من آمن به. وفي حديث آخر: الأنبياء أولاد علات، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم ليس بيني وبينه نبي، وفي "صحيح مسلم": "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية"، وزاد غيره "وتهلك في زمانِه الملل كُلها إلا الإِسلام"، دل آخر الحديث، على أن المراد بوضع الجزية: تركها ورَفْعُها عن الكفار بأن لا يقبل إلا الإِسلام، صرح بذلك النووي. ولعل المراد بالكسر والقتل المذكورين ليس حيقتهما، بل إزالة آثار الشرك عن الأرض. وقرأ الجمهور (¬2): {لَعِلْمٌ} بصيغة المصدر، جعل المسيح علمًا، مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة، وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضحاك ومالك بن دينار والأعمش ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[62]

والكلبي قال ابن عطية وأبو نصرة {لعلم} بفتحتين؛ أي: لعلامة. وقرأ عكرمة به. قال ابن خالويه وأبو نصرة: {للعلم} معرفًا بفتحتين. {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا}؛ أي: فلا تشكن يا كفار مكة في وقوع الساعة، ولا تكذبن بها، فإنها كائنة لا محالة من الامتراء، وهو المحاجة فيما فيه مرية {وَاتَّبِعُونِ}؛ أي: واتبعوا هداي وشرعي فيما آمركم به، وأنهاكم عنه من التوحيد وبطلان الشرك، والمعنى: قل لهم يا محمد: اتبعوني {هَذَا} الذي أدعوكم إليه وآمركم به من التوحيد وفرائض الله تعالى {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}؛ أي: قويم لا اعوجاج فيه، موصل إلى الحق وإلى رضا الله سبحانه وتعالى. وقرأ الجمهور (¬1): بحذف الياء من {اتبعون} وصلًا ووقفًا، وكذلك قرؤوا بحذفها في الحالين في {أطيعون}. وقرأ يعقوب باثباتها وصلًا ووقفًا فيهما. وقرأ أبو عمرو وهي رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف. 62 - {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}؛ أي: لا يمنعنكم الشيطان، ولا يصرفنكم عن اتباعي؛ أي: لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم، فيمنعكم عن اتباعي، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه، ثم علل نهيهم، عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إن الشيطان {لَكُمْ}؛ أي: لبني آدم لا لغيركم {عَدُوٌّ}؛ أي: شديد العداوة {مُبِينٌ}؛ أي: بيِّن العداوة حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور، وعرضكم للبلية. فائدة: وحكي (¬2): أنه لما خرج آدم عليه السلام من الجنة، قال إبليس: أخرجته من الجنة بالوسوسة، فماذا أفعل به الآن، فذهب إلى السباع والوحوش فأخبرهم بخبر آدم، وما يولد منه حتى قالت الوحوش والسباع: ما التدبير والرأي في ذلك قال إبليس: ينبغي أن تقتلوه، وقتل واحد أسهل من قتل ألف، فأقبلوا إلى آدم وإبليس أمامهم، فلما رأى آدم أن السباع قد أقبلت إليه رفع يده إلى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[63]

السماء، وتضرع إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم امسح بيدك على رأس الكلب، فمسح فكرَّ الكلب على السباع والوحوش حتى هزمها، ومن ذلك اليوم صار الكلب عدو للسباع، التي هي أعداء لآدم وأولاده، وأصله: أن إبليس بصق على آدم حين كان طينًا، فوقع بصاقه على موضع سرته، فأمر الله سبحانه وتعالى جبرئيل حتى قور ذلك الموضع، فخلق من القوارة الكلب، ولذا أنس بآدم وصار حاميًا له. ويقال: المؤمن بين خمسة أعداء: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وعدو يقتله، ونفس تغويه، وشيطان يضله. والمعنى (¬1): أي إنه مظهر لعداوته لكم غير متحاش، ولا متكتم لها، كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم، من امتناعه عن السجود له، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين. 63 - {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} إلى بني إسرائيل {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الواضحة والشرائع الربانية، وقال قتادة: البينات هنا الإنجيل {قَالَ} لهم عيسى {قَدْ جِئْتُكُمْ} يا بني إسرائيل وبعثت إليكم {بِالْحِكْمَةِ}؛ أي: بالإنجيل أو بالشريعة لأعلمكم، وقيل: الحكمة كل ما يرغب في الجميل، ويكف عن القبيح {وَ} جئتكم {لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أحكام التوراة، قيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم، وقيل: ذلك البعض ما يتعلق بأمور الدين، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم", لأن اختلافهم يكون فيها وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات، فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه، وبين لهم في غيره ما احتاجوا إليه، واللام في قوله: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ} معطوفة على مقدر، كأنه قال: قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها, ولأبين لكم. فإن قلت (¬2): كيف قال عيسى عليه السلام لأمته ذلك، مع أن كل نبي يلزمه أن يبين لأمته كل ما يختلفون فيه؟. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن.

[64]

قلت: المرادُ: أنه يبين لهم مما اختلفوا فيه ما يحتاجونه دون ما لا يحتاجونه، وقال أبو عبيدة: المراد بالبعض: الكل، كما في قوله: يصبكم بعض الذي يعدكم، ورده الناس عليه، وقال مقاتل: هو كقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي: في الإنجيل من لحم الإبل والشحم من كل حيوان، وصيد السمك يوم السبت من كل ما حرم عليهم في التوراة. والمعنى (¬1): ولما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحة قال: قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر، ولأبين لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى، من أحكام الدين دون أمور الدنيا، كطرق الفلاحة والتجارة، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها، كما يشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - حين نهاهم عن تأبير النخل - تلقيحه بطلع الذكر - ففقد الثمر ولم يغل شيئًا نافعًا: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور دينكم". ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: اتقوا عقابه في مخالفتي أن يحل بكم {وَأَطِيعُونِ}؛ أي: أطيعوني فيما أبلغه عنه تعالى من الشرائع والتكاليف، فإن طاعتي طاعة الله سبحانه وتعالى، كما قال من يطع الرسول فقد أطاع الله. 64 - ثم فصل ما يأمرهم به بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} الذي يستحق إفراده بالألوهية، وإخلاص العبادة له {هُوَ رَبِّي} ومالكي {وَرَبُّكُمْ} ومالككم، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه، فخصوه بالعبادة والتوحيد، وهذا بيان (¬2) لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبد بالشرائع {هَذَا} الذي جئتكم به من التوحيد، والتعبد بالشرائع، {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} لا يضل سالكه، وكل الديانات جاءت بمثله، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية الله تعالى، وتعبد بشرائعه، وفي "التأويلات النجمية": فاعبدوه ولا تعبدوني، فإني في العبودية شريك معكم، وإنه متفرد بربوبيته إيانا، وتعبدنا إياه صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، وهذا تتمة كلام عيسى عليه السلام، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[65]

أو استئناف من الله، يدل على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك، 65 - ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه، والاتفاق على سلوكه، بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه، فقال: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ}؛ أي: فاختلفت الفرق المتخربة من اليهود والنصارى في شأن عيسى عليه السلام، بعد رفعه إلى السماء اختلافًا ناشئًا {مِنْ بَيْنِهِمْ}؛ أي: من قبل أنفسهم لم يدخلهم الاختلاف من غيرهم، فقالت اليهود لعنهم الله تعالى: ابن زانية زنت أمه بيوسف النجار، وقالت اليعقوبية من النصارى: هو الله، وقالت النسطورية: وابن الله، وقالت الملكانية: هو شريك الله، وقالت المرقوسية: هو ثالث ثلاثة. وفي "التأويلات النجمية": تفرق قومه الذين بعث إليهم أحزابًا وفرقًا، حزب آمنوا به أنه عبد الله ورسوله، وحزب آمنوا به أنه ثالث ثلاثة فعبدوه بالألوهية، وحزب اتخذوه ولدًا لله وابنًا له، تعالى الله عما يقول الظالمون، وحزب كفروا به وجحدوا نبوته، وظلموا عليه، وأرادوا قتله. وقيل: المراد بالأحزاب: الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذبوه وهم المرادون بقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ}. والأول أولى. فقال الله في حق الظالمين المشركين: {فَوَيْلٌ}؛ أي: فشدة عذاب {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} من هؤلاء المتحزبين، الذين وضعوا القول في غير موضعه، ففيه إظهار في مقام الإضمار، تسجيلًا عليهم باسم الظلم {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}؛ أي: وجيع عذابه، وهو يوم القيامة، والمراد: يوم أليم العذاب، كقوله: في يوم عاصف؛ أي: عاصف الريح. 66 - والاستفهام في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} للإنكار، والضمير لكفار مكة؛ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون، وقيل: للأحزاب المختلفة؛ أي: ما ينتظر هؤلاء الأحزاب المتفرقة، وهذا أوفق بمقتضى السياق، وقيل: جميع الكفرة، وهذا أولى لعمومه؛ أي: ما ينتظر الكفار ولا يرتقبون {إِلَّا السَّاعَةَ} والقيامة {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} بدل (¬1) من الساعة؛ أي: إلا إتيانَ الساعة، ولما كانت الساعة تأتيهم لا محالة كانوا كأنَّهم ينتظرونها، وانتصاب {بَغْتَةً} على المصدرية؛ أي: إتيان بغتة وفجأة. قال في "الإرشاد": ¬

_ (¬1) روح البيان.

فجأةً لكن لا عند كونهم مترقبين لها، بل غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا، منكرين لها، وذلك قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ولا يعلمون بإتيانها، فيجازي كل الناس على حسب أعمالهم، فلا تؤدي {بَغْتَةً} مؤدى قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، حتى لا يستغنى بها عنه؛ لأنه ربما يكون إتيان الساعة بغتةً مع الشعور بوقوعه، والاستعداد له؛ لأنه إذا لم يعرف وقت مجيئه ففي أي وقت جاء أتي بغتةً، وربما يجيء والشخص غافل عنه منكر له، والمراد هنا: هو الثاني، فلذا وجب تقييد إتيان الساعة بمضمون الجملة الحالية، فعلى العاقل الخروج عن كل ذنب، والتوبة لكل جريمة، قبل أن يأتي يوم أليم عذابه، وهو يوم الموت، فإن ملائكة العذاب ينزلون فيه على الظالمين، ويشددون عليهم حتى تخرج أرواحهم الخبيثة بأشد العذاب. والمعنى (¬1): أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في شأن عيسى، القائلون فيه الباطل من القول إلا أن تقوم الساعة بغتةً، وهم غافلون عنها, لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وانكارهم لها، فيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يدفع ذلك عنهم شيئًا، ونحو الآية قوله تعالى: {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}. روى ابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تقوم الساعة والرجلان يحلبان الشاة، والرجلان يطويان الثوب"، ثم قرأ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}. واعلم (¬2): أن القيامة ثلاث: الكبرى: وهي حشر الأجساد، والسوق إلى المحشر للجزاء. والصغرى: وهي موت كل أحد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات فقد قامت قيامته" ولذا جعل القبر روضةً من رياض الجنة، أو حفرةً من حفر النيران. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[67]

والوسطى: وهي موت جميع الخلائق، وقيام هذه الوسطى لا يعلم وقته يقينا، وإنما يعلم بالعلامات المنقولة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مثل: أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، والزنا، وشرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأةً القيم الواحد. وعن علي رضي الله عنه: "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإِسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، ولا من القرآن إلا درسه، يعمرون مساجدهم، وهي خراب عن ذكر الله تعالى، شر أهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود"، يعني: يهدى به ولا يهتدي، فنعوذ بالله من علم بلا عمل. 67 - {الْأَخِلَّاءُ} والأصدقاء؛ أي (¬1): المتحابون في الدنيا على الإطلاق، أو في الأمور الدنيوية {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تأتيهم الساعة، وهو ظرف لقوله: {عَدُوٌّ}. والفصل بالمبتدأ غير مانع، والتنوين فيه عوض عن الجملة المحذوفة التي أضيف إليها إذ {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ أي: يعادي بعضهم بعضًا؛ لأنه قد انقطعت بينهم علائق الخلة والتحاب، واشتغل كل واحد منهم بنفسه، ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسبابًا للعذاب، فصاروا أعداء، ثم استثنى المتقين فقال {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فإن خلتهم في الدنيا، لما كانت في الله بقيت على حالها, ولم تنقطع، بل تزداد بمشاهدة كل منهم آثار الخلة، من الثواب ورفع الدرجات. والاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منقطع. وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى أن كل خلة وصداقة تكون في الدنيا مبنية على الهوى والطبيعة الإنسانية، وتكون في الآخرة عداوةً يتبرأ بعضهم من بعض. والأخلاء في الله خلتهم باقية إلى الأبد، وينتفع بعضهم من بعض، ويشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، وهم المتقون الذين استثناهم الله سبحانه، وشرائط الخلة في الله أن يكونا متحابين في الله محبةً خالصة لوجه الله، من غير شوب بعلة دنيوية، هوائية، متعاونين في طلب الله، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[68]

ولا يجري بينهم مداهنة، فبقدر ما يرى بعضهم في بعض من صدق الطلب والجد، والاجتهاد يساعده، ويوافقه، ويعاونه، فإذا علم منه شيئًا لا يرضاه الله تعالى، لا يرضاه من صاحبه، ولا يداريه، فقد قيل: المداراة في الشريعة كفر، بل ينصحه بالرفق والموعظة الحسنة، فإذا عاد إلى ما كان عليه وترك ما تجدد لديه يعود إلى صدق مودته وحسن صحبته، كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} انتهى. 68 - ثم ذكر ما يتلقى الله سبحانه وتعالى به عباده المتقين، المتحابين في الله تشريفًا لهم، وتسكينًا لروعتهم مما يرون من الأهوال فقال: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} من لقاء المكاره {وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} من فوت المقاصد، كما يخاف ويحزن غير المتقين، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو: {يَا عِبَادِي} بإثبات الياء، ساكنة وصلًا ووقفا. وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين. وقرأ الباقون بحذفها في الحالين. وقرأ الجمهور: {لَا خَوْفٌ}: مرفوعًا منونًا، وابن محيصن بالرفع من غير تنوين، والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن يعمر بفتحها من غير تنوين، ذكره في "البحر"؛ أي (¬1): ونقول لهم يومئذ: يا عبادي لا تخافوا من عقابي. فإني قد أمنتكم منه برضاي عنكم، ولا تحزنوا على فراق الدنيا، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها. 69 - ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا {بِآيَاتِنَا} وعملوا بجميع ما فيها {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}؛ أي: منقادين لتكاليفنا بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. وجملة {كَانُوا} حال من {الواو} في {آمَنُوا}، أو عطف على الصلة؛ أي: مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمةً لطاعتنا، وفي الآية إشارة إلى الإيمان بالآيات التنزيلية، والتكوينية. والمعنى: أي الذين آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وانقادت لشرع الله بواطنهم وظواهرهم، والموصول يجوز أن يكون نعتًا لعبادي، أو بدلًا منه، أو ¬

_ (¬1) المراغي.

[70]

عطف بيان له، أو مقطوعًا عنه في محل نصب على المدح، أو في محل رفع على الابتداء، 70 - وخبره قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} على تقدير يقال لهم: ادخلوا الجنة، والأول أولى، وبه قال الزجاج؛ أي: ويقال لهم على سبيل البشرى: ادخلوا الجنة أيها المؤمنون {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ}؛ أي: نساؤكم المؤمنات، وقيل: قرناؤهم من المؤمنين. وقيل: زوجاتهم من الحور العين، والأول أولى. حال كونكم {تُحْبَرُونَ}؛ أي: تسرون سرورًا يظهر حباره، بفتح الحاء وكسرها؛ أي: أثره على وجوهكم لقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)}، أو تزينون من الحبرة، وهو حسن الهيئة، 71 - وبعدئذ ذكر طرفًا مما يتمتعون به من النعيم فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على العباد المؤمنين بعد دخولهم الجنة، والطائف (¬1): الخادم ومن يدور حول البيت حافظًا، والإطافة كالطوف والطواف؛ أي: يدار عليهم بأيدي الغلمان والولدان {بِصِحَافٍ} وقصاع وجفان مخلوقة {مِنْ ذَهَبٍ} مملوءة بألوان من الطعام والحلوى، جمع صحفة كجفان جمع جفنة، وهي القصعة العريضة الواسعة، قال السدي: ليست لها آذان، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة، وهي تشبع عشرةً ثم الصحفة، وهي تشبع خمسة، ثم المكيلة، وهي تشبع الرجلين والثلاثة. والمعنى: أن لهم في الجنة أطعمةً، يطاف عليهم بها في صحاف الذهب {و} لهم فيها أشربة، يطاف عليهم بها في {أَكْوَابٍ} وكاسات من ذهب، جمع كوب، وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم، ليشرب الشارب من حيث شاء، قال سعدي المفتي: قللت الأكواب، وكثرت الصحاف؛ أي: كما دل عليهما الصيغة لأن المعهود قلة أواني الشرب بالنسبة إلى أواني الأكل. والمعنى (¬2): أي وبعد أن استقروا في الجنة، وهدأ روعهم، يطاف عليهم بجفان من الذهب. مترعة بألوان الأطعمة والحلوى، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذ وطاب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وبعد أن فصل بعض ما في الجنة من نعيم، عمم في ذلك فقال: {وَفِيهَا}؛ أي: وفي الجنة {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} وتطلبه؛ أي: أنفس أهل الجنة من فنون الملاذ والمشتهيات النفسانية، كالمطاعم والمشارب والمناكح والملابس، والمراكب، ونحو ذلك. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وابن عباس وحفص: {تَشْتَهِيهِ} بإثبات الضمير العائد على الموصول، وقرأ الجمهور (¬1)، وباقي السبعة: بحذف الهاء. قال في "الأسئلة المقحمة": أهل الجنة هل يعطيهم الله جميع ما يسألونه، وتشتهي أنفسهم ولو اشتهت أنفسهم شيئًا من مناهي الشريعة كيف يكون حاله؟ والجواب: معنى الآية أن نعيم الجنة كله مما تشتهيه الأنفس، وليس فيها ما لا تشتهيه النفوس، ولا تصل إليه، وقد قيل: يعصم الله سبحانه أهل الجنة من شهوة محالٍ، أو منهي عنه، يقول الفقير: دل هذا على أنه ليس في الجنة اللواطة المحرمة في جميع الأديان والمذاهب، ولو في دبر امرأته، فإن الإِمام مالكًا رحمه الله تعالى رجع عن تجويز اللواطة في دبر امرأته، وليس فيها اشتهاء اللواطة، لكونها مخالفة للحكمة الإلهية، وقد جوزها بعضهم في "شرح الأشباح"، وغلط فيه غلطًا فاحشًا، وأما الخمر فليست كاللواطة لكونها حلالًا على بعض الأمم. والحاصل: أنه ليس في الجنة ما يخالف الحكمة كائنًا ما كان، ولذا تستر فيها الأزواج عن غير محارمهن، وإن كان لا حل ولا حرمة هناك؛ أي: وفيها (¬2) ما تشتهيه الأنفس من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة، جزاءً لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}؛ أي: تستلذه الأعين، وتقر بمشاهدته من الأشياء المبصرة، جزاء ما تحملوه من منع أعينهم، من نظر ما لا يجوز شرعًا، وفي مصحف عبد الله: {ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين} بإثبات الهاء فيهما. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

[72]

قال جعفر (¬1): شتان بين ما تشتهي الأنفس، وبين ما تلذ الأعين؛ لأن ما في الجنة من النعيم والشهوات واللذات في جنب ما تلذ الأعين، كأصبع يُغمس في بحر؛ لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية؛ لأنها مخلوقة، ولا تلذ الأعين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الوجه الباقي الذي لا حد له ولا نهاية. {وَأَنْتُمْ} يا عبادي {فِيهَا}؛ أي: في الجنة {خَالِدُونَ}؛ أي: باقون دائمون، لا تخرجون ولا تموتون، إذ لولا البقاء والدوام لنغص العيش، ونقص السرور، والاشتهاء، واللذة فلم يكن التنعم كاملًا، والخوف والحسرة زائلًا بخلاف الدنيا، فإنها لفنائها عيشها مشوب بالكدر، ونفعها مخلوط بالضرر. والمعنى (¬2): أي وفي الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة، والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها، مما تطلبه النفوس وتهواه، كائنًا ما كان، جزاءً لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات، وفيها ما تقر أعينهم بمشاهدته، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، وأنتم لا تخرجون منها, ولا تبغون عنها حولًا. أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، هل في الجنة خيل، فإني أحب الخيل، قال: "إن يدخلك الله الجنة، فلا تشاء أن تركب فرسًا من ياقوتة حمراء، فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت". وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل، فإني أحب الإبل، فقال: "إن يدخلك الله الجنة، يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك". 72 - ثم ذكر أن هذا كان فضلًا من ربكم، آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال: {وَتِلْكَ} مبتدأ، إشارة إلى الجنة المذكورة {الْجَنَّةُ} خبره {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}؛ أي: أعطيتموها، وجعلتم ورثتها، وصارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث {بِمَا} الباء سببية؛ أي: بسبب ما {كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[73]

الأعمال الصالحة وقيل: اسم الإشارة مبتدأ، والجنة صفته، والتي أورثتموها صفة للجنة، والخبر بما كنتم تعملون، وقيل: الخبر الموصول مع صلته، والأول أولى، وعليه أكثر المفسرين. والمقصود (¬1): أن دخول الجنة بمحض فضل الله تعالى ورحمته، واقتسام الدرجات بسبب الأعمال، والخلود فيها بحسب عدم السيئات، شبه جزاء العمل بالميراث؛ لأن العامل يكون خليفة العمل على جزائه، يعني: يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل، فكان العمل كالموروث، وجزاؤه كالميراث. والمعنى: أي وهذه الجنة جعلها الله تعالى لكم باقية، كالميراث الذي يبقى عن المورث جزاء ما قدمتم من عمل صالح، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} ". 73 - وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: {لَكُمْ} أيها المؤمنون المتقون {فِيهَا}؛ أي: في الجنة سوى الطعام والشراب {فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} بحسب (¬2) الأنواع، والأصناف لا بحسب الأفراد فقط. والفواكه من أشهى الأشياء للناس، وألذها عندهم، وأوفقها لطباعهم وأبدانهم، ولذلك أفردها بالذكر {مِنْهَا}؛ أي: بعضها {تَأْكُلُونَ} في نوبة لكثرتها، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا ترى فيها شجرة خلت من ثمرها لحظةً، فهي مزينة بالثمار أبدًا موفرة بها، وفي الحديث: "لا ينزع رجل في الجنة ثمرةً من ثمرها، إلا نبت مثلاها مكانها"، فمن تبعيضية، والتقديم للتخصيص، ويجوز أن تكون ابتدائيةً، وتقدم الجار للفاصلة، أو للتخصيص، كالأول فيكون فيه دلالة على أن كل ما يأكلون للتفكه ليس فيها تقوت، إذ لا تحلل حتى يحتاج إلى الغذاء. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[74]

والمعنى (¬1): لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها، تأكلون منها حيثما شئتم، وكيفما اخترتم. 74 - ولما ذكر سبحانه حال أهل الجنة، وما يقال لهم من لذائذ البشارة .. أعقب ذلك بذكر حال الكفرة، وما يجاوبون به عند سؤالهم فقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: إن المشركين الراسخين الكاملين في الإجرام والإشراك حسبما ينبىء عنه إيرادهم في مقابلة المؤمنين بالآيات {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ} متعلق بقوله: {خَالِدُونَ}؛ أي: ماكثون فيه أبدًا لا ينقطع عذابهم في جهنم، كما ينقطع عذاب عصاة المؤمنين، على تقدير دخولهم فيها 75 - {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ}؛ أي: لا يخفف عنهم العذاب، ولا ينقص من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلًا، ونقص حرها. والجملة في محل النصب على الحال {وَهُمْ}؛ أي: المجرمون {فِيهِ}؛ أي: في العذاب {مُبْلِسُونَ}؛ أي: آيسون من النجاة والراحة، وخفة العقوبات، وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من النار، ثم يردم عليه فيبقي فيه خالدًا، لا يرى ولا يرى. وقيل: ساكتون سكوت بأس، وقرأ عبد الله {وهم فيها}؛ أي: في جهنم، والجمهور {وَهُمْ فِيهِ}؛ أي: في العذاب. وفي "التأويلات النجمية": في الآية إشارة، إلى أن أهل التوحيد وإن كان بعضهم في النار، لكن لا يخلدون فيها، ويفتر عنهم العذاب بدليل الخطاب، وقد ورد في الخبر: "إنه يميتهم الحق إماتةً إلى أن يخرجهم من النار، والميت لا يحيى ولا يألم" وذكر في الآية وهم مبلسون؛ أي: خائبون، وهذه صفة الكفار، والمؤمنون وإن كانوا في بلائهم، فهم على وصف رجائهم، يعدون أيامهم إلى أن تنتهي أشجانهم 76 - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بذلك؛ أي: ما عذبناهم بغير ذنب، ولا بزيادة على ما يستحقونه {وَلَكِنْ كَانُوا}؛ أي: المجرمون {هُمُ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بما فعلوا من الإشراك والمعاصي لتعريض أنفسهم للعذاب الخالد، بالكفر والمعاصي. و {هُمُ} ضمير (¬2) فصل عند البصريين، من حيث إنه فصل به بين كون ما بعده خبرًا أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[77]

نعتًا، وتسمية الكوفيين له عمادًا، لكونه حافظًا لما بعده، حتى لا يسقط عن الخبرية، كعماد البيت، فإنه يحفظ سقفه من السقوط، وقرأ الجمهور (¬1): {الظَّالِمِينَ} بالنصب، على أنه خبر كان، والضمير ضمير فصل، وقرأ عبد الله وأبو زيد النحوي: {الظالمون} بالرفع على أنه خبر {هُمُ}، و {هُمُ}: مبتدأ، وذكر أبو عمرو الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤون {تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظمُ أجرا}، يعني: برفع خير وأعظم. والمعنى (¬2): أي: إن الذين اجترموا الكفر بالله في الدنيا، يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدًا لا ينفك عنهم، ولا يجدون عنها حولًا، ولا يخفف عنهم لحظةً، وهم فيه ساكتون سكوت بأس من النجاة والفرج، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} إلخ؛ لأن تلك أزمنة متطاولة، وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون. ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم، فقال: وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم، ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم، ولكن هم الذين أساؤوا إلى أنفسهم، فكذبوا الرسل وعصوهم، بعد أن أقاموا الحجة عليهم فأتوهم بباهر المعجزات. 77 - ثم ذكر ما يقوله أهل النار، وما يجيبهم به خزنتها، فقال: {وَنَادَوْا}؛ أي: ونادى المجرمون من شدة العذاب، فقالوا: {يَا مَالِكُ} هو خازن النار، قرأ (¬3) الجمهور: {يَا مَالِكُ} بدون ترخيم، وقرأ عبد الله وعلي وابن وثاب والأعمش: {يا مالِ} بالترخيم، على لغة منم ينتظر الحرف المحذوف، وقرأ أبو السرار الغنوي: {يا مالُ} بالبناء على الضم، جعله اسمًا على حياله على لغة من لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط والمراغي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[78]

ينتظر، واللام في {لِيَقْضِ} لام الطلب والرغبة؛ أي: ليقض {عَلَيْنَا رَبُّكَ} بالموت حتى لا يتكرر عذابنا؛ أي: ليمتنا حتى نستريح من ألم العذاب، من قضى عليه إذا أماته، كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}؛ أي: أماته، توسلوا بمالك إلى الله سبحانه وتعالى، ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت، فيستريحوا من العذاب. والمعنى (¬1): سل ربك يا مالك، أن يقضي علينا، وهذا لا ينافي ما ذكر من إبلاسهم أولًا كما مر؛ لأنه جؤار؛ أي: صياح وتمن للموت، لفرط الشدة {قَالَ} مالك مجيبًا لهم بعد أربعين سنة، يعني: ينادون مالكًا أربعين سنة، فيجيبهم بعدها، كما قاله عبد الله بن عمرو، أو بعد مئة سنة، كما قاله نوف، أو بعد ألف سنة، كما قاله ابن عباس، وميل: بعد ثمانين سنة؛ لأن تراخي الجواب أحزن لهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} المكث ثبات مع انتظار؛ أي: إنكم مقيمون في العذاب أبدًا، لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره، فليس بعدها إلا جؤار كصياح الحمير، أوله زفير وآخره شهيق. والمعنى (¬2): أي ونادى المجرمون من شدة العذاب، فقالوا: يا مالك، ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه، فأجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} لا خروج لكم منها, ولا محيص لكم عنها. ونحو الآية قوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، وقوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}. 78 - ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ، وبين سبب مكثهم فيها بقوله: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ} أيها المجرمون في الدنيا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بإرسال، وإنزال الكتب. وهو خطاب توبيخ من جهة؛ الله تعالى مقرر لجواب مالك، ومبين لسبب مكثهم، ويحتمل (¬3) أن يكون من كلام مالك، والأول أولى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي (¬3) الشوكاني.

[79]

والمعنى: أنا أرسلنا إليكم الرسل، وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم إلى التوحيد فلم تقلبوا ولم تصدقوا، وهو معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ} أيها المجرمون {لِلْحَقِّ} أي حق كان {كَارِهُونَ}؛ أي: لا يقبلون، وينفرون منه مشمئزين منه. والمعنى: أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة رسلنا، وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه، ولكن سجاياكم وطبائعكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل، وتعظمه وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة. 79 - وبعد أن ذكر كيفية عذابهم في الآخرة، بين سببه، وهو مكرهم، وسوء طويتهم في الدنيا، فقال: {أَمْ أَبْرَمُوا} و {أَمْ} هي المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة؛ أي: بل أأبرم كفار قريش {أَمْرًا} وأحكموا كيدًا، واحتالوا حيلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فتكه، كما فعلوا في اجتماعهم على قتله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة إلى غير ذلك، وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء. والإبرام (¬1): الإتقان والإحكام، يقال: أبرمت الشيء أحكمته وأتقنته، وأبرم الحبل إذا أحكم قتله. والمعنى: بل أأحكموا كيدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}؛ أي: محكمون لهم كيدًا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، ونحو الآية قوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)}، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}. وقيل: المعنى أم قضوا أمرًا فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب، قاله الكلبي. 80 - والخلاصة: بل هم تحيلوا في رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر، فكادهم الله تعالى، ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم في النار، معذبين فيها أبدًا {أَمْ يَحْسَبُونَ}؛ أي: بل أيحسب كفار مكة ويظنون {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ}؛ أي: ما يسرون به في أنفسهم من حديث النفس، أو ما يتحدثون به سرًا في مكان خال ¬

_ (¬1) روح البيان.

[81]

من كيد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم كانوا مجاهرين بتكذيب الحق {وَنَجْوَاهُمْ}؛ أي: ما يتناجون ويتحدثون به فيما بينهم بطريق التناجي، والتشاور في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - {بَلَى} نحن نسمعهما، ونطلع عليهما {وَرُسُلُنَا} الذين يحفظون عليهم أعمالهم، ويلازمونهم أينما كانوا {لَدَيْهِمْ}؛ أي: عندهم {يَكْتُبُونَ}؛ أي: يكتبونهما، أو يكتبون كل ما صدر منهم من الأفعال والأقوال، التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم، ثم تعرض عليهم يوم القيامة، فإذا كان خفاياهم غير خفية علي الملائكة، فكيف على عالم السر والنجوى، ولقد أجاد من قال: إِنِّيْ لَمُسْتَتِرٌ مِنْ عَيْنِ جِيْرَانِيْ ... وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارِيْ وَإِعْلاَنِيْ والجملة (¬1) معطوفة على ما يترجم عنه بلى، وفي "التأويلات النجمية": خوفهم بسماعه أحوالهم، وكتابة الملك عليهم أعمالهم لغفلتهم عن الله تعالى، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوفهم بغير الله، ومن علم أن أعماله تكتب عليه، ويطالب بمقتضاها، قل إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه. قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من أمارات النفاق، ولما قدم في أول السورة تبكيتهم والتعجب منهم في ادعائهم لله ولدًا من الملائكة، وهددهم بقوله: ستكتب شهادتهم ويسألون .. 81 - أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول للكفار قولًا يلزمهم به الحجة، ويقطع ما يوردونه من الشبهة، فقال: {قُلْ} يا محمد للكفرة {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ} فرضًا، كما تقولون: الملائكة بنات الله {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لذلك الولد، وأسبقكم إلى تعظيمه والانقياد له، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بشؤونه تعالى، وبما يجوز عليه، وبما لا يجوز، وأولاهم بمراعاة حقوقه، ومن موجب تعظيم الوالد تعظيم ولده؛ أي: إن يثبت بحجة قطعية كون الولد للرحمن، كما تزعمون فأنا أولكم في التعظيم، وأسبقكم إلى الطاعة تعظيمًا لله تعالى، وانقيادًا لأن الداعي إلى طاعته وتعظيمه أول وأسبق في ذلك، وكون الولد له تعالى، مما هو مقطوع بعدم وقوعه، ولكن نزل منزلة ما لا جزم لوقوعه، واللاوقوعه على ¬

_ (¬1) روح البيان.

المساهلة، وإرخاء العنان لقصد التبكيت، والإسكان والإلزام، فجيء بكلمة إن المفيدة للشك، فلا يلزم من هذا الكلام صحة كينونة الولد، وعبادته، لأنها محال في نفسها يستلزم المحال، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد، والإطناب مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: وأول ما جرى به القلم لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: فانا أول العابدين أحق بتوحيد الله، وذكر الله سبحانه. وقال ابن عباس (¬1): {إِنْ كَانَ}؛ أي: ما كان للرحمن ولد {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}؛ أي: الشاهدين له بذلك. وقيل: العابدين بمعنى الآنفين؛ أي: أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم، وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد. وهو (¬2) تكلف لا ملجىء إليه، ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني {العبدين} بغير ألف، يقال: عبد يعبد عبدًا، بالتحريك من باب فرح، إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة على هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، وليس بمستبعد ولا مستنكر، وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أنه من الأنف والغضب، وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي، وبه قال الفراء، وكذا قال ابن الأعرابي: إن معنى العابدين الغضاب الآنفين، وقال أبو عبيدة: معناه: الجاحدين، وحكي عبدني حقي؛ أي: جحدني. وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق: أُولَئِكَ آبَائِيْ فَجِئْنِيْ بِمِثْلِهِمْ ... وَأَعْبُدُ أَنْ أَهْجُوْ كُلَيْبًا بِدَارِمِ وقوله أيضًا: أُوْلَئِكَ نَاسٌ لَوْ هَجَوْنِيْ هَجَوْتُهُمْ ... وَأَعْبُدُ أَنْ يُهْجَى كُلَيْبٌ بِدَارِمِ ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف، أو غضب ثابت في لغة العرب، وكفى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني.

[82]

بنقل هؤلاء الأئمة حجةً، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا مجلىء إليه، ومن التعسف الواضح، وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال: إنما يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقيل ما يقال: عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. وقرأ الجمهور: {ولد} بفتح اللام بالإفراد، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصمًا {ولد} بضم {الواو} وسكون اللام. والمعنى: أي قل يا محمد لكفار قريش: إن ثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها، أن للرحمن ولدًا كنت أنا أسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ابن الملك تعظيمًا لأبيه، ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب في نفي الولد، كما يقول الرجل لمن يناظره ويجادله: إن ثبت ما تقول بالدليل، فأنا أول من يعتقده، ويقول به، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه. 82 - ثم نزه سبحانه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: تنزيها له وتقديسًا عما يقولون من الكذب، بأن له ولدًا، ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه، فقد نزه نفسه عما قالوه، وإن كان من تمام كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي أمره بأن يقوله .. فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم، بزعمهم الباطل، تنزيه ربه وتقديسه، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته، كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءًا منه سبحانه {رَبِّ الْعَرْشِ} في تكرير اسم الرب، تفخيم لشأن العرش {عَمَّا يَصِفُونَ}؛ أي: يصفونه به، وهو الولد، قال في "بحر العلوم" أي: سبحوا رب هذه الأجسام العظام؛ لأن مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كل مربوب فيها، ونزهوه عن كل ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام، فإنه لو كان جسمًا لم يقدر على خلق هذا العالم، وتدبير أمره. والمعنى: أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق، ورب العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه به المشركون كذبًا، وعما ينسبون إليه من الولد إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكًا له، ويكون شيء منها جزءًا منه، تعالى ربنا عن ذلك علوًا كبيرًا.

[83]

83 - ولما ذكر الدليل القاطع على نفي الولد، أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون، فقال: {فَذَرْهُمْ}؛ أي: اترك أيها الرسول هؤلاء الكفرة، حيث لم يذعنوا للحق بعدما سمعوا هذا البرهان الجلي، ولم يهتدوا بما هديتهم به، ولا أجابوك إلى ما دعوتهم إليه {يَخُوضُوا} بالجزم في جواب الطلب؛ أي: يشرعوا في أباطيلهم وأكاذيبهم والخوض (¬1): هو الشروع في الماء، والمرور فيه، ويستعار للأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، كما في "المفردات" {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم، ويلهوا فيها، فإن ماهم فيه من الأقوال والأفعال ليست إلا من باب الجهل واللعب يقال: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا، قالوا: كل لعب لا لذة فيه فهو عبث، وما كان فيه لذة فهو لعب {حَتَّى يُلَاقُوا} ويعاينوا {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} على لسانك، وهو يوم القيامة، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا وما يفعل بهم، قال سعدي المفتي: والأظهر: يوم الموت، فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي به. يقول الفقير: وفيه أن الموعود هو يوم القيامة؛ لأنه الذي كانوا ينكرونه، لا يوم الموت الذي يشكون فيه، ولما كان يوم الموت متصلًا بيوم القيامة، على ما أشار إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات فقد قامت قيامته" جعل الخوض واللعب منتهيين بيوم القيامة. وفي الآية: إعلام بأنهم من الذين طبع الله على قلوبهم، فلا يرجعون عما هم عليه أبدًا، وإشارة إلى أن الله سبحانه، خلق الخلق أطوارًا مختلفة، فمنهم من خلقه للجنة، فيستعده للجنة بالإيمان والعمل الصالح وانقياد الشريعة ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من خلقه للنار، فيستعده للنار، برد الدعوة والإنكار والجحود والخذلان، ويكله إلى الطبيعة النفسانية الحيوانية، التي تميل إلى اللهو واللعب والخوض فيما لا يعنيه، ومنهم من خلقه للقربة والمعرفة، فيستعده لهما بالمحبة والصدق والتوكل واليقين. واعلم: أن الاشتغال بما سوى الله تعالى من قبيل اللهو واللعب إذ ليس فيه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[84]

مقصد صحيح وإنما المطلب الأعلى هو الله سبحانه وتعالى، ولذا خرج السلف عن الكل، ووصلوا إلى مبدأ الكل، جعلنا الله وإيَّاكم من المشتغلين به. وقال عكرمة وغيره (¬1): هو يوم بدر، وأضاف اليوم إليهم؛ لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم، قيل: وهذا الأمر بتركهم منسوخ بآية السيف، وقيل: هو غير منسوخ، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ الجمهور: {حَتَّى يُلَاقُوا}. وقرأ مجاهد وأبو جعفر وابن محيصن وحميد وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو وابن السميقع {حتى يلقوا} بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف، مضارع لقي من باب رضي. وحاصل معنى الآية (¬2): أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله الواصفيه، بأن له ولدًا، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم حتى يأتي ذلك اليوم، الذي لا محيص عنه، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم، ويذوقون الوبال والنكال، جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام، ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد. 84 - ثم أكد هذا التنزيه، فقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ}؛ أي (¬3): مستحق لأن يعبد فيها؛ أي: هو معبود أهل السماء من الملائكة، وبه تقوم السماء وليس حالًا فيها {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}؛ أي: مستحق لأن يعبد فيها؛ أي: فهو معبود أهل الأرض من الإنس والجن، واله الآلهة التي تدعون، ولا قاضي لحوائج أهل الأرض إلا هو، وبه تقوم الأرض وليس حالًا فيها. فالظرفان متعلقان بـ {إِلَهٌ} لأ نه بمعنى المعبود بالحق، أو متضمن معناه كقولهم: هو حاتم؛ أي: جواد لاشتهاره بالجود، وكذا في قراءة من قرأ {وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله}، ومنه قوله تعالى في الأنعام: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}؛ أي: وهو الواجب الوجود المعبود المستحق للعبادة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

فيهما، والعائد إلى الموصول مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر، وهو {فِي السَّمَاوَاتِ} والعطف عليه، والتقدير: وهو الذي هو في السماء إله، وهو في الأرض إله، قاله أبو علي الفارسي قال: والمعنى على الإخبار بإلاهيته فيهما، لا على الكون والحلول فيهما، وقيل: {فِي} بمعنى على؛ أي: هو القادر على السماء والأرض، كما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل}. وقرأ الجمهور (¬1): {إِلَهٌ} في الموضعين، وقرأ عمر وعبد الله وأبي وعلي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو الشيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السميقع {الله} فيهما كما مر آنفًا بيانه. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَكِيمُ} فيما دبره لخلقه {الْعَلِيمُ} بمصالحهم، فهو كالدليل على ما قبله والتعليل له؛ لأنه المتصف بكمال الحكمة والعلم، المستحق للألوهية لا غيره؛ أي: وهو الحكيم في تدبير العالم وأهله، العلم بجميع الأحوال من الأزل إلى الأبد. فإن قلت: ما في هذه (¬2) الآية يقتضي تعدد الآلهة؛ لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعددت، كقولك: أنت طالق وطالق. قلت: لا إله هنا بمعنى المعبود، وهو تعالى معبود فيهما، والمغايرة إنما هي بين معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض؛ لأن المعبودية من الأمور الإضافية، فيكفي التغاير فيها من أحد الطرفين، فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض مع أن المعبود واحد. وحاصل معنى الآية (¬3): أي: وهو الله الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض، ولا تصلح العبادة إلا له، وهو الحكيم في تدبير خلقه، وتسخيرهم لما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) المراغي.

[85]

يشاء، العليم بمصالحهم، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس، وجليل وحقير، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه، يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها، ويعجب مما فيه من جمال وكمال، ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب، فأفردوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئًا سواه 85 - {وَتَبَارَكَ}؛ أي: تعالى وتقدس عن الولد والشريك، وجل عن الزوال والانتقال، الإله {الَّذِي} فاعل تبارك {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: سلطنتهما {و} سلطنة {مَا بَيْنَهُمَا} إما على الدوام كالهواء، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب؛ أي: تزايد خيره، وعمت بركته، وتبارك: تفاعل من البركة، وهي كثرة الخير معنى {و} تبارك الذي {عِنْدَهُ عِلْمُ} وقت قيام {السَّاعَةِ}؛ أي: القيامة لا يعلمها إلا هو {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} بالموت ثم البعث، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير أو شر، والالتفات فيه للتهديد، وقرأ الجمهور (¬1): {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب مبنيا للمفعول، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بياء الغيبة كذلك، وقرىء بفتح تاء الخطاب مبنيًا للفاعل. والمعنى: أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندري كنهها، ولا نعلم حقيقتها، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد، وعنده علم وقت مجيء الساعة، لا يجليها لوقتها إلا هو، وإليه المرجع، فيجازي كل أحد بما يستحق إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرٌ. 86 - {وَلَا يَمْلِكُ}؛ أي: لا يقدر {الَّذِينَ يَدْعُونَ}؛ أي: يدعو الكفار ويعبدونهم {مِنْ دُونِهِ} تعالى {الشَّفَاعَةَ} عند الله تعالى، كما يزعمون {إِلَّا مَنْ شَهِدَ} وأقر، واعتقد {بِالْحَقِّ} الذي هو التوحيد. والاستثناء (¬2) إما متصل والموصول عام، لكل ما يعبد من دون الله تعالى، كعيسى وعزير والملائكة وغيرهم، أو منقطع على أنه خاص بالأصنام، وجملة قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص، حال من فاعل {شَهِدَ}، والجمع باعتبار معنى {من}، كما أن الإفراد أولًا باعتبار لفظها، والمعنى (¬3) على الاتصال: إلا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[87]

من شهد بالحق، وهم المسيح، وعزير، والملائكة، فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها. وعلى الانقطاع: لكن من شهد بالحق يشفع في هؤلاء، ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفًا؛ أي: لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق، قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الآية: أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة. وقال قتادة: لا يشفعون لعابديهم بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية، وقرأ الجمهور: {يَدْعُونَ} بالتحتية، وقرأ السلمي وابن وثاب بالفوقية. والمعنى (¬1): ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم، كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم، ولكن من نطق بكلمة التوحيد، وكان على بصيرة وعلم من ربه، كالملائكة، وعيسى تنفع شفاعتهم عنده بإذنه لمن يستحقها. 87 - ثم بين أن هؤلاء المشركين، متناقضوا الأقوال والأفعال، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن سألت يا محمد العابدين والمعبودين {مَنْ خَلَقَهُمْ}؛ أي: من أوجدهم، وأخرجهم من العدم إلى الوجود {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}؛ أي: ليقرون جميعًا، ويعترفون بأن خالقهم الله، ولا يقدرون على الإنكار والجحود لتعذر الإنكار، لغاية ظهوره {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ أي: فمع إقرارهم بأن خالقهم هو الله سبحانه، كيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره؟ فهو (¬2) استفهام تعجيب من جحودهم التوحيد، مع ارتكازه في فطرتهم، فإن المعترف بأن الله خالقه، إذا عمد إلى صنم أو حيوان، وعبده مع الله، أو عبده وحده فقد عبد بعض مخلوقات الله، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره، وقيل: المعنى ولئن سألت هؤلاء المشركين، العابدين للأصنام، ليقولن: الله. وقيل: ولئن سألت المسيح، وعزيرًا، والملائكة من خلقهم؟ ليقولن: الله، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار عن عبادة الله تعالى، باتخاذهم آلهة. قال في "الأسئلة المقحمة": فإن قلت: هذا دليل على أن معرفة الله ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[88]

ضرورية، ولا تجب بالسمع الضروريات؛ لأنه تعالى أخبر عن الكفار، أنهم كانوا يقرون بوحدانية الله قبل ورود السمع. قلتُ: إنهم يقولون ذلك تقليدًا لا دليلًا، وضرورةً، ومعلوم أن في الناس من أهل الإلحاد من ينكر الصانع، ولو كان ضروريًا لما اختلف فيه اثنان، انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: بياء الغيبة مناسبًا لقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}؛ أي: كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بتاء الخطاب. ومعنى الآية: أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله، العابدين غيره تعالى، من خلق الخلق جميعًا؟ ليعترفن بأنه هو الله تعالى وحده، لا شريك له في ذلك، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه، فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، وفي هذا تعجب شديد من إشراكهم بعد هذا. 88 - وقرأ الجمهور (¬2): {وقيلَه} بالنصب عطفًا على محل الساعة، كأنه قيل: إنه يعلم الساعة ويعلم قيله، أو عطفًا على سرهم ونجواهم؛ أي: يعلم سرهم ونجواهم ويعلم قيله؛ أي: قول محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن هؤلاء قوم إلخ، أو عطفًا على مفعول يكتبون المحذوف؛ أي: يكتبون ذلك ويكتبون قيله، أو عطفًا على مفعول يعلمون المحذوف؛ أي: يعلمون ذلك ويعلمون قيله أو منصوب على المصدرية بفعله المحذوف؛ أي: قال قيله، أو منصوب على حذف حرف القسم، ومن المجوزين للوجه الأول: المبرد وابن الأنباري، ومن المجوزين للثاني: الفراء والأخفش، ومن المجوزين للنصب على المصدرية الفراء والأخفش أيضًا. وقرأ حمزة وعاصم: {وَقِيلِهِ} بالجر عطفًا على لفظ الساعة؛ أي: وعنده علم الساعة وعلم قيله، أو على أن {الواو} للقسم، وقرأ قتادة ومجاهد والحسن وأبو قلابة والأعرج وابن هرمز ومسلم بن جندب {وقيله} بالرفع عطفًا على {عِلْمُ السَّاعَةِ}؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[89]

أي: وعنده علم الساعة وعنده قيله، أو على الابتداء، وخبره الجملة المذكورة بعده، أو خبره محذوف تقديره: وقيله كيت وكيت، أو وقيله مسموع. قال بعضهم (¬1): والأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، يعني: أن الجر على إضمار حرف القسم، كما في قولك: اللَّهِ لأفعلن، النصب على حذفه وإيصال فعله إليه، كقولك: الله لأفعلن، كأنه قيل: وأقسم قيله، أو بقيله. والفرق بين الحذف والإضمار أنه في الحذف لا يبقى للذاهب أثر. نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وفي الإضمار يبقى له الأثر نحو: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}، والتقدير: افعلوا خيرًا لكم. ويجوز الرفع في {قيله} على أنه قسم مرفوع بالابتداء، محذوف الخبر كقولهم: أيمن الله، ويكون {إِنَّ هَؤُلَاءِ} إلخ جواب القسم؛ أي: وقيله يا رب قسمي إن هؤلاء إلخ، وذلك لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، بما لا يحسن اعتراضًا إن كان مرفوعًا معطوفًا على {عِلْمُ السَّاعَةِ}، بتقدير مضاف مع تنافر النظم، ورجح الزمخشري احتمال القسم لسلامته عن وقوع الفصل وتنافر النظم، ولكن في القسم التزام حذف وإضمار بلا قرينةٍ ظاهرة في اللفظ الذي لم يشتهر استعماله في القسم. قال أبو عبيد (¬2): يقال: قلت قولًا وقيلًا وقالًا. والضمير في {وَقِيلِهِ} راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. وقيل: الضمير عائد إلى المسيح، وعلى الوجهين فالمعنى: أنه قال مناديًا لربه {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ} الذين أرسلتني إليهم {قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}. والمعنى (¬3): أي ويعلم سبحانه علم الساعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لربه شاكيًا قومه، الذين كذبوه، ولقي منهم شديد الأذى: يا رب إن هؤلاء المشركين الذين أمرتني بإنذارهم، وأرسلتني إليهم لتبليغهم دينك الحق قوم لا يؤمنون؛ أي: لا يريدون الإيمان. 89 - ولما شكا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه عدم إيمانهم، أجابه الله سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

بقوله: {فَاصْفَحْ} يا محمد، وأعرض {عَنْهُمْ}؛ أي: عن هؤلاء المشركين؛ أي: أعرض عن دعوتهم، واقنط من إيمانهم، {وَقُلْ} لهم أمري وشأني {سَلَامٌ} منكم؛ أي: سلامتي منكم، وتبّر منكم ومن دينكم، ومتاركة لكم، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيء الكلام، بل تألفهم، واصفح عنهم قولًا وفعلًا، فليس المأمور به السلام عليهم والتحية، بل البراءة كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} وقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}، وقال قتادة: أمره بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم،. فصار الصفح منسوخًا بالسيف، وقيل: محكمة لم تنسخ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم وسوء كفرهم، فإنك ستنصر عليهم، ويحل بهم بأسنا الذي لا يرد وإن تأخر، ففيه تهديد شديد، ووعيد عظيم من الله عز وجل، وقد أنجز الله وعده، وأنفذ كلمته، وأعلى دينه، وشرع الجهاد والجلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فله الحمد والمنة على إظهار الحق، وإعلاء مناره، وإزهاق الباطل، وكبح جماحه. وقرأ الجمهور (¬1): {يَعْلَمُونَ} بياء الغيبة مناسبًا قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ}. وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام وابن عامر {تعلمون} بالفوقية. الإعراب {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}. {وَلَمَّا}: {الواو}: استئنافية {لما}: حرف شرط غير جازم. {ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ}: فعل مغير، ونائب فاعل، والجملة فعل شرط لـ {لمّا}، لا محل لها من الإعراب، {مَثَلًا}: مفعول ثان لـ {ضُرِبَ}؛ لأن {ضُرِبَ} ضمن معنى جعل، ويجوز أن يعرب حالًا؛ أي: ذكر ممثلًا به، {إذَا}: حرف فجأة رابطة جواب {لمّا} وجوبًا، {قَوْمُكَ} مبتدأ، {مِنْهُ}: متعلق بـ {يَصِدُّونَ}، وجملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{يَصِدُّونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {لمّا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لمّا} مستأنفة. {وَقَالُواْ}: فعل وفاعل، معطوف على جواب {لما}، {أَآلِهَتُنَا} الهمزة: للاستفهام، لطلب تعيين أحد الأمرين، {آلهتنا}: مبتدأ، {خَيْرٌ} خبره، {أَمْ} حرف عطف متصلة، {هُوَ} معطوف على آلهتنا، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا}، {مَا} نافية، {ضَرَبُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، {لَكَ} متعلق بـ {ضَرَبُوهُ}، {إِلَّا} أداة حصر، {جَدَلًا} مفعولا لأجله؛ أي: ما ذكروه لك إلا لأجل الجدال، والمراء واللجاج، لا لإظهار الحق، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال؛ أي: ما ذكروه لك إلا حال كونهم مجادلين لك، {بَلْ}: حرف إضراب وانتقال، {هُمْ}: مبتدأ، {قَوْمٌ}: خبر، {خَصِمُونَ} صفة {قَوْمٌ}، والجملة معطوفة على جملة {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ}: عطف اسمية على فعلية، {أن}: نافية، {هُوَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {عَبْدٌ}: خبر، والجملة مستأنفة. {أَنْعَمْنَا}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أَنْعَمْنَا}، وجملة {أَنْعَمْنَا} صفة لـ {عَبْدٌ}، {وَجَعَلْنَاهُ} {الواو}: عاطفة، {جعلناه مثلًا}: فعل وفاعل، ومفعولان، {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} صفة لـ {مَثَلًا}، والجملة معطوفة على جملة {أَنْعَمْنَا}. {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة، {لو} حرف شرط، {نَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ {لو}، {لَجَعَلْنَا}: اللام: رابطة لجواب {لو}، {جعلنا}: فعل وفاعل، {مِنْكُمْ} في موضع المفعول الثاني إن كان {جعلنا} بمعنى صيرنا، وإن كان بمعنى خلقنا، فالجار والمجرور متعلق بـ {جعلنا}، {مَلَائِكَةً} مفعول أول، أو مفعول به، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {يَخْلُفُونَ}، وجملة {يَخْلُفُونَ} صفة لـ {مَلَائِكَةً}، وجملة {جعلنا} جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} معطوفة على جملة قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ ...} إلخ، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ} ناصب واسمه وخبره، واللام: حرف ابتداء، والجملة معطوفة على ما قبلها، {لِلسَّاعَةِ} صفة {علم}، {فَلَا}: الفاء: فاء

الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كونه علمًا للساعة، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم، فأقول لكم {لا تمترن بها}، {لا}: ناهية جازمة، {تَمْتَرُنَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بِهَا} متعلق بـ {تَمْتَرُنَّ}، {وَاتَّبِعُونِ} {الواو}: عاطفة. {اتبعوا}: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، والجمل معطوفة على جملة النهي، {هَذَا}: مبتدأ، {صِرَاطٌ} خبر {مُسْتَقِيمٌ} صفة {صِرَاطٌ}، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل الأمر بالاتباع. {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {يَصُدَّنَّكُمُ}: فعل مضارع، في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف مفعول به، {الشَّيْطَانُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَلَا تَمْتَرُنَّ}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَكم} متعلق بـ {عَدُوٌّ}، أو حال منه، {عَدُوٌّ} خبر {إنّ}، {مُبِينٌ} صفة {عَدُوٌّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)}. {وَلَمَّا}: {الواو}: استئنافية، {لما}: حرف شرط. {جَاءَ عِيسَى}: فعل وفاعل، فعل شرط لـ {لما}، {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلق بـ {جَاءَ}، وجملة {قَالَ} جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، {قَدْ}: حرف تحقيق. {جِئْتُكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، {بِالْحِكْمَةِ} متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {وَلِأُبَيِّنَ} {الواو}: عاطفة، واللام لام كي، {أبين}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى}، {لَكمُ}

متعلق بـ {أبين}، {بَعْضَ الَّذِي}: مفعول به، ومضاف إليه، وجملة أبين مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: ولتبييني لكم بعض الذي فيه تختلفون، الجار والمجرور متعلق بمقدر، معطوف على {جِئْتُكُمْ}، تقديره: قد جئتكم بالحكمة وجئتكم لتبييني لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله، ليؤذن بالاهتمام بالعلة، حتى جعلت كأنها كلام برأسه، {تَخْتَلِفُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {فِيهِ} متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ}، {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: الفاء: عاطفة تفريعية، {اتقوا الله}، فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ}: على كونها مقول {قَالَ}، {وَأَطِيعُونِ} {الواو}: عاطفة. {أطيعوا}: فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب، مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ} ويجوز أن تجعل الفاء في {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: استئنافية، فيكون الكلام مستأنفًا من الله، للدلالة على طريق الطاعة ومحجتها الواضحة. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {رَبِّي}: خبر، {إِنَّ}، {وَرَبُّكُمْ} معطوف على {رَبِّي}، وجملة {إِنَّ} مفسرة لما تقدم من قوله: {وَأَطِيعُونِ}. {فَاعْبُدُوهُ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كون الله ربي وربكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اعبدوه. {اعبدوه} فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هَذَا}: مبتدأ، {صِرَاطٌ}: خبر، {مُسْتَقِيمٌ} صفة {صِرَاطٌ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}. {فَاخْتَلَفَ}: الفاء: استئنافية، {اختلف الأحزاب}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مِنْ بَيْنِهِمْ}: جار ومجرور حال من الأحزاب؛ أي: حال كونهم

مختلفين من قبل أنفسهم وباختيارهم، أو حال كون الأحزاب بعضهم؛ أي: بعض النصارى، إذ بقي منهم فرقة أخرج مؤمنة، يقولون: إنه عبد الله ورسوله، والجملة الفعلية مستأنفة، {فَوَيْلٌ} الفاء: عاطفة. {ويل} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء، {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور، خبره، والجملة معطوفة على جملة {اختلف}، وجملة {ظَلَمُوا} صلة الموصول؛ أي: فعذاب شديد كائن وحاصل للذين {ظَلَمُوا}، {مِنْ عَذَابِ}: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، {يَوْمٍ}: مضاف إليه، {أَلِيمٍ} صفة {يَوْمٍ} أي: فعذاب شديد، كائن للذين ظلموا، حال كون ذلك العذاب من عذاب يوم أليم عذابه، وهو يوم القيامة. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)}. {هَلْ} حرف استفهام للاستفهام الإنكاري؛ أي: لا ينظرون، {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {السَّاعَةَ} مفعول به، {أَن} حرف مصدر، {تَأْتِيَهُمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {السَّاعَةَ}، ومفعول به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلًا من الساعة؛ أي: هل ينظرون إلا الساعة إلا إتيانها إياهم، {بَغْتَةً} حال من فاعل {تَأْتِيَهُمْ}؛ أي: حال كونها باغتة، {وَهُمْ} {الواو}: حالية، {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يَشْعُرُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول {تَأْتِيَهُمْ} {الْأَخِلَّاءُ} مبتدأ أول، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله، متعلق بـ {عَدُوٌّ}، {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان، {لِبَعْضٍ} حال من عدو؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها {عَدُوٌّ} خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة، {إِلَّا} أداة استثناء، {الْمُتَّقِينَ}: مستثنى منصوب بـ {إِلَّا}، {يَا عِبَادِ} {يا} حرف نداء، {عباد} منادى مضاف إلى يا المتكلم، المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة المناسبة، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: يا عباد لا

خوف عليك، {لَا}: نافية، تعمل عمل ليس، {خَوْفٌ} اسمها، {عَلَيْكُمُ} خبرها، أو {لَا} مهملة، {خَوْفٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه بعد النفي {عَلَيْكُمُ}: خبرها، والجملة الاسمية مقول للقول المحذوف. {الْيَوْمَ} منصوب على الظرفية، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور قبله، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا} نافية مهملة، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، وجملة {تَحْزَنُونَ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، {الذِينَ} صفة لـ {عباد}، وجملة {آمَنُوا} صلته، {بِآيَاتِنَا} متعلق بـ {آمَنُوا}، {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}: على كونها صلة الموصول. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}. {ادْخُلُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل {الْجَنَّةَ} مفعول به، منصوب على السعة، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {وَأَزْوَاجُكُمْ}: معطوف عليه، وجملة {تُحْبَرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {ادْخُلُوا}، أو في محل النصب مقول القول، {يُطَافُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {عَلَيْهِمْ}: في موضع رفع نائب فاعل، {بِصِحَافٍ}: متعلق بـ {يُطَافُ}، {مِنْ ذَهَبٍ}: صفة {صحاف}، {وَأَكْوَابٍ} معطوف على {صحاف}، وذكر الذهب في الصحاف، واستغنى به عن الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}. {وَفِيهَا}: خبر مقدم، {مَا}: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {يُطَافُ}. {تَشْتَهِيهِ}: فعل ومفعول، {الْأَنْفُسُ} فاعل، والجملة صلة الموصول، {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} فعل وفاعل، معطوف على صلة {مَا}، والعائد محذوف، تقديره: تلذه الأعين، {وَأَنْتُمْ}: مبتدأ، {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدُونَ}. {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {أَنْتُمْ

وَأَزْوَاجُكُمْ} وهو من جملة ما يقال لهم، وما بينهما اعتراض اعترض به، لبيان صفات الجنة. {وَتِلْكَ}: {الواو}: عاطفة، {تلك}: مبتدأ. {الْجَنَّةُ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها {الَّتِي} صفة لـ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}، {أُورِثْتُمُوهَا}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {بِمَا} متعلق بـ {أُورِثْتُمُوهَا}، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} الموصولة، أو المصدرية. {لَكم}: خبر مقدم، {فِيهَا}: حال من فاكهة، لـ {فَاكِهَةٌ}: مبتدأ مؤخر، {كَثِيرَةٌ} صفة أولى لـ {فَاكِهَةٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مرفوع {أُورِثْتُمُوهَا}، {مِنْهَا} متعلق بـ {تَأْكُلُونَ}، وجملة {تَأْكُلُونَ} صفة ثانية لـ {فَاكِهَةٌ}، ولكنها سببية، والرابط ضمير {مِنْهَا}. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)}. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ}: ناصب واسمه، {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}، و {خَالِدُونَ} خبر {إِنَّ}، والجملة مستأنفة، {لَا}: نافية. {يُفَتَّرُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على العذاب. {عَنْهُمْ} متعلق بـ {يُفَتَّرُ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من عذاب جهنم، {وَهُمْ}: {الواو}: حالية، {هم}: مبتدأ، {فِيهِ} متعلق بـ {مُبْلِسُونَ}، لـ {مُبْلِسُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {خَالِدُونَ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {ظَلَمْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على جملة {إنّ}، {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف استدراك مهمل. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، {هُمُ}: ضمير فصل، {الظَّالِمِينَ} خبر {كان}، وجملة {كان} معطوفة على جملة {ظَلَمْنَاهُمْ}. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)}. {وَنَادَوْا}: {الواو} عاطفة، {نادوا}: فعل ماض وفاعل، والجملة معطوفة

على جملة {إنّ} وعبر بالماضي عن المضارع إيذانًا بتحقق وقوعه، فهو من باب أتى أمر الله، {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}: مقول محكي لـ {نادوا}، وإن شئت قلت: {يا}: حرف نداء، {مالك}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {نادوا}؛ لأنه بمعنى قالوا. {لِيَقْضِ} اللام: لام الأمر، {يقض}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، {عَلَيْنَا}: متعلق به، {رَبُّكَ} فاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مالك}، والجملة مستأنفة، {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه، {مَاكِثُونَ} خبره، والجملة في محل النصب مقول قال، {لَقَدْ} اللام: موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {جِئْنَاكُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول، {بِالْحَقِّ} متعلق به، والخطاب لأهل مكة عام لمؤمنهم وكافرهم، والقائل هو الله تعالى، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، مقررة لجواب مالك لأهل النار، ومبينة لسبب مكثهم، كما قاله أبو السعود، ويحتمل أن يكون هذا، من قول مالك لأهل النار؛ أي: إنكم ماكثون في النار؛ لأنا جئناكم بالحق في الدنيا، {وَلَكِنَّ} {الواو}: عاطفة، {لكنّ}: حرف نصب واستدراك، {أَكْثَرَكُمْ}: اسمها، {لِلْحَقِّ} متعلق بـ {كَارِهُونَ}، و {كَارِهُونَ}: خبرها، وجملة {لكنّ} معطوفة على ما قبلها، على كونها جواب القسم. {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري. {أَبْرَمُوا}: فعل ماض وفاعل، {أَمْرًا}: مفعول به، والجملة مستأنفة، {فَإِنَّا} الفاء: عاطفة، {إنّا}: ناصب واسمه، {مُبْرِمُونَ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة {أبرموا}، {أَمْ}: منقطعة كما ذكرنا آنفًا. {يَحْسَبُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَنَّا} ناصب واسمه، {لَا}: نافية، {نَسْمَعُ سِرَّهُمْ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، {وَنَجْوَاهُمْ}: معطوف على {سِرَّهُمْ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي

{حسب}، {بَلَى}: حرف جواب، يجاب بها لإثبات نفي ما قبلها، قائم مقام جملة الجواب، تقديره: نسمع ذلك، والجملة الجوابية المحذوفة مستأنفة، {وَرُسُلُنَا}: {الواو}: عاطفة. {رسلنا}: مبتدأ، {لَدَيْهِمْ} متعلق بـ {يَكْتُبُونَ} وجملة {يَكْتُبُونَ}: خبر {رسلنا}، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الجواب، {قُل}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة، {إن}: حرف شرط، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {لِلرَّحْمَنِ}: خبرها مقدم، {وَلَدٌ}: اسمها مؤخر، {فَأَنَا}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {أنا}: مبتدأ، {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قُل}. {سُبْحَانَ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، وجملة {سُبْحَانَ}: مستأنفة، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مضاف إليه، {رَبِّ الْعَرْشِ}: بدل من {رَبِّ} الأول، {عَمَّا}: متعلق بـ {سُبْحَانَ}، وجملة {يَصِفُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة. {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)}. {فَذَرْهُمْ}: الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تعنتهم وتمردهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك ذرهم، {ذرهم}: فعل، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {يَخُوضُوا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بالطلب السابق، والجملة جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب، {وَيَلْعَبُوا}: معطوف على {يَخُوضُوا}، {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {يُلَاقُوا}: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى الجارة، {يَوْمَهُمُ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى؛ أي: إلى ملاقاتهم يومهم، الجار والمجرور، متعلق بـ {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} على سبيل التنازع، {الَّذِي}: صفة لـ {يَوْمَهُمُ}، وجملة

{يُوعَدُونَ} من الفعل المغير ونائبه صلة الموصول، والعائد حذوف تقديره: يوعدونه، {وَهُوَ} {الواو}: استئنافية، {هو}: مبتدأ، {الَّذِي}: خبره، والجملة مستأنفة، {فِي السَّمَاءِ}: متعلق بإله؛ لأنه في تأويل معبود، {إِلَهٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وهو الذي هو إله في السماء، والجملة الاسمية صلة الموصول، {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} معطوف على قوله: {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ}، {وَهُوَ}: {الواو} عاطفة، {هو} مبتدأ، {الْحَكِيمُ} خبر أول، {الْعَلِيمُ} خبر ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} {وَتَبَارَكَ} {الواو}: عاطفة، أو استئنافية، {تبارك الذي}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها. {لَهُ}، خبر مقدم، {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول، {وَمَا}: معطوف على السموات، {بَيْنَهُمَا}: ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول. {وَعِنْدَهُ} خبر مقدم، {عِلْمُ السَّاعَةِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة. {وَإِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُرْجَعُونَ}، وجملة {تُرْجَعُونَ}: معطوفة على جملة الصلة. {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية، {يَمْلِكُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها، {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونهم، {مِنْ دُونِهِ}: متعلق بـ {يَدْعُونَ}، {الشَّفَاعَةَ} مفعول يملك. {إِلَّا} أداة استثناء، {مَن}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، ويحتمل كون الاستثناء منقطعًا، والمعنى: ولا يملك آلهتهم الأصنام والأوثان الشفاعة كما زعموا، ولكن من شهد، وأقر بالتوحيد كعيسى، وعزير يملك الشفاعة في مستحقيها، وأن يكون متصلا، والمعنى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق، فهو استثناء من المفعول المحذوف، {شَهِدَ} فعل ماض وفاعل مستتر صلة {مَنْ} الموصولة. {بِالْحَقِّ} متعلق بـ {شَهِدَ}، {وَهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {شَهِدَ}، والجمع باعتبار معنى

{مَنْ}؛ أي: شهدوا بالحق بألسنتهم، حال كونهم يعلمون بقلوبهم حقية ما شهدوا بألسنتهم. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}. {وَلَئِنْ}: {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط جازم، {سَأَلْتَهُمْ}: فعل ماض وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول ثان. {خَلَقَهُمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول، صلة مَن الموصولة. {لَيَقُولُنَّ}: اللام: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، {يقولن}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد؛ لأن أصله: ليقولونن، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: وإن سألتهم: من خلقهم، يقولون: الله، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. {اللَّهُ}: فاعل بفعل محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: خلقهم الله، أو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: الله خلقهم، والأول أولى؛ لأن الجملة الفعلية في هذا الباب أكثر، فالحمل عليها أولى، والجملة الفعلية أو الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقولن}، {فَأَنَّى}: الفاء: عاطفة، {أنى}: اسم استفهام بمعنى كيف، في محل النصب على الحال من مرفوع {يُؤْفَكُونَ}، و {يُؤْفَكُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة القسم، {وَقِيلِهِ}؛ أي: وقوله - صلى الله عليه وسلم - بالجر، يقال في إعرابه {الواو} حرف جر وقسم، {قيله} مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بقول محمد - صلى الله عليه وسلم -. {يَا رَبِّ} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {قيله}. {إِنَّ هَؤُلَاءِ} ناصب واسمه، {قَوْمٌ}: خبره، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صفة {قَوْمٌ}، وجملة {إن} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم

مع جوابه، معطوفة على جملة القسم الأول، وهذا أحسن الأعاريب في هذا المقام، وقرىء بالنصب على المصدرية بفعله المقدر، تقديره: وقال محمد - صلى الله عليه وسلم - قوله يا رب إلخ. وقيل: معطوف على {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}، كما مر ذلك كله مبسوطًا في مبحث التفسير. وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده، أو أن الخبر محذوف تقديره: وقوله مسموع أو مقبول. {فَاصْفَحْ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم قوم لا يؤمنون، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اصفح عنهم. {اصفح}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، {عَنْهُمْ}: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَقُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {فَاصْفَحْ}، {سَلَامٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمري وشاني ومطلبي، سلامة من إذايتكم، وبراءة من دينكم، والجملة في محل النصب مقول {قل}، {فَسَوْفَ}: الفاء: عاطفة، {سوف}: حرف تنفيس واستبقال. {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، ومفعوله محذوف للتفخيم تقديره: عاقبة أمرهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {فَاصْفَحْ}: على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ}؛ أي: جعل، {مَثَلًا}؛ أي: حجة وبرهانًا على شبهتهم. {يَصِدُّونَ} قال في "القاموس": صد يصد ويصد صديدًا، إذا ضج وارتفع صوته، فالمكسور من باب ضرب، والمضموم من باب رد، يقال: صد عنه يصد بالضم صدودًا إذا أعرض عنه، وقد فلانًا عن كذا صدا، منعه وصرفه، كأصد، فالصديد بمعنى الضجيج، والصدود بمعنى الإعراض، والصد بمعنى المنع. {إِلَّا جَدَلًا}؛ أي: خصومةً بالباطل، والجدل محركًا فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله، وإبطال غيره، وهو مأمور به على وجه الإنصاف، وإظهار الحق بالاتفاق. وقوله: {ابْنُ} أصله: بنو حذفت لامه الواو، وعوض عنها همزة الوصل، وقوله: {يَصِدُّونَ} قرىء بكسر الصاد من صد اللازم، وقرىء بضمها

من صد المتعدي، وأصله على كلتا القراءتين: يصددون بوزن يفعلون بكسر العين، أو يصددون بوزن يفعلون بضم العين، نقلت حركة الدال فيهما إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. {خَصِمُونَ}؛ أي: شديدوا الخصومة، مجبولون على اللجاج، وسوء الخلق. {مَثَلًا}؛ أي: أمرًا عجبًا حقيقًا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة. {يَخْلُفُونَ} يقال: خلف فلان فلانًا إذا قام بالأمر عنه، إما معه وإما بعده. {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أصله: تمتريون حذفت نه نون الرفع للجازم، وهو لا الناهية، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت الراء لمناسبة الواو، ثم دخلت نون التوكيد على الفعل، فصار تمترون، فالتقى ساكنان الواو وأولي نوني التوكيد المشددة، فحذفت الواو لبقاء داله، فصار تمترن بوزن تفتعن. {وَاتَّبِعُونِ} بحذف الياء خطًا؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في اللفظ فيجوز إثباتها وحذفها وصلًا ووقفًا. {يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أصله: يصددنكم، نقلت حركة الدال الأولى إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الثانية، وبني الفعل على الفتح وإن كان في محل جزم لاتصال نون التوكيد به. {الْأَحْزَابُ} جمع حزب بكسر الحاء بمعنى جماعة الناس. {بَغْتَةً} والبغت مفاجأة الشيء من حيث لا يحسب، كما في "المفردات". {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ} جمع خليل، وهو الصديق. وفي "المصباح": الخليل الصديق، والجمع أخلاء كأصدقاء، وفي "القاموس": والخل بالكسر والضم الصديق المختص، أو لا يضم إلا مع ود، يقال: كان لي ودًا وخلا، والجمع أخلال كالخليل وخلان، أو الخليل الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها، واستدرك في "التاج" فقال: قال ابن سيده: وكسر الخاء أكثر، ويقال للأنثى: خل أيضًا. وأصل {الْأَخِلَّاءُ}: الأخللاء، بوزن أفعلاء جمع خليل، كصديق وأصدقاء، نقلت حركة اللام الأولى إلى الخاء فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية، فصار أخلاء بوزن أفلاء. {يُطَافُ} أصله: يطوف، بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت

ثم أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {تُحْبَرُونَ} تسرون سرورًا يظهر حباره؛ أي: أثره على وجوهكم. وقال الزجاج: تكرمون إكرامًا يبالغ فيه، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل. وفي "القاموس": والحبر بفتحتين الأثر كالحبار، بكسر أوله وفتحه، والحبر بالكسر الأثر أو أثر النعمة، والحسمن، والوشي وبالفتح السرور، وحبره سره، والنعمة، والحبرة بالفتح السماء في الجنة، وكل نعمة حسنة. وقال الراغب: الحبر الأثر المستحسن، ومنه ما روي: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره؛ أي: جماله وبهاؤه، والحبر: العالم لما يبقى عن أثر علومه في قلوب الناس، ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها. {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} جمع صحفة، كجفان جمع جفنة، وقصاع جمع قصعة. قال الكسائي: وأعظمها الجفنة، وهي القصعة العريضة الواسعة، ثم القصعة، وهي التي تشبع العشرة، ثم الصحفة وهي تشبع الخمسة، ثم المئكلة، وهي التي تشبع الرجلين أو الثلاثة {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب، كعود وأعواد، وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم، وإنما كانت بغير عروة ليشرب الشارب من أي جانب شاء؛ لأن العروة ترد الشارب من بعض الجوانب. وقال عدي: مُتَّكِئًا تُصَفِّقُ أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوْبِ {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} يقال: لذذت الشيء بالكسر لذاذًا ولذاذة؛ أي: وجدته لذيذًا، أصله: تلذذ بوزن تفعل، مضارع لذذ بكسر العين، من باب فعل المكسور، نقلت حركة الذال الأولى إلى اللام فسكنت، فأدغمت في الذال الثانية {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} من قولهم: فترت الحمى عنه إذا سكنت قليلًا ونقص حرها. قال الراغب: الفتر: سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة. {مُبْلِسُونَ} وفي "المفردات": الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، ولما كان المبلس كثيرًا ما يلزم السكون وينسى ما يعنيه .. قيل: أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} أصله: ناديوا بوزن فاعلوا، قلبته الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {لِيَقْضِ} وزن يقض يفع لحذف لامه للجازم. {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} فيه إعلال بالقلب، أصله: نجويهم

قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أصله: يخوضون بوزن يفعلون، نقلت حركة {الواو} إلى الخاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد، ثم حذفت نون الرفع لما وقع الفعل جوابًا للأمر، فوزنه يقولوا، وأصل الخوض: الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار للأمور. وقوله: {يُلَاقُوا} أصله: يلاقيون، حذفت نون الرفع للناصب، ثم حذفت حركة الياء تخفيفًا، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين وضمت القاف لمناسبة الواو. {كَارِهُونَ} من الكراهة مصدر كره الشيء بالكسر؛ أي: لم يرده فهو كاره. {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} من الإبرام، وهو إحكام الأمر، وأصله: من إبرام الحبل، وهو ترديد فتله. {وَنَجْوَاهُمْ} يقال: ناجيته؛ أي: ساررته، وأصله: أن تخلو في نجوة من الأرض؛ أي: مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله، والسر هو ما يحدث به الإنسان نفسه، أو غيره في مكان خال، والنجوى التناجي والتحادث فيما بينهم. {وَقِيلِهِ} قال أبو عبيدة: يقال: قلت قولًا وقالًا وقيلًا. وفي الخبر: "نهى عن قيل وقال". فالقول والقيل والقال كلها مصادر، وفيه إعلال بالقلب، أصله: قِوْلِه من القول، قلبت الواو ياءً لوقوعها ساكنةً إثر كسرة، فصارت حرف مد. {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ}؛ أي: اعف عنهم عفو المعرض، ولا تقف عن التبليغ. {وَقُلْ سَلَامٌ}؛ أي: سلام متاركةٍ لكم بسلامتكم منى وسلامتي منكم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإبهام في فاعل ضرب في قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} للإهانة والتحقير له. ومنها: الاستفهام في قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}. ومنها: الحصر في قوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}، وفي قوله: {إِنْ هُو

إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}. ومنها: الحذف في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}؛ أي: إن نزوله لعلامة لقرب الساعة. ومنها: تأكيد النهي في قوله: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} إيذانًا بأنه لا محالة منها. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} إن، وضمير الفصل، وتعريف الطرفين. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تسجيلًا عليهم باسم الظلم؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: فويل لهم. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ}؛ أي: ما ينظرون. ومنها: النداء في قوله: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} إلخ، تشريفًا لهم، وناداهم بأربعة أمور: الأول: نفي الخوف، والثاني: نفي الحزن، والثالث: الأمر بدخول الجنة، والرابع، البشارة بالسرور، في قوله: {تُحْبَرُونَ} اهـ شيخنا. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}؛ أي: أكواب من ذهب، وحذف لدلالة السابق عليه. ومنها: ذكر العام، في قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} بعد الخاص، في قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}. ومنها: الحصر المستفاد من قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} فقد حصر أنواع النعم في أمرين اثنين، إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} للتشريف والتفخيم لشأنهم.

ومنها: إفراد الخطاب في قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} حيث لم يقل: وتلكم الجنة، مع أن مقتضى أورثتموها أن يقال: وتلكم، للإيذان بأن كل واحد من أهل الجنة مقصود بالذكر لذاته، وبالخطاب. ومنها: الاستعارة في قوله: {أُورِثْتُمُوهَا} فقد شبه الجنة بالمال الموروث، والتلاد الموفور، ثم استعار له الإرث على طريق الاستعارة المكنية؛ لأن كل عامل لا بد أن يلقى جزاءه، إذ يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل، أو إنما شبهت في بقائها على أهلا، وإفاضة النعم السوابغ عليهم، بالميراث الباقي، لا ينضُب له معين، ولا ينتهي إلى نفاد. ومنها: الطباق في قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} لأن المراد: سرهم وعلانيتهم. ومنها: الحذف للاختصار في قوله: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ}؛ أي: بلى نسمع سرهم ونجواهم، لدلالة {بلى} على المحذوف. ومنها: تكرير اسم الرب في قوله: {رَبِّ الْعَرْشِ} تفخيمًا لشأن العرش؛ لأنه أعظم مخلوقات الله سبحانه. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا}؛ لأن حقيقة الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، فاستعير لشروعهم في أباطيلهم، وأكاذيبهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد 1 - وصف القرآن الكريم. 2 - الأمر بإنذار قومه - صلى الله عليه وسلم -، مع غفلتهم وإسرافهم في لذات الدنيا. 3 - شأن هؤلاء المشركين في تكذيبهم للرسول، شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم. 4 - اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض، مع عبادتهم للأوثان والأصنام. 5 - اعتقادهم أن الملائكة بنات الله، ثم نعي ذلك عليهم. 6 - تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد في شؤونهم الدينية. 7 - قصص الأنبياء من أولي العزم، كإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام. 8 - وصف نعيم الجنة. 9 - الأهوال التي يلقاها أهل النار، حتى يتمنوا الموت ليستريحوا مما هم فيه. 10 - متاركة أهل الباطل والصفح عنهم، حتى يأتي وعد الله تعالى. والله أعلم * * *

سورة الدخان

سورة الدخان سورة الدخان مكية، قال القرطبي مكية بالاتفاق، إلا قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} الآية. وآياتها (¬1): سبع أو تسع وخمسون آية. وكلماتها: ثلاث مئة وست وأربعون كلمة. وحروفها: ألف وأربع مئة واحد وثلاثون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أنه تعالى حكى فيما قبلها قول رسوله - صلى الله عليه وسلم -: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، وحكى في هذه عن أخيه موسى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)}. 2 - أنه تعالى ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد، وافتتح هذه بالإنذار الشديد. 3 - أنه تعالى قال فيما سلف: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}، وحكى هنا عن موسى {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)} وهو قريب من ذلك. وقال أبو حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬3): أنه تعالى ذكر في أواخر ما قبلها: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}، فذكر يومًا غير معين ولا موصوفًا، فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم، بوصف وصفه، فقال: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}، وأن العذاب هو ما يأتيهم من قبلك، ويحل بهم من الجدب والقحط، ويكون العذاب في الدنيا، وإن كان العذاب في الآخرة، فيكون {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} يوم القيامة، انتهى. تسميتها: سميت سورة الدخان؛ لأن الله تعالى جعله - أي: الدخان - آية لتخويف الكفار، حيث أصيبوا بالقحط والمجاعة، بسبب تكذيبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وبعث الله عليهم الدخان حتى كادوا يهلكون، ثم نجاهم بعد ذلك ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الدخان جميعها محكم، غير آية واحدة، وهي قوله تعالى في آخرها: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)} نسخت بآية السيف. فضلها: ومما ورد في فضلها، ما أخرجه الترمذي والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قرأ حم الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك" قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن أبي خثعم أحد رواته ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. ومنها: ما أخرجه الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة، أصبح مغفورًا له". قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام بن المقدام أحد رواته ضعيف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، ويشهد له ما أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعًا بنحوه، وهو مرسل. وما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال: "من قرأ الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفورًا له، وزوج من الحور العين". وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة، بني الله بها بيتًا في الجنة". وعبارة الشهاب في سورة الواقعة: ولم يذكر البيضاوي، في فضائل السور، حديثًا غير موضوع من أول القرآن إلى هنا، غير ما ذكره هنا، وما مر في سورة يس والدخان. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة وما قبلها آنفًا، والله سبحانه وتعالى أقسم في مبدأ هذه السورة بكتابه الكريم المبين، كما أقسم به في السابقة، لما فيه من صلاح البشر، على أنه أنزل القرآن في ليلة القدر، لإنذار العباد، وتخويفهم من عقابه، وأن هذه الليلة يفصل فيها كل أمر حكيم، فيبين فيها التشريع النافع للعباد في دنياهم وآخرتهم، وهو رب السموات والأرض وما بينهما، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو الذي بيده إحياؤهم وإماتتهم، وهو

ربهم ورب آبائهم الأولين، ولكنهم يمترون بعد أن وضح الحق وأفصح الصبح لذي عينين. قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) ...} الآيات، مناسبة هذه (¬1) الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال كفار قريش إذ قابلوا الرحمة بالكفران، ولم ينتفعوا بالمنزل ولا بالمنزل عليه .. أردف هذا بأن أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالانتظار، حتى يحل بهم بأسه؛ لأنهم أهل الخذلان والعذاب، لا أهل الإكرام والغفران، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد للمشكرين. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله يسبحانه وتعالى، لما ذكر أن مشركي مكة أصروا على كفرهم، ولم يؤمنوا برسولهم .. أردف هذا، ببيان أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم، فكثير قبلهم كذبوا رسلهم، فها هم أولاء قوم فرعون، قد كان منهم مع موسى مثل ما كان من قومك معك، بعد أن أتاهم بالبينات التي كانت تدعو إلى تصديقه، فكذبوه، فنصره الله عليهم، أغرق فرعون وقومه، وجعلهم مثلًا للآخرين. أسباب النزول قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود، قال: إن قريشًا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت فاستسقى فسقوا، فنزلت: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، حين أصابتهم، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} قال: يعني يوم بدر. والحديث أخرجه مسلم وأحمد. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)}؛ أي: أقسمت (¬1) بحق {حم}، وهي هذه السورة، أو مجموع القرآن 2 - {وَالْكِتَابِ}؛ أي: وبالكتاب الكريم، وهو القرآن، معطوف على {حم}، إذ لو كان قسمًا آخر، لزم اجتماع قسمين على مقسم عليه واحد، ومدار العطف على تقدير كون {حم (1)} اسمًا لمجموع القرآن المغايرةُ في العنوان {الْمُبِينِ}؛ أي: البين معانيه لمن أنزل عليهم، وهم العرب لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم؛ أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة، وقال بعضهم: معنى الكلام: أقسمت بحق الحي القيوم، وبحق القرآن الفاصل بين الحق والباطل، فالحاء إشارة إلى الاسم الحي، والميم إلى الاسم القيوم، وهما أعظم الأسماء الإلهية لاشتمالهما على ما يشتمل عليه كل منها من المعاني والأوصاف والحقائق. ويجوز (¬2) أن يراد بالكتاب المبين هاهنا: الكتب المتقدمة، التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، والضمير في {أَنْزَلْنَاهُ} عائد عليه بمعنى الكتب؛ لأنها كلها أنزلت في رمضان، كما سيأتي، أو على القرآن، ويجوز أن يكون المراد به: اللوح المحفوظ، والأول أولى. وقال النسفي: والواو في {وَالْكِتَابِ}: واو القسم إن جعلت {حم (1)} تعديدًا للحروف، أو اسمًا للسورة، مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وواو العطف إن كانت {حم (1)} مقسمًا بها، وجواب القسم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} وفي "عرائس البقلي" الحاء من {حم (1)} الوحي الخاص إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والميم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ما كان بلا واسطة، فهو سر بين المحب والمحبوب، لا يطلع عليه أحد غيرهما، كما قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}. ويحتمل (¬3) أن يكون {حم (1)} إشارةً إلى حمد الله على إنزاله القرآن، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[3]

الذي هو أجل النعم الإلهية. فـ {حم (1)} منحوت من الحمد، والمعنى: وحق الحق، الذي يستحق الحمد في مقابلة إنزال القرآن 3 - {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: الكتاب المبين الذي هو القرآن، وهو جواب القسم؛ أي: إنا أنزلنا القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في مكان يقال له: بيت العزة دفعةً واحدة، وأملاه جبرائيل على السفرة، ثم كان ينزله على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجومًا؛ أي: مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع؛ أي: أنزلناه {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}؛ أي: ذات بركة وخير كثير، إذ فيها الرحمة والمغفرة ومضاعفة الحسنات، واستجابة الدعوات، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركةً، وهي ليلة القدر في شهر رمضان، أو ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، ولية الصك، وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة، والجمهور (¬1) على الأول، لقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان، وقيل: ابتداء نزوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر. قال القرطبي: ومن قال (¬2): أقسم بسائر الكتب المنزلة فقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} كنى به عن غير القرآن، وروى قتادة عن واثلة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزلت الزبور لاثني عشرة من رمضان، وأنزل الإنجيل لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، ثم قال: أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة، ثم أنزل نجمًا نجمًا في سائر الأيام على حسب اتفاق الأسباب"، وقيل: كانَ ينزل من اللوح المحفوظ في كل ليلة القدر، ما ينزل في سائر السنة، وقيل: كان ابتداء الإنزال من اللوح المحفوظ في هذه الليلة، انتهى. والحكمة في نزوله ليلًا (¬3): أن الليل زمان المناجاة، ومهبط النفحات، وفي الليل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب، فهو أطيب من النهار عند المقربين ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) القرطبي. (¬3) روح البيان.

[4]

والأبرار، ووصف الليلة بالبركة، لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها، أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة، وإجابة الدعوة ونحوها، وإلا فأجزاء الزمان متشابهة بحسب ذواتها وصفاتها، فيمتنع أن يتميز بعض أجزائه عن بعض، بمزيد القدر والشرف لنفس ذواتها. ثم بين السبب في إنزاله، فقال: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}؛ أي: ومبشرين، ففيه اكتفاء استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب، والتبشير بالجنة؛ أي: وإنما أنزلناه لأنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم، فيعملون به، وما يضرهم فيجتنبونه لتقوم حجة الله على عباده. 4 - ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة، فقال: {فِيهَا}؛ أي: في تلك الليلة المباركة {يُفْرَقُ}؛ أي: يكتب، ويفصل، ويبين، ويظهر للملائكة، الموكلين بالتصرف في العالم {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}؛ أي: كل أمر محكم، متقن، مبرم، مقضي من الله سبحانه، في تلك السنة من أرزاق العباد، وآجالهم، وجميع أمورهم إلا السعادة والشقاوة، من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة، وقيل: يبدأ في انتساخ ذلك من اللوح المحفوظ، في ليلة البراءة: ليلة النصف من شعبان ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى مكيائيل، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرائيل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، حتى أن الرجل ليمشي في الأسواق، وأن الرجل لينكح ويولد له، ولقد أدرج اسمه في الموتى، وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة، وما بينهما اعتراض، أو مستأنفة لتقرير ما لبلها، قال الزمخشري (¬1): فإن قلت: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ} ما موقع هاتين الجملتين. قلت: هما جملتان مستانفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم، الذي هو ¬

_ (¬1) الكشاف.

[5]

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، كأنه قيل: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصًا؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم. قلتُ: وهذا من محاسن هذا الرجل، اهـ "سمين". وقرأ الجمهور (¬1): {يُفْرَقُ} بضم الياء وفتح الراء مخففًا، مبنيًا للمفعول. وقرأ الحسن والأعمش والأعرج: {يُفْرَقُ} بفتح الياء وضم الراء. {كل}: بالنصب {حكيم}. بالرفع على الفاعلية، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري: {نفرق} بالنون {كل} بالنصب، وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عينه {يفرق} بفتح الياء وكسر الراء ونصب {كل}، ورفع {حكيم} على أنه الفاعل بيفرق. وقرأ الحسن وزائدة عن الأعمش {يفرق} بالتشديد مبنيًا للمفعول. قال الشوكاني: والحق (¬2) ما ذهب إليه الجمهور، من أن هذه الليلة المباركة، هي ليلة القدر، لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها هنا، وبينها في سورة البقرة، بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وبقوله في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} فلم يبق بعد هذا البيان الواضح، ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه. 5 - {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} قال الزجاج والفراء: انتصاب {أَمْرٍ} على المصدرية بـ {يُفْرَقُ}؛ أي: يفرق فرقًا؛ لأن {أَمْرٍ} بمعنى فرقًا، مثل قولك: قعدت جلوسًا، والمعنى: إنا نأمر ببيان ذلك، ونسخه من اللوح المحفوظ، وقال المبرد: {أَمْرٍ} في موضع المصدر لـ {أَنْزَلْنَاهُ}، والتقدير: {أنزلناه} إنزالًا من عندنا. وقال الأخفش انتصابه على الحال من فاعل أنزلناه؛ أي: أنزالناه آمرين، أو من مفعول أنزلناه؛ أي: مأمورًا به، وقيل: هو منصوب على الاختصاص؛ أي: أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية؛ أي: فيه تفخيم لشان القرآن، وتعظيم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[6]

له، وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب {أَمْرٍ} اثني عشر وجهًا، أظهرها ما ذكرناه. وقرأ زيد بن علي {أمر} بالرفع؛ أي: هو أمر. ولما ذكر إنزال القرآن، ذكر المرسل، فقال {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} هذه الجملة إما بدل من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} بدل الكل، أو جواب ثالث للقسم، أو مستأنفة، قال الرازي: المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين للأنبياء. 6 - وقوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مفعول لأجله للإرسال. والمعنى (¬1): إنا أنزلنا القرآن؛ لأن عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد، لأجل إفاضة رحمتنا عليهم، فيكون قوله: {رَحْمَةً} غايةً للإرسال، متأخرةً عنه على أن المراد منها: الرحمة الواصلة إلى العباد، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، فيكون باعثًا متقدمًا للإرسال، على أن المراد: مبدؤها، ووضع الرب موضع الضمير، للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - للتشريف، وقرأ الحسن وزيد بن علي {رحمة} بالرفع على تقدير: هي رحمة؛ أي: تلك رحمة من ربك التفاتًا من مضمر إلى ظاهر، إذ لو روعي ما قبله، لكان التركيب رحمةً منا، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر، إيذانًا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، كما مر آنفًا. والمعنى (¬2): أي في هذه الليلة بدأ سبحانه، يبين ما ينفع عباده، من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل، بإنزاله ذلك التشريع الكامل، الذي فيه صلاح البشر، وهدايتهم، وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ولا غرو، فهي من لدن حكيم عليم بما يصلح شؤون عباده في معاشهم ومعادهم. ثم بين السر في نزول القرآن على لسان رسوله، فقال: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إلخ؛ أي: إنا (¬3) أرسلنا الرسول به، رحمة منا لعبادنا، حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم، وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[7]

ثم أكد ربوبيته، بقوله: {إِنَّهُ} سبحانه {هُوَ السَّمِيعُ} لمن دعاه {الْعَلِيمُ} بنيته، يسمع كل شيء من شأنه أن يسمع، خصوصًا أنين المشتاقين، ويعلم كل شيء من شأنه أن يعلم، خصوصًا حنين المحبين، فلا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأفعالهم، وأحوالهم، وهو تحقيق لربوبيته تعالى، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته الجليلة؛ أي: إنه إنما فعل تلك الرحمة؛ لأنه هو السميع لأقوالهم، العليم بما يصلح أحوالهم، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه. 7 - ثم أكد العلة في سمعه للأشياء وعلمه بها، فقال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من ربك؛ أي: مالك جميع الموجودات العلوية والسفلية {إِنْ كُنْتُمْ} أيها المشركون {مُوقِنِينَ} بشيء، فهذا أولى ما توقنون به، لفرط ظهوره، أو إن كنتم مريدين لليقين فاعلموا ذلك. والمعنى: إنه هو السميع لكل شيء، العليم به؛ لأنه مالك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، إن كنتم تطلبون معرفة ذلك، معرفة يقين لا شك فيه؛ أي: إن كنتم موقنين بأنه ربّ السموات والأرض وما بينهما .. فأقرّوا بتوحيده، ولا تكذبوا رسوله فيما دعاكم إليه، وقد أقروا بذلك، كما حكاه الله عنهم، في غير موضع. وقرأ ابن محيصن (¬1) والأعمش وأبو حيوة والكوفيون: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} بالخفض، بدلًا من {رَبِّكَ}، أو بيانًا له، أو نعتًا، وقرأ باقي السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على القطع؛ أي: هو رب السموات، أو على البدل من السميع العلم، أو على أنه مبتدأ، وخبره {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. 8 - وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته، ذكر فذلكة لذلك، فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا خالق سواه، جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو خبر {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كما مر، وكذلك جملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ} فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها؛ أي (¬2): يوجد الحياة في الجماد، ويوجد الموت في الحيوان بقدرته، كما يشاهد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[9]

ذلك؛ أي: يعلم علمًا جليًا يشبه المشاهدة؛ أي: هو سبحانه الإله الذي لا تصلح العبادة إلّا له، وهو المحيي المميت، فيحيي ما يشاء مما يقبل الحياة، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له {رَبُّكُمْ}؛ أي: هو ربكم أيها العباد، وخالقكم ورازقكم {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: رب آدم ومن دونه من الأولين. وقرأ الجمهور (¬1): {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ} برفعهما على الاستئناف، بتقدير مبتدأ؛ أي: هو ربكم، أو على أنه بدل من {رَبِّ السَّمَاوَاتِ}، أو بيان، أو نعت له، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى عيسى بن سليمان، وصالح الناقط كلاهما عن الكسائي بالجر، على أنه بدل ثان من {رَبِّكَ}، أو بيان له، وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي {ربكم ورب آبائكم} بالنصب على المدح. والمعنى (¬2): هو مالككم والمتصرّف فيكم، ومالك آبائكم الأولين، ومدبر شؤونهم، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع. 9 - ثم بين أنهم، ليسوا بموقنين بالجواب، بعد أن تبين لهم الرشد من الغي، فقال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} مما ذكر من شؤونه تعالى، غير موقنين في إقرارهم بأنه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما {يَلْعَبُونَ} لا يقولون ما يقولون عن جدّ وإذعان، بل مخلوطًا بهزء ولعب، وهو خبر آخر للمبتدأ. وفي "كشف الأسرار" الظرف متعلق بالفعل، أو حال من فاعل {يَلْعَبُونَ}؛ أي: بل هم يلعبون في شك، ويتحيرون فيه، مثل قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أو بل هم حال كونهم في شك مستقر في قلوبهم يلعبون؛ أي: بل هم في شك من التوحيد والبعث والإقرار، بأن الله خالقهم، وإن قالوا ذلك، فإنما يقولونه تقليدًا لآبائهم، من غير علم، إذ هم قابلوه وبالهزء والسخرية، فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجد، وما لا مرية فيه، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[10]

10 - والفاء، في قوله: {فَارْتَقِبْ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا عرفت حالهم هذا، وأردت بيان عاقبتهم ... فأقول لك: انتظر يا محمد لكفار مكة {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: ظاهر لا شك فيه، و {يَوْمَ} مفعول {ارتقب} والباء للتعدية، ويجوز أن يكون ظرفًا له، والمفعول محذوف؛ أي: ارتقب وعد الله في ذلك اليوم، أطلق الدخان على شدة القحط، وغلبة الجوع على سبيل الكناية، أو المجاز المرسل. والمعنى (¬1): فانتظر لهم يوم شدةٍ ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن في عام القحط يظلم الهواء، لقلة الأمطار وكثرة الغبار، ولذا يقال لسنة القحط السنة الغبراء، كما قالوا: عام الرمادة، والظاهر أن السنة الغبراء ما لا تنبت الأرض فيها شيئًا، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابًا كالرماد، أو لأن العرب تسمي الشر الغال دخانًا، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفها عن الأمطار، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه. 11 - وذلك أن قريشًا لما بالغوا في الأذية له - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم، فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر؛ أي: عقابك الشديد. يعني: خذهم أخذًا شديدًا. واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وهي السبع الشداد، فاستجاب الله دعاءه، فأصابتهم سنة؛ أي: قحط حتى أكلوا الجيف، والجلود، والعظام، والعلهز وهو الوبر والدم المخلوطان؛ أي: يخلط الدم بأوبار الإبل، ويشوى على النار، كان الرجل منهم يرى بين السماء والأرض الدخان من الجوع، وكان يحدث الرجل، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، وذلك قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} صفة ثانية لـ {دُخَانٍ}؛ أي: يحيط ذلك الدخان بهم، ويشملهم من جميع جوانبهم حال عونهم قائلين: {هَذَا} الجوع، أو الدخان {عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمشى إليه - صلى الله عليه وسلم - أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحم؛ أي: قالوا: نسألك يا محمد بحق ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

الله وبحرمة الرحم أن تستسقي لنا، 12 - ووعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم القحط أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ}؛ أي: وقائلين: ربنا اكشف وارفع عنا هذا العذاب؛ أي: عذاب الجوع، أو عذاب الدخان، ومآلهما واحد، فإن الدخان إنما ينشأ من الجوع {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} بعد رفعه عنا. قال الشوكاني: وقد اختلف (¬1) في هذا الدخان، المذكور في الآية متى يأتي، فقيل: إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض أربعين يومًا، وقد ثبت في "الصحيح": أنه من جملة العشر الآيات، التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل: إنه أمر قد مضى، وهو ما أصاب قريشًا بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بينا آنفًا، وهذا ثابت في "الصحيحين". وغيرهما، وقيل: إنه يوم فتح مكة، فقد قال الأعرج: إن المراد بالدخان: هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء، فحينئذ فالمراد بالعذاب: في قوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ}: الجوع الذي كان بسبه، ما يرونه من الدخان، أو الدخان الذي هو من أشراط الساعة، أو يرونه يوم فتح مكة، على اختلاف الأقوال، والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه، مما نزل بهم من الجهد وشدة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا القول ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضًا ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان على تقدير صحة وقوعه، اهـ. بتصرف واختصار. والمعنى (¬2): أي فانتظر يوم يأتيهم الجدب والمجاعة، التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، المنتشر في الفضاء، يغشى ذلك الدخان، ويحيط بهم من كل جانب، فيقولون: ربنا هذا عذاب مؤلم، يقض المضاجع، وينتهي إلى موت محقق إن دام، فاكشفه عنا إنا مؤمنون، إن كشفته عنا، وهذه هي طبيعة البشر، إذا هم وقعوا في شدة أيا كانت، أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه، ولكن النفوس الشريرة لا تتجه إلى فعل الخير، ولا تفعل ما تتقرب به ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[13]

إلى ربها انتظارًا لمثوبته ورجاءًا في غفرانه ورحمته. 13 - ثم نفى صدقهم في الوعد، وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب، فقال: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى}؛ أي: من أين يحصل لهم التذكر والاتعاظ، فهو بعيد عنهم غير ممكن منهم، فهو رد (¬1) لكلامهم، واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، والمراد بالاستفهام: الاستبعاد، لا حقيقته، وهو ظاهر؛ أي: كيف يتذكرون، أو من أين يتذكرون؟ ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم {وَ} الحال أنه {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} يبين لهم كلَّ شيء يحتاجون إلى بيانه، من أمر الدين، والدنيا؛ أي: والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر، وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه في إيجابهما، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تحرك صم الجبال 14 - {ثُمَّ} كلمة {ثم} هنا للاستبعاد {تَوَلَّوْا}؛ أي: أعرضوا {عَنْهُ}؛ أي: عن ذلك الرسول فيما شاهدوا منه من العظائم، الموجبة للإقبال إليه، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل جاوزوه {وَقَالُوا} تارةً هذا الرجل {مُعَلَّمٌ} يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، واسمه عداس أو أبو فكهة، أو جبر أو يسار. وقرأ زر بن حبيش {معلم} بكسر اللام، قاله في "البحر" وتارة أخرى {مَجْنُونٌ}؛ أي: مغلوب العقل ناقصه، أو يقول بعضهم: كذا، وآخرون: كذا، فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم، أن يتأثروا منه بالعظة والتذكير، وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضغا، دواذا شبع طغا. 15 - وقوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} جواب من جهته تعالى عن قولهم: ربنا اكشف عنا العذاب؛ أي: إنا نكشف العذاب المعهود عنكم، بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنزل المطر كشفًا {قَلِيلًا} وهو دليل على كمال خبث سريرتهم، فإنهم إذا عادوا إلى الكفر بكشف العذاب كشفًا قليلًا، فهم بالكشف رأسًا أعود، أو زمانًا قليلًا، وهو ما بقي من أعمارهم {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}؛ أي: تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر، وتنسون هذه الحالة، وصيغة (¬2) الفاعل في الموضعين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[16]

للدلالة على تحققهما لا محالة، ولقد وقع كلاهما، حيث كشفه الله سبحانه، بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من العتو والعناد؛ لأن من مقتضى فساد طينتم واعوجاج طبيعتهم، المبادرة إلى خلف الوعد ونقض العهد، والعود إلى الإشراك إذا زال المانع على ما بينه الله تعالى، فيمن ركب الفلك إذا أنجاه إلى البر، والمراد بعودهم إليه: عودهم إلى العزم على الاستمرار عليه؛ لأنه لم يوجد منهم إيمان بالفعل، إنما وجد منم الوعد به، إذا انكشف عنهم العذاب. ومعنى الآيات (¬1): أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف في رجوعهم إلى الحق، فلم يرجعوا بل قال بعضهم: إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومي لبعض ثقيف. وقال آخرون: إنه أصيب بخبل، إذ تلقي إليه الجن هذه الكلمات، حين يعرض له الغشي. والخلاصة: أن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق، وهؤلاء قد اتضحت لم وجوه الصواب فلم يفقهوا، فأخذناهم بالعذاب، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات، وأريناهم الحقائق، وهو أنجع أثرًا من العقاب فلم يؤمنوا، وقالوا ما قالوا. ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم، ورجعوا إلى سيرتهم الأولى، وعضوا على الكفر بالنواجذ، وساروا على طريق الأباء والأجداد، فقال: إنا كاشفوا العذاب، إلخ؛ أي: إنا رافعوا هذا الضر النازل بهم، بالخصب الذي نوجده لهم زمنًا يسيرًا، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من تمسكهم بالكفر، وترك الحق وراءهم ظهريًا لما في طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان، وتقليد الآباء والأجداد. 16 - ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد ¬

_ (¬1) المراغي.

أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى، حيث لا توبة بعدها فينتقم الله منهم، وهذا ما عناه سبحانه، بقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ} ونأخذهم {الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى}؛ أي: الأخذة الشديدة {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} منهم أشد الانتقام؛ أي: يوم القيامة ننتقم منهم، ونعاقبهم العقوبة العظمى، فيوم ظرف لما دل عليه قوله: {مُنْتَقِمُونَ}، وهو ننتقم، لا بمنتقمون؛ لأن ما بعد {إِنَّ} لا يعمل فيما قبلها، أو منصوب بمحذوف. تقديره: اذكر يوم نبطش البطشة الكبرى، إنا منتقمون منهم في ذلك اليوم، ويوم البطشة الكبرى هو يوم القيامة. كما ذكرنا آنفا، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس. والمعنى عليه: أي إننا يوم القيامة لنسلطن عليهم بأسنا، وننتقمن منهم أشد الانتقام، ولا يجدن شفيعًا ولا وليًا ولا نصيرًا يمنع عنهم عقابنا، فيندمن ولات حين مندم، وقيل: البطشة الكبرى هي يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى عليه: إنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم، انتقم الله منم بوقعة بدر. والظاهر: أن ذلك يوم القيامة. وان كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضًا. قال الشوكاني: بل الظاهر: أنه يوم بدر وإن كان يوم القيامة يوم بطشة كبرى من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم، أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل من الإنس والجن. وقرأ الجمهور (¬1): {نَبْطِشُ} بفتح النون وكسر الطاء؛ أي: نبطش بهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء، وهي لغة فيه. وقرأ الحسن أيضًا وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء. بمعنى: نسلط عليهم من يبطش بهم، والبطشة على هذه القراءة ليس منصوبًا بنبطش، بل بمقدر؛ أي: نبطش ذلك المسلط البطشة، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة، فينتصب بنبطش. والخلاصة: أن الله سبحانه وتعالى، أخذهم بالجوع والدخان، ثم أذاقهم القتل والأسر يوم بدر، وكل ذلك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا كان يوم القيامة، يأخذهم أخذًا شديدًا، لا يقاس على ما كان في الدنيا، نسأل ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[17]

الله العصمة من عذابه وجحيمه، والتوفيق لما يوصل إلى رضاه ونعمته، وقال بعض المفسرين: المراد بالدخان: ما هو من أشراط الساعة كما مر، وهو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، فيدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ؛ أي: المشوي، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه، ليس فيه خصاص؛ أي: فرجة يخرج منها الدخان، وفي الحديث: "أول الآيات الدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين"، وهو بفتح الهمزة على ما هو المشهور، اسم رجل بني هذه البلدة باليمن، وأقام بها، تسوق الناس إلى المحشر؛ أي: إلى الشام والقدس، قال حذيفة: فما الدخان؟ "فتلا الآية، فقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلةً، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره". وقال حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه -: اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما تذاكرون"؟ فقالوا: نذكر الساعة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها آيات"؛ أي: علامات، فذكر الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم. 17 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} وقرىء {فتنا} بتشديد التاء للمبالغة في الفعل، أو لتكثير متعلقه؛ أي: وعزتي وجلالي لقد فتنا وابتلينا قبل كفار مكة {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: القبط، وامتحناهم؛ أي: فعلنا بهم فعل الممتحن بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، ويظهر منهم ما كان مستورًا، فاختاروا الكفر على الإيمان. فالفعل حقيقة، أو المعنى (¬1): أوقعناهم في الفتنة بالإمهال، وتوسيع الرزق ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

عليهم، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه؛ لأن المراد بالفتنة حينئذ: ارتكاب المعاصي، وهو تعالى كان سببًا لارتكابها بالإمهال والتوسيع المذكورين {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله تعالى، وهو موسى عليه السلام، بمعنى: أنه استحق على ربه أنواعًا كثيرة من الإكرام، أو كريم على المؤمنين، أو في نفسه، لأن الله تعالى لم يبعث نبيًا إلا من كان أفضل نسبًا، وأشرف حسبًا على أن الكرم بمعنى الخصلة المحمودة، وقال بعضهم: لمكالمته مع الله تعالى، واستماع كلامه من غير واسطة، وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز والصفح، وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة. وفي الآية: إشارة إلى أنه تعالى جعل فرعون وقومه فيما فتنهم فداء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لتعتبر هذه الأمة بهم، فلا يصرون على جحودهم كما أصروا، ويرجعوا إلى طريق الرشد، ويقبلوا دعوة نبيهم، ويؤمنوا بما جاء به لئلا يصيبهم مثل ما أصابهم بعد أن جاءهم رسول كريم 18 - {أَنْ أَدُّوا} {أن} إما مصدرية؛ أي: بأن أدوا، وادفعوا {إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ}؛ أي: بني إسرائيل، وسلموهم، وأرسلوهم معي لأذهب بهم إلى الشام موطن آبائهم، ولا تستعبدوهم، ولا تعذبوهم؛ أي: جئتكم من الله تعالى لطلب تأدية عباد الله إلى. يقول الفقير: فتكون التأدية بعد الإيمان، كما قالوا في آية اخرى: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، ونظيره قول نوح عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}؛ أي: آمن واركب، فإن الراكب إنما هم المؤمنون، والركوب متفرع على الإيمان. وقال بعضهم: {عِبَادَ اللَّهِ} منصوب بحرف النداء المحذوف؛ أي: بأن أدوا إلى يا عباد الله حقه من الإيمان، وقبول الدعوة، وقيل: المعنى أدوا إلى يا عباد الله سمعكم، حتى أبلغكم رسالة ربكم، وإما مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول، وهو رسول كريم، أو مخففة من الثقيلة، والمعنى: أن الشأن والحال. أدوا إلى عباد الله، والأول أولى وأوضح. وقوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من الله {أَمِينٌ} على وحيه ورسالته، صادق في دعواه بالمعجزات، تعليل للأمر بالتأدية، وفيه إشارة إلى أنّ بني إسرائيل، كانوا

[19]

أمانة الله في أيدي فرعون وقومه، يلزمهم تأديتهم إلى موسى لكونه أمينًا، فخانوا تلك الأمانة حتى آخذهم الله تعالى على ذلك. والمعنى (¬1): أي ولقد اختبرنا قبل مشركي قومك قوم فرعون، وهم مثال قومك في جبووتهم وطغيانهم وعتوهم، واستكبارهم، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام، فقال لهم: أيها القوم أرسلوا معي بني إسرائيل، وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم إني رسول من الله مأمون على ما أبلغكم غير متهم فيه ونحو الآية: قوله عز وجل: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. 19 - {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ}؛ أي: وبأن لا تتكبروا عليه تعالى، بالاستانة بوحيه وبرسوله، واستخفاف عباده وإهانتهم وقال يحيى بن سلام: لا تستكبروا عن عبادة الله. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله، قيل: والفرق بينهما: أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر ذكره الماوردي. وقوله {إِنِّي آتِيكُمْ}؛ أي: من جهته تعالى، يحتمل أن يكون اسم فاعل، وأن يكون فعلًا مضارعًا {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة في نفسها، وموضحة صدق دعواي، لا سبيل إلى إنكارها، يعني: المعجزات، تعليل للنهي. وفي إيراد (¬2) الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، وقرأ الجمهور {إِنِّي} بكسر الهمزة على سبيل الإخبار. وقرأت فرقة بفتح الهمزة. والمعنى عليه: لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم، فهذا توبيخ لهم، كما تقول: أتغضب أن قال لك الحق؛ أي: وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم، فتكفروا به وتعصوه، فتخالفوا أمره؛ لأني آتيكم بحجة وأضحة على حقية ما أدعوكم إليه لمن تأملها وتدبر فيها 20 - {وَإِنِّي عُذْتُ} والتجأت {بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} وتوكلت عليه من {أَنْ تَرْجُمُونِ} ـي فهو العاصم من شركم من الرجم، وهو الرمي بالرجام بالكسر، وهي الحجارة، أو تؤذوني ضربًا أو شتمًا بأن تقولوا: هو ساحر ونحوه، أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[21]

تقتلوني. قيل: لما قال: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} توعدوه بالقتل. وفي "التأويلات النجمية". وإني عذت بربي من شر نفسي، وبربكم من شر نفوسكم، أن ترجموني بشيء من الفتن، انتهى. والمعنى: وإني التجىء إلى الله الذي خلقني وخلقكم، أن لا تصلوا إلبم بسوء من قول أو فعل، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (¬1): {عُتُّ}. 21 - {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي}؛ أي: وإن لم تصدقوني، وتقروا نبوتي {فَاعْتَزِلُونِ}؛ أي: فاتركوني، ولا تتعوضوا لي بأذى. قال مقاتل: دعوني كفافًا لا علي ولا لي. وقيل: كونوا بمعزل عني، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا، وقيل: فخلوا سبيلي، والمعنى متقارب، والإيمان يتعدى باللام باعتبار معنى الإذعان والقبول، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، وحقيقة آمن به أمن المخبر من التكذيب والمخالفة، وقال ابن الشيخ: اللام للأجل بمعنى: لأجل ما أتيت به من الجحة. والمعنى (¬2): وإن كابرتم مقتضى العقل، ولم تصدقوني فكونوا بمعزل منى، لا علي ولا لي، ولا تتعوضوا إلى بشر ولا أذى، لا باليد ولا باللسان، فليمعى ذلك من جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحُكم، فالاعتزال كناية عن الترك، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان. قال القاضي عبد الجبار - من متأخري المعتزلة -: كل موضع جاء فيه لفظ الاعتزال في القرآن، فالمراد به: الاعتزال عن الباطل، وبهذا صار اسم الاعتزال اسم مدح، وهو منقوض، بقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)}، فإن المراد بالاعتزال هنا: العزلة عن الإيمان التي هي الكفر، لا العزلة عن الكفر والباطل. وخلاصة المعنى (¬3): أي وإن لم تصدقوني فيما جئتكم به، من عند ربكم فخلوا سبيلي، ولا ترجموني باللسان ولا باليد، ودعوا الأمر بيني وبينكم ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان (¬3) المراغي.

[22]

مسالمةً، إلى أن يقضي الله بيننا، 22 - ولما طال مقامه عليه السلام، بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، ولم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا .. دعا عليهم، وإلى ذلك أشار بقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ}، إذ كذبوه، ولم يؤمنوا به، ولم يؤدوا إليه عباد الله، وهموا بقتله بـ {أَنَّ هَؤُلَاءِ} القبطيين {قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}؛ أي: مصرون على الإجرام والكفر، مشركون بك، مكذبون لرسلك، متبعون أهواءهم، وأنت أعلم بهم، فافعل بهم ما يستحقونه، 23 - والفاء في قوله: (4) {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} عاطفة ما (¬1) بعدها على محذوف ولكنه مع إضمار القول بعدها، لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. والإسراء وكذا السرى لا يكون إلا بالليل، لكنه أتى بالليل للتأكيد، وسماه دعاءً مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم مجرمين؛ لأنهم قد يستحقون بذلك الدعاء عليهم، والتقدير: فأجاب الله دعاءه، فقال له: أسر وَامْشِ يا موسى ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط، من مصر ليلًا، على غفلة من العدو. ثم علل السرى ليلًا، فقال: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}؛ أي: إن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم ومسيركم ليلًا ليقتلوكم، وأؤخر علمهم بذلك، فلا يدركونكم. ونحو الآية. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}. وقرأ الجمهور (¬2): بفتح همزة: {أَنَّ هَؤُلَاءِ} على إضمار حرف الجر، كما قدرنا آنفًا، وقرأ الحسن في رواية، وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وزيد بن علي بكسرها، على إضمار القول. وقرأ الجمهور: {فَأَسْرِ} بقطع الهمزة وقرأ أهل الحجاز بالوصل، ووافقهم ابن كثير، فالقراءة الأولى من أسرى، والثانية: من سرى، يقال: سرى وأسرى لغتان. 24 - {وَاتْرُكِ} يا موسى {الْبَحْرَ}؛ أي: بحر القلزم، وهو الأظهر الأشهر، أو النيل، حال كونه {رَهْوًا}؛ أي: ساكنًا، مصدر (¬3) سمي به البحر للمبالغة، وهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[25]

بمعنى الفرجة الواسعة؛ أي: ذا رهو أو راهيًا، مفتوحًا على حاله منفرجًا، ولا تخف أن يتبعك فرعون وقومه، أو ساكنًا على هيئته بعدما جاوزته، ولا تضرب بعصاك لينطبق، ولا يغيره عن حاله ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فيكون معنى {رَهْوًا} ساكنًا غير مضطرب، وذلك لأن الماء وقف له كالطود العظيم، حتى جاوز البحر {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} علة للأمر بترك البحر رهْوًا، والجند جمع معد للحرب، والإغراق والغرق الرسوب في الماء، والتسفل فيه؛ أي: وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه منفرجًا، ساكنًا على حاله التي كان عليها حين دخلته، حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه؛ لأنهم جند مغرقون، في سابق علمنا، أخبر تعالى موسى بذلك ليسكن قلبه، ويطمئن جأشه. وقرأ الجمهور (¬1): بكسر همزة {إنَّ} على الاستئناف، لقصد الإخبار بذلك، وقرىء بالفتح على تقدير لأنهم 25 - {كَمْ} هي الخبرية، المفيدة للتكثير، في محل النصب على أنه مفعول {تَرَكُوا}، وقوله: {مِنْ جَنَّاتٍ} بيان لإبهامها {وَعُيُونٍ} معطوف على {جَنَّاتٍ}؛ أي: ترك آل فرعون في مصر كثيرًا من بساتين كثيرة الأشجار، وعيون نابعة بالماء، وكانت بساتينهم متصلةً من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا. ولعل (¬2) المراد بالعيون: الأنهار الجارية، المتشعبة من النيل، إذ ليس في مصر آبار ولا عيون، كما قال بعضهم في ذمها هي بين بحر رطب، عفن، كثير البُخارات الرديئة، التي تولد الأدواء، وتفسد الغذاء، وبين جبل وبر يابس صلد. ولشدة يبسه لا تنبت فيه خضراء، ولا تنفجر فيه عين ماء، انتهى. وفي الآية (¬3) اختصار، والمعنى: فعل موسى ما أمر به، بأن ترك البحر رهوًا. فدخله فرعون فأغرقوا، وتركوا بساتين كثيرةً وعيونًا نابعةً، قال بعضهم: لما كان فرعون يفتخر بالماء وجريان الأنهار من تحت قصره، وأشجار بساتينه جاء الجزاء من جنس العمل، ولذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام، بأن يسير ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[26]

إلى جانب البحر دون البر، وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على إهلاك العدو في البر أيضًا، بسبب من الأسباب، كما فعل بأكثر الكفار، ممن كانوا قبل القبط 26 - {و} كم تركوا من {زُرُوعٍ} كثيرة الأقوات، جمع زرع، وهو ما استنبت بالبذر، تسميةً بالمصدر من زرع الله الحرث إذا أنبته وأنماه. قال في "كشف الأسرار"؛ أي: وفنون الأقوات، وألوان الأطعمة؛ أي: كانوا أهل ريف وخصب، خلاف حال العرب {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}؛ أي: محافل مزينة، ومنازل محسنة، وقرأ الجمهور (¬1): {وَمَقَامٍ} بفتح الميم، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: أراد المقام، وهو اسم مكان للقيام، وقرأ ابن هرمز وقتادة وابن السميقع ونافع، في رواية خارجة، وقتادة بضمها، اسم مكان الإقامة، قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المجالس، والمساكن وغيرها. 27 - {وَنَعْمَةٍ}؛ أي: تنعم (¬2) ونضارة عيش ولذاذة حياة، يقال: كم ذي نعمة لا نعمة له؛ أي: كم ذي مال لا تنعم له، فالنعمة بالكسر ما أنعم به الله عليك، والشعمة بالفتح التنعم، وهو استعمال ما فيه النعومة، واللين، من المأكولات والملبوسات؛ أي: وكم تركوا من نعمة {كَانُوا}؛ أي: فرعون وقومه {فِيهَا}؛ أي: في تلك النعمة {فَاكِهِينَ}؛ أي: متنعمين متلذذين، ومنه الفاكهة، وهي ما يتفكه به؛ أي: يتنعم ويتلذذ بأكله، وقرأ أبو رجاء {ونعمة} بالنصب عطفًا على {كَمْ} وقرأ الجمهور: {فَاكِهِينَ} بالألف؛ أي: طيبي الأنفس، أصحاب فاكهة كلابن وتامر؛ أي: كانوا فيها متنعمين طيبةً بها أنفسهم، وقرأ (¬3) أبو رجاء والحسن، وأبو الأشهب، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة {فكهين} بغير ألف؛ أي: أشرين بطرين، وقال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه، إذا كان مزاحًا، والفكه أيضًا لأشر. وقال القشيري: فاكهين لاهين، 28 - وقوله: {كَذلِكَ} في محل (¬4) رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، قال الزجاج: الأمر، وهو إهلاك فرعون وقومه، وتخليفهم وراءهم كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر الشوكاني. (¬4) الشوكاني.

والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه {تَرَكُوا}؛ أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وقيل: مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم، فعلى الوجه الأول يكون قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} معطوفًا على {تَرَكُوا}، وعلى الأوجه الأخيرة يكون معطوفًا على الفعل المقدر، والمراد بالقوم الآخرين: بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر، بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ أي: إنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث بلا كلفة، ومثل هذا قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}. أي (¬1): جعلنا أموال القبط لقوم، ليسوا منهم في شيء، من قرابة، ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، كانوا مسخرين لهم مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله تعالى، وأورثهم ديارهم وملكهم وأموالهم، وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر. قال قتادة: لم يروَ في مشور التواريخ، أنهم رجعوا إلى مصر، ولا ملكوها قط، ورد بأنه لا اعتبار بالتواريخ فالكذب فيها كثير، والله تعالى أصدق قيلًا، وقد جاء في الشعراء التنصيص بإيراثها بني إسرائيل، هذا في "حواشي" سعدي المفتي. قال المفسرون عند قوله تعالى (¬2): {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يجعلكم خلفاء في أرض مصر، أو في الأرض المقدسة، وقالوا في قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}؛ أي: أرض الشام، ومشارقها ومغاربها، جهاتها الشرقية والغربية، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة. والعمالقة، بعد انقضاء مدة التيه، وتمكنوا في نواحيها، فاضطرب كلامهم، فتارةً حملوا الأرض على أرض مصر، وأخرى على أرض الشام، والظاهر: الثاني ولأن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا أولادهم، ومصر إنما ورثها أولادهم؛ لأنها فتحت في زمان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[29]

داوود عليه السلام، ويمكن أن يحمل على أرض الشام ومصر جميعًا والمراد بالمستضعفين: هم وأولادهم، فإن الأبناء ينسب إليهم ما ينسب إلى الآباء، والله أعلم. وعبارة "المراغي" هنا: أي كم (¬1) ترك فرعون وقومه، بعد مهلكهم من بساتين فيحاء، وحدائق غناء، وزروع ناضرة، وقصور شاهقة، فقد كانوا في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش، وسعة في الرزق، وخفض ودعة، وسرور، وحبور، ثم أكد هذا بقوله: {كَذَلِكَ}؛ أي: هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا، وخالف أمرنا {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}؛ أي: وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم ونعيم عظيم، قومًا غير أهلها ممن لا يمتون (¬2) - لا ينسبون - إليهم بقرابة ولا دين، فقد تغلب على مصر الآشوريون، والبابليون حينًا، والحبش حينًا آخر، ثم الفرس مدةً، واليونان أخرى، ثم الرومان من بعدهم، ثم العرب، ثم الطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، والمماليك البرية والبحرية، والترك والفرنسيون، والإنكليز، وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا، ونتمكن من استقلال بلادنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}. 29 - ثم سخر منهم، واستهزأ بهم حين هلكوا، فقال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} مجاز مرسل عن عدم الاكتراث بهلاكهم. والاعتداد بوجودهم؛ لأن سبب البكاء على الشيء هو المبالاة بوجوده، قال المفسرون؛ أي (¬3): إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم به، ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يُبْكَى عليهم به. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) يمتون: المت التوسل بقرابة بابه رد اهـ مختار. (¬3) الشوكاني.

[30]

والمعنى: أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي: عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُوْرُ الْمَدِيْنَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وقال الحسن: في الكلام حذف مضاف، تقديره: أي ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض من الملائكة والناس، وقال مجاهد: الكلام على حقيقته، فإن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحًا، وقيل: إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته، ومصاعد عمله، وفي الحديث: "إن المؤمن يبكي عليه من الأرض مصلاه، وموضع عبادته، ومن السماء مصعد عمله"، ورُوي: إذا مات كافر استراح منه السماء والأرض، والبلاد، والعباد، فلا تبكي عليه أرض ولا سماء {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}؛ أي: ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم، وشدة عنادهم؛ أي: ما أمهلوا لتوبة، أو تدارك تقصير، بل عجل لهم العذاب. 30 - ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه أردف ذلك، بذكر إحسانه إلى موسى، وقومه فبدأ بدفع الضرر عنهم، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب، ثم ذكر اتصال النفع لهم من اختيارهم على العالمين، وإيتائهم الآيات، فقال: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد خلصنا أولاد يعقوب بإغراق القبط في اليم {مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ}؛ أي: من العذاب الشديد من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستخدام نسائهم وبناتهم، وتكليفه إياهم بالأعمال الشاقة. 31 - وقوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب، إما على جعله نفس العذاب لإفراطه في التعذيب، وإما على حذف المضاف؛ أي: من عذاب فرعون، أو حال من المهين؛ أي: حال كونه واقعًا من جهة فرعون واصلًا إليهم من جانبه. وقرأ عبد الله (¬1): {من عذاب المهين} وهو من إضافة الموصوف إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[32]

صفته، كبقلة الحمقاء، أو من عذاب فرعون المهين إياهم؛ لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين، وقرأ ابن عباس {من فرعون}، من اسم استفهام مبتدأ، و {فرعون} خبره لما وصف فوعون بالشدة والفظاعة، قال {من فرعون} على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته. ثم عرف حاله في ذلك. بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا}؛ أي: متكبرًا عن الإيمان وقبول الحق، {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} خبر ثان؛ أي: من الذين أسرفوا على أنفسهم بالظلم والعدوان، وتجاوز الحد في الكفر والعصيان، ومن إسرافه أنه على حقارته، وخسة شأنه ادعى الإلهية، وكان أكفر الكمار، وأطغاهم، وهو أبلغ من أن يقال: مسرفًا لدلالته على أنه معدود في زمرتهم، مشهور بأنه في جملتهم، وفيه ذم لفرعون، ولمن كان مثله في العلو والإصراف، كنمرود وغيره، وبيان أن من أهان المؤمن، أهلكة الله تعالى، وأذله، ومن يهن الله فما له من مكرم، وأن النجاة من أيدي الأعداء، من نعم الله الجليلة على الأحباب، فإن من نكد الدنيا ومصائبها على الحر، أن يكون مغلوبًا للأعداء، وأن يرى عدوًا له، ما من صداقته بد، وأن الله تعالى إذا أراد للمرء ترقيًا في دينه ودنياه، يقدم له البلايا ثم بنجيه. والمعنى: أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء، واستحياء النساء، وتكليفهم بالأعمال الشاقة إلى نحو ذلك، من وسائل الخسف والضيم، إذ كان جبارًا مستكبرًا مسرفًا في الشر والفساد، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية إذ قال: {أنا ربكم الأعلى}، ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}. 32 - وبعد أن بين طريق دفعه التفسير عنهم، أردف ذلك، ذكر ما أكرمهم به، فقال: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد اصطفينا بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} في محل النصب على الحال من فاعل {اخترنا}؛ أي (¬1): حالة كوننا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[33]

عالمين، بأنهم أحقاء بالاختيار، والاصطفاء، وفضلناهم {عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ أي: على عالمي زمانهم، أو على العالمين جميعًا في زمانهم وبعدهم في كل عصر، لكثرة الأنبياء فيهم حيث بعث فيهم يومًا ألف نبي، ولم يكن هذا في غيرهم، ولا ينافيه قوله تعالى في حق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، لتغاير جهة الخيرية. وقال هنا (¬1): {عَلَى عِلّمٍ}؛ أي: منا وقال في الجاثية: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} بحذفه جريًا هنا على الأصل في ذكر ما لا يغني عنه غيره، واكتفاءً، ثم بقوله بعد: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}. يقول الفقير: والحق أن هذه الأمة المرحومة، خير من جميع الأمم من كل وجه، فإن خيرية الأمم إن كانت باعتبار معجزات أنبيائهم، فالله تعالى قد أعطى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - جميع ما أعطاه للأولين، وإن كانت باعتبار كثرة الأنبياء في وقتٍ واحد، فعلماؤنا الذين كأنبياء بني إسرائيل أكثر، وأزيد، وذلك لأنه لا تخلو الدنيا كل يوم من أيام هذه الأمة إلى قيام الساعة من مئة ألف وليٍّ وأربعة وعشرين ألف ولي، فانظر كم بينهم من الفرق، وهدانا الله وإياكم أجمعين انتهى، وقال الواسطي رحمه الله تعالى (¬2): اخترناهم على علم منا بجناياتهم، وما يقترفون من أنواع المخالفات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا بهم، ليعلموا أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات، ومن هذا القبيل أولاد يعقوب عليه السلام، فإنهم مع ما فعلوا بيوسف من إلقائه في الجب ونحوه، اختارهم الله تعالى للنبوة على قول. والمعنى (¬3): أي ولقد اصطفيناهم على عالمي زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب، وأرسلنا فيهم من الرسل، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل 33 - {وَآتَيْنَاهُمْ}؛ أي: وأعطينا بني إسرائيل {مِنَ الْآيَاتِ}؛ أي: من الأمور ذوات الخطر والشرف، الدالة على كرامتهم عندنا، وهي معجزات موسى عليه السلام، ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

{مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ}؛ أي: اختبار ظاهر، وامتحان واضح، لننظر كيف يعملون، كفلق البحر، وإنجائهم من الغرق، وتظليل الغمام، وانزال المن والسلوى، وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم. وفي "كشف الأسرار": ابتلاهم بالرخاء والبلاء، فطالبهم بالشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء. الإعراب {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}. {حم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة الآتية سورة {حم (1)}؛ أي: مسماة بـ {حم (1)} إن قلنا إنه اسم للسورة، والجملة مستأنفة، وإن قلنا: إنه مما استأثر الله سبحانه بعلمه، فلا محل له من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، والمعنى: لم يعلم {الْكِتَابِ} {الواو}: حرف جر وقسم. {الكتاب}: مقسم به مجرور بواو القسم، {الْمُبِينِ} صفة لـ {الكتاب}، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم والكتاب المبين، وجملة القسم مستأنفة. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {فِي لَيْلَةٍ}: متعلق به، {مُبَارَكَةٍ} صفة {لَيْلَةٍ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه {مُنْذِرِينَ}: خبره، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جواب ثان للقسم أيضًا، أو مستأنفة، أو تفسيرية لجواب القسم. {فِيهَا}: متعلق بـ {يُفرَقُ}، {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ}: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، ومضاف إليه {حَكِيمٍ}: صفة أمر، والجملة الفعلية مستأنفة، أو صفة ثانية لـ {لَيْلَةٍ}، وما بينهما اعتراض {أَمْرٍ}: مفعول مطلق لـ {يُفْرَقُ} لأنه مصدر معنوي له؛ أي: يفرق فرقًا من عندنا، أو مفعول مطلق لفعله المحذوف؛

أي: أمرنا أمرًا {مِنْ عِنْدِنَا} صفة لـ {أَمْرًا}، {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {كُنَّا مُرْسِلِينَ} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {رَحْمَةً} أجازوا فيه خمسة أوجه، متساوية الرجحان: الأول: المفعول لأجله والعامل فيه إما {أَنْزَلْنَاهُ}، وإما {أَمْرًا}، وإما {يُفرَقُ}، وإمَّا {مُنْذِرِينَ}. والثاني: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر؛ أي: رحمنا رحمة. والثالث: أنه مفعول بـ {مُرْسِلِينَ}. والرابع: أنه حال من ضمير {مُرْسِلِينَ}؛ أي: ذوي رحمة. والخامس: أنه بدل من {أَمْرًا}، {مِنْ رَبِّكَ} صفة لـ {رَحْمَةً}، أو متعلق بنفس الرحمة، {إِنَّهُ} ناصب واسمه {هو} ضمير فصل {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبران لـ {إن}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ}: بالجر بدل من {رَبِّكَ}، وبالرفع خبر ثالث لـ {إنّ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {وَمَا}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {بَيْنَهُمَا}: ظرف صلة لما، {إن}: حرف شرط، {كنُتُم}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها: {مُوقِنِينَ}: خبر {كاَنَ}، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم موقنين، فايقنوا بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسوله، وجملة الشرط معترضة {لَا إلَهَ}: ناصب واسمه وخبره محذوف جوازًا، تقديره: موجود، وجملة {لَا}: في محل الرفع خبر ثالث أو رابع لـ {إنّ}، {إلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع، بدل من الضمير المستكن في خبر {لا}: المحذوف، {يُحْيِي}: فعل، وفاعل مستتر، والجملة خبر رابع لـ {إنّ}. {وَيُمِيتُ}: معطوف على {يُحْيِي}، {رَبُّكُمْ}: خبر خامس لـ {إنّ}. {وَرَبُّ آبَائِكُمُ}: معطوف على

{رَبُّكُمْ}، {الْأَوَّلِينَ}: صفة لـ {آبَائِكُمُ}، {بَلّ}: حرف إضراب عن محذوف، تقديره: فليسوا بموقنين بل هم، و {هُمّ}: مبتدأ، {فِي شَكٍ}: خبره، وجملة {يَلْعَبُونَ} في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، والجملة الإضرابية معطوفة على الجملة المحذوفة. {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}. {فَارْتَقِبْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تعنتهم وتمردهم في الكفر، وأردت بيان عاقبة أمرهم .. فأقول لك: {ارتقب} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يَوْمَ}: مفعول به، وجملة {تَأْتِي السَّمَاءُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {بِدُخَانٍ}: متعلق بـ {تَأْتِي}، {مُبِينٍ} صفة لـ {دخان}. {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)}. {يَغْشَى النَّاسَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {دخان}، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة ثانية لـ {دخان}. {هَذَا عَذَابٌ}: مبتدأ وخبر {أَلِيمٌ}: صفة لـ {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، وجملة القول المحذوف حال من الناس، تقديره: يغشى الناس، حال كونهم يقولون لربك هذا عذاب أليم، ربنا اكشف عنا العذاب، {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول القول. {اكْشِفْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، {عَنَّا}: متعلق به، {العَذَابٌ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول على كونها جواب النداء. {إِنَّا مُؤْمِنُونَ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل النصب، مقول القول مسوقة لتعليل الدعاء بالكشف، {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى كيف، أو أين، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، {لَهُمُ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، {الذِّكْرَى} مبتدأ،

والتقدير: الذكرى حاصل؛ أي: حال كونه كائنًا لهم، والاستفهام هنا لاستبعاد حصول الذكرى لهم، والجملة الاسمية مستأنفة، {وَقَدّ جَآءَهُمْ}: {الواو} حالية، {قد} حرق تحقيق {جَاءَهُمْ} فعل ومفعول به، {رَسُولٌ}: فاعل، {مُبِينٌ} صفة لـ {رَسُولٌ}، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من ضمير {لَهُمُ}. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}. {ثُمَ}: حرف عطف وتأخير، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل، {عَنْهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على مقدر تقديره: فلم يذكروا ثم تولوا عنه، {وَقَالُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {تَوَلَّوْا}، {مُعَلَّمٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو معلم، {مَجْنُونٌ}: خبر ثان للمبتدأ، والجملة الاسمية مقول لـ {قالوا}، {إنَا} ناصب واسمه {كَاشِفُو الْعَذَابِ}: خبره، ومضاف إليه، وجملة {إنّ} مستأنفة، {قَلِيلًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: كشفًا قليلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ لأنه صفة لزمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا، {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {عَائِدُونَ}: خبره، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} الأولي بعاطف مقدر، تقديره: إنا كاشفوا العذاب قليلًا ثم إنكم عائدون، {يَوْمَ} منصوب باذكر مقدر، أو بننتقم منهم، {نَبْطِشُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه ليوم، و {الْبَطْشَةَ} مفعول مطلق، {الْكُبْرَى} صفة له، {إنَا} ناصب واسمه، {مُنْتَقِمُونَ}: خبره، والجملة مستأنفة. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)}. {وَلَقَدّ} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق، {فَتَنَّا}: فعل وفاعل، {قَبْلَهُمْ}: متعلق بـ {فَتَنَّا}، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {وَجَاءَهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {جاءهم}: فعل ومفعول به، {رَسُولٌ}: فاعل، {كَرِيمُ} صفة {رَسُولٌ}، والجملة معطوفة على جملة {فَتَنَّا}.

{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)}. {أَنْ} يجوز أن تكون مفسرة؛ لأن مجيء الرسل متضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: بأدائكم إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {جاءهم}، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة {أَدُّوا إِلَيَّ}: خبرها. {عِبَادَ اللَّهِ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، فيكون المراد بعباد الله: القبط. واختار الزمخشري أن يكون {عِبَادَ اللَّهِ} مفعولًا به، وهم بنو إسرائيل، يقول أدوهم إلى، وأرسلوهم معي، ويؤيد هذا المعنى ما جاء في سورة الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)}. {إِنِّي}: ناصب واسمه، {لَكُم}: حال من رسول؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {رَسُولٌ}: خبر {إِنَّ}. {أَمِينٌ}: صفة {رَسُولٌ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالأداء. {وَأَن}: {الواو}: عاطفة. {أن}: معطوفة مع مدخولها على {أن} الأولى، ويجوز فيها من الأوجه ما جاز في الأولى. {لا} ناهية. {تَعْلُوا} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تَعْلُوا}؛ أي: وبعدم علوكم على الله. {إِنِّي} ناصب واسمه، {آتِيكُمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، {بِسُلْطَانٍ} متعلق بـ {آتِيكُمْ}، {مُبِينٍ}: صفة لـ {سلطان}، وجملة {إن} مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها. {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)}. {وَإِنِّي} {الواو}: عاطفة {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {عُذْتُ}: خبره، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} قبلها، {بِرَبِّي}: متعلق بـ {عُذْتُ}، {وَرَبِّكُمْ}: معطوف على {ربي}، {أنّ}: حرف نصب ومصدر {تَرْجُمُونِ}: فعل مضارع، منصوب بـ {أَن} المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل،

والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية مفعول به، وجملة {أَن} المصدرية مع مدخولها، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: من رجمكم إياي بلا جرم، والجار والمجرور متعلق بـ {عُذْتُ}، {وَإن}: {الواو}: عاطفة {إن}: حرف شرط، {لم}: حرف جزم {تُؤْمِنُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، والواو فاعل، {لِي}: متعلق بـ {تُؤْمِنُوا}، واللام بمعنى الباء، كقوله: فآمن له لوط؛ أي: به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، {فَاعْتَزِلُونِ}: الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا {اعتزلون} فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة الشرط معطوفة على مقدر معلوم من السياق، تقديره: فآمنوا بي ولا تؤذون، وإن لم تؤمنوا فاعتزلون. {فَدَعَا} الفاء عاطفة على مقدر معلوم من السياق، تقديره: فلم يتركوه، {دعا ربه} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على موسى ومفعول به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {أَنَّ هَؤُلَاءِ}: ناصب واسمه، {قَوْمٌ}: خبر. {مُجْرِمُونَ} صفة {قَوْمٌ}، وجملة {أَنَّ} ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بأن هؤلاء إلخ، الجار والمجرور متعلق بـ {دعا}. {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)}. {فَأَسْرِ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان أمرهم وشأنهم كما قلت، وأردت النصر عليهم .. فأقول لك: أسر بعبادي، {أسر}: فعل أمر، مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله ضمير مستتر يعود على موسى {بِعِبَادِي}: متعلق بـ {أسر}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {لَيْلًا}: ظرف متعلق بـ {أسر}. {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه {مُتَّبَعُونَ} خبره،

{وَاتْرُكِ} {الواو}: عاطفة، {أترك}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على موسى، {الْبَحْرَ}: مفعول به، {رَهْوًا}: حال من البحر، أو مفعول ثان لـ {اترك}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَأَسْرِ}، {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {جُنْدٌ} خبره {مُغْرَقُونَ} صفة {جُنْدٌ}، وجملة {إنّ} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب، وقوله: {كَمْ تَرَكُوا ...} إلخ، مرتبط بمقدر لا بد من تقديره: ليلتئم نظام الكلام، تقديره: فأطمأن موسى بذلك، فتم إغراقهم، وكم تركوا إلخ، {كَمْ}: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب، مفعول به مقدم لـ {تركوا}، {تَرَكُوا}: فعل وفاعل، {مِنْ جَنَّاتٍ}: تمييز لـ {كَمّ}، و {مِنْ}: زائدة، وجملة {تَرَكُوا}: معطوف على ذلك المقدر. {وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ}: معطوفات على {جَنَّاتٍ}، {كَرِيمٍ} صفة {مَقَامٍ}، {وَنَعْمَةٍ}؛ معطوف أيضًا على {جَنَّاتٍ} عطف عام على خاص؛ لأن النعمة تشمل جميع ما ذكر وغيره، مما لم يذكر هنا، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِيهَا} متعلق بـ {فَاكِهِينَ}، و {فَاكِهِينَ}: خبره، وجملة؛ {كَانُوا} في محل الجر صفة لـ {نعمة}، {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، والجمله معترضة لا محل لها من الإعراب، وقال الزمخشري: الكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: أخرجناهم منها إخراجًا مثل ذلك الإخراج، وقال أبو البقاء: صفة للترك؛ أي: وتركوها تركًا مثل ذلك الترك، {وَأَوْرَثْنَاهَا}: {الواو}: عاطفة. {أورثناها}: فعل، وفاعل، ومفعول أول، {قَوْمًا} مفعول ثان، {آخَرِينَ} صفة {قَوْمًا}، والجملة معطوفة على جملة {كَمْ تَرَكُوا}، {فَمَا} الفاء: عاطفة على مقدر، تقديره: فأغرقوا فما بكت، {ما}: نافية {بَكَتْ} فعل ماض، {عَلَيْهِمُ} متعلق بـ {بَكَتْ}، {السَّمَاءُ}: فاعل، {وَالْأَرْضُ}: معطوف عليه، والجملة معطوفة على تلك المقدرة، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {ما}: نافية، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {مُنْظَرِينَ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة {بَكَتْ} أو على أغرقوا المقدر، وما بينهما اعتراض. {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}. {وَلَقَدِ}: {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف

تحقيق، {نَجَّيْنَا}: فعل وفاعل، {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول به، {مِنَ الْعَذَابِ}: متعلق بـ {نَجَّيْنَا}، {الْمُهِينِ}: صفة لـ {الْعَذَابِ}، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ما يكابده من قريش، من الأذى، {مِنْ فِرْعَوْنَ}: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور، في قوله: {مِنَ الْعَذَابِ}، {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على فرعون، {عَالِيًا}: خبره {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} خبر ثان لـ {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)}. {وَلَقَدِ} {الواو}: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق، {اخْتَرْنَاهُمْ}: فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على القسم المذكور قبلها، {عَلَى عِلْمٍ}: جار ومجرور حال من فاعل {اخْتَرْنَاهُمْ} و {عَلَى} بمعنى مع؛ أي: مع علمنا بأنهم يزيغون، وتفرط منهم الفرطات، {عَلَى الْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {اخْتَرْنَاهُمْ}، {وَآتَيْنَاهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول أول، معطوف على {اخْتَرْنَاهُمْ}، {مِنَ الْآيَاتِ}: حال مقدم على صاحبها؛ لأنه حال من {مَا} الموصولة، {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول ثان لـ {آتَيْنَاهُمْ}، {فِيهِ} خبر مقدم، {بَلَاءٌ}: مبتدأ مؤخر، {مُبِينٌ} صفة {بَلَاءٌ}، والجملة الاسمية صلة لـ {مَا} الموصولة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}؛ أي: ذات بركة وخير كثير، اسم مفعول من بارك الرباعي، بوزن فاعل لا مصدر، والمفاعلة ليست على بابها، وهي ليلة القدر على الصحيح المشهور. وقال النووي في "شرح مسلم": والقول بأنها ليلة النصف من شعبان خطأ. {مُنْذِرِينَ}؛ أي: مخوفين {يُفْرَقُ}؛ أي: يفصل ويبين {أَمْرٍ

حَكِيمٍ}؛ أي: محكم مبرم لا يقبل التغيير والتبديل. {مُوقِنِينَ}؛ أي: مريدين اليقين، كما يقال: منجد، متهم؛ أي: يريد نجدًا وتهامة: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أصله: يموت بوزن يفعل، مضارع أمات الرباعي، نقلت حركة الباء إلى الميم فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد، وفيه حذف همزة أفعل من المضارع كما في أكرم. {فَارْتَقِبْ}؛ أي: انتظر من قولهم: رقبته؛ أي: انتظرته وحرسته. {بِدُخَانٍ مُبِينٍ} في "المختار": دخان النار معروف، ودخنت النار ارتفع دخانها، وبابه دخل وخضع، وأدخنت مثله، ودخنت النار إذا فسدت بإلقاء الحطب عليها حتى هاج دخانها، ودخن الطبيخ، إذا تدخنت القدر، وبابه طرب، وقياس جمعه في القلة أدخنة، وفي الكثرة دخنان، نحو: غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل، فقالوا؛ دواخن، كأنه جمع داخنة، كما شذوا في عنان، فقالوا في جمعه: عوانن. وفي "القاموس": والدخان كغراب وجبل، ورمان العُثَانُ، والجمع أدخنة ودواخن ودواخين، وقال أبو عبيدة: والدخان الجدب، قال القتيبي: سمي دخانًا ليبس الأرض منه، حتى يرتفع منها كالدخان. {يَغْشَى النَّاسَ} فيه إعلال بالقلب، أصله: يغشي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والمراد بالدخان هنا: ما أصابهم من الظلمة في أبصارهم من شدة الجوع، حتى كأنهم كانوا يرون دخانًا، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه، أو ضعفه، أظلمت عيناه، ورأى الدنيا كالمملوءة دخانًا {يَغْشَى النَّاسَ}؛ أي: يحيط بهم {اكْشِفْ عَنَّا}؛ أي: ارفع عنا {أَنَّي}؛ أي: كيف يكون، ومن أين يحصل {مُعَلَّمٌ}؛ أي: يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أصله: تولّيوا بوزن تفعلوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالة عليها. {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} جمع عائد، وفيه إعلال بالإبدال أصله: عاودون، أبدلت الواو همزة في الوصف، حملًا له في الإعلال على فعله حيث أعل الفعل عود بقلب الواو ألفًا، لتحركها بعد فتح. {يَوْمَ نَبْطِشُ} يقال: بطش به أخذه بالعنف والسطوة، كأبطشه، والبطش الأخذ الشديد في كل شيء، والبأس قاله في "القاموس". وفي "المصباح": بطش بطشًا من باب ضرب، وبها قرأ السبعة، وفي

لغة من باب قتل، وبها قرأ الحسن البصري، وأبو جعفر المدني، والبطش: هو الأخذ بعنف، وبطشت اليد إذا عملت فهي باطشة اهـ. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: بلونا، وامتحنا؛ أي: فعلنا بهم فعل الممتحن الذي يريد أن يعلم بحقيقة ذلك الشيء، وذلك الامتحان كان بزيادة في الرزق، والتمكين في الأرض، ففسدوا واستطالوا في الغي، وركوب متن الضلال {كَرِيمُ}؛ أي: جامع لخصال الخير، والأفعال المحمودة قاله الراغب. {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} أصله: أديوا، أمر من أدى يؤدي، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت المتقي ساكنان، فحذف الياء وضمت الدال، لمناسبة الواو؛ أي: أطلقوا، وسلموا إلى {أَمِينٌ}؛ أي: ائتمنه الله على وحيه ورسالته. {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ}؛ أي: لا تستكبروا على الله بالاستهانة بوحيه، أصله: تعلووا بوزن تفعلوا، سكنت الواو الأولى لوقوعها إثر ضمة، لتكون حرف مد، فالتقى ساكنان فحذفت الواو الأولى، لام الكلمة فوزنه تفعوا. {إِنِّي آتِيكُمْ} اسم فاعل من أتى الثلاثي، فالمدة فيه مدة فاعل، اتصلت بفاء الكلمة، وسكنت الياء لوقوعها إثر كسرة، ويحتمل أن يكون مضارع أتى، فاجتمعت همزتان، همزة المضارع للمتكلم، وهمزة فاء الفعل، فأبدلت الثانية ألفًا حرف مد، من جنس حركة الأولى. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ}؛ أي: التجأت إليه، وتوكلت عليه، وأصله: عوذ قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، فصار عاذ فاتصلت بالفعل تاء الفاعل فبني على السكون، فصار عاذت فالتقى ساكنان، فحذفت الألف فصار عَذت، فحذفت حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة تجانس العين المحذوفة، وهي الضمة؛ لأن عين الفعل واو فقيل: {عُذْتُ} بوزن قلت {أَن تَرجْمُوُنِ}؛ أي: تؤذونني ضربًا، أو شتمًا. {فَاعْتَزِلُونِ}؛ أي: كونوا بمعزل منى، لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا لي بسوء {فَأَسْرِ بِعِبَادِي}؛ أي: سربهم ليلًا {مُتَّبَعُونَ}؛ أي: يتبعكم فرعون وقومه. {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا}؛ أي: حال كونه رهوًا، فهو منصوب على الحال من البحر. والرهو في الأصل، مصدر رها يرهو رهوًا، كعدا يعدو عدوًا، إما بمعنى سكن؛ أي: ساكنًا، وإما بمعنى انفرج وانفتح؛ أي: منفرجًا منفتحًا.

وفي "المختار": رها بين رجليه؛ أي: فتح، وبابه عدا ورها البحر سكن، وبابه عدا أيضًا، اهـ. {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} والجند الجمع المعد للحرب، {مُغْرَقُونَ}؛ أي: متمكنون في هذا الوصف، وإن كان لهم وصف القوة، والتجمع الذي شأنه النجدة الموجبة للعلو في الأمور. والغرق: الرسوب في الماء، والتسفل فيه حتى يغرق ويهلك، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}؛ أي: مجالس محفلة، ومنازل مزينة، وأصله: مقوم بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال، مصدر ميمي، أو اسم مكان. {وَنَعْمَةٍ} قال صاحب "الكشاف": النعمة بالفتح من التنعم، وبالكسر من الإنعام؛ أي: حسن حياة، ونضرة عيش. {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}؛ أي: طيبي الأنفس ناعمين، أو أصحاب فاكهة، كلابن وتامر، وقد مرت هذه الصيغة، وعبارة "القاموس": الفاكهة الثمر كله، والفاكهاني بائعها وكخجل آكلها، والفاكه صاحبها، وفكههم تفكيهًا أطرفهم بها، والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم، وفكه كفرح فكهًا فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك، أو يحدث صحبه، فيضحكهم انتهى. {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ}؛ أي: لم تكترث لهلاكهم، ولا اعتدت بوجودهم، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن؛ إنه قد أظلمت الدنيا لفقده، وكسفت الشمس والقمر له، وبكت عليه السماء والأرض، كما قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ ... تَبْكِيْ عَلَيْكَ نُجُوْمَ اللَّيْلِ والْقَمَرَا أي: يا نجوم الليل والقمر، وأصله: بكي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فوزنه فعت. {مُنْظَرِينَ}؛ أي: ممهلين مؤخرين {الْمُهِينِ}؛ أي: الشديد الإهانة والإذلال {عَالِيًا}؛ أي: جبارًا متكبرًا. {مِنَ الْمُسْرِفِينَ}؛ أي: في الشر والفساد. و {عَالِيًا} فيه إعلال بالقلب، أصله: عالوا من العلو، قلبت الواو ياء

لوقوعها متطرفةً إثر كسرة. {اخْتَرْنَاهُمْ}؛ أي: اصطفيناهم. {عَلَى عِلْمٍ}؛ أي: عالمين باستحقاقهم ذلك. {عَلَى الْعَالَمِينَ}؛ أي: عالمي زمانهم، وقوله: {اخْتَرْنَاهُمْ} أصل اختار اختير، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع التقى ساكنان، فحذفت الألف فوزنه افتلناهم {مِنَ الْآيَاتِ}؛ أي: المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى {بَلَاءٌ مُبِينٌ}؛ أي: اختبار ظاهر، أصل بلاء بلاو، أبدلت الواو همزة لتطرفها بعد ألف زائدة، وقوله: {مُبِينٌ} أصله: مبين بوزن مفعل نقلت حركة الياء إلى الباء، فسكنت إثر كسرة وصارت حرف مد. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: وضع الرب موضع الضمير في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: رحمة منا، وفيه أيضًا الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - للتشريف، وفيه أيضًا الالتفات من التكلم إلى الغيبة، ولو جرى على منوال ما تقدم لقال: رحمةً منا كما في "السمين". ومنها: الطباق في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}. ومنها: تكرار لفظ الرب، اعتناءً بشأن الربوبية. ومنها: الإسناد العقلي في قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ} حيث أسند الإتيان إلى السماء؛ لأن كلها عن الإمطار كان سببًا في الدخان، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِدُخَانٍ} حيث أطلق الدخان على شدة القحط، وفلبة الجوع على سبيل الكناية، أو المجاز المرسل. ومنها: صيغة الفاعل في قوله: {كَاشِفُو الْعَذَابِ}، وفي قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} للدلالة على تحقق الكشف والمعاودة لا محالة، ولقد وقع كلاهما، حيث كشفه الله تعالى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من

العتو والعناد. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} لما فيه من إسناد الفعل إلى سببه؛ لأن المراد بالفتنة: ارتكاب المعاصي، وهو تعالى كان سببًا لارتكابها بالإمهال، وتوسيع الرزق عليهم. ومنها: إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، في قوله: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)}، وفي قوله: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)}؛ لأن في ذلك من الجزالة، والمناسبة ما لا يخفى. ومنها: الكناية في قوله: {فَاعْتَزِلُونِ}؛ لأن الاعتزال هنا كناية عن الترك، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي}؛ أي: وقلنا له: أن أسر بعبادي. ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)}: لأن النعمة تشمل الأربعة قبلها، وغيرها من أنواع النعم، كالنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا}؛ لأن الإيراث هنا مجاز عن تمليكها مخلفة عليهم، أو عن تمكينهم من التصرف فيها، تمكين الوارث فيما يرثه. ومنها: الاستعارة المكنية التخييلية في قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} حيث شبه السماء والأرض بمن يصح منه الاكتراث، ثم حذف المشبه به، وهو من يصح منه الاكتراث، واستعار له شيئًا من لوازمه، وهو البكاء، فإسناد البكاء إليهما على سبيل التخييل، والمعنى: أنهم لم يكونوا يعملوا عملًا صالحًا ينقطع بهلاكهم، فتبكي الأرض لانقطاعه، وتبكي السماء؛ لأنه لم يصعد إليها شيء من ذلك العمل الصالح بعد هلاكهم، وجعله بعضهم مجازًا مرسلًا عن الاكتراث بهلاك الهالك، والعلاقة السببية، فذكر المسبب، وأراد السبب، فإن الاكتراث

المذكور سبب يؤدي إلى البكاء عادة. ومنها: أن الإضافة في قوله: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} للتشريف، وفي قوله: {وَرَبِّكُمْ} للتهويل والتهديد، وفي قوله: {فَأَسّرِ بِعِبَادِي} للتشريف. ومنها: التأكيد في قوله: {لَيْلًا} لأن الإسراء، وكذا السرى، لا يكون إلا في الليل. ومنها: أن التنكير والإبهام في قوله: {جَنَّاتٍ} وما بعده للتكثير والتعظيم؛ لأن جناتهم، وبساتينهم كانت كبيرةً واسعةً جدًّا؛ لأنها كانت متصلة من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا. ومنها: الإيجاز والاختصار في هذه الاية، والتقدير: وفعل موسى ما أمر به من ترك البحر رهوًا، فدخله فرعون وقومه فأغرقوا، وتركوا بساتين كثيرة كما مرّ. ومنها: تسمية الشيء بالمصدر لكونه سببه في قوله: {وَزُرُوعٍ}؛ لأنه مصدر زرع الله الحرث زرعًا، إذا أنبته وأنماه. ومنها: الاعتراض بقوله: {كَذَلِكَ} بين المعطوف والمعطوف عليه، للتفخيم والتعجيب. ومنها: الإبهام في قوله: {قَوْمًا آخَرِينَ} دلالةً على فخامتهم، ونباهتهم. ومنها: التهكم بالكفار، وبحالهم المنافية لحال من يعظم، فيقال له: بكت عليه السماء والأرض، في قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) ...} الآيات، عود (¬1) على بدءٍ، كان الكلام أولًا في كفار قريش، إذ قال فيهم: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}؛ أي: إنهم في شك من البعث والقيامة، ثم بين كيف أصروا على كفرهم، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا في إصرارهم على الكفر كهؤلاء، وقد أهلكهم الله، وأنجى بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو إنكارهم للبعث، وقولهم: إنه لا حياة بعد هذه الحياة فإن كنتم صادقين، فاسألوا ربكم، يعجل لنا إحياء من مات، حتى يكون ذلك دليلًا على صدق دعواكم النبوة، والبعث والقيامة، ثم توعدهم بأنه سيستن بهم سنة من قبلهم من المكذبين، فقد أهلك من هم أقوى منهم ¬

_ (¬1) المراغي.

بطشًا، وأكثر جندًا، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان، فحذار أن تصروا على الكفر، حتى لا يحيق بكم بأس ربكم. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الكافرين، وما يرونه من الأهوال في ذلك اليوم .. أعقب هذا بوعد المتقين، بما يلاقونه في جنات النعيم، من ضروب التكريم في الملبس، والزوجات، والمآكل، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدي، خالد، لا يعقبه موت ولا تحول ولا انتقال، ثم ختم السورة بالمنة على العرب في نزول القرآن بلغتم لعلهم يعتبرون، ويتعظون به، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم، والنصر له عليهم، كما هي سنته في أمثالهم من المكذبين {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. أسباب النزول قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي مالك، قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر، والزبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}. قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} سبب نزوله (¬2): ما أخرجه الأموي في "مغازيه" عن عكرمة، قال: لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل، فقال: "إن الله أمرني أن أقول لك: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} قال فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت وصاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، ونزل فيه. {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}، وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) لباب النقول.

[34]

التفسير وأوجه القراءة 34 - والإشارة بقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} إلى كفار قريش؛ لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر؛ أي: إن هؤلاء المشركين من قومك {لَيَقُولُونَ 35 - إِنْ هِيَ}؛ أي: ما العاقبة، ونهاية الأمر {إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} التي نموتها في الدنيا، وتزيل حياتنا الدنيوية، ولا حياة بعدها ولا بعث. قال الرازي: المعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، اهـ، ووصفها بالأولى لا يستدعي أن يثبت الخصم موتةً ثانية، فيقصدوا بذلك إنكارها؛ لأن كون الشيء أولًا، يستلزم وجود ما كان آخرًا بالنسبة إليه، كما لو قال أول عبد أملكه حر، فملك عبدًا عتق، سواء كان ملك بعده عبدًا آخر، أو لا، ولا يبعد (¬1) أن يحمل على حذف المضاف، على أن يكون التقدير: إن الحياة إلا حياة موتتنا الأولى، فالأولى صفة للمضاف، والقرينة عليه قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}، فالآية مثل قوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}؛ أي: بمبعوثين بعد الموت، من أنشر الله الموتى، إذا بعثهم، وغرضهم من هذا القول، المبالغة في إنكار حشر الموتى، ونشرهم من القبور، والمعنى؛ أي: إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون ماثم إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث، ولا نشور. 36 - ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقالوا لهم {فَأْتُوا بِآبَائِنَا}؛ أي: ارجعوهم إلى الدنيا بعد موتهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولونه، وتخبروننا به من البعث؛ أي: إن كان البعث والنشور حقًا ممكنًا معقولًا كما تقولون، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الذين ماتوا، وذهبوا ولم يرجعوا، إن كنتم صادقين فيما تدعون من البعث، قيل: وكانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله تعالى، فينشر لهم قصي بن كلاب ليشاوروه، ويسألوا منه عن أحوال الموت، وكان كبيرهم ومفزعهم في المهمات والملمات. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[37]

37 - وهذه حجة داحضة، فإن المعاد يوم القيامة، بعد إنقضاء دار الدنيا، حين يعيد الله تعالى العالمين خلقًا جديدًا، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لرد ما قالوا، بل قال لهم متوعدًا منذرًا بأسه الذي لا يرد {أَهُمْ}؛ أي: أكفار قريش {خَيْر} في القوة، والشوكة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك، لا في الدين حتى يردانه {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها وقهرهم خير، لا خيرية في واحد من الفريقين، وفيه وعيد شديد والمراد بتبع هنا: واحد من ملوك اليمن، معروف عند قريش، وخصه بالذكر لقرب الدار، وسيأتي بقية الكلام فيه، وقيل: المراد بتبع: جميع ملوكه لا واحد بعينه، وقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل قوم تبع، معطوف على {قَوْمُ تُبَّعٍ}، والمراد بهم: عاد، وثمود، وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأس شديد. والاستفهام (¬1) لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء المشركين، ومع ذلك {أَهْلَكْنَاهُمْ} لما كذبوا رسلنا، وهذا كلام مستأنف لبيان عاقبة أمرهم؛ أي: أهلكنا قوم تبع والذين من قبلهم، وجملة قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}؛ أي: إن قوم تبع ومن قبلهم كانوا كاملين في الإجرام والآثام، مستحقين للهلاك، تعليل لإهلاكهم، ليعلم أن أولئك، حيث أهلكوا بسبب إجرامهم، مع ما كانوا في غاية القوة والشدة، فلأن يهلك هؤلاء، وهم شركاء لهم في الإجرام، وأضعف منهم في الشدة والقوة أولى. ومعنى الآية (¬2): أي إن نظراءهم المشركين، المنكرين للبعث، كقوم تبع، أهلكهم الله تعالى، وخرب ديارهم، وشردهم في البلاد شذر مذر، وقد كانوا أقوى منهم جندًا، وأكثر عددًا، وكانت لهم دولة وصولة، وهؤلاء ليسوا في شيء من ذلك، وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد، وثمود، إذ كانوا في خسران مبين بكفرهم، وإنكارهم للبعث والنشور، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وقولنا: تبع الحميري منسوب إلى حمير، وهم أهل اليمن، وقد كانت حمير وهم أولاد سبأ، كلما ملك فيهم رجل سموه تبعًا، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرًا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من الألقاب السلطانية، وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تسبوا تبعًا، فإنه قد أسلم، وكان يكتب إذا كتب بسم الله الذي ملك برًا وبحرًا، والمراد به هنا: تبع الأكبر، اسمه أسعد بن ملكيكون، وقيل: ابن حسان (¬1) الحميري، وكنيته أبو كرب الذي كسا البيت بعدما أراد غزوه، وبعدما غزا المدينة، وأراد خرابها ثم انصرف عنها، لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد، وقال شعرًا أودعه عند أهلها، وكانوا يتوارثونه كابرًا عن كابر، إلى أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفعوه إليه، ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وفيه: شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدٍ أَنَّهُ ... رَسُوْلٌ مِنَ اللَّهِ بَارِيْ النَّسَمْ فَلَوْ مُدَّ عُمْرِيْ إِلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْتُ وَزِيْرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ وروى ابن إسحاق وغيره: أنه كان في الكتاب الذي كتبه، أما بعد: فإني آمنت بك وبكتابك الذي ينزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإِسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب على عنوانه، إلى محمد بن عبد الله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم، من تبع الأول، وكان من اليوم الذي مات فيه تبع، إلى اليوم الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألف سنة، لا يزيد ولا ينقص. وفي "أوائل السيوطي": أول من كسا الكعبة أسعد الحميري، وهو تبع ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[38]

الأكبر، وذلك قبل الإسلام بتسع مئة سنة، كساها الثياب الحبرة، وهي بوزن عنبة ضرب من برود اليمن، وفي رواية: وكسا بها الوصائل، وهي برود حمر، فيها خطوط خضر تعمل باليمن، وعن بعضم: أول من كسا الكعبة كسوةً كاملة، تبع كساها العصب وهي ضرب من البرود، وجعل لها بابًا يغلق، وقال في ذلك: وَكَسَوْنَا الْبَيْتَ الَّذِىْ حَرَّمَ اللَّـ ... ـهُ مَلاَءً مُعَصَّبًا وَبُرُوْدَا وَأقَمْنَا بِهِ مِنَ الشَّهْرِ عَشْرًا ... وَجَعَلْنَا لِبَابِهِ إِقْلِيْدَا وَخرَجْنَا مِنْهُ نَؤُمُّ سُهَيْلًا ... قَدْ رَفَعْنَا لِوَائَنَا مَعْقُوْدَا وكان تبع هذا مؤمنا بالاتفاق، وقومه كانوا كافرين، ولذلك ذمهم الله تعالى دونه، واختلف هل كان نبيًا أو ملكًا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيًا وقال كعب: كان تبع ملكًا من الملوك، وكان قومه كهانًا، وأهل كتاب فأمر الفريقين أن يقرب كل منهما قربانًا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب، فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنهما: لا تسبوا تبعًا فإنه كان رجلًا صالحًا، والله أعلم. وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان حقهم أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى؟. قلت: لما قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة، لذلك قالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى؛ أي: ما الموتة التي من شأنها أن يعقبها الحياة إلا الموتة الأولى. 38 - ثم أقام تعالى على قدرته القاهرة دليلًا، ليستدل بذلك على إمكان البعث، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ أي: وما بين جنس السماء والأرض من المخلوقات، قرأ الجمهور: {وَمَا بَيْنَهُمَا} نظرًا إلى الجنس، وقرأ عمرو بن عبيد {وما بينهن} نظرًا إلى مجموع السموات والأرض حالة كوننا {لَاعِبِينَ}؛ أي: عابثين من غير أن يكون لخلقهما غرض صحيح، وغاية حميدة، يقال: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا. وفي "التعريفات": اللعب فعل الصبيان، يعقبه التعب من غير فائدة، وفي "فتح الرحمن": قاله هنا

[39]

بالجمع، موافقة لقوله أول السورة: {رَبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. 39 - {مَا خَلَقْنَاهُمَا} وما بينهما في حال من الأحوال {إِلَّا} حالة كوننا متلبسين {بِالْحَقِّ}؛ أي (¬1): محقين، لنا فيه حكمة، وذلك ليستدل به على قدرتنا ووحدانيتنا، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء، فهو استثناء من أهم الأسباب، وقال الكلبي: إلا للحق، وكذا قال الحسن، وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ}؛ أي: أكثر الناس، وهم كفار مكة، وسائر الكفرة بسبب الغفلة، وعدم الفكرة {لَا يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك فينكرون البعث، والجزاء. والآية دليل على ثبوت الحشر ووقوعه، ووجه الدلالة أنه لو لم يحصل البعث والجزاء، لكان هذا الخلق عبثًا؛ لأنه تعالى خلق نوع الإنسان، وما ينتظم به أسباب معايشهم من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما فيهما وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع الأحوال، ثم كلفهم بالإيمان والطاعة ليتميز المطيع من العاصي، بأن يكون المطيع متعلقَ فضله وإحسانه، والعاصي متعلقَ عدله وعقابه، وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها، وعدم الاعتداد بمنافعها، لكونها مشوبة بأنواع المضار والمحن، فلا بد من البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت، فالجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم في رأسها، إذ لو لم يكن الجزاء كما يقول الكافرون، لاستوت عند الله تعالى أحوال المؤمن والكافر، وهو محال. ومعنى الآية (¬2): أي وما خلقنا الخلق عبثًا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا، واتباع أمرنا ونهينا، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته، والعاصي على معصيته، بل خلقناهم لنبتلي من أردنا امتحانه منهم بما شئنا، ولنجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ولنجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وقد سبق نحو هذا في سورة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[40]

يونس، وسورة المؤمنين حيث قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، وفي سورة ص، إذ قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}، ما خلقناهما إلا خلقًا متلبسًا بالحق، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما، ووجوب طاعته والإنابة إليه لعظمته وجبروته، كما جاء في الحديث القدسي: "كنت كنزًا مخفيًا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني" ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون ذلك، فهم لا يخافون من سخطه، عقوبةً لهم على ما اجترحوا من السيئات، ولا يرجون ثوابًا على خير فعلوه، لتكذيبهم بالميعاد، والعودة إلى دار أخرى، بعد هذه الدار. وخلاصة ما تقدم (¬1): أن هؤلاء لقلة تدبرهم، لا يعتقدون أن الأمر كذلك، وهم واهمون فيما يظنون، إذ لو لم توجد دار للجزاء، لما امتاز مطيع من عاص، ولا محسن من مسيء، والعقل قاض بغير هذا. 40 - ثم أكد ما سلف بقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ}؛ أي: إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق من الباطل، ويميز المحق من المبطل، ويقضى بين الخلائق، بين الأب والابن، والزوج والزوجة، ونحو ذلك {مِيقَاتُهُمْ}؛ أي: وقت موعد الخلائق {أَجْمَعِينَ} من الأولين والآخرين؛ أي: الوقت المجعول لتمييز المحسن منهم من المسيء، والمحق من المبطل، لا يتخلف عنه أحد منهم أجمعين، وقال بعضهم: يوم الفصل يوم يفصل فيه بين كل عامل وعمله، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحته، فمن صح له مقامه وأعماله، قبل منه وجزي عليه، ومن لم تصح له أعماله، كانت أعماله عليه حسرةً وندامةً. وقد اتفق (¬2) القراء على رفع {مِيقَاتُهُمْ} على أنه خبر {إِنَّ}، واسمها {يَوْمَ الْفَصْلِ}، و {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير المجرور في {مِيقَاتُهُمْ}، وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها، و {يَوْمَ الْفَصْلِ} خبرها. وقرىء {ميقاتهم} بالنصب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[41]

على أنه اسم {إِنَّ} والخبر {يَوْمَ الْفَصْلِ} ذكره في "البحر". والميقات اسم للوقت المضروب للفصل، فيوم القيامة وقت لما وعدوا به، من الاجتماع للحساب والجزاء. 41 - وقوله: {لَا يُغْنِي} بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ}، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل؛ أي: يفصل بينهم يوم لا يغني، ولا يجزي {مَوْلًى}؛ أي: ولي، وناصر من قرابة، أو عتاق، أو صداقة {عَنْ مَوْلًى} له؛ أي: عن قريب له أيّا كان {شَيْئًا} من الإغناء، والإجزاء على أن شيئًا واقع موقع المصدر، وتنكيره للتقليل، ويجوز أن يكون منصوبًا على المفعول به على أن يكون {لَا يُغْنِي}: بمعنى لا يدفع بعضهم عن بعض شيئًا من عذاب الله، ولا يبعده، فإن الإغناء يأتي بمعنى الدفع، وإبعاد المكروه. وتنكير (¬1) {مَوْلًى} في الموضعين للإبهام، فان المولى مشترك بين معان كثيرة يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب كابن العم ونحوه، والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك، وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر، كما في "القاموس" وكل من ولي أمر واحد، فهو وليه ومولاه، فواحد من هؤلاء أي واحد كان، لا يغني عن مولاه أيَّ مولى كان شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناءً قليلًا، وإذا لم ينفع بعض الموالي بعضًا ولم يغن عنه شيئًا من العذاب بشفاعته، كان عدم حصول ذلك ممن سواهم أولى، وهذا في حق الكفار، يقال: أغنى عنه كذا إذا كفاه. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}؛ أي: لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب، ولا يملكون أن يشفع لهم غيرهم، فالضمير لمولى الثاني باعتبار المعنى؛ لأنه عام لوقوعه نكرةً في سياق النفي، فكأنه جمع، والمراد بالضمير: المولى الثاني؛ لأن المراد به (¬2) الكافر، وأما الأول فالمراد به: المؤمن. والمعنى: يوم لا يغني مولى مؤمن عن مولى كافر شيئًا من عذاب الله، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[42]

وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} توكيد لقوله: {لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا}، فالمعنى: لا ينصر المؤمن الكافر، ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة، أو صداقة، أو غيرهما كما أشار إليه القرطبي. 42 - {إِلَّا مَنْ رَحِمَـ} ـه {اللَّهُ} سبحانه وتعالى بالعفو عنه، وقبول الشفاعة في حقه، وهم المؤمنون، ومحله الرفع على البدل من {الواو} في {يُنْصَرُونَ}، كما في "المختار"، أو النصب على الاستثناء {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا ينصر من أراد تعذيبه كالكفار {الرَّحِيمُ} لمن أراد أن يرحمه كالمؤمنين. والمعنى: أي إن هذا اليوم الذي يفصل الله فيه بين خلقه، فيحق الحق ويبطل الباطل لآت لا محالة، وهو وقت حسابهم وجزائم على ما كسبت أيديهم من خير، أو شر، ونحو الآية قوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}، وقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}، ثم وصف أهوال هذا اليوم، فقال: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى} إلخ؛ أي: إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم، فلا تنفع الناس إلا أعمالهم، فمن أصاب خيرًا في دنياه سعد به، ومن أصاب شرًا شقي به، ولا يغني القريب عن القريب، ولا يدفع عنه شيئًا من عذاب الله، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب. وقصارى ذلك: لا يفيد المؤمن الكافر، ولا ينصره ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما، ونحو الآية قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}، وقوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ}؛ أي: لكن من رحمه الله تعالى، فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه، ولا إلى ناصر ينصره، قاله الكسائي على أن الاستثناء منقطع، وقيل: متصل، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون، إنه سبحانه هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته. 43 - ثم لما وصف يوم الفصل، ذكر بعده وعيد الكفار، فقال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)} وقرىء بكسر الشين، هي على صورة شجرة الدنيا، لكنها في النار،

[44]

والزقوم ثمرها، وهو في الأصل كل طعام ثقيل، وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجؤوا إليها، فأكلوا منها قال في "القاموس": هي شجرة بجهنم، وطعامُ أهل النار. وفي "عين المعاني": شجرة في أسفل النار مرتفعة إلى أعلاها، وما من دركة إلا وفيها غصن منها انتهى. فتكون هي في الأصل نظير طوبى في الأعلى. وفي "كشف الأسرار": شجرة الزقوم على صورة شجرة الدنيا لكنها من النار، والزقوم ثمرها، وهو ما أكل بكره شديد، وقيل: كل طعام ثقيل فهو زقوم كما مر. وفي "إنسان العيون": لا تسلط لجهنم على شجرة الزقوم، فإن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها كالسمندل، فهو أقدر على خلق الشجر في النار، وحفظه من الإحراق بها. وقد قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إنها تحيا باللهب كما تحيا شجرة الدنيا بالمطر، وثمر تلك الشجرة مر له زفرة، انتهى و {شَجَرَتَ} ترسم بالتاء المجرورة، ووقف عليها أبو عمرو بالهاء، وكذا ابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم 44 - {طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} خبر {إنّ}؛ أي: غذاء الأثيم؛ أي: الكثير الإثم والمراد به (¬1): الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه، يعني: أنهم أجمعوا على أن المراد بقوله: {لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} هم الكفار، وبقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} المؤمنون، وكذا دل عليه قوله فيما سيأتي {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} 45 - {كَالْمُهْلِ} خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو كالمهل. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير المهل: كعكر الزيت، وهو درديه فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه، أخرجه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد، وقد تكلم فيه من غير حفظه، وشبه بالمهل في كونه غليظًا أسود وقال بعضهم: المهل ما يمهل في النار حتى يذوب، كالحديد، والرصاص والصفر ونحوها. وشبه الطعام بالنحاس، أو الصفر المذاب في الذوب ونهاية الحرارة، لا في الغليان، وإنما يغلي ماشبه به، وجملة قوله: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} حال من الطعام، 46 - وقوله: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} صفة مصدر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[47]

محذوف؛ أي: حال كون ذلك الطعام يغلي، ويفور في بطون الكفار غليانًا كغليان الماء الحار، الذي انتهى حره وغليانه لشدة حرارته وكراهية المعدة إياه، والغلي والغليان: التحرك والارتفاع. وفي الحديث: أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرةً من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم، فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره". أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وقال حديث حسن صحيح. وقال الحسن (¬1): {كالمهل} بفتح الميم لغة فيه، وقرأ الجمهور وعمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وطلحة: {تغلي} بالتاء الفوقية، على أن الفاعل ضمير يعود على الشجرة، والجملة خبر ثان، أو حال، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي تغلي غليًا مثل غلي الحميم، وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه، وقرأ مجاهد وقتادة والحسن وابن كثير وابن عامر وحفص وابن محيصن وورث عن يعقوب: {يَغْلِي} بالياء التحتانية، على أن الفاعل ضمير يعود على الطعام، ولا يصح أن يكون الضمير عائدًا إلى المهل؛ لأنه مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل. والمعنى (¬2): أن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي في الجحيم طعام للكافر، الكثير الذنوب والآثام، يشبه المهل؛ أي: دردي الزيت الأسود، يغلي في بطون الكفار كغلي الماء المسخن، البالغ نهاية الحرارة، 47 - وقوله: {خُذُوُه} على تقدير القول، والخطاب للزبانية؛ أي: يقال للزبانية يوم القيامة: خذوا الأثيم، فلا يأخذونه إلا بالنواصي والأقدام {فَاعْتِلُوهُ}؛ أي: جروه بالعنف والقهر، فإن العتل الأخذ بمجامع الثوب ونحوه، وجره بقهر وعنف {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}؛ أي: إلى وسطها قاله ابن عباس، أو إلى معظمها الذي تستوي المسافة إليه من جميع جوانبه، قاله الحسن. وقرأ الجمهور (¬3): {فَاعْتِلُوهُ} بكسر التاء، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[48]

وقرأ زيد بن علي وابن كثير وابن عامر: بضم التاء وهما لغتان، والخلاف عن الحسن وقتادة والأعرج وأبي عمرو 48 - {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)} (¬1) وصب الماء إراقته من أعلى، والعذاب ليس بمصبوب؛ لأنه ليس من الأجسام المائعة، فكان الأصل يصب من فوق رؤوسهم الحميم، كما هو القراءة في سورة الحج، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم، فتارة اعتبرت الحقيقة كما في سورة الحج، وتارةً اعتبرت الاستعارة كما هنا، فقيل: يصب من فوق رؤوسهم العذاب، وهو الحميم؛ لأنه أذم، وأهيب من الحميم، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب، فعبر بالمسبب عن السبب؛ لأن العذاب هو المسبب عن الحميم، ولفظة العذاب أهول وأهيب، وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان؛ أي: إلى عذاب هو الحميم. ويروى: أن الكافر إذا دخل النار يطعم الزقوم، ثم إن خازن النار يضربه على رأسه بمقمعة، يسيل منها دماغه على جسده، ثم يصب الحميم فوق رأسه، فينفذ إلى جوفه فيقطع الأمعاء والأحشاء ويمرق من قدميه. 49 - وقولوا له على سبيل الاستهزاء والتهكم والتقريع: {ذُقّ} أيها الأثيم هذا العذاب المذل المهين {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في نظرك {الْكَرِيمُ} عند قومك؛ أي: وقولوا له ذلك استهزاءً به، وتقريعًا له على ما كان يزعمه، من أنه عزيز كريم، فمعناه: أنت الذليل المهان. وقيل: إن أبا جهل قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بين جبلي مكة أعز وأكرم منى، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك، أن تفعل بي شيئًا، فوردت الآية وعيدًا له ولأمثاله، عجبًا كيف أقسم بالله تعظيمًا له، ثم نفى الاستطاعة عنه، مع أن الرسول عليه السلام كان لا يدعو ربا سواه، فالكلام المذكور من حيرة الكفر وحكم الجهل وتعصب النفس، كما قالوا: أمطر علينا حجارة من السماء، وفي لفظ الذوق إشارة إلى أنه كان معذبًا في الدنيا، ولكن لما كان في نوم الغفلة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

وكثافة الحجاب، لم يكن ليذوق ألم العذاب، فلما مات انتبه، وذاق ألم ما ظلم به نفسه، وقرأ الجمهور: {إِنَّكَ} بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر، والكسائي بفتحها؛ أي: لأنك. قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا اهـ. والمعنى: أي ذق هذا الذل والهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وها هو ذا، قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين، فأين ما كنت تقول وتدعي من العز والكرامة، فهلا تمتنع من العذاب بعزتك 50 - {إِنَّ هَذَا} العذاب الذي تعذبون به {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}؛ أي: تشكون في الدنيا، أو تمارون فيه؛ أي: تجادلون بالباطل؛ أي: العذاب الذي كنتم تشكون فيه في الدنيا فتختصمون فيه ولا توقنون به، فقد لقيتموه فذوقوه، ونحو الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} والجمع باعتبار المعنى؛ لأن المراد: جنس الأثيم. 51 - ولما ذكر حال الكفار .. أعقبه بحال المؤمنين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}؛ أي: عن الكفر والمعاصي وهم المؤمنون المطيعون {فِي مَقَامٍ}؛ أي: في موضع قيام. والمراد (¬1): المكان على الإطلاق، فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم، يعني أنه عام، ومستعمل في جميع الأمكنة حتى قيل لموضع القعود. مقام وإن لم يقم فيه أصلًا؛ أي: في مكان {أَمِينٍ} يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه، على أن وصف المقام بالأمن من المجاز في الإسناد، كما في قولهم: جرى النهر، فالأمن ضد الخوف، والأمين بمعنى ذي الأمن. وأشار الزمخشري إلى وجه اخر، وهو أن الأمين من الأمانة التي هي ضد الخيانة، وهي في الحقيقة صفة صاحب المكان، لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التخييلية، كان المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله، بما يلقى فيه من المكاره، أو كناية؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل، فقد أثبت له، لقولهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، كما في "بحر العلوم". قال أهل السنة: كل من اتقى الشرك، صدق عليه أنه متق، فيدخل الفساق في الوعد، يقول الفقير: الظاهر أن المطلق مصروف على الكامل بقرينة أن المقام مقام الامتنان، والكامل والمؤمن المطيع كما أشرنا إليه في عنوان الآية، نعم يدخل العصاة فيه انتهاءً وتبعيةً لا ابتداءً وأصالة. كما يدل عليه الوعيد الوارد في حقهم، وإلا لاستوى المطيع والعاصي، وقد قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} عفا الله عنا وعنكم أجمعين. وقرأ عبد الله بن عمر وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر (¬1): {في مقام} بضم الميم، وقرأ أبو رجاء وعيسى ويحيى والأعمش وباقي السبعة: بفتحها، وعلى القراءة الأولى هو موضع الإقامة، وعلى القراءة الثانية هو موضع القيام، قاله الكسائي وغيره، وقال الجوهري: قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام. 52 - وقوله: {فِي جَنَّاتٍ} وبساتين {وَعُيُونٍ} وأنهار، بدل من {مَقَامٍ}، أو بيان له، أو خبر ثان جيء به دلالةً على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، والمراد (¬2) بالعيون: الأنهار الجارية، والتنكير فيهما للتعظيم، 53 - وقوله: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} خبر ثان أو ثالث، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، والسندس ما رقَّ من الحرير، يجري مجرى الشعار لهم، وهو اللين من الدثار في المعتاد، والإستبرق ما غلظ منه وصفق نسجه، يجري مجرى الدثار، وهو أرفع نوع من أنواع الحرير، والحرير نوعان: نوع كلما كان أرق كان أنفس، ونوع: كلما كان أرزق بكثرة الإبريسم كان أنفس، يقول الفقير: يحتمل عندي أن يكون السندس لباس المقربين، والإستبرق لباس الأبرار يدل عليه أن شراب المقربين هو التسنيم الخالص، وشراب الأبرار هو الرحيق الممزوج به. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[54]

وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف وعد الله تعالى أهل الجنة بلبس الإستبرق، وهو غليظ الديباج، مع أن غليظه عند السعداء، من أهل الدنيا عيب ونقص؟ قلت: غليظ ديباج الجنة لا يشابه غليظ ديباج الدنيا حتى يعاب، كما أن سندس الجنة وهو رقيق الديباج، لا يشابه سندس الدنيا. وقيل: إن السندس لباس سادة أهل الجنة، والإستبرق لباس خدمهم إظهارًا لتفاوت الرتب انتهى. وقرأ ابن محيصن (¬1): {واستبرق} جعله فعلًا ماضيًا. وقوله: {مُتَقَابِلِينَ} حال من فاعل {يَلْبَسُونَ}؛ أي: حال كونهم متقابلين في المجالس. ليستأنس بعضهم ببعض. ومعنى متقابلين: متواجهين لا ينظر (¬2) بعضهم إلى قفا بعض، لدوران الأسرة بهم، فهو أتم للأنس. وقال بعضهم: معناه: متقابلين بالمحبة، غير متدابرين بالبغض والحسد؛ لأن الله ينزع من صدورهم الغل وقت دخولهم الجنة، فإن قلت: المقصود من جلوسهم متقابلين: استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصفة موحش؛ لأنه يكون كل واحد منهم مطلعًا على ما فيه الاخر، فقليل الثواب إذا اطلع على حال كثيره .. تنغص. والجواب: أن أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا، اهـ "كرخي". 54 - والكاف، في قوله: {كَذَلِكَ} إما صفة لمصدر محذوف مع فعله؛ أي: أثبناهم إثابةً مثل المذكور، أو نفعل بالمتقين فعلًا مثل ذلك المذكور، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، والأول أولى ليعطف عليه، قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}؛ أي: قرناهم بهن، فيتمتعون تارةً بمؤانسة الإخوان ومقابلتهم، وتارةً بملاعبة النسوان من الحور العين، ومزاوجتهن، فليس المعنى: حصول عقد النكاح بينهم وبين الحور، فإن التزويج بمعنى العقد لا يتعدى بالباء، كما جاء في التنزيل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وإذا لم يكن عقد التزويج يقال: زوجناك بها، بمعنى كنت فردًا فقرناك بها؛ أي: جعلناك شفعًا بها، والله سبحانه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وتعالى جعلهم اثنين ذكرًا وأنثى، وقال في "المفردات": لم يجىء في القرآن زوجناهم حورًا، كما يقال: زوجته امرأةً تنبيهًا على أن ذلك لم يكن على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكح انتهى. ثم الحور جمع الحوراء، وهي البيضاء، والعين جمع العيناء، وهي العظيمة العينين، فالحور هي النساء النقيات البياض، يحار فيهن الطرف لبياضهن وصفاء لونهن، واسعات الأعين حسانها، أو الشديدات بياض الأعين الشديدات سوادها. وحاصل معنى الآيات: أن (¬1) المتقين لله في الدنيا الخائفين عقابه، المنتظرين فضله وثوابه، يكونون في الآخرة في مجالس يأمنون فيها من الموت، ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام. وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان: 1 - مساكنهم، كما قال: {مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)} والمسكن يطيب بأمرين: الأول: أن يكون من فيه آمنًا من جميع ما يخافه ويحذر منه، وهو المقام الأمين. الثاني: أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون. وذلك قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)}. 2 - ملابسهم، وهي التي عناها سبحانه بقوله: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}. 3 - استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل، وهو ما أشار إليه بقوله: {مُتَقَابِلِينَ}. 4 - الأزواج كما قال: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[55]

5 - 55 المآكل، كما قال: {يَدْعُونَ}؛ أي: يطلبون {فِيهَا}؛ أي: في الجنات {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ}؛ أي: يأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان، وذلك لا يجتمع في الدنيا، يعني: أن فواكه الدنيا لا توجد في كل مكان، ولها أزمنة مخصوصة، لا تستقدمها ولا تستأخرها، وقوله: {آمِنِينَ} حال من فاعل {يَدْعُونَ}؛ أي: حال كونهم آمنين من كل ما يسوءهم أيا كان، خصوصًا الزوال والانقطاع، وتولد الضرر من الإكثار، وحجاب القلب، كما يكون في الدنيا فيكونون في الصورة مشغولين بالحور العين، وبما يشتهون من النعيم، وبالقلوب متوجهين إلى الذات العلية، مشاهدين لها. والمعنى (¬1): يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها، ومن غائلة أذاها ومكروهها، فهي ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها، ونخاف مكروه عاقبتها، أو نخاف نفادها في بعض الأحايين. 56 - وبعد أن وصف ما هم فيه من نعميم مقيم، بين أن حياتهم في هذا النعيم دائمة، لا يلحقها موت ولا فناء، فقال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا}؛ أي: في الجنات {الْمَوْتَ} أبدًا {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} التي ذاقوها في الدنيا، وقرأ (¬2) عبيد بن عمير {لا يذاقون} مبنيًا للمفعول، والموت والموتة: مصدران من فعل واحد، كالنفخ والنفخة، إلا أن الموتة أخص من الموت؛ لأن الموتة للوحدة والموت للجنس، فيكون بعضًا من جنس الموت، وهو فرد واحد، ونفي الواحدة أبلغ من نفي الجنس، فكانت أقوى وأنفى في نفي الموت عن أنفسهم، كأنه قال: لا يذوقون فيها شيئًا من الموت يعني: أقل ما ينطلق عليه اسم الموت، كما في "بحر العلوم"، والاستثناء (¬3) منقطع؛ أي: لا يذوقون الموت في الجنة لكن الموتة الأولى قد ذاقوها قبل دخول الجنة، فعيشتهم المرضية مقارنة للحياة الأبدية، بخلاف أهل النار، فإنه لا عيشة لهم، وكذا لا يموتون فيها، ولا يحيون، ويقال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

ليس في الجنة عشرة أشياء: ليس فيها هرم ولا نوم ولا موت ولا خوف ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا حر ولا برد ولا خروج، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا، على أن المراد: بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق، كأنه قيل: لا يذوقون فيها الموتة إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل، وذوق الماضي غير ممكن في المستقبل، لا سيما في الجنة التي هي دار الحياة فهذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. والمقصود: أنهم لا يذوقون فيها الموت البتة، وكذا لا ينكحون منكوحات آبائهم قطعًا، وقيل: إلا بمعنى بعد كما اختاره ابن جرير، أو بمعنى سوى، واختاره ابن عطية، فإن قلت: هذا دليل على نفي الحياة والموت في القبر. قلت: أراد به: جنس الموت، المتعارف المعهود فيما بين الخلق، فإن الموت المعهود لا يعرى عن الغصص، والموت بعد الإحياء في القبر يكون أخف من الموت المعهود، كما في "الأسئلة المقحمة". والمعنى (¬1): أي لا يخشون في الجنة موتًا ولا فناء أبدًا، وقد ثبت في "الصحيحين": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". وروى أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تهرموا أبدًا"، رواه مسلم. وخلاصة ذلك: لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، كذا قال الزجاج والفراء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

{وَوَقَاهُمْ}؛ أي: حفظهم الله سبحانه وتعالى {عَذَابَ الْجَحِيمِ} وصرفه عنهم، وقرأ (¬1) الجمهور: {وقاهم} بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة مشددًا بالقاف، 57 - وقوله: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} منصوب على المصدرية بفعل مقدر، أو على الحالية؛ أي (¬2): أعطي المتقون ما ذكر من نعيم الجنة، والنجاة من عذاب النار عطاءً وتفضلًا منه تعالى، لا جزاءً للأعمال المعلولة، وقرىء بالرفع؛ أي: ذلك فضل من ربك، كما في "البيضاوي". واحتج أهل السنة بهذه الآية: على أن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار، والفوز بالجنة ونعيمها، فإنما يحصل بفضل الله وإحسانه، وأنه لا يجب عليه شيء من ذلك، ففي إثبات الفضل نفي الاستحقاق، فجميع الكرامات فضل منه على المتقين، حيث اختارهم بها في الأزل، وأخرجها من علل الاكتساب، فإن الاكتساب أيضًا فضل إذ لو لم يخلق القدرة على كسب الكمالات، وتحصيل الكرامات لما وجد العبد إليه سبيلًا. وفي الحديث: "لا يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة الله"؛ أي: ولا أنا أدخل الجنة بعمل، إلا برحمة الله، وليس المراد به توهين أمر العمل، بل نفي الاغترار به، وبيان أنه يتم بفضل الله تعالى، وأما قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونظائره فلا ينافي الحديث: لأن الآية تدل على سببية العمل، والمنفي في الحديث عليته وإيجابه، انتهى. وقال الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى في "مواقع النجوم": الدخول بالرحمة، وقسمة الدرجات بالأعمال، والخلود بالنيات فهذه ثلاثة مقامات، وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله، وطبقات عذابها بالأعمال، وخلودهم بالنيات، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد، المخالف، كما كانت في السعادة الموافقة، وكذلك من دخل النار من العاصين، لولا المخالفة لما عذبهم الله شرعًا، نسأل الله سبحانه لنا وللمسلمين، أن يستعملنا بصالح الأعمال، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[58]

ويرزقنا الحياء منه تعالى. {ذَلِكَ} الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة {هُوَ الْفَوْزُ} والظفر بما كانوا يطلبون إدراكه في الدنيا بأعمالهم، وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه فيما أمتحنهم به من الطاعات، واجتنابهم للمحرمات؛ أي: ذلك هو الفوز {الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه، إذ هو خالص من جميع المكاره، وجامع لكل المطالب. يقول الفقير: لما كان الموت وسيلةً لهذا الفوز، وبابًا له .. ورد الموت تحفة المؤمن، والموت وإن كان من وجه هلكًا فمن وجه فوز، ولذلك قيل: ما أحد إلا والموت خير له، أما المؤمن فإنما كان الموت خيرًا له؛ لأنه يتخلص به من السجن، ويصل إلى النعيم المقيم في روضات الجنات، وأما العاصي فلأن الإمهال في الدنيا سبب لازدياد المعاصي والإثم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وهو سبب لازدياد العذاب. 58 - ولما أتم المقاصد التي أراد ذكرها في هذه السورة، لخصها بقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} فهذه (¬1) الآية فذلكة للسورة الكريمة، ونتيجة لها، واللسان آلة التكلم في الأصل، واستعير هنا لمعنى اللغة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لسان أهل الجنة العربية"؛ أي: إنما يسرنا الكتاب المبين، وسهلنا قراءته عليك، حيث أنزلناه بلسانك ولغة قومك {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}؛ أي: لكي يفهمهه قومك، ويتذكروا به، وبتعظوا بعظاته، ويعملوا بموجبه، ويتفكروا في آياته إذا تلوتها عليهم، فينيبوا إلى ربهم، ويذعنوا للحق الذي تبينوه، وإذا لم يعملوا بذلك {فَارْتَقِبْ}؛ أي: فانتظر {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}؛ أي: منتظرون، وفي "عين المعاني": أو فارتقب الثواب فإنهم كالمرتقبين العقاب؛ لأن المسيء ينتظر عاقبةً الإساءة، وعلى كلا التقديرين فمفعول الارتقاب محذوف في الموضعين؛ أي: ولما كان القرآن الكريم مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس، وعاند 59 - قال تعالى، مسليًا رسوله، وواعدًا له بالنصر، ومتوعدًا من كذبه بالهلاك: {فَارْتَقِبْ}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

أي: فانتظر يا محمد لما يحل لهم من المقادير، فإن في رؤيتا عبرة للعارفين، وموعظة للمتقين {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}؛ أي: منتظرون لما سيحل بك من الدوائر، ولم يضرك ذلك فعن قريب يتحقق أملك، وتخيب آمالهم، وسيعلمون لمن تكون له النصرة والغلبة والظفر، وعلو الكلمة في الدنيا والاخرة، ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}. وفي الآية فوائد (¬1): منها: أنه تعالى بين تيسير القرآن، والتيسير ضد التعسير، وقد قال في آية أخرى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} فبينهما تعارض في الظاهر، والجواب: أنه ميسر باللسان، وثقيل من حيث اشتماله على التكاليف الشاقة على المكلفين، ولا شك أن التلاوة باللسان، أخف من العمل بما فيه. ومنها: أنه تعالى قال: {بِلِسَانِكَ}، فأشار إلى أنه لو أسمعهم كلامه بغير الواسطة لماتوا جميعًا لعدم تحملهم، قال جعفر الصادق - رحمه الله -: لولا تيسيره، لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القران، وأنى لهم ذلك، وهو كلام من لم يزل، ولا يزال، وقال ابن عطاء: يسر ذكره على لسان من شاء من عباده؛ فلا يفتر عن ذكره بحال، وأغلق باب الذكر على من شاء من عباده، فلا يستطيع بحال أن يذكره. ومنها: أن انتظار الفرج عبادة، على ما جاء في الحديث؛ لأنه من الإيمان. الإعراب {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)}. {إِنَّ هَؤُلَاءِ}: ناصب واسمه. {لَيَقُولُونَ}: اللام: حرف ابتداء، وجملة {يقولون}: في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، مسبوقة للحديث عن قريش، بعد استطراد حديث بني إسرائيل. {إِنّ}: نافية. {هِيَ}: مبتدأ. {إِلَّا}: أداة استثناء. {مَوْتَتُنَا}: خبر هي، {الْأُولَى}: نعت للموتة، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ {يقولون}، {وَمَا}: {الواو} عاطفة {ما}: نافية حجازية، {نَحْنُ}: اصمها. {بِمُنْشَرِينَ}: خبرها والباء زائدة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {فَأْتُوا}: الفاء: واقعة في جواب شرط قدم جوابه عليه، اعتناء بشأن الجواب، تقديره: إن كنتم صادقين، فاتوا بآبائنا. {ائتوا}: فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الطلبية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها. {بِآبَائِنَا} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {ائتوا}، {إِن}: حرف شرط جازم. {كنُتُم}: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها، وتاء المخاطبين اسمها. {صَادِقِينَ}: خبرها، والجملة الشرطية مؤخرة عن جوابها، كما قدرنا أولًا، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول لـ {يقولون}، {أَهُمْ} الهمزة: للاستفهام التعييني. {هم} مبتدأ، {خَيْرٌ}: خبره، {أَمْ}: حرف عطف متصلة. {قَوْمُ تُبَّعٍ}: معطوف على {هم}، {وَالَّذِينَ}: معطوف {قَوْمُ تُبَّعٍ}، {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور صلة الموصول، والجملة الاسمية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {أَهْلَكْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من المعطوف والمعطوف عليه. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {مُجْرِمِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}.

{وَمَا}: {الواو}: استئنافية {ما}: نافية. {خَلَقْنَا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {السَّمَاوَاتِ}: مفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف عليه. {وَمَا}: اسم موصول في محل النصب معطوف على السموات، {بَيْنَهُمَا}: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، وقع صلة لـ {ما} الموصولة، {لَاعِبِينَ} حال من فاعل {خَلَقْنَا}، {مَا}: نافية. {خَلَقْنَاهُمَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مفسرة لما قبلها، محل لها من الإعراب {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {بِالْحَقِّ}: جار ومجرور، حال من فاعل {خَلَقْنَاهُمَا}؛ أي: ما خلقناهما إلا حالة كوننا، متلبسين بالحق والحكمة؛ أي: محقين، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة. {وَلَكِنَّ}: {الواو}: حالية. {لكن أكثرهم}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبره، ومفعول العلم محذوف، تقديره: لا يعلمون كون خلقنا إياهما لحكمة، والجملة الاستدراكية في محل النصب، حال من مفعول {خَلَقْنَا}؛ أي: ما خلقناهما إلا لحكمة، حال كون أكثرهم لا يعلمون ذلك، ولكنها حال سببية. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه، {مِيقَاتُهُمْ} خبره، {أَجْمَعِينَ}: تأكيد للضمير في {مِيقَاتُهُمْ}، والجملة مستأنفة {يَوْمَ}: بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ}، أو ظرف لما دل عليه الفصل؛ أي: يفصل بينهم يوم لا يغني {لَا}: نافية. {يُغْنِي}: فعل مضارع. {مَوْلًى}: فاعل، {عَنْ مَوْلًى}: متعلق بـ {يُغْنِي}، {شَيْئًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق؛ أي: إغناءً شيئًا؛ أي: قليلًا وجملة {لَا يُغْنِي} في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة {لا} نافية، {هُمّ}: مبتدأ، وجملة {يُنْصَرُونَ} خبره، وهو مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والجملة الاسمية في محل الجر، معطوفة على جملة {لَا يُغْنِي}، {إِلَّا}: أداة استثناء، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع،

بدل من {الواو} في {يُنْصَرُونَ}؛ أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله تعالى، ويجوز النصب على الاستثناء، فيكون منقطعًا كما مر، {رَحِمَ اللَّهُ}: فعل وفاعل والجملة صلة لـ {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: إلا من رحمه الله، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه: {هُوَ}: ضمير فصل، {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: خبران، لـ {إنّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)}، ناصب واسمه، ومضاف إليه، {طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، {كَالْمُهْلِ}: خبر ثان لـ {إنَّ}. {يَغْلِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الزَّقُّومِ}، {فِي الْبُطُونِ} متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الزَّقُّومِ}، أو من {طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}، {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}: جار ومجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يغلي غليانًا، مثل غليان الحميم. {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}. {خُذُوهُ}: فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في حل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال للزبانية خذوه، {فَاعْتِلُوهُ}: الفاء: عاطفة، {اعتلوه}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {خُذُوُهُ}، {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {اعتلوه}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {صُبُّوا}: فعل أمر وفاعل، معطوف على {اعتلوه}. {فَوْقَ رَأْسِهِ}، ظرف متعلق بـ {صُبُّوا}، {مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} متعلق بـ {صُبُّوا} أيضًا، فـ {من} تبعيضية، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أو المسبب إلى السبب اهـ شيخنا. {ذُقَّ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {الْأَثِيمِ}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال له: ذق {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {أَنتَ}: ضمير فصل، {الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} خبران لـ {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} مقول للقول المحذوف، على كونها معللة لما قبلها. {إِنَّ هَذَا}: ناصب واسمه {مَا}: اسم موصول في محل

الرفع خبر، {إنّ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بـ {تَمْتَرُونَ} وجملة {تَمْتَرُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد ضمير {بِهِ}، وجملة {إنَّ} في محل النصب، مقول للقول المحذوف. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)}. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}: ناصب واسمه {فِي مَقَامٍ}: خبره. {أَمِينٍ}: صفة لـ {مَقَامٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: بدل من {فِي مَقَامٍ}: بإعادة الجار، {يَلْبَسُونَ}: فعل وفاعل. {مِنْ سُنْدُسٍ}: متعلق به. {وَإِسْتَبْرَقٍ} معطوف على {سُندُسِ}، وجملة {يَلْبَسُونَ} إما خبر ثان لـ {إن}، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، الواقع خبرًا لـ {إن}، {مُتَقَابِلِينَ}: حال من الضمير في {يَلْبَسُونَ}، {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، جيء بها للتقرير، {وَزَوَّجْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَلْبَسُونَ}، أو على محذوف إن قلنا إن الكاف في {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف كما مر. {بِحُورٍ}: متعلق بـ {زوجناهم}، {عِينٍ} صفة لـ {حور}، {يَدْعُونَ}: فعل وفاعل، حال من الهاء في {زوجناهم}، {فِيهَا}: حال من فاعل {يَدْعُونَ}، {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يَدْعُونَ}، {آمِنِينَ}: حال من فاعل {يَدْعُونَ} أيضًا؛ أي: لا يخافون من مغبة أكلها {لَا}: نافية، {يَذُوقُونَ} فعل وفاعل، حال من الضمير المستكن في {آمِنِينَ}، {فِيهَا}: متعلق بـ {يَذُوقُونَ}، {الْمَوْتَ}: مفعول به، {إِلَّا} أداة استثناء منقطع {الْمَوْتَةَ}: منصوب على الاستثناء. {الْأُولَى} صفة لـ {الْمَوْتَةَ}، {وَوَقَاهُمْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به أول معطوف على {لَا يَذُوقُونَ}، {عَذَابَ الْجَحِيمِ} مفعول ثان لـ {وقاهم}.

{فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}. {فَضْلًا}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: تفضلنا بذلك المذكور فضلًا، {مِنْ رَبِّكَ}: صفة لـ {فَضْلًا}، {ذَلِكَ} مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل، {الْفَوْزُ}: خبره. {الْعَظِيمُ} صفة لـ {الْفَوْزُ}، والجملة مستأنفة، {فَإِنَّمَا}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما بيناه لك في هذه السورة، وأردت بيان نتيجته .. فأقول لك: {إنما}: أداة حصر، {يَسَّرْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، {بِلِسَانِكَ} متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {لَعَلَّهُمْ} {لعل} حرف ترج مستعار للتعليل، فتكون بمعنى كي، والهاء اسمها، وجملة {يَتَذَكَّرُونَ}: خبرها، وجملة {لَعَلَّهُمْ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها معللة لما قبلها، {فَارْتَقِبْ} الفاء: فاء الفصيحة أيضًا؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت تيسيره لتذكيرهم، وأبوا من التذكر به، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: ارتقب. {ارتقب}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة. {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}: ناصب واسمه ونجره، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل الأمر بالارتقاب. التصريف ومفردات اللغة {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}؛ أي: بمبعوثين، يقال: نشر الله الموتى وأنشرهم إذا أحياهم. {تُبَّعٍ} بوزن سكر، واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين، وكان منهم سبعون تبعًا، قال النعمان بن بشير الأنصاري: لنَا مِنْ بَنِيْ قَحْطَانَ سَبْعُوْنَ تُبَّعًا ... أَطَاعَتْ لنَا بالْخَرْجِ مِنَّا الأَعَاجِمُ

وَمِنَّا سَرَاةُ النَّاسِ هُوْدٌ وَصَالِحٌ ... وَذُو الْكِفْلِ مِنَّا وَالْمُلُوْكُ الأَعَاظِمُ وهم طبقتان: الطبقة الأولى: ملوك سبأ وريدان، من سنة 115 قبل الميلاد، إلى 275 بعده. والطبقة الثانية: ملوك سبأ وريدان، وحضرموت، والشحر من سنة (275) بعد الميلاد، إلى سنة (525)، وأولهم شمر برعش، وآخرهم ذو نبراس، ثم ذو جدن، ومنهم ذو القرنين، أو إفريقش ويسمى الصعب، وبعده عمرو زوج بلقيس، ثم أبو بكر ابنه، ثم ذو نواس، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة، شمر برعش، وذو القرنين، وأسعد أبو كرب، وتفاصيل أخبارهم مبثوثة في بطون كتب التاريخ المطولة، فليرجع إليها من استهوته قراءة الأساطير الممتعة، وما فيها من قصص عجيبة. والظاهر: أن تبعًا الأول سمي به لكثرة قومه وتبعه، ثم صار لقبًا لمن بعده من الملوك، سواء كانت لهم تلك الكثرة والأتباع، أم لا. {مِيقَاتُهُمْ}؛ أي: ميقات كفار مكة وسائر الناس؛ أي: وقت وعدهم الذي ضرب لهم في الأزل، وأصل الميقات: موقات قلبت الواو ياءً لسكونها إثر كسرة، فصارت حرف مد، قال في "بحر العلوم": ميقاتهم؛ أي: حدهم الذي يوقتون به ولا ينتهون إليه، ومنه مواقيت الإحرام على الحدود، التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا، فإنَّ الميقات ما وقت به الشيء؛ أي: حد. قال ابن الشيخ: الفرق بين الوقت والميقات أن الميقات وقت يقدر؛ لأن يقع فيه عمل من الأعمال، وأن الوقت ما يقع فيه شيء، سواء قدره مقدر لأن يقع فيه شيء، أم لا. {لَا يُغْنِي مَوْلًى} في "المختار": المولى المعتق والمعتَق وابن العم والناصر والجار والحليف، اهـ. وفي "القرطبي"؛ أي: لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه شيئًا اهـ. وأصله مولي بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)} وفي "المفردات": شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار، ومنه استعير زقم فلان وتزقم، إذا

ابتلع شيئًا كريهًا. وفي "المراغي": شجرة الزقوم هي شجرة ذات ثمر مر، تنبت بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت في الجحيم وفي "القاموس": الزقم اللقم، والتزقم التلقم، وأزقمه فازدقمه أبلعه فابتلعه، والزقوم كتنور الزبد بالتمر، وشجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار، وشجرة بأريحاء من الغور، لها ثمر كالتمر حلو عفص، ولنواه دهن عظيم المنافع، عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة، وأمراض البلغم، وأوجاع المفاصل والنقرس، وعرق النسا، والريح اللاحجة في حق الورك، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى والمقعدين، ويقال: أصله الأهليلج، والزقمة الطاعون، انتهى {الْأَثِيمِ} الكثير الآثام والذنوب، وهو الكافر. {كَالْمُهْلِ} المهل بضم الميم، له معان كثير، واللائق منها هنا دردي الزيت وعكر القطران، والصديد والقيح والنحاس المذاب. والمهل بالفتح التؤدة والرفق، ومنه {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}. {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} والغلي والغليان: التحرك والارتفاع. قال في "المفردات". الغلي والغليان، يقال في القدر إذا طفحت؛ أي: امتلأت وارتفعت، ومنه استعير ما في الآية، وبه شبه غليان الغضب والحرب. {فَاعْتِلُوهُ}؛ أي: جروه بالعنف والقهر. وفي "المختار": عتل الرجل جذبه جذبًا عنيفًا، وبابه ضرب ونصر، فقولهم: العتال للذي ينقل الأحمال بالأجرة صحيح لا غبار عليه، والحرفة العتالة، وفي، "القاموس": العتلة محركةً، المدرة الكبير تنقلع من الأرض، وحديدة كأنها رأس فأس، والعصا الضخمة من حديد لها رأس مفلطح، يهدم بها الحائط، اهـ. والعُتُلُّ الجافي الغليظ، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك، وتذهب به إلى حبس أو محنة، وقال ابن السكيت: عتلته إلى السجن، وأعتلته إذا دفعته دفعًا عنيفًا. {سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسطها. {الْحَمِيمِ} الماء الذي تناهي حره {ذُقّ} أمر من ذاق يذوق، وأصل يَذُوق يَذْوُق، بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الذال، فسكنت إثر ضمة فصار يذوق، فلما بني منه الأمر قيل: ذوق فالتقى ساكنان فحذفت الواو، وهكذا شأن

كل ثلاثي أجوف واوي العين، كقل من قال، وكن من كان مثلًا. {تَمْتَرُونَ} أصله: تمتريون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت، حذفت لالتقاء الساكنين، ثم ضمت الراء لمناسبة الواو، فصار تمترون {فِي مَقَامٍ} قرىء مقام بفتح الميم، وأصله: مقوم بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال، وقرىء مقام بضم الميم، اسم مكان من أقام فعل به ما فعل بالأول {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}؛ أي: في مجلس أمنوا منه من كل هم وحزن، وأصل الأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويستعمل الأمان تارةً اسمًا للحالة التي عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسمًا لما يؤتمن عليه الإنسان، كقوله تعالى: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}؛ أي: ما ائتمنتم عليه. {مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} السندس هو مارقَّ من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه. وفي "المصباح": والديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال: هو معرب، انتهى. ثم إن الإستبرق من كلام العجم، عرب بالقاف، قال في "القاموس": الإستبرق الديباج الغليظ. معرب إستروه، وتصغيره أبيرق، وستبر بالتاء والطاء، بمعنى: الغليظ بالفارسية، قال الجواليقي في "المعربات": نقل الإستبرق من العجمية إلى العربية، فلو حقر أو كسر لكان في التحقير أبيرق، وبالتكسير أباريق، بحذف السين والتاء جميعًا، انتهى. والتعريب: جعل العجمي بحيث يوافق اللفظ العربي، بتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب، وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي؛ لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجميًا إذا كان متصرفًا تصرف اللفظ العربي من غير فرق، فمن قال: القرآن أعجمي فقد كفر؛ لأنه عارض قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، وإذا قال: فيه كلمة أعجمية، ففي أمره نظر؛ لأنه إن أراد وقوع الأعجمي فيه بتعريب فصحيح، وإن أراد وقوعه بلا تعريب فغلط. {بِحُورٍ} بوزن فعل بضم العين، جمع حوراء كحمر وحمراء. {عِينِ} جمع عيناء، وقياسه أن يجمع على فعل بضم الفاء، كما جمعت حوراء على حور،

لكن الفاء كسرت لمناسبة الياء. {لَا يَذُوقُونَ} الأصل فيه يذوقون نقلت حركة الواو إلى الذال، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد فوزنه يفعلون. {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} والموت والموتة مصدران من فعل واحد كالنفخ والنفخة، كما مر {وَوَقَاهُمْ} الأصل فيه ووقيهم بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه، ويضره. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإشارة بالقريب إليهم في قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)} للتحقير والازدراء بهم. ومنها: التجهيل لمنكري الحشر في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وتوكيده بحرف الاستدراك؛ لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، اهـ "كرخي"؛ أي: ليس عندهم علم بالكلية. ومنها: أسلوب التعجيز في قوله: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)}. ومنها: الإطناب في قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}. ومنها: الاستفهام الذي يطلب به، وبأَمْ تعيين أحد الأمرين، في قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ...} إلخ، والمراد: التهديد لهم؛ لأنه لا خيرية في الفريقين. ومنها: تنكير مولى في الموضعين في قوله: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} لغرض الإبهام فإن المولى مشترك بين معان كثيرة، يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب، كابن العم ونحوه والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر، كما في "القاموس". وكل من ولي أمر أحد، فهو وليه ومولاه، فواحد من هؤلاء أي واحد كان، لا يغني عن مولاه أي مولىً كان، شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناء قليلًا.

ومنها: تنكير شيئًا في قوله: {عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} لإفادة التقليل. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَالْمُهْلِ} شبه بالمهل في كونه غليظًا أسود. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} فإن الغليان حقيقة في امتلاء القدر، وارتفاع ما فيها. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {خُذُوهُ}؛ أي: يقال للزبانية: خذوه. ومنها: الاستعارة المكنية التخييلية، في قوله: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)} فقد شبه العذاب بالمائع، ثم خيل له بالصب. ومنها: أسلوب التهكم والسخرية في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} فالتهكم عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع النذارة، وبالوعد في مكان الوعيد، تهاونًا من القائل بالمقول له، واستهزاءً به، وقد تقدمت أمثلته في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى في سورة النساء: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} وهو أغيظ للمستهزأ به، وأشد إيلامًا له. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} فإن وصف المقام بالأمن من المجاز العقلي، كما في قولهم: جرى النهر، ففيه إسناد ما للحالّ إلى المحل، وفيه الاستعارة التخييلية، إن قلنا إن الأمين من الأمانة، التي هي ضد الخيانة، كما قاله الزمخشري، كأن المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله، بما يلقى فيه من المكاره، أو الكناية؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل، فقد أثبت له كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه. ومنها: التنكير في قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)} للتعظيم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد 1 - بيان بدء نزول القرآن. 2 - وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم. 3 - عدم إيمانهم مع توالي النكبات بهم. 4 - عظة الكافرين بقصص فرعون، وقومه مع موسى عليه السلام، وقد أنجي الله المؤمنين، وأهلك الكافرين. 5 - إنكار المشركين للبعث، وقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)}. 6 - إقامة الدليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 7 - وصف أهوال يوم القيامة. 8 - وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال. 9 - وصف نعيم المتقين، وحصولهم على كل ما يرغبون. والله أعلم * * *

سورة الجاثية

سورة الجاثية وتسمى سورة الشريعة، هي مكية كلها في قول الحسن، وجابر، وعكرمة. نزلت بعد الدخان، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير: أنها نزلت بمكة، ورُوي عن ابن عباس، وقتادة: أنهما قالا: إلا آية منها، وهي قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى {أَيَّامَ اللَّهِ} فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي، وهي سبع أو ست وثلاثون آية، وأربع مئة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومئة واحد وتسعون حرفًا. التسمية: سميت سورة الجاثية؛ لأنه يدر فيها الأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب، فيجثون من الفزع منها على الركب، وفي "التفسير المنير": سميت سورة الجاثية أخذًا من الآية المذكورة فيها: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: جميع آياتها محكم غير اية واحدة، وهي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الآية (14)، نزلت في عمر بن الخطاب، ثم نسخت بآية السيف. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أن أول هذه السورة مشاكل لآخر سابقتها في الأغراض والمقاصد. وقال (¬1) أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح، والظهور؛ لأنه قال في آخر السابقة: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}، وقال في أول هذه: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}. وفي "التفسير المنير": تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

1 - ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القران من الله تعالى، والذي هو مكمل لما ختمت به السورة المتقدمة. جعل القرآن بلغة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولغة قومه العرب، فهو عربي اللسان نصًا، وفحوى ومعنى وأسلوبًا، وفي ذلك حث على اتباعه، والإيمان به. 2 - تشابه السورتين في الغايات الكبرى، التي يستهدفها القران، وهي إثبات وحدانية الله تعالى، من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية، في خلق السموات والأرض، ومناقشة الكفار في عقائدهم الفاسدة، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة، التي أهلكها الله سبحانه، لتكذيبهم الرسل. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}. المناسبة قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (¬1) ذكر آيات القرآن العظيم .. أشار إلى ما لها من علو المرتبة، ورفيع الدرجة، ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها، وأصروا على كفرهم بها بالويل والثبور، ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

وعظائم الأمور، ثم بين أن عاقبتهم النار، وبئس القرار، ولا تنفعهم أصنامهم شيئًا، ولا تدفع عنهم ما قدر لهم من العذاب. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (¬1) فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته، ووحدانيته .. أردف بذكر آثارها، فمن ذلك تسخير السفن في البحار، حاملة للأقوات والمتاجر، رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم، ومنها تسخيره ما في السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال لتنتفعوا بها في مرافقكم وشؤونكم المعيشية، ثم أمر المؤمنين بأحسن الأخلاق، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين، ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم، فمن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها، ويوم القيامة يعرضون على ربهم، ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (¬2) فيما سلف من آيات ربوبيته، ووحدانيته، تسخير السفن في البحار، حاملةً للأقوات والمتاجر، وتسخير ما في السموات والأرض .. بين هنا، أنه أنعم علي بن ي إسرائيل بنعم كثيرة، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيًا وحسدًا، تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، بل طريقهم طريق من تقدمهم، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق، ولا يكون له غرض سوى إظهاره، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية، تهتدي به القلوب الضالة عن طريق الحق، فتلزم العبادة وتصل إلى طريق النجاة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)}؛ أي: هذه (¬3) السورة مسماة بـ {حم}، فهو خبر لمبتدأ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[2]

محذوف، إن جعلناه اسمًا للسورة، أو مبتدأ خبره ما بعده، وإن جعل حروفًا مسرودة على نمط التعديد، فلا محل له من الإعراب. وفي "التأويلات النجمية": يشير بالحاء إلى حياته، وبالميم إلى مودته، كأنه قال: أقسمت بحياتي ومودتي لأوليائي، 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}؛ أي: تنزيل القرآن المشتمل على السور مطلقًا، خصوصًا هذه السورة الجليلة، وهو مبتدأ، خبره قوله: {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: واقع منه سبحانه وتعالى، والجملة جواب القسم، فدل على أن القرآن حق وصدق {الْعَزِيزِ} فدل على أنه معجز، غالب غير مغلوب {الْحَكِيمِ} فدل على أنه مشتمل على حكم بالغة، وعلى أنه ناسخ غير منسوخ، فليس كما يزعم المبطلون، من أنه شعر أو كهانة، أو تقول من عنده - صلى الله عليه وسلم -، ممكن معارضته، وأنه كأساطير الأولين مثل حديث رستم، وإسفنديار وغيرهما، فيجب أن يعرف قدره، وأن يكون الإنسان مملوءًا به صدره. والمعنى: تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه، الحكيم في أمره وقضائه. 3 - ثم أخبر سبحانه، بما يدل على قدرته الباهرة، فقال: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: إن في خلقهما، وخلق ما فيهما من آثار القدرة كالكواكب، والجبال والبحار، ونحوها {لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: لشواهد الربوبية لأهل التصديق، وأدلة الإلهية لأهل التوفيق، خص المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بتلك الآيات والدلالات، فإنهم يستدلون بالمخلوق على الخالق، وبالمصنوع على الصانع، فيوحدونه، وهو أول الباب، ولذا قدم الإيمان على الإيقان، ولعل (¬1) الوجه في طي ذكر المضاف هنا، وهو الخلق، وإثباته في الآية الآتية أن خلق السموات والأرض ليس بمشهود للخلق، وإن كانتا مخلوقتين، كما قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بخلاف خلق الإنسان، وما يلحق به من خلق سائر الدواب، فإنه كما أنه يستدل بخلقه على خالقه، فكذا يشاهد خلقه وتوالده، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

فتكون المخلوقية فيه أظهر من الأول، هكذا لاح بالبال، والله أعلم بحقيقة الحال. ومعنى الآيتين (¬1): أي إن هذا الكتاب الكريم، أنزله العزيز الغالب، القاهر لكل شيء، الحكيم في تدبيره لكل ما خلق، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية، والروحية، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد في النبات والحيوان والأجسام الإنسانية، ودوران الكواكب وانتظامها في سيرها، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة في صنعها، ومن ثم، أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة، فقال: إن في السموات السبع، اللاتي منهن ينزل الغيث، وفي الأرض التي منها يخرج الخلق، لأدلةً واضحةً للمصدقين بالحجج، إذا تأملوها، وفكروا فيها تفكير من سلك السبيل القويم، فيرتب المقدمات ليصل منها إلى النتائج التي هي لازمة لها، بحكم النظام الفكري، والترتيب العقلي. 4 - وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي في الآفاق، أتبعها بذكر الأدلة التي في الأنفس، فقال: {وَفِي خَلْقِكُمْ} أنفسكم أيها الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة متقلبة في أطوار، مختلفة إلى تمام الخلق {وَ} في خلق {مَا يَبُثُّـ} ـه الله سبحانه وتعالى وينشره، ويفرقه في الأرض، حال كونه {مِنْ دَابَّةٍ} وحيوانات تدب على الأرض، وما الموصولة معطوفة على المضاف إليه، والمعنى: وفي خلق ما ينشره الله تعالى، ويفرقه من دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها، وأشكالها، وكئرة أنواعها، وأضمر ذكر الله هنا، لقرب العهد منه بخلافه في قوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} كما سيأتي. {آيَاتٌ} بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر، خبره الظرف المقدم، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة المصدرة بإنّ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ أي: لقوم من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، واليقين علم فوق المعرفة والدراية، ونحوهما، وبينه وبين الإيمان فروق كثيرة، وحقيقة الإيمان هو اليقين، حين باشر الأسرار بظهور الأنوار، ألا ترى كيف سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا ليس بعده كفر". ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

يقول الفقير: لم يقل: للموقنين كما قال للمؤمنين، إشارةً إلى قلة هذا الفريق بالنسبة إلى الأول. وخص الإيقان بخلق الأنفس؛ لأن ما قبله من الإيمان بالآفاق، وهو ما خرج عنك، وهذا من الإيمان بالأنفس، وهو ما دخل فيك، وهذا أخص درجات الإيمان, فإنه إذا أكمل الإيمان في مرتبة الإيمان بترقي العبد إلى المشاهدة في مرتبة الأنفس، فكمال اليقين إنما هو في هذه المرتبة، لا في تلك المرتبة؛ لأن العلم بما دخل فيك أقوى منه بما خرج عنك، إذ لا يكذبه شيء، ولذا جاء العلم الضروري أشد من العلم الاستدلالي، وضم خلق الدواب إلى خلق الإنسان لاشتراك الكل في معنى الجنس، فافهم جدًا، واقنع. وفي "التأويلات النجمية": أن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهرًا وباطنًا، وأنه خلق في أحسن تقويم، ورأى استواء قده وقامته، وحسن صورته وسيرته، واستكمال عقله وتمام تمييزه وما هو مخصوص به في جوارحه وجوانبه، ثم تفكر فيما عداه من الدواب وأجزائها وأعضائها وأوصافها وطباعها .. وقف على اختصاص وامتياز بني آدم بين البرية من الجن في الفهم والعقل والتمييز ثم في الإيمان ومن الملائكة في حمل الأمانة، وتعلم علم الأسماء. والمعنى: أي وإن في خلق الله إياكم على أطوار مختلفة من تراب، ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسي، وفي خلق ما تفرق في الكون من الدواب لحججًا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء، فيقرونها بعد العلم بصحتها. 5 - {وَ} في {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بتعاقبهما أو بتفاوتهما طولًا وقصرًا، أو بسواد الليل، وبياض النهار {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ} عطف على {اختلاف} {مِنْ رِزْقٍ}؛ أي: مطر، وهو سبب الرزق، عبر عنه بذلك تنبيهًا على كونه آية من جهتي القدرة والرحمة {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنباتات {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي: بعد يبسها، وعرائها عن آثار الحياة، وانتفاء قوة التنمية عنها، وخلو أشجارها عن الثمار، ففيه (1) تشبيه للرطوبة الأرضية بالروح الحيواني في كونها مبدأ التوليد، والتنمية، وتشبيه زوالها بزوال الروح وموت

الجسد {وَ} في {تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}؛ أي: وفي تحويلها من جهة إلى أخرى، وتبديلها من حال إلى حال، إذ منها مشرقية ومغربية وجنوبية وشمالية وحارة وباردة ونافعة وضارة. وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، حيث لو روعي الترتيب الوجودي، لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح، وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آيةً ليس لمجرد كونه مبدا لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار {آيَاتٌ} ودلالات على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: يستعملون عقولهم في مصنوعات الله تعالى، ويتأملون فيها، فيثبتون وجود صانعا وعظيم قدرته، وباهر حكمته. والمعنى (¬1): أي وإن في تعاقب الليل والنهار عليكم، هذا بظلمته وسواده، وذلك بنوره وضيائه، وفيما أنزل الله من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم، وفي تصريف الرياح لمنافعكم شماليةً مرة، وجنوبية أخرى، صبًا مرة، ودبورًا أخرى، لأدلة وحججا لله على خلقه، الذي يعقلون عنه حججه، ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر. وقصارى ما سلف كله: أنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة في السموات والأرض .. آمنتم بوحدة خالقها وقدرته، فإذا ازددتم علمًا .. ازداد تثبتكم وفهمكم، فصرتم موقنين بها؛ لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه .. أصبحتم من ذوي العقول الناضجة، والأفكار النافذة في أسرار هذا الكون، وبديع صنعه، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه، وتسخروه لمنافعكم في هذه الحياة المليئة بالمطالب. وإجمال ذلك: أن أول المراتب الإيمان بالله، فإذا ازداد المرء علمًا وحكمة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وبحثًا في دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنًا به وكلما ازداد بحثًا، ازداد عقله دراية، وفهما لأسرار هذا الكون، فسخره لمنافعه، واستفاد من نظمه التي وجد عليها، وعرف أنه لم يخلق عبثًا، بل خلق للانتفاع بما في ظاهره وباطنه، علويه وسفليه، أرضه وسماله، نوره وظلامه، فكأنه يقول: إنا أمرناكم بالنظر في العالم لتؤمنوا، فإذا ازددتم نظرًا أيقنتم بي، وذلك كله مما يربي عقولكم، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية. وفي "فتح الرحمن": إن قلت: لم ختم (¬1) الآية الأولى بقوله {لِلْمُؤْمِنِينَ}، والثانية بقوله: {يُوقِنُونَ}، والثالثة بقوله {يَعْقِلُونَ}. قلتُ: لأنه تعالى، لما ذكر العال ضمنًا، ولا بد له من صانع، موصوف بصفات الكمال، ومن الإيمان بالصانع، ناسب ختم الأولى {لِلْمُؤْمِنِينَ}، ولما كان الإنسان أقرب إلى الفهم من غيره، وكان فكره في خلقه وخلق الدواب، مما يزيده يقينًا في إيمانه، ناسب ختم الثانية بقوله: {يُوقِنُونَ}، ولما كان جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وما ذكره معهما مما لا يدرك إلا بالعقل، ناسب ختم الثالثة بقوله: {يَعْقِلُونَ}، انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {آيَاتٌ} جمعًا بالرفع فيهما، وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب: بالنصب فيهما، وزيد بن علي: برفعهما على التوحيد، وقرأ أبي وعبد الله: {لآيات} فيهما كالأولى، وتنكير آيات (¬3) في المواضع الثلاثة للتفخيم كما وكيفا، والعقل يقال: للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: فَإِنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ ... فَمَطْبُوْعٌ وَمَسْمُوْعُ وَلَا يَنْفَعُ مَطْبُوْعٌ ... إِذَا لَمْ يَكُ مَسْمُوْعُ ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[6]

كَمَا لَا تَنْفَعُ الشّمْسُ ... وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوْعُ وإلى الأول أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ما خلق الله خلقًا، أكرم عليه من العقل". وإلى الثاني أشار بقوله: "ما كسب أحد شيئًا، أفضل من عقل يهديه إلى هدى، أو يرده عن ردى"، وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، وكل موضع ذم الكفار بعدم العقل، فإشارة إلى الثاني دون الأول، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل، فإشارة إلى الأول، كما في "المفردات". والمعنى (¬1): لقوم ينظرون بعيون عقولهم، ويعتبرون لأنها دلائل واضحة على وجود صانعها وعظيم قدرته وبالغ حكمته، وخص العقلاء بالذكر؛ لأنه بالعقل يمكن الوقوف على الدلائل. يقول الفقير: لعل سر تخصيص العقل بهذا المقام، وتأخيره عن الإيمان والإيقان، أن هذه الآية دائرة بين علوي وسفلي وما بينهما, وللعقل مدخل تعقل كل ذلك، واشتراك بين الإيمان والإيقان، فافهم جدًا. 6 - {تِلْكَ} الآيات القرانية من أول السورة إلى هنا، وهو مبتدأ، وخبره قوله: {آيَاتُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، المنبهة على الآيات التكوينية {نَتْلُوهَا} ونقرؤها {عَلَيْكَ} يا محمد بواسطة جبريل، حال كوننا {بِالْحَقِّ}؛ أي: محقين، أو حال كون الآيات متلبسةً بالحق والصدق، بعيدةً من الباطل والكذب، وقرىء {يتلوها} بياء الغيبة عائدًا على الله، وقال في "بحر العلوم": نتلوها عليك، حال عاملها معنى الإشارة، كأنه قيل: نشير إليها متلوة عليك، تلاوة متلبسة بالحق مقترنة به، بعيدةً من الباطل واللعب والهزل، كما قال: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}، انتهى. ويجوز أن تكون إشارةً إلى الدلائل المذكورة؛ أي: تلك دلائله الواضحة على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته نتلوها عليك؛ أي: بتلاوة النظم الدال عليها {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} من الأحاديث، وخبر من الأخبار {بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ}؛ أي: وبعد آيات الله، وتقديم الاسم الجليل لتعظيمه، كما في قولهم: أعجبني زيد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

وكرمه، يريدون أعجبني كرم زيد، ونظيره قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فإن اسم الله هنا أيضًا، مذكور بطريق التعظيم كما سبق هناك، أو معنى: بعد الله؛ أي: بعد حديث الله الذي هو القرآن، حسبما نطق به قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهو المراد بآياته أيضًا، ومناط العطف التغاير العنواني {يُؤْمِنُونَ} يعني: أن القرآن من بين الكتب السماوية معجزة باهرة، فحيث لم يؤمنوا به، فبأي كتاب بعده يؤمنون؛ أي: لا يؤمنون بكتاب سواه، وقيل: المعنى القرآن آخر كتب الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - آخر رسله، فإن لم يؤمنوا به، فبأي كتاب يؤمنون، ولا كتاب بعده ولا نبي. وقرأ (¬1) أبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية: {يُؤْمِنُونَ} بالياء التحتانية، وقرأ الأعمش، وباقي السبعة: {تؤمنون} بتاء الخطاب، وقرأ طلحة: {توقنون} بالتاء من فوق، وبالقاف من الإيقان والمعنى: يومنون بأي حديث، وإنما قدم الجار عليه؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام. والمعنى (¬2): أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج، وبينات نتلوها عليك، متضمنة للحق، فبأي حديث أيها القوم، بعد حديث الله الذي يتلوه على رسوله، وبعده حججه وبرهاناته، التي دلكم بها على وحدانيته، تصدقون إن كذبتم به. والخلاصة: إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات، ولا تنقادون لها فبم تؤمنون وإلام تنقادون. 7 - وبعد أن بين للكفار آياته، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأي حديث بعدها يؤمنون، أتبعه بالوعيد العظيم لهم، فقال: {وَيْلٌ}؛ أي: عذاب شديد كائن {لِكُلِّ أَفَّاكٍ}؛ أي: لكل كذّاب {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الإثم مرتكب لما يوجبه؛ أي: فالويل أشد الويل، والعذاب أقسى العذاب لكل كذاب، في قوله أثيم في فعله، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[8]

8 - وبعد أن وصف ذا الأفاك بالإثم أولًا. أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات، فقال: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ} صفة أخرى لأفاك، والمراد: آيات القرآن؛ لأن السماع إنما يتعلق بها، وكذا التلاوة في قوله: {تُتْلَى} وتقرأ تلك الآيات {عَلَيْهِ}؛ أي: على ذلك الأفاك، والجملة حال من {آيَاتِ اللَّهِ}. {ثُمَّ يُصِرُّ} ويقيم ذلك الأفاك على كفره، ويدوم عازمًا عليه عاقدًا. قال في "المفردات": الإصرار: التعقد في الذنب، والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، وأصله: من الصر؛ أي: الشد، والصرة ما يعقد فيها الدراهم، أو من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صارًا؛ أي: ضاما أذنيه على رأسه، حال كونه {مُسْتَكْبِرًا} عن الإيمان بما سمعه من آيات الله تعالى، والإذعان بما نطق به من الحق، مزدريًا لها معجبًا بما عنده من الأباطيل، وكان (¬1) النضر بن الحارث بن عبد الدار، وقد قتل صبرًا، يشتري من أحاديث العجم مثل حديث رستم وإسفنديار، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، فوردت الآية ناعيةً عليه وعلى كل من يسير سيرته فيما هم فيه من الشر والفساد، وذلك التعميم لكلمة الإحاطة والشمول، وكلمة {ثُمَّ} لاستبعاد الإصرار، والاستكبار بعد سماع الآيات، التي حقها أن تذعن لها القلوب، وتخضع لها الرقاب، فهي محمولة على المعنى المجازي؛ لأنه الأليق بمرام المقام، وإن كان يمكن العمل على الحقيقة أيضًا، باعتبار منتهى الإصرار {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}؛ أي: يصر مستكبرًا كأنه لم يسمع تلك الآيات، و {كَأَنْ} مخففة، واسمها ضمير الشأن، والجملة حال من فاعل {يُصِرُّ}؛ أي: ثم يصر على كفره مستكبرًا، مشابها حاله حال من لم يسمعها؛ أي: مشبهًا بغير السامع في عدم القبول، والانتفاع {فَبَشِّرْهُ}؛ أي: فبشر يا محمد ذلك الأفاك على إصراره واستكباره، وعدم استماعه إلى الآيات {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: وجيع؛ أي: أنذره بعذاب شديد، فإن ذكر العذاب قرينة على الاستعارة، استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر السرور في المخبر به، للإنذار الذي هو ضده، بدخال الإندار في جنس البشارة على سبيل التهكم والاستهزاء، هذا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

إذا أريد المعنى المتعارف للبشارة، وهو الخبر السار، ويجوز أن يكون على الأصل، فإنها بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في بشرة الوجه بالتغيير، وهو يعم خبر السرور والحزن، ولذا قال في "كشف الأسرار"؛ أي: أخبره خبرًا يظهر أثره على بشرته من الترح، وعبارة أبي حيان: فمعنى (¬1) {ثُمَّ}، الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها، وعاينها شيء يستبعد في العادة والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة، القاطعة بالحق من تليت عليه وسمعها، كان مستبعدًا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها. والمعنى (¬2): أي إذا سمع آيات الله تقرأ عليه، وهي مشتملة على الوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأمر والنهي والحكم والآداب، أصر على الكفر بها وجحدها عنادًا، كأنه ما سمعها، ثم أوعده على ما فعل عذابًا أليمًا في نار جهنم، فقال: فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم، الموجع في جهنم، وبئس القرار، وفي تسمية هذا الخبر المخزي بشرى، وهي لا تكون إلا في الأمر السار، تهكم بهم، واحتقار لشأنهم، فهو من وادي قولك للكافر: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}، وقول الشاعر: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ 9 - {وَإِذَا عَلِمَ} ذلك الأفاك {مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا}؛ أي: إذا بلغه من آياتنا شيء، وعلم أنه من آياتنا، لا أنه علمه كما هو عليه، فإنه بمعزل من ذلك، قرأ الجمهور (¬3): {عَلِمَ} بفتح العين، وكسر اللام مخفة على البناء للفاعل، وقرأ قتادة، ومطر الوراق على البناء للمفعول، والمعنى: أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذَهَا}؛ أي: الآيات كلها {هُزُوًا}؛ أي: مهزوءًا بها لا ما سمعه فقط، وقيل: الضمير في {اتَّخَذَهَا} عائد إلى {شَيْئًا} لأنه عبارة عن الآيات، فالتأنيث باعتبار المعنى، والأول أولى؛ أي: وإذا وصل إليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[10]

خبرها وبلغه شيء منها جعلها هزوا، وسخريةً. فقد رُوي: أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} دعا بتمر وزبد، وقال لأصحابه: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا شهدًا، وحين سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}؛ أي: على النار، قال: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي. ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال: {أُولَئِكَ} الأفاكون المتصفون بتلك الصفات، فالإشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من القبائح، والجمع باعتبار شمول كل، كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار كل واحدٍ واحد {لَهُمْ} بسبب جناياتهم المذكورة {عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم، ويذهب بعزهم بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوًا، ووصف (¬1) العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم، واستهزائهم بآيات الله 10 - {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ}؛ أي: جهنم كائنة من قدامهم؛ لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم؛ أي: من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا، والتكبر عن الحق، جهنم فإنها من قدامهم؛ لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن المقدام كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}، وقول الشاعر: أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِيْ أو المعنى: من خلفهم؛ لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام؛ أي: يسترها {وَلَا يُغْنِي}؛ أي: لا يدفع {عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} وجمعوا من الأموال والأولاد، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع {شَيْئًا} من عذاب الله، فيكون مفعولًا به، أو لا يغني عنهم في دفع ذلك شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناءً قليلًا، فيكون مصدرًا، يقال: أغنى عنه إذا كفاه، وقوله: {وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} معطوف على {مَا كَسَبُوا}؛ أي: ولا ينفعهم أيضًا ما عبدوه من دون الله من الأصنام، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

وتوسيط (¬1) حرف النفي بين المعطوفين، مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى، من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعًا، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم، وقيل: زيادة {لا} في الجملة الثانية للتأكيد. و {ما} في الموضعين، إما مصدرية أو موصولة. والمعنى (¬2): أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد، ولا تغني عنهم أصنامهم التي عبدوها من عذاب الله شيئًا {وَلَهُمْ} فيما وراءهم من جهنم {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يعرف كنهه، ولا يقادر قدره؛ أي: بالغ إلى أقصى الغايات في كونه ضررًا. 11 - وقوله: {هَذَا هُدًى} جملة مستأنفة؛ أي: هذا القرآن هدى للمهتدين به؛ أي: في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفسها، كقولك: زيد عدل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} القرآنية {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ}؛ أي: من أشد العذاب {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب. والمعنى: أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول، هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم، لمن اتبعه وعمل بما فيه، والذين جحدوا بآياته الكونية في الأنفس والآفاق، وآياته المنزلة على ألسنة رسله، لهم العذاب المؤلم، الموجع يوم القيامة، وقرأ (¬3) طلحة وابن محيصن وأهل مكة وابن كثير وحفص: {أَلِيمٌ} بالرفع صفة لـ {عذاب} وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وباقي السبعة: بالجر نعتًا لرجز 12 - {اللَّهُ}؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة، هو الإله {الَّذِي سَخَّرَ} وذلل {لَكُمُ الْبَحْرَ}؛ أي: جعله على صفة، تتمكنون بها منه الركوب عليه، بأن جعله أملس السطح؛ أي: مستويه يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب، ولا يمنع الغوص والخرق لميعانه، فإنه لو جعل خشن السطح، بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض لم يتيسر جرى الفلك عليه، وكذا لو جعله بحيث لا تطفو عليه الأخشاب ونحوها، بل تسفلت وغرقت فيه، لم يتيسر ذلك أيضًا، ولو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[13]

جعله صلبًا مصمتًا، يمنع الغوص فيه، لم يمكن تحصيل المنافع المترتبة على الغصرص {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}؛ أي: بإذنه وتيسيره وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بالتجارة والغوص على اللؤلؤ والمرجان، ونحوها من منافع البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك بالإقرار بوحدانية المنعم بها، والحكمة (¬1) في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك، سخر البحر والفلك له، وسخره لنفسه ليكون خليفته، ومظهرًا لذاته وصفاته نعمةً منه، وفضلًا لإظهار الكتز المخفي، فبحسب كل مسخر من الجزئيات والكليات، يجب على العبد شكره، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره، ولا يستعمله في هوى نفسه، وله أن يعتبر من البحر الصوري، والذين يركبون البحر فربما تسلم سفينتهم، وربما تغرق كذلك العبد في فلك الاعتصام، في بحار التقدير، يمشي به في رياح المشيئة، مرفوع له شراع التوكل، مرسى في بحر اليقين، فإن هبت رياح العناية، نجت السفينة إلى ساحل السعادة، وإن هبت نكباء الفتنة، لم يبق بيد الملاح شيء؛ وغرقت في لجة الشقاوة، فعلى العبد أن يبتغي فضل الله، ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم، كما في "التأويلات النجمية". والمعنى (¬2): أي إن ذلك الخالق الواحد، الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده، هو الذي يسَّر لكم استخدام البحر، لتجري فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملةً أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشؤونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه يالغوص للدر تارةً، والصيد تارةً أخرى، ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم, التي تحصلِ لكم بسبب هذا التسخير للبحر، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم وينهاكم عنه 13 - {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الموجودات، بأن جعلها مدارًا لمنافعكم؛ أي: سخر لكم أيها العباد جميع ما خلقه في سمواته وأرضه؛ مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، ومما سخره لكم من مخلوقات السموات الشمس، والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن مخلوقات الأرض الدواب والأشجار والجبال مثلًا {جَمِيعًا} إما حال من {مَا فِي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، أو تأكيد له {مِنْهُ} صفة لـ {جَمِيعًا}؛ أي: كائنًا منه تعالى، أو حال من {ما}؛ أي: سخر لكم هذه الأشياء كائنةً منه مخلوقة له، أو خبر لمحذوف؛ أي: هي جميعًا منه تعالى. وفي "فتح الرحمن": جميعًا منه؛ أي: كل إنعام فهو من فضله؛ لأنه لا يستحق عليه أحد شيئًا، بل هو ويوجب على نفسه تكرمًا {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من التسخير {لَآيَاتٍ} عظيمة الشأن، كبيرة القدر، دالةً على وجود الصانع وصفاته {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائع صنع الله تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويوفقون لشكرها. والمعنى: أي وسخر لكم جميع ما خلقه في سمواته وأرضه، مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمةً منه وفضلًا، وكل هذه أدلة على أنه الله، الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها، وتدبرها حق التدببر. والخلاصة: أن العالم كله، كأنه جسم واحد، يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس، ولا تسير سفن، إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك، فالعالم كله كساعة منتظمة، لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها، وخص المتفكرين لأنه لا يتفع بها إلا من تفكر فيها. وعن طاووس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسأله: مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله, فقال: مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله: مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال: مم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.

[14]

وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن السموات والأرض وما فيهن خلقت للإنسان، فإن وجودها تبع لوجوده، وناهيك من هذا المعنى، أن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام، وهذا غاية التسخير، وهم أكرم مما في السموات والأرض، ومثال هذا: أن الله تعالى لما أراد أن يخلق ثمرةً خلق شجرة، وسخرها للثمرة لتحملها، فالعالم بما فيه شجرة، وثمرتها الإنسان، ولعظم هذا المعنى قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان، وكماليته لقوم لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان، إذ يتفكرون بفكر سليم، كما في "التأويلات النجمية". وقرأ الجمهور (¬2): {مِنْهُ}، وقرأ ابن عباس {منة} بكسر الميم وشد النون، ونصب التاء على المصدر، قال أبو حاتم: نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحكاها أيضًا عن هؤلاء الأربعة صاحب "اللوامح"، وحكاها ابن خالويه عن ابن عباس وعبيد بن عمير، وقرأ سلمة بن محارب كذلك؛ إلا أنه ضم التاء؛ أي: هو منة، وعنه أيضًا فتح الميم وشد النون، وهاء الكناية عائدة على الله، وهو فاعل {سَخَّرَ} على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك، أو هو منة. 14 - ولما علم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق، فقال: {قُلْ} يا محمد {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله اغفروا واصفحوا وسامحوا عما يصدر من الكفار من الكلمات المؤذية، والأفعال الموحشة، ولا تقابلوهم بالمؤاخذة عليها إن أمرتهم بذلك {يَغْفِرُوا}؛ أي: يغفر الذين آمنوا، ويعفوا، ويصفحوا {لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} ولا يخافون {أَيَّامَ اللَّهِ} وعذابه، وانتقامه من أعدائه، ولا يرجون ثوابه، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية، ومعنى الرجاء هنا: الخوف، وأيام الله: وقائعه تعالى لأعدائه في الأمم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الماضية، لقولهم أيام العرب، لوقائعها كيوم بعاث بوزن غراب، موضع بقرب المدينة، ويومه معروف؛ أي: قل لهم: اغفروا، يغفروا ويصفحوا ويعفوا، وقيل: مجزوم بلام مقدرة تقديره: ليغفروا، فهو أمر مستأنف، وإنما جاز حذف اللام؛ لأن الأمر الذي هو {قُلْ} عوض عنه، وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز به فيها وإضافتها إلى الله كبيت الله، وناقة الله والأول أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع، كما تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون، فلا يخافون عقابه. وقيل: المعنى لا يأملون نصر الله لأوليائه، وإيقاعه بأعدائه، وقيل: لا يخافون البعث. والمعنى (¬1): قل يا محمد، للذين صدقوا الله ورسوله: اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين، الذي لا يخافون بأس الله ونقمته، إذا نالكم منهم أذى ومكروه، قاله مجاهد. روى الواحدي، والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبي، في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي، فأبطأ عليه، فقال: ما حبسك؟ فقال: غلام عمر قعد على فم البئر، فما ترك أحدًا يستقي حتى ملأ قرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومئل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ عمر قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببًا آخر، قال: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال يهودي بالمدينة يسمى فنحاصًا: احتاج رب محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه، وخرج في طلبه، فجاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن ربك يقول لك: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب عمر، فلما جاء ¬

_ (¬1) المراغي.

قال: يا عمر ضع سيفك، قال: يا رسول الله صدقت، أشهد أنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية، فقال عمر: لا جرم والذي بعثك بالحق، لا ترى الغضب في وجهي. ثم علل بالمغفرة، فقال: {لِيَجْزِيَ} سبحانه وتعالى {قَوْمًا} كاملين كاظمين غيظهم على إذاية الكفار، جزاءًا كاملًا وافرًا {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: على ما يكسبونه من الأعمال الصالحة، التي منها كظم الغيظ. والمراد (¬1) بالقوم: المؤمنون. والتنكير لمدحهم، والثناء عليهم؛ أي: أمروا بذلك ليجزي الله سبحانه يوم القيامة قومًا أي قوم، لا قومًا مخصوصين، بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والمنافقين، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ، واحتمال المكروه ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم. وقد جوز أن يراد بالقوم: الكفرة، و {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: سيئاتهم التي من جملتها ما حكي من الكلمة الخبيثة، والتنكير حينئذ للتحقير، فإن قلت: مطلق الجزاء لا يصلح تعليلًا للأمر بالمغفرة، لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها، قلت: لعل المعنى: قل للمؤمنين: يتجاوزوا عن إساءة المشركين والمنافقين، ولا يباشروا بأنفسهم لمجازاتهم، ليجزيهم الله تعالى؛ أي: ليجزي أولئك الكفرة يوم القيامة جزاءً كاملًا، يكافىء سيئاتهم، كأنه قيل: لا تكافؤوهم أنتم حتى نكافئهم نحن، ويدل على هذا المعنى الآية الآتية، والأول أولى، وأيضًا إن الكسب في أكثر ما ورد في القرآن كسب الكفار، ويجوز (¬2) أن يكون المعنى: ليجزيهم الله وقت الجزاء كيوم بدر، ونحوه. وفي الآية إشارة، إلى أن المؤمن إذا غفر لأهل الجرائم، وإن لم يكونوا أهل المغفرة لإصرارهم على الكفر، والأذى .. يصير متخلقًا بأخلاق الحق. وقرأ الجمهور (¬3): {لِيَجْزِيَ} مبنيًا للفاعل؛ أي: ليجزي الله، وقرأ زيد بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[15]

علي، وأبو عبد الرحمن والأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي: {لِيَجْزِيَ} بالنون مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو جعفر وشيبة، وعاصم: {ليجزى} بالياء التحتية مبنيًا للمفعول مع نصب {قَوْمًا}، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن يقام الجار والمجرور وهو {بما} مقام الفاعل، وينصب المفعول به الصريح وهو {قَوْمًا}، ونظيره: ضرب بسوط زيدًا، ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن يكون الفعل بني للمصدر؛ أي: ليجزى الجزاء قومًا، وهذا أيضًا لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف، تقديره: يجزي قومًا، فيكون الكلام جملتين إحداهما: ليجزى الجزاء، والأخرى: يجزيه قومًا. وعبارة البيضاوي هنا: وقرىء {ليجزى قوم}، {وليجزى قوما}؛ أي: ليجزى الخير أو الشر، أو الجزاء بمعنى: ما يجزى به لا المصدر. فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف. والمعنى (¬1): أي ليجزي الله تعالى يوم القيامة قومًا بما كسبوا في الدنيا من أعمال طيبة، من جملتها الصبر على أذى الكفار، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم في جنات النعيم. 15 - ولما رغب سبحانه، ورهب، وقرر أنه لا بد من الجزاء .. أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال: {مَنْ عَمِلَ} عملا {صَالِحًا} وهو ما طلب به رضي الله تعالى {فَلِنَفْسِهِ}؛ أي: فنفع ذلك العمل الصالح وثوابه لنفسه عائد إليها {وَمَنْ أَسَاءَ}؛ أي: عمل عملًا سيئًا، وهو كل ما يوجب سخط الله تعالى {فَعَلَيْهَا}؛ أي: فضرر إساءته وعقابها على نفسه لا يكاد يسرى عمل إلى غير عامله {ثُمَّ} بعد انقضاء آجالكم {إِلَى رَبِّكُمْ}؛ أي: إلى مالك أموركم لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ}؛ أي: تردون بالموت، فيجازيكم على أعمالكم خيرًا كان أو شرًا، فاستعدوا للقائه، ففيه ترغيب على اكتساب العمل الصالح، وترهيب عن ارتكاب العمل السيء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[16]

فمن الأول العفو، والمغفرة للمجرم، وصاحبه متصف بصفات الله تعالى. ومن الثاني المعصية، والظلم، وصاحبه متصف بصفات الشيطان، فمن كان من الأبرار فإن الأبرار لفي نعيم، ومن كان من الفجار فإن الفجار لفي جحيم. والمعنى: أي من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه فلنفسه عمل، ولها طلب الخلاص من عذابه، والله غني عن كل عامل، ومن أساء عمله في الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى، ولها اكتسب الضر. ثم بين وقت الجزاء فقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}؛ أي: ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب، فيجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. 16 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا بني إسرائيل {الْكِتَابَ}؛ أي: التوراة. قال سعدي المفتي: ولعل الأولى (¬1) أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الزبور، والإنجيل أيضًا انتهى. وذلك لأن موسى، وداود، وعيسى عليهم السلام. كانوا في بني إسرائيل {وَالْحُكْمَ}؛ أي: الحكمة النظرية، والعملية، والفقه في الدين، أو فصل الخصومات بين الناس، إذ كان الملك فيهم {وَالنُّبُوَّةَ} حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم تكثر في غيرهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ أي: من اللذائذ، كالمن والسلوى {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} كلهم أولهم وآخرهم حيث آتيناهم ما لم نؤت أحدًا من العالمين، من كثرة الأنبياء فيهم، وفلق البحر، وإنجائهم، وغرق عدوهم، وإنزال المن والسلوى لهم، وانفجار اثنتي عشرة عينًا لهم من حجر صغير في مدة التيه، وتظليل الغمام عليهم، وليس المراد تفضيلهم على العالمين بحسب الدين والثواب، اهـ "زاده". وقيل: على عالمي زمانهم، فإنه لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله، ولا أحب إليه منهم 17 - {وَآتَيْنَاهُمْ}؛ أي: وأعطينا بني إسرائيل {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: دلائل ظاهرة، ومعجزات قاهرة {مِنَ الْأَمْرِ}؛ أي: في أمر الدين، فـ {من} بمعنى: في، كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}؛ أي: شرائع ¬

_ (¬1) روح البيان.

واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هو العلم بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بين لهم من أمره، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب {فَمَا اخْتَلَفُوا}؛ أي: فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر الذي بين لهم {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} واليقين فيه؛ أي: إلا من بعد مجيء العلم بحقيقته، وحقيته إليهم ببيانه وإيضاحه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبًا لثبوته، ورسوخه، وقيل: المراد بالعلم: يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم، وكفر به بعضهم، وقيل: نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاختلفوا فيها {بَغْيًا} واعتداء من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة، وحسدا حدث {بَيْنَهُمْ} لا شكًا فيها، فقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق، واجتماع الكلمة، فلما جاءهم العلم، والشرع في كتابهم كان مقتضاه أن يدوموا على الاتفاق، بل كان ينبغي أن يزدادوا اتفاقًا، لكنهم لم يكونوا كذلك، بل صار ما هو مقتضٍ للاتفاق مقتضيًا للاختلاف لسوء حالهم، اهـ من "الخطيب". {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {يَقْضِي} ويحكم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بين المختلفين من بني إسرائيل {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين، فيجازي المحسن بحسانه، والمسيء بإساءته. والمعنى (¬1): أي إن ربك سبحانه، يقضي يوم القيامة بين المختلفين من بني إسرائيل بغيًا وحسدًا، فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، بعد العلم الذي أتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، ويجعل الفلج للمحق على المبطل، والمقصد من هذا: أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فهو سيرى في الآخرة ما يسوءه. وفي هذا: تحذير لهذه الأمة المحمدية أن تسلك مسلكهم، وأن تسير على نهجهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

18 - ولما ذكر سبحانه وتعالى إنعامه علي بني إسرائيل، واختلافهم بعد ذلك، وإعراضهم عن الحق بغيًا وحسدًا، ذكر حال نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما منّ به عليه من اصطفائه، وأمره أن يعدل عن هذه الطريقة، وأن يستمسك بالحق، فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ} {ثُمَّ} هنا (¬1) للاستئناف، والكاف مفعول أول لـ {جعل}، و {عَلَى شَرِيعَةٍ} هو المفعول الثاني؛ أي: و (¬2) جعلناك يا محمد على شريعة؛ أي: طريقة عظيمة الشأن، وسنة رفيعة القدر {مِنَ الْأَمْرِ}؛ أي: من أمر الدين {فَاتَّبِعْهَا}؛ أي: فاتبع يا محمد تلك الشريعة أنت وقومك وسائر أهل الأرض، بإجراء أحكامها في نفسك، وفي غيرك من غير إخلال بشيء منها. وفي "التأويلات النجمية": إنا أفردناك من جملة الأنبياء بلطائف فاعرفها، وخصصناك بحقائق فأدركها، وسننّا لك طرائق فاسلكها، وأثبتنا لك الشرائع فاتبعها، ولا تجاوز عنها، ولا تحتج إلى متابعة غيرك، ولو كان موسى وعيسى حيين، لما وسعهما إلا اتباعك، قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الشريعة في الأمور محافظة الحدود فيها، ومن الله الإعانة، والمراد بالشريعة هنا: ما شرعه الله سبحانه لعباده من الدين، والجمع شرائع؛ أي: جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين، يوصلك إلى فاتبعها، واعمل بأحكامها في أمتك {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد الله، وشرانعه لعباده؛ أي (¬3): لا تتبع آراء الجهلة، واعتقاداتهم الزائفة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، ومن وافقهم كانوا يقولون له - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك وأسن، 19 - {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن الجهلة المذكورين {لَنْ يُغْنُوا}؛ أي: لن يدفعوا {عَنْكَ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: مما أراد الله بك من العذاب {شَيْئًا} إن اتبعتهم. قال بعضهم: يعني إن أراد بك نعمة فلا يقدر أحد على منعها، وإن أراد بك فتنة فلا يقدر أحد يصرفها عنك، فلا تعلق بمخلوق فكرك، ولا تتوجه بضميرك إلى غيرنا، وثق بنا، وتوكل علينا {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}؛ أي: أنصار ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[20]

بعض؛ أي: بعضم ينصر بعضًا، فلا يواليهم، ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالمًا مثلهم؛ لأن الجنسية علة الانضمام والانتصار {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}؛ أي: ناصر المتقين الذين أنت قدوتهم، فدم على ما أنت عليه من تولية خاصة بالتقوى، والشريعة، والإعراض عما سواه بالكلية، وفي "التأويلات النجمية": سماهم الظالمين؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وسمّى المؤمنين المتقين لأنهم اتقوا عن هذا المعنى، واتخذوا الله الولي في الأمور كلها. ومعنى الآيتين (¬1): أي ثم جعلناك بعد بني إسرائيل، الذين وصفت لك صفتهم على نهج خاص من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد الله، ولا شرائعه لعباده، وهم كفار قريش، ومن وافقهم فتهلك، ثم علل النهي عن اتباع أهوائهم فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئًا مما أراد بك، إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته، ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين، فقال: وإن الكافرين ليتولى بعضهم شؤون بعض في الدنيا، أما في الآخرة فلا ولي ولا شفيع، ولا نصير يجلب لهم ثوابًا، ولا يدفع عنهم عقابًا، والله ولي المتقين؛ أي: والمتقون المهتدون وليهم الله، وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، فما أبعد الفرق بين الولايتين. وقصارى ما سلف: دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته، وأعرض عما سواه. 20 - ثم بين فضل القرآن، وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين، فقال: {هَذَا} القرآن، وهو مبتدأ، خبره {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}؛ أي: براهين، ودلائل لهم فيما يحتاجهون إليه من أحكام الدين، أو إن اتباع الشريعة بصائر، وأنوار لقلوب من ¬

_ (¬1) المراغي.

اتبعها تنورها بنور الإيمان, واليقين، وجمع الخبر باعتبار ما في المبتدأ من تعدد الآيات، والبراهين، اهـ "سمين". وقرىء (¬1) {هذه بصائر}؛ أي: هذه الآيات بصائر؛ لأن القرآن بمعناها {وَهُدًى}؛ أي: هاد من ورطة الضلالة إلى طريق الرشاد {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ونعمة كاملة من الله تعالى، فإن الفوز بجميع السعادات الدنيوية، والأخروية إنما يحصل به {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ أي: لقوم من شأنهم الإيقان بالأمور، وعدم الشك والتزلزل بالشبه فيها. والمعنى: أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبينات تبصرهم وجه الفلاح، وتعرفهم سبيل الهدى، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته، وهو تنزيل من رب العالمين، وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى، ورحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه، دون من كذب به من أهل الكفر، فإنه عليهم عمى. الإعراب {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)}. {حم (1)} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة {حم}؛ أي: مسماة بـ {حم} إن قلنا إنه علم للسورة، والجملة مستأنفة. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}: مبتدأ، {مِنَ اللَّهِ}: خبر، والجملة مستأنفة. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: صفتان للجلالة. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي السَّمَاوَاتِ}: خبر لـ {إِنَّ} مقدم على اسمها. {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {لَآيَاتٍ}: اللام: حرف ابتداء. {آيَاتٍ} اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب بالكسرة. {لِلْمُؤْمِنِينَ} صفة {آيَاتٍ} وجملة {إنَّ} مستأنفة. {وَفِي خَلْقِكُمْ}: {الواو}: عاطفة. {في خلقكم}: خبر مقدم، {وَمَا}: اسم موصول معطوف على {خَلْقِكُمْ}. {يَبُثُّ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما يبثه. {مِنْ دَابَّةٍ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

حال من العائد المحذوف؛ أي: حال كونه من دابة، {آيَاتٌ} مبتدأ مؤخر، {لِقَوْمٍ} صفة {آيَاتٌ}، وجملة {يُوقِنُونَ} صفة لـ {قوم} والجملة الابتدائية معطوفة على جملة {إِنَّ}. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}. {وَاخْتِلَافِ} معطوف أيضًا على {خَلْقِكُمْ}، منزل منزلته في كونه متعلقًا بمحذوف خبر مقدم، {اللَّيْلِ} مضاف إليه {وَالنَّهَارِ} معطوف على {اللَّيْلِ}. {وَمَا} معطوف على {اختلاف}، {أَنْزَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما أنزله الله، {مِنَ السَّمَاءِ} متعلقان بـ {أَنْزَلَ} {مِنْ رِزْقٍ}: حال من العائد المحذوف، أو متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {فَأَحْيَا} معطوف على {أَنْزَلَ}، {بِهِ} متعلق بـ {أحيا}، {الْأَرْضَ} مفعول به {بَعْدَ مَوْتِهَا} ظرف ومضاف إليه، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} معطوف على {اختلاف}، {آيَاتٌ} مبتدأ مؤخر، {لِقَوْمٍ} صفة لـ {آيات}، وجملة {يَعْقِلُونَ} صفة لـ {قوم}. فائدة: قال الزمخشري: وقرىء {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالنصب والرفع على حد قولك: إن زيدًا في الدار وعمرًا في السوق، أو وعمرو في السوق، وأما قوله: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطف على معمولي عاملين، سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت هما إنّ وفي أقيمت {الواو} مقامهما، فعملت الجر في {اختلاف الليل والنهار}، والنصب في {آيَاتٌ}، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وفي عملا الرفع في {آيَاتٌ}، والجر في {اختلاف}، وقرأ ابن مسعود: {وفي اختلاف الليل والنهار}. فإن قلت: العطف على معمولي عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه، وقد أباه سيبويه، فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت: فيه وجهان عنده:

أحدهما: أن يكون على إضمار في، والذي حسنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها، ويعضده قراءة ابن مسعود. والثاني: أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور، معطوفًا على ما قبله، أو على التكرير ورفعهما بإضمار {هي}، وقرىء {واختلاف الليل والنهار} بالرفع. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {نَتْلُوهَا} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من {آيَاتُ اللَّهِ}، والعامل فيه ما في الإشارة من معنى الفعل، ويجوز أن تكون {آيَاتُ اللَّهِ} بدلًا من اسم الإشارة، وجملة {نَتْلُوهَا} هي الخبر، و {عَلَيْكَ} متعلق بـ {نَتْلُوهَا}، {بِالْحَقِّ} إما حال من الفاعل؛ أي: محقين، أو من المفعول؛ أي: متلبسة بالحق: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} الفاء: استئنافية، والباء: حرف جر، {أَيِّ حَدِيثٍ} مجرور بالباء. متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، والاستفهام توبيخي مضمن للإنكار؛ أي: لا يؤمنون. {بَعْدَ اللَّهِ} ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {حَدِيثٍ}، {وَآيَاتِهِ} معطوف على لفظ الجلالة، {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)}. {وَيْلٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء. {لِكُلِّ أَفَّاكٍ} خبر، والجملة مستأنفة، {أَثِيمٍ} صفة {أَفَّاكٍ}، وهما صيغتا مبالغة للكذب والإثم، {يَسْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {أَفَّاكٍ}. {آيَاتِ اللَّهِ}: مفعول به، وجملة {يَسْمَعُ}: في محل الجر صفة ثانية لأفاك، أو حال من الضمير المستكن فيه، {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {آيَاتِ اللَّهِ}، {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {تُتْلَى}، وجملة {تُتْلَى}: في محل النصب حال من {آيَاتِ اللَّهِ}؛ لأن سمع هنا دخل على ما يسمع فيتعدى إلى واحد فقط بالإجماع، وأما إذا دخل على ما لا يسمع كقوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}،

أو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كذا، ففيه الخلاف بين الأخفش ومن وافقه، وبين الجمهور، فعند الأخفش يتعدى حينئذ إلى الثاني، وعند الجمهور لا يتعدى إلى الثاني مطلقًا، كما هو مذكور في محله. {ثُمَّ} للعطف والترتيب الرتبي عند العقل. {يُصِرُّ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على {يَسْمَعُ}، {مُسْتَكْبِرًا} حال من فاعل {يُصِرُّ}. {كَأَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: كأنه، وجملة {لَمْ يَسْمَعْهَا}: خبرها، والجملة التشبيهية في محل النصب حال ثانية من فاعل {يُصِرُّ}؛ أي: حال كونه مثل غير السامع، {فَبَشِّرْهُ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حاله المذكور، وأردت بيان ما يستحقه .. فأقول لك بشره {بشره}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، {بِعَذَابٍ} متعلق به. {أَلِيمٍ} صفة {عذاب}، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {عَلِمَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {أَفَّاكٍ}، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ {إذا}، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {مِنْ آيَاتِنَا} حال من {شَيْئًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها {شَيْئًا}: مفعول به، {اتَّخَذَهَا هُزُوًا} فعل ماض ناسخ، وفاعل مستتر يعود على الأفاك، ومفعولان، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل الجر، معطوفة على جملة قوله: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ} على كونها صفة لـ {أَفَّاكٍ}، {أُولَئِكَ} مبتدأ أول، {لَهُمْ} خبر مقدم لما بعده. {عَذَابٌ}: مبتدأ ثان مؤخر. {مُهِينٌ} صفة {عَذَابٌ}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}. {مِنْ وَرَائِهِمْ} خبر مقدم. {جَهَنَّمُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع بدل من جملة قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} على كونها خبرًا للمبتدأ الأول، والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، قال الشاعر وهو عبيد بن الأبرص:

ألَيْسَ وَرَائِيْ إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِيْ ... أَدُبُّ مَعَ الْوِلْدَانِ أَزْحَفُ كَالنَّسْرِ {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية. {يُغْنِي}: فعل مضارع. {عَنْهُمْ}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول فاعل، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر المؤول هو الفاعل. {كَسَبُوا}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، {شَيْئًا} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، لا: زائدة لتأكيد نفي {لا} الأولى، {مَا} موصولة أو مصدرية معطوفة على {مَا} في قوله: {مَا كَسَبُوا} على كونها فاعل {يُغْنِي}، {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل، ومفعوله الأول محذوف، تقديره: ولا ما تخذوه، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {اتَّخَذُوا}، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان لـ {اتَّخَذُوا}. والجملة صلة لـ {ما} الموصولة أو المصدرية، {وَلَهُمْ} {الواو}: عاطفة، {لَهُمْ} خبر مقدم، {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر، {عَظِيمٌ} صفة {عَذَابٌ} والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، {هَذَا}: مبتدأ، {هُدًى}: خبر، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: {الواو} عاطفة، {الذين}: مبتدأ أول، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}، {لَهُمْ} خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ ثان مؤخر، {مِنْ رِجْزٍ} صفة {عَذَابٌ}. {أَلِيمٌ} صفة {رِجْزٍ}، أو صفة ثانية لـ {عَذَابٌ}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مع خبره معطوفة على جملة قوله: {هَذَا هُدًى}. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}. {اللَّهُ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة للاعتبار بتسخير البحر إلى عظمته، والسفن الجارية فيه لمخلوق هو أضأل شيء بالنسبة لهما، {سَخَّرَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة له، {لَكُمُ} متعلق بـ {سَخَّرَ}، {الْبَحْرَ}: مفعول به، {لِتَجْرِيَ}: اللام حرف جر وتعليل. {تجري}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {الْفُلْكُ}: فاعل. {فِيهِ}:

متعلق بـ {تجري}، {بِأَمْرِهِ}: حال من الفلك، أو متعلق بـ {تجري} أيضًا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {سَخَّرَ}، تقديره: سخر لكم البحر لجريان الفلك فيه، {وَلِتَبْتَغُوا} {الواو}: عاطفة، اللام: حرف جر وتعليل أيضًا، {تبتغوا}: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلق بـ {تبتغوا}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولا بتغائكم من فضله، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: لجريان الفلك فيه، {وَلَعَلَّكُمْ} {الواو}: عاطفة، {لعل}: حرف نصب وتعليل مستعارة لكي التعليلية، والكاف اسمها، وجملة {تَشْكُرُونَ} خبرها، والجملة الاسمية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بلعل التعليلية؛ أي: ولشكركم إياه سبحانه وتعالى على هذا التسخير. {وَسَخَّرَ لَكُمْ}: معطوف على {سَخَّرَ} الأول، {مَا}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة الموصول. {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. {جَمِيعًا}: حال من {مَا} الموصولة، أو تأكيد لها. {مِنْهُ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ {جَمِيعًا}؛ أي: كائنًا منه تعالى، أو حال ثانية من {مَا}؛ أي: سخر لكم هذه الأشياء حالة كونها كائنة منه تعالى، مخلوقة له تعالى. {إِنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم {لَآيَاتٍ} اللام: حرف ابتداء، {آيات}: اسمها مؤخر، {لِقَوْمٍ}: صفة لـ {آيات}، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ}: صفة لـ {قوم}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {قُلْ}، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، ومقول {قُلْ} محذوف تقديره: قل للذين آمنوا: اغفروا للذين لا يرجون أيام الله. {يَغْفِرُوا}: فعل وفاعل مجزوم في جواب الطلب المحذوف، كما قدرناه، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {يَغْفِرُوا}، {لَا يَرْجُونَ}: فعل وفاعل

صلة الموصول، {أَيَّامَ اللَّهِ}: مفعول به. {لِيَجْزِيَ}: اللام: حرف جر وتعليل، {يَجْزِيَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأنْ مضمرة بعد لام كي جوازًا، {قَوْمًا}: مفعول به، {بِمَا}: متعلق بـ {يَجْزِيَ} وجملة {يَجْزِيَ} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَغْفِرُوا}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ}: خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة أو المصدرية. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)}. {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {عَمِلَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}، والجملة في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، {صَالِحًا}: فعول به أو صفة لمصدر محذوف، {فَلِنَفْسِهِ} الفاء: رابطة لجواب {مَنْ}: الشرطية وجوبًا، {لنفسه}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فثواب عمله كائن لنفسه، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، مسوقة لبيان كيفية الجزاء. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط مبتدأ، وجملة {أَسَاءَ}: فعل شرط لها، {فَعَلَيْهَا}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فاساءته عليها، والجملة في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، {إِلَى رَبِّكُمْ}: متعلق بما بعده، وجملة {تُرْجَعُونَ}: من الفعل المغير، ونائب فاعله معطوفة على جملة {مَنْ} الشرطية، {وَلَقَدْ آتَيْنَا} {الواو}: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {آتَيْنَا}: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا يتعدى إلى مفعولين، {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: مفعول أول، {الْكِتَابَ} مفعول ثان، {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}: معطوفان على {الْكِتَابَ}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، {وَرَزَقْنَاهُمْ} فعل وفاعل. ومفعول به، معطوف على {آتَيْنَا}. {مِنَ

الطَّيِّبَاتِ}: متعلق بـ {رزقناهم}، {وَفَضَّلْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {آتَيْنَاهُمْ}، {عَلَى الْعَالَمِينَ} متعلق بـ {فضلناهم}. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ}: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على {آتَيْنَاهُمْ} الأول {مِنَ الْأَمْرِ} جار ومجرور صفة لـ {بَيِّنَاتٍ} {فَمَا} الفاء: عاطفة {ما} نافية {اخْتَلَفُوا} فعل وفاعل {إِلَّا} أداة حصر، {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {اخْتَلَفُوا}، {مَا}: مصدرية، {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية مع {مَا}. المصدرية في تأويل مصدر بإضافة الظرف إليه؛ أي: إلا من بعد مجيء العلم إياهم. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}. {بَغْيًا}: مفعول لأجله منصوب بـ {اختلفوا}؛ أي: فما اختلفوا إلا لأجل البغي بينهم، و {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {بَغْيًا}. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَقْضِي}: خبره، {بَيْنَهُمْ}: متعلق بـ {يَقْضِي}، وجملة {إن} مستأنفة، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {يَقْضِي}، {فِيمَا}: متعلق بـ {يَقْضِي} أيضًا، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِيهِ} متعلق بـ {يَخْتَلِفُونَ} وجملة {يَخْتَلِفُونَ} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} صلة لـ {ما} الموصولة، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ}: {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب، ولكن هنا بمعنى الواو الاستئنافية، كما في "السمين". {جَعَلْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول. {عَلَى شَرِيعَةٍ} في موضع المفعول الثاني، والجملة مستأنفة، {مِنَ الْأَمْرِ}: صفة لـ {شَرِيعَةٍ}، {فَاتَّبِعْهَا}: الفاء: عاطفة، {اتبعها}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومفعول به والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنَاكَ}، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية؛ جازمة، {تَتَّبِعْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - مجزوم

بلا الناهية، معطوف على قوله: {فَاتَّبِعْهَا} {أَهْوَاءَ الَّذِينَ}: مفعول به، ومضاف إليه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} صلة الموصول، {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {لَن} حرف نفي ونصب، {يُغْنُوا}: فعل مضارع، وفاعل منصوب بـ {لَنْ}، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله، {عَنْكَ} متعلق بـ {يُغْنُوا}، {مِنَ اللَّهِ}: حال من {شَيْئًا}؛ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، أو متعلق بـ {يُغْنُوا}، {شَيْئًا}: مفعول به، {وَإِنَّ}: {الواو}: عاطفة، {إن}: حرف نصب، {الظَّالِمِينَ}: اسمها، {بَعْضُهُمْ}: مبتدأ، {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: خبر، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} في قوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ}، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}: خبره، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة {إنّ} {هَذَا بَصَائِرُ}: مبتدأ وخبره، والجملة مستأنفة. {لِلنَّاسِ} صفة لـ {بَصَائِرُ}. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}: معطوفان على {بَصَائِرُ} {لِقَوْمٍ}: نعت لكل من {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، وجملة {يُوقِنُونَ} صفة لـ {قوم}. التصريف ومفردات اللغة {لَآيَاتٍ}؛ أي: لعبرًا للمؤمنين، ولشواهد على الربوبية للمصدقين. {وَمَا يَبُثُّ}؛ أي: يفرق، وينشر. أصله: يبثث بوزن يفعل، نقلت حركة الثاء الأولى إلى الباء فسكنت، فأدغمت في الثاء الثانية. {مِنْ دَابَّةٍ} وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها وأشكالها وكثرة أنواعها، وأصله: داببة بوزن فاعلة، أدغمت الباء الأولى في الثانية فصار دابة. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}؛ أي: تعاقبهما ليل بعد نهار، ونهار بعد ليل. {مِنْ رِزْقٍ}؛ أي: مطر، وسمى بذلك؛ لأنه سبب له. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}؛ أي: تحويلها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال. {وَيْلٌ} كلمة عذاب. {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الأفاك كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الإثم والمعاصي، وهما صيغتا مبالغة، كعليم بمعنى: كثير العلم. {يُصِرُّ} أصله: يصرر، نقلت حركة الراء الأولى إلى الصاد، فسكنت فأدغمت في الثانية. قال في "المفردات": الإصرار التعقد في الذنب والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، وأصله: من الصر، وهو الشد، والصرة

ما يعقد فيها الدراهم. وقال بعضهم: الإصرار على الشيء ملازمته. {مِنْ وَرَائِهِمْ}؛ أي: من بعد اجالهم، والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام؛ أي: يسترها. وقال بعضهم: وراء في الأصل مصدر وارى، جعل ظرفًا ويضاف إلى الفاعل، فيراد به: ما يتوارى به، وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به: ما يواريه، وهو قدامه، ولذلك عدَّ من الأضداد. وفي "القاموس": الوراء معرفةً يكون خلف وقدام ضدُّ أَوْ لا؛ لأنه بمعنى، وهو ما توارى عنك، والوراء أيضًا ولد الولد، ووري المخ كولي اكتنز، انتهى. {وَلَا يُغْنِي}؛ أي: يدفع، يقال: أغنى عنه إذا كفاه. {أَوْلِيَاءَ} أصنامًا {رِجْزٍ} والرجز أشد العذاب. {سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ}؛ أي: ذلَله وهيأه، بأن جعله أملس السطح، مستويه، يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب، فإنه لو جعله خشن السطح، بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض لم يتيسر جرى الفلك عليه، كما مر. {لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} والمراد بأيام الله: الوقائع المشهورة التي انتصر الحق فيها على الباطل، وأديل الباطل بالجهاد، وهذا جري على أساليب العرب، إذ يقولون أيام العرب لوقائعهم المشهورة، كيوم بعاث على حد قول السموءل اليهودي. وَأَيَّامُنَا مَشْهُوْرَةٌ فِيْ عَدُوِّنَا ... لَهَا غُرَرٌ مَعْلُوْمَةٌ وَحُجُوْلُ وأصل أيام: أيوام بوزن أفعال اجتمعت الوا ووالياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء. {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} والشريعة في الأصل: ما يرده الناس من المياه والأنهار، فاستعير ذلك للدين، والعبادة؛ لأن العباد يردون ما تحيا به نفوسهم، والجمع شرائع اهـ "سمين". وفي "القرطبي": الشريعة في اللغة المذهب والملة، ويقال لمشرعة الماء، وهي مورد شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد، فالشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع، والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله تعالى لخلقه، انتهى. {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أصله: يغنيون حذفت نون الرفع لدخول أداة النصب عليه، وهو {لَنْ}، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت النون، لمناسبة الواو. {وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} أصله: وليي بوزن

فعيل، أدغمت ياء فعيل في لام الكلمة، فصار ولي بتشديد الياء. {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} جمع بصيرة بوزن فعلية. وفي "المختار": البصيرة: الحجة، والاستبصار في الشيء اهـ. وفي "القاموس": والبصيرة عقيدة القلب والفطنة، والحجة. والهمزة في الجمع أعني: {بَصَائِرُ} بدل من ياء فعيلة، الواقعة حرف مد ثالثا، زائدًا في اسم مؤنث. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد بإن واللام في قوله: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ}؛ لأن المخاطبين منكرون لوحدانية الله تعالى. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ}؛ أي: مطر من إطلاق المسبب وإرادة السبب، وهو المطر؛ لأن الرزق لا ينزل من السماء، ولكن ينزل المطر الذي ينشأ عنه النبات والرزق. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} لأنه استعار الإحياء للإنبات، فاشتق منه أحيا، بمعنى: أثبت على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ لأنه استعار الموت لليبس. ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} إشارة إلى بعد مرتبتها. ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ}. ومنها: تنكير آيات في قوله: {لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وفي قوله: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وفي قوله: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أي: تنكيرها في المواضع الثلاثة،

للدلالة على فخامة شأنها، وعلو قدرها. ومنها: تقديم الاسم الجليل في قوله: {بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ} دلالة على تعظيمه، وعلو شأنه، كما في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} حيث استعار البشارة التي هي الإخبار، بما يظهر سرورًا في المخبر به، للإنذار الذي هو ضده بإدخال الإندار في جنس البشارة على سبيل التهكم، والاستهزاء. ومنها: تنكير شيئًا في قوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا} إفادة للتقليل. ومنها: التضاد في قوله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} وهو استعمال لفظ يحتمل المعنى وضده، وهو مشترك بين المعنيين، فيستعمل في الشيء وضده، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: توسيط حرف النفي بين المعطوفين في قوله: {وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر، وأجلى من عدم إغناء الأموال، والأولاد مجاراة على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه ضرب من التهكم. ومنها: الإطناب بتكرار اللفظ في قوله: {سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ}، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لإظهار الامتنان. ومنها: طباق السلب في قوله: {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. ومنها: المبالغة بذكر المصدر في قوله: {هَذَا هُدًى} كان القرآن الكريم لوضوح حجته عين الهدى. ومنها: الطباق في قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} كالإضافة في بيت

الله، وناقة الله. ومنها: تنكير قومًا في قوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} لغرض مدحهم، والثناء عليهم، إن أريد بهم المؤمنون، أو للتحقير والإهانة إن أريد بهم الكافرون. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ}؛ لأنها حقيقة فيما يرده الناس من المياه والأنهار، ثم استعير للدين. ومنها: الإظهار في مقام الاضمار في قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تسجيلًا عليهم باسم الظلم؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: وإنهم بعضهم أولياء بعض. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}. المناسبة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى، لما ذكر الفرق بين الكافرين والمؤمنين في الولاية، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض، وأن الآخرين وليهم الله .. أردف ذلك بذكر الفارق بينهم في المحيا ¬

_ (¬1) المراغي.

والممات، فالمحسنون مرحومون في الحالين، ومجترحوا السيئات مرحومون في الدنيا فحسب، ثم ذكر الدليل على هذا، بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق، المقتضي للعدل أو الانتصاف للمظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء في الجزاء، وإذا لم يكن هذا في المحيا كان في دار الجزاء حتمًا، لتجزي كل نفس بما كسبت فلا تظلم بنقص ثواب، أو بمضاعفة عقاب، ثم عجيب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى، وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه، واجتراح الآثام والمعاصي، فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه، فلا يتأثر بعظة، ولا يفكر في آية، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار، فمن بعد الله يهديه أفلا تتذكرون، وتتفكرون في هذا. قوله تعالى: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين قد اتخذوا إلههم هواهم، وأن الله سبحانه، قد أضلهم على علم بحالهم، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم، وجعل على بصرهم غشاوة .. ذكر هنا جنايةً أخرى من جناياتهم، وحماقةً من حماقاتهم تلك، أنهم أنكروا البعث، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام، لا مستند لها من نقل ولا عقل، ولم يجدوا حجةً يقولونها إلا أن قالوا: إن كان ما تقوله حقًا، فأرجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة، فأمر الله رسوله أن يجيبهم، بأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، ثم يجمعهم في يوم لا شك فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1)، لما أثبت فيما سلف، أنه قادر على الإحياء مرة ثانية، كما قدر على ذلك في المرة ¬

_ (¬1) المراغي.

الأولى .. ذكر هنا دليلًا آخر على ذلك، وهو أنه تعالى مالك الكون كله، فهو قادر على التصرف فيه بالإحياء في الإعادة، كما أحياه في البدء، ثم ذكر من أهوال هذا اليوم، أن كل أمة تجثو على ركبها، وتجلس جلسةَ المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، وكل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كَتَبَتْهَا الحفظة، لتحاسب عليها، ويقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا شاهد عليكم أصدق من كتابكم، فهو صورة أعمالكم قد كتبتها الملائكة في دنياكم. قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ...} الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (¬1) أهوال العرض والحساب، وأن أعمال كل أمة تعرض عليها، ويقال لهم: هذا ما كتبته الحفظة في الدنيا، فهو شهادة صدق لا شك فيها .. أردف هذا، ببيان أنه بعد انتهاء هذا الموقف، يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويوبخ الكافرون على ما فرط منهم في الدنيا، ويقال لهم: لا عذر لكم في الإعراض عن آياتي، حين كانت تتلى عليكم إلا الاستكبار، والعناد، وقد كنتم في الحياة الأولى إذا قيل لكم: إن يوم القيامة آت لا شك فيه، قلتم: لا يقين عندنا به وهو موضع حدس وتخمين، فها هو ذا قد حل بكم، جزاء ما اجترحتموه من السيئات، وما كنتم تستهزؤون في دنياكم، إذ قد خدعتكم بزخارفها، فظننتم أن لا حياة بعد هذه الحياة، ولا مأوى لكم إلا جهنم فادخلوها، ولا مخرج لكم منها، ولا عتبى حينئذ، فلا تنفع توبة مما فرط منكم من الذنوب. أسباب النزول قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما قاله الكلبي (¬2): أنها نزلت في علي، وحمزة، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) تفسير الرازي 27/ 266.

[21]

للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقًا .. لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالًا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع، مساويًا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن المنذر، وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ...} الآية. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي، أحد المستهزئين؛ لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. نزول بقية الآية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال مقاتل (¬1): نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال: مه وما دلك على ذلك، قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه، وتؤمن به، قال: تتحدث عني بنات قريش، أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدًا فنزلت: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}. التفسير وأوجه القراءة 21 - قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ...} إلخ، كلام (¬2) مستأنف مسوق لبيان تباين حالي المسيئين، والمحسنين إثر بيان تباين حالي الظالمين، والمتقين. و {أَمْ} منقطعة، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، لكن لا بطريق إنكار الوقوع نفيه، كما في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 16/ 170. (¬2) أبو السعود.

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} بل بطريق إنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، والاجتراح الاكتساب، و {حَسِبَ} فعل ماض من أخوات ظن و {الَّذِينَ} فاعله، وجملة {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} سادة مسد المفعولين لـ {حَسِبَ}، وقوله: {كَالَّذِينَ آمَنُوا} جار ومجرور لنفي موضع المفعول الثاني لـ {لجعل}، وقوله: {سَوَاءً}: بالنصب حال من الضمير في الظرف، والموصول معًا لاشتماله على ضمير الفريقين، على أن السواء بمعنى المستوي، و {مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} مرتفعان بالسواء على الفاعلية. والمعنى (¬1): بل أظن الذين اكتسبوا الشرك والمعاصي، مع مالهم من مساوي الأحوال، أن نصيرهم في الحكم، مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، مع ما لهم من محاسن الأعمال، ونعاملهم معاملتهم في الكرامة، ورفع الدرجة، حالة كون كلا الفريقين مستويًا، محياهم ومماتهم؛ أي: محيا الفريقين جميعًا ومماتهم، كلا لا يستوون في شيء منهما، فإن هؤلاء في عن الإيمان والطاعة، وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي وهوانهما في المحيا، وفي لعنة الله، والعذاب الخالد في الممات، وشتان بينهما، وقيل: المراد إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة؛ لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة، وإنما يفترقون في الممات {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}؛ أي: ساء وقبح حكمهم هذا، على أن {مَا}: مصدرية، والفعل للإخبار عن قبح حكمهم، أو بئس شيئًا حكموه، ذلك على أن {سَاءَ} بمعنى بئس، و {مَا}: نكرة موصوفة بمعنى شيء، والفعل لإنشاء الذم. وقرأ الجمهور (¬2): {سواءٌ} بالرفع، و {مماتهم} بالرفع أيضًا، وأعربوا {سواءٌ} مبتدأ، وخبره ما بعده، ولا مسوغ لجواز الابتداء، بل هو خبر مقدم وما بعده المبتدأ، والجملة خبر مستأنف، والمعنى: إنكار حسبانهم أن محياهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

ومماتهم سواء، وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وحفص: {سَوَاءً} بالنصب، وما بعده مرفوع على الفاعلية، أجرى {سَوَاءً} مجرى مستويًا كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وجوز في انتصاب {سَوَاءً} وجهان: أحدهما: أن يكون منصوبًا على الحال، و {كَالَّذِينَ} المفعول الثاني: والعكس، وقرأ الأعمش: {سواء}: بالنصب {محياهم ومماتهم} بالنصب أيضًا، وخرج على، أن محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل إما {أَنْ نَجْعَلَهُمْ} وإما {سَوَاءً}. والثاني: أن يجعل بدلًا من مفعول {نَجْعَلَهُمْ}، والمفعول الثاني: {سَوَاءً}؛ أي: نجعل محياهم ومماتهم سواءً. ومجمل معنى الآية (¬1): أي أيظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله وكذبوا الرسل، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين آمنوا به، وصدقوا رسله، فنساوي بينهم في دار الدنيا، وفي الآخرة، كلا، لا يستوون في شيء منهما، فإن أهل السعادة في عز الإيمان والطاعة، وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله، ورضوانه في الممات، وأهل الشقاء في ذل الكفر، والمعاصي، وهوانهما في المحيا، وفي لعنة الله، والعذاب الخالد في الممات، فشتان ما بينهما وما أبعدما بين الثريا والثرى. ونحو الآية قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}؛ أي: ساء ما ظنوا، وبعد أن نساوي بين الأبرار، والفجار في دار الآخرة، وفي هذه الدار، وفي الآية إرشاد إلى تباين حالي المؤمن العاصي، والمؤمن المطيع، وقد أثر عن كثير من الناسكين، المخبتين لربهم، أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية، حتى سموها مبكاة العابدين. أخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" والطبراني، وجماعة عن أبي ¬

_ (¬1) المراغي.

الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية، فلما أتى على قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآية، لم يزل يكررها ويبكي، حتى أصبح وهو عند المقام، وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خشيم، أن الربيع كان يصلي، فمر بهذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ} فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت. فلا يطمعن (¬1) البطال في ثواب العمال ولا الجبان في مقام الأبطال ولا الجاهل في مقام العالم ولا النائم في ثواب القائم، فعلى اجتهاد المرء يزيد أجره، وبقدر تقصيره ينحط قدره، وفي بعض الكتب السالفة: إن لله مناديًا ينادي كل يوم: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الثمانين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا, وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا وتجالسوا بينهم، فتذكروا ما عملوا، ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم. وفي الخبر: "إذا أراد الله سبحانه بعبد خيرًا، بعث إليه ملكًا من عامه الذي يموت فيه، فيسدده، وييسره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت، فقعد عند رأسه فقال: يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحب لقاء الله، ويحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبد شرًا بعث إليه شيطانًا من عامه الذي يموت فيه، فأغواه، فإذا كان عند موته، أتاه ملك الموت، فقعد عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده، فذلك حين يبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه"، ويقال: إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عن الطاعة، آنسه بالوحدة، وأغناه بالقناعة، وبصره بعيوب نفسه، فمن أعطي ذلك، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة. وعن أبي بكر الوراق رحمه الله تعالى: طلبنا أربعةً فوجدناها في أربعة، وجدنا رضي الله في طاعة الله تعالى، وسعة العيش في صلاة الضحى، وسلامة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

الدين في حفظ اللسان، ونور القلب في صلاة الليل، فعليك بالتدارك قبل فوت الوقت، فإن الوقت سيف قاطع. 22 - ثم أقام الدليل على عدم التساوي، وأبان حكمة ذلك، فقال: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}؛ أي: لأجل إظهار الحق والعدل بين العباد، فالباء تعليلية بمعنى اللام، وقوله: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} معطوف على {بِالْحَقِّ} عطف علة على علة؛ لأن الباء تعليلية؛ أي: ولتجزى كل نفس مكلفة {بِمَا كَسَبَتْ} من خير أو شر {وَهُمْ}؛ أي: النفوس المدلول عليها بكل نفس؛ أي: والحال أن الخلائق {لَا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب المحسن، أو بزيادة عقاب المسيء. والمعنى (¬1): أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين، ويجوز أن يكون معطوفًا على علة محذوفة، تقديرها: وخلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل بهما على قدرته، ولتجزى كل نفس، إلخ. وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة؛ أي: فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم، وضل عنها آخرون؛ لأن يجازى كل واحد بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، انتهى. ولا وقف على قوله: {بِالْحَقِّ} وعند أبي حاتم، فالوقف عليه تام بجعل لام {لتجزى} لام قسم؛ أي: لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلام، بل خلقهما للحق والعدل، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء، في العاجل والآجل، وليثيب كل عامل بما هو له أهل، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به، أو يجعل للمسيء ثواب إحسان غيره. والخلاصة: كل عامل يجزى بما كسبت يداه، ولا يظلم بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب. 23 - ثم بين أحوال الكافرين، وذكر جناياتهم على أنفسهم، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ ¬

_ (¬1) المراح.

اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وهو تعجيب لحال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى، فكأنه عبده، والهمزة: للاستفهام التعجيبي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنظرت يا محمد إلى حال أسير الهوى، فرأيت من اتخذ ما تهواه نفسه الخبيثة إلهًا ومعبودًا، وترك متابعة الهدى، واختار متابعة الهوى، ففي الكلام استعارة تمثيلية، أو تشبيه بليغ حذف منه أداة التشبيه؛ أي: جعل هواه كإلهه في طاعته؛ أي: انظر يا محمد، واعجب من حال من ركب رأسه وترك الهدى وأطاع الهوى، فكأنه جعله إلهًا يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئًا إلا فعله، لا يخاف ربًا ولا يخشى عقابًا، ولا يفكر في عاقبة ما يعمل، قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به، وعبد الآخر، وعن أبي رجاء العطاردي: أنه أدرك الجاهلية، وهو ثقة مات سنة خمس ومئة، وعمره مئة وعشرون سنة، قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا أحسن منه .. ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْوةً من تراب، فحلبنا عليها، ثم طفنا بها. وفي هذا: إيماء (¬1) إلى ذم اتباع هوى النفس، ومن ثم قال وهب بن منبه: إذا شككت في خير أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك وقال الإشبيلي الزاهد: فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ ... هَوَى نَفْسِه يُنْزَعْ بِهِ شَرَّ مَنْزَعِ وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوْجَةَ تُرْدِهِ ... وَتَرْمِ بِهِ فِيْ مَصْرَعٍ أَيَّ مَصْرَعِ وقال البوصيري: وَخَالِفِ النَّفْس وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمْا ... وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ وقال بعضهم: نُوْنُ الْهَوَانِ مِنَ الْهَوَى مَسْرُوْقَةٌ ... فَأَسِيْرُ كُلِّ هَوًى أَسِيْرُ هَوَانِ وقال الآخر: ¬

_ (¬1) المراغي.

فَاعْصِ هَوَىَ النَّفْسِ وَلَا تُرْضِهَا ... إِنَّكَ إِنْ اسْخَطْتَهَا زَانَكَا حَتَّى مَتَى تَطْلُبُ مَرْضَاتَهَا ... وَإِنَّمَا تَطْلُبُ عُدْوَانَكَا وقال ابن عباس: ما ذكر الله سبحانه هوى في القرآن إلا ذمه، قال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، وقال: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكره النووي في كتاب "الحجة" للمقدسي: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". وقال أبو أمامة سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى". وروى شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله". أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم. وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني. وعنه أنه قال: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب". أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر وهو ضعيف، وحسبك ذمًا لاتباع الهوى، قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}. وقيل: معنى {أرأيت} أخبرني عن حال من اتخذ هواه إلهًا، فيتعدى (¬1) إلى مفعولين، الأول: هو من اتخذ، والثاني: محذوف تقديره: مهتديًا يدل عليه قوله: فمن يهديه من بعد الله؛ أي: لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه، وفيه حينئذ تجوزان (¬2)، إطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار على طريق إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب؛ لأن الرؤية سبب للإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

مطلق الطلب. وقرىء (¬1): {آلهته هواه} لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه، فكأنه اتخذ هواه آلهةً شتى، يعبد كل وقت واحدًا منها. وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} سبحانه معطوف على صلة {مَنِ}، وقوله: {عَلَى عِلْمٍ} إما حال من الفاعل؛ أي: حال كون الله عالمًا في سابق علمه، بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح، أو من المفعول؛ أي: حال كون ذلك الضال، عالمًا بأن الحق هو الدين، ويعرض عنه عنادًا، كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}؛ أي: خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد؛ لأنه قد علم أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية، لما في جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام واتباع الشهوات، فهو يوغل في القبائح دون زاجر، ولا وازع. {وَ} قد {خَتَمَ} وطبع {عَلَى سَمْعِهِ} فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى {وَ} ختم على {قَلْبِهِ} فلا يعي حقًا، ولا يسترشد إلى صواب {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} عظيمة، وغطاء مانعًا، يمنعه أن يبصر حجج الله، وآياته في الآفاق والأنفس فيستدل بها على وحدانيته تعالى، ويعلم بها أن لا إله غيره. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}. وقرأ الجمهور (¬2): {غِشَاوَةً} بكسر الغين المعجمة، وقرأ عبد الله، والأعمش: بفتحها، وهي لغة ربيعة، وقرأ الحسن، وعكرمة، وعبد الله أيضًا: بضمها، وهي لغة عكل، وقرأ الأعمش أيضًا وطلحة وأبو حنيفة ومسعود بن صالح وحمزة والكسائي: {غشوة} بفتح الغين وسكون الشين، وقرأ ابن مصرف والأعمش أيضًا كذلك إلا أنهما كسرا الغين. ثم ذكر أن مثل هذا لا طمع في هدايته، فقال: {فَمَنْ يَهْدِيهِ} ويرشده {مِنْ بَعْدِ} إضلال {اللَّهِ} سبحانه إياه؛ أي: فمن يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[24]

الرشد بعد إضلال الله إياه، والاستفهام إنكاري؛ أي: لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، والهمزة في قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تلاحظون (¬1) أيها الناس فلا تتذكرون، ولا تتفكرون، فتعلموا أن الهداية لا يملكها أحد سواه، أو فلا تتعظون؛ أي: أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا، أن من فعل الله به ما وصفنا، لن يهتدي أبدًا، ولم يجد لنفسه وليًا ولا مرشدًا، وقرأ الجمهور: {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال، والجحدري يخففها، والأعمش بتاءين. ومجمل معنى الآية (¬2): أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه وترك الهدى، واتخذ دينه ما يهواه، فكأنه جعل الهوى إلهه، يعبده من دون الله، فلا يهوى شيئًا إلا اتبعه دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه، فهذا مما يدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئًا إلا فعله، والعبرة بعموم لفظ الآية، لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله. وقد أضله الله، وخذله مع علمه بالحق، ومعرفته الهدى من الضلال، وقيام الحجة عليه، وطبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وعلى قلبه حتى لا يفقه الهدى، وجعل غطاء على بصره وبصيرته حتى لا يبصر الرشد، ويدرك آيات الله في الكون، التي تدل على وحدانية الله تعالى، فمن يوفقه للصواب والحق، من بعد إضلال الله له بسبب انحرافه واتباعه هواه، أفلا تتذكرون تذكر اعتبار، وتتعظون حتى تعلموا حقيقة الحال. 24 - ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: {وَقَالُوا}؛ أي: قال منكروا البعث من غاية غيهم وضلالهم، وهم كفار قريش، ومشركوا العرب، وفي "كشف الأسرار": هذا من قول الزنادقة، الذين قالوا: الناس كالحشيش أي: ما الحياة {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} التي نحن فيها {نَمُوتُ وَنَحْيَا}؛ أي: يصيبنا الموت، والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وتأخير {نحيا} لأن فيها شبه مراعاة الفاصلة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) التفسير المنير.

ولأن {الواو} لمطلق الجمع، وقيل: نموت نحن ويحيا فيها أولادنا، وقيل: نكون نطفًا ميتةً، ثم نصير أحياء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ أي: نحيا ونموت، وكذا قرأ ابن مسعود. وعلى كل تقدير، فمرادهم بهذه المقالة: إنكار البعث، وتكذيب الآخرة، وقد جوز (¬1) أن يريدوا به التناسخ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان، قال الراغب: القائلون بالتناسخ قوم ينكرون البعث، على ما أثبتته الشريعة، ويزعمون أن الأرواح تنتقل من الأجساد على التأبيد؛ أي: إلى أجساد أخر. وفي "التعريفات": التناسخ عبارة عن تعلق الروح بالبدن، بعد المفارقة من بدن آخر، من غير تخلل زمان بين التعلقين، للتعشق الذاتي بين الروح والجسد. وقرأ زيد بن علي {ونحيا} بضم النون {وَمَا يُهْلِكُنَا} ويعدمنا، ويفنينا {إِلَّا الدَّهْرُ}؛ أي: إلا مرور الزمان، وهو مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، ثم يعبر به عن كل مدة كبيرة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة، وقيل: إلا مرور الأيام والليالي، قال مجاهد، يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر والمعنى واحد. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت. وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله، وقرأ عبد الله: {إلا دهر}، وتأويل إلا دهر يمر، كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين، قال ابن دريد في مقصورته: يَا دَهْرُ إِنْ لَمْ تَكُ عُتْبَى فَاتَّئِدْ ... فِإِنَّ إِرْوَادَكَ وَالْعُتْبَى سَوَاء ومجمل المعنى (¬2): أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم: لا حياة بعد هذه الحياة، التي نحن نعيش فيها، فنموت وتحيا أبناؤنا من بعدها، وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد. وقصارى ذلك: ما ثم إلا هذه الدار يموت قوم، ويعيش آخرون، وليس هناك بعث ولا قيامة {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}؛ أي: وما يفنينا إلا مر الليالي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والأيام، فمرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس، ويضيفون كل حادث إلى الدهر، وأشعارهم ناطقة بذلك، قال: أَشَابَ الصَّغِيْرَ وَأَفْنَى الْكَبِيْرَ ... كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيّ وقد كانت العرب في جاهليتهم، إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، وقد جاء النهي عن سب الدهر، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله عَزَّ وَجَلَّ: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول وادهراه وأنا الدهر". قال الشافعي (¬1) وأبو عبيدة، وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر": كان العرب في الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله، فكأنهم إنما سبوا الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلذا نهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال. ثم نعى عليهم مقالهم هذا، الذي لا دليل عليه، فقال: {وَمَا لَهُمْ}؛ أي: وما لهؤلاء المشركين، الذين ينفون البعث والحياة بعد الموت {بِذَلِكَ}؛ أي: بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا، وإسناد الحياة والموت إلى الدهر {مِنْ عِلْمٍ} ويقين، أسند إلى عقل, أو نقل، و {مِنْ}: مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: وما لهم علم ويقين بذلك {إِنْ هُمْ}؛ أي: ما هم {إِلَّا} قوم {يَظُنُّونَ} بذلك؛ أي: ما هم إلا قوم قصارى أمرهم: الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شيء يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم، وأما المؤمنون فقد ¬

_ (¬1) ابن كثير.

[25]

أخذوا بالنصوص، وسلكوا طريق اليقين، وتجاوزوا عن برازخ الظن والتخمين، وأثبتوا البعث والحشر والصراط والجنة والنار. والمعنى: أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا، ونسبة الإهلاك إلى الدهر علم يستند إلى عقل، أو نقل، وقصارى أمرهم: الظن والتخمين، من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة. وفي الآية إشارة، إلى أن القول بغير بينة ولا حجة، لا ينبغي أن يعول عليه، وأن اتباع الظن منكر عند الله تعالى. 25 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}؛ أي: على منكري البعث {آيَاتُنَا} الناطقة بالحق، الذي من جملته البعث، حالة كونها {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على ما نطقت، أو مبينات له، نحو قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} وغير ذلك: جواب {إِذَا}، وبه استدل أبو حيان، على أن العامل في {إِذَا} ليس جوابها؛ لأن {مَا} النافية لها صدر الكلام، واعتذر عن دخول الفاء في الجواب، بأنها خالفت أدوات الشرط في ذلك، فإنها لا بد من دخول الفاء فيها، نحو: إن تزرنا فما جفوتنا؛ أي: فما تجفونا. و {حُجَّتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر {كَانَ}؛ أي (¬1): ما كان متمسكاتهم بشيء من الأشياء يعارضونها به {إِلَّا أَنْ قَالُوا}؛ أي: إلا قولهم عنادًا واقتراحًا {ائْتُوا بِآبَائِنَا}؛ أي: أحيوهم، وابعثوهم من قبورهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنا نبعث بعد الموت، وقد سبق في سورة الدخان؛ أي: لا حجة لهم إلا هذا القول الباطل، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة؛ لأنها إنما تطلق على الدليل القطعي. وتسميته (¬2) حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة، فأطلق اسم الحجة على ما ليس بحجة، من قبيل: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[26]

أي: سماه حجة، لبيان أنهم لا حجة لهم البتة؛ لأن من كانت حجته هذا، لا يكون له حجة البتة، كما أن من ابتدأ بالضرب الوجيع في أول التلاقي، لا يكون بينهم تحية البتة، ولا يقصد بهذا الأسلوب إلا هذا المعنى، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة والمراد: نفي أن يكون لهم حجة البتة، وقرأ الجمهور (¬1): {حُجَّتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر {كَانَ} واسمها {إِلَّا أَنْ قَالُوا}، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وزيد بن علي وعبيد بن عمير وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد، وعاصم فيما روى هارون، وحسين عن أبي بكر برفع {حجتُهم} على أنه اسم {كَانَ}. 26 - ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث {اللَّهِ} سبحانه وتعالى {يُحْيِيكُمْ} ابتداء ما شاء أن يحييكم في الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} فيها عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعد البعث جميعًا أولكم وآخركم، صغيركم وكبيركم، منتهين {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للجزاء ثم أكد ذلك {لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ أي: لا شك في هذا البعث والجمع، فإن من قدر على البدء بقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء، لا محالة لتجزى كل نفس بما كسبت، والأديان جميعًا متضافرة على تحققه، وحصوله يوم القيامة، والوعد المصدق بالمعجزات دل على وقوعه حتمًا، والإتيان بآبائهم حيث كان، مزاحمًا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه. وقصارى ما سلف (¬2): أن البعث أمر ممكن، أخبر به الأنبياء الصادقون، والحكمة تقتضي حصوله، والعقل يؤيده فهو واقع لا محالة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني: الكفرة {لَا يَعْلَمُونَ} تحتم البعث والجزاء بمقتضى وعده؛ أي: ينكرون البعث، ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها، وحين تكون عظامًا نخرة، كما قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}؛ أي: يرون وقوعه بعيدًا، والمؤمنون يرونه قريبًا وما دعاهم إلى ذلك إلا جهلهم، وقصر نظرهم، وهذا (¬3) استدراك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[27]

على قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} بأن فيه شائبة ريب ما، وفيه إشارة إلى أن الله يحييكم بالحياة الإنسانية، ثم يميتكم عن صفة الإنسانية الحيوانية، ثم يجمعكم بالحياة الربانية إلى يوم القيامة، وهي النشأة الأخرى لا ريب في هذا عند أهل النظر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ لأنهم أهل النسيان والغفلة. وَفِيْ الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُوْرِ قُبُوْرُ وإِنَّ أَمْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ ... وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ 27 - {وَلِلَّهِ} لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: الملك المطلق، والتصرف الكلي فيهما، وفيما بينهما مخصوص بالله تعالى، وهو تعميم للقدرة بعد تخصيصها؛ أي: إن الله (¬1) سبحانه مالك العالم العلوي والسفلي، جار حكمه فيهما دون ما تدعون من دونه من الأوثان والأصنام. ثم توعد الكافرين أهل الباطل فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} والعامل في (¬2) {يَوْمَ} {يُخْسِرُ} الآتي، و {يَوْمَئِذٍ} بدل منه، قال العلامة التفتازاني: مثل هذا بالتأكيد أشبه، وأنى يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول؟. قلت: اليوم في البدل بمعنى الوقت، والمعنى وقتئذٍ إذ تقوم الساعة، ويحشر الموتى فيه، وهو جزء من {يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى، فهو بدل البعض، والعائد مقدر، ولما كان ظهور خسرهم وقت حشرهم، كان هو المقصود بالنسبة، كذا في "حواشي سعدي المفتي"، ومعنى {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}: يظهر خسرانهم ثمة، يقال: أبطل فلان إذا جاء بالباطل، وقال شيئًا لا حقيقة له، والمراد: الذي يبطلون الحق، ويكذبون بالبعث؛ أي: يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل. والمعنى (¬3): أي ويوم تقوم الساعة، ويحشر الناس من قبورهم للعرض، والحساب سيظهر خسران أولئك المنكرين الجاحدين، بما أنزل الله على رسله من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[28]

الآيات والدلائل، بدخولهم في جهنم وبئس المستقر، وقد جعلت الحياة والصحة والعقل كأنها رؤوس أموال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجري مجرى تصرف التاجر في ماله طلبًا للربح، أما الكفار فقد أتعبوا أنفسهم، وتصرفوا فيها بفعل الآثام، والإشراك بالله، تصرف التاجر الذي أساء في تجارته فوكس فيها، ولم يجد في العاقبة إلا الخسران والخذلان والطرد من رحمة الله، وذلك ما لا يرضاه عاقل لنفسه، يزن الأمور بميزان الحكمة والسداد. 28 - ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم، وما تلاقيه من الشدائد، انتظارا لفصل القضاء، فقال: {وَتَرَى} أيها المخاطب في ذلك اليوم، روية عين {كُلَّ أُمَّةٍ} من الأمم المجموعة، مؤمنيهم وكافريهم، حال كونها {جَاثِيَةً}؛ أي: باركة جالسة على الركب من هول ذلك اليوم، غير مطمئنة؛ لأنها خائفة، فلا تطمئن في جلستها عند السؤال والحساب، يقال: جثا إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {جَاثِيَةً}؛ أي: مجتمعة، بمعنى: أن كل أمة لا تختلط بأمة أخرى، يقال: جثوت الإبل وجثيتها، جمعتها، والجثوة بالضم: الشيء المجتمع. فإن قيل (¬1): الجثو على الركب إنما يليق بالكافرين، فإن المؤمنين لا خوف عليهم يوم القيامة. فالجواب: أن الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذا، إلى أن يظهر كونه محقًا مستحقًا للأمن. وقرىء (¬2): {جاذية} بالذال المعجمة، والجذو أشد استيفازا من الجثو؛ لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. {كُلُّ أُمَّةٍ} كرر {كُلُّ أُمَّةٍ}؛ لأنه موضع الإغلاظ والوعيد {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}؛ أي: إلى صحيفة أعمالها، فالإضافة مجازية للملابسة؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه، وقيل: إلى كتابها الذي أنزل عليها لتعبد ربها بهديه، وكتابها الذي نسخته الحفظة من أعمالها، ليطبق أحدهما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[29]

على الآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خالفه هلك، وكان من الأخسرين أعمالًا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} ونحو الآية قوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. وفيه إشارة (¬1) إلى عجز العباد، وأن لا حول ولا قوة لهم فيما كتب الله لهم في الأزل، وأنهم لا يصيبهم في الدنيا والآخرة إلا ما كتب الله لهم على مقتضى أعيانهم الثابتة، فلا يجرون في الأفعال إلا على القضاء، وقرأ يعقوب {كل أمة تدعى} بنصب كل أمة على البدل، بدل النكرة الموصوفة من النكرة، وأفرد كتابها اكتفاءً باسم الجنس لقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}. ثم ذكر أنهم ينذرون ويبشرون بما سيبنى عليه حكم القضاء {الْيَوْمِ} معمول لقوله: {تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: ويقال لهم حال دعائهم إلى كتابهم: اليوم تجازون بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا خيرها وشرها، فمن كان عمله الإيمان والطاعة، جزاه الله بالجنة، ومن كان عمله الشرك والعصيان، جزاه بالنار كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك، فيجثيان بين يدي الرب تعالى، فيقول الله للإيمان، انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك انطلق أنت وأهلك إلى النار". 29 - وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا} إلخ، من تمام ما يقال لهم حينئذ، ولما كان كتاب كل أمة مكتوبًا بأمر الله، أضيف إلى نون العظمة تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره، وإلا فالظاهر: أن يضاف إلى الأمة بأن يقال: هذا كتابها كما فيما قبلها. وعبارة "فتح الرحمن" هنا: فإن قلت: كيف أضاف الكتاب إلى الأمة ثم أضافه إليه تعالى في قوله: {هَذَا كِتَابُنَا}؟ قلت: الإضافة تحصل بأدنى ملابسة، فأضافه إلى الأمة لكون أعمالهم مثبتة فيه، وأضاف إليه تعالى لكونه مالكه، وآمر ملائكته بكتابته؛ أي: هذا الكتاب الذي تدعون إليه كتابنا؛ أي: كتاب حفظتنا الذي كتبته عليكم في الدنيا، ودونت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[30]

فيه أعمالكم. {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ}؛ أي: يشهد عليكم {بِالْحَقِّ} والصدق من غير زيادة، ولا نقص، والجملة خبر آخر لهذا، و {بِالْحَقِّ} حال من فاعل {يَنْطِقُ} فهو صورة تطابق ما فعلتموه حذو القذة بالقذة، وقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} إلخ، تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها؛ أي: إنا كنا نأمر الحفظة بنسخ {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، وكتابته في صحائف أعمالكم، وإثباتها عليكم حسنة كانت أو سيئة، صغيرة كانت أو كبيرة، أول فأول، فهي وفق ما عملتم بالدقة والضبط؛ لأن السين للطلب، وفي هذا (¬1) إجابة عما يخطر بالبال من سؤال فيقال: ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة، وبعد العهد، فأجيبوا بهذا الجواب. قال الواحدي (¬2): وأكثر المفسرين، على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه قالوا: لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل. وقيل: المعنى نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون، وقيل: إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات، وتركوا المباحات، وقيل: إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه، أمر - عز وجل - أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، وسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب. 30 - ثم فصل حال الفريقين فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} من الأمم، وصدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحة، وهي الخالصة الموافقة للشرع {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي} محل {رَحْمَتِهِ} وهو الجنة؛ أي: فأما الذين آمنت قلوبهم، وعملت جوارحهم صالح الأعمال التي أمر بها الدين، فيكافئهم ربهم على ما عملوا، ويدخلهم جنات النعيم، وقد جاء في الحديث الصحيح: "أن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[31]

{ذَلِكَ} المذكور من إدخالهم في رحمته تعالى {هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}؛ أي: الظاهر كونه فوزًا لا فوز وراءه. يقول الفقير: وأما الفوز (¬1) العظيم فهو دخول جنة القلب، ولقاؤه تعالى، ولكن لما كان هذا الفوز غير ظاهر بالنسبة إلى العامة، وكان الظاهر عندهم الفوز بالجنة، قيل هو الفوز المبين، وإن اشتمل الفوز المبين على الفوز العظيم؛ لأن الجنة محل أنواع الرحمة؛ أي: هذا المذكور هو الظفر بالبغية التي كانوا يطلبونها، والغاية التي كانوا يسعون في الدنيا لبلوغها، وهو فوز لا فوز بعده 31 - {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله وعملوا السيئات، فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} المنزلة {تُتْلَى} وتقرأ {عَلَيْكُمْ} بواسطة رسلي، والجملة الاستفهامية مقول للقول المحذوف كما قدرنا، والهمزة فيه للاستفهام التقريعي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه {فَاسْتَكْبَرْتُمْ}؛ أي: تكبرتم عن الإيمان {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}؛ أي: قومًا عادتهم الإجرام والإشراك. أي: وأما الذين جحدوا وحدانية الله تعالى، فيقال لهم تأنيبًا وتوبيخًا: ألم تكن تأتيكم رسلي فتتلو عليكم آيات كتبي فتتكبرون عن الإيمان، ولا عجب، فديدنكم الإجرام وارتكاب الآثام، والكفر بالله، لا تصدقون بميعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب، والمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي 32 - {وَ} كنتم {إِذَا قِيلَ} لكم؛ أي: إذا قال لكم المؤمنون: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: إن ما وعده من الأمور الآتية فهو بمعنى الموعود {حَقٌّ} واقع لا محالة {وَالسَّاعَةُ}؛ أي: القيامة التي هي أشهر ما وعده {لَا رَيْبَ فِيه} ولا شك في وقوعها لكونها مما أخبر به الصادق المصدوق، ولقيام الشواهد على وجودها {قُلْتُمْ} من غاية عتوكم يا منكري البعث من الكفار والزنادقة {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ}؛ أي: أي شيء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[33]

هي، استغرابًا لها؛ أي: أنكرتموها، وقلتم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}؛ أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهمًا. وأصله (¬1): نظن ظنًا، فأدخل حرف النفي والاستثناء لاثبات الظن، ونفي ما عداه، كأنه قال: ما نحن إلا نظن ظنًا، أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغةً، ثم أكده بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}؛ أي: أنها كائنة. فإن قلت (¬2): إن قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} يدل على أنهم قاطعون بنفي البعث، وقولهم: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} يدل على أنهم شاكون في إمكانه ووقوعه، وبين الآيتين معارضة. قلت: يجمع بينهما بأن المجرمين كانوا فرقتين في أمر البعث، فرقة جازمة بنفيه، وهم المذكورون في قوله: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وفرقة كانت تشك وتتحير فيه، وهم المذكورون في هذه الآية. اهـ. "زاده" بتصرف. وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد (¬3): {وإذا قيل أن وعد الله} بفتح الهمزة، وذلك على لغة سليم، والجمهور قرؤوا بكسرها، وقرأ الجمهور {والسَّاعَةُ} بالرفع على الابتداء، وقرأ حمزة بالنصب عطفًا على {وعد الله}، وهي مروية عن الأعمش وأبي عمرو وعيسى وأبي حيوة، والعبسي والمفضل. والمعنى (¬4): أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار من طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: إن وعد الله بالبعث والحساب، وبجميع الأمور المستقبلة في الآخرة حق ثابت، وواقع لا محالة، والقيامة لا شك في وقوعها فآمنوا بذلك، واعملوا لما ينجيكم من العذاب قلتم: لا نعرف ما القيامة إن نتوهم وقوعها توهمًا مرجوحا، أو ظنا لا يقين فيه ولا علم، وما نحن بمتحققين، ولا موقنين أن القيامة آتية؛ أي: كأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه، وأكدوا هذا المعنى بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. 33 - ثم بعد هذا التوبيخ والنقاش، ذكر الله تعالى ما يفاجؤون به من العذاب ¬

_ (¬1) بيضاوي. (¬2) زاده. (¬3) البحر المحيط. (¬4) التفسير المنير.

[34]

فقال: {وَبَدَا لَهُمْ}؛ أي: ظهر للكفار في الآخرة {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} في الدنيا من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: أعمالهم السيئة، على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة، وعاينوا وخامة عاقبتها: والمراد (¬1) الشرك والمعاصي، التي كانت تميل إليها الطبائع والنفوس، وتشتهيها وتستحسنها، ثم تظهر يوم القيامة في الصور القبيحة، قالوا فالحرام على صورة الخنزير، والزكاة التي لم تؤد على صورة الشجاع الأقرع، والعلم بلا عمل على صورة الشجرة اليابسة، والرجوع عن الحق إلى الباطل في صورة تحول الوجه إلى القفا، إلى غير ذلك من الصور المتنوعة، بحسب الأعمال المختلفة، ولكن ليس لبعض هذه الصور أصول يستند إليه، فكل ما أثمر لهم في الآخرة، إنما هو من زرع زرعوه في مزرعة الدنيا بأعمالهم السيئة، ويجوز أن يراد {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} جزاؤها، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها، فسميت باسم سببها، وهذا أولى {وَحَاقَ}؛ أي: أحاط {بِهِم} ونزل عليهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} في الدنيا من الجزاء والعقاب 34 - {وَقِيلَ} من جانب الحق سبحانه {اليومَ} وهو يوم القيامة {نَنْسَاكُمْ}؛ أي: نترككم في العذاب ترك المنسي، ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية، بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب، وعدم المبالاة بهم، وقرينتها النسيان {كَمَا نَسِيتُمْ} في الدنيا {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؛ أي: كما تركتم عدَّته ولم تبالوا بها، وهي الإيمان والعمل الصالح، وإضافة اللقاء إلى اليوم، من إضافة المصدر إلى ظرفه؛ أي: نسيتم لقاء الله، وجزاءه في يومكم هذا، فأجرى اليوم مجرى المفعول به، وجعل ملقيًا. ففي هذه الإضافة توسع، لما فيه من إضافة الشيء إلى ما هو واقع فيه، وفيه إشارة إلى أنهم زرعوا في مزرعة الدنيا بذر النسيان، فأثمرهم في الآخرة ثمرة النسيان {وَمَأْوَاكُمُ}؛ أي: مستقركم ومسكنكم الذي تأوون إليه {النَّارُ}؛ أي: نار جهنم؛ لأنها مأوى من نسينا، كما أن الجنة تأوي من ذكرنا {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ينصرونكم، فيمنعون عنكم العذاب؛ أي: ما لأحد منكم ناصر واحد، يخلصكم منها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[35]

ومجمل معنى الآيتين (¬1): أي وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، حين قرؤوا كتب أعمالهم، التي دونتها الحفظة، كي لا يكون لهم حجة إذا نزل بهم العذاب، ثم جُوزوا بما كانوا يهزؤون به في الدنيا، ويقولون: ما هو إلا أوهام وأباطيل، وخرافات قد دونها المبطلون. ثم ذكر ما يزيد في تعذيبهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فقال: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} إلخ؛ أي: وقيل لهم تغليظًا في العقوبة وإمعانًا في التهكم، والسخرية: اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وليس لكم مستنقذ ينقذكم منه، ولا مستنصر يستنصر لكم ممن يعذبكم. 35 - والخلاصة: أنه تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطع الرحمة عنهم، وجعل مأواهم النار، وعدم وجود الأنصار والأعوان، من قبل أنهم أتوا بثلاثة ضروب من الإجرام: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به، والاستغراق في حب الدنيا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {ذَلِكُمْ} العذاب {بِأَنَّكُمُ}؛ أي: بسبب أنكم {اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {هُزُوًا}؛ أي: مهزوءًا بها، ولم ترفعوا لها رأسًا بالتفكر والقبول، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} حين قلتم: لا بعث ولا حساب، فحسبتم أن لا حياة بعدها {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا}؛ أي: من النار، والالتفات (¬2) فيه من الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم، أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار. وقرأ الجمهور: {لَا يُخْرَجُونَ} مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي مبنيا للفاعل {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: ولا هم يطلب منهم العتبى، والرجوع إلى طاعة الله سبحانه ليرضوه؛ أي: ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم؛ أي: يرضوه بالطاعة لفوات أوانه. والمعنى (¬3): أي هذا الذي حل بكم من عذاب الله، بسبب أنكم في الدنيا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[36]

اتخذتم حجج الله، وآيات كتابه، التي أنزلها على رسوله، سخرية تسخرون منها، وخدعتكم زينة هذه الحياة، فآثرتموها على العمل لما ينجيكم من عذابه، ظنا منكم أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ولا بعث ولا حساب، فاليوم لا يخرجون من النار ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا، ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه. والخلاصة: أنهم لا يخرجون، ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم عليهم؛ أي: لا يُطلب إرضاؤه لفوات أوانه. 36 - وبعد أن ذكر ما حوته السورة من آلائه تعالى، وإحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل التي في الآفاق والأنفس، وما انطوت عليه من البراهين الساطعة على المبدأ، والمعاد، أثنى على نفسه بما هو له أهل، فقال: {فَلِلَّهِ} سبحانه خاصة. {الْحَمْدُ}؛ أي: جميع صنوف الحمد، وأنواعه، فلا يستحق لغيره؛ لأنه الفاعل المختار {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ}؛ أي: مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، وخالقهما، و {رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: مالك جميع المخلوقات، علويها وسفليها من الأرواح، والأجسام، والذوات، والصفات، فلا يستحق الحمد أحد سواه تعالى، وتكرير (¬1) الرب للتأكيد، والإيذان بأن ربيته تعالى لكل منها، بطريق الأصالة. وقرأ الجمهور (¬2): {رَبِّ} في المواضع الثلاثة، بالجر على الصفة للاسم الشريف، وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن: بالرفع في الثلاثة، على تقدير مبتدأ؛ أي: هو رب السموات إلخ، 37 - {وَلَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْكِبْرِيَاءُ}؛ أي: العظمة والقدرة والسلطان والجلال والعز والقهر {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وفي سائر المخلوقات، وخص السموات والأرض بالذكر لظهور آثارها، وأحكامها فيهما، وإظهارهما في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يغلب {الْحَكِيمُ} في كل ما قضى وقدر فاحمدوه؛ أي: لأن له الحمد، وكبروه؛ أي: لأن له الكبرياء، وأطيعوه؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

لأنه غالب على كل شيء، وفي كل صنعة حكمة جليلة. وفي الحديث القدسي: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري". أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، وقال بعضهم: وصف الحق سبحانه نفسه بالإزار والرداء دون القميص والسراويل؛ لأن الأولين غير مخيطين وإن كان منسوجين فهما إلى البساطة أقرب، والثانيين مخيطان ففيهما تركيب، ولهذا السر حرم المخيط على الرجل في الإحرام دون المرأة؛ لأن الرجل وإن كان خلق من مركب فهو إلى البساطة أقرب، وأما المرأة فقد خلقت من مركب محقق هو الرجل، فبعدت عن البسائط، والمخيط تركيب، فقيل للمرأة: ابقي على أصلك لا تلحقي الرجل، وقيل للرجل: ارتفع عن تركيبك، انتهى. ومعنى الآية: أي فللَّه الحمد على أياديه على خلقه، فإياه فاحمدوا، وله فاعبدوا، فكل ما بكم من نعمة فهو مصدرها، دون ما تعبدون من وثن أو صنم، وهو مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، ومالك جميع ما فيهن، وله الجلال، والعظمة، والسلطان في العالم العلوي، والعالم السفلي، فكل شيء خاضع له، فقير إليه، دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وهو العزيز الذي لا يمانع، ولا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، تقدس ربنا جلت قدرته، وتعظمت آلاؤه. وقصارى ذلك: له الحمد فاحمدوه، وله الكبرياء فعظموه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه. الإعراب {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}. {أَمْ}: منقطعة، بمعنى: بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {حَسِبَ

الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان تغاير حالي المسيئين والمحسنين، {اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول {أَن} حرف نصب ومصدر. {نَجْعَلَهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول أول. {كَالَّذِينَ}: في موضع المفعول الثاني، وجملة {جعل} مع أن المصدرية في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي حسب، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} معطوف على {آمَنُوا}، {سَوَاءً} بالنصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: {كَالَّذِينَ آمَنُوا}، {مَحْيَاهُمْ} فاعل بـ {سَوَاءً}، {وَمَمَاتُهُمْ} معطوف عليه، والمعنى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات، أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حال كونهم مستوين وإياهم في حياتهم ومماتهم؛ أي: مماثلين إياهم في الحالين، والاستفهام بمعنى: الإنكار والنفي، وبالرفع: {سَوَاءٌ} خبر مقدم، و {مَحْيَاهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور؛ أي: أم حسب الكفار أن نجعلهم مثل المؤمنين، حال كونهم مستوين في حياتهم ومماتهم، ليسوا كذلك، بل هم مفترقون أي افتراق في الحالين، وتكون هذه الحال مبينة لما انبهم في المثلية، الدال عليها الكاف التي هي في موضع المفعول الثاني. {سَاءَ} فعل ماض لإنشاء الذم. {مَا} مصدرية، وجملة {يَحْكُمُونَ}: مع {مَا} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {سَاءَ} تقديره: ساء حكمهم هذا، أو {مَا} نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز، وفاعل {سَاءَ} مستتر تقديره: هو، وجملة {يَحْكُمُونَ} صفة لـ {ما}، والتقدير: ساء هو شيئًا حكموه، والمخصوص بالذم حكمهم هذا. {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)}. {وَخَلَقَ} {الواو}: استئنافية. {خلق الله السماوات} فعل وفاعل ومفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على السموات، {بِالْحَقِّ}: إما حال من الفاعل، أو من المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، مسوقًا لبيان دليل نفي الاستواء بين الفريقين. {وَلِتُجْزَى}: {الواو}: عاطفة ما

بعدها على تعليل محذوف، تقديره: وخلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل على قدرته، ولتجزى كل نفس، واللام: حرف جر وتعليل، {تجزى}: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {كُلُّ نَفْسٍ} نائب فاعل. {بِما}: جار ومجرور متعلق بـ {تجزى}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: ولجزاء كل نفس بما كسبت، الجار والمجرور: معطوف على الجار والمجرور في قوله: ليدل، على كونه متعلقًا بـ {خلق} وجملة {كَسَبَتْ} صلة لما المصدرية أو الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كسبته. {وَهُمْ} {الواو} حالية، {هم} مبتدأ، وجملة {لَا يُظْلَمُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من نائب فاعل {تُجْزَى}؛ لأنه بمعنى؛ ليجزى كل الخلائق بما كسبوا وهم لا يظلمون. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)}. {أَفَرَأَيْتَ}: الهمزة للاستفهام التعجيبي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أنظرت يا محمد إلى حال أسير الهوى، فرأيت من اتخذ إلهه هواه، كما مر في مبحث التفسير، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {رأيت}: فعل وفاعل، و {مَنِ} مفعول {رأيت} الأول، والثاني محذوف، تقديره: مهتديًا، {اتَّخَذَ} فعل ماض، وفاعل مستتر صلة {مَنِ} الموصولة، {إِلَهَهُ}: مفعول أول لـ {اتَّخَذَ}، {هَوَاهُ}: مفعوله الثاني، أو بالعكس، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل، معطوف على {اتَّخَذَ}، {عَلَى عِلْمٍ}: حال من المفعول، وهو أولى من جعله حالًا من الفاعل، والمعنى: أصله الله وهو عالم بالحق؛ لأن المبالغة فيه أشد، والتشنيع به أكثر. {وَخَتَمَ} فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على أضل، {عَلَى سَمْعِهِ} متعلق بـ {خَتَمَ}، {وَقَلْبِهِ} معطوف على {سَمْعِهِ}، {وَجَعَلَ} فعل وفاعل مستتر معطوف على {ختم}، {عَلَى بَصَرِهِ} في موضع المفعول الثاني لـ {جعل}، {غِشَاوَةً} مفعول أول لـ {جعل}، {فَمَنْ} الفاء: عاطفة. {مَنْ}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يَهْدِيهِ} خبره، {مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} جار

ومجرور متعلق بـ {يَهدِيهِ}، والجملة الاسمية معطوفة على مفعول. {رأيت}، {أَفَلَا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتصرون على الغي فلا تذكرون، والجملة المحذوفة مستأنفة. {لا}: نافية. {تَذَكَّرُونَ}: فعل مضارع، حذفت إحدى تائيه مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)}. {وَقَالُوا}: {الواو}: استئنافية. {قالوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتفنيد مزاعمهم؛ إذ كانوا يزعمون أن هلاك الأنفس منوط بمرور الأيام والليالي. {مَا}: نافية، {هِيَ}: مبتدأ، {إِلَّا} أداء استثناء مفرغ. {حَيَاتُنَا}: خبر، {الدُّنْيَا} صفة للحياة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قالوا}، {نَمُوتُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود عليهم، والجملة مستأنفة، مسوقة لإيراد المزيد من عقائدهم الفاسدة، وجملة: {وَنَحْيَا} معطوفة على {نَمُوتُ}، {وَمَا}: {الواو}: حالية. {مَا}: نافية، {يُهْلِكُنَا}: فعل ومفعول به. {إِلَّا} أداة حصر. {الدَّهْرُ} فاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نَمُوتُ وَنَحْيَا}، {وَمَا}: {الواو}: حالية. {مَا}: نافية، {لَهُم}: خبر مقدم، {بِذَلِكَ} متعلق بـ {عِلْمٍ} {مِنْ} زائدة. {عِلْمٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {قالوا}، {إِنْ}: نافية. {هُمْ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، وجملة {يَظُنُّونَ}: خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة، {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {تُتْلَى} فعل مضارع مغير الصيغة، {عَلَيْهِمْ} متعلق به. {آيَاتُنَا} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، {بَيِّنَاتٍ} حال من {آيَاتُنَا}، {مَا} نافية، {كاَنَ} فعل ماض ناقص، {حُجَّتَهُمْ} خبر {كاَنَ} مقدم، {إِلَّا} أداة حصر، وجملة {أَنْ قَالُوا} قالوا مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسم كان مؤخر تقديره:

ما كان حجتهم إلا قولهم ائتوا بآبائنا، وجملة {كاَنَ} جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة قالوا {ائْتُوا} فعل أمر، وفاعل، {بِآبَائِنَا} متعلق به، والجملة الفعلية مقول قالوا: {إن} حرف شرط، {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فائتوا بآبائنا، وجملة الشرط مقول {قالوا}، {قُلِ} فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {اللهُ}: مبتدأ، وجملة {يُحْيِيكُمْ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول {قُلِ}. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: معطوف على {يُحْيِيكُمْ}، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ}: معطوف على {يُمِيتُكُمْ} {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {يَجْمَعُكُمْ} {لَا}: نافية. {رَيْبَ} اسمها. {فِيهِ}: جار ومجرور خبرها، وجملة {لَا} في محل النصب حال من {يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، {وَلَكِنَّ}: {الواو}: حالية، {لكن}: حرف نصب، {أَكْثَرَ النَّاسِ} اسمها وجملة {لَا يَعْلَمُونَ}: خبرها، والجملة الاستدراكية حال من ضمير {فِيهِ}؛ أي: حال كونهم لا يعلمون مجيئه، ولا يعتقدون. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)}. {وَلِلَّهِ} {الواو}: استئنافية. {لله}: خبر مقدم، {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا. {وَيَوْمَ}: {الواو}: استئنافية. {يوم}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يَخْسَرُ}، وجملة {تَقُومُ السَّاعَةُ}: مضاف إليه، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف إلى مثله، وهو بدل من الظرف قبله، بدل بعض من كل، كما مر في مبحث التفسير، {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {وَتَرَى}: {الواو}: عاطفة، {ترى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على {يَخْسَرُ}، {كُلَّ أُمَّةٍ}: مفعول به لـ {ترى}، وهي بصرية تتعدى إلى مفعولي واحد، {جَاثِيَةً} حال من {كُلُّ أُمَّةٍ}، ويحتمل أن تكون {ترى} علمية، و {جَاثِيَةً}: مفعولها الثاني، {كُلَّ أُمَّةٍ}: مبتدأ، {تُدْعَى} فعل مضارع مغير

الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {كُلَّ أُمَّةٍ}، والجملة خبر المبتدأ. {إِلَى كِتَابِهَا}: متعلق بـ {تُدْعَى}، والجملة الاسمية في محل النصب، حال ثانية من {كُلَّ أُمَّةٍ}، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {تُجْزَوْنَ}، {تُجْزَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو نائب فاعل، وهو المفعول الأول. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {تُجْزَوْنَ}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: ويقال لهم توبيخًا لهم: اليوم تجزون، إلخ. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كاَنَ} صلة لـ {ما} الموصولة، {هَذَا كِتَابُنَا}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، {يَنْطِقُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، والجملة في محل النصب حال من {كِتَابُنَا}، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {يَنْطِقُ}، {بِالْحَقِّ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: نطقًا متلبسًا بالحق، أو حال من فاعل {يَنْطِقُ}، {إِنَّا}: ناصب واسمه. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، وجملة {نَسْتَنْسِخُ} خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، على كونها معللة لما قبلها، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {نَسْتَنْسِخُ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كاَنَ} صلة لـ {ما} الموصولة. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)}. {فَأَمَّا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما يقال لهم يوم القيامة، وأردت بيان حال الفريقين .. فأقول لك. {أما}: حرف شرط. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {آمَنُوا} صلته، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا}. {فَيُدْخِلُهُمْ}: الفاء: رابطة لجواب {أما}، {يدخلهم}: فعل مضارع ومفعول به، {رَبُّهُمْ}: فاعل، {فِي رَحْمَتِهِ}: متعلق بـ {يدخلهم}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {أما}، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {ذَلِكَ}: مبتدأ، {هُوَ}: ضمير فصل،

{الْفَوْزُ}: خبر، {الْمُبِينُ}: صفة لـ {الْفَوْزُ}. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)}. {وَأَمَّا} {الواو} عاطفة، {أما}: حرف شرط، {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي إلخ، والجملة الإسمية جواب {أما}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} معطوفة على جملة {أما} الأولى، {أَفَلَمْ}: الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تتلى عليكم، والجملة المحذوفة في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. {لم}: حرف نفي وجزم، {تَكُنْ آيَاتِي}: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ {لم}، {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {آيَاتِي}، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {تُتْلَى}، وجملة {تُتْلَى}: في محل النصب خبر {تَكُنْ}، وجملة {لم تكن} معطوف على تلك المحذوفة {فَاسْتَكْبَرْتُمْ}: الفاء عاطفة، {استكبرتم}: فعل وفاعل معطوف على {لم تكن}. {وَكُنْتُمْ قَوْمًا}: فعل ناقص واسمه وخبرهُ، معطوف على {استكبرتم}، {مُجْرِمِينَ} صفة {قَوْمًا}. {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية. {إذا}: ظرف لما يستقبل، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} إلى قوله: {قُلْتُمْ} نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، والجملة الفعلية في محل الخفص بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {وَالسَّاعَةُ}: {الواو}: عاطفة {السَّاعَةُ}: مبتدأ، وجملة {لَا رَيْبَ فِيهَا}: خبره، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة {إنَّ}، وقرىء {والساعة} بالنصب عطفًا على {وَعْدَ اللَّهِ}، {قُلْتُمْ} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا} مستأنفة، {مَا}: نافية، {نَدْرِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْتُمْ}،

{مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {السَّاعَةُ}: خبرها، والجملة الاستفهامية سدت مسد مفعولي {نَدْرِي}، علقت عنها باسم الاستفهام، {إِن}: نافية، {نَظُنُّ} فعل مضارع، وفاعل مستتر {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {ظَنًّا} مفعول مطلق، وظن هنا بمعنى الوهم، لا يتعدى إلى مفعولين، بل إلى واحد محذوف، تقديره: إن نظنه إلا ظنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْتُمْ}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: حجازية، {نَحْنُ}: اسمها، {بِمُسْتَيْقِنِينَ}: خبرها، والباء زائدة، والجملة معطوفة على ما قبلها، {وَبَدَا}: {الواو}: استئنافية، {بدا}: فعل ماض، {لَهُمْ}: متعلق به، {سَيِّئَاتُ}: فاعل، والجملة مستأنفة، {سَيِّئَاتُ}: مضاف {مَا}: مضاف إليه، وجملة {عَمِلُوا} صلة الموصول، {وَحَاقَ}: {الواو} عاطفة، {حاق} فعل ماض {بِهِمْ} متعلق به، {مَا} اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة {بدا}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول. {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)}. {وَقِيلَ} {الواو} عاطفة، {قيل}: فعل ماض مغير الصيغة. {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} إلخ نائب فاعل محكي لـ {قيل}، والجملة معطوفة على جملة {بدا}، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {نَنْسَاكُمْ}، {نَنْسَاكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}، {كَمَا} الكاف، حرف جر {ما}: مصدرية، {نَسِيتُمْ}: فعل وفاعل {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ}: مفعول به، {هَذَا} بدل من {يَوْمِكُمْ} أو صفة له، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} المصدرية {ما}: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: اليوم ننساكم نسيانا مثل نسيانكم. {وَمَأْوَاكُمُ} {الواو}: عاطفة {مأواكم النار}: مبتدأ وخبر، ويجوز العكس، والجملة معطوفة على جملة {نَنْسَاكُمْ} على كونها نائب فاعل لـ {قيل}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية. {لَكُم}:

خبر مقدم، {مِنْ}: زائدة، {نَاصِرِينَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على {ما} قبلها. {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {بِأَنَّكُمُ} الباء: حرف جر وسبب {أنكم}: ناصب واسمه {اتَّخَذْتُمْ}: فعل وفاعل، {آيَاتِ اللَّهِ}: مفعول أول. {هُزُوًا}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ} وجملة {أنّ} في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب اتخاذكم آيات الله هزوًا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ}: فعل ومفعول وفاعل، معطوف على {اتَّخَذْتُمْ}، {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةُ}، {فَالْيَوْمَ}: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حالكم في الدنيا، وأردتم بيان حالكم اليوم .. فأقول لكم: {اليوم}: ظرف متعلق بـ {يُخْرَجُونَ}، {لَا}: نافية، {يُخْرَجُونَ}: فعل ونائب فاعل. {مِنْهَا}: متعلق بـ {يُخْرَجُونَ}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا} نافية، {هُم}: مبتدأ وجملة {يُسْتَعْتَبُونَ} من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، {فَلِلَّهِ}: الفاء: استئنافية، {لله}: خبر مقدم، {الْحَمْدُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} بدل، أو نعت للجلالة، {وَرَبِّ الْأَرْضِ}: معطوف عليه، وكذا {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: معطوف عليه بعاطف مقدر، {وَلَهُ}: {الواو}: عاطفة. {له}: خبر مقدم. {الْكِبْرِيَاءُ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها، {فِي السَّمَاوَاتِ} حال من {الْكِبْرِيَاءُ}، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله، واختار بعضهم أن يتعلق بنفس الكبرياء؛ لأنه مصدر، {وَالْأَرْضِ} معطوفة على {فِي السَّمَاوَاتِ} {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: خبران له، والجملة معطوفة على ما قبلها، والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي. قال في "المفردات": سمي الصائد من الكلاب والفهود، والطير جارحة، وجمعها جوارح إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب، وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهًا بها بأحد هذين، انتهى. والمراد بالسيئات: سيئات الكفر، والإشراك بالله سبحانه وتعالى. {أَنْ نَجْعَلَهُمْ}؛ أي: أن نصيرهم في الحكم. {مَحْيَاهُمْ} الأصل فيه: محييهم بوزن مفعل، قلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها وفتح ما قبلها، وقوله: {مماتهم} أصله: مموتهم بوزن مفعل أيضًا، نقلت حركة الواو إلى الميم، ثم أبدلت الواو ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال، وقوله: {سَاءَ} أصله: سوأ بوزن فعل قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {نَمُوتُ} أصله: نموت بوزن نفعل، نقلت حركة {الواو} إلى الميم فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. {وَنَحْيَا} أصله: نحيي قلبت الياء الثانية ألفًا لتحركها بعد فتح {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وهو في الأصل: مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، ثم يعبر به عن كل مدة طويلة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة، قال في "القاموس": الدهر: الزمان الطويل والأبد الممدود، ودهرهم أمر كمنع إذا نزل بهم مكروه، فهم مدهور بهم ومدهورون، اهـ. {يَظُنُّونَ} أصله: يظننون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء فسكنت، فأدغمت في النون الثانية {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} الأصل فيه: يموتكم بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد. {جَاثِيَةً}؛ أي: باركة على الركب مستوفزة، وهي هيئة المذنب الخائف من مكروه، يقال: جثا على ركبتيه يجثو، ويجثي جثوًا وجثيًا، على فعول فيهما إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، وفيه إعلال بالقلب أصله: جاثوة من الجثو قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. {تُدْعَى} صله: تدعو قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.

{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} أصله: تجزيون قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {إِلَى كِتَابِهَا}؛ أي: إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة، لتحاسب على ما قيد فيها. {يَنْطِقُ}؛ أي: يشهد. {نَسْتَنْسِخُ}؛ أي: نأمر الملائكة بأن تكتب وتنسخ، والنسخ في الأصل: هو النقل من أصل كما ينسخ كتاب من كتاب، لكن قد يستعمل للكتبة ابتداءً. {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} وقال في "التعريفات": الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين، والشك، انتهى. واليقين: اتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه، نظرًا واستدلالًا، ولذلك لا يوصف به علم القديم، ولا العلوم الضرورية إذ لا يقال: تيقنت أن السماء فوقي. {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} بدا فيه إعلال بالقلب، أصله: بدو قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح {نَنْسَاكُمْ} أصله: ننسيكم بوزن نفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فيه إعلال بالإبدال، أصله: لقاي أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {وَمَأْوَاكُمُ} أصله: مأويكم بوزن مفعل اسم مكان، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ}؛ أي: حجج الله. {وَغَرَّتْكُمُ}؛ أي: خدعتكم. {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}؛ أي: زينتها. {يُسْتَعْتَبُونَ}؛ أي: ولا هم يطلب منهم العتبى، والرجوع إلى الله تعالى بالتوبة من ذنوبهم، والإنابة إلى ربهم لفوات أوانه وزمانه، وهو من باب استفعل السداسي، والسين والتاء فيه للطلب، يقال: استعتبته فأعتبني؛ أي: استرضيته فقبل مني عذري، والمعنى: ولاهم يطلب منهم أن يعتبوا ربهم؛ أي: أن يرضوه بالطاعة لفوات أوانه، وهو في الدنيا. {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} والكبرياء: العظمة والملك والجلال والعز والسلطان وهي صفة أثرها تنزهه تعالى عن كل ما لا يليق به. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التجوز في قوله: {أَفَرَأَيْتَ} فإنه بمعنى: أخبرني، ففيه تجوزان

إطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار على طريق إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب؛ لأن الرؤية سبب للإخبار، وجعل الاستفهام، بمعنى: الأمر، بجامع مطلق الطلب، اهـ "زاده". ومنها: الاستعارة التمثيلية، أو التشبيه البليغ، في قوله: {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} إذا قلنا حذف منه أداة التشبيه والأصل: كإلهِهِ في طاعته واتباعه. ومنها: تنكير غشاوة في قوله: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} لإفادة التنويع، أو للتعظيم. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}. ومنها: الطباق في قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا}، وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}. ومنها: التهكم أو التقابل في قوله: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا}؛ لأن تسمية قولهم: حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة، فأطلق الحجة على ما ليس بحجة، من قبيل: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ ومنها: التعميم في القدرة بعد تخصيصها في قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ لأنه خصصها أولًا بقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}. ومنها: شبه التأكيد في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}؛ لأنه كالتأكيد لقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} كما مر مع ما فيه. ومنها: التكرار في قوله: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} لإفادة الإغلاظ والتشديد، والوعيد. ومنها: الإضافة المجازية في قوله: {كِتَابِهَا}؛ لأن الإضافة فيه لأدنى ملابسة؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه. ومنها: الإضافة إلى نون العظمة في قوله: {هَذَا كِتَابُنَا} تفخيمًا لشأن

الكتاب، وتهويلًا لأمره. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} يقال: نطق الكتاب بكذا، إذا بينه ودل عليه. والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة؛ لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإنسان بلسانه. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}؛ أي: في جنته، ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل والعلاقة المحلية. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {نَنْسَاكُمْ} ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية، بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب، وعدم المبالاة بهم، وقرينتها النسيان. ومنها: إضافة المصدر إلى ظرفه توسعًا في قوله: {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؛ أي: نسيتم لقاء الله وجزاءه في يومكم هذا، فأجرى اليوم مجرى المفعول به، وجعل ملقيًا. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم، أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار كما مر في مبحث التفسير. ومنها: أيضًا الاستعارة التمثيلية في قوله: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} إلخ، مثل تركهم في العذاب بمن حبس في مكان، ثم نسيه السجان من الطعام والشراب، حتى هلك بطريق الاستعارة التمثيلية، والمراد من الآية: نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي؛ لأن الله تعالى لا ينسى ولا يعرض عليه النسيان. ومنها: تكرير الرب في قوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} للتأكيد والإيذان، بأن ربيته تعالى لكل منها، بطريق الأصالة كما مر. ومنها: إظهار السموات والأرض في قوله: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع كون المقام للإضمار، لتفخيم شأن الكبرياء.

ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما في هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد 1 - إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه. 2 - وعيد من كذب بآياته، واستكبر عن سماعها. 3 - طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين. 4 - الامتنان علي بني إسرائيل، بما آتاهم من النعم الروحية والمادية. 5 - أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يطيع المشركين، ولا يتبع أهواءهم. 6 - التعجب من حال المشركين، الذين أضلهم الله على علم. 7 - إنكار المشركين للبعث. 8 - ذكر أهوال العرض والحساب، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان. 9 - حلول العذاب بالمشركين، بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم. 10 - ثناء المولى سبحانه على نفسه، وإثبات الكبرياء والعظمة له (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد تم تسويد هذا الجزء الخامس والعشرين من القرآن الكريم، بيد جامعه ومؤلفه، في الليلة الثالثة والعشرين، منتصف الساعة الخامسة من شهر الله المحرم، من شهور سنة ألف أربع مئة وخمس عشرة 23/ 1/ 1415 هـ من السنين الهجرية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكي التحيات، اللهم يا مولى النعم، ويا راحم الأمم، ويا محيي الرمم أنت المعبود، وأنت المقصود، وأنت المستعان بكرمك، وجودك، وفيضك، وفقنا لإتمام هذا التفسير على الوجه الذي يرضيك عنا، وأن تبارك في أعمارنا إلى إكماله، وأن تصرف عنا العوائق والمعائق إلى انتهائه يا منيل رغبة الراغبين، ويا مجيب دعوة الداعين آمين يا رب العالمين، والحمد لله الذي تتم به الصالحات حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه ليلة العشرين من ذي القعدة في تاريخ 30/ 11/ 1417 هـ. تم بحمد الله تعالى المجلد السادس والعشرون، ويليه المجلد السابع والعشرون.

شعرٌ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ أَمْرٍ يُحَاوِلُهُ ... وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ يُنَادِيْ الْبَحرُ يَلْفِظُ بِالْغَوالِيْ ... وَيَرْمِيْ بِالزَّبَرْجَدِ والَلآلِيْ يَقُوْلُ لِسَابِحِيْهِ وَخَائِضِيْهِ ... هَلُمُّوْا فَالنَّفائِسُ فِيْ خِلَالِيْ يَا مَنْ بارَكَ فِيْ التِّيْنِ وَالرُّمَانْ ... بَارِكِ اللَّهُمَّ فِيْ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانْ

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [27]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ أَتَاكَ الرُّوْحُ يَعْبِقُ بِالْغَوَالِيْ ... وَيَرْمِي بالزَّبَرْجَدِ والَّلآلِيْ يَقُولُ لِشَامِّيْهِ وَمُنْتَشِقِيْهِ ... هَلُمُّوْا فَالعُطُورُ فِيْ خِلَاليْ آخرُ إِذَا رَأَيْتَ أَثِيْمَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُقَبِّحُ قَوْلِيْ ... لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا من كلام زين العابدين رضي الله عنه: أَلَا أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِي أَلَا يَا رَجَائِي أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ ... فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَراهُ مُبَلِّغِيْ ... عَلَى الْزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ ... وَمَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ ولقد أحسن من قال، وهو أبو علي الثقفيُّ: يَا عَاتِبَ الدَّهْرِ إِذَا نَابَهُ ... لَا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُوْرٌ لَهُ آمِرُ ... وَيَنْتَهِي الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ كَمْ كَافِرٍ أَمْوَالُهُ جَمَّةٌ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ ... يَزْدَادُ إِيْمَانًا عَلَى فَقْرِهِ

سورة الأحقاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا مولى النعم، ويا مفيض الحكم على من اختاره من أهل الكرم، ونصلّي ونسلم على السلطان الأعظم، والقائد الأجل الأكرم، ومنبع العلوم والحكم، سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه السادات الكرام، صلاةً وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم القيامة. أما بعد: فإنّي لما فرغت من تفسير الجزء الخامس والعشرين من القرآن الكريم .. تفرغت للشروع في الجزء السادس والعشرين منه بإذن الله سبحانه وتوفيقه، فقلت مستمدًا من الله التوفيق والهداية، لأقوم الطريق في كتابة هذا التعليق: سورة الأحقاف مكية، قال القرطبي: في قول جميعهم، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت سورة حم الأحقاف بمكة بعد الجاثية، قيل: (¬1) إلا قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية، قيل: إلا قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ} فإنهما نزلتا بالمدينة. قيل (¬2): وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} إلى قوله: {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فنزلت بالمدينة. وهي أربع أو خمس وثلاثون آية. وفي "الشهاب": الاختلاف في عدد الآيات مبني على أن {حم (1)} آية أولًا، وست مئة وأربع وأربعون كلمةً، وألفان وخمس مئة وخمسة وتسعون حرفًا. التسمية: سميت سورة الأحقاف؛ لأنه يذكر فيها الأحقاف التي هي مساكن عاد الذين أهلكهم الله تعالى بطغيانهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف التي هي من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح.

أرض اليمن، حيث قال سبحانه: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ}. فضلها (¬1): وذكر في فضلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الأحقاف .. كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا". ولكنه حديث موضوع لا أصل له. الناسغ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الأحقاف مكية، وجميعها محكم إلا آيتين: أولاهما: قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} نسخت بقوله تعالي: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ...} الآية. من سورة الفتح. والآية الثانية: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} نسخ معناها بآية السيف. المناسبة (¬2): تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي: 1 - تطابق السورتين في: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}. 2 - تشابه موضوع السورتين، وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد. 3 - ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم، ومطالبتهم بالدليل عليه، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) التفسير المنير.

وعبارة "المراغي" هنا: ووجه اتصال هذه السورة بما قبلها: أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد، وذمِّ أهل الشرك، وتوعِّدهم عليه، وافتتح هذه بالتوحيد، وتوبيخ المشركين على شركهم أيضًا. انتهى. وعبارة أبي حيان: ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها (¬1): أنّ في آخر ما قبلها: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، وقلتم: إنه - صلى الله عليه وسلم - اختلقها، فقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} وهاتان الصفتان هما آخر تلك، وهما أوّل هذه. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)} المناسبة بدأ سبحانه هذه السورة بإثبات أنّ هذا القرآن من عند الله لا من عند محمد كما تدّعون، ثم ذكر أنّ خلق السموات والأرض مصحوب بالحق، قائم بالعدل والنظام، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شيء، إذ لا شيء في الدنيا دائم، ولا بدّ من يوم يجتمع الناس فيه للحساب، حتى لا يستوي المحسن والمسيء، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب، ولم يفكّروا فيما شاهدوا في العالم من النظام والحكمة، فلا هم بسماع الوحي متعظون، ولا هم بالنظر في العالم المشاهد يعتبرون.

ثم نعى على المشركين حال آلهتهم، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: أخبروني ماذا خلق آلهتكم من الأرض، أو لهم شركة في خلق السموات حتى يستحقّوا العبادة، فإن كان لهم ما تدّعون .. فهاتوا دليلًا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن، أو ببقية من علوم الأولين، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها، وهي لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة؟ وهي غافلة عنكم، وفي الدار الآخرة تكون لكم أعداء، وتجحد عبادتكم لها. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا تكلم (¬1) في تقرير التوحيد، ونفي الأضداد والأنداد .. أعقب هذا بالكلام في النبوة، وبيّن أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئًا من القرآن .. قالوا: إنه سحر، بل زادوا في الشناعة، وقالوا: إنه مفترى، فردّ عليهم بأنّه لو افتراه على الله .. فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به، وهو العلم بما تندفعون فيه من الطعن في نبوتي، ويشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود. ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إني لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد، ونَهْيي لكم عن عبادة الأوثان والأصنام، وما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أأموت أم أُقتل كما قتل الأنبياء قبلي، ولا ما يفعل بكم، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل، وإني لا أعمل عملًا، ولا أقول قولًا إلا بوحي من ربي، وما أنا إلا نذير لا أستطيع أن آتي بالمعجزات والأخبار الغيبية، فالقادر على ذلك هو الله تعالى. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِه ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا نعى عليهم استهزاءهم بكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر مفترى، وردَّ الرسول عليهم بأنّه ليس بأول رسول حتى ¬

_ (¬1) المراغي.

يستنكرون نبوته، ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله تعالى لا بيده .. أردف (¬1) هذا بأمر رسوله أن يقول لهم: ما ظنكم أنّ الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله عليّ لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه، وقد شهد شاهد من بني إسرائيل الواققين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلتم، فآمن واستكبرتم. ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود، فقالوا: لو كان هذا الدين خيرًا .. ما سبقنا إليه هؤلاء. ثم إنهم حين لم يهتدوا به قالوا: إنه من أساطير الأولين. ثم ذكر أنّ مما يدلّ على صدق القرآن: أن التوراة وهي الإمام المقتدى به بشّرت بمقدم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاقبلوا حكمها في أنّه رسول حقًا من عند الله. ثمّ أعقب هذا ببيان أنّ من آمنوا بالله، وعملوا صالحًا لا يخافون مكروهًا ولا يحزنون لفوات محبوب، وأولئك هم أهل الجنة، جزاء ما عملوا من عمل صالح، وما أخبتوا لربهم، وانقادو لأمره ونهيه. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه أحمد في "المسند" والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحطُّ الله عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه" قال: فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم، فلم يجبه أحد، ثم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) أسباب النزول.

ثلّث، فلم يجبه أحد، فقال: "أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم" ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا عندنا نخرج .. نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد، قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أيَّ رجلٍ تعلموني يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا مِنْ أبيك قبلك، ولا من جدّك قبل أبيك، قال: فإني أشهد له بأنه نبيُّ الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، وردّوا عليه قوله، وقالوا فيه شرًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفًا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذّبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل فيه قولكم" قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا، وعبد الله بن سلام، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}. وأخرج (¬1) البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: في عبد الله بن سلام نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}. وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: فيّ نزلت، ونزل فيّ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ ونحن ونحن، فلو كان خيرًا منا .. ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...}. وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله، يقال لها: "زِنِّينٌ"، أو "زِنِّيْرة"، فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرًا ما سبقتنا إليه زِنِّين، فأنزل الله تعالى في شأنها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا ...} الآية. وقال عروة بن الزبير: إنّ زِنِّيرة روميَّة كان أبو جهل يعذبها، أسلمت فأصيب بصرها، ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فردّ الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرًا .. ما سبقتنا إليه زِنِّيرَةُ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس والكلبي والزجاج: إنّ الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرًا، ما سبقتنا إليه رعاة البهم، إذ نحن أعز منهم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {حم (1)}؛ أي: هذه السورة (¬1) مسماة بـ {حم (1)}. وقال بعضهم: {الحاء}، إشارة إلى حماية أهل التوحيد، و {الميم}: إلى مرضاته منهم مع المزيد، وهو النظر إلى وجهه الكريم. وقال بعضهم: معناه: حميت قلوب أهل عنايتي فصنتها عن الخواطر والهواجس، فلاح فيها شواهد الدين، وأشرقت بنور اليقين. يقول الفقير: فيه إشارة إلى أنّ القرآن حياة الموتى، كما قال: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}، وكذا حياة الموتى من القلوب، فإنّ العلوم والمعارف، والحكم حياة؛ القلوب والأرواح والأسرار. وأيضًا إشارةٌ إلى الأسماء الحسنى، فإنَّ حاء وميم من حساب البسط تسعةٌ وتسعون. وأيضًا إلى الصفات السبع التي خلق الله آدم عليها: وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فـ {الحاء}، حاء الحياة، و {الميم} ميم الكلام، فأشير بالأول والآخر إلى المجموع؛ يعني: أنّ الله تعالى أنزل القرآن لتحصى أسماؤه الحسنى، وتعرف به صفاته العليا، ويتخلق بأخلاقه العظمى. 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}؛ أي؛ القرآن المشتمل على هذه السورة، وعلى سائر السور الجليلة، وهو مبتدأ، خبره: قوله: {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: كائن منه تعالى، وما كان من الله فهو حق وصدق، فإنه قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}. {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يُغالب، وما كان من العزيز فهو عزيز غالب على جميع الكتب بنظمه ومعانيه، ودليل ظاهر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

لأرباب الظواهر والباطن {الْحَكِيمُ}؛ أي: المتقين في صنعه، وما كان من الحكيم ففيه حكمة بالغة، 3 - فإنّ الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة لعباده، كما قال: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بما فيهما من حيث الجزئية منهما، ومن حيث الاستقرار فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات: كالنار والهواء والسحاب والأمطار والطيور المختلفة ونحوها {إِلا} خلقا متلبسًا {بِاَلحَق}؛ أي: بالغرض الصحيح، والحكمة البالغة، وأنّ جعلها مقارًّا للمكلفين، ليعملوا فيجازيهم يوم القيامة، لا بالعبث والباطل، فإنه ما وجد شيء إلا لحكمة. وفي الآية إشارة إلى أنّ المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى، كما قال: فخلقت الخلق لأعرف، ولهذه المعرفة خلقت سموات الأرواح، وأراضي النفوس، وما بينهما من العقول والقلوب والقوى. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى}: معطوف (¬1) على {الْحَقِّ} بتقدير المضاف المحذوف؛ أي: وإلا بتقدير أجل معين ينتهي إليه أمور الكل، وبقاؤه في هذه الدنيا؛ لأنَّ اقتران الخلق ليس إلا به، لا بالأجل نفسه، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنه ينتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات. وقيل: المراد بالأجل المسمى: هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، وهو آخر مدة بقائه المقدر له. والأول أولى، وفيه إشارة إلى قيام الساعة، وانقضاء مدّة الدنيا، وأنّ الله سبحانه لم يخلق خلقًا باطلًا وعبثا لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب، وفيه موعظة وزجر؛ أي: فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم، ولم خلقتم. والمعنى (¬2): أي ما خلقناهما إلا خلقا متلبسًا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهي بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعي أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأنَّ هناك يومًا معلوما للحساب والجزاء؛ لئلا يتساوى من أحسن في الدار الأولى، ومن أساء فيها، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه، ومن دسَّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[4]

نفسه وركب رأسه واتبع شيطانه وهواه، وسلك سبل الغواية، فلم يترك منها طريقًا إلا سلكه، ولا بابًا إلا ولجه. ثم بين غفلة المشركين، وإعراضهم عما أنذروا به فقال: {والَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: مشركوا أهل مكة {عَمَّا أُنْذِرُوا} وخوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء، وأهوال يوم القيامة {مُعْرِضُونَ}؛ أي: مولّون غير مستعدين له بالإيمان والعمل الصالح. والجملة (¬1): في محل النصب على الحال؛ أي: والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به. و {ما} في قوله: {عَمَّا أُنْذِرُوا}: يجوز أن تكون موصولةً، وأن تكون مصدريةً؛ أي: عن إنذار الرسول إياهم. والمعنى (¬2): أي مع ما نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنى لهم ذلك فهم صُمٌّ بكمٌ عميٌّ لا يعقلون. 4 - وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية، وأنه رحيم عادل، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة .. ردَّ على عبدة الأصنام فقال: {قُل} يا محمد للكافرين توبيخًا وتبكيتًا {أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ}؛ أي: أخبروني ما تعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه من الأصنام والكواكب وغيرهما {أَرُونِي} تأكيد لـ {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني {مَاذَا خَلَقُوا}؛ أي: الآلهة {مِنَ الْأَرْضِ} بيان للإبهام في {مَاذَا}؛ أي: أخبروني أيَّ جزءٍ من أجزاء الأرض تفردوا بخلقه دون الله، فالمفعول الأول لـ {أَرَأَيْتُمْ} قوله: {مَا تَدْعُونَ}، والثاني {مَاذَا خَلَقُوا}. ومآله أخبروني عن حال آلهتكم، ويحتمل أن لا يكون {أَرُونِي} تأكيدًا، بل يكون هذا من باب التنازع؛ لأنَّ {أَرَأَيْتُمْ} يطلب مفعولًا ثانيًا، و {أَرُونِي} كذلك. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ}؛ أي: شركة مع الله، و {أَمْ} هذه هي المنقطعة المقدرة ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي: بل ألهؤلاء الأصنام شركة مع الله تعالى {فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ} أو ملكها ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وتدبيرها، حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للعباد، فإنَّ {ما} لا مدخل له في وجود شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالكلية، وإن كانوا من الأحياء العقلاء .. فما ظنكم بالجماد. فإن قلت (¬1): فما تقول في عيسى عليه السلام، فإنه كان يحيي الموتى، ويخلق الطير، ويفعل ما لا يقدر عليه غيره؟ قلت: هو بإقدار الله تعالى وإذنه، وذلك لا ينافي عجزه في نفسه، وذكر الشرك في الجهات العلوية دون السفلية؛ أي: دون أن يعم بالأرض أيضًا؛ لأنَّ الآثار العلوية أظهر دلالة على اختصاص الله تعالى بخلقها لعلوّها، وكونها مرفوعة بلا عمد ولا أوتاد، أو للاحتراز عمّا يتوهم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية؛ يعني: لو قال: أم لهم شرك في الأرض .. لتوّهم أنّ للسموات دخلًا وشركة في إيجاد الحوادث السفلية، هذا على تقدير أن تكون {أَمْ}: منقطعة، والأظهر: أن تجعل الآية من حذف معادل أم المتصلة لوجود دليله، والتقدير: ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات كما في "حواشي سعدي المفتي". والمعنى (¬2): أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، والنظام القائم المبنيّ على الحكمة ودقة الصنع، والإبداع في التكوين، هل تعقلون لهم مدخلًا في خلق جزء من هذا العالم السفليّ، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت في هذا النظام، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمدُّ أدناه من أعلاه، ويرتبط بعضه ببعض، وكل فرد في الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيهما، أم هل تظنون أن لهم شركة في خلق العالم العلويّ: شموسه وأقماره كواكبه ونجومه سياراتها وثوابتها. وقصارى ذلك: نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمَّ وجه، فقد نفى أنَّ لها دخلًا في خلق شيء من أجزاء العالم السفليّ استقلالًا، ونفى ثانيًا أنّ لها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

دخلًا على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلويّ، ونفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية أيضًا. وبعد أن بكتهم، وعجزهم عن الإتيان بسند عقلي .. عجَّزهم وبكَّتهم عن الإتيان بسند نقليّ، فقال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ ...} إلخ. تبكيت (¬1) لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. و {الباء} (¬2): للتعدية؛ أي: ائتوني بكتاب إلهي كائن {مِنْ قَبْلِ هَذَا} الكتاب الذي أنزل عليَّ؛ أي: من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وابطال الشرك، دالٍّ ذلك الكتاب على صحة دينكم؛ يعني: أنَّ جميع الكتب السماوية ناطقة بمثل ما نطق به القرآن {أَو} ائتوني بـ {أَثَارَةٍ} مصدر بوزن سماحة وغواية؛ أي: بقية كائنة {مِنْ عِلْمٍ} الأولين؛ أي: بقيةٍ كائنة من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم صحة عبادتها، فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو نقليّ، وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبيَّن بطلانها. وقرأ الجمهور (¬3): {أَوْ أَثَارَةٍ} وهو مصدر كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء، وقرأ عليُّ وابن عباس بخلاف عنهما وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي وأبو رجاء والأعمش وعمرو بن ميمون: {أَوْ أَثَارَةٍ} بفتح الهمزة والثاء بغير ألف، وهي واحدة جمعها أثر، كقترة وقتر، وقرأ عليّ والسلمي وقتادة أيضًا: بإسكان الثاء، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر؛ أي: قد قنعت لكم بخبر واحد، وأثر واحد يشهد بصحة قولكم، وقرأ الكسائي: {أثرة} بضم الهمزة وسكون الثاء، وهي لغة فيها. وعبارة البيضاوي هنا: وقرىء: {أَثَارَةٍ} - بالكسر؛ أي: مناظرة، فإن المناظرة تثير المعاني، وأثرة؛ أي: شيء أوثرتم به، وإثرة بالحركات الثلاث في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[5]

الهمزة وسكون الثاء، فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث: إذا رواه، والمكسورة بمعنى الأثر، والمضمومة اسم ما يؤثر. انتهى. والمعنى (¬1): أي أحضروا لي دليلًا مكتوبًا قبل القرآن مما نزل على الأنبياء، كالتوراة والإنجيل، يدلُّ على صحة عبادتكم لآلهتكم، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين في خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة، وتدل على صحة هذا المنهج الذي سلكتموه ونهجتموه، إن كنتم صادقين في ادّعائكم ألوهية الأصنام. والمعنى: لا دليل لكم نقليًا ولا عقليًا على ذلك. والخلاصة: أنّ الدليل إما وحى من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما إرشاد من العقل، فإن كان الأول .. فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني .. فأين هو؟. 5 - وبعد أن أبطل شركة الأصنام في الخلق بعدم قدرتها على ذلك .. أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ} {مِنْ}: للاستفهام الإنكاري، خبره. قوله: {أَضَل}؛ أي: وأيُّ امرىءٍ أبعد من الحق وأقرب إلى الجهل {مِمَّنْ يَدْعُو} ويعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: حال كونه متجاوزًا دعاء الله وعبادته {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ}؛ أي: أصنامًا وجمادًا لا تستجيب لداعيها. والموصول مع صلته مفعول {يَدْعُو}؛ أي: لا أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلًا عن جلب نفع أو دفع ضر؟ فتبيَّن به أنه أجهل الجاهلين، وأضل الضالّين، وما هنا للشوكاني من أنّ الاستفهام للتقريع والتوبيخ غير صواب؛ لأنّ قوله هذا يناقض تفسيره أولًا؛ أي: هم أضل من كل ضالّ، حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب الخبير، إلى عبادة مصنوعهم العاري عن السمع والقدرة والاستجابة. وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: غاية لنفي الاستجابة؛ أي: ما دامت الدنيا. ¬

_ (¬1) التفسير المنير.

فإن قيل (¬1): يلزم منه أن منتهى عدم الاستجابة يوم القيامة؛ للإجماع على اعتبار مفهوم الغاية .. قلنا: لو سلّم .. فلا يعارض المنطوق، وقد دلّ قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} الآية. على معاداتهم إياهم، فأنَّى الاستجابة. وقد يجاب بأنّ انقطاع عدم الاستجابة حينئذٍ؛ لاقتضائه سابقة الدعاء ولا دعاء، ويردّه قوله تعالى: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} إلّا أن يخصّ الدعاء بما يكون عن رغبة. كما في "حواشي سعدي المفتي". وقال ابن الشيخ: وإنما جعل ذلك غاية، مع أنّ عدم استجابتهم أمر مستمرّ في الدنيا والآخرة، إشعارًا بأنّ معاملتهم مع العابدين بعد قيام الساعة أشدّ وأفظع مما وقعت في الدنيا، إذ يحدث هناك العداوة والتبرّي، ونحوه: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} فإنّ اللعنة على الشيطان، وإن كانت أبدية، لكن يظهر يوم الدين أمر أفظع منها، تنسى عنده كأنها تنقطع. {وهُمْ}؛ أي: والحال أنّ الأصنام {عَنْ دُعَائِهِمْ}؛ أي: عن دعاء الداعين المشركين وعبادتهم، فالضمير الأول لمفعول {يَدْعُوا}، والثاني لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى {مِنَ} كما أنّ الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها {غَافِلُونَ}؛ أي: جاهلون لكونهم جمادات لا يعقلون، فكيف يستجيبون؟ وعلى تقدير كون معبوديهم أحياء كالملائكة ونحوهم، فهم عباد مسخرون مشغولون بأحوالهم، وضمائر العقلاء؛ لإجرائهم الأصنام مجرى العقلاء، ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها؛ للتهكم بها وبعبدتها. والمعنى (¬2): أي لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد من دون الله أصنامًا، ويتخذهم آلهةً، ويطلب منها ما لا تستطيعه، وهم إذا دُعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة؛ أي: لا يجيبون أبدًا ما داموا في الدنيا، إذ هم في غفلة. عن دعائهم؛ لأنهم أحجار، فهم صمّ بكم لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يعقلون، وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} تأبيد على عادة العرب، ما دامت الدنيا، وما أنكى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[6]

هذا التوبيخ، وما أمضى ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم، وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئًا ولا يفهم، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصائب. 6 - وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم في الدنيا، ولا يستجيبون لهم دعاء .. أبان حالهم في الآخرة فقال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي: وإذا جمع الناس لموقف الحساب .. {كَانُوا}؛ أي: الأصنام {لَهُم}؛ أي؛ لعابديهم {أَعْدَاءً} يضرُّونهم ولا ينفعونهم؛ أي: كانت هذه الآلهة التي يعبدونها في الدنيا أعداء لهم؛ إذ يتبرؤون منهم {وَكَانُوا}؛ أي: الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ}؛ أي: بعبادة عابديهم {كَافِرِينَ}؛ أي؛ منكرين مكذبين بلسان الحال، أو المقال، على ما يروى أنه تعالى يحيي الأصنام فتتبرأ من عبادتهم، وتقول: إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم (¬1)؛ لأنها الآمرة بالإشراك. والمعنى (¬2): أي وإذا جمع الناس العابدون للأصنام في موقف الحساب .. كانت الأصنام لهم أعداء تتبرّأ منهم وتلعنهم، وكانوا جاحدين مكذبين منكرين لعبادتهم، فيخلق الله الحياة في الأصنام فتكذّبهم، وتتبرّأ الملائكة والمسيح وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة، ونظير الآية قوله تعالى في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}، وقوله في سورة العنكبوت حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}. 7 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الكفار {آيَاتُنَا} القرآنية حالة كونها {بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات الدلالة على مدلولاتها من حلال وحرام وحشر ونشر وغيرها .. {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة {للْحَقَّ}؛ أي: لأجل الحقّ، وشأنه الذي هو ¬

_ (¬1) التفسير المنير. (¬2) روح البيان.

[8]

الآيات المتلوّة. ويجوز (¬1) أن تكون {اللام} بمعنى الباء؛ أي: كفروا بالحق، والتعدية بـ {اللام} من حمل النقيض على النقيض، فإن الإيمان يتعدّى بها كما في قوله: {آمَنْتُمْ لَهُ} وغيره. والحق هنا عبارة عن الآيات المتلوّة وضع موضع ضميرها تنصيصًا على حقّيتها، ووجوب الإيمان بها، كما وضع الموصول موضع ضمير المتلوّ عليهم؛ تسجيلًا بكمال الكفر والضلالة عليهم {لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: في أول ما جاءهم من غير تدبّر ولا تأمل {هَذَا} الحق الذي هو القرآن المتلوّ عليهم {سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر كونه سحرًا وباطلًا لا حقيقة له، وإذا جعلوه سحرًا .. فقد أنكروا ما نطق به من البعث والحساب والجزاء، وصاروا أكفر من الحمير؛ أي: أجهل وأبلد من الحمير؛ لأنّ الكفر من الجهل والعياذ بالله. والمعنى (¬2): أي وإذا تليت على هؤلاء حججنا التي أودعناها كتابنا، الذي أنزلناه عليك حال كونها بينة واضحةً جليةً .. قالوا في شأن الحق الذي أتاهم، وهو القرآن: هذا سحر واضح، وتمويه خادع، يفعل فعل السحر في قلب من سمعه، فكذّبوا به وافتروا وكفروا وضلوا. 8 - ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}؛ أي: بل أيقول كفار مكة: افترى محمد هذا القرآن؛ أي: اختلقه من عند نفسه، وأضافه إلى الله كذبًا، فقولهم هذا منكر، ومحل تعجب، فإن القرآن كلام معجز خارج عن حيّز قدرة البشر، فكيف يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ويفتريه؟. واعلم: أنّ كلًّا من السحر والافتراء كفر، لكن الافتراء على الله أشنع من السحر، و {أَمْ} هنا هي (¬3) المنقطعة المقدرة بمعنى بل، وهمزة الاستفهام التوبيخي التعجبي من صنيعهم، ويل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحرًا إلى قولهم: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

يخفى؛ أي: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب، إنهم يقولون: إنّ محمدًا افتراه على الله محمدًا، واختلقه عليه اختلاقًا. ثمّ أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم، ويبطل شبهتهم بقوله: {قُل} لهم يا محمد {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} واختلقته على سبيل الفرض والتقدير {فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}؛ أي: فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله شيئًا، إذ لا ريب في أنّ الله تعالى يعاقبني حينئذٍ، فكيف أفتري على الله كذبًا، وأعرض نفسي للعقوبة التي لا خلاص منها؟. والمعنى: أي قل لهم يا محمد: لو كذبت على الله، وزعمت أنه أرسلني إليكم، ولم يكن الأمر كذلك .. لعاقبني أشدّ العقاب، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرض نفسي لعقابه؟ فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله في الرسالة، وهي الجامعة لأمور عظيمة، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم في دينهم ودنياهم. ونحو الآية قوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} وقوله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}. ثم علَّل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله: {هُوَ} سبحانه وتعالى: {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ}؛ أي: أعلم بما تخوضون فيه من قدح القرآن، وطعن آياته، وتسميته سحرًا تارةً، وفريةً أخرى؛ أي: هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن وغيره. ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله تعالى فقال: {كَفَى بِهِ} سبحانه وتعالى - و {الباء}: صلة - {شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} حيث يشهد لي بالصدق في البلاغ، وعليكم بالتكذيب والجحود، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم في الطعن في الآيات.

[9]

ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون، ويثوبون إلى الحق، فقال: {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الغَفُورُ} لمن تاب وآمن وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه {الرَّحِيمُ} له بقبول توبته؛ أي: ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم، وصحّ عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه تاب عليكم، وعفا عنكم، وغفر لكم ورحمكم. 9 - وبعد أن حكى عنهم طعنهم في القرآن .. أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة، وهي طلبهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون، وكلها تدور حول الإخبار بشؤون الغيب، فقال: {قُل} لهم يا محمد: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}؛ أي: ما كنت رجلًا غير مسبوق بمثله من الرسل، والبدع (¬1) بالكسر: البديع، وهو من الأشياء ما لم ير مثله، كانوا يقترحون عليه - صلى الله عليه وسلم - آيات عجيبة، ويسألونه عن المغيبات عنادًا ومكابرةً، فأمر عليه السلام بأن يقول لهم: ما كنت بدعًا من الرسل؛ أي: لست بأول مرسل أرسل إلى البشر، فإنه تعالى قد بعث قبلي كثيرًا من الرسل، وكلهم قد اتفقوا على دعوة عباد الله إلى توحيده وطاعته، ولست داعيًا إلى غير ما يدعون إليه، بل أدعو إلى الله بالإخلاص في التوحيد، والصدق في العبودية، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولست قادرًا على ما لم يقدروا عليه، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب، فإن من قبلي من الرسل ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات، ولا يخبرون قومهم إلا بما أوحي إليهم، فكيف تنكرون منّي أن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الأنبياء؟ وكيف تقترحون عليّ ما لم يؤته الله إيّاي؟. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة (¬2): {بِدَعًا}: بكسر الباء وفتح الدال جمع بدعة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ذا بدع، وقرأ مجاهد: {بَدِعًا} بفتح الباء، وكسر الدال كحذر على الوصف، وقرأ الجمهور: بكسر الباء وسكون الدال. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

والمعنى: أي قل لهم: لست بأول رسول بلَّغ عن ربه، بل قد جاءت رسل من قبلي، فما أنا بالفذِّ في لم يعهد له نظير حتى تستنكروا وتستبعدوا رسالتي إليكم، وأما أنا بالذي يسشطيع أن يأتي بالعجزات متى شاء، بل ذلك بإذنه تعالى، وتحت قبضته وسلطانه، وليس لي من الأمر شيء، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أيها المكذبون. {ما} الأولى: نافية، و {لا} تأكيد لها، والثانية: استفهامية مرفوعة بالابتداء، خبرها: {يُفْعَلُ}. وجُوِّز أن تكون الثانية موصولة منصوبة بـ {أَدْرِي} والاستفهامية أقضى لحق مقام التبرّي من الدراية؛ أي: (¬1) وما أعلم أيُّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، وإلام يصير أمري وأمركم في الدنيا، فإنه قد كان من الأنبياء من يسلم من المحن، ومنهم من يمتحن بالهجرة من الوطن، ومنهم من يبتلى بأنواع الفتن، وكذلك الأمم منهم من أهلك بالخسف، ومنهم من كان هلاكه بالقذف، وكذا بالمسخ وبالريح وبالصيحة وبالغرق وبغير ذلك، فنفى عليه السلام علم ما يفعل به وبهم من هذه الوجوه، وعلم من هو الغالب المنصور منه ومنهم، ثم عرّفه الله بوحيه إليه عاقبة أمره وأمرهم، فأمره بالهجرة، ووعده العصمة من الناس، وأمره بالجهاد، وأخبر أنه سيظهر دينه على الأديان كلها، ويسلَّط على أعدائه ويستأصلهم. وقيل (¬2): يجوز أن يكون المنفي هي الدراية المفصلة؛ أي: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل، إذ لا علم لي بالغيب، وكان بالإجمال معلومًا بقوله فإن جند الله هم الغالبون وإن مصير الأبرار إلى النعيم، ومصير الكفار إلى الجحيم، وقال أبو السعود - رحمه الله تعالى -: والأظهر الأوفق لما، ذكر من سبب النزول: أنّ {ما} عبارة عما ليس في علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين هذا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {مَا يُفْعَلُ} بضم الياء مبنيًا للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: بفتحها مبنيًا للفاعل. وخلاصة المعنى: أي ولا أعلم ما يفعل بي في الدنيا، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلي؟ أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل بكم أيها المكذبون، أترمون بحجارة من السماء؟ أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربّي جلّ وعلا. وفي "صحيح البخاري" وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت: لما مات عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -: قلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله تعالى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يدريك أنّ الله أكرمه، أما هو فقد جاءه اليقين من ربّه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم" قالت أم العلاء: فوالله ما أزكّي بعده أحدًا، وفي رواية الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس، أنه لما مات .. قالت امرأته أو امرأة: هنيئًا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر مغضب، وقال: "وما يدريك، والله إني لرسول الله، وما أدري ما يفعل بي" فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: "أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه". ومن هذا يعلم أنّ ما ينسب إلى بعض الأدعياء من العلم بشؤون الغيب فهو فرية على الله ورسوله، وكفى بما سلف ردًّا عليهم. ثم أكد ما سلف وقرّره بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}؛ أي: ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع شيئًا من عندي؛ أي: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إليّ، على معنى قصر أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتسارع إلى الأفهام، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب. وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذية المشركين، والأول هو الأوفق لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} أنذركم عقاب الله، وأخوفكم عذابه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[10]

حسبما يوحى إليّ، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتي، ولستُ أقدر على شيء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر {مُبِينٌ}؛ أي: بيّن الإنذار لكم بالمعجزات الباهرة، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل مبلِّغًا وليس له من الهداية شيء، ولكن الله يهدي من يشاء. وقرأ ابن عمير (¬1): {ما يوحي} بكسر الحاء؛ أي: الله عَزَّ وَجَلَّ 10 - {قُلْ} لهم يا محمد، {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني أيها القوم {إن كَانَ} ما يوحى إليّ من القرآن في الحقيقة {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لا سحرًا ولا مفترى كما تزعمون {وَكَفَرْتُمْ بِهِ}؛ أي: والحال أنكم قد كفرتم به، فهو (¬2) حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسط بين أجزاء، الشرط، مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر، ويجوز أن يكون عطفًا على كان كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} لكن لا على أنَّ نظمه في سلك الشرط المتردِّد بين الوقوع وعدمه عندهم، باعتبار حاله في نفسه، بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم، فإن كفرهم به متحقق عندهم أيضًا، وإنما تردُّدهم في أنَّ ذلك كفر بما عند الله أم لا؟ وكذا الحال، قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وما بعده من الفعلين، فإن الكل أمور متحققة عندهم، وإنما تردّدهم في أنها شهادة وإيمان بما عند الله، واستكبار منهم أم لا؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} عظيم الشأن {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الواقفين على شؤون الله،، وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة {عَلَى مِثْلِهِ}؛ أي: على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك، فإنها عين ما فيه في الحقيقة، كما يعرب عنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)}، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ. وقال الجرجاني: مثل صلة؛ يعني: عليه. والمعنى: وشهد شاهد على القرآن أنه من عند الله. وكذا قال الواحدي. و {الفاء} في قوله: {فَآمَنَ}: للدلالة على أنه سارع في الإيمان بالقرآن لما علم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، وليس من كلام البشر {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عطف على {شهد شاهد}؛ أي: فآمن الشاهد بالقرآن، واستكبرتم أنتم عن الإيمان. وجواب (¬1) الشرط محذوف، والتقدير: أخبروني إن كان من عند الله، وشهد على ذلك أعلم بني إسرائيل فآمن به من غير تباطؤ، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة، فمن أضل منكم؟ بقرينة قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ}. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين يضعون الجحد والإنكار موضع الإقرار والتسليم، وصفهم بالظلم؛ للإشعار بعلية الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم وعنادهم بعد وضوح البرهان. وقال أبو حيان: ومفعولا {أَرَأَيْتُمْ}: محذوفان؛ لدلالة المعنى عليهما، والتقدير: أرأيتم حالكم إن كان كذا، ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط، محذوف؛ أي: فقد ظلمتم، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيًا. إنتهى. وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لهم بحال، إذ عند وجود الشاهد على حقّية الدعوى تبطل الخصومة، وذلك الشاهد في الآية عبد الله بن سلام بن الحارث حبر أهل التوراة، وكان اسمه الخصين، فسمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله - رضي الله عنه - لما سمع بقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة .. أتاه، فنظر إلى وجه الكريم، فعلم أنه ليس بوجه كذّاب، وتأمّله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما حال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما أول أشراط الساعة .. فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة .. فزيادة كبد الحوت، وأما الولد .. فإن سبق ماء الرجل .. نزعه، وإن سبق ماء المرأة .. نزعته" فقال: أشهد أنك رسول الله حقًا، فقام ثم قال: يا رسول الله، إنّ إليهود قوم بهتٌ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك، فجاء اليود وهم خمسون، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيّ رجل عبد الله فيكم؟ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقالوا، شرّنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض: "إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقال مسروق - رضي الله عنه -: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، فإن آل {حمَ (1)} نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعامين، وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية، وإن كانت السورة مكية، فوضعت في المكية على ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى الآية: أي قل لهم (¬1): أخبروني حالكم إن ثبت أنّ القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون، ثم كذبتم به، وشهد أعلم بني إسرائيل بكونه من عند الله، فآمن واستكبرتم، أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟ والخلاصة (¬2): أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، وشهادة منصف من بني إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت، فآمن به مع استبكاركم، أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟ ثم ذكر أن في استكبارهم عن الإيمان ظلمًا لأنفسهم، وكفرا بآيات ربهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: إنّ الله لا يوفق لإصابة الحق، وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسم باستحقاقهم بسخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم، وهذا استئناف بياني تعليل لاستكبارهم. 11 - ثم حكى نوعًا آخر من أقاويلهم الباطلة في القرآن العظيم والمؤمنين به ¬

_ (¬1) المراغى. (¬2) المراغي.

فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة {لِلَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: لأجلهم، فليس الكلام على المواجهة والخطاب حتى يقال: ما سبقتمونا؛ أي: قالوا لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لف لفهم: {لَوْ كَانَ} ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والدين {خَيْرًا}؛ أي: حقًا {مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}؛ أي: ما سبقنا إليه هؤلاء الأراذل والفقراء، فإنّ معالي الأمور لا تنالها أيدي الأراذل، وهؤلاء سقاط الناس، ورعاة الإبل والشاء، وقد قالوا (¬1) ذلك زعمًا منهم أنّ الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية، والإقبال على الآخرة بالكلية، وأنّ من فاز بها .. فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها .. فما له منها من خلاق، ولم يعلموا أنّ الله يختصّ برحمته من يشاء، ويصطفي لدينه من يشاء. يقول الفقير: الأولى في مثل هذا المقام أن يقال: إنّ الرياسة الدينية فضل الله تعالى، يؤتيه من يشاء بغير علل ولا أسباب، فإن القابلية أيضًا إعطاء من الله تعالى. انتهى. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ}: ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله، ويترتب عليه ما بعده، لا لقوله: {فَسَيَقُولونَ} فإنه للاستقبال، و {إذ} للمضي؛ أي: وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان قالوا ما قالوا؛ أي: وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم وقالوا: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه {فَسَيَقُولُونَ} في المستقبل غير مكتفين بنفي خيريّته: {هَذَا} القرآن {إِفْكٌ قَدِيمٌ} وكذب مأثور عن الناس الأقدمين، كما قالوا: أساطير الأولين بقصد انتقاص القرآن وأهله، فقد جهلوا بلبّ القرآن وعادوه؛ لأنّ الناس أعداء ما جهلوا، ومن كان مريضًا مرّ الفم .. يجد الماء الزّلال مرًا، فلا ينبغي لأحد أن يستهين بشيء من الحق إذا لم يهتد عقله به، ولم يدركه فهمه، فإنّ ذلك من محض الضلالة والجهالة، بل ينبغي أن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

يطلب الاهتداء من الهادي ويجدَّ فيه. 12 - ثمّ ردّ عليهم طعنهم في القرآن، وأثبت صحته فقال: {وَمِنْ قَبْلِهِ}؛ أي: من قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى}؛ أي: التوراة. قرأ الجمهور (¬1): بكسر الميم من {مِنْ} على أنها حرف جر، وهي ومجرورها خبر مقدم، و {كِتَابُ مُوسَى}: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لردّ قولهم: {إِفْكٌ قَدِيمٌ}، وإبطال له، فإن كونه مصدقًا لكتاب موسى مقرّر لحقيته قطعًا؛ يعني: كيف يصحّ هذا القول منهم، وقد سلّموا لأهل كتاب موسى أنهم من أهل العلم؟ وجعلوهم حكمًا يرجعون لقولهم في هذا النبي، وهذا القرآن مصدق له، أو له ولسائر الكتب الإلهية؛ أي: فإن كون القرآن موافقًا لكتاب موسى في أصول الشرائع، يدل على أنه حق، وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}. وقرأ الكلبي بفتح ميم {مَن} على أنها موصولة ونصب {كتاب} على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: وآتينا من قبل القرآن، أو قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كتاب موسى {إِمَامًا} حال من {كِتَابُ مُوسَى}؛ أي: حال كون كتاب موسى إمامًا يقتدى به في دين الله سبحانه {و} حال كونه {رحمة} لمن آمن به، وعمل بموجبه {وَهَذَا} القرآن في يقولون في حقه ما يقولون {كِتَابٌ} عظيم الشأن {مُصَدِّقٌ} لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة، أو مصدق لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من ضمير {كِتَابٌ} في {مُصَدِّقٌ}؛ أي: حال كون هذا القرآن ملفوظًا به على لسان العرب؛ لكون القوم عربًا. قرأ الجمهور (¬2): {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بياء الغيبة على أنّ فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب أو الله أو الرسول، والأول أولى، وهو متعلق بـ {مُصَدِّقٌ}، وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو رجاء وشيبة والأعرج وأبو جعفر: {لتنذر} بتاء الخطاب للرسول، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد؛ أي: وهذا كتاب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

مصدق لما بين يديه، أنزل بلسان عربي مبين؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالإشراك وهم كفار مكة. وقوله: {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} في حيّز النصب عطفًا على محل {لِيُنْذِرَ}؛ لأنه مفعول له؛ أي: أنزل بلسان عربي لينذر الظالمين بعبادة الأصنام من عذاب الله سبحانه، وليبشّر المحسنين بالإيمان والعمل الصالح بالجنة، وبرضوان الله تعالى. وقال الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع؛ أي: وهو {بشرى للمحسنين} وقوله: {لِلْمُحْسِنِينَ} متعلق بـ {بشرى}. ومن الظالمين (¬1): اليهود والنصارى، فإنهم قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وغيّروا ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونعته في التوراة والإنجيل، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، فكان - صلى الله عليه وسلم - نذيرًا لهم، وبشيرًا للذين آمنوا بجميع الأنيياء والكتب المنزلة، وهدوا إلى الصراط المستقيم، وثبتوا على الدين القويم. والخلاصة: كيف يكون إفكًا قديمًا وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون بصدقه، وهو بلسان عربيّ، والتوراة بلسان عبريّ؟ فتصديق الأول للثاني مع اختلاف لغتهما دليل على اتحادهما صدقًا، فبطل كونه إفكًا قديمًا، وثبت له الصدق القديم. ومجمل معنى الآية (¬2): أي ومما يدلّ على أنّ القرآن حق وصدق، وأنه من عند الله ... اعترافكم بإنزال الله التوراة على موسى الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوارة في أصول الشرائع مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب الإلهية المتقدمة، أنزله الله حال كونه بلغة عربية واضحة فصيحة، يفهمونها، من أجل أن ينذر به هذا النبي الكريم من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم، وهم مشركوا مكة، ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملًا، فهو مشتمل على النذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين، وهو ليس إفكًا قديمًا كما يزعمون، بدليل توافقه مع التوراة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) التفسير المنير.

الإعراب {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)}. {حم (1)}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مسماة بلفظ حم، والجملة: مستأنفة. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}: خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ، خبره {مِنَ اللَّهِ} والجملة: مستأنفة. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: صفتان للجلالة. {مَا}: نافية. {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} والجملة: مستأنفة. {وَمَا} اسم موصول معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {بَيْنَهُمَا}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {ما}. {إلَّا}: أداة استثناء مفرّغ. {بِالْحَقِّ}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة. {وَأَجَلٍ}: معطوف على {الحق} {مُسَمًّى}: صفة لـ {الحق}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة. {الذين}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {عَمَّا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُعْرِضُونَ} وجملة {أُنْذِرُوا}: صلة الموصول، والعائد: محذوف؛ أي: عن الذي أُنذروه. {مُعْرِضُونَ}: خبر {الذين} ويجوز أن تكون {مَا}: مصدرية، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم، والجملة الاسمية، معطوفة على الجملة الفعلية قبلها. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، و {مَا} مفعول به أول، وجملة {تَدْعُونَ}: صلة لـ {مَا} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {تَدْعُونَ}؛ أي: تدعونهم مجاوزين الله في دعائهم. {أَرُونِي}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة: توكيد لـ {أَرَأَيْتُمْ}. {مَاذَا}: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ {خَلَقُوا}. {خَلَقُوا}: فعل وفاعل. {مِنَ الْأَرْضِ} حال من مفعول {خَلَقُوا}، والجملة الفعلية سادّة مسدّ المفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتُمْ} وإن شئت قلت: {ما}:

اسم استفهام مبتدأ، {ذا} اسم موصول خبره، وجملة {خَلَقُوا}: صلة الموصول، والجملة الاسمية سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتُمْ} ويجوز أن لا تكون {أَرُونِي} توكيدًا لـ {أَرَأَيْتُمْ} فتكون المسألة من باب التنازع؛ لأنّ {أَرَأَيْتُمْ}: يطلب مفعولًا ثانيًا. و {أَرُونِي} كذلك، وقوله: {مَاذَا خَلَقُوا} هو المتنازع فيه. {أَمْ}: منقطعة، بمعنى همزة الاستفهام وبل الإضرابية. كما مر. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {شِرْكٌ}: مبتدأ مؤخر. {فِي السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {شِرْكٌ} والجملة الاسمية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {ائْتُونِي}: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة: من تتمّة المقول. {بِكِتَابٍ}: متعلق بـ {ائْتُونِي}. {مِنْ قَبْلِ هَذَا}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {كتاب}. {أَوْ أَثَارَةٍ}: معطوف على {كتاب} {مِنْ عِلْمٍ} صفة لـ {أَثَارَةٍ}. {إِن}: حرف شرط. {كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فائتوني به، وجملة الشرط، من تتمّة المقول. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. {وَمَنْ} {الواو}: استئنافية. {من}: اسم استفهام معناه الإنكار، في محل الرفع مبتدأ. {أَضَلُّ}: خبره، والجملة مستأنفة. {مِمَّنْ}: متلعق بـ {أَضَلُّ}، وجملة {يَدْعُو}: صلة {مَن} الموصولة {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من فاعل {يَدْعُو}، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَدْعُو}، {لا}: نافية. {يَسْتَجِيبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَن}. {لَهُ}: متعلق بـ {يَسْتَجِيبُ} والجملة صلة {مَن} الموصولة. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {يَسْتَجِيبُ} أو حال من فاعله. {وَهُمْ} {الواو}: حالية. {هم}: مبتدأ. {عَنْ دُعَائِهِمْ}: متعلق بـ {غَافِلُونَ} و {غَافِلُونَ}: خبر {هم}، والجملة: في محل النصب حال من مفعول {يَدْعُو}، والجمع باعتبار معنى {مَن} الموصولة.

{وَإِذَا} {الواو}: استئنافية {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {حُشِرَ النَّاسُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة، في محل الخفض فعل شرط لـ {إذا}، {كَانُوا}: فعل ماض ناقص واسمه. {لَهُمْ} حال من {أَعْدَاءً}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {أَعْدَاءً}: خبر {كان} وجملة {كان} جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه، معطوف على {كان} الأولى، {بِعِبَادَتِهِمْ}: متعلق بـ {كَافِرِينَ} و {كَافِرِينَ} خبر {كان}. {وإذَا} {الواو}: عاطفة. {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان. {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تُتْلَى}، {آيَاتُنَا} نائب فاعل، والجملة: فعل شرط لـ {إذا}. {بَيِّنَاتٍ}: حال من {آيات} وجملة {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: جواب {إذا} وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {إذا} الأولى. {لِلْحَقّ}: متعلق بـ {قَالَ} و {اللام} فيه: للتعليل. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين، في محل النصب على الظرفية، مبنيّ على السكون، والظرف: متعلق بـ {قَالَ}. {جَاءَهُمْ} فعل ومفعول به وفاعل يعود على {الحق} والجملة؛ في محل الخفض بإضافة {لَمَّا} إليها. {هَذَا سِحْرٌ} مبتدأ وخبر. {مُبِينٌ}: صفة {سِحْرٌ} والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}. {أَمْ}: منقطعة مقدرة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {يَقُولونَ} فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {افْتَرَاهُ}: فعل ماض، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {إن}: حرف شرط. {افْتَرَيْتُهُ}: فعل ماض وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {إِن} الشرطية وجوبًا؛ لاقتران الجواب بـ {لا} النافية {لا}: نافية. {تَمْلِكُونَ}: فعل مضارع وفاعل مرفوع بثبات النون. {لِي}: متعلق بـ {تَمْلِكُونَ}. {مِنَ اللَّهِ} حال من

{شَيْئًا} و {شَيْئًا} مفعول {تَمْلِكُونَ}، وجملة {تَمْلِكُونَ}: جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول {قُل}. {هُوَ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {بِمَا}: متعلق بـ {أَعْلَمُ} وجملة {تفُيضُونَ}: صلة لـ {ما}، {فِيه}: متعلق بـ {تُفِيضُونَ}. {كَفَى}: فعل ماض، {بِهِ} {الباء}: زائدة، و {الهاء}: ضمير مجرور لفظًا في موضع رفع فاعل {كَفَى} والجملة: في محل النصب قول {قُلْ}. {شَهِيدًا}: تمييز لفاعل {كَفَى}، {بَيْنِي}: متعلق بـ {شَهِيدًا} {وَبَيْنَكُمْ}: معطوف على {بَيْنِي}، {وَهُوَ}: مبتدأ. {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: خبران لـ {هو} والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {مَا}، نافية. {كُنْتُ بِدْعًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول {قُل}، {مِنَ الرُّسُلِ}: صفة لـ {بِدْعًا}. {مَا} {الواو}: عاطفة، {ما}: نافية، {أَدْرِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ وجملة {يُفعَلُ}: من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية سادّة مسدّ مفعولي {أَدْرِي} وهي معلقة عنها باسم الاستفهام. {بِي}: متعلق بـ {يُفْعَلُ}. {وَلَا بِكُم}: معطوف عليه. قال الزمخشري: و {مَا} في {مَا يُفْعَلُ}: يجوز أن تكون موصولةً منصوبةً، وأن تكون استفهامية مرفوعة. انتهى. وجملة {وَمَا أَدْرِي}: معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قُل}. {إن} نافية. {أَتَّبِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {إلَّا} أداة حصر. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {أَتَّبِعُ}، {يُوحَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر يعود على {مَا}، {إِلَيَّ}: متعلق بـ {يُوحَى}، وجملة {يُوحَى}، صلة لـ {مَا} الموصولة، {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {أَنَا}: مبتدأ، {إلا}: أداة حصر. {نَذِيرٌ}: خبره {مُبِينٌ}: صفة {نَذِيرٌ}،

والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على ما قبلها، على كلونها مقولا لـ {قُلْ}. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {أَرَأَيْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قل} ومفعولا {أَرَأَيْتُمْ}: محذوفان تقديرهما: أرأيتم حام إن كان كذا وكذا ألستم ظالمين؟. وجواب الشرط: محذوف أيضًا، تقديره: فقد ظلمتم، وقيل: تقديره: فمن المحق منّا ومن المبطل؟ وقيل: جواب الشرط {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}. {إن}: حرف شرط، {كَانَ}: فعل ناقص في محل الجزم بـ {إِنَّ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير يعود على القرآن. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: خبره، وجواب {إِن} الشرطية: محذوف، كما قدرنا آنفًا، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول {قُلْ} {وَكَفَرْتُمْ} {الواو}: حالية. {كفرتم}: فعل وفاعل {بهِ}: متعلق بـ {كفرتم} والجملة الفعلية: في محل النصب حال من اسم {كاَنَ} ولكن بتقدير قد. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ}: فعل وفاعل في محل النصب معطوف على: {كفرتم}. {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: جار ومجرور صفة لـ {شَاهِدٌ}. {عَلَى مِثْلِهِ}: متعلق بـ {شهد}. {فَآمَنَ} {الفاء} عاطفة. {آمن}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {شَاهِدٌ} والجملة معطوفة على جملة {شهد}، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنَ}، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {لَا}: نافية. {يَهْدِي}: فعل مضارع. وفاعل مستتر يعود على الله. {الْقَوْمَ}: مفعول {يَهْدِي}، {الظَّالِمِينَ}: صفة للقوم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ}: في محل النصب مقول {قُل} أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، وجملة {كَفَرُوا}. صلة الموصول. {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {قال}

و {اللام}: للتعليل، {آمَنُوا}: صلة الموصول {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {كَانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على القرآن، أو على ما جاء به محمد. {خَيْرًا}: خبرها، والجملة: فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب {مَا}: نافية {سَبَقُونَا} فعل وفاعل ومفعول به {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {سَبَقُونَا} والجملة جواب {لا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ}: في محل النصب مقول {قال}. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}. {وَإِذْ} {الواو}: عاطفة. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: ظهر عنادهم وتسبّب عنه قوله: {فَسَيَقُولُونَ}، ولا يعمل في {إذ} قوله: {فَسَيَقُولونَ}؛ لتضاد الزمانين، ولأجل {الفاء} أيضًا. {لَمْ}: حرف جزم. {يَهْتَدُوا}: فعل مضارع. وفاعل جزوم بحذف النون. {بِهِ} متعلق بـ {يَهْتَدُوا} والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، والظرف: متعلق بذلك المحذوف، والجملة المحذوفة: معطوفة عمى جملة قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. {فَسَيَقُولونَ} {الفاء}: عاطفة، و {السين}: حرف استقبال. {يقولون}: فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة، التي هي متعلق {إذ} الظرفية. {هَذَا إِفْكٌ}: مبتدأ وخبر {قَدِيمٌ} صفة {إِفْكٌ}، والجملة: في محل النصب مقول لـ {يقولون}، {وَمِنْ قَبْلِهِ} {الواو}: استئنافية {من قبله}: جار ومجرور خبر مقدم، {كِتَابُ مُوسَى} مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {إِمَامًا وَرَحْمَةً}: حالان من {كِتَابُ مُوسَى}. {وَهَذَا} {الواو}: عاطفة. {هذا}: مبتدأ. {كِتَابٌ}: خبره، والجملة: معطوفة على ما قبلها. {مُصَدِّقٌ}: صفة {كِتَابٌ}. {لِسَانًا}: حال مؤولة من الضمير المستكن في {مُصَدِّقٌ}، أو من {كِتَابٌ}. والعامل فيه، معنى الإشارة، والتقدير: ملفوظًا به بلغة عربية. {عَرَبِيًّا}: صفة {لِسَانًا}، {لِيُنْذِرَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {ينذر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الكتاب. {الَّذِينَ}: مفعول

به، وجملة {ظَلَمُوا}: صلة الموصول، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور {باللام} الجار والمجرور: متعلق بمحذوف، تقديره: أنزل لإنذاره الذين ظلموا. {وَبُشْرَى}: معطوف على محل {لِيُنْذِرَ} إن كان مفعولًا لأجله، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: وهو بشرى {لِلْمُحْسِنِينَ} متعلق بـ {بشرى} أو صفة له. التصريف ومفردات اللغة {عَمَّا أُنْذِرُوا}؛ أي: خوّفوا. {مُعْرِضُونَ}؛ أي: مولّون لاهون. {مَا تَدْعُونَ}؛ أي: تعبدون. {أَرُونِي} أصله: أرئيوني، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثمّ حذفت للتخفيف واستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمّت الراء لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع لبناء الأمر على ذلك. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ}؛ أي: نصيب وفي "السمين": والشرك: المشاركة. اهـ. وهذا أولى. {ائْتُونِي} أصله: ائتيونني، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء ثم حركت التاء بحركة مجانسة للواو، ثم حذفت نون الرفع لبناء الأمر على ذلك. تنبيه: أبدل ورش والسوسي الهمزة الثانية من {ائْتُونِي} في الوصل ياء، وحققها الباقون، ومن المعلوم أنّ الأولى همزة تسقط في الوصل، وأما الابتداء بها .. فجميع القرّاء أبدلوها ياءً بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورةً. اهـ "خطيب". {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}؛ أي: بقية كائنة من علم الأثارة بفتح الهمزة، ومثلها الأثرة بالتحريك، بقيةٌ من علم، والمَكْرُمة المتوارثة، والفعل المجيد، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم ولحم، أي: على بقية لحم وشحم كانت بها من لحم وشحم ذاهبٍ ذائبٍ. وعن ابن الأعرابي: أغضبني فلانٌ على أثارة غضبٍ، أي: على أثر غضب كان قبل ذلك، وهم أثارةٌ من علم؛ أي: بقيةٌ منه يأثرونها عن الأولين، ويقال: لبني فلان أثارةٌ من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة. وفي "المختار": وأثر الحديث: ذكره عن غيره فهو آثر بالمد، وبابه نصر، ومنه حديث مأثور، ينقله خلف عن سلف. اهـ. وفي "السمين": قوله: أو أثارة

العامة على أثارة، وهي مصدر على فعالة كالشجاعة والغواية والضلالة والسماحة، ومعناها: البقية. والمعنى: بما يؤثر ويروى؛ أي: ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم، وهذا على سبيل التنّزل للعلم بكذب المدّعي اهـ. {أَضَلُّ} أصله: أَضْلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. {عَنْ دُعَائِهِمْ} فيه إعلالٌ بالإبدال، أصله: دعاوهم، أبدلت الواو همزة لتطرّفها إثر ألف زائدة. {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} والحشر، الجمع. كما في "القاموس". قال الراغب: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرّهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها، ولا يقال إلا في اجماعة. وسمّي يوم القيامة يوم الحشر، كما سمّي يوم البعث، ويوم النشر. {افْتَرَاهُ} كذب عليه عمدًا. {فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}؛ أي: لا تغنون عنّي من الله شيئًا إن أراد تعذيبي. {تُفِيضُونَ فِيهِ}؛ أي: تخوضون فيه، يقال: أفاضوا في الحديث: إذا خاضوا فيه وشرعوا؛ أي: تخوضون في قدح القرآن، وطعن آياته، وتسميته سحر تارة، وفرية أخرى، وهو من فاض الماء وأفاضه: إذا سال، وأصله: تفيضون، بوزن تفعلون مضارع أفاض، نقلت حركة الياء إلى الفاء فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد. {كَفَى بِهِ شَهِيدًا} أصله: كفى بوزن فعل كرمي، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا} البدع والبديع من كل شيء: المبتدع المحدث دون سابقة له من الابتداع، وهو الاختراع. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} يوحى: فيه إعلال بالقلب، أصله: يوحي قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أصله: يهتديون، حذفت نون الرفع؛ لدخول الجازم وهو {لَمْ} فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت ... التقى ساكنان فحذفت الياء وضمت الدال لمناسبة الواو. {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}؛ أي: من قول الأقدمين، فهذا على حدّ قولهم: هو أساطير الأولين. وفي "الخطيب" {قَدِيمٌ}؛ أي: أَفَكَه غيره وعثر هو عليه وأتى به، ونسبه إلى الله تعالى، كما قالوا: أساطير الأولين. {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} لم يقل له؛ أي: لكتاب موسى تعميمًا وإيذانًا بأنه

مصدق للكتب السماوية كلِّها، لا سيما نفسه؛ لكونه معجزًا. اهـ "كرخي". {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} وبشرى مصدر على وزن فعلى، كرجعى، وهي بمعنى البشارة، والبشارة: الخبر السار، سمي بشارة؛ لطلاقة بشرة وجهه عند سماعه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الكناية في قوله: {عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}؛ لأنه كناية عن ترك الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَرَأَيْتُمْ} و {أَرُونِي}. ومنها: التبكيت في قوله: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا}؛ لأنّ الغرض منه تبكيتهم، وتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَدْعُوا} {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ}. ومنها: النكتة البلاغية الرائعة في قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المعنى عندها، لكن عدم الاستجابة مستمرّ بعد هذه الغاية؛ لأنهم في القيامة أيضًا لا يستجيبون لهم، فالوجه: أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأنّ الحالتين، وإن كانتا نوعًا واحدًا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أنّ الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر، بعبادتهم إياهم. ومنها: التغليب، فغلب العاقل على غيره على سبيل المجاراة معهم، حيث عبّر عن الأصنام وغيره بضمير العقلاء في قوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}؛ لأن عابدي الأصنام يصفونها بالتمييز جهلًا منهم وغباوةً.

ومنها: وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة، مع ظهور حالها للتهكم بها وبعَبَدَتِها. ومنها: وضع الموصول موضع ضمير المتلوّ عليهم في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} تسجيلًا عليهم بكمال الكفر والضلالة، وفيه أيضًا: وضع الحق موضع ضمير الآيات المتلوّة تنصيصًا على حقّيتها، ووجوب الإيمان بها. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} حيث استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء، والاندفاع فيه. ومنها: القصر في قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}؛ أي: ما أفعل إلا اتباع ما يوحي إليّ على معنى قصر أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي كما هو المتسارع إلى الأفهام. ومنها: الطباق بين: {آمن} و {كفرتم} وبين: {ينذر} و {بشرى}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ}. ومنها: حذف المتعلق في قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} حيث لم يقل: مصدق له؛ أي: لكتاب موسى؛ إفادة للتعميم، وإيذانًا بأنه مصدق للكتب السماوية كلها، لا سيما نفسه، لكونه معجزًا كما سبق عن الكرخي. ومنها: تنكير {كِتَابٌ} في قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ}؛ إيذانًا بفخامة شأنه، وعلوّ قدره. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} تسجيلًا عليهم بصفة الظلم؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: لينذرهم؛ أي: أهل مكة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}. المناسبة قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها:

أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) في سابق الآيات توحيده سبحانه، وإخلاص العبادة له، والاستقامة في العمل .. أردف هذا بالوصية بالوالدين؛ وقد فعل هذا في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقوله {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}. وعبارة "التفسير المنير": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬2) جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة .. أمر ووصّى ببرّ الوالدين، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ بوالديه بعد بلوكه سنَّ الأربعين، وبشره بقبول أعماله الصالحة، والتجاوز عن سيئاته، وجعله في عداد أصحاب الجنة وعدًا منجزًا لا خلف فيه. انتهى. قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬3) حال الداعين للوالدين البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهم من الفوز والنجاة في الدار الآخرة .. أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتّجين بأنّ القرون الخوالي لم تبعث، ثم ردّ الأباء عليهم بأنّ هذا اليوم حقّ لا شك فيه، بإجابة الأبناء لهم بأنّ هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أنّ أمثال هؤلاء ممن حقّ عليهم القول بأنّ مصيرهم إلى النار. ثم أردف هذا بأنّ لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم، كفاء ما قدموا من عمل، وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار: أنتم قد تمتعتم في الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي، والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة في دركات النار. قوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ ...} الآيات، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) التفسير. (¬3) المراغي.

الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أورد الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة، التي أعرض عنها أهل مكة، ولم يلتفتوا إليها، ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرًا لاستغراقهم في الدنيا، واشتغالهم بطلبها .. أردف هذا بذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام، وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجوده من الدنيا، ويقبلوا على طاعة الله، فقد كانوا أكثر منهم أموالًا، وأقوى منهم جندًا، فسلَّط الله عليهم العذاب بسب كفرهم، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئًا، وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب قومه. أسباب النزول قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما روى الواحدي عن ابن عباس قال: أنزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - وذلك أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان عشرة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلًا فيه سدرةٌ - شجرة السدرة - فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره وحضوره، فلما نبّىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ أربعين سنة .. قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ. وقال السّدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. أخرج مسلم، وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد - رضي الله عنه - قال: قالت أم سعد لسعد: أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعامًا ولا أشرب، ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي النيسابوري ص 216.

[13]

حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}. وقال الحسن البصري: هي مرسلة نزلت على العموم، وهذا هو الأولى؛ لأنّ حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائمًا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ...} في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه، وكانا قد أسلما وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإِسلام، فيردّ عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني: مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...} الآية. وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس مثله، لكن أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الحكم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إنَّ هذا هو في أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن، إلا أنّ الله أنزل عذري. وأخرج عبد الرزاق من طريق مكيّ أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقالت: إنما نزلت في فلان، وسمَّت رجلًا. وقال الحافظ بن حجر: ونفي عائشة أصح إسنادًا، وأولى بالقبول. وقال ابن كثير: ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما .. فقوله، ضعيفٌ؛ لأنّ عبد الرحمن أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه. قال القرطبي: الصحيح أن الآية نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. التفسير وأوجه القراءة 13 - {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحده {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على أداء فرائض الله

[14]

تعالى، واجتناب معاصيه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب. والمراد (¬1): دوام نفي الحزن؛ أي: إنّ الذين جمعوا بين التوحيد في هو خلاصة العلم، والاستقامة في أمور الدين، التي هي منتهى العمل، و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقّف الاهتداء به على التوحيد. قال ابن طاهر: استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد، فلم يروا سواه منعمًا، ولم يشكروا سواه في حال، ولم يرجعوا إلى غيره، وثبتوا معه على منهاج الاستقامة. و {الفاء} في قوله: {فَلَا خَوْفٌ}: زائدة في خبر الموصول جوازًا، لما فيه من معنى الشرط. والمعنى (¬2): أي إنّ الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي؛ أي: فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم 14 - {أُولَئِكَ} المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله هم {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}؛ أي: ملازموها حالة كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: ماكثين {فِيهَا} مكثًا مؤبّدًا، فهو حال من الضمير المستكن في {أَصْحَابُ} يجزون الجنة {جَزَاءً} وكفاءَ {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحة، فـ {جَزَاءً}: منصوب إما بعامل مقدر كما قدّرنا، أو بمعنى ما تقدم، فإنّ قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. في معنى جازيناهم. وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإنّ نفي الخوف والحزن على الدوام، والاستقرار في الجنة على الأبد، مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوف إلى ما عداه، 15 - ولما كان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما كما ورد في الحديث .. حث الله سبحانه عليه، بقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: عهدنا إليه، وأمرناه بأن يحسن {بِوَالِدَيْهِ}؛ أي: بأبويه وإن عليا {إِحْسَانًا} فحذف الفعل واقتصر على المصدر دالًّا عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) التفسير المنير.

وقرأ الجمهور (¬1): {حسنا} بضم الحاء وإسكان السين، وقرأ عليّ والسلمي وعيسى بفتحهما، وعن عيسى: بضمهما، وقرأ الكوفيون: {إِحْسَانًا} فقيل: ضمّن {وصينا} معنى ألزمنا، فيتعدى لاثنين، فانتصب {حسنًا} و {إِحْسَانًا} على الفعول الثاني لـ {وصينا}. وقيل: التقدير: إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان، ويجوز أن يكون {حسنًا} بمعنى إحسان، فيكون مفعولًا له؛ أي: ووصّيناه بهما لإحساننا إليهما، فيكون الإحسان من الله تعالى. والمعنى (¬2): أي أمرنا الإنسان بالإحسان إليهما، والحنوّ عليهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما، والإنفاق عليهما عند الحاجة، والبشاشة عند لقائهما، وجعلنا البرّ بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ثم ذكر سبب التوصية وعلته، وخصّ الكلام بالأم؛ لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم، كما ورد في صحيح الأحاديث، ومن ثم كان لها ثلثا البّر، فقال: {حَمَلَتهُ}؛ أي: حملت الإنسان {أُمُّهُ} الأمّ (¬3) بإزاء الأب وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والوالدة البعيدة التي ولدت من ولدته، ولهذا قيل لحوّاء عليها السلام: هي أُمُّنا، وإن كان بيننا وبينها وسائط. ويقال لكل ما كان أصلًا لوجود الشي أو تربيته أو إصلاحه أو مبدأه أمٌّ. {كُرْهًا} حال من فاعل {حَمَلَتْهُ}؛ أي: حملته حال كونها ذات كره، وهو المشقة والصعوبة، يريد حالة ثقل الحمل في بطنها لا في ابتدائها، فإنّ ذلك لا يكون فيه مشقة، أو حملته حملًا ذا كره ومشقة. وقرأ الجمهور (¬4): {كُرْهًا} بضم الكاف في الموضعين، وقرأ شيبة أبو جعفر، والأعرج والرحميان نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح، وبهما معًا أبو رجاء ومجاهد وعيسي، والضم والفتح لغتان بمعنى واحد، كالعَقْرِ والعُقْرِ. وقالت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

فرقة بالضم: المشقة، وبالفتح: الغلبة والقهر. {وَوَضَعَتْهُ}؛ أي: ولدته {كُرْهًا} وهي شدة الطلق. وفي الحديث (¬1) "اشتدي أزمة تنفرجي". قال - صلى الله عليه وسلم - لامرأة مسماة بأزمة، حين أخذها الطلق؛ أي: تصبري يا أزمة حتى تنفرجي عن قريب بالوضع. كذا في "المقاصد الحسنة". والمعنى: أي حملته في بطنها بمشقة، فقاست في حال حمله مشقةً وتعبًا، من وَحْمٍ وغثيانٍ وثقلٍ وكربٍ، ووضعته بمشقةٍ أيضًا، فقاست بسبب وضعه مشقة ألم الطلق وشدته، ووجع الولادة، ثم الرضاع والتربية، وكانت أيام الوحم تمنع من الطعام والشراب، وتعاف كل شيء، وكل هذا مما يستدعي البر بها، والإحسان الزائد إليها، واستحقاقها للكرامة، وجميل الصحبة. ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله، فقال: {وَحَمْلُهُ}؛ أي: ومدة حمله في البطن {وَفِصَالُهُ} وهو الفطام؛ أي: قطع الولد ومنعه عن اللبن. والمراد به: الرضاع التام المنتهى به، فيكون مجازًا مرسلًا عن الرضاع التام، بعلاقة أنّ أحدهما بغاية الآخر ومنتهاه، كما أراد بالأمد المدّة من قال: كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْـ ... ـرِ وَمَرْديٌّ إِذَا انْتَهَى أَمَدُهُ أي: هالك إذا انتهت مدة عمره، ونظيره: التعبير عن المسافة بالغاية في قولهم: مَن لابتداء الغاية، وإلى لانتهاء الغاية؛ أي: ومدة حمله ورضاعه {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} تمضي عليها بمقاساة الشدائد، والشهر: مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءًا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة، سمي به لشهرته، والمراد به: الشهر القمري، لا الشمسي. وقرأ الجمهور {وَفِصَالُهُ}، وهو مصدر فاصل الرباعيِّ، كأنه من اثنين فاصل أمه وفاصلته، وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة والجحدري: {وفَصْلُه}. قيل: والفصل والفصال: مصدران، كالفطم والفطام. ¬

_ (¬1) روح البيان.

أي: إنّ مدة حمله (¬1) ورضاعه ثلاثون شهرًا؛ أي: عامان ونصف، تكابد الأمُّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسهر الليالي ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه، وكلِّ شؤونه بمحبةٍ وحنانٍ بلا ضجرٍ ولا سآمة، وتحزن إذا اعتل جسمه، أو ناله مكروه يؤثِّر في نموه وحسن صحته. وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ حق الأمّ آكد من حق الأب؛ لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته وحضنته وعنيت به بتعب وصبر، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك، وإن تعب في الكسب والإنفاق، كذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم، وتقدمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب، أخرج الشيخان، البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك". وفي الآية أيضًا (¬2): إيماءٌ إلى أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنّ أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل العمل وأكثر الإرضاع. وأول من استنبط هذا الحكم من هذه الآية عليّ - كرم الله وجهه - وهو استنباط صحيح، ووافقه عليه عثمان، وجمع من الصحابة - رضي الله عنهم - روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب "السيرة" عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوّج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان - رضي الله عنه - فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها .. بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك، فوالله ما التبس بي أحدٌ من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله فيّ ما شاء، فلما أتي بها إلى عثمان رضي الله عنه .. أمر برجمها، فبلغ ذلك عليًّا - رضي الله عنه - فأتاه فقال له: ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له عليُّ - رضي الله عنه -: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}؟ وقال: {حَولَين كَامِلَين} فلم نجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها (¬1) .. قال معمر: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلمَّا رآه أبوه .. قال: ابني والله لا أشك فيه. وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر .. كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر .. كفاه من الرضاعة ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر ... فحولان كاملان؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}. وقال أبو حنيفة: المراد بحمله: العمل على اليد، ولو حمل على حمل البطن .. كان بيان الأقل مع الأكثر. انتهى. قيل: ولعلَّ (¬2) تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع؛ أي: في الآية؛ لانضباطهما، وتحقُّق ارتباط النسب، والرضاع بهما، فإن من ولدت لستة أشهر من وقت التزوج، يثبت نسب ولدها، كما وقع في زمان على رضي الله عنه فحكم بالولد على أبيه، فلو جاءت بولد لأقلَّ من ستة .. لم يلزم الولد للزوج، ويفرَّق بينهما، ومن مصَّ ثدي امرأة في أثناء حولين من مدة ولادته .. تكون المرضعة أُمًّا له، ويكن زوجها الذي لبنها منه أبًا له. قال في "الحقائق": الفتوى في مدة الرضاع على قولهما. وفي "فتح الرحمن": اتفق الأئمة على أنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، واختلفوا في أكثر مدته، فقال أبو حنيفة: سنتان. والمشهور عن مالك: خمس سنين، وروي عنه أربع وسبع. وعند الشافعي، وأحمد: أربع سنين، وغالبها تسعة أشهر. انتهى. ¬

_ (¬1) وفي رواية: أنّ عثمان رجع عن قوله ولم يحدّها؛ أي: أن الأمر تم قبل الحد. اهـ. (¬2) روح البيان.

وحكي عن أرسطوطاليس أنه قال: إنّ مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطةٌ، سوى الإنسان، فربما وضعت لسبعة أشهر ولثمانية، وقيل ما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة، مثل: مصر. انتهى. وفي "إنسان العيون": ذكر أنَّ مالكًا رحمه الله مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي. وفي "محاضرات السيوطي": أنَّ مالكًا مكث في بطن أمه ثلاث سنين. وأخبر مالك أنَّ جارةً له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل ولد أربع سنين. انتهى. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} غاية (¬1) لمحذوف؛ أي: أخذ ما وصَّيناه به، حتى إذا بلغ وقت أشده بحذف المضاف. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفي السن الذي تستحكم فيه قوته وعقله وتمييزه. وسن الكهولة ما بين سنّ الشباب وسنّ الشيخوخة. قال في "فتح الرحمن": {أَشُدَّهُ}: كمال قوته وعقله ورأيه. وأقلُّه: ثلاث وثلاثون، وأكثره: أربعون {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}؛ أي: تمام أربعين، بحذف المضاف. قيل: لم يبعث نبي قبل أربعين، وهو ضعيف جدًا، يدل عى ضعفه أنّ عيسى ويحيى عليهما السلام بعثا قبل الأربعين. كما في "بحر العلوم". وجوابه: أنه من إقامة الأكثر الأغلب مقام الكل. قال ابن الجوزي: قوله: "ما من نبيٍ نبىء إلا بعد الأربعين" موضوع؛ لأنَّ عيسى نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنةً، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء. انتهى. وكذا نُبِّىء يوسف عليه السلام وهو ابن ثماني عشرة سنة. كما في كتب التفاسير، وقيس على النبوة قوة الإيمان والإِسلام. وقوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} قمريةً، لا الشمسية، ما أفادته الآية. ما في "الروح" يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيءٌ وراء بلوغ الأشد، وهو (¬2) نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روي عن ابن عباس: "من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شرَّه .. فليتجهز إلى النار" ولهذا قيل: إِذَا الْمَرْءُ وَافَى الأَرْبَعِيْنَ وَلَمْ يَكُنْ ... لَهُ دُوْنَ مَا يَهْوَى حَيَاءٌ وَلَا سِتْرُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

فدَعْهُ فَلاَ تَنْفَسْ عَلَيْهِ الَّذِي مَضَى ... وَإِنْ جَرَّ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لَهُ الْعُمْرُ {قَالَ} ذلك الإنسان {رَبِّ} ـي، ويا مالك أمري {أَوْزِعْنِي}؛ أي: وَفَّقْني، وألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ} بها {عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة والعافية، وسعة العيش وتمام الخلقة السوية، وحنان الأبوين حين ربيّاني صغيرًا، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}: معطوف (¬1) على قوله: {أَنْ أَشْكُرَ}؛ أي: ألهمني ووفّقني للعمل الصالح في ترضاه منّي، والعمل الصالح المرضي: هو ما يكون سالمًا من شوائب عدم القبول. وفيه إشارةٌ إلى أنه لا يمكن للعبد أن يعمل عملًا يرضي به ربه إلا بتوفيقه وإرشاده {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}؛ أي: واجعل الصلاح ساريًا في ذريتي، متمكنًا من نفوسهم، راسخًا في قلوبهم؛ أي: اجعل ذرّيتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات. وأصل {أصلح}: يتعدى بنفسه كما في قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}، وإنما عدي هنا بالحرف {في}؛ لإفادة الرسوخ والسريان. قال سهلٌ: اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيدا حقًا. وقال محمد بن عليّ: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلًا. وفيه إشارة إلى أنَّ صلاحية الآباء تورث صلاحية الأبناء {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} من ذنوبي التي فُرِّطت منى في أيامي الخوالي {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي: من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك. قال ابن كثير: وهذا فيه إرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ويعزم عليها. وقد روى أبو داود في "سننه" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى ¬

_ (¬1) التفسير المنير.

[16]

النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرّياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها وأتمها علينا. قال عليّ رضي الله عنه: هذه الآية: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده، ووالده: هو أبو قحافة عثمان بن، عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه أبي قحافة: قيلة، وامرأة أبي بكر الصديق اسمها: قتيلة بنت عبد العزّى. وقال ابن عباس عن قوله تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أجاب الله دعاء أبي بكر، فاعتق تسعةً من المؤمنين يعذَّبون في الله، منهم: بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر وهذا دليل على استجابة دعاء أبي بكر رضي الله عنه. 16 - ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة، فقال: {أُولَئِكَ} إشارة إلى الإنسان المذكور، ولأنّ المراد به: الجنس المتصف بالوصف المحكي عنه، وهو مبتدأ خبره الموصول المذكور بعده؛ أي: أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة هم {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} من الطاعات واجبة أو مندوبة، فإن المباحات حسن لا يثاب عليها، فأفعل التفضيل على بابه. وقرأ الجمهور (¬1): {يتقبل} مبنيًا للمفعول {أحسن} رفعًا، وكذا {ويتجاوز}. وقرأ زيد بن عليّ وابن وثّاب وطلحة وأبو جعفر والأعمش بخلاف عنه، وحمزة والكسائي وحفص: {نَنَقَبَّل} {أَحْسَنَ} نصبًا، {وَنَتَجَاوَزُ} بالنون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فيهما، وقرأ الحسن والأعمش وعيسى: بالياء فيهما مفتوحةً، ونصب {أَحْسَنَ}. {وَنَتَجَاوَزُ}؛ أي: نتسامح {عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}؛ أي: ما فعلوا قبل التوبة، ولا يعاقبون عليها. قال الحسن: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} إنما ذلك من أراد الله سبحانه هوانه، وأما من أراد كرامته .. فإنه يتجاوز عن سيئاته حال كونهم كائنين {في} عداد {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} منتظمين في سلكهم، فالجار والمجرور: في محل النصب على الحال، كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه؛ أي: كائنًا في جملتهم. وقيل: إن {في} بمعنى: مع؛ أي: مع أصحاب الجنة. وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في أصحاب الجنة {وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأنّ قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} إلخ. في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز. والمعنى عليه: وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. ويجوز أن يكون مصدرًا لفعل محذوف؛ أي: وعدهم الله وعد الصدق {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} به في الدنيا على ألسنة الرسل، كما في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية. ومعنى الآية: أي (¬1) هؤلاء الذين هذه صفاتهم، هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم في الدنيا لمامًا ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافزة من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون في سلك أصحاب الجنة، داخلون في عدادهم. ثم أكد الوعد السابق بقوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}؛ أي: وعدهم الله الوعد الحق في لا شك فيه ولا خلف، وأنه موفّ به. وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبي وقاص، وعلى أبي بكر الصديق، اللذين قيل: في كل منهما نزلت الآية، تنطبق على كل مؤمن، فهو موصى ¬

_ (¬1) المراغي.

[17]

بوالديه، مأمور أن يشكر نعمة الله عليه، وعلى والديه، وأن يعمل صالحًا، وأن يسعى في إصلاح ذرّيته، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة. 17 - ولما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه .. ذكر من قال لهما قولًا يدل على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان، فقال: {وَالَّذِي}: مبتدأ، خبره: قوله: {أُولَئِكَ}؛ لأنَّ المراد به - أي: بالموصول - الجنس {قَالَ لِوَالِدَيْهِ} عند دعوتهما له إلى الإيمان، ويدخل فيه كل عبد سوءٍ عاقٍ لوالديه فاجرٍ لربّه {أُفٍّ لَكُمَا} و {أُفٍّ}: (¬1) كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه، وكراهيته له. و {اللام}: لبيان المؤفف له، كما في {هَيْت لَكَ}؛ أي: هذا التأفيف لكما خاصَّة. وقال الراغب: أصل الأفّ؛ كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما، ويقال ذلك لكل مستخفٍ به، استقذارًا له؛ أي: نتنًا وقبحًا لكما، أتضجر منكما. فـ {اللام} بمعنى: منْ. وقرأ نافع وحفص (¬2): {أُفٍّ} بكسر {الفاء} مع التنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن: بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون، بكسر من غير تنوين، وهي لغات. وقد مضى الكلام على {أُفٍّ} مدلولًا. ولغات، وقراءةً في سورة الإسراء مبسوطًا، وقرأ الجمهور: {أَتَعِدَانِنِي} بنونين خفيفتين الأولى مكسورة، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون، وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ، وهشامٌ، بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وقرأ نافع في رواية، وجماعةٌ: بنونٍ واحدةٍ، وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر بخلاف عنه، وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري وسامٌ عن هشام: بفتح النون الأولى، كأنهم فرَّوا من توالي الكسرتين والياء إلى الفتح؛ طلبًا للتخفيف، ففتحوا كما فرَّ من أدغم ومن حذف، وقال أبو حاتم: فتح النون باطل غلط. وقرأ الجمهور: {أَنْ أُخْرَجَ} بضم الهمزة، وفتح الراء مبنيًا للمجهول، وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وأبو العالية وابن مصرِّف والضحاك: بفتح الهمزة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وضم الراء مبنيًا للفاعل. والمعنى: أتعدانني وتخبرانني أن أبعث بعد الموت، وأخرج من القبر {و} الحال أنه {قَدْ خَلَتِ} ومضت {الْقُرُونُ}؛ أي: أمة بعد أمة {مِنْ قَبْلِي} فماتوا ولم يبعث منهم أحد ولم يرجع. فالجملة: في محل النصب على الحال من مفعول {أَتَعِدَانِنِي}، وكذا جملة قوله: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ}: في محل النصب على الحال من قوله: {لِوَالِدَيْه}؛ أي: قال لهما ذلك، والحال: أنهما يستغيثان الله سبحانه له، ويسألانه، ويطلبان منه أن يغيثه، ويوفقه للإيمان، واستغاث يتعدَّى بنفسه، وبالباء، يقال: استغاث الله، واستغاث به. وقال الرازي: معناه: يستغيثان الله من كفره، فلما حذف الجار .. وصل الفعل؛ أي: يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله؛ أي: يستغيثان الله حال كونهما قائلين له: {وَيْلَكَ}؛ أي: هلكت هلاكك، وهو في الأصل: دعاء عليه بالهلاك أريد به الحث والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك. وانتصابه: إما على المصدر (¬1) بفعل ملاقٍ له في المعنى دون اللفظ؛ أي: هلكت هلاكك، وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها كالويح والويس والويب، وإمَّا على المفعول به؛ أي: ألزمك الله ويلك. وعلى كلا التقديرين، فالجملة معمولة لقول مقدر؛ أي: يقولان: {وَيْلَكَ آمِنْ}. والقول المقدر: في محل النصب على الحال من فاعل {يَسْتَغِيثَانِ}، كما مرت الإشارة إليه {آمِنْ}؛ أي: صدِّق بالبعث، والإخراج من الأرض، وهو فعل أمر من الإيمان، وهو من جملة مقولهما {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث؛ أي: إنّ موعوده وهو البعث {حَقٌّ}؛ أي: كائن واقع لا محالة؛ لأنَّ الخلف في الوعد نقص يجب تنزيه الله منه، وأضاف الوعد إليه تعالى في قوله: {وَعْدَ اللَّهِ} تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على خطأه في إسناده الوعد إليهما. في قوله: {أَتَعِدَانِنِي} {فَيَقُولُ} مكذبًا لهما: {مَا هَذَا} الذي تسميانه وعد الله {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: إلا أكاذيب الأقدمين، وأباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة، كأحاديث رستم، وبهرام، واستنديار. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[18]

وقرأ الجمهور (¬1): {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بكسر {إِن} على الاستئناف، أو على التعليل وقرأ الأعرج، وعمرو بن فائد: بفتحها على أنها معمولةٌ لآمن بتقدير الباء؛ أي: آمن بأنَّ وعد الله بالبعث حقٌّ. والمعنى: أي والذي قال لوالديه لأجل أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفٍّ لكما؛ أي: قبحًا لكما، إنّي لضجر منكما، أتقولان: إني أبعث من قبري حيًّا بعد موتي وفنائي، وما لحق بي من بلى، وتفتت عظام، إنَّ هذا لعجب عاجب، فها أولئك قرون قد مضت، وأمم قد خلت من قبلي، كعاد وثمود، ولم يبعث منهم أحدٌ، ولو كنت مبعوثًا بعد وفاتي كما تقولان .. لبعث من قبلي من القرون الغابرة، ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثًّا وتحريضًا: هلاكًا لك، صدق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إنّ وعد الله في وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه. والخلاصة (¬2): أنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله في دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله. ثم ذكر ردَّه عليهما مع الاستهزاء بهما، والتعجيب من حالهما. بقوله: {فَيَقُولُ} إلخ؛ أي: فيقول ذلك الولد مجيبًا لوالديه، رادًّا عليهما نصحهما، مكذِّبًا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي، وتدعواني إليه إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدَّقتما به، ولا ظل له من الحقيقة. 18 - ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا، فقال: {أُولَئِكَ} القائلون هذه المقالات الباطلة هم {الَّذِينَ حَقَّ} ووجب {عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}؛ أي: العذاب بقوله سبحانه لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} كما يفيده ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[19]

قوله: {فِي أَمْرٍ}: حال من الضمير المجرور في {عَلَيْهِمُ}؛ أي: حال كون أولئك القائلين في عداد أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} بيان للأمم، وجملة قوله: {إِنَّهُمْ} جميعًا؛ أي: هم والأمم {كَانُوا خَاسِرِينَ}؛ لأنهم قد ضيَّعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان؛ تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقي. والمعنى (¬1): أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم، هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم. وفي الآية (¬2): إيماء إلى أنَّ الجن يموتون قرنًا بعد قرن كالإنس، قال أبو حيان في "البحر": قال الحسن البصري في بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت، وفيها رد أيضًا على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه رضي الله عنه أسلم وَجُبَّ عنه ما قبل الإِسلام، وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول ... فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدًا. ثم ذكر العلة في هذا العذاب المهين، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} لأنهم ضيَّعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها، واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب. 19 - ثم ذكر أنّ لكل من الفريقين الذين قالوا: ربنا الله، والذي قال لوالديه أُفٍّ مراتب متفاوتة، فقال: {وَلِكُلٍّ} من الفريقين المذكورين {دَرَجَاتٌ} ومراتب متفاوتة {مِمَّا عَمِلُوا}؛ أي (¬3): من أجزية ما عملوا من الخير والشر، فـ {من} نعت لـ {دَرَجَاتٌ} ويجوز أن تكون بيانية. و {ما} موصولة، أو من أجل ما عملوا، فـ {ما} مصدرية، و {من}: متعلق بقوله: {لكل} أي: ولكل من الفريقين من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

أجل ما عملوا درجات متفاوة حسنًا وقبحًا، والدرجات: طبقات عالية في مراتب المثوبة، وإيرادها هنا بطريق التغليب، قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلًا، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًا. فإن قلت (¬1): كيف وصف الفريقين بأنّ لكل منها درجات، مع أنَّ أهل النار لهم دركات لا درجات؟ قلت: الدرجات: هي الطبقات من المراتب مطلقًا، أو فيه إضمارٌ تقديره: ولكل فريق درجات أو دركات، لكن حذف الثاني اختصارًا لدلالة المذكور عليه. و {اللام} في قوله: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ}: معللة لمحذوف، تقديره: وجازاهم بما ذكر ليوفِّيهم {أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: ليعطيم الله سبحانه أجزية أعمالهم وافيةً تامةً، من وفاه حقّه. إذا أعطاه إياه وافيًا تامًا {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين وفي"الروح": {اللام} في {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلقة بمحذوف مؤخر، كأنه قيل: وليوفهم أعمالهم ولا يظلمم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على تقدير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات، وجملة قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في محل النصب على الحال من مفعول {يُوَفِّيَهُمْ}، أو مستأنفة مقررة لما قبلها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} بالياء؛ أي: الله تعالى، وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان: حمزة والكسائي وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه: بالنون، وقرأ السلميّ: بالتاء من فوق؛ أي: {ولتوفيهم} الدرجات، أسند التوفية إليها مجازًا. والمعنى: أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم، من خير أو شرّ في الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالم: المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئًا، فلا ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) البحر المحيط.

[20]

يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه. 20 - وبعد أن بين سبحانه أنه يعطي كل ذي حق حقه .. بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون، فقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} والظرف تعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم ينكشف الغطاء، ويعرض الذين كفروا؛ أي: يقرب الذين كفروا على النار لتعذيبهم، وينظرون إليها. وقيل: معنى (¬1) {يُعْرَضُ}: يعذبون، من قولهم: عرض الأسارى على السيف؛ أي: قتلوا، وإلا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والإطلاع، والنار ليست منه، وقيل: تعرض النار عليهم بأن يوقفوا بحيث تبدو لهم النار، ومواقعم فيها، وذلك قبل أن يلقوا فيها، فيكون من باب القلب مبالغةً بادعاء كون النار مميزًا ذا قهر وغلبة. يقول الفقير: لا حاجة عندي إلى هذين التأويلين، فإن نار الآخرة لها شعور وإدراك، بدليل أنها تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، وتقول للمؤمنين: "جُزْ يا مؤمن فإن نورك أطفأ ناري"، وأمثال ذلك، وأيضًا لا بعد في أن يكون عرضهم على النار باعتبار ملائكة العذاب، فإنهم حاضرون عندها بأسباب العذاب، وأهل النار ينظرون إليهم وإلى ما يعذبونهم به عيانًا. والله أعلم. أي: اذكر يوم يقربون إليها، فيقال لهم توبيخًا وتقريعًا: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}؛ أي: أصبتم وأخذتم ما كتب لكم من طيبات الدنيا ولذائذها وحظوظها {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}؛ أي: بالطيبات وانتفعتم بها، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء منها؛ لأنّ إضافة الطيبات تفيد العموم. قال سعدي المفتي: قوله: {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} كأنه عطف تفسيري لـ {أَذْهَبْتُمْ}. والطيبات هنا (¬2): المستلذّات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء وغير ذلك، مما يتنعم به أهل الرفاهية. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

والمعنى: أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم، لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك ترتب عليه: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، ولو أريد الظاهر ولم يكن كنايةً عما ذكر .. لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب. وقرأ الجمهور (¬1): {أَذْهَبْتُمْ} على الخبر؛ أي: فيقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ} ولذلك حسنت {الفاء} في قوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والأعرج وابن كثير: بهمزة بعدها مدة مطولة، وقرأ ابن عامر: بهمزتين حققهما ابن ذكران، وليَّن الثانية هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام: الفصل بين المحقَّقَة والمَلَيَّنَة بألف. وهذا الاستفهام على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت {الفاء} بعدها، ولو كان استفهامًا محضًا .. لم تدخل {الفاء}. {فَالْيَوْمَ}؛ أي: ففي هذا اليوم الحاضر؛ يعني يوم القيامة {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}؛ أي: الذل والحقارة؛ أي: العذاب الذي فيه ذلّ، لكم وخزي عليكم، وقرىء: الهوان، وهو والهون بمعنى واحد. ثم بين تلك الكناية بقوله: {بِمَا كُنْتُمْ} في الدنيا {تَسْتَكْبِرُونَ} وتترفعون عن الإيمان {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}؛ أي: بغير استحقاق لذلك. وفيه إشارة (¬2) إلى أنّ الاستكبار إذا كان بحق، كالاستكبار على الظلمة .. لا ينكر {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}؛ أي: تخرجون عن طاعة الله تعالى؛ أي: تجزون عذاب الهون بسبب استكباركم، وفسقكم المستمرين، علّل سبحانه ذلك العذاب بأمرين: أحدهما: الاستكبار عن قبول الحق والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو ذنب القلب. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

والثاني: الفسق والمعصية بترك المأمورات، وفعل المنهيات، وهو ذنب الجوارح، وقدّم الأول على الثاني؛ لأنّ ذنب القلب أعظم تأثيرًا من ذنب الجوارح، وهذا شأن الكفرة، فإنهم قد جمعوا بينهما، وهذه الآية محرضة على التقليل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة. ومعنى الآية: أي (¬1) واذكر يا محمد لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون في النار، ويقال لهم على سبيل التوبيخ: إنّ كل ما قدّر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه في الدنيا ونلتموه، ولم يبق لكم منه شيء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم، وفسوقكم عن أمر ربكم، وخروجكم عن طاعته. فصل في ذكر نبذة من الأحاديث المحرضة على التزهد في الدنيا ولما وبّخ (¬2) الله سبحانه الكافرين بالتمتع بالطيبات .. آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا، رجاء ثواب الآخرة، فقد وردت أحاديث صحيحة دالة على ذلك: فمنها: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو متّكىء على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله، قال: "نعم" فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يردّ البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسع على أمّتك، فقد وسَّع على فارس والروم، ولا يعبدون الله، فاستوى جالسًا ثم قال: "أفيّ شكّ أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" فقلت: استغفر لي يا رسول الله. متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وعنها قالت؛ كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا، إنما هو الأسودان: التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحيم. وفي رواية أخرى قالت: إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار. قال عروة: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقينا. متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير). أخرجه الترمذي، وله عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أخفت في الله ما لم يخف أحد، وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال طعام إلّا شيء يواري إبط بلال". وعن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. أخرجه البخاري. وعن إبراهيم بن عبد الرحمن: أنّ عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير منّى، فكفّن في بردة إن غطِّي رأسه .. بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه .. بدا رأسه، قال: وأراه، قال: قتل حمزة وهو خير منّى، فلم يوجد ما يكفّن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيّباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، أخرجه البخاري أيضًا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر: أنّ عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه درهمًا، فقال: ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحمًا قرموا إليه،

[21]

فقال: أكلما اشتهيتم شيئًا اشتريتوه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}؟. وقد كان (¬1) السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا؛ رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا ما يمتنع، بدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. نعم: إنّ الاحتراز عن التنعم أولى؛ لأنّ النفس إذا اعتادت ذلك، وألفته .. صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله در البوصيري إذ يقول: وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ والذي يضبط هذا الباب، ويحفظ قانونه: أنّ على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا - الطعام بلا إدام - ولا يتكلف الطيب، ويتخذه عادةً. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلًا، ولا يجعله في يدنًا له. قِصّة هود عليه السلام مع قومه عاد 21 - {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}؛ أي: واذكر يا محمد لكفار مكة هودًا عليه السلام مع قومه، ليعتبروا من حال قومه، فمعنى (¬2) {أَخَا عَادٍ}. واحدًا منهم في النسب لا في الدين، كما في قولهم: يا أخا العرب، وعاد: هم ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وهود: وابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد {إِذْ أَنْذَرَ} وخوَّف {قَوْمَهُ} عادًا من عذاب الله تعالى، والظرف: بدل اشتمال من {أَخَا عَادٍ} لأنّ {أَخَا عَادٍ} وهو هود، يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم، فـ {إذ}: ظرف للماضي، بمعنى الوقت مضافة لما بعدها {بِالْأَحْقَافِ}؛ أي: بموضع يقال له: الأحقاف واد باليمن به منازلهم، وليس صلةً لـ {أنذَرَ} كما قد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

يتوهم، بل هو حال من {عَادٍ}؛ أي: حال كونهم كائنين بالأحقاف؛ أي: نازلين به، أو صفة؛ أي: أخا عاد الكائنين بالأحقاف؛ أي: بالوادي المعلوم. اهـ شيخنا. وأمَّا صلة {أنذَرَ} فهي قوله الآتي: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}. والأحقاف: جمع حقفٍ، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج. قاله الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم، وكثيرًا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى؛ لأنَّ الريح تصنع ذلك. وقال في "فتح الرحمن": الصحيح من الأقوال: أنَّ بلاد عاد كانت في اليمن، ولهم كانت إرم ذات العماد. وعن عليّ رضي الله عنه: شر وادٍ بين الناس وادي الأحقاف، وواد بحضرموت يدعى برهوت، تلقى فيه أرواح الكفار، وخير واد وادي مكة، ووادٍ نزل به ادم بأرض الهند، وخير بئر في الناس بئر زمزم، وشر بئر في الناس بئر برهوت. كذا في "كشف الأسرار". {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ}؛ أي: مضت الرسل، جمع نذير بمعنى المنذر {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}؛ أي: من قبل هود، كنوح عليهما السلام {وَمِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: ومن بعد هود، كصالح عليهما السلام. وهذه الجملة: معترضة بين المفسِّر والمفسَّر، أو المتعلِّق والمتعلَّق، مقرِّرة لما قبلها، مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وسَّط بها بين إنذار قومه وبين قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} مسارعةً إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد، وإيذانًا باشتراكهم في العبادة المحكيّة. وفي "الفتوحات" (¬1): المضي بالنسبة لزمن محمد - صلى الله عليه وسلم - خوطب به محمد، وأخبر به لبيان أنَّ إنذار هود لعاد وقع مثله للرسل السابقين عليه، والمتأخرين عنه، فأنذروا أممهم كما أنذر هود أمته، فصحَّ قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، فالذين قبله أربعة: آدم وشيث وإدريس ونوح، والذين بعده: كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وكذا سائر أنبياء بني إسرائيل. والمعنى (¬2): واذكر يا محمد لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك، والعذاب ¬

_ (¬1) الجمل. (¬2) روح البيان.

[22]

العظيم، وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك. قال في "بحر العلوم": {أن}، مخففة من الثقيلة؛ أي: أنه يعني: أنَّ الشأن والقصة لا تعبدوا إلا الله، أو مفسرة بمعنى أي، أي: لا تعبدوا إلا الله أو مصدرية بحذف الباء؛ أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، وتلك الباء للتصوير والتفسير؛ أي: صورة إنذاره أن قال: لا تعبدوا إلخ. و {لا}: ناهية. وإنما كان هذا إنذارًا؛ لأنّ النهي عن الشيء إنذار. وتخويف من مضرّته. اهـ. "بيضاوي". فصح أنّ قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} مفسر للإنذار، ومتعلق به. اهـ "شهاب". وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بسبب شرككم، وإعراضكم عن التوحيد، تعليل لقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا}؛ أي إنما أحذركم أن لا تعبدوا إلا الله لأني أخاف عليكم بسبب شرككم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: هائل واليوم العظيم يوم نزول العذاب عليهم، فعظيم مجاز عن هائل؛ لأنّه يلزم العظم، ويجوز أن يكون من قبيل الإسناد إلى الزمان مجازًا، وأن يكون الجر على الجوار. والمعنى (¬1): أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق هودًا أخا عاد، فقد كذّبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها أن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم إياه، بل أخلِصوا له العبادة، وأفرِدوا له الألوهية، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله، فقال لهم ناصحًا: إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}، 22 - وحين نصحهم بذلك أجابوه و {قَالُوا} له: {أَجِئْتَنَا} يا هود بالتوحيد والإيمان، والاستفهام فيه (¬2): للتقرير والتوبيخ، والتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم، على ترك إفراد الله تعالى بالعبادة. ذكره في "البحر". {لِتَأْفِكَنَا}؛ أي: لتصرفنا وتردنا {عَنْ آلِهَتِنَا}؛ أي: عن عبادتها إلى دينك، وهذا مما لا يكون ولا يعقل {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وتخبرنا من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[23]

العذاب العظيم. و {الباء}: للتعدية {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في وعدك بنزوله بنا 23 - {قَالَ} هود {إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقت مجيئه أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك {عِنْدَ اللَّهِ} وحده لا عندي، لا علم لي بوقت نزوله، ولا مدخل لي في إتيانه وحلوله، وإنما علمه عند الله تعالى، فيأتيكم به في وقته المقدر له {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، وبيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله. وقرأ أبو عمرو: {أبلغكم} بالتخفيف {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل تقترحون عليّ ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب، وتعيين وقت نزوله. وفي "التأويلات النجمية": تجهلون الصواب من الخطأ، والصلاح من الفساد حين أدلكم على الرشاد. والمعنى (¬1): أي قال قومه له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك فيما تقول، هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة، إن كنت صادقًا في قولك وعدتك. والخلاصة: أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها، فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقًا في وعيدك، وقد استعجلوا عذاب الله. وعقوبته، استبعادًا منهم لوقوعه، كما قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}. فردّ هود عليهم مقالتهم، قال: إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندي، فلا أستطيع تعجيله، ولا أقدر عليه، ثم بين وظيفته فقال: وأبلغكم ما أرسلت به إليكم من ربكم من الإنذار، لا أن آتي يالعذاب، فليس ذلك من مقدوري، بل هو من مقدورات ربّي، ثمّ بيّن لهم أنم جاهلون بوظيفة الرسل، فقال: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ ...} إلخ؛ أي: وإنّي لأعتقد فيكم الجهل، ومن ثم بقيتم مصرين على كفوكم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل أقترحتم عليّ ما ليس ¬

_ (¬1) المراغي.

[24]

من شأن الرسل، وهو الإتيان بالعذاب. 24 - ثمّ ذكر مجيء العذاب إليهم، وانتقامه منهم، واستئصال شأفتهم، فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} {الفاء}. عاطفة على محذوف، تقديره: فأتاهم العذاب الموعود به، فلمّا رأوه وأبصروه حال كونه {عَارِضًا}؛ أي: سحابًا يعرض في أفق السماء، أو يبدو في عرض السماء {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}؛ أي: متوجهًا تلقاء أوديتهم، والإضافة فيه (¬1) لفظية، ولذا وقع صفة للنكرة، قال المفسّرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم، يقال له: المُعَتِّب، فلمّا شاهدوها .. {قَالُوا} مستبشرين مسرورين بها: {هَذَا} السحاب {عَارِضٌ}؛ أي: غيم {مُمْطِرُنَا}؛ أي: يأتينا بالمطر، فلما قالوا ذلك .. أجاب عليهم هود، فقال: ليس الأمر كذلك {بَلْ هُوَ}؛ أي: هذا العارض {مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} من العذاب حيث قلتم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}. وقرىء: {ما استعجلتم} بضم التاء وكسر الجيم. ذكره في "البحر". {رِيحٌ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ريح {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} والجملة الاسمية: صفة أولى لـ {رِيحٌ} والريح التي عُذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب في رأوه. وقرىء {قل بل ريح}؛ أي: بل هي ريح. ذكره البيضاوي. 25 - وكذا جملة قوله: {تُدَمِّرُ}؛ أي: تهلك {كُلَّ شَيْءٍ} مرّت عليه من نفوسهم وأموالهم، صفة ثانية لـ {رِيحٌ}. والاستغراق فيه عرفيّ، والمراد: المشركون منهم {بِأَمْرِ رَبِّهَا}؛ أي: بإذن ربها وإرادته، إذ لا حركة ولا سكون إلا بمشيئته تعالى، وأضاف الرب إلى الريح، مع أنه تعالى ربّ كل شيء؛ لتعظيم شأن المضاف إليه، وللإشارة إلى أنها في حركتها مأمورة، وأنها من أكابر جنود الله؛ يعني: ليس ذلك من باب تأثيرات الكواكب والقرانات، بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل التعذيب. وقرأ الجمهور: {تُدَمِّرُ} بضم التاء وكسر الميم المشددة من التدمير وهو: الإهلاك، وكذا الدمار، وقرأ (¬2) زيد بن علي: {تَدْمُرُ} بفتح التاء وسكون الدال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وضم الميم. {كُلَّ شَيْءٍ} بالنصب، وقرىء: {يَدْمُر} بالتحتية المفتوحة والدال الساكنة، والميم المضمومة، ورفع {كل} على الفاعلية، من دمر دمارًا: إذا هلك {فَأَصْبَحُوا}، أي: صاروا من العذاب بحال {لَا يُرَى} فيها {إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم، و {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاءتهم الريح فدمَّرتهم، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. وقرأ الجمهور (¬1) {لا تَرَى إلا مساكنهم} بفتح التاء الفوقية على الخطاب، ونصب {مساكنهم}؛ أي: لاترى أنت يا محمد، أو كل من يصلح للرؤية إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم، وقرأ عبد الله ومجاهد وزيد بن علي وقتادة وأبو حيوة وطلحة وعيسى والحسن وعمرو بن ميمون بخلافٍ عنهما، وعاصم وحمزة: {لَا يُرَى} بالتحتية المضمومة مبنيًا للمفعول، ورفع {مَسَاكِنُهُمْ} قال سيبويه: معناه: لا يرى أشخاصُهم إلا مساكنَهم واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة، قال الكسائي، والزجاج: معناها: لا يُرى شيء إلا مساكنهم، فهي محمولة على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى: ما قام أحد إلا هند، وقرأ الجحدريّ، والأعمش، وابن أبي إسحاق والسلميّ: بالتاء من فوق مضمومة، {مَسَاكِنُهُمْ} بالرفع. وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر، كقوله: فَمَا بَقِيَتْ إلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ وبعضهم يجيزه في الكلام، وقرأ عيسى الهمدانيّ: {لا يرى} بضم الياء، {إلا مسكنهم} بالتوحيد، وروى هذا عن الأعمش، ونصر بن عاصم، وقرىء: {لا ترى} بتاء مفتوحة للخطاب، {إلا مسكنهم} بالتوحيد مفردًا منصوبًا. واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيرًا لشانهم، وأنهم لمّا هلكوا في وقت واحد .. فكأنهم كانوا في مسكن واحد. {كَذَلِكَ} {الكاف}: صفة لمصدر محذوف، تقديره: جزاءً مثل ذلك الجزاء الفظيع، يعني: الهلاك بعذاب الاستئصال {نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: المتمردّين في الإجرام المستمريّن على الإشراك الذين منهم هؤلاء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[26]

والمعنى: أي كما جازينا عادًا بكفرهم بالله ذلك العقاب في الدنيا فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي كل مجرم كافر بالله متمادٍ في غيّه، والآية وعيد لأهل مكة على إجرامهم بالتكذيب، فإنّ الله تعالى قادر على أن يرسل عليهم ريحًا مثل ريح عاد أو نحوها فلا بد من الحذر. قيل (¬1): أوحى الله تعالى إلى خزّان الريح، أن أرسلوا مقدار منخر البقر، فقالوا: يا رب ننسف الأرض ومن عليها! فقال تعالى: مثل حلقة الخاتم، ففعلوا، فجاءت ريح باردة من قبل المغرب، وأول ما عرفوا به أنه عذاب أن رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض، وترفع الظعينة في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة، فتدمغها بالحجارة، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، فأمال الله الأحقاف عليهم، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفت الريح عنهم الأحقاف، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، وقد قالوا: من أشد منا قوة، فلا تستطيع الريح أن تزيل أقدامنا، فغلبت عليهم الريح بقوتها، فما أغنت عنهم قوتهم، وبقي هود ومن آمن معه، وكانوا أربعة آلاف. وفي "الخازن": وقيل: إنّ هودًا عليه السلام لما أحسَّ بالريح .. خطَّ على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطًا، فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة، والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة، وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام. انتهى. 26 - ولما أخبر سبحانه بهلاك قوم عاد .. خاطب قريشًا على سبيل الموعظة، فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُم}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أقدرنا عادًا، وملكناهم {فِيمَا}؛ أي: في الذي {إِن} نافية بمعنى ما؛ أي: في الذي ما {مَكَّنَّاكُمْ} يا أهل مكة {فِيه} من السعة، والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادي التصرفات، ومما (¬2) يحسن وقوع {إِن} هاهنا دون ما التقصي والفرار عن تكرر لفظة ما، وهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الداعي إلى قلب ألفها هاء في مهما. أي: (¬1) ولقد مَكَّنَّا عادًا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبًا منه من الأموال الكثيرة، وبسطة الأجسام، وقوة الأبدان، وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله، فتدبروا أمركم، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب، ولا تجدون منه مهربًا. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ}؛ أي: خلقنا لعاد، وأعطيناهم {سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً}؛ أي: قلوبًا ليستعملوها فيما خلقت له، ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم، ويستدلّوا بها على شؤون منعمها عَزَّ وَجَلَّ، ويدوموا على شكرها، ولعل (¬2) توحيد السمع وإفراده لأنه لا يدرك به إلا الصوت وما يتبعه بخلاف البصر، حيث يدرك به أشياء كثيرة، بعضها بالذات، وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعمّ إدراك كل شيء، والفؤاد من القلب كالقلب من الصدر؛ سُمِّيَ به لتفؤده؛ أي: لتوقده وتحرقه {فَمَا}: نافية؛ أي: فيما {أَغْنَى} ودفع {عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي، ومواعظ الرسل، يقال: أغنى عنه كذا: إذا كفاه {وَلَا أَبْصَارُهُمْ} حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة في صحائف العالم {وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ} حيث لم يستعملوها في معرفة الله سبحانه {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيئًا من الإغناء، و {مِنَ}: مزيدة للتأكيد. والمعنى (¬3): أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا، فأعطيناهم سمعًا فما استعملوه في سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا، وأعطيناهم أبصارًا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما اتنفعوا بها، وأعطيناهم قلوبًا تفقه حكمة الله في خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم في آخرتهم، ويقرِّبهم من جوار ربهم، بل صرفوها في طلب الدنيا ولذاتها، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[27]

بها، ودوام عبادته. ثم بيّن العلة في عدم إغناء ذلك عنهم، فقال: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، ويكذّبون رسله، وينكرون معجزاتهم. و {إذ}، ظرف جرى مجرى التعليل، متعلق بـ {بما أغنى} من حيث إنّ الحكم مرتب على ما أضيف إليه، فإنّ قولك: أكرمته إذ أكرمني في قوة قولك: أكرمته لإكرامه؛ لأنك إذا أكرمته وقت إكرامه ... فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه، وكذا الحال حيث {وَحَاقَ} أي: أحاط ونزل {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، فيقولون: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. وفي هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله، ويخافوا عقابه، فإنّ عادًا لمَّا اغتروا بدنياهم، وأعرضوا عن قبول الحق .. نزل بهم العذاب، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئًا، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أنَّ هذه الآلات التي هي السمع والبصر، والفؤاد، أسباب تحصيل التوحيد، وبدأ بالسمع؛ لأنّ جميع التكليف الوارد على القلب إنما يوجد من قبل السمع، وثنَّى بالبصر؛ لأنه أعظم شاهد بتصديق المسموع منه، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار غالبًا، تنبيا على عظمة ذلك، وإن كان المبصر هو القلب، ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك. 27 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا}؛ أي: وعزتي وجلالى، لقد أهلكنا يا أهل مكة {مَا حَوْلَكُمْ}؛ أي: ما حول قريتكم {مِنَ الْقُرَى} المكذِّبة للرسل كعاد، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وسبأ باليمن، ومدين وكانت في طريقهم في رحلاتهم صيفًا وشتاءً؛ أي: أهلكنا تلك الأمم المكذَّبة بعد أن أنذرناهم بالمثلات، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ}؛ أي: ولقد كررنا، وبيَّنا لهم قبل إهلاكهم الآيات التي يعتبر بها بتكرير ذكرها، وإعادة أقاصيص الأمم الخالية بتكذيبها وشركها؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[28]

أي (¬1): بينَّا لهم دلائل قدرتنا، وبديع حججنا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ أي: لكي يرجعوا عن غيِّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد، أو لشبهة عرضت لهم، فلم يرجعوا، فحل بهم سوء العذاب، ولم يجدوا لهم نصيرًا، ولا دافعًا لعذاب الله. 28 - ثم أبان الله تعالى مدى الكرب والشدَّة بفقد الأعوان والنصراء لدفع عذاب الله، فقال: {فَلَوْلَا}: تحضيضية؛ أي: فهلَّا نصر أولئك الأمم المكذّبة، حين أهلكهم الله تعالى الأصنام والأوثان {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} هم {مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}؛ أي: اتخذوها آلهة من دون الله، يتقربون بعبادتها إلى ربهم؛ أي: فهلَّا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقرَّبون به إلى ربهم فيما زعموا، حين جاءهم بأسه، فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده {بَلْ ضَلُّوا} وغابوا {عَنْهُمْ} ولم يفيدوهم شيئًا، و {بَلْ} للإضراب الانتقالي عن نفي النصرة لما هو أخص منه، إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة، فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلية، فضلًا عن أن ينصروهم، والقربان: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع: قرابين، كرهبان ورهابين، وأحد (¬2) مفعولي {اتَّخَذُوا}: ضمير محذوف راجع إلى الموصول، والثاني: {آلِهَةً} و {قُرْبَانًا}: حال، والتقدير: فهلّا نصرهم وخلّصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة، حال كونها متقرَّبًا بها إلى الله تعالى، حيث كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، وفيه تهكم بهم {بَلْ ضَلُّوا}؛ أي: بل ضلت الآلهة وغابت عنهم؛ أي: عن عابديها عند حلول البأس بهم، وفيه تهكم آخر بهم، كأنّ عدم نصرتهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم: أي: ظهر ضياعهم عنهم بالكلية. {وَذَلِكَ}؛ أي: ضياع (¬3) آلهتهم عنهم، وامتناع نصرتهم {إِفْكُهُمْ}؛ أي: أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها، ونتيجة شركهم، وثمرته {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

عطف على {إِفْكُهُمْ} أي: وما كانوا يكذبون بقولهم: إنها آلهة، وإنها تشفع لهم، و {ما}: إما مصدرية؛ أي: أثر افترائهم على الله، أو موصولة؛ أي: وأثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى، من نسبة الشركاء إليه تعالى. والمعنى (¬1): أي فهلَّا نصرتهم آلهتهم التي تقرَّبوا بها إلى الله لتشفع لهم، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم عند الحاجة إليهم. وذلك الضلال والضياع سببه اتخاذهم إياها آلهةً، وزعمهم الكاذب أنها تقرِّبهم إلى الله تعالى، وتشفع، وافتراؤهم وكذبهم بقولهم: إنها آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها. وفي هذا (¬2): تقريع لأهل مكة، وتأنيبٌ لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغني عنهم شيئًا، أو تنفعهم عنده .. لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أُهلكوا بعبادتهم لها، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم، أو لشفعت لهم عند ربهم، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأي، وسوء التقدير للأمور. وقرأ الجمهور (¬3): {إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة وإسكان الفاء وضم الكاف، مصدر أفك يأفك إفكًا؛ أي: كذبهم، وقرأ ابن عباس في رواية: بفتح الهمزة مع سكون الفاء وهو أيضًا مصدر لأفك، وقرأ ابن عباس أيضًا وابن الزبير، والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض، وعكرمة، وحنظلة بن النعمان بن مرة، ومجاهد: {أَفَكَهم} بثلاث فتحات، على أنه فعل ماض؛ أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد، وقرأ أبو عياض وعكرمة أيضًا: كذلك، إلا أنهما شدَّدا الفاء للتكثير، فقالا: أفَّكهم من باب فعّل المضعف، وقرأ ابن الزبير أيضًا، وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه: {آفكَهم} بالمدّ، فاحتمل أن يكون بزنة فاعل، فـ {الهمزة} أصلية، وأن يكون بزنة أفعل، فـ {الهمزة}: للتعدية؛ أي: جعلهم ¬

_ (¬1) التفسير المنير. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

يأفكون، ويكون أفعل بمعنى المجرد، وعن الفرّاء أنه قرىء: {أفَكُهم} بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الإفك، فيكون له ثلاثة مصادر: الأفْك، والإفْك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء، والأفك بفتح الهمزة والفاء، وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب، وأبو الفضل الرازي: {آفكهم} اسم فاعل من أفك؛ أي: صارفهم، والإشارة بذلك على قراءة من قرأ: {أفكهم} مصدرًا إلى اتخاذ الأصنام آلهةً؛ أي: ذلك كذبهم وافتراؤهم، وقال الزمخشري: وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم، وضلالهم عنهم؛ أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب، من كونه ذا شركاء. انتهى. وعلى قراءة من جعله فعلًا معناه: وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وكذلك قراءة اسم الفاعل؛ أي: صارفهم عن الحق، ويحتمل أن تكون {ما} في قوله: {وما يفترون}: مصدرية كما مرّ؛ أي: وافتراؤهم، وهذا الاحتمال هو الأحسن، ليُعْطَف مصدرَ على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد: محذوف؛ أي: والذي يفترونه. الإعراب {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {قَالُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {رَبُّنَا الله}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}، {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قَالُوا}. {فَلَا} {الفاء}: زائدة في خبر الموصول، لما فيه من معنى الشرط. {لا} نافية {خَوْفٌ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء به تقدم النفي عليه، {عَلَيْهِمْ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية. في محل الرفع خبر {إِن} وجملة {إن} مستأنفة، {وَلَا} {الواو}: حرف عطف، {لا}: زائدة لتكررها {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَحْزَنُونَ}: خبره، والجملة: معطوفة على الجملة السابقة. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.

{أُولَئِكَ}: مبتدأ. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. خبر، والجملة: خبر ثان لـ {إنّ} {خَالِدِينَ}: حال من {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {جَزَاءً}: مصدر منصوب بفعل محذوف؛ أي: يجزون جزاءً، والجملة المحذوفة: في محل النصب حال ثانية من {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وجوّز أبو البقاء إعرابه حالًا. {بِمَا}: متعلق بـ {جَزَاءً}، و {ما}: موصولة أو مصدرية. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة أو المصدرية. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: مستأنفة. {بِوَالِدَيْهِ}: متعلق بـ {وصينا}. {إِحْسَانًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: وصّيناه أن يحسن إليهما إحسانًا، أو مفعول به على تضمين {وصّينا} معنى ألزمنا، فيكون مفعولًا ثانيًا؛ أي: ألزمنا الإنسان إحسانًا بوالديه، {حَمَلَتْهُ}: فعل ومفعول به، {أُمُّهُ}: فاعل، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالوصية. {كُرْهًا}: حال من {أُمُّهُ}؛ أي: حالة كونها ذات كره ومشقة وتعب، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: حملًا كرهًا. {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}: معطوف على ما قبله. {وَحَمْلُهُ} {الواو}: حالية. {حمله}: مبتدأ. {وَفِصَالُهُ}: معطوف عليه. {ثَلَاثُونَ}: خبر. {شَهْرًا} تمييز، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من مفعول {وضعته} {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {بَلَغَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الإنسان {أَشُدَّهُ}: مفعول به، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه على كونها فعل شرط، والظرف: متعلق بالجواب. {وَبَلَغَ}: فعل وفاعل مستتر. {أَرْبَعِينَ}: مفعول به. {سَنَةً}: تمييز، والجملة: معطوفة على جملة {بَلَغَ} الأول. {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الإنسان، والجملة جواب

{إِذَا}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها: في محل الجر بـ {حَتَّى} الجارة المتعلقة بمحذوف، تقديره: وعاش إلى قوله: رب أوزعني وقت بلوغه أشده، وبلوغه أربعين سنة. {رَبِّ}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ} {أَوْزِعْنِي}: فعل دعاء مبني على السكون، وفاعله: ضمير يعود على الله، والنون: للوقاية، والياء: مفعول به أول، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء {أَن}: حرف نصب ومصدر. {أَشْكُرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر. {نِعْمَتَكَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {أَوْزِعْنِي} تقديره: رب أوزعني شكر نعمتك. {الَّتِي}: صفته لـ {نِعْمَتَكَ}. {أَنْعَمْتَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: أنعمتها. {عَلَيَّ}: متعلق بـ {أَنْعَمْتَ}. {وَعَلَى وَالِدَيَّ}: معطوف على {عَلَيَّ}، {وَأَن} {الواو}: عاطفة. {أن أعمل}: ناصب ومنصوب وفاعل مستتر معطوف على {أَنْ أَشْكُرَ}؛ أي: وعملي. {صَالِحًا}: مفعول به، أو صفة لمصدر محذوف، وجملة {تَرْضَاهُ}: صفة لـ {صَالِحًا}. {وَأَصْلِحْ}: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {أَوْزِعْنِي}. {لِي}: متعلق بـ {أصلح}، {في ذُرِّيَّتِي}: متعلق بـ {أصلح} أيضًا؛ أي: واجعل لي الصلاح في ذريتي راسخًا فيهم. {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {تُبْتُ} خبر، {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {تُبْتُ} وجملة {إِنّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل الدعاء المذكور قبله، وجملة {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: معطوفة على جملة {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. وجملة {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ}: صلة الموصول. {أَحْسَنَ}: مفعول به. و {مَا} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {عَمِلُوا} صلة لـ {مَا} الموصولة. ويجوز أن تكون {مَا}: مصدرية؛ أي: أحسن عملهم. {وَنَتَجَاوَزُ}: معطوف على {نَتَقَبَّلُ} داخل في حيز الصلة. {عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}. متعلق بـ {نتجاوز}. {في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ}: حال من

الموصول؛ أعني: الذين نتقبل عنهم. {وَعْدَ الصِّدْقِ}: منصوب بفعله المقدر؛ أي: وعدهم الله وعد الصدق؛ أي: وعدًا صادقًا لا خلف فيه، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة. {الَّذِي}: صفة لوعد الصدق. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يُوعَدُونَ}: خبره، وجملة {كان}: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يوعدونه {وَالَّذِي} {الواو}: استئنافية، {الذي}، مبتدأ، وجملة {قَالَ}: صلته. {لِوَالِدَيْهِ}: متعلق بـ {قَالَ}، {أُفٍّ}: اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًا، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنا وجملة اسم الفعل: في محل النصب مقول {قَالَ}: {لَكُمَا}: متعلق بـ {أُفٍّ}. {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}. {أَتَعِدَانِنِي}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {تعدان}: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والألف: فاعل، والنون: للوقاية، والياء: مفعول أول له، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَنْ أُخْرَجَ}: ناصب وفعل مغير ونائب فاعل مستتر، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ {تعدانني}؛ أي: تعدانني خروجي من القبر. {وَقَدْ} {الواو}: حالية. {قَدْ} حرف تحقيق. {خَلَتِ الْقُرُونُ}: فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِي}: متعلق بـ {خَلَتِ}، والجملة: في محل النصب حال من نائب {أُخْرَجَ}، {وَهُمَا} {الواو}: حالية. {همام}: مبتدأ. {يَسْتَغِيثَانِ اللهَ}: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من {والديه}. {وَيْلَكَ}: منصوب على المصدرية بفعل مقدر من معناه لا من لفظه؛ لأنّ العرب أماتوا لفظ فعله، تقديره: هلكت ويلك؛ أي: هلاكك، أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: ألزمك الله ويلك، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {يَسْتَغِيثَانِ}، تقديره: وهما يستغيثان الله حال كونهما قائلين: ويلك آمن. {آمِنْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الولد، والجملة الفعلية: من تتمّة مقولهما. {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ}: ناصب

واسمه وخبره، وجملة {إن}: في محل النصب من تتمّة قولهما، مسوقة لتعليل الأمر بالإيمان. {فَيَقُولُ} {الفاء}: عاطفة على القول المحذوف. {يقول}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الولد. {مَا} نافية، {هَذَا}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر {أَسَاطِيرُ}: خبر. {الْأَوَّلِينَ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ {يقول}، وجملة {يقول}: معطوفة على جملة يقولان المحذوف. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر لقوله السابق: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ}. والجمع هنا باعتبار المعنى. {حَقَّ}: فعل ماض. {عَلَيْهِمُ}: متعلق به. {الْقَوْلُ}: فاعل، والجملة: صلة الموصول. {في أُمَمٍ} حال من الضمير المجرور بـ {على}؛ أي: حال كونهم كائنين في عداد أمم. وجملة {قَدْ خَلَتْ}: صفة لـ {أُمَمٍ}. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: متعلق بـ {خَلَتْ} {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: حال من فاعل {خَلَتْ}، أو صفة لـ {أُمَمٍ}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانُوا خَاسِرِينَ}: في محل الرفع خبر {إنّ}: وجملة {إن} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {وَلِكُلٍّ}: خبر مقدم. {دَرَجَاتٌ}: مبتدأ مؤخو، والجملة: مستأنفة. {مِمَّا}: صفة لـ {دَرَجَاتٌ} وجملة {عَمِلُوا}: صلة لـ {ما} الموصولة، {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} {الواو}: عاطفة، و {اللام} حرف جر وتعليل. {يُوَفِّيَهُمْ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله، و {الهاء}: مفعول أول. {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولتوفيته إياهم أعمالهم، والجار والمجرور: متعلقان بمعلول محذوف، والمعلول المحذوف، معطوف على مقدر تقديره: فعل بهم ما فعل، ليعدل بينهم، وجازاهم بما ذكر، ليوفيهم أعمالهم. {وَهُمْ}: مبتدأ. وجملة {لَا يُظْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال مؤكدة من ضمير {يوفيهم}.

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية. {يوم}: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: يقال لهم يوم عرضهم على النار: أذهبتم، والقول المحذوف: مستأنف. {يُعْرَضُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {الَّذِينَ}: نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}. {كَفَرُوا}: صلة الموصول {عَلَى النَّارِ}: متعلق بـ {يُعْرَضُ}، {أَذْهَبْتُمْ}: فعل وفاعل، {طَيِّبَاتِكُمْ}: مفعول به. {في حَيَاتِكُمُ}: متعلق بـ {أَذْهَبْتُمْ}. {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الحياة}، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول للقول المحذوف. {وَاسْتَمْتَعْتُمْ}: معطوف على {أَذْهَبْتُمْ}، {بِهَا}: متعلق بـ {استمتعتم}. {فَالْيَوْمَ} {الفاء}: عاطفة. {اليوم}: ظرف متعلق بـ {تُجْزَوْنَ} و {تُجْزَوْنَ}: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على {أَذْهَبْتُمْ}. {عَذَابَ الْهُونِ}: مفعول به ثان. {بِمَا}: متعلق بـ {تُجْزَوْنَ}. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَسْتَكْبِرُونَ}: خبره، {في الْأَرْضِ}: متعلق بـ {تَسْتَكْبِرُونَ}، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: متعلق بمحذوف حال من فاعل {تَسْتَكْبِرُونَ}، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} الموصولة، {وَبِمَا}: معطوف على الجار والمجرور في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ}، وجملة {كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}: صلة لـ {ما}. ويجوز أن تكون {ما}: في الموضعين موصوفةً أو مصدرية. {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ومفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان قصة عاد قوم هود. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب بدل اشتمال من {أَخَا عَادٍ}. {أَنْذَرَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {أَخَا عَادٍ}. {قَوْمَهُ}: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {بِالْأَحْقَافِ}: حال من {قَوْمَهُ}. {وَقَدْ} {الواو}: اعتراضية. {قد}: حرف تحقيق. {خَلَتِ}: فعل وفاعل، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}: حال من {النُّذُرُ} {وَمِنْ خَلْفِهِ}: معطوف عليه، والجملة: اعتراضية لا محل لها

من الإعراب؛ لاعتراضها بين المفسِّر والمفسَّر، أو بين المتعلِّق والمتعلَّق. {أَلَّا} {أن}: مخففة من الثقيلة، أو مصدرية أو مفسرة، واسمها. ضمير الشأن؛ أي: أنه {لا}: ناهية جازمة. {تَعْبُدُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة {اللهَ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة، في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، الجار والمجرور: متعلق بـ {أَنْذَرَ}؛ أي: إذ أنذر قومه بعدم عبادتهم إلا الله. {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَخَافُ}: خبر {إِنّ} {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَخَافُ}. {عَذَابَ يَوْمٍ}: مفعول به. {عَظِيمٍ}: صفة {يَوْمٍ}، وجملة {إنّ} تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تعليل للنهي عن عبادة غير الله. {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {أَجِئْتَنَا} {الهمزة}: للاستفهام التقريري التوبيخي. كما في "البحر"، {جئتنا}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا} {لِتَأْفِكَنَا} {اللام}: حرف جر وتعليل. {تأفكنا}: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل مستتر، يعود على هود. {عَنْ آلِهَتِنَا}: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإفكك إيّانا عن آلهتنا، الجار والمجرور: متعلق بـ {جئتنا}. {فَأْتِنَا} {الفاء}، عاطفة. {ااتنا}: فعل أمر وفاعل مستتر، ومفعول به، {بِمَا}: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة {أَجِئْتَنَا} لتوافقهما في الطلبية. {تَعِدُنَا}: فعل مضارع: وفاعل مستتر. ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: بما تعدناه. {إِن}: حرف شرط. {كنُتَ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إِن} على كونه فعل شرط لها. {مِنَ الصَّادِقِينَ}: خبر {كان} وجواب {إِن} الشرطية: معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنت من الصادقين. فأتنا بما تعدنا. وجملة {إِن} الشرطية: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على هود، والجملة: مستأنفة. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {الْعِلْمُ}: مبتدأ {عِنْدَ اللهِ}: خبر، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}.

{وَأُبَلِّغُكُمْ} {الواو}: عاطفة. {أبلغكم}: فعل مضارع. وفاعل مستتر، ومفعول به. {مَا}: اسم موصول في محل النصب. مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ}. {أُرْسِلْتُ}: فعل ماض، مغير الصيغة. ونائب فاعل. {بِهِ}: متعلق به والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة. {وَلَكِنِّي} {الواو}: عاطفة. {لَكِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَرَاكُمْ}: خبره، والجملة: معطوفة على ما قبلها. {أَرَاكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول أوّل. {قَوْمًا}: مفعول ثان له، وجملة {تَجْهَلُونَ}: صفة {قَوْمًا}. {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة، {لمّا}: حرف شرط غير جازم، {رَأَوْهُ}: فعل ماض وفاعل ومفعول به. {عَارِضًا}: حال من المفعول؛ لأنّ الرؤية بصرية، والجملة: فعل شرط لـ {لمّا}. {مُسْتَقْبِلَ} صفة {عَارِضًا}؛ لأنّ الإضافة فيه لفظية. {أَوْدِيَتِهِمْ} مضاف إليه {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة، جواب {لمّا}، وجملة {لمّا}: معطوفة على محذوف، تقديره: فجاءهم العذاب، فلمّا رأوه قالوا. إلخ. {هَذَا}: مبتدأ، {عَارِضٌ}: خبره، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {مُمْطِرُنَا}: صفة {عَارِضٌ}؛ لأنّ الإضافة فيه لفظية، كما مرّ آنفًا. {بَل}: حرف ابتداء وإضراب، {هُوَ} مبتدأ، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مقول لقول محذوف، تقديره: قال هود: بل هو ما استعجلتم به. {اسْتَعْجَلْتُمْ}: فعل وفاعل، {بِهِ}: متعلق به، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة. {رِيحٌ}: بدل من {مَا} أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ريح. {فِيهَا}: خبر مقدم. {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ} صفة {عَذَابٌ}، والجملة الاسمية: نعت أول لـ {رِيحٌ}. {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}. {تُدَمِّرُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على {رِيحٌ}. {كُلَّ شَيْءٍ}:

مفعول به، {بِأَمْرِ} متعلق بـ {تُدَمِّرُ}، {رَبِّهَا}: مضاف إليه، والجملة: نعت ثان لـ {رِيحٌ}. {فَأَصْبَحُوا} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فأدركتهم الريح فأصبحوا إلخ. {أصبحوا}: فعل ناقص واسمه. {لا}: نافية. {يُرَى}: فعل مضارع مغيّر الصيغة. {إِلا}: أداة حصر. {مَسَاكِنُهُمْ} نائب فاعل، والرؤية هنا بصريّة، تتعدّى إلى مفعول واحد، وجملة {لَا يُرَى}: في محل النصب خبر {أصبح} وجملة {أصبح}: معطوفة على تلك المحذوفة. {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف. {نَجْزِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله. {الْقَوْمَ}: مفعول به. {الْمُجْرِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}. والجملة الفعلية: مستأنفة؛ أي: نجزي القوم المجرمين جزاءً مثل ذلك الجزاء الفظيع. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {مَكَّنَّاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: جواب لقسم محذوف، وجملة القسم: مستأنفة. {فِيمَا}: جار ومجرور، متعلّق بـ {مَكَّنَّاهُمْ}. {إِن}: نافية، {مَكَّنَّاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به. فِيه: متعلق بـ {مَكَّنَّاكُمْ} والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة؛ أي: ولقد مكنَّاهم في الذي ما مكّناكم فيه. {وَجَعَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {مَكَّنَّاهُمْ}، {لَهُمْ}: متعلق بـ {جعلنا}؛ لأنّه بمعنى خلقنا. {سَمْعًا}: مفعول به لـ {جعلنا}، {وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً}: معطوفان عليه. {فَمَا} {الفاء}: عاطفة، {ما}: نافية. {أَغْنَى}: فعل ماض. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {أَغْنَى}، {سَمْعُهُمْ}: فاعل، {وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ}: معطوفان عليه. {مِنْ}: زائدة. {شَيْءٍ}. مفعول مطلق مجرور لفظًا، منصوب محلًا؛ أي: شيئًا من الإغناء. وجملة {ما أغنى}: معطوفة على جملة {جعلنا}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، مفيدة للتعليل، متعلق بمعنى النفي؛ لأنّ المعلّل هو النفي؛ أي: انتفى نفع هذه الحواس عنهم؛ لأنّهم كانوا يجحدون. {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَجْحَدُونَ}: خبره. وجملة {كان}: في محل الجر

بإضافة {إِذْ} إليه. {بِآيَاتِ اللهِ}: متعلق بـ {يَجْحَدُونَ}. {وَحَاقَ}: فعل ماض. {بِهِم}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل. والجملة: معطوفة على جملة {كَانُوا}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {يَسْتَهْزِئُونَ}، وجملة {يَسْتَهْزِئُونَ}: خبر {كان} وجملة {كان}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل. والجملة: جواب القسم، وجملة جواب القسم مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، {حَوْلَكُمْ}: منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، {مِنَ الْقُرَى}: حال من الضمير المستقرّ في الصلة أو من {مَا} الموصولة. {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {أَهْلَكْنَا}. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه وجملة {يَرْجِعُونَ}: خبره. وجملة {لعل}: تعليلية لا محل لها من الإعراب. {فَلَوْلَا} {الفاء}: عاطفة. {لولا}: حرف تحضيض بمعنى هلّا. {نَصَرهُمُ}: فعل ومفعول به. {الَّذِينَ}: فاعل. والجملة: معطوفة على جملة القسم. {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل والمفعول الأول لـ {اتَّخَذُوا}: محذوف، تقديره: فلولا نصرهم الذين اتخذوهم، وهو عائد الموصول. {مِنْ دُونِ اللهِ}: متعلق بـ {اتَّخَذُوا}، {قُرْبَانًا}: حال من المفعول الأول المحذوف. {آلِهَةً}: مفعول ثان. وجملة {اتخذ}: صلة الموصول. وقال ابن عطية والحوفيّ: المفعول الأول: محذوف، كما قلنا: و {قُرْبَانًا}: مفعول ثان، {آلِهَةً}: بدل منه. وقد أنكر الزمخشريّ هذا الوجه؛ لفساد المعنى عليه. {بَل}: حرف عطف وإضراب للانتقال عن نفي النصرة لما هو أخص منه، إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة، فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلّية، فضلًا عن أن ينصروهم. {ضَلُّوا}: فعل وفاعل. {عَنْهُمْ}: متعلق به. والجملة الإضرابية: معطوفة على جملة {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ}.

{وَذَلِكَ} {الواو}: استئنافية {ذلك}: مبتدأ، {إِفْكُهُمْ}: خبر. والجملة مستأنفة. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: مصدرية أو موصولة، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ}: خبره. وجملة {كان}: صلة لـ {مَا} المصدرية؛ أي: وافتراؤهم، أو الموصولة؛ أي: والذي يفترونه. التصريف ومفردات اللغة {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} من التوصية. والتوصية، وكذا الإيصاء، والوصيّة: بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه، أو الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام؛ أي: أمرنا، والإحسان: خلاف الإساءة، والحسن: خلاف القبح. والمراد: أنه يفعل معهما فعلًا ذا حسن. {كُرْهًا} والكره بالضم والفتح، كالضُعف والضَعف: المشقّة والتعب. {وَحَمْلُهُ}؛ أي: مدّة حمله ستة أشهر. {وَفِصَالُهُ}؛ أي: المدّة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان. والمراد به: الرضاع التامّ، المنتهي بالفطام. وفي "المختار": الفصال، هو الفطام. وقرىء: {وفصله} وهو مصدر فاصل الرباعيّ، كأنّ الأمّ فاصلته، وهو فاصلها. والفصل والفصال: بمعنى واحد كالفطم والفطام، والقطف والقطاف، وفي الآية تجوّز، كما سيأتي من حيث إنّ المراد بالفص الذيها: الرضاع: أي: مدّته التي يعقبها الفطام، فهو مجاز، علاقته المجاورة. {بَلَغَ أَشُدَّهُ} وبلوغ الأشدّ أن يكتهل، ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين، وناطح الأربعين. {أَرْبَعِينَ سَنَةً} والمراد بالسنة: القمرية، على ما أفادته الآية، كما قال: شهرًا لا الشمسية، اهـ "الروح". كما مرّ. {رَبِّ أَوْزِعْنِي}؛ أي: ألهمني ووفّقني ورغّبني، من أوزعته بكذا: إذا جعلته مولَّعا به، راغبًا في تحصيله. وأصله: الإعاء بالشيء من قولهم: فلان موزع

بكذا؛ أي: مغرى به. وقال الراغب: وتحقيقه أولعني بذلك. {وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي} من ذرأ الشيء إذا كثر. ومنه: الذرّيّة لنسل الثقلين. كما في "القاموس"؛ أي: واجعل الصلاح ساريًا في ذريتي، راسخًا فيهم. كما مرّ. {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} والقبول: هو الرضا بالعمل، والإثابة عليه. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}؛ أي: حسن أعمالهم وطاعاتهم، فإنّ المباح حسن، ولا يثاب عليه. فالقبول ليس قاصرًا على أحسن، وأفضل عبادتهم، بل يعم كل طاعاتهم أفضلها ومفضولها. {أُفٍ} هو صوت يصدر من الإنسان حين تضجره، وكتب عليه الكرخي في سورة الإسراء: وهو مصدر أفّ يؤف أفًّا، بمعنى تبًّا وقبحًا، أو صوت يدلّ على تضجّر، أو اسم الفعل الذي هو أتضجر. اهـ. فجعل فيه احتمالات ثلاثة: مصدر، واسم صوت، واسم فعل. لكن المراد: أيُّ كلام يؤذيهما فيه كسر لخاطرهما. {يَسْتَغِيثَانِ} من الغوث. أصله: يستغوثان، نقلت حركة الواو إلى الغين إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. {أُخْرَجَ}؛ أي: أبعث من القبر للحساب. {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}؛ أي: مضت ولم يخرج منها أحد. والقرون: جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد. {يَسْتَغِيثَانِ اللهَ}؛ أي: يقولان: الغياثُ بالله منك، يقال: استغاث الله، واستغاث بالله. والمراد: أنهما يستغيثان بالله من كفره إنكارًا، واستعظامًا له حتى لجأ إلى الله في دفعه. كما يقال: العياذ بالله من كذا. {وَيْلَكَ} دعاء عليه بالثبور والهلاك، ويراد به: الحثُّ على الفعل أو تركه، إشعارًا بأنّ مرتكبه حقيق بأن يهلك، فإذا سمع ذلك .. ارعوى عن غيّه، وترك ما هو فيه، وأخذ بما ينجيه. وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها، ومثله: ويحه، وويسه، وويبه. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: أباطيلهم التي سطّورها في الكتب من غير أن يكون

لها حقيقة، كما مرّ. {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}؛ أي: وجب عليهم قوله لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} الآية. {خَاسِرِينَ}؛ أي: كانوا من الذين ضيّعوا نظرهم الشبيه برؤوس الأموال باتّباعهم همزات الشياطين. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} والدرجات: المنازل، واحدها: درجة. وهي المنزلة، ويقال لها: منزلة إذا اعتبرت صعودًا، ودركة إذا اعتبرت حدورًا. ومن ثمّ يقال: درجات الجنة، ودركات النار. فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} من وفّاه حقّه: إذا أعطاه إيّاه وافيًا تامًّا. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الإذهاب: الاشتغال بالطيّبات المستلذّات. وعبارة الخطيب: والمعنى: أنّ ما قدّم لكم من الطيبات والدرجات .. فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظوظكم في الدنيا شيء في الآخرة. انتهت. قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوّة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه؛ أي: شبابه وقوّته. قال الماروديّ: ووجدت الضحاك قاله أيضًا. قال القرطبيّ: القول الأول: أظهر. {الْهُونِ}؛ أي: الهوان، والذلّ. {تَفْسُقُونَ}: تخرجون عن طاعة الله تعالى. {بِالْأَحْقَافِ} جمع حقف بالكسر والسكون، وهو: ما استطال من الرمل العظيم واعوجّ، ولم يبلغ أن يكون جبلًا. والجمع: حقاف وأحقاف: وحقوف. وجمع الجمع: حقائف وحقفة. يقال: احقوقف الرمل والهلال: إذا اعوجّ. وفي المراد بالأحقاف هنا خلاف. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة على البحر، مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالًا، وشاهد ما ذكرناه ما قال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشَّحَر: موضع قريب من عدن. وفي "القاموس": الشعر كمنع، فتح الفم، وساحل البحر بين عمان وعدن. وقال ابن إسحاق: الأحقاف: رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. وقال قتادة: الأحقاف: رمال مشرفة على هجر بالشحر من أرض اليمن. قال ياقوت: فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى، مأخوذ من احقوقف الشيء: إذا اعوجَّ , وإنما أخذ الحقف من احقوقف، مع أنّ الأمر ينبغي أن يكون بالعكس؛ لأنّ احقوقف أجلى معنى،

وأكثر استعمالًا. فكانت له من هذه الجهة أصالةٌ، اهـ من "الروح". {لِتَأْفِكَنَا}؛ أي: تصرفنا من الأفك بالفتح مصدر أفكه يأفكه أفكًا: إذا قلبه، وصرفه عن الشيء. {عَنْ آلِهَتِنَا}؛ أي: عبادتها. {بِمَا تَعِدُنَا} من معالجة العذاب على الشرك. {عَارِضًا} والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. قال الأعشى: يَا مَنْ رَأى عَارِضًا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ ... كَأنَّمَا الْبَرْقُ فِيْ حَافَاتِهِ الشُّعَلُ {عَنْ آلِهَتِنَا} أصله: أألِهَةٌ، بوزن أفعلة، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى المفتوحة. {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أصله: رأيوه، بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان: الألف، وواو الجماعة، فحذفت الألف. {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} أصله: يرءي، بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثمّ أبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. وكذلك القول في قراءة من قرأ {ترى} بالتاء والبناء للفاعل. وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نُصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". قال شاعرهم يحكي هذا القصص فيما رواه ابن الكلبيّ: فَدَعَا هُوْدٌ عَلَيْهِمْ ... دَعْوَةً أَضْحَوْا هُمُوْدَا عَصَفَتْ ريحٌ عَلَيْهِمْ ... تَرَكَتْ عَادًا خُمْوْدَا سُخِّرَتْ سَبْعَ لَيَالِيْ ... لَمْ تَدَعْ فِيْ الأَرْضِ عُوْدَا {عَادٍ} قبيلة عربية من إرم. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ}؛ أي: لقد جعلنا لهم مكنة، وقدرة في الذي ما مكّنّاكم فيه يا أهل مكة. {أَغنى} أصله: أغني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} وحول الشيء: جانبه الذي يمكنه أن يحوّل إليه. {قُرْبَانًا} والقربان: ما يتقرّب به إلى الله تعالى. يجمع على قرابين، كرهبان ورهابين، كما مرّ.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} بعد قوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}؛ لزيادة العناية والاهتمام بشأن الأمّ؛ لحقّها العظيم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَفِصَالُهُ}؛ لأنه مجاز عن مدّة الرضاع التام التي يعقبها الفطام، فهو مجاز علاقته المجاورة. ومنها: الطباق بين: {حَمَلَتْهُ} {وَوَضَعَتْهُ}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ}؛ لأنّ الكلام على حذف المضاف؛ أي: بلغ وقت أشدّه، وكذا قوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} على حذف مضاف؛ أي: تمام أربعين سنة، وكذا قوله: {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}؛ أي: أن أشكرك على نعمتك. ومنها: التنوين في قوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا} للتفخيم والتعميم. ومنها: زيادة {في} في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي} مع أنّ الصلاح يتعدّى بنفسه، كما في قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ليدلّ على أنّ المدعو جعل الصلاح ساريًا في ذرّيّته، راسخًا فيهم. ومنها: الجناس المغاير بين {صَالِحًا} {وَأَصْلِحْ} في قوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي}. ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ}؛ أي: الوعد الصادق الذي لا خلف فيه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}. ومنها: الإضافة في قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أضافه إلى لفظ الجلالة؛

تحقيقًا للحقّ، وتنبيهًا على خطئه في إسناد الوعد إليهما في قوله: {أَتَعِدَانِنِي}. ومنها: صيغة الحصر في قوله: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ومنها: التغليب في قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ}؛ لأنّه غلَّب درجات السعداء على دركات الأشقياء، فعبّر عن الكل بالدرجات على طريق التغليب. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}؛ لأنَّه استعار العرض للتعذيب، فاشتقَّ منه {يُعْرَضُ} بمعنى يعذّب على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، فالعرض هنا مجاز عن التعذيب، نظير قوله: عرض الأسارى على السيف؛ أي: قتلوا, وإلّا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والاطلاع، والنار ليست منهم. قال الفرَّاء: معنى عرضهم عليها: إبرازها لهم، كما في قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)}؛ أي: أبرزناها، حتى نظر الكفار إليها، فالمعروض عليه، يجب أن يكون من أهل الشعور، والنار ليست منه، فلا بدَّ أن يحمل العرض على التعذيب مجازًا بطريق التعبير عن الشيء باسم ما يؤدي إليه، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف، فقتلوا به، أو يكون باقيًا على أصل معناه، ويكون الكلام محمولًا على القلب. والأصل: ويوم تعرض النار على الذين كفروا؛ أي: تظهر وتبرز عليهم، والنكتة في اعتبار القلب: المبالغة بادّعاء أنَّ النار ذات تمييزٍ، وقهرٍ وغلبةٍ. ومنها: الإيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع في قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}؛ أي: يقال لهم: أذهبتم. ومنها: إضافة الرب إلى الريح في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهَا} مع أنه تعالى ربّ كل شيء؛ لتعظيم شأن المضاف إليه، وللإشارة إلى أنَّها في حركتها مأمورةٌ، وأنها من أكابر جنود الله تعالى. ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: {عَذَابَ الْهُونِ}. ومنها: الإطناب بتكرار اللفظ في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً}

ثم قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ}؛ لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}. المناسبة قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لمّا بيَّن أنَّ الإنس مؤمن وكافر، وذكر أن الجنّ فيهم مؤمن وكافر، وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه، لما كان عليه قومه من الشدّة والقوّة، والجنّ توصف أيضًا بذلك، كما قال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}، وأنَّ ما أهلك به قوم هود هو الريح، وهو من العالم الذي لا يشاهد، وإنما يحيى بهبوبه، والجن أيضًا من العالم الذي لا يشاهد، وإن هودًا عليه السلام كان من العرب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب .. فهذه تجوز أن تكون مناسبةً لهذه الآية بما قبلها، وفيها أيضًا توبيخ لقريش، وكفّار العرب، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، وآمنوا به، وبمن أنزل عليه، وعلموا أنّه من عند الله، بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرّون على الكفر به، ذكره أبو حيّان. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا ذكر أنّ في الإنس من آمن، ومنه من كفر .. أعقب هذا ببيان أنّ الجنّ كذلك، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وأنّ مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرّض للعقاب، وأنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجنّ. واعلم (¬1): أنّ عالم الملائكة وعالم الجنّ لا يقوم عليهما دليل من العقل، فهما بمعزل عن ذلك، وإنّما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط، فعلينا أنّ نؤمن بما جاء به فحسب، ولا نزيد على ذلك شيئًا، ولا نتوسّع في بحثه وتأويله وتفصيله، فإنّ ذلك من عالم الغيب، لم نؤت من علمه كثيرًا ولا قليلًا، فعلينا أن نؤمن بأنّ اتصالًا قد تمّ بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعالم الملائكة، وبه تلقى الوحي على أيديهم، وأنّه اتصل بعالم الجنّ، فعلمهم وبشرهم وأنذرهم، ولكنّا لا ندري كيف كان الاتصال؟ ولا كيف تلقَّوا عنه القرآن؟. ولعلّ تقدم العلوم في مستأنف الأيّام يلقي علينا ضوءًا من هذه المعرفة، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع في دراسته بيَّن لنا بعض السرّ في ذلك، ففي هذه الدراسة معرفة شيء من أحوالنا في الحياة الأخرى بعد هذه الحياة، وسيأتي تفصيل لهذا القصص في سورة الجنّ. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر في أول السورة (¬2) ما يدلّ على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثمّ ثنّى بإثبات النبوة، وذكر شبهاتهم في الطعن فيها، وأجاب عنها .. أردف ذلك بإثبات البعث، وأقام الدليل عليه، فذكر أنّ من خلق السموات والأرض على عظمهنّ، فهو قادر على أن يحيي الموتى، ثمّ أعقب هذا بما يجري مجرى العظة والنصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى قومه، كما صبر من قبله أولوا العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنّه نازل بهم لا محالة وإن تأخّر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا. ثم ختم السورة بأنّ في هذه العظات كفاية أيَّما كفايةٍ، وما يهلك إلا من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[29]

خرج عن طاعة ربّه، ولم ينقد لأمره ونهيه. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} إلى {ضَلَالٍ مُبِينٍ} سبب (¬1) نزولها: ما أخرجه الحاكم بسنده عن زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلمّا سمعوه .. أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة، أحدهم: زوبعة، فأنزل الله عزّ وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ...} الآية، إلى {ضَلَالٍ مُبِينٍ}. صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقرّه الذهبيّ، وأخرجه الحافظ البيهقي من طريق الحاكم بهذا السند في "دلائل النبوّة" (ج 2/ ص: 13). التفسير وأوجه القراءة 29 - ولمَّا بيَّن سبحانه أنّ في الإنس من آمن، وفيهم من كفر .. بيّن أيضًا أنّ في الجن كذلك، فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} والعامل في الظرف محذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ صرفنا ووجَّهنا، وأملنا إليك نفرًا وجماعة من الجنّ، وأقبلنا بهم نحوك. وقرىء {صرَّفْنَا} بتشديد الراء؛ لأنّهم كانوا جماعة، فالتكثير بحسب الحال. ذكره في "البحر". والنفر: دون العشرة، وجمعه أنفار. قال الراغب: النفر: عدة رجال يمكنهم النفر إلى الحرب ونحوها. واعلم (¬2): أنَّ الجن بعض الروحانيين، وذلك أنَّ الروحانيين ثلاثة أجناس: أخيار وهم الملائكة، وأشرار وهم الشياطين، وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجنّ. قال سعيد بن المسيّب: الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، والشياطين ذكور وإناث، يتوالدون ولا يموتون، بل يُخَلَّدون ¬

_ (¬1) المسند الصحيح. (¬2) روح البيان.

في الدنيا، كما خلد إبليس، والجن يتوالدون، وفيهم ذكور وإناث، ويموتون. يقول الفقير: يؤيّده: ما ثبت أنَّ في الجنّ مذاهب مختلفة كالإنس، حتى الرافضي ونحوه، وإنّ بينهم حروبًا وقتالًا، ولكن يشكل قولهم: إبليس هو أبو الجنّ، فإنه يقتضي أن لا يكون بينهم وبين الشياطين فرق، إلا بالإيمان والكفر فاعرف. {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} حال مقدرة من {نَفَرًا} لتخصيصه بالصفة، أو صفة أخرى له، ونقل بعضهم: إنّ أولئك الجنّ كانوا يهودًا فأسلموا. أي: واذكر يا محمد لقومك وقت صرفنا إليك نفرًا كائنًا من الجنّ، مقدَّرا استماعهم القرآن، {فَلَمَّا حَضَرُوهُ}؛ أي: حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل: حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، والأوَّل أولى. {قَالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعض: {أَنْصِتُوا}؛ أي: اسكتوا لنسمعه، وفيه إشارة إلى أنّ من شأنهم فضول الكلام واللغط كالإنس، ورمز إلى الحرص المقبول. قال بعض العارفين: هيبة الخطاب، وحشمة المشاهدة، حبست ألسنتهم، فإنّه ليس في مقام الحضرة إلّا الخمول والذبول؛ أي: أمر بعضهم بعضًا بالإنصات لأجل أن يسمعوا. {فَلَمَّا قُضِيَ} القرآن؛ أي: فرغ من تلاوته {وَلَّوْا}؛ أي: انصرفوا {إِلَى قَوْمِهِمْ} ورجعوا إليهم، حال كونهم {مُنْذِرِينَ} لهم؛ أي: مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم؛ يعني: آمنوا به، وأجابوا إلى ما سمعوا، ورجعوا إلى قومهم منذرين؛ أي: مخوّفين لهم من عقاب الله إن خالفوه؛ أي: انصرفوا وتفرقوا في البلاد، قاصدين إلى من ورائهم من قومهم، منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذّرين لهم، ولا يلزم من رجوعهم بهذه الصفة أن يكونوا رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ يجوز أن يكون الرجل نذيرًا ولا يكون نبيًا أو رسولًا من جانب أحد، فالنذارة في الجنّ من غير نبوّة، وفي "الخطيب": رجعوا إلى قومهم منذرين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلهم رسلًا إلى قومهم. اهـ.

وقرأ الجمهور (¬1): {فَلَمَّا قُضِيَ} مبنيًا للمفعول، وأبو مجلز وخبيب بن عبد الله بن الزبير: {قَضَى} مبنيًا للفاعل؛ أي: قضى محمد ما قرأ؛ أي: أتمَّه وفرغ منه. وقال ابن عمرو وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .. قالوا: لا شيء من آيات ربّنا نكذّب، ربنا لك الحمد. ومعنى الآية (¬2): أي واذكر يا محمد لقومك موبِّخًا لهم على كفرهم بما آمنت به الجنّ، لعلّهم يتنبهون لجهلهم، ويرعوون عن غيّهم وقبيح ما هم فيه من كفر بالقرآن، وإعراض عنه، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل، ومن جنس الرسول الذي جاء به، وأولئك استمعوه، وعلموا أنه من عند الله، وآمنوا به، وليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس رسوله في ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعةً من الجنّ ليستمعوا القرآن، ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات، فلمَّا حضروا الرسول، قال بعضهم لبعض: أنصتوا مستمعين، فلمّا فرغ من تلاوته .. رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه. وذكر الوقت (¬3) ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها, لما لها من خطر جليل، وشأن عظيم، فيراد علمه بها, ليكون لها في نفسه الأثر الدي يقصدى منها من تركيب أو ترهيب، ومسرّة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده. قال العلماء (¬4): إنّه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الجن قطعًا، وهم مكلّفون، وفيهم العصاة والطائعون، وقد أعلمنا الله أنّ نفرًا من الجنّ رأوه عليه الصلاة والسلام، وآمنوا وسمعوا القرآن، فهم صحابة فضلاء من حيث رؤيتهم وصحبتهم، وحينئذٍ يتعيّن ذكر من عرف منهم في الصحابة رضي الله عنهم هذا في "شرح النخبة" لعليِّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

القاري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولئك تسعة: سليط، شاصر، ماصر، حاصر، حسا، مسا، عليم، أرقم، أدرس. قيل: ومنهم زوبعة. قال في "القاموس": الزوبعة بفتح الزاي المعجمة والباء الموحدة: اسم شيطان، أو رئيس الجنّ، فتكون الأسماء عشرة. تنبيه (¬1): ذكروا في سبب هذه الواقعة قولين: أحدهما: أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا رجموا من السماء حين بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... قالوا: ما هذا إلّا لشيء أحدث في الأرض، فذهبوا فيها يطلبون، وكان قد اتفق أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة الحادية عشرة من النبوّة، لمّا أيس من أهل مكة .. خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه، فانصرف راجعًا إلى مكة، فقام ببطن نخلة يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من جنّ نصيبين، كان إبليس قد بعثهم يطلبون السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم بالشهب، فسمعوا القرآن، فعرفوا أنّ ذلك هو السبب. والقول الثاني: أنّ الله أمر رسوله أن ينذر الجنّ، ويدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرًا منهم يستمعون القرآن، وينذرون قومهم، وذلك لأنّ الجنّ مكلّفون، لهم الثواب، وعليهم العقاب، ويدخلون الجنة، ويأكلون فيها، ويشربون كالإنس، فانتهض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، وقال: "إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة القرآن، فأيكم يتبعني" فأطرقوا، فتبعه عبد الله بن مسعود، قال عبد الله بن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة .. دخل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - شعبًا يقال له: شعب الحجون، وخط لي خطّا، وأمرني أن أجلس فيه، وقال لي: لا تخرج حتى أعود إليك، فانطلق حتى وصل إليهم، فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي، وسمعت لغطًا شديدًا، حتى خفت على نبيّ الله، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى لم أسمع صوته، ثمّ طفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبيّ منهم مع الفجر، ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[30]

فانطلق إليّ، فقال لي: "قد نمت"، فقلت: لا والله، ولكنّي هممت أن آتي إليك لخوفي عليك، فقال - صلى الله عليه وسلم - لي: "لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، فأولئك جنّ نصيبين": بلدة قاعدة ديار ربيعة أو مدينة بالشام أو باليمن. فقلت: يا رسول الله، سمعت لغطًا شديدًا، فقال: "إنّ الجنّ اختصموا في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحقّ". وكانت عدة هؤلاء الجن اثني عشر ألفًا. وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟. قال: آذنته بهم الشجرة. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم أحد ليلة الجنّ؟. قال: ما صحبه منّا أحد، ولكنّا فقدناه ذات ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير، ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلمّا كان في وجه الصبح .. إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه، فقال: إنّه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وقد وردت أحاديث كثيرة أنّ الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرةً بعد مرةً، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية. 30 - ثمّ فصّل ما قالوه لهم في إنذارهم، فقال: {قَالُوا}؛ أي: قال أولئك النفر الجنّيون عند رجوعهم إلى قومهم: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} فيه إطلاق الكتاب على بعض أجزائه، إذ لم يكن القرآن كلّه منزلًا حينئذٍ. {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ} كتاب {مُوسَى} عليه السلام، وفي الكلام (¬1) حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إلخ. قيل: ذكروا موسى؛ لأنّهم كانوا على اليهودية وأسلموا. قال (¬2) سعدي المفتي في "حواشيه": قلت: الظاهر أنَّه مثل قول ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، فقد قالوا في وجهه وعلّته: إنه ذكر موسى مع أنه كان نصرانيًّا، تحقيقًا للرسالة؛ لأنّ نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى، بخلاف عيسى، فإن اليهود ينكرون نبوّته، أو لأنَّ النصارى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

يتبعون أحكام التوراة، ويرجعون إليها، وهذان الوجهان متأتِّيان هنا أيضًا. يقول الفقير: قد صحّ أنّ التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب، فإنها لم تشتمل على ذلك، إنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده، ومن ثم قيل لها: صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز، كما صرَّح به في "السيرة الحلبية". فلمّا كان القرآن مشتملًا على الأحكام والشرائع أيضًا .. صارت الكتب الإلهية كلها في حكم كتابين: التوراة والقرآن، فلذا خصَّصوا موسى بالذكر، وفيه بيان لشرف الكتابين وجلالتهما. حالة كون ذلك الكتاب {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ أي: موافقًا لما قبله من التوراة والكتب الإلهية في الدعوة إلى التوحيد والتصديق، وحقّية أمر النبوّة والمعاد وتطهير الأخلاق، فهو حال من {كِتَابًا} لتخصصه بالصفة، أو صفة ثانية له. {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} والصواب من العقائد الصحيحة {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: موصل إليه، لا عوج فيه، وهو الشرائع، والأعمال الصالحة، قال ابن عطاء: يهدي إلى الحق في الباطن، وإلى طريق مستقيم في الظاهر، وجملة {يَهْدِي}: إما حال ثانية، أو صفة ثالثة لـ {كِتَابًا}. والمعنى (¬1): أي قالوا: يا قومنا من الجنّ إنّا سمعنا كتابًا أنزله الله من بعد توراة موسى، يصدِّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحقّ، وإلى ما فيه لله رضًا، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه، وخصوا التوراة؛ لأنّه متفق عليه عند أهل الكتابين، كما مرّ آنفًا. وقال عطاء: لأنهم كانوا على اليهوديّة، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قيل: وأسلم (¬2) من قومهم حين رجعوا إليهم وأنذروهم سبعون. اهـ "خطيب". وقالوا: إنّ الجنّ لهم مللٌ مثل الإنس، ففيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر، وخلق القرآن، ونحو ذلك من المذاهب والبدع، وروي: أنهم ثلاثة أصناف: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[31]

صنف: لهم أجنحة يطيرون بها. وصنف: على صورة الحيات والكلاب. وصنف: يحلون ويظعنون. واختلف العلماء في مؤمني الجنّ، فقال قوم: ليس لهم ثواب إلّا النجاة من النار، وعليه أبو حنيفة. وحكي عن الليث وبعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم، وقال آخرون: لهم الثواب على الإحسان, كما عليهم العقاب على الإساءة، وهذا هو الصحيح، وعليه ابن عباس والأئمّة الثلاثة، فيدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وقال عمر بن عبد العزيز: إنّهم حول الجنة في ربضٍ ورحابٍ، وليسوا فيها. اهـ "خازن". 31 - {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ} سبحانه وتعالى؛ يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - , لأنّه لا يوصف بهذا غيره، أو أرادوا ما سمعوه من الكتاب، فإنّه كما أنه هاد، كذلك هو داع إلى الله تعالى، وفي الآية دليل على أنّه مبعوث إلى الإنس والجنّ جميعًا، قال مقاتل: لم يبعث الله تعالى نبيًّا إلى الإنس والجنّ قبله - صلى الله عليه وسلم -. {وَآمِنُوا بِهِ} تعالى. فإن قلت (¬1): قوله: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ} أمر بإجابته في كل ما أمر به، فيدخل فيه الأمر بالإيمان, فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين؟ قلت: إنّما أعاده؛ لأنّ الإيمان أهمّ أنواع المأمور به وأشرفها، فلذلك ذكره على التعيين، فهو من باب ذكر العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}. {يَغْفِرْ لَكُمْ} الله سبحانه وتعالى {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}؛ أي: (¬2) بعض ذنوبكم، وهو ما كان في خالص حقّ الله تعالى، وحق الحربيّ، فإنَّ حقوق العباد غير الحربيين لا تغفر بالإيمان, بل برضى أربابها؛ يعني: إذا أسلم الذميُّ لا يغفر عنه ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

حقوق العباد بإسلامه، وكذا لا تغفر عن الحربي إذا كان الحقّ ماليًّا، قالوا: ظلامة الكافر وخصومة الدابة أشدُّ؛ لأنّ المسلم إمّا أن يحمل عليه ذنب خصمه بقدر حقّه، أو يأخذ من حسناته، والكافر لا يأخذ من الحسنات، ولا ذنب للدابّة، ولا يؤهل لأخذ الحسنات، فتعيَّن العقاب. وقيل: {من}: زائدة؛ لأنّ الإِسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة، وقيل: إنّ {من} (¬1) لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب، ثمّ ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى. {وَيُجِرْكُمْ}؛ أي: ينجيكم ويؤمنكم {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: شديد معدٍّ للكفرة، وهو عذاب النار، قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو: سبعين رجلًا من الجنّ، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم. والمعنى: أي (¬2) يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وصدِّقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه، يغفر لكم بعض ذنوبكم، ويسترها لكم، ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته لكم عليها، وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم، وأنبتم إلى ربّكم، وأخلصتم له العبادة، وفي الآية إيماء إلى أنّ حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب، والتعبّد بالأوامر والنواهي، وقال الحسن (¬3): ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة، والأوّل أولى وبه قال مالك والشافعيّ، وابن أبي ليلى، فقد قال الله تعالى في مخاطبة الجنّ والإنس: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)}، فامتَّن سبحانه على الثقلين، بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافيه الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا: أنّ الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فكيف لا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[32]

يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل؟ ومما يؤيّد هذا أيضًا: ما في القرآن في غير موضع، أنّ جزاء المؤمنين الجنّة، وجزاء من عمل صالحًا الجنة، وجزاء من قال: لا إله إلا الله الجنّة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة. وقد اختلف أهل العلم: هل أرسل الله سبحانه إلى الجنّ رسلًا منهم أم لا؟. وظاهر الآيات القرآنية أنَّ الرسل من الإنس فقط، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ} وقال سبحانه في إبراهيم الخليل: {وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}. فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريّته، وأمّا قوله تعالى في سورة الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فقيل: المراد من مجموع الجنسين، وصدق على أحدهما وهم الإنس، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)}؛ أي: من أحدهما. 32 - ثم حذروا قومهم، وتوعَّدوهم، وأوجبوا إجابتهم داعي الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق "الترغيب" فقالوا: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ}؛ أي: ومن لم يجب رسول الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى ما دعا إليه من التوحيد، والعمل بطاعته، فـ {مِنَ}: شرطيَّة. و {لا}: نافية، {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ} ربَّه بهرب {في الْأَرْضِ} فلا يفوت ربّه، ولا يسبقه هربًا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، وإن هرب كل مهرب من أقطارها، أو دخل في أعماقها {وَلَيْسَ لَهُ}؛ أي: لذلك المنكر {مِنْ دُونِهِ} سبحانه وتعالى {أَوْلِيَاءُ}؛ أي: أنصار ينصرونه، ويدفعون عنه عذابه، وهذا (¬1) بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع الأولياء باعتبار معنى {من} فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع، لانقسام الآحاد إلى الآحاد. ثمّ بيَّن أنّ من فعل ذلك .. فقد بلغ الغاية في الضلال، والبعد عن الصراط ¬

_ (¬1) روح البيان.

[33]

المستقيم، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بعدم إجابة الداعي {في ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ أي: ظاهر كونه ضلالًا، بحيث لا يخفى على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه؛ أي: (¬1) وأولئك الذين يفعلون ذلك الإعراض، يكونون في ضلال بيّن، وجورٍ عن قصد السبيل, لأنّ طريق الحقّ واضحة، وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه .. فقد أجرم واستحقّ الجزاء الذي هو له أهلٌ. 33 - ثم ذكر سبحانه دليلًا على البعث، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} {الهمزة} (¬2) فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر يستدعيه المقام، و {الواو}: عاطفة على ذلك المقدّر، والرؤية هنا: هي القلبية التي بمعنى العلم؛ أي؛ ألم يتفكروا, ولم يعلموا علمًا جازمًا في حكم المشاهدة والعيان {أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ابتداءً من غير مثال؛ أي: خلق هذه الأجرام العظام. {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ}؛ أي: لم يتعب، ولم ينصب بذلك أصلًا، أو لم يعجز عنه. وقرأ الجمهور (¬3): {وَلَم يَعىَ} بسكون العين وفتح الياء، مضارع عيي على وزن فعل بكسر العين، وقرأ الحسن: بكسر العين وسكون الياء، ووجهه: أنّه فتح في الماضي عين الكلمة، كما قالوا في بقي بقا. وهي لغة لطيء، ولمّا بني الماضي على فعل بفتح العين .. بني مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعيي، فلمَّا دخل الجازم .. حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. {بِقَادِرٍ}: خبر {أَنْ} ووجه (¬4) دخول الباء: اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على {أَنْ} وما في حيّزها، كأنّه قيل: أو ليس الله بقادر {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ولذا أجيب عنه بقوله: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقريرٌ للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود؛ يعني: أن الله تعالى إذا كان قادرًا على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

[34]

كل شيء .. كان قادرًا على إحياء الموتى لأنّه من جملة الأشياء، وقدرته تعالى لا تختص بمقدور دون مقدور، فـ {بلى}: يختص بالنفي، ويفيد إبطاله على ما هو المشهور، وإن حكى الرضي عن بعضهم: أنه جاز استعمالها في الإيجاب. وقرأ الجمهور (¬1): {بِقَادِرٍ} اسم فاعل، و {الباء}: زائدة في خبر {أنْ} وحسّن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقرأ الجحدريّ وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج: بخلاف عنه، ويعقوب: {يَقْدِرُ} مضارعًا، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال: لأنّ دخول الباء في حيّز أنّ قبيح. والمعنى (¬2): أي أو لم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إيّاهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أنّ الذي خلق السموات السبع والأرض، فابتدعهنّ من غير شيء، ولم يعي في إنشائهنّ، بقادر على أن يحيي الموتى، فيخرجهم من بعد بلاهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم، ونحو الآية قوله عزّ وجل: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. والخلاصة: أنّ من قال للسموات والأرض: كُوني فكانت، لا ممانعةً، ولا مخالفةً، طائعةً خائفةً وجلةً، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ثمّ أجاب عن ذلك الاستفهام مقرّرًا للقدرة على وجه عام، فقال: {بَلَى إِنَّهُ} إلخ؛ أي: بلى إنّ الذي خلق ذلك ذو قدرة على كل شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء أراد فعله، وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب، إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبٍّ. 34 - ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة .. ذكر ما يحدث حينئذٍ من الأهوال، فقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}؛ أي: يعذَّبون بها كما سبق في هذه السورة، والظرف: متعلق بقول محذوف، تقديره: يقال لهم: يومئذٍ على سبيل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[35]

التوبيخ والتأنيب: {أَلَيْسَ هَذَا} العذاب الذي ترونه {بِالْحَقِّ}؛ أي: حقًّا، وكنتم تكذّبون به، وفيه تهكّم بهم، وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله، ووعيده، وقولهم: وما نحن بمعذَّبين، وفي الاكتفاء (¬1) بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنّه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه {قَالُوا بَلَى}؛ أي: إنه الحقّ {وَرَبِّنَا}؛ أي: أقسمنا بربّنا ومالك أمرنا على حقّيته، أكدوا جوابهم بالقسم؛ لأنّهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقّيته الآن كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك. والمعنى (¬2): أي ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث، وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إيّاهم على أعمالهم السيئة على نار جهنم، يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تُعَذَّبونه اليوم، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ الذي لا شكّ فيه؟ قالوا من فورهم: بلى وربّنا إنه لحق. {قَالَ} الله تعالى أو خازن النار: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}؛ أي: أحسوا به إحساس الذائق المطعوم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} به في الدنيا. و {الباء}: للسببية، ومعنى الأمر: الإهانة بهم، والتوبيخ لهم على ما كان منهم في الدنيا، من الكفر والإنكار لوعد الله ووعيده، قال ابن الشيخ: الظاهر: أنّ صيغة الأمر لا مدخل لها في التوبيخ، وإنما هو مستفاد من قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}؛ أي: قال آمرًا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن، جزاء جحودكم به في الدنيا، وإبائكم الاعتراف به، إذا دعيتم للتصديق به. 35 - ولمّا قرّر التوحيد والنبوّة والبعث، وأجاب عن شبهاتهم .. أردف ذلك بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه؛ لأنّ الكفّار كانوا يؤذونه، ويوغرون صدره، فقال: {فَاصْبِرْ} و {الفاء} فيه: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عاقبة الكفرة، وأنه لم ينجح فيهم الإنذار، وأردت بيان ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

ما هو الأصلح والنصيحة لك .. فأقول لك: اصبر أيها الرسول على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك، الذين أرسلناك إليهم منذرًا. {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ}؛ أي: أصحاب الحزم والثبات {مِنَ الرُّسُلِ} على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته، فإنك منهم. والخلاصة: اصبر على الدعوة إلى الحق، ومكابدة الشدائد، كما صبر إخوانك الرسل من قبلك، قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، والأظهر: أنها منسوخة؛ لأنّ السورة مكيّة. والمعنى: أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر .. فاصبر على ما يصيبك من جهتهم، كما صبر أولوا الثبات والحزم من الرسل، فإنك من جملتهم، بل من أفضلهم، و {من}: للتبين، فيكون الرسل كلهم أولي عزم وجدٍّ في أمر الله. قال في "التكملة": (¬1) وهذا لا يصحّ لإبطال معنى تخصص الآية، وقيل: {من}: للتبعيض على أنهم أولوا عزم، وغير أولي عزم، والمراد بأولي العزم: أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسيها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاغين فيها، ومشاهيرهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد عليهم السلام، وقد نظمهم بعضهم بقوله: أَوْلُوْا الْعَزْمِ: نُوْحٌ وَالْخَلِيْلُ المُمَجَّدُ ... مُوْسَى وَعِيْسَى وَالْحَبِيْبُ مُحَمَّدُ قال في "الأسئلة المقحمة": هذا القول هو الصحيح، وقيل هم الصابرون على بلاء الله: كنوح، صبر على أذيّة قومه، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وعلى ذبح ولده، والذبيح صبر على الذبح، ويعقوب على فقد الولد، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضرّ، وموسى قال قومه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} ويونس على بطن الحوت، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها, ولا تعمروها، ¬

_ (¬1) روح البيان.

صلوات الله عليهم أجمعين، وقيل: غير ذلك من الأقوال المتلاطمة مما لا طائل تحتها. ولمّا أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل .. نهاه عن العجلة، وهو أخس الرذائل، فقال: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}؛ أي: لأجلهم، فـ {اللام} للتعليل والمفعول: محذوف؛ أي: لا تستعجل العذاب يا محمد لكفّار مكة؛ أي: ولا تطلب من ربّك عجلة العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة، ومهلهم ليستعدوا بالتمتعات الحيوانية للعذاب العظيم، فإنّي أمهلهم رويدًا، كأنَّه ضجر بعض الضمير، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال، ونحو الآية لقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}، وقوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. ثم أخبر بأنَّ العذاب إذا نزل بالكافرين .. استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعةً من نهار، فقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُوا}؛ أي: لم يمكثوا في الدنيا، والتمتّع بنعيمها {إِلَّا سَاعَةً} يسيرةً وزمانًا قليلًا {مِنْ نَهَارٍ} لما يشاهدون من شدّة العذاب، وطول مدّته؛ يعني (¬1): أنَّ هول ما ينزل بهم ينسيهم مدّة اللبث، وأيضًا إنَّ ما مضى، وإن كان دهرًا طويلًا، لكنه يظن زمانًا قليلًا، بل يكون كأن لم يكن، فغاية التنعم الجسماني هو العذاب الروحانيّ كما في البرزخ، والعذاب الجسمانيّ أيضًا كما في يوم القيامة. والمعنى: أي كأنّهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنّه نازل بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار؛ لأنّ شدّة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا في الدنيا من السنين والأعوام، فيظنّونها ساعة من نهار، ونحو الآية قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)}، وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}. {بَلَاغٌ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي (¬2): هذا القرآن الذي وعظتم به بلاغٌ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وكفاية لهم في الموعظة إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}، وقوله: {إِنَّ في هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}. أو تبليغ من الرسول إليهم، فالعبد يضرب بالعصا، والحرّ يكفيه الإشارة. ثمّ أوعد وأنذر، فقال: {فَهَلْ يُهْلَكُ}؛ أي: ما يهلك بالعذاب {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الخارجون عن الاتعاظ به، أو الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه، إذ لا يعذِّب إلا من يستحق العذاب، وقال بعض أهل التأويل؛ أي: الخارجون عن عزم طلبه إلى طلب ما سواه، وفي هذه الألفاظ وعيد محضٌ، وإنذارٌ بيِّن، وقال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية من الرجاء، ومن ثم قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى. وقرأ أبيٌّ: {من النهار}، وقرأ الجمهور (¬1): {مِنْ نَهَارٍ} وقرأ الجمهور: {بَلَاغٌ} بالرفع، وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وعيسى: {بلاغًا} بالنصب، فاحتمل أن يراد بلاغًا في القرآن؛ أي: بلِّغوا بلاغًا، أو بلَّغنا بلاغًا، وقرأ الحسن أيضًا: {بلاغ} بالجرّ نعتًا لـ {نَهَارٍ}. وقرأ أبو مجلز وأبو سراح الهذليَّ: {بلِّغ} على الأمر للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي مجلز أيضًا: {بلَّغ} فعلا ماضيًا، وقرأ الجمهور: {يُهْلَكُ} بضم الياء وفتح اللام وابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه: بفتح الياء وكسر اللام، وعنه أيضًا: بفتح الياء واللام، وماضيه هلك بكسر اللام، وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوبٌ عنها، وقرأ زيد بن ثابت: {يُهلك} بضم الياء وكسر اللام، {إلا القوم الفاسقين} بالنصب. الإعراب {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا}. {وَإِذْ} {الواو}: استئنافية. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك إذ صرفنا إليك. {صَرَفْنَا}: فعل وفاعل. {إِلَيْكَ} متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}. {نَفَرًا} مفعول به. {مِنَ الْجِنِّ}: صفة {نَفَرًا}. {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب، صفة ثانية لـ {نَفَرًا} أو حال منه لتخصصه بالصفة. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة، {لما}: حرف شرط غير جازم. {حَضَرُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ {لمّا}: لا محل لها من الإعراب {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: جواب شرط لـ {لمّا}، وجملة {لمّا}: معطوفة على محذوف، تقديره: إذ صرفنا إليك نفرًا من الجن فحضروه، فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا. {أَنْصِتُوا}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة. {لما}: حرف شرط، {قُضِيَ}: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر، يعود على القرآن، والجملة: فعل شرط لـ {لمّا}. {وَلَّوْا}: فعل ماض وفاعل، {إِلَى قَوْمِهِمْ}: متعلق به. {مُنْذِرِينَ} حال من فاعل {وَلَّوْا}. والجملة: جواب {لمّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لمّا}: معطوفة على جملة {لمّا} الأولى. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: جواب لـ {لمّا} المحذوفة، تقديره: فلمّا رجعوا إلى قومهم .. قالوا: يا قومنا إلخ. {يَا قَوْمَنَا}: منادى مضاف، والجملة: في محلّ النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {سَمِعْنَا كِتَابًا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ}: في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {أُنْزِلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {كِتَابًا}. والجملة: صفةٌ أولى لـ {كِتَابًا}. {مِنْ بَعْدِ مُوسَى}: متعلق بـ {أُنْزِلَ}. {مُصَدِّقًا}: صفة ثانية لـ {كِتَابًا} أو حال منه

لتخصصه بالصفة. {لِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقًا} {بَيْنَ يَدَيْهِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوفٍ صلةٍ لـ {ما}، {يَهْدِي}: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على {كِتَابًا}. والجملة: نعت ثالث لـ {كِتَابًا} أو حال منه. {إِلَى الْحَقِّ}: متعلق بـ {يَهْدِي}. {وَإِلَى طَرِيقٍ}: معطوف على {إِلَى الْحَقِّ}. {مُسْتَقِيمٍ} صفة {طَرِيقٍ}. {يَا قَوْمَنَا}: منادى مضاف، والجملة: مقول لـ {قَالُوا} {أَجِيبُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو فاعل. {دَاعِيَ اللهِ}: مفعول به، والجملة: في محل النصب، مقول لـ {قَالُوا}. {وَآمِنُوا} فعل وفاعل معطوف على {أَجِيبُوا}. {بِهِ}: متعلق بـ {آمِنُوا}. {يَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على الله. {لَكُمْ}. متعلق بـ {يَغْفِرْ}. {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}: متعلق بـ {يَغْفِرْ} أيضًا. و {مِن}: تبعيضية. {وَيُجِرْكُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يَغْفِر}، {مِنْ عَذَابٍ}: متعلق بـ {يُجِر} {أَلِيمٍ}: صفة {عَذَابٍ}. {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}. {وَمَن} {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {لَا}: نافية. {يُجِبْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، {دَاعِيَ اللهِ} مفعول به. {فَلَيْسَ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة جامديّة. {ليس}: فعل ناقص، في محل الجزم بـ {مَن} على كونه جوابًا لها، واسمها: ضمير مستتر يعود على {مَن}. {بِمُعْجِزٍ} {الباء}: زائدة، {معجز}: خبر {ليس}. {في الْأَرْضِ}: متعلق بـ {معجز}. وجملة {مَن} الشرطية: معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {وَلَيْسَ} {الواو}: عاطفة، {ليس}: فعل ناقص. {لَهُ}: خبرها مقدم. {مِنْ دُونِهِ}: حال من {أَوْلِيَاءُ}، {أَوْلِيَاءُ}: اسمها مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة {ليس} الأولى. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {في ضَلَالٍ} خبر. {مُبِينٍ}: صفة {ضَلَالٍ}، والجملة: في محل النصب، مقول {قَالُوا}.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}. {أَوَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من المقام، و {الواو}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَرَوْا} فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. {أَنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {الَّذِي}: صفة للجلالة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول {وَالْأَرْضَ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة. {لَمْ}: حرف جزم، {يَعْيَ}: فعل مضارع، مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، وهي الألف، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقَ}؛ {بِخَلْقِهِنَّ}: متعلق بـ {يَعْيَ}، {بِقَادِرٍ} {الباء}: زائدة في خبر ليس {قادر} خبرها. وجملة {أَنْ} من اسمها وخبرها: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {يَرَوْا}. {عَلَى} حرف جرّ، {أن}: حرف مصدر ونصب. {يُحْيِيَ الْمَوْتَى}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى}؛ أي: على إحيائه الموتى، الجار والمجرور: متعلق بـ {قادر}. {بَلَى}: حرف جواب لإبطال النفي، فهي تبطل النفي، وتقرّر نقيضه. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}. متعلق بـ {قَدِيرٌ} و {قَدِيرٌ}: خبر {إِن} وجملة {إِن}: جملة جوابيّة، لا محل لها من الإعراب. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}. {وَيَوْمَ} {الواو}: استئنافية {يوم}: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: ويقال لهم. والجملة المحذوفة: مستأنفة. {يُعْرَضُ}: فعل مضارع، مغير الصيغة. {الَّذِينَ}: نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {عَلَى النَّارِ}: متعلق بـ {يُعْرَضُ} {أَلَيْسَ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري. {ليس}: فعل ناقص. {هَذَا}: اسمها. {بِالْحَقِّ}: خبرها،

و {الباء}: زائدة، والجملة: في محل النصب، مقول للقول المحذوف. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {بَلَى}: حرف جواب قائم مقام الجواب، تقديره: بلى هو الحق، وجملة الجواب، في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَرَبِّنَا} {الواو}: حرف جر وقسم. {ربنا}: مقسم به، مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: نقسم بربّنا، وجملة القسم: في محل النصب، مقول {قَالُوا}، {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله أو على خازن النار، والجملة: مستأنفة. {فَذُوقُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة, لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا اعترفتم بحقّية هذا العذاب، وأردتم بيان ما هو المستحق لكم .. فأقول لكم: {ذوقوا}. {ذوقوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، و {الواو}: فاعل. {الْعَذَابَ}: مفعول به. {بِمَا}: جار ومجرور، متعلّق بـ {ذوقوا}. والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب، مقول قال. {بِمَا} {الباء}: حرف جر وسبب. {ما}: مصدرية. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَكْفُرُونَ}: خبر، وجملة {كان}: صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء}؛ أي: بسبب كفركم، الجار والمجرور: متعلق بـ {ذوقوا} كما مرّ آنفًا. {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}. {فَاصْبِرْ} {الفاء}: فاء الفيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عاقبة الكفّار، وأن الإنذار لا ينجح فيهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اصبر كما صبر أولوا العزم. {اصبر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {كَمَا} {الكاف}: حرف جرّ، {مَا}: مصدرية. {صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ}: فعل وفاعل مرفوع بالواو. {مِنَ الرُّسُلِ}: حال من {أُولُو الْعَزْمِ}. والجملة الفعلية: صلة لـ {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في

تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} تقديره: كصبر أولي العزم، الجار والمجرور، صفة لمصدر محذوف، تقديره: فاصبر صبرًا كائنًا كصبر أولي العزم، بَلْ أعلى منه. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية. {تَسْتَعْجِلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله: ضمير يعود على محمد. {لَهُمْ}: متعلّق بـ {يستعجل}. والجملة: معطوفة على جملة {فَاصْبِرْ}. {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {لَمْ يَلْبَثُوا} الآتي، {يَرَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَرَوْنَ} لأنّ الرؤية هنا بصرية. {يُوعَدُونَ}: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة، والتقدير: ما يوعدونه. {لَمْ يَلْبَثُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}. {إِلَّا}: أداة حصر. {سَاعَةً}: ظرف متعلق بـ {يَلْبَثُوا} أو مفعول به على التوسع. {مِنْ نَهَارٍ}: صفة {سَاعَةً}. وجملة {يَلْبَثُوا}: في محل الرفع خبر {كأنّ} وجملة {كأنّ}: مستأنفة. {بَلَاغٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الذي وعظتم به بلاغ، وقيل: تقديره: هذا القرآن بلاغ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {فَهَلْ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع. {هل}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. {يُهْلَكُ}: فعل مضارع مغيّر الصيغة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْقَوْمُ} نائب فاعل. {الْفَاسِقُونَ} صفة {الْقَوْمُ}. والجملة الفعلية: معطوفة على الاسمية قبلها لكونها في معنى الاسمية، كأنّه قيل: هذا بلاغٌ، فما هالك بعده إلّا القوم الفاسقون. التصريف ومفردات اللغة {وَإِذْ صَرَفْنَا}؛ أي: وجَّهنا نحوك. {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: جماعة من الجنّ. والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال، سمّوا بذلك؛ لأنّهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته. وفي "المختار": النَّفر بفتحتين: عدَّة رجال من ثلاثة إلى عشرة، وكذا النفير والنفر والنفرة بسكون الفاء فيها. انتهى. وهم جنّ نصيبين أو حسن نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة، وكان - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان ببطن نخلة على نحو ليلة من مكة منصرفه من الطائف، يصلّي بأصحابه الفجر في السنة الحادية

عشرة من البعثة. كما مرّ. {يَسْتَمِعُونَ} ورد الفعل جمعًا نظرًا للمعنى، والاستماع: الإصغاء مع قصد السماع. {أَنْصِتُوا} أمر من الإنصاف. وهو الإصغاء مع السكوت؛ أي: أسكتوا. {قُضِيَ} فرغ من تلاوته. {وَلَّوْا}؛ أي: رجعوا. {مُنْذِرِينَ}؛ أي: مخوّفين لهم عواقب الضلال، وكانوا يهودًا، ثّم أسلموا. {أَجِيبُوا} أصله: أجوبوا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ. {دَاعِيَ اللهِ} فيه إعلال بالقلب، أصله: داعو، قلبت الواو ياءً؛ لتطرُّفها إثر كسرة. {وَيُجِرْكُمْ} أصله: يجوركم بوزن يفعل، مضارع أجار، نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان: الواو والراء، فحذفت الواو، فوزنه يفلكم. {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ} أصله: يجوب، نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه يفل. {أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ} قد اجتمع هاهنا همزتان مضمومتان من كلمتين، وليس لهما نظير في القرآن؛ أي: لا وجود لهما في محل منه غير هذا. اهـ "خطيب". {وَلَمْ يَعْيَ}؛ أي: لم يتعب بذلك، ولم يعجز عنه، يقال: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه، وأَعْيَيْتُ: تعبت. وفي "القاموس": أعيى الماشي: إذا كلَّ، قال الكسائي: يقال: أَعْيَيْتُ من التعب، وعَيِيْتُ من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص: عَيُّوْا بِأَمْرِهِمُ كَمَا ... عَيَّتْ بَبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ وحكي في سبب تعلّم الكسائي النحو على كبره: أنّه مشى يومًا، حتى أعيَ ثم جلس إلى قوم ليستريح، فقال: قد عييت، بالتشديد بغير همزة، فقالوا له: لا تجالسنا وأنت تلحن، قال الكسائي: وكيف؟ قالوا: إن أردت من التعب .. فقل: أعييت، وإن أردت من انقطاع الحيلة، والتعجيز في الأمر .. فقل: عييت مخفّفًا، فقام من فوره، وسأل عمَّن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذٍ، فلزمه حتى نفد ما

عنده، ثمّ خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد. اهـ من "روح البيان" (ج: 8، ص: 493). {فَاصْبِرْ} قال القشيري: الصبر: الوثوق بحكم الله، والثبات من غير بثٍّ ولا استكراهٍ، اهـ "خطيب". {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ}؛ أي: ذوو الحزم والصبر. والعزم في اللغة: الجدّ، والقصد مع القطع. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، في قوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} إذا أعيد الضمير إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ مقتضى السياق حينئذٍ أن يقال: فلمّا حضروك. ومنها: إطلاق الكتاب على بعض أجزائه، في قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} إذ لم يكن القرآن كلُّه منزلًا حينئذٍ. ومنها: تخصيص موسى بالذكر دون عيسى؛ لكون نزول الكتاب عليه متفقًا عليه بين اليهود والنصارى، بخلاف عيسى؛ لأنّ اليهود تنكر نبوّته، ونزول الكتاب عليه. ومنها: الإطناب في قوله: {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} لأنّه نفس الحق المذكور قبله، أطنب به للتأكيد وللتفخيم لشأنه. ومنها: فن التنكيت في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فقد عبر بـ {مِنْ} التبعيضية إشارةً إلى أنَّ الغفران يقع على الذنوب الخاصة، أما حقوق العباد فلا يمكن غفرانها، إلا بعد أن يُرضَّى أصحابها، فإنّ الله تعالى لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ} {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ}.

ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ}؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: ومن لم يجبه، أظهره تفخيمًا لشأنه، وإظهارًا لنباهته. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ}؛ لأنّه مجاز عن الانقطاع عن العمل، علاقته: السببيّة؛ لأنّ العيّ؛ أي: التعب مستحيل عليه تعالى، وهو سبب للانقطاع عن العمل أو النقص فيه والمتأخر في إنجازه، فهو العلاقة في هذا المجاز. ومنها: تعليل الخاصّ بالعام في قوله: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ لأنّه تعالى إذا كان قادرًا على كل شيء .. كان قادرًا على إحياء الموتى؛ لأنّه من جملة الأشياء، وقدرته لا تختصّ بمقدور دون مقدور. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}؛ لأنّه مجاز عن التعذيب بها، كما مرّ. ومنها: التهكم بهم والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده. ومنها: الاستعارة في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}؛ أي: باشروا العذاب؛ لأنّه مستعار من إحساس الذائق المطعوم. ومنها: التشبيه في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - إقامة الأدلة على التوحيد، والردّ على عبدة الأصنام والأوثان. 2 - المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوّة، والإجابة عنها، وبيان فسادها. 3 - ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحّدوا الله تعالى، وصدَّقوا أنبياءه، وبيان أنَّ جزاءهم الجنة. 4 - ذكر وصايا المؤمنين من إكرام الوالدين، وعمل ما يرضي الله. 5 - بيان حال من انهمكوا في الدنيا ولذّاتها. 6 - قصص عاد، وفيه بيان أنَّ صرف النعم في غير وجهها يورث الهلاك. 7 - استماع الجنّ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتبليغهم قومهم ما سمعوه. 8 - عظةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من أمّته. 9 - بيان أنّ القرآن فيه البلاغ والكفاية في الإنذار. 10 - من عدل الله ورحمته أن لا يعذّب إلّا من خرج عن طاعته، ولم يعمل بأمره ونهيه (¬1). ¬

_ (¬1) تمّ تفسير هذه السورة بمعونة الله وتوفيقه، آخر الساعة الثالثة من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر صفر، من شهور سنة 12/ 2/ 1415 ألف وأربع مئة وخمس عشرة، سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيّات، بيد مؤلفه وجامعه في مكة المكرمّة، في المسفلة في حارّة الرشد جوار المسجد الحرام، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين، آمين آمين، لا أرضى بواحدةٍ، حتى أكمل ألف ألفي آمين.

فائدة: أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس: أَنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهم إنّي أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنّة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها، برحمتك يا أرحم الراحمين". والله أعلم * * *

سورة محمد

سورة محمد سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتسمّى سورة القتال، وسورة الذين كفروا. وهي مدنية، قال الماوردي في قول الجميع إلا ابن عباس، وقتادة، فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنًا عليه، فنزل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}. وقال الثعلبيُّ (¬1): إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك، وسعيد بن جبير وهو غلطٌ من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال بالمدينة، وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عنه قال: نزلت سورة محمد بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا. وهي (¬2) ثمان أو تسع وثلاثون آية، وخمس مئة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاث مئة وتسعة وأربعون حرفًا، نزلت بعد سورة الحديد. تسميتها: سمّيت سورة محمد؛ لبيانها تنزيل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}، ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا في أربع مواضع: في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}. وفي سورة الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}. وأما في غير هذه المواضع الأربعة، فيذكر بصفة الرسول أو النبيّ. وسميت أيضًا سورة القتال؛ لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. مناسبتها لما قبلها: قال أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

جدًّا. اهـ. وفي "التفسير المنير": هذه السورة يرتبط أولها ارتباطًا قويًا بآخر سورة الأحقاف {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} حتى لو أسقطت البسملة بينهما لكان الكلام متصلًا مباشرةً بما قبله اتصالًا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، ولكان بعضه آخذًا بحجز بعض. فضلها: ما أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها في صلاة المغرب. الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جميعها محكم إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} نسخ المنّ والفداء بآية السيف، وقيل: في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - آيتان منسوختان الثانية منهما: قوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (الآية 36). نسخت بقوله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)} (الآية 37). والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ الله لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْ وَى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ في النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفُ اأُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السابقة.

واعلم: أنّ الله سبحانه قسم الناس في أول هذه السورة إلى فريقين (¬1): أهل الكفر الذين صدّوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم، سواء كانت حسنةً كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل الله ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملًا شريفًا، فإنّ مآله الخذلان. وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، أولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم، ويوفّقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها. ثم علل ما سلف بأنّ أعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة بأنّ الحق منصور، وأنّ الباطل مخذول، سواء كان في أمور الدين أم في أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها، ويؤثرونها؛ لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن في المزروعات، والمصنوعات المتقنة الجيّدة، والسياسات الحكيمة. والصناعات المرذولة، والسلع المزجاة، لن يكون حظها إلا الكساد والبوار؛ لأنّ الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحقّ، والعلم الصحيح، والدين الصحيح، والصناعات الجيّدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدّها عاقبته الشقاء والبوار. وقصارى ذلك: أنّ الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب إلى الحق كان باقيًا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكًا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيَّدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمُحِقُّون في كل شيء محبوبون منصورون. قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ...} الآيات، مناسبة هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) فيما سلف أنّ الناس فريقان: أحدهما: متّبعٌ للباطل، وهو حزب الشيطان. وثانيهما: متّبعٌ للحق، وهو حزب الرحمن .. ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن غيِّه، وتخضد شوكته. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما نعى على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأنّ النار مثوى لهم .. أردف هذا أمرهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة، ورؤية آثارهم، لما للمشاهدت الحسّية من آثار في النفوسّ، ونتائج لدى ذوي العقول إذا تدبّروها واعتبروا بها. قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا بينّ الفارق بين الفريقين في الاهتداء والضلال .. ذكر الفارق بينهما في مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأوّلين من النعيم المقيم، واللذات التي لا يدركها الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب في النار، وشرب الماء الحار الذي يقطّع الأمعاء. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر حال المشركين، وبيّن سوء مغبّتهم .. أردف هذا ببيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونًا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده .. قالوا للواعين من الصحابة: ماذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟. وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه، وأقبلوا على جمع حطام الدنيا. ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم وبهم ما يتقون به النار، ثم عنف ¬

_ (¬1) المراغي.

أولئك المكذّبين، وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجيء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، والذكرى لا تنفع حينئذٍ. ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله، وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العلم بمنصرفكم في الدنيا، ومصيركم إلى الجنّة أو إلى النار في الاخرة. أسباب النزول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ...} أخرج (¬1) ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل مكة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: هم الأنصار. وأخرج عن قتادة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: ذكر لنا أنّ هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذٍ: أعل هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إنّ لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً ...} إلخ. سبب نزولها: ما أخرجه أبو يعلى عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقاء الغار .. نظر إلى مكة فقال: "أنت أحبّ بلاد الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك .. لم أخرج منك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فيسمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

خرجوا .. سألوا المؤمنين: ماذا قال آنفًا؟. فنزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: (¬1) أعرضوا عن دين الإِسلام، وسلوك طريقه، من صد صدودًا، فيكون كالتأكيد والتفسير لما قبله، أو منعوا الناس عن ذلك، من صدّه صدًا، كالمطعمين الجيوش يوم بدر، فإنَّ مترفيهم كأبي جهل والحارث ابن هشام وعتبة وشيبة ابني ربيعة وغيرهم، أطعموا الجنود يوم بدر، يستظهرون على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، فيكون مخصّصًا لعموم قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} والظاهر: أنه عام في كل من كفر وصدّ، وقال مجاهد والسدي: هم كفار قريش كفروا بالله، وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو دين الإِسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وقال الضحاك: معنى {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن بيت الله بمنع قاصديه، وقيل: هم أهل الكتاب، والموصول: مبتدأ، خبره: قوله: {أَضَلَّ} الله سبحانه، وأبطل {أَعْمَالَهُمْ} الصالحة، ولم يتقبلها منهم؛ أي: حكم ببطلانها وضياعها، فإنّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر، كصلة الأرحام، وقرى الأضياف، وفكّ الأسارى، وغيرها من المكارم، ليس لها أثر من أصلها؛ لعدم مقارنتها للإيمان، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصدّ عن سبيله بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كلّه، وهو الأوفق بقوله: {فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وقوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال الضحاك: معنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وجعل الدائرة عليهم، وقال أبو حيان: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: أتلفها حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع، بل ضرر محض. وفي "البيضاوي": معنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: جعلها ضالة؛ أي: ضائعة محبطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه، كما يضل الماء في اللبن، أو جعلها ضلالًا، حيث لم يقصدوا بها وجه الله. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

وقال بعضهم (¬1): أول هذه السورة متعلق بآخر السورة السابقة - سورة الأحقاف - كأن قائلًا قال: كيف يهلك الفاسقون ولهم أعمال صالحة، كإطعام الطعام ونحوه من الأعمال الصالحة، والله لا يضيع لعامل عمله، ولو كان مثقال ذرة من خير؟ فأخبر بأنّ الفاسقين هم الذين كفروا، وصدّوا عن سبيل الله، أضل أعمالهم؛ يعني: أبطلها؛ لأنها لم تكن لله ولا بأمره، إنما فعلوها من عند أنفسهم، ليقال عنهم ذلك، فلهذا السبب أبطلها الله تعالى. والمعنى (¬2): أي الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدّوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه عما أراد، جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى؛ لأنها عملت في سبيل الشيطان، لا في سبيل الرحمن، وما عمل للشيطان .. فمآله الخسران، فما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق من صلة الأرحام، وإطعام الجائع، وعمارة المسجد الحرام، وإجارة المستجير، ونحو ذلك، حكم الله ببطلانه، فلا يرون له في الآخرة ثوابًا، ويجزون به في الدنيا من فضله تعالى بزيادة مال، أو حدوث ولد، ونحو الآية قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}. قال ابن عباس في رواية عنه: نزلت الآية في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلًا: أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبيّ وأمية ابنا خلف، ومنبه ونُبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. 2 - ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر .. أتبعهم بثواب أهل الإيمان، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعمّ كل من آمن وعمل صالحًا من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب وغيرهم، وكذا يعمّ الإيمان بجميع الكتب الإلهية {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[3]

وقرأ الجمهور (¬1): {نُزِّلَ} مشددًا مبنيًا للمفدول، وقرأ زيد بن علي وابن مقسم: {نُزِّلَ} مبنيًا للفاعل، وقرأ الأعمش: {أنُزِل} معدى بالهمزة مبنيًا للمفعول، وقرىء: {نزل} ثلاثيًا مخففًا. وخصّ سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بالذكر، مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله؛ تنبيهًا على شرفه، وعلوّ مكانه، كما في عطف جبرائيل على الملائكة، وعلى أنه الأصل في الكل، ولذلك أكّده بقوله: {وَهُوَ}؛ أي: ما نزّل على محمد {الْحَقُّ}؛ أي: العدل الصواب، وقيل: الناسخ لما قبله، ولا يرد عليه النسخ، حال كونه {مِنْ رَبِّهِمْ} بطريق حصر الحقّية فيه، والحق: مقابل الباطل، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ، وهو قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} وبين خبره، وهو قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}؛ أي: السيئات التي عملوها فيما مضى؛ أي: ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}، أي: حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وأصلح نيّاتهم بالإخلاص. والمعنى (¬2): أي والذين صدّقوا الله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه، وصدّقوا بالكتاب الذي نزل على محمد، وهو الحق من ربهم، محا الله بفعلهم سيء ما عملوا، فلم يؤاخذهم به، وأصلح شأنهم في الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة، وأصلح شأنهم في الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد، والخلود الدائم في جناته، قال ابن عباس: نزلت الآية في الأنصار. كما مرّ. 3 - ثم بيَّن سبب الإضلال، وإصلاح البال، فقال: {ذَلِكَ} إشارة إلى ما مرّ من إضلال الأعمال، وتكفير السيئات، وإصلاح البال، وهو مبتدأ، خبره قوله: {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: ذلك كائن بسبب أنّ الكافرين {اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}؛ أي: الشيطان، ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصدّ {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: وبسبب أنّ المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ} الذي لا محيد عنه، كائنًا {مِنْ رَبِّهِمْ} ففعلوا ما فعلوا من الإيمان ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[4]

به وبكتابه، ومن الأعمال الصالحة. ومعنى الآية (¬1): ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار، وتكفير سيئات المؤمنين، كائن بسبب اتباع الكفار الباطل، واتباع المؤمنين الحق من ربهم؛ أي: وإنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لأنّ الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق، بما وسوس به إليهم الشيطان، ولأنّ الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم، وهداهم إلى سبيل الرشاد {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل الضرب والبيان المذكور {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}؛ أي: يبيِّن الله للناس أمثالهم؛ أي: أحوال الفريقين، وأوصافهما الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، وهي: اتباع الأولين الباطل وخيبتهم، وخسرانهم، واتباع الآخرين الحق، وفوزهم وفلاحهم. وفي الخبر: "اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه". قال الزجاج: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ}؛ أي: يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين؛ يعني: أنّ من كان كافرًا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنًا كفّر الله سيئاته. والمعنى: أي كما بيَّنت لكم فعلي بفريقي الكفار والمؤمنين، كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها. والخلاصة: أنه جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلًا لخيبتهم، واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن، يوضِّح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال، كما ضرب المثل بالنخل والحنظل في سورة أخرى. 4 - ولمّا بيّن سبحانه حال الفريقين .. أمر بجهاد الكفار، فقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} والمراد بالذين كفروا: المشركون، ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتب، و {الفاء} فيه: للإفصاح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من إضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وإصلاح ¬

_ (¬1) الخازن.

أحوال المؤمنين وفلاحهم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: إذا لقيتم الذين كفروا، وقابلتموهم في المحاربة يا معشر المسلمين {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}؛ أي: فاضربوا الرقاب منهم ضربًا، فحذف الفعل وأنيب المصدر منابه مضافًا إلى المفعول، والألف واللام في {الرِّقَابِ}: بدل من المضاف إليه؛ أي: فاضربوا رقابهم بالسيف، والمراد: فاقتلوهم. وإنّما عبَّر (¬1) عن القتل بضرب الرقاب، لما في التعبير به من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي: حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأعلاه وأشرفه، وإرشادًا للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، وفي الحديث: "أنا لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، وإنما بعثت بضرب الرقاب وشدِّ الوثاق"؛ أي: فاقتلوهم كيفما أمكنكم {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ}؛ أي: أضعفتموهم بالجراح، أو بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل فيهم.، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}؛ أي: وثاق الأسير منهم؛ أي: اربطوا الأسير منهم على كتفه كيلا ينفلت عنكم، والوثاق: الحبل الذي يربط به الأسير، وقال أبو الليث: يعني: حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم .. فاستوثقوا أيديهم واربطوها من خلفهم كيلا يفلتوا، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل. قرأ الجمهور: {فَشُدُّوا} بضم الشين، وقرأ السلميّ: بكسرها {فَإِمَّا} تمنون عليهم {مَنًّا} بإرسالهم من غير فداء {بَعْدُ}؛ أي: بعد أسرهم، وشد وثاقهم {وَإِمَّا} تفدونهم {فِدَاءً} بمال أو بأسرى مسلمين. وقرأ الجمهور (¬2): {فِدَآءً} بالمدّ، وقرأ ابن كثير في رواية شبلٍ: {فدًى} بالقصر. والمنُّ: أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا. والفداء: أن يترك الأمير الأسير الكافر، ويأخذ مالًا، أو أسيرًا مسلمًا في مقابلته، وإنما قدم المنّ على الفداء؛ لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وَلَا نَقْتُلُ الأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا أَثْقَلَ الأَعْنَاقَ حِمْلُ الْمَغَارِمِ قال الشيخ الرضيُّ: المطلوب (¬1) من شدّ الوثاق: إمّا قتلٌ، أو استرقاق، أو منّ، أو فداء. فالإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخصال الأربع، وهذا التخيير ثابت عند الشافعي، ومنسوخ عند الأحناف بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، قالوا: نزل ذلك يوم بدر، ثم نسخ. والحكم إما القتل أو الاسترقاق. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لمَّا كثر المسلمون، واشتدّ سلطانهم ... أنزل الله تعالى في الأسارى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وكان عليه عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء من بعده. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خيرٌ، إن تقتلني .. تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم .. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال .. فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما عندك يا ثمامة؟ " قال: عندي ما قلت لك، قال: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبُّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبَّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: أسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ففداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف، وأما الفداء بالمال .. فقد وقع يوم بدر، كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة. والظاهر (¬1): أنّ قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} غاية لقوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}؛ لأنه قد غيَّا، فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان، فلا يمكن أن يُغيّا بغاية أخرى، لتدافع الغايتين، إلا أن تكون الثانية مبيّنة للأولى، ومؤكدة لها فيجوز. والمعنى: فشدوا وثاق الأسير وربطه، حتى تضع أهل الحرب أوزارها وأحمالها وأسلحتها، ويتركوا حمل سلاحها؛ أي: حتى تنقرض الحرب وتنعدم بالكليَّة، بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفار يحارب حزبًا من أحزاب الإِسلام. والأوزار (¬2): جمع وزر، والوزر بالكسر: الثقل، وما يحمله الإنسان، فسمى الأسلحة أوزارًا؛ لأنها تحمل، فيكون جعل مثل الكراع من الأوزار من التغليب، و {حَتَّى} غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة، أو للمجموع. والمعنى حينئذٍ: إنهم لا يتركون ذلك أبدًا، حتى لا يكون مع المشركين حرب، بأن لا يبقى لهم شوكة، وأما عند أبي حنيفة فإنه حمل الحرب على حرب بدر، فهي غاية للمنّ والفداء، والمعنى: يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وتنقضي، وإن حملت الحرب على الجنس .. فهي غاية للضرب والشد، والمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها، بأن لا يبقى للمشركين شوكة. ومعنى الآية: أي فإذا واجهتم المشركين في القتال .. فاحصدوهم حصدًا بالسيوف، حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم، وصاروا في أيديكم أسرى .. فشدّوهم في الوثاق كي لا يقاتلوكم، أو يربوا منكم، ثم أنتم بعد انتهاء الحرب وانتهاء المعارك بالخيار في أمرهم، إن شئتم .. مننتم عليهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

فأطلقتموهم بلا عوضٍ من مال أو غيره، وأن شئتم.، فاديتموهم بمال تأخذونه منهم حتى لا يكون حرب مع المشركين، ولا قتال بزوال شوكتهم. واعلم (¬1): أنَّ للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم في حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشابّ المراهق، الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان، ويشاجرهم، ويوقع الأذى بهم، وهم يزيدون في أذاه، وينكلون به، وهذه هي حال الأمم اليوم. ألا إنَّ الحرب تقوِّي الأبدان، وترقي الصناعات، وتجعل الأمم تنمو وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للإسكندر: إنّ الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقي أمةٍ .. فاجعلها تخوض الحروب، فذلك يفتح لها باب السعادة، والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير، معرَّضة للزوال، كما رأينا ذلك في بعض من عليه الاستئمار من أفريقيا، فإذا كملت أخلاف الأمم ومواهبها .. فإنّ نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل في الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء، وشفاء الغليل، وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها، وانشراح صدورها، بظهور أمم أخرى تكافح معها في ميدان الحياة، ويكون كل فرد في الأمم المقبلة أشبه بالأب، يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد في العمل لفائدة الجميع، يجد العامل فيه لذّةً وفرحًا أشدَّ من فرح المنتصر في ميادين القتال. وإنَّ الأمم لا تزال في الطور الأول، فهي تسعى لإسعاد نفسها، بإهلاك سواها، وسيأتي حينٌ تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء، ويكون الناس جميعًا بعضم لبعض كالآباء والأبناء. واعلم (¬2): أنه قد اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

عليهم، والناسخ لها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}. وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}. وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج. وكثير من الكوفيين قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الأدلّة على تركه، من النساء، والصبيان، ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وقيل: إنَّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} روي ذلك عن عطاء وغيره، وقال كثير من العلماء: إنّ الآية محكمة، والإمام مخيّر بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخيَّر بين المنِّ والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوريّ والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم، وهذا هو الراجح؛ لأنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك، وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. ثمّ بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في شرع القتال، فقال: {ذَلِكَ} محلُّه: إما رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك، وإما نصبٌ على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ذلك حكم الكفار؛ أي: (¬1) هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم في حرب، وشد وثاقهم في أسرهم، والمن والفداء حتى تضع الحرب أوزارها، هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي شرعها لإصلاح حال عباده، وهي التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت في طور طفولتها، حتى يتمّ نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها؛ لأنّ العالم كلَّه كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعًا، وشقاؤه بشقائهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} {لو}: (¬1) للمضيّ، وإن دخلت على المستقبل؛ أي: ولو شاء الله سبحانه وتعالى الانتصار والانتقام من الكفار {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ}؛ أي: لانتصر من هؤلاء المشركين، وانتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم أمرهم؛ أي: لانتقم منهم بغير قتال، بأن يكون ببعض أسباب الهلكة والاستئصال، من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق أو موت ذريع أو نحو ذلك، ويجوز أن يكون الانتقام بالملائكة، بصيحتهم أو بصرعهم أو بقتالهم، من حيث لا يراهم الكفار، كما وقع في بدر. {وَلَكِنْ} أمركم بقتالهم {لِيَبْلُوَ} ويختبر {بَعْضَكُمْ} أيها الناس {بِبَعْضٍ} آخر؛ أي: أمركم بالقتال، وبلاكم بالكافرين، لتجاهدوهم فتستوجبوا الثواب العظيم؛ بموجب الوعد، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه، وبلاء الكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عقوبتهم، ويتّعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق، فالحكمة من القتال هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، وفي الجهاد تقوية لأبدانكم، ورقي لعقولكم، ونفاذ لكلمتكم، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم، إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء المجاهدين في سبيله، فقال: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ}؛ أي: استشهدوا يوم بدر، ويوم أحد وفي سائر الحروب {فَلَنْ يُضِلّ} الله سبحانه، ويضيع {أَعْمَالَهُمْ} بل يثيبهم عليها؛ أي: والذين جاهدوا أعداء الله في طاعة الله، وطلب مرضاته، ونصرة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الهدى، سواء قتلوا في الجهاد أو لم يقتلوا، فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضائعة سدى، كما أذهب أعمال الكافرين، وجعلها عديمة الجدوى. روى أحمد عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

الأكبر ومن عذاب القبر، ويحلَّى حلّة الإيمان". وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّين". وقرأ الجمهور (¬1): {قُتِلُوا} بألف مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو عمرو وحفص، وقتادة والأعرج والأعمش: {قتلوا} مبنيًا للمفعول، والتاء خفيفة، وقرأ زيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: {قُتِّلوا} بالتشديد مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو حيوة والجحدري: {قَتَلوا} على البناء للفاعل مع التخفيف. والمعنى على القراءة الأولى والرابعة: أنَّ المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أنَّ المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيِّع الله سبحانه أجرهم، وقرأ عليّ: {فلن يضل} مبنيًا للمفعول، {أعمالهم} بالرفع، وقرىء: {يَضِلّ} بفتح الياء من ضلَّ. {أعمالهم} بالرفع. 5 - ثمّ فسّر ما سلف بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا، وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم، والظاهر: أنّ السين للتأكيد، والمعنى: يهديهم الله ألبتة إلى مقاصدهم الأخروية، وقال الحسن بن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير {وَيُصْلِحُ} الله سبحانه {بَالَهُمْ}؛ أي: حالهم، وشأنهم في الدنيا بالعصمة والتوفيق، 6 - وفي الآخرة بأن يقبل الله أعمالهم، ويرضي خصمائهم؛ لكرامتهم على الله بالجهاد والشهادة {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} وجملة قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} مستأنفة (¬2) أو حالية؛ أي: عرّف الجنة، وبيَّنها لهم في الدنيا بذكر أوصافها، بحيث اشتاقوا إليها، أو بيَّنها لهم في الآخرة، بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه، كأنه كان ساكنه منذ خلق. وفي الحديث: "لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا". وقيل: إذا دخلوها .. يقال لهم: تفرَّقوا إلى منازلكم، فهم أعرف بمنازلهم في الجنة من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وفي "المفردات": عرَّفه جعل له عَرْفًا؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان.

رائحة طيِّبة. فالمعنى: زيَّنها وطيَّبها لهم بأنواع الملاذ. وقال بعضهم: حدَّدها لهم، وأفرزها: من عرَّف الدار إذا حدَّدها؛ أي: جعل لها حدودًا، فجنة كل أحد محدَّدة مفرزة. وقيل: هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعبد، يسير بين يديه حتى يدخله منزله، كذا قال مقاتل. ومن فضائل الشهداء: أنه ليس أحد يدخل الجنة يحب أن يخرج منها، ولو أعطي ما في الدنيا جميعًا إلا الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يردَّه الله إلى الدنيا مرارًا، فيقتل في سبيل الله كما قتل أولًا؛ لما يرى من عظيم كرامة الشهداء على الله تعالى. ومن فضائلهم: أنّ الشهادة في سبيل الله تكفّر ما على العبد من الذنوب التي بينه وبين الله تعالى، وفي الحديث: "يغفر للشهيد كلّ شيء إلا الدَّيْن". والمراد (¬1) بالدين: كل ما كان عليه من حقوق الآدميين، كالغصب وأخذ المال بالباطل، وقتل العمد، والجراحة، وغير ذلك من التبعات، وكذلك الغيبة والنميمة والسخرية وما أشبه ذلك، فإنّ هذه الحقوق كلها لا بدّ من استيفائها لمستحقيها، وقال القرطبي: الدين الذي يحبس صاحبه عن الجنة: هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوصِّ به، أو قدر على الأداء فلم يؤدِّه، أو ادّانه على سفه أو سرف ومات ولم يوفه، وأما من ادّان في حق واجب كفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء .. فإنّ الله تعالى لا يحبسه عن الجنة شهيدًا كان أو غيره، ويقضي عنه، ويرضي عنه خصمه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ أموال الناس يريد أدائها .. أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها .. أتلفه الله". ومجمل معنى الآية (¬2): أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبّه، ويصونهم مما يورث الضلال في الدنيا، ويصلح شأنهم في العقبى، ويتقبل أعمالهم، ويجعل لكل منهم مقرًّا في الجنة، لا يضل في طلبه. لا جرم أنّ لكل امرىء في الحياة عملًا يستوجب حالًا في الآخرة لا يتعدّاها، كما يحصل كل من نال إجازةً في علم أو صناعةٍ على عمل يشاكل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[7]

إجازته في قوانين الدولة، والناس في الآخرة أشبه بأنواع السمك في البحر الملح، وأنواع الطير في جوِّ السماء، لكل منها جو لا تتعداه، هكذا لكل من الصالحين درجةٌ في الآخرة لا يتعدَّاها، بل يجد نفسه مقهورًا على البقاء فيها، كما أنّ السمك منه ما هو قريب من سطح الماء، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: يُهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها. 7 - ثمّ وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ}؛ أي: إن تنصروا دين الله ورسوله {يَنْصُرْكُمْ} الله سبحانه على أعدائكم، ويفتح لكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإِسلام، وتثبيت الأقدام: عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب. واعلم (¬1): أنّ النصرة على وجهين: الأول: نصرة العبد، وذلك بإيضاح دلائل الدين، وإزالة شبهة القاصرين، وشرح أحكامه وفرائضه وسننه وحلاله وحرامه والعمل بها، ثم بالغزو والجهاد لإعلاء كلمة الله، وقمع أعداء الدين، إما حقيقة كمباشرة المحاربة بنفسه، وإما حكمًا بتكثير سواد المجاهدين بالوقوف تحت لوائهم، أو بالدعاء لنصرة المسلمين، وخذلان الكافرين بأن يقول: اللهمّ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، ثم بالجهاد الأكبر، بأن يكون عونًا لله على النفس حتى يصرعها ويقتلها فلا يبقى من هواها أثر. والثاني: نصرة الله تعالى، وذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإظهار ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

الآيات والمعجزات، وتبيين السبل إلى النعيم وإلى الجحيم، والأمر بالجهاد الأصغر والأكبر، والتوفيق للسعي فيهما طلبا لرضاه، لا تبعًا لهواه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَيُثَبِّتْ} مشدّدًا، وقرأ المفضل عن عاصم: مخفّفًا، من أثبت الرباعي من باب أفعل. 8 - وبعد أن ذكر سبحانه جزاء المجاهدين. أعقبه بجزاء الكافرين، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله، مبتدأ خبره محذوف دلّ عليه قوله: {فَتَعْسًا لَهُمْ} ودخلت الفاء تشبيهًا للمبتدأ بالشرط، وانتصاب {تعسًا} على المصدر بالفعل المقدر خبرًا، و {اللام} فيه: للبيان، كسقيًا لهم، ورعيًا، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} والفعل منه، كمنع وسمع، كما سيأتي، يقال: تعسه الله وأتعسه، والتقدير: والذين كفروا بالله ورسوله، وجحدوا توحيده فَتَعِسَهُم الله تعسًا؛ أي: أذلَّهم الله إذلالًا، وأخزاهم خزيًا، وأهلكهم إهلاكًا، وأبطل أعمالهم، وجعلها على غير هدًى واستقامةٍ؛ لأنها عُمِلت للشيطان، لا طاعة للرحمن. 9 - ثم بيَّن سبب ذلك الإضلال، فقال: {ذَلِكَ} المذكور من التعس وإضلال الأعمال {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} تعالى من القرآن لما فيه من التوحيد، وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه، واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء {فَأَحْبَطَ} الله سبحانه {أَعْمَالَهُمْ} لأجل ذلك؛ أي: أبطلها وجعلها من الأعمال التي لا تزكو ولا يعتد بها، كرّره إشعارًا بأنه يلزم الكفر بالقرآن، ولا ينفك عنه بحال، والمراد بالأعمال: طواف البيت، وعمارة المسجد الحرام، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المظلومين، ومواساة اليتامى والمساكين، ونحو ذلك مما هو على صورة البرّ، وذلك بالنسبة إلى كفار قريش، وقس عليهم أعمال سائر الكفرة إلى يوم الدين. والمعنى (¬2): أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس، وإضلال الأعمال، من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[10]

أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكذَّبوا به، وقالوا: هو سحر مبين، فمن ثم أحبط الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأصلاهم سعيرًا. وقصارى ذلك: أنَّ كل ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل؛ لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال. 10 - ثم خوف سبحانه الكفار، وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} {الهمزة}: فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أُقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا؛ أي: كفار مكة في الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم المكذبة: كعاد، وثمود وأهل سبأ، فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم؛ أي: كيف كان آخر أمرهم من الدمار بسبب تكذيبهم رسلهم. والمعنى (¬1): أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، المنكرون ما أنزلناه عليه من الكتاب في نواحى الأرض، وأرجائها، فيروا نقمة الله التي أحلَّها بالأمم الغابرة، والقرون الخالية، حين كذبوا رسلهم، كعاد وثمود، ويتعظوا بذلك، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم. ثم ذكر ما فعله بهم، فقال: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يقال: دمّره: أهلكه، ودمّر عليهم: أهلك ما يختص به، قال الطيبي: كأنَّ في {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تضمين معنى أطبق، فعدَّى بعلى، فإذا أطبق عليهم دمارًا .. لم يخلص مما يختص بهم أحدٌ، وفي "حواشي سعدي المفتي": {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: أوقع التدمير عليهم. وجملة {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: مستأنفة (¬2) استئنافًا بيانيًا، نشأ عن سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقيل: استأصل الله عليهم ما اختص به من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[11]

والمعنى: أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والأولاد والأموال، أفلا يعتبر هؤلاء بما حلّ بمن قبلهم، فيعلموا أنّ ما حاق بهم من سوء المنقلب لا بد أن يحلّ بهم مثله، بحسب ما وضعه سبحانه من السنن في الأمم المكذبة لرسلها، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ}؛ أي: ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم؛ يعني: كفار مكة {أَمْثَالُهَا}؛ أي: أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها إن لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به من عند الله تعالى، أو أمثال عقوبتهم، لكن لا على أنَّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه، بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذَّبة، قال الزجاج (¬1) وابن جرير: الضمير في {أَمْثَالُهَا} يرجع إلى عاقبة الذين من قبلهم، وإنما جمع لما مرّ آنفًا، وقيل: أمثال العقوبة، وقيل: أمثال الهلكة، وقيل: أمثال التدميرة، والأول أولى؛ لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله، وقيل: المعنى (¬2): ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة، فأهلكوا بأيدي أمثالهم، الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم، وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام، فهو أخف من هذا. 11 - ثم بين السبب في حلول أمثال هذه العاقبة بهم، فقال: {ذَلِكَ} إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم السابقة لهؤلاء، وقال بعضهم: ذلك المذكور من كون المؤمنين منصورين ظافرين، ومن كون الكافرين مقهورين مدمَّرين {بِأَنَّ اللَّهَ}؛ أي: بسبب أنه تعالى {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: ناصرهم على أعدائهم في الظاهر والباطن بسبب إيمانهم. وقرأ ابن مسعود (¬3): {ذلك بأنّ اللَّه وليُّ الذين آمنوا}. {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي: وبسبب أنّ الكافرين لا ناصر لهم، فيدفع عنهم العذاب الحال بهم بسبب كفرهم، فالمراد: (¬4) ولاية النصرة لا ولاية العبودية، فإنَّ الخلق كلهم عباده ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[12]

تعالى، فنفي المولى عنهم هنا لا يعارض إثباته في قوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}؛ لأنّ المراد به هناك: المالك لأمورهم، المتصرف في شؤونهم، أو المعنى: لا مولى لهم في اعتقادهم حيث يعبدون الأصنام، وإن كان مولاهم الحق تعالى في نفس الأمر. ومعنى الآية (¬1): ذلك الذي فعله بهم من التدمير والهلاك، ونصر المؤمنين، وإظهارهم عليهم، بسبب أنّ الله ولي من آمن به، وأطاع رسوله، وأنّ الكافرين لا ناصر لهم فيدفع ما حلّ بهم من العقوبة والعذاب. 12 - وبعد أن بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا .. بيّن حالهم في الآخرة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} ذا الجلال والإكرام {يُدْخِلُ} يوم القيامة {الَّذِينَ آمَنُوا} به، وصدّقوا رسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الأعمال الصالحة {جَنَّاتٍ} وبساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة الآتية، كرامةً لهم على إيمانهم بالله، ورسوله واليوم الآخر، وهذا بيان لحكم ولايته تعالى للمؤمنين، وثمرتها الأخروية. قال الإِمام الرازي (¬2): كثيرًا ما يقتصر الله سبحانه على ذكر الأنهار في وصف الجنة؛ لأنّ الأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار تتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام. وللمؤمن الماء ينظر إليه، وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها، ويتضرّر بها. انتهى. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا بالله، وكذّبوا رسوله {يَتَمَتَّعُونَ}؛ أي: ينتفعون في الدنيا بمتاعها أيامًا قلائل، ويعيشون {وَيَأْكُلُونَ} من طيّباتها، حريصين غافلين عن عواقبهم {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} والبهائم في مسارحها، ومعالفها، غافلة عمّا هي بصدده من النحر والذبح {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}؛ أي: والحال أنّ النار الأخروية منزل ثواء وإقامةٍ، وخلودٍ لهم، والجملة إما حال مقدرة من واو {يأكلون}، أو مستأنفة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) تفسير الرازي.

[13]

ومعنى الآية: أي والذين جحدوا توحيد الله، وكذّبوا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية، ويأكلون فيها غير مفكرين في عواقبهم، ومنتهى أمورهم، ولا معتبرين بما نصب الله لخلقه في الآفاق والأنفس من الحجج المؤدِّية إلى معرفة توحيده، وصدق رسوله، فمثلهم مثل البهائم، تأكل في معالفها ومسارحها، وهي غافلة عمَّا هي بصدده من النحر والذبح، فكذلك هؤلاء يأكلون، ويتلذَّذون بمتاع الدنيا، وينتفعون به كأنهم أنعام، ليس لهم هَمٌّ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة، لاهون بما هم فيه، ونار جهنم مسكن ومأوى لهم، يصيرون إليها بعد مماتهم. والخلاصة: أنّ المؤمنين عرفوا أنَّ نعيم الدنيا ظل زائل، فتركوا الشهوات، وتفرَّغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وإنّ الكافرين غفلوا عن ذلك، فرتعوا في الدمن كالبهائم، حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من تلك النيران، أعاذنا الله منها. فإن قلت (¬1): كيف التقابل بينه وبين قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ ....} إلخ. قلت - والله أعلم -: الآية من قبيل الاحتباك، ذكر الأعمال الصالحة، ودخول الجنة أولًا، دليلًا على حذف الفاسدة، ودخول النار ثانيًا، وذكر التمتع والمثوى ثانيًا، دليلًا على حذف التمتع والمأوى أولًا. قال القشيري: الأنعام تأكل بلا تمييز من أي موضع وجد، كذلك لا تمييز له، أمن الحلال وجد أم من الحرام، وكذلك الأنعام، ليس لها وقت، بل في كل وقت تقتات وتأكل، كذلك الكافر أكول، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد". 13 - وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ولم يعتبروا، وذكر لهم ما تقدّم من الأدلَّة على وحدانيته، ضرب المثل لنبيه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم، فقال: {وَكَأَيِّنْ} كلمة مركبة من الكاف وأيّ، ¬

_ (¬1) روح البيان.

بمعنى كم الخبرية، قال المولى الجامي في "شرح الكافية": إنما (¬1) بني كأيّن؛ لأنه كاف التشبيه دخلت على أيّ، وأيُّ في الأصل: كان معربًا، لكنَّه انمحى عن الجزئين معناهما الإفرادي، فصار المجموع كاسم مفرد بمعنى كم الخبرية، فصار كأنه اسم مبني على السكون، آخره نون ساكنة كما في "من" لا تنوين تمكن، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أنَّ التنوين لا صورة له في الخط، انتهى. ومحلها الرفع بالابتداء {مِنْ قَرْيَةٍ}: تمييز لها {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} صفة لـ {قَرْيَةٍ} {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} صفة لـ {قَرْيَتِكَ} وهي مكة. وقد حذف منهما المضاف وأجري أحكامه عليهما، كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ}. ومعنى الآية: وكم من أهل قرية هم أشد قوّةً من أهل قريتك الذي أخرجوك منها، ووصف (¬2) القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوّتها، كما أنَّ وصف الثانية بإخراجه - صلى الله عليه وسلم - للإيذان بأولويَّتها به لقوة جنايتها {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم: قريش الذين هم أهل قرية النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهي: مكة، قال مقاتل: أهلكناهم بالعذاب حين كذّبوا رسولهم، وجملة قوله: {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}: بيانٌ لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار، إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، و {الفاء}: لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات، وهو حكاية حال ماضية. ومعنى الآية (¬3): أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسًا، وأكثر جمعًا، وأعدّ عديدًا من أهل مكة الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، ولم يجدوا ناصرًا ولا معينًا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبْخَع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم، وغير خافٍ ما في هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة. ¬

_ (¬1) ملا جامي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[14]

14 - ثم ذكر الفارق بين حالي المؤمنين والكافرين، والسبب في كون هؤلاء في أعلى علّيين، وأولئك في أسفل سافلين، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} و {الهمزة} فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، و {مِنْ} (¬1): عبارةٌ عن المؤمنين المتمسكين بأدلّة الدين، والتقدير: أليس الأمر كما ذكر، فمن كان مستقرًا على حجة ظاهرة، وبرهان نيرٍ من مالك أمره ومربيه، وهو القرآن، وسائر المعجزات، والحجج العقلية {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} من الشر وسائر المعاصي مع كونه في نفسه أقبح القبائح، والمعنى: لا مساواة بين المهتدي والضالّ. {وَاتَّبَعُوا} بسبب ذلك التزيين {أَهْوَاءَهُمْ} الزائغة، وانهمكوا في فنون الضلالات من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه، فضلًا عن حجة تدل عليها، وجمع الضمير باعتبار معنى {مِنْ}، كما أنّ إفراد الأولين باعتبار لفظها، وقرىء: (¬2) {أَمَنْ كَانَ} بغير فاء. ومعنى الآية (¬3): أي أفمن كان على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه بما أنزله في كتابه من الهدى، والعلم وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة، فهو على علم بأنَّ له ربًّا يجازيه على طاعته إيّاه بالجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار، كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله، وأراه إيَّاه جميلًا، فهو على العمل به مقيم، وعلى السير على نهجه دائب، واتبع هواه، وجمحت به شهواته، فطفق يعدو في المعاصي ويخبُّ فيها، ويضع غير ملتفت إلى واعظ أو زاجرٍ. والخلاصة: أيستوي الفريقان: من كان ثابتًا على حجة بينة من عند ربّه، وهي كتابه الذي أنزله على رسوله، وسائر الحجج التي أقامها في الآفاق والأنفس، ومن زيَّن له الشيطان سيّء أعماله من الشرك وسائر المعاصي، كإخراجك من قريتك، واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[15]

يدِّعيه، وتطمئن إليها نفسه في الدفاع عمّا يدين به، كلاهما لا يستويان، ونحو الآية قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، وقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}. 15 - ثمّ لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال .. بيَّن الفرق في مرجعهما ومآلهما، فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}؛ أي: صفة الجنة التي وعدها الله سبحانه من اتقى عقابه، فأدَّى فرائضه، واجتنب نواهيه ما ستسمعونه بعد، وعبَّر (¬1) عن المؤمنين بالمتقين؛ إيذانًا بأنَّ الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى، الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات عن آخرها، ومثلها وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: مثل الجنة الموعودة للمؤمنين، وصفتها العجيبة الشأن ما تسمعون فيما يتلى عليكم، وقوله: {فِيهَا}؛ أي: في الجنة الموعودة إلى اخره مفسر له {أَنْهَارٌ} جمع نهر، وهو: مجرى الماء الفائض كما سيأتي؛ أي: فيها أنهار جارية {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}؛ أي: غير متغير الطعم والرائحة واللون، وإن طالت إقامته، بخلاف ماء الدنيا؛ فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه وفي أوانيه، مع أنه مختلف الطعوم مع اتحاد الأرض ببساطتها، وشدة اتصالها، وقد يكون متغيرًا بريح منتنة من أصل خلقته، أو عارضٍ عرض له من منبعه أو مجراه. كذا في "المناسبات". يقول الفقير (¬2): قد صحَّ أنّ المياه كلها تجري من تحت الصخرة التي في المسجد الأقصى، فهي ماء واحد في الأصل، عذب فرات سائغ للشاربين، وإنما يحصل التغير من المجاري، فإنّ طباعها ليست متساوية، دلّ عليه قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} وتجاور أجزائها لا يستلزم اتحادها في نفس الأمر، بل هي متجاورة مختلفة، ومثلها العلوم، فإنها إذا مرت بطبع غير مستقيم تتغير عن أصلها، فتكون في حكم الجهل، ومن هذا القبيل علوم جميع أهل الهوى، والبدع والضلال والخرافات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {آسِنٍ} بالمد على وزن فاعل كضارب، من أسن يأسن، كضرب يضرب، وقرأ حميد، وابن كثير وأهل مكة: {أسِنٍ} بالقصر على وزن فعل، من أسن ياسن كحذر يحذر، وهما سبعيتان، وقرىء: {ياسِنٍ} بالياء، قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمز. {وَ} فيها {أَنْهَارٌ} جارية {مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} كألبان الدنيا بأن كان قارصًا، وهو: الذي يقرص اللسان ويقبضه، أو حازرًا بتقديم الزاي وهو: الحامض، أو غير ذلك؛ لأنه لم يخرج من ضروع الإبل، والغنم والبقر. والمعنى: لم يتغير طعمه بنفسه عن أصل خلقته، ولو أنهم أرادوا تغييره بشهوةٍ اشتهوها تغيَّر، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم، وذلك تركه {و} فيها {أَنْهَار} جارية {مِنْ خَمْرٍ} وهو: ما أسكر من عصير العنب، أو عام؛ أي: لكل مسكرِ، كما في "القاموس" {لَذَّةٍ}؛ أي: لذيذة {لِلشَّارِبِينَ}؛ أي: ليس فيها حموضة ولا غضاضة، ولا مرارة، ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر، وليس في شربها ذهاب عقل، ولا صداع، ولا آفة من آفات خمر الدنيا، وإنّما هي لتلذذ محض. وقرأ الجمهور (¬2): {لَذَّة} بالجر، على أنه صفة لـ {خَمْرٍ} وقرىء بالرفع على أنه صفة لـ {أَنْهَارٌ} وبالنصب على أنه مصدر، أو مفعول لأجله؛ أي: لأجل لذّة له {و} فيها {أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أي: من عسل قد صفي من القذى، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية من السمع وفضلات النحل وغيرها؛ أي: خلقه الله تعالى: مصفى، لا أنه كان مختلطًا فصفي. قال بعضهم: (¬3) الفرق بين الخالص والصافي: أن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، والعسل: لعاب النحل وقيئه، كما قال ظهير الفارابي، وقال الدميري في: "حياة الحيوان": وبالجملة ¬

_ (¬1) البحر المحيط، والشوكاني، والفتوحات. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

فإنَّه يخرج من بطون النحل، ولا ندري أمن فمها أم من غيره، وقد سبق جملة النقل فيه في سورة النحل. وبدىء بالماء (¬1) في الذكر؛ لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الري والشبع .. تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل؛ لأنَّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم. أخرج أحمد، والترمذي، وصحَّحه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأزهار منها بعد". فإن قيل (¬2): ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}؟ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل: مصفّى للناظرين؟ أجاب الرازي: بأنَّ اللذّة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يتلذذ به شخص ويعافه الآخر، فلذلك قال: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} بأسرها، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال: لذّة؛ أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم، وأمَّا الطعم واللون .. فلا يختلفان باختلاف الناس، فإنّ الحلو، والحامض وغيرهما، يدركه كل أحدٍ، لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم أنَّ له طعمًا واحدًا، وكذلك اللبن، فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة. اهـ. "خطيب". وقال صاحب "الروح" (¬3): وبدأ بانهار الماء لغرابتها في بلاد العرب، وشدّة حاجتهم إليها، ولما كان خلوها عن تغير أغرب .. نفاه بقوله: {غَيْرِ آسِنٍ}. ولمَّا كان اللبن أقل فكان جريه أنهارًا أغرب .. ثنى به، ولما كان الخمر أعز .. ثلث به، ولما كان العسل أشرفها، وأقلها .. ختم به. انتهى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

{وَلَهُمْ}؛ أي: للمتقين {فِيهَا}؛ أي: في الجنة الموعودة مع ما فيها من فنون الأنهار صنف {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} على وجه لا حاجة معه من قلة، ولا انقطاع. وقيل: لهم فيها زوجان من كل الثمرات أخذًا من قوله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}. وفي ذكر (¬1) الثمرات بعد المشروب، إشارةٌ إلى أنَّ مأكول أهل الجنة للذة لا لحاجةٍ، فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب؛ لأنها للتفكه واللذة. {وَ} لهم فيها {مَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة {مِنْ رَبِّهِمْ}؛ أي: المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وآثارها، بحيث لا يخشون لها عاقبة بعقاب ولا عتاب، وإلا لتنغص العيش عليهم، قال في "فتح الرحمن": قوله: {وَمَغْفِرَةٌ} عطف على الصنف المحذوف؛ أي: ونعيم أعطته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة قبل دخول الجنة. وفي "الخازن": فإن قلت: المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة، فكيف يكون فيها المغفرة؟. قلت: ليس بلازم أن يكون المعنى: ولهم مغفرة فيها؛ لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب، فيكون المعنى: ولهم فيها من كل الثمرات، ولهم مغفرة قبل دخولهم فيها، وقيل (¬2): معنى {وَمَغْفِرَةٌ} أي: رفع تكليفٍ عنهم، فيأكلون ويشربون من غير حساب ولا عقاب، ورفع قبيح ومكروه، فلا يحتاجون إلى غائط، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات، بخلاف الدنيا، فإنّ للأكل توابع ولوازم لا بدّ منها. وقوله: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} (¬3) لمبتدأ محذوف، تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد الكريم، كمن هو خالد في النار التي لا يطفأ لهيبها، ولا يفك أسيرها، ولا يونس غريبها، كما نطق به قوله تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}؛ أي: ليس هؤلاء كاولئك، فليس من هو في الدرجات العلى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

[16]

كمن هو في الدركات السفلى، وقوله: {وَسُقُوا}: بدل ما ذكر من أشربة أهل الجنة {مَاءً حَمِيمًا}؛ أي: بالغًا نهاية الحرارة {فَقَطَّعَ} بحرارته {أَمْعَاءَهُمْ}؛ أي: مصارينهم، معطوف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية، لكنه راعى في الأول لفظ {مَن}، وفي الثانية معناها، والحميم: الماء الحار الشديد الغليان، فإذا شربوه .. قطع أمعاءهم لفرط حرارته، والأمعاء: جمع معي، وهي ما في البطون من الحوايا، كما سيأتي في مبحث اللغة. قيل: إذا دنا نهم .. شوى وجوههم، وانمازت فروة رؤوسهم؛ أي: انعزلت وانفرزت، فإذا شربوا .. قطع أمعاءهم، فخرجت من أدبارهم، فانظر بالاعتبار أيها الغافل عن القهار، هل يستوي الشراب العذب البارد، والماء الحميم المر؟. وإنما ابتلاهم الله بذلك؛ لأن قلوبهم كانت خالية عن العلوم والمعارف الإلهية، ممتلئة بالجهل والغفلة. 16 - {وَمِنْهُمْ}؛ أي (¬1): ومن هؤلاء الكفار الذين يتمتّعون، ويأكلون كما تأكل الأنعام {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يا محمد، وهم: المنافقون، أفرد الضمير باعتبار لفظ {من}، وجمع في قوله: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} باعتبار معناها. والمعنى: أنّ المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومواطن خطبه التي يصليها على المسلمين، حتى إذا خرجوا من عنده - صلى الله عليه وسلم - {قَالُوا}؛ أي: المنافقون على طريق الاستهزاء، وإن كان بصورة الاستعلام {لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}؛ يعني: علماء الصحابة: كعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء رضي الله عنهم {مَاذَا قَالَ} محمد {آنِفًا}؛ أي: في الساعة الماضية القريبة منّا قبل خروجنا في وعظه؛ أي؛ في أول وقتٍ يقرب منّا. والمعنى: أنا لم نلتفت إلى قوله؛ لأنّه كلام ساقط، فماذا قال حين تكلم؟ والمعنى: ماذا قال قبيل هذا الوقت؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[17]

وقرأ الجمهور (¬1): {آنِفًا} على وزن فاعل، وابن كثير: {آنِفًا} على وزن فعل. والمعنى (¬2): أي ومن الناس منافقون يستمعون، فلا يعون ما تقول، ولا يفهمون ما تتلوا عليهم من كتاب ربك، تغافلًا عما تدعوهم إليه من الإيمان، حتى إذا خرجوا من عندك .. قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله: ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟ وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول، وأنه مما لا ينبغي أن يؤبه به، أو يلقى لمثله سمع. روى مقاتل: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد. سألوا عبد الله بن مسعود استهزاءً، ماذا قال محمد آنفًا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل. ثم بين سبب استهزائهم، وتهاونهم بما سمعوا، فقال: {أُولَئِكَ} المنافقون القائلون ما ذكر التاركون اتباع الحق، وهم: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى وختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ} وأماتها، فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} الباطلة، وشهواتهم العاطلة في الكفر والعناد، فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه. أي (¬3): هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتّبعوا شهواتهم، وما دعتهم إليه أنفسهم، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان. 17 - ثمّ ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} إلى طريق الحق والخير، فآمنوا بالله، وعملوا بما أمرهم الله به {زَادَهُمْ} الله سبحانه {هُدًى} ورشادًا بالتوفيق والإلهام، وقيل: زادهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: زادهم القرآن، وقال الفرَّاء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى، وقيل: زادهم نزول الناسخ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[18]

هدى، وعلى كل تقدير فالمراد: أنه زادهم إيمانًا وعلمًا وبصيرة في الدين. {وَآتَاهُمْ} الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم {تَقْوَاهُمْ} وخشيتهم منه تعالى؛ أي: ألهمهم إياها، وأعانهم عليها. والمعنى: والذين اهتدوا بالإيمان، واستماع القرآن زادهم الله تعالى على اهتدائهم هدى، وبصيرة، وعلمًا، وشرح صدورهم، وألهمهم رشدهم، وأعانهم على تقواه، حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين، وخلق الله فيهم كمال التقوى، فلا يخافون لومة لائم، ويتنزه العارفون عما يشغل أسرارهم عن الحق، ويتبتَّلون إليه تعالى. 18 - ثم بين أنهم في غفلة عن النظر والتأمل في عاقبة أمرهم، فقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} أي: المنافقون والكافرون {إِلَّا السَّاعَةَ}؛ أي: القيامة، سميت ساعة لسرعة قيامها، والاستفهام فيه: إنكاري؛ أي: ما ينتظرون إلا القيامة {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}؛ أي: فجأةً، بدل اشتمال من الساعة؛ أي: أن تباغتهم بغتةً. والمعنى (¬1): أنهم لا يتذكَّرون بذكر أحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأمور، وما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة بغتةً وفجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} تعليل لمفاجأتها، لا لإتيانها مطلقًا، على معنى إنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مرتقب ينتظرونه، سوى إتيان نفس الساعة بغتةً؛ لأنّه قد جاء أشراطها، وأماراتها التي منها بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانشقاق القمر، فلم يرفعوا لها رأسًا، ولم يعدوها من مبادي إتيانها، فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}؛ أي (¬2): فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة؟؛ أي: لا تنفعهم الذكرى، إذ لا تقبل التوبة، ولا يحسب الإيمان حينئذٍ، حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ، و {فَأَنَّى}: خبر مقدم، و {ذِكْرَاهُمْ}: مبتدأ مؤخر، و {إذَا جَاءَتْهُمْ}: اعتراض وسط بينهما؛ رمزًا إلى غاية سرعة مجيئها، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وجواب {إِذَا}: محذوف؛ أي: كيف لهم التذكُّر إذا جاءتهم الساعة، فكيف يتذكّرون؟ وإطلاق المجيء عن قيد البغتة؛ لما أنَّ مدار استحالة نفع التذكر عند مجيئها مطلقًا لا مقيّدًا بالبغتة، ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفًا؛ أي: فأنَّى لهم الخلاص، ويكون {ذِكْرَاهُمْ} فاعلًا بـ {جَاءَتْهُمْ}. اهـ "سمين". وفي "الخازن": يعني: من أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة؟ اهـ. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة (¬1): {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} على الشرط، وجوابه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}. وهذا غير مشكوك فيه؛ لأنها آتية لا محالة، لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك، ومعناه: إن شككتم في إتيانها .. فقد جاء أعلامها، فالشكّ راجع إلى المخاطبين الشاكّين فيها. قال الزمخشري: فإن قلت: فما جزاء الشرط على هذه القراءة؟ قلت: قوله: {فَأَنَّى لَهُمْ}، ومعناه: إن تأتهم الساعة .. فكيف لهم ذكراهم؛ أي: تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة؟ يعني: لا تنفعهم الذكرى حينئذٍ؛ لقوله: {يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَىَ}. فإن قلت: بم يتصل قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} على القراءتين؟ قلت: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول، كقولك: إن أكرمني زيد .. فأنا حقيقٌ بالإكرام أكرمه. وقرأ الجعفي وهارون عن أبي عمرو: {بَغْتَةً} بفتح الغين وشدّ التاء، قال صاحب "اللوامح": وهي صفة، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات، بل في الأسماء، نحو: الحَريَّة، وهو: اسم جماعة، والسريَّة: وهو اسم مكان. انتهى. ومعنى الآية (¬2): أي إنه بعد أن قامت الأدلّة على وحدانية الله تعالى، وصدق نبوّة رسوله، وأنَّ البعث حق، وأن الله يهلك من كذب رسله، ويحل بهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[19]

الوبال والنكال، كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها الله لتكذيبها رسلها، ولم يبق منها إلا آثارها، ولم يفدهم كل ذلك شيئًا، ولم يتعظوا، ولم يؤمنوا، فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتةً، إذْ جاءت علامتها، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان بالله سوى ذلك. والخلاصة: أنّ البراهين قد نصبت، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله، وصدق رسوله، والبعث والنشور، وهم لم يؤمنوا، فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذٍ، إلا حين مجيء الساعة بغتةً، وها هي ذي أشراطها قد ظهرت، ومقدّماتها قد بدأت، ولم يأبهوا بها، ولا فكَّروا في أمرها، والمراد: بيان أنهم بلغوا الغاية في العناد، والنهاية في الاستكبار. ثم أظهر خطأهم، وحكم بأنّ رأيهم آفنٌ في تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة، بيبان أنَّ التذكر لا يجدي نفعًا حينئذٍ، فقال: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} إلخ؛ أي: فمن أين التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ فإنّ الذكرى لا تنفع حينئذٍ ولا تقبل التوبة، ولا ينفع الإيمان. 19 - وبعد أن أبان أنّ الذكرى لا تنفع إذ انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه، والاستغفار لأتباعه، فقال: {فَاعْلَمْ} يا محمد {أَنَّهُ}؛ أي: أن الشأن الأعظم {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}؛ أي (¬1): انتفى انتفاءً عظيمًا، أن يكون معبودًا بحق غير الملك الأعظم، و {الفاء} فيه: للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمت أنَّ مدار السعادة هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاوة: هو الإشراك والعصيان، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أي: أثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، والعمل بموجبه، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}؛ أي: ثبتنا على الصراط المستقيم، وبهذا يندفع الإيراد بأنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) روح البيان.

كان عالمًا بالله، وأنه لا إله إلا هو، فما فائدة هذا الأمر، كقولك للجالس: اجلس؛ أي: دم على ما أنت عليه من الجلوس، أو المعنى (¬1) ازدد علمًا إلى علمك، وقيل: إنّ هذا الخطاب وإن كان له - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد به غيره، قال أبو العالية، وسفيان بن عيينة: هذا متصل بما قبله، معناه: إذا جاءتهم فاعلم أنه لا ملجأ ولا منجا، ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله الذي لا إله إلا هو، وقيل: معناه: فاعلم أنه لا إله إلا الله، وأنَّ جميع الممالك تبطل عند قيامها، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله الذي لا إله إلا هو، وقيل: المعنى: فاذكر أنه لا إله إلا الله، فعبَّر عن الذكر بالعلم. وقدَّم العلم على العمل؛ تنبيهًا على فضله، واستبداده بالمزية عليه، لا سيما العلم بوحدانية الله تعالى، فإنه أول ما يجب على كل أحد، والعلم أرفع من المعرفة، ولذا قال: فاعلم دون فاعرف؛ لأن الإنسان قد يعرف الشيء ولا يحيط به علمًا، فإذا علمه وأحاط به علمًا .. فقد عرفه، والعلم بالألوهية من قبيل العلم بالصفات؛ لأن الألوهية صفة من الصفات، فلا يلزم أن يحيط بكنهه تعالى أحد، فإنه محالٌ إذ لا يعرف الله إلا الله، كما في الحديث. {وَاسْتَغْفِرْ} يا محمد؛ أي: أطلب الغفران من الله سبحانه {لِذَنْبِكَ} هو كل مقام عالٍ ارتفع - صلى الله عليه وسلم - عنه إلى أعلى، أو ما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - من ترك الأولى، وعبَّر عنه بالذنب نظرًا إلى منصبه الجليل، وإرشادًا له - صلى الله عليه وسلم - إلى التواضع، وهضم النفس، واستقصاء العمل، أو أطلب من الله أن لا يقع منك ذنب، أو استغفر الله ليعصمك. وقيل: معنى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}: استغفر لذنوب أهل بيتك {و} استغفر {لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: لذنوب أمّتك بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفرانهم؛ لأنهم أحق الناس بذلك منك؛ لأنَّ ما عملوا من خيرٍ كان لك مثل أجره، إذ لمكمل الغير مثل أجر ذلك الغير. وفي إعادة (¬2) حلة الاستغفار على اختلاف متعلقيه جنسًا، وفي حذف ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، إشعارٌ بعراقتهم في الذنب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار، وهو سؤال المغفرة، وطلب الستر، إما من إصابة الذنب، فيكون حاصله العصمة والحفظ، وإما من إصابة عقوبة الذنب، فيكون حاصله العفو والمحو. والمعنى (¬1): أي إذا علمت سعادة المؤمنين، وعذاب الكافرين .. فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك - وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل - وتوجه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات. وفي الحديث الصحيح: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منيّ، اللهم اغفر لي هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي". وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر الصلاة: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منّي، أنت إلهي لا إله أنت". وجاء أيضًا أنه قال: "أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإنّي أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وفي رواية: "مئة مرة". وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإنّ إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك .. أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون". وفي الأثر المرويّ: "قال إبليس: وعزّتك وجلالك، لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". ثم رغَّبهم سبحانه في امتثال ما يأمرهم به، ورهَّبهم مما ينهاهم عنه، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ}؛ أي: مكان تقلبكم الذي تتقلبون فيه في ¬

_ (¬1) المراغي.

معاشكم ومتاجركم في الدنيا {وَمَثْوَاكُمْ}؛ أي: مكان ثوائكم وإقامتكم في الآخرة، وقيل (¬1): متقلّبكم في أعمالكم نهارًا، ومثواكم في ليلكم نيامًا، وقيل: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ومثواكم في الأرض، أي: مقامكم فيها، قال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا، ومثواكم في القبور، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم في الدنيا والآخرة، فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به، فإنه المهم لكم في المقامين. والمعنى (¬2): أي والله يعلم تصرفكم في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، فاتقوه واستغفروه، فهو جدير بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم. والخلاصة: أنه تعالى عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وإن دق وخفي، فراقبوه، ونحو الآية قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}. الإعراب {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا}: صلة. {وَصَدُّوا}: معطوف على {كَفَرُوا} {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {وَصَدُّوا}. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ} ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {آمَنُوا}: صلة. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {آمَنُوا}. {وَآمَنُوا}: معطوف عليه أيضًا. {بِمَا}: متعلق بـ {آمَنُوا}. {نُزِّلَ}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

{عَلَي مُحَمَد} متعلق بـ {نُزِّلَ}، وجملة {نُزِّلَ}: صلة لـ {ما} الموصولة. {وَهُوَ} {الواو}: اعتراضية أو حالية. {هو}: مبتدأ. {الْحَقُّ}: خبره، والجملة إما اعتراضية، أو حالية من نائب فاعل {نُزِّلَ}. {مِنْ رَبِّهِم}: حال من {الْحَقُّ}. {كَفَّرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ}، والجملة: في محل الرفع خبر عن {الذين آمنوا}، والجملة الاسمية: معطوفة على ما قبلها. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {كَفَّرَ} {سَيِّئَاتِهِمْ}: مفعول به. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {كَفَّرَ}. {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّ الَّذِينَ}: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم {أنّ}، وجملة {كَفَرُوا}: صلته. {اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أَنّ}، وجملة {أنّ}: في تأويل مصدر مجرور بـ {الياء}، والتقدير: ذلك كائن بسبب اتباع الذين كفروا الباطل. {وَأَنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {اتَّبَعُوا الْحَقَّ}: فعل وفاعل ومفعول به. {مِنْ رَبِّهِمْ}: حال من {الْحَقَّ}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أنّ} وجملة {أنّ}: معطوفة على جملة {أنّ} الأولى {كَذَلِكَ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ضربًا مثل ذلك الضرب. {يَضْرِبُ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {لِلنَّاسِ}: متعلق به. {أَمْثَالَهُمْ}: مفعول به، والجملة: مستأنفة. {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}. {فَإِذَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من إضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وصلاح أحوال المؤمنين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {إِذَا لَقِيتُمُ} إلخ. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {لَقِيتُمُ}: فعل وفاعل. {الَّذِينَ}: مفعول به، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، وجملة {لَقِيتُمُ}: في محل الخفض

بإضافة {إذا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي؛ أي: فاضربوا الرقاب وقت ملاقاتكم العدو: {فَضَرْبَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {ضرب}: مفعول مطلق لفعل محذوف ناب عنه المصدر، {الرِّقَابِ}: مضاف إليه للمصدر، والتقدير: فاضربوا رقابهم، والجملة المحذوفة: جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {حَتَّى}: حرف ابتداء؛ أي: حرف تعبدًا بعده الجمل، فتكون بمعنى الفاء السببية؛ أي: فإذا ترتب على قتالهم كثرة القتل .. فأسروهم. اهـ شيخنا. وجعلها أبو حيان حرف جر وغاية، قال: وهذه غاية للضرب. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أَثْخَنْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لإذا على كونها فعل شرط لها. {فَشُدُّوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطية. {شُدُّوا الْوَثَاقَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة مسبَّبة عما قبلها. {فَإِمَّا} {الفاء}: عاطفة تفريعية. {إما}: حرف تفصيل. {مَنًّا}: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا؛ لأنه سبق تفصيلًا لعاقبة جملة سيقت قبله، تقديره: فإما منوا منًّا، والجملة: معطوفة على جملة {شدّوا}. {بَعْدُ}: في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبنيّ على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف؛ أي: بعد أسرهم وشدّ وثاقهم، والظرف: متعلق بالفعل المحذوف. {وَإِمَّا} {الواو}: عاطفة {إمام} الثانية على {إما} الأولى، و {إما}: عاطفة ما بعدها على ما بعد {إما} الأولى، أو أحدهما زائد فتكون {الواو}: عاطفة. و {إما}: حرف تفصيل فقط. {فِدَاءً} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: وإما افدوهم فداءً، والجملة معطوفة على جملة {مَنًّا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَضَعَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة. {الْحَرْبُ}: فاعل. {أَوْزَارَهَا}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، تقديره: إلى وضع الحرب أوزارها، والجار والمجرور: متعلق إما بالضرب أو بالشدِّ، أو بالمن والفداء؛

لأنها غاية لذلك كله على ما بسط في كتب الفقه. {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}. {ذَلِكَ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر فيهم ما ذكر من القتل والأسر، وما بعدهما من المنّ والفداء، أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: افعلوا بهم ذلك، والجملة: مستأنفة. {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية. {لو}: حرف شرط غير جازم. {يَشَاءُ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط لـ {لو} {لَانْتَصَرَ} {اللام}: رابطة لجواب {لو}. {انتصر}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. {مِنْهُمْ} متعلق به، والجملة: جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو}: مستأنفة. {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك مهمل. {لِيَبْلُو} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يبلو}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {بَعْضَكُمْ}: مفعول به. {بِبَعْضٍ}: متعلق بـ {يبلو} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، تقديره: ولكن أمركم بالقتال لبلاء بعضكم ببعض، والجملة الاستدراكية: معطوفة على جملة {لو}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية {الَّذِينَ}: مبتدأ. {قُتِلُوا}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {قُتِلُوا}. {فَلَنْ} {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في الموصول من معنى الشرط. {لن}: حرف نصب واستقبال ونفي. {يُضِلَّ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن} وفاعله: ضمير يعود على الله. {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {سَيَهْدِيهِمْ} {السين}: حرف استقبال. {يَهْدِيهِمْ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مفسرة لما قبلها. {وَيُصْلِحُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على {يَهْدِيهِمْ}. {بَالَهُمْ}: مفعول به. {وَيُدْخِلُهُمُ}: فعل مضارع وفاعل مستر، ومفعول به معطوف على {يَهْدِيهِمْ}، {الْجَنَّةَ}: مفعول به ثان على السعة. {عَرَّفَهَا}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على

الله ومفعول به. {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة: مستأنفة أو حال من فاعل {يدخلهم}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}. {يَا أَيُّهَا} {يَا}: حرف نداء، {أيّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد، تعويضًا عمّا فات؛ أيّ من الإضافة، وجملة النداء: مستأنفة. {الَّذِينَ} صفة لـ {أي} أو بدل منه. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {إِن}: حرف شرط. {تَنْصُرُوا اللَّهَ}: فعل مضارع وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {إِن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {يَنْصُرْكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونا جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: جواب النداء. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يَنْصُرْكُمْ}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كفروا}: صلة الموصول. {فَتَعْسًا} {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه الموصول بالشرط. {تَعْسًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: فتعسوا تعسًا. {لَهُمْ}: متعلق بـ {تعسا} أو صفة له، و {اللام}: للتبيين، والجملة المحذوفة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية، مستأنفة. {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: فعل ماض فاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها خبر المبتدأ {ذَلَكَ}: مبتدأ. {بِأَنَّهُمْ}: خبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كَرِهُوا}: خبره {ماَ}: اسم وصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة أنّ: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كراهتهم ما أنزل الله. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: ما أنزله الله. {فَأَحْبَطَ} {الفاء}: عاطفة. {أحبط أعمالهم}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به والجملة: معطوفة على جملة {كَرِهُوا}.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)}. {أَفَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام. و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقعدوا في منازلهم فلم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لَمْ يَسِيرُوا}: جازم وفعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لم} معطوف على تلك المحذوفة. {فِي الْأَرْضِ}: متعلق بـ {يَسِيرُوا}. {فَيَنْظُرُوا} {الفاء}: عاطفة سببية. {يَنْظُرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {الفاء} السببية الواقعة في جواب النفي أو الاستفهام، وعلامة نصبه: حذف النون، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ألم يكن سيرهم في الأرض فنظرهم كيف كان عاقبة الذين. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على أنه خبر {كاَنَ} مقدم مبنيّ على الفتح. {كاَنَ}: فعل ماض ناقص. {عَاقِبَةُ}: اسمها. وجملة {كاَنَ}: في محل النصب مفعول لـ {يَنظُروا} علق عنها باسم الاستفهام. {الَّذِينَ}: مضاف إليه. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: متعلق بمحذوف صلة الموصول. {دَمَّرَ اللَّهُ} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {دَمَّرَ} لتضمينه معنى أطبق، والجملة: مفسرة لـ {كَيْفَ كَانَ} لا محل لها من الإعراب. {وَلِلْكَافِرِينَ} {الواو}: استئنافية. {لِلْكَافِرِينَ}: خبر مقدم. {أَمْثَالُهَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {ذَلِكَ} مبتدأ. {بِأَنَّ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {أنّ}: حرف نصب {اللَّهَ}: اسمها، {مَولَى}:خبرها. {الَّذِينَ}: مضاف إليه، وجملة {آمَنُوا}:صلة الموصول، وجملة {أنّ}: في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: ذلك كائن بسبب كون الله مولى الذين آمنوا. {وَأَنَّ} {الواو}: عاطفة. {أن الكافرين}: ناصب واسمه. {لَا}: نافية. {مَولَى}: في محل النصب اسمها. {لَهُمْ}: خبرها، وجملة {لَا}: في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن}: معطوفة على جملة {أن} الأولى. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا

يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}. {إنَّ اللهَ}: ناصب واسمه. {يُدْخِلُ الَّذِينَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الله} ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ}: مستأنفة، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَعمَلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {ءَامَنُوا}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة. {تجرِى}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به. {الأَنْهارُ}: فاعل، والجملة: في محل النصب، صفة لـ {جَنَّاتٍ}. {وَالَّذِينَ} {الواو}: عاطفة. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {يَتَمَتَّعُونَ}: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو: فاعل، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية: معطوفة على جملة {إِنّ}، وجملة {وَيَأْكُلُونَ}: معطوفة على جملة {يَتَمَتَّعُونَ}. {كَمَا} {الكاف}: حرف جر وتشبيه. {ما}: مصدرية. {تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ}: فعل وفاعل والجملة: صلة لـ {ما} المصدرية، تقديره: كأكل الأنعام، والجار والمجرور: صفة لمصدر محذوف، تقديره: أكلًا كائنًا كأكل الأنعام. {وَالنَّارُ}: مبتدأ. {مَثْوًى} خبره، {لَهُمْ}: صفة لـ {مَثْوًى}، والجملة الاسمية: مستأنفة. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}. {وَكَأَيِّنْ} {الواو}: استئنافية، {كأين}: اسم مركب من الكاف وأي، بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون. {مِنْ}: زائدة. {قَرْيَةٍ}: تمييز لـ {كَأَيِّنْ}. {هِيَ}: مبتدأ. {أَشَدُّ}: خبره، والجملة: صفة لـ {قَرْيَةٍ}. {مِنْ}: زائدة. {قَرْيَةٍ}: تمييز لـ {كأيّن}. {هِيَ}: مبتدأ. {أَشَدُّ}: خبره، والجملة: صفة لـ {قَرْيَةٍ}. {قُوَّةً} تمييز محوّل عن المبتدأ، منصوب بـ {أَشَدُّ}، {مِنْ قَرْيَتِكَ}: متعلق بـ {أشَدُّ}. {الَّتِي}: صفة لـ {قَرْيَتِكَ}، {أَخْرَجَتْكَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة {الَّتِي}. {أَهْلَكْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لـ {كأين}، وجملة {كأين}: مستأنفة مسوقة لتسليته - صلى الله عليه وسلم -. {فَلَا} {الفاء}: عاطفة. {لا}: نافية،

{نَاصِرَ}: اسمها. {لهُم}: خبرها، والجملة: في محل الرفع، معطوفة على جملة {أهْلَكْنَاهُمْ}. {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}. {أَفَمَنْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أليس الأمر كما ذكر، فمن كان على بينة من ربه، إلخ. والجملة المحذوفة، مستأنفة، مسوقة لبيان حال الفريقين. {من}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على {من}. {عَلَى بَيِّنَةٍ} خبرها، {مِنْ رَبِّهِ}: صفة {بَيِّنَةٍ} وجملة {كَانَ}: صلة الموصول. {كَمَنْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ أعني {من} الموصولة، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة المقدرة. {زُيِّنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {لَهُ}: متعلق به. {سُوءُ عَمَلِهِ}: نائب فاعل، والجملة: صلة {من} الموصولة، وأفرد الضمير نظرًا للفظ {من}. {وَاتَّبَعُوا}: فعل وفاعل معطوف على {زُيِّنَ}. {أَهْوَاءَهُمْ}: مفعول به، وجمع الضمير نظرًا لمعنى {من}. {مَثَلُ الْجَنَّةِ}: مبتدأ ومضاف إليه. {الَّتِي}: صفة لـ {الْجَنَّةِ}، {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: فعل ونائب فاعل، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: وعدها المتقون، وخبر المبتدأ: محذوف، قدّره سيبويه فيما يتلى عليكم: مثل الجنة، والجملة بعدها: مفسرة للمثل، وقدَّره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون، والجملة بعدها أيضًا: مفسرة للمثل. {فِيهَا}: خبر مقدم. {أَنْهَارٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: إما مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، أو خبر لمبتدأ مضمر؛ أي: هي فيها أنهار، أو داخلة في حيز الصلة وتكرير لها، أو حال من {الْجَنَّةِ}. {مِنْ مَاءٍ} صفة {وَأَنْهَارٌ}. {غَيْرِ آسِنٍ} صفة {مَاءٍ}. {وَأَنْهَارٌ}: معطوف على {أَنْهَارٌ} الأولى. {مِنْ لَبَنٍ}: صفة {أَنْهَارٌ} وجملة {لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}: صفة {لَبَنٍ}، {وَأَنْهَار}: معطوف على {أَنْهَار} الأولى، {مِنْ خَمْرٍ}:

صفة {أَنْهَارٌ}. {لَذَّةٍ}؛ أي: لذيذة: صفة {خَمْرٍ}. {لِلشَّارِبِينَ}: متعلق بـ {لَذَّةٍ}، {وَأَنْهَارٌ}: معطوف على {أَنْهَارٌ} الأولى. {مِنْ عَسَلٍ}: صفة {أَنْهَارٌ}: صفة {عَسَلٍ}. {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}. {وَلَهُمْ} {الواو}: عاطفة. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {فِيهَا}: متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به الخبر، والمبتدأ: محذوف، تقديره: أصناف. و {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: نعت للمبتدأ الحذوف. {وَمَغْفِرَةٌ}: معطوف على أصناف، أو مبتدأ خبره مقدم محذوف؛ أي: ولهم مغفرة. {مِنْ رَبِّهِمْ}: نعت لـ {مغفرة}. {كَمَن} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد، وجملة {هُوَ خَالِدٌ} صلة {من}: الموصولة. {فِي النَّار}: متعلق بـ {خَالِدٌ}. {وَسُقُوا} {الواو}: عاطفة. {سقوا}: فعل ماض مغيّر الصيغة ونائب فاعل. {مَاءً}: مفعول ثان. {حَمِيمًا}: صفة {مَاءً} والجملة: معطوفة على جملة الصلة. {فَقَطَّعَ} {الفاء}: عاطفة. {قطع} فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يعود على {مَاءً}، {أَمْعَاءَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والجمع باعتبار معنى {من}، والجملة: معطوفة على جملة {سقوا}. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}. {وَمِنْهُمْ} {الواو}: استئنافية. {منهم}: خبر مقدم. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان جانب آخر من استهزاءهم وتعنّتهم. {يَسْتَمِعُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. وأفرد الضمير نظرًا للفظ {مَنْ}، والجملة: صلة الموصول. {إِلَيْكَ}: متعلق بـ {يَسْتَمِعُ}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {خَرَجُوا}: فعل وفاعل. {مِنْ عِندِكَ}: متعلق بـ {خَرَجُوا} والجملة: في محل

الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي، وجمع الضمير هنا وفيما بعد نظرًا لمعنى {مِنْ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {قالوا}، وجملة {إذا} من فعل شرطها، وجوابها: في محل الجر بـ {حَتَّى}، والجار والمجرور: متعلق بـ {يَسْتَمِعُ}، والتقدير: ومنهم من يستمع إليك إلى وقت خروجهم من عندك. {أوتوا}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل. {الْعِلْمَ}: مفعول ثان لـ {أوتوا}، والجملة: صلة الموصول. {مَاذَا} {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {ذا}: اسم موصول بمعنى الذي، في محل الرفع خبر. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يعود على محمد. {آنِفًا}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {قَالَ}. وجملة {قَالَ}: صلة لـ {من} الموصولة، والجملة الاسمية، في محل النصب مقول {قَالُوا} {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {طَبَعَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: متعلق به، والجملة: صلة الموصول. {وَاتَّبَعُوا} فعل وفاعل معطوف على {طَبَعَ}، {أَهْوَاءَهُمْ}: مفعول به. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {لله}: مبتدأ {اهْتَدَوْا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {زَادَهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الله} ومفعول أول. {هُدًى}: مفعول ثان، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. {وَآتَاهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الله} ومفعول أول. {تَقْوَاهُمْ}: مفعول ثان، والجملة: معطوفة على جملة {زَادَهُمْ}. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}. {فَهَلْ} {الفاء}: استئنافية. {هل}: حرف استفهام. {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {إِلَّا}: أداة حصر. {السَّاعَةَ}: مفعول به. {أن}: حرف نصب. {تَأْتِيَهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على {السَّاعَةَ} {بَغْتَةً}: حال من فاعل {تَأْتِيَهُمْ}؛ أي: باغتة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة:

في تأويل مصدر منصوب على كونه بدل اشتمال من {السَّاعَةَ} تقديره: فهل ينظرون إلا الساعة إتيانها باغتةً. {فَقَدْ} {الفاء}: تعليلية، لإتيان الساعة مفاجأة. {قد}: حرف تحقيق. {جَاءَ أَشْرَاطُهَا}: فعل وفاعل، والجملة: مسوقة لتعليل إتيان الساعة بغتة، لا محل لها من الإعراب. {فَأَنَّى} {الفاء}: عاطفة. {أنّى}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم. {لهُم}: متعلق بما تعلق به {أنّى}. {ذِكْرَاهُمْ}: مبتدأ مؤخر؛ أي: فالتذكر والاتعاظ كائن من أين لهم، والجملة: معطوفة على جملة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {جَاءَتْهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {السَّاعَةَ}. والجملة: في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجواب {إذا}: محذوف، تقديره: إذا جاءتهم الساعة بغتة .. فكيف يتذكّرون. وجملة {إِذَا} معترضة: لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المبتدأ والخبر. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}. {فَاعْلَمْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمت سعادة المؤمنين، وشقاوة الكافرين، وأردت بيان ما هو اللازم لك. فأقول لك: {اعلم}. {اعلم}: فعل أمر وفاعل مستر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {أَنَّهُ} {أن}: حرف نصب ومصدر، و {الهاء}: ضمير الشأن في محل النصب اسمها، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}. في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أنّ} مع مدخولها: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي علم؛ أي: فاعلم عدم وجود إله إلا الله. {اسْتَغْفِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {اعلم} {لِذَنْبِكَ}: متعلق بـ {اسْتَغْفِر}، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} معطوف على {لِذَنْبِك}، {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {لِلْمُؤْمِنِينَ}، {وَاللَّهُ} {الواو}: استئنافية، {الله}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية: مستأنفة. {مُتَقَلَّبَكُمْ}: مفعول

به. {وَمَثْوَاكُمْ}: معطوف عليه. التصريف ومفردات اللغة {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: صرفوا الناس عن الدخول في الإِسلام، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه، فهو من صدّ صدودًا: إذا أعرض بنفسه، فيكون كالتأكيد والتفسير لما قبله، أو من صدَّه صدًّا: إذا منعه عن الشيء، فهو تأسيس لا تأكيد، وأصله: صددوا، أدغمت الدال في الدال. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: أبطلها وأحبطها، وأصله: أضلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في الثانية. {بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} وهو: اسم عربي، وهو مفعل من الحمد، والتكرير فيه: للتكثير، كما تقول: كرّمته فهو مكرّم، وعظّمته فهو معظّم، إذا فعلت ذلك مرةً بعد مرةً، وهو منقول من الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده، وكان - صلى الله عليه وسلم - كذلك. وقد روى بعض نقلة العلم فيما حكاه ابن دريد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ولد .. أمر عبد المطلب بجزور فنحرت، ودعا رجال قريش وكانت سنّتهم في المولود إذا ولد في استقبال الليل .. كفئوا عليه قدرًا حتى يصبح، ففعلوا ذلك بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأصبحوا وقد انشقت عنه القدر، وهو شاخص إلى السماء، فلما حضرت رجال قريش وطعموا .. قالوا لعبد المطلب: ما سميت ابنك هذا؟ قال: سميته محمدًا، قالوا: ما هذا من أسماء آبائك، قال: أردت أن يحمد في السموات والأرض، يقال: رجل محمود ومحمد، فمحمود لا يدل على الكثرة، ومحمد يدل على ذلك، والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر: فَلَسْتَ بمَحْمُودٍ وَلَا بِمُحَمَّدٍ ... وَلَكِنَّمَا أَنْتَ الْحَبَطُ الْحَبَاتِرُ وقد سمت العرب في الجاهلية رجالًا من أبنائها بذلك، منهم: محمد بن حمران الجعفي الشاعر، وكان في عصر امرىء القيس، وسمّاه: شُوْيْعرا، ومحمد بن خولي الهمدانيّ، ومحمد بن بلال بن أحيحه، وكان زوج سلمى بنت

عمرو جدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم جدّه، ومحمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو محمد بن أوس بن زيد، شهد بدرًا. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}؛ أي: حالهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق، قال الراغب في "المفردات": البال: الحال التي يكترث لها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا؛ أي: ما اكترثت، ويعبر عن البال بالحال الذي ينطوي عليه الإنسان، ويقال: ما خطر كذا ببالي. انتهى. والبال: القلب، يقال: ما خطر الأمر ببالي، والحال؛ والعيش. يقال: فلان رخي البال والخاطر، يقال: فلان كاسف البال، وما يهتم به يقال: ليس هذا من بالي؛ أي: مما أباليه، وأمر ذو بال؛ أي: يهتم به، وما بالك، أي: ما شأنك. قال الجوهري: والبال أيضًا: رفاء العيش، يقال: فلان رخي البال؛ أي: رخي العيش، وعبارة أبي حيان: البال: الفكر، تقول: خطر في بالي كذا. ولا يثنى ولا يجمع، وشذ قولهم: بالات في جمعه، وعبارة "القاموس": والبال: الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم، والبالة بهاء: القارورة، والجراب، ووعاء الطيب. {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال الراغب: اللقاء: يقال: في الإدراك بالحس؛ أي: بالبصر والبصيرة. {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ}؛ أي: أكثرتم فيهم القتل، قال في "الكشاف"؛ الإثخان: كثرة القتل، والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات: إذا أثبتته، حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض إذا أثقله، من الثخانة التي هي: الغلظ والكثافة، وفي "المفردات": يقال: ثخن الشيء فهو ثخين: إذا غلظ ولم يستر في ذهابه، ومنه استعير قولهم: أثخنسه ضربًا واستخفافًا. {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} الوثاق بالفتح والكسر: اسم لما يوثق به، ويشد من القيد والحبل ونحوه، والجمع: وثق كرباط وربط، وعناق وعنق، اهـ من "المصباح". قال في "الوسيط": الوثاق: اسم من الإيثاق، يقال: أوثقه إيثاقًا ووثاقًا: إذا شدّ أسيره كيلا يفلست، وفي "القاموس": الأسير: الأخيذ والمقيَّد والمسجون، الجمع: أسرى أسارى بالضم، وأسارى بالفتح اهـ. وفي "المختار": وأسرت

قتب البعير: شددته بالإسار بوزن الإزار، ومنه سمي الأسير، كانوا يشدونه بالقد، فسمي كل أخيذ أسيرًا، وإن لم يشد به، وأسره من باب ضرب أسرًا وإسارًا أيضًا بالكسر، فهو أسير ومأسور. اهـ. وفيه أيضًا: والقد بالكسر: سير يقد من جلدٍ غير مدبوغ. اهـ. {فَإِمَّا مَنًّا} المنّ هنا: أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا. {فَإِمَّا مَنًّا} وهو: أن يترك الأمير الأسير الكافر، ويأخذ منه مالًا أو أسيرًا مسلمًا في مقابلته، يقال: فداه يفديه فدى وفداءً، وفداه وافتداه وفاداه: أعطي شيئًا فأنقذه، والفداء ذلك المعطي ويقصر، كما في "القاموس"، وقال الراغب: الفدى والفداء: حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه، كما يقال: فديته بمالي، وفديته بنفسي، وفاديته بكذا. انتهى. وفي إعلال بالإبدال، أصله: فداي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} {تَضَعَ}: فعل مثالي حذفت فاؤه في المضارع، و {أَوْزَارَهَا}: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح والكراع، قال الأعشى: وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا وَمِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ مَوْضُوْنَةٌ .... تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيْرًا فَعِيْرًا وعبارة "الكشاف": وسميت أوزارها؛ لأنها لمَّا لم يكن لها بد من جرها فكأنها تحملها، وتستقل بها، فإذا انقضت. فكأنها وضعتها، وقيل: أوزارها، آثامها؛ يعني: حتى يترك أهل الحرب - وهم: المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أصله: يضلل، بوزن يفعل نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية. {عَرَّفَهَا لَهُمْ} وفي "المفردات": عرَّفه جعل له عرفًا؛ أي: رائحة طيّبةً، مأخوذ من العرف: وهو الرائحة الطيبة، وطعام معرّف؛ أي: مطيَّب، تقول

العرب: عرّفت القدر: إذا طيبتها بالملح، والأبازير، وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع، كعرف الفرس؛ أي: وفَّقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة، وقيل: عرَّف أهل السماء أنها لهم، وقيل: فيه حذف؛ أي: عرّف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف، أو حدَّدها لهم بحيث يكون لكل واحد جنة مفرزة. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}؛ أي: يوفقكم للدوام على طاعته. {فَتَعْسًا لَهُمْ} وفي "المختار": التعس: الهلاك، وأصله: الكب، وهو ضد الانتعاش، وقد تعس من باب قطع، وأتعسه الله، ويقال: تعسًا لفلان؛ أي: ألزمه الله هلاكًا. اهـ. وفي "المصباح": وتعس تعسًا من باب تعب لغة، فهو تعس، مثل: تعب، ويتعدَّوا بالحركة وبالهمزة، فيقال: تعسه الله بالفتح، وأتعسه، وفي الدعاء: "تعسًا له، وتعس وانتكس". فالتعس: أن يخرَّ لوجهه، والنكس: أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانيةً، وهي أشد من الأولى. وفي "القرطبي": وفي التعس عشرة أقوال: الأول: بعدًا لهم. قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني: خزيًا لهم. قاله السدّي. الثالث: شقاءً لهم. قاله ابن زيد. الرابع: شتمًا لهم من الله. قاله الحسن. الخامس: هلاكًا لهم. قاله ثعلب. السادس: خيبةً لهم. قاله الضحاك وابن زياد. السابع: قبحًا لهم. حكاه النقاش. الثامن: رغمًا لهم. قاله الضحاك أيضًا. التاسع: شرًّا لهم. قاله ثعلب أيضًا.

العاشر: شقوة لهم. قاله أبو العالية، وقيل: إنّ التعس: الإنحطاط والعشار. قاله ابن السكيت. انتهى. {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفي "الشهاب": ومعنى {دَمَّرَ اللَّهُ} أهلكه، ودمّر عليه: لك ما يختص به من المال والنفس، والثاني: أبلغ؛ لما فيه من العموم، بجعل مفعوله نسيًا منسيًا، فيتناول نفسه، وكل ما يختص به من المال، ونحوه. والإتيان بعلى؛ لتضمينه معنى أطبق عليهم؛ أي: أوقعه عليهم محيطًا بهم. {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ}: جمع نعم بفتحتين، وهي: الإبل والبقر والضأن والمعز. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: أهوايهم، أبدلت الياء همزة لتطرفها بعد ألفٍ زائدةٍ. {فِيهَا أَنْهَارٌ} جمع نهر بالسكون، ويحرك مجرى الماء الفائض. {غَيْرِ آسِنٍ} من أسن الماء بالفتح، من باب ضرب أو نصر، أو بالكسر من باب طرب لغة فيه: إذا تغير طعمه وريحه ولونه تغيرًا منكرًا. وفي "القاموس": الآسن من الماء: الآجن؛ أي: المتغير الطعم واللون. والمعنى: من ماء غير متغير الطعم والرائحة واللون، وإن طالت إقامته، بخلاف ماء الدنيا، فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه وفي أوانيه. {لَذَّةٍ} واللذَّة: مصدر بمعنى الالتذاذ، ووقعت صفة للخمر، وهو عين لتأويلها بالمشتق؛ أي: لذيذة على حدِّ مررت برجل عدل؛ أي: عادل، وفي "الكرخي": قوله: {لَذَّةٍ} يجوز أن يكون تأنيث لذٍّ، ولذُّ بمعنى لذيذ، ولا تأويل على هذا، ويجوز أن يكون مصدرًا وصف به، ففيه التأويلات المشهورة. اهـ. {مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}؛ أي: لم يخرج من بطون النحل؛ أي: لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل، ولم يصت فيه بعض نحله، كعسل الدنيا. وفي "الصباح": العسل: يذكر ويؤنث، وهو الأكثر، ويصغر على عسيلة على لغة التأنيث، ذهابًا إلى أنها قطعة من الجنس، وطائفة منه. اهـ. وفي "المختار": العسل: يذكر

ويؤنث، يقال: منه عسل الطعام؛ أي: عمله بالعسل، وبابه ضرب ونصر، وزنجبيل معسل؛ أي: معمول بالعسل، والعاسل: الذي يأخذ العسل من بيت النحل، والنحل: عسالة، وأصل {مُصَفًّى}: مصفي، بوزن مفعل اسم مفعول، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل الياء واو؛ لأنه من صفا يصفو. {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} جمع ثمرة؛ وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء: ثمرة، كقولهم: ثمرة العلم العمل الصالح، وثمرة العمل الصالح الجنة. {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} أصله: سقيوا يوزن فعلوا، أستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت القاف لمناسبة الواو. {أَمْعَاءَهُمْ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: أمعاي بالياء، أبدلت الياء همزة لما تطرفت إثر ألف أفعال الزائدة، وهو: جمع معي بالفتح والكسر، وبالقصر وهو: ما في البطون من الحوايا، وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة. {آنِفًا}؛ أي: قبيل هذا الوقت، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدَّم منه، وأصل ذلك: الأنف بمعنى الجارحة، ثم سمي به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، وقرىء: بالمدّ وبالقصر، وهما: لغتان بمعنى واحد، وهما: اسما فاعل كحاذر وحذر، وآسن وأسن، إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مجرد، بل المستعمل ائتنف يأتنف، واستأنف يستأنف، والائتناف والاستئناف: الابتداء، قال الراغب: استأنفت الشيء: أخذت أنفه؛ أي: مبدأه. ومنه. ماذا قال آنفًا. {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يقال: استمع له وإليه: إذا أصفى. {لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أصله: أأتيوا بوزن أفعلوا، أبدلت الهمزة الساكنة واوًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الباء وضمت الياء لمناسبة الواو. {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال الراغب: الطبع: أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة، وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقش، والطابع

والخاتم: ما يطبع به ويختم، والطابع فاعل ذلك. {أَشْرَاطُهَا} الأشراط: جمع شرط: وهو العلامة، وفي "المصباح": وجمع الشرط، شروط، مثل: فلس وفلوس، والشرط بفتحتين: العلامة، والجمع: أشراط، مثل: سبب وأسباب، ومنه أشراط الساعة؛ أي: علاماتها. اهـ. {اهْتَدَوْا} أصله: اهتديوا بوزن افتعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان فحذفت الألف. {زَادَهُمْ} أصله: زيدهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَآتَاهُمْ} أصله: أأتيهم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد من جنس حركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {تَقْوَاهُمْ} أصله: تقويهم؛ قلبت الباء ألفًا لتحركها بعد فتح. وأصل التقوى: وقيا، قلبت الواو تاءً، وقلبت الياء واوًا. {مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} يجوز فيهما أن يكونا مصدرين ميميين من تقلب وثوى، وأن يكونا اسمي مكان أو زمان. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المقابلة بين قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وبين قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} فإنه ذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله؛ تنويهًا بشأن المنزل عليه، كما في عطف جبرائيل على الملائكة، وتنبيهًا على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به، وأنه الأصل في الكل. ومنها: الحصر في قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فإنه حصر الحقية فيه بتعريف طرفي الجملة.

ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فقد شبه أعمالهم بالضالة من الإبل، التي هي بمضيعةٍ لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بها، أو بالماء الذي يضل في اللبن. والمعنى: أنَّ الكفار ضلَّت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي، حتى صار صالحهم مستهلكًا في غمار سيئهم. ومنها: الطباق بين الحق والباطل في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ}، وكذلك بين {الَّذِينَ آمَنُوا} وبين {الَّذِينَ كَفَرُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تضع بمعنى تنتهي وتترك، بطريق الاستعارة التبعية. وفيه أيضًا: الإسناد المجازي؛ أي: حتى يضع أهلها آلاتها، فقد أسند وضع الأوزار إلى الحرب، وإنما هو لأهلها. وفيه أيضًا: الاستعارة المكنية، حيث شبه الحرب بمطايا ذات أوزار؛ أي: أحمال ثقال. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ففيه مجاز مرسل، علاقته ذكر الجزء وإرادة الكل؛ لأن ضرب الرقاب عبارة عن القتل، ولكن لمَّا كان قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته وقع عبارة عن القتل، وقد أوثر المجاز لما فيه من تصوير وتجسيد؛ لأنّ في هذه العبارة كما قال الزمخشري، من الغلظة والشدَّة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو: حز العنق، وإطارة العضو الذي هو أعلى البدن، وأشرف أعضائه. ومنها: الطباق بين: {مَنًّا} و {فِدَاءً}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}؛ لأنه أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: يثبّتكم، وعبّر بالأقدام؛ لأنّ الثبات والتزلزل يظهران فيها. وهو

مثل: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ}؛ أي: دينه ورسوله. ومنها: تكرار قوله: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} بعد قوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} إشعارًا بأن الإحباط يلزم الكفر بالقرآن، ولا ينفك عنه بحال، كما في "الروح". ومنها: التضمين في قوله: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فإنه ضمن {دَمَّرَ} معنى أطبق، فعدَّاه بـ {على}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} تسجيلًا عليهم باسم الكفر؛ لأنَّ مقتضى السياق أن يقال: ولهم أمثالها. ومنها: الاحتباك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} فإنه ذكر الأعمال الصالحة، ودخول الجنة أوّلًا، دليلًا على حذف الأعمال الفاسدة، ودخول النار ثانيًا، وذكر التمتع والمثوى ثانيًا، دليلًا على حذف التمتع والمأوى أولًا. ومنها؛ التشبيه في قوله: {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وجه الشبه: أنّ الأنعام تأكل بلا تمييز من أيّ موضع، كذلك الكافر لا تمييز له أمن الحلال وجد أم من الحرام، وكذلك الأنعام ليس لها وقت، بل في كل وقت تقتات وتأكل، كذلك الكافر أكول، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن كل في معي واحد". ومنها: المجاز المرسل في قوله {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}؛ أي: وكأيّن من أهل قرية من قريتك؛ أي: من أهل قريتك، فإنه أطلق المحل وأراد الحال. ونسبة الإخراج إليها باعتبار التسبب. ومنها: وصف القرية الأولى بشدة القوة، للإيذان بأولوية الثانية منها

بالإهلاك لضعف قوتها، كما أن وصف الثانية بإخراجه - صلى الله عليه وسلم -، للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها. ومنها: التعبير بالمتقين عن المؤمنين في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}؛ أي: المؤمنون إيذانًا بأنّ الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى، الذي هو عبارة عن فعل المأمورات، وترك المنهيات. ومنها: الإطناب في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} أطنب بتكرار لفظ {أَنْهَار} تشويقًا لنعيم الجنة. ومنها: التنوين في قوله: {وَمَغْفِرَةٌ}؛ دلالةً على عظمها. ومنها: التأكيد في قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}؛ لأنّ فيه تأكيدًا لما أفاده التنكير في {مغفرة} مكن الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. ومنها: إعادة صلة الاستغفار، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، في قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ولذنب المومنين إشعارًا بعراقتهم في الذنب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}. المناسبة قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) حال المنافقين والكافرين ¬

_ (¬1) المراغي.

والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث، وغيرها أو الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} .. أردف هذا فذكر حالهم في الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأبان أنَّ المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها، ويرجون نزولها، وإذا تأخرت .. كانوا يقولون: هلا أمرنا بشيء من ذلك؛ لينالوا ما يقربهم من ربهم، ويحصلوا على رضوانه، والزلفى إليه، وأنّ المنافقين كانوا إذا نزل شيء من تلك التكاليف .. شق عليهم، ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفًا وهلعًا. ثم ذكر نتيجة لما سلف، وفذلكة لما تقدم، فأعقب هذا بأنّ الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين، وأعمى أبصارهم، فلا يسيرون على الصراط المستقيم، أما المؤمنون فقد رضي عنهم، وأرضاهم، ونالوا محبته، ودخلوا جنته فضلًا منه ورحمةً، والله ذو الفضل العظيم. قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عز الخير فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا، وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا .. بيَّن أو حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة، ثم ذكر أنهم رجعيًا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زيّن لهم الشيطان ذلك، وخدعهم بباطل الأماني، ثمّ بيّن سبب ارتدادهم وهو قوله لبني قريظة والنضير من اليهود: سنطيعكم في بعض أحوالكم، وهو ما حكي عنهم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} الآية. والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح. ثم أردف هذا بذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهوائهم، وعمل ما يغضب ربهم، ومن ثم أحبط

أعمالهم، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أنَّ الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بلى إنه سيوضح ذلك لذوي البصائر، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانًا، ولكن لم نفعل ذلك سترًا منّا على عبادنا، وحملًا للأمور على ظاهر السلامة، وردًّا للسرائر إلى عالمها، وإنك لتعرفنهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم بمغامز يضعونها أثناء حديثهم، وقد كان يفهمها رسول الله، ويفهم مراميها، فلا تخفى عليه. ثم ذكر أنه يبتلي عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم، فيجازيهم بما قدَّموا. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنّ المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال بين وفاتهم .. أردف ذلك بذكر حال جماعة من أهل الكتاب: وهم بنو قريظة والنضير، كفروا بالله، وصدّوا الناس عن سبيل الله، وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته في التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فهؤلاء لن يضرُّوا الله شيئًا بكفرهم، بل يضرون أنفسهم، وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه. ثم ذكر قصص بني سعد، وقد أسلموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: قد آثرناك، وجئناك بنفوسنا وأهلينا، منًّا بذلك عليه، فنهاهم عن ذلك، وبيَّن لهم أنَّ هذا مما يبطل أعمالهم. ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم، ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط، وأن ذنبهم غير مغفور، وبعدئذٍ أردف هذا بأنّ الله خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفًا أمامهم، فإنَّ الله ناصركم ولن يضيع أعمالكم.

[20]

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا أمر المؤمنين بترك المعاصي، لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد، ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه، ووعدهم بأن الله ناصرهم وهم الأعلون، فلا ينبغي لهم أن يطلبوا المهادنة من العدوّ خورًا وجبنًا خوفًا على الحياة ولذاتها .. أكد هذا المعنى، فأبان أنه لا ينبغي لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا، فإنها ظل زائل، وعرض غير باق، وما هي إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول، وهي مشغلة عن صالح الأعمال، فلا يليق بكم أن تعضوا عليها بالنواجذ، بل اعملوا لما يرضي ربكم يؤتكم أجوركم، وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة دنيوية كانت أو دينية، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم، فلو طلبها .. لبخلتم بها، وظهرت أحقادكم على طالبيها، والله قد طلب إليكم الإنفاق في سبيله، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم، والله غني عن معونتكم، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى .. يأت الله بخلق غيركم يقيمون دينه، وينصرون الدعوة. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (¬1) ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة" عن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فخافوا أن يبطل الذنب العمل. التفسير وأوجه القراءة 20 - {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} اشتياقًا منهم إلى الوحي، وحرصًا على الجهاد، لأن ¬

_ (¬1) لباب النقول.

فيه إحدى الحسنين: إما الجنة والشهادة، وإما الظفر والغنيمة {لَولَا}: تحضيضيّة؛ أي: هلا {نزلت سُورة} نؤمر فيها بالجهاد {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ}؛ أي: غير منسوخة أو مبينة لا تشابه فيها بوجه آخر سوى وجوب القتال، وعن قتادة: كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة؛ لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنَّ القتال نسخ ما كان أو الصفح، والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة وذكر فيها القتال بطريق الأمر به؛ أي: وفرض فيها الجهاد. قرأ الجمهور (¬1): {فَإذَاَ أُنزِلت} و {ذكر} على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير: {نزلت} و {ذكر} على فقال الفعلين للفاعل، ونصب {القتال}؛ أي: ذكر الله القتال، وفي قراءة ابن مسعود: {فإذا أنزلت سورة محدثة}؛ أي: محدثة النزول. {رأيت} يا محمد {اَلَذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} في الإيمان أو نفاق، وهو الأظهر، فيكون المراد: الإيمان الظاهري الزعمي، والكلام من إقامة المظهر مقام المضمر؛ أي: رأيت المنافقين {يَنظُرُونَ إليكَ} جبنًا وهلعًا {نَظَرَ اَلمَغثِشي عليهِ}؛ أي: (¬2) نظرًا كنظر من أصابته الغشية والسكرة {مِنَ} أجل حلول {الْمَوْتِ}؛ أي: ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الميت لجبنهم عن القتال، وميلهم إلى الكفار، قال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون إليك نظرًا شديدًا، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت. أي: تشخص أبصارهم جبنًا وهلعًا، كدأب من أصابته غشية الميت؛ أي: حيرته وسكرته إذا نزل به، وعاين الملائكة، والغشي: تعطل القوى المتحركة والحساسة لضعف القلب، واجتماع الروح إليه بسبب يُحقِّقه في داخل، فلا يجد منقذًا. ومن أسباب ذلك: امتلاء خانق، أو مؤذ بارد، أو جوع شديد، أو وجع شديد، أو آفة في عضو مشارك كالقلب والمعدة، كذا في "المغرب". وفي الآية إشارة إلى أنّ من أمارات الإيمان: تمني الجهاد والميت شوقًا إلى لقاء الله، ومن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[21]

أمارات الكفر والنفاق: كراهة الجهاد كراهية الميت. ومعنى الآية (¬1): أي أنّ المؤمنين المخلصين في إيمانهم يشتاقون للوحي ونزول آيات الجهاد حرصًا على ثوابه، ويقولون: هلّا أنزلت سورة تأمرنا به، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة في الأمر به .. فرحوا بها، وشقّ ذلك على المنافقين، وشخصت أبصارهم هلعًا وجبنًا من لقاء العدوّ، ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره حين الموت. ونحو الآية قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)}. ثم هددهم وتوعّدهم، فقال: {فأولى لهم}؛ أي: فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد، والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكًا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قوله في الدعاء: بعدًا له وسحقًا، قال الأصمعي: معنى قوله في التهديد أولى لك؛ أي: وليك الهلاك وقاربك ما تكره، وأنشد قول الشاعر: فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيْدَ عَلَى الثَّلَاثِ أي: قارب أن يزيد. 21 - وقوله: {طَاعَةٌ وَقول معْرُوف}: كلام مستقل (¬2) مستأنف، محذوف منه أحد الجزئين: إما المبتدأ؛ أي: أمرهم أو أمرنا أو الأمر المرضي لله طاعة لله ولرسوله، وقول معروف بالإجابة إلى ما أمروا به من الجهاد أو الخير؛ أي: طاعة مخلصة، وقول معروف خير لهم، وقيل: هو حكاية لقولهم؛ أي: قالوا: طاعة ... إلخ. ويشد له قراءة أبيّ: {يقولون طاعة وقول معروف}؛ أي: أمرنا ذلك كما قال في النساء: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[22]

عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُول}. وقيل (¬1): هو متصل بما قبله، و {اللام} في {لَهُمْ}: بمعنى الباء مجازةً، فأولى بهم طاعة الله وطاعة رسوله، وقول معروف بالإجابة. والمعنى: لو أطاعوا وأجابوا .. لكانت الطاعة والإجابة أولى بهم، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء عنه. ومعنى الآية على القول الأول: طاعة الله ورسوله، وقول معروف أمثل لهم، وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدوّ، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل، وظلّ زائل، والآخرة خير لمن اتقى. {فَإِذَا عَزَمَ}؛ أي: حتم وفرض ووجب {الْأَمْرُ}؛ أي: الجهاد، ووجد القتال ولزمهم، وجواب الشرط: محذوف، تقديره: خالفوا وتخلفوا؛ أي: فإذا عزم الأمر ... خالف المنافقون، وكذبوا فيما وعدوا به، وقيل: الجواب قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} كما في "البيضاوي"؛ أي: فلو صدقوا فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص على الجهاد بالجري على موجبه، أو صدقوا في إظهار الإيمان والطاعة {لَكَانَ} الصدق {خَيْرًا لَهُمْ} أو الكذب والنفاق، والقعود عن الجهاد، وفي الآية دلالة على اشتراك الكل فيما حكي من قوله تعالى: {لَولَا نُزِّلَت سُورة}. فالمراد بهم: الذين في قلوبهم مرض. والمعنى (¬2): فإذا حضر القتال .. كرهوه وتخلّفوا عنه خوفًا وفرقًا، ولو صدقوا في إيمانهم، واتباعهم للرسول، وأخلصوا النيّة في القتال .. لكان خيرًا لهم عند ربهم، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده، ويعطيهم ما تقرُّ به أعينهم، ويدخلهم جنات النعيم. 22 - ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب، فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} وترجيتم؛ أي: هل يتوقع منكم يا من في قلوبهم مرض {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

وتأمرتم عليهم، وجعلتم حكامًا {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالتغاور والتناهب والتقاتل والتفارق وأخذ الرشا {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} بمقاتلة بعض الأرحام بعضًا، ووأد البنات، قال الكلبي؛ أي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم، وتقطعوا أرحامكم، وخبر {عسى} {أَنْ تُفْسِدُوا}. والشرط اعتراض بين الاسم والخبر، وهذا على لغة الحجاز، فإنَّ بني تميم لا يلحقون الضمير به. والمعنى (¬1): أنهم لضعفهم في الدين، وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منه أو عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم. وقيل المعنى (¬2): {فَهَلْ عَسَيْتُمْ}؛ أي: فعلكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}؛ يعني: أعرضتم عن سماع القرآن، وفارقتم أحكامه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ يعني: تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية أو الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم، وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإِسلام، وتقطّعوا أرحامكم. وقال أبو حيان: الأظهر: أن المعنى: من أعرضتم أيّها المنافقون عن امتثال أمر الله في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإِسلام على أعدائهم، تقطعوا أرحامكم؛ لأنّ من أرحامكم كثيرًا من المسلمين، فإذا لم تعينوهم .. قطعتم أرحامكم. انتهى. والخلاصة: أنه لا عجيب بعد أن صدر منكم ما صدر، أو كراهة الدفاع عن حوزة الإِسلام أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم. وقرأ الجمهور (¬3): {توليتم} مبنيًا للفاعل، وقرأ عليُّ بن أبي طالب: بضم التاء والواو، وكسر اللام مبنيًا للمفعول، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني والبحر المحيط.

[23]

يعقوب، ومعناها: فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرون أن تخرجوا عليهم في الفتنة، وتحاربوهم، وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل، وقرأ الجمهور: {وَتُقَطِّعُوا} بالتشديد على التكثير، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه، وسلام وعيسى ويعقوب وأبان وعصمة: بالتخفيف من القطع، مضارع قطع الثلاثي، وقرأ الحسن: {وَتَقَطَعوا} بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر؛ أي: بأرحامكم؛ لأنّ تقطع لازم، يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت بالفتح والكسر لغتان. ذكره الجوهري وغيره. 23 - وبعد أن ذكر هناتهم، بيّن سببها، فقال: {أُولَئِكَ} إشارة (¬1) إلى المخاطبين بطريق الالتفات، إيذانًا بأنّ ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ، خبره: قوله تعالى: هم {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} سبحانه؛ أي: أبعدهم، وطردهم عن رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الحق، لتصامهم عنه بسوء اختيارهم {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} لتعاميهم عمّا يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، قيل (¬2): لم يقل: أصم آذانهم؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الآذان ذهاب السماع، فلم يتعرض لها، ولم يقل: أعماهم؛ لأنه يلزم من ذهاب الأبصار - وهي الأعين - ذهاب الإبصار؛ لأن العين لها مدخل في الرؤية بخلاف الأذن، فلا مدخل لها في السمع. قال سعدي المفتي: إصمام الآذان غير إذهابها، ولا يلزم من أحدهما الآخر، والصمم والعمى يوصف بكل منهما الجارحة، وكذلك مقابلهما من السماع والإبصار، ويوصف به صاحبهما في العرف المستمر، وقد ورد التنزيل على الاستعمالين، اختصر في الإصمام، وأطنب في الإعماء مع مراعاة الفواصل. والمعنى (¬3): أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[24]

بما سمعوا، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما شاهدوا من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم. قامت الرحم، فأخذت بِحِقْوِ الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك" ثمّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ ...} " الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وقد وردت أحاديث كثيرة في صلة الرحم، كما مرّ بعضها في أول سورة النساء، فلا نطيل الكلام بذكرها هنا. 24 - و {الهمزة} في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألا يلاحظ هؤلاء المنافقون هذا القرآن فلا يتدبرونه، ولا يتصفحون ما فيه من المواعظ الزاجرة، والحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة، التي تكفي من له فهم وعقل، وتزجره عن الكفر بالله، حتى لا يقعوا في المعاصي الموبقة {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} لهم {أَقْفَالُهَا} وأغلاقها، فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلًا. والمعنى: أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأنَّ الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بالقلوب: قلوب هؤلاء المخاطبين، والأقفال: جمع قفل بالضم: وهو الحديد الذي يغلق به الباب. كما في "القاموس". قال في "الإرشاد" (¬1): {أَمْ}: منقطعة، وما فيها من معنى بل، للانتقال من التوبيخ بعدم التدبّر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبّر، والتفكر، وما فيها من معنى الهمزة للتقرير، وتنكير القلوب: إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها بإبهام أمرها في الفساد والجهالة، كأنه قيل: أم على قلوب منكرة لا يعرف ¬

_ (¬1) روح البيان.

حالها، ولا يقادر قدرها في القسوة، وإما لأنّ المراد: قلوب بعض منهم: وهم المنافقون، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقوال مخصوصة بها مناسبة غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة التي من الحديد، إذ هي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح، انتهى. فإن قيل: قد أخبر تعالى: بأنه أصمهم وأعمى أبصارهم، فكيف يوبخهم على ترك التدبر؟ كقولك للأعمى: أبصر، وللأصمّ: اسمع؟ أجيب عنه: بأن التكليف بما لا يطاق جائز، وقد أمر الله من علم أنه لا يؤمن بالإيمان، فلذلك وبخهم على ترك التدبّر، مع كونه أصمهم وأعمى أبصارهم. كذا في "الفتوحات". وفي "التأويلات النجمية": أفلا يتدبّرون القرآن، فإنّ فيه شفاء من كل داء، ليفضي بهم إلى حسن العرفان، ويخلصهم من سجن الهجران. {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أم قفل الحق على قلوب أهل الهوى، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، ولا يحصل لهم فهم الخطاب، وإذا كان الباب متقفلًا .. فلا الشك والإنكار الذي فيها يخرج، ولا الصدق واليقين الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم. انتهى. قرأ الجمهور: {أَقْفَالُهَا} بالجمع، وقرىء: {إقفالها} بكسر الهمزة على أنه مصدر، كالإقبال، وقرىء: {أقفلها} بالجمع على أفعل. ومجمل معنى الآية (¬1): أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها في آي كتابه، ويتفكرون في حججه التي بينها في تنزيله، فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل على قلوبهم، فلا يعقلون ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ. والخلاصة: أنهم بين أمرين، كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبّرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

25 - ولما أخبر بإقفال قلوبهم .. بين منشأ ذلك، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا} ورجعوا {عَلَى أَدْبَارِهِمْ} وأعقابهم؛ أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وهم المنافقون الموصوفون بمرض القلوب، وغيره من قبائح الأفعال والأحوال، فإنهم كفروا به - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بالدلائل الظاهرة، والمعجزات القاهرة {الشَّيْطَانُ} لعنة الله عليه {سَوَّلَ} وزيَّن {لَهُمْ} ما هم عليه أو الشرك والمعاصي، جملة {مِن} مبتدأ وخبر وقعت خبرًا لـ {إِنَّ}؛ أي: سهل لهم ركوب العظائم، وحسنها لهم، وصورها لهم بصورة الحسن، من التسويل، وهو: تزيين النفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن. وقرأ زيد بن علي {سَوَّلَ لَهُمْ}؛ أي: كيده على تقدير حذف مضاف من السول، وهو: استرخاء البطن. قال قتادة (¬1): هم: كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما عرفوا نعته عندهم، وبه قال ابن جرير، وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال، وهذا أولى؛ لأنّ السياق في المنافقين. {وَأَمْلَى لَهُمْ} الشيطان؛ أي: مدَّ لهم في الآمال والأماني، ووعدهم طول العمر، وقيل: إن الذي أملى لهم هو الله سبحانه، والمعنى: أمهلهم الله، ولم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور (¬2): {وَأَمْلَى لَهُمْ} مبنيًا للفاعل، وقرأ أبي عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، وأبو جعفر وشيبة والجحدري وابن سيرين: {وأُملي لهم} مبنيًا للمفعول؛ أي: أمهلوا ومدوا في عمرهم، قيل: وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان، كالقراءة الأولى، وقد اختار القول بأنّ الفاعل هو الله، الفراء، والمفضل، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريبًا، وقرأ مجاهد (¬3) وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب: {وأملي} بهمزة المتكلم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[26]

مضارع أملي؛ أي: وأنا أنظرهم، كقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ}. ويجوز أن يكون ماضيًا سكنت منه الياء، كما تقول في يعي: بسكون الياء. والمعنى (¬1): أي إنَّ الذين رجعوا القهقرى على أعاقبهم كفّارًا من بعد ما تبيَّن لهم الهدى، وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادًا لأمر الله، الشيطان زيَّن لهم ذلك، وخدعهم بالآمال، وحسن لهم ما في الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى بين، ثم يعودون كما كانوا كافرين إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العد. 26 - ثم ذكر كيف إنهم ضلوا، فقال: {ذَلِكَ} الارتداد كائن {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنّ المنافقين المذكورين {قَالُوا} سرًّا {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ}؛ أي: قالوا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع علمهم بأنه من عند الله، حسدًا وطمعًا في نزوله عليهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} وذلك البعض: هو عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومخالفة ما جاء به، كما أفاده قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)}. وهم: بنو قريظة والنضير، الذين كانوا يوالونهم ويودونهم، وأرادوا بالبعض الذي أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم، وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم في إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية. والمعنى (¬2): أي سنطيعكم في بعض أموركم، أو في بعض ما تأمروننا به، كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، والتظافر على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي: إخفاءهم لما يقولون لليهود. قرأ الجمهور (¬3) ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي. (¬3) البحر المحيط.

[27]

{أسرارهم} بفتح الهمزة، جمع سر، واختار هذه القراءة أبي عبيد وأبو حاتم، وقرأ الكوفيون وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش: بكسر الهمزة على المصدر، 27 - و {الفاء} في قوله: {فَكَيْفَ}: عاطفة على محذوف، و {كَيْفَ} مفعول لفعل محذوف، والظرف في قوله: {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: متعلق بذلك الفعل المحذوف، والتقدير: هم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيلة، فكيف يفعلون إذا قبض أرواحهم ملك الميت وأعوانه؟ حال كون الملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}؛ أي: ظهورهم وخلفهم بمقامع الحديد، والجملة: حال أو فاعل {تَوَفَّتْهُمُ}. وهو تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب، فسيكون حالهم هذا. وفي الكلام تخويف وتهديد، وقيل: ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: ذلك يوم القيامة، والأول أولى، وقرأ الجمهور (¬1): {تَوَفَّتْهُمُ} بالتاء، وقرأ الأعمش: {توفَّاهم}، بألف بدل التاء، فاحتمل أن يكون ماضيًا ومضارعًا حذفت منه التاء. والمعنى: أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها؟ وقد مثل ذلك بحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال لأجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ في يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفر، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟. 28 - ثم بين سبب التوفي على تلك الحال الشنيعة، فقال: {ذَلِكَ} التوفّي الهائل مع الضرب {بِأَنَّهُمُ}؛ أي: بسبب أنهم {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} من الكفر والمعاصي {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ}؛ أي: ما يرضاه من الإيمان والطاعة، حيث كفروا بعد الإيمان، وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[29]

{فَأَحْبَطَ} لأجل ذلك {أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات، أو بعد ذلك من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها، فالكفر والمعاصي سبب لإحباط الأعمال، وباعث على العذاب والنكال. والمعنى: أي ذلك الهول الذي يرونه، من أجل أنهم انهمكوا في المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضي الله من الإيمان به، والعمل على طاعته، والإخلاص له في السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير، وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك؛ إذ هم فعلوه وهم مشركون، فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس. 29 - ثم بالغ في توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم، فقال: {أَمْ حَسِبَ} {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أظن {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}؛ أي: نفاقٌ؛ لأنّ النفاق مرض قلبي، كالشك ونحوه؛ أي: بل أحسب المنافقون {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ} سبحانه؛ أي: أنه لن يظهر الله {أَضْغانَهُمْ}؛ أي: أحقادهم وبغضهم وحسدهم للمؤمنين، والأضغان: جمع ضغن بالكسر، وهو: الحقد، والحقد: إمساك العداوة في القلب، والتربص لفرصتها؛ أي: (¬1) بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين، أن لن يخرج الله أحقادهم، ولن يبرزها لرسول الله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورةً؛ أي: إن ذلك مما يكاد يدخل تحت الاحتمال، وفي بعض الآثار: "لا يموت ذو زيغ في الدين حتى يفتضح" وذلك لأنه كحامل الثوم، فلا بد من أن تظهر رائحته، كما أنَّ الثابت في طريق السنة كحامل امسك، إذ لا يقر على إمساك رائحته 30 - {وَلَوْ نَشَاءُ} إراءتهم إيّاك {لَأَرَيْنَاكَهُمْ}؛ أي: لأعلمناكهم وعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية، تقبل العرب: سأريك ما أصنع؛ أي: سأعلمك {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}؛ أي: بعلامتهم الخاصّة بهم، التي يتميَّزون بها، ونسمهم بها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية شيء من المنانقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنّا في بعض الغزوات، وفيها تسعة من المنافقين، والناس يشكون منهم، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى وجه كل منهم مكتوب هذا منافق. وفي "عين المعاني": وعلى جبهة كل واحد مكتوب كهيئة الوشم "هذا منافق". و {الفاء} (¬1): لترتيب المعرفة على الإراءة، وما بعدها معطوف على جواب {لو} و {اللام}: لام الجواب، وكرّرت في المعطوف للتأكيد، وأمّا {اللام} في قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}: فهي لام جواب قسم محذوف، و {لَحْنِ الْقَوْلِ} معناه: فحواه ومقصده ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين واستهزائه، وكان - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه، قال أبو زيد: لحنت له اللحن: إذا قلت له قولًا يفقهه عنك، ويخفى على غيره، ومنه قول الشاعر: مَنْطِقٌ صَائبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نَا فخَيْرُ الأْحَاديْثِ مَا كَانَ لَحْنَا أي: أحسنها ما كان تعريضًا يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه، وإياه قصد بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وأصل اللحن: إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض. أي: والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول، فيفهمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يفهمه غيره، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم، وفي المنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم. ومعنى الآية: أي (¬2) ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانًا بعلامات هي غالبة عليهم، ولكنّه لم يفعل ذلك في جميع المنافقين للستر على خلقه، وردًا للسرائر إلى عالمها، وحرصًا على أن لا يؤذى ذوي قرباهم من المخلصين {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}؛ أي: ولتعرفنهم فيما يدارونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل في مدح محبوبته، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[31]

منْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نَا وَخَيْرُ الأَحَادِيْثِ مَا كَانَ لَحْنَا يريد: أنها تتكلم بشيء وتريد غيره، وتعرض في حديثها، فتزيله عن جهته لفطنتها وذكائها، وقد كانوا يخاطبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ ظاهرها الحسن، وهم يعنون بها: القبيح، قال الكلبيّ: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - منافق إلا عرفه، وقال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إيّاه، وفي الحديث: "ما أسرَّ أحد سريرةً إلا كساه الله جلبابها، إن خيرًا .. فخير، وإن شرًا .. فشر". وروي: أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وقد ثبت في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة بن عامر، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إنّ فيكم منافقين، فمن سميت .. فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، ثم يا فلان" حتى سمى ستة وثلاثين رجلًا، ثمّ قال: "إنّ فيكم منافقين، فاتقوا الله". قال: فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمي مقنع قد كان يعرفه، فقال: مالك، فحدثه بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بعدًا لك سائر الدهر. ثم وعد سبحانه وأوعد وبشّر وأنذر، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ونياتكم، فيجازيكم بحسب قصدكم وعملكم على ما قدّمتم أو خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل منكم عدلًا منه ورحمةً، وهذا وعد منه للمؤمنين، ووعيد للمنافقين، وإيذان بأنَّ حالهم بخلاف حال المنافقين 31 - {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}؛ أي: وعزّتي وجلالي، لنبلونكم بالأمر بالقتال ونحوه من التكاليف الشاقة؛ إعلامًا لا استعلامًا، أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العذاب، فإنّ الله تعالى عالم بجميع الأشياء {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} على مشاقّ الجهاد علمًا فعليًّا يتعلّق به الجزاء؛ أي: حتى (¬1) نعلم كائنًا ما علمناه أزلًا أنه سيكون ¬

_ (¬1) النسفي.

{وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}؛ أي: تظهر أعمالكم، والأخبار: بمعنى المخبر بها؛ أي: ما يخبر به من أعمالكم، فيظهر حسنها وقبحها؛ لأنّ الخبر على حسب المخبر عنه، إن حسنًا فحسن، وإن قبيحًا فقبيح؛ يعني: (¬1) أنا نأمركم بالجهاد، حتى يظهر المجاهد، ويتبين من يبادر منكم ويصبر عليه من غيره؛ لأنّ المراد من قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ}؛ أي: على الوجود والظهور، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}؛ أي: نظهرها ونكشفها، ليتبين للناس من يأبى القتال، ولا يصبر على الجهاد، ومن يمتثل أمره ويصبر عليه. وقيل المعنى (¬2): {حَتَّى نَعْلَمَ}؛ أي: حتى نميّز المجاهدين في سبيل الله منكم يا معشر المنافقين والصابرين؛ أي: ونميّز الصابرين في الحرب منكم، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}؛ أي: تظهر أسراركم وبغضكم وعداوتكم، ومخالفتكم لله ولرسوله. وقرأ الجمهور الأفعال الثلاثة (¬3) بالنون، وقرأ أبي بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلّها، وقرأ الجمهور: {وَنَبْلُوَ}، بنصب الواو عطفًا على قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ}. وروى ورش عن يعقوب: إسكانها على القطع عمّا قبله. والمعنى: أي ولنختبرنّكم بالأمر بالجهاد، وسائر التكاليف الشاقّة، حتى يتبيّن المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشكّ والحيرة فيه والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم، فنعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب، قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية .. بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا .. فضحتنا، وهتكت أستارنا. وفيه إشارة إلى أنه بنار البلاء يخلص إبريز الولاء، قيل: البلاء للولاء كاللهب للذهب، فإنَّ بالبلاء والامتحان. تبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) تنوير المقابص. (¬3) الشوكاني.

[32]

ويفتضح المنافق، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، والله تعالى عالم بخصائص جواهر الإنسان من الأزل إلى الأبد؛ لأنه خلقها على أوصافها من السعادة والشقاوة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}. 32 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله {وَصَدُّوا}؛ أي: منعوا الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن دين الإِسلام الموصل إلى رضا الله تعالى {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: خالفوه وعادوه، وصاروا في شقّ في غير شقّه، المخالفة: أصل كل شرّ إلى يوم القيامة {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بما شاهدوا من نعته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، وبما ظهر على يديه من المعجزات، ونزل عليه من الآيات، وهم قريظة والنضير، أو المطعمون يوم بدر وهم رؤساء قريش، وقيل: المنافقون {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} بكفرهم وصدّهم {شَيْئًا} من الأشياء، أو لن يضرّوا الله شيئًا، من الضرر، أو لن يضرّوا رسول الله بمشاقّته شيئًا، وقد حذف المضاف؛ لتعظيمه وتفظيع مشاقّته {وَسَيُحْبِطُ} {السين}: لمجرد التأكيد {أَعْمَالَهُمْ}؛ أي: مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى، ومشاقّة رسوله، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل، ولا يتم لهم إلا القتل، كما لقريظة وأكثر المطعمين ببدر، والجلاء عن أوطانهم كما للنضير. وقيل: المراد بأعمالهم: ما صورته صورة أعمال الخير، كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأنّ الكفر مانع. والمعنى (¬1): أي إنّ الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول، وحاربوه، وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلّة الواضحة، والبراهين الساطعة، أنه مرسل من عند ربّه، لن يضرّوا الله شيئًا؛ لأنّ الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه ومشاقّة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما ¬

_ (¬1) المراغي.

[33]

كانوا يبغون له من الغوائل، وستكون ثمرتها: إما قتلهم، أو جلاءهم عن أوطانهم. والمراد بصدّ الناس عن سبيل الله: منعهم إياهم عن الإِسلام بشتّى الوسائل، وعن متابعة الرسول والانضواء تحت لوائه. 33 - ثمّ أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد وبالقرآن {أَطِيعُوا اللَّهَ} فيما أمركم به من الفرائض والصدقة {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيما أمركم أو الجهاد والسنة، ولا تشاقّوا الله والوسول في شيء منها {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} بمثل ما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والرياء والسمعة والعجب والمن والأذى وغيرها. والظاهر: النهي عن كل سبب أو الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال، كائنًا ما كان من غير تخصيص بنوع معيّن. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أنّ كل عمل وطاعة لم يكن بأمر الله وسنة رسوله، فهو باطل لم يكن له ثمرة؛ لأنّه صدر عن الطبع، والطبع ظلمانيّ، وإنما جاء الشرع وهو نورانيّ ليزيل ظلمة الطبع بنور الشرع فيكون مثمرًا، وثمرته أو يخرجكم من الظلمات إلى النور؛ أي: من ظلمات الطبع إلى نور الحق، فعليك بالإطاعة واستعمال الشريعة، وإيّاك والمخالفة والإهمال. وعن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضرّ مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولًا، حتى نزلت: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

والفواحش، فكنّا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها .. قلنا: قد هلك، حتى نزل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. فكففنا عن القول في ذلك، وكنّا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا، خفنا عليه، وإن لم يصب .. رجونا له. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم أن لا يبطل عملًا صالحًا بعمل سوء ... فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى. 34 - ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصريّن على الكفر، والصدّ عن سبيل الله، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله تعالى ورسوله {وَصَدُّوا} الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن دينه الموصل إلى رضاه {ثُمَّ مَاتُوا} وفارقوا الدنيا {وَهُمْ كُفَّارٌ} {الواو}: للحال {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} في الآخرة، لأنهم ماتوا على الكفر، فيحشرون على ما ماتوا عليه، كما ورد: "تموتون كما تعيشون، وتحشرون كما تموتون". فقيّد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر؛ لأنّ باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيًا، وظاهر الآية العموم، وإن كان السبب خاصًّا؛ لأنها نزلت في أصحاب القليب: وهم أبي جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر، وألقوا في قليب بدر، والقليب - بوزن أكثر -: البئر أو القديمة منها. والمراد: البئر التي طرح فيها جيف الكفار المقتولين يوم بدر، وأما البئر التي استقى منها المشركون ذلك اليوم فهي منتنة الآن، سمعته من بعض أهل بدر حين مروري بها. ويستفاد من الآية: أنّ كل كافر مات على كفره، فالله لا يغفر له؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. 35 - ثم نهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن الوهن والضعف، فقال: {فَلَا تَهِنُوا}؛ أي: فلا تضعفوا أيّها المؤمنون عن قتال الكفار، والخطاب فيه لأصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم وهو عام لجميع المسلمين إلى يوم القيامة، و {الفاء} فيه: قال الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تبيّن لكم بما يتلى عليكم: أنّ الله عدوّهم يبطل أعمالهم فلا يغفر لهم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: {لا تهنوا}؛ أي: لا تضعفوا عن قتالهم، فإنّ من كان الله

عليه لا يفلح {و} لا {تَدْعُوا} الكفار {إِلَى السَّلْمِ}؛ أي: إلى الصلح فورًا؛ أي: ابتداء منكم، فإن ذلك فيه ذلة لكم، وهو مجزوم بالعطف على {تَهِنُوا} ويجوز نصبه بإضمار أن، قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، واختلف العلماء (¬1) في هذه الآية: هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وقيل: منسوخة بهذه الآية، ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإنّ الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداءً، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم يتواردا على محل واحد، حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص، قال قتادة: معنى الآية: لا تكون أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَتَدْعُوا} مضارع دعا الثلاثي، وقرأ أبي عبد الرحمن السلمي: {وتدّعوا} بتشديد الدال من ادّعى القيم وتداعوا، مثل قولك: ارتموا الصيد وتراموا، وقرأ الجمهور: {إِلَى السَّلْمِ} بفتح السين، وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر: بكسرها. وجملة قوله: {وَأَنتُمْ} أيّها المؤمنون {الْأَعْلَوْنَ}؛ أي: الغالبون بالسيف والحجة، في محل النصب حال من فاعل {تَهِنُوا}، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي مؤكّدة لوجوب الانتهاء، قال الكلبيّ: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَعَكُمْ} بالنصر والمعونة عليهم في محل نصب على الحال، فإنّ كونهم الأغلبين، وكونه تعالى؛ أي: ناصرهم في الدارين، من أقوى موجبات الاجتناب عمّا يوهم الذلّ والضراعة، وكذا توفيته تعالى لأجور أعمالهم، حسبما يعرف عنه قوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ}؛ أي: لن ينقصكم سبحانه وتعالى {أَعْمَالَكُمْ}؛ أي: شيئًا من أجور أعمالكم، ولن يضيّعها، بل يوفي أجورها موفّرة كاملة، من وتره يتره وترًا، من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[36]

باب وعد: إذا نقصه حقّه. كما سيأتي. وعبّر (¬1) عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شيء معتدّ به من الأنفس والأموال، مع أنّ الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة، إبرازًا لغاية اللطف بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق، وتنزيل ترك الإثابة، بمنزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها. والمعنى: أي فلا تضعفوا أيّها المؤمنون عن جهاد المشركين، وتجبنوا عن قتالهم، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورًا وإظهارًا للعجز، وأنتم العالون عليهم، والله معكم بالنصر لكم عليهم، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها. 36 - {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} عند أهل البصيرة؛ أي: إن الإشغال بها {لَعِبٌ}؛ أي: شغل غير مقصود لذاته، سواء شغل عن المقصود أم لا، يقال: لعب فلان: إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا، كفعل الصبيان {وَلَهْوٌ}؛ أي: شغل شاغل عما هو المقصود؛ لأن اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه، ولذلك يقال: آلات الملاهي؛ أي: إنّ الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة لا نتيجة لها، ومشغلة عن طاعة الله تعالى؛ أي: باطل وغرور لا أصل لشيء منها، ولا ثبات له، ولا اعتداد به. وفيه (¬2): إشارة إلى أنّ الدنيا وما فيها من مثلها إلى آخرها، لا وجود لها في الحقيقة، وإنما هي أمر عارض، وخيال زائل {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} أيها الناس بما يجب به الإيمان {وَتَتَّقُوا} عن الكفر والمعاصي {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}؛ أي: يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات، التي يتنافس فيها المتنافسون، وفي الآية حث على طلب الآخرة العلية الباقية، وتنفير عن طلب الدنيا الدنية الفانية {وَلَا يَسْأَلْكُمْ} الله سبحانه وتعالى {أَمْوَالَكُمْ}؛ أي: لا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة، وسائر وجوه الخير، بحيث يخل أداؤها بمعاشكم؛ ¬

_ (¬1) روح المعاني. (¬2) روح البيان.

[37]

لأنَّ الجمع المضاف من صيغ العموم، وإنما أمركم بإخراج القليل منها: وهو ربع العشر أو العشر، تؤدونها إلى فقرائكم، فطيبوا بها نفسًا، وقيل: المعنى: لا يسألكم أموالكم، إنما يسألكم أمثاله؛ لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها، وقيل: لا يسألكم الرسول أموالكم أجرًا على تبليغ الرسالة، كما في قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. والأول أولى. 37 - {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا}؛ أي: إن يسأل الله سبحانه وتعالى إيّاكم أموالكم جميعًا {فَيُحْفِكُمْ}؛ أي: يجهدكم، ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى بالمسألة، وألحف وألح بمعنى واحد، والإحفاء: الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب؛ أي: استئصاله؛ أي: إزالته من أصله. وجواب الشرط قوله: {تَبْخَلُوا} بها، فلا تعطوا؛ أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم .. تبخلوا بها، وتمتنعوا من الامتثال {وَيُخْرِجْ} الله سبحانه، ويعضده القراءة بنون العظمة، أو البخل؛ لأنّه سبب الإضغان {أَضْغَانَكُمْ}؛ أي: أحقادكم معطوف على جواب الشرط، قال في "عين المعاني"؛ أي: يظهر أضغانكم عند الامتناع، وقيل: ويخرج ما في قلوبكم من حبّ المال، وهذه المرتبة لمن يوقى شح نفسه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} جزمًا عطفًا على جواب الشرط، والفعل مسند إلى الله، أو إلى الرسول أو إلى البخل، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: {ويخرج} بالرفع على الاستئناف، بمعنى: وهو يخرج، وحكاها أبو حاتم عن عيسى، وفي "اللوائح": عن عبد الوارث عن أبي عمرو: {ويَخْرُجُ} بالياء التحتانية وفتحها، وضمّ الراء والجيم، {أضغانكم} بالرفع، بمعنى: وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم رفع بفعله، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن، وأيُّوب بن المتوكل، واليماني: {وتَخْرُج} بتاء التأنيث مفتوحة، {أضغانكم} رفع به، وقرأ يعقوب الحضرميّ: {ونخرج} بالنون وضم الجيم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والفاعل: ضمير يعود على الله، {أضغانكم} بالنصب، وهي مروية عن عيسى، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن، فالواو: عاطفة على مصدر متوهّم؛ أي: يكن بخلكم وإخراج أضغانكم، وهذا (¬1) الذي خيف أن يعتري المؤمنين، هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف، وتوصل به إلى قتله حين قال له: إنّ هذا الرجل قد أكثر علينا، وطلب منّا الأموال. ومجمل معنى الآيتين: (¬2) يقبل الله سبحانه حاضًّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيّها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب، إلا ما كان منها من عمل في سبيل الله، وطلب رضاه. ثم رغّبهم في العمل للآخرة، فقال: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ...} إلخ؛ أي: وإن تؤمنوا بربكم، وتتقوه حقّ تقاته، فتؤدّوا فرائضه، وتجتنبوا نواهيه .. يؤتكم ثواب أعمالكم، فيعوّضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة، وسائر وجوه الطاعات، بل يأمركم بإخراج القليل منها: وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء، ونفع ذلك عائد إليكم. ثمّ بيّن شحّ الإنسان على ماله، وشدة حرصه عليه، فقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} إلخ؛ أي: إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة، ويلحف عليها بطلبها. تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنّا منكم بها، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها، فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال، قال قتادة: قد علم الله سبحانه أنّ في سؤال المال خروج الأضغان للإسلام، من حيث محبّة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه .. ظهرت طوّيته التي كان يسرها. والخلاصة: قد علم الله شحّ الإنسان على المال، فلم يطلب منه إلا النزر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[38]

اليسير في الصدقات، وبذل المال في المرافق العامة لإصلاح شؤون المجتمع الإِسلاميّ، كسدّ الثغور، وبناء القناطر والجسور. 38 - ثمّ أكد ما سلف وقرّره بقوله: {هَا} حرف تنبيه بمعنى انتبهوا {أَنْتُمْ} كلمة (¬1) على حدة، وهو مبتدأ، خبره: قوله: {هَؤُلَاءِ}؛ أي: انتبهوا أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ يعني: في قوله: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} الآية. {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. استئناف مقرّر لذلك، حيث دلّ على أنهم يدعون لإنفاق بعض أموالهم في سبيل الله، فيبخل ناس منهم، أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين؛ أي: ها أنتم الذين تدعون، ففيه توبيخ عظيم، وتحقير من شأنهم، والإنفاق في سبيل الله يعمّ نفقة الغزو والزكاة وغيرهما؛ أي: ها أنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله، ونصرة دينه {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} بالرفع، ومنكم من يجود؛ لأنّ من هذه ليست بشرط؛ أي: فمنكم ناس يبخلون، وهو في حيّز الدليل على الشرطية الثانية، كأنه قيل: الدليل عليه أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون بما يطلب منهم ويدعون إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال .. فكيف لا يبخلون بالكثير: وهو جميع الأموال. ثم بيّن سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس، فقال: {وَمَنْ يَبْخَلْ} بالجزم؛ لأن {من}: شرطية {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}؛ أي: بمنعها الأجر والثواب ببخله، فإنّ كلًّا من ضرر البخل، نفع الإنفاق عائد إليه، فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب، وبثمن الدواء .. فلا يبخل إلا على نفسه، والبخل يستعمل بعن وبعلى؛ لتضمّنه معنى الإمساك والتعدّي؛ أي: فإنما يمسك الخير عن نفسه بالبخل {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {الْغَنِيُّ} عنكم وعن صدقاتكم؛ لأنّه الغنيّ عن المطلب المتنزه عن الحاجة دون من عداه {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إليه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، فما يأمركم به، فهو لاحتياجكم إلى ما فيه أو ¬

_ (¬1) روح البيان.

المنافع، فإن امتثلتم فلكم، وإن توليتم فعليكم. وجملة قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا}: معطوفة على الشرطية المتقدمة، وهي: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} إلخ؛ أي: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، وعما دعاكم إليه، ورغبكم فيه من الإنفاق في سبيله {يَسْتَبْدِلْ}؛ أي: يذهبكم ويخلق مكانكم قومًا آخرين: هم أطوع لله منكم {ثُمَّ لَا يَكُونُوا}؛ أي: أولئك الآخرون {أَمْثَالَكُمْ} في التولّي عن الإيمان والتقوى والإنفاق، بل يكونون راغبين فيها، وكلمة (¬1) {ثُمَّ}: للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب؛ لتقارب الناس في الأحوال، واشتراك الجل في الميل إلى المال، والخطاب في {تَتَوَلَّوْا} لقريش، والبدل: الأنصار. وهذا كقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أو للعرب، والبدل: العجم وأهل فارس، كما روي: أنه عليه السلام سئل عن القيم، وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطًا - أي: معلقًا - بالثريّا - النجم المعروف - لتناوله رجال من فارس". فدلّ على أنهم الفرس الذين أسلموا، أخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي إسناده مقال. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس، وقال ابن جرير: والمعنى: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} في البخل بالإنفاق في سبيل الله. الإعراب {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. {ويَقُولُ}: {الواو} استئنافية. {يقول الذين}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {ءَامَنُوا}: صلته. {لَولَا}: حرف تحضيض. {نُزِّلَت سُورَة}: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب، مقول لـ {الذِينَ}. {فإذَا} {الفاء}: ¬

_ (¬1) روح البيان.

عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {أُنْزِلَتْ سُورَةٌ}: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف: متعلق بالجواب. {محكمة} صفة {سورة}. {وذكر}: فعل ماض مغير الصيغة. {فيها}: متعلق بـ {ذكر} {القتال}: نائب فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {أُنزِلَتْ}. {رأيت الذين}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا}: معطوفة على جملة {يقول} {في قلوبهم} خبر مقدم، {مرض} مبتدأ مؤخر. والجملة صلة الموصول. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}. {ينظرون}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من الموصول، إن كانت الرؤية بصرية، ومفعول ثان إن كانت قلبية، وكلا الوجهين مراد في الآية. {إليك}: متعلق بـ {ينظرون}. {نظر المغشي} مفعول مطلق مبيّن للنوع، مؤكد لعامله. {عليه}: متعلق بـ {المغشي}؛ لأنّه اسم مفعول. {من الموت}: متعلق به أيضًا. {فأولى} {الفاء}: استئنافية، {أولى}: مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به قصد الدعاء. {لهُم}: خبره؛ أي: فالهلاك كائن لهم، وعليه اقتصر أبو البقاء، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: العقاب أو الهلاك أولى لهم؛ أي: أقرب وأدنى، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء؛ أي: أولى وأحقّ بهم، وفي "شرح القاموس": معناه: الويل لك، أو أولاك الله ما تكرهه، فتكون اللازم زائدة. اهـ. {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}. {طاعة}: مبتدأ، خبره: محذوف، وسوَّغ الابتداء به الوصف المحذوف؛ أي: طاعة الله ورسوله أمثل لكم وأفضل، قال الرازي: لا يقال: {طَاعَةٌ}: نكرة لا تصلح للابتداء؛ لأنّا نقول: هي موصوفة يدل عليه قوله تعالى: {قول معروف} فإنه موصوف، فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير.

انتهى. {وقول}: معطوف على {طاعة}، {معروف}: صفة {قول}، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أمرنا طاعة وقول معروف. {فإذا} {الفاء}: عاطفة. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {عزم الأمر}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب. {فَلَوْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}. {لو}: حرف شرط غير جازم. {صدقوا الله} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ {لو}. {لكان} {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية. {كان}: فعل ماض وناقص، واسمها: ضمير يعود على الصدق. {خَيْرًا}: خبرها، {لهم}: متعلق بـ {خيرًا}. وجملة {كان}: جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية. جواب {إذا} وجملة {إذا}: معطوفة على جملة قوله: {طَاعَةٌ}: عطف فعلية على اسمية. {فَهَلْ} {الفاء}: استئنافية. {هل}: حرف استفهام. {عَسَيْتُمْ}: فعل أو أفعال الرجاء، ترفع الاسم وتنصب الخبر. {إن}: حرف شرط. {تَوَلَّيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط: محذوف لدلالة {هل عسيتم} عليه تقديره: إن تولّيتم تفسدوا في الأرض وجملة الشرط: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين {عسى} وخبرها. {أن تفسدوا}: ناصب يفعل وفاعل منصوب بـ {أَن} المصدرية. {في الأرض}: متعلق به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر {عسى}. ولكنّه في تأويل مشتق؛ لئلا يخبر بالمعنى عن الذات، تقديره: فهل عسيتم إفسادكم؛ أي: مفسدين من تولّيتم، وجملة {عسى}: مستأنفة. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {تفسدوا}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {لعنهم الله}: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة: صلة الموصول. {فأصمهم} {الفاء}: عاطفة {أصمّهم}: فعل ماض ومفعول به، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة الصلة. {وأعمى} فعل وفاعل مستتر. {أَبصارهم}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {أصمهم}: على كونها معطوفة على الصلة. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ

مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)}. {أَفَلَا} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخيّ، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألا يلاحظ هؤلاء المنافقون هذا القرآن فلا يتدبرّون، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {لا} نافية. {يتدبرون القرآن}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ذلك المحذوف. {أم}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التقريري التوبيخي. {عَلَى قُلُوبٍ}: خبر مقدم. {أَقْفَالُهَا}: مبتدأ مؤخر وجوبًا، والجملة: جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {إِن الذين}: ناصب واسمه. {ارتدوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {على أدبارهم}: متعلق بـ {ارتدوا} أو حال من فاعله. {من بعد}: متعلق بـ {ارتدوا} أيضًا. {مَا}: مصدرية. {تبين}: فعل ماض. {لَهُمْ}: متعلق به. {الهدى}: فاعل، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد تبيّن الهدى لهم. {الشيطان}: مبتدأ، وجملة {سَوَّلَ لَهُمْ}: خبر عن {الشيطان}. والجملة الابتدائية: في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة، وجملة {وأملى لهم}: معطوفة على جملة {سَوَّلَ لَهُمْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {بأنهم}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. {أن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها، وجملة {قَالُوا}: خبرها. {للذين}: متعلق بـ {قَالُوا}. وجملة {أن}: في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلك كائن بسبب قوله للذين كرهوا، وجملة {كَرِهُوا}: صلة الموصول. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {نزل الله}: فعل وفاعل صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما أنزله الله. {سنطيعكم}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على المتكلمين. {في بعض الأمر}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قالوا}. {والله} {الواو}: حالية. {الله}: مبتدأ، وجملة {يعلم إسرارهم}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {قالوا}.

{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}. {فكيف} {الفاء}: استئنافية. {كيف}: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم؟ أو في محل النصب مفعول لفعل محذوف، تقديره: فكيف يصنعون؟ {إذا}؛ ظرف لما يستقبل من الزمان. {تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل ومفعول وفاعل، الجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ {إذا} على كونه فعل شرط لها. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}؛ فعل وفاعل ومفعول. {وأدبارهم}: معطوف على {وجوههم}. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من {الملائكة} وجواب {إذا}: معلوم مما قبله؛ أي: إذا توفّتهم الملائكة .. فكيف حالهم؟ أو {إذا} ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المحذوف؛ أي: فكيف يصنعون وقت توفية الملائكة إياهم؟ {ذلك}: مبتدأ. {بأنهم}: خبره، والجملة: مستأنفة. {أن}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها. {اتبعوا}: فعل وفاعل، و {ما}: موصولة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} وجملة {أن}: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك بسبب اتباعهم ما أسخط الله. {أسخط الله}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة لـ {ما} الموصولة {وكرهوا رضوانه}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {اتبعوا}. {فأحبط أعمالهم}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {اتبعوا}. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}. {أَمْ}: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {حَسِبَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة. {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم. {مرض}: مبتدأ مؤخر، والجملة: صلة الموصول. {أن}: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن. {لن}: حرف نصب واستقبال {يخرج الله}: فعل وفاعل منصوب بـ

{لَنْ}، {أضْغَانَهُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {حَسِبَ}. والتقدير: أم حسب الذين في قلوبهم مرض عدم إخراج الله أضغانهم. {وَلَو} {الواو}: عاطفة، {لو}: حرف شرط غير جازم. {نَشَاءُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لأريناكهم} {اللام}: رابطة لجواب {لو} {أريناكهم}: فعل وفاعل ومفعولان، والرؤية هنا بصرية، تعدّت إلى مفعولين بالهمزة، والجملة جواب {لو}: الشرطية لا محل له وجملة {لو} الشرطية: معطوفة على جملة {حسب}. {فلعرفتهم} {الفاء}: عاطفة، و {اللام}: رابطة للجواب مؤكِّدة للأولى. {عرفتهم}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {أريناكهم}. {بسيماهم}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عرفتهم}. {ولتعرفنهم} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {تعرفن}: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله: ضمير يعود على محمد، و {الهاء}: مفعول به، {في لحن القول}: متعلق بـ {تعرفنهم} أو حال أو المفعول؛ أي: حال كونهم لا حنين، والجملة: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {وَاللهُ}: مبتدأ، وجملة {يعلم أعمالكم}: خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية: مستأنفة. {ولنبلونكم} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {نبلوّن}: فعل مضارع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الله، و {الكاف}: مفعول به، والجملة: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة أو معطوفة على جملة القسم الأولى. {حتى}: حرف جر وغاية. {نعلم}: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حتى} الجارة، وفاعله: ضمير يعود على الله. {المجاهدين}: مفعول به. {مِنكمُ}: حال من {المجاهدين} {والصابرين}: معطوف على {المجاهدين}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {حتى} بمعنى إلى، الجار والمجرور: متعلق بـ {نبلوّن}؛ أي: ولنبلونكم إلى علمنا المجاهدين والصابرين منكم. {ونبلوا} فعل مضارع، معطوف على {نعلم}، وفاعله: ضمير

يعود على الله. {أخباركم} مفعول به. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}. {إن الذين} ناصب واسمه. {كفروا} فعل وفاعل صلة الموصول. {وصدوا} معطوف على {كفروا}. {عن سبيل الله} متعلق بـ {صدوا} ومضاف إليه. {وشاقوا الرسول} فعل وفاعل ومفعول به معطوف أيضًا على {كفروا}. {من بعد} متعلق بـ {شاقوا} {مَا} مصدرية {تبين} فعل ماض {لهم} متعلق به {الهدى} فاعل، والجملة الفعلية مع {مَا} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره من بعد تبين الهدى لهم. {لَن}: حرف نصب. {يضروا الله}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {لن}، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن}: مستأنفة. {شيئًا}: مفعول مطلق؛ أي: شيئًا من الضرر، ولك أن تعربه مفعولًا به. {وسيحبط} {الواو}: عاطفة. {والسين}: حرف استقبال. {يحبط أعمالهم}: فعل مضارع وفعل مستتر ومفعول به معطوف على جملة {لَن يضروا الله}. {يا}: حرف نداء {أي}، منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه، {الذين}: صفة لـ {أيّ}، وجملة النداء: مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {أطيعوا الله}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {وأطِيعُوا اَلرسُولَ} معطوف على {أَطِيعُوا اللهَ}، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية. {تبطلوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية. {أعمالكم}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَطيعوا الله}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {كَفَرُوا}: صلته. {وَصَدُّوا}: معطوف على {كَفَرُوا}، {عَنْ سَبِيلِ اللهِ}: متعلق بـ {وَصَدُّوا}، {ثُمَّ}: حرف

عطف، {مَاتُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كَفَرُوا}، {وَهُمْ كُفَّارٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {مَاتُوا}، {فَلَنْ} {الفاء}: رابطة الخبر لما في الموصول أو معنى الشرط، {لن}: حرف نصب. {يَغْفِرَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {لن}. {لهُم}: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر {إِن}، وجملة {إِن}: مستأنفة. {فَلَا} {الفاء}:فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم وجوب الجهاد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم. {لا تهنوا} {لا}: ناهية جازمة. {تَهِنُوا}: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {وَتَدْعُوا}: فعل وفاعل معطوف على {لا تهنوا}. {إِلَى السَّلْمِ}: متعلق به. {وَأَنْتُمُ} {الواو}: واو الحال، {أَنْتُمُ}: مبتدأ. {الْأَعْلَوْنَ}: خبره، والجملة: في محل النصب حال من فاعل {وَصَدُّوا}. {وَاللَّهِ} {الواو}: حالية. {اللَّهُ}: مبتدأ. {مَعَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة: في محل النصب حال أو فاعل {تَهِنُوا} أيضًا. {وَلَنْ} {الواو}: عاطفة. {لن}: حرف نصب واستقبال. {يَتِرَكُمْ}: فعل وفاعل. مستتر يعود على {اللَّهُ}، ومفعول به. {أَعْمَالَكُمْ}: بدل اشتمال أو ضمير المفعول أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: في أعمالكم، كما نصّ عليه في "المختار"، أو مفعول ثان كما يفيده كلام "المصباح". والجملة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على الظرف على كونها خبر المبتدأ. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْحَيَاةُ}: مبتدأ، {الدُّنْيَا}: صفة، {لَعِبٌ}: خبر، {وَلَهْوٌ}: معطوف عليه، والجملة: مستأنفة. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة، {إِنْ}: حرف شرط، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {وَتَتَّقُوا}: معطوف عليه، {يُؤْتِكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول، مجزوم بـ {إِن} الشرطية، على كونه جوابًا لها. {أُجُورَكُمْ}: مفعول ثان، والجملة الشرطية. معطوفة على جملة قوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، عطف فعلية على اسمية. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {يَسْأَلْكُمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول معطوف على {يُؤْتِكُمْ}،

{أَمْوَالَكُمْ}: مفعول ثان لـ {يسأل}. {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}. {إِن}: حرف شرط. {يَسْأَلْكُمُوهَا} {يسأل}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ} مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، و {الكاف}: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول أول، و {الميم}: حرف دالّ على الجمع، و {الواو} للإشباع، و {الهاء} مفعول ثان. {فَيُحْفِكُمْ} {الفاء}: عاطفة. {يحفكم}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على الشرط. {تَبْخَلُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إِن} الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة {إِن} الشرطية: مستأنفة. {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على الجواب. {هَا أَنْتُمْ} {ها}: حرف تنبيه لتنبيه المخاطب على ما يلقى إليه. {أنتم}: مبتدأ. {هَؤُلَاءِ}: خبره، وجملة {تُدْعَوْنَ}: مستأنفة، وأعربه بعضهم {ها}. للتنبيه، و {أنتم}: مبتدأ، وجملة {تُدْعَوْنَ}: خبره، و {هَؤُلَاءِ}: منادى معترض بين المبتدأ والخبر؛ أي: أنتم يا هؤلاء تدعون .. إلخ. وجنح الزمخشري إلى إعراب {هَؤُلَاءِ}: اسم موصول بمعنى الذين، وهو الخبر، وجملة {تُدْعَوْنَ}: صلة، وتبعه االبيضاوي. وكررت {ها}؛ للتنبيه وللتأكيد. {تُدْعَوْنَ}: فعل ونائب فاعل، {لِتُنْفِقُوا} {اللام}: حرف جرّ وتعليل. {تنفقوا}: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تنفقوا} والجملة الفعلية مع أو المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور، متعلق بـ {تنفقوا}؛ أي: تدعون لإنفاقكم في سبيل الله. {فَمِنكُم} {الفاء}: قال الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم تدعون للإنفاق، وأردتم بيان تفاصيل أحوالكم .. فأقول لكم: منكم أو يبخل ومنكم من لا يبخل. {منكم}: خبر مقدم، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، وجملة {يَبْخَلْ}:

صلته، والجملة الاسمية: في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {وَمَن} {الواو}: عاطفة. {مَن}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب أو الشرط أو هما. {يبخل}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَن}. {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة لجواب {مَن} الشرطية جوازًا. {إنما}: كافة ومكفوفة. {يَبْخَلْ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله: ضمير يعود على {مِن}، {عَنْ نَفْسِهِ}: متعلق بـ {يَبْخَلْ}، عدّاه بـ {عَن} لتضمّنه معنى الإمساك، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَن} الشرطية: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {الْغَنِيُّ}: خبره، والجملة: مستانفة. {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط، {تَتَوَلَّوْا}: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ {إِن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {يَسْتَبْدِلْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {وَاللَّهِ} مجزوم على كونه جواب الشرط، {قَوْمًا}: مفعول به. {غَيْرَكُمْ}: صفة {قَوْمًا}، وجملة {إن} الشرطية، معطوفة على جملة قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا}. {ثُمَ} حرف عطف {لَا}: نافية، {يَكُونُوا}: فعل ناقص واسمه، معطوف على الجواب مجزوم. {أَمْثَالَكُمْ}: خبره. التصريف ومفردات اللغة {لَوْلَا}: كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها؛ أي: هلّا أنزلت سورة في أمر الجهاد. {مُحْكَمَةٌ}؛ أي: بيّنة واضحة، لا احتمال فيها لشيء آخر. {مَرَضٌ}؛ أي: ضعف في الدين وشكّ ونفاق. {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}؛ أي: نظر المغمى عليه خوفًا من الموت، أو المحتضر الذي لا يحرّك بصره. {فَأَوْلَى لَهُمْ} اختلف اللغويّون، والمعربون في هذه الكلمة، فقال الأصمعيّ: إنه فعل ماض، فمعناه: قاربهم ما يهلكهم، وعلى قوله: هو فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يدلّ عليه السياق؛ كأنه قيل: فأولى

هو؛ أي: الهلاك، والأكثرون على أنه اسم، ثمّ اختلف هؤلاء: فقيل: هو اسم على وزن أفعل، مشتق من الولي: وهو القرب، ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه، وقيل: اسم على وزن فعلى، مشتقّ من آل يؤول، فمعناه: الدعاء عليهم بأن يؤول أمرهم إلى المكروه، وقال الراغب: أولى: كلمة تهدّد وتخوّف، يخاطب بها من أشرف على الهلاك، فيحثّ به على عدم التعرّض، أو يخاطب به من نجا منه فينهي عن مثله ثانيًا، فأكثر ما يستعمل مكرّرًا، كما في قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}، وأنه حث على تأمّل ما يؤول إليه أمره لينتبه المتحرّز منه، وقال صاحب "الصحاح": قول العرب: أولى لك: تهديد وتوعيد، ومنه قول الشاعر: فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ... وَهْلَ لِلدَّاءِ يَحْلُبُ مَنْ يَرُدُّ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ}؛ أي: جدَّ أولو الأمر، والعزم والعزيمة: الجد، وعقد القلب إلى إمضاء الأمر، والعزيمة: تعويذٌ، كأنه تصوّر أنك قد عقدت على الشيطان أن يمضي إرادته منك. والمعنى: فإذا جدّوا في أمر الجهاد، وافترض القتال. {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} بكسر السين وفتحها؛ أي: لعلكم، أو فهل يتوقّع منكم إلا الإفساد أن أعرضتم عن الإيمان والقتال؟ وكلمة عسى: تدلّ على توقّع حصول ما بعدها، ولكن التوقع من الله غير متصوّر؛ لأنّ الله عزّ وجل عالم بما كان وبما يكون، فتفيد هنا التحقق؛ أي: حقّق الله إن أعرضتم وتولّيتم عن دين الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنّ ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالإغارة والنهب والسلب، وقطع الأرحام، كما مرّ، أو إن تولّيتم أمور الناس، أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشوة، والحكم بالظلم. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}: جمع رحم، والرحم في الأصل: رحم المرأة: وهو منبت الولد، ووعاؤه في البطن، ثمّ سمّيت القرابة والوصلة من جهة الولادة رحمًا بطريق الاستعارة؛ لكونهم خارجين من رحم واحد.

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} والتدبّر: النظر في دبر الأمور وعواقبها، وأصل التدبّر: التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره، وتدبّر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الفهم وقت تلاوته، ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف، وخلوص النيّة. اهـ. "خازن". {أَقْفَالُهَا} والأقفال: جمع قفل بالضم: وهو الحديد الذي يغلق به الباب. كما في "القاموس". {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} الارتداد والردّة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردّة تختصّ بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره، وأصله: ارتَدَدُوا، فكرهوا توالي المثلين، فادغمت الدال الأولى في الثانية، على حدّ قول ابن مالك في "ألفيته". أَوَّلَ مِثْلَيْنِ مُحَرَّكَيْنِ فِيْ ... كِلْمَةٍ ادْغِمْ لَا كَمِثْلِ صُفَفِ والأدبار: جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل، وكني بهما عن العضوين المخصوصين. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ}؛ أي: سهّل لهم، وزيّن، من التسويل: وهو تزيين النفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن. {وَأَمْلَى لَهُمْ}؛ أي: أمدّ لهم في الأمانيّ الكاذبة، والآمال الباطلة. قال الراغب: الإملاء: الإمداد، ومنه قيل للمدّة الطويلة: ملاوة من الدهر، وملوة من الدهر، وأصله: أملي، بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وهذه الياء أصلها واو، إلا أنها لمّا صارت رابعة .. قلبت ياء. {سَنُطِيعُكُمْ} أصله: سنطوعكم، من الطواعية، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} جمع ضغن: وهو الحقد: وهو إمساك العداوة في القلب، والتربص لفرصتها. وفي "المصباح": ضغن صدره ضغنًا، من باب تعب: حقد، والاسم ضغن، والجمع: أضغان، مثل: حمل وأحمال: وهو ضغن وضاغن. وفي "المصباح" أيضًا: الحقد: الانطواء على العداوة والبغضاء، وحقد

عليه من باب ضرب وتعب يجمع على أحقاد، كحمل وأحمال، وقال عمرو بن كلثوم: وَإنِ الضُّغْنُ بَعْدَ الضُّغْنِ يَبْدُوْ ... عَلَيْكَ وَيُخْرُجُ الدَّاءَ الدَّفِيْنَا {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} أصله: لأريناكهم، نقلت حركة الهمزة إلى الراء فسكّنت ثم حذفت للتخفيف، فوزنه أفلنا. {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}؛ أي: بعلامتهم التي نسمهم بها. وفي "القاموس": والسومة بالضم، والسيمة والسيماء والسيمياء بكسرهن: العلامة، وذكر في السوم. {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}؛ أي: في معنى القول وفحواه ومقصده وأسلوبه، وقيل: اللحن: أن تلحن بكلامك؛ أي: تميله إلى نحو من الأنحاء، ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية، قال الشاعر: وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوْا ... وَاللَّحْنَ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ فاللحن: العدول بالكلام عن الظاهر، والمخطىء لاحن؛ لعدوله عن الصواب؛ أي: لكي تفهموا دون غيركم، فإنَّ اللحن يعرفه أرباب الألباب دون غيرهم، قال في "المصباح": واللحن بفتحتين: الفطنة: وهو مصدر من باب تعب، والفاعل لحن، يتعدى بالهمزة، فيقال: ألحنته فلحن؛ أي: أفطنته ففطن: وهو سرعة الفهم، وهو ألحن من زيد؛ أي: أسبق فهمًا، ولحن في كلامه لحنًا من باب نفع: أخطأ في العربية، قال أبو زيد: لحن في كلامه لحنًا بسكون الحاء لحونًا: إذا أخطأ في الإعراب، وخالف وجه الصواب، ولحنت بلحن فلان لحنًا أيضًا: تكلمت بلغته، ولحنت له لحنًا: قلت له قولًا فهمه عنّي، وخفي على غيره من القوم، وفهمته من لحن كلامه، وفحواه ومعاريضه بمعنى، قال الأزهري: لحن القول: كالعنوان، وهو كالعلامة تشير بها فيفطن المخاطب لغرضك. اهـ. وقد كان المنافقون يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ظاهرها حسن ويعنون بها القبيح، كقولهم: راعنا. اهـ "كرخي". {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أصل {صدوا}: صددوا، أدغمت الدال في الدال، وأصل {شاقوا}: شاققوا، أدغمت القاف الأولى في الثانية، فصار شاقوا. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} أصله: يضرون بوزن يفعلون،

حذفت نون الرفع لدخول الناصب وهو {لن}، ثم نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {فَلَا تَهِنُوا} من الوهن: وهو الضعف، أصله: توهنون، حذفت نون الرفع لدخول الجازم: وهو {لا} الناهية، ثم حذفت فاء الفعل المثاليّ، فمضارعه: يوهن بوزن يفعل بكسر العين، ووقعت الواو بين ياء مفتوحة وكسرة فحذفت لوقوعها بين عدوّيها: الياء والكسرة. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} جمع أعلى، أصله: الأعلوون بواوين، الأولى: لام الكلمة، والثانية: واو جمع المذكر السالم، فيقال: تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان فحذفت الألف. {يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} مضارع وتر المثاليّ، وتحذف فاؤه في المضارع. وفي "المختار": وتره حقَّه يتره بالكسر وترًا بالكسر أيضًا: نقصه. {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ويقال في الفرق بينهما: وكل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر في الحال، ولا منفعة في المآل، ولم يمنعك من مهام أمورك، فهو لعب، فإن شغلك عنها .. فهو لهو، ومن ثم يقال: آلات الملاهي؛ لأنها مشغلة عن غيرها، ويقال لما دون ذلك: لعب كاللعب بالشطرنج، والنرد والحمام. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} أصله: توتقيون استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم لمَّا سكنت .. حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت القاف لمناسبة الواو، ثم أبدلت الواو فاء الكلمة تاءً، وأدغمت في تاء الافتعال، وحذفت نون الرفع لعطف الفعل على فعل الشرط. {فَيُحْفِكُمْ}؛ أي: يجهدكم بطلب الكل. والإحفاء، وكذا الإلحاف: بلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئًا من الإلحاح. {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} وفي "السمين": بخل، وضن يتعدَّيان بعلى تارةً، وبعن أخرى، والأجود: أن يكونا حال تعدّيهما بعن مضمنين معنى الإمساك. اهـ.

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ} أصله: تدعوون، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} أصله: تتوليون، حذفت نون الرفع لدخول الجازم، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز العقلي في قوله: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أسند العزم إلى الأمر إسنادًا مجازيًا، وهو لأهله مثل: نهاره صائم. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع. اهـ "أبو السعود". وفيه أيضًا: ما يُسمَّى في البلاغة في غير القرآن بتجاهل العارف؛ أي: سلوك طريقة الاستخبار. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}؛ لأنّ قطعها كناية عن ترك صلتها. وفيه أيضًا: الاستعارة التصريحية الأصلية في {أَرْحَامَكُمْ}؛ لأنّ الرحم في الأصل: وعاء الولد في البطن، أستعير لذوي القرابات لكونهم خارجين من رحم واحد. ومنها: الإشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات في قوله: {أُولَئِكَ} المفسدون {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله} إيذانًا بأن ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم. ومنها: الإطناب في قوله: {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} اختصر في الإصمام، حيث قال: {فَأَصَمَّهُمْ} وأطنب في الإعماء، حيث قال: {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.

ومنها: الاستفهام التوبيخيّ في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}. ومنها: تنكير {قُلُوبٍ} في قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} إمّا لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، كأنه قيل: على قلوب نكرة لا يعرف حالها، وإمّا لأنّ المراد بها: قلوب بعض منهم: وهم المنافقون. وفيه أيضًا: الاستعارة التصريحية، حيث شبّه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فهي لا تنفتح لوعظ واعظ. ومنها: إضافة الأقفال إلى ضمير القلوب؛ للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة التي من الحديد، إذ هي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح. اهـ "أبو السعود". ومنها: الكناية في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} وهو كناية عن الكفر بعد الإيمان. ومنها: الكناية في قوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}؛ لأنّ بلاء الأخبار كناية عن بلاء الأعمال. ومنها: الإطناب في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ}، لأنّ الصدّ والمشاقة عين الكفر. ومنها: زيادة السين في قوله: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} لمجرد التأكيد. ومنها: تكرار اللام الرابطة لجواب {لو} في قوله: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} لمجرد التأكيد بعد قوله: {لَأَرَيْنَاكَهُمْ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ} حيث عبّر بنون العظمة لإبراز العناية بالإراءة. ومنها: حذف المضاف في قوله: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ}؛ أي: لن يضرّوا رسول الله بمشاقته شيئًا، فقد حذف المضاف لتعظيمه، وتفظيع مشاقّته. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} حيث

عبّر عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر، الذي هو إضافة شيء معتدّ به عن الأنفس والأموال، فاستعار الوتر الذي بمعنى إضاعة الأموال، لترك الإثابة على الأعمال، فاشتقّ من الوتر الذي بمعنى ترك الإثابة، يتر بمعنى يترك الإثابة، على طريقة الاستعارة التبعية. ومنها: قصد العموم بقوله: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}؛ لأنّ الجمع المضاف من صيغ العموم. فالمراد: جميع أموالكم. ومنها: تكرار ها التنبيه في قوله: {هَا أَنْتُمْ} للتأكيد. ومنها: تكرار لفظ {يَبْخَلُ}؛ استهجانًا له، وتنفيرًا منه. ومنها: الاكتفاء في قوله: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ}؛ أي: ومنكم من يجود، وحذف هذا المقايل؛ لأنّ المراد: الاستدلال على البخل. اهـ "خطيب". ومنها: المقابلة في قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}. ومنها: الإتيان بكلمة {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}؛ للدلالة على أنّ مدخولها مما يستبعده المخاطبون لتقارب الناس في الأحوال، واشتراكهم في الميل إلى المال. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد: 1 - وصف الكافرين والمؤمنين من أوّل السورة إلى قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}. 2 - جزاء الفريقين في الدنيا والآخرة، من خذلان ونصر ونار وجنة، من قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}. 3 - الوعد والوعيد للمنافقين والمرتدين، من قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...} إلى آخر السورة (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) فرغت من تفسير هذه السورة عصر يوم الخميس في تاريخ 17/ 2/ 1415 هـ.

سورة الفتح

سورة الفتح قال القرطبي: سورة الفتح مدنية بالإجماع (¬1)، ونزلت ليلًا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، وقد أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الفتح بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن المسور بن مخرمة ومروان، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، من أولها إلى آخرها، وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية؛ لأنّ المراد بالسور المدنية: النازلة بعد الهجرة من مكة. وهي تسع وعشرون آيةً، وخمس مدّة وستون كلمةً، وألفان وأربع مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، نزلت بعد سورة الجمعة. تسميتها: سميت سورة الفتح؛ لأنّ الله تعالى بشّر المؤمنين بالفتح المبين، حيث قال في أولها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} الآيات. فضلها: نزلت هذه السورة الكريمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مرجعه من الحديبية، ولما نزلت هذه السورة .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أنزلت عليّ الليلة سورة، هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها". {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب. مناسبتها لما قبلها من ثلاثة أوجه (¬2): 1 - أنّ الفتح المراد به النصر مرتب على القتال، وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، ثم ذكر هنا بيان ¬

_ (¬1) القرطبي. (¬2) المراغي.

الثمرة اليانعة لتلك الكيفية، وهي النصر والفتح. 2 - في كلتا السورتين ذكر محمد والفتح، وذكر المؤمنين المخلصين والمشركين والمنافقين. 3 - وفي السورة السالفة أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لذنبه، وللمؤمنين والمؤمنات، وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه تقدم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ...} الآية. وهو خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح العظيم، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال، وآمن كل من كان بها، وصارت مكة دار إيمان، ولما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية .. تكلّم المنافقون، وقالوا: لو كان محمد نبيًا، ودينه حقًا .. ما صدّ عن البيت، ولكان فتح مكة، فأكذبهم الله تعالى، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه؛ إشعارًا بأنه من عند الله، لا بكثرة عَدد ولا عُدد، وأكّده بالمصدر، ووصفه بأنه مبين مظهر لما تضمّنه من النصر والتأييد. والظاهر: أنّ هذا الفتح هو فتح مكة، وقال الكلبي وجماعة: وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه، لما قال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ} الآية .. بين أنه فتح لهم مكة، وغنموا، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا، ولو بخلوا .. لضاع عليهم، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضًا لما قال: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} .. بيّن برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الغالبين، وأيضًا لما قال {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} .. كان فتح مكة، حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الفتح مدنية بالإجماع، فيها ناسخ وليس فيها منسوخ. سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة، ومروان بن ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الحكم، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة، في شأن الحديبية، من أولها إلى آخرها. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}.

المناسبة قد تقدّم قريبًا بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها، ووسطها لوسطه، وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أنّ (¬1) الله سبحانه وتعالى، لما أخبر أنه سينصر رسله .. بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينًا إلى يقينهم، ثمّ أخبر بأنّ من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس، وقد وعد المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربّصون الدوائر بالمؤمنين بالعذاب الأليم، وغضب عليهم، وطردهم من رحمته. قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا أتمّ الكلام (¬2) على ما لكل من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من الثمرات، التي ترتّبت على عمله .. أعقبه بما يعمّهما معًا، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدًا على أمّته، ومبشرًا لها بالثواب، ومنذرًا إيّاها بالعقاب، ثمّ أبان أنّ فائدة هذا الإرسال هو الإيمان بالله، وتعظيمه وتسبيحه غدوةً وعشيًّا، ونصرة دينه، ثمّ ذكر بيعة الحديبية، وهي قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة سمّيت باسم بئر هناك، وأنّ الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا الله، ونصروا دينه، وأنّ من نَقَضَ منهم العهد .. فوبال ذلك عائد إليه، ولا يضرنّ إلا نفسه، ومن أوفى بهذا العهد .. فسينال الأجر العظيم، والثواب الجزيل. قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر حال المنافقين فيما سلف، وبيّن أنّ الله غضب عليهم ولعنهم، وأعدّ لهم عذاب السعير .. أردف ذلك بذكر قبائل من العرب: جهينة ومزينة وغفار وأشجع، والديل وأسلم، تخلّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما استنفرهم عام الحديبية، حين أراد السير إلى مكة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

معتمرًا، وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربًا، وأعتلّوا بانّ أموالهم وأهليهم قد شغلتهم، لكنّهم في حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان، خائفين من مقاتلة قريش، وكنانة وثقيف والقبائل المجاورة لمكة: وهم الأحابيش، وقالوا: كيف نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذا السفر، ففضحهم الله تعالى في هذه الآية، وأخبر بأنه أعد لهؤلاء وأمثالهم نارًا موقدة، تطّلع على الأفئدة، وأعد للمؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدًا، وهو ذو مغفرة لمن أقلع من ذنبه، وأناب إلى ربّه. قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) اعتذارهم عن التخلّف فيما سلف، بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم، وصلاح أموالهم، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته .. أعقب ذلك بما يكذّبهم في هذه المعذرة، فإنهم قد طلبوا السير مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في وقعه خيبر، لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها، ولو كانت التّعِلّة السالفة حقًا .. ما طلبوا السير معه بحال. ثم أخبر بأن الله سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول الله إلى خيبر، فقالوا: إنّ ذلك حسد من المؤمنين لهم، أن ينالوا شيئًا من الغنيمة، فرد الله عليهم ما قالوا، وأبان أنهم قوم مادّيّون لا يسعون إلا للدنيا، ولا يفهمون ما يعلي شأن الدين، ويرفع قدره. قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما رفض (¬2) إشراك المتخلّفين في قتال خيبر، عقابًا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله في الحديبية .. أردف ذلك ببيان أنّ باب القتال لا يزال مفتوحًا أمامكم، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاءٍ في ميدان القتال .. فاستعدوا، فستندبون إلى مواجهة قوم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أولي بأس ونجدة، فإما أن يسلموا، دراما أن تبارزوهم حتى تبيدوا خضراءهم، ولا تبقوا منهم ديّارًا، ولا نافخ نار، فإن أجبتم داعي الله .. أثابكم على ما فعلتم جزيل الأجر، وإن نكصتم على أعقابكم كما فعلتم من قبل .. فستجزون العذاب الأليم. ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلّف عن الجهاد. ومنها: ما هو لازم، كالعمى والعرج. ومنها: ما هو عارض يطرأ ويزول، كالمرض. ثم أعقب ذلك بالترغيب في الجهاد، والوعيد بالعذاب الأليم من مذّلة في الدنيا، ونار موقدة في الآخرة لمن نكل عنه، وأقبل على الدنيا، وترك ما يقرّبه من ربه. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة (¬1): ما أخرجه البخاريّ عن أحمد بن إسحاق السلميّ، عن يعلى عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل أسأله، فقال: كنا بصفّين، فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله تعالى؟ فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفكسم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية؛ يعني: الصلح الذي كان بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمشركين، ولو نرى قتالًا ... لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى". قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الخطاب إنّي رسول الله، ولن يضيِّعني الله أبدًا". فرجع متغيِّظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيّعه الله أبدًا، فنزلت سورة الفتح. وأخرجه أحمد أيضًا. قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ¬

_ (¬1) أسباب النزول.

[1]

أحمد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: أنها نزلت على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من الحديبية، وأصحابه يخالطون الحزن والكآبة، وقد حيل بينهم وبين مساكنهم، ونحروا الهدي بالحديبية. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} إلى {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}. قال: "لقد أنزلت عليّ آيتان، هما أحبّ إليّ من الدنيا جميعًا". قال: فلمّا تلاهما .. قال رجل: هنيئًا مريئًا يا رسول الله، قد بين لك ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِنَّا} نحن {فَتَحْنَا لَكَ} يا محمد {فَتْحًا مُبِينًا}؛ أي: فتحًا ظاهرًا واضحًا، لا يختلج فيه شكّ بذلك الصلح الذي تمَّ على يديك في الحديبية، إذ لم يمض إلا القليل من الزمان، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وكان هو السُّلَّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة، وتسابق العرب إلى الدخول في الدين زرافات ووحدانًا. اختلف في تعيين هذا الفتح (¬1)، فقال أكثر العلماء: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمّى فتحًا، قال الفرّاء: والفتح قد يكون صلحًا، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا متعذّرًا، حتى فتحه الله، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكّن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام، وقال قوم: إنّه فتح مكة، وقال آخرون: إنّه فتح خيبر، والأول: أرجح، ويؤيّده ما ذكرناه قبل هذا، من أنّ السورة أنزلت في شأن الحديبية، وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوّة والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، وقيل: المراد بالفتح في هذه الآية: الحكم والقضاء، كما في قوله: ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[2]

{افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، فكأنه قال: إنا قضينا لك قضاءً مبينًا؛ أي: ظاهرًا واضحًا مكشوفًا. فإن قلت (¬1): على هذه الأقوال هذه البلاد مكة وغيرها، لم تكن قد فتحت بعد، فكيف قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} بلفظ الماضي؟ قلت: وعد الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالفتح، وجيء به بلفظ الماضي، جريًا على عادة الله تعالى في أخباره؛ لأنها في تحقّقها وتيقّنها بمنزلة الكائنة الموجودة، كأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك في حكمنا وتقديرنا أزلًا، وما قدّره وحكم به فهو كائن لا محالة. 2 - {لِيَغْفِرَ لَكَ} ربّك {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}؛ أي: جميع ما فُرِّط منك من الهفوات، مما يصح أن يسمى ذنبًا بالنظر إلى مقامك الشريف، وإن كان لا يسمى بالنظر إلى سواك، ومن ثم قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والمراد: غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها، قاله مجاهد، وسفيان الثوريّ، وابن جرير والواحدي، وغيرهم، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدّم من ذبنك وما تأخّر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". قال صاحب "الكشاف": فإن قلت (¬2): كيف جعل فتح مكة علّة للمغفرة؟ قلت: لم يجعله علّة للمغفرة، ولكنّه جعله علّة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة: وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسّرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك؛ لنجمع لك بين عزّ الدارين، وأغراض الآجل والعاجل. اهـ. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الكشاف.

[3]

وهذا كلام (¬1) غير جيّد، فإنّ اللام داخلة على المغفرة، فهي علّة للفتح، فكيف يصحّ أن تكون معلّلة؟. وقال الرازي في توجيه التعليل: إنّ المراد بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله}: التعريف بالمغفرة، تقديره: إنا فتحنا لك؛ لتعرف أنك مغفور لك معصوم، وقال ابن عطية: المراد: أنّ الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة. {وَ} لـ {يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإظهار دينك على الدين كله، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}؛ أي: ويرشدك طريقًا من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربّك. والمعنى: ليثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. 3 - {وَيَنْصُرَكَ الله} سبحانه على من ناوأك من أعدائك {نَصْرًا عَزِيزًا}؛ أي: نصرًا غالبًا منيعًا لا يتبعه ذل، ولا يدفعه دافع لما يؤيِّدك به من بأس، وينيلك من ظفر. هذا، ولمّا (¬2) كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله، وغاية يبتغيها منه كان للنبوة نهاية مطلوبة في هذه الحياة، وثمرة تتبع هذه النهاية، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور، ويجتمع شملها، وتكمل نظمها التي تبني عليها الحياة الهنيِّة، حتى يعيش العالم في طمأنينة وهدوءٍ، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء، وخضد شوكتهم، ومتى تم هذا، وأنقذ المستضعفون، ودخل الناس في دين الله أفواجًا كرهًا ثم طوعًا انتظم أمر النبوة، وأدى الرسول واجبه، واستوجب أن يجني ثمرة أعماله، وهي: 1 - مغفرة ما فرط من ذنبه، مما يعد ذنبًا بالنظر إلى مقامه الشريف. 2 - تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة، بعد أن كانت له النبوة وحدها. 3 - الهداية إلى الصراط المستقيم في تبليغ الرسالة، وإقامة مراسيم الرياسة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[4]

4 - المنعة والعزّة، ونفاذ الكلمة. ورهبة الجانب، وحمي الذمار. فهذا الفتح كان كفيلًا بهذه الشؤون الأربعة، فكأنه سبحانه يقول لرسوله: لقد بلّغت الرسالة، ونصبت في العمل، وجاهدت بلسانك وسيفك، وجمعت الرجال والكراع والسلاح، وتلطّفت وأغلظت، وأخلصت في عملك، وفعلت في وجيز الزمن ما لم ينله مثلك في طويله، حتى تم ما ندبناك له، فلتجن ثمار عملك، ولتقر عينًا بما آل إليه أمرك في الدنيا والآخرة. فإن قلت (¬1): وصف الله تعالى النصر بكونه عزيزًا، والعزيز: هو المنصور صاحب النصر، فما معناه؟ قلت: معناه: ذا عزّة، كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أي: ذات رضًا، وقيل: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسنادًا مجازيًا، يقال: هذا كلام صادق، كما يقال: متكلّم صادق. وقيل: معناه: نصرًا عزيزًا صاحبه، فحذف المضاف إيجازًا واختصارًا، وقيل: إنما يحتاج إلى هذه التقديرات إذا كانت العزّة بمعنى الغلبة، والعزيز: الغالب، أما إذا قلنا: إنّ العزيز: هو النفيس القليل، أو العديم النظير، فلا يحتاج إلى هذه التقديرات؛ لأنّ النصر الذي هو من الله تعالى عزيز في نفسه، لكونه من الله تعالى، فصحَّ وصف كونه نصرًا عزيزًا. اهـ من "الخازن". 4 - ولمَّا قال تعالى: {وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا (3)} .. بيَّن وجه هذا النصر، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي أَنْزَلَ} وألقى {السَّكِينَةَ} والطمأنينة {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وهم: أهل الحديبية؛ أي: وهو الذي جعل السكينة التي هي الطمأنينة، والثبات، وعدم التزلزل في قلوب المؤمنين، بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس، ويزيغ القلوب من صد الكفار، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا، ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها، فكان ذلك من ¬

_ (¬1) الخازن.

أسباب النصر الذي وعد الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: جعل السكينة، والطمأنينة، وعدم التزلزل في قلوبهم، بسبب الصلح والأمن بعد الخوف؛ لأنهم كانوا قليلي العدة بسبب أنهم معتمرون، وكان الأعداء مستعدِّين لقتالهم، مع ما لهم من القوّة، والشوكة، وشدة البأس، فثبتوا وبايعوا على الموت بفضل الله تعالى {لِيَزْدَادُوا} بسبب تلك السكينة {إِيمَانًا}؛ أي: يقينًا وتصديقًا {مَعَ إِيمَانِهِمْ}؛ أي: منضمًّا إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل، قال الكلبيّ: كلما نزلت آية من السماء، فصدّقوا بها .. ازدادوا تصديقًا إلى تصديقهم، وقال الربيع بن أنس: خشيةً مع خشيتهم. والمعنى (¬1): هو الذي أنزل في قلوب المؤمنين طمأنينة، وثبات أقدام عند اللقاء، ومقاتلة الأعداء، ليزدادوا يقينًا في دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوي الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام، ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان، بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالًا شديدًا، حتى إنّ عمر بن الخطاب لم يكن راضيًا عن هذا الصلح، وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟. وكان للصديق من القدم الثابتة، ورسوخ الإيمان ما دلّ على أنه لا يجارى ولا يبارى. أو المعنى: ليزدادوا (¬2) إيمانًا بشرائع الدين مع إيمانهم بالله ورسوله، وليزدادوا إيمانًا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأنّ محمدًا رسول الله، وأنّ الله واحد، والحشر كائن، وآمنوا بأنّ كل ما يأمر الله به واجب، وبأنّ كلّ ما يقوله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صدق، وهو الذي قد قال لهم: "لا بد من أن تدخلوا مكة، وتطوفوا بالبيت". ولمّا قال الله: (¬3) {وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا}، وكان المؤمنون في قلّة من العَدد والعُدد .. فكأنّ قائلًا قال: كيف ينصره؟ فأجابه الله سبحانه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

[5]

بقوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهو قادر على نصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جنوده، بل هو قادر على أن يهلك عدوّه بصيحة، ورجفة، وصاعقة، ونحو ذلك، فلم يفعل، بل أنزل سكينة في قلوبكم أيّها المؤمنون، ليكون نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإهلاك أعدائه على أيديكم، فيكون لكم الثواب، ولهم العقاب، وفي جنود السموات والأرض وجوه: الأول: أنهم ملائكة السموات والأرض. الثاني: أنّ جنود السموات الملائكة، وجنود الأرض جميع الحيوانات. الثالث: أنّ جنود السموات: مثل الصاعقة، والصيحة، والحجارة، وجنود الأرض: مثل الزلازل والخسف والغرق، ونحو ذلك. {وَكَانَ الله} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بجميع جنوده الذين في السموات والأرض، أو عليما بالمصالح {حَكِيمًا}؛ أي: في تدبير جنوده، أو فيما يقدّر ويدبّر، وقيل: عليمًا بما في قلوبكم أيّها المؤمنون، حكيمًا حيث جعل النصر لكم على أعدائكم. والمعنى (¬1): أي فهو سبحانه الإله الذي يدبّر أمر العالم، ويسلّط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون في سبيل الشيطان، ولو شاء .. لأرسل عليهم جندًا من السماء، فأباد خضراءهم، لكنّه سبحانه شرع الجهاد والقتال لما في ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنّا، وهذا ما عناه بقوله: {وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا}. فهو لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض. 5 - و {اللام} في قوله: {لِيُدْخِلَ} الله سبحانه {الْمُؤْمِنِينَ} المخلصين من الرجال {وَالْمُؤْمِنَاتِ} المخلصات من النساء {جَنَّاتٍ} وبساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: تسيل من تحت أشجارها ومساكنها وغرفها {الْأَنْهَارُ}؛ أي: أنهار الماء واللبن والخمر ¬

_ (¬1) المراغي.

والعسل، حال كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: مقدّرين الخلود في الجنة لا يموتون، ولا يخرجون منها، متعلقة بمقدر يقتضيه السياق، تقديره: هو الذي (¬1) أنزل السكينة في قلوب المؤمنين؛ ليدخلهم جنات .. إلخ. وقيل: تقديره: إن من علمه وحكمته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، ووعدهم الفتح والنصر، ليشكروه على نعمه، فيثيبهم ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار. وقيل (¬2): متعلقة بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له تعالى من معنى التصرّف والتدبير؛ أي: دبّر ما دبَّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك، ويشكروها، فيدخلهم الجنة، وقد تقدّم ما روي عن أنس: أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .. قال الصحابة: هنيئًا مريئًا، قد بيَّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عزّ وجل الآية التي بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلخ. {وَيُكَفِّرَ}؛ أي: يستر {عَنْهُمْ}؛ أي: عن المؤمنين {سَيِّئَاتِهِمْ}؛ أي: ذنوبهم ولا يظهرها، وهذا (¬3) بإزاء قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله}؛ أي: يغطيها ولا يظهرها، قبل أن يدخلهم الجنة؛ ليدخلوها مطهَّرين من الآثام، وتقديم الإدخال على التكفير، مع أنّ الترتيب في الوجود على العكس، من حيث إنَّ التخلية قبل التحلية للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى. أو يقال: إنّ الواو لا تقتضي الترتيب {وَكَانَ ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من الإدخال والتكفير {عِنْدَ اللهِ} سبحانه وتعالى {فَوْزًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره؛ لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع، ودفع ضرّ، والفوز: الظفر بالمطلوب مع حصول السلامة، و {عِنْدَ اللهِ}: حال من {فَوْزًا}؛ لأنه صفته في الأصل، فلما قدم عليه .. صار حالًا؛ أي: كائنًا عند الله تعالى؛ أي: في علمه وقضائه. أي: وكان (¬4) ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم عند الله وفي ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[6]

حكمه فوزًا عظيمًا؛ أي: ظفرًا بكل مطلوب، ونجاةً من كل غمّ، وجلبًا لكل نفع، ودفعًا لكل ضر، والجملة: معترضة بين جزاء المؤمنين، وجزاء المنافقين والمشركين. والمعنى (¬1): أي وإنّما دبّر ذلك؛ ليعرف المؤمنون نعمة الله، ويشكروها، فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدًا، وليكفرّ عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرًا لربهم على ما أنعم به عليهم، وكان ذلك ظفرًا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له، ونجاة ما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة، ومضرة مدفوعة. 6 - ثمّ لما فرغ مما وعد به صالحي عباده .. ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إلخ، فهو معطوف على {يُدْخِلُ}؛ أي: وليعذّب المنافقين والمنافقات من أهل المدينة {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} من أهل مكة؛ أي: وليعذّبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم، بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون به من القهر، والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم. وفي تقديم المنافقين على المشركين هنا، وفي غيره من المواضع (¬2)، دلالة على أنهم أشدّ منهم عذابًا، وأحق منهم بما وعدهم الله به؛ لأنّ المنافقين كانوا أشدّ ضررًا على المؤمنين من الكافرين المجاهرين؛ لأنّ الكافر يمكن أن يحترز منه، ويجاهد؛ لأنه عدو مبين، فيتوقى المؤمن من شره، والمنافق لا يمكن أن يحترز منه، ولا يجاهد؛ لأنّه يختلطه لظنّه إيمانه فيفشي سره، فلهذا كان شره أكثر من شر الكافر، فكان تقديم المنافق بالذكر أولى. ثم وصف الفريقين، فقال: {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ}: صفة للفريقين: أهل النفاق، وأهل الشرك. و {ظَنَّ السَّوْءِ} (¬3): منصوب على المصدرية، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

والإضافة فيه كالإضافة في سيف شجاع، من حيث إنّ المضاف إليه في الحقيقة هو موصوف هذا المجرور، والتقدير: سيف رجل شجاع، فكذا التقدير هنا: ظن الأمر السوء، وهو أنّ الله لا ينصر رسوله، ولا يرجعهم إلى مكة فاتحين، ولا إلى المدينة سالمين، كما قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا}. والمعنى: الذين يظنون بالله الأمر السيء الفاسد الردىء ظنًّا. وقال في "كشف الكشاف": إنّ ظن السوء مثل رجل صدق؛ أي: يظنون الظنَّ السيء الفاسد المذموم. انتهى، وعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ولا عكسها؛ لأنّ الصفة والموصوف عبارتان عن شيء واحد، فإضافة أحدهما إلى الآخر، كإضافة الشيء إلى نفسه، وفي "التأويلات النجمية": {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في ذاته وصفاته بالأهواء والبدع، وفي أفعاله، وأحكامه بالظلم والعبث. {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على المشركين والمنافقين {دَائِرَةُ السَّوْءِ}؛ أي: الأمر السيء الرديء الذي يظنونه بالمؤمنين، ويتربّصونه بهم، دائر عليهم، حائق بهم، لا يتجاوزهم إلى غيرهم، فقد أكذب الله سبحانه ظنهم، وقلب ما يظنونه بالمؤمنين عليهم بحيث لا يتخطاهم، ولا يظفرون بالنصرة أبدًا، كقوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}. وقال أبو السعود: في سورة التوبة: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: دعاء عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض، كقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} بعد قول اليهود ما قالوا. اهـ. فإن قلت: كيف يحمل على الدعاء، وهو للعاجز عرفًا، والله منزه عن العجز؟ قلت: هذا تعليم من الله لعباده أنه يجوز الدعاء عليهم، كقوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الله}، ونحوه. وقرأ الجمهور (¬1): {السُّوءِ} في الموضعين بفتح السين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بضمها، وهما (¬2) لغتان في مصدر ساء بمعنى واحد، كالكره والكره، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

والضعف والضعف، خلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شيء، وأما المضموم فجارٍ مجرى الشر المناقض للخير، ومن ثمة أضيف إلى المفتوح؛ لكونه مذمومًا، وكانت الدائرة محمودة، فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل المذكور، وأما {دائرةُ السُّوء}، بالضم؛ فلأنَّ الذي أصابهم مكروه وشدة، يصح أن يقع عليه اسم السوء، كقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}. كما في بعض التفاسير، والدائرة: عبارة عن الخطّ المحيط بالمركز، ثم استعملت في الحادثة والمصيبة المحيطة لمن وقعت هي عليه. فمعنى الآية: يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء، أو بمن فيها، بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجهٍ، إلا أنّ أكثر استعمالها؛ أي: الدائرة في المكروه، كما أنَّ أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول، ويكون مرةً لهذا، ومرةً لذاك، والإضافة في {دَائِرَةُ السَّوْءِ} من إضافة العام إلى الخاص للبيان، كما في خاتم فضة؛ أي: دائر من شرّ، لا من خير. والخلاصة: (¬1) أنّ الفريقين ظنّوا أنّ الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين، وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنّونه بالمؤمينن من الدوائر، وأحداث الزمان، فقال: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}؛ أي: عليهم تدور الدوائر السيئة، والمصائب الداهية، وسيحيق بهم ما كانوا يتربَّصونه بالمؤمنين من قتل وسبيٍ، وأسرٍ لا يتخطاهم. ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة، فقال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}؛ أي: ولمَّا بين سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا .. بيَّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم، وقال بعضهم (¬2): غضبه تعالى: إرادة العقوبة لهم في الآخرة، وكونهم على الشرك والنفاق في الدنيا، وحقيقته: أن للغضب صورة ونتيجة، أما صورته فتغير في الغضبان يتأذى به ويتألم، وأما نتيجته فإهلاك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

المغضوب عليه، وإيلامه، فعبَّر عن نتيجة الغضب بالغضب على الكناية بالسبب عن المسبب، وعلى قول هذا القائل فمعنى: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ}؛ أي: أراد إصرارهم على الشرك والنفاق في الدنيا، وعقوبتهم في الآخرة، وقيل: الغضب (¬1): إشارة إلى أنَّ هذا الذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب، فإن من كان به بلاء، قد يكون مصابًا على وجه الامتحان ليصير مثابًا، وقد يكون مصابًا على وجه التعذيب، كما هنا. والصحيح: أنَّ الغضب صفة ثابتة لله تعالى، أثرها الانتقام ممن عصاه. {وَلَعَنَهُمْ}؛ أي طردهم، وأبعدهم من كل خير، فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب، والشتم أو الضرب، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب. عليه من جنابه، ولا إلى طرده من بابه، وقد يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه، لكون الغضب شديدًا {وَأَعَدَّ}؛ أي: هيأ {لَهُمْ} في الآخرة {جَهَنَّمَ}؛ أي: نارها {وَسَاءَتْ}؛ أي: قبحت جهنم {مَصِيرًا}؛ أي: مرجعًا لهم، والمخصوص بالذمِّ هي. والمعنى: ونالهم غضب من الله، وأبعدهم فأقصاهم من رحمته، وأعدَّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلًا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات. 7 - {وَلِلَّهِ} سبحانه {جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الملائكة والإنس والجنّ، والشياطين والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق، ونحو ذلك أنصارًا على أعدائه، إن أمرهم بإهلاكهم .. أهلكوهم، وسارعوا مطيعين لذلك. {وَكَانَ الله} سبحانه وتعالى {عَزِيزًا}؛ أي: غالبًا على كل شيء، فلا يرد بأسه ممن أراد الانتقام منهم {حَكِيمًا} فيما دبّره لخلقه، فلا يفعل ما يفعل إلا على مقتضى الحكمة والصواب، وكرَّر هذه الآية؛ لقصد التأكيد، أو للتنبيه (¬2) على أنَّ لله تعالى جنودًا للرحمة، ينزلهم ليدخل بهم المؤمنين الجنة، معظمًا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

مكرمًا، وهذا هو المراد في الآية الأولى، وأنّ له تعالى جنودًا للعذاب، يسلِّطهم على الكفار، ويعذبهم بهم في جهنم. كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ}. والمراد هاهنا: جنود العذاب، كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة، فإنَّ عادته تعالى أن يصف نفسه بالعزة في مقام ذكر العذاب والانتقام، وفي "الفتوحات": ذكر جملة قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} سابقًا على أنّ المراد به: أنه المدبّر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ذيلَّه بقوله: {عَلِيمًا حَكِيمًا}. وهنا أريد به: التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم، فلذلك ذيله بقوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} فلا تكرار. انتهى. قال في "برهان القرآن": الأول متصل بإنزال السكينة وازياد إيمان المؤمنين، فكان الموضوع موضع علم وحكمة، وأما الثاني والثالث الذي بعده، فمتصلان بالعذاب والغضب، وسلب الأموال والغنائم، فكان الموضع موضع عزّ وغلبة وحكمة، روي: أنه لمّا جرى صلح الحديية .. قال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها .. لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم؟ فبيَّن سبحانه أن جنود السموات والأرض، أكثر من فارس والروم. خلاصة ما سلف (¬1): أنّه قد ترتَّب على هذا الفتح أربعة أشياء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - مغفرة الذنوب. 2 - اجتماع الملك والنبوّة. 3 - الهداية إلى الصراط المستقيم. 4 - العزّة والمنعة. وفاز المؤمنون بأربعة أشياء: 1 - الطمأنينة والوقار. 2 - ازدياد الإيمان. ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

3 - دخول الجنّات. 4 - تكفير السيئات. وجازى الكفار بأربعة أشياء: 1 - العذاب. 2 - العضب. 3 - اللعنة. 4 - دخولهم جهنم. 8 - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد إلى كافّة الناس، حالة كونك {شَاهِدًا} على أمّتك يوم القيامة بتصديق من صدّقك، وتكذيب من كذّبك كما في قوله في آية أخرى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ أي: مقبولًا قوله في حقهم يوم القيامة عند الله تعالى، سواء شهد لهم أو عليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل عند الحاكم، وهو حال مقدرة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون شاهدًا وقت التحمل والأداء، وذلك متأخّر عن زمان الإرسال، بخلاف غيره مما عطف عليه، فإنه ليس من الأحوال المقدرة {وَ} حالة كونك {مُبَشِرًا} لمن آمن بك بالجنة والثواب {وَنَذِيرًا}؛ أي: منذرًا ومخوفًا لمن كذّبك بالعذاب والعقاب 9 - {لِتُؤْمِنُوا}؛ أي: لكي تؤمن أنت وأمّتك. {بِاللهِ}؛ أي: بوحدانية الله وصفاته {و} تؤمنوا بـ {رسوله} محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه صادق مصدَّق فيما جاء به من عند الله سبحانه، والخطاب (¬1) في: {تؤمنوا} يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمّته، فيكون تعميمًا للخطاب بعد التخصيص؛ لأنّ خطاب {أَرْسَلْنَاكَ} للنبيّ خاصّةً، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} خصَّه - صلى الله عليه وسلم - بالنداء، ثمّ عمَّم الخطاب على طريق تغليب المخاطب على الغائبين وهم: المؤمنون، فدلت الآية على أنه - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يؤمن برسالة نفسه، كما ورد في الحديث: أنه كان يقول: "أشهد أنّي عبد الله ورسوله". ويجوز أن يكون الخطاب ¬

_ (¬1) روح البيان.

للأمّة فقط. فإن قلت: كيف يجوز تخصيص الخطاب الثاني بالأمّة في مقام توجيه الخطاب الأول إليه - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه؟. قلت: إنّ خطاب رئيس القوم بمنزلة خطاب من معه من أتباعه، فيجوز أن يخاطب الأتباع في مقام تخصيص الرسل بالخطاب؛ لأنّ المقصود سماعهم. {وَتُعَزِّرُوهُ}؛ أي: ولكي تعزّر الله تعالى أنت وأمّتك، وتنصروه، وتقوّوه بتقوية دينه ونصرة رسوله، من التعزير: وهو النصرة مع التعظيم؛ أي: ولتنصروا الله تعالى بنصر دينه تعالى {وَتُعَزِّرُوهُ} تعالى؛ أي: ولكي توقّر الله تعالى أنت وأمّتك، وتعظّموه باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع سمات النقصان، من التوقير: وهو التبجيل والتعظيم. {وَتُسَبِّحُوهُ} تعالى؛ أي: ولكي تسبّح الله تعالى أنت وأمّتك، وتنّزهوه عما لا يليق به، وعمّا لا يجوز إطلاقه عليه تعالى من الشريك والولد، أو تصلّوا له، من السبحة: وهي الدعاء وصلاة التطوع، قال في "القاموس": التسبيح: الصلاة، ومنه قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)}؛ أي: من المصلّين. {بُكْرَةً} وغدوة {وَأَصِيلًا} وعشيّا، فالبكرة: أوّل النهار، والأصيل: آخره، أو تسبّحوه دائمًا، فإنه يراد بهما: الدوام، وفي "عين المعاني": البكرة: صلاة الفجر، والأصيل: الصلوات الأربع، فتكون الآية مشتملة على جميع الصلوات المفروضة. وجوّز (¬1) بعض أهل التفسير أن يكون ضمير {تعزّروه وتوقّروه} لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا وجه له؛ لأنه تفكيك وتشتيت للضمائر، إذ ضمير {رسوله} و {تسبحوه} لله تعالى قطعًا، وعلى تقدير يكون له وجه، فمعنى تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتوقيره حقيقةً: اتباع سنته في الظاهر والباطن، والعلم بأنه زبدة المخلوقات، وخلاصتها وأفضلها على الإطلاق، وحينئذٍ الوقف على {توقروه} وقف تام، ثم يبدأ بقوله: {وَتُسَبِّحُوهُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

والمعنى (¬1)؛ أي إنا أرسلناك أيّها الرسول شاهدًا على أمّتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه، مما أرسلناك به إليهم، مبشّرًا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيّم، ونذيرًا لهم عذاب الله إن تولّوا، وأعرضوا عمّا جئتهم به من عنده، فآمنوا بالله ورسوله، وانصروا دينه، وعظّموه وسبّحوه في الغدّو والعشيّ. وقرأ الجمهور (¬2): {لِتُؤْمِنُوا} والأفعال الثلاثة بعده بتاء الخطاب، وأبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة فيها، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى؛ لتكون على وتيرة واحدة، كما جرينا عليه في حلّنا، ويصحّ رجوعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحينئذٍ معنى {يسبحوه}: ينزهوه - صلى الله عليه وسلم - من كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة، والطواف بالبيت الحرام، وبنحو ذلك. وقرأ الجحدري: {وتعزروه} بفتح التاء وضم الزاي مخففةً، وقرأ جعفر بن محمد: {وتعزروه} بضم التاء وكسر الزاي، وقرأ ابن عباس واليمانيّ: {وتعزّزوه} بزايين، من العزة، وقرىء: {وتوقروه} بسكون الواو. 10 - {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ}؛ أي: إنّ الذين بايعوك، وعاهدوك يا محمد على أن لا يفرّوا من قتال قريش تحت شجرة السمرة في الحديبية بيعة الرضوان، وهم مقدار ألف وخمس مئة أو أربع مئة رجل، سميت (¬3) المعاهدة مبايعة؛ تشبيهًا بالمعاوضة الماليّة؛ أي: مبادلة المال بالمال في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة، فهم التزموا طاعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والثبات على محاربة المشركين، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعدهم بالثواب، ورضا الله تعالى، قال بعض الأنصار عند بيعة العقبة: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أشترط لربّي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، ولنفسي أن تمنعوني، ومما تمنعوني منه: أنفسكم، وأبناءكم، ونساءكم" فقال ابن رواحة رضي الله عنه: فإذا فعلنا فما لنا؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والمراح. (¬3) روح البيان.

فقال: "لكم الجنة". قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. وفي "الخازن": وأصل البيعة: العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بهذه البيعة: بيعة الرضوان. {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} سبحانه وتعالى أنفسهم بالجنة؛ أي: إنّ (¬1) من بايعك بمنزلة من بايع الله، كأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}. وذلك لأنّ المقصود ببيعة رسوله: هو وجه الله، وتوثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه، قال ابن الشيخ: لمّا كان الثواب إنما يصل إليهم من قبله تعالى .. كان المقصود بالمبايعة منه - صلى الله عليه وسلم -: المبايعة مع الله سبحانه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو سفير، ومعبِّر عنه تعالى، وبهذا الاعتبار صاروا كأنهم يبايعون الله تعالى. وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ}؛ أي: لأجل الله ولوجهه، والمفعول: محذوف؛ أي: إنما يبايعونك لله، ذكره في "البحر". والمعنى: أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى، من غير تفاوت بينهما؛ لأنّ من بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفرّ من موضع القتال إلى أن يقتل، أو أن يفتح الله لهم، وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرًا، لكن إنما يقصد بها حقيقةً رضا الرحمن، فإنّ المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه، وهذا يسمى بيعة الرضوان؛ لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ...} الآية. وجملة قوله: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}: مستأنفة (¬2) لتقرير ما قبلها على طريق التخييل في محل نصب على الحال؛ أي: نعمة (¬3) الله عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله، وهو ما صنعوا من البيعة، أو نصرة الله تعالى إيّاهم أعلى من نصرتهم إياه، ويقال: حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح.

أيدي المتبايعين لحفظ أيديهما إلى أنّ يتم العقد، فإن كل واحد من المتبايعين إذا مد يده إلى صاحبه في البيع والشراء .. يتوسط بينهما ثالث، فيضع يده على يديهما، فيحفظ يديهما إلى أنّ يتم العقد، لا يترك واحدًا منهما أن يقبض يده إلى نفسه، ويتفرق عن صاحبه قبل انعقاد البيع، فيكون وضع الثالث يده على يديهما سببًا لحفظ البيعة، فلذلك قال تعالى: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يحفظهم، ويمنعهم عن ترك البيعة، كما يحفظ المتوسّط أيدي المتبايعين. فيد الله في هذه التأويلات: إما بمعنى النعمة، أو بمعنى النصرة، أو بمعنى الحفظ، وقال سعدي المفتي: الظاهر: والله أعلم أنَّ المعنى على التشبيه؛ أي: كأنهم يبايعون الله، وكذا الحال في قوله: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: كأنَّ يد الله حين المبايعة فوق أيديهم، حذف أداة التشبيه للمبالغة في التأكيد، وذكر اليد لأخذهم بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين البيعة على ما هو عادة العرب عند المعاهدة والمعاقدة، وفيه تشريف عظيم ليد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي تعلوا أيدي المؤمنين المبايعين، حيث عبّر عنها بيد الله، كما أنَّ وضعه - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على يده اليسرى لبيعة عثمان رضي الله عنه تفخيم لشأن عثمان، حيث وضعت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع يده، ولم ينل تلك الدولة العظمى أحد من الأصحاب، فكانت غيبته رضي الله عنه في تلك الواقعة خيرًا له من الحضور، وقيل غير ذلك من الأقوال المتلاطمة، وقيل: إنّ في الكلام حذف مضاف؛ أي: يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق أيديهم عند المبايعة. تنبيه هام: وهذا الذي ذكرناه من الأقاويل: مذهب أهل التأويل، وكلامهم في هذه الآية، ومذهب أهل السلف، وهو الأصحّ الصحيح، والأسلم السليم: السكوت عن التأويل، وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسيرها قراءتها، والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، والله أعلم بمعنى كلامه وأسرار كتابه. وعن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أيّ شيءٍ بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: على الموت. متفق عليه.

وعن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس، وأنا رافع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مئة قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفرَّ. أخرجه مسلم. قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين، ومعناهما صحيح، فيقال في الجمع بينهما: بايعه جماعة، منهم: سلمة بن الأكوع على الموت، فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا، أو ينتصروا، وبايعه جماعة، منهم: معقل بن يسار على أن لا يفرّوا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنّ الناس كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، تفرَّقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال - يعني: عمر -: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس أحدقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب، فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع. أخرجه البخاري. بيعة الرضوان بيعة الشجرة سبب هذه البيعة: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أميّة الخزاعيّ حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، واحدهم أحبوش: وهو الفوج من قبائل شتّى، فخلّوا سبيله حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه، فقال: إنيّ أخافهم على نفسي لما أعرف من عداوتي إياهم، وما بمكة عدويٌّ، قبيلته بنو عدي، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها، وأحبّ إليهم: عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان، وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظّمًا لحرمته، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي حين دخل مكة، فجعله في جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش، ثمّ احتبسوه عندهم، فشاع بين المسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نبرح حتى نناجز القوم" ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايعه القوم على أن لا يفرّوا أبدًا إلا جدَّ بن قيس الأنصاري، فأرعب ذلك المشركين، وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح،

وكان قد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الذي بلغه من أمر عثمان كذب، فتم الصلح، ومشى بعضهم إلى بعض على أن يحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام القابل، ويدخل مكة. {فَمَنْ نَكَثَ}؛ أي: فمن نقض العهد الذي عقده مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبيعته معه، وأزال إبرامه وإحكامه {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ} وينقض إدخالًا للضرر {عَلَى نَفْسِهِ}؛ أي: فإنما يعود ضرر نكثه على نفسه، ولا يضر بنقضه إلا نفسه؛ لأنّ الناكث هو لا غير؛ لأنّه فوت على نفسه الإحسان الجزيل، على العمل القليل، فقد خسر. {وَمَنْ أَوْفَى}؛ أي: ومن وفي {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ} بضم الهاء؛ فإنه (¬1) أبقى الضم بعد حذف الواو، إذ أصله: عليه والله توصلًا بذلك إلى تفخيم لام الجلالة؛ أي: ومن أوفى بعهده مع الله، وثبت عليه، وأتمَّه {فَسَيُؤْتِيهِ} الله سبحانه وتعالى في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} وثوابًا جزيلًا: هو الجنة وما فيها من رضوان الله العظيم، والنظر إلى وجهه الكريم، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويحتمل أن يراد بنكث العهد: ما يتناول عدم مباشرته ابتداءً، ونقضه بعد انعقاده؛ لما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلا جُدَّ بن قيس، وكان منافقًا اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يصر مع القوم؛ أي: إلى المبايعة حين دعوا إليها. وقرأ زبد بن عليّ (¬2): {يَنْكِثْ} بكسر الكاف، وقرىء: {بما عَهِدَ} ثلاثيًا، وقرأ الجمهور: {عليه} بكسر الهاء والترقيق لوقوعها بعد ياءٍ ساكنةٍ، كما هو الغالب، وقرأ حفص والزهري: بضمها والتفخيم على الأصل في بناء هاء الضمير على الضمّ؛ لأنّها هاء هو، وهي مضمومة، فاستصحب ذلك، كما في له وضربه، وقرأ الجمهور: {فَسَيُؤْتِيهِ} بالياء التحتية، وقرأ نافع وابن كثير، وابن عامر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[11]

وزيد بن عليّ: بالنون. 11 - {سَيَقُولُ لَكَ} السين فيه: للاستقبال {الْمُخَلَّفُونَ} من خلّفته بالتشديد تركته خفي، وخلفوا أثقالهم تخليفًا خلّوها وراء ظهورهم؛ أي: سيقول لك يا محمد، الأحياء الذين خلّفتهم وتركتهم وراءك في المدينة، حين سافرت إلى مكة {مِنَ الْأَعْرَابِ} الذين خلَّفهم الله تعالى عن صحبتك، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه، وعاتبتهم على التخلف عنك: {شَغَلَتْنَا} عن المسافرة والخروج معك {أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا}؛ أي: نساؤنا وذرارينا؛ يعني: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، فلذا تخلفنا عنك، قال ابن عباس ومجاهد: يعني: أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والنخع، وذلك أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا .. استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه، حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأحرم بالعمرة، وساق الهدي؛ ليعلم الناس أنه لا يريد حربًا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلّفوا، واعتلّوا بالشغل، فأنزل الله فيهم: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ}، إذا رجعت إليهم من عمرتك: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا}؛ أي: منعنا عن الخروج معك مالنا، من الأموال والنساء والذراريّ، وليس لنا من يقوم بهم، ويخلفنا عليهم، فإنا لو تركناهم .. لضاعوا، وأنت قد نهيت عن ضياع المال، وعن التفريط في العيال، وقرىء (¬1): {شَغَلَتْنَا} بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان عن قتيبة. ولمّا علموا أنّ ذلك التخلُّف عن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معصية .. سألوا أن يستغفر لهم {فـ} قالوا: {اسْتَغْفِرْ لَنَا} الله يا رسول الله بتأخرنا عنك عن الخروج إلى الحديبية؛ أي: فاطلب لنا المغفرة من الله، إذ لم يكن تخلَّفنا عن عصيان لك، ولا مخالفة لأمرك؛ ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب. ولمّا كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد، بل على طريقة الاستهزاء، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وكانت بواطنهم مخالفةً لظواهرهم .. فضحهم الله سبحانه بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ}؛ يعني: أنهم في طلب الاستغفار كاذبون؛ لأنّهم لا يبالون أستغفر لهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا، وهذا صنيع المنافقين، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم، ويجوز أن تكون بدلًا من الجملة الأولى؛ أي: إنهم لم يكونوا صادقين في اعتذارهم بأنَّ الامتناع كان لهذا السبب؛ لأنّهم إنّما تخلَّفوا اعتقادًا منهم أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يغلبون، بدليل قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا}. فإنهم (¬1) قالوا: أهل مكة يقاتلون في باب المدينة، فكيف يذهب إلى قوم قد غزوا في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه في أحد؟ وكيف يكون حالهم إذا دخل عدوّهم بلادهم، وأحاطوا بهم؟. ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب عنهم، فقال: {قُل} يا محمد ردًّا لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ}؛ أي: فمن يقدر لأجلكم {مِنَ اللهِ}؛ أي: من مشيئة الله، وقضائه أن يجلب {شَيْئًا} من النفع {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} أو من يحفظكم من مشيئته وقضائه، إن أراد بكم ضرًّا. وقرأ الجمهور (¬2): {ضَرًّا} بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضرًّا، وقرأ حمزة والكسائي: بضمها، وهو اسم ما يضر، وقيل: هما لغتان في المصدر؛ أي: إن أراد بكم ما يضركم، كقتل وهزيمة، وخلل في المال والأهل، وعقوبة على التخلف من هلاك الأهل والأموال، وضياعهما حتى تتخلّفوا عن الخروج لحفظهما، ودفع الضرر عنهما. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}؛ أي: ومن يقدر على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم؛ فأيُّ حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما. أي: قل لهم (¬3): إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضر، وتتركون أمر الله ورسوله، وتقعدون طلبًا للسلامة، ولكن لو أراد الله بكم ضرًّا .. لا ينفعكم ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[12]

قعودكم شيئًا، أو أراد بكم نفعًا، فلا راد له، إذ من الذي يمنع من قضائه، وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفع عنهم الضر، ويجلب لهم النفع. ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم، وأنّ ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق، فقال: {بَلْ كَانَ الله} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}؛ أي: عليمًا بجميع ما تعملونه بواطنه وظواهره، فيعلم أنَّ تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير، بل كان شكًّا ونفاقًا، 12 - كما فصَّل ذلك بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ ...} إلخ: بدل (¬1) من {كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} مفسِّرٌ لما فيه من الإبهام؛ أي: بل ظننتم أيها المخلفون {أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ}؛ أي: أنه لن ينقلب، ولن يرجع، فـ {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن {الرَّسُولُ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَالْمُؤْمِنُونَ} الذين معه: وهم ألف وأربع مئة {إِلَى أَهْلِيهِمْ} في المدينة {أَبَدًا} لظنكم أن يستأصلهم المشركون بالكلية، فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلأجل ذلك الظنّ تخلَّفتم، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. وقرأ عبد الله (¬2): {إلى أهلهم} بغير ياءٍ، وأهلون: (¬3) جمع أهل، كأرضون جمع أرض، وقد يجمع على أهلات كأرضات على أنّ أصله: أهلة، وأما أهال قاسم جمع، كليال. {وَزُيِّنَ ذَلِكَ} الظن المذكور {في قُلُوبِكُمْ}؛ أي: زيَّنه الشيطان في قلوبكم، وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بهم، وقرأ الجمهور: {وَزُيِّنَ} مبنيًا للمفعول، وقرىء: مبنيًا للفاعل، والفاعل الله حقيقةً، أو الشيطان مجازًا {وَظَنَنْتُمْ} في الرسول والمؤمنين {ظَنَّ السَّوْءِ}؛ أي: ظننتم فيهم الأمر السّيء الفاسد الرديء ظنًّا، وهو عدم انقلابهم إلى أهاليهم، وعدم نصر الله إياهم، والظنّ: منصوب على المصدرية، مضاف إلى موصوف محذوف، كما مرّ، وهذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي.

[13]

الظنّ: إنما هو الظنّ الأول، والتكرير لتشديد التوبيخ، والتسجيل عليه بالسوء، وإلا فهو من عطف الشيء على نفسه، أو ما يعمّه وغيره من الظنون الفاسدة التي من جملتها: الظنّ بعدم صحة رسالته - صلى الله عليه وسلم -، فإن الجازم بصحتها لا يحوم حول فكره ما ذكر من الاستئصال، فبهذا التعميم لا يلزم التكرار. {وَكُنْتُمْ} بذلك الظن {قَوْمًا بُورًا}؛ أي: قومًا هالكين عند الله سبحانه، مستوجبين سخطه وعقابه، على أنه جمع بائر، من بار بمعنى هلك، كعائذ وعوذ، وهي من الإبل والخيل الحديثة النتاج، أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم، ونيّاتكم لا خير فيكم، فإنَّ البور: الفاسد في بعض اللغات، قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. والمعنى (¬1): أي أن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب، بل إنكم اعتقدتم أنّ الرسول والمؤمنين سيقتلون، وتستأصل شأفتهم، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدًا، وزيّن لكم الشيطان ذلك الظنَّ، حتى قعدتم عن صحبته، وظننتم أنّ الله لن ينصر محمدًا وصحبه المؤمنين على أعدائهم، بل سيغلبون، ويقتلون، وبلغ الأمر بكم أن قلتم: إنّ محمدًا وأصحابه أكلة رأس، قليلوا العدد، فأين يذهبون؟ وقد صرتم بما قلتم قومًا هلكى، لا تصلحون لشيء من الخير، مستوجبين سخط الله وشديد عذابه. 13 - ثم أخبر سبحانه عما أعده للكافرين به، فقال: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} هذا كلام مستأنف من جهته تعالى، غير داخل تحت ما أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، مقرر لبوارهم، ومبين لكيفيته. و {مَنْ}: شرطية أو موصولة، جوابها أو خبرها: محذوف، دلَّ عليه قوله: {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}؛ أي: ومن لم يصدق بما أخبر الله به، ويقر بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده، كهؤلاء المخلفين .. فهو كافر مستوجب لسخط الله وعذابه، لأنّا أعتدنا وهيأنا للكافرين نارًا ملتهبة متقدة عليه يوم القيامة جزاء كفره، وإنما (¬2) وضع الكافرين موضع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

الضمير العائد إلى {مَن} الشرطية أو الموصولة؛ إيذانًا بأنّ من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله هو كافر مستوجب للسعير؛ أي: النار الملتهبة، وتنكير {سَعِيرًا} للدلالة على أنها سعير لا يكتنه كنهها، أو لأنها نار مخصوصة، كما قال: {نَارًا تَلَظَّى}. فالتنكير للتنويع. 14 - ثمّ بيّن سبحانه قدرته على ذلك، وأنه يفعل ما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقّب لقضائه، فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه، لا لغيره {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما فيهما، يتصرف في الكل كيف يشاء، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن، ويعاقب من أساء، ولهذا قال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} أن يغفر له، وهو فضل منه {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أن يعذّبه، وهو عدل منه من غير دخل لأحد في شيء منهما وجودًا وعدمًا، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لهم {وَكَانَ الله} سبحانه وتعالى {غَفُورًا رَحِيمًا}؛ أي: كثير المغفرة والرحمة بليغهما، يخصّ بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده، ولا يشاء إلا لمن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله، وأما من عداه من الكافرين، فهو بمعزل من ذلك قطعًا. ومعنى الآية (¬1): أي ولله السلطان والتصرف في السموات والأرض، فلا يقدر أحد أن يدفعه عمّا أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم، وهذا حسم لأطماعهم في استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لهم، وهم على هذه الحال، ثمّ أطمعهم في مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه، فقال: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} لمن يشاء المغفرة والرحمة دون من عداه. وفي الآية حث لهؤلاء المتخلفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التوبة، والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وطلب المبادرة بها، فإنّ الله يغفر للتائبين، ويرحمهم إذا أنابوا إليه، وأخلصوا العمل له. ¬

_ (¬1) المراغي.

[15]

15 - {سَيَقُولُ} لك يا محمد، و {السين}: يدل على القرب {الْمُخَلَّفُونَ} المذكورون؛ أي: سيقول لك الذين تخلّفوا عنك في عمرة الحديبية، واعتلُّوا بشغلهم بأموالهم وأهليهم: {إِذَا انْطَلَقْتُمْ}: ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {سَيَقُولُ}؛ أي: سيقولون عند انطلاقكم وذهابكم أيها المؤمنون {إِلَى مَغَانِمَ} خيبر {لِتَأْخُذُوهَا} وتحوزوها حسبما وعدكم إياها، وخصَّكم بها عوضًا عمّا فاتكم من غنائم مكة إذا انصرفتم منها على صلح، ولم تصيبوا منها شيئًا {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}؛ أي: اتركونا نتبعكم، ونشهد معكم غزوة خيبر، وأصل القصة: (¬1) أنه لما انصرف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين من الحديبية .. وعدهم الله سبحانه فتح خيبر، وخصَّ بغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها .. قال هؤلاء المخلّفون: ذرونا نتبعكم، ونسر معكم إلى غزوة خيبر حين توقعوا ما سيكون فيها من مغانم، وفي هذا وعد للمبايعين الموافقين بالغنيمة، وللمتخلفين المخالفين بالحرمان. فإن قيل: كيف (¬2) يصح هذا الكلام، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى من قدم مع جعفر رضي الله عنه من مهاجري الحبشة، وكذا الدوسيين والأشعريين من مغانم خيبر، ولم يكونوا ممن حضر الحديبية؟. قلنا: كان ذلك باستنزال أهل الحديبية عن شيء من حقهم. فقال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ}؛ أي: يريد أولئك المخلفون بقولهم: {ذَرُونَا} {أَنْ يُبَدِّلُوا} ويغيِّروا {كَلَامَ اللهِ} سبحانه؛ أي: مواعيد الله لأهل الحديبية، حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة، وهذا قول جمهور المفىسرين، وقال مقاتل: يعني: أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أمره أن لا يسير منهم أحد إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو قول الله تعالى: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا}. والقول الأول أصوب. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {كَلَامَ اللَّهِ} بألف، وقرأ حمزة والكسائي: {كَلِمَ الله} بلا ألف: جمع كلمة مثل: نبق ونبقةٍ، فالمراد بتبديلهم كلام الله تعالى: قصد مشاركتهم في المغانم التي خصّها بأهل الحديبية، فإنه - صلى الله عليه وسلم - رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم من سنة سبع، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها، وغنم أموالًا كثيرة، فخصَّها بهم حسبما أمره الله تعالى، فالمراد بكلام الله: ما ذكر من وعده تعالى غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصةً، لا قوله تعالى: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} فإنّ ذلك نزل في غزوة تبوك مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك في آخر عمره، وهذه السورة نزلت عام الحديبية. ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم إقناطًا وتيئيسًا من الذهاب معه إلى خيبر، بقوله: {قُل} يا محمد لهؤلاء المخلّفين الذين يريدون تبديل كلام الله إقناطًا لهم: {لَنْ تَتَّبِعُونَا} في المسير إلى خيبر، ولن تذهبوا معنا؛ أي: لا تتبعونا، فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة. وقال سعدي المفتي: {لَنْ} ليس (¬2) للتأبيد، سيّما إذا أريد النهي. والمراد: لن تتبعونا في خيبر، أو ديمومتهم على مرض القلوب، وقال أبو الليث: لن تتبعونا في المسير إلى خيبر، إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شركة في الغنيمة. {كَذَلِكُمْ}؛ أي: قولًا مثل ما قلته لكم {قَالَ الله} سبحانه {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل رجوعنا من الحديبية إليكم؛ أي: قال عند انصرافنا من الحديبية: إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبيّة خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب. {فَسَيَقُولُونَ}؛ أي: فسيقول المنافقون للمؤمنين عند سماع هذا النهي: {بَلْ تَحْسُدُونَنَا}؛ أي: ليس ذلك النهي حكم الله، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم؛ أي: بل ما يمنع من خروجنا معكم إلا الحسد منكم؛ لئلّا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

بقول الله سبحانه كما تزعمون. والحسد: تمنّي زوال النعمة عمّن يستحق لها، وربّما يكون من ذلك سعي في إزالتها. ثم رد الله سبحانه عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد، بقوله: {بَلْ كَانُوا}؛ أي: أولئك المخلفون {لَا يَفْقَهُونَ}؛ أي: لا يفهمون {إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: إلا فهمًا قليلًا، وهو فطنتهم لأمور الدنيا، وهو وصف لهم بالجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وعن علي رضي الله عنه: "أقل الناس قيمةً أقلهم علمًا". ومعنى الآية: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا}؛ أي: (¬1) لا تأذن لهم في الخروج معك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم، فإنَّ امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنّهم كانوا يتوقعون المغرم: وهو جلاد العدو، ومصاولته، ولا يتوقعون المغنم، فلمّا انعكست الآية في خيبر .. طلبوا ذلك، فعاقبهم الله بطردهم من المغانم، ثمّ أكد هذا المنع بقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ}؛ أي: مثل هذا القول الصادر منّي قال الله سبحانه من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم؛ أي: حكم الله بأن لا تتبعونا، وبأنَّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا؛ لأنّ غنيمتها لغيركم، ثم أخبر بأنهم سيردُّون مقالك السابق: {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ}. فقال: فسيقولون: إنّ الله ما قال ذلك من قبل، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنمًا، ومن ثم منعتمونا، فرد الله عليهم اتهام الرسول وصحبه بالحسد، فقال: {بَلْ كَانُوا} إلخ؛ أي: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب، من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدًا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنمًا، بل إنما كان؛ لأنّهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلًا، ولو فقهوا .. ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين بعد أن أخبرهم بأنّ الله منعهم غنائم خيبر، وفي هذا إشارة إلى أن ردهم حكم الله، وإثبات الحسد لرسوله وللمؤمنين ناشىء من الجهل، وقلة التدبر، فإن حب الدنيا ليس من شيمة ¬

_ (¬1) المراغي.

[16]

العالم العاقل. واعلم: أيها الأخ الكريم، أنّ العلم إنما يزداد بصحبة أهله، ولمَّا تخلف المنافقون عن صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وصفهم الله سبحانه بعدم الفقه، فلا بدَّ من مجالسة العلماء العاملين، حتى تكون الدنيا وراء الظهر، ويجعل الرغبة في الآخرة. وقدورد في الأخبار: "اطلبوا العلم ولو بالصين". وعن بعضهم قال: رأيت في الطواف كهلًا قد أجهدته العبادة، وبيده عصا، وهو يطوف معتمدًا عليها، فسألته عن بلده، فقال: خراسان، ثم قال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين أو ثلاثة، فقال: أفلا تحجون كلّ عام؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين، قلت: هذا والله هو الفضل المبين، والمحبّة الصادقة، فضحك وأنشأ يقول: زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإِنْ شَطَّتْ بِكَ الدَّارُ ... وَحَالَ مِنْ دُوْنِهِ حُجْبٌ وَأَسْتَارُ لَا يَمْنَعَنَّكَ بُعْدٌ عَنْ زِيَارَتِهِ ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ 16 - {قُل} يا محمد {لِلْمُخَلَّفِينَ} المذكورين من الأعراب، كرّر ذكرهم بهذا العنوان؛ لذمّهم مرّة بعد أخرى، فإنّ التخلّف عن صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - شناعة أي شناعة: إنكم {سَتُدْعَوْنَ} وتندبون {إِلَى} قتال {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}؛ أي: أصحاب قوّة شديدة في الحرب، فعليكم أن تخيروهم بين أمرين: إما السيف، وإما الإسلام، وهذا حكم عام في مشركي العرب والمرتدين، يجب اتباعه، كما بيَّن الأمرين بقوله: إما {تُقَاتِلُونَهُمْ} أبدًا {أَو يُسْلِمُونَ}: كلام مستأنف، كأنّه قيل: لماذا يدعون؟ فأجيب: ليكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أبدًا، أو الإسلام لا غير، وأما من عدا المرتدين والمشركين من العرب فينتهي قتالهم بالجزية، كما ينتهي بالإسلام. يعني: أنّ المراد بـ {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}: المرتدّون والمشركون مطلقًا، سواء كانوا مشركي العرب أو العجم، بناءً على أنّ من عدا الطائفتين المذكورتين، وهم: أهل الكتاب والمجوس، ليس الحكم فيهم أن يقتلوا إلى أن يسلموا، بل تقبل منهم الجزية، بخلاف المرتدّين، ومشركي العرب والعجم، فإنه لا تقبل منهم

الجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا، وهذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة: فمشركوا العجم تقبل منهم الجزية، كما تقبل من أهل الكتاب والمجوس، والذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إنما هم مشركوا العرب والمرتدون فقط عنده. واختلف العلماء في تعيين هؤلاء القوم، فقال الزهريّ ومقاتل وجماعة: المراد بالقوم أولي العباس شديد: بنو حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذّاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل، ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين. اهـ. أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما. وقرأ الجمهور (¬1): {أَوْ يُسْلِمُونَ} مرفوعًا، وقرأ أبيّ وزيد بن عليّ: بحذف النون منصوبًا بإضمار أن بعد {أَوْ} العاطفة لمصدر متصيد، على مصدر متوهّم؛ أي: يكون قتال أو إسلام، والرفع على العطف على: {تُقَاتِلُونَهُمْ} أو على القطع؛ أي: أو هم يسلمون دون قتال. ثمّ وعدهم إذا أجابوا بقوله: {فَإِنْ تُطِيعُوا}؛ أي: فإن تستجيبوا وتنفروا أيّها المخلّفون للجهاد، وتؤدُّوا ما طلب منكم أداؤه .. {يُؤْتِكُمُ الله}؛ أي: يعطكم ربّكم {أَجْرًا حَسَنًا} وثوابًا جزيلًا، فتنالوا المغانم في الدنيا، وتدخلوا الجنة في الآخرة، كما وعد من نكص على عقبه بقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا}؛ أي: تعرضوا عن الدعوة، وتعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته، وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال أولي النجدة والبأس الشديد إذا دعيتم إلى قتالهم {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} في الحديبية؛ أي: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: عذابًا شديدًا بالمذلّة في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والنار في ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[17]

الآخرة لتضاعف جرمكم. وبيان المقام (¬1): أنه - صلى الله عليه وسلم - لمّا قال لهم: "لن تتبعونا" .. دعت الحاجة إلى بيان قبول توبة من رجع منهم عن النفاق، فجعل تعالى لهذا القبول علامة، وهو أنهم يدعون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى محاربة قوم أولي بأس وقوة في الحرب، فمن أجاب منهم دعوة إمام ذلك الزمان، وحاربهم .. فإنه يقبل توبته، ويعطى الأجر الحسن، فلولا هذا الامتحان .. لاستمرّ حالهم على النفاق، كما استمرت حالة ثعلبة عليه، فإنه قد امتنع من أداء الزكاة، ثمّ أتى بها، ولم يقبل منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة، فلعلَّه تعالى علم من ثعلبة أنَّ حاله لا تتغيّر، فلم يبيّن لتوبته علامةً، وعلم من أحوال الأعراب أنها تتغيّر، فبيّن لتغيُّرها علامةً. والله أعلم. 17 - روي: أنه لمّا نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} الآية .. قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية، فبيَّن فيها الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال بقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى}؛ أي: فاقد البصر {حَرَجٌ}؛ أي: إثم في التخلف عن الغزو؛ لأنّه كالطائر المقصوص الجناح لا يمتنع على من قصده، والتكليف يدور على الاستطاعة {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ}؛ أي: على فاقد منفعة الرجل {حَرَجٌ}؛ أي: ذنب في التخلّف عن الجهاد لما به من العلّة اللازمة إحدى الرجلين أو كلتيهما، وقد سقط عمّن ليس له رجلان غسلهما في الوضوء، فكيف بالجهاد؟! {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ} مرضًا يمنع من الجهاد {حَرَجٌ} لأنّه لا قوّة به، وفي نفي الحرج عن كلّ من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم، وتوسيع لدائرة الرخصة. والمعنى: أي ليس (¬2) على من في عضوه أو قوّته خلل مأثم في التخلّف عن الغزو، وكذا فقير لا يمكن له استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد، وإنما قدَّم الأعمى على الأعرج؛ لأنَّ عذره مستمر، لا يمكن الانتفاع به في حراسة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

وغيرها، ولا يعود بصيرًا، أما الأعرج، فإنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها، وقد يقدر على القتال بالرمي وغيره، وقدم الأعرج على المريض؛ لأنّ عذره أشدّ من عذر المريض؛ لإمكان زوال المرض عن قرب، فالعذر في محل الآلة أتم من الآفة في القوّة. ومجمل المعنى (¬1): أي لا إثم على ذوي الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد، وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لاقوا عدوَّهم للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها، كالعمى والعرج والمرض، قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية. ثم رغب سبحانه في الجهاد، وطاعة الله ورسوله، وأوعد على تركه بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي في السر والعلن من المعذورين وغيرهم، فيجب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك، دفاعًا عن دينه، وإعلاءً لكلمته {يُدْخِلْهُ} يوم القيامة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} خالدين فيها {وَمَنْ يَتَوَلَّ} ويعرض عن طاعتهما، ويعص الله ورسوله، فيتخلّف عن الجهاد إذا دعي إليه .. {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: يدخله عذابًا موجعا في نار جهنم لا يقادر قدره. وقرأ الجمهور (¬2): {يُدْخِلْهُ} و {يُعَذِّبْهُ} بالياء، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وقرأ نافع وابن عامر والحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة: بالنون فيهما. تتمة: وهذه الأعذار (¬3) المذكورة هنا أعذار ظاهرة في ترك الجهاد؛ لأنَّ أصحابها لا يقدرون على الكر والفرّ؛ لأنّ الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الهرب، وكذلك الأعرج والمريض، وفي معنى المريض: صاحب السعال الشديد، والطحال الكبير، والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ: كأصحاب السمن المفرط، فهذه أعذار، وهناك أعذار أخر دون ما ذكر، كالفقر ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الفتوحات.

الذي لا يمكن صاحبه أن يستصحب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد، والأشغال التي تعوق عن الجهاد، كتمريض المريض الذي ليس معه من يقوم مقامه عليه، ونحو ذلك، كعدم إذن الوالدين له. وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان أعمى في بعض حروب القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية. ذكره في "البحر". الإعراب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {فَتَحْنَا}: خبره، وجملة {إن}: مستأنفة. {لَكَ}: متعلق بـ {فَتَحْنَا}. {فَتْحًا}: مفعول مطلق. {مُبِينًا}: صفة له. {لِيَغْفِرَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يغفر}: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة. {لَكَ}: متعلق بـ {يغفر}. {الله}: فاعل، {مَا}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة {تَقَدَّمَ}: صلة لـ {مَا}. {مِنْ ذَنْبِكَ}: متعلق بمحذوف حال من فاعل {تَقَدَّمَ}. {وَمَا تَأَخَّرَ}: معطوف على {مَا تَقَدَّمَ}، وجملة {يغفر}: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}. تقديره: لغفران الله لك، الجار والمجرور: متعلق بـ {فَتَحْنَا}. {وَيُتِمَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على {يغفر}، {نِعْمَتَهُ}: مفعول به. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {يُتِمَّ}. {وَيَهْدِيَكَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على {يغفر}، و {الكاف}: مفعول أول. {صِرَاطًا}: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض. {مُسْتَقِيمًا}: صفة {صِرَاطًا}. {وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}.

{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ}: فيعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يَغْفِرَ}. {نَصْرًا}: مفعول مطلق. {عَزِيزًا}: صفة له. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، صلة الموصول. {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {أَنْزَلَ}. {لِيَزْدَادُوا} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يَزْدَادُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {إِيمَانًا}: مفعول به، أو تمييز. {مَعَ إِيمَانِهِمْ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {إِيمَانًا}، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، والجار والمجرور: متعلق بـ {أَنْزَلَ}؛ أي: لزيادتهم إيمانًا مع إيمانهم. {وَلِلَّهِ} {الواو}: عاطفة. {لِلَّهِ}: خبره، قدم. {جُنُودُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا}. فعل ناقص واسمه وخبره، {حَكِيمًا} خبر ثان له، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ}. {لِيُدْخِلَ} {اللام}: حرف جر وتعليل. {يُدْخِلَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول أول. {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ}، {جَنَّاتٍ}: مفعول ثان على السعة، وجملة {يُدْخِلَ} مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور {باللام}: الجار والمجرور: متعلق بمحذوف، تقديره: أمر بالجهاد لإدخال المؤمنين والمؤمنات إلخ. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به. {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ} ولكنها سببيّة. {خَالِدِينَ}: حال من {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {وَيُكَفِّرَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {يُدْخِلَ}. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {يُكَفِّرَ}. {سَيِّئَاتِهِمْ}: مفعول به. {وَكَانَ} {الواو}: استئنافية. {كَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {فَوْزًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {فَوْزًا}: خبر {كَانَ}. {عَظِيمًا}: صفة لـ {فَوْزًا}، وجملة {كَانَ}: مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لا محل لها من الإعراب. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ

دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يُدْخِلَ}. {وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}: معطوفات على {الْمُنَافِقِينَ}. {الظَّانِّينَ}: نعت لـ {الْمُنَافِقِينَ} وما بعده. {بِاللَّهِ} متعلق بـ {الظَّانِّينَ}؛ {ظَنَّ السَّوْءِ}: مفعول مطلق مضاف إلى ما بعده مؤكد لعامله، والسوء، بضم السين وفتحها: صفة لموصوف محذوف، تقديره: الظانّين بالله الأمر السوء ظنًّا، فحذف المضاف إليه الذي هو الأمر، وأقيمت صفته مقامه، وسيأتي بقية البحث فيه. {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم. {دَائِرَةُ السَّوْءِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: دعائية، لا محل لها من الإعراب. {وَغَضِبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {غَضِبَ}، والجملة: معطوفة على جملة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: عطف فعلية على اسمية. {وَلَعَنَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {غَضِبَ}، {أَعَدَّ}: فعل وفاعل ممستتر، معطوف على {غَضِبَ}. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}، {جَهَنَّمَ}: مفعول به. {وَسَاءَتْ}: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعل مستتر يعود على {جَهَنَّمَ}. {مَصِيرًا}: تمييز، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَلِلَّهِ} {الواو}: استئنافية. {لِلَّهِ}: خبر مقدم. {جُنُودُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {عَزِيزًا}: خبره. {حَكِيمًا}: خبر ثان له، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَاكَ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {شَاهِدًا}: حال مقدرة من مفعول {أَرْسَلْنَاكَ}. {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}: معطوفان على {شَاهِدًا}. {لِتُؤْمِنُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل. {تُؤْمِنُوا}: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، و {الواو}: فاعل. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُوا} {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَاكَ}؛ أي: أرسلناك لإرادة إيمانكم بالله

ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ}: أفعال وفواعل ومفاعيل معطوفات على {تُؤْمِنُوا}. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: منصوبان على الظرفية الزمانية، متعلقان بـ {تُسَبِّحُوهُ}. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. {إِنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه. {يُبَايِعُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول. {إِنَّمَا} كافة ومكفوفة. {يُبَايِعُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ}: مستأنفة. {يَدُ اللَّهِ}: مبتدأ. {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ثان لـ {إِنَّ}. ويجوز أن تكون حالية من ضمير الفاعل في {يُبَايِعُونَكَ}، ويجوز أن تكون مستأنفة. {فَمَنْ} {الفاء}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {نَكَثَ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَإِنَّمَا} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لشبه الجواب جملة اسمية لاشتماله على {إِنَّ} المكفوفة. {إِنَّمَا}: كافة ومكفوفة. {يَنْكُثُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مَنْ}. {عَلَى نَفْسِهِ}: متعلق بـ {يَنْكُثُ}، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: مستأنفة. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط جازم في على الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب. {أَوْفَى}: فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَوْفَى}، وجملة {عَاهَدَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {عَلَيْهُ}: متعلق بـ {عَاهَدَ}، وضمت الهاء، مع أنها تكسر بعد الياء؛ لمجيء سكون بعدها، فيجوز الضمّ إن أريد تفخيم لام الجلالة، والكسر إن أريد ترقيقها, ولفظ الجلالة: مفعول به. {فَسَيُؤْتِيهِ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لاشتمال الجواب على حرف

التنفيس، و {الهاء}: مفعول أول، وفاعله: ضمير يعود على الله. {أَجْرًا}: مفعول ثان. {عَظِيمًا}: صفة {أَجْرًا}، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}. {سَيَقُولُ} {السين}: حرف استقبال {يَقُولُ}: فعل مضارع. {لَكَ}: متعلق بـ {يَقُولُ}، {الْمُخَلَّفُونَ}: فاعل {مِنَ الْأَعْرَابِ}: حال من {الْمُخَلَّفُونَ}. والجملة: مستأنفة. {شَغَلَتْنَا}: فعل ومفعول به. {أَمْوَالُنَا}: فاعل {وَأَهْلُونَا}: معطوف عليه، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول القول. {فَاسْتَغْفِرْ} {الفاء}: عاطفة. {اسْتَغْفِرْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. {لَنَا}: متعلق بـ {اسْتَغْفِرْ} ومفعول {اسْتَغْفِرْ}: محذوف؛ أي: الله، والجملة معطوفة على جملة {شَغَلَتْنَا}، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل. {بِأَلْسِنَتِهِمْ}: متعلق به، والجملة: حال من {الْمُخَلَّفُونَ} {مَا}: اسم موصول في محل النصب، مفعول به. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على {مَا}، {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر {لَيْسَ}. والجملة: صلة لـ {مَا} الموصولة. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {فَمَنْ} {الفاء}: استئنافية. {مَن}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، وجملة {يَمْلِكُ}: خبره. {لَكُمْ}: متعلق بـ {يَمْلِكُ}، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِنَ اللَّهِ}: حال من {شَيْئًا}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. {شَيْئًا}: مفعول به، {إِنْ}: حرف شرط. {أَرَادَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على الله. {بِكُمْ}: متعلق بـ {أَرَادَ}. {ضَرًّا}: مفعول به، وجواب {إِنْ} الشرطية: محذوف دل عليه ما قبلها؛ أي: إن أراد بكم ضرًّا، فمن يملك لكم دفعه، وجملة {إِنْ} الشرطة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}: معطوف على {أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا}. {بَلْ}: حرف

إضراب للإضراب الانتقالي من موضوع إلى آخر. {كَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرًا}، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة. {خَبِيرًا}: خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ}: جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب. {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)}. {بَلْ}: حرف إضراب أيضًا، أضرب عن بيان بطلان اعتذارهم إلى بيان الحامل لهم على التخلّف. {ظَنَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: جملة إضرابية لا محل لها من الإعراب. {أَنْ}: مخفّفة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، {لَنْ}: حرف نفي ونصب. {يَنْقَلِبَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لَنْ}. {الرَّسُولُ}: فاعل. {وَالْمُؤْمِنُونَ}: معطوف على {الرَّسُولُ}، {إِلَى أَهْلِيهِمْ}: متعلق بـ {يَنْقَلِبَ}. {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {يَنْقَلِبَ}، وجملة {يَنْقَلِبَ}: في محل الرفع خبر {أَنْ} المخفّفة، وجملة {أَنْ} المخفّفة: سدّت مسدّ مفعولي {ظَنَنْتُمْ}. {وَزُيِّنَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {ذَلِكَ} نائب فاعل. {فِي قُلُوبِكُمْ}: متعلق بـ {زُيِّنَ}، والجملة: معطوفة على جملة {ظَنَنْتُمْ}. {وَظَنَنْتُمْ}: فعل وفاعل معطوف على {ظَنَنْتُمْ} الأول، {ظَنَّ}: مفعول مطلق. {السَّوْءِ}: مضاف إليه، والسوء في الأصل: صفة لمفعول {ظَنَنْتُمْ} المحذوف، والتقدير: وظننتم الأمر السّيء بالمؤمنين ظنّا. {وَكُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، {قَوْمًا}: خبر {كان}، {بُورًا}: نعت {قَوْمًا}. وجملة {كان}: معطوفة على ما قبلها. وبورًا: جمع بائر، اسم فاعل من بار يبور: إذا هلك. {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ} {الواو}: استئنافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم أو موصولة، في محل الرفع. {لَمْ}: حرف جزم. {يُؤْمِنْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على {مَنْ} مجزوم بـ {لَمْ}. {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنْ}، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، وجواب الشرط: محذوف، تقديره: ندخله نارًا، وجملة الجواب المحذوف: خبر لـ {مَنْ}

الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية: مستأنفة من جهته تعالى، مبيّنة لكيفية بوارهم. {فَإِنَّا} {الفاء}: تعليلية. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَعْتَدْنَا}: فعل وفاعل. {لِلْكَافِرِينَ}: متعلق بـ {أَعْتَدْنَا}، {سَعِيرًا}: مفعول به، وجملة {أَعْتَدْنَا}: في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ}: جملة تعليلية معلّلة للجواب المحذوف، لا محل لها من الإعراب، هذا إن كانت {مَنْ} شرطية، وإن كانت موصولة .. فخبرها جملة {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا}، ودخلت {الفاء} لما في الموصول من معنى الشرط. {وَلِلَّهِ}: خبر مقدم. {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، وجملة {يَغْفِرُ}: حال من الجلالة. {لِمَنْ}: متعلق بـ {يَغْفِرُ}، وجملة {يَشَاءُ}: صلة لـ {مَنْ} الموصولة. {وَيُعَذِّبُ}: معطوف على {يَغْفِرُ}. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول {يُعَذِّبُ}. وجملة {يَشَاءُ} أيضًا صلة لـ {مَنْ}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، {رَحِيمًا}: خبر ثان، وجملة {كَانَ}: معطوفة على جملة {يَغْفِرُ} أو مستأنفة. {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}. {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {سَيَقُولُ}. {انْطَلَقْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها. {إِلَى مَغَانِمَ}: متعلق بـ {انْطَلَقْتُمْ}، {لِتَأْخُذُوهَا} {اللام}: حرف جر وتعليل. {تَأْخُذُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لأخذكم إياها، الجار والمجرور: متعلق بـ {انْطَلَقْتُمْ}. {ذَرُونَا}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ {سَيَقُولُ}. {نَتَّبِعْكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق، والجملة الفعلية: جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب،

حال من {الْمُخَلَّفُونَ} أو من مفعول {ذَرُونَا} أو مستأنفة. {أَن}: حرف نصب. {يُبَدِّلُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن}، {كَلَامَ اللَّهِ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون تبديل كلام الله ومواعيده للمؤمنين. {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {لَنْ}: حرف نصب واستقبال. {تَتَّبِعُونَا} {تتبعوا}: فعل مضارع، منصوب بـ {لَنْ} وعلامة نصبه: حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {نَا}: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {كَذَلِكُمْ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا مثل هذا القول المصادر عنّي. وهو {لَنْ تَتَّبِعُونَا}. {قَالَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور متعلقان بـ {قَالَ} {فَسَيَقُولُونَ} {الفاء}: عاطفة. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {قُلْ}. {بَلْ}: حرف إضراب. {تَحْسُدُونَنَا}: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، و {الواو}: فاعل و {نَا}: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ {سَيَقُولُونَ}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، جملة {لَا يَفْقَهُونَ}: خبر {كَان}، {إِلَّا}: أداة حصر. {قَلِيلًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا فقهًا قليلًا، وجملة {كان}: جملة إضرابية مستأنفة، أو معطوفة على {يَقُولُونَ}. {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. {لِلْمُخَلَّفِينَ}: متعلق بـ {قُلْ}، {مِنَ الْأَعْرَابِ}: حال من {الْمُخَلَّفِينَ}. {سَتُدْعَوْنَ} {السين}: حرف استقبال. {تُدْعَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالنون، و {الواو}: نائب فاعل. {إِلَى قَوْمٍ}: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول {قُلْ}. {أُولِي بَأْسٍ}: صفة لـ {قَوْمٍ}، مجرور بالياء؛ لأنه

ملحق بجمع المذكر السالم. {شَدِيدٍ} صفة {بَأْسٍ}، {تُقَاتِلُونَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب حال من واو {تُدْعَوْنَ}، أو في محل الجر صفة ثانية لـ {قَوْمٍ} أو مستأنفة. {أَوْ}: حرف عطف. {يُسْلِمُونَ}: معطوف على {تُقَاتِلُونَهُمْ}، أو مستأنف، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: أو هم يسلمون. {فَإِنْ} {الفاء}: عاطفة. {إِنْ}: حرف شرط. {تُطِيعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، و {الكاف}: مفعول به أول، ولفظ الجلالة: فاعل. {أَجْرًا}: مفعول ثان. {حَسَنًا}: صفة {أَجْرًا}، وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على جملة {تدعون}. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إِنْ}: حرف شرط. {تَتَوَلَّوْا}: فعل مضارع مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، و {الواو}: فاعل. {كَمَا} {الكاف}: صفة لمصدر محذوف. و {مَا}: مصدرية. {تَوَلَّيْتُمْ}: فعل وفاعل صلة {ما} المصدرية، {مِن قبل}: متعلق بـ {تَوَلَّيْتُمْ}. وبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظًا لا معنى، والتقدير: وإن تتولّوا تولّيا مثل تولّيكم من قبل. {يُعَذِّبْكُمْ}: فعل مضارع وفعل مستتر ومفعول به، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابا لها. {عَذَابًا}: مفعول مطلق. {أَلِيمًا}: نعت لـ {عَذَابًا}، وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على جملة {إن} الأولي. {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}. {لَيْسَ}: فعل ماض ناقص. {عَلَى الْأَعْمَى}: خبرها مقدم. {حَرَجٌ}: اسمها مؤخر، والجملة: مستأنفة، مسوقة لبيان حكم الزمني وذوي العاهات بالنسبة إلى الجهاد، ونفي الحرج عنهم في التخلف عنه. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لَا}: زائدة، زيدت لتأكيد نفي {لَيْسَ}. {عَلَى الْأَعْرَجِ}: معطوف على {الْأَعْمَى}، {حَرَجٌ}: معطوف على {حَرَجٌ} الأول، وكذا قوله: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}: معطوف عليه. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط جازم في

محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُطِعِ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها. {اللَّهَ}: مفعول به، {وَرَسُولَهُ}: معطوف عليه. {يُدْخِلْهُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على {اللَّهَ}، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه جواب شرط لها، و {الهاء}؛ مفعول به. {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على التوسّع، وجملة {مَنْ}: الشرطية، معطوفة على جملة {لَيْسَ}. {تَجْرِي}: فعل مضارع. {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به. {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية. في محل النصب صفة لـ {جَنَّاتٍ}، ولكنها سببية. {وَمَنْ} {الواو}: عاطفة. {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ. {يَتَوَلَّ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {مِنْ} مجزوم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه: حذف حرف العلّة. {يُعَذِّبْهُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ} ومفعول به مجزوم بـ {مَن} على كونه جواب شرط لها. {عَذَابًا}: مفعول مطلق. {أَلِيمًا}: صفة {يُعَذِّبْهُ}، وجملة {مَنْ} الشرطية: معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّا فَتَحْنَا}: فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحًا، بحرب أو بدونه، فإنه ما لم يظفر منغلق، مأخوذ من فتح باب الدار، قال في "عين المعاني": الفتح: هو الفجر المزيل للهمّ؛ لأن المطلوب كالمنغلق، فإذا نيل .. انفتح، وفي "المفردات": الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال، وذلك ضربان: ضرب: يدرك بالبصر، نحو: فتح الباب والغلق والقفل، والمتاع نحو قوله: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ}. والثاني: ما يدرك بالبصيرة، كفتح الهمّ: وهو إزالة الغمّ، وذلك ضربان: أحدهما: في الأمور الدنيوية كغمّ يفرج، وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه. والثاني: فتح المستغلق من العلوم، نحو: قولك: فلان فتح من العلم بابًا مغلقًا. انتهى.

والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور: هو صلح الحديبية، وسمّي هذا الصلح فتحًا؛ لأنّه كان سببًا لفتح مكة، من قبيل المجاز المرسل، بإطلاق السبب على المسبّب، وقال جماعة: المراد: فتح مكة، وهو المرويّ عن أنس رضي الله عنه: بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند انصرافه من الحديبية والتعبير عنه حينئذٍ بصيغة الماضي؛ للإيذان بتحقّقه لا محالة، كسائر الأخبار الربانية. {مُبِينًا}؛ أي: بيّنًا، ظاهر الأمر مكشوف الحال. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} أصله: يتمم، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء، فسكنت فأدغمت في الميم الثانية. {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}؛ أي: خلقها، وأوجدها، قال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبده: إعطاؤه إياها إما بإنزال الشيء نفسه: كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه: كإنزال الحديد ونحوه. اهـ. السكينة: الطمأنينة والثبات، من السكون. {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: أوجد السكينة في القلوب في مواضع القلق والاضطراب. قوله: {لِيَزْدَادُوا} أصله: ليزتيدوا بوزن يفتعلوا، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح، ثمّ أبدلت تاء الافتعال دالًّا لوقوعها بعد الزاي، فصار ليزدادوا، وهذا على حدّ قول ابن مالك في باب التصريف: طَا تَا افْتِعَالِ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ ... فِيْ ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِيْ {إِيمَانًا} أصله: إءْمانًا، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مدٍّ مجانسًا لحركة الأولى، فصارت ياءً؛ أي: ليزدادوا يقينًا. {مَعَ إِيمَانِهِمْ}؛ أي: مع يقينهم. أو ليزدادوا إيمانًا بالشرائع مع إيمانهم بالله، وباليوم الآخر، قال ابن عباس: إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده .. أنزل الصلاة، ثمّ الزكاة، ثم الجهاد، ثم الحج. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الجنود: جمع جند بالضم، وهو جمع معدّ للحرب؛ أي: الأسباب السماويّة والأرضيّة.

{الظَّانِّينَ}: جمع ظانّ، أصله: ظانن، أدغمت النون الأولى في الثانية. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} لفظ دائرة فيه إعلام بالإبدال، أصله: داورة، اسم فاعل من دار يدور، كقال يقول، أبدلت الواو في الوصف حملًا له في الإعلال على فعله، والدائرة في الأصل: عبارة عن الخطّ الميحط بالمركز، ثمّ استعملت في الحادثة والمصيبة المحيطة بمن هي وقعت عليه. فمعنى الآية: يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء أو بمن فيها، بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجه، إلا أن أكثر استعمالها؛ أي: الدائرة في المكروه، كما أنّ أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول، ويكون مرةً لهذا، ومرةً لذاك، والإضافة في {دَائِرَةُ السَّوْءِ} من إضافة العام إلى الخاص، فهي للبيان، كخاتم فضة؛ أي: دائرة من شرّ لا من خير. والمراد: الإحاطة والشمول، بحيث لا يتخطّاهم السوء ولا يتجاوزهم، اهـ. "روح". وقال ابن الشيخ: السوء بالفتح صفة مشبهة، من ساء يسوء بضم العين في المضارع، سوءًا فهو سوء، ويقابله من حيث المعنى قولك: حسن يحسن حسنًا، فهو حسن، وهو فعل لازم بمعنى: قبح، وصار فاسدًا رديئًا، بخلاف ساءه يسوءه سوءًا ومساءةً؛ أي: أحزنه، نقيض سرَّه، فإنه متعدٍّ، ووزنه في الماضي فعل بفتح العين، ووزن ما كان لازمًا فعل بضم العين، وفعل يأتي فعله على فعل، كصعب صعوبة فهو صعب، والسوء بضم السين: مصدر لهذا اللازم، والسوء بالفتح: مشترك بين اسم الفاعل من اللازم، وبين مصدر المتعدّي، وقيل: السوء بالفتح والضم لغتان، من ساء بمعنى كالكره والكره. كما مرّ. {وَتُعَزِّرُوهُ}؛ أي: تنصروه، قال في "المفردات": التعزير: النصرة، في التعظيم، قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ}. والتعزير ما دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول، فإنّ ذلك تأديب، والتأديب نصرة بقهر عدوّه، فإنّ أفعال الشر عدوّ الإنسان، فمتى قمعته عنها .. فقد نصرته، وعلى هذا الوجه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فقال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تكفّه

عن الظلم". انتهى. وقال في "القاموس": التعزير: ضرب دون الحد، أو هو أشد الضرب. والتفخيم والتعظيم ضدٌ، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر. انتهى. وقال بعضهم: أصله: المنع ومنه التعزير، فإنه منع من معاودة القبيح؛ يعني: وتمنعوه تعالى؛ أي: دينه ورسوله، حتى لا يقوى عليه عدو. {وَتُوَقِّرُوهُ}؛ أي: تعظّموه تعالى، باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع وجوه النقصان، قال في "القاموس": التوقير: التبجيل، والوقار بوزن سحاب: الرزانة. انتهى يعني: السكون والحلم، فأصله من الوقر الذي هو الثقل في الأذن. {وَتُسَبِّحُوهُ} تعالى عمّا لا يليق به من الشريك والصاحبة والولد، وسائر صفات المخلوقين، أو تصلّوا له، من السبحة: وهي الدعاء، وصلاة التطوّع، وقال في "القاموس": التسبيح: الصلاة، ومنه قوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}؛ أي: من المصلّين. {بُكْرَةً}؛ أي: أول النهار. {وَأَصِيلًا}؛ أي: آخر النهار. والمراد: جميع النهار، إذ من سنن العرب: أن يذكروا طرفي الشيء، ويريدوا جميعه، كما يقال: شرقًا وغربًا لجميع الدنيا. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ}؛ أي: يعاهدونك يوم الحديبية تحت الشجرة، سمّيت المعاهدة بالمبايعة التي هي مبادلة المال بالمال تشبيهًا لها بالمبايعة في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة؛ وإن المعاهدة أيضًا مشتملة على المبادلة بين التزام الثبات في محاربة الكافرين، وبين ضمانه - صلى الله عليه وسلم - لمرضاة الله عنهم، وإثابته إيّاهم بجنات النعيم في مقابلة محاربة الكافرين، وسيأتي مزيد بسط في مبحث البلاغة، إن شاء الله تعالى. {فَمَنْ نَكَثَ} النكث: نقضُ نحوِ: الحبل والغزل، استعير لنقض العهد.

{وَمَنْ أَوْفَى}؛ أي: وفي، فالرباعيّ بمعنى الثلاثي، يقال: وفي بالعهد وأوفى به، وهي لغة تهامة. {شَغَلَتْنَا} والشغل: العارض الذي يذهل الإنسان، وقد شغل فهو مشغول. {أَمْوَالُنَا} جمع مال: وهو كل ما يتملّكه الإنسان من دراهم أو دناينر أو ذهب أو فضة أو حنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك، والمال: العين هو المضروب، وسمّي المال مالًا؛ لكونه بالذات تميل القلوب إليه، وفي "التلويح": المال: ما يميل إليه الطبع، ويدّخر لوقت الحاجة، أو ما خلق لمصالح الآدميّ، ويجري فيه الشحّ والضنة. انتهى. {وَأَهْلُونَا} والأهلون: جمع أهل، وأهل الرجل: عشيرته، وذووا قرباه، وقد يجمع الأهل على إهالٍ وآهالٍ وأهلاتٍ، ويحرك كأرضات، على تقدير تاء التأنيث؛ أي على أنّ أصله: أهلة، كما في أرض، فحكمه حكم تمرة، حيث يجوز في تمرات تحريك الميم. {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا} و (السين): للاستقبال، يقال: خلّفته بالتشديد: تركته خلفي، وخلفوا أثقالهم تخليفًا: خلوها وراء ظهورهم، وقال ابن الشيخ في سورة التوبة؛ العرب: هو الصنف الخاص من بني آدم، سواء سكن البوادي أم سكن القرى، وأمّا الأعراب فإنه لا يطلق إلا على من يسكن البوادي، فالأعراب جمع أعرابيّ, كما أن العرب: جمع عربيّ، والمجوس: جمع مجوسيّ، واليهود: جمع يهودي، بحذف ياء النسبة في الجمع، ويدل على الفرق بين العرب والأعراب، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حب العرب من الإيمان" وقوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، حيث مدح العرب، وذم الأعراب الذين هم سكان البادية، فعلى هذا يكون العرب أعم من الأعراب. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في القلب، فهو كذب صراح. {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ} والملك: إمساك بقوّة وضبطٍ، تقول: ملكت الشيء: إذا دخل تحت ضبطك دخولًا تامًّا، ومنه: لا أملك رأس بعيري: إذا لم تستطع إمساكه إمساكًا تامًّا.

{إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} والمراد بالضر: ما يضرّ من هلاك الأهل والمال وضياعهما، وبالنفع: ما ينفع من حفظ المال والأهل. {بُورًا}؛ أي: هالكين لفساد عقائدكم، وسوء نياتكم، على أنه جمع بائر، من بار بمعنى هلك، كعائذٍ وعوذٍ: الحديثة النتاج من الإبل أو الخيل، وقيل: البور: مصدر من بار، كالهلك من هلك بناء، ومعنى؛ ولذا وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، فيقال: رجل بور، وقوم بور. {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ}؛ أي: ذهبتم، يقال: انطلق فلان إذا مرَّ متخلفًا، وأصل الطلاق: التخلية من وثاق، كما يقال: حبس طلقًا، ويضم؛ أي: بلا قيد ولا وثاق، والمغانم: جمع مغنم بمعنى الغنيمة. {ذَرُونَا}؛ أي: دعونا، يقال: ذره دعه، وهو يذره؛ أي: يدعه، وأصله وذره يذره، كوسعه، وقد أماتوا ماضيه، ومصدره واسم فاعله، فلم ينطقوا بها، فلا يقال: وذره ماضيًا، ولا يقال: وذر مصدرًا، كوعد، ولا واذر بكسر الذال اسم فاعل، بل يقال: تركه تركًا فهو تارك. اهـ من "القرطبي" و"القاموس". {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} والحسد: تمني زوال النعمة عمّن يستحق لها. كما مرّ. {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ}؛ أي: لا يفهمون، قال الراغب: الفقه: هو التوصل إلى علمٍ غائبٍ بعلم شاهدٍ، فهو أخص من العلم، والفقه: العلم بأحكام الشريعة، وفقه فقهًا؛ أي: فهم فهمًا، والمراد بالفقه القليل: فهمهم لأمور الدنيا، دون أمور الدين. {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى} وهو فاقد البصر. {حَرَجٌ} وأصل الحرج والحراج: مجتمع الشيء، كالشجر وتصوِّر منه ضيق ما بينهما، فقيل للضيق: حرجٌ، وللإثم: حرج. {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ} من العروج؛ لأنّ الأعرج ذاهب في صعود بعد هبوط، وعرج كفرح: إذا صار ذلك خلقة له، وقيل للضبع: عرجاء؛ لكونها في خلقتها ذات عرج، وعرج كدخل: ارتقى وأصابه شيء في رجليه، فمشى مشي العارج؛ أي: المذاهب في صعود، وليس ذلك بخلقةٍ، أو يثلث في غير الخلقة.

كما في "القاموس". قوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} أصله: ستدعوون، قلبت الواو الأولى ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بالماضي عمّا في المستقبل في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} فقد جاء الأخبار بالفتح بلفظ الماضي؛ لأنها نزلت حين رجع - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية قبل عام الفتح؛ إيذانًا بأنّ أخبار الله تعالى لمّا كانت محقَّقة لا محالة .. نزلت منزلة المحققة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر، وصدقه ما لا يخفى على من له مسكة من عقل. ومنها: تصدير الكلام بحرف التحقيق تأكيدًا للتبشير. ومنها: حذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل، والإيذان بأنَّ مناط التبشير: نفس الفتح المصادر عنه سبحانه، لا خصوصية المفتوح. ومنها: الالتفات من التكلّم إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات كالمغفرة والإنعام والنصر، في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}؛ لأجل الإشعار بأنّ كل واحد من الأمور الأربعة الداخلة تحت لام الغاية صادر عنه تعالى، من حيثيةٍ غير الحيثية الأخرى، مترتب على صفة من صفاته تعالى. اهـ "أبو السعود". فمغفرة الذنوب من حيث إنه تعالى غفار، وهداية الصراط من حيث إنه هاد، وهكذا، ويجمع الكل لفظ الله، فإنه اسم للذات المستجمع للصفات. اهـ شيخنا. قال ابن الشيخ: في إظهار فاعل قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ} {وَيَنْصُرَكَ} إشعار بأنّ كل واحد من المغفرة والنصرة متفرع على الألوهية، وكونه معبودًا بالحق، والمغفرة: ستر الذنوب ومحوها.

ومنها: الطباق بين: {مَا تَقَدَّمَ} و {مَا تَأَخَّرَ} وبين: {مُبَشِّرًا} و {نَذِيرًا}، وبين: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، وبين: {نَكَثَ} و {أَوْفَى}، وبين {أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} و {أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}، وبين: {يَغْفِرُ} و {يُعَذِّبُ}. ومنها: المقابلة بين: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، وبين: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ ...} الآية ومنها: التعليل في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} حيث جعل تعالى فتح مكة علة للمغفرة؛ لأنَّ الفتح من حيث كونه جهادًا وعبادة سبب للغفران، وقيل: السرّ فيه: اجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية والنصر العزيز، كأنَّه قيل: يسّرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك لنجمع لك عزّ الدارين، وأغراض العاجلة والآجلة. ومنها: الإسناد المجازيّ، وذلك في قوله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} فقد أسند العزّ والمنعة إلى النصر، وهو للمنصور، فإنَّ صيغة فعيل هنا للنسبة، العزيز بمعنى ذي العزّة. ومنها: التكرير في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} حيث قال ثانيًا: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}؛ لأنه ذكر قبل الآية الأولى {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ولما كان فيهم من هو أهل للرحمة، ومن هو أهل للعذاب .. ناسب أن يكون خاتمة الأولى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. ولمّا بالغ تعالى في تعذيب المنافق والكافر، وشدته .. ناسب أن يكون خاتمة الثانية: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فالأولى: دلّت على أنه المدبّر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، والثانية: دلّت على التهديد والوعيد، وأنهم في قبضة المنتقم. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}. ومنها: الإتيان بالواو في الفعلين الأخيرين في قوله: {وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} مع أنّ حقّهما الإتيان بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، إذ اللعن سبب الإعداد، والغضب سبب اللعن؛ للإيذان باستقلال كل منهما في الوعيد،

وأصالته من غير استتباع بعضكما لبعض. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} حيث شبّه المعاهدة على التصريحية بالأنفس في سبيل الله طلبًا لمرضاته، بدفع السلع في نظير الأموال، بجامع اشتمال كل منهما على معنى المبادلة، واستعير اسم المشبه به للمشبّه، واشتق من المبايعة بمعنى المعاهدة: يبايعون: بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله، على طريق الاستعارة التصريحية التبعيّة. ومنها: الاستعارة المكنيّة في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} حيث شبّه اطلاع الله على مبايعتهم، ومجازاته على طاعتهم، بملك وضع يده على يد أميره ورعيّته، وطوى ذكر المشبّه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو اليد، على طريق الاستعارة المكنية الأصلية، فتلخّص أنّ في هذا التركيب استعارة تصريحية تبعيّة في الفعل، ومكنية في الاسم الكريم، وتخييلية في إثبات اليد له، وفيه مشابهة في مقابلة يده بأيديهم، وقيل: الكلام على التشبيه البليغ، الأصل: كأنّ يد الله حين المبايعة فوق أيديهم، حذف أداة التشبيه؛ للمبالغة في التأكيد. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {فَمَنْ نَكَثَ}؛ لأنّ النكث حقيقة في نقض، نحو: الحبل والغزل وفكِّه، فاستعير لنقض العهد، فاشتق من النكث بمعنى: نقض العهد نكث، بمعنى: نقض العهد، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: فنّ اللفّ في قوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}؛ لأنّ الأصل: فمن يملك لكم من الله شيئًا، إن أراد بكم ضرًّا، ومن يحرمكم النفع، إن أراد بكم نفعًا. ومنها: تكرير الظنّ في قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} بعد قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} إلخ، لتشديد التوبيخ، والتسجيل عليه بالسوء. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}؛

لأن مقتضى السياق أن يقال: فإنا أعتدنا له سعيرًا، بالضمير العائد على {مَنْ}؛ إيذانًا بأنّ من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله كافر، مستوجب السعير. ومنها: تنكير {سَعِيرًا}؛ للتهويل للدلالة على أنه سعير لا يكتنه كنهها, ولا يعرف قدرها. ومنها: المبالغة في قوله: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} فالإضراب الأول معروف، وهو ديدنهم، ودليل لجاجهم وتماديهم في التعنّت والإصرار على السفه، أمّا الإضراب الثاني .. فهو الذي تتجسد فيه بلادتهم وغباوتهم؛ وإن الإضراب الأول: فيه نسبة إلى جهل في شيء مخصوص: وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين، والثاني: فيه نسبة إلى جهل عامّ على الإطلاق. ومنها: التكرار في قوله: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} كرّر ذكرهم بهذا العنوان؛ لذمّهم مرّةً بعد أخرى، فإن التخلّف عن صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - شناعةٌ أيُّ شناعة. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}. المناسبة قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (¬1) بين حال المخلّفين فيما سلف .. عاد إلى بيان ¬

_ (¬1) المراغي.

حال المبايعين، الذين ذكرهم فيما تقدم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} فأبان رضاه عنهم؛ لأجل تلك البيعة، لما علم من صدق إيمانهم، وإخلاصهم في بيعتهم، وأنزل عليهم طمأنينة ورباطة جاش، وجازاهم بمغانم كثيرة أخذوها من خيبر بعد عودتهم من الحديبية، وكان الله عزيزًا؛ أي: غالبًا على أمره، موجدًا أفعاله وأقواله على مقتضى الحكمة. قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (¬1) وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر .. أردف ذلك ببيان: أنّ ما آتاهم من الفتح والمغانم، ليس هو الثواب وحده، بل الجزاء أمامهم، وإنّما عجّل لهم هذه؛ لتكون علامة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحياطته له، وحراسته للمؤمنين، وليثبتكم على الإِسلام، وليزيديكم بصيرةً، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم، وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لولا الإِسلام، فقد كانت بلاد العرب شبه مسستعمرات لهذه الدول، فأقدرهم الله تعالى عليها بعزّ الإِسلام. ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة، ولم يصالحوكم .. لانهزموا ولم يجدوا وليًّا ولا نصيرًا يدافع عنهم، وتلك هي سنة الله تعالى من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين، ثمّ امتن على عباده المؤمنين أنه كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، فصان كلًا من الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحًا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا بيَّن فيما سلف أنّ الله كفّ أيدى المؤمنين عن الكافرين، وكفّ أيدي الكافرين عن المؤمنين .. عيَّن هنا مكان الكفّ، وهو البيت الحرام، الذي صدّوا المؤمنين ¬

_ (¬1) المراغي.

عنه، ومنعوا الهدى معكوفًا أن يبلغ محلّه، والسبب الذي لأجله كفوهم هو كفرهم بالله. ثم أخبرهم بأنه لولا أن يقتلوا رجالًا مؤمنين، ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم، فيلزمهم العار والإثم .. لأذن لهم في دخول مكة، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة؛ ليُدخل الله في دين الإِسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها, وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم، ولو تفرّقوا وتمييّز بعضهم من بعض .. لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليما بالقتل والسبي، حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية، التي تمنع من الإذعان للحق، ولكن أنزل الله الثبات والوقار على رسوله، وعلى المؤمنين، فامتنعوا أن يبطشوا بهم، وألزمهم الوفاء بالعهد، وكانوا أحق بذلك من غيرهم، إذ اختارهم الله لدينه، وصحبة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبيّة أنه يدخل المسجد الحرام، هو وأصحابه آمنين، منهم من يحلق، ومنهم من يقّصر، فأخبر ذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا، فلمّا انصرفوا لم يدخلوا .. شق ذلك عليهم، وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} ودخلوا في العام المقبل. قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر (¬1) أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإِسلام، ليعلي شأنه على سائر الأديان .. أردف هذا ببيان حال الرسول، والمرسل إليهم، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم، وبها سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، وقبضوا على ناصية العالم أجمع، وهي: 1 - أنهم غلاظ على من خالف دينهم، وناوأهم العداء رحماء فيما بينهم. 2 - أنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله ديدنهم في أكثر أوقاتهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

3 - أنهم يرجون بعملهم الثواب من ربهم، والزلفى إليه، ورضاه عنهم. 4 - أنهم لهم سيماء، يعرفون بها، فلهم نور في وجوههم، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن. 5 - أن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل، فقال: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. ذاك أنهم في بدء الإِسلام كانوا قليلي العدد، ثمّ كثروا واستحكموا، وترقى أمرهم يومًا فيومًا، حتى أعجب الناس بهم، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قام وحده، ثمّ قوَّاه الله بمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتوالد منها. أسباب النزول قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سلمة بن الأكوع، قال: بينما نحن قائلون، إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيّها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فسرنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فأنزل الله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...} الآية. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي، عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا كان يوم الحديبية .. هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثمانون رجلًا في السلاح من جبل التنعيم، يريدون غرّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُخذوا فأعتقهم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ...} الآية. وأخرج مسلم نحوه من حديث سلمة بن الأكوع وأحمد والنسائي نحوه من حديث عبد الله بن مغفل المزني، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ...} الآية، سبب نزول هذه ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[18]

الآية: ما أخرجه الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال: قاتلت النبي - صلى الله عليه وسلم - أوّل النهار كافرًا، وقاتلت معه آخر النهار مسلمًا، وكنّا ثلاثة رجال، وسبع نسوة، وفينا نزل: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ...}. قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في "الدلائل" عن مجاهد قال: أري النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالحديبية: أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين، محلّقين رؤوسهم ومقصرين، فلمّا نحر الهدي بالحديبية .. قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 18 - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد باعد الله السخط عن المؤمنين بواسطة إيجاد الرضا لهم؛ لأنَّ من معنى {عَنِ} المجاوزة، والمجاوزة لغةً: البعد، واصطلاحًا: بعد الشيء عن المجرور بها بواسطة إيجاد مصدر ذلك العامل، كما هو مقرّر في محلّه، ورضوا عنه. ومعنى رضا العبد عن ربه (¬1): أن لا يكره ما يجري به قضاؤه. ومعنى رضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمرا لأمره، منتهيًا عن نهيه، وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم، وكانوا ألفًا وأربع مئة على الصحيح، وقيل: ألفًا وخمس مئة وخمسة وعشرين؛ أي: (¬2) رضي عن المؤمنين الراسخين في الإيمان؛ أي: فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح، وما قدر لهم من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين، فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور شاهدة. {إِذْ يُبَايِعُونَكَ}: ظرف متعلق بـ {رَضِيَ}، وصيغة المضارع؛ لاستحضار صورتها؛ أي: رضي الله عنهم وقت تلك المبايعة، وبهذه الآية سمّيت: بيعة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) خطيب.

الرضوان، وقوله: {تَحْتَ الشَّجَرَةِ}: إما متعلق بـ {يُبَايِعُونَكَ} أو بمحذوف حال من المفعول؛ أي: حال كونك تحت الشجرة، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية، وهي السمرة؛ أي: أمّ غيلان، وهي كثيرة في بوادي الحجاز، وقيل: هي سدرة، قال في "إنسان العيون": صارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة، يقال لها: شجرة الرضوان، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمان خلافته: أنّ ناسًا يصلّون عندها، فتوعدهم، وأمر بها فقطعت خوف ظهور البدعة. انتهى. وروى الإِمام النسفي رحمه الله في "التيسير": إنها عمّيت عليهم من قابل، فلم يدروا أين ذهبت، ويمكن التوفيق بين الروايتين بأنها لما عميت عليهم .. ذهبوا يصلون تحت شجرة على ظنّ أنها هي شجرة البيعة، فأمر عمر بقطعها، فقطعت. وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشًا، ولا يفرّوا، وروي: أنه بايعهم على الموت، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والمسير، فراجعها إن شئت. {فَعَلِمَ} الله سبحانه وتعالى {مَا فِي قُلُوبِهِمْ}: معطوف على {يُبَايِعُونَكَ} لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، لا على {رَضِيَ}، فإنّ رضاه تعالى عنهم مرتّب على علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص، عند مبايعتهم له - صلى الله عليه وسلم -، قال الفرّاء: علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، وقال قتادة وابن جريج: من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا، وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت. {فَأَنْزَلَ} سبحانه {السَّكِينَةَ}؛ أي: الطمأنينة، وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على قلوبهم، معطوف على {رَضِيَ}؛ يعني: أنزل السكينة على قلوب المؤمنين المخلصين حتى ثبتوا، وبايعوك على الموت، وعلى أن لا يفرّوا {وَأَثَابَهُمْ}؛ أي: وجازاهم على الطاعة {فَتْحًا قَرِيبًا}؛ أي: فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة، فأقام - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بقيته وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم، سنة سبع. وقرأ الحسن ونوح القارىء: {وآتاهم}؛ أي؛ أعطاهم، والجمهور:

[19]

{وَأَثَابَهُمْ} من الثواب. 19 - {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وهي مغانم خيبر، وكانت ذات عقار وأشجار أخذوها من اليهود مع فتح بلدتهم، فقسمت عليهم. وقرأ الجمهور (¬1): {يَأْخُذُونَهَا} بالياء على الغيبة في {وَأَثَابَهُمْ} وما قبله من ضمير الغيبة، وقرأ الأعمش، وطلحة، ورويس عن يعقوب ودلبة عن يونس عن ورش، وأبو دحية عن نافع والأنطاكي عن أبي جعفر: بالتاء على الخطاب، كما جاء بعد {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} بالخاطب. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزًا}؛ أي: غالبًا منيعًا كامل العزّة غنيًا عن إعانتكم {حَكِيمًا} فيما دبره لخلقه، حيث حكم لكم بالنصرة والفتح والغنائم، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة 20 - {وَعَدَكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى أيّها المؤمنون {مَغَانِمَ كَثِيرَةً} إلى يوم القيامة {تَأْخُذُونَهَا} من الكفار في أوقاتها المقدّرة لكل واحدة منها، والالتفات لتشريفهم بالخطاب، وفي هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة، يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}؛ أي: غنائم خيبر، قاله مجاهد، وقيل: صلح الحديبية، فليست كل الثواب، بل الجزاء قدامكم {وَكَفَّ} سبحانه ومنع {أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}؛ أي: كفّ (¬2) الله سبحانه أيدي بني أسد وغطفان: وهم حلفاء أهل خيبر عنكم، حيث جاؤوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر، فإنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا قصد خيبر، وحاصر أهلها .. همّت قبائل من بني أسد وغطفان، أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريّهم بالمدينة، فكفّ الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فنكصوا، وقال قتادة؛ كفّ أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية، ورجح هذا ابن جرير، أما كفّ أيدي أهل مكة بالحديبية .. فمذكور بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ...} إلخ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح.

وقال سعدي المفتي (¬1): إن كان نزولها بعد فتح خيبر، كما هو الظاهر .. لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، وإن كان قبله، على أنها من الإخبار بالغيب .. فالإشارة بهذه لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة، والتعبير بالمضي للتحقق. وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}: معطوف على علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين؛ أي: فعجل لكم هذه، أو كفّ أيدي الناس عنكم لتغتنموها, ولتكون هذه الكفة أمارةً للمؤمنين يعرفون بها صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من الغنائم، وفتح مكة، ودخول المسجد الحرام؛ أي (¬2): لتنفعكم في الظاهر، وتنفعكم في الباطن، حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في إخباره عن الغيوب، فيكمل اعتقادكم؛ أي: عجّل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح وهو هزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرةً للمؤمنين؛ لأنكم كنتم ثمانية آلاف، وأن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا، وكفّ أيدي الناس عنكم، وعن عيالكم؛ ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين، فيعلموا أنّ الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم. ويجوز (¬3) أن تكون {الواو}: اعتراضية على أن تكون اللام متعلقة بمحذوف مؤخرٍ؛ أي: ولتكون آيةً لهم فعل ما فعل من التعجيل، وقيل: إن {الواو}: زائدة، و {اللام}: لتعليل ما قبلها؛ أي: كفّ أيدي الناس عنكم؛ لتكون لتلك الكفّة آية للمؤمنين. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}؛ أي: طريق التوكّل عليه تعالى، والثقة بفضله تعالى في كلّ ما تأتون وما تذرون، أو يزيدكم بتلك الآية هدى، أو يثبّتكم بها على الهداية إلى طريق الحق. ومعنى الآية: أي (¬4) وعدكم الله سبحانه مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم مغانم خيبر، وكفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية وخيبر، وقال قتادة، واختاره ابن جرير الطبريّ: لتشكروه، ولتكون أمارة للمؤمنين، يعلمون بها أنّ الله حافظهم، وناصرهم على أعدائهم على قلّة عددهم، وليهديكم صراطًا مستقيمًا بانقيادكم لأمره، وموافقتكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويزيدكم يقينًا بصلح الحديبية وفتح خيبر. روى إياس بن سلمة، قال: حدّثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل عمّي عامر يرتجز بالقوم، ثمّ قال: تَالله لَوْلَا الله مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا وَأَنْزِلَنْ سَكِيْنَة عَلَيْنَا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من هذا؟ " قال: أنا عامر، قال: "غفر لك ربّك" وما استغفر لأحد إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبيّ الله، لو امتعتنا بعامر، فلمّا قدمنا خيبر .. خرج قائدهم مرحب يخطر سيفه، ويقول: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ مَرْحَبُ ... شَاكِيْ السِّلَاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذِ الْحَرُوْبُ أَقْبَلَتْ تَلْتَهِبُ فبرز له عامر بن عثمان، فقال: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ عَامِرُ ... شَاكِيْ السِّلَّاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ أي: تام السلاح معروف بالشجاعة، وقهر الفرسان، فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فرجع سيف عامر على نفسه، فقطع أكحله الأكحل: عرق في اليد، فكانت فيها نفسه، قال: فأتيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، بطل عمل عامر، فقال: "من قال ذلك؟ " قلت: ناس من أصحابك، قال: "من قال ذلك؟ بل له أجره مرتين". ثمّ أرسلني إلى عليّ وهو أرمد، وقال: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله" فأتيت

عليًّا فجهئت به أقوده، وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتفل في عينيه فبرىء، وأعطاه الراية، فخرج مرحب، وقال: أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ مَرْحَبُ ... شَاكِيْ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ فقال عليّ كرّم الله وجهه: أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيْهِ الْمَنْظَرَهْ أَكِيْلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ (¬1) قال: فضرب رأس مرحب، فقتله، ثم كان الفتح على يديه كرم الله وجهه. نبذة من قصة خيبر ثم إن خيبر حصن معروف قرب المدينة، على ما في "القاموس". وقال في "إنسان العيون": هو على وزن جعفر، سميت باسم رجل من العماليق نزلها، يقال له: خيبر، وهو أخو يثرب الذي سمّيت باسمه المدينة، وفي كلام بعضهم: خيبر بلسان اليهود الحصين، ومن ثمّ قيل لها: خيابر؛ لاشتمالها على الحصون، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، ونخل كثير، بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد، والبريد: أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال. يقول الفقير: وكل ميلين ساعة واحدة بالساعات النجومية؛ لأنّه عدّ من المدينة إلى قباء ميلان، وهي ساعة واحدة، فتكون الثمانية البرد ثماني وأربعين ساعة بتلك الساعات. ولمّا رجع - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية .. أقام بالمدينة شهرًا؛ أي: بقية ذى الحجة وبعض المحرم من سنة سبع، ثمّ خرج إلى خيبر، وقد استنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أما الغنيمة فلا"؛ أي: لا تعطون منها شيئًا، ثمّ أمر مناديًا ينادي بذلك، فنادى به، وأمر أيضًا أنه ¬

_ (¬1) السندرة: مكيال واسع وكيلهم بها قتلهم قتلا واسعًا ذريعًا، اهـ.

لا يخرج الضعيف، ولا من له مركب صعب، حتى إنّ بعضهم خالف هذا الأمر، فنفر مركوبه فصرعه، فاندقت فخذه فمات. فأمر عليه السلام بلالًا رضي الله عنه أن ينادي في الناس: الجنة لا تحل لعاص، ثلاثًا. وخرج معه - صلى الله عليه وسلم - من نسائه أمّ سلمة رضي الله عنها ولمّا أشرف على خيبر، وكان وقت الصبح .. رأى عمَّالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وهي القفف الكبيرة، قالوا: محمد والخميس؛ أي: الجيش العظيم معه، قيل له: الخميس؛ لأنه خمسة أقسام: المقدمة، والساقة والميمنة والميسرة، وهما الجناحان، والقلب، وأدبروا؛ أي: العمّال هربًا إلى حصونهم، وكانوا لا يظنّون أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزوهم، وكان بها عشرة آلاف مقاتل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، خَرِبَت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم .. فساء صباح المنذرين". وابتدأ من حصونهم بحصن النطاة، وأمر بقطع نخلها فقطعوا أربع مئة، ثم نهاهم عن القطع، ومكث - صلى الله عليه وسلم - سبعة أيَّام يقاتل أهل حصون النطاة، فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح، ثمّ قال: "لأعطين الراية غدًا إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّانه، يفتح الله على يديه" فتطاولها أبو بكر وعمر، وبعض الصحابة من قريش، فدعا - صلى الله عليه وسلم - عليًّا رضي الله عنه وبه رمد، فتفل في عينيه، ثم أعطاه الراية، وكانت تلك الراية بيضاء مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالسواد، فقال: عَلَامَ أقاتلهم يا رسول الله؟ قال: "أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك .. فقد حقنوا دماءهم وأموالهم" وألبسه - صلى الله عليه وسلم - درعه الحديد، وشدّ سيفه ذا الفقار في وسطه، ووجهه إلى الحصين، وقال: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حمر النعم"؛ أي: من الإبل النفيسة التي تصدق بها في سبيل الله، فخرج عليّ بالراية يهرول، حتى ركزها تحت الحصن، فخرج الحارث أخو مرحب، وكان معروفًا بالشجاعة، فتضاربا فقتله عليّ، وانهزم اليهود إلى الحصين، ثمّ خرج إليه مرحب سيد اليهود، وهو يرتجز ويقول: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ مَرْحَبُ ... شَاكِيْ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ وارتجز عليّ رضي الله عنه وقال:

أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ حَيْدَرَهْ ... ضِرْغَامُ آجَامٍ وَلَيْثٌ قَسْوَرَهْ وضرب عليًّا، فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ بابًا كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده يقاتل حتى قتل مرحبًا، وفتح الله عليه الحصين، وهو حصن ناعم من حصون النطاة، وألقى الباب من يده وراء ظهره ثمانين شبرًا، وذلك بالقوّة القدسيَّة، وفيه بيان شجاعة عليّ، حيث قتل شجيعًا بعد شجيع. ثم انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاة، فأقاموا على محاصرته يومين، حتى فتحه الله، وما بخيبر حصن أكثر طعامًا منه: كالشعير، والسمن والتمر والزيت، والشحم والماشية والمتاع، ثم انتقلوا إلى حصن قلة، وهو حصن بقلة، وهو آخر حصون النطاة، فقطعوا عنهم ماءهم، ففتحه الله، ثمّ سار المسلمون إلى حصار الشقّ، بفتح الشين المعجمة، وهو أعرف عند أهل اللغة من الكسر، ففتحوا الحصن الأول من حصونه. ثمّ حاصروا حصن البراء: وهو الحصن الثاني من حصون الشقّ، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى فتحه الله، ثمّ حاصروا حصون الكثيبة، وهي ثلاثة حصون: القموص بوزن صبور، والوطيح، وسلالم بضم السين المهملة، وكان أعظم حصون خيبر القموص، وكان منيعًا حاصره المسلمون عشرين ليلةً، ثم فتحه الله على يد عليّ رضي الله عنه ومنه سبيت صفية بنت حيي رضي الله عنها. وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح، بالحاء المهملة، سمي باسم الوطيح بن مارن رجل من اليهود، وسلالم آخر حصون خيبر، ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يومًا، وهذان الحصنان فتحا صلحًا؛ لأنَّ أهلهما لما أيقنوا بالهلاك .. سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح على حقن دماء المقاتلة، وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريِّهم، وأن لا يصحب أحد منهم إلا ثوبًا واحدًا على ظهره، فصالحهم عليه، ووجدوا في الحصنين المذكورين مئة درع، وأربع مئة سيف، وألف رمح، وخمس مئة قوس عربية بجعابها، وأشياء أخر غالية القيمة، وهي ما في خزانة أبي الحقيق - مصغرًا - وأرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل فدك، وهي محرّكة: قرية بخيبر، يدعوهم إلى الإِسلام ويخوِّفهم، فتصالحوا معه - صلى الله عليه وسلم - على أن يحقن دماءهم ويخلِّيهم ويخلون

بينه وبين الأموال، ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: تصالحوا معه على أن يكون لهم النصف في الأرض، ولرسول الله النصف الآخر، وكان فدك على الأول لرسول الله، وعلى الثاني كان له نصفها؛ لأنها لم تؤخذ بمقاتلة، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، ولمّا مات - صلى الله عليه وسلم - وولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة .. سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعل فدك أو نصفها لها، فأبى، وروي لها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا - معاشر الأنبياء - لا نورث"؛ أي: لا نكون موّرثين "ما تركناه صدقة"؛ أي: على المسلمين. ثمّ إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصلح فجمعت، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا، منها: صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب، من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، فهداها الله، فأسلمت، ثمّ أعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوّجها، وكانت رأت أن القمر وقع في حجرها، فكان ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل وليمتها حيسًا في نطع، الحيس: تمر وأقط وسمن، ودخل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزل الصهباء في العود، والصهباء: موضع قرب خيبر، كما في "القاموس". ونهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان الحبالى حتى تضع، وعن غير الحبالى حتى تستبرأ بحيضة، ونهى عن إتيان المسجد لمن أكل الثوم والبصل، وعن بعضهم: ما أكل نبيّ قطّ ثومًا ولا بصلًا. يقول الفقير: يدخل فيه الدخان الشائع شربه في هذا الزمان، بل رائحته أكره من رائحة الثوم والبصل، فإذا كان دخول المسجد ممنوعًا مع رائحتهما دفعًا لأذى الناس والملائكة .. فمع رائحة الدخان أولى، وظاهر: أنَّ الثوم والبصل من جنس الأغذية، ولا كذلك الدخان، ومحافظة المزاج بشربه إنما عرفت بعد الإدمان المولد للأمراض الهائلة، فليس لشاربه دليل في ذلك أصلًا، فكما أنَّ شرب الخمر ممنوع أولًا وآخرًا، حتى لو تاب منها ومرض .. لا يجوز أن يشربها, ولو مات من ذلك .. يؤجر ولا يأثم فكذا شرب الدخان، وليس استطابته إلا من خباثة الطبع، فإنّ الطباع السليمة تستقذره لا محالة، فتب إلى

[21]

الله، وعد حتى لا يراك حيث نهاك. ولمّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر .. كان الثمر أخضر، فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم، فقال: "برِّدوا لها الماء في الشنان؛ أي: في القرب، ثم صبوا منه عليكم بين أذاني الفجر، واذكروا اسم الله عليه" ففعلوا فذهبت عنهم، وفي هذه الغزوة أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبَّرز، فأمر إلى شجرتين متباعدتين، حتى اجتمعتا فاستتر بهما، ثمّ قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها. وفي خيبر كان أكله من الشاة المسمومة، وذلك أنَّ زينب ابنة الحارث أخي مرحب سمتها، وأكثرت في الذراعين والكتف، لمّا عرفت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الذراع والكتف لكونهما أبعد من الأذى، وأهدتها له معه، وهو بشر بن البراء، واحتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الكتفين في ثلاثة مواضع، ثم أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تلك اليهوديّة، فقال: "أسَمَمت هذه الشاة؟ " فقالت من أخبرك؛ قال: "أخبرتني هذه التي في يدي"؛ أي: الذراع، قالت: نعم. قال: "ما حملك على ما صنعت؟ " قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان ملكًا .. استرحنا منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فعفا عنها، فلمّا مات بشر .. أمر بها، فقتلت وصلبت. 21 - وقوله: {أُخْرَى}: معطوف (¬1) على هذه، أي: فعجَّل لكم هذه الغنائم ومغانم أخرى: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد: كفارس والروم ونحوهما، كذا قال الحسن ومقاتلٌ، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك وابن زيد وابن أبي إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها، وقال قتادة: فتح مكة، وقال عكرمة: حنين، والأول: أولى. {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}: صفة ثانية لـ {أُخْرَى} قال الفرّأء: أحاط الله بها ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

لكم حتى تفتحوها، وتأخذوها. والمعنى: أنه أعدَّها لهم، وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة لهم لا تفوتهم، وقيل: معنى: {أَحَاطَ}: علم أنها ستكون لهم. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} لا يعجزه شيء، ولا تختصّ قدرته ببعض المقدورات دون بعض. والمعنى (¬1): أي ووعدكم الله فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها، قد حفظها لكم، حتى تفتوحها، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها: كفارس والروم، أقدركم عليهم بعز الإِسلام، وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم، لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم، وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء من فتح القرى والبلدان لكم، وغير ذلك، ذا قدرة لا يتعذّر عليه شيء منها. 22 - {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ} أيّها المؤمنون {الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يصالحوكم، قال قتادة: يعني: كفار قريش بالحديبية، وقيل: أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر، والأول: أولى. {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}؛ أي: لانهزموا عنكم، ولم يكن قتال، فإنّ تولية الأدبار كناية عن الانهزام {ثُمَّ} بعد انهزامهم {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يواليهم ويحرسهم وينفعهم باللطف {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم، ويدفع عنهم بالعنف، بل الهلاك لاحقٌ بهم بعد الانهزام؛ يعني: من تولى الله خذلانه فلا ناصر له ولا مساعد. والمعنى: ولو ناجزكم المشركون بالقتال .. لنصركم عليهم، ولانهزم جيش الكفر فارًّا مدبرًا، لا يجد وليًّا يتولّى رعايته، ويكلؤه، ويحرسه، ولا نصيرًا يساعده؛ لأنّه محارب لله ولرسوله، ولحزبه المؤمنين. 23 - وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ}: مصدر مؤكد لفعله المحذوف؛ أي: سنَّ الله سبحانه ¬

_ (¬1) المراغي.

[24]

وتعالى غلبة أنبيائه وأوليائه، سنَّته {الَّتِي قَدْ خَلَتْ} ومضت {مِنْ قَبْلُ} في الأمم الماضية؛ أي: سنَّ ذلك سنَّةَ قديمةً فيمن خلا ومضى من الأمم، وهو قوله: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. {وَلَنْ تَجِدَ} يا محمد، أو أيّها المخاطب {لِسُنَّةِ اللَّهِ} وعادته {تَبْدِيلًا}؛ أي: تغيّرًا بنقل الغلبة من الأنبياء إلى غيرهم. أي: ما تقابل الكفر والإيمان في موطن إلا نصر الله المؤمنين على الكافرين، ورفع الحق، ووضع الباطل، كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين، على قلة عددهم وعددهم، وكثرة المشركين وكثرة عددهم. 24 - {وَهُوَ} سبحانه {الَّذِي كَفَّ} ومنع {أَيْدِيَهُمْ}؛ أي: أيدي كفّار مكة {عَنْكُمْ} أيّها المؤمنون؛ أي: بأن حملهم على الفرار منكم، مع كثرة عددهم، وكونهم في بلادهم بصدد الذّب عن أهليهم وأولادهم {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} بأن حملكم على الرجوع عنهم وتركهم {بِبَطْنِ مَكَّةَ}؛ أي: في داخلها؛ أي: في داخل الحرم، وهو الحديبية {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ}؛ أي: من بعد أن جعلكم ظافرين غالبين {عَلَيْهِمْ} مع أنّ العادة المستمرّة فيمن ظفر بعدوّه أن لا يتركه، بل يستأصله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ الله تعالى أظهر المسلمين عليهم بالحجارة، حتى أدخلوهم البيوت؛ يعني: أنّ جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة، حتى أدخلوهم بيوت مكة، فلمّا كان الكفّ على الوجه المذكور في غاية البعد .. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ} إلخ. على طريق الحصر، استشهادًا به على ما تقدم من قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ}. وقيل: هم ثمانون رجلًا، طلعوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه بغتة، ويقتلوا الأصحاب، فأخذهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلَّى سبيلهم، فيكون (¬1) المراد ببطن مكة: وادي الحديبية؛ لأنّ بعضها من الحرم. ¬

_ (¬1) روح البيان.

يقول الفقير: لا شكّ أنّ وادي الحديبية واقع في الجهة السفلي من مكة؛ لأنّه في جانب جدَّة المحروسة، فيكون المراد بالبطن: تلك الجهة، لا داخل مكة. والمعنى - والله أعلم -: أنّ الله هو الذي كفّ أيديهم عنكم، وأيديكم عنهم في الحديبية التي هي الجهة السفلى من مكة، من بعد أن أقدركم عليهم، بحيث لو قاتلتموهم .. غلبتم عليهم بإذنه تعالى على ما كان في علمه، كما قال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ} إلخ؛ أي: إنّ الله (¬1) سبحانه هو الذي كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، يلتمسون غرتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريةً، فأتي بهم أسرى، ثم خلى سبيلهم، ولم يقتلهم منةً منه وفضلًا. روى أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي في آخرين عن أنس قال: لمّا كان يوم الحديبية .. هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ثمانون رجلًا من أهل مكة في السلاح من جبل التنعيم، التنعيم: موضع بين مكة وسرف، فدعا عليهم، فأخذوا، فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ ...} إلخ. وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنهما قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليّ بن أبي طالب، وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ رضي الله عنه: "اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ": فأخذ سهيل بيده، وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيّتنا ما نعرف قال: "اكتب باسمك اللهم" وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيّتنا ما نعرف، فقال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا، عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانًا؟ " فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}؛ أي: بأعمالكم وأعمالهم، بصيرًا لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم، ومجازيهم بها. وقرأ الجمهور (¬1): {بِمَا تَعْمَلُونَ} على الخطاب؛ أي: من مقاتلتكم وهزمكم إياهم أولًا طاعة لرسوله، وكفّكم عنهم ثانيًا؛ لتعظيم بيته الحرام، وصيانة أهل الإِسلام. {بَصِيرًا}؛ أي: عالمًا لا يخفى عليه شيء، فيجازيكم بذلك، وقرأ أبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار. 25 - {هُمُ}؛ أي: قريش الأقوام {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَصَدُّوكُمْ}؛ أي: منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: عن أن تطوفوا بالبيت {و} صدّوا {الْهَدْيَ} وهو بالنصب عطف على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ} والهدي بسكون الدال: (¬2) جمع هدية، كتمر وتمرة، وجدي وجدية، وهو: مختص بما يهدى إلى البيت تقرّبًا إلى الله تعالى من النعم، أيسره: شاة، وأوسطه: بقرة، وأعلاه: بدنة، ويجوز تشديد الياء، فيكون جمع هديّة. وقرأ الجمهور (¬3): {الْهَدْيَ} بالنصب، عطفًا على الضمير في: {صدّوكم}، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه. {الهدي} بالجر عطفًا على {الْمَسْجِدِ} ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وعن نحو الهدي، وقرىء: بالرفع على تقدير: وصد الهدي، وقرأ الجمهور: {الهدي} بفتح الهاء وسكون الدال، وهي لغة قريش، وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤيّ وخارجة عن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

أبي عمرو: {الهدي} بكسر الدال، وتشديد الياء، وهم لغتان، وانتصاب {مَعْكُوفًا} على الحال من {الهدي}؛ أي: وصدّوا الهدي عن دخول الحوم، حال كونه محبوسًا عن {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}؛ أي: مكانه الذي يحلّ فيه نحوه؛ أي؛ يصح ويجب فيه نحوه، وهو الحرم، فالمحل: اسم للمكان الذي ينحر فيه الهدي، وقوله: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}: بدل اشتمال من {الْهَدْيَ} أو منصوب بنزع الخافض. قال في "بحر العلوم": الحديبية: طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، وروي: أنّ خيامه - صلى الله عليه وسلم - كانت في الحلّ، ومصلاه في الحرم، وهناك نحرت هداياه - صلى الله عليه وسلم -، وهي سبعون بدنة. والمراد: صدّها عن محلّها المعهود الذي هو مني للحاج، وعند الصفا للمعتمر، وعند الشافعي لا يختص دم الإحصار بالحرم، فيجوز أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه. والمعنى: أي هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوكم أيّها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدّوا الهدي محبوسًا أن يبلغ محلّ نحوه، وهو الحرم عنادًا منهم وبغيًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة. واعلم (¬1): أنه تعالى بيَّن استحقاق كفّار مكة للعقوبة بثلاثة أشياء: كفرهم في أنفسهم، وصدِّ المؤمنين عن إتمام عمرتهم، وصدّ هديهم عن بلوغ المحلّ، فهم مع هذه الأفعال القبيحة كانوا يستحقّون أن يقاتلوا أو يقتلوا، إلا أنه تعالى كفّ أيدي كل فريق عن صاحبه، محافظة على ما في مكة من المؤمنين المستضعفين ليخرجوا منها، أو يدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ}؛ أي: لم تعرفوهم أيّها المؤمنون بأعيانهم؛ لاختلاطهم بالمشركين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقيل: لم تعلموا أنهم مؤمنون، وهو صفة لـ {رِجَالٌ} و {نِسَاءٌ} جميعًا، وكانوا بمكة. وهم اثنان وسبعون نفسًا، يكتمون إيمانهم {أَنْ تَطَئُوهُمْ}: بدل اشتمال من {رِجَالٌ} و {نِسَاءٌ} ولكنّه غلّب المذكور، أو بدل من الضمير المنصوب في {تَعْلَمُوهُمْ}. والتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وعلى الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر: محذوف؛ أي: ولولا رجال ونساء موجودون؛ أي: لم تعلموا أن تطؤوهم، وتدوسوهم بالقتل، وتهلكوهم؛ وإن الوطء؛ عبارة عن الإيقاع والإهلاك والإبادة {فَتُصِيبَكُمْ}؛ أي: فيتسبب عن هذا الوطء أن تصيبكم {مِنْهُمْ}؛ أي: من جهتهم وبسببهم معطوف على قوله: {أَنْ تَطَئُوهُمْ}، {مَعَرَّةٌ}؛ أي: مشقة ومكروه، كوجوب الدية، والكفارة بقتلهم، والتأسّف عليهم، وتعيير الكفار لكم بذلك، والإثم بالتقصير في البحث عنهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: متعلق بـ {أَنْ تَطَئُوهُمْ}؛ أي: أن تطؤوهم غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك مكروه لما كفّ أيديكم عنهم، وفي الحذف دليل على شدة غضب الله تعالى على كفار مكة، كأنه قيل: لولا حق المؤمنين موجود .. لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف. والمعنى (¬1): لولا كراهة أن تهلكوا أناسًا مؤمنين، بين أظهر الكافرين، غير معروفين لكم، كالوليد وسلمة بن هشام وعيّاش بن ربيعة وأبي جندلٍ، حال كونكم جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقّة .. لأذن لكم في دخول مكة عنوةً، أو لما كفّ أيديكم عنهم. اهـ "بيضاوي". أي (¬2): ولولا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم، وهم بين أظهرهم .. لسلّطناكم عليهم، فقتلتموهم، وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل، ولو قتلتموهم .. للحقتكم المعرة والمشقة بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب. والخلاصة: أنه لولا وجود المؤمنين مختلطين بالمشركين، غير متميزين ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي.

منهم .. لوقع ما كان جزاءهم لصدِّهم وكفرهم، ولو حصل ذلك .. لزمكم العيب، إذ يقول المشركون: إنّ المسلمين يقتلون أهل دينهم. و {اللام} في قوله: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}: متعلِّقة بما يدل عليه الجواب المقدّر؛ أي: ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله سبحانه {مَنْ يَشَاءُ} من عباده المؤمنين في رحمته بتوفيقه لزيادة الخير والطاعة، أو من المشركين بدخوله في الإِسلام، والمراد بمن يشاء من عباده: هم (¬1) المؤمنون والمؤمنات، الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفكّ أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب، وقيل: إنّ {مَنْ يَشَاءُ} عباده ممن رغب في الإِسلام من المشركين، وقيل: {اللام}: متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، تقديره: لو قتلتموهم .. لأدخلهم الله في رحمته، والأول: أولى. والمعنى (¬2): أي هم الذين كفروا، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم، ولولا مؤمنون مختلطون بهم .. لعجَّل الله بهم، ولكن كفَّ الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين، بزيادة الخير والطاعة لله تعالى، والمشركين بدخولهم في دين الإِسلام؛ أي: ليخرج المؤمنين من مكة، ويهاجروا إلى المدينة، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة؛ لأنّهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين، بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم؛ لأجل اختلاطهم بهم، رغبوا في مثل هذا الدين. والخلاصة: قد حال بينكم وبين دخول مكة لقتالهم، إخراج المؤمنين من بين أظهرهم، وليدخل في دينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها. والضمير في قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} عائد إلى الفريقين المؤمنين والمشركين؛ أي: لو يتميز المؤمنون عن المشركين، وتفرَّقوا عنهم، وخرجوا من بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مكة {عَذَابًا أَلِيمًا} بالقتل والأسر والقهر؛ أي: لعذَّبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم، وسبي ذراريهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

[26]

وقرأ الجمهور (¬1): {لَوْ تَزَيَّلُوا}، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأبو حيوة وابن عون: {لو تزايلوا} بوزن تفاعلوا، والتزايل: التباين. 26 - والظرف في قوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد، قصّة إذ ألقى الذين كفروا من أهل مكة {فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ}؛ أي: الأنفة والتكبر، من سمي من كذا حمية إذا أنف منه، والجار والمجرور (¬2): إما متعلق بالجعل على أنه بمعنى الإلقاء، أو بمحذوف هو مفعول ثان على أنه بمعنى التصيير؛ أي: جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} بدل من {الْحَمِيَّةَ}؛ أي: حمية الملة الجاهلية، وهي ما كانت عليه قبل البعثة، أو الحميَّة الناشئة من الجاهلية التي تمنع إذعان الحق، قال الزهري: حميتهم أنفسهم من الإقرار بالرسالة للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والاستفتاح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو منعهم من دخول مكة، وقال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبنائنا وإخواننا، ثم يدخلون علينا، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزّى، لا يدخلون علينا! فهذه حميَّة الجاهلية التي دخلت في قلوبهم. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} معطوف على {جَعَلَ}. والمراد (¬3): تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين بتوفيق الله تعالى، وسوء صنيع الكفرة؛ أي: فأنزل الله تعالى عليهم الثبات والوقار والطمأنينة، فلم يلحق بهم ما لحق الكفار، فصالحوهم، ورضوا أن يكتب الكتاب على ما أرادوا، ويروى: أنه لمَّا أبى سهيل بن عمرِو ومن معه أن يكتب في عنوان كتاب الصلح البسملة، وهذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة، بل قالوا لعليّ: اكتب باسمك اللهم، وهذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

رضي الله عنه: أكتب ما يريدون، فهمَّ المسلمون أن يأبوا ذلك، ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوفروا، وحلموا مع أنّ أصل الصلح لم يكن عندهم بمحلٍّ من القبول في أول الأمر، حين قالوا: علام نعطي الدنيَّة في ديننا، وهم مشركون ونحن مسلمون؟ كما سبق، وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم. {وَأَلْزَمَهُمْ}؛ أي: ألزم الله تعالى رسوله والمؤمنين {كَلِمَةَ التَّقْوَى}؛ أي: اختار لهم كلمة يُتَّقى بها من الشرك؛ أي؛ كلمة لا إله إلا الله، كذا قال الجمهور، وزاد بعضهم: محمد رسول الله، وزاد بعضهم: وحده لا شريك له، حتى قالوها، وهذا إلزام الكرم واللطف، لا إلزام الإكراه والعنف، وأضيفت إلى التقوى؛ لأنها سببها، إذ بها يتقى من الشرك ومن النار، فإنَّ أصل التقوى: الانتقاء عنها، وقد وصف الله تعالى هذه الأمة بالمتقين في مواضع من القرآن العظيم، باعتبار هذه الكلمة، وقال الزهريّ: هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وذلك أنَّ الكفار لم يقروا بها، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير، فخصَّ الله بهذه الكلمة المؤمنين، وألزمهم بها، وهي من شعار هذه الأمة وخواصِّها، اختارها لهم، وصار المشركون محرومين منها، حيث لم يرضوا بأن يكتب في كتاب الصلح، والأول: أولى، وعن الحسن: كلمة التقوى: هي الوفاء بالعهد، فإنَّ المؤمنين وفوا بالعهد، حيث نقضوا وعاونوا من حارب حليف المؤمنين. والمعنى على هذا: وألزمهم كلمة أهل التقوى: وهي العهد الواقع في ضمن الصلح، ومعنى إلزامها إياهم: تثبيتهم عليها، وعلى الوفاء بها. {وَكَانُوا}؛ أي: وكان المؤمنون {أَحَقَّ بِهَا}؛ أي: بكلمة التوحيد من الكفار في سابق علمه {وَأَهْلَهَا}؛ أي: مستأهلين لها، ومختصين بها في الدنيا دونهم؛ لأنَّ الله تعالى اختارهم لصحبة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وهو عطف تفسير لما قبله. قيل: إنّ الذين كانوا قبلنا، لا يمكن لأحد منهم أن يقول: لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرةً واحدة، لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك، وكان قائلها يمدُّ بها صوته حتى ينقطع النفس؛ التماس بركتها وفضلها، وجعل الله لهذه الأمة

[27]

أن يقولها متى شاؤوا، وهو قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} من الأمم السالفة، وقال مجاهد: ثلاث لا يحجبن عن الربّ: لا إله إلا الله من قلب مؤمن، ودعوة الوالدين، ودعوة المظلوم. {وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ} من شأنه أن يتعلق به العلم {عَلِيمًا}؛ أي: بليغ العلم، فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه، ومن معلوماته: أنهم أحق بها؛ أي: من جميع الأمم؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أفضل المخلوقات، وأمته خير الأمم، وهذه الكلمة من أفضل الأذكار، فأعطوها لأنّها اللائقة بهم. والمعنى (¬1): أي واذكر يا محمد إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم أنفة الجاهلية، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب في كتاب الصلح الذي بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأن يكتب فيه محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامه هذا المسجد الحرام، فأنزل الله الصبر والطمأنينة على رسوله، ففهم عن الله مراده، وجرى على ما يرضيه، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره، وقبلوه، وحماهم من همزات الشياطين، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص لله في العمل، وكانوا أحق بها، وكانوا أهلها، إذْ هم أهل الخير والصلاح، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} سواء كان من المؤمنين أم من المشركين، فيجازي كلًّا بما عمل. 27 - {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا}؛ أي: لقد (¬2) جعل الله سبحانه رؤيا رسوله صادقةً، ولم يجعلها أضغاث أحلام، وقوله: {بِالْحَقِّ} إما صفة لمصدر محذوف؛ أي: صدقًا متلبسًا بالحق والحكمة البالغة: وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان, والمتزلزل فيه، أو حال من الرؤيا؛ أي: متلبسةً بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام؛ لأنّ ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له: وهو العام القابل. والمعنى: أراه الرؤيا الصادقة المتلبسة بالحق والحكمة، حيث قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح.

لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية: والله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} تعالى حالة كونكم {آمِنِينَ} من العدوّ، فلا تخافون عدوّكم من أن يخرجكم في المستقبل، وهو حال من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ}. والشرط: معترض، وكذا قوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ}؛ أي: جميع شعورها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها؛ أي: محلّقًا بعضكم، ومقصّرًا آخرون، وإلا فلا يجتمع الحلق والتقصير في كل واحد منهم، فالنظم من نسبة حال البعض إلى الكل؛ يعني: أنّ الواو ليست لاجتماع الأمرين في كل واحد منهم، بل لاجتماعهما في مجموع القوم، ثمّ إنّ قوله: {مُحَلِّقِينَ} و {وَمُقَصِّرِينَ} من الأحوال المقدرة، فلا يرد أنّ حال الدخول هو حال الإحرام، وهو لا يجامع الحلق والتقصير، وقدّم الحلق على التقصير: وهو قطع أطراف الشعر؛ لأن الحلق أفضل من التقصير، وقد حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى، وأعطى شعر شق رأسه أبا طلحة الأنصاري، وهو زوج أمّ سليم: وهي والدة أنس بن مالك، فكان آل أنس يتهادون به بينهم، وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه أربع مرّات، والعادة في هذا الزمان في أكثر البلاد حلق الرأس للرجل، عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحت كل شعرة جنابة، فخلّلوا الشعر، وأنقوا البشرة". وإنما قلنا: للرجل؛ لأنّ حلق شعر المرأة مثلة، وهي حرام، كما أنَّ حلق لحية الرجل كذلك، فقوله: {لَتَدْخُلُنَّ} إشارة إلى أداء الحج، و {مُحَلِّقِينَ} إشارة إلى تمام الحج، فقوله: {لَا تَخَافُونَ} من العدوّ، فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام، حال مؤكدة من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} أو استئناف جوابًا عن سؤال أنه كيف يكون الحال بعد الدخول؟ أي: لا تخافون بعد ذلك من أحد. وتلك الرؤيا أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى عام الحديبية قبل خروجه إلى الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوا مكة في عامهم، فلمّا خرجوا معه - صلى الله عليه وسلم -، وصدّهم الكفار بالحديبية، ورجعوا، وشقّ عليهم ذلك .. قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحارث: والله ما حلقنا ولا قصرنا, ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت هذه الآية المذكورة، ولمّا نزلت هذه الآية .. علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنت قلوبهم، ودخلوها معه - صلى الله عليه وسلم - في

[28]

ذي القعدة سنة سبع، وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {فَعَلِمَ} الله سبحانه {مَا لَمْ تَعْلَمُوا} في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجدّدة، فإنّ دخولكم في سنتكم هذه سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات، معطوف على {صَدَقَ}. و {الفاء} (¬1): للترتيب الذكري، فالتعرض لحكم الشيء إنما يكون بعد جري ذكره. والمراد بعلمه تعالى: العلم الفعليّ المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه؛ أي: فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة، ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علمًا فعليًا. {فَجَعَلَ} سبحانه {مِنْ دُونِ ذَلِكَ}؛ أي: من قبل ذلك الدخول في مكة؛ أي: من قبل تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر، فيقويكم به، فإنه كان سببًا لإسلام كثير من الناس تقوّى بهم المسلمون، فتكون تلك الكثرة سببًا لهيبة الكفار، ولمنعهم من قتال المسلمين، حين رجعوا إلى مكة في العام المقبل، وهم عشرة آلاف، وكانوا في عام الحديبية ألفًا وأربع مئة. والمعنى (¬2): أي لقد صدق الله رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رؤياه التي أراها إياه، أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام، آمنين لا يخافون أهل الشرك، محلقًا بعضهم ومقصّرًا بعضهم الآخر، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها هذا العام .. لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله تعالى عن مكة من أجل ذلك، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحًا قريبًا: هو صلح الحديبية، وفتح خيبر؛ لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسّر اليوم الموعود. 28 - ثمّ أكّد صدق الرسول في الرؤيا بقوله: {هُوَ الَّذِي}؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي {أَرْسَلَ} وبعث {رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي؛ اختصّ بإرسال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[29]

رسوله الذي لا رسول أفضل منه، حال كونه متلبسًا {بِالْهُدَى}؛ أي: بالقرآن أو بالتوحيد، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، فيكون الجار متعلقًا بمحذوف حال من الرسول، أو بسببه، أو لأجله فيكون متعلقًا بـ {أَرْسَلَ} {وَدِينِ الْحَقِّ}؛ أي: وبدين الإِسلام، وهو (¬1) من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته مثل: عذاب الحريق، والأصل: الدين الحق، والعذاب المحرق. ومعنى الحق: الثابت الذي هو ناسخ لجميع الأديان ومبطلها. {لِيُظْهِرَهُ}؛ أي: ليظهر الله سبحانه الدين الحق، ويعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}؛ أي: على جنس الدين بجميع أفراده التي هي الأديان المختلفة، بنسخ ما كان حقًّا منها من بعض الأحكام المتبدّلة بتبدّل الأعصار، وإظهار بطلان ما كان باطلًا منها، أو بتلسيط المسلمين على أهل سائر الأديان. والمعنى: أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإِسلام؛ ليبطل به الملل كلها، بنسخ سائر الديانات، وإظهار فساد العقائد الزائفات، حتى لا يكون دين سواه، ولقد أنجز الله وعده، حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام، ولا يبقى إلا مسلم أو ذمّة للمسلمين، وكم ترى من فتوح أكثر البلاد، وقهر الملوك الشداد، ما تعرف به قدرة الله تعالى، وقيل: ليظهره الرسول على الدين كلّه، والأول: أولى. {وَكَفَى بِاللَّهِ} الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، و {الباء}: زائدة، كما تقدم في غير موضع؛ أي: كفى الله سبحانه {شَهِيدًا} على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به، وعلى صحة نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، بإظهار المعجزات، وإن لم يشهد الكفار، 29 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شهد له بالرسالة بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فـ {مُحَمَّدٌ} مبتدأ، و {رَسُولُ اللَّهِ}: خبره، وهو وقف تام، والجملة: مبينة للمشهود به، وقيل: {مُحَمَّدٌ}: خبر مبتدأ محذوف، وقوله: {رَسُولُ اللَّهِ}: بدل أو عطف بيان أو نعت؛ أي: ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق، ¬

_ (¬1) روح البيان.

محمد رسول الله. {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؛ أي: مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: هم أصحاب الحديبية، والأولى (¬1): العمل على العموم، وهو مبتدأ، خبره: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}؛ أي: غلاظ عليهم، كما يغلظ الأسد على فريسته، وهو جمع شديد. {رُحَمَاءُ}؛ أي: متعاطفون، جمع رحيم {بَيْنَهُمْ}؛ أي: فيما بينهم، كالوالد مع ولده؛ أي: متوادون متعاطفون فيما بينهم. والمعنى: أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرأفة والرحمة، كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فلو اكتفى (¬2) بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} .. لربما أوهم الفظاظة والغلظة، فكمّل بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فيكون من أسلوب التكميل، وعن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم: أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه. وقرأ ابن عامر في رواية (¬3): {رَسُولُ اللَّهِ} بالنصب على المدح، وقرأ الجمهور: {أَشِدَّاءُ}، {رُحَمَاءُ} بالرفع على أنه خبر للموصول، وقرأ الحسن: بنصبهما على الحال، والعامل فيهما: العامل في {مَعَهُ} ويكون الخبر عن المبتدأ المتقدم {تَرَاهُمْ} وقيل: على المدح، وقرأ (¬4) يحيى بن يعمر: {أَشِدَّا} بالقصر، وهي شاذّة؛ لأنّ قصر الممدود إنما يكون في الشعر، نحو قوله: لَا بُدَّ مِنْ صَنْعَا وَإِنْ طَالَ السَّفَرْ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} جمع راكع وساجد؛ أي: تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين، لمواظبتهم على الصلوات، فهما حالان؛ لأن الرؤية بصرية، وأريد بالفعل الاستمرار، والجملة: خبر آخر أو استئناف، وجملة قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}: إما خبر آخر، أو استئناف، مبنيّ على سؤال نشأ عن بيان مواظبتهم على الركوع والسجود، كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}؛ أي: ثوابًا من الله ورضى منه، وقال بعض الكبار: قصدهم في الطاعة والعبادة، الوصول والوصال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال الراغب: الرضوان: الرضا الكثير. والمعنى: يطلبون ثواب الله لهم، ورضاه عنهم. وقرأ عمرو بن عبيد: {ورضوانا} بضم الراء. {سِيمَاهُمْ} فعلى من سامه: إذا أعلمه؛ أي: جعله ذا علامة. وقرىء: {سيمياؤهم} بالياء بعد الميم والمد، وهما لغتان، وفيها لغة ثالثة هي: السيماء، وهو مبتدأ، خبره: قوله: {فِي وُجُوهِهِمْ}؛ أي: علامتهم التي تميزهم عن غيرهم ثابتة في وجوههم؛ أي: في جباههم حالة كون تلك السيماء كائنة {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فالجار والمجرور: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبر المبتدأ، وأثر الشيء: حصول ما يدلّ على وجوده. كما في "المفردات"؛ أي: (¬1) من التأثير الذي تؤثّر كثرة السجود في جباههم، وما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُعْلِمُوا صُوركم"؛ أي: لا تسموها، إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة، وذلك محض رياءٍ ونفاقٍ، والكلام هنا فيما حدث في جبهة السُّجَّاد الذين لا يسجدون إلا خالصًا لوجه الله تعالى؛ أي: تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة، وكثرة التعبّد بالليل والنهار، وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفرًّا، فجعل هذا هو السيما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كثر صلاته بالليل .. حسن وجهه بالنهار". ألا ترى أنَّ من سهر بالليل، وهو مشغول بالشراب واللعب .. لا يكون وجهه في النهار كوجه من سهر وهو مشغول بالطاعة، وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة. وقرأ ابن هرمز: {إثْر} بكسر الهمزة وسكون الثاء، والجمهور: بفتحهما، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقرأ قتادة: {من آثار السجود} بالجمع، وقال عطاء الخراساني ودخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. {ذَلِكَ} المذكور من نعوتهم الجليلة {مَثَلُهُمْ}؛ أي: وصفهم العجيب الشأن، الجاري من الغرابة مجرى الأمثال، حال كون ذلك المثل مكتوبًا {فِي التَّوْرَاةِ} حال من {مَثَلُهُمْ} والعامل فيه: معنى الإشارة، والتوراة: اسم لكتاب موسى عليه السلام، سمّي بالتوراة؛ لأنه يظهر منه النور والضياء لبني إسرائيل {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}: معطوف على {مَثَلُهُمْ} الأول، كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير {مَثَلُهُمْ}؛ لتأكيد غرابته.، وزيادة تقريرها، والإنجيل: كتاب عيسى عليه السلام، سمّي بالإنجيل؛ لأنّه أظهر الدين بعدما درس؛ أي: عفا رسمه. ومعنى الآية: أي (¬1) إنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، بلا شكّ ولا ريب، مهما أنكر المنكرون، وافترى الجاحدون، وإنّ صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار، رقيقة قلوب بعضهم على بعض، ليّنة أنفسهم لهم، هيّنة عليهم، تراهم دائبين على الصلاة، مخلصين لله، محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده، طالبين رضاه عنهم، لهم سمت حسن، وخشوع وخضوع يظهر أثره على الوجوه، ومن ثمّ قيل: إنّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الناس. والخلاصة: أنّ كل ما يفعله المرء، أو يتصوَّره، يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سيرته وسريرته صحيحة مع الله .. أصلح الله عزّ وجلّ ظاهره للناس، ثمّ أخبر سبحانه: أنه نوَّه بفضلهم في الكتب المنزّلة، والأخبار المتداولة، فقال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}؛ أي: هذه الصفة التي وصفت لكم من صفات أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، هي صفتهم في التوراة، وصفتهم في الإنجيل: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ...} إلخ، تمثيل مستأنف (¬2)؛ أي: هم كزرع أخرج أفراخه؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أي: فروعه وأغصانه، وذلك أنّ أوّل ما نبت من الزرع بمنزلة الأمّ وما تفرّع وتشعّب منه بمنزلة أولاده وأفراخه، ولا يكون الشطأ إلا في البرّ والشعير، وفي "المفردات": شطأه: فروع الزرع، وهو: ما خرج منه، وتفرّع في شاطئيه؛ أي: جانبيه، وجمعه: أشطاء، وقوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ}؛ أي: أفراخه. انتهى، وقيل: هو تفسير لقوله: {ذَلِكَ} على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدّم من الأوصاف، وقيل: هو خبر لقوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} على أن الكلام قد تمّ عند قوله: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}. وقال الفرّاء: قوله: {كَزَرْعٍ} فيه وجهان: إن شئت .. قلت: ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل؛ يعني: كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على الإنجيل، وإن شئت .. قلت: ذلك مثلهم في التوراة، ثم تبتدىء: ومثلهم في الإنجيل كزرع، وعلى هذا فيكون {كَزَرْعٍ}: خبرًا عن قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}. قال قتادة: مثل أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل مكتوب: أنه سيخرج من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قوم ينبتون نباتًا كالزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. قال ابن عطية: قوله: {كَزَرْعٍ}: هو على كل الأقوال، وفي أيّ كتابٍ أنزل، فرض مثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، في أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث وحده، فكان كالزرع حبّةً واحدةً، ثم كثر المسلمون، فهو كالشطأ: وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {شَطْأَهُ} بإسكان الطاء وبالهمزة، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان: بفتهما، وكذلك وبالمدّ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي، وقرأ أنس وزيد بن عليّ ونصر بن عاصم ويحيى بن وثاب: {شطاه} كعصاه، فاحتمل أن يكون مقصورًا، وأن يكون أصله الهمزة، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفًا، كما قالوا في المرأة والكمأة: المراه والكماه، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين، وهو عند البصريين شاذٌّ لا يقاس عليه، وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق: {شَطَه} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، رويت عن شيبة ونافع والجحدريّ، وعن الجحدريّ أيضًا: {شطوه} بإسكان الطاء وواو بعدها، وقال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة، وهذه كلّها لغات. {فَآزَرَهُ}؛ أي: فقوّاه وأعانه وشدّه، قال الإِمام النسفيّ: (¬1) الضمير المستتر في {آزره}: يعود على الشطأ، والبارز على الزرع؛ أي: فقوّى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاثفه، وهو من الموازرة بمعنى المعاونة، فيكون وزن آزر فاعل، من الأزر: وهو القوّة. وخطَّأه أبو حيان لأنّه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر على وزن يكرم، أو من الإيزار: وهي الإعانة، فيكون وزنه أفعل، وهو الظاهر؛ لأنه لم يسمع في مضارعه يوازر. وقرأ الجمهور (¬2): {فَآزَرَهُ} على وزن أفعله، وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس: {فَأزَرَهُ} بالقصر ثلاثيًا، وقرىء: {فأزّره} بتشديد الزاي. {فَاسْتَغْلَظَ} ذلك الزرع؛ أي: صار ذلك الزرع الأصل غليظًا، بعد أن كان دقيقًا، فهو من باب استحجر الطين؛ يعني: أنّ السين للتحوّل، فكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أقلّة ضعفاء، فلمّا كثروا، وتقوّوا .. قاتلوا المشركين {فَاسْتَوَى} ذلك الزرع، واستقام {عَلَى سُوقِهِ}؛ أي: تمّ نباته على سوقه؛ أي: على أصوله، سوق جمع ساق، ساق: أصل الزرع، وساق فروعه. وقرأ ابن كثير وقنبل: {سؤقه} بالهمزة الساكنة، قيل: وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة، ومنه قول الشاعر: أَحَبُّ الْمُؤْقِدِيْنَ إِليَّ مُؤْسَى ذكره في "البحر". وقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}: حال من {زرع}؛ أي: حال كون ذلك الزرع ¬

_ (¬1) النسفي. (¬2) البحر المحيط.

يعجب زرّاعه الذين زرعوه؛ أي: يسرَّهم بقوته، وكثافته وغلظه، وحسن منظره، وطول قامته، وهنا (¬1) تمَّ المثل، وهو مثل ضربه الله لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلوا في بدء الإِسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم يومًا فيومًا، بحيث أعجب الناس أمرهم. ثم ذكر سبحانه علّة تكثيره لأصحاب نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وتقويته لهم، فقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الغيظ: أشدّ الغضب، وهو علّة لما يعرب عنه الكلام من تشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه؛ أي: كثرهم الله سبحانه، وقوّاهم وجعلهم كالزرع في النماء والقوّة؛ ليغيظ ويغضب بهم مشركي مكة، وسائر كفّار العرب والعجم؛ أي: فعل بهم ذلك؛ ليكونوا غيظًا للكافرين، ومما يغيظ الكفار قول عمر رضي الله عنه لأهل مكة بعدما أسلم: لا نعبد الله سرًّا بعد اليوم. وقيل: قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}: علّة لما بعده من قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فرائضها وسننها، و {من}، في قوله: {مِنْهُمْ}؛ أي: من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، للبيان؛ أي: لبيان الجنس كلّهم، كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} فلا حجَّة فيه للطاعنين في الأصحاب؛ وإن كلّهم مؤمنون، وقيل: الضمير للكفار فمن للتبعيض. {مَغْفِرَةً} لذنوبهم {وَأَجْرًا عَظِيمًا} وثوابًا جزيلًا؛ أي: وعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين مع محمد - صلى الله عليه وسلم -، أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم، بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة، وأعظم منّة؛ ليغيظ بهم الكفار، فإنّ الكفار (¬2) إذا سمعوا بما أعدّ للمؤمنين في الآخرة، مع ما لهم في الدنيا من العزّة .. غاظهم ذلك أشدّ الغيظ، والأول: أولى. يقول الفقير: نظر الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس فيه ويتحاسد، وكيف لا يغيظهم ما أعدّ للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر؟! ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

والمعنى (¬1): أي وعد الله سبحانه هؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم، بإدخالهم جنات النعيم، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة .. فهو في حكمهم، ولهم السبق والفضل، والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد. روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا .. ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" رضي الله عنهم وأرضاهم. تنبيه: هذه أوصاف الأمة الإِسلامية أيّام عزّها، فانظر الآن، وتأمّل في تخاذلها وجهلها، حتى أصبحت مثلًا في الخمول والجهل، وأصبحت زرعًا هشيمًا تذروه الرياح، فكيف يجتمع عصفه وتبنه؟! ولعل الله يبدل الحال غير الحال، ويخضر الزرع بعد ذبوله، وتعود الأمة سيرتها الأولى، مهيبة مرعية الجانب، مخشية القوة. الإعراب {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة للقسم. {قَدْ}: حرف تحقيق. {رَضِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ {رَضِيَ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {رَضِيَ}. {يُبَايِعُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به مرفوع يثبات النون، وأتى بصيغة المضارع؛ لاستحضار صورة المبايعة، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {تَحْتَ الشَّجَرَةِ}: متعلق بـ {يُبَايِعُونَكَ}، {فَعَلِمَ} ¬

_ (¬1) المراغي.

{الفاء}: عاطفة. {علم}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} معطوف على {يُبَايِعُونَكَ} لما علمت أنه بمعنى الماضي. {مَا}: موصول مفعول به. {فِي قُلُوبِهِمْ}: متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}، {فَأَنْزَلَ} {الفاء}: عاطفة. {أنزل}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} معطوف على {رَضِيَ}. كما في "أبي السعود". {السَّكِينَةَ}: مفعول به، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {وَأَثَابَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول، معطوف على {أَنْزَلَ}، {فَتْحًا}: مفعول ثان. {قَرِيبًا}: صفة له. {وَمَغَانِمَ}: معطوف على {فَتْحًا}. {كَثِيرَةً} صفة لـ {مَغَانِمَ}، وجملة {يَأْخُذُونَهَا}: صفة ثانية لـ {مَغَانِمَ}. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}: فعل ناقص واسمه وخبران له، والجملة: مستأنفة، أو حال من فاعل {أَثَابَهُمْ}. {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}. {وَعَدَكُمُ اللَّهُ}: فعل ماض ومفعول أول وفاعل. {مَغَانِمَ}: مفعول ثانٍ، {كَثِيرَةً}: صفة لـ {مَغَانِمَ}، وجملة {تَأْخُذُونَهَا}: صفة ثانية لـ {مَغَانِمَ}، وجملة {وَعَدَكُمُ}: مستأنفة على طريق الالتفات. {فَعَجَّلَ}: {الفاء}: عاطفة. {عَجَّلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، {لَكُمْ}: متعلق بـ {عَجَّلَ}. {هَذِهِ}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {وَعَدَكُمُ}. {وَكَفَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. {أَيْدِيَ النَّاسِ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة: معطوفة على جملة {عَجَّلَ}. {عَنْكُمْ}: متعلق بـ {كَفَّ}، {وَلِتَكُونَ} {الواو}: مقحمة عند الكوفين، وعاطفة على مقدر عند البصريين، تقديره: وكفّ أيدي الناس عنكم لتشكروه. {وَلِتَكُونَ} و {اللام}: حرف جر وتعليل، {تكون}: فعل مضارع ناقص، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، واسمها: ضمير مستتر يعود على خصلة الكفّ لأيدي الناس، {آيَةً}: خبرها، {لِلْمُؤْمِنِينَ}: صفة لـ {آيَةً}، وجملة {تكون} مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة المحذوفة،

تقديره: وكفّ أيدي الناس عنكم لشكركم إياه، ولكونها آيةً للمؤمنين، والجار والمجرور: معطوف على الجار والمجرور المقدر، وذلك المقدر متعلق بـ {كَفَّ}. {وَيَهْدِيَكُمْ}: معطوف على {لِتَكُونَ} وفاعله: ضمير يعود على {اللَّهُ} و {الكاف}: مفعول أول. {صِرَاطًا}: مفعول ثان. {مُسْتَقِيمًا}: صفة {صِرَاطًا}، {وَأُخْرَى} {الواو}: عاطفة. {أُخْرَى}: صفة لموصوت محذوف، هو مفعول لفعل محذوف، تقديره: ووعدكم مغانم أخرى، والجملة المحذوفة: معطوفة على جملة قوله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}. وفي المقام أوجه أخر من الإعراب، أعرضنا عنها صفحًا خوف الإطالة، وجملة {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}: صفة أولى لـ {أُخْرَى}، وجملة {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}: صفة ثانية لها. {وَكَانَ اللَّهُ} {الواو}: استئنافية، {كَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرًا}، و {قَدِيرًا}: خبره، والجملة: مستأنفة. {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}. {وَلَوْ} {الواو} استئنافية. {لو}: حرف شرط، {قَاتَلَكُمُ}: فعل ومفعول به. {الَّذِينَ}: فاعل، والجملة: فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {لَوَلَّوُا} {اللام}: رابطة لجواب {لو} {وَلَّوُا}: فعل وفاعل. {الْأَدْبَارَ}: مفعول به، والجملة: جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف، {لَا}: نافية. {يَجِدُونَ}: فعل وفاعل معطوف على جواب {لو}، {وَلِيًّا}: مفعول به. {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف عليه، {سُنَّةَ اللَّهِ}: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: سنّ الله سبحانه غلبة أنبيائه سنّته التي قد خلت، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {الَّتِي}: صفة لـ {سُنَّةَ اللَّهِ}، {قَدْ}: حرف تحقيق، {خَلَتْ}. فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {سُنَّةَ اللَّهِ}. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {خَلَتْ}، والجملة: صلة الموصول. {وَلَنْ} {الواو}: عاطفة، {لَنْ}: حرف نفي ونصب واستقبال. {تَجِدَ} فعل مضارع وفاعل مستر يعود على محمد، أو على أيّ مخاطب. {لِسُنَّةِ اللَّهِ}:

متعلق بـ {تَبْدِيلًا}. و {تَبْدِيلًا}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {سُنَّةَ اللَّهِ}. {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. {وَهُوَ} {الواو}: استئنافية. {وَهُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ}: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ}، {عَنْكُمْ}: متعلق بـ {كَفَّ}، والجملة: صلة الموصول. {وَأَيْدِيَكُمْ}: معطوف على {أَيْدِيَهُمْ}. {عَنْهُمْ} متعلق بـ {كَفَّ}. {بِبَطْنِ مَكَّةَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير {عَنْهُمْ}؛ أي: حال كونهم كائنين ببطن مكة. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {كَفَّ}، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {أَظْفَرَكُمْ}: فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أَظْفَرَ}، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد إظفاره إياكم عليهم. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه، {بِمَا تَعْمَلُونَ}: متعلق بـ {بَصِيرًا}، و {بَصِيرًا}: خبره، وجملة {كَانَ}: مستأنفة. {هُمُ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {وَصَدُّوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {كَفَرُوا}، {عَنِ الْمَسْجِدِ}: متعلق بـ {صَدُّوكُمْ} {الْحَرَامِ}: صفة لـ {الْمَسْجِدِ}. {وَالْهَدْيَ}: معطوف على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ}. وهو {الكاف}؛ أي: وصدّوا الهدي، ويجوز أن يكون مفعولًا معه، و {الواو}: للمعية. {مَعْكُوفًا}: حال من {الْهَدْيَ}. {أَن}: حرف نصب. {يَبْلُغَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْهَدْيَ}، {مَحِلَّهُ}: منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بـ {يَبْلُغَ}، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: وصدّوا الهدي بلوغه محلّه؛ أي:

عن بلوغه محلّه، والجار المقدر: متعلق بـ {صدوا}. {وَلَوْلَا} {الواو}: استئنافية. {لولا}: حرف امتناع لوجود. {رِجَالٌ}: مبتدأ، {مُؤْمِنُونَ}: صفته. {وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}: معطوف على {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} وخبر المبتدأ: محذوف، تقديره: موجودون. وجملة {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ}: في محل الرفع صفة لـ {رِجَالٌ} و {نِسَاءٌ} جميعًا. {أَن}: حرف مصدر ونصب، {تَطَئُوهُمْ}: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، منصوب بـ {أَنْ} المصدرية، وعلامة نصبه: حذف النون، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدل اشتمال من {رِجَالٌ} و {نساء}؛ أي: ولولا خوف وطئكم إيّاهم، أو منصوب على كونه بدل اشتمال من الضمير المنصوب في {تَعْلَمُوهُمْ}؛ أي: لم تعلموا وطأكم إياهم. {فَتُصِيبَكُمْ} {الفاء}: عاطفة سببيّة. {تصيبكم}: فعل مضارع ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد {الفاء} السببية. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {تُصِيبَكُمْ} {مَعَرَّةٌ}: فاعل. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: متعلق به. حذوف حال من الكاف في تصيبكم، أو صفة لـ {مَعَرَّةٌ}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، تقديره: لم تعلموا وطأكم إياهم، فإصابة معرة إياكم منهم، وجواب بـ {لولا}: محذوف، تقديره: لما كفَّ أيديكم عنهم، أو لأذن لكم في دخول مكة، وجملة {لولا}: مستأنفة. {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. {لِيُدْخِلَ} {اللام}: حرف جر وتعليل، {يُدْخِلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {فِي رَحْمَتِهِ}: متعلق بـ {يُدْخِلَ} {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَشَاءُ}: صلته، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام}، تقديره: لإدخال الله في رحمته من يشاء، الجار والمجرور: متعلق بمحذوف, دل عليه جواب {لولا} المقدّر، تقديره: ولكن كفّكم عنهم لإدخال الله في رحمته من يشاء. {لَوْ}: حرف شرط غيبر جازم. {تَزَيَّلُوا}: فعل ماض وفاعل, والجملة: فعل شرط لـ

{لَوْ}. {لَعَذَّبْنَا} {اللام}: رابطة لجواب {لو} {عذبنا}: فعل وفاعل. {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة: جواب {لولا}، لا محل لها من الإعراب, وجملة {لو} الشرطية: مستأنفة. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مِنْهُمْ}: حال من فاعل {كَفَرُوا}، {عَذَابًا}: مفعول مطلق لـ {عَذَابًا}، {أَلِيمًا}: صفة {عَذَابًا}. {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {عَذَّبْنَا} أو بـ {صدوكم} أو بمحذوف، تقديره: واذكر إذ جعل الذين كفروا، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {جَعَلَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {كَفَرُوا} من فعل وفاعل والجملة صلة الموصول {فِي قُلُوبِهِمُ}: متعلق بـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى ألقى أو بمحذوف: مفعول ثان لـ {جَعَلَ} إن كان بمعنى صيّر، كما مر. {الْحَمِيَّةَ}: مفعول به لـ {جَعَلَ} أو مفعول أول له، {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} بدل من {الْحَمِيَّةَ}: بدل كل من كل. {فَأَنْزَلَ} {الفاء}: عاطفة. {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {سَكِينَتَهُ}: مفعول به لـ {أَنْزَلَ}، {عَلَى رَسُولِهِ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: معطوف على قوله: {عَلَى رَسُولِهِ}، والجملة الفعلية: معطوفة على محذوف معلوم من السياق، والتقدير: فهمّ المسلمون مخالفة الرسول في أمر الصلح، فأنزل الله سكينته عليهم، والجملة المحذوفة: معطوفة على جملة {جَعَلَ}. {وَأَلْزَمَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} ومفعول أول معطوف على {أَنْزَلَ}. {كَلِمَةَ التَّقْوَى}: مفعول ثان. {وَكَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {أَحَقَّ}: خبره. {بِهَا}: متعلق بـ {أَحَقَّ}. {وَأَهْلَهَا}: معطوف على {أَحَقَّ}: عطف تفسيبر، وجملة {كَانَ}: معطوفة على جملة {أَلْزَمَهُمْ}. {وَكَانَ اللَّهُ}: فعل ناقص واسمه. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمًا}. و {عَلِيمًا}: خبره، وجملة {كَانَ}: مستأنفة.

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة للقسم. {صَدَقَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة. {رَسُولَهُ}: مفعول به. {الرُّؤْيَا}: منصوب بنزع الخافض؛ أي: في رؤياه؛ أي: جعله صادقًا في رؤياه. {بِالْحَقِّ}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: صدقًا متلبسًا بالحق، أو حال من الرؤيا؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق. {لَتَدْخُلُنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم. {تَدْخُلُنَّ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه: ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو} المحذوفة، لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل. {الْمَسْجِدَ}: مفعول به على السعة. {الْحَرَامَ}: صفة له، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مقول لقول محذوف، تقديره: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، حيث قال الرسول: لتدخلنّ المسجد الحرام. {إِنْ}: حرف شرط. {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، وهو فعل شرط لـ {إِنْ} الشرطية، وجوابها: معلوم مما قبلها؛ أي: إن شاء الله .. لتدخلن المسجد الحرام، وجملة {إِنْ} الشرطية: معترضة. {آمِنِينَ}: حال من فاعل {تَدْخُلُنَّ}، {مُحَلِّقِينَ}: حال ثانية متداخلة. {رُءُوسَكُمْ}: مفعول به لـ {مُحَلِّقِينَ}، {وَمُقَصِّرِينَ}: معطوف على {مُحَلِّقِينَ}، وجملة {لَا تَخَافُونَ}: مستأنفة، أو حال من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} أو من الضمير في {آمِنِينَ} أو في {مُحَلِّقِينَ}. {فَعَلِمَ}: {الفاء}: عاطفة، {علم}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على {صَدَقَ}، وجملة {لَمْ تَعْلَمُوا}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما لم تعلموه. {فَجَعَلَ} {الفاء}: عاطفة. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} معطوف على {عَلِمَ}، {مِنْ دُونِ ذَلِكَ}؛ متعلق بـ {جَعَلَ} {فَتْحًا}: مفعول به. {قَرِيبًا} صفة {فَتْحًا}.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {أَرْسَلَ رَسُولَهُ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. {بِالْهُدَى}: حال من {رَسُولَهُ}؛ أي: حال كونه متلبسًا بالهدى. {وَدِينِ الْحَقِّ}: معطوف على {الْهُدَى}، {لِيُظْهِرَهُ} {اللام}: لام كي، {يُظْهِرَهُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} ومفعول به. {عَلَى الدِّينِ}: متعلق بـ {يُظْهِرَهُ}. {كُلِّهِ}: توكيد لـ {الدِّينِ}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإظهاره دين الحق على الدين كلّه، الجار والمجرور: متعلق بـ {أَرْسَلَ}. {وَكَفَى} {الواو}: استئنافية. {كَفَى}: فعل ماض. {بِاللَّهِ}: فاعل و {الباء}: زائدة. {شَهِيدًا}: تمييز، والجملة: مستأنفة، مسوقة للتعجب. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ}. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {مَعَهُ}: متعلق بمحذوف صلة الموصول. {أَشِدَّاءُ}: خبر. {عَلَى الْكُفَّارِ}: متعلق به. {رُحَمَاءُ}: خبر ثان. {بَيْنَهُمْ} متعلق بـ {رُحَمَاءُ}، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. {تَرَاهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على من يصلح للخطاب، و {الهاء}: ضمير الغائبين مفعول به. {رُكَّعًا سُجَّدًا}: حالان من مفعول {تَرَاهُمْ}؛ لأنّ الرؤية هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ثالث للموصول أو مستأنفة. {يَبْتَغُونَ}: فعل وفاعل. {فَضْلًا}: مفعول به. {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَبْتَغُونَ}، {وَرِضْوَانًا}: معطوف على {فَضْلًا}، والجملة الفعلية: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا يريدون بركوعهم وسجودهم؛ فقيل: {يَبْتَغُونَ} .. إلخ. {سِيمَاهُمْ}: مبتدأ. {فِي وُجُوهِهِمْ} خبر. {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}: حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفيّ؛ أي: سيماهم

كائنة هي في وجوههم، حالة كونها من أثر السجود، والجملة: مستأنفة. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {مَثَلُهُمْ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {فِي التَّوْرَاةِ}: حال من {مَثَلُهُمْ}؛ أي: حال كون ذلك المثل مكتوبًا في التوراة. {وَمَثَلُهُمْ} مبتدأ {فِي الْإِنْجِيلِ}: حال. {كَزَرْعٍ}: خبر {وَمَثَلُهُمْ} والجملة معطوفة على ما قبلها، ويجوز أن يكون {مَثَلُهُمْ}: معطوفًا على {مَثَلُهُمْ} الأول، {فِي الْإِنْجِيلِ}: حال من {مَثَلُهُمْ}. وإن شئت .. قلت: {كَزَرْعٍ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم كزرع، والجملة: مستأنفة. {أَخْرَجَ شَطْأَهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل الجر صفة لـ {زَرْعٍ}. {فَآزَرَهُ} {الفاء}: عاطفة. {آزَرَهُ}. فعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الشطأ، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة {أَخْرَجَ}. {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. {فَاسْتَغْلَظَ} {الفاء}: عاطفة. {اسْتَغْلَظَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الزرع، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {آزَرَهُ}. {فَاسْتَوَى} {الفاء}: عاطفة. {اسْتَوَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الزرع، والجملة: معطوفة على جملة {اسْتَغْلَظَ}. {عَلَى سُوقِهِ}: متعلق بـ {اسْتَوَى} أو حال من فاعله؛ أي: كائنًا على سوقه، قائمًا عليها. {يُعْجِبُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الزرع، {الزُّرَّاعَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {اسْتَوَى}: أي: حال كون ذلك الزرع المستوي معجبًا الزرّاع. {لِيَغِيظَ} {اللام}: حرف جرف وتعليل. {يَغِيظَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}. {بِهِمُ}: متعلق به. {الْكُفَّارَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور: متعلق بمعلول محذوف، تقديره: كثرهم الله تعالى، وقوّاهم كالزرع المذكور، لإغاظته الكفار بهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}:

معطوف على {آمَنُوا}، {مِنْهُمْ}: حال من فاعل {آمَنُوا}. {مَغْفِرَةً}: مفعول ثان لـ {وَعَدَ}، {وَأَجْرًا}: معطوف عليه. {عَظِيمًا}: صفة {أَجْرًا}. التصريف ومفردات اللغة {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ} الرضا: ما يقابل السخط، يقال: رضي عنه، ورضي به، ورضيته، ورضي الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمرًا لأمره، منتهيًا عن نهيه، وأصله: رضو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، والمراد بالمؤمنين: أهل الحديبية، ورضاه عنهم؛ لمبايعتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} والشجرة: واحد الشجر، والشجر من النبت: ما له ساق، والمراد بالشجرة: السمرة؛ أي: أمّ غيلان، وهي كثيرة في بوادي الحجاز، وقيل: السدرة. {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: من الصدق والإخلاص في المبايعة. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} السكينة: الطمأنينة والأمن وسكون النفس. {وَأَثَابَهُمْ} أصله: أثوبهم، بوزن أفعل نقلت حركة الواو إلى الثاء فسكّنت، لكنها أبدلت ألفًا لتحوكها في الأصل وانفتاح ما قبلها في الحال، والثواب: ما يرجع إلى الإنسان من جزاء عمله، يستعمل في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، والإثابة تستعمل في المحبوب، وقد قيل ذلك في المكروه، نحو: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} على طريق الاستعارة. {فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية. {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي مغانم خيبر، وكانت خيبر أرضًا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المقاتلة، فأعطي الفارس سهمين، والراجل سهمًا واحدًا. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}؛ أي: أيدي أهل خيبر، وهم سبعون ألفًا، وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان، حيث جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم

الرعب فنكصوا، والحلفاء بالحاء المهملة: جمع حليف، وهو المعاهد للنصر، فإنّ الحلف: العهد بين القوم، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح، وقال في "المفردات": الكفّ: كفّ الناس، وهي ما بها يقبض ويبسط، وكففته دفعته بالكفّ، وتعورف الكفّ بالدفع على أيّ وجه كان بالكف أو بغيرها، حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره. {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}؛ أي: مغانم خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}؛ أي: أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية. {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: أمارة للمؤمنين يعرفون بها. 1 - وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - حياطة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، وحراسته لهم في مشهدهم ومغيبهم. 3 - معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد: أنَّ كلاءته تعالى ستعمهم أيضًا ما داموا على الجادّة الصراط المستقيم، وهي الثقة بالله تعالى، والتوكّل عليه فيما يأتون ويذرون. {وَأُخْرَى}؛ أي: مغانم أخرى: هي مغانم فارس والروم. {أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}؛ أي: أعدّها لكم، وهي تحت قبضته يظهر عليها من أراد. {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}؛ أي: لانهزموا، فإنّ تولية الأدبار كناية عن الانهزام، أصله: لوليو، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، والأدبار جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل: كالظهر والخلف.

{وَلِيًّا} والوليّ: الحارص الحامي. {وَلَا نَصِيرًا} والنصير: المعين والمساعد. {سُنَّةَ اللَّهِ}؛ أي: سنَّ سبحانه وتعالى غلبة أنبيائه على أعدائه، سنّةً قديمةً فيمن مضى وخلا من الأمم. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} من الظفر: وهو الفوز، وأصله: من ظفر؛ أي: نشب ظفره. {وَالْهَدْيَ} بسكون الدال: جمع هدية، كتمر وتمرة، وجدي وجدية، وهو ما يقدم قربانًا لله تعالى من النعم حين أداء مناسك الحج أو العمرة، كما مرّ، يقال: أهديت له، وأهديت إليه، وحكي ابن خالويه فيه ثلاث لغات؛ الهدي بسكون الدال: وهي الشهيرة لغة قريش، والهديّ بكسر الدال، وتشديد الياء: جمع هديّة، والهداء بالمدّ. {مَعْكُوفًا}؛ أي: محبوسًا، يقال: عكفت الرجل عن حاجته: إذا حبسته عنها، وأنكر الفارسيّ تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن لبناء اسم المفعول منه. اهـ "سمين". وفي "المختار": عكفه حبسه ووقفه، وبابه: ضرب ونصر، ومنه قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} ومنه الاعتكاف في المسجد: وهو الاحتباس، وعكف على الشيء: أقبل عليه مواظبًا، وبابه: دخل وجلس، قال الله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}، اهـ. {مَحِلَّهُ} اسم مكان على وزن مفعل بكسر العين، أصله: محلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية؛ أي: المكان الذي يسوغ فيه نحوه، وهو مني في حقّ الحاج، والمروة في حق المعتمر. {أَنْ تَطَئُوهُمْ} من الوطء: وهو الدوس، وهو عبارة عن الإيقاع، والإهلاك والإبادة؛ وإن الوطء تحت الأقدام مستلزم للإهلاك. {مَعَرَّةٌ} مفعلة من عرّه: إذا عراه ودعاه بما يكرهه ويشقّ عليه، وفي "المفردات": العرّ: الجرب الذي يعرّ البدن؛ أي: يعترضه، ومنه قيل للمضرّة:

معرة تشبيهًا بالعرّ الذي هو الجرب، وفي "القاموس" و"اللسان": المعرفة: المساءة والإثم والأذى والجناية والعيب والأمر القبيح والشدة والمسبة، وتلون الوجه غضبًا، وكوكب دون المغيرة، وبلد معروف. انتهى. {لَوْ تَزَيَّلُوا} التزيّل: التفرق والتميز، من زاله يزيله فرَّقه، وزيلته فتزيل؛ أي: فرَّقته فتفرق. {فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الحمية: الأنفة والتكبر، وهي: مصدر على وزن فعيلة، من حمي من كذا حمتة: إذا أنف منه، وداخله منه عارٌ، وفي "المفردات": عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت وكثرت بالحمية، يقال: حميت على فلان؛ أي: غضبت عليه. انتهى. وذلك لأنّ في الغضب ثوران دم القلب وحرراته وغليانه، وحميّة الجاهلية: حمية في غير موضعها لا يؤيّدها دليل ولا برهان، بل مدارها مطلق المنع، سواء، كان بحق أم بباطل، فتمنع من الإذعان والقبول للحق، ومبناها التشفّي على مقتضى الغضب لغير الله، فتوجب تخطّي حدود الشرع، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواءٌ, وأصل الحميّة: حميية على وزن فعيلة، أدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة. {كَلِمَةَ التَّقْوَى} التاء فيه مبدلة من واو، والواو مبدلة من ياء، فأصله: وقيا. {أَحَقَّ بِهَا} أصله: أحقق بوزن أفعل، نقلت حركة القاف الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في القاف الثانية. {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} هي رؤيا منام وحلم؛ أي: صدقه في رؤياه ولم يكذبه. {مُحَلِّقِينَ} والحلق: العضو المخصوص، وحلقه قطع حلقه، ثم جعل الحلق لقطع الشعر وجزه، فقيل: حلق شعره وحلق رأسه: إذا أزال شعره {وَمُقَصِّرِينَ} والقصر: خلاف الطول، وقصر شعره: جز بعضه.

{لِيُظْهِرَهُ}؛ أي: ليعليه على سائر الأديان حقها وباطلها، وأصل الإظهار: جعل الشيء باديًا ظاهرًا للرائي، ثمّ شاع استعماله في الإعلاء. {أَشِدَّاءُ} أصله: أشدداء بوزن أفعلاء، جمع شديد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. {رُحَمَاءُ} جمع رحيم. {رُكَّعًا سُجَّدًا}: جمع راكع وساجد، كفضل جمع فاضل، وكمل جمع كامل. {سِيمَاهُمْ} فيه ثلاث لغات: السيما والسيماء والسيمياء، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر، قال الشاعر: غلَامٌ رَمَاهُ الله بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيْمِيَاءٌ لَا تَشُق عَلَى الْبَصَرْ وقوله: {سِيمَاهُمْ} الياء فيه مبدلة من واو؛ لأنه من الوسم، قلبت الواو ياءً؛ لسكونها إثر كسرة، فاصله: سومى بوزن عفلى، إذ فيه قلب مكاني بتقدمم العين على الفاء، والأصل: وسمى بوزن فعلى. {فِي التَّوْرَاةِ} من جوز أن تكون التوراة عربية، يقول: إنما مشتقة من ورى الزند حينما تقدح به النار، فأصل التوراة: تورية بوزن تفعلة، بفتح العين، وأصل تورية وورية؛ لأنه من وري، قلبت الواو الأولى تاءً، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقيل: أصله تورية بوزن تفعلة، بكسر العين، ثمّ فتحت راؤه توصّلًا لقلب الياء ألفًا. {فِي الْإِنْجِيلِ} من نجل الشيء: إذا أظهره. {كَزَرْعٍ} يقال: زرع كمنع: طرح البذر، وزرع الله: أثبت، والزرع: الولد، والمزروع، والجمع: زروع، وموضعه المزرعة مثلثة الراء. {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} وفي "القاموس": الشطء: فراخ النخل والزرع أو ورقه، وشطأ كنمع شطأً وشطوءًا: أخرجها، ومن الشجر: ما خرج حول أصله، والجمع: أشطاء، وأشطأ الزرع، وشطأ: إذا أخرج فراخه، وهو في الحنطة والشعير والنخل وغيرها. {فَآزَرَهُ}؛ أي: أعانه وقوّاه، من المؤازرة: وهي المعاونة، فيكون وزن آزر فاعل من الأزر: وهو القوّة أو من الإيزار: وهي الإعانة، فيكون وزنه أفعل؛ وهو

الظاهر؛ لأنه لم يسمع في مضارعه يؤازر، بل يؤزر بوزن يكرم، كما مرّ. {فَاسْتَوَى}؛ أي: استقام. {عَلَى سُوقِهِ} جمع ساقٍ؛ أي: على قضبانه وأصوله. {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فيه إعلال بالنقل والتسكين، أصله: ليغيظ بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الغين فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مدّ، من الغيظ، والغيظ: أشدُّ الغضب: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه، يقال: غاظه يغيظه بوزن باع فاغتاظ، وغيظه فتغيظ وأغاظه وغايظه، كما في "القاموس". البلاغة وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} مع كون المقام للماضي لاستحضار صورة المبايعة؛ لأنّها جديرة بالتجسيد لتكون عبرة الأجداد للأحفاد. ومنها: تكرار المغانم إشعارًا بكثرتها وتنوّعها. ومنها: الكناية في قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} لأنّ تولية الأدبار كناية عن الهزيمة لأنّ المنهزم يدبر ظهره لعدوّه للهرب. ومنها: الالتفات من ضمير الغائب إلى الخطاب، في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} بعد قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وذلك لتشريف المؤمنين في مقام الامتنان. ومنها: المجاز في قوله: {أَنْ تَطَئُوهُمْ}؛ لأنّ الوطأ عبارة عن الإهلاك والإبادة، على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأنّ الوطأ تحت الأقدام مستلزم للإهلاك.

ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ}؛ لأنّ المعرّة والعرّ، حقيقة في الجرب الذي يعرّ البدن؛ أي: يعترضه. فاستعير للمضرّة على طريق الاستعارة التصريحية. ومنها: البلاغات المعنوية في قوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الآية. قال الإِمام الرازي: ففي هذه الآية لطائف معنوية: وهو أنّه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن، باين بين الفاعلين، إذ فاعل {جَعَلَ} هو الكافر، وفاعل {أَنْزَلَ} هو الله تعالى، وبين المفعولين، إذ تلك حميّة وهذه سكينة، وبين الإضافتين أضاف الحميّة إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى، وبين الفعل {جَعَلَ} و {أَنْزَلَ} فالحميّة مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها، والحميّة قبيحة مذمومة في نفسها، وازدادت قبحًا بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها، وازدادت حسنًا بإضافتها إلى الله تعالى، والعطف في {فأنزل} بـ {الفاء} لا بالواو: يدلّ على المقابلة، تقول: أكرمني زيد فأكرمته، فدلّت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل {فَأَنْزَلَ}. ولمّا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أجاب أوّلًا إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح. مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وباسم الله .. قال الله تعالى: {عَلَى رَسُولِهِ} ولمّا سكن هو - صلى الله عليه وسلم - للصلح .. سكن المؤمنون، فقال: {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولمّا كان المؤمنون عند الله تعالى .. ألزموا تلك الكلمة قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وفيه تلخيص، وهو كلام حسن. ومنها: أسلوب التكميل في قوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}؛ لأنّه لو اكتفى بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} لربّما أوهم الفظاظة والغلظة فيما بينهم، فكمّل بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} رفعًا لذلك الوهم، فيكون من أسلوب التكميل. ومنها: تكرير {مَثَلُهُمْ} لتأكيد غرابته، وزيادة تقريرها.

ومنها: التشبيه التمثيليّ في قوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الآية؛ لأنّ وجه الشبه منتزع من أمور متعدّدة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. خاتمة: قال في "فتح الرحمن": وقد اجتمعت حروف الهجاء التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى آخر السورة، أول حرف المعجم فيها ميم من محمد، وآخرها صاد من الصالحات، وتقدّم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ...} الآية، وليس في القرآن آية جمعت فيها حروف المعجم غيرهما، من دعا الله بهما .. استجيب له، وفي ذلك بشارة تلويحيّة مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم، وعلى نصرهم رضي الله عنهم وأحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبّينا، وجميع المسلمين بمنه وكرمه، وهذا آخر القسم الأول من القرآن، وهو المطوّل، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرًا، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له - صلى الله عليه وسلم - بالحال على من قصده بالضر باطنًا. اهـ "خطيب". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - بشارة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالفتح، وإعزاز دين الله تعالى. 2 - وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين والمنافقين. 3 - ذمّ المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار. 4 - رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، ووعده إياهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة. 5 - البشرى بتحقّق رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، وقد تمّ لهم ذلك في العام المقبل. 6 - وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة. 7 - وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة، والأجر العظيم (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد فرغت من تفسير هذه السورة الكريمة أوائل ليلة الأربعاء العاشر من شهر ربيع الأول من شهرر ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة 10/ 3/ 1415 هـ.

سورة الحجرات

سورة الحجرات سورة الحجرات مدنيّة، قال القرطبي: بالإجماع، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير: أنها نزلت بالمدينة بعد سورة المجادلة، وهي ثماني عشرة آيةً، وثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمةً، وألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها، كما قاله ابن حزم، وسمّيت بالحجرات؛ لذكر لفظ الحجرات فيها. ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - ذكر في هذه قتال البغاة، وفي تلك قتال الكفار. 2 - أنّ السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم. 3 - أنّ كلًّا منهما تضمّن تشريفًا وتكريمًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا سيما في مطلعيهما. قال أبو حيان (¬2): مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة؛ لأنه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ثمّ قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فربما صدر من مؤمن عمل الصالحات بعض شيء ممّا ينبغي أن يجتنب عنه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وكانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء، ويفعل ما أحبّ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك، قال قتادة: فربّما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}.

المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (¬1): أنه ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال؛ لأنّ الأولى كالمقدمة، والثانية كالنتيجة، وذكرت هذه بعد الفتح لأنّ الأمّة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بينها، واستتب الأمر .. وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكيف يعاملونه، وكيف يعامل بعضهم بعضًا، فطلب إليهم أن لا يقطعوا أمرًا دون أن يحكم الله ورسوله به، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعهض، لما في ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدّي إلى الكفر المحيط للأعمال. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا نهى عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أردفه بذمّ الذين ينادون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات، وهو في بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، ثمّ أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم في دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذمّ المنادين من وراء الحجرات .. أردفه بتأديب عباده المؤمنين بأدب نافع لهم في دينهم ودنياهم، وهو أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر .. لا يصدّقونه بادىء ذي بدءٍ، حتى يتثبّتوا ويتطلّبوا انكشاف الحقيقة، ولا يعتمدوا على قوله، فإنّ من لا يبالي بالفسق لا يبالي بالكذب الذي هو من فصيلته كراهة أن يصيبوا بأذى قومًا هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرّط منكم، وتتمنّوا أنه لم يكن قد وقع. قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (¬2) حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق .. بيَّن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

هنا ما ربّما ترتب على خبره من النزاع بن فئتين، وقد يؤول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى .. فقاتلوا التي تبغي حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرةً إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم .. فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها، بشرط أن لا تثير فتنة أشد من الأولى، ثمّ تيمم الإرشاد، وأبان أنَّ الصلح كما يلزم بين الفئتين يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله، ووجوب اتباع حكمه، وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره. قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ...} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى، ومع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومع من يخالفهما ويعصيهما، وهو الفاسق .. بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغي أن يسخر منه، ولا أن يعيّبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه .. فقد أساء إلى نفسه، وارتكب جرمًا كبيرًا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه أدّب عباده المؤمنين بآداب، إن تمسّكوا بها .. دامت المودّة والوئام بينهم، منها: ما تقدم قبل هذا، ومنها: ما ذكره هنا من الأمور العظام، التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإِسلامي قوَّةً، وهي: 1 - البعد عن سوء الظن بالناس، وتخوينهم في كل ما يقولون ويفعلون؛ لأن بعض ذلك قد يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا. 2 - عدم البحث عن عورات الناس ومعايبهم. 3 - عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون في غيبتهم، وقد مثّل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعًا له، قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة

ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ...} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا نهى فيما سلف عن السخرية بالناس، والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب .. ذكر هنا ما يؤكّد النهي، ويؤيّد ذلك المنع، فبين أنّ الناس جميعًا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه، إلى أنه تعالى جعلهم شعوبًا وقبائل مختلفة ليحصل بينهم التعارف والتعاون في مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلَّا بالتقوى والصلاح وكمال النفس لا بالأمور الدنيويّة الزائلة. قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا حّث (¬1) الناس على التقوى .. وبّخ من في إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإِسلام وقلوبهم وغلة؛ لأنّهم كانوا يريدون المغانم، وعرض الدنيا إذ جاؤوا في سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان؛ يريدون بذكر ذلك: الصدقة والمنّ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاطلع الله نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانًا حقيقيًّا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا. ثمّ أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته .. وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة. ثمّ بيّن أنّ من علامة الإيمان الكامل: التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، ببذلهما في تقوية دعائم الدين، وإعلاء شأنه، وخضد شوكة العدوّ بكل السبل الممكنة. ثمّ أعقب هذا: بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف أو قويّ، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتّن على ¬

_ (¬1) المراغي.

الرسول بإيمانه، بل من حق الرسول أن يمتن عليه بأن وفق للهداية على يديه، إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه في السموات والأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شرّ. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه البخاري وغيره (¬1)، من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}. وأخرج ابن المنذر عن الحسن: أنّ أناسًا ذبحوا قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحًا، فأنزل الله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...}. وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب الأضاحي" بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة .. فنزلت. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن عائشة: أنّ ناسًا كانوا يتقدّمون الشهر، فيصومون قبل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا ...}. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فأنزل الله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

وأخرج عنه قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ...} الآية. وأخرج أيضًا عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...} قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عديّ بن العجلان، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت في، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع عاصم ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا به، فقال: "أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟ " قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدًا على صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ...} الآية. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ...} الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم، قال: جاء ناس من العرب إلى حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ...} الآية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أنّ رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد إنّ مدحي لزين، وإنّ شتمي لشين، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك هو الله" فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ ...} الآية. مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء، وغيره عند الترمذي بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن، وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس: أنه نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات فلم يجبه، فقال: يا محمد إنّ حمدي لزين، وانّ ذمّي لشين، فقال: "ذلك الله". وقال قتادة: نزلت في وفد تميم، وكانوا سبعين رجلًا منهم: الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاؤوا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإنّ مدحنا لزين، وإنّ ذمّنا لشين، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمّه شين" فقالوا: نحن ناس من تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا" فقام

شابّ منهم، فذكر فضله وفضل قومه، فقال - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شمّاس، وكان خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ فأجبه" فأجابه، وقام الزبرقان بن بدر فقال .... إلى أن قال: نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوْكُ وَفِيْنَا تُنْصَبُ البِيَعُ فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ يُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَفَادُوْا فَكَانُوْا الرَّأْسَ يُقْطَتَعُ فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِيْ ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسّان بن ثابت: "أجبه" فقال: إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيْرَتُهُ ... تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوْا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حَاوَلُوْا النَّفْعَ فِيْ أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوْا سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ في قصيدة طويلة. فلمّا فرغ حسان من قوله .. قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤنَّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا, ولشاعره أشعر من شاعرنا, ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يضرُّك ما كان من قبل هذا" ثم جوزهم فأحسن جوائزهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان قد بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق ليأخذ الصدقات، فلمَّا أتاهم الخبر .. فرحوا به، وخرجوا يستقبلونه، فلمّا حدث بذلك الوليد .. حسب أنهم جاؤوا لقتاله، فرجع قبل أن يدركوه، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول الله إنّا حدثنا أن

رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ...} الآية. أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، وقال ابن كثير: وهذا من أحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية. وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة؛ لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد؛ لأنّه توهم وظن فأخطا، والمخطىء لا يسمى فاسقًا، كيف والفاسق في أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. اهـ. قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارًا وانطلق إلى عبد الله بن أبيّ، فقال: إليك عنّي، فقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحماره أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن أبي مالك قال: قال: تلاحى رجلان من المسلمين، فغضب قوم هذا لهذا، وهذا لهذا، فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ ...} الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ...} الآية، روي: أنّ الآية نزلت في وفد تميم، إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة، وسلمان الفارسي وسالم مولى أبي حذيفة في آخرين غيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، وروي: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّ النساء يقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: "هلّا قلت: أبي هارون وعمي موسى، وزوجي محمد - صلى الله عليه وسلم - ".

قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ...} سبب نزوله: ما أخرجه أصحاب "السنن" الأربعة، عن أبي جبير بن الضحاك، قال: كان الرجل منّا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}. قال الترمذي: حسن. وأخرج الحاكم وغيره من حديثه أيضًا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول الله، إنّه يكرهه، فأنزل الله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ...}. قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسيّ، أكل ثم رقد فنفخ، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أبو داوود: أنّ هذه الآية نزلت في أبي هند، وكان حجّام النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بني بياضة أنّ يزوّجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ...} الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة، قال: لمّا كان يوم الفتح .. رقى بلال على ظهر الكعبة فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة وقال بعضهم: إن يرد الله شيئًا يغيّره فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ...}. قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...} سبب نزوله: ما أخرجه الطبراني بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى: أن ناسًا من العرب قالوا: يا رسول الله، أسلمنا ولم نقاتلك، وقاتلك بنو فلان، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...} الآية، وأخرج البزّار من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: قدم عشرة نفر من بني أسد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد مع أصحابه، فسلّموا وقال متكلّمهم: يا رسول الله إنّا شهدنا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا سلم، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ

[1]

أَنْ أَسْلَمُوا ...} الآية، وأخرج سعيد بن منصور في "سننه" عن سعيد بن جبير قال: أتى قوم من الأعراب من بني أسد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: جئناك ولم نقاتلك، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...} الآية، وقال مجاهد: نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة، وكانوا يجاورون المدينة، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين حقًا، وقال السدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة، وأسلم وغفار والديل، وأشجع، قالوا؛ آمنا، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدنية .. تخلّفوا. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تصدير (¬1) الخطاب بالنداء؛ لتنبيه المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير، يستدعي مزيد اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقّيه، ومراعاته ووصفهم بالإيمان؛ لتنشطيهم والإيذان بأنّه داع إلى المخاطبة، ورادع عن الإخلال به. {لَا تُقَدِّمُوا} أمرا من الأمور {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولا تقطعوه ولا تقولوه، ولا تعجلوا به، إلا بعد أن يحكما به، ويأذنا فيه، فتكونوا إمّا عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين بالنبيّ المرسل؛ لأنَّ المعنى: لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما, ولفظ اليدين بمعنى الجهتين الكائنتين في سمت يدي الإنسان اليمين واليسار، وبين اليدين بمعنى: بين الجهتين، والجهة التي بينهما هي جهة الأمام والقدَّام، فقولك: جلست بين يديه، بمعنى: جلست أمامه، وبمكان يحاذي يديه قريبًا منه، وإذا قيل: بين يدي الله .. امتنع أن يراد الجهة والمكان، فيكون استعارة تمثيلية، شبَّه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينية، قبل أن يحكم الله به ورسوله، بحال من يتقدم في المشي في الطريق مثلًا لوقاحته، على من يجب أن يتأخر عنه، ويقفو أثره تعظيمًا له، فعبَّر عن الحالة ¬

_ (¬1) روح البيان.

المشبَّهة بما يعبر به عن المشبه بها، كما سيأتي في مبحث البلاغة. وقرأ الجمهور (¬1): {لَا تُقَدِّمُوا} بضم التاء وفتح القاف وكسر الدال المشددة، من قدّم المضاعف، فاحتمل أن يكون متعدّيًا، وحذف مفعوله؛ ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم: كالصوم والأضحية، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل، كقولهم: هو يعطي ويمنع، فلم يقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرّض لمفعول معيّن، واحتمل أن يكون لازمًا بمعنى: تقدم، نحو: وحسنة بمعنى: توجَّه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف؛ أي: لا تتقدموا في شيء ما من الأشياء، ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب، وابن مقسم: {لا تقدموا} بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم، وحذفت التاء تخفيفًا؛ إذ أصله: لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين: {تقدّموا} بشدّ التاء، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها: كقراءة البزي، وقرىء: {لا تقدموا} مضارع قدم بكسر الدال، من القدوم؛ أي: لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها, ولا تعجلوا عليها، وقرىء: {لا تقدموا} بضم التاء وكسر الدال، من أقدم الرباعي؛ أي: لا تقدموا على شيء، وقال مجاهد: لا تفتئتوا على الله شيئًا حتى يقصه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. فائدة: ذكر في هذه السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خمس مرات، والمخاطبون فيها المؤمنون، والمخاطب به أمر أو نهي، وذكر فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مرةً، والمخاطبون فيها يعمّ المؤمنين والكافرين، كما أنّ المخاطب به وهو قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعمهما. فناسب فيها ذكر الناس. انتهى. "فتح الرحمن". ولمّا نهى من التقدّم .. أمر بالتقوى؛ لأنّ من التقوى اجتناب المنهي عنه، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا الله، وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الأقوال والأفعال، ثمّ علل ما أمر به من التقوى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم، فمن حقّه: أن يُتقى ويُراقب. ويجوز (¬1) أن يكون معنى {لَا تُقَدِّمُوا}: لا تفعلوا التقديم بالكلية على أنّ الفعل لم يقصد تعققه بمفعوله، وإن كان متعديًا. قال المولى أبو السعود: وهو أوفى بحق المقام؛ لإفادة النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكليّة، المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهانيّ، وقد جوَّز أن يكون التقديم لازمًا، بمعنى: المتقدم، ومنه: مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منهم، ومنه: وجه بمعنى: توجه. كما مرّ آنفًا. وقال مجاهد والحسن (¬2): نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة، كأنه قيل: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن عائشة: أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك، فكأنه قيل: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم، وقال قتادة: إنّ ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، أو صنع في كذا, ولو نزل كذا وكذا في معنى كذا, ولو فعل الله كذا، وينبغي أن يكون كذا، فكره الله ذلك، فنزلت، وعن الحسن: لمَّا استقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .. أتته الوفود من الآفاق، فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا عن أن يبتدئوا بالمسألة حتى يكون هو المبتدىء. والظاهر: أنّ الآية عامة في كل قول وفعل، ولذا حذف مفعول {لَا تُقَدِّمُوا}؛ ليذهب ذهن السامع كل مذهب، مما يمكن تقديمه من قول أو فعل، مثلًا إذا جرت مسألة في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - .. لا تسبقوه بالجواب، وإذا حضر الطعام .. لا تبدؤوا بالأكل قبله، وإذا ذهبتم إلى موضع .. لا تمشوا أمامه إلا لمصلحة دعت إليه، ونحو ذلك مما يمكن فيه التقديم. قيل: لا يجوز تقدّم الأصاغر على الأكابر، إلا في ثلاثة مواضع: إذا ساروا ليلًا أو رأوا خيلًا؛ أي: جيشًا، أو دخلوا سيلًا، أي: ماء سائلًا، وكان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

في الزمان الأول، إذا مشى الشابّ أمام الشيخ .. يخسف الله به الأرض، ويدخل في النهي المشي بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء، دليله ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمشي أمام أبي بكر رضي الله عنه فقال: "تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير أو أفضل من أبي بكر الصديق". كما في "كشف الأسرار". وأكثر هذه (¬1) الروايات يشعر بأن المراد من الآية: بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الله لتعظيمه والإيذان بجلالة قدره عنده، حيث ذكر اسمه تعالى توطئةً وتمهيدًا لذكر اسمه - صلى الله عليه وسلم -؛ ليدل على قوّة اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بربّ العزة، وقرب منزلته من حضرته تعالى، فإنّ إيقاع ذكره تعالى موقع ذكره - صلى الله عليه وسلم - بطريق العطف تفسيرًا للمراد، يدل عليها لا محالة، كما يقال: أعجبني زيد وكرمه، في موضع أن يقال: أعجبني كرم زيد؛ للدلالة على قوّة اختصاص الكرم به. والله أعلم. ومعنى الآية (¬2): أي يا أيها المؤمنون، لا تعجلوا بالقضاء في أمر قبل أن يقضي الله ورسوله لكم فيه، إذ ربّما تقضون بغير قضائهما، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم. وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين بعثه إلى اليمن، قال له: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن لم تجد" قال: بسنّة رسوله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن لم تجد" قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله، لما يرضي رسوله". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فتراه قد أخّر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدّمه .. لكان من المتقدّمين بين يدي الله ورسوله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[2]

والخلاصة (¬1): أنّه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجلوا يقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو يفعل، ولا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهي عنه. 2 - والحاصل: أنّ الله سبحانه قد أدّب المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين: أحدهما: فعل. وثانيهما: قول. وأشار إلى أوّلهما بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وأشار إلى ثانيهما بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} وإذا نطقتم، وتحدّثتم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - صلى الله عليه وسلم - إذا نطق، وتكلّم معكم؛ أي: إذا نطق ونطقتم في المحادثة معه .. فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حدًّا يبلغه صوته، بل يكون كلامكم دون كلامه؛ ليتميز منطقه عن منطقكم بكونه عاليًا رفيعًا على منطقكم. والمعنى (¬2): لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه - صلى الله عليه وسلم - هو بصوته، والصوت: هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين، كما سيأتي البسط فيه إن شاء الله تعالى، وقال في "المفردات": تخصيص الصوت بالنهي؛ لكونه أعم من النطق والكلام، ويحتمل أنّه خصّه لأنّ المكروه رفع الصوت لا رفع الكلام. وكرر النداء (¬3)؛ ليعلم أنّ كلّ واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني منهما تأكيدًا للأول، كقولك: يا زيد، لا تنطق ولا تتكلّم إلا بالحق، فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيد لا تنطق، يا زيد لا تتكلّم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين. كلاهما "الخطيب". {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ} - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا تنادوه {بِالْقَوْلِ} والكلام إذا كلّمتوه وهو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الخطيب.

صامت، جهرًا كائنًا {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ} ورفعه صوته عند مكالمته {لِبَعْضٍ} آخر منكم؛ أي (¬1): لا تجهروا, ولا ترفعوا صوتكم عند مكالمته وهو صامت جهرًا، كالجهر البخاري فيما بينكم في عدم المبالاة، وقلة الاحترام، بل اجعلوا صوتكم أخفض، وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس والسر، كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظَّم، وحافظوا على مراعاة جلالة النبوّة، فنهوا عن جهر مخصوص مقيد: وهو الجهر المماثل لجهر اعتادهوه فيما بينهم، لا عن الجهر مطلقًا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلّموه بالهمس والمخافتة. والمفهوم من "الكشاف" في الفرق بين النهي عن رفع الصوت، والنهي عن الجهر له: أنّ معنى النهي الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا نطق ونطقتم .. فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم فوق الحد الذي يبلغ إليه صوته - صلى الله عليه وسلم -، وأن تغضوا من أصواتكم، بحيث يكون صوته عاليًا على أصواتكم، ومعنى الثاني: أنكم إذا كلمتوه وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكت .. فلا تبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينكم، بل ليِّنوا القول لينًا يقارب الهمس الذي يضادّ الجهر. وفي "الشهاب على البيضاوي" (¬2): لمَّا رأى أن تخصيص الأول بمكالمته معهم، والثاني بسكوته خلاف الظاهر؛ لأنّ الأول نهي عن أن يكون جهرهم أقوى من جهره، كما هو صريح قوله: {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره .. عدل عنه، فحمل الأول على النهي عن زيادة صوتهم على صوته، والثاني على مساواة صوتهم لصوته، فحصل التغاير بين النهيين بهذا الاعتبار أيضًا. اهـ من "الشهاب". وقيل المعنى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}؛ أي: لا تدعوه، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}؛ أي: كدعاء بعضكم لبعض باسمه، ولكن عظّموه ووقروه وشرّفوه، وقولوا له: يا نبي الله، ويا رسول الله، ويا أبا القاسم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشهاب.

وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} تنازع (¬1) فيه {لَا تَرْفَعُوا} {وَلَا تَجْهَرُوا} فيكون مفعولًا لأجله للثاني عند البصريين، وللأول عند الكوفيين، والأول أصح؛ لأنّ إعمال الأول يستلزم الإضمار في الثاني، وهو (¬2): إما علّة للنهي على طريق التنازع، فكأنه قيل: انتهوا عمّا نهيتم عنه لخشية حبوط أعمالكم أو كراهته، كما في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} فحذف المضاف ولام التعليل، وإمّا علة للفعل المنهي عنه، كأنه قيل: انتهوا عن الفعل الذي تفعلونه لأجل حبوط أعمالكم، فاللام فيه، لام العاقبة، فإنهم لم يقصدوا بما فعلوه من رفع الصوت والجهر حبوط أعمالهم، إلا أنه لمّا كان بحيث قد يؤدي إلى الكفر المحيط .. جعل كأنّه فعل لأجله، فأدخل عليه لام العلّة تشبيهًا لمؤدى الفعل بالعلة الغائية، وليس المراد بما نهي عنه من الرفع والجهر: ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة بشأنه - صلى الله عليه وسلم -، وعدم المبالاة به، فإنّ ذلك كفر، وكذا ليس المراد: ما يقع من الرفع والجهر في حرب أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوٍ أو نحو ذلك، فإنّه لا بأس به، إذ لا يتأذى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتناوله النهي، ففي الحديث: أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبد المطلب، لمّا انهزم الناس يوم حنين: "اصرخ بالناس"، وكان العباس أجهر الناس صوتًا، وروي: أنَّ غارة أتتهم يومًا؛ أي: في المدينة، فصاح العباس: يا صباحاه، فأسقط الحوامل لشدّة صوته، وكان يسمع صوته من ثمانية أميال. وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} حال من فاعل {تَحْبَطَ}؛ أي: والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها, ولا تعلمونه، وفيه تحذير شديد، ووعيد عظيم، قال الزجّاج: وليس المراد: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}: يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرًا من حيث لا يعلم، قال أبو حيان: قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} إن كانت (¬3) الآية معرّضة بمن يجهر استخفافًا .. فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقةً، وإن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

كانت للمؤمن الذي فعل ذلك غفلةً، وجريًا على عادته .. فإنّما يحبط عمله البرّ في توقير النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وغضّ الصوت عنه أن لو فعل ذلك كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. وقرأ عبد الله وزيد بن على: {فتحبط} بالفاء، وهو مسبب عما قبله. وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: (¬1) كيف قال ذلك مع أنّ الأعمال إنّما تحبط بالكفر، ورفع الصوت على صوت النبيّ ليس بكفر؟. قلت: المراد به: الاستخفاف بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه ربّما يؤدّي إلى الكفر، وقيل: حبوط العمل هنا مجاز عن نقصان المنزلة، وانحطاط الرتبة. اهـ. ومعنى الآية (¬2): إذا نطق ونطقتم .. فلا ترفعوا أصواتكبم فوق صوته، ولا تبلغوا به وراء الحدّ الذي يبلغه؛ لأنّ ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وإذا كلّمتوه وهو صامت .. فإيّاكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوّة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدّي ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب، فتكفروا من حيث لا تشعرون. قال البقلي في "العرائس": أعلمنا الله سبحانه بهذا التأديب، أنّ خاطر حبيبه من كمال لطافته، ومراقبة جمال ملكوته، كان يتغير من الأصوات الجهرية، وذلك من غاية شغله بالله، وجمع همومه بين يدي الله، فكان إذا جهر أحد عنده .. يتأذى قلبه، ويضيق صدره من ذلك، كأنه يتقاعد سرّه لحظةً عن السير في ميادين الأزل، فخوَّفهم الله من ذلك، فإن تشويش خاطره - صلى الله عليه وسلم - سبب بطلان الأعمال. يقول الفقير: ولكمال لطافته - صلى الله عليه وسلم -، كان الموت عليه أشدَّ، إذ اللطيف يتأثر مما لا يتأثر به الكثيف، كما قال بعضهم: قد شاهدنا أقوامًا من عرب البوادي، يسلخ الحكام جميع جلد أحدهم ولا يظهر ضجرًا، ولو سلخ أكبر الأولياء ... ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي.

[3]

لصاح، إلا أن يؤخذ عقله بمشاهدة تمنع إحساسه. اهـ. وقد كره (¬1) بعض العلماء رفع الصوت عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، وكذا القرب منه عليه السلام في المواجهة عند السلام، بحيث كان بينه وبينه - صلى الله عليه وسلم - أقلَّ من أربعة أذرع، وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء؛ تشريفًا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء، قال سليمان بن حرب: ضحك إنسان عند حمّاد بن زيد، وهو يحدث بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغضب حمّاد، وقال: إنّي أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت، كرفع الصوت عنده وهو حيّ، وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم. 3 - ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ}؛ أي: يخفضون {أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} - صلى الله عليه وسلم -؛ مراعاةً للأدب، وخشية من مخالفة النهي {أُولَئِكَ}: مبتدأ، خبره: قوله: {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {قُلُوبَهُمْ}؛ أي: شرح قلوبهم، ووسعها {لِلتَّقْوَى} وصفّاها، وأخلصها للتقوى، والجملة الابتدائية. خبر {إِنَّ}. وعن عمر رضي الله عنه: أذهب عنها الشهوات؛ أي: نزع عنها محبّة الشهوات، وصفَّاها عن دنس سوء الأخلاق، وحلَّاها بمكارمها، حتى انسلخوا عن عادات البشرية. {لَهُمْ} في الآخرة {مَغْفِرَةٌ} عظيمة لذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} التنكير للتعظيم؛ أي: ثابت لهم غفران، وأجر عظيم لا يقادر قدره لغضّهم، وسائر طاعاتهم، فهو استئناف لبيان جزاء الغاضين مدحًا لحالهم، وتعريضًا بسوء حال من ليس مثلهم، أو خبر ثان لـ {إِنَّ}. وروى أحمد في "الزهد" عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟. فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية، ولا يعملون بها، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

والتقوى: هي امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وقال بعضهم: التقوى: كل عمل يقيك من النار، وإذا وقاك من النار .. وقاك من الحجاب، وإذا وقاك من الحجاب .. شاهدت العزيز الوهّاب. 4 - {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} ويدعونك يا محمد {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}؛ أي (¬1): من خارج حجرات نسائك من خلفها أو قدّامها؛ لأنّ وراء الحجرة عبارة عن الجهة التي يواريها شخص الحجرة بجهتها من أيّ ناحية كانت من نواحيها, ولا بدّ أن تكون تلك الجهة خارج الحجرة؛ لأن ما في دخلها لا يتوارى عمن فيها بجثة الحجرة، فاشتراك الوراء في تينك الجهتين معنوي لا لفظي، لكن جعله الجوهري وغيره من الأضداد، فيكون اشتراكه لفظيًّا، و {مِنْ}: ابتدائية دالة على أن المناداة نشأت من جهة الوراء، وأن المنادى داخل الحجرة؛ لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة، ولو جرِّد الكلام عن حرف الابتداء .. جاز أن يكون المنادى أيضًا في الخارج؛ لانتفاء مقتضى اختلافهما بالجهة. والمراد: حجرات أمّهات المؤمنين، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة، فتكون تسعًا عددهنّ. وقرأ الجمهور (¬2): {الْحُجُرَاتِ} بضم الجيم إتباعًا للضمّة قبلها، وقرأ أبو جعفر وشيبة: بفتحها، وابن أبي عبلة: بإسكانها ثلاثتها جمع حجرة: كغرفات جمع غرفة، وظلمات جمع ظلمة، وقبضات جمع قبضة بمعنى محجورة كقبضة بمعنى مقبوضة، وهي الموضع الذي يحجره الإنسان لنفسه بحائط ونحوه، ويمنع غيره من أن يشاركه فيه من الحجر، وهو المنع، وقيل للعقل: حجر لكون الإنسان في منع منه ممّا تدعو إليه نفسه. ومناداتهم من ورائها: إما بأنّهم أتوها حجرة حجرة، فنادوه عليه السلام من ورائها، أو بأنهم تفرّقرا على الحجرات متطلّبين له - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّهم لم يتحقّقوا مكانه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[5]

فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل مجازًا. {أَكْثَرُهُمْ} أي: كلهم {لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: لا يفقهون أمر الله وتوحيده، ولا حرمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لغلبة الجهل عليهم، وكثرة الجفاء في طباعهم، قال في "بحر العلوم": في قوله: {أكثر} دلالة على أنّه كان فيهم من قصد بالمحاشاة، وعلى قلة العقلاء فيهم قصدًا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، إذ القلة تجري مجرى النفي في كلامهم، فيكون المعنى: كلهم لا يعقلون، إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب، بل تأدَّبوا معه بأن يجلسوا على بابه، حتى يخرج إليهم، 5 - كما قال تعالى آنفًا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}، الصبر: حبس النفس عن شهواتها. و {لو} (¬1) مختص بالفعل على ما ذهب إليه المبرّد والزجاج والكوفيون، فما بعد {لو} مرفوع على الفاعلية، لا على الابتداء على ما قاله سيبويه. والمعنى: ولو تحقق صبرهم وانتظارهم {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} و {حَتَّى} تفيد أنّ الصبر ينبغي أن يكون مغيًا بخروجه - صلى الله عليه وسلم -، فإنها مختصّة بما هو غاية للشيء في نفسه، ولذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها, ولا تقول: حتى نصفها وثلثها، بخلاف إلى فإنها عامّة، وفي قوله: {إِلَيْهِمْ} إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. {لَكَانَ}؛ أي: الصبر المذكور {خَيْرًا لَهُمْ} من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: أنهم لو انتظروا خروجك، ولم يعجلوا بالمناداة .. لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورعاية جنابه الشريف، والعمل بما يستحقه من التعظيم والتبجيل، الموجبين للثواب والثناء، والإسعاف بالمسؤول، وقيل: إنّهم جاؤوا شفعاء في أسارى، فأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصفهم، وفادى نصفهم، ولو صبروا .. لأعتق الجميع. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث سريّة إلى قوم من بني عنبر جماعة من خزاعة، وأمّر عليهم عيينة بن حصن الفزاريّ، فسار إليهم، فلمّا بلغهم أنه خرج إليهم .. فرّوا وهربوا، وتركوا عيالهم وأموالهم، فسبى ذراريَّهم، وجاء بهم إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاء بعد ذلك رجالهم ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، ووافقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلًا عند أهله، فلمّا رأتهم الذراريّ .. أجهشوا يبكون، فنادوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد أخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إنّ الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلًا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو، وهو على دينكم" فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد، وهو أعور بن بسَّامة بن ضرار، فرضوا بالأعور، فقال الأعور: فانا أرى أن تفادي نصفهم، وتعتق نصفهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد رضيت" ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، ولو صبروا .. لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}. {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن تضيق ساحته عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا. ومعنى الآية (¬1): أي وّلو أنَّ هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا, ولم ينادوك حتى تخرج إليهم .. لكان خيرًا لهم عند الله تعالى؛ لأنّه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله ذو عفو عمّن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه. والخلاصة (¬2): أنّ الله تعالى هجَّن الصياح برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال خلوف من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرًا لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه؛ لأنَّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، يكون صنيع مثل هؤلاء معه من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغًا لا يقدر قدره. تنبيه (¬1): وفي هذا المقام أمور: الأول: أنّ في هذه الآية تنبيهًا على قدره - صلى الله عليه وسلم -، والتأدب معه بكل حال، فهم إنّما نادوه لعدم عقل يعرفون به قدره، ولو عرفوا قدره .. لكانوا كما في الخبر يقرعون بابه بالأظافير، وفي المناداة إشارة إلى أنهم رأوه من وراء الحجاب، ولو كانوا من أهل الحضور والشهود .. لما نادوه. قال أبو عثمان المغربي رحمه الله تعالى: الأدب عند الأكابر، وفي مجلس السادات من العلماء والأولياء، يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى، والخير في الأولى والعقبى، فكما لا بد من التأدّب معه - صلى الله عليه وسلم -، فكذا مع من استنّ بسنته: كالعلماء العاملين، وكان جماعة من العلماء يجلسون على باب غيرهم، ولا يدقّون عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احترامًا، قال أبو عبيدة القاسم بن سلّام: ما دققت الباب على عالم قط، كنت أصبر حتى يخرج إليّ، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} الآية. قال بعضهم: من الحكمة توقير الكبير، ورحمة الصغير، ومخاطبة الناس بالليّن. وقال: إن كان خليلك فوقك .. فاصحبه بالحرمة، وإن كان كفأك ونظيرك .. فاصحبه بالوفاء، وإن كان دونك .. فاصحبه بالمرحمة، وإن كان عالمًا .. فاصحبه بالخدمة والتعظيم، وإن كان جاهلًا .. فاصحبه بالسياسة، وإن كان غنيًا .. فاصحبه بالزهد، وإن كان فقيرًا .. فاصحبه بالجود، وقال بعض الحكماء: عاشروا الناس معاشرة، إن متّم .. بكوا عليكم، وإن رغبتم .. حنّوا إليكم. والثاني: ذم الجهل، ومدح العقل والعلم، فإن شرف العقل مدرك بضرورة العقل والعلم والحس، حتى إنّ أكبر الحيوانات شخصًا، وأقواها بدنًا، إذا رأى الإنسان .. احتشمه وخاف منه؛ لإحساسه بأنّه مسئول عليه بحيلته، قال بعضهم: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

العاقل كلامه وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم به .. أمَّره على قلبه، فينظر فيه، فإن كان له؛ أي: لنفعه .. أمضاه، وإن كان عليه؛ أي: لضرّه .. أمسكه، والأحمق كلامه على طرف لسانه، وعقله في حجره إذا قام سقط، قال عليّ كرم الله وجهه: لسان العاقل في قلبه، وقلب الأحمق في فمه، والأدب صورة العقل، ولا شرف مع سوء الأدب، ولا داء أعيا من الجهل، وإذا تم العقل .. نقص الكلام. والثالث: ما قاله بعضهم: تدبر سر قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى} ولا تنظر إلى سبب النزول، وانتظر خروجه مرةً ثانية لقيام الساعة لفتح باب الشفاعة، وقد ثبت أنّ الناس يلتجئون يوم القيامة إلى الأنبياء، ثمَّ، وثمَّ إلى أن يصلوا إليه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصلون إلى المراد إلا عنده. 6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {إِنْ جَاءَكُمْ} وأتاكم {فَاسِقٌ} أيَّ فاسقٍ كان {بِنَبَإٍ} وخبر أيَّ نبأ كان، والنبأ: الخبر الخطير، والتنكير (¬1) في الموضعين للتعميم، وفيه إيذان بالاحتراز عن كل فاسق، وإنما قال: {إِنْ جَاءَكُمْ} بحرف الشك دون إذا؛ ليدل على أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مكالمتهم بكذب، وقال ابن الشيخ: إخراج الكلام بلفظ الشرط المحتمل الوقوع؛ لندرة مثله فيما بين أصحابه - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إن جاءكم فاسق بخبر يعظم وقعه في القلوب .. {فَتَبَيَّنُوا}؛ أي: فتعرّفوا وتفّحصوا، حتى يتبين لكم ما جاء به، أصدق هو أم كذب، ولا تعتمدوا على قوله المجرد؛ لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق .. لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. قرأ الجمهور (¬2): {فَتَبَيَّنُوا} من التبين، وقرأ حمزة والكسائيّ: {فتثبتوا} من التثبت، والمراد من التبيّن: التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد، حتى يتّضح ويظهر. قال المفسرون: كما مر إنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخي عثمان رضي الله عنه لأمه، وهو الذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

أبي وقّاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعًا، ثم قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان عنهم، بعثه - صلى الله عليه وسلم - مصدقًا إلى بني المصطلق، إلى آخر ما سبق في أسباب النزول. وقوله: {أَنْ تُصِيبُوا} مفعول لأجله على تقدير مضاف؛ أي: حذار أن تصيبوا {قَوْمًا} بريئين بقتل وأسر وجرح، حال كونكم متلبسين {بِجَهَالَةٍ} بحالهم، وكنه قصتهم؛ لأنَّ الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم. {فَتُصْبِحُوا}؛ أي: فتصيروا بعد ظهور براءتهم مما أسند إليهم {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ} في حقهم {نَادِمِينَ}؛ أي: مهتمين به مغتمّين له غمًّا لازمًا، متمنّين أنه لم يقع، فإنّ تركيب (¬1) هذه الأحرف الثلاثة: ن د م، يدور مع الدوام، مثل: أدمت الأمر: إذا أدامه، ومدن المكان: إذا أقام به، ومنه المدينة؛ يعني: أنَّ الندم غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام على ما وقع، مع تمني أنه لم يقع، ولزومه قد يكون لقوته من أول الأمر، وقد يكون لعدم غيبة موجبه وسببه عن المخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره، ولغير ذلك من الأسباب. وفي الآية (¬2): دلالة على أنَّ الجاهل لا بد أن يصير نادمًا على ما فعله بعد زمان، وفي ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر: إشارة إلى قبول خبر الواحد العدل في بعض المواد، وفي الآية أيضًا إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمام، والمغتاب للناس، فلا بدّ من التبين والتفحص؛ لتظهر حقيقة الحال، ويسلم المرء من الوبال، ويفتضح الكذاب الدجال، وفي الحديث: "التبيُّن من الله، والعجلة من الشيطان". ومعنى الآية: أي (¬3) يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم الفاسق بأيّ نبأ، فتوقّفوا فيه، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإنّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[7]

من لا يبالي بالفسق .. فهو أجدر بأن لا يبالي بالكذب ولا يتحاماه، خشية إصابتكم بالأذى قومًا أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم، وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك. 7 - ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها، فقال: {وَاعْلَمُوا} أيّها المؤمنون، وفائدة الأمر الدلالة على أنهم نزّلوا منزلة الجاهلين، لمكانه - صلى الله عليه وسلم -؛ لتفريطهم فيما يجب عليهم من تعظيم شأنه، وجملة {أَنَّ} في قوله: {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}: سادّة مسدّ مفعولي {وَاعْلَمُوا}؛ أي: واعلموا أنّ فيكم رسول الله، وهو مرشد لكم، فارجعوا إليه، واعتمدوا عليه، فلا تقولوا قولًا باطلًا، ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبيّن، وجملة {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}؛ أي: لوقعتم في العنت والفساد والهلاك، في محل نصب على الحال من ضمير {فِيكُمْ}؛ أي: كائنين (¬1) على حالة .. إلخ. وهي أنكم تريدون أن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأيكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك .. لوقعتم في الجهد والهلاك، فعلى هذا يكون قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} إلخ. دليل وجوب تغيير تلك الحال أقيم مقام الحال، وفيه إيذان بأنّ بعضهم زيّنوا لرسول الله الإيقاع ببني المصطلق، تصديقًا لقول الوليد، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطع رأيهم، أو مستأنفة. والمعنى: لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه من الأخبار الباطلة، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب .. لوقعتم في العنت، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه، وقد يوافق الناس، ويفعل بمقتضى مصلحتهم؛ تحقيقًا لفائدة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. وصيغة المضارع في قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ}: للدلالة على أنّ امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته - صلى الله عليه وسلم - لأن عنتهم، إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعنُّ لهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

من الأمور، إذ فيه اختلال أمر الرياسة، وانقلاب الرئيس مرؤسًا، لا من إطاعته في بعض ما يرونه نادرًا، بل فيها استمالتهم بلا معرةٍ؛ يعني: أن امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم، فإنّ المضارع يفيد الاستمرار، ودخول {لو} عليه، يفيد أمتناع الاستمرار. والمعنى (¬1): أي واعلموا أيّها المؤمنون، أن بين أظهركم رسول الله، فعظّموه ووقّروه، وتأدّبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، كما قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، ثم بين أن رأيه أنفع لهم، وأجدر بالرعاية، فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} إلخ؛ أي: لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر، وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء .. لوقعتم في الجهد والإثم، ولكنّه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه، عن أبي سعيد الخدري: أنّه قرأ هذه الآية، وقال: هذا نبيُّكم يوحى إليه، وخيار أئمتكم، لو أطاعهم في كثير من الأمر .. لعنتوا، فكيف بكم اليوم؟! أخرجه الترمذي. ثمّ استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ}؛ أي: جعل الإيمان أحبّ الأشياء إليكم، أو جعله محبوبًا لديكم، فلا يقع منكم إلا ما يوافقه، ويقتضيه من الأمور الصالحة، وترك التسرّع في الأخبار، وعدم التثبت فيها. وقيل: هذا تجريد للخطاب (¬2) وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بيانًا لبراءتهم من أوصاف الأولين، وإحمادًا لأفعالهم، وهم الكاملون الذين لا يعتمدون على كل ما سمعوه من الأخبار؛ أي: ولكن جمعًا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب، وتزيين الإيقاع بالبريء، وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم؛ لأنّ الله تعالى جعل الإيمان أحبَّ الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه، ويقتضيه من الأمور الصالحة، وترك التسرع في الأخبار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والظاهر: أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان. {وَزَيَّنَهُ}؛ أي: زيّن الإيمان, وحسَّنه {فِي قُلُوبِكُمْ} حتى رسخ حبه فيها، ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال، وفي "عين المعاني": في قلوبكم دون ألسنتكم مجرّدةً ردًّا على الكرامية القائلين: بأنَّ الإيمان لا يكون بالقلب، ولكن باللسان، وقيل: دون جوارحكم ردًّا على الشعوبية بضم الشين: وهم قوم يتعلقون بظاهر الأعمال. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}؛ أي: جعل هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان مكروهة عندكم، ولذلك اجتنبتم ما يليق بها، مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها، والتكريه هنا بمعنى التبغيض، والبغض: ضد الحب، فالبغض: نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ولما كان في التحبيب والتكريه معنى إنماء المحبّة والكراهة، وإيصالهما إليهم .. استعملا بكلمة إلى. قال في "فتح الرحمن": معنى تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، والكفر تغطية نعم الله بالحجود والفسوق الخروج عن القصد؛ أي: العدل بظلم نفسه، والعصيان: الامتناع عن الانقياد، وهو شامل لجميع الذنوب، والفسوق مختص بالكبائر، قال شيخ الإِسلام: إن قلت: ما فائدة الجمع بين الفسق والعصيان؟ .. قلت: الفسوق: الكذب، كما نقل عن ابن عباس، والعصيان: بقية المعاصي، وإنما أفرد الكذب بالذكر؛ لأنّه سبب نزول الآية، وقيل: الفسوق: الكبيرة، والعصيان: الصغيرة. انتهى. والخلاصة (¬1): أنّ الإيمان الكامل: إقرارٌ باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فكراهة الكفر في مقابلة محبّة الإيمان, وتزيينه في القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق: هو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان: في مقابلة العمل بالأركان. ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

{أُولَئِكَ} المستثنون بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ} إلخ. {هُمُ الرَّاشِدُونَ}؛ أي: السالكون إلى الطريق السويّ الموصل إلى الحق، والرشد: الاستقامة على طريق الحق، مع تصلبٍ من الرشادة: وهي الصخرة، وفي الآية (¬1) عدول وتلوين، حيث ذكر أولها على وجه المخاطبة، وآخرها على المغايبة، حيث قيل: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} ليعلم أنّ من كان حاله هكذا، فقد دخل في هذا المدح، كما قاله أبو الليث. 8 - وقوله: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}؛ أي: تفضلًا منه تعالى، وإنعامًا منه تعليل لـ {حَبَّبَ} {وَكَرَّهَ} وما بينهما اعتراض. والمعنى: أنه تعالى حبّب إليكم ما حبّب، وكرّه إليكم ما كرّه؛ لأجل فضله وإنعامه، لا للراشدين، فإنّ الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبّبًا عن فعله، وهو التحبيب والتكريه مسند إلى ضمير {هُمُ}؛ يعني: أنّ المراد بالفاعل: من قام به الفعل، وأسند هو إليه، لا من أوجده، ومن المعلوم: أنّ الرشد قائم بالقوم، والفضل والإنعام قائمان به تعالى، فلا اتحاد في الفاعل، وقيل: علّة لمحذوف؛ أي: جعلكم راشدين لأجل فضله وإنعامه، وقيل: النصب بتقدير فعل؛ أي: تبتغون فضلًا ونعمةً. والخلاصة (¬2): أنّ رسول الله بين أظهركم، وهو أعلم بمصالحكم، لو أطعاكم في جميع ما تختارونه .. لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم في مهاوي الردى، ولكنّ بعضًا منكم حبّب إليهم الإيمان, وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية {حَكِيمٌ} في تدبير شؤون خلقه، وصرفهم فيما شاء من قضائه، فيفعل كل ما يفعل بموجب الحكمة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[9]

وفي الآية دليل على أنّ من كان مؤمنًا، لا يحبّ الفسق والمعصية، وإذا ابتلي بالمعصية .. فإنّ شهوته وغفلته تحمله على ذلك، لا لحبّه للمعصية، بل ربّما يعصي حال الحضور؛ لأنّ فيه نفاذ قضائه تعالى. 9 - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ أي: تقاتلوا، والجمع حيث لم يقل: اقتتلتا على التثنية والتأنيث باعتبار المعنى؛ لأنّ كل طائفة جمع، فهي بمعنى القوم، نظير قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا}، وبه قرأ الجمهور (¬1). وقرأ ابن أبي عبلة: {اقتتلتا} بالتثنية والتأنيث اعتبارًا بلفظ {طَائِفَتَانِ}، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير: {اقتتلا} بالتثنية، وتذكير الفعل باعتبار الفريقين والرهطين، والطائفة من الناس: جماعة منهم، لكنها دون الفرقة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}. و {طَائِفَتَانِ}: فاعل فعل محذوف وجوبًا؛ لا مبتدأ؛ لأنّ حرف الشرط لا يدخل إلا على الفعل لفظًا أو تقديرًا، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فحذف الأول؛ لئلا يلزم اجتماع المفسّر والمفسّر، وأصل القتل: إزالة الروح عن الجسد بأيّ طريق كان. {فَأَصْلِحُوا} أيها المؤمنون {بَيْنَهُمَا}؛ أي: بين تينك الطائفتين بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وثنّى الضمير باعتبار لفظ الطائفتين، والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح: جعل الشيء على تلك الحالة، والإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا من أعظم الطاعات، وأتمّ القربات، وكذا نصرة المظلوم، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من وصل أخاه بنصيحة في دينه، ونظر له في صلاح دنياه .. فقد أحسن صلته، وقال مطرّف: وجدنا أنصح العباد لله الملائكة، ووجدنا أغشّ العباد لله الشياطين، ويقال: من كتم السلطان نصحه، والأطبّاء مرضه، والأخوان بثّه .. فقد خان نفسه. {فَإِنْ بَغَتْ}؛ أي: تعدّت واستطالت {إِحْدَاهُمَا}؛ أي: إحدى الطائفتين وكانت مبطلة {عَلَى الْأُخْرَى} وكان محقة، ولم تتأثر الباغية بالنصيحة {فَقَاتِلُوا الَّتِي ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

تَبْغِي}؛ أي: قاتلوا الطائفة الباغية {حَتَّى تَفِيءَ}؛ أي: حتى ترجع عن بغيها، فإنّ الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة. {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: إلى حكمه الذي حكم به في كتابه العزيز، وهو المصالحة، ورفع العداوة، أو إلى ما أمر به، وهو الإطاعة المدلول عليها بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. فأمر الله على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر. وإنّما أطلق (¬1) الفيء على الظل؛ لرجوعه بعد نسخ الشمس؛ أي: إزالتها إيّاه، فإنّ الشمس كلما ازدادات ارتفاعًا .. ازداد الظل انسلاخًا وزوالًا، وذلك إلى أن توازي الشمس خطّ نصف النهار، فإذا زالت عنه، وأخذت في الانحطاط .. أخذ الظل في الرجوع والظهور، فلمّا كان الزوال سببًا لرجوع ما انتسخ من الظل .. أضيف الظل إلى الزوال، فقيل: فيء الزوال. ومرَّ الأصمعي بحيّ من أحياء العرب، فوجد صبيًا يلعب مع الصبيان في صحراء، وبتكلّم بالفصاحة، فقال الأصمعي: أين أباك يا صبيّ؟ فنظر إليه الصبي ولم يجب، ثم قال: أين أبيك؟ فنظر إليه ولم يجب كالأول، ثمّ قال: أين أبوك؟ فقال: فاء إلى الفيفاء لطلب الفيء، فإذا فاء الفيء .. فاء؛ أي: رجع. وقرأ الجمهور (¬2): {حَتَّى تَفِيءَ} مضارع فاء بفتح الهمزة، وقرأ الزهريّ {حتى تفى} بغير همزة وفتح الياء، وهذا شاذ، كما قالوا في مضارع جاء: ينبغي بغير همز، فإذا أدخلوا عليه الناصب .. فتحوا الياء، وأجروه مجرى يفي مضارع وفى شذوذًا. {فَإِنْ فَاءَتْ} الباغية، ورجعت إليه، وأقلعت عن القتال حذارًا من قتالكم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} أي: بين الطائفتين: الباغية والمحقّة {بِالْعَدْلِ} والإنصاف بفصل ما بينهما على حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[10]

والمعنى (¬1): أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين .. فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدّي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح، ولا دخلت فيه .. كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه .. فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة، حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى. ثمّ أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم، بعد أمرهم بهذا العدل الخاصّ بالطائفتين المقتتلتين، فقال: {وَأَقْسِطُوا}؛ أي: واعدلوا في كلّ ما تأتون وما تذرون، من أقسط، وهمزته للسلب إذا أزال القسط بالفتح؛ أي: الجور، يقال: إذا جاء القسط بالكسر؛ أي: العدل .. زال القسط بالفتح؛ أي: الجور {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ أي: العادلين الذين يؤدُّون لكل ذي حق حقه، فيجازيهم بأحسن الجزاء؛ لأنّ محبته تعالى لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء، وفي "الصحيح": عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". قلت: يا رسول الله هذا نصرته مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إيّاه". 10 - وجملة قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}: مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإصلاح، جمع الأخ (¬2)، وأصله: المشارك لأخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار في كل مشارك لغيره في القبيلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودّة، أو في غير ذلك من المناسبات، والفرق بين الخلة والأخوة: أنّ الصداقة إذا قويت .. صارت أخوة، فإن ازدادات .. صارت خلّة، كما في "إحياء العلوم". قال بعض أهل اللغة: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، ويقع أحدهما موقع الآخر، وفي الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانًا". والمعنى: إنّما المؤمنون منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، كما أنّ الإخوة من النسب منتسبون إلى أصل واحد هو الأب الموجب للحياة الفانية، فالآية من قبيل التشبيه البليغ المبني على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب. وفي الحديث: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيّبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره، إلا أن يغرف له غرفة، ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها". ثم قال: "احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل". وفي "الصحيح" أيضًا: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب .. قال الملك: آمين، ولك مثله". ولما كانت الأخوة داعية إلى الإصلاح ولابد .. تسبب عن ذلك قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} في الدين، كما تصلحون بين أخويكم في النسب، و {الفاء} فيه: للإيذان بأنّ الأخوّة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع (¬1) المظهر موضح المضمر مضافًا إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح، والتحضيض عليه، وتخصيص الأثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى في كل ما تأتون، وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من إصلاح ذات البين، وفي "التأويلات النجمية": واتقوا الله في إخوتكم في الدين بحفظ عهودهم، ورعاية حقوقهم، في المشهد والمغيب، والحياة والممات. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي: راجين أن ترحموا على تقواكم كما ترحمون، أو رجاء أن يرحمكم ربّكم، ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، والترجّي باعتبار المخاطبين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

واعلم: أنّ أخوّة الإِسلام أقوى من أخوّة النسب، بحيث لا تعتبر أخوّة النسب إذا خلت عن أخوّة الإِسلام، ألا ترى أنه إذا مات المسلم، وله أخ كافر .. يكون ماله للمسلمين، لا لأخيه الكافر، وكذا إذا مات أخ الكافر، وذلك لأنّ الجامع الفاسد لا يفيد الأخوّة، وأنّ المعتبر الأصليّ الشرعيّ، ألا ترى أنّ ولدي الزنا من رجل واحد لا يتوارثان، وهذا المعنى يستفاد من الآية أيضًا؛ لأنّ {إِنَّمَا} للحصر، فكأنه قيل: لا أخوة إلا بين المؤمنين، فلا أخوّة بين المؤمن والكافر. وفي هذه الآية (¬1): دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على الإِمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز، مستدلًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قتال المسلم كفر". فإنّ المراد بهذا الحديث، وما ورد في معناه: قتال المسلم الذي لم يبغ، قال ابن جرير: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه، ولزوم المنازل .. لما أقيم حق ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سببًا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ولكفِّ المسلمين أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا على أيدي سفهائكم". قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، وعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة، وإياها عني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "تقتل عمارا الفئة الباغية". وقوله في شأن الخوارج: "يخرجون على حين فرقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وقرأ الجمهور (¬2): {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بالتثنية؛ لأنّ أقلّ من يقع بينهما الشقاق اثنان، فإذا كان الإصلاح لازمًا بين اثنين .. فهو ألزم بين أكثر من اثنين، وقيل: المراد بالأخرين: الأوس والخزرج، وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن: بخلاف عنه، والجحدري وثابت البنانيّ وحماد بن سلمة، وابن سيرين: {بين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[11]

إخوانكم} جمعًا بالألف والنون، وقرأ الحسن أيضًا وابن عامر في روايةٍ، وزيد بن عليّ ويعقوب: {بين إخوتكم} جمعًا على وزن غلمة، وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث، قال أبو علي الفارسي في توجيه قراءة الجمهور: أراد بالأخوين: الطائفتين؛ لأنّ لفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة، وقال أبو عبيدة: أي: أصلحوا بين كل أخوين. 11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا يَسْخَرْ} والسخرية: أن يحقر الإنسان أخاه، ويستخفه، ويسقطه عن درجته، وبعده ممن لا يلتفت إليه؛ أي: لا يهستزىء {قَوْمٌ}؛ أي: منكم. وهو اسم جمع لرجل، وهو مختص بالرجال؛ لأنهم قوامون على النساء، ولهذا عبّر عن الإناث بما هو مشتق من النسوة بفتح النون، وهو ترك العمل، حيث قال: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}. ويؤيده قول زهير: وَمَا أدْرِيْ وَسوْفَ إِخَالُ أَدْرِيْ ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وقال الزمخشري: وهو في الأصل: جمع قائم، كصوم جمع صائم، وزور جمع زائر انتهى. وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله: إنّ ركبا جمع راكب. {مِنْ قَوْمٍ} آخرين أيضًا منكم، والتنكير إما للتعميم أو للتبعيض. والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض؛ لما أنّها مما يجري بين بعض وبعض. فإن قلت (¬1): المنهيّ عنه هو أن يسخر جماعة من جماعة، فيلزم أن لا يحرم سخرية واحد من واحد. قلت: اختيار الجمع ليس للاحتراز عن سخرية الواحد من الواحد، بل هو لبيان الواقع؛ لأنّ السخرية وإن كانت بين اثنين؛ إلا أنَّ الغالب أن تقع بمحضر جماعة يرضون بها، ويضحكون بسببها، بدل ما وجب عليهم من النهي والإنكار، ويكونون شركاء الساخر في تحمّل الوزر، ويكونون بمنزلة الساخرين حكمًا، فنهوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

عن ذلك؛ يعني: أنه من نسبة فعل البعض إلى الجمع لرضاهم به في الأغلب، أو لوجوده فيما بينهم. {عَسَى أَنْ يَكُونُوا} تعليل للنهي؛ أي: عسى أن يكون المسخور منهم {خَيْرًا} عند الله تعالى {مِنْهُمْ}؛ أي: من الساخرين، ولا خبر لـ {عَسَى} لإغناء الاسم عنه، ولمّا كان لفظ {قَوْمٌ} مختصًّا بالرجال؛ لأنهم القُوَّمُ على النساء .. أفرد النساء بالذكر، فقال: {وَلَا نِسَاءٌ}؛ أي: ولا تسخر نساء من المؤمنات، وهم اسم جمع لامرأة. {مِنْ نِسَاءٍ} منهنّ، وإنما لم يقل: امرأة من رجل، ولا بالعكس للإشعار بأنّ مجالسة الرجل المرأة مستقبح شرعًا، حتى منعوها عن حضور الجماعة، ومجلس الذكر؛ لأنّ الإنسان إنما يسخر ممن يلابسه غالبًا، وقيل: أفرد النساء بالذكر؛ لأنّ السخرية منهن أكثر. {عَسَى أَنْ يَكُنَّ}؛ أي: المسخور منهن {خَيْرًا} عند الله تعالى {مِنْهُنَّ}؛ أي: من الساخرات، فإنَّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبًا، بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترىء أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله، واستهانة من عظمه الله تعالى. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب .. لخشيت أن أحول كلبًا، وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنّه لا عبرة بظاهر الخلق، فلا تنظر إلى أحد بنظر الإزدراء، والاستهانة والاستخفاف والاستحقار؛ لأنّ في استحقار أخيك عجب نفسك مودع، كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام، فأعجبته نفسه، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، فلعن إلى الأبد لهذا المعنى، فمن حقر أخاه المسلم، وظنَّ أنه خير منه .. يكون إبليسَ وقته، وأخوه آدمَ وقته. وقرأ عبد الله وأبيٌّ (¬1): {عسوا أَنْ يَكُونُوا} و {عَسِيْنَ أن يكن}، فـ {عَسَى} ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

على هذه القراءة ناقصة، لها خبر، و {عَسَى} في الموضعين على قراءة الجمهور: تامّة لا خبر لها، وفيها لغتان: الإضمار لغة تميم، وتركه لغة الحجاز. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: ولا يعب (¬1) بعضكم بعضًا بقول أو إشارة على وجه الخفية، فإن المؤمنين كنفس واحدة، والأفراد المنتشرة بمنزلة أعضاء تلك النفس، فيكون ما يصيب واحدًا منهم كأنه يصيب الجميع، إذا اشتكى عضو واحد من شخص .. تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر، فمتى عاب مؤمنًا .. فكأنما عاب نفسه، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وفي قوله: {أَنْفُسَكُمْ}: تنبيه إلى أنَّ العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره؛ لأنّه كنفسه. وفي "التأويلات النجمية": إنما قال: {أَنْفُسَكُمْ} لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، إن عملوا شرًّا إلى أحد، فقد عملوا إلى أنفسهم، وإن عملوا خيرًا إلى أحد .. فقد عملوا إلى أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، انتهى. ويجوز أن يكون معنى الآية: ولا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما يستحق به اللمز .. فقد لمز نفسه؛ أي: تسبب للمز نفسه، وإلا فلا طعن باللسان لنفسه منه، فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب، وقال سعدي المفتي: ولا يبعد أن يكون (¬2) المعنى لا تلمزوا غيركم، فإنَّ ذلك يكون سببًا لأن يبحث الملموز عن عيوبكم فيلمزكم، فتكونوا لامزين أنفسكم، فالنظم حينئذٍ نظير ما ثبت في "الصحيحين" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". يقول الفقير: هو مسبوق في هذا المعنى، فإنَّ الإِمام الراغب قال في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

"المفردات": اللمز: الإغتياب، وتتبع المعايب؛ أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم، فتكونوا في حكم من لمز نفسه. انتهى. والمعنى: ولا تلمزوا الناس فيلمزوا أنفسكم؛ أي؛ لا تعيبوهم فيعيبوكم، وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يبصر أحدكم القذاة - ما يقع في العين والماء من تراب أو وسخ - في عين أخيه، ويدع الجذع في عينه". وقيل: من سعادة المرء: أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر: لَا تَكْشِفَنْ مِنْ مَسَاوِيْ النَّاسِ مَا سَتَرُوا ... فَيَهْتِكَ اللهُ سِتْرًا عَنْ مَسَاوِيْكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فَيْهِمْ إِذَا ذُكِرُوْا ... وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فَيْكَا وفي الحديث: "طوبى لمن يشغله عيبه عن عيوب الناس". ولا يدخل في الآية ذكر الفاسق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكروا الفاجر بما فيه، كي يحذره الناس". يقول الفقير: أشار التعليل في الحديث إلى أنّ ذكر الفاجر بما فيه من العيوب، إنما يصحّ بهذا الغرض الصحيح، وهو أن يحذر الناس منه، وإلا فالإمساك، مع أن في ذكره تلويث اللسان الطاهر؛ ولذا نقل عن بعض المشايخ: أنه لم يلعن الشيطان، إذ ليس فيه فائدة سوى اشتغال اللسان بما لا ينبغي، فإنّ العداوة له إنما هي بمخالفته، لا بلعنته فقط. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا تَلْمِزُوا} بكسر الميم، وقرأ الحسن، والأعرج وعبيد عن أبي عمرو: بضمها، وقال أبو عمرو هي عربية، وقال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان. اهـ. {وَلَا تَنَابَزُوا} وتدعوا أنفسكم {بِالْأَلْقَابِ} السيئة؛ أي: لا يدع بعضكم بعضًا باللقلب الذي يسوؤه ويكرهه، كأن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهوديُّ أو يا نصرانيُّ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب: أن يكون الرجل قد عمل السيئات، ثمّ تاب وراجع الحق، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فنهى الله تعالى أن يعبّر بما سلف من عمله، أما (¬1) الألقاب التي تكسب حمدًا ومدحًا، وتكون حقًا وصدقًا .. فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب، ولخالد: سيف الله، من (¬2) النبز بسكون الباء، مصدر نبزه بمعنى لقبه، والنبز بفتحها: اللقب مطلقًا؛ أي: حسنًا كان أو قبيحًا، ومنه قيل في الحديث: "قومٌ نبْزهم الرافضة"؛ أي: لقبهم، ثم خص في العرف باللقب القبيح، وهو ما يكره المدعو أن يدعى به، واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه العلم، من لفظ يدل على المدح، كزين العابدين، أو الذم كأنف الناقة، لمعنى فيه. والمعنى (¬3): ولا يدع بعضكم بعضًا بلقب السوء، قالوا: وليس من هذا قول المحدثين لسليمان الأعمش، وواصل الأحدب، ولعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونحوه مما تدعو إليه الضرورة، وليس قصد استخفاف، ولا أذى، وفيه إشارة إلى أنّ اللقب الحسن لا ينهى عنه، مثل: محيي الدين وشمس الدين، وبهاء الدين، وفي الحديث: "من حق المؤمن على أخيه: أن يسميه بأحب أسمائه إليه". {بِئْسَ} وقبح {الِاسْمُ} أي (¬4): التسمية لأخيك {الْفُسُوقُ}؛ أي: الدال على فسق الأخ وكفره، ونفاقه {بَعْدَ الْإِيمَانِ}؛ أي: بعدما آمن ذلك الأخ، وترك ذلك؛ أي: بئست التسمية الدالة على فسق المسمى بها، وكفره بعد إيمانه، كقولك للمؤمن: يا يهودي ويا نصرانيّ، ويا مجوسي بعدما أسلم، أو يا فاسق؛ ويا سارق، ويا شارب، ويا زاني بعدما تاب، نظرًا لما قبل إسلامه وتوبته. وقيل معناه (¬5): أنَّ من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز .. فهو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) تنوير المقباس. (¬5) الخازن.

فاسق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك، فتستحقوا اسم الفسوق، وقيل: المعنى: بئس الاسم واللقب هو اسم الفسوق، ولقب السوء حال كونه واقعًا بعد إيمان المقول له، وقيل: الاسم بمعنى الذكر المرتفع؛ لأنّه من السمو، يقال: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم؛ أي: ذكره، والفسوق هو المخصوص بالذمّ، وفي الكلام مضاف مقدر، وهو اسم الفسوق؛ أي: ذكره. والمعنى: بئس الذكر والقول للمؤمنين؛ أي: أن يذكروا ابالفسوق بعد دخولهم في الإيمان، واشتهارهم به، والمخصوص بالذم اسم الفسوق، وذكره بعد الإيمان، وقال ابن زيد: أي بئس أن يسمى الرجل كافرًا أو فاسقًا أو زانيًا بعد إسلامه وتوبته. وفي "التأويلات النجمية": بئس الاسم اسم يخرجهم من الإيمان، والمراد به: إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصًا، إذ روي: أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حيّي رضي الله عنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باكيةً، فقالت: إنَّ النساء يقلن لي - وفي رواية: قالت لي عائشة رضي الله عنها -: يا يهودية بنت يهوديين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هلا قلت: "إنَّ أبي هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمد - صلى الله عليه وسلم - ". أو الدلالة على أنَّ التنابز مطلقًا، لا بالكفر والفسوق خصوصًا فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح، فدخل فيه زيد اليهودي، وعمرو النصراني وبكر الكافر وخالد الفاسق، ونحو ذلك. والعجب من العرب، يقولون للمؤمنين من أهل الروم: نصارى! فهم داخلون في الذم، ولا ينفعهم الافتخار بالأنساب، فإنّ التفاضل بالتقوى، كما سيجيء. ونعم ما قيل: وَمَا يَنْفَعُ الأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ ... إِذَا كَانَتِ النَّفْس مِنْ بَاهِلَهْ وفي الفقه: لو قال رجل لصالح: يا فاسق، ويا ابن الفاسق، ويا فاجر، ويا خبيبث، وبا مخنث، ويا مجرم، ويا جيفة، ويا بليد، ويا ابن الخبيثة، ويا سارق، ويا زاني، ويا لص، ويا كافر، ويا زنديق، وهو بريء منه .. يعزر في

[12]

هذا كله. والخلاصة: بئس الاسم الفسوق مع الإيمان، وفي هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين، كما تقول: بئس الصبوة بعد الشيخوخة؛ أي: معها. {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} عمّا نهى الله عنه {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب، والظالم أعم من الفاسق، والفاسق أعم من الكافر. أو المعنى (¬1): ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه. وفيه (¬2) دلالة بينة على أنَّ الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمة، فلا بدّ من توبة نصوح من جميع القبائح والمعاصي، لا سيما ما ذكر في هذا المقام، ومن أصرّ .. أخذ سريعًا؛ لأنّ أقرب الأشياء سرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم. 12 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}؛ أي: كونوا على جانب منه، وابعدوا عنه ولا تقربوه، والظنّ هنا هو مجرد التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، فالمراد به: ظن السوء بأهل الخير والصلاح، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنّه، حتى يعلم أنه من أيّ القبيل، فإنّ من الظنّ ما يجب اتباعه، كالظنّ حيث لا قاطع فيه من العمليات، فإنّ أكثر الأحكام الشرعية مبنيّة على الظنّ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به، فارتفع عن الشك والتهمة وكحسن الظنّ بالله تعالى، وفي الحديث: "إنّ حسن الظنّ من الإيمان". ومن الظنّ ما يحرم: كالظنّ في الإلهيات؛ أي: بوجود الإله وذاته وصفاته، وما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

يليق به من الكمال، وفي النبوات، فمن قال: آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم آدم نبي أم لا .. يكفر، وكذا من آمن بأنَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول، ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة .. لا يكون مؤمنًا، وكالظن حيث يخالفه قاطع: كالظن بنبوة علي كرم الله وجهه أو بنبوة واحد من خلفاء هذه الأمة مع وجود قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نبيّ بعدي". فإنَّ مثل هذا الظنّ حرام، ولو قطع كان كفرًا، وكظنّ السوء بالمؤمنين، خصوصًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبورثته الكمَّل: كالعلماء بالله تعالى، قال تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله حرّم من المسلم: عرضه، ودمه، وأن يظنَّ به ظن السوء". ومن الظنّ ما يباح: كالظنّ في الأمور المعاشية، وفي "كشف الأسرار": ومن المباح: الظن في الصلاة، والصوم، والقبلة، أمر صاحبه بالتحريّ فيها، والبناء على غلبة الظن، فلا يدخل (¬1) في الظن المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإنَّ الله قد تعبَّد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كيادًا للدين، وشذوذًا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة، بل في أكثرها. والمعنى (¬2): أي يا أيّها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا، ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور: كمن يدخل أو يصاحب الغواني الفواجر .. فلا يحرم سوء الظنّ به، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أنَّ الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح. وجملة قوله (¬3): {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ أي: ذنب فيه عقوبة، تعليل لما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير، والإثم: هو ما يستحق الظانَّ به العقوبة، قال الزجاج: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا، فأمَّا أهل السوء والفسوق، فلنا أنّ نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم، قال مقاتل بن سلمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن، وأبداه .. أثم. قال سفيان الثوري: الظن ظنّان (¬1): أحدهما: إثم: وهو أن يظنّ ويتكلم به. والآخر: ليس بإثمٍ: وهو أن يظنّ ولا يتكلم به، وقيل: الظنُّ أنواع: واجبٌ ومأمورٌ به، وهو الظن الحسن بالله عَزَّ وَجَلَّ، ومنه: مندوب إليه، وهو الظنّ الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه: حرام محذور، وهو سوء الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ، وسوء الظن بالأخ المسلم. ودلت الآية على أنّ أكثر الظنون من قبيل الإثم؛ لأنّ الشيطان يلقي الظنون في النفس، فتظنّ النفس الظن الفاسد، ودلت أيضًا على أن بعض الظن ليس بإثم، بل هو حقيقة، وهو الذي لم يكن من قبيل النفس، بل كان بالفراسة الصحيحة بأن يرى القلب بنور اليقين ما جرى في الغيب فيظنه. اهـ من "الروح". ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن .. نهاهم عن التجسس، فقال: {وَلَا تَجَسَّسُوا}؛ أي: ولا تبحثوا أيها المؤمنون عن عورات المسلمين ومعايبهم، نهى الله سبحانه عن البحث عن المستور من أمور الناس، وتتبع عوراتهم، حتى لا يظهر على ستره الله منها. والمعنى (¬2): أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا، أو ذموا لا على ما لا تعلمون به من الخفايا. وفي "الصحيحين": عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام. وقرأ الجمهور: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بالجيم، وقرأ الحسن وأبو رجاء، وابن سيرين: {تحسسوا} بالحاء، وهما متقاربان؛ لأنَّ التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: (¬1) إن التجسس بالجيم: هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه، وقيل: إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولًا لغيره. قاله ثعلب، والتناجش: الشراء على شراء غيرك بالزيادة، والتدابر: الهجر والقطيعة. وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّ من اتبع عوراتهم .. يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته .. يفضحه في عقر بيته". وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن"، فقال رجل: وما يذهبن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حسدت .. فاستغفر الله، فإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت .. فامض". وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبيّن لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات ¬

_ (¬1) الشوكاني.

مرتفعة ولغطٌ، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أميّة بن خلف، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنَّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} وقد تجسسنا، فانصرف عمر، وتركهم. وقال أبو قلابة: حُدِّث عمر بن الخطاب: أنَّ أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إنَّ هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقيل لابن مسعود: هل لك في فلان تقطر لحيته خمرًا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء .. أخذنا به، وفي الحديث: "إنّ الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس .. أفسدهم". {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ أي (¬1): ولا يذكر بعضكم أيها المؤمنون بعضًا بما يكرهه في غيبته وخلفه، والمراد بالذكر: الذكر صريحًا، أو إشارةً، أو نحو ذلك مما يؤدّي مؤدَّى النطق لما في ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور، وتفريق شمل الجماعات، فهي النار تشتعل فلا تبقي ولا تذر، والمراد بما يكره: ما يكرهه في دينه أو دنياه، أو خلقه أو خلقه، أو ماله أو ولده أو زوجته، أو خادمه أو ملبسه، أو غير ذلك مما يتعلق به. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك، والبهتان، فأمّا الغيبة بالكسر، وفتح الغين غلط، كما سيأتي. فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأمّا البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، وهو الذي يترك الديار بلاقع، كما في حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح": أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره". فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال: "إن كان فيه ما تقول .. فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه .. فقد بهتّه". ¬

_ (¬1) المراغي.

ولا خلاف (¬1) بين العلماء في أنّ الغيبة من الكبائر، وأنّ على من اغتاب أحدًا التوبة إلى الله تعالى، أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه، وعن شعبة قال: قال لي معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع - مقطوع اليد - فقلت هذا أقطع .. كان غيبة، قال شعبة: نعم، فذكرته لأبي إسحاق، فقال: صدق. ثم ضرب سبحانه مثلًا للغيبة للتنفير والتحذير منها، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} أيها المؤمنون {أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} حال كون الأخ {مَيْتًا} وقرأ نافع: بتشديد الياء، وهو حال من اللحم أو من الأخ، والاستفهام للإنكار، فهو بمعنى النفي؛ أي: لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا {فـ} لو عرض عليكم لحمه {كَرِهْتُمُوهُ}؛ أي: كرهتم أكله، فكما تكرهون أكل لحمه ميتًا .. فاكرهوا أكل لحمه حيًا، وهو اغتيابه، وقرىء: {كَرِهْتُمُوهُ} بغير فاء؛ أي: جبلتم على كراهته، فـ {الفاء} فيه: عاطفة على منفيّ مقدر معلوم من الاستفهام الإنكاري، كما قدّرنا، وقيل: لفظه خبر، ومعناه: الأمر، ولذلك عطف عليه {وَاتَّقُوا اللَّهَ}. و {الفاء} حينئذٍ: فصيحية؛ أي: فإذا كرهتم أكل لحمه ميتًا .. فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر منكم من قبل. وقرأ الجمهور (¬2): {فَكَرِهْتُمُوهُ} بفتح الكاف وتخفيف الراء، وقرأ أبو سعيد الخدري وأبو حيوة: {فَكرَّهْتموه} بضم الكاف وتشديد الراء المكسورة، ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكره أبو حيان في "البحر". والمعنى: أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته، فإذا كنتم لا تحبون ذلك، بل تكرهونه؛ لأنَّ النفس تعافه .. فاكرهوا أن تغتابوه في حياته. والخلاصة: أنكم كما تكرهون ذلك طبعًا، فاكرهوا ذلك شرعًا، لما فيه من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

شديد العقوبة. وقد شبهت (¬1) الغيبة بأكل اللحم؛ لما فيها من تمزيق الأعراض، المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم، قال المقنع الكندي: فَإنْ أَكَلُوْا لَحْمِيْ وَفَرْتُ لُحُوْمَهُمْ ... وَإِنْ هَدَمُوْا مَجْدِيْ بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا وقد زادت الآية، فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرًا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعًا، وقد ثبت في "الصحيح" من غير وجه: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين خطب في حجة الوداع: "إنّ دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: معطوف على مقدر، كما مر؛ أي: فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به، ونهاكم عنه، وراقبوه، واخشوه حقَّ خشيته. ثم علَّل هذا بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {تَوَّابٌ} يتوب على من تاب إليه عمَّا فرط منه من الذنب. {رَحِيمٌ} به أن يعذّبه بعد توبته. وعبارة "الروح" هنا: قوله {فَكَرِهْتُمُوهُ} {الفاء} (¬2): لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل، كأنه قيل: وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه، فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء، فالمقصود من تحقيق استكراههم، وتقذّرهم من المشبه به: الترغيب، والحث على استكراه ما شبَّه به، وهو الغيبة، كأنه قيل: إذا تحققتم كراهتكم له .. فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب، وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميت من جهة أنّ الحيّ المغتاب لا يعلم بغيبة من اغتابه، كما أن الميت لا يعلم بأكل من أكل لحمه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} باجتناب ما نهيتم عنه، وهو معطوف على ما تقدم من الأوامر والنواهي. {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}؛ أي: مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث يجعل التائب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

كمن لم يذنب، ولا يخص ذلك بتائب دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبهم، فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات. انتهى. واعلم (¬1): أنّ الاغتياب كأكل لحم الآدميّ ميتًا، ولا يحل أكله إلا لمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعًا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهي عن اغتياب المؤمن دون الكافر، أما الفاسق، فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلمًا أو ثلم عرضه .. فهو كأكل لحمه حيًّا. ومن اغتابه .. فهو كآكل لحمه ميتًا؛ لأنَّ الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه. واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية أمورًا ثلاثًا مرتبة، فكأنّه تعالى قال: لا تقولوا في حقّ المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات .. فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئًا من غير تجسس .. فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم. ففي الأول نهى عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهى عن طلب علم عيب الناس، ثمّ نهى عن ذكر ما علم مثله، روي: أنّ رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يطلب منه لهما طعامًا، فقال له: انطلق إلى أسامة بن زيد، واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده، وكان أسامة خازن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رحله وطعامه، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة شيء ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئًا، فلمّا رجع .. قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سحيمة .. لغار ماؤها، وسحيمة بوزن جهينة بالحاء المهملة: بئر بالمدينة، غزيرة الماء، على ما في "القاموس". ثمّ انطلقا يتجسّسان، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطعام؟ فلمّا راحا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحمًا في يومنا هذا، فقال - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراح.

اغتبتما سلمان وأسامة، فنزلت هذه الآية. ويجب (¬1) على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها، ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزمًا مؤكّدًا على أن لا يعود إلى مثل ما فرط منه، ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعًا لا يتوصّل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور: الأول: التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث: الاستفتاء، فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فهل يجوز له ذلك؟ الرابع: تحذير المسلمين من الشرّ، كجرح الشهود والرواة، والمتصدين للإفتاء مع عدم أهليّتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج، أو مخالطة غيره في أمر دينيّ أو دنيوي، ويقتصر على ما يكفي، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين .. ذكر ذلك. الخامس: أن يجاهروا بالفسق، كالمدمنين على شرب الخمور، وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون. السادس: التعرف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش والأعرج والأعلم، ونحو ذلك، إذا لم تمكن المعرفة بغيره. والأمة مجمعة على قبح الغيبة، وعظم آثامها مع ولوع الناس بها، حتى إنّ بعضهم ليقولون: هي صابون القلوب، وإنّ لها حلاوةً كحلاوة التمر، وضرارةً كضرارة الخمر، وفي الحديث: "الغيبة أشدّ من الزنا" قالوا: وكيف؟ قال: "إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له، حتى يغفر ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

له صاحبه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس. وممّا يجب التنبيه عليه (¬1): أنّ مستمع الغيبة كقائلها، فوجب على من سمعها أن يردّها، كيف وقد قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من ردّ عن عرض أخيه .. ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة". وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المغتاب والمستمتع شريكان في الإثم". وفي الحديث: "خَمْسٌ يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة". رواه أنس. وأول من اغتاب إبليس، اغتاب آدم، وفي "المقاصد الحسنة": ثلاثة ليست لهم غيبة: الإِمام الجائر، والفاسق المعلن بفساقه، والمبتدع الذي يدعو إلى بدعته. انتهى. وعن الحسن: لا حرمة لفاجر. 13 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ يعني: بني آدم {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}؛ أي: من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فالكل سواء في الانتساب إلى ذكر وأنثى أيًّا كانا، فلا وجه للتفاخر بالنسب؛ أي: خلقناكم من ذكر واحد، وأنثى واحدة، فلا موضع للتفاخر بالإنساب؛ لأنّكم متساوون في الانتساب إليهما، قال إسحاق الموصلي: النَّاسُ فِيْ عَالَمِ التَّمْثِيْلِ أَكْفَاءُ ... أَبُوْهُمُ آدَمٌ وَالأُمُّ حَوَّاءُ فَإِنْ يَكُنْ لَهُمُوْ فِيْ أَصْلِهِمْ شَرَفٌ ... يُفَاخِرُوْنَ بِهِ فَالطِّيْنُ وَالْمَاءُ نزلت هذه الآية حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالًا رضي الله عنه ليؤذّن بعد فتح مكة، فعلا ظهر الكعبة، فأذّن، فقال عتَّاب بن أسيد، وكان من الطلقاء: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب الأسود مؤذنا: يعني: بلالًا، وقيل: نزلت في غير ذلك، كما مرّ. والمعنى: أي إنا أنشأنا جميعًا من آدم وحواء، فكيف يسخر بعضكم من ¬

_ (¬1) روح البيان.

بعض، ويلمز بعضكم بعضًا، وأنتم إخوة في النسب، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه، وروى الطبري قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال: "يا أيها الناس، ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: "فليبلغ الشاهد الغائب". وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم، ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح .. تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم". وفيه (¬1) إشارة إلى أنّ الكفاءة في الحقيقة إنما هي بالديانة؛ أي: الصلاح والحسب والتقوى والعدالة، ولو كان مبتدعًا، والمرأة سنيَّة .. لم يكن كفوءًا لها. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} جمع شعب بفتح الشين وسكون العين: وهو الجمع العظيم، المنتسبون إلى أصل واحد سموا شعوبًا؛ لتشعب القبائل منهم كتشعب أغصان الشجرة منها، وقيل لتشعبهم؛ أي: تجمعهم، وهي رؤوس القبائل، مثل: ربيعة ومضر، وأما الشعب بكسر الشين .. فهو الطريق في الجبل. {وَقَبَائِلَ}: جمع قبيلة، سميت بها؛ لأنها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد، وهي دون (¬2) الشعوب: كبكر من ربيعة وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدتها عمارة بفتح العين على الصحيح، كما في "القاموس". كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدتها بطن: وهم كبني غالب، ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدتها فخذ: وهم كبني هاشم، وبني أمية من لؤي، ودون الأفخاذ الفصائل، واحدتها فصيلة بالصاد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

المهملة: كبني العباس من بني هاشم، ثم بعد ذلك العشائر، واحدتها عشيرة، وليس بعد العشيرة شيء يوصف به، وكون الشعوب أعلى من القبائل هو ما عليه الجمهور، ويؤيده قول الشاعر: قَبَائِلُ مِنْ شُعُوْبٍ لَيْسَ فِيْهِمْ ... كَرِيْمٌ قَدْ يُعَدُّ وَلَا نَجِيْبُ وقيل: الشعوب للعجم، والقبائل للعرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقيل: الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل: العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم. و {اللام} في قوله: {لِتَعَارَفُوا} أي: ليعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده، لا للتفاخر بالأنساب متعلقة بـ {خَلَقْنَاكُمْ}؛ أي: خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا بحسب الأنساب، فلا يعزى أحد إلى غير آبائه، لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب، أو متعلقة بـ {جعلنا}؛ أي: رتبناكم كذلك لتعارفوا. وقرأ الجمهور (¬1): {لِتَعَارَفُوا}: مضارع تعارف، محذوف التاء، أصله: لتتعارفوا، فحذفت إحدى التاءين، وقرأ الأعمش: بتاءين، وقرأ مجاهد وابن كثير في رواية، وابن محيص والبزي: بتشديدها؛ أي: بإدغام التاء في التاء، وابن عباس وأبان عن عاصم: {لتعرفوا} مضارع عرف الثلاثيّ. وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: تعليل (¬2) للنهي عن التفاخر بالأنساب، المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقي، كأنه قيل: إنّ الأكرم عنده تعالى هو الأتقى، وإن كان عبدًا حبشيًا أسود، مثل: بلال رضي الله عنه فإن فاخرتم .. ففاخروا بالتقوى؛ أي: إنَّ الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عَزَّ وَجَلَّ في الآخرة والدنيا، هو الأتقى، فإن فاخرتم .. ففاخروا بالتقوى، فمن رام نيل الدرجات العلا في الدنيا والآخرة .. فعليه بها، فمن تلبس بها .. فهو المستحق؛ لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

بالأنساب، فإنّ ذلك لا يوجب كرمًا، ولا يثبت شرفًا، ولا يقتضي فضلًا. وقرأ الجمهور (¬1): {إنَّ} بكسر الهمزة، وقرأ ابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: {لتعرفوا} مضارع عرف، فاحتمل أن تكون {أنَّ}: معمولة لـ {تَعَارَفُوا} وتكون {اللام} في {لتعرفوا}: لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى، وأمَّا إن كانت لام كي .. فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبا وقبائل؛ لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى، فإن جعلت مفعول {لتعرفوا} محذوفًا؛ أي: لتعرفوا الحق؛ لأنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام {لِتَعَارَفُوا} أن تكون لام كي. قيل: أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور، وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة، وهو على راحتله، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: "أيها الناس، إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وتكبرها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى، إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ثم قال: "أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم". قوله: "عيبة الجاهلية"، يعني: كبرها وفخرها. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عَلِيمٌ} بكم وبأعمالكم {خَبِيرٌ} ببواطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم، وقال (¬2) ابن الشيخ في "حواشيه": والنسب وإن كان معتبرًا عرفًا وشرعًا، حتى لا تتزوج الشريفة بالنبطي - نسبة إلى نبط محركًا، جيل ينزلن بالبطائح بين العراقين - إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم منه قدرًا وأعز، وهو الإيمان والتقوى، كما لا يظهر الكواكب عند طلوع الشمس فالفاسق وإن كان قرشي النسب، وقارون النشب (¬3) .. لا قدر له عند المؤمن المتقي، وإن كان عبدًا حبشيًا، والأمور التي يفتخر بها في الدنيا، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) قارون النشب: مثل قارون في الغِنى.

[14]

وإن كانت كثيرةً، لكن النسب أعلاها، من حيث إنه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك، بخلاف غيره، كالمال مثلًا، فإنه قد يحصل للفقير مال، فيبطل افتخار المفتخر به عليه، وكذا، الأولاد والبساتين ونحوها؛ فلذلك خصَّ الله النسب بالذكر، وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى؛ ليعلم منه بطلان اعتبار غيره بطريق الأولى. انتهى. وسئل عيسى عليه السلام: أي الناس أشرف؟ فقبض قبضتين من تراب، ثم قال: أي هذين أشرف؟ ثم جمعهما وطرحهما، وقال: الناس كلهم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: أَبِيْ الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِيْ سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوْا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيْمِ 14 - ولما ذكر الله سبحانه أنَّ أكرم الناس عند الله أتقاهم له، وكان أصل التقوى الإيمان .. ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان؛ ليثبت لهم الشرف والفضل، فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} وهم أهل البادية بنو أسد، أظهروا الإِسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة، وإلحاق التاء بالفعل المسند إليهم مع خلوه عنها في قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} للدلالة على نقصان عقلهم، بخلافهنّ، حيث لُمن إمرأة العزيز في مراودتها فتاها، وذلك يليق بالعقلاء. {آمَنَّا}؛ أي: صدقنا بالله ورسوله، ونحن له مؤمنون، فرد الله عليهم مكذبًا لهم مع عدم التصريح بذلك، فقال: {قُل} يا محمد ردًّا عليهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا} أنتم، إذ الإيمان: هو التصديق بالله وبرسوله، المقارن لثقة بحقيقة المصدق، وطمأنينة القلب، ولم يحصل لكم ذلك، وإلا لما مننتم علي ما ذكرتم من الإِسلام، وترك المقاتلة، كما ينبىء عنه آخر السورة؛ يعني: أن التصديق الموصوف مسبوق بالعلم بقبح الكفر، وشناعة المقاتلة، وذلك يأبى المن وترك المقاتلة، فإنّ العاقل لا يمن بترك ما يعلم قبحه. {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}؛ أي: دخلنا في السلم والصلح والانقياد، مخافة على أنفسنا من القتل والسبي، أو للطمع في الصدقة، فإنَّ الإِسلام: انقياد، ودخول في السلم، وإظهار الشهادة، وترك المحاربة مشعر به؛ أي: بالانقياد والدخول المذكور، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} حال من ضمير {قُولُوا}؛ أي:

ولكن قولوا: أسلمنا، حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم، وما في {وَاْتَّقُواْ} من معنى التوقع، مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. فإن قلت (¬1): مقتضى نظم الكلام أن يقال: قل: لا تقولوا: آمنّا، ولكن قولوا: أسلمنا، أو قل: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلًا، فقيل: لم تؤمنوا مع أدب حسن، فلم يقل: كذبتم تصريحًا ووضع {لَمْ تُؤْمِنُوا} الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا} عن أن يقال: لا تقولوا: آمنّا؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤادّاه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل: ولكن أسلمتم؛ ليكون خارجًا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: {آمَنَّا}، كذلك لو قيل: ولكن أسلمتم .. لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به، وليس قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} تكريرًا لمعنى قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا}. فإنَّ فائدة قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا} تكذيب لدعواهم، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} توقيت لما أمروا به أن يقولوه، فكأنه قيل لهم: ولكن قولوا: أسلمنا، حيث لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قُولُوا} وما في {لمَّا} من معنى التوقع: قال على أنَّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. وحاصل الجواب: أنه تكرار، لكنه مستقل بفائدة زائدة؛ لأنّه علم من الأول نفي الإيمان عنهم، ومن الثاني نفيه مع توقع حصوله. اهـ "كرخي". وقال سعدي المفتي: والظاهر (¬2): أنَّ النظم القرآني من الاحتباك حذف من الأول ما يقابل الثاني، ومن الثاني ما يقابل الأول، والأصل: قل: لم تؤمنوا، فلا تقولوا: آمنَّا، ولكن أسلمتم، فقولوا: أسلمنا، وهذا من اختصارات القرآن الكريم. واعلم (¬3): أنّ الإِسلام: هو الدخول في السلم، وهو الانقياد والطاعة، فمن الإِسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان؛ لقوله ¬

_ (¬1) النسفيّ. (¬2) روح البيان. (¬3) الخازن.

لإبراهيم: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، ومنه: ما هو انقياد باللسان دون القلب، وذلك قوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وقيل: الإيمان: هو التصديق بالقلب مع الثقة، وطمأنينة النفس عليه، والإِسلام: هو الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربًا للمسلمين، مع إظهار الشهادتين. فإن قلت: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا القول؟ قلت: بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، والانقياد قد يحصل بالقلب، وقد يحصل باللسان، فالإِسلام أعمّ، والإيمان أخصّ، لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمرًا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فكذلك المؤمن والمسلم، قال الزجاج: الإِسلام: إظهار الخضوع، وقبول ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب .. فذلك هو الإيمان، وصاحبه المؤمن. اهـ. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلانية، وتخلصوا له في العمل، وتتركوا النفاق {لَا يَلِتْكُمْ}؛ أي: لا ينقصكم {مِن} أجور {أَعْمَالِكُمْ} وثوابها {شَيْئًا} من النقص، لا قليلًا ولا كثيرًا، بل يضاعف ذلك أضعافًا كثيرةً، من لات يليت ليتًا من باب باع: إذا نقص، قال الإِمام (¬1): معنى قوله: {لَا يَلِتْكُمْ}: إنكم إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة المقرونة بالإخلاص، وترك النفاق .. فهو تعالى يؤتكم بما يليق بفضله من الجزاء، لا ينقص منه نظرًا إلى ما في حسناتكم من النقصان والتقصير، وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهةً طيّبةً، يكون ثمنها في السوق درهمًا مثلًا، وأعطاه الملك درهمًا أو دينارًا .. انتسب الملك إلى قلة العطاء بل إلى البخل، فليس معنى الآية: أن يعطي من الجزاء مثل عملكم من غير نقص، بل المعنى: يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

ويؤيد ما قاله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين {رَحِيمٌ} بالتفضل عليهم، وعبارة المراغي: ولمّا كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد .. ذكر أنه غفور رحيم؛ أي: إنه ستار للهفوات، غفّار لزلّات من تاب وأناب وأخلص لربّه، رحيم به أن يعذّبه بعد التوبة، بل يزيد في إكرامه، ويصفح عن آثامه، انتهى. وهذا فتح لباب التوبة. وقرأ الجمور (¬1): {لَا يَلِتْكُمْ} من لاته يليته، كباعه يبيعه، وهي لغة الحجاز، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو: {لا يألتكم} بالهمز من ألته يألته، بالفتح في الماضي، وبالكسر في المضارع، وهي لغة غطفان وأسد، واختار أبو حاتم قراءة أبي عمرو؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. وعليها قول الشاعر: أَبْلِغْ بَنِىْ أَسَدٍ عَنِّيْ مُغلْغَلَةً ... جَهْرَ الرِّسَالَةِ لَا أَلْتَا وَلَا كَذِبًا واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجّاج: وَليْلَةٍ ذَاتِ نَدَى سَرَيْتُ ... وَلَمْ يَلِتْنِيْ عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ وهما لغتان فصيحتان. 15 - ثم لما ذكر سبحانه أنَّ أولئك الذين قالوا: آمنّا لم يؤمنوا، ولا دخل الإيمان في قلوبهم، بيَّن المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حق الإيمان، هم {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إيمانًا صحيحًا خالصًا، صادرًا عن مواطأة القلب واللسان. {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}؛ أي: لم يدخل قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شك من الشكوك، بل ثبتوا على حالة واحدة، ولم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدقوه، واعترفوا بأن الحق معه، و {ثُمَّ} للإشعار (¬2) بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط، بل وفيما يستقبل، فهي كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}. {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: في طاعته، ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان.

[16]

وابتغاء مرضاته على كثرة فنونها من العبادات البدنية المحضة، والمالية الصرفة، والمشتملة عليها معًا، كالحج والجهاد. {أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة {هُمُ الصَّادِقُونَ}؛ أي: الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم، فهو قصر إفراد، وتكذيب لأعراب بني أسد، حيث اعتقدوا الشركة، وزعموا أنهم صادقون أيضًا في دعوى الإيمان. أي: أولئك الجامعون بين الأمور المذكورة هم الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإِسلام بلسانه، وادّعى أنه مؤمن ولم يطمئّن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهم الأعراب الذين تقدم ذكرهم، وسائر أهل النفاق. 16 - ثم أمر الله سبحانه أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولًا آخر لمّا ادّعوا أنهم مؤمنون، فقال: {قُل} روي: أنه لما نزلت الآية السابقة .. جاء الأعراب، وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون، فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ}؛ أي: أتخبرون الله سبحانه، بدينكم الذي أنتم عليه بقولكم: آمنّا، والتعبير (¬1) عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم، ودخلت الباء؛ لأنَّ هذا التعليم بمعنى الإعلام والإخبار، والاستفهام فيه للتوبيخ والإنكار؛ أي: لا تعرفوا الله بدينكم، فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، وفيه إشارةٌ إلى أنّ التوقيف في الأمور الدينية معتبر واجب، وحقيقتها موكولة إلى الله، فالأسامي منه تؤخذ، والكلام منه يطلب، وأمره يتبع. أي: قل: أتخبرون (¬2) الله بما في ضمائركم، وما تنطوي عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم: آمنّا حقًا. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فلا يخفى عليه مثقال ذرّة فيهما، والجملة: حال من مفعول {أَتُعَلِّمُونَ}: مؤكدة لتشنيعهم. {اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وهذا (¬1) تذييل مقرّر لما قبله؛ أي: مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان، وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم، حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها؛ أي: والله بكل شيء عليم، فاحذروا (¬2) أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فتنالكم عقوبته، إذ لا يخفى عليه شيء، وقد علم ما تبطنونه من الكفر، وتظهرونه من الإِسلام لخوف الضراء، ورجاء النفع. وفي "التأويلات النجمية": والله يعلم ما في سموات القلوب من استعدادها في العبودية، وما في أرض النفوس من تمرّدها عن العبودية والله بكل شيء جبلت القلوب والنفوس عليه عليم؛ لأنه تعالى أودعه فيها عند تخمير طينة آدم بيده. انتهى. قال بعض الكبار: لا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولا تخبر أحدًا بذلك، فإنّ الله تعالى كل يوم هو في شأن في تغيير وتبديل يحول بين المرء وقلبه، فربّما أزالك عمّا أخبرت به، وعزلك عمّا تخيلت ثباته، فتخجل عند من أخبرته بذلك، بل احفظ ذلك، ولا تعلمه إلى غيرك؛ فإن كان الثبات والبقاء علمت أنّه موهبة من الله فلتشكر الله، ولتسأله التوفيق للشكر، وإن كان غير ذلك كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور وتيقظ وتأديب. انتهى. فظهر من هذا (¬3): أنّ الإنسان يخبر غالبًا بما ليس فيه، أو بما سيزول عنه، والعياذ بالله من سوء الحال، ودعوى الكمال، قال بعضهم: إيّاكم ثمّ إيّاكم والدعوات الصادقة والكاذبة، فإنّ الكاذبة تسوِّد الوجه، والصادقة تطفىء نور الإيمان أو تضعفه، وإياكم والقول بالمشاهدات، والنظر إلى الصور المستحسنات، فإنَّ هذا كله نفوس وشهوات، ومن أحدث في طريق التعبّد ما ليس فيها فليس هو منّا ولا فينا، فاتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا، وصدقوا الحق ولا تشكوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[17]

ولا تتفرقوا، وأسألوا ولا تساموا، وانتظروا ولا تيأسوا، وتواخوا ولا تعادوا، وأجتمعوا على الطاعة ولا تفرقوا، وتطهروا من الذنوب ولا تلطخوا، وليكن أحدكم بواب قلبه، فلا يدخل فيه إلا ما أمره الله به، وليحذر أحدكم ولا يركن؛ وليخف ولا يأمن، وليفتش ولا يغفل. 17 - {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا}؛ أي: يعدون إسلامهم منة عليك، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، والمنة: هي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابًا ممن أنعم عليه بها من المنّ بمعنى القطع؛ لأنَّ المقصود به: قطع حاجته مع قطع النظر أن يعوضه المحتاج بشيء؛ أي: يعدون إسلامهم، ومتابعتهم لك، ونصرتهم إياك منة يطلبون منك أجرها، فقد قالوا جئناك بالأثقال .. إلخ. ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدَّعونه من الإِسلام، فقال: {قُلْ} لهم يا محمد: {لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ}؛ أي: لا تعدوا إسلامكم منّة عليّ، أو لا تمنّوا على بإسلامكم، فنصبه بنزع الخافض، فإنّ الإِسلام هو المنّة التي لا يطلب موليها ثوابًا ممن أنعم بها عليه، ولهذا قال: {بَلِ اللَّهُ} سبحانه هو الذي {يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}؛ أي: أرشدكم إليه، وأراكم بتوفيقه على ما زعمتم من أنكم أرشدتم إليه، وجملة {أَنْ هَدَاكُمْ}: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: يمن عليكم هدايته إياكم، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: بهدايته إياكم. وقرأ الجمهور: {أَنْ هَدَاكُمْ} بفتح {أَن}، وقرأ عاصم: بكسرها، وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ: {إذ هداكم} جعلا إذ مكان {أَنْ} وكلاهما تعليل. انتهى من "البحر المحيط". {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في ادعاء الإيمان، وجوابه: محذوف، دلّ عليه ما قبله؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم .. فلله المنّة عليكم، وفي هذا ايماء إلى أنهم كاذبون في ادّعائهم الإيمان، وفي سياق النظم الكريم من اللطف ما لا يخفى؛ فإنهم لما سمّوا ما صدر عنهم إيمانًا، ومنّوا به نفي كونه إيمانًا، وسمّاه

[18]

إسلامًا، فقال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ} بما هو في الحقيقة إسلام؛ أي: دخول في السلم، وليس بجدير بالمنّ؛ لأنَّه ليس له اعتداد شرعًا، ولا يعد مثله نعمة، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان، فلله المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم، قال الجنيد رحمه الله: المنّ من العباد تقريع، وليس من الله تقريعًا، وإنما هو من الله تذكير النعم، وحثّ على شكر المنعم. روي: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم؟ " قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل. والخلاصة (¬1): أنّ الله سبحانه وتعالى سمّى ما كان منهم إسلامًا وخضوعًا، لا إيمانًا؛ إظهارًا لكذبهم في قولهم: {آمَنَّا}. ثمّ لما منّوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهم قال سبحانه لرسوله: أيعتدون عليك بما ليس جديرًا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانًا، وليس بذاك، بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا، فهو قد أمدهم بهديه وتوفيقه. 18 - ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: ما غاب فيهما عن العباد، وخفي عليهم علمه {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سرّكم وعلانتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟! قرأ الجمهور (¬2): {تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاب نظرًا لقوله: {لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ}، وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم: {يعملون} بياء الغيبة؛ نظرًا لقوله: {يَمُنُّونَ}. وفي ذلك رمز إلى أنهم كاذبون في إيمانهم، وإعلان للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأتباعه من المؤمنين بما في أنفسهم، فمن لاحظ (¬3) شيئًا من أعماله وأحواله .. فإن رآها من نفسه .. كان شركًا، وإن رآها لنفسه .. كان مكرًا، وإن رآها من ربّه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

بربّه لربّه .. كان توحيدًا، وفقنا الله لذلك بمنّه، وجوده وكرمه. قال البقليّ: ليس لله غيب، إذ الغيب شيء مستور، وجميع الغيوب عيان له تعالى، وكيف يغيب عنه وهو موجده، يبصره ببصره القديم، والعلم والبصر هناك واحد. انتهى. الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أيّ} منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات؛ أيّ: من الإضافة، وجملة النداء: مستأنفة. {الَّذِينَ}: بدل من {أيّ} أو عطف بيان له وجملة {آمَنُوا} صلته. {لَا}: ناهية جازمة. {لَا تُقَدِّمُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، والواو: فاعل، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وفي {تُقَدِّمُوا} وجهان: أحدهما: أنه متعدّ حذف مفعوله لقصد التعميم اقتصارًا، كقولهم: هو يعطي ويمنع، وكلوا واشربوا، أو اختصارًا للدلالة عليه؛ أيّ: لا تقدّموا ما لا يصلح تقديمه عليهما من الأقوال والأفعال. والثاني: أنه لازم، نحو: وجّه وتوجّه، كما مرّ، ويؤيّده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب {تقدّموا} بفتح التاء والقاف والدال. {بَيْنَ}: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {تقدّموا}. {يَدَيِ اللَّهِ}: مضاف إليه، مجرور بالياء؛ لأنّه مثنى، ولفظ الجلالة: مضاف إليه. {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على {لَا تُقَدِّمُوا} على كونه جواب النداء. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ}: ناصب واسمه وخبره. {عَلِيمٌ}: خبر ثان له، والجملة: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}.

{يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أيّ}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: بدل من {أي} وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، وجملة النداء: مستأنفة. {لَا تَرْفَعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {أَصْوَاتَكُمْ}: مفعول به، وجملة النهي، واقعة في جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَرْفَعُوا}، {وَلَا تَجْهَرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية معطوف على {لَا تَرْفَعُوا}. {لَهُ}: متعلق بـ {تَجْهَرُوا}. {بِالْقَوْلِ}: متعلق بـ {تَجْهَرُوا} أيضًا. {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ} {الكاف}: صفة لمصدر محذوف، تقديره؛ أي: لا تجهروا له جهرا كائنًا كجهر بعضكم، أو جهرًا مثل جهر بعضكم لبعض. و {لِبَعْضٍ}: متعلق بـ {جهر}؛ لأنّه مصدر. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ}: ناصب وفعل مضارع وفاعل، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: خشية حبوط أعمالكم، أو كراهية حبوطها، والخشية منهم، وقد تنازع فيه {لَا تَرْفَعُوا} {وَلَا تَجْهَرُوا}. {وَأَنْتُمْ} {الواو}: حالية. {أَنْتُمْ}: مبتدأ، وجملة {لَا تَشْعُرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب على الحال من الكاف في {أَعْمَالُكُمْ}. {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول. {عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَغُضُّونَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {الَّذِينَ}: خبره، والجملة الابتدائية: في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {لِلتَّقْوَى}: متعلق بـ {امْتَحَنَ}؛ لأنّه بمعنى: شرح أو أخلص أو صفّى. {لَهُمْ}: خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ}: مبتدأ مؤخر. {وَأَجْرٌ}: معطوف على {مَغْفِرَةٌ}. {عَظِيمٌ}: صفة {أَجْرٌ}، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.

{إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه. {يُنَادُونَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يُنَادُونَكَ}، {أَكْثَرُهُمْ}. مبتدأ، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ}: خبره، والجملة الإبتدائية: في محل الرفع خبر {إنَّ} وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {وَلَوْ} {الواو}: عاطفة، {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {صَبَرُوا} من الفعل والفاعل: في محل الرفع خبر {أَنَّ} وجملة {إنَّ}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، تقديره: ولو ثبت صبرهم على رأي المبرد والزجاج والكوفيين، أو مرفوع على أنه مبتدأ لا يحتاج إلى خبر؛ لأنّ الخبر يحذف وجوبًا بعد لو ولولا على رأي سيبويه، وجمهرة البصريين. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، متعلق بـ {صَبَرُوا}. {تَخْرُجَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى}. {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تَخْرُجَ}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}؛ أي: إلى خروجك إليهم؛ أي: ولو ثبت صبرهم إلى خروجك إليهم. {لَكَانَ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية. {كان}: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على المصدر المفهوم من {صَبَرُوا}؛ أي: لكان صبرهم. و {خَيْرًا}: خبرها. {لَهُمْ}: متعلق بـ {خَيْرًا} وجملة {كان}: جواب {لَوْ} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية: معطوفة على جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} أو مستأنفة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {غَفُورٌ}: خبر أول. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة: مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة. {ها}: حرف تنبيه. {الَّذِينَ}: بدل من {أيّ}، وجملة النداء: مستأنفة، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {إن}: حرف شرط جازم. {جَاءَكُمْ}: فعل ماض ومفعول به، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها. {فَاسِقٌ}: فاعل.

{بِنَبَإٍ}: متعلق بـ {جَاءَ}. {فَتَبَيَّنُوا} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا لكونه جملة طلبية. {تَبَيَّنُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {أَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {أَنْ} الشرطية: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {أَنَّ} حرف نصب. {تُصِيبُوا}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} المصدرية، والواو: فاعل. {قَوْمًا}: مفعول به. {بِجَهَالَةٍ}: حال من فاعل {تُصِيبُوا}؛ أي: حال كونكم متلبسين بجهالة أو جاهلين، وجملة {تُصِيبُوا}؛ مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على أنّه مفعول من أجله، ولكنّه على تقدير مضاف؛ أي: خشية إصابتكم أو كراهية إصابتكم. {فَتُصْبِحُوا} {الفاء}: عاطفة. {تُصْبِحُوا}: فعل ناقص واسمه. معطوف على {تُصِيبُوا}. {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ}: متعلق بـ {نَادِمِينَ}. و {نَادِمِينَ}: خبر {تصبحوا} منصوب بالياء. {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}. {وَاعْلَمُوا} {الواو}: استئنافية. {اعْلَمُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّ}: حرف نصب. {فِيكُمْ}: خبر مقدم؛ لـ {أَن}: {رَسُولَ اللَّهِ}: اسمها مؤخر، وجملة {أَن}: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {اعْلَمُوا}. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم. {يُطِيعُكُمْ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الرسول. {فِي كَثِيرٍ}: متعلق بـ {يُطِيعُكُمْ}. {مِنَ الْأَمْرِ}: صفة لكثير، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ {لَوْ} لا محل لها من الإعراب. {لَعَنِتُّمْ} {اللام}: رابطة لجواب {لَوْ} الشرطية. {عَنِتُّمْ}: فعل وفاعل، والجملة: جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية: في محل النصب حال من ضمير المخاطبين في قوله: {فِيكُمْ}؛ أي: حالة كونكم عانتين لو أطعاكم في كثير من الأمر. {وَلَكِنَّ اللَّهَ} {الواو}؛ عاطفة. {لكن الله}: ناصب واسمه. {حَبَّبَ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}. {إِلَيْكُمُ}: متعلق بـ

{حَبَّبَ}. {الْإِيمَانَ}: مفعول به، وجملة {حَبَّبَ}: في محل الرفع خبر {لَكِنَّ}، وجملة {لكن}: معطوفة على جملة {لَوْ} الشرطية. {وَزَيَّنَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {حَبَّبَ}. {فِي قُلُوبِكُمْ}: متعلق بـ {زَيَّنَ}. {وَكَرَّهَ}: فعل وفاعل مستتر معطوف على {حَبَّبَ}، {إِلَيْكُمُ}: متعلق بـ {كَرَّهَ}. {الْكُفْرَ}: مفعول به لـ {كَرَّهَ}. {وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}: معطوفان على {الْكُفْرَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الرَّاشِدُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: معترصة. {فَضْلًا}: مفعول لأجله لـ {حَبَّبَ}. {مِنَ اللَّهِ}: صفة لـ {فَضْلًا}. {وَنِعْمَةً}: معطوف على {فَضْلًا}، ويجوز أن تكون {فَضْلًا} {وَنِعْمَةً} مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: تبتغون فضلًا من الله ونعمة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {عَلِيمٌ}: خبر أول. {حَكِيمٌ}: خبر ثان، والجملة: مستأنفة. {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية. {إنْ}: حرف شرط. {طَائِفَتَانِ} فاعل بفعل محذوف وجوبا يفسّره المذكور بعده، تقديره: وإن اقتتلت طائفتان. اقتتلت: فعل ماض في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه غعل شرط لها. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} صفة لـ {طَائِفَتَانِ}. {اقْتَتَلُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مفسّرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. {فَأَصْلِحُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا. {أَصْلِحُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة: في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية: مستأنفة. {بَيْنَهُمَا}: ظرف متعلق بـ {أَصْلِحُوا}، {فَإِنْ}: {الفاء}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {بَغَتْ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبنيّ بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلّص من التقاء الساكنين، والتاء: علامة تأنيث الفاعل. {إِحْدَاهُمَا}: فاعل {بَغَتْ}. {عَلَى الْأُخْرَى}: متعلق بـ {بَغَتْ}. {فَقَاتِلُوا} {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا.

{قَاتِلُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو فاعل. {الَّتِي}: اسم موصول للمفردة المؤنثة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إِنْ} الشرطية؛ معطوفة على جملة قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ}. {تَبْغِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر صلة الموصول. {حَتَّى}: حوف جر وغاية. {تَفِيءَ}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة، وفاعله: ضمير يعود على الطائفة الباغية. {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تَفِيءَ} والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل صدر مجرور بـ {حَتَّى} تقديره: إلى فيئها إلى أمر الله الجار والمجرور: متعلق بـ {قَاتِلُوا}. {فَإِنْ} الفاء: عاطفة. {فَاءَتْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الباغية، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَأَصْلِحُوا} {الفاء}: رابطة الجواب. {أَصْلِحُوا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها. {بَيْنَهُمَا}: متعلق بـ {أَصْلِحُوا}، {بِالْعَدْلِ} متعلق بـ {أَصْلِحُوا} أيضًا، وجملة {إِن} الشرطية: معطوفة على جملة قوله: {فَإِنْ فَاءَتْ}. {وَأَقْسِطُوا}: فعل أمر وفاعل معطوف على {أصلحوا}، {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}: خبره، وجملة {إِنَّ}: جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}. {إِنَّمَا}: كافة ومكفوفة {الْمُؤْمِنُونَ}: مبتدأ. {إِخْوَةٌ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {أَصْلِحُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أخوّة المؤمنين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم من النصيحة .. فأقول: لكم أصلحوا. {أَصْلِحُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة: لحي محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}: ظرف متعلق بـ {أصلحوا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على {أَصْلِحُوا}، {لَعَلَّكُمْ}: ناصب واسمه وجمله {تُرْحَمُونَ}: خبره، وجملة {لَعَلَّ}: جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تقدَّم إعرابه مرارًا. {لَا}: ناهية جازمة. {يَسْخَرْ قَوْمٌ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {مِنْ قَوْمٍ}: متعلق بـ {يَسْخَرْ}، والجملة الفعلية، جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، وهي هنا تامَّة. {أَن}: حرف نصب. {يَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أَن} المصدرية، والواو: اسمها. {خَيْرًا}: خبرها. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {خَيْرًا}، وجملة {يَكُونُوا}: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ {عَسَى}، تقديره: عسى وحق كونهم خيرًا منهم، وجملة {عَسَى}: مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا} {الواو}؛ عاطفة. {لَا}: زائدة زيدت لتأكيد النهي السابق. {نِسَاءٌ}: معطوف على {قَوْمٍ}، {مِنْ نِسَاءٍ}، متعلق بـ {يَسْخَرْ}. {عَسَى}: فعل ماض تامّ. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَكُنَّ}: فعل مضارع ناقص في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، مبني بسكون على النون المدغمة في نون النسوة؛ لاتصاله بنون الإناث، ونون النسوة: اسمها، {خَيْرًا}: خبرها. {مِنْهُنَّ}: متعلق بـ {خَيْرًا}، وجملة {عَسَى}: مسوقة لتعليل النهي. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة. {لَا}، ناهية جازمة. {تَلْمِزُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، معطوف على جملة قوله: {لَا يَسْخَرْ}. {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول به. {وَلَا تَنَابَزُوا}: فعل وفاعل معطوف على قوله: {لَا يَسْخَرْ} أيضًا. {بِالْأَلْقَابِ}: متعلق بـ {تَنَابَزُوا}، {بِئْسَ}: فعل ماض جامد لإنشاء الذمّ، {الِاسْمُ}: فاعله، {الْفُسُوقُ}: هو المخصوص بالذمّ، وهو مبتدأ، خبره: الجملة قبله، ولك أن تعربه خبرًا لمبتدأ محذوف، وأن تجعله بدلًا من {الِاسْمُ}. و {بَعْدَ الْإِيمَانِ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {الِاسْمُ}، وجملة {بِئْسَ}: جملة

إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَمَن} {الواو}: عاطفة، أو استئنافية، {وَمَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. {لَمْ}: حرف جزم ونفي. {يَتُبْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}. وفاعله: ضمير يعود على {مَنْ}، والجملة: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: رابطة الجواب {أُولَئِكَ} مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الظَّالِمُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} مَنْ الشرطية: معطوفة على جملة {لَا يَسْخَرْ} على كونها جواب النداء أو مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تقدم إعرابه. {اجْتَنِبُوا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل. {كَثِيرًا}: مفعول به. {مِنَ الظَّنِّ} صفة لـ {كَثِيرًا}، والجملة الفعلية، جواب النداء. {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} ناصب واسمه. {إِثْمٌ}: خبره، وجملة {إنَّ}: جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا تَجَسَّسُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية، معطوف على {اجْتَنِبُوا}. {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {بَعْضًا}: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {اجْتَنِبُوا}. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ}: فعل وفاعل، والجملة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يَأْكُلَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {لَحْمَ أَخِيهِ}: مفعول به، ومضاف إليه. {مَيْتًا}: حال من الأخ أو من اللحم، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أكل لحم أخيه. {فَكَرِهْتُمُوهُ}: {الفاء}: عاطفة لجملة لو المحذوفة، على الجملة المفهومة من الاستفهام الإنكاري، تقديره: لا يحبّ أحدكم أكل لحم أخيه، فلو عرض عليكم .. كرهتموه، كما مر بسطه في مبحث

التفسير. {كَرِهْتُمُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والواو: لإشباع ضمة الميم، والجملة الفعلية: جواب للو المحذوفة، لا محل لها من الإعراب، أو هو خبر بمعنى الأمر على كونه جوابًا لشرط محذوف، تقديره: فإذا عرض عليكم .. فاكرهوه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة، أو معطوفة على جملة {كَرِهْتُمُوهُ} إذا كان خبرًا بمعنى الأمر. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {تَوَّابٌ}: خبره. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {إنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}. {يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء. {أيّ}: منادى نكرة مقصودة، {والهاء}: حرف تنبيه. {النَّاسُ}: بدل من {أيّ}، وجملة النداء: مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {خَلَقْنَاكُمْ}: خبره، وجملة {إنّ}: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {مِنْ ذَكَرٍ}: متعلق بـ {خَلَقْنَاكُمْ}. {وَأُنْثَى}: معطوف على {ذَكَرٍ}، {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا}: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على {خَلَقْنَاكُمْ}، {وَقَبَائِلَ}: معطوف على {شُعُوبًا}، {لِتَعَارَفُوا} {اللام}: حرف جرّ وتعليل. {تَعَارَفُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتعارف بعضكم بعضًا، الجار والمجرور: متعلق بـ {خَلَقْنَا}، أو بـ {جعلنا}. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ}: ناصب واسمه. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَكْرَمَكُمْ} {أَتْقَاكُمْ}: خبره، وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {عَلِيمٌ} خبره. {خَبِيرٌ}: خبر ثان له، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة. {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}. {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول. {قُل} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على

محمد، والجملة: مستأنفة. {لَمْ}: حرف جزم، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة: في محل النصب مقول {قُل}. {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة. {لَكِنْ}: حرف استدارك مهمل. {قُولُوا}: فعل أمر وفاعل، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة {لَمْ تُؤْمِنُوا}. {أَسْلَمْنَا}: فعل وفاعل، والجملة، في محل النصب مقول {قُولُوا}. {وَلَمَّا} {الواو}: حالية {لَمَّا}: حرف نفي وجزم. {يَدْخُلِ الْإِيمَانُ}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمَّا}، {فِي قُلُوبِكُمْ}: متعلق بـ {يَدْخُلِ}، والجملة: في محل النصب حال من ضمير {قُولُوا}؛ أي: ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم. {وَإِنْ} {الواو}: عاطفة. {إن}: حرف شرط. {تُطِيعُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} والشرطية، على كونه فعل شرط لها، ولفظ الجلالة {اللَّهَ}: مفعول به. {وَرَسُولَهُ} معطوف عليه. {لَا}: نافية. {يَلِتْكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ} ومفعول به مجزوم بـ {إن} الشرطية، على كونه جوابًا لها. {مِنْ أَعْمَالِكُمْ}: حال من {شَيْئًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. {شَيْئًا}: مفعول به، وجملة {إن} الشرطية: معطوفة على جملة قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا}، على كونها مقولًا لـ {قُل}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {غَفُورٌ}: خبره. {رَحِيمٌ}: خبر ثان، وجملة {إنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر. {الْمُؤْمِنُونَ}: مبتدأ، {الَّذِينَ}: خبره، والجملة: مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {آمَنُوا}، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة. {ثُمَّ}: حرف عطف للتراخي. {لَمْ}: حرف جزم. {يَرْتَابُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} معطوف على {آمَنُوا}. {وَجَاهَدُوا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {بِأَمْوَالِهِمْ}: متعلق بـ {جَاهَدُوا}، {وَأَنْفُسِهِمْ}: معطوف على {أَمْوَالِهِمْ}. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق

بـ {جَاهَدُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمُ}: ضمير فصل. {الصَّادِقُونَ} خبر، والجملة. مستأنفة. {قُل}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة، مستأنفة. {أَتُعَلِّمُونَ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخيّ. {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قُل}، {بِدِينِكُمْ}: متعلق بـ {تُعَلِّمُونَ}؛ لأنَّه بمعنى التعريف. {وَاللَّهُ} {الواو}: حالية. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة، الاسمية: في محل النصب حال من مفعول {تُعَلِّمُونَ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا}، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. و {عَلِيمٌ}، خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة مقرّرة لما قبلها. {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}. {يَمُنُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {يَمُنُّونَ}، {أَن} حرف نصب ومصدر. {أَسْلَمُوا}: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية، في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: يمنّون عليك بإسلامهم؛ أي: إسلامهم. {قُل}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. {لَا} {لَا}: ناهية جازمة. {تَمُنُّوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لَا} الناهية. {عَلَيَّ} متعلق بـ {تَمُنُّوا}، {إِسْلَامَكُمْ}: مفعول به أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قُل}. {بَلِ}: حرف عطف وإضراب. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {يَمُنُّ}: خبره. {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {يَمُنُّ}، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة {لَا تَمُنُّوا}. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {هَدَاكُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، ومفعول به في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، {لِلْإِيمَانِ} متعلق بـ {هَدَاكُمْ}، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية:

في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: بل الله يمنّ عليكم بهدايته إيّاكم للإيمان. {إن} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {صَادِقِينَ}: خبر {كان} وجواب {إِن} الشرطية: محذوف يدل عليه ما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين .. فهو المانُّ عليكم، وجملة {إن} الشرطية. مستأنفة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، وجملة {إن}: مستأنفة. {غَيْبَ السَّمَاوَاتِ}: مفعول به ومضاف إليه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بَصِيرٌ}: خبره، والجملة الابتدائية: معطوفة على جملة {إن}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {بَصِيرٌ}. ويحتمل كون {ما}: موصولة أو مصدرية، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: بالذي تعملونه، أو صلة لـ {ما} المصدرية، أي: بعملكم، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لَا تُقَدِّمُوا}؛ أي: لا تتقدموا، من قولهم: مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدم بين يدي الإِمام، وبين يدي الأب؛ أي: لا تعجل بالأمر دونه، وقيل: إنّ المراد: لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورُجّح هذا. {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}؛ أي: إذا كلمتموه، ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، والصوت: هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين، فإن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمى نفسًا، بفتح الفاء، وإن خرج بالإرادة، وعرض له تموج بتصادم الجسمين يسمى صوتًا، والصوت الاختياري الذي يكون للإنسان ضربان: ضرب باليد: كصوت العود، وما يجري مجراه، وضرب بالفم، فالذي بالفم ضربان: نطق وغيره، فغير النطق كصوت الناي، والنطق إما مفرد من الكلام، وإما مركب، كأحد الأنواع الثلاثة من الكلام.

{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} والجهر يقال: لظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر، نحو: رأيته جهارًا، أو حاسة السمع، نحو: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} في "المختار": حبط عمله بطل ثوابه، وبابه فهم، وحبوطًا أيضًا. اهـ. وحبط عمله كسمع وضرب حبطًا وحبوطًا: بطل عمله، وأحبطه الله: أبطله. كما في "القاموس"، وقال الراغب: أصل الحبط من الحبط: وهو أن تكثر الدابة من الكلأ، حتى تنتفخ بطنها، فلا يخرج منها شيء. {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} والشعور: العلم والفطنة، والشعر: العلم الدقيق. {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} أصله: يغضضون بوزن يفعلون، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الغين، فسكنت فأدغمت في الثانية، من الغضَّ: وهو النقصان من الطرف أو الصوت، وما في الإناء، يقال: غض طرفه: خفضه، وغض السقاء: نقص مما فيه، وغض الصوت خفضه. {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الامتحان، افتعال، من محنت الأديم محنًا: مددته حتى أوسعته، فمعنى امتحن قلوبهم للتقوى: وسَّعها، وشرحها للتقوى؛ اهـ "قرطبي". وفي "القاموس": محنه كمنعه اختبره كامتحنه، والاسم المحنة بالكسر. اهـ. وقيل معناه: أخلصها للتقوى، من امتحن الذهب: إذا أذابه، وميز إبريزه من خبثه، فهو من إطلاق المقيد، وهو إخلاص الذهب، وإرادة المطلق. اهـ. "روح". {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} أصله: ينادويونك، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلمّا سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الدال لمناسبة الواو. {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}؛ أي: من خارجها، سواء كان من خلفها أو من

قدامها، إذ إنها من المواراة: وهي الاستتار، فما استتر عنك .. فهو وراء خلفًا كان أو قدّامًا، فإذا رأيته .. لا يكون وراءك، ويرى بعض أهل اللغة: أنّ وراء من الأضداد، فتطلق تارةً على ما أمامك وأخرى على ما خلفك، والحجرات بضم الجيم وفتحها وتسكينها، واحدها حجرة: وهي القطعة من الأرض المحجورة؛ أي: الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، فهي فعلة بمعنى مفعولة: كما لغرفة، والقبضة. اهـ "بيضاوي". والمراد بها: حجرات نسائه - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تسعة، لكل منهنّ حجرة من جريد النخل، على أبوابها المسوخ من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة، يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكى الناس لذلك، وقال سعيد بن المسيب يومئذٍ: لوددت أنهم لو تركوها على حالها، لينشأ ناس من أهل المدينة، ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر فيها. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}؛ أي: ولو ثبت صبرهم وانتظارهم إلى خروجك إليهم .. لكان الصبر خيرًا لهم من الاستعجال، والصبر: هو حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. {فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الفاسق: هو الخارج عن حدود الشرع من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر: نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة، وبه يحصل علم أو غلبة ظنّ. {فَتَبَيَّنُوا} والتبين: طلب البيان والوضوح. {لَعَنِتُّمْ} والعنت محركة: الفساد والإثم والهلاك، ودخول المشقة على الإنسان. كما في "القاموس"، يقال: عنت فلان: إذا وقع في أمر يخاف منه التلف. كما في "المفردات". فهو من الباب الرابع مثل: طرب يطرب طربًا، ومعنى لعنتم؛ أي: لوقعتم في الجهد والهلاك.

{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، والتحبيب: إيقاع محبة الشيء في القلب. {وَكَرَّهَ} من التكريه، بمعنى التبغيض، والبغض ضدّ الحب، فالبغض: نفار التفس عن الشيء الذي ترغب عنه، والتكريه: إيقاع كراهة الشيء، وبغضه في القلب. {الْكُفْرَ}: تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها. {وَالْفُسُوقَ} الخروج عن الحدّ، كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة؛ أي؛ صلبت واشتدت. {هُمُ الرَّاشِدُونَ} والرشاد: إصابة الحق، واتباع الطريق السويّ. {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} مثنى طائفة، والطائفة من الناس: جماعة منهم، لكنّها دون الفرقة، ما دل عليه قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: طاوفتان؛ لأنّه من الطوف، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله في الإعلال. {اقْتَتَلُوا}: افتعال من القتل، وأصل القتل: إزهاق الروح عن الجسد بأيّ سبب كان. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}؛ أي: فكفوهما عن القتال بالنصحية، أو بالتهديد والتعذيب. {بَغَتْ}؛ أي: تعدت وجارت، أصله: بغي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة .. التقى ساكنان، فحذفت الألف، يقال: بغى عليه بغيًا: علا وظلم، وعدل عن الحق، واستطال. كما في "القاموس". وأصل البغي: طلب ما ليس بمستحق، فإنّ البغي الطلب. {حَتَّى تَفِيءَ}؛ أي: ترجع، فإن الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة، وفيه إعلال بالنقل، أصله: تفيىء بوزن تفعل، نقلت حركة الياء إلى الفاء، فسكنت إثر

كسرة فصارت حرف مدّ. {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وأمر الله: هو الصلح؛ لأنّه مأمور به في قوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. {فَاءَتْ} أصله: فيأ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} من الصلاح، والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح: جعل الشيء على تلك الحالة. {بِالْعَدْلِ}؛ أي: بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات، بحيث يكون الحكم عادلًا، حتى لا يؤدي النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى. {وَأَقْسِطُوا}؛ أي: واعدلوا في كل شأن من شؤونكم، وأصل الإقساط: إزالة القسي بالفتح: وهو الجور، والقاسط: الجائر، كما قال {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} والإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوة في الدين كالأخوة في النسب، وكأنَّ الإِسلام أب لهم، كما قال قائلهم: أَبِيْ الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِيْ سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوْا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيْمِ وأصل الأخ: المشارك لآخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما أو من الرضاع. {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ} السخرية: الاحتقار، وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال: سخر به، وسخر منه، ضحك به، ومنه، وهزىء به ومنه، والاسم: السخرية، والسخري بالضم والكسر، وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلط فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته، والقوم شاع إطلاقه على الرجال دون النساء، كما في الآية، وقول زهير: وَمَا أَدْرِيْ وَسَوْفَ إِخَالُ أَدّرِيْ ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءٌ والقوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء، قال تعالى: {الرِّجَالُ

قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النساء لحم على وضم، إلا ما ذبّ عنه الذابّون" والذابّون: هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور، جمع صائم وزائر، وسمع تسميته بالمصدر عن بعض العرب: إذا أكلت طعامًا أحببت نومًا، وأبغضت قومًا؛ أي: قيامًا، وقال بعضهم: القوم: الجماعة من الناس، والجمع أقوام وأقاوم وأقائم وأقاويم، وقوم الرجل: أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جدٍّ واحد. {عَسَى أَنْ يَكُونُوا} أصله: يكْونون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت بعد ضمّ، فصارت حرف مدّ، ثم حذفت نون الرفع لدخول أداة النصب. {وَلَا نِسَاءٌ} اسم جمع لامرأة من النسوة بالفتح: وهو الضعف، الهمزة فيه مبدلة من واوٍ لظهورها في نسوة. {عَسَى أَنْ يَكُنَّ} أصله: يكْونن بوزن يفعلن، النون الأولى لام الفعل، الثانية نون النسوة، أُدغمت النون الساكنة في المتحركة، ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبله فسكنت الواو، فالتقى ساكنان: الواو والنون المدغمة، فحذفت الواو لذلك، فوزنه يفلن. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: لا يعب بعضكم بعضًا بقول أو إشارة باليد أو بالعين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن .. فكأنما عاب نفسه، من اللمز: وهو الطعن، والضرب باللسان، وفي "المصباح": لمزه لمزًا من باب ضرب: عابه، وقرأ بها السبعة، ومن باب قتل لغة. {وَلَا تَنَابَزُوا} والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، من النبز بسكون الباء مصدر نبزه بمعنى لقبه، وأصل تنابزوا: تتنابزوا بتائين، حذفت إحداهما. وفي "السمين": التنابز تفاعل من النبز: وهو التداعي باللقب، والنزب مقلوب منه لقلة هذا وكثرة ذاك، ويقال: تنابزوا وتنازبوا: إذا دعا بعضهم بعضًا بلقب سوء. اهـ.

{بِئْسَ الِاسْمُ} والاسم: الذكر، والصيت من قولهم: طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم، وليس المراد بالاسم هنا: ما يقابل اللقب والكنية، ولا ما يقابل الفعل والحرف، بل المراد به: الذكر المرتفع؛ لأنّه من السمو. اهـ "كرخي". {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أصله: يتْوب بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى التاء فسكنت فالتقى ساكنان؛ لأن آخر الفعل ساكن لمناسبة دخول الجازم، فحذفت الواو لذلك فوزنه يفل. {وَلَا تَجَسَّسُوا} أصله: تتجسسوا، حذفت نون الرفع للجازم، ثم حذفت إحدى التائين للتخفيف، من التجسس: وهو البحث عن العورات والمعايب والكشف عمّا ستره الناس، تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب، فإن جس الخبر: طلبه، والتفحص عنه، فإذا نقل إلى باب التفعل .. يحدث معنى التكلف منضمًا إلى ما فيه من معنى الطلب، يقال: جسست الأخبار؛ أي: تفحصت عنها، وإذا تجسستها يراد به معنى التكلف كالتلمس، فإنه تفعل من اللمس: وهو المسّ باليد لتعرف حال الشيء، وفي "المفردات": أصل الجس: مس العرق، وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، ومن لفظ الجس اشتق الجاسوس، وهو أخص من الحس؛ لأنَّه تعرف ما يدرك الحس، والجس: تعرف حال ما من ذلك، وفي "الإحياء": التجسس بالجيم في: تطلع الأخبار، وبالحاء المهملة: في المراقبة بالعين، وفي "القاموس": الجس: تفحص الأخبار كالتجسس، ومنه الجاسوس، والجسيس لصاحب سر الشر، ولا تجسسوا؛ أي: خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله تعالى، أو لا تفحصوا عن بواطن الأمور، أو لا تبحثوا عن العورات، والحاسوس: هو الجاسوس أو في الخير، وبالجيم في الشر. انتهى. {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أصله: يغتيب، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثمّ حذفت لالتقاء الساكنين، من الاغتياب، والغيبة بالكسر: اسم من الاغتياب، وفتح الغين غلط، إذ هو بفتحها مصدر بمعنى الغيبوبة، والغيبة والاغتياب: هو أن يتكلم إنسان خلف إنسان مستورٍ بما فيه من عيب، كما تقدم. {وَقَبَائِلَ} جمع قبيلة، والهمزة فيه مبدلة من ياء فعيلة المجودة في اسم

مؤنث، وهي حرف مدّ زائد ثالث. {شُعُوبًا} جمع شعب بفتح الشين: وهو أعلى طبقات النسب، كما مرّ، وسميت الشعوب؛ لأنَّ القبائل تشعبت منها، ومنه: اشتقت الشعوبية بضم الشين: وهم قوم يصغرون شأن العرب، سموا بذلك؛ لتعلّقهم بظاهر قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}. وقال ابن هبيرة: في "المحكم": غلبت الشعوبية بلفظ الجمع على جيلٍ من العجم، حتى قيل لمحتقر أمر العرب: شعوبيٌّ، وإن لم يكن منهم، وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد، كقولهم؛ أنصاريّ. {لِتَعَارَفُوا} أصله: تتعارفوا، حذفت منه إحدى التائين. {أَتْقَاكُمْ} اسم تفضيل من الفعل الثلاثي وقى، والتاء فيه: مبدلة من واو، والألف فيه مبدلة من واو المبدلة من الياء في الأصل؛ لأنّ مادّة وفي فاؤها واو، ولامها ياء، أُبدلت الواو تاءً، والياء واوًا. {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} هم سكان البادية. {لَا يَلِتْكُمْ}؛ أي: لا ينقصكم، من لاته يليته، كباعه يبيعه، وقيل هو من ولته يلته، كوعده يعده، وعلى هذا فيه إعلال بحذف فاء الفعل المثاليّ، أصله: ولت، وقياس المضارع يولت، حذفت الواو لوقوعها بين ياءٍ مفتوحة وكسرة. {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} من ارتاب مطاوع رابه: إذا أوقعه في الشكّ في الخير مع التهمة للمخبر، فظهر الفرق بين الريب والشك، فإنَّ الشك تردد بين نقيضين لا تهمة فيه، أصله: يرتيبون بوزن يفتعلون، حذفت نون الرفع لدخول أداة الجزم، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ}؛ أي: يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة، أصله: يمننون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: {تَمُنُّوا} وفي {يَمُنُّ}. وقوله: {هَدَاكُمْ} فيه إعلال بالقلب، أصله: هديكم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} شبه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينيّة، قبل أن يحكم الله ورسوله به بحال من يتقدم في المشي في الطريق مثلًا لوقاحته على من يجب أن يتأخَّر عنه، ويقفو أثره تعظيمًا له، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن المشبه بها على طريق الاستعارة التمثيلية. ومنها: التشبيه المرسل المجمل، في قوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لوجود أداة التشبيه. ومنها: حذف مفعول {تُقَدِّمُوا}. كقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. وقولهم: هو يعطي ويمنع، وفي الحذف من البلاغة ما ليس في الذكر؛ لأنّ الخيال فيه يذهب كل مذهب. ومنها: التكرير في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنَّ في تكريره فائدة بلاغية لطيفة: وهي إظهار الشفقة على المسترشد، وإبداء المناصحة له على آكد وجه؛ ليقبل على استماع الكلام، ويعيره باله، ولتحديد المخاطبين بالذات، وأنهم هم المعنيون بالمناصحة. وفيه أيضًا: استدعاء لتجديد الاستبصار والتيقظ، والتنبه عند كل خطاب. ومنها: الكناية في قوله: {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} فإنه كناية من موضع خلوته - صلى الله عليه وسلم -. ومقيله مع بعض نسائه، وقد ازدادت الكناية بإيقاع الحجرات معرفة بالألف واللام، دون الإضافة إليه، وفي ذلك من حسن الأدب ما لا يخفى. ومنها: التنكير في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} للدلالة على عظمهما. ومنها: التنكير في قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} لإفادة الشمول والعموم؛ لأنّ النكرة إذا وقعت في سياق الشرط .. عمّت، كما تعمّ إذا وقعت في سياق النفي،

وفي هذا التنكير ردّ على من زعم أنها نزلت في الوليد بن عقبة، وهو من كبار الصحابة؛ لأنّ إطلاق الفسوق عليه بعيد، ذلك أنّ القسوق هو الخروج من الشيء والانسلاخ منه، والوليد كما يذكرون ظنّ فأخطأ، والمخطىء كما قاله الرازي: لا يسمَّى فاسقًا، فالعموم هنا هو المراد، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ فمّحصوه، وابحثوا عنه، واعرضوه على محك التصويب والتخطئة قبل البتّ في الحكم، ولا تستعجلوا الأمور. ومنها: الإتيان بصيغة الأمر في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} دلالة على أنهم نزّلوا منزلة الجاهلين لمكانه؛ لتفريطهم فيما يجب من تعظيم شأنه. ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} ولم يقل: لو أطاعكم لإفادة الديمومة والاستمرار على أن يعمل ما يرونه صوابًا. ومنها: الطباق بين {حَبَّبَ} {وَكَرَّهَ}، وبين الإيمان والكفر في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ}. ومنها: أيضًا صيغة المضارع في قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} للدلالة على أنّ امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعنّ لهم من الأمور. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} بعد قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ}. ومنها: الطباق بين: {اقْتَتَلُوا} و {أَصْلِحُوا} في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. ومنها: مراعاة المعنى، حيث قال: {اقْتَتَلُوا} بواو الجمع؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس، والقياس؛ اقتتلتا بالتثنية، ثمّ مراعاة اللفظ، حيث قال: {بَيْنَهُمَا} بألف التثنية. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أصل الكلام: إنما المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه،

فأصبح بليغًا مع إفادة الجملة الحصر؛ أي: فالآية من التشبيه البليغ المبتنى على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب. ومنها: وضع الظاهر مقام المضمر، مضافًا إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح، والتحضيض عليه؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينهم. ومنها: تخصيص الاثنين بالذكر، في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه. ومنها: جناس الاشتقاق، في قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. ومنها: الإتيان بالجمع في قوله: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} حيث لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة؛ إيذانًا بإقدام غير واحد من رجالهم، وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهّي ويستضحك، على قوله: ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار، فيكون شريك الساخر، وتلْوه في تحمّل الوزر، وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه، فيؤدّي ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة، وانقلاب الواحد جماعة وقومًا. ومنها: تنكير {قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} و {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} إمّا للتعميم أو للتبعيض، والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض. ومنها: عطف الخاص على العامل في، قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ لأنّه داخل في السخرية، بجعل الخاصّ كأنه جنس آخر للمبالغة، ولهذا قيل: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئِامٌ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ فالسخرية تكون باللسان وبالعين والإشارة، واللمز إنّما يكون باللسان فقط. ومنها: التنكير في قوله: {كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} إيذانًا بأنّ من الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيّن لذلك، ولا تعيين؛ لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد تأمّل، وبعد نظر وتمحيص.

ومنها: الاستعارة التمثيلية الرائعة، في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} فقد شبَّه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتًا. وفيها مبالغات شتّى: أوّلها: الاستفهام الذي معناه التقرير، كأنه أمر مفروغ منه، مبتوت فيه. وثانيها: جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة. وثالثها: إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأنّ أحدًا من الأحدين لا يحبّ ذلك. ورابعها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعله أكره اللحوم، وأبعثها على التقزز. وخامسها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتًا، ومن ثم فَصُحَتْ هذه الآية، وأكبرها أصحاب البيان. ومنها: طباق السلب في قوله: {آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}. ومنها: الاحتباك في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}؛ لأنّه حذف من الأول ما يقابل الثاني، ومن الثاني ما يقابل الأول، والأصل: فإن لم تؤمنوا .. فلا تقولوا: آمنّا, ولكن أسلمتم، فقولوا أسلمنا، كما مر. ومنها: الإتيان بـ: {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} للإشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان, ليس في حال إنشائه فقط، بل وفيما يستقبل، فهي كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}. ومنها: قصر إفراد وتكذيب، في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}؛ لأن فيه تكذيبًا لأعراب بني أسد، حيث اعتقدوا الشركة، وزعموا أنهم صادقون أيضًا في دعوى الإيمان. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ}. ومنها: تذييل مقرر لما قبله بقوله. {وَاللَّهُ} في: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛

لأنّه تقرير لقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. وفيه أيضًا: مزيد تجهيل وتوبيخ لهم، حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها. ومنها: في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ...} الآية. فن سماه صاحب "الصناعتين" الاستدراك، وغيره يسميه الاستثناء، هو يتضمن ضربًا من المحاسن زائدًا على ما يدل عليه المدلول اللغويّ، فإن الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك .. لكان منفّرا لهم؛ لأنّهم ظنّوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانًا، فأوجبت البلاغة تبيين الإيمان, فاستدرك ما استدركه من الكلام، ليعلم أنّ الإيمان موافقة القلب للسان، ولأنّ انفراد اللسان بذلك يسمّى إسلامًا لا إيمانًا، وزاده إيضاحًا بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. وبعضهم يدخل هذا النوع في نطاق فنّ يقال له: جمع المختلفة والمؤتلفة، فإنّهم ظنّوا أنّ الإيمان العمل باللسان ودن العمل بالجنان، فجاء قوله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} مؤتلفًا لقولهم: {آمَنَّا} وهم يعتقدون أنّ الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وخالف ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} وائتلف به قوله مبيّنًا حقيقة الإيمان, وأنه خلاف ما ظنّوا: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) فرغت من تفسير هذه السورة الكريمة، تمام الساعة الرابعة من يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر الربيع الأول المبارك، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة، من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات، 25/ 3/ 1415 وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين، آمين يا ربّ العالمين آمين.

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة مباحث هذه السورة قسمان: قسم: بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأمته. وقسم: يخصّ أمّته، وهو: إما ترك للرذائل، وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول: 1 - أن لا يقضي المؤمنون في أمر قبل أن يقضي الله ورسوله فيه. 2 - الهيبة والإجلال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا تتجاوز أصواتهم صوته. 3 - أن لا يخاطبوه باسمه وكنيته. كما يخاطب بعضهم بعضًا، بل يخاطبونه بالنبيّ والرسول. 4 - أنّ الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون. 5 - أنّ من نادوه من وراء الحجرات: كعيينة بن حصن، ومن معه أكثرهم لا يعقلون. 6 - ذمّ المنّ على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان. والقسم الثاني هو: 1 - أن لا نسمع كلام الفاسق، حتى نثبّت منه، وتظهر الحقيقة. 2 - إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى .. وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. 3 - حبب الصلح بين المؤمنين. 4 - النهي عن السخرية واللمز والتنابز. 5 - النهي عن سوء الظنّ بالمسلم، وعن تتبع العورات المستورة، وعن الغيبة والنميمة.

6 - الناس جميعًا سواسية، مخلوقون من ذكر وأنثى، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى. والله أعلم * * *

سورة ق

سورة ق سورة ق مكّية كلّها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، نزلت بعد المرسلات، وروي عن ابن عباس وقتادة: أنها مكية، إلا آية، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} فمدنية، وهي أوّل المفصل على الصحيح، وقيل: أوّله من الحجرات، كما هي عند الشافعية. وهي خمس وأربعون آيةً، وثلاث مئة وسبع وخمسون كلمةً، وألف وأربع مئة وأربعة وتسعون حرفًا، وسمّيت سورة ق؛ لبدايتها بحرف ق. الناسخ والمنسوخ: قال محمد بن حزم: وجميعها محكم، إلا آيتين. إحداهما: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ...} (الآية 39)، نسخ الصبر بآية السيف. الثانية: قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (45 الآية)، نسخ بآية السيف. مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه أشار في آخر السورة السابقة إلى أنّ إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانًا حقًّا، وذلك يقتضي إنكار النبوّة، وإنكار البعث، وافتتح هذه السورة بما يتعلّق بذلك، وعبارة أبي حيان (¬2): مناسبتها لآخر ما قبلها: أنه تعالى أخبر أنّ أولئك الذين قالوا: آمنا لم يكن إيمانهم حقًّا، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}. وعدم الإيمان أيضًا يدل على إنكار البعث؛ فلذلك أعقبه به. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه مسلم وغيره عن جابر بن سمرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سورة ق في الركعة الأولى من صلاة الفجر. ومنها: ما أخرجه أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي عن أبي واقد الليثي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت. ومنها: ما أخرجه أبو داود، والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر، إذا خطب الناس وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها في المجامع الكبيرة: كالعيدين والجمع؛ لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، وروي (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من قرأ سورة ق .. هوَّن الله عليه ثأرات الموت، وسكراته". والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) االبيضاوي.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}. المناسبة قد قدّمنا آنفًا بيان مناسبة أوّل هذه السورة لآخر السابقة، وأما قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أنهم استبعدوا البعث، فقالوا: رجع ¬

_ (¬1) المراغي.

بعيد .. أردف ذلك بالدليل الذي يدحض كلامهم، فإنَّ من خلق السماء، وزينها بالكواكب، وبسط الأرض، وجعل فيها رواسي، وأنبت فيها صنوف النبات، وجعل ذلك تذكرةً وتبصرةً لأولي الألباب، ونزّل من السماء ماءً فأنبت به ناضر الجنان، والزرع المختلف الأصناف والألوان، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقًا لعباده، وأحيا به الأرض الموات، أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم، وبعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا، وينشئهم خلقًا آخر في حياة أخرى، وعالم غير هذا العالم؟ قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر تكذيب المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - .. أردف ذلك بذكر المكذبين للرسل من قبله، وبيان ما آل إليه أمرهم، تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعبرة لهم، وتنبيهًا إلى أنَّ حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل، كُذبوا، فصبروا، فأهلك الله مكذبيهم، ونصرهم، وأعلى كلمتهم، كما قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}. وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}. ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذّبت رسلها، بأنّ من خلق العالم بادىء ذي بدءٍ .. فهو على إعادته أقدر. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما استدلَّ على إمكان البعث بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} .. أردف ذلك دليلًا آخر على إمكانه، وهو علمه بما في صدورهم، وعدم خفاء شيء من أمرهم عليه، فإنَّ من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرةً أخرى. ثم أخبر بانهم سيعلمون بعد الموت أنّ ما جاء به الدين حقّ لا شكّ فيه، وأنه يوم القيامة تأتي كل نفس ومعها ملكان: أحدهما: سائق لها إلى المحشر.

[1]

والثاني: شهيد عليها، وأنّ الخزنة سيقولون لأهل النار لقد كنتم في غفلة عن حلول هذا اليوم الذي تُوفّي فيه كل نفس جزاء ما عملت، والآن أزلنا عنكم هذه الغفلة، فأبصرتم عاقبة أمركم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {ق}؛ أي: (¬1) هذه سورة ق؛ أي: مسماة بـ {ق}، واختلف في معنى {ق} ما هو؟ فقال يزيد وعكرمة والضحاك: هو اسم جبلٍ محيطٍ بالأرض، من زمردة خضراء اخضرت السماء منه، والسماء مقببة عليه، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل، رواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال الفرّاء: كان يجب على هذا القول أن يظهر الإعراب في {ق}؛ لأنّه اسمٌ، وكذا على القول الأول. وقال وهب (¬2): أشرف ذو القرنين على جبل ق، فرأى تحته جبالًا صغارًا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، ما من مدينة من المدن، ولا قرية من القرى، إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله سبحانه أن يزلزل مدينة .. أمرني، فحركت عرقي ذلك، فتزلزل تلك المدينة، فقال: يا قاف، أخبرني بشيءٍ من عظمة الله تعالى، قال: إنَّ شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضًا مسيرة خمس مئة عام في خمس مئة عام من جبال ثلج بعضها يحطم بعضًا، لولا هي .. لاحترقت من حرّ جهنّم، فهذا يدل على أنّ جهنّم على وجه الأرض، والله أعلم بموضعها، وأين هي من الأرض، وقال الزجّاج: معنى قوله: {ق}؛ أي: قُضِيَ الأمر، كما قيل: في حم؛ أي: حم الأمر، وقال ابن عباس أيضًا: إنه اسم من أسماء الله تعالى، أقسم به، وعنه أيضًا: أنه اسم من أسماء القرآن، وهو قول قتادة، وقال القرطبي: هو افتتاح أسماء الله عزّ وجل، مثل: القادر والقدير والقديم والقاهر والقهار والقريب والقابض والقدوس والقيّوم؛ أي: أنا القادر إلخ، وقيل: قَسَمٌ أقسم الله به؛ أي: بحق القائم بالقسط، وقال الشعبي: فاتحة السورة، وقال أبو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[2]

بكر الورّاق: معناه قف عند أمرنا ونهينا، ولا تعدهما، وقيل: غير ذلك مما هو أضعف منه. والحق: أنه من المتشابه الذي استأثر الله سبحانه بعلمه، كما حقّقنا ذلك في فاتحة سورة البقرة. وقرأ الجمهور: {ق} بسكون الفاء، وبفتحها عيسى، وبكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمّال، وبالضم هارون وابن السميقع والحسن أيضًا فيما نقل ابن خالويه، والأصل في حروف المعجم إذا لم تركب مع عامل: أن تكون موقوفةً، فمن فتح القاف .. عدل إلى أخفّ الحركات، ومن كسرها .. فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم .. فكما ضم قط ومنذ وحيث وقبل وبعد وحسب. وقوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}؛ أي: الشريف الكريم على الله، الكثير الخير والبركة، أو ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب: كلابن وتامر، {الواو} فيه: للقسم إن قلنا: إنّ {ق} من المتشابه الذي لا نعلم معناه، وهو الأصحّ. والمعنى: أقسمت بالقرآن المجيد، وإن قلنا: إنّ {ق} قسم أقسم به سبحانه وتعالى، فالواو فيه: عاطفة على ما قبله. والمعنى: أقسمت بـ {ق} وبـ {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}. 2 - واختلفوا في جواب القَسَم (¬1)، فقال الأخفش: إنه محذوف، تقديره: أقسمت بالقرآن المجيد، إنك يا محمد لنبيّ منذر؛ أي؛ مخوّف من عذاب الله تعالى، وقال الكوفيّون: جوابه قوله: {بَلْ عَجِبُوا} وقال ابن كيسان: جوابه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ}، وقيل: هو {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ} بتقدير اللام؛ أي: لقد علمنا، وقيل: هو محذوف، تقديره: والقران المجيد، إنا أنزلناه إليك لتنذر به الناس، وقيل: هو محذوف، تقديره: لتبعثّن يدلّ عليه قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا ¬

_ (¬1) الشوكاني.

مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}. وقوله: {بَلْ عَجِبُوا} إضراب عن الجواب المحذوف على اختلاف الأقوال، وقوله: {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} في موضع نصب على تقدير مِن؛ أي: (¬1) بل عجيب كفّار مكة، ومتعنّتوهم من أن جاءهم رسول منذر من عذاب الله من جنسهم، لا من جنس الملك، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إنهم شكّوا فيه، ولم يكتفوا بالشكّ والتردّد، بل جزموا بالخلاف، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقال بعضهم: جواب القسم محذوف، ودليل ذلك قوله: {بَلْ}؛ لأنّه لنفي ما قبله، فدلّ على نفي مضمر، تقديره: أقسم بجبل قاف الذي به بقاء دنياكم، وبالقرآن الذي به بقاء دينكم ما كذّبوك ببرهان، ولا بمعرفةٍ بكذبك بل عجبوا، إلخ. والعجب: نظر النفس لأمر خارج عن العادة. ثمّ فسّر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} فهو تفسير لتعجّبهم، وبيان لكونه مقارنًا لغاية الإنكار، وهذا إشارة إلى كونه - صلى الله عليه وسلم - منذرًا بالقرآن. وحاصله: كون النذير منّا خصص بالرسالة من دوننا، وكون ما أنذر به هو البعث بعد موت كل شيء, بليغ في الخروج عن العادة إشكاله، وهو من فرط جهلهم؛ لأنهم عجبوا أن يكون الرسول بشرًا، وأوجبوا أن يكون الإله حجرًا، وأنكروا البعث مع أنّ أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه، وإحياء الأرض بعد موتها، وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك. ثمّ إنّ (¬2) إضمار الكافرين أوّلًا في قوله: {بَلْ عَجِبُوا}؛ للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم من المقال، وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة .. انصرف إليهم إذ لا يصدر إلا عنهم، فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم، وإظهارهم ثانيًا بقوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[3]

والمعنى: يقول الله سبحانه (¬1): أقسم بكتابي الكثير الخير والبركة، إنّك أيها الرسول جئتهم منذرًا بالبعث فلم يقبلوا, ولم يكتفوا بالشك في أمرك، وردّ رسالتك، بل جزموا بنفيها، وجعلوها من عجائب الأمور التي تستحق الدهشة، وتثير التأمّل والاعتبار، فقال المكذبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم: هذا شيء عجيب؛ أي: إنّ مجيء رجل منّا برسالة من الله إلينا أمر عجيب، هلا أنزل إلينا ملكًا، فيكون لنا نذيرًا، كما حكى عنهم من قولهم: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} وقوله حكاية عنهم: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}. 3 - وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته، أظهروا استبعاد ما جاء به، فقالوا: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}؛ أي: أنرجع ونبعث حين فارقت أَرواحنا أجسامنا، وصرنا ترابًا كما يقول النذير؛ أي: لا نرجع ولا نبعث. {ذَلِكَ} البعث والرجوع بعد الموت لـ {رَجْعٌ بَعِيدٌ} عن الأوهام، لا يصدّقه العقل، وتحيله العادة. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: بكسر ميم {مِتْنَا}، والباقون: {مُتْنَا} بالضم، وقرأ الجمهور (¬2): {أَإِذَا} بهمزة الاستفهام الإنكاري، وهو على تفصيلهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثّاب والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر: {إِذا} بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهامًا، حذفت منه الهمزة كقراءة الجمهور، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر، وأضمر جواب إذا؛ أي: إذا متنا وكنا ترابًا .. رجعنا، وهمزة الاستفهام على قراءة الجمهور: داخلة على محذوف، دلّ عليه ما بعده، وهو العام في الظرف؛ أي: أنبعث ونرجع إذا متنا، وصرنا ترابًا لا فرق بينتا وبين تراب الأرض، كما يقول النذير، والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذٍ؛ أي: لا نرجع ولا نبعث. {ذَلِكَ} المرجع والبعث {رَجْعٌ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي بتصرف. (¬2) البحر المحيط.

[4]

ردّ إلى الحياة، وإلى ما كنّا عليه. {بَعِيدٌ} جدًّا عن الأوهام، أو عن العادة، أو عن الإمكان أو عن الصدق غير كائن؛ لأنه لا يمكن تمييز ترابنا عن بقية التراب. 4 - ثم ردّ سبحانه ما قالوه، فقال: {قَدْ عَلِمْنَا} نحن {مَا تَنْقُصُ} وتأكل {الْأَرْضُ مِنْهُمْ}؛ أي: من أجسادهم، فلا يضلّ عنّا شيء من ذلك، ومن أحاط علمه بكل شيء، حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور، لا يصعب عليه البعث، ولا يستبعد منه، وهذا (¬1) رد لاستبعادهم، وإزاحة له؛ أي: نحن على ذلك في غاية القدرة، فإنّ من عمّ علمه ولطفه، حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم .. كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! وعبّر بمن في قوله: {مِنْهُمْ}؛ لأنّ الأرض لا تأكل عجيب الذنب، فإنه كالبذر لأجسام بني آدم، وفي الحديث: "كل ابن آدم يبلى إلا عجيب الذنب، فمنه خلق وفيه يركب". والعجب بفتح العين وسكون الجيم: أصل الذنب، ومؤخر كل شيء، وهو هاهنا عظم لا جوف له، قدر ذرة أو خردلة، يبقى من البدن ولا يبلى، فإذا أراد الله سبحانه الإعادة. ركّب على ذلك العظم سائر البدن وأحياه؛ أي: غيْر أبدان الأنبياء والصديقين والشهداء، فإنها لا تبلى، ولا تتفسخ إلى يوم القيامة، على ما نصت به الأخبار الصحيحة. والأصح في كيفية الإعاة (¬2)، كما دلّ عليه الخبر الصحيح: أنّ السماء تمطر مطرًا شبه المنيّ، فينشأ منه النشأة الآخرة، كما أنّ النشأة الدنيا من نقطة تنزل من بحر الحياة إلى أصلاب الآباء، ومنها إلى أرحام الأمّهات، فيتكون من قطر بحر الحياة تلك النقطة جسد في الرحم. والخلاصة (¬3): أي قد علمنا تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، ولا يخفى علينا أين تفرّقت الأبدان، وأين ذهبت، وإلى أين صارت، فلا يصعب البعث ولا يستبعد. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[5]

ثم أكد علمه بجميع الأشياء، فقال: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}؛ أي: وعندنا كتاب حافظ، ضابط لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، وهذا إما تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعًا علمًا كاملًا بعلم من عنده كتاب حفيظ، يتلقّى منه كل شيء، فيضبط ما يعلم أتم الضبط، ويحصيه أكمل الإحصاء، أو تأكيد لعلمه بها، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده. 5 - ثمّ حكى عنهم ما هو أفظع من تعجّبهم، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات من أوّل وهلة بلا تدبّر ولا تفكر، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} وهذا إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم بالنبوّة الثابتة بالمعجزات الباهرة، فالأفظعيّة لكون الثاني تكذيبًا للأمر الثابت من غير تدبّر، بخلاف الأول، فإنه تعجّب؛ أي: بل كذّبوا بالحق الذي جاءهم، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو القرآن. {لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: حين جاءهم الحق من غير تأمّل وتفكر تقليدا للآباء، وبعد التأمل تمردًّا وعنادًا، وجاء بكلمة التوقع إشعارًا بأنّهم علموا بعد علو شأنه، وإعجازه الشاهد على حقيقته، فكذّبوا به بغيًا وحسدًا. وقرأ الجمهور: {لَمَّا جَاءَهُمْ} بفتح اللام وتشديد الميم، وقرأ الجحدري: بكسر اللام وتخفيف الميم، فاللام حرف جرٍ وما مصدرية، واللام كهي في قولهم: كتبته لخمس خلون من كذا؛ أي: عند مجيئه إياهم. ذكره في "البحر". {فَهُمْ}؛ أي: كفار مكة {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}؛ أي: في أمر مختلط مضطرب عليهم، من مرج الخاتم في إصبعه: إذا اضطرب عليها من سعته بسبب الهزال؛ أي (¬1): في أمر مضطرب لا قرار له، من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم، فلا يهتدون إلى الحق، ولذا يقولون تارةً: إنه شاعر، وتارةً ساحر، وأخرى كاهن، ومرّة مفترٍ، لا يثبتون على شيء واحد، وهذا اضطرابهم في شأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صريحًا، ويتضمن ذلك اضطرابهم في شأن القرآن أيضًا، فإنّ نسبتهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

إياه إلى الشعر ونحوه إنما هي بسببه. واعلم: أنّ الاضطراب موجب للاختلاف، وذلك أدلّ دليل على البطلان، كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق، وذلك أدل دليل على الحقِّية، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم، وكذا قال قتادة، وزاد: والتبس عليهم دينهم، وعن عليّ رضي الله عنه قال له يهودي: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم، فقال: إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر، حتى قلتم لنبيكم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والمعنى: أي بل كذبوا (¬1) بالنبوّة التي قامت الأدلة على صدقها، وأيدتها المعجزات الباهرة، وهم إذا كذّبوا بها .. فقد كذّبوا بما أنبأ الرسول من البعث وغيره، ولا شك أنّ هذا الإنكار أعظم جرمًا، وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين الله سبحانه وبين من يصطفيه من خلقه من ذوي النفوس الصافية، وأرباب الأرواح العالية. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي: فهم في قلقٍ واضطرابٍ، فتارة ينفون الرسالة عن البشر، وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة، كما ينبىء بهذا قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. وثالثة يقولون: إنها سحر أو كهانة، إذ قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم، التي تدل على اضطراب في الأمر، وقلق في الفكر، فهم لا يدرون ماذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضَّ مضاجعهم، وجعلهم حيارى دهشين، إلام هم صائرون، وإلى أي منقلبٍ ينقلبون. 6 - و {الهمزة} في قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا}: للاستفهام (¬2) التوبيخيّ: داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة ذلك المحذوف، والتقدير: أغفلوا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث {إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} بحيث يشاهدونها كل وقت؛ أي: فلم ينظروا إلى آثار قدرة الله في خلق العالم، وإيجاده من العدم إلى الوجود، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

و {فَوْقَهُمْ}: ظرف لـ {يَنْظُرُوا}، أو حال من {السَّمَاءِ}؛ أي: كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم. {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}؛ أي: كيف رفعناها، وجعلناها على هذه الصفة، مرفوعة كالخيمة بغير عمد تعتمد عليه. {وَزَيَّنَّاهَا} بما جعلنا فيها من الكواكب المرتبة على نظام بديع. {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}؛ أي: فتوق وشقوق، وصدوع لملاستها وسلامتها من كل عيب وخلل، كما قال: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} وهذا (¬1) لا ينفي وجود الأبواب والمصاعد فيها، فإنها ليست من قبيل العيب والخلل، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل، والفروج: جمع فرج، وهو: الشق بين الشيثين كفرجة الحائط، كما سيأتي في مبحث المفردات. والمعنى: أي (¬2) أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى إلى السماء فوقهم، كيف رفعناها بلا عمد، وزيّنّاها بالكواكب، وما لها من فتوق، فهي ملساء متلاصقة الطباق، وهذا هو الرأي الحديث في عالم السموات، إذ يقولون: إنّ هناك عالمًا لطيفًا أرقَّ من الهواء، وألطف من كل ما نراه، وهو مبدأ كل شيء، وأول كل شيء، وهو العالم المسمى بالأثير، وهذا العالم وإن لم يره الناس، فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا، فإنَّ من الكواكب ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة، ونور الشمس التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها, لو أمكن في نحو خمس وستين وثلاث مئة سنة، يصل إلينا في مدة ثمان دقائق وثماني عشرة ثانية، فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج يسير النور إلى مليون سنةٍ ونصف مليون، ألا يدل هذا على أنّ ذلك الضوء محمول على شيء موجود، وهو الأثير، فلو أنَّ طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير .. لانقطع سير النور إلى الأرض ولم نره، وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} فلو كان هناك فروج تتخلل السموات .. لانقطع سير النور إلينا، وآراء الجهلة في كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى، وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء، فجاء الكتاب الكريم، وعكس هذه القضية، وقال: لا فروج في السماء؛ أي: لا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[7]

خلاء في العالم، وفي المقام خلاف طويل لا مستند له. 7 - {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}؛ أي (¬1): بسطناها، وفرشناها على وجه الماء مسيرة خمس مئة عام من تحت الكعبة، وهذا دليل على أنّ الأرض مبسوطة، وليست على شكل الكرة، كما في "كشف الأسرار"، وفيه أنه لا منافاة بين بساطتها وكرويتها، كما عرف في محله. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت أرسيت بها الأرض، إذ لو لم تكن .. لكانت مضطربةً مائلةً إلى الجهات المختلفة، كما كانت قبل، إذ روي: أنّ الله لمّا خلق الأرض .. جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة مم خلقت، من رسا الشيء إذا ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف؛ للإيذان بأنّ إلقاءها لإرساء الأرض بها. {وَأَنْبَتْنَا}؛ أي: وأخرجنا {فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}؛ أي: من كل صنف، وقوله في آية أخرى: {أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}؛ أي: أنواعًا متشابهة. {بَهِيجٍ}؛ أي: حسنٍ طيب من الثمار والنباتات والأشجار، كما قال في موضع آخر: {ذَاتَ بَهْجَةٍ}؛ أي: يبتهج به؛ أي: يسر، والبهجة: حسن اللون، وظهور السرور فيه. والمعنى (¬2): أي والأرض بسطناها، وألقينا فيها جبالًا ثوابت، لئلا تميد وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره، وراق مخبره. 8 - وقوله: {تَبْصِرَةً}؛ أي: تعليمًا منّا، وتفهيمًا لكل عبد منيب كيفية الاستدلال على قدرتنا. {وَذِكْرَى}؛ أي: تذكرة منّا، وعظة لكل عبد منيب، مفعولان لأجله لبنيناها وما بعده، وقوله: {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}؛ أي: راجع إلى الله بالتوبة، متدبر في بديع صنعه، وعجائب مخلوقاته، متعلق بكل من المصدرين؛ أي: فعلنا البناء والتزيين، وما بعدهما تعليمًا منّا، وعظةً لكل عبد منيب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وفي "الخطيب": تنبيه: قال الرازي: يحتمل (¬1) أن يكون المصدران عائدين إلى السماء والأرض؛ أي: خلقنا السماء تبصرة، وخلقنا الأرض ذكرى، ويدلّ على ذلك أنّ السماء وزينتها غير متجددة في كل عام، فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان، وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفتها فتذكِّر، فالسماء تبصرة، والأرض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من المصدرين موجودًا في كل واحد من الأمرين، فالسماء تبصرة وتذكرة، والأرض كذلك، والفرق بين التذكرة والتبصرة: هو أنّ فيهما آياتٍ مستمرّة منصوبةً في مقابلة البصائر، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي، وقال الزجاج: منصوبان بفعل مقدر؛ أي: فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير، وقال أبو حاتم: انتصبا على المصدرية؛ أي: جعلنا ذلك تبصرةً وذكرى، وفي سياق (¬2) هذه الآيات تذكير لمنكري البعث، وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة، وبيان لإمكان ذلك، وعدم امتناعه، فإن القادر على مثل هذه الأمور، يقدر عليه، وهكذا قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...} إلخ. وفي قوله: {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}: إشارة (¬3) إلى أنّ الوصول إلى مقام التبصرة والذكرى إنما هو بالعبودية، والإنابة التي هي مبنى الشريعة وأساسها، وقال بعضهم: التبصرة، معرفة منن الله عليه، والذكرى عدّها على نفسه في كل حال ليشتغل بالشكر فيما عومل به عن النظر إلى شيء من معاملته. وقرأ الجمهور (¬4): {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} بالنصب، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما؛ أي: بصر وذكر، وقرأ زيد بن عليّ {تبصرة} بالرفع، و {ذكرى} معطوف عليه؛ أي: ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة. والمعنى: يتبصر بذلك، ويتذكر كل عبد منيب؛ أي: راجع إلى ربه، مفكر في بدائع صنعه. والمعنى: فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادّكاره فإنّ رفْعنا السماء وتزيينها بالكواكب؛ فلاستبصاره، وإنّ بسْطنا الأرض وإرساء الجبال وإنبات النبات؛ ¬

_ (¬1) تفسير الرازي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[9]

فلاعتباره. 9 - {وَنَزَّلْنَا} عبر بصيغة التفعيل لإفادة التكرير {مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} أي: نزلنا من السماء ماء كثير البركة والخير لانتفاع الناس به في غالب أمورهم؛ أي: أنزلنا ماءً كثير المنافع حياة الأناسي والدواب والأرض الميتة، وفي "كشف الأسرار": مطرًا يثبت في أجزاء الأرض، فينبع طول السنة. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ}؛ أي: أخرجنا بذلك الماء {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين كثيرة؛ أي: أشجارًا ذوات ثمار، فذكر المحل وأراد الحال، قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ}، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}؛ أي: وحبَّ الزرع المحصود، فهو (¬1) من حذف الموصوف وإقامة صفته على ما هو المختار عند البصريين، كباب الجامع؛ أي: المسجد الجامع، لئلّا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه، وأصل الحصد: قطع الزرع، والحصيد بمعنى المحصود، وهو هنا مجاز باعتبار الأول. والمعنى: وحبّ الزرع الذي شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، مما يقتات به، وتخصيص إنبات حبه بالذكر؛ لأنه المقصود بالذات. 10 - {وَالنَّخْلَ} معطوف على {جَنَّاتٍ} وتخصيصها بالذكر، مع اندارجها في الجنات؛ لبيان فضلها على سائر الأشجار، وقد سبق بعض أوصافها في سورة يس، وتوسيط الحبّ بينهما؛ لتأكيد استقلالها، وامتيازها عن البقية، مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وقوله: {بَاسِقَاتٍ}؛ أي: طوالًا في السماء عجيبة الخلق، حال مقدّرة من {النخل}. فإنها وقت الإنبات لم تكن طوالًا، من بسقت الشجرة سوقًا إذا طالت، ويجوز أن يكون معنى {بَاسِقَاتٍ}: حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت، فيكون من باب أفعل، فهو فاعل. وجملة قوله: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}؛ أي: منضود متراكم بعضه فوق بعض، حال مقدرة من النخل أيضًا، والمراد: (¬2) تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[11]

وذلك قبل أن ينفتح، فهو نضيد في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه. فليس بنضيد، والطلع: شيء يخرج من النخل، كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، والطرف محدد، أو هو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها، وقشره يسمى الكفرة بضم الكاف والفاء معا، وتشديد الراء، وما في داخله الإغريض؛ لبياضه، كما في "القاموس". 11 - وقوله: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} علة لقوله: {فَأَنْبَتْنَا}؛ أي: فأنبتنا هذه الأشياء لرزقهم، أو منصوب بفعله المحذوف؛ أي: رزقناهم رزقًا، والأول أولى وأوضح، وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة، والتذكرة، تنبيه على أنَّ الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم، وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق. والمقصود من الآية الأولى: هو الاستدلال على القدرة بأعظم الأجرام، كما دل عليه النظر، وذكر الإنبات فيها بطريق التبع، فناسب التعليل بالتبصرة والتذكير، ومن الثانية بيان الانتفاع بمنافع تلك الأجرام، فناسب التعليل بالرزق، ولذا أخرت عن الأولى, لأنَّ منافع الشيء مترتبة على خلقه، قال أبو عبيدة: نخل الجنة نضيد ما بين أصلها إلى فرعها، بخلاف نخل الدنيا، فإن ثمارها في رؤوسها، كلما نزعت رطبة عادت ألين من الزبد، وأحلى من العسل، فنخل الدنيا تذكير لنخل الجنة، وفي كل منهما رزق للعباد، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. والمعنى (¬1): ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع، إذ أنبتنا به جنات غناء، وحدائق فيحاء، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير، والقمح وغيرهما، وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود، متراكم بعضه فوق بعض، لأقوات العباد وأرزاقهم، ولم يقيد العباد هنا بالإنابة كما قيد به في قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}؛ لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق ¬

_ (¬1) المراغي.

[12]

يعمّ كل أحد، غير أنّ المنيب يأكل ذاكرًا وشاكرًا للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، ولذلك لم يخصص الرزق بقيد. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ}؛ أي: بذلك الماء {بَلْدَةً مَيْتًا} تذكير {مَيْتًا} باعتبار البلد والمكان؛ أي: أرضًا جدبة لا نماء فيها أصلًا، بأن جعلناها بحيث ربت، وأنبتت أنواع النبات والأزهار، فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة. وقرأ الجمهور: {مَيْتًا} (¬1) بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر، وخالد: بالتثقيل؛ أي: وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها، فتربو وتنبت من كل زوج بهيج. ثمّ جعل ما سلف كالدليل على البعث؛ لأنّه شبيه به، فقال: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} جملة قدّم فيها الخبر للقصد إلى القصر، وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء؛ أي: مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن إحياء الموتى بالخروج؛ تفخيم لشان الإنبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى، لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه لأفهام الناس، وقد روي: "أنّ الله يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال، يدخل في الأرض، فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم، ثم يحييهم، ويخرجهم من تحت الأرض". 12 - ثم ذكر سبحانه الأمم المكذّبة لرسلها، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل أهل مكة {قَوْمُ نُوحٍ}؛ أي: كذبوا نوحًا وجميع الرسل؛ لأنّ تكذيبه تكذيب لهم لاتفاقهم في أصول الدين. {و} كذّب قبلهم {أَصْحَابُ الرَّسِّ} رسولهم، قيل: كانت الرس (¬2) بئرًا بعدن لأمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك عدل حسن السيرة، يقال له: العنيس بوزن زبير، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنّها كانت بكرات كثيرة منصوبة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

عليها، جمع بكرة بالفتح: وهي خشبة مستديرة في وسطها محزٌّ يستقى عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن بالزاي والنون من رخام، وهي تشبه الحياض كثيرة تملأ للناس، قال في "القاموس": الأبزن مثلثة الأول: حوض يغتسل فيه، وقد يتخذ من نحاس، معرب آب زن، انتهى. وآخر للدواب، وآخر للبقر والغنم والهوام يستقون عليها بالليل والنهار، يتداولون ولم يكن لهم ماء غيره، فطال عمر الملك، فلمّا جاءه الموت .. طلي بدهن لتبقى صورته ولا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت، وكان ممن يكرم عليهم، فلمّا مات .. شقَّ ذلك عليهم، ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعًا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت، ولكني قد تغيبت عنكم، حتى أرى صنيعكم بعدي، ففرحوا أشد الفرح، وأمر لخاصته أن يضربوا حجابًا بينه وبينهم، ويكلمهم من ورائه، كيلا يعرف الموت في صورته، فنصبوه صنمًا من وراء حجاب لا يأكل ولا يشرب، وأخبرهم أنه لا يموت أبدًا، وأنه إله لهم، وذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم، وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق، فكلما تكلم ناصح منهم .. زجر وقهر، فاتفقوا على عبادته، فبعث الله لهم نبيًّا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أنَّ الصورة صنم لا روح له، وأنّ الشيطان فيه، وقد أضلَّهم الله سبحانه، وأنّ الله تعالى لا يتمثل بالخلق، وأنَّ الملك لا يجوز أن يكون شريكًا لله، وأوعدهم ونصحهم، وحذَّرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه، وهو يتعهدهم بالموعظة والنصيحة حتى قتلوه، وطرحوه في بئر، وعند ذلك حلت عليهم النقمة، فباتوا شباعى رواء من الماء، وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطلى رشاؤها، وهو بالكسر الحبل، فصاحوا بأجمعهم، وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشًا، حتى عمهم الموت، وشملهم الهلاك، وخلفهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت لهم جناتهم وأموالهم بالسدر والشوك شوك العضاة بالكسر: أم غيلان أو نحوه، والقتاد بوزن سحاب: شجر صلب شوكه كالإبر، فلا تسمع فيها إلا عزيف الجن؛ أي: صوتهم، وهو جرس يسمع في

[13]

المفاوز في الليل، وإلا زئير الأسد؛ أي: صوته من الصدر، نعوذ بالله من سطواته، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته، كذا في "التكملة" نقلًا عن "تفسير المقري". وقيل: الرّسّ: بئر قرب اليمامة، أو بئر بأذربيجان، أو وادٍ، كما قال الشاعر: فَهُنَّ لِوَادِيْ الرَّسْسِ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وقد سبق بعض الكلام عليه في سورة الفرقان، فأرجع إليه. {و} كذّبت قبلهم {ثَمُودُ}؛ أي: قوم ثمود صالحًا، وجميع الرسل، وهو ثمود بن عاد، وهو عاد الآخرة. 13 - {و} كذبت قبلهم {عَادٌ}؛ أي: قوم عاد هودًا، وجميع الرسل، وهو عاد إرم، وهو عاد الأولى. {و} كذب قبلهم {فِرْعَوْنُ} موسى وهارون وجميع الرسل. والمراد: هو وقومه القبط ليلائم ما قبله وما بعده من الجماعة. {و} كذب قبلهم {إِخْوَانُ لُوطٍ}؛ أي: أصهاره؛ لأنه صاهرهم، وتزوج منهم لوط وجميع الرسل، جمع صهر، والصهر: زوج بنت الرجل، وزوج أخته، وقيل: إخوانه قومه؛ لاشتراكهم في النسب لا في الدين، قال عطاء: ما من أحد من الأنبياء إلا ويقوم معه يوم القيامة قومه، إلا لوطًا عليه السلام، يقوم وحده. 14 - {و} كذّب قبلهم {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} شعيبًا وجميع الرسل، وهم من بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين، وكانوا يسكنون أيكة؛ أي: غيضة تنبت السدر الأراك، وقد مر ما فيه في سورة الحجر. {و} كذّب قبلهم {قَوْمُ تُبَّعٍ} تبعًا وجميع الرسل، وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر، وأما على تقدير عدمها وهو الأظهر، فمعنى تكذيب قومه الرسل: تكذيبهم لمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبّع، وهو أبو كرب أسعد الحميري ملك اليمن، سُمِّي تبعًا لكثرة أتباعه. {كُلٌّ}؛ أي: كل قوم من هؤلاء الأقوام المذكورين {كَذَّبَ الرُّسُلَ}؛ أي: كذّبوا رسلهم، وكذّب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور أولًا، كما أشرنا إليه في الحلّ، وإفراد الضمير في {كَذَّبَ} باعتبار لفظ الكل، أو كل واحد منهم

[15]

كذب جميع الرسل، لاتفاقهم على التوحيد والإنذار بالبعث والحشر، فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل. {فَحَقَّ وَعِيدِ}؛ أي: فوجب وحل عليهم وعيدي، وحق بهم ما قدره الله عليهم من الخسف والمسخ والإهلاك، والوعيد يستعمل في الشر خاصةً، بخلاف الوعد، فإنه يكون في الخير والشر، وفي الآية: تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: لا تحزن، ولا تكثر غمك لتكذيب الكفار إيّاك؛ لأنّك لست بأول نبيّ كذب، وكل أمة كذبت رسولها، واصبر على أذاهم كما صبروا، تظفر بالمراد كما ظفروا، وتهديد لأهل مكة؛ يعني: احذروا يا أهل مكة من مثل عذاب الأمم الخالية، فلا تكذبوا رسول الله، فإنّ الاشتراك في العمل يوجب الاشتراك في الجزاء. والحاصل (¬1): أنّ الله سبحانه هدّد كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم، من النقم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب، وحقّ عليهم وعيده، ونصر رسله، وأعلى كلمتهم، وكانت العاقبة لهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}. وقد تقدمت هذه القصص في مواضع متفرقة من الكتاب الكريم. 15 - ثم ذكر سبحانه ما يؤكد صحة البعث، فقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} و {الهمزة} فيه: للاستفهام (¬2) الإنكاري، داخلة على مقدر، ينبىء عنه العيُّ من القصد والمباشرة، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء، فعجزنا عنه، حتى يتوهم عجزنا عن الخلق الثاني وهو الإعادة؛ أي: ليس الأمر كذلك، وما هنا في "الشوكاني": في الاستفهام و {الفاء}: غير صواب. وجملة قوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}: معطوفة على مقدر يدلّ عليه ما قبله، كأنه قيل: هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وحيرة وشبهة وشك في خلق مستأنف، وهو بعث الأموات لما فيه من مخالفة العادة، إذ لم تجر العادة بالإعادة في هذه الدار، وهذا قياس فاسد، كما لا يخفى، وتنكير {خَلْقٍ}؛ لتفخيم شأنه، والإشعار بخروجه عن حدود العادات، أو الإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتم بمعرفته، ولا يقعد على لبس. وقرأ الجمهور: {أَفَعَيِينَا} (¬1) بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة، ماضي عيي، بوزن رضي، وقرأ ابن أبي عبلة والوليد بن مسلم والقورصبيُّ عن أبي جعفر والسمار عن شيبة وأبو بحر عن نافع: بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب "الكامل". وقال ابن خالويه في كتاب "شواذ القراءات" له: {أفعَيِّنا} بتشديد، قرأ ابن أبي علة، وفكرت في توجيه هذه القراءة، إذ لم يذكر أحد توجيهها، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي، فقال: عيَّ في عيي، وحيَّ في حيي، فلما أدغم .. ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولم يفك الإدغام، فقال: عيّنا، وهي لغة لبعض بني بكر بن وائل، يقولون في رددت، وردنا: ردت وردّنا، فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة، فلو كان ضمير نصب .. لاجتمعت العرب على الإدغام، نحو: ردّنا زيد. والمعنى: أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى يشكّوا في الإعادة؛ أي: إنّ ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإعادة أسهل من الابتداء، فلا حقّ لهم في تطرق الشبهة إليهم، والشك فيه، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}. وقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}. وجاء في الحديث القدسي، يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته". ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[16]

16 - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد أوجدنا الإنسان، وأنشأناه من العدم المحض، والمراد بالإنسان: الجنس، وقيل: آدم. {تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}؛ أي: ما تحدث به نفسه، وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة: الصوت الخفي، والخطرة الرديئة، ومنه: وساوس الحلي، والمراد بها هنا: ما يختلج في سره وقلبه وضميره، أي: نعلم ما يخفي ويكن في نفسه، والضمير (¬1) في {بِهِ} لما إنْ جُعلت موصولة، والباء صلة كالباء في صوّت بكذا، وهمس به؛ أي: نعلم الخاطر الذي توسوسه نفسه، أو للإنسان إن جعلت مصدرية، والباء للتعدية؛ أي: ونعلم وسوسة نفسه به. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ}؛ أي: إلى الإنسان {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وهو حبل العاتق وعرقه، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد: الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان؛ أي: نحن أقرب إليه من حبل وريده إليه، والإضافة بيانية؛ أي: حبل هو الوريد، والوريدان: عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدّمها متصلان بالوتين، والوتين: عرق في القلب، إذا انقطع .. مات صاحبه، يردان من الرأس إليه، فالوريد بمعنى الوراد، وقيل: سمى وريدًا؛ لأنّ الروح الحيواني يرده، فالوريد حينئذٍ بمعنى المورود، وفي "المفردات": الوريد: عرق متصل بالكبد والقلب، وفيه مجاري الروح، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}؛ أي: من روحه. انتهى. وفي "التأويلات النجمية": حبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، يشير إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد، فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها؛ لأنّها قريب منه، فكذلك كل وقت يطلب ربه يجده لأنّه قريب منه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. وفي الزبور: ألا من طلبني وجدني. أي: (¬2) أنه تعالى قادر على بعث الإنسان؛ لأنّه خالقه، وعالم بجميع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[17]

أموره، حتى إنه ليعلم ما تسوس به نفسه من الخير والشر. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ}؛ أي: ونحن أعلم به، وبخفيات أحواله، لا يخفى علينا شيء من أمره من علمكم بحبل الوريد؛ لأنّ العرق تحجبه أجزاء من اللحم، وعلم الله لا يحجب عنه شيء. أي: ونحن (¬1) أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله، وبنفوذ قدرتنا فيه، يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه. 17 - و {إِذْ} في قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}: منصوب (¬2) بأذكر، وهو أولى لبقاء قوله: {وَنَحْنُ ...} إلخ. على إطلاقه، أو هو متعلق بما في {أَقْرَبُ} من معنى الفعل، والتلقي: الأخذ، والتلقن بالحفظ والكتابة. والمعنى: أنه تعالى لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس، ولا شيء أخفى منها، وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يتلقى، ويتلقن، ويأخذ ويكتب الملكان الحفيظان الموكلان بالعبد ما يتلفظ به العبد ويفعله. وفيه (¬3): أي على الوجه الثاني، إيذان بأن استحفاظ الملكين أمر هو سبحانه غنيّ عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟! وإنما ذلك الاستحفاظ لحكمة، وهي ما في كتب الملكين وحفظهما لأعمال العبد، وعرض صحائف العمل يوم القيامة، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله، خيرًا أو شرًا، من زيادة اللطف له في الانتهاء عن السيئات، والرغبة في الحسنات، والحال أنّ أحدهما {عَنِ الْيَمِينِ}؛ أي: عن يمين العبد، وجانبه قعيد {و} الآخر منهما {عَنِ الشِّمَالِ}؛ أي: شمال العبد {قَعِيدٌ}، أي: مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظًا ومعنى، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وقيل: يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد، كما في قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

[18]

ذَلِكَ ظَهِيرٌ}؛ أي: (¬1) فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط لة في وقت أخذ الملكين الحافظين من قوله وفعله، فلهما عن اليمين مقاعد، وعن الشمال مقاعد، وفي هذا إشارة إلى أنّ المكلّف غير متروك سدى، قال الحسن وقتادة، ومجاهد: المتلقيّان ملكان يتلقَّيان عملك، أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك، وقال مجاهد أيضًا: وكّل الله بالإنسان ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره. 18 - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ}؛ أي: ما يتكلم الإنسان من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه {إِلَّا لَدَيْهِ}؛ أي: إلا لدى ذلك اللافظ {رَقِيبٌ}؛ أي: ملك حافظ يرقب قوله ذلك ويكتبه، والقول أعم من الكلمة والكلام، والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان، الذي يكتب ما يقوله ويفعله من خير أو شر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر هو ملك الشمال. {عَتِيدٌ}؛ أي: حاضر ذلك الملك الرقيب لا يفارقه، معد مهيأٌ لكتابة ما أمر به من خير أو شر، فهو حاضر معه أينما كان، فالرقيب بمعنى الحافظ، والعتيد بمعنى الحاضر، والإفراد (¬2) حيث لم يقل: رقيبان عتيدان مع وقوفهما معًا على ما صدر عنه، لما أنَّ كلًّا منهما رقيب لما فوض إليه، لا لما فوض إلى صاحبه، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {عَتِيدٌ}. وتخصيص القول بالذكر، لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص، واختلف فيما يكتبانه، فقيل: يكتبان كل شيء، حتى أنينه في مرضه، وقيل: إنَّما يكتبان ما فيه أجر ووزر، وهو الأظهر، قيل (¬3) إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه، وعند جِماعه؛ ولذا كره الكلام في الخلاء، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة؛ لأنّ الملائكة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام، فإن سلم عليه في هذه الحالة .. قال الإِمام أبو حنيفة رحمه الله: يردّ السلام بقلبه لا بلسانه، لئلا يلزم كتابة الملائكة، فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية، وكذا يحمد الله بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء، وكذا يكره الكلام عند الجماع، وكذا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[19]

الضحك في هذه الحالة، فلا بدّ من حفظ اللسان، وفي الحديث: "من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". قال الحسن البصري (¬1): وتلا هذه الآية: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذ من طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}. ثم قال: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. وروى أبو أسامة: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة .. كتبها ملك اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة .. قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعلّه يسبّح أو يستغفر". 19 - وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه .. أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت، وحين قيام الساعة فقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}؛ أي: وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، وأنّ البعث لا شكّ فيه، والباء (¬2) في قوله: {بِالْحَقِّ}: إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى: حضرت الموت؛ أي: شدته التي تجعل الإنسان كالسكران، بحيث تغشاه وتغلب على عقله، وكشفت له حقيقة الأمر الذي نطق به كتاب الله، وأخبرت به رسله، أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وإما للملابسة، كالتي في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق؛ أي: بحقية الأمر أو بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء: {وجاءت سكرة الحق بالموت}. ويقال للميت لسحان الحال، أو تقول ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[20]

له الملائكة. {ذَلِكَ} الموت أيها الإنسان {مَا}: موصولة؛ أي: الأمر الذي {كُنْتَ} في الدنيا {مِنْهُ}: متعلق بقوله: {تَحِيدُ}؛ أي: تميل وتفرّ وتهرب منه، بل تحسب أنه؛ أي: الموت، لا ينزل عليك بسبب محبّتك الحياة الدنيا، كما في قوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}؛ أي: أقسمتم بألسنتكم بطرًا وأشرًا، وجهلًا وسفهًا، أو بألسنة الحال، حيث بنيتم مشيدًا، وأملتم بعيدًا، ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، فكأنكم ظننتم أنكم ما لكم من زوال مما أنتم عليه من التمتّع بالحظوظ الدنيوية، فالخطاب (¬1) في الآية للإنسان المتقدم على طريق الالتفات، فإنّ النفرة عن الموت شاملة لكل فرد من أفراده طبعًا، ويضعده ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: أخذت أبا بكر غشية من الموت، فبكيت عليه، فقلت: مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعَا ... لَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّهُ مُهْرَاقُ فأفاق أبو بكر رضي الله عنه فقال: بل جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. وجوَّز في "الكشاف" أن تكون الإشارة إلى الحق، والخطاب للفاجر، وهذا هو الظاهر؛ لأنّ الكلام في الفجار. قاله سعدي المفتي. 20 - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور، والنافخ هو إسرافيل عليه السلام، وقد سبق الكلام في الصور. {ذَلِكَ}؛ أي: وقت ذلك النفخ على حذف المضاف {يَوْمُ الْوَعِيدِ}؛ أي: يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا وتحقيقه، والوعيد: التهديد، أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وتخصيص الوعيد بالذكر، مع أنه يوم الوعد أيضًا؛ لتهويله، ولذا بدىء ببيان حال الكفرة. 21 - {وَجَاءَتْ} في ذلك اليوم {كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البرة والفاجرة {مَعَهَا} إلخ. محله النصب على الحالية من {كُلُّ} لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة، كأنه قيل: كل النفوس؛ أي: حالة كون كل نفس معها ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

{سَائِقٌ}؛ أي: ملك يسوقها إلى المحشر {و} ملك {شَهِيدٌ} يشهد بعملها خيرًا أو شرًّا، وفي "كشف الأسرار": يسوق الكافر سائقه إلى النار، ويشهد الشهيد عليه بمعصيته، ويسوق المؤمن سائقه إلى الجنة، ويشهد الشهيد له بطاعته، وهل الملكان الكاتبان في الدنيا هما اللذان ذكرهما الله في قوله: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}، أو غيرهما؟. فيه خلاف كما في "فتح الرحمن" أو معها ملك جامع بين الوصفين، كأنه قيل: معها ملك يسوقها ويشهد لها أو عليها، 22 - ويقال له: والله {لَقَدْ كُنْتَ} أيها الإنسان في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ} وسهوِ {مِنْ هَذَا} اليوم وغوائله، وفي "فتح الرحمن": من هذا النازل بك اليوم، وقال ابن عباس: من عاقبة الكفر، وفي "عين المعاني": أي: من السائق والشهيد، وخطاب الكل بذلك؛ لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة، وقيل؛ الخطاب للكافر، وقرىء: {كنت} بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس، وكذا الخطابات الآتية، كما سيأتي، وقال ابن زيد (¬1): الخطاب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة، وقال أكثر المفسرين: المراد به: جميع الخلق برّهم وفاجرهم، واختار هذا ابن جرير. {فَكَشَفْنَا}؛ أي: أزلنا ورفعنا {عَنْكَ غِطَاءَكَ} وحجابك الذي كان على بصرك في الدنيا؛ يعني: رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك {فَبَصَرُكَ} أيها الإنسان {الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم الذي يعرض فيه العباد على الله {حَدِيدٌ}؛ أي: حاد نافذ، تبصر ما كنت تنكره، وتستبعده في الدنيا لزوال المانع للإبصار، ولكن لا ينفعك، وهذا كقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. وفي الآية (¬2): إشارة إلى أنَّ الإنسان وإن خلق من عالمي الغيب والشهادة، فالغالب عليه في البداية الشهادة، وهي العالم الحسّي، فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب، فمن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[23]

الناس من يكشف الله غطاءه عن بصر بصيرته، فيجعل بصره حديدًا يبصر رشده، ويحذر شرّه، وهم المؤمنون من أهل السعادة، ومنهم من يكشف الله عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفسًا إيمانها، وهم الكفار من أهل الشقاوة، ومن كلمات أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: لو كشف الغطاء .. ما ازددت يقينًا. وقرأ الجمهور (¬1): بفتح التاء من {كُنْتَ} وفتح الكاف في {عَنْكَ} {غِطَاءَكَ}، {فَبَصَرُكَ} حملًا على ما في لفظ كل من التذكير، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرّف: بالكسر في الجميع على أنّ المراد: النفس، ولاكتساب كل التأنيث من المضاف إليه. والمعنى: أي والله لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال والشدائد، فجلَّينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت عنك هذه الغفلة، وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطي به الجسد كلّه، أو غشاوة غشي بها عيينه، فلا يبصر شيئًا، فإذا كان يوم القيامة .. تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق. 23 - {وَقَالَ قَرِينُهُ}؛ أي: قال الملك الموكل به في الدنيا، الكاتب لعمله، الشهيد عليه للربّ سبحانه {هَذَا} المكتوب من عمله، مبتدأ خبره: {مَا} وهي نكرة موصوفة (¬2). و {لَدَيَّ} ظرف صفة أولى لما {عَتِيدٌ} صفة ثانية لها، والتقدير: هذا شيء ثابت لديّ عتيد حاضر قد هيأته، ويجوز أن يكون {عَتِيدٌ} صفة لـ {مَا} و {لَدَيَّ} متعلقًا بـ {عَتِيدٌ}؛ أي: هذا المتكوب شيء عيتد لديّ؛ أي: حاضر، ويجوز أن تكونا {مَا} موصولة بمعنى الذي، و {لَدَيَّ} صلتها و {عَتِيدٌ}: خبر الموصول، والموصول وصلته: خبر اسم الإشارة. والمعنى: أي وقال الملك الموكل به في الدنيا: هذا الذي وكّلتني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، قاله مجاهد. أو قال شيطانه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) النسفي.

[24]

الذي قيّض له في الدنيا مشيرًا إليه هذا الشخص: ما عندي، وفي ملكي وسيطرتي، عتيد لجهنم حاضر قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي إياه. وقرأ الجمهور: {عَتِيدٌ} بالرفع، وعبد الله: بالنصب على الحال، والأولى حينئذٍ أن تكون {ما} موصولة. 24 - ويقول الله سبحانه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ}: خطابٌ (¬1) من الله تعالى للسائق والشهيد، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد وهو الملك الجامع للوصفين، أو خازن النار على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، وتكريره للتأكيد، كأنه قيل: ألقِ ألق، حذف الفعل الثاني، ثم أتى بفاعله وفاعل الفعل الأول على صورة ضمير الاثنين متصلًا بالفعل الأول، أو على أن الألف بدل من نون التوكيد الخفيفة على إجراء الوصل مجرى الوقف، ويؤيده أنه قرىء: {ألقين} بالنون الخفيفة، مثل: {لنسفعًا} فإنه إذا وقف على النون .. تنقلب ألفًا، فتكتب بالألف على الوقف، وفيه وجه آخر، وهو أنَّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان؛ يعني: أدنى الأعوان في السفر اثنان، فأكثر في ألسنتهم أن يقولوا: خليليّ، وصاحبيّ، وقفا وأسعدا، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، كما قال امرىء القيس: خَلِيْلِيَّ مُرَّا بِيْ عَلَى أُمِّ جُنْدُبِ ... لِنَقْضِيَ حَاجَاتِ الْفُؤَادِ الْمُعَذَّبِ أَلَمْ تَرَ أَنِّيْ كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ بِهَا طِيْبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ وقوله: قِفَا نَبْكِ مِن ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ فثنى في البيت الأول، ووحد في البيت الثاني، وثنّى في البيت الثالث أيضًا. وقرأ الحسن (¬2): {ألقين} بنون التوكيد الخفيفة خطابًا لواحد من خزنة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[25]

النار، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف. {كُلَّ كَفَّارٍ}؛ أي (¬1): كل مبالغ في الكفر بالمنعم والنعم، جاحد بالتوحيد، معرض عن الإيمان, وقيل: كل كافر حامل غيره على الكافر {عَنِيدٍ}؛ أي: معاند للحق، يعرف الحق فيجحده، والعناد أقبح الكفر، وقال قتادة: منحرف عن الطاعة. 25 - {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}؛ أي: كثير المنع للمال عن حقوقه مفروضة زكاة أو غيرها؛ أي: طبع على الشره والإمساك، كما أنَّ الكافر طبع على الكفر، والعنيد طبع على العناد، أو منّاع لجنس الخير عن أن يصل إلى أهله، يحول بينه وبينهم، وقيل: المراد بالخير هنا: الإِسلام، فإنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لمَّا منع بني أخيه منه، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت. {مُعْتَدٍ}؛ أي: ظالم متخطّ للحق، معاد لأهله. {مُرِيبٍ}؛ أي: شاكّ في الله وفي دينه، فهو صيغة نسبة بمعنى ذي شكّ وريب؛ أي: موقع في الريبة، وقيل: متّهم. أي (¬2): ألقيا في جهنم كل كافر بالله، معاند لآياته، مانع للناس من اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن الإنفاق على من عنده، ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء، شاكٍّ في اليوم الآخر، فلا يظنّ أنّ الساعة آتية، فكل كافر موصوف بهذه الصفات. 26 - {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يجوز أن يكون بدلًا من {كُلَّ كَفَّارٍ} أو منصوبًا على الذم، أو بدلًا من {كَفَّارٍ}، أو هو مبتدأ متضمّن معنى الشرط، خبره: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}. وقوله: {فَأَلْقِيَاهُ}: تكرير للتوكيد، و {الفاء}؛ للإشعار بأنّ الإلقاء للصفات المذكورة. 27 - {قَالَ قَرِينُهُ}؛ أي: الشيطان الذي قيض لهذا الكافر: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} وما أضللته، وما أغويته، قيل (¬3): هذا جواب لكلام مقدر، وهو أنّ الكافر حين يلقى في النار، يقول: ربّنا أطغاني شطاني، فيقول الشيطان: ربّنا ما أطغيته. {وَلَكِنْ كَانَ} هذا الإنسان {فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عن الحق، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الخازن.

[28]

من عبادك الصالحين .. لم أقدر عليه، فيتبرأ منه شيطانه، وقال ابن عباس: قرينه: الملك الموكّل به، الكاتب لأعماله؛ يعني؛ يقول الكافر: ربّ إنّ الملك زاد عليّ في الكتابة، فيقول الملك: ربّنا ما أطغيته؛ أي: ما زدت عليه، وما كتبت إلا ما قال وعمل، ولكن كان في ضلال بعيد؛ أي: طويل لا يرجع عنه إلى الحقّ، فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر وإلجاء، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} والأول أولى، وعليه الجمهور، وقال أبو حيان (¬1): {قَالَ قَرِينُهُ} لم تأت هذه الجملة بالواو بخلاف {وَقَالَ قَرِينُهُ} قبله: لأنّ هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه، فكأنّ الكافر قال: ربّ هو أطغاني، قال قرينه: ربّنا ما أطغيته، وأما {وَقَالَ قَرِينُهُ} فعطفت للدلالة على الجمع بين معناها، ومعنى ما قبلها في الحصول؛ أعني: مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قال له. 28 - وجملة قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله؟ فقيل: قال الله سبحانه لهم: لا تختصموا أيها الكفّار والقرناء لديّ؛ أي: في موقف الحساب والجزاء، إذ لا فائدة في ذلك، قال بعضهم (¬2): هذا الخطاب في الكفار فقط، وأما قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} ففي المؤمنين في الظالم فيما بينهم؛ لأنّ الاختصام في الظالم مسموع، وهذا في الموقف، وأما قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} ففي جهنم، فظهر التوفيق بين الآيات. وجملة قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنّي قد قدمت إليكم بالوعيد والتهديد من العذاب بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، و {الباء} في {بِالْوَعِيدِ}: مزيدة للتأكيد، أو معدّية على أنّ قدّم بمعنى تقدّم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[29]

والمعنى: أي قال الله سبحانه للإنسيِّ، وقرينه من الجن حين اختصمها، فقال الإنسي: ربّ إنّ هذا أضلَّني عن الذكر بعد إذ جاءني، وقال الشيطان: ربّنا ما أطغيته، ولكن كان في ضلال بعيد عن الحقّ، فأعنته عليه بالإغواء من غير قسرٍ ولا إلجاء: لا تختصموا الآن عندي في موقف الحساب والجزاء، وقد قدمت إليكم بالوعيد على الطغيان في دار الكسب والتكليف، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج، فما تركت لكم حجة عليَّ، فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة: حال فيها معنى التعليل للنهي على معنى {لَا تَخْتَصِمُوا} وقد صحَّ عندكم وعلمتم أني قدمت إليكم بالوعيد، حيث قلت لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} فاتبعتموه معرضين عن الحق، فلا وجه للاختصام في هذا الوقت، وإنما قدّر المعنى هكذا ليصح جعله حالًا، فإن مقارنة الحال لصاحبها من الزمان واجبة، ولا مقارنة بين تقديم الوعيد في الدنيا والاختصام في الآخرة. 29 - {مَا يُبَدَّلُ} ولا يغير {الْقَوْلُ} والقضاء {لَدَيَّ}؛ أي: عندي (¬1)؛ أي: لا يغير قولي في الوعد والوعيد، فما يظهر في الوقت هو الذي قضيته في الأزل، لا مبدل له، والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبديل، فإنَّ دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد؛ يعني: ولا مخصص في حق الكفار، فالوعيد على عمومه في حقهم، قال الجلال الدواني في "شرح العضد": ذهب بعض العلماء إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى، لا في الوعد، وبهذا وردت السنة، حيث قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من وعد لأحد على عمله ثوابًا فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقابًا .. فهو بالخيار". والعرب لا تعد عيبًا ولا خلفًا أن يعد شرًّا ثم لا يفعله، بل ترى ذلك كرمًا وفضلًا، وإنما الخلف أن يعد خيرًا ثم لا يفعله، كما قال: وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُة أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيْعَادِيْ وَمُنَجِزُ مَوْعِدِيْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[30]

ولقد أحسن يحيى بن معاذ رضي الله عنه في هذا المعنى، حيث قال: الوعد والوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على الله سبحانه، ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقّه على العباد، قال لا تفعلوا كذا فأعذّبكم ففعلوا، فإن شاء .. عفا، وإن شاء .. أخذ؛ لأنّه حقه، وأولاهما العفو والكرم؛ لأنه غفور رحيم، فالله تعالى لا يغفر أن يشرك به، فينجز وعيده في حق المشركين، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فيجوز أن يخلف وعيده في حق المؤمنين. {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}؛ أي: وما أنا بمعذب للعبيد ظلمًا بغير جرم اجترموه، ولا ذنب أذنبوه، والتعبير عنه بالظلم، مع أنّ تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم، على ما تقرّر من قاعدة أهل السنة، فضلًا عن كونه ظلمًا مفرطًا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم، وصيغة المبالغة؛ لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعيّة العبيد من قولهم: فلان ظالم لعبده، وظلّام لعبيده على أنها مبالغة كمًّا لا كيفًا، وقيل: إنّ الظلاّم هنا بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر. 30 - والظرف في قوله: {يَوْمَ نَقُولُ}: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك، ويشمل كل من شأنه الذكر يوم نقول بما لنا من العظمة {لِجَهَنَّمَ} دار العذاب، وسجن الله للعصاة {هَلِ امْتَلَأْتِ} يا جهنم بمن ألقي فيك؟ وهل أوفيتك ما وعدتك؟. وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وقوله: لكل واحدة منكما ملؤها. فهذا السؤال من الله لتصديق خبره، وتحقيق وعده، والتقريع لأهل عذابه، والتنبيه لجميع عباده. {وَتَقُولُ} جهنم مجيبة بالاستفهام تأدبًا، وليكون الجواب وفق السؤال {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}؛ أي: هل من زيادة من الجن والإنس موجودة، فيكون مصدرًا كالمحيد، أو من يزاد فيكون مفعولًا كالمبيع، ويجوز أن يكون {يَوْمَ}: ظرفًا لمقدر مؤخر؛ أي: يوم نقول لجهنم: هل امتلأت إلخ، يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال، وقيل: العامل فيه {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}. وقيل:

المعنى؛ أي: قد امتلأت، ولم يبق فيَّ موضع لم يمتلىء، وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان. وقيل: إنّ المعنى: أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها بأهلها، واختلف العلماء في أنَّ الخطاب والجواب، هل هما على الحقيقة أو لا؟ فقال بعضهم: هما على الحقيقة، فينطقها الله بذلك كما ينطق الجوارح، وهو المختار، فإنَّ الله على كل شيء قدير، وأمور الآخرة كلها أو جلها على خلاف ما تعورف في الدنيا، وقد دلت الأحاديث على تحقق الحقيقة، فلا وجه للعدول إلى المجاز، كما روي من زفرتها وهجومها على الناس في الموقف، وجرّها الملائكة بالسلاسل، وقولها: "جُزْ يا مؤمن فإنّ نورك أطفأ لهبي". ونحو ذلك مما يدلّ على حياتها الحقيقية وإدراكها. والمعنى: أي وأنذر قومك: يوم نقول لجهم هل امتلأت بما ألقي إليك فوجًا بعد فوج؟ فتقول: لا مزيد بعد ذلك، وفي هذا بيان أنها مع اتساعها، وتباعد أقطارها يطرح فيها من الجِنة والناس جماعات بعد جماعات، حتى تمتلىء، ولا تقبل الزيادة. وقرأ الجمهور: {نَقُولُ} بالنون، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش: {يقول} بياء الغيبة، وقرأ عبد الله والحسن والأعمش أيضًا: {يقال} مبنيًا للمفعول، وقرأ الحسن أيضًا: {أقول} بالهمزة. الإعراب {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)}. {ق}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة قاف إن قلنا: إنه علم على السورة، والجملة: مستأنفة، وإن قلنا: من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .. فلا محل له من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن المعنى، والمعنى غير معلوم لنا. {وَالْقُرْآنِ} {الواو}: حرف جر وقسم. {الْقُرْآنِ}: مقسم به مجرور

بواو القسم. {الْمَجِيدِ}: صفة لـ {الْقُرْآنِ}، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالقرآن المجيد، وجواب القسم: محذوف، دلّ عليه ما بعده، تقديره: إنك جئتهم منذرًا بالبعث، فلم يقبلوا، بل عجبوا، وقيل: هو مذكور، واختلفوا فيه، فقيل: هو {قَدْ عَلِمْنَا}، وقيل: هو قوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} والأول أولى وأرسخ عرفًا في البلاغة، وقدّره أبو البقاء: لتبعثنّ، أو لترجعنّ، على ما دلّ عليه سياق الآيات. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب، أضرب به عن جواب القسم المحذوف لبيان حالتهم الزائدة في الشناعة والقبح. {عَجِبُوا}: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جواب القسم المحذوف. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر. {جَاءَهُمْ}: فعل ومفعول به في محل النصب بـ {أَنْ}: المصدرية. {مُنْذِرٌ}: فاعل. {مِنْهُمْ}: صفة لـ {مُنْذِرٌ}. والجملة الفعلية. مع {أَنْ} المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: أي: بل عجبوا مجيء منذر إياهم؛ أي: من مجيئه. {فَقَالَ} {الفاء}: عاطفة. {قَالَ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {عَجِبُوا}. {هَذَا شَيْءٌ}: مبتدأ وخبر. {عَجِيبٌ}: صفة {شَيْءٌ}. والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}. {أَإِذَا}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على الجواب المحذوف، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {مِتْنَا}: فعل فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب المحذوف المدلول عليه بما بعده؛ أي: أإذا متنا وكنا ترابًا نرجع ونبعث؛ أي: نبعث ونرجع قت موتنا وكوننا ترابًا. {وَكُنَّا تُرَابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على {مِتْنَا}. وجملة {إذا}: في حل النصب مقول {قَالَ}. {ذَلِكَ رَجْعٌ}: مبتدأ وخبر، {بَعِيدٌ}: صفة {رَجْعٌ}. والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {عَلِمْنَا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل لنصب مفعول به؛ لأنّ علم بمعنى

عرف. {تَنْقُصُ الْأَرْضُ}: فعل وفاعل. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {تَنْقُصُ}. والجملة الفعلية: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما تنقصه الأرض. وَعِندَنَا {الواو}: حالية، عندنا: خبر مقدم. {كِتَابٌ}: مبتدأ مؤخر. {حَفِيظٌ}: صفة {كِتَابٌ} والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {عَلِمْنَا}. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب إضرابًا انتقاليًا مما هو شنيع إلى ما هو أشنع وأقبح، وهو تكذيب النبوّة بعد إنكار البعث. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل. {بِالْحَقِّ}: متعلق به، والجملة الإضرابية: معطوفة على جملة الإضراب في قوله: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}. {لَمَّا}: ظرف بمعنى حين متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {جَاءَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}. {فَهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {هم}: مبتدأ، {فِي أَمْرٍ}: خبر، {مَرِيجٍ}: صفة {أَمْرٍ} والجملة الاسمية معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}: عطف اسمية على فعلية. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}. {أَفَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أغفلوا فلم ينظروا، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَنْظُرُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ}، {إِلَى السَّمَاءِ}: متعلق بـ {يَنْظُرُوا}، {فَوْقَهُمْ}: حال مؤكدة من {السَّمَاءِ}. والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب مفعول ثان مقدم لـ {بَنَيْنَاهَا}، أو في محل النصب حال من مفعول {بَنَيْنَاهَا} وهي معلقة بالنظر قبلها. {بَنَيْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، وجملة {بَنَيْنَاهَا}: بدل من {السَّمَاءِ}. {وَزَيَّنَّاهَا}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {بَنَيْنَاهَا}. {وَمَا} {الواو}: حالية، {مَا}: نافية. {لَهَا}: خبر مقدم. {مِنْ}: زائدة. {فُرُوجٍ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل

النصب حال من مفعول {بَنَيْنَاهَا}. {وَالْأَرْضَ} {الواو}: عاطفة. {الْأَرْضَ}: معطوف على محل {إِلَى السَّمَاءِ} وهو النصب على المفعولية. {مَدَدْنَاهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب حال من {الْأَرْضَ}، ولك أن تنصب {الْأَرْضَ} بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: ومددنا الأرض مددناها، فهو من باب الاشتغال. {وَأَلْقَيْنَا}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {مَدَدْنَاهَا}. {فِيهَا}: متعلق بـ {أَلْقَيْنَا}. {رَوَاسِىَ} مفعول به، {وَأَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {مَدَدْنَاهَا}. {فِيهَا}: متعلق بـ {أَنْبَتْنَا}: {مِنْ}: زائدة. {كُلِّ زَوْجٍ}: مفعول به. {بَهِيجٍ}: صفة لـ {زَوْجٍ}، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى}: مفعولان من أجله لـ {بَنَيْنَاهَا} وما بعده؛ أي: لتبصير أمثالهم، وتذكير أمثالهم، وقيل: منصوبان بفعل مقدر من لفظهما؛ أي: بصّرناهم تبصرةً، وذكّرناهم تذكرةً، وقيل: حالان من فاعل الأفعال المذكورة؛ أي: مبصّرين ومذكّرين، وقيل: حال من المفعول؛ أي: ذات تبصرة وتذكير لم يراها. {لِكُلِّ}: متعلق بـ {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} على سبيل التنازع. {عَبْدٍ}: مضاف إليه. {مُنِيبٍ}: صفة لـ {عَبْدٍ}. {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}. {وَنَزَّلْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {بَنَيْنَاهَا} أو على {أَلْقَيْنَا}. {مِنَ السَّمَاءِ}: متعلق بـ {نَزَّلْنَا}، {مَاءً}: مفعول به، {مُبَارَكًا}: صفة {مَاءً}، {فَأَنْبَتْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {نَزَّلْنَا}، {بِهِ}: متعلق بـ {أَنْبَتْنَا}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}: معطوف على {جَنَّاتٍ}، وهو من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: وحب الزرع المحصود. {وَالنَّخْلَ}: معطوف على {جَنَّاتٍ}. {بَاسِقَاتٍ}: حال مقدرة من النخل؛ لأنها في وقت الإنبات لم تكن طوالًا. {لَهَا}: خبر مقدم. {طَلْعٌ}: مبتدأ مؤخر. {نَضِيدٌ}: صفة {طَلْعٌ} والجملة: في محل النصب حال ثانية من النخل الباسقات بطريق الترادف، أو من الضمير في {بَاسِقَاتٍ} على طريق التداخل. {رِزْقًا}: مفعول لأجله لـ {أَنْبَتْنَا} أو مفعول مطلق معنوي لـ {أَنْبَتْنَا} على أنه مصدر من معنى {أَنْبَتْنَا}، أو حال من

{جَنَّاتٍ}، وما بعده؛ على تأويله بمرزوقًا، أو ذا رزق. {لِلْعِبَادِ}: صفة لـ {رِزْقًا}، أو متعلق به على أنه مصدر. {وَأَحْيَيْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {فَأَنْبَتْنَا}. {بِهِ} متعلقان به {بَلْدَةً}: مفعول به، {مَيْتًا}: صفة {بَلْدَةً}، {كَذَلِكَ}: خبر مقدم. {الْخُرُوجُ}. مبتدأ مؤخر، والجملة التشبيهية: مستأنفة مفيدة للحصر. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}. {كَذَّبَتْ}: فعل ماض. {قَبْلَهُمْ}: متعلق به. {قَوْمُ نُوحٍ}: فاعل، والجملة: مستأنفة لبيان حقيقة راهنة عن البعث، واتفاق جميع الرسل عليه. {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ}: معطوف على {قَوْمُ نُوحٍ} وكذا {وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ}: معطوفات على {قَوْمُ نُوحٍ}. {كُلٌّ}: مبتدأ وسوغ الابتداء به قصد العموم، أو إضافته المقدرة؛ أي: كل هذه الأمم. {كَذَّبَ الرُّسُلَ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على {كُلٌّ} وأفرد الضمير نظرًا إلى لفظ {كُلٌّ} والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر عن {كُلٌّ} والجملة: مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها. {فَحَقَّ}: {الفاء}: عاطفة. {حَقَّ}: فعل ماض. {وَعِيدِ}: فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة الممنوعة بسكون الوقف؛ لأنه مضاف إلى ياء المتكلم، وأصله: وعيدي، فحذفت الياء، فبقيت الكسرة دليلًا عليها، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة {كَذَّبَ} والعائد: محذوف، تقديره: عليهم. {أَفَعَيِينَا} {الهمزة}: اللاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقصدنا الخلق فعجزنا عنه حتى يتوهم أحد عجزنا إعادته، والجملة المحذوفة: مستأنفة مقررة لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. {عيينا}: فعل وفاعل معطوف على تلك المحذوفة. {بِالْخَلْقِ}: متعلق بـ {عيينا} {الْأَوَّلِ}: صفة لـ {الْخَلْقِ {بَلْ}: عاطفة على مقدر مستأنف مسوق لبيان

شبهتهم، وفضح سفسطتهم، والتقدير: هم غير منكرين لقدرتنا، بل هم في خلط وشبهة. {هُمْ}: مبتدأ. {فِي لَبْسٍ}: خبر. {مِنْ خَلْقٍ}: صفة لـ {لَبْسٍ} و {جَدِيدٍ}: نعت لـ {خَلْقٍ}. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {وَنَعْلَمُ} {الواو}: حالية. {نَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ونحن نعلم، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {خَلَقْنَا} ولا يصح أن يكون {نعلم} حالًا بنفسه؛ لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، كما في "الكرخي" ولك أن تجعل {الواو}: استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به. {تُوَسْوِسُ}: فعل مضارع. {بِهِ}: متعلق به. {نَفْسُهُ}: فاعل، وجملة {تُوَسْوِسُ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد: ضمير {بِهِ} ولك أن تجعل {مَا} مصدرية، والتقدير: ونعلم وسوسة نفسه له. {وَنَحْنُ} {الواو}: عاطفة. {نَحْنُ}: مبتدأ. {أَقْرَبُ}: خبره. {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {أَقْرَبُ}. {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}: متعلق بـ {أَقْرَبُ} أيضًا ومضاف إليه، والجملة: معطوفة على جملة {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {أَقْرَبُ} أو متعلق باذكر محذوفًا؛ أي: واذكر يا محمد لقومك حين يتلقى المتلقيّان. {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {عَنِ الْيَمِينِ}: خبر مقدم. {وَعَنِ الشِّمَالِ}: معطوف عليه. {قَعِيدٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية. في محل النصب على الحال من {الْمُتَلَقِّيَانِ}. {مَا}: نافية. {يَلْفِظُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة: مستأنفة. {مِنْ}: زائدة. {قَوْلٍ}: مفعول به {إِلَّا}: أداة حصر. {لَدَيْهِ}: ظرف مكان خبر مقدم. {رَقِيبٌ عَتِيدٌ}: مبتدأ مؤخر؛ لأنهما

وصفان لشيء واحد، كأنه قيل: إلا لديه ملك موصوف بأنه رقيب عتيد؛ أي: حافظ حاضر، كقولهم في الخبر: هذا حلو حامض، فالمبتدأ هنا مجموع الوصفين، والجملة الاسمية: في محل النصب على الحال من فاعل {يَلْفِظُ}. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)}. {وَجَاءَتْ} {الواو}: استئنافية. {جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {بِالْحَقِّ}: متعلق بمحذوف حال من {سَكْرَةُ الْمَوْتِ}؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ. {كُنْتَ}: فعل ماض ناقص واسمه. {مِنْهُ}: متعلق بـ {تَحِيدُ}. وجملة {تَحِيدُ}: خبر {كُنْتَ}، وجملة {كُنْتَ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته الآن هو الذي كنت منه تحيد، وتفرّ في حياتك، فلم ينفعك الهرب، وما أنجاك الفرار. {وَنُفِخَ} {الواو}: عاطفة. {نُفِخَ}: فعل ماض مغير الصيغة. {فِي الصُّورِ}: نائب فاعل، والجملة: معطوفة على {جَاءَتْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {يَوْمُ الْوَعِيدِ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)}. {وَجَاءَتْ} {الواو}: عاطفة. {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} فعل وفاعل معطوف على {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}. {مَعَهَا}: خبر مقدم. {سَائِقٌ}: مبتدأ مؤخر. {وَشَهِيدٌ}: معطوف عليه، والجملة الاسمية: في محل الرفع صفة لـ {كُلُّ نَفْسٍ} أو حال منه على أنّه تخصّص بالإضافة. {لَقَدْ} {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {كُنْتَ}: فعل ناقص واسمه. {فِي غَفْلَةٍ}: خبره. {مِنْ هَذَا}: متعلق بـ {غَفْلَةٍ} والجملة: جواب القسم، وجواب القسم: مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لكل نفس: لقد كنت إلخ. {فَكَشَفْنَا} {الفاء}: عاطفة. {كَشَفْنَا}: فعل وفاعل معطوف على {كُنْتَ}، {عَنْكَ}: متعلق بـ {كَشَفْنَا}،

{غِطَاءَكَ}: مفعول به، {فَبَصَرُكَ} {الفاء}: عاطفة. {بَصَرُكَ}: مبتدأ، {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {بصرك}. {حَدِيدٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {كَشَفْنَا}: عطف اسمية على فعلية. {وَقَالَ}: {الواو}: عاطفة. {قَالَ قَرِينُهُ}: فعل وفاعل معطوف على {جاءت كل نفس}. {هَذَا}: مبتدأ، {مَا}: نكرة موصوفة في محل الرفع خبر المبتدأ. {لَدَيَّ}: ظرف متعلق بـ {عَتِيدٌ}. و {عَتِيدٌ}: صفة لـ {مَا} الموصوفة؛ أي: هذا شيء عتيد لديّ؛ أي: حاضر عندي، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} ويجوز أن يكون {لَدَيَّ}: صفة أولى لـ {مَا}، و {عَتِيدٌ}: صفة ثانية لها، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو عتيد؛ أي: هذا شيء ثابت لديّ عتيد؛ أي: حاضر، ويجوز أن تكون {مَا}: موصولة بمعنى الذي. و {لَدَيَّ}: صلتها. و {عَتِيدٌ}: خبر الموصول، والموصول وصلته: خبر اسم الإشارة، ويجوز أن تكون {مَا} بدلًا من {هَذَا} موصولة أو موصوفة بـ {لَدَيَّ}، و {عَتِيدٌ}: خبر {هَذَا}. {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}. {أَلْقِيَا}: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، لاتصاله بألف الاثنين، والألف فاعل. {فِي جَهَنَّمَ}: متعلق بـ {أَلْقِيَا}، والجملة: في محل النصب مقول لقول محذوف؛ أي: يقال ألقيا في جهنم. {كُلَّ كَفَّارٍ}: مفعول به. {عَنِيدٍ}: صفة لـ {كَفَّارٍ}، {مَنَّاعٍ}: صفة ثانية لـ {كَفَّارٍ}، {لِلْخَيْرِ}: متعلق بـ {مَنَّاعٍ}، {مُعْتَدٍ}: صفة ثالثة له. {مُرِيبٍ}: صفة رابعة. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب بدل من {كُلَّ كَفَّارٍ}، أو في محل الجر بدل من {كَفَّارٍ}. {جَعَلَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة الموصول. {مَعَ اللَّهِ}: ظرف في محل المفعول الثاني {إِلَهًا}: مفعول أول. {آخَرَ}: صفة لـ {إِلَهًا}. {فَأَلْقِيَاهُ} {الفاء}: زائدة. {أَلْقِيَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {فِي الْعَذَابِ}: متعلق بـ {ألقيا}، {الشَّدِيدِ}: صفة لـ {الْعَذَابِ}. والجملة الفعلية: جملة مؤكدة لجملة قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} توكيدًا لفظيًّا، ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ، وجملة

{فَأَلْقِيَاهُ}: خبره، و {الفاء}: رابطة لشبه الموصول بالشرط في العموم، والأوّل: أرجح. {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)}. {قَالَ قَرِينُهُ}: فعل وفاعل، والجملة: جملة مستأنفة، أو جوابية، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها وقعت في جواب قول الكافر حين يلقي في النار: ربّنا أطغاني قريني وشيطاني. قال قرينه وشيطانه: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول {قَالَ}، {مَا}: نافية. {أَطْغَيْتُهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة. {لكن}: حرف استدراك مهمل. {كَانَ}: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الكافر. {فِي ضَلَالٍ}: خبر {كَانَ}. {بَعِيدٍ}: صفة {ضَلَالٍ} وجملة الاستدراك معطوفة على جملة قوله: {مَا أَطْغَيْتُهُ}. {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: مستأنفة. {لَا}: ناهية جازمة. {تَخْتَصِمُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، والواو: فاعل {لَدَيَّ}: ظرف متعلق بـ {تَخْتَصِمُوا}. والجملة: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَقَدْ} {الواو}: حالية. {قَدْ}: حرف تحقيق. {قَدَّمْتُ}: فعل وفاعل. {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {قَدَّمْتُ}. {بِالْوَعِيدِ}: مفعول به لـ {قَدَّمْتُ}، و {الباء}: زائدة، والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل {تَخْتَصِمُوا}. {مَا} نافية. {يُبَدَّلُ الْقَوْلُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {الْقَوْلُ}: نائب فاعل. {لَدَيَّ}: ظرف متعلق بـ {يُبَدَّلُ} والجملة الفعلية: في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {مَا}: حجازية. {أَنَا}: في محل الرفع اسمها. {بِظَلَّامٍ} {الباء}: زائدة {ظَلَّامٍ}: خبر {مَا} الحجازية. {لِلْعَبِيدِ} متعلق بـ {ظَلَّامٍ}

والجملة الاسمية: معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالَ}. {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {ظَلَّامٍ}؛ لأنّه إذا لم يظلم في هذا اليوم .. فنفي الظلم عنه في غيره أولى، أو متعلق باذكر مقدرًا؛ أي: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم نقول لجهنم إلخ. {نَقُولُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {لِجَهَنَّمَ}: متعلق بـ {نَقُولُ}. {هَلِ}: حرف استفهام للاستفهام التقريري، فإنّ الله سبحانه يقرّرها بأنها قد امتلأت، ولمّا خاطبها بصورة الاستفهام .. أجابته بصورة استفهام أيضًا، ومرادها الإخبار عن امتلائها، والإقرار به. {امْتَلَأْتِ}: فعل وفاعل و {التاء}: ضمير المؤنثة المخاطبة في محل الرفع فاعل، والجملة: في محل النصب مقول {نَقُولُ}. {وَتَقُولُ} {الواو}: عاطفة. {تقول}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {جَهَنَّمَ}، معطوف على {نَقُولُ}. {هَلْ}: حرف استفهام. {مِنْ}: زائدة. {مَزِيدٍ}: مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: موجود، والجملة: في محل النصب مقول {نَقُولُ}. التصريف ومفردات اللغة {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}؛ أي: ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب كلابن وتامر، قال الراغب: والمجد: السعة في الكرم، من قولهم: مجدت الإبل: إذا وقعت في مرعى كثير واسع، وصف به القرآن؛ لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية، أو لأنّ من علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله تعالى وعند الناس وشرف، قال الإِمام الغزالي رحمه الله: المجيد: هو الشريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكان شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال .. سمي مجيدًا، وهو الماجد أيضًا، ولكن أحدهما أدل على المبالغة. {بَلْ عَجِبُوا} والعجب: نظر النفس لأمر خارج عن العادة. {شَيْءٌ عَجِيبٌ} العجيب: الأمر الذي يتعجّب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجّاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة، قال قتادة: عجبهم أن

دعوا إلى إله واحد، وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور، والذي نص عليه القرآن أولى. {رَجْعٌ بَعِيدٌ}؛ أي: بعث. {بَعِيدٌ} عن الأوهام، والرجع متعدّ بمعنى الرد بخلاف الرجوع. {مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ}؛ أي: ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم. {حَفِيظٌ}؛ أي: حافظ لتفاصيل الأشياء. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} من مرج الخاتم في أصبعه: إذا جرح، بالجيمين كفرح؛ أي: قلق واضطراب من سعته بسبب الهزال، وفي "المختار": مرج الأمر والدين: اختلط، وبابه طرب، وأمر مريج. مختلط. والمعنى: أنهم لا يثبتون على رأي واحد، فتارةً يقولون: شاعر، وتارةً: ساحر، وتارةً: كاهن. {بَنَيْنَاهَا}؛ أي: أحكمنا بناءها، فجعلناها بغير عمد، جمع عماد كأهب جمع إهاب. {وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب. {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}؛ أي: شقوق، جمع فرج، وهو الشقّ بين الشيئين كفرجة الحائط، والفجر: ما بين الرجلين، وكني به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه، واستعير الفرج للثغر، وكل مخافة، وسمي القباء المشقوق فروجًا، ولبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروجًا من حرير ثم نزعه. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} من رسا الشيء يرسو؛ أي: ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف؛ للإيذان بأنّ إلقاءها لإرساء الأرض بها، وفي {رَوَاسِيَ} إعلال بالقلب، أصله: رواسو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. {بَهِيجٍ}؛ أي: حسن طيّب من البهجة، وهو حسن اللون، وظهور السرور فيه، وابتهج بكذا؛ أي: سر به سرورًا: بأن أثره على وجهه، كما في "المفردات". {مُنِيبٍ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: منوب، نقلت حركة الواو إلى النون فسكّنت إثر كسرة فقلبت ياءً حرف مدّ. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}؛ أي: الذي من شأنه أن يحصد، وأصل الحصد: قطع الزرع، والحصيد بمعنى المحصود.

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} البسوق: الطول، يقال: بسق فلان على أصحابه، من باب دخل؛ أي: وطال عليهم في الفضل، وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة؛ وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج، ونوق بساق من ذلك. اهـ "سمين". وفي "المصباح": بسقت النخلة بسوقًا، من باب قعد؛ طالت، فهي باسقة، والجمع باسقات وبواسق، وبسق الرجل: مهر في علمه. اهـ، ويجوز أن يكون معنى {بَاسِقَاتٍ}: حوامل، من أبسقت الشاة: إذا حملت، فيكون من باب أفعل، فهو فاعل. {نَضِيدٌ}؛ أي: متراكب بعضه فوق بعض، يقال: نضدت المتاع بعضه على بعض ألقيته فهو منضود ونضد، المنضد: السرير الذي ينضد عليه المتاع، ومنه استعير {طَلْعٌ نَضِيدٌ}، كما في "المفردات". {طَلْعٌ} قال في "بحر العلوم": والطلع: ما يطلع من النخلة، وهو الكم قبل أن يشق، ويقال لما يظهر من الكم: طلع أيضًا، وهو شيء أبيض يشبه بلونه الأسنان، وبرائحته المني. {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} والرس: البئر التي لم تطو؛ أي: لم تبن. {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} والأيكة: الغيضة الملتفّة الشجر. {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} العيُّ بالأمر العجز عنه، يقال: عيّ بالأمر، وعيي به إذا لم يهتد لوجه علمه، وعيي عن حجته يعيا من باب تعب: إذا عجز عنه، وقد يدغم الماضي، فيقال: عيَّ، فالرجل عيُّ، وعيِّ على فعل وفعيل، وعيي بالأمر لم يهتد لوجهه، وأعياني بالألف أتعبني، فأعييت يستعمل لازمًا ومتعديًا، قال الكسائي: تقول: أعييت من التعب، وعييت من العجز عن الأمر، وانقطاع الحيلة. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ}؛ أي: شك شديد وحيرة واختلاط. {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يقال: جددت الثوب: إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوب جديد أصله المقطوع، ثم جعل لكل ما حدث إنشاؤه، وخلق جديد، إشارة إلى النشأة الثانية، وقوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثوب. {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الوسوسة: الصوت الخفيّ، ومنه: وسواس

الحليّ، والمراد بها هنا: حديث النفس، وما يخطر بالبال من شتى الشؤون. {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وهو عرق كبير في العنق، وللإنسان وريدان، والوريدان: عرقان مكتنفان بصفحي العنق في مقدّمهما متصلان بالوتين، سميّا بذلك؛ لأنهما يردان من الرأس، أو لأنّ الروح تردهما، فالوريد إما بمعنى الوارد، وإما بمعنى المورود، وقال الزمشخري: وهو في القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل والنَّساء، وفي الخنصر الأسيلم، وقال أيضًا: وحبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منّي مقعد القابلة، ومعقد الإزار، وقال ذو الرمة: هَلْ أَغْدُوَنْ فِيْ عِيْشَةٍ رَغِيْدِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى لِيْ مِنَ الْوَرِيْدِ أي: لا أكون في عيشة واسعة، والحال أنَّ الموت أقرب إلى من الوريد. {قَعِيدٌ}؛ أي: مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس وزنًا ومعنى، وقيل: يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد كما في قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. {عَتِيدٌ}؛ أي: حاضر، وفي "المصباح": عتد الشيء بالضم عتادًا بالفتح حضر فهو عند بفتحتين، وعتيد أيضًا، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، فيقال: اعتده صاحبه وعتده: إذا أعده وهيأه، وفي التنزيل: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أصله: جيأ بوزن فعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {تَحِيدُ} أصله: تحيد بوزن تفعل، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت، فصارت حرف مدّ، من حاد عنه يحيد حيدًا من باب باع: إذا مال عنه وفرَّ وهرب. {يَوْمُ الْوَعِيدِ}؛ أي: يوم إنجاز الوعيد والوعد، ففيه اكتفاء. {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} سائق فيه إعلال بالقلب، أصله: ساوق، قلبت الواو همزةً في الوصف حملًا له على فعله: ساق في الإعلال.

{كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} الغفلة: معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور، وفي "المفردات": الغفلة: سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ. {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} والغطاء: الحجاب المغطي لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات، والألفة بها، وقصر النظر عليها، قال في "المفردات": الغطاء: ما يجعل فوق الشيء من لباس ونحوه، كما أنّ الغشاء كذلك، وقد استعير للجهالة، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا ...} الآية. وفيه إعلال بالإبدال، أصله؛ غطاي، أبدلت الياء همزةً لتطرفها إثر ألف زائدة. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} يقال: حددت السكين: رققت حدَّها، ثم يقال لكل حاد في نفسه من حيث الخلقة، أو من حيث المعنى، كالبصر والبصيرة، فيقال: هو حديد النظر، وحديد الفهم، ويقال: لسان حديد، نحو: لسان صارم وماض، وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد. {عَنِيدٍ}؛ أي: معاند للحق، وقال السدي: مشتق من العند، وهو عظم يعترض في الحلق، أو معجب بما عنده، كأنه من قولهم: عندي كذا، كما في "عين المعاني". وقال في "المفردات": العنيد: المعجب بما عنده، والمعاند: المتباهي بما عنده، والعنود؛ الذي يعند عن القصد؛ أي: يميل عن الحق، ويردُّه عارفًا به. {مُعْتَدٍ} من الاعتداء، وهو مجاوزة الحق؛ أي: متجاوز للحق ظالم. {مُرِيبٍ}؛ أي: شاك في الله، وفي دينه. {وَقَالَ قَرِينُهُ} القرين هنا الشيطان المقيد له. {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}؛ أي: لا يجادل بعضكم بعضًا عندي. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}؛ أي: على الطغيان في دار الدنيا في كتبي، وعلى ألسنة رسلي. {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أصله: مزيد بوزن مفعل بكسر العين مصدر ميمي، أو اسم مكان، نقلت حركة الياء فيه إلى الزاي، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ.

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} لما فيه من وصف الشيء بوصف صاحبه؛ لأنّ المجد حال المتكلّم. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} والإضمار في موضع الإظهار، في قوله: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} فإضمار الكافرين أولًا؛ للإشعار بتعيّنهم بما أسند إليهم من المقال، وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة .. انصرف إليهم، إذ لا يصدر إلا عنهم، فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم، وإظهارهم ثانيًا؛ للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه. ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} لاستبعاد البعث بعد الموت. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} مثل علمه تعالى بكلّيات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء. ومنها: الإضراب الانتقالي، من بيان شناعتهم السابقة، إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، في قوله {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} وهو تكذيبهم للنبوّة الثابتة بالمعجزات الباهرة، فالأفظعية لكون الثاني تكذيبًا للأمر الثابت من غير تدبّر، بخلاف الأول، فإنه تعجّب. ومنها: الإتيان بالكلمة المفيدة للتوقّع في قوله: {لَمَّا جَاءَهُمْ} إشعارًا بانهم علموا بعد علو شأنه، وإعجازه الشاهد على حقّيته، فكذّبوا به بغيًا وحسدًا. ومنها: الإتيان بصيغة التفعيل في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}؛ لإفادة تكرير النزول. ومنها: ذكر المحل وإرادة الحال في قوله: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ}؛ أي: أشجارًا ذوات ثمرات، كما قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}.

ومنها: حذف الموصوف، وإقامة صفته مقامه، في قوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} فحذف الموصوت للعلم به، وأصله: وحب الزرع المحصود. ومنها: المجاز المرسل في قوله {الْحَصِيدِ} فإنه مجاز باعتبار الأول؛ لأنّ المعنى: وحبّ الزرع الذي شأنه أن يحصد. ومنها: تخصيص إنباته بالحبّ في قوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}؛ لكونه المقصود بالذات. ومنها: تخصيص النخل بالذِّكرِ في قوله {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} مع اندراجها في الجنات؛ لبيان فضلها على سائر الأشجار. ومنها: توسيط الحبّ بين جنّات والنخل؛ لتأكيد استقلالها، وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}؛ لأنّ النضيد في الأصل: السرير الذي ينضد عليه المتاع، فاستعير للطلع النضيد. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة. وفيه أيضًا: تقديم الخبر للقصد إلى الحصر، كما في "أبي السعود". ومنها: تنكير {خَلْقٍ} في قوله: {خَلْقٍ جَدِيد} لتفخيم شأنه، والإشعار بخروجه عن حدود العادات، أو الإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتم بمعرفته، ولا يقعد على لبس. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} مثّل علمه تعالى بأحوال العبد، وبخطرات النفس بحبل الوريد القريب من القلب، وهو تمثيل للقرب بطريق الاستعارة، كقول العرب: هو منى مقعد القابلة، وهو منّي معقد الإزار. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {حَبْلِ الْوَرِيدِ} حيث شبه العرق بواحد من الحبال من حيث الهيئة، ثم استعار له اسمه.

ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أصله: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. ومنها: الطباق بين اليمين والشمال، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} حيث استعار لفظ السكرة للهول والشدة التي يلقاها المحتضر عند وفاته، بجامع إذهاب العقل في كلٍ، وإنما لم يجعل الموت استعارة بالكناية، ثمّ إثبات السكرة له، تخييلًا؛ لأنّ المقام أدعى للاستعارة التحقيقية. كذا في "روح البيان". ومنها: التعبير عن وقوعها بالماضي، إيذانًا بتحقّقها، وغاية اقترابها، حتى كأنه قد أتت وحضرت، كما قيل: قد أتاكم الجيش؛ أي: قرب إتيانه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} حيث استعار الغفلة للجهالة بجامع مَنْع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} حيث استعار الغطاء للغفلة عن أمور المعاد؛ لأنّ الغطاء حقيقة في كل ما يجعل فوق الشيء من لباس ونحوه، فاستعاره للغفلة والجهالة بجامع الستر في كلٍّ. ومنها: الجناس الناقص بين: {عَنِيدٍ}، و {عَتِيدٌ} لتغاير حرفي النون والتاء. ومنها: توافق الفواصل والسجع اللطيف غير المتكلّف به، مثل: {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)}، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وهو من المحسنات البديعية لما فيه من جميل الوقع على السمع. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. المناسبة قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين، واعتذار الكافر، ورد القرين عليه، وأنَّ الله سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه؛ لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم .. ذكر أن الجَنَّة تكون قريبة من المتقين، بحيث يرونها رأي العين، فتطمئن إليها نفوسهم، وتثلج لمرآها صدورهم، ويقال لهم: هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل، وهو دائم لا نفاد له، ولا حصر فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمَّا أنذرهم (¬2) بما بين أيديهم من اليوم العظيم، والعذاب الأليم .. أنذرهم بما يعجل لهم في الدنيا من ضروب العذاب، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

سنّة الله فيمن تقدَّمهم من المكذبين قبلهم ممن ساروا في البلاد طولًا وعرضًا، وكانوا ذوي قوّة وأيدٍ، ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئًا، ووسط بين ذلك ذكر المتقين وما يلاقونه من النعيم؛ ليكون أمرهم بين الخوف والطمع، ومن ثم ذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد، ثم ذكر أنّ هذا عظة وذكرى لكل ذي لب واعٍ سميعٍ لما يلقى إليه، ثم أعاد الدليل مرة أخرى على إمكان البعث، فأبان أنه قد خلق السموات والأرض في ستة أطوار مختلفة، وما أصابه تعب، ولا لغوب كما قال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} ثمّ أمره بالصبر على ما يقولون، وتنزيه الله عن كل نقص آناء الليل وأطراف النهار، فها هو ذا قد اقترب يوم البعث والنشور، وسمع صوت الداعي لذلك بعد النفخ في الصور، وتشققت الأرض سراعًا، وخرج الناس من القبور، وما ذلك بالصعب على ربّ العالمين، خالق السموات والأرض، وإنا لنعلم ما يقول المشركون في البعث والنشور، فدعهم في غيّهم يعمهون، فما أنتَ عليهم بجبار تلزمهم الإيمان بهذا اليوم، وما فيه من هول، إن أنت إلا نذير، ولا يؤمن بك إلا من يخاف عقابي وشديد وعيدي، ولا تنفع العظة إلا ذوي الأحلام الراجحة والقلوب الواعية. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات (¬1): ما أخرجه الحاكم وصحّحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ اليهود أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: "خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق في أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[31]

مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم، وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة" قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، فنزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ...} الآية. قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ...} سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير من طريق عمرو بن قيس الملائي، عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، لو خوَّفتنا، فنزلت هذه الآية: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ...} ثمّ أخرج عن عمر مرسلًا مثله. التفسير وأوجه القراءة 31 - ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين .. شرع في بيان حال المؤمنين، فقال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ}؛ أي: قربت الجنة {لِلْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي تقريبًا {غَيْرَ بَعِيدٍ} أو مكانًا غير بعيد عنهم، بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها قبل دخولها من فنون المحاسن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيبتهون بأنهم محشورون إليها، فائزون بها، وقوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} تأكيد (¬1) للإزلاف، وانتصابه: إما على المصدرية، أو على الظرفية، كما مرّت الإشارة إليه، أو على الحالية المؤكّدة؛ أي: حال كونها غير بعيد؛ أي: شيئًا غير بعيد، كقولك هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل، إلى غير ذلك من أمثلة التوكيد، فالإزلاف تقريب الرؤية، وغير بعيد تقريب الدخول، فإنّهم يحاسبون حسابًا يسيرًا، ومنهم من لا يحاسب أصلًا، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، كالزئير والضليل، أو لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: المعنى: أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب، فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى، 32 - والإشارة بقوله: {هَذَا} إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى هذا الذي ترونه من فنون نعيمها {مَا تُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل، والجملة الاسمية: مقول لقول محذوف، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقع حالًا من المتقين؛ أي: يقال لهم: هذا ما توعدون. والمعنى (¬1): وأزلفت الجنة للمتقين، حال كون أولئك المتقين مقولًا لهم من قبل الله، أو على ألسنة الملائكة عندما شاهدوا الجنة ونعيمها هذا المشاهد، أو هذا الثواب، أو هذا الإزلاف، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، أو هو إشارة إلى الجنة والتذكير لما أنّ المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه، فضلًا عن تذكيره وتأنيثه، فإنهما من أحكام النفظ العربي، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} وقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وفي "التأويلات النجمية": هذا إشارة إلى مقعد صدق، ولو كانت الإشارة إلى الجنة لقال: هذه. انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {مَا تُوعَدُونَ} بالتاء خطابًا للمؤمنين، وابن كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة؛ أي: هذا القول هو الذي وقع الوعد به، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل. ومعنى الآية: أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربّهم، واجتنبوا معاصيه بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكرامًا لهم واطمئنانًا لنفوسهم، فيرون ما أعد لهم من نعيم وحبور ولذّة وسرور لا نفاد له ولا فناء، وتقول لهم الملائكة: هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربّكم على ألسنة رسله، وجاءت به كتبه. ثم بين المستحق لهذا النعيم، فقال: {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من المتقين، بإعادة الجار؛ أي: وأزلفت الجنة للمتقين لكل أوّاب منهم؛ أي: رجَّاع إلى الله؛ أي: كثير الرجوع إلى الله بالتوبة، فأوّلًا يرجع من الشرك إلى التوحيد، وثانيًا من المعصية إلى الطاعة، وثالثًا من الخلق إلى الحقّ، وقيل: هو المسبح، وقيل: هو الذاكر لله في الخلوة، قال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة، فيستغفر الله منها، وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسًا حتى يستغفر الله فيه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[33]

{حَفِيظٍ}؛ أي: حافظ التوبته من النقض، ولعهده من الرفض، أو الحافظ لذنوبه حتى يتوب منها، وقال قتادة: هو الحافظ لما استودعه من حقّه ونعمته، وقيل: هو الحافظ لأمر الله، وقال سهل رضي الله عنه: الأوَّاب: هو الراجع إلى الله تعالى بقلبه من الوسوسة إلى السكون إلى الله الحفيظ المحافظ على الطاعات والأوامر، وقال المحاسبيّ: الأوّاب: الراجع بقلبه إلى ربّه، والحفيظ: الحافظ قلبه في رجوعه إليه أن لا يرجع منه إلى أحد سواه، وقال الوراق: هو المحافظ لأوقاته وخطراته؛ أي: الخطرات القلبية والإلهامات الروعية، وفي الحديث: "من حافظ على أربع ركعات في أول النهار .. كان أوّابًا حفيظًا". 33 - {مَنْ}: بدل أو عطف بيان من {كُلِّ أَوَّابٍ} وقيل: يجوز أن يكون بدلًا بعد بدل من المتقين، وفيه نظر (¬1)؛ لأنّه لا يتكرّر البدل والمبدل منه واحد؛ أي: وأزلفت الجنة لمن {خَشِيَ} وخاف {الرَّحْمَنَ} سبحانه حال كونه متلبسًا {بِالْغَيْبِ} عن الناس، قال الضحاك والسدي: يعني: في الخلوة، حيث لا يراه أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر، وأغلق الباب. والجار والمجرور: متعلق بمحذوف هو حال من فاعل {خَشِيَ} أو مفعوله أو صفة لمصدره؛ أي: خشية متلبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب عنه، قال بعضهم: والخشية خوف يشوبه تعظيم، قالوا: ومن رزق الخشية لم يعدم الإنابة، ومن رزق الإنابة لم يعدم التفويض والتسليم، ومن رزق التفويض والتسليم .. لم يعدم الصبر على المكاره، ومن رزق الصبر على المكاره .. لم يعدم الرضى. والتعرض لعنوان الرحمانية (¬2)؛ للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته، أو بأنّ علمهم بسعة رحمته لا يصدهم عن خشيته، وأنهم عاملون بموجب قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. {وَجَاءَ} ربَّه يوم القيامة {بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}؛ أي: راجع إلى الله تعالى مخلص ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[34]

لطاعته، وقيل: المنيب: المقبل على الطاعة، وقيل: السليم من أمراض القلب، وصف (¬1) القلب بالإنابة مع أنها وصف المكلف لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى؛ أي: لا عبرة للإنابة والرجوع إلا إذا كان من القلب. والمراد: الرجوع إلى الله تعالى بما يحبّ ويرضى، وفي "التأويلات النجمية": بقلب منيب إلى ربّه، معرض عمَّا سواه، مقبل عليه بكليته. وقوله: {مَنْ} بتقدير القول؛ أي: يقال لهم: ادخلوها، والجمع باعتبار معنى {مَن} وقوله: {بِسَلَامٍ}: متعلق بمحذوف هو حال من فاعل 34 - {ادخلوها}؛ أي: يقال لهم من جهة الله سبحانه: ادخلوا الجنة حالة كونكم متلبسين بسلامة من العذاب، وزوال النعم، وحلول النقم أو بتسليم من جهة الله وملائكته عليكم؛ أي: مسلمًا عليكم، أو سلم بعضكم على بعض. والمعنى: أي (¬2) هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية الله إلى طاعته تائبين من ذنوبهم، ويلقون الله بقلوب منيبة إليه خاضعة له، وتقول لهم الملائكة تكرمةً لهم: ادخلو الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار، فلا خوف عليكم، ولا أنتم تحزنون. ثم يبشرون، ويقال لهم: {ذَلَكَ} اليوم الذي حصل فيه الدخول {يَوْمُ الْخُلُودِ} والدوام في الجنة إذ لا انتهاء له أبدًا، فاطمئنوا، وقروا عينًا فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده، ولا ظعن ولا رحيل، والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه الدخول المتحقق فيه، تقديره: الخلود إذ لا انتهاء له، فإن قيل (¬3): المؤمن قد علم في الدنيا أنه إذا دخل الجنة .. خلد فيها، فما فائدة هذا القول؟ فالجواب من وجهين: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الفتوحات.

[35]

الأول: أن الله تعالى قال: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} في الدنيا إعلامًا وإخبارًا، وليس ذلك قولًا يقوله عند قوله: {ادْخُلُوهَا}. الثاني: أنّ اطمئنان القلب بالقول أكثر. اهـ "كرخي". والخلود في الجَنَّة (¬1) بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها، وقال سعدي المفتي: ولا يبعد والله أعلم أن تكون الإشارة إلى زمان السلم، فتحصل الدلالة على أنَّ السلامة من العذاب، وزوال النعم حاصلة لهم مؤبَّدًا مخلَّدًا لا أنها مقتصرة على وقت الدخول. 35 - ثم زاد في البشرى، فقال: {لَهُمْ}؛ أي: للمتقين {مَا يَشَاءُونَ} من فنون المطالب، كائنًا ما كان سوى ما تقتضي الحكمة حجره، وهو ما كان خبيثًا في الدنيا أبدًا كاللواطة ونحوها، فإنهم لا يشاؤونها؛ لأنّ الله سبحانه يعصم أهل الجنة من شهوة محال أو منهيٍّ عنه. {فِيهَا}؛ أي: في الجنة، متعلق بـ {يَشَاءُونَ} ويجوز أن يكون حالًا من الموصول، أو من عائده، والأول أولى. اهـ "كرخي". قال القشيري: يقال لهم: قد قلتم في الدنيا: ما شاء الله كان، فاليوم ما شئتم كان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}: أي: عندنا زيادة في النعيم على ما يشاؤون، وهو ما لا يخطر ببالهم، ولا يندرج تحت مشيئتهم، من أنواع الكرامات التي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإنهم يسألون الله سبحانه، حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاؤوا، ثم يزيدهم من عنده ما لم يسألوه، ولم تبلغه أمانيهم، وقيل: إنّ السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال الله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} والأصح: أن المزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما روي بطرق مختلفة، فيجتمعون في كل يوم جمعة، فلا يسألون شيئًا إلا أعطاهم، وتجلى لهم، ويقال ليوم الجمعة في الجنة: يوم المزيد. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[36]

والمعنى: أي لهم إجابة لسؤالهم كل ما يشتهون، ثم نزيدهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينهم، ولم يدر بخلدهم، ونحو الآية قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. 36 - ثم خوف الله سبحانه أهل مكة، ومن دان دينهم بما وقع للأمم الماضية، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا}: خبرية بمعنى عدد كثير، وقعت مفعول {أَهْلَكْنَا}. و {مِنْ قَرْنٍ} مميزها ومبين لإبهامها {قَبْلَهُمْ}؛ أي قبل أهل مكة {مِنْ قَرْنٍ}؛ أي: من أمة؛ أي: وكثيرًا من القرون الذين كذبوا رسلهم أهلكنا قبل قومك يا محمد. {هُمْ}؛ أي: أولئك القرون {أَشَدُّ} وأقوى {مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مكة {بَطْشًا}؛ أي: أخذًا وبأسًا، كعاد وثمود وفرعون، ومحل الجملة: النصب على أنها صفة لكم، وفيه إشارة إلى إهلاك النفوس المتمردة في القرون الماضية إظهارًا لكمال القدرة والحكمة البالغة، لتتأدب به النفوس القابلة للخير، وتتعظ به القلوب السليمة. وقوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} معطوف على {أَهْلَكْنَا} فـ {الفاء} (¬1) لمجرد العطف والتعقيب، من نقب في الأرض إذا ذهب وطاف في أرجائها؛ أي: وكم أهلكنا قبل قومك يا محمد من الأمم المكذبة لرسلها، الموصوفين بشدّة البطش والقوّة، فساروا في البلاد، وطافوا في أرجاء الأرض هربًا من عذابنا حين رأوا أمارته، حال كونهم قائلين: {هَلْ} لنا {مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: هل لنا من مفرّ ومهرب ومخلص من أمر الله وعذابه، أو من الموت، فلم يجدوا مفرًّا ولا مهربًا، فـ {مَحِيصٍ}: مبتدأ خبره: مضمر، وهو لهم. و {مِنْ}: زائدة، والجملة مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {نقَّبوا}. ويجوز أن يراد: فنقب أهل مكة، وجالوا في أسفارهم، ومسايرهم للتجارة في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصًا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، ويحتمل أن تكون {الفاء}: سببية، عاطفة على جملة {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا}؛ أي: دالّةً على ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف.

أنَّ شدّة بطشهم أبطرتهم، وأقدرتهم، على التنقيب؛ أي: فبسبب شدّة بطشهم نقبوا في البلاد، وجالوا فيها، وأذلوها، وقهروا أهلها، واستولوا عليهم، وتصرفوا في أقطارها، فأهلكناهم، فهل لهم من محيص؛ أي: ليس لهم مخلص من عذابي؟ وجملة {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}: مستأنفة، واردة لنفي أن يكون لهم محيص؛ يعني: فإن أصرَّ أهل مكة .. فليحذروا من مثل ما حل بالأمم الماضية، فإنَّ الغاية هو الهلاك، والنهاية هو العذاب. والمعنى (¬1): أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم، وكانوا أشدّ من قومك بطشًا، وأكثر منهم قوّة، كعاد وثمود وتبع، فتقلبوا في البلاد، وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق، ولم يجدوا لهم من أمر الله مهربًا ولا ملجأ حين حم القضاء، وهكذا حالكم، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل في الدنيا، والآجل يوم القيامة. وقرأ الجمهور (¬2): {فَنَقَّبُوا} بفتح القاف مشددة، والظاهر: أنّ الضمير في {نقبوا}: عائد على {كَمْ}؛ أي: دخلوا البلاد من أنقابها وطرقها. والمعنى: طافوا في البلاد، وقيل: نقروا وبحثوا، والتنقيب: التنقير والبحث، قال امرؤ القيس في معنى التطواف: وَقَدْ نَقَّبْتُ فِيْ الآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيْتُ مِنَ الْغَنِيْمَةِ بِالإِيَابِ وروي: قد طوفت. ومثله قول الحارث بن خلدة: نَقَبُوْا فِيْ الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ المَوْ ... تِ وَجَالُوْا فِيْ الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ {فَنَقَّبُوا} متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب، وقوّتهم عليه، ويجوز أن يعود الضمير في {فَنَقَّبُوا} على قريش؛ أي: فنقّبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصًا حتى يؤملوه لأنفسهم؟ ويدلّ على عود الضمير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[37]

لأهل مكة قراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن يسار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو: بكسر القاف مشددة على صيغة الأمر لأهل مكة؛ أي: فسيحوا في البلاد وابحثوا، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو العالية وأبو عمرو في رواية: {نقبوا}: بفتح القاف مخفّفة، وقرىء: بكسر القاف خفيفة؛ أي: نقت أقدامهم وأخفاف إبلهم، من نقب خف البعير: إذا انتقب ودمي، ويحتمل أن يكون {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} على إضمار القول؛ أي: يقولون: هل من محيص من الهلاك، كما مرّ آنفًا، واحتمل أن لا يكون ثم قول؛ أي: لا محيص من الموت، فيكون توقيفًا وتقريرًا واستئنافًا، اهـ من "البحر المحيط". 37 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي (¬1): إنَّ فيما ذكر من قصتهم، أو فيما ذكر في هذه السورة، من أولها إلى آخرها من العبر والأخبار، وإهلاك القرى. {لَذِكْرَى}؛ أي: لتذكرة وعظة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}؛ أي: قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور، ويتفكر فيها كما ينبغي، فإنَّ من كان له ذلك يعلم أن مدار دمارهم هو الكفر، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير. قال الراغب: قلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه، ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به، من الروح والعلم والشجاعة وسائر ذلك، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}؛ أي: علم وفهم. انتهى، وفسَّره ابن عباس رضي الله عنهما بالعقل، وذلك لأنَّ العقل قوة من قوى القلب، وخادم من خدامه، فمن له أدنى عقل فله ذكرى، وقال أبو الليث: لمن كان له قلب؛ أي: عقل، فكني به عنه. انتهى. قال الفرّاء: وهذا جائز في العربية، تقول: مالك قلب، وما قلبك معك؛ أي: مالك عقل، وما عقلك معك، وقيل (¬2): المعنى: لمن كان له حياة، ونفس مميزة، فعبّر عن ذلك بالقلب؛ لأنّه وطنها ومعدن حياتها، ومنه قول امرىء القيس: أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِيْ ... وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِيْ القَّلْبَ يَفْعَلِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

وفي "الأسئلة المقحمة": كيف قال: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، ومعلوم أنّ لكل إنسان قلبًا؟ قلت: إنّ المراد هاهنا بالقلب: عقل، كني بالقلب عن العقل؛ لأنه محله ومنبعه كما قال تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} وسمعت بعض المشايخ يقول: لمن كان له قلب مستقر على الإيمان، لا ينقلب بالسراء والضرّاء. انتهى. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم، فإنَّ من فعله يقف على جلية الأمر، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر، فكلمة {أَوْ} لمنع الخلو دون الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب، كما يلوح به قوله: {وَهُوَ}؛ أي: والحال أن ذلك الملقي فهو حال من الفاعل. {شَهِيدٌ} من الشهود بمعنى الشاهد؛ أي: حاضر بذهنه ليفهم معانيه؛ لأنّ من لا يحضر ذهنه، فكأنه غائب أو شاهد بصدقه، فيتعظ بظواهره، وينزجر بزواجره. والمعنى: أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم، واستمعه والحال أنّ قلبه حاضر فيما يسمع، فإنَّ من لم يحضر قلبه فيما يسمع .. فهو غائب، وإن حضر بجسمه. والخلاصة: استمع الوعظ بغاية استماعه، حتى كأنه يرمى بشيء ثقيل من علو إلى سفل اهـ "خطيب". وقرأ الجمهور (¬1): {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} مبنيًا للفاعل و {السَّمْعَ}: نصب به؛ أي: أو أصغى سمعه مفكرًا فيه، وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهشم: {أَوْ أَلْقَى} مبنيًا للمفعول السمع رفع به؛ أي: السمع منه؛ أي: من الذي له قلب. قال مجاهد وقتادة: هذه الآية في أهل الكتاب، وكذا قال الحسن، وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة. والمعنى: إنّ فيما تقدّم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع، يتدبّر الحقائق، ويعي ما يقال له. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[38]

38 - ثم أعقب ذلك بذكر ما هو كالدليل على ما سلف، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أوجدنا السموات والأرض {وَمَا بَيْنَهُمَا} من أصناف المخلوقات {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}؛ أي: في قدر (¬1) ستّة أيّام من أيّام أول الدنيا، طول كل يوم ألف سنة من هذه الأيام. الأرض في يومين، ومنافعها في يومين، والسموات في يومين، ولو شاء .. لكان ذلك في أقل من لمح البصر، ولكنّه سن لنا التأنّي بذلك، فإن العجلة من الشيطان، إلا في ستة مواضع: أداء الصلاة إذا دخل الوقت، ودفن الميت إذا حضر، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب وحل، وإطعام الضيف إذا نزل، وتعجيل التوبة إذا أذنب. قال بعضهم: إذا فتح الله عليك بالتصريف .. فأتِ البيوت من أبوابها، وإيّاك والفعل بالهمة من غير أناة، وانظر إلى الحق سبحانه كيف خمر طينة آدم بيديه، وسواه وعدله، ثم نفخ فيه الروح، وعلمه الأسماء، فأوجد الأشياء على ترتيب ونظام، وكان قادرًا أن يكون آدم ابتداءً من غير تخمير، ولا شيء مما ذكر. {وَمَا مَسَّنَا} بذلك الخلق، مع كونه مما لا تقي القوى والقدر {مِنْ لُغُوبٍ}؛ أي: من إعياء ولا تعب ولا نصب، فإنه لو كان .. لاقتضى ضعفًا، فاقتضى فسادًا، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي، وأنتم تشاهدون الكل على حدٍّ سواء من نفوذ الأمر، وتمام التصرف، وفي "التأويلات النجمية": وما مسَّنا من لغوب؛ لأنها خلقت بإشارة أمر كن كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} فأنَّى يمسه اللغوب، وأنه صمد لا يحدث في ذاته حادث، انتهى. و {مِنْ}: زائدة، و {لُغُوبٍ}: فاعل، والجملة: إما حالية، أو مستأنفة. والمعنى (¬2): قسمًا بربك، إنا خلقنا السموات والأرض، وملأناهما بالعجائب في ستة أطوار مختلفة وما مسنا تعب ولا إعياء، ولا تزال عجائبنا تترى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[39]

كل يوم، فانظروا إليها، وتأمَّلوا في محاسنها، فهي لا تحصى، ولا يبلغها الاستقصاء، وكذبوا اليهود الذين قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، أوَّلها الأحد، وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فنحن لايمسنا لغوب ولا إعياء، ونحو الآية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}. وقرأ الجمهور (¬1): {لُغُوبٍ} بضم اللام، وقرأ علي والسلميّ وطلحة ويعقوب: بفتحها، وهما مصدران: الأول مقيس، وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع والوزوع. 39 - {فَاصْبِرْ} يا محمد {عَلَى مَا يَقُولُونَ}؛ أي: على ما يقوله المشركون في شأن البعث، من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد، حيث قالوا: هذا شيء عجيب؛ أي: هذا الذي يقوله محمد: نبعث بعد الموت شيء عجيب بعيد عن العقل، فإنَّ من خلق الخلق في تلك المدّة اليسيرة بلا إعياء ولا فتور، قادر على بعثهم، وجزائهم على ما قدَّموا من الحسنات والسيئات، أو على ما يقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر له بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي: هون عليك ولا تحزن لقولهم، وتلق ما يرد عليك منه بالصبر، وهذا قبل الأمر بقتالهم. {وَسَبِّحْ}؛ أي: ونزهه تعالى يا محمد عن العجز عمَّا يمكن، وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث، وعن وصفه بما يوجب التشبيه حالي كونك متلبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: بحمده على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها، وفي "الخطيب": فقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مشتغلًا بأمرين: أحدهما: عبادة الله. والثاني: هداية الخلق، فلما لم يهتدوا .. قيل له: أقبل على شغلك الآخر، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[40]

وهو العبادة. اهـ. {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}؛ يعني: وقت صلاة الفجر، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}؛ يعني: وقت صلاة العصر، وفضيلة هذين الوقتين مشهورة؛ لأنهما وقت تعاقب ملائكة الليل وملائكة النهار، والتسبيح فيهما بمكان، وقيل: المراد (¬1): صلاة الفجر، وصلاة العصر، وقيل: الصلوات الخمس، وقيل: صلّ ركعتين قبل طلوع الشمس، وركعتين قبل غروبها، والأول أولى. فإن قلت: لم قال هنا: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وقال في طه: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} بالضمير؟ قلت: لأنّه راعى هناك القياس؛ لأنّ الغروب للشمس كما أنَّ الطلوع لها، فأتى بالضمير لِسَبْقِ المرجع، وراعى هنا الفواصل، فهذا هو الفرق بين الموضعين، فتأمل. 40 - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ}؛ أي: وسبحه سبحانه وتعالى بعض ساعات الليل، وقيل: هي صلاة الليل، وقيل: ركعتا الفجر، وقيل: صلاة العشاء، والأول أولى. فقوله (¬2): {وَمِنَ اللَّيْلِ}: مفعول لفعل مضمر معطوف على {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يفسره {فَسَبِّحْهُ} و {مِنْ} للتبعيض، ويجوز أن يعمل فيه المذكور أيضًا، ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها، كما سيجيء في سورة قريش. {وَ} سبّحه {أَدْبَارَ السُّجُودِ}؛ أي: أعقاب الصلوات وأواخرها، جمع دبر، من أدبر الشيء: إذا ولّى، وأدبرت الصلاة: إذا انقضت، والركوع والسجود يعبّر بهما عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها، كما يعبّر بالوجه عن الذات؛ لأنّه أشرف أعضائها. وقرأ الجمهور - أي: جمهور السبعة - والحسن والأعرج: {وَأَدْبَارَ} بفتح الهمزة، جمع دبر، كطنب وأطناب، وفرأ نافع وابن كثير وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة، وشبل: بكسرها على المصدر، وقال (¬3) ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

جماعة من الصحابة والتابعين: أدبار السجود: الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر، وقد اتفق القرّاء السبعة في إدبار النجوم، أنه بكسر الهمزة كما سيأتي، وفي "تفسير المناسبات" (¬1): وسبح متلبسًا بحمد ربك قبل طلوع الشمس بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح وغيره، وقبل الغروب بصلاة العصر والظهر كذلك، فالعصر أصل في ذلك الوقت، والظهر تبع لها، ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود؛ لأنّه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية، التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية، بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار، والانضمام بعد الافتراق، مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طيّ الخلق ونشرهم، أتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام، فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: في بعض أوقاته، فسبحه بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل؛ لأنَّ الليل وقت الخلوات وهي ألذّ المناجاة، ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها .. أتبعها النوافل المقيَّدة بها، فقال: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}؛ أي: الذي هو الأكمل في بابه، وهو صلاة الفرض بما يصلي بعده من الرواتب، والتسبيح القول أيضًا. والمعنى - والله أعلم -: أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذّبين، وأنَّ الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة النصب، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر .. فزع إلى الصلاة. انتهى، يقال: حزبه الأمر: نابه واشتد عليه، أو ضغطه وفزع إليه: لجأ. والخلاصة (¬2): أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه، حامدًا له على أنعمه عليك وقت الفجر، ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات، وقال ابن عباس: الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن الليل العشاءان، وأدبار السجود النوافل بعد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[41]

الفرائض، روى البخاريّ عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسبَّح في أدبار الصلوات كلّها؛ يعني؛ قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وفي حديث مسلم: تحديد التسبيح بثلاث وثلاثين، والتحميد بثلاث وثلاثين، والتكبير بثلاث وثلاثين، وتمام المئة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، دبر كل صلاةٍ". 41 - {وَاسْتَمِعْ} أيها الرسول، أو أيها المخاطب ما أقول لك، وما أخبرك به في شأنّ أهوال يوم القيامة، فمفعول {اسْتَمِعْ}: محذوف، والوقف على {اسْتَمِعْ}. وفي حذف المفعول تهويل وتفظيع المخبر به، و {يَوْمَ} أول كلام مستأنف، عامله: محذوف، تقديره: يعلم المشركون عاقبة كفرهم وتكذيبهم، أو يخرجون من قبورهم. {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} بالحشر، وهو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس، فينادي بالحشر، والمراد بندائه: نفخه في الصور، سمّي نداء من حيث إنه جعله علمًا للخروج وللحشر، وإنما (¬1) يقع ذلك النداء كأذان المؤذن، وعلامات الرحيل في العساكر، وقيل: هو النداء حقيقةً، فيقف على صخرة بيت المقدس، ويضع أصبعه في أذنيه، وينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزِّقة، والشعور المتفرقة، إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وقيل: المنادي جبريل، والنافخ إسرافيل، قال الشهاب الخفاجي: وهو الأصح، كما دلت عليه الآثار. {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} إلى السماء، وهو صخرة بيت المقدس، فإنَّ بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلًا، أو ثمانية عشر ميلًا، وهو وسط الأرض، كما قاله علي رضي الله عنه ولا يصح ذلك إلا بوحي، أو من مكان قريب يصل نداؤه إلى الكل على سواء، وفي "كشف الأسرار": سمي قريبًا؛ لأنّ كل إنسان يسمعه من طرف أذنه، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[42]

من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة، ولعل ذلك في الإعادة، مثل: كن في البدء، والله أعلم. وكل ذلك مما لا مستند له من نقلٍ. وعبارة السمين: قوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} هو استماع على بابه، وقيل: هو بمعنى الانتظار، وهو بعيد، فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفًا؛ أي: استمع نداء المنادي، أو نداء الكافر بالويل والئبور، فعلى هذا يكون {يَوْمَ يُنَادِ} منصوبًا بيخرجون مقدرًا مدلولًا عليه بقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} وعلى الثاني يكون {يَوْمَ يُنَادِ} مفعولًا به؛ أي: انتظر ذلك اليوم. انتهى. وقرأ ابن كثير (¬1) {المنادي} بالياء وصلًا ووقفًا، ونافع وأبو عمرو: بحذف الياء وقفًا، وعيسى وطلحة والأعمش وباقي السبعة: بحذفها وصلًا ووقفًا اتباعًا لخط المصحف، ومن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها وقفًا فلأنَّ الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفًا نصبًا، والتاء هاءً، ويشدد المخفف، ويحذف في القوافي. 42 - {يَوْمَ ...} إلخ. بدل من {يَوْمَ يُنَادِ ...} إلخ. {يَسْمَعُونَ}؛ أي (¬2): الأرواح، وقيل: الأجساد؛ لأنه يمدها أربعين سنة، كما في "عين المعاني". {الصَّيْحَةَ} والصرخة، وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية. {بِالْحَقِّ}: إما حالٌ من الصيحة؛ أي: متلبسةً بالحق، أو من فاعل {يَسْمَعُونَ} أي: متلبسين بالحق، أو متعلق بـ {يَسْمَعُونَ} على أنَّ الباء للتعدية والعامل في الظرف: هو ما يدل عليه قوله: {ذَلَكَ} اليوم؛ أي: يوم النداء، وسماع صيحة النفخ {يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور، وهو من أسماء يوم القيامة، وسمّي يوم العيد يوم الخروج أيضًا تشبيهًا به. والمعنى: يوم يسمعون الصيحة متلبسةً بالحق الذي هو البعث، يخرجون من القبور إلى المحاسبة، ثم إلى إحدى الدارين، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. 43 - {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} في الدنيا بانقضاء الآجال من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، أو نحيي في الآخرة ونميت في الدنيا، والجملة: مستأنفة لتقرير أمر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[44]

البعث. {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} والمرجع للمجازاة في الآخرة لا إلى غيرنا، لا استقلالًا ولا اشتراكًا، فليستعدوا للقائنا، فتكرير الضمير بعد إيقاعه اسمًا؛ {إنّ} للتأكيد والاختصاص والتفرد. 44 - {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ} بدل من {يَوْمَ} الثاني، أو ظرف للمصير، أو ظرف للخروج. وقرأ الجمهور (¬1): {تَشَقَّقُ} بإدغام التاء في الشين، وباقي السبعة: بتخفيفها على حذف إحدى التاءين تخفيفًا، وقرىء: {تشقّق} بضم التاء، مضاوع شقّقت، على البناء للمفعول، وقرىء: {تنشق} مضارع انشقّت، وقرأ زيد بن عليّ: {تتشقّق} بإثبات التاءين على الأصل؛ أي: يخرجون من قبورهم يوم تتشقّق وتتصدّع وتنفتح {عَنْهُمْ}؛ أي: عن الموتى حال كونهم {سِرَاعًا}؛ أي: مسرعين إلى إجابة الداعي من غير التفات يمينًا وشمالًا، وهذا كقوله: {مهطعين إلى الداع} فهو حال من الضمير المجرور، والعامل فيه {تَشَقَّقُ} وقيل: محذوف، تقديره: يخرجون، فهو حال من الواو في {يخرجون}، قاله الحوفّي، ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملًا في {يَوْمَ تَشَقَّقُ} كما مرّ آنفًا. {ذَلِكَ} الإخراج بتشقّق الأرض عنهم {حَشْرٌ}؛ أي: بعث وجمع وسوق {عَلَيْنَا يَسِيرٌ}؛ أي: هيّن علينا للحساب والجزاء، فكيف ينكره عاقل؛ أي (¬2): نقول: كن فيكون، وهو كلام معادل لقول الكفرة: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}. وتقديم الجار والمجرور على عامله؛ لتخصيص اليسر به تعالى، فإنّ ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن من شأن، كما قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. وعبارة أبي حيّان: فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة وهو {عَلَيْنَا}؛ أي: يسير علينا، وحسَّن ذلك كون الصفة فاصلة. ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[45]

والمعنى (¬1): أي إلينا المصير في ذلك اليوم الذي تتصدّع فيه الأرض، فتخرج الموتى من صدوعها مسرعة، وذلك جمع هيّن علينا لا عسر فيه ولا مشقّة. 45 - ثم سلّى رسوله، وهدّد المشركين بقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}؛ أي: بما يقول المشركون من فريتهم على ربهم، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت، وغير ذلك مما لا خير فيه، ففيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لهم. {وَمَا أَنْتَ} يا محمد {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على المشركين {بِجَبَّارٍ}؛ أي: بمسلط عليهم تجبرهم، وتقسرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت مذكر، وهذا كقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}؛ أي: لست بمتسلّط عليهم تجبرهم على ما تريد، والآية منسوخة بآية السيف (¬2). {فَذَكِّرْ} وعظ {بِالْقُرْآنِ}؛ أي: بمواعظه {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}؛ أي: من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب؛ لأنَّ من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}. وختمت السورة بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} كما افتتحت بـ {ق وَالْقُرْآنِ} فحصلت المناسبة بين المبتدأ والمختتم. وقرأ ورش (¬3): بإثبات الياء بعد الدال في الوصل. والمعنى: أي وما أنت بمسلط عليهم تقسرهم على الإيمان، وتسيرهم طى ما تهوى وتريد، إنما أنت نذير، وما عليك إلا التبليغ، وعلينا الحساب، ثم أكد أنه مذكر لا مسيطر، وأن التذكير لا ينفع إلا من خشي ربه، فقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ ...} إلخ؛ أي (¬4): فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي، الذي أوعدته من عصاني، وخالف أمري؛ أي: بلّغ رسالة ربّك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراح. (¬4) المراغي.

وما يتذكر بها إلا من يخاف وعيد الله تعالى، وشديد عذابه، وهذا نحو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا برّ يا رحيم، وأما من لا يخاف وعيدنا، فنفعل بهم ما يوجبه أقوالهم، وتستدعيه أعمالهم من ألوان العقاب، وفنون العذاب. فائدة: كان (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بسورة ق في كثير من الأوقات؛ لاشتمالها على ذكر الله تعالى، والثناء عليه، ثمّ على علمه بما توسوس به النفوس، وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان، ثم تذكير الموت وسكرته، ثم تذكير القيامة وأهوالها، والشهادة على الخلائق بأعمالهم، ثمّ تذكير الجنة والنار، ثمّ تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور، ثم بالمواظبة على الصلوات. قال السيوطي في كتاب "الوسائل": أوّل من قرأ في آخر الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ...} الآية. عمر بن عبد العزيز، ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ق، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} إلى قوله: {مَا أَحْضَرَتْ} وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ: الكافرون والإخلاص، ذكر ذلك ابن الصلاح، وفي الحديث: "من قرأ سورة ق ... هوَّن الله عليه تارات الموت وسكراته" قيل: تارات الموت إفاقاته وغشياته، كما في "حواشي سعدي المفتي". الإعراب {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)}. {وَأُزْلِفَتِ}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية. {أزلفت الجنة}: فعل ونائب ¬

_ (¬1) روح البيان.

فاعل. {لِلْمُتَّقِينَ}: متعلق بـ {أزلفت}، والجملة: معطوفة على جملة {نَقُولُ لِجَهَنَّمَ}: أو مستأنفة. {غَيْرَ بَعِيدٍ}: منصوب على الظرفية؛ لقيامه مقام الظرف؛ لأنّه صفته؛ أي: مكانًا غير بعيد، وأجاز الزمخشري نصبه على الحال، قال: وتذكيره لأنّه على زنة المصدر، والمصادر يستوي فيه المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف؛ أي: شيئًا غير بعيد. {هَذَا}: مبتدأ. و {مَا}: خبره، وجملة {تُوعَدُونَ}: صلة لـ {مَا}، والعائد: محذوف، تقديره: ما توعدونه، والجملة: معترضة بين البدل والمبدل منه، لا محل لها من الإعراب. {لِكُلِّ أَوَّابٍ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، بدل من قوله: {لِلْمُتَّقِينَ}: بتكرار الجار. {حَفِيظٍ}: صفة {أَوَّابٍ} {مَنْ خَشِيَ}: بدل من {كل أواب} بعد كون كل بدلًا من المتقين، كما مرّ، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم من خشي الرحمن، وجملة {خَشِيَ الرَّحْمَنَ}: صلة لـ {مَن} الموصولة. {بِالْغَيْبِ}: حال من المفعول به؛ أي: خشيه، وهو غائب لا يعرفه. {وَجَاءَ}: معطوف على {خَشِيَ}، {بِقَلْبٍ}: حال من فاعل {جاء}؛ أي: حال كونه متلبسًا بقلب، أو متعلق بـ {جاء}. {مُنِيبٍ} صفة {قلب}. {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}. {ادْخُلُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مقول لقول محذوف؛ أي: ويقال لهم: ادخلوها. {بِسَلَامٍ}: حال من الفاعل؛ أي: سالمين من كل مخوفة، وهي حال مقارنة. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {يَوْمُ الْخُلُودِ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {لَهُمْ}: خبر مقدم. و {مَا}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يَشَاءُونَ}: صلة لـ {مَا}، {فِيهَا}: حال من الموصول، أو متعلق بـ {يَشَاءُونَ}. {وَلَدَينَا} {الواو}: عاطفة، {لدينا}: متعلق بمحذوف خبر مقدم. {مَزِيدٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على ما قبلها. {وَكَمْ} {الواو}: استئنافية. {كم}: خبريّة بمعنى عدد كثير في محل النصب، مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنَا}. {أَهْلَكْنَا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لذكر إهلاك قرون ماضية. {قَبْلَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف حال

من {كم} الخبرية. {مِنْ قَرْنٍ}: تمييز {كم}، و {مِنْ}: زائدة. {هُمْ}: مبتدأ. {أَشَدُّ}: خبره، والجملة: صفة لـ {كم} أو لتمييزها. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {أَشَدُّ}. {بَطْشًا} تمييز محول عن المبتدأ، منصوب بـ {أَشَدُّ}. {فَنَقَّبُوا} {الفاء}: عاطفة. {نقبوا}: فعل وفاعل معطوف على معنى {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا، أو معطوف على {أَهْلَكْنَا}؛ أي: كم من قرن أردنا إهلاكهم فنقبوا في البلاد هربًا من إهلاكنا وعذابنا. {فِي الْبِلَادِ}: متعلق بـ {نقبوا}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. {مِنْ}: زائدة. {مَحِيصٍ}: مبتدأ، خبره: محذوف، تقديره: هل من محيص لهم، والجملة الاسمية، مقول لقول محذوف حال من فاعل {نقّبوا}؛ أي: فنقّبوا في البلاد قائلين: هل من محيص. {إنَّ}: حرف نصب. {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم لـ {إن}. {لَذِكْرَى} {اللام}: حرف ابتداء. {ذكرى}: اسم {إنَّ} مؤخر، وجملة {إنَّ}: مستأنفة. {لِمَن}: متعلق بمحذوف صفة {لَذِكْرَى}، {كَانَ}: فعل ناقص. {لَهُ}: خبر {كاَنَ}: مقدم. و {قَلْبٌ}: اسمها مؤخر، وجملة {كاَنَ} صلة لـ {مِن} الموصولة. {أَوْ}: حرف عطف. {أَلْقَى السَّمْعَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: معطوفة على جملة {كاَنَ}. {وَهُوَ} {الواو}: حالية. {هو شهيد}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل {أَلْقَى}. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}. {وَلَقَدْ}: {الواو}: استئنافية و {اللام}: موطئة للقسم. {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ}: على وفاعل ومفعول به. {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. {وَمَا}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {بَيْنَهُمَا}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا}. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: متعلق بـ {خَلَقْنَا}، {وَمَا مَسَّنَا} {الواو}: عاطفة، أو حالية، {مَا}: نافية. {مَسَّنَا}: فعل ماض ومفعول به.

{مِن}: زائدة. {لُغُوبٍ}: فاعل، والجملة: معطوفة على جملة {خَلَقْنَا} أو حال من فاعل {خَلَقْنَا}. {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}. {فَاصْبِرْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت إصرارهم على كفرهم، وتماديهم على تعنتهم، وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: اصبر. {اصبر}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقّررة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {عَلَى مَا يَقُولُونَ}: متعلق بـ {اصبر}، وجملة {يَقُولُونَ} صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَسَبِّحْ}: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على {اصبر}. {بِحَمْدِ رَبِّكَ}: حال من فاعل {سبح}؛ أي: سبح متلبسًا بحمد ربك. {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {سبح}. {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}: ظرف معطوف على الظرف قبله. {وَمِنَ اللَّيْلِ} {الواو}: عاطفة. {وَمِنَ اللَّيْلِ}: متعلق بـ {سبحه}. {فَسَبِّحْهُ} {الفاء}: زائدة، {سبحه}: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}: ظرف معطوف على {وَمِنَ اللَّيْلِ}. {وَاسْتَمِعْ} {الواو}: عاطفة. {استمع}: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على {فَاصْبِرْ} أو على ما بعده، ومفعوله: محذوف، تقديره: واستمع نداء المنادي يوم ينادي. و {يَوْمَ}: متعلق بـ {استمع}. وقيل: تقدير المفعول: ما أقول لك، فيكون {يَوْمَ يُنَادِ}: منصوبًا بـ {يخرجون} مقدرًا مدلولًا عليه بقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}. و {يُنَادِ الْمُنَادِ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} وحذفت ياء {يُنَادِ}: في الخطّ تبعًا للرسم العثماني، أو تبعًا للفظ؛ لأنّها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين. {الْمُنَادِ}؛ فاعل وحذفت الياء منه في بعض القراءات تبعًا للرسم العثماني أيضًا. {مِنْ مَكَانٍ}: متعلق بـ {يُنَادِ}. {قَرِيبٍ}: صفة {مَكَانٍ}، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ} الظرف:

بدل من الظرف قبله؛ أعني: يوم يناد المناد، وجملة {يَسْمَعُونَ}: مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {الصَّيْحَةَ}: مفعول به. {بِالْحَقِّ}: حال من {الواو} في {يَسْمَعُونَ} أو من الصيحة. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {يَوْمُ الْخُرُوجِ}: خبره، والجملة: مستأنفة. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {نَحْنُ}: ضمير فصل أو مبتدأ، وجملة {نُحْيِي}: خبر {إِنَّا} أو خبر {نَحْنُ} والجملة: خبر {إنّ}. {وَنُمِيتُ}: معطوف على {نُحْيِي}. {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {نُحْيِي} أو على جملة {إنَّ}. {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. {يَوْمَ}: بدل من الظرف الثاني؛ أعني: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} أو متعلق بـ {الْمَصِيرُ}. {تَشَقَّقُ}: فعل مضارع. {الْأَرْضُ}: فاعل. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {تَشَقَّقُ}. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {سِرَاعًا}. حال من الضمير في {عَنْهُمْ}. {ذَلِكَ حَشْرٌ}: مبتدأ وخبره، والجملة: مستأنفة. {عَلَيْنَا}: متعلق بـ {يَسِيرٌ}. و {يَسِيرٌ}: صفة لـ {حَشْرٌ}. {نَحْنُ أَعْلَمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. {بِمَا}: متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {يَقُولُونَ}: صلة لـ {مَا}، ويصح كون {مَا} موصولة أو مصدرية. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {مَا}: حجازية. {أَنتَ}: اسمها. {عَلَيْهِمْ}: متعلق {بِجَبَّارٍ} و {جبار}: خبر {مَا} الحجازية، و {الباء}: زائدة، وجملة {مَا} الحجازية: معطوفة على جملة {نَحْنُ أَعْلَمُ}. {فَذَكِّرْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك من علمنا بقولهم، وعدم سيطرتك عليهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: ذكّر بالقرآن. {ذكّر}: فعل أمر وفاعل مستتر. {بِالْقُرْآنِ}: متعلق بـ {ذكر}، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَخَافُ}: صلتها. {وَعِيدِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه: فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ أجتزاء عنها

بالكسرة، أو للفاصلة، أو اتباعًا للرسم، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة: في محل الجر مضاف إليه، مبني على السكون. التصريف ومفردات اللغة {وَأُزْلِفَتِ}؛ أي: قربت، وأدنيت الجنة، تقول: أزلفه: قرّبه، وأزلف الأشياء: جمعها، وأزلف الدليل القوم: حملهم على التقدم، وأزعجهم مزلفة بعد مزلفة؛ أي: مرحلة بعد مرحلة. {غَيْرَ بَعِيدٍ}؛ أي: في مكان غير بعيد منهم، بل هو بمرأى منهم، بحيث ينظرون إليها قبل دخولها، فيكون انتصابه على الظرفية كما مرّ. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ}؛ أي: هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل. {لِكُلِّ أَوَّابٍ} الأوَّاب: الرجَّاع الذي يرجع عن المعصية إلى الطاعة، وفي "المفردات": الأوّاب كالتوّاب، وهو الراجع إلى الله بترك المعاصي، وفعل الخيرات ومنه قيل للتوبة: أوبة، والفرق بين الأوب والرجوع: أنَّ الأوب ضرب من الرجوع، وذلك أنه لا يقال: إلا في الحيوان الذي له إرادة وقصد، والرجوع يقال فيه وفي غيره، آب أوبًا وإيابًا ومآبًا، والمآب مصدر منه، واسم المكان والزمان. {حَفِيظٍ}؛ أي: حافظ لحدود الله، وشرائعه، وقال المحاسبي: الأوّاب: الراجع بقلبه إلى ربه، والحفيظ: الحافظ قلبه في رجوعه إليه أن لا يرجع منه إلى أحد سواه، كما مرّ بسطه. {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وفي "عين المعاني": الخشية: انزعاج القلب عند ذكر السيئة وموجبها، وقال الواسطي: الخشية: أرق من الخوف؛ لأنّ الخوف للعامّة من العقوبة، والخشية من نيران الله في الطبع، كما مرّ. {بِالْغَيْبِ}؛ أي: خاف عقاب ربّه، وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد.

{مُنِيبٍ}؛ أي: مخلص مقبل على طاعة الله، قال في "المفردات": النوب: رجوع الشيء مرّة بعد أخرى، والإنابة إلى الله: الرجوع إليه بالتوبة، وإخلاص العمل. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}؛ أي: الدوام والبقاء في الجنة، إذ لا انتهاء له أبدًا، قال الراغب: الخلود: هو تبرّي الشيء عن اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم: الأيّام خوالد، وذلك لطول مكثها، لا لدوام بقائها، والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها. {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}؛ أي: وعندنا زيادة في النعيم على ما يشاؤون، وقال الراغب: الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء من نفسه شيء آخر. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}: القرن الجيل من الناس، والقوم المتقرنون في زمان. {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} قال في "القاموس": نقَّب في الأرض ذهب، كأنقب ونقب، وعن الأخبار: بحث عنها أو أخبر بها، والنقب: الطريق في الجبل؛ أي: ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب، ويقال لمن طوف في الأرض: نقب فيها، قال أمرؤ القيس: فَقَدْ نَقَّبْتُ فِيْ الآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيْتُ مِنَ الْغَنِيْمَة بِالإِيَابِ {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}؛ أي: هل من معدل ومهرب من عذاب الله؟ وفي "القاموس": حاص عنه يحيص حيصا وحيصة وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا: عدل وحاد كانحاص، أو يقال للأولياء: حاصوا، وللأعداء: انهزموا، والمحيص: المحيد والمعدل والمميل والمهرب، ودابة حيوص نفور، والحيصاء: الضيقة الحياء، وهو هنا اسم مكان من حاص، وأصله: محيص، بوزن مفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الحاء، فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد. {لَذِكْرَى}؛ أي: تذكرةً.

{قَلْبٌ}؛ أي: لبٌّ يعي به. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}؛ أي: أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي. {وَهُوَ شَهِيدٌ}؛ أي: حاضر، فهو من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به: الفطن، إذ غيره كأنه غائب. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أصله: أيوام، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت فيها الياء. {مِنْ لُغُوبٍ} قال الراغب: اللغوب: التبع والنصب، يقال: أتانا ساعيًا لاغبًا خائفًا تعبًا، وفي "القاموس": لغب لغبًا ولغوبًا، كمنع وسمع وكرم: أعيى أشد الإعياء، وفي "المختار": اللغوب بضمتين: التعب والإعياء، وبابه دخل، ولغب بالكسر لغوبًا، لغة ضعيفة، وفي "المصباح": أنّه من باب قتل. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} بفتح الهمزة، جمع دبر بضمتين، من أدبرت الصلاة: إذا انقضت، وأدبار السجود: النوافل بعد المكتوبات، وقيل: الوتر بعد العشاء اهـ "بيضاوي". {وَاسْتَمِعْ}؛ أي: لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، والسمع: إدراك المسموع بالإصغاء، والفرق بين المستمع والسامع: أنَّ المستمع: من كان قاصدًا للسماع مصغيًا إليه، والسامع: من اتفق سماعه من غير قصد إليه، فكل مستمع سامع من غير عكس. {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} وقف ابن كثير على {ينادي} بالياء، والباقون: بدونها، ووجه إثباتها: أنه لا مقتضى لحذفها، ووجه حذفها وقفًا، اتباعًا للرسم، والوقف محل تخفيف، وأما المنادي فأثبت ابن كثير أيضًا ياءه وصلًا ووقفًا، ونافع وأبو عمرو: بإثباتها وصلًا وحذفها وقفًا، وباقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا، فمن أثبت فلأنّه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم، ومن خص الوقف بالحذف، فلأنّه محل راحة ومحل تغيير، اهـ "سمين". {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}؛ أي: بحيث لا يخفى الصوت على أحد. {الصَّيْحَةَ} وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية، والصيحة والصياح: الصوت بأقصى

الطاقة. {وَنُمِيتُ} أصله: نموت بوزن نفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. {الْمَصِيرُ} أصله: المصير بوزن مفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الصاد فسكنت فصارت حرف مدّ. {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ}؛ أي: تتصدّع، بحذف إحدى التاءين من تتشقق مع تخفيف الشين، وقرىء: بتشديدها بإدغام التاء الثانية فيها. {سِرَاعًا} جمع سريع، والسرعة: ضد البطء، ويستعمل في الأجسام والأفعال، ويقال: سرع فهو سريع، وأسرع فهو مسرع. {بِجَبَّارٍ} من الجبر، وأصل الجبر: إصلاح الشيء بضرب من القهر، والجبّار في اسم الله تعالى هو: الذي جبر العباد على ما أراد، وهو صيغة مبالغة من جبر الثلاثي، فإنّ فعالًا إنما يبنى من الثلاثي نحو الفتّاح والعلام، ولم يجيء من أفعل بالألف إلا دراك. {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} والوعيد: التخويف بالعذاب، ويستعمل في نفس العذاب. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التأكيد في قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ}؛ لأنّه تأكيد للإزلاف، كقولهم: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}. ومنها: التعرض لعنوان الرحمانية، في قوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته، أو بأنّ علمهم بسعة رحمته لا يصدّهم عن خشيته، وأنهم عاملون بموجب قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. ومنها: وصف القلب بالإنابة، في قوله: {بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} مع أنها وصف المكلّف، لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى؛ أي: لا عبرة للإنابة والرجوع، إلا إذا كان من القلب، والمراد بها: الرجوع إلى الله تعالى بما يحبّ ويرضى.

ومنها: المبالغة في الثناء على الخاشي، في قوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}؛ لأنّه إذا خشيه وهو عالم بسعة رحمته .. فناهيك بخشيته التي ما بعدها خشية، كما أثنى عليه بالخشية، مع أنَّ المخشي عنه غائب. ومنها: إطلاق اسم الجزء على الكل، في قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} إذا فسّرناه بالصلاة؛ أي: صلّ حامدًا لربّك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ}. ومنها: تكرار {يَوْمَ} في قوله: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} {يَوْمُ الْخُرُوجِ} {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ}؛ تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا منه. ومنها: الطباق في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}. ومنها: الحصر في قوله: {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}. ومنها: الفصل بين الموصوف والصفة بمتعلقها، في قوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}؛ لإفادة الحصر والاختصاص؛ لأنّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر؛ أي: لا يتيسّر ذلك إلا على الله سبحانه، اهـ "خطيب". ومنها: التعبير بالمستقبل عن الماضي، في قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} لإفادة الاستمرار والتجدّد. ومنها: تكرير الضمير في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي} لإفادة التأكيد والاختصاص والتفرّد. ومنها: توافق الفاصلة في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}؛ لأنّه من المحسنات البديعية، كما مرّ. ومنها: الحذف والزيادة في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

موجز ما تضمَّنته هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - إنكار المشركين للنبوّة والبعث. 2 - الحثّ على النظر في السماء وزينتها، وبهجة بنائها، وفي الأرض وجبالها الشامخات، وزروعها النضرات، وأمطارها الثجاجات. 3 - العبرة بالدول الهالكات، كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع، وما استحقوا من الوعيد والعذاب. 4 - تقريع الإنسان على أعماله، وأنه مسؤول عن دخائل نفسه في مجلس أنسه، وعند إخوته، وفي خلوته، وأنه محوّط بالكرام الكاتبين يحصون أعماله، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته، وحانت منيّته .. حوسب على كل قول وكل عمل، وشهدت عليه الشهود، وكشفت له الحجب. 5 - إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلًا. 6 - إنّ القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع، يستمع ما يلقى إليه. 7 - تسلية رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يقول المشركون، من إنكار البعث، وتهديدهم على ذلك. 8 - أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح، آناء الليل وأطراف النهار. 9 - أمر رسول الله بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد الله تعالى، ويخشى عقابه (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وهذا آخر ما أردناه من شرح هذه السورة الكريمة، وقد فرغت منها قبيل المغرب يوم السبت، الثاني عشر من شهر الربيع الآخر، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة 12/ 4/ 1415 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلّى الله وسلّم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين يا ربّ العالمين.

سورة الذاريات

سورة الذاريات سورة الذاريات مكيّة، نزلت بعد الأحقاف، قال القرطبي في قول الجميع، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة الذاريات بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وهي ستون آيةً (¬1)، وثلاث مئة وستون كلمةً، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفًا، سمّيت بالذاريات؛ لذكر الذاريات فيها. مناسبتها لما قبلها من وجهين (¬2): الأوّل: إنّه قد ذكر في السورة السابقة، البعث والجزاء والجنة والنار وافتتح هذه بالقسم بأنّ ما وعدوا من ذلك صدق، وأنّ الجزاء واقع. الثاني: أنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل. وقال أبو حيان (¬3): مناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. وقال في أوّل هذه بعد القسم: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)}. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: وفيها من المنسوخ آيتان: أحدهما: قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} (الآية 19)، نسخ ذلك بآية الزكاة. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

والثانية: قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} (الآية 54). نسخت بقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}. المناسبة هاهنا أمور يجمل بك أن تفهمها (¬1): 1 - بعد أن بيّن الحشر بدلائله وقال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} ثمّ أصروا على ذلك غاية الإصرار، لم يبق إلا اليمين فقال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) ... إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)}. 2 - أنّ الإيمان التي حلف بها الله سبحانه في كتابه، كلها دلائل على قدرته، أخرجها في صورة الإيمان، كما يقول القائل للمنعم عليه: وحقّ نعمك الكثيرة، إني لا أزال أشكرك، فيذكر النعم وهي سبب لدوام الشكر، ويسلك بها مسلك القسم، وجاءت الآيات هكذا مصدرة بالقسم؛ لأن المتكلم إذا بدأ كلامه ¬

_ (¬1) المراغي.

به .. علم السامع أنّ هاهنا كلامًا عظيمًا يجب أن يصغي إليه، فإذا وجَّه همَّه لسماعه .. خرج له الدليل والبرهان المتين في صورة اليمين. 3 - في السورة التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف المقطعة، كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر، وهي التي يتمّ بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية في سورة الصافّات فقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)}. وأقسم في سورتي النجم والضحى لإثبات الرسالة، فقال في الأولى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)}، وقال في الثانية: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}. وأقسم في سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء. 4 - في السور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية، أقسم بالساكنات، فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)}. وفي السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات، فقال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}؛ لأنّ الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق. 5 - كانت العرب تحترز عن الإيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على سننهم، فحلف بكل شريف، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتًا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقًا، وإلا أصابه شؤم الإيمان، وناله المكروه في بعض الأيمان. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) حال المفترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذّبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعبدوا مع الله سبحانه غيره من وثن أو صنم .. أردف ذلك بذكر حال المتقين، وما يتمتّعون به من النعيم المقيم، في جنّات تجري من تحتها الأنهار، جزاء إحسانهم في أعمالهم، وقيامهم في الليل للصلاة، والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للفقراء ¬

_ (¬1) المراغي.

والمساكين، ونظرهم في دلائل التوحيد، التي في الآفاق والأنفس، وتفكيرهم في ملكوت السموات والأرض، مصدقين قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}. ثمّ أقسم بربّ السماء والأرض، إنّ ما توعدون من البعث والجزاء لحق، لا شك فيه، كما لا شك في نطقكم حين تنطقون. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر إنكار قومه بالبعث والنشور، حتى أقسم لهم بعزّته أنه كائن لا محالة .. سلّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأبان له أنه ليس ببدع في الرسل، وأنّ قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنهم إن تمادوا في غيّهم، وأصرّوا على كفرهم، ولم يقلعوا عمّا هم عليه .. فسيحل بهم مثل ما حلّ بمن قبلهم من الأمم الخالية. وذكر إبراهيم عليه السلام من بين الأنبياء؛ لكونه شيخ المرسلين، وكون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على سننه، كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} ولأنّ العرب كانت تجله وتحترمه، وتدعي أنها على دينه. وأتى (¬1) بالقصص بأسلوب الاستفهام؛ تفخيمًا لشأن الحديث، كما تقول لمخاطبك: هل بلغك كذا وكذا؟ وأنت تعلم أنه لم يبلغه؛ توجيهًا لأنظاره حتى يصغي إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر، لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة تنبيهًا إلى أنّ الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحي. أسباب النزول قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سريّة، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعدما فرغوا، فنزلت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

هذه الآية: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالذَّارِيَاتِ}؛ أي: أقسمت لكم يا أهل مكة بالرياح التي تذروا التراب ونحوه، وتطيره من الأرض {ذَرْوًا}؛ أي: إطارة وإثارة، إنما توعدون لواقع لا محالة، يقال: ذرت الريح الشيء ذروا وأذرته: أطارته وأذهبته، وانتصاب {ذَرْوًا} على المصدرية، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول: محذوف، كما قدّرناه؛ أعني: التراب ونحوه، وفي "البيضاوي": {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}، يعني: الرياح تذرو التراب وغيره، أو النساء الولود، فإنّهنّ يذرين الأولاد. اهـ. والأول أولى؛ لأنّه أدل على القدرة، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: لو حبس الله الريح عن الأرض ثلاثة أيام .. ما بقي على الأرض شيء إلا نتن. وقرأ أبو عمرو (¬1) وحمزة: بإدغام تاء {الذاريات} في ذال {ذَرْوًا}، وقرأ الباقون: بدون إدغام وقيل: المقسم به مقدر، وهو رب الذاريات وما بعدها، والأول أولى. 2 - {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)}؛ أي: فأقسمت لكم بالسحب الحاملات التي تحمل وقرًا؛ أي: حملًا ثقيلًا، وهو الماء، كما تحمل ذوات الأربع الوقر، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}، وفي "البيضاوي": فالسحب الحاملات للأمطار، أو الرياح الحاملات للسحاب، أو النساء الحوامل. انتهى. قرأ الجمهور: {وِقْرًا} بكسر الواو، وهو اسم لما يُوقر؛ أي: يحمل، والمراد هنا: المطر، وقرىء: بفتحها، على أنه مصدر، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول به: محذوف؛ أي: فالسحب الحاملات للأمطار وقرًا؛ أي: حملًا، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة. 3 - {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)}؛ أي: فأقسمت لكم بالسفن التي تجري في البحر ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[4]

بالرياح جريًا يسرًا؛ أي: سهلًا ليّنًا {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)}. وانتصاب {يُسْرًا} على المصدرية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على الحال؛ أي: ذا يسر وسهولة، وفي "البيضاوي": {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)}؛ أي: فالسفن الجارية في البحر سهلًا، أو الرياح الجارية في مهابها، أو الكواكب التي تجري في منازلها. 4 - {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}؛ أي: فأقسم لكم بالملائكة التي تقسم الأمور والأشياء من الأمطار والأرزاق وغيرهما؛ إنما توعدون لواقع، وانتصاب {أَمْرًا} على المفعولية، والمراد بالمقسّمات: الملائكة، وإيراد جمع المؤنث السالم فيهم بتأويل الجماعات، وفي "كشف الأسرار": هذا كقوله {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)}. وقيل (¬1): إنّ المراد بالذاريات، والحاملات والجاريات والمقسمات: الرياح، فإنها توصف بجميع ذلك؛ لأنّها تذرو التراب، وتحمل السحاب، وتجري في الهواء، وتقسم الأمطار، وهو ضعيف جدًّا. قال عبد الرحمن بن سابط: يدبّر أمر الأرض أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، فجبريل على الجنود والرياح، وميكائيل على القطر والنبات، وملك الموت على قبض الأرواح، وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به، وأضاف هذه الأفعال إلى هذه الأشياء؛ لأنها أسباب لظهورها، كقوله تعالى حكاية عن جبريل: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. وإنما الله هو الواهب الغلام، لكن لمّا كان جبريل سبب ظهوره .. أضاف الهبة إليه. و {الفاء} فيها: لترتيب الأقسام بها، والترتيب في هذه الأقسام ترتيب ذكريّ أو رتبيّ، باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على قدرته تعالى، ووضيح المقام: أنَّ الإيمان الواقعة في القرآن، وإن وردت في صورة تأكيد المحلوف عليه، إلا أنّ المقصود الأصليّ منها تعظيم المقسم به، لما فيه من الدلالة على كمال القدرة، فيكون المقصود بالحلف: الاستدلال به على المحلوف عليه، وهو هنا صدق الوعد بالبعث والجزاء، فكأنه قيل: من قدر على هذه الأمور ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[5]

العجيبة .. يقدر على إعادة ما أنشاه أولًا، فإذا كان كذلك، فالمناسب في ترتيب الإقسام بالأمور المتباينة أن يقدم ما هو أدل عى كمال القدرة، فالرياح أدلّ عليها بالنسبة إلى السحب، لكون الرياح أسبابًا لها، والسحب لغرابة ماهيّتها، وكثرة منافعها، ورقّة حاملها الذي هو الرياح، أدلّ عليه بالنسبة إلى السفن، وهذه الثلاثة أدل عليه بالنسبة إلى الملائكة الغائبين عن الحسّ، إذ الخصم ربّما ينكر وجود من هو غائب عن الحسّ، فلا يتمّ الاستدلال، وهذا على كون الترتيب على طريق التدلّي والتنّزل، ويصح أن يكون على طريق الترقّي، لما في كل منها من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه، وأدنى من وجه آخر، فالملائكة المدبرات أعظم وأنفع من السفن، وهي باعتبار أنها بيد الإنسان يتصرّف فيها كما يريد، ويسلم بها من المهالك أنفع من السحب، والسحب لما فيها من الأمطار أنفع من الرياح. اهـ ملخصًا من "زاده" و"الشهاب". وفي "الخازن": {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}؛ يعني: الملائكة، يقسّمون الأمور من الأرزاق، والأمطار، وغيرهما بين الخلق على ما أمروا به، وقيل: هم أربعة كما مرّ، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء، الأمين عليه، وصاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح، وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح، كما مرّ؛ لأنّها تنشىء السحاب وتثيره، ثمّ تحمله وتنقله، ثمّ تجري به جريًا سهلًا، ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته. والمعنى: أقسم بالذاريات وبهذه الأشياء، وقيل: فيه مضمر، كما مرّ تقديره: أقسم برب الذاريات. 5 - ثمّ ذكر جواب القسم، فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} و {ما} (¬1): إما موصولة والعائد: محذوف؛ أي: إنّ الذي توعدونه من البعث والحساب، أو من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

الثواب والعقاب {لَصَادِقٌ}؛ أي: لموعود محقّق لا خلف فيه، قال في "الإرشاد": وصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضى في أنّ اسم الفاعل مسند إلى المفعول به، إذ الوعد مصدوق، والعيشة مرضية. وقال القاضي زكرياء: إن قلت: كيف قال ذلك، مع أنّ الصادق وصف للواعد لا لما يوعد؟ قلت: وصف به ما يوعد مبالغة، أو هو بمعنى مصدوق، كعيشة راضية، وماء دافق؛ أي: عيشة مرضية وماء مدفوق، فاسم الفاعل جاء بمعنى اسم المفعول انتهى. وقال ابن الشيخ: أي: لذو صدق على أنّ البناء للنسب كتامر ولابن؛ لأنّ الموعود لا يكون صادقًا، بل الصادق هو الواعد، وإما مصدرية؛ أي: إن وعدكم بالثواب، ووعيدكم بالعذاب لصادق؛ أي: لمحقّق لا محالة، إذ يحتمل {تُوعَدُونَ} أن يكون مضارع وعد وأوعد، والثاني: هو المناسب للمقام؛ لأنّ الكلام مع المنكرين. 6 - {وَإِنَّ الدِّينَ}؛ أي: وإنّ الجزاء على الأعمال لحاصل، وكائن لا محالة، فإنّ من قدر على هذه الأمور البديعة المخالفة لمقتضى الطبيعة .. فهو قادر على البعث الموعود، قال بعضهم: قد وعد الله سبحانه المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبّة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان، كما قال: "ألا من طلبني وجدني". ووعد الله واقع ألبتة، ومن أوفى بوعده من الله، وأوعد الفاسقين بالنار، والمصرين بالبغضاء، والأعداء بالبعد، والجاهلين الغافلين بالفراق، والبطالين بالفقدان. قال بعضهم: ما الحكمة في معنى القسم من الله سبحانه، فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده؟ والجواب: إنّ القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرًا، والحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة، وإما بالقسم، فذكر الله في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ} الآية. ولا يكون القسم إلا باسم معظم، وقد أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع،

والباقي من القسم القرآنيّ قسم بمخلوقاته، كما في عنوان هذه السورة، ونحوه: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}، والصافات والشمس والليل والضحى وغير ذلك. فإن قلت (¬1): ما الحكمة في أنّ الله تعالى قد أقسم بالخلق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلت: فيه وجوه: الأول: أنه على حذف مضاف؛ أي: ورب الذاريات، وربِّ التين، ورب الشمس. والثاني: أنّ العرب كانت تعظم هذه الأشياء، وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون. والثالث: أنّ الإقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم أو يجله، وهو فوقه، والله تعالى ليس شيء فوقه، فأقسم تارةً بنفسه، وتارةً بمصنوعاته؛ لأنَّها تدل على بارىءٍ، وصانع حكيم، وقال بعضهم: القسم بالمصنوعات يستلزم بالصانع؛ لأنّ ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل. وقال بعضهم: إنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى. وقال بعضهم: القسم: إما لفضيلة، أو منفعة، ولا تخلو المصنوعات عنهما. ومعنى الآية على القول الثاني - أعني: قول: أنّ هذه المذكورات أوصاف للرياح -: أقسم (¬2) سبحانه بالرياح، وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها في الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إنّ هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بدّ منه في ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها، ونفعها العظيم لهم، فهي التي ترسل الأمطار مبشّرات برحمته، ومنها تسقي الأنعام ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[7]

والزروع، وبها تنبت البساتين والجنات، وتصير الأرض القفر مروجًا، وعليها يعتمدون في معاشهم، فآثارها واضحة أمامهم، ولا عجيب أن تكون لها المنزلة العظمى في نفوسهم. وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبيَّة، فإنَّ ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفًا عجيبًا تابعًا لسير الكواكب، فبجريها وجري الشمس تؤثر في أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكيّة منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة. 7 - ثم ابتدأ سبحانه قسمًا آخر، فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)}؛ أي: وأقسمت لكم يا أهل مكة بالسماء ذات الطرائق (¬1) المحسوسة، التي هي مساير الكواكب، أو المعقولة التي يسلها النظّار، ويتوصّل بها إلى المعارف، كما قال الراغب: الحبك بضمتين، جمع حباك كمثال ومثل، أو جمع حبيكة كطريقة وطرق، وهي الطرائق، فمن الناس من تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة، وهي الخطوط فيها كالطرق في الرمل، ومنهم من اعتبر ذلك بما فيها من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الحُسن والجمال والاستواء والطرق، والظاهر: أنَّ السماء هي المعروفة، وقيل: السحاب. 8 - {إِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} في القرآن؛ أي: متخالف متناقض، وهو قولهم: إنه شعر وسحر وافتراء وأساطير الأولين، وفي الرسول: شاعر وساحر ومفتر ومجنون، وفي القيامة فإن من الناس من يقطع القول بإقرار، ومنهم من يقول: إن نظنّ إلا ظنًّا، وهذا من التحيّر والجهل الغليظ فيكم، وفي هذا الجواب تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء، كما يلوح به ما نقل عن الضحاك: إنّ قول الكفرة لا يكون مستويًا، إنما هو مناقض مختلف، ووجه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

تخصيص (¬1) القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة: تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه، على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا، وذلك بأن يقال: إنَّ ما في السماء من الطرائق يصحّ أن يكون سببًا لمزيد حسنها، واستواء خلقها، وحصول الزينة فيها ومزيد القوّة لها، وقيل: إنّ المراد بكونهم في قول مختلف أنّ بعضهم ينفي الحشر، وبعضهم يشكّ فيه كما مر، وقيل: كونهم يقرون أنّ الله خالقهم ويعبدون الأصنام. وقرأ الجمهور (¬2): {الْحُبُكِ} بضمتين، وابن عباس والحسن بخلاف عنه، وأبو مالك الغفاريّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو: بإسكان الباء، وعكرمة: بفتحها جمع حبكة، مثل: طرفة وطرف، وأبو مالك الغفاريّ والحسن بخلاف عنه: بكسر الحاء والباء، وأبو مالك الغفاريّ والحسن أيضًا وأبو حيوة: بكسر الحاء وإسكان الباء، وهو تخفيف فِعِل المكسور، هما وهو اسم مفرد لا جمع، لأنّ فعلًا ليس من أبنية المجموع، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين، وابن عباس أيضًا وأبو مالك: بفتحهما، قال أبو الفضل الرازيّ: فهو جمع حبكة، مثل: عقبة وعقب. انتهى. والحسن أيضًا: {الحبك} بكسر الحاء وفتح الباء، وقرأ أيضًا كالجمهور، فصارت قراءته خمسًا: الحُبُكُ والحُبْك، والحِبِك، والحِبْك، والحِبَكُ، وقرأ أبو مالك أيضًا: {الحِبُك} بكسر الحاء وضمّ الباء، وذكرها ابن عطية أيضًا عن الحسن، فتصير له ستّ قراءات، وقال "صاحب اللوامح": وهو عدم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها، ولا أدري ما رواه. انتهى. 9 - {يُؤْفَكُ} ويصرف {عَنْهُ}؛ أي: عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به، أو عن الحق، وهو البعث والتوحيد، أو عن القرآن. {مَنْ أُفِكَ}؛ أي: من صرف عن الخير كله، وقيل: يحرم عنه من حوم، وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[10]

عنه، وقيل: يصرف عنه من صرف في علم الله وقضائه، إذ لا صرف أفظع منه وأشد، فكأنه لا صرف بالنسبة إليه. قيل (¬1): هذا مدح للمؤمنين؛ أي: يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ورشد إلى القول المستوي، وهيل: إنّ هذا ذم؛ أي: يصرف عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن، والحشر من قد صرف عن الهدى، وهو الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وأبي بن خلف وأمية بن خلف ومنبه ونبيه. وقرأ ابن جبير وقتادة (¬2): {مَنْ أُفِكَ} مبنيًا للفاعل؛ أي: من أفك الناس عنه، وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان، وقرأ زيد بن علي {يَأْفَكُ عنه من أُفِكَ} ببناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول؛ أي: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه، وعنه أيضًا: {يَأْفَكُ عنه مَنْ أَفَكَ} بالبناء للفاعل فيهما؛ أي: يصرف الناس عنه من هو أفَّاكٌ كذَّابٌ، وقرىء: {يُؤْفَنُ عنه من أَفِنُ} بالنون فيهما، أي: يحرم عنه من حرم، من أفن الضرع: إذا نهكه حلبًا. والمعنى (¬3): أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، إنكم أيّها المشركون المكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم، ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضال في نفسه؛ لأنّه قول باطل، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به. والخلاصة: قسمًا بالسماء وزينتها، وجمالها، إنَّ أمركم في شأن محمد، وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينًا تقولون: هو شاعر، وحينًا آخر تقولون: هو ساحر، ومرّةً ثالثة تقولون: هو مجنون، وحينًا تقولون عن القرآن: إنه سحر، وحينًا: إنه شعر، وحينًا: إنه كهانة. 10 - {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}؛ أي: لعن وطرد عن رحمة الله الكذّابون من أصحاب ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

القول المختلف، وأصله: الدعاء بالقتل، أجري مجرى اللعن، و {اللام} (¬1) فيه: إشارة إلى أصحاب القول المختلف، كأنّه قيل: قتل هؤلاء الخرّاصون المقدرون ما لا يصح من القول، ويقولونه تخمينًا في محمد، وفي القرآن. 11 - {الَّذِينَ هُمْ} لفظ {هُمْ}: مبتدأ، خبره: قوله: {فِي غَمْرَةٍ}؛ أي: الذين هم كائنون في غمرة وغشية من الجهل والضلالة تغمرهم وتغشاهم عن أمر الآخرة. {سَاهُونَ} خبر بعد خبر؛ أي: غافلون عمّا أمروا به من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، قال بعضهم: الغمرة فوق الغفلة، والسهو دون الغفلة. وفي "كشف الأسرار": الخرّاصون: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعتاب مكة، واقتسموا القول في النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ليصرفوا الناس عن دين الإِسلام؛ يعني: أنّ أهل مكة أقاموا رجالًا على زقاق مكة، يصرفون الناس؛ يعني: وقت ورود قوافل. انتهى. وأصل الغمرة (¬2): ما ستر الشيء وغطاه، ومنها: غمرات الموت، والسهو الغفلة عن الشيء، وذهابه عن القلب. 12 - {يَسْأَلُونَ}؛ أي: يسألك يا محمد المشركون، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة، بل بطريق الاستعجال استهزاء، فيقولون: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؛ أي: متى يوم الجزاء، والكلام على حذف مضاف من اليوم وإقامة المضاف إليه مقامه، فلا يرد أنَّ ظرف الزمان لا يقع خبرًا إلا عن الحدث؛ أي (¬3): متى وقوع الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم ما لو تدبَّروا فيه يدفعهم إلى الاعتقاد بمجيء هذا اليوم، فإنّ أحدًا منهم لا يترك عبيده وأجراءه في عمل دون أن يحاسبهم، وينظر في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون، وهيَّأ لهم كل ما يحتاجون إليه سدًى، ويوجدهم عبثًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[13]

13 - ثم أجاب سبحانه عن هذا السؤال، وذكر أنه يكون يوم القيامة، فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. أي: يعرضون عليها؛ أي: يوم الجزاء هو يوم يعرض فيه الكفّار على النار، ويعذّبون بها، ويحرقون فيها كما يفتن الذهب بالنار، يقال (¬1): فتنت الذهب: أحرقت خبثه لتظهر خلاصته، والكافر كله خبث فيحرق كلّه، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هو يوم هم إلخ، والفتح لإضافته إلى غير متمكّن، وقيل: هو منصوب بتقدير: أعني، وقال بعض النحاة: {يَوْمَ هُمْ}: بدل من {يَوْمِ الدِّينِ} فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى: ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء، ولو حكى لفظ قولهم .. لكان التركيب يوم نحن على النار نفتن. وقرأ ابن أبي عبلة والزعفراني: {يَوْمَ هُمْ} بالرفع على البدل من {يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي (¬2): يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار. 14 - وتقول لهم الخزنة: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي: عذابكم {هَذَا} العذاب هو العذاب {الَّذِي كُنْتُمْ} في الدنيا {بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}؛ أي: تستعجلون وقوعه استهزاءً، وتظهرون أنه غير كائن، و {هَذَا}: مبتدأ، والموصول: خبره، والجملة: داخلة تحت القول المضمر، وهذا إشارة إلى ما في الفتنة من معنى العذاب؛ أي: هذا العذاب ما كنتم تستعجلون به في حياتكم الدنيا، وتقولون: متى هذا الوعد بطريق الاستهزاء، ويجوز أن يكون {هَذَا} بدلًا من {فِتْنَتَكُمْ} بتأويله بالعذاب، و {الَّذِي}: صفته. 15 - ولمّا ذكر سبحانه حال أهل النار .. ذكر حال أهل الجنة، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي والجهل والميل إلى ما سوى المولى، والمتصفين بالإيمان والطاعة والمعرفة والتوجّه إلى الحضرة العليا لكائنون {فِي جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين لا يعرف كنهها، فالتنكير (¬3): للتعظيم، ويجوز أن يكون للتكثير، كما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[16]

في قوله: إنّ له لإبلًا، وإن له لغنمًا، والعرب تسمي النخيل جنّةً. {وَعُيُونٍ}؛ أي: أنهار جارية؛ أي: تكون الأنهار بحيث يرونها، وتقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها؛ أي: هم في بساتين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون، حال كونهم 16 - {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}؛ أي: قابلين ما أعطاهم ربّهم من الخير والكرامة، راضين به، فهو حال من الضمير المستكن في الجار والمجوور على معنى: أنّ كل ما أعطاهم حسن مرضي متلقى بالقبول ليس فيه ما يرد, لأنّه في غاية الجودة، ومنه قوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}؛ أي: يقبلها ويرضاها، قال بعضهم: معناه: آخذين ما آتاهم ربهم اليوم بقلوب فارغة إلى الله من أصناف ألطافه، وغدًا يأخذون ما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرفد. وفي "فتح الرحمن" (¬1): ختم الآية هنا بقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)} وفي الطور بقوله: {وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ}؛ لأنّ ما هنا متصل بما به يصل الإنسان إلى الجنات وهو قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات. وما في الطور متصل بما يناله الإنسان فيها، وهو قوله: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية. انتهى. والمعنى (¬2): أي إنّ الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه في بساتين وجنّات تجري من تحتها الأنهار، قريرةً أعينهم بما آتاهم ربّهم، إذ فيه ما يرضيهم، ويغنيهم، ويفوق ما كانوا يؤملون. ثمّ ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم، وعلّل استحقاقهم ذلك بقوله: {إنَّهُم}؛ أي: لأنّهم {كانوا} في الدنيا {قبَلَ ذلِكَ}؛ أي: قبل دخولهم الجنة {مُحْسِنِينَ}؛ أي: مخلصين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه؛ أي: إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال خشية من ربّهم، وطلبًا لرضاه، ومن ثمّ نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون، ونحو الآية قوله. {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي.

[17]

الْخَالِيَةِ (24)}. 17 - ثم فصّل ما أحسنوا فيه، فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}؛ أي: كانوا يهجعون من الليل هجوعًا قليلًا ما؛ أي: كانوا ينامون القليل من الليل، ويتهجّدون في معظمه، والهجوع (¬1): النوم بالليل دون النهار. و {مَا}، مزيدة لتأكيد معنى القلة، فإنها تزاد لإفادة التقليل كما في قولك: أكلت أكلًا ما، و {قَلِيلًا}: ظرف و {يَهْجَعُونَ}: خبر {كَانُوا}؛ أي: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل، أو صفة مصدر محذوف؛ أي: كانوا يهجعون هجوعًا قليلًا من أوقات الليل وساعاته؛ يعني: يذكرون، ويصلّون أكثر الليل، وينامون أقلّه، ولا يكونون مثل البطّالين الغافلين النائمين إلى الصباح، ويجوز (¬2) أن تكون {مَا} مصدرية، أو موصولة؛ أي: كانوا قليلًا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلّون فيها شيئًا، إما من أوّلها، أو من وسطها، وقال الحسن البصري: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقلّه، وربما نشطوا فجدوا إلى السحر، وعن أنس قال: كانوا يصلّون بين المغرب والعشاء. 18 - {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}؛ أي: يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم، والسحر: السدس الأخير من الليل؛ لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحق وهو باطل؛ أي: هم مع قلّة هجوعهم، وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم وفي بناء (¬3) الفعل على الضمير المفيدة للتخصيص إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصّون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه، وفي "بحر العلوم": تقديم الظرف للاهتمام به، ورعاية الفاصلة. أي: فهم يحيون الليل متهجّدين، فإذا أسحروا .. أخذوا في الاستغفار، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[19]

كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. 19 - ولمّا ذكر أنهم يقيمون الصلاة .. ثنى بوصفهم بإعطاء الصدقة، والبرّ بالفقراء، فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ}؛ أي: وفي أموال أولئك المذكورين {حَقٌّ}؛ أي (¬1): نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم؛ أي: يعدّونه واجبًا عليهم في أموالهم، ويلزمونه أنفسهم تقرّبًا إلى الله، وإشفاقًا على الناس، فليس المراد بالحق: ما أوجبه الله عليهم في أموالهم، فاندفع به ما عسى يقال: كيف يمدح المرء بأنه يثبت في ماله حقًّا للفقراء؟ فمن يمنع الزكاة من الأغنياء يوجد فيهم هذا المعنى، ولا يستحقّون المدح؛ أي: هم الذين لا يجمعون (¬2) الأموال إلا ويجعلونها ظرفًا للحق، فيرون في أموالهم حقًّا {لِلسَّائِلِ}؛ أي: للذي يسأل العطاء من الناس {وَالْمَحْرُومِ}؛ أي: وللمتعفّف الذي يحسبه بعض الناس غنيًّا، فلا يعطيه شيئًا، فهو الذي لا يسأل ولا يعطي؛ أي: هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم، بأن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين، تقرّبًا إلى الله تعالى، وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة، والأول أولى، فيحمل على صدقة النفل، وصلة الرحم، وقرى الضيف؛ لأنَّ السورة مكيّة، والزكاة إنما فرضت في المدينة، وسيأتي في {سَأَلَ سَائِلٌ}: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}: بزيادة معلوم. والمعنى (¬3): وجعلوا في أموالهم جزءًا معيّنًا ميّزوه، وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفّف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدّقوا عليه، أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان" قيل: فمن المسكين؟ قال: "الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه فيتصدّق عليه، فذلك المحروم". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[20]

20 - وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بيَّن أنه قد لاحت لهم الأدلّة الأرضية والأنفسيّة، التي بها أخبتوا إلى ربّهم، وأنابوا إليه، فقال: {وَفِي الْأَرْضِ} وهذا كلام (¬1) مستأنف، قصد به الاستدلال على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وقد اشتمل على دليلين: الأرض، والأنفس، وأما قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ}. فهو كلام آخر، ليس المقصود به: الاستدلال، بل المقصود به: الامتنان والوعد والوعيد. اهـ شيخنا. {آيَاتٌ} وقرأ قتادة: {آية} بالإفراد؛ أي: وفي الأرض دلائل واضحة على باهر قدرته، وعلامات ظاهرة على بديع صنعته من الجبال، والبر والبحر والأشجار والثمار والأنهار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذّبة، لما جاءت به رسل الله سبحانه، ودعتهم إليه. {لِلْمُوقِنِينَ}؛ أي: للموحّدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلّما رأوا آية عرفوا وجه تأمّلها، فازدادوا إيقانًا على إيقانهم، وخصَّهم بالذكر؛ لأنّهم هم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرونه فينتفعون به؛ يعني: أنّ في (¬2) الأرض دلائل واضحة على وجود الصانع وعلمه وقدرته، وإرادته ووحدته وفرط رحمته، من حيث إنها مدحوة كالبساط الممهد، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها، والسالكين في مناكبها، وفيها سهل وجبل وبر وبحر وقطع متجاورات وعيون متفجرة ومعادن متفننة، وأنها تلقح بألوان النبات، وأنواع الأشجار، وأصناف الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، وفيها دواب منبثة، قد رتب كلها، ودبر لمنافع ساكنيها، ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وقال الكلبيّ: عظات من آثار من تقدّم. 21 - {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أيها الناس، آيات للموقنين من عجائب الصنع، الدالة على كمال الحكمة والقدرة والتدبير والإرادة، فيكون تخصيصًا بعد تعميم؛ لأن أنفس الناس مما في الأرض، كأنه قيل: في الأرض آيات للموحّدين العاقلين، وفي أنفسكم خصوصا آيات لهم؛ لأن أقرب المنظور فيه من كل عاقل نفسه، ومن ولد ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

[22]

منها، وما في بواطنها، وظواهرها من الدلائل الواضحة على الصانع، وفي نقلها من هيئة وحال إلى حال من وقت الميلاد إلى وقت الوفاة، قال ابن عباس رضي الله عنه (¬1): يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، وقيل: يريد سبيل الغائط والبول، يأكل ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين، وقيل: يعني: تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم، وحسبك (¬2) بالقلوب، وما ركز فيها من العقول وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة، والبيّنات القاطعة على حكمة مدبرّها وصانعها، دع الأسماع والأبصار، والأطراف وسائر الجوارح، وتأتِّيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جثا منها شيء .. جاء العجز، وإذا استرخى. أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الأرض وما فيها من البراهين الساطعة، والأنفس وما فيها من الدلائل القاطعة، فتعتبروا بها، و {الهمزة} فيه: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تنظرون إلى ذلك فلا تبصرون بعين البصيرة حتى تعتبروا، وتستدلّوا بالصنعة على الصانع، وبالنقش على النقاش، وكذا على صفاته. 22 - {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ}؛ أي: أسباب رزقكم، فالكلام على حذف مضاف؛ يعني بها (¬3): الشمس والقمر وسائر الكواكب واختلاف المطالع والمغارب، التي يترتب عليها اختلاف الفصول، فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب، وتسوقها الرياح لأسباب فلكيّة وطبيعيّة، أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النسفي. (¬3) المراغي.

[23]

وقيل المعنى (¬1): وفي السماء سبب رزقكم، وهو المطر، فإنه سبب الأرزاق، وقال ابن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج، وقيل: المراد بالسماء: السحاب؛ أي: وفي السحاب رزقكم، وقيل: المراد بالسماء: المطر، وسمّاه سماء؛ لأنه ينزل من جهتها، ومنه قول الشاعر: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وقيل: وفي السماء تقدير رزقكم، وقال ابن كيسان: وعلى ربّ السماء رزقكم كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ففي بمعنى على، ونظيره: قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وهو بعيد. وقرأ الجمهور: {رزقكم} بالإفراد، وقرأ يعقوب وابن محيصٍ، ومجاهد: {أرزاقكم} بالجمع. {و} كذلك في السماء {مَا تُوعَدُونَ} من (¬2) الثواب؛ لأنّ الجنّة على ظهر السماء السابعة تحت العرش قرب سدرة المنتهى، أو أراد أنّ كل ما توعدون من الخير والشر، والثواب والعقاب والشدة والرخاء، وغيرها مكتوب مقدّر في السماء. يقول الفقير: أمر العقاب ينزل من السماء، ونفسه أيضًا، كالصيحة والقذف والنار والطوفان، مما وقع على الأمم السالفة، وقال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة وبه قال الربيع، والأولى الحمل على ما هو أعمّ من هذه الأقوال، فإنّ جزاء الأعمال مكتوب في السماء، والقضاء والقدر ينزل منها، والجنة والنار فيها. 23 - ثم أقسم سبحانه بنفسه، فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وذكر الرب؛ لأنّه في بيان التربية بالرزق. {إِنَّهُ}؛ أي: إنّ ما توعدون، أو ما ذكر من أمر الآيات والرزق على أنّ الضمير مستعار لاسم الإشارة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وقال أبو حيان (¬1): والظاهر: أنّ الضمير في {إِنَّهُ}: عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود، ووقوع الجزاء، وكونهم في قول مختلف، وقتل الخراصين، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك؛ ولذلك شبّه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام. انتهى، وقيل: عائد على القرآن، أو إلى الدين الذي في قوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} أو إلى اليوم المذكور في قوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أو إلى الرزق، أو إلى الله، أو إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقوال منقولة، ذكره أبو حيان أيضًا؛ أي: فأقسمت لكم برب السماء والأرض، إنّ ما أخبركم به في هذه الآيات {لَحَقٌّ}؛ أي: لأمر ثابت، واقع لا محالة، وقرأ الجمهور: {مِثْلَ} بالنصب على الحالية من الضمير المستكن في {لَحَقٌّ}. و {مَا}: زائدة، وجملة {أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}: في تأويل مصدر مجرور بإضافة {مِثْلَ} إليه؛ أي: إنّ ما توعدون لحقّ حال كونه مثل نطقكم؛ أي: كما أنه لا شكّ لكم في نطقكم ينبغي أن لا تشكّوا في حقّيّة ما توعدون، أو على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: إنه لحقّ حقًّا مثل نطقكم، فإنه لتوغله في الإبهام لا يتعرف بإضافته إلى المعرفة، وقرأ حمزة والكسائى وأبو بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم: {مثل} بالرفع على أنه صفة لقوله: {لَحَقٌّ}. والمقصود من الآية: تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك ها هنا، وإنه لحق كما أنك تتكلّم. والمعنى: أنه في صدقه وجوده كالنطق الذي تعرفه ضرورة، وإنما خص (¬2) التمثل بالنطق؛ لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته. ومعنى الآية: أقسم ربّنا جلّت قدرته بجلاله وكبريائه، إنّ ما وعدكم به من أمر القيامة، والبعث والجزاء، حقّ لا مرية فيه، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون، وهذا كما تقول للناس: إنّ هذا لحقّ كما أنك ترى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[24]

وتسمع، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن: أنه قال فيها: بلغني: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله قومًا أقسم لهم ربّهم، ثمّ لم يصدّقوه". وقال بعض الحكماء (¬1): معناه: كما أنّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه، لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له، لا يقدر أن يأكل رزق غيره. 24 - والاستفهام في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} للتعجيب (¬2) والتشويق إلى استماعه، ومثله لا يكون إلا فيما فيه فخامة، وعظيم شأن، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير طريق الوحي، إذ هو أمّي لم يمارس الخط وقراءته، ولم يصاحب أصحاب التواريخ، ففيه إثبات نبوّته، قال ابن الشيخ: الاستفهام للتقرير؛ أي: قد أتاك، وقيل: إن لم يأتك .. نحن نخبرك، والضيف في الأصل مصدر ضافه إذا نزل به ضيفًا، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان. وبدأ بقصّة إبراهيم، مع كونها متأخرة عن قصة عاد وغيرها، هزمًا للعرب؛ لأنّه كان أباهم الأعلى، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وكان ضيفه اثني عشر ملكًا، منهم: جبريل ومكيائيل وإسرافيل وزقائيل، وتسميتهم ضيفًا؛ لأنّهم كانوا في صورة الضيف، حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنّهم كانوا في حسبانه كذلك. {الْمُكْرَمِينَ} صفة للضيف؛ أي: المكرمين عند الله سبحانه بالعصمة والتأييد والاصطفاء والقربة والسفارة بينه تعالى وبين الأنبياء، كما قال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. أو المكرمين عند إبراهيم بالخدمة، حيث خدمهم بنفسه وبزوجته، وأيضًا بطلاقة الوجه، وتعجيل الطعام، وقيامه على رؤوسهم، وكان لا يقوم على رؤوس الضيف، وقرأ عكرمة: {المكرمين} بالتشديد، وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليكرم ضيفه" قيل: إكرامه تلقّيه بطلاقة الوجه، ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[25]

وتعجيل قراه، والقيام بنفسه في خدمته، وروي: أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: أكرم أضيافك، فأعدَّ لكل منهم شاةً مشوية، فأوحى إليه: أكرم، فجعله ثورًا، فأوحى إليه: أكرم، فجعله جملًا، فأوحى إليه: أكرم، فتحير فيه، فعلم أنّ إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام، فخدمهم بنفسه، فأوحى إليه: الآن أكرمت الضيف، وقال بعض الحكماء (¬1): لا عار للرجل ولو كان سلطانًا أن يخدم ضيفه، وأباه ومعلمه، ولا تعتبر الخدمة بالإطعام. 25 - وقوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} ظرف للحديث، فالمعنى: هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. {فَقَالُوا سَلَامًا}؛ أي: نسلم عليك سلامًا، و {الفاء} هنا: إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول. {قَالَ} إبراهيم {سَلَامٌ}؛ أي: عليكم سلام، فهو مبتدأ، خبره: محذوف، وترك العطف قصدًا إلى الاستئناف، فكأنّ قائلًا قال: ماذا قال إبراهيم في جواب سلامهم؟ فقيل: قال سلام؛ أي: حيّاهم بتحية أحسن من تحيتهم؛ لأنّ تحيّتهم كانت بالجملة الفعلية، الدالّة على الحدوث، حيث نصبوا {سَلَامًا} وتحيّته بالاسمية الدالة على دوام السلام، وثباته لهم حيث عدل به إلى الرفع بالابتداء. وقرأ الجمهور (¬2): {فَقَالُوا سَلَامًا} بالنصب على المصدر السادّ مسدّ فعله المستغني به. {قَالَ سَلَامٌ} بالرفع، وقرىء: بالرفع في الموضعين، وقرىء: بالنصب فيهما، وقرأ ابن وثّاب والنخعيّ وابن جبير وطلحة: {قال سلم}، بكسر السين وإسكان اللام، والمعنى: نحن سلم، أو أنتم سلم. وقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: قال إبراهيم في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف، هؤلاء قوم منكرون؛ أي: مجهولون لنا لا نعرفهم، فهم منكرون عند كل أحد، وكانوا على أوضاع وأشكال خلاف ما عليه الناس، وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض, لأنّ السلام لم يكن تحيّتهم؛ لأنّه كان بين أظهر قوم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[26]

كافرين، لا يحيي بعضهم بعضًا بالسلام الذي هو تحية المسلمين. 26 - {فَرَاغَ} إبراهيم؛ أي: مال {إِلَى أَهْلِهِ} وخدمه الذين كانت عندهم البقرة، وكانت عامة ماله البقرة، فالمراد بأهله: خدمه، وهم الرعاة، فالاختفاء معتبر في مفهوم الروع؛ أي: ذهب في أثناء حديثه معهم إلى أهله وخدمه على خفية من ضيفه، فإنّ من أدب المضيّف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرًا من أن يكفّه الضيف، ويعذره أو يصير منتظرًا. وقوله: {فَجَاءَ} إبراهيم ضيفه {بِعِجْلٍ} أي: بولد بقر {سَمِينٍ}؛ أي: غير هزيل مشويّ بالحجارة، معطوف على جمل محذوفة، و {الباء}: للتعدية؛ أي: فراغ إلى أهله، فذبح عجلًا سمينًا، فحنذه؛ أي: شواه، فجاء به ضيفه، والعجل: ولد البقر لتصوّر عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورًا، أو بقرةً، واختاره؛ لأنّه كان عامّة ماله البقر، واختار السمين؛ مبالغة في إكرامهم. 27 - {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ}؛ أي: فجاء إبراهيم بعجل حنيذ، فقرّب العجل إليهم وقدّمه لهم، بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد ليأكلوه، فلم يأكلوه، ولمّا رأى منهم ترك الأكل .. {قَالَ} لهم إبراهيم: {أَلَا تَأْكُلُونَ} منه إنكارًا لعدم تعرّضهم للأكل، وحثًّا عليه، و {أَلَا} هنا بالخفيف: حرف عرض، وهو الطلب برفق ولين، وهو الصواب، وقيل: الهمزة في {أَلَا}: للاستفهام الإنكاري، و {لا}: نافية كما في "الشوكاني". والأوّل أولى، بل أصوب. وروي: أنهم قالوا: نحن لا نأكل بغير ثمن، قال إبراهيم: كلوا، وأعطوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟ قال: إذا أكلتم .. فقولوا: بسم الله، وإذا فرغتم .. فقولوا: الحمد لله، فتعجّب الملائكة من قوله. 28 - {فـ} لما رآهم لا يأكلون {أَوْجَسَ مِنْهُمْ}؛ أي: فلمّا رآهم لا يأكلون .. أضمر في نفسه {خِيفَةً}؛ أي: خوفًا منهم، فتوهّم أنهم لصوص أو أعداء جاؤوا بالشر، فإنّ عادة من يجيء بالشر والضرر أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره، قال في "عين المعاني": من لم يأكل طعامك .. لم يحفظ ذمامك.

يقول الفقير: يخالفه سلامهم، فإنّ المسلم لا بد أن يكون من أهل السلم، وقيل: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة حين أحسبوا بخوفه: {لَا تَخَفْ} منّا، إنا رسل الله سبحانه، وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه، وقيل: مسح جبريل العجل بجناحه، فقام يمشي حتى لحق بأمّه، فعرفهم إبراهيم، وأمن منهم. {وَبَشَّرُوهُ}؛ أي: بشّرت الملائكة إبراهيم، وفي سورة الصافات. {وَبَشَّرْنَاهُ}؛ أي: بواسطتهم {بِغُلَامٍ}؛ أي: بولد يولد له {عَلِيمٍ}؛ أي: كثير العلم في صغره، كثير الحلم في كبره، والمبشّر به عند الجمهور هو إسحاق، ولم تلد له سارة غيره، وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل. ومعنى الآيات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}؛ أي: هل عندك يا محمد نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه؟ وهم ذاهبون في طريقهم إلى قوم لوط، فسلّموا عليه، فردّ عليهم التحية بأحسن منها، ثمّ أراد أن يتعرفّ بهم فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}؛ أي: إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل، فعرفوني أنفسكم، من أنتم؟ واستظهر بعض العلماء أنّ هذه مقالة أسرّها إبراهيم في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك؛ لأنّ في خطاب الضيف بنحو ذلك، إيحاشًا له إلى أنه لو كان أراد ذلك .. لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصدّ لمقدّمات الضيافة، ثمّ ذكر أنه أسرع في قرى ضيوفه، فقال: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} إلخ؛ أي: فذهب خفية مسرعًا، وقدّم لضيوفه عجلًا سمينًا أنضجه شيًا، كما جاء في سورة هود: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}؛ أي: مشويّ على الرضف. {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}؛ أي: قال مستحثًّا لهم على الأكل: ألا تأكلون، وفي هذا تلطّف منه في العبارة، وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيٌّ شويٌّ، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدًا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف في العرض، فقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}؛ أي: فأعرضوا عن طعامه ولم

[29]

يأكلوا، فأضمر في نفسه الخوف منهم، ظنًّا منه أنّ امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة، ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفي الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظنّ وقد جاء في سورة هود: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ثمّ ذكر أنهم طمأنوه حينئذٍ، فقال: {قَالُوا لَا تَخَفْ} منا {إِنَّا رُسُل رَبك} وجاء في الآية الأخرى: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. فبشّروه بإسحاق بن سارة، كما جاء في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. وجاءت البشرة بذكر؛ لأنّه أسرّ للنفس، وأقر للعين ووصفه بالعلم؛ لأنّه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة، ولا القوّة، ولا نحوهما. 29 - ثم أخبر عمّا حدث من امرأته حينئذٍ، فقال: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ}؛ أي: امرأة إبراهيم، وزوجته سارة، لما سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زواية تنظر إليهم، قال ابن الشيخ: فأقبلت إلى أهلها، وكانت مع زوجها في خدمتهم، فلمّا تكلّموا بولادتها .. استحيت، وأعرضت عنهم، فذكر الله سبحانه ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يذكره بلفظ الإدبار عن الملائكة. قال سعدي المفتي كذا في "التفسير الكبير": ولا يناسبه (¬1) قوله: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} فإنه يقتضي كونها عندهم، فالإقبال إليهم؛ أي: فأقبلت امرأته على الملائكة {فِي صَرَّةٍ} حال من فاعل {أقبلت} والصرّة: الصيحة الشديدة؛ أي: حالة كونها متلبسة بصيحة وصوت شديد وقيل: صرّتها قولها: أوّه، أو يا ويلتي، أو رنّتها، والصرّة أيضًا: الجماعة، وبها فسّرها بعضهم؛ أي: أقبلت في جماعة من النساء كن عندها، وهي واقفة متهيّئة للخدمة. {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}؛ أي: لطمت وجهها من الحياء، لما أنها وجدت حرارة دم الحيض، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجّب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئًا. {وَقَالَتْ} أنا {عَجُوزٌ عَقِيمٌ}؛ أي: أنا عجوز عاقر لم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[30]

ألد قطّ في شبابي، فكيف ألد الآن، ولي تسع وتسعون سنة؟ وكان إبراهيم ابن مئة سنة، سميت العجوز عجوزًا، لعجزها عن كثير من الأمور، والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل، وفي "عين المعاني": العقيم: من سد رحمها، ومنه: الداء العقام الذي لا يرجي برؤه، وبمعناه العاقر كما سيأتي، وكانت سارّة عقيمًا لم تلد قطّ، فلمّا لم تلد في صغرها وعنفوان شبابها، ثم كبر سنها وبلغت سن الإياس .. استبعدت ذلك، وتعجبت، فهو استبعاد بحكم العادة لا تشكك في قدرة الله. والمعنى (¬1): أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم، وكانت في ناحية من البيت تنظر إليهم، وهي تصرخ صرخة عظيمة، وضربت بيديها على جبينها، وقالت: أنا عجوز عقيم، فكيف ألد؟ وجاء في الآية الأخرى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}. 30 - فأجابوها عمّا قالت، حيث: {قَالُوا} لها {كذلك}؛ أي: مثل ذلك الذي بشّرناه، وأخبرناه به {قَالَ رَبُّكِ} وإنما نحن معبّرون نخبرك به عنه تعالى، لا أنّا نقول من تلقاء أنفسنا، وروي: أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سيف بيتك، فنظرت، فإذا جذوعه مورقة مثمرة، فأيقنت، و {الكاف} في {كَذَلِكِ} (¬2): منصوب المحل على أنه صفة لمصدر {قَالَ} الثانية؛ أي: لا تستبعدي ما بشّرناه به، ولا تتعجّبي منه، فإنه تعالى قال مثل ما أخبرناك به؛ أي: قضي وحكم في الأزل؛ أي: إنه من جهة الله سبحانه، فلا تعجبّي منه. وقوله: {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقواله {الْعَلِيمُ} بكل شيء، فيكون قوله حقًّا، وفعله محكمًا لا محالة، تعليل لما قبله. أي (¬3): قالوا لها مثل الذي أخبرناك به، قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم في أفعاله، العلم بكل شيء لا يخفى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والخلاصة: أنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن, والعقم، وقد كانت لا تلد في عنفوان شبابها، والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن أن لا تلد، فكأنها قالت: ليتكم دعوتم دعاء قريبًا من الإجابة، ظنًّا منها أنّ ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبة، كما يقول الداعي: أعطاك الله مالًا، ورزقك ولدًا، فردّوا عليها بأنّ هذا ليس منّا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى. ولم تكن (¬1) هذه المفاوضة مع سارة فقط، بل مع إبراهيم أيضًا، حسبما شرح في سورة الحجر، وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك سارّة، اكتفاءً بما ذكر هاهنا، وفي سورة هود، وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز اليأس من فضل الله تعالى، فإنّ المقدور كائن ولو بعد حين، وقد أورقت وأثمرت شجرة مريم عليها السلام أيضًا، وكانت يابسة كما مرّ في سورة مريم، وقد اشتغل أفراد في كبرهم، ففاقوا على أقرانهم في العلم، فبعض محرومي البداية، مرزقون في النهاية، فمنهم: إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار، رحمهم الله تعالى. الإعراب {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)}. {وَالذَّارِيَاتِ} {الواو}: حرف جر وقسم. {الذاريات}: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالذاريات، وجملة القسم: مستأنفة. {ذَرْوًا}: منصوب على المفعولية المطلقة، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول به: محذوف، تقديره التراب ونحوه، كما مر. {فَالْحَامِلَاتِ} {الفاء}: عاطفة. {الحاملات}: معطوف على {الذاريات} ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وِقْرًا}: مفعول به لاسم الفاعل. {فَالْجَارِيَاتِ} {الفاء}: عاطفة. {الجاريات}: معطوف على {الحاملات}. {يُسْرًا}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: جريًا يسرًا سهلًا. {فَالْمُقَسِّمَاتِ}: معطوف على {الجاريات}، {أَمْرًا}: مفعول به لاسم الفاعل. {إِنَّمَا} {إن}: حرف نصب. {ما}: اسم موصول في محل النصب اسمها، وجملة {تُوعَدُونَ} صلة لـ {ما}، والعائد: محذوف، تقديره: توعدونه. {لَصَادِقٌ} {اللام}: حرف ابتداء. {صادق}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، فتكون هي و {ما} في حيّزها مؤوّلة بمصدر هو اسم {إنّ}؛ أي: إنّ وعدكم لصادق. {وَإِنَّ الدِّينَ}: ناصب واسمه. {لَوَاقِعٌ}: خبره. و {اللام}: حرف ابتداء، والجملة: معطوفة على جملة {إن} الأولى. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}. {وَالسَّمَاءِ}: {الواو}: حرف جر وقسم. {السَّمَاءِ}: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالسماء. {ذَاتِ الْحُبُكِ} صفة لـ {السماء}، {إِنَّكُمْ}: ناصب واسمه. {لَفِي} {اللام}: حرف ابتداء. {في قول}: جار ومجرور، خبر {إنّ}. {مُخْتَلِفٍ}: صفة {قَوْلٍ}. وجملة {إنّ}: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم الأوّل. {يُؤْفَكُ}: فعل مضارع مغير الصيغة. {عَنْهُ}: متعلق به. {مَنْ}: موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة: مستأنفة. {أُفِكَ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على {مَنْ}. والجملة: صلة {مَنْ} الموصولة. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}. فعل ونائب فاعل، والجملة: جملة دعائية، لا محل لها من الإعراب. {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْخَرَّاصُونَ}، {هُمْ}: مبتدأ. {فِي غَمْرَةٍ}: خبر أول، أو متعلق بـ {سَاهُونَ}، {سَاهُونَ}: خبر ثان، أو هو الخبر، والجملة: صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {يَسْأَلُونَ}: فعل

وفاعل {أَيَّانَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم و {يَوْمُ الدِّينِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول {يَسْأَلُونَ}. وجملة {يَسْأَلُونَ}: بدل من جملة الصلة قبلها. {يَوْمُ}: في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بفعل محذوف، تقديره: يجيء يوم الدين يوم هم على النار، والجملة المحذوفة: مستأنفة. {هُمْ}: مبتدأ. {عَلَى النَّارِ}: متعلق بـ {يُفْتَنُونَ}. و {عَلَى}: بمعنى في وجملة {يُفْتَنُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {ذُوقُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل. {فِتْنَتَكُمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم حين التعذيب: ذوقوا فتنتكم. {هَذَا}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبره، والجملة: في محل النصب مقول لذلك القول. {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {تَسْتَعْجِلُونَ} وجملة {تَسْتَعْجِلُونَ}: خبر {كان}. وجملة {كان} صلة الموصول. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}: ناصب واسمه. {فِي جَنَّاتٍ} خبره. {وَعُيُونٍ}: معطوف على {جَنَّاتٍ}، والجملة: مستأنفة. {آخِذِينَ}: حال من الضمير المستكن في خبر {إنَّ}؛ أي: استقرّوا فيها، حال كونهم راضين ما آتاهم ربّهم. و {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {آخِذِينَ}، {آتَاهُمْ}: فعل ومفعول به. {رَبُّهُمْ}: فاعل، والجملة: صلة لـ {مَا}، والعائد: محذوف، تقديره: ما آتاهم إياه ربّهم. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {قَبْلَ ذَلِكَ}: متعلق بـ {مُحْسِنِينَ}، و {مُحْسِنِينَ}: خبر {كان}، وجملة {كان}. خبر {إنّ}، وجملة {إنّ}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه. {قَلِيلًا}: منصوب على الظرفية الزمانية؛ لأنه

صفة زمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، متعلق بـ {يَهْجَعُونَ}، أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه صفة مصدر محذوف؛ أي: هجوعًا قليلًا. {مِنَ اللَّيْلِ}: صفة لـ {قَلِيلًا} {مَا}: زائدة لتأكيد القلّة، وجملة {يَهْجَعُونَ}: خبر {كان}، وجملة {كان}، جملة مفسّرة، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تفسير لإحسانهم. {وَبِالْأَسْحَار} {الواو}: عاطفة. {بالأسحار}: متعلق بـ {يَسْتَغْفِرُونَ} وقدّم معمول الخبر على المبتدأ؛ لجواز تقديم عامله عليه. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَسْتَغْفِرُونَ}: خبره، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة {كان} على كونها مفسّرة، أو على خبر {كان}. {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} {الواو}: عاطفة. {فِي أَمْوَالِهِمْ}: خبر مقدم. {حَقٌّ}: مبتدأ مؤخر. {لِلسَّائِلِ}: جار ومجرور صفة لـ {حَقٌّ}، {وَالْمَحْرُومِ}: معطوف على {السائل}. والجملة: معطوفة على جملة {كان}، أو على خبر {كان}. فهي خبر ثالث لها. {وَفِي الْأَرْضِ} {الواو}: استئنافية. {في الأرض}: خبر مقدم. {آيَاتٌ}: مبتدأ مؤخر. {لِلْمُوقِنِينَ}: صفة لـ {آيَاتٌ}. والجملة: مستأنفة. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ}: خبر مقدم لمبتدأ محذوف، لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: وفي أنفسكم آيات للموقنين. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {الهمزة}: للاستفهام التوبيخيّ، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تنظرون ذلك فلا تبصرون، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {لَا}: نافية. {تُبْصِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {وَفِي السَّمَاءِ} {الواو}: عاطفة. {في السماء}: خبر مقدم. {رِزْقُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع معطوف على {رِزْقُكُمْ}، وجملة {تُوعَدُونَ}: صلته والعائد: محذوف، تقديره: وما توعدونه. {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ} {الفاء}: استئنافية، و {الواو}: حرف جر وقسم {رب السماء}:

مجرور بـ {الواو}: {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاءِ}، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بربّ السماء، وجملة القسم: مستأنفة. {إِنَّهُ}: حرف نصب، و {الهاء}: اسمها، {لَحَقٌّ} {اللام}: حرف ابتداء. {حَقٌّ}: خبرها. وجملة {إن}: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {مِثْلَ}: منصوب على الحالية من الضمير المستكن في {حَقٌّ}؛ أي: لحقّ هو حال كونه مماثلًا نطقكم، أو على المفعولية المطلقة؛ لأنّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: لحقّ حقًّا مثل نطقكم. و {مَا}: زائدة كما قاله الخليل. {أَنَّكُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {تَنْطِقُونَ}: خبره، وجملة {أنّ}: في تأويل مصدر مجرور بإضافة مثل إليه، تقديره: مثل نطقكم، وقرىء: {مثل} بالرفع على أنه صفة لـ {حق}. وقيل: {مَا}: نكرة موصوفة في محل جرّ بإضافة مثل إليه، وجملة {أنّ} في محل جر صفة لها؛ أي: مثل شيء منطوق لكم، والنطق هنا: عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)}. {هَلْ}: حرف استفهام، والاستفهام: هنا معناه: التفخيم والتنبيه على أنّ الحديث ليس من علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما عرفه بالوحي. {أَتَاكَ}: فعل ومفعول. {حَدِيثُ}: فاعل. {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}: مضاف إليه. {الْمُكْرَمِينَ}: صفة للضيف، والجملة: مستأنفة. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {الْمُكْرَمِينَ} أو باذكر محذوفًا. {دَخَلُوا}: فعل وفاعل. {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {فَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {دَخَلُوا}. {سَلَامًا}: مفعول مطلق استغنى عن فعله؛ لأنّه سدّ مسدّه، تقديره: نسلّم عليكم سلامًا، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {سَلَام}: مبتدأ، خبره: محذوف؛ أي: سلام عليكم، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء، والجملة: في

محل النصب مقول {قَالَ}. وجملة {قَالَ}: مستأنفة. {قَوْمٌ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أنتم قوم. {مُنْكَرُونَ}: صفة لـ {قَوْمٌ}. والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَرَاغَ} {الفاء}: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فبادر إلى إكرام ضيفه من غير أن يشعرهم فراغ. {راغ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. {إِلَى أَهْلِهِ}: متعلق بـ {راغ} {فَجَاءَ} {الفاء}: عاطفة. {جاء}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}: معطوف على {راغ}. {بِعِجْلٍ} متعلق بـ {جاء} {سَمِينٍ}. صفة {عجل}، {فَقَرَّبَهُ} {الفاء}: عاطفة. {قربه}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {جاء}. {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {قرب}. {قَالَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {أَلَا}: حرف عرض وطلب، وجملة {تَأْكُلُونَ}: في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَأَوْجَسَ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فامتنعوا من أكله فأوجس. {أوجس}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {إِبْرَاهِيمَ}. {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {خِيفَةً} و {خِيفَةً} مفعول به. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {لَا}: ناهية جازمة، {تَخَفْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة: في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَبَشَّرُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {قَالُوا}. {بِغُلَامٍ}: متعلق بـ {بشروه}، {عَلِيمٍ}: صفة {غلام}. {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}. {فَأَقْبَلَتِ} {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: وسمعت سارّة تبشيرهم إبراهيم فأقبلت. {أقبلت امرأته}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. {فِي صَرَّةٍ}: حال من الفاعل؛ أي: حالة كونها صارّة؛ أي: صارخةً. {فَصَكَّتْ} {الفاء}: عاطفة، {صكت وجهها}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {أقبلت}. {وَقَالَتْ}: معطوف على {صَكَّتْ}، {عَجُوزٌ}: خبر

لمبتدأ محذوف؛ أي: أنا عجوز. {عَقِيمٌ}: صفة {عَجُوزٌ}. والجملة الاسمية: في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. {كَذَلِكِ}: صفة لمصدر محذوف لـ {قَالَ} الثاني. {قَالَ رَبُّكِ}: فعل وفاعل، والتقدير: قالوا: قال ربك قولًا مثل ذلك التبشير الذي بشّرناه، وجملة {قَالَ}: في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {هُوَ}: ضمير فصل. {الْحَكِيمُ}: خبر أول لـ {إنّ} {الْعَلِيمُ}: خبر ثان لها، وجملة {إنّ}: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {وَالذَّارِيَاتِ} وهي الرياح التي تذروا التراب وغيره؛ أي: تطيّره وتفرّقه، من ذرا يذرو، من باب عدا يعدو، ويقال: ذرا يذري من باب رمى، وفيه إعلال بالقلب، أصله: الذاروات، من ذرا يذرو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، ويحتمل أن تكون من ذرى يذري من باب رمى، فلا قلب فيها حينئذٍ، أفاده الجوهري في "صحاحه" في مادة ذرا , ولو كان كما قال .. لكان المصدر ذريًا. {فَالْحَامِلَاتِ} هي الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء. {وِقْرًا} والوقر والثقل والحمل، كلها ألفاظ وزنها واحد، ومعناه واحد. {فَالْجَارِيَاتِ} هي الرياح الجارية في مهابّها بسهولة. و {اليسر} السهولة. {فَالْمُقَسِّمَاتِ} هي الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} و {مَا}: يجوز تكون اسمية، وعائدها: محذوف؛ أي: توعدونه ومصدرية، فلا عائد لها، وحينئذٍ يحتمل أن يكون {تُوعَدُونَ} مبنيًا من الوعد، وأن يكون مبنيًا من الوعيد؛ لأنه صالح أن يقال: أوعدته فهو يوعد، ووعدته فهو يوعد لا يختلف، فالتقدير: إنّ وعدكم أو إنّ وعيدكم، اهـ "سمين". {ذَاتِ الْحُبُكِ} جمع حبيكة كطرق وطريقة وزنًا ومعنى، وقيل: الحبك: التكسر الذي يبدو على وجه الماء إذا ضربته الريح.

{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)}؛ أي: متناقض مضطرب في شأن الله، فبينا تقولون: إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان، معه، وفي شأن الرسول، فتارةً تقولون: إنه مجنون، وتارةً تقولون: إنه ساحر، وفي شأن الحشر، فتارةً تقولون: لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة. {يُؤْفَكُ عَنْهُ}؛ أي: يصرف عن القول المختلف؛ أي: بسببه. {مَنْ أُفِكَ}؛ أي: ومن صرف عن الإيمان, يقال: أفكه عنه يأفكه إفكًا صرفه وقلبه، أو قلب رأيه، كما في "القاموس". ورجل مأفوك؛ أي: مصروف عن الحق إلى الباطل، كما في "المفردات". {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}؛ أي: لعن الكذّابون، وهذا دعاء عليهم كقوله: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)}. وأصله: الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى لعن وقبح، من الخرص، وهو تقدير القول بلا حقيقة، ومنه: خرص الثمار؛ أي: تقديرها مثلًا، بأن يقدر ما على النخل من الرطب تمرًا، وكل قول مقول عن ظنّ وتخمين يقال له: خرص، سواء كان ذلك مطابقًا للشيء أو مخالفًا له، من حيث إنّ صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظنّ ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظنّ والتخمين، والخرص: الظن والحدس، يقال: كم خرص أرضك بكسر الخاء، وأصل الخرص: القطع، من قولهم: خرص فلانًا كلامًا، واخترصه: إذا قطعه من غير أصل. {فِي غَمْرَةٍ} من غمره الماء يغمره: إذا غطاه، والمراد بها هنا: الجهل، قال الراغب: أصل الغمر: إزالة أثر الشيء، ومنه: قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله: غمر وغامر، وبه شبه الرجل السخي والفرس الشديد العدو، فقيل لهما: غمر كما شبها بالبحر، والغمرة: معظم الماء الساترة لمقرها، وجعلت مثلًا للجهالة التي تغمر صاحبها، وإلى نحوه أشار بقوله: {فَأغشَينَاهُمْ}. وقيل للشدائد: غمرات، قال تعالى: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}. وقال الشاعر: قَالَ الْعَوَاذِل إنَّنِيْ فِيْ غَمْرَةٍ ... صَدَقُوْا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي

{سَاهُونَ} قال الراغب: السهو: خطأ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما: أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولداته كمجنون سبَّ إنسانًا. والثاني: أن يكون مولداته منه، كمن شرب خمرًا، ثم ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله، والأول معفو عنه، والثاني مأخوذ به، وعلى الثاني ذمَّ الله تعالى فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} انتهى. وقوله: ساهون جمع ساه، وفعله سها يسهو، فأصل ساهٍ: ساهو، قلبت واوه ياء لتطرفها إثر كسرة، ثم أعلت إعلال قاض، أما ساهون، فأصله: ساهيون، وعلى هذا استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الهاء لمناسبة الواو، فوزنه فاعون. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}؛ أي: يحرقون ويعذّبون بها، كما يفتن الذهب بالنار، يقال: فتنت الشيء؛ أي: أحرقت خبثه لتظهر خلاصته، فالكافر كله خبث، فيحرق كله، قال الراغب: أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ومنه: قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}؛ أي: عذابكم، وتارةً يسمون ما يحصل منه العذاب فتنةً، فيستعمل فيه نحو قوله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}. وتارة في الاختبار نحو قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}. {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} والهجوع: النوم بالليل دون النهار، وبابه خضع، والهجعة: النومة الخفيفة، ويقال: أتيت فلانًا بعد هجعة؛ أي: بعد نومة خفيفة من الليل، كما في "المختار". {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} جمع سحر بفتح السين وسكون الحاء: السدس الأخير من الليل لاشتباهه بالضياء، كالسحر يشبه الحق، وهو باطل. {لِلسَّائِلِ}؛ أي: المستجدي الطالب العطاء. {وَالْمَحْرُومِ} هو المتعفّف الذي يحسبه الجاهل غنيًا فيحرم الصدقة من أكثر الناس، وفي "القاموس": المحروم: الممنوع من الخير، ومن لا ينهى له مالٌ،

وفي "المفردات"؛ أي: الذي لم يوسَّع عليه في الرزق، كما وسع على غيره، بل منع من جهة الخير. انتهى. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} والضيف للواحد والجماعة؛ لأنه في الأصل مصدر كالزور والصوم، وفي "القاموس": والضيف للواحد والجميع، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان، وهي ضيف وضيفة، أما الضيفن: فهو من يجيء مع الضيف متطفلًا، وفي "الأساس": ضاف إليه مال إليه، وضاف عنه مال عنه، وضاف السهم عن الهدف، وضافت الشمس، وضيَّفت وتضيَّفت: مالت إلى الغروب. {فَرَاغَ} رغ ذهب في خفية، وهذا من أدب المضيف ليبادر ضيفه بقراه، وفي "المصباح": وراغ الثغلب روغًا من باب قال، وروغانًا: ذهب يمنةً ويسرةً في سرعة وخديعةٍ، فهو لا يستقر في جهة، وراغ فلان إلى كذا: مال إليه سرًّا، وفيه إعلال بالقلب، أصله: روغ قلبت الواو ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. {بِعِجْلٍ} والعجل: ولد البقرة، سمّي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورًا أو بقرةً. {سَمِينٍ} والسمين: ضد الهزيل. {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} الوجس: الصوت الخفيّ كالإيجاس، وذلك في النفس، أي: أضمر في نفسه خيفة؛ أي: خوفًا منهم. {لَا تَخَفْ} أصله: لا تخوف بوزن تفعل، مضارع خوف بكسر العين من باب فعل المكسور، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت، لكنّها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال، ثمّ حذفت لالتقائها ساكنة مع الفاء آخر الفعل المسكّن؛ لدخول الجازم عليه. {بِغُلَامٍ} والغلام: الطار. الشارب، والكهل: ضده، أو من حين يولد إلى أن يشب كما في "القاموس". {فِي صَرَّةٍ} والصرة بفتح الصاد: الصيحة الشديدة، يقال: صر يصر صريرًا: إذا صوت، ومنه: صرير الباب، وصرير القلم، وقيل: الصرّة: الجماعة من

الناس كما مرّ. {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض، يقال: صكه: إذا ضربه شديدًا بعريض، أو عام كما في "القاموس". {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}؛ أي: أنا كبيرة السنّ، سميت العجوز عجوزًا؛ لعجزها عن كثير من الأمور، وقال في "القاموس": العقم بالضم: هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد، وفي "عين المعاني": العقيم: من سد رحمها، ومنه: الداء العقام، كما مرّ. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}؛ أي: لعن الكذّابون، حيث شبّه اللعن بالقتل بجامع ذوات كل خير في كل منهما، فاشتق من القتل بمعنى اللعن قتل بمعنى لعن علي طريقة الاستعارة التصريحية التبعيّة، ففيه تشبيه الملعون الذي يفوته كل خير وسعادة بالمقتول الذي تفوته الحياة، وكل نعمة. اهـ "زاده". ومنها: الطباق في قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}؛ لأنّ السائل الطالب والمحروم المتعفّف. ومنها: الكناية عن الموصوف في قوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}؛ لأنّه كناية عن محذوف، وهو المكذّب الجاحد للحق، والضمير في {عَنْهُ} للرسول أو للقرآن؛ أي: يصرف عنه من صرف صرفًا لا أشدَّ منه ولا أعظم، وفائدة الكناية هنا: أنّه لمّا خصَّص هذا بأنه هو الذي .. صرف أفهم أن غيره لا يصرف، فكأنه قال: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا، وكل صرف دونه يعتبر بمثابة المعدوم بالنسبة إليه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فِي غَمْرَةٍ}؛ لأن الغمرة حقيقة في

الماء الكثير الساتر لمقرّه، فاستعير للجهالة التي تغمر صاحبها. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؛ لأنّ أصله: متى مجيء يوم الجزاء، فحذف المضاف الذي هو المصدر وأقيم المضاف إليه الذي هو الظرف، والاستفهام فيه للاستعجال استهزاءً لا للاستعلام. ومنها: الاستعارة المكنيّة في قوله: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} شبّه العذاب بطعام يؤكل، ثم حذف المشبه به، واستعير له شيء من لوازمه، وهو الذوق. ومنها: التنكير في قوله: {فِي جَنَّاتٍ}؛ لإفادة التعظيم أو التكثير. ومنها: زيادة {مَا} في قوله: {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}؛ لتأكيد معنى التقليل، فإنها تكون لإفادة التقليل. ومنها: بناء الفعل على الضمير المفيد للتخصيص، في قوله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} إشعارًا بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه، وفي "بحر العلوم": وتقديم الظرف فيه للاهتمام به، ولرعاية الفاصلة. ومنها: تأكيد الخبر بالقسم وإن واللام في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} لكون المخاطب منكرًا، ويسمّى هذا الضرب إنكاريًا. ومنها: ذكر لفظ الربّ في القسم دون غيره، لكون السياق في بيان التربية بالرزق. ومنها: التشبيه في قوله: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}؛ لأنّه شبه تحقق ما أخبر به عنه بتحقق نطق الآدميّ، ومعناه: إنّه لحق كما أنت تتكلم. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}؛ أي: ألم يأتك حديث ... إلخ. فالاستفهام فيه تقريريّ لتفخيم الحديث، ولتجتمع نفس المخاطب، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب، فتقرره هل سمع ذلك أم لا، فكأنك تقتضي أن يقول: لا، ويطلب منك الحديث.

ومنها: الحذف في قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وقد اختلف في تقرير المبتدأ لمحذوف، فقيل: إنّ الذي يناسب حال إبراهيم عليه السلام: أنه لا يخاطبهم بذلك، إذ فيه من عدم الأنس ما لا يخفى، بل يظهر أنه يكون التقدير: هؤلاء قوم منكرون. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} فإنّه قد سمّى الغلام عليمًا باعتبار ما يؤول إليه أمره إذا كبر. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وقد انتهى ما منّ الله سبحانه وتعالى به علينا من المعاني المحرّرة، والألفاظ المحبّرة، والأبحاث المشكلة من الفنون المختلفة على الجزء السادس والعشرين من الآيات المحكمة في اليوم الثالث والعشرين، قبيل صلاة الظهر من شهر الربيع الآخر من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة من الهجرة النبوية 23/ 4/ 1415 هـ. على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، بيد جامعها محمد الأمين بن عبد الله الأرميِّ الهرريّ غفر الله له، ولوالديه، ولمن أعانه عليها، ولجميع المحبّين، وإخوانه المسلمين، وصلى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين. إلى هنا تم المجلد السابع والعشرون، ويليه المجلد الثامن والعشرون، وأوَّله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)} الآية 31. من سورة الذاريات، فلله الحمد حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه على كل حال، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده. 23/ 4/ 1415 هـ.

شعرٌ إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا ... كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا يَا مَنْ يُقبِّحُ لَغْوِيْ ... لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا آخرُ كُلُّ حيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مدَّةَ الْعُمـ ... ـرِ وَمَرْدِيٌّ إِذَا انْتَهَى أَمَدُهُ آخرُ كُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوْبُ آخرُ خُلِقْتُ مِنَ التُّرَابِ فِصِرْتُ شَخْصًا ... بَصِيْرًا بالسُّؤَالِ وَبالْجَوَابِ وَعُدْتُ إلى التُّرابِ فِصِرْتُ فِيْهِ ... كَأنِّي مَا بَرِحْتُ مِنَ التُّرَابِ آخرُ بِلَادُ الله وَاسِعَةٌ فَضَاءً ... ورِزْقُ الله فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ ... إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أرْضٌ فَسِيْحُوْا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [28]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على نواله، والصلاة والسلام على نبيّه وآله، محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وعترته. أما بعد: فلمَّا فرغت من تفسير الجزء السادس والعشرين من القرآن الكريم .. تفرغت بعون الله تعالى لتفسير الجزء السابع والعشرين منه، مستمِدًّا من الله سبحانه التوفيق، والهداية لأقوم الطريق في تفسير كتابه الكريم، وأقول: وقولي هذا: قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}. المناسبة قد تقدّم أن قلنا غير مرة: إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا

إلى العد اللفظي، ولم يعنوا بالنظر إلي الترتيب المعنوي، ومن ثم تجد جزءًا قد انتهى، وبدىء بآخر بأثناء القصّة كما هنا. فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السلام بالغلام، سألهم ما شأنكم، وما الذي جئتم لأجله؟ قالوا: إنا أرسلنا إلي قوم لوط لنهلكهم بحجارة من سجيل، بها علامةٌ تدل على أنها أعدّت لأهلاكهم. ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج، من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين، وسنترك فيها علامةً تدل على ما أصابهم من الرجز، جزاء فسوقهم، وخروجهم من طاعة ربهم. قوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر (¬1) ما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان، وما أصابهم من الهلاك جزاءً وفاقًا لما اجترحوا من السيئات، تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى من قومه .. عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقي هذا الرسول الكريم. فحقت على أقوامهم كلمة ربّهم، ونزل بهم عذاب الاستئصال، وصاروا كأمس الدابر عبرة ومثلًا للآخرين. فذكر أنه أرسل موسي إلي فرعون بشيرًا ونذيرًا، فأبى، واستكبر، واعتزّ بقوّته وجنده، وقال: أنا ربكم الأعلى، فأغرق هو وقومه في البحر. وأرسل هودًا إلى عادٍ، فكذَّبوه، فأهلكهم بريح صرصرٍ عاتية. وأرسل صالحًا إلى ثمود، فكذّبوه، فأخذتهم الصاعقة، ولم تبق منهم أحدًا. وبعث نوحًا إلى قومه، فلم يستجيبوا لدعوته، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما أثبت الحشر، وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة، أرشد إلى وحدانية الله، وعظيم قدرته .. فبيّن أنه خلق السماء بغير عمد، وبسط الأرض ودحاها لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان , وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان، زوجين ذكرًا وأنثى، ليستمرّ بقاء الأنواع إلي أن يشاء الله سبحانه فناء هذا العالم. ثمّ أمرهم أن يعتصموا بحبل الله، وأنذرهم شديد عقابه، وحذّرهم أن يجعلوا مع الله ¬

_ (¬1) المراغي.

سبحانه ندًّا وشريكًا. قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر أنَّ هؤلاء المشركين في قول مختلف، مضطرب، لا يلتئم بعضه مع بعض، فبينما هم يقولون: خالق السموات والأرض هو الله، إذا هم يعبدون الأصنام والأوثان، وطورًا يقولون: محمد ساحر، وطورا آخر يقولون: هو كاهن، إلى نحو ذلك .. قفى على ذلك، بأن ذكر أنَّ قومه ليسوا بدعًا في الأمم. فكما كذَّبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رملها، فأحل الله بهم نقصته، كقوم نوح، وعاد، وثمود. ثم عجيب من حالهم، وقال: أتواصى بعضهم مع بعض بذلك!؟ ثم قال: لا بل هم قوم طغاة، متعدون حدود الله تعالى، لا يأتمرون بأمره، ولا ينتهون بنهجه. ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم. فإنه قد بلغ ما أمر به، ولم يقصر فيه فلا يلام على ذلك، وأن يذكر من تنفعه الذكرى، ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية. ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم، ويكلفهم بعبادته، لا لاحتياجه إليهم في تحصيل رزق، ولا إحضار طعام. فالله هو الرزّاق ذو القوّة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة، بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة. فأولى لهم أن لا يستعجلوه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. فقد حقت عليهم كلمة ربك في اليوم الذي يوعدون، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مرد له، ولا يجدون له دافعًا. أسباب النزول قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} سبب نزول هاتين الآيتين (¬1): ما أخرجه ابن منيع، وابن راهويه، والهيثم بن كليب بأسانيدهم من طريق مجاهد عن عليّ قال: لمَّا نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى منّا، فنزلت: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}، فطابت أنفسنا. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[31]

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ...} الآية، اشتد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأوا أن الرحي قد انقطع، وأنَّ العذاب قد حضر. فأنزل الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}. التفسير وأوجه القراءة 31 - {قالَ} إبراهيم عليه السلام لمَّا علم أنهم ملاتكة أرسلوا لأمر {فَمَا خَطْبُكُمْ} أي: فما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة. فإنَّ الخطب يستعمل في الأمر العظيم الذي يكثر في التخاطب، وقلما يعبر به عن الشدائد والمكاره، حتى قل: خطوب الزمان، ونحو هذا. والفاء (¬1) فيه للتعقيب المتفرع على العلم بكونهم ملائكة. {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} من جهة الله سبحانه وتعالى. وقال الشوكاني: قوله: {فَمَا خَطْبُكُمْ} جملة (¬2) مستأنفة جوابًا عن سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة؟ والخطب: الشأن والقصة. والمعنى: فما شأنكم وما قصتكم أيّها المرسلون من جهة الله تعالى، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلتم سوى هذه البشارة؟ انتهى. وفي "المراح": (¬3) فما أمركم العظيم الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة، فلعظمتكم لا ترسلون إلا في عظيم أيها المرسلون، فأتى إبراهيم عليه السلام بما هو من آداب المضيف، حيث يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج: ما هذه العجلة، وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع معك؟ ولا يسكت عند خروجهم لأنّ سكوته يوهم استثقالهم، انتهى. 32 - فأجابوه عمّا سأل حيث: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)}؛ أي: إلى قوم متمادين في إجرامهم وآثامهم مصرّين عليها. والمراد بهم: قوم لوط. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح القدير. (¬3) المراح.

[33]

وفي "فتح الرحمن": المجرم فاعل الجرائم، وهي صعاب المعاصي. 33 - {لِنُرْسِلَ}؛ أي: لننزل {عَلَيْهِمْ} من السماء {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} متحجّر كالآجرّ. وهو ما طبخ فصار في صلابة الحجارة، ومو السّجيل، يعني: (¬1) أنّ السّجيل حجارةٌ من طين طبخت بنار جهنم، مكتوب عليها أسماء القوم، ولو لم يقل: {مِنْ طِينٍ} لتوهّم أنّ المراد من الحجارة: البرد بقرينة إرسالها من السماء، فلمّا قيل: {مِنْ طِينٍ} اندفع ذلك الوهم؛ أي: لنرسل عليهم حجارة من طين بعدما قلبنا قراهم، وجعلنا عاليها سافلها. قال السديّ ومقاتل: كانوا ست مئة ألف، فأدخل جبرائيل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم - وكانت أربعة - ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم، ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها. ثم أرسل عليهم الحجارة فتتبعت الحجارة مسافريهم وشذاذهم؛ أي: المنفردين عن الجماعة. 34 - وانتصاب (¬2) {مُسَوَّمَةً} على كونه صفة ثانية لـ {حِجَارَةً}، أو على الحال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو من الحجارة لكونها قد وصفت بالجار والمجرور. ومعنى {مُسَوَّمَةً}: مرسلةً من عند ربك من سوّمت الماشية؛ أي: أرسلتها لترعى لعدم الاحتياج إليها. قال سعديٌ المفتي: فيه أنّ الظاهر حينئذٍ من عند ربك بإثبات من الحجارة، انتهى. أو معلمةً بعلامات تعرف بها، من السومة وهي العلامة، قيل: كانت مخططة بسواد وبياض، وقيل: بسواد وحمرة، وقيل: معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: معلّمة بسيما تتميّز بها عن حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل حجر منها اسم من يرمى بها ويهلك. وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} ظرف لـ {مُسَوَّمَةً}؛ أي: معلّمة عنده، أو مخزونةً عنده في خزائنه التي لا يتصرّف فيها غيره تعالى. {لِلْمُسْرِفِينَ}؛ أي: للمجاوزين الحدَّ في الفجور؛ إذ لم يقنعوا بما أبيح لهم من النساء للحرث، بل أتوا الذكران. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {لِلْمُسْرِفِينَ}؛ أي: للمشركين، فإنَّ الشرك أسرف الذنوب وأعظمها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح القدير.

[35]

35 - ولمّا أراد سبحانه أن يهلك المجرمين .. ميّز عنهم المؤمنين، وأبعدهم عنهم كما قال: {فَأَخْرَجْنَا} الفاء: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فباشروا ما أمروا به. فأخرجنا بقولنا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ...} إلخ. فهو إخبار من الله سبحانه، وليس بقول الملائكة. {مَنْ كَانَ فِيهَا}؛ أي: في قرى قوم لوط. وهي خمس على ما في تفسير الكاشفي. وإضمارها (¬1) بغير ذكرها لشهرتها. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: من آمن بلوط 36 - {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا}؛ أي: في قرى قوم لوط {غَيْرَ بَيْتٍ} أي: غير أهل بيت واحد. وهو بيت لوط {بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قيل: هم لوط، وابنتاه. وأما امرأته فكانت كافرة. وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. قال العلماء (¬2): يأتي النبي يوم القيامة ومعه أمّتة، وآخر معه قومه، وآخر معه رهطه، وآخر معه ابنه، وآخر معه رجل، وآخر استتبع ولم يتبع، ودعا فلم يجب، وذلك لإتيانه في الوقت الشديد الظلمة. وفي الآية: إشارة إلى أن المسلم والمؤمن متحدان صدقًا وذاتًا لا مفهومًا. والمسلم أعمُّ من المؤمن. فإنّه ما من مؤمن إلا وهو مسلم من غير عكس، والعامّ والخاص قد يتصادقان في مادّة واحدة، وقال بعضهم: الإيمان: هو التصديق بالقلب: أي: إذعان الحكم المخبر، وقبوله، وجعله صادقًا، والإِسلام: هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الأحكام والإذعان. وهذا حقيقة التصديق كما لا يخفى على من له أدنى عقل وتأمل، وإنكار ذلك مكابرة. 37 - {وَتَرَكْنَا فِيهَا} أي: في تلك القرى {آيَةً}؛ أي: علامةً دالةً، على ما أصابهم من العذاب. هي تلك الحجارة، أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم. {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}؛ أي: من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقّة قلوبهم، دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية، فإنهم لا يعتدون بها, ولا يعدونها آيةً. كما شاهدَنا أكثر الحجاج حين المرور بمدائن صالح عليه السلام. وكان - صلى الله عليه وسلم - يبكي حين المرور بمثل هذا الموضع، وينكس رأسه، ويأمر بالبكاء والتباكي، ودلت الآية على كمال قدرته تعالى على إنجاء من يؤيّد دينه، والانتقام من أعدائه ولو بعد حين، وعلى أنّ المعتبر في باب النجاة والحشر مع أهل الفلاح ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[38]

والرشاد هو حبّهم، وحسن اتباعهم، وهو الاتصال المعنوي لا الاختلاط الصوري، وإلا لنجت امرأة نوح ولوط. وقد قال تعالى في حقهما: {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. ومعنى الآيتين (¬1): أي وبعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط، ووقعت بينهم وبينهم محاورات .. أخرجوا من كان في القرى من المؤمنين تخليصًا لهم من العذاب، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه لله ظاهرًا وباطنًا، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه. وهو بيت لوط بن هاران أخ إبراهيم عليه السلام. {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً ...} إلخ، أي: وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال، وحجارة السجيل، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة. وهي بحيرة طبرية لتكون ذكرى لمن يخشى الله، ويخاف عذابه. وفي الآية: إيماء إلى أنّ الكفر متى غلب، والفسق إذا انتشر، لا تنفع معه عبادة المؤمنين، أمّا إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون .. فإن الله لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين. 38 - وقوله: {وَفِي مُوسَى} معطوف (¬2) على قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} على معنى وجعلنا في إرسال موسى إلى فرعون، وإنجائه مما لحق فرعون وقومه من الغرق آية. كقوله: "علفتها تبنًا وماءً باردًا: أي: وسقيها ماءً باردًا، وإلا فقوله {فِي مُوسَى} لا يصح كونه معمولًا لـ {تركنا}. إذ لا يستقيم أن يقال: تركنا في موسى آيةً، كما يصح أن يقال: تركنا في تلك القرية آيةً. لأنّ الترك ينبىء عن الإبقاء، فإذا لم يبق موسى كيف يبقى ما جعل فيه؟ وقيل: معطوف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}. فقصة إبراهيم ولوط عليهما السلام معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكذيبهم، ووعدًا له بإهلاك أعدائه الأفاكين. كما أهلك قوم لوط. وقيل: غير ذلك. والأول أولى. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[39]

وقوله: {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ} ظرف لـ {جَعَلْنَا} المقدّر؛ أي: وجعلنا في إرسال موسي، وإنجائه مع قومه، وإهلاك فرعرن وقومه آية للذين يخافون العذاب الأليم وقت إرسالنا إيّاه. {إِلَى فِرْعَوْنَ} صاحب مصر حال كون موسى متلبسًا {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة ظاهرة دالة على صدقه. وهو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة: كالعصا، واليد البيضاء، وغيرهما. والسلطان مصدر يطلق على المتعدد. 39 - {فَتَوَلَّى} فرعون {بِرُكْنِهِ}؛ أي: ثنى بعطفه وجانبه. وهو كناية عن الإعراض؛ أي: فأعرض عن الإيمان به وازورَّ، فالتولي بمعنى الإعراض، والباء في {بِرُكْنِهِ} للتعدية كما في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. فإنها معدية لـ {نَأَى} بمعنى بعد. فيكون الركن بمعنى الطرف والجانب، والمراد بهما: نفسه؛ أي: أعرض بنفسه عن الإيمان بموسى. فإنه كثيرًا ما يعبر بطرف الشيء وجانبه عن نفسه، وفي "الصحاح": ركن الشيء جانبه الأقوى كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان. وقيل: فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره. فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان، ولكن من مال، وجند، وقوة، فالركن مستعار لجنوده تشبيهًا لهم بالركن الذي يتقوى به البنيان، وعلى هذا الباء للسببية، أو للملابسة والمصاحبة. {وَقَالَ} فرعون في حق موسى هو؛ أي: موسى {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحرًا أو مجنونًا، وهذا (¬1) من اللعين مغالطة وإبهام لقومه, فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر، ولا يفعله من به جنون، وقيل: إن {أَوْ} بمعنى الواو, لأنّه قد قال ذلك جميعًا، ولم يتردد. قاله المؤرج والفراء كقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}. 40 - {فَأَخَذْنَاهُ}؛ أي: أخذنا فرعون {وَجُنُودَهُ}؛ أي: قومه وعساكره {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}؛ أي: فطرحناهم في بحر القلزم مع كثرتهم، كما يطرح أحدكم فيه حصيات أخذهن في كفه، لا يبالي بها، وبزوالها عنه. {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: أخذناه، والحال أنه آت بما يلام عليه صغيرةً أو كثيرةً، حيث كذب الرسل، وادعى الربوبية, إذ كل صاحب ذنب ملوم على مقدار ذنبه. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[41]

والمعنى (¬1): أي وفي قصص موسى عبرة لقوم يعقلون؛ إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرةٍ، وآيات باهرة فأعرض، ونأى, وكذب ما جاء به معتزًّا بجنده، وقوته، وجبروته. وقال حينًا تحقيرًا لشأن موسى: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، وقال حينًا آخر: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}. وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمّل فيما جاء به من الآيات خوفًا على ملكه أن ينهار، وعلى دولته أن يلحقها الدماء، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان في البلاد. ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع، فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ ...} إلخ؛ أي: فألقينا فرعون وجنوده في البحر، وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان. وفي هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة، وسوء عاقبتهم جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم. 41 - ثم ذكر قصص عاد، فقال: {وَفِي عَادٍ}؛ أي (¬2): وجعلنا في عاد قوم هود آيةً على تقدير كونه معطوفًا على قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَة}، أو وفي قوم هود {آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} إن كان معطوفًا على {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ}. {إِذْ أَرْسَلْنَا} ظرف لـ {جعلنا} المقدر {عَلَيْهِمُ}؛ أي: على أنفسهم أصالة، وعلى دورهم وأموالهم وأنعامهم تبعًا. {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}؛ أي: المعقم. أي: المهلك لكل شيء، أو العاقم: أي: القاطع لكل خير. وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرًا، ولا تحمل مطرًا إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، وفي "بحر العلوم": ولعله سمّاها عقيمًا لأنّها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكها إيّاهم، وقطعها دابرهم، وهي ريح العذاب والهلاك، وهي (¬3) النكباء على قول عليّ رضي الله عنه. وهي التي انحرفت ووقعت بين ريحين، أو بين الصبا والشمال، وهو الدبور على قول ابن عباس رضي الله عنهما. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". وهي ريح تقابل الصَّبا. أي: ريح تجيء من جانب المغرب. فإنَّ الصَّبَا تجيء من جانب المشرق. وقال ابن المسيب: الريح العقيم: هي الجنوب مقابل الشمال. وهي ريح تجيء من شمال من يتوجه إلى المشرق. وهي كثيرة في فصل الشتاء، وآخر فصل الخريف. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[42]

42 - ثم وصف سبحانه هذه الريح، فقال: {مَا تَذَرُ}؛ أي: ما تترك تلك الريح {مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ}؛ أي: مرَّت عليه من أنفسهم، وأنعامهم، وأموالهم {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي: كالشيء البالي المتفتت. والرميم: كل ما رم، وبلي، وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، وقال قتادة (¬1): الرميم: ما ديس من يابس النبات. وقال السديُّ، وأبو العالية: إنه التراب المدقوق. وقال قطرب: إنه الرماد. وأصل الكلمة: من رم العظم إذا بلي، فهو رميم. والرمة: العظام البالية كما سيأتي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما أرسل على عاد من الريح إلا مثل خاتمي هذا. يعني: أنّ الريح العقيم تحت الأرض، فأخرج منها مثل ما يخرج من الخاتم من الثقب، فأهلكهم الله تعالى. والمعنى (¬2): أي وفي عاد آية لكل ذي لب. إذ أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا عاتية لم تبق منهم ديَّارًا، ولا نافخ نار، ولا تركت شيئًا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشيء الهالك البالي. 43 - ثم ذكر قصص ثمود فقال: {وَفِي ثَمُودَ}؛ أي: وجعلنا في ثمود قوم صالح آيةً، أو وفي قوم صالح آيات للموقنين. وقوله: {إِذْ} ظرف متعلق بـ {جعلنا}؛ أي: جعلنا فيهم آية وقت إذ {قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا}؛ أي: انتفعوا بالحياة الدنيا {حَتَّى حِينٍ}؛ أي: إلى وقت نزول العذاب. وهو آخر ثلاثة أيّام الأربعاء، والخميس، والجمعة. فإنهم عقروا الناقة يوم الأربعاء، وهلكوا بالصيحة يوم السبت. وقد فسر بقوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}. قيل: قال لهم صالح عليه السلام: تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فكان كذلك. وإنما (¬3) تبدلت ألوانهم بما ذكر؛ لأنهم كانوا كل يوم في الترقي إلى سوء الحال. ولا شك أنّ الأبيض يصير أصفر ثم أحمر ثم أسود. والسواد من ألوان الجلال والقهر، وأيضًا لون جهنم، فإنّها سوداء مظلمة، فعند الهلاك صاروا إلى لون جهنم لأنّها مقرّهم، ونعوذ بالله منها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[44]

44 - {فَعَتَوْا} أي: استكبروا {عَنْ} امتثال {أَمْرِ رَبِّهِمْ} وهو ما أمروا به على لسان صالح عليه السلام من قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}. والفاء ليست للعطف على {قِيلَ لَهُمْ}. فإنّ العتوّ لم يكن بعد التمتع، بل قبله. وإنما هو تفسير وتفصيل لما أجمله في قوله: {وَفِي ثَمُودَ ...} إلخ. فإنّه يدلّ إجمالًا على أنه تعالى جعل فيهم آيةً، ثم بين وجه الآية وفصّلها. قال في "شرح الرضيّ": إنّ الفاء العاطفة للجمل قد تفيد كون المذكور بعدها كلامًا مرتّبًا على ما قبلها في الذكر, لأنّ مضمونها عقيب مضمون ما قبلها في الزمان، انتهى. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}؛ أي: أهلكتهم النار النازلة من السماء {وَهُمْ يَنْظُرُونَ}؛ أي: والحال أنهم ينظرون إليها، ويعاينونها. لأنّهم جاءتهم معاينة بالنهار، فينظرون من النظر بالعين. وفيه ترجيح لكون المراد بالصاعقة: حقيقة النار. لأنّها حين ظهرت رأوها بأعينهم، والصيحة لا ينظر إليها، وإنما تسمع بالأذن. والظاهر: أنّ الصاعقة لا تنافي أن يكون معها صيحة جبرئيل. وقيل: هو الانتظار؛ أي: ينتظرون ما وعدوا به من العذاب، حيث شاهدوا علامات نزوله من تغيّر ألوانهم في تلك الأيّام. ويقال: سمعوا الصيحة وهم ينظرون: أي: يتحيّرون. وقرأ الجمهور (¬1): {الصَّاعِقَةُ}. وقرأ عمر، وعثمان رضي الله عنهما، وحميد، وابن محيصن، ومجاهد، والكسائي، وزيد بن علي {الصعقة}. قيل (¬2): لمَّا رأوا العلامات التي بيَّنها صالح من اصفرار وجوههم، واحمرارها، واسودادها عمدوا إلى قتله عليه السلام فنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا، وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة جبرئيل عليه السلام كما صرح بها في قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَة}. فهلكوا. فالمراد بالصاعقة: الصيحة لا حقيقتها. وهي نار تنزل من السماء فتحرق ما أصابته. وقيل: أتتهم صيحة من السماء، فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم. وقال بعضهم: أهلكوا بالصاعقة حقيقة بأن جاءت نار من السماء ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[45]

فأهلكتهم جميعًا، كما مرَّ. والمعنى (¬1): أي وفي ثمود عظة لمن تدبر، وفكر في آيات ربّه؛ إذ قال لهم نبيهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به، فكذبوه، واستكبروا، وعتوا عن أمر ربهم. فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعًا، وهم ينظرون إليها جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام، وارتكاب الخطايا، والأوزار. 45 - {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ}؛ أي: لم يقدروا على القيام. قال قتادة: من نهوض يعني: لم ينهضوا من تلك الصرعة. والمعنى: أنهم عجزوا عن القيام فضلًا عن الهرب. ومثله قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}؛ أي: لاصقين بمكانهم من الأرض، لا يقدرون على الحركة والقيام فضلًا عن الهرب. فالقيام ضد القعود. {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ}؛ أي: ممتنعين من عذاب الله بغيرهم كما لم يمتنعوا بأنفسهم. والخلاصة: فما استطاعوا من هرب، ولم يجدوا مفرًّا ولا نصيرًا يدفع عنهم عذاب الله تعالى. 46 - ثم ذكر موجزًا لقصص قوم نوح عليه السلام، فقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي: وأهلكنا قوم نوح، فإنَّ ما قبله يدل عليه. ويجوز أن يكون منصوبًا باذكر المقدر. {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل هؤلاء المهلكين {إِنَّهُمْ}؛ أي: إنّ قوم نوح {كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}؛ أي: خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي. وهو علة لإهلاكهم. والمعنى: وأهلكلنا قوم نوحٍ بالطوفان قبل هؤلاء المذكورين بسبب فسقهم، وفجورهم، وانتهاكهم حرمات الله تعالي. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي {وَقَوْمَ نُوحٍ} بالجر عطفًا علي ما تقدم؛ أي: وفي قوم نوح آية. وهي قراءة عبد الله وقرأ (¬2) باقي السبعة، وأبو عمرو في رواية بالنصب. قيل: عطفًا على الضمير في {فَأَخَذَتْهُمُ}. وقيل: عطفًا على {فَنَبَذْنَاهُمْ}؛ لأنَّ معنى كل منهما فأهلكناهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[47]

وقيل: منصوب بإضمار فعل، تقديره: وأهلكنا قوم نوح. لدلالة معنى الكلام عليه. وقيل: باذكر مضمرة. وروى عبد الوارث، ومحبوب، والأصمعيّ عن أبي عمرو، وأبو السمال، وابن مقسم {وَقَوْمَ نُوحٍ} بالرفع على الابتداء. والخبر محذوف؛ أي: أهلكناهم. 47 - والنصب في قوله (¬1): {وَالسَّمَاءَ} على الاشتغال؛ أي: وبنينا السماء {بَنَيْنَاهَا} حال كوننا متلبسين {بِأَيْدٍ}؛ أي: بقوة وقدرة قاهرة. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: كقوله: {دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ}. فهو (¬2) حال من الفاعل أو حالة كون السماء متلبسة بقوة وإحكام، فيكون حالًا من المفعول. ويجوز أن تكون الباء للسببية: أي: بسبب قدرتنا، فتتعلق ببنيناها, لا بالمحذوف، والقوة هنا بمعنى القدرة. فإنّ القوة عبارة عن شدة البينة وصلابتها المضادة للضعف. واللأ تعالى منزه عن ذلك. والقدرة هي الصفة التي بها يتمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة. والأيد: مصدر: آد يئيد أيدًا إذا اشتد وقوي. قال في "القاموس": الآد: الصلب والقوة كالأيد، وأيدته مؤايدة، وأيدته تأييدًا فهو مؤيد قويته، انتهى. قال الراغب: ولما في اليد من القوة قيل: أنا يدك وأيدتك، قويت يدك اهـ. {إِنَّا} نحن {لُموسِعونَ}؛ أي: لقادرون على إيساعها من الوسع بمعنى الطاقة. والموسع: القادر على الإنفاق. يقال: أوسع الله عليك؛ أي: أغناك. فيكون قوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} حالًا مؤكدة، أو تذييلًا إثباتًا لسعة قدرته كل شيء فضلًا عن السماء. أو لموسعون السماء؛ أي: جاعلوها واسعة في نفسها، أو واسعون ما بينها وبين الأرض، أو واسعون الرزق فيها على خلقنا؛ لقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ}. وقرأ أبو السمال (¬3)، ومجاهد، وابن مقسم برفع السماء، ورفع الأرض على الابتداء. وقرأ الجمهور نصبهما. والمعنى: أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا، وعظيم سلطاننا، وإنا لقادرون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[48]

على ذلك، لا يمسنا نصب ولا لغوب. وفي ذلك تعريض باليهود الذين قالوا: إنّ الله خلق السموات والأرض في ستّة أيّام، واستراح في اليوم السابع مستلقيًا على عرشه. 48 - {وَالْأَرْضِ}؛ أي: وفرشنا الأرض {فَرَشْنَاهَا}؛ أي: مهدناها، وبسطناها على الماء من تحت الكعبة مسيرة خمس مئة عام ليستقروا عليها, ويتقلبوا فيها كما يتقلب أحدهم على فراشه ومهاده. {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}؛ أي: فنعم الفارشون نحن. والمخصوص بالمدح محذوف كما قدرنا؛ أي: هم نحن، فحذف المبتدأ والخبر من غير أن يقوم شيء مقامهما. وقد اختلف القدماء في هيئة الأرض وشكلها (¬1)، فذكر بعضهم أنها مبسوطة مستوية السطح في أربع جهات: المشرق، والمغرب، والجنوب، والشمال. وزعم آخرون أنها كهيئة المائدة، ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل، وذكر بعضهم أنها تشبه نصف الكرة كهيئة القبة، وأنّ السماء مركبة على أطرافها. وزعم قوم أن الأرض مقعرة وسطها كالجام. والذي عليه الجمهور أنَّ الأرض مستديرة كالكرة، وأنّ السماء محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح. فالصفرة بمنزلة الأرض، وبياضها بمنزلة السماء، وجلدها بمنزلة السماء الأخرى. غير أنَّ خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة، بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستوية الخرط حتى قال مهندسوهم: لو حفر في الوهم وجه الأرض، لأدى إلى الوجه الآخر، ولو ثقب مثلًا ثقب بأرض الأندلس لنفذ الثقب بأرض الصين. واختلف في كمية عدد الأرضين. فروي في بعض الأخبار: أنَّ بعضها فوق بعض. وغلظ كل أرض مسيرة خمس مئة عام، حتى عد بعضهم لكل أرض أهلًا على صفة وهيئة عجيبة. وسمى كل أرض باسم خاص كما سمى كل سماء باسم خاص. وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل النار، وفي الأرض السادسة حجارة أهل النار. وعن عطاء بن يسار: في قوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: ¬

_ (¬1) خريدة العجائب.

في كل أرض آدم كآدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم. وليس هذا القول بأعجب من قول الفلاسفة: إن الشموس شموس كثيرة، والأقمار أقمار كثيرة. ففي كل أقليم شمس وقمر ونجوم. وقال القدماء: سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الأقاليم لا على المطابقة والمكابسة. وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول. ومنهم من يقول: سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي. ويزعم بعضهم أن الأرض مقسومة لخمس مناطق. وهي المنطقة الشمالية، والجنوبية، والمستوية، والمعتدلة، والوسطى. واختلفوا في مبلغ الأرض، وكمّيتها. فروي عن مكحول أنه قال: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمس مئة عام مئتان من ذلك في البحر، ومئتان ليس يسكنها أحد, وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق. وعن قتادة قال: الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ، فملك السودان - يعني: إفريقيا كلها منها - اثنا عشر ألف فرسخ، وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ، وملك العجم والترك ثلاثة آلاف فرسخ، ملك العرب ألف فرسخ. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس. وقال بطليموس: بسيط الأرض كلها مئة واثنان وثلاثون ألف ألف وست مئة ألف ميل. فتكون مئتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ. فإن كان حقًا فهو وحي من الحق أو إلهام، وإن كان قياسًا واستدلالًا فهو قريب من الحق أيضًا. وأما قول قتادة، ومكحول فلا يوجب العلم اليقيني، الذي يقطع على الغيب، كذا في "خريدة العجائب". وكل هذه الأقاويل ظنية لا مستند لها ولا أصل. والمعنى (¬1): أي ومهدنا الأرض وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان، وجعلنا فيها الأرزاق، والأقوات من الحيوان والنبات، وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين، ووضعنا فيها من المعادن في ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم. فتبنون المساكن من حجارتها، وتتخذون العلي من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة، وتصنعون آلات الحرب، والسفن، والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى. ¬

_ (¬1) المراغي.

[49]

وفي الآية: إشارة إلى أنَّ دحو الأرض كان بعد خلق السماء؛ لأنّ بناء البيت يكون قبل الفرش، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن. وقد تقدم ذكر ذلك غير مرّة. ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع، فقال: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}؛ أي: فنعم ما فعلنا، وأجمل ما خلقنا مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر. 49 - {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، أي: من أجناس الموجودات. فالمراد بالشيء: الجنس. وقيل: من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}؛ أي: صنفين ونوعين مختلفين كالذكر والأنثى، والسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والبر والبحر، والسهل والجبل، والإنس والجن، والنور والظلمة، والأبيض والأسود، والدنيا والآخرة، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والحلو والمر، والموت والحياة، والرطب واليابس، والجامد والنامي، والناطق والصامت، والجود والبخل، والعزّ والذلّة، والعرش والكرسي، واللوح والقلم، إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت حصر. وفي قوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} تنبيه على أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعرض، ومادّة وصورة، وأن لا شيء يتحرى منها، إذ الأشياء كلها مركبة من تركيب يقتضي كونه مصنوعًا. وأنه لا بد له من صانع تنبيهًا على أنه تعالى هو الفرد وإنما ذكر هاهنا {زَوْجَيْنِ} تنبيهًا على أنه وإن لم يكن له ضد، ولا مثل فإنه لا ينفك من تركب صورة ومادة، وذلك زوجان. قال الخراز رحمه الله: أظهر معنى الربوبية والوحدانية بأن خلق الأزواج ليخلص له الفردانية. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ أي: فعلنا ذلك كله من البناء، والفرش، وخلق الأزواج كي تتذكروا فتعرفوا أنه خالق الكل، ورازقه، وأنه المستحق للعبادة، وأنه قادر على إعادة الجميع. فتعملوا بمقتضاه. والمعنى: أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيًا له مخالفًا له في مبناه والمراد منه، وكل منهما زوج للآخر. فخلقنا السعادة والشقاوة، والهدى والضلال إلى غير ذلك لتتذكروا، وتعتبروا، فتعلموا أنَّ الله ربكم الذي ينبغي لكم أن تعبدوه وحده، لا شريك له، هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء، لا ما لا يقدر على ذلك.

[50]

50 - {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} والفاء فيه فاء الفصيحة؛ أي: قل لهم يا محمد: إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له، وأن هذه المذكورة شؤونه وأفعاله، فاهربوا إلى الله الذي هذه شؤونه بالإيمان والطاعة كي تنجوا من عقابه، وتفوزوا بثوابه. وقيل (¬1): معنى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: أخرجوا من مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء غير الله، فمن فر إلى غيره .. لم يمتنع به. وقيل: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقيل: فروا من الجهل إلى العلم. وجملة قوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ}؛ أي: من جهته تعالى {نَذِيرٌ}؛ أي: منذر مخوف من عذاب الله {مُبِينٌ}؛ أي: بين كونه منذرًا منه تعالى بالمعجزات الظاهرة على يديه، أو مظهر لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به. تعليل للأمر بالفرار. وفي أمره (¬2) للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمرهم بالهرب إليه من عقابه، وتعليله بأنّه - صلى الله عليه وسلم - ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه وعد كريم بنجاتهم من المهروب، وفوزهم بالمطلوب. 51 - وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} نهي موجب للفرار من سبب العقاب بعد الأمر بالفرار نفسه. فقد نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله. كأنّه قيل: وفروا من أن تجعلوا معه تعالى اعتقادًا، أو تقولوا: إلهًا آخر. وجملة قوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ}، أي: من الجعل المنهي عنه {نَذِيرٌ مُبِينٌ}، أي: بيِّن الإنذار. تعليل للنهي المذكور. وفيه تأكيد لما قبله من الفرار من العقاب إليه تعالى، لا بطريق التكرير بل بالنهي عن سببه، وإيجاب الفرار منه. وفي "المراح": {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}؛ أي: (¬3) بل وحِّدوا الله سبحانه. فإنَّ التوحيد بين التعطيل والتشريك. فالمعطل يقول: لا إله. والمشرك يقول: إنّ في الوجود آلهةً. فقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أثبت وجود الله. وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} نفي الأكثر من الواحد، فصح التوحيد بالآيتين؛ ولهذا قال مرتين: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}: أي: لا أقول شيئًا إلا بدليل ظاهر. فالرسول نذير من الله في المقامين عند الأمر بالطاعة، وعند النهي عن الشرك. وذلك ليعلم أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[52]

وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما، انتهى. وحاصل معنى الآيتين: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}؛ أي: (¬1) فالجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه في جميع أموركم، واتبعوا أوامره، واعملوا على طاعته. {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ} من الله أنذركم عقابه، وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها، وإني مبين لكم ما يجب عليكم أن تحذروه، ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودًا آخر سواه؛ فإنَّ العبادة لا تصلح لغيره، إني لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره. ونحو الآية قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. 52 - وقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...} إلخ (¬2)، تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيان أنَّ هذا شأن الأمم المتقدمة، وأنَّ ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفه بالسحر والجنون قد كان عن قبلهم لرسلهم. و {كَذَلِكَ} في محل رفع، خبر لمبتدأ محذوف: أي: أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم مثل أمر كفّار قومك الذين بعثت إليهم من تكذيبهم إيّاك، وتسميتهم لك ساحرًا، أو مجنونًا. أو في محل نصب نعت لمصدر محذوف: أي: أنذركم إنذارًا كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم. والأول أولى. ثم فسر ما أجمله بقوله: {مَا أَتَى}؛ أي: ما جاء الأمم {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل قريش {مِنْ} زائدة؛ أي: {رَسُولٍ} من رسل الله تعالى {إِلَّا قَالُوا} في حقه هو {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} فلا تأس على تكذيب قومك إيَّاك. 53 - {أَتَوَاصَوْا بِهِ} الاستفهام فيه للإنكار والتعجيب من حالهم، واتفاقهم مع تفرق أزمانهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلًا عن التفوه بها في حق الأنبياء؛ أي: هل وصى الأولون الآخرين بعضهم بعضًا بهذا القول، حتى اتفقوا عليه. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}؛ أي: مجاوزون الحد في الطغيان والفساد إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر. تواصيهم بذلك لبعد الزمان وعدم تلاقيهم في وقت واحد. وإثبات لكونه أمرًا أقبح من التواصي، وأشنع منه. وهو الطغيان الشامل للكل الدال على أنّ صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[54]

جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم. وفيه (¬1) إشارة إلى أنَّ أرباب النفوس المتمردة من الأولين والآخرين مركوزة في جبلتهم طبيعة الشيطة من التمرد، والإباء، والاستكبار. فما أتاهم رسول من الأنبياء إلا أنكروا عليه، وقالوا: ساحر بريد أن يسحرنا، أو مجنون لا عبرة بقوله. كأنَّ بعضهم أوصى بعضهم بالتمرد، والإنكار، والجحود؛ لأنهم خلقوا على طبيعة واحدة. بل هم قوم طاغون بأنهم وجدوا أسباب الطغيان من السعة، والتنعم، والبطر، والغنى. قال الشاعر: إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالْجِدَهْ ... مَقسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ فعكسوا الأمر، وكان ينبغي لهم أن يصرفوا العمر والشباب والغنى في تحصيل المطلوب الحقيقيّ. والمعنى (¬2): أي كما كذبك قومك من قريش, وقالوا: ساحر أو مجنون فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، وقالوا مثل مقالتهم. فهم ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل. فكلهم قد كذبوا، وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله تعالى. وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على احتمال الأذى والإعراض عن جدالهم؛ فإنهم قد أبطرتهم النعمة، وغرهم الإمهال فلا تجدي فيهم العظة، ولا تنفعهم الذكرى. ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - , فقال: أَأوْصَى أولهم آخرهم بتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقبلوا ذلك منهم. ثم أضرب عن أن الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي إلى أنّ الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}؛ أي: بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، وتجاوز حدود الدين والعقل. فقال متأخرهم: مثل مقالة متقدمهم. ثم سلى رسوله بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}. 54 - ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالأعراض عنهم فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم، وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق. فقد فعلت ما أمرك الله به، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[55]

وبلغت رسالته، وكررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإباء والاستكبار {فَمَا أَنْتَ} يا محمد {بِمَلُومٍ} عند الله سبحانه على هذا التولي والإعراض بعد بذل المجهود؛ لأنك قد أديت ما عليك. وهذا منسوخ بآية السيف. 55 - ثم بعدما أمره بالاعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} قال الكلبي: أي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. وقال مقاتل: عظ كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من سبق في علم الله أنه يؤمن. وقيل: ذكرهم بالعقوبة، وأيام الله. وخص المؤمنين بالذكير لأنّهم المنتفعون به. والمعنى (¬1): فأعرض عنهم أيّها الرسول، ولا تأسَّف على تخلفهم عن الاسلام فإنك لم تأل جهدًا في الدعوة. وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارًا، وطغيانًا، وإعراضًا، ودم على العظة والنصح، فإنَّ الذكرى تنفع من في قلوبهم استعداد للهداية والرشاد. 56 - وجملة قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ...} إلخ (¬2)، مستأنفة مقررة لما قبلها. لأنَّ كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتذكير، وينشطهم للإجابة؛ أي؛ وما خلقت المؤمنين من الجن والإنس {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي، إلا ليطيعونني، ويعرفونني. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع؛ لأنَّ المجانين لم يؤمروا بالعبادة، ولا أرادها منهم. وقد قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود، وأبيِّ بن كعب {وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون}. وقال مجاهد: إنّ المعنى: إلا ليعرفوني. قال الثعلبيّ: وهذا قول حسن؛ لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. واختار هذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[57]

الزجاج. وقال الواحدي: مذهب أهل المعاني في معنى الآية: إلا ليخضعوا لي، ويتذللوا. ومعى العبادة في اللغة: الذل والانقياد. وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى، مذلل لمشيئته، خلقه على ما أراد، ورزقه كما قضى، لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه. والحاصل (¬1): أنهم خلقوا للعبادة تكليفًا واختيارًا لا جبلة وإجبارًا. فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها، وعمل بما خلق له. وفي الحديث: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، كما في "عين المعاني". فينبغي للعبد أن يعبد ربَّه، ويتذلل لخالقه بأيّ وجه كان من الفرائض، والواجبات، والسنن, والمستحبّات على الوجه الذي أمره أن يقوم فيه. فإذا كملت فرائضه، وكمالها فرض عليه، فيتفرغ فيما بين الفرضين لنوافل الخيرات كانت ما كانت. ولا يحقر شيئًا من عمله؛ فإنّ الله تعالى ما احتقره حين خلقه وأوجبه، فإنَّ الله تعالى ما كلَّفك بأمر إلا وله بذلك الأرم اعتناء وعناية، حتى كلفك به، وإذا واظب على أداء الفرائض؛ فإنه يتقرب إلى الله بأحب الأمور المقرّبة إليه. وورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى: "ما تقرَّب إليَّ عبد بشيء أحب إلى مما افترضته، وما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أُحبَّهُ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ريده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته". روجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم على الإنس (¬2). 57 - {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ}؛ أي: من الجن والإنس في وقت من الأوقات {مِنْ رِزْقٍ} لي، ولا لأنفسهم، ولا لغيرهم يحصّلونه بكسبهم. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ولا أنفسهم ولا غيرهم. وأصله: {أن يطعموني} بياء المتكلم. وهو بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعاليًا عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم، حيث يهلكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وتهيئة أرزاقهم فإنَّ منهم من يحتاج إلى كسب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[58]

عبده في نيل الرزق، ومنهم من يكون له مال وافر يستغني به عن حمل عبده على الاكتساب، لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه من طبخ الطعام، وإصلاحه، وإحضاره بين يديه. وهو تعالى مستغن عن جميع ذلك. ونفع العباد وغيره إنما يعود عليهم. فإن قلت: ما فائدة تكرار لفظ {مَا أُرِيدُ}؟ قلت: فائدته إفادة حكم زائد على ما قبله. إذ المعنى: ما أريد منهم أن يطعموا أنفسهم، وما أريد منهم أن يطعموا عبيدي. وإنما أضاف تعالى الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنما أطعمه. ويؤيده خبر: إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني" أي: استطعمتك عبدي فلم تطعمه، انتهى من "فتح الرحمن". والمعنى (¬1): ما أريد أن أصرفهم في تحمل رزقي, ولا رزقهم، ولا في تهيئته بل أتفضل عليهم رزقهم، وبما يصلحهم، ويعيشهم من عندي، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي. وفي الآية تعريض بأصنامهم؛ فإنّهم كانوا يحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب فبالت على الأصنام، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها. وهذه الآية دليل على أنّ الرزق أعم من الأكل (¬2)، كما في تفسير المناسبات. وتال بعضهم: معنى {أَنْ يُطْعِمُونِ}: أن يطعموا أحدًا من خلقي. إنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق عيال الله، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه. كما جاء في الحديث: يقول الله: "استطعمتك فلم تطعمني"؛ أي: لم تطعم عبدي. كما مرّ آنفًا. وذلك أنَّ الاستطعام وسؤال الرزق يستعمل في وصف الله. 58 - {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى: {هُوَ الرَّزَّاقُ} لا رازق سواه، ولا معطي غيره. فهو الذي يرزق مخلوقاته. والجملة (¬3): تحليل لعدم إرادة الرزق منهم. وهو من قصر الصفة على الموصوف؛ أي: لا رزاق إلا الله الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق. وفيه تلويح ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[59]

بأنه غني. {ذُو الْقُوَّةِ} على جميع ما خلق. تعليل لعدم إرادته منهم أن يعملوا ويسعوا في إطعامه. لأنَّ من يستعين بغيره في أموره يكون عاجزًا لا قوة له. {الْمَتِينُ}؛ أي: الشديد القوّة؛ لأنَّ القوة تمام القدرة، والمتانة: شدّتها. وهو بالرفع على أنه نعت للرزّاق، أو لذو، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. وفي التأويلات النجمية: إنّ الله هو الرزاق لجميع الخلائق، ذو القوة المتين في خلق الأرزاق والمرزوقين. وقد سبق أنَّ القوة في الأصل عبارة عن شدّة البينة، وصلابتها المضادة للضعف. والله تعالى منزه عن ذلك. فهي في حقه تعالى بمعنى القدرة التامّة. وقرأ الجمهور (¬1): {الرَّزَّاقُ} بصيغة المبالغة. وقرأ ابن محيصن {الرازق} بميغة اسم الفاعل. كما قرأ {وفي السماء رازقكم} اسم فاعل، وهي قراءة حميد. وقرأ الجمهور {الْمَتِينُ} بالرفع. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش بالجر صفة للقوة على معنى الاقتدار، قاله الزمخشري، أو كأنه قال: ذو الأيد. وقيل: التذكير لكون تأنيثها غير حقيقي. قال الفراء: كان حقه المتينة، فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل. يقال: حبل متين؛ أي؛ محكم الفتل. ومعنى المتين هنا: الشديد القوّة كما مرّ آنفًا. وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو. وخفض على الجوار كقولهم: هذا حجر ضبٍّ خربٍ. والمعنى (¬2): أنه تعالى غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم؛ لأنّه خالقهم، ورازقهم، وهو ذو القدرة القاهرة، والقوّة التامّة، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك". 59 - ولما أقسم سبحانه في أول السورة على الصدق في وعيدهم أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة، فقال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بتعريضها للعذاب بسب تكذب محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو وضعوا مكان الصديق تكذيبًا، وهم أهل مكة. {ذَنُوبًا}؛ أي: حظًّا وافرًا من العذاب {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}؛ أي: مثل أنصباء نظرائهم من ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) المراغي.

[60]

الأمم الماضية المحكية. وهو (¬1) مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذَّنوب. وهو الدلو العظيم المملوء. قال الشاعر: لَنَا ذَنُوْبٌ وَلَكُمْ ذَنُوْبٌ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيْبُ والفاء في قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} فاء الفصيحة. لأنَّها أفصحت عن جواب شرط محذوف، تقديره: إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد, وثمود، وقوم نوح وأردت بيان حال كفرة قومك فأقول لك: فإنَّ لهؤلاء المكذبين لك نصيبًا مثل نصيبهم. وعبر عن النصيب بالذنوب ليشبهه به في أنه يصب عليهم العذاب كما يصب الذنوب. قال تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} انتهى "من الفتوحات" بتصرف. {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} أصله: فلا يستعجلوني بياء المتكلم؛ أي: فلا يطلبوا منّي أن أعجل في المجيء به؛ لأنَّ له أجلًا معلومًا، فهو نازل بهم في وقته المحتوم. يقال: استعجله إذا طلب وقوعه بالعجلة. والمعنى: فإنَّ للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله عزّ وجل، وتكذيبهم رسوله نصيبًا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها. فلا يطلبوا منى أن أعجل بالإتيان به، فإني لا أخاف الفوت، ولا يلحقني عجز. وهذا جواب عن قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. وكان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب، فأمهل إلى بدر ثم قتل في ذلك اليوم، وصار إلى النار، فعذب أولًا بالقتل ثم بالنار. 60 - {فَوَيْلٌ}؛ أي: فشدّة عذاب. {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل مكة. {مِنْ يَوْمِهِمُ} من للتعليل؛ أي: من أجل يومهم {الَّذِي يُوعَدُونَ} العذاب يه. وهو يوم بدر. وهو الأوفق لما تقدم من حيث إنه من العذاب الدنيوي أو يوم القيامة. وهو الأنسب لما في صدر السورة الآتية. وأيّا ما كان فالعذاب آت، وكل آت قربب. ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بما في حيز الصلة من ¬

_ (¬1) روح البيان.

الكفر، وإشعارًا بعلة الحكم. والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أنَّ لهم عذابًا عظيمًا. كما أنَّ الفاء الأولى لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك؛ أي: فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة. حين لا تغني نفس عن نفس شيئًا ولا هم ينصرون. وقرأ يعقوب (¬1): {لِيَعْبُدُونِي}، {أَنْ يُطْعِمُونِي}، {فلا يستعجلوني} بالياء وقفًا ووصلًا. ووافقه سهل في الوصل. وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين. الإعراب {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة {فَمَا} الفاء: فاه الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إن كنتم ملائكة كما تقولون فأقول لكم: ما خطبكم وشأنكم. {ما} اسم استفهام في محل الرفع، مثلًا {خَطْبُكُمْ} خبره. {أَيُّهَا} {أيّ}: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء للتخفيف، والهاء حرف تنبيه زائد، {الْمُرْسَلُونَ} صفة لـ {أيّ}، أو بدل منها. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدَّرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول {قَالَ}. {قَالُوا} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {إِنَّا} ناصب واسمه، {أُرْسِلْنَا} فعل ماض مغير، ونائب فاعل، {إِلَى قَوْمٍ} متعلق به، {مُجْرِمِينَ} صفة لـ {قَوْمٍ}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ} في محل النصب، مقول {قَالُوا}. {لِنُرْسِلَ} {اللام} حرف جر وتعليل، {نرسل} فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الملائكة، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {نرسل}، {حِجَارَةً} مفعول به، {مِنْ طِينٍ} صفة لـ {حِجَارَةً}. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإرسالنا عليهم حجارة من طين. الجار والمجرور متعلق بـ {نرسل}. {مُسَوَّمَةً} صفة ثانية لـ {حِجَارَةً}، {عِنْدَ رَبِّكَ} ظرف متعلق بمسوَّمة، {لِلْمُسْرِفِينَ} متعلق به أيضًا. ¬

_ (¬1) النسفي.

{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}. {فَأَخْرَجْنَا} {الفاء} عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فباشروا ما أمروا به. فأخرجنا بقولنا: {فأَسْرِ بِأَهْلِكَ ...} إلخ. فهو إخبار من الله تعالى، وليس من كلام الملائكة. كما مرَّ في مبحث التفسير. {أَخْرَجْنَا} فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب، مفعول {أَخْرَجْنَا}، {كاَنَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على {مَنْ}، {فِيهَا} خبر {كَانَ}، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حال من الضمير المستكن في خبر {كَانَ}، أو {مَنْ} اسمها. وجملة {كاَنَ} صلة لمن الموصولة. {فَمَا} {الفاء} عاطفة، "ما" نافية، {وَجَدْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {أَخْرَجْنَا}؛ أي: أردنا إخراجهم فما وجدنا حين الإخراج. {غَيْرَ بَيْتٍ} مفعول به لـ {وَجَدْنَا}. لأنّه من وجدان الضالّة. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} صفة {بَيْتٍ}، {وَتَرَكْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {أَخْرَجْنَا}، {فِيهَا} متعلق بـ {تَرَكْنَا}، {آيَةً} مفعول به، {لِلَّذِينَ} صفة لـ {آيَةً}، {يَخَافُونَ الْعَذَابَ} فعل، وفاعل، ومفعول به، {الْأَلِيمَ} صفة للعذاب. والجملة صلة الموصول. {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}. {وَفِي مُوسَى} معطوف على قوله: {فِيِهَا} بإعادة الجار. لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور، فيتعلق بـ {تركنا} من حيث المعنى. ويكون التقدير: وتركنا في قصة موسى آية. أو معطوف على {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} على معنى: وجعلنا في إرسال موسى آيةً. على حد قوله: علقها تبنًا وماءً باردًا. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف. لأنّه صفة لـ {آيَةً}؛ أي: آية كائة في وقت إرسالنا إيّاه، أو متعلق بجعلنا المقدر. {أَرْسَلْنَاهُ} فعل، وفاعل، ومفعول. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَاهُ}، {بِسُلْطَانٍ} حال من ضمير {أَرْسَلْنَاهُ}؛ أي: مؤيدًا بسلطان. {مُبِينٍ} صفة لـ {سُلْطَانٍ}. {فَتَوَلَّى} {الفاء} عاطفة، {تولى} فعل ماض, وفاعله ضمير يعود على {فِرْعَوْنَ}. والجملة معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَاهُ}. {بِرُكْنِهِ} حال من ضمير فرعون؛ أي: متلبسًا بركنه. {وَقَالَ}

معطوف على {تولى}، {سَاحِرٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو؛ أي: موسى ساحر. {أَوْ مَجْنُونٌ} معطوف على ساحر. والجملة في محل النصب، مقول قال. و {أَوْ} هنا للإبهام على السامع، أو للشك نزل نفسه منزلة الشاكّ مع أنه يعرفه نبيًا حقًا تمويهًا على قومه. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)}. {فَأَخَذْنَاهُ} {الفاء} عاطفة، {أَخَذْنَاهُ} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {تَوَلَّى}. {وَجُنُودَهُ} معطوف على ضحبر المفعول. ويجوز أن يكون مفعولًا معه. {فَنَبَذْنَاهُمْ} {الفاء} عاطفة، {نَبَذْنَاهُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {أَخَذْنَاهُ}، {فِي الْيَمِّ} متعلق بـ {نَبَذْنَا}. {وَهُوَ} {الواو} حالية، {هُوَ مُلِيمٌ} مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب حال من مفعول {نَبَذْنَاهُمْ}، أو من مفعول {أَخَذْنَاهُ}. والفرق بين الحالين: أنَّ {الواو} في الأولى واجبة لازمة. إذ ليس فيها ذكر ضمير يعود على صاحب الحال. وفي الثانية ليست واجبة لازمة إذ في الجملة ذكر ضمير يعود عليه. {وَفِي عَادٍ} معطوف على ما تقدم. ويقال فيها: ما قيل: {وفى موسى إذ أرسلناه}؛ أي: وجعلنا في عاد آيةً، وعبرةً للذين يخافون العذاب الأليم. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ جعلنا المقدر، أو صفة لآية، {أَرْسَلْنَا} فعل وفاعل، {عَلَيْهِمُ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} {الرِّيحَ} مفعول به، {الْعَقِيمَ} صفة لـ {الرِّيحَ}. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذ}. {مَا} نافية، {تَذَرُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الريح. والجملة في محل النصب حال من الريح. {مِنْ} زائدة، {شَيْءٍ}، مفعول به لـ {تَذَرُ}، {أَتَتْ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الريح، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أَتَتْ}. وجملة {أَتَتْ} صفة لـ {شَيْءٍ}: {إِلَّا} أداة استثناه مفرّغ لـ {جعل} {كَالرَّمِيمِ} مضاف إليه للكاف؛ أي: مثل الرميم؛ وجملة جعل في محل النصب مفعول ثان {جَعَلَتْهُ} فعل، وفاعل مستتر يعود على الريح، ومفعول أول، {كَالرَّمِيمِ} الكاف اسم بمعنى مثل، في محل النصب، مفعول ثان لـ {تَذَرُ}. كأنّه قيل: ما تترك شيئًا أتت عليه إلا مجعولًا مثل الرميم. {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ

يَنْظُرُونَ (44)}. {وَفِي ثَمُودَ} معطوف على ما تقدم أيضًا. {إِذْ} ظرف لما مضى، متعلق بجعلنا المقدّر أو صفة لـ {ءَايَةً}، {قِيلَ} فعل ماض، مغير الصيغة، {لَهُمْ} متعلق بـ {قِيلَ}، {تَمَتَّعُوا} إلى آخره نائب فاعل، محكيّ لـ {قِيلَ}. ويجوز أن يكون {لَهُمْ} نائب فاعل، و {تَمَتَّعُوا} الخ مقولًا. وجملة {قِيلَ} في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. وإن شئت قلت: {تَمَتَّعُوا} فعل أمر، وفاعل، {حَتَّى حِينٍ} جار ومجرور، متعلق بـ {تَمَتَّعُوا}. والجملة في محل الرفع، نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {فَعَتَوْا} {لفاء} حرف عطف وتفصيل لإجحال ما تضمّنه قوله: {وَفِي ثَمُودَ} الخ. والتقدير: وجعلنا في ثمود آية، إذ قيل لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فعتوا عن أمر ربهم، وقيل لهم: تمتعوا حتى حين. {عَتَوْا} فعل وفاعل؛ معطوف على ذلك المحذوف، {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ {عتوا}، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} فعل، ومفعول به، وفاعل، معطوف على {عَتَوْا}، {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {يَنْظُرُونَ} خبره. والجملة في محل النصب، حال من مفعول {أَخَذَتْهُمُ}. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)}. {فَمَا} {الفاء} عاطفة، {ما} نافبة، {اسْتَطَاعُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {أخذتهم}، {مِنْ} زائدة، {قِيَامٍ}: مفعول به، {وَمَا} {الواو} عاطفة، {مَا} نافية، {كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على {مَا اسْتَطَاعُوا}. {وَقَوْمَ نُوحٍ} {الواو} عاطفة، {قوم نوح} منصوب بفعل محذوف مفهوم ضمنًا؛ أي: وأهلكنا قوم نوح. ولك أن تقدّره: وأذكر قوم نوح. وقرىء بالجر عطفًا على {وَفِي ثَمُودَ}. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور حال من {قوم نوح}؛ أي: وأهلكنا قوم نوح حالة كونهم من قبل عاد وثمود، أو متعلق بـ {أهلكنا} المقدر {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} خبره. وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الإهلاك، لا محل لها من الإعراب. {وَالسَّمَاءَ} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، والتقدير: وبنينا السماه بنيناها. والجملة المحذوفة مستأنفة. {بَنَيْنَاهَا} فعل، وفاعل، ومفعول والجملة جملة مفسّرة للمحذوف، لا محل لها من الاعراب. {بِأَيْدٍ} جار ومجرور، حال من فاعل {بَنَيْنَاهَا}؛ أي: متلبسين بأيد، أو

من مفعوله؛ أي: متلبسةً بقوّة. ويجوز أن يتعلق ببنيناها، فتكون الباء للسببية؛ أي: بسبب قدرتنا. {وَإِنَّا} {الواو} حالية، {وَإِنَّا} ناصب واسمه، {لَمُوسِعُونَ} اللام حرف ابتداء، {موسعون} خبره. والجملة في محل النصب، حال من فاعل {بَنَيْنَاهَا}. {وَالْأَرْضَ} {الواو} عاطفة، {الْأَرْضَ} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: وفرشنا الأرض. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {وَالسَّمَاءَ} {فَرَشْنَاهَا} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة مفسّرة؛ لا محل لها من الإعراب. {فَنِعْمَ} الفاء استئنافية، {نِعْمَ} فعل ماض من أفعال المدح، {الْمَاهِدُونَ} فاعل. والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نحن، وجملة {نِعْمَ} خبره. والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}. {وَمِنْ} {الواو} عاطفة، {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {خَلَقْنَا} ومضاف إلِيه. ويجو أن يكون حالًا من {زَوْجَيْنِ}؛ لأنّه في الأصل صفة له. {خَلَقْنَا} فعل، وفاعل، {زَوْجَيْنِ} مفعول به. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا}. {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه؛ وجملة {تَذَكَّرُونَ} خبره. والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {فَفِرُّوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتم أنّ الله فرد لا نظير له ولا نديد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: فرّوا إلى طاعة الله. {فِرُّوا} فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدَّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {فَفِرُّوا} {إِنِّي} ناصب واسمه، {لَكُمْ} متعلق بـ {نَذِير}، {مِنْهُ} متعلق به أيضًا، {نَذِيرٌ} خبر إنّ، {مُبِينٌ} صفة {نَذِيرٌ}، وجملة {إنّ} في فصل النصب مقول لجواب إذا المقدرة .. {وَلَا} {الواو} عاطفة، {لَا} ناهية جازمة، {تَجْعَلُوا} فعل، وفاعل؛ مجزوم بـ {لَا} الناهية. والجملة معطوفة على جملة {فِرُّوا}. {إِلَى اللَّهِ} ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لـ {جعل}. {إِلَهًا} مفعول أول لـ {جعل}، {آخَرَ} صفة لـ {إِلَهًا}. وجملة {لَا تَجْعَلُوا} معطوف على {فِرُّوا}. {إِنِّي} ناصب واسمه، {لَكُمْ} متعلق بـ {نَذِيرٌ} و {مِنْهُ} متعلق به أيضًا, {نَذِيرٌ} خبر {إنّ}، {مُبِينٌ} صفة لـ {نَذِيرٌ}. وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل النهي.

{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)}. {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: الأمر والشأن كذلك؛ أي: أمر الأمم المكذبة في تكذيب رسولهم، وشأنها كذلك المذكور من تكذيب قومك إيّاك. والجملة مستأنفة. {مَا} نافية، {أَتَى} فعل ماض، {الَّذِينَ} مفعول به، {مِنْ قَبْلِهِمْ} صلة الموصول، {مِنْ} صلة زائدة، {رَسُولٍ} فاعل. والجمله مفسرة لجملة {كَذَلِكَ}. {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {قَالُوا} فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب، حال من {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: ما أتاهم رسول إلا حالة قولهم: هو ساحر أو مجنون. {سَاحِرٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ساحر، {أَوْ مَجْنُونٌ} معطوف على {سَاحِرٌ}. والجمله الاسمية في محل النصب، مقول {قَالُوا}. {أَتَوَاصَوْا} الهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي، {تَوَاصَوْا} فعل ماض، والواو فاعل، {بِهِ} متعلق بـ {تواصوا}. والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. والمعنى: ما وقع منهم وصية بذلك؛ لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد، {بَلْ} حرف عطف وإضراب، {هُمْ} مبتدأ، {قَوْمٌ}؛ خبر، {طَاغُونَ} صفة لـ {قَوْمٌ}. والجملة الإضرابية معطوفة على محذوف، تقديره: هم غير متواصين بذلك بل هم قوم طاغون. {فَتَوَلَّ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان هذا شأنهم، وأردت ببان ما هو النصيحة لك .. فأقول لك: تولّ عنهم؛ أي: أعرض عن جدالهم. {تَوَلّ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَنْهُمْ} متعلق بـ {تَوَلّ}. والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَمَا} {الفاء} تعليلية، {ما} نافية حجازية، {أَنْتَ} في محل الرفع، اسمها، {بِمَلُومٍ} خبرها، و {الباء} زائدة. والجملة تعليل للأمر بالتولي، لا محل لها من الإعراب. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}. {وَذَكِّرْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على {فَتَوَلَّ}. {فَإِنَّ} {الفاء} تعليلية، {إِنَّ الذِّكْرَى} ناصب واسمه، وجملة {تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} خبره. والجملة تعليلية، لا محل لها من الأعراب. {وَمَا} {الواو} استئنافية،

{ما} نافية، {خَلَقْتُ الْجِنَّ} فعل، وفاعل، ومفعول، {وَالْإِنْسَ} معطوف على الجن. والجملة مستأنفة. {إِلَّا}؛ أداة استثناء مفرغ، {لِيَعْبُدُونِ} اللام: حرف جر وتعليل، {يَعْبُدُونِ} فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والنون المذكورة للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءًا عنها بكسرة نون الوقاية، أو للفاصلة في محل النصب مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل الجار والمجرور متعلق بـ {خَلَقْتُ}؛ أي: وما خلقتهما إلا لعبادتي. {مَا} نافية، {أُرِيد} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، {منهم} متعلق بـ {أُرِيد}، {مِنْ} زائدة، {رِزْقٍ} مفعول به. والجملة مستأنفة. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما} نافية، {أُرِيدُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {أُرِيد} الأول، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يُطْعِمُونِ} فعل مضارع، منصوب بأن المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل، والنون المذكورة للوقاية، وباء المتكلم المحذوفة اجتزاء كها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب، مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، أي: وما أريد منهم إطعامهم إيّاي. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {هُوَ} ضمير فصل، {الرَّزَّاقُ} خبره. والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. {ذُو الْقُوَّةِ} خبر ثان لـ {إنّ} {الْمَتِينُ} خبر ثالث لها. وقيل: نعت لـ {الرَّزَّاقُ} أو لـ {ذُو}، {فَإِنَّ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد، وثمود، وقوم نوح، وأردت بيان حال كفرة قومك فأقول لك: {إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}. {إن} حرف نصب، {لِلَّذِينَ} خبر مقدم لـ {إنّ}، وجملة {ظَلَمُوا} صلة الموصول، {ذَنُوبًا} اسم {إنّ} مؤخر، {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} صفة لـ {ذَنُوبًا}. وجملة {إنّ} في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَلَا} الفاء: حرف عطف وتفريع {لا} ناهية، {يَسْتَعْجِلُونِ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والنون المذكورة للوقاية، والياء المحذوفة مفعول به. والجملة الفعلية معطوفة مفرّعة على جملة {إنّ}. {فَوَيْلٌ} الفاء: عاطفة

تفريعية، {ويل} مبتدأ. وسوّغ الابتداء بالنكرة ما فيه من معنى الدعاء. {لِلَّذِينَ} خبر المبتدأ. والجملة معطوفة مفرّعة على جملة {إنّ} أيضًا. وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {مِنْ يَوْمِهِمُ} جار ومجرور، صفة لويل، و {من} بمعنى في؛ أي: في يومهم. {الَّذِي} صفة ليومهم، {يُوعَدُونَ} فعل مضارع، مبني للمجهول، والواو: نائب فاعل. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: يوعدونه؛ أي: يوعدون العذاب فيه. التصريف ومفردات اللغة {فَمَا خَطْبُكُمْ}؛ أي: شأنكم. والخطب: الشأن الخطير، والأمر الجليل. ومنه: الخطبة؛ لأنها كلام بليغ يستهدف أمورًا جليلة؛ أي: فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة. {إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} هم قوم لوط. وفي "فتح الرحمن": المجرم فاعل الجرائم. وهي صعاب المعاصي، وكبارها، وفاحشها. {من طِينِ}؛ أي: من طين متحجِّر. وهو ما طبخ، وصار في صلابة الحجارة. وهو السجيل، فإنَّ السجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم. {مُسَوَّمَةً}؛ أي: معلمة من السؤمة. وهي العلامة؛ أي: معلمة ببياض أو حمرة أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض أو بكتابة اسم من يرمى بها أو مرسلة من سومت الماشية إذا أرسلتها لترعى لعدم الاحتياج إليها. {عِنْدَ رَبِّكَ}؛ أي: في خزائنه، لا يتصرف فيها غيره تعالى. {لِلْمُسْرِفِينَ}؛ أي: للمجاوزين الحد في الفجور. إذ لم يقنعوا بما أبيح لهم من النسوان للحرث، بل أتوا الذكران. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، أي: ممن آمن بلوط. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة. وهي ما ظهرت على يديه من المعجزات الظاهرة: كاليد والعصا. والسلطان: مصدر يطلق على المتعدّد. {بِرُكْنِهِ} والركن: ما يركن إليه الشيء، ويتقوى به. والمراد هنا: جنوده وأعوانه، ووزراؤه. كما جاء في سورة هود: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}. وفي "الصحاح": ركن الشيء .. جانبه الأقوى؛ كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان. وقيل: فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره. فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان. ويكون من مال، وجد، وقوة. فالركن ها مستعار لجنوده تشبيهًا لهم بالركن الذي يتقوى به

البنيان. {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} والمجنون: ذو الجنون. وهو زوال العقل وفساده كأنه نسب ما ظهر على يديه من الخوارق العجيبة إلى الجن، وتردد في أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما. {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} والنبذ: إلقاء الشيء، وطرحه لقلة الاعتداد به؛ أي: فطرحناهم في بحر القلزم. {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: ملام، أي: آتٍ بما يلام عليه. أصله: ملوم بوزن مفعل اسم فاعل، نقلت حركة {الواو} إلى اللام، فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد. وفي "المصباح": ألام الرجل فعل ما يستحق عليه اللوم، اهـ. وفي "المختار": اللوم: العذل، تقول: لامه على كذا، من باب قال، ولومه أيضًا فهو ملوم، واللائمة، والملامة. وألام الرجل أتى بما يلام عليه. اهـ. {الرِّيحَ الْعَقِيمَ}؛ أي: التي لا خير فيها ولا بركة، فلا تلقح شجرًا، ولا تحمل مطرًا. سميت عقيمًا؛ لأنّها أهلكتهم وقطعت دابرهم. من العقم بالضم. وهو هزمة "يُبْسٌ" تقع في الرحم، فلا تقبل الولد، كما في "القاموس". {مَا تَذَرُ}؛ أي: ما تترك. يقال: ذره؛ أي: دعه، يذره تركًا، ولا تقل؛ وذرًا. وأصله: وذره يذره نحو: وسعه يسعه، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل. {كَالرَّمِيمِ} والرميم: الشيء البالي من عظم ونبات وغير ذلك؛ أي: كالشيء البالي المتفتت. وفي "القاموس": رمَّ العظم يرم رمة بالكسر، ورمًا ورميمًا، وأرم بلي، فهو رميم. وفي "المفردات": الرمة بالكسر تختص بالعظم، والرمة بالضم بالحبل البالي، والرم بالكسر بالفتات من الخشب والحشيش والتبن. {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} يقال: عتا عتوا وعتيًا وعتيا استكبر، وجاوز الحد، فهو عات وعتي. وأصله: عتووا بواوين: الأولى لام الكلمة، والثانية: واو الجماعة. قلبت الأولى منهما ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقائهما ساكنة مع واو الجماعة. {الصَّاعِقَةُ} نار تنزل من السماء بالاحتكاكات الكهربية. {فَمَا اسْتَطَاعُوا} أصله: استطوعوا بوزن استفعلوا، نقلت حركة {الواو} إلى الطاء، ثم أبدلت ألفًا لتحركها أصالة وفتح ما قبلها في الحال. {مِنْ قِيَامٍ}: أصله: قوام، أبدلت {الواو}، في المصدر ياء لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف، كما في صيام ونيام مثلًا.

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وفي "المختار": آد الرجل اشتد، وقوي, وبابه بلع. والأيد والآد: القوة، اهـ. فالأيد مصدر، لكن يكتب في المصحف بيائين بعد الهمزة وقبل الدال كما نبَّه عليه الخطيب. ورسم المصحف سنة متبعة، وإن لم يعلم له وجه، اهـ شيخنا. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وفي "المصباح": وسع الله عليه رزقه يوسع وسعًا من باب نفع، بسطه وكثره، وأوسعه ووسعه بالألف، والتشديد مثله. وأوسع الرجل بالألف صار ذا سعة وغنى، اهـ. {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} والفرش كناية عن البسط، والتسوية، اهـ شهاب؛ أي: بسطناها ومهدناها. {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} من مهدت الفراش إذا بسطه، ووطأته. وتمهيد الأمور تسويتها. وفي "المختار": المهد: مهد الصبيّ، والمهاد: الفرش. ومهد الفراش بسطه ووطأه. وبابه قطع. وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، اهـ. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ}؛ أي: من كل جنس من الحيوان. {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}؛ أي: أمرين متقابلين ذكرًا وأنثى. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين. أصله: تتذكرون. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} وفي "المصباح": فرّ من عدوه يفر من باب ضرب فرارًا إذا هرب، وفر الفارس فرًّا أوسع الجولان للإنعطاف، وفر إلى الشيء ذهب إليه. {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أصله: أتواصيوا بوزن تفاعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. والتواصي: أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أصله: طاغيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الغين لمناسبة الواو. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فيه إعلال بحذف حرف العلة لام الفعل المناسبة بناء الأمر على ذلك. {بِمَلُومٍ} أصله: ملووم اسم مفعول من لام، نقلت حركة {الواو} إلى اللام فسكنت فالتقى ساكنان: {الواو} عين الكلمة، وواو مفعول، فحذفت {الواو} الأولى على قول، أو الثانية على قول. فوزنه مفعول على كل حال، أو مفعل. {الْمَتِينُ} من المتانة. وهو شدة القوة. والمتنان: مكتنفا الصلب، وبه شبه المتن من الأرض، ومتنته ضربت متنه، ومتن قوي متنه فصار متينًا. ومنه قيل: حبل متين. {ذَنُوبًا} قال في "المفردات": الذنوب: الدلو الذي له ذنب، واستعير للنصيب

كما أستعير السجل. وهو الدلو العظيم. وفي "القاموس": الذنوب: الفرس الوافر الذنب، ومن الأيام الطويل الشر. وهو صفة على زنة فعول. والدلو أو فيها ماء، أو الملأى أو دون الملأى، والحظ، والنصيب. والجمع أذنبة وذنائب وذناب، انتهى. {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} يقال: استعجله حثه على العجلة، وأمره بها. ويقال: استعجله؛ أي: طلب وقوعه بالعجلة. ومنه قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} {فَوَيْلٌ} والويل: الأشد من العذاب، والشقاء، والهم. ويقال: واد في جهنم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضمار، بلا ذكر مرجع الضمير في قوله: {مَنْ كَانَ فِيهَا}؛ أي: في قرى قوم لوط لشهرتها، وعلمها من السياق. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} فالركن حقيقة فيما يتقوى به البنيان. فاستعاره للجنود، والجموع. لأنّه يحصل بهم التقوي والاعتماد كما يعتمد على الركن في البناء. ومنها: الكناية في التولي في قوله: {فَتَوَلَّى} لأنه كناية عن الإعراض، أي: فأعرض عن الإيمان بموسى. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: آتٍ بما يلام عليه على حد عيشة راضية. فأطلق اسم الفاعل على اسم المفعول؛ أي: ملام على طغيانه. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} حيث شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع الحمل. ثم قيل: العقيم، وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به. فالمستعار له الريح، والمستعار مه ذات النتاج، والمستعار العقم. وهو عدم النتاج. والمشاركة بين المستعار له والمستعار منه في عدم النتاج. وهي استعارة محسوس لمحسوس للإشتراك في أمر معقول. وهي من ألطف الاستعارات. وفي "الشهاب": أصل العقم: اليبس المانع من قبول الأثر، كما قاله الراغب. وهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول كما مرّ. ومنها: الكناية في قوله: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} لأنّ الفرش كناية عن البسط

والتسوية. ومنها: الطباق في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}؛ أي: إلا مهيئين ومستعدين للعبادة. وذلك أنني خلقت فيهم العقل؛ وركزت فيهم الحواس والقدرة التي تمكنهم من العبادة. وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل عن بعضهم. لأنَّ هذا البعض المتخلف، وإن لم يعبد الله مركوز فيه الاستعداد والتهيؤ الذي هو الغاية في الحقيقة. وقد شجر خلاف بين أهل السنة والاعتزال حول هذه الآية فلا نطيل الكلام به. ومنها: التعريض في قوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} فإنَّ فيه تعريضًا بأصنامهم. فإنهم كانوا يحضرون لها المآكل، فربما أكلتها الكلاب، ثم بالت على الأصنام، كما مرّ. ومنها: الإطناب بتكرار {أُرِيدُ} في قوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} للمبالغة والتأكيد. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} وهو من قصر الصفة على الموصوف؛ أي: لا رزّاق إلا الله سبحانه. وفيه أيضًا التلويح بأنه سبحانه غني عن كل ما سواه. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا}، فإنّه حقيقة في الدلو العظيم، استعارة للحظ والنصيب. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}؛ أي: لهم نصيب من العذاب مئل نصيب أسلافهم المكذبين لأنبيائهم في الشدة والغلظة. لأنّه حذف منه وجه الشبه فهو مجمل. ومنها: وضع الموصول موضع ضميرهم في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} تسجيلًا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر؛ وإشعارًا بعلة الحكم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - دلائل البعث من العجائب الطبيعية، والعلوم النفسية. 2 - جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة. 3 - أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها. 4 - تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من أذى قومه. 5 - الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر. 6 - النهي عن الإشراك بالله تعالى. 7 - إخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن قومه ليسوا ببدع في التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك. 8 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم، وتذكير تنفعه الذكرى من المؤمنين. 9 - إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه. 10 - وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة. 11 - أن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصب نظرائهم من المكذبين (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير هذه السورة في تاريخ 2/ 5/ 1415 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة. وأزكى التحية.

سورة الطور

سورة الطور سورة الطور مكية، نزلت بعد السجدة. قال القرطبي: مكية في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس، والنحاس؛ وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الطور بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وهي (¬1) تسع أو ثمان وأربعون آية، وثلاث مئة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمس مئة حرف. مناسبتها لما قبلها: 1 - إنّ في (¬2) ابتداء كل منهما وصف حال المتقين. 2 - إنّ في نهاية كل منهما وعيدًا للكافرين. 3 - إنّ كلاًّ منهما بدأت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد. ففي الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان في معاشه، وهنا أقسم بالطور الذي أنزلت يه التوراة النافعة للناس في معادهم. 4 - في كل منهما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير، والإعراض عمّا يقول الجاحدون من قول مختلف. 5 - تضمّنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة في السورتين، انتهى من المراغي. وقال أبو حيان: مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة (¬3)؛ إذ في آخر تلك: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}، وقال هنا: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)}. تسميتها: سمّيت سورة الطور لذكر الطور - الذي هو جبل طور سيناء - فيها ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

أقسم الله به تشريفًا وتكريمًا ونذكيرًا بما فيه من الآيات. وهو أحد جبال الجنّة، قاله السدّي. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور. وأخرج البخاري وغيره عن أمّ سلمة: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الطور كان حقًّا على الله أن يؤمّنه من عذابه، وأن ينعمه في جنته". وفيه مقال. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الطور كلها محكم، إلا آيةً واحدةً. وهي قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ...} الآية (48) نسخ الصبر منها بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}. المناسبة وقد تقدّم لك آنفًا بيان مناسبة أوّل هذه السورة لآخر السابقة، وأقسم سبحانه بمخلوقاته (¬1) العظيمة الدالّة على كمال قدرته، وبديع صنعته، وعدَّ منها أماكن ثلاثةً: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم, والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق. فانتقل موسى إلى الطور، وخاطب ربَّه، وقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}؛ وقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}. وانتقل محمد إلى البيت المعمور، وناجى ربه، وقال: "سلام علينا وعلى عباد الله ¬

_ (¬1) المراغي.

الصالحين"، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أئنيت على نفسك". وكلَّم يونس ربه في البحر، وقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. وقرن الكتاب بالطور؛ لأنَّ موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به. وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور، ليعلم عظمة شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأقسم بكل هذا علي أن العذاب يوم القيامة نازلٌ بأعدائه الذين يخوضون في الباطل، ويتخذون الدين هزوًا ولعبًا فيدفعون إلى النار دفعًا عنيفًا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذّبون، ادخلوها، وقاسوا شدائدها، وسواء علكيم أجزعتم أم صبرتم ما لكم منها مهرب ولا خلاص. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيّن ما يصيب الكافرين من العذاب الأليم الذي لا دافع له، ولا مهرب مه .. ذكر ما يتمتع به المؤمنون في ذلك اليوم من صرف اللذّات في المساكن، والمآكل، والمشارب، والفرش، والأزواج بحسب سنن القرآن من ذكر الثواب بعد العقاب ليتم أمر الترغيب بعد الترهيب، حتى يكون المرء بين عاملين عامل الرهبة من بطش ربّه، وعامل الرغبة في رحمته. وكلاهما لا غنى للمرء عنه؛ ليكمل صلاحه، ويرعوي عن غيّه، ولا يقنط من رحمة ربّه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر ما يتمغ به أهل الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج كرمًا منه وفضلًا .. أردف ذلك ذكر ما زاده لهم من الفضل والإكرام. وهو أن يلحق بهم ذريتهم المؤمنة في المنازل والدرجات وإن لم تبلغ بهم أعمالهم ذلك لتقربهم أعينهم إذا رأوهم في منازلهم على أحسن الأحوال. فيرفع الناقص في عمله إلى الكامل فيه، ولا ينقص من عمله هو، ولا منزلته. قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (¬1) سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف أنّ العذاب واقع بالكافرين لا محالة، وأنّ الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون ¬

_ (¬1) المراغي.

بأعمالهم، وأنَّ الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من الله، ومن صدقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه .. أمر رسوله هنا بالثبات على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون فإنه هو الغالب حجة وسيفًا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار. ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم، إلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعًا للهوى، لا اتباعًا للدليل والبرهان. وفي ذلك تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما لا يخفى؛ إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلًا، وأبينهم قولًا منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد من الجنون والكهانة إلى ما في هذا من التناقض والاضطراب. فإن الكهان كانوا من الكملة، وكان قولهم مقنعًا. فأين هذا من الجنون! ثم ترقوا في نبته إلى الكذب، فقالوا: إنه شاعر، وأعذب الشعر أكذبه. ثم قالوا: فلنصبر عليه، ولنتربص صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير، والنابغة، وأضرابهم ممن انقرضوا، وصاروا كأمس الدابر. ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}. ثم زاد في تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا الكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك، وإما أن عقولهم تأمرمم بما يقولون، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون، ويقولون ما لا دليل عله لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل. ثم زادوا في الإنكار، ونسبوه إلى التقول والافتراء. فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مئل هذا المفترى إن كانوا صادقين، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوله لهم أنفسهم فإن الله قد أعصى بصائرهم، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل، والغث من السمين. فامض لشأنك، ولا تأبه لمقالتهم، فالله معك ولن يترك شيئًا من أعمالك. أسباب النزول قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

قال: إنّ قريشًا لمّا اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قائل منهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالطُّورِ (1)} {الواو} للقسم. والطور (¬1) بالسريانية: الجبل. وقال بعضهم: هو عربي فصيح، ولذا لم يذكره الجواليقي في "المعربات". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطور: كل جبل ينبت. قال الشاعر: لَوْ مَرَّ بِالطُّوْرِ بَعْضُ نَاعِقَةٍ ... مَا أَنْبَتَ الطُّوْرُ فَوْقَهُ وَرَقَهْ وقيل: بل هو جبل محيط بالأرض. والأظهر الأشهر: أنه اسم جبل مخصوص، هو طور سينين. يعني: الجبل المبارك، وهو جبل مدين، واسمه زبير، سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، ولذا أقسم الله تعالى به. لأنّه محل قدم الأحباب وقت سماع الخطاب. وقال في "خريدة العجائب": جبل طور سينا هو بين الشام ومدين. قيل: إنه بالقرب من أيلة. وهو المكلم عليه موسى عليه السلام. كان إذا جاء موسى للمناجاة ينزل عليه غمام، فيدخل في الغمام ويكلم ذا الجلال والإكرام. وهو الجبل الذي دك عند التجلي، وهناك خر موسى عليه السلام صعقًا. وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجرة العوسج على الدوام. وتعظيم اليهود لشجرة العوسج لهذا المعنى. ويقال لشجرة العوسج: شجرة اليهود، انتهى كلام "الخريدة". والعوسج جمع عوسجة. وهو شجر الشوك، كما في "القاموس". 2 - {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}؛ أي: مكتوب على وجه الانتظام. فإنَّ السطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به: القرآن أو ألواح موسى. وهو الأنسب بالطور أو اللوح المحفوظ. وقيل: جميع الكتب المنزلة، أو ما يكتبه الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منثورًا. فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله. نظيره قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}، وقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}. 3 - {فِي رَقٍّ} متعلق بمسطور؛ أي: مكتوب في رق؛ أي: في جلد رقيق. {مَنْشُورٍ}؛ أي: مبسوط. وقرأ الجمهور (¬1) {فِي رَقٍّ} بفتح الراء. وقرأ أبو السَّمال في {رق} بكسرها. قال الجوهري: الرق بالفتح: ما يكتب فيه. وهو جلد رقيق، ومنه قوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)}. وقال المبرد: الرق: ما رق من الجلد ليكتب فيه. والمخشور: المبسوط. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. وأما الرق بالكسر: فهو المملوك. يقال: عبد رق، وعبد مرقوق. 4 - {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} في السماء السابعة. وقيل: في سماء الدنيا. ويسمى الضراح (¬2) بضم الضاد المعجعة. لأنّه ضرح؛ أي: رفع وأبعد، حيث كان في السابعة. ووصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة، ويعبد الله فيه. وقيل: الكعبة، ووصفها بالعمارة باعتبار عمارتها بالحجاج، والعمار، والمجاورين فيها. وقال بعضهم: المراد باليت المعمور: قلب المؤمنين، وعمارته بالمعرفة والإخلاص. فإنَّ كل قلب ليس فيه ذلك فهو خراب، فكأنه لا قلب. 5 - {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)}؛ أي: السماء المرفوعة عن الأرض مقدار خمس مئة عام. قال تعال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}. سمَّاها سقفًا لكونها كالسقف للأرض. وقيل: هو العرش. ولا يخفى (¬3) حسن موقع العنوان المذكور من حيث اجتماع السقف مع البيت، ومن حيث أن العرش على التقدير الثاني، والبيت المعمور مقاربان تقارب السقف بالبيت. 6 - {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)}؛ أي: المملوء ماء. وهو البحر المحيط الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة. وهو بحر لا يعرف له ساحل، ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى. والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه. وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله. وفيه مدائن تطفو على وجه الماء. وهي آهلة من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض. وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[7]

إلا الله تعالى. وقيل: معناه: والبحر المحبوس ماؤه من أن يفيض فيغرق جميع ما في الأرض من حيوان ونبات. وقيل: المسجور بمعنى الموقد من السجر. وهو إيقاد النار في التنور، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)}. وقد روي: أنّ البحار تسجر يوم القيامة، فتكون نارًا. وهذا على أن يكون البحر بحر الدنيا وبحر الأرض. وقال عليّ رضي الله عنه، وعكرمة: هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين، ماء غليظ، يقال له: بحر الحيوان. وهو بحر مكفوف، أي: عن السيلان، يمطر منه على الموتى ماء كالمني بعد النفخة الأولى أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم. 7 - {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)}، أي: لنازل حتمًا. وهو جواب القسم. قال في "فتح الرحمن": المراد: عذاب الآخرة للكفّار، لا العذاب الدنيوي؛ أي: كائن لا محالة لمن يستحقه. 8 - {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} يدفعه، ويرده عن أهل النار. وهو كقوله تعالى: {لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}. وهذه الجملة خبر ثان لـ {إن}، أو صفة لواقع. و"من" مزيدة للتأكيد. والفرق بين الدفع والرفع: أن الدفع بالدال يستعمل قبل الوقوع، والرفع بالراء يستعمل بعد الوقوع. ووجه تخصيص هذه الأمور بالأقسام بها لما أنها من أمور عظام تنبىء عن عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه، وحكمته الدالة على إحاطته بتفاصيل أعمال العباد، وضبطها الشاهدة بصدق أخباره الذي من جملتها الجملة المقسم عليها. والمعنى: أي أقسم لك يا محمد بهذا الجبل العظيم الشأن، الذي كلمت فوقه موسى، وأنزلت عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع مرتب الحروف في رق منشور، سهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام وآداب وأخلاق، وبالكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون لها كل عام من أرجاء المعمورة، وينسلون إليها من كل حدب كما يعمرها المجاورون لا تبركًا بالعبادة فيها، وطلبًا لقبولها عند ربهم، والسقف المرفوع، أي: بالعالم العلوي، وما حوى من شموس، وأقمار، وكواكب ثاتبة، وسيارت، وما فيه من عرشه، وكرسيه، وملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وبالبحر المحبوس من أن يفيض ماؤه فيغرق جميع ما على الأرض، ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات، فيفسد نظام العالم، وتعدم الحكمة الذي لأجلها خلق. وقد يكون المعنى:

[9]

وبالبحر الموقد في باطن الأرض بمنزلة التنور المحمي. ثم ذكر ما أقسم عليه، فقال: من عذاب ربك يا محمد المحيط بالكافرين المكذبين بالرسل لواقع يوم القيامة، لا يدفعه عنهم دافع، ولا يجدون من دونه مهربًا جزاء ما دسوا به أنفسهم من الشرك والآثام، ودسوا به أرواحهم أو التكذيب بالرسل. 9 - {يَوْمَ تَمُوُر} وتضطرب وتتحرك {السَّمَاءُ مَوْرًا}؛ أي: اضطرابًا. وهو ظرف لواقع، مبين لكيفية الوقوع مُنَبِّىء عن كمال هوله وفظاعته، لا لدافع؛ لأنّه يوهم أنّ أحدًا يدفع عذابه في غير ذلك اليوم. والغرض: أنّ عذاب الله لا يدفع في كل وقت. والمور: الاضطراب والتردد في المجيء والذهاب، والجريان السريع؛ أي: تضطرب، وتجيء، وتذهب. قيل: تدور السماء كما تدور الرحى، وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة. وقيل: يختلج أجزاؤها بعضها في بعض، ويموج أهلها بعضهم في بعض، ويختلطون، وهم الملائكة. وذلك من الخوف. والمعنى (¬1): أي ليس للعذاب دافع في ذلك اليوم الذي ترتج فيه السماء. وهي في أماكنها، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب الله، ولا مهرب منه. 10 - {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} عن أماكنها {سَيْرًا} كسير السحاب، وتزول عن مواضعها، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل، ثم تصير كالعهن - الصوف المندوف - ثم تطيرها الرياح، فتكون هباء منثورًا. كما دل على ذلك ما جاء في سورة النمل. والحكمة في مور السماء، وسير الجبال: الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها، وعمارة الآخرة. وتأكيد (¬2) الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما، وخروجهما عن الحدود المعهودة؛ أي: مورًا عجيبًا وسيرًا بديعًا، لا يدرك كنههما، كما سيأتي في مبحث البلاغة. 11 - والفاء في قوله: {فَوَيْلٌ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[12]

مقدر، تقديره: إذا عرفت مور السماء، وسير الجبال في ذلك اليوم وأردت بيان ما سيقع للمكذّبين فأقول لك ويل، وشدة عذاب. {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يقع ذلك المور والسير واقع {لِلْمُكَذِّبِينَ} بالله ورسوله وباليوم الآخر. وهذا (¬1) لا ينافي تعذيب غير المكذبين من أهل الكبائر. لأن المعنى: أنَّ الويل والعذاب الشديد خاص بالمكذبين. 12 - ثم وصف المكذبين بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ} أي: في اندفاع وانغماس عجيب في الأباطيل والأكاذيبـ {يَلْعَبُونَ}؛ أي: يلهون، ويتشاغلون بكفرهم؛ أي: الذين هم يلعبون، ويلهون، ويتشاكلون في أباطيل، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء، فهو لا يدري أين يضع رجله. قال في "فتح الرحمن": الخوض: التخبط في الأباطيل، شبه بخوض الماء، وغوصه. والمعنى: أنهم يخوضون في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والاستهزاء. وقيل: يخوضون في أسباب الدنيا، ويعرضون عن الآخرة. وفي "الروح": قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ} ليس صفة قصد بها تخصيص المكذبين وتمييزهم، وإنما هو للذم كقولك: الشيطان الرجيم. والمعنى: أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء، وسير الجبال فهلاك يومئذٍ للمكذبين الذين يخوضون في الباطل، ويندفعون فيه، لاهين عن الآخرة، لا يذكرون حسابًا، ولا يخافون عقابًا. 13 - والظرف في قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} إما بدل من {يَوْمَ تَمُورُ} أي: إنّ عذاب ربك لواقع للمكذبين يوم يدعون، ويدفعون {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} ويساقون إليها {دَعًّا}؛ أي: دفعًا عنيفًا شديدًا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعًا عنيفًا على وجوههم وفي أقفيتهم، حتى يردوها. قرأ الجمهور (¬2) بفتح الدال وتشديد العين. وقرأ علي، والسلميّ وأبو رجاء، وزيد بن عليّ، وابن السميقع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة. من الدعاء؛ أي: يدعون إلى النار، أو متعلق بقول مقدر قبل 14 - قوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ}؛ أي: يقال لهم يوم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[15]

يدعون إلى نار جهنم دعا: هذه النار التي تشاهدونها الآن هي {الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا؛ أي: تكذبون الوحي الناطق بها. والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار. أي: إنَّ عذاب ربك لواقع يوم يدفعون؛ ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفًا. فإذا دنوا منها تقول لهم خزنتها تقريعًا وتوبيخا: هذه النار التي تشاهدونها هي التي كنتم بها تكذبون في الدنيا. وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها، وللوحي الناطق بها. 15 - ثم وبخهم سبحانه أو أمر ملائكته بتوبيخهم، فقال: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} الذي ترون، وتشاهدون الآن كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة، ولكتبه المنزلة. وقدم الخبر هنا على المبتدأ؛ لأنَّه الذي وقع الاستفهام عنه، وتوجه التوبيخ إليه. {أَمْ أَنْتُمْ} عمي عن هذا {لَا تُبْصِرُونَ} به؛ كما كنتم عميًّا عن الحق في الدنيا. والهمزة في قوله: {أَفَسِحْرٌ} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أكنتم تقولون للوحي: هذا سحر؟ فهذا المصداق؛ أي: هذه النار التي ترونها الآن سحر. والمصداق: ما يصدق الشيء، وأحوال الآخرة ومشاهدتها تصدق أقوال الأنبياء في الإخبار عنها. يعني: أنَّ الذي ترونه من عذاب النار حق. {أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}؛ أي: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًّا عن الخبر، أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم، حيث كنتم تقولون: إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون. وعبارة زاده: {أَفَسِحْرٌ هَذَا}؛ أي: هل في المرئي تلبيس وتمويه، حتى قيل لكم: إنه نار، مع كونه ليس بنار في نفس الأمر، أم هل في بصركم خلل. فكلمة "أم" متصلة، والاستفهام للإنكار؛ أي: ليس شيء منهما ثابتًا. فثبت أنكم قد بعثتم وجوزيتم بأعمالكم، وأنَّ الذي ترونه حق. فهو تقريع شديد، وتهكم فظيع. 16 - وبعد هذا التقريع يقال لهم: {اصْلَوْهَا} إلخ؛ أي: ادخلوها، وقاسوا حرها وشدائدها {فَاصْبِرُوا} عليها إن شئتم {أَوْ لَا تَصْبِرُوا} إن شئتم؛ أي: ادخلوها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه. فإنه لا خلاص لكم منها. وهذا على جهة قطع رجائهم. وكان المشركون في الدنيا ينسبون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه يسحر العقول، ويغطي

الأبصار، فَأَنَّبهم على ما قالوا مستهزئًا بهم، وقال لهم: هل ما ترونه بأعينكم الآن مما كنتم تنبئون به في الدنيا من العذاب حق، أو سحرتم أيضًا كما كان يفعل بكم محمد في الدنيا، أو قد غطيت أبصاركم فلا ترى شيئًا، بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغط أبصاركم. والخلاصة: هل في المرئي شك، أو في أبصاركم علل، لا واحد منهما بموجود. فالذي ترونه حق فاصلوها إلخ؛ أي: إذا لم يمكن لكم إنكارها، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل .. فالآن ادخلوها، وقاسوا شدائدها. فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وافعلوا ما شئتم. فالأمران {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} في عدم النفع. قيل أيضًا: تفول لهم الملائكة هذا القول. و {سَوَاءٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمران سواء. ويجوز أن يكون مبتدأ؛ والخبر محذوف؛ أي: سواء عليكم الصبر وعدمه. وفي قوله (¬1): {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} بيان لعدم الخلاص، وانتفاء لعدم المناص. فإن من لا يصبر على شيء يحاول دفعه إما بإبعاده عنه، وإما بمحقه وإزالته. ولا شيء من ذلك بحاصل يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا. فإن المعذب في الدنيا إن صبر انتفع بصبره. إما بالجزاء في الآخرة، وإما بالحمد في الدنيا فيقال: ما أشجعه، وما أقوى قلبه. وإن جزع ذم. وقيل فيه: يجزع كالصبيان والنسوان. وأما في الآخرة فلا مدح ولا ثواب على الصبر. ثم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الخير والشر، لا الذي تعملون في الآخرة من الصبر، والخضوع، والخشوع، والتضرع؛ والدعاء. فإنه لا ينفع شيء منها. وإذا كان الجزاء واقعًا حتمًا .. كان الصبر وعدمه سواء. والمعنى (¬2): سواء عليكم الأمران: أجزعتم أم صبرتم في عدم النفع، لا بدفع العذاب، ولا بتخفيفه. إذ لا بد أن يكون الصبر حين ينفع، وذلك في الدنيا، لا غير. فمن صبر هنا على الطاعات لم يجزع هناك؛ إذ الصبر وإن كان مرًّا بصلًا لكن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[17]

آخره حلو عسل. 17 - ولما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي {فِي جَنَّاتٍ} وبساتين خالدة {وَنَعِيمٍ} مقيم وملاذ دائمة. وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة. ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفّار زيادة في غمهم وحسرتهم. والتنوين في "جنات ونعيم" إما للتفخيم؛ أي: جنات، أيُّ جنّة، ونعيم، أي نعمة بمعنى الكامل في الصفة. وإما للتنويع؛ أي: في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين. والجنة مع كونها أشرف المواضع قد يتوهم أن من يدخلها إنما يدخلها ليعمل فيها، ويصلحها، ويحفظها لصاحبها كما هو شأن ناطور الكرم؛ أي: مصلحه وحافظه. فلما قال: {وَنَعِيمٍ} أفاد أنهم فيها متنعمون كما هو شأن المتفرج بالبستان، لا كالناطور والعمال. 18 - حالة كونهم {فَاكِهِينَ}؛ أي: ناعمين متلذذين {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} وأعطاهم من إنعامه، ورضاه عنهم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة، وقلبه مشغول بأمر ما. فلمَّا قال: {فَاكِهِينَ} تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذّذ، ولا يتناولون شيئًا من النعيم إلا تلذّذًا، لا لدفع ألم جوع أو عطش. وقرأ الجمهور (¬1): {فَاكِهِينَ} بالألف، وبالنصب على الحال، وخبر {إِنَّ} {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ}. وقرأ خالد {فاكهون} بالرفع على أنه خبر بعد خبر لـ {إِنَّ} عند من يجيز تعدد الخبر، أو هو خبر، و {فِي جَنَّاتٍ} متعلق به. وقرأ ابن عباس {فكهين} بغير ألف. والفكه: طيب النفس، كلما تقدم في الدخان. ويقال للأشر والبطر. ولا يناسب التفسير به هنا. والمعنى (¬2): أي إنّ الذين خافوا ربهم، وأخلصوا له العبادة في السر والعلن، وأدوا فرائضه، وتحلوا بآداب دينه، وانتهوا عن معاصيه، ولم يدنسوا أنفسهم بالمعاصي، والآثام، ولم يدسوا أرواحهم بالذنوب يجازيهم ربهم جزاء وفاقًا بجنات يتنعمون فيها، ويجدون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[19]

كفاء ما قاسوا به من جليل الأعمال في الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها ابتغاء رضوانه. وهم فيها قريرو الأعين، طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبًا، ولا يكدر صفو عيشهم مكدر. وقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} لبيان (¬1) أنَّ حالهم كحال من يتمتع بالبستان، لا كالناطور الذي يحرسه. وقوله: {فَاكِهِينَ} إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها هم ولا نصب، بل هم في لذة وسرور وفرح وحبور. ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه، ويضره. والجحمة: شدة تأجج النار، ومنه الجحيم؛ أي: جهنم؛ لأنه من أسمائها. وهو معطوف على {آتَاهُمْ} على أنّ "ما" مصدرية؛ أي: متلذذين بسبب إيتاء ربهم، ووقايتهم عذاب الجحيم. فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير: بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم، فيبقى الموصول بلا عائد، أو معطوف على خبر إنّ، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد. وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافًا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة {ووقّاهم} بالتشديد. 19 - وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} على إضمار القول؛ أي: يقال لهم من قبل خزنة الجنة دائمًا: كلوا واشربوا أكلا وشربًا. {هَنِيئًا}؛ أي: مأمون العاقبة من التخم والسقم. فـ {هنيئًا} صفة لمصدر محذوف، أو طعاما وشرابا هنيئًا. فهو صفة مفعول به محذوف. فإنّ في ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ أي: بسبه أو بدله (¬2). وقيل: الباء زائدة، و"ما" فاعل هنيئًا. والمعنى عليه: هناكم ما كنتم تعملون؛ أي: جزاؤه. والمعنى (¬3): كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما، وبلا خوف نفاد، وبلا إثم كما تشاهدون ذلك في طعام الدنيا وشرابها كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراح.

[20]

وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. فلا منَّ عليكم في هذا اليوم، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة؛ لأنّ هذا إنجاز الوعد. قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. ونحو الآية قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}. وفي قوله: {هَنِيئًا} إشارة (¬1) إلى خلو المآكل والمشارب مما ينغصهما، فإنّ الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام، أو يخاف النفاد فيحرص عليه، أو يتعب في تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج، ولا يكون شيء من هذا في الآخرة. وفي قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به في الدنيا، فلا من عليهم فيه، بل كان المن عليهم في الدنيا بهدايتهم للإيمان. وتوفيقهم لصالح الأعمال. كما قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}. 20 - ثمّ ذكر ما يتمتعون به من الفرش، فقال: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: معتمدين ومستندين {عَلَى سُرُرٍ} جمع سرير. وفي الكلام حذف، تقديره: متكئين على نمارق على سرر مصفوفة. وهو الذي يجلس عليه. وهو من السرور إذا كان ذلك لأولى النعمة. وسرير الميت تشبيه به في الصورة، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله، وخلاصه من سجنه المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن المؤمن". وقرأ أبو السَّمال (¬2): {على سرر} بفتح الراء. وهي لغة لكلب في المضعف فرارًا من توالي ضمّتين مع التضعيف. {مَصْفُوفَةٍ}؛ أي: مصطفة، قد صف بعضها إلى جنب بعض، أو مرمولة؛ أي: مزينة بالذهب، والفضة، والجواهر. والظاهر (¬3): أنّ جمع السرر مبني على أن يكون لكل واحد منهم سرر متعددة مصطفة معدة لزائريهم. فكل من اشتاق إلى صديقه يزوره في منزله. قال الكلبيّ: طولها مئة ذراع في السماء؛ يتقابلون عليها في الزيارة، وإذا أراد ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[21]

أحدهم القعود عليها تطامت واتضعت، فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها. والمعنى (¬1): أي يجلسون على سرر مصفوف بعضها بجوار بعض جلسة المتكىء الذي لا كلفة عليه، ولا تكلف لديه. فإن من يكون عنده من يكلف له يجلس ولا يتكىء ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فحالهم حال اطمئنان، ورفع كلفة، وخلو بال. ونحو الآية قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. ثم ذكر ما يتمتعون به من الأزواج، فقال: {وَزَوَّجْنَاهُمْ}؛ أي: قرناهم {بِحُورٍ عِينٍ}؛ أي: جعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حسانات، واسعات العيون. واحد الحور: حوراء، وواحد العين: عيناء. وإنما سمين حورًا؛ لأنَّ الطرف يحار في حسنهن، وعينًا لأنهن الواسعات الأعين مع جمالها. والتزويج هنا ليس على أصل معناه: وهو عقد النكاح. بل بمعنى تصييرهم أزواجًا. لأنّه ليس في الجنة تزويج كالدنيا؛ لأنّ الجنة ليست دار تكليف. فشأن تزوج أهل الجنّة بالحور بقبول بعضهم بعضًا، لا بأن يعقد بينهم عقد النكاح. وقرأ عكرمة (¬2): {بحور عين} على الإضافة. 21 - ولمّا فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم .. ذكر حال طائفة منهم على الخصوص، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره {أَلْحَقْنَا بِهِمْ}. {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}؛ أي: نسلهم، معطوف على {آمَنُوا} {بِإِيمَانٍ} متعلق بـ {اتبعوا}. والتنكير فيه (¬3) للتقليل؛ أي: بشيء من الإيمان. وتقليل الإيمان ليس مبنيًا على دخول الأعمال فيه، بل المراد: قلة ثمرته، ودناءة قدره بذلك. فالتقليل فيه بمعنى التحقير. والمعنى: واتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة، قاصرين عن رتبة إيمان الآباء. واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالةً، لا إلحاقًا. {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: أولادهم الصغار والكبار في الدرجة. كما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته"، وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه؛ أي: يكمل سروره. ثم تلا هذه الآية. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

وفي الآية: دلالة بينة على أن الولد يحكم بإيمانه تبعًا لأحد أبويه، وتحقيقًا للحوقه به. فإنه تعالى إذا جعلهم تابعين لآبائهم، ولا حقين بهم في أحكام الآخرة، فينبغي أن يكونوا تابعين لهم، ولا حقين بهم في أحكام الدنيا أيضًا. قال في "فتح الرحمن": إن المؤمنين اتبعتهم أولادهم الكبار والصغار بسبب إيمانهم. فكبارهم بإيمانهم بأنفسهم، وصغارهم بأن اتبعوا في الإِسلام بآبائهم بسبب إيمانهم؛ لأنّ الولد يحكم بإسلامه تبعًا لأحد أبويه إذا أسلم. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد. وقال مالك: يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبيه دون أمه. وقيل (¬1): إنّ الضمير في {بِهِمْ} راجع إلى الذرية المذكورة أولًا؛ أي: ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم. وقيل: المراد بالذين آمنوا: المهاجرون والأنصار فقط. وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك. فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقرأ الجمهور (¬2): {وَاتَّبَعَتْهُمْ} بإسناد الفعل إلى الذريّة. وقرأ أبو عمرو {أَتْبَعْنَاهم} بإسناد الفعل إلى المتكلّم كقوله: {أَلْحَقْنَا}. وقرأ الجمهور {ذُرِّيَّتَهُمْ} بالإفراد. وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بالجمع، إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ {وأَتْبَعْناهم}. ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع والمشهور عنه كقراءة الجمهور. والمعنى: أي إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان .. يلحقهم ربهم بآبائهم في المنزلة فضلًا منه وكرمًا، وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم لتقر بهم أعينهم، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم لوجودهم بينهم. وروى ابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به". {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ}؛ أي (¬3): وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق، وإلا لأبغضوهم في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط والشوكاني. (¬3) روح البيان.

الدنيا شحًا، كما في "عين المعاني". من ألت يألت كضرب يضرب. {مِنْ عَمَلِهِمْ}؛ أي: من ثواب عملهم {مِنْ شَيْءٍ} من الأولى متعلقة بألتناهم، والثانية زائدة. والمعنى: ما نقصناهم من عملهم شيئًا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبنائهم، فتنتقص مثوبتهم، وتنحط درجتهم. وإنما رفعناهم إلى درجتهم ومنزلتهم بمحض الفضل والإحسان. وقرأ الجمهور (¬1): {أَلَتْنَاهُمْ} بفتح اللام، من ألات. والحسن، وابن كثير بكسرها. وابن هرمز {آلتناهم} بالمد، من آلت على وزن أفعل. وابن مسعود، وأبي {لتناهم} من لات. وهي قراءة طلحة، والأعمش. ورويت عن شبل، وابن كثير، وعن طلحة، والأعمش أيضًا {لتَنْاهم} بفتح اللام. قال سهل لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال. وأنكر أيضًا آلتناهم بالمد كما قرأ ابن هرمز. وقال: لا يروى عن أحد، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية. وليس كما ذكر بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد. وقرىء {وما ولتناهم} ذكره ابن هارون. قال ابن خالويه: فيكون الحرف هنا من لات يليت، وولت يلت، وألت يألت، وألات يليت ويؤلت. وكلها بمعنى نقص. ويقال: ألت بمعنى غلظ. نقد قام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه فقال رجل: لا تألت أمير المؤمنين؛ أي: لا تغلظ عليه. والمعنى (¬2): أي وما أنقصنا مثوبات الآباء، وحططنا درجاتهم، بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلًا منّا وإحسانًا. وبعد أن أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذريّة إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم .. أخبر عن مقام العدل. وهو أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}؛ أي: كل امرىء مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبًا أو ابنًا. وقد جعل العمل كأنه دين، والمرء كأنه رهن به. والرهن لا ينفك ما لم يؤد الدين. فإن كان العمل صالحًا .. فقد أدى الدين؛ لأنّ العمل الصالح يقبله الله سبحانه ويصعد إليه، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص. إذ لا يصعد إليه غير الطيب. ونحو الآية قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[22]

إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)}؛ أي: إنّ كل نفس رهن بعملها عند الله، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين. فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم. والرهن (¬1): ما يوضع وثيقة للدَّين. ولما كان الرهن يتصور منه حبسه أستعير ذلك للمحتبس، أيَّ شيء كان. وقال ابن الشيخ: {ما} مصدرية. والفعيل بمعنى المفعول، والعمل الصالح بمنزلة الدين الثابت على المرء، من حيث أنه مطالب به. ونفس العبد مرهونة به. فكما أن المرتهن ما لم يصل إليه الدين لا ينفك منه الرهن كذلك العمل الصالح ما لم يصل إلى الله لا تتخلص نفس العبد المرهونة. فالمعنى: كل امرىء مرهون عند الله بالعمل الصالح الذي هو دين عليه. فإن عمله، وأداه كما هو المطلوب منه فك رقبته من الركن، وإلّا أهلكها. وفي الآية: وجه آخر، وهو أن يكون الرهين فعيلًا بمعنى فاعل. فيكون المعنى: كل امرىء بما كسب راهن دائم ثابت مقيم. إن أحسن .. ففي الجنة مؤبّدًا، وإن أساء .. ففي النار مخلَّدًا؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان. فإنّ العرَض لا يبقى إلا في جوهر، ولا يوجد إلا فيه. وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال. فإنّ الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باق. والباقي من الأعيان يبقى ببقاء عمله. قال في "الإرشاد": وهذا المعنى أنسب بالمقام. فإنّ الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله. ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء. فالجملة تعليل لما قبلها، انتهى. 22 - وبعد أن ذكر وجوه النعيم فيما سلف ذكر أنّه يزيدهم على ذلك حينًا فحينًا مما يشتهون من فنون النعماء، فقال: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ}؛ أي: زدناهم على ما كان لهم من النعيم {بِفَاكِهَةٍ} متنوعة كثيرة. والفاكهة: هي الثمار كلها. والتنوين فيها للتكثير؛ أي: بفاكهة لا تنقطع كلما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها. {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}؛ أي: من اللحوم التي يشتهونها ويستطيبونها، وإن لم يقترحوا ولم يطلبوا. والمعنى: وزدناهم عل ما كان من مبادي التنعم وقتًا فوقتًا مما يشتهون من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[23]

فنون النعماء، وضروب الآلاء. وذلك أنه تعالى لما قال: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} ونفى النقصان يصدق بإيصال المساوى دفع هذا الاحتمال بقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ}؛ أي: ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة على ثواب أعمالهم، والإمداد لهم. و {ما} (¬1) في {مِمَّا يَشْتَهُونَ} للعموم لأنواع اللحوم. وفي الخبر: "إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخرُّ بين يديك مشويًّا". وقيل: يقع الطائر بين يدي الرجل في الجنة فيأكل منه قديدًا ومشويًّا، ثم يطير إلى النهر. وذكر الفاكهة واللحم دون أنواع الطعام الأخرى؛ لأنهما طعام المترفين في الدنيا. 23 - وبعد أن ذكر طعامهم أردفه بذكر شرابهم، وسرورهم لدى إحتسائهم له، فقال: {يَتَنَازَعُونَ}؛ أي: يتعاطون {فِيهَاَ}؛ أي: في الجنات، ويتداولون هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق. كما ينبىء عنه التعبير بالتنازع الذي هو التعاطي والتداول على طريق التجاذب. يعني: تجاذب الملاعبة لفرط السرور والمحبّة. وفيه نوع لذة. إذ لا يتصور في الجنة التنازع بمعنى التخاصم. {كَأْسًا}؛ أي: يتعاطون ويتناولون فيها كؤوسًا من خمر، ويتجاذبونها هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى في الدنيا فيما بينهم لشدّة سرورهم. والكأس: قدح فيه شراب، ولا يسمى كأسًا إلا إذا كان فيه شراب، كما لا يسمّى مائدة إلا إذا كان فيه طعام. والمعنى (¬2): {كَأْسًا}؛ أي: خمرًا تسمية لها باسم محلها. ولما كانت الكأس مؤنثة مهموزة أنّث الضمير في قوله: {لَا لَغْوٌ}؛ أي: لا باطل من الكلام؛ ولا ساقط منه. {فِيهَا}؛ أي: في شرب تلك الكأس. فلا يتكلّمون في أثناء الشرب بلغو الحديث، وسقط الكلام. قال الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يُعتدّ به. وهو الذي يورد لا عن روية وفكر. فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور. {وَلَا تَأْثِيمٌ} في شربها؛ أي: لا يفعلون ما يأثم به فاعله؛ أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[24]

التكليف من الكذب، والسبّ، والفواحش. كما هو ديدن المنادمين في الدنيا. وإنما يتكلّمون بالحِكَم وأحاسن الكلام، ويفعلون ما يفعله الكرام؛ لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة. قرأ الجمهور (¬1): {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} بالرفع، والتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو بفتحهما من غير تنوين. ومعنى {لَا لَغْوٌ فِيهَا}؛ أي: لا فضول من الكلام فيها. {وَلَا تَأْثِيمٌ}؛ أي: لا سِبَابَ ولا تَخاصم فيها. وقد أخبر سبحانه في موضع آخر عن حسن منظرها، وطيب مطعمها، فقال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)}، {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)}، وقال: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)}. 24 - ثم ذكر ما لهم من خدم وحشم في الجنّة، فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي: يدور على أهل الجنة بالكؤوس، والفواكه، والأطعمة. من الطواف. وهو المشي حول الشيء. ومنه الطائف لمن يدور حول البيت. وقال هنا، وفي الإنسان: {وَيَطُوفُ} بالواو. حيث قال في الإنسان: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} لأنه معطوف على ما قبله. وقال في الواقعة بلا واو، حيث قال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ}. لأنّه حال أو خبر بعد خبر، انتهى "فتح الرحمن". {غِلْمَانٌ لَهُمْ} أي: مماليك مخصوصون بهم. ولم يضفهم (¬2) بأن يقول: غلمانهم؛ لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا، فيشفق كل من خدم أحدًا في الدنيا أن يكون خادمًا له في الجنة، فيحزن لكونه لا يزال تابعًا. وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنّة؛ وجد له خدم لم يعرفهم، كما في "حواشي سعدي المفتي". وقوله: {كَأَنَّهُمْ ...} إلخ، حال من {غلمان}. لأنّهم قد وصفوا؛ أي: كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}؛ أي: درّ مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي. من كننت الشيء إذا سترته، وصنته من الشمس؛ لأنّه رطبا أحسن، وأصفى إذ لم تمسه الأيدي، ولم يقع عليه غبار. أو لؤلؤ مخزون؛ لأنه لا يخزن إلَّا الثمين الغالي القيمة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[25]

قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر لية البدر على سائر الكواكب". أخرجه ابن جرير، وابن المنذر. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبّيك لبيك". والمعنى (¬1): أي ويطوف عليهم بالكؤوس مماليك لهم يتصرّفون فيهم بالأمر والنهي والاستخدام، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في الأصداف في الحسن، والبهاء. ونحو الآية قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)}. 25 - ثمّ بيّن أنهم في الجنة يتذاكر بعضهم مع بعض في أحوال الدنيا، فقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ}؛ أي: بعض أهل الجنة {عَلَى بَعْضٍ} آخر، حال كونهم {يَتَسَاءَلُونَ} أي: يسأل كل بعض منهم بعضًا آخر عن أحواله، وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله سبحانه من الكرامة. وذلك تلذّذًا واعترافًا بالنعمة العظيمة على حسب الوصول إليها على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث ليتمَّ به اشتئناسهم. فيكون كل بعض سائلًا ومسؤولًا، لا أنه يسأل بعض عين منهم بعضًا آخر معيّنًا. أي (¬2): يسأل بعضهم بعضًا في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن، والخوف، والهمِّ، وما كانوا فيه من الكدِّ والنكدِ بطلب المعاش، وتحصيل ما لا بدَّ منه من الرزق. وقيل: يقول بعضهم لبعض: بم صِرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل: إنّ التساؤل بينهم عند البعث من القبور. والأوّل أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة. 26 - وجملة قوله: {قَالُوا ...} إلخ، مستأنفة استئنافًا بيانيًا. كأنَّه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل: قالوا؛ أي: المسؤولون. وهم كل واحد منهم في الحقيقة: {إِنَّا كُنَّا} في الدنيا {قَبْلُ}؛ أي: قبل دخول الجنة {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}؛ أي: خائفين، وجلين من عذاب الله تعالى. أو كنا خائفين من عصيان الله معتنين بطاعة الله. قيّد (¬3) بقوله: {فِي أَهْلِنَا} فإنّ كونهم بين أهليهم مظنة الأمن. فإذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[27]

خافوا في تلك الحال فلأن يخافوا في سائر الأحوال والأوقات أولى. يقول الفقير: الظاهر أنَّ هذا الكلام وارد على عرف الناس. فإنهم يقولون: شأننا بين قومنا وقبيلتنا كذا. فهم كانوا في الدنيا بين قبائلهم وعشائرهم على صفة الإشفاق. وفيه تعريض بأن بعض أهليهم لم يكونوا على صفتهم، ولذا صاروا محرومين. ويدلّ (¬1) على هذا أنّ الأهل يفسّر بالأزواج، والأولاد، وبالعبيد والإماء، وبالأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع. كما في "شرح المشارق لابن الملك". أخرج البزّار عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدّثان، فيتكيء ذا ويتكىء ذا، فيتحدثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان أتدري أي يوم غفر الله لنا اليوم الذي كنّا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا، ثم فصل ما يجيب به بعضهم بعضا، فقال: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} في الدنيا، ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه. 27 - {فَمَنَّ الله} سبحانه؛ أي: تفضل وأنعم {عَلَيْنَا} بالمغفرة والرحمة، أو بالهداية والتوفيق لطاعته. يقول الفقير: الظاهر: أنّ المنَّ والإنعامَ إنَّما هو بالجنة ونعيمها، كما دلّ عليه قوله: {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}؛ أي: (¬2) حفظنا من عذاب النار النافذة في المسامّ؛ أي: ثقب الجسد كالمنخر، والفم، والأذن نفوذ السموم. وهي الريح الحارّة التي تدخل المسام. فأطلق على جهنم لنفوذ حرّها في المسام كالسموم. وقرأ أبو حيوة {ووقّانا} بتشديد القاف. روي: أنَّ عائشة قالت: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها. 28 - ثم تمموا العلة في استحقاقهم للكرامة في تلك الدار بقولهم: {إِنَّا كُنَّا} في الدنيا {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل لقاء الله سبحانه، والمصير إليه {نَدْعُوهُ}، أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[29]

نعبده, ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب دعائنا، وأعطانا سؤلنا. {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}؛ أي: لأنّه هو المحسن الكثير الرحمة الواسع الفضل الذي إذ عُبد أثاب، وإذا سئل أجاب. وكل من المؤمن والكافر لا ينسى ما كان له في الدنيا. وتزداد لذّة المؤمن إذا رأى نفسه قد انتقلت من سجن الدنيا إلى نعيم الجنة، ومن الضيق إلى السعة. وتزداد آلام الكافر إذا رأى نفسه انتقل من الترف إلى التلف، ومن النعيم إلى الجحيم. وقرأ الحسن وأبو جعفر، ونافع، والكسائي (¬1): {أنه} بفتح الهمزة؛ أي: لأنّه. وقرأ باقي السبعة {إِنَّهُ} بكسر الهمزة. وهي قراءة الأعرج، وجماعة، وفيها معنى التعليل. 29 - والفاء في قوله: {فَذَكِّرْ} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدّر تقديره: إذا عرفت يا محمد أن في الوجود قوما يخافون الله سبحانه، ويشفقون في أهليهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: أثبت ودم على ما أنت عليه من تذكير المشركين بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم، ولا تكثرت بحسب يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل. {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ}؛ أي: بسبب إنعام الله عليك بالنبوّة، ورجاحة العقل {بِكَاهِنٍ}؛ أي: بمخبر عن المغيبات بلا وحي. {وَلَا مَجْنُونٍ}؛ أي: ولا زائل عقل، ولا فاسده. والباء (¬2) متعلقة بمحذوف هو حال؛ أي: ما أنت متلبّسًا بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل بكاهن ولا مجنون. وقيل: متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام؛ أي: ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون. وقيل: الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية. والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك. كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد الله. وقيل: الباء للقسم متوسطة بين اسم {ما} وخبرها. والتقدير: ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون. والكاهن: هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي؛ أي: ليس ما تقوله كهانة. فإنك إنما تنطق بالوحي الذي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[30]

أمرك الله بإبلاغه. والمقصود من الآية: ردّ ما يقوله المشركون: إنه كاهن أو مجنون. والمعنى: أي (¬1) فذكر أيها الرسول من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم، وعظهم بالآيات والذكر الحكيم، ولا تكثرت بما يقولون فيك من الأكاذيب. وقد انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك. والمقصود بذلك: الرد على القائلين بذلك، وإبطاله. فإن ما أوتيته من رجاحة العقل، وعلو الهمة، وكرم الفعال، وصدق النبوّة لكاف جد الكفاية في دحض هذا، وأشباهه. وممن قال: إنه كاهن: شيبة بن ربيعة. وممن قال: إنه مجنون: عقبة بن أبي معيط. 30 - ثم ذكر أنهم ترقوا في الإنكار عليه، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ} و {أَمْ} (¬2) المكرّرة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الاستفهام. وقال في "برهان القرآن": أعاد أم خَمْس عَشْرَةَ مرّة. وكلّها إلزامات وليس للمخاطبين بها عنها جواب. وفي "عين المعاني": {أَمْ} هاهنا خمسة عشر. وكلّها استفهام. أربعة للتحقيق والتقرير مع التوبيخ بمعنى بل: 1 - {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ}. 2 - {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} وقد قالوها. 3 - {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}. 4 - {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا}. وقد فعلوهما. وسائرها للإنكار. وفي "فتح الرحمن": جميع ما في هذه السورة من ذكر {أم} استفهام غير عاطفة. واستفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحًا عليهم وتوبيخًا لهم، كقول الشخص لغيره: أجاهل أنت؟ مع علمه بجهله؛ أي: بل أيقول كفّار مكة: هو؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - {شَاعِرٌ} يتقوّل الكلام من تلقاء نفسه. وصفوه بالشعر؛ لأنهم يعدُّون الشعر دناءة. لأنّ الشعر كان مكسبة وتجارة. وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم. ومما يدل على شرف النثر أنَّ الإعجاز وقع في النثر دون النظم؛ لأنّ زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - زمن الفصاحة. فإن قلت: فإذا كان الإعجاز واقعًا في النثر، فكيف قالوا في حقّ القرآن: شعر، وفي حقّه - صلى الله عليه وسلم -: شاعر؟ قلت: ظنوا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرجو الأجر على التبليغ. ولذا قال تعالى: {قُلْ مَا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[31]

أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. فكان - صلى الله عليه وسلم - عندهم بمنزلة لشاعر، حيث إنّ الشاعر إنما يستجلب بشعره في الأغلب المال، وأيضًا لمّا كانوا يعدون الشعر دناءة حملوا القرآن عليه. ومرادهم عدم الإعتداد به. قال ابن الشيخ: قوله: {أَمْ يَقُولُونَ} إلخ، من باب الترقي إلى قولهم فيه: "إنه شاعر". لأنّ الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون. وقد قيل: أحسن الشعر أكذبه. وكانوا يقولون لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره. وإنا نصبر ونتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء. وحينئذٍ تتفرق أصحابه، وإن أباه مات شابًّا، ونحن نرجوا أن يكون موته كموت أبيه. وذلك قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ}؛ أي: ننتظر {بِهِ}؛ أي: بذلك الشاعر. والجملة صفة لشاعر. {رَيْبَ الْمَنُونِ}؛ أي: تقلبات الزمان، وحوادث الدهر، ونزول الموت. فإنه إن كان شاعرًا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه، فيتبين كساد شعره. وقد سبق آنفًا أنَّ {أَمْ} هنا بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري. والمعنى: أي بل قال كفّار قريش: هو شاعر نتربّص، وننتظر به نوائب الدهر. فيهلك كما هلك غيره من الشعراء: زهير، والنابغة، وطرفة، وغيرهم. أو ننتظر به الموت كما مات أبوه شابًّا. وذلك كما تتمنى الصبيان في المكتب موت معلمهم ليتخلصوا من يده، فويل لمن أراد هلاك معلمه في الدين، وكان محرومًا من تحصيل اليقين. روي: أنّ قريشًا اجتمعت في دار الندوة، وذهبت مذاهب شتى في صدّ دعوته - صلى الله عليه وسلم -، ومقابلة هذا الخطر الداهم عليهم، وماذا يفعلون في الخلاص منه. فقال قائل من بني عبد الدار: تربصوا به ريب المنون. فإنّه شاعر، وسيهلك كما هلك زهير، والنابغة، والأعشى. ثم افترقوا على هذه المقالة. فنزلت الآية. وخلاصة هذا: أنا نبتعد من إيذائه، ونتقي لسانه مخافة أن يغلبنا بقوّة شعره. وإنما سبيلنا معه أن نصبر عليه، ونتربص موته كما مات الشعراء من قبله. 31 - فأمره الله سبحانه أن يهددهم، ويتهكم بهم بقوله: {قُلْ} يا محمد جوابًا لهم {تَرَبَّصُوا}؛ أي: انتظروا وتمهلوا في ريب المنون. وهذا أمر تهديد. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}؛ أي: فإني متربص منتظر معكم قضاء الله سبحانه فيَّ وفيكم،

[32]

وستعلمون لمن تكون له حسن العاقبة، والظفر في الدنيا والآخرة. وفي هذا عِدَةٌ كريمة بإهلاكهم. قرأ الجمهور (¬1): {نَتَرَبَّصُ} بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين. وقرأ زيد بن عليّ {يتربص} بالياء مبنيًا للمفعول، {ريب المنون} بالرفع على النيابة. وقد أهلكوا قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر، وفي غيره من الأيّام. وقيل (¬2): إنَّ معنى الآية: إني أخاف الموت، ولا أتمناه لا لنفسي، ولا لأحد، وإنما أنا نذير فتربصوا موتي، وأنا متربصه. ولا يسرنكم ذلك لعدم حصول ما تتمون بعدي. 32 - {أَمْ تَأْمُرُهُمْ}؛ أي: بل أتأمرهم {أَحْلَامُهُمْ}؛ أي: عقولهم السخيفة السفيهة {بِهَذَا} المقال المتناقض، حيث قالوا في حقّ الرسول: هو كاهن مجنون شاعر. فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة، ودقة نظر في الأمور، والمجنون مغطى عقله مختل فكره، والشاعر ذو كلام موزون، متسق، مخيل فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في رجل واحد. فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون (¬3). وفرق عظيم بين من زال عقله، ومن يقول الشعر الحكيم الرصين، ومن يجعل قوله حجة في معرفة أخبار الغيب، ويعقد أن الجن توحي إليه بما يقول. وقصارى هذا: أنهم لا أحلام لهم ولا عقول، فدع تفوههم بهذه الأقوال الزائغة المتناقضة. وفي الآية إشارة إلى التربص في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله تعالى، والتوكل على الله فيما يجري على عباده، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين. إذ كل يجري على ما قضاه الله تعالى. ثم ذكر السبب الحق في كل ما يعملون، فقال: {أَمْ هُمْ}؛ أي: بل أهم {قَوْمٌ طَاغُونَ}؛ أي: مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد مع ظهور الحقّ، لا يحومون حول الرشد والسداد. ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون، أي: بل الحق أن الذي حملهم على أن يقولوا ما قالوا هو طغيانهم، وعنادهم، وضلالهم عن الحق. وقرأ مجاهد (¬4) {بل هم} مكان {أم هم}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراح. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[33]

33 - {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: اختلق القرآن من تلقاء نفسه. ثم قال: إنه من عند الله افتراء عليه تعالى، وليس الأمر كما زعموا. {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} البتة؛ لأن الله سبحانه ختم على قلوبهم. وفي "الإرشاد": فلكفرهم وعنادهم يرمونه بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحد بطلانها، كيف لا وما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا واحد من العرب، أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، وفي كون ذلك مبنيًا على العناد إشارة إلى أنهم يعلمون بطلان قولهم، وتناقضه؛ أي: إنَّ كفرهم هو الذي حملهم على هذه المطاعن، وزين لهم أن يقولوا ما قالوا. 34 - ثم رد عليهم جميع ما زعموا، وتحداهم في دحض ما قالوا، فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره؛ أي: (¬1) إذا كان الأمر كما زعموا من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر، ادّعى الرسالة وتقول القرآن من عند نفسه، فليأتوا بكلام مثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى. قال في "التكملة": والمشهور عند القراء {بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} بتنوين حديث، فيكون الضمير في {مِثْلِهِ} راجعًا إلى القرآن. وقرأ الجحدري (¬2)، وأبو السمال {بحديث مثله} بالإضافة، فيكون الضمير راجعًا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ أي (¬3): بحديثِ رجل مثل الرسول في كونه أميًّا لم يصحب أهل العلم، ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدًا منهم. فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبدًا. {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} فيما زعموا. فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضيّة مشاركتهم له - صلى الله عليه وسلم - في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب، والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام. ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به، ودواعي الأمر بذلك. والمعنى (¬4): أي إن كان شاعرًا .. فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهنًا .. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

فلديكم الكهان الأذكياء، وإن كان قد تقوله .. فلديكم الخطباء الذين يحبرون الخطب، ويجيدون القول في كل فنون الكلام. فهلم فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون؛ فإن أسباب القول متوافرة لديهم كما هي متوافرة لديه، بل فيهم من طالت مزاولته للخطب والأشعار، وممارسته لأساليب النظم والنثر، وحفظ أيام العرب، ووقائعها أكثر من محمد - صلى الله عليه وسلم -. فائدة: وأعلم أن الإعجاز إما أن يتعلق بالنظم من حيث فصاحته وبلاغته، أو يتعلق بمعناه، ولا يتعلق به من حيث مادته. فإن مادته ألفاظ العرب، وألفاظه ألفاظهم. قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} تنبيهًا على اتحاد العنصر، وأنه منظم من عين ما ينظمون به كلامهم. والقرآن معجز من جميع الوجوه لفظًا ومعنى، ومتميز من خطبة البلغاء ببلوغه حد الكمال في أثنى عشر وجهًا. إيجاز اللفظ، والتشبيه الغريب، والاستعارة البديعية، وتلاؤم الحروف والكلمات، وفواصل الآيات، وتجانس الألفاظ، وتعريف القصص والأحوال، وتضمين الحكم والأسرار، والمبالغة في الأسماء والأفعال، وحسن البيان في المقاصد والأغراض، وتمهيد المصالح والأسباب، والإخبار عما كان وما يكون. الإعراب {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)}. {وَالطُّورِ (1)} {الواو} حرف جر وقسم، {الطور} مجرور بالواو، الجار والمجرور متعلق بفعل قَسَمٍ محذوفٍ وجوبًا، تقديره: أقسم بالطور إنّ عذاب ربّك لواقع. {وَكِتَابٍ} معطوف على {الطور}، {مَسْطُورٍ} صفة كتاب، {فِي رَقٍّ} متعلق بـ {مَسْطُورٍ}. {مَنْشُورٍ} صفة {رَقٍّ}. {وَالْبَيْتِ} معطوف على {الطور}، أو كل منها قسم مستقل بنفسه، وجوابه جميعًا قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ}. {الْمَعْمُورِ} صفة لـ {الْبَيْتِ}، {وَالسَّقْفِ} معطوف على {الطور} أيضًا، {الْمَرْفُوعِ} صفة لـ {السقف}، {وَالْبَحْرِ} معطوف على {وَالطُّورِ (1)}، {الْمَسْجُورِ} صفة لـ {الْبَحْرِ}، {إِنَّ} حرف نصب، {عَذَابَ} اسمها، {رَبِّكَ} مضاف إليه، {لَوَاقِعٌ} اللام حرف ابتداء، {وَاقِعٌ} خبر {إنّ}. وجملة إنّ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة

القسم مستأنفة. {مَا}. نافية، {لَهُ} خبر مقدم، {مِنْ} زائدة، {دَافِعٍ} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ثان لـ {إن}. {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}. {يَوْم} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {واقع}؛ أي: يقع العذاب في ذلك اليوم. وتكون جملة النفي معترضة بين العامل ومعموله. وقيل: الظرف متعلق بـ {دَافِعٍ}. {تَمُورُ السَّمَاءُ} فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {مَوْرًا} منصوب على المفعولية المطلقة، {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} فعل، وفاعل، معطوف على جملة {تَمُورُ السَّمَاءُ}، {سَيْرًا} مفعول مطلق. {فَوَيْلٌ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت وقوع العذاب في ذلك اليوم، وأردت بيان حال هؤلا. المكذبين لك .. فأقول لك: ويل للمكذبين لك. {ويل} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة تضمنه معنى الدعاء. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية، تعلق بـ {ويل}، {يَوْمَ} مضاف، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر، مضاف إليه، مبنيّ بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلّص من التقاء الساكنين لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا. {لِلْمُكَذِّبِينَ} جار ومجرور، خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {الَّذِينَ} صفة {لِلْمُكَذِّبِينَ}، {هُمْ} مبتدأ، {فِي خَوْضٍ} متعلق بـ {يَلْعَبُونَ}، وجملة {يَلْعَبُونَ} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية صلة الموصول. {يَوْمَ يُدَعُّونَ} الظرف فيه بدل من {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)}، أو بدل من {يَوْمَئِذٍ}، {يُدَعُّونَ} فعل، ونائب فاعل. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُدَعُّونَ}، {دَعًّا} منصوب على المفعولية المطلقة. {هَذِهِ} مبتدأ، {النَّارُ} خبره. والجملة في محل الرفع نائب فاعل، محكي لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: هذه النار، {الَّتِي} صفة لـ {النَّارُ}، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، {بِهَا} متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}. وجملة {تُكَذِّبُونَ} خبر كان، وجملة كان صلة الموصول. {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا

تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}. {أَفَسِحْرٌ} الهمزة للاستفهام الانكاري، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أكنتم تقولون للوحي هذا سحر فسحر هذا؟ والجملة المحذوفة مستأنفة. {سِحْرٌ} خبر مقدم، {هَذَا} مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة. {أمْ} منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الإنكار، {أَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا تُبْصِرُونَ} خبره. والجملة مستأنفة؛ لأنّ الكلام الأول تمّ عند قوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا}. ويجوز أن تكون متصلة؛ أي: ليس شىء منهما ثابتًا، فثبت أنكم قد بعثتم وجوزيتم بأعمالكم، وأنّ الذي ترونه حق. فهو تقريع شديد، وتهكّم فظيع. وبعد هذا التقريع يقال لهم: اصلوها الخ. {اصْلَوْهَا} فعل أمر، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل النصب، مقول للقول المحذوف. {فَاصْبِرُوا} {الفاء} عاطفة، {اصبروا} فعل أمر وفاعل، والجملة معطوفة على {اصْلَوْهَا}، {أو} حرف عطف، {لَا} ناهية جازمة، {تَصْبِرُوا} فعل، وفاعل مجزوم بلا الناهية. والجملة معطوفة على {اصبروا}. {سَوَاءٌ}. خبر لمبتدأ محذوف، أي: صبركم وعدم صبركم مستويان. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {سَوَاءٌ}. والجملة مقول للقول المحذوف. ونحا الزمخشري إلى إعرابها مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: سواء عليكم الأمران، وتبعه أبو حيان. ولا مانع من ذلك؛ لأن ما في سواء من معنى التسوية أفادها فائدة سوَّغت إعرابها مبتدأ. {إِنَّمَا} كافة ومكفوفة، {تُجْزَوْنَ} فعل مضارع، مغير الصيغة، ونائب فاعل، {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول ثان لـ {تُجْزَوْنَ}. والجملة الفعلية مقول للقول المحذوف على كونها معللة لما قبلها. {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبره. وجملة كان صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما كنتم تعملونه. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)}. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} ناصب واسمه، {فِي جَنَّاتٍ} خبره، {وَنَعِيمٍ} معطوف على {جَنَّاتٍ}. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان بشرى المتقين. {فَاكِهِينَ} حال من الضمير المستكن في خبر {إِنَّ}، {بِمَا} متعلق بـ {فَاكِهِينَ}؛ {آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: إيّاه. والجملة صلة لـ {ما}

الموصولة. ويصح أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: بإيتاء ربهم إياهم. {وَوَقَاهُمْ} معطوف على الصلة؛ أي: بإيتاء ربهم وبوقايته لهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الجملة حالًا، ولكن بتقدير قد. {رَبُّهُمْ} فاعل ومضاف إليه {عَذَابَ الْجَحِيمِ} مفعول ثان، {كُلُوا} فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقال لهم: كلوا. {وَاشْرَبُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {كُلُوا}، {هَنِيئًا} حال من الفاعل؛ أي: مهنّئين، أو مفعول مطلق؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئين. {بِمَا} متعلق بـ {كُلُوا}، أو {اشْرَبُوا}. وجملة {كُنْتُمْ} صلة لـ {مَا} الموصولة، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبر كان. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}. {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير المستكن في قوله: {فِي جَنَّاتٍ}؛ أي: كائنون في جنات حال كونهم متكئين، أو من فاعل {كلوا}، أو من مفعول {اتاهم}، أو من مفعول {وقاهم}. {عَلَى سُرُرٍ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، {مَصْفُوفَةٍ} صفة {سُرُرٍ}، {وَزَوَّجْنَاهُمْ} الواو: عاطفة، {زوجناهم} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على خبر {إن}. أعني: في جنات. فهو خبر آخر. {بِحُورٍ} متعلق بـ {زوجناهم}. وزوّج يتعدّى إلى المفعولين بنفسه. وعدي إلى الثاني هنا بالباء لتضمينه معنى قرنّاهم. {عِينٍ} صفة {حور}، {وَالَّذِينَ} الواو: استئنافية، {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {آمَنُوا} صلته، {وَاتَّبَعَتْهُمْ} فعل ومفعول به، {ذُرِّيَّتُهُمْ} فاعل. والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {بِإِيمَانٍ} حال من الذريّة، أي: حالة كون الذرية متلبسة بإيمان. {أَلْحَقْنَا} فعل وفاعل، {بِهِمْ} متعلق بـ {أَلْحَقْنَا}، {ذُرِّيَّتَهُمْ} مفعول به. والجملة في محل الرفع خبر {الَّذِينَ}. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما} نافية، {أَلَتْنَاهُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على {أَلْحَقْنَا بِهِمْ}. {مِنْ عَمَلِهِمْ} حال {مِنْ شَيْءٍ}، {مِنْ شَيْءٍ}: {مِن} زائدة؛ {شَيْءٍ} مفعول ثان لـ {أَلَتْنَاهُمْ}. {كُلُّ امْرِئٍ} مبتدأ ومضاف إليه، {بِمَا} الباء حرف جر، {ما} موصولة أو مصدرية، والجار والمجرور متعلق بـ {رَهِينٌ}؛ {كَسَبَ} فعل ماض و {رَهِينٌ} خبر {كُلُّ}. والجملة الاسمية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.

{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)}. {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {أَلْحَقْنَا}. {بِفَاكِهَةٍ} متعلق بـ {أمددنا}، {وَلَحْمٍ} معطوف على {فَاكِهَةٍ}، {مِمَّا} جار ومجرور، صفة لـ {لحم}، وجملة {يَشْتَهُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: مما يشتهونه {يَتَنَازَعُونَ} فعل وفاعل والجملة مستأنفة أو حال من مفعول {أَمْدَدْنَاهُمْ} {فِيهَا} متعلق بـ {يَتَنَازَعُونَ} {كَأْسًا} مفعول به. ومعنى يتازعون كأسًا: يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما مر. إذ أهل الدنيا لهم لذة في ذلك. وقيل: معناه: يتعاطونها. {لَا} نافية للجنس مهملة لتكرّرها، {لَغْوٌ} مبتدأ، خبره {فِيهَا}، وسوغ الابتداء تقدّم النافي عليها. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة لـ {كَأْسًا}. {وَلَا} الواو: عاطفة، {لَا} زائدة زيدت لتأكيد {لا} الأولى، {تَأْثِيمٌ} معطوف على {لَغْوٌ}. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)}. {وَيَطُوفُ} {الواو}: عاطفة، {يطوف} فعل مضارع، {عَلَيْهِمْ} متعلق به، {غِلْمَانٌ} فاعل، {لَهُمْ} صفة لـ {غِلْمَانٌ}. والجملة معطوفة على {يَتَنَازَعُونَ}. {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {لُؤْلُؤٌ} خبره، {مَكْنُونٌ} صفة {لُؤْلُؤٌ}، وجملة {كأن} صفة ثانية لـ {غِلْمَانٌ}، أو حال منه. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} فعل، وفاعل، معطوف على {يَتَنَازَعُونَ}، {عَلَى بَعْضٍ} متعلق بـ {أَقْبَلَ}، وجملة {يَتَسَاءَلُونَ} حال من الفاعل، ومن المجرور بـ {عَلَى}. {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)}. {قَالُوا} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {إنَّا} ناصب واسمه، {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، {قَبْلُ} في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على الضم لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقاره إلى المضاف إليه المحذوف، والظرف متعلق بمحذوف حال من اسم كان. {فِي أَهْلِنَا} متعلق بـ {مُشْفِقِينَ}، و {مُشْفِقِينَ} خبر

كان. وجملة كان في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَمَنَّ اللَّهُ} {الفاء} عاطفة، {من الله} فعل، وفاعل. والجملة في محل الرفع، معطوفة على جملة كان. {عَلَيْنَا} متعلق بـ {مَنَّ}، {وَوَقَانَا} فعل، ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على الله، {عَذَابَ السَّمُومِ} مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة {من الله}. {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {كُنَّا} في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إن في محل النصب، مقول {قَالُوا}. {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من اسم كان. {نَدْعُوهُ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} ضمير فصل، {الْبَرُّ} خبر أول لـ {إنَّ}، {الرَّحِيمُ} خبر ثان له، وجملة إنّ في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها معللة لما قبلها. {فَذَكِّرْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن في عباد الله مشفقين، وأردت بيان ما هو اللازم لك ... فأقول لك. {ذَكِّرْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَمَا} {الفاء} تعليلية، {ما} نافية حجازية، {أَنتَ} في محل الرفع، اسمها، {بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بما في ما من معنى النفي، فتكون الباء سببية. وهذا أرجح الأوجه الجارية هنا. والمعنى: انتفت عنك الكهانة، والجنون بسبب نعمة ربك عليك. وقال أبو البقاء: إنّ الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها {بِكَاهِنٍ} أو {مَجْنُونٍ}. والمعنى: ما أنت كاهنًا ولا مجنونًا حال كونك متلبسًا بنعمة ربك. وقيل غير ذلك. {بِكَاهِنٍ} الباء زائدة، {كاهن} خبر لما الحجازية، {وَلَا مَجْنُونٍ} معطوف عليه. وجملة ما الحجازية جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري كما مر. {يَقُولُونَ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {شَاعِرٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو شاعر. والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}، وجملة {نَتَرَبَّصُ} صفة لـ

{شَاعِرٌ}، {بِهِ} متعلق بـ {نَتَرَبَّصُ}، {رَيْبَ الْمَنُونِ} مفعول به. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {تَرَبَّصُوا} فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب مقول قل. {فَإِنِّي} {الفاء} تعليل للأمر المقصود به التهديد، {إني} ناصب واسمه، {مَعَكُمْ} حال من اسم إن. {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} خبر إنّ، وجملة إنّ في محل النصب مقول {قُلْ} على كونها تعليلية للأمر المقصود به التهديد. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}. {أَمْ}: حرف إضراب بمعنى بل، وهمزة الاستفهام، {تَأْمُرُهُمْ} فعل، ومفعول به، {أَحْلَامُهُمْ} فاعل، {بِهَذَا} متعلق بـ {تَأْمُرُهُمْ}. والجملة استفهامية إضرابية، لا محل لها من الإعراب. {أَمْ} حرف عطف، {هُمْ قَوْمٌ} مبتدأ وخبر، {طَاغُونَ} صفة {قَوْمٌ}. والجملة معطوفة على ما قبلها. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الأضرابية، وهمزة إلاستفهام التقريري، {يَقُولُونَ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {تَقَوَّلَهُ} فعل، وفاعل، مستتر، ومفعول به. والجملة في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}. {بَلْ} حرف إضراب، {لَا يُؤْمِنُونَ} فعل، وفاعل، معطوف على {يَقُولُونَ}. {فَلْيَأْتُوا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم يقولون تقوّله، وأردت بيان ما هو اللازم لهم ... فأقول لك فليأتوا إلخ. واللام لام الأمر، {يأتوا} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والواو فاعل، {بِحَدِيثٍ} متعلق بـ {يأتوا}، {مِثْلِهِ} صفة لـ {حديث}. والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {إن} حرف شرط، {كَانُوا} {صَادِقِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب إن الشرطية محذوف دلَّ عليه ما قبله، تقديره: إن صدقوا في هذا القول ... فليأتوا بحديث مثله، وجملة إن الشرطية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَالطُّورِ (1)} بالسريانية: الجبل. والمراد به: طور سينين. وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام. أقسم الله سبحانه به تشريفًا وتكريمًا وتذكيرًا بما

فيه من الآيات. وهو أحد جبال الجنة، قاله السدّيُّ. وقيل: إن الطور كل جبل ينبت الشجر الثمر، وما لا ينبت فليس بطور. وقال المبرّد: يقال لكل جبل: طور. فإذا دخلت الألف واللام المعرفة فهو شيء بعينه. {وَكِتَابٍ} والمراد بالكتاب هنا: ما كتب من الكتب السماوية: كالقرآن، والتوراة، والإنجيل. {مَسْطُورٍ}؛ أي: متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة، اهـ خطيب. وفي "المختار": السطر: الصف من الشيء, يقال: بني سطرًا. والسطر أيضًا: الخط والكتابة. وهو في الأصل مصدر، وبابه نصر. وسطر أيضًا بفتحتين. والجمع أسطار، كسبب وأسباب. وجمع الجمع أساطير وجمع السطر أسطر وسطور كأفلس وفلوس، اهـ. {فِي رَقٍّ} الرق بالفتح والكسر: الجلد الرقيق الذي يكتب فيه. وجمعه رقوق. والرق بالكسر: المملوك. قال الراكب: الرق: كل ما يكتب فيه جلدًا كان أو غيره. وهو بفتح الراء على الأشهر. ويجوز كسرها كما قرىء به شاذًّا. وأما الرق الذي هو ملك الأرقاء فهو بكسر الراء، لا غير. {مَنْشُورٍ}؛ أي: مبسوط، غير مطوي، وغير مختوم عليه. قوله: {تَمُورُ} أصله: تمور بوزن تفعل، نقلت حركة {الواو} إلى الميم، فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مدّ. {مَوْرًا}، مصدر من مار يمور كقال يقول قولًا. والمور: الاضطراب والتردد في المجيء والذهاب، والجريان السريع؛ أي: تضطرب، وتجيء وتذهب اضطرابًا. {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)}؛ أي: تزول عن وجه الأرض فتصير هباء منثورًا. وأصله تسير بوزن تفعل بكسر العين، نقلت حركة الياء إلى السين فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد. {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين. {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)} هو السماء. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)}؛ أي: الموقد المحمي. من سجر النار؛ أي: أوقدها. وعنى به باطن الأرض. وهو الذي دل عليه الكشف الحديث,

ولم تعرفه الأمم قديمًا. وقد أشارت إليه الأحاديث. فعن عبد الله بن عمر: "لا يركبنَّ رجل البحر إلا غازيًا أو معتمرًا أو حاجًا؛ فإنَّ تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا". وقد أثبت علماء طبقات الأرض - الجيلوجيا - أنَّ الأرض كلها كبطيخة، وقشرتها كقشرة البطيخة؛ أي: إنّ نسبة قشرة الأرض إلى النار التي في باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل، فنحن الآن فوق نار عظيمة؛ أي: فوق بحر مملوء نارًا. وهذا البحر مغطي من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السدّ عليه. ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر في الزلازل، والبراكين، كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة (1909 م)، وابتلع مدينة مسيا، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة (1925 م)، وخرّبت مدنًا بأكملها. {فِي خَوْضٍ} وأصل الخوض: السير في الماء، ثم استعمل في الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل. كالإحضار فإنه عامّ في كل شيء، ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب. {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}؛ أي: يدفعون دفعًا عنيفًا شديدًا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون إلى النار، ويطرحون فيها. والدع: الدفع الشديد، وأصله أن يقال للعاثر: دع دع. أصله: يدععون بوزن يفعلون، نقلت حركة العين الأولى إلى الدال فسكنت، فأدغمت في العين الثانية. وقوله: {دَعَاَ} وزنه فعل، أدغمت العين في اللام. وفي "المختار": دعَّه دفعه، وبابه ردّ. ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)}. {اصْلَوْهَا} في "المصباح": صلي بالنار، وصليها صلي من باب تعب وجد حرها والصلاء وزان كتاب حر النار، وصليت اللحم أصليه من باب رمي شويته. وأصله: اصليوها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} النعيم: الدعة، والراحة، والتنعم، والترفه. والاسم النعمة بالفتح. قال الراغب: النعيم: النعمة الكثيرة، وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العين، ونعمه تنعيمًا جعله في نعمة، أي: لين عيش. وفي "البحر": التنعم

استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات. {فَاكِهِينَ}؛ أي: ناعمين متلذّذين. في "القاموس": الفاكه: صاحب الفاكهة، وطيب العيش، والضحوك، والناعم الحسن العيش. كما أن الناعمة والمنعمة: الحسنة العيشة. {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أصله: أتيهم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد للأولى، وقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {وَوَقَاهُمْ} الوقاية، حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره. {عَذَابَ الْجَحِيمِ} من الجحمة. والجحمة: شدة تأجج النار. ومنهم الجحيم؛ أي: جهنم؛ لأنه من أسماءها كما مر. {هَنِيئًا} والهنيء، والمريء صفتان من هنوء الطعام ومروء، إذا كان سائغًا سهلًا بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات. {بِحُورٍ} الحور بوزن فعل، جمع حوراء كسود جمع سوداء. من الحور. وهو شدة بياض العين في شدة سوادها. {عِينٍ} جمع عيناء. وهي الواسعة العينين. وقياسه فعل بضم {الفاء} كما جمع حوراء على ذلك إلا أنه لما كانت عينه ياء كسرت فاؤه، فقيل: عين بوزن فعل بكسر الفاء. {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} أي: نقصناهم. من أن يألت من باب ضرب. قال في "القاموس": الله حقا يألته نقصه كألته إيلاتًا. {بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} والرهن: ما يوضع وثيقة للدين. {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} أصل المد: الجر. وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه. وفي "القاموس": الإمداد: تأخير الأجل، وأن تنصر الأجناد بجماعة غيرك، والإعطاء، والإغاثة. {بِفَاكِهَةٍ} الفاكهة: ثمار الأشجار. {مِمَّا يَشْتَهُونَ} أصله: يشتهيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت ثم ضمت الهاء لمناسبة الواو. {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا} يقال: نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس من كبدها. والتنازع والمنازعة: المجاذبة، ويعبَّر بها عن المخاصمة والمجادلة. والمراد بالتنازع هنا: التعاطي والتداول على طريق التجاذب. {كَأْسًا} والكأس: قدح فيه شراب، ولا يسمى كأسًا ما لم يكن فيه شراب.

كما لا تسمى مائدة ما لم يكن عليها طعام. {لَا لَغْوٌ} قال الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يعتد به. وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير، كما مرّ. {وَلَا تَأْثِيمٌ} والتأثيم: فعل ما يأثم فاعله؛ أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب، والسب، والفواحش. {وَيَطُوفُ} من الطواف. وهو المشي حول الشيء، والدوران به. ومنه: الطائف لمن يدور حول البيوت حافظًا لها. أصله: يطوف بوزن يفعل بضم العين نقلت حركة {الواو} إلى الطاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. {غِلْمَانٌ} جمع غلام. وهو الطار الشارب. {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ} واللؤلؤ: جوهر بحري أبيض براق. {مَكْنُونٌ}؛ أي: مصون محفوظ في صدفه، ووعائه الذي خلق فيه. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} فيه إعلال بالقلب. أصله: وقينا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا. وفي "المفردات": السموم في الأصل: الريح الحارَّة التي تؤثر تأثير السم، فأطلقت على جهنم لنفوذ حرها في المسام كالسموم. {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قال الراغب: البر: خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك تارة إلى الله تعالى. نحو: إنه هو البر الرحيم، وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه، أي: توسع في طاعته. فمن الله الثواب، ومن العبد الطاعة. {بِكَاهِنٍ} وفي "المفردات": الكاهن الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن كالعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك، ولكون هاتين الصّناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافًا أو كاهنًا .. فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل الله على محمد". ويقال: كهن فلان كهانة إذا تعاطي ذلك، وكهن إذا تخصص بذلك، وتكَّهن تكلف ذلك وفي القاموس كهن له كجعل ونصر وكرم، كهانة بالفتح، وتكهن تكهنًا وتكهينًا قضى له بالغيب، فهو كاهن. والجمع كهنة، وكهان، وحرفته الكهانة بالكسر، انتهى.

{وَلَا مَجْنُونٍ} وهو من به جنون. وهر زوال العقل أو فساده. وفي "المفردات": الجنون: الحائل بين النفس والعقل. وفي "التعريفات": الجنون: اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا. {نَتَرَبَّصُ} التربص: الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها. {رَيْبَ الْمَنُونِ} الريب: ما يقلق النفوس؛ أي: يورث قلقًا واضطرابًا لها من حوادث الدهر، وتقلبات الزمان. فهو بمعنى الرائب من قولهم: رابه الدهر، وأرابه إذا: أقلقه. والمنون: الدهر، والموت، والكثير الامتنان كالمنونة. وسمَّاه ريبًا لا من حيث إنه مشكك في كونه، بل من حيث إنه يشكك في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في ريب المنون من جهة وقته، لا من جهة كونه. وعلى هذا قال الشاعر: النَّاسُ قَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا بَقَاءَ لَهُمْ ... لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوا وهو في الأصل فعول، من منه إذا: قطعه؛ لأنّ الدهر يقطع القويَّ، والموت يقطع الأماني والعمر. {قُلْ تَرَبَّصُوا} قال الراغب: التربص: انتظار الشخص سلعة كان يقصد بها غلاء، أو رخصًا، أو أمرًا ينتظر زواله، أو حصوله. انتهى. {أَحْلَامُهُمْ}؛ أي: عقولهم. وفي "القاموس": الحلم بالضم وبضمتين: الرؤيا. والجمع أحلام. والحلم بالكسر: الأناة والعقل، والجمع أحلام وحلوم. ومنه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} وهو حليم، والجمع حلماء وأحلام، انتهى. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب. {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أصله: يأتيون بوزن يفعلون بكسر العين، حذفت منه نون الرفع لدخول لام الأمر، ثمّ استنقلت الضمة على الياء فحذفت، فلمّا سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت التاء لمناسبة الواو. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإلتزام في قوله: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} فإنّه قد جاءت

الطاء قبل واو الردف لازمةً. ومنها: تنكير {كتاب}، و {رق}، في قوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} للتفخيم، أو للإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَرَقِ} لأنه حقيقة في جلد الحيوان الرقيق , ثم استعير لكل ما يكتب فيه من الصحائف والألواح. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}، وقوله: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)}. ومنها: طباق السلب بين قوله: {اصْبِرُوا}، وقوله: {لَا تَصْبِرُوا} وفيه أيضًا من الإهانة والتوبيخ ما لا يخفى. ومنها: تأكيد الفعلين بمصدريهما في قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة؛ أي: مورًا عجيبًا وسيرًا عجيبًا، لا يدرك كنههما. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)} حيث شبّه التخبّط والاندفاع في الأباطيل بخوض الغائص في الماء بجامع الانغماس في كل. فاستعار له اسمه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}. ومنها: الاستفهام التوبيخي التقريعيّ في قوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)}. ومنها: إظهار الرب في موضع الأضمار مضافًا إلى ضميرهم في قوله: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} للتشريف والتعليل. ومنها: ترك ذكر المأكول والمشروب في قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} دلالة على تنوّعهما، وكثرتهما. ومنها: تنكير {إيمان} في قوله: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} إفادة للتقليل؛ أي: بشيء من الإيمان. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا

بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}؛ لأنّ الرهن حقيقة فيما يوضع وثيقة للدين. فاستعاره للمحتبس بأيّ شيء كان من عمله. ومنها: تنكير {فاكهة} في قوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} إفادة للكثرة وعدم الانقطاع؛ أي: بفاكهة كثيرة لا تنقطع، كلّما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {كَأْسًا}؛ أي: خمرًا، تسمية لها باسم محلها. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} حيث شبه الغلمان باللؤلؤ المكنون في الأصداف. لأنّه أحسن وأصفى، أو لأنّه مخزون، ولا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. فهو تشبيه مجمل؛ لأنّه حذف منه وجه الشبه. ومنها: التعريض في قوله: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} لأن فيه تعريضًا بأنّ بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم، ولذا صاروا محرومين، حيث قال: {مُشْفِقِينَ}؛ أي: خائفين من عصيان الله سبحانه. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} شبهت حوادث الدهر بالريب الذي هو الشك بجامع التحيّر، وعدم البقاء على حالة واحدة في كل منهما. واستعير لفظ الريب لصروف الدهر وتواليه على طريق الاستعارة التبعية. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} فقد أسند الأمر إلى الأحلام. وقد كان العرب يتفاخرون بعقولهم، فأزرى الله بها، حيث لم تثمر لهم معرفة الحق والباطل. ويجوز اعتبارها استعارة مكنية إن أريد التشبيه. وكل مجاز عقلي يصح أن يكون استعارة مكنية، ولا عكس. كما هو مقرر في محله. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}. المناسبة قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أثبت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليهم ما زعموا من أنه كاهن، أو شاعر، أو مجنون، وأمره أن يذكر الناس، ويبشرهم، وينذرهم، ولا يأبه لمقالتهم، فالله ناصره عليهم .. انتقل إلى الرد عليهم في إنكارهم للخالق كما هو شأن الدهريين، أو في ادعائهم لله شريكًا كما هو شأن كثير من العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: ما نعبد الأوثان، والأصنام إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وبعد أن أقام عليهم الحجة في كل ذلك، وسد عليهم المسالك .. طلب إليه أن يتوكل عليه، وأن يعلم أن كيدهم لا يضره شيئًا، فالله ناصره عليهم، وسيظهر دينه، ويتم له الغلبة والفلج عليهم. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا ...} الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر مزاعمهم في النبوة، وبين فسادها بما لم يبق بعده وجه للعناد والمكابرة. ثم أعقبه بالرد عليهم في جحوده للألوهية إما بإنكارها بتاتًا، وإما بادعاء الشريك، أو باتخاذه الولد، سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) المراغي.

[35]

عما يصفون .. أردف هذا بيان أن هؤلاء قوم بلغوا حدًّا في العناد أصبحوا به يكابرون في المحسوسات فضلًا عن المعقولات، فدعهم وشأنهم حتى يأت اليوم الذين لا مرد له يوم لا تنفعهم حبائلهم وشراكهم التي كانوا ينصبون مثلها في الدنيا، ولا يجدون لهم إذ ذاك وليًّا ولا نصيرًا. وأنَّ الله سيصيبهم بعذاب من عنده في الدنيا قبل ذلك اليوم. وأنه ناصرك عليهم، وكالئك بعين رعايته. واذكر ربك حين تقوم من منامك، ومن مجلسك، وحين تغيب النجوم، ويصبح الصباح، وتغرد الأطيار مسبحة منزهة خالق السموات والأرض قائلة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. التفسير وأوجه القراءة 35 - {أَمْ خُلِقُوا} و {أم} هنا وفيما بعده منقطعة، تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، كما مر؛ أي: بل أخلقوا، وأحدثوا، وقدّروا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة. {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}؛ أي (¬1): من غير خالق لهم، ولا مقدر، ولا محدث، ولا موجد. فـ {مِنْ} لابتداء الغاية. قال الزجاج؛ أي: اخلقوا باطلًا وعبثًا لغير شيء لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون. وجعل {مِنْ} تعليلية بمعنى اللام؛ أي: أخلقوا من أجل لا شيء عليهم من عبادة ولا جزاء. وقال ابن كيسان: أخلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون، ولا ينهون. وقيل: المعنى: أم خلقوا من غير أب، ولا أم. فهم كالجماد لا يفهمون، ولا تقوم عليهم الحجة. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لأنفسهم. فلذلك لا يعبدون الله تعالى؛ أي: بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون، ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم وإذا أقروا لزمتهم الحجة. ومعنى الآية (¬2): أي كيف ينكرون الخالق الموجد، فهل هم خلقوا هذا الخلق البديع الصنع من غير خالق ولا موجد، والعقل يشهد بأن كل ما يوجد من العدم لا بد له من موجد. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}؛ أي: بل أهم أوجدوا أنفسهم، والضرورة والعقل يكذبان ذلك. إذ يلزم من هذا أن الشيء يكون مقدمًا في الوجود على نفسه. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[36]

فهم باعتبار أنهم خالقون مقدمون على أنفسهم في الوجود باعتبار أنهم مخلوقون. وهذا بين البطلان. 36 - {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وهم لا يدعون ذلك، فلزمتهم الجحة. ولهذا أضرب عن هذا، وقال: {بَلْ لَا يُوقِنُونَ}؛ أي: ليسوا على يقين من الأمر، بل يتخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده. فأم للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي؛ أي (¬1): ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأنّ الله واحد. فإذا سئلوا من خلقكم، وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وهم غير موقنون بما قالوا، وإلا لما أعرضوا عن عبادته؛ أي: لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر، وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم، فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: إنهم كما طعنوا فيك يا محمد طعنوا في خالقهم، فلا تحزن لعدم إيمنهم ولا تبخع نفسك عليهم. 37 - {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ} رحمة {رَبِّكَ} ورزقه. فهو على حذف مضاف؛ أي: هل عندهم خزائن النبوّة، ومفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا، ويمسكونها عمن شاؤوا؛ أي: أعندهم خزائن علمه وحكمته، حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره. وقيل: هل عندهم خزائن أرزاق العباد فيعطونها من شاؤوا، ويحرمونها من شاؤوا. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}؛ أي: بل أهم المسلطون الجبارون الغالبون على الأمور، يدبرونها كيفما شاؤوا، حتى يدبر أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وفي "عين المعاني": بل أهم الأرباب المسلطون على الناس فيجبرونهم على ما شاؤوا. جمع مسيطر، من السطر كأنه يخط للمسلط عليه خطًّا لا يجاوزه. وفي "كشف الأسرار": المسيطر: المسلط القاهر الذي لا يكون تحت أمر أحد ونهيه، ويفعل ما يشاء. وفي "القاموس": السطر: الصف من الشيء كالكتاب، والشجر وغيره، والخط والكتابة. ويحرك في الكل كما سيأتي. وقرأ الجمهور (¬2): {المصيطرون} بالصاد الخالصة. وهشام، وقنبل، وابن ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[38]

محيصن وحميد، ومجاهد، وحفص بخلاف عنه بالسين الخالصة. وهو الأصل. ومن أبدلها صادًا فلأجل حرف الاستعلاء. وهو الطاء. وقرأ خلف عن حمزة، وخلاد عنه بخلاف عنه بصار مشمة زايًا. والمراد: أنه ليس الأمر كذلك بل الله هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. 38 - {أَمْ لَهُمْ}؛ آي: بل ألهم {سُلَّمٌ}؛ أي: مصعد ومرقى منصوب ممدود إلى السماء {يَسْتَمِعُونَ} خبر السماء، وكلام الملائكة، وما يوحى إلهم من علم الغيب حال كونهم صاعدين {فِيهِ}؛ أي (¬1): في ذلك السلم حتى يعلموا ما هو كائن من الأمور التي يتقولون فيها رجمًا بالغيب، ويعلقون بها أطماعهم الفارغة. وفي "كشف الأسرار": فيه، أي: عليه، كقوله: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}؛ أي: عليها. فإن كانوا يدعون ذلك {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: فليأتوا بحجة تبين أنهم على الحق ما أتى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالبرهان الدال على صدق قوله فيما جاءهم به من عند ربه. 39 - وبعد أن رد على الذين أنكروا الألوهية بتاتًا .. ردَّ على من قالوا: الملائكة بنات الله. وسفه أحلامهم إذ اختاروا له البنات ولأنفسهم البنين، فقال: {أَمْ لَهُ} سبحانه وتعالى {الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}؛ أي: بل ألربكم البنات ولكم البنون {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}. وهذا (¬2) إنكار عليهم، حيث جعلوا لله ما يكرهون، أو تسفيه لهم، وتركيك لعقولهم، وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء، فضلًا عن الترقي بروحه إلى عالم الملكوت، والتطلع على الأسرار الغيبية. وذلك أن من جعل خالقه أدنى حالًا منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه، كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}. فإنه لم يستبعد منه أمثال تلك المقالات الحمقاء. والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما في {أَمْ} المنقطعة من الإنكار والتوبيخ. والمعنى؛ أي (¬3): بل أيضيفون إلى الله سبحانه البنات، وهي أضعف الصنفين، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[40]

ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما. ومن كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد. 40 - ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله، وأعرض عنهم، فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} أي: بل أتسأل يا محمد هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم على ما تدعوهم إليه من توحيد الله وطاعته {أَجْرًا} وجعلا تأخذه من أموالهم {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ}؛ أي: من غرامة ما حملتهم من الأجرة؛ أي: من التزام غرامة تطلبها منهم {مُثْقَلُونَ}؛ أي: متعبون، مجهودون، مثقلون بحملهم ذلك المغرم الثقيل. فلا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه. فالمغرم مصدر ميمي بمعنى الغرم. ولا بد من تقدير مضاف. يعني: لا عذر لهم أصلًا، والدين لايباع بالدنيا. فالأجر على الله تعالى، كما قال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}. وقد سبق تحقيقه في مواضع متعددة. 41 - {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ}؛ أي: بل أعندهم علم ما غاب عن الخلق. أو المعنى: هل عندهم (¬1) اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه للناس فينبئونهم بما شاؤوا، ويخبرونهم بما أرادوا. ليس الأمر كذلك. إذ لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله. قال قتادة: وهذا جواب (¬2) لقولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}. يقول الله تعالى: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدًا يموت قبلهم، فهم يكتبون؛ أي: يحكمون بما يقولون. 42 - {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا}؛ أي: ألا يكتفون بهذه المقالات الفاسدة، ويريدون مع ذلك أن يكيدوا بك كيدًا وإساءة. وهو كيدهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة، ومكرهم بالقتل، أو الحبس، أو الإخراج. فإن الكيد هو الأمر الذي يسوء من نزل به سواء كان في نفسه حسنًا أو قبيحًا. فالاستفهام في المعطوف للتقرير، وفي المعطوف عليه للإنكار. وقال سعدي المفتي: الظاهر: أنه من الإخبار بالغيب. فإن السورة مكية وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة. فإن قيل: فليكن نزول الطور في تلك الليلة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[43]

قلنا: قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل بعدها بمكة {تَبَارَكَ} الملك وغيرها من السور، انتهى. وقال في "فتح الرحمن": والظاهر أنه من الإخبار بالغيب. فإنّ السورة مكية، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة. ثم أهلكهم الله تعالى ببدر عند إنتهاء سنين. عدتها عدة ما هنا من كلمة {أَمْ}. وهي خمس عشرة. فإن بدرًا كانت في الثانية من الهجرة. وهي الخامسة عشرة من النبوة. وأذلهم في غير موطن. ومكر سبحانه بهم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} القصر فيه إضافي؛ أي: هم الذين يحيق بهم كيدهم، أو يعود عليهم وباله، لا من أرادوا أن يكيدوه. فإنه المظفر الغالب عليهم قولًا وفعلًا حجةً وسيفًا، أو هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته. فالمراد: ما أصابهم يوم بدر من القتل، كما مرّ آنفًا. 43 - {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يعينهم، ويحرسهم من عذابه تعالى؛ أي: بل أيدعون أن لهم إلهًا غير الله تعالى يحفظهم، ويرزقهم، وينصرهم. ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنيعة، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ}؛ أي: تنزه الله تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي (¬1) عن إشراكهم به. فما مصدرية، أو عن شركة ما يشركونه به، فما موصولة. والمضاف مقدر، وكذا العائد. 44 - ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: {وَإِنْ يَرَوْا}؛ أي: وإن يرى هؤلاء المشركون {كِسْفًا} أي: قطعة {مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} عليهم لتعذيبهم. وفي "عين المعاني": قطعة من العذاب، أو من السماء، أو جانبًا منها. من الكسف وهو التغطية، كالكسوف. والكسف والكسفة بمعنى واحد. وهو القطعة من الشيء. {يَقُولُوا} من فرط طغيانهم، وشدة عنادهم: هو {سَحَابٌ مَرْكُومٌ}؛ أي: متراكم غليظ يمطرنا؛ أي: هم في طغيان بحيت لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} لقالوا: هذا السحاب سحاب تراكم؛ أي: ألقي بعضه على بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[45]

وفي "التأويلات النجمية": يعني: أنهم وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، كما قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} حتى شاهدوه بالعين .. لقالوا إنما سكرت أبصارنا. وليس هذا عيانًا عن مشاهدة. وقد تقدم (¬1) اختلاف القراء في {كِسَفًا}. قال الأخفش: يعني: بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعًا. والمعنى (¬2): أي إنَّ هؤلاء قوم ديدنهم العناد، والمكابرة. فلو رأوا بعض ما سألوا من الآيات، فعاينوا كسفًا من السماء ساقطًا لكذَّبوا، وقالوا: هذا سحاب بعضه فوق بعض؛ لأنّ الله قد ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارهم. فأصبحوا ينكرون ما تبصره الأعين، وتسمعه الآذان. 45 - ثم أمر الله سبحانه رسوله لله أن يتركهم، فقال: {فَذَرْهُمْ}، أي: فاتركهم يا محمد، وخلهم {حَتَّى يُلَاقُوا} ويشاهدوا {يَوْمَهُمُ} مفعول به، لا ظرف {الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}؛ أي: يموتون، ويهلكون. وهو على البناء للمفعول. من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته أماتته، وأهلكته. قال ابن الشيخ: المقصود (¬3) من الجواب عن الاقتراح المذكور: بيان أنهم مغلوبون بالحجة، مبهوتون، وأن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة، حتى لو أجبناهم في جميع مقترحاتهم لم يظهر منهم إلا ما يبنى على العناد والمكابرة. فلذلك رتب عليه قوله: {فَذَرْهُمْ} بالفاء. وهو أمر موادعة، منسوخ بآية السيف. والمعنى: أي فدعهم وشأنهم، ولا تكترث بهم، حتى يأتي اليوم الذي يجاوزن فيه بسيئات أعمالهم. وهو يوم بدر، قاله البقاعيّ. وهو الظاهر في الآية، لا النفخة الأولى كما قيل. إذ لا يصعق بها إلا من كان حيًّا حينئذٍ. وقرأ الجمهور: (¬4) {حَتَّى يُلَاقُوا}. وقرأ أبو حيوة {يلقوا}. وقرأ الجمهور {يُصْعَقُون} بفتح الياء بالبناء للفاعل. وقرأ ابن عامر، وعاصم على البناء للمفعول. وقرأ السلمي بضم الياء، وكسر العين من أصعق الرباعيّ. 46 - وقوله: {يَوْمَ لَا يُغْنِي} ولا يدفع {عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} من الإغناء في رد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[47]

العذاب، أو شيئًا من عذاب الله سبحانه، بدل من {يَوْمَهُمُ}؛ أي: لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} من جهة الغير في رفع العذاب عنهم؛ أي: ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة. 47 - {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: (¬1) وإنّ لهؤلاء الظلمة: أبي جهل وأصحابه. {عَذَابًا} آخر {دُونَ ذَلِكَ}؛ أي: غير ما لاقوه من القتل؛ أي: قبله. وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين، كما مر في سورة الدخان. أو وراءه. وهو عذاب القبر، وما بعده من فنون عذاب الآخرة؛ أي: وإن لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابًا في الدنيا دون عذاب الآخرة؛ أي: قبله. وهو قتلهم يوم بدر. والظاهر: أن المراد بالعذاب: القحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر؛ لأنّه كان في السنة الثانية للهجرة. والقحط وقع لهم قبلها. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما سيصيرون إليه من عذاب الله، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة لفرط جهلهم، وسوء غفلتهم، أو لا يعلمون شيئًا أصلًا. وفيه إشارة (¬2) إلى أن منهم من يعلم ذلك، وإنما يصر على الكفر عنادًا. فالعالم الغير العامل والجاهل سواء. فعلى العاقل أن يحصل علوم الآخرة، ويعمل بها. 48 - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم إلى يومهم الموعود الذي وعدناهم فيه العذاب، وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان والشدائد، ولا تكن في ضيق مما يمكرون. يقول الفقير: أمر الله تعالى نبيه علبه السلام بالصبر لحكمه، لا لأذى الكفار وجفائهم تسهيلًا للأمر عليه؛ لأنّ في الصبر لحكمه حلاوةً، ليست في الصبر للأذى والجفاء. وإن كان الصبر له صبرًا للحكم، فاعرف. {فَإِنَّكَ} يا محمد {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا، وفي حمايتنا. فلا تبال بهم. قال الزجاج: إنّك بحيث نراك، ونحفظك، ونرعاك فلا يصلون إليك. وجمع العين لجمع الضمير، والإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[49]

وبكثرة أسبابه إظهارًا للتفاوت بين الحبيب والكليم، حيث أفرد فيه العين والضمير، حيث قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. وقيل: جمع العين هنا لأنّه أضيف إلى ضمير الجماعة، وأفرد هناك لكون الضمير مفردًا. وقرأ أبو السمال {بأعينّا} بنون واحدة مشددة. والمعنى (¬1): واصبر على أذاهم، ولا تبال بهم، وامض لأمر الله ونهيه، وبلغ ما أرسلت به فإنك بمرأى منا، نراك ونرى أعمالك، ونحوطك، ونحفظك فلا يصل إليك منهم أذى. {وَسَبِّحْ}؛ أي: نزهه تعالى عما لا يليق به، حال كونك متلبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ} وشكره على نعمائه عليك {حِينَ تَقُومُ} من أي مقام قمت. قال سعيد بن جبير، وعطاء؛ أي: قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي: سبح الله متلبسًا بحمده. فإن كان ذلك المجلس خيرًا ازددت إحسانًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جلس مجلسًا فكثر فيه لغطه - الكلام الرديء القبيح - فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .. كان كفارةً لما بينهما". وفي "فتح القريب": "فقد غفر له". يعني: من الصغائر ما لم تتعلق بحق آدمي كالغيبة. وقال الضحاك، والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة، وهي صلاة الفجر. والأول أولى. 49 - {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: وفي بعض ساعات الليل {فَسَبِّحْهُ} سبحانه وتعالى. وأفرد بعض الليل بالتسبيح والصلاة؛ لأنّ العبادة فيه أشق على النفس، وأبعد عن الرياء. كما يلوح إليه تقديمه على الفعل. يقول الفقير؛ ولأن الليل زمان المعراج، والصلاة هو المعراج المعنوي. فمن أراد أن يلتحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معراجه فليصل بالليل والناس نيام؛ أي: في جوفه حين غفلة الناس. ولشرف ذلك الوقت كان معراجه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

في ذلك الوقت، لا قرب الصباح. لأن في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات. وإن كان السحر الأعلى مما له خواص كثيرة. وقال مقاتل؛ أي: صل صلاة المغرب والعشاء. وقيل: ركعتي الفجر. {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} بكسر الهمزة مصدر أدبر الرباعي. والنجوم: جمع نجم. وهو الكوكب الطالع. يقال: نجم نجومًا ونجمًا؛ أي: طلع. والمعنى: وسبح وقت إدبارها من آخر الليل؛ أي: وقت غيبتها بضوء الصباح. وقيل: صلاة الفجر. واختاره ابن جرير. وقيل: هو التسبيح في أدبار الصلوات. وقرأ الجمهور {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} بكسر الهمزة على أنه مصدر. وقرأ سالم بن أبي الجعد، ومحمد بن السميقع، ويعقوب، والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع؛ أي: أعقاب النجوم، وأدبارها إذا غربت. ودبر الأمر آخره. وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق. وفي ختم هذه السورة بالنجوم، وافتتاح السورة الآتية بالنجم من حسن الانتهاء والابتداء، ما لا يخفى. الإعراب {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام، {خُلِقُوا} فعل ماض، مغير الصيغة، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة أو معطوفة. {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} متعلق بـ {خَلَقُوا}، {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} مبتدأ وخبر، {أَمْ} حرف إضراب وعطف، {عِنْدَهُمْ} خبر مقدم، {خَزَائِنُ رَبِّكَ} مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة أو معطوفة. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله، {أَمْ} حرف إضراب بمعنى بل وهمزة الاستفهام، {لَهُمْ} خبر مقدم، {سُلَّمٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. وجملة {يَسْتَمِعُونَ} صفة لـ {سُلَّمٌ}، {فِيهِ} متعلق بـ {يَسْتَمِعُونَ}. {فَلْيَأْتِ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن ادّعوا ذلك، وأردت إلزامهم الحجة ... فأقول لك قل لهم ليأت مستمعكم بسلطان مبين على ذلك. واللام حرف

جزم وطلب، {يأت} فعل مضارع مجزوم بلام الطلب، {مُسْتَمِعُهُمْ} فاعل، {بِسُلْطَانٍ} متعلق بـ {يأت}، {مُبِينٍ} صفة لـ {سلطان}. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}. {أَمْ} حرف إضراب واستفهام، {لَهُ} خبر مقدم، {الْبَنَاتُ} مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} معطوف على {لَهُ الْبَنَاتُ}. {أَمْ} حرف إضراب، {تَسْأَلُهُمْ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول، {أَجْرًا} مفعول ثان. والجملة مستأنفة. {فَهُمْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {هم} مبتدأ، {مِنْ مَغْرَمٍ} متعلق بـ {مُثْقَلُونَ}، و {مُثْقَلُونَ} خبر. والجملة معطوفة مفرعة على الجملة الفعلية. {أَمْ} حرف إضراب {عِنْدَهُمُ} خبر مقدم، {الْغَيْبُ} مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. {فَهُمْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {هم} مبتدأ، وجملة {يَكْتُبُونَ} خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {أَمْ} حرف إضراب، {يُرِيدُونَ كَيْدًا} فعل، وفاعل، ومفعول. والجملة إضرابيّة، لا محل لها من الإعراب. {فَالَّذِينَ} الفاء: عاطفة، {الذين} مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {هُمُ} ضمير فصل، لا محل له من الإعراب، {الْمَكِيدُونَ} خبر. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. {أَمْ} حرف إضراب {لَهُمْ} خبر مقدم، {إِلَهٌ} مبتدأ مؤخر، {غَيْرُ اللَّهِ} صفة لـ {إِلَهٌ}. والجملة مستأنفة. {سُبْحَانَ اللَّهِ} منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا. والجملة مستأنفة. {عَمَّا} متعلق بـ {سُبْحَانَ}، وجملة {يُشْرِكُونَ} صلة لما الموصولة، أو لما المصدرية. {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}. {وَإِنْ} {الواو} عاطفة، {إن} حرف شرط، {يَرَوْا} فعل، وفاعل، مجزوم

بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها. {كِسْفًا} مفعول به، {مِنَ السَّمَاءِ} صفة لـ {كِسْفًا}، {سَاقِطًا} صفة لـ {كِسْفًا}. {يَقُولُوا} فعل، وفاعل، مجزوم على كونه جواب الشرط. والجملة مستأنفة، أو معطوفة. {سَحَابٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو سحاب. {مَرْكُومٌ} صفة {سَحَابٌ}. والجملة في محل النصب، مقول لـ {يَقُولُوا}. {فَذَرْهُمْ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بلغوا في الكفر والعناد إلى هذا الحدّ، وتبيّن أنّهم لا يرجعون عن الكفر، وأردت بيان ما هو الأسهل عليك فأقول لك ذرهم. {ذرهم} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {حَتَّى} حرف جر وغاية، {يُلَاقُوا} فعل، وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى. {يَوْمَهُمُ} مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى، تقديره: إلى ملاقاتهم يومهم، الجار والمجرور متعلق بـ {ذرهم}. {الَّذِي} صفة لـ {يَوْمَهُمُ}، {فِيهِ} متعلق بـ {يُصْعَقُونَ}، و {يُصْعَقُونَ} فعل مغير، ونائب فاعل، صلة الموصول، والعائد ضمير "فيه"، {يَوْمَ} بدل من {يَوْمَهُمُ}، {لَا} نافية، {يُغْنِي} فعل مضارع، {عَنْهُمْ} متعلق به، {كَيْدُهُمْ} فاعل {يُغْنِي}، {شَيْئًا} مفعول به أو مفعول مطلق. وجملة {لَا يُغْنِي} في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {وَلَا} {الواو} عاطفة، {لا} نافية، {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُنْصَرُونَ} من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {لَا يُغْنِي}. {وإن} {الواو} استئنافية، {إِنَّ} حرف نصب، {لِلَّذِينَ}: خبر {إن} مقدم وجعلة {ظَلَمُوا} صلة الموصول. {عَذَابًا}: اسم {إن} مؤخر، {دُونَ ذَلِكَ} ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {عَذَابًا}. وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَكِنَّ} الواو: عاطفة، {لكن} حرف نصب، {أَكْثَرَهُمْ} اسمها، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبرها. وجملة لكن معطوفة على جملة {إِنَّ}. {وَاصْبِرْ} الواو: استئنافية، {اصبر} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. {لِحُكْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ {اصبر}، {فَإِنَّكَ} الفاء: تعليلية، {إنك} ناصب واسمه، {بِأَعْيُنِنَا} خبره؛ أي: بمرأى منّا. وجملة {إِنَّ} تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَسَبِّحْ} فعل، وفاعل مستتر، معطوف على {اصبر}، {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حال من فاعل {سبّح}، {حِينَ} ظرف متعلق بـ {سبح}، وجملة

{تَقُومُ} في محل الجر مضاف إليه لـ {حِينَ}، {وَمِنَ اللَّيْلِ} متعلق بـ {فَسَبِّحْهُ}، و {فَسَبِّحْهُ} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {اصبر}، {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} مصدر ناب مناب الظرف، منصوب على الظرفية، معطوف على محل {من الليل} على كونه متعلقًا بسبّحه. التصريف ومفردات اللغة {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}؛ أي: من غير خالق. {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} جمع خزانة بالكسر. وهو مكان الخزن، يقال: خزن المال أحرزه، وجعله في الخزانة. وهو على حذف مضاف؟ أي: خزائن رزقه ورحمته. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} جمع مسيطر. والمسيطر: المسلط القاهر، حتى لا يكون تحت أمر أحد من سيطر عليه إذا راقبه وحفظه أو قهره. ولم يأت على مفيعل إلا خمسة ألفاظ. أربعة صفة اسم فاعل. مهيمن: من هيمن، إذا اطلع وراقب. ومبيقر: من بيقر، إذا أفسد وأهلك، ومشى مشية المتكبر، كما في "القاموس". ومسيطر: من سيطر، إذا تسلط. ومبيطر: من بيطر الدواب إذا عالج. وواحد اسم جبل. وهو المحيصر. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} قال الراغب: السلم: ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة. ثم جعل اسمًا لما يتوصل به إلى كل شيء رفيع. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}؛ أي: بحجة واضحة تصدق استماعه. {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ}؛ أي: التزام غرامة تطلبها منهم. فالمغرم: مصدر ميمي بمعنى الغرم. وفي "الكشاف": المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه. وفي "فتح الرحمن": المغرم: ما يلزم أداؤه. وفي "المفردات": الغرم: ما ينوب الإنسان من ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذا المغرم والغريم يقال لمن له الدين، ولمن عليه الدين، انتهى. {مُثْقَلُونَ}؛ أي: محملون ثقلًا وحملًا. {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا}؛ أي: مكرًا وتحيلًا في هلاكك. وفي "المصباح": كاد كيدًا من باب باع، إذا خدعه ومكر به. والاسم المكيدة. وكان هذا المكر في دار الندوة، وهي دار من دور أهل مكة للمشاورة فيها إذا أشكل عليهم الأمر. وفي "التعريفات": الكيد: إرادة مضرة الغير خفية. وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق.

{فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} جمع مكيد، اسم مفعول من كاد يكيد، فهو مكيد بوزن مبيع. وأصله: مكيودون، جمع مكيود، نقلت حركة الياء إلى الكاف فسكنت، فالتقى ساكنان: الياء، وواو مفعول، فحذفت واو مفعول لأنَّها زائدة، هذا على رأي سيبويه، ثم كسرت الكاف لمناسبة الياء. وأما على رأي الأخفش فإنه يرى أن المحذوف منه الياء، وأنها لما حذفت كسر فاء الكلمة، ثم قلبت {الواو} ياء لسكونها إثر كسرة. {كِسْفًا}؛ أي: قطعة. وفي "القاموس": الكسفة بالكسر: القطعة من الشيء، والجمع كسف كسدرة وسدر، وكسف كقربة وقرب. وفي "المختار": وقيل: الكسف والكسفة واحد. {مَرْكُومٌ}؛ أي: متراكم ملقى بعضه على بعض. {حَتَّى يُلَاقُوا} أصله: يلاقيون بوزن يفاعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت القاف لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع لدخول أداة النصب. {الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}؛ أي: يهلكون من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته أماتته وأهلكته. قال في "المختار": صعق الرجل بالكسر صعقة غشي عليه، ومنه: قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: مات، {بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: في حفظنا وحراستنا. {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}؛ أي: وقت إدبار النجوم، وغيبتها، وغروبها. والمراد بغروبها: ذهاب ضوئها بغلبة ضوء الصبح عليه، وإن كانت باقية في السماء، وذلك بطلوع الفجر، اهـ خطيب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المغاير بين {الْخَالِقُونَ} و {خَلَقُوا} في قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)}. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ}؛ أي: خزائن رحمة ربك.

ومنها: ضرب المثل بالخزائن؛ لأنّ الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر. ومقدرات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس، فلا نهاية لها، اهـ قرطبي. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم في قوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} تسجيلًا عليهم بصفة الكفر القبيحة. والأصل: أم يريدون كيدًا فهم المكيدون. وفيه أيضًا القصر الإضافي؛ أي: هم الذين يحيق بهم كيدهم، أو يعود عليهم وباله، لا من أرادوا أن يكيدوه. ومنها: أسلوب الفرض والتقدير في قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا}؛ أي: لو رأوا ذلك ... لقالوا ما قالوا. ومن المعلوم أنّ قريشًا لم ينزل عليهم قطع من السماء تعذيبًا لهم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية. فالكلام على سبيل الفرض والتقدير. كأنه يقول: لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء عليهم لم ينتهبوا ولم يرجعوا، ويقولون في هذا النازل عنادًا واستهزاءً، وإغاظة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: إنه سحاب مركوم، اهـ شيخنا. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة تضمنت هذه السورة ما يلي: 1 - القسم بالعالم العلوي والسفلي على أن العذاب آت لا محالة. 2 - وصف عذاب النار، وما يلاقيه المكذبون حينئذٍ من الذلة والمهانة. 3 - وصف نعيم أهل الجنة، وما يتمتعون به من اللذات في مساكنهم، ومطاعمهم، ومشاربهم، وأزواجهم، وخدمهم، وحشمهم. 4 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على تبليغ الرسالة، والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو مفتر. 5 - إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلًا. 6 - النعي على المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله. 7 - بيان أنهم بلغوا في عنادهم حدًّا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها. 8 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي كانوا يوعدون. 9 - الإخبار بأن الظالمين في كل أمة، وكل جيل يعذبون في الدنيا قبل عذابهم في الآخرة. 10 - الإخبار بأن الله حارس نبيه وكالئه فلا يصل إليه أذى من خلفه كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. 11 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بالذكر والتسبيح آناء الليل، وأطراف النهار، وفي كل موطنٍ ومجلس يقوم فيه (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) فرغنا من هذه السورة في تاريخ 17/ 5/ 1415 هـ.

سورة النجم

سورة النجم سورة النجم مكيّة جميعًا في قول الجمهور، وروي عن ابن عباس، وعكرمة: أنّها مكية، إلا آية منها وهي مدنية، وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} الآية، نزلت بعد سورة الإخلاص. وهي (¬1) اثنتان وستون آيةً، وثلاثمائة وستون كلمةً، وألف وأربع مئة وخمسة أحرف. مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - إنّ السورة قبلها ختمت بقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}، وبدئت هذه بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}. 2 - إنّ السورة قبلها ذكر فيها تقوُّل القرآن، وافتراؤه وذكر هذا في مفتتح هذه السورة. 3 - إنه ذكر في التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم، وفي هذه ذكر ذرية اليهود في قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}. 4 - إنه قال هناك في المؤمنين: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وقال هنا في الكفار: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. وقال أبو حيان: مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة؛ لأنه قال: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ}؛ أي: اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشعر، وقالوا: هو كاهن ومجنون. فأقسم تعالى إنه ما ضل، وإن ما يأتي به هو وحي من الله، انتهى. تسميتها: سميت سورة النجم لقوله في أوّلها: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

فضائلها: ومن فظائلها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود أنها أول سورة أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون. ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي: إنَّ أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ}، فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجد الناس كلهم إلا رجلًا رأيته أخذ كفًّا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا. وهو أمية بن خلف. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم (¬1): سورة النجم كلها محكم إلا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} (29) الآية، نسخت بآية السيف. والثانية: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (39) نسخت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية. فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفِّع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء. ويدل على ذلك قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (11) سورة النساء، انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}. المناسبة قد تقدم آنفًا بيان المناسبة بين أوّل هذه السورة، وآخر التي سبقت. وقد أقسم (¬1) ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو، وهي نجوم السماء التي تهدي الساري في الفلوات، وترشده إلى البعيد من المسافات، على أن محمدًا صاحبكم نبي حقًّا، وما ضل عن طريق الرشاد، ولا اتبع الباطل، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه الله إليه، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى. ¬

_ (¬1) المراغي.

ولقد رأه مرتين على صورته التي خلقه الله عليها بأجنحته وأوصافه الملكية. مرة بغار حراء في بدء النبوة، وأخرى ليلة المعراج، حين عرج به إلى السماء، ورأى من عجائب صنع الله ما رأى مما استطاع أن يخبركم به، ومما لم يستطع ذلك. فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به؟ وتقولون طورًا: إنه مجنون، وطورًا آخر: إنه كاهن، وطورًا ثالثًا: إنه شاعر، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه. وهو صاحبكم، وأنتم أعلم بحاله، فحق عليكم أن تسمعوا قوله، وأن تطيعوا أمره. فتفوزوا برضوان من ربه. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (¬1) لما بين أن ما رآه محمد - صلى الله عليه وسلم - من العجائب ليلة المعراج قال للمشركين: ماذا رأيتم في هذه الأصنام، وكيف تحصرون أنفسكم في العالم المادّيّ وأصنامه، وتقطعون على أنفسكم طريق التقدم والارتقاء، وإن النفس لا ترقى إلا بما استعدت له. فإذا وقفت النفوس عند هذه المادة، وتلك الأصنام لم يكن لها عروج إلى السماء. ولاسيما أن هذه الأصنام لا تشفع لهم عند ربهم، ولا تجديهم نفعًا. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن لله سبحانه لما أمر رسوله بالإعراض عن المشركين مع شدة ميله إلى إيمانهم، وتطلعه إلى هدايتهم، وتعلقه بصلاحهم وإرشادهم، وهم قومه وعشيرته، وأبان له أن هؤلاء قوم انصرفوا عن النظر إلى الحق، ووجهوا همهم إلى زخرف الدنيا، وأن منتهى علمهم التصرف في شؤونها فهي قبلتهم التي إليها يحجون، ومطمع أنظارهم الذي إليه يرنون. وذكر أنه هو العليم باستعدادهم، وأنهم قوم ضالون، لا يصل الحق إلى شغاف قلوبهم، ولا يلتفتون إليه بعيونهم .. ذكر هنا أنه لا يهملهم، بل سيجزيهم بسوء صنيعهم. وهو العليم بما في السموات والأرض، فلا يترك عباده هملًا، بل يجازيهم بعدله. فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء على سوء صنيعه بما هو أهله. ثم أردف ذلك ذكر أوصاف المحسنين، وأنهم هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ولا ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

يقع منهم إلا اللمم من صغائر الذنوب الفينة بعد الفينة، ويتوبون منه، ولا يصرون عليه. ثم حذر عباده بأنه لا تخفي عليه خافية من أمورهم من لحظة أن كانوا أجنة في بطون أمهاتهم إلى أن يموتوا. فيعلم المطيع من العاصي. فلا حاجة للعبد إذًا إلى مدح نفسه بفعل الطاعات، واجتناب السيئات. أسباب النزول قوله تعالى (¬1): {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الواحدي، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيٌّ صغيرٌ: هو صدِّيقٌ. فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله سبحانه في بطن أمه، إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد". فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالنَّجْمِ} أي: أقسم لكم أيها المشركون بالنجم. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} وسقط للغروب. والتعريف فيه (¬2) للجنس. والمراد به: جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين. وقيل: المراد به: الثريا. وهو اسم غلب فيها. تقول العرب: النجم، وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد، وغيره. والثريا (¬3) سبعة كواكب، ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه. وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكبًا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراها كلها بالقوة التي جعلها الله سبحانه في بصره. وقال في "عين المعاني": وهي سبعة أنجم ظاهرة، والسابع تمتحن به الأبصار، وكانت قريش تجلها، وتقول: أحسن النجم في السماء الثريا. والثريا في الأرض زين السماء، وكانت رحلتاها عند طلوعها وسقوطها. فإذا طلعت بالغداة عدُّوها من الصيف، وإذا طلعت بالعشي عدوها من الشتاء، وقال السدي (¬4): النجم هنا: هو الزهرة. لأنَّ قومًا من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[2]

النجم هنا: النبت الذي لا ساق له، كما في قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)}، قاله الأخفش. وقيل: النجم محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: النجم القرآن، وسمي نجمًا لكونه نزل منجمًا مفرقًا، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق المنجم، وبه قال مجاهد، والفرّاء، وغيرهما، والأول أولى، قال الحسن: المراد بالنجم: النجوم، إذا سقطت يوم القيامة. وقيل: المراد بها: النجوم التي ترجم بها الشياطين. ومعنى هويه: سقوطه من علو إلى سفل. يقال: هوى النجم يهوى هويًّا، إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل: غروبه. وقيل: طلوعه. والأوَّل أولى. وبه قال الأصمعيّ، وغيره. ومعنى الهويِّ على قول من فسَّر النجم بالقرآن: أنه نزل من أعلى إلى أسفل. وأما على قول من قال: إنه النبت الذي لا ساق له، أو إنه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يظهر للهوي معنى صحيح. وهذا القسم (¬1) جريًا على عادة العرب فإنها تقسم بكل ما تستعظمه، وتريد إظهار تعظيمه. وقيل: كل موضع أقسم فيه الرب بمخلوق، فالرب فيه مضمر كقوله: {وَالنَّجْمِ}، {وَالذَّارِيَاتِ}؛ أي: ورب النجم، ورب الذاريات، وأشباه ذلك. والعامل في {إِذَا} هو فعل القسم المقدر؛ أي: أقسم. فإنه بمعنى مطلق الوقت، منسلخ عن معنى الاستقبال، كما في قولك: أتيتك إذا احمر البُسْر. فلا يلزم عمل فعل الحال في المستقبل. يعني: إن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال، و {إذا} لما يستقبل من الزمان، فيكون المعنى: أقسم الآن بالنجم وقت هوى بعد هذا الزمان. ثم إن الله سبحانه أقسم بالنجم حين هوى؛ أي: وقت هويه؛ لأن شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا. كأنّه قيل: والنجم الذي يهتدي به السابلة في البر، والجارية في البحر إلى سواء السبيل. 2 - {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} أيها المشركون محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو جواب القسم؛ أي: ما عدل، ولا مال في أقواله وأفعاله عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة. وهذا دليل على أن قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} ليس من ضلال الغي. فإنه - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي، وبعده لم يزل يعبد ربه، ويوحده، ويتوقى مستقبحات الأمور. وفيه (¬2) بيان فضل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إن الله تعالى قال في حق آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، وقال في حقه - صلى الله عليه وسلم -: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}. {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} وأخطأ في اعتقاده؛ لأنَّ الغي اعتقاد شيء فاسد باطل. فعطفه على {مَا ضَلَّ} من عطف الخاصّ على العام، للاهتمام بشأن الخاص. فإنه فرق بين الغي والضلال، بأن الغي هو الخطأ في الاعتقاد خاصة، والضلال أعم منه. لأنه يتناول الخطأ في الأقوال، والأفعال، والأخلاق، والعقائد التي شرعها الله سبحانه، وبينها لعباده. والمعنى: ما عدل صاحبكم عن طريق الحق في الأقوال، والأفعال، والاعتقاد، وغيرها. وما اعتقد باطلًا قط؛ أي: هو في غاية الهدى والرشد، وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية في شيء أصلًا. وكانوا يقولون: ضل محمد عن دين آبائه، وخرج عن الطريق، وتقوَّل شيئًا من تلقاء نفسه. فرد الله عليهم بنفسه بتنزيل هذه السورة تعظيمًا له. والخطاب لقريش (¬1)، وإيراده - صلى الله عليه وسلم - بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، وإحاطتهم خبرًا ببراءته - صلى الله عليه وسلم - مما نفي عنه بالكلية، واتصافه بغاية الهدى والرشاد. فإنَّ طول صحبتهم له، ومثاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتمًا، كما في "الإرشاد". ويؤيد ما في "الإرشاد": قول الراغب في "المفردات": لا يقال: الصاحب في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، وقوله تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}. سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبهم تنبيهًا على أنكم صحبتموه، وجربتموه، وعرفتم ظاهره وباطنه، ولم تجدوا به خبلًا ولا جنة. وتقييد القسم بوقت الهوى؛ لأنَّ النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء، ولا يعلم المشرق من المغرب، ولا الشمال من الجنوب. وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكي من تدلي جبريل من الأفق الأعلى، ودنوه منه عليهما السلام. وقال سعدي المفتي: ثم التقييد بوقت الهوى؛ أي: الغروب لكونه أظهر دلالة على وجود الصانع، وعظيم قدرته، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

كما قال الخليل عليه السلام: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. قال ابن الشيخ في "حواشيه": وفيه لطيفة. وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه، وقد كان فيهم من يعبده، فنبه بهويه على عدم صلاحيته للإلهية بأفوله. وقيل: خص الهوى دون الطلوع؛ لأنَّ لفظة النجم دلت على طلوعه. فإن أصل النجم الكوكب الطالع. ومعنى الآية: أقسم (¬1) بمخلوقاتي العظيمة. وهي النجوم التي تسير في مداراتها، ولا تعدوا أفلاكها، والتي تهتدون بها في الفيافي والقفار في حلكم، وترحالكم، في سفركم وحضركم، وفي البحار، ولها لديكم منزلة عظمى في حياتكم المعيشية أنَّ محمّدًا نبي حقًّا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل. وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم في تعيين المواسم، والفصول ليستعدوا للنجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها، ويتشاءمون ببعض آخر. إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجرامًا علوية، يجب علينا أن نتعرف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها، وبديع صنعه. والخلاصة: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - راشد، مرشد، تابع للحق ليس بضال، ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا بغاو يعدل عن الحق قصدًا إلى غيره. وبهذا نزه الله رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق، ويعملون بخلافه. فهو في غاية الاستقامة، والاعتدال، والسداد. 3 - وضمن كلمة {يَنْطِقُ} في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} معنى الصدور (¬2)، فعداه بكلمة {عَنِ}. فالمعنى: وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلًا. فإن المراد: استمرار نفي النطق عن الهوى، لا نفي استمرار النطق عنه، وقد يقال: {عَنِ} هنا بمعنى الباء؛ أي: وما ينطق بالهوى، كما يقال: رميت السهم عن القوس؛ أي: بالقوس. وفي "التنزيل": {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان ببعض تصرف.

[4]

بقولك. قال ابن الشيخ: قال أوّلًا: {مَا ضَلَّ}، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} بصيغة الماضي، ثم قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} بصيغة المستقبل بيانًا لحاله قبل البعثة وبعدها، أي: ما ضل، وما غوى حين اعتزلكم وما تعبدون قبل أن يبعث رسولًا، وما ينطق عن الهوى الآن، حين يتلو عليكم آيات ربه، انتهى. 4 - {إِنْ هُوَ}؛ أي: ما الذي ينطق به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وغيره {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} من الله سبحانه وتعالى. وقوله: {يُوحَى} إليه بواسطة جبرئيل عليه السلام صفة مؤكدة لوحي، رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار التجددي. يعني: أن فائدة الوصف التنبيه على أنه وحي حقيقة، لا أنه يسمى به مجازًا. والوحي قد يكون اسمًا بمعنى الكتاب الإلهي، وقد يكون مصدرًا. وله معان: الإرسال، والإلهام، والكتابة، والكلام، والإشارة، والإفهام. وفيه (¬1) إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فني عن ذاته، وصفاته، وأفعاله في ذات الله، وصفاته، وأفعاله. بحيث لم يبق منه لا اسم، ولا رسم، ولا أثر، ولا عين. فكان ناطقًا بنطق الحق، لا بنطق البشرية. فلا يتوهم فيه أن يجري عليه الخطرات الشيطانية، والهواجس النفسانية. وقال بعض المفسرين (¬2): إن قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} رد لقولهم: إنه مجنون. وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} رد لقولهم: {هُوَ شَاعِرٌ}؛ أي: ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط. وقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} رد لقولهم: كاهن. وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} تأكيد لما تقدم؛ أي: فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر. والهوى كما سيأتي الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع. 5 - {عَلَّمَهُ} أي: علم صاحبكم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - القرآن ملك شديد القوى؛ أي: نزل به عليه، وقرأه عليه، وبينه له. هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب. وإن كان بمعنى الإلهام، فتعليمه بتبليغه إلى قلبه. فيكون كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[6]

قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}. وقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} من (¬1) إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، مثل؛ حسن الوجه، والموصوف محذوف، كما قدرنا آنفًا؛ أي: علمه ملك شديد قواه؛ أي: شديد قوة الجسم والبدن، وهو جبريل عليه السلام. فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. ويكفيك دليلًا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة، فأصبحوا جاثمين. وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام، وصعوده في أسرع من رجعة الطرف. 6 - {ذُو مِرَّةٍ}؛ أي: صاحب حصافة واستحكام في عقله ورأيه، ومتانة في دينه. وقوله: {فَاسْتَوَى} معطوف على قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}، كما أشار إليه القرطبي ونصه. {فَاسْتَوَى}؛ أي: ارتفع (¬2) جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء بعد أن علَّم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، قاله سعيد بن المسيب، وابن جبير. وقيل: معنى {فَاسْتَوَى}؛ أي: قام، وظهر في صورته التي خلق عليها؛ لأنّه كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء. فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يريه نفسه التي جبله الله عليها، فأراه نفسه مرتين. مرة في الأرض، ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجبل حراء. وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة. فقال: إنّ الأرض لا تسعني، ولكن أنظر إلى السماء، فطلع له جبريل من المشرق، فسد الأرض من المغرب، وملأ الأفق، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما خر موسى في جبل الطور، فنزل جبريل في صورة الآدميين، فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إن معنى {فَاسْتَوَى}؛ أي: استوى القرآن في صدر محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نزل عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) القرطبي.

[7]

7 - وقوله: {وَهُوَ}؛ أي: جبرئيل عليه السلام {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} من الأرض؛ أي: بالمثسرق، حال من فاعل {اسْتَوَى}؛ أي: استوى جبريل، وظهر على صورته الأصلية، والحال أن جبريل بأفق الشمس؛ أي: أقصى الدنيا عد مطلع الشمس (¬1). والأفق: هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك وما لا يرى. والأفق الأعلى مطلع الشمس، كما أن الأفق الأدنى مغربها. 8 - {ثُمَّ دَنَا} جبريل عليه السلام؛ أي: ثم بعدما استوى، وظهر على صورته الأصلية، ومد جناحه، وسد الأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها. وهو صورة دحية بن خليفة الكلبي أمير العرب. {ثُمَّ دَنَا} أي: أراد الدنو والقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كونه في جبل حراء. {فَتَدَلَّى} أي: استرسل، واستنزل جبريل من الأفق الأعلى مع تعلقه به. والدنو: القرب بالذات أو بالحكم. والتدلي: استرسال مع تعلق. وفي العبارة تقديم وتأخير؛ أي: تدلى ونزل جبريل في الأفق الأعلى، ثم دنا، وقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو في غار حراء. 9 - {فَكَانَ} مقدار مسافة ما بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبين جبريل عليه السلام {قَابَ قَوْسَيْنِ}؛ أي: مقدار قوسين عربيين في القرب؛ أي: مقدار قرب إحدى قوسين إلى الأخرى. وذكر القوس؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس. وأصل ذلك أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء، والحلف، والعهد خرجا بقوسيهما، فألصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران، يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وفي "معالم التنزيل": معنى قوله: كان بين جبريل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين، إنه كان بينهما مقدار ما بين الوتر والقوس. كأنه غلب القوس على الوتر. وهذا إشارة إلى تأكيد القرب. وقيل: معنى {قَابَ قَوْسَيْنِ}: قدر ذراعين. ويسمي الذراع قوسًا؛ لأنه يقاس به المذروع؛ أي: يقدر. فلم يكن قريبًا قرب التصاق، ولا بعيدًا، بحيث لا يتأتى معه الإفادة والاستفادة. وهو الحد المعهود في مجالسة الأحباء المتأدبين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

وقيل: في الكلام قلب؛ أي: وكان مسافة ما بينهما قدر مسافة ما بين قابي قوس؛ لأن لكل قوس قابين. وهذا كناية عن شدة الاتصال، لأنه ضمه جبريل إلى نفسه حتى سكن عنه الروع. وفي القرطبي: والقاب: ما بين المقبض والسية مخففة الياء. وهي طرف القوس المنحني. {أَوْ أَدْنَى}؛ أي: بل كان قدر مسافة ما بينهما أقرب من ذلك؛ أي: من قاب قوسين على تقديركم أيها المخاطبون، كما في قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ}، فـ {أو} للشك من جهة العباد، كما أن كلمة {لَعَلَّ} كذلك؛ أي: للترجي من العباد في مواضع من القرآن. فإن التشكيك والترجي لا يصحان على الله تعالى؛ أي: لو رآهما راء منكم لقال: هو قدر قوسين في القرب أو أدنى؛ أي لالتبس عليه مقدار القرب. والمراد؛ أي: من قوله (¬1): {ثُمَّ دَنَا} إلى قوله: {أَوْ أَدْنَى} تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه، لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس وحمله بعضهم على حقيقته، حيث قال: فكلما دنا جبريل من النبي عليهما السلام انتقص، فلما قرب منه مقدار قوسين رآه على صورته التي كان يراه عليها في سائر الأوقات، حتى لا يشك أنه جبرئيل. 10 - {فَأَوْحَى} جبريل، وبلَّغ {إِلَى عَبْدِهِ}؛ أي: إلى عبد الله تعالى. وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره، كما في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}؛ أي: على ظهر الأرض. والمراد بالعبد المشرَّف بالإضافة إلى الله تعالى: هو الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}. {مَا أَوْحَى}؛ أي: من الأمور العجيبة التي لا تقي بها العبارة، أو المعنى: فأوحى الله سبحانه حينئذٍ بواسطة جبريل ما أوحى إلى عبده محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: المعنى: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. وفي الإبهام تفخيم للوحي الذي أوحى إليه على كل من الأقوال، وقد أبهم سبحانه ما أوحى جبريل إلى محمد، أو ما أوحاه إلى جبريل، فليس لنا أن نتعرض لتفسيره. وقال سعيد بن جبير: الذي أوحى إليه هو {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...} إلخ. وقيل: أوحى إليه أن الجنة حرام على ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

الأنبياء، حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك، اهـ من الشوكاني. والوحي: إلقاء الشيء بسرعة. ومنه: الوحا. وهو السرعة. 11 - {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ}؛ أي: فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم -. {مَا} نافية. {مَا رَأَى} ما موصولة، وعائدها محذوف؛ أي: لم يكذب فؤاده وقلبه ما رأه ببصره من صورة جبريل؛ أي: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبًا، لأنّه عرفه بقلبه، كما رآه ببصره. وقال بعضهم: {كَذَبَ} مخفّفًا ومشدّدًا بمعنى واحد. وقال بعضهم: من خفف {كَذَبَ} جعل {مَا} في موضع النصب على نزع الخافض وإسقاطه؛ أي: ما كذب فؤاده فيما رآه ببصره؛ أي؛ لم يقل فيه: كذبًا. وإنما يقول ذلك أن لو قال له: لا أعرفك، ولا أعتقد بك. وقرأ الجمهور (¬1) {مَا كَذَبَ} مخفّفًا. وقرأ هشام، وأبو جعفر بالتشديد. ومعنى قوله: {فَاسْتَوَى ...} إلخ؛ أي (¬2) فاستقام جبريل، وظهر له - صلى الله عليه وسلم - على صورته التي خلقه الله عليها، حين أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراه كذلك. فظهر له في الأفق الأعلى. وهو أفق الشمس الشرقي، فملأه، ثم أخذ يدنو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتدلي؛ أي: يزيد في القرب والنزول، حتى كان منه مقدار قوسين، أو أقرب على تقديركم، وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شؤون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح في صورة مرئية أصبح الآن معروفًا. وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب، وأصبح في طوقهم أن يظهروا الروح في صور بشرية، وصور نورية، وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسي، وإذا صح ذلك للعلة، فليكن ذلك للقديسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم. ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلي والمتجلى عليه. وظهوره في صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته. وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} يرجع إلى قوته العلمية. ولما كان الإنسان كثيرًا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه، ويكذب قلبه ما ظهر له، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[12]

حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم: إنكم كثيرًا ما يظهر لكم عجائب روحية، فتظنونها من الوهم، وتنسبونها إلى خداع الحواس .. أعقب سبحانه هذا بما دل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم بنفسه أن هذا تخيل، ولا أنه وهم، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}؛ أي: ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام؛ أي: إن فؤاده - صلى الله عليه وسلم - ما قال لما رآه ببصره: "لم أعرفك"، ولو قال ذلك لكان كاذبًا. لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره. والخلاصة: أنه لما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} أكد هذا المعنى، وفصله بقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} ليبين أنه ليس من الشعر، ولا من الكهانة في شيء. ولما قال: {فَاسْتَوَى}، وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمي وصفه. إذ قد عرفه بشكله الحقيقيّ من قبل، فلا يشتبه عليه. وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} تتميم لحديت نزوله عليه السلام، وإتيانه بالمنزل. وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك في أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة. 12 - والهمزة في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} للاستفهام التقريري التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. والتقدير: أتكذبون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أيها المشركون، فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل عليه السلام وغيره، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس؛ أي: فأتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه. وقرأ الجمهور: {أَفَتُمَارُونَهُ}؛ أي: أتجادلونه على شيء رآه ببصره، وأبصره. وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة. وجاء {يَرَى} بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي، وعبد الله، وابن عباس، والجحدري، وبعقوب، وابن سعدان، وحمزة، والكسائي: {أفتَمْرُونَه} بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت؛ أي: جحدت، يقال: مريته حقه إذا جحدته. وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة {أَفَتُمْرُونَه} بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت؛ أي: أتريبونه، وتشكون فيه. قال أبو حاتم: وهو غلط.

وقال الحسن البصري رحمه الله، وجماعة (¬1): {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}؛ أي: علمه الله. وهو وصف من الله نفسه بكمال القدرة والقوة. {ذو مرة}؛ أي: ذو إحكام الأمور والقضايا. وبين المكان الذي علمه فيه بلا واسطة، فقال: {فَاسْتَوَى} محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو بالأفق الأعلى؛ أي: فوق السموات. {ثُمَّ دَنَا} محمد إلى ربه فتدلى؛ أي: تزايد في القرب إلى ربه {فَكَانَ} مقدار ما بينه وبين ربه {قَابَ قَوْسَيْنِ}؛ أي: مقدار ما بين قابي قوس. وهو كناية عن شدة القرب. {أَوْ أَدْنَى}؛ أي: بل أدنى، وأقرب من ذلك {فَأَوْحَى} الله سبحانه {إِلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {ما أوحى} من أحكام الدين، ومن خصائص الكرم والجود. ويدل على أن ضمير {دَنَا} يعود ويرجع إليه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في رواية "لما أسري بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى، قيل لي: قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم؛ أي: بوقوفهم على أخبارهم، ولا أفضحهم عند الأمم لتأخرهم عنهم". {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ}؛ أي: فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَا رَأَى}. من ذات ربه، ومن عجائب الأمور الغيبية، ومن الألطاف عليه وعلى أمته. وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية قولا يطول شرحه، وقصاراه: يرجع إلى أنه تعالى ستر بعض ما أوحى إلى نبيّه عن الخلق لما علم أن علمهم بذلك يفترهم عن السير في طريق العبودية اتكالًا على محض الربوبية. ولهذا قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث قال معاذ: أأخبر الناس بذلك يا رسول الله، فقال: "لا تخبرهم بذلك لئلا يتكلوا"، انتهى. لَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِيْ خَطَرٍ ... وَالسِّرُّ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَكْتُوْمُ وَالسِّرُّ عِنْدِيَ فِيْ بَيْتٍ لَهُ غَلَقٌ ... قَدْ ضَاعَ مِفْتَاحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُوْمُ وقد قيل: بَيْنَ الْمُحِبِّيْنَ سِرُّ لَيْسَ يُفْشِيْهِ ... قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لِلْخَلْقِ يَحْكِيْهِ سِرُّ يُمَازِجُهُ أُنْسٌ يُقَابِلُهُ ... نُوْرٌ تَحَيَّرَ فِيْ بَحْرٍ مِنَ التِّيهِ وعبارة "الخازن": قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} قرىء بالتشديد؛ أي: {ما ¬

_ (¬1) روح البيان.

[13]

كذَّب} قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَا رَأَى}؛ أي: بعينه تلك الليلة، بل صدقه، وحققه، وقرىء. بالتخفيف؛ أي: ما كذب فؤاد محمد الذي رآه، بل صدقه. والمعنى: ما كذب الفؤاد فيما رأى. واختلفوا في الذي رآه فقيل: رأى جبريل. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، وعائشة. وقيل: هو الله عز وجل. ثم اختلفوا في معنى رؤية الله، فقيل: جعل بصره في فؤاده، وهو قول ابن عباس. عن ابن عباس {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}. قال: رآه بفؤاده مرتين. وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه حقيقة. وهو قول أنس بن مالك، والحسن، وعكرمة. قالوا: رأى محمد ربه عز وجل. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا بالرؤية. وقال كعب: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. أخرجه الترمذي بأطول من هذا. وكانت عائشة تقول: لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه، وتحمل الآية على رؤية جبريل. وعن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أماه هل رأى محمد ربه، فقالت: لقد قَفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب؟ من حدثك أن محمدًا رأى ربه، فقد كذب ثم قرأت {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، ومن حدثك أن محمدًا كتم أمرًا فقد كذب، ثم قرأت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. ولكنه رأى جبرئيل في صورته مرتين. أخرجاه في "الصحيحين". عن أبي ذر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه". قوله عز وجل: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} يعني: أفتجادلونه على ما يرى. وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، وقالوا: صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق، وغير ذلك مما جادلوه به. والمعنى: أفتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه. 13 - {وَلَقَدْ رَآهُ}؛ أي: وعزتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام في

[14]

صورته التي خلق عليها، حالة كون جبريل نازلا من السماء {نَزْلَةً أُخْرَى} وذلك أنه رآه في صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} قال: رأى جبريل، وعلى قول ابن عباس يعني: نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات، فيكون لكل عرجة نزلة، فرأى ربه عز وجل في بعضها، وروي عن ابن عباس: أنه رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه: أنه رآه بعينه. انتهى من "الخازن". وعبارة "الروح": قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} الضمير البارز في "رآه" جبريل، و {نَزْلَةً} منصوب على الظرفية نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها. والمعنى: وبالله لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته الحقيقية مرة أخرى من النزول. وذلك أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزله، فرأى جبريل في بعض تلك النزلات. 14 - {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} وهو مقام جبريل. وكان قد بقي هنا عند عروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى مستوى العرش، وقال: "لو دنوت أنملة لاحترقت". قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيته عند سدرة المنتهي عليه ست مئة جناح، يتناثر منه الدر والياقوت". وقيل: رأى محمد ربه مرة أخرى بفؤاده عند سدرة المنتهى. و {عِنْدَ} يجوز أن يكون متعلقًا برأى، وأن يكون حالًا من المفعول المراد به: جبريل؛ لأنَّ جبريل لكونه مخلوقا يجوز أن يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان مخصوص. وهو سدرة المنتهى. وهي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة، ينبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله سبحانه في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. و {الْمُنْتَهَى} مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، كما قال الزمخشري، أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة. وقيل: ينتهي إليها الملائكة، ولا يتجاوزونها؛ لأنّ جبريل رئيس الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحري أن لا يتجاوزها غيره. فأعلاها لجبريل كالوسيلة لنبينا - صلى الله عليه وسلم -. فكما أن خواص الأمة

[15]

يشتركون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنة عدن بدون أن يتجاوزوا إلى مقامه المخصوص به، فكذا الملائكة يشتركون مع جبريل في السدرة بدون أن يتعدّوا إلى ما خص به من المكان، وقيل: إليها ينتهي علم الخلائق، وأعمالهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. 15 - {عِنْدَهَا}؛ أي: عند تلك السدرة {جَنَّةُ الْمَأْوَى}؛ أي: جنة تعرف بجنة المأوى. وسميت جنة المأوى؛ لأنه أوى إليها آدم. وقيل: إن أرواح المؤمنين تأوى إليها، وتنزل فيها. وقرأ الجمهور (¬1) {جَنَّةُ} برفع جنه، على أنها مبتدأ وخبرها الظرف المتقدم. والجملة حال من {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}. قيل: الأحسن أن يكون الحال هو الظرف، و {جَنَّةُ الْمَأْوَى} مرتفع به بالفاعلية، وإضافة الجنة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع؛ أي: الجنة التي يأوي إليها المتقون. وقرأ علي، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأنس، وزر بن حبيش، ومحمد بن كعب، وقتادة، ومجاهد، وأبو سبرة الجهني {جَنَّهُ المأوى} بهاء الضمير، وجن فعل ماض من حن يجن، والهاء ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم -، مفعول به، و {الْمَأْوَى} فاعل؛ أي: عندها ستره إيواء الله تعالى، وجميل صنعه. وقيل: المعنى: ضمه المبيت والليل. وقيل: جنه بظلاله، ودخل فيه. وقال الأخفش: أدركه المأوى، كما تقول: جنه الليل؛ أي: ستره، وأدركه. وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة، وقالوا: أَجَنَّ الله من قرأها. ومعنى الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ...} إلخ؛ أي (¬2): ولقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته الأصلية التي خلقه الله عليها عند شجرة النبق التي ينتهي إليها علم كل عالم، وما ورائها لا يعلمه إلا الله، قاله ابن عباس. وقد يكون المراد بالمنتهى: الله عزّ وجلّ؛ أي: سدرة الله الذي إليه المنتهى، كما قال سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}. وعند هذه السدرة التي يأوي المتقون يوم القيامة، قاله الحسن البصري. وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها الله سبحانه، ولا نعين مكانها، ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ما يبين ذلك، ويثبت لدينا بالتواتر؛ لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه. روى أحمد، ومسلم، والترمذي، وغيرهم أنها في السماه السابعة، ثمرها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[16]

كقلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين خريفًا لا يقطعها. والمشاهد في الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء، ولكن لا عجب فالله يخلقه في أي مكان شاء، كما أخبر عن شجرة الزقّوم أنها ببت في أصل الجحيم. وقصارى ما سلف: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل في صورته الحقيقية مرّتين: مرةً، وهو في غار حراء في بدء النبوة، والثانية في ليلة المعراج، ولم يكن ذلك في الأرض، بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش. وهي منتهى الجنّة؛ أي: آخرها، وعلم الملائكة ينتهي إليها. ومن المعلوم (¬1): أنَّ الإسراء كان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر أو بثلاث سنين على الخلاف، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين. قال الماوردي في "معاني القرآن": فإن قيل: لِمَ اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأنَّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعام لذيذ، ورائحة ذكيّة. فشابهت الإيمان الذي يجمع قولًا، وعملًا، ونيّةً. فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. 16 - وقوله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ} ويغطيها {مَا يَغْشَى}؛ أي: ما غطاها زيادة في تعظيم السدرة. و {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق برأى السابق، لا لما بعده من الجملة المنفية. فإن {مَا} النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه: الغواشي وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد. والمعنى: وعزّتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل عند السدرة وقت ما عشَّاها، وغطَّاها، وسترها، وعلاها ما لا يكتنهه الوصف ولا يفي به البيان كيفًا ولا كمًّا. ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[17]

وفي الحديث: "وغثسيها ألوان لا أدري ما هي، فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها". وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكًا قائمًا يسبح الله". وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "يغشاها رفرف"؛ أي: جماعة من طيور خضر. وقيل: يغشاها فراش أو جراد من ذهب. وقيل: يغشاها سبحات أنوار الله حين تجلَّى لها كما تجلَّى للجبل، لكنها كانت أقوى من الجبل، حيث لم يصبها ما أصابه من الدك. وذلك لأن الجبل كان في عالم الملك الضعيف، والسدرة في عالم الملكوت القوي، ولذا لم يخر - صلى الله عليه وسلم - هناك مغشيًا عليه حين رأى جبريل كما غشي عليه حين رآه في الأفق الأعلى لقوة التمكين، وغاية لطافة الجسد الشريف. وقيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقمن على الشجر، يعبدون الله تعالى عندها أو يزورونها متبركين بها، كما يزور الناس الكعبة. وقيل: غير ذلك. 17 - {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}؛ أي: ما مال بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدنى ميل عما رآه في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يمينًا ولا شمالًا {وَمَا طَغَى}؛ أي: وما جاوز ما أمر برؤيته مع ما شاهد هناك من الأمور المذهلة مما لا يحصى، بل أثبته على ما أمر به إثباتًا صحيحًا متيقنًا. والمعنى (¬1): أي ولقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل عند السدرة، حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله، ومن الإشراق، والحسن من الملائكة. وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفي بهذا الإبهام، ولا نزيده إيضاحًا بلا دليل قاطع ولا حجة بينة. ولو علم الله سبحانه الخير لنا في البيان لفعل. {مَا زَاغَ}، {وَمَا طَغَى}؛ أي: ما مال بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته. والخلاصة: أنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى. 18 - وعزتي وجلالي {لَقَدْ رَأَى} محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} أي: الآيات التي هي كبراها وعظماها، فأري من عجائب الملك ¬

_ (¬1) المراغي.

والملكوت ما لا يحيط به نطاق العبارة. فقوله (¬1): {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} حال قدمت على صاحبها. وكلمة {مِنْ} للبيان، لأنّه المناسب لمرام المقام. وهو التعظيم والمبالغة. ولذا لم تحمل على التبعيض على أن يكون هو المفعول. ويجوز أن يكون {الْكُبْرَى} صفة للآيات، والمفعول محذوف؛ أي: شيئًا عظيمًا من آيات ربه. أي: ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه، وعجائبه الملكوتية. روى البخاري، وابن جرير، وابن المنذر في جماعة آخرين عن ابن مسعود: أنه قال في الآية: "رأى رفرفًا أخضر من الجنة سد الأفق"، أي: فجلس عليه، وجاوز سدرة المنتهى. والرفوف: البساط. وهو صورة همته البسيطة العريضة المحيطة بالآفاق مطلقًا؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر العالم البسيط، ولا يصل إليه إلا من له علو الهمة مثله. وقد قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه في نعته - صلى الله عليه وسلم -: لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا ... وَهِمَّتهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال في الآية: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} قال: رأى جبريل في صورته له ست مئة جناح، ورأى في تلك الليلة طوائف الملائكة، وسدرة المنتهى، وجنة المأوى، وما في الجنان لأهل الإيمان، وما في النيران لأهل الطغيان والظلم والأنوار، وما يعجز عنه الأفكار، وتحار فيه الأبصار. ومن ذلك ما رآه في السموات من الأنبياء عليهم السلام إشارة بكل بني إلى أمر دقيق جليل، وحالة شريفة، كما ذكره الإمام السهيلي في "الروض الأنف". وعلينا أن لا نحضر ما رآه في شيء بعينه بعد أن أبهمه القرآن. إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء. فصل نبذة من كلام الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} وهل رأى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل ليلة الإسراء؟. قال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة كما وقع في "صحيح مسلم"، وجاء مثله عن أبي هريرة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين. وروي عن ابن عباس: أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذر، وكعب، والحسن، وكان يحلف على ذلك. وحكي مثله عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأحمد بن حنبل. وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري، وجماعة من أصحابه: أنه رآه. ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز. ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة. وسؤال موسى إياها دليل على جوازها. إذ لا يجهل نبي ما يجوز أو يمتنع على ربه. واختلفوا في أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟. فحكي عن الأشعري، وقوم من المتكلمين أنه كلمه. وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد، وابن مسعود، وابن عباس. وكذا اختلفوا في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)}. فالأكثر على أن معنى هذا الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من سدرة المنتهى. وذكر ابن عباس، والحسن، ومحمد بن كعب، وجعفر بن محمد، وغيرهم أنه دنو من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، أو من الله. فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولًا ليس على وجهه، بل كما قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود. فيكون معنى دنو النبي - صلى الله عليه وسلم - وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته عليه، وإطلاعه من غيبه، وأسرار ملكوته على ما لم يطلع عليه سواه. والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك، وعظيم بره وفضله لديه. ويكون قوله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} هنا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن الله تعالى إجابة الرغبة، وإنابة المنزلة. هذا آخر كلام القاضي عياض. قال الشيخ محيي الدين النواوي: وأما صاحب "التحرير"، فإنه اختار إثبات الرؤية قال: والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة، ولكن لا نتمسك إلا بالأقوى منها. وهو حديث ابن عباس: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين". وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس

هل رآى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربّه؟ قال: نعم. وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: رأى محمد ربّه عزّ وجل. وكان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربّه عزّ وجل. والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها، والمرجوع إليه في المعضلات. وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة، وراسله هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل؟ فأخبره أنه رآه. ولا يقدح في هذا حديث عائشة؛ لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}، ولقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. والصحابي إذا قال قولًا، وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجّة. وإذا صحت الروايات عن ابن عباس: أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباها، لأنها لسيت مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسمع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد. وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب "التحرير" في إثبات الرؤية. قال الشيخ محيي الدين: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه عز وجل بعيني رأسه، ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم. وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه. ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات. وسنوضح الجواب، فنقول: أما احتجاج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ} فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة. وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره. وأما احتجاجها بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ...} الآية، فالجواب عنه من أوجه:

[19]

أحدها: أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام. والوجه الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة. والوجه الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي هنا: الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما يسمى وحيًّا. وأما قوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فقال الواحدي وغيره: معناه: غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه سبحانه من حيث لا يرونه. وليس المراد أن هناك حجابًا يفصل موضعًا عن موضع. ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم. وقول عائشة في أوّل الحديث: "لقد قف شعري" فمعناه: قام شعري من الفزع، لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال. تقول العرب عند إنكار الشيء: قف شعري، واقشعر جلدي، واشمأزت نفسي. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذرّ: "نور أنى أراه" فهو بتنوين "نور"، وبفتح الهمزة في "أنَّى"، وشديد النون المفتوحة، ومعناه: حجابه نور فكيف أراه. قال المارودي: الضمير في "أراه" عائد على الله تعالى. والمعنى: أنّ النور يمنعني من الرؤية، كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه. وفي رواية: رأيت نورًا، معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. وفي رواية: "ذاته نور أنى أراه"، ومعناه: هو خالق النور المانع من رؤيته. فيكون من صفات الأفعال. ومن المستحيل أن تكون ذات الله نورًا، إذ النور من جملة الأجسام، والله يتعالى عن ذلك. هذا مذهب جميع أئمة المسلمين، والله أعلم. انتهى من "الخازن". 19 - ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص، قال للمشركين موبخًا لهم ومقرعًا: {أَفَرَأَيْتُمُ} والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري (¬1)، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمته، وإحكام قدرته، ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وما تحت الثرى، وما بينهما أنكرتم وحدانية الله تعالى فرأيتم؛ أي: ظننتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وذلتها شركاء لله ¬

_ (¬1) الفتوحات بتصرف.

سبحانه، وقيل: الهمزة للإستفهام الاستخباري المضمن للإنكار، مقدمة من تأخير. والفاء: للإفصاح، والتقدير: إذا سمعتم ما أخبرته لكم من آثار كمال عظمة الله سبحانه في ملكه، وملكوته، وجلاله، وجبروته، ونفاذ أمره في العالم الأعلى وفيما تحت الثرى، وأردتم بيان ما تستحقون من التوبيخ والتقريع على شرككم، فأقول لكم: أرأيتم. {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)}؛ أي: أخبروني عن حال آلهتكم هذه التي اتخذتموها معبودات، وتمكنتم على عبوديتها هل وجدتم فيها صفة من صفات الإلهية من الإيجاد، والإعدام، والنفع، والضر، وأمثالها؟ لا والله. بل اتخذتموها آلهة لغاية ظلوميتكم على أنفسكم، ونهاية جهوليتكم بالإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وقيل: المعنى: أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى في الدنيا تنفعكم في الآخرة، أي: أخبروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها قدرة توصف بها؟ وهل أوحت إليكم شيئًا كما أوحى الله إلى محمد، أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع. ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب، وعظم اعتقادهم فيها. قال الواحديّ وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى. فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزّى. وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره، وكان اللات بالطائف. وقيل: بنخلة، كانت قريش تعبده. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان اللات رجلًا يلت السويق للحجاج. قيل: فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. وقيل: كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها، ثم يتخذ حيسًا، فيطعم الحجاج. وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقيل: كان رجلًا من ثقيف يقال له: صرمة بن غنم، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتأتيه العرب، فتَلُتُّ به أسوقهم. فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها، فمرت الطائف على موضع اللات. وأما العزى: فهو تأنيث الأعز، كانت لغطفان. وهي سمرة، كانوا يعبدونها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، فقطعها، فجعل يضربها بالفأس، وهو يقول:

[20]

يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّيْ رَأيْتُ الله قَدْ أَهَانَكِ فخرجت من أصلها شيطانة ناشرة شعرها، واضعة يدها على رأسها، وهي تولول؛ أي: تقول: يا ويلاه، فجعل خالد يضربها بالسيف، حتى قتلها، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: تلك لن تعبد أبدًا. وفي "القاموس": العزى: صنم أو سمرة، عبدتها غطفان، أول من اتخذها ظالم بن أسعد الغطفاني فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، بني عليها بيتًا، وسماه بسا، وكانوا يسمعون فيها الصوت، فبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، فهدم البيت، وأحرق السمرة، انتهى. وقيل: هي صنم لغطفان، وضعها لهم أسعد بن ظالم الغطفاني. وقيل: إنه قدم مكة، فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فرجع إلى بطن نخلة، فقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم، ولهم إله يعبدونه وليس لكم. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرًا من الصفا، وحجرًا من المروة، ونقلهما إلى نخلة، فوضع الذي أخذ من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، وقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار، وأسندها إلى شجرة، وقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين، ويعبدون الحجارة الثلاث، حتى افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، وأمر برفع الحجارة، وأمر خالد بن الوليد بالعزى، فقطعها. وقيل: هي بيت بالطائف، كان تعبده ثقيف. 20 - وأما مناة فصخرة لهذيل وخزاعة، يعبدها أهل مكة. سمّيت مناة لأنّ دماء المناسك تمنى عندها؛ أي: تراق، ومنه: مني. وقالت عائشة رضي الله عنها: في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت حذ وقديد. وقيل: هي بيت بالمشلل، كانت بنو كعب تعبده. وفي "إنسان العيون": مناة صنم، كان للأوس والخزرج، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في عشرين فارسًا إلى مناة ليهدم محلها، فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد إلى ذلك الصنم، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء. ثائرة الرأس، تدعو بالويل، فضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد، فقتلها، وهدم محلها، انتهى.

[21]

وقوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} وصف لمناة، وصفها بأنها ثالثة تأكيدًا؛ لأنّها لما عطفت عليهما علم أنها ثالثتهما. والأخرى صفة ذمٍّ لها، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار؛ أي: مناة الحقيرة الذليلة، لأنَّ الأخرى تستعمل في الضعفاء كقوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ}؛ أي: ضعفاؤهم لرؤسائهم. وذلك لأن اللات كان وثنًا على صورة آدمي، والعزى صورتها صورة شجرة سمرة. ومناة صورتها صورة صخرة. فالآدمي أشرف من النبات، وهو أشرف من الجماد، وهو متأخر. فالمناة في أخريات المراتب. قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد. وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية. فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله: {مأرب أخرى}. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير. والتقدير: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقرأ الجمهور (¬1): {اللَّاتَ} خفيفة التاء. وابن عباس، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو صالح، وطلحة، وأبو الجوزاء، ويعقوب، وابن كثير في رواية بشدها. وقرأ الجمهور {مناة} مقصورًا، فقيل: وزنها فعلة، واشتقاقها من مني يمني؛ أي: صب. لأن دماء النسائك تصب عندها يتقربون بذلك إليها. وقرأ ابن كثير {ومناءة} بالمد والهمزة، ووزنها مفعلة، والألف منقلبة من واو، والهمزة أصل؛ لأنها مشتقة من النوء. وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها. والقصر أشهر، وهي قراءة الجمهور. والمعنى (¬2): أي فبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال الله عزّ وجلّ، وعظمته في ملكه، وملكوته، وجلاله، وجبروته، وأن الملائكة على رفعة مقامهم، وعلو قدرهم ينتهون إلى السدرة، ويقفون عندها تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء لله مع ما علمتم من عظمته. وفي هذا تقريع شديد، وتوبيخ عظيم، وتأنيب لا إلى غاية. وإن العاقل لا ينبغي أن يخطر بباله مثل هذا، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد. 21 - وبعد أن أنبهم على سخف عقولهم، وسفاهة أحلامهم بعبادتهم الأصنام التي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[22]

كانوا يزعمون أنها هياكل للملائكة، والملائكة بنات الله .. وبخهم على نسبة البنات إليه سبحانه، وهم لا يرضونها لأنفسهم، فقال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} الاستفهام فيه (¬1) للتوبيخ المبني على التوبيخ الأول؛ أي: هل لكم أيها المشركون الذكر الكامل، وله سبحانه الأنثى الناقصة؟ حيث قلتم: الملائكة بنات الله مع كراهتكم البنات لأنفسكم. واختار لفظ الأنثى على البنات لوقوعه رأس فاصلة، ولأنه الذي يذكر في مقابلة الذكر، لا البنات؛ لأن البنات إنما تذكر في مقابلة البنين. 22 - وقوله: {تِلْكَ} إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية. {إِذًا}؛ أي: إذ جعلتم البنات له والبنين لكم {قِسْمَةٌ ضِيزَى}؛ أي: جائرة معوجة، حيث جعلتم له تعالى ما تستنكفون منه، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون. وقرأ الجمهور (¬2): {ضِيزَى} بكسر الضاد من غير همز. والظاهر: أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء، كسرت لتصح الياء. ويجوز أن يكون صدرًا على وزن فعلى كذكرى، ووصف به. وقرأ ابن كثير {ضئزى} بالهمزة، فوجه على أنه مصدر، كذكرى. وقرأ زيد بن عليّ {ضَيْزَى} وبفتح الضاد وسكون الياء، ويوجه على أنه مصدر كدعوى، وصف به، أو وصف كسكرى. ويقال: ضوزى بالواو وبالهمز. والمعنى (¬3): أي أتجعلون له ولدًا وتجعلون هذا الولد أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكران على علم منكم أنَّ البنات ناقصات، والبنين كاملون، والله كامل العظمة. فكيف تنسبون إليه الناقص. وأنتم على نقصكم تنسبون إلى أنفسكم الكامل. تلك القسمة إذا كانت على تلك الحالة قسمة جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة. لأنكم جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضون لها. 23 - ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذب والإفتراء في عبادة الأصنام، وتسميتها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

آلهة، فقال: {إِنْ هِيَ} الضمير للأصنام، أي: ما هذه الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها؛ أي: باعتبار إطلاق اسم الإله {إِلَّا أَسْمَاءٌ}؛ أي: أسماء محضة ليس تحتها مسميات؛ أي: ما تنبىء هي عنه من معنى الألوهية، ليس بشيء ما أصلًا. كما إذا أردت أن تحقر من هو ملقب بما يشعر بالمدح، وفخامة الشأن تقول: ما هو إلا اسم. {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء (¬1)، وضمير "ها" لها، للأصنام. والمعنى: جعلتموها أسماء، لا جعلتم لها أسماء. فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى. فإذا قيست إلى الاسم فمعناها: جعله اسمًا للمسمى، وإذا قيست إلى المسمى فمعناها: جعله مسمى للاسم. وإنما اختير هنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة، ليس لها مسميات قطعًا كما في قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} لا أنَّ هناك مسميات، لكنها لا تستحق التسمية، أي: ما هي إلا أسماء خالية من المسميات وضعتموها. {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} بمقتضى أهوائكم الباطلة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها. لأنها لا تبصر، ولا تسمع، ولا تعقل، ولا تفهم، ولا تضر، ولا تنفع. فليست إلا مجرد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قلد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا} أي: بصحة تسميتها {مِنْ سُلْطَانٍ}؛ أي: برهان تتعلقون به، ولا حجة. في جميع القرآن {أَنْزَلَ} بالألف، إلا في الأعراف، فإنه نزل بالتشديد. والمعنى (¬2): أن هذه الأسماء التي تسمونها آلهة هي أسماء فقط، وليس لها مسميات هي آلهة البتة كما تزعمون، وتعتقدون أنها تستحق أن يعكف على عبادتها، وتقديم القرابين إليها. وليس لكم من حجة ولا برهان تؤيدون به ما تقولون. وإنما قلد فيها الآخر الأول، وتبع في ذلك الابناء الآباء. ولا يخفي ما في ذلك من التحقير، كما تقول: ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملًا على صفة معتبرة لها شأن، وقدر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ثم أكد ما سلف بقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} فيه (¬1) التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم، أي: ما يتبعون فيما ذكر من التسيمة والعلم بموجبها {إِلَّا الظَّنَّ} الذي لا يغني من الحقّ شيئًا، أي: إلا توهم أن ما هم عليه حق توهمًا باطلًا {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}؛ أي: وما تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء، من غير التفاف إلى ما هو الحقّ الذي يجب الأتباع له. فما موصولة، ويجوز كونها مصدرية. والألف واللام بدل من الإضافة، وهو معطوف على الظنّ. وقرأ الجمهور: (¬2) {إِنْ يَتَّبِعُونَ} بياء الغيبة. وقرأ عيسى بن عمر، وأيوب، وابن السميقع بالفوقية على الخطاب. ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وابن وثّاب، والأعمش. وفي "فتح الرحمن": قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ذكره هنا (¬3)، وفيما بعد، وليس بتكرار. لأنَّ الأول متصل بعبادتهم الأصنام اللات، والعزى، ومناة، والثاني بعبادتهم الملائكة، والظن فيها مذموم بقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}؛ أي: لا يقوم مقام العلم. فإن قلت: كيف لا يقوم مقامه مع أنه يقوم مقامه في كثير من المسائل، كالقياس؟. قلت: المراد هنا: الظن الحاصل من اتباع الهوى، دون الظن الحاصل من الاستدلال والنظر بقرينة قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} انتهى. والمعنى (¬4): أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظوظ نفوسهم في رياستهم، وتعظيم آبائهم الأقدمين. والخلاصة: إنكم تعبدون هذه الأصنام توهمًا منكم أنّ ما عليه أباؤكم حق، واتباعًا لشهوات أنفسكم. ثم بين أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، لأنّه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) فتح الرحمن. (¬4) المراغي.

[24]

وعظيم غفلتهم، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} حالٌ (¬1) من فاعل {يَتَّبِعُونَ}؛ أي: يتبعون الظن، وهوى النفس في حال تنافي ذلك. وهي مجيء الهدى من عند ربهم. أو اعتراض، لأن قوله: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} متصل بقوله: {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}. والأول أولى. وأيًّا ما كان ففيه تأكيد لبطلان إتباع الظن. وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم. فإن اتباعهما من أي شخص كان قبيح وممن هداه الله بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب أقبح. فالهدى القرآن والرسول، ولم يهتدوا بهما. والمعنى: كيف يتبعون ذلك، والحال أنه قد جاءهم ما فيه هدى لهم من عند الله تعالى على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم وجعله من أنفسهم؛ أي (¬2): هم يتبعون ما كان عليه أسلافهم، وينقادون إلى آرائهم، وقد أرسل الله إليهم الرسول بالحق المنيهر، والحجة الواضحة، وقد كان ينبغي أن يكون لهم في ذلك مزدجر، لكنهم أعرضوا عنه، وتولوا كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. 24 - وبعد أن بين أن جعلهم الأصنام شركاء لله لا يستند إلى دليل، بل لا يستند إلا إلى التشهي والهوى وإتباع الظن ذكر أنها مع هذا لا تجديهم نفعًا. فهي لا تشفع لهم عند الله، ولا يظفرون منها بجدوى، فقال: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} و {أَمْ} فيه منقطة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الإنكار والنفي، والتمنّي. تقدير شيء في النفس وتصويره فيها كما سيأتي. فأضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم، وعن اتباعهم هوى الأنفس، وما تميل إليه. وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم، وتشفع لهم. والمعنى: بل أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام؛ أي: (¬3) ليس له كل ما يتمناه، وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة، ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود. مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ ... تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[25]

25 - ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله: {فَلِلَّهِ} سبحانه {الْآخِرَةُ وَالْأُولَى}؛ أي: إن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عز وجل، فليس لهم معه تعالى أمر من الأمور. ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة، وأطماعهم الفارغة. فالجملة تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتمًا. فإن اختصاص أمور الآخرة والأولى جميعًا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور. والمعنى (¬1): أي بل ألهم ما يتمنونه من شفاعة الآلهة يوم القيامة؟ كلا إنَّ هذا لن يكون، ولن يجديكم ذلك فتيلًا ولا قطميرًا، فإنَّ كل ما في الدنيا والآخرة فهو ملك له تعالى، ولا دخل لهذه الأصنام في شيء منه. وهذا تيئيس لهم من أن ينالوا خيرًا من عبادتها، والتقرب إليها، ولا تكون وسيلة لهم عند ربهم. 26 - ثم حرمهم فائدة عبادتها من وجه آخر، فقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} وهذا (¬2) إقناط لهم مما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة لهم، موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية. و"كم" خبرية مفيدة للتكثير، محلها الرفع على الابتداء، والخبر هي الجملة المنفية. وجمع الضمير في {شَفَاعَتُهُمْ} مع إفراد الملك باعتبار المعنى، أي: وكثير (¬3) من الملائكة لا تغني شفاعهم عند الله شيئًا من الإغناء في وقت من الأوقات، أي: لا تنفع شيئًا من النفع. وهو القليل منه أو شيئًا؛ أي: أحدًا. وليس المعنى: أنهم يشفعون فلا تنفع شفاعتهم، بل معناه: أنهم لا يشفعون. لأنه لا يؤذن لهم كما قال تعالى: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} سبحانه لهم في الشفاعة {لِمَنْ يَشَاءُ} ويريد أن يشفعوا له {وَيَرْضَى} عنه، ويراه أهلًا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان. وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله بمعزل ومن الشفاعة بألف منزل. فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام. والمعنى (¬4): أي وكثير من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئًا إلا إذا أذن بها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[27]

ربهم لمن يشاء، ويربد شفاعتهم له، ويرضى عنه عمله ممن أخلص له في القول والعمل. وإذا كان هذا حال الملائكة، وهم عالم روحي، لهم القرب من ربهم، والزلفى لديه، فما بالكم بأصنام أرضية ميتة، لا روح فيها ولا حياة، فهي بعيدة كل البعد عن الذات الأقدس. وخلاصة ذلك: أنّهُ لا مطمع في شفاعة هذه الأصنام، ولا تجديهم نفعًا في هذا اليوم. وقرأ الجمهور (¬1): {شَفَاعَتُهُمْ} بإفراد الشفاعة، وجمع الضمير. وقرأ زيد بن عليّ {شفاعته} بإفراد الشفاعة، والضمير. وابن مقسم {شفاعاتهم} بجمعها، وهو اختيار صاحب الكامل؛ أي: القاسم الهذلي. وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور، لأنّها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئًا. 27 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}؛ أي: لا يصدقون بمجيء يوم القيامة مع ما فيه من الحساب والعقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ} المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق؛ أي: كل منهم يسمون كل واحد منهم {تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} منصوب (¬2) على أنه صفة مصدر محذوف؛ أي: تسمية مثل تسمية الأنثى. فإنَّ قولهم: الملائكة بنات الله قول منهم: بأن كلا منهم بنته تعالى. وهي التسمية بالأنثى. فاللام في الملائكة للتعريف الاستغراقيّ، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشفاعة، والفظاعة. واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسًا. قال ابن الشيخ: فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنّهم لا يؤمنون بالآخرة؟ مع أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميت على قبره، ويعتقدون أنه يحشر عليه. أجيب: بأنهم ما كانوا يجزمون به، بل كانوا يقولون لا نحشر. فإن كان .. فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله عنهم: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، وأيضًا ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل، فهم لا يؤمنون بها على وجهه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[28]

والمعنى (¬1): أي إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من أحوال الدار الآخرة على الوجه الذي بينته الرسل يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء، وجهالة جهلاء. وهي قولهم: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وإنما جعلها مقالة من لا يؤمن للإشارة إلى أنها بلغت من الفظاعة حدًّا لا يمكن معه أن تصدر من موقن بالجزاء والحساب، فقد اشتملت على جريمتين. أولاهما: نسبة الولد إلى الله. ثانيتهما: أن الولد أنثى تفضيلًا لأنفسهم على بارئهم وموجدهم من العدم. 28 - وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل {يسمّون}؛ أي: يسمُّونهم أنثى، والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلًا؛ أي: ليس لهم بذلك برهان، ولا أتى لهم به وحي، حتى يقولوا ما قالوا. وقرىء {وما لهم بها}؛ أي: بالملائكة أو التسمية. ثم أكد نفي علمهم الحق بذلك، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ}؛ أي: ما يتبعون في ذلك {إِلَّا الظَّنَّ} الفاسد، وليس هذا تكرارًا مع ما سبق؛ لأنَّ الأول متصل بعبادتهم اللات والعزى ومناة، وهذا بعبادتهم الملائكة كما سبق بيانه. {وَإِنَّ الظَّنَّ} أي (¬2): جنس الظن، كما يلوح به الإظهار في مقام الإضمار. {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} من الإغناء. فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء لا يدرك إدراكًا معتبرًا إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في شأن المعارف الحقية، وإنما يعتد به في العمليات، وما يؤدي إليها كمسائل علم أصول الفقه. وفيه ذم للظن، ودلالة على عدم إيمان المقلد. وقيل: الحق بمعنى العلم؛ أي: لا يقوم الظن مقام العلم. وقيل: الحق بمعنى العذاب؛ أي: إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب. والمعنى (¬3): أي إنَّ معرفة الشيء معرفة حقيقية يجب أن تكون عن يقين، لا عن ظن وتوهم، وأنتم لا تتبعون فيما تقولون في هذه التسمية إلا الظن والتوهم، وليس هذا من سبيل العلم في شيء. وقد جاء في الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[29]

"إيّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث". ونحو الآية قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}. والخلاصة: أن مثل هذا الاعتقاد إما أن يكون عن دليل عقلي، والعقل لا يركن إليه في مثل هذا، وإما عن وحي، ولم يصل إليهم شيء منه يخبرهم بما يقولون. 29 - ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم، فقال: {فَأَعْرِضْ} يا محمد {عَنْ مَنْ تَوَلَّى}؛ أي: عن دعوة من تولى وأعرض {عَنْ ذِكْرِنَا} وكتابنا المفيد للعلم اليقينيِّ، ولم يؤمن به. وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكر لأمور الآخرة. ولا تتهالك على إسلامه، أو عن ذكرنا كما ينبغي. فإنَّ ذلك مستتبع لذكر الآخرة، وما فيها من الأمور المرغوب فيها، والمهروب عنها؛ أي: أعرض عمن أعرض عن ذكرنا. والمراد بالذكر هنا (¬1): القرآن أو ذكر الآخرة أو ذكر الله على العموم. وقيل: المراد بالذكر هنا: الإيمان. والمراد: أترك مجادلتهم، نقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وهذا منسوخ بآية السيف. وقيل: النهي (¬2) عن الدعوة لا يستلزم نسخ الآية بآية القتال، بل الإعراض عن الجواب والمناظرة شرط لجواز المقاتلة، فكيف يكون منسوخًا بها. فالمعنى: أعرض عنهم، ولا تشتغل بإقامة الدليل والبرهان. فإنهم لا ينتفعون به، وقاتلهم، واقطع دابرهم. {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: لم يرد سواها، ولا طلب غيرها، بل قصر نظره عليها راضيًا بها، منكبًا مقبلًا على جمع حطامها، وجلب منافعها. فالمراد النهي عن دعوته، والاعتناء بشأنه. فإن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته، وقصارى سعيه لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عنادًا، وإصرارًا على الباطل. ومعنى الآية (¬3): أي فأعرض عن مثل هؤلاء الذين أعرضوا عن كتابنا، ولم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[30]

يأخذوا بما فيه حيث يوصل إلى سعادتهم في المعاش والمعاد من المعتقدات الحقة، وقصص الأولين المذكرة بأمور الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم. واقتصروا على شؤون الدنيا، ورضوا بزخرفها، وجدوا في بلوغ أسمى المراتب فيها كما فعل النضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما. والخلاصة: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا، وانهمك في أمور الدنيا، وجعلها منتهى همته، وأقصى أمنيته، وقصارى سعيه فلا سبيل إلى إيمان مثله، فلا تبخع نفسك على مثله أسفًا وحزنًا، كما قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}. 30 - ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله: {ذَلِكَ} التولي, وقصر الإرادة على الحياة الدنيا {مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي: غاية علمهم، ونهايته، لا يكادون يجاوزونه إلى غيره، حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. فـ {مبلغ} اسم مكان، وجمع الضمير في {مَبْلَغُهُمْ} باعتار معنى {مِنَ} كما أنّ إفراده فيما سبق باعتبار لفظها. قال الفرّاء: أي ذلك قدر عقولهم، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: الإشارة بذلك إلى جعلهم للملائكة بنات الله، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى. والأول أولى. والمراد بالعلم هنا: مطلق الإدراك الذين يندرج تحته الظن الفاسد. والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم، واتباعهم مجرد الظن. وقيل: معترضة بين المعلل والعلة. وهي قوله: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ} وحاد {عَنْ سَبِيلِهِ} وأعرض عن الحق الذي هو التوحيد والطاعة. والمراد {بِمَنْ ضَلَّ}: هو من أصر عليه، ولم يرجع إلى الهدى أصلًا. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} فقبل الحق، وأقبل عليه، وعمل به. فإن هذا تعليل للأمر بالأعراض. فهو سبحانه مجازٍ كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشرًا. وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة، وسبقت له الشقاوة؛ فإن الله سبحانه قد علم حال هذا الفريق الضالّ، كما علم حال الفريق الراشد.

[31]

وحاصل معنى الآية: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي (¬1): إن منتهى علمهم أن يتفهموا شؤون الحياة الدنيا، ويتمتعوا باللذات، ويتصرفوا في التجارات ليحصلوا على ما يكون لهم فيها من بسطة في المال، وسعة في الرزق، ويكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، وما به يذكرون لدى الناس، ولا يعنون بما وراء ذلك. فشؤون الآخرة دبر أذنهم، ووراء ظهورهم لا يعرفون منها قبيلًا من دبر. روى أحمد عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له". وفي الدعاء المأثور: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا". ثم ذكر السبب في الأمر بالإعراض عنهم فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ...} إلخ؛ أي: إن ربك يا محمد هو العليم بمن واصل ليله بنهاره، وصباحه بمسائه مفكرًا في آياته في الكون، وفيما جاء على ألسنة رسله، حتى اهتدى إلى الحقال في ينجيه في آخرته، ويبلغه رضوان ربه، ويبلغه سعادة الدنيا بالسير على السنن الذي وضعها في خليقته، فاحتذى حذوها، وسار على أثرها. وبمن حاد عن طريق النجاة، وجعل إلهه هواه، وركب رأسه فلم يلو على شيء معا جاء به الداعي الناصح الأمين. وإنه لمجاز كلًّا بما كسب، واكتسب. وسيجزيه على الجليل، والحقير، والصغير, والكبير، بحسب ما أحاط به واسع علمه، وبمقدار فضله على من أخبت إليه. كما قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. ونكاله بمن دسى نفسه، واجترح السيئات مصداقًا لقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. والخلاصة: أن هؤلاء قوم لا تجدي فيهم الذكرى، ولا تؤثر فيهم العظة فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. 31 - ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته، وعظيم ملكه، فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه ملكًا، وخلقًا، وعبيدًا، لا لغيره أصلًا لا استقلالًا، ولا اشتراكًا {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: جميع ما في السموات من العالم العلوي، وجيمع ما في الأرض من العالم السفلي. فهو المالك لذلك، والمتصرِّف فيه، لا يشاركه فيه أحد. واللام (¬2) في قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} وأشركوا، متعلقة بعا دل عليه الكلام. كأنه قيل: هو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[32]

مالك ذلك يضل من يشاء، يهدي من يشاء ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه. وقيل (¬1): متعلّقة بما دلّ عليه {أعلم} ... إلخ، وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله. فإن كون الكل مخلوقًا له تعالى مما يقرر علمه تعالى بأحوالهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}. كأنه قيل: فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى، ويحفظهما ليجزى الذين أساؤوا، وضلّوا. {بِمَا عَمِلُوا} أي: بعقاب ما عملوا من الشرك والضلال الذي عبَّر عنه بالإساءة بيانًا لحاله. شبه نتيجة علمه بكل واحد من الفريقين. وهي مجازاته على حسب حاله بعلته الغائية. فأدخل لام العلة عليها، وصح بذلك تعلقها بقوله: {أعلم}. {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا}؛ أي: وحدوا، واهتدوا {بِالْحُسْنَى}؛ أي: بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. والباء لتعدية الجزاء أو بسبب أعمالهم الحسنى، فالباء للسببية والمقابلة. وإنما قدر على مجاراة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة، فلذلك قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. والحسنى تأنيث الأحسن. وقرأ زيد بن عليّ {لنجزي} بالنون فيهما. وقرأ الجمهور بالياء فيهما. ومعنى الآية (¬2): أي إنّ ما في السموات وما في الأرض تحت قبضته وسلطانه، وله التصرف فيه خلقًا، وملكًا، وتدبيرًا. فهو العليم به، لا تخفى عليه خافية من أمره. فلا تظنوا أنه يهمل أمركم، كلًّا فإنه مجار كل نفس بما كسبت من خير أو شر. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا ...} إلخ؛ أي: فهو يجازي بحسب علمه المحيط بكل شيء. المحسن بالإحسان" ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار، ويمتعه بنعيم لا يخطر على قلب بشر. والمسيء بصنيع ما أساؤوا، وبما دسى به نفسه من ضروب الشرك والمعاصي، وبما ران على قلبه من كبائر الذنوب والآثام. وقد أصله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوةً. 32 - ثم وصف هؤلاء المحسنين، فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ}؛ ويبتعدون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

عنها. فالموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأوّل أعني قوله: {الَّذِينَ أَحْسَنُوا}. وقيل: بدل منه. وقيل: بيان له. وقيل: منصوب على المدح بإضمار أعني، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين يجتنبون كبائر الإثم. وقرأ الجمهور (¬1) {كَبَائِرَ} على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثّاب {كبير الإثم} على الإفراد. وصية الاستقبال (¬2) في صلة هذا الموصول، دون صلة الموصوف، أو المبدل منه للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. يعني: للإشعار بأن ترك المعصية سواء كانت بارتكاب المحرمات أو بترك الواجبات ينبغي أن يستمر عليه المؤمن، ويجعل الاجتناب عنها دأبًا له وعادة، حتى يستحق المثوبة الحسنى. فإن من اجتنب عنها مرة، وانهمك عليها في باقي الأزمان لا يستحقها بخلاف الحسنات المتطوع بها. فإن من أتى بها ولو مرة يؤجر عليها. قال سعدي المفتي: لا حسن في جعل الذين يجتنبون مقصودًا بالنسبة، وجعل الذين أحسنوا في حكم المسكوت عنه على القول: بأنه بدل منه، ولو كان النظم على العكس .. لكان لها وجه، انتهى. يقول الفقير: الاجتناب من باب التخلية بالمعجمة. وهي أقدم من التحلية بالحاء المهملة، فلذا جعلت مقصودًا بالنسبة. وكبائر الإثم: ما بكبر عقابه من الذنوب. وهو ما ترتب عليه الوعيد بخصوصه كالشرك والزنا مطلقًا خصوصًا بحليلة جاره، وقتل النفس مطلقًا لا سيما الأولاد. وهي الموؤدة. وقيل: ما ذم فاعله ذمًّا شديدًا. وقيل: الكبيرة: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حدّ في الدنيا أو أقدم صاحبه عليه من غير استشعار خوف أو ندم أو ترتب عليه مفاسد كبيرة. ولو كان في نظر الناس صغيرًا. من أمسك إنسانًا ليقتله ظالم، أو دل العدو على عورات البلاد، فقد فعل أمرًا عظيمًا. فيكون أكل مال اليتيم إذا قيس على هذين قليلًا مع أنه من الكبائر. ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

والمشهور: أنّ الكبائر سبع. روي ذلك عن عليّ كرم الله وجهه، واستدلوا عليه بما روي في الصحيحين: "اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنَّ رجلًا قال له: الكبائر سبعٌ، فقال: هي إلى سبع مئة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، اهـ. والإثم: قيل: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقيل: هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب. وقيل: هو فعل ما لا يحل. وقيل: الإثم جنس يشتمل كبائر وصغائر؛ وجمعه آثام. وقوله: {وَالْفَوَاحِشَ} معطوف على {كَبَائِرَ}. جمع فاحشة. وهي ما فحش من كبائر الذنوب: كالزنا، ونحوه. نهو من قبيل التخصيص بعد التعميم. وقال مقاتل: كبائر الإثم: كل ذنب ختم بالنار. والفواحش: كل ذنب فيه الحد. وقيل: الكبائر: الشرك. والفواحش: الزنا. والاستثناء في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} منقطع؛ أي: إلا ما قل وصغر من الذنوب لأن المراد باللمم: الصغائر. وهي لا تدخل في الكبائر. وذلك كالنظرة، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة، وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناسًا بهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسةٍ المسجد إذا كان يغلب تنجيسهم له، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، اهـ خطيب. والمعنى: إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب. فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر. يعني: إن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنب الكبائر. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. وقيل: هي النظر بلا تعمد، فإن أعاد النظر فليس بلمم، وهو مذنب. والغمزة والقبلة كما روي أن نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر، فقال لها: أدخلي الحانوت، فعانقها وقبلها، فقالت المرأة: خنت أخاك، ولم تصب حاجتك، فندم، وذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت

الآية. وقيل: هي الخطرة من الذنب؛ أي: ما خطره من الذنب على القلب بلا عزم. وقيل: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًّا ولا عذابًا. وقال بعضهم: اللمم والإلمام: ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له عادة، ولا إقامة عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: إلا أن يلم بالفاحشة مرة، ثم يتوب ولم يثبت عليها. فإن الله يقبل توبته. ويؤيده تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - قول أمية (¬1): إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وبه قال مجاهد؛ والحسن، والزهري، وغيرهم. واختار هذا القول الزجاج والنحاس. فالاستثناء على هذا متصل. والراجح الأول. واللمم: مأخوذ من قولهم: ألممت بكذا؛ أي: نزلت به وقاربته من غير مواقعة. قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب. وجملة قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وكثيرها، تعليل لما تضمنه الاستثناء؛ أي: إنّ ذلك، وإن خرج عن حكم المؤاخذة، فليس يخلو عن كونه ذنبًا يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاج إلى رحمته، بل لسعة المغفرة الربانية. وقيل معناه: إنّه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه فيغفر ما يشاء من الذنوب بعد التوبة الصادقة، والندم على ما فرط من مرتكبها، إذا أخبت لربه، وتجافى عن ذنبه. ومثله قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}. ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منكم {بِكُمْ}؛ أي: بأحوالكم يعلمها {إِذْ أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: خلقكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {مِنَ الْأَرْضِ} إنشاء إجماليًا. وقيل: المراد: آدم. فإنه خلقه من طين {و} هو سبحانه أعلم بأحوالكم {إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ}، أي: وقت كونكم أجنة {في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} على أطوار مختلفة مترتبة، لا يخفى عليه حال من ¬

_ (¬1) نفى الأمام ابن حجر في "فتح الباري" نسبة هذا البيت وغيره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يقل الشعر، وإنما ثبت تمثله أقوال الشعراء، كقول أمية هذا، وكقول ليد: ألا كل شيءٌ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل

أحوالكم، وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله، وضرره. والأجنّة: جمع جنين مثل؛ أسرَّة وسرير، وسيأتي بسط الكلام فيه في مبحث اللغة والصرف. والفاء في قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} لترتيب (¬1) النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم، ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب، بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم، أي: إذا كان الأمر كذلك .. فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعصية بالكلية، أو بما يستلزمها من زكاء العمل، ونماه الخير، ولا تمدحوها بحسن الأعمال، ولا تبرئوها عن الآثام. فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع. بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته. وقال الحسن رحمه الله تعالى: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، إلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، ولا تطهروها من الآثام، ولا تمدوحها بحسن الأعمال. لأن كل واحد من التخلية والتحلية إنما يعتد به إذا كان خالصًا لله تعالى، وإذا كان هو أعلم بأحوالكم منكم فأيُّ حاجة إلى التزكية. وأما من زكاه الغير، ومدحه فقد ورد فيه "احثوا في وجه المداحين - أي: الذين يمدحون بما ليس في الممدوح - التراب" على حقيقته، أو مجاز عن ردهم عن المدح، لئلا يغتر الممدوح فيتجبر. وقيل: المراد به: أن لا يعطوهم شيئًا لمدحهم. أو معناه: الأمر بدفع المال إليهم لينقطع لسانهم، ولا يشتغلوا بالهجو، وفيه إشارة إلى أن المال حقير في الواقع كالتراب. قال أبو الليث في "تفسيره": المدح على ثلاثة أوجه: الأول: أن يمدحه في وجهه، فهو الذي نهى عنه. والثاني: أن يمدحه في غير حضرته، ويعلم أنه يبلغه فهذا أيضًا منهي عنه. والثالث: مدح يمدحه في حال غيبته، وهو لا يبالي بلغه أم لم يبلغه، ومدح يمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا، انتهى. وأمَّا المدح بعد الموت فلا بأس إذا لم يجاوز الحد، كالروافض في مدح أهل البيت. وجملة قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} المعاصي جميعًا، مستأنفة مقرّرة للنهي ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومشعرة بأن فيهم من يتقيها بأسرها. وقيل: كان ناس يعملون أعمالًا حسنة، ثم يقولون: صلاتنا، وصيامنا، وحجنا، فنزلت فيهم هذه الآية، وهذا إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء أو السمعة. فأما من اعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة من الله تعالى، وبتوفيقه وتأييده، ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم. فإن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. ومعنى الآية (¬1): هو سبحانه وتعالى بصير بأحوالكم، علبم بأقوالكم وأفعالكم، حين ابتدأ خلقكم من التراب، وحين صوركم في الأرحام على أطوار مختلفة وصور شتى. {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: فإذا علمتم ذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعاصي، أو بزكاة العمل وزيادة الخير، بل اشكروا على فضله ومغفرته. فهو العليم بمن اتقى المعاصي، ومن ولغ فيها، ودن نفسه باجتراحها. الإعراب {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}. {وَالنَّجْمِ} {الواو} حرف جر وقسم، {النجم} مقسم به، مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالنجم. وجملة القسم مستأنفة. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بفعل القسم المحذوف، {هَوَى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {النجم}. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، والتقدير: أقسم بالنجم وقت هويه. وقيل: الظرف متعلق بمحذوف حال من {النجم}؛ أي: أقسم بالنجم حال كونه مستقرًّا في زمان هويّه. وقيل: غير ذلك. وفي كلٍ منها إشكال ذكرت مع الأجوبة عنها في المطولات. {مَا} نافية، {ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} فعل، وفاعل. والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {وَمَا غَوَى} معطوف على {مَا ضَلَّ}. {وَمَا} ¬

_ (¬1) المراغي.

الواو: عاطفة، {يَنْطِقُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {صَاحِبُكُمْ}، {عَنِ الْهَوَى} متعلق بـ {يَنْطِقُ}. والجملة معطوفة على {مَا ضَلَّ}. {إِنْ} نافية، و {هُوَ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {وَحْيٌ} خبر {هُوَ}. والجملة مستأنفة. وجملة {يُوحَى} صفة لـ {وَحْيٌ}. {عَلَّمَهُ} فعل، ومفعول به، {شَدِيدُ الْقُوَى} فاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: علم صاحبكم ذلك الوحى ملك شديد القرى. والجملة الفعلية صفة ثانية لـ {وَحْيٌ}. {ذُو مِرَّةٍ} صفة لـ {شَدِيدُ الْقُوَى}، مرفوع بالواو، {فَاسْتَوَى} الفاء: عاطفة، {استوى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {شَدِيدُ الْقُوَى}. والجملة معطوفة على جملة قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} كما يشير إليه صنيع القرطبي. ونصّه {فَاسْتَوَى} أي: ارتفع جبرئيل، وعلا إلى مكانه في السماء بعد أن علمه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، اهـ. {وَهُوَ} {الواو} حالية، {هُوَ} مبتدأ {بِالْأُفُقِ} خبر، {الْأَعْلَى} صفة لـ {الأفق}. والجملة في محل النصب، حال من فاعل {استوى}. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، {دَنَا}، فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {شَدِيدُ الْقُوَى}. والجملة معطوفة على جملة {استوى}. {فَتَدَلَّى} الفاء: عاطفة، {تَدَلَّى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {شَدِيدُ الْقُوَى}. والجملة معطوفة على جملة {دَنَا}. {فَكَانَ} الفاء: عاطفة، {كان} فعل ماض، واسمه ضمير يعود على {شَدِيدُ الْقُوَى} ولكنه على تقدير مضافات. {قَابَ قَوْسَيْنِ} خبرها. والجملة معطوفة على جملة {تدلى}، والتقدير: فَكَانَ مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين. {أَوْ} حرف عطف وشكّ، أو بمعنى بل، {أَدْنَى} معطوف على {قَابَ قَوْسَيْنِ}. {فَأَوْحَى} الفاء: عاطفة، {أوحى} فعل ماض، وفعل مستتر يعود على {شَدِيدُ الْقُوَى}، أو إلى الله. {إِلَى عَبْدِهِ} متعلق بأوحى. والجملة معطوفة على جملة كان. {مَا} موصولة أو مصدرية، مفعول به على الأول، أو مفعول مطلق على الثاني. وجملة {أوحى} صلة لما على كلا الوجهين. {مَا} نافية، {كَذَبَ الْفُؤَادُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {مَا} موصولة، مفعول به لكذب، وجملة {رَأَى} صلته، و {رَأَى} بصرية، ومفعوله محذوف؛ أي: ما رآه. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.

{أَفَتُمَارُونَهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. والجملة المحذوفة جملة طلبيّة، لا محل لها من الإعراب. {تمارونه} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على الجملة المحذوفة، {عَلَى مَا} جار ومجرور، متعلق بـ {تمارون}، وحقه أن يتعدّى بفي، ولكن ضمَّنه معنى الغلبة فعداه بعلى. وجملة {يَرَى} صلة لـ {مَا} الموصولة، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، {وَلَقَدْ} الواو: حالية، واللام: موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {رَآهُ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم في محل النصب، حال من مفعول {تمارونه}. {نَزْلَةً} إما منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {رَآهُ}؛ أي: مرّةً أخرى، أو على المفعولية المطلقة؛ أي: رؤية أخرى، و {أُخْرَى} صفة لـ {نَزْلَةً}، {عِنْدَ سِدْرَةِ} ظرف متعلق بـ {رَآهُ}، {الْمُنْتَهَى} مضاف إليه، أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما معًا. {عِنْدَهَا} خبر مقدم، {جَنَّةُ الْمَأْوَى} مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}. {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بـ {رَآهُ} {يَغْشَى} فعل مضارع، {السِّدْرَةَ} مفعول به، {مَا} اسم موصول في محل الرفع فاعل. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}. وجملة {يَغْشَى} صلة لما الموصولة {مَا} نافية، {زَاغَ الْبَصَرُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {وَمَا طَغَى} معطوف على {مَا زَاغَ}. {لَقَدْ} اللام: موطئة للقسم المحذوف، {قد} حرف تحقيق، {رَأَى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} حال من الصفعول مقدّمة عليه، {الْكُبْرَى} مفعول به، والتقدير: لقد رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربّه. ويحتمل أن تكون {الْكُبْرَى} صفة آيات ربّه، لا مفعولًا به، ويكون المرئي محذوفًا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربّه الكبرى أمورًا عظامًا لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول، لأنَّ فيه تفخيمًا لآيات الله الكبرى، وأنّ فبها ما رآه وما لم يره. وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم، مع أنَّ آيات الله مما لا يحيط أحد بجملتها. {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)

تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. {أَفَرَأَيْتُمُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف؛ والتقدير: أعقب ما سمعتم آثار قدرة الله تعالى أنكرتم وحدانيته، فرأيتم، وظننتم هذه الأصنام شركاء لله سبحانه. {رأيْتم} فعل، وفاعل، {اللَّاتَ} مفعول أول، {وَالْعُزَّى} {وَمَنَاةً} معطوفان عليه، {الثَّالِثَةً} صفة مؤكدة لمناة، {الْأُخْرَى} صفة ذمّ للثالثة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: شركاء لله وجملة {رأيتم} معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {أَلَكُمُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري {لكم} خبر مقدم، {الذَّكَرُ} مبتدأ مؤخر. والجملة جملة طلبية، لا محل لها من الإعراب. {وَلَهُ} خبر مقدم، {الْأُنْثَى} مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على ما قبلها. {تِلْكَ} مبتدأ، {إِذًا} حرف جواب وجزاء بمعنى إذ الظرفية، مهمل حرف لا محل لها من الإعراب؛ أي: إذ جعلتم له البنات ولكم البنين. {قِسْمَةٌ} خبر، {ضِيزَى} صفة لـ {قِسْمَةٌ}. والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}. {إِنْ} نافية، {هِيَ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {أَسْمَاءٌ}، خبر هي والجملة مستأنفة {سَمَّيْتُمُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول ثان والمفعول الأول محذوف تقديره: سميتم بها أصنامًا وجملة {سَمَّيْتُمُوهَا}: في محل الرفع، صفة لـ {أَسْمَاءٌ} {أَنْتُمْ} تأكيد لتاء الفاعل في {سميتم} ليصح عطف {وَآبَاؤُكُمْ} عليها على حد قوله: وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ ... عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنْفصِلْ {مَا} نافية، {أَنْزَلَ الله} فعل، وفاعل. والجملة صفة ثانية لـ {أَسْمَاءٌ}، {بِهَا} حال {مِنْ} زائدة، {سُلْطَانٍ} مفعول به لـ {أَنْزَلَ}، {إنْ} نافية، {يَتَّبِعُونَ} فعل، وفاعل، {إِلَّا} أداة حصر، {الظَّنَّ} مفعول به. والجملة مستأنفة. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما} اسم موصول في محل النصب، معطوف على الظنّ، ويصح جعلها مصدرية، {تَهْوَى الْأَنْفُسُ} فعل، وفاعل. والجملة صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: وما تهواه الأنفس. {وَلَقَدْ} الواو: حالية، أو اعتراضية، واللام

موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {جَاءَهُمْ} فعل، ومفعول به {مِنْ رَبِّهِمُ} متعلق بـ {جَاءَهُمْ}. {الْهُدَى} فاعل. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم معرضة، أو حال من فاعل {يَتَّبِعُونَ}. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار، {لِلْإِنْسَانِ} خبر مقدم، {مَا} مبتدأ مؤخر. والجملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب. {تَمَنَّى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الإنسان. والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تمنّاه. {فَلِلَّهِ} الفاء: عاطفة، {لله} خبر مقدم، {الْآخِرَةُ} مبتدأ مؤخر، {وَالْأُولَى} معطوف على {الْآخِرَةُ}. والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)}. {وَكَمْ} الواو: استئنافية {كم} خبرية، في محل الرفع، مبتدأ، {مِنْ} زائدة في تمييزكم، {مَلَكٍ} تمييز لكم، {في السَّمَاوَاتِ} صفة لـ {مَلَكٍ}، {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} فعل، وفاعل، {شَيْئًا} مفعول {تُغْنِي} أو مفعول مطلق، أي: شيئًا من الإغناء. والجملة في محل الرفع، خبر لكم الخبرية. والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة حصر، {مِنْ بَعْدِ} متعلق بـ {تُغْنِي}، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يَأْذَنَ الله} فعل، وفاعل، منصوب بـ {أن} المصدرية. والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: إلا من بعد إذن الله سبحانه. {لِمَنْ} جار ومجرور، متعلق بـ {يَأْذَنَ}، وجملة {يَشَاءُ} صلة لمن الموصولة، {وَيَرْضَى} معطوف على {يَشَاءُ} {إِنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} صلة الموصول، {بِالْآخِرَةِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {لَيُسَمُّونَ} اللام حرف ابتداء، {يسمون الملائكة} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة. {تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} مفعول مطلق. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}. {وَمَا} الواو: حالية، {ما} نافية، {لَهُمْ} خبر مقدم، {بِهِ} متعلق بعلم،

{مِنْ} زائدة، {عِلْمٍ} مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب، حال من فاعل {يسمون}. {إِنْ} نافية {يَتَّبِعُونَ}؛ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة حصر، {الظَّنَّ} مفعول به، {وَإِنَّ} الواو: حالية، {إِنَّ الظَّنَّ} ناصب واسمه، وجملة {لَا يُغْنِي} خبر {إنّ}. {مِنَ الْحَقِّ} متعلق بـ {يُغْنِي}، {شَيْئًا} مفعول به، أو مفعول مطلق. وجملة {إِنّ} في محل النصب حال من الظنّ. {فَأَعْرِضْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك من أحوالهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك أعرض {أعرض} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، {عَنْ مَنْ} متعلق بـ {أعرض}. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {تَوَلَّى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {من} الموصولة. والجملة صلة لمن الموصولة. {عَنْ ذِكْرِنَا} متعلق بـ {تَوَلَّى} فعل ماض، {وَلَمْ}، الواو: عاطفة، {لَمْ} حرف جزم، {يُرِدْ} فعل مضارع، وفاعل مستر، مجزوم بـ {لم}. والجملة معطوفة على {تَوَلَّى}. {إِلَّا} أداة حصر، {الْحَيَاةً} مفعول به، {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةً}، {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ} مبتدأ وخبر، {مِنَ الْعِلْمِ} متعلق بـ {مَبْلَغُهُمْ}. والجملة الاسمية جملة اعتراضية، لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الأمر وهو {أعرض}، وبين تعليله الآتي بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {أَعْلَمُ} خبره، {بِمَنِ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} صلة الموصول. وجملة {هُوَ أَعْلَمُ} خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَهُوَ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر، {بِمَنْ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {اهْتَدَى} صلة لـ {مِنْ} الموصولة. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}. {وَلِلَّهِ} خبر مقدم، و {مَا} مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. {في السَّمَاوَاتِ} صلة لـ {ما} الموصولة، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوف على {مَا في السَّمَاوَاتِ}. {لِيَجْزِيَ} اللام حرف جر وتعليل، {يجزي} فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود

على الله، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {الَّذِينَ} مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام, والجار والمجرور متعلق بمعلول محذوف معلوم من السياق، تقديره: يضل من يشاء، ويهدي من يشاء لجزائه الذين أساؤوا الخ. وجملة {أَسَاءُوا} صلة الموصول، {بِمَا} متعلق بـ {يجزي}، وجملة؛ {عَمِلُوا} صلة لـ {مَا} الموصولة. {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يجزي} الأول. وجملة {أَحْسَنُوا} صلة الموصول، {بِالْحُسْنَى} متعلق بـ {يجزي}، {الَّذِينَ} بدل من {الَّذِينَ أَحْسَنُوا}، أو عطف بيان له كما سبق بسطه. {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة صلة الموصول. {وَالْفَوَاحِشَ} معطوف على {كَبَائِرَ}. {إِلَّا} أداة استثناء، {اللَّمَمَ} منصوب على الاستثناء، {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه، {وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} خبره، وجملة {إِنَّ} مسوقة لتعليل استثناء {اللَّمَمَ}، لا محل لها من الإعراب. {هُوَ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {بِكُمْ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {أَعْلَمُ} أيضًا، {أَنْشَأَكُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق به. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ}، {وَإِذْ} معطوف على {إِذْ} الأولى، {أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} مبتدأ وخبر. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذْ} الظرفية، {في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} صفة لـ {أَجِنَّةٌ}، {فَلَا تُزَكُّوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنّ الله سبحانه أعلم بكم في جميع أحولكم، وأردتم بيان ما هو اللائق بكم .. فأقول لكم لا تزكّوا. {لا تزكّوا} {لا}. ناهية جازمة، {تُزَكُّوا} فعل مضارع، وفاعل مجزوم بلا الناهية {أَنْفُسَكُمْ} مفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {هُوَ أَعْلَمُ} مبتدأ، وخبر، {بِمَنِ} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {اتَّقَى} صلة الموصول. والجملة الاسمية جملة تعيلية، لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {وَالنَّجْمِ} النجم معروف، وجمعه نجوم، وأنجم، وأنجام، ونجم. وهو الكوكب. وعند الإطلاق الثريّا، وهي المراد به هنا.

أقوال منها: أنَّ المراد به هنا: جماعة النجوم، إذا هوت؛ أي: سقطت، وغابت عن الحس. وأراد به: الجنس. وقيل: أراد الثريّا، وأقسم بها إذا سقطت، وغابت مع الفجر. والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة. قال ابن دريد: والثريّا سبعة أنجم، ستة ظاهرة، وواحد خفي، يمتحن الناس به أبصارهم. وقيل: أراد به: القرآن إذ أنزله نجومًا متفرقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث وعشرين سنة. وسمي الكوكب نجمًا لطلوعه. وكل طالع نجم، يقال: نجم السنن, والبنت والقرن إذا طلع، اهـ خطيب. وبابه قعد كما في "المصباح". {إِذَا هَوَى}؛ أي: سقط. يقال: هوى يهوي من الثاني هَويًّا بوزن قبول إذا كرب. فإنَّ الهويَّ سقوط من علو إلى أسفل، وهُويًّا بوزن دخول إذا علا، وصعد ويقال: هوى يهوى إذا صبا. وقال الراغب: الهَويُّ سقوط من علو، ثم قال: والهوي ذهاب في انحدار، والهُوي ذهاب في ارتفاع. وقيل: هوى في اللغة: خرق الهواء، ومقصده السفل، أو مصيره إليه، وإن لم يقصده، اهـ سمين. وأصله: هوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {وَمَا غَوَى} الغيُّ هو: الجهل المركب. قال الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد؛ وذلك أنَّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد أصلًا لا صالحًا ولا فاسدًا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد. وهذا الثاني يقال له: غي. فعطفه على {مَا ضَلَّ} من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام بشأن الاعتقاد بمعنى أنه فرق بين الغي والضلال، وليسا بمعنى واحد. فإن الغواية في الخطأ في الاعتقاد خاصة، والضلال أعم منها، يتناول الخطأ في الاعتقاد، والأقوال، والأفعال، كما مر. وأصله: غوي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} يقال: نطق ينطق نطقًا ومنطقًا ونطوقًا إذا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني، كما في "القاموس". فلا يستعمل في الله تعالى لأن التكلم بالصوت والحروف من خواص المخلوق. والهوى مصدر هويه، من باب علم إذا أحبه، واشتهاه، ثم غلب على الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع. منه قيل: صاحب الهوى للمبتدع. لأنّه مائل إلى ما يهواه في أمر

الدين. فالهوى هو الميل المخصوص المذموم. وأصله: الهوي، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فصار الهوى. {يُوحَى} أصله: يوحي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {بِالْأُفُقِ} والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس، وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. وبقال: أفق مثل: عسْر وعسُر. {الْأَعْلَى} أصله بعد فلب الواو الواقعة رابعة ياء الأعلي، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {ذُو مِرَّةٍ}؛ أي: حصافة؛ أي: استحكام في عقله ورأيه، ومتانة في دينه. قال الراغب: أمررت الحبل إذا، فتلته والمرير والمُمَر: المفتول. ومنه: فلان ذو مرة، كأنه محكم الفتل. وفي "القاموس": المرّة بالكسر: قوة الخلق، وشدته. والجمع مِرر، وأمرار. والعقل، والأصالة، والإحكام، وطاقة الحبل كالمريرة. وذو مرة جبرئيل عليه السلام. والمريرة: الحبل الشديد الفتل. {وَهُوَ بِالْأُفُقِ} والأفق: هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك، وما لا يرى. والأفق الأعلى: مطلع الشمس، كما أن الأفق الأدنى مغربها كما سبق. {ثُمَّ دَنَا} من دنا يدنو دنوا، إذا قرب. والدنو: القرب بالذات أو بالحكم، وبستعمل في الزمان، والمكان، والمنزلة، كما في "المفردات". وفيه إعلال بالقلب، أصله: دنو بوزن فعل، من الدنو، قلبت {الواو} ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَتَدَلَّى} أصله: تدلي بوزن تفعل، قلبت ياءه ألفا لتحركها بعد فتح. {قَابَ قَوْسَيْنِ} والقاب والقيب، والقاد والقيد: المقدار. قال الزجاج: إنَّ العرب قد خوطبوا على لغتهم، ومقدار فهمهم، قيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدد. فالمعنى: فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك. وقال ابن السكيت: قاس الشيء يقوسه قوسًا لغة في قاسه يقيسه، إذا قدره. وقد جاء تقديرهم بالقوس، والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة، والشبر، والفتر، والإصبع. وفي "القرطبي": والقاب: ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان. وقال

بعضهم: في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أراد قابي قوس، فقلبه. وفي "المصباح": سية القوس، خفيفة الياء، ولامها محذوفة. وترد في النسة فيقال: سيوى، والهاء عوض عنها طرفها المنحني. قال أبو عبيدة: وكان رؤبة يهمزه، العرب لا تهمزه. ويقال: لِسِيَتها العليا يدها, ولِسِيَتها السفلى رجلها، اهـ. {فَتَدَلَّى} التدلي: استرسال مع تعلق. يقال: تدلت الثمرة، ودلى رجليه من السرير. {فَكَانَ} أصله: كون بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {قَابَ} فيه إعلال بالقلب، أصله: قوب بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَوْ أَدْنَى} أصله: أدني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. وهو أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف؛ أي: أو أدنى من قاب قوسين، و {أَوْ} بمعنى بل. أي: بل أدنى. {أَفَتُمَارُونَهُ} على ما يراه معاينةً؛ أي: أفتجادلونه من المماراة. والمراء والمماراة: المجادلة بالباطل، فكان حقه أن يتعدى بقي، يقال: جادلته في كذا، لكنه ضمن معنى الغلبة، فتعدى تعديتها؛ لأنَّ المماري يقصد بفعله غلبة الخصم. واشتقاته من مري الناقة كأن كلًّا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. يقال: مريت الناقة مريًا مسحت ضرعها لتدر، ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري أو غيره. {نَزْلَةً أُخْرَى} النزلة بوزن فعلة، اسم للحرة من الفعل الذي هو النزول. {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} شجرة نبق. والمنتهى: مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، كما قال الزمخشري. أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة. وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك على ثمانية أقوال، تفصيلها في المطولات. والمنتهى: أصله منتهي بوزن مفتعل قلبت ياءه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}؛ أي: الجنة التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة. فالإضافة فيها كإضافة مسجد الجامع. يقال: أويت منزلي وإليه أويًا وأويًّا عدت إليه، وأويته نزلته بنفسي. والمأوى: المكان. فالمأوى: أصله مأوي بوزن مفعل قلبت ياؤه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

فائدة: قال بعضهم: آدم عليه السلام أنزل من جنّة المأوى التي هي اليوم مقام الروح الأمين جبرئيل عليه السلام. وهي اليوم برزخ لذرية آدم، ونزل إليها جبرئيل من السدرة بنزول آدم. وهذه الجنة لا تقتضي الخلود لذاتها، فلذلك أمكن خروج آدم منها, ولذلك تأثَّر بالاشتياق إلى أن يكون ملكًا بعد سجود الملائكة له بغرور إبليس إياه، ووعده في الخلود رغبة في الخلود والبقاء مع جبرئيل، والجنة التي عرضها السموات والأرض تقتضي الخلود لذاتها، يعلم من دخلها أنه لا يمكن الخروج منها؛ إذ لا سبيل للكون والفساد إليها. قال تعالى في وصف عطائها: إنه {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غير منقطع، انتهى. فالجنة التي عرضها السموات والأرض أرضها الكرسيّ الذي وسع السموات والأرض، وسقفها العرش المحيط. فهي محيطة بالجنان الثمان، وليست هي الجنة التي أنزل منها آدم، كذا قاله أيضًا صاحب كتاب "تلقيح الأذهان". {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةً}؛ أي: يغطي. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه: الغواشي. وأصله: يغشي بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}؛ أي: ما مال. وأصل الزيغ: الميل عن الاستقامة. وفيه إعلال بالقلب، أصله: زيغ بوزن فعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، أي: ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، ومكن منها، وما مال يمينًا ولا شمالًا. {وَمَا طَغَى}؛ أي: وما جاوز ما أمر به. وأصله: طغي بوزن فعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} قال الراغب: أصل اللات: اللاه، فحذفوا منه الهاء، وأدخلوا التاء فيه، فأنَّثوهُ تنبيهًا على قصوره عن الله، وجعلوه مختصًا بما يتقرب به إلى الله في زعمهم. وقال غيره: أصله: لوية، فأسكنت الياء، وحذفت لالتقاء الساكنين، فبقيت لوة، فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت لاة. فهي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون إليها أعناقهم، ويطوفون بها، وكانت على صورة آدمي. وعلى هذا فالتاء زائدة فيه. لأنه من لوى يلوى. وقيل: التاء فيه أصلية لام الكلمة كالباء في الباب؛ لأنه من لات يليت، فألفها عن ياء. فإن مادة لَ يَ تَ موجودة، فإن وجدت مادة من لَ وَتَ جاز أن تكون منقلبة من واو. وهل هي والعزى علمان بالوضع أو صفتان غالبتان فيه خلاف. ويرتب على ذلك جواز حذف الألف واللام

في اللات؛ وعدمه. فإن قلنا: إنهما ليسا وصفين في الأصل، فلا تحذف منهما أن وإن قلنا: إنهما صفتان، وإنّ أل للمح الصفة جاز. وبالتقديرين فأل زائدة. وقد اختلف القراء في الوقف على تائها، فوقف الكسائي عليها بالهاء؛ والباقون بالتاء. وهو مبني على القولين المتقدمين. فمن جعلها تاء أصلية أقرها في الوقف كتاء بيت. ومن جعلها زائدة وقف عليها هاء. والعامة على تخفيف تائها. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو الجوزاء، وأبو صالح؛ وابن كثير في رواية بتشديد التاء. فقبل: هو رجل كان يلت السويق، ويطعمه الحاج. فهي اسم فاعل في الأصل، غلب على هذا الرجل، وكان يجلس عند حجر، فلما مات سمي الحجر باسمه، وعكفوا على قبره يعبدونه؛ ثم صنعوا له صورة، وعبدوها. والعزى: فعلى من العز. وهي تأنيث الأعز، كالفضلى والأفضل. وهي اسم صنم أو شجرة تعبد. وأما مناة فاشتقاقها على قراءة العامة من منى يمني، إذا صب؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها. وقال أبو البقاء: وألفه من ياء، كقولك: منى يمني إذا قدر، ويجوز أن تكون من الواو. ومنه: منوان. فوزنها على قراءة القصر فعلة، اهـ سمين. وقال بعضهم: قوله: {وَمَنَاةً} يحتمل أن تكون الألف فيه منقلبة عن واو، كما يرشد لذلك رسمها في المصحف، وعليه يكون أصلها منوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وأن تكون منقلبة عن ياء، فيكون أصلها منية، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}؛ أي: جائرة ظالمة. من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما: تكون صفة على فعلى بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء؛ لتصح الياء، كبيض. فإن قيل: وأيُّ ضرورة تدعو إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل فعلى بالكسر؟. فالجواب: أن سيبويه حكى: أنه لم يرد في الصفات فعلى بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو: حبلى، وأنثى، وربا، وما أشبهه. إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك. حكى ثعلب: ميتة حيكي، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهي، وامرأة سعلي. وهذا لا ينقض على سيبويه؛ لأن سيبويه يقول في حيكي وكيسي كقوله في ضيزى لتصح الياء. وأمَّا عزهي وسعلي فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة.

والوجه الثاني: أن تكون مصدرًا كذكرى. قال الكسائي: يقال: ضاز يضيز ضيزى، كذكر يذكر ذكرى. وقرىء {ضِئْزَى} بهمزة ساكنة. ومعنى ضأزه يضأزه نقصه ظلمًا وجورًا. وهو قريب عن الأول. وفي "المختار": ضاز في الحكم جار، وضازه فيه نقصه وبخسه، وبابهما باع. وقال بعضهم: قوله: {ضيزى} يحتمل أن تكون أصلها ضيزى بوزن فعلى بضم الفاء، فقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء. ويحتمل أن يكون أصلها ضوزى بوزن فعلى بكسر الفاء، ثم قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. ويحتمل أن يكون أصلها ضوزى مثل: طوبى، بكسر أوله، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة. ومنشأ هذا الخلاف هل الكلمة واوية العين أو يائية؟ وعلى أنها يائية لا قلب، اهـ. {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} أصله: تمني بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. والتمني: تقدير شيء في النفس، وتصويره فيها. وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل. لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك. فأكثر التمني تصوير ما لا حقيقة له. {لَيُسَمُّونَ} أصله: ليسميون، استثقلت الضمة علي الياء فحذفت، ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت الميم لمناسبة الواو. {تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} مصدر قياسي لسمي؛ لأنه قياس فعل المستعل اللام، فحذفت ياء التفعيل منه، وعوض عنها إياه في آخره، نظيره زكى تزكية، وورى تورية. {إِلَّا اللَّمَمَ} قال الفراء: اللمم: أن يفعل الإنسان الشيء في الحين، ولا يكون عادة له. ومنه: إلمام الخيال. {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} والأجنة: جمع جنين، مثل: أسرة وسرير. وأصله: أجننة بوزن أفعلة، نقلت حركة النون الأولى إلى الجيم فسكنت؛ وأدغمت في النون الثانية، فوزنه أفعلة. والجنين: الولد ما دام في البطن. وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مدفون مستتر. والجنين: الدفين في الشيء المستتر فيه من جنه إذا ستره. وإذا خرج من بطن أمه لا يسمى إلا ولدًا أو سقطًا. وفي الأشباه: هو جنين ما دام في بطن أمه، فإذا انفصل ذكرًا فصبي، ويسمى رجلًا، كما في آية المراث إلى البلوغ. فغلام إلى تسعة عشر، فشاب إلى أربعة وثلاثين، فكهل إلى إحدى وخمسين؛ فشيخ

إلى آخر عمره. {فَلَا تُزَكُّوا} أصله: تزكيون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكان، فحذفت الياء وضمت الكاف لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أصله: اوتقي بوزن افتعل، فقلبت {الواو} تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس المغاير في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} فالأول {هَوَى} بمعنى خر وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس. ومنها: إيراده - صلى الله عليه وسلم - بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، وإحاطتهم خبرًا ببراءته - صلى الله عليه وسلم - مما نفي عنه بالكلية، وباتصافه بغاية الهدى والرشاد. فإن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتمًا، كما في "الإرشاد". ومنها: عطف الخاص الذي هو الغواية: وهو الخطأ في الاعتقاد فقط على الضلال الذي هو العام. لأنه خطأ في الاعتقاد، والأقوال، والأفعال، والأخلاق في قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)}. ومنها: الإتيان بصيغة الماضي أولًا في قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} وبصيغة المستقبل ثانيًا في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} بيانًا لحاله قبل البعثة وبعدها؛ أي: ما ضلَّ وما غوى حين اعتزلكم، وما تعبدون قبل أن يبعث رسولًا، وما ينطق عن الهوى الآن، حين يتلو عليكم آيات ربه، قاله ابن الشيخ. وقال صاحب الروح: والظاهر: أن صيغة الماضي باعتبار قولهم: قد ضل وغوى إشارة إلى تحقق ذلك في زعمهم. وأمَّا صيغة المضارع، فباعتبار تجدد النطق في كل حال، والله أعلم بكل حال. ومنها: التأكيد لرفع احتمال المجاز في قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} فإنَّ

{يُوحَى} صفة موكدة لوحي، رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار التجددي يعني: أن فائدة الوصف التنبيه على أن وحي حقيقة، لا أنه يسمى به مجازًا. والوحي قد يكون اسمًا بمعنى الكتاب الإلهي، وقد يكون مصدرًا. وله معان: الإرسال، والإلهام، والكتابة، والكلام، والإشارة، والإفهام. ومنها: إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها في قوله: {شَدِيدُ الْقُوَى} وحذف الموصوف؛ أي: ملك شديد قواه. ومنها: فن القلب في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} وهو من المقلوب الذي تقدم فيه ما يوضحه التأخر، وتأخر ما يوضحه التقديم؛ أي: تدلى فدنا. لأنه تدلى للدنوّ، ودنا بالتدلي. ومنها: الإبهام للتعظيم والتهويل في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} ومثله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)}، وكذلك قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}. ومنها: الاستفهام التوبيخي مع الإزراء بعقولهم في قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. والاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}. ومنها: الإضمار قبل الذكر في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} لغاية ظهوره، كما في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}؛ أي: على ظهر الأرض. والمراد بالعبد المشرف بالإضافة إلى الله: هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}. ومنها: تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس من قوله: {ثُمَّ دَنَا} إلى قوله: {أَوْ أَدْنَى}. وفيه أيضًا: الجناس المغاير بين: {دَنَا} {أَدْنَى}. ومنها: الجناس المماثل بين {يَرَى}، و {رَأَى} في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ}. ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في قوله: {جَنَّةُ الْمَأْوَى}؛ أي: الجنّة التي يأوي إليها المتقون، فهو مثل: مسجد الجامع كما مرّ.

ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى}. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} إلى الغيبة في قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} للإيذان بأن تعداد قبحائهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} لإفادة إرادة الجنس. ومنها: الإطناب في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} بتكرير قوله: {أَعْلَمُ} لزيادة التقرير، والإيذان بكمال تباين المعلومين. ومنها: المقابلة في قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}. وفيه الإطناب أيضًا بتكرار لفظ {يجزي}. ومنها: الإتيان بصيغة الاستقبال في صلة الموصول الذي وقع بدلًا أعني: قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} دون صلة الموصول الذي وقع مبدلًا منه أعني: قوله: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} اهتمامًا بشأن الخاص. ومنها: الإتيان بلام التعريف في الملائكة في قوله: {لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ} لإفادة الاستغراق. ومنها: تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعارًا بأنّها في الشناعة، والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها. قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فإن قيل: الجنين إذا كان اسمًا له ما دام في البطن، فما فائدة قوله تعالى: {في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}؟ قلنا: فائدته

المبالغة في بيان كمال علمه، وقدرته. فإن بطون الأمهات في غاية الظلمة. ومن علم حال الجنين فيها لا يخفى عليه شيء من أحواله. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}. المناسبة قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (¬1) سبحانه وتعالى لمّا بيّن علمه، وقدرته، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان, وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم. وهذا لا يعرف إلا بالوحي من الله تعالى .. ذكر هنا أن من العجب العجاب بعد هذا أن يسمع سامع، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه في تحمل وزره، ويعطيه جعلًا. لكنه ما أعطاه إلا قليلًا، حتى وقف عن العطاء .. ومن ثم وبخه على ذلك بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي. فهل علم منه صحة ما اعتقده؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى، وإبراهيم على غير هذا. وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له؟. قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر قبل ما جاء في صحف موسى وإبراهيم من أن الإحياء، والإماتة بيد الله سبحانه، وأنه هو الذي يصرف أمور العالم خلقًا، وتدبيرًا، ¬

_ (¬1) المراغي.

وملكًا، فيفقر قومًا ويغني آخرين، وأن أمر المعاد تحت قبضته، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه، وأن بعض الأمم كذبت رسلها، وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها .. قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان، وأنه كيف يتشكك في هذا، ويجادل فيه منكرًا له، وتد جاء النذير به فعليكم أن تصدقوه، وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو، فلا تعجبوا من القرآن منكرين، ولا تضحكوا منه مستهزئين، وابكلوا حزنًا على ما فرطتم في جنب الله، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم في دنياك وآخرتكم، واسجدوا شكرًا لبارىء النسم الذي أوجدها من العدم، واعبدوه بكرةً وعشبًا شكرًا على آلائه، وتقلبكم في نعمانه. أسباب النزول قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ...} الآيات، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في غزوة، فجاء رجل يريد أن يحمل، فلم يجد ما يخرج عليه، فلقي صديقًا له، فقال: أعطني شيئًا فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي، فقال له: نعم. فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)} الآيات. وقال مجاهد، وابن زيد (¬2): إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد سمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلس إليه، ووعظه، فلان قلبه للإسلام، فطمع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أأتترك ملة آبائك ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطبني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هم به من الإِسلام، وضل ضلالًا بعيدًا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشحَّ. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال (¬3): إنّ رجلًا أسلم، فلقيه بعض من يعيره، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) المراغي. (¬3) لباب النقول.

[33]

قال: أتركت دين الأشياخ، وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؛ قال: إني خشيت عذاب الله، قال: أعطني شيئًا، وأنا أحمل كل عذاب كان عليك، فأعطاه شيئًا، فقال: زدني، فتعاسرا حتى أعطاه، وكتب كتابًا وأشهد له. ففيه نزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)}. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا يقرون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي شامخين، فنزلت: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)}. التفسير وأوجه القراءة 33 - ولما بين سبحانه جهالة المشركين على العموم خصَّ بعضهم بالذم، فقال: {أَفَرَأَيْتَ} يا محمد، أو أيها المخاطب؛ أي: هل أخبرت، وعلمت يا محمد {الَّذِي تَوَلَّى}؛ أي: شأن وحال الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق. فالفاء استئنافية، والهمزة للاستفهام التقريري. 34 - {وَأَعْطَى}، لمن يتحمل عنه الأوزار شيئًا {قَلِيلًا} من ماله أو إعطاه قليلًا. {وَأَكْدَى}؛ أي: قطع عطاءه عنه، وأمسك بخلًا. 35 - والاستفهام في قوله: {أَعِنْدَهُ}؛ أي: هل عند ذلك المتولي {عِلْمُ الْغَيْبِ}؛ أي: علم ما غاب عنه من أمر العذاب للإنكار. والفاء في قوله (¬1): {فَهُوَ يَرَى} سببية. والرؤية قلبية؛ أي: هل عنده علم بالأمور الغيبية التي من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة. فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه. قال ابن الشيخ: أرأيت بمعنى أخبرت، و {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} مفعوله الثاني؛ أي: هل أخبرت، وعلم يا محمد هذا المعطي المكدي هل عنده علم ما غاب عنه من أحوال الآخرة؟ فهو يعلم أن صاحبه يتحمل أوزاره على أن قوله: {يَرَى}، بمعنى يعلم، حذف مفعولاه لدلالة المقام عليهما. وقيل: الهمزة في قوله: {أَفَرَأَيْتَ} للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكرت يا محمد في حال بعض المعاندين فرأيت الذي تولى وأعطى قليلًا وأكدى هل عنده علم الغيب فهو يرى أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[36]

أي: فكر في حاله، وأخبرني عن شأنه هل عنده علم الغيب، أم لا؟. والمعنى (¬1): أي أعلمت شأن هذا الكافر، وهل بلغك شأنه العجيب؟ فقد أشرف على الإيمان, واتباع هدى الرسول، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بأن لا يقبل نصح الناصح، ويرجع إلى دين آبائه، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلًا من المال، فقبل ذلك منه، لكنه ما أعطاه إلا قليلًا، حتى امتنع من إعطائه شيئًا بعد ذلك. أفعنده علم بأمور الغيب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة. وقصارى ذلك (¬2): أخبرني بأمر هذا الكافر، وحاله العجيبة. إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره، إذا أدى له أجرًا معلومًا أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟. 36 - ثم أكد هذا الإنكار، فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا، فقال: {أَمْ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام؛ أي: بل أهو جاهل {لَمْ يُنَبَّأْ}؛ أي: لم يخبر {بِمَا في صُحُفِ مُوسَى}، أي: أسفار التوراة. جمع صحيفة. وهي التي يكتب فيها، 37 - {وَإِبْرَاهِيمَ} معطوف على موسى؛ أي: وبما في صحف إبراهيم {الَّذِي وَفَّى} صفة لإبراهيم، أي: الذي وفر، وأكمل، وأتم ما ابتلي به من الكلمات، كما مر في سورة البقرة. قال المفسرون؛ أي: بلغ قومه ما أمر به، وأداه إليهم. وقيل: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه؛ لأنّ التشديد يأتي للتكثير والمبالغة. وتخصيصه بذلك (¬3) لاحتماله ما لم يحتمل غيره كالصبر على نار نمرود، حتى إنه أتاه جبريل حين ألقي في النار، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. وعلى ذبح الولد، وعلى الهجرة، وعلى ترك أهله وولده بواد غير ذي زرع. ونعم ما قيل هنا: {وَفَّى} ببذل نفسه للنيران، وقلبه للرحمن، وولده للقربان، وماله للضيفان. وروي: أنه كان يمشي كل يوم فرسخًا يرتاد ضيفًا، فإن وجده أكرمه، وإلا نوى الصوم. وروي: "ألا أخبركم لم سمى الله خليله {الَّذِي وَفَّى}؟ كان يقول إذا أصبح، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[38]

وأمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} حتى يختم الآيتين". ذكره أحمد في "مسنده" الآيات الثلاث. وفي "عين المعاني": عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: كم من كتاب أنزل الله؟ قال: مئة كتاب وأربعة كتب. أنزل الله على آدم عشر صحائف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف. وأنزل الله التوراة، والإنجيل والزبور، والفرقان. قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؛ قال: "كانت أمثالًا منها: أيّها الملك المبتلى المغرور إني لم أبعثك، فتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك كيلا ترد دعوة المظلوم، فإني لا أردها، وإن كانت من كافر" الحديث. وإنما ذكر ما جاء في شريعتي هذين البيين فحسب؛ لأن المشركين كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما في التوراة وصحفها قريبة العهد منهم. فإن قلت: لم قدم موسى هنا على إبراهيم، وعكس في سورة الأعلى؟. قلت: إنما قدم موسى هنا لما أنَّ صحفه التي هي التوراة أشهر عندهم وأكثر، وأيضًا هو من باب الترقي من الأقرب إلى الأبعد لكون الأقرب أعرف، وأيضًا أن موسى صاحب كتاب حقيقة بخلاف إبراهيم. وقدم إبراهيم على موسى في سورة الأعلى لغرض الفاصلة. وقرأ الجمهور {وَفَّى} بتشديد الفاء. وقرأ أبو أمامة الباملي، وسعيد بن جبير، وأبو مالك الغفاري، وابن السميقع، وزبد بن علي بتخفيفها. ولم يذكر متعلق {وَفَّى} إفادة للعموم، ذكره في "البحر". 38 - ثم بين سبحانه ما في صحفهما، فقال: {أَلَّا تَزِرُ}؛ أي: والذي في صحفهما أنه لا تزر، ولا تحمل نفس {وَازِرَةٌ}؛ أي: حاملة وزرًا وحملًا {وِزْرَ أُخْرَى}، أي: حمل نفس أخرى. ومعناه: لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى. وأصله (¬1): أن لا تزر؛ على أن {أن} هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية خبرها. ومحل الجملة الجر، على أنها بدل عن {مَا} في قوله: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

{بِمَا في صُحُفِ مُوسَى}، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: أي شيء في صحفهما؛ فقيل: هو أنه؛ أي: الشأن لا تحصل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى، من حيث إنه تتعرى منه المحمول عنها، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره؛ ليتخلص الثاني من عقابه، فالمراد بالوازرة: هي التي يتوقع منها الوزر والحمل، لا التي وزرت وحملت ثقلًا، وإلا فكان مقتضى المقام أن يقال: لا تحمل فارغة وزر أخرى. إذ لا تحمل مثقلة بوزرها غير الذي عليها. وفي هذا (¬1): إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أنه يحمل عنه الإثم. وقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه، وابنه، وأخيه، وامرأته، وعبده حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى. ولا يعارض (¬2) هذه الآية قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. إذ ليس المعنى: أنَّ عليه إثم مباشرة سائر القاتلين، بل المعنى: أنَّ عليه فوق إثم مباشرته للقتل المحظور إثم دلالته، وسببيته لقتل هؤلاء، وهما ليستا إلا من أوزاره، فهو لا يحمل إلا وزر نفسه. وكذا لا يعارضها أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره. 39 - وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} معطوف على قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ} إلخ. و {أَن} مخففة من الثقيلة كأختها السابقة، {لِلْإِنْسَانِ} خبر {لَيْسَ}، و {إِلَّا مَا سَعَى} اسمها و {ما} مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة. والمعنى: وأنه - أي: الشأن - ليس للإنسان في الآخرة إلا سعيه في الدنيا من العمل، والنية، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله. فهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع إثر بيان عدم انتفاعه، من حيث دفع ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

الضرر عنه. وظاهر الآية (¬1): يدل على أنه لا ينفع أحدًا عمل أحد. وهذا العموم مخصوص بمثل قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات، ونحو ذلك. ولم يصب من قال: إنَّ هذه الآية منسوخة بمئل هذه الأمور. فإن الخاص لا ينسخ العام، بل يخصصه. فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به، وهو من غير سعيه كان مخصصًا لما في هذه الآية من العموم. وقال الربيع بن أنس (¬2): {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} يعني: الكافر. وأما المؤمن فله ما سعى، وما سعى له غيره. وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول. وفي "فتح الرحمن": واختلف الأئمة فيما يفعل من القرب: كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، والصدقة، ويهدى ثوابه للميت المسلم. فقال أبو حنيفة وأحمد: يصل ذلك إليه، ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته. وقال مالك، والشافعي: يجوز ذلك في الصدقة، والعبادة المالية، وفي الحجّ. وأما غير ذلك كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، وغيره فلا يجوز، ويكون ثوابه لفاعله. وعند المعتزلة: ليس للإنسان جعل ثواب عمله مطلقًا لغيره، ولا يصل إليه، ولا ينفعه لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِثإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}، ولأن الثواب هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلًا عن غيره. ومعنى الآية (¬3): أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه. ومن هذا استنبط مالك، والشافعي، ومن تبعهما: أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنّه ليس من عملهم ولا كسبهم، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة، والصوم، والتلاوة. ومن ثم لم يندب إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إليها بنصٍّ، ولا إيماءٍ، ولم ينقل من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. أما الصدقة فإنها تقبل. وما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

انقطع عمله، إلا من ثلاث: ولد صالح بدعو له، وصدقة جاربة من بعده، وعلم ينتفع به" فهي في الحقيقة من سعيه، وكده، وعمله، كما جاء في الحديث: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولد الرجل من كسبه"، والصدقة الجارية كالوقف، ونحوه من أعمال البر هي من آثار عمله والعلم نشره في الناس فاقتدوا به، واتبعوه هو من سعيه. فقد ثبت في "الصحيح": "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا". ومذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء: أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر، أما إذا كانت به، كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر، وغيرها فلا يصل إلى الميت ثوابها. إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن، وإن لم يحرم على تعليمه. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس (¬1): من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعصله، فقد خرق الإجماع. وذلك باطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره. وهو انتفاع بعمل الغير. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها, ولأهل الكبائر في الإخراج من النار. وهذا الانتفاع بسعي الغير. والثالث: أن كل نبي وصالح له شفاعة. وذلك انتفاع بعمل الغير. والرابع: أن الملائكة يدعون، ويستغفرون لمن في الأرض. وذلك منفعة بعمل الغير. والخامس: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم. والسادس: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم. وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. وكذا الميت بالصدقة عنه، وبالعتق بنص السنة والإجماع. وهو من عمل غيره. وأن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة. وكذا تبرأ ¬

_ (¬1) روح البيان.

ذمة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض، كما قال الشافعي: إذا أنا من فليغسلني فلان؛ أي: من الدين. وذلك انتفاع بعمل الغير. وكذا من عليه تبعات ومظالم، إذا حلل منها سقطت عنه. وأن الجار الصالح ينتفع بجواره في الحياة والممات، كما جاء في الأثر: وأن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس معهم لذلك، بل لحاجة أخرى. والأعمال بالنيات، وكذا الصلاة على الميت، والدعاء له فيها ينتفع بها الميت مع أن جميع ذلك انتفاع بعمل الغير. ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى. والآيات الدالة على مضاعفة الثواب كثيرة أيضًا، فلا بد من توجيه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. فإنه لاشتماله على النفي والاستثناء، يدل على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمل نفسه، ولا يجزى على عمله إلا بقدر سعيه، ولا يزداد. وهو يخالف الأقوال الواردة في انتفاعه بعمل غيره، وفي مضاعفة ثواب أعماله. ولا يصح أن يؤول بما يخالف صريح الكتاب، والسنة، وإجماع الأمّة. فأجابوا عنه بوجوه: منها: أنه في حق الكافر. والمعنى عليه: ليس له من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا، بأن يوسع عليه في رزقه، ويعافى في بدنه، حتى لا يبقى له في الآخرة حسنة يثاب عليها. ومنها: أنه بالنسبة إلى العدل، لا الفضل. ومنها: أن الإنسان إنما ينتفع بعمل غيره؛ إذا نوى الغير أن يعمل له، حيث صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعًا، فكان سعي الغير بذلك كأنه سعيه. وأيضًا أن سعي الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط, فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمنًا صالحًا كان سعي الغير تابعًا لسعيه، فكأنه سعي بنفسه. فإن علقة الإيمان وصلة وقرابة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". والحاصل: أنه لما كان مناط منفعة كل ما ذكر من الفوائد عمله الذي هو الإيمان, والعمل الصالح، ولم يكن شيء منه نفع ما بدونهما جعل النافع نفس عمله، وإن كان بانضمام غيره إليه.

[40]

40 - {وَأَنَّ سَعْيَهُ}؛ أي: سعي الإنسان. وهو عمله، كما في قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)}. وهو مع خبره معطوف على ما قبله من قوله: {أَلَّا تَزِرُ} إلخ، على معنى: أنّ المذكورات كلها في الصحف، أي: ومما في صحفهما أن سعيه {سَوْفَ يُرَى}؛ أي: يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته، وميزانه. من أريته إذا عرضته عليه. أو يراه أهل الموقف، ويطلعون عليه تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسيء. 41 - {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي: ثم يجزى الإنسان سعيه؛ أي: جزاء عمله. فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان، والمنصوب إلى سعيه. {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}؛ أي: الجزاء الأوفر الكامل الأتم، إن خيرًا فخبر، وإن شرًا فشر. وهو مفعول مطلق مبين للنوع. وفي قوله: {الْأَوْفَى} وعيد للكافر، ووعد للمؤمن. 42 - {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}؛ أي: ومما في صحفهما أن انتهاء الخلق في رجوعهم إلى الله تعالى بعد الموت إلى ربك، لا إلى غيره لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، فيجازيهم بأعمالهم. وفي الحقيقة انتهاء الخلق إليه تعالى في البداية والنهاية {إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. إذ لا إله إلا هو؛ أي: وأن مرجع الأمور يوم المعاد إلى ربك. فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار، وفي هذا تهديد بليغ للمسيء، وحث شديد للمحسن، وتسلية لقلبه - صلى الله عليه وسلم -. كأنّه يقول له: لا تحزن أيها الرسول، فإن المنتهى إلى الله سبحانه. وقرأ الجمهور (¬1) {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ}، وما بعدها من {وأنّه}، و {أنّ} بفتح الهمزة عطفًا على ما قبلها، وقرأ أبو السمال بالكسر فيهن. 43 - {وَ} مما في صحفهما {أَنَّهُ} سبحانه وتعالى {هُوَ} وحده {أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، أي: خلق قوتي الضحك والبكاء في الإنسان منهما ينبعث الضحك والبكاء. والإنسان لا يعلم ما تلك القوة. والضحك (¬2): انبساط الوجه، وتكشر الأسنان من سرور النفس. والبكاء بالمد: سيلان الدمع عن حزن. وقيل: هما كنايتان عن السرور، والحزن. كأنه قل: أفرح، وأحزن. لأنَّ الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء، أو عما يسر ويحزن. وهو الأعمال الصالحة، والأعمال السيئة. أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[44]

أضحك في الدنيا أهل النعمة، وأبكى أهل الشدة والمصيبة، أو أضحك في الجنة أهلها، وأبكى في النار أهلها. أو أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، أو أضحك الأشجار بالأنوار، والسحاب بالأمطار، أو القراطيس بالأرقام والأقلام بالمداد، أو أضحك القرد، وأبكى البعير، أو أضحك بالوعد، وأبكى بالوعيد، أو أضحك المطيع بالرضى، وأبكى العاصي بالسخط، أو أضحك الأسنان، وأبكي الجنان. أو بالعكس. قال الشاعر: السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرِقُ ... وَإِنَّمَا ضِحْكُهَا زُوْرٌ وَمُخْتَلَقُ يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لَا دُمُوْعَ لَهَا ... وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ والمعنى (¬1): أي وأنه خلق في عباده الضحك والبكاء، وسببهما. والمراد: أنه خلق ما يسر وما يحزن من الأعمال الصالحة والأعمال الطالحة. 44 - {وَ} مما في صحفهما {أَنَّهُ} سبحانه {هُوَ} وحده {أَمَاتَ وَأَحْيَا}؛ أي: قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره لا خلقًا، ولا كسبًا. فإن أثر القاتل هو نقض البنية، وتفريق الاتصال، وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله سبحانه على العادة. فللعبد نقض البنية كسبًا دون الإماتة. وقيل: خلق نفس الموت والحياة كما في قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}. وقيل: أمات الآباء، وأحيا الأبناء. وقيل: أمات في الدنيا، وأحيا للبعث. وقيل: المراد بما: النوم واليقظة. وقال عطاء: أمات بعدله، وأحيا بفضله، وقيل: أمات الكافر، وأحيا المؤمن كما في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. 45 - {وَ} مما في صحفهما {أَنَّهُ} سبحانه {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} أي: الصنفين {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} بدل من الزوجين. وفي بعض التفاسير من كل الحيوان. وفيه (¬2) أن كل حيوان لا يخلق من النطفة، بل بعضه من الريح كالطير؛ فإن البيضة المخلوقة منها الدجاجة مخلوقة من ريح الديك. ولا يدخل في ذلك آدم وحواء. فإنهما لم يخلقا من النطفة. 46 - {مِنْ نُطْفَةٍ} متعلق بخلق. هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل كما في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[47]

"المفردات". {إِذَا تُمْنَى}؛ أي: إذا تدفق، وتصب في الرحم والمعنى: أنه يقدر منها الولد. قال أبو عبيدة: {إِذَا تُمْنَى} إذا تقدر. يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ومنى له إذا قدر له. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} ولم يقل: وأنه هو خلق، كما قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)}؟ فالجواب: أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، وكذا الإماتة. وإن كان ذلك التوهم فيهما أبعد، لكن ربما يقول به جاهل، كما قال من حاج إبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة، فلا يتوهم أحد أنه بفعل أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل. اهـ كرخي. والمعنى: أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المنيّ الذي يدفق، ويصب في الأرحام. 47 - {وَ} مما في صحفهما {أَنَّ عَلَيْهِ} سبحانه وتعالى {النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}، أي: الخلقة الأخرى. وهو الإحياء بعد الموت وفاء بوعده، لا لأنّه يجب على الله كما يوهمه ظاهر كلمة على. وفيه تصريح بأن الحكمة الإلهية اقتضت النشأة الثانية الصورية للجزاء، والمكافأة، وإيصال المؤمنين بالتدرج إلى كمالهم اللائق بهم. ولو أراد تعجيل أجورهم في هذه الدار .. لضاقت الدنيا بأجر واحد منهم، فما ظنك بالباقي. ومن طلب تعجيل نتائج أعماله وأحواله في هذه الدار .. فقد أساء الأدب، وعامل الموطن بما لا يقتضيه حقيقته؛ أي: وإن عليه الإحياء بعد الإماتة ليجازي كلًّا من المحسن، والمسيء على ما عمل. وقرأ الجمهور (¬1) {النَّشْأَةَ} بالقصر بوزن الضربة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالمد بوزن الكفالة. وهما على القراءتين مصدران. 48 - {وَ} مما في صحفهما {أَنَّهُ} تعالى {هُوَ} وحده {أَغْنَى} من شاء من عباده بالأموال {وَأَقْنَى}؛ أي: أفقر من شاء منها. ومثله قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، وقوله: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}؛ أي: وأنه تعالى يغني من يشاء من عباده، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة في هذه الحياة. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[49]

وفي هذا (¬1): تنبيه إلى كمال القدرة. فإن النطفة جسم متناسب الأجزاء في الظاهر، ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة، وطباعًا متباينة من ذكر وأنثى. ومن ثم لم يدع أحد خلق ذلك كما لم يدع خلق السموات والأرض كما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. ونحو الآية قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} وقيل: أنه هو أغنى؛ أي: أعطى الغنى للناس بالأموال، وأقنى؛ أي: أعطى القنية. وهي ما يتأثل من الأموال؛ أي: يتخذ أصلًا، ويدخر بأن يقصد حفظه استثمارًا واستنماءً، وأن لا يخرج عن ملكه. وقال بعضهم: أغنى الناس بالكفاية والأموال، وأعطى القنية، وما يدخرونه بعد الكفاية. وقال الضحاك: أغنى بالذهب، والفضة، والمسكن، والثياب. وأقنى بالإبل، والبقر، والغنم، والدواب. قال أبو زيد: تقول العرب: من أعطي مئة من البقر .. فقد أعطي القنى، ومن أعطي مئة من الضأن .. فقد أعطي الغنى، ومن أعطي مئة من الإبل .. فقد أعطي المنى. وأفرد القنية بالذكر بعد قوله: {أَغْنَى}؛ لأنها أشرف الأموال، وأفضلها. والأوفق لما قدمه من الآي المشتملة على مراعاة صنعة الطباق أن يحمل {أقنى} على معنى أفقر، على أن تكون الهمزة في {أقنى} للإزالة، كما قاله سعديٌّ المفتي. 49 - {وَ} منه {أَنَّهُ} تعالى {رَبُّ الشِّعْرَى}؛ أي: رب معبودهم الشعرى. فاعبدوا الرب دون المربوب. والشعرى: كوكب نير خلف الجوزاء. يقال له: العبور بالمهملة بوزن الصبور. قال مجاهد، وابن زيد: هو مرزم الجوزاء. وهي المرادة هنا. وهي أشد ضياء من الغميصاء - بالغين المعجمة المضمومة - وفتح الميم والصاد المهملة". وهي إحدى الشعريين. يعني: أن الشعرى شعريان. أحدهما: الشعرى اليمانية، وتسمى أيضًا الشعرى العبور. وثانيتهما: الشعرى الشامية، وهي التي بالذراع. وتسمى أيضًا الشعرى الغميصاء، فصلت المجرة بينهما. تزعم العرب أن الشعريين أختا سهيل، وأن الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر سهيل نحو اليمين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

وتبعته العبور؛ فعبرت المغيرة، ولقب سهيلًا، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل؛ فغمصت عينها؛ أي: كانت أقل نورًا من العبور وأخفى. والغمص في العين ما سأل من الرمص. يقال: غمصت عينه بالكسر غمصًا. وكانت خزاعة تعبد الشعرى. سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم. فقال: لقومه: إن النجوم تقطع السماء عرضًا، وهذه تقطعها طولًا، فليس شيء مثلها. فعبدتها خزاعة، وخالف أبو كبشة قريشًا في عبادة الأوثان، ولذلك كانت قريش تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسمونه: ابن أبي كبشة تشبيهًا له به، لا يريدون بذلك اتصال نسبه إليه، وإن كان الأمر كذلك؛ لأن أبا كبشة من أجداده - صلى الله عليه وسلم - من قبل أمه. ومن ذلك قول أبي سفيان حين دخوله على هرقل: لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة، بل يريدون بذلك موافقته - صلى الله عليه وسلم - له في ترك عبادة الأوثان؛ وإحداث دين جديد. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما وافق أبا كبشة في مخالفة قريش بترك عبادة الأوثان خالفه أيضًا بترك عبادة الشعرى. والمعنى (¬1): أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر. فاعبدوه، ولا تعبدوا الشعرى. وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية، وفيها ما هو أكبر منها جرمًا، وأكثر ضوءًا لأنها عبدت من دون الله في الجاهلية. فقد عبدتها حمير، وخزاعة؛ كما مر آنفًا. ومن العرب من كانوا يعظمونها، ويعتقدون أن لها تأثيرًا في العالم، ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها. وهي شعريان. إحداهما: شامية. وهي التي في الذراع. وثانيتهما: يمانية، وهي خلف الجوزاء. وهي المرادة في هذه الآية، وهي التي كانت تعبد من دون الله سبحانه وتعالى. وفي هذا إشارة إلى فساد قول من قال من الناس: إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده. فمن كسب استغنى، ومن كسل افتقر. وبعضهم قال: إنّ ذلك بالبخت، وذلك بالنجوم. فردهم تعالى بقوله: هو تعالى محرك النجوم، ورب معبودهم الشعرى العبور. 50 - {وَ} منه {أَنَّهُ} سبحانه وتعالى {أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} هي (¬2) قوم هود عليه السلام, أهلكوا بريح صرصر. وعاد الأخرى إرم بن سام بن نوح؛ كما قال: {أَلَمْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[51]

تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)}. وكانوا من أشدّ الأمم، وأقواهم، وأعتاهم على الله ورسوله. وقيل: الأولى القدماء؛ لأنهم أولى الأمم هلاكًا بعد قوم نوح؛ أي: فالمراد بعاد: جميع من انتسب إلى عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. ووصفهم بالأولية ليس للاحتراز عن عاد الأخيرة، بل لتقدم هلاكهم بحسب الزمان على هلاك سائر الأمم بعد قوم نوح. قال في "التكملة": وصف عاد بالأولى يدل على أن لها ثانية. فالأولى هي عاد بن إرم قوم هود. والثانية من ولدها، وهي التي قاتلها موسى عليه السلام بأريحاء. كانوا تناسلوا من الهزيلة بنت معاوية، وهي التي بنت من قوم عاد مع بنيها الأربعة: عمر, وعمرو، وعامر، والعتيد. وكانت الهزيلة من العماليق، انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {عَادًا الْأُولَى} بتنوين عادًا وكسره لالتقاءه ساكنًا مع سكون لام الأولى، وتحقيق الهمزة بعد اللام. وقرأ قوم كذلك، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام، وحذفوا الهمزة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن محيصن وأبو عمرو بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة. 51 - {وَثَمُودَ} معطوف على: {عَادًا}. لأنَّ ما بعده لا يعمل فيه لمنع ما النافية عن العمل. وهم قوم صالح عليه السلام، أهلكهم الله سبحانه بالصيحة. {فَمَا أَبْقَى} الله سبحانه وتعالى أحدًا من الفريقين. والمعنى: أي وأنه أهلك ثمود كما أهلك عادًا؛ فما أبقى منهم عينًا تطرف. ويجوز أن يكون المعنى: فما أبقى عليهما. فالإبقاء على هذا المعنى: الترحم عليهم. وإنما لم يترحم عليهم لكونهم من أهل الغضب، ورحمة الله لأهل اللطف دون القهر؛ أي: فما أبقى عليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقرأ الجمهور (¬2) {وثمودًا} مصروفًا. وقرأه غير مصروف: الحسن، وعاصم، وعصمة. 52 - {وَقَوْمَ نُوحٍ} معطوف على {عَادًا} أيضًا؛ أي: وأنّه سبحانه أهلك قوم نوح عليه السلام {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبل إهلاك عاد، وثمود. {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن قوم نوح {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ} لنببهم {وَأَطْغَى}؛ أي: أعتى لربهم من الفريقين، حيث كانوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[53]

يؤذونه، وينفرون الناس عنه. وكانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، وكانوا يضربونه عليه السلام، حتى لا يكون به حراك. وما أثرت فيهم دعوته قريبًا من ألف سنة، وما آمن معه إلا قليل. والمعنى: أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، وكانوا أظلم وأطغى من الفريقين، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب. وإنما كانوا أظلم لأنهم بدؤوا بالظلم. وفي الحديث: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها". لأنهم أول من كذب الرسل. وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه؛ ويمشي به إلى نوح، ويحذره منه، ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا الرجل، وأنا مثلك يومئذٍ، ويقول: فإياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، لا يتأثر من دعوة نوح له. وكانوا أطغى؛ أي: أكثر طغيانًا وتمردًا على الله، وأكثر تجاوزًا للحد؛ لأنهم سمعوا المواعظ، وطال عليهم الأمد، ولم يرتدعوا، حتى دعا عليهم نبيهم بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. 53 - وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} منصوب عطفًا على {عَادًا}؛ أي: وأنّه أهلك المؤتفكة، أي: قرى قوم لوط عليه السلام. سميت مؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي: انقلبت بهم. وقيل: هو منصوب بقوله: {أَهْوَى}؛ أي: أسقطها الله إلى الأرض مقلوبة بعد أن رفعها على جناح جبريل إلى السماء. وقال الزجّاج: ألقاها في الهاوية. 54 - {فَغَشَّاهَا}، أي: فغشى الله سبحانه المؤتفكة، وغطاها، وألبسها {مَا غَشَّى}؛ أي؛ ما غشاها؛ أي: ما ألبسها من فنون العذاب، والحجارة الذي وقعت عليها. وفي هذه العبارة من التهويل والتفظيع ما لا غاية وراءه. وقوله (¬1): {مَا غَشَّى} مفعول ثان إن قلنا: إن التضعيف للتعدية، أي: ألبس الله سبحانه المؤتفكة ما ألبسها إياه من العذاب كالحجارة المنضودة المسوّمة، فمفعولا الفعل الأول مذكوران، والثاني محذوفان. وإن قلنا: إنه للمبالغة والتكثير هو فاعل كقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[55]

والمعنى: وأهلك الله سبحانه قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم، وجعل عاليها سافلها، ثم أمطر علبهم حجارة من سجيل منضود، كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)}. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}. خلاصة ما هنا: وجملة ما ذكره سبحانه مما تضمنته صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام أربعة عشر: 1 - أن لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره. 2 - أن لا يثاب امرؤ إلا بعمله. 3 - أن العامل يرى عمله في ميزانه خيرًا كان أو شرًّا. 4 - أنه يجازى عليه الجزاء الأوفى، فتضاعف له حسناته إلى سبع مئة ضعف ويجازى بمثل سيئاته. 5 - أن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم، ومجازون بأعمالهم. 6 - أنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن. 7 - أنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب في الأرحام. 8 - أنه تعالى خلق الموت والحياة. 9 - أنه هو الذي أعطى الغنى والفقر، وكلاهما بيده، وتحت قبضته. 10 - أنه هو رب الشعرى، وكانت خزاعة تعبدها. 11 - أنه أهلك عادًا الأولى، وقد كانوا أول الأمم هلاكًا بعد قوم نوح. 12 - أنه أهلك ثمود فما أبقاهم، بل أخذهم بذنوبهم. 13 - أنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، وقد كانوا أظلم وأطغى من الفريقين. 14 - أنه أهلك المؤتفكة. وهي قرى قوم لوط، وقد انقلبت بأهلها، وغطّاها بحجارة من سجيل. 55 - {فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ}؛ أي: فبأيّ نعماء ربك، وخالقك التي أنعم بها عليك أيها المخاطب {تَتَمَارَى}؛ أي: تتجاحد، وتمتري، وتكذب. ونحو الآية قوله: {يَا أَيُّهَا

الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)}، وقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، وقوله: {فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}. والمراد بالنعم (¬1): ما عدَّده من قبل، وجعلت كلها نعمًا، وبعضها نقم لما في النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين من الأنبياء والمؤمنين. والخلاصة: أنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته، ففي أيها تتشكك على وضوحها للناظرين، ووجوه دلالتها للمعتبرين. وهذا خطاب للإنسان المكذب؛ أي: فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك، وتمتري. وقيل: الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا لغيره على حدّ قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. أو لكل واحد، وإسنار فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه. وعبارة "الروح": وجعل الأمور المعدودة الطاء مع أن بعضها نقم لما أنها أيضًا نعم، من حيث إنها نصرة للأنبياء والمؤمنين، وانتقام لهم. وفيها عظات، وعبر للمعتبرين. قال في "بحر العلوم": وهلاك أعداء الله تعالى؛ والنجاة من صحبتهم وشرهم، والعصمة من مكرهم من أعظم آلاته تعالى الواصلة إلى المؤمنين. قال المتنبي: وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى ... عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ وقد أمر نوحًا بالحمد على ذلك في قوله: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وقد حمد هو بنفسه على ذلك في موضع آخر تعليمًا لعباده حيث قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}. وقد سجد - صلى الله عليه وسلم - سجدة الشكر حين رأى رأس أبي جهل قد قطعت في غزوة بدر. وقرأ الجمهور: (¬2) {تَتَمَارَى} بتائين من غير إدغام. وقرأ يعقوب، وابن محيصن {تمارى} بتاء واحدة مشددة. والفاء في قوله: {فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} للإفصاح؛ لأنّها وقعت في جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات، وكنت شاكًّا فيها على سبيل الفرض .. فأقول لك: بأيّ نعمة من نعم ربك تتشكك بأنها ليست من عند الله تعالى، أو في كونها نعمة. فكما نصرت ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[56]

إخوانك من الأنبياء الماضين، ونصرت أولياءهم، وأهلكت أعداءهم، فكذلك أفعل بك. فلا يكن قلبك في ضيقٍ وحرج مما رأيت من إصرار هؤلاء القوم على شركهم وعنادهم واستكبارهم. 56 - والإشارة في قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)} إما للرسول. والنذير بمعنى المنذر؛ أي: هذا الرسول (¬1) محمد - صلى الله عليه وسلم - منذر لكم من عذاب الله، ومبشر لمن آمن منكم؛ أي: نذير كائن من جنس النذر المتقدمين. ووصفهم بالأولى على تأويلهم بالجماعة لمراعاة الفواصل. وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين فلكم أيها المشركون ما لهم، كذا قال ابن جريج، ومحمد بن كعب، وغيرهما. والمعنى: أي إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منذر من حاد عن طريق الهدى، وسلك طريق الضلال والهوى بسيء العواقب في العاجل والاجل. وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلم ربهم لهداية خلقه، فكذبوهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وحل بهم البوار والنكال كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم ونعمه الذي تترى عليهم. ونحو الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا النذير العريان"، أي: الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئًا، وبادر إلى إنذار قومه، وجاءهم مسرعًا. وإما إشارة إلى القرآن، والنذير بمعنى الإنذار؛ أي: هذا القرآن الذي تشاهدونه إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدمة التي سمعتم عاقبتها، كذا قال قتادة، أو إلى ما سبق في السورة؛ أي: هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك الغفاري، وقال أبو صالح: إنّ الإشارة بقوله: {هَذَا} إلى ما في صحف موسى وإبراهيم. والأول أولى. لأنه لما افتتح به أول السورة اختتم به - صلى الله عليه وسلم -. 57 - ولما ذكر إهلاك من تقدم ذكره، وذكر قوله: {هَذَا نَذِيرٌ}: ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع، فقال: {زِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}؛ أي؛ قربت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وهي القيامة، ودنت. وسماها ازفة لقرب قيامها كما في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} أخبرهم بذلك ليستعدوا لها. ¬

_ (¬1) المراغي.

[58]

وفي "الروح": قوله: {زِفَتِ الْآزِفَةُ (57)} في إيراده (¬1) عقيب المذكورات إشعار بأن تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة، تعظيمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانوا معذبين في الدنيا في الجملة. واللام فيه للعهد، فلذا صح الإخبار بدنوها, ولو كانت للجنس لما صح؛ لأنه لا فائدة في الإخبار بقرب آزفة ما. فإن قلت: الإخبار بقرب الآزفة المعهودة لا فائدة فيه أيضًا. قلتُ: فيه فائدة، وهو التأكيد، وتقرير الإنذار. والمعنى: (¬2) أي اقتربت الساعة، ونصب الميزان, وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا ولا هم ينصرون. ونحو الآية: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)}. وفي الحديث: "مثلي ومثل الساعة كهاتين" وفرَّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام. 58 - {لَيْسَ لَهَا}؛ أي: للساعة {مِنْ دُونِ اللهِ} سبحانه وتعالى {كَاشِفَةٌ}؛ أي: نفس (¬3) قادرة على كشفها؛ أي: إزالتها، وردها عند وقوعها في وقتها المقدر لها إلا الله سبحانه، لكنه لا يكشفها؛ من كشف التفسير إذا أزاله بالكلية. فالكاشفة: اسم فاعل، والتاء للتأنيث، والموصوف مقدر. أو المعنى: ليس لها الآن نفس كاشفة؛ أي: قادرة بتأخيرها إلا الله سبحانه. فإنه المؤخر لها. يعني: لو وقعت الآن لم يردها إلى وقتها أحد إلا لله. فالكشف بمعنى الإزالة لا بالكلية، بل بالتأخير إلى وقتها. أو المعنى: ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله؛ أي: عالمة به من كشف الشيء إذا عرف حقيقته، أو مبينة له متى تقوم. وفي القرآن: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. أو المعنى: ليس لها من غير الله كشف على أن كاشفة مصدر كالعافية والخائنة. وأما جعل التاء للمبالغة كتاء علامة فالمقام يأباه لإبهامه ثبوت أصل الكشف لغيره تعالى. والمعنى الأول أولى. والمعنى (¬4): أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو فاستعدوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[59]

لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون، فتندموا ولات ساعة مندم، وجدوا بالعمل قبل حلول الأجل. وقد أشار في هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة: 1 - وحدانية الله بقوله: {فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)}. 2 - إثيات نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {هَذَا نَذِيرٌ}. 3 - إثبات الحشر والبعث بقوله: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}. 59 - ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن، واستهزاءهم به، وإعراضهم عنه، فقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)} والمراد بالحديث: القرآن؛ أي: كيف تعجبون منه أيها المشركون تكذيبًا 60 - {وَتَضْحَكُونَ} منه استهزاء مع كونه غير محل للتكذيب. {وَلَا تَبْكُونَ} خوفًا وانزجارًا لما فيه من الوعيد الشديد. والهمزة في قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتكذبون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتعجبون من هذا القرآن الذي أنزل عليه، وتضحكون من تلاوته عليكم، ولا تبكون خوفًا من الوعيد الذي اشتمل عليه، وحزنًا على ما فرطتم في شأنه، وخوفًا من أن يحيق بكم مثل ما حاق بالأمم المذكورة هنا. وقرأ الحسن (¬1): {تُعجِبون} {تُضحِكون} بغير واو، وبضم التاء، وكسر الجيم والحاء. 61 - وجملة قوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} حال من فاعل {لا تبكون}؛ أي: ولا تبكون والحال أنكم سامدون؛ أي: لاهون (¬2) عما في القرآن، أو مستكبرون من استماعه من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير. وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء واللهو ليشغلوا الناس عن الاستماع. أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع. ومضمون هذه الجملة الحالية على الوجه الأخير قيد للنفي. والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معًا، وعلى الأوجه الأول قيد للنفي. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[62]

والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود. والوجه الأول أوفى بحق المقام، فتدبر كما في "الإرشاد". والمعنى (¬1): أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن، وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم. وكيف تسخرون منه، وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}. وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقي اللاهي الساهي المعرض عما يسمع غير المكترث بما يلقى إليه. أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)} الآية، بكى أصحاب الصفة، حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنّة مصر على معصيته، ولو لم تذنبوا .. لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم". وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ير ضاحكًا بعد نزول هذه الآية. وفي قوله: {وَلَا تَبْكُونَ} حث على البكاء عند سماع القرآن. 62 - ثم بين ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم، فقال: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ}؛ أي: صلّوا مخلصين لله. {وَاعْبُدُوا}؛ أي: أفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات، والعزى، ومناة، والشعرى، وغيرها من الأصنام. والفاء في قوله: (4) {فَاسْجُدُوا} لترتيب الأمر، أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار، والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والإذعان مع كمال الخضوع والخشوع؛ أي: وإذا كان الأمر من الكفّار كذلك، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اسجدوا لله الذي أنزله، واعبدوه، ولا تعبدوا غيره من ملَكٍ أو بشر، فضلًا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع كالأصنام، والكواكب. قال في "عين المعاني": فاسجدوا؛ أي: في الصلاة. والأصحّ: أنه على الانفراد. وهي ¬

_ (¬1) المراغي.

سجدة التلاوة، انتهى. والمعنى: أي فاخضعوا، وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به. فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديًا وبشيرًا لكم لعلكم ترحمون. ودعوا ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، والأصنام التي لا تغني عنكم شيئًا، لا تدفع عنكم ضرًّا، ولا تجديكم نفعًا، كما قال آمرًا رسوله أن يقول لهم: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}. وهذا محل السجود عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ والنجم، فسجد فيها وسجد من كان معه غير أنّ شيخًا من قريش أخذ كفًّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرًا. زاد البخاري في رواية له قال: أول سورة نزلت فيها السجدة النجم، وذكره، وقال في آخره: وهو أميّة بن خلف. وروى البخاري عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم؛ وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن والإنس. ولم يرها مالك لما روى الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد فيها. نفي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب. وهو قول الشافعي، وأحمد. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. وذهب قوم إلى وجوبها على القارىء، والمستمع. وهو قول سفيان، وأصحاب الرأي. والله سبحانه وتعالى أعلم. الإعراب {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}. {أَفَرَأَيْتَ} الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة

على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكرت يا محمد في شأن هؤلاء المعاندين فرأيت الذي تولى. {رأيت} فعل، وفاعل، {الَّذِي} اسم موصول في محمد النصب، مفعول أول لـ {رأيت}، وجملة {رأيت} معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {تَوَلَّى} فعل، وفاعل مستتر، يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {وَأَعْطَى} معطوف على {تَوَلَّى}، {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: عطاء قليلًا, ولك أن تجعله مفعولًا به لـ {أعطى}؛ لأنه بمعنى وهب. {وَأَكْدَى} معطوف على {أعطى}. {أَعِنْدَهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {عنده} خبر مقدم، {عِلْمُ الْغَيْبِ} مبتدأ مؤخر. والجملة في موضع نصب على أنها مفعول ثان لي {رأيت}. {فَهُوَ} الفاء: عاطفة سببية، {هو} مبتدأ، وجملة {يَرَى} خبره. والجملة معطوفة على جملة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ}، فهي داخلة في حيّز الاستفهام. {أَمْ}، منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار، {لَمْ} حرف نفي وجزم، {يُنَبَّأْ} فعل مضارع، مغير الصيغة، مجزوم بلم، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على {الَّذِي تَوَلَّى}. {بِمَا} جار ومجرور، متعلق بـ {يُنَبَّأْ}، على أنه مفعول ثان له. والجملة الإضرابية مستأنفة. {في صُحُفِ مُوسَى} جار ومجرور، صلة الموصول، {وَإِبْرَاهِيمَ} معطوف على {مُوسَى}، {الَّذِي} صفة لـ {إبراهيم}، و {وَفَّى} صلة الموصول، {أَلَّا تَزِرُ} أن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة {لا تزر} خبرها, {وَازِرَةٌ} فاعل {تَزِرُ}، {وِزْرَ أُخْرَى} مفعول {تَزِرُ}. وجملة {أن} المخفّفة من اسمها وخبرها في محل الجرّ، بدل من {مَا} في قوله: {بِمَا في صُحُفِ مُوسَى}، أو في محل رفع خبر لمتدأ محذوف، أي: هو أن لا تزر وازرة. {وَأَنْ} الواو: عاطفة، {أَنْ} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لِلْإِنْسَانِ} خبرها مقدم، {إِلَّا} أداة حصر، {مَا} اسم موصول، في محل الرفع اسم ليس مؤخر، {سَعَى} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على {الإنسان}. والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: إلا ما سعاه، ويصح أن تكون {مَا} مصدرية، وجملة ليس في محل الرفع خبر أن المخفّفة، وجملة أن المخفّفة معطوفة على جملة قوله: {أَلَّا تَزِرُ}. {وَأَنَّ سَعْيَهُ} ناصب واسمه، {سَوْفَ} حرف تنفيس واستقبال، وجملة {يُرَى} في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أنّ معطوفة على جملة {أَلَّا تَزِرُ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {يُجْزَاهُ} فعل مضارع، مغير

الصيغة، ومفعول ثانٍ له، ونائب فاعله ضمير يعود على {الإنسان}، {الْجَزَاءَ} مفعول مطلق، {الْأَوْفَى} صفة له، أو هو بدل من الضمير الذي وقع مفعولًا ثانيًا. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {سَوْفَ يُرَى}. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}. {وَأَنَّ} عاطف، وناصب، {إِلَى رَبِّكَ} خبره مقدم، {الْمُنْتَهَى} اسمه مؤخر. والجملة معطونة على جملة قوله: {أَلَّا تَزِرُ}. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {أَضْحَكَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله. والجملة في محل الرفع خبر هو، وجملة هو في حل الرفع خبر {أنّ}؛ وجملة أنّ معطوفة على قوله: {أَلَّا تَزِرُ}. {وَأَبْكَى} معطوف على {أَضْحَكَ}، {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، وجملة {أَمَاتَ} خبره، {وَأَحْيَا} معطوف على {أَمَاتَ}. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنَّ}، وجملة {أنَّ} معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ}. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ}. {الذَّكَرَ} بدل من الزوجين، {وَالْأُنْثَى} معطوف عليه، {مِنْ نُطْفَةٍ} متعلق بـ {خَلَقَ}، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بخلق، {تُمْنَى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {نُطْفَةٍ}. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذَا}؛ أي: خلق من نطفة وقت إمنائها في الرحم. {وَأَنَّ} عاطف وناصب، {عَلَيْهِ} خبر مقدم لـ {أنَّ}، {النَّشْأَةً} اسمها مؤخر، {الْأُخْرَى} صفة لـ {نشأة}. وجملة {أنَّ} معطونة على ما تقدم. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، وجملة {أَغْنَى} خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة أن معطوفة على ما تقدم. وجملة {وَأَقْنَى} معطوفة على {أَغْنَى}. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {رَبُّ الشِّعْرَى} خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {وَأَنَّهُ} ناصب

واسمه، {أَهْلَكَ عَادًا} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، {الْأُولَى} صفة لـ {عَادًا}، وجملة {أَهْلَكَ} خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {وَثَمُودَ} معطوف على {عَادًا} {فَمَا} الفاء: عاطفة، {ما} نافية، {أَبْقَى} فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة معطوفة على {أَهْلَكَ}. {وَقَوْمَ نُوحٍ} معطوف على {عَادًا}، {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور، حال من {قوم نوح}. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، {هُمْ} ضمير فصل، لا محل له، أو تأكيد للضمير في {كَانُوا}، {أَظْلَمَ} خبر {كَانُوا}. {وَأَطْغَى} معطوف على {أَظْلَمَ}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} مفعول مقدم لـ {أَهْوَى}، و {أَهْوَى} فعل ماض, وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَهْلَكَ عَادًا}. {فَغَشَّاهَا} الفاء: عاطفة، {غشاها} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به أول. والجملة معطوفة على جملة {أَهْوَى}. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {غَشَّاهَا}، وجملة {غَشَّى} صلة {ما} الموصولة، ويجوز أن تكون {ما} الموصولة فاعلًا لـ {غشاها}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}. {فَبِأَيِّ} {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات، وكنت شاكًّا فيها على سبيل الفرض .. فأقول لك في أيّ نعمة من نعم ربّك تشكك بأنها ليست من عند الله تعالى، أو في كونها نعمة من عند الله تعالى. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بأي آلاء ربك} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعق بـ {تَتَمَارَى}، و {تَتَمَارَى} فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة في محل النصب؛ مقول لجواب إذا المقدرة. {هَذَا نَذِيرٌ} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {مِنَ النُّذُرِ} نعت لـ {نَذِيرٌ}، {الْأُولَى} صفة لـ {النُّذُرِ}، {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لَهَا} خبرها مقدم {مِنْ دُونِ اللهِ} حال من {كَاشِفَةٌ}، و {كَاشِفَةٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر. وجملة {لَيْسَ} في محل النصب، حال من {الْآزِفَةُ}. {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على

ذلك المحذوف، {من هذا الحديث} متعلق بـ {تعجَبُونَ} وجملة {تعجَبُونَ} معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتكذّبون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعجبون من هذا الحديث. والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَتَضْحَكُونَ} فعل، وفاعل، معطوف على {تَعْجَبُونَ}، {وَلَا تَبْكُونَ} معطوف على تضحكون، أو الجملة حال من فاعل {تَضْحَكُونَ}. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب، حال من فاعل {تَبْكُونَ}. {فَاسْجُدُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان شأن المشركين وحالهم ما ذكر، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم اسجدوا لله. {اسْجُدُوا} فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، {لِلَّهِ} متعلق بـ {اسْجُدُوا}. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأتفة. {وَاعْبُدُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {اسْجُدُوا} من عطف العام على الخاص. التصريف ومفردات اللغة {تَوَلَّى}؛ أي: أعرض عن اتباع الحق، والثبات عليه. {وَأَكْدَى}؛ أي: قطع العطاء، وأمسك بخلًا، من أكدى الحافر؛ أي: حافر البئر إذا بلغ الكدية؛ أي: الصلابة كالصخرة، فلا يمكنه أن يحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئًا فلم يصل إليه، فلم يتممه، ولم يبلغ آخره. وفي "القاموس": أكدى بخل، أو قل خيره، أو قل عطاءه. وأصل {تَوَلَّى} تولي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وكذلك أصل {أَعْطَى} أعطى قلبت الياء التي أصلها واو ألفًا لتحركها بعد فتح، وإنما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة. وكذلك أصل {أَكْدَى} أكدي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)} جمع صحيفة. قال الراغب: الصحيفة: المبسوطة من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها. وجمعها صحائف، وصحف. والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة. وقال القهستاني: المصحف مثلث الميم ما جمع فيه قرآن، والصحف. {وَفَّى} يقال: أوفاه حقه، ووفاه بمعنى؛ أي: أعطاه تامًّا وافيًا. ويجوز أن يكون التشديد فيه للتكثير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله.

{إِلَّا مَا سَعَى} والسعي: المشي السريع. وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًّا. {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)} أصله: يرأي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت تخفيفًا، فوزنه يفل. {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} أصله: يجزي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {الْأَوْفَى} اسم تفضيل، وزنه أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والمعنى: يجزى سعيه. يقال: جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، وجزاه عمله. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء؛ أي: إليه الانتهاء، والرجوع في المعاد. وأصله: المنتهي بوزن مفتعَل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} والضحك: انبساط الوجه، وتكشر الأسنان من سرور النفس. ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك. والبكاء بالمد: سيلان الدمع عن حزن وعويل. ويقال: البكاء بالمد إذا كان الصوت أغلب كالرغاء , وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت. وبالقصر يقال: إذا كان الحزن أغلب. وأصل {أَبْكَى} أبكي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَمَاتَ} فيه إعلال بالنقل والتسكن والقلب، أصله: أموت بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {وَأَحْيَا} أصله: أحيي بوزن افعل، قلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها بعد فتح. {مِنْ نُطْفَةٍ} والنطفة: الماء الصافي. ويعبر بها عن ماء الرجل، كما في "المفردات". {إِذَا تُمْنَى}؛ أي: تصب في الرحم. وفي "القاموس": مني وأمني ومنَّي بمعنًى، يقال: أمنى الرجل ومنى: إذا صب المني، أو معنى {تُمْنَى} يقدر منها الولد من مناه الله يَمْنِيه قدره. إذ ليس كل مني يصير ولدًا. وأصل {تُمْنَى} تمني بوزن تفعل، فأعل كنظائره السابقة. {أَغْنَى وَأَقْنَى}؛ أي: أغنى من شاء، وأفقر من شاء.

وأصلهما: أغني وأقني بوزن أفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا. {الشِّعْرَى} هي الشعرى العبور. وهي النجم الوضاء الذي يقال له: مرزم الجوزاء. وقد عبدته طائفة من العرب. وعادًا الأولى: هم قوم هود، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعاد الأخرى: هم من ولد عاد الأولى، وهم قوم صالح. {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} وهي قرى قوم لوط. سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي: انقلبت بهم. ومنه: الإفك. لأنه قلب الحق. {أَهْوَى}؛ أي: أسقطها على الأرض مقلوبة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} الآلاء: النعم. واحدها إلى بوزن معى. وفيه إعلال بالإبدال. أصله: ألاى، أبدلت الياء همزة لظرفها بعد ألف زائدة. والمدة فيه بدل من همزة، إذ أصله: أألاى، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مد من حسن حركة الأولى. وقوله: {تَتَمَارَى} فيه إعلال بالقلب. أصله: تتماري بوزن تتفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والتماري، والمماراة، والامتراء: المحاجة فيما فيه مرية، أي: شك وتردد. {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57} يقال: أزف الترحل كفرح أزفًا وأزوفًا إذا دنا. والأزف محركًا: الضيق. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزوفًا من باب تعب، وأزفًا أيضًا دنا وقرب، وأزفت الآزفة دنت الدانية؛ أي: قربت القيامة. {كَاشِفَةٌ} من كشف الضر إذا أزاله. {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)} قال الراغب: العجب، والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب: ما لا يعرف سببه. {وَلَا تَبْكُونَ} أصله: تبكيون، أستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت فحذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم ضمت الكاف لمنسبة الواو. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} السمود: اللهو. وقيل: الإعراض، وقيل: الاستكبار. وقال أبو عبيدة: السمود: الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا؛ أي: غني لنا. وقال الراغب: والسامد: اللاهي الرافع رأسه من قولهم: بعير سامد في مسيره , وقيل: سمد رأسه وجسده؛ أي: استأصل شعره. وفي "المختار":

والسامد: اللاهي، بابه دخل. وفسر الزمخشري السمود بالبرطمة. وهي عامية فصيحة. ففي "الصحاح": البرطمة: الانتفاخ من الغضب. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأنه استعار التولي والإدبار والإعراض لعدم الدخول في الإيمان. فاشتق من التولي بمعنى عدم الإيمان تولى بمعني أعرض عن الإيمان على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ويمكن أن يكون هذا ضابطًا لذكر التولي في القرآن، فحيث ورد في القرآن مطلقًا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)} حيث شبه من يعطي قليلًا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي: يمسك عن الحفر بعد أن حيل دونه بصلابة كالصخرة على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الطباق بين: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} وبين: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وبين: {أعطى وأكدى} وبين: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}. وهو في السورة جميعها متعدد، ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنًا أنه أتى في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي. ومنها: التضعيف في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} لإفادة الكبير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله. ومنها: الجناس المغاير، وجناص الاشتقاق في قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)}. وجناس الاشتقاق بين: {سَعَى}، و {سَعْيَهُ} في قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)}. ومنها: الكناية في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} لأنّهما كنايتان عن الفرح والسرور، كأنّه قيل: وأنه هو أفرح وأحزن, لأنَّ الفرح يجلب الضحك،

والحزن يجلب البكاء. ومنها: تقديم الذكر على الأنثى في قوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} رعاية للفاصلة، ولشرفه الرتبي. ومنها: فن التنكيت في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتةٍ في المذكور ترجح مجيئه على غيره. وقد خص الله سبحانه هنا الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم. وهو رب كل شيء وخالفه لما تقدم في مبحث التفسير من أن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى، ودعا الناس إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. ومنها: الإبهام في قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} إفادة للتهويل الشديد، والتفظيع البليغ. ومنها: إسناد فعل التماري إلى الواحد مع إفادته الماركة نظرًا لتعدده بحسب تعدد متعلقه. ومنها: الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {تَتَمَارَى} على طريق الإلهاب والتعريض للغير. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)}؛ لأنّه شبه إنذار القرآن أو الرسول بإنذار الكتب الماضية، أو الرسل المتقدمة. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}. ومنها: وصف القيامة بالآزفة للتأكيد، وتقرير الإنذار. ومنها: فن التمثيل في قوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)} فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في الوقائع. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من الأسرار والأحكام اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - إنزال الوحي على رسوله. 2 - أن الذي علمه إياه هو جبرئيل شديد القوى. 3 - قرب رسوله من ربه. 4 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبرئيل على صورته الملكية مرتين. 5 - تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام. 6 - توبيخهم على جعل الملائكة إناثًا، وتسميتهم إياهم بنات الله. 7 - مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله. 8 - أوصاف المحسنين. 9 - إحاطة علمه تعالى بما في السموات والأرض. 10 - النهي عن تزكية المرء نفسه. 11 - الوصايا التي جاءت في صحف إبراهيم وموسى. 12 - النعي على المشركين في إنكارهم الوحدانية، والرسالة، والبعث، والنشور. 13 - التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه, وغفلتهم عن مواعظه. 14 - أمر المؤمنين بالخضوع لله، والإخلاص له في العمل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة القمر

سورة القمر سورة القمر مكية كلّها عند الجمهور، نزلت بعد الطارق. وقال مقاتل: هي مكيّة إلا ثلاث آيات من قوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)} إلى قوله: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} فمدنية. وآيها خمس وخمسون، وكلماتها ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، وحروفها ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفًا. مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - حسن التناسق بين النجم والقمر. 2 - مشاكلة آخر السورة السابقة لأوَّل هذه. فقد قال هناك: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}، وقال هنا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. 3 - أنَّ هذه قد فصلت ما جاء في سابقتها. ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه في السابقة بقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)}، فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان. وقال أبو حيان: مناسبة أوّل السورة لآخر ما قبلها ظاهرة، قال أوّلًا: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}، وقال هنا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. تسميتها: سمّيت سورة القمر لذكر انشقاق القمر فيها , وتسمي أيضًا: سورة اقتربت. وكلها محكم، ليس فيها منسوخ إلا قوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)}. ¬

_ (¬1) المراغي.

فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه. قال البيهقي: منكر. وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه: "من قرأ اقتربت الناس في كل ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر". وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من همدان رفعه. وقد تقدم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}. المناسبة قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ...} الآيات، يخبر (¬1) سبحانه في هذه الآيات باقتراب الساعة، وفراغ الدنيا، وانقضائها، وأنَّ الأجرام العلوية يختل نظامها على ¬

_ (¬1) المراغي.

نحو ما جاء في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}. روى أنس: أنّ النبى - صلى الله عليه وسلم - خطب أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس تغرب، ولم يبق منها إلا سف يسير، فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". وروى أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بأصبعيه السبّابة والوسطى". ثمّ ذكر أنّ الكافرين كلّما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا، وكذّبوا بها، وقالوا: إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضًا. ثم أخبر أنّ أمرهم سينتهي بعد حين، ويستقر أمرك، وسينصرك الله عليهم نصرًا مؤززًا. ثم أعقب هذا بأن عبر الماضيين، وإهلاك الله لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جد كافية لهم لو أن لهم عقولًا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه، ولكن أنى تغني الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم الله على علم، وختم على قلوبهم، وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم، وسيخرجون عن قبورهم أذلاء ناكسي الرؤوس مسرعين إلى إجابة الداعي، يقول الكافرون منهم: هذا يوم شديد حسابه، عسر عقابه. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا، لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئًا .. أردف هذا بذكر قصص من قبلهم من الأمم: كقوم نوح، وعاد، وثمود ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع في الأمم، بل كثير منهم فعلوا فعلهم، بل كانوا أشد منهم عتوًا واستكبارًا، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لاقيت، فلا تأس على ما فرط منهم، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون، كما جاء في قوله سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. وفي هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم، وينجي نبيه والمؤمنين، كما نجى من قبله من الرسل، وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر قصص قوم نوح، وما فيه من العبرة لمن تدبر وفكر .. أعقبه بقصص عاد قوم هود ليبين للمكذّبين أنَّ عاقبة كلّ مكذب الهلاك والبوار، وإن تعددت أسبابه. وَمنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ ... تَعدَّدَتِ الأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ فقد أرسل الله عليهم ريحًا عاصفًا لصوتها صرير، حين هبوطها في يوم شؤم عليهم، واستمر بهم البلاء حتى حل بهم الدمار، وكانت الريح لشدتها تقتلع الناس من الأرض، وترفعهم إلى السماء، ثم ترمي بهم على رؤوسهم، فتندق رقابهم، وتبين من أجسامهم. فانظروا أيها المكذبون إلى ما حل بهم من العذاب جزاء تكذيبهم لرسولهم كما هي سنة الله في أمثالهم من المكذبين. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) ...} الآيات، لما فرغ الله سبحانه من ذكر قصة عاد .. قص علينا قصص ثمود مع نبيها صالح إذ قالوا: أنحن العدد الجم والكثرة الساحقة، نتبع واحدًا منا لا امتياز له عنا، إنا إذا فعلنا ذلك لفي ضلال وبعد عن محجة الصواب، وإنه لكاذب فيما يدعيه من الوحي عن ربه، وما هو إلا بشر، وليس بملك. فقال لهم ربهم: ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر. وقد جعلنا ناقة فتنة واختبارًا لهم، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم، فلها يوم ولهم يوم آخر. فما ارتضوا هذا، وقام فاسقهم قدار، وعقر الناقة، فخرت صريعة، فجازاهم الله تعالى، فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشبة. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) ...} الآيات، لما فرغ الله سبحانه من قصة ثمود .. ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم، ومخالفتهم إيّاه، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين بإتيانهم الذكران دون النساء، ثم أردف ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم، فقد نجاهم بسحر، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله، فكذبوه.

[1]

أسباب النزول قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الشيخان، والحاكم، واللفظ له عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقًّا شقين بمكة قبل مخرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سحر القمر، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - آيةً، فانشق القمر بمكة مرتين. فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} إلى قوله: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}؛ أي: (¬2) دنت القيامة، وقرب قيامها ووقوعها؛ لأنه ما بقي من الدنيا إلا قليل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله جعل الدنيا كلها قليلًا، فما بقي منها قليل من قليل، ومثل ما بقي مثل الثغب - أي: الغدير - شرب صفوه، وبقي كدره". فالاقتراب يدل على مضي الأكثر، ويمضي الأقل كما مضى الأكثر. والساعة جزء من أجزاء الزمان، عبر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك لسرعة حسابها، أو لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنَّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، أو لغير ذلك. والحكمة في ذكر اقتراب الساعة تحذير المكلف، وحثه على الطاعة تنبيهًا لعباده على أن الساعة من أعظم الأمور الكونية على خلقه من أهل السموات والأرض. وأما تعيين وقت الساعة: فقد انفرد الحق سبحانه بعلمه، وأخفاه عن عباده؛ لأنه أصلح لهم، ولذا كان كل نبي قد أنذر أمته الدجال. يقول الفقير: فإن قلت: فكم عمر الدنيا بأسرها، وما قول العلماء فيه؟ قلت: اتفقوا على حدوث الدنيا، وما قطعوا بشيء في مدتها. {وَ} قد {انْشَقَّ الْقَمَرُ}؛ أي: انفصل بعضه من بعض معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. ودلت ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان.

صيغة الماضي على تحقق الانشقاق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه {وقد انشق القمر}؛ أي: اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، وقد خطب حذيفة بالمدائن، ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. وحذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كابن مسعود رضي الله عنهما. وعلى هذا القول عامّة الصحابة ومن بعدهم، وبه أخذ أكثر المفسّرين. فلا عبرة بقول من قال: إنه سينشق يوم القيامة. كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}. والتعبير بالماضي للدلالة على تحققه، على أنا نقول: يجوز أن يكون انشقاقه مرتين: مرة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى قرب الساعة، ومرة يوم القيامة، حين انشقاق السماء. قال الواحديّ: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير، أي: انشق القمر، واقتربت الساعة. وقال جمع من المفسرين: إن هذا الانشقاق حدثٌ قد حصل، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بخمس سنين. فقد صح من رواية الشيخين، وابن جرير عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء - جبل بمكة - بينهما. وفي "الصحيحين"، وغيرهما من حديث ابن مسعود: "وانشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة على الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا". وجاء عنه أيضًا: "انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس، فجاء السفار، فأخبروهم بذلك" رواه أبو داود، والطيالسي. وفي رواية البيهقي: فسألوا السفار، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه، فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. والحاصل (¬1): أنَّا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه قد انشق، ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في الصحيح وغيره ¬

_ (¬1) الشوكاني.

من طريق متواترة: أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم .. فقد اتفقوا على هذا, ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، واستبعاد من استبعد. وقال قوم - منهم عثمان بن عطاء -: المراد: انشقاقه يوم القيامة، والمعنى عليه (¬1): اقتربت الساعة، وسينشق القمر، وينفصل بعضه عن بعض، حين يختل نظام هذا العالم، وتبدل الأرض غير الأرض. ونحو هذا قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، وقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}؛ وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم، وقرب قام الساعة، والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض أمورٌ: 1 - أن الإخبار (¬2) بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجيء الساعة. والظاهر: تجانس الخبرين، وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماضٍ. 2 - أن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت .. لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلغ حدًّا لا يمكن أحدًا أن ينكره، وصار من المحسوسات التي لا تدفع، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلمًا ولا غيره إنكارها. 3 - ما ادّعى أحدٌ من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر، ولو كان قد حصل ذلك .. ما كان رواته آحادًا، بل كانوا لا يعدّون كثرة. 4 - أنَّ حذيفة بن اليمان، وهو الصحابي الجيل خطب الناس يوم الجمعة في المدائن حين فتح الله فارس. فقال: ألا إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإنّ القمر قد انشقّ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق، ألا وإن الغاية النار, والسابق من سبق إلى الجنة. فهذا الكلام من حذيفة في معرض قرب مجيء الساعة، وتوقع أحداثها لا في كلام عن أحداث قد حصلت تأييدًا للرسول، وإثباتًا لنبوتّه, لأنَّ ذلك كان في معرض العظة والاعتبار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[2]

وقيل (¬1): معنى {وَانْشَقَّ الْقَمَر}: وضح الأمر، وظهر. وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه، وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقًا لانفلاق الظلمة عنه. 2 - وبعد أن ذكر قرب مجيء الساعة، وكان ذلك مما يستدعي انتباههم من غفلتهم والتفكير في مصيرهم، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلّة المثبتة لنبوته، والمؤيّدة لصدقه، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد، والهادي لهم إلى سواء السيل، بل أعرضوا، وتولوا مستكبرين كما قال: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا}؛أي: وإن ير هؤلاء المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك كانشقاق القمر، ونظائره. ووجه تسمية ما جاءت به الأنبياء معجزة هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها. وقرىء (¬2) {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} مبنيًا للمفعول؛ أي: من شأنهم ومن حالهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة {يُعْرِضُوا} عن التأمل فيها ليقفوا على حققتها، وعلو طبقتها، فيؤمنوا، ويتولّوا مكذّبين بها منكرين أن يكون ذلك حقًّا. {وَيَقُولُوا} تكذيبًا منهم بها هذا الذي ظهر على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - {سِحْرٌ} سحرنا به، وخيال غشّنا به. {مُسْتَمِرٌّ}؛ أي: (¬3) مطرد دائم يأتي به على ممرّ الزمان، لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر. فالاستمرار بمعني الاطراد، يقال: اطّرد الشيء تبع بعضه بعضًا، وجرى. وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، حتى قالوا ذلك. وفيه تأييد أن انشقاق القمر قد وقع، لا أنه سينشق يوم القيامة، كما قاله بعضهم. وذلك لأنه لو لم يكن الانشقاق من جنس الآيات .. لم يكن ذكر هذا القول مناسبًا للمقام. أو مطّردًا بالنسبة إلى جميع الأشخاص والبلاد، حيث رأوه منشقًّا. وقال الكسائي والفراء، واختاره النحاس (¬4): إنَّ المراد بالمستمر: الذاهب الزائل عن قرب. إذ هم قد عللوا أنفسهم، ومنوها بالأماني الفارغة. وكأنهم قالوا: إنَّ حاله - صلى الله عليه وسلم -، وما ظهر من معجزاته إن هي إلا سحابة صيف عن قريب تقشع، ولكن هيهات هيهات .. فقد غرتهم الأماني. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[3]

نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}. 3 - ثم أكد ما سبق بقوله: {وَكَذَّبُوا}؛ أي: بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما عاينوه من المعجزات التي أظهرها الله على يده. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}؛ أي: شهواتهم التي زيّنها الشيطان لهم من رد الحق بعد ظهوره. أو كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر، واتبعوا أهواءهم، وقالوا: سحر القمر أو سحر أعيننا، والقمر بحاله، ولم يصبه شيء، أو إنه خسوف في القمر, وظهور شيء من جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر. فهذه أهواؤهم الباطلة اتبعوها لجهلهم وسخف عقولهم. والخلاصة: أنهم كذّبوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتركوا حججه، وقالوا: هو كاهن، يقول عن النجوم، ويختار الأوقات للأفعال، وساحر يسترهب الناس بسحره إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد، وعدم قبول الحق. وذكرهما (¬1) بلفظ الماضي؛ أي: بعد "يعرضوا، ويقولوا" بلفظ المستقبل للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة. ثم سلى رسوله، وهدد المشركين بقوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ} من الأمور {مُسْتَقِرٌّ}؛ أي: منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة. ومن جملتها: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيقته، وعلو شأنه. وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال، وعدم الحاجة إلى التصريح به. أو كل أمر من أمرهم، وأمره - صلى الله عليه وسلم - مستقر؛ أي: سيثبت، ويستقر على حالة خذلان، أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة. فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر، يعني: أن الاستقرار كناية عن ملزومه. وهو الانتهاء إلى الغاية. فإن عنده يتبين حقيقة كل شيء من الخير والشر، والحق والباطل، والهوى، والحجة. وينكشف جلية الحال، ويضمحل الشبه والالتباس؛ فإنّ الحقائق إنما تظهر عند العواقب. فهذا وعيد للمشركين، ووعد وبشارة للرسول والمؤمنين. ونظيره قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}؛ أي: كل نبأ وإن طالت مدته فلا بد أن ينتهي إلى غايته، وتنكشف حقيقته من حق أو باطل. وفي عين المعاني: وكل أمر وعدهم الله تعالى كائن في وقته, لأنه مستقر لا يزول. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

والخلاصة (¬1): أي وكل شيء ينتهي إلى غاية تشاكله، فأمرهم سينتهي إلى الخذلان في الدنيا، والعذاب الدائم في الآخرة. وأمرك سينتهي إلى النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. وهذه قاعدة عامّة تنضوي تحتها حركات الكواكب، والأفلاك، ونظم العمران، وأعمال الأفراد والأمم. وقصارى ذلك: أن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق , وأنَّ ما سواه هو الباطل. فقد جرت سنة الله بأن الحق يثبت والباطل يزهق بحسب ما وضعه، في نظم الخليقة: البقاء للأصلح. وقرأ الجمهور (¬2): {مُسْتَقِرٌّ} بكسر القاف. وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ. وهو كل. وقرأ أبو جعفر. وزيد بن علي بجر {مُسْتَقِرٍ} على أنه صفة للأمر. وقرأ شيبة بفتح القاف، ورويت هذه القراءة عن نافع. قال أبو حاتم: ولا وجه لها. وقيل: لها وجه بتقدير مضاف محذوف؛ أي: وكل أمر ذو استقرار أو ذو زمان استقرار، أو ذو مكان استقرار على أنه مصدر أو ظرف زمان، أو ظرف مكان. 4 - ثمّ ذكر أنهم في ضلال بعيد. فإنَّ ما جاء في القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ}؛ أي: وعزّتي وجلالي .. لقد جاء أهل مكة، أو الكفار على العموم في القرآن {مِنَ الْأَنْبَاءِ}؛ أي: من أنباء القرون الخالية، أو أنباء الآخرة، وما وصف من عذاب الكفّار. فالألف واللام (¬3) عوض عن المضاف إليه، و {من} للتبعيض. وهو حال مما بعده. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}؛ أي: ازدجار وارتداع من تعذيب إن أريد بالأنباء: أنباء القرون الخالية، أو وعيد إن أريد أنباء الآخرة على أنه مصدر ميمي. ويجوز أن يكون اسم مكان؛ أي: جاءهم ما فيه موضع ازدجارٌ على أنّ {في} تجريدية؛ أي: أنه في نفسه موضع ازدجار، ومظنّة له كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؛ أي: هو في نفسه أسوة حسنة. وقرىء (¬4) {مزّجر} بإبدال تاء الافتعال زايًا وإدغام الزاي فيها. وقرأ زيد بن عليّ {مزجر} اسم فاعل من أزجر؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[5]

أي: صار ذا زجر، كأعشب؛ أي: صار ذا عشب. والمعنى: أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك، واتبعوا أهواءهم من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل، فأحلَّ الله بهم من العقوبات ما قصه في كتابه ما يردعهم، ويزجرهم عما هم فيه من القبائح؛ إذ أبادهم في الدنيا، وسيعذبهم يوم الدين جاء وفاقًا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم، وعصيان رسله، واجتراحهم للسيئات. 5 - ثم بين الذي جاءهم به، فقال: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}؛ أي: هذه الأنباء حكمة بالغة غايتها متناهية في كونها حكمة، لا خلل ولا نقص فيها. أو قد بلغت الغاية في الإنذار، والنهي، والموعظة، والإرشاد إلى طريق الحق، لمن اتبع عقله وعصى هواه. وهو بدل من {ما}، أو خبر لمحذوف. وقرأ الجمهور (¬1): {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} برفعهما، وجوزوا أن تكون {حِكْمَةٌ} بدلًا من {مُزْدَجَرٌ}، أو من {مَا}، أو خبر مبتدأ محذوف. وقرأ اليماني {حكمةً بالغةً} بالنصب فيهما حالًا من {مَا}، سواء كانت موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفى للإعتداء (¬2). فمفعول {تُغْنِ} محذوف؛ أي: لم تغن النذر شيئًا. أو استفهام إنكار فما مخصوبة على أنها مفعول مقدم لتغني، أي: فأي إغناء تغني النذر إذ خالفوا أو كذبوا؛ أي: لا تنفع. كقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}. والنذر: جمع نذير بمعني المنذر أو مصدر بمعني الإنذار. والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة. أي: إنَّ النذر والرسل (¬3) لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب. فليس عليك، ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى. فإذا بلغت .. فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها في نحو قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وتول عنهم بعدئذٍ. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[6]

ونحو الآية قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}. 6 - ثم أمر رسوله أن لا يجادلهم، ولا يناظرهم. فإن ذلك لا يجدي نفعًا فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ أي: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين المكذّبين بك، ولا تحاجهم فإنهم قد بلغوا حدًّا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان، فأحرى بك أن لا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم. فقد عييت بأمرهم، وبرمت بعنادهم. وهذه الآية منسوخة بآية السيف. والظرف في قوله (¬1): {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} متعلق بـ {يَخْرُجُونَ} أو باذكر محذوفًا أو بقوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ويكون {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} اعتراضًا أو بقوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} أو بقوله: {خُشَّعًا}. وهو يوم القيامة. والداعي إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور قائمًا على صخرة بيت المقدس، ويدعو الأموات, وينادي قائلًا: أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، أو إنَّ إسرافيل وجبريل يدعو وينادي بذلك. وعلى كلا القولين فالدعا على حقيقته. وقال بعضهم: هو مجاز كالأمر في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ}. يعني: أنَّ الدعاء في البعث والإعادة مثل: "كن" في التكوين والابتداء بأن لا يكون ثمة داع إسرافيل أو غيره، بل يكون الدعاء عبارة عن نفاذ مشيئته، وعدم تخلف مراده عن إرادته كما لا يتخلف إجابة دعاء الداعي المطاع. يقول الفقير: الأولى بقاؤه على حقيقته؛ لأنَّ إسرافيل مظهر الحياة، وبيده الصور، والله تعالى ربط الأسياء بعضها ببعض، وإن كان الكل بإرادته ومشيئتة، انتهى. وأصل {يَدْعُ الدَّاعِ}: يدعو الداعي بالواو والياء، ولما حذفت الواو من {يدعو} في التلفظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخط أيضًا تباعًا للفظ، وأسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفًا. قال بعضهم: حذفت الياء من الداعي مبالغة في التخفيف إجراء لأل مجرى ما عاقبها. وهو التنوين. فكما يحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبه. {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} بضمّتين، صفة على فعل، وقرىء (¬2) بسكون الكاف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[7]

وكلاهما بمعني المنكر؛ أي: إلى شيء منكر فظيع، تنكره النفوس لعدم العهد بمثله. وهو هول يوم القيامة. ومنه: منكر ونكير لفتاني القبر؛ لأنه لم يعهد عند الميت مثلهما. وقد جرت العادة أن من ينصح شخصًا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه، ويقول لغيره ما فيه نصح للمعرض عنه، وهدايته، وإرشاده لو أراد. وقرأ الجمهور (¬1) {نُكُرٍ} بضم الكاف. وهو صفة على فعل. وهو قليل في الصفات. ومنه: رجل شلل أي: خفيف في الحاجة، وناقة أحد، ومشية سجح، وروضة أنف. وقرأ الحسن، وابن كثير، وشبل بإسكان الكاف، كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر. وقرأ مجاهد, وأبو قلابة، والجحدري، وزيد بن عليّ {نُكِرَ} فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول؛ أي: جهل فنكر. 7 - ثم ذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، فقال: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} حال من فاعل {يَخْرُجُونَ} والتقديم؛ لأن العامل فعل متصرف. وفيه دليل عى بطلان مذهب الجرمي؛ لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل، وإن كان متصرفًا. {مِنَ الْأَجْدَاثِ} جمع جدث، محركًا. هو القبر، أي: يخرجون من قبورهم حال كونهم أذلة أبصارهم من شدة الهول، خاضعة عند رؤية العذاب. والخشوع (¬2): الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح. والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب. كما روي: إذا ضرع القلب .. خشعت الجوارح. وخصَّ الأبصار بالخشوع؛ لأنّه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر. وقرأ الجمهور (¬3): {خُشَّعًا} جمع تكسير. وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد والجحدري، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي {خاشعًا} بالإفراد. وقرأ أبي، وابن مسعود "خاشعة". وجحع التكسير أكثر في كلام العرب. وقال الفراء، وأبو عبيدة: كله جائز، انتهى. وقرىء "خُشَّعٌ أبصارُهم" وهي جملة في موضع الحال و"خشع" خبر مقدم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[8]

{كَأَنَّهُمْ} لكثرتهم، واختلاط بعضهم ببعض {جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}؛ أي: منبث في الأقطار، متفرق فيها، مختلط بعضه ببعض؛ أي: يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون كأنهم في انتشارهم، وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد قد انتشر في الآفاق. وجاء (¬1) تشبيههم في الآية الأخرى بالفراش في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)}. وهم يكونون أوّلًا كالفراش، حين يخرجون فزعين، لا يهتدون أين يتوجهون؛ لأن الفراش لا جهة لها تقصدها, ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر. فهما تشبيهان باعتبار وقتين. حكي ذلك عن مكي بن أبي طالب. 8 - وقوله: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} حال أيضًا من فاعل {يَخْرُجُونَ}؛ أي: يخرجون من الأجداث حال كونهم مسرعين إلى جهة الداعي والمنادي. وهو إسرافيل، مادي أعناقهم أو ناظرين إليه، لا يقلعون أبصارهم عنه. وجملة قوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} منهم إما حال من ضمير {مُهْطِعِينَ} أو من فاعل {يَخْرُجُونَ}، والرابط مقدر كما قدرناه آنفًا، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال مقدر نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال. كأنه قيل: فماذا يكون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الكافرون {هَذَا} اليوم {يَوْمٌ عَسِر}؛ أي: صعب شديد علينا. فيمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة كما روي، يقولون: أرحنا من هذا ولو إلى النار. ثم يؤمرون بالحساب. وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدة، بل ذلك اليوم يوم يسير لهم ببركة إيمانهم، وأعمالهم الصالحة؛ أي: مسرعين إلى الداعي، لا يخالفون، ولا يتأخّرون، ويقولون: هذا يوم شديد الهول سيء المنقلب. ونحو الآية قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} وفي هذا إيماء إلى أنّه هين على المؤمن، لا عسر فيه, ولا مشقة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[9]

قصص قوم نوح عليه السلام 9 - ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدم من الأنباء المجملة، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل قومك يا محمد {قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا. فالمفعول محذوف. وهذا شروع في تعداد بعض الأنباء الموجبة للازدجار، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحًا عليه السلام. وهذا تفسير لذلك التكذيب المبهم أوّلًا, كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ ...} إلخ. فالمكذب في المقامين واحد. والفاء تفسيرية، تفصيلية، تعقيبية في الذكر. فإن التفصيل يعقب الإجمال. وفيه مزيد تقرير وتأكيد. وقيل: المعنى: كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا نوحًا بتكذيبهم للرسل. فإنه منهم. وفي "فتح الرحمن": إن قلت: ما فائدة إعادة التكذيب فيه؟ تلف: فائدته حكايه الواقع، وهو أنهم كذبوا تكذيبًا بعد تكذيب، أو الأوّل تكذيبهم بالتوحيد، والثاني: بالرسالة، أو الأول تكذيبهم بالله، والثاني: برسول الله. وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه الصلاة والسلام، ورفع لمحله، وزيادة تشنيع لمكذبيه. فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره. وفيه إشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية. فإن الذلة الحقيقية التي يقابلها مقام الربوبية مختصة بالله تعالى، فكذا العبودية مختصة بالعبد. وهي المرادة بالتواضع. وهي غير التملق. فإن التملق لا عبرة به. {وَقَالُوا} في حقه هو {مَجْنُونٌ} أو قالوا له: إنك مجنون. أي: لم يقتصروا على مجرد الكذيب، بل نسبوه إلى الجنون، واختلال العقل. وهو مبالغة في التكذيب. لأنَّ من الكاذبين من يخبر بما يوافق العقل، ويقبله. والمجنون لا يقول إلا ما لا يقبله العقل، ويأباه. {وَازْدُجِرَ} عطف (¬1) على {قالوا}. فهو من كلام الله تعالى. أي: وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية. مئل الشتم، والضرب، والخنق، والوعيد بالرجم. قال الراغب: {وَازْدُجِر}؛ أي: طرد. واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود، نحو أن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

يقال: أغرب عنّي، وتنح، ووراءك. وقيل: هو من جملة ما قالوه؛ أي؛ هو مجنون، وقد ازدجرته الجن، وتخبطته؛ أي: أفسدته، وتصرفت فيه، وذهبت بلبه، وطارت بقلبه. والأول أولى. وفيه إشارة إلى أن كل داعي حق لا بد وأن يكذب لكثرة أهل البطلان، وغلبة أهل البدع والأهواء والطغيان. وذلك في كل عصر وزمان؛ أي: فكذبوا عبدنا نوحًا، ونسبوه إلى الجنون، وزجروه، وتوعدوه لئن لم ينته .. ليكونن من المرجومين. 10 - ثم بين أنه عيل بهم صبرًا، وضاق بهم ذرعًا، فقال: {فَدَعَا رَبَّهُ}؛ أي: لما زجروا نوحًا عند الدعوة، وبلغ مدة التبليغ تسع مئة وخمسين سنة دعا ربه {أَنِّي}؛ أي: بأني {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي، ما لي قدرة على الانتقام منهم {فَانْتَصِر}؛ أي: فانتقم لي منهم. وذلك بعد تقرّر يأسه منهم. فقد روي: أنَّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخر مغشيًا، فيفيق، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا. فأجيب كما قال في الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}. وقرأ الجمهور (¬1): {أَنِّي} بفتح الهمزة؛ أي: بأنّي. وقرأ ابن أبي إسحاق، والأعمش بكسرة الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم بتقدير إضمار القول؛ أي: فقال إنيّ. والمعنى (¬2): أي فدعا نوح ربه قائلًا: إن قومي قد غلبوني لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك. وقصارى ذلك: انتصر لك ولدينك، فإني قد غلبت، وعجزت عن الانتصار لهما. 11 - ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه، وعاقبهم بقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ}؛ أي: طرق السماء {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}؛ أي: بماء كثير منصب انصبابًا شديدًا يقال: انهمر الماء إذا انسكب، وسال؛ أي: منصب انصبابًا شديدًا كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يومًا. وكان مثل الثلج بياضًا وبردًا. وهو تمثيل لكثرة الأمطار، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[12]

وشدة انصبابها سواء جعلت الباء في قوله: {بِمَاءٍ} للاستعانة وجعل الماء كالآلة لفتح أبواب السماء، وهو ظاهر، أو للملابسة، قرأ الجمهور (¬1) {فتحنا} مخففًا. وقرأ ابن عامر، ويعقوب بالتشديد. 12 - {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}؛ أي: جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة؛ أي: جارية. وكان ماء الأرض مثل الحميم حرارة. وأصل الكلام. وفجرنا عيون الأرض. فغير عن المفعولية إلى التمييز قضاء لحقّ المقام من المبالغة؛ لأنّ قولنا: فجرنا عيون الأرض يكفي في صحة تفجر ما فيها من العيون، ولا مبالغة فيه، بخلاف فجرنا الأرض عيونًا فإنّ معناه: فجرنا أجزاء الأرض كلها بجعلها عيون الماء. ولا شك في أنه أبلغ. وقرأ الجمهور (¬2) {وَفَجَّرْنَا} بتشديد الجيم. وعبد الله، وأصحابه، وأبو حيوة، والمفضل عن عاصم بالتخفيف. قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها، فتفجرت بالعيون. {فَالْتَقَى الْمَاءُ}؛ أي: ماء السماء، وماء الأرض، وارتفع على أعلى جبل في الأرض ثمانين ذراعًا. والإفراد حيث لم يقل: الماءان لتحقيق أنَّ التقاء الماءين .. لم يكن بطريق المجاورة والتقارب، بل بطريق الالتقاء والاتحاد. وقرأ الجمهور (¬3): {فَالْتَقَى الْمَاءُ}. وهو اسم جنس. وقرأ عليّ بن أبي طالب، والحسن، ومحمد بن كعب، والجحدري {الماءان}. وقرأ الحسن أيضًا {الماءان}. وقال الزمخشري: وقرأ الحسن {ماوان} بقلب الهمزة واوًا، كقوله: علباوان، انتهى. شبه الهمزة الذي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علباء. وعن الحسن أيضًا {المايان} بقلب الهمزة ياء. وفي كلتا القرائتين شذوذ. حالة كون الماء كائنًا {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}؛ أي: على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل. وقيل: على مقادير قد رتبت وقت التقائه. فروي: أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعًا، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعًا. وقيل: كان ماء الأرض أكثر. وقيل: كانا متساويين نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[13]

وقيل: على أمرٍ قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون. وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان. وهذا هو الراجح؛ لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها. فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} فكلمة {عَلَى} هذا للتعليل؛ أي: التقى الماء لأجل أمر قد قدره الله في الأزل. وهو هلاكهم بالطوفان. يقول الفقير: إنما وقع (¬1) العذاب بالطوفان العام؛ لأنَّ الماء إشارة إلى العلم، فلما لم ينتفعوا بعلم نوح عليه السلام في المدة الطويلة، ولم تغرق أرواحهم فيه أخذوا بالماء، حتى غرقت أجسادهم. وتأئير الطوفان يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة، لكن على الخفة. فيقع مطر كثير، ويغرق بعض القرى، والبيوت من السيل. وقرأ أبو حيوة {قُدِرَ} بتشديد الدال، والجمهور بتخفيفها. والخلاصة (¬2): أنّ الله أرسل ماء السحاب مدرارًا، وأخرج من الأرض ماء ثجاجًا، فالتقى الماءان، فأحدثا طوفانًا على وجه الأرض، فأغرق به قوم نوح , ونجا نوحًا بركوب سفينته التي بناها، كما أشار إلى ذلك في هود بالتفصيل. 13 - وأشار إليه هنا بقوله: {وَحَمَلْنَاهُ}؛ أي: نوحًا ومن آمن معه {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ}؛ أي: على سفينة صاحبة أخشاب عريضة. فإن الألواح جمع لوح. وهو كل صحيفة عريضة خشبًا أو عظمًا. وكانت سفينة نوح من ساج. وهو شجر عظيم ينبت في أرض الهند. {وَدُسُرٍ}؛ أي: ومسامير. جمع دسار (¬3)، من الدسر. وهو الدفع الشديد، سمي به المسمار؛ لأنه يدسر به منفذها؛ أي: يدفع. قال في "عين المعاني": دسرت بها السفينة؛ أي: شدت، أو لأنّها تدسر أي: تدفع بالدقّ. فقوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} صفة للسفينة، أقيمت مقامها بأن يكنى بها عنها كما يكنى عن الإنسان بقولهم: هو مستوي القامة عريض الأظفار. أي: وأنقذناه من الطوفان، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير. وفي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[14]

سورة العنكبوت: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}. وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات بحسب السنن التي وضعها في الخليقة، وأنه يمهل الظالمين ولا يهملهم كما جاء في الحديث: "إن ربك لا يهمل، ولكن يمهل". 14 - ثم أشار إلى أنه كان محروسًا بعناية الله، وكلاءته فقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: تجري السفينة، وتسير بمرأى منا؛ أي: محفوظة بحفظنا. وقيل: محفوظة بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها. وقيل: تجري بأعيننا؛ أي: بأمرنا، وقدرتنا. وقيل: تجري بأعيننا النابعة من الأرض. وقرأ الجمهور (¬1) {بِأَعْيُنِنَا} بالفكّ. وقرأ زبد بن علي، وأبو السمّال {بِأَعْيُنَّا} بالإدغام. وقوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} مفعول له لما ذكر من فتح أبواب السماء وما بعده؛ أي: (¬2) فعلنا ذلك المذكور أجرًا وثوابًا لنوح؛ لأنه كان نعمة كفروها. فإن كل نبي نعمة من الله على أمته أي نعمة، ورحمة أي رحمة. وكان نوح نعمة مكفورة. ومن هذا المعنى ما حكي: أنَّ رجلًا قال لهارون الرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ فقال: أنت نِعَمٌ حمدت الله عليها. وقال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه، وإغراقهم ثوابًا لمن كان كفر به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها, فانتصاب {جَزَاءً} على العلة. وقيل: على المصدرية بفعل مقدر؛ أي: جازيناهم جزاء. وقرأ الجمهور (¬3): {كُفِرَ} مبنيًا للمفعول. والمراد به: نوح، وقيل: هو الله سبحانه، وقرأ مسلمة بن محارب بإسكان {الفاء} خفف فعل، كما قال الشاعر: لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَا ... نُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ يريد لو عصر. وقرأ زيد بن رومان، وقتادة، وعيسى، ومجاهد، وحميد {كُفِرَ} بفتح الكاف والفاء مبنيًا للفاعل. فـ {من} يراد به: قوم نوح؛ أي: إنّ ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[15]

نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء، وتفجير عيون الأرض، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه السلام كان جزاء لهم على كفرهم. والمعنى: أي تجري محفوظة بحراستنا، فقد كانت بمرأى منّا، فنحن نكلؤها ونرعاها كما يرعى المرء ما يراه بعينه، ويقع تحت سمعه وبصره. ويقول القائل إذا وصى آخر بأمر, وشدد عليه: اجعله نصب عينيك؛ أي: اهتم به، ولا تهمله. ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم، وكفرهم بربهم، فقال: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}؛ أي: فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا، وجحودهم بنعمائنا، وتكذيبهم برسولنا. 15 - ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام، فقال: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا}؛ أي: وعزتي وجلالي .. لقد تركنا، وصيرنا هذه السفينة {آيَةً} وعبرة لمن يعتبر بها ممن يقف على خبرها. وقال قتادة: أبقيناها دهرًا طويلًا حالة كونها آية، وعبرة لمن يعتبر بها. أبقاها بباقردى من بلاد الجزيرة. وقيل: على الجودي دهرًا طويلًا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمّة. وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمادًا. وفي "تفسير أبى الليث": قال بعضهم: يعني: أنَّ تلك السفينة كانت باقية على الجبل قريبًا من خروج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: بقيت خشبة من سفينة نوح هي في الكعبة الآن. وهي ساجة غرست، حتى ترعرت أربعين سنة, ثم قطعت، فتركت حتى يبست أربعين سنة. وقيل: بقي بعض خشبها على الجودي إلى هذه الأوقات. يقول الفقير: لعل بقاء بعض خشبها لكونها آية وعبرة، وإلا فهو ليس بأفضل من أخشاب منبر نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة. وقد احترقت، أو أكلتها الأرضة، فاتخذت مشطًا، ونحوه مما يتبرك به، ألا ترى أن مقام إبراهيم عليه السلام مع كونه حجرًا صلدًا لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي، ثم لم يبق نفسه أيضًا على ما هو الأصح والمعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام، فاعرف. وقال بعضهم: جنس السفينة صارت عبرة؛ لأنَّ الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة واتخذوا السفن بعد ذلك في البحر، فلذلك كانت آية للناس. يقول الفقير: كيف يعرفونها؟ ولم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلا البحر المحيط. وذلك أن الله

[16]

تعالى أمر الأرض بعد الطوفان فابتلعت ماءها، وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض. فهذه البحور على وجه الأرض منها، وأما البحر المحيط، فغير ذلك، بل هو جرز عن الأرض، حين خلق الله الأرض من زبده .. وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكان عرشه على الماء"؛ أي؛ العذب. والبحور سبعة. منها: البحر المحيط. وبعضهم لم يعد منها البحر المحيط، بل هو غير السبعة. وكان نوح عليه السلام نجارًا، فجاء جبريل، وعلمه صنعة السفينة. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ أي: من معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار، فيخاف من الله، ويترك المعصية. وأصله: مذتكر بوزن مفتعل، كما سيأتي في مبحث التصريف؛ أي: فهل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها. والمعنى (¬1): أي ولقد جعلنا السَّفينة التي حملنا فيها نوحًا ومن معه عبرة لمن بعده من الأمم ليدبروا، ويتعظوا، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم، وينهجوا منهجهم في الكفر بالله، وتكذيب رسله. فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة. وقد رووا أنَّ الله حفظها آمادًا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودي، كما مر. فهل من معتبر بتلك الآية الحرية بالاعتبار، الجديرة بطويل التفكير والتأمل في عواقب المكذبين برمل الله، الجاحدين بوحدانيته المتخذين له الأنداد والأوثان. 16 - ثم بين سبحانه شديد نكاله، وعقابه فقال: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} الذي عذبتهم به. {وَنُذُرِ}؛ أي: وكيف كان عاقبة إنذاري إياهم على لسان رسولي نوح عليه السلام؟ أي: كانا على كيفية هائلة، وحكمة بالغة، لا يحيط بها الوصف. والاستفهام فيه للتعظيم، والتهويل، والتعجيب. والنذر: جمع نذير بمعنى إنذار، كالنكر جمع نكير بمعنى إنكار. وأصله: نذري بالياء، حذفت اكتفاء عنها بالكسرة رعاية للفاصلة، ووحَّد (¬2) العذاب وجمع الإنذارات إشارة إلى غلبة الرحمة على العذاب؛ لأنَّ الإنذار إشفاق ورحمة، فقال: فكيف إنذارتي التي هي نعم ورحمة تواترت عليهم. فلما لم تنفع تلك الإنذارات وقع العذاب عليهم وقعة واحدة، فكانت كثيرة، والنقمة واحدة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[17]

وقيل المعنى (¬1): فانظر يا محمد كيف كان عذابي عليهم؟ وكيف كان حال منذري لمن أنذرهم نوح فلم يؤمنوا. ثم إنه تعالى لما أجاب دعوة نوح بأن أغرقهم أجمعين قال استعظامًا لذلك العقاب، وإيعادًا لمشركي مكة: فكيف كان عذابي الذي عذبتهم به، وكيف كان عاقبة إنذاري، اهـ زاده. والمعنى: أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار. ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد لكل باغ عنيد ساخط على الرسل، مكذب بربه. والخلاصه: انظر كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذب رسلي؟ وكيف انتصرت منهم لهم، وأخذت أعدائهم بما يستحقون. 17 - ثم ذكر أن هذا القصص، وأمثاله إنما ذكر للعبرة، لا ليكون قصصًا تاريخيًا يتلى, فقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} إلخ، جملة قسمية، وردت في أواخر القصص الأربع تنبيهًا على أن كل قصة منها مستقبلة بإيجاب الإدّكار، كافية في الازدجار, ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنذلناه على لغتهم، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} ووشحنا فيه بأنواع المواعظ والعبر، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد. {لِلذِّكْر}؛ أي: للتذكير والاتعاظ. وعن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا قول الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} لما أطاقت الألسن أن تتكلم به". وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عَزَّ وَجَلَّ. أي: ولقد سهلنا لفظه, ويسرنا معناه، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ ليتعظ به من شاء، ويتدبر من أراد. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ أي: فهل من متعظ به مزدجر عن معاصيه، أي: ما أقل من تذكر به، واتعظ بأمره ونهيه. فهو استفهام إنكار، ونفي للمتعظ على أبلغ وجه ¬

_ (¬1) تنوير المقباس.

[18]

وآكده. قال أبو بكر الوراق: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه. وفيه (¬1) الحث على تعليم القرآن، والاشتغال به، لأنه قد يسره الله، وسهله على من شاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي، وغيرهم. قال في "برهان القرآن": قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} إلخ، ختم به قصة نوح، وعاد، وثمود، ولوط لما في كل واحدة منها من التخويف، والتحذير، وما حل بهم ليتعظ به حافظ القرآن وتاليه، ويعظ غيره، انتهى. وفي "الفتوحات": وفائدة تكرير هاتين الآيتين مع كل قصة أن يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظهم. وهذا حكم التكرير في {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} عند كل نعمة عدها، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} عند كل آية أوردها. وكذا تكرير القصص لتكون العبرة حاضرة مصورة للأذهان غير منسية في كل أوان، اهـ عمادي. وقرأ الجمهور (¬2): {مُدَّكِرٍ} بإدغام الذال المعجمة في الدال المهملة المبدلة من تاء الافتعال. وقرأ قتادة فيما نقل ابن عطية بالذال، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول. وقال صاحب كتاب "اللوامح": قرأ قتادة {فهل من مذّكر} اسم فاعل من التذكير؛ أي: من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص، انتهى. وقرىء {مذتكر} على الأصل. قصة عاد قوم هود عليه السلام 18 - تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة، وهنا ذكرها الله تعالى موجزة كما ذكر قصة نوح موجزة. ولما لم يكن لقوم نوح علم .. ذكر قوم مضافًا إلى نوح. ولما كانت عاد علمًا لقوم هود ذكر العلم؛ لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة، ذكره أبو حيان. {كَذَّبَتْ عَادٌ}؛ أي: هودًا عليه السلام, ولم يتعرض إلى كيفية تكذيبهم له رومًا للاختصار، ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} لهم {وَ} كيف كان {نُذُرِ}، أي: إنذاري لهم. فالنذر جمع نذير بمعنى الإنذار. والغرض من هذا توجيه قلوب السامعين، نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره، وتهويله، وتعظيمه، وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما فيما قبله وما بعده. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) البحر المحيط.

[19]

كأنه قيل: كذّبت عاد فهل سمعتموهم، أو فاسمعوا كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إيّاهم. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل هنا: فكذبوا هودًا كما قال في قصة نوح: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا}؟ أجيب: بأن تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم. وإما لأن قصة عاد ذكرت مختصرة، اهـ خطيب. والمعني: أي كذبت عاد نبيهم هودًا عليه السلام، فيما أتاهم به عن الله كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم. فانظروا يا معشر قريش كيف كان عذابي إياهم، وعقابي لهم على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله هودًا، وإنذاري من سلك سبيلهم، وتمادى في الغيّ والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به. 19 - ثم فصل ما أجمله أولًا بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا} وسلطنا {عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}؛ أي: ريحًا باردة أو شديدة الصوت والهبوب. وهي ريح الدبور. والصرصر من الصر. وهو البرد، أو من صر الباب إذا صوت. {فِي يَوْمِ} ذي {نَحْسٍ} وشؤم عليهم {مُسْتَمِرّ} صفة ليوم أو نحس، أي: مستمر شؤمه عليهم أوابد الدهر. فإن الناس يتشاءمون بأربعاء آخر الشهر. قال ابن الشيخ (¬1): واشتهر بين بعض الناس التشاؤم بالأربعاء الذي يكون في آخر الشهر بناءً على قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}. ومعلوم: أنه ليس المراد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، حيث لم تظهر نحوسته في حق الأنبياء والمؤمنين. وفي "الروضة": الأربعاء مشؤوم عندهم، والذي لا يدور وهو آخر أربعاء في الشهر أشأم. وعن ابن عباس يرفعه "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر". قال الشاعر: لِقَاؤك لِلْمُبكِّر فَالُ سُوْءٍ ... وَوَجْهُكَ أَرِبْعَاءٌ لَا يَدُورُ والمعني: مستمر عليهم شؤمه ونحوسته أزمنة ممتدة إلى أن أهلكهم. فاليوم بمعني الحين، وإلا فاليوم الواحد لا يمكن أن يستمر سبع ليال وثمانية أيام. والاستمرار على هذا الوجه بحسب الزمان. أو المعنى شامل لجميعهم، كبيرهم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وصغيرهم. فالعستحر بمعنى المطرد بالنسبة إلى الأشخاص، أو مشتد مرارته؛ أي: بشاعته. وقيل: هو من المرة بمعنى القوة؛ أي: في يوم قويّ الشؤم مستحكمه كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. والظاهر (¬1): أنه من الاستمرار، لا من المرارة، ولا من المرة؛ أي: دام عليهم عذابه حتى أهلكهم وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم. وكان ابتداؤه يوم الأربعاء آخر الشهر إلى غروب الأربعاء الآخر. وروي: أنه كان آخر أيامهم الثمانية في العذاب يوم الأربعاء، وكان سلخ صفر. وهي الحسوم في سورة الحاقّة؛ أي: المتتابعة. والمعنى (¬2): إنّا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بربهم ريحًا شديدة العصوف في برد، لصوتها صرير في زمن شؤم ونحس عليهم. إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم. ونحو الآية قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وقوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، أي: متتابعة. تنبيه: وما روي عن شؤم بعض الأيام فلا يصح شيء منه. فالأيام كلها لله، لا ضرر فيها لذاتها, ولا محذور منها, ولا سعد فيها, ولا نحس. فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشرّ لهم. فكل منها يتصف بالأمرين. أَلا إِنَّما الأَيَّامُ أبْنَاءُ وَاحِدِ ... وَهَذِيْ اللَّيَاليْ كُلُّهَا أَخَوَاتُ وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس، وينسبون في ذلك أبياتًا إلى علي كرم الله وجهه لا يصح منه شيء. وقرأ الجمهور (¬3): {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} بإضافة يوم إلى نحس. وقرأ الحسن بتنوين {يوم} وكسر الحاء على أن {نَحْسٍ} صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. وقال أبو حيان: والذي يظهر أنه ليس يومًا معينًا، بل أريد به الزمان والوقت كأنه قيل: في وقت نحس. ويدل على ذلك أنّه قال في سورة فصلت: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[20]

أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وقال في الحاقة: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}. إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الاربعاء، فعبر بوقت الابتداء. وهو يوم الأربعاء. فيمكن الجمع بينها. 20 - وجملة قوله: {تَنْزِعُ النَّاسَ} في محل نصب على أنّها صفة لـ {رِيحًا} أي: ريحًا تقلعهم، أو حال منها. ويجوز أن يكون استئنافًا، أي: تقلع الناس من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. روي: أنهم دخلوا الشعاب والحفر، وتمسك بعضهم ببعض، فنزعتهم الريح، وصرعتهم موتى. وقال مقاتل: تنزع أرواحهم من أجسادهم، وقال السهيلي: دامت عليهم سبع ليال وثمانية أيّام, كيلا ينجو منهم أحد عن هو في كهف أو سرب. فأهلكلت من كان ظاهرًا بارزًا, وانتزعت من البيوت من كان في البيوت، أو هدمتها عليهم، وأهلكت من كان في الكهوف والأسراب بالجوع والعطش. ولذلك قال: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}؛ أي: فهل يمكن أن يبقى بعد هذه الثمانية الأيّام باقية منهم. وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} وأصول {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}؛ أي: منقلع من الأرض. حال (¬1) من الناس؛ أي: تنزع الناس حال كونهم شبيهين بأصول نخل منقلع من مغارسه. قل: شبهوا بأعجاز النخل، وهو أصولها بلا فروع؛ لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم، فتبقى أجسادًا وجثثًا بلا رؤوس. وقال بعضهم: كانت الريح تقلعهم، وتصرعهم على رؤوسهم. فتدق رقابهم، فيبين الرأس من الجسد. وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض. فكأنهم بحسب قوتهم وجسامتهم يجعلون أرجلهم غائرة نافذة في الأرض، ويقصدون به المقاومة على الريح، ثم إن الريح لما صرعتهم فكأنها قلعت أعجاز نخل منقعر. وقال أبو الليث: صرعتهم، وكبتهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من الأرض. فشبههم لطولهم بالنخل الساقطة, وقرأ أبو نهيك {أعْجُزُ} على وزن أفعل، نحو: ضبع وأضبع، ذكره أبو حيان. قال مقاتل (¬2): كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعًا, وقال في رواية الكلبيّ: كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعًا. فاستهزؤوا حين ذكر لهم الريح، فخرجوا إلى الفضاء، وضربوا بأرجلهم الأرض، وغيبوها فيها إلى قريب من الركبة، فقالوا قالًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[21]

للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح، فدخلت تحت الأرض، وجعلت ترفع كل اثنين، وتضرب أحدهما بالآخر بعدما رفعتهما في الهواء، ثم تلقيهما في الأرض، والباقون ينظرون إليهما، حتى رفعتهم كلهم، ثم رمت بالرمل والتراب عليهم. وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يومًا. فائدة: ذكَّر (¬1) وصف النخل هنا، حيث قال {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}، وأنثه في الحاقة، حيث قال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} رعاية للفواصل في الموضعين. وجاز فيه الأمران؛ لأنّه نظر إلى لفظ النخل تارةً، فذكره، وإلى معناه أخرى فأنثه. نظير قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً}. وفي الآية إيماء (¬2) إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم، فتبقي الأجسام، ولا رؤوس لها، وإلى أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال كالنخل، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم في الأرض، وقصدوا بذلك مقاومة الريح، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها. 21 - ثم هول من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما، فقال: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}؛ أي: فانظروا كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم. وقد كرره تعظيمًا لشأنهما، وتعجيبًا من أمرهما. وهذا سنة في بليغ الكلام في باب النصح والإرشاد، وباب الوعد والوعيد. وقال في "برهان القرآن": أعاد في قصة عاد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} مرتين؛ لأنَّ الأول في عذاب الدنيا، والثاني في عذاب الآخرة, كما قال في قصتهم في آية أخرى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}. وقيل: الأول لتحذيرهم قبل هلاكهم، والثاني لتحذير غيرهم بعد هلاكهم، انتهى. 22 - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ}؛ أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه {لِلذِّكْرِ}؛ أي: ليتذكر به من شاء، ويتدبر فيه من أراد. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ أي: فهل من متعظ به، مزدجرٍ عن معاصي الله سبحانه. ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) المراغي.

[23]

وإنما كرر هذه الآية في هذه السورة للتنبيه والإفهام (¬1). وقيل: إن الله سبحانه اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم، وقصص المرسلين، وما عاملهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع؛ أي: لو تذكر. وقيل: إنما كرر هذه الآية عند كل قصة بقوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ لأنّ كل كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم، وجعلها حجة عليهم. فاللام من {هل} للاستعراض، والهاء للاستخراج، قاله أبو بكر الوراق. فائدة: ثم اعلم (¬2): أن حكمة هلاك عاد بالريح اعتمادهم على قوتهم، والريح أشد الأشياء قوة. فاستأصلهم الله تعالى بها، حتى يحصل الاعتبار لمن بعدهم من القرون، فلا يعتمدوا على قواهم. وفيه إشارة إلى أن الريح هو الهواء المتحرك، فالخلاص من ذلك الهواء إنما هو بترك الهوى، ومتابعة الهدى، نسأل الله سبحانه من فضله ذلك. قصة ثمود قوم صالح عليه السلام 23 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)}؛ أي: بالإنذارات والمواعظ التي سمعوها من صالح عليه السلام، أو كذبوا بالرسل الذين بعثهم الله لخلقه، وهم وإن كذبوا صالحًا فحسب، لكن تكذيبه تكذيب لهم جميعًا لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع، وهي التوحيد، ومجيء الرسل، واليوم الآخر. 24 - ثم فصل تكذيبهم، وحكى عنهم مقالهم فقال: {فَقَالُوا} في تكذيبه {أ} نتبع {بَشَرًا} أي: آدميًّا لا ملكًا {مِنَّا}؛ أي: كائنًا من جنسنا. وانتصابه بفعل يفسّره ما بعده. فأداة الاستفهام داخلة على الفعل، وإن كان تقديرًا كما هو الأصل. {وَاحِدًا}؛ أي: منفردًا لا تبع له, أو واحدًا من آحادهم، لا من أشرافهم. وتأخير (¬3) هذه الصفة عن {مِنَّا} للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع، ولو قدمت عليه .. لفاتت هذه النكتة. {نَتَّبِعُهُ} في أمره {إِنَّا إِذًا}؛ أي: ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[25]

على تقدير اتباعنا له. وهو منفرد ونحن أمة، وأيضًا ليس بملك لما كان في اعتقاد الكفرة من التنافي بين الرسالة والبشرية {لَفِي ضَلَالٍ} وخطأ عن الصواب والحق {وَسُعُرٍ}؛ أي: جنون. فإن ذلك بمعزل عن مقتضى العقل. والاستفهام في قوله: {أَبَشَرًا} للإنكار؛ أي: كيف نتبع بشرًا كائنًا من جنسنا منفردًا وحده، لا متابع له على ما يدعو إليه. وقيل: كان يقول لهم: إن لم تتبعوني .. كنتم في ضلال عن الحق وسعر؛ أي: نيران، جمع سعير. فعكسوا عليه لغلبة عتوّهم، فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول، وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرًا منهم واحدًا؟ قلت: قالوا: {أَبَشَرًا} إنكارًا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة. وقالوا: {مِنَّا} لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا: {وَاحِدًا} إنكارًا لأن تتبع الأمة رجلًا واحدًا. وأرادوا من أبنائهم ليس بأشرفهم، ولا أفضلهم. ويدل عليه قوله: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): بنصب {أَبَشَرًا} على الاشتغال. وقرأ أبو السمال، والداني، وأبو الأشهب، وابن السميقع بالرفع على الابتداء. و {واحدٌ} صفته، و {نتبعه} خبره. وروي عن أبي السمال: أنه قرأ برفع {بشرا}، ونصب {واحدًا} على الحال. والمعنى: أي (¬2) أنتبع واحدًا من الدهماء، لا من علية القوم، ولا من أشرافهم، وليس له ميزة عن امرىء منا بعلم ظاهر، ولا ثروة وغنى تجعله يدعي أن يكون الزعيم لنا إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوي، وجانبنا الصواب، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه. 25 - ثم بالغوا في العتو والإنكار، وتعجبوا من أمره، ونسبوه إلى الاختلاق والكذب, فقالوا: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ}؛ أي: أأنزل الكتاب، والوحي {عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة، والاستفهام فيه للإنكار و {مِنْ بَيْنِنَا} حال من ضمير {عَلَيْهِ}؛ أي: أخص بالرسالة منفردًا من بين آل ثمود, والحال أنَّ فيهم من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[26]

هو أكثر مالًا، وأحسن حالًا منه. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}؛ أي: بطر بوزن فرح، اسم فاعل؛ أي: ليس الأمر كذلك, بل هو كذا، وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه. وقرأ الجمهور (¬1): {أَشِرٌ} بوزن فرح بكسر العين، اسم فاعل. وقرأ أبو قلابة وأبو جعفر، وقتادة {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} بلام التعريف فيهما، وبفتح الشين وتشديد الراء، على أنه أفعل تفضيل، وإتمام خير وشر في أفعل التفضيل قليل. ونقل الكسائي عن مجاهد: أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة. والمعنى: أي أأنزل عليه الوحي من بيننا، وأوتي النبوة، وهو واحد منّا, ولم اختصه الله سبحانه بإنزال الشرائع عليه. وهو ليس بملك مكرم، والحق إنه لكذاب متجبر، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا، ويود أن يكون الرئيس المطاع، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه، وأغواه به الشيطان، ولا يستند إلى وحي سماويّ ولا أمر إلهيّ. 26 - ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدًا له، ووعيدًا لقومه فقال: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا}؛ أي: عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}؛ أي: البَطِرُ الذي حَملَه بطره على ما فَعَل، أصالحٌ في دعواه الرسالةَ من ربه، وأنه أمره بالتبليغِ لهدايةِ قومهِ إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، أم هم في تكذيبهم إياه، ودعواهم عليه الاختلاقَ والكذبَ. وقصارى ذلك: سيتبين لهم أنهم هم الكذّابون الأشرون. والسين (¬2) لتقريب مضمون الجملة، وتأكيده. والغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه. والمراد به: وقت نزول العذاب في الزمان المستقبل، لا يوم بعينه، ولا يوم القيامة؛ لأن قوله: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} استئناف لبيان مبادي الموعود حتمًا. والمعنى: سيعلمون ألبتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حمله أشره وبطره على الترفع والتجبر أصالح أم من كذبه. وفيه تشريف لصالح، حيث إن الله تعالى سلب عنه بنفسه الوصف الذي أسندوه إليه من الكذب والأشر. فإنَّ معناه: لست أنت بكذاب أشر، بل هم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[27]

وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى جريًا على أساليبهم كقوله تعالى آمرًا لرسوله أن يقول للمشركين: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِين}. وقرأ عليّ، والجمهور (¬1) {سَيَعْلَمُونَ} بالتحتية إخبارًا من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدّة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه؛ أي: قل لهم: يا صالح. 27 - وجملة {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} مستأنفة لبيان ما تقدم إجماله من الوعيد؛ أي: إنا نحن مخرجو الناقة من الهضبة التي سألوا الإخراج عنها. والهضبة: الجبل المنبسط على الأرض أو جبل خلق من صخرة واحدة أو الجبل الطويل الممتنع المنفرد. ولا يكون إلا في حجر الجبال، كما في "القاموس". روي (¬2): أنّهم سألوه متعنتين أن يخرج من صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها: الكاثبة، ناقة حمراء جوفاء وبراء عشراء. وهي التي أتت عليها عشرة أشهر من يوم أرسل عليها الفحل. فأوحى الله إليه: إنا مخرجو الناقة على ما وصفوا {فِتْنَةً لَهُمْ}؛ أي: امتحانًا لهم. فإن المعجزة محنة واختبار؛ إذ بها يتميز المثاب من المعذب {فَارْتَقِبْهُمْ}؛ أي: فانتظرهم، وتبصر ما يصنعون {وَاصْطَبِرْ} على أذيتهم صبرًا بليغًا. 28 - {وَنَبِّئْهُمْ}؛ أي: أخبرهم {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}؛ أي: مقسوم بين ثمود، وبين الناقة. لها يوم، ولهم يوم. فالقسمة: مصدر بمعنى اسم المفعول كضرب الأمير. وقرأ الجمهور {قِسْمَةٌ} بكسر القاف، ومعاذ بن أبي عمرو بفتحها. وقال: {بَيْنَهُمْ} بضمبر العقلاء تغليبًا. {كُلُّ شِرْبٍ}؛ أي: كل نصيب من الماء، ونوبة، الانتفاع منه {مُحْتَضَرٌ} يحضره صاحبه في نوبته. فليس معنى كون الماء مقسومًا بين القوم، والناقة أنه جعل قسمين: قسم لها، وقسم لهم. بل معناه: جعل الشرب بينهم على طريق المناوبة يحضره القوم يومًا، وتحضره الناقة يومًا، وقسمة الماء إما لأن الناقة عظيمة الخلق ينفر عنها حيواناتهم، أو لقلة الماء. والشرب بكسر السين: الحظ من الماء. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الحاء يوم نوبتهم، فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون لبنها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[29]

والمعنى: أي إنا مخرجو (¬1) الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيّهم بعثها منها لتكون آية لهم، وحجة على صدقه في ادعائه النبوة، وتكون فتنة واختبارًا لهم أيؤمنون بالله، ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد؟ أم يكذّبونه ويكفرون به، فانتظر ماذا يفعلون، وأبصر ماذا يصنعون، واصبر على أذاهم، ولا تعجل حتى يأتي أمر الله؛ فإن الله ناصرك، ومهلك عدوك، وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة لها يوم، ولهم يوم. كل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها في نوبته، فتحضر الناقة تارةً، ويحضرون هم أخرى. وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر؛ لأن حيوان القوم كانت تنفر منها, ولا ترد الماء وهي عليه، فصعب ذلك عليهم فملوا من هذه القسمة، وأرادوا الخلاص منها. 29 - {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ}؛ أي: نادى ثمود صاحبهم. وهو قدار بن سالف عاقر الناقة، ورعوه ليعقر الناقة. وكان أشدّهم، وحضوه على عقرها، فلبى طلبهم. {فَتَعَاطَى}؛ أي: تناول الناقة بالعقر {فَعَقَرَ} ها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر، فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها, فرماها بسهم، انتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف، فكسر عرقوبها ثم نحرها. والتعاطي (¬2): تناول الشيء بتكلف، وما يتكلف فيه لا بُدَّ أن يكون أمرًا هائلًا، لا يباشره أحد إلا بالجراءة عليه. فالتعاطي مجاز عن الاجتراء. وبهذا المجاز يظهر وجه التعقيب بالفاء في {فَعَقَرَ}، وإلا فالعقر لا يتفرع على نفس مباشرة القتل، والخوض فيه. يقال: عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر؛ أي: ضرب به قوائمه، وبابه ضرب كما سيأتي. والمعنى: فاجترأ صاحبهم قدار بن سالف على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقدار بن سالف - بضم القاف وبالدال المهملة - وهو مشؤوم آل ثمور, ولذا كانت العرب تسمى الجزّار قدارًا تشبيهًا له بقدار بن سالف. لأنّه كان عاقر الناقة، وكان قصيرًا شرّيرًا، أزرق، أشقر، أحمر. وكان يلقب بأحيمر ثمود، تصغير أحمر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[30]

30 - ثم ذكر عقابهم الفظيع، فقال: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} لهم {وَنُذُرِ}، أي: إنذاري إيّاهم على لسان رسولي صالح عليه السلام، وقد سبق تفسير هذا فلا عود ولا إعادة. 31 - ثم فصل هذا العذاب بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا} وسلطنا {عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً}؛ أي: صيحة جبريل عليه السلام. وذلك لأنّها هي الجزاء الوفاق لفعلهم. فإنّهم صاروا سببًا لصيحة ولد الناقة بقتل أمه. {فَكَانُوا}؛ أي: فصاروا لأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة وطيب عيش {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشم (¬1): كسر الشيء الرخو, كالنبات. والهشيم بمعنى المهشوم؛ أي: المكسور، وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره. والحظر: جمع الشيء في حظيرة، والمحظور الممنوع، والمحتظر بكسر الظاء الذي يعمل الحظيرة ويتخذها. قال الجوهري: الحظيرة التي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد والريح. والحظيرة في الأرميا "دلي". والمعنى: إنا نحن أرسلنا جبريل ليصيح بهم، فصاح عليهم صيحة واحدة، فصاروا كالشجر اليابس الذي يتخذه من يعمل الحظيرة وقاية لإبله من الريح والبرد، فتساقط على الأرض, فتكسر, وتفتت. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لأكل ماشيته، فداست عليه، فتفتت، فصار كالغبار. روي: أن جبريل صاح في طرف منازلهم في اليوم الرابع من عقر الناقة؛ لأنه كان في يوم الثلاثاء، ونزول العذاب بهم كان في يوم السبت، فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، كأنهم هلكوا من أمد بعيد. وقصارى ذلك: أنهم بادوا عن آخرهم، ولم تبق نهم باقية، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات. وقرأ الجمهور (¬2): {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} بكسر الظاء، اسم فاعل, وهو الذي يعمل الحظيرة، وهشيمه ما سقط منه من دقاق الشجر، وأغصانه حالة العمل، وتكسر, وتفتت، وصار كالغبار. وقرأ أبو حيوة، وأبو السمال، وأبو رجاء، وأبو عمرو بن عبيد بفتحها. وهو موضع الاحتظار. وقيل: هو مصدر؛ أي: كهشيم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[32]

الاحتظار. وهو ما تفتت حالة الاحتظار والبناء للحظيرة، والحظيرة تصنعها العرب، وأهل البوادي للمواشي، والسكنى من الأغصان، والشجر المورق، والقصب، والحظر: المنع. وعن ابن عباس، وقتادة: أنَّ المحتظر هو المحترق. قال قتادة: كهثسيمٍ. محترقٍ. وعن ابن جبير: هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي. وقيل: المحتظَر بفتح الظاء: هو الهشيم نفسه. فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع عند من تأوله كذلك. 32 - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} وسهلناه لفظًا ومعنى {لِلذِّكْر} أي: لتذكير من تذكر به {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ أي: متعظ يتعظ به. وقد سبق تفسير هذا في هذه السورة غير مرة، فلتراجعه. قصص قوم لوط 33 - ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله، كما كذبهم غيرهم فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)}؛ أي: بالإنذارات أو بالمنذرين، كما سبق. 34 - ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب، ونجاة عن آمن منهم فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا}؛ أي: ريحًا تحصبهم؛ أي: ترميهم بالحصباء. وهي حجارة دون ملء الكف. فالحصب: الرمي بالحصى الصغار، ومنه: المحصب موضع بمكة، والحاصب: اسم فاعل بمعنى رامي الحصباء. وتذكيره مع إسناده إلى ضمير الريح وهي مؤنث مجازي لتأويلها بالعذاب. يقول الفقير (¬1): لعل حكمة تعذيبهم بالحجارة؛ لأنهم حجروا ومنعوا من اللواطة، فلم يمتنعوا، بل رموا نطفهم إلى غير محل الحرث، فرماهم الله تعالى بالحجر، ومن ثم ذهب أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى إلى أنَّ حكم اللوطي أن يرجم, وإن كان غير محصن. وأيضًا أنهم يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى, فإذا مرَّ بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به، وأمَّا الريح؛ فلأنهم كانوا يضرطون في مجالسهم علانية، ولا يتحاشون، وأما انقلاب قراهم؛ فلأنهم كانوا يقلبون المرد عند اللواطة، فجازاهم الله بحسب ¬

_ (¬1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا كلام صاحب (روح البيان)، وقد وقع خلل طباعي في عزو الحواشي وأصلحناه

[35]

أعمالهم، وأيضًا قلبوا الحقيقة وعكسوها بأن تركوا محل الحرث، وأتوا الأدبار. {إِلَّا آلَ لُوطٍ} وهم أهل بيته الذين نجوا من العذاب، وكانوا ثلاثة عشر. وقيل: يعني: لوطًا وابنتيه. وفي "كشف الأسرار": يعني: بناته، ومن آمن به من أزواجهن. {نَجَّيْنَاهُمْ}؛ أي: نجينا آل لوط {بِسَحَرٍ}؛ أي: في سحر (¬1) من الأسحار. وهو آخر الليل، أو السدس الأخير منه. وانصرف "سحر"؛ لأنّه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معينًا لامتنع. ويجوز أن يكون حالًا؛ أي: متلبسين بسحر. روي: أن الله أمره، حتى خرج بهم بقطع من الليل، فجاء العذابُ قومَه وقت السحر. والاستثناء منقطع؛ لأنّه مستثنى من الضمير في {عَلَيْهِمْ}. وهو للمكذّبين من قوم لوط. ولا يدخل فيهم آل لوط؛ لأنّ المراد به: من تبعه على دينه. 35 - وانتصاب {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} على العلة لـ {نَجَّيْنَاهُمْ}، أي: نجيناهم إنعاما منا على لوط ومن تبعه، أو على المصدرية من فعله، أي: أنعمناهم إنعامًا من عندنا، أو من مَعِيَ نجيناهم؛ أي: نجيناهم تنجية من عندنا لأن تنجيتهم إنعام. والمعنى (¬2): أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء، وما زالت بهم حتى دمرتهم إلا من آمن منهم، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل؛ لينجوا من الهلاك. ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة، فقال: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا}؛ أي: أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منّا. {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} نعمتا بالإيمان والطاعة. يعني: كذلك ننجي المؤمنين. والمعنى: هكدا نجزي من شكرنا على نعمتنا، وأطاعنا، وائتمر بأمرنا وانتهى عمّا نهينا عنه. 36 - ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه، وخوفهم بأسه فقال: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ}؛ أي: وعزتي وجلالي .. لقد أنذرهم، وخوفهم نبيهم لوط عليه السلام {بَطْشَتَنَا}؛ أي: أخذتنا الشديدة بالعذاب. {فَتَمَارَوْا}؛ أي: فكذَّبوا {بِالنُّذُرِ} متشاكين. ضمن (¬3) {فَتَمَارَوْا} معنى التكذيب، فعدي تعديته، من المرية. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[37]

وأصله: تماريوا على وزن تفاعلوا، كما سيأتي. والمعنى: أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس الله وعذابه قبل حلوله بهم، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه، وتماروا به. 37 - ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب، فقال: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ}؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد طالب قوم لوط نبيهم لوطًا عليه السلام بالتمكين لهم {عَنْ ضَيْفِهِ}؛ أي: طلبوا منه ضيوفه. وهم الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان محنة من الله لهم. إذ قد بعثت إليهم امرأته عجوزة السوء، فأعلمتهم بأضيافه، فأقبلوا إليه يهرعرن من كل مكان، فأغلق لوط عليهم الباب، فجعلوا يعالجونه ليكسروه، وهو يدافعهم، ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فقالوا له: لقد علمت ما لنا في بناتك أرب، وإنك لتعلم ما نريد؛ فلما اشتد بينهم الصراع، وأبوا إلا الدخول طمس الله أبصارهم، فلم يروا شيئًا. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ}؛ أي: فمسحناها، وسويناها كسائر الوجه، بحيث لم ير لها شق. روي: أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل بجناحه صفقة، فتركتهم يترددون لا يهتدون إلى الباب، حتى أخرجهم لوط. والصفق: الضرب الذي ليس له صوت. والخلاصة: ولقد أرادوا من لوط تمكينهم ممن أتاه من أضيافه. وهم الملائكة في صورة الشبان، ومعهم جبريل. وقصدوا الفجور بهم ظنًّا منهم أنهم بشر، فطمسنا أعينهم، فجعل بعضهم يجول في بعض، ولا يرون شيئًا، ويقولون: أين ضيوفك؟. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود. والمعنى: صيّرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسف عليها من التراب. وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فرجعوا. وقرأ الجمهور {فَطَمَسْنَا} بتخفيف الميم، وابن مقسم بتشديدها. {فَذُوقُوا}؛ أي: فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا: {ذُوقُوا عَذَابِي}؛ أي: عذاب طمس الأعين، وما بعده مما سيأتي. {وَنُذُرِ}؛ أي: وجزاء إبائكم وامتناعكم من قبول إنذارتي بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم، وقبيح خلالكم.

[38]

38 - ثم بين وقت مجيء العذاب، فقال: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً}؛ أي: أول النهار وباكره؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاءهم وقت الصبح {عَذَابٌ}، أي: الخسف والحجارة {مُسْتَقِرٌّ}؛ أي: يستقر بهم، ويثبت لا يفارقهم، حتى يفضي بهم إلى النار. يعني: جاءهم عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة. وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب الطمس ينتهي به؛ أي: مستقر لم يكشفه عنهم كاشف، بل اتصل بموتهم، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر، ثم عذاب جهنم. وقرأ الجمهور: {بُكْرَةً} بالتنوين. أراد بكرة من البكر، فصرف. وقرأ زيد بن عليّ بغير تنوين. والحاصل: أن العذاب الذي هو قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسفلها، ورميهم بالحجارة غير العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين، فإنه عذاب دنيوي غير موصول بعذاب الآخرة، وأما عذاب الخسف والحجارة فموصول به؛ لأنّهم بهذا العذاب ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالآخرة، كما أشار إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - "من مات فقد قامت قيامته" من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة. كما أنَّ أزمنة الدنيا يتصل بعضها ببعض. والمعنى: ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور، وما زال ملحًا عليهم حتى أخمدهم، وبلغ غايته من دمارهم وهلاكهم. 39 - ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدًا للعذاب فقال: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}؛ أي: فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل. 40 - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)} هذه الجملة القسمية وردت في آخر كل قصة من القصص الأربع تقريرًا لمضمون ما سبق من قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)}، وتنبيهًا إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدكار، كافية في الازدجار، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار. وقد مر ما في هذه الآية من الكلام، وفيه استئناف للتنبيه والإيقاظ، لئلا يغلبهم السهو، والغفلة، وكذا تكرير قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} في سورة الرحمن، وقوله في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، ونحوهما من الأنباء، والقصص،

والمواعيد، والزواجر، والقواطع كما مر، فإن في التكرير تقريرًا للمعاني في الأسماع والقلوب، وتثبيتًا لها في الصدور، وكلما زاد تكرير الشيء، وترديده كان أقر له في القلب، وأمكن في الصدور، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر وأبعد من النسيان. الإعراب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}. {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} فعل، وفاعل، معطوف على ما قبله. {وَإِنْ} الواو: استئنافية، {إِنْ} حرف شرط جازم، {يَرَوْا} فعل، وفاعل, مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {آيَةً} مفعول به, لأن رأى بصرية، {يُعْرِضُوا} فعل، وفاعل، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جواب الشرط. والجملة الشرطية مستأنفة. {وَيَقُولُوا} فعل، وفاعل، معطوف علي {يُعْرِضُوا}. {سِحْرٌ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا سحر، {مُسْتَمِرٌّ} صفة لسحر. والجملة في محل النصب، مقول لـ {يَقُولُوا}. {وَكَذَّبُوا} {الواو} عاطفة, {كَذَّبُوا} فعل، وفاعل، معطوف على جملة {إن} الشرطية. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف علي {كَذَّبُوا}. {وَكُلُّ أَمْرٍ} {الواو} استئنافية، {وَكُلُّ أَمْرٍ} مبتدأ، {مُسْتَقِرٌّ} خبره. والجملة مستأنفة. {وَلَقَدْ} {الواو} استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قَدْ} حرف تحقيق، {جَاءَهُمْ} فعل، ومفعول به، {مِنَ الْأَنْبَاءِ} حال من {مَا} {مَا} اسم موصول في محل الرفع، فاعل، {فِيهِ} خبر مقدم، {مُزْدَجَرٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة صلة الموصول، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {حِكْمَةٌ} خبر لمبتدأ، أو بدل من {مَا} الموصولة، {بَالِغَةٌ} صفة لـ {حِكْمَةٌ}. {فَمَا} الفاء: عاطفة، {مَا}. نافية أو استفهامية للإنكار، في محل النصب مفعول مطلق لتغني؛ أي: فأيُّ إغناء تغني النذر. {تُغْنِ} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الباء المحذوفة لفظًا لالتقاء الساكنين المحذوفة خطًا تبعا للفظ, منع من

ظهورها الثقل؛ لأنّه فعل معتل بالياء. {النُّذُرُ} فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}. {فَتَوَلَّ} {الفاء} عاطفة، {تَوَلَّ} فعل أمر، مبني على حذف حرف العلّة، وفاعله ضمير يعود على محمد، {عَنْهُمْ} متعلق بـ {تولّ}. والجملة معطوفة على جملة {تُغْنِ}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف, تقديره: اذكر أو بـ {يَخْرُجُونَ}، {يَدْعُ} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين لفظًا المحذوفة خطًّا تبعًا للفظ، {الدَّاعِ} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا تبعًا لخط المصحف العثماني. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {إِلَى شَيْءٍ}: متعلق بـ {يَدْعُ}، {نُكُرٍ} صفة لـ {شَيْءٍ}. {خُشَّعًا} حال من فاعل {يَخْرُجُونَ}، {أَبْصَارُهُمْ} فاعل {خُشَّعًا}، {يَخْرُجُونَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {مِنَ الْأَجْدَاثِ} متعلق بـ {يَخْرُجُونَ}، {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {جَرَادٌ} خبره، {مُنْتَشِر} صفة {جَرَادٌ}. وجملة {كَأَنّ} في محل النصب حال ثانية من فاعل {يَخْرُجُونَ}. {مُهْطِعِينَ} حال ثالثة من فاعل {يَخْرُجُونَ}. {إِلَى الدَّاعِ} متعلق بـ {مُهْطِعِينَ}، {الدَّاعِ} مجرور بـ {إِلَى}، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا تبعًا للرسم العثماني. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا وقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما يكون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الكافرون الخ. وجوز بعضهم أن تكون الجملة حالًا من فاعل {يَخْرُجُونَ}. فالأحوال من {الواو} حينئذٍ أربعة. واحد مقدم، وثلاثة مؤخرة. {هَذَا يَوْمٌ} مبتدأ وخبر، {عَسِرٌ} صفة {يَوْمٌ}. والجملة في محل النصب مقول يقولون. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)}. {كَذَّبَتْ} فعل ماض، {قَبْلَهُمْ} ظرف مضاف، متعلق بـ {كَذَّبَتْ}، {قَوْمُ نُوحٍ}

فاعل، والجملة مستأنفة. {فَكَذَّبُوا} {الفاء} عاطفة، {كَذَّبُوا} فعل، وفاعل، {عَبْدَنَا} مفعول به. والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبَتْ}. {وَقَالُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {كَذَّبُوا}، {مَجْنُونٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو مجنون. والجملة في محل النصب مقول قالوا. {وَازْدُجِرَ} الواو: عاطفة، {ازْدُجِرَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على نوح. والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة هو مجنون على كونها مقولًا لـ {قالوا}؛ أي: قالوا: هو مجنون، وازدجرت الجن؛ أي: تخبطته، وذهبت بلبّه. {فَدَعَا} الفاء: عاطفة، {دَعَا رَبَّهُ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على نوح، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة {كَذَّبُوا}. {أَنِّي مَغْلُوبٌ} ناصب واسمه وخبره، وجملة {أنّ} وما في حيّزها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بأني مغلوب على حكاية المعنى، ولو جاء على حكاية اللفظ لقال: أنّه مغلوب. {فَانْتَصِرْ} الفاء: حرف عطف وتفريع، {انْتَصِرْ} فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة {أَنِّي مَغْلُوبٌ} على تضمين دعا بمعنى قال. {فَفَتَحْنَا} الفاء: عاطفة، {فتحنا} فعل، وفاعل، {أَبْوَابَ السَّمَاءِ} مفعول به. والجملة معطوفة على جملة {دَعَا}. {بِمَاءٍ} متعلق بفتحنا، والباء: للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، متعلقة بمحذوف حال من {أَبْوَابَ السَّمَاءِ}؛ أي: متلبسة بماء منهمر. {مُنْهَمِرٍ} صفة {مَاءٍ}، {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {فَتَحْنَا}، {عُيُونًا} تمييز محول عن المفعول، {فَالْتَقَى} الفاء: عاطفة، {التقى الماء} فعل، وفاعل، معطوف على {فجرنا}، {عَلَى أَمْرٍ} متعلق بـ {التقى}؛ و {عَلَى} للتعليل؛ أي: اجتمع الماء لأجل إغراقهم المقضي أزلًا. وجملة {قَدْ قُدِرَ} صفة لأمر. {وَحَمَلْنَاهُ} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على جملة قوله: {فَالْتَقَى}. {عَلَى ذَاتِ} متعلق بـ {حملنا}، {أَلْوَاحٍ} مضاف إليه، {وَدُسُرٍ} معطوف على {أَلْوَاحٍ}. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}. {تَجْرِي} فعل مضارع، مرفوع، وفعله ضمير يعود على سفينة ذات ألواح. والجملة الفعلية في محل الجر، صفة {ذَاتِ أَلْوَاحٍ}. {بِأَعْيُنِنَا} حال من فاعل

{تَجْرِي}؛ أي: حالة كونها محفوظة {بِأَعْيُنِنَا}، {جَزَاءً} مفعول لأجله لمحذوف، تقديره: فعلنا ذلك جزاء، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال. {لِمَن} متعلق بـ {جَزَاءً}، وجملة {كَانَ} صلة {لِمَنْ}، وجملة {كُفِرَ}، خبر {كَانَ}، {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {تَرَكْنَاهَا} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. والضمير يعود على الفعلة. وهي إغراقهم على الشكل المذكور. وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة. و {آيَةً} حال من ضمير المفعول أو مفعول ثان لـ {تركنا}، إذا كان تركنا بمعنى جعلناها. {فَهَلْ} الفاء: عاطفة، {هل} حرف استفهام للإنكار، {مِنْ} زائدة، {مُدَّكِرٍ} مبتدأ خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جملة {تَرَكْنَاهَا}. {فَكَيْفَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمتم ما حل بهم جميعًا جزاء وفاقًا لعملهم، وأردتم التعجب من ذلك فأقول لكم كيف كان عذابي. {كيف} اسم استفهام، في محل النصب، خبر {كاَنَ} مقدم، {كَانَ عَذَابِي} فعل ناقص واسمه، {وَنُذُرِ} معطوف على {عَذَابِي} تبعه بالرفع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ اجتزاء عنها بكسرة المناسبة لضرورة الفاصلة، وجملة {كَانَ} في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَلَقَدْ} الواو: عاطفة، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {يَسَّرْنَا} فعل، وفاعل، {الْقُرْآنَ} مفعول به، {لِلذِّكْرِ} متعلق بـ {يَسَّرْنَا}. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم السابق. {فَهَل} الفاء: عاطفة، {هل} حرف استفهام، {مِنْ} زائدة، {مُدَّكِرٍ} مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جملة القسم. {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)}. {كَذَّبَتْ عَادٌ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {فَكَيْفَ} الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تكذيبهم وعقوبتهم على ذلك التكذيب، وأردت التعجّب من ذلك فأقول لك كيف كان. {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب، خبر {كَانَ}، مقدم، {عَذَابِي} اسمها، {وَنُذُرِ} معطوف

على {عَذَابِي}، وجملة كان في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَا} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة، مسوقة لبيان تعذيبهم. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {رِيحًا} مفعول به، {صَرْصَرًا} صفة {رِيحًا}، {فِي يَوْمِ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} أيضًا، {نَحْسٍ} مضاف إليه، أو صفة لـ {يَوْمِ}، {مُسْتَمِرٍّ} صفة لـ {نَحْسٍ} أو لـ {يَوْمِ}. {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)}. {تَنْزِعُ النَّاسَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الريح}، ومفعول به. والجملة صفة ثانية لـ {رِيحًا}. {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {أَعْجَازُ نَخْلٍ} خبره، {مُنْقَعِر} صفة لـ {نَخْلٍ}. وجملة التشبيه في محل النصب، حال من {النَّاسَ}. وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)} تقدم إعرابه قريبًا فجدد به عهدًا. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {بِالنُّذُرِ} متعلق بـ {كَذَّبَتْ}، {فَقَالُوا} الفاء: عاطفة، {قالوا} فعل، وفاعل، معطوف على {كَذَّبَتْ}. {أَبَشَرًا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {بَشَرًا} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده، تقديره: أنتبع بشرًا. والجملة المحذوفة في محل النصب، مقول قالوا. {مِنَّا} صفة لـ {بَشَرًا}، {وَاحِدًا} صفة ثانية لـ {بشرا}، إلا أنّه يشكل عليه نقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة، ويجاب بأن {مِنَّا} حينئذٍ ليس وصفًا، بل حال من {وَاحِدًا} قدم عليه، أو حال من الهاء في {نَتَّبِعُهُ}. وجملة {نَتَّبِعُهُ} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. {إِنَّا} ناصب واسمه، {إِذًا} حرف جواب وجزاء، مهمل لعدم الفعل بعدها، {لَفِي ضَلَالٍ} اللام حرف ابتداء، {فِي ضَلَالٍ} جار ومجرور، خبر {إنّ} , {وَسُعُرٍ} معطوف على ضلال. وجملة {إنّ} تعليلية مسوقة لتعليل النفي المفهوم من الاستفهام، لا محل لها من الإعراب. {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}. {أَأُلْقِيَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {ألقي} فعل ماض، مغيّر الصيغة، {عَلَيْهِ}

متعلق به، {الذِّكْرُ} نائب فاعل، {مِنْ بَيْنِنَا} جار ومجرور، حال من ضمير {عَلَيْهِ}؛ أي: منفردًا. وجملة الاستفهام في محل النصب، مقول {قالوا} {بَل} حرف عطف وإضراب، {هُوَ كَذَّابٌ} مبتدأ وخبر، {أَشِرٌ} صفة {كَذَّابٌ}. والجملة الاسمية معطوفة على جملة الاستفهام على كونها مقولًا لـ {قالوا}. {سَيَعْلَمُونَ} السين حرف استقبال، {يعلمون} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {غَدًا} ظرف زمان، منصوب، متعلق بـ {يعلمون}، {مَنِ} اسم استفهام، في محل الرفع , مبتدأ، {الْكَذَّابُ} خبره، {الْأَشِرُ} صفة {الْكَذَّابُ}. والجملة الاسمية في محل النصب سدّت مسدّ مفعولي {يعلمون}؛ لأنّه علق عنه باسم الاستفهام. {إِنَّا} ناصب واسمه، {مُرْسِلُو النَّاقَةِ} خبره، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. {فِتْنَةً} مفعول لأجله، منصوب بـ {مُرْسِلُو} {لَهُمْ} متعلق بـ {فِتْنَةً}، {فَارْتَقِبْهُمْ} الفاء: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنا مرسلوا الناقة فتنة واختبارًا لهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك ارتقبهم. {ارتقب} فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على صالح عليه السلام، والهاء: مفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {وَاصْطَبِرْ} فعل أمر، وفاعل مستتر، معطوف على {ارتقبهم}. {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)}. {وَنَبِّئْهُمْ} الواو: عاطفة، {نبئهم} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به أول. والجملة معطوفة على جملة {ارتقبهم}. {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ} ناصب واسمه وخبره. {بَيْنَهُمْ} متعلق بـ {قِسْمَةٌ}؛ لأنه بمعنى مقسوم بينهم. وجملة {أَنَّ} وما في حيّزها في تأويل مصدر ساد مسد المفعول الثاني والثالث لـ {نبّأ}. {كُلُّ شِرْبٍ} مبتدأ، {مُحْتَضَرٌ} خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، بدل من جملة {أَنَّ}. {فَنَادَوْا} الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فبقوا على ذلك مدّة، ثم ملوا من نضوب الماء، وتشاوروا في شأنها، واتفقوا على عقرها. {نادوا} فعل ماض، وفاعل، {صَاحِبَهُمْ} مفعول به. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ويصحّ كونها فصيحة. {فَتَعَاطَى} الفاء: عاطفة، {تعاطى} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على

{صَاحِبَهُمْ}. والجملة معطوفة على جملة {نادوا}. {فَعَقَرَ} الفاء: عاطفة، {عقر} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على صاحبهم، معطوف على {تعاطى}. وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} تقدم إعرابه قريبًا. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَا} خبره. والجملة مستأنفة. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {صَيْحَةً} مفعول {أَرْسَلْنَا}، {وَاحِدَةً} صفة {صَيْحَةً}، {فَكَانُوا} الفاء: عاطفة، {كانوا} فعل ناقص واسمه، {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، خبر {كاَنَ}، وجملة {كاَن} معطوفة على جملة {أَرْسَلْنَا}. وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} تقدم إعرابه، فجدد به عهدًا. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} فعل وفاعل، {بِالنُّذُرِ} متعلق بـ {كَذَّبَتْ}. والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَا} خبره. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان العذاب اللازم للتكذيب. {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {حَاصِبًا} مفعول به، {إِلَّا} أداة استثناء منقطع أو متصل، {آلَ لُوطٍ} مستثنى من ضمير {عَلَيْهِمْ}، {نَجَّيْنَاهُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة مستأنفة، مسوقة لعليل الاستثناء، {بِسَحَر} متعلق بـ {نَجَّيْنَاهُمْ}، {نِعْمَةً} مفعول مطلق معنوي ملاق لعامله في المعنى. وهو {نَجَّيْنَاهُمْ}. إذ التنجية نعمة، أو مفعول لأجله لـ {نَجَّيْنَاهُمْ}. {مِنْ عِنْدِنَا} صفة لـ {نِعْمَةً}، {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف، {نَجْزِي} فعل مضارع، وفاعل مستتر، {مَن} اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ {نَجْزِي}، وجملة {شَكَر} صلة {مَن} الموصولة، والتقدير: نجزي من شكر جزاء مثل الجزاء المذكور. والجملة الفعلية مستأنفة. {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}. {وَلَقَدْ} {الواو} اسئنافية، واللام: موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {أَنْذَرَهُمْ} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول أول، {بَطْشَتَنَا} مفعول ثان.

والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فَتَمَارَوْا} الفاء: عاطفة، {تماروا} فعل ماض، وفاعل، {بِالنُّذُرِ} متعلق بـ {تماروا}. والجملة معطوفة على جملة {أَنْذَرَهُمْ}. {وَلَقَد} الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {رَاوَدُوهُ} فعل، وفاعل، ومفعول، {عَنْ ضَيْفِهِ} متعلق بـ {رَاوَدُوهُ} والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {فَطَمَسْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {رَاوَدُوه}، {أَعْيُنَهُمْ} مفعول به. {فَذُوقُوا} الفاء: عاطفة، {ذوقوا} فعل أمر، وفاعل، {عَذَابِي} مفعول به، {وَنُذُرِ} معطوف على {عَذَابِى}. والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف المعطوف على {طمسنا}؛ أي: فطمسنا أعينهم فقلنا لهم: ذوقوا عذابي ونذري. {وَلَقَدْ} الواو: عاطفة، واللام: موطئة للقسم {قد} حرف تحقيق، {صَبَّحَهُمْ} فعل ماض، ومفعول به {بُكْرَةً} ظرف، متعلق بصبحهم {عَذَابٌ} فاعل، {مُسْتَقِرٌّ} صفة لـ {عَذَابٌ}. والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على القسم السابق. وقوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)} تقدم إعرابه قريبًا فجدد به عهدًا. التصريف ومفردات اللغة {اقْتَرَبَتِ}؛ أي: دنت، وتربت. {السَّاعَةُ}؛ أي: القيامة. والساعة: جزء من أجزاء الزمان، عبَّر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك لسرعة حسابها، أو لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، أو لغير ذلك. كما بين فيما سبق. {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}؛ أي: انفصل بعضه من بعض، وصار فرقتين. {وَإِنْ يَرَوْا} أصله: يرئيوا بوزن يفعلوا, نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حدفت تخفيفًا، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لذلك. {آيَةً}؛ أي: علامة دالة على نبوتك. {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}؛ أي: مطرد دائم، اسم فاعل من استمر السداسي. وأصله: مستَمْرِر بوزن مستفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الميم فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فيه إدغام فاء الكلمة في تاء الافتعال. {أَهْوَاءَهُمْ} الهمزة فيه مبدلة من ياء لوقوعها متطرفة إثر ألف زائدة. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} جمع

نبأ. وهو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} مصدر ميمي من الزجر، إلا أن التاء أبدلت دالًا ليوافق الزاي بالجهر، ولك أن تعتبره اسم مكان؛ أي: مكان اتعاظ. واعلم: أن تاء الافتعال تقلب دالًا مع الدال، والذال، والزاي للتناسب في المخرج أو لتحصيل التناسب. فإنَّ التاء مهموسة، وهذه الحروف مجهورة. يعني: أهله مزتجر، لأنّه مفتعل من الزجر, قلبت التاء دالًا. لأنّ الزاي حرف مجهور، والتاء حرف مهموس، والذال تناسب الزاي في الجهر، وتناسب التاء في المخرج. يقال: زجره، وازدجره؛ أي: نهاه عن السوء، ووعظه غير أنّ افتعل أبلغ في المعنى من فعل. قال الراغب: الزجر: طرد بصوت، يقال: زجرته فانزجر. ثم يستعمل في الطرد تارةً، وفي الصوت تارةً. وقوله تعالى: {مُزْدَجَرٌ}؛ أي: طرد، ومنع عن ارتكاب المأثم. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وفي "القاموس": الحكمة بالكسر: العدل، والعلم، والحلم. والنبوة، والقرآن، وفي "المفردات": الحكمة: إصابة الحق بالعلم، والفعل. والحكمة من الله معرفة الأشياء أو إيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} جمع نذير بمعنى المنذر، أو مصدر بمعنى الإنذار. {عَنْهُمْ}؛ أي: لا تجادلهم، ولا تحاجّهم. {يَوْمَ يَدْعُ} تقدم في سورة الشورى أنَّ {الواو} حذفت منه بغير داع، وفي نظائره: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}. {شَيْءٍ نُكُرٍ} بضمتين وبسكون ثانيه، وكلاهما بمعنى المنكر؛ أي: منكر فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله. {مِنَ الْأَجْدَاثِ} جمع جدث محركة. وهو القبر. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ} سمي جرادًا لجرده الأرض من النبات، يقال: أرض مجرودة؛ أي؛ أكل ما عليها، حتى تجردت، كما في "المفردات". {مُهْطِعِينَ} فيه إعلال بحذف همزة أفعل من الوصف؛ لأنّ أصله: مؤهطعين، يقال: هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه، وأهطع إذا مد عنقه، وصوب رأسه، وأهطع في عدوه إذا أسرع، كما في "الجوهرى". والإهطاع: هو

الإسراع مع مد الأعناق، والتشوف بالأنظار بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق. وهي صورة حية مجسدة للفزع المرتاع الذي يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال. {وَازْدُجِرَ} فيه إعلال بإبدال تاء الافتعال دالًا لوقوعها بعد الزاي كما تقدم في {مُزْدَجَرٌ}. {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} المنهمر: المنصب بشدة وغزارة. وفي "المختار": وهمر الدمع، والماء صبه، وبابه نصر، وانهمر الماء إذا سال. {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ} والتفجير: تشقيق الأرض عن الماء. {عُيُونًا} جمع عين الماء. وهي ما يفور من الأرض مستديرًا كاستدارة عين الحيوان. فالعين مشتركة بين عين الحيوان، وعين الماء، وعين الذهب، وعين السحاب، وعين الركية. ويقال للعين: ينبوع، والجمع ينابيع، والمنبع بفتح الميم والباب: مخرج الماء، والجمع منابع. {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} جمع لوح. وهو كل صحيفة عريضة خشبًا أو عظمًا. وكانت سفينة نوح من شجر الساج. والساج في الأرميا "ودَّيْسُ". {وَدُسُرٍ} والدسر: المسامير التي تشدّ بها ألواح السفينة. واحدها دسار، ككتب وكتاب. ودسير، ودسرت السفينة أدسرها دسرًا إذا شددتها. وفي "المختار": الدسر: الدفع، وبابه نصر. ويمكن التوفيق بين القولين؛ لأنَّ المسمار يدفع في منفذه. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بحراستنا وحفظنا. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؛ أي: متذكر متعظ. فيه إبدال تاء الافتعال دالًا، وإدغامها في الدال فاء الكلمة، فأصله: مذتكر بوزن مفتعل، أبدلت التاء دالًا، وأبدلت الذال دالًا، وأدغمت في الدال كما قال في "الخلاصة": طَا تَا افْتِعَالِ رُدَّ إثْرَ مُطْبَقِ ... فَيْ ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِيْ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} ونذر اسم مفرد، وهو مصدر؛ لأنه أجاز بعضهم مجيء المصدر على فعل بضمتين. وبعضهم قال: هو جمع نذير بمعنى إنذار. فهو مصدر مجموع، لا مفرد، ذكره في "الفتوحات". {صَرْصَرًا} الصرصر: الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها، وهو مضاعف صر، يقال: صر الباب، والقلم إذا صوت. وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل. مثله: كب وكبكب.

{أَعْجَازُ نَخْلٍ} جمع عجز، وعجز الإنسان مؤخره، وبه شبه مؤخر غيره. ومنه: العجز؛ لأنّه يؤدي إلى تأخر الأمور. والنخل يذكر ويؤنث، وهو من أسماء الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء. واللفظ مفرد لكنه كثيرًا ما يسمى جمعًا نظرًا إلى المعنى الجنسي. {مُنْقَعِرٍ}؛ أي: منقلع عن أصله؛ لأن قعر الشيء قراره. ومنه: تقعر فلان في كلامه إذا تعمق فيه. يقال: قعرت النخلة إذا قلعتها من أصلها، وانقعرت؛ أي: انقلعت. وفي "المفردت": {مُنْقَعِرٍ}؛ أي: ذاهب في قعر الأرض. وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض , فلم يبق لهم رسم، ولا أثر. انتهى. {وَسُعُرٍ} يجوز أن يكون مفردًا؛ أي: جنون. يقال: ناقة مسعورة كالمجنونة في سيرها قال: كَأَنَّ بِهَا سُعُرًا إِذَا الْعِيْسُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ يقول: كأنَّ بناقتي جنونًا لقوة سيرها. فالعيس: جمع عيساء، كبيض جمع بيضاء. وهي النوق البيض، حركها ذميل وإرخاء. وهو ضربان من السير، متعب كل منهما. وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب. ويجوز أن يكون جمع سعير بمعنى نار. {الأَشِرٌ} هو الشديد البطر والتكبّر. فهي صيغة مبالغة. وقيل: إنه صفة مشبهة، كحذر، ويقظ، ووطف، وعجز. وفي "المختار": وأشر وبطر من باب طرب أو فرح. {وَاصْطَبِرْ} أصله: اصتبر بوزن افتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد حرف إطباق، وهو الصاد، كما دل عليه بيت ابن مالك الذي قدمنا قريبًا. {مُحْتَضَرٌ}؛ أي: يحضره صاحبه في نوبته. وهو اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر. لأن الماء كان مقسومًا بينهم. واحتضر، وحضر بمعنى واحد. {قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}؛ أي: مقسوم بينهم، لها يوم، ولهم يوم. فالماء قسم من قبيل تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. و {بَيْنَهُمْ} لتغليب العقلاء. {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} أصله: ناديوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت

الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {فَتَعَاطَى} فيه إعلال بالقلب. أصله: تعاطي بوزن تفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: فتناول السيف، وعقرها. {فَعَقَرَ} يقال: عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر؛ أي: ضرب به قوائمه، وبابه ضرب. {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشم: كحر الشيء الرخو، كالنبات. والهشيم بمعنى المهشوم؛ أي: المكسور. وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره. والحظر: جمع الشىء في حظيرة. والمحظور: الممنوع. والمحتظر بكسر الظاء: اسم فاعل، وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره، والحظيرة: الزربية، وفي "المختار": الحظيرة التي تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والربح. والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها. والمعنى: صاروا كيبيس الشجر المتفتت إذ تفتت. {حَاصِبًا}؛ أي: ريحًا حصبتهم؛ أي: رمتهم بالحجارة، والحصباء. قال الفرزدق: مُسْتَقْبِليْنَ شِمَالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُوْرِ وفي "المختار": الحصباء بالمد: الحصى. ومنه: المحصب. وهو موضع بالحجاز. والحاصب: الريح الشديدة تثير الحصى. والحصب بفتحتين: ما تحصب به النار؛ أي: ترمي. وكلل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به، وبابه ضرب. {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار. يقال: رأيت زيدًا سحرًا من الأسحار. ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف. لأنّه معرفة معدول عن السحر، فمنع منه للتعريف والعدل. لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل. وفي "المفردات": السحر: اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار، وجعل اسمًا لذلك الوقت، وهو آخر الليل، أو السدس الأخير. فائدة: وقد اختلف في تعريف سحر الممنوع من الصرف، فقيل: إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل، أما التعريف ففيه خلاف، فقيل: هو معرفة بالعلمية. لأنه جعل علما لهذا الوقت. وقيل: يشبه العلميّة؛ لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة، كالعلم، وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر المقرون بأل, لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرفًا بأل، فعدل عن اللفظ بأل، وقصد به التعريف، فمنع من الصرف. وقال السهيلي والشلوبين: الصغير معرف معروف. واختلف في

منع تنوينه. فقال السهيلي: هو على نية الإضافة. وقال الشلوبين: على نية أل. {فَتَمَارَوْا} أصله: تماريوا بوزن تفاعلوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ} المراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة، فترود غير ما يروده. {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} الطمس: المحو، واستئصال أثر الشيء. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المبالغة في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} لأنَّ فيه زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر؛ لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة، نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده. ومنها: الإتيان بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الانشقاق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه {وقد انشق القمر}، كما مرّ. ومنها: العدول عن المضارع إلى الماضي في قوله: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} بعد قوله: {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا} بلفظ المستقبل مع أنَّ السياق يقتضي الإتيان بهما بلفظ المضارع لكونهما معطوفين على {يُعْرِضُوا} للإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة. ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} لأنَّ الأركان الأربعة موجودة فيه، فقد شبههم بالجراد في الكثرة، والتموج. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ}. ومنها: التلويح بقوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدّة، بل ذلك اليوم يوم يسير لهم، حيث أسند القول إلى الكفار فقط. ومنها: التفصيل بقوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} بعد الإجمال الذي قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}. ومنها: الإضافة إلى العظمة في قوله: {عَبْدَنَا} تفخيمًا لشأن نوح عليه السلام، وإشعارًا لرفعة منزلته، وزيادة تشنيع لمكذّبيه، فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره، وإشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية.

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وانشق بها أديم الخضراء بطريق الاستعارة التمثيلية. ومنها: إنابة الصفة مناب الموصوف في قوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} فإنه كناية عن موصوف محذوف، تقديره وحملناه على سفينة ذات ألواح ومسامير. ومنها: تكرير قوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} حثًّا على تجديد الاتعاظ عند سماع كل نبأ. ومنها: الاستفهام عن الحال في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)} تعظيمًا للعذاب والإنذارات، أي: كانا على كيفية هائلة، بحيث لا يحيط بها الوصف. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}. ومثله قوله: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}؛ أي: في إفنائهم، وإهلاكهم. ومنها: المبالغة في قوله: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}؛ أي: كثير الكذب، عظيم البطر؛ لأن فعالًا وفعلًا للمبالغة. ومنها: إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول في قوله: {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}؛ أي: مقسوم بينهم. ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: {بَيْنَهُمْ}؛ أي: بينها, وبينهم. ومنها: الإبهام في قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} ليكون الوعيد أحفل بالانتقام، والتهديد أشد أثرًا في النفوس. وأورده مورد الإبهام، وإن كانوا هم المعنيين؛ لأنه أراد وقت الموت، ولم يرد غدًا بعينه. وهو شائع في كلام العرب نثرًا ونظمًا. ومنها: التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. المناسبة قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (¬1) سبحانه وتعالى لمّا ذكر قصص قوم نوح، وعاد, وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، وفصل ما أصيبوا به من عذاب الله الذي لا مرد له بسبب كفرهم بآياته، وتكذيبهم لرسله .. أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم توبوا إلى رشدهم، ويرجعوا عن غيهم، فستحل بهم سنتنا، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم، ولا يجدون عنه محيصًا ولا مهربًا. ثم خاطبهم خطاب إنكار وتوبيخ، فقال لهم: علام تتكلون؟ وماذا تظنون أأنتم خير ممن سبقكم عددًا وكثرة مال وبطشًا وقوة؛ أم لديكم صك من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات أم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة. كلا إن شيئًا من هذا ليس بكائن، وإنكم ستنهزمون، وتولون الأدبار في الدنيا، وسيحل بكم قضاء الله الذي لا مفر منه، وما سترونه في الآخرة أشد نكالًا، وأعظم وبالًا، فأفيقوا من غفلتكم، وأنيبوا إلى ربكم عسى أن يرحمكم. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تكذيب الأمم الماضية ¬

_ (¬1) المراغي.

[41]

لرسلها؛ كما كذبت قول قريش نبيها وأعقبه بذكر ما أصابهم في الدنيا من العذاب والهوان .. أردف ذلك بذكر ما سينالهم من النكال والوبال في الآخرة, فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقًا إهانة، وتحقيرًا لهم، ويقال لهم حينئذٍ توبيخًا وتعنيفًا: ذوقوا عذاب النار، وشديد حرها، ثم أعقبه ببيان أن كل شيء فهو بقضاء الله وقدره، وإذا أراد الله أمرًا فإنما يقول له: كن، فيكون. ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبله، وفعلت فعلها، فأخذها أخذ عزيز مقتدر. ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون في جنات النعيم من إجلال وتعظيم، ويرون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر. أسباب النزول قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا يوم بدر: نحن جميع منتصر، فنزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} سبب نزولها: ما أخرجه مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر فنزلت: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}. التفسير وأوجه القراءة 41 - {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)} اكتفى بذكرهم عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بالنذر، أي: وعزّتي وجلالي، لقد جاءهم الإنذارات التي أنذرهم بها موسى وهارون عليهما السلام. والمراد بها: الآيات التسع التي تقدم ذكرها. 42 - كأنه قيل: فماذا فعلوا حينئذٍ؟ فقال: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} يعني: الآيات التسع. وهي اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل, والضفادع، والدم، وحلّ عقدة من لسانه، ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[43]

وانفلاق البحر، وانفجار الماء من الحجر. {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب عند التكذيب {أَخْذَ عَزِيزٍ} لا يغالب {مُقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء. والمراد: أنَّ الله سبحانه هو العزيز المقتدر، ولذا أخذهم بتكذيبهم، ولم يمنعه من ذلك مانع. والمراد بالعذاب: هو الاغراق في بحر القلزم أو النيل. يقول الفقير: لعلّ (¬1) سر الغرق أن فرعون وصل إلى موسى بسبب الماء الذي ساقه إليه في تابوته، فلم يشكر لا نعمة الماء ولا نعمة موسى، فانقلب الحال عليه بضد ذلك، حيث أهلكه الله وقومَه بالماء الذي هو سبب الحياة لغيرهم. 43 - والاستفهام في قوله: {أَكُفَّارُكُمْ} للإنكار، أي: هل كفاركم يا معشر العرب خير عند الله تعالى قوة، وشدة، وعُدَّة، وعِدِّة {مِنْ أُولَئِكُمْ} الكفار المعدودين قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وآل فرعون. والمعنى: أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر من الأمور، فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك، وأنتم شر منهم مكانًا، وأسوأ حالًا. أي (¬2): أكفّاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح، وعاد، وثمود، فيأملوا أن ينجوا من عذابي، ونقمتي على كفرهم بي، وتكذيبهم رسولي. وتلخيص المعنى: ما كفاركم خير ممن سبقهم. فهم ليسوا بأكثر منهم قوّةً، ولا أوفر عددًا، ولا ألين شكيمة في الكفر، والعصيان، والضلال، والطغيان. وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم, فكيف يطمعون في المهرب من مثل ذلك. فليتوبوا إلى رشدهم، وليرجعوا عن غيهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم. ثم انتقل من توبيخهم الأوّل إلى توبيخ أشد منه، فقال: {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} و {أم} منقطعة بمعنى همزة الإنكار، وبل الاضرابية، فهو (¬3) إضراب وانتقال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[44]

من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر، أي: بل ألكم براءة، وأمن من عذاب الله بمقابلة كفركم، ومعاصيكم، نازلة في الكتب السماوية، فلذلك تصرون على ما أنتم عليه، وتأمنون بتلك البراء. والمعنى به: الإنكار. يعني: لم ينزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمن من عذاب الله. 44 - {أَمْ يَقُولُونَ} جهلًا منهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} تبكيت آخر. والالتفات فيه للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم. يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع؛ أي: بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام, أو منتصر من الأعداء منتقم منهم لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضًا على أن يكون افتعل بمعنى تفعل، كاختصم. والإفراد في {مُنْتَصِرٌ} باعتبار لفظ الجميع. قال أبو جهل - وقد ركب يوم بدر فرسًا كميتًا كان يعلفه كل يوم فرقًا من ذرةٍ، وقد حلف أنه يقتل محمدًا - صلى الله عليه وسلم -: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فقتلوه يومئذٍ، وجر رأسه إلى رسول الله ابن مسعود رضي الله. والمعنى (¬1): أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسون به أنفسكم من الشرور والآثام، فأنتم على هذا الصك تعتمدون، وبهذا الوعد آمنون، حقًا إنكم لتطمعون في غير مطمع، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا، فعلام تتكلون، أو إلام تستندون؟. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)}؛ أي: بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا. فنحن قوم أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا. وجماع القول: إنه تعالى سد عليهم المسالك، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها في عدم تصديقهم بالرسول، وفي كفرهم بآيات ربهم، فقال لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرًا وعنادًا منهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[45]

فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم، أم أعطاكم الله براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم جندًا، فأنتم تنتصرون على جند الله؟. 45 - ثم رد عليهم مقالهم، وأبان لهم أنهم يعشيون في بحر من الأوهام، وأن قضاء الله سيحل بهم، وسيهزمون ولولون الأدبار متى جاء قضاؤه، فقال: {سَيُهْزَمُ} ويفرق، ويشتت {الْجَمْعُ}؛ أي: جمع قريش. وهذا رد وإبطال لما سبق. والسين للتأكيد، أي: سيهزم جمع كفار مكة، أو جمع كفار العرب على العموم. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}؛ أي: الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس، يعني: ينصرفون عن الحرب منهزمين، وينصر الله رسوله والمؤمنين، وقد كان كذلك يوم بدر. والمعنى (¬1): أي سيفرق شملهم، ويغلبون حين يلتقي جيشهم وجيش المؤمنين. وقد صدق وعده، فانهزموا، وولوا الأدبار يوم بدر. وكان هذا علمًا من أعلام النبوة؛ فإن الآية نزلت بمكة، ولم يكن له - صلى الله عليه وسلم - جيش، بل كان أتباعه مشردين في الآفاق، يلاقون العذاب من المشركين في كل صوب. قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} كنت لا أدري أي جمع، فلما كان يوم بدر رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - يلبس الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}، فعرفت تأويلها. وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. لأنه أخبر عن كيب فكان كما أخبر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين نزول هذه الآية وبين يوم بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكيّة. وقرأ الجمهور (¬2): {أَمْ يَقُولُونَ} بياء الغيبة التفاتًا، وكذا ما بعده للغائب, وقرأ أبو حيوة، وموسى الأسواري، وأبو البرهشيم بتاء الخطاب للكفّار إتباعًا لما تقدم من خطابهم، وقرأوا {ستهزِم الجمعَ} بفتح التاء وكسر الزاي، وفتح العين خطابًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ أبو حيوة أيضًا، ويعقوب بالنون مفتوحةً، وكسر الزاي وفتح العين. وقرأ الجمهور {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} بالياء مبنيًا للمفعول، وضمّ العين، وعن أبي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[46]

حيوة، وابن أبي عبلة أيضًا بفتح الياء مبنيًا للفاعل، ونصب العين؛ أي: سيهزم الله الجمع، وقرأ الجمهور {وَيُوَلُّونَ} بياء الغيبة، وأبو حيوة، وداود بن أبي سالم عن أبي عمرو بتاء الخطاب. والدبر هنا اسم جنس، وجاء في موضع آخر {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}. وهو الأصل، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلةً، قال الزمخشري: وقرىء {ويولون الأدبار} بالجمع. 46 - ثم بين أن هذا عذاب الدنيا، وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالًا، فقال: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ}؛ أي (¬1): ليس هذا تمام عقوبتهم، بل القيامة موعد أصل عذابهم، وهذا من طلائعه. {السَّاعَةُ}؛ أي: القيامة إظهارها في موضع إضمارها لتربية تمويلها. {أَدْهَى}؛ أي: أعظم داهية، وفي أقصى غاية من الفظاعة. والداهية: الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه. {وَأَمَرُّ}؛ أي: أشد مرارة، وفي أقصى نهاية من المرارة. وحاصله: إن موقف القيامة أهول من موقف بدر، وعذابها أشد وأعظم من عذابه؛ لأن عذاب الدنيا مثل الأسر، والقتل، والهزيمة، ونحوها أنموذج من عذاب الآخرة. كما أن نارها جزء من سبعين جزأ من نارها. والمعنى (¬2): أي إن ما سيلاقونه من العذاب في الدنيا من الهزيمة، والقتل، والأسر هين إذا ما قيس على ما سيلاقونه من العذاب في الآخرة، فإن ذا أشد وآلم. فهو عذاب خالد دائم، وسيأتي بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبَّة له يوم بدر: "أنشدك عهدك، ووعدك، اللهم إن شئت لن تعبد بعد اليوم في الأرض أبدًا" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثيب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}. 47 - {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ}؛ أي: إنّ المشركين من الأولين والآخرين {فِي ضَلَالٍ} وخطأ عن الحق في الدنيا {و} في {سُعُرٍ}؛ أي: نيران مسعرة في الآخرة، جمع سعير. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[48]

أو في ضلال عن الحق، وجنون في الشرك. والمعنى: أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله في ضلال عن الصراط المستقيم، وعماية عن الهدى في الدنيا، وعذاب أليم في نار جهنم يوم القيامة. 48 - ثم بين ما يلحقهم من الإهانة، والإذلال حينئذٍ , فقال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} والظرف (¬1) منصوب إما بما يفهم من قوله {فِي ضَلَالٍ}؛ أي: كائنون في ضلال وسعر يوم يجرّون {فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}. وإما بقول مقدر بعده؛ أي: يوم يسحبون يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}؛ أي: قاسوا حر سقر، وشدة ألمها، فإن مسها سبب للتألم بها، فمس سقر مجاز عن ألمها بعلاقة السببية، وفي "القاموس": {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي: أوَّل ما ينالكم منها، كقولك: وجد مسَّ الحمى؛ أي: ألمها، وحرارتها، انتهى. وسقر علم لجهنم، ولذلك لم يصرف. وقيل: اسم لطبقتها الخامسة. والمس كاللمس: إدراك الشيء بظاهر البشرة كما سيأتي. وقرأ محبوب عن أبي عمرو (¬2): {مسقر} بإدغام سين {مس} في سين {سقر}. قال ابن مجاهد إدغامه خطأ. لأنه مشدد، انتهى. والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال، ثم أدغم. والمعنى (¬3): أي يعذبون، ويهانون يوم يجرون على وجوههم في النار. ويقال لهم إيلامًا، وتضيفًا: ذوقوا حر النار، وآلامها جزاء وفاقًا لتكذيبكم رسل ربكم في كل ما جاؤوا به من الإنذار بهذا اليوم، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب. 49 - ثم بين أن كل ما يوجد في هذه الحياة .. فهو لا يحدث اتفاقًا، وإنما يحصل بقضاء الله سبحانه وقدره. فقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} من الأشياء. وهو منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده. {خَلَقْتَهُ} حال كون ذلك الشيء متلبسًا {بِقَدَرٍ} متعين، اقتضته الحكمة التي عليها يدور أمر التكوين. فقدر بمعنى القدير (¬4). وهو تسوية صورته، وشكله، وصفاته الظاهرة والباطنة على مقدار مخصوص ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[50]

اقتضته الحكمة، وترتبت عليه المنفعة المنوطة بخلقه. أو خلقناه مقدرا مكتوبًا في اللوح قبل وقوعه، لا يغير ولا يبدل. والمعنى: أنَّ كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسًا بقدر قدره أزلًا , وقضاءٍ قضاه سبق في علمه، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه فيما لا يزال. والقدر: التقدير الأزلي. والقضاء إيجاده فيما لا يزال على وقف القدر السابق أزلًا. فالمراد بالقدر: تقديره في علمه الأزليّ، وكتبه في اللوح المحفوظ، وهو القدر المستعمل في جنب القضاء. وقيل: القضاء: وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجتمعة. والقدر: وجودها متفرقة في الأعيان بعد وجود شرائطها, ولذا عبّر بالخلق؛ فإنه إنما يتعلق بالوجود الظاهري في الوقت المعين. وقيل: هما مترادفان. وقرأ الجمهور (¬1): {كُلَّ شَيْءٍ} بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال، وقال ابن عطية، وقوم من أهل السنة بالرفع. قال النواويّ رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ مذهب أهل الحق إثبات القدر. ومعناه: أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه، وعلى صفات مخصوصة. فهي تقع على حسب ما قدرها تعالى أزلًا. وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها، ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم؛ أي: إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها. وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوًا كبيرًا، انتهى. 50 - {وَمَا أَمْرُنَا} لشيء نريد تكوينه. والمراد بالأمر هنا: ضد النهي بدليل ذكر متعلقه بقولنا: {شَيْءٍ}. والشيء هو المأمور به بأن يوجد أو يعدم. {إِلَّا وَاحِدَةٌ}؛ أي: (¬2) كلمة واحدة لا تثنى سريعة التكوين. وهو قوله تعالى: {كُن}، أو إلا فعلة واحدة. وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} في اليسر، والسرعة. فإن اللمح النظر بالعجلة، فمعنى {كَلَمْحٍ}: كنظر سريع. قال في "القاموس": لمح إليه كمنع اختلس النظر كالمح. وفي "المفردات": اللمح: لمعان البرق، ورأيته لمحة برق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[51]

قال ابن الشيخ: لما اشتملت الآيات السابقة على وعيد كفار أهل مكة بالإهلاك عاجلًا وآجلًا، والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم جيء بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} تأكيدًا للوعيد والوعد. يعني: أنّ هذا الوعيد والوعد حق وصدق، والموعود مثبت في اللوح المحفوظ مقدر عند الله تعالى، لا يزيد، ولا ينقص، وذلك على الله يسير؛ لأن قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر. وقيل معنى الآية: أي معنى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ}؛ أي: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر. والمعنى: أي إنا إذا أردنا أمرًا قلنا له: كن، فإذا هو كائن. ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية، ولا ثالثة. ولله در القائل: إِذَا أَرَادَ الله أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُوْلُ لَه قَوْلَ "كُنْ" فَيَكوْنُ وهذا (¬1): تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الخلق. فهي في السرعة كلمح البصر، لا إبطاء ولا تأخير. 51 - ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه، فقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا} وأفنينا، واستأصلنا {أَشْيَاعَكُمْ} وأشباهكم، ونظراءكم في الكفر بي، والتكذيب لرسلي {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ومتعظ يتعظ بذلك، فيخاف العقوبة، وأن يحل به مثل ما حل بهم. والأشياع: جمع شيعة، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره، كما سيأتي. والمعنى: أي وعزتي وجلالي .. لقد أهلكنا، وأفنينا، واستأصلنا أشباهكم ونظراءكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية، المتتابعة في مذهب ودين، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا في أمثالهم بشتى العقوبات، ومختلف الوسائل {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}. أفما كان لكم في ذلك مزدجر تعتبرون به، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، ونحو الآية: قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[52]

52 - ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم، وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} من الكفر، والمعاصي، مكتوب على التفصيل {فِي الزُّبُرِ}؛ أي: في ديوان الحفظة. جمع زبور بمعنى الكتاب. فهو بمعنى مزبور، كالكتاب بمعنى المكتوب. أو في اللوح المحفوظ عبر عنه بالجمع تفخيمًا لشأنه؛ أي: جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، أو في كتب الحفظة. وقال الغزالي رحمه الله تعالى: كل شيء فعلته الأمم في كتب أنبيائهم المنزلة عليهم، كأفعال كفار زماننا في كتابنا، انتهى. 53 - {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} وحقير، وجليل من الأعمال {مُسْتَطَرٌ}؛ أي: مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله؛ أي: وكل شيء من أعمال الخلق أقوالهم وأفعالهم مكتوب في اللوح المحفوظ صغيره، وكبيره، جليله، وحقيره. والمعنى: أي وكل شيء يفعلونه، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي ويدنسونها به من الأرجاس والآثام، فهو مقيد لدى الكرام الكاتبين، كما قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}. فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهي مسطورة في دواوينهم، وصحائف أعمالهم. فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبًا". وقد قيل: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الذُّنُوْبِ صَغِيْرَا ... إِنَّ الصَّغِيرَ غَدًا يَعُوْدُ كَبِيْرَا إِنَّ الصَّغِيرَ وَإنْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... عِنْدَ الإلَهِ مُسَطَّرٌ تَسْطِيْرَا فَأسْأَلْ هِدَايَتَكَ الإِلَهَ فَتَتَّئِدْ ... فَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيْرَا ولقد أحسن من قال: خَلِّ الذُّنُوْبَ صَغِيْرَهَا ... وَكَبِيْرَهَا ذَاكَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

[54]

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيْرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى وقرأ الأعمش (¬1)، وعمران بن حدير، وعصمة عن أبي بكر بشد راء {مستطرٌّ}. قال صاحب "اللوامح": يجوز أن يكون من طر النبات والشارب إذا ظهر ونبت بمعنى كل شيء ظاهر في اللوح المحفوظ، مثبت فيه. ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول: جعفر، وتفعل بالتشيد وقفًا، انتهى. ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل. 54 - وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة في ذلك اليوم، أردفه بما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم , وما يحفظون به من الشرف والزلفى بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب، والعكس بالعكس. فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: من الكفر، والمعاصي {فِي جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين عظيمة الشأن بحيث لا يوصف نعيمها، وما أعد فيها لأهلها. {وَنَهَرٍ}؛ أي: أنهار كذلك. يعني: أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل. والإفراد للأفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل. وقرأ الجمهور (¬2): {وَنَهَرٍ} على الإفراد، والهاء مفتوحة. والأعرج، ومجاهد، وحميد، وأبو السمال، والفياض بن غزوان بسكونها. والمراد به: الجنس إن أريد الأنهار، أو يكون معنى {وَنَهَرٍ}، أي: وسعة في الأرزاق والمنازل. وقرأ (¬3) زهير العرقبي, والأعمش، وأبو نهيك، وأبو مجلز، واليماني بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد. وهو المناسب لجمع جنات. وقيل: نهر جمع نهار. ولا ليل في الجنة وهو بعيد. 55 - {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} خبر بعد خبر. وهو (¬4) من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع. والصدق بمعنى الجودة؛ أي: في مكان مرضي, ومجلس حقٍّ سالم من اللغو والتأثيم. بخلاف مجالس الدنيا، فقل أن تسلم من ذلك. حال ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

كونهم {عِنْدَ مَلِيكٍ} والمراد من العندية: قرب المنزلة والمكان، لا قرب المكان والمسافة. والمليك أبلغ من المالك. والتنكير فيه للتعظيم. والمعنى: حال كونهم مقربين عند عزيز الملك واسعه لا يقادر قدر ملكه، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته، فأي منزلة أكرم من تلك، وأجمع للغبطة كلها، والسعادة بأسرها، وقرأ الجمهور {فِي مَقْعَدِ} بالإفراد، يراد به: اسم الجنس، وقرأ عثمان البتي {في مقاعد} على الجمع. {مُقْتَدِرٍ}؛ أي: قادر لا يعجزه شيء، عال أمره في الاقتدار. والمعنى (¬1): أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم، فأطاعوه، وأدوا فرائضه، واجتنبوا معاصيه، وأخلصوا له العمل في السر والعلن، يثبهم بما عملوا جنات تجري من تحتها الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر كفاء ما بذلوا من الصبر على سياق الطاعات، وحرموا منه أنفسهم من اللذات. كما قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى حتى ورمت قدماه، وتهجد حتى غارت عيناه: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده ومنته، فكل شيء تحت قبضته وسلطانه، لا يمانع، ولا يغالب. وهو العزيز الحكيم. اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا ممن يسمعون القول، فيتبعون أحسنه. إنّك أنت السميع المجيب ذو الطول العظيم. الإعراب {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {جَاءَ} فعل ماض، {آلَ فِرْعَوْنَ} مفعول به {النُّذُرُ} فاعل. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الاعراب. وجملة القسم مستأنفة. {كَذَّبُوا} فعل، وفاعل، {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {كُلِّهَا} توكيد لـ ¬

_ (¬1) المراغي.

{آياتنا}، مجرور، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقفًا في جواب سؤال مقدر نشأ من حكاية مجيء النذر، كأنّه قيل: فماذا فعلوا حينئذٍ؟ فقيل: كذّبوا بآياتنا. {فَأَخَذْنَاهُمْ}. {الفاء} عاطفة {أخذناهم} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {كَذَّبُوا}. {أَخْذَ عَزِيزٍ} مفعول مطلق، {عَزِيزٍ} مضاف إليه. وهو من إضافة مصدر إلى فاعله. {مُقْتَدِرٍ} صفة {عَزِيزٍ}. {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)}. {أَكُفَّارُكُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، {كفاركم} مبتدأ، {خَيْرٌ} خبره. والجملة مستأنفة. {مِنْ أُولَئِكُمْ} متعلق بـ {خَيْرٌ}، {أَمْ} منقطعة بمعنى همزة الإنكار، وبل الإضرابية، {لَكُمْ} خبر مقدم، {بَرَاءَةٌ} مبتدأ مؤخر، {فِي الزُّبُرِ} صفة لـ {بَرَاءَةٌ}. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب. {أَمْ} منقطعة أيضًا بمعنى همزة الإنكار، وبل الإضرابية، {يَقُولُونَ} فعل، وفاعل. والجملة إضرابية. {نَحْنُ} مبتدأ {جَمِيعٌ} خبره، {مُنْتَصِرٌ} صفة {جَمِيعٌ}. لأنّه بمعنى جميع، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ليقولون. {سَيُهْزَمُ} السين حرف استقبال، {يهزم} فعل مضارع، مغير الصيغة، {الْجَمْعُ} نائب فاعل. والجملة الفعلية مستأنفة، {وَيُوَلُّونَ} فعل، ونائب فاعل، معطوف على {يهزم}، {الدُّبُرَ} مفعول به. ولم يقل: الأدبار، لموافقة رؤوس الآي، ولأنّه اسم جنس، كما مر. {بَلِ} حرف ابتداء وإضراب، {السَّاعَةُ} مبتدأ، {مَوْعِدُهُمْ} خبره. والجملة إضرابية. {وَالسَّاعَةُ} الواو: عاطفة، {السَّاعَةُ} مبتدأ، {أَدْهَى} خبر، {وَأَمَرُّ} معطوف على أدهى. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها, ولك أن تجعل {الواو} للحال. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} ناصب واسمه، {فِي ضَلَالٍ} خبره، {وَسُعُرٍ} معطوف على {ضَلَالٍ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية، متعلق يقول محذوف، تقديره: يقال لهم: يوم يسحبون. {يُسْحَبُونَ} فعل مضارع، ونائب فاعل {فِي النَّارِ}، متعلق بـ {يُسْحَبُونَ}،

وجملة {يُسْحَبُونَ} في محل الجر، مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {عَلَى وُجُوهِهِمْ} جار ومجرور، حال من واو {يُسْحَبُونَ}. {ذُوقُوا} فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، {مَسَّ سَقَرَ} مفعول به، {سَقَرَ} مضاف إليه، مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي. والجملة الفعية في محل النصب، مقول للقول المقدر. {إِنَّا} ناصب واسمه، {كُلَّ شَيْءٍ} منصوب على الاشغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسّره المذكور، تقديره: إنّا أوجدنا كل شيء، وجملة الفعل المحذوف في محل الرفع خبر {إِنَّا}. وجملة {خَلَقْنَاهُ} مفسرة، لا محل لها من الإعراب. وجملة {إنّ} مستأنفة. {بِقَدَرٍ} متعلق بمحذوف حال من {كُلَّ شَيْءٍ}؛ أي: حالة كونه مقدّرًا محكمًا مرتبًّا. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما} نافية، {أَمْرُنَا} مبتدأ، {إلا} أداة حصر {وَاحِدَةٌ} خبر أمرنا. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنَّا}. {كَلَمْحٍ} حال من متعلق الأمر. وهو الشيء المأمور بالوجود، أي: حال كونه يوجد سريعًا، {بِالْبَصَرِ} متعلق بـ {لمح}. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {فَهَلْ} الفاء: عاطفة، {هل} حرف استفهام، {مِن} زائدة، {مُدَّكِرٍ} مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جواب القسم قبلها. {وَكُلُّ} {الواو} عاطفة، {كُلُّ شَيْءٍ} مبتدأ ومضاف إليه، وجملة {فَعَلُوهُ} صفة لـ {شَيْءٍ}، {فِي الزُّبُرِ} خبر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة جواب القسم. {وَكُلُّ} الواو: عاطفة، {كُلُّ} مبتدأ، {صَغِيرٍ} مضاف إليه، {وَكَبِيرٍ} معطوف على {صَغِيرٍ}، {مُسْتَطَرٌ} خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على جواب القسم. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} ناصب واسمه، {فِي جَنَّاتٍ} خبر {إِنَّ}، {وَنَهَرٍ} معطوف على {جَنَّاتٍ}. وجملة {إِنَّ}، مستأنفة. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، بدل من قوله: {فِي جَنَّاتٍ} بدل بعض من كل, لأنّ المقعد بعض الجنات. ولك أن تجعله خبرًا ثانيًا لـ {إِنَّ}. {عِنْدَ مَلِيكٍ} ظرف متعلق بمحذوف،

صفة لـ {جَنَّاتٍ} أو لـ {مَقْعَدِ}، وقيل: هو خبر ثان أو ثالث لـ {إِنَّ}، {مُقْتَدِرٍ} صفة لـ {مَلِيكٍ}. التصريف ومفردات اللغة {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)} النذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير باعتبار الآيات التسع، فإنَّ كل واحدة منها نذير؛ أي؛ إنذار على حدة، اهـ كرخي. {أَخْذَ عَزِيز} مصدر مضاف إلى فاعله؛ أي: أخذ غالب لا يغالب، ولا يغلب. {مُقْتَدِرٍ}؛ أي: لا يعجزه شيء. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أصله: يوليون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت اللام لمناسبة الواو. {بَرَاءَةٌ} أي: صك مكتوب بالنجاة من العذاب. {فِي الزُّبُرِ} أي: في الكتب السماوية. جمع زبور بمعنى مزبور؛ أي: مكتوب. {جَمِيعٌ مُنْتَصِر} اسم فاعل من انتصر الخماسي، يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع. {الدُّبُرَ}؛ أي: الأدبار. والدبر هنا اسم جنسن. لأن كل واحد يولي دبره. وحسن إفراده كونه فاصلة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى} أفعل التفضيل من الداهية. وفيه إعلال بالقلب، أصله: أدهى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَأَمَرُّ}؛ أي: أشد مرارة، أصله: أَمْرَر بوزن أفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الميم فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. وهو أفعل التفضيل أيضًا من المرارة، أي: أشد مرارة في الذوق. والمراد: الشدة والهول. {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} المراد بهم: المشركون، كما جاء في قوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}. من الإجرام بمعنى القطع. {فِي ضَلَالٍ} في الدنيا عن الحق. {وَسُعُرٍ}؛ أي: نيران في الآخرة، جمع سعير بمعنى نار مسعرة؛ أي: موقدة. {يُسْحَبُونَ} يجرون. {مَسَّ} مسها حرها. {سَقَرَ} علم لجهنم، مشتق من سقرته الشمس أو النار، أي: لوحته أي: غيرته، ويقال: صقرته بالصاد، وهي مبدلة من السين. وهي غير منصرف للعلمية والتأنيث. والمس كاللمس. وهو إدراك الشيء بظاهر البشرة، كما مر. {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} واللمح: النظر بالعجلة. وفي "المصباح": لمحه إذا أبصره بنظر خفيف، أي: فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال

كلها عندنا، بل أيسر، اهـ خطيب. وفي "القاموس": لمح إليه كمنع اختلس النظر كألمح. وفي "المفردات": اللمح: لمعان البرق، ورأيته لمحة برق، اهـ. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} جمع شيعة. وهم من يتقوى بهم الإنسان من الأتباع. وفي "القاموس": شيعة الرجل بالكسر أتباعه، وأنصاره، والفرقة على حدة، وبقع على الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث. {مُسْتَطَرٌ} اسم مفعول من استطره إذا كتبه، كما في "القاموس". {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} هو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الوسطى؛ أي: مكان مرضيِّ. {عِنْدَ مَلِيكٍ} صيغة مبالغة من ملك الثلاثي؛ أي: عزيز الملك واسعه. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} إلى الغيبة في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ} للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم، واسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم. ومنها: الإفراد في قوله: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} حيث لم يقل: منصورون لرعاية الفاصلة. ومنها: الإفراد في قوله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} حيث لم يقل: الأدبار لإرادة الجنس. لأنَّ كل واحد يولي دبره. وحسن إفراده كونه فاصلةً، وقد جاء مجموعًا في قوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى} لتربية تهويلها، وزيادة تخويفها. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَأَمَرُّ} لأنه استعارة لصعوبة الشيء على النفس. ومنها: المقابلة بين المجرمين والمتقين في قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}.

ومنها: الاسلوب التهكمي في قوله: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {مَسَّ سَقَرَ} لأنه مجاز عن حرارتها وألمها بعلاقة السببية، والظاهر من تقرير الكشاف: أنه من الاستعارة بالكناية، اهـ كرخي. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} حذفت منه وجه الشبه. فهو مجمل. ومنها: الطباق في قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ}. ومنها: الإفراد في قوله: {وَنَهَرٍ} للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وكان مقتضى السياق أن يقال وأنهار لمناسبة جنات. ومنها: الكناية في قوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ} لأنه كناية عن تقريب المكانة والرتبة؛ أي: مقربين عند من تعالى أمره في الملك والاقتدار. ومنها: التنكير في قوله: {مَلِيكٍ} للتعظيم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية: 1 - الإخبار بقرب مجيء الساعة. 2 - تكذيب المشركين للرسول، وقولهم في معجزاته: إنها سحر مفترى. 3 - غفلتهم عمّا في القرآن من الزواجر. 4 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم، حتى يأتي قضاء الله فيهم. 5 - إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسي الرؤوس مسرعين كأنهم جراد منتشر. 6 - قصص المكذّبين من سالفي الأمم: كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، وما لاقوه من الجزاء على تكذيبهم. 7 - توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر. 8 - ما يلاقونه من الجزاء في الآخرة إهانة وتحقيرًا لهم. 9 - بيان أن كل ما في الوجود فهو بقضاء الله، وقدره. 10 - نفاذ مشيئة الله، وسلطانه في الكون. 11 - بيان أن كل أعمال المرء في كتاب الله، قد خطّه الكرام الكاتبون. 12 - ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم، وما لهم من الزلفى لديه (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) قد فرغت من تسويد هذه السورة في الليلة الثالثة من رجب الفرد في أواخر الساعة الرابعة ليلة الإثنين من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة 3/ 7/ 1415 هـ في مكة المكرمة في المسفلة من الهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة وأذكى التحيّات.

سورة الرحمن

سورة الرحمن سورة الرحمن، وتسمى عروس القرآن، مكية، نزلت بعد سورة الرعد. قال القرطبيّ: كلها مكية في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، وجابر. قال: قال ابن عباس: مكية إلا آيةً منها، وهي قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. والأول (¬1) أصح. ويدل عليه ما أخرجه النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الرحمن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزل بمكة سورة الرحمن، ويؤيّد القول الثاني ما أخرجه ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة الرحمن بالمدينة. ويمكن الجمع بين القولين بأنّه نزل بعضها بمكة، وبعضها بالمدينة. وآيها ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية، وكلماتها ثلاث مئة وإحدى وخمسون كلمة، وحروفها ألف وست مئة وستة وثلاثون حرفًا. وسميت سورة الرحمن لابتدائها بلفظ الرحمن. مناسبة هذه السورة لما قبلها من أوجه (¬2): 1 - أن فيها تفصيل أحوال المجرمين، والمتقين التي أشير إليها في السورة السابقة إجمالًا في قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}. 2 - أنّه عدد في السورة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم، وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس، وإيقاظهم، ثم نعى عليهم إعراضهم. وهنا عدد ما أفاض الله على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الأنفس والآفاق، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها. 3 - أن قوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} كأنه جواب سائل يقول: ماذا صنع المليك المقتدر؟ وما أفاد برحمته أهل الأرض؟. وعبارة أبي حيّان: مناسبة هذه لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ذكر شيئًا من آيات الملك، وآثار القدرة. ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب. إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز. ولما ذكر قوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير، فكأنه قيل: من المتصف بذلك فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} فذكر ما نشأ من صفة الرحمة. وهو تعليم القرآن الذي هو شفاء للقلوب، انتهى. قال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جميع هذه السورة محكم، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن". والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}. المناسبة مناسبة أوّل هذه السورة لأوّل ما تقدم كما مرّ: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر في آخر السابقة المليك المقتدر بيّن (¬1) هنا ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده رحمةً بهم، فأفاد: 1 - أنه علم القرآن، وأحكام الشرائع لهداية الخلق، وإتمام سعادتهم في ¬

_ (¬1) المراغي.

معاشهم ومعادهم. 2 - إنه خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكمله بالعقل والمعرفة. 3 - أنه علم النطق، وإفهام غيره، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل. 4 - أنه سخَّر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع، ووضع أنيق لحاجته إليها في دنياه ودينه. 5 - أنه سخر النجم والشجر ليقتات منها. 6 - أنه رفع السماء، وأقامها بالحكمة والنظام. 7 - أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل، وفاكهة، وحبّ ذي عصف وريحان. قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا عدد كثيرًا من النعم، وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان، وحساب الشمس والقمر، وأسباب نمو الزرع والشجر .. فصل أحوالها على الترتيب السابق. قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما (¬1) ذعر النعم التي أنعم بها على عباده في البر والبحر، وفي السماء والأرض .. أردف ذلك ببيان أنَّ هذه النعم تفنى، ولا تبقى، فكل شيء يفنى إلا ذاته تعالى، وكل من في الوجود مفتقر إليه. فهو المدبر أمره والمتصرف فيه. فهو يحيي قومًا ويميت آخرين، ويرفع قومًا، ويخفض آخرين. قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد نعماءه على عباده في البر والبحر، وفي الأرض والسماء ليشكروه على ما أنعم، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم، وذكر أنهم مفتقرون إليه تعالى آناء الليل وأطراف النهار، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم، بل هي إلى زوال، فكل ما على وجه الأرض سيفنى، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات .. نبههم إلى أنه في يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل، وثواب ما اكتسب، ولا مهرب حينئذٍ من العقاب، ولا سبيل إلى الامتناع منه، وسيكون جزاء االمشركين به العاصين لأوامره نارًا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه، وكذب ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

برسله. فاستعدوا لهذا اليوم في أن تندموا ولات ساعة مندم. قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد نعماءه على عباده (¬1)، وما يجب من شكرهم عليها، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها, ولا ثبات، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم، وسيلقون الجزاء عليها, ولا مهرب حينئذٍ منها, ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم عن العذاب .. ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم، فتتصدع السموات، ويحمر لونها، وتصير مذابة غير متماسكة، كالزيت ونحوه مما يدهن به، ويكون للمجرمين حينئذٍ علامات يمتازون بها عن سواهم، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالًا وخزيًا لهم، ثم يجرون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم، ويقال لهم توبيخًا وتقريعًا: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوي الوجوه، ومن عذاب إلى ما هو أشد منه. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة؛ فيما قال مقاتل (¬2): أنه لما نزل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} الآية، قالوا: ما نعرف الرحمن. فنزلت: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}. وقيل: لما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} أكذبهم الله تعالى، وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - ولمَّا (¬3) كانت هذه السورة الكاملة شاملة لتعداد النعم الدنيوية والأخروية، والجسمانية والروحانية .. طرزها بطراز اسم الرحمن الذي هو اسم الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات ليسند إليه النعم المختلفة بعده، فقال: {الرَّحْمَنُ (1)} مرفوع على أنه مبتدأ، وما بعده من الأفعال مع ضمائرها أخبار له. وإخلاؤها عن العاطف لمجيئها على نمط التعداد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[2]

المليك المقتدر هو الرحمن سبحانه وتعالى. قال الغزالي رحمه الله تعالى: الرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أوّلًا, وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيًا، وبالإسعاد في الآخرة ثالثًا، والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعًا، انتهى. 2 - ولمَّا (¬1) كان القرآن أعظم النعم شأنًا لأنه مدار جميع السعادات، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أشراف أمتي حملة القرآن"؛ أي: ملازمو قراءته، وأصحاب الليل، وقال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وفيه جميع حقائق الكتب السماوية. وكان تعليمه من آثار الرحمة الواسعة، وأحكامها بدأ به. فقال: {عَلَّمَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {الْقُرْآنَ} بواسطة جبريل عليه السلام، وبواسطة محمد - صلى الله عليه وسلم - علم غيره من الأمة. وقيل: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}؛ أي (¬2): يسره للذكر ليحفظ ويتلى. وذلك أن الله سبحانه عدد نعمه على عباده، فقدم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة. وهو القرآن العزيز؛ لأنه أعظم وحي الله تعالى إلى أنبيائه, وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكرًا، وأحسنه في أبواب الدين. وهو سنام الكتب المنزلة على أفضل البرية. قال ابن عطاء رحمه الله تعالى: لما قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أراد أن يخص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بخاصية مثله، فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}؛ أي: الذي علم آدم الأسماء وفضله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن، وفضلكم به على سائر الأمم. وفي الآية: إشارة إلى أن التعليم والتسهيل إنما هو من الله تعالى، لا من المعلمين والحافظين. وقد علم آدم الأسماء، ووفقه لتعلمها، وسهله بإذنه، وعلم داود صنعة الدرع كما قال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}، وعلم عيسى علم الطب كما قال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وعلم الخضر العلم اللدني كما قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وعلم نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وأسرار الألوهية كما قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، وعلم الإنسان البيان. قال في "فتح الرحمن": ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعًا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[3]

الخلق، ولا أشار إليه. وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعًا كلها يدل على خلقه، وقد اقترنا في هذه السورة على هذا النحو، قاله المولى أبو السعود رحمه الله تعالى. 3 - ثم امتن بعد هذه النعمة بنعمة الخلق الذي هي مناط كل الأمور، ومرجع جميع الأشياء، فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}؛ أي: آدم من أديم الأرض، قاله ابن عباس. 4 - {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}؛ أي: ألهمه الله سبحانه وتعالى بيان كل شيء، وأسماء كل دابة تكون على وجه الأرض. وفي "بحر العلوم": {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}؛ أي: آدم، وعلمه الأسماء واللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبع مئة لغة، أفضلها العربية، انتهى. يقول الفقير: وفيه إشارة إلى أن الله تعالى قد تكلم بجميع اللغات سواء كان التعليم بواسطة أم لا، فإن قلت (¬1): كيف يتكلم الله باللغات المختلفة، والكلام النفسي عار عن جميع الأكسية؟ قلت: نعم، ولكنه في مراتب التنزلات والاسترسالات لا بد له من الكسوة. فالعربية مثلًا كسوة عارضة بالنسبة إلى الكلام في نفسه، وقد ذقنا في أنفسنا أنه يجيء الإلهام والخطاب تارة باللفظ العربي، وأخرى بالفارسيّ، وبالتركي مع كونه بلا واسطة ملك؛ لأن الأخذ عن الله لا ينقطع إلى يوم القيامة. وذلك بلا واسطة، وإن كان الغالب وساطة الملك من حيث لا يرى، فاعرف ذلك. وقيل (¬2): المراد بالإنسان: الجنس، وأراد به جميع الناس. فعلى هذا يكون معنى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}؛ أي: علمه النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات، وقيل: علمه الكتابة، والفهم، والإفهام، حتى عرف ما يقول، وما يقال له. وقيل: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل: أراد بالإنسان: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} يعني: بيان ما يكون وما كان. لأنّه - صلى الله عليه وسلم - ينبىء عن خبر الأولين والآخرين، وعن يوم الدين. وقيل: علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام، والحدود والأحكام. والأولى حمل الإنسان على الجنس، وحمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[5]

والمعنى (¬1): أي إنَّ الله سبحانه وتعالى علم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - القرآن بواسطة جبريل، وعلم أمته بواسطته، وخلق هذا الجنس الإنساني، وعلمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور بخلده، ولولا ذلك ما علم محمد القرآن لأمته. 5 - ولما كان الإنسان مدنيًا بيبعه لا يعيش إلا مجتمعًا بسواه كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناه جنسه، ويكتب إليه في الأقطار النائية، والبلاد النازحة، ويحفظ علوم السلف لينتفع بها الخلف، ويزيد فيها اللاحق على ما فعل السابق. وهذه منة روحية كبرى، لا تعدلها منة أخرى في هذه الحياة. ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية. وقد بدأ أوّلًا بما يتعلم، وهو القرآن الذي به السعادة، ثم ثنى بالتعلم، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس في معاشهم. فقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} يجريان {بِحُسْبَانٍ} مبتدأ وخبر، أي: يجريان بحسبان مقدر معلوم في بروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، ويختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب، فالسنة القمرية ثلاث مئة وأربعة وخمسون يومًا، والشمسية ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم أو أقل. وبهذا (¬2) الحسبان انتفع بهما الناس في شؤون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد، وما ينفع منها في كل فصل من الفصول الأربعة، وفي الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين، وفي تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت، وجاءت في أخبار الماضين، والشعبي ستكون للحاضرين. ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب. لأن الدهر يكون كله ليلًا أو نهارًا. 6 - وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته، وقد جعل لهما النظم الدقيقة في الحسبان .. أردفه بانقياد العوالم الأرضية له، فقال: {وَالنَّجْمُ}؛ أي: النبات الذي ينجم؛ أي: يطلع من الأرض ولا ساق له. مثل القمح والشعير، والقرع، والبطيخ، ونحو ذلك. وقيل (¬3): النجم: هو الكوكب، وسجوده طلوعه. والقول الأول أظهر؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر، ولأنهما أرضيان في مقابلة سمائيين. {وَالشَّجَرُ} الذي له ساق يبقى في الشتاء. وفي "المنتقى": كل نابت إذا ترك حتى يبرز انقطع .. فليس بشجر، وكل شيء يبرز ولا ينقطع من سنته فهو شجر. {يَسْجُدَانِ}؛ أي: ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعًا انقياد الساجد من المكلفين طوعًا أو يسجد ظلهما على ما بين في قوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ}. وذكر سبحانه هنا في مقابلة النعمتين السماويتين اللتين هما الشمس والقمر نعمتين أرضيتين (¬1)، وهما: النجم والشجر، وكلاهما من قبيل النبات الذي هو أصل الرزق من الحبوب، والثمار، والحشيش للدوابّ. وإخلاء الجمل الأولى عن العطف لورودها على منهاج التعداد تنبيهًا على تقاعده في الشكر، كما في قولك: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد. وأما عطف جملة {وَالنَّجْمُ} على ما قبلها فلتناسبها من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العُلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله تعالى. ولما كانت هذه الأربعة مغايرة لجنس الإنسان في ذاته وصفاته غير النظم بإيرادها في صورة الاسمية تحقيقًا للتغاير بينهما وضعًا، وطبعًا، وصورة، ومعنى. والمعنى (¬2): أي والزرع والشجر ينقادان لله سبحانه فيما أراد بهما طبعًا كما ينقاد المكلف اختيارًا. فما اختلاف ثمرهما في الشكل، والهيئة، واللون، والمقدار، والطعم، والرائحة إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك. وقال الفرّاء (¬3): المراد بسجودهما: أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت، ثم يميلان معها حين ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما في قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}. وقال الحسن، ومجاهد: المراد بالنجم: نجم السماء، وسجوده طلوعه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[7]

ورجح ابن جرير هذا، ومر ما فيه آنفًا. وقيل: سجوده أفوله، وسجود الشجر تمكينها من الاجتناء لثمارها، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران لـ {الرَّحْمَنُ (1)}، وترك الرابط فيهما لظهوره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له. ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن .. ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق. وكان تقديم النجم، وهو ما لا ساق له؛ لأنّه أصل القوت، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالبًا. 7 - {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}، أي: خلقها مرفوعة فوق الأرض، حيث جعلها مصدر قضاياه، ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه. ونبه بذلك على عظم شأنه، وملكه. وقرأ الجمهور (¬1) {وَالسَّمَاءَ} بالنصب على الاشتغال روعي مشاكلة الجملة التي تليه، وهي {يَسْجُدَانِ}. وقرأ أبو السمال {وَالسَّمَاءَ} بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية. أي: خلقها مرفوعة محلًّا، كما هو محسوس مشاهد، وكذا رتبه، حيث جعلها منشأ أحكامه، وقضاياه، وتنزل أوامره، ومحل ملائكته. وقال بعضهم: رفعها من السفل إلى العلو سقفًا لمصالح العباد، وجعل ما بينهما مسيرة خمس مئة عام. وذلك لأن السماء دخان فار به موج الماء الذي كان تحت الأرض. {وَوَضَعَ} الله سبحانه في الأرض {الْمِيزَانَ}؛ أي (¬2): شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق لما استحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم، واستقام. كما قال عليه السلام: "بالعدل قامت السموات والأرض". قيل: فعلى هذا الميزان هو القرآن. وقيل: هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان، ومكيال، ونحوهما. فالمعنى: خلق كل ما توزن به الأشياء، ويعرف به مقاديرها موضوعًا مخفوضًا على الأرض، حيث علق به أحكام عباده، وقضاياهم، وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. قال سعدي المفتي: وأنت خبير بأن قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} أشد ملاءمة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[8]

لهذا المعنى، ولهذا اقتصر عليه الزمخشري. 8 - و {أن} في قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} ناصبة، و"لا" نافية، ولام العلة مقدرة متعلقة بوضع الميزان, أي: وضع الله سبحانه الميزان في الأرض لئلا تطغوا وتعتدوا, ولا تجاوزوا الإنصاف. قال ابن الشيخ (¬1)، الطغيان: مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل .. قال: طغيانه الجور، ومن قال: إنه الميزان الذي هو آلة التسوية قال: طغيانه البخس؛ أي: النقص، وقيل: {أن} مفسرة لأنّ في الوضع معنى القول. وقرأ الجمهور {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فعلًا ماضيًا ناصبًا الميزان؛ أي: أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} بالخفض وإسكان الضاد، انتهى من "البحر". ومعنى الآية (¬2): أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر. إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. وجعل نظم العالم الأرضيّ تسير على نهج العدل فعدل في الاعتقاد كالتوحيد إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل في العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم، وأباح لهم كثيرًا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلو في الدين، والإسراف في حب الدنيا. وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما في هذا العالم، لا يغادر الصغير منه، ولا الكبير. وقوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}؛ أي: فعل ذلك لئلا تعتدوا، وتتجاوزوا ما ينبغي من العدل والنصفة، وجري الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان في كل أمر، فترقى شؤونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم. قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحب أن يوفى لك. فإنَّ في العدل صلاح الناس. 9 - ثم أكد هذا بقوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ}؛ أي: قوموا وزنكم {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل؛ أي: اجعلوه مستقيمًا له. وفي "المفردات": الوزن: معرفة قدر الشيء، والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان. وقوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

بِالْقِسْطِ} إشارة إلى مراعاة العدل في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وقيل: المعنى: أقيموا لسان الميزان بالعدل. وقيل: المعنى: إنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}؛ أي: لا تنقصوه؛ لأنَّ من حقه أن يسوى؛ لأنه المقصود من وضعه. قال سعدي المفتي: المراد: لا تنقصوا الموزون في الميزان لا الميزان نفسه، أمر أوّلًا بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، ثم عن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدًا للتوصية به، وتأكيدًا للأمر باستعماله، والحث عليه. وقرأ الجمهور (¬1): {تُخْسِرُوا} بضم التاء وكسر السين، من أخسر إذا أفسد ونقص، كقوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}؛ أي: ينقصون. وقرأ بلال بن أبي برزة، وأبان بن عثمان، وزيد بن عليّ {تَخْسَرُوا} بفتح التاء والسين من خسر من باب سمع. وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان, وخسرته، وقرىء أيضًا {تُخْسُرُوْا} بفتح التاء وضم السين لما منع من الزيادة. وهو الطغيان. وفي "فتح الرحمن": قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} قرنه برفع السماء؛ لأنّه تعالى عدد نعمه على عباده، ومن أجلها الميزان الذي هو العدل الذي به نظام العالم وقوامه، وقيل: هو القرآن، وقيل: هو العقل، وقيل: ما يعرف به المقادير كالميزان المعروف، والمكيال والذراع. إن قلت: ما فائدة تكرار لفظ {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} ثلاث مرات مع أن القياس بعد الأولى الإضمار؟ قلت: فائدته بيان أنَّ كلًّا من الآيات مستقلة بنفسها، أو أن كلًّا من الألفاظ الثلاثة مغاير لكل من الآخرين، إذ الأول ميزان الدنيا، والثاني ميزان الآخرة، والثالث ميزان العقل؛ أي: العدل. فإن قلت: قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}؛ أي: لا تجاوزوا فيه العدل، مغن عن الجملتين المذكورتين بعده؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[10]

قلت: الطغيان فيه أخذ الزائد، والإخسار: إعطاء الناقص، والقسط: التوسط بين الطرفين المذمومين، انتهى. 10 - وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماء ذكر مقابلها، وهو الأرض. فقال: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}؛ أي: والأرض بسطها على وجه الماء لسكنى الحيوان من كل ما له روح، وفيه حياة لينتفع بما في ظاهرها ومافي باطنها في معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها. ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجن كما قيل. وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق، والجن، والإنس مما على الأرض كما في "القاموس". فهي كالفراش والمهاد لهم، ينقلبون عليها، ويتصرفون فوقها. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالْأَرْضَ} بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء. 11 - وجملة قوله: {فِيهَا}؛ أي: في الأرض {فَاكِهَةٌ}؛ أي: ضروب كثيرة مما يتفكه به، ويتلذذ من أنواع الثمار، فلفظ فاكهة يشعر باختلاف الأنواع، في محل نصب على أنها حال مقدرة من الأرض، وقيل: مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي قبلها. ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه، ومزيد فائدته على سائر الفواكه، فقال: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}؛ أي: وفيها النخل صاحبة الغلاف الذي يكون فيه الثمر أول ظهوره. والأكمام: جمع كم بالكسر. وهو وعاء الثمر. قال الحسن: ذات الأكمام؛ أي: ذات الليف. فإن النخلة تكتم بالليف، وكمامها ليفها، وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق، وقال عكرمة: ذات الأحمال؛ أي: وفيها النخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره، وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية، وكثرة فوائدها؛ لأنّه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة, وينتفع بجميع أجزائها، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل، ومن ليفها الحبال، ومن جريدها سقف البيوت، ويؤكل جمارها. ومن ثم ذكرها باسمها، وذكر الفاكهة دون أشجارها. 12 - {وَ} فيها {الْحَبُّ}؛ أي: جميع الحبوب التي يقتات بها: كالحنطة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والشعير، والذرة {ذُو الْعَصْفِ}؛ أي: صاحب الورق على سنابلها, وسوقها لعلف الدواب. {وَ} فيها {الرَّيْحَانُ}؛ أي: كل نبت مشموم تطيب رائحته. وقال الحسن: الريحان: هو ريحانكم هذا الذي يشم. وهو كل ما طابت رائحته من النبات، وعند الفقهاء: الريحان: ما لساقه رائحة طيبة كما لورقه، والورد ما لورقه رائحة طيبة فقط، كالياسمين، كذا في المغرب. وقال ابن الشيخ: الريحان: كل بقلة طيبة الرائحة، سميت ريحانًا؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي: يشم. وذكر أولًا الفاكهة (¬1)؛ لأنها للتفكه فحسب، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء، ثم الحب الذي عليه المعول في الغذاء في جميع البلاد. فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان. ومن ثم خلقه الله تعالى في سائر البلاد، وجعل النخل في البلاد الحارة دون غيرها. قال أبو حيان: وبدأ بقوله (¬2): {فَاكِهَةٌ} إذ هو من باب الابتداء بالأدنى، والترقي إلى الأعلى. ونكر لفظها؛ لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل، فذكر الأصل، ولم يذكر ثمرتها، وهو التمر لكثرة الانتفاع بها من ليف، وسعف، وجريد، وجذوع، وجمار، وثمر. ثم أتى ثالثًا بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم. وهو البر، والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه. ووصفه بقوله: {ذُو الْعَصْفِ} تنبيهًا على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب، ويوقت بهائهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة، وختم بالمشموم، وبينهما النخل والحب ليحصل ما به يتفكه، وما به يتقوت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها، والفاكهة دون شجرها لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة, فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل، ومن الفاكهة دون شجرتها، انتهى. وقرأ الجمهور (¬3): {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)} برفع الثلاثة عطفًا على المرفوع قبله. وقرأ ابن عامر، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة بنصب الثلاثة؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[13]

وخلق الحب. وجوزوا أن يكون {وَالرَّيْحَانُ} حالة الرفع، وحالة النصب على حذف مضاف؛ أي: وذو الريحان، حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. وقرأ حمزة، والكسائي، والأصمعيُّ عن أبي عمرو {والرَّيحَانِ} بالجر. والمعنى: والحبّ ذو العصف الذي هو علف البهائم، والريحان الذي هو مطعم الناس. ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر. 13 - ولما عدد تعالى نعمه خاطب الثقلين بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}؛ أي: إن نعمه كثيرة لا تحصى، فبأيها تكذبان أيها الثقلان. وكان هذا الخطاب للثقلين؛ لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل. ولقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}، {خَلَقَ الْجَانَّ}. ويدل عليه قوله فيما سيأتي. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} وهذا ما عليه جمهور المفسرين. وقيل: الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية، كما في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} كما مر. والآلاء: جمع إلى، وألى مثل معى وعصى. قال في "بحر العلوم": الآلاء: النعم الظاهرة والباطنة الواصلة إلى الفريقين. وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أن الآلاء هي النعم الظاهرة، والنعماء هي النعم الباطنة. والصواب أنهما من الألفاظ المترادفة، كالأسود والليوث، والفلك والسفن. ومعنى تكذيبهم بالآلاء كفرهم بها. والتعبير عن الكفر بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة. والفاء فيه للإفصاح؛ أي: فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد نعم ربكما، ومالككما، ومربيكما بتلك الآلاء أيها الجن، والإنس تنكران أنها ليست من الله، مع أن كلًّا منها ناطق بالحق، شاهد بالصدق، أفبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها. والاستفهام للتقرير؛ أي: للحمل على الإقرار بتلك النعم، ووجوب الشكر عليها. وتكرار هذه الآية في هذه السورة لطرد الغفلة، وتأكيد الحجة، وتذكير النعمة، وتقرير الكرامة من قولهم: كم نعمة كانت لكم، كم وكم، وكقولك لرجل أحسنت إليه بأنواع الأيادي، وهو ينكرها، ألم تكن نقيرًا فأغنيتك أفتنكر هذا، ألم تكن عريانًا فكسوتك أفتنكر هذا، ألم تكن خاملًا فعززتك، أفتنكر هذا؟ وهذا أسلوب كثير الاستعمال في كلام العرب. فكأنه تعالى قال: ألم أخلق الإنسان، وأعلمه البيان، وأجعل الشمس

والقمر بحسبان، وأنوع الشجر، وأبدع الثمر، وأعممها في البدو والحضر لمن آمن بي وكفر، وأسقيها حينًا بالمطر، وآونة بالجداول والنهر أفتنكرون ذلك أيها الإنس والجن. وقد جاء ثل هذا في أشعارهم. انظر قول مهلهل يرثي أخاه كليبًا: عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا مَاضِيْمَ جِيْرَانُ الْمُجِيْرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا خَرَجَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُوْرِ عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا خِيْفَ الْمَخُوْفُ مِنَ الْثُغُوْرِ عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ ... إِذَا مَا خَارَ جَأْشُ الْمُسْتَجِيْرِ وهي قصيدة طويلة على هذا النسق، ولها نظائر أيضًا في رثائه، ولولا خشية التطويل لأوردنا شيئًا منها. وعدلًا؛ أي: مثلًا ونظيرًا. والمعنى (¬1): أي فبأي النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذّبان، وتنكران. والمراد من تكذيب آلائه: كفرهم بربهم؛ لأنَّ إشراكهم آلهتهم به تعالى في العبادة دليل عى كفرانهم بها. إِذ من حق النعم أن تشكر. والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم، والتعبير بالرب للإشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربي لهما الذي ينميهما أجسامًا وعقولًا، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم, والعبادة له دون سواه. وقال في "برهان القرآن": تكررت (¬2) هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمان منها ذكرها عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق، ومعادهم، ثم سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار، وشدائدها على عدد أبواب جهنم. وحسن ذكر الآلاء عقيها؛ لأن في خوفها ودفعها نعمًا توازي النعم المذكورة؛ أو لأنها حلت بالأعداء، وذلك يعد من أكبر النعماء. وبعد هذه السبع ثمان في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمان أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما. فمن اعتقد الثاني الأولى، وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله تعالى، ووقاه الله تعالى السبع السابقة. يقول الفقير: من لطائف أسرار هذا المقام: أن لفظ أل في أول اسم الرحمن المعنون به هذه السورة الجليلة دل على تلك الإحدى والثلاثين، انتهى. قال ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

القتيبي: إنَّ الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه. ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم، ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك ... إلخ. ويسن لسامع القارىء لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية (¬1). وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعًا بأن يقول: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر الجن على ذلك الجواب فيما روي عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن حتى ختمها، قال: "ما لي أراكم سكوتًا، لَلجن كانوا أحسن منكم ردًّا ما قرأت عليهم هذه الآية مرة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} إلَّا قالوا ولا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. 14 - ولما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير وهو السماء والأرض وما فيهما ذكر العالم الصغير, فقال: {خَلَقَ} الله سبحانه وتعالى {الْإِنْسَانَ}؛ أي: آدم. فالمراد بالإنسان هنا: آدم. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل: ولا يبعد أن يراد (¬2) الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم. {مِنْ صَلْصَالٍ} أي: من طين يابس له صلصلة؛ أي: صوت إذا نقر لشدة يبسه. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن. {كَالْفَخَّارِ}؛ أي: شبيه بالخزف الذي طبخ بالنار في صوته إذا نقر، كأنه (¬3) صور بصورة من يكثر التفاخر، أو لأنه أجوف. وقد خلق الله آدم عليه السلام من تراب جعله طينًا، ثم حمأً مسنونًا، ثم صلصالًا، ثم صب عليه ماء الأحزان، فلا ترى ابن آدم إلا ويكابد حزنًا. والمعنى: أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف. فإن قلت (¬4): كيف قال ذلك هنا، وقال في الحجر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}؛ أي: من طين أسود متغير، وقال في الصافات: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}؛ أي: لازم يلصق باليد، وقال في آل عمران: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}؟ ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) متشابه القرآن.

[15]

قلت: الآيات كلها متفقة المعنى؛ لأنه تعالى خلقه من تراب، ثم جعله طينًا ثم حمأً مسنونًا، ثم صلصالًا. فهذه مراحل وأطوار في خلق الإنسان، وفي كل سورة إشارة إلى بعض هذه الأطوار. فإنه تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طينًا لازبًا؛ أي: متلاصقًا يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنونًا أي: طينًا أسود منتنًا، ثم يبس، فصار كالفخار، له صوت وصلصلة. إيضاح هذا (¬1): أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوته لتخفظ كيانه، وهكذا الإنسان، له شهوة الطعام والشراب والتزاوج, لتبقى بنيته، وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة؛ ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش، والأعداء المحيطة به من كل جانب. وهذه القوة في الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارًا، فتتماسك أجزاوه، ولولاها لما استطاع المحافظة علي هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب من الكواسر، وأهل القسوة من بني الإنسان. ولأصبح قتيلًا في الفلوات تأكله الطير، أو تهوي بأجزائه الريح في مكان سحيق. كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت، وتذروه الرياح، أو يذوب في أجزاء الأرض. 15 - {وَخَلَقَ} سبحانه {الْجَانَّ}؛ أي: الجن أو أبا الجن أو إبليس، وبه قال الضحاك. وفي "الكشف": الجان: أبو الجن، كما أن الإنسان أبو الإنس، وإبليس أبو الشياطين. {مِنْ مَارِجٍ}؛ أي: من لهب صاف من الدخان. وقال مجاهد: المارج: هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر، والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا وقدت من مرج أمر القوم إذا اختلط واضطرب. فمعنى {مِنْ مَارِجٍ} من لهب مختلط. {مِنْ نَارٍ} بيان لـ {مَارِجٍ}. كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار. وفي "كشف الأسرار": خلق الجن من مارج من نار، والملائكة من نورها، والشياطين من دخانها. أي (¬2): وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مثوب بالخضرة. فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[16]

فالجان من أنواع من اللهب مختلطات. ولقد اظهر الكشف الحديث أنَّ الضوء مركب من ألوان سبعة، ولفظ {المارج} يشير إلى ذلك، وإلى أن اللهب مضطرب دائمًا. 16 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)} أيها الثقلان أَمِمَّا أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم حتى صيركما أفضل المركبات، وخلاصة الكائنات، أم من غيره تكذبان، فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى. 17 - {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} قرأ الجمهور (¬1) {رَبُّ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما، ومن قضيته ان يكون رب ما بينهما من الموجودات قاطبة. يعني: أن ذكر غاية ارتفاعهما، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناولان ما بينهما، كما إذا قلت في وصف ملك عظيم الملك: له المشرق والمغرب، فإنه يفهم منه أن له ما بينهما أيضًا. وقيل: مبتدأ، خبره {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}، وما بينهما اعتراض. والأول أولى. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالخفض بدلًا من {رَبِّكُمَا}. قال في "كشف الأسرار": أحد المشرقين هو الذي تطلع منه الثمس في أطول يوم من السنة، والثاني الذي تطلع منه في أقصر يوم, وبينهما مئة وثمانون مشرقًا، وكذا الكلام في المغربين. وقيل: أحد المشرقين للشمس، والثاني للقمر. فإن قلت (¬2): لِمَ كرر ذكر الرب هنا دون سورتي المعارج والمزمل؟ قلت: كرره هنا تأكيدًا. وخص ما هنا بالتأكيد لأنه موضع الامتنان، وتعديد النعم، ولأن الخطاب فيه من جنسين، هما الإنس والجن، بخلاف ذينك. والمعنى (¬3): أي هو سبحانه رب مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة، وتقلب الهواء، وتنوعه, وما يلي ذلك من الأمطار، والشجر، والنبات، والأنهار الجاريات، 18 - فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان أيها الثقلان، أفتنكران الأمطار وفوائدها؟ أم تكران ما لاختلاف الفصول من منافع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) متشابه القرآن. (¬3) المراغي.

[19]

فيها تختلف صنوف المزروعات من صيفية إلى شتوية، أم تنكران ما لاختلاف الأجواء من مزايا في تنظيم مزاج الإنسان والحيوان. 19 - ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده في البر أعقبها بنعمه عليهم في البحر، فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: أرسلهما من منبعهما، من مرجت الدابة إذا أرسلتها، وخليتها للرعي. والمعنى: والله سبحانه أرسل البحر الملح، والبحر العذب {يَلْتَقِيَانِ} حال من البحرين، قريبة من الحال المقدرة؛ أي (¬1) حال كونهما يتجاوران، ويتماس سطوحهما، لا فصل بينهما في مرأى العين. وذلك كدجلة تدخل البحر، فتشقه، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها. وقيل: أرسل بحر فارس والروم يلتيقان في المحيط؛ لأنهما خليجان يتشعبان منه. قال سعدي المفتي: وعلى هذا فقوله: {يَلْتَقِيَانِ} إما حال مقدرة إن كان المراد: إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى: اتحاد أصليهما إن كان المراد: إرسالهما منه. فلكل وجه. وقال ابن جريج: هما البحر المالح، والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. وقيل: بحر الأرض، وبحر السماء. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. والمعنى (¬2): أنه أرسل كل واحد منهما يلتقيان؛ أي: يتجاوران، لا فصل بينهما في رأي العين، ومع ذلك فلم يختلطا, 20 - ولهذا قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ}؛ أي: حاجز من قدرة الله أو من الأرض يحجز بينهما. والجملة الاسمية يجوز أن تكون مستأنفة أو حالًا. {لَا يَبْغِيَانِ}؛ أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية مع أن شأنهما الاختلاط على الفور، بل يبقيان على حالهما زمانًا يسيرًا مع أن شأنهما الاختلاط، وانفعال كل واحد منهما عن الآخر على الفور، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما من الأرض لتكون الأرض بارزة يتخذها أهلها مسكنًا ومهادًا. فقوله: {لَا يَبْغِيَانِ} إما من الابتغاء، وهو الطلب؛ أي: لا يطلبان غير ما قدر لهما، أو من البغي، وهو مجاوزة كل واحد منهما ما حد له. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[21]

والمعنى (¬1): أي أرسل سبحانه البحر الملح، والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا يبغي أحدهما على الآخر، فلا الملح يطغى على العذب فيجعله ملحًا، ولا العذب يجعل البحر الملح مثله. فقد حجر بينهما ربهما بحاجز من قدرته، أو بحاجز من الأجرام الأرضية، فترى نهر النيل بمصر يخرج من جبال الحبشة، ويجري شمالًا، حتى يصب في البحر الأبيض التوسط، ولا يبغي أحدهما على الآخر. 21 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)}؛ أي: فبأيّ هذه المنافع تكذبان إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب، ولا لسقي الحيوان والنبات، ولم نجد ما نقتات به، فنهلك جوعًا. ولو بغى العذب على الملح .. لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه. وليس من البحرين شيء يقبل الكذيب لما فيه من الفوائد والعبر، هذا وهما جمادان لا نطق لهما, ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها العقلاء!. وقال الخطيب: ومعنى {لَا يَبْغِيَانِ}؛ أي: لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده له خالقه، لا في الظاهر ولا في الباطن، حتى إن العذب الداخل في الملح باق على حاله لم يمتزج بالملح. فمتى حفرت في جنب الملح في بعض الأماكن .. وجدت الماء العذب. قال البقاعي: بل كلما قربت الحفرة من الملح كان الماء الخارج منها أحلى. فخلطهما الله تعالى في رأي العين، وحجز بينهما في غيب القدرة، اهـ. 22 - {يَخْرُجُ مِنْهُمَا}؛ أي: من البحرين {اللُّؤْلُؤُ}؛ أي: الدر المخلوق في الأصداف. {وَالْمَرْجَانُ}؛ أي: الخرز الأحمر المشهور. وقيل: اللؤلؤ كبار الدر، والمرجان صغاره. واعلم (¬2): أنه إن أريد بالبحرين هنا بحر فارس، وبحر الروم، فلا حاجة في قوله: {مِنْهُمَا} إلى التأويل. إذ اللؤلؤ والمرجان بمعنييه يخرجان منهما. لأن كلا منهما ملح، ولا عذب في البحار السبعة إلا على قول من قال في الآية: يخرج من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

مالح بحري فارس والروم، ومن عذب بحر الصين. وفي "بحر العلوم": أنَّ اللؤلؤ يخرج من بحر فارس، والمرجان يخرج من بحر الروم. يعني: لا من كليهما. وقال أبو علي الفارسي: الكلام على حذف مضاف؛ أي: يخرجان من أحدهما، وهو المالح. لأنه إذا خرج من أحدهما .. فقد خرج منهما. كما يقال: يخرج الولد من الذكر والأنثى، وإنما تلده الأنثى. وقيل: يخرج؛ أي: يحدث، ويتكون من التقائهما واجتماعهما اللؤلؤ والمرجان كما قال الرازي: يكون العذب كاللقاح للملح. ونقل عن ابن عباس، وعكرمة مولاهُ: تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر؛ لأن الصدف تفتح أفواهها للمطر، فيكون الأصداف كالأرحام للنطف، وماء البحر كالجسد الغادي. ويدل على أنه من المطر ما اشتهر من أن السنة إذا أجدبت .. هزلت الحيتان، وقلت الأصداف والجواهر. وعلى هذا فالبحران: بحر السماء وبحر الأرض، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤًا فصار خارجًا منهما. وقرأ الجمهور (¬1): {يَخْرُجُ} مبيًا للفاعل. ونافع, وأبو عمرو، وأهل المدينة مبنيًا للمفعول. والجعفي عن أبي عمرو بالياء مضمومة، وكسر الراء؛ أي: يخرج الله. وعنه, وعن أبي عمرو، وعن ابن مقسم {نخرج} بالنون واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين. وقرأ طلحة {اللُّؤْلِؤُ} بكسر اللام الثالثة. وهي لغة. وعبد الولي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها. وهي لغة، قاله أبو الفضل الرازي. وقد ثبت في الكشف (¬2): أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب، وكذلك المرجان، وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح. 23 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)}؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذبان. فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه، ولا يقدر على إنكاره؛ أي: أبكثرة النعم من خلق المنانع في البحر، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها. 24 - {وَلَهُ} سبحانه السفن {الْجَوَارِ} في البحر. وهذه (¬3) اللام لها معنيان: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

أحدهما: أنها لام الملك، والثاني: أنها لام الاستحسان والتعجب، كقولهم: لله أنت، لله درك كما في "كشف الأسرار". {الْجَوَارِ} (¬1) بكسر الراء. أصله: الجواري بالياء: جمع جارية. وهي السفن. وقرىء بحذف الياء ورفع الراء كقول الشاعر: لَهَا ثَنَايَا أَرْبعٌ حِسَانُ ... وَأَرْبعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ والمعنى: وله السفن الجاريات في البحر. فحذف (¬2) الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. قال ابن الشيخ: واعلم: أنَّ الأركان أربعة: التراب، والماء، والهواء، والنار. فالله سبحانه وتعالى بين بقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} أن التراب أصل لمخلوق شريف مكرم عجيب الشأن. وبين بقوله: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} أن النار أيضًا أصل لمخلوق آخر عجيب الآن. وبين بقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} أن الماء أيضًا أصل لمخلوق آخر، له قدر وقيمة. ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفينة كالأعلام، فقال: {وَلَهُ الْجَوَارِ}. وخصها بالذكر مع أن جميع ما في السموات والأرض له لا لغيره؛ لأنَّ جريانها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك فيقولون: "لك الفلك ولك الملك". وإذا خافوا الغرق دعوا خاصة. وسميت السفينة جارية؛ لأن شأنها الجري في البحر، وإن كانت واقفة في السواحل والمراسي. كما تُسَمَّى المملوكة أيضًا جارية؛ لأنَّ شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها. وقرأ الجمهور: {الْجَوَارِ} بكسر الراء، وحذف الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وأبو عمر في رواية عنه برفع الراء تناسيًا للحذف. وقرأ يعقوب بإثبات الياء. {الْمُنْشَآتُ} قرأ الجمهور (¬3) بفتح الشين اسم مفعول بمعنى المحدثات؛ أي: أنشأها الله تعالى, وأحدثها أو الناس أو المرفوعات الشرع؛ أي: القلع على أنه من أنشأه إذا رفعه. والشرع بضمتين: جمع شراع، نظير كتب وكتاب؛ أي: المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت، حتى صارت في ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[25]

البحر كالأعلام. وهي الجبال. ولا يبعد أن يكون معنى {الْمُنْشَآتُ}؛ أي: المرفوعات على الماء، فتكون جارية على ما هي له. وقرأ الأعمش، وحمزة، وزيد بن عليّ، وطلحة، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشين؛ أي: الرافعات الشراع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو التي تنىء السفر إقبالًا وإدبارًا، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن {المنشأة} وحَّد الصفة، ودل على الجمع الموصوف، كقوله: أزواج مطهرة، وقلب الهمزة ألفًا. والمعنى: وله الجواري المنشئات؛ أي: المصنوعات {فِي الْبَحْر} حالة كونها {كَالْأَعْلَامِ} جمع علم. وهو الجبل الطويل؛ أي: كالجبال الشاهقة عظمًا وارتفاعًا، وهو حال من ضمير {الْمُنْشَآتُ}. والسفن في البحر كالجبال في البر، كما أن الإبل في البر كالسفن في البحر. والمعنى: أي وله تعالى السفن الكبار التي رفعت شرعها في الهواء كالجبال الشاهقة تجري في البحر بما ينفع الناس، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر، والأقوات من إقليم هي كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها. وبذا يتم تبادل السلع، وسد حاجات الأمم في أقواتها ومشاربها. 25 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)} أي: (¬1) فبأيّ هذه النعم تكذّبان أبخلق مواد السفن، أم بكيفية تركيبها، أم بإجرائها في البحر يابسات بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه لقطع المسافات الكثيرة في الأوقات القليلة. أي: عبادي هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم في شكر هذه النعم؟ فهل خلقت الشمس والقمر، والنجم، والشجر، والزرع، والحب، والأنهار، والبحار، والدر، والمرجان لقوم لا يعقلون أم خلقتها لقوم يقبلون مني النعمة، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها. 26 - {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا}؛ أي: على الأرض من الحيوانات والمركبات. فعبر (¬2) بمن تغليبًا للعقلاء أو من الإنس والجن. والضمير عائد على الأرض في قوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} وإن بعد. {فَانٍ}؛ أي: هالك لا محالة. والفناء عبارة عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[27]

إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره. ولما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك بنو آدم، فلما نزلت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أيقنوا بهلاك أنفسهم. فإن لهم أجسامًا لطيفة، وأرواحًا متعلقة بتلك الأجسام كأرواح الإنسان. وأما الأرواح المجردة المهيمنة العالية فلا تفنى. 27 - {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؛ أي: ذات ربك يا محمد أو أيها المخاطب. والوجه هنا بمعنى الذات, نظير قولهم: كرم الله وجهه؛ أي: ذاته. فالوجه عبارة عن العضو المعروف، استعير للذات؛ لأنه أشرف الأعضاء، ومجمع المشاعر، وموضع السجود، ومظهر آثار الخشوع. قال القاضي: ولو استقريت جهات الموجودات، وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها، إلا وجه الله الذي يلي جهته، انتهى، أي: يلي مقصده، ويحتمل (¬1) أن يكون الوجه بمعنى القصد؛ أي: ويبقى كل ما يقصد، وينوى به الله سبحانه، وأن يكون بمعنى الجهة؛ أي: كل من عليها من الثقلين، وما اكتسبوه من الأعمال هالك منعدم إلا ما توجهوا به جهة الله، وعملوه ابتغاء لمرضاته. وقوله: {ذُو الْجَلَالِ}؛ أي: ذو الاصتغناء المطلق أو ذو العظمة في ذاته وصفاته. ومعناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه. {وَ} ذو {الْإِكْرَامِ}؛ أي: ذو الفضل التام، والطول العام، ومعناه: المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته، اهـ من "الخازن". صفة لوجه. وقرأ الجمهور {ذُو} بالواو صفة للوجه. وقرأ أبي، وعبد الله {ذي} بالياء صفة للرب. والظاهر: أن الخطاب في قوله: {وَجْهُ رَبِّكَ} للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وفيه تشريف عظيم له - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الخطاب لكل سامع. ومعنى {ذُو الْجَلَالِ} الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه، وعن أفعالهم، أو الذي يتعجب من جلاله، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده. قال الطيبي: كيف (¬2) أفرد الضمير في قوله: {وَجْهُ رَبِّكَ}، وثناه في {رَبِّكُمَا} والمخاطب واحد؟ قلت: اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته، فيندرج فيه الثقلان اندراجًا أوليًا، ولا كذلك الثاني، فتركه على ظاهره. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[28]

والمعنى (¬1): أي إنَّ جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات. ولا يبقى سوى وجه ربك الجليل الكريم، فإنه الحي الذي لا يموت أبدًا. قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وقد ورد في الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك نستغيت أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين, ولا إلى أحد من خلقك". ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء الحطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطي خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه، انظر إلى (¬2) هذه النجوم الثواقب في ظلمات الليل تراها مشرقة ساطعة تتلألأ نورًا تشرح له الصدور، وتقر به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة, جمال في النجوم، بهجة في الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة، أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين. فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم!. 28 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان، فالفناء باب للبقاء، وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولولا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة؛ إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة، وتعاقبها جيلًا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال، ويجعل العالم في تجدد مستمر، وقال مقاتل: وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. انظر إلى بني الإنسان مثلًا إذ توالدوا جيلًا بعد جيل، ولم يمت منهم أحد فلا تمضي إلا أجيال معدودة، حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلىء الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضي ولا نبات مأكول، ولا يجدون وسيلة للعيش، إلا أن يأكل بعضهم بعضًا، وتمتلىء الأرض رممًا آدمية من السغب والمخمصة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[29]

والخلاصة: أنّ في الفناء نعمتين: نعمة الرحعة بتعاقب الأجيال، ونعمة الخروج من سجن المادة إلى فسيح العالم الروحيّ، وإلى التمتع بنعيم آخر بعد الموت. 29 - ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله: {يَسْأَلُهُ} سبحانه وتعالى {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قاطبة من ملك وإنس وجن ما يحتاجون إليه من ذواتهم ووجوداتهم حدوثًا وبقاءً، وسائر أحوالهم سؤالًا مستمرًا بلسان المقال أو بلسان لحال، فلا يستغني أحد عنهم عنه تعالى. فإنهم من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود، وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلائق .. لم يشموا رائحة الوجود أصلًا، فهم في كل آنٍ مستمرون على الاستدعاء والسؤال. قال ابن عباس رضي الله عنه: فأهل السماء يسألونه لأهل الأرض المغفرة، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة، وقيل: كل أحد يسأله الرحمة، وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه، وفيه إشارة إلى كمال قدرته تعالى، وأن كل مخلوق وإن جل وعظم، فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه، مفتقر إلى الله تعالى. والحاصل: أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال، أو بلسان الحال ما يطلبونه من خيري الدنيا والآخرة أو من خيري إحداهما. {كُلَّ يَوْمٍ}؛ أي: كل وقت من الأوقات (¬1). وهو اليوم الإلهي الذي هو الآن الغير المنقسم. {هُوَ} سبحانه وتعالى {فِي شَأْنٍ} من الشؤون، وأمر من الأمور التي من جملتها إعطاء ما سألوا. فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصًا، ويفني آخرين، ويأتي بأحوال، ويذهب بأحوال من الغنى، والفقر، والعزة، والذلة، والنصب، والعزل، والصحة، والمرض، ونحو ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح البالغة. وانتصاب {كُلَّ} بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، والتقدير: استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن مما خلق ¬

_ (¬1) روح البيان.

عز وجل لوحًا من درة بيضاء ودفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاث مئة وستين نظرة، يخلق ويرزق، يحيي ويميت، ويعز ويذل, ويفعل ما يشاء. فذلك قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. وقال سفيان بن عيينة: الدهر عند الله سبحانه يومان: يوم الدنيا، وشأنه فيه الاختبار بالأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع. وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت، ومعناه: أنه تعالى كتب ما يكون في كل يوم، وقدر ما هو كائن، فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل، فيوجده في ذلك الوقت. وعن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: "أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين". أخرجه الحسن بن سفيان، والبزّار، وابن جرير، والطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر. وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة". فقال: شؤون يبديها, لا شؤون يبتديها. والحاصل (¬1): أنّ المادّة دائمًا تلبس جديدًا، وتخلع قديمًا. فأجسامنا، وأجسام الحيوان على هذا المنوال فهما في حاجة إلى بقاء الأجسام، وتغذيتها. وإذا انحل جسم افتقر إلى شيء يعوض ما ذهب. فالتغيرات المستمرة افتقار، وهذا الافتقار مستمر في كل لحظة. وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطي، إما بالنطق، وإما بتوجه النفس، وطلبها العون والمدد والفيض من فضله. وجماع القول: أنّ المادّة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها، فالنبات في كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء، وهواء، ومواد أخرى، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه، والإنسان يسأل ما هو في حاجة إليه إما سؤال حال، وإما سؤال مقال في كل وقت ¬

_ (¬1) المراغي.

[30]

وأوان. {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فمن شؤونه أنه يحيى ويميت، يخلق ويرزق، يعز ويذل، يمرض ويشفي، يعطي ويمنع، يغفر ويعاقب، يرحم ويغضب إلى نحو أولئك. ومن شؤونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم، وتباين أغراضهم. 30 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)} مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه، أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان. فكم من سؤال أجبته، وكم من جديد أحدثته، وكم من ضعيف في الحياة أرحته، إما بصحة تسعده، أو بموت من سجن المادة يخرجه. 31 - ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم، وخلق الإنسان والسماء والأرض، وما أودع فيهما، وفناء ما على الأرض ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة، والجزاء. فقال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}؛ أي (¬1): سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة عند انتهاء شؤون الخلق المشار إليها بقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. فلا يبقى حينئذٍ إلا شأن واحد. وهو الجزاء. فعبر عنه بالفراغ لهم على المجاز المرسل. فإن الفراغ يلزمه التجرد، وإلا فليس المراد الفراغ من الشغل؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. وقيل: هو مستعار من قول المهدد لصاجه سأفرغ لك؛ أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه. والمراد: التهيؤ للنكاية فيه، والانتقام منه، وعلى هذا فالخطاب للمجرمين منهما، بخلافه على الأول. وقرأ الجمهور (¬2): {سَنَفْرُغُ} بنون العظمة، وضمّ الراء، من فرغ بفتح الراء. وهي لغة الحجاز. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو حيوة، وزيد بن عليّ بالتحتية مفتوحة مع ضمّ الراء؛ أي: {سيفرُغ} الله تعالى لكم. وقرأ قتادة، والأعرج بالنون وفتح الراء، مضارع فرغ بكسرها. وهي لغة تميمية، وقرأ عيسى الثقفي، وأبو السمال بكسر النون وفتح الراء، قال أبو حاتم: وهي سفلى مضر. وقرأ الأعمش، وأبو حيوة بخلاف عنهما، وابن أبي عبلة، والزعفراني وإبراهيم بضم الياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول. وقرأ عيسى أيضًا بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضًا بفتح الياء، وفتح الراء، وهي رواية يونس، والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[32]

{أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}؛ أي: أيها الإنس والجن. سميا (¬1) بذلك لأنهما ثقلا الأرض. يعني: أنهما شبها بثقل الدابة. وفي حواشى ابن الشيخ: شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال، والإنس والجن جعلا أثقالًا محمولة عليها، وجعل ما سواهما كالعلاوة، أو لرزانة آرائهما، أو لأنهما مثقلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض. كما في الحديث: "إني خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي". وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين؛ لأنهما يثقلان بالذنوب، أو لما فيهما من الثقل. وهو عين تأخرهما بالوجود؛ لأنَّ من عادة الثقيل الإبطاء، كما أن من عادة الخفيف الإسراع، والإنس أثقل من الجن، للركن الأغلب عليهم أو لثقل الإنس، وسمي الجن ثقلًا لمجاورة الأنس. وجمع في قوله (¬2): {لَكُمْ}، ثم قال: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}؛ لأنهما فريقان. وكل فريق جمع. وقرأ الجمهور {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} بفتح الهاء. وقرأ أهل الشام بضمها. 32 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب {تُكَذِّبَانِ} بأقوالكما, وأفعالكما. قال في "كشف الأسرار": اعلم: أن بعض هذه السورة ذكر فيه الشدائد والعذاب والنار، والنعمة فيها من وجهين: أحدهما: في صرفه عن المؤمنين إلى الكفار. وتلك نعمة عظيمة تقتضي شكرًا عظيمًا. والثاني: أن في التخويف منها، والتنبيه عليها نعمة عظيمة. لأن اجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه. والمعنى (¬3): أي سنقصد لحسابكم، ومجازاتكم على أعمالكم, وهذا وعيد شديد، وتهديد من الله لعباده. كما يقول القائل لمن يهدده: إذًا أتفرغ لك؛ أي: أقصد قصدك، والفراغ هنا بحعنى القصد للشيء، لا بمعنى الفراغ منه؛ إذ معنى الفراغ من الشيء بذل الحجهود فيه. وهذا لا يقال في حقه تعالى، هذا وإن شأن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[33]

الآخرة ما هو إلا شأن من الشؤون، فلا يشغله شأن عن شأن، وهو القائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}، والقائل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}. فبأيّ نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين. ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء في هذا اليوم تحذيرًا مما سيؤدي إلى سوء الحساب، وشديد العقاب. 33 - ثم ذكر أنه لا مهرب في هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله، فقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}؛ أي: يا جماعة الإنس والجنّ. وهذا (¬1) كالترجمة لقوله: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير؛ ولأنّ الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة. فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك؛ لبيان أن قدرتهم لا تفي لما كلفوه. والمعشر: الجماعة العظيمة، كما سيأتي في مبحث اللغة. وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لتقدم خلقه. لأن أباهم الجان خلق قبل آدم. وقدم الإنس على الجن في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} لفضله. فإن التقديم يقتضي الأفضلية. قال ابن الشيخ: لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم، وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها، كان مظنة أن يقال: فلم ذلك مع ما له من كمال الاهتمام به؟ فأشار إلى جوابه بما محصوله: هم جميعًا في قبضة قدرته وتصرفه، لا يفوته منهم أحد، فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال؛ لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوات، وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين. أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء، والمدة الثانية للحساب والجزاء. وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا، والمصائب، ومنبع البلايا، والنوائب. ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلًا للفرار منهما، والهرب مما قضاه فيهما. فقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} متعلق بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، فكانا بمنزلة كلام واحد. {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} لم يقل (¬2): إن استطعتما بلفظ التثنية؛ لأن كل واحد منهما فريق، كقوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}؛ أي: كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظرًا إلى معنى الثقلين، وثناه في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} كما سيأتي نظرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[34]

إلى اللفظ؛ أي: إن قدرتم على {أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض، ونواحيهما هاربين من الله تعالى، فارين من قضائه {فَانْفُذُوا}؛ أي: فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابي، وهو أمر تعجيز، والمراد: أنهم لا يفوتونه، ولا يعجزونه، حتى لا يقدر عليهم. والمعنى (¬1): إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا، واخرجوا منها، فحيثما كنتم يدرككم الموت. وقيل: يقال لهم: هذا يوم القيامة. والمعنى: إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا. وقيل: معناه: إن استطعتم أن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكي، ومن سمائي وأرضي فافعلوا. ثم قال تعالى: {لَا تَنْفُذُونَ}؛ أي: لا تقدرون على النفوذ والخروج {إِلَّا بِسُلْطَانٍ}؛ أي: إلا بقوّة، وقهر، وغلبة. وأنى لكم ذلك؟ لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: إن استطعتم ان تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا, ولن تعلموه إلا بسلطان؛ أي: إلا ببينة من الله تعالى نصبها، فتعرجون عليها أفكاركم، روي: أن الملائكة تنزل، فتحيط بجميع الخلائق، فيهرب الإنس والجن، فلا يأتون وجهًا إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، فتقول لهم الملائكة ذلك، فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة، كذلك لا يقدر في الدنيا، فيدركه الموت والقضاء لا محالة. 34 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} التي من جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد. فإنها تزيد المحسن إحسانًا، وتكف المسيء عن إساءته. والمساهلة والعفو مع كمال الفدرة على العقوبة. {تُكَذِّبَانِ} وتنكران، وقرأ الجمهور {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} على خطاب الجماعة. لأنّ كلًّا من الفريقين تحته أفراد كثيرة، كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}. وقرأ زيد بن علي {إن استطعتما} على خطاب تثنية الثقلين، ومراعاة ¬

_ (¬1) الخازن.

[35]

الجن والإنس. والخلاصة (¬1): أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب الله، فارين من عذابه فافعلوا، والمراد أنكم لا تسطيعون ذلك. فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه، فأينما ذهبتم أحيط بكم. ثم بين السبب في عدم إمكان الهرب، فقال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}؛ أي: إنّ المهرب إنما يكون بالقوة والقهر، وأنى لكم بهما، وممن تستمدونهما، وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولًا ولا طولًا. فبأيّ نعم ربكما التي من جملتها التحذير، والتهديد تكذّبان مع أن من حذركم، وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجل النعم التي يسديها الله تعالى إلى عباده. 35 - ثم بين السبب في طلب المهرب فقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} أيها الثقلان {شُوَاظٌ}؛ أي: لهب خالص لا دخان فيه. وقيل: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار {مِنْ نَارٍ} صفة لشواظ {وَنُحَاسٌ}؛ أي: دخان لا لهب معه أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم، يسوقانكما إلى المحشر. {فَلَا تَنْتَصِرَانِ}؛ أي: لا تمتنعان من ذلك العذاب؛ أي: لا تقدران على الامتناع من عذاب الله تعالى. والمعنى: أي يُصب عليكما ألوان من النيران، فمن لهب خالص يضيء كضوء السراج إلى نار مختلطة بالدخان، فلا تستطيعان المهرب منها، بل يسوقكم إلى المحشر سوقا. وقرأ الجمهور (¬2): {يُرْسَلُ} بالتحتية، مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ {نُرْسل} بالنون مبنيًا للفاعل، {عَلَيْكُمَا شُواظًا} بالنصب من نار، و {نحاسا} بالنصب عطفًا على {شواظًا}. وقرأ الجمهور {شُوَاظٌ} بضم الشين. وقرأ عيسى، وابن كثير وشبل بكسرها. وقرأ الجمهور {وَنُحَاسٌ} بالرفع عطفًا على شواظ، وقرأ ابن أبي إسحاق، والنخعيّ، وابن كثير، وأبو عمرو بالجر عطفًا على نار. وقرأ الكلبي، وطلحة، ومجاهد بكسر نون نحاس والسين. وقرأ ابن جبير {ونحس} كما تقول: يوم نحس. وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق أيضًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[36]

بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير. وقرأ حنظلة بن نعمان، {ونَحسِ} بفتح النون وكسر السين. وقرأ الحسن، وإسماعيل {ونُحُسٌ} بضمتين والكسر. والنحاس (¬1): الصفر المذاب، يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، وقال سعيد بن جبير: هو الدخان الذي لا لهب له، وبه قال الخليل، وقال الضحاك: هو درديُّ الزيت المغلي، وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة، وقيل: هو المهل. 36 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؛ أي: فبأيّ هذه النعم {تُكَذِّبَانِ} فإن التهديد لطف. والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول، والانتقام من الثاني من أجل نعم الإله القادر على جزاء عباده. 37 - {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ}؛ أي: انصدعت يوم القيامة، وانفك بعضها من بعض لقيام الساعة أو انفرجت، فصارت أبوابًا لنزول الملائكة، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} {فَكَانَتْ وَرْدَةً}؛ أي: صارت كوررة حمراء في اللون، وهي الزهرة المعروفة التي تشم، والغالب على الوردة الحمرة، قال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل، وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق. {كَالدِّهَانِ} خبر ثان لكانت، أي (¬2): كدهن الزيت، فكانت في حمرة الوردة، وفي جريان الدهن؛ أي: تذوب، وتجري كذوبان الدهن وجريه، فتصير حمراء من حرارة جهنم، وتصير مثل الدهن في رقته, وذوبانه. وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالإدام لما يؤتدم به. وجواب إذا محذوف؛ أي: يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال. قال سعدي المفتي: ناصب إذا محذوف؛ أي: كان ما كان من الأمر الهائل الذي لا يحيط به نطاق العبارة، أو رأيت أمرًا عظيمًا هائلًا. وبهذا الاعتبار تتسبب هذه الجملة عما قبلها؛ لأن إرسال الواظ يكون سببًا لحدوث الأمر الهائل أو رؤيته في ذلك الوقت. 38 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع عظم شأنها؛ فإن من جملتها ما في هذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[39]

التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير، والإعراض عن الشر. وقرأ عبيد بن عمير {وَرْدَةً} بالرفع بمعنى: فحصلت سماء وردة. وهو من الكلام الذي يسمى بالتجريد. 39 - {فَيَوْمَئِذٍ}؛ أي (¬1): يوم إذا انشقت السماء حسب ما ذكر {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأنهم يعرفون بسيماهم، فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن ذنبه إن أراد أحد أن يطلع على أحوال أهل المحشر، وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويحشرون إلى الموقف فوجًا فوجًا على اختلاف مراتبهم. وأما قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} ونحوه في موقف المناقشة والحساب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسألهم هل عملتم كذا، وكذا. فإنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم لم عملتم كذا، وكذا، وعنه أيضًا: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ. وضمير {ذَنْبِهِ} للإنس لتقدمه رتبةً. وإفراده لما أن المراد فرد من الإنس. كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني. وأراد بالجان: الجن، كما يقال: تميم، ويراد ولده. والمعنى (¬2): فيوم إذ انشقت السماء لا يسأل أحد من الإنس، ولا من الجن عن ذنبه. لأنهم يعرفون عند خروجهم من قبورهم. ونحو الآية قوله: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}. والجمع بين هذه الآية، وبين نحو قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} أنَّ ما هنا يكون في موقف، والسؤال يكون في موقف آخر. لأن لأن مواقف القيامة مختلفة الأحوال والأهوال. وقرأ الحسن (¬3)، وعمرو بن عبيد {ولا جأن} بالهمز فرارًا من التقاء الساكنين, وإن كان التقاؤهما على حده. 40 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان؛ فإن تخويف المجرم نعمة عليه، حتى يرتدع عن ذنبه، ويثوب إلى رشده، ويثوب إلى ربه. 41 - وجملة قوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} مستأنفة، مسوقة لتعليل عدم السؤال. والسيماء: العلامة، كما سيأتي؛ أي: يعرف المشركون يومئذٍ بعلاقاتهم، وهي سواد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[42]

الوجوه، وزرقة العيون، وقيل: بما يعلوهم من الكآبة والحزن، كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك، وقرأ حماد بن أبي سليمان {بسيمائهم} بالمد, والجمهور {بِسِيمَاهُمْ} بالقصر. {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي} جمع ناصية (¬1). وهي مقدم الرأس، والمراد هنا: شعرها، والجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل. {وَالْأَقْدَامِ} جمع قدم. يقال: أخذه إذا كان المأخوذ مقصودًا بالأخذ، ومنه: قوله تعالي: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}، ونحوه. وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئًا من ملابسات المقصود بالأخذ. ومنه: قوله تعالى: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}، وقول المستغيث: خذ بيدي أخذ الله بيدك. والمعنى: تأخذ الملائكة بنواصيهم؛ أي: بشعور مقدم رؤوسهم، وأقدامهم، فيقذفونهم في النار, أو تسحبهم الملائكة إلى النار تارةً تأخذ بالنواصي، وتجرهم على وجوههم، أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم. 42 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)} من المواعظ والزواجر، فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب، وتضطرب لهوله الأحشاء. والمعنى (¬2): أي يعرف المجرمون حينئذٍ بعلامات يمتازون بها عن سواهم، فلا حاجة حينئذٍ إلى السؤال والجواب؛ لأنَّ السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه، ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات في الدنيا، فأنشأت الحكومات إدرات خاصة لعلامات المشتبه في سلوكهم, ومعتادي الإجرام فتأخذ إبهاماتهم, وتحفظها في أضابير خاصة بهم. ولكل امرىء خطوط في إبهامه، لا تشابه خطوط غيره فيه، ولا يحصل فيها التباس، فمتى أحدث أحدهم حدثًا، وجاء بجرم روجع ملفه الخاص, واستخرجت صورة إبهامه من ملفه، وطبقت على الصورة الخارجية، ولاقى في المحاكم ما يستحقه من عقاب. والخلاصة: أنّ لكل امرىء أحوالًا تخصه في جسمه، وعقله، وأخلاقه. يعرف الناس منها الآن قليلًا، وبقية علمها عند الله تعالى، يعلمها ملائكته يوم القيامة، فيعرفون المجرمين بها. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[43]

ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي، وأخرى بأخذ الأقدام. روي عن الضحاك: أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، ثم يكسر ظهره، ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبًا بالناصية، وبعضهم سحبًا بالقدم، ولا نجزم بشيء من ذلك إلا بالنص القاطع، وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة، والإذلال، والنكال. 43 - ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: {هَذِهِ} النار التي تلقون فيها الآن {جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}؛ أي: جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، فها أنتم الآن قد شاهدتموها، ورأيتموها رأي العين. فذوقوا عذابها، وهذه الجملة مستأنفة (¬1) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل: يقال لهم: هذه جهنم تقريعًا لهم، وتوبيخًا. 44 - وجملة قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا}؛ أي: بين جهنم، فتحرقهم {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} فتصب على وجوههم. حال من المجرمين أو مستأنفة؛ أي: يدورون بين النار، يحرقون بها، وبين حميم آن؛ أي: ماء بالغ من الحرراة أقصاها ونهايتها، يصب عليهم أو يسقون منه؛ أي: يطوفون من النار إلى الحميم، ومن الحميم إلى النار دهشًا وعطشًا أبدًا. والحميم: الماء الحار. والآني الذي قد انتهى حره، وبلغ غايته، من أنى يأني فهو آنٍ. مثل: تضى يقضي فهو قاض. قال أبو الليث: يسلط عليهم الجوع، فيؤتى بهم إلى الزقوم التي طلعها كرؤوس الشياطين، فأكلوا منها، فأخذت في حلوقهم، فاستغائوا بالماء، فأوتوا به من الحميم. فإذا قربوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم، ويشربون، فتغلي أجوافهم، ويخرج جميع ما فيها. ثم يلقى عليهم الجوع، فمرة يذهب بهم إلى الجحيم، ومرة إلى الزقوم، وقيل: هو واد من أودية جهنم، يجمع فيه صديد أهل النار، فيغمسون فيه، 45 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)} فإنَّ من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف، وما يحصل به من الترغيب في الخير، والترهيب من الشر. فإن قلت (¬2): هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} إلى هنا ليست نعمًا، فكيف عقبها بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}؟ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

قلت: المذكور في هذه الآيات مواعظ، وزواجر، وتخويف. وكل ذلك نعمة من الله تعالى, لأنها تزجر العبد عن المعاصي، فصارت نعمًا. فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. وقرأ عليٌّ، والسلميّ (¬1): {يطافون}. والأعمش، وطلحة، وابن مقسم {يُطوِّفون} بضم الياء، وفتح الطاء، وكسر {الواو} مشدّدة. وقرىء {يطوفون} أصله: يتطوفون. وقرأ الجمهور {يَطُوفُونَ} مضارع طاف الثلاثي. الإعراب {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}. {الرَّحْمَنُ (1)} مبتدأ، وجملة {عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} خبره. وقد تعددت الأخبار في الأفعال التي وردت خالية من العاطف على نمط التعديد وإقامة الحجة على الكافرين. وهذا عند من لا يرى {الرَّحْمَنُ (1)} آية. ومن عدّها آية أعرب {الرَّحْمَنُ (1)} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الله الرحمن أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي. الرحمن ربّنا. و {عَلَّمَ} يتعدّى إلى مفعولين، حذف أولهما لشموله؛ أي: علم من يتعلم. وهذا أولى من تخصيص المفعول الأول المحذوف بواحد معين. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة {عَلَّمَ}، على كونها خبر المبتدأ. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} فعل، وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على جملة {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)}. {الشَّمْسُ} مبتدأ، {وَالْقَمَرُ} معطوف عليه، {بِحُسْبَانٍ} خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على جملة قوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}. {وَالنَّجْمُ} الواو: عاطفة، {النَّجْمُ} مبتدأ، {وَالشَّجَرُ} معطوف عليه، وجملة {يَسْجُدَانِ} خبر المبتدأ، وما عطف إليه. والجملة معطوفة على جملة {الرَّحْمَنُ}. {وَالسَّمَاءَ} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسّره المذكور بعد، أي: ورفع السماء. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والجملة معطوفة على جملة {عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}. {رَفَعَهَا} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة مفسّرة، لا محل لها من الإعراب. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}. {أَلَّا} {أن} مصدرية، {لا} نافية، {تَطْغَوْا} فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، والواو: فاعل. والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدّرة، الجار والمجرور متعلق بـ {وضع}، على كونه مفعولًا لأجله؛ أي: وضع لأجل عدم طغيانكم. ويجوز أن تكون {أن} مفسّرة، و {لا} ناهية، و {تَطْغَوْا} مجزوم بـ {لا} الناهية. فإن قيل: إنَّ من شرط المفسرة أن تكون مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه. قلنا: إنّ {وَضَعَ الْمِيزَانَ} يستدعي كلامًا من الأمر بالعدل فيه. {فِي الْمِيزَانِ} متعلقان بـ {تَطْغَوْا}. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}. {وَأَقِيمُوا} {الواو}: عاطفة، {أَقِيمُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، {الْوَزْنَ} مفعول به، {بِالْقِسْطِ} حال من الوزن؛ أي: أقيموه حال كونه متلبسًا بالقسط والعدل. والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا}. {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا} ناهية، {تُخْسِرُوا} فعل، وفاعل، مجزوم بلا الناهية، {الْمِيزَانَ} مفعول به. والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَالْأَرْضَ} الواو: عاطفة، {الْأَرْضَ} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: ووضع الأرض. والجملة معطوفة على جملة {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}. {وَضَعَهَا} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، {لِلْأَنَامِ} متعلق به والجملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. {فِيهَا} خبر مقدم, {فَاكِهَةٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب، حال من الأرض. {وَالنَّخْلُ} معطوف على فاكهة، {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} صفة لـ {النَّخْلُ}، {وَالْحَبُّ} معطوف على {فَاكِهَةٌ}، {ذُو الْعَصْفِ} صفة لـ {الْحَبُّ}، {وَالرَّيْحَانُ} معطوف على {فَاكِهَةٌ} أيضًا. هذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة النصب، فالثلاثة منصوبة بفعل محذوف، تقديره: خلق. {فَبِأَيِّ آلَاءِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من النعم،

وأردتم تذكيركم وتنبيهكم فأقول لكم: بأيّ آلاء ربكما. {بأي} جار ومجرور، متعلق بـ {تُكَذِّبَانِ}، {أيّ} مضاف {آلَاءِ} مضاف إليه، {آلَاءِ} مضاف، {رَبِّكُمَا} مضاف إليه، {تُكَذِّبَانِ} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، وألف التثنية فاعل، والخطاب للثقلين: الإنس والجن. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. والاستفهام فيه للتقرير. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)}. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} فعل، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول به، {مِنْ صَلْصَالٍ} متعلق بـ {خَلَقَ}، {كَالْفَخَّارِ} صفة لصلصال. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتوبيخهم على إخلائهم بواجب شكر المنعم على إنعامه. {وَخَلَقَ الْجَانَّ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}. {مِنْ مَارِجٍ} متعلق بـ {خَلَقَ}، و {مِنْ} لابتداء الغاية، {مِنْ نَارٍ} صفة لـ {مَارِجٍ}، و {مِنْ} للبيان أو للتبعيض. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعراب هذه الآية آنفًا. {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو رب المشرقين، {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} معطوف عليه، والجملة مستأنفة. وقيل: هو مبتدأ, خبره جملة {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}. والأوّل أولى. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} فعل ماض, وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. وجملة {يَلْتَقِيَانِ} في محل النصب حال من البحرين. وهي قريبة من الحال المقدرة. ويجوز أن تكون مقارنة. {بَيْنَهُمَا} ظرف, ومضاف، متعلق بمحذوف، خبر مقدم، {بَرْزَخٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب، حال من الضمير في {يَلْتَقِيَانِ}، أو مستأنفة. {لَا} نافية، {يَبْغِيَانِ} فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب حال ثانية من فاعل {يَلْتَقِيَانِ}. ومعنى {لَا يَبْغِيَانِ} كل منهما لا يتعدى حدوده. فالعذب منفرد بعذوبته, والملح منفرد بملوحته. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدّم إعرابها. {يَخْرُجُ} فعل مضارع، {مِنْهُمَا} متعلق بـ {يَخْرُجُ}، {اللُّؤْلُؤُ} فاعل، {وَالْمَرْجَانُ} معطوف عليه. والجملة مستأنقة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدّم إعرابها.

{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}. {وَلَهُ} {الواو}: استئنافية، {له} خبر مقدم، {الْجَوَارِ} مبتدأ موخر، مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل؛ لأنّه اسم منقوص، وحذفت الياء خطًّا تبعًا لرسم المصحف العثماني. والجملة مستأنفة. {الْمُنْشَآتُ} صفة لـ {الْجَوَارِ}، {فِي الْبَحْرِ} متعلق بـ {الْمُنْشَآتُ}. {كَالْأَعْلَامِ} حال من الجوار أو من الضمير في {الْمُنْشَآتُ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدّم إعرابها. {كُلُّ} مبتدأ، {مَنْ} اسم موصول، في محل الجر مضاف إليه، {عَلَيْهَا} جار ومجرور، صلة لمن الموصولة. {فَانٍ} خبر {كُلُّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلّص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَيَبْقَى} الواو: عاطفة، {يَبْقَى} فعل مضارع، {وَجْهُ رَبِّكَ} فاعل، ومضاف إليه. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية {ذُو} صفة: لـ {وَجْهُ}، {الْجَلَالِ} مضاف إليه، {وَالْإِكْرَامِ} معطوف على الجلال. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {يَسْأَلُهُ} فعل مضارع، ومفعول أوّل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: يسأله من في السموات المغفرة لأهل الأرض، ومن في الأرض المغفرة والرزق. {مَنْ} اسم موصول، فاعل، {فِي السَّمَاوَاتِ} صلته، {وَالْأَرْضِ} معطوف على السماوات. والجملة مستأنفة. ولك أن تجعله حالًا من {وَجْهُ}، والعامل فيه {يَبْقَى}؛ أي: يبقى وجه ربّك حال كونه مسؤولًا لأهل السموات والأرض. {كُلَّ يَوْمٍ} ظرف، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر هو، و {هُوَ} مبتدأ {فِي شَأْنٍ} خبره. والجملة مستأنفة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدّم إعرابها. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}. {سَنَفْرُغُ} السين: حرف استقبال، {نفرغ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود

على الله، {لَكُمْ} متعلق بـ {نفرغ}. والجملة مستأنفة. مسوقة للتهديد والوعيد. {أَيُّهَ} {أيّ} منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، والهاء: حرف تنبيه، زائد تعويضًا عمّا فات أيّ من الإضافة، مبنيّ بسكون على الألف المحذوفة لفظًا لالتقاء الساكنين، وخطًّا تبعًا لرسم المصحف العثماني. {الثَّقَلَانِ} بدل من "أيّ". وجملة النداء جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} {يَا} حرف نداء، {معشر الجن} منادى مضاف، {وَالْإِنْسِ} معطوف على {الْجِنِّ} وجملة النداء مستأنفة. {إِنِ} حرف شرط، {اسْتَطَعْتُمْ} فعل، وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {أَنْ} حرف نصب ومصدر، {تَنْفُذُوا} فعل مضارع، وفاعل، منصوب بـ {أَنْ}. والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن استطعتم نفوذكم من أقطار السموات والأرض. {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} متعلق بـ {تَنْفُذُوا} {فَانْفُذُوا} الفاء: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، وجملة {إن} الشرطية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {لا} نافية، {تَنْفُذُونَ} فعل مضارع مرفوع، والواو: فاعل، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {بِسُلْطَانٍ} متعلق بـ {تَنْفُذُونَ}، والجملة مستأنفة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}. {يُرْسَلُ} فعل مضارع، مغيّر الصيغة، {عَلَيْكُمَا} متعلق بـ {يُرْسَلُ}، {شُوَاظٌ} نائب فاعل، {مِنْ نَارٍ} صفة لـ {شُوَاظٌ}، {وَنُحَاسٌ} بالرفع معطوف على {شُوَاظٌ}. وقرىء بالجرّ عطفًا على {نَارٍ}، ولكنه على حذف موصوف، أي: وشيء من نحاس، والجملة الفعلية مستأنفة، {فَلَا} الفاء: عاطفة، و {لا} نافية، {تَنْتَصِرَانِ} فعل مضارع، مرفوع بالنون، والألف فاعل. والجملة معطوفة على جملة {يُرْسَلُ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {فَإِذَا} الفاء: استئنافية، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها, {فَكَانَتْ} الفاء: عاطفة،

{كانت} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على السماء، {وَرْدَةً} خبرها، {كَالدِّهَانِ} صفة لـ {وَرْدَةً}، أو خبر ثان لكان أو حال من اسم {كانت}. وجملة {كانت} معطوفة على جملة {انْشَقَّتِ}، وجواب إذا محذوف، تقديره: رأيت أمرًا عظيمًا، وأهوالًا هائلة، وجملة إذا مستأنفة، أو الجواب جملة قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {فَيَوْمَئِذٍ} الفاء: استئنافية، أو رابطة لجواب إذا الشرطية جوازًا، {يومَ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {يُسْأَلُ} الآتي، {ويوم} مضاف، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر، مضاف إليه، بنيّ بسكون مقدّر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلّص من التقاء الساكنين، {لَا} نافية، {يُسْأَلُ} فعل مضارع، مغير الصيغة، {عَنْ ذَنْبِهِ} متعلق بـ {يُسْأَلُ}، {إِنْسٌ} نائب فاعل، {وَلَا جَانٌّ} معطوف عليه. والجملة الفعلية مستأنفة. أو جواب إذا، لا محل لها من الإعراب. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}. {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ} فعل، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة. {بِسِيمَاهُمْ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {يُعْرَفُ}. والجملة مستأنفة، {فَيُؤْخَذُ} الفاء: عاطفة، {يؤخذ} فعل مضارع، مغير الصيغة، {بِالنَّوَاصِي} جار ومجرور، في محل الرفع، نائب فاعل، لـ {يؤخذ}، {وَالْأَقْدَامِ} معطوف على النواصي. والجملة معطوفة على جملة {يُعْرَفُ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها. {هَذِهِ جَهَنَّمُ} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {الَّتِي} صفة لجهنم، {يُكَذِّبُ} فعل مضارع، {بِهَا} متعلق بـ {يُكَذِّبُ}، {الْمُجْرِمُونَ} فاعل لـ {يُكَذِّبُ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {يَطُوفُونَ} فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من المجرمين، أو مستأنفة. {بَيْنَهَا} ظرف متعلق بـ {يَطُوفُونَ}، {وَبَيْنَ حَمِيمٍ} ظرف، ومضاف إليه، معطوف على بينها، و {آنٍ} صفة لـ {حَمِيمٍ}، مجرور، وعلامة جرّه كسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل. لأنّه اسم منقوص نظير قاض. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابها.

التصريف ومفردات اللغة {الرَّحْمَنُ (1)} اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} والإنسان هو هذا النوع المعرّف بالحيوان الناطق. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} والبيان في اللغة: هو المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير. وفي الاصطلاح: أحد فنون البلاغة الثلاثة، وهو يبحث في التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية، وقد تقدمت أمثلتها من القرآن في هذا الكتاب غير ما مرّة، وقال الراغب: البيان: هو الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق؛ لأنّ النطق مختص بالإنسان، وسمي الكلام بيانًا لكشفه عن المعنى المقصود، وإظهاره، انتهى. والمراد بالبيان هنا تعبير الإنسان عمّا في ضميره، وإفهامه لغيره. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}؛ أي: يجريان بحساب دقيق منظم، والحساب يجوز فيه وجهان. أحدهما: كونه مصدرًا بمعنى الحساب كالغفران، والكفران، والشكران، والرجحان. يقال: حسبه إذا عده، وبابه نصر حسابًا بالكسر، وحسبانًا بالضم. وأما الحسبان بالكسر فمصدر بمعنى الظن، من حسب بالكسر بمعنى ظن. والثاني: أنه جمع حساب كشهاب وشهبان، ورغيف ورغفان. {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ} والنجم: ما ليس له ساق قويّ، ولا يدوم فوق سنة أو سنتين كالزروع من الحنطة، والشعير، ونحوهما، وسائر العشب، والبقول، والأبازير. وأصل النجم الطلوع، يقال: نجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء. وقيل: المراد به: نجم السماء، وحده وأراد به جميع النجوم. والمراد بسجوده: أفوله من جانب الغرب. والشجر: ما له ساق قوي، ويدوم أكثر من سنتين فما فوق كالنخل، والمشمش، والتفاح، والتين، والزيتون. {يَسْجُدَانِ}؛ أي: ينقادان لله طبعًا كما ينقاد المكلفون اختيارًا. {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}؛ أي: خلقها مرفوعة المحل والمرتبة. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}؛ أي: أثبت العدل, وشرعه، وأوجبه. والميزان: العدل في النظام. وأصله: الموزان, لأنه من وزن فهو مفعال من الوزن، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}

أصله: تطغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} أصله: وأقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وفي "المفردات": الوزن: معرفة قدر الشيء. والمتعارف في الوزن عند العامّة ما يقدر بالقسطاس والقبان. {بِالْقِسْطِ}؛ أي: اجعلوه مستقيمًا بالعدل، وقال أبو عبيدة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب. {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} يقال خسرت الشيء بالفتح، وأخسرته نقصته، وبابه ضرب. وأما خسر في البيع فبالكسر كما في "المختار". وقال في "القاموس": خسر كفرح، وضرب ضل. والخسر والإخسار: النقص؛ أي: لا تنقصوه. لأن من حقه أن يسوى. لأنه المقصود من وضعه. فائدة: والفرق بين الطغيان والإخسار والقسط أن الطغيان: أخذ الزائد، والإخسارة إعطاء الناقص، والقسط: التوسط بين الطرفين المذمومين، اهـ كرخي. {لِلْأَنَامِ}؛ أي: لمنافع الأنام. وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق والجن، والإنس مما على الأرض، كما في "القاموس". {فِيهَا فَاكِهَةٌ} والفاكهة: كل ما يتفكه به الإنسان من الثمار. {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} والأكمام: جمع كم بالكسر. وهو وعاء الزهرة قبل التفتق، وفي "الصحاح": والكم بالكسر والكمامة: وعاء الطلع، وغطاء النور، والجمع كمام، وأكمة، وأكمام، وأكاميم أيضًا والكمام بالكسر والكمامة أيضًا: ما يكم به فم البعير لئلا يعض. بقال منه: بعير مكموم؛ أي: محجوم، وتكممت الشيء غطيته. والكم: ما ستر شيئًا، وغطاه، ومنه: كم القميص بالضم. والجمع كمام، وكممة. والكمة: القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} والحب: كل ما يتغدى به، ويقتات كالحنطة والشعير ونحوهما. والعصف: ورق الزرع أو ورق النبات اليابس. وقيل: ورق النبات على السنبلة كالتبن. وقيل: العصف: كل ما يعصف فيؤكل من الزرع. وقيل: ورق كل شيء يخرج منه الحب. {وَالرَّيْحَانُ} والريحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات. وقال في "المفردات": الريحان: كل ما له رائحة. وقيل: الرزق، ثم يقال

للحب المأكول ريحان كما في قوله: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ}. وقيل: للأعرابيّ: إلى أين؟ قال: أطلب ريحان الله؛ أي: رزقه. والأصل: ما ذكرنا، انتهى. والريحان عند الفقهاء: ما لساقه رائحة طيبة كما لورقه. كالآس. والورد: ما لورقه رائحة طيبة نقط، كالياسمين. كذا في المغرب. قال ابن الشيخ: الريحان: كل بقلة طيبة الرائحة، سميت ريحانًا لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة؛ أي: يشم، يقال: راح الشيء يراحه، وبرحيه، وأراح الشيء يريحه إذا وجد ريحه، والريحان في الأصل: ريوحان كفيعلان، من روح، فقلبت الواو ياء وأدغم، ثم خفف بحذف عين الكلمة كما في ميت، أو كفوعلان قلبت واوه ياء للتخفيف أو للفرق بينه وبين الروحان. وهو ما له روح. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا} الآلاء جمع إلى بكسر الهمزة وسكون اللام، كحمل وأحمال وأجمع ألى بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال أو جمع إلى كمعي وأمعاء، أو جمع ألى كعصي. أربع لغات. أصله: أألا أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، وأبدلت الهمزة الساكنة الثانية حرف مد لوقوعها إثر فتح، فصار آلاء. وتكرار هذه الآية في هذه السورة لطرد الغفلة، وتأكيد الحجة، وتذكير النعمة، وتقريرها. كما في قوله: لَا تَقْطَعَنَّ الصَّدِيْقَ مَا طَرَفَتْ ... عَيْنَاكَ مِنْ قَوْلٍ كَاشِحٍ أَشِرِ وَلاَ تَمَلَّنَّ مِنْ زَيارَتهِ ... زُرْهُ وَزُرْهُ زُرْ ثمَّ زُرْ وَزُرِ {صَلْصَالٍ} والصلصال: الطين اليابس له صلصلة؛ أي: صوت ليبسه إذا نقر. {كَالْفَخَّارِ} الفخار: الخزف. وهو الطين المطبوخ بالنار كالآجر. {الْجَانَّ} أبو الجنّ. وأل فيه للجنس. {مِنْ مَارِجٍ} المارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: هو المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب، واختلط. {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ}؛ أي: مشرقي الشمس صيفًا وشتاءً. {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مغربيهما كذلك. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: أرسلهما، وأجراهما من قولك: مرجت الدابة في المرعى؛ أي: أرسلتها فيه. وقيل: معنى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: خلطهما العذب والملح في مرأى العين. ومع ذلك لا يتجاوز أحدهما على الآخر، وأصل المرج: الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. وفي "المصباح": والمرج أرض ذات نبات

ومرعى، والجمع مروج. مثل: فلس وفلوس، ومرجت الدابة تمرج مرجًا من باب قتل رعت في المرج ومرجتها مرجًا أرسلتها ترعى في المرج يتعدى، ولا يتعدى. {يَلْتَقِيَانِ}؛ أي: يتجاوزان، وتتماس سطوحهما، لا فصل بينهما في رأي العين. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ}؛ أي: حاجز. والبزرخ: الحائل بين الشيئين، وجمعه برازخ. ومنه: سمي القبر برزخًا؛ لأنه بين الدنيا والآخرة، وقيل للوسوسة: برزخ الإيمان. لأنها طائفة بين الشك واليقين. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} واللؤلؤ: الدر المخلوق في الأصداف، والمرجان: الخرز الأحمر. وهو اسم أعجمي معرب. وقيل: عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف. وقال في "خريدة العجائب": اللؤلؤ يتكوَّن في بحر الهند وفارس. والمرجان ينبت في البحر كالشجر، وإذا كلس المرجان عقد الزئبق، فمنه: أبيض، ومنه: أحمر، ومنه: أسود، وهو يقوي البصر كحلًا، وينشف رطوبة العين. انتهى. وقيل: اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره. {الْجَوَارِ} السفن الكبار، جحع جارية. {الْمُنْشَآتُ}؛ أي: المصنوعات. {كَالْأَعْلَامِ} الجبال، واحدها علم، وهو الجبل العالي كما في قول الخنساء: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كأنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} أصله: فاني، أستثقلت الضمة على الياء ثم حذفت فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء لبقاء دالها وهو كسرة النون، فصار فان. {وَيَبْقَى} فيه إعلال بالقلب. أصله: يبقى بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}، أي: يطلبون منه ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثًا وبقاءً، وفي سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال، {هُوَ فِي شَأْنٍ}؛ أي: في أمر من الأمور، فيحدث أشخاصًا، ويجدد أحوالًا. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}؛ أي: سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة. والمراد: التوفر على الجزاء والانتقام منهما. قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من الشغل، والآخر: القصد إلى الشيء، والإقبال عليه كما هنا اهـ. {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} قال الراغب: الثقل والخفة متقابلان، وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به. يقال: هو ثقيل. وأصله في الأجسام، ثم يقال في المعاني، أثقله الغرم،

الوزر، انتهى. والمراد هنا: الإنس والجن. سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض، يعني: أنهما شبهًا بثقل الدابة، وهو تثنية ثقل بفتحتين فعل بمعنى مفعل، لأنهما أثقلا الأرض أو بمعنى مفعول؛ لأنهما أثقلا بالتكاليف؛ أي: أتعبا، اهـ شيخنا. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} والمعشر: الجماعة العظيمة، سميت به لبلوغه غاية الكثرة، فإن الشر هو الحدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد، تقول: أحد عشر، واثنا عشر وعشرون وثلاثون؛ أي: اثنتا عشرات وثلاث عشرات. فإذا قيل: معشر فكأنه قيل: محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة. {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} أصله: استطوعتم، بوزن استفعلت، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها حذفت لما التقت ساكنة بآخر الفعل المسكن، لمناسبة إسناد الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك. {أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال في "القاموس": النفاذ: جواز الشيء عن الشيء، والخلوص منه كالنفوذ. ومخالطة السهم جوف الرمية، وخروج طرفه من الشق الآخر، وسائره فيه كالنفذ ونفذهم جازهم وتخلفهم، كأنفذهم، والنافذ الماضي في جميع أموره, انتهى. الأقطار: جمع قطر. وهو الناحبة. يقال: طعنه فقطره، إذا ألقاه على أحد قطريه. وهما جانباه. {بِسُلْطَانٍ}؛ أي: بقوة، وقهر، وغلبة. {شُوَاظٌ} الشواظ بضم الشين وكسرها. قال أبو عبيدة: هو اللهب الخالص الذي لا دخان فيه. {وَنُحَاسٌ} والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه قال النابغة الذبياني: تُضِيء كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِيْـ ... ـطِ لَمْ يَجْعَلِ الله فِيْهِ نُحَاسَا وقيل: النحاس: الصفر المذاب، يصب على رؤوسهم. {فَلَا تَنْتَصِرَانِ}؛ أي: فلا تمتنعان من الله، ولا يكون لكما منه ناصر. {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ}؛ أي: انصدعت، وانفك بعضها من بعض. {فَكَانَتْ وَرْدَةً}؛ أي: كوردة حمراء في اللون. وهي الزهرة المعروفة التي تشم. والغالب على الورد الحمرة، قال الشاعر: وَلَوْ كُنْتُ وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْتنِيْ ... وَلَكِنَّ رَبِّيْ شَانَنِي بِسَوَادِيَا {كَالدِّهَانِ} إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالإدام لما يؤتدم به كما مر. وقيل: هو الأديم الأحمر.

{بِسِيمَاهُمْ} السيما بالكسر والقصر، والسيماء بالكسر والمد: العلامة، وزنه عفلي بتقديم عين الكلمة على فائها. لأنه من الوسم، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. فالأصل: وسمي، ثم صار سومي، ثم صار سيمي. ففيه قلب مكاني، وقلب حرفي، {بِالنَّوَاصِي} جمع ناصية. وهو مقدم الرأس، والمراد هنا: شعرها. {يَطُوفُونَ} أصله: يطوفون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. {آنٍ} وزنه فاع لحذف لامه بسبب التقاء الساكنين. لأنه من أنى يأني، مثل: قضى يقضي فهو قاض إذا انتهى. في الحر والفيح. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الحذف إفادة للعموم في قوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} فقد حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه؛ لأنَّ النعمة في التعليم، لا في تعليم شخص دون شخص. كما يقال: فلان يطعم إشارة إلى كرمه، ولا يبين من أطعمه. ومنها: الإيهام في قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} وهو عبارة عن إتيان المتكلم بكلام يوهم أنه أراد بالكلمة معنى يناسب ما قبلها، أو ما بعدها مع أنه ليس مرادًا له؛ فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم أحد نجوم السماء مع أن المراد به: النبت الذي لا ساق له. ومنها: الجناس بين النجم والشجر. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}، وقوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}، وكذلك المقابلة بين {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ}، وبين {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}. ومنها: تكرير لفظ {الْمِيزَانَ} في قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} تشديدًا للتوصية به، وتأكيدًا للأمر باستعماله، والحث عليه.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} لأن الوضع حقيقة في الترك, فاستعاره للتشريع. فاشتق من الوضع بمعنى التشريع وضع بمعنى شرع على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: ذكر الخاص في قوله: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} بعد العام في قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} إظهارًا لمزيته لما فيه من كثير الفوائد، كما مرّ. ومنها: التكرير في قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} تقريرًا للنعم المعدودة، وتأكيدًا في التذكير بها كلها. ومنها: الجناس المماثل بين الوزن والميزان في قوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} لأنّه على تقدير لام العلة؛ أي: لئلا تطغوا. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)}؛ أي: كالجبال في العظم. فقد ذكر أداة الشبه، وحذف وجه الشبه. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؛ أي: ذاته. فإنه من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: المقابلة بين الفناء والبقاء اللذين هما ضدان في قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} ويسمى هذا فن الافتنان، وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بفنين إما متضادين كما هنا أو مختلفين أو متفقين، وقد جمع سبحانه بين التعزية والفخر إذ عَزّى جميع المخلوقات، وتمدح بالانفراد بالبقاء بعد فناء الموجودات مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} حيث شبه انتهاء الدنيا، وما فيها من تدبير شؤون الخلق بالأمر والنهي، والإماتة، والإحياء، والمنع، والإعطاء، ومجيء أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، وبقاء شأن واحد. وهو محاسبة الإنس والجن بفراغ من

يشغله شأن عن شأن على سبيل التمثيل. لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} لأن الثقل الذي هو مفرد الثقلين حقيقة في حمل الدابة، قال ابن الشيخ: شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال، وجعل الجن والإنس أثقالًا محمولة عليها. ومنها: الأمر التعجيزي في قوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} {فَانْفُذُوا} فالأمر فيه أمر تعجيز. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}؛ أي: كالوردة في الحمرة حذف وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} حيث شبه تلون السماء حال انشقاقها بالوردة، وشبهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن، واختلاف ألوانه. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {وَنُحَاسٌ} حيث استعاره للدخان مع أنه حقيقة في الصفر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}. المناسبة قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ...} الآيات, مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر (¬1) ما يراه المشركون بربّهم والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال من إرسال الشواظ من النار عليهم، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام إهانة لهم واحتقارًا، ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآني الذي يشوي الوجوه .. ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشي ربه، وراقبه في السر والعلن، من جنات متشابهة الثمار، والفواكه تجري من تحتها الأنهار جناها دان لمن طلبه وأحب نيله يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن، وهن كالياقوت صفاء، واللؤلؤ بياضًا. وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل، وما أسلفوا في الأيام الخالية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. ¬

_ (¬1) المراغي.

[46]

قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ...} الآيات إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنها تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها ليعملوا ما يوصلهم إليها، ويرضي ربهم عنهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أسباب النزول قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} الآية، سبب نزولها (¬1): ما روي عن ابن الزبير رضي الله عنه: أنه قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين شرب لبنًا على ظمأ، فأعجبه، ثم أخبر أنه من غير حل فاستقاء، فقال - صلى الله عليه وسلم - سمعه: "رحمك الله، لقد أنزلت فيك آية". يعني: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}. ودخل فيها كل من يهم بالمعصية، فيذكر الله، فيدعها من مخافة الله تعالى. ذكره في "عين المعاني". التفسير وأوجه القراءة 46 - ولما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم. فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}؛ أي: موقف ربه سبحانه. وهو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}. فالإضافة للاختصاص الملكي، إذ لا ملك يومئذٍ إلا لله تعالى. والمقام: اسم مكان كما فسرناه، أو مصدر ميمي؛ أي: خاف قيامه بين يدي ربه، وجزاءه على الأعمال خيرًا أو شرًا. وقيل: المعنى (¬2): خاف قيام ربه عليه. وهو إشرافه على أحواله, واطلاعه صلى أفعاله وأقواله, كما في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. قال مجاهد، والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه. والمعنى (¬3): أي ولمن خشي ربه، وراقبه في أعماله، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فإذا هو هم بمعصية ذكر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[47]

الله، وأنه عليم بسره ونجواه، فتركها مخافة عقابه وشديد حسابه، فعل الخير وأحب الخير للناس. {جَنَّتَانِ} جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس، وجمال الملكوت، ورضا الله عنه {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. وجنة جسمانية بمقدار ما عمل في الدنيا من خير، وقدم من صالح عمل. 47 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)}؛ أي: بأي نعم ربكما أيها الثقلان تنكران، فإثابته المحسن منكم بما وصف، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى والمنن الكبرى. واختلف في الجنتين (¬1)، فقال مقاتل: يعني: جنّة عدن، وجنّة النعيم. وقيل: إحداهما التي خلقت له، والأخرى التي ورثها. وقيل: إحداهما: منزله، والأخرى: منزل أزواجه. وقيل: إحداهما: أسافل القصور، والأخرى: أعاليها. وقيل: جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني على طريق التوزيع. فإن الخطاب للفريقين، والمعنى: لكل خائفين منكما جنة. وفيه (¬2) نظر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مؤمني الجن لهم ثواب، وعليهم عقاب، وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد، هم على الأعراف حائط الجنة، تجري فيه الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار". يقول الفقير: قد سبق في أواخر الأحقاف أن المذهب أن الجن في حكم بني آدم ثوابًا وعقابًا؛ لأنهم مكلفون مثلهم، وإن لم نعلم كيفية ثوابهم. فارجع إلى التفصيل في تلك السورة. وقيل: جنة لعقيدته التي يعتقدها، وأخرى لعمله الذي يعمله. أو جنة لفعل الطاعات، وأخرى لترك المعاصي. أو جنة يثاب بها، وأخرى يتفضل بها عليه. وهذا ما جاء مثنى بعد. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله تعالى. فإن الله يقول: {جَنَّتَانِ} ويصفهما بقوله: {فِيهِمَا} إلخ. 48 - {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} صفة لجنتان (¬3)، وما بينهما اعتراض وسط تنبيهًا على أن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[49]

تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ. و {ذَوَاتَا} تثنية ذات بمعنى صاحبة. والأفنان جمع فنّ. وهو النوع من كل شيء، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار. أو جمع فنن. وهو الغصن المستقيم طولًا أو الذي يتشعب من فروع الشجرة؛ أي: ذواتا أغصان متشعبة من فروع الشجرة، وتخصيصها بالذكر؛ لأنها التي تورق، وتثمر، وتمد الظل، وتجتنى منها الثمار. يعني: أن في الوصف تذكيرًا لها على سبيل الكناية، كأنّه قيل: ذواتا أوراق وأثمار وأظلال. وقيل (¬1): معنى {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)}: ذواتا فضل وسعة على ما سواهما, قاله قتادة. وقيل: الأفنان: ظل الأغصان على الحيطان، روي هذا عن مجاهد، وعكرمة. 49 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)} فإن كل واحد منهما .. ليس بمحل لتكذيب، ولا بموضع للإنكار. 50 - {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} صفة أخرى لجنتان، فصل بينهما بقوله: {فبأيّ ...} إلخ، مع أنه لم يفصل به بين الصفات الكائنة من قبيل العذاب، حيث قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} مع أن إرسال النحاس غير إرسال الشواظ. أي: في كل واحدة من الجنتين عين جارية من ماء غير آسن، وعين من خمر لذة للشاربين، قاله عطية. وقال الحسن: إحداهما السلسبيل، والأخرى التسنيم تجريان، وتسيلان، وتسقيان تلك الأشجار والأغصان. وقال (¬2) أبو بكر الوراق رحمه الله: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عزَّ وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبها، وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها. وقيل: كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافًا مضاعفة. 51 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)} فإنَّ من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة. 52 - {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)}؛ أي: صنفان رطب ويابس، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذّة وطيبًا، بخلاف ثمار الدنيا؛ فإنّ الطازج فيها ألذ طعمًا وأشهى مأكلًا. وقيل: صنفان معهود وغريب، لم يره أحد، ولم يسمع به. وقيل: صنفان حلو وحامض. وقيل: لونان. وقيل: صنفان في المنظر دون المطعم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[53]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في الدنيا حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنّة، حتى الحنظلة، إلا أنه حلو؛ لأن ما في الجنة خلق من حلاوة العبادة والطاعات، فلا يوجد فيها المر المخلوق من مرارة السيئات كزقوم جهنم، ونحوه. ولكون الجنة دار الجمال لا يوجد فيها اللون الأسود أيضًا, لأنه من أثار الجلال. وهذه الجملة صفة ثالثة لجنتان. 53 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)}؛ أي: من هذه النعم اللذيذة. فإن في مجرد تعداد هذه النعم، ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير، والترهيب من فعل الشر، ما لا يخفى على من يفهم. وذلك نعمة عظمى، ومنة كبرى. فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه. 54 - وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم، فقال: {مُتَّكِئِينَ} حال من فاعل قوله: {وَلِمَنْ خَافَ}. وإنما جمع حملًا على معنى {من}. وقيل: عاملها محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين جالسين جلوس المتمكن المستريح. والمعنى: يحصل لهم جنتان متكئين؛ أي: جالسين جلسة الملوك، جلوس راحة ودعة معتمدين {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش بالكسر. وهو ما يفرش، ويبسط، ويستمهد للجلوس والنوم. {بَطَائِنُهَا} ما يلي الأرض منها. جمع بطانة. وهي بالكسر من الثوب خلاف ظهارته. قال الزجاج: هي هنا ما يلي الأرض من الفرش. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ من ثياب الحرير. وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر. قيل لسعيد بن جير: البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال: هذا مما قال الله فيه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. قيل: إنما اقتصر على البطائن؛ لأنّه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق، وظهائرها من نور جامد. وقيل: ظهائرها من سندس. والمعنى: مضطجعين على فرش بطائنها من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها؟ يعني: أنَّ الظهارة أشرف وأعلى. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة". فذكر المنديل دون غيره تنبيهًا بالأدنى على الأعلى.

وقرأ الجمهور (¬1): {على فُرُش} بضمتين. وأبو حيوة بسكون الراء. وقرأ ورش عن نافع, ورويس عن يعقوب {من استبرق} بحذف الألف وكسر النون لإلقاء حركة الهمزة عليها. والباقون بإسكان النون وكسر الألف وقطعها. وإنما ذكر الإتكاء (¬2)؛ لأنه هيئة تدل على صحة الجسم، وفراغ القلب. إذ العليل لا يستطيع أن يستلقي أو يستند إلى شيء وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}؛ أي: وثمرهما قريب منهم متى شاؤوا. فهي لا تمتنع ممن أرادها، بل تنحط إليه من أغصانها. ومثل الآية قوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}، وقوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}. وجنى (¬3) بفتح الجيم اسم بمعنى المجني كالقبض بمعنى المقبوض. كما قال عليّ رضي الله عنه: هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيْهِ ... وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيْهِ ودان من الدنو. وهو القرب. أصله: دانوا، مثل: غازوا، أي: ما يجتنى من أشجارها من الخمار، قربب يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائمًا، وإن شاء قاعدًا، وإن شاء مضطجعًا. وقال قتادة: لا يرد يده بُعْدٌ ولا شوك. وقرأ الجمهور (¬4): {جَنَى} بفتح الجيم. وقرأ عيسى بن عمر بكسرها. وقرأ عيسى أيضًا بكسر النون مع فتح الجيم، كأنه أمال النون، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ، كما أمال أبو عمرو {حتى نرى الله}. يقول الفقير: إنَّ البعد إنما ينشأ من كثافة الجسم، ولا كثافة في الجنة، وأهلها أجسام لطيفة نورانية في صورة الأرواح. وأيضًا إن الطاعات في الدنيا كانت في مشيئة المطيع، فثمراتها أيضًا في الجنة تكون كذلك. فيتناولها بلا مشقة، بل لا تناول أصلًا فإن سهولة التناول تصوير لسهولة الأكل، فتلك الثمار تقع في الفم بلا أخذ على ما قاله البعض. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[55]

والمعنى (¬1): أي وثمر الجنتين قريب، يناله القاعد والقائم في وقت واحد، ومكان واحد. فإن العجائب كلها من خواص الجنة، فكانت أشجارها دائرة عليهم سائرة إليهم، وهم ساكنون على خلاف ما كان في جنات الدنيا. فإن الإنسان فيها متحرك، ومطلوبه ساكن. والولي قد تصير الدنيا له أنموذجًا من الجنة، فإنه يكون ساكنًا في بيته، ويأتيه الرزق متحركًا إليه، دائرًا حواليه. 55 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)} من هذه الآلاء اللذيذة الباقية، أبقدرة الله تعالى على ثني الأغصان، وتقريب الثمار تنكران أم بغيرها؟. 56 - ثم ذكر أوصاف النساء اللواتي يمتعون بهن، فقال: {فِيهِنَّ}؛ أي: في تلك الجنان المدلول عليها بقوله: {جَنَّتَانِ}. لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين، أو لكل خائف حسب تعدد عمله. وقد اعتبر الجمعية في قوله: {مُتَّكِئِينَ} إذ كل (¬2) فرد فرد له جنتان. فصح أنها جنان كثيرة، وإن كانت الجنتان. أريد بهما حقيقة التثنية، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس، والقصور، والمنازل، وقيل: على الفرش؛ أي: فيهن معدات للاستمتاع. وهو قول حسن، قريب المأخذ. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} من (¬3) إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخفيفًا، ومتعلق القصر محذوف للعلم به، تقديره: على أزواجهن. والمعنى: فيهن نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، وتقول كل منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي، وجعلني زوجك. وقصر الطرف أيضًا من الحياء والغنج، وقد يقال: المعنى: قاصرات طرف غيرهن عليهن؛ أي: إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن لكمال حسنهن. والمعنى (¬4): أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن. وللجنة اعتبارات ثلاثة، فلا تصال أشجارها، وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراح.

واحدة، ولاشتمالها على النوعين ما في الدنيا وما ليس فيها, وما يعرف وما لا يعرف، وما يقدر على وصفه وما لا يقدر، ولذات جسمانية ولذات روحانية كأنها جنتان، ولسعتها وكثرة أماكنها، وأشجارها، وأنهارها، كأنها جنات كثيرة، فالضمير ها عائد إلى الجنتين، اهـ من "المراح". {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}؛ أي: لم يجامع تلك القاصرات {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ} أي: قبل أزواجهن {وَلَا جَانٌّ} والجملة (¬1) صفة لقاصرات الطرف؛ لأن إضافتها لفظية. والمعنى: أي في تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن. فلا يرين فيها شيئًا أحسن منهم. وهن أبكار لم يسمهن أحد قبل أزواجهن، لا من الجن ولا من الإنس؛ أي: لم يمس الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن. يقال: طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية لها؛ أي: أزال بكارتها. الطمث: الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه دم، كما سيأتي. فهن كالرياض الأنف (¬2). وهي التي لم ترعها الدواب قط، وفيه ترغيب لتحصيلهن، إذ الرغبة للأبكار فوق الرغبة بالثيِّبات. ودليل على أن الجن من أهل الجنة, وأنهم يطمثون كما يطمث الإنس. فإن مقام الإمتنان يقتضي ذلك، إذ لو لم يطمثوا كمن قبلهم لم يحصل لهم الامتنان به. ولكن ليس له ماء كماء الإنسان، بل لهم هواء بدل الماء, وبه يحصل العلوق في أرحام إناثهن، كما في "الفتوحات المكية". وهذا يستدعي أنه لا تصح المناكحة بين الإنس والجن، وكذا العكس. وقد ذهب إلى صحتها جم غفير من العلماء. منهم: صاحب "آكام المرجان". ثم إن هؤلاء؛ أي: قاصرات الطرف من حور الجنة المخلوقات ما يبتذلن، ولم يمسسن، وهذا قول الجمهور وهو المشهور (¬3). وقال الشعبي والكلبيُّ: من نساء الدنيا؛ أي: لم يجامعهن بعد النشأة الثانية أحد، سواء كن في الدنيا ثيبات أو أبكارًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[57]

وقرأ الجمهور (¬1): {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} بكسر الميم في الموضعين، وطلحة، وعيسى، وأصحاب عبد الله، وعلي، والكسائي بضمها. وقرأ ناس بضم الأول وكسر الثاني، وناس بالعكس، وناس بالتخيير. وقرأ الجحدري بفتح الميم في الموضعين. 57 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}؛ أي: فبأيّ نوع من أنواع هذه النعم تنكران، فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة، ومنة عظيمة؛ فإن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة، والفرار من الأعمال الطالحة، فكيف بالوصول إلى هذه النعم، والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال. 58 - {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} والجملة صفة ثانية لقاصرات الطرف أو حال من {هن}. شبههن سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان. قد سبق بيان المرجان، وأما الياقوت، فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأخضر، وأزرق، وهو حجر لا تعمل فيه النار لقلة دهنيته، ولا يثقب لغلظة رطومته، ولا تعمل فيه المبارد لصلابته، بل يزداد حسنًا على مر الليالي والأيام، وهو عزيز، قليل الوجود، سيما الأحمر وبعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه. وأما الأخضر: فلا صبر له على النار. ومعنى الآية (¬2): مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة والمرجان؛ أي: صفار الدر في بياض البشرة، وصفائها؛ فإن صغار الدر أنصع بياضًا من كباره. وقال قتادة: في صفاء الياقوت، وبياض المرجان. وأخرج أحمد، وابن حبان، والحاكم، وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} قال: "تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب. وإنه يكون عليها سبعون ثوبًا، وينفذها بصره، حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك". 59 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)} فإنَّ نعمه كلها لا يمكن تكذيب شيء منها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[60]

كانت ما كانت، فكيف بهذه النعم الجليلة، والمنن الجزيلة؟ 60 - {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)}؛ أي: ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، واعلم أن {هَل} يجيء (¬1) على أربعة أوجه. الأول: بمعنى قد، كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى}. والثاني: بمعنى الأمر، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}؛ أي: فانتهوا. والثالث: بمعنى الاستفهام، كقوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}. والرابع: بمعنى ما النافية، كما في هذه الآية. ونحو الآية قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وعن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)}، وقال: "هل تدرون ما قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة". أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وروي عن ابن عباس: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة. 61 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)} فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق، والرزق، والإرشاد إلى العمل الصالح، والزجر عن العمل الذي لا يرضاه. 62 - {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} مبتدأ وخبر (¬2)؛ أي: ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم في الدرجة من أصحاب اليمين، فالخائفون قسمان: المقربون، وأصحاب اليمين، وهم دون المقربين بحسب الفضائل العلمية والعملية، ودون بمعنى الأدنى مرتبة ومنزلة، لا بمعنى غير. فالجنتان الأوليان أفضل من الأخريين، كفضل المقربين على الأبرار. وقيل: ليس "دون" من الدناءة، بل من الدنو. وهو القرب؛ أي: ومن دون هاتين الجنتين إلى العرش؛ أي: أقرب إليه منهما، وأرفع منهما؛ أي (¬3): من أمامهما ومن قبلهما. وحمل بعض المفسرين {دون} على معنى غير. وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[63]

وجنة النعيم. والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قال ابن جريج: هي أربع جنان جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان، وعينان تجريان. وجنتان لأصحاب اليمين، فيهما فاكهة، ونخل، ورمان، وفيهما عيان نضاختان. قال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين. 63 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)} فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها. 64 - ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين، فقال: {مُدْهَامَّتَانِ (64)} صفة لجنتان، وما بينهما اعتراض؛ أي (¬1): سوداوان يعني: علا لونها دهمة وسواد من شدة الخضرة والري. وإن شئت .. قلت: خضراوان، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. فائدة: والنظر إلى الخضرة يجلو البصر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث يجلون البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن". قال ابن عباس رضي الله عنهما: والإثمد عند النوم. وهو الكحل الأسود. وأجوده الأصفهاني. وهو بارد يابس ينفع العين اكتحالًا، ويقوي أعصابها، ويمنع عنها كثيرًا من الآفات والأوجاع سيما الشيوخ والعجائز، وإن جعل معه شيء من المسك .. كان غاية في النفع، وينفع من حرق النار طلاء مع الشحم، ويقطع النزف، ويمنع الرعاف إذا كان من أغشية الدماغ. وفي الحديث: "خير أكحالكم الإثمد، ينبت الشعر، ويجلو البصر". اهـ "خريدة العجائب". وفي قوله: {مُدْهَامَّتَانِ (64)} إشعار (¬2) بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه. ودل هذا على فضل الأوليين على الأخريين. والمعنى: أي ومن وراه هاتين الجنتين وأقل منهما فضلًا جنتان تنبتان الباب، والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها لكثرة الريّ. وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه. وفرق ما بين الجنتين. 65 - فبأيّ هذه النعم تكذّبان، وهي نعم واضحة لا تجحد، تتمتع أبصاركم بخضرة نباتات هاتين الجنتين, ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[66]

وتنتفع أنوفكم بشم رياحينهما. وعن أبي أيوب الأنصاري قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ (64)}. قال: خضراوان، أخرجه الطبري، وابن مردويه. قال الفقهاء: إذا قرأ في الصلاة آية واحدة هي كلمة واحدة، نحو قوله: {مُدْهَامَّتَانِ (64)} أو حرف واحد نحو {ق} و {ص} و {ن}. فإن كل حرف منها آية عند البعض. فالأصح أنه لا يجزىء عن فرض القراءة. لأنه لا يسمى قارئًا؛ لأن القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل. 66 - {فِيهِمَا}؛ أي: في هاتين الجنتين {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}؛ أي: فوارتان بالماء، لا تنقطعان. من نضحه كمنعه رشه، ونضح الماء اشتد فورانه من ينبوعه. قال الحسن، ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك، والعنبر، والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضح رش المطر. وهذا يدل أيضًا على فضل الأوليين على الأخرين. لأنه تعالى قال في الأوليين: {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}، وفي الأخريين {نَضَّاخَتَانِ}. والنضخ دون الجري؛ لأن النضخ هو الفوران، وهو يتحقق بأن يكون الماء بحيث لو أخذ منه شيء فار آخر مكانه. ولا يكفي هذا القدر في جريانه. فلا شك أن الجري أبلغ منه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نضَّاختان بالمسك والعنبر. وقال الكلبي: بالخير والبركة. 67 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)} فإنها ليست بموضع للتكذيب، ولا بمكان لجحد، حيث يحصل لكم الريُّ من شراب تينك العينين. 68 - {فِيهِمَا}؛ أي: في هاتين الجنتين {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة، كعطف جبريل، وميكائيل على الملائكة بيانًا لفضلهما. فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، ولأنهما يوجدان في الخريف والشتاء، ولأنهما فاكهة وإدام. فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، كما قاله الشافعي، وأكثر العلماء خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله. يعني: بحسب (¬1) حال الدنيا، وإلّا فالكل في الجنة للتفكه. والرمان من الأشجار، هي التي لا تقوى إلا بالبلاد الحارة، وأجوده الكبار الحلو، وهو حار رطب يلين الصدر والحلق، ويجلو المعدة، وينفع من الخفقان، ويزيد في الباءة. وقشره تهرب منه الهوام. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[69]

وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى ضعف استعداد أهل اليمين بالنسبة إلى المقربين؛ لأنَّ الرمان للدواء لا للتفكه، وتهيئة الدواء في البيت تدل على ضعف مزاج ساكن البيت. 69 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)} حيث هيَّأ لكم ما به تتلذذون من الفواكه. ومن جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم، ومجرد الحكاية لها أثر في نفوس السامعين، وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين. 70 - {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} وهي صفة أخرى لجنتان كالجملة التي قبلها. والكلام في جمع الضمير كالذي مر فيما مرّ، و {خَيْرَاتٌ} مخففة من خيرات جمع خيّرة. لأنَّ خيرًا الذي بمعنى أخير لا يجمع، فلا يقال فيه: خيرون، ولا خيرات. أي: في تلك (¬1) الجنان نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه. روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}. قال: خيرات الأخلاق, حسان الوجوه. وقال الرازي: في باطنهن الخير، وفي ظاهرهن الحسن. وروي: أن الحور يغنين نحن الخيرات الحسان خلقن لأزواج كرام. وقيل في تفسير الخيرات (¬2)؛ أي: لسن بدمرات، الدمر: النتن، ولا بخرات البخر بالتحريك: النتن في الفم، والإبط، وغيرهما. ولا متطلعات من التطلع على كلام من تكلم، ومنه قولهم: عافى الله من لم يتطلع في فمك؛ أي: لم يتعقب كلامك. ولا متشوفات من تشوف من السطح إذا تطاول، ونظر، وأشرف. ولا ذربات جمع ذرية بالكسر: السليطة اللسان من ذرب من باب فرح. ولا سليطات السلط والسليط: الشديد والطويل اللسان. ولا طماحات من طمح بصره كمنع، ارتفع. يقال: طمحت المرأة إذا نشزت. ولا طوافات في الطرق؛ أي: دوارات. حسان جمع حسنة وحسناء، أي: حسان الخلق والخلق. وهن من الحور، وقيل: من المؤمنات الخيرات. ويدل على الأول ما بعد الآية. وفي الحديث: "لو أن المرأة من نساء أهل الجنة .. اطلعت على السموات والأرض لأضاءت ما بينهما, ولملأت ما بينهما ريحًا, ولعصابتها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[71]

وروي: "لو أن حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها". وروي: "أنهن يقلن: نحن الناعمات، فلا نبأس الراضيات فلا نسخط، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا". وفي الأثر: "إذا قلن هذه المقالة أجابتهن المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن، فغلبنهن والله غلبنهن". وفي هذا بيان أن هاتين الجنتين دون الأوليين (¬1)؛ لأنه تعالى قال في الأوليين في صفة الحور العين: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)}، وفي الآخريين: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)}. وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقرأ الجمهور (¬2): {خَيْرَاتٌ} بالتخفيف. وقرأ قتادة, وابن السميقع، وأبو رجاء العطارديُّ، وبكر بن حببب السهمي، وابن مقسم، وأبو عثمان النهديُّ بالتشديد. فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين، ويقال امرأة خيرة، وأخرى شرة أو جمع خيرة مخفف خيرة، وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد. 71 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)} وقد أنعم عليكم بما فيه تستمتعون من النساء. فإنَّ شيئًا منها كائنًا ما كان لا يقبل التكذيب. 72 - {حُورٌ} بدل (¬3) من {خَيْرَاتٌ}، جمع حوراء. وهي البيضاء، ووصفت في غير هذه الآية بالعِين. وهي جمع عيناء بمعنى واسعة العين. {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قصرن في خدورهن، وحبسن فيها. يقال: امرأة مقصورة؛ أي: مخدرة مستورة لا تخرج، ومقصورات الطرف على أزواجهن لا يبغين بهم بدلًا. وفيه إشارة إلى أنهن لا يظهرن لغير المحارم، وإن لم تكن الجنة دار التكليف؛ وذلك لأنهن من قبيل الأسرار، وهي تصان عن الأغيار غيرة عليها، والخيام جمع خيمة، وهي القبة المضروبة على الأعواد، هكذا جمع خيام الدنيا. وهي لا تشبه خيام الدنيا إلا بالاسم، فإنه قد قيل: إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة عرضها ستون ميلًا في كل زاوية منها أهلون، ما يرون إلا حين يطوف عليهم المؤمنون. وقال ابن مسعود: لكل زوجة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[73]

خيمة، طولها ستون ميلًا. والمعنى: أي وهؤلاء الخيرات الحسان واسعات العيون، مع صفاء البياض حول السواد محبوسات في الحجال، فلسن بطوافات في الطرقات. والعرب يمدحون النساء اللازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة. 73 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)} وقد خلق من النعم ما هن مقصورة ومحبوسة لكم. فإنها كلها نعم لا تكفر، ومنن لا تجحد. 74 - {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} ولم يجامعهن {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ}؛ أي: قبل أصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين، أو قبل أزواجهن. {وَلَا جَانٌّ} والكلام هنا كالذى مر في نظيره في جميع الوجوه. قال في "كشف الأسرار" (¬1): كرر ذلك زيادة في التشويق، وتأكيدًا للرغبة. وفيه إنه ليس بتكرير؛ لأنَّ الأول في أزواج المقربين وهذا في أزواج الأبرار. قال محمد بن كعب: إن المؤمن يزوج ألف ثيب، وألف بكر، وألف حوراء. 75 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)} مع أنها ليست كنعم الدنيا. إذ قد تطمث المرأة في الدنيا، ثم يتزوجها آخر ثيبًا فهن نعم باكورة. فيا لها من طيب وصالها، وبالها، وبراعة جمالها, لا يقدر أحد على حكايتها, ولا يبلغ وصف إلى نهايتها، والعقول فيها حيارى، والقلوب سكارى. 76 - {مُتَّكِئِينَ} حال صاحبه محذوف، يدل عليه الضمير في {قَبْلَهُمْ}، تقديره: لم يطمثهن أحد غير أزواجهن حال كونهم متكئين وجالسين {عَلَى رَفْرَفٍ} وفرش {خُضْرٍ} والرفرف (¬2) إما اسم جنس أو اسم جمع، واحده رفرفة. قيل: هو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب، أو ضرب من البسط أو الوسائد، أو الرقيق من الديباج. قال في "المفردات": الرفرف ضرب من الثياب، مشبه بالرياض، انتهى. ومن معاني الرفرف: الرياض. وكان بساط أنو شروان ستين ذراعا في ستين ذراعًا، يبسط له في إيوانه منظومًا باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، وينشر إذا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

عدمت الزهور. وقرأ الجمهور {رَفْرَفٍ} بالأفراد. وقرأ (¬1) عثمان بن عفان، والحسن، ونصر بن عاصم، والجحدري ومالك بن دينار، وابن محيصن، وزهير العرقي وغيرهم {رفارف} على صيغة منتهى الجموع. والخضر صفة لرفرف، وهو بسكون الضاد جمع أخضر، كحمر جمع أحمر، أي: صاحب خضرة. والخضرة: اللون بين البياض والسواد والحمرة. وهو إلى السواد أقرب، فلهذا سمي الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقرأ ابن هرمز {خضُر} بضم الضاد. قال صاحب "اللوامح": وهي لغة قليلة، انتهى. {وَعَبْقَرِيٍّ} معطوف على {رَفْرَفٍ}، والمراد به: الجنس، ولذا وصف بالجمع وهو قوله: {حِسَانٍ} حملًا على المعنى. وهو جمع حسن. والعبقري منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد كثير الجن، فينسبون إليه كل شيء نفيس عجيب. وقال قطرب: ليس هو من المنسوب، بل هو بمنزلة كرسي، وبختيٍّ. قال في "القاموس": عبقر موضع كثير الجن، وقرية ثيابها في غاية الحسن. والعبقريُّ ضرب من البسط، كالعباقري. انتهى. وفي "فتح الرحمن": العبقريُّ: بسط حسان، فيها صور، وغير ذلك. وقرأ الجمهور {وعبقريٌّ}. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، والجحدريُّ {عباقريُّ}. وقرىء {عباقر}. والمعنى: حال كونهم متكئين (¬2) على ثياب ناعمة، وفرش رقيقة النسج من الديباج, ووسائد عظيمة، وبسط لها أطراف فاخرة غاية في كمال الصنعة، وحسن المنظر. وخص (¬3) الأخضر بالذكر؛ لأن النفس أميل إليها في الدنيا, ولأنه يحصل فيه الألوان الثلاثة: الأبيض، والأسود، والأحمر. فالأبيض يفرق البصر، والأسود يجمع البصر، كالأحمر. فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[77]

وقوله تعالى في الأوليين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} مع ترك ذكر الظهارة لرفعة شأنها، وخروجها عن كونها مدركة بالعقول والأفهام. وفي الأخريين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ} يعلم به تفاوت ما بينهما. قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: روي لنا في حديث المعراج: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ سدرة المنتهى .. جاءه الرفرف، فتناوله من جبريل، وطار به إلى مستقر العرش، وذكر أنه قال: "طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بين يدي ربي، ثم لما حان الانصراف .. تناوله فطار به خفضًا ورفعًا يهوي به، حتى أداه إلى جبريل صلوات الله علبهما، وجبريل يبكي، ويرفع صوته بالتحميد". والرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى، له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين وهو متكأهم وفرشهم، يرفرف بالولي، ويطير به على حافات تلك الأنهار، وحيث يشاء من خيامه، وأزواجه، وتصوره. انتهى من "نوادر الأصول" في الأصل التاسع والثمانين. وقال الترمذي الحكيم أيضًا: وبلغنا في الرواية: أن سحابة مطرت من العرش، فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطىء الأنهار، سعتها أربعون ميلًا، وليس لها باب حتى إذا دخل ولي الله الجنة، انصدعت الخيمة عن باب، ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدام لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها بها عن أبصار المخلوقين. وهو معنى قوله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)}. والله أعلم. اهـ قرطبي. 77 - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)}؛ أي (¬1): بأيَّ نعم ربكما المحسن الذي لا محسن غيره، ولا إحسان إلا منه تكذبان أبشيء من هذه النعم أم بغيرها، وقد هيأ لكم ما تتكئون عليه، فتستريحون، فإن كل واحد منها أجل أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر. 78 - وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ}؛ أي: تقدس، وتنزه عن كل ما لا يليق به تقديسٌ ¬

_ (¬1) الخطيب.

وننزيهٌ له تعالى (¬1). فيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، أي: تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع عما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها: جحود نعمائه، وتكذيبها. وإذا كان حال اسمه بملابسة دلالته عليه، كذلك فما ظنك ذاته الأقدس الأعلى؟ وقيل: الاسم بمعنى الصفة؛ أي: تنزهت، وتقدست صفات ربك عن النقائص، كالعلم من الجهل، والقدرة من العجز. وقيل: لفظ {اسم} مقحم كقوله: إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السلامِ عليكُما ... وَمَن يَبْكِ حَوْلًا كاملًا فقَدِ اعْتَذَرْ أي: ثم السلام عليكما. والمعنى: تقدس، وتنزه، وتعالى ربك عن كل ما لا يليق به من جميع النقائص. وقال في "فتح الرحمن": وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه؛ أي: تبارك مسمى ربك، وذاته الأقدس عن النقائص. وفي "التأويلات النجمية": وهذا يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأن المتعالي هو المسمى في ذاته لا الاسم، وكذا الموصوف بالقهر، واللطف، والجلال، والإكرام هو المسمى فحسب، انتهى. وقوله: {ذِي الْجَلَالِ}؛ أي: ذي العظمة والكبرياء {وَالْإِكْرَامِ}؛ أي: ذي الإفضال التام والإحسان العام. وصف به الرب عز وجل تكميلًا لما ذكر من التنزيه والتقرير. قال الزروقي: من عرف أنه تعالى ذو الجلال والاكرام هابه لمكان الجلال، وأنس به لمكان الإكرام، فكان بين الخوف والرجاء. وهو اسم الله الأعظم. وقال بعضهم: أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم، فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات، ويا ذا الجلال والإكرام من الأسماء التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام". وقرأ الجمهور {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} على أنه صفة لربك، وابن عامر، وأهل الشام {ذو} ¬

_ (¬1) روح البيان.

صفة للاسم. وفي حرف عبد الله، وأبي {ذِي الْجَلَالِ} كقرائتهما في الموضع الأول. والمعنى (¬1): أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به، وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام. وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء، والأرض، والجنة، والنار. وعذب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الإعراب {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}. {وَلِمَنْ} {الواو}: استئنافية، {لِمَنْ} جار ومجرور، خبر مقدم، {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {جَنَّتَانِ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {ذَوَاتَا} صفة لـ {جَنَّتَانِ}، مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى ذات، {أَفْنَانٍ} مضاف إليه. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم إعرابه. {فِيهِمَا} خبر مقدم، {عَيْنَانِ} مبتدأ مؤخر، وجملة {تَجْرِيَانِ} صفة لـ {عَيْنَانِ}. والجملة الاسمية صفة ثانية لـ {جَنَّتَانِ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ، تقدّم إعرابه. {فِيهِمَا} خبر مقدم، {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ} حال من {زَوْجَانِ}؛ لأنّه صفة قدمت على النكرة، {زَوْجَانِ} مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية صفة لـ {جَنَّتَانِ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {مُتَّكِئِينَ} حال من {مِنْ} في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ}؛ لأنَّ {مَنْ} فيها معنى الجمع، وقيل: عاملها محذوف، دل عليه قوله: {وَلِمَنْ خَافَ}؛ أي: يتنعمون فيهما حال كونهم متكئين؛ أي: مضطجعين ¬

_ (¬1) المراغي.

أو متربعين. {عَلَى فُرُشٍ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، {بَطَائِنُهَا} مبتدأ، {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} خبر. والجملة الاسمية صفة لـ {فُرُشٍ}. {وَجَنَى} {الواو} عاطفة أو حالية، {جنى الجنتين} مبتدأ ومضاف إليه، {دَانٍ} خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)}، أو حال من الضمير المستكن في الخبر من الجملة المذكورة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {فِيهِنَّ} خبر مقدم، والضمير إلى {الْجَنَّتَيْنِ} لأنه بمعنى الجنان، كما مر. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لـ {جَنَّتَانِ}. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} جازم، وفعل مضارع، ومفعول به، {إِنْسٌ} فاعل، {قَبْلَهُمْ} متعلق بـ {يَطْمِثْهُنَّ}، {وَلَا جَانٌّ} معطوف على {إِنْسٌ} والجملة صفة لـ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}؛ لأنَّ إضافته لفظية أو حال منه؛ لأنه تخصص بالإضافة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {كَأَنَّهُنَّ} ناصب واسمه، {الْيَاقُوتُ} خبره، {وَالْمَرْجَانُ} معطوف على {الْيَاقُوتُ}. والجملة صفة ثانية لـ {قَاصِرَاتُ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {هَلْ} حرف استفهام للاستفهام الإنكاري؛ لأنّه بمعنى النفي، {جَزَاءُ الْإِحْسَانِ} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {الْإِحْسَانُ} خبره. والجملة مستأنفة. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ، تقدم إعرابه. {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}. {وَمِنْ دُونِهِمَا} الواو: عاطفة، {من دونهما} خبر مقدم، {جَنَّتَانِ} مبتدأ مؤخّر. والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابها. {مُدْهَامَّتَانِ (64)} صفة لـ {جَنَّتَانِ}، {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابها. {فِيهِمَا} خبر مقدم، {عَيْنَانِ} مبتدأ مؤخر، {نَضَّاخَتَانِ} صفة {عَيْنَانِ}. والجملة صفة ثانية لـ {جَنَّتَانِ}، {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابها. {فِيهِمَا} خبر مقدم، {فَاكِهَةٌ} مبتدأ مؤخر، {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} معطوفان على {فَاكِهَةٌ} عطف خاص

على عام، والجملة صفة أخرى لـ {جَنَّتَانِ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {فِيهِنَّ} خبر مقدم {خَيْرَاتٌ} مبتدأ مؤخر، {حِسَانٌ} صفة {خَيْرَاتٌ}. والجملة صفة أخرى لـ {جَنَّتَانِ} لأنَّ الجنتين بمعنى الجنان. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {حُورٌ} بدل من {خَيْرَاتٌ}، ويجوز لك أن تعرب حورًا خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هن حور، {مَقْصُورَاتٌ} صفة {حُورٌ}، {في الْخِيَامِ} متعلق بـ {مَقْصُورَاتٌ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} فعل، ومفعول, {إِنْسٌ} فاعل، {قَبْلَهُمْ} متعلق بـ {يَطْمِثْهُنَّ}، {وَلَا جَانٌّ} معطوف على {إِنْسٌ}. والجملة الفعلية في محل الرفع, صفة أخرى لـ {حُورٌ}. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدم إعرابه. {مُتَّكِئِينَ} حال، عامله محذوف يدلّ عليه قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، تقديره: يتنعمون فيها حال كونهم {مُتَّكِئِينَ}. {عَلَى رَفْرَفٍ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، {خُضْرٍ} نعت لـ {رَفْرَفٍ}. لأنه جمع رفرفة، {وَعَبْقَرِيٍّ} معطوف على {رَفْرَفٍ}، {حِسَانٍ} صفة {عَبْقَرِيٍّ}. لأنّه جمع عبقرية. {فَبِأَيِّ آلَاءِ ...} إلخ تقدّم إعرابه. {تَبَارَكَ} فعل ماض, {اسْمُ رَبِّكَ} فاعل. والجملة مستأنفة. {ذِي} صفة لـ {رَبِّكَ}، {الْجَلَالِ} مضاف إليه، {وَالْإِكْرَامِ} معطوف على الجلال. وقيل: اسم مقحم. والمعنى: تبارك ربّك؛ أي: تزايد خيره وإحسانه. والله أعلم بأسرار كتابه. التصريف ومفردات اللغة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} الخوف في الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة. وضده الأمن. ويراد به هنا: الكف عن المعاصي مع فعل الطاعات. و {مَقَامَ رَبِّهِ} قيامه عليه، وإطلاعه على أعماله. وفي تفسير المقام ثلاث احتمالات: الأوّل: أنه اسم مكان بمعنى موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}. والثاني: أنه مصدر بمعنى قيامه تعالى، وإطلاعه على أعمال عباده. والثالث: أنه مصدر بمعنى قيام الخلائق بين يديه تعالى. {جَنَّتَانِ}؛ أي: جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل في

الدنيا. وقيل: إنهما منزلان، يتنقل بينهما لتتوفر دواعي لذته، وتظهر آثار كرامته. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} وذوات مثنى ذات بمعنى صاحبة، وأصل ذات: ذوية، قلبت {الواو} ألفًا لتحركها بعد فتح. وفي تثنيتها لغتان. الرد على الأصل، فإن أصلها ذوية؛ لأنها مؤنثة ذوي. والتثنية على اللفظ بأن يقال: ذاتا، والأفنان: جمع فن بمعنى نوع؛ أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار. يقال: افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه، وضروب مختلفة، أو جمع فنن بمعنى غصن؛ أي: ذواتا أغصان دقيقة التي تتفرع من فروع الشجر، وخصت بالذكر؛ لأنها التي تورق، وتثمر، وتمد الظل. {زَوْجَانِ}؛ أي: صنفان، رطب ويابس. ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش. وهو البساط {بَطَائِنُهَا} جمع بطانة ضد الظهارة، ولكن المراد هنا: ما يلي الأرض، كما مرّ. والهمزة فيه بدلة عن الألف الواقعة حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مؤنث جمع على فعائل. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} والإستبرق: ما غلظ من الحرير. قيل: استفعل من البريق. وهو الإضاءة. وقيل: من البرقة. وهو اجتماع ألوان، وجعل اسمًا وأعرب إعرابه. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} والجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة. وهو اسم بمعنى المجني، كالقبض بمعنى المقبوض. وفيه إعلال بالقلب, أصله: جني قلبت الياه ألفًا لتحركها بعد فتح. وقوله: {دَانٍ} من الدنو بمعنى القرب، أصله: دانوا، مثل: غازو، فوزنه فاع لأعلاله إعلال غاز. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} وهو من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخفيفًا، ومتعلق القصر محذوف، كما مر؛ أي: نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. والطرف: أصله مصدر، فلذلك وحد. وقيل: الطرف طرف غيرهن؛ أي: قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}؛ أي: لم يفتضهن. يقال: طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية؛ أي: أزال بكارتها. فالطمث: الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه. وفي "المصباح" طمث

الرجل امرأته طمثًا من بابر ضرب وقتل افتضها، وافترعها. ولا يكون الطمث نكاحًا إلا بالتدمية. وعليه قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}، اهـ. وفي "القاموس": الطمث: المس. والمعنى: لم يمس الإنسيّات أحد من الإنس، ولا الجنيّات أحد من الجن. {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} الياقوت: جوهر نفيس أحمر اللون. يقال: إن النار لا تؤثر فيه، من خواصه: أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس. فإنه يقطعه لصلابته، وقلة مائه، وشدة الشعاع، والثقل، والصبر على النار. قال بعضهم في مليح: اسمه ياقوتٌ: يَاقُوتُ يَا قُوتَ قَلْبِ المُسْتَهَامِ بِهِ ... مِنَ الْمُرُوءَةِ أنْ لَا يُمْنَعَ الْقُوتُ سَكَنْتَ قَلْبِيْ وَمَا تَخْشَى تَلَهُّبَهُ ... وَكَيْفَ يَخْشَى لَهِيْبَ النَّارِ يَاقُوْتُ {وَالْمَرْجَانُ} صغار اللؤلؤ. وهو أشد بياضًا، أي: كأنهن الياقوت في الصفاء، والمرجان في البياض. {مُدْهَامَّتَانِ (64)} مثنى مدهامة. وهي مؤنث مدهام، وصف من ادهام السداسي اسم فاعل. والأصل: مدهاممتان، أدغمت الميم الأولى في الثانية. يقال: ادهام الشيء يدهام ادهيامًا فهو مدهام، ذكره في "تاج المصادر" في باب الإفعيلال. وفي "المختار": دهمهم الأمر غشيهم، وبابه فهم، وكذا دهمتهم الخيل، ودهمهم بفتح الهاء لغة. والدهمة: السواد يقال: فرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء. وادهام ادهيامًا؛ أي: اسود قال الله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ (64)}؛ أي: سوداوان من شدة الخضرة من الري. والعرب تقول لكل شيء أخضر: أسود. وسميت قرى العراق سوادًا لكثرة خضرتها. والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة. ويقال للقيد: أدهم. وفي "القاموس": حديقه دهماء، ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمةً وريًّا. ومنه: {مُدْهَامَّتَانِ}. {نَضَّاخَتَانِ}؛ أي: فوارتان بالماء لا تنقطعان. والنضخ أكثر من النضح؛ لأن النضح بالحاء المهملة: الرش، وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة: الفوارة التي ترمي بالماء صعدًا. {حُورٌ} واحدتهن حوراء؛ أي: بيضاء. قال ابن الأثير: الحوراء: هي

الشديدة بياض العين، والشديدة سوادها. {مَقْصُورَاتٌ} قصرن، وحبسن في خدورهن، يقال: امرأة قصيرة، وقصورة، ومقصورة؛ أي: مخدرة. {فِي الْخِيَامِ} في "القاموس": والخيمة: أكمة فوق أبانين، وكل بيت مستدير، أو ثلاثة أعواد، أو أربعة يلقى عليها الثمام، ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبني من عيدان الشجر. والجمع خيمات، وخيام، وخيم، وخَيَم بالفتح، وكعنب. يقال: أخامها وأخيمها بناها، وخيموا دخلوا فيها، وبالمكان أقاموا. وخيم الشيء غطاه بشيء كي يعبق، وخام عنه يخيم خيمًا وخيمانًا وخيومًا وخيومة وخيامًا نكص، وجبن. وكاد كيدًا فرجع عليه. وفي "القرطبي": قال عمر رضي الله عنه: الخيمة: درة مجوفة. {عَلَى رَفْرَفٍ} والرفرف: اسم جمع أو اسم جنس جمعي، وكذا يقال: في {عبقري}. وعبارة "السمين": الرفرف اسم جنس. وقيل: اسم جمع نقلهما مكي. والواحدة رفرفة. وهي ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب. واشتقاقه من رفرف الطائر؛ أي: ارتفع في الهواء، انتهت. وقال غيره: الرفرف: بسط أو وسائد "مخدات". {وَعَبْقَرِيٍّ} والعبقري: العجيب النادر الموشى من البسط، منسوب إلى عبقر. وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن، فينبون إليه كل شيء عجيب. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ}؛ أي: تقدس، وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه الجليلة والحقيرة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة في قوله: {مَقَامَ رَبِّهِ} للدلالة على الاختصاص الملكي؛ إذ لا ملك يومئذٍ إلا لله تعالى. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {وجنى الجنتين} لتغير الشكل، والحروف. ومنها: الإيجاز بالحذت في قوله: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} فإنَّ فيه حذف الموصوف، وإبقاء الصفة؛ أي: نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. وفيه أيضًا

إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله طلبًا للتخفيف اللفظي. ومنها: الإرداف في قوله: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضرع له، بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص، وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف. والمعنى في الآية: فيهن عفيفات قد قصرف عفتهن طرفهن على بعولتهن. وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الأرداف؛ لأن كل من عف غض الطرف عن الطموح. فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء، وتشتهيه نفسه، ويعف عنه مع القدرة عليه لأمر آخر. وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرًا، أو قصر عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن أمر رائد على العفة؛ لأنَّ من لا يطمح طرفها لغير بعلها، أو لا يطمح حياء وخفرًا: فإنها ضرورة تكون عفيفة. فكل قاصرة الطرف عفيفة، وليست كل عفيفة قاصرة الطرف. فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف. ومنها: التنبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} لذكر الأداة، وحذف وجه الشبه. وهو الصفاء والبياض. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} إظهارًا لفضله، وميزته. فإن في فصلهما بالواو عن الفاكهة بيانًا لفضلها على سائر الفواكه، كما مرَّ. حتى كأنهما من المزيّة جنسان آخران، كقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}. ولكن اختلف هل هو من عطف الخاص على العام أو عطف ما تضمنه الأول عليه. والظاهر: أن الآية ليست من عطف الخاص على العام؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم عمومًا شموليًّا. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة 1 - ذكر تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليمه البيان. 2 - ذكر جريان الشمس والقمر بحسبان، وسجود النجم والشجر خضوعًا له تعالى. 3 - وضع الميزان، والأمر بإقامته، وعدم الإخسار فيه. 4 - بسط الأرض للأنام مع خلق ضروب الفواكه، وأنواع الزروع فيها لهم. 5 - بيان مادة خلق الإنسان، ومادة خلق الجان. 6 - ذكر ما يتعلق بالبحرين. 7 - ذكر فناء المخلوق، وبقاء الخالق. 8 - ذكر احتياج من في السموات والأرض إليه وكونه سبحانه في تدبير شؤونهم. 9 - أمر الثقلين بخروجهم من أقطار السموات والأرض أمر تعجيز. 10 - ذكر أحوال يرم القيامة، وبيان أحوال المجرمين فيه. 11 - ذكر ما أعده للمقربين والأبرار من الثقلين مطعمًا، وملبسًا، ومنكحًا إلى آخر السورة. اللهم يا ذا الجلال والإكرام صل وسلم على من أرسلته رحمة للأنام سيدنا محمد، وآله، وصحبه الكرام ما تعاقبت الليالي والأيام صلاة وسلامًا متلازمين دائمًا بلا انصرام (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقع الفراغ من تفسير هذه السورة في اليوم السابع والعشرين من شهر الله الفرد رجب، منتصف الساعة التاسعة في تاريخ 27/ 7/ 1415 ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات، وأزى التحيّات. آمين يا رب آمين.

سورة الواقعة

سورة الواقعة سورة الواقعة مكية، نزلت بعد طه في قول الحسن (¬1)، وعكرمة، وجابر، وعطاء، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا آية منها نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}. وقال الكلبيّ: إنها مكيّة، إلّا أربع آيات منها: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}، وقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}. وآيها: ست أو سبع وتسعون آية (¬2). وكلماتها: ثلاث مئة وثمان وسبعون كلمة. وحروفها: ألف وسبع مئة وثلاثة أحرف. مناسبتها لما تجلها من ثلاثة أوجه (¬3): 1 - إنّ في كل منهما وصف القيامة، والجنة، والنار. 2 - إنه ذكر في السورة السابقة عذاب المجرمين، ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة، وأصحاب مشئمة، وسابقين. 3 - إنه ذكر في سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رج الأرض. فكأن السورتين لتلازمهما، واتحادهما موضوعًا سورة واحدة مع عكس في الترتيب. فقد ذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬4): أنَّ ما قبلها تتضمن العذاب للمجرمين، والنعيم للمؤمنين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

بعض بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)}. فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل. وهكذا جاء ابتداء هذا السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشئمة وسباق. وهم المقربون وأصحاب اليمين، والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة. الناسخ والمنسوخ منها: أجمع (¬1) المفسّرون على أن لا ناسخ فيها، ولا منسوخ إلا قول مقاتل بن سليمان، فإنه قال نسخ منها قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}، الآية (14) من الواقعة، نسخ بقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} الآية (40) من الواقعة. واسمها: سورة الواقعة، سميت بها لذكر الواقعة فيها. وهو اسم من أسماء القيامة. ومن فضائلها: ما أخرجه أبو يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل لية لم تصبه فاقة أبدًا". ومنها: ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها، وعلموها أولادكم". وأخرج الديلمي عن أن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علموا نساؤكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى". ومنها: ما روى هلال بن يساف عن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة. ومنها: ما ذكر أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" و"التعليق"، والثعلبيُّ أيضًا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات منه، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه عند مماتي. قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على ¬

_ (¬1) ابن حزم.

بناتي الفاقة من بعدي، إني أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة. فإنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا"، اهـ قرطبيّ. وقد روى هذا الحديث البيهقيُّ، وغيره كما مرّ آنفًا، إنما أعدناه لهذه القصة. قال سعدي المفتي: هذا حديث صحيح. وفي رواية أخرى: من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدًا. قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه يشتغل بالاستعداد للآخرة. قال الغزالي رحمه الله تعالى في "منهاج العابدين": قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حتى ابن مسعود رضي الله عنه حين عوتب في أمر أولاده؛ إذ لم يترك لهم في الدنيا، قال: لقد خلفت لهم سورة الواقعة. فإن قلت: إرادة متاع الدنيا بعمل الآخرة لا تصح. قلت: مراده أن يرزقهم الله تعالى قناعة أو قوة يكون لهم عدة على عبادة الله تعالى، وقوّة على درس العلم. وهذا من جملة إرادة الخير دون الدنيا فلا رياء، انتهى كلامه. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}. المناسبة بدأ سبحانه هذه السورة بأنه حين تقع الواقعة، ويجيء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله، فتنكره. إذ تحقق بالمعاينة، وشهده كل احد. أمّا في الدنيا فما أكثر النفوس المكذّبة المنكرة له؛ لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون في الآخرة. ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقوامًا، وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذٍ

تزلزل، فيندك ما عليها من جبال وأبنية، وأنَّ الجبال تتفتت، وتصير كالغبار المنتشر في الجو، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجًا ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة، والسابقون. قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) أنَّ الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: سابقون، وأصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة .. أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم في فرشهم، وطعامهم، وشرابهم، ونسائهم، وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر حال السابقين، وبين ما لهم من نعيم مقيم في جنّات النعيم .. أردف ذلك بذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم في جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضد بعضه فوق بمعنى، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدًا، ولا تمتنع عنهم متى شاؤوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار في سن واحدة. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم وشرف عظيم في جنات ونعيم، في جملة شؤونهم في مآكلهم، ومشاربهم، وفرشهم، وأزواجهم .. أردف ذلك بذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال، والوبال، وسوء الحال. فهو يتلظى في السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوي الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب في هذا بأنهم كانوا في دنياهم مترفين غارقين في ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء. ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتمًا، وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم، يملؤون منه البطون، ثم يشربون؛ ولا يرتوون كالإبل الهيم. وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة في هذا اليوم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

أسباب النزول قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه أحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}. وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" بسند فيه نظر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} وذكر فيها {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأوّلين وقليل منَّا. فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر تعال، فاسمع ما أنزل الله تعالى، أنزل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} ". وأخرجه ابن حاتم عن عروة بن رويم مرسلًا. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في "البعث" عن عطاء ومجاهد قالا: لمّا سأل أهل الطائف الوادي يحمى لم، وفيه عسل ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: إن في الجنة كذا وكذا. قالوا: يا ليت لنا في الجنّة مثل هذا الوادي، فأنزل الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) ...} الآيات. وأخرج البيهقي من وجه اخر عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج "واد بالطائف"، وظلاله، وطلحه، وسدره. فأنزل الله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)} وانتصاب {إِذَا} بجوابها المحذوفة، تقديره: إذا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[2]

قامت القامة، وحدثت، وحصلت وذلك عند النفخة الثانية يكون من الأهوال ما لا يفي به المقال. سمّاها (¬1) واقعة مع أنَّ دلالة اسم الفاعل على الحال، والقيامة مما سيقع في الاستقبال لتحقق وقوعها. ولذا اختار {إِذَا}، وصيغة الماضي. فالواقعة من أسماء القيامة، كالصاخة، والطامة، والآزفة. سميت واقعة؛ لأنها كائنة لا محالة، أو لقرب وقوعها، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وقال أبو الليث: سميت القيامة واقعة لصوتها. وقيل: منصوب باذكر محذوف، أي: إذكر وقت وقوع الواقعة، أو بالنفي المفهوم من 2 - قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)}؛ أي: لا يكون عند وقوعها تكذيب. والكاذبة مصدر كالعاقبة، أي: ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلًا. وقيل: إنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها على تقدير فاء الربط لكون الجواب فعلًا جامدًا؛ أي: إذا وقعت الواقعة .. فليس هناك تكذيب لوقوعها لمشاهدتها كما وقع تكذيبها في الدنيا من المشركين. ويحتمل أن يكون الكاذبة اسم فاعل، واللام للتوقيت، والمعنى؛ أي: لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله، وتفتري بالشريك، والولد، والصاحبة، وبأنه لا يبعث الموتى. لأن كل نفس حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كاذبة مكذبة. ومعنى الآية (¬2): أنها إذا وقت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلًا، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله، وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة. وقال الزجاج {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)}، أي: لا يردها شيء، وبه قال الحسن، وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي: ليس لها تكذيب؛ أي: لا ينبغي أن يكذب بها أحد. وعبارة "المراغي": أي إذا قامت القيامة ليس لوقعتها ارتداد، ولا رجعة كالجملة الصادرة من ذي سطوة قاهر. قاله الحسن، وقتادة. وقد يكون المعنى: ليس في وقت وقوعها كذب. لأنّه حق لا شبهة فيه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[3]

3 - ثم هول شأنها، وعظم أمرها. فقال: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}؛ أي: هي خافضة لأقوام، رافعة لآخرين. وهو (¬1) تقرير لعظمتها على سبيل المجاز؛ فإن الوقائع العظام يرتفع فيها أناس إلى مراتب، ويتضع أناس. وتقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل. قال بعضهم: خافضة لأعداء الله إلى النار، رافعة لأولياء الله إلى الجنة، أو تخفض أقوامًا بالعدل، وترفع أقوامًا بالفضل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تخفض أقوامًا كانوا مرتفعين في الدنيا، وترفع أقومًا كانوا متضعين فيها، اهـ. كما يشاهد ذلك في تبدل الدول من ذل الأعزة وعز الأذلة. وفي هذا إيماء إلى ما يكون يومئذٍ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات. ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله إلى النار؛ ورفعت أولياءه إلى الجنة. وقرا الجمهور: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} برفعهما (¬2) على إضمار مبتدأ، أي: هي خافضة رافعة. وقرأ زيد بن على؛ والحسن، وعيسى الثقفي، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وابن مقسم، والزعفراني، واليزيدي في اختياره بنصبهما على الحال؛ وصاحب الحال الواقعة، والعامل فيها {وَقَعَتِ}. وتستعمل العرب الخفض والرفع في المكان والمكانة، والعز، والإهانة. ونسبة الخفض والرفع إليها على سبيل المجاز؛ كما مرّ؛ لأن الخافض والرافع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى. 4 - والظرف في قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)}؛ أي: زلزلت الأرض زلزالًا، متعلق (¬3) بـ {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}، مجردة عن معني الشرط؛ أي: خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكًا شديدًا، بحيث ينهدم ما فوقا من بناء وجبل، ولا نسكن زلزلتها حتى تلقي جميع ما في بطنها على ظهرها. والرج: تحريك الشيء، وازعاجه؛ أي: تخفض، وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض، وينخفض ما هو مرتفع. وقيل: إن الظرف بدل من الظرف الأول، ذكره الزجاج. فيكون معنى وقوع الواقعة: هو رج الأرض، وبس الجبال. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[5]

5 - وقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)}؛ أي: فتت الجبال فتا، معطوف على {رُجَّتِ}؛ أي: فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس؛ أي: المبلول؛ أي: مثل السويق الملتوت من بس السويق إذا لته، والبسيسة: سويق يلت، فيتخذ زادًا، وقيل: صارت كثيبًا مهيلًا بعد أن كانت شامخة. وقيل: معناه: قلعت من أصلها، وسيّرت على وجه الأرض حتى ذهب بها. 6 - {فَكَانَتْ}؛ أي: صارت الجبال بسبب ذلك {هَبَاءً}؛ أي: غبارًا. وهو ما يسطع من حوافر الخيل، أو الذي يرى في شعاع الكوّة، أو الهباء: ما يتطاير من شرر النار، أو ما ذرته الريح من الأوراق. {مُنْبَثًّا}؛ أي: منتشرًا متفرّقًا. وروي: أن الله تعالى يبعث ريحًا من تحت الجنة، فتحمل الأرض والجبال، وتضرب بعضها ببعض، ولا تزال كذلك حتى تصير غبارًا، ويسقط ذلك الغبار على وجوه الكفار. كقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)}. وقال بعضهم: إنّ هذه الغبرة هي التراب الذي أشار إليه تعالى: {لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}. وسيجيء تحقيقه في محله. والكلام على الشبيه؛ أي: فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح، وفرقته. وقرأ زيد بن علي (¬1): {رَجَّت} و {بسَّتْ} مبنيًا للفاعل. و {إذا رجَّت} بدل من {إِذَا وَقَعَتِ}، وجواب الشرط عندي ملفوظ به. وهو قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. والمعنى: إذا كان كذا وكذا، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم، وما أعظم ما يجازون به، أي: إن سعادتهم، وعظم رتبتهم عند الله تعالى تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم. وقرأ الجمهور {مُنْبَثًّا} بالثاء المثلثة. وقرأ مسروق، والنخعيُّ، وأبو حيوة {منبتًا} بالتاء المثناة من فوق؛ أي: منقطعًا من قولهم: بتَّه الله؛ أي: قطعه. 7 - ثم ذكر سبحانه أحوال الناس، واختلافهم. فقال: {وَكُنْتُمْ} إمَّا خطاب للأمة الحاضرة، والأمم السالفة تغليبًا أو للحاضرة فقط {أَزْوَاجًا}؛ أي: أصنافًا {ثَلَاثَةً} اثنان في الجنة، وواحد في النار. وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود، أو في الذكر يسمى زوجًا فردًا كان كالعينين والرجلين. فكل منهما يسمى زوجًا، وهما ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[8]

معًا زوجان أو شفعًا كما هنا. فهاهنا أزواج ثلاثة. 8 - ثم فصل سبحانه هذه الأصناف الثلاثة، فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)}؛ أي: أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} مبتدأ، خبره {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} على أن {مَا} الاستفهامية مبتدأ ثان، وما بعده خبره. وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرابط، كما في قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)}، و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)}. والاستفهام للتعظيم والتفخيم. والأصل: ما هم؛ أي: أيُّ شيء هم في حالهم وصفتهم. ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم أو التهويل والتفظيع. 9 - والكلام في قوله: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)} كالكلام في قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)}. وأصحاب الميمنة: هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم. وأصحاب المشأمة: هم الذين يأخذون بشمائلهم. أو الذين يكونون على يمين العرش، فيأخذون طريق الجنة، والذين يكونون على شمال العرش فيفضى بهم إلى النار. أو أصحاب الميمنة: أصحاب المنزلة السنيّة، وأصحاب المشأمة: أصحاب المنزلة الدنيّة أخذًا من تيّمنهم بالميامن؛ أي: بطرف اليمين، وتشؤمهم بالشمائل؛ أي: بجانب الشمال. كما تقول: فلان منّي باليمين، أو بالشمال. إذا وصفته عندك بالرفعة أو الضمة. تريد ما يلزم من جهتي اليمين والشمال من رفعة القدر وانحطاطه. أو أصحاب اليمن، وأصحاب الشؤم. فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم، أو أصحاب الميمنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين أخرجت ذريته من صلبه، قال تعالى في حقهم: "هؤلاء من أهل الجنة ولا أبالي". وأصحاب المشأمة: هم الذين كانوا على شماله، وقال تعالى فيهم: "هؤلاء من أهل النار ولا أبالي". والمراد من هذا الكلام: تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة، والفظاعة. كأنَّه قيل: فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة، وحسن الحال. وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة، وسوء الحال. فكأنه قيل: ما عرفت حاله، أي شيء هي، فاعرفها وتعجب منها. 10 - ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث، فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} والتكرير فيه

للتفخيم والتعظيم؛ كما مر في القسمين الأوليين. كما تقول: أنت أنت، وزيد زيد. وهم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة. أخر ذكرهم ليقترن ببين محاسن أحوالهم. وأصل السبق: المتقدم في السير، ثم تجوز به في غيره من المتقدم. والجملة مبتدأ وخبر. والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت محاسنهم. كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. أو السابقون الأول مبتدأ، والثاني تأكيد له، كرر تعظيمًا لهم؛ والخبر جملة قوله: {أُولَئِكَ} إلخ. وفي البرهان: التقدير عند بعضهم: السابقون ما السابقون، فحذف {ما} لدلالة ما قبله عليه. ومعنى الآيات: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)}؛ أي (¬1): وصرتم أيها الخلائق في ذلك اليوم ثلاثة أصناف: اثنان في الجنة، وواحد في النار. ثم بينهم بقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ...} إلخ؛ أي: فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم، أيُّ شيء هم في حالهم. فهم في غاية حسن الحال في الكرامة؛ والسرور؛ وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيُّ شيء هم في حالهم فهم في غاية سوء الحال، وهم في الهوان والعذاب. والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت محاسنهم. فهم يسبقون الخلق إلى الجنّة من غير حساب. فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم السابقون إلى الهجرة، السابقون في الآخرة إلى الجنّة. وقيل: هم السابقون إلى الإسلام. وقيل: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار. وقيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. وقيل: إلى الجهاد. وقيل: هم المسارعون إلى التوبة؛ وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البرّ والخير. وقيل: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة. فإن قلت (¬2): لم أخر ذكر السابقين، وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة، وذلك أنَّ الله تعالى ذكر في أوّل السورة من الأمور الهائلة ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الخازن.

[11]

عند قيام الساعة تخويفًا لعباده. فأما المحسن فيزداد رغبة في الثواب، وأما المسيء فيرجع عن إساءته خوفًا من العقاب. فلذلك قدم {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} ليسمعوا، ويرغبوا. ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا. ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من درجتهم. 11 - وقيل (¬1): وجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوليين ليقرنه بما هو لهم المذكور بقوله: {أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفة الجليلة. وهو مبتدأ، خبره {الْمُقَرَّبُونَ}؛ أي: الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم، وأعليت مراتبهم، ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية. يقول الفقير: عرف هذا المعنى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس": فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن. فإنه يظهر منه أن الفردوس مقام المقربين لقربه من العرش الذي هو سقف الجنة. ولم يقل: أولئك المتقرّبون؛ لأنهم بتقريب ربهم سبقوا لا بتقرب أنفسهم. ففيه إشارة إلى الفضل العظيم في حقّ هؤلاء، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. 12 - وقوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} إما (¬2) متعلق بـ {الْمُقَرَّبُونَ}؛ أي: مقرّبون عند الله في جنات النعيم، أو خبر ثان لأولئك، أو حال من الضمير في {الْمُقَرَّبُونَ} أي: كائنين في جنّات النعيم. والمعنى (¬3): أي والسابقون الذين يتقدّمون غيرهم إلى الطاعات هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت فخامة أمورهم. وقد يكون المعنى: والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه. فمن سبق في هذه الدنيا إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة. فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "الذين إذا أعطوا الحق ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[13]

قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". أخرجه أحمد. أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل "السَّبْق" هم الذي نالوا حظوةً عند ربهم، وهم في جنات النعجم يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقرأ الجمهور (¬1): {فِي جَنَّاتِ} بالجمع. وقرأ طلحة بن مصرف {في جنّة} بالإفراد. وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة؛ ودار العدل. 13 - وارتفاع: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)} على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم أمم كثيرة، وجماعة من الأولين غير محصورة العدد، أي: أولئك السابقون جماعة من الأولين، وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبيّنا عليهما السلام، وعلى من بينهما من الأنبياء العظام، وهذا التفسير مبنيّ على أن يراد السابقين: غير الأنبياء. و (¬2) اشتقاق الثلة من الثل. وهو الكسر. وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم. وقال الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف؛ ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)}؛ أي: جماعة منهم 14 - {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}؛ أي: من هذه الأمّة. ولا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن أمتي يكثرون سائر الأمم" أي: يغلبونهم بالكثرة. فإن أكثرية سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الأمّة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقوهم ألفين، وتابعوهم ألفًا. فالمجموع ثلاثة آلاف. ويكون سابقوا هذه الأمّة ألفًا وتابعوهم ثلاثة آلاف. فالمجموع أربعة آلاف فرضًا. وهذا المجموع أكثر من المجموع الأوّل. وفي الحديث: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة". والحاصل: أن المراد بالأولين في قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)} هم (¬3) الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبيّنا محمد، وبالآخرين في قوله: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}؛ أي: من هذه الأمة المحمدية. وسموا قليلًا بالنسبة إلى من كان قبلهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[15]

وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم. قال الحسن: سابقوا مَنْ مضى أكثر من سابقينا. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء، وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يخالف هذا ما ثبت في "الصحيح" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة؛ لأنّ قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} إنما هو تفصيل للسابقين فقط، كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الآخرين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمّة، ومن ثلّة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة. والمقابلة بين الثُّلَّتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة، كما يقال: هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة، وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور. والمعنى: أي هم جماعة كثيرة من سالفي الأمم، وقليل من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويستأنس لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة". 15 - ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين، فقال: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)} حال أخرى من المقربين، أو خبر آخر للضمير المحذوف، كما في "البيضاوي". والسرر: جمع سرير، مثل: كثب جمع كثيب، أي: حال كونهم على سرر منسوجة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت من الوضن. وهو نسج الدرع، أو (¬1) موصولة بالذهب والفضة، منسوجة بالدر والياقوت. ويقال: أرضها من الذهب الممدود، وقوائمها من الجواهر النفيسة. وقرأ الجمهور (¬2): {سُرُرٍ} بضم السين، والراء الأولى. وقرأ زيد بن علي وأبو السمال بفتح السين، وهي لغة لبعض بني نعيم، وكلب، يفتحون عين فصل ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) البحر المحيط.

[16]

جمع فعيل المضعف. نحو: سرير. 16 - {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)} حالان (¬1) من الضمير المستكن فيما تعلق به {عَلَى سُرُرٍ}. والتقابل أن يقبل بعضهم على بعض إما بالذات، وإما بالعناية والمودة؛ أي: مستقرين على سرر حال كونهم متكئين عليها؛ أي: قاعدين على تلك السرر قعود الملوك للاستراحة متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض. وهو وصف لهم بحسن العشرة، وتهذيب الأخلاق والآداب. وقال أبو الليث: متقابلين في الزيارة. 17 - وجملة قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: يدور حولهم للخدمة حال الشرب وغيره {وِلْدَانٌ}، جمع وليد. وخدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير {مُخَلَّدُونَ}؛ أي: مبقون أبدًا على شكل الولدان، وطراوتهم، لا يتحولون عنها. لأنهم خلقوا للبقاء، ومن خلق للبقاء لا يتغير، وهم خلقوا للخدمة قط، والحور العين للخدمة والمتعة، في محل النصب على الحال من المقربين أو مستأنفة لبيان بعض ما أعد الله لهم من النعيم. والمعنى (¬2): مستقرون عل سرر موضونة حال كونهم متكئين عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، فهم في صفاء، وعش، ورغد، وحسن معاشرة، لا يوجد في نفوسهم من الشحناء، والبغضاء ما يوجب الافتراق، يدور عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون، ولا يتغيرون. فهم دائمًا على الصفة الي تسر المخدوم إذا رأى الخادم، يعني: أنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مؤنة ما يريدون. فهم في غاية ترف ونعيم. قيل: هم ولدان المسلمين يموتون صغارًا، لا حسنة لهم ولا سيئة. وقيل: هم أطفال المشركين. ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة. 18 - وقوله: {بِأَكْوَابٍ ...} إلخ، متعلق بيطوف، أي: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب من الذهب والجواهر، أي (¬3): بآنية لا عرى لها، ولا خراطيم. وهي الأباريق الواسعة الرأس، لا خرطوم لها، ولا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء من الحالة التي تناوله بها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[19]

ليشرب. {وَأَبَارِيقَ}، جمع إبريق. وهو الإناء الذي له عروة، وخرطوم يبرق لونه من صفائه. وقيل: إنها أعجمية معربة آبْ ري؛ أي: بآنية ذات عرى وخراطيم. وبقال: الكوب للماء وغيره. والإبريق لغسل الأيدي، والكأس لشرب الخمر. كما قال: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}؛ أي: وبكأس من خمر جارية من العيون. أخبر أن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا، تستخرج بتكلف وعلاج وتكون في أوعية، بل هي كثيرة جارية. كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ}. والكأس: القدح إذا كان فيها شراب، وإلا فهو قدح. يقال: معن الماء إذا جرى، فهو فعيل بمعنى الفاعل؛ أي: ظاهرة تراها العيون في الأنهار كالماء المعين. فإن قلت: كيف جمع الأكواب والأباريق، وأفرد الكأس؟ فالجواب: أن ذلك على عادة أهل الشراب. فإنهم يعدون الخمر في الأواني المتعددة، ويشربون بكأس واحدة. 19 - {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: (¬1) لا تتصدع رؤوسهم، ولا تتوجع من شربها؛ أي: لا ينالهم بسب شربها صداع كما ينالهم ذلك من خمر الدنيا. والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه. وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. وليست هذه الخصال الذي خمر الجنة، بل هي لذّة بلا أذى. وقرأ مجاهد {لا يَصَّدعون} بفتح الياء، وشدَّ الصاد. وأصله: يتصدَّعون، أدغم التاء في الصاد؛ أي: لا يتفرقون عنها كما يتفرق الشراب، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وقرأ الجمهور (¬2) بضم الياء، وتخفيف الصاد. والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم، أو في محل النصب على الحال. وجملة {وَلَا يُنْزِفُونَ}، معطوفة على الجملة التي قبلها، أي: لا يسكرون بشربها، فتذهب عقولهم، أو لا ينفد شرابهم، من أنزف الشارب، إذا نفد عقله، أو شرابه. فالنفاد إما للعقل، وهو من عيوب خمر الدنيا، أو للشراب فإن بنفادها تختل الصحبة. وقرأ الجمهور: {وَلَا يُنْزَفُون} مبنيًا للمفعول، من أنزف الشارب إذا نفد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[20]

عقله. وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء، وكسر الزاي من نزف البئر استفرغ ماءها. فالمعنى: لا تفرغ خمرهم. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا، وعبد الله، والسلمي، والجحدري، والأعمش، وطلحة، وعيسى بضم الياء، وكسر الزاي؛ أي: لا يفتى لهم شراب. والمعنى (¬1): يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق، وخمر تجري من العيون، ولا تعصر عصرًا. فهي صافية نقية، لا تنقطع أبدًا. وهم يطلبون منها ما يريدون، ولا صداع في شرابها، ولا ذهاب منها للعقل، كما في خمور الدنيا. 20 - وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام، فقال: {وَفَاكِهَةٍ} معطوف على {بِأَكْوَابٍ}؛ أي: يطوف عليهم ولدان بفاكهة كائنة {مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}؛ أي: مما يختارونه، ويأخذون خيره، وأفضله من ألوانها. وكلها خيار. والفاكهة: ما يؤكل من الثمار تلذذًا، لا لحفظ الصحة لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالغذاء في الجنة، وليس ذلك كقوت الدنيا الذي يتناوله من يضطر إليه. وهو إشارة إلى أنه يتناول المأكولات التي يتنعم بها. 21 - ثم ذكر اللحم الذي هو سيد الإدام، كانت العرب يتوسعون بلحوم الإبل، ويعز عندهم لحم الطير الذي هو أطيب اللحوم، ويسمعون بها عند الملوك فوعدوها؛ فقيل: {وَلَحْمِ طَيْرٍ}؛ أي: ويطوفون عليهم بلحم طير كائن {مِمَّا يَشْتَهُونَ}؛ أي: مما يتمنونه، وتشتهيه أنفسهم مشويًّا أو مطبوخًا. يتناولونها مشتهين لها، لا مضطرين ولا كارهين. وقرأ الجمهور (¬2) بجر {وَفَاكِهَةٍ} {وَلَحْمِ} عطفًا على أكواب. وقرأ زيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن برفعهما على الابتداء، والخبر مقدّر؛ أي: ولهم فاكهة، ولحم طير. والمعنى: ويطوفون عليهم بألوان من الفاكهة المختلفة المطاعم، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم، وبأنواع من لحوم الطير مما لذ وطاب. فيأخذون منها ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[22]

يشتهون، وفيه يرغبون، وفي "الأسئلة المقحمة": إنما قال: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} فغاير بين اللفطين. فالجواب: لأنَّ الفواكه كما تكون للأكل تكون أيضًا للنظر والشم، وأما لحم الطير فمختلف الشهوات في أكل بعض أجزائه دون بعض. 22 - وبعد أن ذكر طعامهم، وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم. لأنَّ الجماع كان أشهى شيء بعدهما. فقال: {وَ} لهم فيها {حُورٌ عِينٌ} معطوف (¬1) على {وِلْدَانٌ}، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: وفيها أو لهم حور. وهي جمع حوراء، وهي البيضاء أو الشديدة بياض العين، والشديدة سوادها. وعين جمع عيناء، وهي الواسعة الحسنة العين، وهن خلقن من تسبيح الملائكة، كما في "عين المعاني". والمعنى: أي ولهم فيها نساء بيض، واسعات الأعين، مشرقات الوجوه، تبدو علهين نضرة النعيم. وكأنهن اللالىء صفاء وبهجة. وقرأ الجمهور {وَحُورٌ عِينٌ (22)} برفعهما، وخرج على أن يكون معطوفًا على {وِلْدَانٌ} أو على الضمير المستكن في {مُتَّكِئِينَ} أو على مبتدأ محذوف هو وخبره، تقديره: لهم هذا كله، وحور عين أو على حذف خبر فقط؛ أي: ولهم حور أو فيها حور. وقرأ السلميّ، والحسن، وعمرو بن عبيد، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش، وطلحة، والمفضل وأبان، وعصمة، والكسائي بجرهما. والنخعيّ {وحير عين} بقلب الواو ياء، وجرهما. والجر عطف على المجرور، أي: يطوف عليهم ولدان بكذا، وكذا، وحور عين. وقيل: هو على معنى: وينعمون بهذا كله، وبحور عين. وقال: الزمخشري: عطفًا على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. كأنه قال: هم في جنات، وفاكهة، ولحم، وحور. انتهى. وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض. وهو فهم أعجمي. وقرأ أبي، وعبد الله {وحورً عينًا} بنصهما. قالوا، على معنى: ويعطون هذا كله، وحورا عينًا. وقرأ قتادة {وحور عينٍ} بالرفع مضافًا إلى {عين}. وابن مقسم بالنصب مضافًا إلى {عين}. وعكرمة {وحوراء عيناء} على التوحيد، اسم جنس، وبفتح الهمزة فيهما. فاحتمل أن يكون مجرورًا عطفًا على المجرور السابق، واحتمل أن يكون منصوبًا كقراءة أبي، وعبد الله {وحورًا عينًا} ورجح أبو عبيد، وأبو حاتم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[23]

قراءة الجمهور. 23 - ثم شبههن سبحانه باللؤلؤ المكنون، فقال: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)} صفة لحور أو حال؛ أي: كائنات كأمثال الدر المخزون في الصدف الذي لم تمسه الأيدي، ولا وقع عليه الغبار، ولم تره الأعين. أو المصون عما يضرُّ به، ويدنسه في الصفاء والنقاء ولما بالغ في وصف جزائم بالحسن والصفاء دل على أن أعمالهم كانت كذلك؛ 24 - لأن الجزاء من جنس العمل. فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مفعول لأجله (¬1) أي: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم الصالحة في الدنيا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فالمنازل منقسمة على قدر الأعمال. وأما نفس دخول الجنة فبفضل الله ورحمته، لا بعمل عامل. ويجوز أن يكون مصدرًا مؤكدًا لفعل محذوف؛ أي: يجزون جزاء ... إلخ؛ أي: (¬2) جازاهم ربهم على ما عملوا، وأثابهم بما كسبوا في الدنيا، وزكوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء الفرائض على أتم الوجوه وأكملها، فهم كانوا قوامين في الليل، صوامين في النهار {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}. 25 - وبعد أن وصف النساء وصف حينئذٍ حديثهم، فقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا}؛ أي: في الجنة {لَغْوًا}؛ أي: كلامًا لا ينفع، قاله في "المفردات". واللغو من الكلام: ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا. وهو صوت العصافير، ونحوها من الطور. {وَلَا} يسمعون {تَأْثِيمًا}؛ أي: شيئًا منسوبًا إلى الإثم، كالشتم أو نسبتهم إلى الإثم بمعنى: لا يقال لهم: أثمتم؛ لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، كما يتكلم به أهل الدنيا. أو المعنى: لا يأتون تاثيمًا؛ أي: ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح. والإثم: اسم للافعال المبطئة عن الثواب، والجمع آثام. 26 - والاستثناء في قوله: {إِلَّا قِيلًا}؛ أي: قولًا {سَلَامًا سَلَامًا} بدل من {قِيلًا} منقطع؛ أي: لكنهم يسمعون فيها قولًا سلامًا سلامًا. ومعنى سماعهم السلام: أنهم يفشون السلام، فيسلمون سلامًا بعد سلام، أو لا يسمع كل من المسلِّم والمسلَّم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[27]

عليه إلا سلام الآخر بدأ وردًا. وقيل: تسلم عليهم الملائكة، أو يرسل الرب سبحانه بالسلام إليهم. والمعنى: لا يسمعون فيها من غيرهم كلامًا لغوًا ساقطًا، ولا كلامًا يأثم به صاحبه، ولا يقولون كلامًا لغوًا ساقطًا، ولاكلامًا يأثمون به لو كانوا في الدنيا. ولكن يقولون كلامًا هو سلام بعضهم على بعض، أو لا يسمحون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قولًا هو سلام الملائكة عليهم أو سلام الرب سبحانه عليهم، أي: لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث، ولا هجر القول، وما تتقزز منه النفوس الراقية ذات الأخلاق العالية، ولكن يسمعون أطيب السلام، وسامي الكلام مما يستساغ، كما قال سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}. وقرىء {سلام سلام} بالرفع. قال مكي: ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم مبتدأ وخبر. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن جنات السابقين المقربين صافية عن الكدورات المنغصة لساكنيها، فارغة عن العاملات المعبسة لقاطنيها، لا يقول أهلها إلا مع الحق، ولا يسمعون إلا من الحق، تجلى الحق لهم عن اسمه السلام المشتمل على السلامة من النقائض، والآفات المتضمن للقربات والكرامات. 27 - ولما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين، وما أعده لهم من النعيم المقيم ذكر أحوال أصحاب اليمين. فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} وهذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة إثر تفصيل شؤون السابقين. وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: {مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}؛ أي: لا تدري ما لهم من الخير والبركة بسبب فواضل صفاتهم، وكوامل محاسنهم. 28 - وقوله: {فِي سِدْرٍ} خبر ثان، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في سدر {مَخْضُودٍ}؛ أي: غير ذي شوك، خال منه، لا كسدر الدنيا. فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك، وسدر الجنة بلا شوك، كأنه خضد شوكه؛ أي: قطع، ونزع عنه. فقوله (¬2): {سِدْرٍ مَخْضُودٍ} إما من باب المبالغة في التشبيه، أو مجاز بعلاقة السببية؛ فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك. وقيل: "مخضود"؛ أي: مثني أغصانه لكثرة حمله؛ من خضد الغصن إذا ثناه. وهو رطب. فمخضود على هذا الوجه من حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وقال الضحاك، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[29]

ومجاهد، ومقاتل بن حيان: إن السدر المخضود الموقر حملًا. والسدر: شجر النبق. وهو ثمر معروف، محبوب عند العرب، يتخذون من ورقه الحرض. وفي "المفردات": السدر: شجر قليل الغذاء عند الأكل، وقد يخضد، ويستظل به. فجعل ذلك مثلًا لظل الجنة ونعيمها. قال بعضهم: ليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره، بل كلها مأكول، ومشروب، ومشموم، ومنظور إليه. 29 - {وَ} في {طَلْحٍ}؛ أي: موز {مَنْضُودٍ}؛ أي: مملوء بحمله، وثماره من أسفله إلى أعلاه؛ أي: نضد حمله، وتراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه، ليست له سوق بارزة. وهو شجر الموز. وهو شجر له أوراق كبار، وظل بارد. كما أن أوراق السدر صغار؛ أو هو أم غيلان. وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة، تقصد العرب منه النزهة والزينة، وإن كان لا يؤكل منه شيء. وعن السدي: هو شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن مجاهد: كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح والسدر، فقالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية، وقد قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}. وذكر لكل قوم ما يعجبهم، ويحبون مثله. وفضل طلح الجنة وسدرها على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. 30 - {وَ} في {ظِلٍّ مَمْدُودٍ}؛ أي: دائم باق، لا يزول، ولا تنسخه الشمس، لا ينقص، ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع: ممدود، كقول لبيد: غلب العَزَاءَ وَكَانَ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طَوِيلٌ دَائِمٌ مَمْدُودُ وفي الحديث: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة، فيتحدثون في أصلها، ويتذكر بعضهم، ويشتهي لهو الدنيا، فيرسل الله تعالى ريحًا من الجنة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا. وقال في "كشف الأسرار": ويحتمل أن الظل عبارة عن الحفظ. تقول: فلان

[31]

في ظل فلان أي: في كنفه وحفظه ورعايته. لأنه لا شمس في الجنة. انتهى. يقول الفقير (¬1): بل المراد من الظل: الراحة. كما في قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}. لأنّه إنما يجلس المرؤ في الظل للاستراحة، وكانت العرب يرغبون فيه لقلّته في بلادهم، وغلبة حرارة الشمس. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم" أي: يستريح عند عدله. ومنه: قولهم: مدَّ الله ظلاله؛ أي: ظلال عدله ورأفته، حتى يصل أثر الاستراحة إلى الناس كلهم. 31 - {وَ} في {مَاءٍ مَسْكُوبٍ}؛ أي: منصب، يسكب لهم، ويصب عليهم، يجري أينما شاؤوا، وكيفما أرادوا بلا تعب، لا ينقطع عنهم أبدًا. فهو مسكوب يسكبه الله سبحانه في مجاريه، أو مصبوب سائل، يجري على وجه الأرض في غير أخدود. يعني: كون الماء مسكوبًا كثيرًا إما عبارة عن كونه ظاهرًا مكشوفًا غير مختص ببعض الأماكن والكيفيات أو عن كونه جاريًا. وأكثر ماء العرب من الآبار والبرك، فلا يسكب. فلا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالماء الكثير الجاري، حتى يجري في الهواء على حسب الاشتهاء. كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البواد إيذانًا بالتفاوت بين الحالين. فكما أنَّ بينما تفاوتًا فكذا بين حاليهما. 32 - {وَ} في {فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} بحسب الأنواع، والأجناس، والألوان، والطعوم والروائح. دائمة في جحيع الأوقات 33 - {لَا مَقْطُوعَةٍ} في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات. {وَ} مباحة لهم {لَا مَمْنُوعَةٍ} عمن أراد تناولها بوجه من الوجوه، كبعد المتناول، وانعدام ما يشتري به، وشوك في الشجر يؤذي من يقصد تناولها، وحائط يمنع الدخول إليها، ونحوها من المحظورات. بل هي معدة لمن أرادها، يحول بينه وبينها حائل. وفي الحديث: "ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين". وقرىء {فاكهة كثيرة} برفعهما؛ أي: وهناك فاكهة كثيرة. 34 - {وَ} في {فُرُشٍ} جمع فراش. وهو ما يبسط، ويفرش. وقرأ الجمهور (¬2) بضم الراء، وأبو حيوة بسكونها؛ أي: هم في بسط {مَرْفُوعَةٍ}؛ أي: مرفوع بعضها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[35]

فوق بعض أو مرفوعة على الأسرة أو رفيعة القدر أو مرتفعة وارتفاعها كما بين السماء والأرض. وهو مسيرة خمس مئة عام. والظاهر: أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه، والنوم. وقال أبو عبيده، وغيره: إنَّ الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش، وباللباس وبالإزار. وفي الحديث: "الولد للفراش". فسمى المرأة فراشًا. وارتفاعهن كونهن على الأرائك، أو كونهن مرتفعات القدر في الحسن، والكمال. 35 - دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)}؛ لأن الضمير عائد على الفرش في قول أبي عبيدة، إذ هن النساء عنده. وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه لفظ الفرش من الملابس التي تفرش، ويضطجع عليها. وهو النساء؛ أي: ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدًا من غير ولادة إبداء وإعادة. أما الإبداء فكما في الحور العين؛ لأنهن أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة. وأمّا الإعادة فكما في نساء الدنيا المقبوضة عجائز. وفي الحديث: "هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطًا" جمع شمطاء. والشمط: بياض شعر الرَّأس يخالطه سواد. "رُمْصًا" جمع رمصاء. والرمص بالتحريك. وسخ يجتمع في الموق. جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابًا على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا. فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت: وَا وجعاه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس هناك وجعٌ". وقد فعل الله في الدنيا بزكريا عليه السلام، فقال تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}. سئل الحسن عن ذلك الصلاح، فقال: جعلها شابة بعد أن كانت عجوزًا، وولودًا بعد أن كانت عقيمًا. 36 - وذلك قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ} بعد أن كن عجائز ثيبات {أَبْكَارًا}؛ أي: شواب أبكارًا؛ أي: عذارى، لم يطمئهن إنس قبلهم ولا جان. جمع بكر. والمصدر البكارة بالفتح، وسميت التي لم تفتض بكرًا اعتبارًا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء. قال سعدي المفتي: إن أريد بالإنشاء معنى الإبداء، فالجعل بمعنى الخلق، وقوله: {أَبْكَارًا} حال. إن أريد به: الأعادة فهو بمعنى التصيير، و {أَبْكَارًا} مفعوله الثاني. قال بعضهم: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)} على أن المراد بهن: نساء الدنيا؛ لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكر. وهن أفضل، وأحسن من حور الجنة؛ لأنهن عملن الصالحات في الدنيا، بخلاف الحور. وعن الحسن محمد الله تعالى عنه: قالت عجوز عند عائشة ضي الله عنها من بني عامر: يا رسول الله أدع الله أن

[37]

يدخلني الجنة، نقال: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت وهي تبكي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز"، وقرأ الآية: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَثنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)}. وهو حديث مرسل، رواه البغوي بسنده. 37 - {عُرُبًا} جمع عروب، كرسل جمع رسول. وهي المتحببة إلى زوجها، الحسنة التنقل. وفي "المفردات": امرأة عروبة؛ أي: معربة بحالها عن عفتها، ومحبة زوجها، من اعرب إذا بين. وفي بعض التفاسير: {عُرُبًا} كلامهن عربي. وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام. وقرأ حمزة (¬1)، وناس منهم: شجاع، وعباس، والأصمعي عن أبي عمرو، وناس منهم: خارجة، وكردم، وأبو خليد عن نافع، وناس منهم: أبو بكر، وحمّاد وأبان عن عاصم بسكون الراء. وهي لغة تميم، وقرأ باقي السبعة بضمها. وهما لغتان في جمع فعول. {أَتْرَابًا}؛ أي: أقرانًا وأمثالًا، في الشكل، والقد. والأتراب (¬2): هن اللواتي على ميلاد واحد، وسن واحد. وقال مجاهد: {أَتْرَابًا} أمثالًا وأشكالًا. وقال السدي: أترابًا في الأخلاق، لا تباغض بينهن، ولا تحاسد. جمع ترب. وهي اللدة، والسن، ومن ولد معك. والمعنى؛ أي: مستويات في سن بنت ثلاث وثلاثين سنة، وكذا أزواجهن. والقامة ستون ذراعًا في سبعة أذرع عل قامة أبيهم آدم، شباب جرد مكحولون أحسنهم كالقمر ليلة البدر، وآخرهم كالكوكب الدري في السماء، يبصر وجهه في وجهها، وتبصر وجهها في وجهه. لا يبزقون، ولا يتمخطون، وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد. وفي الحديث: "إنَّ الرجل ليفتض في الغداة سبعين عذراء ثم ينشئهن الله أبكارًا". وفي الحديث: "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء". والجابية بالجيم: بلد بالشام. وصنعاء: بلد باليمن، كثيرة الأشجار والمياه، تشبه دمشق. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[38]

38 - وقوله: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)} أعاد ذكره للتأكيد والتحقيق. وهو متعلق (¬1) بـ {أَنْشَأْنَاهُنَّ} أو بـ {جعلنا} أو بـ {أَتْرَابًا}. والمعنى: أنَّ الله سبحانه أنشأهنّ لأجلهم أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في السن، أو هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هن لأصحاب اليمين. 39 - وقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} راجع إلى قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)}. وهو خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: هم - أي: أصحاب اليمين - جماعة، أو أمة أو فرقة، أو قطعة من الأوّلين، أي: من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجماعة أو أمّة أو فرقة أو قطعة من الآخرين؛ أي: من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)}؛ أي: من سابقي هذه الأمّة، 40 - {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} أي: من أخرى هذه الأمة. وفي الحديث (¬2): "هم جميعًا من أمتي"؛ أي: الثلتان من أمتي. فعلى هذا التابعون بإحسان، ومن جرى مجراهم ثلة أولى. وسائر الأمة ثلة أخرى إلى آخر الزمان. وإنما لم يقل في حق هؤلاء: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما قال ذلك في حقّ السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. وحاصل معنى الآيات (¬3): هم - أي: أصحاب اليمين - يتمتعون بجنات فيها السدر الذين قطع شوكه، لا كسدر البرية في الدنيا، وفيها الموز الذي مليء ثمرًا، فلا تظهر له سيقان، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر، ووهج الشمس، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى نصب وتعب للحصول عليه، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدًا، ولا تمتنع عنهم في وقت، فهم يجدونها متى شاؤوا، وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة، لا تتعب الجالس عليها. ثم ذكر ما يتمتعون به من النساء، فقال: إنا أعددناهن نساء أبكارًا متحببات ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[41]

إلى أزواجهن، إذ هن يحسن التبعل كلهن في سن واحدة، لا تمتاز واحدة عن أخرى، وأعطيناهن لأصحاب اليمين جماعة من مؤمني الأمم السالفة، وجماعة من مؤمني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 41 - ولما فرغ الله سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين .. شرع في ذكر أصحاب الشمال، وما أعده لهم. فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} وهم الكفار لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}. وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: {مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: لا تدري ما لهم من الشر، وشدة الحال يوم القيامة. 42 - هم {فِي سَمُومٍ}؛ أي: في حر نار تنفذ في المسام. وهي ثقب البدن؛ وتحرق الأجساد والأكباد. وهو إما خبر ثان لأصحاب الشمال أو خبر مبتدأ محذوف. وفي "القاموس": السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، وتكون غالبًا في النهار. والحرور: الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار. انتهى {وَ} في {حَمِيمٍ}؛ أي: في ماء حار بالغ نهاية الحرارة. 43 - {و} في {ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}؛ أي: من دخان أسود بهيم. فإن اليحموم: الدخان، والأسود من كل شيء كما في "القاموس". وهو يفعول من الحمة بالضم. وهو الفحم أو من الأحم وهو الأسود، كما سيأتي. تقول العرب: أسود يحموم إذا كان شديد السواد. قال الضحاك: النار سوداء، وأهلها سود، وكل شيء فيها أسود. ولذا لا يكون في الجنة الأسود إلا الخال؛ وأشفار العين، والحاجب. والمعنى: أنهم يفزعون إلى الظل، فيجدونه ظلًا من دخان جهنم شديد السواد. يقول الفقير (¬1): ففيه تحذير من شرب الدخان الشائع في هذه الأعصار. فإنه يرتفع حين شربه، ويكون كالظل فوق شاربه مع ما لشربه من الغوائل الكثيرة ليس هذا موضع ذكرها، فنسأل الله العافية لمن ابتلي به. إذ هو مما تستخبثه الطباع السليمة، وهو حرام كما عليه أكثر العلماء، إلا من شذَّ وعاند. 44 - ثم وصف هذا الظل بقوله: {لَا بَارِدٍ} كسائر الظلال التي تكون باردة، بل هو ¬

_ (¬1) روح البيان.

حارّ؛ لأنه من دخان نار جهنم. {وَلَا كَرِيمٍ}؛ أي (¬1): ولا نافع من أذى الحر لمن يأوي إليه نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح. يعني: أنه سماه ظلًّا، ثم نفى عنه. وصيغة البرد والكرم الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيق أنه ليس بظل. والكرم صفة لكل ما يرضي، بجري في بابه. والظل يقصد لفائدتين: لبرودته، ودفع أذى الحر، وإن لم تحصل الاستراحة بالبرد لعدمه. كما في البيوت المسدودة الأطراف، بحيث لا يتحرك فيها الهواء؛ فإن من يأوي إليها يتخلص بها من أذى حر الشمس؛ وإن لم يستروح ببردها. وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون للظل البارد والكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. قال سعيد بن المسيب: {وَلَا كَرِيمٍ}؛ أي: ليس فيه حسن منظر، وكل ما لا خير فيه فلىس بكريم. وقال الضحاك: {وَلَا كَرِيمٍ}؛ أي: ولا عذب. وقرأ الجمهور (¬2) {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} بجرهما، وابن أبي عبلة برفعهما، أي: لا هو بارد ولا كريم. ومعنى الآيات (¬3): أي أصحاب الشمال في حال لا يستطاع وصفها، ولا يقادر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب. ثم فسر هذا المبهم بقوله: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ...} إلخ؛ أي: هم في حرٍّ ينفذ في المسامّ، وماء متناه في الحرارة، وظل من دخان أسود ليس بطيب الهبوب ولا حسن المنظر؛ لأنه دخان من سعير جهنم، يؤلم من يستظل به. قال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة {الكريم} في النفي، فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة، اهـ. وذكر السموم الذي هو الريح المتعفن يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة، بقتل الإنسان. والحميم: الذي هو الماء الحار، ولم يذكر النار إشارة بالأدنى إلى الأعلى؛ فإن هواءهم إذا كان سمومًا، وماءهم الذي يستغيثون به حميمًا، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها، فما ظنك بنارهم؟. فكأنه قال: إن أبرد الأشياء لديهم أحرها، فما بالك بحالهم مع أحرها؟. ونحو الآية قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[45]

{(29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}. والخلاصة (¬1): أنَّ السموم تضربهم فيعطشون، وتلتهب تارةً أجشاؤهم فيشربون الماء فيقطع أمعاءهم، ويريدون الاستظلال بظل فيكون ظل اليحموم. 45 - ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب. فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن أصحاب الشمال {كَانُوا} في الدنيا {قَبْلَ ذَلِكَ}؛ أي: قبل ما ذكر من سوء العذاب النازل بهم {مُتْرَفِينَ} أي (¬2): منعمين بأنواع النعم من المآكل، والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات. فلا جرم عذبوا بنقائضها. يقال: ترف كفرح، تنعم وأترفته النعمة أطغته وأنعمته، والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء فلا يمنع، كما في "القاموس". وهذه الجملة تعليل لما قبلها 46 - {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} ويداومون ويواظبون {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}؛ أي: على الذنب العظيم الذي هو الشرك. ومنه: قولهم: بلغ الغلام الحنث؛ أي: الحلم، ووقت المؤاخذة بالذنب. وحنث في يمينه خلاف برَّ فيها. وقال بعضهم: الحنث هنا: الكذب؛ لأنهم كانوا يحلفون بالله مع شركهم لا يبعث الله من يموت. يقول الفقير: يدل على هذا ما يأتي من قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)}. والحكمة في ذكر سبب عذابهم - مع أنه لم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين -: التنبيه على أن ذلك الثواب منه تعالى فضل، لا تستوجبه طاعة مطيع، وشكر شاكر، وإن العقاب منه تعالى عدل. فإذا لم يعلم سبب العقاب يظن أن هناك ظلمًا. 47 - {وَكَانُوا} مع شركهم {يَقُولُونَ} لغابة عتوّهم وعنادهم {أَئِذَا مِتْنَا} والهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف هو متعلق {إذا}، دل عليه قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؛ أي: أنبعث إذا متنا. {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا}؛ أي: أنبعث إذا كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ترابًا، وبعضها عظامًا نخرة بالية. وتقديم (¬3) التراب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[48]

لعراقته في الاستبعاد، وانقلابه من الأجزاء البادية. و {إذا} ممحضة للظرفية، والعامل فيها ما دل عليه قوله سبحانه: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، لا نفسه. لأن ما بعد "إنَّ، واللام، والهمزة" لا يعمل فيما قبلها. وهو البعث، كما مرَّ تقديره آنفًا. وهو المرجع للإنكار والاستبعاد، وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت، وإن كان البدن على حاله، بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية بالكلية. وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم ترابًا وعظامًا، بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة. 48 - والهمزة في قوله: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)} للإنكار والاستبعاد أيضًا، داخلة على محذوف، والواو: للعطف على المستكن في {لَمَبْعُوثُونَ} لوقوع الفصل بينهما بالهمزة، والتقدير: ألمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون؟. والمعنى: أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم. وقرىء (¬1) {وآبائنا} بلا همزة. وقرأ نافع، وابن عامر "أو" بالسكون. وقد سبق مثله، ذكره البيضاوي. ومعنى الآيات (¬2): أي إنهم كانوا في الدنيا منعمين بألوان من المآكل، والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فلا جرم عذبوا بنقائضها، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم، ويقولون: أنبعث نحن وآباؤنا الأولون، ونعود كرة أخرى، وقد صرنا أجسادًا بالنية، وعظامًا نخرة. والخلاصة: أنهم كانوا يمتعون بوافر النعم، وجزيل المنن. وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم، ولم يشكروا أنعم الله عليهم، فاستحقوا عذاب ربهم، وكانوا مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه، وركبوا رؤوسهم فلم يلووا على شيء، وهاموا في أودية الضلالة، وساروا في سبيل الغواية، ولا رقيب ولا حسيب. وقد جرت سنّة القران أن يذكر أسباب العقاب (¬3)، ولا يذكر أسباب الثواب؛ لانَّ الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[49]

المتفضل به نقص ولا ظلم، أما العدل إن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم، كما مر آنفًا في بيان الحكمة، وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابًا: 1 - الحياة بعد الموت. 2 - طول العهد بعد الموت، حتى صارت اللحوم ترابًا، والعظام رفاتًا. 3 - بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين: أو يبعث آباءنا الأولون؟. 49 - فرد الله سبحانه عليهم كل هذا، وأمر رسوله أن يجيبهم ويرد عليهم استبعادهم، فقال: {قُلْ} يا محمد ردًّا لإنكارهم، وتحقيقًا للحق. {إِنَّ الْأَوَّلِينَ} في الزمن من الأمم الماضية {وَالْآخِرِينَ} فيه الذين أنتم من جملتهم، وفي تقديم (¬1) {الْأَوَّلِينَ} مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آباءهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي. 50 - {لَمَجْمُوعُونَ} بعد الموت، وكأنه ضمن الجمع معنى السوق، فعدى تعديته بإلى. وقرىء {لمجمعون}، ولذا قال: {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}؛ أي: إلى ما وقتت به الدنيا، وحدت من يوم معلوم لله، معين عنده. وهو يوم القيامة. والإضافة بمعنى من، كخاتم ففة. والميقات هو الوقت المضروب للشي ينتهي عنده أو يبتدأ فيه؛ ويوم القيامة ميقات تنتهي الدنيا عنده، وأول جزء منه. فالميقات الوقت المحدود، وقد يستعار للمكان. ومنه: مواقيت الإحرام للحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا. والمعنى (¬2): أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلًا لهم: إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد؛ والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا ليجمعون في صعيد واحد في ذلك اليوم المعلوم، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه. ونحو الآية قوله تعالى في سورة النازعات: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}. 51 - ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء في مآكلهم، ومشاربهم فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ} الخطاب (¬3) لأهل مكة؛ وأضرابهم، وهو معطوف على {إِنَّ الْأَوَّلِينَ}، داخل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[52]

تحت القول. و {ثُمَّ} للتراخي زمانًا أو رتبة. {أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن الحق والهدى {الْمُكَذِّبُونَ}؛ أي: البعث. ووصفهم بوصفين قبيحين. وهما الضلال عن الحق، والتكذيب له. 52 - {لَآكِلُونَ} بعد البعث، والجمع، ودخول جهنم {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر. وتفسيره؛ أي: مبتدئون الأكل من شجر هو الزقوم. وهو شجر كريه المنظر والطعم، حار في اللمس، منتن في الرائحة، وهي الشجرة الملعونة في القرآن، ويقال: سدرة المنتهى، أغصانها نعيم لأهل الجنة، وأصولها زقوم، لأهل النار. فهي مبدأ اللطف، والقهر، والجمال، والجلال، ولا أصل لهذا الكلام، وبجوز (¬1) أن تكون "من" الأولى مزيدة، والثانية بيانية، وأن تكون الثانية مزيدة والأولى للابتداء. 53 - {فَمَالِئُونَ} يقال: ملأ الإناء فهو مملوء، من باب قطع، والملاء بالكسر: مقدار ما يأخذ الإناء إذا امتلأ. {مِنْهَا}؛ أي: من تلك الشجرة. والتأنيث باعتبار المعنى. {الْبُطُونَ}؛ أي: بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع أو بالقسر. وفيه (¬2) بيان لزيادة العذاب، وكماله؛ أي: لا يكتفى منكم بنفس الأكل كما يكتفي من يأكل الشيء تحلة القسم بمسمى الأكل، بل تلزمون بأن تملؤوا منها البطون؛ أي: يملأ كل واحد منكم بطنه أو بطون الأمعاء، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب. 54 - {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ}؛ أي: على شجر الزقوم؛ أي: عقب ذلك بلا ريث لعطشكم الغالب. وتذكير الضمير هنا باعتبار لفظ الشجر؛ لأنه يذكر ويؤنث أو عائد إلى الزقوم. وبجوز (¬3) أن يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله: {لَآكِلُونَ}؛ أي: فشاربون على الزقوم عقب أكله {مِنَ الْحَمِيم}؛ أي: من الماء الحار البالغ الغاية في الحرارة. وقرىء {من شجرة} بالإفراد. 55 - {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)}؛ أي: شربًا كشرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها. وهذه الجملة كالتفسير والبيان لما قبلها؛ أي: لا يكون شربكم شربًا معتادًا، بل يكون مثل شرب الهيم. وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء (¬4) يصيبها، يشبه الاستسقاء فتشرب ولا تروي إلى أن تموت أو تسقم سقمًا شديدًا، والهيم: جمع أهيم وهيماء، كحمر وأحمر وحمراء. فأصله: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[56]

هيم بضم الهاء بوزن حمر، فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء، فصار نظير بيض. قال قيس بن الملوح: يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِيْ مَكَانَ شِفَائِيَا وقيل: جمع هائم وهائمة، وجمع فاعل على فعل كباذل وبذل، عائذ وعوذ شاذ. وقال الضحاك (¬1)، وابن عيينة، والأخفش، وابن كيسان: الهيم: الأرض السهلة ذات الرمل. والمعنى عليه: أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء، ولا يظهر له فيها أثر. ومعنى هذا الكلام (¬2): أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يفطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل. فإذا ملؤوا منه بطونهم، وهو في غاية الحرارة، والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه لتشرب الإبل العطاش. وفيه بيان لزيادة العذاب أيضًا؛ أي: لا يكون شربكم أيها الضالون كشرب من يشرب ماء حارًا منتنًا، فإنه يمسك عنه إذا وجده مؤلمًا معذبًا بخلاف شربكم، فإنكم تلزمون بأن تشربوا منه مثل ما يشرب الجمل الأهيم، فإنه يشرب ولا يروى. 56 - {هَذَا} الذي ذكر من الزقوم والحميم أوّل ما يلقونه من العذاب {نُزُلُهُمْ}؛ أي: رزقهم المعدّ لهم؛ أي: كالنزل الذي يعد للنازل مما حضر مكرمة له. {يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء. فإذا كان ذلك نزلهم فما ظنك بحالهم بعدما استقر لهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار؟. وفيه من التهكم بهم، والتوبيخ لهم ما لا يخفى، كما في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لأن ما يعد لهم في جهنم ليس مكرمة لهم، كما قال: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة، مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}. وقرأ عبد الله {من شجرة}، كما مرت الإشارة إليه. والضمير في قوله: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا} عائد على شجر. إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر. وعلى قراءة عبد الله فهو واضح. {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} قال الزمخشري: ذكر على لفظ الشجر كما أنَّث على المعنى في {مِنْهَا}، قال: ومن قرأ {من شجرة} فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم؛ لأنه يفسرها، وهي في معناه. وقال ابن عطية: الضمير في {عَلَيْهِ} عائد على المأكول أو على الأكل، انتهى، فلم يجعله عائدًا على شجر. قال الزمخشري: فإن قلت (¬2): كيف يصح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكان عطفًا للشي على نفَسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين من حيث كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهى الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضًا، فكانتا صفتين مختلفتين، انتهى. والفاء تقتضي التعقب في الشربين، وأنهم أوّلًا لمَّا عطشوا شربوا من الحميم ظنًّا أنه يسكن عطشهم، فازداد العطش بحرارة الحميم، فشربوا بعده شربًا لا يقع به ري أبدًا، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم، لا شرب واحد، اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود الصفة، والمشروب منه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} محذوف لفهم المعنى، تقديره: فشاربون منه شرب الهيم. وقرأ نافع وعاصم وحمزة (¬3): {شُرْبَ الْهِيمِ} بضم الشين. وهو مصدر سماعي، وقيل: اسم لما يشرب. وقرأ مجاهد، وأبو عثمان النهدي بكسرها. وهو بمعنى المشروب اسم لا مصدر، كالطحن والري، وقرأ الأعرج، وابن المسيب، وحبيب بن الحبحاب، ومالك بن دينار، وباقي السبعة بفتحها. وهو مصدر مقيس. وقرأ الجمهور: (¬4) {نُزُلُهم} بضمتين. وقرأ ابن محيصن، وخارجة عن نافع، ونعيم، ومحبوب، وأبو زيد، وهارون، وعصمة، وعباس كلهم عن أبي عمرو بضم النون وسكون الزاي. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الكشاف. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

ومعنى الآيات: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ ...} إلخ؛ أي (¬1): أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم؛ إذ لم توحدوا الله سبحانه، ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه. ثم كذبتم رسله، فأنكرتم البعث والجزاء في هذا اليوم، إنكم لآكلون من شجر الزقوم فمالئون منها بطونكم، فشاربون بعد ذلك من ماء حار، لغلبة العطش عليكم، ولكنه شرب لا يشفي الغليل، ومن ثم تشربون، ولا ترتوون فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام، فلا يروي لها الماء غليلًا، ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب، بل هو أوله وقطعة منه. فقال: هذا الزقوم المأكول، والحميم المشروب أول الضيافة التي تقدم لهم، كما يقدم للنازل مما حضر. فما بالك بهم بعدما يستقر بهم المقام في الدار؟. وفي الآية: إشارة إلى إفراط النفس والهوى في شرب ماء حميم الجهل والضلال، وفي أكل زقوم المشتهيات المورثة للوبال، ولغاية حرصها لا تزيد إلا جوعًا وعطشًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. الإعراب {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذا وقعت الواقعة وقامت القيامة تكون يومئذٍ الأهوال الهائلة، والفظائع المختلفة، وجملة {إِذَا} الشرطية مستأنفة، وفي إعراب {إِذَا} هنا أوجه: 1 - إنها ظرف محض ليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي، كأنّه قيل: ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت، وعليه الزمخشري. وقد ردوا عليه بما لا يسعه كتابنا. 2 - إن العامل فيها اذكر مقدرًا. ¬

_ (¬1) المراغي.

3 - إنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان. 4 - إنها شرطية وجوابها مقدر؛ أي: إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت. وهو العامل فيها، وعليه إعرابنا السابق. 5 - إنها مبتدأ، و {إِذَا رُجَّتِ} خبرها. وهذا على القول: بأنها تتصرف. 6 - إنها ظرف {خَافِضَةٌ}، {رَافِعَةٌ}. قاله أبو البقاء. 7 - إنها ظرف لـ {رُجَّتِ}، و {إِذَا} الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها. 8 - إن العامل فيها ما دل عليه قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؛ أي: إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها. 9 - إن جواب الشرط قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. 10 - إنها صلة؛ أي: وقعت الواقعة مثل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}. وهو كما يقال: قد جاء الصوم؛ أي: دنا واقترب، قاله الجرجاني. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لِوَقْعَتِهَا} خبرها مقدم، واللام بمعنى في على تقدير مضاف، و {كَاذِبَةٌ} اسمها مؤخر، و {كَاذِبَةٌ} صفة لموصوف محذوف؛ أي: ليس نفس كاذبة توجد في وقت وقوعها. وجملة {لَيْسَ} في محل النصب حال من الواقعة؛ أي: إذا وقعت الواقعة حالة كونها موصوفة بعدم وقوع كاذبة في وقت وقوعها تكون الأهوال الهائلة. {خَافِضَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي خافضة لأناس، {رَافِعَةٌ} خبر ثان لذلك المحذوف. والجملة الاسمية في محل النصب، حال ثانية من الواقعة؛ أي: حالة كونها خافضة لأناس، رافعة لآخرين. {إِذَا رُجَّتِ} {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {رُجَّتِ الْأَرْضُ} فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، {رَجًّا} مفعول مطلق. و {إِذَا} يجوز أن تكون بدلًا من {إِذَا} الأولى، وجوابها محذوف كالأولى أو تأكيد لها. ويجوز أن تكون ظرفًا محضًا متعلقًا بـ {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}؛ أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال. {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} فعل، ونائب فاعل، معطوف على {رُجَّتِ الْأَرْضُ}، {بَسًّا} مفعول مطلق، {فَكَانَتْ} الفاء: عاطفة، {كانت} فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الجبال، {هَبَاءً} خبرها، {مُنْبَثًّا} صفة {هَبَاءً}. وجملة كان معطوفة على جملة {بست الجبال}.

{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)}. {وَكُنْتُمْ} الواو: عاطفة، {وَكُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، {أَزْوَاجًا} خبرها، {ثَلَاثَةً} صفة {أَزْوَاجًا}. والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنكم تكونون أزواجًا ثلاثة، وأردتم بيان تلك الثلاثة فأقول لكم: أصحاب الميمنة. {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} مبتدأ أوّل، ومضاف إليه، {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ثان، {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} خبره. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول. وجملة الأول مع خبره في فصل النصب؛ مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. والغرض من هذا الاستفهام: التعظيم، والتفخيم؛ وتكرير المبتدأ بلفظه أغنى عن الضمير الرابط. مثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)}. {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)}. {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} مبتدأ أوّل؛ {مَا} اسم استفهام في فصل الرفع مبتدأ ثان، {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الأول مع خبره في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. {وَالسَّابِقُونَ} مبتدأ، {السَّابِقُونَ} خبره؛ أي: السابقون إلى الخير في الدنيا هم السابقون في الآخرة إلى الجنة. والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؛ وقيل: {السَّابِقُونَ} الأول: مبتدأ، والثاني: تأكيد له أو نعت، وجملة {أُولَئِكَ} خبره. {أُولَئِكَ} مبتدأ، {الْمُقَرَّبُونَ} خبره. والجملة في محل الرفع خبر ثان لـ {السَّابِقُونَ} الأول أو خبر له. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)}. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} خبر ثان لـ {أُولَئِكَ} أو حال من الضمير في {الْمُقَرَّبُينَ}. {ثُلَّةٌ} خبر لمبتدأ محذوف، {مِنَ الْأَوَّلِينَ} نعت لـ {ثُلَّةٌ}؛ أي: هم ثلّة من الأوّلين. والجملة مستأنفة. {وَقَلِيلٌ} معطوف على {ثُلَّةٌ}، {مِنَ الْآخِرِينَ} نعت لـ {قليل}، {عَلَى سُرُرٍ} نعت ثان لـ {ثُلَّةٌ} أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف،

{مَوْضُونَةٍ} صفة لـ {سُرُرٍ}، {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور في قوله: {عَلَى سُرُرٍ}. {عَلَيْهَا} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، {مُتَقَابِلِينَ} حال ثانية من ذلك المستكن، أو من الضمير المستكن في {مُتَّكِئِينَ}. {يَطُوفُ} فعل مضارع، {عَلَيْهِمْ} متعلق به، {وِلْدَانٌ} فاعل، {مُخَلَّدُونَ} صفة لـ {وِلْدَانٌ}. والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في {جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. {بِأَكْوَابٍ} متعلق بـ {يَطُوفُ}، {وَأَبَارِيقَ} معطوف على {أكواب}، مجرور بالفتحة. لأنه ممنوع، الصرف لصيغة منتهى الجوع. {وَكَأْسٍ} معطوف على {أكواب} أيضًا، {مِنْ مَعِينٍ} صفة لـ {كأس}. {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}. {لَّا} نافية، {يُصَدَّعُونَ} فعل مضارع، مغيّر الصيغة، والواو: نائب فاعل، {عَنْهَا} متعلق بـ {يُصَدَّعُونَ}، والجملة مستأنفة، {وَلَا يُنْزِفُونَ} فعل، وفاعل، معطوف على {يُصَدَّعُونَ}. {وَفَاكِهَةٍ} معطوف على {أكواب}، {مِمَّا} جار ومجرور، صفة لـ {فاكهة}، وجملة {يَتَخَيَّرُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يتخيّرونه. {وَلَحْمِ} معطوف على {أكواب} أيضًا، {طَيْرٍ} مضاف إليها، {مِمَّا} صفة للحم، وجملة {يَشْتَهُونَ} صلة لما الموصولة. {وَحُور} مبتدأ، خبره محذوف تقديره: ولهم حور. {عِينٌ} صفة لـ {حور}، أو معطوف على {وِلْدَانٌ}؛ أي: ويطوف عليهم حور عين للتنعيم لا للخدمة، أو ثم حور عين أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ونساؤهم حور عين. وقرىء بالنصب على تقدير: ويجزون حورًا عينًا. والجملة على جميع التقادير مستأنفة. وقرىء بالجر عطفًا على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ}؛ أي: وفي حور عين. {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ} جار ومجرور، ومضاف، صفة ثانية لـ {حور}، {الْمَكْنُونِ} صفة لـ {اللُّؤْلُؤِ}، {جَزَاءً} مفعول لأجله لفعل محذوف، تقديره: يفعل بهم ذلك كله لأجل جزائهم، أو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يجزون ذلك جزاء. {بِمَا} جار ومجرور، متعلق بـ {جَزَاءً}؛ {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره. وجملة {كان} صلة الموصول. {لَا} نافية، {يَسْمَعُونَ} فعل، وفاعل، {فِيهَا} متعلق بـ {يَسْمَعُونَ}، {لَغْوًا} مفعول به، {وَلَا تَأْثِيمًا}

معطوف على {لَغْوًا}. والجملة الفعلية مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء منقطع، {قِيلًا} مستثنى منقطع واجب النصب، {سَلَامًا} إما بدل من {قِيلًا}؛ أي: لا يسمعون فيها إلا سلامًا سلامًا أو نعت لـ {قِيلًا}، منصوب بـ {قيلا} لأنّه مصدر؛ أي: إلَّا أن يقولوا: سلامًا سلامًا، أو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يسلّمون تسليمًا {سَلَامًا} مؤكدة للأولى. {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)}. {وَأَصْحَابُ} {الواو}: استئنافية، {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} مبتدأ أول، {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ثان، {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} خبره. والجملة في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول وخبره مستأنفة. {فِي سِدْرٍ} خبر ثان لـ {أَصْحَابُ الْيَمِينِ}، {مَخْضُودٍ}، صفة لـ {سِدْرٍ}، {وَطَلْحٍ} معطوف على {سِدْرٍ}، {مَنْضُودٍ} صفة لـ {طلح}، {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)} معطوفان أيضًا على {سِدْرٍ مَخْضُودٍ}، {وَفَاكِهَةٍ} معطوف عليه أيضًا، {كَثِيرَةٍ} صفة لـ {فاكهة}، {لَّا} نافية، {مَقْطُوعَةٍ} صفة ثانية لـ {فاكهة}، {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} معطوف على {مَقْطُوعَةٍ} على كونه صفة لـ {فاكهة}، و {لا} للنفي، ولذلك كررت. نظير قوله: مررت برجل لا طويل ولا قصير. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} معطوف على {سِدْرٍ مَخْضُودٍ}. {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {أَنْشَأْنَاهُنَّ} فعل، وفاعل، ومفعول به، {إِنْشَاءً} مفعول مطلق والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {أنّ} مستأنفة. {فَجَعَلْنَاهُنَّ} فعل، وفاعل، ومفعول أول، {أَبْكَارًا} مفعول ثان. والجملة معطوفة على جملة {أَنْشَأْنَاهُنَّ}. {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} نعتان لـ {أَبْكَارًا}، {لأصحاب اليمين} متعلق بـ {أَنْشَأْنَاهُنَّ}، {ثُلَّةٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم ثلّة {مِنَ الْأَوَّلِينَ} صفة لـ {ثُلَّةٌ}. والجملة مستأنفة. {ثُلَّةٌ} معطوف على {ثُلَّةٌ}، {مِنَ الْآخِرِينَ} صفة لـ {ثُلَّةٌ}.

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)}. {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} تقدم إعراب نظيره قريبًا، فجدّد به عهدًا. والكلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصل حال أهل اليمين. {فِي سَمُومٍ} خبر ثان لـ {أَصْحَابُ الشِّمَالِ}؛ أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم في سموم، وقد تقدم نظيره. {وَحَمِيمٍ} معطوف على {سَمُومٍ}، {وَظِلٍّ} معطوف على {سَمُومٍ} أيضًا، {مِنْ يَحْمُومٍ} صفة لـ {ظل}، {لَا} نافية، {بَارِدٍ} صفة ثانية {ظل}، {وَلَا كَرِيمٍ} معطوف على {بَارِدٍ}. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، {قَبْلَ ذَلِكَ} ظرف، متعلق بمحذوف حال من اسم {كان} أو بـ {مُتْرَفِينَ}. و {مُتْرَفِينَ} خبر {كَانُوا}؛ وجملة {كان} في محل الرفع خبر إنّ، وجملة {إنَّ} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَكَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يُصِرُّونَ} خبره. وجملة {كَانُوا} معطوفة على {كان} الأول. {عَلَى الْحِنْثِ} متعلق بـ {يُصِرُّونَ}، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الْحِنْثِ}. {وَكَانُوا} فعل ناقص واسمه، معطوف على {كان}، الأوّل أيضًا، وجملة {يَقُولُونَ} خبر {كَانُوا}. {أَئِذَا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، دل عليه قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، تقديره: أنبعث. {إذا} ظرف مجرد عن الشرط متعلق بذلك المقدر، {مِتْنَا} فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {وَكُنَّا} فعل ناقص واسمه؛ {تُرَابًا} خبر {كان}، {وَعِظَامًا} معطوف على {تُرَابًا}. وجملة {كان} معطوفة على جملة {مِتْنَا}. {أَإِنَّا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {إنا} ناصب واسمه، {لَمَبْعُوثُونَ} اللام: حرف ابتداء، {مبعوثون} خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جملة استفهامية، مفسرة لذلك المحذوف. {أَوَآبَاؤُنَا} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو: عاطفة، {آبَاؤُنَا} معطوف على الضمير المستكن في {مبعوثون}. وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد بنحن وجود الفاصل الذي هو الهمزة. والتقدير: المبعوثون نحن وآباؤنا. {الْأَوَّلُونَ} صفة لـ {آبَاؤُنَا}. {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)

فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر. والجملة مستأنفة، مسوقة للرد على إنكارهم؛ وتحقيقًا للحق. {إِنَّ الْأَوَّلِينَ} ناصب واسمه، {وَالْآخِرِينَ} معطوف على {الْأَوَّلِينَ}. {لَمَجْمُوعُونَ} اللام: حرف ابتداء، {مجموعون} خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {إِلَى مِيقَاتِ}، متعلق بـ {مجموعون}، {يَوْمٍ} مضاف إليه، {مَعْلُومٍ} صفة لـ {يَوْمٍ}. وقد ضمن الجمع معنى السوق، فعدّاه بإلي، وإلّا فكان الظاهر تعديته بفي. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ، {إِنَّكُمْ} ناصب واسمه، {أَيُّهَا} {أي} منادى نكرة مقصودة، والهاء: حرف تنبيه، {الضَّالُّونَ} بدل من {أيّ} أو نعت لها. وجملة النداء معترضة. {الْمُكَذِّبُونَ} صفة لـ {الضَّالُّونَ}، {لَآكِلُونَ} اللام: حرف ابتداء، {آكلون} خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {إنّ} الأولى. {مِنْ شَجَرٍ} متعلق بـ {آكلون}، {مِنْ زَقُّومٍ} نعت لـ {شَجَرٍ}، أو بدل من {مِنْ شَجَرٍ}، {فَمَالِئُونَ} الفاء: عاطفة {مالئون} معطوف على {آكلون}، {مِنْهَا} متعلق بـ {مالئون}، {الْبُطُونَ} مفعول به لـ {مالئون}. لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل. {فَشَارِبُونَ} الفاء: عاطفة، {شاربون} معطوف على {مالئون}، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {شاربون}، {مِنَ الْحَمِيمِ} متعلق به أيضًا. {فَشَارِبُونَ} الفاء: عاطفة، {شاربون} معطوف على {شاربون}، {شُرْبَ الْهِيمِ} مفعول مطلق. {هَذَا} مبتدأ، {نُزُلُهُمْ} خبره، {يَوْمَ الدِّينِ} ظرف متعلق بمحذوف حال من {نُزُلُهُمْ}؛ أي: حال كونه كائنًا في ذلك اليوم العصيب، أو من الضمير؛ أي: حال كونهم كائنين في ذلك اليوم الرهيب. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}؛ أي: قامت القيامة. وصفت بأنها تقع لا محالة، أو كأنها واقعة في نفسها. {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} الرج: تحريك الشيء، وإزعاجه. والرجرجة: الاضطراب، أي: خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، كما مرّ. أصله: رججت مبنيًا للمفعول، أدغمت عين الكلمة في لامها، وكذلك {رَجًّا} أدغمت عين المصدر في لامه، فوزنه فعل. وكذلك القول في {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)}؛ أي: فتتت حتى صارت مثل

السويق الملتوت. من بس السويق إذا لته. والبسيسة: سويق يلت فيتخذ زادًا، أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها، وفي "المصباح": بسست الحنطة وغيرها بسًّا من باب قتل. وهو الفت. فهي بسيسة فعيلة بمعنى مفعولة. {هَبَاءً} الهباء: غبار كالشعاع في الرتبة، وكثيرًا ما يخرج شعاع الشمس من الكوّة النافذة، وفيه إعلال بالإبدال. أصله: هباو، أبدلت {الواو} همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {مُنْبَثًّا}؛ أي: منتشرًا متفرقًا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه. {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا}؛ أي: أصنافًا. قال الراغب: الزوج يكون لكل عن القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة، ولكل قرينين منها، ومن غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلًا له أو مضادًا، اهـ. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} والميمنة: ناحية اليمين. والمشأمة: ناحية الشمال. والعرب يتيمنون بالميامن، ويتشاءمون بالشمائل. والمراد: أصحاب المرتبة السنية الرفيعة. وفي "القاموس": اليمن: البركة كالميمنة، بمن فهو ميمون، وأيمن. والجمع ميامين، وأيامن واليمين ضد اليسار، والجمع أيمن، وأيمان، وأيامن، وأيامين، والبركة، والقوة. والشؤم ضد اليمن، والمشأمة ضد الميمنة، انتهى. {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)} الثلة: الجماعة قلت أو كثرت، وقيل: الجماعة الكثيرة من الناس، كما قال: وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ ... بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مُزبِدِ وفي "القاموس": الثله بالضم: الجماعة من الناس، والكثير من الدراهم. وقد تفتح. وبالكسر: الهلكلة. والجمع ثلل، كعنب، اهـ. واشتقاقه من الثل؛ وهو الكسر؛ وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم، وقال الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: ثلة من الأولين. {عَلَى سُرُرٍ} جمع سرير. وهو ما يجعل للإنسان من المقاعد العالية الموضوعة للراحة والكرامة، اهـ خطيب. {مَوْضُونَةٍ} من الوضن. وهو النسج. وفي "القاموس": وضن الشيء يضنه فهو موضون ووضين ثني بعضه على بعض، وضاعفه. ووضن الغزل نسجه؛ والموضونة، الدرع المنسوجة، أو المتقاربة النسج،

أو المنسوجة حلقتين حلقتين، أو المنسوجة من قضبان الذهب، مشتبكة بالجواهر. والمعنى: منسوجة متداخلة، كصفة الدرع. قال الأعشى: وَمِنْ نَسْجِ دَاوُوْدَ مَوْضُوْنَةٍ ... تُسَاقُ إِلَى الْحَيِّ عِيْرًا فَعِيْرَا {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا}، أي: على السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسيّ فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه، اهـ خطيب. {مُتَقَابِلِينَ}؛ أي: فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال مجاهد، وغيره: هذا في المؤمن، وزوجته وأهله. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاث مئة ذراع. فإذا أراد العبد أن يجلس عليه .. تواضع وانخفض له، فإذا جلس عليه ارتفع، اهـ خطيب. {يَطُوفُ} أصله: يطوف بوزن يفعل بضم العين، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد نظير يقول. {وِلْدَانٌ} بكسر الواو كصبيان باتفاق القراء جمع وليد بمعنى مولود، والولد يجمع على أولاد، كسبب وأسباب، اهـ من "المصباح". والصحيح: أنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة من غير ولادة أحد، كما خلقت الحور العين من غير ولادة. وأطلق علي اسم الولدان؛ لأنَّ العرب تسمى الغلام وليدًا ما لم يحتلم، والأمة وليدة وإن أسنت. {مخلدون}؛ أي: باقون، لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون. وقيل: من الخلد. وهو القرط. قال امرؤ القيس: وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلَّا سَعِيْدٌ مخَلَّدٌ ... قَلِيْلُ الْهُمُوْمِ مَا يَبِيْتُ بِأَوْجَالِ {بِأَكْوَابٍ} جمع كوب؛ أي: بآنية لا عرا لها، ولا خراطيم. {وَأَبَارِيقَ} جمع آب ريْ إفعيل، مشتق من البريق. وهو اللمعان لصفاء لونه. وقيل: أعجمية معربة أبازير. وهي آنية لها عرًا وخراطيم. والعرا: ما يمسك بها المسماة بالآذان. والخراطيم: هي ما يصب منها المسماة بالبزابيز، اهـ شيخنا، قال عديّ بن الرقاع: وَدَعَوْا بِالصَّبُوحِ يَوْمًا فَجَاءَتْ ... بِهِ قَنْيَةٌ فِيْ يَمِيْنِهَا إِبْرِيْقُ {وَكَأْسٍ} والكأس: القدح إذا كان فيها شراب، وإلا فهو قدح. {مِنْ مَعِينٍ} أي: من خمر جارية من منبع لا يفيض، ولا ينقطع أبدًا. يقال: معن الماء إذ جرى، فهو فعيل بمعنى فاعل، أو ظاهرة تراها العيون في الأنهار، كالماء المعين. وهو الظاهر البخاري. فيكون بمعنى مفعول من المعاينة، من عانه إذا شخصه وميزه

بعينه. قال في "القاموس": المعن: الماء الظاهر، ومعن الماء أساله، وأمعن الماء جرى. والمعنان بالضم: مجاري الماء في الوادي. والمراد: أنها لم تعصر كخمر الدنيا. {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا}؛ أي: لا يحصل لهم صداع بسبب شربها، كما يحدث ذلك في خمر الدنيا. والصداع: هو الداء الذي يأخذ الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه. والصدع: شق في الأجسام الصلبة كالزجاج، والحديد، ونحوهما. ومنه استعير الصداع. وهو الانشقاق في الرأس من الوجع. ومنه: الصديع للفجر. {وَلَا يُنْزِفُونَ} من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه. فالنفاد إما للعقل. وهو من عيوب خمر الدنيا. أو للشراب. فإن بنفادهما تختل الصحبة. يقال: نزف الرجل بالبناء للمجهول؛ أي: ذهب عقله سكرًا. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ونزف الرجل دمًا رعف فخرج دمه كله، كلاهما وارد. {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)}؛ أي: يختارون، ويرضون. يقال: تخيرت الشىء أخذت خيره. {مِمَّا يَشْتَهُونَ} أصله: يشتهيون بوزن يفتعلون؛ استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء لذلك. {وَحُورٌ} جمع حوراء، كحمر جمع حمراء. فمعنى الحور: النساء شديدات البياض؛ أي: بياض أجسادهن. والعين: جمع عيناء. فمعنى العين: شديدات سواد العيون مع سعتها، مثل: أعين الظباء والبقر. قال الأصمعي: وليس في بني آدم حور عين، وإنما قيل للنساء: حور تشبيهًا بالظباء والبقر، اهـ. وقوله: {عِينٌ} جمع عيناء، كسرت فاؤه لمناسبة الياء، وإلا فقياسه أن يجمع كما جمعت حمراء. فأصل "عين" عين بضم العين؛ لأنه نظير حمر جمع حمراء، فخفف بإبدال ضمة فائه كسرة لتصح الياء؛ وإنما لم تبدل ياؤه واوًا وكما فعلوا في موقن وموسر. أصلها: ميقن وميسر؛ لأن الجمع أثقل من المفرد، والواو أثقل من الياء. فيجتمع حيئذٍ ثقلان. قال في الخلاصة: وَيُكْسَرُ الْمَضْمُوْمُ فِيْ جَمْعٍ كَمَا ... يُقَالُ هِيْمٌ عِنْدَ جَمْعِ أَهْيَمَا {الْمَكْنُونِ}؛ أي: المصون الذي لم تمسه الأيدي. وهو أصفى، وأبعد من

التغير. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} الهمزة فيه مبدلة من ياء لتطرفها إثر ألف زائدة. فأصله: جزاي. {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا}؛ أي: باطلًا. قال في "القاموس": اللغو واللغا: السقط، وما لا يعتد به من كلام وغيره، كما مر بسطه. {وَلَا تَأْثِيمًا}؛ أي: ما يقال حين سماعه: وقعتم في الإثم. والإثم: الأفعال المبطئة عن الثواب. والجمع آثام. {إِلَّا قِيلًا} فيه إعلال بالقلب أصله: قولًا، قلبت {الواو} ياء لسكونها إثر كسرة. {أَبْكَارًا} جمع بكر. والمصدر البكارة. قال الراغب: البكرة: أول النهار، وتصور منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار. فقيل لكل متعجل: بكر. وسميت التي تفتض بكرًا اعتبارًا بالثيب لتقدمها عليها، فيما يراد به النساء. {عُرُبًا} جمع عروب، كرسل جمع رسول. وهي المتحببة إلى زوجها، الحسنة التنقل، واشتقاقه من أعرب إذا بين. والعرب تبين محبتها لزوجها. {أَتْرَابًا} جمع ترب بالكسر. وهي اللدة، والسن. وفي "السمين": الترب: هو المساوي لك في سنك؛ لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد. وهو آكد في الائتلاف. وهو من الأسماء التي لا تتعرف بالإضافة لأنه في معنى الصفة. إذ معناه: مساويك، ومثله: خدنك؛ لأنه في معنى صاحبك، اهـ سمين. {فِي سَمُومٍ} السموم: حر نار ينفذ في المسام. قال في "القاموس": السموم: الريح الحارة تكون غالبًا في النهار. والحرور: الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار. {وَحَمِيمٍ} وهو الماء المتناهي في الحرارة. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)}، وزنه يفعول، قال أبو البقاء: من الحم بالضم، أو من الحميم. واليحموم قيل: هو الدخان الأسود البهيم. وقيل: واد في جهنم. وقيل: اسم من أسمائها. والأول أظهر، اهـ سمين. وفي "المختار": وحممه تحميمًا سخم وجهه بالفحم، والحمم: الرماد، والفحم، وكل ما احترق من النار. الواحدة حممة، اليحموم: الدخان، اهـ. {يُصِرُّونَ} أصله: يصررون بوزن يفعلون، نفلت حركة الراء الأولى إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الراء الثانية. {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}، أي: الذنب العظيم. وهو الشرك بالله، وجعل الأوثان والأنداد أربابًا من دون الله تعالى.

{أَئِذَا مِتْنَا} قرىء {مُتنا} بضم الميم. لأنَّ المستعمل الفاشي في هذه الفاعل: مات يموت بوزن فعل يفعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك التقى ساكنان: الألف والتاء لام الكلمة، فحذفت الألف لذلك، فاحتيج إلى معرفة هذه العين المحذوفة من الفعل الأجوف هل هي واو أو ياء؟ فحذفت حركة الفاء، وعوض عنها حركة مجانسة لتلك العين المحذوفة. وهي الضمة؛ لأن العين واو، فقيل: متنا بوزن فلنا. أما من قرأ {مِتْنَا} بكسر الميم فتوجيه ذلك أن في هذا الفعل لغة على فعل يفعل بكسر العين في الماضي والمضارع، ولما حذفت عينه لالتقاء الساكنين، كسرت فاؤه لتدل الكسرة على أن العين المحذوفة مكسورة كما قالوا: قلت من الكيل، وخفت من الخوف. فقولهم: ثنا بكسر الميم كثير الاستعمال شاذ في القياس. وقوله: {متنا} بضم الميم قليل الاستعمال غير شاذ في القياس، وفي الفعل أيضًا لغة ثالثة، حكاها الكوفيون. وهي أنه من باب فعل بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع. وعليه يتجه أيضًا كسر الميم كما في خفت. {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} أصله: موقات، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. والميقات: هو الوقت المضروب للشيء ينتهي عنده أو يبتدأ فيه. {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} والزقوم: هو من أخبث الشجر المر ينبت في الدنيا بتهامة، وفي الآخرة ينبت في أصل الجحيم. وهو كريه المنظر، مر الطعم، منتن الرائحة. {فَمَالِئُونَ} اسم فاعل من ملأ الثلاثي. يقال: ملأ الأناء فهو مملوء من باب قطع. والمليء بالكسر: مقدار ما يأخذه الإناء إذا امتلأ. {شُرْبَ الْهِيمِ} وعبارة السمين: والهيم بكسر الهاء جمع أهيم للمذكر، وهيماء للمؤنث كحمر وأحمر وحمراء. وهو الجمل والناقة التي أصابها الهيام. وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت، أو تسقم سقمًا شديدًا. والأصل: هيم بضم الهاء كحمر، قلبت الضمة كسرة لتصح الياء. وذلك نحو: بيض في أبيض، وبيضاء وفعل بضم الفاء جمع لأفعل، وفعلاء على حد قول ابن مالك: فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وحَمْرَا ... وفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى

البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}. ومنها: التعبير باسم الفاعل الذي حقيقة في الحال عند الإطلاق عما في المستقبل. وهو القيامة إشعارًا بتحقق وقوعها. ولذا اختيرت إذا دون إن الشرطية، واختيرت صيغة الماضي أيضًا. ومنها: الطباق في قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} وفيه أيضًا المجاز العقلي؛ لأن الخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى؛ يرفع أولياءه، ولخفض أعداءه. وفي إسنادهما إلى القيامة مجاز عقلي؛ لما فيه من إسناد الشيء إلى زمانه كقولهم: نهاره صائم. ومنها: تقديم الخفض على الرفع في قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} مبالغة في التهويل منها. ومنها: حذف الفاعل في قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} لعلمه، وإفادة للتهويل منها. ومنها: الطباق بين {الْمَيْمَنَةِ}، و {الْمَشْأَمَةِ} وبين: {الْأَوَّلِينَ} و {الْآخِرِينَ}. ومنها: التفخيم والتعظيم في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} على طريق الاستفهام. ومنها: التحقير والإهانة في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)}. ومنها: التفنّن في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} إلخ، وقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} إلخ، بعد قوله أولًا: {أصحاب الميمنة} الخ، وقوله: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} إلخ. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}؛ أي: كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفاته، حذف منه وجه الشبه. فهو مرسل مجمل. ومنها: الاستعارة في قوله: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)} من الوضن. وهو حقيقة

في نسج الدرع. ثم استعير لكل نسج محكم. ومنها: الإيجاز في قوله: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا. ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير في قوله: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)}. وقوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} وهو مما يزيد في رونق الكلام، وحسنه. وهو المسمى عندهم بالسجع المرصع؛ أي: غير المتكلف به. وهو من المحسنات البديعية. ومنها: المبالغة في التشبيه في قوله: {سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؛ لأنّ المخضود في سدر الدنيا، المقطوع المزال عنه شوكه. فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك، والذي أزيل عنه شوكه يسمى مخضودًا. وسدر الجنة خلق بلا شوك، كأنه خضد شوكه؛ أي: قطع ونزع عنه. فقوله: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)} إما من باب المبالغة في التشبيه أو مجاز بعلاقة السببية، فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم. فهو مدح لهم بإفشاء السلام. وهذا كقول القائل: ولا ذنب ليس إلا محبتك. ومنها: التهكم بأصحاب المشأمة في قوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} إشعارا بأنهم لا يستأهلون للظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}؛ أي: كالنزل الذي يعد للنازل مما أحضر مكرمة له. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}. المناسبة قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله تعالى لما ذكر (¬1) الأزواج الثلاثة، وبين مآل كل منها، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازبٍ في حميم وغساق، وذكر أن ذلك إنما نالهم لأنهم أشركوا بربهم، وعبدوا معه غيره، وكذبوا رسله، وأنكروا البعث والجزاء .. أردف ذلك بإقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب، وأقام الدليل على البعث والجزاء. ثم أثبت الأصل الثالث - وهو النبوة - فيما بعد. ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء .. أعقب ذلك بذكر الأدلة على النبوة، وصدق القرآن الكريم. وأقسم على هذا بما يرونه في مشاهداتهم من مساقط النجوم، إنه لكتاب كريم لا يمسّه إلا المطهرون، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام. فكيف تتهاونون في اتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله تعالى، وجزيل فضله عليكم. قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) جحود الكافرين بآياته، وتكذيبهم رسوله وكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر أو افتراء، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء .. أردف ذلك بتوبيخهم على ما يعتقدون، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل، وقد جحدتم الله، وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم؛ لأنَّ الخالق إما الله وإما أنتم، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون، وإذًا فلماذا لا ترجعون الروح لميتكم؟ وهو يعالج سكرات الموت. فإن كنتم صادقين فارجعوها، الحق إنكم لا تعقلون الدليل والبرهان، بل لا تفهمون إلا المحسوسات فلما لم تروا الفاعل كذبتم به، وهذا من شيمة الجهال. إذ للعلم وسائل عديدة. فليس عدم رؤية الشيء دليلًا عل عدم وجوده. ثم بين حال المتوفى، ومن أي الأزواج الثلاثة هو؟. فإن كان من السابقين .. فله روح واطمئنان نفس علمًا منه بما سيلقاه من الجزاء، ورزق طيب في جنات النعيم. فيرى فيها ما تلذ الأنفس، وتقر به الأعين، وإن كان عن أصحاب اليمين .. فتسلم عليه الملائكة، وتعطيه أمانًا من ربه، وإن كان من أصحاب الشمال .. فضيافته ماء حميم، وعذاب في النار أبدًا. ثم بين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين، وعليه أن ينزه ربه العظيم عن كل ما لايليق به. ¬

_ (¬1) المراغي.

[57]

أسباب النزول قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه مسلم، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر". قالوا: هذه رحمة وضعها الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا. فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}. وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في "الصحيحين" من حديث زيد بن خالد الجهني، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. التفسير وأوجه القراءة 57 - {نَحْنُ خَلَقْنَاكُم} أيها الكفرة {فَلَوْلَا}؛ أي: فهلا {تُصَدِّقُونَ} بالخلق فإن ما لا يحققه العمل، ولا يساعده، بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء أو بالبعث، فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة. قال مقاتل: خلقناكم، ولم تكونوا شيئًا، وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث. قال القاضي زكريا: فإن قلت: كيف قال ذلك مع أنهم مصدقون بذلك بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}؟ قلت: هم، وإن صدقوا بألستهم لكن لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق كانوا كأنهم مكذبون به، أو أن ذلك تحضيض على التصديق بالبعث بعد الموت بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنّه قال: هو خلقكلم أولًا باعترافكم، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيًا. فهلا تصدقون بذلك؟ انتهى. واعلم (¬2): أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجمع يشير به إلى ذاته وصفاته وأسمائه كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}، وكما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}. وإذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير إلى ذاته المطلقة كما قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. هذا إذا كان القائل المخبر هو الله تعالى، وأما إذا كان العبد فينبغي أن يقول: أنت يا رب، لا أنتم؛ لإيهامه الشرك المنافي ¬

_ (¬1) الشوكاني بتصرف. (¬2) روح البيان.

[58]

لتوحيد الله القائل، ولذا يقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ ليدل على شهادته بخصوصه، فتعين توحيده، ويظهر تصديقه. وفي قوله (¬1): {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} التفات من الله سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتًا لهم، وإلزامًا للحجة. والمعنى (¬2): أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى، فهلا تصدقون بالبعث. وفي هذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين به المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد الذين قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}. 58 - ثم أعاد الدليل فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)}؛ أي: ما تقذفونه، وتصبونه في أرحام النساء من النطف التي يكون منها الولد. فقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ} بمعنى أخبروني، و {مَا تُمْنُونَ} مفعوله الأول. والجملة الاستفهامية أعني: قوله: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} إلخ، مفعوله الثاني. يقال: أمنى الرجل يمني لا غير، ومنيت الشيء أمنيه إذا قضيته. وسمي المني منيًّا؛ لأن الخلق منه يقضى. 59 - {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ}؛ أي: تقدرونه، وتصورونه بشرًا سويًّا في بطون النساء ذكرًا، أو أنثى {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} له؛ أي: أم نحن المقدرون المصورون له من غير دخل شيء فيه، و {أَمْ} هي المتصلة، وهي أولى. وقيل: منقطعة ما بعدها جملة. فالمعنى: بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير. ومجيء الخالقون بعد {نَحْنُ} بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة. وفيه (¬3): إشارة إلى معنى: أن وقوع نطف الأعمال، والأفعال، وموادها في أرحام قلوبكم ونفوسكم بخلقي، وإرادتي لا بخلقكم وإرادتكم. ففيه تخصيص مواد الخراطر المقتضية للأفعال والأعمال والأقوال إلى نفسه، وقدرته، وسلبها عن الخلق. وقرأ الجمهور (¬4): {تُمْنُونَ} بضم الفوقانية، من أمنى يمني. وقرأ ابن عباس، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[60]

وأبو السمال، ومحمد بن السميقع، والأشهب العقيلي بفتحها، من مني يمني. وهما لغتان. وقيل: معناهما مختلف. يقال: أمنى إذا أنزل عن جماع، ومني إذا أنزل عن احتلام. وسمي المني منيًا؛ لأنه يمنى؛ أي: يراق، وقد سبق في عبارة الروح معنى غير ما هنا. وعبارة أبي حيان هنا (¬1): وجاء {أَفَرَأَيْتُمْ} هنا مصرحًا بمفعولها الأول، ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها إذا كانت بمعنى أخبروني، وجاء بعد {أَمْ} جملة فقيل: {أَمْ} منقطعة. وليست المعادلة للهمزة، وذلك في أربعة مواضع هنا ليكون ذلك على استفهامين. فجواب الأول لا، وجواب الثاني نعم. فتقدر {أَمْ} على هذا: بل أنحن الخالقون؟ فجوابه نعم. وقال قوم من النحاة: {أَمْ} هنا معادلة للهمزة، وكان ما جاء من الخبر بعد {نَحْنُ} جيء به على سبيل التوكيد. إذ لو قال: أمْ نحن .. لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر، انتهى. ومعنى الآية (¬2): أي أخبروني عمّا قذفتم به في الأرحام من النطف أأنتم تقدرونه بشرًا سويًّا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟. ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابًا واحدًا، لا ثاني له. والخلاصة: أخبروني أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم عن النطف التي تمنون في أرحام نسائكم أأنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟ 60 - {نَحْنُ قَدَّرْنَا} قرأ الجمهور (¬3): {قَدَّرْنَا} بالتشديد. وقرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف. وهما لغتان. يقال: قدرت الشيء، وقدرته؛ أي: قسمنا. {بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} وكتبناه عليكم، ووقتنا موت كل واحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة. فمنهم من يموت صغيرًا، ومنهم من يموت كبيرًا. وعبارة الخطيب هنا: أي قضينا به، وأوجبناه، وكتبناه فلم نترك أحدًا منكم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[61]

بغير حصة منه. وأقتنا موت كل واحد بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا، وربما كان في الأوج "ضد الهبوط" من قوة البدن، وصحة المزاج. فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره .. ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا، وربما كان في الحضيض من ضعف البدن، واضطراب المزاج، فلو تمالؤوا على تقصيره طرفة عين .. لعجزوا، اهـ، أي: والقادر على هذا كله قادر على إعادتكم وبعثكم. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}؛ أي: بمغلوبين، 61 - بل قادرين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ} منكم {أَمْثَالَكُمْ}؛ أي: أشباهكم؛ أي: لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق. يقال: سبقته على كذا؛ أي: غبته عليه، وغلب فلان فلانًا على الشيء إذا أخذه منه بالغلبة. وقال الضحاك: معناه: أنه جعل أهل السماء، وأهل الأرض فيه سواء، وما نحن بمسبوقين على أن نأتي بخلق مثلكم. وقال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم .. لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا. وقال ابن جرير: المعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم؛ أي: لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. {و} على أن {نُنْشِئَكُم} ونوجدكم {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من الأطوار، والصور، والهيئات. لا تعهدون بمثلها. وقال الحسن؛ أي: على أن نجعلكم قردة وخنازير، كما فعلنا بأقوام قبلكم إن لم تؤمنوا برسلنا. يعني: لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلًا منكم، ومسخكم من صوركم إلى غيرها. وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا. وقال مجاهد: {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} يعني: في أي خلق شئنا. ومن كان قادرًا على هذا فهو قادر على البعث. وقال سعيد بن المسيب: {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} يعني: في حواصل طيور سود تكون ببرهوت، كأنها الخطاطيف. وبرهوت واد باليمن، اهـ. والمعنى (¬1): أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معين لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة. وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم، ونأتي بأشباههكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من ¬

_ (¬1) المراغى.

[62]

الأطوار، والأحوال التي لا تعهدونها. والخلاصة: نحن قدرنا بينكم الموت؛ لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم، ونجيء بآخرين من جنسكم، فنحن نميت طائفة، ونبدلها بطائفة أخرى قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل. 62 - ثم ذكر دليلًا آخر على البعث. فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} واللام للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمتم أيّها الكفرة {النَّشْأَةَ}؛ أي: الخلقة {الْأُولَى} هي خلقتهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا. وقيل: هي فطرة آدم من التراب. وعبارة الخطيب هنا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} أي: الترابية لأبيكم آدم، واللحمية لأمكم حواء، والنطفية لكم. وكل منها تحويل من شيء إلى غيره. فإن الذي شاهدتم قدرته على ذلك قادر على إعادتكم. {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}؛ أي: فهلا تذكرون قدرة الله على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؛ فإن (¬1) من قدر على الأولى التي كانت بلا مواد قدر على الأخيرة حتمًا فإنها أقل صنعًا لحصول المواد، وتخصص الأجزاء وسبق المثال. وفي الخبر: "عجبًا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة، وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرة، وهو يسعى لدار الغرور". وفي الآية دليل على صحة القياس، حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى. وترك القياس إذا كان جهلًا .. كان القياس علمًا، وكل ما كان من قبيل العلم فهو صحيح. قال أبو حيان: ولا تدل إلا على قياس الأولى لا على جميع أنواع القياس. وقرأ الجمهور (¬2): {النَّشْأَةَ} بالقصر. وقرأ مجاهد، والحسن، وابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال من {تذكَّرون}. والباقون بالتشديد. وقرىء {تذْكُرون} بسكون الذال، وضم الكاف من ذكر الثلاثي. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[63]

والمعنى (¬1): والله لقد علمتم. أنَّ الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار، والأفئدة فهلا تتذكرون، وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداية قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}. 63 - ثم أردف ذلك بدليل آخر في الرزق في المطعوم فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني يا أهل مكة {مَا تَحْرُثُونَ}؛ أي: ما تبذرون، وتطرحون من الحبوب في أرضكم، وتعملون فيها بالسقي ونحوه. والحرثة: إلقاء البذر في الأرض، وتهيئتها للزرع. 64 - {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ}؛ أي: تنبتونه، وتجعلونه زرعا ونباتًا يربو، وينمو إلى يبلغ الغاية. فيكون فيه السنبل والحب {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؛ أي: بل نحن المنبتون له، الجاعلون له زرعًا لا أنتم. والاستفهام المفهوم من {أَمْ} للإنكار. والزرع: الإنبات، وحقيقة ذلك يكون بالأمور الإلهية دون البشرية، ولذا نسب الحرث إليهم، ونفى عنهم الزرع، ونسبه إلى نفسه. وفي الحديث: "لا يقولون أحدكم زرعت، وليقل حرثت، فإن الزارع هو الله". والمعنى (¬2): أي أخبروني أيها المشركون عن الحرث الذي تحرثونه: أأنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أي: أأنتم تصيرونه زرعًا أم نحن الذين نصيره كذلك؟ فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث؟. ورُوي عن حجر المنذريّ: أنه كان إذا قرأ {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}، وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ. والحاصل (¬3): أن الحرث فعلهم من حيث إن اختيارهم له مدخل في الحرث، والزرع خالص فعل الله سبحانه. فإن إنبات السنبل والحب لا مدخل فيه لاختيار العبد أصلًا، وإذا نسب الزرع إلى العبد، فلكونه فاعلًا للأسباب التي هي سبب الزرع والإنبات. وفي "الأسئلة المقحمة": الأصح: أن الحرث والزرع واحد، كقوله تعالى: {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ}. فهلا أضاف الحرث إلى نفسه أيضًا؟. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[65]

والجواب: أن إضافة الحرث إلينا إضافة الاكتساب، وإضافته إلى نفسه إضافة الخلق والإبداع. كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}. قال الحليمي: يستحب لكل من ألقى في الأرض بذرًا أن يقرأ بعد الاستعاذة {أَفَرَأَيْتُمْ} إلى قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}. ثم يقول: الله الزارع، والمنبت، والمبلغ. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين. ويقال: إنّ هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات الدود، والجراد، وغير ذلك ببركة تلك الآيات، ولا مانع من ذلك، وإن كان لا أصل له. وفي الآية (¬1): امتنان ليشكروا على نعمة الزرع، واستدلال بأن من قدر على الإنبات قادر على الإعادة. فكما أنه ينبت الحب في الأرض، وينبت بذر النطفة في الرحم فكذا ينبت من حب عجب الذنب في القبر. فإن كلها حب، وذلك لأن بذر النطفة، وكذا عظم عجب الذنب شيء كخردلة. 65 - {لَوْ نَشَاءُ} {لَوْ} للمضي، وإن دخل على المضارع، ولذا لا يجزمه، فهو شرط غير جازم؛ أي: لو أردنا {لَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: الزرع بمعنى المزروع {حُطَامًا} هشيمًا؛ أي: يابسًا متفننًا متكسرًا بعدما أنبتناه، واخضر بحيث طمعتم في حيازة غلاله، وجمعها من بعد ظهوره وقبل اشتداد حبه. {فَظَلْتُمْ}؛ أي: فصرتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ}؛ أي: تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال، أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد، وأنفقتم عليه، أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه. والحطام (¬2): الهشيم الذي لا ينتفع به، ولا يحصل منه حب، ولا شيء مما يطلب من الحرث. وقال الفراء: {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم. وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: معنى الآية: تعجبون من ذهابها، وتندمون مما حل بكم. وقال عكرمة: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله. وقال ابن زيد: تفجعون. وهذا (¬3) كله تفسير باللازم. ومعنى {تَفَكَّهُونَ}: تطرحون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[66]

الفكاهة عن أنفسكم. وهي المسرة. ورجل فكه، منبسط النفس، غير مكترث بشيء. وتفكه من أخوات تحرج وتحوب. وقرأ الجمهور (¬1): {فَظَلْتُمْ} بفتح الظاء مع لام واحدة. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية الفيكي عنه بكسرها كما قالوا: مسست بفتح الميم وكسرها. وحكاها الثوريّ من ابن مسعود، وجاءت عن الأعمش، وقرأ ابن عباس، والجحدري {فظللتم} بلامين. أولاهما مكسورة على الأصل. وقرأ الجحدري أيضًا بفتحها. وهي لغة. والمشهور: ظللت بالكسر. وقرأ الجمهور {تَفَكَّهُونَ} بالهاء. وقرأ أبو حزام العكلي: {تفكنون} بالنون بدل الهاء؛ أي: تندمون. قال ابن خالويه: {تفكه} تعجب تفكن تندم وفي "المصباح": التفكن: التندم. ومنه: الحديث: "مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء، ويتركها القرباء. فبينا هم إذ غار ماؤها، فانتفع بها قوم يتفكنون" أي يتندمون. والحمة: العين الحارة من الحمم. وهو الماء الحار يستشفي به الأعلاء والمرضى. 66 - وقوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)} مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {تَفَكَّهُونَ}؛ أي: فظلتم تفكهون حال كونكم قائلين: إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا، والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته، وعليه. كما في "المغرب". أو مهلكون بهلاك زرعنا، أبو بشؤم معاصينا، أو معذبون عن الغرام، وهو أشد العذاب. قال الشاعر: إِنْ يعَذِّبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ ... يُعْطِ جِزِيْلًا فَإنَّهُ لَا يُبَالِيْ وقرأ الجمهور (¬2): {إِنَّا} بهمزة واحدة على الخبر. وقرأ الأعمش، وأبو بكر، والجحدري، والمفضل، وزر بن حبيش بهمزتين على الاستفهام. والظاهر من السياق المعنى الأول (¬3). أعني: ملزمون غرما بما هلك من زرعنا، أي: إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه، ومصيره حطامًا. جمع مغرم. والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، 67 - ثم أضربوا عن قولهم هذا، وانتقلوا فقالوا: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)} حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا. والمحروم: الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، أو محدودون لا مجدودون؛ أي: ممنوعون من الحد وهو المنع؛ أي: لا حظ لنا, ولا جد، ولا بخت. ولو كنا مجدودين .. لما فسد علينا هذا. روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض الأنصار، فقال: "ما يمنعكم من الحرث"؟ قالوا: الجدوبة. قال: "أفلا تفعلون فإن الله تعالى يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء، وإن شئت زرعت بالريح، وإن شئت زرعت بالبذر". ثم تلا ريسول الله - صلى الله عليه وسلم - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} الآية. ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها. فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره، كالكوكب ونحوه، فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق. وفي الحديث: "ما سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي، والبحار". وفي الحديث: "دُم على الطهارة يوسع عليك الرزق". فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة، فتضييقه في خلافها، والرزق ظاهر وباطن، وكذا الطهارة والنجاسة. فلا بد لطالب الرزق مطلقًا أن يكون على طهارة مطلقة دائمًا. فإن قلت: فما حال أكثر السلف؛ فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة؟ قلت: كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف، وهو المقصود الأصلي من الرزق. وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي، كما قال عليه السلام: "اللهم أغنني بالافتقار إليك". فمنعوا عن الغنى الصوري تطبيقًا لكل من الظاهر والباطن بالآخر، فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء، وعداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء، فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الإلهامات، والعلوم، والفيوض، والمحروم: من حرمه، فاعرفه. والمعنى: أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم. ولو شئنا .. لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده؛ فأصبح لا ينتفع به في مطعم، ولا في غذاء. فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة، والنضرة، والبهجة، والرواء،

[68]

وتقولون: حقًّا إنا لمعذبون مهلكلون لهلاك أرزاقنا؟ لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا، وسوء حظنا. 68 - ثم أعقبه بدليل آخر في المشروب. فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ}؛ أي: أخبروني أيها الناس {الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} عذبًا فراتًا، فتسكنون به ما يلحقكم من العطش، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ. واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء، ومنافعه؛ لأنه أعظم فوائده، وأجل منافعه. 69 - {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ}؛ أي: من السحاب. واحده مزنة. وقيل: هو السحاب، وماؤه أعذب. والمراد به: المطر. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} له بقدرتنا دون غيرنا. فإذا عرفتم ذلك فكيف لا تقرون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث. والرؤية (¬1) إن كانت بمعنى العلم، فمعلقة بالاستفهام، وإن كانت بمعنى الإبصار، أو المعرفة فالجملة الاستفهامية استئناف. وهذا هو اختيار الرضي. 70 - ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة. فقال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ}؛ أي: جعلنا ذلك الماء النازل من المزن {أُجَاجًا}؛ أي: ملحًا زعافًا، لا يمكن شربه. والأجاج (¬2): الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه. وقال الحسن: هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما. وحذف (¬3) اللام هاهنا، وأثبتها في الشرطية الأولى للفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية، وصعوبة الفقد. يعني: أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشد، وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعًا للمطعوم. وقيل: ذكر اللام في جواب لو في الزرع عملًا بالأصل، وحذفها منه في الماء اختصارًا لدلالة الأول عليه. {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}؛ أي: فهلا تشكرون ما ذكر جميعًا من المطعوم والمشروب بتوحيد منعمه، وإطاعة أمره. أو فلولا تشكرون على أن جعلناه عذبًا، أي: فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبًا تشربون منه، وتنتفعون به. والمعنى (¬4): أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه أأنتم أنزلتموه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[71]

من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض، أم نحن منزلوه لكم لو نشاء لجعلناه ملحًا زعافًا لا تنتفعون به في شرب، ولا غرس، ولا زرع. فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبًا زلالًا. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رحمه الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذبًا فرتًا برحمته، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحت العرش بحرًا تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله سبحانه إليه، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله، فليس من قطرة تقطر إلا معها ملك يضعها موضعًا، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان. فإنه نزل بغير كيل ولا وزن. وقال بعض الحكماء: إن المطر يأخذه قوس الله من البحر إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. قال بعضهم: هو أدخل في القدرة. لأن ماء البحر مر، فيصعد ملحًا، وينزل عذبًا. وفي الآية (¬1): إشارة إلى أن بعض بلاد العرب ليس لها آبار، ولا أنهار جارية. فلا يشرب أهلها إلا من المطر في المصانع. فمنها: القدس الشريف، وينبع، وجدة المحروسة, ونحوها. وللماء العذب مزيد فضل من هذه البلاد، ولذا امتن الله به على العباد. 71 - {أَفَرَأَيْتُمُ} أيها الكفرة {النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}؛ أي: أخبروني عن النار التي تقدحونها، وتستخروجها من الزناد. والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند، والأسفل الزندة. شبهوهما بالفحل والطروقة. يقال: ناقة طروقة؛ أي: بلغت أن يضربها الفحل. لأن الطرق الضرب. 72 - {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ} وأوجدتم {شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد. وهي المرخ، والعقار، كما مر في سورة يس. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[73]

{أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء: الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة، وعجيب القدرة. 73 - {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا}؛ أي: جعلنا هذه النار التي في الدنيا {تَذْكِرَةً} لنار جهنم الكبرى؛ أي: جعلنا نار الزناد تذكيرًا لنار جهنم من حيث إنه علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا ما أوعدوا به من نار جهنم. أو تذكرة وموعظة وأنموذجا من جهنم؛ لما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من حر نار جهنم". وقيل: تبصرة في أمر البعث. فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب. وفي "عين المعاني": وهو حجة على منكري عذاب القبر، حيث تضمن النار ما لا يحرق ظاهره. {وَمَتَاعًا}؛ أي: منفعة، وبلغة. لأن حمل النار يشق. {لِلْمُقْوِينَ}؛ أي: للذين ينزلون القواء بالفتح، وهو القفر الخالي عن الماء، والكلاء، والعمارة، وهم المسافرون، وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها ليهرب منها السباع، ويصطلوا من البرد، ويجففوا ثيابهم، ويصلحوا طعامهم. فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد. وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي. والمعنى (¬1): أي أفرأيتم النار التي تقدحونها، وتستخرجونها من الزناد أأنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟ وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعقار "نوعان من الشجر" فيأتون بعود من العقار، وبقطعة عريضة من المرخ. يحفرون في وسطها حفرة ثم يضعون عود العقار في هذه الفجوة. ويأت فتى من فتيان القبيلة، ويحرك عود العقار فيها بالتوالي، ويأتي بعده آخر، ويصنع صنيع سابقه، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك. وهذه عملية شاقة عسرة، ومن ثم كان البيت في القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها. وإلى هذا أشار بقوله سبحانه في قصص موسى عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}. ثم ¬

_ (¬1) المراغي.

[74]

بين منافع هذه النار، فقال: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا ...} إلخ؛ أي: نحن جعلنا النار تبصرة في أمر البعث، حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا بها ما أوعدوا به؛ لأنّ من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وجعلناها منفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين. فكم من قوم سافروا، ثم أرملوا فأججوا نارًا، فاستدفئوا، وانتفعوا بها. وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار، وخالص الحديد فيتمكن المسافر من حملها في متاعه وبين ثيابه. وإذا احتاج إليها في منزله أخرج زنده، وأورى، وأوقد نارًا، فطبخ بها، واصطلى واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها في وجوه المنافع المختلفة. وفي الحديث: "المسلمون شركاء في ثلاثة: النار، والكلأ، والماء". وفي "فتح الرحمن": بدأ سبحانه بذكر خلق الإنسان، ثم بما لا غنى له عنه. وهو الحب الذي منه قوته. ثم بالماء الذي به سوغه، وعجنه. ثم بالنار التي بها نضجه، وصلاحه. وذكر عقب كل من الثلاثة الأولى ما يفسده، فقال في الأولى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}، وفي الثانية: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}، وفي الثالثة: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}. ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} انتهى. 74 - والفاء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أيها الإنسان جميع ما عددته لك من النعم التي أنعمت بها على عبادي، وجحود المشركين لها، وتكذيبهم بها، وأردت بيان ما هو اللازم لك في الشكر فأقول لك: سبح؛ أي: نزه، وقدس اسم ربك عما لا يليق به كمشاركة غيره تعالى له في ذلك الاسم: كالإله، والرحمن والخالق. كما تنزه ذاته عن جميع النقائص؛ لأن ما ثبت للمسمى من التنزيه والتقديس نهو ثابت للاسم؛ لأن اسمه تعالى مهاب محترم معظم منزه، كما أن ذاته كذلك. أي (¬1): لا تقل لغيره تعالى: إنه إله. فإن الاسم يتبع المعنى، والحقيقة؛ أي: إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله تعالى، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى، وإنما نتخذ أصنامًا آلهة في الاسم، ونسميها آلهة، والله هو الذي ¬

_ (¬1) المراح.

[75]

خلقها، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة. فقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}؛ أي: فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترفت بعدم اشتراكهما في الاسم والمعنى. تعجب من أمرهم، وقل: سبحان الله العظيم. ولم يقل (¬1): فسبح ربك لأن سبح منزل منزلة اللازم، ولم يعتبر تعلقه بالمفعول، ومعناه: فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى بإضمار المضاف شكرًا على تلك النعم، وإن جحدها الجاحدون، أو أحدث التسبيح بذكره تعالى على المجاز؛ فإن إطلاق الاسم للشيء ذكر له. والباء للاستعانة, أو للملابسة، والمراد بذكر ربّه هنا: تلاوة القرآن، والعظيم صفة للاسم أو الرب. قال ابن عطاء رحمه الله تعالى: سبحه إن الله أعظم من أن يلحقه تسبيحك، أو يحتاج إلى شيء منك، لكنه شرف عبيده بأن أمرهم أن يسبحوه ليطهروا أنفسهم بما ينزهونه به, انتهى. وفي "فتح الرحمن": قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؛ أي (¬2): نزه ربك. فقوله: "باسم" زائد. أو المعنى: نزه اسم ربك. فالباء زائدة، والاسم باق على معناه أو هو بمعنى الذات أو بمعنى الذكر. أو الباء متعلقة بمحذوف حال. 75 - قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} ذهب (¬3) جمهور المفسرين إلا أنَّ {لا} مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام كما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}. والمعنى: فأقسم. ويؤيد هذا القول قوله فيما بعد: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ}. وقال جماعة من المفسرين: إنها للنفي، وإن المنفي بها محذوف. وهو كلام الكفار الجاحدين. وقال الفراء: هي نفي. والمعنى: ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف فقال: أقسم. وضعف هذا القول بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قاله أبو حيان وغيره. وقيل إنها لام الابتداء. والأصل: فلأنا أقسم بذلك. فحذف المبتدأ، وأشبعت فتحة لام الابتداء، فتولد منها ألف، كقول الشاعر: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) الشوكاني.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ العَقْرَابِ وقد قرأ هكذا {فلأقسم} بدون ألف الحسن، وحميد، وعيسى بن عمر. وقيل: {لا} هنا على ظاهرها، وإنها لنفي القسم. والمعنى: فلا أقسم على هذا إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم خصوصًا إلى مثل هذا القسم العظيم. وهذا القول مدفوع بتعيين المقسم به بقوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، وتفخيم شأنه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}. وقوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}؛ أي (¬1): بمساقطها. وهي مغاربها. وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدّلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو لأن ذلك وقت قيام المتهجّدين، والمبتهلين إليه، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم. أو بمنازلهما ومجاريهما. فإن له تعالى في ذلك من الدليل على عظم قدرته، وكمال حكمته ما لا يحيط به البيان. وقيل: المراد بالنجوم: نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وقيل: المراد بالنجوم: الصحابة، والعلماء الهادون بعدهم، ومواقعهم مقابرهم. وقيل: غير ذلك. والمعنى: أقسم بمساقط النجوم، ومغاربها على أن هذا المنزل عليك لقرآن كريم، وله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقد أقسم سبحانه على كثير من مخلوقاته العظيمة دلالة على عظم مبدعها، فأقسم بالشمس، والقمر، والليل، والنهار، ويوم القيامة، والتين، والزتيون، كما أقسم بالأمكنة. فأقسم بطور سينين، ومكة المكرمة. وقرأ الجمهور: {بِمَوَاقِعِ} جمعًا. وقرأ عمر، وعبد الله، وابن عباس، وأهل المدينة، وحمزة، والكسائي، وابن محيصن، وورش عن يعقوب {بموقع}. قال المبرد: موقع هاهنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع. فائدة: المناسبة بين المقسم به وهو النجوم، وبين المقسم عليه وهو القرآن الكريم في هذه الآية أن النجوم جعلها الله سبحانه ليهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والضلالة، وتلك ظلمات ¬

_ (¬1) روح البيان.

[76]

حسية، وهذه ظلمات معنوية. فالقسم هنا جاء جامعًا بين الهدايتين: الحسية للنجوم، والمعنوية للقرآن. فهذا وجه المناسبة. 76 - ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم، وتفخيمه. فقال: {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن هذا القسم المذكور {لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة. ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى بغير كتاب. وجملة {إِنَّ} معترضة بين المقسم به، والمقسم عليه. وجملة {لَوْ تَعْلَمُونَ} معترضة بن الصفة والموصوف لتأكيد تعظيم المحلوف به. فهو اعتراض في اعتراض، وجواب {لو} متروك، أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره؛ أي: لعظمتموه أو لعلمتم بموجبه، ففيه تنبيه على تقصير المخاطبين في الأمر، قال الفرّاء، والزجاج: وهذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم: نزول القرآن. والضمير في {إِنَّهُ} يعود على القسم الذي يدل عليه {أُقْسِمُ}، والمعنى: أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون. 77 - ثم ذكر سبحانه المقسم عيه، فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إن هذا الكتاب المنزل عليك يا محمد {لَقُرْآنٌ}؛ أي: لكتاب {كَرِيمٌ} كرمه الله سبحانه، وأعزه، ورفع قدره على جميع الكتب، وكرمه عن أن يكون سحرًا أو كهانة أو كذبًا، وقيل: إنه كريم لدلالته على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، وشرائف الأفعال. وقيل: لأنّه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. وقيل: لأنه كتاب كثير الخير والنفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد على أن يستعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول إلى غيرهم. قال الأزهريّ: الكريم اسم جامع لما يحمد. والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان، والعلم، والحكمة. 78 - {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)}؛ أي: مصون من غير المقربين من الملائكة، أي: لا يطلع عليه من سواهم، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: محفوظ عن الباطل، وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، ومن ينزل عليه. وقال السدي: هو الزبور، وقال مجاهد, وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا. فإن قلت: القرآن صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى، فكيف يكون حالًّا في كتاب مكنون؛ أي: لوح محفوظ أو مصحف؟

[79]

قلت: لا يلزم من كتابته في كتاب حلوله فيه كما لو كتب على شيء ألف دينار لا يلزم منه وجودها فيه، ومثله قوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}. فثبت أنه ليس حالًّا في شيء من ذلك، بل هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه. فإن قلت: إذا لم تفارقه فكيف سمّاه منزلًا؟. قلت: معنى إنزاله تعالى له: إنه علمه جبريل، وأمره أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأمره أن يعلمه لأمته مع أنه لم يزل، ولا يزال صفة لله تعالى قائمة به لا تفارقه. 79 - وقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} إمَّا (¬1) صفة لكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون من الكدورات الجسمانية، وأوضار الأوزار أو للقرآن، فالمراد المطهرون من الأحداث مطلقًا. فيكون نفيًا بمعنى النهي؛ أي: لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث والجنابة ونحوهما على طريقة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه"؛ أي: لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه. فالمراد من القرآن: المصحف، سماه قرآنًا على قرب الجوار والاتساع، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وأراد به: المصحف. وفي الفقه: لا يجوز لمحدث بالحدث الأصغر - وهو ما يوجب الوضوء - مس المصحف إلا بغلافه المنفصل الغير المشرز كالخريطة ونحوها؛ لأن مسه ليس مسًّا بالقرآن حقيقة إلا المتصل في الصحيح. وهو المجلد المشرز؛ لأنه من المصحف يعني: تبع له، حتى يدخل في بيعه بلا ذكر، وهذا أقرب إلى التعظيم، وكره المس بالكم؛ لأنه تابع للحامل، فلا يكون حائلًا، ولهذا لو حلف لا يجلس على الأرض، فجلس وذيله بينه وبين الأرض حنث، وإنما منع الأصغر عن مس المصحف دون تلاوته؛ لأنه حل اليد دون الفم، ولهذا لم يجب غسله في الوضوء، والجنابة كانت حالة كليهما. ولا يرد العين؛ لأنّ الجنب حل نظره إلى مصحف بلا قراءة، وكذا لا يجوز لمحدث مس درهم فيه سورة إلا بصرته، ولا لجنب دخول ¬

_ (¬1) روح البيان.

المسجد إلا لضرورة، فإن احتاج إلى الدخول تيمم، ودخل؛ لأنه طهارة عند عدم الماء، ولا قراءة القرآن، ولو دون آية لأن ما دونها شيء من القرآن أيضًا إلا على وجه الدعاء أو الثناء أو التبرك كالبسملة والحمدلة. وفي "الأشباه": لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة على قول الشعبي، ومن وافقه إن قصد الدعاء والثناء لم يكره، وإن قصد التلاوة كره، وفيه إشارة إلى أن حكم القراءة يتغير بالقصد، ويجوز للجنب الذكر والتسبيح، والدعاء. والحائض والنفساء كالجنب في الأحكام المذكورة، ويدفع المصحف إلى الصبيّ؛ إذ في الأمر بالوضوء حرج بهم، وفي المنح تضييع حفظ القرآن؛ إذ الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، وفي "الأشباه": ويمنع الصبي من مس المصحف، انتهى. والتوفيق ظاهر. وفي "كشف الأسرار": وأما الصبيان فلأصحابنا فيهم وجهان: أحدهما: أنهم يمنعون منه كالبالغين. والثاني: أنهم لا يمنعون لمعنيين: أولًا: أن الصبي لو منع ذلك .. أدى إلى أن لا يتعلم القرآن، ولا يحفظه. لأن وقت تعلمه، وحفظه حال الصغر. ثانيًا: أن الصبي وإن كانت له طهارة .. فليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح مه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهر كامل جاز أن يحمله محدثًا، انتهى. هذا وقد ذهب جمهور العلماء (¬1) إلى منع المحدث، وكذا الجنب والحائض من مس المصحف، وحمله، وبذلك قال عليُّ، وابن مسعود، وسعد ابن أبي وقّاص، وعطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، وجماعة من الفقهاء منهم: مالك، والشافعي، ويدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "أن لا تمس القرآن إلا طاهرًا". أخرجه مالك مرسلًا. وقد جاء موصولًا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل ¬

_ (¬1) الخازن.

اليمن بهذا، والصحيح فيه الإرسال. وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر". والمراد بالقرآن: المصحف. وقال الحكم، وحماد، وأبو حنيفة: يجوز للمحدث، والجنب حمل المصحف، ومسه بغلافه، فإن قلت: إذا كان الأصح: أن المراد من الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأن المراد من لا يمسه إلا المطهرون هم الملائكة. ولو كان المراد نفي الحدث .. لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، من التطهر، كيف يصح قول الشافعي: لا يجوز للمحدث مس المصحف؟. قلت: من قال: إن الشافعي أخذه من صريح الآية حمله على التفسير الثاني. وهو القول: بأن المراد من الكتاب هو المصحف. ومن قال: إنه أخذه من طريق الاستنباط قال: المس بطهر صفة دالة على التعظيم، والمس بغير طهر نوع استهانة، وهذا لا يليق بمباشرة المصحف الكريم، والصحيح: أنه أخذه من السنة. ودليله ما تقدم من الأحاديث. والله أعلم. ومعنى الآيات: فأقسم بمساقط النجوم، ومغاربها، وإنَّ هذا القسم قسم عظيم لو تعلمون عظمته .. لانتفعتم بذلك، أو فاعلموا عظمته؛ أي: أقسم بمواقعها إنه لقرآن كريم؛ أي: عزيز مكرم مستقر في كتاب مكنون؛ أي: مصون مستور عند الله تعالى؛ أي: في لوح محفوظ من أن يناله الشيطان بسوء، أو في مصحف مصون محفوظ من التبديل والتحريف. والقول الأول أصح. لا يمس ذلك الكتاب المكنون أعني: اللوح المحفوظ إلا الملائكة المطهرون. وهذا مروي عن ابن عباس، وأنس. وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية، وقتادة، وابن زيد. أو لا يمس ذلك المصحف إلا المطهرون من الشرك. يعني: لا يمكن أهل الشرك من قراءته. قال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، أو لا يمسه إلا المطهرن من الأحداث والجنابات. وقال الحسين بن الفضل: المراد: أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وفي حرف ابن مسعود (¬1): {ما يمسه إلا المطهرون}. وقرأ الجمهور {الْمُطَهَّرُونَ} بتخفيف الطاء، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول من طهر مشددًا، وقرأ عيسى كذلك مخففًا اسم مفعول من أطهر. ورويت عن نافع ¬

_ (¬1)، البحر المحيط.

[80]

وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي {الْمُطَهِّرُونَ} بتخفيف الطاء، وشد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر المضاعف، أي: المطهرون أنفسهم. وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء والهاء وكسر الهاء. أصله: المتطهرون فأدغمت التاء في الطاء. وقرىء {المتطهرون}. 80 - وقرأ الجمهور {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} بالرفع (¬1) على أنه صفة ثالثة لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف. وقرىء بالنصب على الحال، أو على المصدرية بفعله المحذوف؛ أي: نزل تنزيلًا. أي: هذا القرآن منزل من عند رب العالمين منجمًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة؛ لأن صيغة التفعيل تدل على التكرير، فليس بالسحر، ولا بالكهانة، ولا بالشعر، وهو الحق الذي لا مرية فيه, وليس وراءه شيء نافع. 81 - وبعد أن بين مزاياه، وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، بل ينبغي التمسك به، فقال: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله، وهو القرآن الكريم، وسماه حديثًا؛ لأن فيه حوادث الأمور، كما في "كشف الأسرار". وهو متعلق بقوله: {مُدْهِنُونَ}. وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوز فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مدهنون بهذا الحديث. {أَنْتُمْ} يا أهل مكة {مُدْهِنُونَ}؛ أي: (¬2) متهاونون، مستحقرون كمن يدهن في الأمر؛ أي: يلين جانبه، ولا يتصلب فيه تهاونًا به، والتدهين كالمداهنة عبارة عن المداراة، والملاينة، وترك الجد، قال في "الإحياء": الفرق بين المداهنة، والمداراة يكون بالنظر إلى الغرض الباعث على الإغضاء، فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنبش في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتغلنهم، وهذا معنى المداراة. وهو منع شر من يخاف شره. والمعنى (¬3): أي فبهذا القرآن تتهاونون، وتمالئون من يتكلم فيه، ولا تظهرون ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[82]

له المخالفة، وعدم الرضا. 82 - {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}؛ أي: شكر رزقكم بتقدير المضاف ليصح المعنى، كما حكاه الوادي عن المفسرين. والرزق (¬1) في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، والمراد: نعمة القرآن، أي: تجعلون شكر رزقكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بنعمة الله فتضعون التكذيب لرازقه موضع الشكر، أو تجعلون شكر رزقكم الصوري أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى الأنواء، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو حبس الله القطر عن أمتي عشر سنين ثم أنزل .. لأصبحت طائفة منهم يقولون: سقينا بنوء كذا". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة، والتكذيب بالقدر، والإيمان بالنجوم". وقال الهيثم: إن أزد شنوءة يقولون: ما رزق فلان؛ أي: ما شكر. وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف، بل معنى الرزق: الشكر. ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله تعالى، وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا. ووجه التعبير بالرزق عن الشكر (¬2): أن الشكر يفيض زيادة الرزق، فيكون الشكر رزقًا تعبيرًا بالسبب عن المسبب، وقال الأزهري: معنى الآية: وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله تعالى التكذيب بأنه من عند الله الرازق. وقال أبو حيان (¬3): المعنى: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به؛ أي: تضعون مكان الشكر التكذيب. ومن هذا المعنى قول الراجز: مَكَانُ شُكْرِ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنْ ... كَيُّ الصَّحِيْحَات وَفْقْءُ الأَعْيُنِ وقرأ علي، وابن عباس {وتجعلون شكركم}. وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد. وقرأ الجمهور (¬4) {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالتشديد من التكذيب. فالمعنى: أنه ليس من عند الله؛ أي: القرآن أو المطر، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم. وقرأ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) البحر المحيط.

[83]

عليّ، والمفضل عن عاصم بالتخفيف من الكذب. والمراد بالكذب: قولهم في القرآن: سحر وافتراء، وفي المطر من الأنواء. والخلاصة (¬1): أنكم تضعون الكذب موضع الشكر. وهذا على نحو ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}؛ أي: لم يكونوا يصلون، لكنهم كانوا يصفقون، ويصفقون مكان الصلاة. قال القرطبي: وفي هذا بيان بأن ما يصيب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابًا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلوه بالشكر إن كان نعمة، وبالصبر إن كان مكروهًا تعبدًا له وتذلَّلًا، اهـ. 83 - {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} لولا (¬2) للتحضيض لإظهاد عجزهم. و"إذا" ظرفية مجردة أو مضمنة معنى الشرط. والحلقوم: مجرى الطعام. وفي "كشف الأسرار": مجرى النفس. والبلعوم: مجرى الطعام. وجواب لولا هو ما سيأتي بقوله: {تَرْجِعُونَهَا}. والضمير في {بَلَغَتِ} عائد إلى غير مذكور. وهو الروح، ولم يتقدم لها ذكر .. لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاؤوا بمثل هذه العبارة؛ أي: فهلا إذا بلغت النفس؛ أي: الروح أو نفس أحدكم، وروحه الحلقوم وتداعت إلى الخروج. وفي الحديث: "إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق، ويجمعون الروح شيئًا فشيئًا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم، فيتوفاها ملك الموت ". 84 - {وَأَنْتُمْ} {الواو} للحال من فاعل {بَلَغَتِ}؛ أي: والحال أنتم أيها الحاضرون حول صاحبها {حِينَئِذٍ}؛ أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم {تَنْظُرُونَ} إلى ما هو فيه من الغمرات والسكرات. ولكم تعطف عليه، وشفقة ووفور رغبة في إنجائه من المهالك. 85 - {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ}؛ أي: إلى ذلك المحتضر علمًا، وقدرة، وتصرفًا. قال بعضهم: عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع. {مِنْكُمْ} أيها الحاضرون حوله، حيث لا تعرفون حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا عن كنهها، وكيفيتها، وأسبابها, ولا أن تقدروا على دفع أدنى شي منها. ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا، أو بملائكة الموت الذين يقبضون روحه {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[86]

لا تدركون، ولا تعلمون كنه ما يجري عليه لجهلكم بشؤوننا. فقوله: {لَا تُبْصِرُونَ} من البصيرة، لا من البصر. والأقرب تفسيره بقوله: لا تدركون كوننا أعلم به منكم، كما في "حواشي سعديّ المفتي". 86 - {فَلَوْلَا} بمعنى هلا أيضًا {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}؛ أي: غير مربوبين مملوكلين أذلاء، من دان السلطان رعيته إذا سامهم، واستعبدهم. وفي "المفردت": أو غير مجزيين؛ فإن الدين الجزاء أيضًا. وهو ناظر إلى قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}. فإن التحضيض يستدعي عدم المحضّض عليه حتمًا. 87 - {تَرْجِعُونَهَا} أي (¬1): النفس إلى مقرها، وتردون روح ميتكم إلى بدنه من المرجع. وهو الردّ، وهو العامل في {إذا}، والمحضّض عليه بلولا الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. وهي مع ما في حيّزها دليل جواب الشرط. والمعنى: إن كنتم غير مربوبين، كما ينبىء عنه عدم تصديقم بخلقنا إيّاكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرّها عند بلوغها الحلقوم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في اعتقادكم. فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم. أي: فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله تعالى. فآمنوا به. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تكرير للتأكيد، لا من اعتراض الشرط. إذ لا معنى له هنا. والمعنى (¬2): أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلاقيمهم، وأنتم ومن حضركم من أهليكلم تنظرون إليهم، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم، ولكن لا تبصرون. وجواب لولا قوله الآتي: {تَرْجِعُونَهَا}. وخلاصة المعنى: إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون فهلا ترجعون النفوس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[88]

إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟ ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى. فقال: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)}؛ أي: فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرّها من الجسد إن كتم غير مصدقين أنكم تبعثون، وتحاسبون، وتجزون، ولن ترجعوها. فبطل زعمكم أنكم غير مربوبين، ولا مملوكين. 88 - وبعد أن ذكر حال المحتضرين في الدنيا أردفها بذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجًا ثلاثة. فقال: 1 - {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} المتوفى {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}؛ أي: من الذين قربهم ربهم من جواره في جناته لفعله ما أمر به، وتركه ما نهي عنه، وهم أجل الأزواج الثلاثة. 89 - {فَرَوْحٌ}؛ أي: فله استراحة وطمأنينة نفس {وَرَيْحَانٌ}؛ أي: رزق واسع من عند الله تعالى. {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}؛ أي: بستان ذات تنعم ليس فيها غيره. وتبشره الملائكة بجنات النعيم، وقد جاء في حديث البراء بن عازب: "إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينيه فأخرجي إلى روح، وريحان، ورب غير غضبان". وقرأ الجمهور (¬1) {فَرَوْحٌ} بفتح الراء. والمعنى: الراحة من الدنيا، والاستراحة من أحوالها. وقال الحسن: الروح: الرحمة. وقال مجاهد: الروح: الفرح، وقرأ ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ونصر بن عاصم، والجحدري، ونوح القارىء، والضحاك، والأشهب، وشعيب بن الحبحاب، وسليمان التيمي، والربيع بن خيثم، ومحمد بن عليّ، وأبو عمران الجوني، وغيرهم {فرُوح} بضم الراء. قيل: ومعنى هذه القراءة: الرحمة؛ لأنها كالحياة للمرحوم. والريحان: الرزق، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومقاتل. وقال الحسن: الريحان هو الريحان المعروف الذي يشم. قال قتادة، والربيع بن خيثم: هذا عند الموت , والجنة مخبوءة إلى أن يبعث. 2 - 90 {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} المتوفى {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} عبر عن السابقين بالمقربين لكونه أجل أوصافهم، وعبر عن أصحاب اليمين بالعنوان السابق. إذ لم يذكر لهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني.

[91]

فيما سبق وصف واحد ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين. واستعير اليمين للتيمن والسعادة، قاله الراغب. 91 - {فَسَلَامٌ لَكَ}؛ أي: فتبشره الملائكة، وتقول له: سلام لك يا صاحب اليمين {مِنْ} إخوانك {أَصْحَابِ الْيَمِينِ} يسلمون عليك عند الموت وبعده. فيكون السلام إشارة له إلى أنه من أهل الجنة، قال في "الإرشاد": هذا إخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض، كما يفصح عنه اللام. لا حكاية لإنشاء سلام بعضهم على بعض، وإلا لقيل: عليك. والالفتات إلى خطاب كل واحد منهم للتشريف. 3 - 92 {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} المتوفى {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} بالحق {الضَّالِّينَ} عن الهدى، وهم أصحاب الشمال. عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)} ذمًّا لهم بذلك وإشعارًا بسبب ما ابتلوا به من العذاب. وهو تكذيب البعث ونحوه 93 - {فَنُزُلٌ}؛ أي: فله نزل كائن {مِنْ حَمِيمٍ}؛ أي: من ماء حار يشرب بعد أكل الزقوم، كما فصل من قبل. 94 - {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}؛ أي: وإدخال في النار. وقيل: إقامة فيها، ومقاساة لألوان عذابها. وقيل: ذلك ما يجده في القبر من سموم النار، ودخانها. وهو مصدر مضاف إلى المفعول. والمعنى: أي فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما في بطنه والجلود، ويدخل في النار التي تغمره من جميع جهاته. وقرأ الجمهور (¬1) {وَتَصْلِيَةُ} رفعًا عطفًا على {فَنُزُلٌ}. وقرأ أحمد بن موسى، والمتقري، واللؤلؤي عن أبي عمرو بجر التاء عطفًا على {مِنْ حَمِيمٍ}؛ أي: فنزل من حميم ومن تصلية جحيم. 95 - ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم، وما آل إليه كل قسم منهم أكد ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا} الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به، ومن قيام الأدلّة عليه، ومن حال المقربين، وأصحاب اليمين، وحال المكذبين الضالين. {لَهُوَ حَقُّ} الخبر {الْيَقِينِ} الذي لا شك فيه لتظاهر الأدلة القاطعة عليه، كأنه ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[96]

مشاهد رأي العين. وهذا (¬1) على مذهب البصريين. فيجعلون المضاف إليه محذوفًا, والتقدير: حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين. وأما الكوفيون فيقولون: فهو من إضافة الشيء إلى نفسه؛ أي: لهو محض اليقين، وخالصه. قال المبرد: هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين. 96 - ولما (¬2) أعاد التقسيم موجزًا الكلام فيه أمره أيضًا بتسبيحه، وتنزيهه، والإقبال على عبادة ربه، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء. فقال: {فَسَبِّحْ} يا محمد أو أيها المخاطب؛ أي: نزه الله سبحانه عما لا يليق بشأنه حال كونك متلبسًا {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}؛ أي: بذكره للتبرك به. وقيل: المعنى: فصل بذكر ربك. فالباء (¬3) متعلقة بمحذوف، كما قدرنا. وقيل: زائدة. والاسم بمعنى الذات. وقيل: هي للتعدية. لأن {سَبِّحْ} يتعدى تارة بنفسه كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، وتارة بحرف الجر كقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}. والأول أولى. والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم، ويجوز أن يكون صفة لربك، لأن كلا منهما مجرور. والفاء في قوله: {فَسَبِّحْ} لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها؛ فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك، والتكذيب بآياته الناطقة بالحقّ. وقال أبو عثمان: فسبح شكرًا لما وفقنا أمتك إليه من التمسك بسنتك. والمعنى (¬4): أي فبعد أن استبان لك الحق، وظهر لك اليقين، فنزه ربك عما لا يليق به مما ينسبه الكفار إليه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} قال: "اجعلوها في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

ركوعكم". ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} قال: "اجعلوها في سجودكم". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى". وسر اختصاص سبحان ربي العظيم بالركوع، والأعلى بالسجود (¬1) أن الأول إشارة إلى مرتبة الحيوان. والنسائي: إشارة إلى مرتبة النبات والجماد. فلا بد من الترقي في التنزيه، والحق سبحانه فوق التحت كما أنه فوق الفوق. ونسبة الجهات إليه على السواء لنزاهته عن التقيد بالجهات، فلهذا شرع التسبيح في الهبوط. واختلف الأئمة في التسبيح المذكور في الصلاة. فقال أحمد: هو واجب، تبطل الصلاة بتركه عمدًا، ويسجد لتركه سهوًا. والواجب عنده مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث. وقال أبو حنيفة، والشافعي: هو سنة. وقال مالك: يكره لزوم ذلك لئلا يعد واجبًا فرضًا. الإعراب {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}. {نَحْنُ} مبتدأ، وجملة {خَلَقْنَاكُمْ} خبره. والجملة مستأنفة. {فَلَوْلَا} الفاء: عاطفة، {لولا} حرف تحضيض بمعنى هلّا، {تُصَدِّقُونَ} فعل مضارع، مرفوع بالنون، والواو: فاعل. والجملة التحضيضية معطوفة على ما قبلها. {أَفَرَأَيْتُمْ} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، {رأيتم} فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني. والتقدير: أتنكرون البعث، وخلقي إيّاكم فأخبروني عمّا تمنون الخ. والجملة المحذوفة مستأنفة. {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول أول لـ {رأيتم}، وجملة {تُمْنُونَ} صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف، تقديره: ما تمنونه. {أَأَنْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، {أنتم} مبتدأ، وجملة {تَخْلُقُونَهُ} خبر. والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان لـ {رأيتم}. ويجوز إعراب {أنتم} فاعلًا بفعل مقدر؛ أي: أتخلقونه أنتم. فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير، وهو من باب الاشتغال. ولعله من جهة ¬

_ (¬1) روح البيان.

القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام. {أَمْ} منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري، {نَحْنُ الْخَالِقُونَ} مبتدأ وخبر. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب؛ أي: بل نحن الخالقون لا أنتم، ويكون الكلام حينئذٍ مشتملًا على استفهامين. الأول: أأنتم تخلقونه. وجوابه لا. والثاني: مأخوذ من {أَمْ}؛ أي: بل أنحن الخالقون، وجوابه نعم. ويجوز أن تكون {أَمْ} متصلة معادلة للهمزة، ويجاب عن وقوع الجملة بعدها بأن الخبر الذي بعد {نَحْنُ} أتي به على سبيل التأكيد، لا لتصحيح الكلام؛ إذ لو قيل: أم نحن لاكتفى به بدون الخبر. ويؤيد كونها متصلة أن الكلام يؤول إلى أي الأمرين واقع، وإذا صح ذلك كانت متصلة. إذا الجملة في تأويل المفرد، اهـ سمين. {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ في مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}. {نَحْنُ} مبتدأ، {قَدَّرْنَا} فعل، وفاعل، {بَيْنَكُمُ} متعلق بـ {قَدَّرْنَا} {الْمَوْتَ} مفعول به؛ أي: أوجبناه، وكتبناه عليكم. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَمَا} الواو: عاطفة أو اعتراضية، {مَا} حجازية، {نَحْنُ} اسمها، {بِمَسْبُوقِينَ} خبرها، والباء: زائدة. والجملة معطوفة على جملة قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا}، أو معترضة لاعتراضها بين الجار والمجرور الآتي، ومتعلقه الذي هو {قَدَّرْنَا}. {عَلَى} حرف جر، {أَنْ} حرف نصب ومصدر، {نُبَدِّلَ} فعل، وفاعل مستتر، منصوب بـ {أن}، {أَمْثَالَكُمْ} مفعول به. والجملة في تأويل مصدر مجرور بعلى؛ أي: على تبديلنا أمثالكم. والجار والمجرور متعلق بمسبوقين، أو بـ {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}. {وَنُنْشِئَكُمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {نُبَدِّلَ}، {في مَا} جار ومجرور، متعلق بـ {ننشئكم}، وجملة {لَا تَعْلَمُونَ} صلة لـ {ما}، أي: ننشئكم في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقدار كالقردة والخنازير. {وَلَقَدْ} الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم, {قد} حرف تحقيق، {عَلِمْتُمُ} فعل، وفاعل، {النَّشْأَةَ} مفعول به، {الْأُولَى} صفة لـ {النَّشْأَةَ}. والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {فَلَوْلَا}

الفاء: عاطفة، {لولا} حرف تحضيض، {تَذَكَّرُونَ} فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على جملة جواب القسم. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} تقدم إعراب نظير هذه الجملة آنفًا، فجدد به عهدًا. {لَوْ} شرطية، {نَشَاءُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة فعل شرط لـ {لَوْ}، {لَجَعَلْنَاهُ} اللام: رابطة لجواب {لَوْ}، {جَعَلْنَاهُ حُطَامًا} فعل، وفاعل، ومفعولان. والجملة جواب لو الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {فَظَلْتُمْ} الفاء: عاطفة {ظلتم} فعل ناقص من أخوات كان والتاء اسمها. أصله: ظللتم بكسر اللام الأولى، فحذفت العين تخفيفًا. {تَفَكَّهُونَ} فعل مضارع، وفاعل. أصله: تتفكهون. والجملة في محل النصب خبر {ظل}، وجملة {ظل} معطوفة على جواب لو الشرطية. {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَمُغْرَمُونَ} خبره، واللام حرف ابتداء. وجملة إن في محل النصب، مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {تَفَكَّهُونَ}، كما مرّ، تقديره: فظلتم تفكهون حال كونكم قائلين: إنّا لمغرمون. {بَلْ} حرف عطف وإضراب، {نَحْنُ مَحْرُومُونَ} مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لقول محذوف. {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}. {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ} تقدّم إعراب نظيرها، {الَّذِي} صفة لـ {الْمَاءَ}، وجملة {تَشْرَبُونَ} صلة الموصول، والعائد محذوف. {أَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {أَنْزَلْتُمُوهُ} خبره. والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {رأيتم}. {مِنَ الْمُزْنِ} متعلق بـ {أَنْزَلْتُمُوهُ}. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} تقدم إعراب نظيرها {لَوْ} حرف شرط غير جازم، {نَشَاءُ} فعل شرط لها، {جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} فعل، وفاعل، ومفعولان. والجملة جواب لو، وجملة لو مستأنفة. {فَلَوْلَا} {الفاء} عاطفة، {لولا} حرف تحضيض، {تَشْكُرُونَ} فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على جملة {لَوْ}. {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}. {أَفَرَأَيْتُمُ} تقدم نظيرها، {النَّارَ} مفعول أول لـ {رأيتم}، {الَّتِي} صفة لـ

{النَّارَ}، وجملة {تُورُونَ} صلة الموصول، {أَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {أَنْشَأْتُمْ} خبره، {شَجَرَتَهَا} مفعول به. والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {رأيتم}. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله. {نَحْنُ} مبتدأ، وجملة {جَعَلْنَاهَا} خبره. والجملة مستأنفة. {تَذْكِرَةً} مفعول ثان لـ {جعلنا}، {وَمَتَاعًا} معطوف عليه، {لِلْمُقْوِينَ} متعلق بـ {متاعا} أو صفة له. {فَسَبِّحْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا عرفت النعم المذكورة، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: {سبح}. {سبح} فعل أمر، وفاعل مستتر، {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ {سبح} أو بمحذوف حال؛ أي: متبركًا. وقيل اسم مقحم، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {اسم} أو لـ {رَبِّكَ}. والجملة الفعلية مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) في كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}. {فَلَا} {الفاء}: استئنافية، و {لا} زائدة لتأكيد معنى القسم؛ أي: فأقسم، {أُقْسِمُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة مستأنفة. {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} متعلق بـ {أُقْسِمُ}. {وَإِنَّهُ} الواو: اعتراضية, {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَقَسَمٌ} خبره، واللام حرف ابتداء. والجملة معترضة لاعتراضها بين القسم وجوابه. {لَوْ} حرف شرط، وجملة {تَعْلَمُونَ} فعل شرط لها، وجواب لو محذوف، تقديره. لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم. وجملة لو معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين الصفة والموصوف. {عَظِيمٌ} صفة {قسم}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَقُرْآنٌ} خبره، واللام: حرف ابتداء، {كَرِيمٌ} صفة أولى {لَقُرْآنٌ}. وجملة {إِنّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {في كِتَابٍ} صفة ثانية {لَقُرْآنٌ}؛ {مَكْنُونٍ} صفة لـ {كِتَابٍ}، {لَا} نافية {يَمَسُّهُ} فعل مضارع، ومفعول به، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {الْمُطَهَّرُونَ} فاعل. والجملة صفة ثالثة {لَقُرْآنٌ}. {تَنْزِيلٌ} صفة رابعة {لَقُرْآنٌ}، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة لـ {تَنْزِيلٌ} أو متعلق به. {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، تقديره: أأنتم مكذّبون رسولي. والجملة مستأنفة. والفاء: عاطفة على

ذلك المحذوف، {بهذا الحديث} متعلق بـ {مُدْهِنُونَ}. {الْحَدِيثِ} بدل من اسم الإشارة. {أَنتُم} مبتدأ, {مُدْهِنُونَ} خبره. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. والتقدير: أأنتم مكذّبون رسولي، فأنتم مدهنون بهذا الحديث. {وَتَجْعَلُونَ} فعل، وفاعل، {رِزْقَكُمْ} مفعول أول. والجملة الفعلية معطوفة على {مُدْهِنُونَ} على كونها خبر المبتدأ. {أَنَّكُمْ} ناصب واسمه، وجملة {تُكَذِّبُونَ} خبره. وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولا ثانيًا لـ {تجعلون}، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وتجعلون شكر رزقكم تكذيب رازقه. {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)}. {فَلَوْلَا} الفاء: استئنافية، {لولا} حرف تحضيض بمعنى هلّا، {إِذَا} ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {تَرْجِعُونَهَا}، {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} فعل، ومفعول به على الاتساع وفاعله ضمير يعود على النفس؛ أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم. {وَأَنْتُمْ} الواو: حالية، {أَنْتُمْ} مبتدأ، {حِينَئِذٍ} ظرف مضاف إلى مثله، منصوب {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة المضافة إليها {إذ}؛ أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم، والظرف متعلق بتنظرون، وجملة {تَنْظُرُونَ} في محل الرفع، خبر عن {أَنْتُمْ}، ومتعلق النظر محذوف؛ أي: إليه؛ أي: إلى المحتضر. وجملة {أَنْتُمْ} حال من فاعل {بَلَغَتِ}. {وَنَحْنُ} الواو: حالية، أو استئنافية، {نَحْنُ} مبتدأ، و {أَقْرَبُ} خبره, {إِلَيْهِ}، {مِنْكُمْ} متعلّقان بـ {أَقْرَبُ}. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {تَنْظُرُونَ} أو مستأنفة معترضة. {وَلَكِنْ} الواو: عاطفة، {لكن} حرف استدراك {لا} نافية، {تُبْصِرُونَ} فعل، وفاعل، معطوف على {تَنْظُرُونَ}؛ أي: لا تعلمون أنا أقرب إليه منكم بالعلم، أو لا تعلمون ما هو فيه من المشقة والكرب. {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}. {فَلَوْلَا}: {الفاء}: عاطفة، {لولا} حرف تحضيض مؤكّدة لـ {لولا} الأولى تأكيدًا لفظيًا، {إن} حرف شرط، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، في محل

الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {غَيْرَ مَدِينِينَ} خبر {كان}، {تَرْجِعُونَهَا} فعل مضارع، مرفوع بالنون، والواو: فاعل، والهاء: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها. و {لولا} تحضيضية، وهي للطلب. والمعنى: فارجعوا روح المحتضر إلى مقرّها وجسدها وقت بلوغها الحلقوم للنزع إن كتم غير مدينين. {إن} حرف شرط، {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين في نفي البعث فارجعوها إلى جسدها. وهي مؤكّدة لجملة {إن} الشرطية الأولى. وملخص الكلام إن صدقتم في نفي البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت، فينتفي البعث. اهـ "سمين". {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال المتوفّى عند وفاته، وأردت بيان حاله إثر وفاته فأقول لك: أما إن كان من المقربين إلخ. {أمّا} حرف شرط أبدًا، وتفصيل غالبًا، نائبه عن مهما الشرطية وفعل شرطها، {إن} حرف شرط جازم، {كَانَ} فعل ناقص في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} خبرها. وجواب {إن} الشرطية محذوف لدلالة جواب أمّا عليه. والتقدير: إن كان من المقربين يجزى بالروح والريحان وجنة نعيم، وجملة إن الشرطية معترضة بين {أمّا}، وجوابها, لا محل لها من الإعراب. {فَرَوْحٌ} الفاء: رابطة لجواب {أمّا} وجوبًا، {روح} مبتدأ، خبره محذوف، مقدم عليه، تقديره: فله روح. {وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} معطوفان على {روح}. والجملة الاسمية جواب {أمّا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. وجملة {أما} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. والمعنى: فأقول لك مهما يكن من شيء، فللمتوفى روح وريحان، وجنة نعيم إن كان من المقربين، وسلام من أصحاب اليمين إن كان منهم الخ. {وَأَمَّا} الواو: عاطفة، {أَمَّا} حرف شرط، {إِن} حرف شرط، {كَانَ} فعل ناقص في محل

الجزم بـ {إِن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}، خبرها، وجواب {إِن} الشرطية محذوف، تقديره: إن كان من أصحاب اليمين يسلّم عليه. وجملة {إِن} الشرطية معترضة. {فَسَلَامٌ} الفاء: رابطة لجواب أمّا، {سلام} مبتدأ. سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء. {لَكَ} خبر عن {سلام} {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} نعت لـ {سلام} أو حال منه. والجملة الاسمية جواب أمّا، لا محل لها من الإعراب. وجملة {أَمَّا} في محل النصب، معطوفة على جملة أمّا الأولى. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة، {أَمَّا}. حرف شرط، {إِنْ} حرف شرط، {كَانَ} فعل ناقص في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المتوفى، {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} خبرها، {الضَّالِّينَ} صفة لـ {الْمُكَذِّبِينَ}. وجواب {إن} محذوف، تقديره: إن كان المتوفى من المكذبين يجزى بالحميم والجحيم. وجملة {إِنْ} الشرطية معترضة بين {أَمَّا} وجوابها. {فَنُزُلٌ} الفاء: رابطة لجواب {أَمَّا} الشرطية، {نزل} مبتدأ، حذف خبره المقدم، {مِنْ حَمِيمٍ} صفة لـ {حَمِيمٍ}، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} معطوف على {نزل}. والجملة الاسمية جواب {أَمَّا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب. والتقدير: مهما يكن من شيء فللمتوفى نزل من حميم، وتصلية جحيم إن كان من المكذبين الضالّين. وجملة {أَمَّا} في محل النصب، معطوفة على جملة أما الأولى. {إِنَّ هَذَا} ناصب واسمه، {لَهُوَ} اللام حرف ابتداء، {هو} ضمير فصل، أو مبتدأ، و {حَقُّ الْيَقِينِ} خبر {إِنَّ} أو خبر هو. والجملة الاسمية خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. وإضافة حق إلى اليقين عن إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: الحق المتيقّن الذي لا شك فيه. {فَسَبِّحْ} الخ، تقدم إعرابه، ولكن نعيده لزيادة بعض الفوائد. فنقول: الفاء: فاء الإفصاح كما مرّ، {سبح} فعل أمر بمعنى نزه، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بِاسْمِ} الباء: حرف جر، {اسم} زائد، {رَبِّكَ} مجرور بالباء؛ أي: سبح بربك العظيم. ويجوز أن تكون الباء للحال؛ أي: حال كونك متلبسًا باسم ربك أو متبركًا به، ويجوز أن تكون الباء للتعدية بناء على أنَّ {سبح} يتعدى تارة

بنفسه، وتارة أخرى بحرف الجر. {الْعَظِيمِ} صفة. فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك؛ لأنه لم يكثر دورانها هنا كثرته في البسملة, وحذفوها من البسملة لكثرة دورانها. وهم شأنهم الإيجاز، وتقليل الكثير إذا عرف معناه. وهذا معروف لا يجهل. وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله، ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء. اهـ خطيب انتهى من الفتوحات. التصريف ومفردات اللغة {مَا تُمْنُونَ}؛ أي: ما تقذفونه في الأرحام من النطف. قرأ العامة بضم التاء، من أمنى الرباعي يمني إمناء. وقرىء بفتح التاء من مني الثلاثي يمني من باب رمى. كلاهما بمعنى قذف المني في الرحم. وأصله من المني. وهو التقدير. قال الشاعر: لا تَأْمَنْ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمِ ... حَتَّى تُلاقِيَ مَا يُمْنِيْ لَكَ الْمَانِيْ ومنه: المنيَّة. لأنَّها مقدرة تأتي على مقدار. وفي "المختار": وقد يقال: مني من باب رمى، وأمنى أيضًا. اهـ. وأصل {تُمْنُونَ}: تمنيون بوزن تفعلون، أستثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وضمت النون لمناسبة الواو. {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}؛ أي: نميتكم دفعة واحدة، ونخلق أشباهكم. ويجوز في {أَمْثَالَكُمْ} وجهان: أحدهما: أنه جمع مثل بكسر الميم, وسكون الثاء؛ أي: نحن قادرون على أن نعدمكم، ونخلق قومًا آخرين أمثالكم. ويؤيده قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}. والثاني: أنه جمع مثل بفتحتين. وهو الصفة؛ أي: نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا، وننشئكم في صفات غيرها، اهـ سمين. {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}؛ أي: في صورة لا تعلمونها في جنسكم كتبديل صوركم بصورة القردة والخنازير. قال الحسن؛ أي: نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام

قبلكم. و {مَا} مقطوعة في الرسم على القاعدة من أن {مَا} الموصولة مفصولة، اهـ خطيب. {مَا تَحْرُثُونَ}؛ أي: تبذرون حبه، وتعملون في أرضه. قال الراغب: الحرث: تهيئة الزراعة، وإلقاء البذر فيها، اهـ. والمعنى: المناسب هنا تفسير ما بالبذر، ومعنى تحرثون البذر؛ أي: تلقونه في الأرض فكأنه قال: أفرأيتم البذر الذي تلقونه في الطين أأنتم تزرعونه؛ أي: تنبتونه. وفي "المختار": الزرع: طرح البذر. والزرع أيضًا: الإنبات، يقال: زرعه الله؛ أي: أنبته. ومنه قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}. وبابه قطع، اهـ. {حُطَامًا}؛ أي: هشيمًا متكسّرًا متفتتًا لشدة يبسه، والحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء. وأصل الحطم: كسر الشيء مثل الهشم، ونحوه. ثم استعمل لكل كسر متناه. {فَظَلْتُمْ} في إعلال بحذف عينه، إذ أصله: ظللتم بوزن فعلتم، حذفت عينه، وبقيت فاؤه، كما هي لغة فيه. وفيه لغة أخرى. وهي حذف العين، وكسر الفاء ظِلت. وهكذا كل فعل ثلاثي مكسور العين ماض عينه، ولامه من جنس واحد فيه ثلاث استعمالات، وهي استعماله تامًّا، كقولك: ظللت، وحذف عينه، وإبقاه حركة فائه كما هي. وحذف العين وكسر الفاء، كما تقدم. {تَفَكَّهُونَ} فيه حذف إحدى التاءين، كما تقدم. فأصله: تتفكهون حذفت إحدى التاءين تخفيفًا. وأصل التفكه: تناول ضروب الفواكه للأكل. والفكاهة: المزاح. ومنه: حديث زيد كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه طيب النفس. وقد استعير هنا للتنقل في الحديث. وقيل: معناه: تندمون. وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم. ولا تلقي الفكاهة إلا من الحزن. فهو من باب تحرج وتأثم. وقيل: تفكهون تعجبون. وقيل: تتلاومون. وقيل: تتفجعون. كله من باب التفسير باللازم. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)} جمع مغرم. والمغرم: هو الذي ذهب ماله بغير عوض. وأصل الباب اللزوم. والغرام: العذاب اللازم. والغرامة: أن يلزم الإنسان ما ليس عليه، ولا في ذمته.

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} الإيراء: إظهار النار بالقدح. يقال: أورى يورى، ووريت بك زنادي، أي: أضاء بك أمري. ويقال: قدح فأورى إذا ظهرت النار، فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى. وفي "المصباح": ورى الزند يرى وريًا من باب وعى. وفي لغة ورى يرى بكسرهما، وأورى بالألف. وذلك إذا أخرج ناره. وفي "المختار": وأوراه غيره أخرج ناره. وفي "معاجم اللغة": تستخرجون النار من الزناد. وهو جمع زند. والزند: العود الذي يقدح به النار. وهو الأعلى. والزندة السفلى، فيها ثقب، وهي الأنثى. فإذا اجتمعا قيل: زندان، والجمع زناد. والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: ما من شجر، ولا عود إلّا فيه النار سوى العناب، اهـ. وأصل {تُورُونَ}: توريون مضارع أورى الرباعيِّ، وفيه إعلال بالحذف ثلاث مرات: أولًا: حذفت منه همزة أفعل، كما تقدم غير مرة. وثانيًا: حذفت الضمة التي على الياء للتخفيف. وثالثًا: لما سكنت الياء بعد حذف حركتها حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الراء لمناسبة الواو. {الْمُزْنِ} السحاب، جمع مزنة. وفي "القاموس": المزن بالضم: السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، والقطعة مزنة. {أُجَاجًا} في "المختار": ماء أجاج: مر شديد الملوحة. وقد أج يؤج أجوجًا بالضم. {لِلْمُقْوِينَ}؛ أي: للمسافرين الذين يسكنون القواء؛ أي: القفر، والمفاوز؛ أي: جعلناها ينتفع بها المسافرون. وخصوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين. وأصل المقوين: المقويين اسم فاعل من أقوى الرباعي استثقلت الكسرة على الواو، وبعدها ياء مكسورة، وأخرى ساكنة، فحذفت كسرة الياء الأولى لام الكلمة، فلما سكنت حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الجمع فوزنه مفعين. {لَا يَمَسُّهُ} أصله: يمسسه، نقلت حركة السين الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في السين الثانية. والظاهر والله أعلم: أن ضمة السين ضمة إعراب، وأنَّ {لا} نافية. وهذا أحد وجهين، ذكرهما السمين. ثم قال: والثاني: أن {لا} ناهية، والفعل بعدها مجزوم. لأنه لو فك عن الادغام .. لظهر ذلك، كقوله تعالى:

{لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}، ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب. فضمته ضمة إتباع لحركة الهاء. {مُدْهِنُونَ} قال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة، والملاينة، وترك الجد. وقال المؤرخ: المدهن: المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره. والإدهان والمداهنة: التكذيب، والنفاق، وأصله: اللين, وأن يضمر خلاف ما يظهر، وادهن داهن بمعنى واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت. وفي "الشهاب": وأصل الإدهان جعل الأديم، ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن. ولما كان ذلك ملينًا له لينًا محسوسًا أريد به: اللين المعنوي على أنه تُجُوِّز به عن مطلق اللين، أو استعير له، ولذا سميت المداراة، والملاينة مداهنة. وهذا مجاز معروف، ولشهرته صار حقيقة عرفية، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضًا؛ لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه، اهـ "شهاب". {غَيْرَ مَدِينِينَ} جمع مدين، اسم مفعول من دان يدين. والأصل: مديونين، نقلت حركة الياء إلى الدال، فلما سكنت حذفت واو مفعول لالتقاء الساكنين، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء الساكنة بعدها. فهو مثال مبيع. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} الروح بالفتح: الراحة، والرحمة، ونسيم الريح. والريحان: الرحمة، والرزق كما في "المختار". وفي "القاموس": والريحان: نبت طيب الرائحة، أو كل نبت كذلك، أو أطرافه أو ورقه، والولد، والرزق. وأصله ريحان بوزن فعلان، والياء فيه منقلبة عن واو على غير قياس لعدم وجود سبب للقلب. وقيل: أصله: ريوحان لتصغيره على رويحان. فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، فصار ريحان بتشديد الياء، ثم خففت الياء لتسهيل اللفظ فصار ريحان. وقيل: إن الكلمة لا قلب فيها, ولا إدغام، أن الياء أصل، وهي عين الفعل بدليل جمعها على رياحين، وتصغيره على ريحين. {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} ترسم {جَنَّت} هنا مجرورة التاء. ووقف عليها بالهاء ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، والباقون بالتاء على الرسم، اهـ خطيب. {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}؛ أي: احتراق بها. وهو بوزن تفعلة مصدر قياسي لفعَّل المضعف

المعتل اللام: كزكى تزكية، وولى تولية. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التحضيض في قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)} حثًّا لهم على الاعتراف بالبعت والإعادة كاعترافهم بالخلق الأولى. ومنها: تكرار {أَفَرَأَيْتُمْ} في مواضعها احتجاجًا على المشركين، وإلزامًا لهم بالحجة. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}، وقوله: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)}، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)}. وجناس الاشتقاق بين {ننشئكم}، وبين {النَّشْأَةَ}. ومنها: فن صحة الإقسام في الآيات المذكورة من قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}. وهو عبارة استيفاء المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئًا. ومنها: العدول من لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه، وتابعه. وهو لفظ الجعل في قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}. ومنها: تأكيد الفعل باللام في قوله في الزرع: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}، وعدم تأكيده في الماء، حيث قال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}؛ لأنّ الزرع، ونباته، وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطامًا لما كان يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزارع، ولهذا قال سبحانه: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}، أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء، وأن جفات من حرارة الشمس وعدم السقي، أو تواتر مرور الإعصار. أخبر سبحانه أنه هو الفاعل لذلك كله على الحقيقة، وأنه قادر على جعله .. لو شاء حطامًا في حالة نموه، وزمن شبيبته ونضارته، فلما كان هذا التوهم محتملًا ..

أوجبت البلاغة تأكيد فعل الجعل فيه باللام، بإسناده لزارعه على الحقيقة، ومنشئه لرفع هذا التوهم، ولما كان إنزال المطر من السماء محالًا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن أحدًا من جميع الخلق قادر عليه لم يحتج إلى تأكيد الفعل في جعله أجاجًا. فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدًا ينزل المطر من السماء أجاجًا، ولا عذبًا الذي هو أسهل من الأول، وأهون. ومنها: فن التسهيم في هذه الآيات أيضًا. وهو وأن يكون ما تقدم من الكلام دليلًا على ما تأخر منه أو بالعكس فقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} يقتضي أوائل هذه الآيات أواخرها اقتضاء لفظيًّا ومعنويًا. كما ائتلفت الألفاظ فيها بمعانيها المجاورة ائتلاف الملائم بالملائم، والمناسب بالمناسب؛ لأن ذكر الحرث يلائم ذكر الزرع، وذكر كونه سبحانه لم يجعله حطامًا ملائم لحصول التفكه به، وعلى هذه الآية يقاس نظم أختها. ومنها: زيادة لفظ {اسم} في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}، وزيادة {لا} في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} تأكيدًا للكلام. ومنها: الاعتراض بالجملة الاسمية بين القسم والمقسم عليه في قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}. ومنها: الاعتراض بين الصفة والموصوف في قوله: {لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} حيث استعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول للقران بجامع كثرة النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد. ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}؛ أي: شكر رزقكم. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة. ومنها: تكرار لولا التحضيضية في قوله: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)}

لغرض التأكيد اللفظي. ومنها: جمع المؤكدات في قوله، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} لغرض الرد على المنكرين. ومنها: الالتفات في قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ} لغرض التشريف. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة موضوعات هذه السورة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - اضطراب الأرض، وتفتت الجبال حين قيام الساعة. 2 - إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة. 3 - اجتماع الأولين والآخرين في هذا اليوم. 4 - إقامة الأدلة على وجود الخالق. 5 - إقامة البراهين على البعث، والنشور، والحساب. 6 - إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها. 7 - تبكيت المكذبين على إنكار الخالق. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة الحديد

سورة الحديد سورة الحديد مدنية. نزلت بعد الزلزلة. قال القرطبيّ في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقيل: مكية. وآيها تسع وعشرون آية. وكلماتها خمس مئة وأربع وأربعون كلمة. وحروفها ألفان وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا. المناسبة: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة (¬1)؛ لأنه تعالى أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض. وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها من وجهين (¬2): 1 - إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختم به. 2 - إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح. فكأنه قيل: سبح باسم ربك العظيم. لأنه سبح له ما في السموات والأرض. التسمية: سميت هذه السورة سورة الحديد لذكر الحديد فيها. وهو قوة الإنسان في السلم والحرب، وعدته في البنيان والعمران فمن الحديد تبنى الجسور الضخة، وبه تشاد العمائر، ومنه تصنع الدروع والسيوف والرماح، وتكون منه الدبابات، والغواصات، والسيارات، والطائرات، والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من المنافع التي كادت أن لا تحصى. الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم: سورة الحديد كلها مدنية إلا في قول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

الكلبي. فإنه قال: إنها مكية، وكلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وبرد (¬1) على القول بأنها مدنية ما نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب: أنه لما قرأ هذه الآيات من أول هذه السورة إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وكانت مكتوبة في صحيفة عند أخته .. أسلم. فهذا يقتضي أن هذه الآيات مكية. فعلى هذا تستثنى على القول بأن السورة مدنية، تأمل. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه أحمد (¬2)، والترمذي، وحسنه، والنسائي، وابن مردويه، واليبهقي في "الشعب" عن العرباض بن سارية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية". وفي إسناده بقية بن الوليد. وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية". قال يحيى: فنراها الآية التي في آخر الحشر. قال ابن كثير في تفسيره: والآية المشار إليها، والله أعلم هي قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ...} الآية، والمسبحات المذكورة هي: الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها قد تقدم آنفًا.

وأما قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) أنواعًا من الأدلة تثبت وحدانيته، وعلمه، وقدرته .. فبين أن كل ما في السموات والأرض فهو في قبضته يصرفه كيفما يشاء على ما تقتضيه حكمته. ثم ذكر أنواعًا من الظواهر في الأنفس ترشد إلى هذا، وأومأ إلى النظر والتأمل فيها. أعقب بذكر التكاليف الدينية فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله، وإخلاص العمل له، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ثم طلب إنفاق المال في سبيله، وأبان أن المال عارية مستردة فهو ملك له، وأنتم خلفاؤه في تثميره في الوجوه التي فيها خير لكم، ولأمتكم، ولدينكم. ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبع مئة ضعف. ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول، وقد أخذ عليكم العهد به، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. والله رؤوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك، وهداكم إلى طاعته. ثم ذكر فضل السابقين الأوّلين الذين أسلموا قبل فتح مكة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله حين عز النصير، وقيل المعين. فهؤلاء يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح، وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجًا، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأجر الكريم عند ربهم. ثم حث على الإنفاق مرة أخرى، وسماه قرضًا حسنًا له، وأنه سيرد هذا القرض، ويجازي به أجل الأجر يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر (¬2) بالإيمان والإنفاق في سبيل الله، وحث على كل مهما بوجود موجباته .. فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه. وهي وجود الرسول بين أظهرهم، وكتاب الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق، فأبان أن المال مال الله، وهو عارية بين أيديهم، ثم يرد إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم في جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد، حين النصير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

والمعين .. ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة. فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ثم أردفه بذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين شيئًا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل؛ فيتهكم بهم المؤمنون، ويخيبوا آمالهم، ويقولون لهم: ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورًا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نور إلا منها. ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلي المؤمنين، فيه الرحمة، ومما يلي المنافقين فيه العذاب؛ لأنه في النار. ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وأنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر فينطفيء نور الإيمان، وشكلوا في أمر البعث، وغرهم الشيطان فأوقعهم في مهاوي الردى. ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل في النجاة لهم إذ ذاك فلا تجدي الفدية، كما تنفع في الدنيا. فلا مأوى لهم إلا النار، وبئس القرار. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة, وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسًا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة، فيردونهم خائبين، ويقولون لهم: ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورًا .. أردف هذا (¬1) بعتاب قوم من المؤمنين، فترت همتهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم, فقست تلوبهم، وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه. ثم أبان لهم بضرب المثل: أن القلوب القاسية تحيا بالذكر، وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث، والمطر. ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه بن أبي شيبة في "المصنف" عن عبد العزيز بن أبي روّاد: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر فيهم المزاح والضحك .. فنزلت هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ... الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...} الآية. وأخرج عن السدي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}. ثم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...} الآية. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: لما قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا في جهد جهيد. فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا، فنزلت الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ}؛ أي: نزه لله سبحانه وتعالى، وقدسه عن كل ما لا يليق به ذاتًا وصفات وأفعالًا، ومجده، وعظمه بكل الكمالات {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: جميع المخلوقات في السموات والأرض حيوانًا وجمادًا عقلاء وغير عقلاء، إما بلسان المقال أو بلسان الحال. ومعنى التسبيح (¬2): هو تنزيه الله تعالى اعتقادًا وقولًا وفعلًا عمَّا لا يليق بجنابه سبحانه (¬3)، عبر هنا، وفي الحشر والصف بالماضي، وفي الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي الأعلى بالأمر، وفي الإسراء بالمصدر استيعابًا للجهات المشهورة ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

لهذه الكلمة، وبدأ بالمصدر في الإسراء؛ لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد، والحشر، والصف؛ لأنه أسبق الزمانين. ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن لشموله الحال والمستقبل، ثم بالأمر في الأعلى لخصوصه بالحال مع تأخره في النطق به في قولهم: فعل يفعل إفعل. وفيه تعليم (¬1) عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة، والأوقات. والحاصل: أن كلًّا من صيغتي الماضي والمضارع جردت عن الدلالة على مدلولها من الزمان المخصوص. فأشعر باستمراره في الأزمنة لعدم ترجح البعض على البعض. فالمكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود، مسبحة في كل الأوقات، لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة دائمًا في الماضي، وتكون مسبحة أبدًا في المستقل. وفي الحديث: "أفضل الكلام أربع: سبحان الله, والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. لا يضرك بأيهن بدأت". والمراد (¬2) بالتسبيح المسند إلى ما في السماوات والأرض من العقلاء، وغيرهم، والحيوانات، والجمادات: هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة، والإنس، والجن. وبلسان الحال كتسبيح غيرهم. فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة. وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة. فلِمَ قال: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}؟ وإنّما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}. فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة. وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارةً كما في قوله: {وَسَبِّحُوهُ}، وباللام أخرى كهذه الآية. واللام إما مزيدة للتأكيد كما في نصحت له، وشكرت له في نصحته وشكرته أو للتعليل، والفعل منزل منزلة اللازم؛ أي: فعل ما في السموات والأرض التسبيح، وأوقعه، وأحدثه لأجل الله تعالى وخالصًا لوجهه. وعبر بما التي لغير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[2]

العاقل دون من التي للعاقل تغليبًا لغير العقلاء لكثرتهم. وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قاله (¬1) هنا بحذف {ما} الثانية موافقة لقوله بعد: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. وقاله في الحشر، والصف، والجمعة، والتغابن بإثباتها عملًا بالأصل. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب بقدرته، وسلطانه لا يمانعه، ولا ينازعه شيء. {الْحَكِيمُ} بلطفه وتدبيره، لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفيه إشعار بعلية الحكم. فإن العزة، وهي الغلبة على كل شيء تدل على كمال القدرة. والحكمة تدل على كمال العلم. والعقل يحكم بأن الموصوف بهما يكون منزها عن كل نقص كالعجز والجهل ونحوهما. ولذا كان الأمن كفرًا؛ لأن فيه نسبة العجز إلى الله تعالى، وكذا اليأس؛ لأن فيه نسبة البخل إلى الله الجواد. 2 - {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: له سبحانه لا لغيره التصرف الكلي، ونفوذ الأمر فيهما، وما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام، وسائر التصرفات مما نعلم وما لا نعلم. يتصرف فيهما وحده، ولا ينفُذ غير تصرفه وأمره. وقيل: أراد خزائن المطر، والنبات، وسائر الأرزاق. يقول الفقير: فإن قلت (¬2) كيف أضاف الملك إلى ما هو متناه، وكمال ملكه تعالى غير متناه؟. قلت: إن للسموات والأرض ظاهرًا وهو ما كان حاضرًا، ومرئيًّا من عالم الملك وهو متناه؛ لأنه من قبيل الأجسام والصور، وباطنًا وهو ما كان غائبًا غير محسوس من أسرارهما وحقائقهما، وهو غير متناه؛ لأنه من عالم الملكوت والمعاني، فإضافة الملك إلى الله تعالى إضافة مطلقة يندرج تحتها الملك والملكوت، وهما غير متناهيين في الحقيقة؛ ألا ترى أن القرآن لا تنقضي عجائبه. فهو بحر لا ساحل له، من حيث أسراره، ومن حيث أن المتكلم به هو الذي لا نهاية له، وإن كان القرآن متناهيًا في الظاهر والحس. فالمراد بالملك: هو الملك ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان.

[3]

الحقيقي؛ لأن ملك البشر مجاز. فإن قلت (¬1): قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكره مرتين، فهو مكرر. قلت: لا تكرار فيه؛ لأنَّ الأول في الدنيا بدليل قوله عقبه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، والثاني في العقبى لقوله عقبه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. وهذه الجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. وقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} مستأنفة أيضًا لبيان بعض أحكام الملك. أو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير {له}. والمعنى: يحيي الموتى بالبعث، والنطف، والبيض في الدنيا، ويميت الأحياء في الدنيا. ومعنى الإحياء، والإماتة: جعل الشيء حيًّا، وجعله ميتًا. وقد يستعاران للهداية وللإضلال في نحو قوله (¬2): {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. {وَهُوَ} سبحانه {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها: ما ذكر من الإحياء والإماتة على مقتضى الحكمة والإرادة {قَدِيرٌ}؛ أي: تام القدرة، لا يعجزه شيء كائنًا ما كان، فإن الصيغة للمبالغة. ومعنى الآيات (¬3): أي إن ما دونه من خلقه ينزهه عن كل نقص تعظيمًا له، وإقرارًا بربوبيته، وإذعانا لطاعته. وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شيء. الحكيم في تدبير أمور خلقه، وتصريفها فيما شاء، وأحب له التصرف والسلطان فيهما. وهو نافذ الأمر، ماضي الحكم، فلا شيء فيهن يمتنع منه. يحيي ما يشاء من الخلق كيف شاء، فيحدث من النطفة الميتة حيوانًا ينفخ فيه الروح، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله. وهو سبحانه ذو قدرة تامّة لا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء، وإماتة، وإعزاز، وإذلال إلى نحو أولئك. 3 - {هُوَ} سبحانه {الْأَوَّلُ}؛ أي (¬4): السابق على سائر الموجودات بالذات والصفات لما أنه مبدئها ومبدعها. فالمراد بالسبق، والأولية: هو الذاتي لا الزماني. فإن الزمان من جملة الحوادث أيضًا. {وَالْآخِرُ}؛ أي: الباقي بعد فنائها ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها؛ فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها، فهي فانية. وقيل: الأول (¬1) هو الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة. والآخر: هو الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء. والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. وقال أبو بكر الوراق: الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية. {وَالظَّاهِرُ} وجودًا لكثرة دلائله الواضحة، أو العلي الغالب على كل شيء. من ظهر عليه إذا علاه، وغلبه. {وَالْبَاطِنُ} حقيقة، فلا يحوم العقل حول إدراك كنهه، وليس يعرف الله إلا الله. وتلك الباطنية سواء في الدنيا والآخرة. فاضمحل ما في "الكشاف" من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. وذلك فإن كونه باطنًا بكنه حقيقته لا ينافي كونه مرئيًا في الآخرة من حيث صفاته. أو العالم بما بطن، وخفي من الأمور، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان؛ أي: يعلم داخلة أمره. وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيتعين المصير إليه (¬2). وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة، ومسلم، والترمذي، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادمًا. فقال قولي: "اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس قبلك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر". وقال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى {الواو} في هذه الأسماء؟ قلت: الواو الأولى معناها: الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن، جامع الظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[4]

{وهُوَ} سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفي. فإنَّ {عَلِيمٌ} صيغة مبالغة، تدل على أنه تعالى تام العلم بكل شيء جليه وخفيه. والمعنى: أي: وهو ذو علم تامّ بكل شيء فلا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. 4 - {هُوَ} سبحانه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: أنشأهما، وأبدعهما على غير مثال سابق بقدرته الكاملة وحكمته البالغة {فِي} قدر {سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الآخرة، أو من أيام الدنيا تعليمًا للعباد التأني في الأمور. قال ابن عطية: وهذا الأخير أصوب. أولها: الأحد، وآخرها الجمعة. وهذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض. {ثُمَّ اسْتَوَى}؛ أي: ارتفع، وعلا استواء يليق به من غير كيف ولا تمثيل {عَلَى الْعَرْشِ} المحيط بجميع الأجسام. والمعنى (¬1): هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين. فدبَّرهنَّ وما فيهن في ستة أطوار مختلفات، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه ارتفاعًا يليق بجنابه لا نكيفه ولا نمثله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. {يَعْلَمُ} سبحانه {مَا يَلِجُ} ويدخل {فِي الْأَرْضِ} كالكنوز، والدفائن والموتى، والبذور، وكالغيث ينفذ في موضع وينبع في الآخر. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}؛ أي: من الأرض كالجواهر من الذهب، والفضة، والنحاس، وغيرها، والزروع، والحيوانات، والماء، وكالكنوز والموتى يوم القيامة. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} كالكتب، والملائكة، والأقضية، والصواعق، والأمطار، والثلوج. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}؛ أي: وما يصعد إليها كالملائكة الذين يكتبون الأعمال، والدعوات، والأعمال، والأرواح السعيدة، والأبخرة، والأدخنة. وقد تقدم تفسيره مستوفى في سورة الأعراف، وفي غيرها. {وَهُوَ} سبحانه {مَعَكُمْ} بقدرته، وعلمه، وسلطانه {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}؛ أي: في أي مكان كنتم فيه من الأرض من برّ وبحر. وهذا تمثيل (¬2) لإحاطة علمه بهم، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[5]

وتصوير لعدم خروجهم عن قبضته أينما داروا. وفي الحديث: "أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان". وقال موسى عله السلام: "أين أجدك يا رب؟ قال: يا موسى إذا قصدت إلي فقد وصلت إلي". {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم عليه ثوابًا وعقابًا، وهو عبارة عن إحاطته بأعمالهم، فتأخيره عن الخلق لما أن المراد: ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم، لا لما قيل: من أن الخلق دليل على العلم، فبالخلق يستدل على العلم، والدليل يتقدم على المدلول. وفي الآية: إيقاظ للغافلين، وتنشيط للمتيقظين، ودلالة لهم على الخشية والحياء من رب العالمين، وإشارة لهم إلى أن أعمالهم محفوظة، وأنهم مجزيون بها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. قال بعض الكبار: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ لأنه العامل بكم وفيكم، ولا بد لكل عامل أن يبصر عمله، وما يتعلق به. والمعنى (¬1): أي وهو رقيب عليهم، سميع لكلامكم، يعلم سركم ونجواكم. كما قال: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}. وفي "الصحيح": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وقال عمر رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: زودني حكمة أعيش بها، فقال: "استح الله كما تستحي رجلًا من صالحي عشيرتك لا يفارقك". وكان الإمام أحمد كثيرًا ما ينشد هذين البيتين: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيْ عَلَيْهِ يَغِيْبُ 5 - وقوله: {لَهُ} سبحانه وتعالى {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: سلطنتهما والتصرف فيهما. تكرير للتأكيد كما مر الجواب عنه، وتمهيد لقوله: {وَإِلَى اللَّهِ} سبحانه، لا إلى غيره استقلالًا، واشتراكًا {تُرْجَعُ الْأُمُورُ}؛ أي: ترد جميع الأمور. ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

فاستعدوا للقائه باختيار أرشد الأمور، وأحسنها عند الله تعالى. وقرأ الجمهور (¬1) {تُرْجَعُ} مبنيًا للمفعول، فيكون بمعنى ترد، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والأعرج مبنيًا للفاعل، فيكون بمعنى تصير. والأمور عام في جميع الموجودات أعراضها وجواهرها. ومعنى الآية: أي هو سبحانه المالك لما فيهما، والمدبر لأمورهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه، كما قال: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}، وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}. 6 - {يُولِجُ}؛ أي: يدخل سبحانه وتعالى: {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}؛ أي (¬2): يدخل بعض ساعات الليل في النهار حتى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والليل أقصر ما يكون تسع ساعات. {وَيُولِجُ النَّهَارَ}؛ أي: بعض ساعاته {فِي اللَّيْلِ} بحسب اختلاف الفصول، واختلاف مطالع الشمس ومغاربها حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات. ومجموع الليل والنهار أربع وعشرون ساعة دائمًا. والمعنى: أي يقلب الله سبحانه الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء. فتارة يطول الليل ويقصر النهار، والعكس بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وحينًا يجعل الفصل شتاء أو ربيعًا أو صيفًا أو خريفًا، وكل ذلك بتدبيره، وفائدة خلقه. {وَهُوَ} سبحانه {عَلِيمٌ}؛ أي: مبالغ في العلم {بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: بخطرات قلوب العباد، ومكنوناتها اللازمة لها من الأسرار، والمعتقدات. وذلك أغمض ما يكون، وأخفاه؛ أي: عليم بالسرائر، وإن دقت وخفيت. فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شرّ. وفي ذلك حث لنا على النظر والتأمل، ثم الشكر على ما أولى وأنعم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (¬3): اسم الله الأعظم في أول سورة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[7]

الحديد في ست آيات من أولها. فإذا علقت على المقاتل في الصف لم ينفذ إليه حديد، كما في فتح الرحمن. ولكن لا أصل له. 7 - {آمِنُوا بِاللَّهِ}؛ أي: صدقوا بوحدانية الله يا معشر الكفار {وَ} صدقوا برسالة {رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -. وهذا خطاب لكفار العرب. ويجوز أن يكون خطابًا للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين: الاستمرار عليه أو الإزدياد منه. ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال: {وَأَنْفِقُوا}؛ أي: واصرفوا أيها المؤمنون في طاعة الله {مِمَّا جَعَلَكُمْ}؛ أي: من المال الذي جعلكم الله تعالى {مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}؛ أي؛ خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً. فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه. عبر (¬1) عما بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقًا للحق، وترغيبًا لهم في الإنفاق. فإن من علم أنها لله، وأنه بمنزلة الوكيل والنائب بحيث يصرفوها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف .. هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به. قال الشاعر: وَيَكْفِيْكَ قَوْلُ النَّاسِ فِيْمَا مَلَكْتَهُ ... لَقَدْ كَانَ هَذَا مَرَّةً لِفُلَانِ فلا بد من إنفاق الأموال التي هي للغير، وستعود إلى الغير. فكما أن الإنفاق من مال الغير يهون على النفس إذا أذن فيه صاحبه، فكذا من المال الذي على شرف الزوال. روي: أن الآية نزلت في غزوة ذي العشيرة، وهي غزوة تبوك، والظاهر (¬2) أن معنى الآية: الترغيب في الإنفاق في الخير، وما يرضاه الله على العموم. وقيل: هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص. ومعنى الآية: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ أي: (¬3) أقروا بوحدانية الله، وصدقوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[8]

رسوله فيما جاءكم به عن ربكم، تنالوا الفوز برضوانه، وتدخلوا فراديس جنانه، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد، ولم يخطر لكم ببال، وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، واستعملوه في طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابًا عسيرًا. ولله در لبيد إذ يقول: وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُوْنَ إلَّا وَدَائِعٌ ... وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ وفي هذا الترغيب أيما ترغيب في الإنفاق. لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله، وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره. وبذا يسهل عليه إنفاقه. قال شعبة: سمعت عن قتادة يحدث عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: "انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}، يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس". رواه مسلم. ثم حث على ما تقدم من الإيمان، والإنفاق في سبيل الله تعالى، فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} بالله، وصدقوا رسوله {وَأَنْفَقُوا} مما خولهم الله عمن قبلهم في سبيل الله حسبما أمروا به {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}؛ أي: ثواب عظيم عند ربهم، وهو الجنة. وهناك يرون من الكرامة، والمثوبة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. 8 - ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به، وأبان أنه ليس لهم في ذلك من عذر. فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ أي: وأي عذر لكم، وأي مانع من الإيمان، وقد أزيحت عنكم العلل. و {ما} مبتدأ، و {لَكُمْ} خبره. والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. وجملة {لَا تُؤْمِنُونَ} حال من الضمير في {لَكُمْ}، والعامل فيه ما فيه من معنى الفعل، وهو الاستقرار؛ أي (¬1): أي شيء ثبت لكم، وحصل حال كونكم غير مؤمنين، وحقيقته ما سبب عدم إيمانكم بالله على توجيه الإنكار، والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب. وقيل المعنى: أي شي لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟. وجملة قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} في محل نصب على الحال من ضمير {لَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

تُؤْمِنُونَ} مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه؛ أي: وأي عذر في ترك الإيمان، والحال أن الرسول يدعوكم إليه، وينبهكم على صحة ما جاءكم به بالحجج والآيات. فإن الدعوة المجردة لا تفيد. فلو لم يجب الداعي دعوة مجردة، وترك ما دعاه إليه لم يستحق الملامة والتوبيخ، فلام {لِتُؤْمِنُوا} بمعنى إلى، ولا يبعد حملها على التعليلية، أي: يدعوكم إلى الإيمان لأجل أن تؤمنوا. وجملة قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} الله سبحانه {مِيثَاقَكُمْ} وعهدكم المؤكد باليمين على الإيمان من قبل دعوة الرسول إيّاكم إليه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، حال من مغعول {يَدْعُوكُمْ} أو من فاعله على التداخل. وحمله بعضهم على الميثاق المأخوذ يوم الذر، حين أخرجهم من صلب آدم في صورة الذر. وهي النمل الصغير. والمعنى؛ أي: والحال أن الله قد أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم. وقرأ الجمهور (¬1): {وَقَدْ أَخَذَ} مبنيًا للفاعل، وهو الله لتقدم ذكره {مِيثَاقَكُمْ} بالنصب. وقرأ أبو عمرو مبنيًا للمفعول، {مِيثَاقَكُمْ} بالرفع. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لموجب ما. فإن هذا موجب لا موجب وراءه. وفي "عين المعاني"؛ أي: إن كنتم مصدقين بالميثاق. وفي "فتح الرحمن"؛ أي: إن دمتم على ما بدأتم به، وفي "الشوكاني": إن كنتم مؤمنين بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب، فهذا من أعظم أسبابه، وأوضح موجباته، وقال أبو حيان: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط جوابه محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين لموجب ما، فهذا هو الموجب لإيمانكم، أو إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون، والحالة هذه، وهي دعاء الرسول، وأخذ الميثاق. وقال الطبري: إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال، فالآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية، وبلغت مبلغًا لا يمكن الزيادة عليها. والمعنى (¬2): أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج، والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[9]

عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته في الكون أرضه وسمائه، بره وبحره، وفي الأنفس بما تشاهدن فيها من بديع صنعها، وعظيم خلقها إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلي. وصفوة القول: إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله، فقد نصب في الكون ما يرشد إلى وجوده، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون، فما عذركم، وإلام تستندون في رد هذا؟ الآن قد تبين الرشد من الغيّ، وأفصح لذي عينين. وماذا بعد الحق إلا الضلال "فهل من مدّكر". 9 - ثم قطع عليهم الحجة، وأزال معذرتهم. فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُنَزِّلُ} بواسطة جبرئيل عليه السلام، وقرىء (¬1) في السبعة {يُنَزِّلُ} مضارعًا. فبعض ثقل، وبعض خفف. وقرأ الحسن بالوجهين. وقرأ زيد بن علي، والأعمش {أنزل} ماضيًا. {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ أي: واضحات من الأمر والنهي، والحلال، والحرام وهي الآيات القرآنية. وقيل: المعجزات، والقرآن أعظمها. {لِيُخْرِجَكُمْ} الله سبحانه أيها المؤمنون بتلك الآيات {مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ أي (¬2): من ظلمات الكفر، والشرك، والشك، والجهل، والمخالفة {إِلَى النُّورِ}؛ أي: إلى نور الإيمان، والتوحيد، واليقين، والعلم، والموافقة. أو ليخرجكم عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك الآيات أو بالدعوة. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بِكُمْ} أيها المؤمنون {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ أي: لكثير الرأفة والرحمة بليغهما، حيث هداكم إلى سعادة الدارين بإنزال كتبه، وإرسال رسله لهداية عباده بعد نصب الحجج العقلية، فلا رأفة، ولا رحمة أبلغ من هذا. والرأفة: أشد الرحمة. والمعنى: أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، ولرأفته بكم، ورحمته لكم مكن لكم من النظر في الأنفس، والآفاق لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه، وأهون سبيل. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[10]

10 - وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، وأبان أنه لا معذرة لهم في ذلك. نقال: {وَمَا لَكُمْ} {ما} مبتدأ، {لَكُمْ} خبره. والاستفهام للتقريع والتوبيخ؛ أي: وأي عذر لكم في {أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؟. وأي شيء يمنعكم من أن تنفقوا فيما هو قربة إلى الله ما هو له في الحقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عينه من المصارف. فقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مستعار لما يكون قربة إليه، وقال بعضهم: معناه: لأجل الله، والأصل في "أن لا تنفقوا" كما أشرنا إليه في الحل. وقيل (¬1): إنَّ {أن} زائدة. وجملة قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في محل النصب على الحال من فاعل {أَلَّا تُنْفِقُوا} أو من مفعوله المحذوف. والمعنى: وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أنه لا يبقى لكم منها شيء، بل تبقى كلها لله بعد فناء الخلق. وإذا كان كذلك .. فإنفاقها بحيث تستخلف عوضًا يبقى، وهو الثواب كان أولى من الإمساك؛ لأنها إذًا تخرج من أيديكم مجانًا بلا عوض، ولا فائدة. قال الراغب: وصف الله نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إليه؛ وقال أبو الليث: إنما ذكر لفظ الميراث؛ لأن العرب تعرف أن ما ترك الإنسان يكون ميراثًا، فخاطبهم بحسب يعرفون فيما بينهم. والخلاصة (¬2): أنفقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرًا لكم عند ربكم. فبعد الموت لا تقدرون على ذلك. إذ تصير الأموال ميراثًا لمن له السماوات والأرض. ثم بين سبحانه تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق. فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ} يا عشر المؤمنين. روي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرًا من كل من أنفق قديمًا، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل فتح مكة أعظم أجرًا؛ أي: لا يستوي منكم معشر المؤمنين {مَنْ} آمن، وهاجر، و {أَنْفَقَ} ماله في سبيل الله {مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ}؛ أي: قبل فتح مكة الذي أزال الهجرة {وَقَاتَلَ} لإعلاء كلمة الله؛ أي: لا يستوي هو ومن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أنفق بعد الفتح، وقاتل العدو تحت لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والاستواء (¬1) يقتضي شيئين. فقسيم {من آمن} محذوف لوضوحه، ودلالة ما بعده عليه؛ أي: لا يستوي في الفضل والثواب من أنفق من قبل الفخح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل. وقرأ الجمهور {مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ}. وقرأ زيد بن علي {قَبْلِ الْفَتْحِ} بغير من. وإنما كانت النفقة، والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح؛ لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف، ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون. أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم، ولا يجدون ما يجودون به من الأموال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى {من} باعتبار معناها، وهو مبتدأ، وخبره {أَعْظَمُ دَرَجَةً}؛ أي: أرفع منزلة عند الله، وأعلى رتبة {مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا} أموالهم في سبيل الله تعالى {مِنْ بَعْدُ}؛ أي: من بعد فتح مكة. {وَقَاتَلُوا} مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضًا أنفذ. وقال الشعبي، والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك. والمعنى (¬2): أي أولئك المنفقون المقاتلون قبل الفتح، وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار أعظم درجة، وأرفع منزلة عند الله، وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها. فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة، وجمعها درجات، كما سيأتي. {مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}؛ لأنّهم إنما فعلوا من الإنفاق، والقتال قبل عزة الإسلام، وقوّة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال، وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين، ودخول الناس فيه أفواجًا، وقلة الحاجة إلى الإنفاق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[11]

والقتال. وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بفضل الأوّلين بقوله: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". {وَكُلًّا}؛ أي: كل واحد من الفريقين. وهو مفعول أول لقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}؛ أي: المثوبة الحسنى. وهي الجنة. لا الأوّلين فقط، ولكن الدرجات متفاوتة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} أيها العباد {خَبِيرٌ} بظواهره وبواطنه، ويجازيكم بحسبه. قال في "المناسبات": لما كان زكاة الأعمال إنما هو بالنيات، وكان التفضيل مناط العلم قال مرغّبًا في حسن النيات، مرهِّبًا من التقصير فيها: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: تجددون عمله على ممر الأوقات {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم بباطنه وظاهره علمًا لا مزيد عليه بوجه. فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيّات التي هي أرواح صورها. وقرأ الجمهور (¬1): {وَكُلًّا} بالنصب، وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث بالرفع على أنه مبتدأ. والمعنى (¬2): أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء، كما قال في آية أخرى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} الآية. ثم وعدوا وأوعد. فقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}؛ أي: والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها فيجازيكم بذلك، ولخبرته تعالى بكم فضل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل، على من أنفق بعده وقاتل، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول في إنفاقه في حال الجهد والضيق. ولأبي بكر الصديق رضي الله عنه الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها، إذ أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها. 11 - ثم ندب إلى الإنفاق في سبيله، ووبخ على تركه. فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} من (¬3) مبتدأ، خبره {ذَا}، و {الَّذِي} صفة {ذَا}، أو بدله. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

والإقراض حقيقة: إعطاء العين على وجه يطلب بدله. و {قَرْضًا حَسَنًا} مفعول مطلق له بمعنى إقراضًا حسنًا. وهو الإخلاص في الإنفاق؛ أي؛ الإعطاء لله، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات. والمعنى: من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه. فإنه كمن يقرضه. وقال في "كشف الأسرار": كل من قدم عملًا صالحًا يستحق به مثوبة، فقد أقرض، ومنه قولهم: الأيادي قروض، وكذلك كل من قدم عملًا سيئًا يستوجب به عقوبة فقد أقرض، فلذلك قال تعالى: {قَرْضًا حَسَنًا}. لأنّ المعصية قرض سيء. قال أمية: لَا تَخْلُطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطَيِّبَةٍ ... وَاخْلَعْ ثِيَابَكَ منها وَانْجُ عُرْيَانَا كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزى قَرْضَه حَسَنًا ... أَوْ سَيِّئًا وَيُدَانُ مِثْلَ مَا دَانَا وقيل: المراد بالقرض: الصدقة، انتهى. وهاهنا وجه آخر، وهو أن القرض في الأصل: القطع من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به، ثم سمي به ما يقطعه الرجل من أمواله، فيعطيه عينًا بشرط رد بدله، فعلى هذا يكون {قَرْضًا حَسَنًا} مفعولًا به. والمعنى: من ذا الذي يقرض الله مالًا حسنًا؛ أي: حلالًا طيبًا. فإنه تعالى لا يقبل إلا الحلال الطيب. فائدة: قال بعض العلماء: لا يكون القرض حسنًا حتى يجمع أوصافًا عشرة: وهو أن يكون المال من الحلال؛ وأن يكون من أجود المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأنت تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن لا تتبعها بالمن والأذى، وأن تقصد بها وجه الله تعالى ولا ترائي بها الناس، وأن تستحقر ما تعطي وإن كان كثيرًا، وأن يكون من أحب أموالك إليك، وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير. فهذه عشرة خصال، إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضًا حسنًا، انتهى ذكره في "الفتوحات" نقلًا عن القرطبي. وقيل: القرض الحسن هو الخالص عن شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من المال بشرط بدله فهو سنة مؤكدة. قد يجب للمضطر، ويحرم على من يستعين به على معصية. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى. كأنّه قيل:

أيقرض الله أحد فيضاعفه له؛ أي: فيعطيه أجره أضعافًا من فضله، وإنّما قلنا: باعتبار المعنى؛ لأنَّ {الفاء} إنما تنصب فعلًا مردودًا على فعل مستفهم عنه كما قال أبو علي الفارسي. وهاهنا السؤال لم يقع عن القرض، بل عن فاعله. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم حسن طيب مرضي في نفسه، حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافًا كثيرة. والمعنى (¬1): أي من هذا الذي ينفق أمواله في سبيل الله محتسبًا أجره عند ربه بلا من ولا أذى، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبع مئة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثبوته بالجنة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ...} الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض، قال: "نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله قال: فناوله يده قال: إني أقرضت ربي حائطي - بستاني - وكان له حائط فيه ست مئة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال أبو الدحداح: فناديتها يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منها متاعها وصبيانها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح". وهذا الأسلوب يستعمل في الأمر العزيز النادر، فيقال: من ذا الذي يفعل كذا إذا كان أمرًا عظيمًا. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وقرأ ابن عامر، وابن كثير (¬2): {فيُضعِّفه} بإسقاط الألف مع التضعيف، إلا ابن عامر، ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع، وأهل الكوفة والبصرة {فَيُضَاعِفَهُ} بالألف وتخفيف العين، إلا أن عاصمًا نصب {الفاء} ورفع الباقون. قال ابن عطية: الرفع على العطف على {يُقْرِضُ} أو الاستئناف، والنصب لكون {الفاء} في جواب الاستفهام. وضَعَّف النصب أبو علي الفارسي، قال: لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب {الفاء} فعلًا مردودًا على فعل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[12]

مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى: كأن قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} بمنزلة قوله: أيقرض الله أحد، كما مرّ آنفًا. قال أبو حيان (¬1): وهذا الذي ذهب إليه أبو علي الفارسي ليس بصيحح، بل يجوز النصب إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو: من يدعوني فاستجيبَ له، وأين بيتك فأزورَك، ومتى تسير فأرافقَك، وكيف تكون فأصحبَك. فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي، وعن ظرف المكان وظرف الزمان، والحال، لا عن الفعل، وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه، وكذلك كم مالك فنعرفه، ومن أبوك فنكرمه بالنصب بعد الفاء. وقراءة {فَيُضَاعِفَهُ} بالنصب قراءة متواترة. وإذا جاز النصب في نحو هذا فجوازه في المثل السابقة أحرى، مع أن سماع ابن كيسان ذلك محكيًّا عن العرب يؤيد ذلك، انتهى. 12 - والظرف في قوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} منصوب بإضمار اذكر تفخيمًا لذلك اليوم، أو بـ {كَرِيمٌ} أو بـ {يضاعفه} أو بالعامل في {لَهُمْ}. وهو الاستقرار. والخطاب لكل من يصلح. وقوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ} في محل نصب على الحال من مفعول {تَرَى}. والنور: هو الضياء الذي يرى. والسعي: هو المشي السريع؛ أي: واذكر أيها المخاطب وقت رؤية المؤمنين والمؤمنات على الصراط، وهو يوم القيامة حال كونهم يسعى نور إيمانهم وطاعتهم {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} جمع يمين بمعنى الجارحة. والمراد هنا: جهة اليمين. و {بَيْنَ} ظرف للسعي. قال أبو الليث: يكون النور بين أيديهم، وبأيمانهم، وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمال مضمر. قال في "فتح الرحمن": وخص بين الأيدي بالذكر؛ لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور، وخص ذكر جهة اليمين تشريفًا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاته. وفي "كشف الأسرار": لأن طريق الجنة يمنةٌ، وتجاههم، وطريق أهل النار يسرة ذات شمال، وفي الحديث: "بينا أنا على حوضي أنادي هلم إذا أناس أخذتهم الشمال، فاختلجوا دوني، فأنادي ألا هلم فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا". وقرأ الجمهور (¬2): {النُّورِ} أصله يكون بأيمانهم، والذي بين أيديهم هو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل: الباء بمعنى عن؛ أي: عن أيمانهم. وقال الزمخشري: وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم، ووراء ظهورهم. وقرأ الجهور {وَبِأَيْمَانِهِمْ} بفتح الهمزة، جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد الساعدي، وأبو حيوة {بإيمانهم} بكسرها وعطف هذا المصدر على الظرف؛ لأنَّ الظرف متعلق بمحذوف؛ أي: كائنًا بين أيديهم، وكائنًا بسبب إيمانهم. والمراد بالإيمان: ضد الكفر. وقيل: هو القرآن. وتقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: {بُشْرَاكُمُ}؛ أي: ما تبشرون به اليوم. وعبارة الخطيب هنا؛ أي: بشارتكم العظيمة في جيمع ما يستقبلكم من الزمان. {جَنَّاتٌ}؛ أي: بساتين أو بشراكم دخول جنات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها، وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة المعروفة في الجنة: اللبن، والماء، والخمر، والعسل. حال كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات. {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا يقادر قدره، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه لكونهم ظفروا كل ما أرادوا. ومعنى الآية (¬1): أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب في نجاتهم، وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم في الدنيا: كالاعتقاد، بالتوحيد، وخلع الأنداد والأوثان، والقبور، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم، وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم. كما جاء في آية أخرى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)}. وتقول لهم الملائكة: أبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار جزاء وفاقًا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم في ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئًا بما عملتم. ونحو الآية قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}. ذلك الخلود في الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجاح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله. 13 - وبعد أن ذكر حال المؤمنين في موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين. فقال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} بدل من {يَوْمَ تَرَى}؛ أي: اذكر يا محمد لقومك أو اذكر أيها المخاطب أهوال يوم يقول المنافقون والمنافقات {لِلَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: أخلصوا الإيمان بكل ما يجب الإيمان به: {انْظُرُونَا}؛ أي: انتظرونا. يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم، وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا. فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بالنور الذي بين أيديهم. فانظرونا على هذا الوجه من باب الحذف والإيصال؛ لأن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه، وإنما يتعدى بإلى. وهذان المعنيان على قراءة الجمهور. فإنهم قرأوا {انْظُرُونَا} أمرًا بوصل (¬1) الهمزة وضم الظاء، من نظر الثلاثي. وقرأ زيد بن علي، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وحمزة {أنظرونا} بقطع الهمزة وكسر الظاء، من أنظر الرباعي؛ أي: أنظرونا وأخرونا. لأن الإنظار: الإمهال على أن تأنِّيهم في المضي ليلحقوا بهم إنظار لهم وإمهال؛ أي: تأخروا لأجلنا، ولا تسرعوا في مضيكم {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}؛ أي: نستضيء منه، ونمش فيه معكم. وأصله: اتخاذ القبس. وهو محركة شعلة نار تقتبس من معظم النار كالمقباس، كما سيأتي. وقيل: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}؛ أي: نأخذ من نوركم قبسًا سراجًا وشعلة. {قِيلَ} طردًا لهم، وتهكّمًا بهم من جهة المؤمنين، أو من جهة الملائكة {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ}؛ أي: إلى الموقف {فَالْتَمِسُوا نُورًا}؛ أي: فاطلبوا نورًا. فإنه من ثمة يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة. والمعنى (¬2): قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجرًا لهم، وتهكمًا بهم: ارجعوا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

ورائكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور. فالتمسوا واطلبوا هنالك نورًا لأنفسكم. فإنه من هنالك يقتبس. وقيل: المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه من الإيمان والأعمال الصالحة. وقيل: أرادوا بالنور: ما ورائهم من الظلمة تهكمًا بهم. وعن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه: أنه قال: بينا العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيهم ظلمة، يقسم الله النور بين عباده، فيعي الله المؤمن نورًا، ويبقي المنافق والكافر لا يعطيان نورًا. فكما لا يستضيء الأعمى بنور البصير لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن. فيقولون: انظرونا نقتبس من نوركم. فيقولون لهم: ارجعوا حيث قسم النور، فيرجعون فلا يجدون شيئًا، فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور، أو ارجعوا خائبين خاسئين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورًا آخر، وقد علموا أن لا نور ورائهم، وإنما قالوه تخييبًا لهم أو أرادوا بالنور ما ورائهم من الظلمة الكثيفة تهكمًا بهم. وحاصل معنى الآية: في ذلك اليوم يقول (¬1) المنافقون والمنافقات: أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم، وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظرونا نلحق بكم، ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيب آمالهم، ويلحق بهم الحسرة والندامة، كما قال: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}؛ أي: ارجعوا من حيث أتيتم واطلبوا لأنفسكم هناك نورًا. فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا، وادخرنا لها من عمل صالح. فهيهات هيهات أن تنالوا نورًا، إذ لا ينفع المرء حينئذٍ إلا عمله. ولله درّ القائل: صَاحِ هَلْ رَأيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ ... رَدَّ فِيْ الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلَابِ ولا يخفي ما في هذا من التهكم بهم والاستهزاء بطلبهم كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا: آمنا، وما هم بمؤمنين. وذلك ما عناه سبحانه بقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ أي: حين يقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[14]

ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة، فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ}؛ أي (¬1): بني بين الفريقين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} الباء زائدة أي: حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة، أو حجاب كما في سورة الأعراف كما قاله مجاهد، وقال: من قال: ارجعوا إلى الدنيا المراد بضرب السور امتناع العود إلى الدنيا؛ أي: ضربته الملائكة بينهم بأمر إلهي. ولما (¬2) كان البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد ونحوها من الآلات عبر عنه بالضرب، ومثله: ضرب الخيمة كضرب أوتادها بالمطرقة. {بِسُورٍ}؛ أي: حائط بين شق الجنة وشق النار؛ فإن سور المدينة حائطها المشتمل عليها لحفظها، وقال بعضهم: هو سور بين أهل الجنة والنار، يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنة وأهل النار، وهو السور الذي يذبح عليه الموت، يراه الفريقان معًا. وقرأ الجمهور (¬3): {فَضُرِبَ} مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير مبنيًا للفاعل؛ أي: ضرب الله سبحانه وتعالى. ويبعد قول من قال: إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس، وهو مروي عن عبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وكعب الأحبار. ولعله لا يصح عنهم. ثم وصف سبحانه السور المذكور، فقال: {لَهُ}؛ أي: لذلك السور {بَابٌ} يدخل فيه المؤمنون. فيكون السور بينهم باعتبار ثاني الحال أعني: بعد الدخول لا حين الضرب. {بَاطِنُهُ}؛ أي: باطن ذلك السور، أو باطن الباب {فِيهِ الرَّحْمَةُ} لأنّه يلي الجنة {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ}؛ أي: من جهته، وعنده {الْعَذَابُ} لأنه يلي النار؛ أي: من جهته عذاب جهنم. وقيل: إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب، وبينهم السور. وقيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. والمعنى: أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلي مكان المؤمنين وهو الجنة، فيه الرحمة وجانبه الذي يلي المنافقين وهو النار فيه العذاب. 14 - ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

المنافقون إذ ذاك فقال: {يُنَادُونَهُمْ} استئناف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور، ومشاهدة العذاب؟ فقيل: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور {أَلَمْ نَكُنْ} في الدنيا {مَعَكُمْ} يريدون به موافقتهم لهم في الأمور الظاهرة: كالصلاة، والصوم، والمناكحة، والموارثة، ونحوها. ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال: {قَالُوا}؛ أي: قال المؤمنون: {بَلَى} كنتم معنا بحسب الظاهر {وَلَكِنَّكُمْ} أيها المنافقون {فَتَنْتُمْ} وابتليتم {أَنْفُسَكُمْ} ومحنتموها بالنفاق، وأهلكتموها. وإضافة (¬1) الفتنة إلى النفس إضافة الميل والشهوة، وإلى الشيطان في قوله: {لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} إضافة الوسوسة، وإلى الله تعالى في قوله: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} إضافة الخلق. لأنه خلق الضلال فيه ليفتتن. {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر. والتربص: الانتظار. وقال مقاتل: وتربصتم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه. وهو وصف قبيح؛ لأن انتظار موت وسائل الخير، ووسائط الحق من عظيم الجرم والقباحة. إذ شأنهم أن يرجى طول حياتهم ليستفاد منهم، ويغتنم بمجالستهم. {وَارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتم في أمر الدين أو في النبوة، أو في هذا اليوم، ولم تصدقوا ما نزل من القرآن، ولا بالمعجزات الظاهرة. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الفارغة الباطلة التي من جملتها: الطمع في انتكاس أمر الإِسلام. جمع أمنية كأضحية. وفي "عين المعاني": وغرتكم خدع الشيطان. وقال أبو الليث: أباطيل الدنيا. {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي: الموت. وقيل: نصره سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار. {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ} الكريم {الْغَرُورُ}؛ أي: الشيطان؛ أي: غركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان، حتى قذفهم الله تعالى في النار. قال الزجاج: الغرور على وزن فعول. وهو من أسماء المبالغة، يقال: فلان أكول كثير الأكل، وكذا الشيطان الغرور. لأنه يغر ابن آدم كثيرًا. قال في "المفردات": الغرور: كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان؛ إذ هو أخبث الغارين بالدنيا لما قيل: الدنيا تغر، وتضر، وتمر. وقرأ الجمهور (¬2): {الْغَرُورُ} بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[15]

الشيطان؛ أي: خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حرب بضمها، وهو مصدر. ومعنى الآية (¬1): أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في دار الدنيا نصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم: بلى كنتم معنا ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التربة، وشككتم في أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأماني فقلتم: سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم. والخلاصة: أنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم في حيرة من أمركم فلا تذكرون الله إلا قليلًا. 15 - ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم، وأنهم هالكون لا محالة، ولا سبيل إلى الخلاص من النار. فقال: {فَالْيَوْمَ}؛ أي: ففي هذا اليوم الحاضر. وهو يوم القيامة {لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ} أيها المنافقون {فِدْيَةٌ}؛ أي: فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم. والفداء: حفظ الإنسان نفسه من النائبة بما يبذله من مال أو نفس؛ أي: لا يؤخذ منكم دية، ولا نفس أخرى مكان أنفسكم. وقرأ الجمهور (¬2): {لَا يُؤْخَذُ} بالياء. وقرأ أبو جعفر، والحسن، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وابن عامر، وهارون عن أبي عمرو {تُؤخَذ} بالتاء لتأنيث الفدية. {وَلَا} تؤخذ فدية أيضًا {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ظاهرًا وباطنًا. وفيه (¬3) دلالة على أن الناس ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهرًا وباطنًا وهو المخلص، ومؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وهو المنافق، وكافر ظاهرًا وباطنًا. {مَأْوَاكُمُ}؛ أي: مرجعكم، ومقركم، ومنزلكم الذي تأوون إليه أيها المنافقون ومرجع الكفار أيضًا {النَّارُ}؛ أي: نار جهنم لا ترجعون إلى غيرها أبدًا. {هِيَ}؛ أي: النار {مَوْلَاكُمْ}؛ أي: والية أموركم تتصرف فيكم تصرف الموالي في عبيدهم لما أسلفتم من المعاصي. والمولى في الأصل: من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه. وقيل: معنى {مَوْلَاكُمْ}: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[16]

مكانكم عن قرب من الولي. وهو القرب. وقيل: إن الله يركب في النار الحياة والعقل فهي تتميز غيظًا على الكفار. وقيل: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر: تَحِيّةٌ بينهم ضرب وجيع فإن مقصوده نفي التحية فيما بينهم قطعًا؛ لأن الضرب الوجيع ليس بتحية، فيلزم أن لا تحية ألبتة، فكذا إذا قيل لأهل النار: هي ناصركم يراد به أن لا ناصر لكم ألبتة. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع الذي تصيرون إليه، وهو النار. والمعنى (¬1): أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبًا، ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه. فمصيركم إلى النار، وإليها متقلبكم ومثواكم، وهي أولى بكم من كل منزل آخر لكفركم وارتيابكم، وساءت مصيرًا ومآلًا. والخلاصة: أنّ لا مناص من النار، فلا فداء ولا فكاك منها. 16 - والاستفهام في قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} للتوبيخ والتقرير. {يَأْنِ} فعل مضارع مجزوم من (¬2) أنى الأمر يأني أنيًا من باب رمى إذا جاء إناه أي: وقته، وحان حينه؛ أي: ألم يأت، ولم يجيء، ولم يقرب للذين آمنوا بالله ورسوله {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: ألم يأت وقت خشوع قلوبهم وخضوعها لذكره تعالى، ومواعظه، وطمأنينتها به، ومسارعتها إلى طاعته بالامتثال لأوامره، والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان، ولا فتور. قال بعضهم: الذكر إن كان غير القرآن يكون المعنى: أن ترق، وتلين قلوبهم إذا ذكر الله، فإن ذكر الله سبب لخشوع القلوب أي سبب. فالذكر مضاف إلى مفعوله، واللام بمعنى الوقت، والمعنى: ألم يأت للذين آمنوا خشوع قلوبهم وقت ذكرهم إياه تعالى، وإن كان القرآن فهو مضاف إلى الفاعل، واللام للعلة. والمعنى (¬3): ألم يأت للذين آمنوا وقت خشوعهم لذكر الله تعالى، ومواعظة التي ذكرها في القرآن، ولآياته التي تتلى فيه. {وَ} أن تخشع لـ {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؛ أي: من القرآن. وهو معطوف على {ذِكْرِ اللَّهِ} فإن كان هو المراد به أيضًا فالعطف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

لتغاير العنوانين. فإنه ذكر وموعظة، كأنه حق نازل من السماء. وإلا فالعطف كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}. ومعنى الخشوع لما نزل: الانقياد التام لأوامره ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق، وما لحق من الإنفاق في سبيل الله. قرأ الجمهور (¬1): {أَلَمْ}. وقرأ الحسن، وأبو السمّال {ألمّا}. وقرأ الجمهور {يأن} مضارع أن إذا حان. وقرأ الحسن {يئن} بكسر الهمزة وسكون النون مضارع آن إذا حان أيضًا. وقرأ الجمهور، وأبو بكر عن عاصم {وما نزّل} بتشديد الزاي؛ أي: ولما نزله الله من القرآن. وقرأ نافع، وحفص مخففًا. والجحدري، وأبو جعفر، والأعمش، وأبو عمرو في رواية يونس، وعباس عنه مبنيًّا للمفعول مشددًا، وقرأ عبد الله {أنزل} بهمزة النقل مبنيًّا للفاعل. وعبارة الشوكاني: والمعنى: أنه (¬2) ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعًا ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر، ولا يخشع له. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} معطوف على {ذكر الله}. والمراد بما نزل من الحق: القرآن. فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب. وقيل: المراد بالذكر: هو القرآن، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير أو بتغاير المفهومين، انتهى. وقرأ الجمهور (¬3) قوله: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} بالتحتانية على الغيبة جريًا على ما تقدم عطفًا على {أَنْ تَخْشَعَ}. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة، ويعقوب، وحمزة في رواية عن سليم عنه {ولا تكونوا} بالفوقانية على الخطاب التفاتًا، وبها قرأ عيسى، وابن إسحاق إما نهيًا وإما عطفًا على {أَنْ تَخْشَعَ}؛ أي: ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا كالذين ... إلخ. والمعنى: النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

والإنجيل من قبل نزول القرآن. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ}؛ أي: طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، أو الأعمار والآمال، وغلبهم الجفاء والقسوة، وزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من التوراة والإنجيل إذا تلوهما أو سمعوهما. وقرأ الجمهور (¬1) {الْأَمَدُ} بتخفيف الدال. وهي الغاية من الزمان. وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها. وهو الزمان بعينه الأطول. وقيل: المراد بالأمد على القراءة الأولى: الأجل والغاية، يقال: أمد فلان كذا؛ أي: غايته. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ أي: تصلبت وغلظت بذلك السبب بحيث لا تنفعل للخير والطاعة، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فلذلك حرفوا وبدلوا. فنهى الله سبحانه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يكونوا مثلهم. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل الكتاب {فَاسِقُونَ}؛ أي: خارجون عن طاعة الله تعالى؛ لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا، وبدلوا، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لفرط الجفاء والقسوة. قيل: هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: هم الذين ابتدعوا الرهبانية. وهم أصحاب الصوامع. وفيه (¬2): إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر، وروي عن عيسى عليه السلام قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى. فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. ومعنى الآية (¬3): أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ، فتفهمه، وتنقاد له، وتطيع أوامره، وتنتهي عن نواهيه. وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن، ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة، كما قال ابن عباس: فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنًا؟. فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى. فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان في تلك الحقبة، ومن ثم أفرط الأفاريج في إذلالهم واستعبادهم، وصاروا غرباء في ديارهم، والأمر والنهي فيها لسواهم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[17]

ويُقْضَى الأَمْرُ حِيْنَ تَغِيْبُ تَيْمٌ ... وَلَا يُسْتَأْذَنُوْنَ وَهُمْ شُهُوْدُ ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} الآية؛ أي: لا يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم، ولم تقبل موعظة، ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا في دين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا أو دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين في الأعمال والأقوال. كما قال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}؛ أي: فسدت قلوبهم فقست، وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه. والخلاصة: أن الله نهى المؤمنين أو يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. 17 - ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن في القلوب. فقال: {اعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ أي (¬1): يلين القلوب بالخشوع الناشىء عن الذكر، وتلاوة القرآن بعد قساوتها كما يحيي الله سبحانه الأرض بالغيث بعد يبسها، وكذلك يحيي الله الموتى أو القبور بالمطر. وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر، والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة. {قَدْ بَيَّنَّا} وأوضحنا {لَكُمْ} أيها المؤمنون {الْآيَاتِ} الدالة على باهر قدرتنا، وبليغ حكمتنا التي أو جملتها هذه الآيات. {لَعَكلم تَعْقِلُونَ}؛ أي: لكي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين. والمعنى (¬2): أي من الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي النفوس ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيي الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتان، وقد ضرب لكم الأمثال كي تتدبروا، وتكمل عقولكم. فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال. وهو الفعال لما يشاء، الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير المتعال. الإعراب {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)}. {سَبَّحَ} فعل ماضي، مبني على الفتح، {للهِ} متعلق به. وقيل: اللام زائدة في المفعول. وقد تقدم القول في هذا الفعل، وأنه يتعدّى تارة بنفسه، وتارة باللام. {مَا} اسم موصول في محل الرفع، فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {في السماوات} متعلق بمحذوف صلة الموصول، {وَالأَرْضِ} معطوف على {السماوات}. {وَهُوَ} الواو: حالية أو استئنافية {هُوَ} مبتدأ، {العزيز} خبر أول {الحكيم} خبر ثان، والجملة الاسمية إما حال أو لفظ الجلالة أو مستأنفة. {له} خبر مقدم، {ملك السماوات} مبتدأ مؤخر، {وَالأرْضِ} معطوف على السماوات والجملة مستأنفة. {يحيي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {وَيُمِيتُ} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال أو ضمير {لَهُ}، أو مستأنفة، {وَهُوَ} الواو: عاطفة، {هُوَ} مبتدأ، {على كل شيء} متعلق بـ {قدير}، و {قدير} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {يحيي}. {هُوَ الأَوَّلُ} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {والآخر والظاهر والباطن} معطوفات على الأوّل. {وَهُوَ} {الواو} عاطفة، {هُوَ} مبتدأ، {بكل شيء} متعلق بـ {عليم}، و {عليم} خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على ما قبلها. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}. {هُوَ} مبتدأ، {الذي} خبر. والجملة مستأنفة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {وَالْأَرْضَ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}،

{في سِتَّةِ أَيَّامٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {خَلَقَ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ، {اسْتَوَى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، {عَلَى الْعَرْشِ} ومتعلق به. والجملة معطوفة على جملة {خَلَقَ}. {يَعْلَمُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة مستأنفة أو حال أو فاعل {اسْتَوَى} {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول به، {يَلِجُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَا}، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {يَلِجُ}. والجملة صلة الموصول. {وَمَا يَخْرُجُ} معطوف على {مَا يَلِجُ}، {مِنْهَا} متعلق بـ {يَخْرُجُ}، {وَمَا} الواو: عاطفة، {مَا} معطوف على {ما} الأولى، وجملة {يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} صلة لـ {ما}، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} معطوف على {ما} الأولى. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}. {وَهُوَ} الواو: عاطفة، {هو} مبتدأ، {مَعَكُمْ} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ما قبلها أو مستأنفة. {أَيْنَ مَا} اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية مبنيُّ على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: يكن معكم. {كُنْتُمْ} فعل تامّ، وفاعله في محل الجزم بـ {أَيْنَ} على كونه فعل شرط لها، وجملة الشرط مستأنفة. {وَاللَّهُ} مبتدأ، {بِمَا تَعْمَلُونَ} متعلق بـ {بَصِيرٌ} و {بَصِيرٌ} خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، {لَهُ} خبر مقدم، {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَالْأَرْضِ} معطوف على السماوات، {وَإِلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تُرْجَعُ}. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فعل، ونائب فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {يُولِجُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، {اللَّيْلَ} مفعول به، {فِي النَّهَارِ} متعلق بـ {يُولِجُ}، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} معطوف على ما قبله، {وَهُوَ} مبتدأ {عَلِيمٌ} وخبر المبتدأ. والجملة معطوفة أو مستأنفة. {بِذَاتِ الصُّدُورِ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}.

{آمِنُوا} فعل أمر، وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في مخاطبة كفّار قريش، وأمرهم بالإيمان بعد أن ذكر أنواعًا من دلائل التوحيد. {بِاللَّهِ} متعلق بـ {آمِنُوا}، {وَرَسُولِهِ} معطوف على الجلالة، {وَأَنْفِقُوا} فعل أمر، وفاعل، معطوف على {آمِنُوا}، {مِمَّا} متعلق بـ {أَنْفِقُوا}، {جَعَلَكُمْ} فعل، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ}، ومفعول أول، {مُسْتَخْلَفِينَ} مفعول ثان، {فِيهِ} متعلق بـ {مُسْتَخْلَفِينَ} والجملة الفعلية صلة الموصول. {فَالَّذِينَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم الأمر المذكور، وأردتم بيان جزاء من فعل ذلك فأقول لكم. {الَّذِينَ} مبتدأ، {آمَنُوا} صلته، {وَأَنْفَقُوا} معطوف على {آمَنُوا}، {لَهُمْ} خبر مقدم، {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر، {كَبِيرٌ} صفة أجر. والجملة في محل الرفع خبر عن الموصول، وجملة الموصول في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}. {وَمَا} الواو: استئنافية، {مَا} اسم استفهام للإنكار والتوبيخ، في محل الرفع مبتدأ، {لَكُمْ} خبره. والجملة مستأنفة. {لَا} نافية، {تُؤْمِنُونَ} فعل، وفاعل {بِاللَّهِ} متعلق به. والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير {لَكُمْ}. والمعنى: أيّ شيء ثبت لكم حال كونكم غير مؤمنين. {وَالرَّسُولُ} الواو: حالية، {الرَّسُولُ} مبتدأ، وجملة {يَدْعُوكُمْ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من {الواو} في {لِتُؤْمِنُوا}. {لِتُؤْمِنُوا} اللام: حرف جرّ وتعليل، {تُؤْمِنُوا} فعل، وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَدْعُوكُمْ}، واللام بمعنى إلى؛ أي: يدعوكم إلى الإيمان. {بِرَبِّكُمْ} متعلق بـ {تُؤْمِنُوا}. {وَقَدْ} الواو: حالية، {قَدْ} حرف تحقيق، {أَخَذَ} فعل ماضي، وفاعل مستتر، يعود على الرسول أو على الله، {مِيثَاقَكُمْ} مفعول به، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل {يَدْعُوكُمْ} على التداخل أو على الحال من {رَبِّكُمْ}. {إِنْ} حرف شرط جازم، {كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم مؤمنين فالآن

ظهرت أعلام اليقين، ووضحت الدلائل والبراهين. والجملة الشرطية مستأنفة. {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {يُنَزِّلُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، {عَلَى عَبْدِهِ} متعلق بـ {يُنَزِّلُ}، {آيَاتٍ} مفعول به، {بَيِّنَاتٍ} صفة {آيَاتٍ}، والجملة الفعلية صلة الموصول. {لِيُخْرِجَكُمْ} اللام: حرف جر وتعليل، {يُخْرِجَكُمْ}، فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. {مِنَ الظُّلُمَاتِ}، متعلق بـ {يخرج}، {إِلَى النُّورِ} متعلق بـ {يخرجكم} أيضًا، وجملة {يخرجكم} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإخراجه إياكم من الظلمات إلى النور، الجار والمجرور متعلق بـ {يُنَزِّلُ}. {وَإِنَّ} الواو: عاطفة، {وَإِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {بِكُمْ} متعلق بـ {رَءُوفٌ}، {لَرَءُوفٌ} اللام: حرف ابتداء، {رَءُوفٌ} خبر أول. لأنّ {رَحِيمٌ} خبر ثان لها. وجملة إنَّ معطوفة على جملة قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ}. {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، ما اسم استفهام إنكاري في محل الرفع، مبتدأ، {لَكُمْ} خبره. والجملة مستأنفة. {أَلَّا} {أن} حرف نصب ومصدر، {لا} نافية، {تُنْفِقُوا} وفعل، وفاعل منصوب بـ {أن} المصدرية، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جرّ محذوف، تقديره: وأيّ شيء ثبت لكم في عدم إنفاقكم في سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {تُنْفِقُوا}. {وَلِلَّهِ} خبر مقدم، {مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ} مبتدأ، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَّمَاوَاتِ}. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل الاستقرار أو مفعوله؛ أي: وأيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أن ميراث السماوات والأرض له تعالى. {لَا} نافية، {يَسْتَوِي} فعل مضارع، {مِنْكُمْ} حال من {مَنْ} الموصولة الواقعة فاعلًا، {مِنْ} اسم موصول في محل الرفع، فاعل {يَسْتَوِي}، {أَنْفَقَ} فعل ماضي، وفاعل مستتر.

والجملة صلة {من} الموصولة. {مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بـ {أَنفَقَ} {وَقَاتَلَ} معطوف على {أَنْفَقَ}، ومقابله محذوف لدلالة الاستواء عليه؛ لأنه لا يقال إلا في شيئين فأكثر؛ أي: لا يستوي منكم من أنفق، ومن لم ينفق، والجملة الفعلية مستأنفة. {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}. {أُولَئِكَ} مبتدأ، {أَعْظَمُ} خبره، والجملة مستأنفة. {دَرَجَةً} تمييز من الذين متعلق بـ {أَعْظَمُ}، وجملة {أَنْفَقُوا} صلة الموصول، {مِنْ بَعْدُ} جار ومجرور، متعلق بـ {أَنْفَقُوا}، {وَقَاتَلُوا} معطوف على {أَنْفَقُوا}، {وَكُلًّا} {الواو} عاطفة، {كُلًّا} مفعول به أوّل مقدم لـ {وَعَدَ}، {وَعَدَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {الْحُسْنَى} مفعول ثان لـ {وَعَدَ}. والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أُولَئِكَ أَعْظَمُ}. {وَاللَّهُ} مبتدأ، {بِمَا} متعلق بـ {خَبِيرٌ}، و {خَبِيرٌ} خبر المبتدأ، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة الموصول، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذَا} اسم إشارة خبره، {الَّذِي} صفة لاسم الإشارة أو بدل منه. والجملة مستأنفة، ويصح أن يكون {قَرْضًا} اسم استفهام مركَّبًا في محل الرفع مبتدأ، و {الَّذِي} خبره، ويصح أن تكون {ذَا} مبتدأ، و {الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} صفة، و {مَنْ} خبر المبتدأ مقدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. {يُقْرِضُ اللَّهَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، {قَرْضًا} مفعول مطلق، {حَسَنًا} صفة {قَرْضًا}. والجملة الفعلية صلة الموصول، {فَيُضَاعِفَهُ} الفاء: عاطفة سببية، {يُضَاعِفَهُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {الفاء} السببية الواقعة في جواب الاستفهام، {لَهُ} متعلق بـ {يضاعف}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: من ذا الذي يكن إقراضه لله فمضاعفته له، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على العطف. {وَلَهُ} الواو: حالية {لَهُ} خبر مقدم، {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر، {كَرِيمٌ} صفة {أَجْرٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير {لَهُ}. {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ

تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق باذكر محذوفًا أو متعلق بـ {يضاعفه}، والجملة المحذوفة مستأنفة، {تَرَى الْمُؤْمِنِينَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. لأن رأى بصرية. {وَالْمُؤْمِنَاتِ} معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ}. والجملة في محل الجر مضاف إليه ليوم. {يَسْعَى نُورُهُمْ} فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب، حال من {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} متعلق بـ {يَسْعَى}، {وَبِأَيْمَانِهِمْ} معطوف على بَينَ أَيدِيهِتم. {بُشْرَاكُمُ} مبتدأ، {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بالبشرى. لأنه مصدر بمعنى المبشر به. وقيل: متعلق بالقول المقدر، وفيه خفاء. {جَنَّاتٌ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقال لهم: بشراكم في هذا اليوم جنات الخ. أو يقال لهم في ذلك اليوم: بشراكم جنات الخ. {تَجْرِي} فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق به، {الْأَنْهَارُ} فاعل، والجملة صفة لـ {جَنَّاتٌ}. {خَالِدِينَ} حال من ضمير المخاطبين المقدر مع العامل فيها، والتقدير: بشراكم دخولكم جنات حالة كونكم خالدين فيها، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطبين، وأضيف المصدر إلى مفعوله، فصار دخول جنات، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ} {ذَلِكَ} مبتدأ، {هُوَ} مبتدأ ثان، {الْفَوْزُ} خبره. والجملة خبر {ذَلِكَ}، وجملة {ذَلِكَ} مستأنفة. {الْعَظِيمُ} صفة لـ {الْفَوْزُ}. {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى}. {يَوْمَ} ظرف بدل من {يَوْمَ} قبله. وقال ابن عطية: ويظهر لي أن العامل فيه {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، كأنّه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا، وكذا. ورده أبو حيان. {يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه. {وَالْمُنَافِقَاتُ} معطوف على {الْمُنَافِقُونَ}، {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {يَقُولُ}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {انْظُرُوا} وفعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، و {نَا} ضمير متصل في محل النصب مفعول به. والجملة

الفعلية في محل النصب، مقول لـ {يَقُولُ}. وإن شئت قلت: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} مقول محكيّ. {نَقْتَبِسْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بالطلب السابق، {مِنْ نُورِكُمْ} متعلق بـ {نَقْتَبِسْ}، والجملة جزاء المقول، لا محل لها من الإعراب. {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، نائب فاعل محكيّ لـ {قِيلَ}. وجملة {قِيلَ} مستأنفة. وإن شئت قلت: {ارْجِعُوا} فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو: فاعل، {وَرَاءَكُمْ} ظرف متعلّق بـ {ارْجِعُوا}. والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {فَالْتَمِسُوا} الفاء: عاطفة، {التمسوا} فعل أمر، وفاعل، معطوف على {ارْجِعُوا}، {نُورًا}، مفعول به. {فَضُرِبَ} الفاء: عاطفة، {ضرب} فعل ماض مغيّر الصيغة، {بَيْنَهُمْ} متعلق بـ {ضرب}، {بِسُورٍ} وجار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل، وقيل: الباء: زائدة، {سور} نائب فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على {قِيلَ}. {لَهُ} خبر مقدم، {بَابٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لـ {سور}، {بَاطِنُهُ} مبتدأ، {فِيهِ} خبر مقدم، {الرَّحْمَةُ} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر لـ {بَاطِنُهُ}، وجملة {بَاطِنُهُ} صفة ثانية لـ {سور} أو صفة لـ {بَابٌ}، ولعله أولى لقربه. {وَظَاهِرُهُ} مبتدأ، {مِنْ قِبَلِهِ} خبر مقدم، {الْعَذَابُ} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {ظاهره}، وجملة {ظاهره} معطوفة على جملة {بَاطِنُهُ}، {يُنَادُونَهُمْ} وفعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في {بَيْنَهُمْ}، {أَلَمْ} الهمزة: للاستفهام التقريري، و {لم} حرف جزم، {نَكُنْ} فعل ناقص مجزوم بلم، واسمه ضمير يعود على المتكلمين، {مَعَكُمْ} خبر {نَكُنْ}. وجملة الاستفهام جملة مفسرة لجملة النداء، لا محل لها من الإعراب، أو منصوبة بقول مقدّر. {قَالُوا} فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَلَى} حرف جواب قائم مقام الجواب المحذوف، تقديره: كنتم معنا. وجملة الجواب جزء مقول. {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}. {وَلَكِنَّكُمْ} الواو: عاطفة، {لكنكم} ناصب واسمه، {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {لكن}، وجملة {لكن} معطوفة على جملة الجواب المحذوف على كونها مقول {قَالُوا}. {وَتَرَبَّصْتُمْ} فعل، وفاعل،

معطوف على {فَتَنْتُمْ}، {وَتَرَبَّصْتُمْ} فعل، وفاعل، معطوف على {فَتَنْتُمْ} أيضًا، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} فعل، ومفعول به، وفاعل، معطوف على {فَتَنْتُمْ} أيضًا. {حَتَّى} حرف جر وغاية، {جَاءَ} فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة بعد {حَتَّى}، {أَمْرُ اللَّهِ} فاعل. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بحتى بمعنى إلى، تقديره: إلى مجيء أمر الله، الجار والمجرور متعلق بـ {غرتكم}. {وَغَرَّكُمْ} فعل، ومفعول، {بِاللَّهِ} متعلق بـ {غركم}، {الْغَرُورُ} فاعل، والجملة معطوفة على {غرتكم}. {فَالْيَوْمَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أحوالكم الدنيوية، وأردتم بيان مآلكم الأخروية فأقول لكم اليوم لا يؤخذ. و {اليوم} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يُؤْخَذُ}. {لَا} نافية، {يُؤْخَذُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، {مِنْكُمْ} متعلق به، {فِدْيَةٌ} نائب فاعل، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا} نافية، {مِنَ الَّذِينَ} جار ومجرور، معطوف على {مِنْكُمْ} وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {مَأْوَاكُمُ} خبر مقدم، {النَّارُ} مبتدأ مؤخر، أو بالعكس. والجملة مستأنفة أو حال من ضمير {مِنْكُمْ}. {هي} مبتدأ، {مَوْلَاكُمْ} خبر، والجملة في محل النصب حال من النار أو مستأنفة. {وَبِئْسَ} الواو: استئنافية، {بئس} فعل ماض من أفعال الذمّ، {الْمَصِيرُ} فاعل، والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: النار. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي، {لم} حرف جزم، {يَأْنِ} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، {لِلَّذِينَ} متعلّق به، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} ناصب، وفعل منصوب، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: ألم يأن للذين آمنوا خشوع قلوبهم. والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {لِذِكْرِ اللَّهِ} متعلق بـ {تَخْشَعَ}، {وَمَا} معطوف على {ذكر الله}، وجملة {نَزَلَ} صلة لـ {ما}، {مِنَ الْحَقِّ} حال من فاعل {نَزَلَ}، {وَلَا} الواو: عاطفة، {لا} نافية، {يَكُونُوا} فعل

ناقص واسمه، معطوف على {تَخْشَعَ} {كَالَّذِينَ} خبر {يَكُونُوا}، {أُوتُوا الْكِتَابَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله، ومفعول ثان. والجملة صلة الموصول. {مِنْ قَبْلُ} تعلق بـ {أُوتُوا}. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}. {فَطَالَ} الفاء: عاطفة، {طال} فعل ماضي، {عَلَيْهِمُ} متعلق به، {الْأَمَدُ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {أُوتُوا}. {فَقَسَتْ} الفاء: عاطفة، {قست} فعل ماض، {قُلُوبُهُمْ} فاعل. والجملة معطوفة على جملة {طال}. {وَكَثِيرٌ} مبتدأ، {مِنْهُمْ} صفة له. وهو المسوّغ للابتداء بالنكرة. {فَاسِقُونَ} خبر، والجملة مستأنفة. {اعْلَمُوا} فعل أمر، وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، {يُحْيِ الْأَرْضَ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، {بَعْدَ مَوْتِهَا} متعلق به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي {اعْلَمُوا}. {قد} حرف تحقيق، {بَيَّنَّا} فعل، وفاعل، {لَكُمُ} متعلق بـ {بَيَّنَّا} {الْآيَاتِ} مفعول به، والجملة مستأنفة، {لَعَلَّكُمْ} ناصب واسمه، وجملة {تَعْقِلُونَ} خبره. وجملة {لعل} جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {سَبَّحَ لِلَّهِ} والتسبيح: تنزيه الله تعالى اعتقادًا وقولًا وفعلًا عما لا يليق بجنابه سبحانه وتعالى من صفات المحدثين: كإثبات شريك له أو ند، وكون الملائكة بنات له، وكون عيسى ابنًا له، هذا في حق العقلاء، وأما تسبيح غيرهم فهو دلالة وجوده على عظم خالقه، وانقياده له في كل آنٍ. {الْعَزِيزُ} هو الذي لا ينازعه في ملكه شيء. {الْحَكِيمُ} هو الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب. {يُحْيِي} النطف، فيجعلها أشخاصًا عقلاء فاهمين ناطقين. {وَيُمِيتُ} الأحياء. وأصله: يموت بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء، ففيه إعلال بالنقل والتسكين. {هُوَ الْأَوَّلُ}؛ أي: السابق على سائر الموجودات. {وَالْآخِرُ}؛ أي: الباقي

بعد فنائها. {وَالظَّاهِرُ}؛ أي: الذي ظهرت دلائل وجوده، وتكاثرت، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته. {وَالْبَاطِنُ}؛ أي: الذي خفي عنا كنه ذاته، فلم تره العيون، فهو باطن بذاته، ومشرق بجماله وكماله، وباطن بعلمه بما خفي من مخلوقاته، فلا تخفى عليه خافية. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أصله: أيوام بوزن أفعال، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، فصار أيَّام بوزن أعال. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} من الولوج. وهو الدخول في مضيق، وفي "المناسبات": الولوج: الدخول في الساتر لجملة الداخل، وفيه إعلال بالحذف، أصله: يولج بوزن يفعل، حذفت فاؤه في المضارع لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة، وهي الواو. إذ ماضيه ولج، فهو مثال واويّ. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قرىء مبنيًّا للمفعول من رجع رجعًا؛ أي: رد ردًّا وبالبناء للفاعل من رجع رجوعًا إذا صار إليه. {يُولِجُ اللَّيْلَ} من أولج الرباعي، والإيلاج: الإدخال. يستعمل في المحسوسات كإيلاج الحشفة في الفرج، وفي "المعنويات" كإيلاج الليل في النهار. {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} والميثاق: العهد المؤكد باليمين. وأصله: موثاقكم، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ} أصله: موراث، من الوراثة، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة، فصارت حرف مدٍّ. {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً}؛ أي: أرفع منزلة عند الله تعالى، وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها. فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة، وجمعها درجات. وإذا كانت بمعنى المرقاة فجمعها درج. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} والإقراض حقيقته: إعطاء العين على أن يرد بدله من القرض. وهو في الأصل: القطع، من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به، ثم سمي به ما يقطعه الرجل من أمواله فيعطيه عينًا بشرط رد بدله. فعلى هذا يكون {قَرْضًا حَسَنًا} مفعولًا به. {يَسْعَى نُورُهُمْ} وأصله: يسعى بوزن يفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت

ألفًا. {وَبِأَيْمَانِهِمْ} جمع يمين بمعنى الجهة، والمراد: جميع الجهات من إطلاق البعض وإرادة الكل. {انْظُرُونَا} أمر من النظر. والنظر: هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي. والمراد: رؤيته. ومادة "نظرت" وما تصرف منه يستعمل على ضروب: أحدها: أن تريد به نظرت إلى الشيء، فتحذف الجار، وتصل الفعل. ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن: ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الْظِّبَاءُ والمعنى: ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار. والثاني: أن تريد به: تأملت وتدبرت، وهو فعل غير متعد. فمن ذلك قولهم: اذهب فانظر زيد أبو من هو. فهذا يراد به: التأمل، ومن ذلك قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}، و {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} فهذا حض على التأمّل. وقد يتعدى هذا بقي نحو قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. والثالث: أن تريد به: انتظرته. ومن ذلك قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}. والرابع: أن يكون نظرت بمعنى أنظرت، تريد بقولك: نظرت التنفيس الذين يطلب به الانتظار. فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم: أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِيْنَا ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. إنّما هو طلب الإمهال والتسويف. {نَقْتَبِسْ} وأصل الاقتباس: طلب القبس؛ أي: الجذوة من النار. والجذوة: شعلة نار تقتبس من معظم النار. قال بعضهم: النار والنور من أصل واحد. وهو الضوء المنتشر يعين على الإبصار. وكثيرًا ما يتلازمان، لكن النار متاع للمقوين في الدنيا، والنور متاع لهم في الدنيا والآخرة. ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس، وقيل: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}؛ أي: نأخذ من نوركم قبسًا وسراجًا وشعلة.

{بِسُورٍ} والسور: الحاجز. {مِنْ قِبَلِهِ} من جهته. {بَلَى}؛ أي: كنتم معنا. {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أهلكتموها بالمعاصي والشهوات. {وَتَرَبَّصْتُمْ} انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان وحوادثه. {لَهُ بَابٌ} فيه إعلال بالقلب، أصله: بوب، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا يدل على ذلك تصغيره على بويب، وجمعه على أبواب. {يُنَادُونَهُمْ} أصله: يناديونهم بوزن يفاعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فسكنت فحذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الدال لمناسبة الواو. {وَارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتم في أمر البعث، أصله: ارتيب بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار ارتاب، ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع التحرك فسكن آخره فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. {الْأَمَانِيُّ} الأباطيل التي لا أصل لها من طول الآمال، الطمع في انتكاس الإِسلام. جمع أمنية كأضحية وأضاحي، وأصل أمنية: أمنوية بضم الهمزة، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءٌ، وأدغمت الياء في الياء، ثم كسرت النون لمناسبة الياء. وقرأه أبو جعفر بتخفيف الياء ساكنة، فلم يعتد بحرف المد الموجود في المفرد الذي هو سبب التشديد عند الجمهور. {الْغَرُورُ} بالفتح: الشيطان. {فِدْيَةٌ} والفدية والفداء: ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك. {مَأْوَاكُمُ}؛ أي: منزلكم الذي تأوون إليه. وأصله: مأويكم بوزن مفعل بفتح العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {هِيَ مَوْلَاكُمْ} أصله: موليكم بوزن مفعل بفتح العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بسكون الهمزة وكسر النون مضارع أنى من باب رمى، يقال: أنى الأمر يأني كرمى يرمي رميًا وأناءً وأني إذا جاء أناه؛ أي: وقته. فهو معتل حذفت منه الياء التي هي لامه للجازم، فوزنه يفع لحذف لامه. وقرأ الحسن {يَئِنْ} بكسر الهمزة وسكون النون مضارع آن من باب باع، يقال: آن يئين مثل: باع يبيع، فجزم بسكون النون، ومعنى {أَلَمْ يَأْنِ}؛ أي: ألم يقرب وقت خشوع قلوبهم، ويجيء وقته. ومنه: قول الشاعر:

أَلَمْ يأنِ لِيَ يَا قلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الجَهْلَا ... وَإِنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُنِيرُ لَنَا عَقْلا {أُوتُوا الْكِتَابَ} أصله: أءتيوا، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، وأبدلت الهمزة الساكنة واوًا حرف مد للأولى. {فَطَالَ} أصله: طول، من باب فعل المضموم، فقلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ففيه إعلال بالقلب. {فَقَسَتْ} أصله: قسو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها مع تاء التأنيث الساكنة لما لحقت الفعل، فوزنه فعت. والقسوة: غلظ القلب، وعدم لينه لقبول الخير كما مر. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وبين {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} وبين {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. ومنها: المقابلة بين {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}، وبين {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}. ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}. ومنها: حذف مفعول {أَنْفِقُوا} في قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فِيه للمبالغة في الحث على الإنفاق، وعدم البخل بالمال. وحذف مفعول {تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لما تقدم ولتشديد التوبيخ؛ أي: وأيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو قربة لله تعالى. ومنها: الاستعارة التصريحية في {سَبِيلِ اللَّهِ} لأن السبيل حقيقة في الممر، فاستعير لكل خير يوصلهم إليه تعالى. ومنها: حذف ثاني الاستوائين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين، فلا بد من تقدير ثان، تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة، وقوّة الإِسلام، ومن

أنفق من بعد الفتح. فحذف لوضوح الدلالة عليه، ويسمى هذا الحذف بالإيجاز. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؛ أي: ليخرجكم من ظلمات الشرب إلى نور الإيمان. فاستعار لفظ الظلمات للكفر والضلالة، ولفظ النور للإيمان والهداية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فقد شبه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه، ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض. ومنها: حذف متعلق الظرف في قوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أعني اذكر تفخيمًا لشأن ذلك اليوم، كما في "الروح". ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وحيث استعار النور للهدى والرضوان الذي هم فيه، فحذف المشبه وأبقى المشبه به. ومنها: تخصيص الإيمان بالذكر في قوله: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} ولم يذكر الشمائل مع أن المراد: جميع الجهات إظهارًا لشرفها على الشمائل. ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} بعد قوله: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} حيث استعار الضرب للبناء لكون البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد، ونحوها من الدلالات. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} أيضًا حيث شبه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم، وبين النور الهادي سور يحجب كل نور. ومنها: الطباق بين باطنه وظاهره وبين الرحمة والعذاب في قوله: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. ومنها: حذف الجواب في قوله: {قَالُوا بَلَى} إقامة لحرف الجواب مقامه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.

ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ}؛ أي: لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم. وهو تهكم بهم. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} حيث شبه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها ونبوها عن استماع الحق والعمل بأوامره بإحياء الأرض الميتة بالغيث من حيث اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوه عنه، أو يكون استعارة تمثيلية لإحياء الأموات، بأن شبه إحياءها بإحياء الأرض الميتة، وأن من قدر على الثاني قادر على الأول. فحقه أن تخشع القلوب لذكره. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. المناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} ... الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى، وأبان ما يكون ¬

_ (¬1) المراغي.

بينهما من فارق يوم القيامة .. ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات .. أردف ذلك بوصف حال الدنيا، وسرعة زوالها، وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر، فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزرّاع لنمائه وجودة غلته، وبينما هو على تلك الحال إذا به يصفر بعد النضرة والخضرة، ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توانى وكسل ندم ولات حين مندم. قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع، ونعم الوسيلة، ثم حث سبحانه على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول في جنات عرضها السماوات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلًا منه ورحمة، وهو المنعم عظيم الفضل. قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم .. أردف ذلك بتهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها. وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية. ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يبخلون إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان ¬

_ (¬1) المراغي.

والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله؛ أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرف نوحًا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانًا صحيحًا لهم أجرهم عند ربهم. ذكر هنا من آمنوا منهم بعيسى أولًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا يؤتيهم أجرهم مرتين لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه، لا يخص به قومًا دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود: إن الوحي والرسالة فينا، لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحبّاؤه. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند فيه من لا يعرف عن ابن عباس: أنّ أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشهدوا معه أحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أحد، فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا رسول الله إنا أهل ميسرة، فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسى بها المسلمين، فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)} الآيات، فلمّا نزلت قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم. فأنزل الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ...} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ...} الآية، فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لنا أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[18]

اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ...} والآية. فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب. قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} .. حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ...} الآية. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيٌّ فيقطع الأيدي، والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا. فأنزل الله سبحانه: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ...} الآية. يعني بالفضل: النبوّة. التفسير وأوجه القراءة 18 - {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأ الجمهور (¬1) بتشديد الصاد والدال في الموضعين، من الصدقة، وأصله: المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت التاء في الصاد، وقرأ أبي {المتصدقين والمتصدقات} وبإثبات التاء على الأصل. والمعنى على هاتين القراءتين: إن الذين آمنوا من الرجال والنساء، وتصدقوا صدقة واجبة أو تطوعًا. وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، والمفضل، وأبان، وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد وتشديد الدال من التصديق؛ أي: إن الذين صدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن الله، واللاتي صدقنه كذلك. وقوله: {وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} معطوفة على اسم الفاعل في المصدقين؛ لأنه وقع صلة للألف واللام الموصولة، حل محل الفعل، فصح العطف عليه، نظير قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}. والإقراض (¬2) الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس، وخلوص النية على المستحق للصدقة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

والمعنى على القراءتين الأوليين: إن الناس الذي تصدقوا، واللاتي تصدقن أي صدقة سواء كانت حسنة أم لا، والذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا واللاتي أقرضن كذلك، فاندفع ما يتوهم من التكرار؛ لأن الإقراض تصدق مقيد، وما قبله تصدق مطلق، وأما على القراءة الثالثة فلا إيهام، ولا إشكال. وقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} على البناء للمفعول، مسند إلى ما بعده من الجار والمجرور. وقيل: إلى مصدر ما في حيز الصلة على حذف مضاف؛ أي: يضاعف لهم ثواب التصدق والإقراض الحسن، والجملة خبر {إِنَّ}، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقوله: {وَلَهُمْ}؛ أي: لأولئك المتصدقين والمقرضين {أَجْرٌ كَرِيمٌ}؛ أي: ثواب حسن في الجنة. والأجر الكريم: هو الذي يقترن به رضا وإقبال. وهذا العطف أعني: عطف {أَقْرَضُوا} على صلة الألف واللام على مذهب أبي عليّ الفارسي، ومن وافقه كالزمخشري، قال أبو حيّان (¬1): ولا يصح أن يكون معطوفًا على {الْمُصَّدِّقِينَ}؛ لأن المعطوف على الصلة صلة، وقد فصل بينهما بمعطوف، وهو قوله: {وَالْمُصَّدِّقَاتِ}. ولا يصح أيضًا أن يكون معطوفًا على صلة أن في {المصدقات} لاختلاف الضمائر. إذ ضمير المتصدقات مؤنث، وضمير {وَأَقْرَضُوا} مذكر. فالأولى أن يتخرج ما هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه، فكأنّه قيل: والذين أقرضوا الله. فيكون مثل قوله: فَمَنْ يَهْجُوْ رَسُوْلَ الله مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ يريد: ومن يمدحه. وقيل: جملة {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} معترضة بين اسم {إِنَّ} وخبرها، وهو {يُضَاعَفُ}. وقرأ الجمهور: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} بالبناء للمفعول. وقرأ الأعمش (¬2) {يضاعفه لهم} بكسر العين على صيغة المعلوم، وزيادة الهاء. والفاعل ضمير يعود على الله. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب {يُضَاعَفُ لَهُمْ} بتشديد العين وفتحها. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

[19]

والمعنى: أي (¬1) إنَّ المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضات الله تعالى، لا يريدون جزاءًا ولا شكورًا، يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم فيقابل الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف ذلك إلى سبع مئة ضعف، ولهم ثواب جزيل ومرجع صالح. 19 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} جميعًا. وهو مبتدأ أول. والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى الموصول، وهو مبتدأ ثان. {هُمُ} مبتدأ ثالث، خبره قوله: {الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ}. وهو مع خبره خبر لأولئك، والجملة خبر للموصول؛ أي: أولئك {عِنْدَ رَبِّهِمْ} بمنزلة الصدّيقين والشهداء، المشهورين بعلو المرتبة ورفعة المحل، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله تعالى، فالكلام على التشبيه البليغ، والصديق (¬2) من أبنية المبالغة. قال الزجاج: ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي. وقال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق. وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم، ولم يكذبوهم، وقال في "فتح الرحمن": الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وهم ثمانية نفر من هذه الأمة، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإِسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة. وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم، وإن تم به الأربعون لما عرف من صدق نيته. وقيل: الشهداء على ثلاث درجات (¬3): الدرجة الأولى: الشهيد بين الصفين، وهو أكبرهم درجة. والدرجة الثانية: ثم كل من قضى بقارعة أو بلية، مثل: الغرق، والحرق، والهالك في الهدم، والمطعون، والمبطون، والغريب، والميتة بالوضع، والميت يوم الجمعة وليلة الجمعة، والميت على الطهارة. والدرجة الثالثة: ما نطقت به هذه الآية العامة للمؤمنين. وقال بعضهم في معنى الآية: هم المبالغون في الصدق، حيث آمنوا، وصدقوا جميع أخباره تعالى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

ورسله، والقائمون بالشهادة لله بالوحدانية، ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة. وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم. واختار هذه القول الفراء، والزجاج. وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير. وقيل: هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ. والظاهر (¬1): أنّ معنى الآية: إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعًا بمنزلة الصدِّيقين والشهداء، المشهورين بعلو الدرجة عند الله تعالى. ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله. فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} مبتدأ وخبر. والجملة خبر ثان للموصول، والضمير الأول على الوجه الأول أعني: كون الكلام على التشبيه راجع للموصول، والأخيران للصدّيقين والشهداء. ولا بأس بتشتيث الضمائر عند الأمن. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال. والمعنى (¬2): أي للذين آمنوا مثل أجر الصديقين والشهداء، ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيهًا على قوّة المماثلة وبلوغها حد الإتحاد، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف، وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف؛ ليحصل التفاوت. وأما (¬3) على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء. فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد. والمعنى: لهم الأجر والنور الموعودان لهم. وهذا المعنى المذكور على القول: بأن الشهداء معطوف على الصديقين. ويجوز أن يكون الوقف على {الصِّدِّيقُونَ}، {وَالشُّهَدَاءُ} مبتدأ، وما بعده خبره، ومعنى الآية عليه؛ أي: (¬4) والذين أقروا بوحدانية الله، وصدقوا رسله، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم أولئك هم في حكم الله بمنزلة الصديقين، والذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم. وهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[20]

يتفاوتون في ذلك بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من الأعمال. والخلاصة: أن العاملين أقسام. فمنهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}. ولما ذكر الله سبحانه السعداء ومآلهم .. أردف ذلك بذكر حال الأشقياء ومصيرهم. فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسله {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}؛ أي: كذبوا بآيات الله، وحججه، وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات القبيحة المذكورة {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؛ أي: أصحاب النار، خالدين فيها أبدا لا يفارقونها، يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل لهم عذاب مقيم وظلمة دائمة. وفيه (¬1): دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفًا، وأراد بالكفر: الكفر بالله، فهو في مقابلة الإيمان بالله، وبتكذيب الآيات: تكذيب ما بأيدي الرسل من الآيات الإلهية، وتكذيبها تكذيبهم فهو في مقابلة الإيمان والتصديق بالرسل. ففيه وصف لهم بالوصفين القبيحين اللذين هما: الكفر والتكذيب. 20 - ولما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وإيثارها بين لهم حقارتها، وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة. فقال: {اعْلَمُوا} أيها المكبون على الدنيا المعرضون عن الآخرة {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لفظ الحياة زائد، والمضاف مضمر، و {ما} صلة؛ أي: اعلموا أن أمور الدنيا وشؤونها لشعب إلخ، ويجوز أن تجعل الحياة الدنيا مجازًا عن أمورها بعلاقة اللزوم. وفي "كشف الأسرار": الحياة القربى في الدار الأولى. فإن المقصود الحياة في هذه الدار، فكل ما قبل الموت دنيا، وكل ما تأخر عنه أخرى. {لَعِبٌ}؛ أي: عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم إتعاب اللاعب بلا فائدة. واللعب (¬2) في أصله: هو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدًّا، ثم إن تلك الملاعب تنقضي من غير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المرح.

فائدة. {وَلَهْوٌ} تلهون به أنفسكم، وتشغلونها عما يهمكم من أعمال الآخرة. واللهو في أصله: هو فعل الشبان، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن؛ لأنَّ العاقل يرى المال ذاهبًا والعمر ذاهبًا، وقال مجاهد: كل لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة. {وَزِينَةٌ} من الملابس، والمراكب، والمنازل الحسنة تتزينون بها. والزينة في أصله: دأب النسوان؛ لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} بالأنساب والأحساب، تتفاخرون بها كتفاخر الأقران، يفتخر بعضهم على بعض بالنسب، أو بالقوة، أو بالقدرة، أو بالعساكر. وكلها ذاهبة، كما هو شأن العرب، والتفاخر في أصله: هو دأب الأقران، ومعنى الفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه، ويعبر عن كل نفس بالفاخر، كما في "المفردات". وقرأ الجمهور (¬1) بتنوين {تفاخر}، والظرف صفة له أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة. {وَتَكَاثُرٌ}؛ أي: مغالبة في الكثرة {فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} وتطاول بكثرة العَدَد والعُدَد، ومباهاة بكثرتهما. لا سيما التطاول بها على الفقراء والمساكين، فإنهم كانوا يتكاثرون بأموالهم وأولادهم، ويتطاولون بذلك على الفقراء، والتكاثر في أصله: شأن الدهقان "بضم الدال وكسرها: التاجر، ورئيس الإقليم، معرب". فالحياة (¬2) الدنيا غير مذمومة، وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، لا إلى طاعة الله تعالى. والمعنى: اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة، وقيل: الدنيا لعب كعب الصبيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان. قال علي بن أبي طالب لعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما: لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل: وهو ريقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء، ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج: وهو نسج دودة، وأكبر المشموم المسك: وهو دم ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح.

وهو مبال في مبال، وفي الحديث: "ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا، كراكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها". والخلاصة (¬1): أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به، وزينة تتزينون بها، وبها يفخر بعضكم على بعض، وتتابهون فيها بكثرة الأموال والأولاد. ثم ضرب مثلًا يبين أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ}؛ أي: كمثل مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ}؛ أي: الزراع {نَبَاتُهُ}؛ أي: النبات الحاصل بذلك المطر. ومحل (¬2) الكاف النصب على الحالية من الضمير في {لعب}؛ لأنَّ فيه معنى الوصف؛ أي: تثبت لها هذه الأوصاف حال كونها مشبهة غيثًا، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي كمثل أو خبر بعد خبر للحياة الدنيا. والغيث؛ مطر محتاج إليه، يغيث الناس من الجدب عند قلة المياه، فهو مخصوص بالمطر النافع، بخلاف المطر، فإنه عام. والمراد بالكفار هنا: الحراث، والعرب تقول للزارع: كافر لأنه يكفر، أي: يستر بذره بتراب الأرض، والكفر لغة: الستر، كما سيأتي. وقيل (¬3): المراد بهم. الكافرون بالله؛ لأنهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا، ولأن المؤمن إذا رأى معجبًا .. انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحسن به فيستغرق فيه إعجابًا، وقد منع في بعض المواضع عن إظهار الزينة صونًا لقلوب الضعفاء، كما في الأعراس ونحوها. أي: صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر أعجب الزراع النبات الحاصل بذلك {ثُمَّ يَهِيجُ}؛ أي: يجف ذلك النبات وييبس بعد خضرته ونضارته بآفة سماوية أو أرضية. {فَتَرَاهُ}؛ أي: فترى أيها المخاطب ذلك النبات بعدما رأيته ناضرًا {مُصْفَرًّا}؛ أي: متغيرًا عما كان عليه من الخضرة والرونق إلى لون الصفرة والذبول. وإنما لم يقل: فيصفر إيذانًا بأن اصفراره مقارن لجفافه، وإنما المرتب عليه رؤيته كذلك، وقرىء {مُصْفَارًّا}. {ثُمَّ يَكُونُ} ذلك النبات المصفر {حُطَامًا}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

أي: فتاتًا هشيمًا متكسرًا متحطمًا بعد يبسه؛ أي: مثل الحياة الدنيا كمثل الزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته، ثم لا يلبث أن يصير هشيمًا تبنًا كأن لم يكن. وحطام (¬1) صيغة مبالغة كعجاب. وحاصل المعنى: أي ما مثل هذه الحياة الدنيا في سرعة فنائها وانقضائها على عجل، إلا مثل أرض أصابها مطر وابل فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع، وجعلهم في غبطة وحبور وبهجة وسرور، وبينما هو على تلك الحال إذا هو يصوح، ويأخذ في الجفاف واليبس، ثم يكون هشيمًا تذروه الرياح. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}. ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها، الطالبين لتحصيل لذاتها، المتهالكين في جمع حطامها، والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم. فقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لمن أقبل عليها، ولم يطلب بها الآخرة، وقدم ذكر العذاب لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة {مِنَ اللَّهِ} سبحانه {وَرِضْوَانٌ} كثير منه تعالى، لا يقادر قدره لمن أعرض عنها، وقصد بها الآخرة، بل الله تعالى لأن الدنيا والآخرة ليستا مقصودتين لأهل الله؛ أي: وفي الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك في لذاتها، وأعرض عن صالح الأعمال، ودسّ نفسه بالشرك، والآثام، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكي وأخبت لربه وأناب إليه. قَدِّمْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الْخَطْوِ مَوْضِعَهَا ... فَمَنْ عَلَا زَلَقًا عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا، فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}؛ أي: إلا كالمتاع الذي يغر ويخدع به الغير أي: إلا مثل (¬2) المتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج، والخزف مما يسرع فناؤه يميل إليه الطبع أول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[21]

ما رآه، فإذا أخذه، وأراد أن ينتفع به ينكسر ويفنى. والمعنى: أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فإني زائل خادع من ركن إليه، واغتر به، وأعجبه حتى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها، واطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة، وأما من اشتغل بطلب الآخرة .. فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها، وهي الجنة، والدنيا غير مقصودة لذاتها بل لأجر الآخرة، وفي الحديث: نعم المال الصالح للرجل الصالح" فما شغل العبد عن الآخرة .. فهو من الدنيا، وما لا .. فهو من الآخرة. 21 - وهذه (¬1) الجملة مقررة للمثل المتقدم ومؤكدة له. ولما أبان أن الآخرة قريبة، وفيها العذاب الأليم، والنعيم حث على المبادرة إلى فعل الخيرات، فقال: {سَابِقُوا}؛ أي: سارعوا أيها الناس مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، وهو الميدان. {إِلَى مَغْفِرَةٍ} عظيمة كائنة {مِنْ رَبِّكُمْ} ومالككم، أي: سارعوا إلى أسبابها وموجباتها كالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة؛ أي: بحسب وعد الله، وإلا فالعمل نفسه غير موجب، وفي دعائه - صلى الله عليه وسلم - "أسألك عزائم مغفرتك"؛ أي: أن توفقني للأعمال التي تغفر لصاحبها لا محالة، ويدخل فيها المسابقة إلى تكبيرة الإحرام مع الإِمام، قاله مكحول. وقيل: المراد الصف الأول، ولا وجه لتخصيص ما في هذه الآية بمثل هذا بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقًا شموليًّا أو بدليًّا. {وَ} إلى {جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: كعرض سبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض على أن يكون اللام في {السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} للاستغراق، وإذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها؛ فإن طول كل شيء أكثر من عرضه. وفي "البحر": {عَرْضُهَا}؛ أي: مساحتها في السعة اهـ. ويقال: هذا التشبيه (¬2) تمثيل للعباد بما يعقلون، وبما يقع في نفوسهم من مقدار السماوات والأرض، وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية، وقيل: المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة، وقال ابن كيسان: عني به: جنة واحدة من الجنات؛ أي: سابقوا أقرانكم في مضمار الأعمال الصالحة، وأدوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة، واتركوا نواهيها يدخلكم ربكم بما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[22]

قدمتم لأنفسكم جنة سعتها كسعة السماوات والأرض. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى، فقال: {أُعِدَّتْ}؛ أي: هيئت {لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ} سبحانه {و} بجميع {رُسُلِهِ} كافة عليهم الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وفيه (¬1) دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل كما هو مذهب أهل السنة، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقه إذ لم يذكر مع الإيمان شيء آخر، ولكن الدرجات بالأعمال، وفيه شيء لأن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب عما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، ولأن الإيمان بالرسل لا يكمل إلا بالإيمان بما في أيديهم من الكتب الإلهية والعمل بما فيها. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى ما وعد الله من المغفرة والجنة {فَضْلُ اللَّهِ} وعطاؤه. وهو ابتداء لطف بلا علة {يُؤْتِيهِ}؛ أي: يعطيه تفضلًا وإحسانًا {مَنْ يَشَاءُ} إيتاءه إياه من غير إيجاب، لا كما زعمه أهل الاعتزال؛ أي (¬2): هذا الذي أعده الله تعالى لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم، وفي الصحيح: أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور "الأموال" بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم، قال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون ولا نتصدّق، ويعتقون ولا نعتق، قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه .. سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"، قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}؛ أي: والله واسع العطاء، عظيم الفضل، فيعطي من يشاء ما شاء كرمًا منه وفضلًا، ويبسط له الرزق في الدنيا، ويهب لهم النعم، ويعرفهم مواضع الشكر، ثم يجزيهم في الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل. 22 - ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب، قد سبق بذلك قضاؤه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وقدره، وثبت في أم الكتاب. فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} "ما" نافية. والمراد بالمصيبة هنا: النائبة. و {من} زائدة؛ أي: مصيبة، وذكر (¬1) فعلها وهو جائز التذكير والتأنيث، ومن التأنيث {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا}. ولفظ {مُصِيبَةٍ} يدل على الشر؛ لأنَّ عرفها ذلك كما مر آنفًا. قال ابن عباس: ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة، وهو استعمالها في الشر، وخصها بالذكر؛ لأنها أهم على البشر، والمصيبة في الأرض مثل القحط، والزلزلة، وعاهة الزرع، واحتلال الأجانب الظالمين، واستيلاء الحكام الفاسقين، وفي الأنفس: الأسقام والموت. وقيل: المراد بالمصيبة (¬2): الحوادث كلها من خير أو شر؛ أي: ما حدثت حادثة كائنة في الأرض كجدب وعاهات في الزروع والثمار. {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أيها العباد كمرض، وآفة وموت ولد، وخوف عدو، وجوع. وقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} في محل نصب على الحال من مصيبة؛ أي: إلا حال كونها مكتوبة مثبتة في علم الله سبحانه، أو في اللوح المحفوظ. وجملة قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}؛ أي: من قبل أن نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض في محل جر، صفة لكتاب، والضمير في {نَبْرَأَهَا} عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى الجميع. و {نَبْرَأَهَا}؛ أي: نخلقها، فإن البرء في اللغة: هو الخلق، والبارىء: الخالق. وذكر (¬3) ربيع بن صالح الأسلمي قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج حين أراد قتله، فبكى رجل من قومه، فقال سعيد: ما ييكيك؟ قال: ما أصابك، قال: فلا تبك قد كان في علم الله أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}؟ قال في "الروضة": رؤي الحجاج في المنام بعد وفاته، فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتيل قتلة. وبسعيد بن جبير سبعين قتلة. وفصل المصيبة هنا بقوله: {فِي الْأَرْضِ} و {فِي أَنْفُسِكُمْ} وأجمل في التغابن حيث قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} موافقة لما قبلها. لأنه فصَّل هنا بقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الدُّنْيَا} الآية، بخلافه ثَمَّ. وفي الآية: دليل على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها، كذا جميع أعمال الخلق بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ، ليستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه تعالى عالمًا بجميع الأشياء قبل وجودها، وليعرفوا حلمه؛ فإنه تعالى مع علمه أنهم يقومون على المعاصي خلقهم، ورزقهم وأمهلهم، وليحذروا من أمثال تلك المعاصي، وليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم للطاعات وعصمته إياهم من المعاصي، وفيها دليل أيضًا على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها؛ لأن إثباتها في الكتاب قبل علمها محال، ولو سأل سائل: أن الله تعالى هل يعلم عدد أنفاس أهل الجنة؟ يقال له: إن الله يعلم أنه لا عدد لأنفاسهم. والمعنى (¬1): أي ما أصابكم أيها الناس من مصائب في آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع، أو في أنفسكم من أوصاب وأسقام إلا في أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة. {إِنَّ ذَلِكَ}؛ أي: إثباتها في كتاب مع كثرتها {عَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله: {يَسِيرٌ} غير عسير لاستغنائه فيه عن العدة والمدة، وان كان عسيرًا على العباد. والمعنى؛ أي: إن علمه بالأشياء قبل وجودها وكتابته لها طبق ما توجد في حينها يسير عليه تعالى؛ لأنه يعلم ما كان، وما سيكون وما لا يكون، أخرج الحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها، فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار"، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقول هكذا، كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار". ثم قرأ: و {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}. ففي الآية (¬2): توطين للنفوس على الرضا بالقضاء والصبر على البلاء، وحمل لها على شهود المبتلى في عين البلاء، فإن به يسهل التحمل، وإلا فمن كان غافلًا عن مبدأ اللطف، والقهر فهو غافل في اللطف والقهر، ولذا تعظم عليه المصيبة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

بخلاف حال أهل الحضور؛ فإنهم يلتذون بالبلاء التذاذهم بالعافية، بل ولذة البلاء فوق لذة العافية، ومن أمثال العرب ضرب الحبيب زبيب؛ أي: لذيذ. 23 - {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} يقال: أسى على مصيبة يأسى أسى من باب علم إذا حزن والجار والمجرور فيه متعلق بمحذوف، تقديره: أخبرناكم بإثباتها وكتابتها في كتاب لكيلا يحصل لكم الحزن والألم، أي: لكيلا تحزنوا حزنًا يوجب القنوط كما يقيد بذلك في الفرح، وإلا فالحزن والفرح: الطبيعيان لا يخلو عنهما الإنسان. {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من نعم الدنيا كالمال والخصب والصحة والعافية. {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}؛ أي: أعطاكم الله منها. فإن من علم أن كلا من المصيبة والنعمة مقدر يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آتٍ؛ إذ يجوز أن يقدر ذهابه عن قريب، وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا يحزن على فواته. وقرأ الجمهور (¬1): {بِمَا آتَاكُمْ} بالمد؛ أي: أعطاكم. وقرأ عبد الله {بما أوتيتم} مبنيًا للمفعول؛ أي: أعطيتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم، وأبو عمرو {بما أتاكم} بالقصر؛ أي: جاءكم. واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد. ومعنى الآية (¬2): أي أعلمناكم بتقدم علمنا، وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطاكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا بآت. والخلاصة: أن كل شيء قدر في الكتاب فكيف نفرح أو نحزن. قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح أو يحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبرًا. وقال حكيم: الصبر مخرج من الشقاء فلا سعادة إلا بالصبر، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى، وهي مطمئنة لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت ولا حزن على ما فاتها، اهـ. ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط. (¬2) المراغي.

[24]

وفي الآية (¬1): إشارة إلى أنه يلزم أن يثبت الإنسان على حالة واحدة في السراء والضراء، فإن كان لا بد له من فرح فليفرح شكرًا على إعطائه لا بطرًا، وإن كان لا بد من حزن فليحزن صبرًا على قضائه لا ضجرًا، وفي تخصيص (¬2) التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى. قال قتيبة بن سعيد: دخلت على بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوء من الإبل الميتة بحيث لا تحصى، ورأيت شخصًا على تل يغزل صوفًا فسألته فقال: كانت باسمي فارتجعها من أعطاها، ثم أنشأ يقول: لَا والَّذِيْ أَنَا عَبْدٌ مِنْ خَلَائِقِهِ ... وَالْمَرْءُ فِيْ الدَّهْرِ نَصَبُ الرِّزْءِ وَالْمِحَنِ مَا سَرَّنِي أَنَّ إِبْلِيْ فِيْ مَبَارِكِهَا ... وَمَا جَرَى مِنْ قَضَاءِ الله لَمْ يَكُنِ وبالجملة (¬3): فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء الثواب، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر، ولذا عقب بقوله: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى: {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ}؛ أي: متكبر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ}؛ أي: مبالغ في الفخر به على الناس؛ فإن من فرح بالحظوظ الدنيوية، وعظمت في نفسه اختال، وافتخر بها لا محالة والمختال (¬4): المتكبر المعجب وهو من الخيلاء، وهو التكبر من تخيل فضيلة تترائى للإنسان من نفسه؛ أي: لا يحب الله من اتصف بهاتين الصفتين وهما: الاختيال والافتخار، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. 24 - وقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}؛ أي: يمسكون أموالهم، ولا يخرجون منها حق الله تعالى؛ فإن البخل إمساك المقتنيات عما يحق إخراجها فيه، ويقابله الجود. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}؛ أي: بإمساك أموالهم عن إخراجها في الحقوق الواجبة بدل من {كُلَّ مُخْتَالٍ}. وقيل: هو مستأنف، لا تعلق له بما قبله، وهو في محل رفع بالابتداء، والخبر مقدر، فيكون بيانا لصفة اليهود. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[25]

والمعنى عليه (¬1): الذين يبخلون ببيان صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، ويأمرون الناس بالبخل به، لهم عذاب شديد، أو فإن الله غني عنهم، ويدل على هذا قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. قال سعيد بن جبير: هم الذين يبخلون بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس تلك المعجزة على يده. 25 - أي: ولقد أرسلنا رسلنا إلى الأمم مؤيدين بالمعجزات الدالة على صدقهم في دعواهم. {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}؛ أي: جنس الكتب الشامل للكل لتبيين الحق وتمييز صواب العمل؛ أي: لتكميل القوة النظرية والعملية. وقوله: {مَعَهُمُ} يجعل على تفسير الرسل بالأنبياء حالًا مقدرة من {الْكِتَابَ}. أي: مقدرًا كونه معهم، وإلا فالأنبياء لم ينزلوا حتى ينزل معهم الكتاب. فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة، والإنزال إليهم شأن الأنبياء، ولذا قدم الوجه الأول؛ إذ لو كان المعنى: لقد أرسلنا الأنبياء إلى الأمم .. لكان الظاهر أن يقال: وأنزلنا إليهم الكتاب. {و} أمرناهم بـ {الْمِيزَانَ}؛ أي: بالعدل {لِيَقُومَ النَّاسُ}؛ أي: ليتعامل الناس فيما بينهم {بِالْقِسْطِ}؛ أي: بالعدل إيفاء واستيفاء، ولا يظلم أحد أحدًا في ذلك. ومعنى إنزاله: إنزال أسبابه، والأمر بأعداده، وإلا فالميزان من مصنوعات البشر، وليس بمنزل من السَّماء. وعلى القول: بأن المراد به: الآلة التي يوزن بها يكون معنى إنزاله إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب علفتها تبنًا وماء باردًا". وروي: أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به. والمعنى: أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم، ومعهم البراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم في دينهم ودنياهم، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضًا. ¬

_ (¬1) المراح.

ولما كان الناس فريقين: فريقًا يقوده العلم والحكمة، وفريقًا يقوده السيف والعصا، وكان ما يزع الشيطان أكثر مما يزع القرآن، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه، وهو الدولة والملك وأعوانه والجند، وهؤلاء لا بدل لهم من عدة يحمون بها القانون والعدل في داخل البلاد، وفي خارجها أعقب بقوله: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ}؛ أي: خلقناه كما في قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، والمعنى: أنه خلقه في المعادن، وعلم الناس صنعته واستخراجه من معدنه. وذلك أن أوامره وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء، قاله الحسن. وأصل الحديد: ماء نزل من السماء، فتجمد في معادنه، ولذلك احتاج في صوغه إلى النار، كما أن الماء المثلج يحتاج إلى الحرارة في ذوبه. وقال بعضهم: وأخرجنا الحديد من المعادن؛ لأن العدل إنما يكون بالسياسة، والسياسة مفتقرة إلى العدة، والعدة مفتقرة إلى الحديد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وهو أشد بياضًا من الثلج، وعصا موسى، وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع، والحديد. {فِيهِ}؛ أي: في الحديد {بَأْسٌ شَدِيدٌ}؛ أي: قوة شديدة يعني: السلاح للحرب؛ لأنَّ آلات الحرب، إنما تتخذ منه. قال الزجاج: يمتنع به ويحارب. والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع، وآلة للضرب. قال مجاهد: فيه جنة وسلاح. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}؛ أي: وفيه منافع كثيرة للنَّاس، فإنهم ينتفعون بالحديد في كثير من أمور معاشهم كالسكين، والفأس والإبرة، وآلات الزراعة والصناعة، ونحوها. فإنه ما من صنعة إلا، والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها كالمراكب، والبواخر، والطوائر، والسوائر. وفيه إشارة إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف يحتاج أيضًا إلى ما به قوام التعايش من الصنائع وآلات المحترقة. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} معطوف (¬1) على قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}؛ أي: لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس بالقسط، وليعلم الله .. إلخ. أو معطوف (¬2) على علة مقدرة يدل عليها ما قبله، فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس ليستعملوه، وينتفعوا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

به، وليعلم الله علمًا يتعلق بالجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح، والمدافع، والبنادق، وسائر الأسلحة في مجاهدة أعدائه. وقال الشوكاني: والأول أولى؛ لأن عدم التقدير أولى من التقدير. وقوله: {بِالْغَيْبِ} حال من فاعل {يَنْصُرُهُ}؛ أي: ليعلم الله سبحانه من ينصر دينه، وينصر رسله حال كونهم غائبين عن الله تعالى مشاهدين له، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه. وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع، أو حال من مفعوله؛ أي: حال كونه تعالى غائبًا عنهم غير مرئي لهم (¬1)، أو حال من {رسله}؛ أي: وإنما فعل ذلك ليراكم ناصري دينه باستعمال السلاح، والكراع لمجاهدة أعدائه وناصري رسله، وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم. روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم". {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {قَوِيٌّ} على إهلاك من أراد إهلاكه {عَزِيزٌ} لا يفتقر إلى نصرة الغير، وإنما أمرهم بالجهاد، لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه؛ أي: إن الله قوي قادر يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته غالب على أمره لا يقدر أحد على دفع العقوبة حتى أحلها بأحد من خلقه، وليس له حاجة إلى أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك، لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين. قال الزروقي رحمه الله تعالى (¬2): القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته وصفاته، ولا في أفعاله، فلا يمسه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور، ولا عجز في نقض ولا إبرام. وخاصية هذا الاسم ظهور القوة في الوجود، فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة، ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك، ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك، وكفى أمره. وخاصية الاسم العزيز: وجود الغنى، والعز صورة أو معنى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه، فلم يحوجه إلى أحد من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[26]

خلقه. وقال السهرودي رحمه الله تعالى: من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفًا أهلك خصمه، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده؛ فإنهم ينهزمون. 26 - ولما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالًا أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} وكرر القسم للتأكيد؛ أي: وعزّتي وجلالي .. لقد بعثنا {نُوحًا} إلى قومه. وهم (¬1) بنوا قابيل، وهو الأب الثاني للبشر. {وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قومه أيضًا، وهم نمرود ومن تبعه. ذكر الله رسالتهما تشريفًا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل وأبوان للأنبياء عليهم السلام، فالبشر كلهم من ولد نوح. والعرب والعبرانيون كلهم من ولد إبراهيم. {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا}؛ أي: في نسلهما {النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} بأن استنبأنا بعض ذريتهما، وأوحينا إلهم الكتب مثل: هود، وصالح، وموسى، وهارون، وداود، وغيرهم، فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدل إليهما بأمتن الأنساب، وأعظم الإنسان. أي: جعلنا فيهم النبوّة، والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء، وجعل بعضهم يتلون الكتاب. والمعنى: ولقد بعثنا نوحًا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده إلى قوم آخرين، ولم يرسل بعدهما رسلًا بشرائع إلا من ذريتهما. ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين {فَمِنْهُمْ}؛ أي: فمن ذريتهما {مُهْتَدٍ} إلى الحق مستبصر {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}؛ أي: ضلال خارجون عن طاعة الله تعالى، ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسون أنفسهم باجتراح الآثام، وفي الآية إيماء إلى أنهم خرجوا من الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ في الذم وأشد في الاستهجان لعملهم. والمعنى: أي فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم. وقيل: المعنى: فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى، وكثير منهم خارجون عن طاعتنا. 27 - {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ}؛ أي: (¬2) أتبعنا على آثار الذرية، أو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

على آثار نوح، إبراهيم {بِرُسُلِنَا} الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم. فالضمير (¬1) لنوح وإبراهيم، ومن أرسلا إليهم من الأمم؛ أي: أرسلنا بعد نوح هودًا وصالحًا، وبعد إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف مثلًا. وفي "الروح": الضمير لا يرجع إلى الذرية؛ فإن الرسل المقفى بهم من الذرية. يقال: قفا (¬2) أثره أتبعه، وقفى على أثره بفلان؛ أي: أتبعه إياه وجاء به بعده. والآثار جمع إثر بالكسر، كما سيأتي. تقول: خرجت على إثره؛ أي: عقبه. فالمعنى: أتبعنا من بعدهم واحدًا بعد واحد من الرسل. والخلاصة (¬3): أي ثم بعثنا بعدهم رسولًا بعد رسول على توالي العصور والأيام. ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته في عصر التنزيل ولوجود أتباعه في جزيرة العرب وغيرها، فقال: {وَقَفَّيْنَا}؛ أي: أتبعنا أولئك الرسل الذين قفيناهم بعد نوح إبراهيم {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}؛ أي: أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، فأتينا به بعدهم؛ أي: جعلناه تابعًا لهم؛ أي: متأخرًا عنهم في الزمان. فأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى عليهما السلام، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه. ونسبه إلى أمه على حقيقة الإخبار. {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: أعطينا عيسى {الْإِنْجِيلَ} دفعة واحدة، وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدَّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران، وقرأ الجمهور (¬4) {الْإِنْجِيلَ} بكسر الهمزة. وقرأ الحسن بفتحها. قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، انتهى، وهي لفظة أعجمية فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري: أمره أهون من أمر برطيل، يعني: أنه بفتح الباء، وكأنّه عربيّ، وأما الإنجيل فأعجمي. والمعنى: أي ثم أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملًا لما في القوراة، ومخفِّفًا بعض أحكامها التي شرعت تغليظًا على بني إسرائيل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. ثم بين صفات أتباع عيسى، فقال: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}؛ أي: اتبعوا عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم. {رَأْفَةً}؛ أي: لينًا. وقرىء {رآفة} بوزن فعالة، كما في "البيضاوي". {وَرَحْمَةً}؛ أي: شفقة؛ أي (¬1): جعلنا في قلوبهم رأفة؛ أي: أشد رقة ولين على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم، والاتباع لهم ورحمة؛ أي: رقة وعطفًا وشفقة على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم والاتباع لهم، أي: يعطفون على جميع الناس من وافقهم في الدين، ومن لم يوافقهم، كما كان الصحابة رضي الله عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة، فهم أعزة على الكافرين. قيل: أمروا في الإنجيل بالصفح، والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى. وقيل: لهم من لطم خدك الأيمن فوله خدك الأيسر، ومن سلب ردائك فاعطه قميصك، ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف. فاتبعوا هذه الأوامر، وأطاعوا الله تعالى، وكانوا متوادين ومتراحمين. ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة. وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب (¬2) على الاشتغال بفعل مضمر يفسره المذكور بعده؛ أي: وابتدع أتباع عيسى رهبانية {ابْتَدَعُوهَا}؛ أي: اخترعوها من قبل أنفسهم، وباختيارهم لا بأمر من الله، فيكون الكلام مستأنفًا؛ أي: حملوا أنفسهم على العمل بها. والرهبانية: المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم، ولبس المسوح، وترك أكل اللحم، والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والمنكح، والتعبد في الغيران، والتخلي في الصوامع. ومعناها: ابتدعوا الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بفتح الراء: وهو الخائف، فإن الرهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في "المفردات"، وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقيل: معطوفة على ما قبلها، وجملة {ابْتَدَعُوهَا} صفة لها؛ أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة مخترعة من عندهم؛ أي: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية، واستحداثها لينجوا من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فتنة بولس اليهودي. والأوّل أولى (¬1)، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره. وجملة {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} صفة ثانية لـ {رَهْبَانِيَّةً} أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم. والمعنى: ما فرضنا عليهم تلك الرهبانية في كتابهم، ولا على لسان رسولهم. وسبب ابتداعهم إياها (¬2): أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى، فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل، فخافوا أن يفتتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال، فارين بدينهم، مخلصين أنفسهم للعبادة، منتظرين البعثة النبوية التي وعدها لهم عيسى عليه السلام، كما قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية. وروي: أن الله تعالى لما أغرق فرعون وجنوده استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السلام في الرجوع إلى الأهل والمال بمصر، فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا في رؤوس الجبال، فكانوا أول من ترهب، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله تعالى؛ ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب عيسى عليه السلام. والرهبانية (¬3) بفتح الراء وضمها، وقد قرىء بهما، وهي بالفتح من الرهب. وهو الخوف. وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا. ذكر معناه الضحاك، وقتادة وغيرهما. وحاصل المعنى (¬4): أن اتباع عيسى الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتي: 1 - الرأفة بين بعضهم وبعض فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيل، ويصلحون ما فسد من أمورهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

2 - الرحمة فيجلب بعضهم لبعض الخير، كما قال تعالى في حق أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. 3 - الرهبانية المبتدعة فقد انقطعوا عن الناس في الفلوات والصوامع معتزلين الخلق، وحرموا على أنفسهم النساء، ولبسوا الملابس الخشنة تبتلا إلى الله وإخباتًا له، ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية ولكنهم استحدثوها طلبًا لمرضاة الله والزلفى إليه. والاستثناء في قوله: {إِلَّا} منقطع؛ أي؛ لكن ابتدعوها {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: لطلب رضا الله تعالى. وقال الزجاج (¬1): ما كتبناها عليهم معناه: لم نكتب عليهم شيئًا البتة. قال: ويكون قوله: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلًا من الهاء في {كَتَبْنَاهَا}. والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. فيكون الاستثناء متصلًا. {فَمَا رَعَوْهَا}؛ أي: فما حفظ العيسويون الرهبانية {حَقَّ رِعَايَتِهَا}؛ أي: حق حفظها؛ لأنهم أتوها لطلب الدنيا والرياء والسمعة؛ أي: فما رعوا (¬2) جميعًا حق رعايتها، بل أفسدوها بضم التثليث والقول بالاتحاد، وقصد السمعة، والكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ونحوها إليها. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من آمن بي وصدقني .. فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي .. فأولئك هم الهالكون". قال مقاتل: لما استضعفوا بعد عيسى عليه السلام التزموا الغيران فما صبروا وأكلوا الخنازير، وشربوا الخمور، ودخلوا مع الفساق، اهـ. وفي "المناسبات" {فَمَا رَعَوْهَا}؛ أي: لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما أوجبوا على أنفسهم حق رعايتها؛ أي: بكمالها، بل قصروا فيها ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين عيسى عليه السلام إلا قليلًا منهم، ذمهم الله تعالى بذلك من حيث إن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه سيما إذا قصد رضاء الله تعالى. {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: فأعطينا الذين آمنوا إيمانًا صحيحًا {مِنْهُمْ}؛ أي: من العيسيين، وهو الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها؛ فإنها بعد البعثة لغو محض، وكفر بحت، وأنى لهم استتباع الأجر. قال في "كشف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الأسرار": لما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا قليل حط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به - صلى الله عليه وسلم -، وهم المرادون بقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}. والصومعة: كل بناء متصومع الرأس؛ أي: متلاصقه. والدير: خان النصارى، وصاحبه ديار. أي: فآتينا الذين آمنوا منهم {أَجْرَهُمْ} الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله تعالى؛ أي: أعطيناهم ما يحسن، ويليق بهم من الأجر، وهو الرضوان الذي طلبوه برهبانيتهم، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ}؛ أي: من العيسيين، وهم الذين ابتدعوا فضيعوا، وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {فَاسِقُونَ}؛ أي: خارجون عن حد الاتباع، وهم الذين تهودوا وتنصروا؛ أي: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به؛ ووجه (¬1) الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع، أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها، وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينًا، وأما على القول: بأن الاستثناء متصل؛ وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها، فوجه الذم ظاهر. والمعنى (¬2): أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا بما التزموه حق القيام، بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا. وفي هذا ذم لهم من وجهين: 1 - أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر به. 2 - أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم بما زعموا أنه قربة يقربهم إلى ربهم. وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله قال: "اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[28]

فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك، وقاتلتهم على دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فلحقوا بالبراري، والجبال فترهبوا فيها، فهو قول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} الآية. فمن آمن بي، واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون". {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} ... الآية؛ أي: فأعطينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صحيحًا طبعت آثاره في أعمالهم، فزكوا أنفسهم وأخبتوا لربهم، وأدوا فرائضه أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله واجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم في البر والبحر، بما كسبت أيديهم فكبكبوا في النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم. 28 - ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: بالرسل المتقدمة {اتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهاكم عنه {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ}؛ أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي إطلاقه إيذان بأنه علم فرد له في الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره. {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ}؛ أي: نصيبين {مِنْ رَحْمَتِهِ} بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، لكن لا على أن شريعتهم باقية بعد البعثة بل على أنها كانت حقًّا قبل النسخ. ونقل عن الراغب: الكفل: الحظ الذي فيه الكفالة، كأنّه تكفل بأمره، والكفلان هما النصيبان المرغوب فيهما بقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} انتهى. وقيل (¬1): النداء في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداء لمن آمن به من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمعنى {آمَنُوا}: داوموا واثبتوا على إيمانكم، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور متلبسًا بما أمر به يؤتكم كفلين. قال أبو موسى الأشعري: {كِفْلَيْنِ} ضعفين بلسان الحبشة، انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والمعنى: أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} إذ أنتم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله. وروي: أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم فنزلت هذه الآية. وقيل: النداء للمنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم اتقوا الله، وآمنوا بقلوبكم إيمانًا صحيحًا. ويؤيد المعنى الأول ما رواه الشعبي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والعبد المملوك إذا أدى حق مواليه، وحق الله عن وجل، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، وأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران" متفق عليه. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ} يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} على الصراط وبين الناس حسبما نطق به قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} فهو (¬1) الضياء الذي يمشون به على الصراط إلى أن يصلوا إلى الجنة. وذلك لأن جهنم خلقت من الظلمة، إذ هي صورة النفس الأمّارة بالسوء، وهي ظلمانية، فنور الإيمان والتقوى يدفعها ويزيلها. وقيل المعنى: ويجعل لكم سبيلًا واضحًا في الدين تهتدوا به {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من الذنوب والمعاصي. فأما حسنات الكفار فمقبولة بعد إسلامهم على ما ورد في الحديث الصحيح، كما رواه مسلم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي مبالغ في المغفرة والرحمة. والمعنى (¬2): أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، خافوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه، وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى، والأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيًا، ويجعل لكم نورًا تستبصرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب، وما فرطتم في جنب الله، والله واسع المغفرة لمن يشاء، رحيم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[29]

بعباده يقبل توبتهم متى أنابوا إليه وخشعت له قلوبهم. والخلاصة (¬1): أنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة: 1 - أن يضاعف لهم الأجر والثواب. 2 - أن يجعل لهم نورًا بين أيديهم، وعن شمائلهم يوم القيامة يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة. 3 - أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام. 29 - ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم، فقال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} واللام (¬2) فيه متعلقة بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة معنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله .. يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب؛ أي: ليعلموا، و {لا} مزيدة كهي في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} كما ينبىء عنه قراءة {ليعلم}، وقراءة {لكي يعلم}، وقراءة {لأن يعلم} بإدغام النون في الياء. قال في "كشف الأسرار": وإنما يحسن إدخالها في كلام يدخل في أواخره، أو في أوائله جحد، اهـ. و {أن} في قوله: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملتها في حيز النصب علي أنها مفعول {يَعْلَمَ}؛ أي: ليعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله الذي تفضل به على من آمن، بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفلين والنور والمغفرة، ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له. وجملة {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى معطوفة على جملة {أن} المخففة؛ أي: ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه. وقوله: {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} خبر ثان؛ لأنَّ أو هو الخبر، والجار والمجرور في محل نصسب على الحال. وجملة قوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: والله واسع الفضل، كثير العطاء، يمنحه من شاء من عباده، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

لا يخص به قومًا دون آخرين، ولا شعبًا دون آخر. والمراد بالفضل هنا: ما تفضل به على الذين اتقوا، وآمنوا برسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأجر المضاعف، وقال الكلبيّ: هو رزق الله، وقيل: نعم الله التي لا تحصى، وقيل: هو الإِسلام. وقيل (¬1): إن {لا} في {لئلا} غير مزيدة، وضمير {لا يقدرون} للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي، والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه. والأول أولى. وقرأ الجمهور (¬2): {لِئَلَّا يَعْلَمَ} بلا المزيدة. وقرأ خطاب بن عبد الله {لآن يعلم}. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعبد الله بن سلمة {ليعلم} وقرأ الجحدري {لِيَنْيَعَلَمَ}، أصله: لأن يعلم، قلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها، وأدغم النون في الياء بغير غنة كقراءة خلف {أن يَضْرب} بغير غنّةٍ، وروى ابن مجاهد عن الحسن {لَيْلًا} مثل: ليلى اسم امرأة، {يعلم} برفع الميم، أصله: لأن لا بفتح لام الجر، وهي لغة فحذفت الهمزة اعتباطًا، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من الساكنة ياء، فصار ليلًا ورفع الميم لأن {أن} هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وروى قطرب عن الحسن أيضًا {لئلا} بكسر اللام، وتوجيهه كالذي قبله إلا أنه كسر اللام على اللغة المشهورة في لام الجر. وعن ابن عباس {كَيْ يَعْلَم}، وعنه: {لِكَيْلا يعلم}. وعن عبد الله، وابن جبير، وعكرمة {لكي يعلم}. وقرأ الجمهور (¬3) {أَلَّا يَقْدِرُونَ} بالنون، فأن هي المخففة من الثقيلة. وقرأ عبد الله بحذفها، فأن هي الناصبة للمضارع. والله أعلم. الإعراب {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}. {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} ناصب واسمه، {وَالْمُصَّدِّقَاتِ} معطوف على {الْمُصَّدِّقِينَ}، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

{وَأَقْرَضُوا} فعل، وفاعل، معطوف على صلة أل في {الْمُصَّدِّقِينَ}، والتقدير: إن الذين اصدقوا وأقرضوا الله، ولفظ الجلالة الله مفعول به، و {قَرْضًا} مفعول مطلق، {حَسَنًا} صفة {قَرْضًا}، {يُضَاعَفُ} فعل مضارع، مغير الصيغة، {لَهُمْ} جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، ويجوز أن يكون نائب الفاعل ضمير التصدق، ولكنه على تقدير مضاف. {وَلَهُمْ} متعلق بـ {يُضَاعَفُ}؛ أي: يضاعف لهم ثواب التصدق. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَهُمْ} خبر مقدم، {أَجْرٌ} مبتدأ مؤخر، {كَرِيمٌ} صفة {أَجْرٌ}. والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة {يُضَاعَفُ}. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}. {وَالَّذِينَ} الواو: استئنافية، {الَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {بِاللَّهِ} متعلق بـ {آمَنُوا}، {وَرُسُلِهِ} معطوف على الجلالة، {أُولَئِكَ} مبتدأ ثان، {هُمُ} ضمير فصل، {الصِّدِّيقُونَ} وخبر {أُولَئِكَ}، {أُولَئِكَ} وخبره خبر الأوّل. ويجوز أن يكون {هُمُ} مبتدأ ثالثًا، و {الصِّدِّيقُونَ} خبره، و {هُمُ} مع خبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. {وَالشُّهَدَاءُ} إمّا معطوف على {الصِّدِّيقُونَ} والوقف عنده تام أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، ويجوز أن تكون {الواو} استئنافية، {وَالشُّهَدَاءُ} مبتدأ، وخبره إما الظرف بعده أعني: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} والثاني: أنه قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} {لَهُمْ} خبر مقدم، {أَجْرُهُمْ} مبتدأ مؤخر، و {وَنُورُهُمْ} معطوف على {أَجْرُهُمْ}، و {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف متعلق بمحذوف حال من أجرهم؛ أي: حال كونه مدّخرًا لهم عند ربهم. {وَالَّذِينَ} مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلته، {وَكَذَّبُوا} معطوف على {كَفَرُوا}، {بِآيَاتِنَا} متعلق بـ {كَفَرُوا}، {أُولَئِكَ} مبتدأ ثان، {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} خبر {أُولَئِكَ}. والجملة خبر الموصول، وجملة الموصول مستأنفة. {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}.

{اعْلَمُوا} فعل أمر، و {الواو} فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتحقير الدنيا، وبيان هوان أمرها. {أَنَّمَا} أن مكفوفة، و {ما} وكافّة، {الْحَيَاةُ} مبتدأ، {الدُّنْيَا} صفة، {لَعِبٌ} خبر. والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي {اعْلَمُوا}. {وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ} معطوفات على {لَعِبٌ}، {بَيْنَكُمْ} ظرف متعلق بمحذوف، صفة لـ {تَفَاخُرٌ}، و {تَكَاثُرٌ} معطوف على {لَعِبٌ}، {فِي الْأَمْوَالِ} متعلق بـ {تَكَاثُرٌ}، {وَالْأَوْلَادِ} معطوف على {الْأَمْوَالِ}، {كَمَثَلِ غَيْثٍ} جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مثلها كمثل غيث أو حال من معنى ما تقدم؛ أي: ثبتت لها هذه الصفات حال كونها مشبهة بغيث. {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} فعل، ومفعول مقدم، {نَبَاتُهُ} فاعل، والجملة في محل الجر صفة لـ {غَيْثٍ}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع التراخي، {يَهِيجُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النبات، والجملة معطوفة على جملة {أَعْجَبَ}. {فَتَرَاهُ} الفاء عاطفة {ترى} فعل مضارع، وفاعله ضمير المخاطب، والهاء: مفعول له، {مُصْفَرًّا} حال. لأن الرؤية هنا بصرية، والجملة معطوفة على جملة {يَهِيجُ}. {ثُمَّ} حرف عطف، {يَكُونُ} فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على النبات، {حُطَامًا} خبره. والجملة معطوفة على جملة {تراه}. {وَفِي الْآخِرَةِ} الواو: عاطفة، في الآخرة خبر مقدم، {عَذَابٌ} مبتدأ مؤخر، {شَدِيدٌ} صفة لـ {عَذَابٌ}. والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. {وَمَغْفِرَةٌ} معطوف على {عَذَابٌ}، {مِنَ اللَّهِ} صفة لـ {مغفرة}، {وَرِضْوَانٌ} معطوف على {مغفرة}. {وَمَا} الواو: عاطفة، {ما} نافية، {الْحَيَاةُ} ومبتدأ، {الدُّنْيَا} صفة لـ {الْحَيَاةُ}، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {مَتَاعُ} خبر المبتدأ، {الْغُرُورِ} مضاف إليه. والإضافة فيه بيانية. والجملة معطوفة على ما قبلها. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}. {سَابِقُوا} فعل أمر، وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أسباب المفاخرة الحقيقية التي يصح التفاخر بها. {إِلَى مَغْفِرَةٍ} متعلق بـ {سَابِقُوا}، {مِنْ رَبِّكُمْ} صفة لـ {مَغْفِرَةٍ}، {وَجَنَّةٍ} معطوف على {مَغْفِرَةٍ}، {عَرْضُهَا} مبتدأ، {كَعَرْضِ السَّمَاءِ} جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، {وَالْأَرْضِ} معطوف على {السَمَاوَاتٍ}.

والجملة صفة لـ {جنة}، {أُعِدَّتْ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود إلى الجنّة. والجملة صفة ثانية لـ {جنة}، ويجوز أن تكون مستأنفة. {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {أُعِدَّتْ}، {آمَنُوا} صلة الموصول، {بِاللَّهِ} متعلق بـ {آمَنُوا}، {وَرُسُلِهِ} معطوف على الجلالة. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {يُؤْتِيهِ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهِ}، ومفعول أول، {مَنْ يَشَاءُ} مفعول ثان، وجملة {يَشَاءُ} صلة {من} الموصولة، وجملة {يُؤْتِيهِ} حال من {فَضْلُ اللَّهِ}. {وَاللَّهُ} مبتدأ، {ذُو الْفَضْلِ} خبره، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الْفَضْلِ}. والجملة مستأنفة. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}. {مَا} نافية، {أَصَابَ} فعل ماضي، {مِنْ مُصِيبَةٍ} فاعل، و {مِن} زائدة، وذكّر الفعل لأن المصيبة مجازيّ التأنيث، والجملة الفعلية مستأنفة. {فِي الْأَرْضِ} صفة لـ {مُصِيبَةٍ} أو متعلق بها، أو متعلق بـ {أَصَابَ}، {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} معطوف على في الأرض. {إِلَّا} أداة حصر، {فِي كِتَابٍ} حال من مصيبة لتخصصها بالوصف، أو بالعمل، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: إلا وهي كائنة في كتاب، والجملة أيضًا حال من {مُصِيبَةٍ}. {مِنْ قَبْلِ} متعلق بما تعلق به قوله: {فِي كِتَابٍ}؛ أي: إلا ثابتة في كتاب من قبل أن نبرأها، أو صفة لكتاب؛ أي: كتاب كائن من قبل أن نبرأها، {أَن} حرف نصب ومصدر، {نَبْرَأَهَا} فعل مضارع، ومفعول به، وفاعله ضمير المتكلم المعظم نفسه، يعود على الله سبحانه، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل برئنا إياها. {إِنَّ ذَلِكَ} ناصب واسمه، {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {يَسِيرٌ}، و {يَسِيرٌ} خبره. وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {لِكَيْلَا} اللام: حرف جرّ وتعليل، {كي} حرف نصب ومصدر بمنزلة أن المصدرية وليست للتعليل لئلا يلزم علينا اجتماع حرفي تعليل في معلّل واحد، و {لا} نافية {تَأْسَوْا} فعل مضارع منصوب بكي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أعلمناكم ذلك أو أخبرناكم لكيلا تأسوا؛ أي لعدم أساكم. {عَلَى مَا} جار ومجرور، متعلق بـ {تَأْسَوْا}، {فَاتَكُمْ} فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على {مَا}، ومفعول به،

والجملة صلة لـ {ما} الموصولة. {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}. {وَلَا تَفْرَحُوا} فعل وفاعل، معطوف على {تَأْسَوْا}، و {لَا} نافية، {بِمَا} متعلق بـ {تَفْرَحُوا}، وجملة {آتَاكُمْ} صلة لـ {ما} الموصولة، ومتعلق {فَاتَكُمْ} و {آتَاكُمْ} محذوف، تقديره: من النعم. {وَاللَّهُ} مبتدأ، وجملة {لَا يُحِبُّ} خبره. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {كُلَّ مُخْتَالٍ} مفعول به، {فَخُورٍ} نعت مختال، {الَّذِينَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ}؛ أي: لا يحب الذين يبخلون، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين يبخلون، أو منصوب على الذمّ، وجملة {يَبْخَلُونَ} صلة الموصول. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ} فعل، وفاعل، ومفعول معطوف على {يَبْخَلُونَ}، {بِالْبُخْلِ} متعلق بـ {يأمرون}، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} الواو: استئنافية، {من} اسم شرط جازم في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما، {يَتَوَلَّ} فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذت حرف العلّة. {فَإِنَّ اللَّهَ} {الفاء} رابطة لجواب {مَن} الشرطة وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية: {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {هُوَ} ضمير فصل، وفي قراءة سقوطه وهو مما يرجح كونه فصلًا لا مبتدأ، {الْغَنِيُّ} خبر {إن}، {الْحَمِيدُ} خبر ثان لها، والجملة الاسمية في محل الجزم على كونها جوابًا لمن الشرطية، وجملة من الشرطية مستأنفة. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}. {لَقَدْ} اللام: موطئة للقسم، {قَدْ} حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا} فعل، وفاعل، {رُسُلَنَا} مفعول به، {بِالْبَيِّنَاتِ} حال من {رُسُلَنَا}؛ أي: حال كونهم مؤيدون بالمعجزات، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {وَأَنْزَلْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {مَعَهُمُ} ظرف متعلق بمحذوف حال مقدرة من {الْكِتَابَ}، و {الْكِتَابَ} مفعول به؛ أي: وأنزلنا الكتاب حال كونه آيلًا وصائرًا،

لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض. {وَالْمِيزَانَ} معطوف على الكتاب، {لِيَقُومَ} اللام: حرف جرّ وتعليل، {يقوم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، {النَّاسُ} فاعل، {بِالْقِسْطِ} متعلق بـ {يقوم}. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لقيام الناس بالقسط، الجار والمجرور متعلق بـ {أنزلنا} و {أَرْسَلْنَا}. لأنه علة للإرسال والإنزال. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {فِيه} خبر مقدم، {بَأْسٌ} مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب حال من {الْحَدِيدَ}؛ أي: فيه قوة ومنعة، {شَدِيدٌ} وصفة {وَمَنَافِعُ} معطوف على بأس، {لِلنَّاسِ} صفة لـ {منافع}، {وَلِيَعْلَمَ} الواو: عاطفة على محذوف، واللام: حرف جرّ وتعليل، {يعلم} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، {اللهُ} فاعل، و {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَنْصُرُهُ} صلة لمن، {وَرُسُلَهُ} معطوف على الهاء؛ أي: وينصر رسله أيضًا، {بِالْغَيْبِ} حال من مفعول ينصره؛ أي: غائبًا عنهم غير مرئيّ لهم في الدنيا، وجملة {يَعْلَمَ} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على تعليل محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: وأنزلنا الحديد ليستعملوه وينتفعوا به وليعلم الله علمًا يتعلق بالجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح في مجاهدة أعدائه، أو معطوف على قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. والأوّل أولى خلافًا لما قاله الشوكاني كما مرّ؛ لأن هذا ليس علة للإرسال. {إِنَّ اللهَ} ناصب واسمه، {قَوِيٌّ عَزِيزٌ} خبران له، والجملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)}. {وَلَقَدْ} {الواو}: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {أَرْسَلْنَا نُوحًا} وفعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم السابق. {وَإِبْرَاهِيمَ} معطوف على {وَجَعَلْنَا}، {وَجَعَلْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {أَرْسَلْنَا}، {في ذُرِّيَّتِهِمَا} في موضع المفعول الثاني لـ {جعلنا}، {النُّبُوَّةَ} مفعول أوّل لـ {جعلنا}، {وَالْكِتَابَ} معطوف على {النُّبُوَّةَ}، {فَمِنْهُمْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت

إرسالنا، وجعلنا المذكور وأردت بيان مآلهم بعد ذلك فأقول لك. {مِنْهُمْ} خبر مقدم، {مُهْتَدٍ} مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَكَثِيرٌ} مبتدأ، {مِنْهُمْ} صفة لـ {كثير}، {فَاسِقُونَ} خبره. والجملة معطوفة على قوله: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ}. {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {قَفَّيْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {جعلنا}، {عَلَى آثَارِهِمْ} متعلق بـ {قَفَّيْنَا}، {بِرُسُلِنَا} مفعول به لـ {قَفَّيْنَا}، والباء: زائدة، {وَقَفَّيْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {قَفَّيْنَا} الأول، {بِعِيسَى} مفعول به، والباء: زائدة، {ابْنِ مَرْيَمَ} صفة لـ {عيسى}، {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} فعل، وفاعل، ومفعولان معطوف على {قَفَّيْنَا} الثاني، {وَجَعَلْنَا} فعل وفاعل، معطوف على {آتيناه}، {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ} جار ومجرور، ومضاف إليه في موضع المفعول الثاني لـ {جعلنا}، {اتَّبَعُوهُ} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {رَأْفَةً} مفعول أول لـ {جعلنا} {وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} معطوفان على {رَأْفَةً} {ابْتَدَعُوهَا} وفعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة صفة لـ {رهبانية}. ويجوز أن يكون {رهبانية} منصوبًا على الاشتغال بفعل محذوف يفسّره المذكور بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانية، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {جعلنا}. وجملة {ابْتَدَعُوهَا} جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. والرهبانية: رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، واتخاذ الصوامع. {مَا} نافية، {كَتَبْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول به {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {كتبنا}. والجملة صفة ثانية لـ {رهبانية} أو مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء {ابْتِغَاءَ} منصوب على الاستثناء، إن قلنا: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أو منصوب على أنه مفعول لأجله إن قلنا: إن الاستثناء متصل؛ أي: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله تعالى، ويكون {كتب} بمعنى قضى. {رِضْوَانِ اللَّهِ} مضاف إليه، {فَمَا} الفاء: عاطفة، {ما} نافية، {رَعَوْهَا} فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {ابْتَدَعُوهَا}، {حَقَّ رِعَايَتِهَا} منصوب على المفعولية المطلقة، {رِعَايَتِهَا} مضاف

إليه، {فَآتَيْنَا} الفاء: عاطفة، {آتَيْنَا الَّذِينَ} فعل، وفاعل، ومفعول أول، معطوف على قوله: {فَمَا رَعَوْهَا}. {آمَنُوا} فعل، وفاعل، صلة الموصول، {مِنْهُمْ} حال من الموصول، {أَجْرَهُمْ} مفعول ثان لـ {آتَيْنَا}، {وَكَثِيرٌ} الواو: استئنافية، {كثير} مبتدأ، {مِنْهُمْ} صفة له، {فَاسِقُونَ} خبر، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا} حرف نداء، {أي} منادى نكرة مقصودة، والهاء: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ} صفة لـ {أيّ} أو بدل منه، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا} فعل ماض، وفاعل والجملة صلة الموصول، {اتَّقُوا اللَّهَ} فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَآمِنُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {اتَّقُوا}، {بِرَسُولِهِ} متعلق بـ {وَآمِنُوا} {يُؤْتِكُمْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة. والجملة جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب، {كِفْلَيْنِ} مفعول ثان لـ {يُؤْتِكُمْ}، {مِنْ رَحْمَتِهِ} صفة لـ {كِفْلَيْنِ}، {وَيَجْعَلْ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {يُؤْتِكُمْ} {لَكُمْ} متعلق بـ {يَجْعَلْ} وهو في موضع المفعول الثاني، {نُورًا} مفعول أول لـ {يجعل}، وجملة {تَمْشُونَ بِهِ} صفة لـ {نُورًا}، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} معطوف على {يُؤْتِكُمْ} أيضًا، {لَكُمْ} متعلق بـ {يغفر}. {وَاللَّهُ} مبتدأ، {غَفُورٌ} خبر أول، {رَحِيمٌ} خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. {لِئَلَّا} اللام: حرف جر وتعليل، {أن} حرف مصدر ونصب، و {لا} زائدة، {يَعْلَمَ} فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، {أَهْلُ الْكِتَابِ} فاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لعلم أهل الكتاب، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: إن تتقوا الله، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لعلم أهل الكتاب؛ أي: ليعلموا. {أَلَّا يَقْدِرُونَ} {أن} مخففة من الثقيلة،

واسمها ضمير الشأن، {لا} نافية، {يَقْدِرُونَ} فعل وفاعل، {عَلَى شَيْءٍ} متعلق بـ {يَقْدِرُونَ}، {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} صفة لـ {شَيْءٍ}، وجملة {لَا يَقْدِرُونَ} في محل الرفع خبر {أن} المخففة، وجملة {أن} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {علم}؛ أي: فعلنا ذلك بكم ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله. {وَأَنَّ الْفَضْلَ} ناصب واسمه، {بِيَدِ اللَّهِ} خبره، وجملة أن معطوفة على {أَلَّا يَقْدِرُونَ}، داخل في حيز المعلوم. وجملة {يُؤْتِيهِ} مستأنفة، أو خبر ثان لـ {أنّ}، والهاء مفعول أول لـ {يُؤْتِيهِ}؛ لأنّه بمعنى أعطى. {من} اسم موصول مفعول ثان ليؤتيه، جملة {يَشَاءُ} صلته. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ} مبتدأ وخبر، {الْعَظِيمِ} صفة لـ {الْفَضْلِ}، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. التصريف ومفردات اللغة {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرىء بتشديد الصاد والدال فيهما اسم فاعل من تصدق الخماسي من باب تفعل، وأصله: المتصدّقين والمتصدّقات أبدلت التاء صادًا، ثم أدغمت في الصاد فاء الكلمة. وقرىء {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} بتخفيف الصاد فيهما اسم فاعل من صدّق الرباعي من باب فعّل المضعّف العين. {قَرْضًا حَسَنًا} مصدر حذفت زوائده، أصله: إقراضًا حسنًا نظير قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}؛ أي: إنباتًا، والإقراض الحسن: هو عبارة عن الدفع بالمال الطيّب بطيب نفس، وخلوص نيّة ابتغاء مرضاة الله تعالى، لا يريدون جزاء ممن أعطوه. {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} جمع صديق، وهو من أوزان المبالغة ولا يجيء إلا من ثلاثي غالبًا، اهـ سمين. وفرقوا بين الصديق، والصادق بأن الصادق كالمخلص بالكسر من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقًا كالرياء، والسمعة والصديق كالمخلص بالفتح من تخلص أيضًا عن شوائب الغيرية، والثاني أوسع فلكًا، وأكثر إحاطة، فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس، اهـ من الروح. {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} واللعب: إتعاب النفس بلا فائدة كفعل الصبيان، واللهو: شغل النفس عما يهمك من أعمال الآخرة، والتفاخر بالأنساب والأحساب، والفخر:

المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان: كالمال والجاه. {كَمَثَلِ غَيْثٍ} والغيث: المطر المحتاج إليه؛ لأنّه يغيث الناس من الجدب عند قلة المياه، فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر؛ فإنه عام. {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ}؛ أي: الحرّاث والزرّاع. قال الأزهري: والعرب تقول للزارع: كافر؛ لأنه يكفر؛ أي: يستر بذره بتراب الأرض، والكفر في اللغة: التغطية، ولهذا سمي الكافر كافرًا؛ لأنه يغطي الحق بالباطل، والكفر أيضًا: القبر لسترها الناس. {ثُمَّ يَهِيجُ} يقال: هاج النبت هيجًا وهيجانًا، وهياجًا بالكسر إذا يبس، والهائجة: أرض يبس بقلها أو اصفر، وأهاجه أيبسه وأهيجها وجدها هائجة للنبات. {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} قال في "القاموس": الحطم: الكسر أو خاص باليابس. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أصله: أعتدت، قلبت التاء دالًا فأدغمت الدال في الدال فصار أعدت؛ أي: هيئت. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} والمصيبة أصلها في الرمية، يقال: أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى الصواب، ثم اختص بالنائبة والحادثة. وأصل {أَصَابَ} أصوب بوزن أفعل، نقلت حركة {الواو} إلى الصاد، فسكنت لكنها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {مُصِيبَةٍ} أصله: مصوبة بوزن مفعلة اسم فاعل من أصاب الرباعي، نقلت حركة {الواو} إلى الصاد فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد. {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} مضارع منصوب بحذف النون، والواو: فاعل. وأصله: تأسيون، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصارت تأساون، فالتقى ساكنان: الألف والواو التي هي الفاعل، فحذفت لالتقاء الساكنين، فصار وزنه تفعون؛ لأن لامه التي هي الياء المنقلبة ألفًا قد حذفت. والمصدر أسى مقصور، فيقال: أسي أسًى مثل: جوي جوًى من باب تعب. فقول بعض النحاة عند الاستشهاد بهذه الآية في باب النواصب. والتقدير: لأجل عدم إساءتكم فيه نظر؛ لما علمت من أن مصدر هذا الفعل أسًى لا إساءة، اهـ شيخنا. وفي "المصباح": أسي أسًى من باب تعب حزن، فهو أسي على فعيل مثل: حزين اهـ. وفي "المختار": وأسي على مصيبته من باب عدا أي: حزن، وأسي له أي: حزن له، اهـ.

{مَا فَاتَكُمْ} فيه إعلال بالقلب، أصله: فوتكم تحركت {الواو} انفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار فاتكم. {آتَاكُمْ} فيه إعلالان، أصله: أأتيكم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {مُخْتَالٍ} اسم فاعل من اختال من باب افتعل الخماسي، أصله: مختيل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والمختال: هو المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه. والفخور: هو المباهي بالأشياء العارضة: كالمال والجاه، وهو صيغة مبالغة. {بِالْبُخْلِ} والبخل: إمساك المال عما يجب إخراجه فيه. {وَالْمِيزَانَ} أصله: موزان بوزن مفعال، من الوزن قلبت {الواو} ياء حرف مد لسكونها إثر كسرة. {قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} والتقفية: جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار، ولهذا قيل لمقاطع الشعر: قواف. إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة على منهاجه. وفي المختار: وقفا أثره اتبعه، وبابه عدا، وقفى على أثره بفلان أي: أتبعه إياه، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا}، ومنه الكلام المقفى. {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} والمراد من الرأفة: دفع الشر، ومن الرحمة: جلب الخير، وبذا يكون بينهم مودة. {وَرَهْبَانِيَّةً} والرهبانية: المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس. وهي هنا عبارة عن ترهبهم في الجبال فارّين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة متحملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف. منسوبة إلى الرهبان بفتح الراء، وهو المبالغ في الخوف من رهب، كالخشيان من خشي، ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف فإن الرهبة: مخافة مع تحزن واضطراب، كما في "المفردات". وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقرئت بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع واهب كراكب وركبان. وعبارة "القاموس": والراهب واحد رهبان النصارى، ومصدره الرهبة والرهبانية، أو الرهبان بالضم قد يكون واحدًا، وجمعه راهبين ورهابنة ورهبانون. ولا رهبانية في الإِسلام، هي كالإخصاء، واعتناق السلاسل، ولبس

المسوح، وترك اللحم، ونحوها، اهـ. {ابْتَدَعُوهَا} استحدثوها، ولم تكن في دينهم. {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}؛ أي: طلبًا لرضاه، ومحبته، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: ابتغاى أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {فَمَا رَعَوْهَا}؛ أي: ما حافظوا عليها، أصله: رعيوها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {كِفْلَيْنِ}؛ أي: نصيبين ضخمين. والكفل: الحظ. قال المؤرخ السدوسي: الكفل: النصيب بلغة هذيل. وقال غيره: بل بلغة الحبشة. وقال المفضل الضبي: أصل الكفل: كساء يديره الراكب حول سنام البعير، ليتمكن من القعود عليه، والنوم إذا أراده، فيحفظه من السقوط، ففيه حظ من التحرز. {تَمْشُونَ} أصله: تمشيون بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الشين لمناسبة الواو. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه البليغ في قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فقد حذف أداة التشبيه تنبيهًا على قوة المماثلة، وبلوغها حد الاتحاد، كما فعل ذلك أوّلًا حيث قال: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ}. وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور، وبين تمام ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فيحصل التفاوت، كذا في "روح البيان"، فراجعه إن شئت. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ...} الآية، حيث مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها، وقلة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى، وأعجب به الحراث. فوجه التشبيه منتزع من متعدد. ومنها: الطباق في قوله: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ...} إلخ، فقد طابق بين العذاب والمغفرة في قوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} ولكنه طابق بين واحد وشيئين،

فهو من باب: لن يغلب عسر بين يسرين، وسيأتي تفصيله في سورة الانشراح. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}؛ أي: إلا كالمتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج، والخزف في كونه مزخرف الظاهر فحذف الأداة ووجه الشبه. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} حيث شبه مبادرتهم إلى الطاعات بمسابقة الفرسان في الميدان. ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: {إِلَى مَغْفِرَةٍ}. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ}. ومنها: التشبه في قوله: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تمثيلًا للعباد بما يعقلون، ويقع في نفوسهم. ومنها: تقديم المغفرة على الجنة في قوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} إلخ، لتقدم التخلية على التحلية. ومنها: الاقتصار على الإيمان في قوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إشعارًا بأن مجرد الإيمان كاف في استحقاق الجنة. إذ لم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر، ولكن الدرجات مختلفة باختلاف الأعمال. ومنها: المقابلة في قوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. ومنها: تخصيص التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذانًا بأنه أقبح من الأسى. ومنها: الجناس المغاير بين {يَبْخَلُونَ} و {البخل} في قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}. ومنها: التهديد في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} لتغير الشكل وبعض الحروف.

ومنها: السجع المرصع كأنه الدر المنظوم في قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة 1 - صفات الله وأسماؤه الحسنى، وظهور آثاره في بدائع خلقه. 2 - الحض على الإنفاق. 3 - بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة. 4 - ثواب المتصدقين الذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا. 5 - ذم الدنيا وأنها لهو ولعب. 6 - الترغيب في الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها. 7 - التسلية على المصايب. 8 - ذم الاختيال والفخر والبخل. 9 - الحث على العدل. 10 - الاعتبار بالأمم السالفة. 11 - قصص نوح وإبراهيم. 12 - إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم، وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يضاعف لهم الأجر عند ربهم. 13 - الله يصطفي من رسله من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) والحمد لله أوّلًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وسرًّا وجهرًا على إتمام تفسير هذه الجزء السابع والعشرين، لقد بذلت جهدي، وطاقتي على حسب القوى البشرية في تلخيصه وتهذيبه وتنقيحه، فرحم الله أمرءًا نظر فيه بعين الإنصاف، فسامح ووقف في التصحيح على خطأ فأصلح، وأعوذ بالله من حاسد إذا حسد وبغى، واستغفره جل اسمه من قلم زل، وسهى أو حرف شيئًا عن موضعه وطغى، وهو حسبي ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا =

شعرٌ العَفْوُ يُرُجَى مِنْ بَنِي آدَمٍ ... فَكَيْفَ لَا أَرْتَجِي مِنْ رَبِّيْ فَإِنَّهُ أَرْأَفُ بِيْ مِنْهُمْ ... حَسْبِي بِهِ حَسْبِيْ بِهِ حَسْبِيْ آخرُ يَا مَنْ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيءٍ بِيَدِهْ ... طُوْبَى لِمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْرًا لِغَدِهْ آخرُ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا ... إِلَّا مَا ألْهَمْتَ لَنَا سُبْحَانَكَ بِعَدِّ مَا ... سَيَكُوْنُ وَكَانَا ¬

_ = وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمكة المكرمة في المسفلة، حارة الرشد، أواخر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من رمضان الليلة الثانية والعشرين منه، من شهور سنة خمس عشرة بعد الأربع مئة والألف 22/ 9/ 1415 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيّات. تَمَّ بعون الله وتوفيقه المجلد الثامن والعشرون من تفسير "حدائق الروح والريحان"، ويليه المجلد التاسع والعشرون، وأوله سورة المجادلة.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [29]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شعرٌ جَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِي ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ آخرُ الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ وَرُبَّمَا نِيْلَ باصطبَارٍ ... مَا قِيْلَ: هَيْهَاتَ لَا يَكُوْنُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مُسجَّلِهِ ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم بلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وأصحابه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان. أما بعدُ: فيقول العبد الفقير المعترف بذنبه وخطأه، المنادي لربه في عفوه وعطاه، الراجي في إسبال سجاف الندى عليه، المناجي في إرسال رسول الهدى إليه، حفظه الله سبحانه وأخلاءه وأعاذه وإياهم من الشيطان الرجيم، وجعل يومه خيرًا من أمسه إلى الإياس من حياة نفسه سمّي محمد الأمين الهرري: إني لمّا فرغت من تفسير الجزء السابع والعشرين من القرآن الكريم عزمت - إن شاء الله تعالى - على الشروع في تفسير الجزء الثامن والعشرين، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كلّ أمير وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل كالنيرين لغير كليل، ومع خطر هذا الأمر فالأمد قصير، وفي العبد تقصير وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشارب وان كانت ماء الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب العاهات، وأي نعيم لا يكدره الدهر؟ هيهات، هيهات: مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيْرَةٌ لَا تَنْقَضِيْ ... وَسُرُوْرُهُ يَأْتِيْكَ كَالأَعْيَادِ اللهم: كما عوّدتني في الأول خيرًا كثيرًا فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه يوم تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات صحائف أعمالي بحق كتابك الكريم، واعف عني بكل حرف كتبته منه ألف ألف سيئة، واكتب لي بكل حرف رقمته منه ألف ألف حسنة، وارفع لي بكل سطر سطرته

سورة المجادلة

منه ألف ألف درجة في فراديس جنتك ودار كرامتك، ولم أكن بدعائك رب شقيًا بكرةً وعشيًا ما دمت حيًا، ذلك الحمد - يا إلهي - في الأولى والأخرى على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وبتوفيقه أقول، وقولي هذا: سورة المجادلة سورة المجادلة نزلت بعد المنافقون، وهي مدنيَّةٌ، قال القرطبي: في قول الجميع إلَّا روايةً عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكّي. وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة إلا قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}. فنزلت بمكّة. وهي اثنتان وعشرون آية وأربع مئة وثلاث وسبعون كلمة، وألف وسبع مئة واثنتان وتسعون حرفًا. التسميةُ: سميت بالمجادلة - بكسر الدال، اسم فاعل على الأصح كما سيأتي عن الشهاب - لبيانها قصة المرأة المجادلة - خولة بنت ثعلبة - في شأن زوجها الذي ظاهر على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار منها. المناسبةُ: مناسبتها لما قبلها من وجهين (¬1): 1 - أن الأولى ختمت بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي. 2 - أنه ذكر في مطلع الأولى صفاته الجليلة، ومنها: الظاهر والباطن، وذكر في مطلع هذه أنّه سميع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى. الناسخُ والمنسوخُ فيها: قال محمد بن حزم: سورة المجادلة كلها محكم إلا آية واحدة؛ وهي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...} الآية (12) من المجادلة، نسخت بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ...} الآية (13). فنسخ الله تعالى ذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة لله وللرسول. ¬

_ (¬1) المراغي.

سبب نزولها: ما أخرجه أحمد في "المسند" عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه كل الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجلّ: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا ...} إلى آخر الآية". وأخرجه البخاري تعليقًا، والنسائي وابن ماجه وابن جرير والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السابقة. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما:

أن الله سبحانه لما ذكر أحكام كفّارة الظهار، وبين أنه إنما شرعها تغليظًا على الناس حتى يتركوا الظهار - وقد كان ديدنهم في الجاهلية - ويتبعوا أوامر الشريعة، ويلين قيادهم لها، ويخلصوا لله ربهم في جميع أعمالهم، فتصفو نفوسهم وتزكو بصالح الأعمال .. أردف هذا ببيان أنّ من يشاق الله ورسوله، ويعصي أوامره يلحق به الخزي والهوان في الدنيا، وله في الآخرة العذاب المهين في نار جهنم، ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد، فبين أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بمناجاة المتناجين، فإن كانوا ثلاثة .. فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة .. فهو سادسهم، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر .. فهو معهم أينما كانوا، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم وسينبئكم بها عند العرض والحساب، وحين ينصب الميزان، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه لمّا ذكر أنّه عليم بالسر والنجوى، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل، ومجازيهم على ما يكون به التناجي .. خاطب رسوله معجبًا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لما نهوا عنه، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاؤوا الرسول .. حيوه بغير تحية الله، فيقولون: السام عليك - يريدون الموت، ثم يقولون في أنفسهم: لو كان رسولًا .. لعذبنا الله؛ للاستخفاف به، وإن جهنم لكافية جدّ الكفاية لعذابهم، ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم، بل يتناجون بالبرّ والتقوى. ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان، ولن يضيرهم شيء منه إلا بإذن الله، فعليه فليتوكلوا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببًا للتباغض من التناجى بالإثم والعدوان .. أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعضٍ، من التوسع في المجالس حين إقبال الوافد، والانصراف إذا طلب ¬

_ (¬1) المراغي.

منكم ذلك. فإذا فعلتم ذلك .. رفع الله سبحانه منازلكم في جناته، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنه لما كان المؤمنون يتنافسون في القرب من مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسماع أحاديثه ولمناجاته في أمور الذين، وأكثروا في ذلك حتى شق عليه - صلى الله عليه وسلم -، وشغلوا أوقاته التي يجب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربّه في خلواته .. أمرهم الله سبحانه وتعالى بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه؛ لما في ذلك من منافع ومزايا: 1 - إعظام الرسول، وإعظام مناجاته؛ فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزله ورفعة شأن. 2 - نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة. 3 - وتمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا من المؤمنين حق الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم. قال ابن عباس: أكثروا المسائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفّف عن نبيه، وأنزل هذه الآيات، فكفّ كثير من الناس عن المناجاة. أسباب النزول قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات (¬1): ما أخرجه الحاكم، وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع لام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. فما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان، قال: (كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكرهه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى فلم ينتهوا، فأنزل الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ...} الآية. قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه أحمد، والبزار والطبراني بسند جيّد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذّبنا الله بما نقول. فنزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ ...} الآية. وفي الباب عن أنس وعائشة. قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ويَكْبُر عليهم، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ...} الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير - أيضًا - عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلًا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر وفي المكان ضيق فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام - صلى الله عليه وسلم - نفرًا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ ...} الآية فلما نزلت صبر كثير من الناس، وكفوا عن المسألة، فأنزل الله ذلك: {أَأَشْفَقْتُمْ ...} الآية. وأخرج الترمذي - وحسنه - وغيره عن علي قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}. قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ترى دينارًا"؟ قلت: لا يطيقونه، قال: "فنصف دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فكم"؟

[1]

قلت: شعيرة، قال: "إنك لزهيد"؟ فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ...} الآية. فخفف الله عن هذه الأمّة. قال الترمذي: حسن. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، وأجاب: {قَوْلَ الَّتِي}؛ أي: دعاء المرأة التي {تُجَادِلُكَ} وتخاصمك وتراجعك أيّها الرسول الكريم الكلام {فِي} شأن {زَوْجِهَا} أوس بن الصامت. واسمها خولة بنت ثعلبة - كما مرّ - وتلك المجادَلة: أنّها كلما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمت عليه" .. كانت تقول: والله ما ذكر طلاقًا؛ أي: أجاب الله سبحانه دعاءها؛ بأن أنزل سبحانه حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها. و {سَمِعَ} هنا مجاز مرسل (¬1) عن أجاب بعلاقة السببية. والمجادلة: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، والمراد هنا: المكالمة ومراجعة الكلام؛ أي: معاودته. والمعنى: أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تكالمك في حق زوجها استفتاء، وتراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من ظهاره إياها بغير وجه مشروع وسبب مقبول. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {قَدْ سَمِعَ} بإدغام الدال في السين. وقرأ الجمهور بالإظهار. قال خلف بن هشام البزار: سمعت الكسائي يقول: من قرأ {قَدْ سَمِعَ} فأظهر الدال عند السين .. فلسانه أعجمي ليس بعربيّ. ولا يلتفت إلى هذا القول؛ لأن الجمهور على الإظهار. {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} سبحانه: عطف على {تُجَادِلُكَ}؛ أي: تتضرع إلى الله تعالى، وتظهر ما بها من المكروه والمشقة. وفي (¬2) ذكر {قَدْ} إشعار بأن الرسول والمجادلة كانا يتوقعان أن ينزل الله حكم الحادثة، ويفرج عنها كربها؛ لأنها إنما تدخل على ماض متوقع. وقد مرّ لك أن المجادلة هي خولة بنت ثعلبة بن مالك بن خزاعة الخزرجية، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة. روي: أنّها كانت حسنة البدن، فرآها أوس وهي تصلي، فاشتهى مواقعتها، فلما سلمت .. راودها فأبت وكان به خفّة عقل - فغضب عليها بمقتضى البشرية، وقال: أنت عليّ كظهر أمي - وكان أول ظهار وقع في الإِسلام - ثم ندم على ما قال، بناء على أن الظهار والإيلاء كانا من طلاق الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلى وقد حرمت علي، فشقّ ذلك عليها، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه - فقالت: يا رسول الله! إن زوجي أوس بن الصامت، أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إلي، ظاهر مني وما ذكر طلاقًا، وقد ندم على فعله، فهل من شيء يجمعني وإياه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" فقالت: لا تقل ذلك يا رسول الله، وذكرت فاقتها ووحدتها بتفاني أهلها، وأن لها صبية صغارًا، فقالت: إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا. فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله الأول وهو: "حرمت عليه" فجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالتها الأولى، وكلما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمت عليه" هتفت، وقالت: أشكو إلى الله مما لقيت من زوجي حال فاقتي ووحدتي، وقد طالت معه صحبتي ونفضت له بطني؛ تريد بذلك: أني قد بلغت عنده سنّ الكبر وصرت عقيمًا لا ألد بعد، وكانت في ذلك ترفع رأسها إلى السماء على ما هو عادة الناس استنزالًا للأمر الإلهي من جانب العرش وتقول: اللهم أنزل على لسان نبيك، فقامت عائشة تغسل الشق الآخر من رأسه - صلى الله عليه وسلم -، وهي ما زالت في مراجعة الكلام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبث الشكوى إلى الله سبحانه حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات الأربع سمعًا لدعائها وقبولًا لشكواها، وكانت سببًا لظهور حكم الظهار. وجملة قوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} في محل نصب على الحال من الجلالة، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها، كما سيأتي؛ أي: والله يعلم (¬1) تراجعكما في الكلام، وتخاطبكما، وتجاوبكما في أمر الظهار. فإن التحاور بمعنى التجاوب، وهو رجع الكلام وجوابه من الحور؛ بمعنى: الرجوع. وذلك كان برجوع الرسول إلى الحكم بالحرمة مرة بعد أخرى، وبرجوع المجادلة إلى طلب التحليل كذلك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ومثله: المحاورة في البحث ومنه قولهم في الدعاء: نعوذ بالله من الحور بعد الكور؛ أي: الرجوع إلى النقصان بعد الوصول إلى الزيادة، أو إلى الوحشة بعد الإنس. وقال الراغب: الحور: التردد، إما بالذات وإما بالتفكر. وقيل: نعوذ بالله من الحور بعد الكور؛ أي: من التردد في الأمر بعد المضي فيه، أو من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده. وفي نظمها في سلك الخطاب مع أفضل البريّات تغليب، إذ القياس: تحاورها وتحاورك، تشريفًا لها من جهتين. والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبلها كما مرّ آنفًا. فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله، ومدافعته عليه السلام إياها بجواب منبىء عن التوقف وترقب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما .. من دواعي الإحابة. وفي "كشف الأسرار": ليس هذا تكرارًا؛ لأن الأول لما حكته عن زوجها، والثاني لما كان يجري بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الأول ماضٍ، والثاني مستقبل. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ}؛ أي: مبالغ في السمع، يسمع كل مسموع. {بَصِيرٌ}؛ أي: مبالغ في الإبصار يبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة؛ أي: ومن قضيته أن يسمع تحاورهما، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع. وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمه أحد سوى ربه، وصدق في دعائه وشكواه .. كفاه الله في ذلك، ومن كان أضعف .. فالرب به ألطف. ولقد أجاد من قال: يَا مَنْ يَرَى مَا فِيْ الضَّمِيْرِ وَيَسْمَعُ ... أنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا ... يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ مَا لَي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيْلَةٌ ... وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ حَاشَا لِجُوْدِكَ أَنْ تُقَنِّطَ عَاصِيًا ... الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ وقد شاهدنا مشهدًا عجيبًا في إجابة الدعاء عند قراءة هذه الأبيات في الشدائد والنوائب، وفي المعارك.

[2]

وفي الآية أيضًا: أن من استمع الله ورسوله والورثة إلى كلامه .. فسائر الناس أولى. روي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بهذه المرأة في خلافته، وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلًا ووعظته، وقالت: يا عمر! قد كنت تدعى عميرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر؛ فإنه من أيقن الموت .. خاف الفوت، ومن أيقن الحساب .. خاف العذاب. وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف الطويل؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! ثم اعلم: أنه من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول في جوابه: عليك نفسك؛ أي: الزم نفسك، أنت تأمرني بهذا؟! وذلك لأنه إذا ذكر اسم الله .. يلزم التعظيم له، سواء صدر من مسلم أو كافر، وأعلم الناس لا يستغني عن تنبيه وإيقاظ، وقد قيل: اللائق بالعاقل أن يكون كالنحل يأخذ من كل شيء ثم يخرجه عسلًا، فيه شفاء من كل داء، وشمعًا له منافع لا سيما الضياء، فطالب الحكمة يأخذها من كل مقام سواء قعد أو قام. الْمَرْءُ لَوْلَا عُرْفُهُ فَهُوَ الدُّمَى ... وَالْمِسْكُ لَوْلَا عَرْفُهُ فَهُوَ الدَّمُ العرف الأول - بالضم - بمعنى المعروف، والثاني - بالفتح -: الرائحة الطيبة. والدمى - بضم الدال وفتح الميم -: جمع دمية، كالدجى جمع دجية، وهي الصورة المنقشة من رخام أو عاج. ومعنى الآية: أي قد قبل الله سبحانه شكوى المرأة التي تجادلك يا محمد في شأن زوجها، وبثت أمرها إلى ربها، وسمع ما سمع من تحاورها معك، والله سميع لما يقال، خبير بحال عباده، فأنزل فيها ما أزال غصتها، وفرج كربتها، وأقر به عينها، وبلّ به ريقها، وأرجع إلى كنفها صبيتها الذين كانوا مصدر شقوتها، وبهم اغتسلت - تعللت واحتجت - على رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه، وذكر حكمه، فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون؛ أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم كتحريم الله عليهم ظهور

أمهاتهم، فلا يلحق بهم الذمي؛ لأنه ليس من أهل الكفارة لغلبة جهة العبادة فيها، فلا يصح ظهاره؛ أي: الذين يقع منهم الظهار {مِنْ نِسَائِهِمْ}؛ أي: من زوجاتهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي يريد: أنك علي حرام كما أن أمي عليّ حرام، مخطئون فيما صنعوا. ثم بيّن وجه خطئهم بقوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ...} إلخ. وفي "فتح الرحمن": قال ذلك هنا، وقال بعده: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} لأنّ الأوّل خطاب للعرب خاصة، وكان طلاقهم في الجاهلية الظهار، والثاني بيان أحكام الظهار للناس عامة، انتهى. وهذا شروع في بيان الظهار نفسه (¬1)، وحكمه المترتب عليه شرعًا بطريق الاستئناف. والظهار لغة: مصدر ظاهر الرجل؛ أي: قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، والظهر: العضو، والجارحة، ويعبر عن البطن بالظهر؛ أي: أنت عليّ حرام كبطن أمي؛ أي: فكنّى عن البطن بالظهر الذي هو عمود البطن لئلا يذكر ما يقارب الفرج، تأدبًا. واعلم: أنه ألحق الفقهاء بالظهر نحو البطن والفخذ والفرج، مما يحرم النظر إليه من الأم، فمن قال: أنت عليّ كبطن أمي أو فخذها أو فرجها .. كان ظهارًا، بخلاف مثل اليد أو الرجل، وكذا ألحقوا بالأم سائر المحارم، فلو وضع المُظاهر مكان الأم ذات رحم محرم منه من نسب، كالخالة والنعمة، أو رضاع، أو صهر .. كان ظهارًا؛ مثل أن يقول: أنت عليّ كظهر خالتي أو عمتي أو أختي، نسبًا أو رضاعًا، أو كظهر امرأة أبي أو ابني. ولو شبّهها بالخمر أو الخنزير أو الدم أو الميتة، أو قتل المسلم، أو الغيبة أو النميمة، أو الزنا، أو الربا، أو الرشوة .. فإنه ظهار إذا نوى. وفي أنت عليّ كأمي: صح نية الكرامة؛ أي: استحقاق البرّ، فلا يقع طلاق ولا ظهار، وصح نية الظهار؛ بأن يقصد التشبيه بالأمّ في الحرمة .. فيترتب عليه أحكام الظهار لا غير. ونية الطلاق؛ بأن يقصد إيجاب الحرمة، فإن لم ¬

_ (¬1) روح البيان.

ينو شيئًا .. لغا. وأنت عليّ حرام كأمي: صحّ فيه ما نوى من ظهار أو طلاق أو إيلاء، ولو قال: أنت أمي أو أختي أو بنتي، بدون التشبيه .. فهو ليس بظهار، يعني: إن قال: إن فعلت كذا فأنت أمي، ففعلته .. فهو باطل وإن نوى التحريم. ولو قالت لزوجها: أنت عليّ كظهر أمّي .. فإنه ليس بشيء، وقال الحسن: إنه يمين. والكلام على الظهار مبسوط في كتب الفروع، فراجعها إن أردت الخوض فيه. وفي إيراد (¬1) {مِنكُم} مع كفاية {مِنْ نِسَائِهِمْ} مزيد توبيخ للعرب، وتقبيح لعادتهم في الظهار، فإنه كان من أيمان جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم، فلا يليق بهم بعد الإِسلام أن يراعوا تلك العادة المستهجنة، فكأنه قيل: منكم على عادتكم القبيحة المستنكرة. ويحتمل أن يكون لتخصيص نفع الحكم الشرعي للمؤمنين بالقبول والاقتداء به؛ أي: منكم أيها المؤمنون المصدّقون بكلام الله، المؤتمرون بأمر الله، إذ الكافرون لا يستمعون الخطاب، ولا يعلمون بالصواب. وفي قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} إشارة إلى أن الظهار لا يكون في الأمة، ومن ذلك قالوا: إن للظهار ركنًا، وهو: التشبيه المذكور، وشرطًا وهو: أن يكون المشبه منكوحةً؛ حتى لا يصح من الأمة، وأهلًا وهو: من كان من أهل الكفارة؛ حتى لا يصح من الذمي والصبي والمجنون، وحكمًا وهو: حرمة الوطء، حتى يكفّر مع بقاء أصل الملك. وقرأ الجمهور (¬2): {يظّهَّرون} بالتشديد مع فتح حرف المضارعة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {يَظَّاهرون} بفتح الياء، وتشديد الظاء، وزيادة ألف. وقرأ أبو العالية، وعاصم، وزر بن حبيش: {يُظَاهِرُونَ} بضم الياء وتخفيف الظاء، وكسر الهاء. وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب. وقرأ أبيّ: {يتظاهرون} بفك الإدغام. وجملة قوله: {مَا هُنَّ}؛ أي: ما نساؤهم {أُمَّهَاتِهِمْ} خبر الموصول؛ أي: ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة، فهو كذب بحت؛ يعني: أن من قال لامرأته: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

أنت عليّ كظهر أمي .. ملحق في كلامه هذا للزوج بالأمّ، وجاعلها مثلها، وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين، وكانوا يريدون بالتشبيه الحرمة في المُظَاهر منها كالحرمة في الأم تغليظًا وتشديدًا. فإن قيل: فحاصل الظهار مثلًا: أنت محرّمة عليّ كما حرمت علي أمي، وليس فيه دعوى الأمومة حتى تنفى وتثبت للوالدات .. يقال: إن ذلك التحريم في حكم دعوى الأمومة، وأنّ المراد: نفي المشابهة، لكن نفي الأمومة للمبالغة فيه. وقرأ الجمهور (¬1): {أُمَّهَاتِهِمْ} بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل (ليس). وقرأ أبو عمرو، والسلمي، والمفضل عن عاصم بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. وقرأ ابن مسعود {بأمهاتهم} بزيادة الباء. ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال: {إن} نافية بمعنى: (ما) {أُمَّهَاتِهِمْ} في الحقيقة والصدق {إِلَّا اللَّائِي} جمع التي، أي: ما أمهاتهم إلا النساء اللاتي {وَلَدْنَهُمْ}؛ أي: ولدن المظاهرين، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرضعات، ومنكوحات الآباء لكرامتهن، وحرمتهن، فدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات .. فأبعد شيء من الأمومة فلا تلحق بهنّ في وجه من الوجوه. ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال: {وَإِنَّهُمْ}؛ أي: وإن المظاهرين منكم {لَيَقُولُونَ} بقولهم ذلك {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ}؛ أي: فظيعًا قبيحًا من القول، ينكره الشرع، على (¬2) أنَّ مناط التأكيد ليس صدور القول منهم فإنه أمر محقق، بل كونه منكرًا؛ أي: عند الشرع وعند العقل والطبع أيضًا، كما يشعر به تنكيره؛ وذلك لأنّ زوجته ليست بأمه حقيقة، ولا ممن ألحقه المثرع بها، فكان التشبيه بها إلحاقًا لأحد المتباينين بالآخر، فكان منكرًا مطلقًا غير معروف {وَزُورًا}؛ أي: كذبًا باطلًا منحرفًا عن الحق. فإنّ الزور بالتحريك: الميل، فقيل للكذب: زور بالضم لكونه مائلًا عن الحق. قال بعضهم: ولعلَّ قوله: {وَزُورًا} من قبيل عطف السبب على المسبب. ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[3]

فإن قلت: قوله: أنت علي كظهر أمي، إنشاء لتحريم الاستمتاع بها وليس بخبر، والإنشاء لا يوصف بالكذب. قلت: هذا الإنشاء يتضمن إلحاق الزوجة المحللة بالأم المحرمة أبدًا، وهذا إلحاق مناف لمقتضى الزوجية، فيكون كاذبًا. وقال بعضهم: لمّا كان مبنى طلاق الجاهلية الأمر المنكر الزور لم يجعله الله طلاقًا، ولم تبق الحرمة إلا إلى وقت التكفير. والمعنى (¬1): أي وإنهم ليقولون قولًا منكرًا لا يجيزه شرع ولا يرضى به عقل ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبه من يسكن إليها، وتسكن إليه، وجعل بينه وبينها مودةً ورحمة وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنو والإجلال والتعظيم؟ إلى أن الرجل قوام على المرأة، له حق تأديبها إذا اعوجت، وهجرانها في المضاجع إذا جمحت. ولم يعط ذلك الابن ليعامل به أمه؟ فهذا زور وبهتان عظيم. ولا يخفى ما في هذان الاستهجان وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم. {وَإِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}؛ أي: لكثير العفو والمغفرة لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه؛ إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر الزور. والفرق بين المغفرة والعفو: أن العفو محو للذنوب عن صحف الملائكة، والمغفرة سترها عن أعينهم. 3 - ثم فصل حكم الظهار، فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}؛ أي: والذين يقولون ذلك القول المنكر الفظيع لنسائهم {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}؛ أي: ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم بلفظ الظهار من الاستمتاع. ففيه تنزيل القول منزلة المقول فيه، واللام فيه بمعنى إلى؛ لأنّهما قد يتقارضان. أو يعودون لما قالوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه، كما قاله الشافعي، أو إما باستباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة - كما قاله أبو حنيفة - أو بالعزم على جماعها، كما قاله مالك - {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ أي (¬2): فالواجب عليهم إعتاق ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

رقبة مؤمنة، فلا تجزىء كافرة قياسًا على كفّارة القتل على ما ذهب إليه الشافعي ومالك، واشترطا أيضًا: سلامتها من كل عيب. أو إعتاق أي رقبة مؤمنة كانت أو كافرة، وإن كان الأولى تحرير المؤمنة على ما قاله أبو حنيفة، وهو الظاهر. والتحرير: جعل الإنسان حرًا، وهو خلاف الرقيق. والرقبة: ذات مرقوق مملوك، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، هنديًا أو روميًا، عربيًا أو حبشيًا. فيعتقها مقرونًا بالنية، وإن كان محتاجًا إلى خدمتها، فلو نوى بعد العتق أو لم ينو .. لم يجزىء، وإن وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليه .. فله الصيام، كما في "الكواشي". ولا يجزىء إعتاق أمّ الولد، والمدبر، والمكاتب الذي أدّى شيئًا، فإن لم يؤدّ .. جاز. ويجب أن تكون سليمة من العيوب الفاحشة بالاتفاق. واشترط الشافعي الإيمان قياسًا على كفّارة القتل، كما قال تعالى فيها: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمَنَةٍ}. قلنا: حمل المطلق على المقيد إنما هو عند اتحاد الحادثتين واتحاد الحكم أيضًا، وهنا ليس كذلك. و {الفاء}: فيه رابطة الخبر بالمبتدأ لشبهه بالشرط، وفيها معنى السببية. ومن فوائدها (¬1): الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار؛ لأن تكرر السبب يوجب تكرر المسبب، كقراءة آية السجدة في موضعين. فلو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثًا في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة .. لزمه بكل ظهار كفارة. هذا عند الأحناف {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؛ أي: من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعًا وتقبيلًا ولمسًا، ونظرًا إلى الفرج بشهوة، ذلك لأنّ اسم التماس، يتناول الكلّي، وإن وقع شيء من ذلك قبل التكفير .. يجب عليه أن يستغفر؛ لأنه ارتكب الحرام. ولا يعود حتى يكفر وليس عليه شيء سوى الكفارة الأولى بالاتفاق. وإن أعتق بعض الرقبة ثمّ مسّ .. فعليه أن يستأنف عند أبي حنيفة، ولا تسقط الكفارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها فإنه لا يسقط عنه الإتيان بها بل يلزمه قضاؤها. وفي الآية دليل على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تدع الزوج أن يقربها قبل الكفارة؛ لأنه نهاهما جميعًا عن المسيس قبل الكفارة. قال القهستاني: لها مطالبة ¬

_ (¬1) روح البيان.

التكفير والحاكم يجبر عليه بالحبس ثم بالضرب، فالنكاح باقٍ والحرمة لا تزول إلا بالتكفير. وكذا لو طلقها ثم تزوجها بعد العدة أو زوج آخر .. حرم وطؤها قبل التكفير، ثم العود الموجب لكفارة الظهار عند أبي حنيفة هو: العزم على جماعها، كما مر. فمتى عزم على ذلك لم تحل له حتى يكفر، ولو مات بعد مدة قبل أن يكفر .. سقطت عنه الكفارة؛ لفوت العزم على جماعها. والمعنى (¬1): أي والذين يقولون هذا القول المنكر الزور ثم يتداركونه بنقضه ويرجعون عمّا قالوا فيريدون المسيس .. فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماس إن كان ذلك لديه. ثم بيّن السبب في شرع هذا الحكم، فقال: {ذَلِكُمْ} الحكم بالكفارة أيها المؤمنون. وهو مبتدأ خبره قوله: {تُوعَظُونَ بِهِ}؛ أي: تؤمرون به أو تزجرون به؛ لأن الوعظ زجر يقترن بتخويف؛ أي: تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور. فإن الغرامات مزاجر من تعاطي الجنايات. والمراد بذكره: بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم، بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه. والحاصل: أن في المؤاخذة الدنيوية نفعًا لكلّ من المظاهر وغير المظاهر؛ بان يحصل للمُظاهر الكفارة والتدارك، ولغير المُظاهر الاحتياط والاجتناب. وقال الزجاج: معنى الآية: ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به؛ أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، انتهى. {وَاللَّهُ} سبحانه {بِمَا تَعْمَلُونَ} من جناية الظهار والتكفير ونحو ذلك من قليل وكثير {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم بظواهرها وبواطنها، ومجازيكم بها، فحافظوا حدود ما شرع لكم، ولا تخلوا بشيء منها. والمعنى: أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس ليكون ذلك زاجرًا لكم من ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم. والله خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر، ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

وحافظوا على ما شرع لكم من الحدود، ولا تخلوا بشيء منها. 4 - ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن التكفير بالإعتاق، فقال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}؛ أي (¬1): فالمُظاهر الذي لم يجد الرقبة في ملكه وعجز عن قيمتها فاضلًا عمّا لا بدّ له منه من مسكن وثياب وقوت، والذي غاب ماله .. فهو واجد بأن كان فقيرًا وقت التكفير، وهو من حين العزم إلى أن تقرب الشمس من الغروب من اليوم الأخير مما صام فيه من الشهرين، فلا يتحقق العجز الحقيقي إلا بذلك. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ}؛ أي: فعليه صيام شهرين {مُتَتَابِعَيْنِ}؛ أي: متواليين ليس فيهما رمضان ولا الأيام الخمسة المحرم صومها؛ أي: يوما العيد وأيام التشريق الثلاثة فيصومهما بحيث لا يفصل يومًا عن يوم ولا شرًا عن شهر بالإفطار، فإن أفطر فيهما يومًا أو أكثر بعذر أو بغير عذر .. استأنف، ولم يحسب ما صام إلا بالحيض، كما سيأتي قال الشافعي ومالك وغيرهما: إن أفطر بعذر كمرض وسفر .. لا يستأنف بل يبني على ما صام؛ أي: فعليه صيام شهرين متتابعين {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؛ أي: من قبل أن يتجامع المظاهِر والمظاهَر منها، ليلًا أو نهارًا، عمدًا أو خطأ. ولو جامع زوجةً أخرى ناسيًا .. لا يستأنف، ولو أفطرت المرأة للحيض في كفّارة القتل أو الفطر في رمضان .. لا تستأنف، لكنها تصل صومها بأيام الحيض. وقال الشافعي: ولو وطىء ليلًا .. لا يستأنف؛ لأنه ليس محلًا للصوم. والأول أولى (¬2). ثم إنه إن صام بالأهلة .. أجزأه، وإن صام ثمانية وخمسين؛ بأن كان كل من الشهرين ناقصًا، وإن صامها بغيرها .. فلا بد من ستين يومًا، حتى لو أفطر صبيحة تسعة وخمسين .. وجب عليه الاستئناف. والمعنى: أي فمن لم يجد رقبة، ولا ثمنها فاضلًا عن قدر كفايته .. فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، فإن أفطر يومًا من الشهرين ولو اليوم الأخير ولو بعذر مرض أو سفر .. لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع. {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} صيام شهرين متتابعين بسبب من الأسباب (¬3)، كالهرم، والمرض المزمن؛ أي: الممتد الغير المرجو برؤه .. فإنه بمنزلة العاجز من كبر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

السن، وإن كان يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته .. فالمختار أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام، ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام .. أجزأه. ومن الأعذار: الشبق المفرط، وهو: أن لا يصبر عن الجماع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - رخّص للأعرابي أن يعطي الفدية لأجله. {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}؛ أي: فعليه إطعام ستين مسكينًا من قبل أن يتماسا، حملًا للمطلق هنا على المقيد في الإعتاق والصيام عند غير أبي حنيفة، فيجب تقديمه على المسيس عند غيره، ولو وطىء في خلال الإطعام .. استأنف. وأما عند أبي حنيفة: فلا يستأنف؛ لأنه تعالى لم يذكر التماس مع الإطعام، وقيد المسكين اتفاقي؛ لجواز صرفه إلى غيره من مصارف الزكاة. يقول الفقير: إنما خصّ المسكين بالذكر لكونه أحق بالصدقة من سائر مصارف الزكاة. وإطعام ستين مسكينًا يشمل ما كان حقيقيًا وما كان حكميًا؛ بأن يطعم واحدًا ستين يومًا، فإنه في حكم ستين مسكينًا، وإن أعطاه في يوم واحد وبدفعات لا يجوز على الصحيح. والإطعام: جعل الغير طاعمًا، ففيه رمز إلى جواز التمليك والإباحة في الكفارة. والمسكين - ويفتح ميمه - من لا شيء له - أو له ما لا يكفيه وأسكنه الفقر؛ أي: قلل حركته - والذليل والضعيف. أي: فعليه أن يطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين مدّان، وهما: نصف صاع. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. قال الشافعي وغيره: لكل مسكين مدّ. والظاهر من الآية: أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم وبعضهم في يوم آخر. والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى ما تقدم ذكره من الأحكام. وهو مبتدأ خبره مقدر؛ أي: ذلك البيان والتعليم للأحكام، والتنبيه عليها واقع كائن، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل النصب بفعل محذوف، والتقدير: فعلنا ذلك لتصدقوا بالله ورسوله، وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم، وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تتعدوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول.

وإن قيل (¬1): إذا كان ترك الظهار مفروضًا فما بال الفقهاء يجعلونه بابًا في الفقه؟ أجيب: بأن الله تعالى، وإن أنكر الظهار وشنع على من تعوّد به من الجاهلين، إلا أنه تعالى وضع له أحكامًا يعمل بها من ابتلي به من الغافلين، فبهذا الاعتبار جعلوه بابًا ليبينوا تلك الأحكام، وزادوا قدر ما يحتاج إليه مع أن المحققين قالوا: إن أكثر الأحكام الشرعية للجهال؛ فإن الناس لو احترزوا عن سوء المقال والفعال .. لما احتيج إلى تكثير القيل والقال. ودلّت الآية على أن الظهار أكثر خطأ من الحنث في اليمين، لكون كفارته أغلظ من كفارة الحنث. واللام في {لِتُؤْمِنُوا} للحكمة والمصلحة؛ لأنها إذا قارنت فعل الله تكون للمصلحة؛ لأنه الغني المطلق، وإذا قارنت فعل العبد تكون للغرض؛ لأنه المحتاج المطلق. والإشارة في قوله: {وَتِلْكَ} إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ خبره {حُدُودُ اللهِ}؛ أي: وتلك الأحكام المذكورة من تحريم الظهار، وإيجاب العتق للواجد، وإيجاب الصوم لغير الواجد إن استطاع، وإيجاب الإطعام لمن لم يستطع .. حدود الله التي لا يجوز تعديها، وشرائعه الموضوعة لعباده التي لا يجوز تجاوزها إلى ما يخالفها. {وَلِلْكَافِرِينَ} الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعملون بها، ولا يقبلونها {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم موجع. والأليم: بمعنى المؤلم، كالبديع بمعنى المبدع، أو بمعنى المتألم، لكن أسند مجازًا إلى العذاب مبالغةً، كأنه في الشدة بدرجة تتألم بها نفسه. وفي إثبات العذاب للكافرين حث للمؤمنين على قبول الطاعة. وعبر عن ترك العمل بمقتضى الظهار بالكفر للتغليظ على طريقة قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}؛ يعني: أن إطلاق الكفر لتأكيد الوجوب والتغليظ على تارك العمل، لا لأنه كفر حقيقة كما يزعمه الخوارج. قال بعضهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة فقد كفر"؛ أي: قارب الكفر، كما يقال: دخل البلدة، لمن قاربها. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

وختم الآية (¬1) هنا بـ {أَلِيمٌ}، وفيما بعده بـ {مُهِينٌ}؛ لأن الأول متصل بضده وهو الإيمان، فتوعدهم على الكفر بالعذاب الأليم الذي هو جزاء الكافرين، والثاني متصل بقوله: {كُبِتُوا}، وهو الإذلال والإهانة، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال: {مُهِينٌ}. والمعنى (¬2): أي ذلك الذي بيناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار لتقروا بتوحيد الله، وتصدقوا رسوله، وتنتهوا عن قول الزور والكذب، وتتبعوا ما حده الدين من حدود الله، وبينه لكم من فرائض، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها. وأطلق اسم الكافر على متعدي هذه الحدود تغليظًا للزجر، كما مرّ آنفًا، كما قال في المتهاون في أداء فريضة الحج: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. والخلاصة (¬3): أي ولمن جحد هذه الأحكام، وكذب بها عذاب أليم، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة .. لم تسقط عنه، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر، كما مرّ، فإن تهاون بالتكفير .. حال الإِمام بينه وبينها، وأجبره على التكفير وإن كان الإجبار بالضرب، ولا شيء من الكفّارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقها. وروي (¬4): أنه لما نزلت هذه الآيات الأربع تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأوس بن الصامت - رضي الله عنه -: "هل تستطيع عتق رقبة؟ " قال: إذن يذهب جلّ مالي، قال: "فصيام شهرين متتابعين" قال: يا رسول الله! إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات .. كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني، قال: "فإطعام ستين مسكينًا"، قال: لا، إلا أن تعينني عليه، قال: "أعينك بخمسة عشر صاعًا"، وأنا داعٍ لك بالبركة". وتلك البركة بقيت في آله، كما في "عين المعاني". 5 - ولما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين، فقال: {إنَّ ¬

_ (¬1) برهان القرآن. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يعادونهما، ويشاقونهما، ويخالفونهما فيما أمرا به ونهيا عنه. وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف صاحبك وأصلها: الممانعة. ومنه الحديد، ومنه: الحداد للبواب. وفي إيراد (¬1) المحادة في أثناء ذكر حدود الله دون المعاداة والمشاقة من حسن الموقع ما لا غاية وراءه. وقال بعضهم في معنى الآية: إن الذين يحادون؛ أي: يضعون أو يختارون حدودًا غير حدودهما. ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حده الشرع، وسموها: القانون والنظام. {كُبِتُوا}؛ أي: أذلوا وأخزوا. وذلك كما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر. يقال: كبت الله فلانًا إذا أذله. وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال ابن زيد: عذبوا، وقاله السدي: لعنوا، وقال ابن الشيخ: يصلح لأن يكون دعاء عليهم وإخبارًا عما سيكون بالماضي لتحققه؛ أي: سيكبتون. ويدخل فيهم المنافقون والكافرون جميعًا. أما الكافرون: فمحادتهم في الظاهر والباطن. وأمّا المنافقون: ففي الباطن فقط. {كَمَا كُبِتَ} وأذل وأهلك وعذب {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية المعادين المحادين للرسل عليهم الصلاة والسلام، مثل: أقوام نوح، وهود، وصالح وغيرهم. وكان السريّ - رحمه الله تعالى - يقول: عجبت من ضعيف عصى قويًا، فيقال له: كيف ذلك؟ ويقول: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. وجملة قوله: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} حال (¬2) من واو {كُبِتُوا}؛ أي: كبتوا لمحادّتهم الله ورسوله، والحال أنّا قد أنزلنا آياتٍ واضحات فيمن حاد الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم، وفيما فعلنا بهم، أو آيات بينات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به. والسؤال بأنّ الإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وهو إنما يتصور في الأجسام والآيات التي هي من الكلام من الأعراض الغير القارّة، فكيف يتصور ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الإنزال فيها؟ يجاب عنه: بأن المراد منه إنزال من يتلقّف من الله ويرسل إلى عباده تعالى. فيسند إليها مجازًا لكونها المقصودة منه. أو المراد منه: الإيصال، والإعلام، على سبيل الاستعارة. {وَلِلْكَافِرِينَ} بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به {عَذَابٌ مُهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم، من الإهانة بمعنى التحقير. والمراد: عذاب الكبت الذي هو في الدنيا، فيكون ابتداء كلام، أو عذاب الآخرة، فيكون للعطف، بمعنى: أن لهم الكبت في الدنيا ولهم عذاب مهين في الآخرة، فهم معذبون في الدارين. وقال بعضهم: وصف الله تعالى العذاب الملحق بالكافرين أولًا بالإِسلام وثانيًا بالإهانة لأن الإيلام يلحق بهم أولًا ثم يهانون به، وإذا كانت الإهانة ما في الآخرة .. فالتقديم ظاهر، وقد سبق غير هذا. ومعنى الآية (¬1): أي أن الذين يختارون لأنفسهم حدودًا غير ما حده الله ورسوله ويضعون شرائع غير ما شرعه الله سيلحقهم الخزي والنكال في الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله، وقد تحقق ذلك. وفي هذا بشارة عظيمة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم، كما أن فيه وعيدًا عظيمًا للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله، وألزموا رعاياهم العمل بها والجري على نهجها، وعينوا لذلك قضاةً يحكمون بها، ونبذوا ما جاء في شرعهم، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. نعم: إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني؛ كتعيين مراتب التأديب للزجر عن المعاصي والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حدّ معين، بل فوض الأمر فيها للإمام، وليس في ذلك محادة لله ورسوله، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل. وبالجملة: فلا بأس في النظام الذي لا يخالف روح الشرع، من ترتيب أحوال الداخلية والخارجية، مما لا بد منه في الحياة ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

الاجتماعية. {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ أي: وكيف يفعلون ذلك، وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة، وتوضح حدودها، وتفصل أحكامها، وتبين سر تشريعها. فلا عذر لهم في مخالفتها، والانحراف عن سننها، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم. والخلاصة: أن لهؤلاء المحادين عذابًا في الدنيا بالخزي والهوان، وعذابًا في الآخرة في جهنم، وبئس القرار. 6 - والظرف في قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب (¬1) باذكر المقدر تعظيمًا لذلك اليوم وتهويلًا، أو بـ {مُهِينٌ} أو بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو بـ {أَحْصَاهُ} المذكور بعده، والمراد به: يوم القيامة؛ أي: واذكر لقومك - يا محمد - أهوال يوم يحييهم الله فيه بعد الموت للجزاء {جَمِيعًا}؛ أي: كلهم، بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، فيكون تأكيدًا للضمير، أو يبعثهم مجتمعين في حالة واحدة، فيكون حالًا منه. {فَيُنَبِّئُهُمْ}؛ أي: فيخبرهم {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا من الأعمال القبيحة، ببيان صدورها منهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الأشهاد، توبيخًا لهم وتخجيلًا لهم، وتشهيرًا لحالهم وتشديدًا لعذابهم، ولتكميل الحجة عليهم، وإلا .. فلا فائدة في نفس الإنباء لينبهوا على ما صدر منهم. وجملة قوله: {أَحْصَاهُ اللَّهُ} مستأنفة (¬2) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف ينبئهم بأعمالهم على كثرتها واختلاف أنواعها، وهي أعراض منقضية متلاشية؟ فقيل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ}؛ أي: أحصى الله سبحانه عمل عبده، وأحاط به عددًا، وحفظه كما عمله، لم يفت منه شيء، ولم يغب عنه. {وَ} الحال أنهم قد {نَسُوهُ}؛ أي: نسوا عملهم، ولم يحفظوه؛ لكثرته أو لتهاونهم حين ارتكبوه لعدم اعتقادهم المجازاة؛ أي: وجدوه حاضرًا مكتوبًا في صحائف أعمالهم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؛ أي: حاضر مطلع عليه، لا يغيب عنه أمر من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[7]

الأمور، فالشهيد بمعنى الشاهد، من الشهود بمعنى الحضور. فالعاقل لا بد له من استحضار الذنوب، والبكاء عليها، وطلب التوبة من الله تعالى الذي يحصي كل شيء، ولا ينساه، قبل أن يجيء يوم يفتضح فيه المصرّ على رؤوس الأشهاد، ولا يقبل الدعاء والمعذرة من العباد. ومعنى الآية (¬1): أي واذكر لهم - أيها الرسول - حالهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرًا لهم وخزيًا على رؤوس الأشهاد، والله قد حفظه وضبطه، وهم قد نسوه، والله شهيد على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء ولا ينسى شيئًا، وفي هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب إنما كان من جزاء أعمالهم وقبيح أفعالهم. 7 - ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شيء، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} والاستفهام فيه تقريري. وفي "الروح": {الهمزة}: فيه للإنكار المقرر بالرؤية لما أن الإنكار نفي معنيٌّ، ونفي النفي يقرر الإثبات، فتكون الرؤية ثابتة مقررة. والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يستحق الخطاب. والمعنى (¬2): ألم تعلم علمًا يقينيًا بمرتبة المشاهدة أنه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الموجودات، سواء كان بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية. كانوا يومًا يتحدثون فقال أحدهم: أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضًا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله - وصدق؛ لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها؛ لأنَّ كونه عالمًا بغير سبب ثابت له مع كل معلوم - فنزلت الآية. وجملة قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} إلخ، مستأنفة لتقرير شمول علمه، وإحاطته بكل المعلومات. و {ما} نافية، و {يَكُونُ} تامة، بمعنى: يوجد ويقع. و {مِن} مقحمة، و {نَجْوَى} فاعله، وهو مصدر بمعنى التناجي، مضاف إلى فاعله؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أي: ما يقع تناجي ثلاثة نفر ومسارّتهم {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى {رَابِعُهُمْ}؛ أي: جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يشاركهم في الاطلاع عليها، كما قال الحسين النوري: إلا هو رابعهم علمًا وحكمًا، لا نفسًا وذاتًا. وهو استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال؛ أي: ما يوجد في حال من الأحوال إلا في هذه الحال. وفي الكلام اعتبار التصيير. قال النصر أبادي: من شهد معيّة الحق معه .. زجره عن كل مخالفة وعن ارتكاب كل محذور، ومن لا يشاهد معيته .. فإنه متخط إلى الشبهات والمحارم. وقرأ الجمهور (¬1): {يَكُونُ} بالتحتية، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، والأعرج وأبو حيوة بالفوقية نظرًا إلى تأنيث النجوى، والتذكير على قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى {مِنْ نَجْوَى} وهو يقتضي الجنس، وذلك مذكر، وليس الأكثر في هذا الباب التذكير؛ لأن {من} زائدة، فالفعل مسند إلى مؤنث، فالأكثر التأنيث، وهو القياس. قال تعالى: {مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}. و {نَجْوَى}: احتمل أن تكون مصدرًا مضافًا إلى {ثَلَاثَةٍ}؛ أي: من تناجي ثلاثة، أو مصدرًا على حذف مضاف؛ أي: من ذوي نجوى، أو مصدرًا أطلق على الجماعة المتناجين؛ أي: ما يكون من جماعة متناجين. فـ {ثَلَاثَةٍ} على هذين التقديرين قال ابن عطية: بدل أو صفة. وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال، والعامل {يتناجون} مضمرة، يدل عليه {نَجْوَى}. قال الفراء (¬2): {ثَلَاثَةٍ} نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت {نَجْوَى} إليها، ولو نصبت على إضمار فعل .. جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة. ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى. {وَلَا خَمْسَةٍ}؛ أي: ولا نجوى خمسة نفر {إِلَّا هُوَ} سبحانه {سَادِسُهُمْ}؛ أي: إلا وهو تعالى جاعلهم ستة في الاطلاع على ما وقع بينهم. وتخصيص (¬3) العددين بالذكر لخصوص الواقعة؛ لأن المنافقين المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة وأخرى خمسة، ويقال: إن التشاور غالبًا إنما يكون من ثلاثة إلى ستة ليكونوا أقل لفظًا وأجدر رأيًا وأكتم سرًا، ولذا ترك عمر رضي الله عنه حين علم بالموت ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

أمر الخلافة شورى بين ستة؛ أي: على أن يكون أمر الخلافة بين ستة ومشاورتهم واتفاق رأيهم. قال الفراء: العدد غير مقصود؛ لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية، ولذا عمم الحكم، فقال: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ ...} إلخ؛ أي: ولا يكون نجوى عدد أقل مما ذكر من الثلاثة كالاثنين والواحد، فإن الواحد أيضًا يناجي نفسه {وَلَا} نجوى {أَكْثَرَ} من ذلك المذكور من الخمسة كالستة والسبعة {إِلَّا هُوَ} سبحانه {مَعَهُمْ}؛ أي: مع المتناجين بالعلم والسماع، يعلم ما يتناجون به، ولا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنه مشاهدهم، ومحاضرهم، تعالى الله عن المشاهدة والحضور معهم حضورًا جسمانيًا. ومما يدل على أن المراد بالمعية، معية العلم لا معيّة الذات: أنه تعالى بدأ الآية بالعلم، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ}. {أَيْنَ مَا كَانُوا}؛ أي: في أي مكان كانوا فيه من الأماكن، ولو كانوا تحت الأرض، فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربًا وبعدًا. وفي "كشف ما يلتبس من القرآن": إن قلت: لِمَ خص (¬1) الثلاثة والخمسة بالذكر؟ قلت: لأن قومًا من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينم، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، وكانوا بعدة العدد المذكور، فلما طال ذلك، وكثر .. شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات بصفة حالهم عند تناجيهم. أو لأن الفرد أشرف من الزوج؛ لأنه الله تعالى، وتر يحب الوتر، فخصص العددان المذكوران بالذكر تنبيهًا على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور، ثم بعد ذكرهما زيد عليهما ما يعم غيرهما من المتناجين بقوله: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} تعميمًا للفائدة، انتهى بزيادة فيه. وقرأ الجمهور: {وَلَا أَكْثَرَ} بالجر بالفتحة عطفًا على لفظ {نَجْوَى}. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والأعمش، وأبو حيوة، وسلام، ويعقوب، وأبو العالية، ونصر، وعيسى بن عمر بالرفع عطفًا على محل {نَجْوَى} إن أريد به ¬

_ (¬1) فتح الرحمن.

[8]

المتناجون. ومن جعله مصدرًا محضًا فعلى حذف مضاف؛ أي: ولا نجوى أدنى أو أكثر ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه. ويجوز أن يكون {وَلَا أَدْنَى} مبتدأ والخبر {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}. فهو من عطف الجمل. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا أَكْثَرَ} بالمثلثة. وقرأ الحسن أيضًا، ومجاهد، والخليل بن أحمد، ويعقوب أيضًا {ولا أكبر} بالباء الموحدة والرفع، واحتمل الإعرابين: العطف على الموضع، والرفع بالابتداء. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}؛ أي: ثم بعد بعثهم يخبرهم بالذي عملوه في الدنيا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تفضيحًا لهم، وإظهارًا لما يوجب عذابهم {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ} من المعلومات {عَلِيمٌ}؛ أي: مبالغ في علمه، لا يخفى عليه شيء كائنًا ما كان. وقرىء: {يُنَبِّئُهُمْ} بالتخفيف والهمز. وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء، والجمهور بالتشديد والهمز وضم الهاء. ومجمل معنى الآية (¬2): أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد، ولا أقل منها إلا وهو عليم بها وعليم بزمانها ومكانها، لا يخفى عليه شيء من أمرها. وإنما خص هذه الأعداد لأن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة ثلاثة، فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيًا وإثباتًا، والثالث كالحكم بينهما، وحينئذٍ تكمن المشورة ويتم الغرض، وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشورة لا بد من واحد يكون حكمًا مقبول القول، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردًا، كما جاء في الآية {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ...} إلخ؛ أي: ثم ينبىء هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة، وإنه لعليم بنجواهم وإسرارهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم. 8 - وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو لزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلامًا لهم. {أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تنظر يا محمد {إِلَى الَّذِينَ نُهُوا} ومنعوا {عَنِ النَّجْوَى} والمحادثة فيما بينهم دون المؤمنين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{ثُمَّ يَعُودُونَ} ويرجعون {لِمَا نُهُوا عَنْهُ} من تلك النجوى مرة بعد مرة إيقاعًا للحزن في قلوب المؤمنين، وإيهامًا لهم بأنّهم يتشاورون عليهم وهؤلاء هم من تقدم ذكرهم من اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتحلقون ثلاثة وخمسة ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عادوا لمثل فعلهم والخطاب (¬1) للرسول - صلى الله عليه وسلم - و {الهمزة}: للتعجب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة. قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: خرج - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ونحن نتحدث، فقال: "ما هذه النجوى، ألم تنهوا عن النجوى"؟ فقلنا: تبنا إلى الله إنا كنا في حديث الدجال، قال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم منه؟ والشرك الخفي" يعني: المراءاة. {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ}؛ أي: بما هو إثم في نفسه، كالكذب {وَالْعُدْوَانِ} للمؤمنين {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}؛ أي: ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهو معطوف على قوله: {يَعُودُونَ}، داخل في حكمه، وبيان لما نهوا عنه لضرره في الدين؛ أي: يتحدثون سرًا بما هو إثم في نفسه، وعدوان للمؤمنين، وتواص بمعصية الرسول. والعدوان: الظلم والجور، والمعصية: خلاف الطاعة، كما سيأتي. فائدة: رسمت {معصيت} هذه والتي بعدها بالتاء المبسوطة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو، وابن كثير والكسائي يقفون بالهاء، غير أن الكسائي يقف بالإمالة على أصله، والباقون يقفون بالتاء على الرسم، واتفقوا في الوصل على التاء. اهـ. "خطيب". وقرأ الجمهور (¬2): {يتناجون} بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وأبو حاتم لقوله فيما بعد: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا}. وقرأ حمزة، وخلف، وورش عن يعقوبـ {وينتجون} بوزن يفتعلون مضارع {انتجى} وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. وحكى سيبويه: أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو: تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا. وقرأ الجمهور {وَمَعْصِيَتِ} بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد: {ومعصيات} بالجمع. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

{وَإِذَا جَاءُوكَ}؛ أي: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء المتناجون من اليهود {حَيَّوْكَ}؛ أي: خاطبوك، وعظّموك، وسلموك {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}؛ أي: بشيء لم يقع من الله أن يحييك به؛ أي: بتحية لم يأذن الله فيه أن يقال لك، فيقولون: السام عليك؛ أي: إنهم يقولون إذا جاؤوك في تحيتهم إياك: السام عليك يا محمد، وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، فيرد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "عليكم" - بدون الواو -. ورواية: "وعليكم" بالواو خطأ، كذا في "عين المعاني". والسام بلغة اليهود: الموت. أو يقولون: أنعم صباحًا، وهو تحية الجاهلية، من النعومة؛ أي: ليصر صباحك ناعمًا لينًا لا بؤس فيه. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)}، {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، {أَيُّهَا الرَّسُولُ}، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}. واختلفوا في رد السلام على أهل الذمة (¬1): فقال ابن عباس، والشعبي وقتادة: هو واجب؛ لظاهر الأمر بذلك. وقال مالك: ليس بواجب فإدن رددت فقل: عليك. وقال بعضهم: يقول في الرد: علاك السلام؛ أي: ارتفع عنك. وقال بعض المالكية: يقول في الرد: السلام عليك - بكسر السين -، يعني: الحجارة. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: فيما بينهم إذا خرجوا من عندك {لَوْلَا} تحضيضية؛ أي: هلا {يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} لمحمد؛ أي: هلا يغضب علينا، ويقهرنا بجزائنا على الدعاء بالشر على محمد لو كان نبيًا حقًا، وقيل: المعنى: لو كان نبيًا .. لاستجيب له فينا حيث يقول: وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك. {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذابًا، مبتدأ وخبر (¬2)؛ أي: محسبهم وكافيهم جهنم في التعذيب، من أحسبه إذ كفاه. {يَصْلَوْنَهَا}؛ أي: يدخلونها ويقاسون حرها لا محالة، وإن لم يعجل تعذيبهم لحكمة. والمراد: الاستهزاء بهم، والاستخفاف بشأنهم لكفرهم وعدم إيمانهم {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والمرجع لهم، والمخصوص بالذم {جَهَنَّمُ}. قال في "برهان القرآن": الإتيان بالفاء لما فيه من معنى التعقيب؛ أي: فبئس المصير ما صاروا إليه، وهو جهنم، انتهى. وقال بعض المفسرين: وقولهم ذلك من جملة ما غفلوا عمّا عندهم من العلم، فإنهم كانوا أهل كتاب يعلمون أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

بعض الأنبياء قد عصاه أمته وآذوه، ولم يعجل تعذيبهم لحكمة ومصلحة، علمها عند الله تعالى، انتهى. ثم إن الله سبحانه يستجيب دعاء الرسول عليه السلام، كما روي: أن عائشة رضي الله عنها سمعت قول اليهود، فقالت: عليكم السام والذام واللعن، فقال عليه السلام: "يا عائشة ارفقي؛ فإن الله يحب الرفق في كل شيء، ولا يحب الفحش والتفحش، أما سمعت ما رددت عليهم فقلت: عليكم، فيستجاب لي فيهم". والمعنى: أي يفعلون ذلك، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وهم يريدون شتمه، ويحدثون أنفسهم أنه لو كان نبيًا حقًا لعذبنا الله بما نقول؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيًا حقًا .. لعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فرد الله عليهم بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي: وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم. 9 - ثم قال تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين: أن لا يكونوا مثل اليهود والمنافقين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم وقلوبهم {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} وتحدثتم في أنديتكم وخلواتكم {فَلَا تَتَنَاجَوْا}؛ أي: لا تتحدثوا {بِالْإِثْمِ} والكذب، والمكر، والكيد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - {و} لا بـ {الْعُدْوَانِ} على المؤمنين باللمز والطعن والتعيير بهم {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي: ولا بمعصية الرسول ومخالفته، كما يفعله المنافقون واليهود. ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} أي: بما يتضمن خير المؤمنين {وَالتَّقْوَى} أي: وبما يتضمن الإتقاء عن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال سهل رحمه الله: وتناجوا بذكر الله وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقرأ الجمهور (¬1): {فَلَا تَتَنَاجَوْا}. وأدغم ابن محيصن التاء في التاء وقرأ الكوفيون، والأعمش، وأبو حيوة، وروش: {فلا تنتجوا} مضارع انتجى. وقرأ الجمهور بضم عين {العدوان}، وأبو حيوة بكسرها حيث وقع. وقرأ الضحاك: {ومعصيات الرسول} بالجمع، والجمهور على الإفراد. وقرأ عبد الله: {إذا انتجيتم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فلا تنتجوا}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: خافوا أيها المؤمنون عقاب الله {الَّذِي إِلَيْهِ} وحده {تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره استقلالًا، ولا اشتراكًا فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون. والمعنى (¬1): أي إذا حدث منكم - أيها المؤمنون - تناج ومسارّة في أنديتكم وخلواتكم .. فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، وتناجوا بما هو خير، واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها. ودلت الآية (¬2) على أن التناجي ليس بمنهي عنه مطلقًا، بل مأمور به في بعض الوجوه، إيجابًا واستحبابًا وإباحة، على مقتضى المقام. فإن قيل: كيف يأمر الله بالاتقاء عنه، وهو المولى الرحيم، والقرب منه ألذ المطالب، والأنس به أقصى المآرب، فالتقوى توجب الاجتناب، والحشر إليه يستدعي الإقبال إليه؟ يجاب عنه: بأن في الكلام مضافًا؛ إذ التقدير: واتقوا عذاب الله، أو قهر الله، أو غيرهما. فإن قيل: إن العبد لو قدر على الخلاص من العذاب والقهر لأسرع إليه، لكنه ليس بقادر عليه، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}، والأمر إنما يكون بالمقدور {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؟ أجيب عنه: بأن المراد: الاتقاء عن السبب من الذنوب والمعاصي الصادرة عن العبد العاصي، فالمراد: اتقوا ما يفضي إلى عذاب الله، ويقتضي قهره في الدارين، من الإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي السبب الموجب لذلك. فالمراد: النهي عن مباشرة الأسباب، والأمر بالاجتناب عنها. وإن قيل: إن ذلك الاتقاء إنما يكون بتوفيق الله له، فإن وفق العبد له فلا حاجة إلى الأمر به، وإن لم يوفقه فلا قدرة له عليه، والأمر إنما يحسن في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[10]

المقدور؟ أجيب: بأنه تعالى علَّمَهُ الحق أولًا، ووهب له إرادةً جزئية يقدر بها على اختيار شيء، فله الاختيار السابق على إرادة الله تعالى، ووجود الاختيار في الفاعل المختار أمر يطلع عليه كل أحد حتى الصبيان، والله أعلم. 10 - ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى} المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول بقرينة قوله: {لِيَحْزُنَ}. ولأن {أل} فيه للعهد. {مِنَ الشَّيْطَانِ} لا من غيره، فإنه المزين لها، والحامل عليها فكأنها منه؛ أي: من تزيينه وتسويله. {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} خبر آخر (¬1). من الحُزن - بضم - فسكون متعد من الباب الأول، من الحَزَن بفتحتين لازمًا من الباب الرابع؛ كقوله تعالى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)}. فيكون الموصول مفعوله. قال الراغب: والحُزن: خشونة في النفس، لما يحصل فيها من الغمّ، ويضاده الفرح. والمعنى: إنما هي ليجعل الشيطانُ المؤمنين محزونين بتوهمهم أنهم في نكبة أصابتهم في سيرتهم، يعني: أن غزاتهم غلبوا، وأن أقاربهم قتلوا متألمين، بذلك فاترين في تدبير الغزو، إلى غير ذلك مما يشوش قلوب المؤمنين. وفي الحديث: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه". متفق عليه. {وَلَيْسَ}؛ أي: الشيطان أو التناجي {بِضَارِّهِمْ}؛ أي: بالذي يضر المؤمنين {شَيْئًا} من الأشياء أو شيئًا من الضرر {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ سبحانه وتعالى، أي: إلا بمشيئته وإرادته؛ أي: ما أراده من حزن أو وسوسة. وفي "الكشاف" {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بمشيئته، وهو: أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة. والمعنى: أي إنما فعل ذلك ليسوء المؤمنين بإيهامهم أن ذلك في نكبة أصابتهم وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئًا إلا بإرادة الله ومشيئته. {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه خاصة {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}؛ أي: فليعتمد المؤمنون عليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

تعالى في شؤونهم، وليفوضوا أمورهم إليه، وليثقوا به، ولا يبالوا بنجوى أعدائهم، فإنه تعالى يعصمهم من شرها وضررها، فينبغي للعبد التوكل التام، فإن المؤثر في كل شيء هو الله تعالى. والمعنى (¬1): أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين - إن وقع - فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته، فلا يكترثن المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلن على الله ولا يحزنن، فإن من قول عليه لا يخيب أمله، ولا يبطل سعيه. 11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يعني المخلصين {إِذَا قِيلَ لَكُمْ} من أي قائل كان من الإخوان {تَفَسَّحُوا}؛ أي: توسعوا {فِي الْمَجَالِسِ}؛ أي: في أماكن الجلوس، متعلق بـ {تَفَسَّحُوا}، وقال في "الإرشاد": متعلق بـ {قِيلَ}، والأول أولى؛ لأن التفسح يتعدى بـ (في). {فَافْسَحُوا}؛ أي: فوسعوا وأنتم جالسون أو قائمون. يقال: أفسح عني، تنح وتباعد عني. {يَفْسَحِ اللَّهُ} سبحانه {لَكُمْ} في الجنة، أو في كل ما تريدون التفسح فيه من الرزق، والصدر، والقبر، وغيرها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، أمرهم الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضًا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه. والآية عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يتضامُّون فيه تنافسًا في القرب منه - صلى الله عليه وسلم - وحرصًا على استماع كلامه أو مجلس حرب إذا اصطفوا للقتال كانوا يتشاحون على الصف الأول، فلا يوسع بعضهم لبعض ويأتي الرجل الصف ويقول: تفسحوا، ويأبون لحرصهم على الشهادة، أو مجلس ذكر، أو مجلس يوم الجمعة. وإن كل واحدٍ، وإن كان أحق بالمكان الذي سبق إليه لكنه يوسع لأخيه ما لم يتأذ لذلك، فيخرجه الضيق من موضعه. وفي الحديث: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا". وقرأ الجمهور (¬2): {تَفَسَّحُوا}. وداوود بن أبي هند، وقتادة، وعيسى: {تفاسحوا}. وقرأ الجمهور: {في المجلس} بالإفراد. قرأ السلمي، وزر بن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

حبيش، وعاصم {فِي الْمَجَالِسِ} على الجمع؛ لأن لكل واحد منهم مجلسًا في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقرىء {في المجلس} بفتح اللام، وهو الجلوس؛ أي: توسعوا في جلوسكم، ولا تتضايقوا فيه. والمعنى: أي يا أيها الذين آمنوا بالله، وصدقوا برسوله إذا قيل لكم: توسعوا في مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو في مجالس القتال .. فافسحوا يفسح الله في منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو في قلوبكم، أو في الدنيا والآخرة، أقوال. أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناسٌ، منهم: ثابت بن قيس، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم سلموا على القوم، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لبعض من حوله: "قم يا فلان قم يا فلان" فأقام نفرًا بمقدار من قدم، فشق ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وطعن المنافقون وقالوا: والله ما عدل محمد على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه أقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فنزلت الآية. ويستفاد من الآية أمور (¬1): 1 - أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسماع حديثه؛ لما فيه من الخير العميم والفضل العظيم، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى". 2 - الأمر بالتفسح في المجالس، وعدم التضام فيها متى وجد إلى ذلك سبيل؛ لأن ذلك يدخل المحبة في القلوب، والاشتراك في سماع أحكام الدِّين. 3 - أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة .. وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. وبالجملة: فالآية تشتمل التوسع في إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم، وإدخال السرور عليه ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الله في عون ¬

_ (¬1) المراغي.

العبد ما دام العبد في عون أخيه". {وَإِذَا قِيلَ} لكم أيها المؤمنون، سواء كان القائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيره {انْشُزُوا} مِنْ نشز الرجل إذا نهض وارتفع في المكان؛ أي (¬1): وإذا قيل لكم: قوموا للتوسعة على المقبلين؛ أي: على من جاء بعدكم .. {فَانْشُزُوا}؛ أي: فارتفعوا وقوموا؛ يعني: إذا كثرت المزاحمة، وكانت بحيث لا تحصل التوسعة، بتنحي أحد الشخصين عن الآخر حال قعود الجماعة وقيل: قوموا جميعًا، تفسحوا حال القيام .. فانشزوا وانهضوا، ولا تثاقلوا عن القيام. أو إذا قيل لكم: قوموا عن مواضعكم فانتقلوا منها إلى موضع آخر لضرورة داعية إليه .. أطيعوا من أمركم به، وقوموا من مجالسكم وتوسعوا لإخوانكم. ويؤيده: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكرم أهل بدر، فأقبلت جماعة، منهم: ثابت بن قيس، فلم يوسعوا لهم ... إلى آخر ما مر في الحديث السابق آنفًا. فأنزل الله الآية، فالقائل هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: وإذا قيل: انشزوا - أي: انهضوا - عن مجلس رسول الله؛ أي: أمرتم بالنهوض عنه .. فانهضوا، ولا تملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالارتكان فيه. أو قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة، أو إلى الجهاد، أو الشهادة أو غير ذلك من أعمال الخير .. انهضوا لا تفرطوا، فالقائل يعم الرسول وغيره. والظاهر (¬2): حمل الآية على العموم، والمعنى: إذا قيل لكم: انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية .. فانهضوا، ولا تتثاقلوا. ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصًا، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وابن عامر، ونافع، وحفص بضم الشين في الموضعين. وقرأ الحسن، والأعمش، وطلحة، وباقي السبعة بكسرها فيهما. وهما لغتان بمعنى واحد. وقال المراغي: والمعنى (¬3): أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقوموا؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يؤثر الانفراد أحيانًا لتدبير شؤون الدين، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد. وقد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

عمموا هذا الحكم، فقالوا: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا .. ينبغي أن يجاب، ولا ينبغي لقادم أن يقيم أحدًا ليجلس في مجلسه؛ فقد أخرج مالك، والبخاري، والترمذي، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسّحوا وتوسعوا". وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أيها المؤمنون بامتثال أوامره وأوامر رسوله في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما - جواب (¬1) للأمر - أي؛ من فعل ذلك طاعة للأمر وتوسعة للإخوان يرفعهم الله تعالى بالنصر، وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة؛ لأن من تواضع رفعه الله، ومن تكبر وضعه، فالمراد: الرفعة المطلقة الشاملة للرفعة الصورية والمعنوية. وقوله: {و} يرفع {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} منكم، معطوف على الموصول الأول، عطف خاص على عام، للدلالة على علو شأنهم وسمو مكانهم حتى كأنهم جنس آخر؛ أي: ويرفع الله الذين أوتوا العلم الديني منكم {دَرَجَاتٍ}؛ أي: طبقات عالية، ومراتب مرتفعة، بسبب ما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم لعلو درجته يقتضي للعمل المقرون به مزيد رفعة لا يدرك شأنه العمل العاري عنه وإن كان في غاية الصلاح، ولذا يقتدى بالعالم في أفعاله، ولا يقتدى بغيره. فعلم من هذا التقرير أنه لا شركة للمعطوف عليه في الدرجات، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: تم الكلام عند قوله: {مِنْكُمْ} وينتصب {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بفعل مضمر؛ أي: ويرفعهم درجات، وانتصاب {دَرَجَاتٍ} إما على إسقاط الخافض؛ أي: إلى درجات، أو على المصدرية؛ أي: رفع درجات، فحذف المضاف، أو على الحالية من الموصول؛ أي: ذوي درجات، أو على التمييز. وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية، كما بسطناها في كتابنا: "سلم المعراج على خطبة المنهاج". وعبارة الشوكاني هنا: ومعنى الآية (¬2): أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم .. رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات. وقيل: المراد بالذين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح القدير.

آمنوا من الصحابة، وكذلك الذين أوتوا العلم. وقيل: المراد بالذين أوتوا العلم: الذين قرأوا القرآن. والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة. ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون الآخر. اهـ. والخلاصة (¬1): إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج. فلا يظنن أن ذلك نقص في حقه، بل هو رفعةٌ وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزي به في الدنيا والآخرة؛ فإن من تواضع لأمر الله .. رفع الله قدره، ونشر ذكره. ويعلم من الآية سرّ تقدم العالم على غيره في المجالس والمحاضر (¬2)؛ لأن الله تعالى قدمه وأعلاه، حيث جعل درجاته عالية. وفي الحديث: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"؛ أي: فضل العالم الباقي بالله على العابد الفاني في الله، كما في "التأويلات النجمية". قال بعضهم: المتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يقطع المسافة. وحيث مدح العلم فالمراد به: العلم المقرون بالعمل. قال بعض الحكماء: ليت شعري أيَّ شيء أَدْرَكَ من فَاته العلم، وأَيُّ شيءٍ فات من أدرك العلم، وكل علم لم يوطَّد بعمل .. فإلى ذلّ يصير. وعن الزهري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال. قال مقاتل: إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة يقال له: لست بعالم، ادخل الجنة بعملك، ويقال للعالم: قف على باب الجنة واشفع للناس. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لأن أَعلَم مسألة أحب إلى من أن أصلي مئة ركعة، ولأن أُعلِّم مسألة أحب إلى من أن أصلي ألف ركعة. وعن أبي هريرة وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما قالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا جاء الموت طالب العلم على هذه الحال .. مات وهو شهيد". {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: بعملكم أو بالذي تعملونه {خَبِيرٌ}؛ أي: عالم ببواطنه كظواهره، لا يخفى عليه شيء منه، لا ذاته جنسًا أو ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[12]

نوعًا، ولا كيفيته إخلاصًا أو نفاقًا أو رياء أو سمعة ولا كميته قلة أو كثرة، فهو خبير بتفسّحكم ونشزكم ونيتكم فيهما، فلا تضيع عند الله سبحانه. وجعله بعضهم تهديدًا لمن لم يمتثل بالأمر أو استكرهه، فلا بد من التفسح والطاعة وطلب العلم الشريف. والمعنى: والله تعالى ذو خبرة بأعمالكم، لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم جميعًا بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو. 12 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، وأخلصوا في إيمانهم {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أي: إذا كلمتموه سرًّا في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته - صلى الله عليه وسلم -، ومكالمته سرًّا. والمناجاة: المحادثة سرًّا .. {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}؛ أي: فتصدقوا قبلها على المستحق. والمعنى: إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم .. فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة. والآية نزلت حين أكثر الناس عليه السؤال، حتى أسأموه وأملّوه، فأمرهم الله بتقديم الصدقة عند المناجاة، فكف كثير من الناس عن مناجاته، أما الفقير: فلعسرته، وأما الغني: فلشحّه. وقرىء: {صدقات} بالجمع كما في الآتي. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول، ونفع الفقراء، والزجر عن الإفراط في السؤال، والتمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا (¬1). واختلف في أنه للندب أو للوجوب، لكنه نسخ بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ ...} الآية، وهو وإن كان متصلًا به تلاوةً لكنه متراخ عنه نزولًا على ما هو شأن الناسخ. واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقيل: كان ساعة من النهار، والظاهر: أنه عشرة أيام؛ لما روي عن علي رضي الله عنه، كما قاله مقاتل بن حيان. وقال الكلبي: كان ذلك ليلة واحدة. وقال قتادة: ما كان ذلك إلا ساعة من نهار ثم نسخ. وهذا لا ينافي الجلوس في مجلسه المبارك، والتكلم معه لمصلحة دينية أو دنيوية بدون ¬

_ (¬1) روح البيان.

[13]

النجوى، إذ المناجاة تكلم خاص، وعدم الخاص لا يقتضي عدم العام. والمعنى (¬1): أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناجي الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه .. فليقدم صدقة قبل هذا؛ لما في ذلك من تعظيم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقًا والمنافق، ومن دفع التكاثر عليه - صلى الله عليه وسلم - من غير حاجة ملحة إلى ذلك. ثم ذكر العلة في هذا فقال: {ذَلِكَ} التصدق بين يدي نجواكم {خَيْرٌ لَكُمْ} أيها المؤمنون من إمساكه؛ لما فيه من طاعة الله تعالى، {وَأَطْهَرُ} لأنفسكم من دنس الريبة ودرن البخل الناشىء من حب المال الذي هو من أعظم حب الدنيا، وهو رأس كل خطيئة. وتقييد (¬2) الأمر يكون امتثاله خيرًا لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم ... يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب، لكن قوله فيما بعد: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} منبىء عن الوجوب؛ لأنه ترخيص لمن لم يجد، والظاهر: عدم الوجوب. والمعنى: أن في هذا التقديم خيرًا لكم؛ لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع في جمع المال وحب ادّخاره، وتعويدها بذله في المصالح العامة؛ كإغاثة ملهوف، ودفع خصاصة فقير، وإعانة ذي حاجة والنفقة في كل ما يرقي شأن الأمة ويرفع من قدرها ويعلي كلمتها، ويؤيد الدين، وينشر دعوته. ثم أقام العذر للفقراء، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} أيها الفقراء ما تتصدقون به بين يدي نجواكم، وعجزتم عن ذلك {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن لم يجده {رَحِيمٌ} به حيث رخص له المناجاة بلا تصدق؛ لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها، وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق، 13 - فلما تمّ هذا الغرض انتهى ذلك الحكم، ورخص في المناجاة بدون تقديم صدقة، فقال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}؛ أي: أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات بين يدي نجواكم، ووسوس لكم الشيطان أن في هذا الإنفاق ضياعًا للمال. والاستفهام (¬3) فيه للتقرير، كأن بعضهم ترك المناجاة للإشفاق لا مخالفة للأمر. والإشفاق: الخوف من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

المكروه. وجمع {صَدَقَاتٍ} هنا نظرًا إلى كثرة المخاطبين. قال بعض المفسرين: أفرد الصدقة أولًا لكفاية شيء منها، وجمع ثانيًا نظرًا إلى كثرة التناجي والمناجي. والمعنى (¬1): أخفتم الفقر - يا أهل الغنى - من تقديم الصدقات، فيكون المفعول محذوفًا للاختصار. و {أَنْ تُقَدِّمُوا} في تقدير: لأن تقدموا. أو: أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر. قال الشاعر: هَوِّنْ عَلَيْكَ وَلَا تُوْلَعْ بِإِشْفَاقِ ... فَإِنَّمَا مَالُنَا لِلْوَارِثِ الْبَاقِيْ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به، وشقّ عليكم ذلك {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم في أن لا تفعلوه، وأسقط عنكم تقديم الصدقة. وذلك لأنه لا وجه لحملها على قبول التوبة حقيقة؛ إذ لم يقع منهم التقصير في حق هذا الحكم، بأن وقعت المناجاة بلا تصدق، وهذا هو الناسخ للآية السابقة. وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم من الانفعال ما قام مقام توبتهم. و {إذ} على معناها من الظرفية والمضي بمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى وتجاوز الله عنكم بفضله، فتداركوه بما تؤمرون به بعد هذا. وقيل: بمعنى (إذا) للمستقبل، كما في قوله: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}. أو بمعنى إن الشرطية، وهو قريب مما قبله إلا أنّ {إن} تستعمل فيما يحتمل وقوعه واللاوقوعه. وقوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} معطوف على {لَمْ تَفْعَلُوا}. وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} جواب {إذ} مسبب عن قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا}؛ أي: فإذا فرطتم فيما أمرتم به من تقديم الصدقات، وتجاوز الله عنكم .. فتداركوه بالمواظبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المفروضة. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر لما وقع في ذلك من التفريط. والتعميم بعد التخصيص لتتميم النفع. وفي "الفتوحات": قوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} جملة حالية، أو استئنافية معترضة بين الشرط وجوابه. وهذه الجملة هي التي فيها نسخ الوجوب كما تقدم، تأمل. انتهى. والمعنى: أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به، وشق ذلك عليكم، وخفف عنكم ربكم فرخص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة، فأدوا الصلاة، وقوموها بأدائها ¬

_ (¬1) روح البيان.

على أكمل الوجوه؛ لما فيها من الإخبات والإنابة إليه، والإخلاص له في القول والعمل، ونهيها عن الفحشاء والمنكر، ولما في الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشحّ بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام، وأطيعوا الله فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات وينهاكم عنه من الموبقات. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عالم بالذي تعملون من الأعمال الظاهرة والباطنة، لا تخفى عليه خافية فيجازيكم عليه، فاعملوا ما أمركم به ابتغاء لمرضاته لا لرياء وسمعة، وتضرعوا إليه خوفًا من عقوباته خصوصًا بالجماعة يوم الجمعة. وقرأ عياش عن أبي عمرو (¬1): {يعملون} بالتحتية، والجمهور بالفوقية. ومن الأدعية النبوية: "اللهم: طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة. إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". وفي تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين العبادات المرادة بالأمر بالإطاعة العامة إشارة إلى علو شأنهما وإنافة قدرهما (¬2)؛ لأن الصلاة رئيس الأعمال البدنية، جامعة لجميع أنواع العبادات، من القيام والركوع والسجود والقعود، ومن التعوذ والبسملة والقراءة والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الدعاء الذي هو مخّ العبادة، ومن ذلك سميت صلاة، وهي الدعاء لغة. فهي عبادة من عبد الله تعالى بها .. فهو محفوظ بعبادة العابدين من أهل السماوات والأرضين، ومن تركها .. فهو محروم منها. فطوبى لأهل الصلاة، وويل لتاركها. وإن الزكاة هي أمّ الأعمال المالية، بها يطهر القلب من دنس البخل، والمال من خبث الحرمة، فعلى هذا هي بمعنى الطهارة، وبها ينمو المال في الدنيا بنفسه؛ لأنه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، وفي الآخرة بأجره؛ لأنه تعالى يضاعف لمن يشاء. وفي الحديث: "من تصدق بقدر تمرة من كسب حلال - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل". فعلى هذا هي من الزكاء، بمعنى النماء؛ أي: الزيادة. فإن قلت: لم قدم المعمول على عامله في قوله السابق: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

خَبِيرٌ}، وأخّره هنا حيث قال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. فما الفرق بين الموضعين؟ قلتُ: فَعَلَ ما فَعَلَ في الموضعين رعاية للفواصل التي كانت بعدهما؛ لأنه بعد الأول وقع {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، و {رَحِيمٌ} بوزن خبير - وإن كان الحرف الأخير مختلفًا - وبعد الموضع الثاني الفواصل نفس ما فيه. وقيل: قدم في الأول تأكيدًا للتهديد المفهوم من الجملة؛ لأنها وقعت تعليلًا للأوامر العزائم قبلها، وفي الموضع الثاني لا حاجة إلى التأكيد المذكور؛ لأن الجملة وإن وقعت تعليلًا لما قبلها؛ لأن الأوامر قبلها إنما وقعت للترخي وقيل: للتفنن. فليتأمل، هكذا وقع في فهمي السقيم، والله أعلم بأسرار كتابه. الإعراب {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {سَمِعَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {قَوْلَ الَّتِي}: مفعول به، ومضاف إليه {تُجَادِلُكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ومن هذا سميت السورة سورة المجادلة بكسر الدال، على أنها اسم فاعل. وقيل: بفتحها وكسرها كما في "حاشية الشهاب على البيضاوي". والكسر أرجح على كل حال؛ لأنه أنسب بالسياق. {فِي زَوْجِهَا}: متعلق بـ {تُجَادِلُكَ}: ولا بد من حذف مضاف؛ أي: في شأن زوجها. {وَتَشْتَكِي}: معطوف على {تُجَادِلُكَ}. ويجوز أن تكون الواو حالية، والجملة في موضع نصب على الحال من فاعل {تُجَادِلُكَ}. {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلقان بـ {تشتكي}. {وَاللَّهُ}: {الواو}: حالية. {الله}: مبتدأ وجملة {يَسْمَعُ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {تُجَادِلُكَ} أيضًا. {يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن الجلالة. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {سَمِيعٌ}: خبر أول له، {بَصِيرٌ}: خبر ثان. وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، لا محل لها من الإعراب.

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {يُظَاهِرُونَ} صلته. {مِنْكُمْ}: حال من فاعل {يُظَاهِرُونَ}؛ أي: حال كونهم منكم {مِنْ نِسَائِهِمْ}: متعلق بـ {يُظَاهِرُونَ}. {مَا}: حجازية، {هُنَّ}: اسمها. {أُمَّهَاتُهُمْ}: خبرها، نصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. وجملة {مَا} الحجازية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية مستأنفة مسوقة لبيان أحكام المظاهر. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ}: {إِنْ}: نافية، {أُمَّهَاتُهُمْ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة حصر، {اللَّائِي}: اسم موصول للجمع المؤنث، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {وَلَدْنَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {وَإِنَّهُمْ}: {الواو}: عاطفة. {إنهم}: ناصب واسمه، {لَيَقُولُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {يقولون}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إنَّ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}. {مُنْكَرًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا منكرًا {مِنَ الْقَوْلِ} صفة لـ {مُنْكَرًا}، {وَزُورًا}: معطوف على {مُنْكَرًا}، {وَإِنَّ اللَّهَ}: {الواو}: عاطفة، {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {لَعَفُوٌّ}: {اللام}: حرف ابتداء. {عفو}: خبر أول لـ {إنَّ}، {غَفُورٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {إنّ} الأولى. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية. {الذين}: مبتدأ، وجملة {يُظَاهِرُونَ} صلة الموصول. {مِنْ نِسَائِهِمْ}: متعلق بـ {يُظَاهِرُونَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، وجملة {يَعُودُونَ} معطوفة على جملة {يُظَاهِرُونَ}. {لِمَا}: {اللام}: حرف جر، {ما}: مصدرية، وجملة {قَالُوا}: صلة {ما} المصدرية، والمصدر المؤول من {ما} المصدرية وصلتها مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَعُودُونَ}، ولك أن تجعل {ما} موصولة، والعائد محذوف؛ أي: لما قالوه. {فَتَحْرِيرُ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في المبتدأ من معنى الشرط، {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: فتحرير رقبة واجب عليهم، والجملة الاسمية في محل

الرفع خبر عن الموصول، وجملة الموصول مستأنفة. {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر؛ أي: فتحرير رقبة واجب هو عليهم حال كون ذلك التحرير من قَبْلِ تماسهما. أو متعلق بـ {تحرير}. {أَن}: حرف مصدر، {يَتَمَاسَّا}: فعل وفاعل، منصوب بـ {أَن} المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل تماسهما. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، وجملة {تُوعَظُونَ} من الفعل المغير، ونائبه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {بِهِ}: متعلق بـ {تُوعَظُونَ}، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة أو المصدرية، {خَبِيرٌ}: خبر عن الجلالة، وجملة الجلالة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}. {فَمَنْ}: {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {لَمْ يَجِدْ}: صلة {من} الموصولة، {يَجِدْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}: وفاعله ضمير يعود على {من}، {فَصِيَامُ}: {الفاء}؛ رابطة الخبر بالمبتدأ لشبهه الشرط، {صيام}: مبتدأ، {شَهْرَيْنِ}: مضاف إليه، {مُتَتَابِعَيْنِ}: صفة له، والخبر محذوف تقديره: واجب عليه، والجملة خبر لـ {مَنْ} الموصولة، وجملة {من}: الموصولة معطوفة على جملة قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}: ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر؛ أي: حال كون ذلك الصوم من قبل أن يتماسا، وجملة {أَنْ يَتَمَاسَّا} في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. {فَمَنْ}: {الفاء}: حرف عطف وترتيب، {من} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {لَمْ يَسْتَطِعْ}: صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {فَإِطْعَامُ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ، {إطعام}: مبتدأ، {سِتِّينَ}: مضاف إليه، مجرور بالياء، {مِسْكِينًا}: تمييز لـ {سِتِّينَ}: منصوب به، والخبر محذوف تقديره: فإطعام ستين مسكينًا واجب عليه، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر لـ {مَنْ} الموصولة، وجملة من الموصولة معطوفة على جملة قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {لِتُؤْمِنُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تؤمنوا} فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تؤمنوا}، {وَرَسُولِهِ}:

معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام: تقديره: ذلك واقع أو واجب لطلب إيمانكم بالله ورسوله، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَتِلْكَ}: {الواو}: عاطفة. {تلك}: مبتدأ {حُدُودُ اللَّهِ}: خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. {وَلِلْكَافِرِينَ}: {الواو}: عاطفة، {للكافرين}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ}: صفة عذاب، والجملة معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يُحَادُّونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية صلة الموصول، {كُبِتُوا}: فعل ماض مغير الصيغة، {و} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لزفّ البشرى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بكبت أعدائهم وإذلالهم. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جرّ وتشبيه، {ما}: مصدرية {كُبِتَ الَّذِينَ}: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل. والمجملة صلة لـ {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: كبتوا كبتًا كائنًا ككبت الذين من قبلهم. و {مِنْ قَبْلِهِمْ}: جار ومجرور، متعلق بمحذوف صلة الموصول، {وَقَدْ}: {الواو}: حالية، {قد}: حرف تحقيق، {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل، {آيَاتٍ}: مفعول به، {بَيِّنَاتٍ}: صفة لآيات، والجملة الفعلية في محل النصب حال من واو {كُبِتُوا}، والتقدير: كبتوا لمحادتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات بينات تدل على صدق الرسول كما في "أبي السعود". {وَلِلْكَافِرِينَ}: {الواو}: استئنافية، {للكافرين}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {مُهِينٌ}: صفة عذاب، والجملة مستأنفة. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}. {يَوْمَ}: ظرف منصوب، متعلق بمحذوف تقديره: اذكرهم، أو متعلق بـ {مُهِينٌ}، أو بـ {عَذَابٌ}، أو بالاستقرار الذي تعلق به {للكافرين}. {يَبْعَثُهُمُ

اللهُ}: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {جَمِيعًا}: حال من مفعول {يَبْعَثُهُمُ} أو تأكيد له، {فَيُنَبِّئُهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {يُنَبِّئُهُمْ}: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {اللهُ}. والجملة في محل الجر معطوفة على جملة {يَبْعَثُهُمُ}. {بِمَا}: متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمْ} على أنه مفعول ثان له، وجملة {عَمِلُوا} صلة الموصول، {أَحْصَاهُ اللهُ}: فعل ماضي، ومفعول به وفاعل، والجملة مستأنفة. {وَنَسُوهُ}: {الواو}: حالية، {نسوه}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من مفعول {أَحْصَاهُ}، ولكنه على تقدير: قد. {وَاللهُ}: {الواو}: استئنافية. {اللهُ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {شَهِيدٌ}، و {شَهِيدٌ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل الإحصاء. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري التعجبي؛ {لم}: حرف جزم، {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطَب. والجملة مستأنفة. {أَنَّ اللهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي {تَرَ}؛ أي: ألم تعلم علم الله. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {يَعْلَمُ}. {في السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا} الموصولة، {وَمَا في الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا في السَّمَاوَاتِ}، {مَا}: نافية، {يَكُونُ}: فعل مضارع تام، {مِن}: زائدة، {نَجْوَى}: فاعل، {ثَلَاثَةٍ}: مضاف، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير سعة علمه تعالى، وبيان كيفيته. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {هُوَ}: مبتدأ، {رَابِعُهُمْ}: خبره، والجملة في محل النصب حال من {ثَلَاثَةٍ}؛ أي: إلا حالة كونهم مصطحبين الله، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، كما مر. {وَلَا خَمْسَةٍ}: معطوف على ثلاثة {إلا}: أداة حصر، {هُوَ}: مبتدأ، {سَادِسُهُمْ}: خبر، والجملة في محل النصب حال من {خَمْسَةٍ}، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية، {أَدْنَى}: معطوف على {نَجْوَى}، {مِنْ ذَلِكَ}: متعلق بـ {أَدْنَى}، {وَلَا أَكْثَرَ}: معطوف على أدنى. {إِلَّا}: أداة حصر،

{هُوَ}: مبتدأ. {مَعَهُمْ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. والجملة في محل النصب حال من {أَدْنَى} و {أَكْثَرَ}. {أَيْنَ}: منصوب على الظرفية المكانية، و {ما}: زائدة، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به {مَعَهُمْ}؛ أي: مصاحب لهم بعلمه في أي مكان استقروا فيه. {كَانُوا}: فعل تام، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {أَيْنَ}؛ لأن {مَا} زائدة. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {يُنَبِّئُهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمْ} على أنه مفعول ثان له، وجملة {عَمِلُوا} صلة الموصول، و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: متعلق بـ {يُنَبِّئُهُمْ} أيضًا، وجملة {يُنَبِّئُهُمْ} معطوفة على جملة {يَعْلَمُ} في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، وما بينهما اعتراض. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}. و {عَلِيمٌ}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم، {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطَب، والجملة مستأنفة. {إِلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {تَرَ}؛ لأنه بمعنى النظر، فيتعدى بلى. وجملة {نُهُوا}: صلة الموصول، وهو فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل {عَنِ النَّجْوَى}: متعلق بـ {نُهُوا}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {يَعُودُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {نُهُوا}. وعدل عن صيغة الماضي إلى المضارع لاستحضار صورة العود الماضي. {لِمَا} متعلق بـ {يَعُودُونَ}، وجملة {نُهُوا} صلة لـ {ما}، {عَنْهُ}: متعلق بـ {نُهُوا}، {وَيَتَنَاجَوْنَ}: فعل وفاعل، معطوف على {يَعُودُونَ}، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية {بِالْإِثْمِ}: متعلق بـ {يتناجون}، {وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}: معطوفان على {الإثم}. {وَإذَا}: {الواو}: عاطفة، {إذا}: ظرف لِما يُستقبل من الزمان، {جَاءُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {حَيَّوْكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من

الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {وَيَتَنَاجَوْنَ}. {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {حَيَّوْكَ}. {لم}: حرف جزم، {يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} وعلامة جزمه حذف حرف العلة، و {الكاف}: مفعول به، و {بِهِ} متعلق بـ {يُحَيِّكَ} ولفظ الجلالة فاعل، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة. {وَيَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {حَيَّوْكَ}، أو حال من فاعل {حَيَّوْكَ}، {في أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ {يقولون}، {لَوْلَا}: حرف تحضيض {يُعَذِّبُنَا}: فعل ومفعول به مقدم، {اللهُ}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {يقولون}، {بمَا}: متعلق بـ {يُعَذِّبُنَا}، وجهملة {نَقُول} صلة لـ {ما} الموصولة، {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {يَصْلَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من {جَهَنَّمُ}. {فَبِئْسَ}: {الفاء}: عاطفة، {بِئْسَ الْمَصِيرُ}: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة {يَصْلَوْنَهَا}، ولكنها على تقدير القول؛ أي: حالة كونها يصلونها، وحالة كونها مقولًا فيها: بئس المصير. ويصح أن تكون الفاء استئنافية، والمخصوص بالذمِّ محذوف وجوبًا تقديره: هي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي} أو بدل منه، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {تَنَاجَيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا}، {لا}: ناهية، {تَتَنَاجَوْا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة جواب {إذا}: لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {بِالْإِثْمِ}: متعلق بـ {تَتَنَاجَوْا}، {وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}: معطوفان على {الإثم}. {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}. {وَتَنَاجَوْا}: {الواو}: عاطفة. {تناجوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، والجملة معطوفة على {فَلَا تَتَنَاجَوْا}. {بِالْبِرِّ}: متعلق

بـ {تناجوا}، {وَالتَّقْوَى}: معطوف عليه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل أمر، وفاعل ومفعول به معطوف على {وَتَنَاجَوْا}. {الَّذِي}: صفة للجلالة {إِلَيْهِ}: متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}، وجملة {تُحْشَرُونَ} صلة الموصول. {إِنَّمَا}: أداة حصر {النَّجْوَى}: مبتدأ، {مِنَ الشَّيْطَانِ}: خبر، و {مِنَ}: فيه ابتدائية، والجملة مستأنفة. {لِيَحْزُنَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يحزن}: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الشَّيْطَانِ}، {الَّذِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة (أن) المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لحزنه الذين آمنوا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ثان لـ {النَّجْوَى}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول. وقيل: إن الموصول فاعل بـ {يحزن}. {وَلَيْسَ}: {الواو}: حالية، {ليس}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {الشَّيْطَانِ}، {بِضَارِّهِمْ}: {الباء}: زائدة، {ضارهم}: خبر {ليس}. {شَيْئًا}: مفعول مطلق؛ أي: شيئًا من الضرر. {إِلَّا}: أداة حصر، {بِإِذْنِ اللَّهِ}: متعلق بـ {ضارهم}، وجملة {ليس} في محل النصب حال من فاعل {يحزن}. {وَعَلَى اللَّهِ}: {الواو}: استئنافية، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {يتوكل}، {فَلْيَتَوَكَّلِ}: {الفاء}: زائدة، و {اللام}: لام الأمر، {يتوكل}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، {الْمُؤْمِنُونَ}: فاعل، والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تقدم إعرابه قريبًا. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان. {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَكُمْ}: متعلق به، {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: {تَفَسَّحُوا}: فعل أمر، و {الواو}: فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {فِي الْمَجَالِسِ}: متعلق بـ {تَفَسَّحُوا}. {فَافْسَحُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} {افسحوا}: فعل أمر، وفاعل والجملة جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {يَفْسَحِ}: فعل مضارع مجزوم

بالطلب، {اللَّهُ}: فاعل، {لَكُمْ}: متعلق بـ {يَفْسَحِ}، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة، {إِذَا}: ظرف لما يُستقبل من الزمان، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {انْشُزُوا}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: {انْشُزُوا}: فعل أمر، وفاعل والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}. {فَانْشُزُوا}: {الفاء}: رابطة، {انْشُزُوا}: فعل أمر، وفاعل، والجملة جواب {إِذَا}، وجملة {إِذَا} معطوفة على جملة {إذَا} الأولى. {يَرْفَعِ اللَّهُ}: فعل وفاعل مجزوم بالطلب، لا محل له من الإعراب، {الَّذِينَ}: مفعول به، وجملة {آمَنُوا} صلته، {مِنْكُمْ}: حال من فاعل {آمَنُوا}، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، {أُوتُوا}: فعل ماضى، ونائب فاعل، {الْعِلْمَ}: مفعول ثان لـ {أُوتُوا}، والجملة صلة الموصول، {دَرَجَاتٍ}: منصوب بنزع الخافض أو تمييز. {وَاللَّهُ}: مبتدأ. {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما}، {خَبِيرٌ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تقدم إعرابه مرارًا. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول. والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَقَدِّمُوا}: {الفاء} رابطة لجواب {إذَا}، قدموا: فعل أمر، مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {بَيْنَ}: ظرف، متعلق بـ {قدموا}، {بَيْنَ}: مضاف، {يَدَيْ}: مضاف إليه مجرور بالياء، {يَدَيْ}: مضاف، {نَجْوَاكُمْ}: مضاف إليه، {نجوى}: مضاف، والكاف: مضاف إليه. وكثرة الإضافة لا تخرج الكلام عن الفصاحة لورودها في الكتاب والسنة. وجملة {قدموا}: جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} جواب النداء، {صَدَقَةً}: مفعول قدموا. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {خَيْرٌ}: خبر والجملة مستأنفة. {لَكُمْ}: متعلق بخير، {وَأَطْهَرُ}: معطوف على {خَيْرٌ}، {فَإِنْ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فقدموا بين يدي نجواكم صدقة إن وجدتم ما تتصدقون بهِ، فإن لم تجدوا إلخ. {إن}: حرف شرط جازم، {لَمْ}: حرف

جزم، {تَجِدُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، و {الواو}: فاعل، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها فعل شرط لها. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة الجواب، {إن الله}: ناصب واسمه، {غَفُورٌ}: خبر أول لـ {إنَّ}، {رَحِيمٌ}: خبر ثان لها، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة. {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}. {أَأَشْفَقْتُمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {أَأَشْفَقْتُمْ}: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أأشفقتم وخفتم الفقر والعيلة. والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {تُقَدِّمُوا}: فعل مضارع، منصوب بـ {أن}، و {الواو}: فاعل، {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ}: ظرف متعلق بـ {تُقَدِّمُوا}، {صَدَقَاتٍ}: مفعول {تُقَدِّمُوا}، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جرّ محذوف، تقديره: أخفتم الفقر من تقديم الصدقات بين يدي نجواكم. والجار والمجرور متعلق بـ {أشفقتم}. {فَإِذْ}: {الفاء} استئنافية، {إذ}: ظرف لما مضى، {لم}: حرف جزم، {تَفْعَلُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، و {الواو}: فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذ} إليها على كونها فعل شرط لها. {وَتَابَ}: {الواو}: حالية، أو استئنافية، أو اعتراضية، {تاب الله}: فعل وفاعل، {عَلَيْكُمْ}: متعلق بـ {تاب}، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل {تَفْعَلُوا} أو معترضة بين الشرط وجوابه، {فَأَقِيمُوا}: {الفاء}: رابطة الجواب، {أَقِيمُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل. {الصَّلَاةَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب {إذ} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذ} مستأنفة. {وَآتُوا الزَّكَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {أَقِيمُوا}، {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {خَبِيرٌ}: خبر، والجملة مستأنفة. {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تعملونه.

التصريف ومفردات اللغة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}؛ أي: أجاب وقَبِلَ، كما يقال: سمع الله لِمَنْ حمده. {تُجَادِلُكَ}؛ أي: تراجعك الكلام في شأن زوجها، وما صدر منه في شأنها، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت قتله، فكأن المتجادلين يفتل كلّ واحد منهما الآخر عن رأيه. والمراد هنا: المكالمة، ومراجعة الكلام؛ أي: معاودته. {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}؛ أي: تتضرع إلى الله تعالى، وتُظهر ما بها من المكروه. قال في "المفردات": الشكاية، والشكاة، والشكوى: إظهار البث. يقال: شكوت واشتكيت. وأصل الشكوى: فتح الشكوة وإظهار ما فيها. وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء. وكان في الأصل استعارة، كقولك: بثثت له ما في وعائي، ونفضت ما في جرابي، إذا أظهرت ما في قلبك. وفي "كشف الأسرار": الفرق بين الشكوى والاشتكاء: أن الاشتكاء إظهار ما يقع بالإنسان من المكروه، والشكوى: إظهار ما يصنعه غيره به. والمعنى هنا أي: تبث إليه ما انطوت عليه نفسها من غم وهم، وتتضرع إليه أن يزيل كربها. {تَحَاوُرَكُمَا}؛ أي: تراجعكما الكلام، وتخاطبكما، وتجاوبكما في أمر الظهار. والحوار في الكلام معروف. وفي "المصباح": وحاورته: راجعته الكلام، وتحاورا وأحار الرجل الجواب بالألف: رده، وما أحاره: ما رده، انتهى. والتحاور: المرادة في الكلام، والكلام المردد. كما يقال: كلمته فما رجع إليّ حوار؛ أي: ما رد عليّ بشيء. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ}: مضارعُ ظاهَرَ، من باب فاعل. والظهار لغة: مصدر ظاهَرَ، ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر فلان فلانًا؛ أي: نصره وظاهر بين ثوبين؛ أي: لبس أحدهما فوق الآخر، وظاهر من امرأته؛ أي: قال لها: أنت علي كظهر أمي؛ أي: محرمة، وكان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار شرعًا: تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبًا، أو رضاعًا، أو مصاهرة، بقصد التحريم لا بقصد الكرامة، ولهذا المعنى نزلت الآية. {مُنْكَرًا}: والمنكر: ما ينكره الشرع والعقل والطبع، {وَزُورًا}؛ أي: كذبًا. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ أي: عتق عبد أو أمة. والتحرير: هو جعل الإنسان حرًا،

وهو خلاف الرقيق. والرقبة: ذات مرقوق مملوك كما مر. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي: من قبل أن يجتمعا اجتماع الأزواج. أصله: يتماسَسَا، فكرهوا توالي المثلين فأدغمت السين الأولى في الثانية. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} والياء في الصيام منقلبة عن واو؛ لأنّ أصله: صوام فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة كقوام في قيام. {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} الوعظ: زجر يقترن بتخويف. {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} والإطعام: جعله الغير طاعمًا. والمسكين بكسر الميم، وقد تفتح: من لا شيء له من المال، أو له ما لا يكفيه، سمي به لأنه أسكنه الفقر أي: قلل حركته وأذله، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: أحكام شرعه. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ} أي: يشاقون، ويعادون. وأصل المحادة: الممانعة، ومنه قيل للبواب: حداد. وأصله: يحادون بوزن يفاعلون بدالين، أدغمت الأولى منهما في الثانية لكراهة توالي المثلين. {عَذَابٌ أَلِيمٌ} والأليم بمعنى المؤلم؛ أي: الموجع، كالبديع بمعنى المبدع أو بمعنى المتألم، كما مر. {كُبِتُوا} وفي "المفردات": الكبت: الرد بعنف، وتذليل. وفي "القاموس": كبته يكبته - من باب ضرب - صرعه، وأخزاه، وصرفه، وكسره، ورد العدو بغيظه، وأذله، اهـ. {مُهِينٌ} اسم فاعل من أهان الرباعي أصله: مهون بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الهاء فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد. {أَحْصَاهُ اللَّهُ} أي: أحاط الله به علمًا، وحفظه كما عمله، لم يفت منه شيء، ولم يغب. قال الراغب: الإحصاء: التحصين بالعدد، يقال: أحصيت كذا. وذلك من لفظ الحصي، واستعمال ذلك فيه؛ لأنهم كانوا يعتمدون اعتمادنا فيه على الأصابع. وقال بعضهم: الإحصاء: عد بإحاطة وضبط؛ إذ أصله: العدد بآحاد الحصى للتقوي في الضبط، فهو أخص من العد لعدم لزوم الإحاطة فيه. وفيه إعلال بالقلب، أصله: أحصي بوزن إفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا.

{وَنَسُوهُ} أصله: نسيوه، استثلقت الضمة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لالتقائها ساكنة مع واوٍ الجماعة، وضمت السين لمناسبة الواو. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} أصله: نهيوا بوزن فعلوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت الهاء لمناسبة الواو. {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أصله: يتناجيون بوزن يتفاعلون، قبلت الياء فيه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنةً مع واو الجماعة. والمناجاة: المحادثة سرًا، والنجوى مصدر بمعنى التناجي، كالشكوى بمعنى الشكاية. يقال: نجاه نَجوى ونِجوى: سارّه كناجاه مناجاة. والنجوى: السر الذي يكتم، اسم مصدر كما في "القاموس". وأصله: أن تخلو في نجوة من الأرض؛ أي: مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله، كأن المتناجي بنجوة من الأرض لئلا يطلع عليه أحد. والفرق بين الإثم والعدوان، ومعصية الرسول: أن الإثم مخالفة أوامر الله ونواهيه؛ بتركها أو بارتكابها، والعدوان: التحدي على المؤمنين، ومعصية الرسول: إساءة أدبه وعدم احترامه؛ بالطعن فيه وسبه. {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ}: أصله: حييوك، بوزن فعلوك، قلبت الياء الأخيرة لام الفعل ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {يَصْلَوْنَهَا}: أصله؛ يصليونها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أصله: المصير، بوزن مفعل، نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ. وقوله: {حَيَّوْكَ}: أيضًا أي: خاطبوك بتحية، {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ}؛ أي: بتحية لم يأذن الله أن تخاطب بها. والتحية في الأصل: مصدر حياك، على الإخبار، من الحياة، فمعنى: حياك الله: جعل لك حياة، ثم استعمل للدعاء بها، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام، فكل دعاء تحية، لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا}: أصله: تتناجيون، حذفت منه نون

الرفع لدخول أداة الجزم {لا} عليه، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، لكنها حذفت لما التقت بواو الجماعة لالتقاء الساكنين. {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أصله: تناجيون، حذفت نون الرفع لبناء الأمر، ثم قلبت الياء ألفًا، وحذفت لالتقاء الساكنين. {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}: وفي "القاموس": الحزن بالضم، ويحرك: الهم والجفع: أحزان، وحزن كفرح، وحزنه الأمر حزنًا - بالضم - وأحزنه: جعله حزينًا، وحزنه: جعل فيه حزنًا. وقال الراغب: الحُزْنُ والحَزَن: خشونة في الأرض، وخشونة في النَّفْس؛ لما يحصل فيها من الغم، ويضاده الفرح، ولاعتبار الخشونة بالغمّ قيل: خشنت بصدره، إذا أحزنته. {بِضَارِّهِمْ}: الأصل: بضاررهم، أدغمت الراء في الراء للقاعدة المقررة عندهم؛ وهي: أن كل مثلين متحركين في كلمة يدغم الأول منهما في الثاني إلا ما استثني من ذلك، كما هو مقرر في محله. {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا}؛ أي: توسعوا، وليفسح بعضكم عن بعض، ولا تتضاموا من قولهم: أفسح عني؛ أي: تنحّ، وأنت في فسحة من دِينك؛ أي: في وسعة ورخصة، وفلان فسيح الخلق؛ أي: واسع الخلق. {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: في رحمته، ويوسع لكم في أرزاقكم. {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا}؛ أي: انهضوا للتوسعة على المقبلين. {فَانْشُزُوا}؛ أي؛ فانهضوا، ولا تتباطؤوا. يقال: نشز الرجل إذا نهض، وارتفع في المكان نشزًا. والنشز كالفلس، وكذا النشز - بفتحتين -: المكان المرتفع من الأرض، ونشز فلان إذا قصد نشزًا، ومنه: نشز فلان عن مقره، وقلب ناشز: ارتفع عن مكانه رعبًا. {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: أصل {تاب}: توب بوزن فعل، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، نظيرَ: قال. {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الأصل فيه: أقوموا بوزن افعلوا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أصله: أأتيوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، وأبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مدّ للهمزة المفتوحة. {الزَّكَاةَ}: الألف منقلبة عن واو؛ ولذلك ترسم بالواو.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ} أصله: أطوعوا، بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}؛ لأنه مجاز عن (أجاب الله) بعلاقة السببية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}؛ لأن الشكوى حقيقة في فتح الشكوة، وإخراج ما فيها، وهي: سقاء صغير يجعل فيه ماء، ثم استعير لإظهار ما في قلب الإنسان من الغم والحزن، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور. ومنها: التغليب في قوله: {تَحَاوُرَكُمَا} حيث نظمها في سلك الخطاب مع أفضل البريات تشريفًا لها؛ إذ القياس: يسمع تحاورها وتحاورك. ومنها: صيغة المبالغة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، وفي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ومنها: الإطناب في قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} زيادة في التقرير والبيان. ومنها: التنكير في قوله: {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} إفادة أنه منكر عند العقل والطبع، كما أنه منكر في الشرع. ومنها: فن السلب والإيجاب في قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}. وهو فن عجيب من فنون البلاغة، وهو: بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى. وفي الكلام هنا نفي لصيرورة المرأة أمًا بالظهار، وإثبات الأمومة للتي ولدت الولد.

ومنها: التشبيه في قوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. ومنها: الطباق في قوله: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}؛ لأن المعنى: عَلِمَهُ اللهُ وجهِلُوهُ، وفي قوله: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ}؛ لأن معنى {أَدْنَى}: أقل، فحصل الطباق بينه وبين {أَكْثَرَ}. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، والاستفهام التعجبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى}. ومنها: جناس الاشتقاق بين {النَّجْوَى}، {وَيَتَنَاجَوْنَ} في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ}. وفيه الإطناب أيضًا بتكرار {نُهُوا}. ومنها: الاستهزاء في قولهم: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا}؛ لأن فيه استخفافًا بشأنهم، لكفرهم وعدم إيمانهم. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} للدلالة على علو شأن العلماء وسمو مكانتهم، حتى كأنهم جنس آخر. ومنها: صيغة المضارع في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} للدلالة على تمكن عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة. وكذلك صيغة المضارع في قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}، وفي قوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ}. فإن اليدين استعيرت لمعنى (قبل) على سبيل التخييل، فقوله: {نَجْوَاكُمْ} استعارة بالكناية و {بَيْنَ يَدَيْ} تخييلية، كذا في "الروح". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}. المناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما ذكر أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتلقي الدِّين عنه والاهتداء بهديه، حتى كان يضيق بهم المجلس فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا .. ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، فهم عيون لهم عليهم، وإذا لاقوا المؤمنين .. قالوا لهم: إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون في كل ما يقولون، وقد جعلوا الأيمان وقاية لستر ما يبطنون، فأمنوا من المؤاخذة، وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدِّين، ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه. ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابًا شديدًا يوم القيامة، وما هم فيه من مال وولد في الدنيا لن يغني عنهم شيئًا حينئذٍ. ثم ذكر أن ¬

_ (¬1) المراغي.

الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان؛ فقد استولى على عقولهم وزين لهم قبيح أعمالهم، فأنساهم عذاب اليوم الآخِر. ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان، وجنود الشيطان لن تفلح في شيء، وسيرد الله سبحانه عليهم كيدهم في نحورهم، ويحبط سعيهم، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبًا أنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورًا واليهود طورًا آخر اكتسابًا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان؛ إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم والإيمانَ باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة؛ لأنهم باعوا الباقي بالفاني، والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدًا سرمدًا .. بين هنا سبب خسرانهم، وهو: أنهم شاقّوا الله ورسوله، وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة في الدنيا والآخرة؛ إذ قَضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه. ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه، مهما قرب بهم النسب، بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانًا أو من ذوي العشيرة؛ لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقواهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصرو دينه، وحزب الله مفلح لا محالة، وقد كتبت لهم السعادة في الدارين، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. أسباب النزول قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظلّ حُجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: "إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم .. فلا تكلموه"، فلم ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[14]

يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور فقال حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؛ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا واعتذروا. فأنزل الله سبحانه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ...} الآية، والتي بعدها. قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "سننه" عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر .. قصده أبو عبيدة، فقتله. فنزلت هذه الآية: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...} إلى آخرها. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، قال: حدثت أن أبا قحافة سبّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصكه أبو بكر صكة شديدة، فسقط. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أوفعلته يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريبًا مني .. لضربته به. فنزلت: {لَا تَجِدُ قَوْمًا ...} الآية. وقيل (¬1): نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول؛ وذلك أنه كان جالسًا إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله، أبق فضلة من شرابك، قال: "وما تصنع بها"؟ قال: أسقيها أبي لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أمك؟ فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارفق به، وأحسن إليه". فنزلت هذه الآية. قاله السدي. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة يخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء والزجاج. التفسير وأوجه القراءة 14 - {أَلَمْ تَرَ}: تعجيب (¬2) من حال المنافقين الذين يتخذون اليهود أولياء، ¬

_ (¬1) زاد المسير. (¬2) روح البيان.

ويناصحونهم، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين. والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يسمع ويعقل. وتعدية الرؤية بـ {إِلَى} لكونها بمعنى النظر؛ أي: ألم تنظر يا محمد {إلى} حال المنافقين {الَّذِينَ تَوَلَّوْا}؛ أي: والوا، من التولي، بمعنى الموالاة، لا بمعنى الإعراض؛ أي: اتخذوا {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أولياء وأصدقاء وهم اليهود، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}. ينقلون؛ أي: المنافقون أسرار المؤمنين إليهم؛ أي: إلى اليهود. والغضب: حركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام، وهو بالنسبة إليه تعالى نقيض الرضا، أو إرادة الانتقام، أو تحقيق الوعيد، أو الأخذ الأليم، والبطش الشديد، أو هتك الأستار والتعذيب بالنار، أو تغيير النعة، هكذا قالوا. والأسلم الذي عليه السلف: أن الغضب صفة ثابتة لله تعالى، نعتقده ولا نكيّفه ولا نمثله، ولكن أثرها الانتقام من أعدائه. {مَا هُمْ}؛ أي: ما أولئك المنافقون الذين يوالون اليهود {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون في الحقيقة؛ لأنهم يبطنون الكفر، {وَلَا مِنْهُمْ}؛ أي: ولا من القوم المغضوب عليم؛ لأنهم يظهرون الإِسلام مذبذبون بين ذلك. فهم وإن كانوا كفارًا في الواقع لكنهم ليسوا من اليهود حالًا؛ لعدم اعتقادهم بما اعتقدوا وعدم وفائهم لهم، ومآلًا؛ لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. وهذه الجملة مستأنفة معترضة. وقوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ}: معطوف على {تَوَلَّوْا}، داخل في حكم التعجب. وصيغة الضارع للدلالة على تكرر الحلف وتجدده، حسب تكرر ما يقتضيه؛ أي: ويحلفون لكم على الكذب، ويقولون: والله إنا لمسلمون، فالكذب المحلوف عليه هو ادعاء الإِسلام. أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود. وجملة قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} في محل النصب على الحال من فاعل {وَيَحْلِفُونَ}، مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا؛ فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح. وفي هذا التقييد دلالة على أن الكذب يعمّ ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه، فيكون حجة على النَّظَّام والجاحظ. أي: والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له؛ أي: يوالونهم، ويحلفون لكم على أنهم مسلمون منكم، والحال أنهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب، كمن يحلف بالغَموس؛ وهو: الحلف على فعل أو ترك ماض كاذبًا عمدًا، سمي بالغموس لأنه يغمس صاحبه في

[15]

الإثم ثم في النار. ولم يجعل حلفهم غموسًا؛ لأن الغموس حلف على الماضي، وحلفهم هذا على الحال. والمعنى (¬1): أي ألم تنظر يا محمد، أو أيها المخاطب إلى حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، إن حالهم لتستدعي العجب، يقابلون كل قوم بوجه؛ فهم مع اليهود نصحاء أمناء، يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابًا لصداقتهم وودهم، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون، قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم، وفي الحقيقة إنهم يخدعون الفريقين، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ}؛ أي: فلا هم بالمؤمنين حقًا، بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراةً للمؤمنين وخوفًا من بطشهم، ولا هم باليهود؛ لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدِّين الحق، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا، وأن يحتفظوا بمودّتهم إذا احتاجوا إليها، فهم كما قال الله فيهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}. وفي الحديث: "مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين" أي: المترددة بين قطيعين - لا تدري أيهما تتبع". ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة، فقال: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}؛ أي: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: إنّا آمنَّا، وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فيما يقولون؛ لأنهم لا يعتقدون صِدقه. 15 - ثم ذكر مآلهم، وبيّن ما يلقون من النكال والوبال، فقال: {أَعَدَّ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: أرصد، وهيأ {لَهُمْ}؛ أي: لهؤلاء المنافقين بسبب هذا التولي والحلف الباطل {عَذَابًا شَدِيدًا} في الدنيا والآخرة. والمراد نوعًا عظيمًا من العذاب (¬2). فالنوعية مستفادة من تنكير {عَذَابًا}، والعظيم من توصيفه بالشدة. {إِنَّهُمْ}؛ أي؛ إن هؤلاء المنافقين {سَاءَ} وقبح {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: ساء ما تمرنوا عليه وأصروا وتمرنهم أي: اعتيادهم واستمرارهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[16]

على مثل اما عملوه في الحال من العمل السوء، مستفاد من {كان} الدالة على الزمان الماضي؛ أي: العمل السيء دأبهم. والمعنى: أي أرصد الله لهم نكالًا وعذابًا أليمًا، جزاء صنيعهم بغش المسلمين وإطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم. 16 - ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة. واليمين في الحلف مستعار من اليد، اعتبارًا بما يفعله المحالف، والمعاهد عنده. {جُنَّةً}؛ أي: كالجنّة وهي الترس الذي يجن صاحبه من السلاح؛ أي: يستره. أي: جعلوها وقاية وسترة يستترون بها من المؤمنين ومن قتلهم ونهب أموالهم. قرأ الجمهور (¬1): {أَيْمَانَهُمْ} بفتح الهمزة، جمع يمين. وهي: ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين، توقِّيًا من القتل. فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجُنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن، وأبو العالية: {إيمانهم} بكسر الهمزة، أي: جعلوا تصديقهم جُنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، ولم تؤمن قلوبهم. فالاتخاذ (¬2) عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، لا عن استعمالها بالفعل. فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، والخيانة، واتخاذ الجنّة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضًا، كما تعرب عنه الفاء في قوله: {فَصَدُّوا}؛ أي: منعوا الناس وصرفوهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: عن دينه في خلال أمنهم وسلامتهم، بسبب ما يصدر عنهم من التثبط وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم عندهم. وقيل المعنى: فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام. {فَلَهُمْ}؛ أي: فلهؤلاء المنافقين بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله {عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: يهينهم ويخزيهم بين أهل المحشر. وعيد ثانٍ بوصف آخر لعذابهم. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[17]

قيل: هو تكرير لقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} للتأكيد. وقيل: الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة. ولا وجه للقول بالتكرار، فإن العذاب الموصوف بالإهانة غير العذاب الموصوف بالشدة. والمعنى (¬1): أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وتستروا بالأيمان الكاذبة. فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون، وبهذه الوسيلة صدوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله، وبتثبيط من لقوا عن الدخول في الإِسلام، بتحقير شأنه في نظرهم. ثم بيّن ما كافأهم به على عملهم فقال: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أي: عذاب يلحقهم به الذل والهوان في النار، جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبًا. 17 - ثم أرشد إلى أنّ ما ظنوه منجيًا لهم من عذاب الله من المال والأولاد ليس بنافع لهم حينئذٍ، فقال: {لَنْ تُغْنِيَ} ولن تدفع {عَنْهُمْ}؛ أي: عن هؤلاء المنافقين {أَمْوَالُهُمْ} الكثيرة {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} العديدة {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من عذاب الله سبحانه يوم القيامة {شَيْئًا} قليلًا من الإغناء والدفع. يقال: أغنى عنه كذا إذا كفاه، يعني: أنهم يحلفون كاذبين للوقاية المذكورة، ولا تنفعهم إذا دخلوا النار أموالهم ولا أولادهم التي صانوها وافتخروا بها في الدنيا. أو يقولون: إن كان ما يقول محمد حقًا .. لندفعنّ العذاب عن أنفسنا بأموالنا وأولادنا. فأكذبهم الله تعالى بهذه الآية، فإن يوم القيامة يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا يكفي أحد أحدًا في شأن من الشؤون. {أُولَئِكَ}: الموصوفون بما ذكر من الصفات القبيحة. قال في "برهان القرآن" بغير واو موافقة للجمل التي قبلها، ولقوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ}. {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها ومقارنوها أو مالكوها، لكونها حاصلهم وكسبهم الذي اكتسبوه في الدنيا بالسيئة المردية المؤدية إلى التعذيب. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون منها أبدًا. وضمير {هُمْ} لتقوية الإسناد ورعاية الفاصلة، لا للحصر؛ لخلود غير المنافقين فيها من الكفار. والمعنى: لن تغني عن هؤلاء المنافقين الأموال، فيفتدوا بها من عذاب الله، ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

ولا الأولاد فينصروهم وينقذوهم من العذاب إذا هو عاقبهم. فأولئك هم أهل النار، وهم خالدون فيها أبدًا. 18 - {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب باذكر، {اللهُ} سبحانه {جَمِيعًا} حال من ضمير المفعول، بمعنى مجموعين. {فَيَحْلِفُونَ} في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة {لَهُ}؛ أي: لله سبحانه وتعالى على أنهم مسلمون مخلصون، كما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا. وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم (¬1)؛ فإن يوم القيامة قد انكشفت فيه الحقائق، وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب؟ والمعنى: واذكر له - أيها الرسول - حالهم يوم يبعثهم الله جميعًا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم، فيحلفون له قائلين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كما كانوا يحلفون لكم في الدنيا أنهم مؤمنون مثلكم. {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرة {أَنَّهُمْ} بتلك الأيمان الكاذبة {عَلَى شَيْءٍ} من جلب منفعة أو دفع مضرّة، كما كانوا عليه في الدنيا؛ حيث كانوا يدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم، ويستجلبون بها فوائد دنيوية. {أَلَا}؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون، واعلموا {إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}؛ أي: المبالغون في الكذب إلى غاية لا مطمح وراءها؛ حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه كما تروجه عند الغافلين من المؤمنين. و {أَلَا}: حرف تنبيه، والمراد (¬2): التنبيه على توغلهم في النفاق وتعودهم به؛ حيث لا ينفكون عنه موتًا ولا حياة. ولو ردوا .. لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. والمعنى (¬3): أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير ويدفع عنهم الضير، كما كان ذلك في شأنهم في الدنيا؛ إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم. ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى، ثم أنكر عليهم أعمالهم فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فيما يحلفون عليه زعمًا منهم أن أيمانهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[19]

الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروجه لدى المؤمنين في الدنيا. ونحو الآية قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. 19 - ثم بيّن السبب الذي أوقعهم في الردى، وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ}؛ أي: غلب على عقولهم {الشَّيْطَانُ} بوسوسته وتزيينه {فـ} اتبعوه حتى {أَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} تعالى، فلم يُمكنهم من ذِكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم في دركات جهنم، وبئس المصير. وقرأ الجمهور: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}؛ أي: غلب عليهم، واستعلى واستولى. قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه، وأحاط به؛ أي: أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم، واستولى عليها. وقيل: قوي عليهم. وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء؛ أي: جمعه، وضم بعضه إلى بعض. والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليم واستولى وأحاط بهم. وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} في سورة النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها وجمعها غالبًا لها، ومنه كان عمر أحوذيًّا نسيج وحده كما سيأتي، وقرأ عمر (¬1): {استحاذ}. أخرجه على الأصل والقياس. واستحوذ: شاذ في القياس، فصيح في الاستعمال. {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} فهم لا يذكرونه لا بقلوبهم ولا بألسنتهم. وقيل: {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}؛ أي: أوامره والعمل بطاعته، فلم يذكروا شيئًا من ذلك. وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه. و {ذِكْرَ اللَّهِ} مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: كان سببًا بالاستيلاء لنسيانه تعالى، فلم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم. {أُولَئِكَ} المنافقون الموصوفون بما ذكر من القبائح {حِزْبُ الشَّيْطَانِ}؛ أي: جنود الشيطان وأتباعه الساعون فيما أمرهم به. والحزب: الفريق الذي يجمعه مذهب واحد، كما سيأتي. {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه؛ حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[20]

والمعنى (¬1): أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون في صفقتهم، إذ هم قد فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم، واستبدلوا به العذاب الأليم، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه. أو: هم الكاملون في الخسران، حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران؛ لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة والعذاب، وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة. قال بعض المشايخ - بوأه الله الدرجات الشوامخ -: علامة استحواذ الشيطان على العبد: أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والملابس والمراكب والمفارش، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمه عليه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب واللغو والغيبة والبهتان، وسمعه عن الحق باستماع اللهو والملاهي والفيديو والتلافيز، كما هو ديدن أهل زماننا ودأب أهل عصورنا. 20 - {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، أي (¬2): يعادونهما، ويخالفون أمرهما، ويتعدون حدودهما ويفعلون معهما فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها، فيجعل لها حدًا لا يتعداه خصمه. ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعزّ منهم .. قال تعالى نفيًا لهذا الغرور الظاهر: {أُولَئِكَ} الأباعد والأسافل بما فعلوا من المحادة {فِي الْأَذَلِّينَ}؛ أي: في جملة من هو أذل خلق الله من الأولين والآخرين، لا ترى أحدًا أذل منهم؛ لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر، حيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك، وذلك بالسبي، والقتل في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم، سوقة كانوا أو ملوكًا. والمعنى: أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه هم في جملة أهل الذلة؛ لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم في الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار، كما حصل للمشركين واليهود، وفي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[21]

الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم، كما قال سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}. وفي هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم، ويكتب لهم الفوز، ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء. 21 - ثم أكد ما سلف بقوله: {كَتَبَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى، استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين؛ أي: كتب الله سبحانه، وأثبت في اللوح المحفوظ. ولما جرى ذلك مجرى القَسَم .. أجيبَ بما يُجاب به القَسَم، حيث قال: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، أكده لما لهم من ظن الغلبة بالكثرة والقوة، والمراد: الغلبة بالحجة والسيف أو بأحدهما. والغلبة بالحجة ثابتة لجميع الرسل؛ لأنهم الفائزون بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة. وأما الغلبة بالسيف: فهي ليست ثابتة للجميع؛ لأن منهم من لم يؤمر بالحرب. قال الزجاج: غلبة الرسول على نوعين: من بعث منهم بالحرب .. فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب .. فهو غالب بالحُجة. وإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف. كان أقوى. أي: كتب الله في اللوح المحفوظ وقضى في سابق علمه لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف. وعن مقاتل: أنه لما قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم .. قال رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أتظنون الروم وبعض فارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددًا وأشد بطشًا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ ...} الآية، ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}. وحاصل المعنى: أي قضى الله وحكم في أمّ الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف، وما يجري مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرًا من أعدائهم بأنواع من العذاب: كقوم نوح وقوم صالح، وقوم لوط وغيرهم. والحرب بين نبينا وبين المشركين وإن كانت سجالًا كانت العاقبة فيها له - صلى الله عليه وسلم -، ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادًا خالصًا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال، ولا لطلب جاه ومقام عال.

[22]

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه، تعليل للقهر والغلبة، أكده لأن أفعالهم مع أوليائه أفعال من يظن ضعفه {قَوِيٌّ} على نصر أنبيائه. قال بعضهم: القوي: هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يمسه نصب ولا تعب، ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام. والقوة في الأصل: عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف، ويراد بها: القدرة بالنسبة إلى الله تعالى. {عَزِيزٌ} لا يغلب عليه في مراده. والمعنى: أن الله الذي له الأمر كله - قوي على نصر رسله، لا يُغلب على مراده، فمتى أراد شيئًا .. كان، ولم يجد معارضًا ولا ممانعًا، كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}. فإن قلت (¬1): فإذا كان الله قويًا عزيزًا غير عاجز. فما وجه انهزام المسلمين في بعض الأحيان وقد وعد النصر لأوليائه؟ قلت: إن النصرة والغلبة منصب شريف فلا يليق بالكافر، لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين؛ لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات .. لحصل العلم الضروري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك .. لبطل التكليف والثواب والعقاب. فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر، لتكون الشبهات باقية، والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإِسلام، فيعظم ثوابه عند الله تعالى. 22 - {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل أحد. و {تَجِدُ} إما متعد إلى اثنين، فقدله: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} مفعوله الثاني، أو إلى واحدٍ؛ بأن كان بمعنى: صادف، فهو حال من مفعوله، لتخصيصه بالصفة، وهو {يُؤْمِنُونَ}. والموادة: الصحابة، مفاعلة من المودة، بمعنى: المحبة، وهي: حالة تكون في القلب أولًا، ويظهر آثارها في القالب ثانيًا. والمراد بمن حاد الله ورسوله: المنافقون، واليهود، والفساق، والظلمة، والمبتدعة. والمراد ¬

_ (¬1) روح البيان.

بنفي الوجدان: نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال وإن جد في طلبه كل أحد، وجعل ما لا ينبغي وجوده غير موجود لشركته في فقد الخير. ويجوز أن يقال: لا تجد قومًا كاملي الإيمان على ما يدل عليه سياق النظم، فعدم الوجدان على حقيقته. أي: لا تجد يا محمد، أو أيها المخاطب قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان، موادين ومحبين من حاد الله ورسوله، وخالفهما في أوامرهما ونواهيهما {وَلَوْ كَانُوا}؛ أي: من حاد الله ورسوله. والجمع باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها. {آبَاءَهُمْ}؛ أي: آباء الموادين {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} قدم الأقدم حرمة ثم الأحكم محبة {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} نسبًا {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ أي: أقاربهم؛ أي: ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين .. إلخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك، ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والبنوة والأخوة والعشيرة. والمعنى (¬1): أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، ومودة أعداء الله ورسوله؛ لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنًا حقًا لا يوالي كافرًا، فمن أحب أحدًا .. امتنع أن يوالي عدوه. والمراد من موالاته: مناصحته وإرادة الخير له في الدِّين والدنيا. أما المخالطة والمعاشرة: فليست بمحظورة، ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاءً شديد، فإنا نرى الأمم الإِسلامية أصبحت في أخريات الأمم، ويصادقون الأفارج والنصارى، وينصرونهم على أبناء جنسهم، ويقتدون بهم في عاداتهم وأخلاقهم، ولو كان في ذلك ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن تزول هذه الغفلة إلا بالاستشعار بالعزة الدينية والكرامة القومية، والدفاع عن حوزة الدِّين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ثم بالغ في الزجر، وأبان أنه لا ينبغي لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب، كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد، أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان. والخلاصة: أنه لا يجتمع إيمان مع موادة أعداء الله؛ لأن من أحب أحدًا .. امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل في القلب مودّة أعداء الله .. لم يحصل فيه ¬

_ (¬1) المراغي.

الإيمان الصحيح، وكان صاحبه منافقًا. أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعًا: يقول الله تبارك وتعالى: "وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي". وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش عليّ يدًا ولا نعمة فيوده قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. تتمّة: وبدأ بالآباء (¬1)؛ لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم، فنهاهم عن مودتهم، وقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. ثم ثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بالقلوب، ثم أتى ثالثًا بالإخوان؛ لأن بهم التعاضد، كما قيل: أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ ثم رابعًا بالعشيرة؛ لأن بها التناصر، وبهم المقاتلة والتغلب، والتسرع إلى ما دعوا إليه ما قال: لَا يَسْأَلُوْنَ أَخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانا وقرأ الجمهور: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} على الإفراد، وأبو رجاء على الجمع {عَشِيْرَاتِهم}. ورويت هذه القراءة عن عاصم. ثم بيَّن العلة في عدم اجتماع الإِيمان، ومودة أعدائه، فقال: {أُولَئِكَ} الذين سلفت أوصافهم. فهو إِشارة إِلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحمًا. {كَتَبَ} الله سبحانه؛ أي: خلق، وأثبت، وأركز {فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وهو (¬2) الإيمان الوهبي الذي وهبه الله لهم قبل خلق الأصلاب والأرحام، إذ لا يزال أبدًا بحال كالإِيمان المستعار. وفيه دلالة على خروج العمل من مفهوم الإِيمان، فإن الجزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعًا، ولا شيء من أعمال الجوارح ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

يثبت فيه. وفيه حجة ظاهرة على القدرية حيث زعموا أن الإِيمان والكفر يستقل بعملهما العبد، وهم القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله ومشيئته، يعني: هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله. وسموا بذلك لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إياه. وقيل: لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد، وليس بشيء؛ لأن المناسب حينئذٍ القدري بضمّ القاف. وقرأ الجمهور (¬1): {كَتَبَ} مبنيًا للفاعل {فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} نصبًا على المفعولية؛ أي: كتب الله. وقرأ أبو حيوة، وزرّ بن حبيش، والمفضل عن عاصم: {كُتِبَ} مبنيًا للمفعول، ورفع {الْإِيمَانُ} على النيابة. والمعنى: أي أولئك الذين لا يوادون مَنْ حاد الله ورسوله أثبت (¬2) الله سبحانه في قلوبهم الإِيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يواد من حاد الله ورسوله. وفي هذا مبالغة عظيمة في الزجر عن موادة أعداء الله. ثم ذكر سببًا آخر يمنع من موادتهم، فقال: {وَأَيَّدَهُمْ}؛ أي: قواهم الله سبحانه. وأصله: قوَّى يدهم {بِرُوحٍ مِنْهُ}؛ أي (¬3): من عند الله تعالى. و {مِنْ} لابتداء الغاية، وهو نور القرآن، أو النصر على العدوّ؛ أي: قوَّى يدهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا. وسمى نصره لهم روحًا لأن به يحيا أمرهم. وقيل: هو نور القلب. وهو بإدراك حقيقة الحال، والرغبة في الارتقاء إلى المدارج الرفيعة الروحانية، والخلاص من درك عالم الطبيعة الدنية. وكل ذلك سمي روحًا لكونه سببًا للحياة. وقيل: بجبريل. وقيل: برحمة. وقيل (¬4): الضمير للإِيمان؛ فإنه سبب لحياة القلب. أي: إنه قوَّاهم بطمأنينة القلب، والثبات على الحق. فلا يبالون بموادة أعداء الله، ولا يأبهون لهم. ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم، فقال: {وَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ} وبساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها أو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) البيضاوي.

قصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة: الماء، واللبن، والخمر، والعسل، حال كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي (¬1): ماكثين فيها أبدَ الآباد لا يقرب منهم زوال، ولا موت، ولا مرض، ولا فقر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ينادي منادٍ: آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وآن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا". ثم ذكر السبب فيما أفاض عليهم من نعمه، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}؛ أي: قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة. والرضى: ضد السخط. {وَرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: فرحوا بما أعطاهم عاجلًا وآجلًا. والمعنى (¬2): أي رضي الله عنهم، فأغدق عليهم رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوا لابتهاجهم بما أوتوا عاجلًا وآجلًا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى .. عوضهم بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم. ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة {حِزْبُ اللَّهِ}؛ أي: جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه. وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم. {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} وأعوانه {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الناجون من المكروه والفائزون بالمحبوب، دون غيرهم المقابلين لهم من حزب الشيطان المخصوصين بالخذلان والخسران، وهو بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين وخير الدارين. والمعنى (¬3): أي هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح، الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كَلَا فلاح. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري التعجبي، {لم}: حرف جزم. {تَرَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى محمد، أو إلى أي مخاطَب، {إِلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {تَرَ} وهو متعد بإلى؛ لأنه بمعنى: تنظر. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة للتعجب من حال المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء. {تَوَلَّوْا}: فعل ماض وفاعل، والجملة صلة الموصول {مَا}: مفعول به، وجملة {غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} صفة قومًا، {مَا}: نافية حجازية، {هُمْ}: اسمها، {مِنْكُمْ}: خبرها. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، (لا): نافية، {مِنْهُمْ}: معطوف على {مِنْكُمْ}، وجملة {مَا} الحجازية مستأنفة، أو صفة ثانية لـ {قَوْمًا}، أو حال من فاعل {تَوَلَّوْا}. {وَيَحْلِفُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {تَوَلَّوْا}. وهو داخل في حيّز الصلة. {عَلَى الْكَذِبِ} متعلق بـ {يحلفون}، {وَهُمْ}: {الواو}: حالية، {هم}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يحلفون}. {أَعَدَّ اللهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}، {عَذَابًا}: مفعول به، {شَدِيدًا}: صفة {عَذَابًا}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {سَاءَ}: فعل ماض بمعنى قبح، مجرد عن معنى الإنشاء، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل {سَاءَ}، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة، وجملة {سَاءَ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}. {اتَّخَذُوا}: فعل وفاعل، من أخوات ظنّ، {أَيْمَانَهُمْ}: مفعول أول لـ {اتخذ}، {جُنَّةً}: مفعول ثان له، والجملة الفعلية مستأنفة. {فَصَدُّوا}: {الفاء}: عاطفة، {صَدُّوا}: فعل وفاعل معطوف على {اتَّخَذُوا}، {عَنْ سَبِيلِ اللهِ}: متعلق بـ {صدوا}، {فَلَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {لهم}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {مهِين}: صفة {عَذَابٌ}. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {صدوا} {لَنْ}: حرف نصب واستقبال، {تُغْنِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لَنْ}، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {تُغْنِيَ}، {أَمْوَالُهُمْ}: فاعل، {وَلَا أَوْلَادُهُمْ}: معطوف على {أَمْوَالُهُمْ}، {مِنَ

اللَّهِ}: متعلق بـ {تُغْنِيَ}، {شَيْئًا}: مفعول مطلق؛ أي: قليلًا من الإغناء. والجملة الفعلية مستأنفة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {أَصْحَابُ}: خبره، {النَّارِ}: مضاف إليه، والجملة مستأنفة، {هُمْ}: مبتدأ، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدُونَ}، و {خَالِدُونَ}: خبرهم، والجملة في محل النصب حال من {أَصْحَابُ النَّارِ}. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}. {يَوْمَ}: منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر، والجملة مستأنفة، {يَبْعَثُهُمُ}: فعل ومفعول مقدم {اللَّهُ}: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {جَمِيعًا}: حال من ضمير المفعول، أي: مجتمعين. {فَيَحْلِفُونَ}: {الفاء}: عاطفة، {يحلفون}: فعل وفاعل معطوف على {يَبْعَثُهُمُ}، {لَهُ}: متعلق بـ {يحلفون}، {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، {ما}: مصدرية، {يَحْلِفُونَ}: فعل وفاعل، {لَكُمْ}: متعلق بـ {يَحْلِفُونَ}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كحلفهم لكم. والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فيحلفون له حلفًا مثل حلفهم لكم. {وَيَحْسَبُونَ}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب حال من الواو في {يَحْلِفُونَ}؛ أي: يحلفون له حال كونهم ظانين أنّ حلفهم في الآخرة يجديهم من عذابها. {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {عَلَى شَيْءٍ}: خبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي حسب، أي: ويحسبون كونهم على شيء، {أَلَا} حرف تنبيه واستفتاح. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {هُمُ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْكَاذِبُونَ}: خبر {إن} على الأول، وخبر {هُمُ} على الثاني، والجملة خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة. {اسْتَحْوَذَ}: فعل ماضي، {عَلَيْهِمُ}: متعلق بـ {اسْتَحْوَذَ}، {الشَّيْطَانُ}: فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان استيلاء الشيطان عليهم. {فَأَنْسَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {أنساهم}: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على {الشَّيْطَانُ}، ومفعول به أول، والجملة معطوفة على جملة {اسْتَحْوَذَ}، {ذِكْرَ اللَّهِ}: مفعول ثان لـ {أنساهم}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {حِزْبُ الشَّيْطَانِ}: خبره. والجملة مستأنفة {أَلَا}: حرف استفتاح وتنبيه. {إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ} ناصب

واسمه، {هُمُ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْخَاسِرُونَ}: خبر على الحالين، كما مر آنفًا. وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {يُحَادُّونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {فِي الْأَذَلِّينَ}: خبر. والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {كَتَبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وقد تضمن {كَتَبَ}: معنى فعل القسم، وأجيب عنه بقوله: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. كأنه قيل: أقسم بالله لأغلبن أنا .. إلخ. {لَأَغْلِبَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أغلبن}: فعل مضارع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنا، والجملة جواب القسم المضمن في {كَتَبَ}، لا محل لها من الإعراب. و {أنا}: تأكيد لفاعل {أغلبن}، {وَرُسُلِي}: معطوف على الضمير المستتر في {أغلبن}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {قَوِيٌّ}: خبر أول، {عَزِيزٌ}: خبر ثان له. وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}. {لَا}: نافية، {تَجِدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت، والجملة مستأنفة. {قَوْمًا}: مفعول أول، وجملة {يُؤْمِنُونَ}: صفة قومًا، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنُونَ}، {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة، {الْآخِرِ}: صفة اليوم، {يُوَادُّونَ}: فعل وفاعل، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ {تَجِدُ}، {حَادَّ اللَّهَ}: فعل ماضي، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة.

هذا إن كان وجد بمعنى علم، وإن كان بمعنى صادف .. فجملة {يُوَادُّونَ}: حال من {قَوْمًا}، لتخصصه بالصفة. {وَلَوْ}: {الواو}: عاطفة على محذوف تقديره: لا يوادون من حاد الله ورسوله لو كانوا غير أبائهم أو أبنائهم، إلخ، لا يوادونهم. وجملة الشرط المحذوف في محل النصب حال من {مَن} الموصولة في قوله: {مَنْ حَادَّ اللَّهَ}. {لو}: حرف شرط غير جازم {كَانُوا}: فعل ناقص، {آبَاءَهُمْ}: خبر كان، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}: معطوفات على {آبَاءَهُمْ}. وجملة {كان} فعل شرط لـ {لو} الشرطية، وجوابها محذوف تقديره: لا يوادونهم. وجملة {لو} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {لو} المحذوفة. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {كَتَبَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على اللهَ، {فِي قُلُوبِهِمُ}: متعلق به، {الْإِيمَانَ}: مفعول به، وجملة {كَتَبَ}: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية مستأنفة، {وَأَيَّدَهُمْ}: فعل ماضي، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {كَتَبَ}، {بِرُوحٍ}: متعلق بـ {أَيَّدَ}، {مِنْهُ}: صفة روح، {وَيُدْخِلُهُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، معطوف على {كَتَبَ}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به، {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة صفة لـ {جَنَّاتٍ}، {خَالِدِينَ}: حال من هاء {يدخلهم}، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {رَضِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {رَضِىَ}، {وَرَضُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {رَضِيَ}، {عَنْهُ}: متعلق بـ {وَرَضُوا}. {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَلَا}: أداة استفتاح. {إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ}: ناصب واسمه، {هُمُ}: ضمير فصل، أو مبتدأ، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر {إنَّ} أو خبر {هُمُ}، والجملة خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا}: من التولي، بمعنى الموالاة، لا بمعنى الإعراض. والموالاة: المودة، والمحبة، والصداقة. وأصله: توليوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: {تولوا}. {قَوْمًا}: هم اليهود. {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: غضب الله: سخطه، وطرده من رحمته. والغضب

في الأصل: حركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام ممن أساء لك. {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ}: والحلف: العهد بين القوم، والمحالفة: العهد. والحلف أصله: اليمين التي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عبر به عن كل يمين. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ}: أصله: أعدد، نقلت حركة الدال الأولى، إلى العين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أصله: سوأ، بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {جُنَّةً}: الجنة - بضم الجيم -: الترس؛ لأنه يجن صاحبه ويقيه من السلاح. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فالاتخاذ عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، اهـ من "الروح". {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} من الإغناء، يقال: أغنى عنه كذا، إذا كفاه. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} مصدره الحسبان، وهو أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، يقاربه الظن، لكن الظن: أن يخطر النقيضان بباله، فيغلب أحدهما على الآخر. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} من حذف الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها وسقتها سوقًا عنيفًا، وهو مما جاء على الأصل، كاستصوب واستنوق؛ أي: على خلاف القياس، فإن القياس أن يقال: استحاذ، بقلب الواو ألفًا، كاستقام واستعاذ، فهو فصيح استعمالًا وشاذ قياسًا. ومنه قول عائشة رضي الله عنها: "كان عمر أحوذيًا نسيج وحده"؛ أي: سائمًا ضابطًا للأمور، لا نظير له. {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: لم يمكنهم من ذكرهم إياه تعالى بما زين لهم من الشهوات. {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} والحزب: الفريق الذي يجمعه مذهب واحد. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: يعادونهما، ويخالفون أمرهما، من حادّه محادّةً، كشاقه مشاقة. وكلّ منهما: المخالفة، والمعاداة، والمنازعة. {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ}؛ أي: في جملة أذل خلق الله وأحقره؛ لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزّة الآخَر. {لَا تَجِدُ قَوْمًا}: {تَجِدُ}: فيه إعلال بالحذف، إذ قياسه: توجد، من وجد المثالي، من باب فعل بفتح العين، يفعل بكسرها، نظير وعد يعد، لكن فاء هذا الفعل حذفت من المضارع حذفًا مطردًا. {يُوَادُّونَ} أصله: يواددون، بوزن يفاعلون، سكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية. {مَنْ حَادَّ اللَّهَ} أصله: حادد بوزن فاعل، كرهوا توالي المثلين فسكنوا الدال

الأولى، فأدغموها في الثانية. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} العشيرة: أهل الرجل الذين يتكثّر بهم؛ أي: يصيرون بمنزلة الكامل. وذلك أن العشرة هو العدد الكامل، فصار العشيرة لكل جماعة من أقارب الرجل يتكثر بهم. والعشير: المعاشر قريبًا أو معارفًا. وفي "القاموس": عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته، انتهى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} للدلالة على تكرر الحلف وتجدده حسب تكرر ما يقتضيه. ومنها: التقييد بقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: دلالة على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه، فيكون حُجة على النظَّام، والجاحظ، كما مر. فائدة: ذكر علماء البلاغة في حد الصدق والكذب أقوالًا أربعة: أولًا - إن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع، والكذب عدم مطابقته له. ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين. ثانيًا - وهو للنظَّام من كبار المعتزلة -: أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر، ولو خطأ، والكذب: عدم مطابقته للاعتقاد، ولو صوابًا. وما الاعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب بلا واسطة. ثالثًا - وهو للجاحظ، أحد شيوخ المعتزلة أيضًا -: أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة. والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها. وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب - أي: واسطة بينهما -. وهو أربع صور: المطابق ولا اعتقاد لشيء، والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة، وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة، وغيره ولا اعتقاد. رابعًا - وهو للراغب -: وهو مثل قول الجاحظ، غير أنه وَصَف الصور الأربع بالصدق والكذب باعتبارين؛ فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد، والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد. وحجة ما لكل من الأقوال مذكورة

في محله. ومنها: التنكير في قوله: {عَذَابًا شَدِيدًا} إفادة لنوعية العذاب؛ لأنه يدل على أنه نوع من أنواع العذاب الشديد. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، أو التشبيه البليغ في قوله: {جُنَّةً} من قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}؛ لأنه حقيقة في الترس، فاستعير لما هو وقاية للشيء، أو كالجنة. ومنها: الجناس الناقص بين {يَعْلَمُونَ}، و {يَعْمَلُونَ} لتغيير الرسم. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}؛ لأنه حذف منه وجه الشبه، وهو عدم النفع في كل من الحلفين. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، وفي قوله: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. ومنها: المقابلة بين قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وبين قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: {الْخَاسِرُونَ}، {الْكَاذِبُونَ}، {خَالِدُونَ}، {يَعْمَلُونَ}. ومنها: رعاية الترتيب العجيب في قوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} إلخ. فقد بدأ أولًا بالآباء؛ لأنهم أدعى إلى الاهتمام بهم، لوجوب إخلاص الطاعة لهم، ثم ثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بحبات القلوب ثم ثلث بالإخوان؛ لأنهم هم المثابة عند الحاجة والناصر عند نشوب الأزمات، ثم ربع بالعشيرة؛ لأنها المستغاث في الشدائد، وهي الموئل والمفزع في النوائب، وهم المسرعون إلى النجدة. كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - ألفة الأزواج في المنازل. 2 - ألفة الأصحاب في المجالس. 3 - الأدب مع الحكام؛ بترك مضايقتهم لكثرة أعمالهم. 4 - رفق الحكام بالمحكومين عليهم إذا رأوا أمرًا يثقلهم. 5 - مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها، وبالنفاق والشقاق، فإن ذلك يضعفها، ويفرق جمعها، ويذلها (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمّ بعون الله تعالى، وتوفيقه تفسير سورة المجادلة في أوائل يوم الاثنين المبارك، اليوم الخامس من شهر شوال، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة 5/ 10/ 1415 هـ، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين.

سورة الحشر

سورة الحشر سورة الحشر نزلت بعد سورة البيّنة، وتسمى: سورة النضير. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، فقال: قل: سورة النضير؛ يعني: أنها نزلت في بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات. وهي مدنيّة - قال القرطبي -: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي، عن ابن عباس قال: (نزلت سورة الحشر بالمدينة). وآيها أربع وعشرون آية، وكلماتها سبع مئة، وخمس وأربعون كلمة، وحروفها ألف وتسع مئة وثلاثة عشر حرفًا. مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬1): 1 - أن في آخر السالفة قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وفي أول هذه قال: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}. 2 - أن في السابقة ذكر من حاد الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله. 3 - أن في السابقة ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وبيان عدم فائدة تولي المنافقين إياهم. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (¬2): أنه لما ذكر في السابقة حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا .. ذكر هنا أيضًا ما حلّ باليهود من غضب الله عليهم وجلائلهم، وإمكان الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ممن حاد الله ورسوله رام الغدر بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

تسميتها: سميت سورة الحشر، وسورة النضير؛ لذكر حشر بني النضير، وإخراجهم من المدينة إلى الشام فيها. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحشر ليس فيها منسوخ، وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ...} الآية (7)، نسخ الله تعالى بها آية الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ...} الآية (1) من سورة الأنفال. فضائلها (¬1): ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر .. وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات من يومه .. مات شهيدًا، ومن قرأها حين يمسي .. فكذلك". وقال: حديث حسن غريب. ومنه: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الحشر .. لم يبق شيء من الجنة والنار، والعرش والكرسي، والسموات والأرض، والهوام والريح، والسحاب، والطير والدواب، والشجر والجبال، والشمس والقمر، والملائكة، إلا صلوا عليه واستغفروا له، فإن مات في يومه أو ليلته .. مات شهيدًا". أخرجه الثعلبي، وفيه مقال. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الفتوحات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}. المناسبة قد عرفتَ مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها. وأما قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما (¬1): أن الله سبحانه لما بين ما حل ببني النضير من العذاب العاجل؛ كتخريب بيوتهم بأيديهم، وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع .. ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم، ¬

_ (¬1) المراغي.

فجعله فيئًا لله ورسوله، ينفق مثله على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة؛ لأنهم لم يقاتلوا لأجله. روي: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة في بدر وغيرها بينهم، فبيّن سبحانه الفرق بين الأمرين: بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم في تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب، والفيء فيما لم تتحلوا في تحصيله تعبًا. وحينئذٍ يكون أمره مفوّضًا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يضعه حيث يشاء. قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيّن مصارف الفيء فيما سلف، وذكر أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين .. ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية والمناقب الرفيعة، ثم مدح الأنصار ساكني المدينة، وبالغ في مدحهم. فذكر لهم هذه الفضائل: 1 - أنهم يحبون المهاجرين. 2 - أنهم ليس في قلوبهم حقد ولا حسد لهم. 3 - أنهم يفضلونهم على أنفسهم، ويعطونهم ما هم في أشد الحاجة إليه. وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشحّ المردي والبخل المهلك الذي يدنِّس النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر. ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان - وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة - يَدْعُون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة. ويطلبون من الله أن لا يجعل في قلوبهم حقدًا وحسدًا لهم. أسباب النزول سورة الحشر سبب نزولها (¬1): ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ¬

_ (¬1) أسباب النزول.

ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدًا منهم إلا ذكر فيها، قال: قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر، قلت: سورة الحشر؟ قال: نزلت في بني النضير". الحديث أخرجه مسلم أيضًا. وما أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت غزوة بني النضير - وهم: طائفة من اليهود - على رأس ستة أشهر من غزوة بدر، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنا لهم ما أقَلَّتِ الإبلُ من الأمتعة والأموال إلا الحلقة؛ يعني: السلاح، فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}. فقاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، كان الله قد كتب عليهم ذلك. ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي. وأما قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فكان ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام. تنبيه: الحديث - أي: حديث الحاكم - ليس على شرط الشيخين؛ لأنهما لم يُخرجا لزيد بن المبارك ومحمد بن ثور، وهما ثقتان. فالحديث صحيح، لكن في قوله: (على شرطهما) نظر. قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه البخاري عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، فنزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الحديث، أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود، وأحمد، وابن جرير، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} قال: اللينة: النخلة، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} قال: استنزلوهم من حصونهم، قال: وأمروا بقطع النخل، فحك في صدورهم، فقالوا: قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، ولنسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله سبحانه: {مَا قَطَعْتُمْ ¬

_ (¬1) أسباب النزول.

[1]

مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ...} الآية. قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يضم أو يضيف هذا"؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاوين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ضحك الله الليلة - أو عجيب - من فعالكما. فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وأخرج ابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي: أن رجلًا من المسلمين ... فذكر نحوه، وفيه أن الرجل الذي أضاف هو: ثابت بن قيس بن شماس. فنزلت فيه الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: إن جميع ما في السماوات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه، ويمجّده، إما (¬1) باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء، لا معقب لحكمه. والتسبيح معناه: تبعيد الله عن السوء، وتطهيره عما لا يليق بشأن ألوهيته. ويكون بالجنان واللسان والحال: الأول: اعتقاد العبد بتعاليه عما لا يليق بالألوهية، وذلك لأن من معاني التفعيل الاعتقاد بشيء والحكم به؛ مثل: التوحيد، والتمجيد، والتعظيم؛ بمعنى: الاعتقاد بالوحدة، والمجد، والعظمة، والحكم بها. والثاني: القول بما يدل على تعاليه؛ مثل: التكبير، والتهليل، والتأمين؛ بمعنى: أن يقول: الله أكبر، ولا إله إلا الله، وآمين. وهو المشهور عند الناس. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

والثالث: دلالة المصنوعات على أن صانعها متصف بنعوت الجلال، مقدس عن الإمكان وما يتبعه. وقال مجاهد: كل الأشياء تسبح لله، حيًّا كان أو جمادًا، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده. وهذا على الإطلاق. وأما بالنسبة إلى كل موجود: فالتسابيح مختلفة، فلكل موجود تسبيح مخصوص به من حيث ما يقتضيه نشأته، كما قال بعض الكبار. فإذا رأيت هؤلاء العوالم مشتغلين بالذكر الذي أنت عليه .. فكشفك خيالي غير صحيح لا حقيقي، وإنما ذلك خيالك أقيم لك في الموجودات، فإذا شهدت في هؤلاء تنوعات الأذكار .. فهو الكشف الصحيح، انتهى. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَزِيزُ}؛ أي: ذو العزة القاهرة {الْحَكِيمُ}؛ أي: ذو الحكمة الباهرة. وفي إيراد الوصفين بعد التسبيح إشارة إلى الباعث له والداعي إليه؛ لأن العزة أثر الجلال، والحكمة أثر الجمال، فله تعالى الاتصاف بصفات الكمال. 2 - قال المفسرون (¬1): نزلت هذه السورة في بني النضير - وهم: طائفة من اليهود من ذرية هارون أخي موسى عليه السلام - وكان بنو النضير، وقريظة وبنو قينقاع في وسط أرض العرب من الحجاز وإن كانوا يهودًا، والسبب في ذلك: أن بني إسرائيل كانت تُغِير عليهم العماليق في أرض الحجاز، وكانت منازلهم: يثرب والجحفة إلى مكة، فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام، فوجه إليهم جيشًا وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحدًا، ففعلوا ذلك، وترك منهم ابن مَلِكٍ لهم كان غلامًا حسنًا، فرقوا له. ثم رجعوا إلى الشام وموسى قد مات، فقالت بنو إسرائيل: قد عصيتم وخالفتم فلا نؤويكم، فقالوا: نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها ونكون بها، فرجعوا إلى يثرب، فاستوطنوها وتناسلوا بها إلى أن نزل عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم، فكانوا معهم إلى الإِسلام، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - .. صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا وظهر على المشركين .. قال بنو النضير: والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة، لا تُردُّ له راية. فلما غزا أُحدًا وهزم المسلمون .. ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، ونقضوا ¬

_ (¬1) الخازن بتصرف.

العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشًا، فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش، وكعبُ بن الأشرف في الأربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة - بفتح الميم - الأنصاري، وكان أخا كعب من الرضاعة، فقتله غيلةً - أي: خدعة - وذلك أنه أتاه ليلًا فاستخرجه من ييته بقوله: إني أتيتك لأستقرض منك شيئًا من التمر، فخرج إليه فقتله، ورجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ لأنه أضعف قلوبهم، وسلب قوتهم، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح حَجَر على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحصن، فعصمه الله سبحانه منهم، وأخبره بذلك جبريل عليه السلام. فلما قتل كعب بن الأشرف .. أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة، فلما سار إلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد! واعية على إثر واعية، وباكية على إثر باكية، قال: "نعم". فقالوا: ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اخرجوا من المدينة"، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وأذَّنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين، فإن قاتلوكم .. فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم .. لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك .. آمنا كلنا. فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود، حتى كانوا في براز من الأرض، فقال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلًا من أصحابه، كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك،

ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فيسمعون منك، فإن آمنوا بك .. آمنا بك وصدقناك، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها - وهو رجل مسلم من الأنصار - فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان من الغد صبحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به، فقبلوا ذلك، فصالحم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - وهي: السلاح - وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم. قال ابن عباس: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ما بقي. وقيل: أعطي كل ثلاثة نفر بعيرًا وسقاء، ففعلوا ذلك، وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حييّ بن أخطب؛ فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة. فذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: بني النضير {مِنْ دِيَارِهِمْ}؛ أي: من بيوتهم التي كانت بالمدينة. قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان، انتهى. أي: أمر بإخراج أهل التوراة؛ يعني: بني النضير من ديارهم. جمع دار. والفرق بين الدار والبيت: أن الدار دار وإن زالت حوائطها، والبيت ليس ببيت بعدما انهدم جدرانها؛ لأن البيت اسم لمبنى مسقف، مدخله من جانب واحد بني للبيتوتة، سواء كان حيطانه أربعة أو ثلاثة. وهذا المعنى موجود في الضُّفَّة إلا أن مدخلها واسع، فيتناولها اسم البيت. والبيوت اسم أخص بالمسكن، والأبيات بالشِّعر. و {اللام} في قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} للتوقيت كاللام في قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، متعلقة بـ {أَخْرَجَ}؛ أي: عند أول حشرهم وسوقهم إلى الشام، وفي "كشف الأسرار": اللام لام العلة؛ أي: أخرجوا من ديارهم ليكون حشرهم إلى

الشام أول الحشر، والحشر معناه: إخراج جمع من مكان إلى آخر، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، إذ كان انتقالهم من بلاد الشام إلى جانب المدينة عن اختيار منهم، وهم أول في أخرج به من جزيرة العرب إلى الشام، فعلى هذا الوجه ليس الأول مقابلًا للآخر. وسميت جزيرة؛ لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات. قال الخليل بن أحمد: مبدأ الجزيرة من حفر أبي موسى، إلى اليمن في الطول، ومن رمل بِبِريش - وهو موضع بحذاء الإِحساء - إلى منقطع السماوة في العرض. والسماوة بالفتح: موضع بين الكوفة والشام. أو يقال: هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم إجلاء عمر - رضي الله عنه - إياهم من خيبر إلى الشام، وذلك حين بلغه الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب". وقيل: آخر الحشر: حشر جمع الناس يوم القيامة؛ لأن المحشر يكون بالشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام .. فليقرأ هذه الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم: "اخرجوا" .. قالوا: إلى أين؛ قال: "إلى أرض المحشر". قال ابن العربي: الحشر أوّل وأوسط وآخر. فالأول: إجلاء بني النضير، والأوسط: إجلاء أهل خيبر، والآخر: يوم القيامة، انتهى. {مَا ظَنَنْتُمْ} أيها المسلمون {أَنْ يَخْرُجُوا}؛ أي (¬1): أن يخرج بنو النضير من ديارهم وبيوتهم بهذا الذل والهوان؛ بشدة بأسهم ووثاقة حصونهم؛ لأنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عَدد كثيرة وعُدد وافرة. {وَظَنُّوا}؛ أي: ظن بنو النضير ظنًا قويًا هو بمرتبة اليقين؛ لأن {أَنْ} لا تقع إلا بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته. {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ} وحافظتهم {حُصُونُهُمْ} وقلاعهم {مِنَ} بأس {اللَّهِ} وعذابه وبطشه؛ أي: وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وقهره وبطشه. وقوله: {مَانِعَتُهُمْ} خبر مقدم، {حُصُونُهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {أَنَّهُمْ}. وقدم الخبر وأسند الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم في عزة ومنعة لا يبالى بسببها، فتقديم المسند يفيد قصر المسند إليه على المسند. فإن معنى قائم زيد: أن زيدًا مقصور على القيام لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

يتجاوزه إلى القعود، وكذا معنى الآية: أن حصونهم ليس لها صفة غير المانعية، ويجوز أن يكون {مَانِعَتُهُمْ} خبر {أَنَّهُمْ}، و {حُصُونُهُمْ} فاعل {مَانِعَتُهُمْ} لاعتماده على المبتدأ. ورجح الثاني أبو حيان، والأول أولى. فإن قيل: ما المانع من جعل {مَانِعَتُهُمْ} مبتدأ {حُصُونُهُمْ} خبرًا، فإن كليهما معرفة؟ قلت: كون {مَانِعَتُهُمْ} نكرةً؛ لأن إضافتها غير مخصصة، وأن القصد إلى الإخبار عن الحصون. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ}؛ أي: أتى بني النضير أمرُ الله وقدره المقدور لهم {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} ولم يظنوا ولم يخطر ببالهم؛ أي: أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو: أنه سبحانه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون ذلك. وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه، قاله ابن جريج، والسدي، وأبو صالح؛ فإنّ قَتْلَهُ ممَّا أضعف قوتهم، وقيل شوكتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب. و {الفاء}: إما للتعقيب إشارة إلى أن البأس لم يكن متراخيًا عن ظنهم، أو للسبب إشارة إلى أنهم إنما أخذوا بسبب إعجابهم بأنفسهم وقطعهم النظر إلى صدرة الله وقوَّته. {وَقَذَفَ}؛ أي: ألقى الله سبحانه وتعالى، وأركز، وأثبت {فِي قُلُوبِهِمُ}؛ أي: في قلوب بني النضير {الرُّعْبَ}؛ أي: الخوف الذي أرعبها وملأها، بحيث غير عقلهم، وأعجز أنفسهم، وشوش رأيهم، وفرق تدبيرهم؛ أي: ألقى في قلوبهم الخوف من المسلمين. والمراد (¬1) بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو: الذي ثبت في "الصحيح" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". وجملة قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} مستأنفة لبيان حالهم عند الرعب أو في محل النصب على الحال؛ أي: يخربونها بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء .. حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها ¬

_ (¬1) الشوكاني.

من داخل والمسلمون من خارج، ولينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل. {وَ} بـ {أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} حيث كانوا يخربونها إزالة لمتحصنهم ومتمنعهم، وتوسيعًا لمجال القتال، وإضرارًا بهم، وإسناد هذا إليهم لما أنهم السبب فيه، فكأنهم كلفوهم إياه، وأمروهم به، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكبر الكبائر: أن يسب الرجل والديه"، فقالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ فقال: "يساب الرجل، فيسب أباه فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". وقال الضحَّاك وقتادة: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. وقال الزهري، وابن زيد، وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لهم ما أقلت الإبل .. كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضًا: يخربون بيوتهم بنقض المعاهد، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة. وقال أبو عمرو: بأيديهم بتركم لها، وبأيدي المؤمنين بإجلائهم عنها. وقرأ الجمهور (¬1): {يخْربون} بالتخفيف. وقرأ الحسن، والسلمي، ونصر بن عاصم، وأبو العالية، وأبو عمرو، وقتادة، والجحدري، ومجاهد، وأبو حيوة، وعيسى: {يخرِّبون} بالتشديد. والقراءاتان بمعنى واحد، إلا أن في التشديد معنى التكثير. وفيه إشارة إلى أن استناد الكفار إلى الحصون والأحجار والسلاح، وأن اعتماد المؤمنين على الله الملك الغفار؟ ولا شك أن من اعتمد على المأمن الحقيقي ظفر بمراده في دنياه وآخرته، وأن ما استند إلى ما سوى الله تعالى خسر خسرانًا مبينًا في تجارته. {فَاعْتَبِرُوا}؛ أي: فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار. {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} والعقول والبصائر الكاملة، واتقوا مباشرة ما أدّاهم إليه من الكفر والمعاصي، وانتقلوا من حال الفريقين إلى حال ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

أنفسكم، فلا تعولوا على تعاضد الأسباب كبني النضير الذين اعتمدوا على حصونهم ونحوها، بل توكلوا على الله تعالى. وفي "عين المعاني": فاعتبروا بها خراب جميع الدنيا. ومعنى الآية: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي (¬1): هو الذي أجلى بني النضير من المدينة بقوته وعزته وعظيم سلطانه. وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب، لم يصبهم الذل قبلها؛ لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة: وآخر حشر لهم: إجلاء عمر - رضي الله عنه - لهم من خيبر إلى الشام. ثم بيّن فضل الله على المؤمنين ونعمته عليهم في إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرًا، فقال: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}؛ أي: ما خطر لكم ذلك - أيها المؤمنون - ببال؛ لشدة بأسهم ومنعتهم، وقوة حصونهم، وكثرة عَددهم وعُددهم. وفي ذكر هذا تعظم النعمة؛ فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب .. كانت مكانتها في النفوس أعظم وكانت بها أشد سرورًا وابتهاجًا، والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين. وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مرد له، وصدق الله {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. ثم ذكر ما جرأهم على مشاكسة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأليب المشركين عليه، فقال: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء، فلا يستطيع جيش مهما أوتي من بأس أن يصل إليهم بأذى، فاطمأنوا إلى تلك القوة، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمشركين طمعًا في القضاء عليه بعد أن أصبحت له الزعامة الدينية والسياسية في المدينة، وسيكون في ذلك القضاء عليهم لو صبروا، وقد غبروا وهم أصحاب السلطان فيها، لأنهم من وجه أهل كتاب، ومن وجه آخر أرباب النفوذ المالي فيها وأصحاب الثروة والجاه العريض. ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}؛ أي: فجاءهم بأس الله وقدرته التي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال، وصدق ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

فيهم ما قيل: قد يؤتى الحَذِرُ من مأمنه. فأجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالي الشام، وطائفة إلى خيبر، على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم. ثم بيّن أسباب هذا الاستسلام السريع والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العَدد والعُدَد فقال: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}؛ أي: بث في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلًا، ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم وإرسال المدد إليهم وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فهم قد أوقدوا نارًا كانوا هم حطب لهبها، وفتحوا ثغرة برؤوسهم قد سدوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة. ثم بيَّن مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم، فقال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ...} إلخ؛ أي: يخربون بيوتهم بأيديهم. ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجاز أفواه الأزقة، حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد. جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى؛ كالخشب والعمد والأبواب. ويخربها المؤمنون من خارج؛ ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم. ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار، فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}؛ أي: فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهؤلاء، من أمور عظام وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، وأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى عنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة. وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره وإياكم والغدر والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ. 3 - ثم بيَّن أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر، فقال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ} وحكم في سابق علمه {عَلَيْهِمُ}؛ أي: على بني النضير

{الْجَلَاءَ}؛ أي: الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع. و {لولا} (¬1) امتناعية، وما بعدها مبتدأ محذوف الخبر. فإن {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المقدر؛ أي: ولولا أنه، و {كَتَبَ اللَّهُ}: خبرها، وجملة {أنْ} في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: ولولا كتاب الله عليهم الجلاء واقع في علمه أو في لوحه .. {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة إخوانهم من اليهود. قال بعضهم: لما استحقوا بجرمهم العظيم قهرًا عظيمًا .. أخذوا بالجلاء الذي جعل عديلًا لقتل النفس؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} مع أن فيه احتمال إيمان بعضهم بعد مدة وإيمان من يتولد منهم. وكان (¬2) بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى عليه السلام في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق، تركوه لجماله وعقله، وقال موسى عليه السلام: لا تستحيوا منهم أحدًا، فلما رجعوا إلى الشام .. وجدوا موسى عليه السلام قد مات، فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة، والله لا دخلتم علينا بلادنا. فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام؛ فإنه أجلى معظمهم من بلاد الشام إلى العراق، وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذلك .. لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا القوم عن منازلهم، وأجلاهم غيرهم. قيل: والفرق بين الجلاء والإخراج: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لجماعة ولواحد. وقرأ الجمهور: {الْجَلَاءَ} ممدودًا، والحسن بن صالح، وأخوه عليّ بن صالح مقصورًا. وقرأ طلحة مهموزًا من غير ألف كـ {النبأ}. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}؛ أي: إن نجوا من عذاب الدنيا .. لم ينجوا في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[4]

الآخرة. والجملة (¬1) مستأنفة غير متعلقة بجواب {لولا} إذ لو كانت معطوفة عليه .. لزم أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضًا؛ لأن {لولا} تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط، وإنما جيء به لبيان أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء .. لا نجاة لهم من عذاب الآخرة. يقول الفقير: لا يلزم من نجاتهم من عذاب الدنيا أن لا يكون جلاؤهم من قبيل العذاب، وإنما لم يكن منه بالنسبة إلى عذاب الاستئصال. والحكمة في جلائهم: أنهم قصدوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتله شر من ألف قتل، فأخذوا بالجلاء ليموتوا كل يوم ألف مرة؛ لأن انقطاع النفس عن مألوفاتها بمنزلة موتها، فجاء الجزاء من جنس العمل. والمعنى (¬2): أي ولولا أن الله قدر الجلاء من المدينة وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين .. لعذبهم في الدنيا بما هو أفظع منه، من قتل وأسر، كما فعل مع المشركين في وقعة بدر، وكما فعل مع بني قريظة في سنة خمس من الهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعي في إطفاء نور الإِسلام حتى لا تقوم لهم قائمة، إلى ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة وتجازى كل نفس بما كسبت. 4 - ثم بيّن السبب فيما حل بهم، وذر علته بقوله: {ذَلِكَ}؛ أي: ما حاق بهم من الجلاء، وسيحيق من عذاب الآخرة. {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: خالفوا أمرهما، وفعلوا ما فعلوا مما حكي عنهم من القبائح. والمشاقة: كون الإنسان في شق ومخالفه في شق آخر. {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} كائنًا من كان {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} له. فهو (¬3) نفس الجواب بحذف العائد، أو تعليل للجزاء المحذوف؛ أي: يعاقبه الله، فإن الله شديد العقاب، فإذًا لهم عقاب شديد أيضًا لكونهم من المشاقين، وأيا ما كان، فالشرطية تحقيق للسببية بالطريق البرهانيّ. وفيه إشعار بأنّ المخالفة تقتضي المؤاخذة بقدر قوتها وضعفها، فليحذر المؤمنون من العصيان مطلقًا. واقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأنَّ مشاقته مشاقة لرسوله. وقيل: بينهما فوق، فإن مشاقة الله: الامتناع من امتثال المأمورات بإنكارها، كالامتناع من أداء الصلوات لجحدها، وكذا للزكاة والحج مثلًا. ومشاقة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[5]

الرسول: المنازعة معه في حكمة أمره ونهيه، مثل أسرار الصلوات الخمس واختلاف أعدادها، واختلاف قراءتها جهرًا وسرًّا، ومثل: أسرار الزكاة واختلاف أحكامها، ومثل: أحكام الحج ومناسكه. ونحن أمرنا بمحضى الامتثال والانقياد، وما كلفنا بمعرفة أسرارها وحقائقها، والشعبي - صلى الله عليه وسلم - مع كمال عرفانه وجلال برهانه يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}، وقال: "نحن نحكم بالظواهر والله يعلم السرائر". وقرأ الجمهور: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} بالإدغام. وقرأ طلبة بن مصرف ومحمد بن السميع {يشاقق} بالإظهار، كالمتفق عليه في الأنفال. والمعنى: أي إنه تعالى إنما فعل ذلك بهم، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ثم ذكر مآل من يعادي الله ورسوله، فقال: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}؛ أي: ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان في الدنيا، والنكال السرمدي في الآخرة. 5 - ثم ذكر أن كل شيء بقضاء الله وقدره، فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}: {مَا} شرطية، نصب بـ {قَطَعْتُمْ}. واللينة: وزان فعلة، نظير حنطة، وهي: النخلة الكريمة الشجرة، بكونها قريبة من الأرض والطيبة الثمرة، ولا تختص بنوع من النخل دون نوع، كما قاله الراغب. وقيل: اللينة ضروب النخل كلها، ما خلا العجوة والبرنية، وهما أجود النخل. والمعنى: أي شيء قطعتم من نخلة من نخيلهم بأنواعها {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الضمير لـ {مَا} وتأنيثه لتفسيره باللينة كما في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}. {قَائِمَةً}: في حال من ضمير المفعول {عَلَى أُصُولِهَا} وسوقها كما كانت، من غير أن تتعرضوا لها بشيء من القطع. جمع أصل، وهو ما يتشعب منه الفرع. {فـ} ـذاك {بإذن الله} تعالى؛ أي: قطعُها وتركُها واقع بأمر الله لإرادته، فلا جناح عليكم فيه؛ فإن في كل من القطع والترك حكمة ومصلحة. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير -

وهم أهل كتاب -: يا محمد! ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجد المسلمون في أنفسهم شيئًا. فنزلت هذه الآية. أي: أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله تعالى. فجعل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الله تعالى؛ لأنه ما ينطق عن الهوى. وقرأ الجمهور (¬1): {قَائِمَةً} أنث قائمة، والضمير في {تَرَكْتُمُوهَا} على معنى {مَا} وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي {قومًا} بفتحتين على وزن فعل، جمع قائم، وقرىء {قائمًا} اسم فاعل، فذكر على لفظ {مَا} وقرأ الجمهور {عَلَى أُصُولِهَا} بالجمع، وقرىء {على} أصلها بغير واو على الإفراد. و {اللام}: في قوله: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} علة لمحذوف، و {الواو}: عاطفة على علة محذوفة، والتقدير: أذن في قطعها ليسر المؤمنين ويعزهم، ويخزي الفاسقين، أي: وليذل اليهود الخارجين عن دائرة الإِسلام؛ لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف أحبوا، ويتصرفون فيها حسبما شاؤوا من القطع والترك .. يزدادون غيظًا ويتضاعفون حسرة. وتخصيص (¬2) اللينة بالقطع إن كانت من الألوان .. ليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية هما كرام النخل، وإن كانت هي الكرام .. ليكون غيظهم أشد. ويقال: إن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة. والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها. فلذا شق على اليهود قطعها، وظهر من هذا أن اللون هو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة. ومن أنواع التمر بالمدينة: الصيحاني. وفي "شرح مسلم" للنواوي: أنواع التمر مئة وعشرون. وفي "تاريخ المدينة الكبير" للسيد السمنودي: أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مئة، وبضعًا وثلاثين. ويوافقه قول بعضهم: اختبرناها فوجدنا أكثر مما ذكره النواوي، قال: ولعل ما زاد على ما ذكر حدث بعد ذلك، وأما أنواع التمر بغير ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[6]

المدينة، كالمغرب .. فلا تكاد تنحصر. وكانت العجوة خير أموال بني النضير؛ لأنهم كانوا يقتاتونها، ولما قطعت العجوة .. شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل كما في "إنسان العيون". واستدل بهذه الآية على جواز هدم ديار الكفرة، وقطع أشجارهم مثمرة كانت أو غير مثمرة، وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وعلى جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين. والكلام فيه مبسوط في كتب الأصول. والمعنى: وقد أذن الله في ذلك ليعز المؤمنين، وليخزي الفاسقين ويذلهم، ويزيد غيظهم، ويضاعف حسرتهم بنفاذ حكم أعدائهم في أعز أموالهم. والخلاصة: أنكم بأمر الله قطعتم، ولم يكن ذلك فسادًا، بل نعمة من الله ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه. 6 - ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم (¬1)، وتركوا أرباعهم وأموالهم .. طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر. فنزلت: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ...}. فبين أن أموالهم فيء لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشيًا، ولم يركب إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا شروع في (¬2) بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل، وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع. و {ما} موصولة، وقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} خبره. ويجوز جعلها شرطية، وقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} جوابًا. والفيء في الأصل بمعنى الرجوع، وأفاء: أعاد وأرجع فهو على أصل معناه هنا. والمعنى: وما أعاده الله على رسوله ورده، وأرجع إليه من مالهم؛ أي: جعله عائدًا إليه، ففيه إشعار بأنه كان حقيقًا بأن يكون له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما وقع في أيديهم بغير حق، فرجعه الله إلى مستحقه؛ لأنه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق ليتوسلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين، وهو - صلى الله عليه وسلم - رأسهم ورئيسهم، وبه أطاع من أطاع، فكان أحق به. فالعود على هذا بمعنى: أن يتحول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الشيء إلى ما فارق عنه، وهو الأشهر. ويجوز أن يكون معناه: صيّره له، فالعود على هذا بمعنى: أن يتحول الشيء إلى ما فارق عنه، وإن لم يكن ذلك التحول مسبوقًا بالحصول له قبل. والحمل هنا على هذا المعنى لا يحوج إلى تكلف توجيه بخلاف الأول. وكلمة {على} تؤيد المعنى الثاني. قال بعضهم: سمى ذلك المال فيئًا تشبيهًا له بالفيء، الذي والظل، تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل. قال المطرزي في "المُغْرِب": الفرق بين الغنيمة، والفيء، والنفل: أن الغنيمة: ما نيل من أن الشرك عنوة والحرب قائمة، وحكمها: أن تخمس، وسائرها بعد الخمس للغانمين خاصة. والفيء: ما نيل منهم بعدما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، ومنه الجزية، ومال أهل الصلح والخراج من أموالهم. وحكمه؛ أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس. والنَّفَلُ - بالتحريك -: ما ينفلُه المغازي؛ أي: يعطاه زائدًا على سهمه؛ لكثرة نكايته في الأعداء، وكأن يقول الإِمام أو الأمير: من قتل قتيلًا .. فله سلبه، أو قال للسرية: ما أصبتم .. فلكم ربعه أو نصفه، ولا يخمس. وعلى الإِمام الوفاء به. {مِنْهُمْ} أي: من بني النضير {فَمَا} نافية {أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ}؛ أي: أجريتم على تحصيله وتغنمه من الوجيف، وهو سرعة السير. {مِنْ خَيْلٍ}: {مِنْ} زائدة بعد النفي للتأكيد؛ أي: خيلًا. وهو جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، كما سيأتي. {وَلَا رِكَابٍ}؛ أي: ولا ركابًا؛ أي: جملًا. والركاب هو: ما يركب من الإبل خاصة، كما أن الراكب عندهم راكبها لا غير. وأما راكب الفرس فإنهم يسمونه فارسًا، ولا واحد لها من لفظها، وإنما الواحد منها: راحلة. والمعنى: أي وما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير (¬1)، فما قطعتم لها شقة بعيدة، ولا لقيتم مشقة شديدة، ولا قتالًا شديدًا، وذلك أنه كانت قرى بني النضير على ميلين من المدينة، وهي ساعة واحدة بحساب الساعات النجومية، فذهبوا إليها مشيًا، وما كان فيهم راكب إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يركب حمارًا مخطومًا بليف أو جملًا، فافتتحها صلحًا من غير أن يجري بينهم مسايفة. كأنه قال: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

وما أفاء الله على رسوله منهم، فما حصلتموه بكد اليمين وعرق الجبين. والمعنى (¬1): أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بني النضير .. فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم؛ لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقًا ورعبًا، ولهذا: يصرف في وجوه البرّ والمنافع العامة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات. أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى). {وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه؛ أي: ولكن جرت سنة الله تعالى بأن {يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} من أعدائه، ويقذف الرعب في قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال، ولا مصاولة، ما سلط محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء، فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة في الفيء، بل يكون أمره مفوضًا إلى الرسول، يصرفه كيف شاء ولا يقسمه تقسيم الغنائم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن، وأخرى على غير ما يعهد منها، كما جرى لبني النضير من استسلامهم بلا قتال، على مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون. وبعد أن أتمّ الكلام في إجلاء بني النضير وفيئهم أعقبه بالكلام في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة، 7 - فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} سبحانه ورده {عَلَى رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}؛ أي: من أموال الكفار أهل القرى. قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر وقرى عرينة، وينبع. وهذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان إفاءته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يكون للمقاتلة فيه حق، ولذا لم يعطف عليه، كأنه لما قيل: ما أفاء على رسوله من أموال بني النضير ¬

_ (¬1) المراغي.

شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل: فكيف يقسم؟ فقيل: ما أفاء الله .. إلخ. قال في "برهان القرآن": قوله: {وَمَا أَفَاءَ}، وبعده {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} بغير واو؛ لأن الأول معطوف على قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}، والثاني استئناف لبيان مصارف مطلق الفيء، وليس له به تعلق. وقول من قال: بدل من الأولى، مزيف عند أكثر المفسرين، انتهى. وإعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير والتأكيد. ووضع أهل القرى موضع قوله: {مِنْهُمْ} أي: من بني النضير؛ للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم عام على كل قرية يفتحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلحًا، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. والمعنى: ما رده الله سبحانه على رسوله من كفار أهل القرى، كقريظة، والنضير، وفدك، وخيبر، يصرف في وجوه البرّ والخير، ولا يقسم تقسيم الغنائم؛ أي: لا تعطى أربعة أخماسه للمقاتلة؛ لأن القتال ليس موجودًا في الفيء، بل يخمس الفيء كالغنائم أيضًا، ولكن يصرف أربعة أخماسه في مصالح المسلمين، من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، والمدارس والمساجد، يقدم الأهم فالأهم. وأما الخمس الباقي: فيخمس أيضًا، فتصرف أخماسه في المصارف المذكورة بقوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}؛ أي: يصرف خمس الخمس لله وللرسول يأمران فيه بما أحبّا. وذكر الله للتشريف والتعظيم والتبرك. والمراد: يصرف هذا الخمس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منه أهل بيته قوت سنة، وما بقي في مصالح المسلمين من السلاح والكراع. وقال الواحدي في تفسيره "الوجيز على القرآن العزيز": وكان الفيء يخمس خمسة أخماس، فكانت أربعة أخماسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل فيها ما يشاء، والخمس الباقي يقسم بين المذكورين في هذه الآية. فأما اليوم فما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الفيء يصرف إلى أهل الثغور والمترصدين للقتال في أحد قولي الشافعي، انتهى. والمراد: أن للرسول من الفيء خمس، والأربعة الأخماس، يعني: أن لهؤلاء الأصناف المذكورة هنا أربعة أخماس الخمس والباقي للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وهو أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس، وبعده - صلى الله عليه وسلم - أربعة أخماس الفيء للمرتزقة، وخمس الخمس لمصالحنا. اهـ. "شيخنا" انتهى من "الفتوحات".

{و} يصرف الخمس الثاني {لِذِي الْقُرْبَى}؛ أي: لذوي قربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مؤمني بني هاشم وبني المطلب، الفقراء منهم، قيل: ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم قد منعوا من الزكاة فجعل لهم حقًا في الفيء. وقال في "شرح الآثار" عن أبي حنيفة - رحمه الله -: أن الصدقات كلها جائزة على بني هاشم وبني المطلب، والحرمة عليهم كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لوصول خمس الخمس إليهم، فلما سقط ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - .. حلت لهم الصدقات. قال الطحاوي: وبالجواز نأخذ، كذا في "شرح الوقاية" لابن الملك. {و} يصرف الخمس الثالث لـ {الْيَتَامَى}؛ أي: يتامى المسلمين؛ أي: أطفال المسلمين الذين هلكت آباؤهم وهم فقراء. جمع يتيم، وهو: صغير لا أب له، وإن كان له جد أو أمّ. {و} يصرف الخمس الرابع لـ {الْمَسَاكِينِ}؛ أي: مساكين المسلمين ذوي الحاجة. {و} يصرف الخمس الخامس لـ {ابْنِ السَّبِيلِ}؛ أي: للمسافر المنقطع عن ماله ووطنه، ولا يمكن له أن يصل إليه لبعد الشقّة، وانقطاع طرق المواصلات وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة لكنها الآن سهلة، وهي على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف في أي بلد على سطح الكرة الأرضية. ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن. ثم علل هذا التقسيم بقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ} الفيء، {دُولَةً}: علة لمحذوف، تقديره: أي (¬1) جعل الله سبحانه الفيء قسمة لمن ذكر من الأصناف؛ لأجل أن لا يكون الفيء شيئًا متداولًا {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}؛ أي: شيئًا مخصوصًا بهم يكاثرون به أموالهم، لا يخرجونه إلى المستحقين، ولا يصرفونه للفقراء والمساكين يعيشون بها. وقرأ الجمهور (¬2): {كَيْ لَا يَكُونَ} بالياء التحتية. {دُولَةً} - بضم الدال ونصب التاء -؛ أي: كي لا يكون الفيء دولة. وقال الخطيب: وترسم {كي} هنا مفصولة من {لا} انتهى. وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، وهشام، والأعرج، وأبو حيوة {تكون} بالتاء الفوقية، و {دَولة} بفتح الدال ورفع التاء. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي، {دولة} بضمها وفتحها، لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة - بالفتح -: الذي يتداول من الأموال، وبالضم: الفعل. ¬

_ (¬1) المراح (كذا في الأصل). (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

وكذا قال أبو عبيدة. وال الكسائي، وحذاق البصرة: الدَّولة - بالفتح - في المُلك - بضم الميم -؛ لأنها الفِعْلة في الدهر، وبالضم في الملك بكسرِ الميمِ. والضمير في {تكون} بالتأنيث مع نصب {دولةً} على معنى {مَا} إذ المراد به: الأموال، والمغانم. وذلك الضمير اسم {تكون}. وكذلك من قرأ بالياء أعاد الضمير على لفظ؛ {مَّا} أي: يكون الفيء، وانتصب {دُولَة} على الخبر. ومن رفع {دولةٌ} فتكون تامة، و {دولةٌ} فاعل؛ و {كَيْ لَا يَكُونَ} تعليل لقوله: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}. أي: فالفيء وحكمه لله وللرسول، يقسمه على ما أمره الله تعالى؛ كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولًا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم، ويقولون: من عزّ بزّ. والمعنى: كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية، قاله أبو حيان. وعبارة "الخازن": وذلك أن الجاهلة كانوا إذا غنموا غنيمة، أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي بعد المرباع منها ما شاء، فجعله الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يقسمه على ما أمره الله به. اهـ. والمعنى (¬1): أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسمًا بين هؤلاء المذكورين لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم ويتكاثرون به، كما كان ذلك دأبهم في الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شيء. ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال. أمرهم بالاقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ}؛ أي: وما، أعطاكم - أيها المؤمنون - الرسولُ من أموال الفيء وغيره {فَخُذُوهُ} منه؛ فهو لكم حلال {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}؛ أي: عن أخذه {فَانْتَهُوا} عنه؛ أي: فابتعدوا عنه، ولا تطلبوه، ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى، كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وقال ابن جريج (¬2): ما آتاكم من طاعتي .. فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي .. فاجتنبوه. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

والحق: أن هذه الآية في كل شيء يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر أو نهي أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصًا، كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكل شيء أتانا به من الشرع .. فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. أخرج الشيخان، وأبو داوود، والترمذي في جماعة، عن ابن مسعود قال: (لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيّرات لخلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، كانت تقرأ القرآن، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوْحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأته .. فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟. قالت: بلى، قال: فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنه). وعن أبي رافع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدته في كتاب الله اتبعناه". وروي في سبب نزول هذه الآية (¬1): أن قومًا من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة، وقالوا: لنا منها سهمنا. فنزل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...} الآية. وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها، حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر، وحكم الواشمة والمستوشمة، وتحريم المخيط للمحرم. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه .. أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالي بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فـ {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه، وخالف أمره، وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه. ورسوله ترجمان عما يريده لخير عباده ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[8]

وسعادتهم في الدنيا والآخرة. 8 - وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ} قيل (¬1): هو بدل من قوله: {لذي القربى} وما عطف عليه؛ أي: وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للفقراء المهاجرين. ولا يصح أن يكون بدلًا من {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لئلا يلزم وصف الله تعالى والرسول بالفقر. والمعنى عليه: أنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين: فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم، طلبًا لمرضاة الله، ونيلًا لثوابه، ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه. وقيل: تقدير الكلام: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وقيل (¬2): متعلق بمحذوف، تقديره: تعجبوا من حال الفقراء المهاجرين، ويكون خطابًا لكل من يصلح منه التعجب والتأمل في حال المهاجرين، حيث تركوا أوطانهم، وأموالهم، وتحملوا الضيق والتغرب في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - والإِسلام. وفي هذا نوع تخويف ونوع توبيخ للكفار والمنافقين القاطنين بأوطانهم مع الأمن والسعة، ولم يؤمنوا، فليتهم اعتبروا بالمهاجرين. ومعنى {الْمُهَاجِرِينَ}؛ أي: الذين هاجروا وارتحلوا من أوطانهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبة في الدّين ونصرة له. ومعنى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}؛ أي: أخرجهم كفار مكة منها، واضطروهم إلى الخروج وكانوا مئة رجل. وقال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين حال كونهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} تعالى في الدنيا {وَرِضْوَانًا} منه في الآخرة؛ أي (¬3): حال كونهم طالبين منه تعالى رزقًا في الدنيا ومرضاة في الآخرة. وصفوا أولًا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار، وقد أعاد ذلك ثانيًا بما يوجب تفخيم شأنهم، ويؤكده، فهو حال من واو {أُخْرِجُوا}. وفي ذكر حالهم ترقّ من العالي إلى الأعلى، فإن رضوان الله أكبر من عطاء الدنيا. {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ عطف على {يَبْتَغُونَ}، فهي حال مقدرة؛ أي: ناوين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

[9]

نصرة الله بإعلاء دينه، ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته أو مقارنة، فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة، وأي نصرة {أُولَئِكَ} المهاجرون الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة، وهو مبتدأ، وخبره {هُمُ الصَّادِقُونَ}؛ أي: الكاملون في الصدق الراسخون فيه، حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهورًا بينًا كأنّ الصدق مقصور عليهم لكمال آثاره. أي: هؤلاء (¬1) هم الصادقون في إيمانهم؛ إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم وهي العزيزة على النفوس المحببة إلى القلوب. بِلَادِيْ وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ... وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوْا عَلَيَّ كِرَامُ وتركوا الأموال، والمال شقيق الروح، وكثيرًا ما يقتل المرء في سبيل الذود عنه وانتزاعه من أيدي غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدِّين ورفعة شأنه، وذيوع ذكره. فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال وعظيم الخلال. روي: أن رجلًا منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة في الشتاء، ماله دثار غيرها.! وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمس مئة سنة". أخرجه أبو داود. 9 - ثم مدح سبحانه الأنصار، وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم على الفيء، إذ جعل للمهاجرين دونهم، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ}؛ أي: لزموا دار الهجرة، وهي المدينة، {و} أخلصوا {الْإِيمَانَ} لله تعالي، مبتدأ خبره سيأتي. وهو كلام مستأنف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاص الفيء بهم أحسن رضا وأكمله. ويجوز نصبه على المدح. ¬

_ (¬1) المراغي.

وجملة {يُحِبُّونَ} في محل النصب على الحال. والأنصار (¬1): بنو الأوس والخزرج، ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال في "القاموس": قحطان بن عامر بن شالخ أبو حيّ انتهى. وهو أصل العرب العرباء. ومن الأنصار: غسان، كشداد، ماء قرب الجحفة نزل عليه قوم من ولد الأزد، فشربوا منه، فنسبوا إليه. يقال: تبوأ المكان، إذا اتخذه منزلًا واستقر فيه. والدار هي المدينة، وتسمي قديمًا: يثرب، وحديثًا: طيبة وطابة. ومعنى تبوئهم الدار والإيمان: أنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءة، وتمكنوا فيهما أشد تمكن، على تنزيل الحال منزلة المكان. وقيل: ضُمِّنَ التبوؤ معنى اللزوم. وقيل: تبؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، أو قبلوه، أو آثروه، كقول من قال: عَلَّفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بَارِدًا أي: وسقيتها ماء باردًا فاختصر الكلام، وقيل: غير ذلك. يقول الفقير: لعل أصل الكلام: والذين تبؤوا دار الإيمان. فإن المدينة يقال لها: دار الإيمان لكونها مظهره ومأوى أصله، كما يقال لها: دار الهجرة. وإنما عدل إلى ما ذكر من صورة العطف تنصيصًا على إيمانهم، إذ مجرد التبوُّء لا يكفي في المدح. {مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: من قبل هجرة المهاجرين، فلا بدّ من تقدير مضاف، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل إيمان المهاجرين، بل منهم من آمن قبل الهجرة ومنهم من آمن بعدها. قال في "الإرشاد": يجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة، ولزومه وإخلاصه عبارة عن إقامة كافة حقوقه، التي من جملتها إظهار عامة شعائره، وأحكامه، ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين؛ لظهور عجزهم عن إظهار بعضها، لا عن إخلاصه قلبًا واعتقادًا؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك. جملة قوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبر (¬2) عن الموصول؛ أي: يحبونهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان، ولأن الله وحبيبه أحباؤهم، وحبيب الحبيب حبيب. {وَلَا يَجِدُونَ}؛ أي: ولا يجد الأنصار {فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}؛ أي: وجدًا وحسدًا وغيظًا وحزازة {مِمَّا أُوتُوا}؛ أي: مما أوتي المهاجرون دونهم، من الفيء وغيره بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي: لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إليه .. فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - بني النضير .. دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم. وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم. فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم. {وَيُؤْثِرُونَ}؛ أي: يقدمون المهاجرين، فالمفعول محذوف. والإيثار (¬1): تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة. يقال: آثرته بكذا؛ أي: خصصته به. أي: ويقدم الأنصار المهاجرين {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في كل شيء من أسباب المعاش، جودًا وكرمًا، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا منهم. والإيثار أيضًا: عطاؤك ما أنت تحتاج إليه. وفي الخبر: "لم يجتمع في الدنيا قوم إلا وفيهم أسخياء وبجلاء إلا في الأنصار، فإن كلهم أسخياء، ما فيهم من بخيل. {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}؛ أي: حاجة وخلة وفقر. مأخوذة من خصاص البيت، وهي: الفرج التي تكون فيه. شبه حالة الفقر والحاجة ببيت ذي فرج في الاشتمال على مواضع الحاجة. والخص: بيت من قصب وشجر. وجملة قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في محل نصب على الحال. وعن أنس رضي الله عنه: أنه قال: (أهدي لرجل من الأنصار رأس شاة، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له زاعمًا أنه أحوج إليه منه، فوجه جاره أيضًا إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول). ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول: آه آه، فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات". وهذا من قبيل الإيثار بالنفس، وهو فوق الإيثار بالمال. وقال في "التكملة": والصحيح: أن الآية نزلت في أبي طلبة الأنصاري - رضي الله عنه - حين نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيف، ولم يكن عنده ما يضيفه به، فقال: ألا رجلًا يضيف هذا رحمه الله، فقام أبو طلحة فانطلق به إلى رحله وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنوّمت الصبية وأطفات السراج، وجعل الضيف يأكل، وهما يُرِيان أنهما يأكلان معه ولا يفعلان، فنزلت الآية. وكانت قناعة السلف أوفر ونفوسهم أقنع وبركتهم أكثر، ونحن نؤثر أنفسنا على الغير، فإذا وضعت مائدة بين أيدينا .. يريد كل منا أن يأكل قبل الآخر، ويأخذ أكثر مما يأخذ الرفيق، ولذلك لم توجد بركة الطعام، وينفد سريعًا. والمعنى: أي والذين سكنوا المدينة وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة وشيم جليلة تدل على كرم النفوس ونبل الطباع. فهم: 1 - يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم. 2 - لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره. 3 - يقدمون ذوي الحاجة على أنفسهم، ويبدؤون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا من المهاجرين. ثم بيّن سوء عاقبة الشح، فقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره. والشُّح - بالضم والكسر -: بخل مع حرص، فيكون جامعًا بين ذميمتين من صفات النفس. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل. وقيل: الشح أشد من البخل. قال مقاتل: شح نفسه،

حرص نفسه. وقال سعيد بن جبير: شح النفس: أخذ الحرام، ومنع الزكاة. وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه .. فقد وفي شح نفسه. وقال طاووس: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح: أن يشح بما في أيدي الناس. وقال ابن عيينة: الشح: الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية: أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعًا، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس؛ أي: ومن يحفظ بتوفيق الله شحها وبخلها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. والإشارة بقوله: {فَأُولَئِكَ} إلى {مَنْ} باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: فأولئك المحفوظون من الشح هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. والفلاح اسم لسعادة الدارين. والجملة (¬1) اعتراض وارد لمدح الأنصار، والثناء عليهم. فإن الفتوة هي الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات ودقائق الأحوال؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "للهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". وقرأ الجمهور (¬2): {يُوقَ} بسكون الواو وتخفيف القاف، من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور {شُحَّ نَفْسِهِ} بضم الشين. وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها. والمعنى (¬3): أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به .. فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدًا". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[10]

وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب" ومسلم والبيهقي، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". وروى الأموي عن ابن مسعود: (أن رجلًا أتاه، قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وأنا رجل شحيح، لا أكاد أخرج من يدي شيئًا، فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، وإنما الشح: أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل). ففرق بين الشح والبخل. وليس المراد من تقوى الشح الجودُ بكل ما يملك؛ فقد روى أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "برىء من الشح من أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة". 10 - ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار .. ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: من بعد هجرة المهاجرين الأولين، ومن بعد قوة إيمان الأنصار، وهم: التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة. وقيل: هم الذين هاجروا بعدما قوي الإِسلام. والظاهر: شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار. والموصول (¬1) مبتدأ، وخبره {يَقُولُونَ}، والجملة مسوقة لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين، ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان ويجوز أن يكون الموصول معطوفًا على قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} فيكون {يَقُولُونَ} في محل النصب على الحال، أو مستأنف. والمراد بالأخوة هنا: أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار. ¬

_ (¬1) روح البيان.

أي: والذين جاؤوا من بعدهم يدعون لهم قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} ما فرط منا {وَلِإِخْوَانِنَا}؛ أي: في الدِّين، الذي هو أعزّ وأشرف عندهم من النسب. {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وصفوهم بذلك اعترافًا بفضلهم. قدموا أنفسهم في طلب المغفرة لما في المشهور من أن العبد لا بد أن يكون مغفورًا له حتى يستجاب دعاؤه لغيره. وفيه حكم بعدم قَبول دعاء العاصين قبل أن يُغْفَرَ لهم، وليس كذلك كما دلت عليه الأخبار. فلعل الوجه: أن تقديم النفس كونها أقرب النفوس إليه مع أن في الاستغفار إقرارًا بالذنب، فالأحسن للعبد أن يرى أولًا ذنب نفسه، كذا في بعض التفاسير. يقول الفقير: نفس المرء أقرب إليه من نفس غيره، فكل جلب أو دفع فهو إنما يطلبه أولًا لنفسه لإعطاء حق الأقدم، وأما غيره .. فهو بعده ومتأخر عنه. وأيضًا: إن ذنب نفسه مقطوع بالنسبة إليه، وأما ذنب غيره .. فمحتمل، فلعل الله قد غفر له وهو لا يدري. وأيضًا: تقديمهم في مثل هذا المقام لا يخلو عن سوء أدب وسوء ظن في حق السلف. ويقال: إنما بدؤوا بأنفسهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". ويدعون لأنفسهم قائلين: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا}؛ أي: حقدًا وبغضًا وحسدًا. وقرىء: {غمرًا}. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله على الإطلاق، صحابة أو غيرهم. وفيه إشارة إلى أن الحقد على غيرهم جائز لغيرة الدِّين، وإن لم يكن الحسد جائزًا. أمرهم الله سبحانه (¬1). بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولًا أوليًّا؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم .. فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلًّا لهم .. فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به، والتوبة منه، والعياذ من ذلك كله بالله تعالى. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء، والبغي، والظلم، والسرقة، وسائر أنواع الفجور. ونحو الآية قوله تعالى في سورة براءة: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ أي: ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك، كثير الرحمة لهم، فحقيق بأن تجيب دعاءنا، فأجب دعاءنا يا إلهنا ويا مالك أمرنا. وفي الآية (¬1) حث على الدعاء للصحابة وصفاء القلوب من بغض أحد منهم، ودليل على أن الترحم والاستغفار واجب على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم، لا سيما لآبائهم ولمعلمهم أمور الدِّين. قالت عائشة رضي الله عنها: "أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم". وفي الحديث: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رجلًا وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؛ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...} الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، فأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ...} الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء. وفي تكرير: {رَبَّنَا} إظهار لكمال الضراعة. وفي الأثر: "من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا .. أنجاه الله مما يخاف". الإعراب {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}. {سَبَّحَ}: فعل ماضي، {لِلَّهِ}: متعلق به، وقيل: {اللام}: زائدة، {مَا} فاعل، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {مَا} {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، والجملة الفعلية مستأنفة، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: مبتدأ وخبر، {الْحَكِيمُ}: ¬

_ (¬1) روح البيان.

خبر ثان، والجملة في محل النصب حال من الجلالة، أو مستأنفة {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {أَخْرَجَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {كَفَرُوا}: صلة {الَّذِينَ}، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: حال من {الَّذِينَ}، {مِنْ دِيَارِهِمْ}: متعلق بـ {أَخْرَجَ}، {لِأَوَّلِ}: {اللام}: حرف جر وتوقيت، بمعنى: عند متعلق بـ {أَخْرَجَ} أيضًا، {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}: مجرور ومضاف إليه {مَا} نافية، {ظَنَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَن} حرف نصب ومصدر {يَخْرُجُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} وجملة {أَن} المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن، أي: ما ظننتم خروجهم. {وَظَنُّوا}: {الواو}: عاطفة. {ظنوا}: فعل وفاعل معطوف على {مَا ظَنَنْتُمْ}، {أَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {مَانِعَتُهُمْ}: خبر مقدم، {حُصُونُهُمْ}: مبتدأ مؤخر. ويجوز أن يكون {مَانِعَتُهُمْ} خبر {أَنَّهُمْ}، {حُصُونُهُمْ}: فاعل مانعتهم؛ لاعتماده على المخبر عنه. وجملة {أَنْ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن؛ أي: وظنوا منع حصونهم من الله تعالى. و {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {مَانِعَتُهُمْ}. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)}. {فَأَتَاهُمُ} الفاء: عاطفة، {أتاهم الله}: فعل ومفعول، وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {ظنوا}، {مِنْ حَيْثُ}: متعلق بـ {أتاهم}، وجملة {لَمْ يَحْتَسِبُوا} في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَقَذَفَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على {فَأَتَاهُمُ}، {فِي قُلُوبِهِمُ}: متعلق بـ {قذف}، {الرُّعْبَ}: مفعول قذف {يُخْرِبُونَ}: فعل وفاعل والجملة في محل النصب حال من ضمير {قُلُوبِهِمُ}؛ لأن المضاف كان جزءًا من المضاف إليه، أو مستأنفة لبيان الرعب. {بُيُوتَهُمْ}: مفعول به، {بِأَيْدِيهِمْ}: متعلق بـ {يُخْرِبُونَ}، {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}: معطوف على {أيديهم}. {فَاعْتَبِرُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما فعل الله بهم وعقلتموه وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اعتبروا يا أولي الأبصار، {اعتبروا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {يَا أُولِي} {يا}: حرف نداء، {أُولِي}: منادى مضاف

منصوب، وعلامة نصبه الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم جمع ملحق بجمع المذكر السالم. {أولي}: مضاف {الْأَبْصَارِ}: مضاف إليه، وجملة النداء جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب. {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}. {وَلَوْلَا}: {الواو}: استئنافية، {لَوْلَا}: حرف امتناع لوجود، {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن {كَتَبَ اللهُ}: فعل وفاعل {عَلَيْهِمُ}: جار ومجرور متعلقان بـ {كَتَبَ}. {الْجَلَاءَ}: مفعول به، وجملة {كَتَبَ} في محل الرفع خبر لـ {أن} المخففة وجملة {أَنْ} المخففة في تأويل مصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ولولا كتاب الله الجلاء عليهم موجود {لَعَذَّبَهُمْ}: {اللام}: رابطة لجواب {لولا}. {عَذَّبَهُمْ}: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله {في الدُّنْيَا} متعلق بـ: عذب، والجملة الفعلية جواب {لولا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لولا} مستأنفة. {وَلَهُمْ}: {الواو}: استئنافية، {لهم}: خبر مقدم، {في الْآخِرَةِ}: حال من {عَذَابُ النَّارِ}، و {عَذَابُ النَّارِ}: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية مستأنفة. ولا يجوز عطفها على {عَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا}؛ لأن ذلك يقتضي أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضًا؛ لأن {لولا} تقتضي انتفاء الجزاء بحصول الشرط. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُمْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، {أنهم}: ناصب واسمه، {شَاقُّوا اللهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، {وَرَسُولَهُ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلك كائن بسبب مشاققتهم الله ورسوله. {وَمَن} {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة فعل الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُشَاقِّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على {من} الشرطية، {اللهَ}: مفعول به، {فَإِنَّ اللهَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {إن الله}: ناصب واسمه، {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبره. وجملة {إنّ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} على كونها

مستأنفة، ويجوز أن تجعل الفاء تعليلية للجواب المحذوف، تقديره: ومن يشاق الله يعاقب؛ لأن الله شديد العقاب. {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}. {مَا} اسم شرط جازم في محل النصب، مفعول مقدم لـ {قَطَعْتُمْ}، {قَطَعْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مِنْ لِينَةٍ}: حال من {مَا}. {أَوْ}: حرف عطف وتقسيم {تَرَكْتُمُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {قَطَعْتُمْ}، {قَائِمَةً}: مفعول ثان لترك، أو حال من ضمير المفعول، {عَلَى أُصُولِهَا}: متعلق بـ {قَائِمَةً}، {فَبِإِذْنِ اللهِ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَا} الشرطية، {بِإِذْنِ اللهِ}: متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فقطعها أو تركها كائن بإذن الله وإرادته. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَا} الشرطية على كونها جواب الشرط لها، وجملة {مَا} الشرطية مستأنفة، {وَلِيُخْزِىَ}: {الواو}: عاطفة على علة محذوفة متعلقة بعلول محذوف، تقديره: أذن الله في قطعها ليس المؤمنين، ويعزهم وليخزي الفاسقين. و {اللام}: حرف جر وتعليل، {يخزي}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْفَاسِقِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: أذن في قطعها لإعزاز المؤمنين وإخزاء الفاسقين، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المقدر قبله على كونه تعليلًا لمحذوف. {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}. {وَمَا}: {الواو}؛ عاطفة أو استئنافية، {ما}: اسم موصول في محل الرفع، مبتدأ {أَفَاءَ اللهُ}: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما أفاءه الله. {عَلَى رَسُولِهِ}: متعلق بـ {أفاء}، {مِنْهُمْ} حال من العائد المحذوف؛ أي: ما أفاءه الله على رسوله حال كونه من أموالهم، فهو على تقدير مضاف، أو متعلق بـ {أَفَاءَ} {فَمَا}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ

بالشرط، {ما}: نافية، {أَوْجَفْتُمْ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أَوْجَفْتُمْ}، {مِنْ}: زائدة، {خَيْلٍ}: مفعول به، {وَلَا رِكَابٍ}: معطوف على {خَيْلٍ}. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببيّ، والتقدير: والذي أفاءه الله على رسوله منهم فغير مجيفين أنتم عليه خيلًا ولا ركابًا. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أو مستأنفة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يُسَلِّطُ رُسُلَهُ} في محل الرفع خبر {لكنّ}، وجملة {لكنّ} معطوفة على جملة قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ}. {عَلَى مَنْ}: جار ومجرور متعلق بـ {يُسَلِّطُ}. وجملة {يَشَاءُ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. {مَا}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَفَاءَ اللَّهُ}: صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف؛ أي: ما أفاءه الله. {عَلَى رَسُولِهِ}: متعلق بـ {أَفَاءَ}، {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}: حال من {مَا} أو من العائد المحذوف، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حال كونه من أموال أهل القرى، {فَلِلَّهِ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ، لشبه المبتدأ بالشرط، {لله}: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ أي: فكائن لله. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان مصارف الفيء. {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}: معطوفان على {لله}، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}: معطوفات على {ذي القربى}. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}. {كَيْ}: حرف جر وتعليل بمعنى اللام، {لَا}: نافية، {يَكُونَ}: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد كي التعليلية، واسمها ضمير يعود على الفيء. {دُولَةً}: خبر {يَكُونَ}، {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {دُولَةً}، {مِنْكُمْ}: حال من الأغنياء، وجملة {يَكُونَ}: صلة أن المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {مَا} التعليلية؛ أي: لعدم كونه دولة بين الأغنياء. والجار

والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله: {فَلِلَّهِ}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، {ما}: اسم موصول منصوب المحل على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، تقديره: خذوا ما آتاكم الرسول. {آتَاكُمُ الرَّسُولُ}: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن {آتى} بمعنى أعطى، يتعدى إلى مفعولين؛ أي: وخذوا ما آتاكم الرسول إياه. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}. ويجوز رفع {ما} على الابتداء، وجملة {فَخُذُوهُ} خبره. {فَخُذُوهُ}: {الفاء}: رابطة لما في الموصول من شبه اسم الشرط، {خذوه}: فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر لـ {ما} الموصولة. {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}: معطوفة على {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. فهو نظيره في الإعراب. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الواو}: استئنافية {اتَّقُوا اللَّهَ} فعل أمر، وفاعل ومفعول به. والجملة مستأنفة، أو معطوفة على قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}. {لِلْفُقَرَاءِ}: جار ومجرور، بدل من قوله: {لذي القربى} على مذهب أبي حنيفة، ومقتضاه اشتراط الفقر في استحقاق ذي القربى. ومن جنح إلى مذهب الشافعي علقه بمحذوف تقديره: اعجبوا للفقراء، ومقتضاه عدم اشتراط الفقر، وأنّ الاستحقاق يكون بالقرابة، فيأخذ ذو القربى الفقير لقرابته، كما مر. وعلى هذا نهج السيوطي، وغيره. والمعنى: اعجبوا لهؤلاء المهاجرين حيث تركوا أوطانهم وأموالهم. {الْمُهَاجِرِينَ}: نعت للفقراء، {الَّذِينَ}: نعت ثان للفقراء، {أُخْرِجُوا}: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، {مِنْ دِيَارِهِمْ}: متعلق بـ {أُخْرِجُوا}، {وَأَمْوَالِهِمْ}: معطوف على {دِيَارِهِمْ}، {يَبْتَغُونَ}: فعل وفاعل، {فَضْلًا}: مفعول به، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {يَبْتَغُونَ} أو بمحذوف نعت لـ {فَضْلًا}، {وَرِضْوَانًا}: معطوف على {فَضْلًا}، والجملة الفعلية حال من مرفوع {أُخْرِجُوا}؛ أي: حال كونهم طالبين فضلًا ورضوانًا. {وَيَنْصُرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يَبْتَغُونَ}، {اللَّهَ}: مفعول به، {وَرَسُولَهُ}: معطوف عليه {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير

فصل، أو مبتدأ ثان، {الصَّادِقُونَ}: خبر لـ {أُولَئِكَ} أو خبر لـ {هُمُ}، والجملة خبر {أُولَئِكَ}، وجملة {أُولَئِكَ} مستأنفة. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية، {الذين}: مبتدأ، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ}: فعل وفاعل، ومفعول به صلة الموصول، أو منصوب على المدح؛ أي: أمدح الذين تبؤوا الدار، أو في محل الجر معطوف على الفقراء، {وَالْإِيمَانَ}: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: وأخلصوا الإيمان، على حد قوله: عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بِارِدًا أي: سقيتها ماء باردًا، ويكون من عطف الجمل؛ لأن الإيمان لا يتخذ منزلًا، فاختصر الكلام. وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: والذين تبؤوا دار الهجرة ودار الإيمان. فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان وأقيم المضاف إليه مقامه، أو منصوب بـ {تَبَوَّءُوا} على تضمينه معنى لزموا، كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: حال من فاعل {تَبَوَّءُوا}. {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}. {يُحِبُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر {الَّذِينَ}، أو في محل النصب حال من فاعل {تَبَوَّءُوا}، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، {هَاجَرَ}: فعل ماض وفاعل مستتر، {إِلَيْهِمْ}: متعلق به. والجملة صلة لـ {مَنْ} الموصولة. {وَلَا يَجِدُونَ}: فعل وفاعل، معطوفة على {يُحِبُّونَ}، {وَلَا}: نافية، {فِي صُدُورِهِمْ}: متعلق بـ {يَجِدُونَ}، {حَاجَةً}: مفعول به، {مِمَّا}: نعت لحاجة، وجملة {أُوتُوا} صلة لـ {ما}، والعائد محذوف؛ أي: مما أوتوه. {وَيُؤْثِرُونَ}: فعل وفاعل معطوف على {يُحِبُّونَ}، {عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: متعلق بـ {يؤثرون}، {وَلَوْ}: {الواو}: حالية، {لَوْ}: حرف شرط مجرد عن معنى الشرط لا جواب لها، {كَانَ}: فعل ماض ناقص، {بِهِمْ}: خبر {كَانَ} مقدم على اسمها، {خَصَاصَةٌ}: اسمها مؤخر.

وجملة {كَانَ} في محل النصب حال من فاعل {يؤثرون}؛ أي: يؤثرون المهاجرين على أنفسهم حالة كون الخصاصة بهم. ويصح أن تكون {الواو} عاطفة على شرط محذوف، و {لو}: حرف شرط على بابها، والتقدير: ويؤثرون على أنفسهم إن لم تكن بهم خصاصة، ولو كانت بهم خصاصة يؤثرونهم على أنفسهم. {وَمَن}: {الواو}: استئنافية، {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُوقَ}: فعل مضارع مغير الصيغة، مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَن}، {شُحَّ نَفْسِهِ}: مفعول ثان، ومضاف إليه. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}. {وَالَّذِينَ}: {الواو}: استئنافية، {الَّذِينَ}: مبتدأ، {جَاءُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مِنْ بَعْدِهِمْ}: متعلق بـ {جَاءُوا}، وجملة {يَقُولُونَ}: خبر الذين، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}. وإن شئت قلت: {رَبَّنَا}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}، {اغْفِرْ}: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، {لَنَا}: متعلق بـ {اغْفِرْ}، {وَلِإِخْوَانِنَا}: معطوف على {لَنَا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {يَقُولُونَ} على كونها جواب النداء، {الَّذِينَ}: صفة لـ {إخواننا}، وجملة {سَبَقُونَا} صلة الموصول، {بِالْإِيمَانِ} متعلق بـ {سَبَقُونَا} {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: دعائية، سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، {تَجْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اغْفِرْ}، {فِي قُلُوبِنَا}: متعلق بـ {تَجْعَلْ}. وهو في موضع المفعول الثاني لـ {تَجْعَلْ}، {غِلًّا}: مفعوله الأول، {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {غِلًّا}؛ لأنه مصدر بمعنى: بغضًا. وقيل: نعت لـ {غِلًّا}. وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول.

{رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {يَقُولُونَ}، وكرره للتأكيد، {إِنَّكَ}: ناصب، واسمه، {رَءُوفٌ}: خبره، {رَحِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة {إن} وفي محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ} على كونها تعليلية للدعاء المذكور قبلها. التصريف ومفردات اللغة {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} والتسبيح: تبعيد الله عن السوء، وتنزيهه عما لا يليق بشأن ألوهيته، قولًا وفعلًا وقلبًا كما مر. {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: هم بنو النضير، بزنة: أمير، قبيلة عظيمة من اليهود كبني قريظة. {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر، أي: في أول حشرهم؛ أي: جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام. وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. {مِنْ دِيَارِهِمْ}: جمع دار، وهو: المكان الذي حوط ودور به للنزول فيه وإن لم يكن مسقفًا بخلاف البيت، وهو اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد للبيتوتة فيه، كما مرّ في مبحث التفسير بيان الفرق بينهما {حُصُونُهُمْ}: جمع حصن، وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة. وفي "الروح": الحصون: جمع حصن - بكسر فسكون - وهو كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه، والقلعة: الحصين الممتنع على الجبل. فالأول أعم من الثاني. ويقال: تحصن، إذا اتخذ الحصين مسكنًا، ثم تجوز به فقيل: درع حصينة؛ لكونها حصنًا للبدن، وفرس حصان؛ لكونه حصنًا لراكبه. {مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من بأسه وعقابه. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ}؛ أي: جاءهم عذابه وبأسه. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}؛ أي: من حيث لم يخطر لهم ببال؛ أي: من الجهة التي لم تخطر ببالهم، فالجهة هي المؤمنون، كانوا لا يخطر ببالهم أن الذل يأتيهم من جهة المؤمنين الضعفاء بالنسبة إليهم في ذلك الوقت. اهـ. "شيخنا". {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}؛ أي: أنزله فيها إنزالًا شديدًا، كأنه قد قذف الحجارة فيها. اهـ. "خطيب". وقَذْفُ الشيء: رميه بقوة. والمراد هنا: إثباته وركزه في قلوبهم، كما في "الكشاف"، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، لما أن قذف باللحم قذفًا، لاكتنازه وتداخل أجزائه. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدور،

فيغيّر العقل، ويعجز النفس، ويشوش الرأي. {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} بالتشديد من التخريب، وبالتخفيف من الإخراب. والإخراب والتخريب بمعنى واحد يقال: خرب المكان خرابًا، وهو ضد العمارة. وقد أخربه وخربه؛ أي: أفسده بالنقض والهدم غير أن في التشديد مبالغة من حيث التكثير، لكثرة البيوت، وهو قراءة أبي عمرو. وفرق أبو عمرو بين الإخراب والتخريب، فقال: خرب - بالتشديد - بمعنى هدم ونقض وأفسد، وأخرب - بالهمزة - ترك الموضع. وقال - أي: أبو عمرو -: وإنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابًا بغير ساكن. {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}؛ أي: فاتعظوا بحالهم، ولا تغتروا، ولا تعتمدوا على غير الله. اهـ. "بيضاوي". والاعتبار: مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء. ولهذا سميت العبرة عبرة؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع. ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره .. اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو: النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها؛ ليعرف بالنظر فيها شيء آخر. اهـ. "خطيب". {الْأَبْصَارِ}: جمع بصر، يقال للجارحة: الناظرة، وللقوة التي فيها، ويقال للقلب المدركة: بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، كما في المفردات. {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ}. الجلاء: الخروج من الوطن والجولان في الأرض. يقال: أجليت القوم عن منازلهم؛ أي: أخرجتهم منها، وجلوا منها خرجوا. وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين: 1 - أن الأول لا يكون إلا لجماعة، والثاني يكون لواحد ولجماعة. 2 - أو أن الأول ما كان مع الأهل والولد، والثاني يكون مع بقائهما. وفي "المختار": الجلاء - بالفتح والمد -: الأمر الجلي، تقول منه: جلا الخبر، يجلو جلاء، إذا وضح. والجلاء أيضًا: الخروج من البلد والإخراج أيضًا. وقد جلوا عن

أوطانهم، وجلاهم غيرهم. يتعدى، ويلزم. اهـ. وفي "المصباح": والفاعل من الثلاثي جال، مثل قاض، والجماعة جالية، ومنه قيل لأهل الذمة الذين أجلاهم عمر - رضي الله عنه - من جزيرة العرب: جالية. ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم، ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه فيقال: استعمل فلان على الجالية؛ أي: على أخذها من أهلها. والجمع: جوالي. اهـ. قلت: ومن هذه المادة سمّت الجُبُوش الأرُميا بالجالّا، إخفاء لحسبهم ونسبهم ووطنهم، فالجالا: هم الذيبن أخرجوا من وطنهم وأسكنوا في وطن الغير بالجزية. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من المشاقة، وهو كون الإنسان في شق ومخالفه في شق آخر. {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} واللينة فعلة، نحو: حنطة، من اللون، على أن أصلها لونة، فياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها، نحو: ديمة، قيمة. وتجمع على: ألوان، وهي ضروب النخل كلها. وقيل: من اللين، وتجمع على لين وأليان، وهي النخلة الكريمة الشجرة، لكونها قريبة من الأرض، والطيبة الثمرة. قال الراغب في "المفردات": اللين ضد الخشونة، ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخُلق ولغيره من المعاني، فيقال: فلان لين وفلان خشن، وكل واحد منهما يمدح به طورًا، ويذم به طورًا، بحسب اختلاف المواضع والمقام. اهـ. وفي "الفتوحات": واللينة في معناها خلاف كثير، فقيل: هي النخلة مطلقًا، وقيل: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقيل: هي النخلة الكريمة، وقيل: هي العجوة، وقيل: هي أغصان الشجر للينها. وفي عين {لِينَةٍ} قولان: أحدهما: أنها واو؛ لأنها من اللّون، وإنما قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، كديمة وقيمة. والثاني: أنها ياء؛ لأنها من اللين، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس، كتمر وتمرة. وقد تكسر على ليان، وهو شاذ؛ لأن تكسير ما يفرق فيه بتاء التأنيث شاذ، كرطبة ورطب وأرطاب. اهـ. "سمين".

{عَلَى أُصُولِهَا}: جمع: أصل، وهو ما يتشعب منه الفرع. {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: وليذلهم. يقال: خزي الرجل لحقه انكسار، إما من نفسه؛ وهو: الحياء المفرط ومصدره الخزاية، وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي. اهـ. "روح". {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ} قال المبرد: يقال: فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إليه؛ أي: رده وصيره إليه. والفيء لغة: الرجوع، وشرعًا: ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ} يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفًا وجيفًا إذا أسرع، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع. وفي "القاموس": الوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل. والخيل: جماعة الأفراس، لا واحد له، أو واحده خائل؛ لأنه يختال، والجمع: أخيال، وخيول، كما في "القاموس". وقال الراغب: الخيلاء: التكبر، من تخيل فضيلة تتراءى لنسان من نفسه. ومنها: تتأول لفظة الخيل لما قيل: إنه لا يركب أحد فرسًا إلا وجد في نفسه نخوة. وللخيل نوعان: عتيق وهجين: فالعتيق: ما أبواه عربيان؛ سمي بذلك لعتقه من العيوب وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة، وسميت الكعبة بالبيت العتيق لسلامتها من عيب الرق؛ لأنه لم يملكها ملك قط. والهجين: الذي أبوه عربي وأمه عجمية. والفرق: أن عظم البرذونة أعظم من عظم الفرس، وعظم الفرس أصلب وأثقل، والبرذونة أحمل من الفرس، والفرس أسرع منه، والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذونة بمنزلة الشاة. {وَلَا رِكَابٍ} والركاب: ما يركب من الإبل خاصة، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها. والعرب لا تطلق لفظ الراكب، إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسًا. قال في "المفردات": الركوب في الأصل: كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير، جمعه: ركب وركبان وركوب، واختص الركاب بالمركوب، انتهى. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ}؛ أي: على أعدائه من غير قتال، ولا مصاولة، بل بإلقاء الرعب في القلوب، فيكون الفيء للرسول يصرفه في مصارفه التي ستعلمها

بعد. {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}؛ أي: من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال. {وَلِذِي الْقُرْبَى}؛ أي: لبني هاشم وبني المطلب، والقربى: مصدر سماعي، لقرب قربًا وقربى؛ أي: قرابة. {وَالْيَتَامَى}: جمع يتيم. واليتم: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، وفي سائر الحيوانات من قبيل أمه. {وَالْمَسَاكِينِ}: جمع مسكين، ويفتح ميمه، وهو من لا شيء له، أو له ما لا يكفيه. سمي بذلك؛ لأن الفقر أسكنه؛ أي: قلل حركته، وهو من السكون، فنونه أصلية لا نون جمع، ولذلك تجري عليه حركات الإعراب الثلاثة. {وَابْنِ السَّبِيلِ}؛ أي: المسافر البعيد عن ماله، وسمي به لملازمته له، كما تقول لِلُصِّ القاطع: ابن الطريق، وللمعمر: ابن الليالي، ولطير الماء: ابن الماء، وللغراب: ابن دأبة، بإضافة الابن إلى دأبة البعير؛ لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت، والدأبة: الجنب. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} بضم الدال وقرىء بفتحها، وهي: ما يدول للإنسان؛ أي: يدور، من الغنى، والجد والغلبة. قال المبرد: الدولة - بالضم -: الشيء الذي يتداوله القوم بينهم، يكون كذا مرة وكذا أخرى. والدولة - بالفتح -: انتقال حال سارة من قوم إلى قوم؛ أي: فالأول: اسم لما يتداول من المال والثانية: اسم لما ينتقل من الحال. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا}: النزول في المكان، ومنه: المباءة للمنزل. وأصل البواء: مساواة الأجزاء في المكان، خلاف النبو الذي هو منافاة الأجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابيًا بنازله، وبوأت له مكانًا: سويت. والمراد بالدار: المدينة. والمراد بالحاجة: الحسد والغيظ. {أُوتُوا}؛ أي: أعطي المهاجرون دون الأنصار. {وَيُؤْثِرُونَ}؛ أي: يقدمون ويفضلون. {خَصَاصَةٌ} والخصاصة: الحاجة، من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج، وكذا كل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع. {شُحَّ نَفْسِهِ} والشح: اللؤم، وهو: أن تكون النفس كزة حريصة على المنع. قال شاعرهم: يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إِذَا هَمَّ بِالمَعْرُوْفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلًا قال الراغب: البخل: المنع والشح: الحال النفسية التي تقتضي ذلك. وقيل: الشح: الحرص على المال. والفرق بينه وبين البخل: أن الشح غريزة، والبخل

المنع نفسه، فهو أعم؛ لأنه قد يوجد البخل ولا شح له، ولا ينعكس. وفي الصحاح: والشح: البخل مع حرص. {وَلِإِخْوَانِنَا} جمع أخ. وفي "المصباح": الأخ لامه محذوفة، وهي واو، وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان. وفي لغة يستعمل منقوصًا، فيقال: أخان. وجمعه: إخوة وإخوان، بكسر الهمزة فيهما، وضمها لغة. وقيل: جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء بوزن آباء أقل. والأنثى: أخت وجمعها: أخوات، وهو جمع مؤنث سالم. اهـ. {غِلًّا}؛ أي: حقدًا، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام. اهـ. "خطيب". وفي: "المصباح": الحقد: الانطواء على العدواة والبغضاء، وحقد عليه: من باب ضرب. وفي لغة: من باب تعب، والجمع: أحقاد. وقال الراغب: الغل والغلول تدرع الخيانة والعداوة؛ لأن الغلالة اسم ما يلبس بين الشعار والدثار، وتستعار للدرع كما تستعار الدرع لها. ملحقات بالآيات من بعض أحكام الصرف نسيناها أولًا {مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}: الياء فيه منقلبة عن الواو؛ لأن مفرده: دار، أصله دور، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ بدليل تصغيره على دويرة، ثم حمل الجمع على المفرد في الإعلال، فأعل الواو بقلبه ياء لما وقع بعد كسرة وقبل ألف. {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ}: فيه إعلال بالإبدال أصله: الجلاو، أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {فِي الدُّنْيَا}: الياء فيه مبدلة من {واو} إن قلنا: إنه من الدنو بمعنى القرب لقرب زوالها أو أصلية إن قلنا إنه من الدنيء؛ لدناءتها وخستها عند الله تعالى. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أصله: شاققوا، سكنت القاف الأولى وأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: {يُشَاقِّ} أصله: يشاقق. {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}: {قَائِمَةً}: فيه إعلال بالإبدال، وأصله: قاومة، أبدلت الواو همزة حملًا للوصف في الإعلال على فعله قام، حيث أعل بقلب الواو ألفًا أصل قام قوم. {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أصله: أفيأ، بوزن أفعل، نقلت حركة الياء إلى الفاء، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} فيه إعلالان؛ لأن أصله: أأتيكم، أبدلت الهمزة

الساكنة ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} أصله: نهيكم، بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَانْتَهُوا} أصله: فانتهيوا، أمر من انتهى الخماسي، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت .. حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الهاء لمناسبة الواو. {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} أصله: يبتغيون، بوزن يفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الغين لمناسبة الواو. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: طباق السلب في قوله: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}. ومنها: القصر في قوله: {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ}. إن قلنا: إن {مَانِعَتُهُمْ} خبر مقدم، و {حُصُونُهُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {أَنَّهُمْ}. فإن تقديم المسند على المسند إليه يفيد قصر المسند إليه على المسند، فإن معنى قولك: (قائم زيد) أن زيدًا مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود، وكذا معنى الآية أن حصونهم ليس لها صفة غير المانعية. ومنها: المقابلة اللطيفة بين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وبين {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}؛ لأن القذف حقيقة في الرمي البعيد، فاستعير لإلقاء الرعب وإثباته في قلوبهم. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}؛ لأن إسناد تخريب المؤمنين إليهم لما أنهم تسببوا في ذلك، فكأنهم كلفوهم إياه وأمروهم به. ومنها: الطباق بين القطع والترك في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا

قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}؛ لأن فيه حذف المعطوف عليه؛ فإن أصل الكلام: ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين. ومنها: التكرير في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. وهو إعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. فإن المراد: قرى بني النضير، ومقتضى السياق أن يقال: منهم، ولكنه أظهر للإشعار بشمول ما لعقاراتهم. ومنها: الفصل في هذه الآية، أعني قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. والفصل عند علماء المعاني: ترك عطف جملة على أخرى. وضده الوصل، وهو: عطف بعض الجمل على بعض. وهذا الباب أغمض أبواب علم المعاني، حتى قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل. قال: الْفَصْلُ تَرْكُ عَطْفِ جُمْلَةٍ أَتَت ... مِنْ بَعْدِ أُخْرَى عَكْسَ وَصْلٍ قَدْ ثَبَتْ ولكل منهما مواضع نلخصها فيما يلي: مواضع الفصل: يجب الفصل في خمسة مواضع: 1 - أن يكون بين الجملتين اتحاد تام، بأن تكون الثانية بدلًا من الأولى؛ كالآية التي نحن بصددها، أو بيانًا لها، نحو: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}، أو مؤكدة لها، نحو: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. ويقال في هذا الموضع: إن بين الجملتين كمال الاتصال. 2 - أن يكون بين الجملتين تباين تام؛ بأن تختلفا خبرًا، وإنشاء، كقوله: لَا تَسْأَلِ الْمَرْءَ عَنْ خَلَائِقِهِ ... فِي وَجْهِهِ شَاهِدٌ يُغْنِي عَنِ الْخَبَرِ 3 - كون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى، كقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. 4 - أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما لوجود المناسبة، وفي عطفها على الأخرى فساد، فيترك العطف دفعًا للوهم، كقوله:

وَتَظُنُّ سَلْمَى أنَّنِي أَبْغِيْ بِهَا ... بَدَلًا أَرَاهَا فِيْ الضَّلَالِ تَهِيْمُ 5 - أن لا يقصد تشريك الجملتين في الحكم لقيام مانع، كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} فجملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لا يصح عطفها على {إِنَّا مَعَكُمْ} لاقتضائه أنه من مقولهم، ولا على جملة {قَالُوا} لاقتضائه أن استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم. وللوصل مواضع كثيرة أيضًا مذكورة في كتب المعاني، ليس هذا الكتاب موضعها، فراجعها إن أردت الخوض فيها. ومنها: الترقي في ذكر حال المهاجرين من العالي إلى الأعلى في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، فإن رضوان الله أكبر من عطاء الدنيا. ومنها: الإتيان بضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} لإفادة الحصر، فكأن الصدق مقصور عليهم لكمال آثار صدقهم. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}. شبه الإيمان المتمكن في نفوسهم بمنزل ومستقر للإنسان نزل فيه وتمكن منه حتى صار منزلًا له، وهو من لطيف الاستعارة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}. المناسبة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (¬1) لما ذكر ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفًا ورهبةً لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت .. أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ورفقته لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بما قصه الله علينا وفصله أتم تفصيل ليكون في ذلك عبرة لنا. وإنا لنشاهد كل يوم أن ¬

_ (¬1) المراغي.

الناس يضل بعضهم بعضًا ويغوونهم ثم يتركونهم في حيرة من أمرهم، لا يجدون لهم مخلصًا مما وقعوا فيه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر المضلين من المنافقين، وبين أن ما يقولون غير ما يبطنون، وأن مثلهم كمثل الشيطان في الإغواء والإضلال، ثم أعقبه بذكر الضالين من بني النضير، وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلابة التي كانت عليهم وبالًا ونكالًا، وكان فيها سوء حالهم في دنياهم ودِينهم .. شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى، وأن يعملوا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم والنعيم المقيم، وأن لا ينسوا حقوق الله فيجعل الله الران على قلوبهم، فلا يقدموا لأنفسم ما به رشادهم وفلاحهم. وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فرق المضلين من المنافقين والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادًا ليوم القيامة .. ذكر هنا أن لهم مرشدًا عظيمًا، وإمامًا هاديًا؛ هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة؛ لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلًا وفهمه وتدبر ما فيه .. لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم، ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟. وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه. أسباب النزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم عن ابن عباس، أنه قال: نزلت هذه الآيات في رهط من بني عوف، منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول. ووديعة بن مالك وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم .. قاتلنا معكم، وإن أخرجتم .. خرجنا معكم، فتربصوا ذلك

[11]

من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، ففعل، فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعير فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. التفسير وأوجه القراءة 11 - ولما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاثة من المؤمنين .. ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة الكاذبة والأحوال الفاسدة؛ لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ} والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح له؛ أي: ألم تنظر يا محمد، أو أيها المخاطب - {إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}؛ أي: إلى أقوالهم الكاذبة، ومواعيدهم العاطلة، وأحوالهم الفاسدة، وهم: عبد الله بن أبيّ وأصحابه. وجملة قوله: {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} مستأنفة لبيان المتعجب منه. والتعبير (¬1) بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية أو للدلالة على الاستمرار. والمراد بإخوانهم: بنو النضير، وبأخوَّتهم: إما توافقهم في الكفر، فإن الكفر ملة واحدة وإن اختلفت أنواعه. و {اللام} في قوله: {لِإِخْوَانِهِمُ} هي لام التبليغ وفي قوله: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} موطئة للقسم. وهي اللام الداخلة على حرف الشرط بعد تمام القسم ظاهرًا، أو مقدرًا ليؤذن أن الجواب له لا للشرط، وقد تدخل على غير الشرط. والمعنى: يقولون لهم: والله لئن أخرجتم .. أيها الإخوان .. من داركم وقراركم قسرًا بإخراج محمد وأصحابه إياكم منها {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} ألبتة، ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم لتمام المحبة بيننا وبينكم. وهو جواب القسم، وكررت اللام للتأكيد، وجواب الشرط مضمر. ولما كان جواب القسم وجواب الشرط متماثلين .. اقتصر على جواب القسم، وأضمر جواب الشرط، وجعل المذكور جوابًا للقسم بسعة. وكذا قوله: {لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}، وقوله: {لَا يَنْصُرُونَهُمْ} كل واحد منهما جواب القسم؛ ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

لدلالة جواب القسم عليه. {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ}؛ أي: في شأنكم. وهو (¬1) معطوف على جملة {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ}، وكذا قوله: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ}. فمقولهم ثلاث جمل. {أَحَدًا} يمنعنا من الخروج معكم من محمد وأصحابه {أَبَدًا} وإن طال الزمان. وهو ظرف للنفي لا للمنفي، ونصبه على الظرفية، وهو (¬2) لاستغراق المستقبل، كما أن الأزل لاستغراق الماضي. ولاستعمالهما في طول الزمانين جدًّا قد يضافان إلى جمعهما، فيقال: أبد الآباد وأزل الآزال، وأما السرمد: فلاستغراق الماضي والمستقبل، يعني: لاستمرار الوجود لا إلى نهاية في جانبهما. ثم لما وعدوهم بالخروج معهم .. وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ}؛ أي: قاتلكم محمد وأصحابه، حذفت منه اللام الموطئة. {لَنَنْصُرَنَّكُمْ}؛ أي: لنعاوننكم على عدوكم، ولا نخذلكم. ثم كذبهم سبحانه، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه {يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان الفاجرة، من الخروج معهم والنصرة لهم. 12 - ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به .. فصّل ما كذبوا فيه، فقال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} قهرًا وإذلالًا {لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} وهذا مع ما بعده تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} وكان الأمر كذلك، فإن ابن أبيّ وأصحابه أرسلوا إلى بني النضير، وذلك سرًا ثم أخلفوهم، يعني: أن ابن أبيّ أرسل إليهم: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين، وهو جالس في بيته، حتى قال أحد سادات بني النضير - وهو سلّام بن مشكم - لحي بن أخطب الذي كان هو المتولي لأمر بني النضير: والله يا حيي! إن قول ابن أبيّ لباطل وليس بشيء، وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدًا، فيجلس في بيته ويتركك. فقال حيي: نأبى إلا عدواة محمد، وإلا قتاله. فقال سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا. فكان ما كان كما سبق في ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

أول السورة. وفيه حجة بيّنة لصحة النبوة وإعجاز القرآن، أما الأول: فلأنه أخبر عما سيقع فوقع كما أخبر؛ وذلك لأن نزول الآية مقدم على الواقعة. وعليه يدل النظم، فإن كلمة {إن} للاستقبال. وأما الثاني: فمن حيث الإخبار عن الغيب. {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} على سبيل الفرض والتقدير؛ أي: لو قدر وجود نصرهم إياهم؛ لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده. قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود {لَيُوَلُّنَّ} المنافقون {الْأَدْبَارَ}؛ أي: الأقفاء منهزمين فارين. جمع دبر، ودبر الشيء خلاف القُبل؛ أي: الخلف. وتولية الأدبار كناية عن الانهزام الملزوم لتولية الأدبار. {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}؛ أي: المنافقون بعد ذلك؛ أي: يهلكهم الله تعالى، ولا ينفعهم نفاقهم؛ لظهور كفرهم بنصرهم اليهود، أو لينهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين. وفي الآية تنبيه على أن من عصى الله ورسوله وخالف الأمر .. فهو مقهور في الدنيا والآخرة وإن كان سلطانًا ذا منعة، وما يقع أحيانًا من الفرصة فاستدراج، وغايته إلى الخذلان. والحاصل (¬1): أن المراد من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ...} إلخ .. تعجيب المخاطب من حال المحدث عنه، وأن أمره غاية في الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة. فهؤلاء قوم من منافقي المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم: عبد الله بن أبيّ وشيعته، رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاصر بني النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم: إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا، ولا نسلمكم لمحمد أبدًا، فجدوا في قتالهم ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار وأوغل المسلمون في ديارهم، وجدّوا في تحريق نخيلهم وهدم بيوتهم .. رأى بنو النضير أن تلك الوعود {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}. وأنهم بين أمرين: ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

1 - الاستسلام، وقبول حكم محمد عليهم. 2 - فناؤهم، وتخريب ديارهم. وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم فاختاروا الدنية، وقبلوا الجلاء عن الديار، واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لم، ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان. وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال .. كذبهم تفصيلًا ليزيد تعجيب المخاطب من حالهم، وليبين لهم مبلغ خبث طويتهم. وشدة جبنهم وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لاكتها ألسنتهم، وقلوبهم منها براء، فقال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ...} إلخ. أي: والله! لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها .. لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج معهم من ديارهم ولئن قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .. لا ينصرونهم، ولئن نصروهم .. ليولن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير. وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز؛ فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه. والخلاصة: أن بني النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم. ولو كانوا قد نصروهم .. لتركوا النصرة، وانهزموا، وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء. 13 - ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال فقال: {لَأَنْتُمْ} يا معشر المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً}؛ أي: مرهوبية {فِي صُدُورِهِمْ}؛ أي: في قلوب المنافقين، أو في صدور اليهود، أو صدور الجميع {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من رهبة الله، بمعنى: مرهوبيته، والرهبة: مخافة مع تحزّن واضطراب وهي هنا مصدر من المبنيّ للمفعول، وهو رهب؛ أي: أشد مرهوبية. وذلك لأن {أَنْتُمْ} خطاب للمسلمين، والخوف ليس واقعًا منهم بل من المنافقين، فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين. وهذه الجملة في المعنى كالتعليل لقوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} كأنه قال: إنهم لا يقدرون على مقاتلتكم، لأنكم أشد رهبة ... إلخ.

قال في "الكشاف": قوله: {فِي صُدُورِهِمْ} قال على نفاقهم؛ يعني: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله. فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد. قلت: معناه: أن رهبتهم في السرّ منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم، وكانوا يظهرون رهبة شديدة من الله. يقول الفقير: إنما رهبوا من المؤمنين لظهور نور الله فيهم، فكما أن الظلمة تنفر من النور ولا تقاومه، فكذا أهل الظلمة ينفر من أهل النور ولا يقوم معه. ومرادنا بالظلمة: ظلمة الشرك، والكفر، والرياء والنفاق. وبالنور: نور التوحيد، والإيمان، والإخلاص، والتقوى. ولذلك قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، حيث إن الله تعالى أثبت معيته لأهل التقوى، فنصرهم على مخالفيهم. ثم ذكر سبب الرهبة منهم من دون الله، فقال: {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} شيئًا من الأشياء حتى يعلموا عظمة الله تعالى، فيخشوه حق خشيته، ولو كان لهم فقه .. لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم. وفي "فتح الرحمن": ختمه هنا بـ {لَا يَفْقَهُونَ} وفيما بعد بـ {لَا يَعْقِلُونَ}؛ لأن الأول متصل بقوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: لأنهم يفقهون ظاهر الشيء بدون باطنه، والفقه: معرفة الظاهر والباطن، فناسب نفي الفقه عنهم. والثاني متصل بقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ...} إلخ؛ أي: لو عقلوا .. لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا، فناسب نفي العقل عنهم، انتهى. وفيه تنبيه على أن من علامات الفقه (¬1): أن يكون خوف العبد من الله أشد من خوفه من الغير، وتقبيح لحال أكثر الناس على ما ترى وتشاهد. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". قال بعضهم: لا ينقص الكفيل من الرجال خوفهم من سبع أو ظالم أو نحو ذلك؛ لأن الجزع في النشأة الإنسانية أصلي، فالنفوس أبدًا مجبولة على الخوف، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[14]

ولذة الوجود بعد العدم لا يعدلها لذة، وتوهم العدم العيني له ألم شديد في النفوس، لا يعرف قدره إلا العلماء. 14 - ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم، فقال: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ}؛ أي: لا يقاتلكم أيها المسلمون اليهود والمنافقون، بمعنى: لا يقدرون على قتالكم، ولا يجترئون عليه. {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين متفقين في موطن من المواطن {إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ}: جمع قرية، وهي مجتمع الناس للتوطن {مُحَصَّنَةٍ}؛ أي: محكمة بالدروب والخنادق، وما أشبه ذلك؛ كالسور. قال الراغب؛ أي: مجعولة بالإحكام، كالحصون. والدروب: جمع درب، وهو الباب الكبير. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}؛ أي: من خلف حيطان، دون أن يحضروا لكم ويبارزوكم؛ أي: يشافهوكم بالمحاربة لفرط رهبتهم. جمع جدار، وهو كالحائط، إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار يقال اعتبارًا بالنتوّ والارتفاع؛ ولذا قيل: حيدر الشجر، إذا خرج ورقه، كأنه حمص، وجدر الصبي، إذا خرج جدريه، تشبيهًا بجدر الشجر. وقرأ الجمهور (¬1): {جُدُرٍ} بضمتين، جمع جدار. وأبو رجاء والحسن وابن وثاب بإسكان الدال تخفيفًا. ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير وكثير من المكيين {جدار} بالألف وكسر الجيم. وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير {جَدْر} بفتح الجيم وسكون الدال. وقال ابن عطية: ومعناه: أصل بنيان، كالسور ونحوه. والمعنى (¬2): أي إن هؤلاء اليهود والمنافقين قد ألقى الله الرعب في قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين؛ لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون. ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف: التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب، فقال: {بَأْسُهُمْ}؛ أي: قتالهم فيما {بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} إذا قاتلوا قومهم؛ أي: بعضهم غليظ فظّ على بعض وقلوبهم مختلفة ونياتهم متباينة. قال السدي: المراد: اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

وقال مجاهد: بأسهم بينهم شديد بالكلام والوعيد ليفعلن كذا. والمعنى: أنهم إذا انفردوا .. نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدوًا .. ذلوا وخضعوا وانهزموا. والأول أولى؛ لقوله تعالى فيما بعد: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن. وعبارة "الروح": قوله: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}: استئناف (¬1) سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم، فإن بأسهم وحربهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. وأيضًا: إن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله. قال في "كشف الأسرار": إذا أراد الله نصرة قوم .. استأسد أرنبهم، وإذا أراد الله قهر قوم .. استرنب أسدهم. اهـ. وإن قيل: إن البأس شدة الحرب، فما الحاجة إلى الحكم عليه بـ {شَدِيدٌ}؟ أجيب: بأنه أريد من البأس هنا مطلق الحرب، فأخبر بشدته لتصريح الشدة، أو أريد المبالغة في إثبات الشدة لبأسهم مبالغة في شدة بأس المؤمنين، لغلبته على بأسهم بتأييد الله ونصرته لهم عليهم. والظرف متعلق بـ {شَدِيدٌ}، والتقديم للحصر. ويجوز أن يكون متعلقًا بمقدر صفة أو حالًا؛ أي: بأسهم الواقع بينهم، أو واقعًا بينهم. فقولهم: الظرف الواقع بعد المعرفة يكون حالًا ألبتة، ليس بمرضي، فإن الأمرين جائزان، بل قد ترجح الصفة. والمعنى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}؛ أي: بعضهم لبعض عدو، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوًا لهم، وهم في تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا. وفي هذا (¬2): عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان؛ فإن الدول الإِسلامية ما هدد كيانها وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادًا وجماعات وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم، ودخلوها فاتحين، وأذاقوا أهلها كؤوس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الذل والهوان، وفرقوهم شذر مذر، وجعلوهم عبيدًا أذلاء في بلادهم، والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النفاية وفتات الموائد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتي بالفتح ونصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم: فيومٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ ثم زاد ما سلف توكيدًا، فقال: {تَحْسَبُهُمْ} يا محمد، أو يا كلّ من يسمع ويعقل {جَمِيعًا}؛ أي: مجتمعين متفقين، ذوي ألفة واتحاد {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}؛ أي: والحال أن قلوبهم متفرقة لا ألفة بينها، وهم بخلاف من وصفهم الله بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. جمع شتيت، كمرض ومريض، وهذا التخالف هو البأس السابق الذي بينهم الموصوف بالشدة. وقرأ الجمهور (¬1): {شَتَّى} بألف التأنيث، ومبشر بن عبيد منونًا، جعلها ألف الإلحاق وعبد الله {وقلوبهم أشت}؛ أي: أشد تفرقًا. ومما ورد في استعمال {شَتَّى} في كلام العرب قول الشاعر: إِلَى اللهِ أَشْكُوْ فِتْيَةً شَقّتِ الْعَصَا ... هِي الْيَوْمَ شَتّى وَهْيَ أَمْسِ جَمِيْعُ والمعنى: أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين .. خلتهم متفقين وهو مختلفون غاية الاختلاف لما بينهم من إحن وعداوات. فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة. وفي هذا: تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحث للعزائم الصادقة على حربهم؛ فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه .. ازداد نشاطًا، وازدادت حميته، وكل ذلك من أسباب نصرته عليه. تنبيه (¬2): على أن اللائق بالمؤمن الاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، كما كان المؤمنون متفقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: الاتفاق قوة، والافتراق هلكة، والعدو إبليس يظفر في الافتراق بمراده. قال سهل: أهل الحق مجتمعون أبدًا موافقون، وإن تفرقوا بالأبدان وتباينوا بالظواهر، وأهل الباطل متفرقون أبدًا وإن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[15]

اجتمعوا بالأبدان وتوافقوا بالظواهر؛ لأن الله تعالى يقول: {تَحْسَبُهُمْ ...} إلخ. {ذَلِكَ}: أي ما ذكر من تشتت قلوبهم {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}؛ أي: لا يعقلون شيئًا حتى يعرفوا الحق، ويتبعوه وتطمئن به قلوبهم، وتتحد به كلمتهم، ويرموا عن قوس واحدة، فيقعون في تنبيه الضلال، وتشتت قلوبهم حسب تشتت طرقه وتفرق فنونه، وتشتت القلوب يوهن قواهم؛ لأن صلاح القلب يؤدي إلى صلاح الجسد، وفساده إلى فساده. كما قالوا: كل إناء يترشح بما فيه. واعلم (¬1): أن الله تعالى ذم الكفار في القرآن بكل من: عدم الفقه والعلم والعقل. قال الراغب: الفقه هو: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. فهو أخصّ من العلم. والعلم: إدراك الشيء بحقيقته، وهو نظري وعملي، وأيضًا عقلي وسمعيّ. والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوى: عقل. والمعنى (¬2): أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، وأنهم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هي سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة. 15 - ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع في الكافرين بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم، فقال: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثل اليهود من بني النضير كائن كمثل الذين من قبلهم؛ أي: صفتهم الغريبة وحالهم العجيبة، وهي ما وقع لهم من الإجلاء والذل كمثل وصفة وحال المشركين من أهل مكة فيما وقع لهم أيضًا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل. وقوله: {قَرِيبًا}: ظرف زمان متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به {مِنْ قَبْلِهِمْ}. ولك أن تعلقه بـ {ذَاقُوا} المذكور بعده. وعلقه الزمخشري بمضاف مقدر في الخبر؛ أي: كوجود وحصول ووقوع مثل أهل بدر قريبًا. أي: مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل والمهانة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[16]

كمثل أهل مكة فيما وقع لهم قريبًا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل، وليس قوله ببعيد. {ذَاقُوا}؛ أي: ذاق الذين من قبلهم، وهذا بيان لمثل الذين من قبلهم؛ أي: ذاقوا في الدنيا ببدر {وَبَالَ}؛ أي: عقوبة {أَمْرِهِمْ}؛ أي: كفرهم، وهو عذاب القتل والأسر ببدر. وكانت غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة، وكان ما بينهما نحو سنة ونصف. {وَلَهُمْ} في الآخرة؛ أي: للذين من قبلهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم لا يقادر قدره حيث يكون ما في الدنيا بالنسبة إليه كالذوق بالنسبة إلى الأكل. وفي "الفتوحات": والمقصود تشبيه حال اليهود، وهي ما حصل لهم في الدنيا من الوبال، وما سيحصل لهم في الآخرة من العذاب بحال المشركين في هذين الأمرين. والخلاصة: أن حال هؤلاء كحال أولئك في الدنيا والآخرة، ولكن لا على أن حال كلهم كحالهم، بل حال بعضهم الذين هم اليهود كذلك. 16 - وأما حال المنافقين: فهو ما تعلق به قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} فإنه خبر ثان (¬1) للمبتدأ المقدر، مبين لحالهم، متضمن لحال أخرى لليهود. وهي اغترارهم بمقالة المنافقين أولًا، وخيبتهم آخرًا. وقد أجمل في النظم الكريم؛ حيث أسند كل من الخبرين إلى المقدر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بِخصوصه، ثقة بأن السامع يرد كلًّا من المثلين إلى ما يماثله، كأنه قيل: مثل اليهود في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم، ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما حكي عنهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ}، {إِذْ قَالَ}؛ أي: الشيطان {لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ}. وقول الشيطان مجاز عن الإغواء والإغراء؛ أي: إذ أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور على المأمور به. {فَلَمَّا كَفَرَ} الإنسان المذكور إطاعة لإغوائه وتبعًا لأهوائه {قَالَ} الشيطان: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}؛ أي: بعيد عن عملك وأملك غير راض بكفرك وشركك. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال العلماء: إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرّي من الشيطان يكون يوم القيامة، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. وهذه الجملة تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وإن أريد به أبو جهل .. على كون اللام للعهد .. فمعنى قوله: {اكْفُرْ}: دم على الكفر، وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} إلخ، عبارة عن قول إبليس له يوم بدر: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}. يعني: لما قاتلوا ورأى إبليس جبريل مع محمد عليهما السلام .. خافه، وتبرأ منهم، وانهزم. قال بعضهم: هذا من كذبات إبليس، وإنه لو خاف الله حقيقة وقال صدقًا .. لما استمر على ما أدى إلى الخوف بعد ذلك، كيف وقد طلب الإنظار إلى البعث للإغواء؟!. وقال أبو الليث: قال ذلك على وجه الاستهزاء، ولا بعد أن يقول له: ليوقعه في الحسرة والحرقة، انتهى. يقول الفقير: الظاهر أن الشيطان يستشعر في بعض المواد جلال الله تعالى وعظمته، فيخافه حذرًا من المؤاخذة العاجلة وإن كان منظرًا، ولا شك أن كل أحد يخاف السطوة الإلهية عند ظهور أماراتها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. على أن نحو قاطع الطريق وقاتل النفس ربما فعل ما فعل، وهو خائف من الأخذ. وقيل: المراد بالإنسان: هو عابد كان في بني إسرائيل، حمله الشيطان على الكفر فأطاعه. والجمهور على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه. وقرأ الجمهور (¬1): {إِنِّي} بسكون الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها. والمعنى: أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير النصرة إن قوتلوا أو الخروج معهم إن أخرجوا، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[17]

وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم .. كمثل الشيطان الذي غر إنسانًا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله، واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته .. أسلمه وتبرأ منه، وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. إذا أنا نصرتك لئلا يشركني معك في العذاب. والخلاصة: أن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}، ولما جد الجد واشتد الحصار والقتال .. تخلوا عنهم وأسلموا للهلكة، كمثل الشيطان إذ سول للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه .. تبرأ منه وتنصل وقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. ولا تجد مثلًا أشد وقعًا على النفوس، ولا أنكى جرحًا في القلوب من هذا المثل لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون. 17 - ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح له، فقال: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا}؛ أي: عاقبة الشيطان وذلك الإنسان. قرأ الجمهور بنصب {عَاقِبَتَهُمَا} على أنه خبر {كان} مقدم على اسمها، واسمها قوله: {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ}. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم برفعه، على أنه اسم {كَانَ}، والخبر ما بعده. وهو أوضح في المعنى. والمعنى: فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار حال كونهما {خَالِدَيْنِ}؛ أي: ماكثين {فِيهَا}؛ أي: في النار مكثًا مؤبدًا لا يبرحان عنها. وهو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور. وقرأ الجمهور {خَالِدَيْنِ} بالياء نصبًا على الحال. وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش، وابن أبي عبلة {خالدان} بالألف رفعًا على أنه خبر {أن}. والظرف لغو متعلق به. {وَذَلِكَ}؛ أي: الخلود في النار {جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} على الإطلاق دون هؤلاء خاصة. والمعنى: أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه الخلود في النار أبدًا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر، كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة. 18 - ثم رجع سبحانه وتعالى إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة، فقال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، إيمانًا خالصًا، ويقينًا صادقًا {اتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: اتقوا عقاب الله في كل ما تأتون، وما تذرون، فتحرزوا عن العصيان بالطاعة، وتجنبوا عن الكفران بالشكر، وتوقوا عن النسيان بالذكر، واحذروا عن الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم بشهود أفعاله وصفاته في كل شيء. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله سبحانه، فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى، وزجر، أو: اتقوا الله بفعل المأمورات، كما سيأتي مقابله. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ}؛ أي: ولتتفكر كل نفس - برة أو فاجرة - ولتبحث وتفتش {مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}؛ أي: عما تقدمه ليوم القيامة من الأعمال الصالحة أو السيئة، فتختاره وتفعله؛ أي: لينظر أحدكم أي شيء يقدمه لنفسه من الأعمال، وليفكر فيه، وليحصله؛ أي: فليختر هل يقدم لها عملًا صالحًا ينجيها أو سيئًا يوبقها، فإن الدنيا دار الزراعة، والآخرة دار الحصاد، فلا تحصد في الآخرة إلا ما زرعته في الدنيا. والمتبادر من معنى الغد أنه عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة، ويطلق أيضًا على مطلق الزمان المستقبل كقوله: وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِيْ غَدٍ عَمِي وأطلق (¬1) هنا اسم الغد في قوله: {لِغَدٍ} على يوم القيامة تقريبًا له؛ كقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} فكأنه لقربه شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة، أو لأن الدنيا - أي: زمانها - كيوم والآخرة كغده، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة وتعقيب الثاني للأول، فلفظ الغد حينئذٍ استعارة كما سيأتي. وفائدة تنكير النفس: إفادة أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جدًا، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس؟ يقول الفقير (¬2): إنما كانت الآخرة كالغد لأن الناس في الدنيا نيام، ولا انتباه إلا عند الموت الذي هو مقدمة القيامة كما ورد به الخبر، فكلّ من الموت والقيامة كالصباح بالنسبة إلى الغافل، كما أن الغد صباح بالنسبة إلى النائم في الليل. ودل هذا على أن الدنيا ظلمانية والآخرة نورانية، انتهى. ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

وفائدة تنكير الغد تعظيمه، وتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا تعرف كل نفس كنه عظمته وغاية هوله، فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب. وأصله: غدو، حذفوا الواو بلا تعويض عنها كما سيأتي في مبحث التصريف. وقرأ الجمهور: {وَلْتَنْظُرْ} أمرًا، واللام ساكنة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن الحارث بكسرها. وروي ذلك عن حفص عن عاصم. وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي، ذكره في "البحر". {وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى. كرره للتأكيد والاهتمام في شأن التقوى، وإشارة إلى أن اللائق بالعبد أن يكون كل أمره مسبوقًا بالتقوى ومختومًا بها. أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل كما سبق، والثاني في ترك المحارم، كما يؤذن به الوعيد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أي: عالم بما تعملونه من المعاصي، فيجازيكم عليها يوم الجزاء. والتقوى هو: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك. وقال بعض الكبار: التقوى: وقاية النفس في الدنيا عن ترتب الضرر في الآخرة. فتقوى العامة عن ضرر الأفعال، وتقوى الخاصة عن ضرر الصفات، وتقوى أخص الخواص عن جميع ما سوى الله تعالى. وفي الآية ترغيب في الأعمال الصالحة. والمعنى (¬1): أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب سكارى. واتقوا الله إنه خبير عليم بأحوالكم، لا يخفى عليه شيء من شؤونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم، وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك. ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

19 - ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرًا وإنذارًا، فقال: {وَلَا تَكُونُوا} قرأ الجمهور (¬1): {لا تكونوا} بتاء الخطاب، وأبو حيوة بياء الغيبة على سبيل الالتفات؛ أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون {كَالَّذِينَ}؛ أي: كاليهود والمنافقين. فالمراد بالموصول (¬2): المعهودون بمعونة المقام، أو الجنس كائنًا من كان من الكفار، أمواتًا أو أحياء. {نَسُوا اللَّهَ} فيه حذف المضاف؛ أي: نسوا حقوقه تعالى، وما قدروه حق قدره، ولم يراعوا مواجب أموره ونواهيه حق رعايتها {فَأَنْسَاهُمْ} بسب ذلك {أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: جعلهم ناسين لها، فلم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها، فالمضي على أصله. أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم، فالمضي باعتبار التحقق. قال الراغب: النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. وكل نسيان من الإنسان ذمّه الله به .. فهو ما كان أصله من تعمد وما عذر فيه، نحو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". فهو ما لم يكن سببه منه. فقدله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} هو ما كان سببه عن تعمد منهم وتركه على طريق الإهانة. وإذا نسب ذلك إلى الله .. فهو تركه إياهم استهانة بهم مجازاة لما تركوه، كما قال في "اللباب": قد يطلق النسيان على الترك ومنه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ}؛ أي: تركوا طاعة الله ترك الناسي، فتركهم الله. وقال بعض المفسرين: إن قيل: النسيان يكون بعد الذكر، وهو ضد الذِّكر، لأنه السهو الحاصل بعد حصول العِلم، فهل كان الكفار يذكرون حق الله ويعترفون بربوبيته حتى ينسوا بعد؟ أجيب: بأنهم اعترفوا وقالوا: بلى يوم الميثاق، ثم نسوا ذلك بعدما خلقوا، والمؤمنون اعترفوا بها بعد الخلق، كما اعترفوا قبله بهداية الله، وراعوا حقها قل أو كثر جلّ أو صغر، ثم إن قوله: {وَلَا تَكُونُوا ...} إلخ، تنبيه على أن الإنسان بمعرفته لنفسه يعرف الله، فنسيانه هو من نسيانه لنفسه، كما قال في "فتح الرحمن": لفظ هذه الآية على أنه من عرف نفسه ولم ينسها .. عرف ربه. وقد قال علي رضي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[20]

الله عنه: (اعرف نفسك تعرف ربك). وقال سهل: معنى الآية: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم الله أنفسهم عند الاعتذار وطلب التوبة. والخلاصة (¬1): ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم، وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالًا بعيدًا، فجازاهم بما هم له أهل وما هم له مستحقون جزاءً وفاقًا؛ لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام. ومن ثم حكم عليهم بالهلاك، فقال: {أُولَئِكَ} الناسون المخذولون بالإنساء {هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الكاملون في الفسوق والخروج عن طريق الطاعة، و {هم} للحصر، فأفاد أن فسقهم كان بحيث أن فسق الغير كأنه ليس بفسق بالنسبة إليه. فالمراد بهم هنا: الكافرون لكن على المؤمن الغافل عن رعاية حق ربوبية الله ومراعاة حظ نفسه من السعادة الأبدية والقربة إلى جنابه تعالى خوف شديد وخطر عظيم. والمعنى (¬2): أي أولئك هم الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى فاستحقوا عقابه يوم القيامة، ونحو الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}. 20 - ثم وازن بين من يعمل الحسنات ومن يجترم السيئات، فقال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ} الذين نسوا الله، فاستحقوا الخلود في النار {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الذين اتقوا الله، فاستحقوا الخلود في الجنة. قال في "الإرشاد" (¬3): لعل تقديم {أَصْحَابُ النَّارِ} في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانًا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} إلى غير ذلك من المواضع. وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فلعل تقديم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) أبو السعود.

الفاضل فيه لأن صلته ملكة والأعدام مسبوقة بملكاتها. وقال بعضهم (¬1): قدم {أَصْحَابُ النَّارِ} لذكر الذين نسوا الله قبله، ولكثرة أهلها. ولفظ {النَّارِ} باللام من أعلام جهنم، كالساعة للقيامة. ولذا كثيرًا ما تذكر في مقابلة الجنة، كما في هذا المقام. وجاء في الشعر: الْجَنَّةُ الدَّارُ فَاعْلَمْ إِنْ عَمِلْتَ بِمَا ... يُرَضِي الإِلَهَ وَإِنِ فرّطْتَ فَالنَّارُ هُمَا مَحَلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُمَا ... فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ مَاذَا أَنْتَ تَخْتَارُ والصحبة في الأصل: اقتران الشيء بالشيء، في زمان ما، قل أو كثر. وبذلك يكون كل منهما صاحب الآخر. وإن كانت على المداومة والملازمة .. يكون كمال الصحبة، ويكون الصاحب المصاحب عرفًا، وقد يطلق على الطرفين حينئذٍ صاحب ومصاحب أيضًا. ومن ذلك يكنى عن الزوجة بالصاحبة. وقد يطلق الصاحب على المالك؛ لكثرة صحبته بمملوكه كما قيل له: الربّ؛ لوقوع تربية المالك على مملوكه، فيقال: صاحب المال كما يقال: رب المال. فإطلاق {أَصْحَابُ النَّارِ} و {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} على أهلهما إما باعتبار الصحبة الأبدية والاقتران الدائم، حتى لا يقال للعصاة المعذبين بالنار مقدار ما شاء الله تعالى: أصحاب النار. أو باعتبار الملك، مبالغة ورمزًا إلى أنهما جزاء لأهلهما، باعتبار كسبهما بأعمالهم الحسنة أو السيئة. ونحو الآية: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}، وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}. والمعنى (¬2): أي لا يستوي الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة. ثم بين عدم استوائهما، فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} بكل مطلوب الناجون من كل مكروه. وهو استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بين الفريقين. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[21]

فالفوز: الظفر مع حصول السلامة، فهم أهل الكرامة في الدارين. وأصحاب النار هم أهل الهوان فيهما. وفي هذا تنبيه (¬1) للناس بأنهم لفرط غفلتهم ومحبتهم العاجلة واتباع الشهوات .. كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وبين أصحابهما حتى احتاجوا إلى الإخبار بعدم الاستواء، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البرّ والتعطف، فكذا نبه الله تعالى الناس بتذكير سوء حال أهل النار وحسن حال أهل الجنة، على الاعتبار والاحتراز عن الغفلة، ورفع الرأس عن المعاصي، والتحاشي من عدم المبالاة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أدنى أهل الجنة منزلة: من ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله: من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}: وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهون أهل النار عذابًا، من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا". 21 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم استوائهم في شيء من الأشياء.، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة، فقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} العظيم الشأن المنزل عليكم أيها الناس، المنطوي على فنون القوارع أو المنزل عليك يا محمد، أو على محمد، بحسب الالتفات في الخطاب. {عَلَى جَبَلٍ} من الجبال، وهو كل وتد للأرض عظم وطال، كما سيأتي. ثم إنه لا يلزم في الإشارة وجودُ جملة المشار إليه ذي الأبعاض المترتبة وجودًا، بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة ووجود بعض آخر حكمًا. ويحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآية السابقة من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ. فإن لفظ القرآن كما يطلق على المجموع .. يطلق على البعض منه حقيقة، بالاشتراك، أو باللغة، أو مجازًا بالعلاقة، فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{لَرَأَيْتَهُ}؛ أي: لرأيت ذلك الجبل - يا محمد، أو يا من يتأتى منه الرؤية - مع كونه علمًا في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه. {خَاشِعًا}؛ أي: خاضعًا ذليلًا. وهو حال من الضمير المنصوب في قوله: {لَرَأَيْتَهُ}؛ لأنه من الرؤية البصرية. {مُتَصَدِّعًا}؛ أي: متشققًا {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سبحانه وخوفه أن يعصيه فيعاقبه. أي (¬1): من شأنه وعظمته، وجودة ألفاظه وقوة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض .. لرأيته - مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم - خاشعًا متصدعًا؛ أي: متشققًا من خشية الله سبحانه، حذرًا وخوفًا من أن لا يؤدّي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى. وقرأ طلحة {مصدعًا} بإدغام التاء في الصاد. والخلاصة (¬2): لو ركب في الجبل عقل وشعور كما ركب فيكم أيها الناس، ثم أنزل عليه القرآن ووعد وأوعد حسب حالكم .. لخشع وخضع وتذلل وتصدع من خشية الله تعالى، حذرًا من أن لا يؤدّي حق الله تعالى، في تعظيم القرآن والامتثال لما فيه من أمره ونهيه، والكافر المنكر أقسى منه، ولذا لا يتأثر أصلًا. قال العلماء: وهذا بيان وتمثيل وتصوير لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، أريد به توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه. ويدل على هذا قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} إشارة إلى هذا المثل المذكور هنا وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل؛ أي: هذا القول الغريب في بيان عظمة القرآن ودناءة حال الإنسان وبيان صفتهما العجيبة، وسائر الأمثال الواقعة في القرآن. فإن لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر، ثم يستعار لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشأن، تشبيهًا له بالقول السائر في الغرابة؛ لأنه لا يخلو عن غرابة. {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}؛ أي: نبيّنها لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ويتدبرون فيما يجب عليهم التفكر فيه، ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر. وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره. أي: نبينها لمصلحة التفكر ومنفعة التذكر. ولا يقتضي كون الفعل معللًا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

بالحكمة والمصلحة أن لكون معللًا بالغرض حتى تكون أفعاله تعالى معللة بالأغراض؛ إذ الغرض من الاحتياج والحكمة: اللطف بالمحتاج، وبينهما فرق. فإن قلت (¬1): قال في سورة الزمر: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} بصيغة المضي والإخبار عن الماضي مع أنها مكية، وقال هنا: {نَضْرِبُهَا} بصيغة المضارع والاستقبال مع أن السورة مدنية. قلت: لعل الأول من قبيل عد ما سيحقق مما حقق لتحققه بلا خلف، والثاني من قبيل التعبير عن الماضي بالمضارع؛ لإحضار الحال الماضية، أو لإرادة الاستمرار على الأحوال، بمعنى: أن شأننا أن نضرب الأمثال للناس. وفي الحديث: "أعطوا أعينكم حظها من العبادة" قالوا: ما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال: "النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب. وعن الحسن البصري رحمه الله: من لم يكن كلامه حكمة .. فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرًا .. فهو سهو، ومن لم يكن نظره عبرة .. فهو لهو. وعن أبي سليمان رحمه الله: الفكرة في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية، والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتحيي القلب. وكثيرًا ما ينشد سفيان بن عيينة، ويقول: إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فِكْرةٌ ... فَفِي كُلّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةٌ وعن بعضهم أنه قال: من عجز عن ثمانية .. فعليه بثمانية أخرى لينال فضلها. من أراد فضل صلاة الليل، وهو نائم .. فلا يعص بالنهار، ومن أراد فضل صيام التطوع وهو مفطر .. فليحفظ لسانه عما لا يعنيه، ومن أراد فضل العلماء .. فعليه بالتفكر، ومن أراد فضل المجاهدين والغزاة وهو قاعد في بيته .. فليجاهد الشيطان، ومن أراد فضل الصدقة وهو عاجز .. فليعلم الناس ما سمع من العلم، ومن أراد فضل الحجّ وهو عاجز .. فليلتزم الجمعة، ومن أراد فضل العابدين .. فليصلح بين الناس ولا يوقع العداوة، ومن أراد فضل الأبدال .. فليضع يده على صدره ويرضى لأخيه ما يرضى لنفسه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

واعلم (¬1): أن التفكر إما أن يكون في الخالق أو في الخلق: والأول: إما في ذاته، أو في صفاته، أو في أفعاله. أما في ذاته .. فممنوع؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله، إلا أن يكون التفكر في ذاته باعتبار عظمته وجلاله وكبريائه، من حيث وجوب الوجود ودوام البقاء، وامتناع الإمكان والفناء، والصمدية التي هي الاستغناء عن الكل. وأما في صفاته: فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع الأشياء، وإرادته بجميع الكائنات وسمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، ونحو ذلك. وأما في أفعاله: فهو فيها بحسب شمولها، وكثرتها، ومتانتها، ووقوعها على الوجه الأتم، كل يوم هو في شأن. والثاني: إما أن يكون فيما كان من العلويات والسفليات، أو فيما سيكون من أهوال يوم القيامة وأحوال الآخرة إلى أبد الآباد. والمعنى: أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن، وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها واقتضاها الحال، من نحو قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ...} الآية .. جعلناها تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضي ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها وناى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر. وقيل (¬2): الخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى عليه أي: لو أنزلنا هذا القرآن - يا محمد - على جبل لَمَا ثبت، ولتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، وقويناك عليه. فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[22]

الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي. 22 - ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى {اللَّهُ}؛ أي: المعبود بحق في الوجود، هو الإله {الَّذِي لَا إِلَهَ}؛ أي: لا معبود بحق في الوجود {إِلَّا هُوَ} سبحانه. وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك. هو سبحانه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر. وقيل: عالم السرّ والعلانية، وقيل: عالم ما كان وما سيكون. وقيل: الآخرة والدنيا. وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدمًا وجودًا. وتعلق العلم القديم به من حيث كونه موجودًا. قال الراغب: ما غاب عن حواس الناس وأبصارهم وما شهدوه بهما. واعلم (¬1): أن ما ورد من إسناد الغيب إلى الله فهو الغيب بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إليه تعالى؛ لأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا انتفى الغيب بالنسبة إليه تعالى .. انتفى العلم به أيضًا، وأيضًا لما سقطت جميع الغيب والإضافات في مرتبة الذات البحت والهوية الصرفة .. انتفت النسبة العلمية مطلقًا، فانتفى العلم بالغيب، فافهم. {هُوَ} سبحانه {الرَّحْمَنُ}؛ أي: كثير الرحمة لعباده بجلائل النعم. {الرَّحِيمُ}: كثير الرحمة لعباده بدقائق النِّعم. كرر {هوَ} لأن له شأنًا شريفًا، ومقامًا منيفًا؛ لدلالته على التوحيد. من اشتغل به .. ملك، ومن أعرض عنه .. هلك. والله تعالى رحمته الدنيوية عامة لكل إنسي وجني، مؤمنًا كان أو كافرًا، على ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس! إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل الباطل، كونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها"، ولذلك يقال: يا رحمن الدنيا؛ لأن ما فيه زيادة حرف يراد به زيادة في المعنى. ورحمته الأخروية خاصة بالمؤمنين، ولذا يقال: يا رحيم الآخرة. فعلى هذا في معنى {الرَّحْمَنُ} زيادة باعتبار المنعم عليه، ونقصان باعتبار الأنواع والأفراد. وفي تخصيص هذين الاسمين المنبئين، عن وفور ¬

_ (¬1) روح البيان.

رحمته في الدارين تنبيه على سبق رحمته، وتبشير للعاصين أن لا يقنطوا من رحمة الله، وتنشيط للمطيعين. بأنه يقبل القليل، ويعطي الجزيل. وحظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون كثير الرحمة، بأن يرحم نفسه أولًا ظاهرًا وباطنًا، ثم يرحم غيره بتحصيل مراده وإرشاده والنظر إليه بعين الرحمة، كما قال بعضهم: وَارْحَمْ بُنَيَّ جَمِيْعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمِ ... وَانْظُرْ إِلِيْهِمْ بِعَيْنِ اللُّطْفِ وَالشَّفَقَهْ وَقِّرْ كَبِيْرَهُمُ وَارْحَمْ صَغِيْرَهُمُ ... وَرَاعِ فِيْ كُلِّ خَلْقٍ حَقَّ مَنْ خَلَقَهْ ومعنى الآية (¬1): أي إنه تعالى لا رب غيره، ولا إله في الوجود سواه، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك .. فهو باطل. وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. واعلم (¬2): أن لفظ {هُوَ} في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في أصل وضعه كناية عن المفرد المذكر الغائب، وهي: كناية عن المفردة المؤنثة الغائبة. وكثيرًا ما يكنى به عمن لا يتصور فيه المذكورة والأنوثة، كما هو هاهنا، فإنه راجع إلى الله تعالى للعلم به. ولك أن تقول: هو: موضوع لمفرد ليس فيه تأنيث حقيقة وحكمًا، وهي: لمفرد يكون فيه ذلك. و {هُوَ}: مبتدأ، خبره لفظة {اللَّهُ}؛ بمعنى: هو المعبود بالحق، المسمى بهذا الاسم الأعظم، الدال على جلال الذات وكمال الصفات، فلا يلزم أن يتحد المبتدأ أو الخبر بأن يكون التقدير: الله الله؛ إذ لا فائدة فيه. أو {اللَّهُ} بدل من {هُوَ}، والموصول مع صلته خبر المبتدأ، أو {هُوَ} إشارة إلى الشأن، و {اللَّهُ} مبتدأ، و {الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبره، والجملة خبر عن ضمير الشأن. و {لَا} في كلمة التوحيد لنفي أفراد الجنس على الشمول والاستغراق. و {إِلَهَ} مبني على الفتح بها، مرفوع المحل على الابتداء، والمراد به: جنس المعبود بالحق، لا مطلق جنس المعبود، حقًا أو باطلًا، وإلا .. فلا يصح في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

نفسه؛ لتعدد الآلهة الباطلة، ولا يفيد التوحيد الحق. و {إِلَّا هُوَ} مرفوع على: البدلية في محل المنفي، أو من ضمير الخبر المقدر لـ {لَا} والخبر قد يقدر: موجود، فيتوهم أن التوحيد يكون باعتبار الوجود لا الإمكان، فإن نفي وجود إله غير الله لا يستلزم نفي إمكانه. وقد يقدر: ممكن، فيتوهم أن إثبات الإمكان لا يقتضي الوقوع، فكم من شيء ممكن لم يقع. وقد يقدر: لنا، فيتوهم أنه لا بد من مقدر، فيعود الكلام أيضًا. والجواب: أنه إذا كان المراد بالإله المعبود بالحق كما ذكر .. فهو لا يكون إلا رب العالمين مستحقًا لعبادة المكلفين، فإذا نفيت الألوهية على هذا المعنى عن غيره تعالى، وأثبتت له سبحانه .. يندفع التوهم على التقادير كلها. 23 - {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كرره للتأكيد والتقرير، ولإبراز الاعتناء بالتوحيد؛ لكونه حقيقًا بذلك. {الْمَلِكُ}؛ أي: المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه، المالك لهم، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته. {الْقُدُّوسُ}؛ أي: الطاهر عن كل عيب، المنزه عما لا يليق به. وقيل: هو الذي كثرت بركته، أو البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانًا ما. وقرأ الجمهور (¬1): {الْقُدُّوسُ} بضم القاف. وقرأ أبو السمال، وأبو دينار الأعرابي بفتحها. وكان سيبويه يقول: سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب، أنه سمع عند الكسائي أعرابيًا فصيحًا يقرأ: القَدوس بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول .. فهو مفتوح الأول إلا السبوح، القدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان. وقال بعضهم: المفتوح قليل في الصفات كثير في الأسماء، مثل التنور والسمور والسفود وغيرها. {السَّلَامُ}؛ أي: الذي سلم من كل النقائص، وكل آفة تلحق الخلق. فإن قلت (¬2): على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق، فيكون كالتكرار، وذلك لا يليق بفصاحة القرآن؟. قلت: الفرق بينهما: أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) الخازن.

والنقائص، في الماضي والحاضر، والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل، فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليمًا. وقيل: السلام هو المسلم على عباده في الجنة، كما قال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر. وقيل: المسلم لعباده، وهو مصدر وصف به مبالغة. {الْمُؤْمِنُ}؛ أي: الذي وهبَ لعباده الأمن من عذابه. وقيل: المصدق لرسله بإظهار المعجزات. وقيل: المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب .. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. وقرأ الجمور (¬1): {الْمُؤْمِنُ} بكسر الميم على صيغة اسم الفاعل من آمن؛ بمعنى: أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين - وقيل: أبو جعفر المدائني -: بفتحها؛ بمعنى: المؤمن به، على الحذف. وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة؛ لأن معناه: أنه كان خائفًا فأمنه غيره. {الْمُهَيْمِنُ} قال ابن عباس: أي الشهيد على عباده بأعمالهم، الرقيب عليهم الذي لا يغيب عنه شيء. وقيل (¬2): هو القائم على خلقه برزقه، وأنشد في معناه: أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِيْ الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ يقال: هيمن يهيمن، فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء. قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله: مؤيمن، بوزن مفيعل، من آمن يؤمن، فقلبت همزته هاء، فيكون بمعنى المؤمن. والأول أولى. وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى، هو أعلم بتأويله، وأنشدوا في معناه: جَلَّ الْمُهَيْمِنُ عَنْ صِفَاتِ عَبِيْدِهِ ... وَلَقَدْ تَعَالَى عَنْ عُقُولِ أُوْلِي النُّهَى رَامُوا بِزَعْمِهِمُ صِفَاتِ مَلِيْكِهِمْ ... وَالْوَصْفُ يَعْجَزُ عَنْ مَلِيْكٍ لَا يُرَى {الْعَزِيزُ}؛ أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر، وقيل: الغالب الذي لا يغالب، وقيل: القوي. {الْجَبَّارُ}: قال ابن عباس: الجبار هو العظيم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

وجبروت الله: عظمته. فعلى هذا (¬1): هو صفة ذات. وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم أصلحته بعد الكسر، يعني: الذي يغني الففير ويجبر الكسير. فعلى هذا هو صفة فعل. وهو سبحانه وتعالى كذلك، يجبر كل كسير ويغني كل فقير، وقيل: هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد. قال الفراء: من أجبره على الأمر .. قهره، قال: ولم أسمع فعالًا من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك. وسئل بعضهم عن معنى الجبّار، فقال: هو القهار الذي إذا أراد أمرًا .. فعله، لا يحجزه عنه حاجز. وقيل: الجبار هو الذي لا ينال ولا يدانى. والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم. وكذلك {الْمُتَكَبِّرُ} في صفة الناس صفة ذم؛ لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر والعلو، وذلك نقص في حقه؛ لأنه ليس له كبر وعلو، بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر .. كان كذابًا في فعله، فكان مذمومًا في حق الناس. وأما المتكبر في صفة الله تعالى .. فهو صفة مدح؛ لأن له جميع صفات العلو والعظمة، ولهذا قال في آخر الآية: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: تنزيهًا له تعالى عما يشركون به أو عن إشراكهم، فكأنه قيل: إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصًا في حقه، أما الله تعالى .. فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء، فإن أظهر ذلك .. كان ضم كمال إلى كمال. قال ابن عباس: المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء. وقيل: هو الذي تكبر عن كل سوء. وقيل: هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله. وقيل: هو المتكبر عن ظلم عباده. وقيل: الكبر والكبرياء: الامتناع. وقيل: هو ذو الكبرياء. وهو الملك سبحان الله عما يشركون؛ أي: من ادعاء الكبر لأنفسهم. ومعنى الآية (¬2): أي هو الله سبحانه، المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن كل عيب ونقص، الذي أمن خلقه أن يظلمهم، وهو الرقيب عليهم كما قال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وقال: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. والذي عزّ على كل شيء فقهره، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته، فلا تليق الجبروتية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته، كما ورد في "الصحيح": "العظمة إزاري والكبرياء ردائي. فمن نازعني واحدًا منهما عذّبته". تنزه ربنا عما ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

[24]

يقوله المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. ومعنى {سُبْحَانَ اللَّهِ ...} إلخ (¬1): سبحوا الله تسبيحًا، ونزهوه تنزيهًا عما يشركه الكفار به من المخلوقات. فالله تعالى أورده لإظهار كمال كبريانه، أو للتعجب من إثبات الشريك بعدما عاينوا آثار اتصافه بجلال الكبرياء وكمال العظمة. 24 - {هُوَ} سبحانه وتعالى {اللَّهُ}؛ أي: المعبود بحق في الوجود، كرره اعتناء بشأن التوحيد كما مر. {الْخَالِقُ}؛ أي: المقدر (¬2) للأشياء على مقتضى حكمته ووفق مشيئته. فإن أصل معنى الخلق: التقدير، يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بمقياس، وإن شاع في معنى الإيجاد على تقدير واستواء، سواء كان من مادة، كخلق الإنسان من نطفة ونحوه، أو من غير مادة؛ كخلق السماوات والأرض. وخاصية هذا الاسم: أن يذكر في جوف الليل ساعة فما فوقها فيتنور قلب ذاكره ووجهه. {الْبَارِئُ}؛ أي: الموجد للأشياء بريئةً من التفاوت، فإن البرء: الإيجاد على وجه يكون الموجد بريئًا من التفاوت والنقصان، عما يقتضيه التقدير على الحكمة البالغة والمصلحة الكاملة. وخاصية هذا الاسم: أن يذكره سبعة أيام متوالية، كل يوم مئة مرة للسلامة من الآفات. قال السهروردي: يفتح لذاكره أبواب الغنى والعز والسلامة من الآفات. {الْمُصَوِّرُ}؛ أي: الموجد لصور الأشياء وكيفياتها وأشكالها وألوانها كما أراد، كما يصور الأولاد في الأرحام، بالشكل واللون المخصوص. فإن معنى التصوير: تخصيص الخلق بالصور المتميزة، والأشكال المتعينة، والألوان المتفرقة. قال الراغب: الصورة ما تتميز به الأعيان عن غيرها. وهي: إما محسوسة؛ كصورة الإنسان وألوانه، واما معقولة؛ كالعقل وغيره من المعاني، انتهى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم على صورته" أي: على صورة آدم؛ أي: على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الصورة المختصة به، أراد بالصورة: ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه. يقول الفقير: الضمير المجرور في صورته يرجع إلى الله سبحانه لا إلى آدم، والصورة الإلهية عبارة عن الصفات السبع المرتبة، وهي: الحياة والعلم، والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام. وآدم مظهر هذه الصفات بالفعل، بخلاف سائر الموجودات. وإضافته إلى الله على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه بل على سبيل التشريف له كقوله: بيت الله، وناقة الله وروح الله. وحاصل ما في المقام: أن الخالق هنا المقدر على الحكمة الملائمة لنظام العالم والبارىء الموجد على ذلك التقدير، والمصور المبدع لصور الكائنات وأشكال المحدثات بحيث يترتب عليها خواصهم ويتم بها كمالهم. وبهذا ظهر وجه الترتيب بينها. واستلزام التصورِ البَرءَ، والبرء: الخلق، استلزام الموقوف للموقوف عليه، كما قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة، وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع. ولا ينبغي أن يكون كذلك، بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى التقدير أولًا، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيًا، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثًا. والله سبحانه وتعالى خالق من حيث إنه مقدر وبارىء من حيث إنه مخترع موجد، ومصور من حيث إنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب. وهذا كالبناء مثلًا، فإنه محتاج إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الخشب واللبن ومساحة الأرض وعدد الشقق والغرف وطولها وعرضها. وهذا يتولاه المهندس، فيرسمه ويصوره، ثم يحتاج إلى بنّاء يتولى الأعمال التي عندها تحدث وتحصل أصول الأبنية، ثم يحتاج إلى مزيِّن ينقش ظاهره، ويزين صورته، فيتولاه غير البناء. هذه العادة في التقدير والبناء والتصوير، وليس كذلك في أفعال الله تعالى، بل هو المقدر والوجد والمزين، فهو الخالق البارىء المصور. فقدم ذكر (¬1) الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة والتقدير متقدمة على تأثير القدرة، وقدم البارىء على المصور؛ لأن إيجاد الذات متقدم على إيجاد الصفات والألوان. وخاصية الاسم المصور: الإعانة على الصنائع العجيبة وظهور الثمار ¬

_ (¬1) روح البيان.

ونحوها، حتى إن العاقر إذا ذكرته في كل يوم إحدى وعشرين مرة على صوم بعدَ الغروب وقبل الإفطار سبعة أيام .. زال عقمها، وتصور الولد في رحمها بإذن الله تعالى. وقرأ عليٌّ وحاطب بن أبي بلتعة، والحسن وابن السميع (¬1): {المصوَّر} بفتح الواو ونصب الراء، على أنه مفعول به للبارىء، وأراد به جنس المصور؛ أي: الذي برأ المصور؛ أي: ميزه. وروي عن علي: فتح الواو وكسر الراء، على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، ونحو: الضارب الغلام. {لَهُ} سبحانه وتعالى {الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}؛ أي: الأسماء الدالة على المعاني الحسنة والصفات الكاملة. و {الْحُسْنَى} صيغة تفضيل؛ لأنها تأنيث الأحسن؛ كالعليا، في تأنيث الأعلى. وتوصيف الأسماء بها للزيادة المطلقة، إذ لا نسبة لأسمائه إلى أسماء الغير، كما لا نسبة لذاته إلى ذوات الغير، وأسماء الله تعالى تسعة وتسعون على ما ورد في الحديث، كما سردها الترمذي في "صحيحه". واعلم: أنه قال العلماء: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع. والمسمى: هو المعنى الموضع له، والتسمية: وضع اللفظ له أو إطلاقه عليه. وإطلاق الاسم على الله تعالى توقيفي عند البعض، بحيث لا يصح إطلاق شيء منه عليه تعالى إلا بعد أن كان واردًا في القرآن أو الحديث الصحيح. وقال آخرون: كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وشأنه .. فهو جائز الإطلاق، إلا .. فلا. ومن أدلة الأولين (¬2): أن الله عالم بلا مرية، فيقال له: عالم، وعليم، وعلام؛ لوروده في الشرع، ولا يقال له: عارف أو فقيه أو متيقن، إلى غير ذلك مما يفيد معنى العلم. ومن أدلة الآخرين: أن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية والهندية والأرُمية وغيرها، مع أنها لم ترد في القرآن والحديث ولا في الأخبار، وأن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها عليه بتلك اللغة، ومنها: أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

الكمال ونعوت الجلال، فكل اسم دل على هذه المعاني .. كان اسمًا حسنًا، وأنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا كانت المعاني صحيحة .. كان المنع من إطلاق اللفظ المفيد غير لائق به تعالى. والمعنى: أي هو الله الخالق لجميع الأشياء، المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها، كما قال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. وله الصفات التي وصف بها نفسه، لا يشركه فيها أحد سواه. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}؛ أي: ينزهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: جميع ما فيهما، إما بلسان المقال أو بلسان الحال. أي: ينطق بتنزهه تعالى تنزهًا ظاهرًا عن جميع النقائص، وقد مر الكلام على هذا التسبيح مرارًا كثيرًا. وجمهور المحققين على أنه تسبيح عبارة، وهو لا ينافي تسبيح الإشارة، وكذا العكس. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب لغيره الذي لا يغالبه مغالب. {الْحَكِيمُ} في كل ما دبره في الأمور التي يقضي بها، وإنما مدح الله سبحانه نفسه بهذه الصفات العظام تعليمًا لعباده المدح له بصفاته العلى بعد فهم معانيها ومعرفة استحقاقه بذلك، طلبًا لزيادة تقربهم إليه. قال أبو الليث في "تفسيره": فإن قال قائل: قد قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} فما الحكمة في أن الله تعالى نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه؟ قيل له: عن هذا السؤال جوابان: أحدهما: أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص، وإذا كان ناقصًا .. لا يجوز له أن يمدح نفسه، والله تعالى تام الملك والقدرة فيستوجب بهما المدح، فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه. والجواب الآخر: أن العبد وإن كان فيه خصال الخير، فتلك إفضال من الله تعالى وإحسان منه، ولم يكن ذلك بقوة العبد وقدرته؛ فلهذا لا يجوز أن يمدح نفسه، ونظير هذا: أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف، وقد منّ على عباده للمعنى الذي ذكر في المدح. قال بعض الكبار: تزكية الإنسان لنفسه سم قاتل، وهي من باب شهادة الزور؛

لجهله بمقامه عند الله، إلا أن يترتب على ذلك مصلحة دينية .. فللإنسان ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"، أي: لا أفتخر عليكم بالسيادة، إنما الفخر بالعبودية، والفخر بالذات لا يكون إلا لله وحده، وأما الفخر في عباده .. فإنما للرتب، فيقال: صفة العلم أفضل من صفة الجهل، ونحو ذلك. الإعراب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري التعجبي، {لم}: حرف نفي وجزم، {تَرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد أو على أي مخاطب، مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، {إِلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {تَرَ}، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما جرى بين المنافقين واليهود. والرؤية هنا نظرية تتعدى بإلى {نَافَقُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {يقُولونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة القول وتجدده. {لِإِخْوَانِهِمُ}: متعلق بـ {يقُولونَ}، {الَّذِينَ}: صفة {لِإِخْوَانِهِمُ} وجملة {كَفَرُوا} صلة {الَّذِينَ}، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: حال من {إخوانهم}، {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} إلى توده: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ}: مقول محكي لـ {يقُولونَ}. وإن شئت قلت: {اللام}: موطئة للقسم بصيغة اسم الفاعل؛ أي: مؤذنة وممهدة للقسم؛ لأنها آذنت بأن ما بعدها جواب للقسم لا جواب للشرط ومهدته له. {إنْ} حرف شرط جازم، {أُخْرِجْتُمْ}: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم، جريًا على القاعدة المشهورة عندهم من أنه إذا اجتمع شرط وقسم .. فالجواب للمتقدم منهما، وجواب المتأخر محذوف، تقديره: إن أخرجتم .. نخرج معكم. وجملة الشرط مع جوابه معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. {لَنَخْرُجَنَّ}: {اللام} لام القسم مؤكدة للأولى، {نخرجن}: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على المنافقين، تقديره: نحن. {مَعَكُمْ}: ظرف مضاف متعلق

بـ {نخرجن}، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. {وَلَا}: {الواو} عاطفة، {لا}: نافية، {نُطِيعُ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، {فِيكُمْ}: متعلق بـ {نُطِيعُ} ولكنه على حذف مضاف؛ أي: في خذلانكم. {أَحَدًا}: مفعول به، {أَبَدًا}: ظرف للنفي، متعلق بـ {نُطِيعُ} أيضًا، والجملة الفعلية معطوفة على {نخرجن} على كونها جواب القسم. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة، {إنْ}: حرف شرط جازم، {قُوتِلْتُمْ}: فعل، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: ننصركم. وجملة الشرط - أيضًا - معترضة بين القسم المقدر قبلها وجوابه، لا محل لها من الإعراب. {لَنَنْصُرَنَّكُمْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {ننصرن}: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، و {الكاف}: مفعول به، والجملة جواب للقسم المقدر قبل {إن} الشرطية، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على القسم المذكور قبله على كونه مقولًا لـ {يَقُولونَ}. {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية، {الله}: مبتدأ، وجملة {يَشْهَدُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {لَكَاذِبُونَ}: خبره، و {اللام} لام الابتداء مزحلقة عن محلها، ولأجلها كسرت همزة {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مفعول {يَشْهَدُ}؛ لأنه في معنى القول. {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)}. {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {أُخْرِجُوا}: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب {إنْ} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن أخرجوا .. لا يخرجون معهم. وجملة {إنْ} الشرطية معترضة بين القسم وجوابه. {لَا}: نافية، {يَخرُجُونَ}: فعل وفاعل، {مَعَهُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا

محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {إنْ} حرف شرط {قُوتِلُوا}: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن قوتلوا .. لا ينصرونهم. وجملة الشرط معترض. {لَا}: نافية، {يَنْصُرُونَهُمْ}: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة جواب القَسم، وجملة القَسم معطوفة على القَسم المذكور قبله. {وَلَئِنْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {إن} حرف شرط، {نَصَرُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: وإن نصروهم .. يولون الأدبار، وجملة الشرط معترضة، {لَيُوَلُّنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {يُوَلُّنَّ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، {الْأَدْبَارَ}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم المذكور قبله. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {لَا}: نافية، {يُنْصَرُونَ}: فعل مضارع، ونائب فاعل مرفوع بالنون، معطوف على {يُوَلُّنَّ}. {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}. {لَأَنْتُمْ}: {اللام}: حرف ابتداء، {أنتم} مبتدأ، {أشَدُّ}: خبره، {رَهْبَةً}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، {فِي صُدُورِهِمْ} صفة لرهبة، أو متعلق به، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَشَدُّ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُمْ}: خبره، والجملة مستأنفة، {بِأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {قَوْمٌ}: خبره، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ}: صفة لـ {قَوْمٌ}، وجملة {أنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم فقههم لمصالحهم الدينية والدنيوية. {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}. {لَا}: نافية. {يُقَاتِلُونَكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل ومفعول به، وضمير الفاعل يعود على اليهود، والجملة مستأنفة. {جَمِيعًا}: حال من فاعل {يُقَاتِلُونَكُمْ}؛ أي:

مجتمعين. {إلا}: أداة استثناء مفرغ {فِي قُرًى}: متعلق بـ {يُقَاتِلُونَكُمْ}، {مُحَصَّنَةٍ}: صفة لقرى، {أو} حرف عطف وتفصيل، {مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على قوبه: {فِي قُرًى}. {بَأْسُهُمْ}: مبتدأ، {بَيْنَهُمْ}: ظرف متعلق بـ {شَدِيدٌ}، و {شَدِيدٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالهم. {تَحْسَبُهُمْ}: فعل مضارع من أخوات ظن، وفاعل مستتر يعود على محمد مثلًا، ومفعول أول، {جَمِيعًا}: مفعول ثان، والجملة مستأنفة، {وَقُلُوبُهُمْ}: {الواو}: حالية، {قلوبهم}: مبتدأ، {شَتَّى}: خبره، والجملة في محل النصب حال من الهاء في {تَحْسَبُهُمْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُمْ}: خبر، والجملة مستأنفة، {أنهم}: ناصب واسمه، {قَوْمٌ} خبره، وجملة {لَا يَعْقِلُونَ}: صفة قوم، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر مجرور بـ {الباء}، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم عقلهم. {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)}. {كَمَثَلِ الَّذِينَ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثلهم كائن كمثل الذين إلخ. والجملة مستأنفة {الَّذِينَ}: مضاف إليه {مِنْ قَبْلِهِمْ}: صلة {الَّذِينَ}، {قَرِيبًا}: ظرف متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به {مِنْ قَبْلِهِمْ}. ولك أن تعلقه بـ {ذَاقُوا} المذكور بعده. وعلقه الزمخشري بمضاف مقدر في الخبر؛ أي: كوجوه مثل الذين من قبلهم. أي: مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل كمثل أهل مكة فيما وقع لهم يوم بدر قريبًا من الهزيمة والقتل والأسر. {ذَاقُوا}: فعل وفاعل، {وَبَالَ أَمْرِهِمْ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الَّذِينَ}، أو من الضمير المستكن في الصلة. {وَلَهُمْ}: {الواو}: استئنافية، {لهم}: خبر مقدم، {عَذَابٌ}: مبتدأ مؤخر، {أَلِيمٌ}: صفة {عَذَابٌ}، والجملة مستأنفة. {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)}. {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كائن {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ}، والجملة مستأنفة {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه

حال من {مثل الشيطان} كأنه بيان له. وجملة {قَالَ} في محل الخفض بإضافة {إِذْ} إليه، {لِلْإِنْسَانِ}: متعلق به، وجملة {اكْفُرْ} مقول لـ {قال}، {فَلَمَّا كَفَرَ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف، تقديره: فكفر، {لما}: حرف شرط غير جازم، {كَفَرَ}: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة فعل شرط لـ {لما}، {قَالَ}: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على الشيطان، والجملة جواب الشرط لـ {لما}. وجملة {لما} معطوفة على تلك المحذوفة، {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالَ}. وإن شئت قلت: {إِنِّي بَرِيءٌ}: ناصب واسمه وخبره، {مِنْكَ}: متعلق بـ {بَرِيءٌ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنِّي}: ناصب واسمه، وجملة {أَخَافُ اللَّهَ}: خبره {رَبَّ الْعَالَمِينَ}: صفة للجلالة أو بدل منه، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالَ} أيضًا. {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}. {فَكَانَ}: {الفاء}: عاطفة، {كان}: فعل ماض ناقص، {عَاقِبَتَهُمَا}: خبرها المقدم؛ أي: عاقبة المناوي والمغوي. {أَنَّهُمَا}: ناصب واسمه، {فِي النَّارِ}: خبره، {خَالِدَيْنِ}: حال من الضمير المستكن في خبر {أن}. أعني: الجار والمجرور. وجملة {أن} في تأويل مصدر مرفوع على أنه اسم كان مؤخر، تقديره: فكان كونهما في النار خالدين فيها عاقبتهما، وجملة {كان} معطوفة على جملة {لما}. وقرىء {عاقبتُهما} بالرفع على أنه هو الاسم. و {أن} وما في حيزها هو الخبر. {فِيهَا} متعلقان بـ: خالدين {وَذَلِكَ}: {الواو}: استئنافية، {ذلك}: مبتدأ، {جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}: خبر، ومضاف إليه. والجملة مستأنفة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ}: صفة أي، وجملة النداء مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {اتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {وَلْتَنْظُرْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: لام الأمر، {تنظر}:

فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، {نَفْسٌ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ}. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {تنظر} وجملة {قَدَّمَتْ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما قدمته. {لِغَدٍ}: متعلق بـ {قَدَّمَتْ}، وأطلق الغد على يوم القيامة تقريبًا له. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على اتقوا الأول. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {خَبِيرٌ}: خبره، {بِمَا}؛ متعلق بخبير، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة أو المصدرية. وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالتقوى. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لا}: ناهية جازمة، {تَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ {لا} الناهية. {كَالَّذِينَ}: خبر تكونوا، وجملة النهي معطوفة على جملة {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، وجملة {نَسُوا اللَّهَ}: صلة الموصول، {فَأَنْسَاهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {أنساهم}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ} ومفعول به أول، {أَنْفُسَهُمْ}؛ مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {نَسُوا اللَّهَ}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ} ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، {الْفَاسِقُونَ}: خبر المبتدأ، أو خبر {هُمُ}، والجملة خبر {أُولَئِكَ}، والجملة الاسمية مستأنفة، {لَا}: نافية، {يَسْتَوِي}: فعل مضارع، {أَصْحَابُ النَّارِ} فاعل، ومضاف إليه {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} معطوفة على {أَصْحَابُ النَّارِ}. والجملة الفعلية مستأنفة، {وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، {الْفَائِزُونَ}: خبر المبتدأ، أو خبر {هُمُ}. والجملة مستأنفة. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}. {لَوْ}: حرف شرط غير جازم {أَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل فعل شرط لـ {لَوْ}. {هَذَا}: مفعول به، {الْقُرْآنَ}: بدل منه، {عَلَى جَبَلٍ}: متعلق بـ {أَنْزَلْنَا}، {لَرَأَيْتَهُ}: {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية، {رأيته}، فعل وفاعل ومفعول، {خَاشِعًا}: مفعول ثان أو حال؛ لأن الرؤية تحتمل القلبية والبصرية.

{مُتَصَدِّعًا}: نعت لـ {خَاشِعًا} أو حال ثانية {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}: متعلق بـ {مُتَصَدِّعًا}، وجملة رأى جواب {لَوْ} الشرطية، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {وَتِلْكَ}: {الواو}: استئنافية. {تلك}: مبتدأ، {الْأَمْثَالُ}: بدل، وجملة {نَضْرِبُهَا}: خبر، والجملة الاسمية مستأنفة، {لِلنَّاسِ}: متعلق بـ {نَضْرِبُهَا}، {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَتَفَكَّرُونَ}: خبره. وجملة {لعل} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)}. {هُوَ}: مبتدأ. {اللَّهُ}: خبر أول، والجملة مستأنفة، {الَّذِي}: نعت للجلالة، {لَا}: نافية لجنس الخبر تعمل عمل إن، {إِلَهَ}: في محل النصب اسمها، وخبر {لَا} محذوف جوازًا، تقديره: موجود، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {هُوَ}: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع، بدل من الضمير المستكن في خبر {لَا} المحذوف، وجملة إلا من اسمها، وخبرها صلة الذي. {عَالِمُ الْغَيْبِ}: خبر ثان لـ {هو}. {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف على {الْغَيْبِ}، {هُوَ}: مبتدأ، {الرَّحْمَنُ}: خبر أول له، {الرَّحِيمُ}: خبر ثان به. والجملة مستأنفة. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}. {هُوَ}: مبتدأ، {اللَّهُ}: خبر، {الَّذِي}: صفة للجلالة. والجملة الابتدائية مستأنفة، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صلة {الَّذِي}. {الْمَلِكُ}: خبر ثان لـ {هو}، {الْقُدُّوسُ}: خبر ثالث، {السَّلَامُ}: خبر رابع، {الْمُؤْمِنُ}: خبر خامس، {الْمُهَيْمِنُ}: خبر سادس، {الْعَزِيزُ}: خبر سابع، {الْجَبَّارُ}: خبر ثامن، {الْمُتَكَبِّرُ}: خبر تاسع، {سُبْحَانَ اللَّهِ}: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: أسبّح الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. {عَمَّا}: متعلق بـ {سُبْحَانَ}، وجملة {يُشْرِكُونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة؛ أي: عن الذي يشركونه به، أو لما المصدرية. أي: عن إشراكهم. {هُوَ اللَّهُ}: مبتدأ وخبر،

والجملة مستأنفة. كرره اعتناءً بالتوحيد، {الْخَالِقُ}: خبر ثان لـ {هُوَ} {الْبَارِئُ}: خبر ثالث، {الْمُصَوِّرُ}: خبر رابع، {لَهُ}: خبر مقدم، {الْأَسْمَاءُ}: مبتدأ مؤخر، {الْحُسْنَى}: صفة للأسماء. والحسنى ضد السوءى. والجملة مستأنفة. {يُسَبِّحُ}: فعل مضارع، {لَهُ} متعلق به، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، {في السَّمَاوَاتِ}: متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} الموصولة، {وَالْأَرْضِ}: معطوفة على {السَّمَاوَاتِ}، {وَهُوَ}: {الواو}: استئنافية. {هو}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول له، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}؛ أي: أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا في إخفاء عقائدهم. قال الراغب: النفق: الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ، ومنه: نافقاء اليربوع، وقد نافق اليربوع، ونفق، ومنه: النفاق، وهو: الدخول في الشرع في باب والخروج عنه من باب نبه على هذا بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ أي: الخارجون عن الشرع. {لِإِخْوَانِهِمُ}: جمع أخ في الذين، أو الصداقة، أو المعاملة. وأما الأخ من النسب فجمعه: إخوة. {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ}: و {اللام}: فيه موطئة للقسم بصيغة اسم الفاعل المؤنث؛ أي: مؤذنة بأن الجواب بعدها مبني على قسم مقدر قبلها، لا مبني على الشرط المذكور تقديره: والله لئن أخرجتم إلخ. ومن ثم تسمى: اللام المؤذنة، والموطئة، والممهدة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم؛ أي: مهدته وهيأته له. {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ}: أصله، وإن قاتلوكم، ولما ضم أول الفعل لبنائه للمجهول قلبت الألف واوًا. {لَنَنْصُرَنَّكُمْ}: أي لنعاوننكم. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا}: الواو فيه مبدلة من ألف فاعل، أصله: قاتلوا. فلما بني الفعل للمجهول وضم أوله قلبت الألف واوًا لمناسبة الضمة. {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}: أصله ليوليونن، بثلاث نونات: الأولى نون الرفع، ثم نون التوكيد الثقيلة التي بمنزلة نونين، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار اللفظ: ليوليون، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فصار: ليولين، فاستثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان، فحذفت فصار وزنه: يفعن؛ أي: ليفرن هاربين. {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} والرهبة: مخافة مع تحزن واضطراب،

وهي هنا مصدر من رهب المبني للمفعول. أي: أشد مرهوبية. وذلك لأن {أَنْتُمْ} خطاب للمسلمين، والخوف ليس واقعًا منهم بل من المنافقين، فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين. {إِلَّا فِي قُرًى}: جمع قرية، وهي مجتمع الناس للتوطن، وأصله: قري، بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف وصلًا لالتقائها ساكنة بنون التنوين. {مُحَصَّنَةٍ}؛ أي: محكمة بالدروب، والأبواب الواسعة، والخنادق، وما أشبه ذلك. أو محفوظة بالسوْر. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}: جمع جدار، وهو كما مر كالحائط إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار يقال اعتبارًا بالنتو والارتفاع، ولذا قيل: حيدر الشجر، إذا خرج ورقه كأنه حمص، وجدر الصبي إذا خرج جدريه، تشبيهًا بجدر الشجر. {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}: جمع شتيت، كمرضى جمع مريض. يقال: ست يشت شتًا، وشتاتًا وشتيتًا: فرق وافترق كانشت وتشتت، وجاؤوا أشتاتًا؛ أي: متفرقين في النظام، والعامة في {شَتَّى} بلا تنوين؛ لأنها ألف تأنيث. {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} {ذَاقُوا} فيه القلب، أصله: ذوقوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. قال الراغب: الوبل والوابل: المطر الثقيل القطار، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال. وطعام وبيل. {أَمْرِهِمْ}: والأمر واحد الأمور لا الأوامر. أي: ذاقوا سوء عاقبة كفرهم. {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} يقال: برىء يبرأ فهو بريء، وأصل البرء والبراءة، والتبري: التقصي مما يكره مجاورته. {لِغَدٍ}؛ أي: ليوم القيامة سمي بذلك لقربه، فكل آت قريب، كما قال: وَإِنَّ غَدًا لِنَاظِرِهِ قَرِيْبُ وأصله: غدو، حذفوا الواو بلا عوض، واستشهد عليه بقول لبيد: وَمَا النَّاسُ إلَّا كَالدِّيَارِ وَأَهْلِهَا ... بِهَا يَوْمَ حَلَّوُها وَغَدْوًا بَلاقِعُ إذ جاء به على أصله، والبيت من أبيات العبرة. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ}: أصل {تَكُونُوا}: تكونون، بوزن تفعلون، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد. ثم حذفت نون الرفع

للجازم. {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ}: أصله: نسيوا، بوزن فعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت السين لمناسبة الواو. {فَأَنْسَاهُمْ}: فيه إعلال بالقلب، أصله: أنسيهم، بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}: الألف في {النَّارِ} منقلبة عن واو لتصغيرها على نويرة. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}: جمع فائز، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: الفاوزون، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على الفعل فاز في الإعلال، حيث أعلّ فاز بقلب الواو ألفًا. {عَلَى جَبَلٍ} من الجبال، وهو محركًا كل وتد للأرض عظم وطال، فإن انفرد .. فأكمة وقنة - بضم القاف - قيل: عدد جبال الدنيا ستة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعون جبلًا سوى التلال، كما في "زهرة الرياض" {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا}؛ أي: خاضعًا منقادًا متذللًا. قال بعضم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له. وقال بعضهم: الخضوع في البدن، والخشوع في الصوت والبصر. قال الراغب: الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب. ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب .. خشعت الجوارح. {مُتَصَدِّعًا}؛ أي: متشققًا {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}؛ أي: من خوفه أن تعصيه فيعاقبه. والصدع: شق في الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد ونحوها، ومنه استعير الصداع، وهو: الانشقاق في الرأس من الوجع. {الْغَيْبِ}: ما غاب عن الحس من العوالم التي لا نراها. {وَالشَّهَادَةِ}: ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها. {الْقُدُّوسُ}: المنزه عن النقص. قال بعضهم: حقيقة القدس: الاعتلاء عن قبول التغير، ومنه: الأرض المقدسة؛ لأنها لا تتغير بملك الكافر كما يتغير غيرها من الأرضين. وأتبع هذا الاسم اسم الملك لما يعرض للملوك من تغير أحوالهم بالجور والظلم والاعتداء في الأحكام وفيما يترتب عليها. فإن ملكه تعالى لا يعرض له ما يغيره؛ لاستحالة ذلك في وصفه. {السَّلَامُ}؛ أي: الذي سلم الخلق من ظلمه، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم. {الْمُؤْمِنُ}؛ أي؛ واهب الأمن. فكل مخلوق يعيش في أمن، فالطائر في جوه، والحية في وكرها، والسمك في البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما

لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم، وإلا .. هلكوا. {الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب على أمره. قال بعضهم: مِنْ عز، إذا غلب، فمرجعه القدرة المتعالية عن المعارضة والممانعة. أو من عن عزازة، إذا قل، فالمراد: عدم المثل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. {الْجَبَّارُ}؛ أي: الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه أي: قهرهم وأكرههم عليه. أو جبر أحوالهم أي: أصلحها. فعلى هذا يكون الجبار من الثلاثي لا من الإفعال. وجبر بمعنى أجبر لغة تميم وكثير من الحجازيين. واستدل بورود الجبار من يقول: إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثي، فإنه من أجبره على كذا أي: قهره. وقال الفراء: لم أسمع فعالًا من أفعل إلا في جبار ودراك، فإنهما من أجبر وأدرك. {الْمُتَكَبِّرُ}؛ أي: الذي تكبر وتعظم عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانًا، أو البليغ الكبرياء والعظمة. يعني: أن صيغة التفعل للتكلف بما لم يكن، فإذا قيل: تكبر وتسخى .. يدل على أنه يري ويظهر الكبر والسخاء، وليس بكبير ولا سخي. والتكلف بما لم يكن كان مستحيلًا في حق الله تعالى، وحمل على لازمه، وهو: أن يكون ما قام به من الفعل على أتم ما يكون وأكمله من غير أن يكون هناك تكلف واعتمال حقيقة. ومنه: ترحمت على إبراهيم؛ بمعنى: رحمته كمال الرحمة وأتممتها عليه. فإذا قيل: إنه تعالى متكبر .. كان المعنى: إنه البالغ في الكبر والعظمة أقصى المراتب. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ أي: تنزه ربنا عما يصفه به المشركون. {الْخَالِقُ}؛ أي: المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة. {الْبَارِئُ}؛ أي: المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له. {الْمُصَوِّرُ}؛ أي: الموجد للأشياء على صورها، ومختلف أشكالها، وألوانها كما أراد. فالتصوير آخرًا، والتقدير أولًا، والبرء بينهما. اهـ. "كرخي". وفي "المختار": وبرأ الله الخلق، من باب قطع؛ أي: خلقها. وفي "المصباح": وأصل الخلق: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته له. اهـ. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}؛ أي: الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود. فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته،

وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف. {الْحُسْنَى}: مؤنث الأحسن، الذي هو أفعل تفضيل، لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء. وفي "القاموس": ولا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء، وعكسه غلام أمرد، ولا يقال: جارية مرداء وإنما يقال: هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل، وجمعه: أحاسن. و {الْحُسْنَى}: بضم الحاء والقصر: ضد السوءى. اهـ. وفي "البحر" في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ما نصه: قال الزمخشري: ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء؛ لأنها تدل على معان حسنة، من تحميد وتقديس وغير ذلك. اهـ. فالحسنى هنا تأنيث الأحسن، ووَصَفَ الجَمْعَ الذي لا يَعقِلُ بما توصف به الواحدة، كقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة للجمع .. لكان التركيب: الحُسَنَ، على وزن الأُخَرَ؛ كقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه، ويوصف بجمع المؤنث وإن كان المفرد مذكرًا. اهـ. تتمة: ونقل صاحب "اللباب" عن الإِمام الرازي أنه قال: رأيت في بعض كتب الذِّكر أن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة، وألف منها في الإنجيل، وألف منها في الزبور. اهـ. فلعل كونها تسعة وتسعين بالنظر إلى الأشهر الأشرف الأجمع. وتعدد الأسماء لا يدل على تعدد المسمى؛ لأن الواحد يسمى أبًا من وجه، وجدًا من وجه، وخالًا من وجه، وعالمًا من وجه، وكريمًا من وجه، وشجاعًا من وجه وذاته متحدة. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التقريري التعجبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ} للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته الماضية. ومنها: الكناية في قوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}؛ لأنه كناية عن الانهزام الملزوم لتولية الأدبار.

ومنها: الإطناب، بتكرار القسم في قوله: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} إلى آخر القسمات المذكورة هنا لغرض تأكيد الكلام. ومنها: حذف جواب الشرط في كل القسمات المذكورة اختصارًا لدلالة جواب القسم عليه. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} لما فيه من إسناد ما للمفعول إلى الفاعل؛ لأن المخاطبين - وهم المسلمون - مرهوبون لا راهبون. ومنها: الحصر في قوله: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}؛ لأن الظرف متعلق بـ {شَدِيدٌ}، فتقديم المعمول على عامله يفيد الحصر. ومنها: الطباق بين {جَمِيعًا} و {شَتَّى} في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}. ومنها: ما في هذه الآية من اللطائف والنكت، وهو تشجيع قلوب المؤمنين على قتالهم، وتجسير لهم، وأن اللائق بهم الاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، كما كان المؤمنون متفقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ}؛ لأن الكفر مجاز عن الإغواء والإغراء، ففيه إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن الإغواء سبب للكفر. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، حيث استعار الغد الذي هو اسم لليوم الذي بعد يومك ليوم القيامة بجامع القرب في كل، وإن كان القرب في يوم القيامة مجازيًا؛ لأن كل آتٍ قريب. ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} وجه الشبه منتزع من أمور متعددة. ومنها: الإتيان بضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إفادة للحصر؛ لأنه يستفاد منه: أن فسقهم كان بحيث إن فسق الغير كأنه ليس بفسق بالنسبة إليه. ومنها: تقديم أصحاب النار في قوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} على أصحاب الجنة للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء

من جهتهم لا من جهة مقابليهم، كما مر في مبحث التفسير مبسوطًا. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: نسوا حقوق الله تعالى، فأنساهم حظوظ أنفسهم. ومنها: الطباق بين أصحاب النار وأصحاب الجنة في قوله: {لَا يَسْتَوِي} إلخ، وبين الجنة والنار أيضًا، وبين الغيب والشهادة في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. ومنها: الاستعارة في قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ}؛ لأن لفظ المثل صار حقيقة عرفية في القول السائر، ثم استعير هنا لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشأن تشبيهًا له بالقول السائر في الغرابة؛ لأنه لا يخلو عن غرابة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد والأغراض اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - تنزيه الله لنفسه عن كل نقص. 2 - ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه. 3 - تقسيم الفيء الذي أخذ من بني النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها. 4 - أخلاق المنافقين المضلين، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم. 5 - ذكر نصائح للمؤمنين. 6 - إعظام شأن القرآن، وإجلال قدره. 7 - وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير هذه السورة الكريمة بعون الله وتوفيقه قبيل صلاة المغرب من اليوم التاسع والعشرين من شهر شوال، يوم الخميس من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمسة عشر من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة سورة الممتحنة مدنية، نزلت بعد الأحزاب، قال القرطبي: في قول الجميع، وأخرج (¬1) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. والممتحنة - بكسر الحاء - اسم فاعل، أضيف الفعل إليها مجازًا، كما سميت: سورة براءة، والفاضحة؛ لكشفها عن عيوب المنافقين. وقيل: الممتحَنة - بفتح الحاء - اسم مفعول، أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ...} الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، والدة إبراهيم بن عبد الرحمن. اهـ. "قرطبي". وفي "زاده": الممتحِنة - بكسر الحاء -: المختبرة، أضيفت السورة إلى الجماعة الممتحنة من حيث إنه ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء .. يكون المعنى: سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان. اهـ. وآياتها: ثلاث عشرة آية، وكلماتها: ثلاث مئة وثمان وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وخمس مئة وعشر. تسميتها: تسمى سورة الممتحنة كما مرّ لذكر الامتحان فيها. وتسمى (¬2) سورة براءة، وسورة المبعثرة، وسورة الفاضحة. مناسبتها لما قبلها من وجهين (¬3): 1 - أنه ذكر في السابقة موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر هنا نهي المؤمنين عن انخاذ الكفار أولياء لئلا يشبهوا المنافقين. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

2 - أنه ذكر في السابقة المعاهدين من أهل الكتاب، وذكر هنا المعاهدين من المشركين. وعبارة أبي حيان هنا (¬1): ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودد إليهم. انتهت. الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم (¬2): سورة الممتحنة فيها من المنسوخ ثلاث آيات: أولاهن: قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ...} الآية (8)، نسخت بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ...} الآية (9). وهذا مما نسخ فيه العموم بتفسير الخصوص. الثانية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ...} الآية (10)، فنسخت بقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ...} الآية (10). وقيل: نسخت بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} الآية. الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ ...} إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ...} الآية (11)، نسخت بآية السيف. فضلها: ومما ورد في فضلها: ما روي (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الممتحنة .. كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاءَ يوم القيامة". ذكره "البيضاوي" ولكن هذا حديث لا أصل له. فائدة: في ذكر تسمية هذه السورة بالممتحنة - بكسر الحاء - على صيغة اسم الفاعل: لعل (¬4) هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى فيما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}. أمر الله المؤمنين هناك بالامتحان، فهم الممتحنون - بكسر الحاء - حقيقة، وأضيف الامتحان إلى السورة مجازًا، فسميت بسورة الممتحنة للمبالغة. ويحتمل أن يكون المراد الجماعة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) ابن حزم. (¬3) البيضاوي. (¬4) روح البيان بتصرف.

الممتحنة؛ أي: المأمور بامتحانها. ويؤيده ما روي: أنه قد تفتح الحاء، فيكون المراد النساء المختبرة، فالإضافة بمعنى اللام التخصيصية؛ أي: السورة التي تذكر فها النساء الممتحنة؛ أي: المختبرة، مثل: سورة البقرة وأمثالها. ويحتمل أن يكون مصدرًا ميميًا بمعنى الامتحان، على ما هو المشهور من أن المصدر الميمي وأسماء المفعول والزمان والمكان فيما زاد على الثلاثي تكون على صيغة واحدة؛ أي: سورة الامتحان، مثل سورة الإسراء وغيرها. انتهى من "الروح". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}. المناسبة قد سبق لك قريبًا بيان المناسبة بين هذه السورة والسابقة. وأما قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...} الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله (¬1) سبحانه وتعالى لما أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك؛ كإخراجهم من الديار، وتمني الكفر لم، وصدهم عن هداية الدِّين، وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلًا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى .. أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم ¬

_ (¬1) المراغي.

وأصحابه؛ إذ تبرؤوا من قومهم وعادوهم، وقالوا لهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}. قال الفراء فكأنه يقول: أفلا تأسيت - يا حاطب - بإبراهيم حين تبرأ من أهله، ولتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان. قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه حملهم ذلك على أن يظهروا براءتهم من أقربائهم والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزًا على نفوسهم ويتمنون أن يجدوا المخلص منه .. أردف ذلك سبحانه أنه سيغير من طباع المشركين ويغرس في قلوبهم محبة الإِسلام، فيتم التواد والتصافي بينكم وبينهم، وفي ذلك إزالة الوحشة من قلوب المؤمنين، وتطييب لقلوبهم. وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم وتمّ لهم ما كانوا يريدون من التحاب والتواد. ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: أن سارة - التي كانت مغنية ونائحة بمكَّة - أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحملوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة - مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزى - فأعطاها عشرة دنانير، وكتب معها كتابًا - إلى أهل مكة، هذا صورته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدكم، فخذوا حذركم. فأخبره جبرئيل به، فبعث إليها عليًا وعمارًا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرشد - وكانوا فرسانًا - وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - موضع - فإن بها ظعينة امرأة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت .. فاضربوا عنقها. فأدركوها، فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسل سيفه وقال لها: أخرجي الكتاب أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من

[1]

عقاص شعرها، فأحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطبًا وقال له: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، ما كنتُ كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأً ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني. فصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل عذره. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ...} الآيات. قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَأَصِلها. قال: "نعم". فأنزل الله سبحانه فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}. وأخرج أحمد والبزار والحاكم، وصححه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قُتيلة - مصغرًا - بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت بهدايا صنابٍ - صباغ يتخذ من الخردل أو الزبيب وأقط وسمن - وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخل بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فسألت، فأنزل الله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ...} الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها. وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة، وبني الحارث بن كعب، وكنانة، ومزينة، وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَتَّخِذُوا}؛ أي: لا تجعلوا {عَدُوِّي} في الدين، مفعول أول، {وَعَدُوَّكُمْ} في القتل، معطوف عليه، {أَوْلِيَاءَ}؛ أي:

أصدقاء لأنفسكم، مفعول ثان. وأضاف (¬1) سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيمًا لجرمهم. والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار ومصادقتهم بوجه من الوجوه. وقد تقدم ذكر القصة التي نزلت فيها الآية، وفي تلك القصة إشارة (¬2) إلى جواز هتك ستر الجواسيس وهتك أستار المفسدين إذا كان فيه مصلحة أو في ستره مفسدة، وأن من تعاطى أمرًا محظورًا ثم ادعى له تأويلًا محتملًا .. قبل منه، وأن العذر مقبول عند كرام الناس. روي: أن حاطبًا - رضي الله عنه - لما سمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، لما علم أن الكتاب المذكور ما أخرجه عن الإيمان؛ لسلامة عقيدته. ودل قوله: {وَعَدُوَّكُمْ} على إخلاصه؛ فإن الكافر ليس بعدو للمنافق بل للمخلص. {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ}؛ أي: توصلون إلى أولئك الأعداء {بِالْمَوَدَّةِ}؛ أي: بالمحبة بالكتاب. والمودة: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. أي: توصلون محبتكم بالمكاتبة ونحوها من الأسباب التي تدل على المودة، على أن الباء زائدة في المفعول، كما في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ}. أو تلقون إليهم أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسراره بسبب المودة، التي بينكم وبينهم. فيكون المفعول محذوفًا للعلم به، والباء للسببية، والجملة حال من فاعل {لَا تَتَّخِذُوا}؛ أي: لا تتخذوهم أولياء حال كونكم ملقين المودة إليهم. ويجوز (¬3) أن تكون الجملة مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم. ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء. وفي "فتح الرحمن": بدأه هنا بـ {تُلْقُونَ} وفيما سيأتي بـ {تُسِرُّونَ} تنبيهًا بالأول على ذم مودة الأعداء جهرًا وسرًا، وبالثاني على تأكيد ذمها سرًا، وخص الأول بالعموم لتقدمه. فإن قلت (¬4): قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، والتقييد بالحال يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

انتفى الحال. قلت: عدم جوازه مطلقًا لما علم من القواعد الشرعية تبين أنه لا مفهوم للحال هنا ألبتة. فإن قلت: كيف قال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} والعداوة والمحبة لكونهما متنافيين لا يجتمعان في محل واحد، والنهي عن الجمع بينهما فرع إمكان اجتماعهما؟ قلت: إنما كان الكفار أعداء للمؤمنين بالنسبة إلى معاداتهم لله ورسوله، ومع ذلك يجوز أن يتحقق بينهم الموالاة والصداقة بالنسبة إلى الأمور الدنيوية والأغراض النفسانية، فنهى الله عن ذلك. وجملة قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} حال من فاعل {تُلْقُونَ} أو من فاعل {لَا تَتَّخِذُوا}، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. و {الْحَقِّ} هو القرآن، أو دين الإِسلام، أو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور (¬1) {بِمَا جَاءَكُمْ} بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم {لما جاءكم} باللام مكان الباء. أي: لأجل ما جاءكم من الحق، على حذف المكفور به. أي: كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سببًا للكفر توبيخًا لهم. والمعنى (¬2): يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا الكفار أنصارًا وأعوانًا وأصدقاه لكم، حال كونكم توصلون إليهم أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي لا ينبغي لأعدائه أن يطلعوا عليها، من خطط حربية أو أعمال نافعة في نشر دِينه وبث دعوته، بسبب ما بينكم وبينهم من مودة. ثم ذكر مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين: 1 - {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ ...} إلخ. أي: والحال أنهم قد كفروا بالله ورسوله، وكتابه الذي أنزله عليكم، فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارًا وتسرون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم ويعوق نشر دينكم!؟ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

2 - {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} حال من فاعل كفروا؛ أي: كفروا مخرجين الرسول وإياكم من مكة. والمضارع لاستحضار الصورة الماضية. وقوله تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} تعليل للإخراج. أي: يخرجونكم لأجل إيمانكم، أوراهة أن تؤمنوا. وفيه (¬1) تغليب المخاطب على الغائب. أي: على الرسول. والالتفات من التكلم إلى الغيبة، حيث لم يقل: أن تؤمنوا بي للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية؛ أي: يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولم يكن لهم جريمة سوى ذلك. وفي هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم. ثم زادهم تهييجًا بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} من مكة إلى المدينة {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} ونشر ديني {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}؛ أي: وطلبًا لمرضاتي. وهذا مرتبط بـ {لَا تَتَّخِذُوا}، وجواب الشرط محذوف؛ أي: إن كنتم كذلك .. فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، فكأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وانتصاب {جِهَادًا}. {وَابْتِغَاءَ} على أنهما مفعولان لأجله لـ {خَرَجْتُمْ}. أي: إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين .. فلا تتخذوهم أولياء، ولا تلقوا إليهم بالمودة. أو على الحال؛ أي (¬2): إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين مرضاتي عنكم .. فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم. والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو، كالمجاهدة، كما سيأتي بسطه. والمرضاة: مصدر كالرضا. وفي عطف {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} على {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} تصريح بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء دين الله لا لغرض آخر. وإسناد الخروج إليهم معللًا بالجهاد والابتغاء يدل على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له. وقوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} والنصيحة، استئناف وارد على (¬3) نهج العتاب والتوبيخ، كأنهم سألوا: ماذا صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تلقون إليهم بالمودة سرًا على أن الباء صلة جيء بها لتأكيد التعدية، أو الإخبار بسبب المودة، ويجوز أن يكون تعدية الإسرار بالباء لحمله على نقيضه الذي هو الجهر. وقيل: هو بدل من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

قوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ} بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرًا وجهرًا. وقوله تعالى: {وَأَنَا أَعْلَمُ} حال من فاعل {تُسِرُّونَ}؛ أي: تسرون إليهم بالمودة والنصيحة، والحال أني أعلم منكم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ}؛ أي: بما أضمرتم في صدوركم من مودة الأعداء {وَمَا أَعْلَنْتُمْ}؛ أي: وما أظهرتم بألسنتكم من الاعتذار وغير ذلك. فإذا علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي .. فأي فائدة في الإسرار والاعتذار. والباء في {بِمَا} زائدة، يقال: علمت كذا، وعلمت بكذا. وهذا على أن {أَعْلَمُ} مضارع. وقيل: هو أفعل تفضيل. أي: أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون. ثم توعد من يفعل ذلك، وشدد النكير عليه، وذكر ما فيه أعظم الزجر، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ}؛ أي: يفعل الاتخاذ المنهي عنه. أي: ومن يفعل {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون ما نهيت عنه من موالاتهم. والأقرب عَوْدُ الضمير إلى الإسرار. أي: ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ {سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: طريق الحق والصواب الموصل إلى الفوز بالسعادة الأبدية. وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. و {ضَلَّ} متعد، و {سَوَاءَ السَّبِيلِ} مفعوله. ويجوز أن يجعل قاصرًا وينتصب {سَوَاءَ السَّبِيلِ} على الظرفية. قال القرطبي (¬1): هذا كله معاتبة لحاطب وهو يدل على فضله ونصيحته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من حبيب لحبيب كما قيل من الوافر: إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ ... وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ والعتاب: إظهار الغضب على أحد لشيء مع بقاء المحبة بالترك. وقال بعضهم: العتاب: لوم الحبيب حبيبه على أمر غير لائق به، كما في الدمنهوري في العروض. وفي الآية (¬2) إشارة إلى عداوة النفس والهوى والشيطان، فإنها تبغض عبادة الله، وتبغض عباد الله أيضًا إذا لم يكونوا مطيعين لها في إنفاذ شهواتها وتحصيل ¬

_ (¬1) قرطبي. (¬2) روح البيان.

[2]

مراداتها. وأصل عداوة النفس: أن تقطعها من مألوفاتها، وتحبسها في مجلس المجاهدة. وعلامة حب الله: بغض عدو الله. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الإيمان: الحب في الله والبغض في الله". والمعنى (¬1): ومن يفعل هذه الموالاة، ويبلغ أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأعدائه .. فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان الله تعالى. 2 - ثم ذكر أمورًا أخرى تمنع موالاتهم، فقال: 1 - {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ}؛ أي: يظفروا بكم، ويتمكتوا منكنم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}؛ أي: يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ويرتبوا عليها أحكامها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم. أو إن يلقوكم ويصادفوكم .. يظهروا لكم العداوة. والمعنيان متقاربان. والثَّقَفُ (¬2): الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه: المثاقفة: وهي: طلب مصادفة الغرة في المسابقة؛ أي: إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة .. يكونوا حربًا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل. 2 - {وَيَبْسُطُوا} يمدوا ويطيلوا {إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالسوء. أي: بالقتل والأسر والضرب. {و} يبسطوا إليكم {أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}؛ أي: بالشتم والسب والطعن في دينكم. والمعنى: أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبكم وشتمكم، فكيف ترونهم على هذه الحال، وتتخذونهم أصدقاء وأولياء؟!. {وَوَدُّوا}؛ أي: تمنوا {لَوْ تَكْفُرُونَ} بربكم؛ أي: ارتدادكم وكونكم مثلهم في الكفر الذي هم عليه، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. فكلمة {لَوْ} هنا مصدرية وصيغة الماضي للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضًا، فهو معطوف على {يبسطوا}. والخلاصة: أن هؤلاء يودون لكم كل ضرر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة وتوثقون عرا الإخاء؟ فهذا مما لا يرشد إليه عقل، ولا يهدي إليه دين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[3]

3 - ثم ذكر أن ما جعلوه سببًا من المحافظة على الأهل والأولاد لا ينبغي أن يقدم على شؤون الذين، فقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ} أيها المؤمنون {أَرْحَامُكُمْ}؛ أي: قراباتكم {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} الذين توالون المشركين لأجلهم. وتتقربون إليهبم محاماة عليهم. جمع ولد، بمعنى: المولود، يعم الذكر والأنثى. وخصهم بالذِّكر (¬1) مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بجلب نفع أو دفع ضر. ظرف لقوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ}، فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده. ثم بين السبب في عدم نفعهم، فقال: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ. أي: يفرق الله بينكم بما اعتراكم من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر. حسبما نطق به قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} الآية. فما لكم ترفضون حق الله تعالى أي فكيف ترفضون أوامر الله تعالى لمراعاة حق من يفر منكم غدًا؟. وقيل: يفرق بين الوالد وولده وبين القريب وقريبه، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار. والمعنى (¬2): أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم. وقيل: الظرف متعلق بما بعده؛ أي: يفصل بينكم يوم القيامة. ثم أوعد من يفعل ذلك، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ} وتقولون: {بَصِيرٌ} سميع، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم فيجازيكم على ذلك. وهو أبلغ من خبير؛ لأنه جعله كالمحسموس بحاسة البصر، مع أن المعلوم هنا أكثره المبصرات من الكتاب والإتيان بمن يحمل الكتاب وإعطاء الأجرة للحمل وغيرها، فهو تعالى محيط بأعمالكم جميعها ومجازيكم عليها إن خيرًا .. فخير وإن شرًا فشر، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروه. وقرأ الجمهور (¬3): {يَفْصَلُ} بالياء مخففًا مبنيًا للمفعول. وقرأ الأعرج، وعيسى، وابن عامر كذلك، إلا أنه مشدد، والمرفوع إما: {بَيْنَكُمْ} وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني، وإما ضمير المصدر المفهوم من {يَفْصِلُ}؛ أي: يفصل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[4]

هو؛ أي: الفصل. وقرأ عاصم والحسن والأعمش {يَفْصِلُ} بالياء مخففًا مبنيًا للفاعل. وحمزة والكسائي وابن وثاب مبنيًا للفاعل بالياء المضمومة مشددًا. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنه بالنون مشددًا. وهما أيضًا وزيد بن علي بالنون المفتوحة مخففًا مبنيًا للفاعل، وأبو حيوة أيضًا بالنون المضمومة. فهذه ثمان قراءات. 4 - ولما نهى عن موالاة الكفار .. ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته: التبرؤ من الكفار؛ ليقتدوا به في ذلك، ويتأسوا، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ} أيها المؤمنون {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؛ أي: خصلة حميدة {فِي إِبْرَاهِيمَ} الخليل عليه السلام، تقتدون بها وتتبعونه فيها. وقرأ الجمهور (¬1): {إسوة} بكسر الهمزة في الموضعين. وقرأ عاصم بضمها كذلك. وهما لغتان. قال الراغب: الإسوة والأسوة بالضم والكسر كالقدوة والقدوة، هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًا وإن ضارًا. والأسى - بالقصر -: الحزن، وحقيقته: إِتباع الفائت بالغم. وقوله: {أُسْوَةٌ}: اسم كانت و {لَكُمْ} خبرها، و {حَسَنَةٌ}: صفة أسوة، مقيدة إن عمت الأسوة المحمودة والمذمومة، وكاشفة مادحة إن لم تعم. و {فِي إِبْرَاهِيمَ}: صفة ثانية لأسوة، أو متعلق بأسوة أو بحسنة، أو حال من الضمير المستتر في {حَسَنَةٌ}، أو خبر كان، و {لَكُمْ}: للبيان. {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؛ أي: مع إبراهيم. معطوف على إبراهيم، وهم أصحابه المؤمنون. وقال ابن زيد: هم الأنبياء. قال الفراء: فكأنه يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه. وفي "كشف ما يلتبس من القرآن" (¬2): قاله هنا بتأنيث الفعل مع الفاصل لقربه وإن جاز التذكير، وأعاده في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بتذكيره مع الفاصل لكثرته وإن جاز التأنيث. وإنما كرر ذلك لأن الأول في القول والثاني في الفعل، وقيل: الأول في إبراهيم والثاني في محمد - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. والمعنى (¬3): قد كانت خصلة حميدة حقيقة بأن يؤتسى ويقتدى بها، ويتبع أثرها في إبراهيم والذين معه. وقولهم: لي في فلان أسوة؛ أي: قدوة، من باب ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن. (¬3) روح البيان.

التجريد، لا أن فلانًا نفسه هو القدوة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف؛ أي: لي في سنته وأفعاله وأقواله. وقيل: المراد بالذين معه الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبًا منه. وقال ابن عطية: وهذا القول أرجح؛ لأنه لم يرد أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحة نمرود. وفي البخاري: أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرًا بلاد نمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك. وقوله تعالى: {إِذْ قَالُوا} ظرف (¬1) لخبر كان، ومعمول له أو لكان نفسها عند من جوّز عملها في الظرف، وهو الأصح. أو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه. أي: وقت قولهم {لِقَوْمِهِمْ} أي: لقرابتهم الكفار مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى، وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف. {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}: جمع بريء مثل: شركاء وشريك، وظريف وظرفاء. أي: بريئون من صحبتكم وقرابتكم {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام؛ أي: من عبادتها معكم. أظهروا البراءة أولًا من أنفسهم مبالغة، وثانيًا من عملهم الشرك، إذ المقصود من البراءة أولًا من معبودهم هو البراءة من عبادته. ويحتمل أن تكون البراءة منهم أن لا يصاحبوهم، ولا يخالطوهم، ومن معبودهم أن لا يقربوا منه ولا يلتفتوا نحوه. ويحتمل أن تكون البراءة منهم بمعنى البراءة من قرابتهم؛ لأن الشرك يفصل بين القرابات ويقطع الموالاة. والمعنى (¬2): أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن، تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد. وحاصل معنى الآية: هلَّا فعلتم كما فعل إبراهيم، حيث تبرأ هو والمؤمنون معه من أبيه وقومه لكفرهم بالله وآياته؟ وقرأ الجمهور (¬3): {بُرَآءُ} بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين، جمع بريء، كظريف وظرفاء. وقرأ عيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق: {براء} بكسر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

الباء وهمزة واحدة بعد ألف، جمع بريء أيضًا، كظريف وظراف، وكريم وكرام. وقرأ أبو جعفر: {براء} بضم الباء وهمزة بعد ألف كتؤام وظؤار. وهم اسم جمع، الواحد: بريء، وتؤم، وظئر. ورويت عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه {بَرَاء} على وزن فدال كالذي في قوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} في الزخرف. وهو مصدر على فعال، يوصف به المفرد والجمع. ثم فسر هذه البراءة بقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ}؛ أي: أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، فهو على حذف المضاف. والكفر مجاز عن عدم الاعتداد والجحد والإنكار، فإن الذين الباطل ليس بشيء؛ إذ الدِّين الحق عند الله هو الإِسلام. {وَبَدَا}؛ أي: ظهر {بَيْنَنَا} ظرف لـ {بدا} {وَبَيْنَكُمُ}: معطوف عليه {الْعَدَاوَةُ} الظاهرة، وهي: المباينة في الأفعال والأقوال. {وَالْبَغْضَاءُ}؛ أي: العداوة الباطنة. وهي: المباينة بالقلوب. {أَبَدًا}؛ أي: على الدوام. أي: هذا دأبنا معكم لا نتركه. والبغض: ضد الحب. {حَتَّى} غاية لـ {بدا}. {تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذٍ ولاية، والبغضاء محبة، والمقت مِقة، والوحشة ألفة. فالبغض: نفور النفس من الشيء الذي ترغب عنه. والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه. فإن قلت: ما وجه قوله {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ولا بدّ في الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟ قلت: الإيمان بالله في حال وحدته يستلزم الإيمان بالجميع، مع أن المراد الوحدة الإلهية ردًا للأصنام. قال بعض المشايخ: أسوة إبراهيم: خلة الله، والتبرؤ مما سوى الله، والتخلق بخلق الله، والتأوه والبكاء من شوق الله. وقال ابن عطاء رحمه الله تعالى: الأسوة القدوة بالخليل في الظاهر من الأخلاق الشريفة، وهو: السخاء، وحسن الخلق، واتباع ما أمر به على الكرب، وفي الباطن: الإخلاص في جميع الأفعال، والإقبال عليه في كل الأوقات، وطرح الكل في ذات الله تعالى. وأسوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر العبادات، دون البواطن والأسرار؛ لأن أسراره لا يطيقها أحد من الخلق؛ لأنه باين الأمة بالمكان ليلة المعراج ووقع عليه تجلي الذات. انتهى.

أمر الله سبحانه وتعالى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام ومن معه من الأنبياء والأولياء. {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} آزر {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يا أبي، فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك الاستغفار؛ لأنه إنما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياه؛ لأنه ظن أنه أسلم، فلما مات على الكفر .. تبرأ منه، وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء، فهو استثناء متصل من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وصح ذلك؛ لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه. أو من قوله: {فِي إِبْرَاهِيمَ} بتقدير مضاف محذوف ليصحّ الاستثناء؛ أي: قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم، إلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}. أو من التبرؤ والقطيعة التي ذكرت؛ أي: لم يواصله إلا قوله. ذكر هذا ابن عطية. أو منقطع؛ أي: لكن قول إبراهيم لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين، فإنه كان من موعدة وعدها إياه. أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم، فلما تبين له أنه عدو الله .. تبرأ منه، كما تقدم آنفًا. والمعنى: {كَفَرْنَا بِكُمْ}؛ أي: جحدنا ما أنتم عليه من الكفر، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله. فلا نعتد بكم وبآلهتكم، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة ولا الأحلام الحصيفة، فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضرّ؟! {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ...} إلخ. {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}؛ أي (¬1): وها نحن أولاء قد أعلنا الحرب عليكم، فلا هوادة بيننا وبينكم، وسيكون هذا. دأبنا معكم لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة. {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ...} إلخ؛ أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله .. تبرأ منه. وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه .. فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ¬

_ (¬1) المراغي.

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ...} الآيتين في سورة براءة. والخلاصة: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة، وتستغفروا لهم كما فعل إبراهيم لأبيه؛ لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو الله، فلما مات على الكفر .. تبين له ذلك فترك الاستغفار، وأنتم قد استبانت لكم عداوتهم بكفرهم بالرسول وإخراجكم من الديار فلا ينبغي أن تستغفروا لهم. وقوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} من تمام القول المستثنى، فمحله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن لك؛ أي: أستغفر لك، وليس في طاقتي إلا الاستغفار دون منع العذاب إن لم تؤمن. فمورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده الذي هو في نفسه من خصال الخير؛ لكونه إظهارًا للعجز وتفويضًا للأمر إلى الله تعالى. وفي هذه الآية (¬1) دلالة بينة على تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى، وأيضًا قال تعالى في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}. فأطلق الاقتداء ولم يقيده بشيء. والخلاصة: أي وليس في وسعي إلا الاستغفار لك، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا، فإن أراد الله عقوبتك على كفرك .. فلا أدفعها عنك. ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم، ولجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه، فقال: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} إلخ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} واعتمدنا في جميع أمورنا {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} بالتوبة عن المعصية والإقبال على الطاعة؛ أي: المرجع في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور في الثلاثة لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى. وهذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها. وقيل: هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول. والتوكل: هو تفويض الأمور إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

الله. والإنابة: الرجوع إليه بالتوبة. والمصير: المرجع إليه في الآخرة للمجازاة. وعبارة "الكشَّاف": فإن قلت: بم اتصل به قوله تعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا - أمرًا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليمًا منه لهم - تتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والاستئساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهًا على الإنابة إلى الله، والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم. أي: فهو مقول لقول محذوف. انتهى. والمعنى (¬1): أي ربنا اعتمدنا عليك في قضاء أمورنا، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب. 5 - قالوه بعد المجاهدة وشق العصا التجاءً إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في مدافعة الكفرة وكفاية شرورهم، كما ينطق به قوله تعالى: {رَبَّنَا} بدل من الأول، وكذا قوله: {رَبَّنَا} فيما بعده. {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً}؛ أي: مفتونين {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: بأيديهم بأن تسلطهم علينا فيفتونا بعذاب لا نطيقه، فالفتنة بمعنى المفعول، وقال الزجاج (¬2): لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال بعضهم: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل. {وَاغْفِرْ لَنَا} ما فرط منا من الذنوب وإلا كان سببًا لظهور العيوب وباعثًا للابتلاء المهروب {رَبَّنَا} تكرير النداء للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله، ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلًا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة، والأول أظهر وعليه ميل السجاوندي حيث وضع علامة الوقف الجائز على {رَبَّنَا} وهو في اصطلاحه ما يجوز فيه الوصل، والفصل باعتبارين، وتلك العلامة الجيم بمسماه وهو "ج". {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه، ولا يخيب رجاء من توكل عليه. {الْحَكِيمُ} لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[6]

والمعنى: واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم. 6 - ثم أعاد ما تقدم مبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام، ومن معه، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون {فِيهِمْ}؛ أي: في إبراهيم ومن معه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقدوة حميدة. وكرر (¬1) هذا للمبالغة في الحب على الائتساء به عليه السلام، ولذلك صدر بالقسم. وجعله الطيبي من التعميم بعد التخصيص. وفي "برهان القرآن": كرر لأن الأول في القول والثاني في الفعل. وفي "فتح الرحمن": الأولى أسوة في العداوة، والثانية في الخوف والخشية. وفي "كشف الأسرار": الأولى متعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم، والثانية أمر بالائتساء بهم لينالوا من ثوابهم ما نالوا وينقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم. {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} سبحانه بالإيمان بلقائه {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} بالتصديق بوقوعه. وقيل: يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة. أو يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة؛ لأن الرجاء والخوف يتلازمان. والرجاء (¬2): ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة. وفي "المفردات": الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما سيأتي. وقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ ...} إلخ: بدل من {لَكُمْ} بدل بعض من كل، وفائدته: الإيذان بأن من آمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وإنَّ تَرْكَه مِنْ مخايل عدم الإيمان بهما كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ}؛ أي: يعرض عن الائتساء بهم، ويمل إلى مودة الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه {هُوَ} وحده {الْغَنِيُّ} عنه وعن سائر خلقه {الْحَمِيدُ}؛ أي: المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله، فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة. أي: ومن يعرض عن الاقتداء بهم في التبرؤ من الكفار ومن والاهم .. فإن الله هو الغني وحده عن خلقه وعن موالاتهم ونصرتهم لأهل دينه، لم يتعبدهم لحاجته إليهم، بل هو ولي دينه وناصر حزبه، وهو الحميد المستحق للحمد في ذاته. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[7]

وحاصل معنى الآية (¬1): أي لقد كان. لكم - أيها المؤمنون - قدوة حسنة في إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين، لمن كان منكم يرجو لقاء الله وجزيل ثوابه والنجاة في اليوم الآخر. ومن أعرض عما ندبه الله إليه منكم وأدبر واستكبر ووالى أعداء الله وألقى إليهم بالمودة .. فلا يضرن إلا نفسه، فإن الله غني عن إيمانه وطاعته، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه عليهم. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. 7 - وقال مقاتل (¬2): لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم .. فأنزل الله تعالى قوله: {عَسَى اللَّهُ}؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى {أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون {وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} من كفار مكة {مَوَدَّةً}؛ أي: محبة وصلة بمخالطتهم من أهل الإِسلام، وذلك بأن أسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإِسلام مودة، وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله سبحانه، منهم: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. {وَاللَّهُ قَدِيرٌ}؛ أي (¬3): مبالغ في القدرة، فيقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: فيغفر لمن أسلم من المشركين. {رَحِيمٌ}: فيرحمهم بقلب معاداة قلوبهم موالاة. وقيل: غفور لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، ولما بقي في قلوبكم من ميل رحيم. والمعنى (¬4): حقق الله أن يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة. وقد تم ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون في دين الله أفواجًا، وتم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات. كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[8]

بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}. 8 - ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار، فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ} صلة {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}؛ أي: على الدين، أو في حق الدِّين وإطفاء نوره {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} وأوطانكم؛ أي: لا ينهاكم الله سبحانه عن مبرة هؤلاء، فإن قوله تعالى: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} وتحسنوا إليهم بدل من (¬1) الموصول بدل اشتمال. لأن بينهم وبين البرّ ملابسة بغير الكلية والجزئية، فكان المنهي عنه برهم بالقول وحسن المعاشرة، والصلة، بالمال لا أنفسهم. وقوله: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تفسير لتبروا معطوف عليه. وضمن تقسطوا معنى الإفضاء، فعدي تعديته. أي: تفضوا إليهم بالقسط والعدل ولا تظلموهم، وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم كما في "الكشاف". {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ أي: العادلين في المعاملات كلها. ومعنى الآية (¬2): أن الله سبحانه لا ينهر عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإِسلام، عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ. قال قتادة: نسختها آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. وقيل: هذا الحكم كان باقيًا في الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة .. نسخ الحكم. وقيل: هي خاصة في حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بينه وبينه عهد، قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي - عن أكثر أهل التأويل - أنها محكمة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[9]

وعبارة المراغي: ومعنى الآية (¬1): أي لا ينهاكم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم: خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم. وفي الآية مدح للعدل؛ لأن المرء به يصير محبوبًا لله سبحانه. ومن الأحاديث الصحيحة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين". والمراد بهم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا عليه. 9 - ثم زاد الأمر إيضاحًا وبيانًا، فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وإطفاء نوره {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} وهم عتاة أهل مكة وجبابرتهم {وَظَاهَرُوا}؛ أي: عاونوا الذين قاتلوكم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} وتناصروهم. بدل اشتمال من الموصول، كما سبق. أي: إنما ينهاكم أن تتولوهم. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ}؛ أي: ومن يحبهم ويناصرهم {فَأُولَئِكَ هُمُ} لا غيرهم {الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بإقبالها على العذاب. أي: الكاملون في الظلم؛ لأنهم تولوا من يستحق المعاداة لكونه عدوًا لله ولرسوله ولكتابه، فوضعوا المحبة موضع العداوة، فظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب. وحساب المتولي أكبر وفساد التولي أكثر، ولذلك أورد كلمة الحصر تغليظًا، وجمع الخبر باعتبار معنى المبتدأ. والخلاصة (¬2): أي إنما ينهاكم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم، أو عاونوا على إخراجكم كمشركي مكة؛ فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين. وأكد الوعيد على موالاتهم بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {ها}: حرف تنبيه، جملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: بدل من {أي}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {لَا}: ناهية جازمة، {تَتَّخِذُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، والواو: فاعل، وجملة النهي جواب النداء. {عَدُوِّي}: مفعول أول، ومضاف إليه، {وَعَدُوَّكُمْ}: معطوف على {عَدُوِّي}، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان، {تُلْقُونَ}: فعل، وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَتَّخِذُوا}. ويجوز أن تكون في موضع نصب، صفةً لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية، لا محل لها من الإعراب؛ لموالاتهم إياهم. وقيل: هي مستأنفة للإخبار بذلك. {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تُلْقُونَ}. {بِالْمَوَدَّةِ}: متعلق بـ {تُلْقُونَ} أيضًا، {وَقَدْ}: {الواو}: حالية، {قد}: حرف تحقيق {كَفَرُوا}: فعل وفاعل، والجملة حال من ضمير {إِلَيْهِمْ} أو من {عَدُوِّي}، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَفَرُوا}، وجملة {جَاءَكُمْ} من الفعل والفاعل المستتر صلة لـ {ما} الموصولة، {مِنَ الْحَقِّ}: حال من فاعل {جَاءَكُمْ}. {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول، {وَإِيَّاكُمْ}: معطوف على الرسول. والجملة مستأنفة أو مفسرة لكفرهم، فلا محل لها من الإعراب على الحالين. ويجوز أن تكون حالًا من فاعل {كَفَرُوا}. {أَن}: حرف نصب ومصدر، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُوا}، {رَبِّكُمْ}: بدل من الجلالة، وجملة {أَن}: المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله؛ أي: يخرجون الرسول وإياكم لإيمانكم بالله ربكم. {إن}: حرف شرط جازم {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في. محل الجزم بـ {إِنْ} والشرطية على كونه

فعل شرط لها، وجملة {خَرَجْتُمْ} خبر {كنتم}، و {جِهَادًا}: مفعول لأجله؛ أي: لأجل الجهاد، أو حال من فاعل خرجتم؛ أي: حال كونكم مجاهدين في سبيلي. {فِي سَبِيلِي}: متعلق بـ {جِهَادًا}، {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}: معطوف على جهادًا، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: {لَا تَتَّخِذُوا} أي: إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي .. فلا تتخذوهم أولياء. وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {تُسِرُّونَ}: فعل وفاعل، {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، {بِالْمَوَدَّةِ}: متعلق به أيضًا، والمفعول محذوف؛ أي: تسرون إليهم النصيحة، أو {الباء}: زائدة في المفعول، والجملة الفعلية إما مستأنفة أو بدل من {تُلْقُونَ} بدل بعض من كل، لأن إلقاء المودة أعم من السرّ والجهر، {وَأَنَا}: {الواو}: حالية، {أنا}: مبتدأ، {أَعْلَمُ}: خبر على أنه اسم تفضيل، و {بِمَا} متعلق بـ {أَعْلَمُ}، وجملة {أَخْفَيْتُمْ} صلة {ما} والعائد محذوف تقديره: بما أخفيتموه {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} معطوف على {أَخْفَيْتُمْ}، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {تُسِرُّونَ}. ويجوز أن يكون {أَعْلَمُ} فعلًا مضارعًا. {وَمَنْ}: {الواو}: استنئافية. {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَفْعَلْهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَقَدْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا لاقتران الجواب بـ {قد} الحرفية، {ضَلَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: مفعول به، وقيل: منصوب على الظرفية إن قلنا: إن {ضَلَّ}: لازم، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}. {إِنْ}: حرف شرط، {يَثْقَفُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {يَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، {لَكُمْ}: حال من أعداء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَعْدَاءً}: خبر {يَكُونُوا}، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَيَبْسُطُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَكُونُوا}. {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {يبسطوا}، {أَيْدِيَهُمْ}: مفعول به، {وَأَلْسِنَتَهُمْ}: معطوف عليه، {بِالسُّوءِ}: متعلق بمحذوف حال

من الأيدي والألسنة، أي: حالة كونها متلبسة بالسوء. {وَوَدُّوا}: {الواو}: عاطفة، {ودوا}: فعل ماض وفاعل، {لَوْ}: مصدرية، وجملة {تَكْفُرُونَ} صلتها، وجملة {لَوْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: وودوا كفركم. والجملة معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ}: فعل، ومفعول به {أَرْحَامُكُمْ}: فاعل، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: معطوف على أرحامكم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {تَنْفَعَكُمْ}؛ أي: لن تنفعكم يوم القيامة أرحامكم، فيوقف عليه. أو متعلق بما بعده؛ أي: يفصل بينكم يوم القيامة. والجملة الفعلية مستأنفة، {يَفْصِلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {بَيْنَكُمْ} متعلق بـ: يفصل {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {بَصِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة {ما} الموصولة أو المصدرية، و {بَصِيرٌ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. {قَدْ}: حرف تحقيق، {كَانَتْ}: فعل ماض ناقص، {لَكُمْ}: خبرها المقدم، {أُسْوَةٌ}: اسمها المؤخر، {حَسَنَةٌ}: نعت لـ {أُسْوَةٌ}. والجملة مستأنفة. {فِي إِبْرَاهِيمَ}: نعت آخر لـ {أُسْوَةٌ}، أو حال منها؛ لأنها وصفت، أو حال من الضمير المستكن في {حَسَنَةٌ}، {وَالَّذِينَ}: معطوف على إبراهيم، {مَعَهُ}: ظرف صلة {الذين}، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من قوله: {فِي إِبْرَاهِيمَ}، وجملة {قَالُوا} في محل الخفض بإضافة {إِذْ} إليها، {لِقَوْمِهِمْ}: متعلق بـ {قَالُوا}، {إِنَّا بُرَآءُ} إلى قوله: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}: مقول محكي لـ {قَالُوا}. وإن شئت قلت: {إِنَّا}: ناصب واسمه {بُرَآءُ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}، {مِنْكُمْ}؛ متعلق بـ {بُرَآءُ}، {وَمِمَّا}: معطوف على {مِنْكُمْ} وجملة {تَعْبُدُونَ}: صلة لـ {ما}، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من العائد المحذوف، أو

من {ما}، {كَفَرْنَا} فعل وفاعل، و {بِكُمْ}: متعلق بـ {كَفَرْنَا}، والجملة مفسرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون، أو حال من الضمير المستكن في {بُرَآءُ}؛ أي: تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم. {وَبَدَا}: فعل ماضي، {بَيْنَنَا}: ظرف متعلق بـ {بَدَا}، {وَبَيْنَكُمُ}: معطوف على {بَيْنَنَا}، {الْعَدَاوَةُ}: فاعل، {وَالْبَغْضَاءُ}: معطوف عليه، {أَبَدًا}: متعلق بـ {بَدَا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَفَرْنَا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل، منصوب بـ: أن مضمرة بعد {حَتَّى} الجارة، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُوا}، {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}؛ أي: إلى إيمانكم بالله وحده، الجار والمجرور متعلق بكل من {كَفَرْنَا} {وَبَدَا}. {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}. {إِلَّا}: أداة استثناء متصل، {قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}: مستثنى من {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}: منصوب؛ لأن القول من جملة الأسوة، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله، من قول وفعل إلا قوله كذا. وقيل: هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك، فلا تتأسوا فيه. {لِأَبِيهِ}: متعلق بـ {قَوْلَ}، {لَأَسْتَغْفِرَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {أستغفرن}: فعل مضارع، في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا. والجملة في محل النصب مقول القول، {لَكَ}: متعلق بـ {أستغفرن}، {وَمَا}: {الواو}: حالية أو عاطفة؛ لأن الجملة من تمام قول إبراهيم. {ما}: نافية، {أَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم {لك}: متعلق بـ {أَمْلِكُ}، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بمحذوف حال {مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه في الأصل صفة لشيء، {مِنْ}: زائدة، {شَيْءٍ}: مفعول أملك، وجملة {أَمْلِكُ}: في محل النصب حال من فاعل {أستغفرن}؛ أي: لأستغفرن لك حالة كوني غير مالك لك من الله شيئًا غير استغفاري، أو معطوفة على {أستغفرن}. {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ...} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا}؛ لأنه من تتمة مقول إبراهيم ومن معه، فهو من جملة المستثنى منه، فيتأسى بهم فيه، فهو من المعنى مقدم على الاستثناء، وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه. وإن شئت

قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء، وما بعدها في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {تَوَكَّلْنَا}، و {تَوَكَّلْنَا}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}، {وَإِلَيْكَ} متعلق بـ {أَنَبْنَا} وجملة {أَنَبْنَا} معطوف على {تَوَكَّلْنَا}. {وَإِلَيْكَ}: {الواو}: عاطفة، {إليك}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها. {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}. {رَبَّنَا}: منادى مضاف أيضًا، {لَا}: ناهية؛ أي: دعائية، سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، {تَجْعَلْنَا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، مجزوم بـ {لَا} الدعائية، {فِتْنَةً}: مفعول ثان، وهو مصدر بمعنى المفعول كما قاله "البيضاوي"؛ أي: لا تجعلنا مفتونين بهم، بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، أو بمعنى الفاعل؛ أي: لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا، وتسول لهم أنفسهم أنهم على حق. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {فِتْنَةً} على الحالين، والجملة الفعدية في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} على كونها جواب النداء، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {رَبَّنَا}: منادى مضاف، كرره للتأكيد. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {أَنْتَ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر {إنَّ} أو خبر {أَنْتَ} والجملة خبر {إنَّ}. {الْحَكِيمُ}: خبر ثان على كل حال. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {كَانَ}: فعل ماض ناقص {لَكُمْ}: خبر مقدم لها، {فِيهِمْ}: حال من {أُسْوَةٌ} أو متعلق بـ {كَانَ}. {أُسْوَةٌ}: اسمها مؤخر، {حَسَنَةٌ}: صفة {أُسْوَةٌ}، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مؤكدة للأولى. {لِمَنْ}: جار ومجرور بدل بعض من كل من قوله: {لَكُمْ} بإعادة الجار. وقيل: بدل اشتمال {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على {مَنْ}، وجملة {يَرْجُو اللَّهَ}: خبر كان، {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}: معطوف على لفظ الجلالة، وجملة {كَانَ} صلة الموصول، {وَمَن}: {الواو}: استئنافية، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَتَوَلَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ}

على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة للجواب، والجواب محذوف تقديره: فإن وبال توليه على نفسه. {إن الله}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْغَنِيُّ}: خبر لـ {إن} أو لـ {هُوَ}، {الْحَمِيدُ}: خبر ثان، وجملة {إن} مسوقة لتعليل الجواب المحذوف. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}. {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، {اللهُ}: اسمها، {أَنْ}: حرف نصب، {يَجْعَلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {بَيْنَكُمْ}: ظرف في موضع المفعول الثاني لـ {جعل}، {وَبَيْنَ الَّذِينَ}: معطوف عليه، وجملة {عَادَيْتُمْ}: صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: وبين الذين عاديتموهم، {مِنْهُمْ}: حال من {الَّذِينَ} أو من العائد المحذوف، {مَوَدَّةً}: مفعول أول لـ {يَجْعَلَ}، وجملة {يَجْعَلَ}: صلة {أَنْ} المصدرية {أنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونها خبر {عَسَى}، ولكنه على تأويل المشتق؛ أي: عسى الله جاعلًا، أو على حذف مضاف؛ أي: ذا جعل، أو عسى، بمعنى: حق، والمصدر المؤول مفعول به؛ أي: حقق الله جَعْلَ مودة بينكم وبينهم. وجملة {عَسَى} مستأنفة. {وَاللَّهُ قَدِيرٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على ما قبلها، {رَحِيمٌ}: خبر ثان للجلالة. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}. {لَا}: نافية، {يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}: فعل، ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنِ الَّذِينَ}: متعلق بـ {يَنْهَاكُمُ}، وجملة {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} صلة الموصول، {فِي الدِّينِ}: متعلق بـ {يُقَاتِلُوكُمْ}، {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ}: معطوف على {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}، {مِنْ دِيَارِكُمْ}: متعلق بـ {يُخْرِجُوكُمْ}، {أَن}: حرف نصب، {تَبَرُّوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أَنْ}، وعلامة نصبه حذف النون، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من {الَّذِينَ} بدل اشتمال؛ أي: لا ينهاكم عن برهم وصلتهم. {وَتُقْسِطُوا}: فعل، وفاعل، معطوف على {تَبَرُّوهُمْ}، {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تقسطوا}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، وجملة {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {يَنْهَاكُمُ اللهُ}: فعل ومفعول، وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنِ الَّذِينَ}: متعلق بـ {يَنْهَاكُمُ}، وجملة {قَاتَلُوكُمْ} صلة الموصول، {في الدِّينِ}: متعلق بـ {قَاتَلُوكُمْ}، {وَأَخْرَجُوكُمْ}: معطوف على {قَاتَلُوكُمْ}، {مِنْ دِيَارِكُمْ}: متعلق بـ {أخرجوكم}، {وَظَاهَرُوا}: معطوف على {قاتلوكم} أيضًا، {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}: متعلق بـ {ظاهروا}، وجملة {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من {الدِّينِ} بدل اشتمال مثل ما مر آنفًا. {وَمَنْ}: {الواو}: استنئافية، {مِنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {تَوَلَّوْهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ {هُمُ} ضمير فصل، {الظَّالِمُونَ}: خبر المبتدأ، أو خبر {هُمُ} والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}؛ أي: ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وأصله: تلقيون بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت القاف لمناسبة الواو. {تسرون}: أصله: تسررون بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين، فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {بِالْمَوَدَّةِ}: الود: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. {جِهَادًا في سَبِيلِي}: والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو كالمجاهدة، وفي "التعريفات": هو الدعاء إلى الدِّين الحق. وفي "المفردات": الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس، ويكون باليد واللسان. والمرضاة مصدر كالرضا. {وَأَنَا أَعْلَمُ}: أفعل تفضيل؛ أي: من كل أحد. ويصح أن يكون فعلًا مضارعًا عدي بالباء؛ لأنك تقول: علمت بكذا. {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} في "المصباح":

ثقفت الشيء ثقفًا من باب تعب: أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل: ثقيف. اهـ. وفي "الروح": الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله، وثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوز به فاستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة كما في هذا الموضع ونحوه. اهـ. {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}؛ أي: يظهروا العداوة لكم. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: أعداو أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف أفعال الزائدة. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أي: أخطأ طريق الحق والصواب، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، و {ضَلَّ}: متعد، و {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: مفعوله كما مر. {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}: أصله، وددوا، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، فهو من باب فعل، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ}؛ أي: قراباتكم. قال الراغب: الرحم: رحم المرأة، وهي في الأصل: وعاء الولد في بطن أمه. ومنه: استعير الرحم للقرابة، لكونهم خارجين من رحم واحد. {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: جمع ولد، بمعنى المولود، يعم الذكر والأنثى. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} قال الراغب: الإسوة: بالكسر والأسوة بالضم كما لقدوة والقدوة وزنا ومعنى، وهي: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر. يجمع على أسى، بضم الهمزة وكسرها. والأسى: الحزن. وحقيقته: إتباع الفائت بالغم. {بُرَآءُ مِنْكُمْ}: جمع برىء، كظريف وظرفاء. {وَبَدَا بَيْنَنَا} يقال: بدا الشيء بدوا وبداءً؛ أي: ظهر ظهورًا بينًا، والبادية: كل مكان يبدو ما يعن فيه؛ أي: يعرض. {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} وفي "المفردات": الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. وفي بعض كتب التفاسير: الرجاء يجيء بمعنى توقع الخير، وهو الأمل، وبمعنى توقع الشر، وهو الخوف، وبمعنى التوقع مطلقًا. وهو في الأول حقيقة، وفي الأخيرين مجاز، وفي الثاني من قبيل ذكر الشيء وإرادة ضده، وهو جائز، وفي الثالث من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام، وهو كثير. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}: فيه إعلال بالقلب، أصله: ينهيكم بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {تَبَرُّوهُمْ}: أصله: تبررونهم، حدفت نون الرفع للناصب

{إِنَّ} ثم نقلت حركة الراء الأولى إلى الباء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. فهو مضارع بر، من باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها. {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أصله: تتوليونهم، حذفت نون الرفع لدخول الناصب، وحذفت إحدى التاءين للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما التقت ساكنهّ مع واو الجماعة .. حذفت. {يَتَوَلَّهُمْ}: أصله: يتولي بوزن يتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت للجازم، فوزنه يتفع. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: صيغة المضارع في قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} لاستحضار الصورة الماضية. ومنها: تغليب المخاطب على الغائب أي: على الرسول في قوله: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}. ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، حيث لم يقل؛ أن تؤمنوا بي، للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية. ومنها: عطف {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} على {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} تصريحًا بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء كلمة الله ودينه، لا لغرض آخر. ومنها: إسناد الخروج إليهم في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي} إلخ. معللًا بالجهاد والابتغاء للدلالة على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له. ومنها: الطباق بين {أَخْفَيْتُمْ} و {أَعْلَنْتُمْ} في قوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}. ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ}. لأن

الرحم حقيقة في وعاء الولد في بطن أمه، ثم استعير للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة. ومنها: تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى. ومنها: تكرير المنادى في قوله: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله. ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلًا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة لله، والأول أظهر. ومنها: طباق السلب في قوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ...} الآية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

قال الله سبحانه جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}. المناسبة واعلم: أن الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة: 1 - أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...} الآية. 2 - أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}. 3 - أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ...} الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين .. اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام خوفًا من موالاة الكفار، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام المهاجرات من النساء بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن موالاة المشركين وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم ثم أوعد على ذلك. ولما كان الأمر

في ذلك جد خطير في سياسة الدولة الإِسلامية ونشر الملة ... كرر النهي عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودًا كانوا أو نصارى؛ ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبي بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية ويجعلون شؤون الدنيا مقدمة على شؤون الدين. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أنه لما جرى الصلح مع مشركي مكة عام الحديبية على أن من أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة يرده إليهم وإن كان مسلمًا، جاءت سُبيعة - بصيغة التصغير - بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والشعبي بالحديبية، فأقبل زوجها - وكان كافرًا، وهو صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد! أردد عليّ امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، اهـ. "خطيب". فاستحلفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوجها عمر بن الخطاب. اهـ. "بيضاوي". وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلغ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضًا من حديثهما بأطول من هذا، وفيه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل. وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببًا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل ¬

_ (¬1) زاد المسير.

[10]

العلم، وهو المشهور. والثالث: أميمة بنت بشر، من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني. قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن منيع من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب فتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ...} الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر، ومحمد بن إسحاق، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عبد الله بن عمر وزيد بن حارثة يودان رجالًا من يهود، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا ...} الآية. وقيل: إن ناسًا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين يتقربون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم فنزلت هذه الآية، ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (318) بغير سند، ولم يعزه لأحد، وكذلك البغوي والخازن في "تفسيرهما". التفسير وأوجه القراءة 10 - ولما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البرّ والإقساط للفريق الأول دون الفريق الثاني .. ذكر حكم من يظهر الإيمان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ}؛ أي (¬1): بدلالة ظاهر حالهن وإقرارهن بلسانهن، أو المشارفات للإيمان. ولا بعد أن تكون التسمية بالمؤمنات لكونهن كذلك في علم الله، وذلك لا ينافي امتحان غيره تعالى حال كونهن {مُهَاجِرَاتٍ} من بين الكفار، متنقلات إليكم. فهو حال من المؤمنات. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صالح قريشًا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء .. أبى الله أن يرددن إلى المشركين وأمر بامتحانهن، فقال: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}؛ أي: فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن في ¬

_ (¬1) روح البيان.

الإيمان. قيل: إنه من أرادت إضرار زوجها .. قالت سأهاجر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامتحانهن. وقرىء: {مهاجرات} بالرفع على البدل من المؤمنات، ذكره في "البحر". وقد اختلف فيما كان يمتحن به (¬1): فقيل: يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبًا لله ولرسوله ورغبة في دينه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول للممتحنة: بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ورغبة في الإِسلام، بالله ما خرجت عشقًا لرجل من المسلمين؟ فإذا حلفت كذلك .. أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولا يردها على زوجها. وقيل: الامتحان: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وقيل: ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية، وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} إلى آخرها. واختلف العلماء: هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا، على قولين فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر، وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص. والمعنى (¬2): أي إذا جاءكم - أيها المؤمنون - النساء اللاتي نطقن بالشهادة، ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك، مهاجرات من بين الكفار .. فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هن منافقات؟ ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب، فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} منكم {بِإِيمَانِهِنَّ}؛ لأنه المطلع على ما في قلوبهن، فلا حاجة له إلى الامتحان، وليس ذلك للبشر فيحتاج إليه. وفي هذا بيان أنه لا سبيل إلى الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

بعلمه. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعد الامتحان الذي أمرتم به {مُؤْمِنَاتٍ} العلم الذي يمكنكم تحصيله، وهو: الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات. وإنما سماه علمًا إيذانًا بأنه جار مجرى العلم في وجوب العمل به، ففي {عَلِمْتُمُوهُنَّ} استعارة كما سيأتي. {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}: من المرجع (¬1)، بمعنى الرد، لا من الرجوع، ولذلك عدي إلى المفعول. وهذا هو الحكم الأول. أي: فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن .. فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين. ثم بيَّن العلة في النهي عن رجعهن إليهم بقوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ}؛ أي: لا المؤمنات حلًّا للكفار. وقرأ طلحة: {لا هن يحللن لهم}. {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}؛ أي: ولا الكفار يحلون للمؤمنات، يعني: لا تحل مؤمنة لكافر لشرف الإيمان، ولا نكاح كافر لمسلمة لخبث الكفر. والتكرير إما لتأكيد الحرمة، وإلا .. لكفى نفي الحل عن أحد الجانبين، أو لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول، والثاني لبيان امتناع النكاح الجديد. {وَآتُوهُمْ}: وهذا هو الحكم الثاني. أي: وأعطوا أزواجهن {مَا أَنْفَقُوا}؛ أي: مثل ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك (¬2) - أي: بيان أن المراد بـ {مَا أَنْفَقُوا} هو المهور - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح عام الحديبية كفار مكة على ترك الحرب، فأمر عليًا - رضي الله عنه - أن يكتب بالصلح، فكتب: باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيه الناس على أنفسهم وأموالهم، ويكف بعضهم عن بعض، على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه .. رده إليه، ومن جاء قريشًا من محمد .. لم يردوه إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده .. دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم .. دخل فيه. فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جندل بن سهيل، ولم يأتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد من الرجال إلا ردّه في مدة العهد وإن كان مسلمًا، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولاهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه في أمرها ليردها إلى قريش، فنزلت الآية، فلم يردها - صلى الله عليه وسلم - ثم أنكحها زيد بن حارثة. ومن هذا تعلم: أن الآية بينت أن العهد الذي أعطي كان في الرجال دون النساء، ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وهذا هو الحكم الثالث؛ أي: لا ذنب ولا إثم عليكم أيها المؤمنون في {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}؛ أي: تنكحوا المهاجرات وتتزوجوهن بعد الاستبراء والعدة، وإن كان لهن أزواج كفار في دار الكفر. فإن إسلامهن حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، وقد صرن من أهل دينكم {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ}؛ أي: أعطيتموهن {أُجُورَهُنَّ}؛ أي: مهورهن. وذلك بعد انقضاء عدتهن، كما تدل عليه أدلة وجوب العدة. {إِذَا} (¬1): ظرفية محضة، أو شرطية جوابها محذوف دل عليه ما تقدمها، وشرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانًا بأن ما أعطي أزواجهن لا يقوم مقام المهر؛ لأن ظاهر النظم يقتضي إيتاءين: إيتاء إلى الأزواج، وإيتاء إليهن على سبيل المهر. وفي "التيسير": إذا التزمتم مهورهن، ولم يرد حقيقة الأداء، كما في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}؛ أي: يلتزموها. والمعنى (¬2): أي ولا إثم عليكم ولا حرج في نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها. وإنما جاز لأن الإِسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن. {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}: وهذا هو الحكم الرابع؛ أي: ولا تأخذوا بعقود الكافرات غير الكتابيات؛ أي: لا يكن بينكم وبين المشركات عصمة ولا علاقة زوجية. والعصم: جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، من عقد وسبب، والمراد بها هنا: النكاح. والكوافر: جمع كافر. والكوافر (¬3): طائفتان من النساء، طائفة قعدت عن الهجرة وثبتت على الكفر في دار الحرب، وطائفة ارتدت عن الهجرة ولحقت ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

بأزواجها الكفار. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من كانت له امرأة كافرة بمكة .. فلا يُعدَّنَّ بها من نسائه؛ أي: لا ينبغي أن تبقى علاقة من علاقات الزوجية بين المؤمنين ونسائهم المشركات الباقيات في دار الشرك؛ لأن اختلاف الدين قطع عصمتها منه، فجاز له أن يتزوج بأربع سواها وبأختها من غير تربص وعدة؛ أي: لا تعتدوا بما كان بينكم وبينهن من العقد الكائن قبل حصول اختلاف الدين. وقال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، فيكون قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا} بمقابلة قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} يعني أن قوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} إلخ، إشارة إلى حكم اللاتي أسلمن وخرجن من دار الكفر، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا} إلخ إشارة إلى حكم المسلمات اللاتي ارتددن وخرجن من دار الإِسلام إلى دار الكفر. انتهى. وكان (¬1) الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا خاص (¬2) بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب. وقيل: عامة في جميع الكوافر، مخصصة بإخراج الكتابيات منها. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي ... لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة. وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج. وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولًا بها. وأما إذا كانت غير مدخول بها .. فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإِسلام؛ إذ لا عدة عليها. وقرأ الجمهور (¬3): {تُمْسِكُوا} بضم أوله مخففًا من أمسك الرباعي، كأكرم، وأختار هذه القراءة أبو عبيد؛ لقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وقرأ أبو عمرو، ومجاهد بخلاف عنه، والحسن، وأبو العالية، وابن جبير، والأعرج: {تُمسِّكوا} مشدد، مضارع مسَّك المضعف. وقرأ الحسن أيضًا، وابن أبي ليلى، وابن عامر في رواية عبد الحميد، وأبو عمرو في رواية معاذ: {تَمَسَّكُوا} بفتح الثلاثة، مضارع تمسَّك الخماسي، من باب تفعل، حذفت منه إحدى التاءين، والأصل: تتمسكوا. وترأ الحسن أيضًا: {تمسِكوا} بكسر السين، مضارع مسك الثلاثي. {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} وهذا هو الحكم الخامس؛ أي: واسألوا - أيها المؤمنون - الكفار، واطلبوا منهم ما أنفقتم على نسائكم المرتدات اللاحقات بالكفار من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[11]

المهور. أي: إذا ارتدت امرأة أحدكم ولحقت بدار الكفر .. فاسألوا مهرها ممن تزوجها. ولعل (¬1) هذا لتطرية قلوب بعض المؤمنين بالمقابلة والمعادلة وإلا .. فظاهر حال الكرام الاستغناء. {وَلْيَسْأَلُوا}؛ أي: وليسأل الكفار وليطلبوا منكم {مَا أَنْفَقُوا} من مهور أزواجهم المهاجرات إليكم. أي: وليسأل كل معاهد أسلمت امرأته وهاجرت إليكم ممن تزوجها منكم مهرها، والمراد: أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك. وظاهر قوله تعالى: {وَلْيَسْأَلُوا} يدل على أن الكفار مخاطبون بالأحكام، وهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازًا من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، كما في قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فإنه بمعنى: وأغلظوا عليهم. {ذَلِكُمْ} الذي ذُكر في هذه الآية من الأحكام، أو ما ذكر من إرجاع المهور من الجهتين {حُكْمُ اللَّهِ} تعالى؛ أي: ما حكم الله سبحانه لأن يراعى. وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف للتأكيد والحث على الرعاية والعمل به، أو في محل النصب على الحال. قال في "فتح الرحمن": ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك، إلا قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} فيما شرعه لكم، يشرع ما تقتضيه المصلحة والحكمة البالغة. قال ابن العربي: حكم الله هذا كان مخصوصًا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين. وقال الزهري: ولولا هذه الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش يوم الحديبية .. لأمسك النساء ولم يردَّ الصداق، وكذا كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد. 11 - وروي (¬2): أنه لما نزلت هذه الآية .. أدى المؤمنون ما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، وقالوا: نحن لا نعلم لكم عندنا شيئًا، فإن كان لنا عندكم شيء .. فوجهوا به، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ} الفوت: بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه. وتعديته بإلى لتضمنه معنى السبق أو الانفلات، دل عليه قوله تعالى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}؛ أي: إلى الكفار. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

والمعنى: وإن سبقكم وانفلت منكم؛ أي: خرج وفر منكم فجأة من غير تردد ولا تدبر. {شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}؛ أي: أحد من أزواجكم {إِلَى الْكُفَّارِ}؛ أي: إلى دارهم. وإيقاع شيء موقع أحد للتحقير والإشباع في التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، والشيء لكونه أعم من الأحد أظهر إحاطة لأصناف الزوجات؛ أي: أي نوع وصنف من النساء؛ كالعربية، أو العجمية، أو الحرة، أو الأمة، أو نحوها. أو فاتكم شيء من مهور أزواجكم على حذف المضاف ليتطابق الموصوف وصفته. والزوج هنا هي المرأة. روي: أنها نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان، فرت فتزوجها ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، وأسلمت مع قريش حين أسلموا. {فَعَاقَبْتُمْ}: من العقبة، وهي النوبة، والمعاقبة: المناوبة، يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا. أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر. والمعنى: وجاءت عقبتكم ونوبتكم من أداء المهر، بأن هاجرت امرأة الكافر مسلمة إلى المسلمين، ولزمهم أداء مهرها إلى زوجها الكافر بعدما فأتت امرأة المسلم إلى الكفار، ولزم أن يسأل مهر زوجته المرتدة ممن تزوجها منهم. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ونحوه؛ أي: يتناوب، وإلا .. فأداء كل واحد من المسلمين والكفار لا يلزم أن يعقب أداء الآخر؛ لجواز أن يتوجه الأداء لأحد الفريقين مرارًا متعددة من غير أن يلزم الفريق الآخر شيء وبالعكس فلا يتعاقبون في الأداء .. {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}؛ أي: فأعطوا من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ولم يرد عليه المشركون مهرها كما حكم الله تعالى {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا}؛ أي: مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها. يعني (¬1): إن فاتت امرأة مسلم إلى الكفار ولم يعط الكفار مهرها، فإذا فاتت امرأة كافر إلى المسلمين؛ أي: هاجرت إليهم .. وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الذي فاتت امرأته إلى الكفار مثل مهر زوجته الفائتة من مهر هذه المرأة المهاجرة؛ ليكون كالعوض لمهر زوجته الفائتة، ولا يجوز لهم أن يعطوا مهر هذه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

المهاجرة زوجها الكافر. أو المعنى (¬1): وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم المهور اللاتي دفعتم لهن ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم .. فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من الغنيمة مثل ما أنفقوا. روي عن ابن عباس: أنه يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس، أي: قبل أن تقسم أخماسًا، كما هي القاعدة في تقسيم الغنائم كما تقدم في سورة الأنفال. قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شداد الفهري. وفاطمة بنت أمية، كانت تحت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبدور. وهند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر - رضي الله عنه -. وأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهور نسائهم من الغنيمة كما في "الكشاف". {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ} لا بغيره من الجبت والطاغوت {مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمان به تعالى يقتضي التقوى منه تعالى. أي: وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه. وقرأ الجمهور (¬2): {فَعَاقَبْتُمْ} بألف. وقرأ مجاهد، والزهري، والأعرج، وعكرمة، وحميد، وأبو حيوة، والزعفراني بشد القاف وحذف الألف، والنخعي والأعرج أيضًا وأبو حيوة أيضًا، والزهري أيضًا، وابن وثاب بخلاف عنه بتخفيف القاف مفتوحة. ومسروق النخعي أيضًا، والزهري أيضًا بكسرها، ومجاهد أيضًا: {فأعقبتم} على وزن أفعل. 12 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}: نداء تشريف وتعظيم {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} حالة كونهن {يُبَايِعْنَكَ}؛ أي: مبايعات لك؛ أي: قاصدات لمبايعتك على الإِسلام، فهي حال مقدرة. نزلت يوم الفتح. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء. سميت (¬3) البيعة لأن المبايع يبيع نفسه بالجنة، فالمبايعة مفاعلة من البيع. ومن عادة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

الناس حين المبايعة: أن يضع أحد المتبايعين يده على يد الآخر لتكون معاملتهم محكمة مثبتة. فسميت المعاهدة بين المعاهدين مبايعة تشبيهًا لها بها في الإحكام والإبرام. فمعنى مبايعة الأمة رسولهم: التزام طاعته، وبذل الوسع في امتثال أوامره وأحكامه، والمعاونة له، ومبايعته إياهم الوعد بالثواب، وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم في الغلبة على أعدائهم الظاهرة والباطنة، والشفاعة لهم يوم الحساب إن كانوا ثابتين على تلك المعاهدة قائمين بما هو مقتضى المواعدة، كما يقال: بايع الرجل السلطان، إذا أوجب على نفسه الإطاعة له، وبايع السلطان الرعية، إذا قبل القيام بمصالحهم وأوجب على نفسه حفظ نفوسهم وأموالهم من أيدي الظالمين. أي: إذا جاءك المؤمنات قاصدات مبايعتك على الإِسلام و {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} من الأشياء كائنًا ما كان، من حَجَر أو شجر، أو ملك أو إنس أو جن، أو شيئًا من الإشراك ظاهرًا أو خفيًا. والظاهر: أن المراد الشرك الأكبر. ويجوز التعميم له وللشرك الأصغر الذي هو الرياء. فالمعنى: يبايعنك على أن لا يتخذن إلهًا غير الله، ولا يعملن إلا خالصًا لوجهه. وهذا كان يوم فتح مكة؛ فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايعنه، فأمره الله تعالى أن يأخذ عليهن أن لا يشركن {وَلَا يَسْرِقْنَ}؛ أي: ولا يأخذن مال أحد بغير حق. ويكفي في قبح السرقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن السارق. والسرقة لغة: أخذ ما ليس له خفية، وشرعًا: أخذ مال مخصوص، من موضع مخصوص، على وجه مخصوص، كما سيأتي. {وَلَا يَزْنِينَ}: والزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي. قال مُظهر الدِّين: الزنا في اللُّغة: عبارة عن المجامعة في الفرج على وجه الحرام. ويدخل فيه اللواطة، وإتيان البهائم، انتهى. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يقتل الفاعل والمفعول به". وثبت أن عليًا رضي الله عنه أحرقهما، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - هدم عليهما حائطًا. وذلك بحسب ما رأيا من المصلحة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ملعون من أتى امرأته في دبرها". وأما الإتيان من دبرها في قبلها .. فمباح. قال في "اللباب": اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفارة على من جامع فيه.

فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه، فيستغفر. وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه. انتهى. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وقيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت فيها من رسول الله شيئًا، ولكن أكره أن يحل لحمها وينتفع بها كذلك. ولعل إسناد الفعل إليها باعتبار تمكينها للزاني ومطاعتها له. {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} بأي سبب. وأريد به هنا: ما تفعله الجاهلية من وأد البنات؛ أي: دفنهن أحياء خوف العار والفقر. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". ولعل (¬1) إسناد الفعل إلى النساء إما باعتبار الرضا به أو بمباشرته بأمر زوجها. وقيل: معناه: ولا يشربن دواء فيسقطن حملهن كما في "تفسير أبي الليث". وفي "نصاب الاحتساب": تمنع القابلة من المعالجة لإسقاط الولد بعدما استبان خلقه ونفخ فيه الروح. ومدة الاستبانة والنفخ مقدرة بمئة وعشرين يومًا، وأما قبله .. فقيل: لا بأس به كالعزل، وقيل: يكره؛ لأن مآل الماء الحياة، كما إذا أتلف مُحرم بيضة صيد الحرم .. ضمن؛ لأن مآلها الحياة، فلها حكم الصيد، بخلاف العزل؛ لأن ماء الرجل لا ينفخ فيه الروح إلا بعد صنع آخر، وهو الإلقاء في الرحم، فلا يكون مآله الحياة. وقرأ علي والحسن والسلمي: {ولا يُقَتِّلْنَ} مشددًا. {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} وكذب {يَفْتَرِينَهُ}؛ أي: يختلقنه {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}؛ أي: بسبب صبي ملتقط من غير أزواجهن يحملنه بين أيديهن وأرجلهن؛ أي: ولا يلحقن بأزواجهن ولدًا ليس منهم. والباء للتعدية. والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه؛ أي: يدهشه ويجعله متحيرًا، فيكون أقبح أنواع الكذب. والافتراء: الاختلاق، وقوله: {يَفْتَرِينَهُ} إما في موضع جر على أنه صفة لبهتان، أو نصب على أنه حال من فاعل {يَأْتِينَ}، وقوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} متعلق بمحذوف هو حال من الضمير المنصوب في {يَفْتَرِينَهُ}؛ أي: يختلقنه، مقدرًا وجوده بين أيديهن وأرجلهن، على أن يكون المراد، بالبهتان: الولد المبهوت به، كما ذهب إليه جمهور ¬

_ (¬1) روح البيان.

المفسرين. وليس المعنى على نهيهن عن أن يأتين بولد من الزنا فينسبنه إلى الأزواج؛ لأن ذلك نهى عنه بقوله: {وَلَا يَزْنِينَ} بل المراد: نهيهن عن أن يلحقن بأزواجهن ولدًا التقطنه من بعض المواضع. وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك في بطني الذي بين يدي ووضعته من فرجي الذي هو بين رجلي، فكنى عنه بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ومخرجه بين رجليها. والمعنى: ولا يجئن بصبي ملتقط من غير أزواجهن، فإنه افتراء وبهتان لهم. والبهتان من الكبائر التي تتصل بالشرك. {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}؛ أي: ولا يخالفن أمرك فيما تأمرهن به وتنهاهن عنه، على أن المراد من المعروف: الأمور الحسنة التي عرف حسنها في الدين فيؤمر بها، والشؤون السيئة التي عرف قبحها فيه فينهى عنها. كما قيل: كل ما وافق طاعة الله فعلًا أو تركًا .. فهو معروف، وكما روي عن بعض أكابر المفسرين من أنه هو: النهي عن النياحة والدعاء بالويل، وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه ونشره، وخمش الوجه، وأن تحدث المرأة الرجال إلا ذا رحم محرم، وأن تخلو برجل غير محرم، وأن تسافر إلا مع ذي رحم محرم. فيكون هذا للتعميم بعد التخصيص. ويحتمل أن يكون المراد من المعروف: ما يقابل المنكر، ويكون ما قبله للنهي عن المنكر، وهذا للأمر بالمعروف لتكون الآية جامعة لهما. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، فإذا شرط ذلك في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فكيف في حق غيره؟ وهو كقوله: {إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، كما في "عين المعاني" فدل على أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر. ولم يقل: ولا يعصين الله؛ لأن من أطاع الرسول .. فقد أطاع الله، ومن عصاه .. فقد عصى الله. وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن. ووجه الترتيب بين هذه المنهيات: أنه قدم الأقبح على ما هو أدنى قبحًا منه ثم كذلك إلى آخرها، ولذا قدم ما هو الأظهر والأغلب فيما بينهن.

وقال صاحب "اللباب": ذكر الله تعالى في هذه الآية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة البيعة خصالًا ستًا هنّ أركان ما نهي عنه في الدين، ولم يذكر أركان ما أمر به، وهي أيضًا ست: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي عنها دائم في كل زمان وفي كل حال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم أهم وآكد. {فَبَايِعْهُنَّ}: جواب لـ {إِذَا} الشرطية، فهو العامل فيها، فإن الفاء لا تكون مانعة. وهو أمر من المبايعة. أي: إذا بايعنك على ما ذكر، وما لم يذكر؛ لوضوح أمره وظهور أصالته في المبايعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإِسلام .. فبايعهن بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. فإن المبايعة من جهة الرسول هو الوعد بالثواب، ومن جهة الآخر التزام طاعته كما سبق. وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ}؛ أي: واطلب من الله سبحانه المغفرة لهن زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب. والاستغفار: طلب المغفرة للذنوب والستر للعيوب. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: مبالغ في المغفرة والرحمة، فيغفر لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه. والمعنى (¬1): أي أيها النبي: إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات أن لا يشركن بالله شيئًا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئًا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كن يفعلن ذلك في الجاهلية، ولا يلصقن أولاد الأجانب بأزواجهن كذبًا وبهتانًا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه؛ كالنوح وتمزيق الثياب وجز الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وأن لا تخلو امرأة بغير ذي رحم محرم .. فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هنّ أطعنكم في كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفين بما بايعن عليه. قال ابن الجوزي: وجملة من أحصي من المبايعات: أربع مئة وسبع وخمسون امرأة. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئًا وما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة لا يمكلها). متفق عليه. 13 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا}؛ أي: لا تتخذوا قومًا من الكفار أولياء وأصدقاء وأحباء وأودّاء. وقوله: {غَضِبَ اللَّهُ} سبحانه، وسخط {عَلَيْهِمْ} صفة قومًا. وهم (¬1) جميع طوائف الكفرة، وقيل: اليهود خاصة، وقيل: المنافقون خاصة. وقال الحسن: اليهود والنصارى. والأول أولى؛ لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليهم. أي: لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته أولياء لكم وأصدقاء، تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة ويحول دون تقدم شؤون الملة. وقوله تعالى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} صفة ثانية لـ {قَوْمًا}. و {مِنَ} لابتداء الغاية؛ أي: إنهم لا يوقنون بالآخرة ألبتة بسبب كفرهم {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}؛ أي: كيأسهم من بعث موتاهم؛ لاعتقادهم عدم البعث؛ لأنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم، فـ {مِنَ} لابتداء الغاية. أي: قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها؛ لعنادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبشر به في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له، وعلموا أن لا سبيل لهم إلى نيل نعيمها كما يئس الكفار من بعث موتاهم؛ لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور. وقيل: كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة؛ لأنهم قد وقفوا على الحقيقة، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة. فـ {مِنَ} بيانية على هذا المعنى. والأول أولى. والخلاصة (¬2): يا أيها الذين آمنوا: لا تتولوا قومًا مغضوبًا عليهم، قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة؛ لعنادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة، كما فيض الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) النسفي.

الإعراب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أَيّ}: منادى نكرة، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد، {الَّذِينَ}: بدل من {أي}، وجملة {آمَنُوا}: صلته. وجملة النداء مستأنفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {مُهَاجِرَاتٍ}: حال من {الْمُؤْمِنَاتُ}، {فَامْتَحِنُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا، {امْتَحِنُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {الهاء}: مفعول به. والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {اللهُ}: مبتدأ، {أَعْلَمُ}: خبر، {بِإِيمَانِهِنَّ}: متعلق بـ {أَعْلَمُ}، والجملة معترضة. {فإن}: {الفاء}: عاطفة، {إِنْ}: حرف شرط، {عَلِمْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {مُؤْمِنَاتٍ}: مفعول ثان، والجملة في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، {لا}: ناهية جازمة، {ترجعوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، و {الواو}: فاعل، و {الهاء}: مفعول به، {إِلَى الْكُفَّارِ}: متعلق بـ {تَرْجِعُوهُنَّ}. والجملة في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إذًا}. {لَا}: نافية، {هُنَّ}: مبتدأ، {حِلٌّ}: خبر، {لَهُمْ}: متعلق بـ {حِلٌّ}، والجملة الاسمية جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها علة لقوله: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية، {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَحِلُّونَ}: خبره. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على كونها معللة للنهي المذكور قبلها. {لَهُنَّ}: متعلق بـ {يَحِلُّونَ}. {وَآتُوهُمْ}: {الواو}: عاطفة. {آتُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {مَا}: مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {لا ترجعوهن}، وجملة {أَنْفَقُوا}: صلة لـ {مَا} الموصولة، {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية للجنس، {جُنَاحَ}: في محل

النصب اسمها، {عَلَيْكُمْ}: خبرها، وجملة {لا} النافية معطوفة على ما قبلها، {أَن} حرف نصب ومصدر، {تَنْكِحُوهُنَّ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، و {الواو}: فاعل، و {الهاء}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية. {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في نكاحهن، الجار والمجرور متعلق بـ {جُنَاحَ}. {إِذَا}: ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {تَنْكِحُوهُنَّ} أو بـ {جُنَاحَ}، {آتَيْتُمُوهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول أول، {أُجُورَهُنَّ}: مفعول ثان. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها. {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية، {تُمْسِكُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {تُمْسِكُوا}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إذا} على كونها جواب النداء. {وَاسْأَلُوا}: فعل وفاعل معطوف على ما قبله، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {أَنْفَقُوا}: صلته، والعائد محذوف، {وَلْيَسْأَلُوا}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: لام الأمر، {يسألوا}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، و {الواو}: فاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {أَنْفَقُوا}: صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {حُكْمُ اللَّهِ}: خبره، والجملة مستأنفة. {يَحْكُمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {وَاللَّهُ}، {بَيْنَكُمْ}: متعلق بـ {يَحْكُمُ}، والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من الجلالة. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {عَلِيمٌ}: خبر أول، {حَكِيمٌ}: خبر ثان. والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة، {إنْ}: حرف شرط {فَاتَكُمْ}: فعل ومفعول به في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {شَيْءٌ}: فاعل، {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}: صفة لـ {شَيْءٌ}، {إِلَى الْكُفَّارِ}: متعلق بـ {فَاتَكُمْ}، {فَعَاقَبْتُمْ}: {الفاء}:

عاطفة، {عاقبتم}: فعل وفاعل معطوف على {فَاتَكُمْ}، {فَآتُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} وجوبًا، {أتوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل {الَّذِينَ}: مفعول أول، والجملة الطلبية في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ}: الشرطية معطوفة على جملة {إذَا} الشرطية على كونها جوابًا للنداء، {ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}: فعل وفاعل والجملة صلة {الَّذِينَ}، {مِثْلَ}: مفعول ثان لـ {آتوا} وهو مضاف {مَا} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة {أَنْفَقُوا} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آتُوا}، {الَّذِي}: صفة للجلالة، {أَنْتُمْ}: مبتدأ، {بِهِ}: متعلق بما بعده، {مُؤْمِنُونَ}: خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، (أي): منادى نكرة مقصودة، {النَّبِيُّ}: بدل منه، والجملة مستأنفة. {إذا}: ظرف مضمن معنى الشرط، {جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ}: فعل ومفعول وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {يُبَايِعْنَكَ}: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من المؤمنات. أي: حالة كونهن طالبات منك المبايعة. {عَلَى}: حرف جر، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {لا}: نافية، {يُشْرِكْنَ}: فعل مضارع في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، والنون فاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُشْرِكْنَ}، {شَيْئًا}: مفعول به، أو مفعول مطلق. والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَنْ} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى} تقديره: على عدم إشراكهن بالله شيئًا، الجار والمجرور متعلق بـ {يُبَايِعْنَكَ}، {وَلَا يَسْرِقْنَ}: فعل وفاعل في محل النصب معطوف على {يُشْرِكْنَ}، {وَلَا يَزْنِينَ}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {يُشْرِكْنَ}. {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يُشْرِكْنَ}، {وَلَا يَأْتِينَ}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {يُشْرِكْنَ}، {بِبُهْتَانٍ}: متعلق بـ {يَأْتِينَ}، {يَفْتَرِينَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر صفة لـ {بهتان}، {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ}: متعلق بـ {يفترين}،

{وَأَرْجُلِهِنَّ}: معطوف على {أَيْدِيهِنَّ}، {وَلَا يَعْصِينَكَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {يُشْرِكْنَ}، {فِي مَعْرُوفٍ}: متعلق بـ {يَعْصِينَكَ}. {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {فَبَايِعْهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} الشرطية وجوبًا، {بايعهن}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على النبي، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب: {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَاسْتَغْفِرْ}: فعل وفاعل مستتر، معطوف على {بايعهن}، {لَهُنَّ}: متعلق بـ {استغفر}. {اللَّهَ}: مفعول به: {إن اللهَ}: ناصب واسمه، {غَفُورٌ}: خبره، {رَحِيمٌ}: خبر ثان له، وجملة {إن} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {الَّذِينَ}: بدل من {أي}، والجملة مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {لَا}: ناهية جازمة، {تَتَوَلَّوْا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، و {الواو}: فاعل، {قَوْمًا}: مفعول به، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {غَضِبَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، والجملة صفة لـ {قَوْمًا}، {قَدْ}: حرف تحقيق، {يَئِسُوا}: فعل وفاعل، {مِنَ الْآخِرَةِ}: متعلق بـ {يَئِسَ}. والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ {قَوْمًا}. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه {ما} مصدرية، {يَئِسَ الْكُفَّارُ}: فعل وفاعل، {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}: متعلق بـ {يبَسَ} أو حال من {الْكُفَّارُ}، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، أي: كيأسهم من أصحاب القبور، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يئسوا من الآخرة يأسًا كائنًا كيأسهم من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم. التصريف ومفردات اللغة {فَامْتَحِنُوهُنَّ}؛ أي: فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان. {عَلِمْتُمُوهُنَّ}: ظننتموهن بالحلف وظهور الأمارات. {فَلَا

تَرْجِعُوهُنَّ}؛ أي: لا تردوهن، من المرجع بمعنى: الرد، لا من الرجوع، كما مر. {حِلٌّ لَهُمْ}: وزنه فعل بكسر الفاء، فهو لفيف، وهو ما كان عينه ولامه من جنس واحد. {يَحِلُّونَ} أصله: يحللون، بوزن يفعلون، نقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. {وَآتُوهُمْ} أصله: أأتيوهم، بوزن أفعلوهم، نظير: أكرموهم، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة ألفًا حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى، ثم حذفت حركة الياء للتخفيف، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة الواو، فصار آتوهم، {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جُناحًا، ثم سمي كل إثم جُناحًا. {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} والعصم: جمع عصمة، وهي: ما يعتصم به، من عقد وسبب، وهي هنا عقد النكاح. والكوافر: جمع كافرة، كضوارب في ضاربة. {وَإِنْ فَاتَكُمْ}: فيه إعلال بالقلب، أصله: فوتكم، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. والفوت: بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه. {فَعَاقَبْتُمْ}: من العقبة، وهي النوبة، والمعاقبة: المناوبة. يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا؛ أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر. والمعنى: وجاءت عقبتكم ونوبتكم من أداء المهر. {وَلَا يَسْرِقْنَ} والسرقة: أخذ ما ليس له أخذه خفية. {وَلَا يَزْنِينَ} والزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي أو ملك يمين، يقصر، وإذا مد .. يصح أن يكون مصدر المفاعلة. {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه؛ أي: يدهشه ويجعله متحيرًا، فيكون أقبح أنواع الكذب. وهو في الأصل مصدر، يقال: بهت زيد عمرًا بهتًا وبهتًا وبهتانًا؛ أي: قال عليه ما لم يفعله، فزيد باهت وعمرو مبهوت، والذي بهت به مبهوت به. وإذا قالت لزوجها: هذا ولدي منك، لصبي التقطته .. فقد بهتته به؛ أي: قالت عليه ما لم يفعله، جعله نفس البهتان ثم وصفه بكونه مفترى مبالغة في وصفهن بالكذب. {يَفْتَرِينَهُ} الافتراء: الاختلاق. يقال: فرى فلان كذبًا إذا خلقه، وافتراه اختلقه. {فِي مَعْرُوفٍ} والمعروف: ما عرف، حسنه من قبل الشرع، وفي "النهاية": المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه. اهـ. "شهاب". {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ} والاستغفار: طلب المغفرة للذنوب والستر للعيوب، كما مر.

{لَا تَتَوَلَّوْا} أصله: تتوليون، حذفت منه نون الرفع لدخول أداة الجزم {لَا} الناهية، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فوزنه: تتفعوا. {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} اليأس: انقطاع الطمع {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} والقبور: جمع قبر، والقبر: مقر الميت، والمقبرة: موضع القبور. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجملة الاعتراضية في قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} الإشارة إلى أن للإنسان الظاهر، والله يتولى السرائر. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ}؛ لأنه استعار العلم للظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات. وسماه علمًا إيذانًا بأنه جار مجرى العلم في وجوب العمل به. ومنها: العكس والتبديل في قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. وهو من المحسنات البديعية، وفيه التكرير أيضًا إما لتأكيد الحرمة، وإلا فيكفي نفي الحل من أحد الجانبين، وإما لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول، والثاني لبيان امتناع النكاح الجديد، كما مر. ومنها: المقابلة في قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}. ومنها: المجاز في قوله: {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}؛ لأنه مجاز عن أمر المؤمنين بالأداء من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، كما في قوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فإنه بمعنى: واغلظوا عليهم. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}. ومنها: إيقاع شيء موقع أحد في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} للتحقير والإشباع في التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، كما مر. ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: {فَعَاقَبْتُمْ}. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء

أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ونحوه. أي: يتناوب، كما مرّ بسطه. ومنها: النداء للتشريف والتعظيم في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}. ومنها: الكناية اللطيفة في قوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ}. كنَّى بذلك عن اللقيط. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}. وفيه أيضًا من المحسنات البديعية ما يسمى ردّ العجز على الصدر، حيث ختم السورة بمثل ما ابتدأها به ليتناسق البدء مع الختام. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} للإشعار بعلة يأسهم، وهو الكفر. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - النهي عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك. 2 - ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه. 3 - امتحان النساء المؤمنات المهاجرات، وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر. 4 - مبايعة النساء المؤمنات في دار الإِسلام. 5 - تأكيد النهي عن موالاة المشركين، حرصًا على شؤون الملة ونشر الدعوة (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد تم تفسير هذه السورة الكريمة بعون الله سبحانه وتعالى يوم الأحد قبيل غروب اليوم الثالث والعشرين من شهر الله الحرام ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

سورة الصف

سورة الصف سورة الصف مدنية، قال الماوردي: في قول الجميع. نزلت بعد التغابن. وأخرج ابن الضريس (¬1)، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بمكة. ولعل هذا لا يصح عنه. ويؤيد كونها مدنيَّة: ما أخرجه أحمد، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا، فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة؛ يعني: سورة الصف كلها. وأخرجه ابن أبي حاتم، وقال في آخره: فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضًا الترمذي وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "الشعب" و"السنن". وآيها (¬2): أربع عشرة. وكلماتها: مئتان وإحدى وعشرون كلمة. وحروفها: تسع مئة. ومناسبتها لما قبلها (¬3): أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي الذي تضمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار من دون المؤمنين. وقال أبو حيان (¬4): مناسبتها لآخر السورة قبلها: أن في آخر تلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم. تسميتها: سميت سورة الصف لذكر الصف فيها. وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الصف كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}. المناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ...} الآيات، قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به؟ فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه: إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه. فلما نزل الجهاد .. كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ...} الآية، مناسبة

هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما أنَّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بني إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. فلم يمتثلوا، وعصوه أشد العصيان، و {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ...} الآية. وقالوا أيضًا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وأصروا على ذلك، وآذوه أشد الإيذاء. فوبخهم على ذلك بما جاء في الآية الكريمة، وقد صرفهم الله سبحانه عن قبول الحق، وألحق بهم الضيم والدل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضًا في عصيانهم مثل بني إسرائيل حين قال لهم عيسى بن مريم: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، وقال: إني مبشر برسول يأتي من بعدي يسمى: أحمد، فعصوه وكذبوه، ولم يمتثلوا أمره. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته - صلى الله عليه وسلم - من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مفترى .. أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإِسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح والبرهان الساطع: قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ... وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ ثم بين أن السبب في ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم في صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بفيه، وأنى له ذلك؟ فالله متم نوره ومكمل دينه مهما جد المشركون في إطفائه. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنًا فيه ولا طريقًا إلَّا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ...} ¬

_ (¬1) المراغي.

الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما حث في الآيات السابقة على الجهاد في سبيله، ونهاهم عن أن يكونوا مثل قوم موسى في التواكل والتخاذل - إذ قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} - ونهاهم أيضًا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى في العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوّته .. ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس في سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة في الدنيا والغلبة على العدوّ وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى في الآخرة بغفران الذنب ورضوان الرب والرضوان في جنات الخلود، والإقامة ولا فوز أعظم من هذا. ثم ضرب لهم مثلًا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة، آمنت به، وهم حواريوه، وفرقة فرت به، وهم البقية الباقية منهم. فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله، كما هي سنة الله في البشر، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}، وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. أسباب النزول قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ...} إلى آخر السورة، سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه الدارمي في "سننه" قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناها؟ فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا} حتى ختمها، قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ختمها، فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: قرأها علينا أبو سلمة، وقرأها علينا يحيى، وقرأها علينا الأوزاعي، وقرأها علينا محمد. قال ابن الجوزي (¬1): قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} في سبب ¬

_ (¬1) زاد المسير.

نزولها خمسة أقوال: أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزّ وجل عملناه؟ فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ...} إلى آخر السورة. والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل، فنزلت: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. رواه عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر. فنزلت هذه الآية. والثالث: أن ناسًا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل الجهاد .. كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية. رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أن صهيبًا قتل رجلًا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب. ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب. والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو خرجتم .. خرجنا معكم ونصرناكم، فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - .. نكصوا عنه. فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. وقال الكلبي (¬1): قال المؤمنون: يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؟ فنزلت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. فمكثوا زمانًا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلهم الله تعالى عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ...} الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. ¬

_ (¬1) القرطبي.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ}؛ أي: نزه (¬1) الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجنابه العلي العظيم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} السبع؛ أي: جميع ما فيها من العلويات الفاعلة. {وَمَا فِي الْأَرْضِ} من السفليات القابلة آفاقًا وأنفسًا؛ أي: سبحه جميع الأشياء من غير فرق بين موجود وموجود، كما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. وقد تقدم الكلام على وجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر، إرشادًا إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات، ماضيها ومستقبلها وحالها. وأعاد الموصول في قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} هنا وفي الحشر وفي الجمعة والتغابن جريًا على الأصل، وأسقطه في الحديد موافقة لقوله فيها: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. اهـ. من "المتشابه". وفي "الخطيب": فإن قلت: هلَّا قيل: سبح لله السماوات والأرض وما فيهما، فيكون أكثر مبالغة؟ أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو، فيشمل السماء وما وفيها، وبالأرض جهة السفل، فيشمل الأرض وما فيها. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغالب، ولا يكون إلا ما يريد. {الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقواله، الذي لا يفعل إلا بالحكمة، فلا عزيز ولا حكيم على الإطلاق غيره تعالى، فلذا يجب تسبيحه. والمعنى: أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال جميع ما في السماوات والأرض وهو الغالب على أمره القاهر فوق عباده، الحكيم في تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن وأرشد إليه من ضروب الهداية. 2 - وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال .. ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا رسميًا {لِمَ تَقُولُونَ} وتعدون {مَا لَا تَفْعَلُونَ} من الخير. روي: أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا؟ فلما نزل الجهاد .. كرهوه، فنزلت تعييرًا لهم بترك ¬

_ (¬1) روح البيان.

الوفاء. و {لِمَ} (¬1) مركبة من اللام الجارة و {مَا} الاستفهامية قد حذفت ألفها تخفيفًا لكثرة استعمالها، كما في عمَّ وفيم ونظائرها. معناها: لأي شيء، ولأي غرض تقولون: نفعل ما لا تفعلون من الخير. قال الزمخشري: {لِمَ} لام الجر داخلة على {مَا} الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، فيم، ومم، وعم وإلام، وعلام، وحتام. وإنما حذفت الألف لأن {مَا} وحروف الجر كشيء واحد، ووقع استعمالها كثيرًا في كلام المستفهم محذوفة الألف، وجاء استعمال الأصل قليلًا. اهـ. "خطيب". وعبارة "البيضاوي": و {مَا} مركبة من لام الجر و {مَا} الاستفهامية، والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر؛ لكثرة استعمالها معًا، فلذا استحقت التخفيف، ولاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه. اهـ. والمعروف على أن مدار التعيير والتوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجهه إلى قولهم تنبيهًا على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضًا، وقد كانوا يحسبونه معروفًا. ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون .. لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود. فليس المراد من {مَا} حقيقة الاستفهام؛ لأن الاستفهام من الله محال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء، بل المراد الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان من نفسه ما لا يفعله من الخير؛ لأنه إن أخبر أنه فعل في الماضي والحال، ولم يفعله .. كان كاذبًا، وإن وعد أن يفعله في المستقبل ولا يفعله .. كان خلفًا، وكلاهما مذموم. كما قال في "الكشاف": هذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الوعد، وهذا بخلاف ما إذا وعد فلم يفِ بميعاده لعذر من الأعذار، فإنه لا إثم عليه. والمعنى (¬2): أي لأي غرض تقولون: لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير، حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا؟ والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به، وإنما وجه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة إذ هم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[3]

تركوا فعل الخير وقد وَعدوا بفعله، كما مرّ آنفًا. وبهذه الآية وبما ثبت في السنة من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان". استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد. 3 - ثم بيّن شدة قبح ذلك، وأنه بلغ الغاية في بغض الله له، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا}؛ أي: عظم جرمًا {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم، وجميل الخصال، وبه تكون الثقة بين الجماعات، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض، ويكونون يدًا واحدة فيما انتووا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا في أمة خلف الوعد .. قلت الثقة بين أفرادها وانحلت عرا الروابط بينهم، وأصبحوا عقدًا متناثرًا لا ينتفع به ولا يخاف منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات وعظمت الخطوب؛ لما يكون بينهم من التواكل وعدم ائتمان بعضهم بعضًا. و {كَبُرَ} من (¬1) باب نعم وبئس، فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و {أَنْ تَقُولُوا} هو المخصوص بالذم، ويجيء الخلاف فيه، هل رفعه على الابتداء، وخبره الجملة المتقدمة عليه أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف؟ والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، وكان يسمى تزوُّج امرأة الأب: نكاح المقت. و {مَقْتًا} منتصب على التمييز و {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف للفعل، بمعنى: في علمه وحكمته. والكلام بيان لغاية قبح ما فعلوه. أي: عظم بغضًا في علمه تعالى وحكمته هذا القول المجرد، فهو أشد ممقوتية ومبغوضية، فمن مقته الله .. فله النار، ومن أحبه الله .. فله الجنة. وقيل: إنه قصد بقوله: {كَبُرَ} التعجب، وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل: إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب بل هو مسند إلى {أَنْ تَقُولُوا}. و {مَقْتًا}: تمييز محول عن الفاعل. فائدة: وأوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم عليهما السلام: يا ابن مريم، عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحيي مني. لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}. وقد ورد الوعيد في حق من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا؛ أي: كما ورد في حق من يترك العمل. فالخوف إذا كان على كل منهما في درجة متناهية فكيف على من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟! أكثر الناس في هذا الزمان هكذا، والعياذ بالله تعالى. انتهى. 4 - وبعد أن ذمّ الذين وعدوا بالقتال ونحوه من أفعال الخير ولم يفعلوا .. مدح الذين قاتلوا في سبيله وبالغوا فيه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ} أعداء الله {فِي سَبِيلِهِ}؛ أي: في طريق مرضاته وإعلاء دينه؛ أي: يرضى عنهم ويثني عليهم. و {صَفًّا}: مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول، ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون؛ أي: حال كونهم صافين أنفسهم أو مصفوفين، أو منصوب على المصدرية بعامل محذوف، والمفعول محذوف؛ أي: يصفون أنفسهم صفًا. والصفّ: أن يجعل الشيء على خط مستوٍ كالناس والأشجار. هذا بيان لما هو مرضي عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده، وهذا صريح في أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال. وقرأ الجمهور (¬1): {يُقَاتِلُونَ} على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول. وقرىء {يقتلون} بالتشديد. وجملة {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} في محل النصب على الحال من فاعل {يُقَاتِلُونَ} أو من الضمير المستكن في الحال الأولى. قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: {كَأَنَّهُمْ} في موضع النعت لـ {صَفًّا} انتهى؛ أي: كأنهم في تراصهم وتلاصقهم من غير فرجة ولا خلل بنيان رصّ بعضه إلى بعض. والظاهر: تشبيه الذوات في التحام بعضها ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراد: استواء نياتهم في الثبات، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. والبنيان: الحائط، وهو واحد لا جمع، دل عليه تذكير {مَرْصُوصٌ}. وقال بعضهم: بنيان جمع بنيانة، على حدّ نخل ونخلة، وهذا النحو من الجمع يصح تأنيثه ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[5]

وتذكيره. والرص: اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه، فيسميه أهل مكة المرصوص. والمعنى: حال كونهم مشبهين في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ببنيان رصّ بعضه إلى بعض، ورصف حتى صار شيئًا واحدًا. وقال الراغب: بنيان مرصوص؛ أي: محكم كأنما بني بالرصاص، وهو قول الفراء. وتراصوا في الصلاة؛ أي: تضايقوا فيها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تراصوا بينكم في الصلاة، لا يتخللكم الشيطان" فالزحمة في مثل هذا المقام رحمة، فلا بد من سدّ الخلل أو المحاذاة بالمناكب كالبنيان المرصوص. ففي الآية زجر عن التباطؤ، وحث على التسارع، ودلالة على فضيلة الجهاد. والمعنى: إن الله سبحانه يحب الذين يصفُّون أنفسهم حين القتال، ولا يكون بينهم فُرَجٌ فيه، كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبت صبًا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر، وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك .. زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال والكرّ والفرّ إلى ما في ذلك من إدخال الروع والفزع في نفوس العدوّ؛ إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل والدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وأن لا يجلس المصلي في صف خلفيّ إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي، وهكذا تراعي الأمم في عصرنا الحاضر النظام في كل أعمالها، في أكلها ونومها، ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجد وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك؛ ولهذا لا يوجد تواكل، ولا تراخ في الأعمال ولا تخاذل فيها، ومن ثم جاء الأثر: "أفضل الأعمال إلى الله: أدومها، وإن قل". 5 - ولما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله أراد أن يبين أن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال. {وَإِذْ} منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به - صلى الله عليه وسلم - بطريق التلوين. أي (¬1): اذكر لهؤلاء المؤمنين المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى - عليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

السلام - لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}. فلم يمتثلوا بأمره، وعصوه أشد عصيان، حيث قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} إلى قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وأصروا على ذلك، وآذوه - عليه السلام - كل الأذية، وقال: {يَا قَوْمِ} أصله، يا قومي، ولذا كسرت الميم، ولولا تقدير الياء .. لقيل: يا قوم بالضم؛ لأنه يكون حينئذ مفردًا معرفة. وهو نداء رفق وشفقة، كما هو شأن الأنبياء ومن يليهم. {لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم. والأذى: ما يصل إلى الإنسان من ضرر، إما في نفسه أو في جسمه أو في أسرته، دنيويًا كان أو أخرويًا، كما سيأتي بسطه. يقول الفقير: لا شك أن قتل الأعداء من باب التسبيح؛ لأنهم الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، وعبدوا معه الأصنام، فكان في مقابلتهم توسيع ساحة التنزيه، ولذا بدأ الله تعالى في عنوان السورة بالتسبيح، وأشار بلفظ {الْحَكِيمُ} إلى أن القتال من باب الحكمة، وأنه من باب دفع القضاء بالقضاء، على ما يُعرِّفه أهل المعرفة، وبلفظ {الْعَزِيزُ}، إلى غلبة المؤمنين المقاتلين. ثم إنهم كرهوا ذلك كأنهم لم يثقوا بوعد الله بالغلبة، ووقعوا من حيث لم يحتسبوا في ورطة نسبة العجز إلى الله تعالى، ولذا تقاعدوا عن القتال، وبهذا التقاعد حصلت الأذية له عليه السلام، لأن مخالفة أولي الأمر أذية لهم، فأشار الحق سبحانه بقصة موسى إلى أن الرسول حق، وأن الخروج عن طاعته فسق، وأن الفاسق مغضوب لله تعالى؛ لأن الهداية من باب الرحمة وعدمها من باب السخط، والعياذ بالله تعالى من سخطه وغضبه وأليم عقابه وعذابه. وجملة النداء مع ما بعدها مقول القول؛ أي (¬1): إذ قال موسى: يا قوم، لم تؤذونني بمخالفة ما أمرتكم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم؛ أو: لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأُدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب. وجملة قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} جملة (¬2) حالية مؤكدة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

لإنكار الأذية ونفي سببها. {وَقَدْ} لتحقيق العلم، لا للتوقع، ولا للتقريب ولا للتقليل. فإنهم قالوا: إن (قد) إذا دخلت على الحال تكون للتحقيق، وإذا دخلت على الاستقبال تكون للتقليل. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار العلم؛ أي: كيف تؤذونني والحال أنكم تعلمون علمًا قطعيًا مستمرًا بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات أني مرسل من الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك: أن تبالغوا في تعظيمي، وتسارعوا إلى طاعتي، فإن تعظيمي تعظيم لله وإطاعتي إطاعة له. وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأذية قد كانت من الأمم السالفة أيضًا لأنبيائهم والبلاء إذا عم .. خفّ. وحاصل المعنى (¬1): واذكر - يا محمد - لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله، حين قال لقومه: لم تؤذونني وتخالفون أمري، فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من رسالة ربي؟ وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". كما أن فيه نهيًا للمؤمنين أن ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يوصلوا إليه أذى، كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}. وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قسم غنائم الطائف .. قال بعض المنافقين: هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه الشريف وقال ذلك. ثم بيّن عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا}؛ أي: أصروا على الزيغ والميل عن الحق الذي جاء به موسى، واستمروا عليه {أَزَاغَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {قُلُوبَهُمْ}؛ أي: صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب؛ لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال. وقال الراكب في "المفردات"؛ أي: لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك، وقال جعفر: لما تركوا أوامر الخدمة نزع الله من قلوبهم نور الإيمان، وجعل للشيطان إليهم طريقًا، فأزاغهم عن طريق الحق وأدخلهم في مسالك الباطل. وقال الواسطي: لما زاغوا عن القربة في العلم أزاغ الله قلوبهم في الخلقة. وقال بعضهم: لما زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة. يقول ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

الفقير: لما زاغوا عن رسالة موسى ونبوته أزاغ الله قلوبهم عن ولايته. فهم رأوا موسى على أنه موسى لا على أنه رسول نبي، فحرموا من رؤية الحق تعالى. والمعنى: أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، وأصروا على ذلك .. صرف الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الحيرة والشك، جزاء وفاقًا لما دسوا به أنفسهم من الذنوب والآثام ومخالفة أوامر رسوله وانهماكهم في الطغيان والمعاصي، فران على قلوبهم، وطمس على أعينهم فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل ولا تبصر ما ترى من برهان، كما قال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}. ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها من الإزاغة، وتذييل مؤذن بعليته؛ أي (¬1): لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، لا هداية موصلة إلى ما يوجب إليها، فإنها شاملة للكل. والمراد: جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولًا أوليًا. ووصفهم بالفسق نظرًا إلى قوله تعالى: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، وقوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}. قال الإِمام: وهذه الآية تدل على عظم أذى الرسول، حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، انتهى. ويتبعه أذى العالمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، فأذاهم في حكم أذاهم. والمعنى: أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله بما يرين على قلبه من الضلالة، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت في الكون، وجعلت منارًا للعقول، وشفاء للصدور. 6 - وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إما معطوف على {إذ} الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها. ولفظ {ابْنُ} هنا وفي {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} بإثبات الألف خطًا لندرة وقوعه بين رب وعبد وذكر وأنثى. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: ناداهم بذلك استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}. فإن تصديقه عليه السلام إياها من أقوى الدواعي إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

تصديقهم إياه؛ أي: أرسلت إليكم لتبليغ أحكامه التي لا بدّ منها في صلاح أموركم الدينية والدنيوية؛ لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على التبشير بي، فكيف تنفرون عني وتخالفوني؟. وقال أبو الليث: يعني أقرأ عليكم الإنجيل موافقًا للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع. قال القاضي في "تفسيره": ولعله لم يقل: يا قوم، كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم. إذ النسب إلى الآباء، وإلا فمريم من بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل لَقَبُ يعقوب ومريم من نسله، ثم إن هذا يدل على أن تصديق المتقدم من الأنبياء والكتب من شعائر أهل الصدق، ففيه مدح لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث صدقوا الكل. وانتصاب {مُصَدِّقًا} على الحال. {و} كذا {مُبَشِّرًا} والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال. والمعنى: إني أرسلت إليكم حال كوني مصدقًا لما بين يدي من التوراة، ومبشرًا {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي} وهذا أيضًا داع إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة به واقعة في التوراة. أي: وحالة كوني مبشرًا بمن يأتي من بعدي من رسول، وكان بين مولده وبين الهجرة ست مئة وثلاثون سنة. وقال: بشرهم به ليؤمنوا به عند مجيئه، أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره. والتبشير به تبشير بالقرآن أيضًا، وتصديق له كالتوراة. {اسْمُهُ أَحْمَدُ}؛ أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - يريد عيسى عليه السلام: أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن تقدم وتأخر، فذكر أول الكتب المشهورة الذي يحكم به النبيون والشعبي الذي هو خاتم النبيين. وقال القشيري: بشر كل نبي قومه بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والله أفرد عيسى بالذِّكر في هذا الموضع؛ لأنه آخر نبي قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فبيّن أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحدًا بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام. وقال بعضهم (¬1): كان بين رفع المسيح ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة وخمس وأربعون سنة تقريبًا. وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثًا وثلاثين سنة، وبين رفعه والهجرة الشريفة خمس مئة وثمان وتسعون سنة، وأمته النصارى على اختلافهم، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ونزل عليه جبرائيل عشر مرات، ونزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أربعةً وعشرين مرة، وأمته أمة مرحومة جامعة لجميع المسلكات الفاضلة. قيل: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله! هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة محمد، حكماء علماء، أبرار أتقياء؛ كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضي الله عنهم باليسير من العمل. وأحمد اسم نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون منقولًا من المضارع المبدوء بالهمزة، وأن يكون منقولًا من صفة. وهي أفعل التفضيل، وهو الظاهر. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: صَلَّى الإِلهُ وَمَنْ يَحُفُّ بِعَرْشِهِ ... وَالطَّيبُونَ عَلَى الْمُبَارَكِ أَحْمَدِ وكذا محمد، فإنه منقول من الصفة أيضًا، وهو في معنى: محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فإنه محمود في الدنيا بما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، ومحمود في الآخرة بالشفاعة. ومعنى أحمد: أحمد الحامدين لربه، ومعنى محمد: محمود عند ربه وعند الخلائق. وخص أحمد بالذكر هنا لتقدمه على محمد في المعنى؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له. وقال الراغب: أحمد إشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - باسمه تنبيهًا على أنه كما وجد اسمه أحمد يوجد جسمه، وهو محمود في أخلاقه وأفعاله وأقواله. وخص لفظ أحمد فيما بشر به عيسى تنبيهًا على أنه أحمد منه ومن الذين قبله، انتهى. وقيل: خصه بالذكر لأنه في الإنجيل مسمى بهذا الاسم؛ ولأن اسمه في السماء أحمد فذكر باسمه السماوي. وقال الشوكاني: وأحمد اسم نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهو عَلم منقول من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها: أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والسلمي، وزر بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم (¬1): {مِنْ بَعْدِي} بفتح الياء. وقرأ الباقون بإسكانها. قال في "فتح الرحمن": لم بسم بأحمد أحد غيره - صلى الله عليه وسلم - ولا دعي به مدعو ¬

_ (¬1) الشوكاني.

قبله، وكذلك محمد أيضًا لم يسم به أحد من العرب، ولا غيرهم، إلى أن شاع قبيل وجوده - صلى الله عليه وسلم - وميلاده؛ أي: من الكهان والأحبار أن نبينا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح بن سفيان، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن البراء البكراوي، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمدان الجعفي، ومحمد بن خزاعة السلمي. فهم ستة لا سابع لهم. ثم حمى الله سبحانه كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحدًا في أمره حتى تحققت السمتان له - صلى الله عليه وسلم - ولم ينازع فيهما، انتهى. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي (¬1): الرسول المبشر به الذي اسمه أحمد، كما تدل عليه الآيات اللاحقة. وأما إرجاعه إلى عيسى كما فعله بعض المفسرين، كـ "الشوكاني" و"البيضاوي" و"الخازن" وغيرهم .. فبعيد جدًا، وكون ضمير الجمع راجعًا إلى بني إسرائيل لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الناس كافة. {بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الظاهرة كالقرآن، ونحوه، والباء للتعدية، ويجوز أن تكون للملابسة. {قَالُوا هَذَا} مشيرين إلى ما جاء به، أو إليه - صلى الله عليه وسلم - {سِحْرٌ مُبِينٌ}؛ أي: ظاهر سحريته بلا مرية، وتسميته - صلى الله عليه وسلم - سحرًا للمبالغة، ويؤيده قراءة من قرأ: {هذا ساحر}. والمعنى: أي فحين جاءهم أحمد المبشر به بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة .. فاجؤوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارًا وعنادًا، وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترهات وأباطيل وسحر واضح لا شك. ونحو الآية: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ...} الآية. وقرأ الجمهور: {سِحْرٌ}؛ أي: ما جاء به من البينات سحر. وقرأ (¬2) عبد الله، وطلحة، والأعمش، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: {ساحر}؛ أي: هذا الجائي ساحر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[7]

7 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: والفرق (¬1) بين الكذب والافتراء: هو أن الافتراء افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه. وقاله هنا بتعريف الكذب إشارة إلى قول اليهود: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وقاله في مواضع بالتنكير، كقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} جريًا على الأكثر من استعمال المصدر منكرًا. والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: وأي الناس من المفترين أشد ظلمًا وأكثر جرمًا ممن اختلق على الله الكذب بنسبة الشريك والولد والصاحبة إليه؟ {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}؛ أي: والحال أنه يدعى إلى الإِسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق: هذا سحر. فاللام في {الْكَذِبَ} للعهد؛ أي: لا أحد من المفترين أظلم منه؛ أي: وهو أظلم من كل ظالم، وإن لم يتعرض ظاهر الكلام لنفي المساوىء. ومن الافتراء على الله: الكذب في دعوى النسب، والكذب في الرؤيا، والكذب في الإخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم: أن الداعي في الحقيقة هو الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} بأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}. قرأ الجمهور (¬2): وهو {يُدْعَى} مبنيًا للمفعول، من الدعاء. وقرأ طلحة بن مصرف: {يدعي} مبنيًا للفاعل، بفتح الياء وتشديد الدال، من الادعاء، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب .. عدي بإلى. أي: ومن (¬3) أشد ظلمًا وعدوانًا ممن اختلق على الله الكذب، وجعل له أندادًا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص. وتلخيص المعنى: أو الناس أشد ظلمًا ممن يُدعى إلى الإِسلام والخضوع فلا يجيب الداعي، بل يفتري على الله الكذب بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرًا. والمراد: أنه أظلم من كل ظالم؛ لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[8]

وراءه ظهريًا. ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم، فقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم؛ لعدم توجههم إليه؛ لأنهم دسوها باجتراح السيئات وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فلا تفهم الأدلة المنصوبة في الكون وتهتدي بهدى العقل، بل تسير في عماية وتمشي في ظلام دامس لا تلوي على شيء. 8 - ثم ذكر جدهم واجتهادهم في إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل، فقال: {يُرِيدُونَ}؛ أي: يريد المفترون {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} ودينه {بِأَفْوَاهِهِمْ} وأقوالهم الباطلة. والإطفاء: الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهور والضياء؛ أي: يريدون أن يطفئوا دينه، أو كتابه، أو حجته النيرة. و {اللام} (¬1): مزيدة لما فيها من معنى الإرادة، تأكيدًا لها، كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيدًا لها في: (لا أبا لك). أو لام علة، والمفعول محذوف. والمعنى: يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله. وقيل: إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن .. في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي. ومثل هذا قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}. قال الراغب في "المفردات": الفرق بين زيادة اللام وعدمها: أن المعنى في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}: يقصدون إخفاء نور الله، وفي قوله: {لِيُطْفِئُوا}: يقصدون أمرًا يتوصلون به إلى إطفاء نور الله. وقال الشوكاني: والمراد بنور الله: القرآن؛ أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، أو الإِسلام، أو محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، أو الحجج والدلائل، أو جميع ما ذكر. ومعنى {بِأَفْوَاهِهِمْ}: بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن. مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس ليطفئه. وجملة قوله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} جملة حالية من مفعول {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}؛ أي: يريدون إطفاءه، والله متمه ومبلغه إلى غايته بنشره في الآفاق وإعلائه {وَلَوْ كَرِهَ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

الْكَافِرُونَ} إتمامه، إرغامًا لهم وزيادة في مرض قلوبهم. و {لو} بمعنى: إن، وجوابه محذوف؛ أي: وإن كرهوا ذلك، فالله يفعله لا محالة. وقرأ العربيان (¬1) - أبو عمرو وابن عامر - ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن: {متمٌ ...} بالتنوين، {نُورَه} بالنصب. وباقي السبعة والأعمش بالإضافة. ومعنى الآية: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} ... إلخ؛ أي (¬2): إن مثلهم في مقاومتهم لدعوة الدين وجدهم في إخماد نوره مثل من ينفخ في الشمس بفيه ليطفىء نورها ويحجب ضياءها، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب في حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار في الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء: أَرَى الْعَنْقَاءَ تُكْبُر أَنْ تُصَادَا ... فَعَانِدْ مَنْ تُطِيْقُ لَهُ عِنَادَا والله معلن الحق، ومظهر دِينه، وناصر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوحي أبطأ أربعين يومًا، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود! أبشروا، أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان الله ليتم نوره، فحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} الآية. 9 - ثم بيَّن العلة في إخماد دعوتهم، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول، فقال: {هُوَ} سبحانه الإله {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. وقرىء: {نبيه}. {بِالْهُدَى}؛ أي: بالقرآن أو بالمعجزة. فالهدى بمعنى: ما به الاهتداء إلى الصراط المستقيم. {وَدِينِ الْحَقِّ}؛ أي: وبالملة الحنيفية التي اختارها لرسوله ولأمته. وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، مثل: عذاب الحريق. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ذلك الإظهار فيظهره. ولقد أنجز الله سبحانه، وعده؛ حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام، فليس المراد أنه لا يبقى دين آخر من الأديان، بل العلو والغلبة. والأديان (¬3) خمسة: اليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك، والإِسلام. كما في "عين المعاني" للسجاوندي. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[10]

والمعنى (¬1): أي هو الله الذي أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن والملة الحنيفية ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، وإنما قال أولًا: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وقال ثانيًا: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} لأنه ذكر أولًا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر؛ لأنه ستر وتغطية؛، وذكر ثانيًا الحاسدين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم من قريش، فناسب ذكر المشركين. وعبارة "الخطيب": أجيب عنه: بأنه تعالى أرسل رسوله وهو من نعم الله تعالى والكافرون كلهم في كفران النعم سواء؛ فلهذا قال، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. لأن لفظ الكافر أعمّ من المشرك. فالمراد بالكافرين هنا: اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله، فلم يقولوها، فلهذا قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. انتهى. وقيل (¬2): إيراد الكافرين أولًا لما أن إتمام الله نوره يكون بنسخ غير الإِسلام، والكافرون كلهم يكرهون ذلك، وإيراد المشركين ثانيًا لما أن إظهار دين الحق يكون بإعلاء كلمة الله وإشاعة التوحيد المنبىء عن بطلان الآلهة الباطلة، وأشد الكارهين لذلك المشركون، والله أعلم بأسرار كلامه. 10 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} سيأتي بيان معناها {تُنْجِيكُمْ}؛ أي: تكون سببًا لإنجاء الله إياكم وتخليصه. وأفادت الصفة المقيدة أن من التجارة ما يكون على عكسها، كما أشار إليها قوله تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً}. فإن بوار التجارة وكسادها يكون لصاحبها عذابًا أليمًا، كجمع المال وحفظه ومنع حقوقه، فإنه وبال في الآخرة؛ فهي تجارة خاسرة. وكذا الأعمال التي لم تكن على وجه الشرع والسنة أو أريد بها غير الله، فجعل العمل الآتي بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه كما يربحون في التجارة. وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار. {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: مؤلم جسماني، وهو ظاهر وروحاني، وهو: التحسر والتضجر. وقرأ الجمهور (¬3): {تُنْجِيكُم}، من الإنجاء وقرأ الحسن، وابن أبي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[11]

إسحاق، والأعرج، وابن عامر، وأبو حيوة مشددًا، من التنجية. 11 - ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دل عليها، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. وهذا (¬1) كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، فكأنهم قالوا: كيف نعمل، أو ماذا نصنع؛ فقيل: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلخ. وقدم الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد، أو لأن الإنسان ربما يضن بنفسه أو للترقي من الأدنى إلى الأعلى، أو لأنه إذا كان له مال فإنه يؤخذ به النفس لتغزو. وهذا خبر بمعنى الأمر، جيء به للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه، كما تقول: غفر الله لهم، ويغفر الله لهم، جعلت المغفرة حاصلة لقوة الرجاء كأنها كانت ووجدت. وقس عليه نحو: سلمكم الله، وعافاكم الله، وأعاذكم الله. وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". ومعنى الجهاد بالألسنة: إسماعهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه، من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك. وأخَّرَ الجهاد بالألسنة لأنه أضعف الجهاد وأدناه. ويجوز أن يقال: إن اللسان أحد وأشد تأثيرًا من السيف والسنان. قال علي - رضي الله عنه -: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ فيكون من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. وكان حسان - رضي الله عنه - يجلس على المنبر فيهجو قريشًا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن التجارة: التصرف في رأس المال طلبًا للربح، والتاجر هو الذي يبيع ويشتري، وليس في كلام العرب تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة. وأما تجاه: فأصله وجاه، وتجوب، وهي قبيلة من حمير، فالتاء للمضارعة. قال ابن الشيخ: جعل ذلك تجارة تشبيهًا له في الاشتمال على معنى المبادلة والمعاوضة، طلبًا لنيل الفضل والزيادة، فإن التجارة هي معاوضة المال بالمال لطمع الربح، والإيمان والجهاد شبها بها من حيث إن فيهما بذل النفس والمال طمعًا لنيل رضي الله تعالى والنجاة من عذابه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقرأ الجمهور (¬1): {تُؤْمِنُونَ} {وَتُجَاهِدُونَ}، فوجه المبرد هذه القراءة على أنه خبر بمعنى الأمر، بمعنى: آمنوا وجاهدوا. ولذلك جاء {يَغْفِرْ} مجزومًا، فصورته صورة الخبر، ومعناه: الأمر. ويدل عليه قراءة عبد الله. وقرأ عبد الله: {آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا} بصيغة الأمر. وقرأ زيد بن علي: {تؤمنوا بالله ورسوله وتجاهدوا} بالتاء فيهما مع حذف النون. فتوجه هذه القراءة على حذف لام الأمر، والتقدير: لتؤمنوا وتجاهدوا، كقول الشاعر: قُلْتُ لِبَوَّابٍ عَلَى بَابِهَا ... تَأْذَنْ لِي إِنِّي مِنْ احْمَائِهَا يريد: لتأذن لي. واعلم (¬2): أن الجهاد له ضروب شتى: جهاد للعدو في ميدان القتال لنصرة الدين، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع في أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم، وجهاد بين المرء والدنيا بأن لا يتكالب على جمع حطامها وأن لا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع وتقره العقول السليمة. والمعنى (¬3): يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله .. ألا أدلكم على صفقة رابحة وتجارة نافعة، تنالون بها الربح العظيم. والنجح الخالد الباقي؟ اثبتوا على إيمانكم، وأخلصوا لله العمل، وجاهدوا بالأنفس والأموال في سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته. وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتي بعده، كما تقول: هل أدلك على عالم عظيم ذي خلق حسن وعلم فياض؟ هو فلان. فيكون ذلك أروع في الخطاب وأجلب لقَبوله. {ذَلِكُمْ} المذكور من الإيمان والجهاد بقسميه {خَيْرٌ لَكُمْ} على الإطلاق، أو من أموالكم وأنفسكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي (¬4): إن كنتم من أهل العلم، فإن الجهلة لا يعتد بأفعالهم. أو إن كنتم تعلمون أنه خير لكم حينئذٍ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه .. أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[12]

فتخلصون وتفلحون. فعلى العاقل تبديل الفاني بالباقي، فإنه خير له. وروي: أنه جاء رجل بناقة مخطومة وقال: هذه في سبيل الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة، كلها مخطومة". أي: هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء، من نفس ومال، وولد، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها، 12 - ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة، وقد فصّل كلا الأمرين، وقدم الثانية فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} في الدنيا، وهو جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخير، ويجوز أن يكون جوابًا لشرط أو لاستفهام دل عليه الكلام، تقديره: إن تؤمنوا وتجاهدوا .. يغفر لكم، أو هل تقبلون وتفعلون ما دللتكم عليه. وقال الفراء: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الاستفهام، فجعله مجزومًا لكونه جواب الاستفهام. وقد غلطه بعض أهل العلم؛ لأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة. وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن {هَلْ أَدُلُّكُمْ} في معنى الأمر عنده، يقال: هل أنت ساكت؛ أي: اسكت. وبيانه: أن {هَلْ} بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضًا وحثًا بمعنى: ألا، والحث كالإغراء، والإغراء أمر. وقرأ بعضهم بالإدغام (¬1) في {يَغْفِرْ لَكُمْ}. والأولى ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام. {وَيُدْخِلْكُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ}؛ أي: كل واحد منكم جنّة. ولا بعد من لطفه تعالى أن يدخله جنات؛ بأن يجعلها خاصة له داخلة تحت تصرفه. والجنة في اللغة: البستان الذي فيه أشجار متكاثفة مظللة تستر ما تحتها. {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها. بمعنى (¬2) تحت أغصان أشجارها في أصولها على عروقها، أو من تحت قصورها وغرفها. {الْأَنْهَارُ} الأربعة في الجنة؛ من اللبن، والعسل، والخمر، والماء الصافي {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}؛ أي: ويدخلكم مساكن طيبة ومنازل نزهة كائنة {في جَنَّاتِ عَدْنٍ}؛ أي: إقامة وخلود، بحيث لا يخرج منها من دخلها بعارض من العوارض. وهذا ظرف صفة مختصة بـ {مساكن}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

قال الراغب: أصل الطيب: ما تستلذه الحواس. ومعنى {مساكن طيبة}؛ أي: طاهرة زكية مستلذة. وقال بعضهم: طيبتها: سعتها ودوام أمرها. {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنات المذكورة بما ذكر من الأوصاف الجميلة {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه، والظفر الذي لا ظفر يماثله. والمعنى (¬1): إن فعلتم ذلك، فآمنتم بالله وصدقتم رسوله، وجاهدتم في سبيله .. ستر لكم ذنوبكم ومحاها، وأدخلكم فراديس جنانه، وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس وتقرّ بها العيون في دار الخلد الأبدي، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده. قال (¬2) بعض المفسرين: الفوز يكون بمعنى النجاة من المكروه، وبمعنى الظفر بالبغية، والأول يحصل بالمغفرة، والثاني بإدخال الجنة والتنعيم فيها، وعظمه باعتبار أنه نجاة لا ألم بعده، وظفر لا نقصان فيه، شأنًا وزمانًا ومكانًا؛ لأنه في غاية الكمال على الدوام في مقام النعيم. واعلم: أن الآية الكريمة أفادت أن التجارة دنيوية وأخروية، فالدنيا موسم التجارة والعمر مدتها، والأعضاء والقوى رأس المال، والعبد هو المشتري من وجه والبائع من وجه، فمن صرف رأس ماله إلى المنافع الدنيوية التي تنقطع عند الموت .. فتجارته دنيوية كاسدة خاسرة، وإن كان تحصيل علم دين أو كسب علم صالح فضلًا عن غيرهما، فإن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى، ومن صرفه إلى المقاصد الأخروية التي لا تنقطع أبدًا .. فتجارته رائجة رابحة، حرية بأن يقال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}. وذلك هو الفوز العظيم. ولعل المراد من التجارة هنا (¬3): بذل المال والنفس في سبيل الله، وذكر الإيمان لكونه أصلًا في الأعمال ووسيلة في قبول الآمال. وتوصيف التجارة بالإنجاء لأن النجاة يتوقف عليها الانتفاع، فيكون قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} ببيان سبب الإنجاء، وقوله: {وَيُدْخِلْكُمْ} بما يتعلق به بيان المنفعة الحاصلة من التجارة، مع أن التجارة الدنيوية تكون سببًا للنجاة من الفقر المنقطع، والتجارة الأخروية تكون سببًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[13]

للنجاة من الفقر الغير المنقطع. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". يعني: أن نعمتي الصحة والفراغ كرأس المال للمكلف، فينبغي أن يعامل الله سبحانه بالإيمان به وبرسوله، ويجاهد مع النفس لئلا يغبن، ويربح في الدنيا والآخرة، ويجتنب معاملة الشيطان؛ لئلا يضيع رأس ماله مع الربح. 13 - ثم ذكر الفوز العاجل في الدنيا، فقال: {وَأُخْرَى}؛ أي: ولكم مع هذه النعمة العظيمة نعمة أخرى عاجلة. فـ {أُخْرَى} مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على: {يَغْفِرْ لَكُمْ} على المعنى، أو في محل خفض معطوفة على {تُحِبُّونَهَا}؛ أي: وهل أدلكم على خصلة أخرى {تُحِبُّونَهَا} وترغبون فيها في العاجل مع ثواب الآخرة. وقيل: في محل نصب؛ أي: ويعطيكم خصلة أخرى. وفي قوله: {تُحِبُّونَهَا} تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وتوبيخ على محبته، وهو صفة بعد صفة لذلك المحذوف. ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى، فقال: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ}؛ أي: هي نصر من الله لكم على عدوكم قريش وغيرهم. وقيل: {نَصْرٌ} بدل، أو عطف بيان لتلك النعمة الأخرى على تقدير كونها في محل رفع؛ أي: ولكم نصر من الله. {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}؛ أي: عاجل. معطوف على {نَصْرٌ}. قال الكلبي: يعني النصر على قريش، وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم. وقوله: {وَبَشِّرِ} يا محمد {الْمُؤْمِنِينَ} معطوف على محذوف، تقديره: قل - يا محمد -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ ...}؛ إلخ، وبشرهم بأنواع البشارة الدنيوية والأخروية، فلهم فضل من الله وإحسان في الدارين. أو معطوف على {تُؤْمِنُونَ}؛ لأنه في معنى الأمر. والمعنى (¬1): أي وبشر - يا محمد - المؤمنين بالنصر والفتح، أو: وبشرهم بالنصر في الدنيا والفتح وبالجنة في الآخرة، أو: وبشرهم بالجنة في الآخرة. وفي هذا (¬2): دلالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أخبر عما يحصل ويقع في المستقبل من الأيام على ما أخبره. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

والخلاصة: أي ولكم مع هذا المذكور فوز آخر في الدنيا بنصركم على عدوكم، وفتحكم للبلاد، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها. وقد أنجز الله سبحانه وعده، فرفعت الراية الإِسلامية على جميع المعمور من العالم في زمن يسير لم يعهد التاريخ نظيره، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق. وقرأ الجمهور (¬1): {نَصْرٌ} بالرفع، وكذا، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}. وقرأ ابن أبي عبلة (¬2) بالنصب فيها ثلاثتها، ووصف أخرى بـ {تُحِبُّونَهَا}؛ لأن النفس قد وكلت بحب العاجل. 14 - ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {كُونُوا} جميعًا {أَنْصَارَ اللَّهِ}؛ أي: أنصار دِينه. جمع نصير، كشريف وأشراف. وقرأ الحرميان (¬3) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والأعرج وعيسى {أنصارًا لله} بالتنوين وترك الإضافة. وقرأ الحسن، والجحدري، وباقي السبعة بالإضافة إلى الله وترك التنوين، والرسم يحتمل القراءتين معًا، واختار أبو عبيدة قراءة الإضافة؛ لقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} بالإضافة؛ أي: دوموا على نصرة دين الله وإعلاء كلمته، وقولوا: نحن أنصار الله إذا قال لكم نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: من أنصاري إلى الله {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}؛ أي: إذا قال لكم قولًا مثل قول عيسى {لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}؛ أي: من جندي وأعواني متوجهًا إلى نصرة دين الله. فـ {اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} سبحانه وأعوان دِينه. وفي "فتح الرحمن": ظاهره تشبيه كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه السلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} وليس مرادًا. قلت: التشبيه محمول على المعنى، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارًا لعيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله. وإنما قلنا في الحل: مَنْ جندي متوجهًا إلى نصرة الله كما يقتضيه قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

اللَّهِ}؛ لأن (¬1) قول عيسى لا يطابق جواب الحواريين بحسب الظاهر، فإن ظاهر قول عيسى يدل على أنه يسأل من ينصره، فكيف يطابقه جواب الحواريين بأنهم ينصرون الله وأيضًا لا وجه لبقاء قول عيسى على ظاهره؛ لأن النصرة لا تتعدى بإلى، فحمل الأنصار في سؤاله على الجند؛ لأنهم ينصرون ملكهم ويعينونه في مراده، ومراده عليه السلام نصرة دين الله، فسأل من يتبعه ويعينه في ذلك المراد، ويشاركه فيه. فقولنا: (متوجهًا) حال من ياء المتكلم في جندي، و {إلى} متعلق به لا بالنصرة، والإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص، أعني: الملابسة المصححة للإضافة المجازية، لظهور أن الاختصاص الذي تقتضيه الإضافة حقيقة غير متحقق في إضافة {أَنْصَارِي}. والإضافة الثانية إضافة الفاعل إلى المفعول، والتشبيه باعتبار المعنى. أي: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله، أو قل لهم كما قال عيسى للحواريين. وقيل: التقدير: من أنصاري فيما يقرب إلى الله؟ وقصارى ذلك (¬2): كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم وأنفسكم وأموالكم كما استجاب الحواريون لعيسى. والحواريون هم أنصار عيسى، وخلص أصحابه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلًا. قال بعض العلماء: إنما سموا حواريين لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين، أو لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدِّين والعلم المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} من الحَوَرِ، وهو البياض الخالص. {فـ} لمَّا بلَّغ عيسى عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من الحواريين من وازره {آمَنَتْ} واهتدت {طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}؛ أي: جماعة منهم بما جاءهم به؛ أي: آمنوا بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم به من نصرة الدين {وَكَفَرَتْ}؛ أي: ضلت {طَائِفَةٌ} أخرى، وجحدوا به، وقاتلوه. وهم الذين أضلهم بولس. وذلك (¬3) أنه لما رفع عيسى إلى السماء .. تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة تقول: كان عيسى هو الله، فارتفع. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراح.

وفرقة تقول: كان ابن الله، فرفعه إليه. وفرقة تقول: كان عبد الله ورسوله، فرفعه إليه. فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة. فذلك قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: قوينا مؤمني قومه بالحجة، أو بالسيف {عَلَى عَدُوِّهِمْ}؛ أي: على الذين كفروا، وهو الظاهر، فإيراد العدو إعلام منه أن الكافرين عدو للمؤمنين عداوة دينية. {فَأَصْبَحُوا}؛ أي: فصار الذين آمنوا {ظَاهِرِينَ}؛ أي (¬1): غالبين عليهم عالين، من قولهم: ظهرت على الحائط، علوته. وقال قتادة: فأصبحوا ظاهرين بالحجة والبرهان كما سبق؛ لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى عليه السلام كان ينام، والله تعالى لا ينام، وأنه يأكل ويشرب، والله منزه عن ذلك. وقيل المعنى (¬2): فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين جميعًا. والمعنى (¬3): أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فغلبوا أعداءهم، وظهروا عليهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وعبارة "الخطيب" هنا: أي صاروا بعدما كانوا فيه من الذلّ ظاهرين، أي: غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم، لا يخافون أحدًا، ولا يستخفون منه. الإعراب {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}. {سَبَّحَ}: فعل ماض، {لِلَّهِ}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول فاعل، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلته، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف عليه. والجملة مستأنفة. {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: مبتدأ وخبر، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. {يَا أَيُّهَا}: منادى، {الَّذِينَ}: بدل من المنادى، وجملة النداء مستأنفة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

{آمَنُوا}: فعل وفاعل والجملة صلة {الَّذِينَ}. {لِمَ}: {اللام}: حرف جر، {م}: اسم استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ، في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {تَقُولُونَ}. {تَقُولُونَ}: فعل وفاعل والجملة الاستفهامية جواب النداء، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {تَقُولُونَ}، {لا}: نافية، وجملة {تَفْعَلُونَ}: صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف؛ أي: ما لا تفعلونه. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}. {كَبُرَ}: فعل ماض، {مَقْتًا}: تمييز محول عن الفاعل، {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ {مَقْتًا} أو حال، و {أَنْ تَقُولُوا}: في تأويل مصدر مرفوع على أنه فاعل {كَبُرَ}؛ أي: كبر قولكم مقتًا عند الله. أي: كبر مقت قولكم؛ أي: المقت المترتب على قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون {كَبُرَ} من باب نعم وبئس، فيكون الفاعل ضميرًا مستترًا مفسرًا بالتمييز النكرة، و {أَنْ تَقُولُوا}: مبتدأ خبره الجملة قبله؛ لأنه المخصوص بالذم. {مَا}: مفعول به، وجملة {لَا تَفْعَلُونَ} صلته. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {يُحِبُّ الَّذِينَ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {يُقَاتِلُونَ}: فعل وفاعل، {فِي سَبِيلِهِ}: متعلق به، والجملة صلة الموصول، {صَفًّا}: حال من فاعل {يُقَاتِلُونَ}، {كَأَنَّهُمْ}: ناصب واسمه، {بُنْيَانٌ}: خبره، {مَرْصُوصٌ}: صفة {بُنْيَانٌ}، وجملة {كأن} حال ثانية من الضمير في {صَفًّا}؛ لأنه بمعنى: صافين أنفسهم. فهي حال متداخلة. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}. {وَإِذْ}: {الواو}: استئنافية، {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة {إذ قال موسى لقومه}. والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتوطينه على الصبر. {قَالَ مُوسَى}: فعل وفاعل {لِقَوْمِهِ}: متعلق بـ {قَالَ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه

لـ {إذْ}، {يَا قَوْمِ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال: {لِمَ}: {اللام}: حرف جر، {م} اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الجرّ باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {تُؤْذُونَنِي}، {تُؤْذُونَنِي}: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، و {الواو}: فاعل، و {النون} للوقاية، و {الياء}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء. {وَقَدْ}: {الواو}: حالية، {قد}: حرف تحقيق، {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من واو {تؤذون}. {أَنِّي}: ناصب واسمه {رَسُولُ اللَّهِ}: خبره {إِلَيْكُمْ}: متعلق برسول الله، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تَعْلَمُونَ}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: استئنافية، {لما} حرف شرط غير جازم {زَاغُوا}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لمّا}، {أَزَاغَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} مستأنفة. {قُلُوبَهُمْ}: مفعول به، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}. {وَإِذْ} {الواو}: عاطفة، {إذ}: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ قال عيسى، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى}. {قَالَ عِيسَى}: فعل وفاعل {ابْنُ مَرْيَمَ}: صفة لـ {عِيسَى} أو بدل، أو عطف بيان منه، والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ {إذ}. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ}: ناصب واسمهُ وخبره {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {رَسُولُ اللَّهِ}، وجملة {إن} في محل النصب مقول قال على كونه جواب النداء. {مُصَدِّقًا}: حال من الضمير المستكن في رسول؛ لأنه بمعنى: مرسل {لِمَا} جار ومجرور متعلق بـ {مُصَدِّقًا}، {بَيْنَ}: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} {بَيْنَ} مضاف، {يَدَيَّ}: مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنه مثنى. {وَمُبَشِّرًا}: معطوف على {مُصَدِّقًا}، {بِرَسُولٍ}: متعلق بـ {مبشرًا}، {يَأْتِي}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {مِنْ بَعْدِي} متعلق بـ {يَأْتِي}. والجملة في محل الجر صفة لـ {رَسُولُ}. {اسْمُهُ أَحْمَدُ}: مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لـ {رسول}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: استئنافية، {لما} حرف شرط غير جازم، {جَاءَهُمْ}: فعل

ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على الرسول المبشر به، والجملة فعل شرط لـ {لمَّا}، {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {جاء}. {قَالُوا}: فعل وفاعل، جواب {لمَّا}، وجملة {لمَّا} مستأنفة. {هَذَا سِحْرٌ}: مبتدأ وخبر، {مُبِينٌ}: صفة {سِحْرٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)}. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية. {من}: اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، {أَظْلَمُ}: خبر، {مِمَّنِ}: متعلق بـ {أَظْلَمُ}، والجملة مستأنفة. {افْتَرَى}: فعل ماض، وفاعل مستتر، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق به، {الْكَذِبَ}: مفعول به، والجملة صلة {من} الموصولة. {وَهُوَ}: {الواو} حالية، {هو}: مبتدأ، وجملة {يُدْعَى}: خبر {هو}. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {افْتَرَى}. {إِلَى الْإِسْلَامِ}: متعلق بـ {يُدْعَى}. {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية، {الله}: مبتدأ، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: خبر عن الجلالة. والجملة الاسمية مستأنفة. {الْقَوْمَ}: مفعول به، {الظَّالِمِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمَ}. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}. {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبوت النون، والجملة مستأنفة، {لِيُطْفِئُوا}: {اللام}: زائدة للتأكيد {يُطْفِئُوا} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام الزائدة، وعلامة نصبه: حذف النون، و {الواو}: فاعل، {نُورَ اللَّهِ}: مفعول به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون إطفاء نور الله {بِأَفْوَاهِهِمْ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يطفئوا}، {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {مُتِمُّ}: خبره. {نُورِهِ}: مضاف إليه. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يُرِيدُونَ}. أو {يطفئوا}، أو من {نُورَ اللَّهِ}، وهو الأوضح كما مر. {وَلَوْ}: {الواو}: حالية، {لو}: حرف شرط غير جازم، {كَرِهَ الْكَافِرُونَ}: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لو}، وجوابها محذوف تقديره: ولو كره الكافرون .. أتمه وأظهره. وجملة {لو} الشرطية في محل النصب حال من {نُورِهِ}؛ أي: والله متم نوره حالة كون الكافرين كارهين

إتمامه. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَرْسَلَ رَسُولَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {بِالْهُدَى}: متعلق بـ {أَرْسَلَ} أو حال من {رَسُولَهُ}، {وَدِينِ الْحَقِّ}: معطوف على {الهدى}، {لِيُظْهِرَهُ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يظهر}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على {الله}، و {الهاء}: مفعول به، {عَلَى الدِّينِ}: متعلق بـ {يظهر}، {كَرِهَ}: تأكيد للدين، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام وتقديره: لإظهاره على الدين كله، الجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلَ}. {وَلَوْ}: {الواو}: حالية، {لو}: حرف شرط غير جازم. {كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لو}، وجوابها محذوف، تقديره: أظهره. وجملة {لو} الشرطية في محل النصب حال من مفعول يظهره. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {الَّذِينَ}: بدل منه، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. {هَلْ}: حرف استفهام بمعنى: ألا، فتكون للعرض، وهو الطلب برفق ولين. {أَدُلُّكُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، وجملة الاستفهام جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {عَلَى تِجَارَةٍ}: متعلق بـ {أَدُلُّكُمْ}، وجملة {تُنْجِيكُمْ} صفة {تِجَارَةٍ}، {مِنْ عَذَابٍ}: متعلق بـ {تُنْجِيكُمْ}، {أليم}: صفة {عَذَابٍ}. {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}. {تُؤْمِنُونَ}: فعل وفاعل، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُونَ}، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي تؤمنون، أو مستأنفة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما هي التجارة؟. {وَتُجَاهِدُونَ}: معطوف على {تُؤْمِنُونَ}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تجاهدون}، أو بمحذوف حال،

{بِأَمْوَالِكُمْ}: متعلق بـ {تجاهدون}، {وَأَنْفُسِكُمْ}: معطوف على {أَمْوَالِكُمْ}، {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {خَيْرٌ}: خبره، والجملة مستأنفة. {لَكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، {إِنْ}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ} خبر كان، ومفعوله محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم، وجوابه محذوف أيضًا، تقديره: إن كنتم تعلمون ذلك فافعلوه. وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}. {يَغْفِرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بالطلب المفهوم من قوله: {تُؤْمِنُونَ}؛ لأنه في تأويل آمنوا بالله ورسوله يغفر لكم ذنوبكم. أو جواب لشرط مقدر تقديره: إن تؤمنوا يغفر لكم. {لَكُمْ}: متعلق بـ {يَغْفِرْ}، {ذُنُوبَكُمْ}: مفعول به، {وَيُدْخِلْكُمْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يَغْفِرْ}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة لـ {يدخلكم}، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق بـ {تَجْرِي}، {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ {جَنَّاتِ}، {وَمَسَاكِنَ}. معطوف على {جَنَّاتٍ}، {طَيِّبَةً}: صفة لـ {مساكن}، {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}: صفة ثانية لـ {مساكن}. {ذَلِكَ الْفَوْزُ}: مبتدأ وخبر، {الْعَظِيمُ}: صفة للفوز. والجملة مستأنفة. {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}. {وَأُخْرَى}: {الواو}: استئنافية أو عاطفة، {أخرى}: مبتدأ مؤخر لخبر مقدم محذوف، تقديره: ولكم نعمة أخرى أو مثوبة أخرى، وجملة {تُحِبُّونَهَا}: صفة لأخرى، والجملة الاسمية مستأنفة أو معطوفة على {يَغْفِرْ لَكُمْ} على المعنى. {نَصْرٌ}: بدل من {أخرى}، أو خبر لمحذوف؛ أي: وتلك الأخرى {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ}. و {مِنَ اللَّهِ}: صفة لنصر، {وَفَتْحٌ}: معطوف على {نَصْرٌ}، {قَرِيبٌ}: صفة لـ {فتح}، {وَبَشِّرِ}: {الواو}: عاطفة، {بشر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: وقيل يا محمد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ...} إلخ. وبشرهم بأنواع البشارات.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه، {الَّذِينَ}: بدل منه وجملة النداء مستأنفة، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {كُونُوا}: فعل أمر ناقص، مبني على حذف النون، و {الواو}: اسمها: {أَنْصَارَ اللَّهِ}: خبرها، والجملة الطلبية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {كَمَا}: {الكاف}: حرف جر وتشبيه، ما مصدرية مدخولها محذوف، تقديره: كما كان الحواريون أنصار الله. وجملة كان المحذوفة صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: كونوا أنصار الله كونًا كائنًا ككون الحواريين أنصار الله. {قَالَ عِيسَى}: فعل وفاعل، {ابْنُ مَرْيَمَ}: بدل من عيسى، {لِلْحَوَارِيِّينَ}: متعلق بـ {قَالَ}، وجملة {قَالَ} في محل الخفض بإضافة الظرف المقدر، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله، حين قال لهم عيسى ابن مريم: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، والظرف المقدر متعلق بكان المحذوفة. {مَن}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَنْصَارِي}: خبره، والجملة في محل النصب مقول قال {إِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ياء المتكلم. أي: حالة كوني متوجهًا إلى الله. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض معطوفة بعاطف مقدر على جملة {قَالَ عِيسَى}؛ أي: حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} {نَحْنُ}: مبتدأ، {أَنْصَارُ اللَّهِ}: خبره، والجملة في محل النصب مقول قال. {فَآمَنَتْ}: {الفاء}: عاطفة، {آمنت طائفة}: فعل وفاعل، {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: صفة لـ {طَائِفَةٌ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قَالَ}، أو معطوفة على محذوف، تقديره: فلما رفع عيسى إلى السماء .. افترق الناس فيه فرقتين {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ}، {وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}: فعل وفاعل معطوف على {فَآمَنَتْ}. {فَأَيَّدْنَا}: {الفاء}: عاطفة على محذوف أيضًا، تقديره: فاقتتلت الطائفتان، {أيدنا}: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، {الَّذِينَ}: مفعول به، {آمَنُوا}: صلته، {عَلَى عَدُوِّهِمْ}: متعلق بـ {أيدنا}، {فَأَصْبَحُوا}: فعل ناقص،

واسمه معطوف على {أيدنا}، {ظَاهِرِينَ}: خبره. التصريف ومفردات اللغة {لِمَ تَقُولُونَ} أصله: لما؛ لأن ما الاستفهامية إذا جرت .. حذفت ألفها فرقًا بينها وبين الموصولة، كما مر، وإن وقف عليها .. وقف بهاء السكت. قال ابن مالك: وَمَا في الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ وقد وقف عليها البزي عن ابن كثير بخُلف عنه بالهاء هي ونظائرها. قال الشاطبي: وَفِيْمَهْ وَمِمَّهْ قِفْ وَعَمَّهْ لِمَهْ بِمَهْ ... بِخُلْفٍ عَنِ الْبَزِّيّ وَادْفَعْ مُجَهِّلًا {كَبُرَ مَقْتًا} والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، يقال: مقته، فهو مقيت وممقوت، إذا كان يبغضه كل أحد. {صَفًّا} والصف: أن يجعل الشيء على خط مستوٍ، كالناس والأشجار والأعمدة. {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ} والبنيان: الحائط. وفي "القاموس": البناء ضد الهدم، يقال: بناه بنيًا، وبناء وبنيانًا، وبنية وبناية، والبناء: المبني. والبنيان واحد لا جمع دل عليه تذكير مرصوص كما مرّ بسطه مع ذكر الخلاف فيه. {مَرْصُوصٌ}؛ أي: ملزق بعضه على بعض، كأنما بني بالرصاص. وقيل: المرصوص: المتلاحم الأجزاء المستويها، وقيل: المعقود بالرصاص، وقيل: المتضام، من تراص الأسنان، مأخوذ من الرصّ. وفي "المصباح": الرصّ: اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه، وبابه: رد، والمرصوص: المحكم. قال المبرد: تقول: رصصت البناء إذا لأمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. {يَا قَوْمِ} الأصل: يا قومي، حذفت ياء المتكلم منه، ومن أمثاله اجتزاء عنها بالكسرة. {لِمَ تُؤْذُونَنِي}؛ أي: لم تخالفون أمري بترك القتال مع الجبابرة، {فَلَمَّا زَاغُوا}؛ أي: أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام. أصله: زيغوا بوزن فَعَلُوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وكذلك القول في قوله: {أَزَاغَ} أصله: أَزْيَغُ، قلبت ياؤه ألفًا بعد نقل حركتها إلى الزاي لتحركها

في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} والفرق بين الكذب والافتراء: أن الافتراء افتعال الكذب واختلاقه من قبل نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه. {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} أصله: يدعي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد الفتح، والأصل في يائه الواو، قلبت ياء حملًا للفعل على اسم الفاعل. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أصله: يرودون، بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الراء، فسمكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ. والإطفاء: الإخماد. ويستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه، وهو: أن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج ولا يقال: أخمدت السراج. {مُتِمُّ نُورِهِ} أصله: متمم، بوزن مفعل: اسم فاعل من أتم الرباعي، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء فسكنت، فأدغمت في الميم الثانية. {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}؛ أصله: أدللكم بوزن أفعل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الدال فسكنت فأدغمت في الثانية. والتجارة: التصرف في رأس المال طلبًا للربح، والتاجر الذي يبيع ويشتري، وليس في كلام العرب تاء بعدها جيم إلا هذه اللفظة كما مرّ. {جَنَّاتٍ تَجْرِي} جمع جنة، والجنة في اللغة: البستان الذي فيه أشجار متكاثفة مظلة تستر ما تحتها. {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} جمع مسكن بمعنى المقام. والسكون: ثبوت الشيء بعد التحرك، ويستعمل في الاستيطان، يقال: سكن فلان في مكان كذا، استوطنه، واسم المكان مسكن، فمن الأول يقال: سكنت، ومن الثاني: سكنته. قال الراغب: أصل الطيب: ما يستلذه الحواس، وزنه: فيعلة، أدغمت ياء فيعل في ياء عين الكلمة. {تُحِبُّونَهَا} الأصل: تحببونها، بوزن تفعلون، نقلت حركة الباء الأولى إلى الحاء فسكنت فأدغمت في الباء الثانية. {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} جمع نصير، كأشراف وشريف. وأنصار الله هم الناصرون لدينه. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} جمع حواري من الحور وهو البياض الخالص، وحواري الرجل: صفيه وخليله. {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ}؛ أي: جماعة، وهي أقل من الفرقة؛ لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}. {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} من ظهرت على الحائط إذا عَلوت عليه.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي التعييري في قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. ومنها: الإطناب بتكرار قوله: {مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهو لفظ واحد في كلام واحد، ومن فوائد التكرار: التهويل والإعظام، وإلا فقد كان الكلام مستقلًا لو قيل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} ذلك فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة. ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}؛ أي: في المتانة والتراص. ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ} للدلالة على استمرار العلم. ومنها: الإتيان بالجملة الاعتراضية التذييلية في قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لتقرير مضمون ما قبلها من الإزاغة، وإيذانًا بعليته. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}. مثل حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئها، تهكمًا وسخرية بهم. وقيل: الاستعارة تصريحية، شبه شرع الله ودينه بالنور الحسين بجامع الإضاءة في كل. والإطفاء ترشيح. ومنها: التورية في قوله: {بِأَفْوَاهِهِمْ}؛ أي: بأقوالهم: إنه سحر، وشعر، وكهانة، والتورية: أن يكون للكلمة معنيان بعيد وقريب، ويراد البعيد دون القريب، وهو من المحسنات اللفظية. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}؛ أي: مظهر دينه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}. ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: {وَدِينِ الْحَقِّ} لغرض الإيضاح،

مثل: عذاب الحريق. ومنها: الاستفهام للترغيب والتشويق في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {عَلَى تِجَارَةٍ}. حيث شبّه الإيمان والعمل الصالح بالتجارة بجامع الربح والخسران في كل، فاستعار له لفظ التجارة. قال ابن الشيخ: جعل ذلك تجارة، تشبيهًا له في الاشتمال على معنى المبادلة والمعاوضة، طمعًا لنيل الفضل والزيادة، فإن التجارة هي معاوضة المال بالمال لطمع الربح. والإيمان والجهاد شبها بها من حيث إن فيهما بذل النفس والمال طمعًا لنيل رضي الله تعالى والنجاة من عذابه انتهى. ومنها: التعريض في قوله: {تُحِبُّونَهَا}؛ لأن فيه تعريضًا بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وتوبيخًا على محبته. ومنها: إضافة الوصف إلى مفعوله في {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}؛ أي: أنصار دِينه. ومنها: الطباق في قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ}، {وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}. ومنها: إيراد العدو في قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} إعلامًا بأن الكافرين عدو للمؤمنين عداوة دينية أيًا كان. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل. 2 - البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على لسان عيسى عليه السلام. 3 - إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق. 4 - التجارة الرابحة عند الله تعالى هي الإيمان والجهاد في سبيله. 5 - الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تفسير هذه السورة في يوم الاثنين وقت الضحوة اليوم الثالث من شهر ذي الحجة من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية في تاريخ 3/ 12/ 1415 هـ. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين آمين.

سورة الجمعة

سورة الجمعة سورة الجمعة مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد الصف. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (نزلت سورة الجمعة بالمدينة). وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وآيها: إحدى عشرة آية. وكلماتها: مئة وثمانون كلمة. وحروفها: سبع مئة وثمانية (¬1) وأربعون حرفًا. مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أنه ذكر في السورة قبلها حال موسى مع قومه بإيذائهم له ناعيًا عليهم ذلك، وذكر في هذه حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفضل أمته تشريفًا لهم ليعلم الفرق بين الأمتين. 2 - أنه حكى في السورة قبلها قول عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وذكر هنا {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى عليه السلام. 3 - أنه لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة .. ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وعبارة أبي حيان (¬3): مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم .. أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه، وذكر ما أنعم به على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من بعثته إليهم وتلاوته عليهم كتابه وتزكيتهم، فصارت أمته غالبة على سائر الأمم قاهرة لها منتشرة الدعوة كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم، انتهى. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

تسميتها: سميت سورة الجمعة لذكر يوم الجمعة فيها. وقال محمد بن حزم: سورة الجمعة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضائلها: ومن فضائلها: ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون). وأخرج مسلم وأهل السنن عن ابن عباس نحوه. ومنها: ما أخرجه ابن حبان، والبيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون). وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة". وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال: يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى". والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}. المناسبة قد تقدم لك ذكر مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، وأما قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ...} الآيات، مناسبته لما قبله: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) أثبت التوحيد والنبوة وذكر أنه بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - للأميين، وقال اليهود: إن الرسول لم يبعث لنا .. رد عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق الفهم، وعملوا بما فيها لرأوا فيها نعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتّباعه، وما مثلهم في حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعًا. ثم رد عليهم مقالًا آخر، إذ قالوا: نحن أحباء الله وأولياؤه، وأنه لن يدخلنا ¬

_ (¬1) المراغي.

النار إلا أيامًا معدودات؛ بأنه لو كان ما تقولونه حقًا، لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار وتذهبوا إلى دار النعيم، وإنكم لن تفعلوا ذلك، فأنتم كاذبون فيما تدعون، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة، وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه إن خيرًا وإن شرًا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نعى على اليهود فرارهم من الموت حبًا في الدنيا والتمتع بطيباتها .. ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا، وخيراتها مع السعي لما ينفعه في الآخرة؛ كالصلاة يوم الجمعة في المسجد مع الجماعة، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معًا، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". ثم نعى على المسلمين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تشاغلهم عن سماع عظاته - وهو يخطب على المنبر - بأمور الدنيا، من تجارة وضرب دف وغناء بالمزامير ونحو ذلك. وأبان لهم أن ما عند الله تعالى من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلًا، فأنزل {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}. وفي "الدر المنثور" (6/ 221): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فإذا كان نكاح .. لعب أهله وعزفوا ومروا باللهو على المسجد، وإذا نزلت بالبطحاء جلب - قال: وكانت البطحاء مجلسًا بفناء المسجد الذي يلي بقيع الغرقد، وكانت ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

الأعراب إذا جلبوا الخيل والإبل، والغنم وبضائع الأعرابِ .. نزلوا البطحاء، فإذا سمع ذلك من يقعد للخطبة .. قاموا للهو والتجارة وتركوه قائمًا. فعاتب المؤمنين لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}. وإنما نقلته من "الدر المنثور" لأن فيه الجمع بين السببين، ولأن عبارته أوضح من عبارة غيره كالطبري. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: ينزهه تعالى عن كل النقائص، ويذكره بلسان المقال وبلسان الحال بأنواع الذكر، من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} جميعًا، من حي وجامد، تسبيحات مستمرة لا تنقطع، أداء لحقّ الألوهية وقيامًا بحق الربوبية. فما في السماوات هي البدائع العلوية، وما في الأرض هي الكوائن السفلية، فلكل نسبة إلى الله تعالى بالحياة والتسبيح. أي (¬1): كل ما في السماوات والأرض إذا نظرت إليه .. دلت على وحدانية خالقه وعظيم قدرته، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. {الْمَلِكِ}؛ أي: المالك لما في السماوات والأرض، المتصرف فيهما بقدرته وحكمته. {الْقُدُّوسِ}؛ أي: المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، من شريك وولد وصاحبة. {الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به، أو الغالب على عباده المسخر لهم بقدرته على ما يشاء. {الْحَكِيمِ} في تدبير شؤونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم الموصلة إلى سعادتم في معاشهم ومعادهم. وقرأ الجمهور (¬2): {الْمَلِكِ} وما بعده من الصفات بالجر، على أنها نعت للجلالة، وقيل: على البدل، والأول أولى. وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، وأبو الدينار الأعرابي بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره: هو، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة، وكذلك جاء عن يعقوب. وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي: {القدوس} بفتح القاف، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[2]

والجمهور بالضم. 2 - ثم وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفات المدح والكمال، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي بَعَثَ} وأرسل {فِي الْأُمِّيِّينَ} في الأقوام الذين لا يكتبون ولا يقرؤون، وهم العرب. {رَسُولًا} كائنًا {مِنْهُمْ}؛ أي: من جملتهم وجنسهم ونسبهم، عربيًا أميًا مثلهم، وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة. ووجه الامتنان بكونه منهم: أن ذلك أقرب إلى الموافقة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه. والمراد بالأميين: العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. والأمي في الأصل: من لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك. والأميون (¬1): جمع أمي، منسوب إلى أمة العرب. وهم قسمان: إسماعيلي ويمني. فعرب الحجاز من عدنان ترجع إلى إسماعيل عليه السلام، وعرب اليمن ترجع إلى قحطان. وكل منهم قبائل كثيرة. والمشهور عند أهل التفسير: أن الأميّ: من لا يكتب ولا يقرأ من تاب، كما مرّ، وعند أهل الفقه: من لا يعلم شيئًا من القرآن، كأنه بقي على ما تعلمه من أمه من الكلام الذي يتعلمه الإنسان بالضرورة عند المعاشرة. والنبي الأميّ منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا؛ لكونه على عاداتهم، كقولك: عاميّ لكونه على عادة العامّة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكتب ولم يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله له عنه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}. وقيل: سمي بذلك بالنسبة إلى أم القرى. وفي "كشف الأسرار": سمي العرب أميين لأنهم كانوا على نعت أمهاتهم مذ كانت، بلا خط ولا كتاب نسبوا إلى ما ولدوا عليه من أمهاتهم؛ لأن الخط والقراءة والتعلم دون ما جبل الخلق عليه. ومن يحسن الكتابة من العرب فإنه أيضًا أميّ؛ لأنه لم يكن لهم في الأصل خط ولا كتابة. قيل: بدئت الكتابة بالطائف، تعلمها ثقيف وأهل الطائف من أهل الحيرة - بكسر الحاء وسكون التحتانية - بلد قرب الكوفة، وأهل الحيره أخذوها من أهل الأنبار، وهي مدينة قديمة على الفرات، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. ولم يكن ¬

_ (¬1) روح البيان.

في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتب إلا حنظلة الذي يقال له: غسيل الملائكة ويسمى حنظلة الكاتب. ثم ظهر الخط في الصحابة بعد في معاوية بن أبى سفيان وزيد بن ثابت، وكانا يكتبان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان له كتاب أيضًا غيرهما. واختلفوا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه هل تعلم الكتابة بآخرة من عمره أو لا؟ لعلمائنا فيها وجهان، وليس فيه حديث صحيح ولا نقل صريح. ولما (¬1) كان الخط صنعة ذهنية وقوة طبيعية صدرت بالآلة الجسمانية .. لم يحتج إليه من كان القلم الأعلى منبعه واللوح المحفوظ مصحفه ومرجعه، وعدم كتابته مع علمه بها معجزة باهرة له - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كان يعلم الكتاب علم الخط وأهل الحرف حرفتهم، وكان أعلم بكل كمال أخروي أو دنيوي. ومعنى الآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ}؛ أي: في العرب؛ لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم، فغلب الأكثر، وإنما قلنا: أكثرهم لأنه كان فيهم من يكتب ويقرأ وإن كانوا على قلة. رسولًا من جنسهم ونسبهم. والبعث في الأميين لا ينافي عموم دعوته - صلى الله عليه وسلم -، فالتخصيص بالذكر لا مفهوم له. ولو سلم .. فلا يعارض منطوق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} على أنه فرق بين البعث في الأميين والبعث إلى الأميين، فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسول الله إلى العرب خاصة، ورد الله بذلك ما قال اليهود للعرب طعنًا فيه: نحن أهل الكتاب وأنتم أميون لا كتاب لكم. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآنية، مع كونه أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم ذلك من أحد. والجملة (¬2) صفة لـ {رَسُولًا}، وكذا قوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} قال ابن جريج ومقاتل؛ أي: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم. وقيل: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: هذه صفة ثالثة لـ {رَسُولًا}. والمراد بالكتاب: القرآن وبالحكمة: السنة، كذا قال الحسن. وقيل: الكتاب: الخط بالقلم، والحكمة: الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس. {وَإِنْ كَانُوا}؛ أي: وقد كانوا {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل بعثه فيهم {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. وخطأ ظاهر، وشرك بيّن، وذهاب عن الحق. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

وقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} والفرق بين التلاوة والقراءة: أن التلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة، والقراءة أعم؛ لأنها جمع الحروف باللفظ لا إتباعها. وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ}؛ أي: يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من خبائث العقائد والأعمال. وفيه إشارة إلى قاعدة التشريع، فإن المزكي في الحقيقة وإن كان هو الله تعالى كما قال: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}، إلا أن الإنسان الكامل مظهر الصفات الإلهية جميعًا، ويؤيد هذا المعنى: إطلاق نحو قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}، وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. قال بعضهم: {الْكِتَابَ}؛ أي: القرآن، {وَالْحِكْمَةَ}؛ أي: الشريعة، وهي ما شرع الله لعباده من الأحكام. وقيل: {الْكِتَابَ}؛ أي: لفظه، {وَالْحِكْمَةَ}؛ أي: معناه. وإنما وسط بين التلاوة والتعليم بالتزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالعلم المترتب على التلاوة، مع أن التعليم مترتب في الوجود على التلاوة للإيذان بأن كلًّا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر، فلو روعي ترتيب الوجود .. لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزًا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة. وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: {إنْ} (¬1) ليست شرطية ولا نافية، بل هي المخففة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: وإن الشأن: كان الأميون من قبل بعثه ومجيئه لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية، لا ترى ضلالًا أعظم منه. وقيل: {إن} بمعنى: قد، كما مرت الإشارة إليه. وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم، وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه - صلى الله عليه وسلم - من الغير، فإن المبعوث فيهم إذا كانوا في ضلال قبل البعثة .. زال توهم أنه تعلم ذلك من أحد منهم. قال سعدي المفتي: والظاهر: أن نسبة الكون في الضلال إلى الجميع من باب التغليب، وإلا .. فقد كان فيهم مهتدون، مثل: ورقة بن نوفل، وزيد بن نفيل، وقس بن ساعدة وغيرهم ممن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل منهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

يبعث أمة وحده. يقول الفقير: هو اعتراض على معنى لإزاحة المذكور، لكنه ليس بشيء، فإن اهتداء من ذكره من نحو ورقة إنما كان في باب التوحيد فقط، فقد كانوا في ضلال من الشرائع والأحكام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه قبل البعثة شرك ولا غيره من السرقة والزنا واللغو واللهو، فكونهم مهتدين من وجه لا ينافي كونهم ضالين من وجه آخر، دلّ على هذا المعنى قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ} إلخ. فإن التلاوة وتعليم الأحكام والشرائع حصَّل تزكية النفس والنجاة من الضلال مطلقًا، فتدبر. ومعنى الآية (¬1): هو الذي أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وهم العرب. أخرج البخاري، ومسلم وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وهذا الرسول من جملتهم؛ أي: مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها. وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم، فقد جاء العموم في آيات أخرى، كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيًا مثلهم ليفهموا ما أرسل به إليهم، ويعرفوا صفاته وأخلاقه، ليسهل اقتناعهم بدعوته. وخلاصة ما سلف (¬2): أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول وأجملها في أمور ثلاثة: 1 - أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين مع كونه أميًا لا يكتب ولا يقرأ؛ لئلا يكون هناك مطعن في نبوته بأن يقولوا: إنه نقله من كتب الأولين، كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[3]

تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}. 2 - أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين له في أعمالهم وأقوالهم، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره من ملك أو بشر أو حجر. 3 - أنه يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئًا إلا وهم يعلمون الغاية منه والغرض الذي يفعله لأجله، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان، وقد تقدم مثل هذا في سورة آل عمران: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. ذاك أن العرب قديمًا كانوا على دين إبراهيم فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله تعالى، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشرع عظيم، فيه هداية للبشر، وبيان ما هم في حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم، والتمتع بنعيم جناته، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار. 3 - {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} جمع (¬1) آخر، بمعنى غير، وهو معطوف على {الْأُمِّيِّينَ}؛ أي: بعثه في الأميين الذين في عهده وفي آخرين من الأميين. أو على المنصوب في {يعلمهم}؛ أي: يعلمهم ويعلم آخرين منهم، أو في {يزكيهم}؛ أي: يزكيهم ويزكي آخرين منهم. وهم الذين جاؤوا من العرب، فـ {مِنْهُمْ} متعلق بالصفة لآخرين؛ أي: وآخرين كائنين منهم مثلهم في العربية والأمية. وإن كان المراد العجم .. فـ {مِنْهُمْ} يكون متعلقًا بـ {آخَرِينَ}؛ أي: ويعلم أقوامًا مغايرين لهم؛ أي: للعرب، وهم العجم. وقوله تعالى: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} صفة لآخرين؛ أي: لم يلحقوا بالأميين بعد ولم يكونوا في زمانهم، وسيلحقون بهم، ويكونون بعدهم عربًا وعجمًا. وذلك أن منفيَّ (لمَّا) لا بدَّ أن يكون مستمر النفي إلى الحال، وأن يكون متوقع الثبوت بخلاف منفي (لَمْ) فإنه يحتمل الاتصال، نحو: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، والانقطاع مثل: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}. ولهذا: جاز لم يكن ثم كان، ولم يجز لما ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

يكن ثم كان، بل يقال: لما يكن وقد يكون، كما هو مبسوط في محله. وقيل (¬1): لما يلحقوا بهم في الفضل والمسابقة؛ لأن التابعين لا يدركون شيئًا مع الصحابة، وكذلك العجم مع العرب. ومن شرائط الدِّين: معرفة فضل العرب عن العجم، وحبهم، ورعاية حقوقهم. وفي الآية دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول نفسه وبلاغه حجة لأهل زمانه ومن بلغ، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}. وقال الشوكاني: والضمير في {مِنْهُمْ} و {بِهِمْ} راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بـ {الآخرين} هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مرسلًا إلى جميع الثقلين فتخصيص العرب هاهنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة. ويجوز أن يراد بالآخرين العجم؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإِسلام منهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم. انتهى. والمعنى: أي وبعثه في آخرين أي: في غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة. وهم من جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، من جميع الأمم، كالفرس والروم والترك والتكرور، والأرميا والأفارقة، أو يعلم آخرين غير الصحابة من التابعين فمن بعدهم، قرنًا بعد قرن إلى يوم القيامة، لكن بواسطة ورثة أمته وكمل أهل دينه وملته. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَزِيزُ}؛ أي: المبالغ في العزة والغلبة، ولذلك مكن رجلًا أميًا من ذلك الأمر العظيم. {الْحَكِيمُ}؛ أي: المبالغ في الحكمة ورعاية المصلحة، ولذلك اصطفاه من بين كافة البشر. 4 - {ذَلِكَ} الذي امتاز به محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأفراد. وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} سبحانه وإحسانه {يُؤْتِيهِ}؛ أي: يعطي فضله {مَنْ يَشَاءُ} إعطاءه من عباده، تفضلًا وتكرمًا، وعطية لا تأثير للأسباب فيه، فكان الكرم منه صرفًا لا تمازجه العلل، ولا تكسبه الحيل. {وَاللَّهُ} سبحانه {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والعطاء الجسيم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

الذي يستحقر دونه نعم الدنيا ونعم الآخرة. وفي "كشف الأسرار": والله ذو الفضل العظيم على محمد وذو الفضل العظيم على الخلق بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم وتوفيقهم لمبايعته، انتهى. يقول الفقير: وأيضًا: والله ذو الفضل العظيم على أهل الاستعداد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بإرسال ورثة محمد في كل عصر إليهم وتوفيقهم للعمل بموجب إرشادهم، ولولا أهل الإرشاد والدلالة والدعوة .. لبقي الناس كالعميان، لا يدرون أين يذهبون، وإنما كان هذا الفضل عظيمًا لأن غايته الوصول إلى الله العظيم. وعبارة المراغي هنا: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؛ أي: وهو ذو العزة والسلطان، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر في غيرها من الأمم روح العدل والنظام، برسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور. وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم. ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال: {ذَلِكَ}؛ أي: إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيًا مطهرًا لهم هاديًا معلمًا {فَضْلُ} من {اللَّهِ} سبحانه وإحسان منه إلى عباده، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم في جميع أمورهم، في دنياهم وآخرتهم، في معاشهم ومعادهم، فلا يجعلهم في حيرة من أمرهم، تنتابهم الشكوك والأوهام ولا يجدون للخلاص منها سبيلًا، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم ويغتصب أموالهم، ويسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكف اللاعبين، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدًى هملًا ولا صلاح لهم في دين ولا دنيا، انتهى. 5 - ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ}؛ أي: كلفوا القيام بها والعمل بما فيها، وهم اليهود {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}؛ أي: لم يعملوا بما في تضاعيفها من الآيات التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، واقتنعوا بمجرد قراءتها {كَمَثَلِ الْحِمَارِ}:

{الكاف}: فيه زائدة كما في "الكواشي". والحمار: حيوان معروف يعبر به عن الجاهل، كقولهم: هو أكفر من الحمير؛ أي: أجهل؛ لأن الكفر من الجهالة. فالتشبيه لزيادة التحقير والإهانة، ولنهاية التهكم والتوبيخ بالبلادة؛ إذ الحمير تذكر بها. والبقر وإن كان مشهورًا بالبلادة إلا أنه لا يلائم الحمل. ولقد أجاد من قال: تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالْجَهْلُ عَارٌ ... وَلَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا حِمَارُ أي: صفتهم العجيبة كصفة الحمار حال كونه {يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ أي: كتبًا كبارًا من العلم، يتعب بحملها ولا ينتفع بها. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل، فهكذا اليهود. والأسفار: جمع سفر - بكسر السين - وهو: الكتاب الكبير، كشبر وأشبار. وجملة {يَحْمِلُ} في محل نصب على الحال أو صفة للحمار، إذ ليس المراد به حمارًا معينًا فهو في حكم النكرة، كما في قول الشاعر: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِيْ ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِيْنِيْ والأصح: أن قولهم: الجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات ليس مطردًا كما قدمنا بسطه. قال الراغب: السفر: الكتاب الذي يسفر عن الحقائق؛ أي: يكشف. وخص (¬1) لفظ الأسفار في الآية تنبيهًا على أن التوراة وإن كانت تكشف عن معانيها إذا قرئت وتحقق ما فيها فالجاهل لا يكاد يستبينها كالحمار الحامل لها. وفي هذا تنبيه من الله على أنه ينبغي لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. يقول (¬2) سبحانه ذامًا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار، يحمل الكتب لا يدري ما فيها ولا كنه ما يحمل، بل هم أسوأ حالًا من الحمر؛ لأن الخمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرفوا التوراة فأولوا وبدلوها، فهم كما قال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. وصفوة القول: أن هذا النبي الذي تقولون: إنه أرسل إلى العرب خاصة هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

ذلك النبي المنعوت في التوراة والمبشر به فيها، فكيف تنكرون نبوته وكتابكم يحض على الإيمان به؟!. فما مثلكم في حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار، يحمل الكتب ولا يدري ما فيها، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهي حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل. والخلاصة (¬1): أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار، يحمل كتبًا كبارًا في عدم انتفاعه بها. وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. ثم بين قُبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره، فقال: {بِئْسَ} وقبح مثلًا {مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} سبحانه، على (¬2) أن التمييز محذوف، والفاعل المفسر به مضمر و {مَثَلُ الْقَوْمِ}: هو المخصوص بالذم، أو {مَثَلُ الْقَوْمِ}: فاعل {بِئْسَ}، والمخصوص بالذم: الموصول بعده على حذف مضاف؛ أي: مثل الذين كذبوا. ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جرّ، والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء، وهؤلاء هم اليهود الذين كفروا بما في التوراة من الآيات الشاهدة بصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى (¬3): أي ما أقبح هذا مثلًا لهم، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله، لو كانوا يتدبرون ويتفكرون؛ إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوي العقول والحجا من ملك أو إنس، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه، وهو الحمار: وَلَا يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إلَّا الأَذَلّانِ: عَيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٍ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الواضعين (¬4) للكتذيب في موضع التصديق، أو ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[6]

الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد، باختيار الضلالة على الهداية، والشقاوة على السعادة، والعداوة على الولاية، كاليهود ونظائرهم. وفيه تقبيح لهم بتشبيه حالهم بحال الحمار، والمشبه بالقبيح قبيح، فصوت الجاهل والمدعي منكرًا كصوت الحمار وأضل وأنزل، فهو ضار محض، وفي الحمار نفع؛ لأنه يحمل الأثقال ويركبه النساء والرجال. والمعنى (¬1): والله لا يهدي القوم الظالمين لأنفسهم، إذ هم دسوها حتى أحاطت بهم خطيئتهم وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم فلم تر نور الحق ولم تشعر بحجة ولا برهان، بل هي في ظلام دامس، لا تهتدي لطريق ولا تصل إلى غاية. 6 - ولما كان من شأن من لم يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبًا للحياة تاركًا لكل ما ينفعه في الآخرة .. قال آمرًا رسوله أن يقول لهم: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء اليهود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: تهودوا وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. من هاد يهود، بمعنى: تهود؛ أي: تمسك بدين اليهود. وقال بعضهم: أي: مالوا عن الإِسلام والحق إلى اليهودية، وهي من الأديان الباطلة. ثم إن الله سبحانه خاطب الكفار في أكثر المواضع بالواسطة، ومنها: هذه الآية؛ لأنهم أدخلوا الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهي الأصنام. وأما المؤمنون فإن الله تعالى خاطبهم في أغلب المواضع بلا واسطة، مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ لأنهم أسقطوا الوسائط فأسقط الله بينه وبينهم الواسطات. {إِنْ زَعَمْتُمْ} وقلتم، والزعم: هو القول بلا دليل. {أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} وأحباؤه، جمع ولي، بمعنى حبيب. {مِنْ دُونِ النَّاسِ} صفة أولياء؛ أي: من دون الأميين وغيرهم ممن ليس من بني إسرائيل. وقال بعضهم: من دون المؤمنين من العرب والعجم، يريد بذلك ما كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة، وقالوا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا}، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم إظهارًا لكذبهم: إن زعمتم ذلك {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}؛ أي: فتمنوا من الله واطلبوا منه أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة، وقولوا: اللهم أمتنا ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة، أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة أكدار، ولا يصل إليها أحد إلا بالموت. روي: أنه لما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتموه .. أطعناكم وإن خالفتموه .. خالفناه. فقالوا لهم: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير ابن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب؟ نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه. فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا ...} الآية. وقرأ الجمهور (¬1): {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} بضم الواو. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها، وعن ابن السميع أيضًا: فتحها تخفيفًا. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب: أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ {تلؤون} بالهمز بدل الواو. والمعنى (¬2): قل لهم يا محمد: أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم وأن محمدًا وأصحابه على ضلالة .. فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين فيما تزعمون. وقد تقدم الكلام في مثل هذه المباهلة - الملاعنة - لليهود في سورة البقرة في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران في قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ...} الآية، ومباهلة المشركين في سورة مريم: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}. 7 - ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدًا؛ لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم، فقال: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا}: إخبار بما سيكون منهم. و {أَبَدًا}: ظرف بمعنى الزمان المتطاول، لا بمعنى مطلق الزمان. والمراد به: ما داموا في الدنيا. وفي البقرة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ}؛ لأن دعواهم في البقرة بالغة قاطعة، وهي: كون الجنة لهم بصفة الخلوص، فبالغ في الرد عليهم بـ {لن}، وهو أبلغ ألفاظ النفي. ودعواهم في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[8]

الجمعة قاصرة مترددة، وهي: زعمهم أنهم أولياء لله، فاقتصر على {لا} كما في برهان القرآن. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: و {الباء}: سببية متعلقة بما يدل عليه النفي. أي: يأبون التمني بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل وتغيير النعت النبوي، الموجبة لدخول النار، وهم يعرفون أنهم بعد الموت يعذبون بمثل هذه المعاصي. ولما (¬1) كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله .. عبر بها تارة عن النفس كما هنا، وأخرى عن القدرة. يعني: أن الأيدي هنا بمعنى الذوات، استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها، فكأنها هي. {وَاللَّهُ} سبحانه {عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}: وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم؛ أي: عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب، وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك. فوقع الأمر كما ذكر، فلم يتمن منهم أحد موته، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد. روي عنه - صلى الله عليه وسلم - في حق اليهود: "لو تمنوا الموت .. لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي". وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "والذي نفسي بيده لا يتمناها أحد منكم إلا غص بريقه" فلم يتمن أحد منهم لعلمهم بصدقه، وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم وحق عليه الوعيد وحل بهم العذاب الشديد. 8 - {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون على أن تتمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم. {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه. و {الفاء} (¬2): لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. أي: باعتبار كون الموصوف بالموصول في حكم الموصول. أي: إن فررتم من الموت .. فإنه ملاقيكم، كأن الفرار سبب لملاقاته وسرعة لحوقه، إذ لا يجد الفارّ بركة في عمره بل يفرّ إلى جانب الموت فيلاقيه الموت ويستقبله. وقيل: إذا أدبر الأمر .. كان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

العطب في الحيلة. {ثُمَّ} بعد الموت الاضطراري الطبيعي {تُرَدُّونَ} من الردّ، وهو: صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد. والآية من الرد بالذات، مثل قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوالَعَادُوالِمَا نُهُوا عَنْهُ}، ومن الرد إلى حالة كان عليها قوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}. {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي لا تخفى عليه أحوالكم؛ أي: ترجعون إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه. وإنما وصف ذاته بكونه عالم الغيب والشهادة باعتبار أحوالهم الباطنة وأعمالهم الظاهرة. {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: فيخبركم سبحانه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي، والفواحش الظاهرة والباطنة بأن يجازيكم بها. ومعنى الآية (¬1): وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولماذا تمتنعون من المباهلة خوفًا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق .. فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفاذها، ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السماوات والأرض. فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من حسن وسيء، ثم يجازيكم على كل بما تستحقون. ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد، وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون. وقرأ الجمهور (¬2): {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} بالفاء الرابطة، لتضمن الاسم معنى الشرط كما مرّ آنفًا. وقد منع هذا قوم منهم: الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي {إنه ملاقيكم} بغير فاء، وخرَّجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر {إنّ}: هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه، انتهى. ويحتمل أن يكون خبر {إنّ} هو قوله: إنه ملاقيكم، فالجملة خبر {إنّ}، ويحتمل أن يكون {إنه} توكيدًا لـ {إِنَّ الْمَوْتَ}، و {مُلَاقِيكُمْ} خبر {إن}، لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبًا بضمير الاسم الذي لـ {إن}، ذكره أبو حيان. وفي قراءة (¬3) ابن مسعود: {تفرون منه ملاقيكم} من غير {فإنه}. 9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ} وأذن {لِلصَّلَاةِ}؛ أي: لصلاة الجمعة. والنداء: رفع الصوت وظهوره، ونداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة. والمراد بالصلاة: صلاة الجمعة، والمراد بالأذان عند الجمهور: الأذان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

إذا جلس الإِمام على المنبر؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نداء سواه. وقد كان لرسول (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذن واحد، فكان إذا جلس على المنبر .. أذّن على باب المسجد، فإذا نزل .. أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - على ذلك، حتى إذا كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس وتباعدت المنازل .. زاد مؤذنًا آخر، فأمر بالتأذين الأول على دار له بالسوق يقال لها: الزوراء؛ ليسمع الناس، فإذا جلس على المنبر .. أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل .. أقام الصلاة، فلم يعب عليه ذلك أحد من الصحابة. والأصح عند الحنفية: أن المراد بالأذان: الأذان الأول؛ لأن الإعلام إنما يحصل به لا بالأذان بين يدي المنبر، والمراد بالصلاة: صلاة الجمعة، كما يدل عليه قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} و {من} بيان لـ {إذا} وتفسير لها. أي: لا بمعنى أنها لبيان الجنس على ما هو المتبادر، فإن وقت النداء جزء من يوم الجمعة، فلا يحمل عليه، فكيف يكون بيانًا له؟ بل المقصود أنها لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام، إذ فيه إبهام، فتجامع كونها بمعنى (في) كما ذهب إليه بعضهم، وكونها (للتبعيض) كما ذهب إليه البعض الآخر. وقال أبو البقاء: إن {من} هنا بمعنى (في) كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: في الأرض. وقرأ الجمهور: {الْجُمُعَةِ} بضم الميم (¬2). وقرأ ابن الزبير، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية، وزيد بن علي، والأعمش بسكونها تخفيفًا، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وهي لغة عقيل. وجمعها: جمع وجمعات. وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، فهو على هذا اسم إسلامي. وقيل: سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم. وقيل: لأن الله فرغ فيها من خلق كل شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات. وقيل: أول من سماه جمعة كعب بن لؤي - بالهمزة تصغير لأي - سماه بها لاجتماع قريش فيه إليه. وكانت العرب قبل ذلك تسميه العروبة، بمعنى الظهور وعروبة. وقيل: إن (¬3) الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يوم يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر ونصلي فيه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زراة رضي الله عنه بضم الزاي - فصلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه. وحين اجتمعوا .. ذبح لهم شاة، فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم، وبقي في أكثر القرى التي تقام فيها الجمعة عادة الإطعام بعد الصلاة إلى يومنا هذا، فأنزل الله آية الجمعة. فهي أول جمعة في الإِسلام. وأما أول جمعة جمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، ومن تلك السنة يعد التاريخ الإِسلامي، فأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدًا، فخطب وصلى الجمعة، وهي أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال فيها: "الحمد لله، وأستعينه، وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله .. فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله .. فقد غوى وفرط وضلّ ضلالًا بعيدًا. أوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم، أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، وأحذر ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى من عمل به ومخافته من ربه عنوان صدق على ما يبغيه من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرّ والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله .. يكون له ذكرًا في عاجل أمره وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك .. يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا. ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد، هو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، ولا خُلْفَ لذلك، فإنه يقول: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ¬

_ (¬1) روح البيان.

وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)}. فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله .. يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله .. فقد فاز فوزًا عظيمًا. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم في كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداء الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإن من يصلح ما بينه وبين الله .. يكفر الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". انتهت الخطبة النبوية. ثم إن هذه الآية رد لليهود في طعنهم للعرب، وقولهم: لنا السبت ولا سبت لكم. {فَاسْعَوْا}؛ أي: فامشوا، واقصدوا وامضوا {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: إلى الخطبة والصلاة، لاشتمال كل منهما على ذكر الله. وما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير .. فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك .. فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل، كما في "الكشاف" وعن الحسن - رحمه الله -: أما والله! ما هو السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع والابتكار. ولقد ذكر الزمخشري في الابتكار قولًا وافيًا، حيث قال: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة؛ أي: مملوءة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقال الفراء (¬1): السعي والمضي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود: {فامضوا إلى ذكر الله}. وقيل: السعي هو ¬

_ (¬1) الشوكاني.

العمل، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)}، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: أي: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه، من الغسل، والوضوء، والتوجه إليه تعالى. وعبر (¬1) بالسعي إشارةً إلى النهي عن التثاقل عنها، وحثًا على الذهاب بصفاء قلب وهمة، لا بكسل نفس وغمة. وهذا بالنسبة إلى غير المريض والأعمى، والعبد والمرأة، والمقعد والمسافر، فإنهم ليسوا بمكلفين بها. {وَذَرُوا الْبَيْعَ}؛ أي: واتركوا المعاملة بالبيع، ويلحق به سائر المعاملات، من الشراء والسلم والإجارة والقراض والمساقاة. قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة .. لم يحل الشراء والبيع، ويجوز أن يجعل البيع مجازًا عن المعاملة كلها. وقال بعضهم؛ النهي عن البيع يتضمن النهي عن الشراء؛ لأنهما متضايفان لا يعقلان إلا معًا، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. والمراد: الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، تجارة وصناعة وحرفة وزراعة وغيرها. وإنما خص البيع والشراء من بينها لأن يوم الجمعة يوم تجتمع فيه الناس من كل ناحية، فإذا دنا وقت الظهيرة .. يتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول عن ذِكر الله والمضي إلى المسجد .. قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه قليل. وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين (¬2): {فامضوا} بدل {فَاسْعَوْا} وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث إنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، فلا يكون قرآنًا؛ لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون. {ذَلِكُمْ} المذكور من السعي إلى ذِكر الله وترك البيع مبتدأ، خبره {خَيْرٌ لَكُمْ} أيها المؤمنون من مباشرته. فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر الحقيقيين. فافعلوا ما أمرتكم به، واتركوا ما نهيتكم عنه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[10]

روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال: "إن الله افترض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي مقامي هذا، فمن تركها في حياتي وبعد مماتي وله إمام عادل أو جاثر من غير عذر .. فلا بارك الله له، ولا جمع شمله، ألا فلا حجّ له، ألا فلا صوم له، ومن تاب .. تاب الله عليه". ومعنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}؛ أي: إذا (¬1) أذّن المؤذن بين يدي الإِمام وهو على المنبر في يوم الجمعة للصلاة. فاتركوا البيع واسعوا إلى موضع الجمعة، واذهبوا إليه لتسمعوا موعظة الإِمام في خطبته، وعليكم أن تمشوا الهوينى، بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد. روى الشيخان عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة .. فلا تأتوها وأنتم تسعون - تسرعون - وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم .. فصلوا وما فاتكم .. فأتموا". وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم"؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشوا، وعليكم السكينة، فما أدركتم .. فصلوا وما فاتكم .. فأتموا". رواه البخاري ومسلم. ذالكم السعي وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي، فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى، فهي المنافع الباقية. وأما منافع الدنيا: فهي زائلة. وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوي العلم الصحيح بما يضر وما ينفع. 10 - ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة، فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} التي نوديتم لها أي: أديت وفرغ منها {فَانْتَشِرُوا}؛ أي: تفرقوا {فِي الْأَرْضِ} لإقامة مصالحكم والتصرف في حوائجكم بأن يذهب كل منكم إلى موضع فيه حاجة من الحوائج المشروعة التي لا بدّ من تحصيلها للمعيشة، من التجارة والصناعة والزراعة. فإن قلت (¬2): ما معنى هذا الأمر، فإنه لو لبث في المسجد إلى الليل يجوز، بل هو مستحبّ؟. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

فالجواب: أن هذا أمر الرخصة لا أمر العزيمة؛ أي: لا جناح عليكم في الانتشار بعدما أديتم حق الصلاة. {وَابْتَغُوا}؛ أي: واطلبوا لأنفسكم وأهليكم {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} سبحانه وعطائه؛ أي: من الرزق الحلال، بأي وجه يتيسر لكم من التجارة وغيرها من المكاسب المشروعة. دل على هذا المعنى سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الخ، كما سيأتي قريبًا. فالأمر بعد الحظر للإطلاق؛ أي: للإباحة لا للإيجاب، كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. وذكر الإِمام السرخسي: أن الأمر للإيجاب؛ لما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة، وتلا قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}. وقيل: إنه للندب، فعن سعيد بن جبير: إذا انصرفت من الجمعة .. فساوم بشيء وإن لم تشتره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن، وسعيد بن المسيب: هو طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع. والظاهر (¬1): أن مثل هذا إرشاد للناس إلى ما هو الأولى، ولا شك في أولوية المكاسب الأخروية مع أن طلب الكفاف من الحلال عبادة، وربما يكون فرضًا عند الاضطرار. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} سبحانه بالجنان واللسان {كَثِيرًا}؛ أي: ذكرًا كثيرًا أو زمانًا كثيرًا، ولا تخصوا ذكره تعالى بالصلاة؛ أي: واذكروه بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، واذكروه أيضًا بما يقربكم إليه من الأذكار؛ كالحمد، والتسبيح، والتكبير، والاستغفار ونحو ذلك. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ أي: كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به. والمعنى (¬2): أي فإذا أديتم الصلاة .. فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم في آخرتكم، واطلبوا الثواب من ربكم، واذكروا الله وراقبوه في جميع شؤونكم، فهو العليم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية من أموركم، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[11]

لعلكم تفوزون بالفلاح في دنياكم وآخرتكم. وفي هذا إيماء إلى شيئين: 1 - مراقبة الله في أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأي الوسائل من حلال وحرام. 2 - أن في مراقبته تعالى الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فلأن من راقبه لا يغش في قيل ولا وزن، ولا يغير سلعة بأخرى، ولا يكذب في مساومة، ولا يحلف كذبًا، ولا يخلف موعدًا، ومتى كان كذلك .. شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه، وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق. وأما في الآخرة: فيفوز برضوان ربه ورضوان من الله أكبر، وبجنات تجري من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين. وعن عراك بن مالك رضي الله عنه: أنه كان إذا صلى الجمعة .. انصرف فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين. 11 - ثم عاتب سبحانه المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذٍ، فقال: {وَإِذَا رَأَوْا}؛ أي: وإذا رأى المؤمنون وعلموا {تِجَارَةً}؛ أي: عير تجارة، وهي تجارة دحية بن خليفة الكلبي. {أَوْ} سمعوا {لَهْوًا} وهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. يقال: ألهى عن كذا إذا شغله عمّا هو أهمّ. والمراد هنا: صوت الطبل، ويقال له: اللهو الغليظ. وكان دحية إذا قدم .. ضرب الطبل ليعلم الناس بقدومه فيخرجوا ليبتاعوا منه. وقيل: كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها؛ أي: أهلها بالطبول والدفوف والتصفيق، وهو المراد باللهو هنا {انْفَضُّوا}؛ أي: انتشروا، وتفرقوا خارجين {إِلَيْهَا}؛ أي: إلى التجارة، والذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب: أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز لانقضاء المقصود، وهو الصلاة؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - أول الإِسلام يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعة ونزلت الآية .. قدم الخطبة وأخر الصلاة، انتهى. "خطيب".

وأفرد (¬1) الضمير لأن العطف بـ {أو} لا يثنى معه الضمير، وكان المناسب إرجاعه إلى أحد الشيئين من غير تعيين على أن تخصيص التجارة برد الضمير إليها، لأنها المقصودة، أو للدلالة على أن الانفضاض إليها مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ ويجوز أن يكون الترديد للدلالة على أن منهم من انففق لمجرد سماع الطبل، ورؤيته فإذا كان الطبل من اللهو وإن كان غليظًا فما ظنك بالمزمار ونحوه؟. وقد يقال: الضمير للرؤية المدلول عليها بقوله: رأوا. وقرىء: {إليهما} (¬2) بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا}. وتخريجه على أن يتجوز بـ {أو} فتكون بمعنى الواو. وقيل: التقدير على القراءة المشهورة: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه. فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، كما في قول الشاعر: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ ... رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ روي: أن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام، وكان ذلك قبل إسلامه، وكان بالمدينة مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج إليه من برّ ودقيق وزيت وغيرها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فلما علم أهل المسجد ذلك .. قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه - صلى الله عليه وسلم - إلا ثمانية، أو أحد عشر، أو اثنا عشر، أو أربعون، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعبد الله بن مسعود، وفي رواية: عمار بن ياسر بدل عبد الله. وذكر مسلم: أن جابرًا كان فيهم، وكان منهم سبع نسوة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعًا .. لأضرم الله عليهم الوادي نارًا". وفي "عين المعاني": "لولا الباقون لنزلت عليهم الحجارة". وقال الخطيب: فهذه الروايات المختلفة منشأ الخلاف بين الأئمة في العدد الذي تنعقد به الجمعة. اهـ. من "القرطبي". ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

{وَتَرَكُوكَ} حال كونك {قَائِمًا}: أي على المنبر. روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس، ومن ثمة كانت السنة في الخطبة ذلك، وأول من استراح في الخطبة: عثمان، وأول من خطب جالسًا: معاوية. وفيه إشعار بأن الأحسن في الوعظ على المنبر يوم الجمعة القيام، وإن جاز القعود فيه؛ لأنه والخطبة من وادٍ واحدٍ لاشتماله على الحمد والثناء والصلاة والنصيحة والدعاء. ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: {قُلْ} يا محمد لهم: {مَا عِنْدَ اللَّهِ} من الجزاء العظيم على استماع الخطبة، ولزوم مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو: الجنة. و {ما}: موصولة. خاطبهم الله سبحانه بواسطة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الخطاب هنا مشوب بالعتاب. {خَيْرٌ} لكم {مِنَ} استماع {اللَّهْوِ وَمِنَ} نفع {التِّجَارَةِ} اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجلهما، فإن نفع ذلك محقق مخلد، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم، فنفع اللهو ليس بمحقق، ونفع التجارة ليس بمخلد، وما ليس بمخلد فمن قبيل الظن. ومنه يعلم وجه تقديم اللهو، فإنَّ للأعدام تقدمًا على الملكات. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأفضلهم، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق، وأعظم ما يجلبه. قال بعضهم (¬1): قوله تعالى: {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} وقوله: {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} من قبيل الفرض والتقدير: إذ لا خيرية في اللهو ولا رازق غيره فكأن المعنى إن وجد في اللهو خير فما عند الله أشد خيرًا منه، وإن وجد رازقون غير الله .. فالله خيرهم وأقواهم وأولاهم عطية. والرزق: هو المنتفع به، مباحًا كان أو محظورًا. قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: من خزانة ملك لا يدخلها اللصوص، ولا يأكلها السوس. قال أبو حيان: وناسب ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول. والمعنى (¬2): أي قل لهم - مبينًا خطأ ما عملوا -: ما عند الله مما ينفعكم في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الآخرة خير لكم مما يفيدكم في الدنيا، من التمتع بخيراتها وكسب لذاتها، فتلك باقية وهذه فانية، والله خير الرازقين وأفضلهم وأوسعهم رزقًا، فإليه سبحانه فاسعوا ومنه فاطلبوا الرزق، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته، فالله كفيل برزقكم ولم ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة وحين سماع العظات والنصائح، والله أعلم. الإعراب {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}. {يُسَبِّحُ}: فعل مضارع، {لِلَّهِ}: متعلق به، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {ما}، والجملة مستأنفة. {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، {الْمَلِكِ}: صفة للجلالة، أو بدل منه، وكذا قوله: {الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: صفات له، أو بدل منه. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {بَعَثَ}: فعل ماضي، وفاعل مستتر، صلة الموصول، {فِي الْأُمِّيِّينَ}: متعلق بـ {بَعَثَ}، {رَسُولًا}: مفعول به، {مِنْهُمْ}: صفة لـ {رَسُولًا}، {يَتْلُو}: فعل وفاعل مستتر يعود على الرسول، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {يَتْلُو}، {آيَاتِهِ}: مفعول به، والجملة نعت ثان لـ {رَسُولًا} أو حال منه لتخصصه بالصفة. {وَيُزَكِّيهِمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يَتْلُو}، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، {وَالْحِكْمَةَ}: معطوف على {الْكِتَابَ}، والجملة معطوفة على {يَتْلُو}. {وَإِنْ}: الواو: حالية، {إِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وإنه، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {كَانُوا} أو حال من الواو، {لَفِي}: {اللام}: حرف ابتداء، {فِي ضَلَالٍ}: خبر كان، {مُبِينٍ}: نعت {ضَلَالٍ}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر لـ {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة في محل النصب حال من هاء {يعلمهم} أو مستأنفة. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}.

{وَآخَرِينَ}: {الواو}: عاطفة، {آخرين}: معطوف على {الْأُمِّيِّينَ}، مجرور بالياء، أو معطوف على الضمير في {يعلمهم} منصوب بالياء؛ أي: ويعلم آخرين. {مِنْهُمْ}: حال من آخرين؛ أي: حال كون الآخرين من مطلق الأميين، كذا قالوا. ولكن الأصح أن يكون الجار والمجرور صفة لآخرين؛ أي: كائنين منهم، أو متعلقًا بـ {آخرين}؛ لأن {آخَرِينَ} نكرة. {لما}: حرف نفي وجزم، {يَلْحَقُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لما}، وعلامة جزمه حذف النون، و {الواو}: فاعل، {بِهِمْ} متعلق بـ {يَلْحَقُوا}، والجملة صفة لـ {آخرين}. {وَهُوَ}: مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر أول، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {ذَلِكَ}: مبتدأ {فَضْلُ اللَّهِ}: خبر، والجملة مستأنفة. {يُؤْتِيهِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول أول، والجملة في محل النصب حال من الجلالة، أو خبر ثان عن اسم الإشارة. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لآتي، وجملة {يَشَاءُ} صلة لـ {مَن} الموصولة، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ}: مبتدأ وخبر، {الْعَظِيمِ}: صفة لـ {الْفَضْلِ}، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}. {مَثَلُ الَّذِينَ}: مبتدأ ومضاف إليه، {حُمِّلُوا}: فعل ونائب فاعل والجملة صلة الموصول، {التَّوْرَاةَ}: مفعول ثان لـ {حُمِّلُوا}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {لَمْ}: حرف جزم، {يَحْمِلُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ}، والجملة معطوفة على {حُمِّلُوا} على كونها صلة الموصول، {كَمَثَلِ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {الْحِمَارِ}: مضاف إليه، وجملة {يَحْمِلُ أَسْفَارًا} في محل النصب على الحال من {الْحِمَارِ}. ويجوز أن تكون في محل جرّ صفة لـ {الْحِمَارِ} لجريانه مجرى النكرة، أو لأن القاعدة في مثل هذا غير مطردة كما مرّ. {بِئْسَ}: فعل ماض لإنشاء الذم، {مَثَلُ الْقَوْمِ}: فاعل، {الَّذِينَ}: صفة لـ {الْقَوْمِ}، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. وجملة {كَذَّبُوا} صلة الموصول، {بِآيَاتِ اللَّهِ} متعلق بـ {كَذَّبُوا}، والمخصوص بالذم محذوف أو خبر عن المخصوص بالذم المحذوف، أي: هذا المثل، وهو مبتدأ خبره جملة {بِئْسَ}، وفيه أوجه أخر. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.

{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {يَا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء}: حرف تنبيه، {الَّذِينَ}: بدل من {أيُّ}، وجملة {هَادُوا}: صلة الموصول، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {إنْ}: حرف شرط جازم، {زَعَمْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {أَنَّكُمْ}: ناصب واسمه، {أَوْلِيَاءُ}: خبر {لله} صفة لـ {أَوْلِيَاءُ} أو متعلق بـ {أَوْلِيَاءُ}، {مِنْ دُونِ النَّاسِ}: صفة ثانية لـ {أَوْلِيَاءُ}، أو حال منه. وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {زَعَمْتُمْ}. {فَتَمَنَّوُا}: {الفاء}: رابطة الجواب وجوبًا، {تمنوا}: فعل أمر، مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {الْمَوْتَ}: مفعول به، والجملة في محل الجزم بـ {إنْ} على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {إنْ}: حرف شرط {كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فعل ناقص واسمه وخبره، في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت. والجملة الشرطية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: نافية، {يَتَمَنَّوْنَهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، مرفوع بثبات النون، والجملة معطوفة على جملة {قل}. {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {يَتَمَنَّوْنَهُ}، {بما}: جار ومجرور متعلق بما في معنى النفي؛ لأنه سبب لنفي التمني، أي: يأبون من التمني بسبب ما قدمت أيديهم. {قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما}، والعائد محذوف؛ أي: بسبب ما قدمته أيديهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر، {بِالظَّالِمِينَ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}، والجملة مستأنفة. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}.

{قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {إِنَّ الْمَوْتَ}: ناصب واسمه، {الَّذِي}: صفة لـ {الْمَوْتَ}، {تَفِرُّونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {مِنْهُ}: متعلق بـ {تَفِرُّونَ}، وهو العائد على الموصول، {فَإِنَّهُ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالاسم لما في الموصول من معنى الشرط. لأن الصفة والموصوف كالشيء، أو زائدة. {إنه}: ناصب واسمه، {مُلَاقِيكُمْ}: خبره، وجملة {إنَّ} في محل الرفع خبر لـ {إنَّ} الأولى. وقد منع هذا قوم، منهم: الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقيل: الخبر هو نفس {الَّذِي} وما بعده استنئاف، كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه. وإلى هذا نحا الزمخشري، ويؤيده قراءة زيد بن علي بلا فاء. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {تُرَدُّونَ}: فعل ونائب فاعل، {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ}: متعلق بـ {تُرَدُّونَ}، {وَالشَّهَادَةِ} معطوف على {الْغَيْبِ}، وجملة {تُرَدُّونَ}: معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها مقولًا لـ {قُلْ}. {فَيُنَبِّئُكُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {يُنَبِّئُكُمْ}: فعل وفاعل مستتر يعود على {عَالِمِ الْغَيْبِ}، {الكاف}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {تُرَدُّونَ}، {بِمَا}: متعلق بـ {ينبئكم} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبره، وجملة كان صلة الموصول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى، {الَّذِينَ}: بدل من المنادى، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، {نُودِيَ}: فعل ماض مغير الصيغة {لِلصَّلَاةِ}: جار ومجرور، نائب فاعل {مِن}: بمعنى في {يَوْمِ الْجُمُعَةِ}: مجرور بـ {من} الجار والمجرور متعلق بـ {نُودِيَ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {فَاسْعَوْا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {اسعوا}: فعل أمر، مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {إِلَى ذِكْرِ اللهِ}: متعلق بـ {اسعوا}، والجملة الفعلية جواب {إذا}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب مقول {قُلْ} علي كونها جواب النداء. {وَذَرُوا الْبَيْعَ}: فعل أمر، وفاعل ومفعول به معطوف على {اسعوا}، {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، {خَيْرٌ}: خبر، {لَكُمْ}:

متعلق بـ {خَيْرٌ}. والجملة الاسمية في محل النصب مقول قل. {إن}: حرف شرط، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجملة {تَعْلَمُونَ}: خبر كان، وجواب {إنْ} الشرطية محذوف معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم تعلمون الخير .. فاسعوا إلى ذكر الله. وجملة الشرط في محل النصب مقول قل. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}. {فَإِذَا}: {الفاء}: عاطفة، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}: فعل، ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، {فَانْتَشِرُوا}: {الفاء}: رابطة، {انتشروا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {فِي الْأَرْضِ}: متعلق به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} في محل النصب معطوفة على جملة {إذا} الأولى. {وَابْتَغُوا}: فعل وفاعل معطوف على {انتشروا}، {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {ابتغوا}، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على {انتشروا}. {كَثِيرًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو ظرف محذوف؛ أي: زمانًا كثيرًا، {لَعَلَّكُمْ}: {لعل}: حرف ترج وتعليل، بمعنى: كي، و {الكاف}: اسمها، وجملة {تُفْلِحُونَ} خبرها، والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {رَأَوْا} فعل ماضي، وفاعل، {تِجَارَةً}: مفعول به، {أَوْ لَهْوًا}: معطوف على {تِجَارَةً}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب {انْفَضُّوا}: فعل ماض وفاعل، {إِلَيْهَا} متعلق به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {وَتَرَكُوكَ}: فعل ماض، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {انْفَضُّوا}، {قَائِمًا}: حال من كاف

المخاطب، {قل}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {ما}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، {عِنْدَ اللهِ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ {ما}، {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ، {مِنَ اللَّهْوِ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، {وَمِنَ التِّجَارَةِ}: معطوف على {مِنَ اللَّهْوِ}. والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قل}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: خبره، والجملة معطوفة على الجملة قبلها على كونها مقولًا لـ {قل}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {الْقُدُّوسِ}: بضم القاف وتشديد الدال، من أسماء الله تعالى؛ أي: الطاهر، أو المبارك، أو المنزه عن كل النقائص المتصف بكل كمال. وكل فعول مفتوح الفاء غير القدوس وسبوح وذروح وفروج فبالضمّ ويفتحن. {فِي الْأُمِّيِّينَ}: هم العرب، جمع أمي، نسبة إلى الأم التي ولدته؛ لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على الجبلة الأولى. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ} والفرق بين التلاوة والقراءة: أن التلاوة قراءة متتابعة متسلسلة؛ كقراءة القرآن والحديث ودراسة العلم، والقراءة أعم من التلاوة؛ لأنها جمع الحروف باللفظ، ولو في كلمة، لا اتباعها، ذكره في "الروح". {وَآخَرِينَ}: جمع آخر، بمعنى غير. {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ}؛ أي: علموها، وكلفوا العمل بها. {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}؛ أي: لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بها. {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} والحمار: حيوان معروف، يعبر به عن الجهل، كقولهم: هو أكفر من الحمير؛ أي: أجهل؛ لأن الكفر من الجهالة. قال الشاعر: تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالْجَهْلُ عَارُ ... وَلَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا الْحِمَارُ {يَحْمِلُ أَسْفَارًا}: جمع سفر - بكسر السين - كشبر وأشبار. قال الراغب: السفر: الكتاب الكبير الذي يسفر عن الحقائق؛ أي: يكشف عنها. وخصّ لفظ الأسفار في الآية إشارة إلى أن التوراة وإن كانت تكشف عن معانيها إذا قرئت وتحقق ما فيها فالجاهل لا يكاد يستبينها، كالحمار الحامل لها. وفي "القاموس": السفر: الكتاب الكبير، أو جزء من أجزاء التوراة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا}؛ أي: تهودوا. أي: صاروا يهودًا، من هاد يهود

هودًا، كقال يقول قولًا. قال الراغب: الهود: الرجوع برفق، وصار في التعارف التوبة. قال بعضهم: يهود في الأصل من قولهم: إنا هدنا إليك، أي: تبنا. وكان اسم مدح ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازمًا لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح، كما أن النصارى في الأصل من قولهم: نحن أنصار الله، ثم صار لازمًا لهم بعد نسخ شريعتهم. وفي "هادوا" إعلال بالقلب، أصله: هودوا قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}: من التمني، وهو: تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها. قال بعضهم: الفرق بين التمني والاشتهاء: أن التمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء؛ لأن التمني طلب أمر مستحيل؛ كـ: لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُوْدُ يَوْمًا أو مستبعد الحصول؛ كقول الفقير: ليت لي مالًا فأحجّ منه. وأصل تمنوا تمنيوا، أمر من التمني، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} أصله: يتمنيونه، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} أصله: تفررون بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى الفاء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {تُرَدُّونَ}: من الرد، وهو صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد، والآية من الردّ بالذات كما مرّ، وأصله: ترددون، بوزن تفعلون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} النداء: رفع الصوت وظهوره كما مرّ. وأصله: نادي، بوزن فاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما بني الفعل للمجهول .. ضم أوله فقلبت الألف الأولى واوًا، ولما كسر ما قبل آخره .. قلبت الأخيرة ياء. {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. قال الراغب: السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، وهو هنا بمعنى المشي المعتاد، وأصله: اسعيوا، بوزن افعلوا، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {وَذَرُوا الْبَيْعَ} يقال: فلان يذر الشيء؛ أي: يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه، وهو وذر؛ أي: اتركوا المعاملة. {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} أصله: رأيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى

ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف. والتجارة: تقليب المال بالبيع والشراء لطلب الربح. {أَوْ لَهْوًا}، واللهو: كل ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه؛ كالمزمار والتلفزيون والفيديو، وسائر آلات الملاهي المحرمة. والمراد في هذه الواقعة: صوت الطبل؛ لأنه هو الذي ضربه دحية الكلبي، كما مر. يقال: ألهى عن كذا، إذا شغله عما هو أهم. {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الفضّ: كسر الشيء وتفريق بين بعضه وبعض، كفض ختم الكتاب، ومنه: استعير انفض القوم؛ أي: تفرقوا وانتشروا. {قَائِمًا}: فيه إعلال بالإبدال، أصله: قاوما بالواو، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله في الإعلال، حيث أعل الفعل قوم بقلب الواو ألفًا، فقيل: قام. {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} من الرزق، والرزق: كل ما ينتفع به، حلالًا كان أو حرامًا، مطعمًا كان أو مشربًا أو ملبسًا أو مفرشًا، كما قال أحمد بن رسلان في "زبده": يَرْزُقُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَا أَحْرَمَا ... وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَع وَلَوْ مُحَرّمًا البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التشبيه التمثيلي في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}. فقد شبه اليهود حيث لم ينتفعوا بما في التوراة من الدلالة على الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والإلماع إلى بعثته - صلى الله عليه وسلم - بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها. ووجه الشبه: عدم الانتفاع بما هو حاصل وكائن، فالحمار يمشي في طريقه وهو لا يبيح بشيء مما يحمله على ظهره إلا بالكدّ والتعب، وكذلك اليهود قرؤوا التوراة أو حفظوها ثم أشاحوا عما انطوت عليه من دلائل، وإرهاصات على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: تخصيص التشبيه فيه بالحمار لزيادة التحقير والإهانة ولنهاية التهكم والتوبيخ بالبلادة؛ إذ الحمار هو الذي يذكر بالبلادة، والبقر وإن كان مشهورًا بالبلادة إلا أنه لا يلائم الحمل كما مرّ. ومنها: تأكيد التشبيه بزيادة الكاف كما في "الكواشي".

ومنها: طباق السلب في قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ}، و {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا}. ومنها: الطباق بين الغيب والشهادة في قوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} حيث أطلق الأيدي وأراد الأنفس لعلاقة الكلية والجزئية لكون أكثر الأعمال تزاول بها. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم، وكان مقتضى السياق أن يقال: والله عليم بهم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ}، حيث أطلق البيع الذي هو تمليك بعوض بلفظ بيع. وأراد جميع أنواع المعاملة، والصناعة والحرف، والزراعة وغيرها لعلاقة الجزئية. ومنها: التفنن بتقديم الأهم في الذكر في قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}؛ لأن المقصود الأساسي في الانفضاض هو التجارة، فقدمها، ثم قال: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}. فقدم اللهو على التجارة؛ لأن الخسارة بما لا نفع فيه أعظم، فقدم ما هو أهم في الموضعين. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا}؛ لأن الفض حقيقة في كسر الشيء وفصل بعضه عن بعض، فاستعاره للتفرق والانتشار. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال. 2 - صفات النبي الأمي الذي بعثه رحمة للعالمين. 3 - النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة. 4 - طلب مباهلة اليهود. 5 - الحث على السعي للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر. 6 - الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة. 7 - عتاب المؤمنين على تركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب قائمًا وتفرقهم لرؤية التجارة واللهو. (¬1) والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وقد فرغنا من تفسير هذه السورة الكريمة عصر يوم الجمعة، السادس من شهر ذي الحجة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمسة عشر، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية 6/ 12/ 1415 هـ. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، واغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين.

سورة المنافقون

سورة المنافقون سورة المنافقون مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد الحج. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس والبيهقي: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة المنافقين بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآيها: إحدى عشرة آية، وكلماتها: مئة وثمانون كلمة، وحروفها: تسع مئة، وستة وسبعون حرفًا. مناسبتها لما قبلها: أنه ذكر (¬1) في السورة السابقة حال المؤمنين الذي بعث إليهم النبي الأمي يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفي هذه ذكر أضدادهم، وهم المنافقون الذين يشهدون كذبًا بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬2): أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلًا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة، إذ كان وقت مجاعة .. جاء ذكر المنافقين، وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} إذ كانوا هم أصحاب أموال والمهاجرون فقراء، قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا إلى الله سبحانه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، طلبًا لمرضاته. تسميتها: سميت سورة المنافقين لذكرهم فيها. فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه (¬3) سعيد بن منصور، والطبراني في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

"الأوسط" - قال القرطبي -: بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة في الركعة الأولى، فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين، فيقرع بها المنافقين. وأخرج البزار والطبراني عن أبي عنبة الخولاني مرفوعًا نحوه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من قرأ سورة المنافقين .. برىء من النفاق". الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة المنافقين كلها محكم ليس فيها منسوخ، وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ...} الآية (6). فإنه لما نزلت آية براءة: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم" فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية نسخًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لهم أكثر من سبعين". سبب نزولها: سبب نزول (¬1) هذه السورة مذكور في قصة طويلة من مضمونها: أن اثنين من الصحابة ازدحما علي ماء، وذلك في غزوة بني المصطلق، فشج أحدهما الآخر، فدعا المشجوج: يا للأنصار، والشاج: يا للمهاجرين، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ما حكى الله تعالى، عنه من قوله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}، وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وعنى بالأعز نفسه وكلامًا قبيحًا، نسمعه زيد بن أرقم، ونقل ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي، فحلف ما قال شيئًا من ذلك، فاتُّهِمَ زيد، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} تصديقًا لزيد وتكذيبًا لعبد الله بن أبيّ. هذا خلاصة ما في القصة الطويلة ذكره أبو حيان في "البحر المحيط". والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}. المناسبة تقدم لك بيان مناسبة هذه السورة للسورة المتقدمة قريبًا. قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (¬1) ذكر كذب المنافقين في قولهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن أنهم يسترون نفاقهم بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقًا. أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم بما لا يدع شبهة لمن يلتمس المعاذير ويبرئهم من النفاق، فمن ذلك: ¬

_ (¬1) المراغي.

1 - أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب .. أمالوا رؤوسهم وأعرضوا استكبارًا وأنفة أن يفعلوا. 2 - أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بني المصطلق - قبيلة من اليهود - إلى المدينة .. لنخرجن الأذلاء محمدًا وأصحابه منها. ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء وأن المؤمنين هم الأذلاء اغترارًا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانًا حقًا، ويؤدون فرائضه ويقومون بما يقربهم من رضوانه .. أردف ذلك نهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب أولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم في أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا، حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنى لهم ذلك؟ ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرًا وإن شرًا. أسباب النزول قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه البخاري (ج/ 10 - ص/ 296) عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت لعمي أو لعمر، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبيّ ¬

_ (¬1) البخاري.

[1]

وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، فبعث إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد .. الحديث. أخرجه مسلم، والترمذي، وأحمد، والحاكم أطول مما هاهنا، وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي وابن جرير. قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري - أيضًا - عن محمد بن كعب القرظي قال: سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه لما قال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله، وقال أيضًا: لئن رجعنا إلى المدينة، أخبرت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلامني الأنصار، وحلف عبد الله بن أبي ما قال ذلك، فرجعت إلى المنزل، فنمت، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته، فقال: إن الله قد صدقك ونزَّل: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ...} الحديث أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا جَاءَكَ} وحضرك {الْمُنَافِقُونَ}؛ أي (¬1): حضروا مجلسك ووصلوا إليك. جمع منافق، والمنافق: هو الذي يضمر الكفر اعتقادًا ويظهر الإيمان قولًا. والنفاق: إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر في الجنان. وفي "المفردات": النفاق: الدخول في الشرع من باب والخروج منه من باب. {قَالوا}: مؤكدين كلامهم بـ {إن} و {اللام}: للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم ووفور رغبتهم ونشاطهم. والظاهر: أنه الجواب؛ لأن الآية نظير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}. وقيل: جوابه محذوف، و {قَالوا} حال، والتقدير: جاؤوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبل منهم. وقيل: الجواب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وهو بعيد، وقيل: جوابه قوله: {فَصَدُّوا}، وقيل: استئناف لبيان طريق خدعتهم؛ أي: قالوا: ¬

_ (¬1) روح البيان.

{نَشْهَدُ} الآن أو على الاستمرار {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} والشهادة قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة. والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه. ومعنى {نَشْهَدُ} (¬1): نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم. ومن هذا: قول قيس بن ذريح: وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِيْ فَمَا عِنْدَهَا لِيَا ومثل نشهد: نعلم، فإنه يجري مجرى القسم، كما في قول الشاعر: وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي ... إِنَّ الْمَنَايَا لَا تَطِيْشُ سِهَامُهَا وجملة قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} اعتراض (¬2) مقرر لمنطوق كلامهم؛ لكونه مطابقًا للواقع، ولإزالة إيهام أن قولهم هذا كذب؛ لقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ ...} إلخ. وفيه تعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو الليث: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} من غير قولهم: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. واعلم: أن كل ما جاء في القرآن بعد العلم من لفظة {أن} فهي بفتح الهمزة لكونها في حكم المفرد، إلا في موضعين: أحدهما: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} في هذه السورة. والثاني: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} في سورة الأنعام. وإنما كان كذلك في هذين الموضعين لأنه يأتي بعدهما لام الخبر، فانكسرا. أي: لأن اللام لتأكيد معنى الجملة، ولا جملة إلا في صورة المكسورة. وقال بعضهم: إذا دخلت لام الابتداء على خبرها .. تكون مكسورة؛ لاقتضاء لام الابتداء الصدارة، كما يقال: لزيدٌ قائم. وأخرت اللام لئلا يجتمع حرفا التأكيد، واختير تأخيرها لترجيح إن في التقديم لعامليته، فكسرت لأجل اللام. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ} شهادة حقة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}؛ أي: إنهم لكاذبون فيما أضمروه من أنك غير رسول. والإظهار (¬3) في موضع الإضمار لذمهم والإشعار بعلية الحكم. أو لكاذبون فيما ضمنوا مقالتهم من أنها صادرة عن اعتقاد وطمأنينة قلب. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[2]

فإن الشهادة وضعت للإخبار الذي طابق فيه اللسان اعتقاد القلب، وإطلاقها على الزور مجاز، كإطلاق البيع على الفاسد. نظيره: قولك لمن يقول: أنا أقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}: كذبت، فالتكذيب بالنسبة إلى قراءته لا بالنسبة إلى المقروء الذي هو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. ومن هنا يقال: إن من استهزأ بالمؤذن لا يكفر، بخلاف من استهزأ بالأذان، فإنه يكفر. قال بعضهم: الشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه، فهي الإخبار بما علمه بلفظ خاص، ولذلك صدق المشهود به وكذبهم في الشهادة بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ...} إلخ. ودلت الآية على أن العبرة بالقلب وبالإخلاص، وبخلوصه يحصل الخلاص. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل من المنافقين ظاهر الإِسلام. ومعنى الآية (¬1): أي إذا حضر مجلسك المنافقون، كعبد الله بن أبي وأصحابه .. قالوا: نشهد شهادة لا نشك في صدقها أنك رسول من عند الله حقًا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها تحقيقًا لرسالته، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا؛ لتنقذهم من الضلال إلى الهدى. ثم بيّن كذبهم في مقالهم الذي حدثوا به، فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فيما أخبروا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون، ولا تواطىء قلوبهم ألسنتهم في هذه الشهادة. 2 - ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة، فقال: {اتَّخَذُوا}؛ أي: اتخذ المنافقون {أَيْمَانَهُمْ} الفاجرة، التي من جملتها ما حكي عنهم. لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد. جمع يمين، واليمين في الحلف مستعار من اليمين التي بمعنى اليد اعتبارًا بما يفعله المحالف والمعاهد عنده. واليمين بالله الصادقة جائزة وقت الحاجة، صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله: "والله، والذي نفسي بيده". ولكن إذا لم تكن ضرورة قوية .. يصان اسم الله العزيز عن الابتذال. ¬

_ (¬1) المراغي.

أي: اتخذوا أيمانهم كلها، من شهادتهم هذه، وكل يمين سواها {جُنَّةً}؛ أي: وقاية وترسًا عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والأسر والسبي، أو غير ذلك. واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، لا عن استعمالها بالفعل، فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، واتخاذ الجنة لا بدّ أن يكون قبل المؤاخذة. وعن سببها كما يفصح عنه الفاء في قوله: {فَصَدُّوا}؛ أي: فمنعوا وصرفوا من أراد الدخول في الإِسلام بأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول، ومن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} سبحانه كما سيحكي عنهم. ولا ريب في أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل. وقرأ الجمهور: {أَيْمَانَهُمْ}: بفتح الهمزة، جمع يمين. وقرأ الحسن بكسرها مصدر آمن، ولما ذكر أنهم كاذبون .. أتبعهم بموجب كفرهم، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم، كما قال بعض الشعراء: وَمَا انْتَسَبُوا إلى الإِسْلامِ إلَّا ... لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا ومن أيمانهم: أيمان عبد الله بن أبيّ ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأعشى الهمداني: إِذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَل لِعَرضِك جُنَّةً ... مِنَ الْمَالِ سَارَ الْقَوْمُ كُلَّ مَسِيْرِ {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: ساء الشيء الذي كانوا يعملونه من النفاق والصد. وفي {سَاءَ} معنى التعجب. ومعنى الآية: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}؛ أي: جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترًا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجري عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة. قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم .. حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم. وفي هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنوا بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. ثم حكى عنهم جريمة أخرى، وهي إضلال الناس، وصدهم عن الإِسلام، فقال: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}؛ أي: فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، أي: منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة، بسبب ما يصدر منهم من

[3]

التشكيك والقدح في النبوة. هذا معنى الصد الذي بمعنى الصرف. ويجوز أن يكون من الصدود؛ أي: أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه. وقصارى ذلك (¬1): أنهم أجرموا جريمتين: 1 - أعدوا الأيمان الكاذبة وهيؤوها لوقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة. 2 - أنهم يمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام، وينفرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ثم بيّن قبح مغبة ما يعملون ووبال ما يصنعون، فقال: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ أي: قبح فعلهم؛ إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالًا ووبالًا في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فسيفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وأما في الآخرة: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. 3 - ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة، فقال: {ذَلِكَ} القول الشاهد بأنهم أسوأ الناس أعمالًا، {بِأَنَّهُمْ}؛ أي: بسبب أنهم {آمَنُوا}؛ أي: نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإِسلام. {ثُمَّ كَفَرُوا}، أي: ظهر كفرهم بما شوهد منهم من شواهد الكفر ودلائل من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقًا .. فنحن حمير! وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن يفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات. فـ {ثُمَّ} للتراخي، أو: كفروا سرًا، فـ {ثُمَّ} للاستبعاد. ويجوز أن يراد بهذه الآية أهل الردة منهم، كما في "الكشاف". والأول أولى. {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}؛ أي: ختم عليها حتى تمرنوا على الكفر واطمأنوا به، وصارت بحيث لا يدخلها الإيمان، جزاء على نفاقهم ومعاقبة على سوء أفعالهم. {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}؛ أي: لا يفهمون حقيقة الإيمان، ولا يعرفون حقيقته أصلًا كما يعرفه المؤمنون. أي: لا يعرفون ما فيه صلاحهم ورشادهم، وهو الإيمان. ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

ودلت الآية (¬1) على أن ذكر بعض مساوىء العاصي عند احتمال الفائدة لا يعد من الغيبة المنهي عنها، بل قد يكون مصلحة مهمة على ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس". وفي "المقاصد الحسنة": ثلاثة ليست لهم غيبة: الإِمام الجائر، والفاسق المعلن فسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته. وقرأ الجمهور (¬2): {فَطُبِعَ} بالبناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه. ويدل على هذا قراءة الأعمش {فطبع الله على قلوبهم}. والمعنى: أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانًا وأبطنوا كفرًا، وقد ختم على قلوبهم، فلا تهتدي إلى حق ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمّت آذانهم عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. 4 - ثم ذكر ما لهم من جمال في الصورة واعتدال في القوام، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ}؛ أي: رأيت أولئك المنافقين. والرؤية بصرية والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: لكل من يصلح له. ويدل عليه قراءة من قرأ {يُسْمَع} على البناء للمفعول. {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}؛ أي: هيئآتهم ومناظرهم. يعني: أن لهم أجسامًا تعجب من يراها؛ لما فيها من النضارة والرونق وصباحة الوجه. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أن قولهم حق وصدق؛ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم. وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصبحًا جسيمًا جميلًا، وكان يحضر مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال .. سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالته. قال الكلبي المراد عبد الله بن أبيّ، وجد بن قيس، ومعتب بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. و {اللام} (¬3): في قوله: {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} صلة. وقيل: تصغي إلى قولهم. وكان عبد الله بن أبيّ ونفر من أمثاله - وهم -: رؤساء المدينة - يحضرون مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

- ومن معه يعجبون بهياكلهم، ويسمعون إلى كلامهم. وإن الصباحة وحسن المنظر لا يكون إلا من صفاء الفطرة في الأصل، ولذا قال عليه السلام: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه" أي: غالبًا. وكم من رجل قبيح الوجه قضاء للحوائج. قال بعضهم: يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفِهِ حُسْنُ وَجْهِهِ ... وَمَا زَالَ حُسْنُ الْوَجْهِ إِحْدَى الشَّوَاهِدِ وفي الحديث: "إذا بعثتم إليَّ رجلًا .. فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم". ثم لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبة الرين على قلوب المنافقين، وانطفاء نور استعدادهم، وإبطال الهيئات الدنية العارضية خواصهم الأصلية .. أيس منهم وتركهم على حالهم. وروي عن بعض الحكماء: أنه رأى غلامًا حسنًا وجهه، فاستنطقه لظنه ذكاء فطنته، فما وجد عنده معنى: فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن! وجملة قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي، وتروق الناظر. ويجوز أن تكون في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف. أي: هم كأنهم إلخ. والخشب - بضمتين -: جمع خشبة وهي ما غلظ من العيدان. والإسناد: الإمالة، ومسندة للتكثير. فإن التسنيد تكثير الإسناد بكثرة المحال؛ أي: كأنها أسندت في مواضع. شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستندين فيها بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونها أشباحًا خالية عن العلم والخير والانتفاع. ولذا اعتبر في الخشب التسنيد؛ لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، فكما أن مثل هذا الخشب لا نفع فيه فكذا هم لا نفع فيهم. يقول الفقير: فيه إشارة إلى أن الاستناد في مجالس الأكابر أو في مجالس العلم مِن ترك الأدب؛ ولذا منع الإِمام مالك رحمه الله هارون الرشيد من الاستناد حين سمع منه "الموطأ". ودلت الآية وكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، على أن العبرة في الكمال والنقصان بالأصغرين: اللسان والقلب، لا بالأكبرين: الرأس والجسد، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال، بل إلى القلوب والأعمال، فرب صورة مصغرة، عند الله بمثابة الذهب.

وقرأ الجمهور (¬1): {تَسْمَعْ} بتاء الخطاب. وقرأ عكرمة، وعطية العوفي {يسمع} بالياء مبنيًا للجهول، ولقولهم: الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله، وليست اللام زائدة، بل ضمن {يسمع} معنى يصغ ويمل، تعدى باللام وليست زائدة، فيكون: قولهم هو المسموع. وقرأ الجمهور: {خُشُبٌ} بضمتين والبراء بن عازب والنحويان: أبو عمرو والكسائي، وابن كثير بإسكان الشين مخففة: {خشب} المضموم. وقيل: جمع خشباء، كحمر جمع حمراء، وهي: الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم. وقرأ ابن المسيب، وابن جبير: {خشب} بفتحتين، اسم جنس، الواحد خشبة، وأنث وصفه، كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. والمعنى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}؛ أي (¬2): لاستواء خلقهم وجمال صورهم، كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم، فإذا سمعهم سامع .. أحب أن يصغي إليهم وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة. ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء، لا عقول لهم ولا أحلام، فقال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}؛ أي: هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال في المنظر وقبح في المخبر، فسدت بواطنهم وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهي مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل ولا يستفاد منها خير. ولله در أبي نواس: لَا تَخْدَعَنْكَ اللِّحَى وَلَا الصُّوْرُ ... تِسْعَةُ أَعْشَارِ مَنْ تَرَى بَقَرُ تَرَاهُم كَالسَّحَابِ مُنْتَشِرًا ... وَلَيْسَ فِيْهِ لِطَالِبٍ مَطَرُ فِي شَجَرِ السَّرْوِ مِنْهُمُ مَثَلٌ ... لَهُ رُواءٌ وَمَا لَهُ ثَمَرُ ثم وصفهم بالجبن والذلة، فقال: {يَحْسَبُونَ}؛ أي: يظنون {كُلَّ صَيْحَةٍ}؛ أي: كل صوت مرتفع. وهو مفعول أول لـ {يَحْسَبُونَ}، والمفعول الثاني قوله: {عَلَيْهِمْ}؛ أي: واقعة عليهم ضارة لهم. وقال بعضهم: إذا نادى مناد في العسكر لمصلحة، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة، أو وقعت جلبة بين الناس .. ظنوه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

إيقاعًا بهم، لجبنهم واستقرار الرعب في قلوبهم، والخائن خائف. وفي هذا زيادة تحقير لهم وتخفيف لقدرهم، كما قيل: إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. {هُمُ الْعَدُوُّ}؛ أي: هم الكاملون في العداوة الراسخون فيها. فإن أعدى الأعادي: العدو المكاشر الذي يكاشرك؛ أي: يبتسم، وتحت ضلوعه داء لا يبرح بل يلزم مكانه. ولم يقل: هم الأعداء؛ لأن العدو لكونه بزنة المصادر يقع على الواحد وما فوقه. والجملة (¬1) مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة. ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم، فقال: {فَاحْذَرْهُمْ}؛ أي: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم، أو: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم بأصحابك، فإنهم يفشون سرك إلى الكفار. أو: فاحذر أن يتمكتوا من فرصة منك أو يطلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. ثم دعا عليهم، فقال: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: لعنهم وطردهم من رحمته، دعا عليهم وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم ويطردهم ويخزيهم ويميتهم على الهوان والخذلان. قال سعدي المفتي: ولا طلب هناك حقيقة، بل عبارة الطلب للدلالة على أن اللعن عليهم مما لا بد منه. وقال الطيبي: إنه من أسلوب التجريد، كقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {ومن كفر فأمتعه يا قادر}. ويجوز أن يكون تعليمًا للمؤمنين بأن يدعو عليهم بذلك. ففيه دلالة على أن للدعاء على أهل الفساد محلًا يحسن فيه، فقاتل الله المبتدعين الضالين المضلين، فإنهم شر الخصماء وأضر الأعداء. وإيراده في صورة الإخبار مع أنه إنشاء معنى للدلالة على وقوعه. وقال بعضهم: أهلكهم الله، وهو دعاء يتضمن الاقتضاء والمنابذة وتمني الشر لهم. وقيل: هي كلمة ذم وتوبيخ بين الناس، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب. وقيل: أحلهم محل من قاتله عدو قاهر لكل معاند يهلكه؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند، فإذا قاتلهم أهلكهم. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وقوله تعالى: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} تعجيب من حالهم؛ أي: كيف يصرفون عن الحق والنور إلى ما هم عليه من الكفر والضلال والظلمة بعد قيام البرهان. والمعنى: قاتلهم الله بالخزي والحرمان والسوء والخذلان، كيف يعدلون عن طريق الدين الصدق وعن سبيل الهدى والرشد؟ ومعنى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ...} إلى آخر الآية؛ أي (¬1): كلما نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة .. ظنوا أن العدو قد فاجأهم وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة. وقد قالوا: يكاد المريب يقول: خذوني، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه في يدي؛ لما ألقي من الرعب في قلوبهم. فهم يخافون أن تهتك أستارهم وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة. ونحو الآية قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}. وقد نظر المتنبي إلى الآية في قوله: وَضَاقَتْ الأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ ... إِذَا رَأَى غَيْرَ شِيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا {هُمُ الْعَدُوُّ} الذي بلغ الغاية في العداوة، {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم. فقلوبهم متحرقة حسدًا وبغضًا، وأعدى الأعادي: العدو والمداجي، الذي يكاشرك - يبتسم لك - وتحت ضلوعه الداء الدوي والشر المستطير. ثم زاد سبحانه في ذمهم وتوبيخهم وعجب من حالهم، فقال: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم وما أشدهم غفلة عن مآلهم. وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم. فكأنه قال: قولوا: قاتلهم الله. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ وقد كان لهم مدكر فيما حولهم وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه. وإن تعجب من شيء .. فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة وأعجب بهم نقمة، جازاهم الله بها على سوء ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

أعمالهم وقبح فعالهم. 5 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عند ظهور جناياتهم بطريق النصيحة؛ أي: قال لهم واحد من المؤمنين: قد نزل فيكم ما نزل فتوبوا إلى الله ورسوله و {تَعَالَوْا} وأقبلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ} - صلى الله عليه وسلم -، بالجزم. جواب الأمر. أي: يدع الله لكم ويطلب منه أن يغفر بلطفه ذنوبكم، ويستر عيوبكم. وهو من إعمال الثاني. لأن {تَعَالَوْا} يطلب رسول الله مجرورًا بـ إلى؛ أي: تعالوا إلى رسول الله، و {يَسْتَغْفِرْ}: يطلب، فاعلًا، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه وحذف من الأول، إذ التقدير: تعالوا إليه. {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ}؛ أي: حركوها استهزاء لذلك، وأمالوها وعطفوها رغبة عن الاستغفار. وقرأ مجاهد ونافع (¬1)، وأهل المدينة وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والمفضل، وأبان عن عاصم، والحسن ويعقوب بخلاف عنهما: {لووا} بفتح الواو مخففًا. وقرأ أبو جعفر، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وأبو رجاء، والأعرج، وباقي السبعة بشدها للتكثير، واختار هذه القراءة أبو عبيد. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} من الصدود بمعنى الإعراض؛ أي: يعرضون عن القائل، أو عن الاستغفار. وجملة {يَصُدُّونَ} حال من ضمير الغائبين؛ لأن الرؤية بصرية، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم. {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن ذلك؛ لغلبة الشيطنة، واستيلاء القوة الوهمية، واحتجابهم بالأنانية وتصور الخيرية. وفي الحديث: "إذا رأيت الرجل لجوجًا معجبًا برأيه .. فقد تمت خسارته". والجملة أيضًا حال من فاعل الحالة الأولى، والمعنى: ورأيتهم صادين مستكبرين. ومعنى الآية: أي وإذا قيل (¬2) لجماعة المنافقين، كعبد الله بن أبيّ: هلموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم .. صدوا وأعرضوا. قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين .. مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبيّ من أحد بكثير من الناس، مقته ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[6]

المسلمون وعنفوه وأسمعوه ما يكره، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يستغفر لك ويرضى عنك؟ قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه، فنزلت. 6 - ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم، فقال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} يا محمد كما (¬1) إذا جاؤوك معتذرين من جناياتهم. وفي "كشف الأسرار": كان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لهم على معنى سؤاله لهم بتوفيق الإيمان ومغفرة العصيان. و {سَوَاءٌ}، اسم بمعنى مستو، خبر مقدم، و {عَلَيْهِمْ} متعلق به، وما بعده من المعطوف عليه والمعطوف مبتدأ بتأويل المصدر لإخراج الاستفهام عن مقامه. فالهمزة في {أَسْتَغْفَرْتَ} للاستفهام، ولذا فتحت وقطعت، والأصل: {أاستغفرت} فحذفت همزة الوصل التي هي همزة الاستفعال للتخفيف ولعدم اللبس. {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما إذا أصروا على قبائحهم واستكبروا عن الاعتذار والاستغفار؛ أي: استغفارك لهم وعدمه سيان لا ينفعهم ذلك، لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر. وقرأ الجمهور (¬2): {أَسْتَغْفَرْتَ} بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام وطرح ألف الوصل. وقرأ أبو جعفر بمدة على الهمزة، قيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، ولا يحتاج إلى ذلك في الفعل؛ لأن همزة الوصل فيه مكسورة. وعن أبي جعفر أيضًا ضم ميم {عَلَيْهِمْ} إذ أصلها الضم ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ووصل المرة، فتسقط في القراءتين، واللفظ خبر، والمعنى على الاستفهام، والمراد: التسوية. وجاز حذف الهمزة لدلالة {أَمْ} عليها، كما دلت على حذفها في قوله: بَسَبْعٍ رَمَينَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يريد أبسبع. {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أبدًا؛ لإصرارهم على الفسق، ورسوخهم في الكفر، وخروجهم عن دين الفطرة القيم؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم وبما اجترحت من الفسوق والعصيان، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[7]

ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: الكاملين في الفسق، الخارجين عن دائرة الاستصلاح، المنهمكين في الكفر والنفاق، أو الخارجين من دائرة المحقين الداخلين في دائرة الباطلين المبطلين؛ لأن الله لا يهدي من أحاطت به خطيئته، فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلًا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعًا في فؤاده، فأنى للقلب أن يهتدي وللعقل أن يرعوي؟ وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟ 7 - ثم ذكر هنة أخرى لهم، فقال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ}؛ أي: للأنصار، وهو استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرته تعالى لهم، وهو حكاية نص كلامهم. {لَا تُنْفِقُوا}؛ أي: لا تعطوا النفقة التي يتعيش بها {عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} يعنون: فقراء المهاجرين. وقولهم: {رَسُولِ اللَّهِ}، إما للهزء والتهكم، أو لكونه كاللقب له - صلى الله عليه وسلم - واشتهاره به، فلو كانوا مقرين برسالته .. لما صدر عنهم ما صدر. ويجوز أن ينطقوا بغيره، لكن الله تعالى عبر به إكرامًا له وإجلالًا. {حَتَّى يَنْفَضُّوا}؛ أي: يتفرقوا عنه ويرجعوا إلى قبائلهم وعشائرهم. وهذا إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه. وإنما قالوه لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله وبما في أيديهم عما في خزائن الله، فيتوهمون الإنفاق منهم لجهلهم؛ أي: هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدًا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه. ثم رد عليهم وخطأهم فيما يقولون، فقال: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: ولله جميع ما في السماوات والأرض من شيء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطي أحدًا شيئًا إلَّا بمشيئته. وهذا رد (¬1) وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله - صلى الله عليه وسلم -، ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله خاصة، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. ومن تلك الخزائن المطر والنبات. قال الراغب: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إشارة منه إلى قدرته تعالى على ما يريد إيجاده، أو إلى الحالة التي أشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فرغ ربكم من الخلق والأجل والرزق". والمراد من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

الفراغ: إتمام القضاء، فهو مذكور بطريق التمثيل. يعني: أتم قضاء هذه الكليات في علمه السابق. والخزائن: جمع خزانة، وهي: ما يخزن فيه الأموال النفيسة ويحفظ، كما سيأتي. قرأ الجمهور (¬1): {يَنْفَضُّوا} من الانفضاض، وهو التفرق. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: {يُنْفَضُّوا} من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم، يقال: نَفَضَ الرجل وعاءه من الزاد فَأَنْفَضَ. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} ذلك؛ لجهلهم بالله وبشؤونه، ولذلك يقولون من مقالات الكفر ما يقولون، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل، وأنه الباسط القابض المعطي المانع، لجهلهم بسنن الله في خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا، متى عملوا وجدوا في الحصول عليها. 8 - ثم ذكر هنة ثالثة لهم، وهي أعظمها، فقال: {يَقُولُونَ}؛ أي: يقول المنافقون - عبد الله بن أبيّ وأصحابه -: والله {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} والمراد: رجوعهم من غزوة بني المصطلق، كما مر. وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل واحدًا من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ} يريد أنفسهم {مِنْهَا}؛ أي: من المدينة {الْأَذَلَّ} يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ثم رد الله سبحانه على قائل قلت المقالة فقال: {وَلِلَّهِ} سبحانه لا لغيره {الْعِزَّةُ} والقدرة التامة والغلبة والقوة {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من المنافقين والكافرين؛ أي: فالعزة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. قال الواسطي - رحمه الله تعالى - (¬2): عزة الله: أن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، وعزة المرسلين: أنهم آمنون من زوال الإيمان، وعزة المؤمنين: أنهم آمنون من دوام العقوبة. وقال عزة الله: العظمة والقدرة، وعزة الرسول: النبوة والشفاعة، وعزة المؤمنين: التواضع والسخاء والعبودية. دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

آدم ولا فخر"؛ أي: لا أفتخر بالسيادة، بل افتخر بالعبودية، وفيها عزتي، إذ لا عزة إلا في طاعة الله ولا ذل إلا في معصية الله. وقال بعضهم: عزة الله: قهره من دونه، وعزة رسوله: بظهور دينه على سائر الأديان كلها، وعزة المؤمنين: استذلالهم اليهود والنصارى، كما قال: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وقيل: عزة الله: الولاية، لقوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}، وعزة رسوله: الكفاية، لقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}، وعزة المؤمنين: الرفعة؛ لقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يقول الفقير: أشار تعالى بالترتيب إلى أن العزة له بالأصالة والدوام، وصار الرسول مظهرًا له في تلك العزة، ثم صار المؤمنون مظاهر له - صلى الله عليه وسلم - فيها. فعزة الرسول بواسطة عزة الله وعزة المؤمنين بواسطة الرسول، سواء أعاصروه - صلى الله عليه وسلم - أم أتوا بعده، إلى قيام الساعة. وجميع العزة لله؛ لأن عزة الله له تعالى صفة، وعزة الرسول وعزة المؤمنين فعلًا ومنةً وفضلًا كما قال القشيري - رحمه الله تعالى -: العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالي خلقًا وملكًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذا العزة كلها لله. وبهذا يجمع بين قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، وبين قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. ومن أدب مَنْ عرف أنه تعالى هو العزيز: أن لا يعتقد لمخلوق إجلالًا؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من تواضع لغني لأجل غناء .. ذهب ثلثا دِينه". قال أبو علي الدقاق - رحمه الله -: إنما قال: "ثلثا دينه" لأن التواضع يكون بثلاثة أشياء: بلسانه، وبدنه، وقلبه. فإذا تواضع له بلسانه وبدنه ولم يعتقد له العظمة بقلبه .. ذهب ثلثا دِينه، فإن اعتقدها بقلبه أيضًا .. ذهب كل دِينه. لهذا قيل: إذا عظم الرب في القلب .. صغر الخلق في العين. ومتى عرفت أنه معز .. لم تطلب العز إلا منه، ولا يكون العز إلا في طاعته. والمعنى (¬1): أي يقول عبد الله أبيّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة .. لنخرجنكم منها أيها المؤمنين، فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء وأنتم الضعفاء الأذلاء، فرد الله عليهم مقالهم، فقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ ¬

_ (¬1) المراغي.

أي: ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين. روي: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي - وكان مؤمنًا مخلصًا - سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة. وقال: لله علي أن لا أغمده حتى تقول محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك. وروي: أنه وقف واستل سيفه، وجعل الناس يقرون عليه حتى جاء أبوه، فقال: وراءك، قال: ما لك ويلك؟، قال: والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان إنما يسير ساقه - في آخر الجيش - فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خل عنه يدخل، ففعل. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} من فرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون. أي: لا يعلمون أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره، كما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. وسننه تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بدّ جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد وجعل مخالفيه هم الأذلاء، ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب في تلك القوة التي يمد بها من يشاء والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وأن الله منجز وعده لنبيه كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين. ولعل ختم (¬1) الآية الأولى بـ {يَفْقَهُونَ}، والثانية بـ {لَا يَعْلَمُونَ} للتفنن المعتبر في البلاغة، مع أن في الأول بيان عدم كياستهم وفهمهم، وفي الثاني بيان حماقتهم وجهلهم. وفي "برهان القرآن": الأول متصل بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وفيه غموض يحتاج إلى فطنة، والمنافق لا فطنة له، والثاني متصل بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه. وعبارة "فتح الرحمن": ختم هنا بـ {لَا يَعْلَمُونَ}، وفيما مر بـ {لَا يَفْقَهُونَ}، لأن الأول متصل بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وفي معرفتها غموض ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

يحتاج إلى فطنة وفقه، فناسب نفي الفقه في الأول، والثاني متصل بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم، فناسب نفي العلم عنهم. فالمعنى: لا يعلمون أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه. وقرأ الجمهور (¬1): {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا} الأذل بالبناء للفاعل، فالأعز فاعل والأذل مفعول. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: {لنُخرجَنَّ} بالنون، ونصب الأعز والأذل، فالأعز مفعول والأذل حال. وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني {لنَخرُجَنَّ} بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب الأعز على الاختصاص، كما قالوا: نحن العرب أقرى الناس للضيف. ونصب الأذل على الحال، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وحكى الكسائي والفراء: أن قومًا قرأوا: {لَيَخْرِجَنَّ} بالياء المفتوحة وضم الراء، فالفاعل: الأعز، ونصب الأذل على الحال. وقرىء مبنيًا للمفعول وبالياء، الأعز مرفوع به، الأذل نصبًا على الحال ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين. فما كان منها بأل فعلى زيادتها، لا أنها معرفة. 9 - ولما ذكر سبحانه وتعالى قبائح المنافقين .. رجع إلى خطاب المؤمنين، مرغبًا لهم في ذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله إيمانًا صادقًا {لَا تُلْهِكُمْ}؛ أي: لا تشغلكم {أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ}؛ أي: الاعتناء بها والتمتع بها {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: عن أداء فرائضه من الصلاة، والزكاة، والحج وسائر ما أوجبه عليكم. يقال: ألهاه الشيء، إذا شغله؛ أي: لا يشغلكم (¬2) الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكره تعالى من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود. ففي ذكر الله مجاز، أطلق السبب وأريد المسبب. قال بعضهم: الذكر بالقلب: خوف الله، وباللسان: قراءة القرآن، والتسبيح والتهليل، والتمجيد والتكبير، وتعلم علم الدين وتعليمه، وغيرها وبالأبدان: الصلاة وسائر الطاعات. والمراد: نهيهم عن التلهي بها؛ أي: عن ترك ذكر الله بسبب الاشتغال بها. وتوجيه النهي إليها للمبالغة بالتجوز بالسبب عن المسبب، كقوله تعالى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}. وقد ثبت أن المجاز أبلغ. وقال بعضهم: هو ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[10]

كناية؛ لأن الانتقال من لا تلهكم إلى معنى قولنا: لا تلهوا .. انتقال من اللازم إلى الملزوم. وقد كان المنافقون بخلاء بأموالهم؛ ولذا قالوا: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} ومتعززين بأولادهم وعشائرهم، مشغولين بهم وبأموالهم عن الله، وطاعته وتعاون رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}؛ أي: التلهي بالدنيا عن الدين، والاشتغال بما سواه عنه ولو في أقل حين. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وفي الحديث: ما طلعت الشمس إلا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى". ومعنى الآية (¬1): أي لا يشغلكم تدبير أموالكم والعناية بشؤون أولادكم عن القيام بحقوق ربكم وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظًا من اهتمامكم وللآخرة مثله. وهذا ما عناه الحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، وقوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. ثم توعد من يفعل ذلك، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: ومن تلَّه بالدنيا وشغلته عن حقوق الله .. فقد باء بغضب من ربه وخسرت تجارته، إذ باع خالدًا باقيًا واشترى فانيًا زائلًا، وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة. 10 - ومن (¬2) أهم ما يقرب العبد من ربه ويجعله يفوز برضوانه: رحمة البائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه التي فيها سعادة الأمة وإعلاء شأن الملة وانتشار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

الدعوة، ومن ثم قال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}؛ أي: بعض ما أعطيناكم تفضلًا من غير أن يكون حصوله من جهتكم، ادخارًا للآخرة. فالمراد (¬1): الإنفاق الواجب، نظرًا إلى ظاهر الأمر، كما في "الكشاف"، ولعل التعميم أولى وأنسب بالمقام. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بأن يشاهد دلائله ويعاين أماراته ومخايله. وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر ولم يقل: من قبل أن يأتيكم الموت فتقولوا، إشارة إلى أن الموت يأتيهم واحدًا بعد واحد حتى يحيط بالكل. {فَيَقُولَ} عند تيقنه بحلوله: يا {رَبِّ}؛ أي: يا ربي ويا مالك أمري {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي}؛ أي: هلا أخرتني وأمهلتني، فـ {لَوْلَا} للتحضيض. وقيل: لا زائدة للتأكيد ولو للتمني؛ بمعنى: لو أخرتني؛ أي: هلا أمهلتني وأخرت موتي {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وأمد قصير وساعة أخرى قليلة، وقال أبو الليث: يا سيدي! ردني إلى الدنيا وأبقني زمانًا غير طويل. وفي "عين المعاني": مثل ما أجلت لي في الدنيا. {فَأَصَّدَّقَ}؛ أي: فأتصدق بمالي. وهو بقطع الهمزة؛ لأنها للتكلم وهمزته مقطوعة، وبتشديد الصاد؛ لأن أصله: أتصدق من التصدق، فأدغمت التاء في الصاد، وبالنصب؛ لأنه مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التحضيض. أو التمني في قوله: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي}. {وَأَكُنْ مِنَ} عبادك {الصَّالِحِينَ} المراعين لحقوق الله وحقوق العباد، بالجزم عطفًا في محل {فَأَصَّدَّقَ}، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين. وفيه إشارة إلى أن التصدق من أسباب الصلاح والطاعة، كما أن تركه من أسباب الفساد والفسق. وقرأ الجمهور (¬2): {فَأَصَّدَّقَ} بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني. وقرأ أبي، وابن مسعود، وسعيد بن جبير: {فأتصدق} بالتاء بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور السبعة: {وَأَكُنْ} بالجزم عطفًا على محل {فَأَصَّدَّقَ}، كأنه قيل: إن أخرتني .. أصدق وأكن. وقرأ الحسن وابن جبير، وأبو رجاء، وابن أبي إسحاق، ومالك بن دينار، والأعمش، وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري، وأبو عمرو: {وأكون} بالنصب عطفًا على {فَأَصَّدَّقَ} وكذا في مصحف عبد الله وأبي، ولكن قال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان {أكن} بغير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[11]

واو، وقرأ عبيد بن عمير: {وأكون} بضم النون على الاستئناف؛ أي: وأنا أكون، وهو وعد الصلاح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من كان له مال تجب فيه الزكاة فلم يزكه، أو مال يبلغه إلى بيت الله فلكم يحج .. يسأل عند الموت الرجعة. فائدة: والفرق بين التصدق والهدية: أن التصدق للمحتاج بطريق الترحم والهدية للحبيب لأجل المودة. ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية لا الصدقة، فرضًا كانت أو نفلًا. ومعنى الآية (¬1): أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال شكرًا على النعمة ورحمة بالققراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه في صناديقكم لوارثكم فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدًا ولا مدحًا، بل يكسبكم ذمًا وقدحًا. وقد جاء في الخبر: "أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"، وجاء أيضًا: "يا ابن آدم"! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت". ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأي العين، ثم تتمنون أن لو مد الله في الأجل وأطال العمر لتتداركوا ما فات وتحسنوا العمل وتساعدوا البائسين، وذوي الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم: نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ ... وَالْبَغُيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخيمُ 11 - فأنى للعمر أن يطول، وللحياة أن تزيد ولكل نفس أجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقم، فماذا يفيد التمني، وماذا ينفع الندم والجسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ} سبحانه {نَفْسًا}؛ أي: لن يؤخر نفسًا ولن يمهلها، مطيعة أو عاصية، صغيرة أو كبيرة {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}؛ أي: آخر عمرها، أو انتهى، إن أريد بالأجل الزمان الممتد من أول العمر إلى آخره. فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وهيئوا الزاد ليوم المعاد {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا ¬

_ (¬1) المراغي.

هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. وفي هذا عبرة لمن اعتبر ولم يفرط في أداء الحقوق والواجبات. واستنبط (¬1) بعضهم عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الآية، فالسورة رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده. ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم في كل ما يأتون وما يذرون، فقال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه شيء منه، فمجازيكم على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة إعراضًا عنكم وسخطًا وبعدًا عن رضوانه. إنك لا تجني من الشوك العنب، فسارعوا في الخيرات، واستعدوا لما هو آت. وقرأ الجمهور (¬2): {بِمَا تَعْمَلُونَ} بالفوقية، خطابًا للناس كلهم. وقرأ أبو بكر عن عامر، والسلمي بالتحتية، خص الكفار بالوعيد، ويحتمل العموم. الإعراب {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، {جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إِذَا} الشرطية، وجملة {إِذَا} الشرطية مستأنفة. {نَشْهَدُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَرَسُولُ اللَّهِ}: {اللام}: حرف ابتداء، {رسول الله}: خبره، وجملة {إن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. لأن معنى {نَشْهَدُ}: نحلف فهو جارٍ مجرى القسم. وعبّر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحد منهما إثبات لأمر عين. {وَاللَّهُ}: {الواو}: اعتراضية، {الله}: مبتدأ، وجملة {يَعْلَمُ}: خبره، والجملة الاسمية اعتراضية لاعتراضها بين قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وبين قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {لَرَسُولُهُ}: خبره. {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إن} سادة مسد مفعولي {يَعْلَمُ}. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ}: {الواو}: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

عاطفة، {الله}: مبتدأ، وجملة {يَشْهَدُ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِذَا}، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ}: ناصب واسمه، {لَكَاذِبُونَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {كاذبون} خبره، وجملة {إن} جواب القسم المعنوي لأن {يَشْهَدُ} بمعنى: يحلف، فيجري مجرى فعل القسم. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}. {اتَّخَذُوا}: فعل ماض وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كذبهم وحلفهم عليه. {أَيْمَانَهُمْ}: مفعول به، {جُنَّةً}: مفعول ثان، {فَصَدُّوا}: {الفاء}: عاطفة، {صدوا}: فعل وفاعل، معطوف على {اتَّخَذُوا}، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: متعلق بـ {صدوا}، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {سَاءَ} خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة {سَاءَ} فعل ماض بمعنى: قبح {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {يَعْمَلُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُمْ}: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {أنهم}: ناصب واسمه، وجملة {آمَنُوا} خبر {أنَّ}، {ثُمَّ كَفَرُوا}: معطوف على آمنوا، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء السببية؛ أي: بسبب إيمانهم ثمَّ كُفرهم. {فَطُبِعَ}: {الفاء}: عاطفة، {طبع}: فعل ماض مغير الصيغة، {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {كَفَرُوا}. {فَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة سببية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {طبع}. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إِذَا} ظرف لما يستقبل، {رَأَيْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، {تُعْجِبُكَ}: فعل مضارع، ومفعول به، {أَجْسَامُهُمْ}: فاعل، والجملة جواب {إذا} وجملة {إذا} مستأنفة. {وَإِنْ}: الواو: عاطفة، {إن}: حرف شرط، {يَقُولُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إنْ}، {تَسْمَعْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {إنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها {لِقَوْلِهِمْ}: متعلق بـ {تَسْمَعْ}، وجملة

{إنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إذا}. {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}. {كَأَنَّهُمْ}: حرف نصب وتشبيه واسمه، {خُشُبٌ}: خبره، {مُسَنَّدَةٌ}: صفة {خُشُبٌ}، وجملة {كَأَنَّ} مستأنفة، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم مشبهون بخشب مسندة، أو حال من الضمير في {قولهم}، {يَحْسَبُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبوت النون، {كُلَّ صَيْحَةٍ}: مفعول أول لـ {حسب}، {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لـ {حسب}؛ أي: كائنة عليهم. والجملة الفعلية مستأنفة. {هُمُ الْعَدُوُّ}: مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. {فَاحْذَرْهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم عدو لك وأردت بيان ما هو الأصلح لك .. فأقول لك: احذرهم. {احذر}: فعل أمر، وفاعل مستتر، و {الهاء}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة جملة دعائية لا محل لها من الإعراب، {أَنَّى}: اسم استفهام بمعنى: كيف في محل النصب على الحال، مبني على السكون، {يُؤْفَكُونَ}: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}. {وَإِذَا}: {الواو}: استئنافية، {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمْ}: متعلق به، {تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}: نائب فاعل محكي لـ {قِيلَ}، وجملة {قِيلَ} في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. وإن شئت قلت: {تَعَالَوْا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قِيلَ}، {يَسْتَغْفِرْ}: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، {لَكُمْ}: متعلق به، {رَسُولُ اللَّهِ}: فاعل. و {رَسُولُ اللَّهِ}: تنازع فيه كل من {تَعَالَوْا}، و {يَسْتَغْفِرْ}؛ لأن {تَعَالَوْا} يطلبه مجرورًا بإلى، و {يَسْتَغْفِرْ} يطلبه فاعلًا؛ أي: تعالوا إلى رسول الله،

يستغفر لكم رسول الله. {لَوَّوْا}: فعل ماضي، وفاعل، {رُءُوسَهُمْ}: مفعول به، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} مستأنفة. {وَرَأَيْتَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {لَوَّوْا}. والرؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة {يَصُدُّونَ} في محل النصب حال من مفعول {رأيتهم}، وجملة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} في محل النصب حال من الواو في {رَأَيْتَهُمْ}. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}. {سَوَاءٌ}: خبر مقدم، {عَلَيْهِمْ}: متعلق به، {أَسْتَغْفَرْتَ}: {الهمزة}: حرف تسوية وسبك واستفهام، {أَسْتَغْفَرْتَ}: فعل وفاعل، وقد استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَسْتَغْفَرْتَ}، والجملة الفعلية مع همزة التسوية في تأويل مصدر مرفوع، على أنه مبتدأ مؤخر، والتقدير: وسواء عليهم استغفارك لهم وعدمه. والجملة مستأنفة. {أَمْ}: هي المعادلة لهمزة التسوية، وهي حرف عطف، {لَمْ}: حرف جزم. {تَسْتَغْفِرْ}: فعل ضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {لَمْ}، {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {أستغفرت}؛ أي: استغفارك لهم وعدم استغفارك لهم سيان. {لَن}: حرف نفي ونصب واستقبال. {يَغْفِرَ الله}: فعل، وفاعل منصوب بـ {لَن}، {لَهُمْ}: متعلق به، والجملة مستأنفة. {إِنَّ اللهَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} خبر {إن}، وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}. {هُمُ الَّذِينَ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، {يَقُولُونَ}: صلة الموصول، {لَا تُنْفِقُوا} إلى قوله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا}: مقول محكي لـ {يَقُولُونَ}. وإن شئت قلت: {لَا}: ناهية جازمة، {تُنْفِقُوا}: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {عَلَى مَنْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}، {عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}: ظرف متعلق بمحذوف صلة {من} الموصولة، {حَتَّى}: حرف جر وتعليل، {يَنْفَضُّوا}: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن المضمرة وجوبًا بعد

حتى الجارة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى اللام، والجار والمجرور متعلق بـ {لَا تُنْفِقُوا}؛ أي: لا تنفقوا عليهم لأجل انفضاضهم. {وَلِلَّهِ}: {الواو}: حالية، {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم، {خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يَقُولُونَ}، ولكنها حالة سببية؛ أي: قالوا ما ذُكر، والحال: أن الرزق بيده تعالى. {وَلَكِنَّ}: {الواو}: عاطفة، {لكن}: حرف نصب واستدراك، {الْمُنَافِقِينَ}: اسمه، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ}: خبره، وجملة {لكن} معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل معطوف بعاطف مقدر على {يَقُولُونَ} الأول؛ لأن سبب القولين وقائلهما واحد. {لَئِنْ}: {اللام}: موطئة للقسم {إن}: حرف شرط جازم، {رَجَعْنَا}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {إِلَى الْمَدِينَةِ}: متعلق بـ {رَجَعْنَا}، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: إن رجعنا إلى المدينة .. يخرج الأعز منها الأذل، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه. {لَيُخْرِجَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم مؤكدة للأولى {يخرجن} فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، {الْأَعَزُّ}: فاعل، {مِنْهَا}: متعلق بـ {يخرجن}، {الْأَذَلَّ}: مفعول به. والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مقول لـ {يَقُولُونَ}. {وَلِلَّهِ}: {الواو}: حالية، {لِلَّهِ} خبر مقدم: {الْعِزَّةُ}: مبتدأ مؤخر {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} معطوفان على {لِلَّهِ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل لـ {يَقُولُونَ}، ما مر نظيره آنفًا؛ أي: قالوا ما ذُكر، والحال: أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن العزة لله ... إلخ. {وَلَكِنَّ}: {الواو}: عاطفة، {لَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} خبره، وجملة {لكن} معطوفة على ما قبلها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}.

{يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة. {الَّذِينَ}: بدل من أي، وجملة النداء مستأنفة. وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {لَا}: ناهية جازمة، {تُلْهِكُمْ}: فعل مضارع، مجزوم بـ {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والكاف مفعول به، {أَمْوَالُكُمْ}: فاعل، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: معطوف على {أَمْوَالُكُمْ}، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تُلْهِكُمْ}، {وَمَنْ يَفْعَلْ}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يَفعَل}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، {ذلِكَ}: مفعول به، {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة الجواب، {أولئك}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، {الْخَاسِرُونَ}: خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} على كونه جواب شرط لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة النهي. {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)}. {وَأَنْفِقُوا}: {الواو}: عاطفة، {أَنْفِقُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {مِنْ مَا}: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة أيضًا على جملة النهي، على كونها جواب النداء، {رَزَقْنَاكُمْ}: فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة والعائد محذوف تقديره: رزقناكموه، {مِنْ قَبْلِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {أنفقوا} أو متعلق بـ {أنفقوا}، {أَن}: حرف مصدر ونصب {يَأْتِيَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أنَ}، {أَحَدَكُمُ}: مفعول به، {الْمَوْتُ}: فاعل، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: أنفقوا من قبل إتيان الموت أحدكم. {فَيَقُولَ}: {الفاء}: عاطفة، {يقول}: فعل مضارع معطوف على يأتي، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أَحَدَكُمُ}، {رَبِّ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء للتخفيف، وياء الإضافة اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {يقول}. {لَوْلَا}: حرف تحضيض، أو {لو}: حرف تمن، و {لا} زائدة كما مر، {أَخَّرْتَنِي}: فعل وفاعل ومفعول به، ونون وقاية، {إِلَى أَجَلٍ}: متعلق به، {قَرِيبٍ}: صفة {أَجَلٍ}، والجملة التحضيضية في محل النصب مقول لـ {يقول} على كونه جواب النداء،

{فَأَصَّدَّقَ}: {الفاء}: عاطفة، {أصدق}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التحضيض أو التمني، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنا، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى؛ تقديره: لولا تأخيرك إياي إلى أجل قريب فتصدقي. {وَأَكُنْ}: على قراءة الجزم: مجزوم بالعطف على محل قوله: {فَأَصَّدَّقَ}؛ لأنه في تقدير: إن أخرتني .. أصدق وأكن من الصالحين. وعلى قراءة النصب: معطوف على لفظ {فَأَصَّدَّقَ}. وعلى قراءة الرفع: فعلى الاستئناف، كما مر جميع ذلك في مبحث القراءة. واسم {أكن} ضمير مستتر يعود على المتكلم {مِنَ الصَّالِحِينَ}: خبره. {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}. {وَلَن}: {الواو}: عاطفة على مقدر تقديره: فلا يؤخر هذا المتمني ولن يؤخر الله ... إلخ. فكأنه عطف علة على معلول؛ أي: لا يؤخر هذا المتمني؛ لأن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها. {يُؤَخِّرَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن}، ولفظ الجلالة {اللَّهُ} فاعل، {نَفْسًا}: مفعول به، {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {يُؤَخِّرَ}، {جَاءَ أَجَلُهَا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها؛ أي: لا يؤخرها وقت مجيء أجلها. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {خَبِيرٌ}: خبره، والجملة مستأنفة مسوقة للتهديد، {بمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}: جمع منافق، اسم فاعل من نافق الرباعي، ينافق نفاقًا، والنفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب. فالمنافق: هو الذي يضمر الكفر اعتقادًا ويظهر الإيمان قولًا. وفي "المفردات": النفاق: الدخول في الشرع من باب والخروج منه من باب آخر من النافقاء، إحدى حجرتي اليربوع والثعلب والضب، يكتمها ويظهر غيرها، فإذا أتي من قبل القاصعاء - وهو الذي يدخل منه - ضرب النافقاء برأسه فانتفق. والنفق: هو السرب في الأرض النافذ. {نَشْهَدُ} والشهادة: قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يقال: صده عن الأمر صدًا؛ أي: منعه وصرفه، وصد عنه صدودًا؛ أي:

أعرض. {جُنَّةً}؛ أي: وقاية وترسًا عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي. وأصل الجن: ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جنه اللحل، وأجنه، والجنان - بالفتح -: القلب لكونه مستورًا عن الحاسة، والمجن والجنة: الترس الذي يجن صاحبه، والجنة بالفتح: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ساء هذه هي الجارية مجرى بئس في إفادة الذم، ومع ذلك ففيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين: كما في "أبي السعود". {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} من الطبع، والطبع: أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة وطبع الدراهم. وهو أعم من الختم وأخص من النقش، كما في "المفردات"؛ أي: ختم على قلوبهم كما يختم بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شيء. {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}؛ أي: لصباحتها وتناسب أعضائها، أصله من العجب، والشيء العجيب هو الذي يعظم في النفس أمره لغرابته. والتعجب: حيرة تعرض للنفس بواسطة ما يتعجب منه. {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} والخشب بضمتين: جمع خشبة، كأكم وأكمة، أو جمع خشب محركة، كأسد وأسد. وهو ما غلظ من العيدان. والإسناد: الإمالة، والتعبير بـ {مسندة} للتكثير؛ فإن التسنيد تكثير الإسناد بكثرة المَحَالِّ؛ أي: كأنها أسندت إلى مواضع. {كُلَّ صَيْحَةٍ} والصيحة: رفع الصوت. وفي "القاموس": الصيحة. الصوت بأقصى الطاقة. {يُؤْفَكُونَ}: من الأفك بفتج الهمزة، بمعنى الصرف عن الشيء؛ لأن الإفك بالكسر بمعنى الكذب. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا}: أصله تعاليوا، فأعل بالقلب والحذف، إلا أن واحد الماضي: تعالى، بإثبات الألف المقلوبة عن الياء المقلوبة عن الواو الواقعة رابعة، وواحد الأمر: تعال، بحذفها وقفًا وفتح اللام. وأصل معنى التعالي: الارتفاع، فإذا أمرت منه قلت: تعال وتعالوا، فتعالوا جمع أمر الحاضر في صورة الماضي، ومعناه: ارتفعوا، فيقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى استعمل في كل داع يطلب المجيء في المفرد وغيره، لما فيه من حسن الأدب؛ أي: هلموا وأتوا. ومن الأدب أن لا يقال: تعال فلان، أو تعاليت يا فلان، أو أنا متعال، أو فلان متعال، بأي معنى أريد؛ لأنه مما اشتهر به الله سبحانه، فتعالى الله الملك الحق علوًا كبيرًا. {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يقال: لوى الرجل رأسه، أماله، والتشديد للتكثير لكثرة

المَحالِّ، وهي الرؤوس. وأصله: لويوا، بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقائها ساكنة بواو الجماعة. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ}؛ أي: يعرضون، من الصدود بمعنى الإعراض. أصله: يصددون، بوزن يفعلون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الصاد فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} وسواء: اسم بمعنى مستو، والهمزة فيه مبدلة من ياء. وقوله: {أَسْتَغْفَرْتَ}: حذفت منه همزة الوصل للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام. {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والخزائن: جمع خزانة - بالكسر - كعصائب وعصابة، وهي ما يخزن فيه الأموال النفيسة وتحفظ، وكذا المخزن - بالفتح - وقد سبق البسط فيه في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}. {الْأَعَزُّ}: اسم تفضيل على وزن أفعل، وأصله: الأعزز، نقلت حركة الزاي الأولى إلى العين فسكنت فأدغمت في الثانية. {الْأَذَلَّ}: كذلك أيضًا صيغة تفضيل، أصله: الأذلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الذال، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. {لَا تُلْهِكُمْ} في "الصحاح": لهت عن الشيء - بالكسر - ألهى لهيًا ولهيانًا، إذا سلوت وتركت ذكره وأضربت عنه. وفي "القاموس": لها كدعا، وسلا، وغفل، وترك ذكره، كتلهى وألهاه شغله، ولهوت بالشيء - بالفتح - ألهو لهوًا إذا لعبت به. {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} أصله: فأتصدق، أبدلت التاء صادًا وأدغمت في الصاد. {وَأَكُنْ} قرىء: {وأكون} بالنصب، وهو معطوف على {فَأَصَّدَّقَ} لفظًا؛ لأن {فَأَصَّدَّقَ} منصوب بإضمار {أن} لوقوعه في جواب التمني؛ لأن {لَوْلَا} هنا معناها التمني، وقرىء: {وَأَكُنْ} بالجزم، وهو معطوف على موضع {فَأَصَّدَّقَ}، لأن موضعه قبل دخول الفاء الجزم؛ لأنه جواب التمني، وجواب التمني إذا كان بغير فاء، ولا واو .. حكمه الجزم؛ لأنه غير واجب، ففيه مشابهة للشرط وجوابه، ولذلك يجزم كما يجزم جواب الشرط؛ لأنه غير واجب، إذ يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع. فالمعنى على هذا: إن أخرتني .. أصدق وأكن. انظر "الكشف عن وجوه القراءات وعللها" لمكي بن أبي طالب (ج/ 2 - ص/323) ولكن في قوله: إن {لولا} هنا معناها التمني، فيه نظر، والذي يظهر: أن معناها التحضيض؛ كما مرّ. قلت: وهذا مما يسميه النحاة عطف التوهم، فكأن المتكلم توهم أن الفاء لم

تدخل فجزم الفعل على الأصل، وأصله: وأكون، فلما جزم الفعل .. صار أكون، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو، حكاه سيبويه عن الخليل. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تأكيد المنافقين كلامهم بـ {إنَّ}، و {اللام}: في قوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم كما مر. ومنها: التأكيد بالقسم، و {إنَّ} و {اللام} في قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} زيادة في التقرير والبيان. ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}. جاءت معترضة بين الشرط وجوابه؛ لبيان أنهم ما قالوا ذلك عن اعتقاد، ولدفع توهم تكذيبهم في دعواهم الشهادة بالرسالة. والأصل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}. فجاءت الجملة الاعتراضية تقريرًا لمنطوق كلامهم لكونه مطابقًا للواقع. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لغرض ذمهم والإشعار بعلية الحكم، وكان الظاهر أو يقال: إنهم لكاذبون، لسبق المرجع. ومنها: إطلاق الشهادة التي هي الإخبار عن حق على زورهم مجازًا، كإطلاق البيع على الفاسد. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ}، لأن اليمين حقيقة في الجارحة، فاستعير للحلف اعتبارًا بما يفعله المحالف عنده من المصافحة. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {جُنَّةً} لأن الجنّة حقيقة فيما يستتر به ويتقى به من المحذور كالترس، ثم استعير لما يجعلونه وقاية لدمائهم

وأموالهم أو إظهار الإِسلام. ومنها: الطباق بين {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} وبين {الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}. ومنها: التشبيه المرسل التمثيلي في قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فالمشبه: هم، أي: رؤوساء المنافقين أو المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستندون فيه إلى الجدر، وكان النبي ومن حضر يتعجبون أو هياكلهم المنصوبة. والمشبه به هو: الخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط. ووجه الشبه: كون الجانبين أشباحًا خالية عز العلم والنظر، على حدّ قتل حسان - رضي الله عنه -: لَا بَأْسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُوْلٍ وَمِنْ عِظَمٍ ... جِسْمُ الْبِغَالِ وَأَحْلاَمُ الْعَصَافِيرِ ومنها: التشبيه التمثيلي أيضًا في قوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}؛ أي: إنهم لجبنهم وهلع نفوسهم واضطراب قلوبهم إذا نادى مناد في المعسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالّة .. وجفت قلوبهم وزايلهم رشدهم، وحسبوا أن هناك شرًا يتربص بهم وكيدًا ينتظر الإيقاع بأرواحهم. وقد رمق الأخطل سماء هذا المعنى، فقال: مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ ... خَيْلًا تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالًا يقول الأخطل: لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعد خذلان قومك خيلًا تكر؛ أي: ترجع بسرعة عليهم لكثرة ما يساورك من الخوف. وغلا المتنبي في هذا المعنى، فقال: وَضَاقَتِ الأَرْضُ حَتَّى صَارَ هَارِبُهُمْ ... إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا ويمكن أن يقال: إن وجه الشبه هو عزوب أحلامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان. ولم يكتف بالتشبيه بالخشب بل جعلها مسندة إلى الحائط لعدم الانتفاع بها؛ لأنها إذا كانت في سقف أو مكان .. ينتفع بها. ومنها: أسلوب التجريد في قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} كقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: {ومن كفر فأمتعه يا قادر}. ومنها: إيراد اللعنة في صورة الإخبار مع أنه إنشاء معنى في قوله: {قَاتَلَهُمُ

اللَّهُ} للدلالة على وقوعه وتحققه. منها: طباق السلب في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}. ومنها: القول بالموجب في قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، لأن حقيقة القول بالموجب: رد الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه، فإن موجب قتل المنافقين الآنف ذكره في الآية: إخراج الرسول المنافقين أو المدينة، وقد كان ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قال على إثر ذلك: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. ومن أمثلته قتل ابن الحجاج البغدادي: قُلْتُ ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا ... قَالَ ثَقَّلْتَ كَاهِلِيْ بِالأَيَادِي ومنها: الكناية في قوله: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ}؛ لأن الانتقال فيه من {لَا تُلْهِكُمْ} إلى معنى قولنا: لا تلهوا انتقال من اللازم إلى الملزوم. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}؛ لأن المراد بالذكر فرائضه ومأموراته، حب أطلق المسبب وأريد السبب. ومنها: تقديم المفعول على الفاعل في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر. ومنها: العدول عن قول: من قبل أن يأتيكم الميت إلى قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} للإشارة إلى أن الميت يأتيهم واحدًا بعد واحد حتى يحيط بالكل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصف المنافقين وبيان سيء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن. 2 - حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة التغابن

سورة التغابن سورة التغابن نزلت بعد التحريم، قال "البيضاوي": سورة التغابن اختلف فيها. وهي (¬1) مدنية في قول الأكثرين، وقال الضحَّاك: هي مكية، وقال الكلبي: هي مدنية ومكية. وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بمكة، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده، نانزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ ...} إلى آخر السورة ثلاث آيات. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه. وآيها: ثماني عشرة آية، وكلماتها: مئتان وإحدى وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وسبعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها من ثلاثة أوجه (¬2): 1 - أنه في السورة قبلها ذكر حال المنافقين وخاطب بعد ذلك المؤمنين، وهنا قسم الناس قسمين: مؤمنًا وكافرًا. 2 - نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذِكر الله، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة. 3 - في السورة السابقة حث على الإنفاق في سبيل الله، وفي ذكر التغابن حث عليه أيضًا. وقال أبي حيان (¬3): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أن ما قبلها مشتمل على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. وهذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة"، وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} انتهى. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبي عبد الله، محمد بن حزم: سورة التغابن ليس فيها منسوخ وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...} الآية (16) نسخ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، لمَّا اشتكى المسلمين من ذلك. تسميتها: سميت بلفظ التغابن لذِكره فيها. ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري في "تاريخه" عن عبد بن عمرو قال: ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن. ومنها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة التغابن .. دفع عنه موت الفجأة". والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. المناسبة تقدم لك بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة. وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما (¬1) بسط الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه، وأنه خلق السماوات والأرض ¬

_ (¬1) المراغي.

وأنه صورهم فأحسن صورهم، وأنه يعلى السر والنجوى .. حذر المشركين من كفار مكة على تماديهم في الكفر والجحود بآياته وإنكار رسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبين لهم عاقبة يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم، فقد كذبوا رسلهم وتمادوا في عنادهم وقالوا: أيرسل الله من البشر رسلًا؟ فحلت بهم نقمة ربهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأصبحت ديارهم خرابًا يباسًا، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النهى؟ قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف انكار المشركين للألوهية ثم إنكارهم للنبوة بقولهم: أبشر يهدوننا، ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا .. أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث، ثم إثبات تحققه، وأنه كائن لا محالة، وأن كل أمرىء سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد حين يغبن الكفار في شرائهم؛ لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، ويفوز المؤمنون في تجارتهم بالصفقة الرابحة، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلًا منه ورحمة. قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) ذكر فيما سلف أن الناس قسمان: كافر بالله مكذب لرسله لا يألو جهدًا في إيصال الأذى بهم، ومؤمن بالله مصدق لرسله، وهو يعمل الصالحات .. أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النظم التي وضعها في الكون، فعلى الإنسان أن يجد ويعمل ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء؛ لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس في طاقته ولو يهوله أمره ولن يحزن عليه. ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، وأبان أن تولي الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئًا فإنه قد أدى رسالته، وما على الرسول إلا البلاغ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده، وهو يكفيه شر ما أهمه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ ...} إلى آخر ¬

_ (¬1) المراغي.

السورة. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغي له أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه .. ذكر هذا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم، يثبطونهم عن الطاعة ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتعبوا أهواءهم حتى لا تكونوا إخوان الشياطين يزينون لكم المعاصي، ويصدونكم عن الطاعة. ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقي الله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشحّ .. فهو الفائز بخيري الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله سبحانه قرضًا حسنًا .. فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبع مئة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد له، وهو العزيز الحكيم في تدبير شؤون عباده. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية (¬2): ما أخرجه الترمذي والحاكم، وصححاه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: نزلت هذه الآية: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ ...} الآية. في قوم من أهل مكة أسلموا فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. رأوا الناس قد فقهوا، فهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة، إلا هؤلاء الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ...} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو .. بكوا إليه ووقفوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم. فنزلت هذه الآية وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القيم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} سبحانه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أي: جميع ما فيهن من الروحانيات {وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي: وجميع ما فيها من الجسمانيات؛ أي: ينزهه سبحانه جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه وعظمته، تنزيهًا مستمرًا، إما بلسان المقال؛ كأن يقبل: سبحان الله وبحمده، وإما بلسان الحال، وهو: الدلالة على وجوده وقدرته. {لَهُ} سبحانه وتعالى لا لغيره {الْمُلْكُ} الدائم الذي لا يزول ولا يحول. والملك: كمال القدرة ونفاذ التصرف. {وَلَهُ} سبحانه لا لغيره {الْحَمْدُ} الحقيقي؛ لأنه الصانع المختار؛ أي (¬1): له حمد الحامدين، وهو: الثناء بذكر الأوصاف الجميلة والأفعال الجزيلة. وتقديم الجار والمجرور لدلالة على تأكيد الاختصاص، وازاحة للشبهة بالكلية، فإن اللام مشعر بأصل الاختصاص، قدم أو أخّر؛ أي: له الملك وله الحمد لا لغيره، إذ هو المبدىء لكل شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه المتصرف فيه كيف يشاء، وهو المولي لأصول النعم وفروعها، ولولا أنه أنعم بها على عباده لما قدر أحد على أدنى شيء، فالمؤمنون يحمدونه على نعمه، وله الحمد في الأولى والآخرة. وأما ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وتسليط منه، وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده، فللبشر ملك وحمد من حيث الصورة لا من حيث الحقيقة. {وَهُوَ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء عما أراد؛ لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل سواء، فهو القادر على الإيجاد والإعدام والإسقام والإبراء، والإعزاز والإذلال، والتبييض والتسويد، ونحو ذلك من الأمور الغير المتناهية. قال بعضهم: قدرة الله تصلح للخلق، وقدرة العبد تصلح ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

للكسب، فالعبد لا يوصف بالقدرة على الخلق، والحق لا يوصف بالقدرة على الكسب، فمن عرف أنه تعالى قادر .. خشي من سطوات عقوبته عند مخالفته، وأمل لطائف نعمته ورحمته عند سؤال حاجته، لا بوسيلة طاعته بل بكرمه ومنته. وكرر (¬1) {مَا} هنا وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} تأكيدًا وتعميمًا للاختلاف، فناسب ذكر ما فيهما؛ لأن تسبيح ما في السماوات مخالف لتسبيح ما في الأرض، كثرة وقلة، ووقوعًا أو حيوان وجماد، وأسرارنا مخالفة لعلانيتنا فناسب ذكر {مَا} فيهما. ولم يكررها في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لعدم اختلاف علمه تعالى، إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها، وعلمه بما سيكون كعلمه بما كان، فناسب حذفها فيه. والمعنى (¬2): إن وجود ما في السماوات والأرض قال على تنزيه الله وكماله، وأن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له، فهو المتصرف في جميع الكائنات والمحمود على جميع ما يخلق ويقدر؛ لأنه مصدر الخيرات ومفيض البركات، وهو على كل شيء قدير. فما أراد.، كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ .. لم يكن. 2 - ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}؛ أي: هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء؛ أي: خلقكم أيها الناس خلقًا بديعًا حاويًا لجميع مبادىء الكمالات العلمية والعملية. ثم قسم هذا المخلوق، فقال: {فَمِنكُمْ}؛ أي: فبعضكم، أو فبعض منكم {كَافِرٌ}؛ أي: مختار للكفر كاسب به حسبما تقتضيه خلقته. ويندرج فيه المنافق؛ لأنه كافر مضمِر. وكان الواجب عليكم جميعًا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم. {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}؛ أي: مختار للإيمان كاسب له، ويندرج فيه مرتكب الكبيرة الغير التائب والمبتدع الذي لا تُفضي بدعته إلى الكفر. وتقديم الكفر (¬3) عليه لأنه الأنسب بمقام التوبيخ والأغلب فيما بينهم، ولذا يقبل الله سبحانه في موقف القيامة لآدم: "يا آدم أخرج بعث النار" يعني: ميز أهلها ¬

_ (¬1) كشف ما يلتبس من القرآن. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[3]

المبعوث إليها. قال: وما بعث النار - أي: عدده -؟ قال الله: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون. وفي التنزيل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. والإيمان أعظم شعب الشكر. قال في "فتح الرحمن": الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن، والكفر والإيمان اكتساب العبد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته. فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان، لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر؛ لأن الله تعالى قدر عليه ذلك وعلمه منه. وهذا طريق أهل السنة، انتهى. ومعنى قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}؛ أي (¬1): فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة، كما جاء في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانِه". وقد كانت الأدلة الكونية في الأنفس والآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم، ولكنكم ما فعلتم ذلك، بل تفرقتم شيعًا وجحدتم الخالق وكفرتم بأنعمه عليكم بعد أن أفصح الصبح لذي عينين. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} مطلقًا {بَصِيرٌ} فيجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما يجديكم من الإيمان والطاعة وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان؛ أي: وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه وزكاء روحه، فيعطيه ما هو له أهل، ومن خبثت طويته وفسدت سجيته ودسّ نفسه بكبائر الذنوب والآثام .. سيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم في جهنم {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}. 3 - وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان .. ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل، فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: أبدعهما وأوجدهما حال كون خلقهما متلبسًا {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالحكمة البالغة المتضمنة ¬

_ (¬1) المراغي.

لمنافع الدين والدنيا والمراد: السماوات السبع والأرضون السبع، كما يدل عليه التصريح في بعض المواضع، قال تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا}، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}. فإن قلت (¬1): ما وجه عدم ذكر العرش والكرسي في أمثال هذا الموضع مع عظم خلقهما؟ قلت: إنهما، وإن كانا من السماء لأن السماء هو الفَلك والفَلك جسم شفاف محيط بالعالم، وهما أوسع الأفلاك إحاطة إلا أن آثارهما غير ظاهرة مكشوفة، بخلاف السماوات والأرض وما بينهما، فإنهما أقرب إلى المخاطبين المكلفين ومعلوم حالها عندهم، ومكشوفة آثارها ومنفعتها؛ ولهذا قالوا: إن الشمس تنضج الفواكه والقمر يلونها والكواكب تعطيها الطعم؛ إلى غير ذلك مما لا يتناهى، على أن التغيرات فيها أظهر، فهي على عظم القدرة أدل. وقد قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، وأكثر هذه الشؤون في عالم الكون والفساد الذي هو عبارة عن السماوات والأرض. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} و {الفاء} للتفسير؛ أي: صوركم أيها الناس أحسن تصوير وخلقكم في أحسن تقويم، حيث أودع فيكم من القوى، والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط به جميع الكمالات البارزة والكامنة، وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، فلكم جمال الصورة وأحسن الأشكال، ولذا لا يتمنى الإنسان أن تكون صورته على خلاف ما هو عليه لكون صورته أحسن من سائر الصور ومن حسن صورته: امتداد قامته، وانتصاب خلقته. ولا يقدح في حسنه كون بعض الصور قبيحًا بالنسبة إلى البعض الآخر منهم؛ لأن الحُسْن - وهو: الجمال في الخلق - والخلق على مراتب، فالإنسان يضم روحًا هو من عالم الأرواح وبدنًا هو من عالم الأجسام. وأنشدوا: وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيْرٌ ... وَفيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

وقرأ الجمهور: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بضم الصاد. وزيد بن علي والأعمش، وأبو رزين بكسرها، والقياس الضم. والتصوير: التخطيط والتشكيل. {وَإِلَيْهِ}؛ أي: إلى الله سبحانه وتعالى {الْمَصِيرُ}؛ أي: الرجوع في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالًا أو اشتراكًا، فأحسنوا سرائركم باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خلقن له، حتى يجازيكم بالإنعام لا بالانتقام، فكم من صورة حسناء تكون في العقبى شوهاء بقبح السريرة والسيرة، وكم من صورة قبيحة تكون حسناء بحسنهما. وقد ثبت أن ضرس الكافر يوم القيامة مثل جبل أحد، وأن غلظ جسده مسافة ثلاثة أيام، وأنه يسوء خلقه فتغلظ شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته. وأن أهل الحنة ضوء وجوههم كضوء القمر ليلة البدر أو على أحسن كوكب دري في السماء، وهم جرْد مرْد مكحولون أبناء ثلاث وثلاثين، فطوبى لأهل اللطافة، وويل لأهل الكثافة. 4 - {يعلَمُ} سبحانه {مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} من الأمور الكلية والجزئية، والأحوال الجلية والخفية، فلا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع وقدرته الشاملة. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}. ثم خص بعض يعلمه عناية بأمره، إذ عليه الثواب والعقاب، فقال: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}؛ أي: ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين والشرع لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته. والتصريح (¬1) به مع اندراجه فيما قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد وتشديد لهما. قال في "برهان القرآن": إنما كرر {مَا} في أول السورة لاختلاف تسبيح أهل الأرض وأهل السماء في الكثرة والقلة والبعد والقرب من المعصية والطاعة، وكذلك اختلاف {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} فإنهما ضدان، ولم يكرر {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن الكل بالإضافة إلى علم الله جنس واحد، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

لا يخفى عليه شيء، كما مر لك في أول السورة ذكره. وقرأ الجمهور (¬1): {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بتاء الخطاب وعبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم بالياء. ثم علل علمه بما ذكر بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: محيط علمه بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلًا، فكيف يخفى عليه ما يسرونه وما يعلنونه؟ لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء في صدره واستكن في قلبه، فلا يخفى عليه ما يسر وما يعلن. وهذه الجملة مقررة لما قبلا من شمول علمه لكل معلوم، وهي تعليلية كما مرّ آنفًا. وإنما قيل لها: ذات الصدور وصاحبتها لملابستها لها وكونها مخزونة فيها. ففي الآية ترق من الأظهر إلى الأخفى؛ لأنه عالم بما في السماوات وما في الأرض وبما يصدر من بني آدم سرًا وعلنًا، وبما لم يصدر بعد بل هو مكنون في الصدور. وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم وتأكيد اسحقلال الجملة قبل، وتقديم القدرة على العلم؛ لأن دلالة المخلوقات على قدرته بالذات وعلى علمه بما فيها من الاتفاق والاختصاص ببعض الجهات الظاهرة، مثل كون السماء في العلو والأرض في السفل، أو الباطنة؛ مثل: أن تكون السماء متحركة والأرض ساكنة إلى غير ذلك. 5 - {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها المشركون، و {الهمزة} للاستفهام، و {لَمْ} للجحد، ومعناه: التحقيق والتقرير. {نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: خبر قوم نوح ومن بعدهم من الأمم المصرة على الكفر {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبلكم، فيكون متعلقًا بـ {كَفَرُوا} أو من قبل هذا الوقت أو هذا العصيان والمعاداة، فيكون ظرفًا لـ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ}. {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطف على {كَفَرُوا}. والذوق وإن كان في التعارف للقليل لكنه مستصلح للكثير. والوبال: الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور والعقوبة وأمرهم كفرهم فهو واحد الأمور، عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[6]

والمعنى (¬1): فذاقوا في الدنيا من غير مهلة ما يستتبعه كفرهم من الضرر والعقوبة، وأحسوه إحساس الذائق للطعوم. وفي إيراد الذوق رمز إلى أن ذلك المذوق العاجل شيء حقير بالنسبة إلى ما سيصيرون إليه من العذاب الأليم، ولذلك قال تعالى: {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: مؤلم لا يقادر قدره. وفيه إخبار بأن ما أصابهم في الدنيا من الآلام والأوجاع والمصائب لم يكن كفارة لذنوبهم. وإلا .. لم يعذبوا في الآخرة، بخلاف المؤمنين، فإن ما أصابهم في الدنيا من ذلك يكون كفارة لذنوبهم على ما ورد في الأخبار الصحيحة. ومعنى الآية (¬2): ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم؛ كقوم نوح وهود وصالح، وغيرهم من الأمم التي أصرت على الكفر والعناد، كيف حلّ بهم عقاب ربهم وعظيم نقمته، وأرسل عليهم ألوانًا من العذاب لا قِبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم إلى رجفة في الأرض تهلكهم إلى صيحة يعم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر وتمحوهم من صفحة الوجود إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب. وفي هذا الأسلوب تعجيب من حالهم، وأنه قد كان لهم في ذلك مدَّكَرٌ لو كانوا يستبصرون، وعبرة لو كانوا يعتبرون. 6 - ثم بيَّن أسباب ما حل بهم من النقم، فقال: {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقون في الآخرة. وهو مبتدأ، خبره {بِأَنَّهُ}؛ أي: بسبب أن الشأن {كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: بالمعجزات الظاهرة، والباء إما للملابسة أو للتعدية. {فَقَالُوا}: عطف على {كَانَتْ}. {أَبَشَرٌ}؛ أي: آدمي مثلنا {يَهْدُونَنَا}؛ أي: يرشدوننا إلى الله. والاستفهام للإنكار؛ أي (¬3): قال كل قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات، منكرين لكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك: أبشر وآدمي مثلنا يهدينا ويرشدنا إلى الدين أو إلى الله، والتقرب منه؟! كما قالت ثمود: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}. أنكروا أن يكون الرسول بشرًا، ولم ينكروا أن يكون المعبود حجرًا! وقد أجمل في الحكاية فأسند ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[7]

القول إلى جميع الأقوام، وأريد بالبشر الجنس فوصف بالجمع، كما أجمل الخطاب والأمر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وارتفاع {بشر} عى أنه فاعل فعل مضمر يفسره ما بعده، فيكون من باب الاشتغال، وهو أولى من جعله مبتدأ وما بعده خبرًا؛ لأن أداة الاستفهام تطلب الفعل ظاهرًا أو مضمرًا. {فَكَفَرُوا}؛ أي (¬1): بالرسل بسبب هذا القول؛ لأنهم قالوه استصغارًا لهم، ولم يعلموا الحكمة في اختيار الرسل بشرًا. {وَتَوَلَّوْا}؛ أي: أعرضوا عن التدبر فيما أتوا به من البينات، وعن الإيمان بهم. {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}؛ أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهما .. لما فعل ذلك. وقال سعدي المفتي: هو حال، بتقدير {قد} وهو بمعنى (غني) الثلاثي، وليس استفعل هنا للطلب. والمراد: كمال الغنى، إذ الطلب يلزمه الكمال. وقال مقاتل: {استغنى الله} بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات. وقيل: استغنى بسلطانه عن طاعة عباده. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن العالمين فضلًا عن إيمانهم وطاعتهم، {حَمِيدٌ}: يحمده كل مخلوق بلسان الحال ويدل على اتصافه بالصفات الكمالية أو يحمده أولياؤه وإنا امتنع أعداؤه. والحمد: هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال. ومن عرف أنه الحميد في ذاته وصفاته وأفعاله .. شغله ذكره والثناء عليه. والمعنى (¬2): إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاؤوهم بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة. وقالوا: إن من العجب العجاب أن يكون هدينا على يدي بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح ولا بسلطان يتملكون به قيادنا ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا، كما قالت ثمود: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}؟! وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. 7 - وبعد أن طال عنادهم وتمادوا في غيّهم .. أهلكهم الله بسلطانه وجبروته وقطع دابرهم واستغنى عن إيمانهم، وهو الغني عن العالمين جميعًا، والغني عن إيمانهم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وطاعتهم، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم ظاهرة وباطنة. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} والزعم (¬1): ادعاء العلم، فمعنى أزعمُ زيدًا قائمًا: أقول إنه كذا، ففي تصدير الجملة بقوله: أَزعمُ، إشعار بأنه لا سند للحكم سوى ادعائه إياه وقوله به. ويتعدى إلى مفعولين تعدي العلم وقد قام هنا مقامهما {أنْ} المخففة مع ما في حيزها، فـ {إنْ} مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله، والمراد بالموصول كفار مكة؛ أي: زعم كفار مكة وادعوا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم أبدأ ولن يقاموا ويخرجوا من قبورهم. وعن شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وقال بعض المخضرمين لابنه: هب لي من كلامك كلمتين: زعم وسوف، انتهى. ويكره (¬2) للرجل أن يكثر لفظ الزعم وأمثاله، فإنه تحديث بكل ما سمع، وكفى بذلك كذبًا، وإذا أراد أن يتكلم .. تكلم بما هو محقق، لا بما هو مشتبه. وبذلك يتخلص من أن يحدث بكل ما سمع، فيكون معصومًا من الكذب .. كذا في "المقاصد الحسنة". ثم أمر سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم ويبطل زعمهم فقال: {قُلْ} يا محمد ردًا لهم وإبطالًا لزعمهم بإثبات ما نفوه: {بَلَى}؛ أي: تبعثون. فإن {بَلَى} لإيجاب النفي الذي قبله. {وَرَبِّي}؛ أي: أقسمت لكم بربي ومالك أمري؛ أي: أقسمت لكم بربي: بلى تبعثون من قبوركم. وظاهر كلام "اللباب" أن يكون {وَرَبِّي} قسمًا متعلقًا بما قبله قد تم الكلام عنده، وحسن الوقف عليه. ويجعل {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} جواب قسم آخر مقدر مستأنف لتأكيد الأول؛ أي: والله لتبعثن وتخرجن من قبوركم، ثم لتخبرن بما عملتم في الدنيا ثم تجازون عليه في الآخرة لا محالة. و {ثُمَّ} (¬3) لتراخي المدة لطول يوم القيامة، أو لتراخي الرتبة. ولعل فائدة الإخبار بالقسم مع أن المشركين ينكرون الرسالة كما ينكرون البعث إبطالٌ لزعمهم بالتشديد والتأكيد؛ ليتأثر من قدر الله له الإنصاف، وتتأكد الحجة على من لم يقدر له وكان محرومًا بالكلية. قال بعضهم: ولعل حكمة اختيار لفظ الرب في القَسم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[8]

هاهنا الإشارة إلى أن في البعث إظهار كمال الربوبية المفيدة لتمام المعرفة وإلى دوام التربية بالنعم الجسمانية الظاهرة والنعم الروحانية الباطنة. وقوله: {لَتُبْعَثُنَّ} مع ما بعده جملة مستقلة داخلة تحت الأمر، واردة لتأكيد ما أفادته كلمة {بَلَى} من إثبات البعث، ولبيان تحقق أمر آخر متفرع عليه منوط به، ففيه تأكيد البعث بوجهين؛ أي: قل لهم: والله لتبعثن ثم لتخبرن باعمالكم وتحاسبون عليها وتجزون بها. وأصل {لَتُبْعَثُنَّ} لتبعثونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، كما سيأتي بسطه في مباحث الصرف. {وَذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من البعث والجزاء {عَلَى اللَّهِ} سبحانه {يَسِيرٌ}؛ أي: سهل لتحقق القدرة التامة وقَبول المادة. والمعنى؛ أي: ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، فقالوا: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وقالوا: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}. فأمر الله رسولَه بالرد عليهم وابطال زعمهم بقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي ...} إلخ؛ أي: قل لهم: إن البعث كائن لا محالة وإنكم، وربي الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم، ستحاسبن علي أعمالكم وتجزون على الكثير والقليل والنقير والقطمير، وذلك هين على الله يسير. 8 - وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا مجال معه للإنكار .. طالبهم بالإيمان بهما، فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} و {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر هكذا، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: يا أهل مكة صدقوا بالله الباعث من القبور المجازي على كل عمل ظاهر أو مستور، وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر عن شؤون الله تعالى وصفاته. ولم يقل: وباليوم الآخر على ما هو المناسب لقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ، اكتفاء بقوله: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} فإنه مشتمل على البعث والحساب. اهـ. "شيخنا". {و} آمنوا بـ {النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} على رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات. سمي نورًا لأنه بإعجازه بين بنفسه أنه حق نازل من عند الله تعالى، مبين لغيره ومظهر للحلال والحرام، كما أن النور كذلك. والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية. ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون، فقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامتثال

[9]

بالأمر وعدمه {خَبِيرٌ} فمجازيكم عليه، فلا تخفى عليه أعمالكم، وسيحاسبكم على ما كسبن أيديكم من خير أو اكتسبت من شر، فراقبوه وخافوا شديد عقابه. 9 - والظرف (¬1) في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ} قاله النحاس. وقال غيره: العامل فيه {خَبِيرٌ}. وقيل: العامل فيه محذوف، تقديره: اذكر. وقال أبو البقاء: العامل فيه ما دل عليه الكلام؛ أي: تتفاوتون يوم يجمعكم. وقرأ الجمهور: {يَجْمَعُكُمْ} بفتح الياء وضم العين. وروي عن أبي عمرو إسكانها، ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعًا له. وقرأ زيد بن علي، والشعبي، ويعقوب، ونصر، وابن أبي إسحاق، والجحدري {نجمعكم} بالنون. و {اللام} في قوله: {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} بمعنى في الظرفية، أو بمعنى اللام التعليلية؛ أي: واذكروا يوم يجمعكم الله سبحانه في يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يجمع فيه الأولون والآخرون، من الجن والإنس، وأهل السماء وأهل الأرض. أو يجمع فيه الأولين والآخرين لأجل ما فيه من الحساب والجزاء. {ذَلِكَ} اليوم {يَوْمُ التَّغَابُنِ}؛ أي (¬2): يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الطاعات. وفي الحديث: "ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرًا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن، ليزداد حسرة". أو المعنى (¬3): يوم يغبن فيه أهل الجنة أهل النار بأخذهم منازلهم التي كانت لهم في الجنة لو آمنوا، وبغبن فيه من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته، فيظهر في ذلك اليوم غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. والتغابن: تفاعل، من الغبن، وهو: أن تخسر صاحبك في معاملة بينك وبينه، بضرب من الإخفاء والتدليس. والتغابن: أن يغبن بعضهم بعضًا، ويوم القيامة يوم غبن بعض الناس بعضًا، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، وبالعكس. وفيه تهكم؛ لأن نزول الأشقياء منازل السعداء من النار لو كانوا أشقياء ليس غبنًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) الواحدي.

وتخصيص (¬1) التغابن بذلك اليوم للإيذان بأن التغابن في الحقيقة هو التغابن فيما يتعلق بأمور الآخرة لا فيما يتعلق بأمور الدنيا. فـ اللام فيه للعهد الذي يشار به عند عدم المعهود الخارجي إلى الفرد الكامل؛ أي: ذلك يوم التغابن الكامل العظيم الذي لا تغابن فوقه. والمعنى (¬2): وتذكروا يوم يجمع الأولين والآخرين للحساب والجزاء في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر؛ لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب. {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين. والخلاصة: أنه لا غبن أعظم من أن قومًا ينعمون وقومًا يعذبون، وأن قومًا مغبونون في الدنيا أصبحوا في الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها. ثم بيّن هذا التغابن وفصله بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} بالصدق والإخلاص بحسب نور استعداده {وَيَعْمَلْ صَالِحًا}؛ أي: عملًا صالحًا بمقتضى إيمانه، فإن العمل إنما يكون بقدر الإيمان، وهو: أي العمل الصالح - ما يبتغى به وجه الله فرضًا أو نفلًا. {يُكَفِّرْ}؛ أي: يغفر الله ويمح {عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} يوم القيامة، فلا يفضحه بها. {وَيُدْخِلْهُ} بفضله وكرمه لا بالإيجاب {جَنَّاتٍ} وبساتين على حسب درجات أعماله {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت قصورها أو أشجارها {الْأَنْهَارُ} الأربعة الجارية في الجنة، حال كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات. حال من الهاء في {يُدْخِلْهُ}. وَحَّدَ أولًا حملًا على لفظ {من} ثم جمع حملًا على معناه. {أَبَدًا} ظرف متعلق بـ {خَالِدِينَ}، وهو تأكيد للخلود. {ذَلِكَ}؛ أي: ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطيبات، فيكون أعلى حالًا من الفوز الكبير؛ لأنه يكون بجلب المنافع، كما في سورة البروج. وفي "فتح الرحمن": قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} إلى قوله: {أَبَدًا} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[10]

ذكر مثل ما هنا في سورة الطلاق، لكن زاد هنا: {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}؛ لأن ما هنا تقدمه {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} الآيات، وأخبر فيها عن الكفار سيئات تحتاج إلى تكفير، فناب ذكر {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} بخلاف ما في الطلاق لم يتقدمه شيء من ذلك. وقرأ الجمهور {يُكَفِّرْ} {وَيُدْخِلْهُ} بالتحتية. وقرأ نافع، وابن عامر، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر وطلحة، والمفضل عن عاصم، وزيد بن علي، والحسن بخلاف عنه: {نكفر} و {ندخله} بالنون فيهما. والمعنى (¬1): ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه .. يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدًا، لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده؛ لانطوائه على النجاة من أعظم المهالك وأجل المخاطر. 10 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} تصريح بما علم التزامًا. والمراد بالآيات: إما القرآن أو المعجزات، فإن كلًّا منهما آية لصدق الرسول. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: أهل النار، إما بمعنى مصاحبوها لخلودهم فيها، أو مالكوها تنزيلًا لهم منزلة الملاك للتهكم. حال كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: أبدًا، بقرينة المقابلة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع. والمخصوص بالذم: النار، كأن هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن، وإنما قلنا: (كأن) لأن الواو يمانع الحمل على البيان كما عرف في فن المعاني، إذ لو كان للبيان .. لقال: من يؤمن بالله؛ أو فمن يؤمن بالله؛ أي: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدًا، وبئس النار مصيرًا لهم. 11 - {مَا} نافية (¬2) ولذا زاد {مِن} المؤكدة. {أَصَابَ} الخلق {مِنْ مُصِيبَةٍ} وبلية وشدة من المصائب الدنيوية في الأبدان والأولاد والأموال {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى. استثناء مفرغ منصوب المحل على الحال؛ أي: ما أصابت مصيبة متلبسة بشيء من الأشياء إلا حالة كونها متلبسة بإذن الله تعالى؛ أي: بتقديره وإرادته كأنها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

بذاتها متوجهة إلى الإنسان متوقفة على إذنه تعالى أن تصيبه. وهذا لا يعارض قوله تعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}؛ أي: بسبب معاصيكم، ويتجاوز عن كثير منها ولا يعاقب عليها. أما أولًا: فلأن هذا القول في حق المجرمين، فكم من مصيبة تصيب من أصابته لأمر آخر من كثرة الأجر للصبر وتكفير السيئات لتوفية الأجر، إلى غير ذلك، وما أصاب المؤمنين فمن هذا القبيل. وأما ثانيًا: فلأن ما أصاب من ساء بسوء فعله فهو لم يصب إلا بإذن الله وإرادته أيضًا، كما قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ أي: إيجادًا وإيصالًا، فسبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. والمعنى: أي ما أصاب كل أحد مصيبة من المصائب إلا بإذن الله تعالى؛ أي: بقضائه وقدره. قال الفراء: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي: بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله. قيل: سبب نزولها: أن الكفار قالوا (¬1): لو كان ما عليه المسلمون حقًا لصانهم الله عن المصائب في أموالهم وأبدانهم في الدنيا. فبين الله سبحانه أن ذلك إنما يصيبهم بتقديره ومشيئته، وفي إصابتها حكمة لا يعرفها إلا هو: منها: تحصيل اليقين بأن ليس شيء من الأمر في أيديهم، فيبرؤون بذلك من حولهم وقوتهم إلى حول الله وقوته. ومنها: ما سبق آنفًا من تكفير ذنوبهم وتكثير مثوباتهم بالصبر عليها والرضا بقضاء الله تعالى إلى غير ذلك. ولو لم يصب الأنبياء والأولياء عن الدنيا وما يطرأ على الأجسام من الآلام والأوجاع .. لافتتن الخلق بما ظهر على أيديهم من المعجزات والكرامات. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ}؛ أي: يصدق به، ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. والاكتفاء بالإيمان بالله لأنه الأصل {يَهْدِ قَلْبَهُ}؛ أي: يوفق قلبه عند إصابتها للثبات والاسترجاع، فيثبت ولا يضطرب بأن يقول قولًا ويظهر وصفًا يدل على التضجر من قضاء الله وعدم الرضا به، ويسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ومن عرف ¬

_ (¬1) روح البيان.

الله واعتقد أنه رب العالمين .. يرضى بقضائه ويصبر على بلائه، فإن التربية كما تكون بما يلائم الطبع تكون بما يتنفّر عنه الطبع. وقيل: {يَهْدِ قَلْبَهُ}؛ أي: يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأ لم يكن ليصيبه، فيرضى بقضائه ويسلم لحكمه. وقيل: {يَهْدِ قَلْبَهُ}؛ أي: يلطف به ويشرحه لازدياد الطاعة والخير. وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن الهداية سابقة على الإيمان؟ قلت: ليس المراد يهد قلبه للإيمان، بل المراد: يهد لليقين عند نزول المصائب، فيعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه. أو يهد للرضى والتسليم عند وجود المصائب، أو للاسترجاع عند نزولها؛ بأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون .. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {يَهْدِ} بفتح الياء وكسر الدال، مضارعًا لهدى، مجزومًا على جواب الشرط؛ أي: يهده الله. وقرأ قتادة، والسلمي، والضحاك، وأبو جعفر، وأبو عبد الرحمن: {يُهْدَ} بضم الياء وفتح الدال مبنيًا للمفعول، {قَلْبُه} بالرفع، وقرأ ابن جبير، وطلحة بن مصرف، وابن هرمز، والأزرق عن حمزة: {نَهْدِ قَلْبَه} بالنصب. وقرأ عكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن دينار: {يَهدأ} بهمزة ساكنة، {قَلْبُه} بالرفع؛ أي: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب. وقرأ عمرو بن فائد: {يَهْدَا} بألف بدلًا من الهمزة الساكنة. وقرأ عكرمة، ومالك بن دينار أيضًا: {يَهْدَ} بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة، وإبدال الهمزة ألفًا في مثل: يهدأ، ويقرأ ليس بقياس، خلافًا لمن أجاز ذلك قياسًا، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم تشبيهًا بألف يخشى إذا دخل الجازم عليه. وقرىء: {يَهِدَّ} بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، ورفع {قلبُه} أيضًا بمعنى: يهتد، كقوله تعالى: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى}. فجملة القراءات في {يَهْدِ} سبع، المختار منها قراءة الجمهور. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[12]

وقال أبو بكر الوراق: ومن يؤمن بالله عند الشدة والبلاء فيعلم أنها من عدل الله .. يهد قلبه إلى حقائق الرضى وزوائد اليقين. وقال أبو عثمان: ومن صحح إيمانه بالله .. يهد قلبه لاتباع سنن نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وعلامة صحة الإيمان: المداومة على السنن وملازمة الاتباع وترك الأهواء والآراء المضلة. {وَاللَّهُ} سبحانه {بِكُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها: القلوب وأحوالها، كتسليم من انْقاد لأمره وكراهة من كرهه، وكآفاتها من العجب والريا مثلًا وخلوصها. {عَلِيمٌ} لا تخفى عليه خافية من ذلك، فيعلم إيمان المؤمن وخلوصه ويهد قلبه إلى ما ذُكر. والمعنى: والله عليم بالأشياء كلها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها، فاحذروه وراقبوه في السرّ والعلن، كما جاء في الأثر: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". 12 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى إطاعة العبد لمولاه فيما يأمره وينهاه. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إطاعة الأمة لنبيها فيما يؤديه عن الله؛ أي: هونوا المصائب على أنفسكم ولا تشغلنكم عن الاشتغال بطاعته والعمل بكتابه، وعن الاشتغال بطاعة الرسول واتباع سننه، وليكن جل همتكم في السراء والضراء العمل بما شرع لكم. وكرر (¬1) الأمر بالإطاعة للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية وتوضيح مورد التولي في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}؛ أي: أعرضتم عن إطاعة الرسول {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم - {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؛ أي: التبليغ البيّن. والجملة الاسمية تعليل للجواب المحذوف؛ أي: فإن توليتم .. فلا بأس ولا مؤاخذة عليه بإعراضكم إذ ما عليه إلا التبليغ المبين، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافًا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه - صلى الله عليه وسلم - والإشعار بمدار الحلم الذي هو كون وظيفته - صلى الله عليه وسلم - محض البلاغ لا الإجبار على الإيمان، ولزيادة تشنيع التولي عنه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[13]

والمعنى: وأطيعوا الله فيما شرع، وأطيعوا رسوله فيما بلغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى، وزجر، فإن أعرضتم عن ذلك .. فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة، وهو قد أدى ما عليه ولا يكلف شيئًا بعد ذلك. 13 - ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل، فقال: {اللَّهُ} سبحانه وتعالى، مبتدأ خبره جملة قوله: {لَا إِلَهَ} في الوجود {إِلَّا هُوَ} سبحانه؛ أي: الله سبحانه هو المستحق للمعبودية لا غيره، وهو القادر على الهداية والضلالة، لا شريك له في الإرشاد والإضلال، وليس بيد الرسول شيء من ذلك. {وَعَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى خاصة دون غيره لا استقلالًا ولا اشتراكًا {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في تثبيت قلوبهم على الإيمان والصبر على المصائب. والمعنى: وحدوا الله، وأخلصوا له العمل، وتوكلوا عليه. والآية كالخاتمة والفذلكة لما تقدم. وإظهار (¬1) الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعلية التوكل، والأمر به، فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق عما سواه بالمرة. وفي الآية حث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين على الثبات على التوكل والازدياد فيه حتى ينصرهم على المكذبين وعلى من تولى عن الطاعة وقَبول أحكام الدين. واعلم: أن التوكل من المقامات العالية، وهو إظهار العجز وترك الاعتماد على الغير. وفي "الحدائق": التوكل هو: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. وظاهر الأمر وجوب التوكل مع أنه غير موجود في أكثر الناس، فيلزم أن يكونوا عاصين. ولعل المأمور به هو التوكل العقلي، وهو: أن يعتقد العبد أنه ما من مراد من مراداته الدنيوية والأخروية إلا وهو يحصل من الله، فيثق به في حصوله ويرجو منه، وإن كانت النفس تلتفت إلى الغير وتتوقع منه، نظرًا إلى اعتقاد سببيته والله مسبب الأسباب. وأما التوكل الطبيعي الذي لا يكون ثقة صاحبه طبعًا إلا بالله وحده، ولا اعتماده إلا عليه في جميع مقاصده مع قطع النظر عن الأغيار كلها رأسًا .. فهو عسير، قلما يوجد إلا في الأنبياء والكمل من الأولياء. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[14]

14 - ولما قال تعالى (¬1): {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله حذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة .. ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين. وذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا .. فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة: فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه. وكم من امرأة قتلت زوجها وأفسدت عقله، وكم من ولد قتل أباه، وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير .. فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا خالصًا {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} جمع زوج يعم الحليل والحليلة، كما سيأتي عن "اللباب". لكن المراد هنا: الزوجة، بقرينة سبب النزول كما مر. {وَأَوْلَادِكُمْ} جمع ولد يعم الابن والبنت {عَدُوًّا لَكُمْ} يشغلونكم عن طاعة الله تعالى، وإن لم يكن لهم عداوة ظاهرة، فإن العدو لا يكون عدوًا بذاته وإنما يكون عدوًا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فِعل العدو .. كان عدوًا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولًا أوليًا، وهو: أن رجالًا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله تعالى، أو يخاصمونكم (¬2) في أمور الدين أو الدنيا، وأشد المكر ما يكون في الدين، فإن ضرره أشد من ضرر ما يكون في الدنيا. وجاء في الخبر: "ليس عدوك الذي لقيته فقتلته وآجرك الله على قتله، ولكن أعدى عدوك: نفسك التي بين جنبيك، وامرأتك التي تضاجعك على فراشك، وولدك من صلبك". وقدم الأزواج على الأولاد؛ لأنها مصادر الأولاد ولكونها محل الشهوات وألصق بقلوب الناس وأشد إشغالًا لهم عن العبودية، ولذا قدمها الله سبحانه في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}. وفي "اللباب": إن قوله: {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يدخل فيه الذَّكر، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوًا له .. كذلك المرأة يكون زوجها عدوًا لها بهذا المعنى، فيكون الخطاب هنا عامًا على التغليب، ويحتمل أن يكون الدخول باعتبار الحكم لا باعتبار الخطاب. انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وأفادت {مِنْ} التبعيضية في قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} إلخ، أن منها ما ليس بعدُ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها .. أطاعته، وإن نظر إليها .. سرته، وإن أقسم عليها .. أبرّته، وإن غاب عنها .. نصحته في نفسها وماله". فإذا كانت المرأة على هذه الأوصاف فهي ميمونة مباركة. وإلا .. فهي مشؤومة منحوسة. والضمير في قوله (¬1): {فَاحْذَرُوهُمْ} يعود إلى العدو أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، إنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول؛ لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والحذر (¬2) الاحتراز عن المخيف؛ أي: احفظوا أنفسكم من محبتهم وشدة التعلق والاحتجاب بهم، ولا تؤثروا حقوقهم على حقوق الله تعالى. وفي الحديث: "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم - أي: ذا تشاور لا ينفرد أحد برأي دون صاحبه - فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم .. فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". وفي الحديث: "شاوروهن وخالفوهن" (¬3). والمعنى (¬4): يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم، يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم والأعمال الصالحة التي تنفعكم في آخرتكم، وربما حملوكم على السعي في اكتساب الحرام واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم. وروي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده، يعيرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك". ومن الناس من يحمله حبهم، والشفقة عليهم ليكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببًا لذلك، وإن لم يطالبوه، فيهلك. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) هذا ليس بحديث وربما كان أثرًا عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. اهـ. (¬4) المراغي.

[15]

ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية، وقالوا: إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم، وجرعوهم الغصص والآلام، وربما جرّ ذلك إلى وضع السم في الدسم أو إلى قتلهم، وفي المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر. والخلاصة (¬1): أنه إما أن يراد بالعداوة العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضرّوا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة في الدنيا، فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية. ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال: {وَإِنْ تَعْفُوا} عن ذنوبهم القابلة للعفو؛ بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين، لكن مقارنة للتوبة. {وَتَصْفَحُوا}؛ أي: تعرضوا عنها بترك التثريب والتعيير. يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه والتثريب عليه. {وَتَغْفِرُوا} بإخفائها وتمهيد عذرها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: بليغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم. قيل: كان رجل ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة، لما رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين .. هم أن يعاقب أزواجه وأولاده، فأنزل الله {وَإِنْ تَعْفُوا} الآية، والآية تعم وإن كان السبب خاصًا. وحكي أن الحطيئة - شاعر مشهور - أراد سفرًا، فقال لامرأته: عُدِّي السِّنِيّنَ لِغَيْبَتِي وَتَصَبَّرِيْ ... وَذَرِي الشُّهُورَ فَإِنَّهُنَ قِصَارُ فأجابته: وَاذْكُرْ صَبَابَتَنَا إِلَيْكَ وَشَوْقَنَا ... وَارْحَمْ بَنَاتِكَ إِنَّهُن صِغَارُ والمعنى: أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بالإعراض عنها وترك التثريب عليها، وتغفروا بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها .. فهو خير لكم، فإن الله رحيم بكم وبهم، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم. 15 - ثم أخبر سبحانه بان الأموال والأولاد فتنة، فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}؛ أي: بلاء واختبار ومحنة، يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله، فلا تطيعوهم في معصية الله. ¬

_ (¬1) المراغي.

والمعنى: إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار، إذ كثيرًا ما يترتب على ذلك الوقوع في الآثام وارتكاب كبير المحظورات. وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}. أخرج أحمد، والطبراني، والحاكم، والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال". ولم يذكر {مِنْ} في {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. وترك ذكر الأزواج في الفتنة - قال البقاعي -: لأن منهن من يكن صلاحًا وعونًا على الآخرة. وجيء (¬1) بـ {إِنَّمَا} للحصر؛ لأن جميع الأموال والأولاد فتنة؛ لأنه لا يرجع إلى مال أو ولد إلا وهو مشتمل على فتنة واشتغال قلب. وتأخير الأولاد من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الأولاد ألصق بالقلوب من الأموال لكونهم من أجزاء الآباء بخلاف الأموال؛ فإنها من توابع الوجود وملحقاته. {وَاللَّهُ} سبحانه {عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأموال والأولاد والتدبير في مصالحهم وعلى طاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤاثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم، زهدهم في الدنيا بذكر عيبها، ورغبهم في الآخرة بذكر نعيمها. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. روي: أن أول ما يتعلق بالرجل يوم القيامة أهله وأولاده، فيوقفونه بين يدي الله تعالى ويقولون: يا ربنا! خذ بحقنا منه، فإنه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام، ونحن لا نعلم، فيقضى لهم منه، وتأخذ عياله حسناته، فلا يبقى له حسنة. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات وهو: دود يقع في الطعام والثوب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

وغيوهما. ومن ثم ترك كثير من السلف المال، والأهل رأسًا، وأعرضوا عنها بالكلية؛ لأن كل شيء يشغل عن الله فهو مشؤوم على صاحبه. 16 - ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}؛ أي: ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم؛ أي: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم، و {الفاء} فيه للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتم ما ذكرت لكم وانتصحتم به .. فأقول لكم: اتقوا ما يكون سببًا لمؤاخذة الله إياكم من تدبير أمورهما، ولا ترتكبوا ما يخالف أمره تعالى من فعل أو ترك. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لما اشتد عليهم بأن قاموا حتى ورمت أقدامهم وتقرحت جباههم، فنزلت تيسيرًا لعباد الله. وممن قال بالنسخ: قتادة، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد. وعن ابن عباس: أنها آية محكمة لا ناسخ فيها. ولعله - رضي الله عنه - جمع بين الآيتين بأن يقول هنا وهنالك: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، واجتهدوا في الإنصاف به بقدر طاقتكم، فإنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والمعنى: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. إذا أمرتكم بأمر .. فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه. {وَاسْمَعُوا} مواعظه {وَأَطِيعُوا} أوامره {وَأَنْفِقُوا} مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصًا لوجهه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن المراد إنفاق الزكاة، والظاهر (¬1) العموم، وهو مندرح في الإطاعة. ولعل إفراده بالذِّكر لِما أن الاحتياج إليه كان أشد حينئذٍ، وأن المال شقيق الروح ومحبوب النفس، ومن ذلك قدم الأموال على الأولاد في جميع المواضع. وقال مقاتل: {وَاسْمَعُوا}؛ أي: أصغوا إلى ما ينزل عليكم. {وَأَطِيعُوا} لرسوله فيما يأمركم وينهاكم. وقيل: معنى {أسمعوا} اقبلوا ما تسمعون؛ لأنه لا فائدة في مجرد السماع. {وَأَنْفِقُوا} من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها. {خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} خبر لـ {يكن} المقدر جوابًا للأوامر المذكورة؛ أي: يكن ما ذُكر من السمع والطاعة، والإنفاق خيرًا لأنفسكم. أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: ائتوا وافعلوا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

خيرًا لأنفسكم واقصدوا ما هو أنفع لها. وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، وبيان لكون الأمور المذكورة خيرًا لأنفسهم من الأموال والأولاد، وما هم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا. والمعنى: {وَاسْمَعُوا ...} إلخ؛ أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه، وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفي الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة وسعادة الدين والدنيا، يكن ذلك خيرًا لأنفسكم من الأموال والأولاد. وهذا حث على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة. ثم زاد في الحث على الإنفاف، فقال: {وَمَن يُوقَ} ويعصم {شُحَّ نَفْسِهِ}؛ أي: بُخْلَ نفسه عن الإنفاق؛ أي: ومن يقه الله سبحانه ويعصمه من بخل نفسه الذي هو الرذيلة المعجونة في طينة النفس. وهو مضارع مجهول مجزوم الآخر بـ {من} الشرطية من الوقاية المتعدية إلى مفعولين. و {شُحَّ} مفعول ثان له باق على النصب والأول: الضمير القائم مقام الفاعل. {فَأُولَئِكَ} الموقون شح النفس {هُمُ} لا غيرهم {الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بكل خير. والمعنى (¬1): ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال .. يكن من الفائزين بكل ما يرجو وقيل كل ما يبغي في دينه ودنياه، فيكون محببًا إلى الناس قرير العين برضاهم عنه وحنوهم عليه، سعيدًا في الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جنانه. 17 - ثم بالغ في الحث على الإنفاف أيضًا، فقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى بصرف أموالكم إلى المصارف التي عينها. وذِكرُ القرض تلطفّ في الاستدعاء. {قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي (¬2): قرضًا مقرونًا بالإخلاص وطيب النفس. والقرض في العرف: أن يعطي أحدًا شيئًا من ماله ليرد بدله، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه من الله. و {قَرْضًا} إن كان بمعنى إقراضًا .. كان نصبه على المصدرية وإن كان بمعنى مقرضًا من النفقة .. كان مفعولًا ثانيًا لـ {تُقْرِضُوا} لأن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[18]

الإقراض يتعدى إلى مفعولين، ففي التعبير عن الإنفاق بالإقراض وجعله متعلقًا بالله الغني مطلقًا، والتعبير عن النفقة بالقرض إشارة إلى حسن قَبول الله ورضاه، وإلى عدم الضياع، وبشارة باستحقاق المنفق ببركة إنفاقه لتمام الاستحقاق. {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} من المضاعفة، بمعنى التضعيف؛ أي: التكثير، فليس المفاعلة هنا للاشتراك؛ أي: إن تصرفوا أموالكم في سبيل الله ووجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس .. يجعل لكم أجره مضاعفًا، ويكتب بالواحد عشرة، أو سبعين، أو سبع مئة، أو أكثر بمقتضى مشيئته على حسب النيات والأوقات والمحال. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب؛ أي: يضم لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم. ثم بيّن علة المضاعفة ورغب في النفقة، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه {شَكُورٌ} يعطي الكثير بمقابلة اليسير من الطاعة، أو يجازي العبد على الشكر. وهو الاعتراف بالنعمة على سبيل الخضوع، فسمى جزاء الشكر شكرًا، أو الله شكور، بمعنى: أنه كثير الثناء على عبده، بذكر أفعاله الحسنة وطاعته، فالشكر: الثناء على المحسن بذِكر إحسانه. {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم بالبخل والإمساك ونحوهما، فيحلم حتى يظن الجاهل أنه ليس يعلم، ويستر حتى يتوهم الغافل أنه ليس يبصر. قال الإمام الغزالي رحمه الله: الحليم: هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يتسفزه غضب ولا يعتريه غيظة، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام - مع غاية الاقتدار - عجلةٌ وطيش، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. 18 - ثم ذكر ما يزيد في الترغيب في النفقة أيضًا، فقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبر بعد خبر؛ أي: عالم ما غاب عنا وما شوهد لنا، لا تخفى عليه من خافية. وقد سبق الكلام عليه في أواخر سورة الحشر. ولعل تقديم الغيب على الشهادة، لأن عالمَ الغيب أعمّ والعِلم به أتم. وهو {الْعَزِيز}؛ أي: الغالب القاهر الذي لا يغالب، ولا يمانع من تنفيذ مراده. {الْحَكِيمُ}؛ أي: ذو الحكمة البالغة في تدبير أمور خلقه. والمعنى: هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه في أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة، وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزّة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم في تدبير خلقه على

ما يعلم من المصلحة. الإعراب {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}. {يسبح} فعل مضارع، {لِلَّهِ}: متعلق به، أو (اللام) زائدة في المفعول، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ (ما) الموصولة، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}: معطوف على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}. والجملة الفعلية مستأنفة. {لَهُ}: خبر مقدم، {الْمُلْكُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة في قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}. {وَلَهُ الْحَمْدُ}: معطوف على {لَهُ الْمُلْكُ}. {وَهُوَ}: مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ} خبر {هو}. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، وجملة {خَلَقَكُمْ} صلة الموصول. والجملة الاسمية مستأنفة. {فَمِنْكُمْ}: {الفاء}: عاطفة، (منكم) خبر مقدم، و {كافر}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أعني، {خَلَقَكُمْ}، أو على الجملة الاسمية، أعني قوله: {هُوَ الَّذِي}. وفي "الفتوحات": قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ ...} إلخ ظاهر تقديرهم أنه معطوف على الصلة، ولا يضره عدم العائد؛ لأن المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين. أو تقول: هي معطوفة على جملة {هُوَ الَّذِى ...} إلخ. اهـ "شهاب". قال الخطيب: والتقدير: هو الذي خلقكم ثم وصفكم فقال: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. وقوله: {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}: معطوف على قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ}. {وَاللَّهُ}: مبتدأ، {بما}: متعلق بـ {بَصِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ (ما)، و {بصير}: خبر عن الجلالة. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ}. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، {وَالْأَرْضَ}: معطوف على

{السَّمَاوَاتِ}، والجملة مستأنفة، {بِالْحَقِّ}: حال من فاعل {خَلَقَ} أو من {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، و {الباء}: للملابسة. {وَصَوَّرَكُمْ}: معطوف على {خَلَقَ}، {فَأَحْسَنَ}: {الفاء}: عاطفة، {أحسن صوركم} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {صوَّركم} عطفًا تفسيريًا، {وإليه}: خبر مقدم، {المَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}. {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الله}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، {فِي السَّمَاوَاتِ}: صلة لـ {ما} الموصولة، {والأرض}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، {وَيَعْلَمُ مَا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، وجملة {تُسِرُّونَ}: صلة لـ {ما} الموصولة، {وَمَا تُعْلِنُونَ}: معطوف على {مَا تُسِرُّونَ}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}: مبتدأ وخبر، {بِذَاتِ الصُّدُورِ} متعلق بـ {عَلِيم} والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)}. {أَلَمْ}: (الهمزة): للاستفهام التقريري التوبيخي، {لم}: حرف جزم، {يأتكم}: فعل ومفعول به مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، {نَبَأُ}: فاعل، {الَّذِينَ}: مضاف إليه، والجملة ممستأنفة، {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {كَفَرُوا}، أو حال من فاعل {كَفَرُوا}. {فَذَاقُوا}: {الفاء}: عاطفة، {ذاقوا} فعل، وفاعل معطوف على {كَفَرُوا}، {وَبَالَ أَمْرِهِمْ}: مفعول به، ومضاف إليه. {وَلَهُمْ}: خبر مقدم {عَذَابٌ أَلِيمٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {ذاقوا} عطف تفسير. {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {بِأَنَّهُ}: خبر، والجملة مستأنفة؛ أي: ذلك كائن بسبب أنه كانت ... إلخ. {أَنَّهُ}: ناصب واسمه، {كَانَتْ}: فعل ناقص واسمها ضمير يعود

على {الرسل}، {تَأْتِيهِمْ}: فعل مضارع ومفعول به {رُسُلُهُمْ}: فاعل {تَأْتِيهِمْ}، {بِالْبَيِّنَاتِ}: متعلق بـ {تَأْتِيهِمْ}، وجملة {تَأْتِيهِمْ} خبر {كان}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر (أنّ)، وجملة (أن) في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب إتيان رسلهم إياهم، بالبينات {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}. {فَقَالُوا}: فعل وفاعل معطوف على {كانت}، {أَبَشَرٌ}: (الهمزة): للاستفهام الإنكاري، (بشر) مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة دخول الاستفهام عليه، وجوزوا أن يكون مرفوعًا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره ما بعده، فتكون المسألة من باب الاشتغال، والتقدير: أيهدينا بشر؟ وجملة {يَهْدُونَنَا} في محل الرفع خبر على الوجه الأول، ولا محل لها من الإعراب على الوجه الثاني؛ لأنها مفسرة. وجملة الاستفهام في محل النصب مقول {قالوا}. {فَكَفَرُوا}: فعل وفاعل معطوف على {قالوا}، {وَتَوَلَّوْا}: فعل وفاعل معطوف على {كفروا} {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}: فعل وفاعل معطوف على {تولوا}. {وَاللهُ}: مبتدأ، {غَنِيٌّ} خبر أول، {حَمِيدٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}. {زَعَمَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: أنه. {لَنْ}: حرف نصب، {يُبْعَثُوا}: فعل ونائب فاعل منصوب بـ {لن}، والجملة في محل الرفع خبر {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {زَعَمَ}؛ أي: زعم الذين كفروا عدم بعثهم من القبور. {قُل}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {بلى}: حرف جواب لإثبات النفي، قائم مقام الجواب، تقديره: قل: بلى تبعثون، وجملة الجواب المحذوف في محل النصب مقول {قُل}. {وَرَبِّي}: (الواو): حرف جر وقسم، (ربي): مجرور بواو القسم، ومضاف إلى الياء، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم بربي. {لَتُبْعَثُنَّ}: (اللام): موطئة للقسم، (تبعثن)؛ فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، نائب فاعل. والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة

القسم في محل النصب مقول {قُلْ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، (اللام): موطئة للقسم، (تنبؤن): فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و {الواو}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على (تبعثن)، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ (تنبؤن)، وجملة {عَمِلْتُمْ} صلة الموصول، {وَذَلِكَ}: مبتدأ، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَسِيرٌ}، و {يَسِيرٌ}: خبر (ذلك)، والجملة مستأنفة. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}. {فَآمِنُوا}: {الفاء}: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: آمنوا. {آمنوا}: فعل أمر، وفاعل {بِاللَّهِ}: متعلق بـ (آمنوا)، {وَرَسُولِهِ}: معطوف على الجلالة، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَالنُّورِ}: معطوف على الجلالة أيضًا، {الَّذِي}: صفة لـ {النُّورِ} وجملة {أَنْزَلْنَا}: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: والنور الذي أنزلناه. و {الله}: مبتدأ، {بِمَا}: متعلق بـ {خَبِيرٌ}، وجملة {تَعْمَلُونَ}: صلة لـ {ما}، {خَبِيرٌ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة. {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}. {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {خَبِيرٌ}، أو بمحذوف دل عليه سياق الكلام؛ أي: تتفاوتون يوم يجمعكم. أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكروا يوم. وجملة {يَجْمَعُكُمْ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} {لِيَوْمِ الْجَمْعِ}: متعلق بـ {يَجْمَعُكُمْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ، {يَوْمُ التَّغَابُنِ}: خبره، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية، {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُؤْمِنْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِاللهِ} متعلق بـ {يُؤْمِنْ}، {وَيَعْمَلْ}: فعل مضارع معطوف على {يُؤْمِنْ}، {صَالِحًا}: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. {يُكَفِّرْ} فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {عَنْهُ}: متعلق بـ {يُكَفِّرْ}، {سَيِّئَاتِهِ}: مفعول به،

وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَيُدْخِلْهُ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {يُكَفِّرْ}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق بـ {تَجْرِي} {الْأَنْهَارُ}: فاعل والجملة نعت لـ {جَنَّاتٍ}، {خَالِدِينَ} حال من ضمير {يدخله}. وجمعه نظرًا لمعنى (من). {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {أَبَدًا}: ظرف متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {ذَلِكَ}: مبتدأ، {الْفَوْزُ}: خبره، {الْعَظِيمُ}: صفة لـ {الْفَوْزُ}، والجملة مستأنفة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ أول وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {وَكَذَّبُوا}: معطوف على {كَفَرُوا}، {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ ثان، {أَصْحَابُ النَّارِ}: خبره، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر عن الأول، وجملة الأول معطوفة على ما قبلها. {خَالِدِينَ}: حال من أصحاب النار، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: {الواو} استئنافية، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هي؛ أي: النار. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}. {مَا}: نافية، {أَصَابَ}: فعل ماض، {مِنْ}: زائدة، {مُصِيبَةٍ}: فاعل، ومفعول أصاب محذوف، تقديره: ما أصابت مصيبة أحدًا من الناس. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِإِذْنِ اللَّهِ}: متعلق بـ {أَصَابَ}، والجملة مستأنفة مسوقة للرد على الكفار الذين قالوا: لو كان المسلمون على حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا. {وَمَن}: {الواو}: عاطفة، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُؤْمِنْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنْ}، {يَهْدِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {الله}، {قَلْبَهُ}: مفعول به، والجملة الشرطية معطوفة على جملة {مَآ أَصابَ}. {اللَّهِ}: مبتدأ، {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {عَلِيمٌ}، و {عَلِيمٌ}: خبر عن الجلالة،

والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}. {وَأَطِيعُوا}: {الواو} عاطفة، {أَطِيعُوا اللَّهَ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة الشرط، أو مستأنفة. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ما قبله. {فَإِنْ}: {الفاء}: استننافية، {إنْ}: حرف شرط، {تَوَلَّيْتُمْ}: فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا بأس على رسولنا. وجملة الشرط مع جوابه مستأنفة، {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: تعليلية، {إنما}: أداة حصر، {عَلَى رَسُولِنَا}: خبر مقدم، {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، {الْمُبِينُ}: صفة للبلاغ، والجملة الاسمية جملة تعليلية للجواب المحذوف، لا محل لها من الإعراب. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، وجملة، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة، وقد تقدم لك إعراب الكلمة المشرفة في غير ما موضع. {وَعَلَى اللَّهِ}: {الواو}: زائدة، {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {يتوكل}، {فَلْيَتَوَكَّلِ}: {الفاء}: عاطفة، و {اللام}: لام الأمر، {يتوكل}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، {الْمُؤْمِنُونَ}: فاعل والجملة معطوفة على جملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة، {الَّذِينَ}: بدل من {أيُّ}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {إنَّ} حرف نصب، {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} خبر مقدم لـ {إنَّ}، {وَأَوْلَادِكُمْ}: معطوف على {أَزْوَاجِكُمْ}، {عَدُوًّا}: اسم {إنَّ} مؤخر، {لكم}: صفة لـ {عَدُوًّا} أو متعلق به، وجملة {إنَّ} جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {فَاحْذَرُوهُمْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ذلك وأردتم بيان اللازم لكم .. فأقول لكم: احذروهم. {احذروا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، و {الهاء}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة

مستأنفة. {وَإِنْ تَعْفُوا}: {الواو}: استئنافية، {إن}: حرف شرط، {تَعْفُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون، و {الواو} فاعل. {وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا}: معطوفان على {تَعْفُوا}، {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: رابطة الجواب {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {غَفُورٌ رَحِيمٌ}: خبران له، وجملة {إن} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {أَمْوَالُكُمْ}: مبتدأ أول، {وَأَوْلَادُكُمْ} معطوفة. {فِتْنَةٌ}: خبر {وَاللَّهُ عِنْدَهُ}: خبر مقدم، {أَجْرٌ}: مبتدأ مؤخر {عَظِيمٌ}: صفة {أجر}، والجملة في محل الرفع خبر عن الجلالة، وجملة الجلالة مستأنفة. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا علمتم أنه تعالى جعل أموالكم وأولادكم فتنة لكم شاغلة عن الآخرة، وأردتم بيان النصيحة لكم .. فأقول لكم: اتقوا الله. {فَاتَّقُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مَا اسْتَطَعْتُمْ} {مَا}: مصدرية {اسْتَطَعْتُمْ}: فعل، وفاعل صلة لـ {ما} المصدرية، وجملة {ما} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: فاتقوا الله استطاعتكم وجهدكم، ولكنه على تقدير مضاف. أي: بقدر استطاعتكم. {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا}: معطوفات على {فَاتَّقُوا اللهَ}، {خَيْرًا}: خبر لـ {يكن} المحذوفة، المجزوم بالطلب السابق، تقديره: يكن ذلك الإنفاق خيرًا لأنفسكم، كما قاله أبو عبيد أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: وأتوا خيرًا لأنفسكم. كقوله: {انتهوا خيرًا لكم} كما قاله سيبويه. أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: إنفاقًا خيرًا، كما قاله الكسائي والفراء. أو منصوب على الحال، كما قاله الكوفيون. أو منصوب بأنفقوا؛ أي: أنفقوا مالًا خيرًا، وقوله: {لِأَنْفُسِكُمْ}: متعلق بـ {خَيْرًا}. {وَمَنْ يُوقَ}:

{الواو}: استئنافية {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يُوقَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على {مَنْ}، {شح}: مفعول به ثان لـ {يوق} {نَفْسِهِ}: مضاف إليه. {فَأُولَئِكَ}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط وجوبًا، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، {الْمُفْلِحُونَ}: خبر المبتدأ، أو خبر لـ {هم}، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. {إِنْ}: حرف شرط {تُقْرِضُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، و {الواو}: فاعل، {اللَّهَ} مفعول به، {قَرْضًا}: مفعول مطلق، {حَسَنًا}: صفة {قَرْضًا}، {يُضَاعِفْهُ}: فعل مضارع، ومفعول به مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهَ}، {لَكُمْ}: متعلق بـ {يضاعف}، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، {وَيَغْفِرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {يضاعف}: مجزوم على أنه جواب الشرط، {لَكُمْ}: متعلق به. {وَاللَّهُ}: {الواو}: استئنافية، {اللَّهَ}: مبتدأ، {شَكُورٌ}: خبر أول، {حَلِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {عَالِمُ الْغَيْبِ}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عالم الغيب، و {الْغَيْبِ}: مضاف إليه، {وَالشَّهَادَةِ}: معطوف عليه، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا، {الْعَزِيزُ}: خبر ثان لذلك المحذوف، {الْحَكِيمُ}: خبر ثالث له. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لَهُ الْمُلْكُ} والملك - بضم الميم - هو: الاستيلاء والتمكن من التصرف في كل شيء على حسب ما أراده في الأزل. قال الرازي: المُلك: تمام القدرة واستحكامها، يقال: ملِك بين المُلك بالضم، ومالك بين المِلك بالكسر. {هُوَ الَّذِي

خَلَقَكُمْ}؛ أي: قدر خلقكم في الأزل. وكذا قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}؛ أي: مقضي بكفره وإيمانه أزلًا. {بِالْحَقِّ}: الباء للملابسة؛ أي: خلقًا متلبسًا بالحق؛ أي: بالحكمة البالغة. {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} أصله: تسررون، بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين فسكنت فأدغمت في الثانية. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} هذا الاستفهام للتعجيب من حالهم. والنبأ: الخبر الهام. {فَذَاقُوا} أصله: ذوقوا، بوزن فعلوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. والذوق وإن كان معروفًا في القليل فهو مستعمل في الكثير أيضًا. {وَبَالَ أَمْرِهِمْ}؛ أي: عقوبة كفرهم. والوبال: الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور. والوبل والوابل: المطر الثقيل القطار، مقابل الطل، وهو: المطر الخفيف، ومنه: الوبيل، للطعام الثقيل على المعدة. و {أمرهم}: كفرهم، فهو واحد الأمور، عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة. {يَهْدُونَنَا} أصله: يهديوننا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما حذفت التقى ساكنان فحذفت لذلك، وضمت الدال لمناسبة الواو. {وَتَوَلَّوْا} أصله: توليوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}؛ أي: أظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم. وأصله: استغنى بوزن استفعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والزعم: ادعاء العلم بالشيء، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل، فمعنى زعم فلان كذا: ادعي علمه بحصوله، فمعنى زعمت زيدًا قائمًا: أقول إنه كذا. ففي تصدير الجملة بقوله: (زعمت) إشعار بأنه لا سند للحكم سوى ادعائه إياه وقوله به. {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}: {أَن} مخففة من الثقيلة، {لَن}: ناصبة؛ لئلا يدخل ناصب على ناصب. {بَلَى}: كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده، كما وقع في الآية. {لَتُبْعَثُنَّ}؛ أي: لتحاسبن، وتجزون بأعمالكم. أصله: لتبعثون، بنون واحدة، ثم اتصلت به نون التوكيد الثقيلة فصار لتبعثونن بثلاث نونات فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فصار لتبعثونّ فالتقى ساكنان فحذفت الواو لذلك، وكذا القول في قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} لا يختلفان. {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} والتغابن تفاعل من الغبن، وليس على بابه، يقال: تغابن القوم في التجارة، إذا غبن بعضهم بعضًا في معاملة بينهم بضرب من التدليس؛ كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته، فهذا غبن البائع، أو يشتريه بأكثر من قيمته،

وهذا غبن للمشتري. والمراد بالمغبون هنا: من من عن منازله ومنازل أهله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. وهو هنا مستعار من تغابن القوم في التجارة، كما سيأتي. {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} أصله: تعفوون، بوزن تفعلون، حذفت منه نون الرفع لدخول أداة الجزم، ثم سكنت الواو الأولى لام الكلمة لتكون حرف مد لوقوعها إثر ضمة، فلما سكنت التقى ساكنان؛ لأن واو الجماعة التي بعدها ساكنة فحذفت الواو لام الكلمة، فوزنه: تفعو. {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}: أصل هذه المادة: (وق ي)؛ لأن المصدر منها الوقاية. وأصل اتقوا: اوتقيوا، أبدلت الواو فاء الكلمة تاءً وأدغمت في تاء الافتعال، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فلما سكنت حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، فحذفت وضمت القاف لمناسبة الواو، وهذا بعد حذف نون الرفع عند بناء الأمر من الأفعال الخمسة. قوله: {اسْتَطَعْتُمْ} فيه إعلال بالنقل والحذف، أصله: استطوع، بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت الواو لما سلبت حركتها، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك سكن آخره فالتقى ساكنان حينئذٍ، وهما: الواو عين الفعل، والعين لامه، فحذفت الواو، فوزنه: استفلتم. قوله: {وَأَطِيعُوا} أصله: وأطوعوا، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. {يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}: يوق بوزن يفع؛ لحذف لامه للجازم؛ أي: يكف ويحفظ ويعصم؛ أي: يكفه الله شح نفسه، فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقنًا به مطمئنًا إليه، حتى ترتفع عن قلبه الأخطار. والشح: خُلق باطني، هو الداء العضال، والبخل: فعل ظاهر ينشأ عن الشح. والنفس تارة تشح بترك المعاصي بأن تفعلها، وتارة تشح بالطاعات فتتركها، وتارة تشح بإعطاء المال. ومن فعل ما فرض عليه .. خرج عن الشح. اهـ. "خطيب". {قَرْضًا حَسَنًا} والقرض الحسن هو: التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس. قال في "اللباب": القرض: القطع، ومنه: المقراض لما يقطع، وانقرض القوم إذا هلكوا، وانقطع أثرهم. وقيل للقرض: قرض، لأنه قطع شيء من المال، هذا أصل الاشتقاق. ثم اختلفوا فيه، فقيل: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، سمي قرضًا من حيث التزام الله سبحانه المجازاة عليه. وفي تسميته قرضًا أيضًا مزيد

ترغيب في الصدقة؛ حيث جعلها قرضًا لله مع أن العبد إنما يقرض نفسه؛ لأن النفع عائد عليه. اهـ. "شيخنا". قال القشيري: ويتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في عدم إخلاء أوقاتهم عن مراد الحق ومراقبته على مراد أنفسهم. فالغني يقال له: آثر حكمي على مرادك في مالك وغيوه، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك. اهـ. "خطيب". {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} من المضاعفة، بمعنى التضعيف؛ أي: التكثير، فليس المفاعلة هنا للاشتراك. {شَكُورٌ} والشكور مبالغة الشاكر. والشكر على أقسام: شكر بالبدن؛ وهو: أن لا تستعمل جوارحك في غير طاعته، وشكر بالقلب، وهو: أن لا تشغل قلبك بغير ذكره ومعرفته، وشكر باللسان؛ وهو: أن لا تستعمله في غير ثنائه ومدحه، وشكر بالمال؛ وهو: أن لا تنفقه في غير رضاه ومحبته. وأحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا تستعملها في معاصيه بل في طاعته. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تكرار (ما) في قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وفي قوله: {وَمَا تُعْلِنُونَ}. إفادة للتأكيد والتعميم، وإيذانًا للاختلاف؛ لأن تسبيح ما في السماوات مخالف لتسبيح ما في الأرض كثرة وقلة، وإسرارنا مخالف لعلانيتنا. ولم تُكرر {مَا} في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لعدم اختلاف علمه تعالى؛ إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها، وعلمه بما يكون كعلمه بما كان. ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} للدلالة على اختصاص الأمرين به تعالى من حيث الحقيقة؛ لأنه مبدؤ كل شيء ومبدعه، فكان الملك له حقيقة دون غيوه، ولأن أصول النِّعم وفروعها منه تعالى. فالحمد له تعالى حقيقة، وحمد غيره إنما يقع من حيث ظاهر الحال وجريان النِّعم على يديه. اهـ. "كرخي". ومنها: الطباق بين {السَّمَاوَاتِ} و {الْأَرْضِ} وبين {كَافِرٌ} و {مُؤْمِنٌ}، وبين {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.

ومنها: تقديم الأعم ثم الأخص في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}؛ لأن كل واحدة من هذه الثلاث أخص مما قبلها، وجمع بينهما إشارة إلى أن علمه تعالى محيط بالجزئيات والكليات لا يعزب عنه شيء من الأشياء. اهـ. "خطيب". ومنها: عطف المسبب على السبب في قوله: {كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ}؛ لأن الذوق مسبب عن الكفر. ومنها: الترقي من الأظهر إلى الأخفى في هذه الثلاثة المذكورة، لأنه تعالى عالم بما في السماوات وما في الأرض، وبما يصدر من بني آدم سرًا وعلنًا، وبما لم يصدر بعد بل هو مكنون في الصدور. ومنها: إظهار الجلالة في قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} للإشعار بعلية الحكم وتأكيد استقلال الجملة قبل. ومنها: الجناس الناقص في قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لاختلاف الحركات في الشكل. ومنها: التعبير بالذوق في قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} إشارة إلى أن ذلك المذوق العاجل شيء حقير بالنسبة إلى ما سيرون من العذاب الآجل. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَبَالَ أَمْرِهِمْ}؛ لأن الوبال حقيقة في الثقل، فاستعاره للعقوبة؛ لأنها كالشيء الثقيل المحسوس. ومنها: التعبير عن كفرهم بالأمر في قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ}؛ أي: كفرهم؛ للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة. ومنها: الجناس المغاير في قوله: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}. أطلق على القرآن النور بطريق الاستعارة التصريحية بجامع الإزالة في كلّ، فإن القرآن يزيل الشبهات كما يزيل النور الظلمات. ومنها: الالتفات إلى نون العظمة في قوله: {أَنْزَلْنَا} لإبراز كمال العناية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}.

ومنها: المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين في قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا ...} الآية، وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}. شبهت حال الفريقين المتمكنين من اختيار ما يؤدي إلى سعادة الآخرة، فاختار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرًا عليه بدل ما اختاره الآخر. وشبهه بحال المتبادلين بالتجارة، وشبه ما يتفرع عليه من نزول كل منهما منزلة الآخر بالتغابن؛ لأن التغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته، وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ولا معاوضة في الآخرة فإطلاق التغابن علي ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة التمثيلية. وفي الآية أيضًا فن التهكم؛ لأنه يتهكم بالأشقياء، لأن نزولهم منازلهم في النار ليس بغبن. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ}. ومنها: التكرار في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد التولي في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}؛ أي: أعرضتم عن إطاعة الرسول، كما مر في مبحث التفسير. ومنها: إظهار الرسول مضافًا إلى نون العظيمة في مقام إضماره؛ لتشريفه - صلى الله عليه وسلم -، والإشعار بمدار الحلم الذي هو كون وظيفته - صلى الله عليه وسلم - محض البلاغ، ولزيادة تشنيع التولي عنه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: إظهار الجلالة في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في موضع الإضمار، للإشعار بعلية التوكل، والأمر به. فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى، وقطع التعلق عما سواه بالمرة. ومنها: الإتيان بـ {مِنْ} التبعيضية في قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} إشعارًا بأن منها ما ليس بعدو بل هو عون على الدنيا والآخرة. ومنها: الحث على العفو والصفح في قوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} إشعارًا بأنه ليس المراد من الأمر بالحذر وتركهم بالكلية والإعراض عن معاشرتهم ومصاحبتهم، كيف؟ والنساء من أعظم نعم الجنة، وبها نظام العالم. فإنه لولا الأزواج لما وجد الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء، وإنما يحذر من التعلق بها،

ومحبتها الشاغلة عن محبة الله تعالى. ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ}؛ لأن جميع الأموال والأولاد فتنة؛ لأنه لا يرجع إلى مال أو ولد إلا وهو مشغول القلب به. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} شبه الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء بمن يقرض الله قرضًا حسنًا وأحب الوفاء، وذلك بطريق التمثيل، وهو من لطيف الاستعارة وبديع العبارة، وقيل في قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} استعارة تصريحية تبعية، وفي قوله: {قَرْضًا حَسَنًا} استعارة تصريحية أصلية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على ما يلي: 1 - صفات الله الحسنى. 2 - إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم. 3 - إنكار المشركين للبعث. 4 - بيان أن ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وتقديره. 5 - تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر. 6 - أن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء. 7 - الأموال والأولاد فتنة. 8 - الحث على التقوى والإنفاق في سبيل الله تعالى. والله أعلم * * *

سورة الطلاق

سورة الطلاق سورة الطلاق مدنية، نزلت بعد سورة الإنسان. قال القرطبي: مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة. وكلماتها: مئتان وتسع وأربعون كلمة. وحروفها: ألف ومئة وسبعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه قال في السورة السابقة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}، ولما كانت هذه العداوة قد تفضي إلى الطلاق .. أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه. وقال أبو حيان (¬1): مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد أشار إلى الفتنة بالنساء، وأنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصًا منها إلا بالطلاق .. فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل؛ بأن لا يكون بينهن اتصال لا بطلب ولد ولا حمل، انتهى. التسمية: وسميت سورة الطلاق لذِكر الطلاق فيها، وتسمى سورة النساء الصغرى. الناسخ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الطلاق كلها محكم، ليس فيها منسوخ ولا ناسخ. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}. المناسبة قد تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. وأما قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما

أمر (¬1) بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة، ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة، ونهى عن تعدي تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم .. خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين: إما أن يراجعها ويعاشرها بحسان، وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها من التفضل والإكرام. فإذا اختار الرجعة .. فليشهد على ذلك شاهدين عدلين، قطعًا للنزاع ودفعًا للريبة، ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة، وأرشد إلى أن تقوى الله تفتح السبل للمرء وتخرجه عن كل ضيق وتهديه إلى الطريق المستقيم في دينه ودنياه، وأن من يتوكل على ربه يكفيه ما أهمه ويفرج عنه كربه. ثم ذكر أن أمور الحياة جميعًا بقضاء الله وقدره، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب، ولا يفرح ولا يبطر بما يناله من خيراتها. قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سبق أن الطلاق السني إنما يكون في طهر لا وقاع فيه ولم يبين مقدار العدة، وكان قد ذكر في سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء .. ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللاتي يئسن من المحيض تكون ثلاثة أشهر، وعدة الحامل تكون بوضع الحمل، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل .. أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة. ثم أردف ذلك ببيان: أن الحوامل لهن النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هن ولدن .. وجب لهن الأجر على إرضاع المولود، فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هي رضيت بمثل أجرتها. والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع فالله لا يلف نفسًا إلا ما تطيق. قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (¬2) لما ذكر أن الطلاق لا يكون إلا في أوقات مخصوصة، وأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر، وذكر مدة العدة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة، ونهى عن تجاوز حدود الله تعالى، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه .. توعد هنا من خالفوا أمره وكذبوا رسله، وسلكوا غير ما شرعه، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلًا في الآخرين. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أنذر مشركي مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا في الدنيا، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له في الآخرة .. ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلي؛ ليكون ذلك باعثًا لهم على استجابة دعوة الرسول والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين. أسباب النزول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن أنس قال: (طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ...} الآية. فقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة). وأخرجه ابن جرير عن قتادة أيضًا مرسلًا. قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه الحاكم عن جابر قال: نزلت هذه الآية، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} في رجل من أشجع كان فقيرًا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال له: "اتق الله واصبر"، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء ابن له بغنم، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره خبرها، فقال: "كلها"، فنزلت الآية. قال الذهبي: حديث منكر له شاهد. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: "آمرك وإياها أن تستكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله" فقالت المرأة: نِعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ...} الآية. وأخرجه الخطيب في "تاريخه" من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البيهقي، والحاكم في جماعة آخرين عن أبي بن كعب: أن ناسًا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة في عِدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار، والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وذوات الحمل؟ فأنزل الله تعالى في سورة النساء الصغرى، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ ...} الآية. وروي: أن قومًا، منهم: أبي بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قالوا: يا رسول الله، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ ...}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}؛ أي (¬1): إذا أردتم تطليق النساء المدخول بهن المعتدات بالأقراء، وعزمتم عليه بقرينة {فَطَلِّقُوهُنَّ} مستقبلات {لِعِدَّتِهِنَّ} متوجهات إليها، وهي الحيض عند الحنفية. فاللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام، والمراد أن يطلقن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن. فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم على القرء الأول من أقرائها .. فقد طلقت مستقبلة لعدتها. والأقراء عند أبي حنيفة هي الحيض. وقال الجرجاني: واللام في قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} بمعنى (في)؛ أي: طلقوهن في زمن استئناف عدتهن، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه، كما عليه الشافعي، فالأقراء عند الشافعي هي الأطهار، فإذا طلقوهن هكذا .. فقد طلقوهن في عدتهن. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وتخصيص النداء به - صلى الله عليه وسلم - مع عموم الخطاب لأمته أيضًا لتحقيق أنه المخاطب حقيقة، ودخولهم في الخطاب بطريق استتباعه - صلى الله عليه وسلم - إياهم وتغليبه عليهم، ففيه تغليب المخاطب على الغائب. والمعنى: إذا طلقت أنت وأمَّتك. وقيل: خصه بالنداء أولًا تشريفًا له ثم خاطبه مع أمَّته، أو: الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمَّته أسوته في ذلك. وفي "الكشاف ": خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنداء وعمم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان، افعلوا كيت وكيت، إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه لسان قومه، فكأنه هو وحده في حكم كلهم لصدورهم عن رأيه، كما قال البقلي: إذا خاطب السيد .. بأن شرفه على الجمهور: إذ جَمَعَ الجميع في اسمه. ففيه إشارة إلى سر الإتحاد. وفي "كشف الأسرار": في هذا الخطاب أربعة أقوال: أحدها: أنه خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، كما يخاطب الملوك بلفظ الجمع. والثاني: أنه خطاب له، والمراد أمَّته. والثالث: أن التقدير: يا أيها النبي والمؤمنون إذا طلقتم، فحذف لأن الحكم يدل عليه. والرابع: معناه: يا أيها النبي قل للمؤمنين: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}، انتهى. يقول الفقير: هذا الأخير أنسب بالمقام، فيكون مثل قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ}، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ}؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان أصيلًا في المأمورات كما أن أمته أصيل في المنهيات؛ إلا أن الطلاق لما كان أبغض المباحات إلى الله تعالى .. كان الأولى أن يسند التطليق إلى أمته دونه - صلى الله عليه وسلم - مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صدر منه التطليق، فإنه طلق حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - واحدة، فلما نزلت الآية .. راجعها، وكانت علَّامةً كثيرة الحديثِ قريبًا منزلتها من منزلة عائشة - رضي الله عنهما -: فقيل له - صلى الله عليه وسلم -: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة، حكاه الطبري. وفي الحديث بيان فضل العلم وحفظ الحديث، ومحبة الصيام والقيام، وكرامة أهلهما عنده تعالى.

قال في "المفردات": أصل الطلاق: التخلية من وثاق، ويقال: أطلقت البعير من عقاله، وطلقته، وهو طالق وطلق بلا قيد، ومنه استعير: طلقت المرأة إذا خليتها، فهي طالق؛ أي: مخلاة عن حبالة النكاح، انتهى. والطلاق اسم مصدر بمعنى كالتطليق كالسلام بمعنى التسليم، والكلام بمعنى التكليم، وفي ذلك قالوا: المستعمل في المرأة لفظ التطليق، وفي غيرها لفظ الإطلاق؛ حتى لو قال: أطلقتك .. لم يقع الطلاق ما لم ينو. ولو قال: طلقتك .. وقع نوى أو لم ينو. والعدة (¬1): مصدر عدّه يعده. وفي الحديث: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى تكون القيامة؟ قال: "إذا تكاملت العدتان"؛ أي: عدة أهل الجنة وعدة أهل النار؛ أي: عددهم. وسمي الزمان الذي تتربص المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدة؛ لأنها تعد الأيام المضروبة عليها، وتنتظر أوان الفرج الموعود لها. والمعنى (¬2): أي أيها المؤمنون: إذا أردتم طلاق نسائكم .. فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه؛ حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن في زمان الحيض .. كان الطلاق طلاقًا بدعيًا حرامًا. والمراد بالنساء: المدخول بهن من ذوات الأقراء. أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذات الأشهر سيأتي حكمهن فيما بعد. أخرج الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في آخرين عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتغيظ منه، ثم قال: "ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهير ثم تحيض ثم تطهير، فإن بدا له أن يطلقها .. فليطلقها قبل أن يمسا، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". والخلاصة: أن السنة في الطلاق: أن تطلق المرأة وهي طاهرة، دون أن يكون الرجل لامسها في هذا الطهر، أو أن يطلقها وهي حامل حملًا مستبينًا. ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقسامًا ثلاثة: 1 - طلاق سنة، وهو: أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملًا حملًا قد استبان. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

2 - طلاق بدعة، وهو: أن يطلقها حين الحيض، أو في طهر قد واقعها فيه فلا يدري أحملت أم لا؟ والسرّ في هذا (¬1): أنه بعمله هذا أطال عليها العدة؛ لأن هذه الحيضة لا تحسب في العدة، وكذا الطهر الذي بعدها؛ لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل. 3 - طلاق لا هو سنة ولا بدعة، وهو: طلاق الصغيرة، والآيسة من الحيض، وغير المدخول بها. وقد روي عن إبراهيم النخعي: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وما كان أخس عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاقًا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة في طهر واحد. وعند الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سُنة، ولا بدعة، بل هو مباح. والخلاصة: أن مالكًا يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}؛ أي: واحفظوا عدة الأقراء بحفظ الوقت الذي وقع فيه الطلاق، وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل لا نقصان فيهن؛ أي: ثلاث حيض، كما عند أبي حنيفة؛ لأن الغرض من العدة استبراء الرحم، وكماله بالحيض الثلاث لا بالأطهار، كما يغسل الشيء ثلاث مرات لكمال الطهارة؛ أي: واحفظوا العدة واحفظوا الوقت الذي وقع في الطلاق، واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلا تطول على المرأة، واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها. والمخاطب بالإحصاء هم الأزواج لا الزوجات ولا المسلمون كما قيل، وإلا .. يلزم تفكيك الضمائر، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق، وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء؛ لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليها. وقال أبو الليث: أمر الرجال بحفظ العدة: لأن في النساء غفلة، فربما لا ¬

_ (¬1) المراغي.

تحفظ عدتها، فالزوج يحيى ليتمكن من تفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثًا. فإن إرسال الثلاث في طهر واحد مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه وإن كان لا بأس به عند الشافعي وأتباعه، حيث قال: لا أعرف في عدد الطلاق سُنة ولا بدعة، وهو مباح، وليعلم بقاء زمان الرجعة ليراجع إن حدثت له الرغبة فيها، وليعلم زمان وجوب الإنفاق عليه وانقضاءه، وليعلم أنها هل تستحق عليه أن يسكنها في البيت أو له أن يخرجها؟ وليتمكن من إلحاق نسب ولدها به وقطعه عنه. قالوا (¬1): وعلى الرجال في بعض المواضع العدة: منها: أنه إذا كان للرجل أربع نسوة، فطلق إحداهن .. لا يحل له أن يتزوج بامرأة أخرى ما لم تنقض عدتها. ومنها: أنه إذا كان له امرأة ولها أخت، فطلق امرأته .. لا يحل له أن يتزوج بأختها ما دامت في العدة. ومنها: أنه إذا اشترى جارية .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة. ومنها: أنه إذا تزوج حربية .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة. ومنها: أنه إذا بلغ المرأةَ وفاةُ زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت، ثم جاء زوجها الأول .. فهي امرأتهن لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق، ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني، ووجوب العدة لا يتوقف على صحة النكاح إذا وقع الدخول، بل تجب العدة في صورة النكاح الفاسد أيضًا، على تقدير الدخول. ومنها: أنه إذا تزوج امرأة وهي حائض .. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من حيضها. ومنها: أنه إذا تزوج بامرأة نفساء .. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من نفاسها. ومنها: إذا زنى بامرأة ثم تزوجها .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها ¬

_ (¬1) روح البيان.

بحيضة {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن بإيقاع طلاق ثان بعد الرجعة، فالأمر بالتقوى متعلق بما قبله. والتقوى في الأصل (¬1): اتخاذ الوقاية، وهي ما يقي الإنسان مما يكرهه ويؤمل أن يحفظه ويحول بينه وبين ذلك المكروه؛ كالترس ونحوه، ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما يقي العبد بوعد الله ولطفه من قهره، ويكون سببًا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة، وللتقوى فضائل كثيرة ومراتب عديدة. والمعنى: أي واخشوا الله ربكم ومالككم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن وفي القيام بما للمعتدات من الحقوق، وفي وصفه تعالى بالربوبية مبالغة في وجوب الامتثال لأمره لما في لفظ الرب من التربية التي هي الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها. ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ}؛ أي: لا تخرجوا أيها الأزواج المعتدات {مِنْ بُيُوتِهِنَّ}؛ أي: من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة؛ أي: لا تخرجوهن من مساكنكم عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن. وإنما أضيفت إليهن مع أنها لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن، مثل قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. وفي ذكر البيوت دون الدار إشارة إلى أن اللازم على الزوج في سكناهن ما تحصل المعيشة فيه؛ لأن الدار ما يشتمل على البيوت. والمعنى: أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن، فيها قبل الطلاق غضبًا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن؛ لأن تلك السكنى حق الله تعالى، أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة؛ كانهدام المنزل، أو الحريق، أو السيل، أو خوف الفتنة في الدين. ثم لما نهى الله سبحانه الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق فيها .. نهى الزوجات عن الخروج أيضًا، فقال: {وَلَا يَخْرُجْنَ} المعتدات من بيوتهن ¬

_ (¬1) روح البيان.

ولو بإذن منكم، فإن الإذن بالخروج في حكم الإخراج ولا أثر لاتفاقهما على الانتقال؛ لأن وجوب ملازمة مسكن الفراق حق الله تعالى ولا يسقط بإسقاط العبد، كما قال في "الكشاف": فإن قلت: ما معنى الإخراج وخروجهن؟ قلت: معنى الإخراج أي: لا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأن إذنهم لا أثر له في دفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهم إن أردن ذلك، انتهى. وقيل: المراد: لا يخرجن بأنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس، والأول أولى. فإن خرجت المعتدة لغير ضرورة أو حاجة .. أثمت، فإن وقعت ضرورة؛ بأن خافت هدمًا أو حرقًا .. لها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارًا لا ليلًا، فإن خرجت ليلًا .. أثمت. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ أي: بالزنا، فيخرجن لإقامة الحد عليهن ثم يعدن. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا، وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة بها. على من هو ساكن معها في ذلك البيت، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ: {إلا أن يفحشن عليكم} وقال بعضهم: {مُبَيِّنَةٍ} هنا بالكسر لازم؛ بمعنى: بيّن متبينة، كمبين من الإبانة؛ بمعنى: بين. والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وهو الزنا في هذا المقام، وقيل: البذاء - بالمد -. وهو: القول القبيح وإطالة اللسان، فإنه في حكم النشوز في إسقاط حقهن. فالمعنى: إلا أن يبذون عن الأزواج وأقاربهم، كالأب والأخ، فيحل حينئذٍ إخراجهن. وعن ابن عباس: هو كل معصية. وهو استثناء من الأول: لا تخرجوهن في حال من الأحوال، إلا حال كونهن آتيات بفاحشة، أو من الثاني للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة. أي: لا يخرجن إلا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج. يعني: أن من خرجت .. أتت بفاحشة، كما يقال: لا تكذب إلا أن تكون فاسقًا، يعني: إن تكذب .. تكن فاسقًا.

والمعنى: أي لا يخرجن من بيوتهن إلا إذا فعلن ما يوجب حدًا، من زنا أو سرقة أو غيرهما، كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب، أو يبدون على الأحماء أو الأزواج. فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن وسوء خلقهن. أو خرجن متجولات عن منازلهن اللائي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأي ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها. {وَتِلْكَ} الأحكام {حُدُودُ اللَّهِ} وأحكامه التي عينها لعباده. والحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر؛ أي: هذه الأمور التي بينتها لكم، من الطلاق للعدة، واحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وأن لا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة .. هي حدود الله وأحكامه التي حدّها لكم، فلا تتعدوها ولا تتجاوزوها. ثم بيّن عاقبة تجاوز تلك الحدود، فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ} أصله (¬1): يتعدى، فحذفت اللام بـ {مَنْ} الشرطية، وهو من التعدي بمعنى التجاوز؛ أي: ومن يتجاوز {حُدُودَ اللَّهِ}؛ أي: حدوده المذكورة وأحكامه، بأن أخل بشيء منها، والإظهار في مقام الإضمار لتهويل أمر التعدي، والأشعار بعلية الحكم في قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}؛ أي: أضر بها؛ أي: ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع وما أبيح له إلى ما لم يبح له .. فقد ظلم نفسه وأضر بها من حيث لا يدري. ثم بيّن علة هذا الضرر، فقال: {لَا تَدْرِي} ولا تعلم أيها المرء. تعليل لمضمون الشرطية؛ أي: فإنك أيها المطلق المتعدِّي لا قدر ولا تعلم عاقبة أمرك وأمر المطلقة. ومفعول الدراية محذوت كما قدرنا. وجملة {لَعَلَّ اللَّهَ ...} إلخ، مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها؛ لأن الجمهور لم يعدوا {لَعَلَّ} من المعلقات، كما في "السمين". و {لَعَلَّ} بمعنى: {إنَّ} الناصبة؛ أي: لا تدري ولا تعلم أيها المطلق المتعدي بإيقاع ثلاث طلقات عاقبة أمرك وأمر المطلقة، فإن الله سبحانه ربما {يُحْدِثُ} ويوجد في قلبك {بَعْدَ ذَلِكَ} الذي فعلت من التعدي عليها وإيقاع ثلاث طلقات {أَمْرًا} يقتضي خلاف ما فعلته من التعدي، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا إليها، ولا يمكن تداركه برجعة أو استئناف نكاح، فإن القلوب بين ¬

_ (¬1) روح البيان.

أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وإحداث الأمر: إيجاده بعد أن لم يكن. فالأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه. فالظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي. ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى. وقيل: {لَعَلَّ} معلقة لـ {تَدْرِي} عن العمل في اللفظ، فجملتها في محل نصب سادة مسد المفعولين. والمقصود من الكلام: التحريض على طلاق الواحدة أو الثنتين، والنهي عن الثلاثة. وقوله: {لَا تَدْرِي} خطاب للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما توهم. والمعنى: ومن يتعد حدود الله .. فقد أضر بنفسه؛ فإنك لا تدري أيها المطلق المتعدي بإيقاع الثلاث وبإخراجها من البيوت أن الله ربما يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت - من التعدي بإيقاع الثلاث - أمرًا يقتضي خلاف ما فعلت، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا، ولا يمكنك تدارك ما فعلت من التعدي فتندم. وفي الآية دلالة (¬1) على كراهة التطليق ثلاثًا بمرة واحدة؛ لأن إحداث الرجعة لا يمكن بعد الثلاث، ففي إيقاع الثلاث عون للشيطان، وفي تركها رغم له، فإن الطلاق من أهم مقاصده، كما روى مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه - أي: جنوده وأعوانه من الشياطين - فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده الأعظم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت"؛ أي: نِعم المضل أنت، أو الشرير أنت. فيكون (نِعم) بكسر النون فعل مدح حذف المخصوص به، أو نَعَمْ أنت ذاك الذي يستحق الإكرام، فيكون بفتح النون حرف إيجاب. والخلاصة (¬2): أن من يتعد حدود الله .. فقد أساء إلى نفسه؛ فإنه لا يدري ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[2]

عاقبة ما هو فاعل، فلعل الله يحدث في قلبه بعد ذلك التعدي أمرًا يدعو إلى عكس ما فعل؟ فيبدل البغض محبّة والإعراض إقبالًا، ولا يمكن له تدارك ذلك برجعة أو استئناف نكاح، فتضيع الفرصة ويندم، ولات ساعة مندم. تنبيه: الشريعة الإسلامية وإن أباحت الطلاق .. بغضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل؛ لبقاء رباط الزوجية الذي حببت فيه وجعلته من أجل النِّعم، فرغبت في إرسال حَكَم من أهله وحَكَم من أهلها قبل حدوث الطلاق؛ لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور، كما رغبت في أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات؛ لعل النفوس تصفو بعد الكدر والقلوب ترعوي عن غيها، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما، فتكون الفرصة مواتية ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا عليه. روى أبو داود عن محارب بن دثار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق". وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق". وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يحب الذواقين ولا الذواقات"، وعن ثوبان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به .. حرم الله عليها رائحة الجنة" أخرجه أبو داود والترمذي. 2 - {فَإِذَا بَلَغْنَ}؛ أي: شارفن وقاربن {أَجَلَهُنَّ}؛ أي: آخر عدتهن وانقضاء أجلها ومدتها، وهي (¬1): مضي ثلاثة أقراء، ولو لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وذلك لأنه لا يمكن الرجعة بعد بلوغهن آخر العدة، فحمل البلوغ على المشارفة، كما قال في "المفردات": البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى القصد والمبتغى، مكانًا كان أو زمانًا، أو أمرًا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه؟ مثل: {فَإِذَا بَلَغْنَ ...} إلخ، فإنه للمشارفة، فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل .. لا يصح للزوج مراجعتها وامساكها. والأجل: المدة المضروبة للشيء. وقرأ الجمهور: {أَجَلَهُنَّ} بالإفراد والضحاك وابن سيرين: {أجالهن} بالجمع. ¬

_ (¬1) روح البيان.

{فَأَمْسِكُوهُنَّ}؛ أي: فأنتم بالخيار، فإن شئتم فراجعوهن. والرجعة تحصل بالقول، وكذا (¬1) عند أبي حنيفة بالوطىء واللمس والنظر إلى الفرج بشهوة فيهما؛ أي: راجعوهن {بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: بحُسن معاشرة وإنفاق لائق، ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن. وفي الحديث: "أكمل المؤمنين: أحسنهن خلقًا وألطفهن بأهله". {أَوْ فَارِقُوهُنَّ}؛ أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن نفوسهن {بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: مع إيفاء مالهن عليكم من الحقوق وترك المضارة لهن؛ أي: فارقوهن بإيفاء حقوقهن واتقاء ضرارهن بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلًا للعدة. {وَأَشْهِدُوا} أيها الأزواج؛ أي: على الرجعة وعلى الطلاق قطعًا للتنازع، إذ قد تنكر المرأة بعد انقضاء العدة رجعته فيها، وربما يموت أحدهما بعد الفرقة، ويدعي الباقي منهما ثبوت الزوجية لأخذ الميراث. {ذَوَيْ عَدْلٍ}؛ أي: صاحبي عدالة. تثنية ذا بمعنى صاحب، منصوب بالياء؛ أي: أشهدوا اثنين صاحبي عدالة {مِنْكُمْ}؛ أي: من المسلمين، كما قاله الحسن، أو من أحراركم كما قاله قتادة، يكونان عادلين لا ظالمين ولا فاسقين؛ أي (¬2): وأشهدوا عادلين منكم على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما، قطعًا للتنازع وحسمًا لمادة الخصومة. والأمر للندب، كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وقيل: إنه للوجوب، وإليه ذهب الشافعي، قال: الإشهاد واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وفي قول للشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق. وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد. والعدالة: هي الاجتناب عن الكبائر كلها، وعدم الإصرار على الصغائر، وغلبة الحسنات على السيئات، والآثام من غير إصرار لا يقدح في العدالة؛ إذ لا يوجد من البشر من هو معصوم سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كذا في "الفروع". ومعنى الآية (¬3): فإذا قاربت العدة على الانتهاء، فإن شئتم .. فأمسكوهن وراجعوهن، مع الإحسان في الصحبة، وحسن العشرة، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة، وإن صممتم على المفارقة .. فلتكن بالمعروف، وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة، مع إيفاء ما لهن من حقوق لديكم؛ كمؤخر صداق وإعطاء متعة حسنة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

تذكركن بفضلها، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها، ويكون فيها جبر لخاطرهن لما لحقهن من ضرر بالفراق، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس. ثم ذكر ما يحسن إذا أرادوا الرجعة، فقال: {وَأَشْهِدُوا ...} إلخ؛ أي: وأشهدوا على الرجعة - إن اخترتموها - شاهدين من ذوي العدالة، حسمًا للنزاع فيما بعد، إذ ربما يموت الزوج فيدعي الورثة أن مورثهم لم يراجع؛ ليمنعوها ميراثها، ودفعًا للقيل والقال وتهمة الريبة، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضي عدتها وتنكح زوجًا غيره. ثم خاطب الشهداء زجرًا لهم، فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}؛ أي: وأدوا - أيها الشهداء - الشهادة عند الحاجة إلى أدائها خالصة لله تعالى؛ وذلك بأن يؤدوها لله لا للمشهود له وعليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم، فلو شهد لغرض لا لله .. برىء بها من وبال كتم الشهادة، لكن لا يثاب عليها؛ لأن الأعمال بالنيات. والحاصل (¬1): أن الشهادة أمانة، فلا بد من تأدية الأمانة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. فلو كتمها فقد خان، والخيانة من الكبائر، دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}؛ أي: وأشهدوا على الحق إذا استشهدتم، وأدوا الشهادة على الصحة، إذ أنتم دعيتم إلى أدائها. وإنما حث على أداء الشهادة لما قد يكون فيه من العسر على الشهود؛ إذ ربما يؤدي ذلك إلى أن يترك الشاهد مهام أموره، ولما فيه من عسر لقاء الحاكم الذي تُؤدَّى الشهادة عنده، وقد يبعد المكان أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها. وهذا (¬2) أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقربًا إلى الله تعالى. وقيل: الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة؛ أي: الشهود عند الرجعة، فيكون قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أمرًا بنفس الإشهاد، ويكون قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ} أمرًا بأن تكون خالصة لله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

وقوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى الحث على الشهادة والإقامة، أو على جميع ما في الآية من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، والإشهاد، وإقامة الشهادة بإدائها على وجهها من غير تبديل ولا تغيير. وهو مبتدأ خبره {يُوعَظُ بِهِ} الوعظ: زجر يقترن بتخويف؛ أي: يتعظ به {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} وخص (¬1) المؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأنه المتنفع بذلك دون غيره، ولأنه المقصود تذكيره. ولم يقل: ذلكم توعظون به كما في سورة المجادلة لتهييج المؤمنين على المغيرة، فإن من لا غيرة له لا دين له. ومِنْ مقتضى الإيمان بالله: مراعاة حقوق المعبودية والربوبية، وباليوم الآخر: الخوف من الحساب والعذاب، والرجاء للفضل والثواب. فالمؤمن بهما يستحيي من الخالق والخلق فلا يترك العمل بما وعظ به. والمعنى (¬2): أي هذا الذي أمرتكم به وعرفتكم عنه، من أمر الطلاق والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ليعمل على نهجها وطريقتها. ودلت الآية (¬3) على أن للإنسان يومين: اليوم الأول وهو يوم الدنيا، واليوم الآخر وهو يوم الآخرة. واليوم عرفًا: زمان طلوع الشمس إلى غروبها، وشرعًا: زمان طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. وهذان المعنيان ليسا بمرادين هنا، وهو ظاهر، فيكون المراد مطلق الزمان، ليلًا كان أو نهارًا، طويلًا كان أو قصيرًا. وذلك الزمان إما محدود؛ وهو زمان الدنيا المراد باليوم الأول، أو غير محدود؛ وهو زمان الآخرة المراد باليوم الآخر الذي لا آخر له لتأخره عن يوم الدنيا. ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتي لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله سبحانه فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} سبحانه في طلاق البدعة، فطلق للسنة ولم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط في الإشهاد وغيره من الأمور {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} مصدر ميمي؛ أي: خروجًا وخَلاصًا مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب. وقال بعضهم: هو عام؛ أي: ومن يتق الله في كل ما يأتي وما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[3]

يذر .. يجعل له خروجًا من كل ضيق يشوش البال ويكدر الحال، وخلاصًا من غموم الدنيا والآخرة، فيندرج فيه ما نحن فيه اندراجًا أوليًا. وقيل: معناه: ومن يتق الله .. فليطلق للسنة، يجعل له مخرجًا إلى الرجعة، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قرأها، فقال: "مخرجًا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة". وفي "الجلالين": من الشدة إلى الرخاء، ومن الحرام إلى الحلال، ومن النار إلى الجنة، أو اسم مكان بمعنى يخرجه إلى مكان يستريح فيه. وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عمن طلق امرأته ثلاثًا أو ألفًا، هل له من مخرج؟ فقال: لم يتق الله فلم يجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث، والزيادة إثم في عنقه. 3 - {وَيَرْزُقْهُ} بعد ذلك الجعل {مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ولا يظن. {مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {يَرْزُقْهُ}؛ أي: من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، فيوفي المهر ويؤدي الحقوق ويعطي النفقات. قال في "عين المعاني": من حيث لا يرتقب من الظن، أو يعتد من الحساب. والمعنى (¬1): أي ومن يخش الله، فلا يطلّق في الحيض حتى لا تطول عدتها، ولا يضار المعتدة، فلا يخرجها من مسكنها، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة .. يجعل الله له مخلصًا مما عسى أن يقع فيه من الغم، ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها. والخلاصه: من اتقى الله .. جعل له مخلصًا من غمّ الدنيا وهم الآخرة، وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة. وفي الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادة في الدارين، وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى، إذ هو أبغض الحلال إلى الله؛ لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها، ولما في الاحتياط في العدة من المحافظة على الأنساب وهي من أجل مقاصد الدين، ومن ثم شدد في إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى. روي عن ابن مسعود: أنه قال: إن أجمع آية في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وإن أكبر آية في القرآن فرجًا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. ¬

_ (¬1) المراغي.

وقيل المعنى (¬1): أي ومن يتق عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والوقوت على حدوده التي حدها لعباده وعدم مجاوزتها .. يجعل له مخرجًا مما وقع فيه من الشدائد والمحن، ويرزقه من جهة لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في جميع أحواله، ويعتمد عليه في جميع أموره {فَهُوَ} سبحانه وتعالى {حَسْبُهُ}؛ أي: كافي المتوكل عليه في جميع أموره ومعطيه حوائجه حتى يقول: حسبي. أو: من وثق بالله فيما نابه .. كفاه ما أهمه. والتوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود، وقطع القلب عن كل علاقة، والتعلق بالله في جميع الأحوال. و {حسبه} بمعنى: محسب؛ أي: كاف. فإن قلت: إذا كان حكم الله في الرزق لا يتغير، فما معنى التوكل؟ قلت: معناه: أن المتوكل يكون فارغ القلب ساكن الجأش غير كاره لحكم الله، فلهذا كان التوكل محمودًا. والمعنى (¬2): أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه .. كفاه ما أهمه في دنياه ودينه، والمراد بذلك: أن العبد يأخذ في الأسباب التي جعلها من سننه في هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، كتوكل الزارع بعد إلقاء الحب في الأرض. وكان السلف يقولون: اتّجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم .. كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلًا في جماعة جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك. وليس المراد أن يلقي الأمور على عواهنها ويترك السعي والعمل ويفوض الأمر إلى الله، فما بهذا أمر الدين؛ بدليل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعقلها وتوكل" إلى نحو ذلك مما هو مستفيض في الكتاب والسنة. وروي عن ابن عباس: أنه ركب خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت .. فاسأل الله، وإذا استعنت .. فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

لو اجتمعت على أن ينفعوك .. لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك .. لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". ثم ذكر السبب في وجوب التوكل عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {بَالِغُ أَمْرِهِ} بالإضافة؛ أي: منفذ أمره ومتم مراده، وممضي قضائه في خلقه، فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا. وقرأ الجمهور (¬1): {بالغ} بالتنوين، {أمرَه} بالنصب. وقرأ حفص والمفضل، وأبان، وجبلة وابن أبي عبلة، وجماعة عن أبي عمرو، ويعقوب، وابن مصرف، وزيد بن علي بالإضافة. وقرأ ابن أبي عبلة أيضًا، وداود بن أبي هند، وعصمة عن أبي عمرو: {بالغ أمرُه} بتنوين {بالغٌ} ورفع {أمرُه} على أنه فاعل بالغ أو على أن {أمره} مبتدأ مؤخر، و {بالغ} خبر مقدم، وقال الفراء في توجيه هذه القراءة: أي أمره بالغ. والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر، لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب. وعلى القراءة الثالثة: أن الله نافذ أمره لا يرده شيء. وقرأ المفضل {بالغًا} بالنصب على الحال، ويكون خبر {إنَّ} قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بإن الجزئين، كقوله: إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا إِنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {لِكُلِّ شَيْءٍ} من الشدة والرخاء، والفقر والغنى، والموت والحياة، ونحو ذلك {قَدْرًا}؛ أي: تقديرًا، متعلقًا بنفس ذاته وبزمانه ومكانه، وبجميع كيفياته وأوصافه، وأنه بالغ ذلك المقدر على حسب ما قدره. أو جعل له مقدارًا وحدًّا معينًا، أو وقتًا وأجلًا ونهاية ينتهي إليه، لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه ولا يتأتى تغييره. وفي "التأويلات النجمية": أي رتبة وكمالًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[4]

يليق بذلك الشيء. وقرأ جناح بن حبيش {قدرًا} بفتح الدال، والجمهور بإسكانها. والمعنى: أي إن الله سبحانه وتعالى منفذ أحكامه في خلقه بما يشاء، وقد جعل لكل شيء مقدارًا ووقتًا، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شيء مما كنت تؤمل وترجو، فالأمور مرهونة بأوقاتها ومقدرة بمقادير خاصة، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}. وقال القاشاني: معنى الآية (¬1): ومن يتوكل على الله بقطع النظر عن الوسائط والانقطاع إليه من الوسائل .. فهو كافيه يوصل إليه ما قدر له، وشوق إليه ما قسم لأجله من أنصبة الدنيا والآخرة، إن الله يبلغ ما أراد من أمره لا مانع له ولا عائق، فمن تيقن ذلك .. ما خاف أحدًا ولا رجا، وفوض أمره إليه ونجا، وقد عين الله لكل أمر حدًّا معينًا، ووقتًا معينًا في الأزل، لا يزيد بسعي ساع ولا ينتقص بمنع مانع وتقصير مقصر، ولا يتأخر عن وقته ولا يتقدم عليه، والمتيقن لهذا الشاهد له متوكل بالحقيقة، انتهى. 4 - {وَاللَّائِي} من الموصولات، جمع: التي؛ أي: واللاتي {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} لكبرهن ويأسهن؛ أي: انقطع رجاؤها من رؤية الدم لبلوغها سن اليأس. والمحيض (¬2): اسم أو مصدر، ومنه: الحوض؛ لأن الماء يسيل إليه. والحيضة: المرة. وفي الشرع: دم ينفضه رحم امرأة بالغة لا داء بها ولا إياس لها. و {مِنَ} لابتداء الغاية، متعلقة بالفعل قبلها. حال كونها {مِنْ نِسَائِكُمْ} وزوجاتكم اللاتي دخلتم بهن. و {مِن} للتبيين، متعلقة بمحذوف. {إِنِ ارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتم في عدتهن، وأشكل عليكم حكمهن لانقطاع دمهن بكبر السن، وجهلتم كيف عدتهن. والمراد بالشك: الجهل، وقيد به لموافقة الواقع، فلا مفهوم له، بل عدتها ما ذكر سواء علموا أو جهلوا، لكن الواقع في نفس الأمران السائلين عن عدة الآيسة كانوا جاهلين بقدرها، فالآية مخرجة على سبب. اهـ "شيخنا". {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُر} فقوله: {وَاللَّائِي} مبتدأ، خبره قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ}، وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} اعتراض، وجواب الشرط محذوف تقديره: أي إن ارتبتم فيها .. فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، كذا قالوا. والأشهر: جمع شهر، وهو مدة معروفة مشهورة بهلال الهلال، أو باعتبار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

جزء من اثني عشر جزءًا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة. قال في "القاموس": الشهر: العدد المعروف من الأيام؛ لأنه يشهر بالقمر. {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}؛ ما رأين الدم لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض. وهو مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا، وحذف هذا ثقة بدلالة ما قبله عليه. والأولى (¬1) أن يقدر مثل: أولئك أو كذلك، فيكون المقدر مفردًا. والشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها بعذر من الأعذار قبل بلوغها سن الآيسات .. فعند أبي حنيفة والشافعي لا تنقضي عدتها حتى يعاودها الدم، فتعتد بثلاثة أقراء، أو حتى تبلغ سن الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر. وقال أبو حيان: والظاهر: أن قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يشمل من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لها حيض ألبتة، وهو موجود في النساء، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض. ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به، ولم تحض .. فقيل: هذه تعتد بسنة، انتهى. ووضع (¬2) السجاوندي الطاء الدالة على الوقف المطلق على وضعه وقانونه في {لَمْ يَحِضْنَ} لانقطاعه عما بعده، وكان الظاهر أن يضع الميم الدالة على الوقف اللازم؛ لأن المتبادر الاتصال الموهم معنى فاسدًا. لعله نظر إلى ظهور عدم حمل التي لم تحض لصغرها؟ والمعنى: أي واللائي بلغن سن اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن؛ بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها .. فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذا الصغار اللائي لم يحضن إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها .. فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا. {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} اسم جمع، واحدتها ذات؛ بمعنى: صاحبة، والأحمال جمع حَمْلَ - بالفتح -، وهو الولد في البطن؛ أي: ذوات الأحمال من النساء والحبالى منهن {أَجَلُهُنَّ}؛ أي: منتهى عدتهن {أَنْ يَضَعْنَ} ويلدن {حَمْلَهُنَّ}؛ أي: جنينهن سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن. فلو ولدت (¬3) المرأة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

حملها؛ أي: حطت ما في بطنها بعد طلاق زوجها أو وفاته بلحظة .. انقضت عدتها وحلت للأزواج، فكيف بعد ساعة أو يوم أو شهر؟ وقد نسخ بهذه الآية عموم قوله تعالى في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} لتراخي نزولها عنه. وقد صح أن سبيعية بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بليال، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "قد حللت فتزوجي". وقرأ الجمهور {حَمْلَهُنَّ} مفردًا، والضحاك: {أحمالهن} جمعًا. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} سبحانه في شأن أحكامه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}؛ أي: يسهل عليه أمره، يوفقه للخمر، ويعصمه من المعاصي والشر بسبب التقوى. فـ {مَنْ} للبيان، قدم على المبين للفواصل، أو بمعنى: في. وقال الضحاك: من يتق الله فليطلّق للسنة، يجعل له من أمره يسرًا في الرجعة. وحاصل معنى الآية (¬1): أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهن، سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن، كما روي عن عمر وابنه: فقد أخرج مالك، والشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عمر: أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: إذا وضعت حملها .. فقد حلت، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن .. حلت. وهكذا روي عن ابن مسعود: فقد أخرج عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه: أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء الصغرى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ ...} الآية، نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شرًا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها .. فأجلها أن تضع حملها. وروي: أن سبيعية بنت الحارث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حَجة الوداع وهي حامل، فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يومًا، فاختضبت، واكتحلت، وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

فقال: "إن تفعل فقد خلا أجلها". {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ...} الخ؛ أي: ومن يخف الله ويرهبه فيؤدي فرائضه ويجتنب نواهيه .. يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجًا، وينزله طريق الهدى في كل ما يعرض له من المشكلات، فإن في قلب المؤمن نورًا يهديه إلى حلِّ عويصات الأمور. وفي الآية الماء إلى فضيلة التقوى في أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض المرء فيهما. 5 - {ذَلِكَ} المذكور من الأحكام. وإفراد (¬1) الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه ما بعده، لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خعصوصية المخاطبين. {أَمْرُ اللَّهِ}؛ أي: حكمه الشرعي {أَنْزَلَهُ} من اللوح المحفوظ {إِلَيْكُمْ}؛ أي: إلى جانبكم. وقال أبو الليث: أنزله في القرآن على نبيكم لتستعدوا للعمل به، فإياكم ومخالفته. والمعني: أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السابقة في الطلاق والسكنى والعدة هو أمر الله الذي أمركم به، وأنزله إليكم لتأتمروا به وتعملوا وفق نهجه. ثم كرر الأمر بالتقوى؛ لأنها ملاك الأمر وعماده في الدنيا والآخرة فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} بالمحافظة على أحكامه {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ}؛ أي: يسترها لرضاه عنه باتقائه، وربما يبدلها حسنات. {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} بالمضاعفة، وهو الجنة. قال بعضهم: يعطيه أجرًا عظيمًا أَيَّ أجرٍ كان، ولذلك نُكِّرَ، فالتنكير للتعيم المنبىء عن التعميم. والمعنى: أي ومن يخف الله فيؤد فرائضه ويجتنب نواهيه .. يمسح عنه ذنوبه، كما وعد ذلك في كتابه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، ويجزل له الثواب على يسير الأعمال. وقرأ الجمهور (¬2): {وَيُعْظِمْ} بالياء مضارع أعظم، وقرأ الأعمش: {نعظم} بالنون، خروجًا من الغيبة إلى التكلم، وقرأ ابن مقسم بالياء والتشديد، مضارع عظم مشددًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[6]

قال في "برهان القرآن": أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاث مرات وعدَّ في كل مرة نوعًا من الجزاء، فقال أولًا: يجعل له مخرجًا يخرجه مما دخل فيه، وهو يكرهه، ويهيء له محبوبه من حيث لا يؤمل. وقال في الثاني: يسهل عليه الصعب من أمره، ويفتح له خيرًا ممن طلقها. والثالث: وعد عليه الجزاء بأفضل الجزاء، وهو ما يكون في الآخرة من النعماء، إشارة إلى تعداد النعم المترتبة على التقوى. 6 - وقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ}: كلام مستأنف (¬1) وقع جوابًا لسؤال مقدر نشأ مما قبله من الحث على التقوى، كانه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}؛ أي: بعض مكان سكناكم. والخطاب للمؤمنين المطلقين. {مِنْ وُجْدِكُمْ}؛ أي: من وسعكم وطاقتكم؛ أي: مما تطيقونه. قال الفراء: فإن كان موسعًا عليه .. وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرًا .. فعلى قدر ذلك. قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك، فأسكنها فيه، انتهى. وقوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وتفسير له. وفي "عين المعاني": و {مِنْ} لتبيين الجنس لما في {حَيْثُ} من الإبهام، انتهى. واعترض عليه أبو حيان: بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل، إنما عهد ذلك في البدل، فالوجه جعله بدلًا. قال صاحب "اللباب": إن كانت الدار التي طلقها فيها ملكه .. يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت الدار بإجارة .. فعليه الأجرة، وإن كانت عارية فرجع المعير .. فعليه أن يكتري لها دارًا تسكنها. قال في "كشف الأسرار": وأما المعتدة من وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق .. فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملًا، انتهى. وقد اختلف (¬2) أهل العلم في المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، وذهب أحمد وإسحاق، وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق، قاله الشوكاني. وقرأ الجمهور (¬3): {مِنْ وُجْدِكُمْ} بضم الواو. وقرأ الحسن، والأعرج وابن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) فتح القدير. (¬3) البحر المحيط.

أبي عبلة، وأبو حيوة بفتحها. وقرأ الفياض بن غزوان، وعمرو بن ميمون، ويعقوب بكسرها، وذكرها المهدوي عن الأعرج. وهي لغات ثلاث. بمعنى الوسع، والوجد - بالفتح - يستعمل في الحزن والغضب والحب، والوُجد بالضم: الغنى والقدرة. والمعنى: أي أسكنوا مطلقات نسائكم في الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب حجرتكم .. فأسكنوها فيها. وإنما أمر الرجال بذلك لأن السكنى نوع من النفقة، وهي واجبة على الأزواج. ثم نهى عن مضارة المطلقات في السكنى، فقال: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ}؛ أي: ولا تقصدوا أيها الأزواج إدخال الضرر عليهن في السكنى بأي وجه كان. فالمفاعلة هنا ليست على بابها. {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن معهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، وتلجئوهن إلى الخروج. والمعنى: ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى، بشغل المكان أو بإسكان غيرهن معهن ممن لا يحببن السكنى معه؛ لتلجئوهن إلى الخروج من مساكنهن. وفيه حث على المروءة والمرحمة، ودلالة على رعاية الحق السابق حتى يتيسر لها التدارك في أمر المعيشة من تزوج آخر أو غيره. ثم بين نفقة الحوامل، فقال: {وَإِنْ كُنَّ}؛ أي: المطلقات {أُولَاتِ حَمْلٍ}؛ أي: ذوات حبل؛ أي: حاملات. و {أُولَاتِ} منصوب بالكسر؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. وتنوين {حَمْلٍ} للتعميم؛ يعني أيّ حمل كان قريب الوضع أو بعيده. {فَأَنْفِقُوا} أيها المطلِّقون {عَلَيْهِنَّ}؛ أي: على المطلقات الحوامل {حَتَّى يَضَعْنَ} ويلدن {حَمْلَهُنَّ} وحبلهن، فيخرجن من العدة، وتخلصوا من كلفة الإحصاء، ويحل لهن تزوج غيركم إن شئن؛ لأنه بالوضع تنقضي العدة. وهذا حكم المطلَّقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية .. فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملًا. واعلم (¬1): أن البائن بالطلاق إذا كانت حاملًا لها النفقة والسكنى بالاتفاق، وأما البائن الحائل؛ أي: غير الحامل .. فتستحق النفقة والسكنى عند أبي حنيفة كالحامل، إلى أن تنقضي عدتها بالحيض أو بالأشهر، لما روي عن عمر - رضي الله ¬

_ (¬1) روح البيان.

عنه -: أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في المبتوتة: "لها النفقة والسكنى"؛ لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها، خلافًا للأئمة الثلاثة. وأما المتوفى عنهن أزواجهن: فلا نفقة لهن من التركة ولا سكنى، بل تعتد حيث تشاء وإن كن أولات حمل؛ لوقوع الإجماع على أن من أجبر الرجل في حياته على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته، فكذا المتوفى عنها الحامل، وهو قول الأكثرين. وقال أبو حنيفة: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة، سواء كانت مطلقة بثلاث أو بواحدة، رجعية أو بائنة ما دامت في العدة، أما المطلقة الرجعية: فلأنها منكوحة كمانت، وإنما يزول النكاح بمضي العدة، وكونه في معرض الزوال بمضي العدة لا يسقط نفقتها، كما لو آلى وعلق طلاقها بمضي شهر. فالمطلقة الرجعية لها النفقة والسكنى بالإجماع، وأما المبتوتة: فعند أبي حنيفة لها النفقة والسكنى ما دامت في العدة؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}؛ إذ المعنى: أسكنوا المعتدات مكانًا من المواضع التي تسكنونها، وأنفقوا عليهن في العدة من سعتكم، لما قرأ ابن مسعود - رضي الله عنه -: {أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم}. وعند الشافعي: لها السكنى؛ لهذه الآية، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملًا لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ ...} إلخ. فإن قلت: فإذا كانت كل مطلقة عند أبي حنيفة يجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ ...} إلخ؟ قلت: فائدته: أن مدة الحمل ربما طالت، فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل، فنفى ذلك الوهم، كما في "الكشاف". {فَإِنْ أَرْضَعْنَ} هؤلاء المطلقات {لَكُمْ} أيها الأزواج ولدًا من غيرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية وعلاقة النكاح. وإنما قال: {لَكُمْ} ولم يقل أولادكم لما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. فالأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرًا، إلا إذا تطوعت الأم برضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على الإرضاع إن طلبن أو رَجوْنَ، فإن حكمهن في ذلك حكم الأظآر حينئذ. قال في "اللباب": فإن طلقها .. فلا يجب عليها الإرضاع إلا أن لا يقبل الولد ثدي غيرها،

فيلزمها حينئذٍ. فإن اختلفا في الأجرة: فإنْ دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعًا .. فالأم أولى بأجر المثل؛ إذ لم يجد الأب متبرعة، وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططًا .. فالأب أولى به، فإن أعسر الأب بأجرتها .. أجبرت على إرضاع ولدها، أنتى. {وَأْتَمِرُوا} أيها الآباء والأمهات، وتشاوروا فيما {بَيْنَكُمْ} في شؤون أولادكم، وافعلوا فيهم {بِمَعْرُوفٍ}؛ أي: بما هو معروف وجميل وإحسان ومتعارف بين الناس غير منكر عندهم؛ أي: ليأمر بعضكم بعضًا بجميل في الإرضاع والأجر، وهو المسامحة. ولا يكن من الأب مماكسة، ولا من الأم معاسرة؛ لأنه ولدهما معًا، وهما شريكان فيه في وجوب الإشفاق عليه. ومعنى الآية (¬1): أي فإن أرضعن لكم وهن طوالق قد بِنَّ بانقضاء عدتهن .. فلهن حينئذ أن يرضعن الأولاد، ولهن أن يمتنعن، فإن أرضعن .. فلهن أجر المثل، ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه. وفي هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات. {وَأْتَمِرُوا}؛ أي: وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات في شؤون الأولاد بما هو أصلح لهم في أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة في سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مماكسة في الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولاد هم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع. ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين في الإنفاق، فقال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أيها الآباء والأمهات؛ أي: تضايقتم وتشاكستم وتنازعتم في أجر الرضاع؛ كأن أبى الأب أن يعطي الأم أجرة إرضاعها، وأبت الأم أن ترضع الولد مجانًا {فَسَتُرْضِعُ} الولد {لَهُ}؛ أي: لوالده امرأة {أُخْرَى} فليس له إكراه الأم على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعة غير أمه. وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم. والضمير (¬2) في {لَهُ} للأب كما في "الكشاف" وهو الموافق لقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}، أو للصبي والولد كما في "الجلالين" وفيه: أن الظاهر حينئذ أن يقول: فسترضعه، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة، كما تقول لمن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك، تريد: إن تبق غير مقضية فأنت ملوم. قال سعدي المفتي: ولا يخلو من معاتبة الأب أيضًا، حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إن ضويقت الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك .. فلا بد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضًا تطلب الأجر في الأغلب الأكثر، والأم أشفق وأحن، فهي به أولى. وبما ذكرنا يظهر كمال الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما خص الأم بالعتاب؛ لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضن به في العرف، ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال، وهو مضنون به في العادة، فهي إذًا أجدر باللوم وأحق بالعتب. والمعنى: أي وإن ضيق بعضكم على بعض؛ بأن شاحَّ الأب في الأجر، أو اشتطت الأم في طلب زيادة لا يؤديها أمثاله .. فليحضر الأب مرضعًا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية .. فهي أحق بولدها. وهذا إذا قبل الولد ثدي موضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدي الأم .. وجب عليها الإرضاع بالأجر. 7 - ثم بين مقدار الإنفاق بقوله: {لِيُنْفِقْ} والد {ذُو سَعَةٍ} ويسار على المرضع التي طلقت منه {مِنْ سَعَتِهِ} متعلق بـ {ينفق}؛ أي: بقدر سعته وغناه، وفيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم وغناهم. {وَمَنْ قُدِرَ} وضيق {عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وقوته {فَلْيُنْفِقْ} على المرضعة {مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}؛ أي: مما أعطاه الله من الرزق ليس عليه غير ذلك وإن قلّ. والمعنى: لينفق كل من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه ويطيقه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ} سبحانه تعالى {نَفْسًا} معسرة {إِلَّا مَا آتَاهَا}؛ أي: إلا بإنفاق ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير أن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق. والمعنى: أي لا يكلف الله سبحانه أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم والنكاح إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. {سَيَجْعَلُ اللَّهُ} سبحانه عاجلًا وآجلًا؛ إذ ليس في (السين) دلالة على تعين

[8]

زمان، وكل آت قريب ولو كان الآخرة. {بَعْدَ عُسْرٍ} وضيق {يُسْرًا}؛ أي: سعة؛ أي: سيجعل بعد شدة رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}، وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة في ذلك الوقت. أي: فلينتظر المعسر اليسر وفرج الله، فإن الانتظار عبادة، وفيه: تطييب لقلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، ووعد لفقراء الأزواج لا لفقراء ذلك الوقت عمومًا، كما جوزه الزمخشري، حيث قال: وعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه، ولم يقصروا. ولو عجز عن نفقة زوجته يفرق بينهما، قاله أبو هريرة، والحسن، وابن المسيب، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة: لا يفرق بينهما. وقرأ الجمهور: {لِيُنْفِقْ} بلام الأمر. وحكى أبو معاذ: (لينفَقَ) بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره: شرعنا ذلك لينفقَ. وقرأ الجمهور: {قُدِرَ} مخففًا، وابن أبي عبلة مشدد الدال. 8 - ولما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام .. حذر من مخالفتها، وذكر عتو قوم خالفوا أوامره، فحل بهم عذابه، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}؛ أي: وكثير من أهل قرية. و {كأين} بمعنى (كم) الخبرية في كونها للتكثير. والقرية: اسم لموضع اجتماع الناس، فهو من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم وصفه بصفته، أو من المجاز العقلي والإسناد إلى المكان. وهذه الآية تحذير للناس عن المخالفة في الأحكام المذكورة وتأكيد لإيجابها عليهم. {عَتَتْ} أي: استكبرت وأعرضت {عَنْ} امتثال {أَمْرِ رَبِّهَا} وإجابة دعوة {وَرُسُلِهِ} تعالى بسبب التجاوز عن الحد في التكبر والعناد. والعتو: الاستكبار ومجاوزة الحد فيه. والعتو لا يتعدى بـ {عَنْ}، وإنما عُدِّيَ بها لتضمينه معنى الإعراض؛ كأنه قيل: أعرضت عن أمر ربها وأمر رسل ربها، بسبب التجاوز عن الحد في التكبر والعناد.

[9]

وفي إيراده (¬1) صفة الرب توبيخ لهم، وتجهيل لما أن عصيان العبيد لربهم ومولاهم طغيان وجهل بشأن سيدهم ومالكهم وبمرتبة أنفسهم ودوام احتياجهم إليه في التربية. وقوله: {وَكَأَيِّنْ} مبتدأ، و {مِنْ قَرْيَةٍ} بيان له، و {عَتَتْ} خبر المبتدأ. {فَحَاسَبْنَاهَا} في الدنيا {حِسَابًا شَدِيدًا}؛ أي: ناقشناها في الحساب مناقشة شديدة، وضيقنا وشددنا عليها، وأخذناها في الدنيا بدقائق ذنوبها وجرائمها من غير عفو، بنحو القحط والجوع، والأمراض والأوجاع، والسيف وتسليط الأعداء عليها، وغير ذلك من البلايا مقدمًا معجلًا على استئصالها وذوقها العذاب الأكبر لترجع إلى الله تعالى؛ لأن البلاء كالسوط للسوق، فلم تفعل ولم ترفع رأسًا، فابتلاها الله بما فوق ذلك، كما قال: {وَعَذَّبْنَاهَا}؛ أي: استئصلناها بالعذاب {عَذَابًا نُكْرًا}؛ أي: استئصالًا عظيمًا منكرًا هائلًا منفرًا عنه بالطبع، لشدته وإيلامه، أو غير متوقع، فإنهم كانوا لا يتوقعونه، ولو قيل لهم .. لما يصدقونه. والقهر الغير المتوقع أشد ألمًا، واللطف الغير المتوقع أتم لذة، وهو العذاب العاجل بالاستئصال، بنحو الإغراق والإحراق، والريح والصيحة، فالنكر: الأمر الصعب الذي لا يعرف، والإنكار ضد العرفان. وقرأ الجمهور بسكون الكاف، وقرىء بضمها. وقال مقاتل: حاسبنا أهلها في الدنيا على عملها بالأخذ الشديد، وعذبناها في الآخرة عذابًا منكرًا فظيعًا بجهثم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: عذبنا أهلها في الدنيا عذابًا نكرًا، بالجوع والقحط والسيف، والخسف والمسخ، وحاسبناها في الآخرة حسابًا شديدًا على أعمالهم. 9 - {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}؛ أي: ضرر كفرها وثقل عقوبة معاصيها؛ أي: أحسته إحساس الذائق المطعوم. {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} هائلًا لا خسر وراءه؛ أي: وكان عاقبة أمرها هلاكًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة فتجارتهم خسارة لا ربح فيها، لتضييعهم بضاعة العمر والصحة والفراغ يصرفها في المخالفات. والخسر وكذا الخسران في الأصل: انتقاص رأس المال، كما سيأتي. 10 - {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} مع ذلك في الآخرة. ولام {لَهُمْ} لام التخصيص، لا لام النفع، كما في قولهم: دعا له، في مقابلة دعا عليه. {عَذَابًا شَدِيدًا} وهو عذاب ¬

_ (¬1) روح البيان.

النار. والتكرير للتأكيد؛ أي (¬1): قدر العذاب الشديد عليهم في علمه على حسب حكمته، أو هيأ أسبابه في جهنم بحيث لا يوصف كنهه، فهم أهل الحساب والعذاب في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فقط، فإن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم؛ لعدم رجوعهم عن الكفر، فعذبوا عذاب الآخرة أيضًا. وهذا المعنى من قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا} إلى هنا هو اللائق بالنظم الكريم، هكذا ألهمت به حين المطالعة، ثم وجدت في تفسير "الكواشي" و"كشف الأسرار" و"أبي الليث" و"الأسئلة المقحمة" ما يدل على ذلك. والحمد الله تعالى، فلا حاجة إلى أن يقال: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا، وإن المعنى: عذبناها عذابًا شديدًا في الدنيا، وحاسبناها حسابًا شديدًا في الآخرة، على أن لفظ الماضي للتحقيق، كأكثر ألفاظ القيامة. ومعنى الآية (¬2): أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، وسنحاسبهم حسابًا عسيرًا، ونستقصي عليهم ذنوبهم، ونناقشهم على النقير والقطمير، ونعذبهم عذابًا نكرًا في الآخرة. وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق، كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}، ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم، فقال: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ...} إلخ؛ أي: وستجني ثمار ما غرست أيديها، ولا يجنى من الشر إلا الشر، كما جاء في أمثالهم: لا تجني من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقادر قدره. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}؛ أي: هيأ الله لهم العذاب المرتقب؛ لتماديهم في طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاؤوا به من عند ربهم. ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم، فقالوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ أي: فخافوا عقاب الله سبحانه {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}؛ أي: يا أصحاب العقول الراجحة والفطر السليمة {الَّذِينَ} لرجاحة عقولهم وسلامة فطرهم {آمَنُوا} بالله ورسوله، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. والموصول في محل النصب نعت للمنادى، أو عطف بيان له، أو منصوب بتقدير: أعني. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[11]

والظاهر (¬1): أن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ}. والخطاب فيه من قبيل الالتفات من الغيبة؛ أي: قد أنزل الله إليهم {ذِكْرًا} هو القرآن، 11 - وأرسل إليهم {رَسُولًا} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو منصوب بفعل مقدر على حد: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وقرىء: {رسولٌ} بالرفع؛ أي: هو رسول، على إضمار هو. وجملة قوله: {يَتْلُو}؛ أي: يقرأ ويعرض {عَلَيْكُمْ} يا أولي الألباب، أو يا أيها المؤمنون، أو {عليهم} على الالتفات السابق صفة {رَسُولًا}. {آيَاتِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: القرآن {مُبَيِّنَاتٍ} بالكسر؛ أي: حال كون تلك الآيات مبينات ومظهرات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. أو بالفتح؛ أي: واضحات لا خفاء في معانيها عند الأهالي، أو لا مرية في إعجازها عند البلغاء المنصفين. وقرأ الجمهور (¬2): بالفتح على صيغة اسم المفعول، وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل. ورجح القراءة الأولى أبو حاتم وأبو عبيد؛ لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ}. وإنما يتلوها، أو أنزله {لِيُخْرِجَ} الرسولُ، ويخَلِّصَ، أو الله تعالى. قال بعضهم: اللام متعلقة بـ {أَنْزَلَ} لا بقوله: {يَتْلُو}؛ لأن {يَتْلُو} مذكور على سبيل التبعية دون {أَنْزَلَ}. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزاله، إلا .. فإخراج الموصوفين بالإيمان من الكفر لا يمكن إذ لا كفر فيهم حتى يخرجوا منه؛ أي: ليحصل لهم الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح بإخراجهم عما كانوا عليه. أو ليخرج الله من علم أو قدر أنه سيؤمن، أو أطلق عليهم {آمَنُوا} باعتبار ما آل أمرهم إليه. ولم يقل (¬3): ليخرجكم إظهارًا لشرف الإيمان والعمل والصالح، وبيانًا لسبب الإخراج وحثًا على التحقق بهما. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؛ أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان؛ ومن الشبهات إلى الدلائل والبراهين، ومن الغفلة إلى اليقظة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

والمعنى (¬1): أي قد أنزل الله سبحانه إليكم - يا ذوي البصائر - ذكرا لكم، وهو القرآن الكريم يذكركم به لتستمسكوا بحبله المتين، وتعملوا بطاعته، وأرسل إليكم رسولًا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه، وهي واضحات لمن تدبرها وعقلها كي يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أمعن في النظر فيها، وأجال الفكر في أسرارها ومغازيها، فهي النبراس الساطع والضوء اللامع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ثم بيّن جزاء الإيمان والعمل الصالح، فقال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ} ويصدق {بِاللَّهِ} سبحانه وعظيم قدرته وبديع حكمته {وَيَعْمَلْ} عملًا {صَالِحًا}؛ أي: خالصًا من الرياء والتصنع والغرض. وهو استئناف لبيان شرف الإيمان والعمل الصالح، ونهاية أمر من اتصف بهما، تنشيطًا وترغيبًا لغير أهلهما لهما؛ أي: ومن يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} وبساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت قصورها أو أشجارها {الْأَنْهَارُ} الأربعة المذكورة في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور: {يُدْخِلْهُ} بالتحتية. وقرأ نافع، وابن عامر بالنون. حال كونهم {خَالِدِينَ}؛ أي: مقيمين {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنات إقامة مؤبدة دائمين فيها. وهو حال من مفعول {يُدْخِلْهُ}. والجمع (¬2) باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. {أَبَدًا} ظرف زمان بمعنى دائمًا غير منقطع، فيكون تأكيدًا للخلود؛ لئلا يتوهم أن المراد به المكث الطويل المنقطع آخرًا. وجملة قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} في محل نصب على الحال من الضمير في {خَالِدِينَ} على التداخل، أو من مفعول {يُدْخِلْهُ} على الترادف. ومعنى {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}؛ أي: وسع له رزقه في الجنة. وفيه (¬3) معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله سبحانه المؤمنين من الثواب؛ لأن الجملة الخبرية إذا لم يحصل منها فائدة الخبر ولا لازمها .. تحمل على التعجب إذا اقتضاه المقام؛ كأنه قيل: ما أحسن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[12]

رزقهم الذي رزقهم الله تعالى، وما أعظمه. فرزقًا ظاهره المفعولية لأحسن، والتنوين للتعظيم؛ لإعداده تعالى فيها ما هو خارج عن الوصف، أو للتكثير عددًا؛ لما فيه مما تشتهيه الأنفس من الرزق والأنفس، أو مددًا؛ لأن أكلها دائم لا ينقطع ولا بعد في أن يكون {لَهُ} بمعنى: إليه، ويكون {رِزْقًا} تمييزًا، بمعنى: قد هيأ له وأعد ما يحسن إليه به من جهة الرزق. ومعنى الآية (¬1): أي ومن يصدق بوحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته، ويعمل بطاعته .. ويدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون ولا يخرجون منها، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. 12 - {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الاسم الشريف مبتدأ، والموصول مع صلته خبره؛ أي: المعبود الذي يستحق منكم العبادة هو الإله القادر، الذي خلق وأبدع على غير مثال سابق سبع طبقات علوية. ونكرها للتعظيم المفيد لكمال قدرة صانعها، أو لكفايته في المقصود من إثبات قدرته الكاملة على وفق حكمته الشاملة، وذلك يحصل بإخبار خلقه تعالى سبع سموات من غير نظر إلى التعيين. {وَمِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: وخلق عن الأرض {مِثْلَهُنَّ}؛ أي: مثل السموات السبع في العدد والطباق، فقوله: {مِثْلَهُنَّ} منصوب بفعل مضمر بعد الواو، دل عليه الناصب لسبع سموات، وليس بمعطوف على سبع سموات؛ لأنه يستلزم الفصل بين حرف العطف - وهو الواو - وبين المعطوف بالجار والمجرور، وصرح سيبويه وأبو علي بكراهيته في غير موضع الضرورة. واختلف في كيفية طبقات الأرض (¬2): قال القرطبي في "تفسيره": واختلف فيهن على قولين: أحدهما - وهو قول الجمهور -: أنها سبع أرضين طباقًا، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها فوق بعض من غير فتوق ولا فرجة بخلاف السموات. والقول الأول أصح؛ لأن الأخبار الصحيحة دالة عليه: منها: ما في "صحيح مسلم" عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا .. فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ... " إلى آخر كلامه. ومنها: ما روي عن ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة". وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" من طريق أبى الضحى عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا. قال أبو حيان: وهذا حديث لا شك في وضعه. وقرأ الجمهور: {مِثْلَهُنَّ} بالنصب عطفًا على {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أو على تقدير فعل؛ أي: وخلق من الأرض مثلهن. وقرأ عاصم في رواية وعصمة عن أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والجار والمجرور قبله خبره. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ}؛ أي: أمر الله، واللام عوض عن المضاف إليه. وقرأ الجمهور (¬1): {يَتَنَزَّلُ} مضارع تنزل وبرفع {الْأَمْرُ}. وقرأ عيسى وأبو عمر في رواية {ينزِّل} مضارع نزل مشددًا، {الأمر} بالنصب، والفاعل {الله} سبحانه. وقرىء: {ينزِل} مخففًا، مضارع أنزل. {بَيْنَهُنَّ}؛ أي: بين السموات السبع والأرضين السبع. والظاهر (¬2): أن الجملة استئنافية للإخبار عن شمول جريان حكمه ونفوذ أمره في العلويات والسفليات كلها، فالأمر عند الأكثرين القضاء والقدر، بمعنى: يجري ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

قضاؤه وينفذ حكمه بين السماء السابعة التي هي أعلى السموات وبين الأرض السابعة التي هي أسفل الأرضين، ولا يقتضي ذلك أن لا يجري في العرش والكرسي؛ لأن المقام اقتضى ذِكر ما ذَكره، والتخصيص بالذِّكر لا يقتضي التخصيص بالحكم. وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو يدبر فيهن من عجيب تدبيره. فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق المخلوقات على اختلاف ألوانها وهيئاتها، فينقلهم من حالٍ إلى حال. والمعنى: يجري أمر الله وقضاؤه وقدره، وينفذ حكمه فيهن، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع وحكمته في إقامة نظمها بحسب العدل والمصلحة. و {اللام} في قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} متعلق (¬1) بـ {خَلَقَ}، أو بـ {يَتَنَزَّلُ} أو بما يعمهما؛ أي: فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر .. قادر على كل شيء، ومنه البعث للحساب والجزاء، فتطيعوا أمره وتقبلوا حكمه، وتستعدوا لكسب السعادة والخلاص من الشقاوة. واللام لام المصلحة والحكمة؛ لأن فعله تعالى نجال عن العبث، لا لام الغرض، فإنه تعالى منزه عن الغرض؛ إذ هو لمن له الاحتياج، والله تعالى غني عن العالمين. {و} لتعلموا {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} كما أحاط به قدرة؛ لاستحالة صدور الأفعال المذكورة ممن ليس كذلك. والإحاطة: العلم البالغ، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنًا ما كان. ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزل الأمر؛ أي: أوحى ذلك وبينه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تشاهدونها والتي تتلقونها من الوحي من عجائب المصنوعات أنه لا يخرج عن علمه وقدرته شيء ما أصلًا. وقوله: {عِلْمًا} نصب على التمييز المحول عن الفاعل؛ أي: {أَحَاطَ} علمه بكل شيء كما في "عين المعاني أو على المصدر المؤكد لأن {أَحَاطَ} بمعنى علم؛ أي: وأن الله قد علم كل شيء علمًا، كما في "فتح الرحمن" أو على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: أحاط إحاطة علمًا، كما في "الشوكاني". ¬

_ (¬1) روح البيان.

وروي عن الإمام أبي حنيفة: أن هذه الآية من أخوف الآيات في القرآن. وقرأ الجمهور (¬1): {لِتَعْلَمُوا} بتاء الخطاب. وقرىء بياء الغيبة. والمعنى (¬2): ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، فهو على ما يشاء قدير. ولتعلموا أن الله بكل شيء من خلقه محيط علمًا، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم؛ فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو قادر على ذلك ومحيط بأعمالكم، لا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت واكتسبت. الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أيُّ} أو بدل منه، أو عطف بيان، وجملة النداء مستأنفة. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. {فَطَلِّقُوهُنَّ}: {الفاء} رابطة لجواب {إذا} {طلقوهن}: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب {إذا} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} الشرطية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {لِعدَّتِهِنَّ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعول {طلقوهن}؛ أي: حالة كونهن مستأنفات ومستقبلات لعدتهن ومتوجهات إليها. وهذا أولى ما قيل في بيان متعلق اللام. وقيل: متعلق بـ {طلقوهن} على تقدير مضاف؛ أي: طلقوهن لاستقبال عدتهن {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}: فعل وفاعل، ومفعول، معطوف على {طلقوهن}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف أيضًا على {طلقوهن}، {رَبَّكُمْ}: بدل من الجلالة، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ}: فعل مضارع، وفاعل، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

ومفعول به مجزوم بـ {لا} الناهية معطوف على {طلقوهن} بعاطف مقدر، {مِنْ بُيُوتِهِنَّ}: متعلق بـ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية، {يَخْرُجْنَ}: فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية، مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون الإناث في محل الرفع فاعل. والجملة معطوفة على جملة {لَا تُخْرِجُوهُنَّ}. وإنما جمع بين النهيين إشارة إلى أن الزوج لو أذن لها في الخروج لا يجوز لها الخروج. {إِلَّا}: أداة استثناء من أعم الأحوال، {أَنْ} حرف مصدر ونصب، {يَأْتِينَ}: فعل مضارع في محل النصب بـ {أن} المصدرية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، {بِفَاحِشَةٍ}: متعلق بـ {يَأْتِينَ} {مُبَيِّنَةٍ}: صفة لـ {فاحشة}، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الحال من فاعل {لا يخرجن}، ومن مفعول {لَا تُخْرِجُوهُنَّ} ولكنه في تأويل مشتق تقديره: لا تخرجوهن، ولا يخرجن في حال من الأحوال إلا في حال كونهن آتيات بفاحشة مبينة. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. {وَتِلْكَ}: {الواو} استئنافية، {تلك}: مبتدأ، {حُدُودُ اللَّهِ}: خبره، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، {يَتَعَدَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {حُدُودُ اللَّهِ}: مفعول به. {فَقَدْ}: {الفاء} رابطة لجواب (مَنْ) الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {قد}. {قد}: حرف تحقيق {ظَلَمَ نَفْسَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. {لَا} نافية، {تَدْرِي}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المطلق، ومفعول الدراية محذوف تقديره: لا تدري أيها المطلق عاقبة أمرك وأمرها. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون جواب الشرط. {لَعَلَّ}: حرف نصب بمعنى {إن} مجرد عن معنى الترجي، {اللَّهَ}: اسمها، {يُحْدِثُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {بَعْدَ ذَلِكَ}: متعلق بـ {يُحْدِثُ}، {أَمْرًا}: مفعول به، وجملة {يُحْدِثُ} في محل

الرفع خبر {لَعَلَّ}، وجملة {لَعَلَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل جملة الدراية، كما مرّ في مبحث التفسير. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}. {فَإِذَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته من أحكام الطلاق، وأردت بيان حكم الرجعة، فأقول لك: {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، {بَلَغْنَ}: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة فاعل، {أَجَلَهُنَّ}: مفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، {فَأَمْسِكُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب الشرط، {أمسكوهن}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب {إذا} الشرطية، وجملة {إذا} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {بِمَعْرُوفٍ}: حال من ضمير الإناث، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حال كون إمساكهن متلبسًا بمعروف. {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}: معطوف على {أَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {وَأَشْهِدُوا}: فعل أمر، وفاعل، معطوف على {أَمْسِكُوهُنَّ}، {ذَوَيْ عَدْلٍ}: مفعول به منصوب بالياء؛ لأنه تثنية ذا؛ بمعنى صاحب {مِنْكُمْ}: صفة لـ {ذَوَيْ عَدْلٍ}؛ أي: كائنين منكم. {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به معطوف على {أشهدوا}، {لِلَّهِ}: متعلق بـ {وَأَقِيمُوا}؛ أي: لوجه الله. {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. {ذَلِكُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُوعَظُ}: خبره، والجملة مستأنفة. {يُوعَظُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، {بِهِ} متعلق بـ {يُوعَظُ}، {مَن} اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُوعَظُ}، {كَانَ}: فعل ناقص، واسما ضمير مستتر يعود على {مَنْ} وجملة {يُؤْمِنُ} في محل نصب خبر {كَانَ} وجملة {كَانَ} صلة لـ {مَن} الموصولة {بِاللَّهِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُ}، {وَالْيَوْمِ}: معطوف على الجلالة، {الْآخِرِ}: صفة لـ {الْيَوْمِ}، {وَمَن}: {الواو}: استئنافية أو اعتراضية، {مَن}: اسم شرط في

محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {يَتَّقِ اللَّهَ}: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {يَجْعَلْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ} مجزوم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، {له} متعلق بـ {يَجْعَلْ} على كونه مفعولًا ثانيًا له، {مَخْرَجًا}: مفعول أول له، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة سيقت استطرادًا لذكر المؤمنين، أو اعتراضية لاعتراضها بين أحكام المطلقات. {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}. {وَيَرْزُقْهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {يَجْعَلْ}، {مِنْ حَيْثُ}: متعلق بـ {يرزق}، وجملة {لَا يَحْتَسِبُ} في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}، {وَمَن}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {يَتَوَكَّلْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، {عَلَى اللَّهِ}: متعلق بـ {يَتَوَكَّلْ}، {فَهُوَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {هو}: مبتدأ، {حَسْبُهُ}: خبر. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة {من} الأولى. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {بالغُ}: خبره، {أَمْرِهِ}: مضاف إليه أو مفعول به، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {قد}: حرف تحقيق {جَعَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {لِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {جَعَلَ} على كونه مفعولًا ثانيًا له إن كانت بمعنى التصيير، {قَدْرًا}: مفعول ثان له. والجملة الفعلية في محل الرفع بدل من {بَالِغُ أَمْرِهِ} على كونه خبر لـ {إنّ}. {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)}. {وَاللَّائِي}: {الواو}: استئنافية، {اللَّائِي}: اسم موصول للجمع المؤنث في محل الرفع مبتدأ، {يَئِسْنَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، {مِنَ الْمَحِيضِ}: متعلق بـ {يَئِسْنَ}، {مِنْ نِسَائِكُمْ}: حال من فاعل {يَئِسْنَ}، {إِنِ}: حرف شرط،

{ارْتَبْتُمْ}: فعل، وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَعِدَّتُهُنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية، {عدتهن}: مبتدأ، {ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية وجوابها في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. وقيل: الجملة الاسمية خبر اللاتي، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، وتكون جملة الشرط وجوابه معترضة. والأول أولى؛ لسهولته ولاستغنائه عن التقدير. {وَاللَّائِي}: {الواو}: عاطفة، {اللائي}: مبتدأ، وجملة {لَمْ يَحِضْنَ} صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوت، تقديره: فكذلك أو مثلهن؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر. ولو قيل: إنه معطوف على {اللَّائِي يَئِسْنَ} عطف المفردات، وأخبر عن الجميع بقوله: {فَعِدَّتُهُنَّ} .. لكان وجهًا حسنًا. {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ}: مبتدأ أول، ومضاف إليه {أَجَلُهُنَّ}: مبتدأ ثان، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يَضَعْنَ}: فعل مضارع في محل النصب مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، {حَمْلَهُنَّ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الخبرية، تقديره: أجلُهن وضعُهن حملَهن. وجملة المبتدأ الثاني في محل الرفع خبر عن الأول، وجملة الأول معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ}. {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية، {من} شرطية في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، وجملة {يَتَّقِ اللَّهَ}: فعل شرط لها، وجملة {يَجْعَلْ} جوابها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة، {له} في موضع المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}، {مِنْ أَمْرِهِ}: حال من {يُسْرًا}، و {يُسْرًا}: مفعول أول لـ {جَعَلَ}. {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}. {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَنْزَلَهُ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَنْزَلَهُ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {أَمْرُ اللَّهِ}. {وَمَنْ يَتَّقِ}: اسم شرط وفعله، {اللَّهَ} لفظ الجلالة مفعول و {يُكَفِّرْ}: جوابه، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنْ} الأولى. {عنه}: متعلق بـ {يُكَفِّرْ}، {سَيِّئَاتِهِ}: مفعول به. {وَيُعْظِمْ}: معطوف على جواب الشرط، {لَهُ} متعلق بـ {يعظم}، {أَجْرًا}: مفعول به.

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}. {أَسْكِنُوهُنَّ}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة مستأنفة. {مِنْ حَيْثُ} متعلق بـ {أَسْكِنُوهُنَّ}، وجملة {سَكَنْتُمْ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}، {مِنْ وُجْدِكُمْ}: بدل من الجار والمجرور في قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تُضَارُّوهُنَّ}: فعل مضارع، وفاعل، ومفعول به، مجزوم بـ {لا} الناهية. والجملة معطوفة على جملة {أَسْكِنُوهُنَّ}. {لِتُضَيِّقُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تضيقوا}: فعل مضارع، ومفعول تضيقوا محذوف، تقديره: لتضيقوا المساكن أو النفقة. وجملة {تضيقوا} صلة أن المضمرة {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتضيحق المساكن، {عَلَيْهِنَّ}: الجار والمجرور متعلق بـ {تُضَارُّوهُنَّ}. {أَوَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. {وَإِنْ}: {الواو}: عاطفة أو استئنافية، {إنْ}: حرف شرط، {كُنَّ}: فعل ماض ناقص في محل جزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع اسمها، {أُولَاتِ حَمْلٍ}: خبرها. {فَأَنْفِقُوا}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية، {أَنْفِقُوا}: فعل أمر في محل جزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه جوابًا لها، مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {عَليهِن}: متعلق بـ {أَنْفِقُوا}، والجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يَضَعْنَ}: فعل مضارع في محل النصب بأن المضمرة بعد حتى، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل، {حَمْلَهُنَّ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، بمعنى إلى، تقديره: إلى وضعهن حملهن، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْفِقُوا}، {فإنْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم إنفاقهن، وأردتم بيان حكم إرضاع الولد .. فأقول لكم: إن أرضعن لكم. {إن}: حرف شرط، {أَرْضَعْنَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث فاعل، {لَكُمْ}: متعلق بـ {أَرْضَعْنَ} ومفعول {أَرْضَعْنَ}

محذوف، تقديره: ولدًا منهن. {فَآتُوهُنَّ}: {الفاء}: رابطة الجواب، {اتوهن}: فعل أمر، وفاعل ومفعول أول، {أُجُورَهُنَّ}: مفعول ثان لأن {آتى} بمعنى أعطى، وجملة الأمر في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَأْتَمِرُوا}: فعل أمر، وفاعل، معطوف على {آتوهن}؛ أي: ليأمر بعضكم بعضًا. {بَيْنَكُمْ}: ظرف متعلق بـ {أْتَمِرُوا}، {بِمَعْرُوفٍ}: متعلق بـ {أْتَمِرُوا} أيضًا. {وإن}: {الواو}: عاطفة، {إنْ} حرف شرط، {تَعَاسَرْتُمْ}: فعل، وفاعل في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، {فَسَتُرْضِعُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إنْ} الشرطية وجوبًا لاقترانه بحرف التنفيس، و {السين}: حرف استقبال، {ترضع}: فعل مضارع مرفوع، {لَهُ}: متعلق بـ {ترضع}، {أُخْرَى}: فاعل. والجملة في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {إنْ} الشرطية معطوفة على ما قبلها. {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}. {لِيُنْفِقْ}: {اللام}: لام أمر، {ينفق}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، {ذُو سَعَةٍ}: فاعل مرفوع بالواو؛ لأنه من الأسماء الستة، {مِنْ سَعَتِهِ}: متعلق بـ {ينفق}، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ}: {الواو}: عاطفة، {مَنْ}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {قُدِرَ}: فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونه فعل شرط لها {عَلَيْهِ} متعلق بـ {قُدِرَ}، {رِزْقُهُ}: نائب فاعل، {فَلْيُنْفِقْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية، و {اللام}: لام الأمر، {ينفق}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {من} الشرطية {مما}: متعلق بـ {ينفق} وجملة {ينفق} في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {لْيُنْفِقْ} لاشتمالها على الطلب أيضًا، وجملة {آتَاهُ اللَّهُ}: صفة لـ {ما} الموصولة، {لَا}: نافية، {يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا}: فعل وفاعل، ومفعول أول، والجملة مستأنفة، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {ما}: مفعول به ثان لـ {يُكَلِّفُ}، وجملة {آتَاهَا} صلة لـ {ما} الموصولة،

{سَيَجْعَلُ}: {السين}: حرف استقبال، {يجعل الله}: فعل مضارع، وفاعل، {بَعْدَ عُسْرٍ}: ظرف متعلق بمحذوف، وهو المفعول الثاني لـ {يجعل}. {يُسْرًا}: مفعول أول لـ {يجعل}، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتأكيد الوعد للفقراء بفتح أبواب الرزق. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)}. {وَكَأَيِّنْ}: {الواو}: استئنافية، {كأين}: اسم مبهم، بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ، {مِنْ قَرْيَةٍ}: تمييز لـ {كأين}، و {مِنْ} زائدة، وجملة {عَتَتْ}؛ أي: أعرضت، خبرها. والجملة الاسمية مستأنفة. {عَنْ أَمْرِ}: متعلق بـ {عَتَتْ}، {رَبِّهَا}: مضاف إليه، {وَرُسُلِهِ}: معطوف على {رَبِّهَا}، {فَحَاسَبْنَاهَا}: {الفاء}: عاطفة، {حاسبناها}: فعل وفاعل، ومفعول به، {حِسَابًا}: مفعول مطلق، {شَدِيدًا}: صفة {حِسَابًا}، والجملة معطوفة على جملة {عَتَتْ}، {وَعَذَّبْنَاهَا}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {حاسبناها}، {عَذَابًا}: مفعول مطلق، {نُكْرًا}: صفة {عَذَابًا}. {فَذَاقَتْ}: {الفاء}: عاطفة، {ذاقت}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {قرية}، معطوف على {عذبنا}، {وَبَالَ أَمْرِهَا}: مفعول به، ومضاف إليه، {وَكَانَ}: فعل ماض ناقص، معطوف على {ذاقت}، {عَاقِبَةُ أَمْرِهَا}: اسمها، {خُسْرًا}: خبرها. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}. {أَعَدَّ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ}، {عَذَابًا}: مفعول به، {شَدِيدًا}: صفة {عَذَابًا}، والجملة مفسرة لما تقدم تأكيدًا للوعيد، لا محل لها من الإعراب. {فَاتَّقُوا اللَّهَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما ذكر من استئصال الأمم الماضية بمخالفة أمر ربها ورسله، وأردتم بيان ما هو النجاة لكم من ذلك .. فأقول لكم: اتقوا الله. {اتقوا الله}: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {يَا أُولِي} {يا}: حرف نداء، {أولي}:

منادى مضاف منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {الْأَلْبَابِ}: مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة على كونها جواب الأمر السابق. {الَّذِينَ}: نعت للمنادى، أو بدل منه، وجملة {آمَنُوا} صلة له، {قد}: حرف تحقيق {أَنْزَلَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {إِلَيْكُمْ}: متعلق بـ {أَنْزَلَ}، {ذِكْرًا}: مفعول به، والجملة مستأنفة. {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}. {رَسُولًا}: منصوب بفعل مقدر لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أرسل إليكم رسولًا، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على {أَنْزَلَ}، على حد قوله: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا أي: وسقيتها ماء باردًا، وفيه أوجه كثيرة من الإعراب مذكورة في المطولات. وجملة {يَتْلُو} في محل النصب صفة لـ {رَسُولًا}، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {يَتْلُو}، {آيَاتِ اللَّهِ}: مفعول به، {مُبَيِّنَاتٍ}: حال من {آيَاتِ اللَّهِ}، {لِيُخْرِجَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {يخرج}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإخراجه الذين آمنوا، الجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلَ} أوبـ {يَتْلُو}، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل نصب مفعول به. وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: معطوف على {آمَنُوا}، {مِنَ الظُّلُمَاتِ}: متعلق بـ {يخرج}، {إِلَى النُّور}: متعلق بـ {يخرج} أيضًا، {وَمَنْ}: {الواو}: استئنافية، {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة جواب الشرط أو الجواب، {يُؤْمِنْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {من} الشرطية، على كونها فعل شرط لها، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {يُؤْمِنْ}، {وَيَعْمَلْ صَالِحًا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {يُؤْمِنْ}، {يُدْخِلْهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بـ {من} الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة لـ {يُدْخِلْهُ}، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ}

تَحْتِهَا}: متعلق بـ {تَجْرِي}، {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة صفة لـ {جَنَّاتٍ}، {خَالِدِينَ}: حال من الهاء في {يُدْخِلْهُ}، روعي فيه معنى {مَنْ} الشرطية بعد مراعاة لفظها، {فيها}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {أَبَدًا}: ظرف هتعلق بـ {خَالِدِينَ}، {قَدْ} حرف تحقيق، {أَحْسَنَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، {لَهُ}: متعلق بـ {أَحْسَنَ}، {رِزْقًا}: مفعول به، والجملة الفعلية في مل النصب حال ثانية من الهاء في {يُدْخِلْهُ}. وقد روعي فيها لفظ {مَنْ}. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}. {اللَّهُ}: مبتدأ، {الَّذِي}: خبره، والجملة مستأنفة، وجملة {خَلَقَ}: صلة الموصول {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مفعول به ومضاف إليه، {وَمِنَ الْأَرْضِ}: حال من {مِثْلَهُنَّ}، و {مِثْلَهُنَّ}: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: وخلق من الأرض مثلهن، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {خَلَقَ}. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ}: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. {بَيْنَهُنَّ}: متعلق بـ {يَتَنَزَّلُ}، {لِتَعْلَمُوا}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {تعلموا}: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلكم، الجار والمجرور متعلق بـ {يَتَنَزَّلُ}. {أَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ}: خبر {أنَّ}، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {تعلموا}، تقديره: لتعلموا قدرة الله على كل شيء، و {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {قَدْ}: حرف تحقيق، {أحَاطَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الله}، {بِكُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {أحَاطَ}، {عِلْمًا}: تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ {أَحَاطَ}، وجملة {أَحَاطَ} في محل الرفع خبر {أَنَّ}، وجملة {أَنَّ} معطوفة على جملة أنَّ الأولى على كونها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي تعلموا، تقديره: وإحاطة علمه تعالى بكل شيء. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}: قال في "المفردات". أصل الطلاق: التخلية من وثاق. ويقال: أطلقت البعير من عقاله، وطلقته، وهو طالق وطلق بلا قيد، ومنه: استعير: طلقت المرأة، إذا خليتها، فهي طالق؛ أي: مخلاة من حبالة النكاح. والطلاق اسم

مصدر بمعنى التطليق، كالسلام والكلام بمعنى التسليم والتكليم. وفي ذلك قالوا: المستعمل في المرأة لفظ التطليق، وفي غيرها لفظ الإطلاق، حتى لو قال: أطلقتك .. لم يقع الطلاق ما لم ينوه، ولو قال: طلقتك .. وقع نوى أو لم ينوه. {لِعِدَّتِهِنَّ} العدة مصدر عده يعده، كشده يشده شدة، وشرعًا: اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها غالبًا؛ أي: مستقبلين لعدتهن؛ بأن تطلقوهن في طهر لا قربان فيه. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}؛ أي: اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل. وأصل الإحصاء: العد بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديمًا، ثم استعمل في مطلق العد والضبط، وأصله: أحصيوا، بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت الياء حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم ضمت الصاد لمناسبة الواو. {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}: والتقوى في الأصل: اتخاذ الوقاية، وهي: ما يقي الإنسان مما يكرهه، ويؤمل أن يحفظه، ويحول بينه وبين ذلك المكروه، كالترس ونحوه، ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما يقي العبد بوعد الله ولطفه من قره، ويكون سببًا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة. {بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} - بالكسر - اسم فاعل، من بين اللازم، بمعنى تبين. والفاحشة: كل ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وهو الزنا في هذا المقام. وقيل: البذاء على الأسماء، أو على الزوج، أو الخروج قبل انقضاء العدة. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}؛ أي: شرائعه التي أمر بفعلها، ونهى عن ارتكابها، وهي جمع حدّ، والحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ}: {يَتَعَدَّ}: فيه إعلال بالحذف، فحذف حرف العلة عنه للجازم. {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}؛ أي: أضر بها. {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} والحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن، عرضًا كان ذلك أو جوهرًا، وإحداثه: إيجاده. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وفي "المفردات": البلوغ والبلاغ: الانتاء إلى أقصى القصد والمبتغى، مكانًا كان أو زمانًا أو أمرًا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه مثل: {فَإِذَا بَلَغْنَ ...} إلخ كما مرّ. {ذَوَيْ عَدْلٍ} والعدالة: هي الاجتناب عن الكبائر كلها، وعدم

الإصرار على الصغائر، وغلبة الحسنات على السيئات. {يُوعَظُ بِهِ}: الوعظ: زجر يقترن بتخويف. {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}: المخرج مصدر ميمي؛ أي: خروجًا وخلاصًا مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضائق، ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود. {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أي: محسبه؛ أي: كافيه. {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ}: {يَئِسْنَ} فعل ماض، والنون للنسوة. واليأس: القنوط ضد الرجاء، يقال: يئس من مراده ييأس يأسًا، وفي معناه: أيس يأيس يأسًا، وإياسًا لا أيسًا، وفاعلهما: آيس، لا يائس، يقال: امرأة آيس، إذا كان يأسها من الحيض دون آيسة؛ لأن التاء إنما زيدت في المؤنث، إذا استعملت الكلمة للمذكر أيضًا فرقًا بينهما، وإذا لم تستعمل له .. فأي حاجة إلى الزيادة؟ ومن ذلك يقال: امرأة حائض وطالق وحامل، بلا تاء إذا كان حملها من الولد، وأما إذا كان يأسها وحملها من غير الحيض وحمل الولد .. يقال: آيسة وحاملة. وفي "المغرب": اليأس: انقطاع الرجاء، وأما الإياس في مصدر الآيسة من الحيض .. فهو في الأصل: ائياس على وزن إفعال، حذفت منه الهمزة التي هي عين الكلمة تخفيفًا. {الْمَحِيضِ}: الحيض: وهو في اللغة مصدر حاضت الأنثى، فهي حائض وحائضة؛ أي: خرج الدم من قُبلها، ويكون للأرنب والضبع والخفاش، كما ذكره الجاحظ. وفي "القاموس": حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، فهي حائض. والمحيض: مصدر ميمي بمعنى الحيض، على وزن مفعل بفتح الميم وكسر العين، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مد. {مِنْ نِسَائِكُمْ} الهمزة فيه مبدلة من واو لظهور الواو في نسوة ونسوان. {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أصله: ارتيب، بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما سكن آخر الفعل عند الإسناد إلى ضمير الرفع المتحرك لالتقاء الساكنين. {ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} والأشهر: جمع شهر، وهو مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، ما مرّ بسطه. {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ}. {وَأُولَاتُ}: اسم جمع لا واحد له من لفظه، واحدتها: ذات، بمعنى صاحبة. والأحمال: جمع حمل - بفتح الحاء - كصحب وأصحاب. وفي "المختار": الحمل - بالفتح -: ما كان في البطن أو على

رأس شجر، والحمل - بالكسر -: ما كان على ظهر أو رأس. اهـ. والمراد به هنا الحَبَل؛ أي: الثقل المحمول في البطن، وهو الولد في البطن. والمعنى: والحبالى منهن. {أَنْ يَضَعْنَ} مضارع وضع، وقياس مضارعه: يوضع، لكنهم حذفوا فالله التي هي الواو حملًا له على المثالي المكسور العين. {مِنْ وُجْدِكُمْ} بضم الواو باتفاق القراء. والوجد: القدرة والغنى، يقال: افتقر فلان بعد وجده؛ أي: غناه. وفي "المختار": وجد في المال وجدًا، بضم الواو وفتحها وكسرها، وجدة أيضًا بالكسر؛ أي: استغنى. {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} أصله: تضاررونهن، حذفت نون الرفع لدخول الجازم، وهو {لا} الناهية، ثم أدغمت الراء الأولى في الثانية. {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} الرضاع لغة: شرب اللبن من الضرع أو الثدي، وشرعًا: وصول لبن آدمية مخصوصة جوف طفل مخصوص على وجه مخصوص. {فَآتُوهُنَّ} أصله: فائتيوهن، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت الياء حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت التاء لمناسبة واو الجماعة، وأبدلت الهمزة الثانية ألفًا، وحذفت نون الرفع. {وَأْتَمِرُوا} الأصل: ائتمروا، بهمزة وصل قبل الهمزة فاء الفعل من ائتمر الخماسي، فلما دخلت الواو استغني بها عن همزة الوصل للتمكن من النطق عند وجودها. وقرىء: {وَأْتَمِرُوا} بإبدال الهمزة ألفًا حرف مدّ للواو، فالائتمار بمعنى التآمر، كاشتوار بمعنى التشاور، يقال: ائتمر القوم وتآمروا، إذا أمر بعضهم بعضًا. يعني: الافتعال قد يكون بمعنى التفاعل، وهذا منه. {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} قوله: {سَعَةٍ} فيه إعلال بالحذف، أصله: وسعة، حذفت الفاء من المصدر حملًا له على المضارع، فوزنه (عَلَةْ) ظهرت الفتحة على السين عين الكلمة؛ لأن الفعل من باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها، والتاء عوض عن الواو المحذوفة. {مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أصله: أءتيه، بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد للأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وكذلك القول في قوله: {آتَاهُ}. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}. و {وَكَأَيِّنْ} كـ (كم) الخبرية في كونها للتكثير. والقرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. والمعنى: وكثير من أهل قرية. {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} قال في "المفردات": العتو: النبو عن الطاعة. وفي "القاموس": عتا يعتو عتوًا، وعتيًا وعتيًّا: استكبر وجاوز الحد، فهو عاتٍ وعتيٌّ. انتهى. وأصل عتا: عتو، بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما اتصلت

بالفعل تاء التأنيث الساكنة لالتقاء الساكنين. {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}: و {ذاقت} فيه إعلال بالقلب أصله: ذوقت، قلبت الواو لتحركها بعد فتح. {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} والخسر والخسران: انتقاص رأس المال، وينسب إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ}، أصله: أعدد، نقلت حركة الدال الأولى إلى العين فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنداء، وتعميم المؤمنين بالخطاب في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه؛ لأنه إمام أمّته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان، افعلوا كيت وكيت. ومنها: تغليب المخاطب على الغائب في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} إظهارًا لشرفه واستتباعه إياهم؛ لأن المعنى إذا طلقت أنت وأمَّتك. ومنها: وصفه تعالى بصفة ربوبيته لهم في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} تأكيدًا للأمر بالتقوى، ومبالغة في إيجاب الاتقاء. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}. ومنها: إضافة البيوت إليهن في قوله: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} مع أنها للأزواج؛ لتأكيد النهي عن الإخراج ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} بعد قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلية الحكم في قوله: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. ونكتته مشافهة المتعدي بالخطاب لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي، والظاهر: أن يكون بطريق الغيبة: (لا يدري). ومنها: مجاز المشارفة في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}؛ أي: قاربن انقضاء

عدتهم؛ لأنه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة. ومنها: الطباق في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وكذلك في قوله: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. ومنها: الإيجاز بالحذت في قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} حذف منه الخبر؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر أيضًا. ومنها: التنوين في قوله: {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} للتعظيم؛ أي: أجرًا عظيمًا، وللتعميم المنبىء عن التتميم؛ أي: أيّ أجر كان. ومنها: تكرار الأمر بالتقوى ثلاث مرات اهتمامًا بشان التقوى في أحكام الطلاق. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} يراد بها أهل القرية، فهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحال، علاقته المحلية. ومنها: إيراد صفة الرب في قوله: {عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} توبيخًا لهم وتجهيلًا لما أن عصيان العبيد لربهم ومولاهم طغيان وجهل بشأن سيدهم، ومالكهم، وبمرتبة أنفسهم ودوام احتياجهم إليه في التربية. ومنها: تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب في قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} {فَذَاقَتْ وَبَالَ}. ومنها: في قوله: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. استعارتان تصريحيتان. استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإيمان. حيث شبه الكفر بالظلمات ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به، وشبه الإيمان بالنور وحذف المشبه وأبقى المشبه به أيضًا. ومنها: الالتفات في قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} من الغيبة إلى الخطاب، وكان مقتضى السياق: قد أنزل الله إليهم ذكرًا، وكذا في قوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ}. ومنها: التأكيد في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}. أكد الخلود فيها بقوله: {أَبَدًا} لئلا يتوهم أن المراد به: المكث الطويل المنقطع آخرًا. ومنها: التعجب في قوله: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}؛ لأن فيه معنى التعجب

والتعظيم لما رزق الله المؤمنين من الثواب؛ لأن الجملة الخبرية إذا لم يحصل منها فائدة الخبر ولازمها تُحمل على التعجب، إذا اقتضاه المقام، كأنه قيل: ما أحسن رزقهم الذي رزقهم الله، وما أعظمه! والتنوين في {رِزْقًا} للتعظيم لإعداده تعالى فيها ما هو خارج عن الوصف، أو للتكثير عددًا لما فيه مما تشتهيه الأنفس من الرزق، أو مددًا؛ لأن أكلها دائم لا ينقطع. والله أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من الشؤون اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية، ومناهج دينية، وفتاوى إسلامية وضعت لإقامة العدل بين الخلق، وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام، وقبضة من فيضه، وزهرة من شجرته، فكم بين السموات والأرض من قضاء في هذا الفضاء الواسع الصامت لفظًا، الناطق معنى؟ وكم من حكم بيننا نرى أثره، ولا نسمع النطق به؟ ترى الشمس محكومًا عليها أن تطلع من مواضع في المشرق وتغيبَ في مواضع في المغرب لا تجوزها، وترى الرياح محكومًا عليها والسحب مأمورة والأنهار جارية، والمزارع قد حكم عليها أن تكون في زمن خاص وأمكنة خاصة، فليس للقطن أن ينبت في البلاد الباردة، ولا أن يثمر في زمن الشتاء، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس وسعادتهم في دنياهم. فانظر أيّ الحكمين أكثر منفعة، أَحُكْمٌ لمصلحةِ أشخاصٍ متنازعِينَ، أَم حكمٌ بسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟ والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

سورة التحريم

سورة التحريم سورة التحريم مدنية، قال القرطبي في قول الجميع: نزلت بعد الحجرات، وتسمى (¬1) سورة النبي. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة التحريم بالمدينة، ولفظ ابن مردويه: سورة المحرم. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}. وآيها (¬2): اثنتا عشرة آية، وكلماتها: مئتان وسبع وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وستون حرفًا. ومناسبتا لما قبلها (¬3): 1 - أن سورة الطلاق في حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تعليمًا لأمته أن يحذروا أمر النساء وأن يعاملوهن بسياسة اللين، كما عاملهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأن ينصحوهن نصحًا مؤثرًا. 2 - أن كلتيهما افتتحت بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أن تلك في خصام نساء الأمة، وهذه في خصام نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أفردن بالذكر تعظيمًا لمكانتهن. وقال أبو حيان (¬4): والمناسبة بينها وبين السورة التي قبلها: أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين .. ذكر هنا ما جرى من زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة التحريم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البيضاوي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

التسمية: وسميت سورة التحريم؛ لأنه ذكر فيها تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما احل الله له مع العتاب عليه. فضلها: وذكر في فضلها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة التحريم .. آتاه الله توبة نصوحًا". وفيه مقال. قال العلماء (¬1): والصحيح في سبب نزولها: أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير "الصحيحين"، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح. قال النسائي: إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غايةً. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوبة عما فرطن من ¬

_ (¬1) المراغي.

الزلات، وأبان لهن أن الله كالىء رسوله وناصره فلا يضره تظاهرهن عليه، ثم حذرهن من التمادي في مخالفته - صلى الله عليه وسلم - خوفًا من الطلاق وحرمانهن من الشرف العظيم بكونهن أمهات المؤمنين، ومن استبدال غيرهن بهن من صالحات المؤمنات .. أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة، يقال للكافرين: لا تعتذروا فقد فات الأوان، وإنما تلقون جزاء ما عملتم في الدنيا، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلّاتهم وأن يتوبوا توبة نصوحًا، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت، ليكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّار ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (¬1) المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات له .. أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون في سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وذكر أن جزاءهم في الآخرة جهنم وبئس المقيل والماوى. قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح، بالندم على ما فات وعدم العودة فيما هو آت، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة عليهم في القول والعمل .. ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقَبول الإيمان وفي جوهرها صفاء ونقاء .. فلا يجدي فيها الغلظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، فقد كانتا في بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام، كذلك إذا كان جوهر النفس نقيًا خالصًا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئًا، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين، ولا عتو الظالمين، وضرب لذلك مثلًا بامرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها، وتعتقد ألوهيته هو، فأبت وجاهدت في الله حق جهاد حتى لاقت ربها، وهي آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل في قلبها من نور الإيمان، ¬

_ (¬1) المراغي.

وكذلك مريم ابنة عمران التي عفت فآتاها الله سبحانه الشرف والكرامة وأنجبت نبي الله عيسى، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه، وكانت من العابدين القانتين. وفي هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجديهم نفعًا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم، وجعلهم كالأجانب بل أبعد منهم، كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما، كما تضمن التعريض بأُمَّي المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنة جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلتقل: إني لأجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: "لا بأس، شربت عسلًا عند زينب بنة جحش، ولن أعود له" فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لقوله: "بل شربت عسلًا". الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه مختصرًا ومطولًا. وأخرج النسائي كما في "تفسير ابن كثير"، والحاكم، وقال: على شرط مسلم، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حرامًا، فأنزل الله هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ...} إلى آخر الآية. وفي "مجمع الزوائد" عن ابن عباس قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال: نزلت هذه في سريته، رواه البزار بالإسنادين والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح غير بشر بن آدم، وهو ثقة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين

معًا. اهـ. أي: بسبب تحريمه العسل وتحريمه جاريته. وقال الشوكاني في "تفسيره": فهذان سببان صحيحان لنزول الآية. والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة العسل وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعًا، وفي كل واحد منها أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه. قوله تعالى: {عسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. قال: لما اعتزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقلت: لأعلمن ذلك اليوم، قال: فدخلت عليَّ عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر! أقد بلغ شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك، قال: فدخلتُ على حفصة فقلت لها: يا حفصة؛ أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت فإذا أنا برباحٍ - غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المشربة مدلٍّ رجليه على نقير من خشب - وهو جذع يرقى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينحدر - فناديت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئًا، ثم قلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني أظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنّ أني إنما جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي، فأومأ إليَّ أن إرقه، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظًا، وإذا أفيق معلق، قال: فابتدرت عيناي، قال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب" قلت: يا نبي الله! وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جسمك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوته وهذه خزانتك، فقال:

[1]

"يا ابن الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا"؟ قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله! ما يشق عليك من شأن النساء، فإنْ كنت طلقتهن .. فإن الله معك، وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت، وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت الآية؛ آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: "لا" قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، أفانزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: "نعم إن شئت" فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر فضحك وكان من أحسن الناس ثغرًا، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت، فنزلت أتثبت بالجذع، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يمشي على الأرض ما يَسِمُه بيده، فقلت: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال: "إن الشهر يكون تسعًا وعشرين"، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية {أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. فكنتُ أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ آية التخيير. وقد تقدم في سورة البقرة قول عمر: وافقت ربي في ثلاث، وذكر منها: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - {لِمَ تُحَرِّمُ} على نفسك {مَا أَحَلَّ اللَّهُ} سبحانه {لَكَ}؛ أي: لأي شيء تمتنع من الانتفاع بما أحل الله لك؛ أي: لم تمتنع من شرب العسل الذي أحل الله لك، أو من وقاع مارية القبطية التي أهداها المقوقس ملك مصر. حال كونك {تَبْتَغِي} وتطلب وتقصد بذلك الامتناع {مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}؛ أي: إرضاءهن عنك وتبشيرهن. وهذا عتاب من الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على فعله ذلك؛ لأنه لم يكن عن باعث مرضي، بل كان طلبًا لمرضات الأزواج.

وفي هذا (¬1) تنبيه إلى أن ما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مما ينبغي لمقامه الشريف أن يفعله. وفي ندائه - صلى الله عليه وسلم - بـ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} في مفتتح العتاب حسن تلطف، وتنويه بشانه - صلى الله عليه وسلم - على نحو ما جاء في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}. ومعنى {تُحَرِّمُ}: تمتنع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض أزواجه. وأصل {لِمَ} لما، والاستفهام لإنكار التحريم. وجملة {تَبْتَغِي} في محل نصب حال من فاعل {تُحَرِّمُ}؛ أي: مبتغيًا به مرضاة أزواجك، أو مفسرة لقوله: {تُحَرِّمُ} أو مستأنفة. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ أي: والله غفور لذنوب التائبين من عباده وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب، وإنما عاتبه على الامتناع من الحلال، وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه، تعظيمًا لقدره الشريف وإجلالًا لمنصبه أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جريًا على ما ألف من لطف الله به، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك. واختلفوا (¬2) فيما إذا قال لزوجته: أنت عليّ حرام، أو: الحلال عليّ حرام، ولا يستثني زوجته. فقال جماعة - منهم الشعبي، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ -: هو كتحريم الماء والطعام، وقال تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} والزوجة من الطيبات ومما أحله الله تعالى. وقال أبو بكر، وعمر، وزيد، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة، وابن المسيب، وعطاء، وسليمان بن يسار، وطاووس، وابن جبير، وقتادة، والحسن، والأوزاعي، وأبو ثور، وجماعة: هو يمين يكفرها. وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضًا في إحدى روايتيه وللشافعي في أحد قوليه: فيه تكفير يمين، وليس بيمين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[2]

وقال أبو حنيفة والكوفيون: هذا ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقها .. فهو لا شيء. وإنما جَمْعُ (¬1) {الأزواج} مع أن من أرضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة عائشة وحفصة رضي الله عنهما، إما لأن إرضاءهما في الأمر المذكور إرضاء لكلهن؛ لأن النساء في طبقة واحدة في مثل تلك المغيرة؛ لأنهن جبلن عليها، أو لأن الجمع قد يطلق على الاثنين، أو للتحذير عن إرضاء من تطلب منه - صلى الله عليه وسلم - ما لا يحسن وتلح عليه، أيتهن كانت؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان حييًا كريمًا. والجملة حال من ضمير {تُحَرِّمُ}، كما مر، والمعنى: حال كونك مبتغيًا وطالبًا لرضى أزواجك، والحال أنهن أحق بابتغاء رضاك منك، فإنما فضيلتهن بك. فالإنكار وارد على مجموع القيد والمقيد دفعة واحدة، فمجموع الابتغاء والتحريم منك، نظيره قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}. وفيه إشارة إلى فضل مارية والعسل. وفي الحديث: "أول نعمة ترفع من الأرض العسل"، وقد بين ذلك في سورة النحل. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}؛ أي: مبالغ في الغفران، قد غفر لك وستر ما فعلت من التحريم وقصدت من الرضى؛ لأن الامتناع من الانتفاع بإحسان المولى الكريم يشبه عدم قبول إحسانه. {رَحِيمٌ} قد رحمك ولم يؤاخذك به، وإنما عاتبك محافظة على عصمتك. وقال في "كشف الأسرار": هذا أشد ماعوتب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن. 2 - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ}؛ أي: قد شرع الله سبحانه وتعالى، وبين {لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}؛ أي: تحليل أيمانكم وتكفيرها بالإطعام، أو الكسوة، أو العتق، أو الصوم على ما مر تفصيله في سورة المائدة. والفرض هنا بمعنى الشرع والتبيين؛ لأن {فَرَضَ} بمعنى أوجب إنما يتعدى بعلى. والتحلة: مصدر حلّل المضعف العين، أصله: تحللة، ككرّم تكرمة، وفرق تفرقة، والمراد: تحليل اليمين وفكها، كأن اليمين عقد والكفارة حلّ. يقال: حلّل اليمين تحليلًا: كفّرها؛ أي: فعل ما يوجبه الحنث. والمعنى: قد بيّن الله لكم ما تنحل به عقدة اليمين من الكفارة في سورة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

المائدة، فكفروها إذا حنثتم وخالفتم ما حلفتم عليه بفعله أو تركه. قال بعضهم (¬1): لَمْ يثبتْ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لِما أحله الله: هو حرام علي، وأنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله: والله لا أقربها بعد اليوم، فقيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}؛ أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني: أقدم على ما حلفت عليه، وكفر عن يمينك. وظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} أنه كانت منه يمين. فإن قلت: هل كفر رسول الله لذلك؟ قلت: عن الحسن البصري أنه لم يكفر؛ لأنه كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وعن مقاتل: أنه أعتق رقبة في تحريم مارية وعاودها؛ لأنه لا ينافي كونه مغفورًا أن يكفر، فهو والأمة سواء في الأحكام ظاهرًا. وقرىء (¬2): {قد فرض الله لكم كفارة أيمانكم}، والمعنى: قد شرع الله لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها، فعليك أن تكفر عن يمينك. وقد روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كفر عن يمينه فأعتق رقبة، عبدًا أو أمة. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَوْلَاكُمْ} أيها المؤمنون؛ أي: متولي أموركم بنصركم على أعدائكم، ومسهل لكم سبيل الفلاح في دنياكم وآخرتكم، ومنير لكم طوق الهداية إلى ما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم. {وَهُوَ} سبحانه {الْعَلِيمُ} بما يصلحكم، فيشرعه لكم. {الْحَكِيمُ} في تدبير أموركم، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة. 3 - ثم ساق ما هو كالدليل على علمه، فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ} والإسرار (¬3): ضد الإعلان، والسر: هو الحديث المكتم في النفس، ويقال: أسررت إلى فلان حديثًا: أفضيت به إليه في خفية. فالإسرار إلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه السر، وإن كان يقتضي إخفاءه من غيره. فإذًا قولهم: أسررت إلى فلان، يقتضي من وجه الإظهار ومن وجه الإخفاء. و {النَّبِيُّ}: هو رسول الله، فإن اللام للعهد. و {إذ}: ظرف متعلق بمحذوف؛ أي: اذكر الحادث وقت الإسرار، والأكثر المشهور أنه مفعول به؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

واذكر يا محمد وقت إسرار النبي وإخفاءه حديثًا إلى بعض أزواجه على وجه التأنيب والعتاب. أو: واذكروا أيها المؤمنون. فالخطاب إن كان له - صلى الله عليه وسلم - .. فالإظهار في مقام الإضمار، بأن قيل: وإذ أسررت، للتعظيم بإيراد وصف ينبىء عن وجوب رعاية حرمته ولزوم حماية حرمه عما يكرهه، وإن كان لغيره عمومًا على الاشتراك، أو خصوصًا على الانفراد .. فذكره بوصف النبي للإشعار بصدقه في دعوة النبوة. {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} وهي حفصة رضي الله عنها. تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة قبل أحد بشهرين، وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين، وقريش تبني البيت وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أبو هريرة أيضًا، وقد بلغت ثلاثًا وستين سنة، وأبو حفص أبوها عمر رضي الله عنه كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، والحفص ولد الأسد. {حَدِيثًا} قال الراغب: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث. والمراد: حديث تحريم مارية، أو العسل، أو أمر الخلافة. قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي. قال سعدي المفتي فيه: أن تحريم العسل ليس مما أسر إلى حفصة، بل كان ذلك عند عائشة، وسودة وصفية رضي الله تعالى عنهن. {فَلَمَّا نَبَّأَتْ}؛ أي: أخبرت حفصة صاحبتها التي هي عائشة {بِهِ}، أي: بالحديث الذي أسره إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفشته إليها. وقرأ الجمهور: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ}. وقرأ طلحة: {أنبات}، {وَأَظْهَرَهُ} - صلى الله عليه وسلم - {اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْهِ}؛ أي: على إفشاء حفصة ذلك الحديث إلى عائشة؛ أي: أطلع الله سبحانه نبيه على إفشاء حفصة ذلك الحديث على لسان جبريل، فالضمير في {عَلَيْهِ} راجع إلى الحديث، بتقدير المضاف المذكور، وضمن {أظهر} معنى أطلع، فعداه بـ {على} إلى المفعول الثاني، من ظهر فلان السطح، إذا علاه، وحقيقته: صار على ظهره، وأظهره على السطح؛ أي: رفعه عليه، فاستعير للاطلاع على الشيء، وهو من باب الإفعال. {عَرَّفَ} النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة. وقرأ الجمهور (¬1): {عَرَّفَ} بتشديد الراء من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

التعريف يعني أعلمها به وأنبأها عليه، وقرأ السلمي، والحسن، وقتادة، وطلحة، والكسائي، وأبو عمرو في رواية هارون عنه بتخفيف الراء؛ أي: جازى بالعتب واللوم، كما تقول لمن يؤذيك: لأعرفن لك ذلك؛ أي: لأجازينك. وقيل: إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها، وقيل: عاتبها ولم يطلقها، وقرأ ابن المسيب، وعكرمة {عَرَاف} بألف بعد الراء، وهي إشباع، قال ابن خالويه: يقال: إنها لغة يمانية، ومثالها قوله: اعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ يريد من العقرب. أي: عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة {بَعْضَهُ}؛ أي: بعض الحديث الذي أفشته إلى صاحبتها على طريق العتاب؛ بأن قال لها: ألم أك أمرتك أن تكتمي سري، ولا تبديه لأحد وهو حديث الإمامة. روي: أنه عليه السلام لما عاتبها .. قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي .. فرحًا بالكرامة التي خص الله بها أباها، وبعض الشيء جزء منه. واختار أبو عبيد (¬1)، وأبو حاتم القراءة الأولى؛ لقوله: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}؛ أي: لم يعرفها إياه، ولو كان مخففًا لقال في ضده: وأنكر. {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}؛ أي: عن تعريف بعض تكرمًا وحياء وحسن عشرة، وهو حديث مارية، وقال بعضهم: عرف تحريم الأمة وأعرض عن تعريف أمر الخلافة، كراهة أن يُنشر ذلك في الناس، وتكرمًا منه وحلمًا. وفيه حث على ترك الاستقصاء فيما جرى من ترك الأدب، فإنه صفة الكرام. قال الحسن: ما استقصى كريم قط. وقال بعضهم: ما زال التغافل من فعل الكرام. ومعنى الآية (¬2): أي واذكر يا محمد حين أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة أنه كان يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، وقال: "لن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا"، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد. طلب من حفصة أن تكتمه، أخبر حفصة ببعض الحديث الذي أفشته، وهو قوله لها: كنت شربت عسلًا عند زينب بنت جحش فلن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

أعود، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله: "وقد حلفت" فلم يخبرها به، تكرمًا منه؛ لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حدّ امتناعه عن تناول ما أحل الله له. {فَلَمَّا} (¬1) أفشت حفصة الحديث لعائشة، واكتتمتها إياه {نَبَّأَهَا} الرسول {بِهِ}؛ أي: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. حفصة بالحديث الذي أفشته، بما أظهره الله عليه من أنها أفشت سره .. ظنت حفصة أن عائشة فضحتها فـ {قَالَتْ} حفصة له - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}؛ أي: من أخبرك هذا الخبر عني؟ على سبيل التثبت. وفيه تعجب واستبعاد من إخبار عائشة بذلك؛ لأنها أوصتها بالكتم. ولم يقل: من نبأك؛ ليوافق ما قبله للتفنن. {قَالَ} النبي - صلى الله عليه وسلم - {نَبَّأَنِيَ} بفتح ياء المتكلم؛ أي: أخبرني الله {الْعَلِيمُ} بظواهر الأشياء {الْخَبِيرُ} ببواطنها، الذي لا تخفى عليه خافية، فسكتت وسلمت. ونبأ أيضًا من قبيل التفنن، يقال: إِنَّ أنبأ ونبأ يتعديان إلى مفعولين: إلى الأول بنفسهما، وإلى الثاني بالباء، وقد يحذف الأول للعلم به، وقد يحذف الجار ويتعدى الفعل إلى الثاني بنفسه أيضًا، فقوله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} على الاستعمال الأول، وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} على الاستعمال الثاني، وقوله: {مَنْ أَنْبَأَكَ} على الاستعمال الثالث. وقوله: {الْعَلِيمُ} هو والعالم والعلام من أسمائه سبحانه، ومن أدب من علم أنه سبحانه عالم بكل شيء حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخواطر أن يستحي منه، ويكف عن معاصيه، ولا يغتر بجميل ستره، ويخشى بغتات قهره ومفاجأة مكره، والخبير بمعنى العلم. والمعنى (¬2): أي فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث .. قالت: من أنباك هذا؟ ظنًا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أخبرني ربي العلم بالسر والنجوى، الخبير بما في الأرض والسماء، لا يخفى عليه شيء فيهما. وفي الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[4]

1 - أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق. 2 - أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه. 3 - أنه يحسن التطلف مع الزوجات في العتب والإعراض عن الاستقصاء في الذنب. 4 - ثم وجه الخطاب إلى حفصة وعائشة مبالغة في العتب، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} سبحانه. خطاب لحفصة وعائشة رضي الله عنهما، فالالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الخطاب، لكن العتاب يكون للأولياء كما أن العقاب يكون للأعداء، كما قيل: إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ ... وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ ففيه إرادة الخير لحفصة وعائشة بإرشادهما إلى ما هو أوضح لهما، وجواب الشرط محذوف. و {الفاء} في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لتعليل (¬1) الجواب المحذوف، كما في قولك: اعبد ربك؛ فالعبادة حق، وإلا فالجزاء يجب أن يكون مرتبًا على الشرط مسببًا عنه، وصغو قلوبهما كان سابقًا على الشرط وكذا الكلام في {وَإِنْ تَظَاهَرَا ...} إلخ. والمعنى: إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التربة؛ لأنه قد صغت قلوبكما ومالت وعدلت عما يجب عليكما من مخالصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه، حيث حصل منكما إفشاء سر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقال: صغا عن الحق، يصغو صغوًا، إذا مال وعدل عنه. أو المعنى: فقد صغت ومالت قلوبكما إلى ما يجب للرسول - صلى الله عليه وسلم - من إجلال وتعظيم. وجمع القلوب فرارًا من كراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة لو قال: قلباكما؛ لأن العرب تكره ذلك، والجمع (¬2) في مثل هذا أكثر استعمالًا من المثنى والتثنية دون الجمع، كما قال الشاعر: فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذٍ ... كَنَوَافِذِ الْعَبطِ الَّتِي لَا تُرْفَعُ وكان هذا هو القياس؛ لأن الأصل: أن يعبر عن المثنى بالمثنى، لكن كرهوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

اجتماع تثنيتين، فعدلوا إلى الجمع؛ لأن التنثية جمع في المعنى، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر، كقوله: حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِيْ يريد: بطني. وغلط ابن مالك فقال في "التسهيل": ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية. {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} قرأ الجمهور (¬1): {تَظَاهَرَا} بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، أصله: تتظاهرا. وقرأ عكرمة: {تتظاهرا} على الأصل. وقرأ أبو رجاء، والحسن، وطلحة، وعاصم، ونافع في رواية عنهما {تظّهّرا} بشد الظاء والهاء بدون ألف. وهو تفاعل، من الظَهْر؛ لأنه أقوى الأعضاء؛ أي: فإن تتعاونا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره. وكانت كل منكما ظهرًا لصاحبتها فيه، وجواب الشرط محذوف، كما أشرنا إليه سابقًا، تقديره: فلن يعدم هو؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - من يظاهره. و {الفاء}: في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} لتعليل ذلك الجواب المحذوف، والتقدير: وإن تظاهرا وتعاونا على إفشاء سره - صلى الله عليه وسلم - وإظهار ما يكرهه .. فلن يعدم - صلى الله عليه وسلم - من يظاهره ويعاونه؛ لأن الله سبحانه وتعالى ناصره {وَجِبْرِيلُ} رئيس الملائكة المقربين قرينه ورفيقه. {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: ومن صلح من المؤمنين، أتباعه وأعوانه {وَالْمَلَائِكَةُ} مع تكاثر عددهم وامتلاء السماوات من جموعهم {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بعد نصرة الله، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين. وفيه تعظيم لنصرتهم؛ لأنها من الخوارق كما وقعت في بدر، ولا يلزم منه أفضلية الملائكة على البشر. {ظَهِيرٌ}؛ أي: فوج مظاهر له معين، كأنهم يد واحدة على من يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظهراءه وأعوانه؟ وقوله: {هُوَ} مبتدأ، جيء به لتقوية الحكم لا للحصر، وإلا لانحصرت الولاية له - صلى الله عليه وسلم - في الله تعالى، فلا يصح عطف ما بعده عليه. {وَجِبْرِيلُ}: عطف على موضع اسم إن بعد استكمالها خبرها، وكذا قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}. إليه مال السجاوندي؛ إذ وضع علامة الوقف على المؤمنين. ¬

_ (¬1) الشوكاني والبحر المحيط.

والظاهر (¬1): أن {صالح} مفرد، ولذلك كتبت الحاء بدون واو الجمع، ومنهم من جوز كونه بالواو والنون، وحدفت النون بالإضافة وسقطت واو الجمع في التلفقظ لالتقاء الساكنين، وسقطت في الكتابة أيضًا حملًا للكتابة على اللفظ، نحو {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}، {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ}، و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} إلى غير ذلك. وعلى تقدير عطف {جبريل} وما بعده على اسم إن يكونان داخلين في الولاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون {جبريل} أيضًا ظهيرًا له بدخوله في عموم الملائكة. ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {مَوْلَاهُ}، ويكون {جبريل} مبتدأ، وما بعده. عطفًا عليه، و {ظَهِيرٌ} خبر للجميع، فتختص الولاية بالله. وقد تقرر في علم النحو: أن فعيل كظهير وجريح وخبير، يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع. قيل: المراد بصالح المؤمنين: أبو بكر وعمر، وقيل: علي بن أبي طالب، وقيل: الأنبياء. وقال السهيلي: لفظ الآية عام، فالأولى حملها على العموم. قال بعضهم: لعل ذكر غير الله مع أن الإخبار بكونه تعالى مولاه كاف في تهديدهما لتذكير كمال رفعة شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله وعند الناس وعند الملائكة أجمعين. ويقول الفقير - أمده الله القدير - هذا ما قالوا، والظاهر: أن الله مع كفاية نصرته ذكر بعد نفسه من كان أقوى في نصرته - صلى الله عليه وسلم - من المخلوقات؛ لكون المقام مقام التظاهر، لكون عائشة وحفصة متظاهرتين. وزاد في الظهير لكون المقام مقام التهديد أيضًا، وقدم {جبريل} على الصلحاء لكونه أول نصير له - صلى الله عليه وسلم - من المخلوقات وسفيرًا بينه وبين ربه سبحانه. وقدم الصلحاء على الملائكة لفضلهم عليهم في باب النصرة؛ لأن نصرة الملائكة نصرة بالفعل القالبي، ونصرة الصلحاء نصرة به وبالهمة، وهي أشد، وما يفيده البعدية من أفضلية تظاهرهم على تظاهر الصلحاء، فمن حيث الظاهر؛ إذ هم أقدر على الأفعال الشاقة من البشر، فاقتضى مقام التهديد ذكر البعدية. ومعنى الآية: أي إن تتوبا من ذنبكما، وتقلعا عن مخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

فتحبا ما أحبه وتكرها ما كرهه .. فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير، وأديتما ما يجب عليكما نحوه - صلى الله عليه وسلم - من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف. ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه، فلا يضره أذى مخلوق، فقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ...} إلخ؛ أي: وإن تتعاونا على العمل بما يؤذيه ويسؤوه، من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره .. فلن يضره ذلك شيئًا؛ فإن الله ناصره في أمر دِينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون. وقد أعظم (¬1) الله سبحانه شأن نصرة نبيه على هاتين الضعيفتين للإشارة إلى عظم مكر النساء، وللمبالغة في قطع أطماعهما، في أنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند المؤمنين لأمومتهما لهم، وكرامة له - صلى الله عليه وسلم -، ورعاية لأبويهما، ولتوهين أمر تظاهرهما، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة، وقهر أعداء الدين؛ إذ قد جرت العادة بأن الشؤون المنزلية تشغل بال الرجال، وتضيع زمنًا في تفكيرهم فيها، وقد كانوا أحق بالتفكير فيما هو أجدى نفعًا وأجل فائدة. 5 - ثم شرع سبحانه في تخويفهما، بأن ذكر لهما أنه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يطلقكما، ثم إنه إن طلقكما لا يعود ضرر ذلك إلا إليكما؛ لأنه يبدله أزواجًا خيرًا منكما، فقال: {عَسَى رَبُّهُ}؛ أي: حقق رب محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِنْ طَلَّقَكُنَّ} وهذا شرط معترض بين اسم {عَسَى} وخبرها، وجوابه محذوف تقديره: إن طلقكن .. يبدله أزواجًا خيرًا منكن، أو متقدم على {عَسَى}؛ أي: إن طلقكن .. فعسى أن يبدله. {أَنْ يُبْدِلَهُ}؛ أي: أن يعطي الله سبحانه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بدلكن {أَزْوَاجًا} مفعول ثان ليبدله وقوله: {خَيْرًا مِنْكُنَّ} صفة للأزواج، وكذا ما بعده من قوله: {مُسْلِمَاتٍ} إلى {ثَيِّبَاتٍ}. وفيه تغليب المخاطب على الغائبات، فالتقدير: إن طلقكما وغيركما، أو تعميم الخطاب لكل الأزواج بأن يكن كلهن مخاطبات لما عاتبهما بأنه قد صغت قلوبكما، وذلك يوجب التوبة. فإن قلت: كيف أثبت الخيرية لهن بالصفات المذكورة بقوله: {مُسْلِمَاتٍ} إلى ¬

_ (¬1) المراغي.

آخره مع اتصاف أزواجه - صلى الله عليه وسلم - بها أيضًا؟ قلت: المراد خيرًا منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه مع اتصافهن بهذه الصفات. وليس (¬1) في الآية ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق حفصة، وعلى أن النساء خيرًا منهن، فإن تعليق الطلاق للكل لا ينافي تطليق واحدة، وما علق بما لم يقع لا يجب وقوعه. يعني: أن هذه الخيرية لما علقت بما لم يقع لم تكن واقعة في نفسها، وكان الله عالمًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن .. أبدله خيرًا منهن، تخويفًا لهن، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قيل: كل {عَسَى} في القرآن واجب إلا هذا. وقيل: هو أيضًا واجب، ولكن الله علقه بشرط، وهو: التطليق، ولم يطلقهن. وفي "فتح الرحمن": {عَسَى} تكون للوجوب في ألفاظ القرآن إلا في موضعين: أحدهما: في سورة محمد {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}؛ أي: علمتم أو تمنيتم. والثاني: هنا، ليس بواجب؛ لأن الطلاق معلق بالشرط، فلما لم يوجد الشرط .. لم يوجد الإبدال، انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {طَلَّقَكُنَّ} بفتح القاف، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بإدغامها في الكاف. ثم وصف سبحانه الأزواج بقوله: {مُسْلِمَاتٍ}؛ أي: مقرات باللسان {مُؤْمِنَاتٍ}؛ أي: مخلصات بالجَنان .. فليس من قبيل التكرار - أو منقادات انقيادًا ظاهريًا بالجوارح مصدقات بالقلوب، أو قائمات بفرائض الإسلام، مصدقات بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبا لقدر خيره وشره. {قَانِتَاتٍ}؛ أي: مطيعات؛ أي: مواظبات على الطاعة، أو مصليات {تَائِبَاتٍ} من الذنوب {عَابِدَاتٍ}؛ أي: متعبدات، أو متذللات لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - {سَائِحَاتٍ}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

صائمات. سمى الصائم سائحًا؛ لأنه يسيح في النهار بلا زاد، فلا يزال ممسكًا إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره. وقال بعضهم (¬1): الصوم ضربان: صوم حقيقي، وهو: ترك المطعم والمشرب والمنكح. وصوم حكمي، وهو: حفظ الجوارح من المعاصي، كالسمع والبصر واللسان والسائح هو الذي يصوم هذا الصوم دون الأول. انتهى. أو مهاجرات من مكة إلى المدينة، إذ في الهجرة مزيد شرف ليس في غيرها، ما قال ابن زيد: ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة، والسياحة في الأصل: الجولان في الأرض. وقرأ الجمهور (¬2): {سَائِحَاتٍ}، وعمرو بن فائد {سَيِّحات}. وهذه الصفات السابقة تجتمع، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في ذات واحدة لتنافيهما، فلذلك عطف أحدهما على الآخر في قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}. ولو لم يعطف .. لاختل المعنى، فكأنه قيل: أزواجًا خيرًا منكن متصفات بهذه الصفات المذكورة المحمودة، كائنات بعضها ثيبات، تعريضًا لغير عائشة، وبعضها أبكارًا تعريضًا لها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وحدها بكرًا، وهو الوجه في إيراد {الواو} الواصلة دون {أو} الفاصلة؛ لأنها توهم أن الكل ثيبات أو كلها أبكار. الثيب تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلًا وأسرع حبلًا غالبًا، والبكر تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر ملاعبة ومداعبة غالبًا. وسميت الشيب ثيبًا؛ لأنها ثابت؛ أي: رجعت إلى بيت أبويها، وسميت العذراء بكرًا؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. قال السيوطي - رحمه الله تعالى - (¬3): ذكر بعض أهل العلم أن في هذا إشارة إلى مريم البتول، وهي البكر، وإلى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأن الله سيزوجه عليه السلام إياهما في الجنة، كما روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال أبو الليث: تكون وليمة في الجنة، وسيجتمع عليها أهل الجنة، فيزوج الله هاتين المرأتين؛ يعني: آسية ومريم، من محمد - صلى الله عليه وسلم - كما رواه معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبدأ بالثيب قبل البكر؛ لأن زمن آسية قبل زمن مريم، ولأن أزواج ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن ثيب إلا واحدة، وأفضلهن خديجة، وهي ثيب. فتكون هذه القبلية من قبلية الفضل والزمان أيضًا؛ لأنه تزوج الشيب منهن قبل البكر. ثم إن المراد من الإبدال أن يكون في الدنيا، كما أفاده قوله تعالى: {إِنْ طَلَّقَكُنَّ}؛ لأن نساء الجنة يكن أبكارًا، سواء كن في الدنيا ثيبات أو أبكارًا. ومعنى الآية (¬1): أي عسى الله أن يعطيه - صلى الله عليه وسلم - بدلكن أزواجًا خيرًا منكن إسلامًا وإيمانًا، ومواظبة على العبادة، وإقلاعًا عن الذنوب، وخضوعًا لأوامر الرسول، بعضهن ثيبات وبعضهن أبكارًا، إن هو قد طلقكن. والخلاصة: احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتألب عليه والعمل على ما يسؤوه؛ فإنه ربما أحرج صدره فطلقكن، فأبدله الله من هو خير منكن في الدين والصلاح والتقوى وفي الشؤون الزوجية، فأعطاه بعضهن أبكارًا وبعضهن ثيبات. ولا شيء أشد على المرأة من الطلاق، ولا سيما إذا استبدل خير منها بها. ثم اعلم (¬2): أن في الآيات المتقدمة فوائد: منها: أن تحريم الحلال غير مرضي، كما أن ابتغاء رضي الزوج بغير وجهه وجه ليس بحسن. ومنها: أن إفشاء السر ليس في المروءة، خصوصًا إفشاء أسرار السلاطين الصورية والمعنوية لا يعفى، وكل سرّ جاوز الاثنين .. شاع؛ أي: المسر والمسر إليه، أو الشفتين. ومنها: أن من الواجب على أهل الزلة التوبة والرجوع قبل الرسوخ واشتداد القساوة. ومنها: أن البكارة وجمال الصورة وطلاقة اللسان ونحوها، وإن كانت نفاسة جسمانية مرغوبة عند الناس، لكن الإيمان والإسلام والقنوت والتوبة ونحوها نفاسة روحانية مقبولة عند الله، وشرف الحسب أفضل من شرف النسب، والعلم المديني ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[6]

والأدب الشرعي هما الحسب المحسوب من الفضائل. فعلى العاقل: أن يتحلى بالورع، وهو: الاجتناب عن الشبهات، والتقوى وهو: الاجتناب عن المحرمات، ويتزين بزين المكارم والأخلاق الحسنة، والأوصاف الشريفة المستحسنة. 6 - ولما وعظ سبحانه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - موعظة خاصة .. أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {قُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: احفظوا أنفسكم، وبعِّدوها من النار بترك المعاصي، وفعل الطاعات أمر من الوقاية، بمعنى الحفظ والحماية كما سيأتي. والأنفس: جمع نفس، والمراد بالنفس هنا: ذات الإنسان، لا النفس الأمارة، {و} قوا {أَهْلِيكُمْ} بالنصح والتأديب؛ لأن رب المنزل راع، وكل راع مسؤول عن رعيته. ومعنى وقايتهم: حملهم على طاعة الله وإلزامهم أداء ما فرض عليهم. وقرىء (¬1): {وأهلوكم} بالواو عطفًا على الضمير في {قُوا}، وحسن العطف للفصل بالمفعول، و {أَنْفُسَكُمْ} واقع بعده في التقدير؛ أي: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، ولما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه فجعلت ضميرهما معًا على لفظ المخاطب. وأصله: أهلين، جمع أهل، حذفت النون للإضافة، وقد يجمع على أهالي على غير قياس، وهو كل من في عيال الرجل ونفقته، من المرأة والولد، والعبد والأمة، ويفسر بالأصحاب. {نَارًا} عظيمة هائلة {وَقُودُهَا}؛ أي (¬2): ما توقد به تلك النار يعني: حطبها. فالوقود - بالفتح -: اسم لما توقد به النار من الحطب وغيره والوقود - بالضم - مصدر بمعنى الاتقاد. وقرىء به على تقدير مضاف؛ أي: أسباب وقودها، أو بالحمل على المبالغة. {النَّاسُ}؛ أي: كفار الإنس والجن، وإنما لم يذكر الجن أيضًا لأن المقصود تحذير الإنس، ولأن كفار الجن تابع لكفار الإنس؛ لأن التكذيب إنما صدر أولًا من الإنس. {وَالْحِجَارَةُ}؛ أي: تتقد بالحجارة أيضًا اتقاد غيرها بالحطب. ففيه بيان لغاية إحراقها وشدة قوتها، فإن اتقاد النار بالحجارة مكان الحطب من الشجر يكون من زيادة حرها. لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

وعن ابن عباس: هي حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حرًا إذا أوقد عليها، ولها سرعة الاتقاد ونتن الرائحة وكثرة الدخان وشدة الالتصاق بالأبدان، فيكون العذاب أشد. وقيل: وقودها الناس إذا صاروا إليها، والحجارة قبل أن يصيروا إليها. وقرن الناس بالحجارة لأنهم نحتوها، واتخذوها أربابًا من دون الله، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. والمعنى (¬1): يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله! ليعلم بعضكم بعضًا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم، إنه طاعة الله تعالى وامتثال أوامره، ولتعلموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها، واحملوهم على ذلك بالنصح والأدب. قال ابن جرير: فعلينا أن نعلم أولادنا الدِّين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب. ونحو الآية: قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، وقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. روي: أن عمر - رضي الله عنه - قال حين نزلت هذه الآية: نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تنهونهن عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار". وأخرج ابن المنذر، والحاكم في جماعة آخرين عن علي رضي الله عنه: أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم. وفي الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من فرائض الدين وتعليمها لؤلاء. وجاء في الحديث: "رحم الله رجلًا قال: يا أهلاه! صلاتَكم، صيامَكم، زكاتَكم، مسكينَكم، يتيمَكم، جيرانَكم؛ لعل الله يجمعكم معهم في الجنة. {عَلَيْهَا}؛ أي: على تلك النار العظيمة {مَلَائِكَةٌ} تلي أمرها وتعذيب أهلها، وهم: الزبانية التسعة عشر وأعوانهم، فليس (¬2) المراد بـ {على} الاستعلاء الحسي، بل الولاية والقيام، والاستيلاء والغلبة على ما فيها من الأمور. {غِلَاظٌ}؛ أي: غلاظ القلوب. جمع غليظ، بمعنى خشن خال قلبه من الشفقة والرحمة. {شِدَادٌ}؛ أي: شداد القوى. جمع شديد، بمعنى القوي؛ لأنهم أقوياء لا يعجزون عن الانتقام من أعداء الله على ما أمروا به. وقيل: غلاظ الأقوال، شداد الأفعال، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أقوياء على الأفعال الشديدة، يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم. وقيل: غلاظ على أهل النار، شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم؛ لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه لا لذة لهم إلا فيه، فمقتضى جبلَّتهم تعذيب الخلق بلا مرحمة كما أن مقتضى جبلة الحيوان الأكل والشرب، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، أو كما بين المشرق والمغرب، يضرب أحدهم بمقمعة ضربة واحدة، فيهوون في النار سبعين ألفًا من أهل النار. وقيل: الغلاظ: ضخام الأجسام، والشداد: الأقوياء. {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ} سبحانه {مَا أَمَرَهُمْ}؛ أي (¬1): لا يعصون أمره في عقوبة الكفار وغيرها، على أنه بدل اشتمال من {اللَّهَ}، و {مَا} مصدرية؛ أو: لا يعصونه فيما أمرهم به، على نزع الخافض، و {مَا} موصولة؛ أي: لا يمتنعون من قبول الأمر كأعوان ملوك الدنيا يمتنعون بالرشوة، بل يلتزمونه ويعزمون على إتيانه. فليست هذه الجملة مع التي بعدها في معنى واحد. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؛ أي: يؤدون ما يؤمرون به من تعذيب الكفار من غير تثاقل وتوان، وتأخير وزيادة ونقصان. وقال القاضي: لا يعصون الله ما أمرهم فيما مضى، ويستمرون على فعل ما يؤمرون به في المستقبل. وقال الزمخشري. فإن قلت (¬2): أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا، فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره، يلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به من تعذيب الكفار، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه، انتهى. وقال بعضهم (¬3): لعل التعبير في الأمر أولًا بالماضي مع نفي العصيان بالمستقبل؛ لما أن العصيان وعدمه يكونان بعد الأمر، وثانيًا بالمستقبل؛ لما أن أمرهم بعذاب الأشقياء يكون مرة بعد مرة. قال بعض الكبار: في هذه الآية دليل على عصمة جميع الملائكة السماوية، وذلك لأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة فيهم مطيعون بالذات، بخلاف البشر والملائكة الأرضية الذين لا يصعدون إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الكشاف. (¬3) روح البيان.

[7]

السماء، فإن من الملائكة من لا يصعد من الأرض إلى السماء أبدًا، كما أن منهم من لا ينزل من السماء إلى الأرض أبدًا. والحاصل: أن الجملة الأولى قد أفادت نفي العناد والاستكبار عنهم، فهي كقوله: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}، وأفادت الثانية نفي الكسل عنهم، فهي كقوله تعالى: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}. وخلاصة ذلك: يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توانٍ. 7 - وبعد أن ذكر شدة العذاب في النار واشتداد الملائكة في الانتقام من أعداء الله الكافرين .. بين أنه يقال للكافرين: لا فائدة في الاعتذار؛ لأنه توبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}؛ أي: تقول الملائكة للذين كفروا عند إدخالهم النار حسبما أمروا به: لا تعتذروا في هذا اليوم عن كفركم ومعاصيكم، فقد فات الأوان ولا يجدي رجاء ولا اعتذار، فلات ساعة مندم: نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ ... وَالْبَغْي مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيمُ قال الراغب: العذر: تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه. وذلك ثلاثة أضرب: أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا - فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبًا - أو يقول: فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، وهذا الثالث هو التوبة، فكل توبة عذر وليس كل عذر توبة، واعتذرت إليه: أتيت بعذر، وعذرته: قبلت عذره. ثم بيَّن السبب في عدم فائدة الندم، فقال: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ} اليوم {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الكفر والمعاصي بعدما نهيتم عنها أشد النهي، وأمرتم بالإيمان والطاعة، فلا عذر لكم قطعًا؛ أي: حقيقة. وفي بعض التفاسير: لا تعتذروا اليوم؛ لما أنه ليس لكم عذر يعتد به حتى يقبل فينفعكم. وهذا النهي لهم إن كان قبل وقوع الاعتذار منهم .. فهو لا يوافق ظاهر قوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}، وإن كان بعده .. فيؤول هذا القول ويقال: لا يؤذن لهم أن يتموا اعتذارهم ولا يسمع إليه. والمعنى: أي لا تعتذروا لأنكم، إنما تثابون اليوم، وتعطون جزاء أعمالكم

[8]

التي عملتموها في الدنيا، فلا تطلبوا المعاذير منها. والخلاصة: أن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل، وأنتم قد دسيتم أنفسكم في الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها، فاجنوا ثمر ما غرستم واشربوا من الكأس التي قد ملأتم. 8 - وبعد أن ذكر أن التوبة في هذا اليوم لا تجدي نفعًا .. نبه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {تُوبُوا} وارجعوا من فعل المعاصي {إِلَى} طاعة {اللَّهِ} سبحانه وتعالى {تَوْبَةً نَصُوحًا} أي: رجوعًا خالصًا من جميع الشوائب المفسدة للتوبة من قولهم: عسل ناصح؛ أي: خالص من السمع، أو من النصاحة وهي الخياطة؛ أي: قد أحكمها وأوثقها ما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه. والنصح: تحري قول أو فعل فيه صلاح صاحبه، والنصوح فعول، من أبنية المبالغة، كقولهم: رجل صبور وشكور؛ أي: توبة بالغة في النصح لصاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه، وصفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو وصف التائبين، وهو: أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة، فيأتوا بها على طريقتها وشروطها، وذلك بأن يتوبوا من القبائح لقبحها، نادمين عليها، مغتمين أشو الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلا أن يعود اللبن في الضرع، وكذا لو حزوا بالسيف وأحرقوا بالنار، موطنين أنفسهم على ذلك بحيث لا يلويهم عنه صارف أصلًا. وقرأ زيد بن علي (¬1): {توبًا} بغير تاء. وقرأ الجمهور: {نَّصُوحًا} بفتح النون وصفًا لتوبة. وقرأ الحسن، والأعرج، وعيسى، وأبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع بضمها، وهو مصدر وصف به، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز؛ إذ النصح صفة للتائب، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة فيأتي بها على طيقها، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها. ويجوز أن يكون بالضم، جمع ناصح. قال المبرد: أراد توبة ذا نصح. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

فصل في التوبة (¬1) وقال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب على الفور، ولا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي .. فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدًا. فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة .. كانت نصوحًا وإن فقد شرط منها .. لم تصح توبته. فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي .. فشروطها أربعة: هذه الثلاثة المتقدمة. والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالًا ونحوه .. رده إلى صاحبه، وإن كان حدّ قذف أو نحوه .. مكنه من نفسه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة .. أستحله منها. ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها .. صحت توبته من ذلك الذنب، وبقي عليه ما لم يتب منه. وهذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة. وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة" أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" أخرجه البخاري. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة ... " الحديث متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ¬

_ (¬1) الخازن.

يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. والمعنى: أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله سبحانه وإلى ما يرضيه عنكم، رجوعًا لا تعودون فيه أبدًا. {عَسَى رَبُّكُمْ}؛ أي: حقق ربكم {أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ أي: أن يستر ويمحو عنه سيئات أعمالكم التي اسلفت منكم، بل يبدلها حسنات. {و} أن {يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة المعهودة. وجمَع جنات إما لكثرة المخاطبين؛ لأن لكل منهم جنة، أو لتعددها لكل منهم من الأنواع. قال في "الإرشاد": ورود (¬1) صيغة الإطماع والترجية للجري على سنن الكبراء، فإن الملوك يجيبون بلعل وعسى، ويقع ذلك موقع القطع وللإشعار بأنه تفضل، والتوبة غير موجبة له، وأن العبد ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء، وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة. يقول الفقير: التكفير إشارة إلى الخلاص من الجحيم؛ لأن السيئات هي سبب العذاب، فإذا زال السبب .. زال المسبب، وإدخال الجنات إشارة إلى التقريب؛ لأن الجنان موضع القرب والكرامة، وجريان الأنهار إشارة إلى الحياة الأبدية؛ لأن الماء أصل الحياة وعنصرها، فلا بد للإنسان في مقابلة هذه الأنهار من ماء العلم ولبن الفطرة وعسل الإلهام وخمر الحال، فكما أن الحياة المعنوية في الدنيا إنما تحصل بهذه الأسباب .. فكذا الحياة الصورية في الآخرة إنما تحصل بصورها. وقرأ الجمهور (¬2): {وَيُدْخِلَكُمْ} بالنصب عطفًا على {أَنْ يُكَفِّرَ}. وقرىء بالجزم، وقال الزمخشري: عطفًا على محل {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ} كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم، انتهى. والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وتشبيهًا لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة. وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} ولا يذله، ظرف ليدخلكم؛ أي: يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي، وهو يوم القيامة. ولا يخزي: تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق والنبي هو: محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال بعض أهل التفسير (¬1): {يُخْزِي}: إما في الخزي، وهو الفضاحة، فيكون تعريضًا للكفرة الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}. أو من الخزاية، بمعنى الحياء والخجل، وهو الأنسب هنا بالنظر إلى شأن الرسول خصوصًا إذا تم الكلام في النبي وإن أريد المعنى الأول .. حينئذ يجوز أن يكون باعتبار أن خزي الأمة لا يخلو عن إنشاء خزي ما في الرسول على ما يشعر به قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: "اللهم لا تخزنا يوم القيامة ولا تفضحنا يوم اللقاء" بعض الإشعار حيث لم يقل: لا تخزني، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)} ليكون دعاؤه عامًا لأمته من قوة رحمته، وأدخل فيهم نفسه العالية من كمال مروءته. قيل: الخزي كناية عن العذاب لملازمة بينهما. والأولى العموم لكل خزي يكون بسبب من الأسباب، من الحساب والميزان والعقاب وغيرها. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} معطوف على النبي، و {مَعَهُ} صلة لا يخزي؛ أي: لا يخزي الله معه الذين آمنوا؛ أي: يعمهم بأن لا يخزيهم، أو حال من الموصول، بمعنى كائنين معه. أو متعلق بـ {آمَنُوا}؛ أي: صاحبوه في الإيمان، وهو الموافق لقوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}. والمعنى: أي ولا يخزي الذين اتبعوه في الإيمان، كما قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} وذلك (¬2) الخزي بسوء الحساب، والتعيير والعتاب وذل الحجاب، ورد الجواب، فيحاسبهم حسابًا يسيرًا، بل ويرفع الحساب عن بعضهم، ويلاطفهم، ويكشف لهم جماله، ويعطي مأمولهم من الشفاعة لأقاربهم وإخوانهم ونحولهم. والكلام تم عند قوله: {مَعَهُ}، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق كما سبق واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم. قيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره ما بعده من قوله {نُورُهُمْ} إلخ، أو خبره {مَعَهُ}. والمراد بالإيمان هو الكامل حينئذٍ، حتى لا يلزم أن لا يدخل عصاة المؤمنين النار. {نُورُهُمْ} مبتدأ على الوجه الأول، وهو الأولى وخبره {يَسْعَى} ويضيء {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: قدامهم. والجملة الاسمية حال، أو مستأنفة لبيان حالهم؛ أي: نور إيمانهم وطاعتهم يضيء ويمشي بين أيديم. والسعي: المشي السريع القوي، وفيه إشارة إلى كمال اللمعان. والأيدي: جمع يد، يراد بها قدام الشيء. فالجمع إما بإطلاقه على التثنية أو بكثرة أيدي العباد {وَبِأَيْمَانِهِمْ} جمع يمين، مقابل الشمال؛ أي: عن أيمانهم وشمائلهم على وجه الإضمار. يعني: جهة أيمانهم وشمائلهم، أو عن جميع جهاتهم. وإنما (¬1) اكتفى بذكرهما لأنهمام أشرف الجهات. وقال بعضهم: تخصيص الأيدي والأيمان لأن أرباب السعادة يؤتون صحائف أعمالهم منهما، كما أن أهل الشقاوة يؤتون من شمائلهم ووراء ظهورهم فيكون ذلك علامة لذلك وقائدًا على الصراط إلى دخول الجنة وزينة لهم فيها. وقرأ سهل بن شعيب، وأبو حيوة (¬2): {وبإيمانهم} بكسر الهمزة. والمعنى: أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبإيمانهم حين الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم. وفيه نور وخير لهم. ثم بيّن ما يطلبونه من ربهم، فقال: {يَقُولُونَ}؛ أي: يقول المؤمنون - وهو الظاهر -، أو الرسول لأمته، والمؤمنون لأنفسهم، إذا طفىء نور المنافقين إشفاقًا على نورهم؛ أي: يشفقون على العادة البشرية على نورهم أن ينطفىء ويتفكرون فيما مضى منهم من الذنوب، فيقولون: {رَبَّنَا}؛ أي: متولي أمورنا {أَتْمِمْ لَنَا}؛ أي: أدم لنا {نُورَنَا} ولا تطفئه عنا كنور المنافقين، فيكون المراد بالإتمام: الإدامة إلى أن يصلوا إلى دار السلام. وجملة القول في محل النصب على الحال أيضًا. {وَاغْفِرْ لَنَا} ذنوبنا، {إِنَّكَ} يا رب {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الإتمام والمغفرة وغيرهما. وقيل: يدعون تقربًا إلى الله تعالى مع تمام نورهم، كقوله: {وَاسْتَغْفِرْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[9]

لِذَنْبِكَ} وهو مغفور له. قال في "الكشاف": كيف يتقربون وليست الدار دار تقرب؟ قلت: لما كانت حالهم كحال المتقربين يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة .. سماه تقربًا. وقيل: يتفاوت نورهم بحمسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضلًا، فيكون قوله: {يَقُولُونَ} من باب: بنو فلان قتلوا زيدًا. والمعنى (¬1): أي يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم فلا يطفئه، حتى يجوزوا الصراط حين يقول لهم المنافقون والمنافقات: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، وقد تقدم نحو هذا في سورة الحديد. ويطلبون أيضًا منه أن يستر عليهم ذنوبهم، لا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب. ثم ذكروا ما يطمعهم في إجابة الدعاء، فقالوا: إنك على إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وكل ما نرجو منك ونطمع، قدير يا ربنا، فاللهم: أجب دعاءنا ولا تخيب رجاءنا. وقد روي: أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطىء قدمه؛ لأن النور على قدر العمل. وروي: أن السابقين إلى الجنة يقرون على الصراط مثل البرق، ويمر بعضهم كالريح، وبعضهم يحبو حبوًا أو يزحف زحفًا، وهم الذين يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}. 9 - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم {جَاهِدِ الْكُفَّارَ} المجاهرين للكفر بالسيف والسنان، {وَالْمُنَافِقِينَ}؛ أي: المبطنين للكفر، بالحجة واللسان، أو بالوعيد والتهديد، أو بإلقائهم بوجه قهر، أو بإفشاء سرهم. قيل: النفاق مستتر في القلب، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سبيل إلى ما في القلوب من النفاق والإخلاص إلا بعد إعلام من قبل الله، فأمر عليه السلام بمجاهدة من علمه منافقًا لإعلام الله إياه باللسان دون السيف لحرمة تلفظه بالشهادتين، وأن يجري عليه أحكام المسلمين ما دام ذلك إلى أن يموت. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: واشدد على الفريقين، واستعمل الخشونة فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة. قال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وفيه (¬2) إشارة إلى أن الغلظة على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[10]

أعداء الله من حسن الخلق، فإن أشفق الخلق إذا كان مأمورًا بالغلظة عليهم، فما ظنك بغير؟ فهي لا تنافي الرحمة على الأحباب. كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. {وَمَأْوَاهُمْ}؛ أي: مقرهم ومنزلهم في الآخرة {جَهَنَّمُ} ومصيرهم إليها، سيرون فيها عذابًا غليظًا. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع الذي يرجعون إليه. والمخصوص بالذم جهنم وفيه تصريح بما علم التزامًا مبالغة. يقول الفقير: إذا كان الأعداء الظاهرون يحتاجون إلى الغلظة والشدة .. فما ظنك بأعدى الأعداء، وهي النفس الأمارة بالسوء، ففي الغلظة عليها نجاة، وفي اللين هلاك، وفي المثل: العصا لمن عصا. والمعنى (¬1): أي جاهد الكفار بالسيف، وقاتلهم قتالًا لا هوادة فيه، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب وعنفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم كما حدث منه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس، فقال: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان، وأخرج منهم عددًا كثيرًا، ثم بيّن سوء عاقبتهم، فقال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل. 10 - {ضَرَبَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَثَلًا}؛ أي: شبهًا. وهو المفعول الثاني لضرب؛ لأنه بمعنى: جعل، و {اللام} في قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} متعلق بـ {مَثَلًا}، وقوله: {امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ}؛ أي: حالهما. مفعوله الأول أخِّر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما، ويتضح بذلك حال هؤلاء الكفرة. وضرب المثل (¬2) في أمثال هذه المواضع عبارة عن إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة؛ أي: ضرب الله سبحانه وجعل حال امرأة نوح وامرأة لوط مثلًا وشبهًا لحال هؤلاء الكفرة في خيانتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة. وامرأة نوح هي: واعلة بالعين المهملة، أو والعة. وامرأة لوط هي: واهلة بالهاء. {كَانَتَا}؛ أي: كانت المرأتان {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} بيان لحالهما الداعية لهما إلى الخير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

والصلاح. والمراد بكونهما تحتهما: كونهما في حكمهما وتصرفهما بعلاقة النكاح والزواج. و {صَالِحَيْنِ} صفة عبدين؛ أي: كانتا تحت نكاح نبيّين، وفي عصمة رسولين عظيمي الشأن، متمكنين من تحصيل خيري الدنيا والآخرة وحيازة سعادتهما. وإظهار العبدين المراد بهما نوح ولوط لتعظيمهما بالإضافة التشريفية إلى ضمير التعظيم والوصف بالصلاح. وإلا .. فيكفي أن يقال: تحتهما. وفيه بيان شرف العبودية والصلاح. {فَخَانَتَاهُمَا} بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينفيها من صحبة النبي. والخيانة ضد الأمانة، فهي إنما تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة؛ أي: فوقعت منهما الخيانة لهما بالكفر والنفاق، والنسبة إلى الجنون، والدلالة على الأضياف ليتعرضوا لهم بالفجور لا بالبغاء، فإنه ما بغت امرأة نبيّ قط. فالبغاء للزوجة أشد في إيراث الأنفة لأهل العار والناموس من الكفر، وإن كان الكفر أشد منه في أن يكون جرمًا يؤاخذ به العبد يوم القيامة، وهذا تصوير لحالهما المحاكية لحال هؤلاء الكفرة في خيانتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مرّ. {فَلَمْ يُغْنِيَا ...} إلخ بيان لما أدى إليه خيانتهما؛ أي: فلم يغن النبيَّان {عَنْهُمَا}؛ أي: عن تينك المرأتين بحق الزواج {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من عذابه تعالى {شَيْئًا} من الإغناء؛ أي: لم يدفعا العذاب عنهما. {وَقِيلَ} لهما عند موتهما أو يوم القيامة. وصيغة الماضي للتحقيق؛ أي: قالت الملائكة الموكلون بالعذاب لهما: {ادْخُلَا} أي: أيها المرأتان {النَّارَ}؛ أي: نار جهنم {مَعَ الدَّاخِلِينَ}؛ أي: مع سائر الداخلين لها من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين أولياء الله. ذكرن (¬1) بلفظ جمع المذكر السالم؛ لأنهن لا ينفردن بالدخول، فإذا اجتمعا .. فالغلبة للذكور. وقطعت هذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره من غير موافقة له في الطريقة والسيرة، وإن كان بينه وبينه لحمة نسب أو صلة صهر. وفي هذا المثل (¬2): تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده حين تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[11]

أحسن قول من قال (¬1): إن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله، وخاتم رسله .. فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئًا، وقد عصمهما الله تعالى عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة. ومعنى الآية (¬2): أي ضرب الله مثلًا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين؛ لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم، امرأة نوح وامرأة لوط؛ إذ كانتا في عصة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصلا ما فيه سعادتهما في معاشهما ومعادهما، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة، فلم يدفع عنما قربهما من ذينك العبدين الصالحين شيئًا، وحاق بهما سوء ما عملتا، وسيحل بهما عقاب الله، وسيدخلان النار في زمرة داخليها، جزاء وفاقًا لما اجترحتا من السيئات وما دستا به أنفسهما من كبير الآثام وعظيم المعاصي. 11 - وبعد أن ضرب مثلًا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئًا .. أرشد إلى عكس هذا، فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئًا، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَثَلًا} مفعول ثان، قدمه للاهتمام به. {لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: جعل الله حالها مثلًا لحال المؤمنين، ترغيبًا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة، وأن وصلة الكفار وصولتهم لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله سبحانه في أعلى غرف الجنان. والمراد بها: آسية بنت مزاحم. يقال: رجل آسي وامرأة آسية، من الأسى. وهو الحزن. قال بعضهم: الحزن حلية الأدباء، ومن لم يذق طعام الحزن .. لم يذق لذة العبادة على أنواعها. أو من الأسو، وهو: المداوة، والآسي - بالمد -: الطبيب. {إِذْ قَالَتْ}: ظرف للمثل المذكور؛ أي: ضرب الله مثلًا للمؤمنين حالها إذ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي} (¬1) على أيدي الملائكة، أو بيد قدرتك، فإنه روي: أن الله تعالى خلق جنة عدن بيده من غير واسطة، وغرس شجرة طوبى بيده. {عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}؛ أي: قريبًا من رحمتك، على أن الظرف حال من ضمير المتكلم، أو ابن لي في أعلى درجات المقربين، فيكون {عند} ظرفًا للفعل، و {فِي الْجَنَّةِ} صفة لـ {بَيْتًا}. وفي "عين المعاني": {عِنْدَكَ}؛ أي: من عندك بلا استحقاق مني بل كرامة منك. وروي: أنها لما قالت ذلك .. رفعت الحجب حتى رأت بيتها في الجنة من درة بيضاء، وانتزع روحها. {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ} الجاهل {وَعَمَلِهِ} الباطل؛ أي: من نفسه الخبيثة وسوء جوارها، ومن عمله السيء الذي هو كفره ومعاصيه. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: من القبط التابعين له في الظلم. روي: أنه لما غلب موسى عليه السلام السحرة .. آمنت امرأة فرعون، وقيل: هي عمّة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها طلب منها أن ترجع عن إيمانها، فأبت، فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وربطها، وألقاها في الشمس وأراها الله بيتها في الجنة، ونسيت ما هي فيه من العذاب، فضحكت، فعند ذلك قالوا: هي مجنونة، تضحك وهي في العذاب! وأخرج ابن أبي شيبة (¬2)، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها .. أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة: إن فرعون وَتَدَ لامرأته أربعة أوتاد، وأضجعها على ظهرها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} إلى قوله: {مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، ففرج الله لها عن بيتها في الجنة، فرأته. وقيل: اشتاقت إلى الجنة وملت من صحبة فرعون، فسألت ذلك. وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسالة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[12]

وذكر (¬1) المفسرون أنواعًا مضطربة في تعذيبها، وليس في القرآن نص بأنها عذبت، والله أعلم. وقال بعض الظرفاء، وقد سئل أين في القرآن مثل قولهم: الجار قبل الدار؟ قال: قوله تعالى: {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}، فـ {عِنْدَكَ} هو المجاورة، و {بَيْتًا} في الجنة هو الدار، وقد تقدم {عِنْدَكَ} على قوله: {بَيْتًا}. ومعنى الآية (¬2): أي وجعل الله حال امرأة فرعون مثلًا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئًا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار؛ فقد كانت تحت أعدى أعداء الله في الدنيا، وطلبت النجاة منه ومن عمله، وقالت في دعائها: رب اجعلني قريبًا من رحمتك، وابن لي بيتًا في الجنة، وخلصني من أعمال فرعون الخبيثة، وأنقذني من قومه الظالمين. وفي هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث، ومن سنن الله أن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. 12 - وقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} معطوف على امرأة فرعون. وجمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها نسلية للأرامل وتطييبًا لأنفسهن. وسميت مريم في القرآن باسمها في سبعة مواضع، ولم يسم غيرها من النساء؛ لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل. ومريم بمعنى العابدة. وقد سمى الله أيضًا زيدًا في القرآن كما سبق في سورة الأحزاب. وقرأ الجمهور: {ابْنَتَ} بفتح التاء، وأيوب السختياني: {ابنه} بسكون الهاء وصلًا، إجراء مجرى الوقف. والمعنى (¬3): وضرب الله سبحانه مثلًا للذين آمنوا حال مريم ابنة عمران والدة عيسى عليهما السلام، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع كون قومها كفارًا. {الَّتِي أَحْصَنَتْ} وحفظت {فَرْجَهَا} عن مساس الرجال مطلقًا، حرامًا وحلالًا على آكد الحفظ. والاحصان: العفاف. والفرج: ما بين الرِّجْلَين، وكنى به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح فيه. قال بعضهم: صانته عن الفجور كما صان الله آسية عن مباشرة فرعون؛ لأنه كان عنّينًا - وهو من لا يقدر على الجماع لمرض أو كبر سن، أو يصل إلى الثيب دون البكر - فالتعبير عن آسية بالثيب كما مرّ في {ثَيِّبَاتٍ} لكونها في صورة الثيب من حيث إن لها بعلًا. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وقال السهيلي: إحصان الفرج معناه: طهارة الثوب، يريد فرج القميص؛ أي: لم يعلق بثوبها ريبة؛ أي: إنها طاهرة الأثواب، فكنى بإحصان فرج القميص عن طهارة الثوب من الريبة. وفروج القميص أربعة: الكمان، والأعلى، والأسفل، فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ لأن القرآن أنزه معنى وأوجز لفظًا وألطف إشارة وأحسن عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل، انتهى. قال في "الكشاف": ومن بدع التفاسير: أن الفرج هو حبيب الدرع ومعنى أحصنته: منعته. {فَنَفَخْنَا فِيهِ}: {الفاء}: للسببية. والنفخ: نفخ الريح في الشيء؛ أي: فنفخنا بسبب ذلك في فرجها، على أن يكون المراد بالفرج هنا الجيب. وقال السجاوندي في "عين المعاني": أي فيما انفرج من جيبها، وكذا قال أبو القاسم في "الأسئلة": ولم يقل: فيها؛ لأن المراد بالكناية حبيب درعها، وهو إلى التذكير أقرب، فيكون قوله: {فِيهِ} من باب الاستخدام؛ لأن الظاهر: أن المراد بلفظ الفرج العضو، وأريد بضميره معنى آخر للفرج، ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}. وكذا يكون إسناد النفخ إلى الضمير مجازيًا؛ أي: نفخ جبريل بأمرنا، وهو إنما نفخ في حبيب درعها. {مِنْ رُوحِنَا}؛ أي (¬1): من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضاف الروح إلى ذاته تعالى، تفخيمًا لها ولعيسى، كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}، وفي سورة الأنبياء {فَنَفَخْنَا فِيهَا}؛ أي: في مريم؛ أي: أحيينا عيسى في جوفها من الروح الذي هو من أمرنا. وقال بعضهم: أحيينا في فرجها، وأوجدنا في بطنها ولدًا من الروح الذي هو بأمرنا وحده، بلا سببية أصل وتوسل نسل على العادة العامة، أو من جهة روحنا جبريل؛ لأنه نفخ من حبيب درعها، فوصل النفخ إلى جوفها. أو ففعلنا النفخ فيه. وقرىء: {فيها} على وفاق ما في سورة الأنبياء؛ أي: في مريم، والمآل واحد، انتهى. يقول الفقير: يلوح لي هاهنا سر خفي، وهو: أن النفخ وإن كان في الجيب إلا أن عيسى لما كان متولدًا من الماءين: الماء المتحقق، وهو ماء مريم، والماء المتوهم، وهو ما حصل بالنفخ .. كان النفخ في الجيب بمنزلة صب الماء في الفرج، فالروح المنفوخ في الجيب كالماء المصبوب في الفرج، والماء المصبوب، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وإن لم يكن الروح عينه إلا أنه في حكم الروح؛ لأنه يخلق منه الروح، ولذا قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ}؛ أي: في الفرج، سواء قلت: إنه فرج القميص أو العضو، فاعرف، ولا يقبله إلا الألباء الربانيون. وقرأ الجهور (¬1): {فَنَفَخْنَا فِيهِ}؛ أي: في الفرج. وقرأ عبد الله: {فيها} كما في سورة الأنبياء؛ أي: في الجملة. {وَصَدَّقَتْ} معطوف على {أَحْصَنَتْ}، {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}؛ أي: بالصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام. وفي "كشف الأسرار": يعني بالشرائع التي شرعها الله تعالى لعباده بكلماته المنزلة. ويقال: صدقت بالبشارات التي بشر بها جبريل، وهي: قول جبريل لها: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. وقال مقاتل: يعني بالكللمات: عيسى. {وَكُتُبِهِ}؛ أي: بجميع كتبه المنزلة الشاملة للصحف وغيرها من الكتب الإلهية، متقدمة أو متأخرة. {وَكَانَتْ} مريم {مِنَ} {الْقَانِتِينَ}؛ أي: من عداد المواظبين على الطاعة. فـ {مِنْ} للتبعيض. وفي "عين المعاني": من المطيعين المعتكفين في المسجد الأقصى. وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء، أو كانت من القانتين؛ أي: من نسلهم، يريد رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة؛ لأنها من أعقاب هارون أخِ موسى عليه السلام. فـ {مِنْ} لابتداء الغاية. وقال: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ولم يقل: من القانتات؛ لتغليب الذكور على الإناث، وللإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتى عدت من جملتهم. وقرأ الجمهور (¬2): {وَصَدَّقَتْ} بتشديد الدال. وقرأ يعقوب وأبو مجلز، وقتادة، وعصمة عن عاصم بتخفيفها؛ أي: كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام، وما أظهر الله له من الكرامات. وقرأ الجمهور: {بِكَلِمَاتِ} جمعًا، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس وغهره، وسماها كلمات لقصرها ويكون المراد: بكتبه الكتب الأربعة، ويحتمل أن تكون الكلمات ما صدر في أمر عيسى عليه السلام. وقرأ الحسن، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

ومجاهد، والجحدري: {بكلمة} على التوحيد، فاحتمل أن يكون اسم جنس، واحتمل أن تكون كناية عن عيسى؛ لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم. وقرأ أبو عمرو وحفص: {وكتبه} جمعًا، ورواه كذلك خارجة عن نافع. وقرأ باقي السبعة: {وكتابه} على الإفراد، فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل، لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى. وقرأ أبو رجاء: {وكتبه} بسكون التاء. قال ابن عطية مرادًا به الإنجيل والتوراة. وقال صاحب "اللوامح": وقرأ أبو رجاء: {وكَتْبه} بفتح الكاف وهو مصدر أقيم مقام الاسم. وقال سهل: {وَكَتْبه} أجمع من كتابه؛ لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس، فالكتب عام والكتاب هو الإنجيل فقط. ومعنى الآية (¬1): أي وضرب الله مثلًا للذين آمنوا حال مريم - وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارًا من قبل - أنها منعت حبيب درعها جبريل عليه السلام، وقالت له: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}. فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها، فنفخ جبريل فيه، فحملت بنبي الله وكلمته عيسى صلوات الله عليه، وصدقت بشرائع الله وكتبه التي أنزلها على أنبيائه وكانت في عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له. روى أحمد في "مسنده": "سيدة نساء أهل الجنة: مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم عائشة". وفي "الصحيح": "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام"، وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسرعة المرور على المريء، فضربه مثلًا ليؤذن بأنها رضي الله عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة الكلام، وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل، والتحبب للبعل، وبحسبك أنها عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثله الرجال. ¬

_ (¬1) المراغي.

الإعراب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا} حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، {ها}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {النَّبِيُّ}: بدل من {أي} أو عطف بيان له، أو نعت له، وجملة النداء مستأنفة. {لِمَ}: {اللام}: حرف جر، {مَا}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الجر باللام مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين (ما) الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {تُحَرِّمُ}، {تُحَرِّمُ}: فعل مضارم، وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ}، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {ما}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، {أَحَلَّ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما أحله لك، {لَكَ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَحَلَّ}، {تَبْتَغِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر، {مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تُحَرِّمُ}، {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر، {رَحِيمٌ}: خبر ثان، والجملة مستأنفة. {قَدْ}: حرف تحقيق، {فَرَضَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لكم}: متعلق بـ {فَرَضَ}، {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه، {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على {فَرَضَ}، {وَهُوَ الْعَلِيمُ}: مبتدأ وخبر، {الْحَكِيمُ}: خبر ثان، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}. {وَإِذْ}: {الواو}: استئنافية، {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة ..... ، والجملة المحذوفة مستأنفة: {أَسَرَّ النَّبِيُّ}: فعل وفاعل والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ {إذ}، {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {أسر}، {حَدِيثًا}: مفعول به. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة، {لما}: حرف شرط غير جازم، {نَبَّأَتْ}: فعل ماض، و {التاء}: علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى بعض أزواجه،

والجملة فعل شرط لـ {لما}، لا محل لها من الإعراب. والأصل في نبأ وأنبأ، وأخبر وخبر وحدث أن تتعدى إلى مفعول واحد بأنفسها وإلى ثان بحرف جر، ويجوز حذفه كما هنا؛ لأنه محذوف هنا، تقديره: غيرها، {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {نبأ} على أنه مفعول ثان. وقوله: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}؛ أي: بهذا، و {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ}؛ أي: به فإذا ضمنت معنى أعلم .. تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، كما هو مقرر في محله. {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل معطوف على {نَبَّأَتْ}، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {أظهر}، {عَرَّفَ بَعْضَهُ}: فعل وفاعل مستتر يعود على النبي، ومفعول به، والجملة جواب {لما} الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} معطوفة على جملة {إذ أسر}. {وَأَعْرَضَ}: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على {عَرَّفَ}، {عَنْ بَعْضٍ} متعلق بـ {أعرض}. {فَلَمَّا}: {الفاء}: عاطفة، {لما} حرف شرط، {نَبَّأَهَا}: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب، {بهِ} متعلق بـ {نبأ} على أنه مفعول ثان. {قَالَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر جواب {لما} لا محل لها من الإعراب. وجملة {لما} معطوفة على جملة {لما} الأولى. {من}: اسم استفهام للاستفهام الاستخباري في محل الرفع، مبتدأ، {أَنْبَأَكَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول أول، و {هَذَا}: مفعول ثان لـ {أنبأ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {مَنْ} الاستفهامية، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول {قَالَتْ}. {قَالَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على النبي، والجملة مستأنفة، {نَبَّأَنِيَ}: فعل ماض، ونون وقاية، ومفعول به أول، والثاني محذوف، تقديره: نبأني به، {الْعَلِيمُ}: فاعل، {الْخَبِيرُ}: صفته، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}. {إِنْ}: حرف شرط جازم، {تَتُوبَا}: فعل مضارع مجزوم بـ {إن}: الشرطية على أنه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعل {إِلَى اللَّهِ}: متعلق به، وجواب الشرط محذوف، تقديره: يتب عليكما. وجملة {إنْ} الشرطية مستأنفة. {فَقَدْ}: {الفاء}: تعليلية، {قد}: حرف تحقيق، {صَغَتْ}: فعل ماض مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من

التقاء الساكنين منع من ظهورها التعذر، و {التاء}: علامة تأنيث الفاعل، {قُلُوبُكُمَا}: فاعل، والجملة الفعلية جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وأن}: {الواو}: عاطفة، {إنْ}: حرف شرط، {تَظَاهَرَا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {تَظَاهَرَا}، وجواب الشرط محذوف، تقديره: يجد ناصرًا. وجملة {إنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إنْ} الأولى. {فَإِنَّ اللَّهَ}: {الفاء}: تعليلية، {إن الله}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {مَوْلَاهُ}: خبر {إن}، والوقف تام هنا، وجملة {إنَّ} تعليلية لا محل لها من الإعراب. {وَجِبْرِيلُ}: مبتدأ، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: معطوف عليه. {وَصَالِحُ}: اسم جنس لا جمع، ولذلك جاء من غير واو بعد الحاء، وجوزوا أن يكون جمعًا بالواو والنون، وحذفت النون للإضافة، وكتبت دون واو اعتبارًا بلفظه؛ لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، ولا داعي لهذا التكلف. {وَالْمَلَائِكَةُ}: معطوف على {جبريل} أيضًا، {ظَهِيرٌ}: خبر عن الجميع؛ لأن فعيلًا يستوي فيه الواحد والجمع كما مر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنّ} على كونها تعليلية، ويجوز أن تعطف {جِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على محل {إِنّ} واسمها، فالخبر عن الجميع، {مَوْلَاهُ} {وَالْمَلَائِكَةُ} حينئذٍ مبتدأ، {بَعْدَ ذَلِكَ}: متعلق بـ {ظَهِيرٌ}، و {ظَهِيرٌ}: خبر عن الملائكة، والجملة معطوفة على جملة {إِنّ} أيضًا. {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}. {عَسَى}: فعل ماض من أفعال الرجاء، {رَبُّهُ}: اسمها، {إن}: حرف شرط، {طَلَّقَكُنَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعول به في محل الجزم بـ {إِن} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن طلقكن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، وحملة {إن} الشرطية معترضة بين {عَسَى} وخبرها، لا محل لها من الإعراب. {أنْ}: حرف نصب ومصدر، {يُبْدِلَهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، {أَزْوَاجًا}: مفعول به ثان، {خَيْرًا}: صفة لـ {أَزْوَاجًا}، {مِنْكُنَّ}: متعلق بـ {خَيْرًا}، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على أنه خبر {عَسَى}، ولكنه على تأويل اسم الفاعل ليصح الإخبار،

تقديره: عسى ربه مبدلًا إياه أزواجًا خيرًا منكن، وجملة {عَسَى} مستأنفة. وفصل بين عسى وخبرها بالشرط اهتمامًا بالأمر وتخويفًا لهن. {مُسْلِمَاتٍ}: نعت ثان لـ {أَزْوَاجًا}، ويجوز نصبه على أنه حال من الضمير المستتر في {خَيْرًا}، ونصبه بعضهم على الاختصاص، {مُؤْمِنَاتٍ}: صفة ثالثة، {قَانِتَاتٍ}: رابعة، {تَائِبَاتٍ}: خامسة، {عَابِدَاتٍ}: سادسة، {سَائِحَاتٍ}: سابعة، {ثَيِّبَاتٍ}: ثامنة، {وَأَبْكَارًا}: معطوف على {ثَيِّبَاتٍ}. ووسطت الواو بين {ثَيِّبَاتٍ} {وَأَبْكَارًا} لتنافي الوصفين فيه دون سائر الصفات، وليست هي واو الثمانية، كما توهمه بعضهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)}. {يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء، {أيها}: منادى نكرة مقصودة، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {قُوا}: فعل أمر، من الوقاية، فوزنه: عوا، كما سيأتي، مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، {أَنْفُسَكُمْ}: مفعول به أول، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَهْلِيكُمْ}: معطوف على {أَنْفُسَكُمْ}، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {نَارًا}: مفعول ثان، {وَقُودُهَا}: مبتدأ، {النَّاسُ}: خبره، {وَالْحِجَارَةُ}: معطوف عليه، والجملة صفة لـ {نَارًا}، {عَلَيْهَا}: خبر مقدم، {مَلَائِكَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية لـ {نَارًا}، {غِلَاظٌ}: صفة أولى لـ {مَلَائِكَةٌ}، و {شِدَادٌ}: صفة ثانية لـ {مَلَائِكَةٌ}، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة صفة ثالثة لـ {مَلَائِكَةٌ}، {مَاَ} مصدرية، {أَمَرَهُمْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة لـ {مَا} المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه بدل اشتمال من الجلالة، كأنه قيل: لا يعصون أمره. وأجاز أبو حيان نصبه على نزع الخافض؛ أي: فيما أمرهم. {وَيَفْعَلُونَ}: فعل، وفاعل مرفوع بثبوت النون، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يفعلون} في محل الرفع صفة رابعة لـ {مَلَائِكَةٌ}، وجملة {يُؤْمَرُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يؤمرون به. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}.

{يَاأَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {لَا}: ناهية جازمة، {تَعْتَذِرُوا}: فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، و {الْيَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {تَعْتَذِرُوا}، والجملة جواب النداء. {إِنَّمَا}: أداة حصر، {تُجْزَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالنون، و {الواو}: نائب فاعل له، و {مَا}: مفعول به ثان، والجملة الفعلية جملة تعليلية مسوقة لتعليل النهي، لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُنْتُمْ} صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {تَعْمَلُونَ}: خبر كان الناقصة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي}، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {تُوبُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل. والجملة جواب النداء، {تَوْبَةً}: مفعول مطلق، {نَصُوحًا}: نعت لـ {تَوْبَةً}، {عَسَى}: فعل ناقص من أفعال الرجاء، {رَبُّكُمْ}: اسمها، {أَن}: حرف نصب ومصدر، {يُكَفِّرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر منصوب بـ {أن} المصدرية، {عنكم}: متعلق به، {سَيئاتِكم}: مفعول به والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على أنه خبر {عَسَى} ولكنه مع التأويل بمشتق تقديره. عسى ربكم مكفرًا عنكم سيئاتكم، {وَيُدْخِلَكُمْ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {يُكَفِّرَ}، {جَنَّاتٍ}: مفعول به ثان على السعة، {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا}: متعلق به، {الْأَنْهَارُ}: فاعل، والجملة صفة لـ {جَنَّاتٍ}، {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {يدخلكم} أو بفعل محذوف، تقديره: اذكر، {لَا} نافية، {يُخْزِي اللَّهُ}: فعل وفاعل، {النَّبِيَّ}: مفعول به، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {وَالَّذِينَ}: {الواو}: عاطفة، {الذين}: معطوف على {النَّبِيَّ}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {مَعَهُ}: حال من فاعل {آمَنُوا}، أو متعلق به. {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {نُورُهُمْ}: مبتدأ، وجملة {يَسْعَى}: خبره والجملة الاسمية مستأنفة أو حالية.

ويجوز أن تكون الواو استئنافية، {وَالَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {نُورُهُمْ يَسْعَى}: خبره، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ظرف متعلق بـ {يَسْعَى}، {وَبِأَيْمَانِهِمْ}: معطوف على {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، متعلق بما تعلق به، {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة خبر ثان عن الموصول أو حال منه، {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء مقول لـ {يَقُولُونَ}، {أَتْمِمْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر، {لَنَّا} متعلق به، {نُورَنَا}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ} على كونها جواب النداء، {وَاغْفِرْ لَنَّا}: معطوف على {أَتْمِمْ لَنَّا}. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ}: خبر {إنَّ}، وجملة إن في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ} على كونها معللة للدعاء. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}. {يَا أَيُّهَا}: منادى نكرة مقصودة، {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي}، والجملة مستأنفة، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ}: فعل أمر وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، {وَالْمُنَافِقِينَ}: معطوف على {الْكُفَّارَ}، {وَاغْلُظْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {النَّبِيُّ}، معطوف على {جَاهِدِ}، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {اغلظ}، {وَمَأْوَاهُمْ}: {الواو} استئنافية. {مأواهم}: مبتدأ، {جَهَنَّمُ}: خبر، والجملة مستأنفة، {وَبِئْسَ}: {الواو}: استئنافية، {بئس}: فعل ماض جامد لإنشاء الذم، {الْمَصِيرُ}: فاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي، وهو مبتدأ مؤخر، وجملة {بئس} خبره مقدم عليه، والتقدير: هي؛ أي: جهنم مقول فيها: بئس المصير، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}. {ضَرَبَ اللَّهُ}: فعل، وفاعل، {مَثَلًا}: مفعول ثان مقدم، {لِلَّذِينَ}: صفة لـ {مَثَلًا}، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول، {امْرَأَتَ نُوحٍ}: مفعول به أول، {وَامْرَأَتَ لُوطٍ}: معطوف على امرأة نوح، والجملة مستأنفة مسوقة لإيراد حالة

غريبة، {كَانَتَا}: فعل ناقص، و {التاء}: علامة تأنيث اسمها، والألف اسم كان، {تَحْتَ عَبْدَيْنِ}: ظرف متعلق بمحذوف خبر كان، {مِنْ عِبَادِنَا}: جار ومجرور صفة لـ {عَبْدَيْنِ}، وجملة كانتا جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب سيقت لتفسير ضرب المثل. {فَخَانَتَاهُمَا}: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على {كَانَتَا}، {فَلَمْ}: {الفاء}: عاطفة، {لم}: حرف جزم، {يُغْنِيَا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وعلامة جزمه حذف النون، والألف فاعل، والجملة معطوفة على جملة {خانتاهما}، {عَنْهُمَا}: متعلق بـ {يُغْنِيَا}، {مِنَ اللَهِ}: حال من شيئًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {شَيْئًا}: مفعول مطلق، أو مفعول به، {وَقِيلَ}: {الواو}: عاطفة، {قيل}: فعل ماض، {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}: نائب محكي لـ {قيل}، والجملة معطوفة على جملة {فَلَمْ يُغْنِيَا}. وإن شئت قلت: {ادْخُلَا} فعل أمر مبني على حذف النون، و {الألف}: فاعل، {النَّارَ}: مفعول به على السعة، {مَعَ الدَّاخِلِينَ}: ظرف متعلق بـ {دَخَلَا}، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)}. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: فعل وفاعل ومفعول ثان، {لِلَّذِينَ}: صفة لـ {مَثَلًا}، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول، {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}: مفعول أول، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، {إذ}: ظرف متعلق بـ {مَثَلًا}. ولعل الأولى أن يقال: إنه متعلق بمحذوف بدل من مثلًا، أو نعت له، وجملة {قَالَتْ}: في محل الجرّ بإضافة الظرف إليه، {رَبِّ ابْنِ لِي}: إلى قوله: {وَمَرْيَمَ} مقول محكي لـ {قَالَتْ}، {رَبِّ}: منادى مضاف، حذفت منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَتْ}، {ابْنِ}: فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ}، {لِي}: متعلق بـ {ابْنِ}، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالَتْ}، {عِنْدَكَ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من ضمير المتكلم، أو من {بَيْتًا} لتقدمه عليه، {فِي الْجَنَّةِ}: عطف بيان أو بدل من قوله: {عِنْدَكَ}، أو متعلق بـ {ابْنِ}، {وَنَجِّنِي}: فعل دعاء وفاعل مستتر ونون وقاية، ومفعول به معطوف على {ابْنِ}. {مِنْ فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {نجني}، {وَعَمَلِهِ}: معطوف على {فِرْعَونَ}، {وَنَجِنِى}: معطوف على {نجني} الأول، {مِنَ الْقَوْمِ}:

متعلق بـ {نجني}، {الظَّالِمِينَ}: نعت للقوم. {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}. {وَمَرْيَمَ}: معطوف على {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}، {ابْنَتَ}: بدل، أو نعت لـ {مريم}، {عِمْرَانَ}: مضاف إليه مجرور بالفتحة لزيادة الألف والنون، {الَّتِي}: صفة ثانية لـ {مريم}، {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {فَنَفَخْنَا}: فعل، وفاعل، معطوف على {أَحْصَنَتْ}، {فِيْهِ}: متعلق بـ {نفخنا}، {مِنْ رُوحِنَا}: صفة لمفعول محذوف؛ أي: روحًا كائنًا من روحنا. {وَصَدَقَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مريم}، معطوف على مقدر مناسب للسياق؛ أي: فحملت بعيسى. {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {صدقت}، {وَكُتُبِهِ}: معطوف على {كلمات}، {وَكَانَتْ}: فعل ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على مريم، {مِنَ الْقَانِتِينَ}: خبرها، والجملة معطوفة على {صدقت}، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لِمَ تُحَرِّمُ} أصل {لِمَ} لما، مركبة من (لام) الجر و (ما) الاستفهامية. {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أصل أحل: أحلل، بوزن أفعل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء فسكنت فأدغمت في الثانية. {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}: الابتغاء: الطلب. والمرضاة: مصدر كالرضا، وفيه إعلال بالقلب، أصله: مرضية بوزن مفعلة، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل الياء واو، من الرضوان، أعل بالقلب حملًا له في الإعلال على اسم الفاعل، والماضي: رضي، أصله: رضو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. والأزواج: جمع زوج، فإنه يطلق على المرأة أيضًا، بل هو الفصيح كما قال في "المفردات": وزوجة لغة رديئة. {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}: مصدر لحلل الرباعي، فأصله: تحللة، بوزن تفعلة، كتكرمة من كرم، وتفرقة من فرق، فأدغمت، ولكنه غير مقيس، فإن قياس مصدره التفعيل إذا كان صحيحًا غير مهموز، فأما معتل اللام، كزكى، ومهموز اللام كنبأ .. فمصدرهما تفعلة، كتزكية وتنبئة، على أنه قد جاء التفعيل في المعتل كاملًا، نحو قوله:

بَاتَتْ تُنَزي دَلْوَهَا تَنْزِّيَا ... كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيًّا وعبارة "الروح" هنا: الفرض هنا بمعنى الشرع والتبيين، كما دل عليه {لَكُمْ}، فإن فرض بمعنى: أوجب، إنما يتعدى بعلى. والتحلة: مصدر حلل، بتضعيف العين، بمعنى التحليل، أصله: تحلة، كتكرمة، وتعلة، وتبصرة، وتذكرة، من كرم وعلل وبصر وذكر، بمعنى: التكريم والتعليل والتبصير والتذكير، إلا أن هذا المصدر من الصحيح خارج عن القياس، فإنه من المعتل اللام، نحو: سمي تسمية، أو مهموز اللام مثل: جزّأ تجزئة. والمراد: تحليل اليمين، كأن اليمين عقد والكفارة حله. انتهى. وتحلة القسم يستعمل على وجهين: أحدهما: تحليله بالكفارة كما في الآية. ثانيهما: بمعنى الشيء القليل، وهذا هو الأكثر، كما جاء في الحديث: "لن يلج النار إلا تحلة القسم"؛ أي: إلا زمنًا يسيرًا. قوله تعالى: {أَسَرَّ النَّبِيُّ} أصله: أسرر، بوزن أفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين، فسكنت فأدغمت في الثانية. والإسرار: خلاف الإعلان، ويستعمل في الأعيان والمعاني والسر هو: الحديث المكتتم في النفس، وأسررت إلى فلان حديثًا: أفضيت به في الخفية، فالإسرار إلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه بالسر وإن كان يقتضي إخفاءه عن غيره، فإذًا قولهم: أسررت إلى فلان، يقتضي من وجه الإظهار ومن وجه الإخفاء. و {النَّبِيُّ}: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاللام للعهد. {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ}؛ أي: وليكم وناصركم. {حَدِيثًا} قال الراغب: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ} ضمن أظهر معنى أطلع، من ظهر فلان السطح إذا علاه، وحقيقته: صار على ظهره، وأظهره على السطح؛ أي: رفعه عليه، فاستعير للإطلاع على الشيء، وهو من باب الإفعال. قال الراغب: ظهر الشيء، أصله: أن يحصل شيء على ظهر الأرض، فلا يخفى، وبطن إذا حصل في بطنان الأرض فيخفى، ثم صار مستعملًا في كل بارز للبصر والبصيرة. {عَرَّفَ بَعْضَهُ} وبعض الشيء: جزء منه. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أصله: تتوبان، حذفت نون الرفع للجازم، ثم نقلت حركة

الواو إلى التاء؛ لأن الأصل: تتوبان، لوزن تفعلان، فسكنت الواو إثر ضمة فصارت حرف مد، فوزنه تفعلان. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أصله صغي، بوزن فعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح، فلما اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة .. حذفت الألف لالتقاء الساكنين، يقال: صغا يصغو صغوا، إذا مال، وأصغى إليه: مال بسمعه. قال الشاعر: تُصْغِي الْقُلُوبُ إِلَى أَغَرَّ مُبَارَكٍ ... مِنْ آلِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبْ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أصله: تتظاهران - بتاءين - وحذفت منه نون الرفع للجازم وإحدى التاءين للتخفيف، ماضيه: تظاهر، من باب تفاعل من الظهر؛ لأنه أقوى الأعضاء. {ظَهِيرٌ}؛ أي: ظهراء معاونون وأنصار مساعدون. {عَسَى رَبُّهُ} أصله عسي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {مُسْلِمَاتٍ}؛ أي: خاضعات لله منقادات له بالطاعة. {مُؤْمِنَاتٍ}؛ أي: مصدقات بتوحيد الله مخلصات له. {قَانِتَاتٍ}؛ أي: مواظبات على القنوت والعبادة. {تَائِبَاتٍ}؛ أي: مقلعات عن الذنوب، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: تاوبات، من تاب يتوب أبدلت الواو في الجمع والمفرد همزة حملًا للوصف في الإعلال على فعله حيث أعل بقلب الواو ألفًا في الفعل لأن أصل تاب توب، كقال أصله: قول {عَابِدَاتٍ} أي: متعبدات متذللات لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {سَائِحَاتٍ} أي: صائمات، وسمي الصائم بذلك من حيث أن السائح لا زاد معه ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام، كالصائم، ثم لا يزال كذلك حتى يجيء وقت الإفطار. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: سايحات، أبدلت الياء همزة في الجمع أيضًا حملًا للوصف في الإعلال على فعله: سيح، حيث قلبت الياء ألفًا، والسياحة في اللغة: الجولان في الأرض. {ثَيِّبَاتٍ} جمع ثيب، والثيب الرجل الداخل بامرأة. والمرأة المدخول بها، يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيجمع المذكر على ثيبين، والمؤنث على ثيبات، من ثاب إذا رجع، سميت به المرأة لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام بها، وإلى غيره إن فارقها، أو إلى حالتها الأولى، وهي: أنه لا زوج لها، فهي لا تخلو عن الثوب، أي: الرجوع، وقس عليها الرجل. وأصل ثيب: ثيوب كسيّد وميّت، أصلهما سيود وميوت، ووزن ثيبات فيعلات، أدغمت ياء فيعل في عين الكلمة كما هو رأي صاحب "القاموس"

و"اللسان". وقيل: ثيوبات، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما ساكنة فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء، وهذا رأي الجوهري، والراغب الأصفهاني. {وَأَبْكَارًا}؛ أما: عذارى، وسميت العذراء بالبكر لأنها على أول حالتها التي طلعت عليها. قال الراكب: سميت التي لم تفتض بكرًا اعتبارًا بالثيب؛ لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، ففي البكر معنى الأولية والتقدم، ولذا يقال: البكرة لأول النهار، والباكورة للفاكهة التي تدرك أولًا. {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}، قال الراغب: الصلاح: ضد الفساد الذي هو خروج الشيء عن الاعتدال والانتفاع، قل أو كثر، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل الصلاح في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة. {قُوا أَنْفُسَكُمْ}: أمر من الوقاية، بمعنى الحفظ والحماية والصيانة. أصله: أوقيوا، كاضربوا؛ لأنه أمر من وقى يقي وقاية، وهذا الفعل لفيف مفروق، ماضيه: وقى، ومضارعه: يقي، مع أن القياس أن يكون المضارع يوقي بوزن يفعل - بكسر العين - لكن فاء الفعل الواو حذفت من المضارع لوقوعها بين عدوتيها،، الياء المفتوحة والكسرة، ولما بني منه أمر مسند إلى واو الجماعة .. حذف منه حرف المضارعة وحذفت الواو، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف؛ لأن اللفظ صار بعد حذف نون الرفع عند بناء الأمر من الأفعال الخمسة، صار: قيوا، فلما حذفت حركة الياء .. سكنت، فالتقت ساكنة مع واو الجماعة، فحذفت لذلك، فصار وزنه: عوا، وهكذا شأن كل لفيف مفروق بني منه الأمر لم يبق من أصله إلا العين فقط؛ لأن الفاء تحذف قياسًا إذا كانت واوًا، واللام: حرف علة تحذف لبناء الأمر على حذف حرف العلة من المعتل، أو لالتقاء الساكنين كما هنا. {وَأَهْلِيكُمْ} أصله: أهلين، جمع أهل، حذفت النون للإضافة، وقد يجمع على أهالي - على غير قياس -: وهو كل من في عيال الرجل، ونفقته، من المرأة والولد، والأخ والأخت، والعم وابنه، والخادم، ويفسر بالأصحاب أيضًا. {وَقُودُهَا النَّاسُ} الوقود - بفتح الواو -: اسم لما توقد به النار من الحطب وغيره، وبالضم: مصدر بمعنى الاتقاد.

{غِلَاظٌ}: جمع غليظ، بمعنى خشن خال قلبه عن الشفقة والرحمة. {شِدَادٌ} جمع شديد، ككرام جمع كريم، وهو القوي الجسم. {لَا يَعْصُونَ} أصله: يعصيون، بوزن يفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الصاد لمناسبة الواو. {لَا تَعْتَذِرُوا} يقال: اعتذرت إلى فلان من جرمي، ويعدى بـ {من}. والمعتذر قد يكون محقًا وغير محق. قال الراغب: العذر: تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه. {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ} أصله: تجزيون، بوزن تفعلون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {تَوْبَةً نَصُوحًا} والتوبة: أبلغ وجوه الاعتذار، بأن يقول: فعلت وأسات وقد أقلت، وفي الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة كما مر. {نَصُوحًا} والنصوح: فعول، من أبنية المبالغة، كقولهم: رجل صبور وشكور؛ أي: مبالغة في النصح، وصفت التوبة بذلك على الإسناد المجازي، والنصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه. {نُورُهُمْ يَسْعَى} والسعي: المشي القوي السريع. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: جمع يد، يراد بها قدام الشيء. {وَبِأَيْمَانِهِمْ} جمع يمين، مقابل الشمال. {كَانَتَا}: أصل كان: كون، بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، والتحق بها هنا تاء التأنيث الساكنة، ولكنها حركت بالفتح لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين وكان تحريكها؛ أي: التاء بالفتح ليناسب الألف، وكذلك القول في قوله: {فَخَانَتَاهُمَا} أصله: خون، قلبت الواو ألفًا، ثم لحقت الفعل تاء التأنيث الساكنة وحركت لمناسبة ألف الاثنين الساكنة، واختير لها الفتح لمناسبة الألف. {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الإحصان: العفاف، والفَرْجُ: ما بين الرِّجْلَين، وكنى به عن السوأة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. {فَنَفَخْنَا فِيهِ} والنفخ: نفخ الريح في الشيء. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {حرم} و {أَحَلَّ} في قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري في {لِمَ}.

ومنها: الطباق بين {عَرَّفَ} و {أعرض} عرض، وبين {ثَيِّبَاتٍ} و {وَأَبْكَارًا}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ}؛ لأن الإظهار: رفع الشيء على نحو السطح، فاستعير للاطلاع على الشيء. ومنها: التفنن في قوله أولًا: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ}، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا}، ثم قوله ثانيًا: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ}، ثم قوله ثالثًا: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} زيادة في اللوم والعتاب. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؛ لأن جواب الشرط محذوف، تقديره: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التوبة. ومنها: جمع القلوب فيه، فرارًا من كراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة لو قال: فقد صغى قلباكما، لكراهة العرب اجتماع ذلك. ومنها: تغليب المخاطب على الغائبات أو تعميم الخطاب لكل الأزواج في قوله: {إِنْ طَلَّقَكُنَّ}، إذ التقدير: إن طلقكما وغيركما، أو كون كلهن مخاطبات لما عاتبهما بأنه قد صغت قلوبكما. ومنها: توسيط العاطف بين {ثَيِّبَاتٍ} و {أَبْكَارًا} دون غيرهما، إشعارًا بتنافيهما وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، كما مرّ. ومنها: التعريض لغير عائشة بقوله: {ثَيِّبَاتٍ} ولها بقوله: {أبكارًا}. ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ}. فقد خص جبريل بالذكر أولًا تشريفًا له، ثم ذكره ثانيًا مع العموم اعتناء بشان الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} حيث ذكر المسبب وأراد السبب؛ أي: لازموا على الطاعة لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله تعالى.

ومنها: السلب والإيجاب في قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وهو بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى. أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من غير تلك الجهة، وهذا المعنى في الآية ظاهر، فقد سلب عزّ وجل عن هؤلاء الموصوفين العصيان وأوجب لهم الطاعة. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {تَوْبَةً نَصُوحًا}، حيث أسند النصح إلى التوبة مجازًا للمبالغة، وإنما النصح من التائب. ومنها: المقابلة بين مصير أهل الطغيان ومصير أهل الإيمان في ضرب المثل في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا}. ومنها: إيراد صيغة الماضي في قوله: {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} إفادة لتحقق وقوعه. ومنها: تغليب الذكور على الإناث في قوله: {مَعَ الدَّاخِلِينَ}؛ لأنهن لا ينفردن بالدخول. ومنها: التصريح بما علم التزامًا في قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} بعد قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} مبالغة في ذمهم. ومنها: إظهار العبدين في قوله: {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} المراد بهما نوح ولوط لتعظيمهما بالإضافة التشريفية إلى ضمير التعظيم والوصف بالصلاح، وإلا .. فيكفي أن يقول: تحتهما، وفيه بيان شرف العبودية والصلاح. ومنها: الإطناب في قوله: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بعد قوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} مبالغة في الدعاء. ومنها: الاستخدام في قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ}؛ لأن المراد بلفظ الفرج، العضو، وأريد بضميره معنى آخر، وهو: الجيب، وهو من المحسنات البديعية. وفيه أيضًا الإسناد المجازي، حيث أسند النفخ إلى الضمير مع أن النافخ هو جبريل عليه السلام.

ومنها: الإضافة في قوله: {مِنْ رُوحِنَا} تفخيمًا لها ولعيسى عليهما السلام - كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}. ومنها: تغليب الذكور في قوله: {مِنَ الْقَانِتِينَ} إشعارًا بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على شيئين: 1 - أخبار نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلفه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يشربن العسل إرضاء لبعضن، وإطلاع الله له على ما أفشين من سرّ أمرهن بكتمه. 2 - ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تسويد هذا الجزء في (المسفلة) بحارة الرشد من (مكة المكرّمة) جوار الحرم الشريف، في اليوم الخامس عشر وقت الضحوة من يوم الجمعة المبارك، من شهر الله المحرم، من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة 15/ 1/ 1416 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. إلى هنا تمّ المجلدُ التاسعُ والعشرونَ. ويليه المجلد الثلاثون أوله سورة الملك.

شعرٌ أَلَا أَيُّهَا الْمَأَمُولُ فِي كُلِّ حَاجَةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ، فَارْحَمْ شِكَايَتِي أَلَا يَا رَجَائِي أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِي ... فَهَبْ لِي ذُنُوبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزَادِي قَلِيْلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِي ... عَلَى الزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِي أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ ... وَمَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِي آخرُ يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ بِمَا فِيْهِ خُسْرَانُ عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ آخرُ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا ... إِلَّا مَا أَلْهَمَتْنَا إِلْهَامَا إِنِّي إِذَا مَا قَدْ خَتَمْتُ خَتْمًا ... أَقُولُ: يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهَمَّا آخرُ لَكَ الحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِي ... وَلَكَ الشُّكْرُ شُكْرًا يُكَافِي

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [30]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الملك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على إفضاله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه وجميع أتباعه، وكل مرشد إلى دينه، إلى يوم جمعه وجزائه. أما بعد: فيقول العبيد الفقير - أيدهُ الله المفيض القدير -: إني لما فرغت - بعون الله سبحانه - من تفسير الجزء الثامن والعشرين .. تفرغت بتوفيقه لتفسير الجزء التاسع والعشرين مستمدًا من فيوضاته الهاطلة ومستمطرًا من سحائب جوده الماطرة، فقلت، وهذا قولي: سورة الملك سورة الملك مكيّة، قال القرطبي: نزلت بعد سورة الطور. التسمية: تسمى: سورة الواقية والمنجية؛ لأنها تقي وتنجي قارءها من عذاب القبر، وتسمى سورة تبارك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يسميها المجادلة؛ لأنّها تجادل عن قارئها في القبر، وتدعى في التوراة المانعة. وآيها: ثلاثون آية. وكلماتها: ثلاث مئة وخمسٌ وثلاثون كلمة. وحروفها: ألف وثلاث مئة وثلاثة عشر حرفًا. ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنّه سبحانه لمَّا ضرب مثلًا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلًا للمؤمنين بآسية ومريم، وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفّارًا، وكان ذلك تصرفًا في ملكه على ما سبق قضاؤه .. افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عزَّ وجلَّ وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الملك كلُّها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها (¬2): وممّا ورد في فضلها: ما أخرجه أحمد، وأبو داوود، والترمذي، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني.

والنسائي، وابن ماجه، وابن الضريس، والحاكم وصحّحه، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن سورة من كتاب الله ما هي إلَّا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} " قال الترمذي هذا حديث حسن. وما أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وابن مردويه، والضياء في "المختارة"، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". وما أخرجه الترمذي، والحاكم وصحَّحه، وابن مردويه، وابن نصر، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنّه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله: "هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر"، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. ومنه: ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله نحو: "تبارك هي المانعة من عذاب القبر"، وأخرجه أيضًا النسائي وصحَّحه، والحاكم رحمهم الله تعالى. ومنه: ما أخرجه ابن مردويه عن رافع بن خديج وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنزلت عليَّ سورة تبارك، وهي ثلاثون آيةً جملةً واحدةً، وهي المانعة في القبور". ومنه: ما أخرجه عبد بن حميد في مسنده، والطبرانيّ، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّه قال لرجلٍ: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى، قال: اقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك؛ فإنها المنجية والمجادلة، تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار، وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي". والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}.

المناسبة تقدّم لك بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها، ثم إن الله سبحانه بدأ هذه السورة بأنْ مجد نفسه، وأخبر بأن بيده الملك والتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شيء. ثم أخبر بأنه قدر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملًا، وهو ذو العزة الغالب على أمره الغفور لمن أذنب ذنبًا ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها شقًّا أو عيبًا؟ ثم أعد النظر وحدق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها. وقد زينا أقرب السموات إليكم بالكواكب يهتدي بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهي أيضًا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجنّ، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لها عذاب السعير جزاء ما اقترفوا في حياتهم الدنيا. قوله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) أنّ شياطين الإنس والجنّ قد أعد لهم عذاب السعير .. أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته مكذّبٍ رسله منكر للبعث واليوم الآخر، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان، وتصطك لسماعها الأسنان، منها: 1 - أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها. 2 - أنها تفور بهم كما يفور ما في المرجل حين يغلي. 3 - أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها. 4 - أن خزنتها يسألون داخليها: ألم تأتكم رسل منكم فتبعدكم عن هذا العذاب. 5 - أن أهلها يعترفون بأن الله ما عذبهم ظلمًا بل قد جاءهم الرسل، فكذبوهم ¬

_ (¬1) المراغي.

وقالوا لهم: أنتم في ضلال بعيد. 6 - دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة الله وألطافه وكرمه وإحسانه. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لمّا أوعد (¬1) الكفّار بما أوعد، وبالغ في ترهيبهم بما بالغ .. وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق قلا يخفى عليه شيء من أمرهم، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها، ثم عدد نعماءه عليهم فذكر أنه عبد لهم الأرض وذللها لهم، وهيَّأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم وإليه بعثهم ونشورهم. قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما أعدّه للكافرين من نار تلظّى، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان .. أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم من: خسف عاجل تمور به الأرض مورًا، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل ولا تبقي منهم ديّارًا ولا نافخ نار، ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء، فقد: أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام جسومًا - متتابعة - وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم - البحر الأحمر -. ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته وعظيم منته على عباده، فطلب منهم أن يروا الطير وهي تبسط أجنحتها في الجو تارةً، وتضمها أخرى بتسخير الله وتعليمه ما هي في حاجة إليه. قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ ....} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير، ووبخهم على ترك التأمل فيها .. أردفه بتوبيخهم على ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرًا ورزقًا، منكرًا عليهم ما اعتقدوه، مبينًا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمَّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه. أما وقد وضح الحق لذي عينين .. فهم في لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلًا يبين حالي المشرك والموحد: فمثل حال الأول بحال من يمشي منحنيًا إلى الأمام على وجهه فلا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؛ فيكون حائرًا وضالًّا، ومثل حال الثاني بحال من يمشي منتصب القامة على الطريق الواضح فيرى ما أمامه ويهتدي إلى ما يريد، ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية، بذكر خلق الإنسان في الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم. ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ميقات البعث استهزاء به وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شيء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم الساعة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مرد له، فماذا أنتم فاعلون؟ أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا ...} الآيات، روي: أنّ كفّار مكة كانوا يدعون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين بالهلاك، كما حكى الله عنهم في آية أخرى بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}، وقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} .. فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه وستعلمون غدًا من الهالك. ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟! التفسير وأوجه القراءة 1 - {تَبَارَكَ}؛ أي: تعالى عن النقائص في ذاته وصفاته وأفعاله، واتصف بالكمالات فيها، فهو تعالى الإله {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} والسلطنة والتصرف العام. وتبارك تفاعل من البركة، والبركة: النماء والزيادة: حسّيّة أو عقليّة، ونسبتها إلى الله

تعالى باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، يعني: أنّ البركة تتضمن معنى الزيادة، وهي تقتضي التعالي عن الغير، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: في ذاته لوجوب وجوده، وفي صفاته وأفعاله لكماله فيهما. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تخلقوا بأخلاق الله" فباعتبار اللوازم وبقدر الاستعداد، لا باعتبار الحقيقة والكنه؛ فإن الاتصاف بها بهذا الاعتبار مخصوص بالله تعالى، فأين إحياء عيسى عليه السلام الأموات من إحياء الله تعالى؟ فإنّه من الله بدعائه؛ فالمعجزة استجابة مثل هذا الدعاء ومظهريته له بقدر استعداده، وبهذا التقرير ظهر معنى قول بعض المفسرين: تزايد في ذاته؛ فإن التزايد في ذاته لا يكون إلا باعتبار تعاليه بوجوده الواجب، وتنزهه عن الفناء والتغير. وصيغة {تَبَارَكَ} بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في غيره تعالى، ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وإسنادها إلى الموصول للاستدلال بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها. والموصولات معارف، ولا شك أن المؤمنين يعرفونه يكون الملك بيده، وأما غيرهم ... فهم في حكم العارفين؛ لأنّ الأدلة القطعية لما دلت على ذلك كان في قوة المعلوم عند العاقل. وقال الحسن: {تَبَارَكَ} تقدس، وصيغة التفاعل للمبالغة، واليد مجاز عن القدرة التامة والاستيلاء الكامل؛ لما أن أثرها يظهر في الأغلب من اليد، يقال: فلان بيده الأمر والنهي والحل والعقد. والمعنى: أي تقدس الذي له القدرة الغالبة والتصرف العام والحكم النافذ. وفي "عين المعاني": واليد صلةٌ. انتهى. والباء بمعنى اللام؛ أي: تبارك الذي له الملك. والمذهب الأسلم الذي عليه السلف ونلقى عليه الرب: أن اليد صفة ثابتة له تعالى بلا تأويل ولا تكيف ولا تمثيل، نثبتها ونعتقدها بلا تمثيل ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. والملك بمعنى التصرف والسلطنة كما مر. واللام فيه للاستغراق، والمعنى: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتًا وصفةً وفعلًا الذي بقبضة يده التصرف الكليّ في كل الأمور لا بقبضة غيره، فيأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويحيي

ويميت، ويعز ويدل، ويفقر ويغني، ويمرض ويشفي، ويقرب ويبعد، ويعمر ويخرب، ويفرق ويصل، ويكشف ويحجب، وإلى غير ذلك من شؤون العظمة وآثار القدرة الإلهية والسلطنة الأزلية والأبدية. وقال بعضهم: البركة: كثرة الخير ودوامه؛ فنسبتها إلى الله تعالى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات، والمعنى أي: تكاثر خير الذي بيده الملك، وتزايد إنعامه وإحسانه، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. قال الراغب: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك: ما فيه ذلك الخير. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحيى وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر .. قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي: "لا ينقص مال من صدقة". {وَهُوَ} سبحانه وتعالى وحده {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الأشياء، وعلى كل مقدور من الإنعام والانتقام وغيرهما {قَدِيرٌ} أي: مبالغ في القدرة عليه، ومنته إلى أقصاها، يتصرف فيه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة. والجملة معطوفة على الصلة، مقررة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام ملكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها. قال بعضهم: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ما يمكن أن تتعلق به المشيئة من المعدومات الممكنة؛ لأن الموجود الواجب لا يحتاج في وجوده إلى شيء ويمتنع زواله أزلًا وأبدًا، والموجود الممكن لا يراد وجوده؛ إذ هو تحصيل الحاصل، والمعدوم الممتنع لا يمكن وجوده فلا تتعلق به المشيئة. فتعلق القدرة بالمعدوم بالإيجاد، وبالموجود بالإبقاء. والتحويل من حال إلى حال. ومعنى الآية (¬1): تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقوامًا ويخفض آخرين وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة، لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام في الموجودات ¬

_ (¬1) المراغي.

[2]

على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع. والخلاصة: تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف في كل شيء، وهو قدير يتصرف في ملكه كيف يريد؛ مِن انتقامٍ ورفعٍ ووضعٍ وإعطاءٍ ومنعٍ. 2 - ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة، فقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقدم الموت على الحياة، لأنّه (¬1) هو المخلوق أوّلًا؛ لقوله تعالى،: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ لأن الموت في عالم الملك ذاتي، والحياة عرضية؛ يعني: أن الموت أسبق؛ لأن الأشياء كانت أمواتًا ثم عرضت لها الحياة، كالنطفة على ما دل عليه قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} إلخ؛ ولأنه أدعى إلى إحسان العمل، وأقرب إلى قهر النفوس؛ فمن جعله نصب عينيه أفلح، وفي الحديث: "لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر والمرض والموت". قيل (¬2): الموت: انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له. والحياة: تعلق الروح بالبدن واتصاله به، وقيل: هي ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل: ما يوجب كون الشيء حيًّا. وقيل: المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة. وقال مقاتل: خلق الموت يعني: النطفة والمضغة والعلقة، والحياة يعني: خلقه إنسانًا، وخلق الروح فيه. وقيل: خلق الموت على صورة كبش لا يمر على شيء إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمر بشيء إلا حيي، قاله مقاتل والكلبي. وقد ورد في التنزيل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ}، وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وغير ذلك من الآيات. وفي "الإرشاد": (الأقرب أنَّ المراد بالموت: الطارىء، وبالحياة: ما قبله وما بعده لظهور مداريتهما كما ينطق به ما بعد الآية {لِيَبْلُوَكُمْ ...} إلخ؛ فإن استدعاء ملاحظتها لإحسان العمل مما لا ريب فيه، مع أن نفس العمل لا يتحقق بدون الحياة الدنيوية) انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

ثم إن الألف واللام في {الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} عِوَضٌ عن المضاف إليه، أي: موتكم وحياتكم أيها المكلفون؛ لأن خلق موت غير المكلفين وحياتهم لابتلاء المكلفين لا معنى له. واللام في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} متعلق بـ {خَلَقَ}؛ أي: خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم ليعلم أيكم أحسن عملًا، فيجازيكم على ذلك. وظاهر هذه اللام يدل على أنّ أفعال الله معللة بمصالح العباد، وأنه تعالى يفعل الفعل لغرض كما ذهب إليه المعتزلة، وعند أهل السُّنَّة ليس هي على ظاهرها، بل معناها: أن الله تعالى فعل فعلًا لو كان يفعله من يراعي المصالح .. لم يفعله إلا لتلك المصلحة والغرض فمثل هذه اللام لام العلة عقلًا، ولام الحكمة والمصلحة شرعًا. و {أَيُّكُمْ} مبتدأ، و {أَحْسَنُ} خبره. و {عَمَلًا} تمييز، والجملة الاسمية سادة مسد المفعول الثاني لفعل البلوى، عدي إليه بلا واسطة؛ لتضمنه معنى العلم باعتبار عاقبته، وإلا فهو لا يتعدى بلا واسطة إلا إلى مفعول واحد، فليس هو من قبيل التعليق المشهور الذي يقتضي عدم إيراد المفعول أصلًا - وقد ذكر المفعول الأول هنا وهو (كُمْ) مع اختصاصه بأفعال القلوب، ولا من التضمين المصطلح عليه بل هو مستعار لمعنى العلم، والبلوى: الاختبار، وليس هنا على حقيقته؛ لأنّه إنّما يتصور ممن تخفى عليه عواقب الأمور، فالابتلاء من الله أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب. والمعنى كما مر: الذي قدر الموت وقدر الحياة، وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو؛ يعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص في عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح. وقد ورد في تفسير الآية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيكم أحسن عقلًا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعته عزَّ وَجَلَّ"؛ يعني: أيكم أتم فهمًا لما يصدر من حضرة القدس وأكمل ضبطًا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع في إجابة داعي الله. وفيه ترغيب في الطاعات، وزجر عن المعاصي

كما لا يخفى على ذوي الألباب. ثم إن المراد أيكم عمله أحسن من عمل غيره، وايراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح، لا إلى الحسن والأحسن فقط، للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصليَّ من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضًا. وقال بعضهم: أحسن الأعمال ما كان أخلص بأن يكون لوجه الله خالصًا، وأصوب بأن يكون موافقًا للسنة؛ أي: واردًا للنهج الذي ورد عن الشارع، فالعمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يقبل؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيّ: "قُمْ صَلّ فإنّك لم تُصلّ"، وكذا إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل أيضًا؛ ولذا جعل الله أعمال أهل الرياء والنفاق هباء منثورًا. وقول بعضهم: "حُسْنُ العمل: نسيان العمل ورؤية الفضل": هو من مراتب الإخلاص، فإن الإخلاص سر عظيم من أسرار الله تعالى لا يناله إلا الخواص. ولم يقل: أيكم (¬1) أكثر عملًا؛ لأنّه لا عبرة بالكثرة مع القبح، قالوا: والحسن إنما يدرك بالشرع؛ فما حسنه الشرع فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح. وقال بعضهم: ليبلوكم أيكم أحسن أخذًا من حياته لموته، وأحسن أهبة في دنياه لآخرته. {وَهُوَ} أي: والحال أنه وحده {الْعَزِيزُ} أي: الغالب الذي لا يغالب، ولا يفوته من أساء العمل {الْغَفُورُ} لمن تاب وأناب ممن شاء منهم بالتوبة، وكذا بالفضل. قال بعضهم: ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم بمخالفته ... قال - مرغبًا للمسيء في التوبة حتى لا يقول: "مثلي لا يصلح للخدمة لمالي من القاطعة" قال: "هو الغفور الذي يستر ذنوب المسيء، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلقٍّ"، كما قال في الحديث القدسي: "ومَنْ أتاني يَمْشِي أتَيتُه هَرْولةً". والمعنى (¬2): وهو القوي الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها. وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب في مواضع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[3]

كثيرة من كتابه كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرًا على كل المقدورات، عالمًا بكل المعلومات؛ ليجازي المحسن والمسيء بالثواب والعقاب؛ ويعلم المطيع من العاصي؛ فلا يقع خطأ في إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابًا كان أو عقابًا. 3 - ثم ذكر دلائل قدرته، فقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الموصول (¬1) يجوز أن يكون تابعا للعزيز الغفور، نعتًا أو بيانًا أو بدلًا، وأنْ يكون منقطعًا عنه على أنّه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي خلق وأوجد وأبدع السموات السبع على غير مثال سبق حالة كونهن {طِبَاقًا}؛ أي: بعضها فوق بعض في جو الهواء، بلا عماد ولا علاق ولا رابط يربط بعضها ببعض، مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات كما جاء في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}. وقوله: {طِبَاقًا} يجوز (¬2) أن يكون صفة لسبع سموات، وقولهم: الصفة في الأعداد تكون للمضاف إليه كما في قوله سبحانه: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} لا يطرد، ويجوز جعله حالًا؛ لأنّ {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} معرفة لشمولها الكل، وهو مصدر بمعنى الفاعل، يقال: طابقه مطابقة، وطباق الشيء مثل كتاب مطابقة بكسر الباء، وطابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذو واحد وألزقتهما، والباب يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه؛ والمعنى: مطابقة بعضها فوق بعض، وسماء فوق سماء، غلظ كل سماء خمس مئة عام، وكذا جوها بلا علاقة ولا عماد ولا مماسة؛ السماء الدنيا موج مكفوف؛ أي: ممنوع من السيلان، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس أو صُفْر، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، وبين السابعة وما فوقها من الكرسي، والعرش بحار من نور، ولكن ما ورد فيه نقل. قال الجمهور: إن الأرض مستديرة كالكرة، وإن السماء الدنيا محيطة بها من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

كل جانب إحاطة البيضة بالمح، فالصفرة بمنزلة الأرض، وبياضها بمنزلة الماء، وقشرها بمنزلة السماء، غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة، بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستديرة الخرط حتى قال مهندسوهم: لو حفر في الوهم وجه الأرض .. لأدى إلى الوجه الآخر، ولو ثقب مثلًا بأرض الأندلس .. لنفذ الثقب بأرض الصين، وأنَّ السماء الثانية محيطة بالدنيا، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطًا بالكل، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، فما ظنك بما تحته وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، والله أعلم. وجملة قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} صفة ثانية لسبع سموات أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. ووضع {خَلْقِ الرَّحْمَنِ} موضع الضمير؛ إذ المقام مقام أن يقال: (في خلقه) وهي السموات على أن يكون بمعنى المخلوق، والإضافة بمعنى اللام للإشعار بأنه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمةً وتفضّلًا. و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: ما ترى فيه شيئًا من اختلاف واضطراب في الخلقة وعدم تناسب بل هو مستوٍ مستقيم. قال الفاشاني: سلب التفاوت عنها بساطتها واستدارتها ومطابقة بعضها بعضًا وحسن انتظامها وتناسبها، وهو من الفوت؛ فإن كلًّا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، فلا يناسبه ولا يلائمه. انتهى. وقيل: معنى {مِنْ تَفَاوُتٍ} أي: من خلل وعيب، وإلا فالتفاوت بين المخلوقات بالصغر والكبر وغيرهما كثير. وجعل بعض العلماء {خَلْقِ الرَّحْمَنِ} عامًّا، فسئل بأن المخلوقات بأسرها على غاية التفاوت؛ لأنَّ الليل غير النهار إلى غير ذلك من الأضداد. ثم أجاب بأن ليس فيها تناقص أو زيادة غير محتاج إليها أو نقصان محتاجٌ إليه، بل لكل مستقيمة مستوية دالة على أن خالقها عالم انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {مِنْ تَفَاوُتٍ} بألف مصدر تفاوَتَ من باب تفاعل. وقرأ عبد الله، وعلقمة، والأسود، وابن جبير، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي بشد الواو تفوُّت مصدر تفوَّت من باب تفعل، وهما لغتان كالتعاهد والتّعهد ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والتحامل والتحمّل. وحكى أبو زيد عن العربي {تفاوُتًا} بضمّ الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذّان. والمعنى على كلا القراءتين (¬1): ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين ولا تخالف ولا اعوجاج ولا تناقص، بل هي مستقيمة دالة على خالقها، وإن اختلفت صورها وصفاتها .. فقد اتفقت من هذه الحيثية. {فَارْجِعِ الْبَصَرَ}؛ أي: رد بصرك أيها الرائي إلى رؤية السماء ونظرها حتى يتضح ذلك بالمعاينة، ولا يبقى عندك شبهة ما. و (رجع) يجيء (¬2) لازمًا ومتعدّيًا كما هنا، يقال: رجع بنفسه رجوعًا، وهو العود إلى ما منه البدء، مكانًا كان أو فعلًا أو قولًا، بذاته كان رجوعه أو بجزءٍ من أجزائه أو بفعل من أفعاله ورجعه غيره رجعًا أي: رده وأعاده. {هَلْ تَرَى} فيها {مِنْ فُطُورٍ}؛ أي: من شقوق وصدوع وخروق لامتناع خرقها والتئامها، قاله الفاشاني. ولو كان لها فروج .. لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها، أو كمالها كما في المناسبات. فإذا لم ير في السماء فطور وهي مخلوقة؛ فالخالق أشد امتناعًا من خواص الجسمانيات. والمعنى (¬3): اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة، أخبر أوّلًا بأنه لا تفاوت في خلقه، ثم أمر ثانيًا بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك: الفطور: الشقوق، جمع فطر؛ وهو الشق. وقال قتادة: هل ترى من خلل. وقال السدي: هل ترى من خروق، وأصله: من التفطر والانفطار، وهو التشقق والانشقاق، ومنه قول الشاعر: بني لَكُمُ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً ... وزيَّنَهَا فما فِيها فُطُورُ وقول الآخر: شَقَقْتُ القَلْبَ ثُم ذَرَرْتُ فِيهِ ... هَوَاكَ فَلِيْطَ فَالْتَأمَ الفُطُورُ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[4]

وحاصل معنى الآية (¬1): لا ترى أيها الرائي تفاوتًا وعدم تناسب؛ فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصًا على نحو ما قيل: تَنَاسَبَتِ الأعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى ... بِهِنَّ اخْتِلافًا بَلْ أَتَيْنَ على قَدْرِ فإن كنت في ريب من هذا فأرجع البصر والنظر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة في تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها، وإنّما قال: {فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} دون أن يقول: (ما ترى فيها) تعظيمًا لخلقهن وتنبيهًا إلى سبب سلامتهن من التفاوت بأنهن من خلق الرحمن، وأنه خلقهن بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلًا منه وإحسانًا، وأنَّ هذه الرحمة عامة في هذه العوالم جميعًا كما مرَّ آنفًا. 4 - ثم أمره بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع هل يجد فيه عيبًا وخللًا؟ فقال: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} والنظر إلى السماء {كَرَّتَيْنِ} أي: رجعتين أخريين وأعد النظر مرة بعد مرة في طلب الخلل والعيب فيها. والمراد بالتثنية (¬2): التكرير والتكثير كما في (لبّيك وسعديك) يعني: إجابات كثيرة وإعانات وفيرة بعضها في إثر بعض؛ وذلك لأنَّ الكلال الآتي لا يقع بالمرّتين، أي: رجعةً بعد رجعةٍ وإن كثرت، وانتصاب {كَرَّتَيْنِ} على المصدر، قال الحسن: لو كررته مرة بعد مرة إلى يوم القيامة لم تر فيه فطورًا، وقال الواسطي: {كَرَّتَيْنِ}؛ أي: قلبًا وبصرًا؛ لأنَّ الأول كان بالعين خاصة. ووجه (¬3) الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى، ولا في الثانية، ولهذا قال أوّلًا؛ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ثمّ قال ثانيًا: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} ثم قال ثالثًا: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}؛ فيكون ذلك أبلغ في إفادة الحجة وأقطع للمعذرة. {يَنْقَلِبْ} وينصرف ويرجع {إِلَيْكَ} أيها الرائي {الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي: ذليلًا صاغرًا بعيدًا محرومًا من إصابة شيء مما التمسه من العيب والخلل؛ كأنه يطرد عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[5]

ذلك طردًا بالصغار والذلة، يقال: خسأت الكلب أي: أبعدته وطردته. وقرأ الجمهور (¬1): {يَنْقَلِبْ} جزمًا على أنه جواب الأمر، وقرأ الخوارزمي عن الكسائي برفع الباء على الاستئناف؛ أي: فهو ينقلب، على حذف الفاء، أو على أنه في موضع حال مقدرة. و {خَاسِئًا} حال من {الْبَصَرُ}. {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: كليل وبالغ غاية الإعياء؛ لطول المعاودة وكثرة المراجعة، وهو فعيل بمعنى الفاعل، من الحسور الذي هو الإعياء. والجملة حال من البصر، أو من الضمير المستتر في {خَاسِئًا} فيكون من قبيل الأحوال المتداخلة. والمعنى (¬2): أنَّك إذا كررت النظر .. لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرًا ذليلًا لم ير ما يهوى منهما حتى كأنّه طرد، وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. 5 - وبعد أن بين خلو السماوات من العيب، ذكر أنها الغاية في الحسن والبهاء؛ فقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}؛ أي: وعزّتي وجلالي .. لقد زيّنّا أقرب السموات إلى الأرض وإلى الناس، وجملناها {بِمَصَابِيحَ} أي (¬3): بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السّراج، من السيّارات والثوابت، تتراءى كلّها مركوزة في السماء الدنيا، مع أنّ بعضها في سائر السموات؛ لأنَّ السموات إذا كانت شفّافةً وأجرامًا صافية .. فالكواكب - سواء كانت في السماء الدنيا أو في سموات أخرى - لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها؛ فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح؛ ودخل في المصابيح القمر؛ لأنّه أعظم نيّر يضيء بالليل. وسمّيت الكواكب مصابيح؛ لأنّها تضيء كإضاءَةِ السراج. وصدر (¬4) الجملة بالقسم لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها. والمصابيح: جمع مصباح، وهو السراج، وتنكيره للتعظيم والمدح. فائدة: وإذا جعل الله سبحانه الكواكب زينة السماء التي هي سقف الدنيا فليجعل العباد المصابيح والقناديل زينة سقوف المساجد والجوامع ولا سرف وفي الخير، وذكر أن مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جاء العشاء يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري رضي الله عنه المدينة صحب معه قناديل وحبالًا وزيتًا، وعلق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال عليه السلام: نورت مسجدنا نور الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة .. لأنكحتكها، وسمّاه سراجًا، وكان اسمه الأول فتحًا، ثم أكثرها عمر رضي الله عنه حين جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح، فلمّا رآها عليٌّ رضي الله عنه تزهر قال: نورت مسجدنا نور الله قبرك يا بن الخطاب. {وَجَعَلْنَاهَا}؛ أي: المصابيح المعبر بها عن النجوم؛ أي: بعضها كما في تفسير أبي الليث. {رُجُومًا} يرجم بها الشياطين. جمع رجم بالفتح، وهو ما يرجم به ويرمى للطرد والزجر، أو جمع راجم كـ (سجودٍ) جمع ساجدٍ. {لِلشَّيَاطِينِ} هم كفار الجن يخرجون الإنس من النور إلى الظلمات. وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم في الواقع. والمعنى (¬1): وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب عند استراق السمع، لا بالكوكب نفسها؛ فإنّها قارّة في الفلك على حالها؛ منهم من يقتله الشهاب، ومنهم من يفسد عضوًا من أعضائه أو عقله. والشهاب: شعلة ساطعة من نار، وهو هاهنا شعلة نارٍ تفصل من النجم، فأطلق عليها النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب. ويكون معنى {جعلناها رجومًا} جعلنا منها رجومًا؛ وهي تلك الشهب، ومما يؤيد أنّ الشعلة منفصلة من النجوم، ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل في المساجد، مخلوقة من نار. وقالت الفلاسفة: إنّ الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك، وقد سبق بيان هذا المقام مفصّلًا في أوائل الصافّات والحجر، فلا عود ولا إعادة. والذي يلوح أن مذهب الفلاسفة قريب في هذه المادّة من مذهب أهل الحقائق، وقد مرّ بيان مذهبهم في الصافات، والله أعلم بالخفيات. {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ}؛ أي: هيّأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب {عَذَابَ السَّعِيرِ}؛ أي: عذاب جهنم الموقدة المشعّلة؛ فالسعير بمعنى مفعول كما سيأتي. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وحاصل معنى الآيات: ولقد زيّنا السماء القربى من الأرض؛ وهي التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزين الناس منازلهم ومساجدهم بالسرج، ولكن أنى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله تعالى. والخلاصة: أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك؛ فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح هي بهجة للناظرين وعبرة للمعتبرين. {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}؛ أي: وهذه الكواكب لا تقف عند حدّ الزينة بل بضوئها يكون ما في الأرض من رزق وحياة وموت بحسب الناموس الذي سنناه والقدر الذي أمضيناه، ويكون في العالم الإنساني، وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تتنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعلة النازلة من عالم الكواكب المشرقة في السماء. وقصارى القول: أنّ هذه الكواكب كما هي زينة الدنيا، وأسبابٌ لرزقِ ذوي الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هي أيضًا سبب لتكون الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن؛ فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطي لكلّ ما استعد له، فالنفوس الفاضلة والنفوس الشريرة استمدت من هذه المادة المسخرة المقهورة؛ فصارت سببًا لثواب النفوس الطيّبة وعذاب النفوس الخبيثة من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء. ويرى بعض المفسرين: أن المراد أن المصابيح التي زيَّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها؛ بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجنّي أو يخبله؛ فالشهاب كقبس يؤخذ من النار والنار باقية لا تنقص. والظاهر: أن الشياطين هم مسترقوا السمع وأن الرجم حقيقة - يرمون بالشهب - قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشيطاين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدّى وظلم. {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي: وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلّا شهواتهم، أمّا عقولهم فقد احتجبت عنها.

[6]

والخلاصة (¬1): أنّ السماء قد أضاءت على البر والفاجر؛ فالفجّار حصروا أنفسهم في شهواتهم؛ فلم ينظروا إليها نظر فكرٍ وعقلٍ، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة؛ لأنَّ هذا يشاكل حالهم في الدنيا؛ إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم في نيران البخل والحقد والطمع؛ فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها في الآخرة. وقوله تعالى: {عَذَابَ السَّعِيرِ} والسعير: اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع؛ وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، ولكن كلًّا من هذه الأسماء يطلق على الآخر؛ فيعبّر عن النار تارةً بالسَّعير، وتارةً بجهنم وأخرى بآخر. واعلم (¬2): أنَّ في كل دركة منها فرقة من فرق العصاة، كعصاة أهل التوحيد والنصارى واليهود والصابئة والمجوس والمشركين والمنافقين، ولم يذكروا الشياطين في واحدة من الدركات السبع، ولعلهم يقسمون على مراتب إضلالهم؛ فيدخل كل قسم منهم مع قسم تبعهُ في إضلاله، فكان سببًا لدخوله في دركة من الدركات الست التحتانية جزاء لضلاله وإضلاله وأذيّةٍ لمن تبعه فيما دعا إليه بمصاحبته ومقارنته، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ} أي: مع شياطينهم. 6 - {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} من كفّار بني آدم، أو من كفّار الإنس والجنِّ والشياطين، وقال سعدي المفتي: الأظهر حمله على الكفرة غير الشياطين، كما يشعر به ما بعده، ولئلا يلزم شبه التكرار. {عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة، يقال: رجل يهم الوجه: كالح منقبض، وفيه إشارة إلى أنّ عذابه تعالى وانتقامه خارج عن العادة لكونه ليس بسيف ولا سوط ولا عصا ولا نحوها، بل بالنار الخارجة عن الانطفاء، وليس للكافر المعذّب من الخلاص رجاء. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع لهم. والمخصوص بالذم جهنم. وقال بعضهم: جهنم من الجهنام، وهي بئر بعيدة القعر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

وقرأ الجمهور (¬1): {عَذَابُ جَهَنَّمَ} بالرفع، والوقف على {السَّعِيرِ} تامٌّ. وقرأ الضحاك، والأعرج، وأُسيد بن أسيد المزني، والحسن في رواية هارون عنه بالنصب عطفًا على {عذاب السعير} كما أنّ {للذين} عطف على {لهم}؛ أي: وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم، والكلام حينئذٍ من عطف المفرد على المفرد، وعلى هذا فالوقف على {السعير} جائز. قال في "فتح الرحمن": تضمّنت هذه الآية أنَّ عذاب جهنم للكافرين المخلدين، وقد جاء في الأثر: أنه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة؛ فالذي في هذه الآية يحمل على جهنم بأسرها؛ أي: جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا؛ لأنها مقر العصاة. انتهى. وهو مراد من قال من الكبار: يأتي زمان تبقى جهنم خالية من أهلها، وهم عصاة الموحدين، ويأتي على جهنم زمان ينبت في قعرها الجرجير، وهي بقلة معروفة. ومعنى الآية: قد سبق قضاؤنا وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا؛ فقد استحق عذاب يهم وبئس المآل والمنقلب. 7 - ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار، فقال: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} أي: إذا ألقي الذين كفروا في جهنم، وطرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة. وفي (¬2) إيراد الإلقاء دون الإدخال إشعار بتحقيرهم وكون جهنم سفلية. {سَمِعُوا}؛ أي: سمع الكفّار {لَهَا}؛ أي: لجهنم نفسها، وهو متعلق بمحذوف وقع حالًا مِنْ قوله سبحانه: {شَهِيقًا}؛ لأنَّه في الأصل صفة، فلما قدمت صارت حالًا؛ أي سمعوها كائنا لها شهيقًا. أي: صوتًا كصوت الحمير الذي هو أنكر الأصوات وأفظعها غضبًا عليهم، وهو حسيسها المنكر الفظيع كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}. قالوا: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوّله، والشهيق: رد النفس، والزفير إخراجه. {وَهِيَ تَفُورُ} أي: والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيها من شدة التّلهب والتسعر؛ فهم لا يزالون صاعدين ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[8]

هابطين كالحبّ إذا كان الماء يغلي به لا قرار لهم أصلًا، والفور: شدّة الغليان كما سيأتي، ويقال ذلك في النار وفي القدر، ومنه: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: ترَكْتُمْ قِدْركُمْ لَا شَيءَ فِيْهِ ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةَ تَفَوْرُ قال بعضهم: نطقتِ الآيةُ بأنَّ سماعهم يكون وقتَ الإلقاء؛ على ما هو المفهوم من {إذا}، وعلى المفهوم من قوله تعالى: {وَهِيَ تَفُورُ} أن يكون بعده اللهم إلا أن تغلي بما فيها كائنًا ما كان، ويؤول {إِذَا أُلْقُوا} بـ إذا أريد الإلقاء أو إذا قربوا من الإلقاء بناءً على أنّ صوت الشهيق يقتضي أن يسمع قبل الإلقاء انتهى. 8 - وجملة قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} خبرٌ آخر لـ (هي). {تَمَيَّزُ} أصله: تتميز: بتاءَين. والتميز: الانقطاع والانفصال بين المتشابهات. والغيظ: أشد الغضب. والمعنى: تكاد جهنم تتفرّق وتنقطع من شدّة الغضب عليهم؛ أي: يقرب أن يتمزق تركيبها، وينفصل بعضها عن بعض. شبّه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم. ايصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاشتعال استعارة تصريحيَّة. قال الإِمام: لعل سبب هذا المجاز أنّ دم القلب يغلي عند الغضب، فيعظم مقداره، فيزداد امتلاء العروق حتى يكاد يتمزّق. وقرأ الجمهور (¬1): {تَمَيَّزُ} بتاء واحدة مخففة، والأصل: تتميز بتاءين، وقرأ طلحة {تتميّز} بتاءين على الأصل وقرأ البزّيُّ عن ابن كثير بتشديدها، بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وقرأ أبو عمرو بإدغام الدال في التاء، وقرأ الضحاك {تمايز} على وزن تفاعل، وأصله: تتمايز بتاءين. وقرأ زبد بن على، وابن أبي عبلة (تَمِيْزُ) من مازَ مِنَ الغيظِ يَمِيْزُ من باب باعَ جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر: فِي كَلْبٍ يَشْتَدُّ فِي جَرْيِهِ ... يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِهَابِهِ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[9]

وجملة قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} مستأنفة مسوقة لبيان حال أهلها بعد بيان حال نفسها، أو في محل نصب على الحال من فاعل {تميز}. والفوج: الجماعة الكثيرة من الناس؛ أي: كلّما ألقي وطرح فيها؛ أي: في جهنم فوج؛ أي: جماعة من الكفرة بدفع الزبانية لهم؛ الذين هم أغيظ عليهم من النار. {سَأَلَهُمْ}؛ أي: سأل الفوج سؤال توبيخ وتقريع، وضمير الجمع باعتبار المعنى. {خَزَنَتُهَا}؛ أي: خزنة النار؛ وهي مالك وأعوانه من الزبانية، ليزدادوا عذابًا فوق عذاب وحسرة؛ أي: ليزدادوا العذاب الروحاني على العذاب الجسمانيّ، والخزنة: جمع خازن بمعنى الحافظ والموكّل؛ أي: سألت الخزنة لهم عن سبب دخولهم النار، وقالوا لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرة الفجرة في الدنيا {نَذِيرٌ}؛ أي: منذر يتلو عليكم آيات ربكم، وينذركم لقاء يومكم هذا، ويحذركم منه. والإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف. 9 - وجملة قوله تعالى: {قَالُوا} اعترافًا بأنّه تعالى قد أزاح عللهم بالكلية ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، مستأنفة (¬1) واقعة في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: فماذا قالوا بعد هذا السؤال؟ فقال: قالوا: بلى قد جاءنا نذير فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم، فكذّبنا النذير. {بَلَى} لإيجاب نفي إتيان النذير. {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} جمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغةً في الاعتراف، وتحسّرًا على فوت سعادة التصديق، وتمهيدًا لبيان التفريط الواقع منهم؛ أي: قال كلُّ فوج من تلك الأفواج: قد جاءنا نذير؛ أي: واحدٌ حقيقةً أو حكمًا كأنبياء بني إسرائيل؛ فإنهم في حكم نذير واحد، فأنذرنا وتلا علينا ما نزل الله عليه من آياته. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد". {فَكَذَّبْنَا} ذلك النذير في كونه نذيرًا من جهته تعالى. فإن قلت (¬2): هذا يقتضي أن لا يدخلها الفاسق المصر؛ لأنّه لم يكذب النذير. قلت: قد دلّت الأدلة السمعية على تعذيب العصاة مطلقًا، والمراد بالفوج هنا بعض من ألقي فيها، وهم الكفرة كما سبق. {وَقُلْنَا} في حق ما تلاه علينا من الآيات إفراطًا في التكذيب وتماديًا في الكبر بسبب الاشتغال في الأمور الدنيوية ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[10]

والأحكام الرسومية الخلقية: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ} على أحد {مِنْ شَيْءٍ} من الأشياء فضلًا عن تنزيل الآيات عليكم. وقال بعضهم: ما نزل الله من كتاب ولا رسول. {إِنْ أَنْتُمْ}؛ أي: ما أنتم يا معشر الرسل في ادّعاء أن الله تعالى نزل عليكم آيات تنذروننا بما فيها {إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}؛ أي: بعيد عن الحق والصواب، وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله، مبالغة في التكذيب وتماديًا في التضليل، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه؛ فإنه ملوح بعمومه حتمًا. والمعنى (¬1): أنه قال كل فوج من تلك الأفواج حاكيًا لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنتم أيها الرسل فيما تدعون أنَّ الله نزل عليكم آيات تنذروننا بها إلا في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره. 10 - ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة؛ فقال: {وَقَالُوا} أيضًا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل: {لَوْ كُنَّا} في الدنيا {نَسْمَعُ} كلامًا {أَوْ نَعْقِلُ} شيئًا، وفيه دليل على أن العقل حجة التوحيد كالسمع، وقدم السمع لأنه لا بد أولًا من سماع ثم تعقل المسموع؛ أي: لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل أو نعقل شيئًا من ذلك {مَا كُنَّا} اليوم {فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ أي: في عداد أهل النار الموقدة وأتباعهم، ومن جملة من يعذب بالسعير، وهم الشياطين لقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}. وكأن الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم من ألسنة الرسل، ولم تعقلوا معانيها حتى لا تكذّبوا بها فأجابوا بذلك. وفي "التأويلات النجمية": لو كنا نسمع بأسماع قلوبنا أو نعقل بعقول أرواحنا .. ما كنّا اليوم في أصحاب السعير، ولكنّا سمعنا بأسماع مختومة وعقول معلولة مقفولة. والمعنى (¬2): وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحقّ .. ما كنّا على ما نحن عليه من الكفر بالله والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها في دنيانا؛ فبُؤْنا بسخط ربنا وغضبه، وحل بنا عقابه الأليم، وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل تنزيلًا لما عندهم منهما منزلة العدم حين لم ينتفعوا بهما. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[11]

وقصارى ما سلف: أنهم قالوا لو كنّا سمعنا كلام النذير، وقبلناه اعتمادًا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به .. ما كنّا في زمرة المعذّبين، ولكن هيهات هيهات؛ فلا يجدي الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه وسبق ما حُمَّ به القضاء. صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ فِي الضَّرْعِ ما قَرَى فِي الحِلَابِ 11 - ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته؛ فقال: {فَاعْتَرَفُوا}؛ أي: أقروا اضطرارًا حين لا ينفعهم الاعتراف، وهو إقرار عن معرفة. {بِذَنْبِهِمْ} اختيارًا بصرف قواهم إلى سوء الاقتراف، وهو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ورسله. وقال بعضهم (¬1): أفرد الذنب؛ لأنه يفيد فائدة الجمع، بكونه اسم جنس شامل للقليل والكثير، أو أريد به الكفر؛ وهو وإن كان على أنواع فهو ملّة واحدة في كونه نهاية الجرم واقتضاء الخلود الأبديّ في النار. {فَسُحْقًا} مصدرٌ مؤكد، إما لفعل متعدٍّ من المزيد بحذف الزوائد؛ أي: فأسحقهم الله؛ أي: أبعدهم من رحمته سحقًا؛ أي: إسحاقًا وإبعادًا بسب ذنبهم أو لفعل مرتّب على ذلك الفعل؛ أي: فأسحقهم الله فسحقوا؛ أي: بعدوا سحقًا؛ أي: بعدًا، ويقال: سحق الشيء مثل: كرم فهو سحيق، أي: بعد فهو بعيد، قيل: هو تحقيق، وقيل: هو على الدعاء، وتعليم من الله لعباده أن يدعوا عليهم به، كما في التيسير، وقال بعضهم: هو دعاء عليهم من الله إشعارًا بأن المدعو عليهم مستحقون لهذا الدعاء، وسيقع عليهم المدعو به من البعد والهلاك، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو وادٍ في جهنم، يقال له: السحق. وقرأ الجمهور (¬2): {فسحقا} بسكون الحاء، وقرأ عليُّ، وأبو جعفر، والكسائي بخلاف عن أبي الحارث عنه بضمها؛ وهما لغتان مثل: السحت والرعب. واللام في قوله: {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} للبيان كما في هيت لك، والمراد بهم الشياطين والداخلون من الكفرة، وفيه إشارة إلى أنّ الله تعالى بعد أهل الحجاب من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[12]

جنة القرب وقربهم من جهنم البعد. والمعنى (¬1): فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنى يفيدهم ذلك؛ فبعدًا لهم من رحمتي جحدوا أو اعترفوا؛ فهو ليس بمغن عنهم شيئًا؛ فقد وقعت الواقعة وحلَّ بهم من بأسي ما ليس له من دافع. روى أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" وجاء في حديث آخر: "لا يدخل أحدٌ النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة". 12 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنّة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}؛ أي: يخافون عذابه، وهو عذاب يوم القيامة ويوم الموت، ويوم القبر؟ خوفًا وراء عيونهم حال كون ذلك العذاب غائبًا عنهم ولم يعاينوه بعد على أن {بِالْغَيْبِ} حالٌ من المضاف المقدر أو غائبين عنه تعالى؛ أي: عن معاينة عذابه وأحكام الآخرة، أو عن أعين الناس لأنهم ليسوا كالمنافقين الذين إذا لقوا المؤمنين قالوا: {آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} على أنه حال من الفاعل، وهو ضمير {يَخْشَونَ}، أو خائفين بما خفي منهم، وهو قلوبهم، فالباء للاستعانة متعلقة بـ {يَخْشَونَ}، والألف واللام اسم موصولٌ. وعبارة الشوكاني: قوله: {بِالْغَيْبِ} إما حال من الفاعل أو من المفعول؛ أي: غائبين عنه أو غائبًا عنهم. والمعنى: أنهم يخشون عذابهم ولم يروه فيؤمنون به خوفًا من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى: يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس، وذلك في خلواتهم، أو المراد بالغيب كون العذاب غائبًا عنهم؛ لأنهم في الدنيا، وهو إنما يكون يوم القيامة، فتكون الباء على هذا سببية. انتهى. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} عظيمة تشمل جميع ذنوبهم، ولما كان السرور إنَّما يتم بالإعطاء قال: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}؛ أي: ثواب عظيم في الآخرة فضلًا منه تعالى، يكون لهم به ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام، وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا؛ وهو الجنة ونعيمها. ومعنى الآية (¬1): أنّ الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له في السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما جاء في الحديث الشريف "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" يكفر عنهم ما ألموا به من الذنوب والآثام، ويجزيهم جزيل الثواب، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، كفاء ما أسلفوا في الأيام الخالية، وقد ورد في الحديث: "سبعةٌ يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". 13 - ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر، فقال سبحانه: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه. والمعنى: إنْ أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكل ذلك يعلمه الله سبحانه؛ لا تخفى عليه خافية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيظهر الله رسوله عليها، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فيخبره بما تقولون، فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا فإن الله يعلمه، وإسرار الأقوال وإعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه، والأمر للتهديد لا للتكليف، وتقديم (¬2) السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرون من أول الأمر والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع المعلومات، كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كلّ شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، أو لأنَّ مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر؛ إذ ما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبًا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية. وجملة قوله: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليلٌ (¬1) للاستواء المذكور، وذات الصدور: هي مضمرات القلوب؛ أي: أنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم، بحيث لا تكاد تفارقها أصلًا، فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به؟ ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور. والمعنى: أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها، ولم يقل (¬2): ذوات الصدور لإرادة الجنس و (ذات) هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب، حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه؛ أي: عليم بالمضمرات صاحبة الصدور، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه، وجعلت صاحبة الصدور بملازمتها لها وحلولها فيها كما يقال لِلّبن: ذو الإناء، ولولد المرأة وهو جنين: ذو بطنها. والخلاصة (¬3): أنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة في الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟!. 14 - ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء، فقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}؛ أي: ألا يعلم السر والجهر من خلق وأوجد بحكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها، والاستفهام فيه للإنكار والنفي لعدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر، فالموصول عبارة عن الخالق، وهو فاعل يعلم، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وهؤ حينئذٍ منصوب على المفعولية ليعلم والفاعل ضمير يعود على الله، أي: ألا يعلم الله سبحانه المخلوق الذي هو من جملة خلقه؛ فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه. وجملة قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} في محل النصب على الحال من فاعل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

{يَعْلَمُ}؛ أي: والحال أنّه تعالى وحده اللطيف؛ أي: العالم بدقائق الأشياء يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء، {الْخَبِيرُ} أي: العالم ببواطنها. قال الفاشاني: هو المحيط ببواطن ما خلق وظواهره، أي: هو الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والحاصل: أنّ الاستفهام للإنكار لا للنفي في قوله: {أَلَا يَعْلَمُ}؛ أي: كيف لا يعلم السرّ والجهر من أوجد بحكمته وواسع علمه وعظيم قدرته جميع الأشياء، وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن، وكأنّه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم الدقائق والخفايا جملها وتفاصيلها؟!. فإن قلت: (¬1) ذكر الخبير بعد اللطيف تكرار. قلت: لا تكرار فيه، فإنه كما قال الغزالي رحمه الله: إنّما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلّا لله تعالى، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك والملكوت شيءٌ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبرها، وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خبرةً، ويسمى صاحبها خبيرًا. واعلم: أنه سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ومن لطفه بهم أنه يوصل إليهم ما يحتاجون إليه بسهولة، فمن قوته رغيف، لو تفكر فيه يعلم كم عين سهرت فيه من أول الأمر حتى تم وصلح للأكل، من الحارث والباذر للبذر والحاصد والدائس والمذري والطاحن والعاجن والخابز، ويتشعب من ذلك الآلات التي تتوقف عليها هذه الأعمال من الأخشاب والحجارة والحديد والحبال والدّواب بحيث لا تكاد تنحصر، وهكذا كل شيء ينعم به على عبده من مطعوم ومشروب وملبوس فيه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

مقدمات كثيرة لو احتاج العبد إلى مباشرتها بنفسه لعجز عن ذلك. ومن سنة الله سبحانه حفظ كل لطيفة في طي كل كثيفةٍ، كصيانة الودائع في المواضع المجهولة؛ ألا ترى أنه جعل التراب الكثيف معدن الذهب والفضة وغيرهما من الجواهر، والصدف معدن الدر، والنحل معدن الشهد، والدود معدن الحرير، وكذا جعل قلب العبد محلًا ومعدنًا لمعرفته ومحبته، وهو مضغة لحم؛ فالقلب خلق لهذا لا لغيره؛ فعلى العبد أن يطهره من لوث التعلق بما سوى الله تعالى، فإنّ الله تعالى لطف به بإيجاده ذلك القلب في جوفه، ووصف نفسه بأنّه لطيف خبير مطلع على ما في الباطن، فإذا كان هو المنظر الإلهي وجب تخليته عن الأفكار والأغيار، وتحليته بأنواع المعارف والعلوم والأسرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينيلنا نواله ويرينا جماله. 15 - ثم نبه إلى نعمه على عباده، فقال: {هُوَ} سبحانه وحده الإله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} أي: لمنافعكم {اَلْأَرْضَ ذَلُولًا}، أي: ليّنةً منقادة غاية الانقياد لما تفهمه صيغة المبالغة، يسهل عليكم السلوك فيها لتصلوا إلى ما ينفعكم، ولو جعلها صخرة خشنة تعسَّر المشي عليها، أو جعلها لينة منبتة يمكن فيها حفر الآبار وشق العيون والأنهار وبناء الأبنية وزرع الحبوب وغرس الأشجار، ولو كانت صخرة صلبةً لتعذر ذلك، ولكانت حارّةً في الصيف جدًّا وباردةً في الشتاء؛ فلا تكون كفاتًا للأحياء والأموات، وأيضًا ثبتها بالجبال الراسيات كيلا تتمايل وتنقلب بأهلها، ولو كانت مضطربة متمايلة لما كانت منقادة لنا، فكانت على صورة الإنسان الكامل في سكوتها وسكونها. والحاصل: أنَّ الله تعالى جعل الأرض بحيث ينتفع بها، وقسمها إلى سهول وجبال وبرار وبحار وأنهار وعيون، وملح وعذب، وزرع وشجر، وتراب وحجر ورمال، ومدر وذات سباعٍ وحيات، وفارغة، وغير ذلك بحكمته وقدرته. قال سهل رحمه الله: خلق الله الأنفس ذلولًا، فمن أذلّها بمخالفتها فقد نجّاها من الفتن والبلاء والمحن، ومن لم يذلها واتبعها أذلته نفسه وأهلكته. انتهى. واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها، فروي عن مكحول أنّه قال: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمس مئة سنة؛ مئتان من ذلك في البحر، ومئتان ليس

يسكنها أحد، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق. وعن قتادة أنه قال عن الدنيا: إنّ بسيطتها من حيث يحيط بها البحر المحيط: أربعة وعشرون ألف فرسخٍ، فملك السودان منها: اثنا عشر ألف فرسخ، وملك الروم: ثمانية آلاف فرسخ، وملك العجم والترك: ثلاثة آلاف فرسخ، وملك العرب: ألف فرسخ. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس، والله أعلم بحقيقتها وقدرها. والفاء في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة عند بعض أي: فاسلكوا في جوانبها، وخبر في صورة الأمر عند آخرين؛ أي: تمشون في أطرافها. قال مجاهد والكلبيّ ومقاتل: مناكبها: طرقها وأطرافها وجوانبها، وقال قتادة وشهر بن حوشب مناكبها: جبالها، وأصل المنكب: الجانب، ومنه منكب الرجل وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، ومنه استعير للأرض هنا؛ يعني أن الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنّ الله سبحانه جعلها لكم ذلولًا لانتفاعكم بها، وأردتم بيان كيفية الانتفاع بها .. فأقول لكم: فامشوا في نواحيها وأطرافها، والتمسوا من نعم الله فيها من الحبوب والفواكه ونحوها. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} سبحانه؛ أي: وكلوا مما خلقه الله رزقًا لكم. والأمر فيه إن كان أمر إباحة فالرزق ما يكون حلالًا، وإن كان خبرًا في صورة الأمر بمعنى (تأكلون) .. فيجوز أن يكون شاملًا للحرام أيضًا؛ فإنه من رزقه أيضًا وإن كان التناول منه حرامًا؛ لأنّ الرزق عند أهل السنة ما ينتفع به ولو محرّمًا كما قال أحمد بن رسلان في زبده: يَرْزُقُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَا أَحْرَمَا ... وَالرِّزْقُ مَا يُنْفَعُ وَلَوْ مُحَرَّمًا {وَإِلَيْهِ} أي: وإلى الله وحده لا إلى غيره {النُّشُورُ}؛ أي: المرجع بعد البعث، فبالغوا في شكر نعمه، فيسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم، وفي هذا وعيد شديد. والمعنى (¬1): أنّ ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارة ¬

_ (¬1) المراغي.

[16]

ساكنة لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون لسقيكم وسقي أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أرجائها لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق. والسعي في الأرزاق لا ينافي التوكل على الله، روى أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، فأثبت لها غدوًّا ورواحًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عَزّ وَجَلّ، وهو المسخر الميسر المسبب. وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل. وجاء في الأثر: "إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف". وفي الآية: إيماء إلى ندب التجارة والتكّسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين؛ كأنّه قال لهم: إني عالم بسركم وجهركم فاحترسوا من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها أنا الذي ذللتها لكم وجعلتها سببًا لنفعكم، وإن شئت .. خسفتها بكم، وأنزلمت عليها ألوانًا من المحن والبلاء. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: وإليه المرجع يوم القيامة؛ فينبغي أن تعلموا أنَّ مكثكم في الأرض وأكلكم مما رزقكم الله فيها مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله ويستيقن أن مصيره إليه؛ فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن. 16 - والهمزة الأولى (¬1) في قوله: {أأَمِنْتُمْ} للاستفهام التوبيخيّ، والثانية فاء الكلمة؛ أي: هل أمنتم أيها المشركون {مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهو الله سبحانه وتعالى قال في "فتح الرحمن": هذا المحل من المتشابه الذي استأثر الله بعلمِهِ، ونؤمن به ولا نتعرضُ لمعناه، ونكل العلم فيه إلى الله. (قلت): والمذهب الأسلم الذي عليه السلف أن نثبت الظرفية في السماء لله تعالى، فإذًا نقول الكون في السماء صفة ثابتة لله تعالى نثبتها ونعتقدها، ولا نكيّفها، ولا نمثّلها، كما أن الاستواء على ¬

_ (¬1) روح البيان.

العرش صفة ثابتة له نثبتها ونعتقدها. وقيل: على تأويل من في السماء أمره وسلطانه وقضاؤه وهو كقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}. وحقيقته (¬1) أأمنتم خالق السماء ومالكها. وفي "الأسئلة المقحمة": خصّ السماء بالذكر إشعارًا بأنّ الأصنام التي في الأرض ليست بآلهة، لا لأنّه تعالى في جهة من الجهات؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام، وأراد أنه فوق السماء والأرض فوقيّة القدرة والسلطنة لا فوقية الجهة انتهى. على أنّه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة، فقد ثبت؛ لأنّ فوقيته ليست كفوقية المخلوق لا نمثّلها ولا نكيّفها كما أنّ ظرفيته في السماء ليست كظرفية بعض المخلوقات في بعض، تعالى الله سبحانه عن صفات المخلوقين علوًا كبيرًا. وقيل: خصّ السماء بالذكر؛ لأنّها مسكن ملائكته، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. وقيل: الظرفية باعتبار زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنّه تعالى في السماء. أي: أأمنتم من تزعمون أنّه في السماء، وأنّه متعال عن المكان، وأمّا رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء؛ فلكونها محلّ البركات، وقبلة الدعاء كما أنّ الكعبة قبلة الصلاة وجناب الله قبلة القلب، وقيل: المراد بمن في السماء الملائكة الموكّلون بتدبير هذا العالم. وقيل: المراد بمن في السماء جبريل عليه السلام؛ لأنّه يأتي بالخسف والعذاب. والقول الأسلم الأرجح الذي عليه أهل السنة القول الأوّل كما ذكرناه سابقًا، وقال ابن عباس (¬2): أأمنتم عذاب من في السماء، وهو الله عزّ وجلّ. أي: هل أمنتم أيّها المشركون الإله الذي في السماء إن عصيتموه {أَنْ يَخْسِفَ} ويقلع {بِكُمُ الْأَرْضَ} ويغيّبكم فيها، بعدما جعلها لكم ذلولًا تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه لكفرانكم تلك النعمة؛ أي: يقلبها متلبسمة بكم فيغيّبكم فيها كما فعل بقارون، وهو بدل اشتمال من {مَنْ} الموصولة، أي: أأمنتم من في السماء خسفه بكم الأرض إن عصيتموه، أو على حذف (مِنْ) الجارَّة؛ أي: مِنْ أن يخسف بكم، والباء للملابسة، وفي "القاموس": خسف الله بفلان الأرض غيبه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير.

[17]

فيها، وخسفها ذهابها في السفل. والمشهور أن الباء في مثل هذا الموضع للتعدية؛ أي: يدخلكم ويذهبكم فيها. {فَإِذَا} فجائية {هِيَ} أي: الأرض {تَمُورُ} أي: تضطرب وتتحرّك ذهابًا ومجيئا على خلاف ما كانت عليه من الذلّ والاطمئنان، أو تذهب كما يذهب التراب في الريح. وقال بعضهم: معناه: فإذا الأرض تدور بكم إلى الأرض السفلى، وبعضهم قال: تتكّشف تارة للخوض فيها وتلتئم أخرى للتعذيب بها. والاستفهام للتوبيخ المضمَّن للإنكار، أي: لا تأمنوا مكره وخسفه بكم إن عصيتموه. وقال الخازن: المعنى: أنّ الله تعالى يحرّك الأرض عند الخسف بهم حتى تقلبهم إلى أسفل، وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم؛ أي: تجيء وتذهب. قرأ نافع وأبو عمرو والبزّي (¬1): {أأمنتم} بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفًا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوًا لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه، والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما. والمعنى: أأمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون؛ فإذا هي تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابًا. 17 - ثم انتقل سبحانه من التهديد بهذا إلى التهديد بوجه آخر، فقال: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أم منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، أضرب بها عن التهديد بما سبق إلى التهديد بأمر آخر؛ أي: بل هل أمنتم الإله الذي في السماء أن يرسل وينزل عليكم أيها المشركون حاصبًا؛ أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؛ أي: أم أمنتم من في السماء إرساله عليكم حاصبًا على أن قوله: {أَنْ يُرْسِلَ} بدل اشتمال من {مَنْ} أيضًا. والمعنى (¬2): هل جعل لكم من هذين أمان، وإذ لا أمان لكم، فما معنى تماديكم في شرككم {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريب ألبتة {كَيْفَ نَذِيرِ}؛ أي: كيف كان إنذاري بالعذاب عند مشاهدتكم للمنذر به أهو واقع أم لا أم شديد أم ضعيف؟! ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[18]

يعني: حين حقَّقْتم المنذر به تعلمون أنه لا خلف لخبري، وأنّ عذابي لشديد، وأنه لا دافع له، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ. فالنذير وكذا النكير الآتي مصدران بمعنى الإنذار والإنكار، وأصلهما: نذيري ونكيري بياء الاضافة، فحذفت اكتفاء بكسر ما قبلها، قال في "برهان القرآن": خوفهم بالخسف أوّلًا لكونهم على الأرض، وأنها أقرب إليهم من السماء ثم بالحاصب من السماء، فلذلك جاء ثانيًا. وقال القاضي في "كشف ما التبس من القرآن": هذه الآية ليست تكرارًا مع الآية التي قبلها؛ لأنَّ الأولى في تخويفهم بخسف الأرض بهم، والثانية في تخويفهم بالحصب من السماء، وقدم الأولى؛ لأن الأرض التي جعلها الله مقرًّا لهم وعبدوا فيها غيره تعالى أقرب إليهم من السماء البعيدة عنهم. فإن قلت: كيف قال: {مَنْ فِي السَّمَاءِ}؟ مع أنّه تعالى ليس فيها ولا في غيرها؟ بل هو تعالى منزه عن كل مكان. قلت: المعنى: من ملكوته في السماء التي هي مسكن ملائكته ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ والقلم، ومنه تنزل أقضيه كتبه. انتهى. وأثبت (¬1): ورش ياء (نذيري) و (نكيري)، وحذفها باقي السبعة. والمعنى أي: بل أأمنتم أن يرسل عليكم ريحًا فيها حصباء حجارة صغار كما فعل بقوم لوط، وحينئذٍ تعلمون كيف يكون عقابي إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ. والخلاصة (¬2): كيف تأمنون من في السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلّل لكم الأرض وزيّن لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم فأنتم حريون بأن يرسل عليكم النقم، ونحو الآية قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، وقوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}. 18 - ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: وعزّتي وجلالي لقد كذّب الذين من قبلهم؛ أي: من قبل كفّار مكة من كفّار الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وأضرابهم، والالتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}؛ أي: إنكاري عليهم بإنزال العذاب؛ أي: كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا مورد التأكيد القسمين لا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[19]

تكذيبهم فقط، وإنكار الله تعالى على عبده أن يفعل به أمرًا صعبًا وفعلًا هائلًا لا يعرف. وفي الآية تسليةٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لقومه. والمعنى (¬1): ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا، فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مرد له، وحل بهم من اليأس ما لم يجدوا له دافعًا على شدة هوله وعظيم فظاعته. والخلاصة: أنّ الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. 19 - ولما حذرهم (¬2) ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب .. نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها، وعلى عجز آلهتهم عن شيء من ذلك، وناسب ذلك الاعتبار بالطير، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير، والحاصب الذي رمتهم به؛ ففيه إذكار قريش بهذه القصة، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير كما فعل بأصحاب الفيل؛ فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} {الهمزة} فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للتقرير، داخلة على محذوف، و {الواو} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل مكة عن التفكر والنظر في مصنوعات الله تعالى ودلائل قدرته، ولم يروا وينظروا {إِلَى الطَّيْرِ} فالرؤية (¬3) بصريّة لأنّها تتعدى بـ {إلى}، وأمّا القلبية فتعديتها بـ (في)، والطير يطلق على جنس الطائر - وهو كلّ ذي جناح يسبح في الهواء كما سيأتي - {فَوْقَهُمْ} يجوز أن يكون ظرفًا ليروا، وأن يكون حالًا من الطير؛ أي: حالة كونها كائنات فوقهم {صَافَّاتٍ} حال من الطير. والصف: أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار، ومفعول {صَافَّاتٍ} وكذا {وَيَقْبِضْنَ} إنّما هو أجنحة الطير لا أنفسها. والمعنى: ألم يروا إلى الطير فوقهم حالة كونهن صافات وباسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن، فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفًّا؛ وقوادم الطير: مقاديم ريشه؛ وهي عشر في كل جناح، والواحدة قادمه. {و} حالة كونهن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

{يَقْبِضْنَ} أجنحتها؛ أي: يضممنها إلى جنوبهن إذا ضربنها بها حينًا فحينًا للاستظهار والاستعانة به على التحرك والطيران، قال ابن الشيخ: {وَيَقْبِضْنَ} معطوف على صافاتٍ؛ لأنّه معنى وقابضات، وإلا لما عطف الفعل على الاسم. فإن قلت: لِمَ لَمْ يعبّر (¬1) باسم الفاعل ابتداء فيقال: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو وصف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىءٌ على البسط للاستظهار به على التحرك؛ فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل الدال على التجدد على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، قاله الزمخشري. اهـ، خطيب. وقيل إن معنى {وَيَقْبِضْنَ} قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران لا قبضها حال الطيران. وجملة قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}: في محل (¬2) النصب على الحال من فاعل {يقبضن} أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه وتعالى. والمعنى: أنّه ما يمسكهن في الهواء، وما يمنعهن عن السقوط عند الصف والقبض، على خلاف مقتضى الطبع الجسماني؛ فإنه يقتضي الهبوط إلى السفل. {إِلَّا الرَّحْمَنُ} الواسع رحمته كل شيء القادر على كل شيء بأن برأهن على أشكال وخصائص، وهيأهن للجري في الهواء. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيءٌ كائنًا ما كان، يعلم إبداع المبدعات وتدبير العجائب، والبصير هو الذي يشاهد ويرى، لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وهو في حقه تعالى عبارة عن الوصف الذي ينكشف به كمال نعوت المبصرات؛ فالبصر صفة زائدة على علمه تعالى خلافًا للقدريّة؛ فمن عرف هذه الصفة كان المراد به دوام المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبة والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان. وقرأ الجمهور (¬3) {ما يُمْسِكُهُنّ} مخفّفًا. ومعنى الآية: أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهي باسطات ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[20]

أجنحتهن في الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها تارةً أخرى، وما يمسكهن في الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العلم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري في الهواء، المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن والبحث عن أرزاقهن. ثم بين علة هذا فقال: {إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي: إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده. والخلاصة: أنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحِكَمِ التي أظهرناها؛ فهل أنتم آمنون أن ندبّر بحكمتنا عذابًا نصبه عليكم صبًّا؟ ولا معقّب لحكمنا ولا دافع لقضائنا. 20 - {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} {أَمَّنْ} أصله (¬1): {أمْ مَنْ} على أنّ {أمْ} منقطعة مقدرة بـ {بل} المفيدة للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله إلى التبكيت بما ذكر. والالتفات فيه للتشديد في ذلك، والاستفهام متوجه لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه، ولا سبيل هنا إلى تقدير الهمزة مع بل؛ لأن ما بعدها (مَنْ) الاستفهامية، ولا يدخل الاستفهام على الاستفهام. و (مَن) مبتدأ، و {هذا} خبره، والموصول مع صلته صفته، وإيثار لفظ هذا لتحقير المشار إليه. و {يَنْصُرُكُمْ} صفة لجند باعتبار لفظه، و (الجند): جمع معد للحرب. والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم وعسكر وعون من آلهتكم وغيرها ينصركم عند نزول العذاب والآفات حال كونه {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} أي: متجاوزًا نصر الرحمن. فـ {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} حال من فاعل {يَنْصُرُكُمْ} و {دُونِ} بمعنى غير، أو ينصركم نصرًا كائنًا من دون نصره تعالى، على أنه نعت لمصدره. أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله على أنّه متعلق بـ {يَنْصُرُكُمْ} وقد تجعل {مِنَ} موصولة مبتدأ، و {هَذَا} مبتدأ ثانيًا، والموصول مع صلته خبره، والجملة صلة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[21]

{مَنْ} بتقدير القول و {ينصركم} و {أَمْ} منقطعة أو متصلة، والقرينة محذوفة بدلالة السياق، على أن يكون المعنى: الله الذي له هذه الأوصاف الكاملة والقدرة الشاملة ينصركم وينجيكم من الخسف والحصب إن أصابكم أم الذي يشار إليه ويقال في حقه هذا الذي تزعمون أنّه جندٌ لكم ينصركم من دون الله سبحانه؟ وإيثار الرحمن للدلالة على أنّ رحمة الله هي المنجية من غضبه لا غير. وقرأ الجمهور (¬1): {أَمن} بإدغام ميم (أم) في ميم (مَن) إذ الأصل: أَمْ مَنْ، وقرأ طلحة (أمَن) بتخفيف الميم. {إِنِ الْكَافِرُونَ} {إنْ} نافية بمعنى ما؛ أي: ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، أو أنّ آلهتهم تحفظهم من بأس الله. {إلَّا في غُرُورٍ} عظيم أو ضلالٍ فاحشٍ من جهة الشيطان، ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة. وجملة قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ} إلخ، معترضة مقررة لما قبلها، ناعيةً عليهم ما هم فيه من الضلال، والالتفات (¬2) إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم لغيرهم، والإظهار في موضع الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به. والمعنى: بل مَنْ هذا الذي يعينكم في دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءًا؟ فما أنتم في زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلّا في ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغرّكم بهذه الأمانيّ الباطلة. وفي قوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} إشارةٌ إلى أنه برحمته أبقى الناس في الأرض مع ظلمهم وجهالتهم؛ إذ رحمته وسعت كل شيء، فوسعت البر والفاجر والطير في السماء والأنعام في الأرض. 21 - ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازقٍ غيره، فقال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ} أي: بل من هذا الذي يعطيكم الرزق {إِنْ أَمْسَكَ} الرحمن، وحبس {رِزْقَهُ} بمساك المطر ومباديه، ولو كان الرزق موجودًا أو كثيرًا وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الابتلاع لعجز أهل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة. وإعرابه كإعراب ما سبق. والمعنى (¬1): على تقدير كون (من) موصولة: الله الرازق ذو القوة المتين يرزقكم أم الذي يقال في حقه: هذا الحقير المهين الذي تدعون أنّه يرزقكم؟ وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. أي: إن أمسك رِزقَهُ فمن يرزقكم غيره. قال بعض المفسرين: كان الكفّار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول - صلى الله عليه وسلم - معتمدين على شيئين. أحدهما: اعتمادهم على مالهم وعددهم. والثاني: اعتقادهم أنّ الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات؛ فأبطل الله عليهم الأول بقوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ ...} إلخ، ورد عليهم الثاني بقوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ...} إلخ. وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور} إضراب عن مقدر يستدعيه المقام كأنّه قيل؛ إثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق {بَلْ لَجُّوا} وتمادوا {فِي عُتُوٍّ} أي: عنادٍ واستكبار وطغيان {وَنُفُورٍ} أي: شراد عن الحق، وتباعد وإعراض عنه لمضادتهم الحق بالباطل الذي أقاموا عليه. فاللجاج: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. والعتو: التجاوز عن الحد. والنفور: الفرار من الحق. ففيه تحقير لهم، وإشارةٌ إلى أنهم {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}. والمعنى (¬2): بل من هذا الذي يرزقكم إن منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورًا. والخلاصة: أنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم. وبعد أن حصحص الحق قال مبينًا عتوهم وطغيانهم {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي: إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عنادٌ واستكبارٌ ونفورٌ عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم تدفع التفسير عنهم، وتقربهم إلى ربهم زلفى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[22]

22 - ثم ضرب مثلًا يبين به الفارق بين حالي المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة وأوضح لطريق المحجة؛ فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} الهمزة للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، والفاء (¬1) لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم، وتقديم الهمزة عليها لفظًا إنما هو لملازمتها الصدارة، وأما بحسب المعنى .. فالأمر بالعكس حتى لو كان مكان الهمزة (هل) لقيل: فهل من يمشي مكبًا ... إلخ. والمكُبُّ: الساقط على وجهه، وهو حالٌ في فاعل {يَمْشِي}. ويقال في المعنى: الفاء فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سوء حال المشركين وحسن حال المؤمنين، وأردت ضرب المثل لحال الفريقين؛ فأقول لك: من يمشي وهو يعثر في كلّ ساعة ويخر على وجهه في كلّ خطوةٍ لتوعر طريقه واختلال قواه {أَهْدَى} أي: أشدّ هداية ورشدًا إلى المقصد الذي يؤمه {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} أي: أهو أهدى أمن يمشي قائمًا سالمًا من الخبط والعثار {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على طريق مستوي الأجزاء، لا عوج فيه ولا انحراف. أي: أيّهما أهدى هل الأوّل أم الثاني؟ فالجواب: الثاني هو المهتدي، والأوّل هو الضال. وقيل: المكب هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينًا ولا شمالًا ولا أمامًا فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل: أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه. وقال قتادة: المكبّ هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا، فحشره الله على وجهه إلى النار في العقبى، والمؤمن استقام على أمر الله في الدنيا فحشره الله على قدميه إلى الجنة في الآخرة. والحاصل: أنه سبحانه شبه المؤمن (¬2) في تمسّكه بالدين الحق ومشيه على منهاجه بمن يمشي في الطريق المعتدل الذي ليس فيه ما يتعثّر به، وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض؛ فيتعثر ويسقط على وجهه، كلما تخلص من عثرة وقع في أخرى. فالمذكور في الآية هو المشبه به، والمشبه محذوف لدلالة السياق عليه. و {مَنْ} الثانية معطوفة على {مَنْ} الأولى؛ لأنّ {أم} هنا متصلة معادلة للهمزة؛ فيكون ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

[23]

عطف مفردٍ على مفرد، ووحّد الخبر لأنّ {أم} لأحد الشيئين. ومعنى الآية (¬1): أفمن يمشي وهو يتعثر في كل ساعة وغير على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائها انخفاعًا وارتفاعًا أهدى سبيلًا وأرشد إلى المقصد الذي يؤمّه أم من يمشي سالمًا من التخبط والعثار على الطريق السويّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحرات، فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشي على وجهه في النار يوم القيامة، والذي يمشي سويًّا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة. 23 - وبعد أن امتن على عباده بما آتاهم من زينة السماء وتذليل الأرض وإمساك الطير في الهواء أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا، وهو خلق أنفسنا فقال آمرًا رسوله: أن يبين لهم ذلك {قُلْ} أيها الرسول الكريم {هُوَ} سبحانه وتعالى وحده الإله {الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أيها الكفار، كما دل السباق والسياق، ويندرج فيه الإنسان الغافل أيضًا؛ أي (¬2): أنشأكم إنشاء بريعًا بديعًا لا مثيل له، وابتدأ خلقكم على أحسن خلق بأن صوركم وأحسن صوركم. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} وأعطى لكم الأذن لتسمعوا آيات الله التنزيلية، وتعملوا بموجبها. وقدم السمع؛ لأنه شرط النبوّة، ولذلك ما بعث رسولًا أصم، وأفرده دون الأبصار؛ لأنّه مصدر يطلق بلفظه على القليل والكثير. {و} جعل لكم {الْأَبْصَارَ} لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى، ولتبصروا جميع مظاهره تعالى في غاية الكمال ونهاية الإتقان. {و} جعل لم {الْأَفْئِدَةَ} والقلوب لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية، وترتقوا في معارج الإيمان والطاعة. والأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب. وخصَّ (¬3) هذه الثلاثة بالذكر لأنّ العلوم والمعارف بها تحصل، كما في كشف الأسرار؛ ولأنّ القلب كالحوض حيث ينصب إليه ما حصل من طريق السمع والبصر، فذكر سبحانه هنا أنّه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات، إيضاحًا للحجة وقطعًا للمعذرة وذمًّا لهم على عدم شكر نعم الله، ولهذا قال: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} باستعمالها فيما خلقت لأجله من الأمور المذكورة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[24]

و {قَلِيلًا} نعت لمحذوف، و {مَا} مزيدة لتأكيد القلّة؛ أي: شكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تشكرون، وقيل: القلّة عبارة عن العدم، قال سعدي المفتي: القلّة بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة، أو بمعناها المعروف إن كان للكلّ، يقال: قلّما أفعل كذا أي: لا أفعله. قال بعض أهل المعرفة: لَوْ عشتُ أَلْفَ عَامٍ فِي سَجْدَةٍ لِرَبّي ... شُكْرًا لِفَضْلٍ يَوْمٍ لَمْ اقْضِ بِالتَّمَامِ والْعَامُ ألْفُ شَهْرٍ وَالشَّهْرُ أَلْفُ يَوْمٍ ... وَالْيَومُ ألْفُ حِيْنٍ والْحِيْنُ أَلْفُ عَامِ قال بعضهم: من وظائف السمع في الشكر: التعلم من العلماء والحكماء الإصغاء إلى الموعظة، ومن وظائف الأبصار فيه: النظر إلى المصاحف وكتب الدين ومعابد المؤمنين ومسالك المسلمين، وإلى وجوه العلماء والصالحين والفقراء والمساكين بعين الرحمة، ومن وظائف الأفئدة: الفكر في جلال الله وكماله وجماله ونواله، والخوف والرجاء منه والمحبة والاشتياق إلى لقائه والمحبّة لأنبيائه وأوليائه والبغض لأعدائه، والنظر في المسائل والدلائل، والاهتمام في حوائج العيال، ونحو ذلك مما فيه فائدة. والمعنى (¬1): قل لهم يا محمد: إنّ ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا في كلّ هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادّية. ثم أبان أنّ الإنسان لنعمة ربّه لكنود، فقال: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أي: قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، وذلك هو شكرانها. 24 - ثم لخص هذا كله بقوله آمرًا رسوله: {قُلْ} لهم أيّها الرسول {هُوَ} سبحانه وحده الإله {الَّذِي ذَرَأَكُمْ} وخلقكم وكثّركم وبثكم {فِي الْأَرْضِ} وفرقكم فيها {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره اشتراكًا أو استقلالًا {تُحْشَرُونَ} حشرًا جسمانيًا، أي: تجمعون وتبعثون للحساب والجزاء شيئًا فشيئًا إلى البرزخ دفعةً واحدة يوم البعث، فابنوا أموركم على ذلك ختم الآية بقوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}؛ فبين أن جميع الدلائل ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

المذكورة إنما هو لإثبات هذا المطلوب. والمعنى: قل لهم يا محمد منبهًا على خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض وبثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانِكم وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزي كل نفس بما كسبت إنه سريع الحساب. 25 - وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب .. أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك، فقال: {ويقُولُونَ} أي: ويقول المشركون من فرط عنادهم واستكبارهم، أو بطريق الاستهزاء كما دل عليه لفظ {هَذَا} في قوله: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}؛ أي: متى الحشر الموعود؟ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، فالوعد بمعنى الموعود، والمشار إليه: الحشر، وقيل: ما خوفوا به من الخسف والحاصب، واختيار (¬1) لفظ المضارع في قوله: {وَيَقُولُونَ} إما لأن المقصود بيان ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل، وإما لأن المعنى: وكانوا يقولون. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تخبرونه من الحشر، يخاطبون به النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، حيث كانوا مشاركين له - صلى الله عليه وسلم - في الوعد وتلاوة الآيات المتضمّنة له، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. 26 - {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقته كائن {عِنْدَ اللَّهِ} الذي قدر الأشياء، ودبر الأمور، لا يطلع عليه غيره. {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِين} أي: مخوف ظاهر بلغة تعرفونها، ومظهر للحق كاشف عن الواقع، أنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار، قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: أخفى علمه في عباده وعن عباده، وكل يتبع أمره على جهة الاشتباه لا يعلم ما سبق له، وبماذا يختم له، وذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ...} إلخ. ومعنى الآيتين (¬2): ويسألون الرسول استهزاء وتهكُّمًا متى يقع ما تعدنا به مِنَ الخسف والحاصب في الدنيا والحشر والعذاب في الآخرة، إن كنت صادقًا فيما تدعي وتقول، فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارىء النسم، فقال: قل يا محمد: إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربي لا يعلمه إلا هو، وقد أمرني أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[27]

أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة، فاحذروه. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} ثم بين وظيفة الرسول، فقال: وإنما أنا منذر من عند ربي، أبين لكم شرائعه ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينةٍ من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم. 27 - ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود، فقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الفاء عاطفة لجملة {لما} على جملتين محذوفتين، والرؤية بصرية، وعبّر (¬1) بصيغة الماضي عما في المستقبل تنزيلًا لغير الواقع منزلة الواقع لتحققه، والتقدير: وأتاهم الحشر والعذاب الموعود فرأوه، فلما رأوه {زُلْفَةً} حال من مفعول رأوا؛ لأن رأى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، كما ذكرناه آنفًا إما بتقدير مضاف، أي ذا زلفة وقرب، أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل؛ أي: مزدلفًا قريبًا. معنى قرب الحشر هو قرب ما أعد لهم فيه، أو ظرف؛ أي: رأوه في مكان ذي زلفة. قال مجاهد: فلما رأوه زلفة أي: قريبًا. وقال الحسن: عيانًا، قال أكثر المفسرين: المراد به عذاب يوم القيامة. وقال مجاهد: المراد عذاب بدر. وقيل: فلما رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبًا منهم كما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. وقيل: فلما رأوا عملهم السيء قريبًا {سِيئَتْ} واسودت، وعبست {وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وعلتها الكآبة، ورهقها القتر، وغشيتها الذلة. قال الزَّجَّاج: المعنى: تبين فيها السوء والحزن؛ أي: ساءهم ذلك العذاب؛ فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم؛ وهو السواد والقتر والذلة كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. وخص الوجوه بالذكر؛ لأنّ الوجه هو الذي يظهر عليه أثر المسرّة والمساءة، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمّهم بالكفر وتعليل المساءة به، وأصل الكلام: ساءت رؤية الموعود وجوههم، فكانت كوجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب، من ساءه الشيء يسوؤه سوءًا ومساءةً، ضد سره، ثم بني للمفعول، والفعل في الحقيقة مسند إلى أصحاب الوجوه بمعنى ساؤُوا وقبحوا. وقرأ الجمهور (¬2): {سِيئَتْ} بكسر السين بدون إشمام، أي: أخلصوا كسرتها. وأشمها الضم أبو جعفر، والحسن، وأبو رجاء، وشيبة، وابن وثاب، وطلحة، وابن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[28]

عامر، ونافع، والكسائي، وابن محيصن. {وَقيلَ} لهم توبيخًا لهم وتشديدًا لعذابهم بالنار الروحانية قبل الإحراق بالنار الجسمانية، والقائلون هم الزبانية، وإيراد (¬1) المجهول لكون المراد بيان المقول لا بيان القائل. {هَذَا} مبتدأ، أشير به إلى ما رأوه زلفة، وخبره قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ}: أي: هذا العذاب المشاهد لكم هو الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه، إنكارًا واستهزاءًا، على أنه تفتعلون من الدعاء، والباء على هذا صلة الفعل، يقال: دعا بكذا، إذا استدعاه، وقيل: هو من الدعوى؛ أي: كنتم بسب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين العذاب لكم يوم القيامة تدعون أن لا بعث ولا حشر، فالباء للسببية. وقرأ الجمهور (¬2): {تَدَّعُونَ} بشد الدال مفتوحة، والمعنى: أنهم يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة، وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك والحسن وعبد الله بن مسلم وسلام {تَدْعُون} بسكون الدال، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعيّ عن نافع. قال قتادة: هو قولهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا}، وقال الضحاك: هو قولهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية. قال النَّحَّاس: {تَدَّعُونَ} و {تَدْعُون} بمعنى واحدٍ؛ كما تقول: قدر واقتدر، وغدا واغتدى. والمعنى (¬3): فلما رأوا العذاب الموعود قريبًا - وكل آت قريب وإن طال زمنه - ساءهم ذلك، وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد؛ إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، ونحو الآية قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)}. 28 - وروي (¬4): أنّ الكفار كانوا يدعون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالهلاك، وقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه، فأمره أن يقول لهم بقوله: {قُلْ} لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ}؛ أي: أخبروني خبرًا أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية، قال بعضهم: لمّا كانت الرؤية سببا للإخبار عبَّر بها عنه، وقال بعضهم: لما كان الإخبار قويًّا بالرؤية شاع أرأيت في معنى أخبر؛ أي: أخبروني {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بموت أو قتل؛ أي: إن أماتني الله {وَمَنْ مَعِيَ} من المؤمنين، وحصل مقصودكم، والتعبير (¬1) عن الموت بالإهلاك ما كانوا يدعون عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين بالهلاك، ويتربّصون به ريب المنون، ويقولون: إنّ أمر محمد لا يتم ولا يبقى بل يزول عن قريب. {أَوْ رَحِمَنَا} بتأخير آجالنا، وحصل مقصودنا فنحن في جوار رحمته، متربّصون لإحدى الحسنيين إما أن نهلك فننقلب إلى الجنة أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام، كما نرجو فأنتم ما تصنعون؟ وأيُّ راحة لكم في موتنا؟ وأيُّ منفعة؟ وغايتكم إلى العذاب كما قال تعالى: {فَمَنْ يُجِيرُ} وينجي، وينقذ ويخلص {الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم شديد الإيلام؛ أي: لا ينجيكم أحد من عذابه إذا نزل بكم سواءً متنا أو بقينا، إنما النجاة بالإيمان والعمل الصالح. ووضع (¬2) الكافرين موضع ضمير هم للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الإنجاء به، وقال بعضهم: كيف قال: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ...} إلخ، بعد أن علم أنه تعالى لا يهلك الأنبياء والمؤمنين؟ قلت: فيه مبالغة في التخويف كأنه قيل: نحن معاشر الأنبياء والمؤمنين، نخاف الله أن يأخذنا بذنوبنا فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟ وكيف لا تخافون وأنتم بهذه المشابة من الإجرام؛ فيكون معنى أهلكنا عذبنا بعذاب، ومعنى {رَحِمَنَا} غفر لنا، كما في الجلالين. والحاصل: أنه تعالى (¬3) أجاب عن تمني المشركين موته - صلى الله عليه وسلم - وموت من معه بوجهين: بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ...} إلخ، يعني: قل لهم موبخًا: أخبروني ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[29]

عن فائدة موتي لكم سواء أماتني الله ومن معي أو أخّر أجلنا؛ فأي راحة لكم في ذلك؟ وأي منفعة لكم فيه؟ ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذ نزل بكم؟ أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم؟ وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟! وخلاصة هذا: أنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب، سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإِسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغي، وقيل لما نحب ونهوى، وفي هذا إيماء إلى أمرين: 1 - حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه. 2 - أنه كان ينبغي أن يكون ما هم فيه شاغلًا لهم عن تمنّي هلاك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين. 29 - {قُلْ} لهم يا محمد {هُوَ}؛ أي: الذي أدعوكم إلى عبادته {الرَّحْمَنُ} الرحيم مولي النعم كلها، وموصلها إلى الخلق كلهم {آمَنَّا بِهِ} وحده لما علمنا أن كل ما سواه فإما نعمة أو مُنْعَمٌ عليه، ولم نكفر به كما كفرتم، على أن يكون وقوع {آمنا} مقدمًا على {به} تعريضًا للكفّار، حيث ورد عقيب ذكرهم. {وَعَلَيْهِ} لا على غيره {تَوَكَّلْنَا}؛ أي: اعتمدنا؛ أي: فوّضنا أمورنا إليه لا إلى غيره أصلًا كما فعلتم أنتم حيث توكّلتم على رجالكم وأموالكم، لعلمنا بأن ما عداه كائنًا ما كان بمعزل من النفع والضرّ؛ فوقوع {عليه} مقدمًا يدل على الاختصاص، قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ أخَّر مفعول {آمَنَّا} وقدم مفعول {تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: لوقوع {آمَنَّا} تعريضًا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم؛ كأنّه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصًا لم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من رجالكم وأموالكم .. كرخي. {فَسَتَعْلَمُونَ} يا كفّار مكة عن قريب ألبتة عند معاينة العذاب {مَنْ} استفهامية أو موصولة {هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} منّا ومنكم، أي: خطأ ظاهر. أي: قل لهم: آمنّا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكّلنا في جميع أمورنا، وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة، وفي هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}

[30]

وإشارة إلى أنهم لا يرحمون في الدارين؛ لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره، ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: فسيتبين لكم من الضال منا ومن المهتدي، ولمن تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. وقرأ الجمهور {فَسَتَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب، نظرًا إلى الخطاب في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر نظرًا إلى قوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ}. 30 - ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره .. أقام الدليل على ذلك؛ فقال آمرًا رسوله أن يقول لهم: {قُلْ} لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ} أي: إن صار ماؤكم الذي تشربونه وتنتفعون به. وكان ماء أهل مكة من بئرين: بئر زمزم، وبئر ميمون الحضرمي. {غَوْرًا} خبر أصبح، وهو مصدر وصف به؛ أي: غائرًا في الأرض بالكلية ذاهبًا ونازلًا فيها، وقيل: بحيث لا تناله الدلاء، ولا يمكن لكم نيله بنوع حيلة، كما يدل عليه الوصف بالمصدر. {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} على ضعفكم حينئذٍ {بِمَاءٍ مَعِينٍ}؛ أي: بماء جار على وجه الأرض من عان الماء من باب باع أو من معن، كلاهما بمعنى جرى، وقيل: معن بمعنى كثر، وعان بمعنى جرى، والمعنيان متقاربان. أو ظاهر للعيون سهل المأخذ، يعني: تناوله الأيدي، فهو على هذا اسم مفعول من العين بمعنى الباصرة كمبيع من البيع. ولعل تكرير الأمر بـ {قُلْ} لتأكيد المقول، وتنشيط المقول له. فإن قلت: كيف خص ذكرًا لنعمته بالماء من بين سائر نعمه؟ قلت: لأن الماء أهون موجود وأعز مفقود؛ كما في "الأسئلة المقحمة"، روي: أن هذه الآية تليت عند بعض المستهزئين، فقال: تجيء به الفؤوس والمعاويل فذهب ماء عينيه، نعوذ بالله من الجراءة على الله وبيناته وترك حرمة القرآن وآياته، وإنّما عوقب بذهاب ماء عينيه؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل. وقرأ ابن عباس {فمن يأتيكم بماء عذب}. والمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني يا أهل مكة إن ذهب ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء فمني يأتيكم بماء جار تشربونه عذبًا زلالًا، ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله سبحانه، وإذًا فلم تجعلون ما لا يقدر على شيء شريكًا في العبادة لمن هو قادر على كلّ شيء؟! وفي هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.

وقصارى ذلك: أنه تعالى فضلًا منه وكرما أنبع لكم المياه، وأجراها في سائر الأقطار، بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فلله الحمد والمنّة على جميع النعمة. الإعراب {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}. {تَبَارَكَ الَّذِي} فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة، {بِيَدِهِ} خبر مقدم، {الْمُلْكُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول؛ لا محل لها من الإعراب. {وَهُوَ} الواو عاطفة، {هو} مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {قَدِيرٌ}، و {قَدِيرٌ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة الصلة مقررة لمضمونها، {الَّذِي} بدل من الموصول الأوّل، {خَلَقَ الْمَوْتَ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، {وَالْحَيَاةَ} معطوف على {الْمَوْتَ} والجملة صلة الموصول، {لِيَبْلُوَكُمْ} اللام حرف جرّ وتعليل، {يبلوكم} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، {أَيُّكُمْ} مبتدأ، {أَحْسَنُ} خبر، {عَمَلًا} تمييز محوّل عن المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان {لِيَبْلُوَكُمْ} وجملة {يبلوكم} مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لبلائه إياكم، الجار والجرور متعلق بخلق من حيث تعلقه بـ {الحياة}؛ إذ هي محل الاختبار والتكليف، وأما الموت فلا شيء من ذلك فيه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} مبتدأ وخبر {الْغَفُورُ} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل خلق. {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)}. {الَّذِي} بدل ثان من الموصول الأول، وقيل: بدل من {الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} وقيل: نعت لهما، أو أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أو منصوب على المدح. {خَلَقَ} فعل ماض، وفاعل مستتر {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مفعول به {طِبَاقًا} صفة لسبع

سموات أو حال منه؛ لأنّه تخصص بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {مَا تَرَى} ما نافية، {تَرَى} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد أو على كل من يصلح للخطاب {فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ} متعلق بـ {تَرَى}، {مِنْ تَفَاوُتٍ} من زائدة، {تَفَاوُتٍ} مفعول به لـ {تَرَى}، وترى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة النفي مستأنفة مسوقة لتأكيد استقامة خلقه تعالى. {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت عدم التفاوت في خلق الرحمن، وأردت الاستثبات فيه والعيان بعد الإخبار. فأقول لك: ارجع البصر. {ارجع} فعل أمر، وفاعل مستتر، {الْبَصَرَ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هَلْ} حرف استفهام {تَرَى} فعل مضارع، وفاعل مستتر، {مِنْ} زائدة، {فُطُورٍ} مفعول به والجملة الفعلية في محل نصب مفعول لفعل محذوف تقديره: فانظر هل ترى من فطور؟ ولكنّه علّق عنها بحرف الاستفهام. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ، {ارْجِعِ الْبَصَرَ} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل نصب معطوفة على جملة قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ}. {كَرَّتَيْنِ} منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه بمعنى رجعتين، وهو وإن كان مثنّى لفظًا لا يقصد به معنى التثنية، بل المقصود به التكثير؛ أي: كرّات {يَنْقَلِبْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، {إِلَيْكَ} متعلق به {الْبَصَرَ} فاعل، {خَاسِئًا} حال من {الْبَصَرَ}، والجملة جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. {وَهُوَ} الواو حالية، {هُوَ حَسِيرٌ} مبتدأ وخبر، والجملة حال من {الْبَصَرَ} أيضًا، أو من الضمير المستكن في {خَاسِئًا}، فتكون حالًا متداخلة. {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)}. {وَلَقَدْ} {الواو}، استئنافية واللام موطئة للقسم {قد}: حرف تحقيق {زَيَّنَّا} فعل، وفاعل {السَّمَاءَ} مفعول به، {الدُّنْيَا}.صفة للسماء، {بِمَصَابِيحَ} متعلق بـ {زَيَّنَّا}، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مسوقة لبيان دلائل أخرى على كمال قدرته تعالى. {وَجَعَلْنَاهَا} فعل، وفاعل، ومفعول أوّل، {رُجُومًا} مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {زَيَّنَّا}،

{لِلشَّيَاطِينِ} متعلق بـ {رُجُومًا}، {وَأَعْتَدْنَا} فعل، وفاعل معطوف على {زَيَّنَّا}. {لَهُمْ} متعلق بـ {أعتدنا}، {عَذَابَ السَّعِيرِ} مفعول به، {وَلِلَّذِينَ} الواو عاطفة، {للذين} خبر مقدم، {كَفَرُوا} صلة الموصول، {بِرَبِّهِمْ} متعلق بـ {كَفَرُوا}، {عَذَابُ جَهَنَّمَ} مبتدأ مؤخّر، والجملة معطوفة على جملة القسم. {وَبِئْسَ} الواو عاطفة، {بئس} فعل ماض جامد لإنشاء الذمّ، {الْمَصِيرُ} فاعل، والجملة الفعلية خبر عن المخصوص بالذمّ، وهو محذوف تقديره: هي، وجملة المخصوص معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)}. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {أُلْقُوا} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل، {فِيهَا} متعلق بـ {أُلْقُوا}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {سَمِعُوا} فعل وفاعل، {لَهَا} حال من {شَهِيقًا} لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {شَهِيقًا} مفعول {سَمِعُوا}، وجملة {سَمِعُوا} جواب إذا، وجملة {إذا} مستأنفة. {وَهِيَ} الواو حالية، {هي} مبتدأ، وجملة {تَفُورُ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الهاء في {لَهَا}. {تَكَادُ} فعل مضارع، وهي من أفعال المقاربة تعمل عمل {كَانَ}، واسمها ضمير مستتر يعود على جهنم، {تَمَيَّزُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، وأصله: تتميز، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، {مِنَ الْغَيْظِ} متعلق بـ {تَمَيَّز}، وجملة تميّز في محل النصب خبر تكاد، وجملة تكاد مستأنفة. {كُلَّمَا} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {أُلْقِيَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، {فِيهَا} متعلق به، {فَوْجٌ} نائب فاعل، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا} في محل جر بالإضافة، {سَأَلَهُمْ} فعل ماض، ومفعول به، {خَزَنَتُهَا} فاعل، والجملة الفعلية جواب {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَّمَا} مستأنفة. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريريّ التوبيخي، {لم} حرف جزم، {يَأْتِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، والكاف مفعول به، {نَذِيرٌ} فاعل، والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول ثان لسأل.

{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنّه قيل: ماذا قالوا بعد السؤال؟ فقال: قالوا. {بَلى} حرف جواب لإثبات النفي مبني على السكون {قَدْ} حرف تحقيق، {جَاءَنَا} فعل، ومفعول به {نَذِيرٌ} فاعل، والجملة في محل نصب مقول {قَالُوا}، {فَكَذَّبْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على {جَاءَنَا}، {وَقُلْنَا} فعل، وفاعل، معطوف على كذّبنا، {مَا} نافية، {نَزَّلَ اللَّهُ} فعل، وفاعل، {مِنْ شَيْءٍ} من زائدة، {شَيْءٍ}: مفعول به، والجملة في محل نصب مقول لـ {قلنا}، {إن} نافية، {أَنْتُمْ} مبتدأ، {إلا} أداة حصر، {فِي ضَلَالٍ} خبر المبتدأ، {كَبِيرٍ} صفة ضلال، والجملة الاسمية في محل نصب مقول {قلنا}. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}. {وَقَالُوا} فعل وفاعل، معطوف على {قَالُوا بَلَى}، {لَوْ} حرف شرط غير جازم، {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، وجملة {نَسْمَعُ} خبره، {أَوْ نَعْقِلُ} معطوف على {نَسْمَعُ}، وجملة كان فعل شرط لـ {لَوْ}، لا محل لها من الإعراب، و {مَا} نافية، {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، {فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} خبره، والجملة الناقصة جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْ} الشرطية في محل نصب مقول {قَالُوا}. {فَاعْتَرَفُوا} الفاء عاطفة، {اعترفوا} فعل وفاعل، {بِذَنْبِهِمْ} متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {قالوا}، {فَسُحقا} الفاء عاطفة، {سحقًا} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: فسحقهم الله سحقًا؛ أي: أبعدهم الله من رحمته بعدًا، ويجوز أن يكون مفعولًا به لفعل محذوف تقديره: ألزمهم الله سحقًا، والجملة معطوفة على جملة اعترفوا، {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} جار ومجرور، متعلق بـ {سحقًا} أو صفة له، واللام فيه للبيان كاللام في سقيًا لك وجدعًا له. {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}. {إِنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه، {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فعل وفاعل، ومفعول به،

والجملة صلة الموصول، {بِالْغَيْبِ} حال من الواو في {يَخْشَوْنَ}، أو من {رَبَّهُمْ}، {لَهُمْ} خبر مقدم، {مَغْفِرَةٌ} مبتدأ مؤخّر، {وَأَجْرٌ} معطوف على مغفرة، {كَبِيرٌ} صفة {أجر}، والجملة الاسمية في محل رفع خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة. {وَأَسِرُّوا} {الواو} استئنافية، {أسرّوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، {قَوْلَكُمْ} مفعول به، والجملة مستأنفة. {أَوْ} حرف عطف، {اجْهَرُوا} فعل أمر، وفاعل، معطوف على أسرّوا، {بِهِ} متعلق بـ {اجْهَرُوا}. {إنَّه} ناصب واسمه، {عَلِيمٌ} خبره، {بِذَاتِ الصُّدُورِ} متعلق بـ {عَلِيمٌ}، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بتساوي السرّ والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى. {أَلَا يَعْلَمُ} الهمزة للاستفهام التقريري، {لا} نافية، {يَعْلَمُ} فعل مضارع، و {مَنْ} اسم موصول في محل الرفع فا عل، ومفعول {يَعْلَمُ} محذوف تقديره: سرّكم وجهركم، وجملة {خَلَقَ} صلة الموصول، ومفعول {خَلَقَ} محذوف أيضًا تقديره: ألا يعلم سرّكم وجهركم من خلقهما، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَهُوَ} الواو حالية، {هو} مبتدأ، {اللَّطِيفُ} خبره، {الْخَبِيرُ} خبر ثانٍ له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {يَعْلَمُ}. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {جَعَلَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، {لَكُمُ} متعلق بـ {ذَلُولًا}، {الْأَرْضَ} مفعول أوّل لـ {جَعَلَ}، {ذَلُولًا} مفعول ثان له، والجملة الفعلية صلة الموصول. {فَامْشُوا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنَّ الله جعل لكم الأرض ذلولًا لتنتفعوا بها، وأردتم بيان كيفية الانتفاع بها .. فأقول لكم: {امْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}. {امْشُوا} فعل أمر، وفاعل، {فِي مَنَاكِبِهَا} متعلق بـ {امشوا}، والجملة الفعلية في محل نصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. {وَكُلُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {فَامْشُوا}، {مِنْ رزِقِه} متعلق بـ {كلوا}، {وَإِلَيْهِ} خبر مقدم {النُّشُورُ} مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {كلوا}؛ أي: حالة كون نشوركم إليه، أو مستأنفة. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ

أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}. {أأَمِنْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {أَمِنْتُمْ} فعل، وفاعل، {مَنْ} اسم موصول في محل نصب مفعول به، و {مَنْ} عبارة عن الله تعالى، {فِي السَّمَاءِ} جار ومجرور صلة {مَنْ} الموصولة، {أَن يَخْسِفَ} ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر، {بِكُمُ} متعلق بـ {يَخْسِفَ}، {الْأَرْضَ} مفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على أنّه بدل اشتمال من الموصولة؛ أي: أأمنتم خسفه بكم الأرض، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {فَإِذَا} الفاء عاطفة، {إذا} حرف فجاءة، {هِيَ} مبتدأ، وجملة {تَمُورُ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {أَنْ يَخْسِفَ} على أنها بدل اشتمال؛ أي: أأمنتم خسفه بكم الأرض فمورها بكم. {أَمْ} عاطفة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري، {أَمِنْتُمْ} فعل وفاعل، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، {فِي السَّمَاءِ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة، والجملة معطوفة على جملة {أَمِنْتُمْ}، وجملة {أَنْ يُرْسِلَ} في تأويل مصدر منصوب على أنّه بدل اشتمال مِنْ {مَنْ} الموصولة؛ أي: أأمنتم إرساله عليكم حاصبًا. {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {يُرْسِلَ}، {حَاصِبًا} مفعول به، {فَسَتَعْلَمُونَ} الفاء استئنافية، والسين حرف استقبال، {تعلمون} فعل وفاعل، مرفوع بالنون، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان التخويف بعذاب الآخرة، {كَيْفَ} اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم، {نَذِيرِ} مبتدأ مؤخّر مرفوع بضمّة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة المناسبة، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي {تعلمون}، وقد علّق عنها الفعل بالاستفهام. {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}. {وَلَقَدْ}: {الواو} استئنافية، واللام موطئة للقسم، {قد} حرف تحقيق، {كَذَّبَ الَّذِينَ} فعل وفاعل والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. {مِنْ قَبْلِهِمْ} صلة الموصول، {فَكَيْفَ} الفاء عاطفة، {كَيْفَ} اسم استفهام في محل نصب خبر {كَانَ} مقدم عليها، {كَانَ} فعل ماض ناقص {نَكِيرِ} اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة،

وهو مضاف، والياء المحذوفة مضاف إليه، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة القسم. {أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف تقديره: أغفلوا ولم يروا. والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. والواو: عاطفة على تلك المحذوفة، {لم يروا} جازم وفعل وفاعل، معطوف على تلك المحذوفة، {إِلَى الطَّيْرِ} متعلق بـ {يروا}، {فَوْقَهُمْ} ظرف متعلّق بصافات، و {صَافَّاتٍ} حال من الطير، {وَيَقْبِضْنَ} الواو عاطفة، {يقبضن} فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون النسوة فاعل، ومفعول {يقبضن} و {صَافَّاتٍ} محذوف تقديره: أجنحتهنّ، وجملة يقبضن في محل النصب على الحال، معطوفة على {صَافَّاتٍ}؛ أي: حالة كونهنّ صافّات أجنحتهنّ تارة وقابضات أجنحتهن أخرى. {مَا} نافية، {يُمْسِكُهُنَّ} فعل ومفعول به، {إِلا} أداة حصر، {الرَّحْمَنُ} فاعل، والجملة مستأنفة. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {بِكُلِّ شَيْءٍ} متعلق بـ {بَصِيرٌ}، و {بَصِيرٌ} خبره، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}. {أَمَّنْ}: أم حرف عطف بمعنى بل فقط، لا بمعنى بل وهمزة الاستفهام؛ لأنّ الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، فهي منقطعة، {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {هَذَا} اسم إشارة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {الَّذِي} بدل من اسم الإشارة، أو نعت له، {هُوَ} مبتدأ، {جُنْدٌ} خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، {لَكُمُ} صفة أولى لـ {جُنْدٌ} وجملة {يَنْصُرُكُمْ} نعت ثان له أو حال منه، {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من فاعل {يَنْصُرُكُمْ}، {إن} نافية مهملة، {الْكَافِرُونَ} مبتدأ، {إِلا} أداة حصر، {فِي غُرُورٍ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب. {أَمَّنْ} أم منقطعة بمعنى بل فقط، عاطفة على ما تقدم، {مَنْ} اسم استفهام مبتدأ، {هَذَا} خبره، والجملة معطوفة على ما قبلها، {الَّذِي} بدل من اسم الإشارة، وجملة {يَرْزُقُكُمْ} صلة الموصول، {إن} حرف شرط جازم، {أَمْسَكَ} فعل ماض في محل الجزم، وفاعله ضمير يعود على الله، {رِزْقَهُ} مفعول به، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما قبله تقديره: إن أمسك الله

رزقه عنكم .. فمن يرزقكم من دونه، وجملة الشرط مستأنفة لا محل لها من الإعراب، {بَل} حرف عطف وإضراب على مقدر يستدعيه المقام تقديره: إنهم لم يتأثروا بذلك، ولم يذعنوا للحق بل لجّوا. {لَجُّوا} فعل ماض وفاعل، {فِي عُتُوٍّ} متعلق به، {وَنُفُورٍ} معطوف على {عُتُوٍّ}، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}. {أَفَمَنْ} الهمزة للاستفهام التوبيخي المتضمن للإنكار، مقدمة على محلها للزومها الصدارة، وإلا فمحلها بعد الفاء، حتى لو كان بدل الهمزة هل لقيل: فهل من يمشي إلخ. والفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سوء حال المشركين وحسن حال المؤمنين، وأردت ضرب المثل لحال الفريقين .. فأقول لك: من يمشي. {مَنْ} اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة {يَمْشِي} صلة {من} الموصولة، {مُكِبًّا} حال من فاعل يمشي، {عَلَى وَجْهِهِ} متعلق بـ {مُكِبًّا}، {أَهْدَى} خبر، {أَمَّنْ} {أم} حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام، {مَنْ} معطوف على {مَنْ} الأول، وجملة {يَمْشِي} صلتها، {سَوِيًّا} حال من فاعل {يَمْشِي}، {عَلَى صِرَاطٍ} متعلق بـ {يَمْشِي}، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {مُسْتَقِيمٍ} صفة {صِرَاطٍ}. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}. {قُل}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مقول {قُلْ}. {أَنْشَأَكُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {وَجَعَلَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {أَنْشَأَكُمْ}. {لَكُمُ} متعلق بـ {جعل} إن كان بمعنى الخلق، أو في محل المفعول الثاني إن كان بمعنى التصيير، {السَّمْعَ} مفعول به، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} معطوفان على {السَّمْعَ}. {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: شكرًا قليلًا، أو لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا. {مَا} زائدة لتأكيد القلّة. {تَشْكُرُونَ}

فعل وفاعل، والجملة في محل نصب حال مقدرة من ضمير {لَكُمُ}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على {محمّد}، والجملة مستأنفة، {هُوَ الَّذِي} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول {قُلْ}، {ذَرَأَكُمْ} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {ذَرَأَكُمْ}. {وَإِلَيْهِ} {الواو} عاطفة، {إليه} متعلق بـ {تُحْشَرُونَ}، و {تُحْشَرُونَ} فعلٌ مضارعٌ، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {ذَرَأَكُمْ}. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}. {وَيَقُولُونَ} الواو استئنافية، {يقولون} فعلٌ، وفاعل مرفوع بالنون، والجملة مستأنفة {مَتَى} ظرف زمان في محل نصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، {هَذَا} مبتدأ مؤخّر، {الْوَعْدُ} بدل منه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول؛ {إنّ} حرف شرط، {كُنتُم} فعل ناقص في محل جَزْمٍ بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، والتاء اسم كان، {صَادِقِينَ} خبرها، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره: إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من أمر القيامة والحشر .. فبينوا وقته على وجه التحديد، وجملة {إن} الشرطية في محل نصب مقول القول. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {إِنَّمَا} أداة حصر، {الْعِلْمُ} مبتدأ، {عِنْدَ اللَّهِ} ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول {قُلْ}. {وَإِنَّمَا} الواو عاطفة، {إنّما} أداة حصر، {أَنَا} مبتدأ، {نَذِيرٌ} خبره، {مُبِينٌ} صفة لـ {نَذِيرٌ}، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها، {فَلَمَّا} الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: وأتاهم الحشر والعذاب الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، {لمّا} اسم شرط غير جازم، {رَأَوْهُ} فعل، وفاعل، ومفعول به، ورأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد، {زُلْفَةً} حال من مفعول {رَأَوْهُ}، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا زلفة أو بتأويله بمشتقٍ؛ أي: مزدلفًا قريبًا، والجملة فعل شرط لـ {لمّا} في محل جر بالإضافة، {سِيئَتْ} فعل ماض مغتر الصيغة، {وُجُوهُ الَّذِينَ} نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة جواب {لما}، وجملة {لما} معطوفة على الجملة المحذوفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {وَقِيلَ} الواو عاطفة، {قيل} فعل ماض مغيّر الصيغة،

{هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ} إلخ، نائب فاعل محكيّ لـ {قيل}، والجملة معطوفة على جملة {سِيئَتْ}، وإنْ شئت قلت: {هَذَا} مبتدأ، {الَّذِي} خبره، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، {بِهِ} متعلق بـ {تَدَّعُونَ}، وجملة {تَدَّعُونَ} خبر كان، وجملة كان صلة الموصول. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {أَرَأَيْتُمْ} الهمزة للاستفهام التوبيخيّ، {رأيتم} فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني، والجملة الفعلية في محل نصب مقول {قُل}، {إنْ} حرف شرط جازم {أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} {أهلك} فعل ماض في محل جزم بـ {إنْ} على كونه فعل شرط لها، والنون للوقاية، والياء مفعول به، ولفظ الجلالة فاعل {وَمَن}، والواو عاطفة، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب معطوف على الياء، {مَعِيَ} ظرف متعلق بمحذوف، صلة من الموصولة، {أَوْ رَحِمَنَا} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا فائدة لكم في ذلك ولا نفع يعود عليكم، وجملة {إنْ} الشرطية سادّة مسدّ مفعولي {أَرَأَيْتُمْ}. {فَمَن} الفاء تعليلية، {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، {يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، {مِنْ عَذَابٍ} متعلق بـ {يُجِيرُ}، {أَلِيمٍ} صفة {عَذَابَ}، وجملة {يُجِيرُ} في محل رفع خبر {مَنْ} الاستفهامية، والجملة الاستفهامية جملة تعليلية مسوقة لتعليل الجواب المحذوف؛ أي: لا فائدة لكم في ذلك؛ لأنّه لا أحد {يُجِيرُ} الكافرين من عذاب أليم. {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. {قُلْ} فعل أمرٍ، وفاعل مستتر والجملة مستأنفة {هُوَ الرَّحْمَنُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مقول {قُلْ}، {آمَنَّا} فعل وفاعل، {بهِ} متعلق بـ {آمَنَّا}، والجملة خبر ثان لـ {هُوَ}، {وَعَليْهِ} متعلق بـ {تَوَكَّلْنَا}، وجملة {تَوَكَّلْنَا} معطوفة على {آمَنَّا}، {فَسَتَعْلمُونَ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب

شرط مقدر تقديره: إذا أبيتم عن الإيمان وأصررتم على الكفر، وأردتم معرفة من هو على الضلال منا ومنكم .. فأقول لكم {ستعلمون}: السين حرف استقبال، {تعلمون} فعل وفاعل، والجملة في محل نصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مَنْ} اسم استفهام في محل رفع مبتدأ أول، {هُوَ} ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل رفع مبتدأ ثان، {فِي ضَلَالٍ} خبر للمبتدأ الثاني، {مُبِينٍ} صفة {ضَلَالٍ}، وجملة المبتدأ الثاني خبر للأول، وجملة الأول في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي {تعلمون} المعلّقة بالاستفهام. {قُلْ} فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {أَرَأَيْتُمْ} فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني، والجملة في محل نصب مقول قل، {إن} حرف شرط، {أَصْبَحَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {مَاؤُكُمْ} اسمها، {غَوْرًا} خبرها، {فَمَنْ} الفاء رابطة الجواب وجوبًا، {مَنْ} اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة {يَأْتِيكُمْ} خبره، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، {بِمَاءٍ} متعلق بـ {يَأْتِيكُمْ}، {مَعِينٍ} صفة {ماء}، وجملة إن الشرطية في محل النصب سادة مسد مفعولي {أَرَأَيْتُمْ}. التصريف ومفردات اللغة {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة؛ وهي الزيادة والنماء حسّية أو معنوية. وقال بعضهم: البركة: كثرة الخير ودوامه، فنسبتها إلى الله تعالى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات؛ أي: تكاثر خير الذي بيده الملك، وتزايد نعمه وإحسانه، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. قال الراغب: البركة. ثبوت الخير الإلهيّ في الشيء. {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة كالحرارة والبرودة، والحياة: صفة وجودية زائدة على نفس الذات مغايرة للعلم والقدرة مصحّحة لاتصاف الذات بهما. {طِبَاقًا} جمع طبقة كرحبة ورحاب، أو جمع طبق كجمل وجمال وجبل وجبال، وفي المصباح: وأصل الطبق الشيء على مقدار الشيء مطبقًا له من جميع جوانبه، وقيل: هو مصدر بمعنى الفاعل، يقال: طابقه طباقًا ومطابقة، وطباق الشيء مثل كتاب مطابقة بكسر الباء، وطابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذو

واحد وألزقتهما، والباب يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطّيه، والمعنى: مطابقة بعضها فوق بعض وسماء فوق سماء. {فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ} والإضافة فيه من إضافة المصدر إلى فاعله، والمفعول محذوف تقديره: في خلق الرحمن لهن أو لغيرهن. {مِنْ تَفَاوُتٍ} قال الراغب: التفاوت: الاختلاف في الأوصاف، كأنّه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كلّ واحد منهما الآخر، وحكى أبو زيد: تفاوت الشيء تفاوتًا بضم الواو وفتحها وكسرها، والقياس هو الضم كالتقابل، والفتح والكسر شاذان. والتفاوت: عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر. {فَارْجِعِ الْبَصَرَ}؛ أي: ردّه إلى رؤية السماء. و {رَجَعَ} يجيء لازمًا ومتعدّيًا يقال: رجع بنفسه رجوعًا، وهو العود إلى ما منه البدء، مكانًا أو فعلًا أو قولًا، بذاته كان رجوعه أو بجزء من أجزائه أو بفعل من أفعاله، ورجعه غير رجعًا؛ أي: رده وأعاده. {مِنْ فُطُورٍ} جمع فطر، كما في القاموس. وهو الشق، يقال: فطره فانفطر؛ أي: شقّه فانشقّ؛ والمعنى: من شقوق وصدوع لامتناع خرقها والتئامها. وفي المختار: والفطر: الشق، يقال: فطره فانفطر وتفطر الشيء: تشقق، وبابه نصر. {كَرَّتَيْنِ}؛ أي: رجعتين أخريين، والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك، أي: أجبت لك إجابات كثيرة بعضها إثر بعض، وذلك لأنّ الكلال الآتي لا يقع بالمرّتين؛ أي: رجعة بعد رجعة وإن كثرت، وهو مصدر من كرَّ من باب ردَّ، يقال: كرّ على عدوّه بعدما فرّ، كرّا وكرورا، والكرّة مرّة منه. {خَاسِئًا} اسم فاعل من خسَأ بمعنى تباعد وهرب، وفيه معنى الصغار والذلة، فإذا قيل: خَسَأ الكلب خَسْأً فمعناه: تباعد من هوانه وخوفه كأنّه زجر وطرد عن مكانه الأول بالصغار، وخَسأ يجيء متعدّيًا أيضًا يقال: خَسأت الكلب فخسأَ؛ أي: باعدته وطردته وزجرته مستهينًا به فانزجر، وذلك إذا قيل له: اخسأ. قال الراغب: ومنه: خسأ البصر؛ أي: انقبض من مهانةٍ، وفي القاموس: الخاسيءُ من الكلاب والخنازير: المبعد لا يترك أن يدنو من الناس، ولا يكون {خَاسِئًا} في الآية من المتعدي إلا بأن يكون بمعنى المفعول؛ أي: مبعدًا.

{وَهُوَ حَسِيرٌ}؛ أي: كليل، وهو فعيل بمعنى الفاعل من الحسور الذي هو الإعياء، وفي "المختار": وحسر بصره: انقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضًا، وبابه: جلس، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور، وهو الإعياء. {بِمَصَابِيحَ} الياء فيه مبدلة من الألف في المفرد؛ لأنّه جمع مصباح لوقوعها بعد كسرة. {رُجُومًا} الرجوم: جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمّي به المفعول؛ أي: ما يرجم به ويرمى للطرد والزجر، ويجوز أن يكون باقيًا على مصدريته، ويقدر مضاف؛ أي: ذات رجوم، وإنّما جمع المصدر باعتبار أنواعه أو جمع راجم، كسجود جمع ساجد. {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}؛ أي: عذاب جهنم الموقدة المشعّلة، فالسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها، ولذلك لم يؤت بالتاء في آخره مع أنّه اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع، وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، ولكن كل من هذه الأسماء يطلق على الآخر، فيعبّر عن النار تارة بالسعير وتارة بجهنم وأخرى بآخر. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} أصله: ألقيوا بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ولما سكنت التقى ساكنان فحذفت الياء لذلك، وضمت القاف لمناسبة الواو. {وَهِيَ تَفُورُ} أصله: تفور بوزن تفغل، نقلت حركة الواو إلى الفاء فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مدّ. {تَكَادُ} أصله: تكود مضارع كود بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت، لكنّها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {تَمَيَّزُ} أصله: تتميز حذفت منه إحدى التاءين كما تقدم. {جَهَنَّمَ}؛ أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة، يقال: رجل جهم؛ أي: كالحٌ منقبض، وقال بعضهم: جهنم من الجهنام، وهي بئر بعيدة القعر. {شَهِيقًا}؛ أي: صوتًا كصوت الحمير، وقيل: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوّله. وقيل: الشهيق رد النفس، والزفير إخراجه. {وَهِيَ تَفُورُ} الفور: شدّة الغليان، ويقال ذلك في النار، وفي القدر

وفي الغضب، وفوارات الماء سميت تشبيهًا بغليان القدر، وفعلت كذا من فوري؛ أي: من غليان الحال، وفارة المسك تشبيهًا به في الهيئة كما في "المفردات". {تَكَادُ تَمَيَّزُ} والتميّز: الانقطاع والانفصال بين المتشابهات، والغيظ: أشد الغضب، يقال: يكاد فلان ينشقّ من غيظه إذا وصف بالإفراط في الغضب. {خَزَنَتُهَا} جمع خازن بمعنى الحافظ، والموكل بالشيء. {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أصله: يخشيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح فالتقى ساكنان: الألف والواو، فحذفت الألف. {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} أصله: أسرروا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {ذَلُولًا}، هو فعول بمعنى مفعول؛ أي: مذلّلة مسخرة منقادة لما تريدون، يقال: دابة ذلول بينة الذل؛ أي: الانقياد. وهو ضد الصعوبة، وفي "القاموس": الذل بمعنى ضد الصعوبة بالضم والكسر والذل بمعنى الهوان بالضم فقط، والذلول فعول بمعنى فاعل، ولذا عرى عن علامة التأنيث مع أن الأرض مؤنث سماعي. {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أصل {امشوا} امشيوا بوزن افعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمّت الشين لمناسبة الواو ضمًّا عارضًا، ولذلك عند إلابتداء به يبدأ بهمزة وصل مكسورة؛ لأن ضم الحرف الثالث عارض غير أصليّ، والعارض لا يعتد به في غالب الأحوال. {مَنَاكِبِهَا} المناكب: جمع منكب، وهو مجتمع رأس الكتف والعضد، يقال: تشابهت منهم المناكب والرؤوس؛ أي: ليس فيهم مفضَّل، قال الراغب: المنكب: مجتمع ما بين العضد والكتف، ومنه: استعير للأرض في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} كاستعارة الظهر لها في قوله: {تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} انتهى، أو في جبالها وشبهت بالمناكب من حيث الارتفاع. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} يقال: نشر الله الميت نشرًا: أحياه بعد موته، ونشر الميت بنفسه نشورًا فهو يتعدى ولا يتعدى كرجعه رجعًا ورجع بنفسه رجوعًا إلا أنّ الميت لا يحيى بنفسه بدون إحياء الله تعالى؛ إذ هو محال. {أن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} قال الجوهري: خسف المكان يخسف خسوفًا؛ ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفًا: غاب به فيها. وفي "القاموس" أيضًا:

خسف الله بفلان الأرض: غيبه فيها. {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أصله: تمور بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مدّ. قال في "القاموس": المَوْر: الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} والطير يطلق على جنس الطائر، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء إما لكون جمعه في الأصل كركب وراكب أو مصدره جعل اسمًا لجنسه، فباعتبار تكثره في المعنى وُصف بـ {صَافَّاتٍ}، وفي "المفردات": إنه جمع طائر. {صَافَّاتٍ} والصف: أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار ونحو ذلك، كما مرّ. {جُنْدٌ لَكُمْ} والجند: جمع معد للحرب. {لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أصله: لججوا بجيمين بوزن فعلوا، أدغمت الجيم الأولى في الثانية. والعتو: التجاوز عن الحد، أصله: عتوو بوزن فعول بضم الفاء، أدغمت واو فعول في الواو لام الكلمة، والنفور: الفرار. {مُكِبًّا} اسم فاعل من أكب الرباعي، وأصله: مكبب، نقلت حركة الباء الأولى إلى الكاف فسكنت فأدغمت في الباء الثانية، والمكب: الساقط على وجهه، يقال: كببته فأكب وانكب، وقيل: هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينًا ولا شمالًا ولا أمامًا، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه، فهو اسم فاعل من أكب اللازم المطاوع لكبه، يقال: كبّه الله على وجهه في النار فأكبّ؛ أي: سقط، وهذا على خلاف القاعدة في أنّ الهمزة إذا دخلت على اللازم تصيّره متعدّيًا وهذه قد دخلت على المتعدي فصيرته لازمًا. {سَوِيًّا} أصله: سوييا بوزن فعيل، أدغمت ياء فعيل في الياء لام الكلمة. {وَالْأَفْئِدَةَ} جمع فؤاد، قال في "القاموس": من التفؤد، وهو التحرّك والتوقد، ومنه: الفؤاد للقلب مذكَّر، والجمع أفئدة انتهى. {ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} قال في "القاموس": ذرأ كـ {جعل}: خلق، وذرأ الشيء: كثره، ومنه: الذرّيّة مثلثة لنسل الثقلين. {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من ساءه الشيء يسوؤه سوءًا ومساءة نقيض سره ثم بني للمفعول، وفي "القاموس": ساءه فعل به ما يكره، فيكون متعديًا، ويجوز أن يكون لازمًا بمعنى قبح، ومنه: {سَاءَ مَثَلًا} وسيء إذا قبح. وأصل {سِيئَتْ} سوىء بوزن فعل: مبني للمجهول، استثقل الانتقال من ضمة إلى

كسرة فنقلت كسرة الواو إلى السين فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياءً، وهكذا كل فعل أجوف بني للمجهول، وكانت عينه واوًا، وكذلك ما كانت عينه ياءً إلا أن هناك اختلافا يسيرًا في التصريف. {وَقِيلَ} القول فيه كالقول في سِيْءَ. {تَدَّعُونَ} فيه إبدال تاء الافتعال وإلا وإدغام الدّال فاء الكلمة فيها، فالأصل: تدتعيون، استثقلت الحركة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين وضمت العين لمناسبة الواو. {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} وفي "القاموس": أجاره إذا أنقذه وأعاذَهُ. {غَوْرًا}، وهو مصدر وصف به؛ أي: غائرًا في الأرض بالكلية ذاهبًا ونازلًا فيها، يقال: غار الماء غورًا من باب قال إذا نضب، وفي المفردات: الغور: المنهبط من الأرض. {بِمَاءٍ مَعِينٍ}؛ أي: ظاهر تتراءاه العيون، وأصله: معيون بوزن مفعول كمبيع أصله: مبيوع، فنقلت ضمة الياء إلى العين لتصح الياء، وقيل: هو من معن الماء؛ أي: كثر، فهو على هذا الاعتبار فعيل لا مفعول، والميم أصلية، أمّا على الأول فالميم زائدة؛ لأن الفعل عين. وصاحب القاموس يميل إلى الثاني، والراغب الأصفهاني إلى الأول. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: إسناد البركة إلى الموصول في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} للاستشهاد بما في حيّز الصلة على تحقّق مضمونها، والموصولات معارف، ولا شك أن المؤمنين يعرفونه يكون الملك بيده، وأمّا غيرهم فهم في حكم العارفين؛ لأنّ الأدلة القطعية لما دلت على ذلك كان في قوة المعلوم عند العاقل. ومنها: الطباق بين {الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وبين {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا}، وبين {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}. ومنها: الاستعارة التمثيلية التبعية في قوله: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ}، حيث شبه حالهم في تكليفه تعالى إياهم بتكاليفه وخلق الموت والحياة لهم وإثابته لهم

وعقوبته بحال المختبر مع من جرَّبه واختبره، لينظر مدى طاعته أو عصيانه فيكرمه أو يهينه. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: في خلقه للإشعار بأنّه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمةً وتفضلًا. ومنها: زيادة {مِنْ} في قوله: {مِنْ تَفَاوُتٍ} لتأكيد النفي. والمعنى: ما ترى فيه شيئًا من اختلاف واضطراب في الخلقة. ومنها: الإطناب بتكرار الجملة مرتين زيادةً في التذكير والتنبيه في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَر}، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}، وكذلك قوله: {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}. ومنها: تصدير الجملة بالقسم في قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {بِمَصَابِيحَ}، حيث شبه الكواكب والنجوم بمصابيح، وحذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنَّ الناس يزينون مساجدهم ودورهم بإثقاب المصابيح، ولكنها مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءةً. ومنها: تنكير {مصابيح} للتعظيم والتفخيم؛ أي: بكواكب مضيئة بالليل. ومنها: إيراد الإلقاء في قوله: {إِذَا أُلْقُوا فِيْهَا} دون الإدخال إشعارًا بتحقيرهم وكون جهنم سفلية. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {شَهِيقًا}، حيث شبه صوت جهنم بصوت الحمار؛ لأنّ الشهيق حقيقةٌ في صوت الحمار. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَهِيَ تَفُورُ}، حيث شبه هيجان جهنم بغليان القدر وفورانها. ومها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، حيث شبه جهنم في شدّة غليانها ولهبها بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه يكاد يتقطع من

شدّة الغيظ، وحذف المشبّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الغيظ الشديد، بطريق الاستعارة المكنية. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {مِنَ الْغَيْظِ}، حيث شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاشتعال استعارة تصريحية أصلية وفي هذه الآية أيضًا فنُّ حسن الإتباع فقد جرى الشعراء على نهجها، فولعوا بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل. ومنها: الاستفهام الإنكاري، للتقريع والتوبيخ في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير}. ومنها: المقابلة في قوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}، قابله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وهي من المحسنات البديعية. ومنها: الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها، مبالغة في الاعتراف وتحسرًا على فوت سعادة التصديق وتمهيدًا لبيان التفريط الواقع منهم. ومنها: جمع ضمير الخطاب في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} مع أنّ مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله مبالغةً في التكذيب وتماديًا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} مع ترك ذكر المنزل عليه. ومنها: تقديم السرّ على الجهر في قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرون من أوّل الأمر، والمبالغة في بيان شمول علمه تعالى المحيط بجميع المعلومات، كأنّ علمه تعالى بما يسرّونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {ذَلُولًا}، شبّه الأرض المسخّرة للانتفاع بها بالدابة المنقادة لراكبها بجامع السهولة في كلّ. ومنها: استعارة المناكب للأرض في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}؛ لأنَّ المناكب جمع منكب حقيقة في الإنسان، فاستعير للجبال من الأرض بجامع الارتفاع في كلّ.

ومنها: الالتفات في قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الخطاب إلى الغيبة، لإبراز الإعراض عنهم. ومنها: الالتفات إلى الخطاب في قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} للتشديد في تبكيتهم وتعجيزهم. ومنها: إيثار الرحمن في قوله: {منْ دُونِ الرَّحْمَنِ} للدلالة على أنَّ رحمة الله هي المنجية من غضبه لا غير. ومنها: التنوين في قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، للدلالة على عظمه وفحشه لكونه من جهة الشيطان. ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: {يَنْصُرُكُمْ} إلى الغيبة في قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ}؛ لأنّ الاسم الظاهر من قبيل الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم بالإعراض عنهم وبيان قبائجهم لغيرهم، وفيه أيضًا الإظهار في مقام الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: إنْ هم إلا في غرور. ومنها: تخصيص الثلاثة المذكورة في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} بالذكر؛ لأنّ العلوم والمعارف بها تحصل كما مرّ. ومنها: اختيار لفظ المضارع على الماضي في قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} إمّا لأنّ المقصود بيان ما يوجد من الكفّار من هذا القول في المستقبل، وإمّا لأنّ المعنى: وكانوا يقولون. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}، حيث مثل للمؤمن والكافر. فالكافر أعمى لا يهتدي إلى الطريق بل يمشي متعسفًا فلا يزال يعثر وينكب على وجهه، والمؤمن صحيح البصر يمشي في طريق واضحة مستقيمة سالمًا من العثور والخرور على وجهه، وهكذا تتجلى طريقة القرآن في التجسد. ومنها: تخصيص الوجوه في قوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لكون الوجه هو الذي يظهر عليه أثر المسرَّة والمساءة. ومنها: وضع الموصول فيه موضع ضميرهم لذمّهم بالكفر وتعليل المساءة به.

ومنها: إيراد صيغة المجهول في قوله: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} لكون المراد بيان القول لا بيان القائل. ومنها: وضع الكافرين موضع ضميرهم في قوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الإنجاء به. ومنها: الحصر في قوله: {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}؛ لأنّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر. ومنها: تكرير الأمر بـ {قُلْ} في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ...} إلخ، وفي قولى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ}، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ ...} إلخ، لتأكيد المقول وتنشيط المقول له. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الموضوعات 1 - وصف السموات. 2 - بيان أنّ نظام العالم لا عِوَج فيه ولا اختلاف. 3 - وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة. 4 - التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك (¬1). والله أعلم ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الملك، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين. في الليلة الرابعة عشرة قبيل صلاة العشاء من شهر صفر من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة (14/ 2/ 1416) من الهجرة الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة ن

سورة ن القلم، وتسمّى سورة ن: مكيّة (¬1) في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. ورُوي عن ابن عباس وقتادة: أنّ من أولها إلى قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} مكيّ، وبعدر ذلك إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} مدنيّ، وباقيها مكيّ أيضًا، كذا قال الماورديّ. وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورةٍ بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ثم {ن} ثمّ {الْمُزَّمِّلُ} ثم {الْمُدَّثِّرُ}. وأخرج النحَّاس وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: نزلت سورة {ن} بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وآيها: اثنتان وخمسون آيةً، وكلماتها: ثلاث مئة كلمة، وحروفها: ألف ومئتان وستة وخمسون حرفًا. مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أنه ذكر في آخر الملك تهديد المشركين بتغوير مائهم في الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل عني ذلك. وهو ثمر البستان الذي طافي عليه طائف، فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون. 2 - أنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء .. لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبًا وكان ما أخبر به هو ما أوحى به إلى رسوله وكان المشركون ينسبونه في ذلك مرةً إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون، فبّرأهُ الله في هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم، وأثنى على خلقه. وعبارة أبي حيّان (¬3): مناسبّتها لما قبلها: أنه سبحانه ذكر فيما قبلها أشياء من ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه تعالى لو شاء .. لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصبًا. وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، وكان الكفّار ينسبونه مرّةً إلى الشعر ومرّة إلى السحر ومرّة إلى الجنون. فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على إذاهم، وبالثناء على خلقه العظيم. انتهى. الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة {نَ} محكم كلها إلا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} نسخت بآية السيف. الآية الثانية: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ...} الآية، نسخت أيضًا بآية السيف. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}. المناسبة قد تقدم قريبًا بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وقد بدأ سبحانه هذه السورة بأنّه أقسم بالقلم، وما يسطر به من الكتب، إنّ محمّدًا الذي أنعم عليه بنعمة

النبوة، ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونًا والكتب والأقلام أعدّت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي؟. وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحًا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربّنا إلا بالأمور العظام، فإذا أقسم بالشمس والقمر والليل والفجر، فإنّما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعم العلم والعرفان، وبه تتهذّب النفوس، وترقى شؤوننا الاجتماءتية والعمرانية، ونكون كما وصف الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالًا لأمره {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيَتَبَيَّنُ لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنّه سيكون العزيز المهيب في القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولي عليهم ويأسر فريقًا منهم ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذٍ من المجنون، والله هو العلم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه. قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر مقالة المشركين في الرسول بنسبته إلى الجنون مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في الدين والخلق، أردفه بما يقوّي قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه مع قلة العدد، وكثرة الكفار؛ إذ هذه السورة من أوائل ما نزل كما مرّ، فنهاهم عن طاعتهم عامةً. ثم أعاد النهي عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت في هذه الآيات خاصة دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام. قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرّد لما آتاه الله من النعم أردف هذا ببيان أنّ ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانًا، ليرى أيصرف ذلك في طاعة الله وشكره، فيزيد له في النعمة أم يكفر بها، فيقطعها عنه ويصبّ عليه ألوان البلاء والعذاب، كما أنّ أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمَّر الله جنتهم، فما بالك بمن حاد الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية؟.

قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه، وخالفوا أمره، أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى في الدار الآخرة، ثم رد على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لم يفضلونا، بل نكون أحسن منهم حالًا؛ لأن من أحسن إلينا في الدنيا يحسن إلينا في الآخرة بأنكم كيف تسوون بين المطيع والعاصي فضلًا أن تفضلوا العاصي عليه؟. ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابًا من السماء، فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاؤون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين؟ أم أعطيناكم عهودًا أكّدناها بالإيمان فاستوثقتم بها، هي ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟ أم لكم أناس يذهبون مذهبكم في هذا القول. وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب، وتدعونهم حينئذٍ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء. قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا خوف الكفار من هول يوم القيامة، خوفهم مما في قدرته من القهر، فقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مؤنبًا لهم وموبخًا: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، فإني عالم بما ينبغي أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم وتوكل عليَّ في الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجةً فدرجةً، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ أأنت تسألهم أجرًا على تبليغ الرسالة يثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب في اللوح المحفوظ، فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلَّا، لا هذا ولا ذاك، إذًا فالقوم معاندون فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم، وتأخير نصرتك، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.

ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه، فارقهم ونزل في السفينة، فابتلعه الحوت، ودعا ربه وقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وهو مملوء غيظًا وحنقًا. ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شزرًا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدًا على ما آتاه الله من النبوة: إنك لمجنون تنفيرًا منه ومن دعوته. وما القرآن إلّا عظة للجنّ والإنس جميعًا لا يفهمها إلا من كان أهلًا لها. أسباب النزول قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} سبب نزوله (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه مجنون ثم شيطان، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} سبب نزوله: ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، والواحدي بسند رواه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته، إلا قال: لبيك، فلذلك أنزل الله سبحانه هذه الآية. قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدّي قال: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت في الأسود بن عبد يغوث، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} فلم نعرفه حتى نزل بعد ذلك {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة. قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جريج أنّ أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذًا فاربطوهم في الحال، ولا تقتلوا منهم أحدًا، فنزلت هذه الآية {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ...} يقول في قدرتهم عليهم كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {ن}؛ أي: هذه السورة (¬1) نون أو بحق {ن}، وهي هذه السورة أقسم الله بها على سبيل التأكيد في إثبات الحكم الآتي على ما عليه عادة الخلق مع ما فيه من بيان شأن المقسم به، وإلا فكما أنه تعالى لا يليق القسم بشأنه العالي فكذا لا يصح لغيره أن يكون مقسمًا به. واختلف في معنى النون. قيل: إنه اسم لهذه السورة، وقيل: إنه مقتطع فن اسمه تعالى الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور، وقيل: اسم للحوت الذي جعل الله على ظهره الأرض، وقيل: المراد به الدواة التي يكتب بها، وقيل: اسم للقرآن. والأرجح كما مر غير مرة أنه من المتشابه الذي اختص الله بعلمه كسائر حروف الهجاء التي افتتح بها كثير من السور. وفي المراغي: إنَّ أرجح الآراء في معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور أنها حروف تنبيه، نحو: ألا وأما. وقرأ الجمهور أبو بكر، وورش، وابن عامر، والكسائي، وابن محيصن، وابن هبيرة بإدغام النون الثانية. من هجائها في واو {وَالْقَلَمِ} بغنّة، وقوم بغير غنّة. وقرأ الباقون (¬2): حمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وقالون، وحفص بالإظهار. وقرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، والحسن، وأبو السمال، ونصر بكسر النون لالتقاء الساكنين، أو بإضمار حرف قسم. وقرأ سعيد بن جبير، وعيسى بخلاف عنه بفتحها، فاحتمل أن تكون حركة إعراب بإضمار فعل. وقرأ محمّد بن السميفع وهارون بضمّها على البناء. والواو في قوله: {وَالْقَلَمِ} واو القسم، أقسم الله سبحانه بالقلم لما فيه من البيان، وهو واقع على كل قلم يكتب به. وقال جماعة من المفسرين: المراد به القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيمًا له. وفي "الخطيب": تنبيه: في القلم المقسم به قولان: أحدهما: أنَّ المراد به جنس القلم الشامل للأقلام التي يكتب بها في الأرض والسماء. قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}، لأنه ينتفع به كما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

ينتفع بالمنطق قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}، فالقلم يبينك ما يبين اللسان في المخاطبة بالمكاتبة للغائب والحاضر، ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين. والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس: "أول ما خلق الله القلم ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب، قال: اكتب ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: ثم ختم فم القلم فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم القيامة، وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض". وروى مجاهد: أول ما خلق الله تعالى القلم، قال: اكتب المقادير، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وما يجري بين الناس، فهو أمر قد فرغ منه انتهى. وقوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} معطوف على القلم، و {ما} موصول اسميّ، والواو عائد على أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره؛ لأنَّ ذكر آلة الكتابة يدل على الكاتب. والمعنى: وبالكتاب الذي يسطره الكاتبون من الملائكة وغيرهم؛ أي: وبما تكتبه الملائكة في صحفهم التي يكتبون فيها المقادير التي تقع في العالم ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ، أو المراد به ما تكتبه الحفظة الموكلون ببني آدم من أعمالهم، كذا في القرطبي. ويجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: وبسطرهم وكتابتهم. فاقسم أوّلًا بالقلم، ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء: نفي الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على دين الإسلام اهـ شيخنا. والمعنى: أقسم بالقلم وبما يكتب به من الكتب. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، ويكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لهم، كأنّه قيل: أقسم بأصحاب القلم ومسطوراتهم أو تسطيرهم انتهى. فيكون كقوله تعالى: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}؛ أي: وكذا ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله: {يَغْشَاهُ مَوْج}. وقيل: إن الضمير في {يَسْطُرُونَ} راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء. كأنّه قيل: أقسم بالقلم وما يسطره القلم. والسطر: الصفّ

[2]

من الكتابة، ومن الشجر المغروس، ومن القوم الوقوف. وسطر فلان كذا؛ أي: كتبه سطرًا سطرًا. وعن بعض الحكماء (¬1): قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم لولا القلم ما قام دين ولا صلح عيش. قال بعضهم: إن يَخْدُمِ الْقَلَمُ السَّيْفَ الَّذِيْ خَضَعَتْ ... لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَتْ خَوْفَهُ الأُمَمُ كَذَا قَضَى الله للأقْلاَمِ مُذْ بُرِيَتْ ... أَنَّ السُّيُوفَ لَهَا مُذ أُرْهِفَتْ خَدَمُ وقال بعضهم: إِذَا أَقْسَمَ الأَبْطَالُ يَوْمًا بِسَيْفِهِمْ ... وَعَدُّوهُ مِمَّا يَجْلِبُ الْمَجْدَ وَالْكَرَمْ كَفَى قَلَمَ الْكُتَابِ فَخْرًا وَرِفْعَةً ... مَدَى الدَّهْرِ أنَّ الله أَقْسَمَ بِالْقَلَمْ 2 - وجواب القسم قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} {مَا} نافية، و {أَنْتَ} اسمها، و {بِمَجْنُونٍ} خبرها، والباء: في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} متعلقة بمحذوف هو حال من الضمير في خبر {مَا} وهو {مجنون}، والعامل فيها معنى النفي، كأنّه قيل: انتفى عنك الجنون يا محمد، وأنت بريء منه متلبسًا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة. والمراد تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه إليه - صلى الله عليه وسلم - من الجنون حسدًا وعداوةً ومكابرةً مع جزمهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - في غاية الغايات من حصافة العقل، ورزانة الرأي، والجنون حائل بين النفس والعقل، كما سيأتي. قال أبو حبان (¬2): قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد، والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه - صلى الله عليه وسلم -، وذهب إلى القسم أيضًا الشيخ نجم الدين في "تأويلاته". والمعنى؛ أي: وما أنت ونعمة ربك بمجنون. وقيل: النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. ومعنى الآية: أنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق. 3 - ثم بين بعض نعمه عليه، فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[4]

1 - {وَإِنَّ لَكَ} يا محمد بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك لأعباء الرسالة {لَأَجْرًا}؛ أي: لثوابًا عظيمًا. {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: غير مقطوع ولا منقوص مع عظمه، كقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. ومنه قيل: المنون للمنيَّة؛ لأنها تنقص العدد، وتقطع المدد، يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وقال مجاهد: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير محسوب. وقال الحسن: غير مكدَّر بالمن. وقال الضحاك: أجرًا بغير عمل. وقيل: غير مقدر، وقيل: غير ممنون به عليك من جهة الناس. ويقال: أجر النبي مثل أجر الأمة قاطبة غير منقوص. وقال بعضهم: أجره قبول شفاعته، وهي غير منقطعة عن أهل الكبائر من أمّته، لا يخيب الله رجاءه - صلى الله عليه وسلم - في غفرانهم جميعًا بلا عتاب ولا عذاب. والمعنى: أي وإنّ لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد. 2 - 4 {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ أي: إنك على طبع كريم. قال الماوردي: وهذا هو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب؛ أي: خلقت على خلق عظيم لا يدرك شأوه أحد من الخلق، ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر. قال بعضهم: لكونك متخلقًا بأخلاق الله وأخلاق كلامه القديم ومتأيّدًا بالتأييد القدسي، فلا تتأثر بافترائهم، ولا تتأذى بأذاهم، إذ بالله تصبر لا بنفسك، كما قال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}، ولا أحد أصبر من الله. وكلمة {على} للاستعلاء فدلت على أنه - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على الأخلاق الحميدة، ومستول على الأفعال المرضية حتى صارت بمنزلة الأمور الطبيعية له، ولهذا قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}؛ أي: لست متكلفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي، لأنّ المتكلف لا يدوم أمره طويلًا بل يرجع إليه الطبع. وقد ثبت في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن، أرادت به أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متحليًا بما في القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف، ومتخلِّيًا عما يزجر عنه من السيئات وسفاسف الخصال. وقد جمع الله سبحانه وتعالى فيه ما كان متفرّقًا في غيره من الأنبياء، كما يدل عليه قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. فهذه درجة عالية لم يتيسر لأحد من الأنبياء عليهم السلام، فلا جرم وقد وصفه الله تعالى بكونه على خلق

[5]

عظيم، كما قال بعضهم: لِكُلِّ نَبِيٍّ فِي الأَنَامِ فَضِيْلَةٌ ... وَجُمْلَتُهَا مَجْمُوْعَةٌ لِمُحَمَّدِ وهذه الجملة والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم. والمعنى: وإنَّك يا محمد قد بَرأك الله سبحانه وتعالى على الحياءِ والكرم، والشجاعة والصفح، والحلم، وكل خلق كريم. روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته". وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده خادمًا له قطّ، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلّا أن تنتهك حرمات الله فينتقم له. وفي الآية: رمز إلى أنّ الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقًا كان أبعد من الجنون. 5 - ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال، والوبال في الدنيا والآخرة فقال: {فَسَتُبْصِرُ} يا محمد {وَيُبْصِرُونَ} أي (¬1): ويبصر الكفّار إذا تبيّن الحقّ وانكشف الغطاء، وذلك يوم القيامة. يقال: أبصرته وبصرت به: علمته وأدركته، فالمعنى: فستعلم يا محمد، ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل. وقال الفاشاني: فستبصر ويبصرون عند كشف الغطاء بالموت. وقال قتادة: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى: سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيّكم المفتون. وهذا هو الأوضح. 6 - {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}؛ أي: أيكم الذي ابتلي بفتنة الجنون. {فأيّكم} مبتدأ، و {الْمَفْتُونُ} بمعنى المجنون خبره، والباء مزيدة في المبتدأ كما في بحسبك درهم. وقيل: الباء: ليست زائدة، والمفتون مصدر بمعنى الفتون، وهو الجنون، جاء على وزن مفعول كالمعقول والميسور والمجلود بمعنى العقل كما في قوله: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكُوْا لِعِظَامِهِ ... لَحْمًا وَلَا لِفُؤَادِه مَعْقُولًا أي: عقلًا. والجلادة واليسر. وعلى هذا الباء إما للإلصاق نحو قولهم: به داء؛ أي: بأيّ الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؛ وقال الفرّاء: إنَّ الباء بمعنى في، والمفتون بمعنى المجنون مبتدأ مؤخّر. أي: في أيّكم المفتون أفي الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر؟. ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة {في أيكم المفتون}. وقال الأخفش: الكلام على حذف مضاف؛ أي: بايكم فتن المفتون، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: المفتون: المعذب من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا أحميته، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. وقيل: المفتون هو الشيطان، لأنّه مفتون في دينه، والمعنى: بأيّكم المفتون، والأمة داخلة في خطاب {فَسَتُبْصِرُ} بالتبعية، لا يختص به - صلى الله عليه وسلم -، وهو تعريض لصناديد قريش كأبي جهل وأضرابه. والمعنى (¬1): فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذّبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟. ونحو الآية قوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}؛ أي: أصالح عليه السلام أم قومه؟ وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}. والخلاصة: ستبصر ويبصرون غلبة الإِسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر، وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلاء صاغرين. وهذا يشمل ما كان في بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلًا للآخرين. 7 - ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ...} إلخ. وهذه الجملة تعليل للجملة التي قبلها، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضررهم فيهما. والمعنى: أي إنّ ربك يا محمد هو وحده أعلم {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} سبحانه الذي هو التوحيد الموصل إلى سعادة الدارين، وهام في تيه الضلال متوجهًا ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

إلى ما يفضيه إلى الشقاوة الأبدية. وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر، بل يحسب التفسير نفعا فيؤثره والنفع ضرًّا فيهجره. {وَهُوَ} سبحانه {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} إلى سبيله الموصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة، الفائزين بكل مطلوب الناجين من كلّ محذور. وهم العقلاء المراجيح، فيجزي كلًّا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب، وإعادة {هُوَ أَعْلَمُ} لزيادة التقرير. وفي (¬1) الآية إشعار بأنّ المجنون في الحقيقة هو العاصي لا المطيع. 8 - والفاء في قوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما تقدم لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: لا تطع المكذبين؛ أي: دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم فيما يدعونك إليه من الك عنهم ليكفّوا عنك، وتصلب في ذلك. نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائهم، فنهاه الله عن طاعتهم. أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفّار. أو المراد بالطاعة مجرّد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير. فنهاه الله عن ذلك، 9 - كما يدل عليه قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ}؛ أي: أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور وترك الدعوة إلى الله سبحانه {فَيُدْهِنُونَ}؛ أي: فهم يداهنونك حينئذٍ ويلاينونك، ويسامحونك بترك الطعن في دينك، وترك رميك بالجنون والكهانة والسحر، فإنَّ الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة، كذا قال الفرّاء والكلبي. وقال الضحاك والسدّي: ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر. وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن (¬2): ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد: ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما يلونك. قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدّة، ويعبدوا الله مدة. و {لو} مصدرية؛ أي: ودّوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك. والفاء في {يدهنون} للعطف على {تُدْهِنُ}، فيكون {يدهنون} داخلًا في حيّز {لو}، ولذا لم ينصب {يدهنون} بسقوط النون جوابًا للتمنّي. قال سيبويه: وزعم قالون أنها في بعض المصاحف {ودّوا لو تدهن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

فيدهنوا} بدون نون، والنصب على جواب التمنّي المفهوم من {وَدُّوا}. وقال بعضهم: المعنى (¬1): لا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهم في الباطن. قال: موافقة الظاهر أثر موافقة الباطن وكذا المخالفة، وإلا كان نفاقًا سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقضاء، وأما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلون والاختلاف لتشعب أهوائهم، وتفرق أمانيهم يصانعون، ويضمون تلك الرذيلة إلى رذيلتهم طمعًا في مداهنتك معهم، ومصانعتك إيّاهم. قال بعضهم (¬2): المداهنة يبيع الدين بالدنيا فهي من السيئات، والمداراة يبيع الدنيا بالدين فهي من الحسنات. ويقال: الإدهان: الملاينة لمن لا ينبغي له ذلك، وهو لا ينافي الأمر بالمداراة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت بمداراة الناس كما أمرت بالتبليغ". وفرّق الإمام الغزالي بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء. فإن أغضيت لسلامة دينك، ولِمَا ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنبشّ في وجوه أقوامٍ وإنّ قلوبنا لتلعنهم. وهذا معنى المداراة، وهو مع من يخاف شره. ومعنى الآية: {فَلَا تُطِعِ اَلمكَذِبِينَ (8)}؛ أي: دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذّبين عامّةً، وتشدد في ذلك. وفي هذا النهي إيماء إلى النهي عن مداراتهم، ومداهنتهم استجلابًا لقلوبهم وجذبًا لهم إلى اتباعه. {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}؛ أي: ودَّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادة إلهك. روى: أنَّ رؤساء مكة دعوه إلى دين آبائه، فنهاه عن طاعتهم. وخلاصة ذلك (¬3): ودّوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لم ويلينون لك، وترك بعض الدين أو كله كفر بواح. والمراد من هذا النهي التهييج والتشدّد في المخالفة، والتصميم على معاداتهم. ونحو الآية قوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[10]

10 - ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافًا هانت عليهم نفوسهم، فأفسدوا فطرتها تشهيرًا بهم، فقال: 1 - {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}؛ أي: ولا تطع يا محمد المكثار من الحلف في الحق، وفي الباطل لجهله حرمة اليمين وعدم مبالاته من الحنث لسوء عقيدته، الكاذب الذي يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترىء بها على الله ضعفه ومهانته أمام الحق، وتقديم هذا الوصف على سائر الأوصاف الزاجرة عن الطاعة لكونه أدخل في الزجر. قال في "الكشاف": وكفى به مزجرةً لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} انتهى. ودخل (¬1) فيه الحلف بغير الله تعالى، فإنه من الكبائر. وأصل الحلف: اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها الحلف؛ أي: العهد. ثم عبر بها عن كل يمين. 2 - {مَّهِينٍ} فعيل من المهانة، وهي القلّة والحقارة أي: حقير الرأي والتدبير؛ لأنَّه لا يعرف عظمة الله سبحانه، ولذا أقدم على كثرة الحلف. ويجوز أن يراد به الكذّاب؛ لأنّه حقير عند الناس. والكذب أس كل شر ومصدر كل معصية. 3 - 11 {هَمَّازٍ}؛ أي؛ عياب طعان مغتاب للناس، وهو مبالغة هامز من الهمز، وهو الضرب والطعن والكسر والعيب، فاستعير للمغتاب الذي يذكر الناس بالمكروه ويظهر عيوبهم ويكسر أعراضهم، كأنه يضربهم بأذاه إيَّاهم. وقيل (¬2): الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن، وعطاء بن أبي رباح. وقال مقاتل عكس هذا. قال الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس. وفي الحديث: "لا يكون المؤمن طعّانًا ولا لعّانًا، وفي حديث آخر: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". يعني: من ينظر إلى عيب نفسه، فيكون ذلك مانعًا له عن النظر إلى عيب غيره وتعييبه به، وذلك لا يقتضي أن لا ينهى العاصي عن معصيته اقتداءً بأمر الله تعالى بالنهي عن المنكر لا إعجابًا بنفسه وازدراء لقدر غيره عند الله تعالى. 4 - {مَشَّاءٍ} أي: ساع بين الناس {بِنَمِيمٍ}؛ أي: بنميمة. والنميم كالنميمة: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[12]

نقل كلام الناس من بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد، وهو من الكبائر. ومنه: قول الشاعر: وَمَولَى كَبَيْتِ النَّمْلِ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ ... لِمَوْلاَهُ إِلَّا سَعْيُهُ بِنَمِيْمِ والمعنى: أي نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم. أمّا (¬1) نقل الكلام بقصد النصيحة فواجب كقول من قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة نمام". 5 - 12 {مَنَّاعٍ} مبالغة مانع {لِلْخَيْرِ}؛ أي: بخيل بالمال، والخير: المال؛ أي: بخيل بماله ممسك له لا يجود به لدى البأساء والضرّاء، فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين، ولا ينجد الأمّة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل كدفع عدوٍّ يهاجم البلاد أو دفع كارثة نزلت بها تحتاج إلى بذل المال. أو منَّاع للناس من الخير الذي هو الإيمان، والطاعة. وكان للوليد بن المغيرة عشرة من البنين، وكان يقول لهم ولأقاربه: من تبع منكم دين محمد لا أنفعه بشيء أبدًا. وكان الوليد موسرًا له تسعة آلاف مثقال فضة، وكانت له حديقة في الطائف. 6 - {مُعْتَدٍ}؛ أي: متجاوز لما حدّه الله سبحانه من أوامر ونواه. فهو يخوض في الباطل خوضه في الحقّ، ولا يتحرج عن ارتكاب المآثم والمظالم، وفي "التأويلات النجمية": متجاوز في الظلم على نفسه بانغماسه في بحر الشهوات، وانهماكه في ظلمة المنهيات. 7 - {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الآثام، ديدنه ذلك، فهو لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح، وفي "التأويلات النجمية": كثير الآثام بالركون إلى الأخلاق الرديئة والرغبة في الصفات المردودة. 8 - 13 {عُتُلٍّ}؛ أي: جاف غليظ القلب، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة. من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. {بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: هو بعدما عدّ من مقابحه ومعايبه {زَنِيمٍ}؛ أي: دعي ملصق بالقوم وملحق بهم بالنسب، وليس منهم. فالزنيم هو الذي تبنّاه أحد؛ أي: اتخذه ابنا وليس بابن له من نسبه في الحقيقة، قال تعالى: ¬

_ (¬1) روح البيان.

{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}. قال الراغب: الزنيم والمزنّم: الزائد في القوم، وليس منهم؛ أي: المنتسب إلى قوم، وهو معلّق بهم لا منهم تشبيهًا بالزنمتين من الشاة، وهما المتدلّيتان من أذنها ومن الحلق. وفي "الكشاف": الزنيم من الزنمة، وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها؛ لأنه زيادة معلقة بغير أهله. والظاهر من قول ابن عباس رضي الله عنهما الحقيقة حيث قال: إنه لم يعرف حتى قيل: زنيم فعرف أنه كان له زنمة في حلقه. ويقال: كان يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال مجاهد: كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام إصبع زائدة. والظاهر: أنّ هذه الأوصاف ليست لمعين. قال العتيبيُّ: لا نعلم أن الله سبحانه وصف أحدًا، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، فألحق به عارًا لا يفارقه أبدًا. وفي قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} دلالة على أن دعوته أشد معايبه وأقبح قبائحه. وكان الوليد دعيًّا في قريش، وليس من نسبهم وسنخهم؛ أي: أصلهم. ادعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده. وقيل: بغت أم الوليد ولم يعرف، حتى نزلت هذه الآية. فمعنى {زَنِيمٍ} حينئذٍ: ولد الزنا. قال الشاعر: زَنيْمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ أَبَوهُ ... بِغَيُّ الأمِّ ذُو حَسبٍ لَئِيْمُ وقال سعيد بن جبير: الزنيم: المعروف بالشرّ. وقيل: هو رجل من قريش، كان له زنمة كزنمة الشاة. وقيل: هو الظلوم. وقيل: نزلت الآية في الأخنس بن شريق، واسمه أبيّ، وكان ثقفيًّا مصطلقيّا في قريش، فلذلك قال: زنيم لا على جهة الذمّ لنسبه، ولكن على جهة التعريف به، ذكره السهيلي. قال ابن عطية: وظاهر اللفظ عموم من بهذه الصفة، والمخاطبة بهذا مستمرّة باقي الزمن لا سيّما لولاة الأمور. فقوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} هاهنا نظير {ثمّ} في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} من حيث إنها للتراخي رتبة. ثم هذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلًا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه. وفي "برهان القرآن": قوله: {حَلَّافٍ} إلى قوله: {زَنِيمٍ} أوصاف تسعة، ولم يدخل بينها واو العطف، ولا بعد السابع، فدل على أن ضعف القول بواو الثمانية صحيح. وقرأ الحسن {عتل} برفع اللام على الذمّ، والجمهور بجرّها.

[14]

14 - ثم ذكر بعض ما ربما دعاه إلى طاعتهم، فقال: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} متعلق بقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ} على تقدير الجار؛ أي: لا تطع يا محمد من هذه مثالبه ومعايبه؛ لأنه كان مشمولًا ذا مال كثير مستظهرًا بالبنين؛ أي: لا تطعه من جراء ماله وكثرة أولاده وتقويه بهم، فإن ذلك لا يجديه نفعًا عند ربه، كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والمغيرة، وأبو حيوة {آن كان} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضل {أأن كان} بهمزتين مخففتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر. وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع، حيث جعل شكر نعمة الله الكفر به وبرسوله. وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط. 15 - ثم ذكر سبب النهي عن طاعته، فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} استئناف جار مجرى التعليل للنهي؛ أي: إذا تقوأ عليه آيات كلامنا القديم. يعني: القرآن {قَالَ} ذلك الخلاف المهين هي {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: أحاديث لا نظام لها، اكتتبها الأقدمون كذبًا فيما زعموه لقوله تعالى: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}. قال السدي: أساجيع الأوّلين؛ أي: جعل مجازاة النعم التي خولناها من المال والبنين، وشكرها الكفر بآياتنا. قال المبرد: الأساطير جمع أسطورة نحو: أحدوثة وأحاديث. والمعنى: أي إذا تلي عليه القرآن قال: ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دونت في الكتب، وليس هو من عند الله تعالى. 16 - وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعده، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}؛ أي: سنجعل له سمةً وعلامةً يعرف بها بالكيّ على أكرم مواضعه لغاية إهانته وإذلاله. وأصل (¬1) {سَنَسِمُهُ} سنوسمه، كما سيأتي. من الوسم، وهو إحداث السمة بالكسر؛ أي: العلامة بالميسم، والميسم بالكسر: المكواة؛ أي: آلة الكيّ. والخرطوم كزنبور: الأنف أو مقدمه. وفي التعبير عن الأنف بلفظ الخرطوم استهانة بصاحبه واستقباح له، لأنّه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، وكلما كان الحيوان أخبث وأقبح كانت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

الاستهانة والاستقباح أشد وأكثر. قيل: أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر، فبقيت علامتها. قال صاحب "الكشف": هو ضعيف، فإنّ الوليد مات قبله فلم يوسم بوسم بقي أثره مدة حياته. والمراد: أنَّا سنبين أمره بيانًا واضحًا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم. وفي هذا إذلالٌ ومهانة له؛ لأنّ السمة على الوجه شين، فما بالك بها في أكرم موضع؟ وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحمية والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف في الأنف، وقالوا: حمي أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين. وعلى عكسه قالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه. قال جرير: لمَّا وَضَعْتُ على الْفَرَذْدَقِ مَيْسِمِيْ ... وَعَلَى الْبُعَيْثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأَخْطَلِ وفي التعبير بلفظ الخرطوم، استخفاف به؛ لأنه لا يستعمل إلا في الفيل والخنزير، كما مرّ. وفي استعمال أعضاء الحيوان للإنسان كالمشفر للشفة، والظلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى. والخلاصة: سنذله في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتًا مذمومًا مشهورًا بالشرّ، ونسمُهُ يوم القيامة على أنفه ليعرف بذلك كفره وانحطاط درجته؛ أي: سنُعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يعلم بها من سائر الكفرة بأن نسود وجهه غاية التسويد، إذ كان بالغًا في عداوة سيد المرسلين عليه وعليهم السلام أقصى مراتب العداوة. فيكون الخرطوم مجازًا عن الوجه على طريق ذكر الجزء وإرادة الكلّ. 17 - {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي: إنَّا نحن ابتلينا وامتحنا كفار مكة بالقحط والجوع. والابتلاء: الاختبار. وهذا كلام مرتب على محذوف تقديره: أعطينا أهل مكة الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط سبع سنين بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام والدم لتمردهم وكفرانهم نعم الله تعالى. {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} أي (¬1): ابتلاء مثل ابتلاء أصحاب الجنة المعروف. خبرها عندهم، واللام في الجنة للعهد، والكاف في موضع النصب على أنها نعت لمصدر محذوف، و {ما} مصدرية. والجنة: البستان، وأصحاب الجنة: قوم من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

أهل صنعاء اليمن، وذلك أنّها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدي حقَّ الله منها، فمات وصارت إلى أولاده فمنعوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها. قال الواحدي: هم قوم من ثقيف، كانوا باليمن مسلمين، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزروع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظًّا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقال بنوه: المال قليل والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله سبحانه في كتابه. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله تعالى أن حرق جنتهم. وقيل: هي جنة كانت بصوران وصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير. وقوله: {إِذْ أَقْسَمُوا} وحلفوا. ظرف لبلونا {لَيَصْرِمُنَّهَا}؛ أي: والله ليصرمن ثمارها من الرطب والعنب، ويقطعنها، ويجمعن محصولها من الزرع وغيره {مُصْبِحِينَ}؛ أي: حال كونهم داخلين في الصباح مبكرين إليها، وسواد الليل باق. و {يصرمنها} جواب القسم، و {مُصْبِحِينَ} حال من فاعل {يصرمنها} وجاء جواب القسم على خلاف منطوقهم، ولو جاء على منطوقهم .. لقيل: لنصرمنها بنون التكلم. 18 - {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)}؛ أي: لا يقولون: إن شاء الله. وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا إن شاء الله بمعنى واحد، والجملة مستأنفة، أو حال بعد حال. والأظهر أنَّ المعنى (¬1): ولا يستثنون حصة المساكين، أي: لا يميزونها ولا يخرجونها كما يفعله أبوهم. وقال أبو حيان: ولا يثنون عما عزموا عليه من منع المساكين، ولعل إيراد الاستثناء بعد إيراد إقسامهم على فعل مضمر لمقصودهم مستنكر عند أرباب المروءة، وأصحاب الفتوة لتقبيح شأنهم بذكر السببين لحرمانهم، وإن كان أحدهما كافيًا فيه، لكن ذكر الإقسام على أمر مستنكر أولًا، وجعل ترك الاستثناء حالًا منه ثانيًا يفيد أصالته وقوته في اقتضاء الحرمان. ومعنى الآية (¬2): أنّا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء وما رحمناهم به من واسع العطاء لنرى حالهم أيشكرون هذه النعم، ويؤدون حقها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[19]

وينيبون إلى ربهم ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد؛ وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثناه لهم هاديًا وبشيرًا ونذيرًا، أم يكفرون به ويكذبونه فيجحدون حق الله عليهم فيبتليهم بعذاب من عنده، ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه، وعزموا على أن لا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل. {إِذْ أَقْسَمُوا} ... إلخ؛ أي: حين حلفوا ليجدُّن ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء، ولم يثنوا عما همُّوا به. 19 - ثم أخبر سبحانه عما جازاهم لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال: {فَطَافَ عَلَيْهَا}؛ أي: على تلك الجنة؛ أي: أحاط بها {طَائِفٌ}؛ أي: بلاء طائف كقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}. وذلك إذ لا يكون الطائف إلا بالليل، وأيضًا دل عليه ما بعده من ذكر النوم. وكان ذلك الطائف نارًا نزلت من السماء، فأحرقتها. وقيل: الطائف جبريل اقتلعها. {مِنْ رَبِّكَ}؛ أي: مبتدىء من جهته تعالى. قال الراغب: الطوف: الدّوران حول الشيء، ومنه: الطائف لمن يدور حول البيت حافظًا، ومنه: استعير الطائف من الجن والحبال والخادم وغيرها. قال تعالى: {فَطَافَ} إلخ، تعريضًا بما نالهم من النائبة انتهى. {وَهُمْ نَائِمُونَ} في محل نصب على الحال؛ أي: وهم (¬1) غافلون عما جرت به المقادير، أو غافلون عن طوافه بالنوم الذي هو أخو الموت. والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، أو أن يتوفى الله النفس من غير موت؛ أي: أن يقطع ضوء الروح عن ظاهر الجسد دون باطنه، أو النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل. وكلّ هذه التعريفات صحيحة. 20 - {فَأَصْبَحَتْ}؛ أي: فصارت تلك الجنة بالاحتراق {كَالصَّرِيمِ}؛ أي: شبيهة بالبستان الذي صرمت وقطعت ثماره بحيث لم يبق منها شيء؛ لأنَّ النار السماوية أحرقتها، أو صارت كالليل في اسودادها؛ لأنّ الليل يقال له: الصريم؛ أي: صارت سوداء كالليل لاحتراقها، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس، والصريم فعيل بمعنى مفعول. والمعنى (¬2): فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلًا، وهم نيام، إذ أرسل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[21]

عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم في السواد. أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيّاكم والمعصية، فإنَّ العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وإنّ العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هيّء له، ثم تلا {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} ... الآية. قد حرموا خير جنتهم بذنبهم". 21 - {فَتَنَادَوْا}؛ أي: نادى بعضهم بعضًا حال كونهم {مُصْبِحِينَ}؛ أي: داخلين في الصباح 22 - {أَنِ اغْدُوا}؛ أي: (¬1) أنّ اغدوا وبكروا على أن {أَنِ} مفسرة؛ لأن في التنادي معنى القول، أو بأن اغدوا وبكّروا على أنّها مصدرية؛ أي: اخرجوا غدوة وأول النهار. {عَلَى حَرْثِكُمْ} وبستانكم وضيعتكم والمراد بالحرث: الثمار والزروع. يقول الفقير: فالحرث يجوز أن يراد به الحاصل مطلقًا، وأن يراد به الزرع خصوصًا؛ لأنه أعزُّ شيء يعيش به الإنسان. وتعدية الغدو بعلى لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء. وقال بعضهم: إنه يتعدى بعلى كما في "القاموس": غدا عليه غدوًّا وغدوة بالضم واغتدى: بكر. قال الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث: حرثًا. قال تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ}؛ أي: قاصدين للصرم وقطع الثمرة، وجمع المحصول. وجواب الشرط محذوف؛ أي: إن كنتم صارمين فاغدوا. وقيل: معنى {صَارِمِينَ} ماضين في العزم من قولهم: سيف صارم. والمعنى (¬2): فنادى بعضهم بعضًا عند طلوع الفجر؛ أي: هلموا واذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب فاصرموها؛ إن كنتم قاصدين للصرم، ولا تخبروا المساكين. 23 - وقد أحكموا التدبير، وأخذوا الأمر جد الخفية حتى لا يستمع لهم أحد، كما قال: {فَانْطَلَقُوا}؛ أي: فمضوا وذهبوا إلى جنتهم وحرثهم {وَهُمْ}؛ أي: والحال أنهم {يَتَخَافَتُونَ} ويسرون الكلام بينهم؛ لئلا يعلم أحد بهم. وقيل (¬3): المعنى: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد. 24 - والأوّل أولى لقوله: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا}؛ أي: الجنة {الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) الشوكاني.

[25]

المساكين فضلًا عن أن يكثروا. لأنَّ {أن} هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول. والمعنى: يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم. والمعنى (¬1): يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والسر كي لا يسمع أحد بهم، ولا يدخل عليهم. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة {لَا يَدْخُلَنَّهَا} بإسقاط أن على إضمار يقولون. والمسكين: هو الذي لا شيء له، وهو أبلغ من الفقير، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم: لا أرينك هاهنا، فإنّ دخول المسكين عليهم لازم لتمكينهم إيّاه من الدخول كما أنَّ رؤية المتكلم المخاطب لازم لحضوره عنده، فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم. 25 - {وَغَدَوْا}؛ أي: مشوا بكرة مصممين {عَلَى حَرْدٍ}؛ أي: على منع المساكين وحرمانهم. والحرد: المنع عن حدة وغضب، يقال: نزل فلان حريدًا، أيّ: ممتنعًا من مخالطة القوم، وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درها، وحرد: غضب. وقرأ الجمهور {حَرْدٍ} بسكون الراء، وقرأ أبو العالية، وابن السميفع بفتحها. {قَادِرِينَ} حال مقدرة من فاعل {غَدَوْا}، فإنَّ القدرة مع الفعل عند أهل الحقّ. والمعنى: أي وخرجوا أول الصباح مصممين على امتناع من أن يتناول المساكين من جنتهم حال كونهم قادرين على نفعهم أو على الاجتناء، والصرم بزعمهم، فلم يحصل إلّا الكد والحرمان، فهم قد تعجلوا الحرمان، وكان أولى بهم أنت تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه. ولكن (¬2) واخيبة أملاه، وواضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين، ولا يخطر لهم ببال بستان كان بالأمس عامرًا زاخرًا بالخير والبركة أصبح قاعًا صفصفًا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه حتى تشككوا فيه حين رأوه، 26 - كما قال سبحانه؛ {فَلَمَّا رَأَوْهَا}؛ أي: فلما صاروا إلى جنتهم ورأوها محترقة أنكروها، وشكوا فيها، و {قَالُوا}؛ أي: قال بعضهم لبعضٍ: {إِنَّا لَضَالُّونَ} عن طريق جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها، أي: قالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟. 27 - ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[28]

واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا مضربين عن قولهم الأوّل: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}؛ أي: لسنا بضالين بل نحن قد حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا بشؤم عزمنا على البخل، ومنع مساعدة البائسين والمعوزين، 28 - وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيًا عنهم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}؛ أي: أرجحهم رأيًا وأحسنهم تدبيرًا {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا قوم {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}؛ أي: هلا تذكرون الله سبحانه بالتسبيح والتلهيل والتكبير وغيرها، وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدّوا حق البائس الفقير، وتتوبون إليه من خبث نيتكم ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، ولكنكم أعرضتم عما أظهرتُ لكم به من الرأي، وضربتم به عرض الحائط، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا إليه من هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم. وفي الآية (¬1): دليل على أنّ العزم على المعصية مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيرها قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}، وعلى هذا قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، والعزم: قوة قصد الفعل والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به. وأما الهم وهو ترجيح قصد الفعل فمرفوع. 29 - وبعد اللتيا والتي (¬2) وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم، كما حكى عنهم سبحانه بقوله: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا}؛ أي: تنزيهًا لربنا عن أن يكون ظالمًا فيما صنع بجنتنا؛ أي: قالوا معترفين بالذنب، والاعتراف به يعد من التوبة: {سُبْحَانَ رَبِّنَا}؛ أي: تنزه مالك أمرنا عن كل سوء ونقصان سيما عن أن يكون ظالمًا فيما فعل بنا. {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لأنفسنا بقصد حرمان المساكين اتباعًا لشح النفس، كأنهم قالوا: نستغفر الله من سوء صنيعنا، ونتوب إليه من خبث نيتنا حيث قصدنا عدم إخراج حق المساكين من غلة بستاننا، ولو تكلموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله، لكنّهم تكلَّموا بعد خراب البصرة، هيهات هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصة. وهكذا شأن الإنسان. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[30]

30 - وبعد أن حدث ما حدث ألقى كلّ منهم تبعة ما وقع على غيره، وتشاحنوا وهذا ما أشار إليه بقوله سبحانه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} حال كونهم {يَتَلَاوَمُونَ}؛ أي: يلوم (¬1) بعضهم بعضًا على ما فعلوا، فإنَّ منهم من أشار بذلك، ومنهم من استصوبه، ومنهم من سكت راضيًا به، ومنهم من أنكره. فيقول هذا لهذا: أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأي، وبقول ذاك لهذا: أنت الذي خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغّبتني في جمع المال. 31 - ثم نادوا عفى أنفسهم بالويل والثبور، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيًا عنهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} ويا هلاكنا أقبل إلينا لنتعجب منك، أي: قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك. ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم: {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}؛ أي: عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كيسان أي: طغينا في نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل. 32 - ثم رجعوا إلى الله، وسألوه أن يعوضهم بخير منها، فقالوا: {عَسَى رَبُّنَا}؛ أي: نترجى ربنا {أَنْ يُبْدِلَنَا} ويعطينا بدلًا {خَيْرًا مِنْهَا} أي: من جنتنا بتوبتنا من زلَّاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا. قيل: إنهم تعاقدوا فيما بينهم، وقالوا: إن أبدلنا الله خيرًا منها لنصنعن كما صنع أبونا، فدعوا الله وتضرّعوا إليه، فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها. قيل: إنَّ الله أمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقرأ الجمهور (¬2) {يُبْدِلَنَا} بالتخفيف من الإبدال. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتشديد من التبديل، وهما لغتان. والإبدال: رفع الشيء جملةً ووضع آخر مكانه. والتبديل: تغيير ذات الشيء أو تغيير صفته. {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}؛ أي: راجون العفو منه، طالبون الخير منه، راجعون إليه تعالى. و {إِلَى} لانتهاء الرغبة؛ لأنّ الله تعالى منتهى رجائهم، وطلبهم أو لتضمنها معنى الرجوع، وإلا فالمشهور أن تتعدى الرغبة بكلمة في أو عن دون إلى. روى عن مجاهد: أنهم تابوا فأبدلهم الله تعالى خيرًا منها. 33 - {كَذَلِكَ} خبر مقدم لإفادة القصر {الْعَذَابُ} مبتدأ مؤخر، والألف واللام فيه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[34]

للعهد؛ أي: مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة، وأصحاب الجنة المذكورة العذاب؛ أي: عذاب الدنيا النازل فيها على من طغى بمنع حقوق الله تعالى. وفي "كشف الأسرار": كذلك أفعل بأمتك يا محمد إذا لم تعطف أغنياؤهم على فقرائهم بأن أمنعهم القطر، وأرسل عليهم الجوائح، وأرفع البركة من زروعهم وتجارتهم. ففيه وعيد لمانعي الزكاة والصدقة بإهلاك المال، وإنزال العذاب بأيّ طريق كان. والمعنى (¬1): وهكذا عذاب من خالف أمر الله تعالى، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير، وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصر على الكفر والمعصية. وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم، ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة، فقال: {وَلَعَذَابُ اَلأَخِرَةِ} المعد للكفرة والطغاة {أَكْبَرُ}؛ أي: أشدُّ وأعظم لبقائه ودوامه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؛ أي: لو كان المشركون يعلمون أنه أكبر وأعظم لاحترزوا عما يؤديهم إليه، ويطرحهم ويرميهم فيه، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولذلك أصروا على إشراكهم وتكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وجواب الشرط محذوف كما قدرنا. والخلاصة: أنَّ عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار وقودها الناس والحجارة، لو كانوا من ذوي العلم والمعرفة .. لارتدعوا عن غيّهم، وثابوا إلى رشدهم، وهذا نعي عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النهى والمعرفة. 34 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر حال الكفّار وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة .. ذكر حال المتقين، وما أعده لهم من الخير، فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي {عِنْدَ رَبِّهِمْ} سبحانه وتعالى في الدار الآخرة {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الخالص الذي لا يشوبه كدر، ولا ينغّصه خوف زوال. وذكر (¬2) {عِنْدَ} للتشريف والتكريم، وذلك لأنه لا ملك فيها حقيقة ولا صورة إلا لله تعالى، فكأنها حاضرة عنده تعالى يتصرف فيها كيف يشاء، وإلا فمحال كون عندية الجنة بالنسبة إلى الله تعالى مكانيةً، وهي ظرف معمول للاستقرار الذي تعلق به للمتقين. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[35]

ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف منصوب على الحالية من المنويّ في قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} ولا يجوز أن يكون حالًا من جنات لعدم العامل. والأظهر: أنّ معنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في جوار القدس، فالمراد عنديّة المكانة المنزهّة عن الجهة والتحيز لا عندية المكان، كما في قوله تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}، إذ للمقرّبين قرب معنويّ من الله تعالى. ومعنى {جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال، كما عليه نعيم الدنيا. واستفيد الحصر من الإضافة اللامية الاختصاصية، فإنها تفيد اختصاص المضاف إليه. وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها، فإذا سمعوا ذكر الآخرة، وما وعد الله المسلمين فيها قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. 35 - فرد الله سبحانه عليهم مكذّبًا لهم بقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} ... إلخ. والهمزة (¬1) فيه للاستفهام الإنكاري داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنحيف في الحكم فنجعل المؤمنين كالكافرين في حصول النجاة والوصول إلى الدرجات، فنسوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء. والمراد (¬2) بالمجرمين الكافرون على ما دل عليه سبب النزول، وهم المجرمون الكاملون الذين أجرموا بالكفر والشرك، وإلا فالإجرام في الجملة لا ينافي الإسلام نعم المسلم المطيع ليس كالمسلم الفاسق. ففيه وعظ للعاقل وزجر للمتبصر. 36 - ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده: {مَا لَكُمْ} أيها المجرمون {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج الأقبح، كأنَّ أمر الجزاء مفوض إليكم فتحكمون فيه بما شئتم. وهذا تعجيب من حكمهم، واستبعاد له، وإيذان بأنّه لا يصدر عن عاقل. و {مَا} الاستفهامية في موضع رفع بالابتداء، والاستفهام للإنكار؛ أي: لإنكار أن يكون لهم وجه مقبول يعْتدّ به في دعواهم حتى يتمسّك به، و {لَكُمْ} خبرها. والمعنى: أيّ شيء ظهر لكم حتى حكمتم هذا الحكم القبيح كأنَّ أمر الجزاء مفوّض إليكم فتحكمون فيه بما شئتم. ومعنى {كيفَ} في أيّ حال حكمتم أفي حال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[37]

العلم حكمتم أم في حال الجهل؟ فيكون ظرفًا أو أعالمين حكمتم أم جاهلين؟ فيكون حالًا. والخلاصة: أي ماذا حصل لكم من فساد الرأي وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟ 37 - ثم سد عليهم طريق القول، وقطع عليهم كلَّ حجة يستندون إليها فيما يدّعون، فقال: {أَمْ لَكُمْ}؛ أي: بل ألكم {كِتَابٌ} نازل من السماء. و {أَمَّ} فيه منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار. {فِيهِ} متعلق بقوله: {تَدْرُسُونَ} أي: تقرؤون فيه 38 - {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} أي: في ذلك الكتاب، أو في يوم القيام {لَمَا تَخَيَّرُونَ} وتشتهون؛ أي: بل ألكم كتالت نازل من السماء فيه تقرؤون أنّ لكم في ذلك الكتاب ما تشتهونه في الآخرة. وأصل الكلام: {أنّ لكم} بالفتح؛ لأنّه مدروس فيكون مفعولًا واقعًا مَوْقِعَ المفرد، وتكون لام الابتداء زائدة. فلا تكسر همزة {إنّ} ولكن لما جيءَ باللام كسرت، فإن لام الابتداء لا تدخل على ما هو في حيّز {أنّ} المفتوحة، وهذه اللام للابتداء، داخلة على اسم {إنّ}. والمعنى: تدرسون في الكتاب أنّ لكم في الآخرة ما تختارونه لأنفسكم، وأن يكون العاصي المطيع بل أرفع حالًا منه، فأتوا بكتاب إن كنتم صادقين. ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)}، فيكون الموضع من مواضع كسر همزة {إنّ} لعدم وقوعها موقع المفرد، حكاه الله في القرآن بصورته. والفرق بين الوجهين: أنّ المدروس في الأول ما انسبك من الجملة، وفي الثاني الجملة بلفظها. وقوله: {فِيِه} لا يستغنى عنه بفيه أوّلًا، فقد يكتب المؤلف في كتابه ترغيبًا للناس في مطالعته أنّ في هذا الكتاب كذا وكذا. قال سعديٌّ المفتي: لك أن تمنع كون الضمير للكتاب، بل الظاهر أنّه ليوم القيام المعلوم بدلالة المقام. وقرأ الجمهور (¬1): {إنَّ لَكُمْ} بكسر الهمزة، فقيل: هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتابًا فلكم فيه متخيَّر. وقيل: {أنَّ} معمولة لتدرسون؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[39]

تدرسون في الكتاب أنّ لكم لما تخيّرون؛ أي: تختارون من النعيم. وكسرت الهمزة من {إنّ} لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى {أنّ} بفتح الهمزة، قاله الزمخشريّ، وبدأ به، وقال: ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} انتهى. وقرأ طلحة بن مصرف والضحاك {أن لكم} بفتح الهمزة، واللام في {لَمَا} زائدة كهي في قراءة من قرأ {ألا أنهم ليأكلون الطعام} بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج {أأنّ لكم} على الاستفهام. وحاصل معنى الآية (¬1): أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه، وتتداولونه ينقله الخلف من السلف، يتضمن حكمًا مؤكَّدًا كما تدّعون أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأنَّ الأمر مفوّض إليكم لا إلى غيركم. وخلاصة هذا: أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا؟ أم جاءكم كتاب فيه تخييركم، وتفويض الأمر إليه. 39 - ثم زاد سبحانه في التوبيخ، فقال: {أَمَّ لَكُمْ}؛ أي: بل ألكم أيّها المشركون {أَيْمَانٌ}؛ أي: مواثيق وعهود مؤكّدة بالأيمان مضمونة لكم {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} نهاية الصحة وغاية الجودة، لا نخرج من عهدتها {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} على {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} وتشتهون. و {أَمَّ} منقطعة تقدر بـ (بل) الإضرابية وهمزة الإنكار، نظير ما مرّ. و {عَلَيْنَا} (¬2) صفة {أَيْمَانٌ}، وكذا {بَالِغَةٌ}؛ أي: متناهية في التوكيد والصحة؛ لأنّ كل شيء يكون في نهاية الجودة وغاية الصحة يوصف بأنّه بالغ، يقال لفلان عليَّ يمين بكذا إذا ضمنت وكفلت له به، وحلفت له على الوفاء به؛ أي: بل أضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة، فثبت لكم علينا عهود مؤكدة بالأيمان مستمرة إلى يوم القيامة لا نخرج من عهدتها إلا بوفائها. وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} متعلّق بالمقدر في {لَكُمْ}؛ أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج من عهدتها حتى نحكمكم يومئذٍ، ونعطيكم ما تحكمون، أو متعلق بـ {بَالِغَةٌ}؛ أي: أيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه الذي هو التحكيم واتباعنا لحكمهم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[40]

وعبارة الخازن هنا: معناه: ألكم عهود ومواثيق مؤكَّدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا إلى يوم القيامة؛ أي: لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة إن لكم في ذلك العهد لما تحكمون لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله تعالى، انتهى. وقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم، وقيل: قد تمّ الكلام عند قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: ليس الأمر كذلك. وقرأ الجمهور (¬1): {بَالِغَةٌ} بالرفع على النعت لـ {أَيْمَانٌ}. وقرأ الحسن وزيد بن علي بنصبها على الحال من {أَيْمَانٌ}؛ لأنّها قد تخصصت بالوصف، أو من الضمير في {لَكُمْ}، أو من الضمير في {عَلَيْنَا}. وقرأ الأعرج {إن لكم علي} كالتي قبلها على الاستفهام. والمعنى: أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة على أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون. وخلاصة ذلك: أم أقسمنا لكم قسما على أنَّ لكم كل ما تحبون. 40 - ثم طلب إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع، فقال: {سَلْهُمْ} أمر من (¬2) سأل يسأل بحذف العين وهمزة الوصل. وهو تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسقاطهم عن درجة الخطاب؛ أي: سل يا محمّد هؤلاء المشركين مبكتًا لهم {أَيُّهُمْ بِذَلِكَ} الحكم الخارج عن المعقول {زَعِيمٌ}؛ أي: كفيل متصدٍّ لتصحيحه كفيل لهم بأنَّ لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها. والزعيم: هو القائم بالدعوى وإقامة الحجة عليها؛ أي: قل لهم: من الكفيل لهم بتنفيذ هذا الحكم الخارج عن الصواب. 41 - {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}؛ أي: بل ألهم ناس يشاركونهم في هذا الرأي والقول الفاسد، ويذهبون مذهبهم، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين في الآخرة. وإن كان الأمر كذلك {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} وموافقيهم في هذا الرأي القبيح {إنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم، وقولهم هذا، إذ لا أقل من التقليد. وهو أمر تعجيز، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[42]

وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. يعني (¬1): أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب، وهو التسوية بين المحسن والمسيء كما قال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}، ولا دليل نقلي، وهو كتاب يدرسونه، ولا عهود موثقة بالأيمان فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول حتى يقلدوهم، وإن كان التقليد لا يفلح من تشبث بذيله. فثبت أن ما زعموا باطل من كل الوجوه. وقيل: المعنى (¬2) أم لهم شركاء وآلهة يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة. وقصارى هذا الحجاج (¬3): نفي جميع ما يمكن أن يتعلقا به في تحقيق دعواهم، فنبه أوَّلًا إلى نفي الدليل العقلي بقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} ثم إلى نفي الدليل النقلي بقوله: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)} ثم إلى نفي الوعد بذلك ووعد الكريم دين عليه بقوله: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} ثم إلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}. وقرأ الجمهور (¬4): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة {فليأتوا بشركهم}. قيل: والمراد في القراءتين الأصنام، أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه؛ أي: لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله، ولا زعيم بذلك فليأتوا بشركائهم. وهذا استدعاء وتوقيف وتعجيز. 42 - وقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} منصوب بـ (اذكر) المقدر، و {عَنْ سَاقٍ} نائب فاعل لـ {يُكْشَفُ}، والمراد به يوم القيامة؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين ولسائر أمّتك أهوال يوم يكشف الله سبحانه عن ساقه، ويتجلى لعباده، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة. وقيل: الساق متعلق بقوله: {فَلْيَأْتُوا} أي: فليأتوا بشركائهم، وآلهتهم يوم يكشف عن ساق ليشفعوا لهم. وقيل: التقدير: يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، حذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث. {وَيُدْعَوْنَ} أي: ويُدعى الكفّار والمنافقون {إِلَى السُّجُودِ} له تعالى توبيخًا وتعنيفًا لهم على تركهم إيّاه في الدنيا، وتحسيرًا لهم على تفريطهم في ذلك، لا على سبيل التكليف والتعبّد؛ لأنَّ يوم القيامة ليس دار تعبّد وتكليف. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}؛ أي: الكفرة والمنافقون على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

السجود لزوال القدرة الحقيقية عليه عنهم. وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك. قال ابن مسعود رضي الله عنه: تعقم أصلابهم؛ أي: ترد عظامًا بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض، فيبقون قيامًا على حالهم حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على تفريطهم في الدنيا. قال الواحدي: قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدةً، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا. فصل في الاختلاف في معنى الساق وهذا التفسير الذي ذكرناه في بيان معنى الساق وإيضاح معنى الآية هو المذهب الأسلم الذي عليه السلف، ونلقى عليه الرب سبحانه. فساق الله صفة ثابتة له نثبتها، ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ومعنى كشف الساق رفع الحجاب بينه وبين عابده. وقد دلت على هذا المعنى أحاديث مرفوعة صحيحة. وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا"، وهذا الحديث ثابت من طرق كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما، وله ألفاظ في بعضها طول، وهو حديث مشهور معروف. وأخرج ابن منده عن أبي هريرة رضي الله عنه في الآية قال: "يكشف الله عز وجل عن ساقه". وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال: يكشف عن ساقه تبارك وتعالى. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وضعفه وابن عساكر عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عن نور عظيم فيخرون له سجدًا". وقيل: معنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وكشف الساق مثل في ذلك، ولا كشف ولا ساق ثمة كما تقول للأقطع الشحيح: يده

مغلولة ولا يد ثمة ولا غل، وإنما هو مثل في البخل بأن شبهت حال البخيل في عدم تيسر الإنفاق له بحال من غلت يده، وكذا شبهت هنا حال من اشتد عليه الأمر في الموقف بالمخدرات اللاتي اشتد عليهن الأمر، فاحتجن إلى تشمير سوقهن في الهرب بسبب وقوع أمر هائل بالغ إلى نهاية الشدة مع أنهن لا يخرجن من بيوتهن، ولا يبدين زينتهن لغير محارمهن لغاية خوفهن، وزوال عقلهن من دهشتهن، وفرارهن لخلاص أنفسهن، فاستعمل في حق أهل الموقف من الأشقياء ما يستعمل في حقهن من غير تصرف في مفردات التركيب، بل التصرف إنما هو في الهيئة التركيبية. فكشف الساق استعارةٌ تمثيلية في اشتداد الأمر وصعوبته. ومعنى الآية على هذا القول: فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الخطب يوم القيامة، ويدعون إلى السجود توبيخًا لهم على تركهم إيّاه في الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه في الدنيا، وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا. وقيل: الساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة تقول العرب: كشفت الحرب عن ساقها إذا عظم أمرها، وتقول لمن وقع في أمر عظيم شديد يحتاج فيه إلى جهد ومقاساة؛ شمر عن ساقك، وكذلك التفت الساق بالساق؛ أي: دخلت الأهوال والأمور العظام بعضها إلى بعض يوم القيامة. والمعنى عليه: يوم يكشف عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة. وتنكيره على هذا الوجه للتهويل؛ لأنَّ يوم القيامة يوم يقع فيه أمر فظيع هائل منكر خارج عن المألوف. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، فإنَّ ساق الشجر مثلًا أصله والأغصان تنبت على ذلك الأصل وتقوم به. والمعنى عليه: يوم يكشف عن ساق الأمور وأصولها وحقائقها بحيث تظهر وتصير عيانا. وعلى هذا فالتنوين للتعظيم. وقيل: يكشف عن ساق جهنم، وقيل: عن ساق العرش، وقيل: هو عبارة عن القرب، وقيل: يكشف الرب عن نوره. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه سئل عن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} فقال: إذا خفي عليكم شيء

[43]

من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر: سَنَّ لَنَا قَوْمُكَ ضَرْبَ الأَعْنَاقِ ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ قال ابن عباس: هذا يوم كرب شديد، روي عنه نحو هذا من طرق أخرى، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيمًا ولا تشبيهًا، فليس كمثله شيء، ولقد أجاد من قال: دَعُوا كُلَّ قولِ عِنْدَ قَوْلٍ مُحَمَّدٍ ... فَمَا آمِنٌ فِي دِيْنِهِ كَمُخَاطِرِ وقرأ الجمهور (¬1): {يُكْشَفُ} بالتحتية مبنيًا للمفعول. وقرأ ابن مسعود وابن عباس، وابن أبي عبلة {تكشف} بفتح الفوقية مبنيًا للفاعل، أي: الشدّة والساعة. وقرأ ابن عباس وابن مسعود أيضًا، وابن هرمز بالنون. وقرىء بالفوقية مبنيًا للمفعول. وقرىء {يكشف} بالياء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف، ومنه: أكشف الرجل: انقلبت شفته العليا. 43 - {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} حال من ضمير {يُدْعَوْنَ} على أنَّ {أَبْصَارُهُمْ} مرتفع به على الفاعلية. ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها، وإلا فالأعضاء أيضًا خاشعة ذليلة متواضعة بل الخاشع في الحقيقة هو القلب لكونه مبدأ الخشوع. وذلك أن المسلمين إذا رفعوا رؤوسهم من السجود صارت بيضاء كالثلج، فلما نظر إليهم اليهود والنصارى والمنافقون، وهم الذين لم يقدروا على السجود حزنوا واغتموا واسودت وجوههم، كما قال تعالى: {تَرْهَقُهُمْ} أي: تلحقهم وتغشاهم {ذِلَّةٌ}؛ شديدة تخزيهم وحسرة وندامة، كأنّه تصير لخشوع أبصارهم. {وَقَدْ كَانُوا} في الدنيا {يُدْعَوْنَ} دعوة التكليف {إِلَى السُّجُودِ}؛ أي: إليه. والإظهار (¬2) في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلاة أو ما فيها من السجود. وخص السجود بالذكر من حيث إنه أعظم الطاعات. قال بعضهم: يدعون بدعوة الله صريحًا مثل قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} أو ضمنا مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فإن الدعوة إلى الصلاة دعوة إلى السجود، وبدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صريحًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[44]

كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". قالوا؛ أي: السجود. أو ضمنًا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم". وبدعوة علماء كل عصر ومن أعظم الدعوة إلى السجود أذان المؤذنين وإقامتهم، فإن قولهم: حي على الصلاة دعوة بلا مرية، فطوبى لمن أجاب دعوتهم بطوع لا بإكراه امتثالًا لقوله تعالى: {أجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}. والجملة حال من ضمير {يُدْعَوْنَ}، وجملة قوله: {وَهُمْ سَالِمُونَ} حال من مرفوع يدعون الثاني؛ أي: أصحاء في الدنيا معافون من العلل، سلمت أعضاؤهم ومفاصلهم من الآفات والعلل، متمكنون من الفعل وأداء السجدة وقبول الدعوة أقوى تمكن؛ أي: فلا يجيبون إليه، ويأبونه. وإنما ترك ذكره ثقة بظهوره. وفي الآية وعيد لمن ترك الصلاة المفروضة أو تخلف عن الجماعة المشروعة. قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادع الله أن يرزقني مرافقتك في الجنة، فقال: أعني بكثرة السجود. وكان السلف يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتهم التكبيرة الأولى مع الإِمام، وسبعة أيام إذا فاتهم الجماعة. والمعنى (¬1): يدعون إلى السجود، وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة في ذلك اليوم، وقد كانوا في الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}؛ أي: إنهم لمّا دعوا إلى السجود في الدنيا، فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم عوقبوا في الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، فكلّما همّ السجود خرّ لقفاه بعكس السجود في الدنيا. وقال النخعي، والشعبيّ: المراد بالسجود الصلوات المفروضة. وقال آخرون: إنّ المراد جميع العبادات. 44 - والفاء في قوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم في الدنيا والآخرة، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ذرني ومن يكذب .. إلخ. و {مَنْ} (¬2) الموصولة في محل النصب على أنه معطوف على ضمير المتكلم أو على أنّه مفعول معه، وهو مرجوح ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

لإمكان العطف من غير ضعف؛ أي: إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرني؛ أي: دعني واتركني ومن يكذب بالقرآن وخلّ بيني وبينه، ولا تشغل قلبك بشأنه، وتوكل عليّ في الانتقام منه، فإنّي عالم بما يستحقه من العذاب، ويطيق له وكافيك أمره. يقال: ذرني وإيّاه يريدون كله إلى فإني أكفيك. قال في "فتح الرحمن": وعيد ولم يكن ثمّة مانع ولكنه كما تقول: دعني مع فلان؛ أي: سأعاقبه. والمراد بالحديث هنا القرآن؛ لأنَّ كلَّ كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث. والمعنى (¬1): كِلْ أيها الرسول أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليَّ ولا تشغل قلبك بشأنهم، فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلًا: دعني وإياه وخلّني واياه، وأنا أعلم بمساءته والانتقام منه، وفي هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد للمشركين، كما لا يخفى. والخلاصة: حسبك انتقامًا منهم أن تأكل أمرهم إليّ، وتخليَ بيني وبينهم. ثم بين كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالًا من الكلام السابق، فقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ أي: سنتنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان وإدامة الصحة وازدياد النعمة حتى نوقعهم فيه. فاستدراج (¬2) الشخص إلى العذاب عبارة عن هذا الاستنزال والاستدناء، يقال: استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه. {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: من الجهة التي لا يشعرون أنّه استدراج، وهو الإنعام عليهم؛ لأنّهم يحسبونه إيثارًا لهم وتفضيلًا على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم في العاقبة. وهذه الجملة (¬3) مستأنفة مسوقة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} والضمير عائد إلى {مَنْ} باعتبار معناها، والمعنى: سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنّهم يظنونه إنعامًا ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته. قال سفيان الثوري: يسبغ عليهم النعم، وينسيهم الشكر. وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[45]

وكم من مغرور بالستر عليه. والاستدراج: ترك المعاجلة، وأصله: النقل من حال إلى حال. وفي الحديث: "إذا رأيت الله ينعم على عبد، وهو مقيم على معصيته، فاعلم أنه مستدرج، وتلا هذه الآية. وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "من وسع عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع من عقله". قال بعض أهل المعرفة من المكر الإلهي بالعبد أن يرزق العلم ويحرم العمل به أو يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه، فمن علم اتصافه بهذا من نفسه فليعلم أنه ممكور به، وأخفى ما يكون المكر الإلهي في المتأولين من أهل الاجتهاد وغيرهم، ومن يعتقد أن كل مجتهد مصيب يدعو الناس على بصيرة وعلم قطعي. ونحو الآية قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}، وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}. 45 - ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين، فقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ}؛ أي: وأمهلهم بإطالة العمر، وتأخير الأجل ليزدادوا إثمًا وهم يزعمون أنّ ذلك لإرادة الخير بهم. {إنَّ كَيْدِي} بالإمهال المؤذي إلى العذاب {مَتِينٌ} أي: قويّ شديد لا يطاق، ولا يدفع بشيء. والمعنى: أمهلهم وأؤخرهم وأنسىء في آجالهم ملاوة ومدة من الزمان على كفرهم، وتمردهم عليَّ لتتكامل حججي عليهم، وإنّ كيدي لأهل الكفر لقوي شديد. وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدًا. والكيد: ضرب من الاحتيال لكونه في صورته من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرًا، وهو يريد الضرر لما علم من حيث طويتهم، وسوء استمدادهم وتماديهم في الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي. وفي "الصحيحين" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}. وفي "الكشاف": سمي إحسانه وتمكينه لهم كيدًا كما سمّاه استدراجًا لكونه في صورة الكيد، حيث كان سببًا للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر

[46]

إحسانه في التسبب للهلاك. قال بعضهم: الكيد: إظهار النفع وإبطان الضر للمكيد. وفي "التعريفات": الكيد؛ إرادة مضرة الغير خفية. وهو من الخلق الحِيْلَةُ السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق من حيث لا يعرف. قلت: والقول الأصح الأسلم الموافق لمذهب السلف. أن يقال في تعريف الكيد في حقه تعالى: إنه صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها بها مجازاة الخلق على أعمالهم السيئة في الدنيا. 46 - ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال: 1 - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} معطوف في المعنى على قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}؛ أي: بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المكذبين لك {أَجْرًا}؛ أي: ثوابًا دنيويًا وتلتمس منهم مكافأة على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله سبحانه. {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ}؛ أي: من غرامة ذلك الأجر وحملها {مُثْقَلُونَ}؛ أي: مكلّفون حملًا ثقيلًا فيعرضون عنك، أي: يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب. والاستفهام هنا كسابقه فيما مرّ للإنكار؛ أي: لا تسأل منهم ذلك فليس لهم عذر في إعراضهم وفرارهم منك. والمغرم مصدر ميميّ بمعنى الغرامة، والغرامة (¬1): هي ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه. والمعنى: بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرًا دنيويًا، فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنّبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول في الدين الذي دعوتهم إليه. وخلاصة ذلك: أن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلًا وعنادًا. 2 - 47 {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ}؛ أي: اللوح المحفوظ، أو كل ما غاب عنهم {فَهُمْ} من ذلك الغيب {يَكْتُبُونَ} ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على ما ¬

_ (¬1) روح البيان.

[48]

يقولون من التسوية بين المؤمن والكافر، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله. 48 - ولما بالغ في تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عمّا هم عليه أمر رسوله بالصبر على أذاهم، فقال: {فَاصْبِرْ} أيها الرسول الكريم {لِحُكْمِ رَبِّكَ}؛ أي: لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه. قيل: والحكم هو إمهالهم وتأخير نصرته عليهم. وقيل: هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة. قيل: وهذا منسوخ بآية السيف كما مرَّ في أول السورة عن ابن حزم. والمعنى: فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم لك، وأذاهم إيّاك. روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة، فنزل قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ} أيها الرسول الكريم في التضجر والعجلة بعقوبة قومك {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يونس بن متّى عليه السلام؛ أي: مثله. {إِذْ نَادَى} صاحب الحوت داعيًا إلى الله في بطن الحوت بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. {وَهُوَ مَكظُومٌ}؛ أي: مملوء غيظًا وغما، والجملة حال من فاعل {نَادَى}، وعليها يدور النهي؛ لأنّها عبارة عن الضجرة والمغاضبة المذكورة صريحًا في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}. لا على النداء، فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادى. و {إِذْ} منصوب بمضاف محذوف؛ أي: لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجرة والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، وهو التقام الحوت أو بنحو ذلك. قال قتادة: إنّ الله سبحانه يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويأمره بالصبر، ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت. وقد تقدّم بيان قصته في سورة الأنبياء، ويونس والصافات. ومعنى الآية (¬1): ولا تكن يا محمد كيونس بن متّى حين ذهب مغاضبًا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر، والتقام الحوت له، وشروده به في البحار، فنادى ربه في الظلمات من بطن الحوت، وهو مملوء غيظًا من قومه إذ لم يؤمنوا ¬

_ (¬1) المراغي.

[49]

حين دعاهم إلى الإيمان" وجاء في الآية الأخرى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}. وقال بعضهم: المعنى (¬1): فاصبر لحكم ربك بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ونجاة من نجا وهلاك من هلك، ولا تكن كصاحب الحوت في استيلاء صفات النفس عليه، وغلبة الطيش والغضب للاحتجاب عن حكم الرب حتى رد عن جناب القدس إلى مقر الطبع، فالتقمه حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس، وابتلي بالاجتنان في بطن حوت الرحم انتهى. 49 - {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ}؛ أي: ناله، وبلغه، ووصل إليه {نِعْمَةٌ}؛ أي: رحمة كائنة {مِنْ رَبِّهِ} سبحانه، وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه. وحسن تذكير الفعل للفصل بالضمير، و {أن} المصدرية مع الفعل في تأويل مصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولولا تدارك نعمة من ربه حاصل {لَنُبِذَ}؛ أي: طرح من بطن الحوت، فإن النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. {بِالْعَرَاءِ} أي: بالأرض الخالية من الأشجار. قال الراغب: العراء: مكان لا سترة به. {وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي مليم مطرود من الرحمة والكرامة، لكنّه رحم فنبذ غير مذموم بل سقيمًا من جهة الجسد. والجملة حال من مرفوع {نبذ} عليها يعتمد جواب {لَوْلَا}؛ لأنها هي المنفية لا النبذ بالعراء، كما في الحال الأولى؛ لأنه نبذ غير مذموم بل محمود. ومليم من ألام الرجل بمعنى أتى ما يلام عليه، ودخل في اللوم. فإن قلت: فسر المذموم بالمليم وقد أثبته الله تعالى بقوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}. أجيب: عن ذلك التفسير: بأن الإلامة حين الالتقام لا تستلزم الإلامة حين النبذ، إذ التدارك نفاها، فالتفت على ما هو حكم لولا الامتناعية، كما أشير إليه في تصوير المعنى آنفًا. والخلاصة: أي لولا أنْ تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه .. لطرح بالقضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة. وقرأ الجمهور: {تَدَارَكَهُ} فعلًا ماضيًا، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

الفصل وقرأ أبي، وابن مسعود، وابن عباس {تداركته} بتاء التأنيث. وقرأ الحسن، وابن هرمز، والأعمش بتشديد الدال، والأصل: تتداركه بتاءين مضارعًا، فأدغم، وتكون هذه القراءة على حكاية الحال الماضية. 50 - وقوله: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} معطوف على مقدّر، أي: فتداركته نعمة ورحمة من ربه، فاصطفاه وجمعه إليه، وقرّبه بالتوبة عليه بأن رد إليه الوحي، وأرسله إلى مئة ألف أو يزيدون. يقال: جببت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له جابية، والاجتباء: الجمع على طرق الاصطفاء. وقيل: معناه: استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيًّا قبل هذه الواقعة، ومن أنكر الكرامات والإرهاص لا بد أن يختار القول الأول؛ لأنّ احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصًا ولا كرامة لا بد أن يكون معجزة، وذلك يقتضي أن يكون رسولًا قبل هذه الواقعة؛ أي: استخلصه واصطفاه واختاره للنبوة. {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ أي؛ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلًا يكون تركه أولى. وقيل: رد إليه النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه، وأرسله إلى مئة ألف أو يزيدون كما تقدم. رُوي: أنها نزلت بأحد حين همَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو على المنهزمين، فتكون الآية مدنية. وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف، كما مرّ. ودلت الآية على فضيلة الصبر، وعلى أن ترك الأولى يصدر من الأنبياء عليهم السلام، وإلا لما كان يونس عليه السلام مليمًا، وعلى أن الندم على ما فرط من العبد والتضرع إلى الله لذلك من وسائل الإكرام، وعلى أن توفيق الله نعمة باطنة منه، وعلى أن الصلاح درجة عالية لا ينالها إلا أهل الاجتباء، وعلى أن فعل العبد مخلوق لله لدلالة قوله: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وعلى أن الصلاح إنما يكون بجعل الله وخلقه، وإن كان للعبد مدخل فيه بسبب الكسب بصرف إرادته الجزئية خلافًا للمعتزلة. 51 - ثم بين سبحانه بالغ عداوتهم له - صلى الله عليه وسلم -، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر، فقال: {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة، واللام دليل عليها؛ أي: وإن الشأن والحال {يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من كفّار مكة؛ أي: يقرب الذين كفروا {لَيُزْلِقُونَكَ} وينظرونك {بِأَبْصَارِهِمْ} نظرًا شديدًا بمؤخر العين لشدة عداوتهم وبغضهم إياك، بحيث يصيبونك بعيونهم ويصرعونك على الأرض كالمغمى عليه. وقيل: معنى {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} ليأخذونك بالعين.

وقرأ الجمهور: {لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء من أزلقه إذا أزل رجله. وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من: زلق عن موضعه إذا تنحى. وقرأ ابن مسعود وابن عباس، والأعمش، وعيسى، ومجاهد، وأبو وائل {ليزهقونك}. أي: يهلكونك بأبصارهم، ذكره في البحر. وذلك (¬1) أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعين، فنظرت قريش إليه وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. والمعنى: وإن يكاد الذين كفروا ليصيبونك بعيونهم عند سماع القرآن منك كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه لشدّة حسدهم وبغضهم إياك. وروي: أنّه كان في بني أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمه الله، وأنزل عليه هذه الآية. قيل: كانت العين في بني أسد حتى إن كانت الناقة، أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته: خذي المكتل والدراهم فائتنا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقيل: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل، فيقول: لم أر كاليوم إبلًا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلًا حتى يسقط ما عناه، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: ينفذونك ويطعنونك بأبصارهم لشدّة بغضهم إيّاك. وقيل: يصرعونك بأبصارهم على الأرض كالمغمى عليه. وقيل: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وإنما أراد سبحانه أنهم ينظرون إليك إذا قرأت نظرًا شديدًا بالعداوة والبغض يكاد يسقطك على الأرض، ومنه: قولهم: نظر إليَّ نظرًا: يكاد يصرعني أو يكاد يهلكني، يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة، ويحدون النظر إليه بالبغضاء. {وَيَقُولُونَ}؛ أي: يقول بعضهم لبعض: إذا سمعوه يقرأ القرآن: {إِنَّهُ}؛ أي: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {لَمَجْنُونٌ} حيرةً في أمره وتنفيرًا للناس منه. أي: {وَيَقُولُونَ} (¬2) لغاية حيرتهم في أمره - صلى الله عليه وسلم - ونهاية جهلهم بما في القرآن من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان.

[52]

بدائع العلوم، لتنفير الناس منه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم: {إِنَّهُ} - صلى الله عليه وسلم - {لَمَجْنُونٌ} أي: مصابٌ بريح من الجن. والظاهر أنه مثل قولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}؛ أي: يأتيه رئي من الجن فيعلمه. 52 - ولما كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - .. رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه، فقال: {وَمَا هُوَ}؛ أي: القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} من الجن والإنس. والجملة حالى من فاعل {يقولون}، مفيدة (¬1) لغاية بطلان قولهم، وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوّه بتلك الجريمة العظيمة؛ أي: يقولون ذلك، والحال أنَّ القرآن ذكر للعالمين من الثقلين؛ أي: تذكير وعظة لهم، وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، فأين من أنزل عليه ذلك، وهو مطلع على أسراره طرًّا؟ ومحيط بجميع حقائقه خبرًا مما قالوا في حقه من الجنون؛ أي: إن هذا القرآن من أولى الأمور الدالة على كمال عقله وعلو شأنه، فمن نسب إليه القصور فإنما هو من جهله وجنته، فإن الفضل لا يعرفه إلا ذووه. إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيْحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ وقيل معناه: وما هو إلا فضل وشرف للعالمين لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. وقيل: الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكونه ذكرًا وشرفًا للعالمين لا ريب فيه. وفيه إشارة إلى سادات أمته وأركان دينه. خاتمة وعن الحسن البصريّ قال: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية. وفي "الأسرار المحمدية" قيل: إنَّ في هذه الآية خاصية لدفع العين حملا وغسلًا وشربًا انتهى. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العين حقّ"، زاد البخاري و"نهى عن الوشم". وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا". وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي رضي الله عنه: أنّ أسماء بنت عميس كانت ¬

_ (¬1) روح البيان.

تقول: يا رسول الله إنّ ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" أخرجه الترمذي؛ أي: "لو كان شيء مهلكًا أو مضرًا بغير قضاء الله وقدره .. لكان العين" أي: إصابتها لشدة ضررها. ومعنى "العين حقّ" أي: أثرها في المعين واقع، ولما كان ظهور القضاء بعد العين .. أضيف ذلك إليها. وقد صح من عدة طرق حديث: "أنّ العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر". وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعًا: "أن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالفًا ثم يتردى منه". والأحاديث في هذه الباب كثيرة، وسرُّ هذا أنَّ من خصائص بعض النفوس أن تؤثر في غيرها بوساطة العين لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يختص ما شاء بما شاء، وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس في بعض بوساطة التنويم المغناطيسي الذي أصبح الآن فنًّا له أساليب علمية لا يمكن إنكارها. ولا تختص العين بالإنس بل تكون في الجن أيضًا. وقيل: عيونهم أنفذ من أسنة الرماح. وعن أمّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية تشتكي وفي وجهها صفرة، فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة" وأراد بها العين "أصابتها من الجن". وورد في الرقية عنها أحاديث منها: حديث أم سلمة هذا. ومنها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوّل النهار، فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار فوجدته معافى فقال: إن جبريل أتاني فرقاني، فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد، الله يشفيك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفقت. والرقية مصدر رقاهُ الراقي رقيا ورقية إذا عوذه ونفث في عوذته، فالرقية القراءة على المريض، وينفث عليه. وإنما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو ولعله يدخله سحر أو كفر. وأما ما كان بآي من القرآن، أو بشيء من الدعوات والأذكار، وأسماء الله تعالى فلا بأس به، كما في حديث عبادة بن الصامت. ويجوز التعوذ والتحصن منها، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، فيقول: أعوذ بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلّ عين لامّة، ويقول:

هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق عليهم السلام. ويجوز الاحتراز منها، فقد كان يعقوب عليه السلام خاف على أولاده من العين، لأنهم كانوا أعطوا جمالًا وقوةً وامتداد قامة، وكانوا ولد رجل واحد، فقال: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}. فأمرهم أن يتفرقوا في دخولها لئلا يصابوا بالعين. ومما يدفع العين ما روي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه رأى صبيًّا مليحًا فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين؛ أي: سودوا نقرة ذقنه. قالوا: ومن هذا القبيل نصب عظام الرؤوس في المزارع والكروم، ووجهه أن النظر الشؤم يقع عليها أوَّلًا فتكسر سورته فلا يظهر أثره. ومن الشفاء من العين: أن يقرأ على ماء في إناء نظيف قوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، والفاتحة، وآية الكرسي، وست آيات الشفاء، وهي: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}. ويسقى المريض من ذلك الماء، ويغسل به. ومن الشفاء: أن يؤمر العائن فيغتسل، أو يتوضأ بماء ثم يغتسل به المعين، كما ورد به الحديث. قيل وجه إصابة العين: أن الناظر إذا نظر إلى شيء واستحسنه، ولم يرجع إلى الله، وإلى رؤية صنعه قد يحدث الله سبحانه في المنظور علة بجناية نظره على غفلة ابتلاء لعباده، ليقول المخق؛ إنه من الله وغيره من غيره، فيؤاخذ الناظر لكونه سببها. ووجَّهها بعضهم (¬1): بأن العائن قد ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، كما قيل ذلك في بعض الحيّات، وبه يحصل الجواب عمن أنكر إصابة العين، كبعض المعتزلة وقال: إنها لا حقيقة لها؛ لأن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ولا مماسة هنا، فامتنع حصول التأثير انتهى. وفائدة الرقي: أن الروح إذا تكيفت به، وقويت واستعانت بالنفث والتفل ¬

_ (¬1) روح البيان.

قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة والخواص الفاسدة فأزالته. والحاصل: أن الرقية بما ليس بشرك مشروعة، لكن التحرز من العين لازم، وأنه واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ومن عرف بإصابة العين منع مداخلة الناس دفعًا لضرره. وفي هذا المقام مباحث كثيرة نافعة جدًا من المسائل الفقهية والطبية ضربنا عنها صفحًا خوفًا من الإطالة. الإعراب {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)}. {ن}: تقدم غير مرّة أنّ الأصح الأسلم في الحروف المقطعة في أوائل السور أنها من المشتبهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها، فليس معناها معلومًا لنا، فإذًا لا إعراب لها؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى. {وَالْقَلَمِ} {الواو}: حرف جر وقسم، {القلم} مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالقلم. وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًّا، أقسم تعالى به تعظيمًا لشأنه. {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما} موصولة أو مصدرية، معطوفة على {القلم}، وجملة {يَسْطُرُونَ} صلة للموصول الاسميّ، والعائد محذوف؛ أي: وما يسطرونه، والتقدير: أقسم بالقلم أوّلًا، ثم بمسطور الملائكة. أو صلة للموصول الحرفيّ، والتقدير: أقسم بالقلم، ثم بسطر الملائكة، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء: نفي الجنون عنه، وثبوت الأجر له، وكونه على الملة الحنيفية السمحاء. {مَا} نافية حجازية، {أَنْتَ} اسمها، {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمعنى النفي المدلول عليه بـ {ما}، والباء سببية، {بِمَجْنُونٍ} خبر {ما} الحجازية، والباء زائدة في خبرها، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، والمعنى: انتفى عنك الجنون بسب إنعام ربّك عليك بالنبوة. {وَإِنَّ} {الواو}: عاطفة، {إنَّ} حوف نصب {لَكَ} خبرها مقدم، {لَأَجْرًا} اللام: حرف ابتداء، {أجرا} اسمها مؤخر، {غَيْرَ مَمْنُونٍ} صفة {أجرًا}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة {مَا} الحجازية على كونها جواب القسم.

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}. {وَإِنَّكَ} ناصب واسمه، {لَعَلَى خُلُقٍ} جار ومجرور خبر {إِنَّ}، واللام: حرف ابتداء، {عَظِيمٍ} صفة {خُلُقٍ}، وجملة {إنّ} معطوفة أيضًا على جملة {ما} الحجازية على كونها جواب القسم. {فَسَتُبْصِرُ} الفاء: استئنافية والسين حرف استقبال، {تبصر} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {وَيُبْصِرُونَ} فعل وفاعل، معطوف على جملة {فَسَتُبْصِرُ}. {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} اختلف المعربون في إعرابه اختلافًا كثيرًا، ونورد أرجح الأقوال منها، وهي أربعة: الأوّل: أنّ الباء مزيدة في المبتدأ، و {الْمَفْتُونُ} خبره، والتقدير: أيّكم المفتون. فزيدت الباء كزيادتها في نحو: بحسبك درهم. والثاني: أنّ الباء بمعنى في الظرفية، وهي مع مجرورها خبر مقدم، {الْمَفْتُونُ} مبتدأ مؤخّر نظير قولك: زيد بالبصرة؛ أي: فيها. والمعنى أي: في أيّ فرقة وطائفة منكم المفتون. والثالث: أنّه على حذف مضاف؛ أي: بأيّكم فتن المفتون، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتكون الباء سببية. والرابع: أنَّ المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيّكم الفتون. والجملة على كل التقادير في محل النصب معمولة لما قبلها؛ لأنه معلق عنها باسم الاستفهام. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}. {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {أَعْلَمُ} خبره، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {بِمَن} جار ومجرور متعلق بـ {أَعْلَمُ} وجملة {ضَلَّ} صلة {مَنْ} الموصولة، {عَنْ سَبِيلِهِ} متعلق بضل، {وَهُوَ أَعْلَمُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على ما قبلها على كونها خبر لـ {إِنَّ}، {بِالْمُهْتَدِينَ} متعلق بـ {أَعْلَمُ} {فَلَا تُطِعِ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك من علم الله بحال كل من الفريقين، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: لا

تطع. {لَا} ناهية جازمة، {تُطِعِ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمّد مجزوم بلا الناهية، {المُكَذِبِينَ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَدُّوا} فعل ماض، والواو: فاعل، {لَوْ} مصدرية، {تُدْهِنُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة صلة لـ {لو} المصدرية، {لو} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ودّوا إدهانك معهم. {فَيُدْهِنُونَ} فعل وفاعل، والفاء: عاطفة سببية، والجملة معطوفة على صلة {لو} المصدرية، والتقدير: تمنوا إدهانك معهم فدهانهم معك. فالمتمنى شيئان، ثانيهما متسبب عن الأوّل. وجملة {ودوا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة على كونها معلّلة لجملة النهي قبلها. {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}. {وَلَا تُطِعْ}: {الواو}: عاطفة، {لا} ناهية، {تُطِعْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}. {كُلَّ حَلَّافٍ} مفعول به، ومضاف إليه، {مَهِينٍ} صفة أولى لـ {حَلَّافٍ} {هَمَّازٍ} صفة ثانية له، {مَشَّاءٍ} ثالثة، {بِنَمِيمٍ} متعلق بـ {مَشَّاءٍ}، {مَنَّاعٍ} رابعة، {لِلْخَيْرِ} متعلق بـ {مَنَّاعٍ}، {مُعْتَدٍ} خامسة، {أَثِيمٍ} سادسة، {عُتُلٍّ} سابعة، {بَعْدَ ذَلِكَ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {زَنِيمٍ}، و {زَنِيمٍ} صفة ثامنة، وهذه البعدية في الرتبة؛ أي: هذا الوصف، وهو زنيم متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة. فـ {بَعْدَ} هنا كـ ثمّ التي للترتيب والتراخي في الرتبة، كما مرّ. {أن} حرف نصب ومصدر، {كاَنَ} فعل ماض ناقص في محل النصب بـ {أنْ}، واسمها ضمير يعود على كلّ حلاف، {ذَا مَالٍ} خبرها، {وَبَنِينَ} معطوف على مال، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: لكونه ذا مال وبنين. قال الزمخشري: الجار والمجرور متعلقّ بقوله: {وَلَا تُطِعْ}: أي: لا تطعه مع هذه المثالب لكونه ذا مال وبنين. وقيل: متعلق بما دل عليه إذا تتلى؛ أي: كذّب بآياتنا لكونه ذا مال وبنين، ولا يصحُّ أن يكون معمولًا لـ {قال} الذي هو جواب الشرط؛ لأنَّ ما بعد أداة الشرط لا يعمل

فيما قبلها، ولا أن يكون معمولًا لفعل الشرط؛ لأنّ إذا تضاف للجملة بعدها، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {تُتْلَى} فعل مضارع مغيّر الصيغة، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {تُتْلَى}، {آيَاتُنَا} نائب فاعل لـ {تُتْلَى}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونه فِعْلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {قَالَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الخلاف، وجملة قال جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي أساطير الأوّلين، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال}. {سَنَسِمُهُ} السين حرف استقبال، {نسمه} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة مستأنفة. {عَلَى الْخُرْطُومِ} متعلق بـ {سَنَسِمُهُ}. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {بَلَوْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والهاء: عائد إلى أهل مكة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة. {كَمَا} الكاف حرف جرّ وتشبيه، و {ما} مصدرية، {بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} فعل وفاعل ومفعول به، وجملة {ما} المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: إنا بلوناهم بلاء كائنًا كبلائنا أصحاب الجنة. {إذ} ظرف لما مضى من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بـ {بلونا} الثاني، {أَقْسَمُوا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذْ}. {لَيَصْرِمُنَّهَا} اللام موطئة للقسم {يصرمن} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، أصله: ليصرموننها، والهاء مفعول به، {مُصْبِحِينَ} حال من فاعل {يصرمنها}، وهو اسم فاعل من أصبح التامة بمعنى دخل في الصباح، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا} {الواو}: حالية أو استئنافية، {لا} نافية، {يَسْتَثْنُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل أقسموا أو مستأنفة، أي: لا يستثنون في أيمانهم. ويضعف كون الواو حالية من حيث إن المضارع المنفيّ بـ {لا} كالمثبت في عدم في خول الواو عليه، وإلا فبإضمار مبتدأ قبله حتى تكون الجملة اسمية.

{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)}. {فَطَافَ} الفاء عاطفة، {طاف} فعل ماض، {عَلَيْهَا} متعلق بطاف، {طَائِفٌ} فاعل، {مِنْ رَبِّكَ} صفة لطائف، والجملة معطوفة على جملة {أَقْسَمُوا}. {وَهُمْ نَائِمُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير عليها على تقدير صاحب الحال؛ أي: على جنتهم. {فَأَصْبَحَتْ} الفاء عاطفة، {أصبحت} فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الجنة، تقديره: هي. {كَالصَّرِيمِ} خبرها، والجملة معطوفة على جملة {طاف}. {فَتَنَادَوا} {الفاء}: عاطفة، {تنادوا} فعل ماض وفاعل، {مُصْبِحِينَ} حال من فاعل {تنادوا}، والجملة معطوفة على جملة {أَقْسَمُوا}، {أَنِ} مفسرة؛ لأنّها مسبوقة بما فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز أن تكون مصدرية، فتكون هي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار المقدر متعلق بـ {تنادوا}، أي: تنادوا بالغدوّ {اغْدُوا} فعل أمر، {والواو}: فاعل، {عَلَى حَرْثِكُمْ} متعلق به، الجملة مفسرة لـ {تنادواو}، لا محل لها من الإعراب، {إنْ} حرف شرط {كُنُتم} فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية، {صَارِمِينَ} خبر {كان}، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صارمين فاغدوا على حرثكم، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب. {فَانْطَلَقُوا} فعل وفاعل، معطوف على {تنادوا}، {وَهُمْ} مبتدأ، وجملة {يَتَخَافَتُونَ} خبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل {انطلقوا}، {أَن} مفسّرة أو مصدرية {لا} نافية، {يَدْخُلَنَّهَا} {يدخلن} فعل مضارع في محل الرفع، أو في محل النصب مبنيّ على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والهاء: مفعول به على السعة، و {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {يدخلن}، {عَلَيْكُمْ} متعلق به أيضًا، {مِسْكِينٌ} فاعل، والجملة مفسرة لـ {تنادوا} أيضًا، لا محل لها من الإعراب. أو في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: فتنادوا بأن لا يدخلنها عليكم مسكين، أي: بعدم دخول مسكين فيها عليكم. {وَغَدَوْا} فعل وفاعل، معطوف على {انطلقوا}، {عَلَى حَرْدٍ} متعلق بـ {قَادِريِنَ}، و {قَادِريِنَ} حال من فاعل {غدوا}. {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)

قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)}. {فَلَمَّا} {الفاء}: عاطفة، {لما} اسم شرط غير جازم، في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان {رَأَوهَا} فعل وفاعل ومفعول به والجملة فعل شرط لـ {لمّا}، في محل جر بالإضافة والرؤية هنا بصرية، {قَالُوا} فعل وفاعل جواب لمّا، لا محل لها من الإعراب، وجملة {لمّا} معطوفة على جملة {غدوا}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَضَالُّونَ} خبره، واللام: حرف ابتداء، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {بَلْ} حرف عطف وإضراب، {نَحْنُ مَحْرُومُونَ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {إنّ} على كونها مقولًا لـ {قَالُوا}. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريريّ، {لم} حرف جزم، {أَقُل} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على المتكلم مجزوم بـ {لم}، {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}، {لَوْلَا} حرف تحضيض بمعنى هلّا، {تُسَبِّحُونَ} فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: تسبّحون الله. والجملة في محل النصب مقول {أَقُلْ}، وإن شئت قلت: مقول محكيّ لـ {أَقُلْ}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {سُبْحَانَ} مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: نسبّح ربّنا تسبيحًا، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، و {رَبِّنَا} مضاف إليه، {إنَّا} ناصب واسمه، {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، {ظَالِمِينَ} خبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}. {فَأَقْبَلَ}: {الفاء}: عاطفة، {أقبل بعضهم} فعل وفاعل، معطوف على {قَالُوا}، {عَلَى بَعْضٍ} متعلق بـ {أقبل}، وجملة {يَتَلَاوَمُونَ} في محل النصب حال من فاعل {أقبل}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {يَا وَيْلَنَا} {يَا}: حرف نداء {ويلنا} منادى مضاف والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {كُنَّا طَاغِينَ} خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {عَسَى} فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء، و {رَبُّنَا} اسمها، {أَن} حرف نصبـ {يُبْدِلَنَا} فعل مضارع منصوب بـ {أن}، و {نا} مفعول أوّل، وفاعله ضمير يعود على الربّ سبحانه، {خَيْرًا} مفعول ثان، {مِنْهَا} متعلق بـ

{خَيْرًا}، وجملة {أن} المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لعسى، ولكنّه في تأويل اسم الفاعل؛ أي: عسى ربنا إبدالنا؛ أي: مبدلًا إيّانا خيرًا منها. وجملة {عَسَى} في محل النصب مقول قالوا، {إِنَّا} ناصب واسمه، {إِلَى رَبِّنَا} متعلق بـ {رَاغِبُونَ}، و {رَاغِبُونَ} خبر {إن}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول قالوا على كونها معلّلة لما قبلها. {كَذَلِكَ} خبر مقدم، {الْعَذَابُ} مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} {الواو}: استئنافية، واللام حرف ابتداء، {عذاب الآخرة} مبتدأ، {أَكبر} خبر، والجملة مستأنفة أيضًا. {لَوْ} حرف شرط، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يعَلَمُونَ} خبره، وجواب {لَوْ} محذوف دل عليه سياق الكلام، تقديره: لو كانوا يعلمون أنّه أكبر لما فرط منهم ما سلف من ظلم وإحجام عن الاستثناء، وجملة {لَوْ} الشرطية مستأنفة. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)}. {إِنَّ} حرف نصب، {لِلْمُتَّقِينَ} خبرها مقدم، {عِندَ رَبِهِمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من جنات أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} اسم {إنَّ} مؤخّر ومضاف إليه، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان ما أعدّ الله للمتقين يوم القيامة. {أَفَنَجْعَلُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالمجرمين، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {نجعل} فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على تلك المحذوفة، {الْمُسْلِمِينَ} مفعول أوّل، {كَالْمُجْرِمِينَ} في موضع المفعول الثاني، وهذا أوّل توبيخ وتقريع للكافرين، ستأتي بعده ستة توبيخات أخرى. وقوله: {مَا لَكُمْ} هو التقريع الثاني. {مَا} اسم استفهام، مبتدأ، {لَكُمْ} خبر، والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {تَحْكُمُونَ}، و {تَحْكُمُونَ} فعل وفاعل، والجملة في محل النصب على الحال من ضمير {لَكُمْ}، وهذا هو التقريع الثالث. {أَم} منقطعة بمعنى بل الإضرابيّة وهمزة الإنكار، وهذا هو التقريع الرابع، {لَكُمْ} خبر مقدم، {كِتَابٌ} مبتدأ مؤخّر، {فِيهِ} متعلق بـ {تَدْرُسُونَ}، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {تَدْرُسُونَ} فعل

وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير {لكم} أو مستأنفة. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)}. {إِنَّ} حرف نصب قائم مقام {أنّ} المفتوحة في كونه معمولًا لما قبله، ولكن كسرت همزته لمكان اللام بعدها، {لَكُمْ} خبرها مقدم، {فِيهِ} حال من ما الموصولة المذكورة بعده، {لَمَا} اللام حرف ابتداء، {مَا} اسم موصول في محل النصب اسمها مؤخر، وجملة {تَخَيَّرُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، وجملة {إن} في محل النصب مفعول {تَدْرُسُونَ}، علق عنها باللام؛ لأنها هي المدروسة. {أَمْ لَكُمْ} هذا هو التقريع الخامس، {أَم} منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، {لَكُمْ} خبر مقدم، {أَيْمَانٌ} مبتدأ مؤخر، {عَلَيْنَا} صفة أولى لـ {أَيْمَانٌ}، {بَالِغَةٌ} صفة ثانية، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أعني: {لَكُمْ} أو بـ {بَالِغَةٌ}؛ أي: تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه. وفي قوله: {أَمْ لَكُمْ ...} إلخ، معنى القسم كأنه قيل: أقسمنا لكم أيمانًا موثقة، وجملة قوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم الملحوظ، فلا محل لها من الإعراب، {إِنَّ} حرف نصب، {لَكُمْ} خبرها مقدم، و {اللام} حرف ابتداء، {مَا} اسم {إِنَّ} مؤخّر، وجملة {تَحْكُمُونَ} صلة لـ {مَا}. {سَلْهُمْ} فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول أوّل، والجملة مستأنفة. {أَيُّهُمْ} مبتدأ، {بِذَلِكَ} متعلق بزعيم، و {زَعِيم} خبر {أَيُّهُمْ}، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ {سأل}؛ لأنّها تنصب مفعولين، علّقت عن العمل في لفظه بالاستفهام الذي هو التقريع السادس. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} هذا هو التقريع السابع، {أم} منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار {لَهُمْ} خبر مقدم، {شُرَكَاءُ} مبتدأ مؤخّر، وهذه الجملة معطوفة في المعنى على جملة {أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ}. {فَلْيَأْتُوا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر كذلك، وأردت بيان ما هو اللازم لهم .. فأقول لك: {ليأتوا بشركائهم}. واللام لام الأمر، {يأتوا} فعل مضارع، مجزوم بلام

الأمر، والواو: فاعل، {بِشُرَكَائِهِمْ} متعلق بـ {يأتوا}، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {إن} حرف شرط {كَانُوا صَادِقِينَ} فعل ناقص واسمه، وخبره في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كانوا صادقين فليأتوا بشركائهم، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة. {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ اذكر مقدّرًا؛ أي: واذكر لهم أهوال يوم يكشف عن ساق، أو متعلق بقوله: {فَلْيَأْتُوا}، {يُكْشَفُ} فعل مضارع مغير الصيغة. {عَنْ سَاقٍ} نائب فاعل له، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، {وَيُدْعَونَ} {الواو} عاطفة، {يدعون} فعل ونائب فاعل، معطوف على {يُكْشَفُ}، {إِلَى السُّجُودِ} متعلق بـ {يدعون}، {فَلَا} الفاء: عاطفة، {لا} نافية، {يَسْتَطِيعُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {يدعون}، {خَاشِعَةً} حال من ضمير {يدعون}، {أَبْصَارُهُمْ} فاعل {خَاشِعَةً}، {تَرْهَقُهُمْ} فعل مضارع ومفعول به، {ذِلَّةٌ} فاعل، والجملة في محل النصب حال ثانية من {واو} {يُدْعَوْنَ}، {وَقَد} {الواو}: حالية، {قد} حرف تحقيق، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يُدْعَوْنَ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة {كَانُوا} في محل النصب حال ثالثة من {واو} {يُدْعَوْنَ} الأوّل، {إِلَى السُّجُودِ} متعلق بـ {يدعون}، {وَهُمْ} {الواو}: حالية، {هم سالمون} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من {واو} {يدعون} الثاني. {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}. {فَذَرْنِي} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كانت أحوالهم كذلك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: ذرني. وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {ذرني} فعل أمر، ونون وقاية، ومفعول به، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، {وَمَن} {الواو}: عاطفة، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب، معطوف على الياء، أو في محل النصب مفعول معه، والأوّل أرجح كما مرّ. {يُكَذِّبُ} فعل مضارع وفاعل مستتر والجملة صلة الموصول، {بِهَذَا} متعلق بـ {يُكَذِّبُ}، {الْحَدِيثِ} بدل من اسم الإشارة. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} السين حرف استقبال، {نستدرجهم} فعل مضارع وفاعل

مستتر ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الأمر السابق إجمالًا، والضمير لـ {مَن}، والجمع باعتبار معناها كما أنَّ الإفراد في {يُكَذِّبُ} باعتبار لفظها، {مِنْ حَيْثُ} جار ومجرور متعلق بـ {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}، وجملة {لَا يَعْلَمُونَ} في محل الجر بإضافة الظرف إليه، {وَأُمْلِي} فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}، {لَهُمْ} متعلق بـ {أملي}، {إِنَّ} حرف نصب، {كَيْدِي} اسمها، {مَتِينٌ} خبرها، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}. {أَمْ} حرف عطف بمعنى بل وهمزة الاستفهام، {تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة معطوفة من حيث المعنى على قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}. {فَهُم} {الفاء}: حرف عطف وسبب، {هم} مبتدأ، {مِنْ مَغْرَمٍ} متعلق بـ {مثقَلُونَ}، و {مُثْقَلُونَ} خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها مسبّبة عنها. {أَمْ} حرف عطف بمعنى بل وهمزة الاستفهام، {عِندَهُمُ} خبر مقدم، {الْغَيْبُ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة {أَمْ تَسْأَلُهُمْ}، {فَهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {هم} مبتدأ، وجملة {يَكْتُبُونَ} خبره، والجملة معطوفة على ما قبلها. {فَاصْبِرْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اصبر. {اصبر} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لِحُكْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ {اصبر} ومضاف إليه، {وَلَا} {الواو} عاطفة، {لا} ناهية جازمة. {تَكُنْ} فعل مضارع ناقص، مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمد، {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر {تكن}، وجملة {تكن} في محل النصب معطوفة على جملة {اصبر}، {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمضاف محذوف تقديره؛ أي: ولا يكن حالك كحال يونس إذ نادى، وقصتك كقصته في وقت ندائه، والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضمير والمغاضبة فتبتلى ببلائِهِ. {نَادَى} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {وَهُوَ} {الواو} حالية، {هو مكظوم} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نادى}.

{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)}. {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود مضمّن معنى الشرط، {أَن} حرف نصب ومصدر، {تَدَارَكَهُ} فعل ماض، ومفعول به في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، {نِعْمَةٌ} فاعل، {مِنْ رَبِّهِ} صفة لنعمة، وذكر الفعل لأنَّ تأنيث النعمة غير حقيقي. والجملة الفعليّة مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ خبره محذوف وجوبًا تقديره: لولا تدارك نعمة من ربّه موجود {لَنُبِذ} اللام رابطة لجواب {لولا}، {نبذ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {يونس}، {بِالْعَرَاءِ} متعلق بـ {نبذ}. أي: بالأرض الفضاء الجرداء، والجملة الفعلية جواب {لَوْلَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَوْلَا} مستأنفة. {وَهُوَ مَذْمُومٌ} {الواو}: حالية، {هُوَ مَذْمُومٌ} مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مرفوع {نبذ}. {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}. {فَاجْتَبَاهُ}: {الفاء}: عاطفة على مقدر معلوم من السياق تقديره: فأدركته نعمة من ربه فاجتباه. {اجتبى} فعل ماض، والهاء: مفعول به، {رَبُّهُ} فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. {فَجَعَلَهُ} {الفاء}: عاطفة، {جعله} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أوّل، {مِنَ الصَّالِحِينَ} في موضع المفعول الثاني، والجملة معطوفة على جملة {اجتباه}. {وَإِنْ} {الواو}: استئنافية، {إنْ} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وإنّه، {يَكَادُ} فعل مضارع من أفعال المقاربة، {الَّذِينَ} اسمها، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {لَيُزْلقُونَكَ} اللام: حرف ابتداء، {يزلقونك} فعل مضارع مرفوع بثبات النون، {والواو}: فاعل، الكاف: مفعول به، {بِأَبْصَارِهِمْ} متعلق به، وجملة {يزلقونك} في محل النصب خبر {كاد}، وجملة {كاد} في محل الرفع خبر {إن} المخففة، وجملة {إن} المخففة مستأنفة. {لَمَّا} ظرف بمعنى حين في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ {يزلقونك} {سَمِعُوا} فعل وفاعل، {الذِّكْر} مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {لَمَّا}، أو {لَمَّا} شرطية وجوابها محذوف تقديره: لمّا سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، والأوّل أولى بل هو المتعين من حيث المعنى. {وَيَقُولُونَ} فعل،

وفاعل، معطوف على {لَيُزْلِقُونَكَ}، {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَمَجْنُونٌ} اللام: حرف ابتداء، {مجنون} خبره، الجملة في محل النصب مقول {يقولون}، {وَمَا} {الواو}: حالية، {ما} نافية مهملة لانتقاض نفيها بـ {إِلَّا}، {هُوَ} مبتدأ، {إلا} أداة حصر، {ذِكْرٌ} خبر المبتدأ، {لِلْعَالَمِينَ} صفة لـ {ذِكْرٌ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {يقولون}. التصريف ومفردات اللغة {ن وَالْقَلَمِ} والقلم: ما يكتب به، وعن بعض الحكماء: قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم ولولا القلم .. لما قام دين، ولا صلح عيش، كما مرّ. {وَمَا يَسْطُرُونَ}؛ أي: وما يكتبون. والسطر: الصفّ من الكتابة ومن الشجر المغروس، ومن القوم الوقوف. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} والجنون: شيء حائل بين النفس والعقل، وجنّ فلان إذا أصابه الجن أو أصاب جنانه أو حيل بين نفسه وعقله، فجن عقله ذلك. {غَيْرَ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير مقطوع، يقال: منه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف. {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)} يقال: أبصرته وبصرت به: علمته وأدركته، فإن البصر يقال للجارحة الناظرة ولقوة القلب المدركة، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة. {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} المفتون إما اسم مفعول بمعنى المجنون، أو مصدر بمعنى الفتون، وهو الجنون كالمعقول بمعنى العقل. والمجنون: هو من لا يفرق بين ما يضره وينفعه، فيحسب التفسير نفعًا والنفع ضرًا، والضال كذلك. {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} {ضلّ} أصله: ضلل بوزن فعل، أدغمت اللام الأولى في الثانية، وقوله: {المهتدين} فيه إعلال بالحذف، أصله: المهتديين بياءين: الأولى لام الكلمة، والثانية ياء الجمع، حذفت حركة الياء الأولى للتخفيف فسكنت فحذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الجمع الساكنة. {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)} أصله: تطوع، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت فالتقت ساكنة مع آخر الفعل المجزوم لدخول الجازم، وهو {لا} الناهية، فحذفت الواو لذلك. {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} من الإدهان، والإدهان في الأصل مثل التدهين، واشتقاقهما من الدهن، لكن جعل عبارة عن الملاينة وترك الجد. وقال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام. وقال المبرد: يقال: داهن الرجل في دينه، وداهن في أمره إذا

أظهر خلاف ما يضمر. {كُلَّ حَلَّافٍ}؛ أي: كثير الحلف في الحقّ والباطل. {مَهِينٍ} حقير الرأي والتدبير، من المهانة، وهي الذثة والحقارة. {هَمَّازٍ}؛ أي: عيّاب طعّان مغتاب. وقيل: الهمّاز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، والهمّاز مبالغة هامز، والهمز: الطعن والضرب والكسر والعيب. وفي "المختاردا: واللمز: العيب، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها، وبابه: ضرب ونصر. وقرىء بهما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}. ورجل لمّازٌ لُمزة بوزن هُمزة أي: عيّاب، وفيه أيضًا، والهمز كاللمز وزنًا ومعنى، يقال: رجل هُمزة وامرأة هُمزة، ومنه: المهمز والمهماز بكسر الميم: حديدة تطعن بها الدابّة، قيل لأعرابيّ: أتهمز الفأرة؟ قال: السنور يهمزها. {مَشَّاءٍ} صيغة مبالغة؛ أي: ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم. {بِنَمِيمٍ} النميم قيل: هو مصدر كالنميمة، وقيل: هو اسم جنس لها كتمرة وتمر، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ويحرش بين الناس لتأريث نار البغضاء في الصدور. وفي "المصباح"؛ نمَّ الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب: سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، فالرجل ثم تسمية له بالمصدر، ونمّام مبالغة، والاسم: النميمة والنميم أيضًا. وقال الزمخشري: النميم والنميمة: السعاية بين الناس بالإفساد. وقوله: {مَشَّاءٍ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: مشّاي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}؛ أي: بخيل بالمال، والخير هنا يراد به عموم ما يطلق عليه. {عُتُلٌ}؛ أي: غليظ جاف. قيل: في الطبع، وقيل: في الجسم. وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم، وقيل: الغليظ الجافي اهـ. وقيل: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، ووزنه فعل بضمتين وتشديد اللام. {مُعْتَدٍ} والمعتدي الذي يتجاوز الحق ويسير في الباطل. {أَثِيمٍ} والأثيم: كثير الآثام والذنوب. قوله: {عُتُلٍّ} أيضًا من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. قال الراغب: العتل: الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كمثل البعير. وفي "القاموس": العتل بضمتين مشددة اللام الأكول المنيع الجافي الغليظ. {زَنِيمٍ} والزنيم الذي يعرف بالشر واللؤم، كما تعرف الشاة بزنمتها "الجزء المسترخي من أذنها حين تشق، ويبقى كالشيء المعلق". قال الراغب: الزنيم والمزنم: الزائد في القوم وليس منهم والدعي. قال حسان بن ثابت:

وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيْطَ فِي آل هَاشِمٍ ... كَمَا نِيْطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ يخاطب حسّان بهذا البيت الوليد بن المغيرة، فيقول: إنّه زنيم؛ أي: معلق في آل هاشم كالزنمة في الإهاب، وهي قطعة جلد صغيرة تترك معلقة بطرقه فشبهه بها، وشبهه بالقدح المنفرد الفارخ المعلق خلف الراكب. ويروى: أنه لما نزلت هذه الآية قال الوليد لأمه: إن محمدًا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك، فقالت له: إن أباك عنين فخفت على المال، فمكنت الراعي من نفسي، فأنت منه. {سَنَسِمُهُ} أصله: سنوسمه، من الوسم، وهو إحداث السمة بالكسر؛ أي: العلامة، والميسم بالكسر؛ المكواة؛ أي: آلة الكي، وفيه إعلال بالحذف أصله في القياس: "سنوسمه، لأنّه مضارع وسم المثاليّ، لكن فاؤه حذفت من المضارع اطرادًا لوقوعها بين فتحة وكسرة. {عَلَى الْخُرْطُومِ} الخرطوم: أنف السباع، وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير. وفي "القاموس": الخرطوم بوزن زنبور: الأنف أو مقدمه. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ}؛ أي: امتحنّاهم واختبرناهم. يقال: بلي الثوب بليًا؛ أي: خلق بلوته: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، والبلايا: اختبارات. {لَيَصْرِمُنَّهَا} الصرام والصرم: قطع ثمار النخيل من صرمه إذا قطعه، يقال: صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل؛ أي: حان صرامه مثل: أركب المهر، وأحصد الزرع؛ أي: حان ركوبه وحصاده. وفي "المختار": صرم النخل: جده، وبابه: ضرب، وأصرم النخل: حان له أن يُصْرَمَ، والانصرام: الانقطاع، والتصارم: التقاطع، والتصرم: التقطع. وقوله: {لَيَصْرِمُنَّهَا} فيه إعلال بالحذف، أصله: ليصرمونها فدخلت نون التوكيد الثقيلة على الفعل فصار ليصرموننها، فاجتمع ثلاث نونات فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فصار ليصرمونّها، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ولذلك الفعل هنا معرب لعدم مباشرة نون التوكيد؛ لأنَّ المحذوف لعلة صرفية مقدَّر. {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)} أصله: يستثنيون بوزن يستفعلون، استثقلت الضمّة على الياء، فحذفت للتخفيف فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت النون لمناسبة الواو. قال الراغب: الاستثناء: إيراد لفظ يقتضي رفع بعض ما يوجبه عموم لفظ متقدم أو

يقتضي رفع حكم اللفظ، كما هو فمن الأوّل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}، ومن الثاني قوله: "لأفعلن كذا إن شاء الله، وعبده عتيق وامرأته طالق إن شاء الله. {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} قال الراغب: الطوف: الدوران حول الشيء، ومنه: الطائف لمن يدور حول البيت حافظًا كما مرّ، وأصله: طوف قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. وقوله: {طَائِفٌ} فيه إعلال بإبدال الواو همزة، أصله: طاوف أبدلت الواو همزة حملًا للوصف على الفعل في الإعلال. {وَهُمْ نَائِمُونَ} جمع نائم، وأصله: ناوم من نام ينام، وأصل نام: نوم قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل {نَائِمُونَ} على هذا: ناومون أبدلت الواو همزةً حملًا للوصف على الفعل في الإعلال. والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، أو أن يتوفَّى الله النفسَ من غير موت إلى آخر ما تقدم. {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} فعيل بمعنى مفعول؛ أي: كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء. {فَتَنَادَوْا} أصله: تناديوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة بواو الجماعة. {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} أصله: اغدووا، حذفت حركة الواو لام الكلمة للتخفيف فلما سكنت وبعدها واو الجماعة الساكنة حذفت لام الكلمة، فوزنه: افعوا. قال الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث حرثًا، قال تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ}. {وَغَدَوْا} أصله: غدووا، قلبت الواو الأولى ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة بواو الجماعة، فوزنه: فعوا. {مِسْكِينٌ} والمسكين: هو الذي لا شيء له، وهو أبلغ من الفقير. {عَلَى حَرْدٍ} الحرد: المنع عن حدة وغضب، يقال: نزل فلان حريدًا؛ أي: ممتنعًا عن مخالطة القوم، وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درّا، وحرد: غضب. وفي "المختار": حرد قصد، وبابه: ضرب، وقوله تعالى: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}؛ أي: على قصد وقيل: على منع، والحرد بالتحريك: الغضب. وقال أبو نصر صاحب الأصمعيّ: هو مخفف، فعلى هذا بابه: فهم. وقال ابن السكيت: وقد يحرك، وعلى هذا بابه: طرب، فهو حارد وحردان. {قَادِرِينَ} إما من القدرة، وهو الظاهر، وإما من التقدير وهو التضييق، أي: مضيقين علي المساكين.

{يَتَخَافَتُونَ}؛ أي: يتسارون فيما بينهم، وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم. {فَلَمَّا رَأَوْهَا} أصله: رأيوها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {إِنَّا لَضَالُّونَ} الأصل: لضاللون، أدغمت اللام الأولى في الثانية. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}؛ أي: أعدلهم وخيرهم من قولهم: فلان من وسطة قومه، وأعطني من وسطات مالك، ومنه: قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا}. قال الراغب: الوسط تارةً يقال فيما له طرفان مذمومان كالجود الذي بين البخل والسرف، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به، نحو: السواء والعدل، ونحو: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وعلى ذلك {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}. وتارةً يقال فيما له طرف محمود، وطرف مذموم كالخير والشر، ويكنى به عن الرذل، نحو قولهم: وسط بين الرجال تنبيهًا على أنه قد خرج من حد الخير. {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أصله طاغيين بياءين، الأولى لام الكلمة، والثانية ياء الجمع، حذفت حركة الياء الأولى للتخفيف فالتقى ساكنان فحذفت الياء الأولى، فوزنه: فاعين. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال الراغب: {عِنْدَ} لفظ موضوع للقرب، فتارةً يستعمل في المكان، وتارةً يستعمل في الاعتقاد نحو: عندي كذا، وتارةً في الزلفى والقرب والمنزلة كقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، وعلى ذلك قيل: الملائكة المقربون انتهى. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)} أصله: تتخيرون فحذفت منه إحدى التاءين. تخيّر الشيء واختياره: أخذ خيره. قال الراغب: الاختيار: طلب ما هو خير فعله، وقد يقال ما يراه الإنسان: خيرًا وإن لم يكن خيرًا. {كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} قال في "المفردات": درس الشيء معناه: بقي أثره، ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ. ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس. {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} يقال: لفلان عليَّ يمين بكذا إذا ضمنت وكفلت له به وحلفت له على الوفاء. {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)} أمر من سأل يسأل بحذف العين وهمزة الوصل، قياس هذا الأمران يقال: اسألهم بهمزة الوصل وإثبات عين الكلمة الهمزة، لكن الهمزة في بعض الأحيان نقلت حركتها إلى السين، ثم حذفت تخفيفًا فاستغني عن همزة الوصل لتحرك الفاء، فقيل: سلهم بوزن فلهم. وفي بعض الأحيان يأتي الفعل على الأصل فيقال: اسأل، قال تعالى: {اسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ}، لكن همزة الوصل حذفت من الخط في رسم المصحف مراعًاة لقراءة من

قرأ {سَلْهُمْ} بدون همزة. و {الزعيم} بمعنى القائم بالدعوة وإقامة الحجة عليها. قال الراغب: قوله: {زَعِيمٌ} إمّا من الزعامة؛ أي: الكفالة أو من الزعم بالقول، وهو حكاية قول يكون مظنة للكذب. وقيل للمتكفل والرئيس: زعيم للاعتقاد في قولهم: إنه مظنة للكذب. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} أصله: فليأتيوا استثقلت الضمة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين وضمّت التاء لمناسبة الواو. {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} والساق فيه إعلال بالقلب، فالألف فيه منقلبة عن واو، أصله: سوق، وساق الشيء: أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان كما مرّ. {وَيُدْعَوْنَ} أصله: يدعوون بوزن يفعلون، قلبت الواو لام الكلمة ألفًا لتحركها بعد فتح ثمّ حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: يستطوعون نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ. {تَرْهَقُهُمْ} والرهق: غشيان الشيء الشيء. {ذِلَّةٌ} يقال: ذلَّ يذلّ ذلا بالضم، وذلة بالكسر وهو ذليل يعني: خوار. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} يقال: استدرجه إلى كذا إذا استنزله درجة درجة حتى يورطه، واستدرجه إلى كذا: قربه إليه ورقاه من درجة إلى درجة وجعله يدرج على الأرض. قال الخطيب: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}؛ أي: سناخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة في عذاب لا شك فيه. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قال بعضهم: الكيد: إظهار النفع وإبطان الضر للمكيد. وفي "المفردات": الكيد ضرب من الاحتيال، وقد يكون محمودًا ومذمومًا، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر. ولكون بعض ذلك محمودًا قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}، قال بعضهم: أراد بالكيد العذاب والصحيح: أنه الإمهال المؤدّي إلى العذاب انتهى. وفي "التعريفات" الكيد: إرادة مضرّة الغير خفيةً، وهو من الخلق: الحيلة، ومن الله: التدبير بالحق في الخلق كما مرّ {وَهُوَ مَكْظُومٌ}؛ أي: مملوء غمًّا وكربًا. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم: محبوس، والكظم: الحبس، قال المبرد: إنه المأخوذ بكظمه، وهو مجر النفس، ويقال: كظم السقاء إذا ملأه وشدَّ رأسه. {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلّة الاعتداد به، والعراء: الأرض الخالية من الأشجار. قال الراغب: العراء: مكان لا سترة فيه، والهمزة فيه مبدلة من ياء أصله: العرا، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، كما تقدم أنَّ ذلك

مطرد في الواو والياء. {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} يقال: جبيت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له: جابية، والاجتباء: الجمع على طريق الاصطفاء. {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أصل يكاد: يكون، قلبت حركة الواو إلى الكاف ثم أبدلت ألفا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {لَيُزْلقُونَكَ}؛ أي: ينظرون إليك نظرًا شديدًا يكاد يصرعك ويسقطك من مكانك. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المناسبة اللفظيَّة في قوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} إلى قوله: {غَيْرَ مَمْنُونٍ}، وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متّزنات مقّفات. ومنها: الجناس الناقص بين لفظي {مَجْنُونٍ} و {مَمْنُونٍ} لاختلاف الحرف الثاني. ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)} وحذف المفعول فيه للتهويل؛ أي: يوم القيامة. ومنها: إعادة {أَعْلَمُ} في قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} لزيادة التقرير والتأكيد. ومنها: التهييج للتصميم على مباينتهم ومخالفتهم في قوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}. ومنها: صيغ المبالغة في قوله: {كُلَّ حَلَّافٍ} {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ} {مَنَّاعٍ} {أَثِيمٍ} {زَنِيمٍ}. ومنها: المناسبة في مجيء هذه الصفات مسرودة على نمط عجيب خلاب، فجاء {حَلَّافٍ} وما بعده {مَهِينٍ}؛ لأنّ النون فيها مع الميم تراخ، ثم جاء {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} بصفتي المبالغة ثم جاء {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}، وبعدما عد له من المثالب والنقائص أتى بصفتين من أشد معايبه. ومنها: الاستعارة في قوله: {هَمَّازٍ}، لأنه حقيقة في الضراب والطعان، فاستعير للمغتاب الذي يذكر الناس بالمكروه ويظهر عيوبهم ويكسر أعراضهم كأنّه يضربهم بأذاه إيّاهم.

ومنها: الكناية في قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} لأنه كناية عن الإهانة والإذلال والاستيلاد؛ إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذا كان الوسم في الوجه شيئًا فكيف به في أكرم عضو فيه؟ وقد قيل: الجمال في الأنف، قال بعضهم: وَحُسْنُ الْفتى فِي الأَنْفِ وَالأَنفُ عَاطِلٌ ... فَكَيْفَ إِذَا مَا الْخَالُ كَانَ لَهُ حَلْيا وجعلها الرازي استعارة، استعار الخرطوم للأنف؛ لأنَّ الخرطوم حقيقة في أنف الفيل والخنزير، فاستعير لأنف الإنسان. وفي "السمين": وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل باسم الجزء، لأنّه أظهر ما فيه وأعلاه، فيكون مجازًا مرسلًا. ومنها: الطباق بين {ضَلَّ} و {الْمُهْتَدِينَ}، وبين {المُسْلِمِينَ} و {الْمُجْرِمِينَ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ}. ومنها: تنكير {طَائِفٌ} للإبهام تعظيمًا لما أصاب جَنَّتهم. ومنها: التشبيه في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}. ومنها: التقريع والتوبيخ في قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)} والجمل التي بعدها. ومنها: التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبّهًا والعكس في قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}؛ لأنّ الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة، فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع. ومنها: تقدم الخبر على المبتدأ في قوله: {كَذَلِكَ العَذَابْ} لإفادة الحصر. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} لتأكيد الرد وتشديده. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} على ما قالوا: شبهت حال من اشتد عليه الأمر في الموقف بالمخدّرات اللاتي اشتد عليهنّ الأمر، فاحتجن إلى تفسير سوقهنّ في الهرب بسبب وقوع أمر هائل بالغ إلى نهاية الشدّة مع أنّهنّ لا يخرجن من بيوتهنّ، ولا يبدين زينتهن لغير محارمهنّ لغاية خوفهنّ، وزوال

عقلهنّ من دهشتهن وفرارهن لخلاص أنفسمهن، فاستعمل في حق أهل الموقف من الأشقياء ما يستعمل في حقهن من غير تصرف في مفردات التركيب، بل التصرف إنما هو في الهيئة التركيبية، فكشف الساق استعارةٌ تمثيلية في اشتداد الأمر وصعوبته. قال الفناري في تفسير سورة الفاتحة: فالساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة. ومنها: تنكير الساق لغرض الإبهام مبالغة في الدلالة على أنّه أمر مبهم في الشدّة منكر خارج عن المألوف المعتاد. ومنها: المجاز العقلي، في قوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ}؛ لأنّ نسبة الخشوع إلى الأبصار مجاز عقلي؛ لأنّ ما في القلب يُعْرف من العين. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} لزيادة التقرير، أو لأن المراد بالسجود هنا الصلاة، وخص السجود حينئذٍ بالذكر؛ لأنّه أعظم أركانها. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، سمى إمهاله إياهم ومرادفة المنعم والآلاء. عليهم كيدًا؛ لأنّه سبب التورط والهلاك؛ لأنّ الكيد إيصال الضرر إلى الغير بطريق خفي. ومنها: المجاز المرسل أيضًا في قوله: {وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي: مملوء؛ لأنَّ اللوم في الحقيقة سبب للذم، فالعلاقة السبيبة. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من الموضوعات تضمنت هذه السورة المقاصد التالية: 1 - محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}. 2 - سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)} إلى قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}. 3 - ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. 4 - تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم. 5 - تهديد المشركين المكذّبين بالقرآن بقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ} إلخ. 6 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت. وصلى الله سبحانه وتعالى، وسلم على سيّدنا ونبينا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قد تم الفراغ من تفسير هذه السورة الكريمة في تمام الساعة الخامسة من يوم السبت الرابع والعشرين من شهر صفر من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، في تاريخ: 24/ 2/ 1416 هـ.

سورة الحاقة

سورة الحاقّة سورة الحاقّة مكيّة، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد سورة الملك. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس: نزلت سورة الحاقّة بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. مناسبتها لما قبلها من وجوه: 1 - أنّه (¬1) وقع في {ن وَالْقَلَمِ} ذكر يوم القيامة مجملًا، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم. 2 - أنّه ذكر فيما قبلها من كذّب بالقرآن وما توعّده به، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل، وما جرى عليهم ليزدجر المكذّبون المعاصرون له - صلى الله عليه وسلم -. وعبارة أبي حيّان: مناسبتها لما قبلها (¬2): أنه لما ذكر شيئًا من أحوال السعداء والأشقياء وقال: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ}، ذكر حديث القيامة، وما أعد الله تعالى لأهل السعادة، وأهل الشقاوة، وأدرج بينهما شيئًا من أحوال الذين كذّبوا الرسل: كعاد، وثمود، وفرعون. ليزدجر بذكرهم، وما جرى عليهم الكفّار الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانت العرب عالمةً بهلاك عاد وثمود وفرعون، فقص عليهم ذلك. وآياتها (¬3): إحدى أو اثنتان وخمسون آية، وكلماتها: مئتان وستّ وخمسون كلمة، وحروفها: ألف وأربع مئة وثمانون حرفًا. وسميت الحاقة لذكر الحاقة فيها. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الحاقة كلها محكم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومما يدل على فضلها ما أخرجه الطبراني عن أبي برزة: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بالحاقّة ونحوها. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الخازن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}. المناسبة تقدّم لك ذكر مناسبة هذه السورة لما قبلها، وذكر سبحانه في بدايتها أنَّ (¬1) يوم ¬

_ (¬1) المراغي.

القيامة حق لا شك فيه، وأن الأمم التي عصت رسلها، وكذّبتهم أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب، فثمود أهلكت بالصاعقة، وعاد أهلكت بريح صرصر عاتية، سلّطها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام متتابعة، فصاروا صرعى كأنّهم أصول نخل جوفاء، لم يبق منهم ديار ولا نافخ نار، وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم، وجعل عاليها سافلها، وأهلك قوم نوح بالطوفان. قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما قص هذه القصص الثلاثة، ونبه بها على ثبوت القدرة والحكمة، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة .. شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم، وما يكون فيه من أهوال. قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم .. فصَّل أحكام هذا العرض، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه: خذ كتابي واقرأه؛ لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله، ويقول: إني كنت أعلم أنَّ هذا اليوم آت لا ريب فيه، وأني سأحاسب على ما أعمل، وحينئذٍ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية، ويقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئًا مما قدمتم لأنفسكم في الدنيا. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم ثم بين حسن أحوالهم في معايشهم ومساكنهم .. أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وإعطائهم الغسلين طعامًا، ثم أعقبه بذكر سبب هذا، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحثّون على مساعدة ذوي الحاجة والبائسين. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أقام الدليل على إمكان القيامة؛ ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء .. أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول

[1]

المنزل عليه. قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين، وليس بشعر ولا كهانة ... أكد هذا بأن محمدًا لا يستطيع أن يفتعله؛ إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته وأمتنا دعوته، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله، ولا يصغي السامعون إلى كلامه، كما قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. ولا يستطيع أحد بعدئذٍ أن يدافع عنه. ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقي الله ويخشي عذابه، وأنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين، وإنه لحق لا ريب فيه. ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه ويشكره على ما آتاه من النعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم. أسباب النزول قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} ... إلخ، قال مقاتل: سبب نزول هذه الآيات: أنّ الوليد بن المغيرة قال: إنّ محمدًا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن. فنزلت الآيات ردًّا عليهم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْحَاقَّةُ (1)} هي من أسماء القيامة من حق الشيء إذا ثبت ووجب، أي: الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء. سمّيت الساعة حاقّة لوجوب مجيئها وثبوت وقوعها. وهو مبتدأ، 2 - و {مَا} مبتدأ ثان {الْحَاقَّةُ (2)} خبر للمبتدأ الثاني، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه، هذا ما ذكروه في إعراب هذه الجملة ونظائرها؛ أي: الحاقة أي شيء هي في حالها وصفتها تفخيمًا لشأنها وتعظيمًا لهولها. ومقتضى التحقيق: أن تكون {ما} الاستفهامية خبرًا لما بعدها، فإن مناط الفائدة بيان أن الحاقة أمر بديع وخطب فظيع، كما يفيده كون {ما} خبرًا، لا بيان

[3]

أن أمرًا بديعًا، الحاقة كما يفيده كونها مبتدأ وكون الحاقة خبرًا، كذا في الإرشاد. 3 - {وَمَا أَدْرَاكَ}؛ أي: وأيُّ شيء أعلمك يا محمد {مَا الْحَاقَّةُ (3)}؛ أي: جواب أي شي هي، فلا علم لك بحقيقتها؛ إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين. وقوله: {مَا} مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ} خبرها، وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ} معطوفة على جملة {مَا الْحَاقَّةُ (2)}، و {مَا الْحَاقَّةُ (2)} مبتدأ وخبر، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}؛ والجملة (¬1) الكبرى تأكيد لهول الساعة وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علم المخلوقات على معنى، أن عظم شأنها ومدى هولها، وشدَّتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها، فهي أعظم من ذلك وأعظم، فلا يتسنى الإعلام. قال بعضهم: إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان عالمًا بوقوعها ولكن لم يكن عالمًا بكمال كيفيتها. ويحتمل أن يقال ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - إسماعًا لغيره. قال المراغي (¬2): وهذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له الكلام، فكأنه قيل: أي شيء هي في حالها وصفتها، فإن {ما} يسأل بها عن الصفة والحال لا عن الحقيقة. ثم زاد سبحانه في تفظيع شأنها وتفخيم أمرها وتهويل حالها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}؛ أي: أي شي أعلمك ما هي، فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقات لعظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، فلا تبلغها دراية أحد، ولا وهمه، فكيفما قدرت حالها فهي فوق ذلك وأعظم؟. قال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن قال فيه: {وَمَا أَدْرَاكَ}، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أُخبر به، وكل شيء قال فيه: {وَمَا أَدْرَاكَ}، فإنه لم يخبر به. قال الواحدي (¬3): الحاقة هي القيامة في قول كل المفسرين، وسمّيت بذلك؛ لأنّها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود. قال الكسائي والمؤرخ: الحاقة يوم الحقّ. وقيل: سميت بذلك؛ لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت لقوم النار ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[4]

وأحقت لقوم الجنة. 4 - ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها، وما حاق بها من العذاب، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ}؛ أي: قوم صالح، من الثمد، وهو الماء القليل الذي لا مادة له؛ لأنهم نازلون عليه. {وَعَادٌ}؛ أي: قوم هود، وهي قبيلة أيضًا، وتمنع كما في "القاموس" {بِالْقَارِعَةِ}؛ أي: بالقيامة، وهي من (¬1) جملة أسماء الساعة أيضًا. سميت بذلك؛ لأنها تقرع الناس؛ أي تضربهم بفنون الأفزاع والأهوال؛ أي: تصيبهم بها كأنها تقرعهم بها والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار. ووضعت موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع فيها زيادة في وصف شدتها، فإن في القارعة ما ليس في الحاقة من الوصف، يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي: أهواله وشدائده، قيل: منها قوارع القرآن للآيات التي تقرأ حين الفزع من الجن والإنس، لقرع قلوب المؤذين بذكر جلال الله والاستمداد من رحمته وحمايته، مثل: آية الكرسيّ ونحوها. وفي الآية: تخويف لأهل مكة من عاقبة تكذيبهم بالبعث والحشر، وهذه الجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقّة. 5 - ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب، فقال: 1 - {فَأَمَّا ثَمُودُ} وكانوا عربًا، منازلهم بالحجر بين الشام والحجاز يراها حجاج الشام ذهابًا وايابًا. {فَأُهْلِكُوا}؛ أي: أهلكهم الله سبحانه لتكذيبهم. فأخبر عن الفعل؛ لأنه المراد دون الفاعل؛ لأنه معلوم. وقرأ الجمهور {فَأُهْلِكُوا} رباعيًا مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ {فهلكوا} ثلاثيًا مبنيًا للفاعل، ذكره في البحر. {بِالطَّاغِيَةِ}؛ أي: بالصيحة التي جاوزت عن حد سائر الصيحات في الشدّة، فرجفت منها الأرض والقلوب، وتزلزلت. فاندفع ما يقال من التعارض بين قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، وبين قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} والقصة واحدة. 2 - 6 {وَأَمَّا عَادٌ} وكانت منازلهم بالأحقاف، وهي الرمل بين عمان إلى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

حضرموت واليمن، وكانوا عربًا أيضًا ذوي بسطة في الخلق، وكان أطولهم مئة ذراع، وأقصرهم ستين، وأوسطهم ما بين ذلك. وكان رأس الرجل منهم كالقبة يفرخ في عينيه ومنخره السباع. وتأخيره عن ثمود مع تقدّمهم زمانًا من قبيل الترقّي من الضالّ الشديد إلى الأضلّ الأشدّ. {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ} هي الدبور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" {صَرْصَرٍ}؛ أي: شديدة الصوت، لها صرصرة في هبوبها. أو شديدة البرد تحرق ببردها النبات والحرث، فإن الصر بالكسر: شدة البرد. ولم يقل: صرصرة كما قال: {عَاتِيَةٍ} مع أن الريح مؤنثة؛ لأن الصرصر وصف مختص بالريح، فأشبه باب: حائض وطامث وحامل، بخلاف عاتية فإنها غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به، ذكره في مشتبه القرآن. {عَاتِيَةٍ}؛ أي: مجاوزة للحد في شدّة العصيان؛ كأنها عتت على خزانها، فلم يتمكنوا من ضبطها. والرياح مسخرة لميكائيل تهب بإذنه وتنقطع بإذنه، وله أعوان كأعوان ملك الموت. روي (¬1): أنه ما يخرج من الريح شيء إلا بقدر معلوم، ولما اشتد غضب الله على قوم عاد أصابتهم ريح خارجة عن ضبط الخزّان، ولذلك سمّيت {عَاتِيَةٍ}. أو المعنى: {عَاتِيَةٍ} على عاد فلم يقدروا على ردّها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم. 7 - {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} التسخير: سوق الشيء إلى الغرض المختصّ به قهرًا، والمسخر هو المقيض للفعل. والمعنى: سلط الله تلك الريح الموصوفة على قوم عاد بقدرته القاهرة كما شاء. والظاهر: أن هذه الجملة صفة أخرى لـ {ريح}، ويجوز أن تكون حالًا منها لتخصّصها بالصفة. وقيل: هي مستأنفة لدفع ما يتوهم من كونها باتصالات فلكيّة مع أنه لو كان كذلك .. لكان بتسبّبه وتقديره، فلا يخرج من تسخيره تعالى. {سَبْعَ لَيَالٍ} منصوب على الظرفية لقوله: {سَخَّرَهَا}، وذكر اسم العدد لكون المعدود مؤنثًّا؛ لأن الليالي جمع ليلة، وهي مؤنثة، وتجمع الليلة على الليالي بزيادة الياء على غير القياس، فيحذف ياؤها حالة التنكير بالإعلال، مثل: الأهالي والأهال في ¬

_ (¬1) روح البيان.

جمع أهل، إلا في حالة النصب نحو قوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}؛ لأنّه غير منصرف، والفتح خفيف. {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} أنث اسم العدد لكون المعدود مذكّرًا، لأنّ الأيام جمع يوم، وهو مذكر. وهو معطوف على {سَبْعَ لَيَالٍ}. {حُسُومًا} جمع (¬1) حاسم كشهود جمع شاهد، وهو حال من مفعول {سَخَّرَهَا} بمعنى حاسمات. عبّر عن الريح الصرصر بلفظ الجمع لتكثرها باعتبار وقوعها في تلك الليالي والأيّام. وقال بعضهم: صفة لما قبله، والمعنى على الأول: حال كون تلك الريح متتابعات ما خفق هبوبها في تلك المدة ساعة حتى أهلكتهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ على داء الدابة مرة بعد أخرى حتى ينحسم وينقطع الدم، فهو من استعمال المقيد في المطلق؛ إذ الحسم هو تتابع الكيّ. أو حسمات حسمت كل خير واستأصلته أو قاطعات قطعت دابرهم. والحاصل: أن تلك الرياح فيها ثلاث حيثيات: الأولى: تتابع هبوبها. والثانية: كونها قاطعة لكل خير ومستأصلة لكل بركة أتت عليها. والثالثة: كونها قاطعة دابرهم، فسميت حسمًا بمعنى حاسمات إما تشبيهًا لها بمن يحسم الداء في تتابع الفعل؛ وإما لأن الحسم في اللغة: القطع والاستئصال وسمي السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقرأ الجمهور {حُسُومًا} بضم الحاء. وقرأ السدّي: {حَسُوْمًا} بفتحها، ومنه قول الشاعر: فَأَرْسَلْتِ رِيْحًا دَبُوْرًا عَقِيْمَا ... فَدَارَتْ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حَسُوْمَا قال ابن زيد: أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدًا. واختلف في أولها فقيل: غداة الأحد، وقيل: غداة الجمعة، وقيل: غداة الأربعاء لثمان بقين من شوال، وقيل: آخر أسبوع من شهر صفر إلى غروب الأربعاء الآخر، وهو آخر الشهر. وتلك الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز. وإنمّا سميت عجوزًا لأن عجوزًا من عاد توارت في سرب؛ أي: في بيت في الأرض، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها. وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء ذات برد ورياح ¬

_ (¬1) روح البيان.

شديدة. فمن نظر إلى الأول قال: برد العجوز، ومن نظر إلى الثاني قال: برد العجز. وفي "روضة الأخيار": رغبت عجوز إلى أولادها أن يزوجوها، وكان لها سبعة بنين، فقالوا لها: إلى أن تصبري على البرد عارية لكل واحد منا ليلة، ففعلت. فلما كانت في السابعة ماتت، فسميت تلك الأيام أيام العجوز. وأسماء هذه الأيام الصن، وهو بالكسر: أول أيام العجوز كما في "القاموس": والصنبر وهي الريح الباردة، والثاني من أيام العجوز كما في "القاموس"، والوبر وهو ثالث أيام العجوز، والمعلل لمحدث وهو الرابع من أيّامها، ومطفىء الجمر وهو خامس أيام العجوز، أو رابعها كما في "القاموس": وقيل: مكفىء الظعن؛ أي: ممليها، وهم جمع ظعينة، وهو الهودج فيه امرأة أم لا، والآمر والمؤتمر. قال في "القاموس": آمر ومؤتمر: آخر أيام العجوز، قال الشاعر: كَسَعَ الشِّتَاءُ بِسَبْعَةِ غَبَر ... أَيَّامَ شَهْلَتِنا من الشّهرِ فَإذا انْقَضَتْ أَيَّامُ شَهْلَتِنَا ... بِالصِنّ والصّنْبَرِ والوَبَرِ وَبَآمِرِ وَأَخِيْهِ مؤتمر ... ومعللٍ وبمطفىء الجمرِ ذهبَ الشتاءُ مُوليًا هَربا ... وأتَتْك موقدةٌ من الحرِ قال في "الكواشي": ولم يسم الثامن؛ لأنَّ هلاكهم وإهلاكهم كان فيه. وفي "عين المعاني": إنّ الثامن هو مكفىء الظعن ثم قال في "الكواشي": ويجوز أنها سميت أيام العجوز لعجزهم عما حل بهم فيها، ولم يُسمّ الثامن على هذا لإهلاكهم فيه، والذي لم يُسمّ هو الأول وإن كان العذاب واقعًا في ابتدائه؛ لأن ليلته غير مذكورة فلم يسم اليوم تبعًا لليلة؛ لأن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام. فالصنُّ ثاني الأيام أول الأيام المذكورة لياليها انتهى. يقول الفقير: وسرّ العدد أن عمر الدنيا بالنسبة إلى الإنس سبعة أيام من أيام الآخرة، وفي اليوم الثامن تقع القيامة ويعم الهلاك. {فَتَرَى} يا محمد أو يا من شأنه أن يرى ويبصر لو كنت حاضرًا وقتئذٍ {الْقَوْمَ}؛ أي: قوم عاد، فاللام للعهد. {فِيهَا} أي: في محال هبوب تلك الريح أو في تلك الليالي والأيام، ورجحه أبو حيان للقرب وصراحة الذكر. {صَرْعَى}؛ أي: موتى. جمع صريع كقتلى وقتيل، حال من القوم؛ لأنّ الرؤية بصرية. والصريع

[8]

بمعنى المصروع؛ أي: المطروح على الأرض الساقط عليها؛ لأن الصرع: الطرح، وقد صرعوا بموتهم. وجملة كأن في قوله: {كَأَنَّهُمْ} في موضع الحال إما من القوم على قول من جوز حالين من ذي حال واحد أو من المنويّ في {صَرْعَى} عند من لم يجوز ذلك؛ أي: ترى القوم حال كونهم مصروعين مشبهين بـ {أَعْجَازُ نَخْلٍ}؛ أي: بأصول نخل، كما قال في "القاموس". وأعجاز النخل أصولها انتهى. والنخل: اسم جنس مفرد لفظًا وجمع معنى، واحدتها: نخلة. {خَاوِيَةٍ}؛ أي: متآكلة الأجواف خاليتها لا شيء فيها، بمعنى أنهم متساقطون على الأرض أمواتًا طوالًا غلاظًا كأنهم أصول نخل مجوفة بلا فروع. شبهوا بها من حيث إن أبدانهم خوف، وخلت من أرواحهم كالنخل الخاوية. وقيل: كانت الريح تدخل من أفواههم، فتخرج ما في أجوافهم من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية. وأصل الخوى: الخلاء، يقال: خوى بطنه من الطعام إذا خلا. وفيه إشارة إلى عظم خلقهم وضخامة أجسادهم، ولذا كانوا يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، وإلى أنّ تلك الريح أبلتهم فصاروا كالنخل الموصوفة. وقرأ أبو نهيك (¬1) {أعجز} على وزن أفعل كضبع وأضبع. وحكى الأخفش أنّه قرىء {نخيل خاوية}. 8 - وقال ابن جريج: كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا، وألقتهم الريح في البحر، فذلك قوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} والاستفهام (¬2) لإنكار الرؤية. والباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسميّة، و {مِنْ} زائدة، و {بَاقِيَةٍ} مفعول ترى. أي: ما ترى منهم بقية من صغارهم وكبارهم وذكررهم وإناثهم غير المؤمنين. ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف بمعنى نفس باقية أو مصدرًا بمعنى البقاء كالكاذبة والطاغية. والبقاء: ثبات الشيء على الحالة الأولى، وهو يضاد الفناء. ومعنى الآية: فترى قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيّام المتتابعة صرعى هالكين، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد. وجاء في آية أخرى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}. 3 - 9 {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ}؛ أي: فرعون موسى. أفرده بالذكر لغاية علوّه واستكباره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[10]

{وَمَنْ قَبْلَهُ}؛ أي: ومن تقدمه من الكفرة غير عاد وثمود. فهو من قبيل التعميم بعد التخصيص. و {مَنْ} موصولة، و {قبل} نقيض بعد. وقرأ أبو رجاء (¬1) وطلحة، والجحدري، والحسن بخلاف عنه، وعاصم في رواية أبان، والنحويّان: أبو عمرو والكسائي، ويعقوب {ومِنْ قِبَله} بكسر القاف وفتح الباء بمعنى: ومن معه من القبط من أهل مصر. وقرأ باقي السبعة، وأبو جعفر، وشيبة، والسلمي {وَمَنْ قَبْلَهُ} بفتح القاف وسكون الباء؛ أي: ومن تقدمه من القرون الماضية والأمم الخالية. واختار (¬2) أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود وأبي {ومن معه}، وقراءة أبي موسى الأشعري {ومن يَلقَاه}. {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}؛ أي: وجاءت المؤتفكات؛ أي: أهل قرى قوم لوط؛ لأنّها عطفت على ما قبلها من فرعون. ومن قبله من (¬3) ائتفكت البلدة بأهلها؛ أي: انقلبت، والله تعالى قلب قرى قوم لوط عليهم، فهي المنقلبات بالخسف. وهي خمس قريات: صعبه، وسعده، وعمرة، ودوما، وسدوم وهي أعظم القرى. ثم هذا من قبيل التخصيص بعد التعميم للتتميم؛ لأنَّ قوم لوط أتوا بفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. وقرأ الجمهور {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} بالجمع. وقرأ الحسن والجحدري {والمؤتفكة} بالإفراد، واللام للجنس، فهي في معنى الجمع. والمعنى: وجاءت المؤتفكات {بِالْخَاطِئَةِ}؛ أي: بالفعلة الخاطئة، أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم التي من جملتها تكذيب البعث والقيامة. فالخاطئة على هذين صفة لمحذوف، ويكون الكلام من المجاز العقليّ كشعر شاعر، قاله مجاهد. أو بالخطأ فيكون الخاطئة مصدرًا جاء على وزن فاعله كالعاقبة والكاذبة، قاله الجرجاني. والباء للملابسة أو التعدية، وهو الأظهر. والمراد أنّ هؤلاء الأمم المذكورة جاؤوا بالخاطئة؛ أي: بالشرك وأنواع المعاصي. 10 - {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}؛ أي: فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها حين نهاهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح. فالرسول هنا بمعنى الجمع؛ لأن فعولًا وفعيلًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث والواحد والجمع، فهو من مقابلة الجمع بالجمع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[11]

المستدعية لانقسام الآحاد على الآحاد، فالإضافة ليست للعهد بل للجنس. {فَأَخَذَهُمْ} الله تعالى بالعقوبة، أي: أخذ كل قوم منهم {أَخْذَةً رَابِيَةً}؛ أي: زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفّار، أو على القدر المعروف عند الناس لما زادت معاصيهم في القبح على معاصي سائرة الكفرة. والمعنى: فعاقبهم عقوبة شديدة أغرق من كذّب نوحًا، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن قوم لوط بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة، ثم قلبها وأتبعها بالحجارة، وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه. وأغرق فرعون وجنوده أيضًا في بحر القلزم أو في النيل، وهكذا عاقب كل أمة عاصية بحسب أعمالهم القبيحة، وجازاهم جزاء وفاقًا. وفي كل ذلك تخويف لقريش، وتحذير لهم عن التكذيب، وفيه عبرة موقظة لأولي الألباب. والمعنى: وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود، والقرى التي ائتفكت بأهلها، وصار عاليها سافلها بسبب خطيئتها ومعصيتها. ثم بين هذه الخطيئة بقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}؛ أي: فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفّار، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم. ونحو الآية قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}. 11 - {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} المعهود وقت الطوفان؛ أي: جاوز حدّه المعتاد حتى ارتفع على كل شيء خمس مئة ذراع، وقال بعضهم: ارتفع على أرفع جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعًا. أو جاوز حذه في المعاملة مع خزّانه من الملائكة بحيث لم يقدروا على ضبطه. وذلك الطغيان ومجاوزة الحدّ بسبب إصرار قوم نوح على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه فيما أوحي إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة، فانتقم الله منهم بالإغراق. {حَمَلْنَاكُمْ} أيّها الناس، أي: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، فكأنّكم محمولون بأشخاصكم. وفيه تنبيه على المنّة في الحمل؛ لأنّ نجاة آبائهم سبب ولادتهم. {فِي الْجَارِيَةِ} يعني: في سفينة نوح؛ لأنّ من شأنها أن تجري على الماء. والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان، لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة {في}، فإنها ليست بعلّة

[12]

للحمل، بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله؛ أي: رفعناكم فوق الماء، وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا، وحفظنا من غير غرق ولا خرق. وفيه تنبيه على أنّ مدار نجاتهم محض عصمته تعالى، وإنّما السفينة سبب صوري. 12 - {لِنَجْعَلَهَا}؛ أي: لنجعل الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لَكُمْ} أيتها الأمة المحمدية {تَذْكِرَةً}؛ أي: عبرةً ودلالةً على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته. فضمير {لِنَجْعَلَهَا} إلى الفعلة والقصة بدلالة ما بعد الآية من الوعي، وقد أدرك السفينة أوائل هذه الأمّة، وكان ألواحها على الجوديّ أو لنجعل هذه الأمور المذكورة لكم يا أمة محمد عبرةً وعظةً، تستدلّون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه. {وَتَعِيَهَا}؛ أي: وتعي هذه القصة، وتحفظها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}؛ أي: أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره والتفكر فيه، ولا تضيعه بترك العمل به. والوعي: أن تحفظ العلم، يقال: وعيت ما قلته؛ أي: حفظت، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا خير في العيش إلّا لعالم ناطق ومستمع واع" والإيعاء: أن تحفظه في غير نفسك من وعاء، يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "لا توعي فيوعي الله عليك أرضخي ما استطعت" قال الشاعر: الْخَيْرُ يَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ ويقال: الوعي فعل القلب، ولكن الآذان تؤدي الحديث إلى القلوب الواعية، فنعتت الآذان بنعت القلوب. والتنكير والتوحيد حيث لم يقل: الآذان الواعية للدلالة على قلَّتها، وأن من هذا شأنه مع قلته يتسبَّبُ لنجاة الجم الغفير وإدامة نسلهم. يعني: أنّ من وعى هذه القصة إنّما يعيها، ويحفظها لأجل أن يذكرها للناس ويرغّبهم في الإيمان المنجي، ويحذّرهم عن الكفر المردي، فيكون سببًا للنجاة والإدامة المذكورتين. قال في "الكشاف": الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم وإن ملَؤُوا ما بين الخافقين. وفي الحديث: "أفلح من جعل الله له قلبًا واعيًا". وروي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علي". قال علي كرم الله وجهه: فما سمعت شيئًا

[13]

فنسيته، وما كان لي أن أنسى إذ هو الحافظ للأسرار الإلهية، وقد قال: ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة. وفي رواية: أخذ بأذن عليّ بن أبي طالب وقال: هي هذه ذكره النقاش، ولكن لا يصح هذا الحديث. والمعنى (¬1): لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين عظة وعبرة لكم لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته وسعة رحمته، وتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله، فتنتفع بما سمعت من كتابه، ولا تضيع العمل بما فيه، وتبلغها إلى من يأتي بعد. وقرأ الجمهور (¬2): {وَتَعِيَهَا} بكسر العين وفتح الياء مخفّفة. وقرأ طلحة بن مصرف، وحميد، والأعرج، وأبو عمرو في رواية هارون، وخارجة، وقنبل بخلاف عنه بإسكان العين وفتح الياء مخفّفة. وقرأ حمزة بإخفاء الحركة ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل، نحو: كبد وفخذ وعلم وسمع. وتعي ليس على وزن فعل، بل هو مضارع وعي فصار إلى فعل، وأصله: يفعل حذفت واوه. وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأرزق {وتعيها} بتشديد الياء. قيل: وهو خطأ، وينبغي أن يتأوّل على أنه أريد شدة بيان الياء احترازًا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم. وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي {وَتَعِيَهَا} بإسكان الياء. فاحتمل الاستئناف، وهو الظاهر، واحتمل أن يكون مثل قراءة {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} بسكون الياء. 13 - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)} وهذا شروع (¬3) في بيان الحاقّة وكيفية وقوعها بعد بيان عظم شأنها بإهلاك مكذّبيها. والنفخ: إرسال الريح من الفم. والصور: قرن من نور أوسع من السماوات، ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله، فيحدث صوت عظيم، فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون، ثمّ يموتون إلّا من شاء الله تعالى. والمصدر المبهم هو الذي يكون لمجرد التأكيد، وإن كان لا يقام مقام الفاعل فلا يقال: ضرب ضرب؛ إذ لا يفيد أمرًا زائدًا على مدلول الفعل، إلّا أنه حسن إسناد الفعل في الآية إلى المصدر وهو النفخة لكونها نفخًا مقيدًا بالوحدة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[14]

والمرة لا نفخًا مجردًا مبهمًا. والمراد بها هاهنا: النفخة الأولى التي لا يبقى عندها حيوان إلّا مات، ويكون عندها خراب العالم لما دل عليه الحمل والدك الآتيان. وفي "الكشاف": فإن قلت: هما نفختان فلم قيل واحدة؟ قلت: معناه: أنها لا تثنى في وقتها انتهى. يعني. أنَّ حدوث الأمر العظيم بالنفخة، وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة، لا من حيث إنه نفخ. فنبه على ذلك بقوله: "واحدة". وقرأ الجمهور (¬1): {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} بالرفع فيهما على أنَّ {نَفْخَةٌ} مرتفعة على النيابة، و {وَاحِدَةٌ} تأكيد لها. وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل؛ ولأن تأنيث النفخ مجازي. وقرأ أبو السمال بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور، قال الزجاج: {فِي الصُّورِ} يقوم مقام ما لم يسم فاعله. 14 - {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ}؛ أي: قلعت ورفعت من أماكنها بمجرد القدرة الإلهية أو بالريح العاصفة، فإن الريح من قوة عصفها تحمل الأرض والجبال كما حملت أرض وجود قوم عاد وجبال جمالهم مع هوادجها أو بواسطة الملائكة. وقرأ الجمهور {وَحُمِلَتِ} بتخفيف الميم، وابن أبي عبلة، وابن مقسم والأعمش، وابن عامر في رواية يحيى بتشديدها للتكثير أو للتعدية. {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}؛ أي: فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها، أو فضربت (¬2) الجملتان جملة الأرضين وجملة الجبال إثر رفعها بعضها ببعض ضربة واحدة بلا احتياج إلى تكرار الضرب وتثنية الدك حتى تندق وترجع كثيبًا مهيلًا وهباء منبثًا. قال الفراء: ولم يقل: فدككن مع كونه مقتضى الظاهر لإسناد الفعل إلى الأرض والجبال، وهي أمور متعددة، لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كذلك، فثنى الضمير نظيره. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} حيث لم يقل: كن. وقيل: {دكتا}: بسطتا بسطةً واحدةً، ومنه: اندكّ سنام البعير إذا انفرش على ظهره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[15]

15 - {فَيَوْمَئِذٍ}؛ أي: فحينئذٍ، وهو منصوب بقوله: {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}؛ أي: قامت القيامة. فالواقعة اسم من أسماء القيامة بالغلبة لتحقق وقوعها، وبهذا الاعتبار أسند إليه {وَقَعَتِ}؛ أي: إذا كان الأمر كذلك قامت القيامة التي توعدون بها أو نزلت النازلة العظيمة التي هي صيحة القيامة. وهو جواب لقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ}، و {يَوْمَئِذٍ} بدل، من {إذا}، كرّر لطول الكلام، والعامل فيهما {وَقَعَتِ}. 16 - {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ}؛ أي: تشققت وانفرجت لنزول الملائكة لأمر عظيم أراده الله تعالى كما قال في آية أخرى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}. أو بسبب شدّة ذلك اليوم، وهو معطوف على {وَقَعَتِ}. {فَهيَ}؛ أي السماء {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم إذ انشقت {وَاهِيَةٌ} أي: ضعيفة مسترخية ساقطة القوة جدًّا كالغزل المنقوض بعدما كانت محكمة مستمسكة، وإن كانت قابلة للخرق والالتئام. ومعنى الآيات: فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم، ورفعت الأرض والجبال مِنْ أماكنها، ولا ندري كيف رفعت؛ لأنّ ذلك من أنباء الغيب، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما أو أنَّ ملكًا يحملهما أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب، فتنفصل الجبال؛ وترتفع من شدّة المصادمة، وترتفع الأرض من حيّزها، فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالها وصارتا كثيبًا مهيلًا وهباء منبثًا، لا يتميز شيء من أجزائهما عن الآخر، فحينئذٍ تقوم القيامة وتتصدع السماء؛ لأنها يومئذٍ ضعيفة المنة كالعهن المنفوش بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة. 17 - {وَالْمَلَكُ}؛ أي: والملائكة {عَلَى أَرْجَائِهَا}؛ أي: على جوانب السماء ينظرون إلى أهل الأرض، ولا ندري كيف ذلك، ولا الحكمة فيه؛ فناع تفصيل ذلك ونؤمن به، كما جاء في الكتاب ولا نزيد عليه. ومعنى {وَالْمَلَكُ}؛ أي: الخلق المعروف بالملك، وهو أعم من الملائكة، ألا ترى إلى قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك: من ملائكة. قال الزمخشري: فإن قلت (¬1): ما الفرق بين قولك: والملك وبين أن يقال: ¬

_ (¬1) الكشاف.

والملائكة؟ قلت: الملك أعم من الملائكة ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك: ما من ملائكة انتهى. ولا يظهر (¬1) أن الملك أعم من الملائكة؛ لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما، ولذلك صح الاستثناء منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما. وأما دعواه أنه أعم منه بقوله: ألا ترى إلخ، فليس دليلًا على دعواه؛ لأن (من ملك) نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها (من) المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملك، فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فرد فرد بخلاف من ملائكة فإن (من) دخلت على جمع منكر فعم كل جمع جمع من الملائكة، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة. لو قلت: ما في الدار من رجال جاز أن يكون فيها واحد؛ لأن النفي إنما انسحب على جمع ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد. والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه {مِنْ}، فيكون أعم من جمع دخلت عليه {مِنْ}، وإنما جيء به مفردًا؛ لأنه أخف، ولأن قوله: {عَلَى أَرْجَائِهَا} يدل على الجمع لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات. والمراد - والله تعالى أعلم - أن الملائكة على أرجائها، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات. أي: جنس (¬2) الملك على أطرافها وجوانبها، وهي جمع رجا مقصور وتثنيته رجوان مثل: قفا وقفوان. والمعنى: أنها لما تشققت السماء وهي مساكنهم لجؤوا إلى أطرافها. قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض، ويحيطون بالأرض ومن عليها. وقال سعيد بن جبير: المعنى: والملك على حافات الدنيا؛ أي: ينزلون إلى الأرض، وقيل: إذا صارت السماء قطعًا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. قالوا: وقوفهم لحظة على أرجائها وموتهم بعدها، فإن الملائكة يموتون عند النفخة الأولى لا ينافي التعقيب المدلول عليه بالفاء في قوله: {فَهِيَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[18]

{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} يا محمد. وهو الفلك التاسع، وهو جسم عظيم لا يعلم عظمه إلا الله تعالى. والفائدة (¬1) في ذكر العرش عقيب ما تقدم أن العرش بحاله خلاف السماء والأرض، ولذلك لا يفنى. وعن عليّ بن الحسن رضي الله عنهما قال: إن الله خلق العرش رابعة لم يخلق قبله إلا ثلاثة: الهواء، والقلم، والنور ثم خلق العرش من أنوار مختلفة من ذلك نور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أحمر منه احمرت الحمرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار، ومنه ضوء النهار. {فَوْقَهُمْ}؛ أي: فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء أو فوق الثمانية؛ أي: ويحملون العرش فوق أنفسهم، فالمحمول لا يلزم أن يكون فوق الحامل فقد يكون في يده، وقد يكون في جيبه، وكل واحد من قوله: {فَوْقَهُمْ}. و {يَوْمَئِذٍ} ظرف لقوله: {يحمل}، وأما على التقدير الأول فالظاهر أن {فَوْقَهُمْ} حال من {ثَمَانِيَةٌ} قدمت عليها لكونها نكرة. {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة {ثَمَانِيَةٌ} من الملائكة. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة أخرى فيكون ثمانية". وفي "الشوكاني": أي يحمله (¬2) فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك. وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عددهم إلّا الله عز وجل. وقيل: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة، قاله الكلبي وغيره انتهى. 18 - {يَوْمَئِذٍ} العامل فيه قوله: {تُعْرَضُونَ} على الله؛ أي: (¬3) تسألون وتحاسبون. عبّر عنه بذلك تشبيهًا له بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحوا اطم، يقال: عرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر ما حالهم. والخطاب عامّ للكلّ على التغليب؛ أي: يومئذٍ يعرض العباد على الله لحسابهم، ومثله قوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا}. وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالمًا به، وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال. روي: أن في يوم القيامة ثلاث عرضات. فاما عرضتان فاعتذار واحتاج وتوبيخ، وأمّا الثالثة ففيها تنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك بشماله. أخرجه أحمد والترمذي بلفظ آخر. وهذا العرض، وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسمًا لزمان متسع يقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

وإدخال أهل الجنة الجنة، وإدخال أهل النار النار صح جعله ظرفًا للكل، كما تقول: جئت عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته. وجملة قوله: {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} في محل نصب على الحال من ضمير {تُعْرَضُونَ}، و {مِنْكُمْ} كان في الأصل صفة لـ {خَافِيَةٌ} فقدم للفاصلة، فتحول حالًا. والمعنى: تعرضون على الله حال كونكم غير خاف عليه تعالى فعلة خفيّة منكم تخفونها عن غيركم؛ أي: سر من أسراركم؛ لأنّ العرض لإفشاء الحال والمبالغة في العدل، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)}. فقوله: {مِنْكُمْ} يعلق بما قبله وبما بعده على التجاذب. قال في "الكشاف": {خَافِيَةٌ}؛ أي؛ سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم، والسر والسريرة هو الذي يكتم ويخفى، فتظهر يوم القيامة أحوال المؤمنين، فيتكامل بذلك سرورهم وتظهر أحوال غيرهم فيحصل الحزن والافتضاح. ففي الآية زجر عظيم عن المعصية لتأديتها إلى الافتضاح على رؤوس الخلائق، فقلب الإنسان ينبغي أن يكون بحال لو وضع في طبق وأدير على الناس لما وجد فيه ما يورث الخجالة، وهو صفة أهل الإخلاص والنصيحة. وقرأ الجمهور (¬1): {لَا تَخْفَى} بتاء التأنيث. وقرأ عليّ، وابن وثّاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وابن مقسم عن عاصم، وابن سعدان بالياء. والمعنى (¬2): فيومئذٍ تحاسبون وتسألون لا يخفى على الله شيء من أمورك، فانه تعالى عليم بكل شيء لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، كما جاء في آية أخرى {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}. وفي هذا تهديد شديد، وزجر عظيم، ومبالغة لا تخفى، وفضيحة للكافرين، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيًّا عليهم من أعمالهم، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم. وفي هذا العرض إقامة للحجة، ومبالغة في إظهار العدل. أخرج الإِمام أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجة، وابن مردويه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[19]

عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله" وقال الترمذي: لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 19 - ولما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه، فقال: {فَأَمَّا} تفصيل لأحكام العرض {مَنْ} موصولة {أُوتِيَ كِتَابَهُ}؛ أي: أعطي مكتوبه الذي كتبت الحفظة فيه تفاصيل أعماله. {بِيَمِينِهِ} تعظيمًا له؛ لأنّ اليمين يتيمن بها أخذًا وعطاء. والباء بمعنى في أو للإلصاق، وهو الأوجه، والمراد بهم الأبرار، فإن المقربين لا كتاب لهم، ولا حساب لهم لمكانتهم من الله سبحانه وتعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنة". يقول الفقير: لعل هذا مكافأة له حين أخذ سيفه بيده، وخرج من دار الأرقم وهو يظهر الإِسلام على ملاء من قريش، فبسيفه ظهر الإِسلام رضي الله عنه. دل الحديث على أن رتبة أبي بكر فوق رتبة غيره؛ لأن الصديقية تلي النبوة كما في حديث: "أثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيدان" وكان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فتحرك الجبل، فقال له ذلك. {فَيَقُولُ} فرحًا وسرورًا، فإنه لما أوتي كتابه بيمينه .. علم أنه من الناجين من النار، ومن الفائزين بالجنة، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله. {هَاؤُمُ}؛ أي: خذوا يا أهل بيتي وقرابتي وأصحابي كتابي، وتناولوه و {اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} و"هاء" اسم فعل أمر بمعنى خذ، يقال: هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، هاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نسوة بمعنى: خذ خذا خذوا خذي خذا خذن. وقد يكون فعلًا صريحًا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيه ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب. ومفعوله هنا محذوف دل عليه مفعول {اقْرَءُوا} و {كتابي} مفعول {اقْرَءُوا}؛ لأنّه أقرب العاملين،

[20]

فهو أولى بالعمل في المذكور كما هو مذهب البصريّين لكونه بمنزلة العلة القريبة. وأصله: هاؤمو كتابي، واقرؤوا كتابي فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، نظيره قوله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}. مبحث هاء السكت والهاء في {كِتَابِيَهْ} للوقف والاستراحة والسكت، تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، كما هو الأصل في هاء السكت؛ لأنّها إنّما جيء بها حفظًا للحركة؛ أي: لتحفظ حركة الموقوف عليه، إذ لولا الهاء لسقطت الحركة في الوقف، فتثبت حال الوقف، إذ لا حاجة إليها في حال الوصل، فلذلك كان حقَّها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. إلَّا أن القراء السبعة اتفقوا في كل المواضع على إثباتها وقفًا ووصلًا إجراء للوصل مجرى الوقف، واتباعًا لرسم الإِمام، فإنها ثابتة في المصحف في كل المواضع. وهي {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ}، و {مَالِيَهْ}، و {سُلْطَانِيَهْ}، و {مَا هِيَهْ} في القارعة. وما كان ثابتًا فيه لا بد أن يكون مثبتًا في اللفظ، إلا أن حمزة أسقط الهاء من ثلاث كلم وصلًا، وهي: {مَالِيَهْ} و {سُلْطَانِيَهْ} و {مَا هِيَهْ}، وأثبتها وقفًا على الأصل، ولم يعمل بالأصل في {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ}، وأثبتها في الحالين جمعًا بين اللغتين. وتبين من هذا التقرير أن المستحب إيثار الوقف إتباعًا للوصل، وأن إثباتها وصلًا أنما هو لاتباع المصحف. قال في "القاموس": هاء السكت هي اللاحقة لبيان حركة أو حرف نحو: {مَا هِيَهْ}، وها هناه، وأصلها أن يوقف عليها، وربما وصلت بنية الوقف انتهى. وهذه الهاء لا تكون إلا ساكنة، وتحريكها لحن؛ أي: خطأ؛ لأنه لا يجوز الوقف على المتحرك. وهاء (¬1) السكت في القرآن في سبعة مواضع: في {لَمْ يَتَسَنَّهْ}، وفي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وفي {كِتَابِيَهْ} وفي {حِسَابِيَهْ}، وفي {مَالِيَهْ}، وفي {سُلْطَانِيَهْ}، وفي {مَا هِيَهْ}. وأما الهاء التي في {الْقَاضِيَةَ}، وفي {هَاوِيَة}، وفي {خَاوِيَة} و {ثَمَانِيَةً} و {عَالِيَةٍ} و {دَانِيَةٌ}، وأمثالها فللتأنيث فيوقف عليهن بالهاء يوصلن بالتاء. 20 - {إِنِّي ظَنَنْتُ}؛ أي: علمت وأيقنت {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}؛ أي: حساب أعمالي. ¬

_ (¬1) روح البيان.

والحساب بمعنى المحاسبة، وهو عد أعمال العباد في الآخرة خيرًا وشرًّا للمجازاة؛ أي: علمت وأيقنت في الدنيا أني مصادف حسابي في ديوان الحساب الإلهي، وأني أحاسب على أعمالي في الآخرة. والظن هنا بمعنى العلم واليقين، فإن الظن قد أتى بمعنى اليقين في مواضع كثيرة من القرآن: منها: هذا الموضع. ومنها: قوله تعالى حكاية: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} وهم المؤمنون بالآخرة. ومنها: قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}؛ أي: علم وأيقن بالعلامة القوية، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}. ولعل التعبير عن العلم بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد، وما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبًا. يعني: أن الظن استعير للعلم الاستدلالي؛ لأنه لا يخلو عن الخطرات والوساوس عند الذهول عما قاد إليه من الدليل للإشعار المذكور. وفي "الكشاف": وإنما أجري الظن مجرى العلم؛ لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، ويقال: أظن ظنًا كاليقين أن الأمر كيت وكيت. وقرأ الجمهور (¬1): {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ} في موضعيهما، و {مَالِيَهْ} و {سُلْطَانِيَهْ} وفي القارعة و {مَا هِيَة} بإثبات هاء السكت وقفًا ووصلًا لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلًا ووقفًا وإسكان الياء، وذلك {كتابي} و {حسابي} و {مالي} و {سلطاني}، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في {مَا هِيَة} في القارعة وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف. وطرحها حمزة في {مالي} و {سلطاني} و {ما هي} في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علته ليس كما قال، بل ذلك منقول نقل التواتر، فوجب قبوله. ومعنى الآية (¬2): أي فأما من أعطي كتابه بيمينه فيقول: تعالوا يا أصحابي اقرؤوا كتابي فرحًا به؛ لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[21]

فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال. ثم ذكر العلة في حسن حاله فقال: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)}؛ أي: إني فرح مسرور الآن؛ لأنّي علمت في الدنيا أن ربي سيحاسبني حسابًا يسيرًا، وقد حاسبني كذلك، فالله عند ظن عبده به. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في الآية: إنّ المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها. 21 - ثم بين عاقبة أمره، فقال: {فَهُوَ}؛ أي: من أوتي كتابه بيمينه {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أي: في عيشة وحياة مرضية لا مكروهة، أو في عيشة ذات رضي يرضاها صاحبها؛ أي: من يعيش فيها. وفي "التأويلات النجمية": {رَاضِيَةٍ}: هنيئة مريئة صافية عن شوائب الكدر طاهرة عن نوائب الحذر. وقوله: {فِي عِيشَةٍ}؛ أي: في نوع فخيم من العيش. والعيش (¬1) بالفتح وكذا العيشة والمعاش والمعيش: الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة؛ لأن الحياة تقال في الحيوان وفي البازي وفي الملك، ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه. {رَاضِيَةٍ}؛ أي: ذات رضي يرضاها صاحبها على معنى النسبة بالصيغة، فإن النسبة نسبتان نسبة بالحرف كمكي ومدني، ونسبة بالصيغة كلابن وتامر بمعنى ذي لبن وذي تمر. ويجوز أن يجعل الفعل لها، وهو لصاحبها، فيكون من قبيل الإسناد المجازي. ومآل الوجهين كون العيشة مرضية. وكون العيشة مرضية لاشتمالها على أمور ثلاثة: الأول: كونها منفعة صافية عن الشوائب. والثماني: كونها دائمة لا يترقب زوالها وانقطاعها. والثالث: كونها بحيث يقصد بها تعظيم من رضي بها وإكرامه، وإلا يكون استهزاء واستدراجًا. وعيشة من أعطيَ كتابه بيمينه جامعة لهذه الأمور الثلاثة، فتكون مرضيًّا كمال الرضا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعيشون فلا يموتون، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

ويصحون فلا يمرضون، وينعمون فلا يرون بؤسًا أبدًا. والمعنى: فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدرها مع دوامها، وما فيها من إجلال وتعظيم. 22 - ثم فصل ذلك بقوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)}؛ أي: مرتفعة المكان؛ لأنها في السماء كما أن النار سافلة؛ لأنها تحت الأرض. أو مرتفعة الدرجات أو الأبنية والأشجار، فيكون عالية من الصفات الجارية على غير من هي له، وهو بدل من {عِيشَةٍ} بإعادة الجار. ويجوز كونه متعلقًا بـ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أي: يعيش عيشًا مرضيًّا في جنة عالية. 23 - {قُطُوفُهَا}؛ أي: ثمرات تلك الجنة، جمع قطف بالكسر، وهو ما يقطف ويجتنى بسرعة، والقطف بالفتح مصدر. قال سعدي المفتي: اعتبار السرعة في مفهوم القطف محل خلاف، قال ابن الشيخ: معنى السرعة قطع الكل بمرّة. وفي "القاموس": القطف بالكسر: العنقود، واسم للثمار المقطوفة انتهى. فلا حاجة إلى أن يقال: غلب هنا في جميع ما يجتني من الثمر عنبًا كان أو غيره. {دَانِيَةٌ}؛ أي: قريبة من مريدها وآخذها، ينالها القائم والقاعد والمضطجع من غير تعب ولا كدّ. وقيل معناه: لا يتأخّر إدراكها انتهى. وإذا أراد أن تدنو إلى فيه دنت بخلاف ثمار الدنيا، فإن في قطفها وتحصيلها تعبًا ومشقة غالبًا، وكذا لا تؤكل إلا بمزاولة اليد. يقول الفقير: أشجار الجنة على صورة الإنسان. يعني: أن أصل الإنسان رأسه، وهي في طرف العلو، ورجله فرعه مع أنها في طرف السفل، فكذلك أصول أشجار الجنة في طرف العلو، وأغصانها متدلية إلى جانب السفل، ولذا لا يرون تعبًا في القطف على أن نعيم الجنة تابع لإرادة المتنعم به، فيصرف فيه كيف يشاء من غير مشقّة. 24 - وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مقول لقول مضمر، والجمع بعد قوله: {فَهُوَ} باعتبار المعنى، والأمر أمر امتنان وإباحة لا أمر تكليف ضرورة أنَّ الآخرة ليست بدار تكليف. وجمع بين الأكل والشرب؛ لأن أحدهما شقيق الآخر فلا ينفك عنه، ولذا لم يذكر هنا الملابس، وإن ذكرت في موضع آخر. والمعنى؛ أي: يقال لمن أوتي كتابه بيمينه: كلوا من طعام الجنة وثمارها واشربوا من شرابها مطلقًا. {هَنِيئًا}؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئًا؛ أي: سائغًا لا تنغيص فيه في الحلقوم، وجعل الهنيء صفة لهما؛ لأن المصدر يتناول المثنى أيضًا، من هنؤ الطعام والشراب؛

[25]

أي: صار هنيئًا سائغًا. وإسناد الهناءة إلى الأكل والشرب مجاز للمبالغة؛ لأنّها للمأكول والمشروب. وقولهم: {هَنِيئًا} عند شرب الماء ونحوه بمعنى صحة وعافية؛ لأن السائغ محظوظ منه بسبب الصحة والعافية غالبًا. {بِمَا أَسْلَفْتُمْ}؛ أي: بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة أو بدله أو بسببه. ومعنى الإسلاف في اللغة: تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير، فهو كالإقراض، ومنه: يقال: أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله، وأسلم. {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}؛ أي: الماضية في الدنيا. وعن مجاهد: أيام الصيام، فيكون المعنى: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله في أيام الصيام لا سيما في الأيام الحارة، وهو الأولى؛ لأن الجزاء لا بد وأن يكون من جنس العمل وملائمًا له. والمعنى: أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتي من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها أكلًا وشربًا هنيئًا، لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله وثوابًا على ما قدمتم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي. 25 - {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ} وأعطي {كِتَابَهُ}؛ أي: كتاب أعماله {بشِمَالِه} تحقيرًا له؛ لأنّ الشمال يتشاءم بها بأن تلوى يساره إلى خلف ظهره، فيأخذه بها، ويرى ما فيه من قبائح الأعمال. {فَيَقُولُ} تحزّنًا وتحسرًّا وخوفًا مما فيه من السيئات، وهو من قبيل الألم الروحانيّ الذي هو أشدّ من الألم الجسمانيّ. {يا} هؤلاء يا معشر المحشر {لَيْتَنِي} من التمني بالمحال؛ أي: أتمنّى أنّي {لَمْ أُوتَ} مضارع مبني للمتكلم المجهول من الإيتاء بمعنى لم أعط. {كِتَابِيَهْ}؛ أي: كتابي هذا الذي جمع جميع سيئاتي. 26 - {وَلَمْ أَدْرِ} مضارع مبني للمتكلم المعلوم من الدراية بمعنى العلم، أي: ولم أعلم {مَا حِسَابِيَهْ}؛ أي: أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء عليه، لأن كله عليه. فـ {ما} استفهامية علق بها الفعل عن العمل، ويجوز أن تكون موصولة بتقدير المبتدأ في الصلة. 27 - {يَا لَيْتَهَا} تكرير للتمني وتجديد للتحسر، أي: يا هؤلاء ليت الموتة التي متّها وذقتها {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}؛ أي: القاطعة لحياتي وأمري، ولم أبعث بعدها، ولم ألق ما ألقى. والمعنى: أنه تمنّى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب، فالضمير في {ليتها} يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها، وإن لم تكن مذكورة؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة.

[28]

قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه، وشر من الموت ما يطلب منه الموت. قال الشاعر: وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِيْ إنْ لَقِيْتَهُ ... تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ وقيل: الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب. والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ، يتمنى أن يكون بدل تلك الحالة الموتة القاطعة للحياة، لما أنه وجد تلك الحالة أمر من الموت، فتمناه عندها، وكان في الدنيا أشد كراهية للموت. 28 - {مَا أَغْنَى عَنِّي}؛ أي: لم يدفع عنّي شيئًا من عذاب الآخرة على أنّ {مَا} نافية، والمفعول محذوف. {مَالِيَهْ}؛ أي: الشيء الذي كان لي في الدنيا من المال والأتباع، على أنّ {ما} موصولة، واللام جارة داخلة على ياء المتكلم ليعم مثل الأتباع، فإنه إذا كان اسمًا مضافًا إلى ياء المتكلم لم يعم. وفي "الكشاف": {مَا أَغْنَى} نفي واستفهام على وجه الإنكار؛ أي: أيّ شيء أغنى عنّي ما كان لي من اليسار انتهى. حتى ضيعت عمري فيه؛ أي: لم ينفعني ولم يدفع عنّي شيئًا من العذاب. فـ {مَا} استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول {أَغْنَى}. يقول الفقير: الظاهر أنَّ {مَالِيَهْ} هو المال المضاف إلى ياء المتكلم؛ أي: لم يغن عنّي المال الذي جمعته في الدنيا شيئًا من العذاب، بل ألهاني عن الآخرة وضرّني، فضلًا عن أن ينفعني. وذلك ليوافق قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا}، وقوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}، وقوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} وأنظار ذلك. فما ذهب إليه أكثر أهل التفسير من التعميم عدول عمّا ورد به ظاهر القرآن. 29 - {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} والسلطان يطلق على الملك والتسلّط على الناس، ويطلق على الحجة. والمعنى على الأول: ذهب ملكي وتسلّطي على الناس، وبقيت فقيرًا ذليلًا. وعلى الثاني: ضلّت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا عليهم. ورجح هذا المعنى بأن من أوتي كتابه بشماله لا اختصاص له بالملوك بل هو عام لجميع أهل الشقاوة. يقول الفقير قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)} يدل على الأول على أنّ فيه تعريضًا بنحو الوليد من رؤساء قريش وأهل ثروتهم. ويجوز أن

[30]

يكون المعنى: ذهب عنّي تسلّطي على القوى والآلات، فعجزت عن استعمالها في العبادات، وذلك لأنَّ كل أحد كان له سلطان على نفسه وماله وجوارحه، يزول في القيامة سلطانه فلا يملك لنفسه نفعًا. 30 - وقوله: {خُذُوهُ} حكاية لما يقول الله سبحانه يومئذٍ لخزنة النار، وهم الزبانية الموكّلون على عذابه. والهاء راجع إلى {من} الثاني؛ أي: يقول سبحانه لخزنة جهنم: خذوا هذا العاصي الذي أعطي كتابه بشماله {فَغُلُّوهُ} بلا مهلة؛ أي: أجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد والحديد وشدّوه بالأغلال، جمع غلّ، وهو بالضمّ: الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع من تحرك الرأس. 31 - {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)}؛ أي: أدخلوه الجحيم لا غيرها، وهي النار العظيمة. دل التقديم على التخصيص، والمعنى: لا تصلّوه؛ أي: لا تدخلوه إلا الجحيم، ولا تحرقوه إلا فيها، وهي النار العظمى، ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعظم على الناس. قال سعدي المفتي: فيكون مخصوصًا بالمتعظمين، وفيه بحث انتهى. وقد مر جوابه عند قولنا: بأن من أوتي كتابه بشماله لا اختصاص له بالملوك بل هو عام لجميع أهل الشقاوة. 32 - {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} من نار، وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة، والجار والمجرور متعلق بقوله: {فَاسْلُكُوهُ}، والفاء ليست بمانعة من التعلق. {ذَرْعُهَا}؛ أي: ذرع تلك السلسلة؛ أي: قياسها وقدر طولها. والذراع ككتاب: ما يذرع به حديدًا أو قضيبًا. وفي "المفردات": والذراع: العضو المعروف، ويعبر عن المذروع والممسوح، ويقال: ذراع من الثوب والأرض. وقوله: {ذَرْعُهَا} مبتدأ خبره قوله: {سَبْعُونَ} والجملة في محل الجر على أنها صفة لـ {سِلْسِلَةٍ}، وقوله: {ذَرْعُهَا} تمييز لاسم العدد، منصوب به. {فَاسْلُكُوهُ}؛ أي: فأدخلوه. فالسلك: هو الإدخال في الطريق والخيط والقيد وغيرها. ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تفاوت ما بين العذابين الغل وتصلية الجحيم وما بينهما، وبين السلك في السلسلة في الشدّة، لا على تراخي المدة. يعني: أن {ثُمَّ} أخرج عن معنى المهلة لاقتضاء مقام التهويل ذلك؛ إذ لا يناسب التوعد بتفرق العذاب. قال ابن الشيخ (¬1): إن كلمتي: ثم والفاء، إن كانتا لعطف جملة {فَاسْلُكُوهُ} ¬

_ (¬1) روح البيان.

لزم اجتماع حرفي العطف وتواردهما على معطوف واحد، ولا وجه له، فينبغي أن تكون كلمة {ثُمَّ} لعطف مضمر على مضمر قبل قوله: {خُذُوهُ}؛ أي: قيل لخزنة النار: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)} ثم قيل لهم: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} فيكون الفاء لعطف المقول على المقول مع إفادة معنى التعقيب، وكلمة ثم لعطف القول على القول مع الدلالة على أن الأمر الأخير أشد وأهول مما قبله من الأوامر مع تعاقب المأمور بها من الأخذ، وجعل يده مغلولة إلى عنقه وتصلية الجحيم وسلكهم إياه السلسلة الموصوفة. والمعنى: فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده، وتجعلوه محاطًا بها، فهو فيما بينها مرهق مضيق عليه، لا يستطيع حراكًا مّا، كما روِي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل النار يكونون في السلسلة كما يكون الثعلب في الجلبة. والثعلب: طرف خشبة الرمح الداخل في الجلبة. والجلبة: السنان. والسلسلة: الدرع. وذلك أنّما يكون رهقا؛ أي: غشية. قال أبو حيان (¬1): وأما {ثُمَّ} فيمكن بقاؤها جملى موضوعها من المهلة الزمانية، وأنه أولًا يؤخذ فيغل، ولما لم يعذب بالعجلة صارت له استراحة، ثم جاء تصلية الجحيم فكان ذلك أبلغ في عذابه، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلًا، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولًا معذّبًا في النار، لكنه كان انتقال من مكان إلى مكان فيجد بذلك بعض تنفس، فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب حيث صار لا حراك له ولا انتقال وأنه يضيق عليه غاية التضييق، فهذا يصح فيه أن تكون {ثُمَّ} على موضوعها من المهلة الزمانية انتهى. وتقديم (¬2) السلسلة على السلك كتقديم الجحيم على التصلية في الدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب به، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة؛ لأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ووصفها بسبعين ذراعًا لإرادة المبالغة في طولها، وإن لم تبلغ هذا العدد، كما قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} يريد مرات كثيرة لا خصوص العدد المذكور؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد، فهو كناية عن زيادة الطول لشيوع استعمال السبعة والسبعين والسبع مئة في ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[33]

التكثير. ويجوز أن يراد ظاهره من العدد. وقال ابن عباس وابن جريج، ومحمد بن المنكدر بذراع الملك. وقال نوف البكالي: كل ذراع سبعون باعًا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان نوف في رحبة مسجد الكوفة. وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قال الحسن: الله أعلم بأيّ ذراع هي. وقيل: بالذراع المعروف عندنا، وإنّما خوطبنا بما نعرفه ونحصله. وعن كعب: لو جمع حديد الدنيا. ما وزن حلقة منها، ولو وضعت منها حلقة على جبل .. لذاب مثل الرصاص تدخل السلسلة في فيه وتخرج من دبره، ويلوى فضلها على عنقه وجسده، ويقرن بها بينه وبين شيطانه. يقول الفقير: هذا يقتضي أن يكون ذلك عذاب الكافر؛ لأن جسده يكون في العظم مسيرة ثلاثة أيام، وضرسه مثل جبل أحد كما ورد في الحديث. والمعنى (¬1): أي فيقال لخزنة جهنم: خذوه فضعوا الغل في عنقه، ثم أدخلوه في النار الموقدة كفاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام، ثم أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعًا تلف على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركًا ولا انفلاتًا، والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبع مئة والمقصود إثبات أنها طويلة المدى. 33 - ثم بين سبب استحقاق هذا العذاب، فقال: {إنَّهُ}؛ أي: إن هذا الكافر {كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} وصفه تعالى بالعظيم للإيذان بأنه المستحق للعظمة فحسب، فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات. والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما له يعذب بهذا العذاب الشديد؟ فأجيب: بأنه كان لا يؤمن بالله العظيم. والمعنى: افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله في الدنيا وإشراكه به سواه وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه. 34 - {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}؛ أي: ولا يحثّ الناس على إطعام المسكنة والحاجة فضلًا عن بذل المال لهم. والحضّ: الحث على الفعل بالحرص على وقوعه. والمراد من الطعام (¬2) العين، ولا بد من تقدير مضاف مثل: إعطاء أو بذل؛ لأن الحث والتحريض لا يتعلق بالأعيان بل بالأحداث، وأضيف الطعام إلى المسكين من حيث أن له إليه نسبة. والمعنى: ولا يحث أهله وغيرهم على إعطاء طعام يطعم به الفقير فضلًا عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

أن يعطي ويبذل من ماله. أو المعنى: ولا يحثهم على إطعامه على أن يكون الطعام اسمًا وضع موضع الإطعام، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء، كما قال الشاعر: أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّيْ ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِئَةَ الرّتَاعَا أي: بعد إعطائك. فالإضافة حينئذٍ إلى المفعول، وذكر الحضّ دون الفعل، ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل. يعني: يكون ترك الفعل أشد في أن يكون سبب المؤاخذة الشديدة. وجعل حرمان المسكين قرينة للكفر، حيث عطفه عليه للدلالة على عظم الجرم، فتخصيص الأمرين بالذكر لما أن أقبح العقائد الكفر، وأشنع الرذائل البخل. والعطف للدلالة على أن حرمان المسكين صفة الكفرة كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)}. فلا يلزم أن يكون الكفار مخاطبين بالفروع. وقال ابن الشيخ (¬1): فيه دليل على تكليف الكفار بالفروع على معنى أنهم يعاقبون على ترك الامتثال بها كعدم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والانتهاء عن الفواحش والمنكرات، لا على معنى أنّهم يطالبون بها حال كفرهم، فإنهم غير مكلفين بالفروع بهذا المعنى لانعدام أهلية الأداء فيهم. لأن مدار أهلية الأداء هو استحقاق الثواب بالأداء، ولا ثواب لأعمال الكفّار، وأهلية الوجوب لا تستلزم أهلية الأداء، كما تقرر في الأصول انتهى. والحاصل: أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة لا غير. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الآخر بالإطعام والحضّ عليه؟ والمعنى (¬2): أنّه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين، وفي جعل هذا قرينًا لترك الإيمان بالله من الترغيب في الصدقة على المساكين، وسدّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[35]

فاقتهم وحثّ النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجراثم وأشد المآثم. 35 - {فَلَيْسَ لَهُ}؛ أي: لذلك الكافر {الْيَوْمَ}؛ أي: في هذا اليوم، وهو يوم القيامة {هَاهُنَا}؛ أي: في هذا المكان، وهو مكان الأخذ والغلّ. {حَمِيمٌ}؛ أي: قريب نسبًا أو ودًّا يحيمه ويدفع عنه العذاب ويحزن عليه؛ لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه كقوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}. وقال في "عين المعاني": قريب يحترق له قلبه من حميم الماء. وقال الفاشانيّ: لاستيحاشه من نفسه فكيف لا يستوحش منه غيره وهو من تتمة ما يقال للزبانية في حقه إعلامًا بأنه محروم من الرحمة وحثًّا لهم على بطشه. 36 - {وَلَا طَعَامٌ} له {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} والغسلين فعلين من الغسل، وفي "القاموس": الغسلين بالكسر: ما يغسل من الثوب ونحوه كالغسالة، وما يسيل من جلود أهل النار، والشديد الحرّ، وشجر في النار انتهى. والمعنى: وليس له طعام يأكله إلا من غسالة أهل النار وما يسل من أبدإنهم من الصديد والدم بعصر قوة الحرارة الناريّة منهم. روي: "أنه لو وقعت قطرة منه على الأرض .. لأفسدت على الناس معايشهم". 37 - وقوله: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} صفة لـ {غِسْلِينٍ}. والتعبير (¬1) بالأكل باعتبار ذكر الطعام؛ أي: لا يأكل ذلك الغسلين إلَّا الآثمون أصحاب الخطايا، وهم المشركون، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويحتمل أن يراد بهم الذين يتخطون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله تعالى من خطىء الرجل من باب علم إذا تعمد الخطأ؛ أي: الذنب، فالخاطىء هو الذي يفعل ضدّ الصواب متعمدًا لذلك، والمخطىء هو الذي يفعله غير متعمد؛ أي: يريد الصواب فيصير إلى غيره من غير قصد، كما يقال: المجتهد يخطىء وقد يصيب. وفي "عين المعاني": الخاطئون طريق التوحيد. وقرأ الجمهور (¬2) {الْخَاطِئُونَ} بالهمز اسم فاعل من خطىء، وهو الذي يفعل ضدّ الصواب متعمدًا لذلك ما ذكرنا آنفًا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ونافع بخلاف عنه {الخاطون} بضمّ الطاء دون همز، فالظاهر اسم فاعل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[38]

من خطىء كقراءة من همز .. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد الذين يتخطّون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله انتهى. فيكون اسم فعل من خطأ يخطو كقوله تعالى: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} من خطا إلى المعاصي يخطو. فإن قلت: كيف التوفيق بين (¬1) قوله: {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} وبين قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)}، وفي أخرى {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}، وفي أخرى {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّار}؟ قلت: لا منافاة إذ يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك، أو أن العذاب أنواع والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة غسلين، ومنهم أكلة الضريع، ومنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة النار. لكل منهم جزء مقسوم. 38 - وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)}؛ أي: بما تشاهدونه من المبصرات 39 - {و} بـ {مَا لَا تُبْصِرُونَ}؛ أي: بما لا تشاهدونه من المغيبات. ردّ لكلام (¬2) المشركين، كأنّه قال: ليس الأمر كما تقولونه من كون القرآن شعرًا أو كهانة، فأقسم إنه لقول رسول كريم ... إلخ. {فَلَا} زائدة. قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات. وقيل: إنّ {لا} ليست زائدة بل هي لنفي القسم؛ أي: لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك. والأول أولى. وقال بعضهم: الكلام (¬3) جملتان، و {لا} نافية لمحذوت والتقدير: وما قاله المكذبون فلا يصح إذ هو قول باطل ثمّ قال: أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون. يعني (¬4): بما ترون وتشاهدون وبما لا ترون وما لا تشاهدون أقسم بالأشياء كلها، فيدخل فيه جميع المكوّنات والموجودات. وقيك: أقسم بالدنيا والآخرة، وقيل: بما تبصرون يعني: على ظهر الأرض وما لا تبصرون؛ أي: ما في بطنها. وقيل: بما تبصرون يعني: الأجسام وما لا تبصرون يعني: الأرواح. وقيل: بما تبصرون يعني: الإنس وما لا تبصرون يعني: الملائكة والجنّ. وقيل: بما تبصرون من النعم ¬

_ (¬1) فتح الرحمن. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الخازن.

[40]

الظاهرة وما لا تبصرون من النعم الباطنة. وقيل: بما تبصرون هو ما أظهره الله لملائكته من مكنون غيبه من الملكوت واللوح، والقلم وجميع خلقه وما لا تبصرون هو ما استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه. والإقسام بغير الله إنّما نهي عنه في حقّنا، وأما هو تعالى فيقسم بما شاء على ما شاء. 40 - ثم ذكر المقسم عليه، فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: إنَّ هذا القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَقَوْلُ رَسُولٍ}؛ أي: لتلاوة نبيّ مرسل منّا إليكم {كَرِيمٍ} على الله تعالى، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. فهو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الإباء. وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه. يدل على هذا المعنى مقابلة رسول بشاعر وكاهن؛ لأنَّ المعنى على إثبات أنه رسول لا شاعر ولا كاهن، ولم يقولوا لجبريل: شاعر ولا كاهن. وقيل: المعنى: أنّه لتبليغ ملك مرسل منّا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - كريم عظيم عند الله تعالى، هو جبريل عليه السلام، وما هو من تلقاء محمد كما تزعمون وتدعون أنه شاعر أو كاهن. ويدل على هذا المعنى قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}. وعلى كلا التقديرين فالقرآن ليس من قول محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا من قول جبريل عليه السلام بل هو قول الله فلا بدّ من تقدير التلاوة أو التبليغ كما قدرنا. فإن قلت (¬1): قد توجه هاهنا سؤال، وهو أن جمهور الأمّة، وهم أهل السنة مجمعون على أن القرآن كلام الله، فكيف يصح إضافته إلى الرسول؟. قلت: أما إضافته إلى الله تعالى فلأنه هو المتكلم به، وأما إضافته إلى الرسول؛ فلأنّه هو المبلغ عن الله تعالى ما أوحي إليه، ولهذا أكّده بقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} ليزول هذا الإشكال. قال ابن قتيبة: لم يرد أنّه قول الرسول وإنّما أراد أنّه قول الرسول المبلّغ عن الله تعالى، وفي {الرسول} ما يدل على ذلك، فاكتفى به عن أن يقول: عن الله تعالى. 41 - {وَمَا هُوَ}؛ أي: وما هذا القرآن {بِقوَلِ} رجل {شَاعِرٍ} ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه كما تزعمون ذلك تارةً. والشاعر: هو الذي يأتي بكلام مقفى ¬

_ (¬1) الخازن.

[42]

موزون بقصد الوزن. {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}؛ أي: إيمانًا قليلًا تؤمنون بالقرآن وكونه كلام الله أو بالرسول، وكونه مرسلًا من الله تعالى، والمراد بالقلة: النفي، أي: لا تؤمنون أصلًا كقولك لمن لا يزورك: قلّما تأتينا وأنت تريد لا تأتينا أصلًا. يقول الفقير: يجوز عندي أن تكون قلة الإيمان باعتبار قلة المؤمن بمعنى أنّ القليل منكم يؤمنون، وقس عليه نظائره. وقال بعضهم (¬1): المراد بالإيمان القليل إيمانهم واستيقانهم بأنفهسم، وقد جحدوا بألسنتهم لا معنى النفي. وقال بعضهم: إن كان المراد منه الإيمان الشرعي فالتقليل للنفي، وإن كان اللغوي فالتقليل على حاله؛ لأنهم كانوا يصدقون ببعض أحكام القرآن كصلة الرحم وإطعام الجائع والعفاف ونحوها، ويكذّبون ببعضها كالتوحيد والرسالة والبعث ونحوها، وعلى هذا التذكر. والحاصل: أن القرآن كلام الله حقيقة أظهره في اللوح المحفوظ وكلام جبريل أيضًا من حيث إنه أنزله من السماوات إلى الأرض، وتلاه على خاتم النبين، وكلام سيد المرسلين أيضًا من حيث إنه أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به وجعله حجة لنبوته. 42 - {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تدعون ذلك تارةً أخرى {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}؛ أي: تتفكرون؛ أي: تذكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تتذكرون، و {ما} زائدة؛ أي: لا تتذكرون أصلًا، فالقلة بمعنى النفي كسابقه. وقرأ الجمهور بالتاء في الفعلين لمناسبة {تُبْصِرُونَ}. وقرأ ابن كثير (¬2) وابن عامر، ويعقوب بالياء فيهما التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة. قال مقاتل: سبب نزول هذه الآية أنّ الوليد بن المغيرة قال: إنّ محمدًا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن. فردّ الله عليهم بذلك كما مر. والكاهن (¬3): هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب. وفي "كشف الأسرار": الكاهن هو الذي يزعم أنَّ له خدمًا من الجن يأتونه بضرب من الوحي، وقد انقطعت الكهانة بعد نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ الجنَّ حبسوا ومنعوا من الاستماع انتهى. وقال الراغب في "المفردات": الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البيضاوي. (¬3) روح البيان.

بضرب من الظنّ كالعرّاف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك. ولكون هاتين الصناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدّقه بما قال .. فقد كفر بما أنزل الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وفي "شرح المشارق" لابن الملك: العرّاف من يخبر بما أخفي من المسروق، ومكان الضالّة، والكاهن: من يخبر بما يكون في المستقبل. وفي "الصحاح": العرّاف هو الكاهن. فإن قلت: لِمَ خص ذكر الإيمان مع نفي الشاعرّية والتذكر مع نفي الكاهنيّة؟ قلت: إن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لكونه نثرًا لا ينكره إلا معاند فلا مجال فيه لتوهم عذر لترك الإيمان، فلذلك وبخوا عليه وعجب منه بخلاف مباينته للكهانة، فإنها تتوقف على تذكر أحواله - صلى الله عليه وسلم - ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم، فالكاهن ينصب نفسه للدلالة على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيرًا، ويأخذ جعلًا على ذلك ويقتصر على من يسأله، وليس واحد منها من دأبه - صلى الله عليه وسلم -. والحاصل: أنَّ (¬1) الكاهن من يأتيه الشياطين، ويلقون إليه من أخبار السماء، فيخبر الناس بما سمعه منهم، وما يلقيه - صلى الله عليه وسلم - من الكلام مشتمل على ذم الشياطين وسبهم، فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين، فإنهم لا ينزلون شيئًا فيه ذمهم وسبهم لا سيما على من يلعنهم ويطعن فيهم، وكذا معاني ما يلقيه - صلى الله عليه وسلم - منافية لمعاني أقوال الكهنة، فإنهم لا يدعون إلى تهذيب الأخلاق وتصحيح العقائد والأعمال المتعلقة بالمبدأ والمعاد، بخلاف معاني قوله - صلى الله عليه وسلم -. فلو تذكر أهل مكة معاني القرآن ومعاني أقوال الكهنة .. لما قالوا بأنّه - صلى الله عليه وسلم - كاهن. وفي "برهان القرآن": خص ذكر الشعر بقوله: {مَا تُؤْمِنُونَ} لأن من قال: القرآن شعر ومحمد شاعر بعدما علم اختلاف آيات القرآن في الطول والقصر واختلاف حروف مقاطعه، فلكفره وقلة إيمانه، فإن الشعر كلام موزون مقفى. وخص ذكر الكهانة بقول: {مَا تَذَكَّرُونَ}؛ لأن من ذهب إلى أن القرآن كهانة، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كاهن فهو ذاهل عن ذكر كلام الكهان، فإنه أسجاع لا معاني تحتها، وأوضاع تنبو الطباع عنها، ولا يكون في ¬

_ (¬1) روح البيان.

[43]

كلامهم ذكر الله انتهى. قال أبو السعود في "الإرشاد": وأنت خبير بأن ذلك أيضًا مما لا يتوقف على تأمل قطعًا انتهى. أي: فتعليلهم بالفرق غير صحيح، وفيه أن الإنابة شرط للتذكر كما قال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}. والكافر ليس من أهل الإنابة، وأيضًا {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: أولو العقول الزاكية والقلوب الطاهرة، والكافر ليس منهم فليس من أهل التذكر، ولا شك أن كون الشيء أمرًا بينا لا ينافي التذكر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} مع أن شواهد الألوهية ظاهرة لكل بصير باهرة عندكم خيبر على أنه يظهر من تقريراتهم أنه لا بد من التذكر في نفي الكهانة لخفاء أمرها في الجملة بالنسبة إلى الشعر، والعلم عند الله العلام. وحاصل معنى الآيات: فأقسم لكم بالأشياء كلها ما يبصر منها، وما لا يبصر إن هذا القرآن كلام الله سبحانه ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما هو بقول شاعر؛ لأنَّ محمدًا لا يحسن قول الشعر. تؤمنون بذلك القرآن إيمانًا قليلًا، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلًا، أو يؤمنون بقلوبهم قليلًا، ثم يرجعون عنه سريعًا، ولا بقول كاهن كما تزعمون؛ لأنه سب الشياطين وشتمهم فلا يمكن أن يكون بلهامهم، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه قلتم من كلام الكهّان. 43 - ثم أكد ما تقدم بقوله: {تَنْزِيلٌ}؛ أي: بل كتاب منزل {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وإله الأولين والآخرين، أنزله على لسان جبريل تربية للسعداء وتبشيرًا لهم وإنذارًا للأشقياء، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}، وقال تعالى: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}. فعبر عن اسم المفعول بالمصدر مبالغة. وقرأ (¬1) ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، والجحدريّ، والحسن {يؤمنون}، {يذكرون} بالياء فيهما، وباقي السبعة بتاء الخطاب. وقرأ أبيّ {تتذكرون} بتاءين كما مرّ بعضه قريبًا نقلًا عن "البيضاوي". وقرأ الجمهور {تَنْزِيلٌ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل. وأبو السّمال {تنزيلا} بالنصب على المصدرية بضمار فعل؛ أي: نزل تنزيلًا. والمعنى: أنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين على لسانه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[44]

44 - {وَلَوْ تَقَوَّلَ} ذلك الرسول، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - أو جبريل عليه السلام على ما تقدم. والتقوّل: تكلّف القول؛ أي: اختلق {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} كما يتقوله الشعراء؛ أي (¬1): ولو ادعى محمد علينا شيئًا لم نقله كما تزعمون كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}. وفي ذكر البعض إشارة إلى أن القليل كاف في المؤاخذة الآتية فضلًا عن الكثير. سمّي الافتراء تقولا وهو بناء التكلف، لأنه قول متكلف كما قال صاحب "الكشاف": التقول افتعال القول واختراعه من عند نفسه؛ لأنّ فيه تكلفًا من المفتعل. وسميت (¬2) الأقوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها؛ لأنَّ صيغة أفعولة إنما تطلق على محقرات الأمور وغرائبها كالأعجوبة مما يتعجب منه، والأضحوكة لما يضحك منه، وكان الأقاويل جمع أقوولة من القول وإن لم يثبت عن نقلة اللغة، ولم يكن أقوولة مستعملًا لكن كونه على صورة جمع أفعولة كاف في التحقير. ويؤيد أنه ليس جمع الأقوال لزوم أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال، فالأقاويل هاهنا بمعنى الأقوال لا أنه جمعه. وفي "حواشي ابن الشيخ": الظاهر أن الأقاويل جمع أقوال كأناعيم جمع أنعام جمع نعم، وأباييت جمع أبيات جمع بيت. وقرأ الجمهور (¬3): {وَلَوْ تَقَوَّلَ} بوزن تفعل مبنيًا للفاعل. والتقول: أن يقول الإنسان عن آخر، إنه قال شيئًا لم يقله. وقرأ ذكران وابن محمد {يقول} مضارع قال، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور، وقرىء {ولو تُقُول} مبنيًا للمفعول، وحذف الفاعل، وقام المفعول مقامه، وهو {بعض} إن كان قرىء مرفوعًا، وإن كان قرىء منصوبًا فـ {علينا} قام مقام الفاعل. والمعنى: ولو تقول علينا متقول ولا يكون الضمير في {تقول} عائدًا على الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لاستحالة وقوع ذلك منه، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ذكره في "البحر". 45 - {لَأَخَذْنَا مِنْهُ} حال من قوله: {بِالْيَمِينِ}؛ أي (¬4): لأخذنا بيده اليمين منه. قال ابن جرير: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. وقال الفراء والمبرد والزجاج وابن قتيبة: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)}؛ أي: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط. (¬4) الشوكاني.

[46]

بالقوة والقدرة. قال ابن قتيبة: وإنما أقام اليمين مقام القوة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه، ومن هذا المعنى قول الشاعر: إِذَا مَارَايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِيْنِ وقول الآخر: وَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُوْرُهَا ... تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِالْيَمِيْنِ وفي "البحر": والظاهر أن قوله: {بِالْيَمِينِ} المراد به الجارحة، فقال الحسن: المعنى: قطعناه عيرةً ونكالًا، والياء على هذا زائدة، وقيل: الأخذ على ظاهره انتهى. وفي "المفردات": {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} أي: منعناه ودفعناه، فعبر عن ذلك بالأخذ باليمين كقولك: خذ بيمين فلان انتهى. وقيل: اليمين بمعنى القوة، فالمعنى: لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا. وقيل المعنى حينئذٍ: لأخذنا منه اليمين وسلبنا منه القوة والقدرة على التكلم بذلك، على أن الباء صلة؛ أي: زائدة. وعبر عن القوة باليمين؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه كما مر، فيكون من قبيل ذكر المحل، وإرادة الحال، أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم. 46 - {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}؛ أي: نياط قلبه بضرب عنقه. والنياط: عرق أبيض غليظ كالقصبة، علق به القلب تصادفه شفرة الناحر، إذا انقطع مات صاحبه. ولم يقل: لأهلكناه أو لضربنا عنقه؛ لأنه تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه أي: يواجهه بالسيف، ويضرب عنقه. فإنه إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده؛ أي عنقه وأن يكفحه؛ أي: يواجهه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، فلذا خص اليمين دون اليسار. قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى مدعٍ علينا شيئًا لم نقله .. لقتلناه صبرًا كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته. ومعنى الآية (¬1): أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة، ونسبها ¬

_ (¬1) المراغي.

[47]

إلينا .. لعاجلناه بالعقوبة وانتقمنا منه أشد الانتقام، والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم، فإنهم لا يمهلونه بل يضربون رقبته على الفور، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}، وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، والمراد أنه لو كذب علينا .. لأزهقنا روحه .. فكان كمن قطع وتينه. 47 - {فَمَا مِنْكُمْ} أيها الناس {مِّنْ أَحَدٍ عنهُ}؛ أي: عن القتل أو عن المقتول، وهو متعلق بقوله: {حَاجِزِينَ}؛ أي: دافعين. فهو وصف لأحد، فإنه عام لوقوعه في سياق النفي، إذ هو في معنى الجماعة، فيقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما جاء في قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، وقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}. فـ {مِنْ أَحَدٍ} (¬1) في محل الرفع بالابتداء، و {مِنْ} زائدة لتأكيد النفي، و {مِنْكُمْ} خبره، و {حَاجِزِينَ} صفة لـ {أَحَدٍ}. والمعنى: فما منكم قوم يحجزون؛ أي: يمنعون ويدفعون عن المقتول أو عن قتله وإهلاكه المدلول عليه بقوله: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}؛ أي: لا يقدر أحد على الحجز والدفع عنه، فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك .. لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع عنه. وهذا مبنيّ على أصل لغة بني تميم، فإنهم لا يعملون {ما} لدخولها على القبيلتين الاسم والفعل، وقد يجعل {حَاجِزِينَ} خبرًا لـ {ما} على اللغة الحجازية، ولعله أولى. فتكون كلمة {ما} هي المشبهة بليس، فـ {مِنْ أَحَدٍ} اسم {ما}، و {حَاجِزِينَ} خبرها، منصوب، و {مِنْكُمْ} حال مقدم وكان في الأصل صفة لـ {أَحَدٍ}. وفي الآية تنبيه على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قال من عند نفسه شيئًا أو زاد أو نقص حرفًا واحدًا على ما أوحي إليه .. لعاقبه الله، وهو أكرم الناس عليه، فما ظنك بغيره ممن قصد تغيير شيء من كتاب الله بتأويله أو قال شيئًا من قبل نفسه؟ كما ضل بذلك بعض الفرق الضالة. 48 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن هذا القرآن {لَتَذْكِرَةٌ}؛ أي: لموعظة {لِلْمُتَّقِينَ}؛ أي: للذين اتقوا الشرك والمعاصي وحب الدنيا، فإنه يتذكر بهذا القرآن وينتفع به بخلاف المشركين، ومن مال إلى الدنيا وغلبه حبها، فإنه يكذّب به ولا ينتفع به. 49 - {وَإنَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[50]

لَنَعْلَمُ} في الأول {أَنَّ مِنْكُمْ} أيها الناس {مُكَذِّبِينَ} بالقرآن، فنجازيهم على تكذيبهم. قال الإِمام مالك رحمه الله تعالى: ما أشد هذه الآية على هذه الأمة. وفي الآية وعيد شديد لا يخفى. والظاهر (¬1): أن قوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)} وما بعده معطوف على جواب القسم، فهو من جملة المقسم عليه، وما بينهما اعتراض اهـ شيخنا. والمعنى: أي وإنّ هذا القرآن .. لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره وينتهي عما نهى عنه. وخص المتقين بالتذكرة والعظة؛ لأنّهم هم الذين ينتفعون بها. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)} له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعي، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارًا للعدل. والخلاصة: أنّ منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه. 50 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن هذا القرآن {لَحَسْرَةٌ} وندامة {عَلَى الْكَافِرِينَ} المكذبين له يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين المصدقين به، أو حسرة عليهم في الدنيا حين رأوا دولة المؤمنين أو حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله. ويجوز (¬2) أن يعود الضمير إلى التكذيب المدلول عليه بقوله {مُكَذِّبِينَ}. 51 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن هذا القرآن ككونه من عند الله {لَحَقُّ الْيَقِينِ}؛ أي: للحق اليقين الذي لا يحول حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك في أنه من عند الله، لم يتقوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالحق واليقين صفتان بمعنى واحد، أضيف أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه كحب الحصيد للتأكيد، فإن الحق هو الثابت الذي لا يتطرق إليه الريب، وكذا اليقين. 52 - {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}؛ أي: فسبح الله سبحانه وتعالى يا محمد ونزهه عما لا يليق به بذكر اسمه العظيم بأن تقول سبحان الله تنزيهًا له عن الرضى بالتقول عليه وشكرًا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن. فمفعول سبح محذوف، والباء في {بِاسْمِ رَبِّكَ} للاستعانة (¬3) كما في ضربته ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

بالسوط، فهو مفعول ثان بواسطة حرف الجر على حذف المضاف، و {الْعَظِيمِ} صفة الاسم، ويحتمل أن يكون صفة {رَبِّكَ}، و {اسم} مقحم، ويؤيده ما روى: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال: "اجعلوها في ركوعكم". فالتزم ذلك بعض العلماء، كما في "فتح الرحمن". وفي "التأويلات النجمية": نزه تنزيهًا وقدس عن التشبيه اسم ربك؛ أي: مسمى ربك؛ إذ الاسم عين المسمى عند أرباب الحق وأهل الذوق انتهى. وقيل: إن لفظة {بِاسْمِ} زائدة. وعبارة "الخازن"؛ أي: نزه ربك العظيم، واشكره على أنْ جعلك أهلًا لأن يوحى إليك تأمل، انتهت. الإعراب {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}. {الْحَاقَّةُ (1)} مبتدأ أوّل أو صفة لمحذوف؛ أي: القيامة الحاقة أو الساعة الحاقة. {مَا} اسم استفهام تعظيمي في محل الرفع مبتدأ ثان، {الْحَاقَّةُ (2)} خبر لـ {ما} الاستفهامية، والجملة خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما} اسم استفهام للتعظيم أيضًا في محل الرفع مبتدأ، {أَدْرَاكَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والكاف مفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {مَا} الاستفهامية، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مستأنفة. {وَمَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {الْحَاقَّةُ} خبر لـ {مَا}، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني والثالث لـ {أَدْرَاكَ}؛ لأن أدرى بمعنى أعلم، ينصب ثلاثة مفاعيل، وقد علّقت {أَدْرَاكَ} عن العمل بالاستفهام. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)}. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} فعل وفاعل، {وَعَادٌ} معطوف على ثمود، {بِالْقَارِعَةِ} متعلق بـ {كَذَّبَتْ} والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحوال الحاقة. {فَأَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ثمود وعادًا كذبتا، وأردت بيان عاقبة تكذيبهما فأقول لك. {أما} حرف شرط وتفصيل، {ثَمُوُد} مبتدأ، {فَأُهْلِكُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {أمّا}، واقعة في

غير موضعها؛ لأن موضعها موضع أما، حرف لا محل لها من الإعراب، {أهلكوا} فعل ماض مغيّر الصيغة ونائب فاعل، {بِالطَّاغِيَةِ} متعلق بـ {أهلكوا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أما}، لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، لا محل لها من الإعراب. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة، {أما} حرف شرط وتفصيل {عَادٌ} مبتدأ، {فَأُهْلِكُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {أمّا}، وجملة {أهلكوا} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {أمّا} وجملة {أمّا} في محل النصب معطوفة على جملة {أمّا} الأولى. {بِرِيحٍ} متعلق بـ {أهلكوا}، {صَرْصَرٍ} صفة أولى لريح، {عَاتِيَةٍ} صفة ثانية لها. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}. {سَخَّرَهَا} فعل وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، ومفعول به، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {سَخَّرَهَا}، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثالثة لـ {ريح}، ولكنها سببية، {سَبْعَ لَيَالٍ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {سَخَّرَهَا}، {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} معطوف عليه، {حُسُومًا} صفة لـ {سَبْعَ لَيَالٍ}. {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}؛ أي: متتابعات أو منصوب على المصدرية بفعل محذوف من لفظه؛ أي: تحسمهم حسومًا أو حال من مفعول {سَخَّرَهَا}؛ أي: ذات حسوم. {فَتَرَى} {الفاء}: عاطفة، {ترى} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمّد - صلى الله عليه وسلم -، أو على من يصلح للخطاب، {الْقَوْمَ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {سَخَّرَهَا}، {فِيهَا} متعلق بـ {ترى}، والضمير على الليالي والأيّام أو على الريح، {صَرْعَى} حال من القوم؛ لأن الرؤية هنا بصرية {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {أَعْجَازُ نَخْلٍ} خبره ومضاف إليه، {خَاوِيَةٍ} صفة {نَخلٍ}، وجملة {كأن} في محل النصب حال ثانية من القوم. {فَهَلْ} {الفاء}: استئنافية، {هل} حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، {تَرَى} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد أو على؛ أي مخاطب، {لَهُمْ} متعلق بـ {تَرَى}، {مِنْ} زائدة، {بَاقِيَةٍ} مفعول {ترى}، أي: من نفس باقية، والجملة مستأنفة. {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}. {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على سابقها، {وَمَن} معطوف على {فِرْعَوْنُ}، {قَبْلَهُ} ظرف متعلق بمحذوف صلة من الموصولة، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} معطوف أيضًا على {فِرْعَوْنُ}، {بِالْخَاطِئَةِ} متعلق بـ {جاء}، {فَعَصَوْا} {الفاء}: عاطفة، {عصوا} فعل وفاعل، معطوف على {جاء}، {رَسُولَ رَبِّهِمْ} مفعول به، {فَأَخَذَهُمْ} فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على {عصوا}. {أَخْذَةً} مفعول مطلق، {رَابِيَةً} صفة لـ {أَخْذَةً}؛ لأنّها مصدر مّرة، وليست مصدر هيئة، وإنما يستفاد معنى الهيئة من الصفة. {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَمَّا} اسم شرط غير جازم، أو ظرفية بمعنى حين، {طَغَى الْمَاءُ} فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ {لَمَّا}، {حَمَلْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {لَمَّا} في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إنّ} مستأنفة. {فِي الْجَارِيَةِ} متعلق بـ {حَمَلْنَاكُمْ}، {لِنَجْعَلَهَا} اللام حرف جرّ وتعليل، {نجعلها} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، منصوب بـ {أن} مضمرة، {لَكُمْ} حال من {تَذْكِرَةً} لأنها صفة نكرة قدمت عليها، {تَذْكِرَةً} مفعول ثان لـ {نجعل}، والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لجعلنا إيّاها تذكرة لكم، والضمير في {نجعلها} عائد على الفعلة، وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين، الجار والمجرور متعلق بـ {حَمَلْنَاكُمْ}، {وَتَعِيَهَا} فعل ومفعول به، معطوف على {نجعلها} {أُذُنٌ} فاعل {وَاعِيَةٌ} صفة {أُذُنٌ}، {فَإذَا} {الفاء}: استئنافية، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {نُفِخَ} فعل ماض مجهول، {فِي الصُّورِ} متعلق بـ {نُفِخَ} {نَفْخَةٌ} نائب فاعل، {وَاحِدَةٌ} صفة {نُفِخَ}، والجملة الفعلية في محل، الجر مضاف إليه لـ {إذا}، والظرف متعلق بـ {وَقَعَتِ} الآتي. {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ} فعل ونائب فاعل في محل الجر، معطوف على {نُفِخَ}، {وَالْجِبَالُ} معطوف على الأرض، {فَدُكَّتَا} الفاء عاطفة، {دك} فعل ماض مغير الصيغة، والتاء: علامة تأنيث نائب الفاعل، والألف نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {حملت}، {دَكَّةً} مفعول مطلق، {وَاحِدَةً} صفة {دَكَّةً}.

{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}. {فَيَوْمَئِذٍ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {يوم} منصوب على الظرفية الزمانية، وهو مضاف، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}، والتنوين عوض عن جملة مكونة من جملتي {نُفِخَ} و {حملت}، والظرف متعلق بـ {وَقَعَتِ} على كونه بدلًا من {إذا}. {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا}، وجملة {إذا} مستأنفة. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} فعل وفاعل، معطوف على {وَقَعَتِ}، {فَهِيَ} مبتدأ، والفاء: عاطفة {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ {وَاهِيَةٌ}، و {وَاهِيَةٌ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {انشقت}. {وَالْمَلَكُ} مبتدأ، {عَلَى أَرْجَائِهَا} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة {انشقت} أو حال من {السَّمَاءُ}، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} فعل مضارع ومفعول به، {فَوْقَهُمْ} ظرف، متعلق بمحذوف حال من العرش؛ أي: حال كونه فوق الملائكة، {يَوْمَئِذٍ} ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ {يحمل}، {ثَمَانِيَةٌ} فاعل يحمل، والجملة معطوفة على جملة {وَقَعَتِ}، {يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق بـ {تُعْرَضُونَ}، و {تُعْرَضُونَ} فعل ونائب فاعل مرفوع بالنون، والجملة مستأنفة. {لَا} نافية، {تَخْفَى} فعل مضارع، {مِنْكُمْ} حال من {خَافِيَةٌ}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها، {خَافِيَةٌ} فاعل، والجملة في محل النصب حال من واو {تُعْرَضُونَ}. {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)}. {فَأَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنكم تعرضون على الله وأردتم بيان حالكم بعد العرض .. فأقول لكم: {أمّا}. {أما} حرف شرط وتفصيل، {مَن} اسم موصول في محل رفع مبتدأ، {أُوتِيَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {كِتَابَهُ} مفعول ثان لـ {أُوتِيَ}؛ لأنّه بمعنى أعطي. {بِيَمِينِهِ} متعلق بـ {أُوتِيَ}، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. {فَيَقُولُ} الفاء رابطة لجواب {أمّا}، واقعة في غير موضعها، {يقول} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {من}، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ، والخبر

جواب {أمّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أمّا} من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {هَاؤُمُ} {ها}: اسم فعل أمر بمعنى خذوا، مبني على السكون، والهمزة حرف دالّ على خطاب جماعة الذكور مبني على الضمّ؛ لأنها عوض عن كاف الخطاب، والميم حرف قال على جمع الذكور، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين حرف متولّد من إشباع ضمة الميم، وجملة اسم الفعل في محل النصب مقول القول. {اقْرَءُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، و {الواو}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول القول، {كِتَابِيَهْ} مفعول به، تنازع فيه {هَاؤُمُ} و {اقْرَءُوا}، فأعمل الأول عند الكوفيين لسبقه، والثاني عند البصريين لقربه، وأضمر للآخر تقديره: هاؤم اقرأوه كتابيه، أو هاؤموه اقرأوا كتابيه، وأصله: (كتابي). {كتابي} مفعول منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، {كتاب} مضاف، وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه مبني على الفتح، وأدخلت عليه هاء السكت لتظهر فتحة الباء، وقد تقدم بحث هاء السكت، فراجعه. {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}. {إِنِّي} ناصب واسمه، وجملة {ظَنَنْتُ} خبره، وجملة {إن} في محل النصب مقول القول، {إِنِّي} ناصب واسمه، {مُلَاقٍ} خبره، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل، وجملة {أنَّ} المفتوحة في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {ظَنَنْتُ}، {حِسَابِيَهْ} مفعول به لـ {مُلَاقٍ}؛ لأنّه اسم فاعل، والياء: مضاف إليه، والهاء: حرف زائد للسكت، {فَهُوَ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مقالته وأردتم بيان عاقبته .. فأقول لكم: فهو في عيشة راضية، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هو} مبتدأ، {فِي عِيشَةٍ} خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، و {رَاضِيَةٍ} صفة لـ {عِيشَةٍ}، {فِي جَنَّةً} جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {فِي عِيشَةٍ}، {عَالِيَةٍ} صفة لـ {جَنَّةً}، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لـ {جَنَّةٍ}، {كُلُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، {والواو}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف أي: يقال

لهم: {كُلُوا}. {وَاشْرَبُوا} معطوف على {كُلُوا}، {هَنِيئًا} حال من فاعل {كُلُوا وَاشْرَبُوا}؛ أي: مهنئين، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئًا، أو منصوب بفعل محذوف؛ أي: هنئتم هنيئًا، {بِمَا}: {الباء} حرف جرّ وسبب، {ما} موصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {هَنِيئًا} أو بـ {كُلُوا وَاشْرَبُوا}، وجملة {أَسْلَفْتُمْ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما أسلفتموه {فِي الْأَيَّامِ} متعلق بـ {أَسْلَفْتُمْ}، {الْخَالِيَةِ} صفة لـ {أيام}. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة، {أمّا} حرف شرط، {مَنْ} مبتدأ، {أُوتِيَ كِتَابَهُ} فعل مغير ونائب فاعل ومفعول به ثان، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {بِشِمَالِهِ} متعلق بـ {أُوتِيَ}، {فَيَقُولُ} {الفاء} رابطة لجواب {أمّا}، وجملة {يقول} خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أمّا}، وجملة {أمّا} معطوفة على جملة {أمّا} الأولى، {يَا لَيْتَنِي} {يا} حرف نداء، والمنادى محذوف؛ أي: يا أهل المحشر ليتني ... إلخ. وجملة النداء في محل النصب مقول القول أو {يا} حرف تنبيه، {ليت} حرف تمنّ ونصب، تعمل عمل {إن}، والنون للوقاية، والياء اسمها، وجملة {لَمْ أُوتَ} خبرها، و {ليت} في محل النصب مقول القول، {كِتَابِيَهْ} مفعول به ثان، والأول نائب فاعل مستتر، {وَلَمْ} {الواو}: عاطفة، {لم} حرف نفي وجزم، {أَدْرِ} فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر، {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {حِسَابِيَهْ} خبرها، {والها}: للسكت، والجملة الاسمية سدّت مسدَّ مفعولي {أَدْرِ}، علقت عنها باسم الاستفهام، والاستفهام للتعظيم والتهويل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {لم أُوتَ}. {يَا لَيْتَهَا} {يا} حرف نداء أو حرف تنبيه كما تقدم آنفًا، {ليت} حرف تمنّ ونصب، والهاء اسمها، والضمير يعود على الموتة في الدنيا، وجملة {كَانَتِ} خبر {ليت}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول القول، واسم كان ضمير مستتر يعود على الموتة في الدنيا، {الْقَاضِيَةَ} خبر {كان}. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ

فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)}. {مَا}: نافية، {أَغْنَى} فعل ماض، {عَنِّي} متعلق بـ {أَغْنَى}، {مَالِيَهْ} فاعل {أَغْنَى}، ومفعول {أَغْنَى} محذوف؛ أي: ما دفع عنّي العذاب، والجملة في محل النصب مقول القول، وإن شئت قلت: {مَا} اسم استفهام للتوبيخ وبَّخ نفسه في محل النصب على المفعولية المطلقة لـ {أَغْنَى}، أي: أيّ إغناء أغنى عنّي ما كان في الدنيا من المال والأتباع، ويجوز في {مَالِيَهْ} أن تكون {مَا} اسم موصول، هي فاعل أغنى، {ليه} جار ومجرور صلة لـ {مَا} الموصولة؛ أي؛ الذي ثبت واستقر لي في الدنيا، والأوّل أرجح. {هَلَكَ} فعل ماض، {عَنِّي} متعلق بـ {هَلَكَ}، {سُلْطَانِيَهْ} فاعل {هَلَكَ}، والجملة الفعلية مقول القول، {سُلْطَانِيَهْ} مضاف والياء: ضمير المتكلم مضاف إليه، والهاء: للسكت. {خُذُوُه} فعل أمر، والواو: فاعل، والهاء مفعول به، والجملة مقول لقول مقدر تقديره: ويقال للزبانية: خذوه، وجملة القول المقدر مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: وما يفعل به بعد هذا التحسر الصادر منه؟ فقيل: يقال: خذوه. {فَغُلُّوهُ} فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على خذوه، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع التراخي كما مرّ البحث عنه، {الْجَحِيمَ} منصوب على الظرفية المكانية أو على أنه مفعول به على السعة، {صَلُّوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {فَغُلُّوهُ}، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع التراخي، والمعطوف بها قول مقدر معطوف على قول مقدر فيما قبلها، تقديره: قيل لخزنة جهنم: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم قيل لهم: {فِي سِلْسِلَةٍ ...} إلخ. فتكون الفاء لعطف المقول على المقول، و {ثم} لعطف القول على القول، {فِي سِلْسِلَةٍ} متعلق بـ {اسلكوه}، {ذَرْعُهَا} مبتدأ، {سَبْعُونَ} خبره، {ذَرْعُهَا} تمييز، والجملة الاسمية في محل الجرّ صفة لـ {سِلْسِلَةٍ}. {فَاسْلُكُوهُ} {الفاء}: عاطفة، {اسلكوه} فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {صَلُّوهُ}. {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة إنّ

مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، واسم {كَانَ} ضمير مستتر يعود على هذا الكافر، وجملة {لَا يُؤمِنُ} خبر {كَانَ}، {بِاللَّهِ} متعلق بـ {يُؤمِنُ}، {الْعَظِيمِ} صفة للجلالة، {وَلَا يَحُضُ} فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على جملة {لَا يُؤمِنُ}، {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} متعلق بـ {يَحُضُ} ومضاف إليه، {فَلَيْسَ} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {ليس} فعل ماض ناقص، {لَهُ} خبر مقدم لـ {ليس}، {الْيَوْمَ} منصوب على الظرفية، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ليس، {هَاهُنَا} {ها} حرف تنبيه {هنا} اسم إشارة يشار به للمكان القريب في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بما تعلق به الظرف قبله أيضًا، {حَمِيمٌ} اسم {ليس} مؤخّر، وجملة {ليس} معطوفة مفرّعة على جملة {لا يحض}، {وَلَا طَعَامٌ} معطوف على {حَمِيمٌ}، {إلا} أداة حصر، {مِنْ غِسْلِينٍ} صفة لـ {طَعَامٌ}، {لَا} نافية، {يَأْكُلُهُ} فعل ومفعول به، {إلا} أداة حصر، {الْخَاطِئُونَ} فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ {غِسْلِينٍ}. {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}. {فَلَا}: {الفاء}: استئنافية، {لا} زائدة، {أُقْسِمُ} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله والجملة مستأنفة. {بمَا} متعلق بأقسم، وجملة {تُبْصِرُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما تبصرونه. {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} معطوف على {مَا تُبْصِرُونَ}. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَقَوْلُ} {اللام}: حرف ابتداء، {قول} خبر {إنّ} {رَسُولٍ} مضاف إليه، {كَرِيمٍ} صفة {رَسُولٍ}، وجملة {إنّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَمَا} {الواو}، عاطفة، {مَا} حجازية، {هُوَ} اسمها، {بِقَوْلِ} خبر {مَا} الحجازية، والباء زائدة، {شَاعِرٍ} مضاف إليه، وجملة {مَا} معطوفة على جملة {إنّ}، {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: إيمانًا قليلًا، أو صفة لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، {مَا} زائدة لتأكيد القلّة، {تُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة معترضة. {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} معطوف على {بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف، {مَا} زائدة، وجملة {تَذَكَّرُونَ} مستأنفة. {تَنْزِيلٌ} خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} متعلق بـ

{تَنْزِيلٌ}، {وَلَوْ} {الواو}: استئنافية، {لو} حرف شرط، {تَقَوَّلَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة فعل شرط لـ {لو} {عَلَيْنَا} متعلقان بـ {تَقَوَّلَ} {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} مفعول به ومضاف إليه، {لَأَخَذْنَا} اللام رابطة لجواب {لو} الشرطية، أخذنا فعل وفاعل، {مِنْهُ} متعلق بـ {أخذنا}. {بِالْيَمِينِ} مفعول به، والباء: زائدة، والجملة جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف، واللام رابطة مؤكّدة للأولى، {لَقَطَعْنَا} فعل وفاعل، معطوف على {أخذنا}، {مِنْهُ} متعلق بـ {لَقَطَعْنَا}، {الْوَتِينَ} مفعول به. {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}. {فَمَا} {الفاء}: عاطفة، {مَا} نافية حجازية، {مِنْكُمْ} حال {مِنْ أَحَدٍ}، لأنّه كان في الأصل صفة لـ {أَحَدٍ}، فلما تقدم عليه صار حالًا منه، {مِنْ} زائدة، {أَحَدٍ} اسم {مَا} الحجازية، {عَنْهُ} متعلق بـ {حَاجِزِينَ}، و {حَاجِزِينَ} خبر {مَا} الحجازية؛ لأنّه هو محط الفائدة، والجملة معطوفة على جملة {قطعنا}. {وَإِنَّهُ} {الواو}: عاطفة، {إنه} ناصب واسمه، {لَتَذْكِرَةٌ} خبره، واللام: حرف ابتداء، {لِلْمُتَّقِينَ} متعلق بـ {تذكرة} والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} لأنّه من جملة المقسم عليه، وما بينهما اعتراض. {وَإِنَّا} {الواو}: عاطفة، {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَنَعْلَمُ} {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {نعلم} في محل الرفع خبر {إنّ}؛ وجملة {إنّ} معطوفة أيضًا على جواب القسم أوّل السورة، {أَنَّ} حرف نصب ومصدر، {مِنْكُمْ} خبرها مقدم، {مُكَذِّبِينَ} اسمها مؤخر، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {نعلم}. {وَإِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَحَسْرَةٌ} خبره. والجملة معطوفة على جواب القسم {عَلَى الْكَافِرِينَ} صفة لـ {حسرة} أو متعلق به، {وَإِنَّهُ} ناصب واسمه، {لَحَقُّ الْيَقِينِ} خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة معطوفة على جواب القسم أيضًا. {فَسَبِّحْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: {سبح}. {سبّح} فعل أمر وفاعل مستتر، {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ {سبح} أو الباء: زائدة، و {الْعَظِيمِ} صفة لـ {رَبِّكَ}، وجملة التسبيح في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة {الْحَاقَّةُ (1)} من أسماء القيامة، اسم فاعل من حقّ الشيء يحقّ بالكسر إذا وجب وثبت؛ أي: الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء. وأصله: الحاققة أدغمت القاف الأولى في الثانية. {مَا الْحَاقَّةُ (2)}؛ أي: أيّ شيء هي تفخيمًا لشأنها وتعظيمًا لهولها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}؛ أي: أيّ شيء أعلمك ما هي، فلا عِلْمَ لك بحقيقتها، إذ بلغت من الشدة والهول إلى ما لا يبلغها علم المخلوقين. و {أدراك} من الدراية بمعنى العلم، يقال: دراه، ودرى به دراية من باب رمى، وأدراه: أعلمه. وأصله: أدريك بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} والقارعة هي الحاقّة؛ أي: الساعة. والقيامة سمّيت بالقارعة؛ لأنّها تقرع قلوب الناس وتفزعها بفنون الأفزاع والأهوال. والقرع في اللغة: نوع من الضرب، وهو إمساس جسم لجسم بعنف. وفي "المصباح": وقرعت الباب من باب نفع: طرقته ونقرت عليه. {بِالطَّاغِيَةِ}؛ أي: بالصيحة التي جاوزت حدَّ سائر الصيحات في الشدّة، فرجفت منها الأرض، والمراد بها الصاعقة. {بِرِيحٍ} والياء فيه منقلبة عن واو، وأصله: روح لجمعه على أرواح، فلمّا سكنت الواو في المفرد بعد الكسرة قلبت ياء، كما قلبت ياء في الجمع فقيل: الرياح لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف كصيام. {صَرْصَرٍ} أي: شديدة الصوت التي لها صرصرة، أو شديدة البرد من الصرّ، وهو البرد. {عَاتِيَةٍ}؛ أي: بالغة نهاية القوّة والشدّة، أو التي عتت عن الطاعة، فكأنّها عتت على خزّانها، فلم تطعهم، ولم يقدروا على ردّها لشدّة هبوبها، أو عتت على عادٍ، فلم يقدروا على دفعها بل أهلكتهم. وفي قوله: {عَاتِيَةٍ} إعلال بالقلب، أصله: عاتوة من عتا يعتو، فلما تطرفت الواو بعد كسرة قلبت ياء. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: سلّطها عليهم، من التسخير، وهو سوق الشيء إلى الغرض المختصّ به قهرًا. {سَبْعَ لَيَالٍ} ذكر العدد؛ لأنَّ المعدود وهو ليلة مؤنّث؛ لأنّ الآحاد من أسماء العدد تجري على خلاف القياس لكون الليالي جمع ليلة، وهي مؤنثّة، وتجمع الليلة على الليالي بزيادة الياء على غير

القياس فتحذف ياؤها حالة التنكير بالإعلال مثل الأهالي، والأهال في جمع أهل، إلا في حالة النصب كقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}، لأنه غير منصرف، والفتح خفيف. {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} أنث اسم العدد؛ لأنّ المعدود مذكّر؛ لأنّ الأيّام جمع يوم وهو مذكر. {حُسُومًا} جمع حاسم كشهود جمع شاهد، وهو حال من مفعول {سَخَّرَهَا} بمعنى حاسمات؛ أي: متتابعات أو مستأصلات، من الحسم، وهو القطع والاستئصال. وسمي السيف حسامًا؛ لأنّه يحسم العدو عما يريد من عدواته. {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى}؛ أي: موتى، جمع صريع كقتلى وقتيل، وصريع فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مصروع. أي مطروح على الأرض ساقط عليها؛ لأن الصرع: الطرح. {أَعْجَازُ نَخْلٍ} جمع عجز، وهو الأصل. وفي "القاموس": العجز مثلثة وكندس والندس بوزن عضد: الفرح وككتف مؤخر الشي، وأعجاز النخل: أصولها انتهى. والنخل اسم جنس مفرد لفظًا وجمع معنى، واحدتها نخلة. {خَاوِيَةٍ}؛ أي: خالية الأجواف لا شيء فيها، وأصل الخوى: الخلاء، يقال: خوى بطنه من الطعام؛ أي: خلا. {مِنْ بَاقِيَةٍ} والباقية اسم كالبقيّة، لا وصف، والتاء للنقل إلى الاسميّة، أو مصدر بمعنى البقاء كالكاذبة والعاقبة. {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}؛ أي: المنقلبات، وهي قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة، يقال: أفكه عن الشيء؛ أي: قلبه، وائتفكت البلدة بأهلها؛ أي: انقلبت. {بِالْخَاطِئَةِ} مصدر بمعنى الخطأ كالعاقبة. {رَابِيَةً}؛ أي: زائدة في الشدّة على عقوبات سائر الكفّار. يقال: ربا الشي يربو إذا زاد، ومنه: الربا الشرعيّ، وهو الفضل الذي يأخذه آكل الربا. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} أصله: عصيوا بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وقوله: {رَابِيَةً} فيه إعلال بالقلب، أصله: رابوه من ربا يربو قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} تجاوز حدّه وارتفع، وفيه إعلال بالقلب، أصله: طغي بوزن فعل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {حَمَلْنَاكُمْ}؛ أي: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة التي تجري في الماء. {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}؛ أي: تحفظها وتقول لكل ما حفظته في

نفسك: وعيته، وتقول لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته. فيقال: أوعيت المتاع في الوعاء كما مرّ. {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} الأصل في تاء التأنيث المتصلة بالفعل الماضي السكون، لكنها إذا اتصل بها ألف كما هنا حركت بالفتح لمناسبة الألف. والدك أبلغ من الدق. وفي "الصحاح": الدكّ: الدقّ، وقد دكه إذا ضربه وكسره حتى سواه بالأرض، وبابه: ردّ. وفي "المفردات": الدك: الأرض اللينة السهلة، ودكّت الجبال دكّا؛ أي: جعلت بمنزلة الأرض اللينة، ومنه: الدكّان. {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي: مسترخية ضعيفة القوّة، من قولهم: وهي السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز: خَلِّ سَبِيْلَ مَنْ وَهَى سِقَاؤُهُ ... وَمَنْ هُرِيْقَ بالْفَلَاةِ مَاؤُهُ يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدًّا. قال في "القاموس": وهي كوعي وولي: تخرّق وانشق واسترخى رباطه. وفي "المفردات": الوهي شقّ في الأديم والثوب ونحوهما. {عَلَى أَرْجَائِهَا}؛ أي: على نواحي السماء وجوانبها، جمع رجا بالقصر، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: أرجاو جمع رجا بمعنى الطرف والجانب، أبدلت الواو همزة لتطرّفها إثر ألف زائدة. {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} أصله: أؤتي أبدلت الهمزة الساكنة حرف مدّ مجانسا لحركة الأولى. {مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} الحساب بمعنى المحاسبة، وهو عدّ أعمال العباد في الآخرة خيرًا أو شرًّا للمجازاة. قال الراغب: والظنّ اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدّت إلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم تتجاوز حدّ التوهّم انتهى. {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فيه إعلال بالقلب، أصله: راضوة من الرضوان، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة، أي: عيشة مرضية لصاحبها، وهو مما جاء فيه فاعل بمعنى مفعول نحو قوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} بمعنى مدفوق بمعنى: أنَّ صاحبها يرضى بها، ولا يسخطها كما جاء مفعول بمعنى فاعل كقوله تعالى: {حِجَابًا مَسْتُورًا}؛ أي: ساترًا. {عَالِيَةٍ} فيه إعلال أيضًا بالقلب، أصله: عالوة من العلوّ، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. {قُطُوفُهَا} جمع قطف بالكسر، وهو ما يُقطف ويُجنى بسرعة، والقطف بالفتح مصدر. {دَانِيَةٌ} أصله أيضًا: دانوة، من الدنوّ قلبت الواو ياء

لتطرفها إثر كسرة. {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} أي: قدّمتم في الدنيا من الأعمال الصالحة. ومعنى الإسلاف في اللغة: تقديم ما يرجو أنْ يعود عليك بخير، فهو كالإقراض، ومنه يقال: أسلفت إليك هذه الدراهم في كذا وكذا إذا قدم إليك رأس مال السلم. {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الخالية فيه إعلال أيضًا بالقلب، أصله: الخالوة من خلا يخلو واويّ اللام، قلبت الواو ياء لتطرّفها إثر كسرة. {فَغُلُّوهُ} يقال: غل فلان إذا وضع في عنقه أو يده الغلّ، وهو بالضمّ: الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس. {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)} أصله: صليوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت تخفيفًا فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت اللام لمناسبة الواو. {ذَرْعُهَا} أي: طولها. {سَبْعُونَ ذِرَاعًا}، والذراع ككتاب: ما يذرع به حديدًا كان أو قضيبًا. وفي "المفردات": الذراع: العضو المعروف ويعبّر به عن المذروع والممسوح، يقال: ذراع من الثوب أو الأرض. {فَاسْلُكُوهُ} السلك: هو الإدخال في الطريق أو الخيط أو القيد أو في غيرها. {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} أصله: يحضض بوزن يفعل، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الحاء فسكنت فأدغمت في الضاد الثانية، من الحضّ هو البعث والحثّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه: حروف التحضيض المبوّب له في النحو؛ لأنه يطلب به وقوع الفعل وإيجاده اهـ "سمين". {إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو فعلين، من الغسل، فنونه وياؤه زائدتان. قال أهل اللغة: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت، وفي كتب التفسير: هو صديد أهل النار، وقيل: هو شجر يأكلونه. وفي "الكواشي": أو نونه غير زائدة، وهو شجر في النار، وهو من أخبث طعامهم. {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فيه حذف إحدى التاءين، أصله: تتذكرون، وقرىء بتشديد الذال على أنّ التاء الثانية أدغمت في الذال. {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} التقول افتعال القول واختلاقه؛ لأن فيه تكلّفا من المفتعل. قال أبو حيان: التقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر: إنّه قال شيئًا لم يقله. {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} الأقاويل جمع الجمع؛ لأنّه جمع أقوال وأقوال جمع قول كبيت وأبيات وأباييت. قال الزمخشري: وسمّيت الأقوال المتقولة

أقاويل تصغيرًا لها وتحقيرًا. {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وفي "المفردات" الوتين: عرق يسقي الكبد إذا انقطع مات صاحبه، وفي بعض كتب التفسير: الوتين: عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلّها، ويجمع على وتن وأوتنة اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإطناب بتكرار لفظ {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} للتهويل والتعظيم. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {الْحَاقَّةُ (1)}. لأنَّ المراد بها الزمان الذي يحقّ أن يتحقق فيه ما أنكر في الدنيا من البعث، فيصير فيها محسوسًا مشاهدًا بالعيان على حدّ قولهم: نهاره صائم وليله قائم. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {مَا الْحَاقَّةُ (2)} تأكيدًا لهولها، الأصل: ما هي؛ أي: أيّ شيء هي في حالها وصفتها؟. ومنها: وضع القارعة موضع ضمير الحاقة في قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} للدلالة على معنى القرع فيها زيادة في وصف شدتها فإن في القارعة ما ليس في الحاقة من الوصف؛ لأنَّ الأصل أن يقال: كذّبت ثمود وعاد بها. ومنها: الإجمال في قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} ثم التفصيل بقوله: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) ...} إلخ. لزيادة البيان والإيضاح، وفيه أيضًا من المحسنات البديعية اللفّ والنشر المرتب. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {حُسُومًا}، لأنّه من استعمال المقيّد، وهو الحسم الذي هو تتابع الكيّ في مطلق التتابع، وقيل: فيه استعارة تصريحية تبعية، فقد شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء، فاستعار له الاسم الدالّ على المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} لذكر الأداة فيه مع حذف وجه السببه، فقد شبهم بالجذوع لطول قاماتهم، وكان الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رؤوس النخل المتطاولة خلال تلك الإيّام الثمانية والليالي

السبع. ومنها: التعبير عن الريح الصرصر، وهو مفرد بلفظ الجمع، وهو {حسومًا} نظرًا إلى تكثّرها باعتبار وقوعها في تلك الليالي والأيّام. ومنها: التخصيص في قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} بعد التعميم في قوله: {وَمَنْ قَبْلَهُ} لغرض التتميم؛ لأنَّ قوم لوط أتوا بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين. ومنها: مقابلة الجمع بالجمع المستدعية لانقسام الآحاد على الآحاد في قوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}. ومنها: المجاز العقليّ في قوله: {بِالْخَاطِئَةِ}؛ أي: بالفعلة الخاطئة كقولهم: شعر شاعر. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، وهي من باب استعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول، وهي الاستعارة المركّبة من الكثيف واللطيف، فالمستعار الطغيان، وهو الاستعلاء المنكر، والمستعار منه كلّ مستعل متكبّر متجبّر مضرّ، والمستعار له الماء، والطغيان معقول، والماء محسوس، والمستعار منه محسوس. وقيل: فيه استعارة تصريحية تبعيّة؛ لأنَّ الطغيان من صفات الإنسان، فشبّه ارتفاع الماء وكثرته بطغيان الإنسان بجامع العلّو في كلّ على طريق الاستعارة التصريحية التبعيّة. ومنها: التنكير والتوحيد في قوله: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}، حيث لم يقل الآذان الواعية للدلالة على قلتها، وأن من هذا شأنه مع قلته يتسبب لنجاة الجم الغفير، وإدامة نسلهم. ومنها: التأكيد بذكر الواحدة في قوله: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وفي قوله: {دَكَّةً وَاحِدَةً}، لأنّ النفخة والدكّة لا تكون إلّا واحدة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {نُفِخَ} {نَفْخَةٌ} وقوله {فَدُكَّتَا دَكَّةً} وقوله: {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ}؛ أي: تسألون وتحاسبون، شبه المحاسبة عند الله بعرض العسكر على الملك لتعرف أحوالهم،

فاستعار اسم المشبّه به الذي هو العرض على الملك للمشبّه الذي هو المحاسبة عند الله، فاشتق منه تعرضون بمعنى تحاسبون على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: تقديم {مِنْكُمْ} على {خَافِيَةٌ} مع كونه صفة لها لرعاية الفاصلة. ومنها: المقابلة البديعة في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ...} إلخ، حيث قابلها بقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} إلخ. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ لأنّ العيشة إنّما تكون مرضية لا راضية، فهو من إسناد ما للفاعل إلى المفعول. ومنها: إسناد الهناءة إلى الأكل والشرب في قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} مجازًا للمبالغة؛ لأنّ الهناءة إنّما تكون للمأكول والمشروب. ومنها: تقديم الجحيم على {صَلُّوهُ} في قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)}، وتقديم {سِلْسِلَةٍ} على {فَاسْلُكُوهُ} في قوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} لغرض التخصيص والحصر والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب به. ومنها: تخصيص الطول بسبعين ذراعًا مبالغة في إرادة الوصف بالطول، كما قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} يريد مرّات كثيرة؛ لأنّها إذا طالت كان الإرهاق أشدُّ، فهو كناية عن زيادة الطول. ومنها: ذكر الحض في قوله: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} دون الفعل، حيث لم يقل: ولا يطعم المسكين للإشعار بأنّه إذا كان تارك الحضّ بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟. ومنها: عطف حرمان المسكين على ترك الإيمان في قوله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} للدلالة على أنَّ حرمان المسكين صفة للكفرة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)}. ومنها: طباق السلب في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)}.

ومنها: تكرار لفظ القول في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} وفي قوله: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} مبالغة في إبطال أقاويلهم الكاذبة على القرآن الحق والرسول الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: زيادة {ما} في قوله: {قَلِيلًا مَا} لتأكيد القلّة، أو لنفيها كما مر. ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} لإفادة المبالغة. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} لأن اليمين مجاز عن القوة؛ لأنَّ قوة كل شيء في ميامنه، فيكون من قبيل ذكر المحل، وإرادة الحال أو ذكر الملزوم، وارادة اللازم، لأنّ المعنى: سلبنا منه القوة والقدرة على التكلم بذلك. ومنها: الكناية في قوله: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}، لأنّه كناية عن إهلاكه وإماتته. ومنها: الحذف والزيادة في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * *

خلاصة ما تضمّنته السورة الكريمة تضمنت هذه السورة الكريمة خمسة مقاصد: 1 - هلاك الأمم المكذّبة لرسلها في الدنيا من أوّل السورة إلى قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}. 2 - عذاب الآخرة جزاء على التكذيب في الدنيا. 3 - إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله تعالى، وليس بقول شاعر ولا بقول كاهن. 4 - إهلاكه - صلى الله عليه وسلم - لو تقول عليه شيئًا ما من الأقاويل الباطلة الكاذبة على سبيل الفرض والتقدير. 5 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بتنزيه ربه عما يقول المشركون، شكرًا له على ما أوحي إليه من الوحي الكريم والقرآن العظيم (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) بعون الله تعالى وتوفيقه تمّ تفسير سورة الحاقة في اليوم الخامس من شهر ربيع الأول، قُبَيْل الغروب من شهور سنة ألف وأربع مئة وستّ عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية 5/ 3/ 1416 هـ، وصلى الله تعالى وسلم على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين.

سورة المعارج

سورة المعارج سورة المعارج ويقال لها: سورة سأل سائل، مكيّة. قال القرطبي باتفاق نزلت بعد الحاقّة. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة سأل بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: أربع وأربعون، وكلماتها (¬1): مئتان وأربع وعشرون. وحروفها: تسع مئة وتسعة وعشرون حرفًا. مناسبتها لما قبلها (¬2): أنّها كالتتمة لما قبلها في وصف القيامة وعذاب النار. وقال أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها أنَّه لما ذكر فيما قبلها {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أخبر عما صدر عن بعض المكذبين بنقم الله، وإن كان السائل نوحًا عليه السلام، أو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فناسب تكذيب المكذبين أن دعا عليهم رسولهم حتى يصابوا فيعرفوا صدق ما جاءهم، ذكره في "البحر". الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: سورة المعارج كلها مكيّة، وجميعها محكم إلّا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} الآية (42) نسخت بآية السيف. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}. المناسبة تقدم قريبًا بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها، وقد بدأ سبحانه وتعالى بأنّه كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إنَّ محمدًا يخوفنا بالعذاب فما هذا العذاب ولمن هو؟ فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} كما سيأتي. قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) ...} إلى قوله: {فِي جَنَّاتٍ

مُكْرَمُونَ} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار، أردف هذا بذكر المؤهلات التي توصل إلى تلك المراتب، وتبعد عن ظلمة المادّة التي تدخل النفوس في النار الموقدة التي تنزع الشوى، وبين أنها عشر خصال تفكه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها، وعاداته التي ألفها وركن إليها، وهي ترجع إلى شيئين: الحرص والجزع. وهذه الخصال هي: (1) الصلاة. (2) المداومة عليها في أوقاتها المعلومة. (3) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب والخشوع للربّ ومراعاة سننها وآدابها. (4) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك في نفسه اعتقادًا وعملًا. (5) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين. (6) مراعاة العهود والمواثيق. (7) أداء الأمانات إلى أهلها. (8) حفظ فروجهم عن الحرام. (9) أداء الشهادة على وجهها. (10) الخوف من عذاب الله تعالى. قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال .. أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنّات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود. ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم. ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث يوم يخرجون من قبورهم مسرعين، كأنّهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها. وهم في هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترةً لما تحقّقوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه في الدنيا، فكذَّبوا به. أسباب النزول قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) النسائي، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول والمراح.

[1]

قال: هو النضر بن الحارث، حيث قال إنكارًا واستهزاءً: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. فقتل يوم بدر صبرًا هو وعقبة بن أبي معيط. وقال الربيع: هو أبو جهل، حيث قال: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}. وقيل: هو الحارث بن النعمان القهريّ، وذلك أنّه لما بلغه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عليّ رضي الله عنه: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" قال: اللهم إن كان ما يقول محمّد حقًّا .. فأمطر علينا حجارةً من السماء، فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر، فوقع على دماغه فخرج من دبره، فمات من ساعته، فنزلت هذه الآية. وقال الحسن وقتادة: لما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض: سلوا محمدًا لمن هذا العذاب؟ وبمن يقع؟. فأخبره الله عنهم بقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}. قال أبو السعود: ولعلّ هذا القول أقرب. قوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ...} الآيات، سبب نزولها (¬1) ما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند الكعبة، ويقرأ القرآن، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقًا حلقًا وفرقًا فرقًا يستمعون ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد .. فلندخلنها قبلهم، فنزلت هذه الآيات. التفسير وأوجه القراءة 1 - {سَأَلَ سَائِلٌ} من (¬2) السؤال بمعنى الدعاء والطلب، يقال: دعا بكذا استدعاه، وطلبه، ومنه قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ}؛ أي: يطلبون في الجنة كل فاكهة. والمعنى: دعا داع وطلب طالب من الله تعالى {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}؛ أي: بنزول عذاب واقع؛ أي: نازل لا محالة، سواء طلبه أو لم يطلبه لسبق نزوله في علم الله تعالى؛ أي: استدعاه وطلبه. ومن التوسّعات الشائعة في "لسان العرب" حمل النظير على النظير، وحمل ¬

_ (¬1) المرح. (¬2) روح البيان.

النقيض على النقيض، فتعدية {سَأَلَ} بالباء من قبيل التعدية بحملى النظير على النظير، فإنه نظير دعا وهو يتعدى بالباء، لا من قبيل التعدية بالتضمين بأن ضمن سأل معنى دعا، فعدى تعديته كما زعمه "صاحب الكشاف"، لأنّ فائدة التضمين على ما صرح به ذلك الفاضل في تفسير سورة النحل إعطاء مجموع المعنيين، ولا فائدة في الجمع بين معنى سأل، ودعا؛ لأنّ أحدهما يغني عن الآخر. وقرأ الجمهور (¬1): {سَأَلَ سَائِلٌ} بالهمزة، فهي اللغة الفاشية، فهو على هذا إمّا مضمّن معنى الدعاء كما قاله الزمخشري، فلذلك عدّى بالباء، والمعنى عليه: دعا داع على نفسه بعذاب واقع. وإمّا على أصله، و (الباء) بمعنى (عن) كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}، والمعنى على هذا: بحث باحث واستفهم عن عذاب واقع. وقرأ نافع وابن عامر {سال} بالألف بغير همزة، فهو إما من التخفيف بقلب الهمزة ألفًا، فيكون معناها معنى قراءة الجمهور، وإمّا من السيلان، والمعنى عليه: سال سائل: وادٍ في جهنم يقال له: سائل، كما قال زيد بن ثابت، ويؤيده قراءة ابن عباس {سال سيل}. وقيل: إنَّ سأل بمعنى التمس، والمعنى عليه: التمس ملتمس عذابًا للكفار، فتكون الباء زائدة كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}. والوجه الأوّل هو الظاهر. وقرأ (¬2) أبيُّ وعبد الله بن مسعود {سال سالٌ} مثل: مال مالٌ، على أنّ الأصل: سائل فحذفت العين تخفيفًا كما قيل: شاكٌ في شائك السلاح. والمراد بهذا السائل على ما روي عن ابن عباس واختاره الجمهور: هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، حيث قال إنكارًا واستهزاءً: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بجذاب أليم. وعبر (¬3) بصيغة الماضي، وهو {وَاقِعٍ} دون سيوقع للدلالة على تحقق وقوعه إمّا في الدنيا، وهو عذاب يوم بدر، فإنَّ النضر قتل يومئذٍ صبرًا، وإما في الآخرة، وهو عذاب النار. وعن معاوية رضي الله عنه أنّه قال لرجل من أهل سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة، قال الرجل: أجهل من قومي قومك، حيث قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحقّ: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك .. فأمطر علينا حجارة ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[2]

من السماء، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له. وقيل: السائل هو نوح عليه السلام، دعا على الكافرين بالعذاب. وقيل: السائل هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، استعجل بعذابهم كما يدل عليه قوله فيما بعد: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}. وسأل أن يأخذهم الله أخذًا شديدًا، ويجعله سنين كسني يوسف فاستجاب الله دعوته، وأن قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} يكون حكاية لسؤالهم المعهود على طريقة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ونحوهما، إذ هو المعهود بالوقوع على الكافرين لا ما دعا به النضر. فالسؤال بمعناه، وهو التفتيش والاستفسار؛ لأنّ الكفرة كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إنكارًا واستهزاءً عن وقوعه وعلى من ينزل، ومتى ينزل. والباء بمعنى (عن) كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}؛ أي: فاسأل عنه؛ لأنَّ الحروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض باتفاق العلماء. وعن الإِمام الواحدي (¬1): أنّ الباء في {بِعَذَابٍ} زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}؛ أي: سأل سائل عذابًا واقعًا كقولك: سألته الشيء وسألته عن الشيء. 2 - {لِلْكَافِرِينَ} إمّا بمعنى (على)؛ أي واقع على الكافرين كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}؛ أي: فعليها، أو بمعنى (الباء)؛ أي: واقع بهم كما في قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: إلّا بأن يعبدوا الله، أو على معناها، أي: نازل لأجل كفرهم. ومتعلق اللام على التقادير الثلاثة هو لفظ {واقع}. وجملة قوله: {لَيْسَ لَهُ}؛ أي: لذلك العذاب {دَافِعٌ} صفة أخرى لـ {عذاب} أو حال منه أو مستأنفة. والمعنى: أنّه لا يدفع ذلك العذاب الواقع بهم أحد. 3 - وقوله: {مِنَ اللَّهِ} إمّا متعلق بـ {وَاقِعٍ}؛ أي: واقع من جهته تعالى، أو بـ {دَافِعٌ}؛ أي: ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته، وأوجبت الحكمة وقوعه. {ذِي الْمَعَارِجِ} صفة للجلالة، لأنه من الأسماء المضافة مثل: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ} ونحوهما. والمعارج جمع معرج بفتح الميم هنا بمعنى مصعد، وهو موضع الصعود. والمعنى: ذي المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة؛ أي: خالق المعارج ومالكها. والمراد (¬2) بها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[4]

الأفلاك التسعة المرتّبة بعضها فوق بعض، وهي السموات السبع والكرسيّ والعرش. وقال الكلبيّ: هي السماوات، وسمَّاها معارج لأن الملائكة تعرج فيها. وقيل: المعارج مراتب نعم الله تعالى على الخلق. وقيل: المعارج العظمة، وقيل: هي الغرف جعلها لأوليائه في الجنة. وقرأ ابن مسعود (¬1): {ذي المعاريج} بزيادة الياء، يقال: معارج ومعاريج، وحكمهما واحد، مثل: مفاتح ومفاتيح. والمعنى (¬2): أي طلب طالب عذابًا واقعًا لا محالة سواء طلب أم لم يطلب، لأنّه نازل بالكافرين في الآخرة، لا. يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاءً. {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)}؛ أي: ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه اجمتنع أن لا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة. والخلاصة: أنَّ العذاب الذي طلبه السائلون واستبطؤوه واقع لا محالة؛ وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلّا لحكمة، وهي وضعهم في الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم وما دسوا به أنفسهم من سيء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب. وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد ومنها دركات، فليكن هؤلاء في الدركات، وليكن المؤمنون وإلملائكة في الدرجات طبقًا، عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة. 4 - ثم بين مقدار ارتفاع تلك الدرجات، فقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ} المأمورون بالنزول والعروج دون غيرهم من المهيمين ونحوهم؛ لأنَّ من الملائكة من لا ينزل: من السماء إلى الأرض أصلًا، ومنهم من لا يعرج من الأرض قطعًا. {وَالرُّوحُ}؛ أي: جبريل عليه السلام، أفرده بالذكر إظهارًا لشرفه وفضله، فهو من عطف الخاص على العام، كما في قوله تعالى: {تَنزلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} فقد ذكر مع نزولهم في آية وعروجهم في أخرى، وأخّره هنا وقدّم في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}؛ لأن المقام هنا يقتضي تقديم الجمع على الواحد من حيث إنه مقام تخويف وتهويل اهـ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

كرخي. {إِلَيْهِ} سبحانه وتعالى؛ أي يعرجون إليه من مسقط الأمر، وعلم العروج إليه تعالى مغيب عنا نعتقده ونثبته ولا نكيفه ولا نمثله ولا نؤوله. وهذا المعنى هو الأصح الأسلم الذي عليه السلف، أو إلى عرشه أو إلى مهبط أمره تعالى. أي: يعرجون من مسقط الأمر إلى المحل الذي ينزل إليه أمره تعالى وتتلقاه منه الملائكة الموكلون بالتصرف في العالم. وعبارة الكرخي: إلى مهبط أمره؛ أي: إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم. وقوله: {فِي يَوْمٍ} متعلق (¬1) بـ {تعرج} كـ {إلى}، و {في} بمعنى {إلى}، وعبّر عنها بـ {إلى} فرارًا من ثقل تكرار حرفين متحدي المعنى واللفظ، والكلام على حذف مضاف والتقدير: تعرج وتصعد الملائكة المأمورون بالنزول والعروج وكذا الروح من مسقط أمره إليه تعالى مدّة دوام الدنيا إلى مجيء يوم {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مما يعدّه الناس في الدنيا. وذلك اليوم هو يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرطبيّ. وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق. وقيل: يتعلق قوله: {فِي يَوْمٍ} بقوله (¬2): {دَافِعٌ}؛ أي: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل: يتعلق بـ {وَاقِعٍ}، والمعنى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وعلى هذين المعنييْن يكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وقيل: المعنى تصعد الملائكة من أسفل الأرض إلى عرشه في قدر يوم من أيامكم لو صعده غيرهم قطعه في خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد. وقيل: متعلق بمحذوف دلَّ عليه قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي: يقع ذلك العذاب في يوم كان مقداره في علم الله تعالى خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، وهو يوم القيامة. وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير، كما في "الجلالين". وقرأ الجمهور (¬3): {تَعْرُجُ} بالتاء الفوقية على التأنيث نظرًا للفظ الملائكة. وقرأ عبد الله، والكسائيّ، وابن مقسم، وزائدة عن الأعمش بالياء التحتانية بالتذكير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) زاد المسير. (¬3) البحر المحيط.

لتذكير الملائكة على الأصل كقراءة {نَادَاهُ}، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} اهـ كرخي. وقال مجاهد: المراد بالملائكة هم ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقال الجمهور: والروح هو جبريل عليه السلام، وقيل: ملك غير جبريل عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: روح الميت حين تقبض. والضمير في {إِلَيْهِ} عائد إلى الله تعالى؛ أي: إلى عرشه، أو حيث يهبط منه أمره تعالى. وقيل: {إِلَيْهِ}؛ أي: إلى المكان الذي هو محلّهم، وهو في السماء، لأنّها محل بره وكرامته. والظاهر: أنَّ المعنى: أنّها تعرج في يوم من أيامكم هذه، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدميّ خمسون ألف سنة، قاله ابن عباس وابن إسحاق، وجماعة من الحذّاق منهم: القاضي منذر بن سعيد. قال مجاهد: إن كان العارج ملكًا فالمسافة من قعر الأرض السابعة إلى العرش، ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان. قال وهب: المسافة هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقال عكرمة والحكم: أراد مدّة الدنيا، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي؛ أي: تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا، وبقاء هذه الدنيا التي هي يوم مقداره خمسون ألف سنة. وقال ابن عباس أيضًا: هو يوم القيامة. وقيل: طوله ذلك العدد، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة قال: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: قدره في رزاياه وهوله وشدّته للكفار ذلك العدد. وفي الحديث: "يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة". وقال عكرمة: في يوم كان مقدار ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضى بالعدل في خمسين ألف سنة من أيّام الدنيا، وقال الحسن: نحوه. وقيل: لا يراد حقيقة العدد إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة، وما فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدّة بالطول، وأيّام الفرح بالقصر. والظاهر: أن قوله: {فِي يَوْمٍ} يتعلق بـ {تَعْرُجُ}، وقيل: بـ {دَافِعٌ}، والجملة من قوله: {تَعْرُجُ} اعتراض، ذكره أبو حيان في "البحر". وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة: {فِي يَوْمٍ كَانَ

[5]

مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} بأنّ ما هناك باعتبار موطن من مواطن يوم القيامة، وما هنا باعتبار جميع المواطن؛ لأن مواطنه متعددة، أو بأن اليوم يختلف باختلاف أحوال الناس، فإنه على الكافر بقدر خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن المطيع بقدر ما بين الظهر والعصر، وعلى المؤمن العاصي بقدر ألف سنة، فراجع ما هنالك. وقد قيل في الجمع: إنه من أسفل العالم إلى العرش خمسون ألف سنة، ومن أهل سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة؛ لأن غلظ كل سماء خمس مئة عام، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمس مئة. فالمعنى: أنّ الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة، وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة. والمعنى: أي تعرج وتصعد في تلك المعارج الملائكة، وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها .. لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنّهم يصعدون إليها في الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد بل المقصد أن مقام القدس الإلهي بعيد المدى عن مقام العباد، فهم في المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، كلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة، وهكذا {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}. 5 - ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب، وكانوا قد وعدوا به، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، فقال: {فَاصْبِرْ} يا محمد على استهزائهم {صَبْرًا جَمِيلًا}؛ أي: صبرًا لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله، فإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة التي تعرج فيها الملائكة والروح. وعن الحسن: الصبر الجميل: هو المجاملة في الظاهر، وعن ابن بحر: انتظار الفرج بلا استعجال. وهو متعلق بـ {سَأَلَ}؛ لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بالوحي، وذلك مما يضجره - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: أي إذا عرفت يا محمد تعنّتاتهم في السؤال، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبرًا جميلًا، لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله تعالى. وهذا معنى الصبر الجميل.

[6]

وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى بأنه مصاب. قال ابن زيد وغيره: هذه الآية منسوخة بآية السيف. 6 - {إنَهُمْ}؛ أي: إن أهل مكة {يَرَوْنَهُ}؛ أي: يرون العذاب الواقع بهم أو يرون يوم القيامة؛ أي: يزعمونه في رأيهم {بَعِيدًا}؛ أي: غير كائن لأنهم لا يؤمنون به؛ أي: يستبعدونه بطريق الإحالة، كما كانوا يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} الآية، {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، فلذلك يسألون به وسبب استبعادهم عدم علمهم باستحقاقهم إياه كما يقول المرء لخصمه: هذا بعيد ردًّا لوقوعه وإمكانه. 7 - {وَنَرَاهُ}؛ أي: نعلم ذلك العذاب الواقع بهم {قَرِيبًا}؛ أي: كائنًا قريبًا؛ لأنّ ما هو آت قريب لعلمنا باستحقاقهم إيّاه بحسب استعدادهم. وقيل: المعنى: ونراه هينا في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر علينا، فالمراد بالبعد هو البعد عن الإمكان، وبالقرب هو القرب منه. والجملة تعليل للأمر بالصبر. وقال سهل رحمه الله تعالى: إنهم يرون المقضيّ عليهم من الموت والبعث والحساب بعيدًا لبعد آمالهم ونراه قريبًا، فإن كل كائن قريب والبعيد ما لا يكون. وفي الحديث: "ما الدنيا فيما مضى وما بقي إلا كثوب شق باثنين، وبقي خيط واحد، ألا وكان ذلك الخيط قد انقطع". قال الشاعر: هَلِ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا جَمِيْعًا ... سِوَى ظِلٍّ يَزُوْلُ مَعَ النَّهَارِ وقال الآخر: وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ أَنَّكَ قَاعِدٌ ... عَلَى الأَرْضِ فِيْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَسِيْرُ فَسَيْرُكَ يَا هَذَا كَسَيْرِ سَفِيْنَةٍ ... بِقَوْمٍ قُعُوْدٍ وَالْقُلُوْبُ تَطِيْرُ 8 - والظرف في قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} متعلق بمحذوف تقديره: يقع بهم ذلك العذاب يوم تكون السماء {كَالْمُهْلِ} أو متعلق بمحذوف مقدر بعده تقديره: تكون السماء كالمهل يوم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يوصف، والأوّل أولى. والمهل هنا: خبث الحديد، ونحوه مما يذاب على مهل وتدريج، أو درديُّ الزيت لسيلانه على مهل لثخانته. وعن ابن مسعود: كالفضة المذابة في تلونها أو كالقير والقطران في سوادهما. 9 - وجملة قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} معطوفة على ما قبلها؛ أي: تصير

[10]

الجبال كالصوف المصبوغ ألوانًا، وإنما وقع التشبيه به؛ لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش أي: المصبوغ إذا تطيرته الريح. قال في "كشف الأسرار": أول ما تتغير الجبال تصير رملًا مهيلًا ثم عهنا منفوشًا ثم تفسير هباء منثورًا. وقال الحسن: تكون الجبال كالعهن، وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، كما ذكر في قوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}. 10 - {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}؛ أي: لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نَزَل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله، كما قال سبحانه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}. وقيل: الأصل، ولا يسأل حميم عن حيمم، فحذف الحرف، ووصل الفعل؛ أي: لا يسأل قريب قريبًا عن أحواله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك. وإذا كان الحال بين الأقارب هكذا، فكيف يكون بين الأجانب؟ والتنكير فيه للتعميم. وقرأ الجمهور {وَلَا يَسْأَلُ} مبنيًا للفاعل، قيل: والمفعول الثاني محذوف والتقدير؛ أي: لا يسأله نصره ولا شفاعته ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. وقال قتادة: لا يسأله عن حاله؛ لأنّها ظاهرة. وقيل: لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئًا ليأسه عن ذلك. وقرأ أبو حيوة، وشيبة، وأبو جعفر، والبزي بخلاف عن ثلاثتهم، وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول؛ أي: لا يسأل إحضاره كل من المؤمن والكافر له سيماء يعرف بها. وقيل: عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها بل كل إنسان يسأل عن نفسه، وعن عمله. ومعنى هذه الآيات: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}؛ أي: إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحي، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول فاصبر صبرًا جميلًا بلا جزع ولا شكوى؛ لأنّه أمر محقّق، وكل آتٍ قريب. ثم بين أن هذا اليوم لا شك فيه، فقال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} إلخ؛ أي: إن هؤلاء المشركين يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة بعيدًا محالًا غير ممكن، ونحن نراه قريبًا هيّنًا غير بعيد علينا، ولا متعذّر. ثم ذكر وقت حدوثه فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)}؛ أي: إنَّ العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنّها عكر الزيت، والمراد أنَّها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)}؛

[11]

أي: وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة، كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح. رُوي عن الحسن: أنها تسير مع الرياح ثم تنهد ثم تصير كالعهن، ثم تنهد فتصير هباء منثورًا. {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}؛ أي: ولا يسأل قريب مشفق قريبًا عن حاله، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله، كما جاء في قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، وقوله: {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}. 11 - وقوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} مستأنف أو صفة لقوله: {حَمِيمًا}؛ أي: يبصر كل حميم حميمه لا يخفى منهم أحد عن أحد، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه، ولا يتساءلون، ولا يكلم بعضهم بعضًا لاشتغال كل منهم بنفسه. وهذه الجملة مستأنفة كما مرّ آنفًا، واقعة في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: لعله لا يبصره فكيف يسأل عن حاله؟ فقيل: {يُبَصَّرُونَهُمْ}. والضمير الأول (¬1) للحميم الأول، والثاني للثاني، وجمع الضميرين لعموم الحميم لكل حميمين لا لحميمين اثنين، لأنهما نكرتان في سياق النفي. قال في "تاج المصادر": التبصير: التعريف والإيضاج، ويعدى إلى المفعول الثاني بالباء، وقد تحذف الباء، وعلى هذا جاء {يُبَصَّرُونَهُمْ} انتهى. يعني: عدّى {يُبَصَّرُونَهُمْ} بالتضعيف إلى ثان وقام الأول مقام الفاعل. والمعنى: يبصر الأحماء فلا يخفون عليهم ولا يمنعهم من التساؤل إلا تشاغلهم بأحوال أنفهسم، فيبصر الرجل أباه وأخاه وأقرباءه وعشيرته، ولكن لا يسأله ولا يكلمه لاشتغاله بما هو فيه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتعارفون ساعة ثم يتناكرون ويفر بعضهم من بعض بعد ذلك. وقال ابن زيد (¬2): يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا، وهم الرؤساء المتبوعون عبرةً وانتقامًا وحزنًا. وقيل: إن قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ}. يرجع إلى الملائكة؛ أي: يعرفون أحوال الناس، لا يخفون عليهم. وقرأ قتادة (¬3): {يُبَصَّرُونَهُمْ} مخففًا مع كسر الصاد؛ أي: يبصر المؤمن الكافر في النار، قاله مجاهد. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ}؛ أي: يتمنى الكافر، وقيل: كلّ مذنب. {لَوْ} بمعنى التمنّي، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[12]

فهو حكاية لودادتهم. {يَفْتَدِي} من الافتداء، وهو حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذل عنه. {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ}؛ أي: من العذاب الذي ابتلوا به يوم إذ كان ما ذكر، وهو بكسر الميم لإضافة العذاب إليه. وقرىء {يَوْمِئِذٍ} بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن. وقرأ الجمهور (¬1) {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} بإضافة عذاب إلى يومئذٍ. وقرأ أبو حيوة بتنوين {عذابٍ} وقطع الإضافة. وقرأ الجمهور {يومئذ} بكسر الميم. وقرأ نافع، والكسائي، والأعرج، وأبو حيوة بفتحها. {بِبَنِيهِ} أصله: ببنين سقطت نونه للإضافة، وجمعه؛ لأن كثرتهم محبوبة مرغوب فيها. 12 - {وَصَاحِبَتِهِ}؛ أي: صاحبته التي يصاحبها {وَأَخِيهِ} الذي كان ظهيرًا له ومعينًا. وجملة قوله: {يَوَدُّ} مستأنفة (¬2) مسوقة لبيان أنَّ اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنّى أن يفتدى بأقربهم إليه وأعلقهم بقلبه ويجعله فداء لنفسه حتى ينجو هو من العذاب، فضلًا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها، كأنّه قيل: كيف لا يسأل مع تمكنه من السؤال؟ فقيل: {يَوَدُّ} ... إلخ. 13 - {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)}؛ أي: وعشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد، ويأوي إليهم فيلوذ بهم. قال أبو عبيد: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤهم الأدنون، وهي في الأصل القطعة المفصولة من الجسد، وتطلق على الآباء الأقربين، وعلى الأولاد؛ لأنَّ الولد يكون مفصولًا من الأبوين، فلمّا كان الولد مفصولًا منهما كانا مفصولين منه أيضًا، فسمّي فصيلة لهذا السبب، والمراد بالفصيلة في الآية هو الآباء الأقربون والعشيرة الأدنون لقوله: {وبنيه}. وقوله: {تُؤْوِيهِ} من آوى إلى كذا انضم إليه، وآواه غيره كما قال تعالى: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}؛ أي: إلى نفسه. 14 - {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من الثقلين والخلائق. و {مَنْ} للتغليب. {ثُمَّ يُنْجِيهِ} معطوف على {يَفْتَدِى}؛ أي: يَوَدُّ لو يفتدى ثم ينجيه الافتداء. و {ثُمَّ} لاستبعاد الإنجاء. يعني: لو كان هؤلاء جميعًا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثمّ ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه. وقرأ (¬3) الزهريّ {تؤويه} و {تنجيه} بضمّ الهاءين. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[15]

والمعنى: أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فديةً. لينجيه من ذلك العذاب، فيود لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها، أو أهل الأرض جميعًا فداء له ليخلص من ذلك العذاب. والخلاصة: يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعًا في قبضة يده .. ليبذلهم فدية عن نفسه ثم ينجيه ذلك هيهات. 15 - {كَلَّا} ردع للمجرم عن الودادة والتمنّي، وتصريح بامتناع إنجاء الافتداء؛ أي: لا يكون كما يتمنّى فإنّه بهيئته الظلمانية الحاصلة من الإجرام استحق العذاب، فلا ينجو منه. وفي الحديث: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي". وعن "القرطبي": أن {كَلَّا} يكون بمعنى الردع والزجر وبمعنى حقًّا، وكلا الوجهين جائزان هنا، فعلى الثاني يكون تمام الكلام {يُنْجِيهِ}، فيوقف عليه، ويكون {كَلَّا} من الجملة الثانية التي تليه. والمحققون على الأول، ومن ذلك وضع السجاوندي علامة الوقف على {كَلَّا}. {إِنَّهَا}؛ أي: إنَّ النار المدلولى عليها بذكر العذاب، والمراد جهنم. {لَظَى} علم للنار، أو للدرك الثاني منها، منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص الذي لا يخالطه دخان، فيكون في غاية الإحراق لقوة حرارته النارية بالصفاء. وهو خبر {إن} بمعنى إن النار التي أعدت لعذابه مسماة بهذا الاسم. ويجوز أن يراد بـ {لَظَى}: اللهب الخالص على الأصل، فيكون خبرًا بلا تأويل؛ أي: إنَّ النار التي يعذّب بها لهب خالص ليس فيه دخان. 16 - {نَزَّاعَة} خبر ثان لـ {أَنّ}؛ أي: قلاعة {لِلشَّوَى}؛ أي: للأعضاء التي في أطراف الجسد كالأيدي والأرجل؛ أي: مزيلة للأعضاء عن أماكنها لقوّة حرارتها ثم تعود الأعضاء كما كانت، وهكذا أبدًا، فلا تترك لحمًا ولا جلدًا، إلا أحرقته. من نزع الشيء إذا جذبه، وأزاله من مقرّه وموضعه. و {الشوى}: الأطراف؛ أي: الأعضاء التي ليست بمقتل كالأيدي والأرجل. أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس. يعني: أنَّ النار تنزع جلود الرأس وتقشّرها عنه، وذلك لأنهم كانوا يسعون بالأطراف للأذى والجفاء، ويصرفون عن الحق الأعضاء الرئيسية التي تشتمل عليها الرأس خصوصًا العقل الذي كانوا لا يعقلون إلا به في الرأس.

[17]

وقرأ الجمهور (¬1): {نَزَّاعَةٌ} بالرفع على أنه خبر ثان لـ {أنّ}، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي، أو تكون {لَظَى} بدلًا من الضمير المنصوب، و {نزّاعة} خبر {إن}، أو على أنّ {نزّاعة} صفة لـ {لَظَى} على تقدير عدم كونها علما، أو يكون الضمير في {إِنَّهَا} للقصة، ويكون {لَظَى} مبتدأ، و {نزاعة} خبره، والجملة خبر {إن}. وقرأ حفص عن عاصم، وأبو عمرو في رواية عنه، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة والزعفرانيّ، وابن مقسم، واليزيدي في اختياره {نَزَّاعَةً} بالنصب على الحال المؤكدة أو المبينة، والعامل فيها {لَظَى}، وإن كان علمًا لما فيه من معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الأَحَيْانِ أي: المشهور بعض الأحيان. أو بالنصب على الاختصاص للتهويل، قاله الزمخشري. 17 - {تَدْعُو} تلك النار {مَنْ أَدْبَرَ} عن الحق ومعرفته، وهو مقابل أقبل. ومعنى {تَدْعُو}: تجذب إلى نفسها، وتحضر، فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم وتقول لهم: إلى إلى يا كافر، ويا منافق، ويا زنديق فإني مستقرك. أو تدعو الكافرين، والمنافقين بلفظ فصيح بأسمائهم، ثم تلتقطهم كالتقاط الطير الحب. ويجوز أن يخلق الله فيها كلامًا كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم وكما خلقه في الشجرة. أو تدعو زبانيتها على حذف المضاف أو على الإسناد المجازي حيث أسند فعل الداعي إلى المدعوّ إليه، من باب إسناد ما هو للحال إلى المحل. وقيل: هو تمثيل وتخييل، ولا دعاء في الحقيقة. {وَتَوَلَّى}؛ أي: أعرض عن الطاعة؛ لأن من أعرض يولّي وجهه. وفي "التأويلات النجمية": من أدبر عن التوجه إلى الحق بموافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة، وتولى عن الإقبال على الآخرة والإدبار عن الدنيا. 18 - {وَجَمَعَ} المال حرصًا وحبًّا للدنيا {فَأَوْعَى}؛ أي: فجعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد زكاته وحقوقه الواجبة فيه، وتشاغل به عن الدين، وتكبر باقتنائه. وذلك لطول أمله وانعدام شفقته على عباد الله، وإلا ما ادخر بلْ بذل. وفي جمع الجمع مع الإدبار والتولي تنبيه على قباحة البخل وخساسة البخيل، وعلى أنه لا يليق بالمؤمن. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[19]

والمعنى: أي كلا لا يقبل منه فداء، ولو جاء بأهل الأرض جميعًا أو بأعز ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبًا أو بولده الذي كان حشاشة كبده في الدنيا، أو بزوجته وعشيرته. {إِنَّهَا لَظَى ...} إلخ؛ أي: إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس، وتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه. وأنشدوا قول الأعشى: قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَالَهُ ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر أنها في الدنيا يعملون عملها من بين أهل المحشر، فدسوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم وتركوا العمل بجوارحهم، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه، ولم يؤدوا حق الله فيه، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواهٍ. 19 - {إِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: جنس الإنسان {خُلِقَ} حال كونه {هَلُوعًا}؛ أي: شديد الحرص سيّىء الجزع وأفحشه، مبالغة هالع من الهلع، وهو سرعة الجزع عند مسّ المكروه بحيث لا يستمسك، وسرعة المنع عند مسّ الخير، يقال: ناقة هلوع: سريعة السير، وهو من باب علم، وقد فسره أحسن تفسير على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. 20 - قوله تعالى: {إِذَا} ظرف لـ {جَزوُعُا} {مَسَّهُ الشَّرُّ}؛ أي: أصابه الشر، ووصل إليه الفقر، أو المرض أو نحوهما {جَزُوعًا} أي: كثير الجزع، مبالغة في الجزع مُكْثِرًا منه لجهله بالقدر، وهو ضد الصبر. وقال ابن عطاء: الهلوع الذي عند الموجود يرضى، وعند المفقود يسخط. وفي الحديث: "شر ما أعطي ابن آدم شح هالع، وجبن خالع" فالهالع المحزن، والخالع الذي يخلع قلبه. قال بعضهم: إنما كرهت نفوس الخلق المرض؛ لأنّه شاغل لهم عن أداء ما كلفوا به من حقوق الله تعالى؛ إذ الروح الحيواني حين يحس بالألم يغيب عن تدبير الجسد الذي يقوم بالتكليف، وإنما لم تكره نفوس العارفين الموت لما فيه من لقاء الله تعالى، فهو نعمة ومنة، ولذلك ما خير نبيٌّ في الموت إلا اختاره. 21 - {وإِذَا} ظرف لـ {مَنُوعًا} {مَسَّهُ الْخَيْرُ}؛ أي: السعة أو الصحة أو غيرهما {مَنُوعًا}؛ أي: مبالغًا في المنع والإمساك لجهله بالقسمة وثواب الفضل. وللصحة مدخل في الشحّ، فإن الغني قد يعطي في المرض ما لا يعطيه في الصحة، ولذا كانت الصدقة حال الصحة أفضل. والأوصاف الثلاثة، وهي: {هَلُوعًا} و {جَزُوعًا} و {مَنُوعًا} أحوال مقدرة؛ لأنَّ المراد بها ما يتعلق به الذمّ والعقاب، وهو ما يدخل

[22]

تحت التكليف والاختيار، وذلك بعد البلوغ. أو محقّقة لأنها طباثع جبل الإنسان عليها، كما قال المتنبي: الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النَّفُوسِ فَإنْ تَجِدْ ... ذَا عِفّةٍ فِلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ ولا يلزم أن لا تفارقه بالمعالجات المذكورة في كتب الأخلاق، فإنها كبرودة الماء ليست من اللوازم المهيئة للوجود، بل إنما حصولها فيه بوضع الله تعالى وخلقه، وهو يزيلها أيضًا بالأسباب التي سببها إذا أراد. قال الراغب: فإن قيل: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق؟ قلنا: الحكمة في خلق الشهوة أن يمانع نفسه إذا نازعته نحوها، ويحارب شيطانه عند تزيينه المعصية، فيستحق من الله سبحانه مثوبة وجنة انتهى. والمعنى: أي إنّ الإنسان جُبِلَ على الهلع، فهو قليل الصبر شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ في الشكاة والجزع، وإذا صار غنيًّا أو سليمًا معافًى منع معروفه، وشحّ بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولًا بأحوال الآخرة، فإذا مرض، أو افتقر رضي بما قسم له علمًا بأن الله يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما في طلب السعادة الأخروية. والخلاصة: أنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك .. فهو جزوع؛ أي: كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك. 22 - وقد استثني من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية، فقال: 1 - {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} استثناء من الإنسان؛ لأنه جنس في معنى الجمع، وهذا الاستثناء باعتبار الاستمرار؛ أي: إنّ المطبوعين على الصفات الرذيلة مستمّرون عليها إلا المصلين؛ أي: المقيمين للصلاة، فإنهم بدلوا تلك الطبائع واتصفوا بأضدادها. وقيل: المراد بهم: أهل التوحيد. يعني: أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضيّة؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصال بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.

[23]

23 - ثم بينهم سبحانه بقوله: {الَّذِينَ هُمْ} تقديم {هم} يفيد تقوية الحكم وتقريره في ذهن السامع كما في قولك: هو يعطي الجزيل قصدًا إلى تحقيق أنّه يفعل إعطاء الجزيل. {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، فيواظبون على أدائها، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبدًا. وقال الحسن، وابن جريج: هو التطوع منها. وقال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدّون الصلاة المكتوبة. وقيل: الذين يصلونها لوقتها. والمراد (¬1) بالآية جميع المؤمنين. وقيل: الصحابة خاصّة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين. وقدم الصلاة على سائر الخصال لشرفها على غيرها بعد الإيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوّل ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس، وأول ما يرفع من أعمالها الصلوات، وأوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" فإن صلحت .. فقد أفلح، وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. ولذا ختم الله الخصال بها، كما قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}. وكان آخر ما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، وما ملكت أيمانكم. وقرأ الجمهور {عَلَى صَلَاتِهِمْ} بالإفراد، والحسن جمعًا. والمعنى (¬2): أي إنّ الإنسان بطبعه متصف بصفات الذمّ، خليق بالمقت إلَّا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير، ويسّر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات في أوقاتها، لا يشغلهم عنها شيء من الشواغل. وفي هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة. أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال: حدّثتني عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا"، قالت: فكان أحب الأعمال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه، وإن قل، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها". وقرأ أبو سلمة {الذين هم على صلاتهم دائمون}. 2 - 24 {وَالَّذِينَ} أي: وإلا الذين {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي: نصيب معين يستوجبونه على أنفهسم تقربًا إلى الله تعالى، وإشفاقًا على الناس من الزكاة المفروضة، كما قاله قتادة ومحمد بن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقيل: صلة الرحم. والظاهر: أنه الزكاة لوصفه بكونه معلومًا ولجعله قرينًا للصلاة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[25]

25 - {لِلسَّائِلِ}؛ أي: الذي يسأل. ومن (¬1) كان له قوت يوم لا يحل له السؤال، وأما حكم الدافع له عالمًا بحاله، فكان القياس أن يأثم؛ لأنه إعانة على الحرام، لكنه يجعله هبة، ولا إثم في الهبة للغني وله أن يرده برد جميل مثل أن يقول: آتاكم الله من فضله. {وَالْمَحْرُومِ} أي: الذي لا يسأل إما حياء أو توكلًا، فيظن أنه غني فيحرم. والمعنى (¬2): أي والذين في أموالهم نصيب معين لذوي الحاجات، والبائسين تقرَّبًا إلى الله وإشفاقًا على خلقه سواء سألوا، واستجدوا أو لم يسألوا تعففًا منهم، والمراد بهذا الحق المعلوم ما يوظّفه الرجل على نفسه فيؤديه كل جمعة، أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها ما يستدعي البذل لمصلحة هامة لها كالدفاع ضدّ عدوّ أو دفع مجاعة أو ضرورة ملحّة مفاجئة. 3 - 26 {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)}؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، لا يشكون فيه ولا يجحدونه بل يصدّقونه بأعمالهم، حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنيّة والمالية طمعًا في التوبة الأخروية، بحيث يستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء. فمجرد التصديق بالجنان واللسان، وإن كان ينجي من الخلود في النار، لكن لا يؤدي إلى أن يكون صاحبه مستثنى من المطبوعين بالأحوال المذكورة. والمعنى: أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب، ويخاف العقاب، وتظهر آثار ذلك في أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه. 4 - 27 {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)}، أي: خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارًا لها، واستعظامًا لجنابه تعالى. وتقديم {مِنْ} على متعلقه وإن كان للفاصلة يجوز أن يكون للحصر امتثالًا لأمره تعالى {فَارْهَبُونِ} مع جواز أن يكون للتقوية؛ أي: والذين هم خائفون وجلون من تركهم الواجبات وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[28]

من التقصير حريصًا على القيام بما كلف به من علم وعمل. ونحو الآية قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}، وقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. 28 - ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف، فقال: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} وهو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى، وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد بل يكون بين الخوف والرجاء؛ لأنه لا يعلم أحد عاقبته، ومِنْ ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيري الخوف والوجل، كما يشعر بذلك قول بعضهم: لَيْتَ أمي لم تَلِدْنِي، وقول آخر: ليتني شجرةً تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية. 5 - 29 {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ} فرج الرجل والمرأة سوءاتهما؛ أي: قبلهما. عبّر به عنها رعايةً للأدب في الكلام، وأدب المرء خير من ذهبه، والجار متعلق بقوله: {حَافِظُونَ} من الزنا؛ أي: متعفّفون عن مباشرة الحرام، كافون لها عن الحرام، فإن حفظ الفرج كناية عن العفة. 30 - {إِلَّا عَلَى} بمعنى (من) كما في كتب النحو. {أَزْوَاجِهِمْ} الأربع؛ أي: نسائهم المنكوحات {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الجواري من غير حصر في أوقات حلها كالطهر من الحيض والنفاس ومضيّ مدة الاستبراء. وعبر عنهن بـ {ما} إجراءً لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء أو لأنوثتهن المنبئة عن القصور. وإيراد ما ملكت الإيمان يدل على أن المراد من الحافظين هنا المذكور، وإن كان الحفظ لازمًا للإناث أيضًا، بل أشد؛ لأنه لازم عليهن على عبيدهن، وإن كانوا مما ملكت أيمانهن ترجيحًا لجانب الذكور في صيانة عرضهم. {فَإِنَّهُمْ}؛ أي: فإن الحافظين {غَيْرُ مَلُومِينَ} على عدم حفظها منهن؛ أي: غير معيوبين شرعًا فلا يؤاخذون بذلك في الدنيا والآخرة. وفيه إشعار بأن من لم يحفظ تكفيه ملامة اللائمين، فكيف العذاب؟. 31 - {فَمَنِ ابْتَغَى} وطلب لنفسه الاستمتاع {وَرَاءَ ذَلِكَ}؛ أي: وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات. {فَأُولَئِكَ} المبتغون {هُمُ الْعَادُونَ}؛ أي: المتجاوزون لحدود الله، الكاملون في العدوان المتناهون فيه؛ لأنّه من عدا عليه إذا تجاوز الحد في الظلم، ودخل فيه حرمة وطْءِ الذكران والبهائم والزنا، وقيل: يدخل فيه الاستمناء أيضًا. روي: أنَّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار، فنزلت الآية. وفي

[32]

الحديث: "ومن لم يستطع - أي: التزوج - فعليه بالصوم". استدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء؛ لأن - صلى الله عليه وسلم - أرشد عند العجز عن التزوج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا .. لكان الإرشاد إليه أسهل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية جائزٌ لأجل تسكين الشهوة. وفي بعض حواشي البخاري: والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}؛ أي: الضالون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام. قال البغوي: الآية دليل على أنَّ الاستمناء باليد حرام. 6 - 32 {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ}؛ أي: لما ائتمنوا عليه من الدين والدنيا. {وَعَهْدِهِمْ} فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم، وبين الناس {رَاعُونَ}؛ أي: حافظون بالوفاء. يعني: إذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. قرأ الجمهور {لِأَمَانَاتِهِمْ} بالجمع. وقرأ ابن كثير وابن محيصن {لأمانتهم} بالإفراد، والمراد به الجنس، أي: فالأمانة اسم لجنس ما يؤتمن عليه الإنسان سواء من جهة البارىء سبحانه، وهي أمانات الدين التي هي الشرائع والأحكام أو من جهة الخلق، وهي الودائع ونحوها. والجمع بالنظر إلى اختلاف الأنواع، وكذا العهد شامل لعهد الله وعهد الناس، وهو ما عقده الإنسان على نفسه لله أو لعباده، وهو يضاف إلى المعاهد والمعاهد فيجوز هنا الإضافة إلى الفاعل والمفعول. 7 - 33 {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ} الباء: متعلقة بقوله: {قَائِمُونَ} سواء كانت للتعدية أم للملابسة، والجمع باعتبار أنواع الشهادة؛ أي: والذين هم يقيمون الشهادة، ويؤدونها على من كانت عليه قريب أو بعيد رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيّرونها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع". وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات لإبانة فضلها؛ لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي كتمها وتركها تضييعها وابطالها، وفي "الأشباه" إذا كان الحقُّ يقوم بغيرها، أو كان القاضي فاسقًا أو كان يعلم أنها لا تقبل .. جاز الكتمان. وقرأ الجمهور {بشهادتهم} بالإفراد. وقرأ حفص ويعقوب، وهي رواية عن ابن كثير بالجمع. قال الواحدي: والإفراد أولى؛ لأنّه مصدر، ومن جمع ذهب إلى

[34]

اختلاف الشهادات. قال الفراء: ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. والمعنى: أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند الحكام، ولا يكتمونها ولا يغيّرونها. والشهادة من جملة الأمانات، وخصَّها بالذكر لعظم شأنها؛ إذ بها تحيا الحقوق وبتركها تموت. 8 - 34 {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)} تقديم {عَلَى صَلَاتِهِمْ} يفيد الاختصاص الدال عل أن محافظتهم مقصورة على صلاتهم، لا تتجاوز إلى أمور دنياهم؛ أي: يراعون شرائطها، ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتران الذنوب. فالدوام المذكور أوّلًا يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. قال أبو حيان: وأقول: إنَّ الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد، لكنّه لما كانت الصلاة هي عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها، فذكرت أوَّل خصال الإِسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإِسلام عليها. وقال الشوكاني: والمراد يحافظون على أذكارها وأركانها وشرائطها، لا يخلون بشيء من ذلك. قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: المراد: التطوع، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلًا، وما وصفهم به ثانيًا، فإن معنى الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف، ومعنى المحافظة: أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاةً بدونها. وقيل: المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد. 35 - والإشارة: بقوله: {أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بتلك الصفات؛ أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الفاضلة. {فِي جَنَّاتٍ}؛ أي: مستقرون في جنات لا يقادر قدرها، ولا يدرك كنهها. {مُكْرَمُونَ} بالثواب الأبدي والجزاء السرمدي؛ أي: سيكونون كذلك، فكأنّ الإكرام فيها واقع لهم الآن. وهو خبر ثان أو هو الخبر، و {فِي جَنَّاتٍ} متعلق به، قدم عليه لمراعاة الفواصل، أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر؛ أي: مكرمون حال كونهم كائنين في جنات.

[36]

والمعنى: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال في بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات، وإلى ذلك أشار الحديث: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر". 36 - {فَمَالِ الَّذِينَ}؛ أي: فما بال الذين {كَفَرُوا} وحرموا من الاتصاف بالصفات الجليلة المذكورة. و {ما} استفهامية للإنكار في موضع رفع بالابتداء، ولـ {الَّذِينَ} خبرها، واللام الجارة كتبت مفصولة اتباعًا لمصحف عثمان رضي الله عنه. {قِبَلَكَ} حال من المنوي في {الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: فما لهم ثابتين حولك {مُهْطِعِينَ} حال من المستكن في {قِبَلَكَ}. من الإهطاع، وهو الإسراع؛ أي: مسرعين نحوك؛ أي: أيّ شيء ثبت لكفّار مكة مسرعين جهتك، مادي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك. 37 - وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} متعلق بـ {عِزِينَ}، لأنّه بمعنى مفترقين أو بـ {مُهْطِعِينَ}، و {عِزِينَ} حال بعد حال من المنوي في {الَّذِينَ} أي: فرقًا شتَّى، جمع عزة، وهي الفرقة من الناس. وأصلها (¬1): عزو من العزو بمعنى الانتماء، والانتساب، فعوضوا عن اللام الهاء كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى إما في الولادة، أو في المظاهرة، فهم مفترقون. كان المشركون يتحلقون حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلقًا حلقًا وفرقًا فرقًا، ويستهزئون بكلامه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم. فنزلت هذه الآية وما بعدها، كما مرّ في الأسباب. والمعنى (¬2): فما بال كفار مكة؟ يسرعون إليك ويجلسون حواليك عن يمينك، وعن شمالك جماعات متفرقة، نافرين منك لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه ونصحه وإرشاده وما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم. ونحو الآية قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}. أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ونحن حلق، متفرقون، فقال: "ما لي أراكم عزين؟ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ " قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمون الصفوف الأول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[38]

ويتراصون في الصف". وقد كانت عادتهم في الجاهلية أن يجلسوا حلقًا مجتمعين، قال شاعرهم: تَرَانَا عِنْدَهُ وَالْلَّيْلُ دَاجٍ ... عَلَى أَبْوابِهِ حِلَقًا عَزِينَا 38 - ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يسمعون القول، فيتبعون أحسنه، فقال: {أَيَطْمَعُ} ويرجو {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ}؛ أي: من هؤلاء المهطعين {أَنْ يُدْخَلَ} بالإيمان {جَنَّةَ نَعِيمٍ}؛ أي: جنة ليس فيها إلا التنعم المحض من غير تكدر ولا تنغص. والاستفهام فيه للتوبيخ المضمن للإنكار؛ أي: لا يطمع. والطمع: نزوع النفس إلى الشيء شهوة له، وأكثر الطمع من جهة الهوى. وقرأ الجمهور (¬1) {أَنْ يُدْخَلَ} مبنيًا للمفعول من الإدخال. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وطلحة بن مصرف، والأعرج، ويحيى بن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية عنه مبنيًا للفاعل من الدخول. 39 - {كَلَّا} ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ؛ أي: اتركوا هذا الطمع، واقطعوا مثل هذا الكلام؛ أي: لا يدخلها. والمعنى: أيطمع هؤلاء المشركون وهم نافرون من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، معرضون عن سماع الحق أن يدخلوا جنتي كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا؟ كلا لا مطمع لهم في ذلك مع ما هم عليه. ولعل (¬2) وجه إيراد {يُدْخَلَ} مجهولًا من الإدخال دون يدخل معلومًا من الدخول مع أنه الظاهر في رد قولهم: {لَنَدْخُلَنَّهَا}. إشعار بأنه لا يدخل من يدخل إلا بإدخال الله، وأمره للملائكة به، وبأنهم محرومون من شفاعة تكون سببًا للدخول، وبأن إسناد الدخول إخبارًا وإنشاءً، إنما يكون للمرضي عنهم، والمكرمين عند الله بإيمانهم وطاعتهم كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}. وفي تنكير (¬3) {جَنَّةَ} إشعارًا بأنهم مردودون عن كل جنة، وإن كانت الجنان كثيرةً، وفي توصيفها بـ {نَعِيمٍ} إشعار بأن كل جنة مملوءة بالنعمة، وأن من طرد من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[40]

راحة النعيم وقع في كدر الجحيم. وفي إيراد {كُلُّ} إشعار بأن من آمن منهم بعد قولهم هذا، وأطاع الله ورسوله حق له الطمع، وتعميم للردع لكل منهم كائنًا من كان ممن لم يؤمن. ثم ذكر السبب في تيئيسهم منها، فقال: {إنَا خَلَقْنَاهُمْ}؛ أي: أنشأناهم وأوجدناهم {مِمَّا يَعْلَمُونَ}؛ أي: من النطفة القذرة التي يعلمونها، فكيف يتشرفون ويدعون المتقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم؟ فكيف يليق ويصح دخولهم الجنة، ولم يتصفوا بالإيمان والمعرفة. وهذا كلام مستأنف، ولذلك وضع السجاوندي علامة الطاء على {كَلَّا} لتمام الكلام عنده، قد سيق تمهيدًا لما بعده من بيان قدرته تعالى على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما نزل عليه من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وينشيء بدلهم قومًا آخرين. فإن قدرته تعالى على ما يعلمون من النشأة الأولى من حال النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة حجة بينة على قدرته تعالى على ذلك. وقيل المعنى (¬1): إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة، فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي. 40 - ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكوا، واستبدل بهم قومًا غيرهم خيرأ منهم، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ}؛ أي: أقسم {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} جمع (¬2) المشارق والمغارب إما لأن المراد بها مشرق كل يوم من السنة ومغربه، فيكون لكل من الصيف والشتاء مائة وثمانون مشرقًا ومغربًا أو مشرق كل كوكب ومغربه. أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبيّ، وبالمغرب موته. أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات. {إِنَّا لَقَادِرُونَ} جواب القسم. 41 - {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ}؛ أي: نبدلهم. حذف المفعول الأول للعلم به، و {خَيْرًا} مفعوله الثاني بمعنى التفضيل على التسليم؛ إذ لا خير في المشركين. أو نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم، ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم، ولم يقع هذا التبديل، وإنما ذكر الله ذلك تهديدًا لهم، لكي يؤمنوا. وقيل: بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[42]

أي: بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا، لا يفوتنا شيء، ولا يعجزنا أمر، ولكن اقتضت حكمتنا البالغة، وعلمنا السابق تأخير عقوبة هؤلاء وعدم تبديلهم بخلق آخر. وقرأ الجمهور (¬1): {فَلَا أُقْسِمُ} على صورة {لا} النافية. وقرأ قوم {فلأقسم} بلام دون ألف. وقرأ الجمهور {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} بالجمع. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن والجحدري وحميد {المشرق والمغرب} بالإفراد. والمعنى (¬2): أي أقسم برب الكواكب ومشارقها، ومغاربها إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم، يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم. والخلاصة: أنّ هؤلاء المشركين في تناقض واضطراب في الرأي فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون في دخول الجنة؟ وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أولًا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيًا. وفي هذا تهكّم بهم وتنبيه إلى تناقضهم في كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل في العقل ومجانفة لصواب الرأي. 42 - ثم سلّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقولون ويفعلون، فقال: {فَذَرْهُمْ}؛ أي: فخلهم وشأنهم {يَخُوضُوا} ويشرعوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم. وهو جواب الأمر، وهو تهديد لهم وثوبيخ كقوله: {اعْمَلُوَا مَا شِئتمْ}. {وَيَلْعَبُوا} في الدنيا بالاشتغال بما لا ينفعهم، وأنت مشتغل بما أمرت به، فليس عليك إلا البلاغ. وهذه الآية منسوخة بآية السيف. {حَتَّى يُلَاقُوا} ويعاينوا، من الملاقاة بمعنى المعانية. {يَوْمَهُمُ} هو يوم البعث عند النفخة الثانية. وأضافه إليهم لأنّه يوم جمع كل الخلائق وهم منهم، أو لأن يوم القيامة يوم الكفار من حيث العذاب، ويوم المؤمنين من حيث الثواب، فكأنّه يومان: يوم للكافرين ويوم للمؤمنين. {الَّذِي يُوعَدُونَ} الآن أو على الاستمرار. وهو من الوعد كقولهم: متى هذا الوعد، ويجوز أن يكون من الإيعاد. وقرأ الجمهور (¬3) {حَتَّى يُلَاقُوا} من الملاقاة. وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[43]

وحميد، ومجاهد {حتى يلقوا} مضارع لقي. والمعنى: دعهم في تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذٍ يعلمون عاقبة وبالهم ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم. 43 - ثم فصل أحوالهم في هذا اليوم، فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} بدل من {يومهم}، ولذا حمل على يوم البعث. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر. وقرأ الجمهور (¬1): {يَخْرُجُونَ} مبنيًا للفاعل. وقرأ السلميّ (¬2) والأعمش، والمغيرة، وعاصم في رواية مبنيًا للمفعول. {سِرَاعًا} منتصب على الحال من ضمير {يَخْرُجُونَ}. جمع سريع كظراف جمع ظريف، أي: مسرعين إلى جانب الداعي وصوته، وهو إسرافيل ينادي على الصخرة، كما سبق. وقوله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} حال ثانية (¬3) من الضمير المذكور، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله. وعن أبي عمرو: هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها، واحد الأنصاب كعنق وأعناق، كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها. وقال الأخفش: جمع نصب كرهن ورهن، والأنصاب جمع الجمع. {يُوفِضُونَ}؛ أي: يسرعون أيّهم يستلمه أوّلًا من الإيفاض، وهو الإسراع. وفيه تهجين لحالهم الجاهلة، وتهكم بهم بذكر جهالتهم التي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعًا ولا ضرًّا. وقرأ الجمهور (¬4): {نصب} بفتح النون وسكون الصاد. وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحهما، وابن عامر وحفص بضمّهما، والحسن وقتادة بضم النون وسكون الصاد. والنصب: ما نصب الإنسان فهو يقصده مسرعًا إليه من علم أو بناء أو صنم، وغلب في الأصنام حتى قيل: الأنصاب هي الأصنام. 44 - {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} حال من فاعل {يُوفِضُونَ}، و {أَبْصَارُهُمْ} فاعلها على الإسناد المجازي. يعني: وصفت بالخشوع مع أنه وصف للكل لغاية ظهور آثاره فيها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

والمعنى: ذليلة خاضعة لا يرفعونها مخافة ما يتوقعون من العذاب. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}؛ أي: تغشاهم ذلة شديدة وحقارة عظيمة. قال قتادة: هي سواد الوجوه، ومنه: غلام مراهق إذا غشيه الاحتلام. والجملة حال أيضًا من فاعل {يُوفِضُونَ}. والمعنى (¬1): أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي إلى موقف الحساب سراعًا، يسابق بعضهم بعضًا كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، يبتدرون أيهم يستلمه قبل مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن. ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة، فقال: {ذَلِكَ} اليوم المذكور الذي سيقع فيه الأهوال الهائلة. وهو مبتدأ، خبره قوله: {الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}؛ أي: يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل، وهم يكذّبون به. فاندفع توهم التكرار؛ لأن الوعد الأول محمول على الآتي والاستمراريّ كما مرّ، وهذا الوعد محمول على الماضي بدلالة لفظ {كان}. والمعنى: أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا في الدنيا أنهم ملاقوه، وانوا به يكذّبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب. وقرأ الجمهور (¬2): {ذِلَّةٌ} منونًا، {ذَلِكَ الْيَوْمُ} برفع الميم، مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب، والحسن بن عبد الرحمن عن التفار {ذلّة} بغير تنوين مضافًا إلى {ذلك}، و {اليوم} بخفض الميم. الإعراب {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}. {سَأَلَ سَائِلٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {بِعَذَابٍ} متعلق بـ {سَألَ}، والباء بمعنى عن، و {وَاقِعٍ} صفة لـ {عذاب}، {لِلْكَافِرِينَ} متعلق بـ {وَاقِعٍ}، واللام بمعنى على، {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لَهُ} خبرها مقدم، {دَافِعٌ} اسمها مؤخر، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وجملة {لَيْسَ} في محل الجرّ صفة ثانية لـ {عذاب}، أو حال من {عذاب}، لأنّه تخصّص بالوصف. {مِنَ اللَّهِ} متعلق بواقع؛ أي: واقع من عنده ومن جهته، أو متعلق بـ {دَافِعٌ} بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته. {ذِي الْمَعَارِجِ} صفة للجلالة، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ} فعل مضارع وفاعل، {وَالرُّوحُ} معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام، والجملة الفعلية مستأنفة، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {تَعْرُجُ}. {فِي يَوْمٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف دلَّ عليه {وَاقِعٍ}؛ أي: يقع العذاب بهم في يوم، أو متعلق بـ {تَعرُجُ}، {كَانَ مِقْدَارُهُ} فعل ناقص واسمه، {خَمْسِينَ} خبره، {أَلفَ سَنَةٍ} تمييز خمسين، وجملة {كَانَ} في محل الجر صفة لـ {يَوْمٍ} ولكنها سببية. {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}. {فَاصْبِرْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وتدبّرت فيه وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: اصبر. {اصبر} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب (إذا) المقدرة، وجملة (إذا) المقدرة مستأنفة. {صَبْرًا} مفعول مطلق، {جَمِيلًا} صفة {صَبْرًا}. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {يَرَوْنَهُ} خبره، والضمير لـ {عذاب}، {بَعِيدًا} مفعول ثان؛ لأنّ الرؤية علميّة. وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة في حيّز الخبر. {يَوْمَ} ظرف متعلق بمحذوف تقديره: يقع بهم العذاب يوم تكون السماء كالمهل، أو متعلق بـ {قَرِيبًا}. {تَكُونُ السَّمَاءُ}. فعل ناقص واسمه، {كَالْمُهْلِ} خبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} معطوف على الجملة السابقة، مماثلة لها في إعرابها، {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} فعل وفاعل ومفعول به ثان، والأوّل محذوف تقديره: شفاعته أو نصره. والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}. {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}.

{يُبَصَّرُونَهُمْ} فعل مضارع، مبني للمجهول، {والواو}: نائب فاعل، {والهاء}: مفعول به ثان، وعدّي بالتضعيف إلى المفعول الثاني، والجملة مستأنفة، أو حالية. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو حالية {لَوْ} مصدرية، {يَفْتَدِى} فعل مضارع وفاعل مستتر، {من عَذَابِ} متعلق بـ {يَفْتَدِى} {عَذَابِ} مضاف، {يَوْمِئِذٍ} {يومِ} مضاف إليه، {إذ} مضاف إليه، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة تقديرها: يوم إذ تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، وجملة {لَوْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يَوَدُّ}؛ أي: يودّ المجرم افتداءه من عذاب يومئذٍ {بِبَنِيهِ} متعلق بـ {يَفْتَدِى} أيضًا، {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ} معطوفات على {بِبَنِيهِ}، {الَّتِي} صفة للفصيلة، وجملة {تُؤْوِيهِ} صلة الموصول، {وَمَن} اسم موصول في محل الجر معطوف على {بنيه}، {فِي الْأَرْضِ} صلة الموصول، {جَمِيعًا} حال من الضمير المستقرّ في الصلة، {ثُمَّ} حرف عطف للتراخي لشدَّة الهول، {يُنْجِيهِ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الافتداء، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {يَفْتَدِى}؛ أي: يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء؛ أي: يودّ افتداءه بهؤلاء المذكورين جميعًا ثم إنجاءه. و {ثم} لاستبعاد الإنجاء كما مر. {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}. {كَلَّا} حرف ردع وزجر لودادتهم الافتداء، وتنبيه على أن ذلك التمنّي غير وارد، وليس بذي طائل. {إِنَّهَا} ناصب واسمه، {لَظَى} خبرها، والضمير للنار الدال عليها العذاب، {نَزَّاعَةً} حال مؤكدة أو مبيّنة، أو نصبت على الاختصاص للتهويل، وعلى الحال يكون العامل فيها ما دلت عليه {لَظَى} من معنى الفعل؛ أي: تتلظى نزاعة. وقرىء بالرفع، فهو خبر ثان لـ {إن}، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي نزاعة. وقيل: {لَظَى} بدل من اسم {إنّ}، و {نَزَّاعَةً} خبرها، {لِلشَّوَى} متعلق بـ {نَزَّاعَةً}، {تَدْعُو} فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {لَظَى}، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة حال من الضمير في {نَزَّاعَةً}، وجملة {أَدْبَر} صلة {مَنْ} الموصولة، وَتَوَلَّى معطوف على {أَدْبَرَ}، {وَجَمَعَ} معطوف أيضًا على {أَدْبَرَ}، {فَأَوْعَى} معطوف على {جمع}، ومعنى {أوعى}: جمع المال فجعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد حقه تعالى فيه.

{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}. {إِنَّ الْإِنْسَانَ} ناصب واسمه، وجملة {خُلِقَ} في محل الرفع خبره، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانَ}، {هَلُوعًا} حال مقدرة من {الْإِنْسَانَ}؛ لأنه ليس متصفًا بهذه الصفات قبل ولادته ووقت خلقه. {إِذَا} ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ {جَزُوعًا}، وجملة {مَسَّهُ الشَّرُّ} مضاف إليه لـ {إذَا} و {جَزُوعًا} حال من الضمير في {هَلُوعًا} أو نعت له، أو حال من {الْإِنْسَانَ}. {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} متعلق بـ {مَنُوعًا}، و {مَنُوعًا} حال من الضمير في {هَلُوعًا} أو نعت ثان له أو حال من {الْإِنْسَانَ}. {إِلَّا} أداة استثناء، {الْمُصَلِّينَ} مستثنى من {الْإِنْسَانَ} المراد به الجنس، فهو استثناء متصل، {الَّذِينَ} نعت لـ {الْمُصَلِّينَ}، {هُمْ} مبتدأ، {عَلَى صَلَاتِهِمْ} متعلق بـ {دَائِمُونَ}، و {دَائِمُونَ} خبر {هُمْ}، والجملة الاسمية صلة الموصول. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)}. {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول على كونه نعتا لـ {الْمُصَلِّينَ}، {فِي أَمْوَالِهِمْ} خبر مقدم، {حَقٌّ} مبتدأ مؤخّر، و {مَعْلُومٌ} نعت له، والجملة الاسمية صلة الموصول، {لِلسَّائِلِ} نعت ثان لـ {حَقٌّ}، {وَالْمَحْرُومِ} معطوف على السائل، {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول، وجملة {يُصَدِّقُونَ} صلة الموصول {بِيَوْمِ الدِّينِ} متعلق بـ {يُصَدِّقُونَ}، {وَالَّذِينَ} معطوف أيضًا على الموصول الأوّل {هُمْ} مبتدأ، {مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {مُشْفِقُونَ}، و {مُشْفِقُونَ} خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ} ناصب واسمه، {غَيْرُ مَأْمُونٍ} خبره، وجملة {إِنَّ} معترضة مسوقة لتعليل الإشفاف، {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول أيضًا، {هُمْ} مبتدأ، {لِفُرُوجِهِمْ} متعلق بـ {حَافِظُونَ}، و {حَافِظُونَ} خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغّ من أعم الأحوال، {عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} متعلق بـ {حَافِظُونَ}؛ أي: حافظون لفروجهم من المحرمات في جميع الأحوال إلا في حال استمتاعهم بأزواجهم الخ. {أَوْ} حرف

عطف، {مَا} اسم موصول في محل الجر معطوف على {أَزْوَاجِهِمْ}، {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما ملكته أيمانهم. {فَإِنَّهُمْ} الفاء تعليلية، {إنّهم} ناصب واسمه، {غَيْرُ مَلُومِينَ} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الاستثناء. {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}. {فَمَنِ} {الفاء}: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حكم هذا الاستثناء، وأردت بيان حكم من ابتغى وراء ذلك فأقول لك: من ابتغى. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما، {ابْتَغَى} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {وَرَاءَ ذَلِكَ} مفعول به، ومضاف إليه، فقد خرجت {وَرَاءَ} عن الظرفية؛ أي: طلب وراء الاستمتاع بالنكاح، أو بملك اليمين. {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا، {أُولَئِكَ} مبتدأ، {هُمْ} ضمير فصل، {الْعَادُونَ} خبره، والجملة الاسمية جواب لـ {من} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية مقول لجواب (إذا) المقدرة، وجملة (إذا) المقدرة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المتعاطفين. {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول أيضًا، {هُمْ} مبتدأ، {لِأَمَانَاتِهِمْ} متعلق بـ {رَاعُونَ}، {وَعَهْدِهِمْ} معطوف على {آماناتهم}، {رَاعُونَ} خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول أيضًا، {هُمْ} مبتدأ، {بِشَهَادَاتِهِمْ} متعلق بـ {قَائِمُونَ}، و {قَائِمُونَ} خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {وَالَّذِينَ} معطوف على الموصول الأول، {هُمْ} مبتدأ، {عَلَى صَلَاتِهِمْ} متعلق بـ {يُحَافِظُونَ}، وجملة {يُحَافِظُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {أُولَئِكَ} مبتدأ، {فِي جَنَّاتٍ} خبر المبتدأ، {مُكْرَمُونَ} خبر ثان، ولك أن تعلق {فِي جَنَّاتٍ} بـ {مُكْرَمُونَ}. {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}. {فَمَالِ} {الفاء}: استئنافية، {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ،

{للذين} جار ومجرور خبر {ما}، والجملة الاسمية مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {قِبَلَكَ} منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف حال من {الَّذِينَ}؛ أي: متوجهين قبلك أو متعلق بـ {مُهْطِعِينَ}، و {مُهْطِعِينَ} حال من الموصول أيضًا؛ أي؛ مسرعين إليك. {عَنِ الْيَمِينِ} جار ومجرور، حال من الموصول؛ أي: كائنين في جهة يمينك. {وَعَنِ الشِّمَالِ} معطوف على قوله: {عَنِ الْيَمِينِ}. وقيل: الجار والمجرور متعلق بـ {مُهْطِعِينَ} أو بـ {عِزِينَ}، و {عِزِينَ} حال من الموصول أيضًا. فالأربعة أحوال من الموصول. وقيل: غير ذلك. {أَيَطْمَعُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {يطمع} فعل مضارع، {كُلُّ امْرِئٍ} فاعل، {مِنْهُمْ} صفة لـ {امْرِئٍ}، والجملة مستأنفة. {أَن} حرف نصب، {يُدْخَلَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة منصوب بـ {أن}، ونائب فاعله ضمير يعود على {كُلُّ امْرِئٍ}، {جَنَّةَ نَعِيمٍ} مفعول به ثان، منصوب على السعة، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: أيطمع في دخوله جنة نعيم {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن طمعهم بدخول الجنة {إِنَّا} ناصب واسمه {خَلَقْنَاهُمْ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر {إِنَّا}. {مِمَّا} متعلقان بـ {خَلَقْنَاهُمْ}. {يَعْلَمُونَ} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما}. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}. {فَلَا} {الفاء} استئنافية؛ {لا} زائدة، {أُقْسِمُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، والجملة مستأنفة، {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} متعلق بـ {أُقْسِمُ}، {إِنَّا} ناصب واسمه، {لَقَادِرُونَ} {اللام} حرف ابتداء، و {قادرون} خبره، وجملة {إنّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {عَلَى} حرف جر، {أَن} حرف نصب ومصدر، {نُبَدِّلَ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى}؛ أي: على تبديلنا. الجار والمجرور متعلق بـ {قادرون}، {خَيْرًا} مفعول به، {مِنْهُمْ} متعلق بـ {خَيْرًا}، {وَمَا} {الواو}: حالية، {ما} حجازية، {نَحْنُ} اسمها، {بِمَسْبُوقِينَ} خبرها، و {الباء}: زائدة، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نُبَدِّلَ}.

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)}. {فَذَرْهُمْ}: {الفاء}: الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنهم لا يفوتوننا، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: {ذرهم}. {ذر} فعل أمر وفاعل مستتر، والهاء: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {يَخُوضُوا} فعل مضارع، مجزوم بالطلب السابق، و {الواو}: فاعل، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {وَيَلْعَبُوا} فعل وفاعل، معطوف على {يَخُوضُوا}، {حَتَّى} حرف جر وغاية، {يُلَاقُوا} فعل مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة، و {الواو}: فاعل، {يَوْمَهُمُ} مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى}، تقديره: إلى ملاقاتهم يومهم الذي يوعدون، الجار والمجرور متعلق بـ {ذرهم}، {الَّذِي} نعت لـ {يَوْمَهُمُ}، وجملة {يُوعَدُونَ} من الفعل المغيّر، ونائب فاعله صلة الموصول. {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}. {يَوْمَ} بدل من {يَوْمَهُمُ}، وجملة {يَخْرُجُونَ} في محل الجرح بإضافة الظرف إليه {مِنَ الْأَجْدَاثِ} متعلق بـ {يَخْرُجُونَ}، {سِرَاعًا} حال من الواو في {يَخْرُجُونَ}، {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {إِلَى نُصُبٍ} متعلق بـ {يُوفِضُونَ}، وجملة {يُوفِضُونَ} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر {كأنّ}، وجملة {كأنّ} في محل النصب حال ثانية من الواو أيضًا، فتكون مترادفة أو من الضمير في {سِرَاعًا}، فتكون متداخلة {خَاشِعَةً} حال من فاعل {يُوفِضُونَ}، أو من فاعل {يَخْرُجُونَ}، والأول أقرب، {أَبْصَارُهُمْ} فاعل بـ {خَاشِعَةً}، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} فعل ومفعول وفاعل، والجملة حال ثانية من فاعل {يُوفِضُونَ}، ولك أن تجعلها مستأنفة. {ذَلِكَ} مبتدأ، {الْيَوْمُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة أو مفسرة لا محل لها من الإعراب. {الَّذِى} صفة لـ {يوم}، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يُوعَدُونَ} خبره، وجملة كان صلة الموصول. التصريف ومفردات اللغة {سَأَلَ سَائِلٌ} قرىء {سَألَ} بهمزة هي عين الفعل، وعليه فقوله: {سَائِلٌ} لا

إعلال فيه، اسم فاعل من سأل المهموز. وقرىء {سال} بألف ليّنة وتحتمل أوجهًا: الأوّل: أن يكون من السؤال كالقراءة بالهمز، لكن الهمزة أبدلت ألفًا على غير القياس، لكنه مسموع عن العرب، ومنه: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: سَالَتْ هُذِيل رَسُوْلَ اللهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلُ بِمَا جَاءَتْ وَلَمْ تُصِبِ فقوله: سَالَتْ يعني: سألت ومنه: قول الفرزدق: رَاحَتْ بِمَسْلَمَةً البِغَالُ عَشِيَّةً ... فَارْعيْ فَزَاوَةً لَا هَنَاكَ المَرْتَعُ فقوله: لا هنَّاك؛ أي: لا هناك، فأبدل الشاعران الهمزة في البيتين ألفًا. ومن ذلك قراءة نافع وأبي عمرو البصري {منساته} بألف لينة. وعلى هذا فليس في {سَائِلٌ} إعلال. والوجه الثاني: أن الألف فيه مبدلة من واو كالألف في {خاف}، وعليه فتكون الهمزة في {سَائِلٌ} مبدلة من واو كما في خائف. والوجه الثالث: أن تكون الألف فيه مبدلة من ياء، والأصل: سيل من السيل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح كالألف في قال، وعليه فتكون الهمزة في {سَائِلٌ} بدلًا من ياء. وفسروه بأنه وأد في جهنم اسمه سائل. فالمعنى: سأل هذا الوادي الذي في جهنم بعذاب، وعليه فالباء هنا في موضعها، وإذا جعل من السؤال فالباء بمعنى عن. {ذِي الْمَعَارِجِ}؛ أي: المصاعد، والمعارج: جمع معرج بفتح الميم هنا بمعنى مصعد، وهو موضع الصعود. قال الراغب: العروج: ذهاب في صعود، والمعارج: المصاعد. {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أصله: يرأيونه، نقلت حركة الهمزة إلى الراء نقلًا مطردًا كما تقدم ثم حذفت للتخفيف، فصار اللفظ: يريونه فقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما التقت سنة مع واو الجماعة. {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} أصله أيضًا: نرأيه فعل بالهمز ما فعل بهمزة {يرونه}، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولم تحذف لعدم التقاء الساكنيني. {كَالْمُهْلِ} المهل: درديّ الزيت، وهو ما يكون في قعر الإناء منه

لسيلانه على مهل لثخانته، أو خبث الحديد ونحوه مما يذاب على مهل وتدريج. وعن ابن مسعود: كالفضة المذابة في تلونها أو كالقير والقطران في سوادهما. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} {والعهن}: الصوف مطلقًا، وقيل: بقيد كونه أحمر، وقيل: بقيد كونه مصبوغًا، وقيل: بقيد كونه مصبوغًا بألوان شتّى اهـ سمين. وهذه الأقوال في معنى {العهن} في اللغة اهـ. {حَمِيمٌ حَمِيمًا} و {الحميم}: القريب. {يُبَصَّرُونَهُمْ}؛ أي: يبصر الأحماء الأحماء، ويرونهم. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ}؛ أي: يتمنى الكافر، أصله: يودد مضارع ودد بكسر العين. وفي "المصباح": نقلت حركة الدال إلى الواو، وهذا النقل غير معهود؛ إذ المعهود نقل حركة حرف اللين إلى الساكن الصحيح، وهنا بالعكس. فلما وقع هذا النقل سكنت الدال الأولى، وأدغمت في الثانية. {لَوْ يَفْتَدِي} من الافتداء، والافتداء: حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذل عنه. {وَفَصِيلَتِهِ} الفصيلة؛ العشيرة، وقال ثعلب: الآباء الأدنون، فهي فعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: مفصول منها. {تُؤْوِيهِ} من أوى إلى كذا: انضم إليه، وآواه غيره، كما قال تعالى: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}؛ أي: ضمه إلى نفسه. فمعنى {تُؤْوِيهِ}: تضمه إليها في النسب، أو عند الشدائد، فيلوذ بها. {كَلَّا} ردع للمجرم عن الودادة، وتصريح بامتناع إنجاء الافتداء؛ أي: ليس الأمر كما يتمنى. {إنَهَا لَظَى} علم لجهنم؛ لأنها تتلظى؛ أي: تتلهب على من يصلاها. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)} يقال: نزع الشيء: جذبه من مقره وقلعه. والشوى: جمع شواة، وهي جلدة الرأس، وفيه إعلال بالقلب، أصله: الشوي قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} أوعى فيه إعلال بالقلب، أصله: أوعى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {هَلُوعًا} قال في "الصحاح": الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، يقال: هلع بالكسر من باب فرح، فهو هلع وهلوع على التكثير، والهلوع مبالغة هالع. وقال عكرمة: هو الضجور، وقيل غير ذلك، فالهلوع والجزوع والمنوع كل من الثلاثة صيغة مبالغة؛ لأنها على زنة فعول كضروب بمعنى: كثير الضرب. {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} أصله: المصليين بياءين، الأولى لام الكلمة والثانية ياء الجمع، حذفت حركة الياء الأولى للتخفيف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} الأصل: داومون بالواو، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله "دام" في الإعلال، فأصل دام

دوم، أعِلّ بقلب الواو ألفًا فحمل عليه الوصف فاعل بقلب الواو همزة. {حَقٌّ لِلسَّائِلِ} والسائل: هو الذي يسأل ويظهر الفقر. {وَالْمَحْرُومِ} هو الذي لا يسأل إما حياء أو توكلا على الله، فيظن أنه غني فيحرم. {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} جمع فرج من الانفراج، وهو الفتحة، وفرج الرجل والمرأة سوءتهما؛ أي: قبلهما. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} جمع ملوم، اسم مفعول من لام الثلاثي، وأصله: ملوومين نقلت حركة الواو إلى اللام فسكنت فالتقى ساكنان فحذفت واو مفعول على الصحيح. {هُمُ الْعَادُونَ} جمع عاد من العدوان، يقال: عدا عليه إذا تجاوز في الظلم. {مُهْطِعِينَ}؛ أي: مسرعين نحوك مادي أعناقهم مقبلين بأبصارهم عليك، فهو من الكلمات التي يحتاج في تفسيرها إلى جمل. وفي "القاموس": هطع كمنع هطعًا وهطوعًا: أسرع مقبلًا خائفًا، وأقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه، وهطع: مد عنقه وصوب رأسه كاستهطع وكأمير الطريق الواسع وكمحسن من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره، أو الساكت المنطلق إلى من هتف به، وبعير مهطع في عنقه: تصويبٌ خلقةً، وقد تقدم شرح هذه المادة في سورة إبراهيم. {عِزِينَ} جمع عزة. قال أبو عبيدة: جماعات في تفرقة، وقيل: الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. وقال الأصمعي: في الدار عزون؛ أي: أصناف من الناس. وعزين: جمع عزةٍ، والهاء فيه عوض عن لام الكلمة التي قيل: إنها واو، يقال: عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره، وقيل: إنها ياء يقال: عزيته بالياء أعزيه بمعنى: عزوته. وقيل: إنها هاء، والأصل: عزهة. والقولان الأولان أولى من الثالث، وعليه فلام الكلمة محذوفة، والياء الموجودة ياء الجمع؛ لأن هذا اللفظ من الألفاظ الملحقة بالجمع المذكر السالم، فوزنه: فعين. {يَخُوضُوا} أصله: يخوضوا بوزن يفعلوا، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. {يُلَاقُوا} أصله: يلاقيوا، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت القاف لمناسبة الواو، فوزنه: يفاعوا. {نُصُبٍ} تقدم القول فيه مفصلًا، ونضيف إليه هنا أنه قرىء {نصب} بالفتح والإسكان، وقراءتنا بضقتين، وقرىء بفتحتين، وقرىء بضم فسكون، فالأول اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه. وقال أبو عمرو: هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة. والثاني: أنه جمع نصاب ككتب وكتاب. والثالث: أنه جمع نصب كرهن في رهن وسقف في سقف، وجمع الجمع: أنصاب. وأما الثالثة ففعل بمعنى مفعول؛ أي: منصوب كالقبض بمعنى المقبوض، والرابعة تخفيف من الثانية. {يُوفِضُونَ} من الإيفاض، وهو الإسراع. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} وقوله: {تَعْرُجُ} و {ذِي الْمَعَارِجِ}. ومنها: إيراد صيغة تدل على الماضي في قوله: {وَاقِعٍ} دون سيوقع، للدلالة على تحقق وقوعه إمّا في الدنيا كما في يوم بدر، وإمّا في الآخرة وهو عذاب النار. ومنها: فن التمثيل والتشبيه في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}، فهذا من التمثيل، فليس المراد حقيقة ذلك العدد، بل المراد الإشارة إلى أنه يبدو للكافر طويلًا لما يلقاه خلاله من الهول والشدائد، فلا تنافي مع آية السجدة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر. قال الشاعر: فَقِصَارُهُنَ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ ... وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُوْرِ قِصَارُ أو من باب التشبيه البليغ، والأصل كمقدار مدة خمسين ألف سنة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}، فالروح هو جبريل، أفرده بالذكر إظهارًا لشرفه وفضله. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)} لحذف وجه الشبه، ووجه الشبه فيه التلون، وكذلك قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)}، ووجه الشبه في هذا التطاير والتناثر. وقد رمق أبو العلاء هذه السماء العالية من البلاغة، إذ قال في رثاء أبيه:

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلَ يَخِفُّ وَقَارُهُ ... إِذَا صَارَ أُحْدٌ في الْقِيامَةِ كَالعِهْن ومنها: الطباق بين قوله: {بَعِيدًا} و {قَرِيبًا} وبين {الْيَمِينِ} و {الشِّمَالِ} وبين {الْمَشَارِقِ} و {الْمَغَارِبِ}. ومنها: التنكير في قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} إفادة للتعميم. ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}، جاء بالتعميم في قوله: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} بعد التخصيص فيما قبله لبيان هول الموقف. ومنها: إيراد لفظ {مَنْ} في قوله: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} تغليبًا للعاقل على غيره. ومنها: المجاز العقليّ في قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)}، فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم، أو من مجاز الحذف؛ أي: تدعو زبانيتها، فهو على حذف مضاف، أو من الإسناد المجازي حيث أسند فعل الداعي إلى المدعوّ له. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)}، قابله بقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}. ومنها: تقديم لفظ {هم} في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} إفادة لتقوية الحكم، وتقريره في ذهن السامع كما في قولك: هو يعطي الجزيل قصدًا إلى تحقيق أنه يفعل إعطاء الجزيل. ومنها: الطباق بين السائل والمحروم في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}. ومنها: التعبير عن سوءتي الرجل والمرأة؛ أي: قبلهما بلفظ الفروج في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)}، تعليمًا للأدب في الكلام وأدب المرء خير من ذهبه. ومنها: التعبير بـ {ما} في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الولائد إجراءً لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء، أو لأنوثتهن المنبئة عن القصور كما مرّ. ومنها: تكرير الصلاة في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)} اهتمامًا بشأنها وتنويهًا بفضلها، وفيه أيضًا تصدير الجملة بالضمير تقويةً للحكم وتقريرًا له

في ذهن السامع. ومنها: تقديم الجار والمجرور على الفعل إفادة للاختصاص الدال على أن محافظتهم مقصورة على صلاتهم، لا تجاوز إلى أمور دنياهم. ومنها: فعلية الخبر، فتفيد الجملة الاسمية الدوام والاستمرار. وتفيد الجملة الفعلية التجدد مع الاستمرار. وهذا نمط عجيب انفرد به كتاب الله تعالى. ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخيّ في قوله: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}. ومنها: إيراد لفظ {كُلُّ} في قوله: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ} إشعارًا بأن من آمن منهم بعد قولهم هذا، وأطاع الله ورسوله حق له الطمع، وتعميمًا للردع لكل منهم كائنًا من كان ممن لم يؤمن. ومنها: تنكير {جَنَّةَ} إشعارًا بأنهم مردودون من كل جنة، وإن كانت الجنان كثيرة. ومنها: توصيفها بنعيم إشعارًا بأن كل جنة مملوءة بالنعمة، وأن من طرد من راحة النعيم، وقع في كدر الجحيم، كما مرّ جميع ذلك. ومنها: الكناية الفائقة الرائقة في قوله: {إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}، فإنّه كناية عن المنيّ القذر مع النزاهة التامّة في التعبير، وحسن الإيقاظ والتذكير بألطف عبارة وأبلغ إشارة. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}، وفي هذا التشبيه تهجين لحالهم الجاهلية، وتهكّم بهم بذكر جهالتهم التي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، وتعريض بسخافة عقولهم، وتسجيل عليهم بالجهل المشين، حيث أسرعوا إلى عبادة من لا يستحق العبادة. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. * * *

خلاصة ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصف يوم القيامة وأهواله. 2 - وصف النار وعذابها. 3 - صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقي إلى المعارج، ويخرج من عالم المادّة. 4 - وعيد الكافرين على ما يلاقونه في ذلك اليوم الرهيب من الأهوال العجيبة (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل المغرب من اليوم الثاني عشر من شهر الربيع الأول من شهور سنة 3/ 12/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيّين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين، آمين يا ربّ العالمين.

سورة نوح

سورة نوح عليه السلام سورة نوح عليه السلام مكيّة، نزلت بعد سورة النحل. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} بمكة. وآياتها (¬1): سبع أو ثمان وعشرون آية. وكلماتها: مئتان وأربع وعشرون كلمة. وحروفها: تسع مئة وتسعة وتسعون حرفًا. مناسبتها لما قبلها (¬2): 1 - أنّه قال في السورة السابقة: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم. إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هو خير منهم، فكأنَّها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى. 2 - تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعود به الكفار. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها (¬3): أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيرًا منهم، وكانوا قد سخروا من المؤمنين، وكذَّبوا بما وعدوا به من العذاب ذكر قصة نوح وقومه معه، وكانوا أشد تمردًا من المشركين، فأخذهم الله أخذ استئصال حتى إنه لم يبق لهم نسلًا على وجه الأرض، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة، فحذَّر تعالى قريشًا أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة نوح كلها محكم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وسميت سورة نوح لذكر قصة نوح فيها. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها، وأخبر سبحانه في بداية هذه السورة أنه أرسل نوحًا إلى قومه، وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إني لكم نذير، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك .. غفر لكم ذنوبكم، ومد في أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يرد ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شيء العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ...} الآيات، مناسبتها لما

[1]

قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن نوحًا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم وعظيم بطشه، وأنه لبى نداءه، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته ليغفر ذنوبهم ويمد في أعمارهم .. أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه أنه أنذرهم بما أمره به، فعصوه وردوا عليه ما آتاهم به من عنده، ولم يزدهم دعاؤه، إلا إدبارًا عنه وهربًا منه، وأنه كان يدعوهم تارةً جهرةً وتارة سرًّا، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم مغفرة ذنوبهم ليرسل المطر عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم الجنات والأنهار. ثم نبههم إلى عظمته تعالى وواسع قدرته، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارًا. وخلقه للسموات طباقًا، وجعل القمر فيهن نورًا، وجعل الشمس سراجًا، وجعل الأرض كالبساط، يتنقلون فيها من واد إلى واد، ومن قطر إلى قطر. قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها (¬1): أنَّ الله سبحانه لقا ذكر فيما سبق إنذار نوح قومه .. أخبر هنا عن نوح أنه أعلم ربه العلم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة أنه مع ما استعمله من الوسائل، والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورًا، والترهيب طورًا آخر .. كذّبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه ومتع بمال وولد، وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجيب فقد أضلت الأصنام خلقًا كثيرًا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزد هم إلا ضلالًا. قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر مقالة نوح، وشكواه إليه .. أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم. ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس، وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة. ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِنَّا أَرْسَلْنَا} وبعثنا {نُوحًا} بالتوحيد والشرائع والأحكام {إِلَى قَوْمِهِ} جميع ¬

_ (¬1) المراغي.

أهل الأرض من الآدميّين أهل عصره. وروى (¬1) قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوّل نبيٍّ أرسل نوح عليه السلام، وأرسل إلى جميع أهل الأرض، ولذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعًا". قال ابن عباس: وأرسل نوح وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شدّاد: وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة. وقال وهب: وهو ابن خمسين سنة اهـ خطيب. وقوله في الحديث: "أول نبي أرسل نوح" لعل المراد منه أنه أول نبي أرسل بالنهي عن عبادة غير الله؛ لأن عبادة غيره إنما حدثت في زمن نوح، وإلّا فمن المعلوم أن قبله رسلًا آدم وشيث وإدريس اهـ شيخنا. وفي "الشهاب": ونوح أطول الأنبياء عمرًا بل أطول الناس، وهو أوّل من شرعت له الشرائع، وأول رسول أنذر من الشرك وأهلكت أمته. والمعنى (¬2): أنّه أوّل من أرسل إلى من يعبد الأصنام، لأن عبادة الأصنام أوّل ما حدثت في قومه، وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك. وكان أكثر أهل الأرض في زمانه أولاد قابيل، وهم أوّل من عبدوا الأصنام، وأمّا آدم فأرسله الله سبحانه إلى أولاده بالإيمان وتعليم شرائعه، وكذا شيث وإدريس كلّ منهما أرسل إلى أولاده بالتوحيد والشرائع. وأمّا أولاد قابيل وكانوا أكثر أهل الأرض وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم نوحًا، فكانت رسالته عامّة لجميع أهل الأرض من أهل عصره. فإن قلت: إذا كانت رسالة نوح عامّة لجميع أهل الأرض كانت مساويةً لرسالة نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: رسالة نوح عليه السلام عامّة لجميع أهل الأرض في زمنه، ورسالة نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عامّة لجميع من في زمنه، ومن يوجد بعد زمنه إلى يوم القيامة، فلا مساواة. وهو (¬3) نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس بن برد بن مهلائيل بن أنوش بن فينان بن شيث بن آدم عليه السلام. ويقال له: شيخ المرسلين، وآدم الثاني. ونوح لقبه، واسمه عبد الغفّار، لقب به لكثرة نوحه على ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[2]

نفسه أو على الناس بالدعوة إلى التوحيد، أو هو اسم سرياني معناه: الساكن؛ لأنّ الأرض طهرت به عن خبث الكفّار، سكنت إليه. وهو أوّل من أوتي الشريعة في قول، وأوّل أولى العزم من الرسل على قول الأكثرين، وأوّل نذير على الشرك، وكان قومه يعبدون الأصنام، وأوّل من عذَّبَتْ أمته. {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ}؛ أي: بأن خوف قومك عن عبادة غير الله تعالى، فتكون {أَنْ} مصدرية، ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول؛ أي: أنذر قومك. وقرأ ابن مسعود {أنذر} بدون أن، وذلك على تقدير القول؛ أي: فقلنا له: أنذرهم من قبل أن ياتيهم عذاب أليم؛ أي: خوّفهم بالنار على عبادة الأصنام كي ينتهوا عن الشرك ويؤمنوا بالله وحده. والحاصل (¬1): أن {أَنْ} على قراءة الجمهور يجوز أن تكون مفسرة لما في الإرسال من معنى القول كما مرّ آنفًا، ويجوز أن تكون مصدرية حذف منها الجار وأوصل إليها الفعل؛ أي: بأن أنذرهم، وجعلت صلتها أمرًا كما في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ}؛ لأنَّ مدار وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبريّة والإنشائية ووجوب كون الصلة خبريّة في الموصول الاسميّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل، وهي لا توصف إلا بالجمل الخبريّة، وليس الموصول الحرفي كذلك، وحيث استوى الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر استويا في صحة الوصل بها، فيتجرد عند ذلك كل منهما عن المعنى الخاص بصيغته، فيبقى الحدث المجرد عن معنى الأمر والنهي والمضيّ والاستقبال، كأنّه قيل: أرسلناه بالإنذار كذا في "الإرشاد". {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ} من الله تعالى {عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي: عذاب شديد عاجل كالطوفان والغرق، أو آجل كعذاب الآخرة، لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. و {أَلِيمٌ} بمعنى المؤلم أو المتألم مبالغة، والألم إمّا جسمانيّ وإما روحاني، والثاني أشدّ. 2 - وجملة قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

مقدر، كأنّه قيل: فماذا قال نوح؟ فقال: قال نوح لهم: يا قوم؛ أي: يا قومي. خاطبهم بظهار الشفقة عليهم وإرادة الخير لهم وتطييبًا لهم. {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ}؛ أي: منذر مخوّف من عاقبة الكفر والمعاصي. وأفرد الإنذار بالذكر مع كونه بشيرًا أيضًا؛ لأن الإنذار أقوى في تأثير الدعوة، لما أن أكثر الناس يطيعون أوّلًا بالخوف من القهر، وثانيًا بالطمع في العطاء، وأقلهم يطيعون بالمحبة للكمال والجمال. يقول الفقير: الظاهر (¬1) أن الإنذار أول الأمر، كما قال تعالى لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}، والتبشير ثاني الأمر كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. فالإنذار يتعلق بالكافرين، والتبشير يتعلق بالمؤمنين، وإن أمكن تبشير الكفّار بشرط الإيمان لا في حال الكفر، فإنهم في حال الكفر إنما يستحقون التبشير التهكمي كما قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}. {مُبِينٌ} موضح لحقيقة الأمر بلغة تعرفونها، أو بين الإنذار، أو مبين لما فيه نجاتكم. والمعنى (¬2): أي إنا أرسلنا نوحًا رسولًا إلى قومه، وقلنا له أنذرهم بأس الله وعذابه قبل أن يغرقهم الطوفان. ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر فقال لقومه: يا قومي إني أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به. 3 - ثم فصّل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء: 1 - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: آمركم بعبادة الله وحده. وهو متعلق بـ {نَذِيرٌ}، فـ {أنْ} هي المفسرة لـ {نَذِيرٌ} أو هي المصدرية. والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب والجوارح. 2 - {وَاتَّقُوهُ}؛ أي: وآمركم بتقواه وخوف عذابه بأن تتركوا محارمه وتجتنبوا مآثمه. والأمر بالتقوى يتناول الزجر عن جميع المحظورت والمكروهات. 3 - {وَأَطِيعُونِ}؛ أي: وانتهوا، إلى ما آمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم. والأمر بالطاعة يتناول أمرهم بطاعته في جميع المأمورات والمنهيّات والاعتقاديّات والعمليّات. وفي "التأويلات النجمية": {وَأَطِيعُونِ}؛ أي: في أخلاقي وصفاتي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[4]

وأفعالي وأعمالي وأقوالي وأحوالي انتهى. وهذا وإن كان داخلًا في الأمر بعبادة الله وتقواه إلا أنه خصه بالذكر تأكيدًا في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره. قال بعضهم: وأصله (¬1): وأطيعوني بالياء، ولم يقل: وأطيعوه بالهاء مع مناسبته لما قبله. يعني: أسند الإطاعة إلى نفسه لما أن إطاعة الرسول إطاعة الله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. فإذا كانوا مأمورين بإطاعة الرسول، فكان للرسول أن يقول: وأطيعون، وأيضا أنّ الإجابة كانت تقع له في الظاهر. 4 - ولما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين، فقال: 1 - {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الأمر {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، أي: بعض ذنوبكم. وهو ما سلف في الجاهلية، فإنّ الإِسلام يجب ما قبله لا ما تأخر عن الإِسلام. فإنه يؤاخذ به، ولا يكون مغفورًا بسبب الإيمان، ولذلك لم يقل: يغفر لكم ذنوبكم بطيّ من التبعيضيّة، فإنه يعم مغفرة جميع الذنوب ما تقدم منها وما تأخّر. وقيل: المراد ببعض الذنوب بعض ما سبق على الإيمان، وهو ما لا يتعلق بحقوف العباد. أي: إذا فعلتم (¬2) ما أمركم به وصدّقتم ما أرسلت به إليكم، غفر لكم ذنوبكم، وسامحكم فيما فرط منكم من الزلّات. وفي هذا وعد لهم بإزالة مضارّ الآخرة عنهم وأمنهم من مخاوفها. 2 - {وَيُؤَخِّرْكُمْ} بالحفظ من العقوبات المهلكة كالقتل والإغراق والإحراق ونحوها من أسباب الهلاك والاستئصال، وكان اعتقادهم أنَّ من أهلك بسبب من هذه الأسباب لم يمت بأجله، فخاطبهم على المعقول عندهم. فليس يريد أنّ الإيمان يزيد في آجالهم، كذا في بعض التفاسير. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: معتن مقدر عند الله. والأجل: المدّة المضروبة للشيء. قال في "الإرشاد": وهو الأمد الأقصى الذي قدّره الله لهم بشرط الإيمان والطاعة. وهذا صريح في أنّ لهم أجلًا آخر لا يجاوزنه إن لم يؤمنوا به، وهو المراد بقوله الآتي: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والمعنى: أي ويمدّ في أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدّره لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان. واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة، كما جاء في الحديث: "صلة الرحم تزيد في العمر". ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر؛ إذ طهارة الأرواح ونقاء الأشباح تطيل العمر، فبها يحفظ الأمن وتكتب الفضائل وتجتلب المنافع المادّية. والخلاصة (¬1): أنَّ الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري، وعبارته: فقد قضى الله مثلًا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسع مئة سنة. فقيل لهم: آمنوا يؤخّر إلى أجل مسمّى، أي: إلى وقت سمّاه الله وضربه أمدًا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اهـ. ثم أخبر أنّه إذا جاء ذلك الأجل الأقرب المشروط ببقائهم على الكفر لا يؤخر، فقال: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} وهو (¬2) ما قدّر لكم على تقدير بقائكم على الكفر، وهو الأجل القريب المعلق غير المبرم، بخلاف الأجل المسمى فإنه البعيد المبرم. وأضيف الأجل هنا إلى الله؛ لأنّه المقدر والخالق أسبابه، وأسند إلى العباد في قوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهم} لأنهم المبتلون المصابون. {إِذَا جَاءَ} وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر {لَا يُؤَخَّرُ} فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر، فلا يجيء، ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى، فتؤخّروا إليه. فالمحكوم عليه بالتأخير هو الأجل المشروط بشرط الإيمان والطاعة، والمحكوم عليه بامتناعه هو الأجل المشروط بشرط البقاء على الكفر، فلا تناقض لانعدام وحدة الشرط. ويجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فإنه أجل مؤقت له حتمًا. قيل (¬3): المعنى: أنّ أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان. وقيل: المعنى إذا جاء الموت لا يؤخّر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب. {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أي: شيئًا من العلم لسارعتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم أنّ أجل الله إذا جاء لا تأخير فيه ولا إمهال. وفيه إشارة إلى أنّهم ضيّعوا أسباب ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[5]

العلم وآلات تحصيله بتوغلهم في حب الدنيا، وطلب لذّاتهم حتى بلغوا بذلك إلى حيث صاروا كأنّهم شاكّون في الموت. وقيل: المراد بأجل الله في قوله: {إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} الأجل الأطول. والمعنى عليه: أي إنّ أجل الله الذي كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء لا يؤخّر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنّكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به. وفي قوله: {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} زجر لهم عن حبّ الدنيا والتهالك عليها والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنّهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكّون في الموت. 5 - {قْالَ} أي: نوح مناجيًا لربّه وحاكيًا له، وهو أعلم بحال ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الطوال بعدما بذل في الدعوة غاية المجهود، وجاوز في الإنذار كل حد معهود، وضاقت عليه الحيل، وعيت به العلل. {رَبِّ} أي: يا ربّي {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} إلى الإيمان والطاعة {لَيْلًا وَنَهَارًا}؛ أي: في الليل والنهار؛ أي: دائمًا من غير فتور ولا توان، فهما ظرفان لدعوت، أراد بهما الدوام على الدعوة؛ لأنّ الزمان منحصر فيهما، وكان يأتي باب أحدهم ليلًا فيقرع الباب، فيقول صاحب البيت: من على الباب؟ فيقول: أنا نوح، قل: لا إله إلا الله. 6 - {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} مما دعوتهم إليه، وتباعدًا عنه. فالاستثناء فيه مفرغ، فالمستثنى منه مقدر؛ أي: فلم يزدهم دعائي شيئًا من أحوالهم التي كانوا عليها إلا فرارًا؛ أي: بعدًا وإعراضًا عن الإيمان، كأنّهم حمر مستنفرة اهـ خطيب. وفي "التأويلات النجمية": إلّا فرارًا من متابعتي وديني، وما أنا عليه من آثار وحيك. وهو مفعول ثان لقولهم: {لَمْ يَزِدْهُمْ}؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين يقال: زاده الله خيرًا، والاستثناء مفرّغ. وإسناد (¬1) الزيادة إلى الدعاء مع أنها فعل الله تعالى لسببيته لها. والمعنى: أنّ الله يزيد القرار عند الدعوة بصرف المدعو اختياره إليه. قرأ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

الجمهور (¬1) {دعائي} بفتح الياء. وقرأ الكوفيّون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو بإسكانها. والمعنى (¬2): أي قال نوح عليه السلام: ربّ إنّي أنذرت قومي ولم أترك دعاءهم ليلًا ولا نهارًا امتثالًا لأمرك، وكلّما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه وحادوا عنه. 7 - ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم، تدل على الفظاظة وجفاء الطبع، فقال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ}؛ أي: إلى الإيمان. وفي "التأويلات النجمية": كلّما دعوتهم بلسان الأمر مجرّدًا عن انضام الإرادة الموجبة لوقوع المأمور، فإن الأمر إذا كان مجرّدًا عن الإرادة لا يجب أن يقع المأمور به، بخلاف ما إذا كان مقرونًا بالإرادة، فإنه لا بد حينئذٍ من وقوع المأمور به؛ أي: كلّما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك والطاعة {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببه {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}. لئلا يسمعوا صوتي؛ أي: سدّوا مسامعهم من استماع الدعوة. فالجعل المذكور كناية عن هذا السدّ، ولا مانع من الحمل على حقيقته بأن يدخلوا أصابعهم في ثقب آذانهم قصدًا إلى عدم الاستماع. {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}؛ أي: (¬3) غطّوا بها وجوههم؛ لئلا يروني، فإن المبطل يكره رؤية المحق للتضادّ الواقع بينهما. وقيل: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان. وقيل: هو كناية عن العداوة، يقال: لبس فلان ثياب العداوة، والاستغشاء مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاء. وفي الأصل اشتمال من فوق، ولما كان فيه معنى الستر استعمل بمعناه، وأصل الاستغشاء طلب الغشي؛ أي: الستر، ولكن معنى الطلب هنا ليس بمقصود بل هو بمعنى التغطي والستر، وإنّما جيء بصيغته التي هي السين للمبالغة، والثياب جمع ثوب سمّي به لثوب الغزل؛ أي: رجوعه إلى الحالة التي قدر لها. والمعنى: وبالغوا في التغطّي بثيابهم كأنهم طلبوا منها أن تغشاهم؛ أي: جميع أجزاء بدنهم آلة الإبصار وغيرها، لئلا يبصروه كراهة النظر إليه. {وَأَصَرُّوا}؛ أي: أكبّوا وأقاموا واستمروا على الكفر والمعاصي، ولم يقلعوا عنه، ولا تابوا منه. {وَاسْتَكْبَرُوا} عن قبول الحق وعن امتثال ما أمرهم به؛ أي: تعظموا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[8]

عن طاعتي واتباعي، وأخذتهم العزة في ذلك. {اسْتِكْبَارًا} شديدًا؛ لأنهم قالوا: {أَنُؤمنُ لَكَ وَاَتبَعَكَ اَلأَرذَلُونَ}. والمعنى: أي وإنّي كلّما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك والعمل بطاعتك، والبراءة عن عبادة كلّ ما سواك لتغفر لهم ذنوبهم سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائي، وتغطوا بثيابهم كراهة النظر إليَّ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق وقبول ما دعوتهم إليه من النصح. 8 - ثم بين أنه ما ترك وسيلة في الدعوة إلا فعلها، قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ} دعوة {جِهَارًا}؛ أي: بأعلى صوتي. والجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع؛ أي: رفعت صوتي لهم بالدعوة رفعًا بليغًا بحيث يسمعه القريب والبعيد. 9 - {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ} وأظهرت {لَهُمْ} الدعوة مجتمعين {وَأَسْرَرتُ} أي: أخفيت {لَهُمْ} الدعوة منفردين {إِسْرَارًا}؛ أي: إخفاء بحيث لا يسمعها غير المدعوّ. وفي هذا إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر عموم الأوقات؛ أي: دعوتهم تارة بعد تارة ومرّة غبّ مرّة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة. و {ثُمَّ} لتفاوت الوجوه، فإنّ الجهر أشد عن الإسرار، والجمع بينهما أغلظ من الإفراد. والإعلان ضدّ الإسرار، يقال: أسررت إلى فلان حديثًا: أفضيت به إليه في خفية؛ أي: عن غير اطلاع أحد عليه. وجهرت به أظهرته بحيث اطلع عليه الغير. ويجوز أن يكون {ثُمَّ} لتراخي بعض الوجوه عن بعض بحسب الزمان بأن ابتدأ بمناصحتهم ودعوتهم في السرّ، فعاملوه بالأمور الأربعة، وهي: الجعل والتغطي والإصرار والاستكبار. ثمّ ثنى بالمجاهرة بعد ذلك، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار؛ أي: خلط دعاءه بالعلانية بدعاء السرّ، فكما كلمهم جميعًا كلمهم واحدًا واحدًا سرًّا. فالجهر: النداء بالدعوة ورفع الصوت بها بلا دخول مجمعهم، والإعلان: إظهار الدعوة في مجامعهم، والإسرار: الدعوة لكل واحد منهم فردًا فردًا خفية بحيث لا يسمعه الغير. وفي بعض التفاسير: أنّ نوحًا عليه السلام (¬1) لما آذوه بحيث لا يوصف حتى ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

كانوا يضربونه في اليوم مرّات عيل صبره، فسأل الله أن يواريه عن أبصارهم بحيث يسمعون كلامه، ولا يرونه فينالوه بمكروه، ففعل الله ذلك به، فدعاهم كذلك زمانًا فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعيده إلى ما كان. وهو قوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}. والمعنى (¬1): أي ثم إني كنت أسر لهم بالدعوة تارةً، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورًا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار. والخلاصة: أنّه عليه السلام لم يترك سبيلًا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثةً: 1 - بدأهم بالمناصحة في السر، فعاملوه بما ذكر في الآية السابقة من سدّ الآذان، والاستغشاء بالثياب والإصرار على الكفر والاستعظام عن سماع الدعوة. 2 - جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه. 3 - جمع بين الإعلان والإسرار. 10 - ثم بين ما كان يقول لهم، فقال: {فَقُلْتُ} لهم عقيب الدعوة، عطف على قوله: {دَعَوْتُ}. {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}؛ أي: اطلبوا المغفرة منه لأنفسكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي قبل الفوت بالموت. والمعنى: أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحّدوه، وأخلصوا له العبادة. {إِنَّهُ} تعالى {كَانَ غَفارًا} للتائبين بجعل ذنوبهم كأن لم تكن. والمراد (¬2) من كونه غفارًا في الأزل كونه مريدًا للمغفرة في وقتها المقدّر، وهو وقت وجود المغفور له. والغفّار أبلغ من الغفور، وهو من الغافر، وأصل الغفر: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: مغفر؛ لأنه يستر الرأس. والمغفرة من الله: ستره للذنوب وعفوه عنها بفضله ورحمته، لا بتوبة العباد وطاعتهم. وإنما التوبة والطاعة للعبودية وعرض الافتقار. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[11]

والمعنى: أي إنه تعالى كان غفارًا لذنوب من أناب إليه وتاب منها متى صدقت العزيمة، وخلصت النية وصحت التوبة فضلًا منه وجودًا وإن كانت كزبد البحر. 11 - ولما كان الإنسان مجبولًا على محبّة الخيرات العاجلة، كما قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} لا جرم أعلمهم أنّ إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحّظ الأوفر من الآخرة الخصب والغنى وكثرة الأولاد في الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء: 1 - {يُرْسِلِ السَّمَاءَ}؛ أي: ينزل الله سبحانه المطر، كما قال الشاعر: إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... فَحُلُّوْا حَيْثُمْا نَزَلَ السَّمَاءُ وقال بعضهم؛ أي: ماء السماء، فحذف المضاف. {عَلَيْكُمْ} يا قومي حال كونه {مِدْرَارًا}؛ أي: كثير الدُّرور؛ أي: السيلان والانصباب. وفي الإرسال مبالغة بالنسبة إلى الإنزال، وكذا المدرار صيغة مبالغة، ومفعال مما يستوي فيه المذكّر والمؤنّث كقولهم: رجل أو امرأة معطار، ولذلك لم يؤنّثه مع كون السماء مؤنثًا معنويًا. و {يُرْسِلِ} جواب شرط محذوف؛ أي: إن تستغفروا يرسل السماء، وفي قول النحاة في مثله جواب الأمر، وهو هاهنا استغفروا تسامح في العبارة اعتمادًا على وضوح المراد، وكسر اللام في الوصل لالتقاء الساكنين. كأن قوم نوح تعللوا وقالوا (¬1): إن كنا على الحق فكيف نتركه؟ وإن كنا على الباطل فكيف يقيلنا بعدما عكفنا عليه دهرًا طويلًا؟. فأمرهم الله تعالى بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب عليهم المنافع، وهو الاستغفار، ولذلك وعدهم بالعوائد العاجلة التي هي أوقع في قلوبهم من المغفرة وأحب إليهم؛ إذ النفس حريصة بحب العاجل، ولذلك جعلها جواب الأمر بأن قال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} إلخ، دون المغفرة بأن قال: {ويغفر لكم} ليرغبوا فيها، ويشاهدوا أن أثرها وبركتها ما يقاس عليه المغفرة، فالاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، كما أن المعصية سبب لخراب العالم بظهور أسباب القهر الإلهي. وقيل: لما كذّبوه بعد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[12]

تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم أرحام النساء أربعين سنة، وقيل: سبعين سنة. فوعدهم إن آمنوا أن يرزقهم الله الخصب، ويدفع عنهم ما كانوا فيه. يقول الفقير: هذا القول هو الموافق للحكمة؛ لأنَّ الله تعالى يبتلي عباده بالخير والشر ليرجعوا إليه، ألا ترى إلى قريش حيث إنّ الله جعل لهم سبع سنين كسني يوسف بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ليرجعوا عما كانوا عليه من الشرك، فلم يرفعوا له رأسًا. والمعنى (¬1): أي يرسل المطر عليكم متتابعًا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم في معاشكم من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون مما هو سبب السعادة والهدى. 2 - 12 {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ}؛ أي: ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها. 3 - {وَبَنِينَ}؛ أي: ويكثر لكم الأولاد. فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر في أمة إلا إذا استتب فيها الأمن وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق. 4 - {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين ذوات أشجار وثمار؛ أي: ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولم يطمع الناس في الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات وكثرت الغلات. 5 - {وَيَجْعَلْ لَكُمْ} فيها {أَنْهَارًا} جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله، لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع يعمها الرخاء وتسعد في حياتها الدنيوية، وتزينها بالنبات، وتحفظها عن اليبس، وتفرح القلوب وتسقي النفوس. وكان الظاهر (¬2) تقديم الجنات والأنهار على الإمداد لكونهما من توابع الإرسال، وإنما أخرهما لرعاية رأس الآية، وللإشعار بأن كلا منهما نعمة الهبة على حدة. وعن الحسن البصريّ: إن رجلًا شكا إليه الجدب، فقال له: استغفر الله، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[13]

وشكا إليه آخر الفقر وقلة النسل، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه، فقال له: استغفر الله. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون إليك أنواعًا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسي شيئًا إنما اعتبرت قول الله عزّ وجلّ حكاية عن نبيّه نوح عليه السلام أنّه قال لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآية. 13 - وبعد (¬1) أن أدبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق ... شرع يؤدِّبهم الأدب العلمي بدراسة التشريح وعلم النفس ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفليّة، فقال: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)}، إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارًا على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد. والوقار: العظمة. و {ما} للإستفهام الإنكاري التوبيخي في محل الرفع مبتدأ، و {لكم} خبرها، و {لَا تَرْجُونَ} حال من ضمير المخاطبين، والعامل فيها معنى الاستقرار في {لَكُمْ}، و {لِلَّهِ} متعلق بمحذوف وقع حالًا من {وَقَارًا}، ولو تأخر لكان صفة له. والمعنى: أيُّ سبب حصل لكم واستقر لكم حال كونكم غير معتقدين لله عظمةً موجبة لتعظيمه بالإيمان والطاعة له؟ أي: لا سبب لكم في هذا مع تحقق مضمون الجملة الحالية. ومن (¬2) استعمال الرجاء بمعنى الخوف قول الهذيل: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح: ما لكم ترجون لله ثوابًا، ولا تخافون منه عقابًا. وقال مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمةً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما لكم لا تخشون منه عقابًا، ولا ترجون منه ثوابًا بتوقيركم إيّاه. 14 - وجملة قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} في محل النصب على الحال من الجلالة؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى قد خلقكم على أطوار مختلفة وصفات متفاوتة وحالات متنوّعة. والطور في اللغة: المرة، وقال ابن الأنباري: الطور: الحال، ويقال: فعل كذا طورًا بعد طور أي: تارة بعد تارة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[15]

والمعنى (¬1): والحال أنكم على حالة منافية لما أنتم عليه بالكلية، وهي أنكم تعلمون أنه تعالى خلقكم وقدركم تارات؛ أي: مرّات حالًا بعد حال عناصر ثمّ أغذيةً ثم أخلاطًا ثم نطفًا ثم علقًا ثم مضغًا ثم عظامًا ولحومًا ثم أنشأكم خلقًا آخر. فإنّ التقصير في توقير مَنْ هذه شؤونه في القدرة القاهرة الإحسان التامّ مع العلم بها مما لا يكاد يصدر عن العاقل. وقال بعضهم (¬2): وهي إشارة إلى الأطوار السبعة المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}. فهذه التارات والأحوال السبع المترتّب بعضها على بعض كلّ تارة أشرف مما قبلها، وحال الإنسان فيها أحسن مما تقدمها. وقيل: خلقكم صبيانًا وشبّانًا وشيوخًا. وقيل: طوالًا وقصارًا، وأقوياء وضعفاء مختلفين في الخلق والخلق. وقيل غير ذلك. والخلاصة (¬3): أي ما لكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة في الأرحام ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم كسا عظامكم لحمًا ثم أنشأكم خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد ذكرت هذه الأطوار في سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما. 15 - وبعد أن ذكر النظر في الأنفس أتبعه بالنظر في العالم العلويّ والسفليّ، فقال: {أَلَمْ تَرَوْا} يا قومي. والاستفهام للتقرير، والرؤية بمعنى العلم، لعلهم علموا ذلك بالسماع من أهله، أو بمعنى الإبصار، والمراد مشاهدة عجائب الصنع الدال على كمال العلم والقدرة. {كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} حال كونها {طِبَاقًا}؛ أي: متطابقًا، أي: بعضها فوق بعض ملتزقة الأطراف، كما سبق في سورة المُلك. ومعنى {طِبَاقًا}؛ أي: بعضها فوق بعض كلّ سماء مطبّقة على الأخرى كالقباب. قال الحسن: خلق الله سبع سموات على سبع أرضين، بين كلّ سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر، وقد تقدم تحقيق هذا في قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[16]

وانتصاب (¬1) {طِبَاقًا} على المصدرية، تقول: طابقه مطابقة وطباقًا أو على الحالية من سبع سموات لتخصّصه بالإضافة؛ أي: ذات طباق، فحذفت ذات وأقام طباقًا مقامه. وأجاز الفرّاء في غير القرآن جرّه على النعت. 16 - {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ}؛ أي: في السموات السبع. ونسبته (¬2) إلى الكل مع أنّه في السماء الدنيا؛ لأنّ كل واحدة من السموات شفّافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كانّه في الكل على أنه ذهب ابن عباس وابن عمرو ووهب بن منبه رضي الله عنهم إلى أن الشمس والقمر النجوم وجوهها مما يلي السماء وظهورها مما يلي الأرض، وهو الذي يقتضيه لفظ السراج؛ لأنّ ارتفاع نوره في طرف العلو، ولولا ذلك .. لأحرقت جميع ما في الأرض بشدّة حرارتها، فجعلها الله نورًا وسراجًا لأهل الأرض والسموات. فعلى هذا ينبغي أن يكون تقدير ما بعده وجعل الشمس فيهنّ سراجًا على أنّه حذف لدلالة الأول عليه. {نُورًا} أي: منوّرًا وجه الأرض في ظلمة الليل. {وَجَعَلَ الشَّمْسَ} هي في السماء الرابعة، وقيل: في الخامسة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: في الشتاء في الرابعة، وفي الصيف في السابعة. ولو أضاءت من الرابعة أو من السماء الدنيا لم يطق لها شيء، وهذا غريب جدًّا. {سِرَاجًا} من باب (¬3) التشبيه البليغ؛ أي: كالسراج والمصباح يزيل ظلمة الليل عند الفجر، ويبصر أهل الدنيا في ضوئها الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة إنما هو نور في الجملة. والمعنى (¬4): أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجًا ومنازل، وفاوت نوره فجعله يزداد حينًا حتى يتناهى ثم يبتدىء ينقص حتى يستتر ليدل ذلك على مضيّ المشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل. ونحو الآية قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[17]

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}. 17 - {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}؛ أي: إنباتًا عجيبًا، وأنشأكم منها إنشاء غريبًا بواسطة إنشاء أبيكم آدم منها، أو أنشأ الكل منها من حيث إنّه خلقهم من النطف المتولدة عن النبات المتولد من الأرض، استعير الإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض؛ لأنهم إذا كانوا نباتًا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات. ووضع (¬1) {نَبَاتًا} موضوع إنباتًا على أنه مصدر مؤكّد لأنبتكم بحذف الزوائد، ويسمّى اسم مصدر، دل عليه القرينة الآتية، وهي قوله: {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}. وقال بعضهم: {نَبَاتًا} حال لا مصدر، ونبّه بذلك على أن الإنسان من وجه نبات من حيث إنّ بدأه ونشأته من التراب، وأنه ينمو نموّه، ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات، وعروقهم المتشعبة في الجسم والتي يجري فيها الدم، وينتشر في الأطراف تشبه ما في الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه: الحلو المرّ والطيّب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات. فلكلّ امرىء خاصّة كما أنّ لكلّ نوع من النبات خاصّةً، وإن كان له وصف زائد على النبات. والنبات: ما يخرج من الأرض، سواء كان له ساق كالشجر، أو لم يكن له كالنجم، لكن اختص في التعارف بما لا ساق له، بل اختصّ عند العامّة بما يأكله الحيوان. 18 - {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي: في الأرض بالدفن عند موتكم. {وَيُخْرِجُكُمْ} منها عند البعث والحشر {إِخْرَاجًا} محقّقًا لا ريب، وذلك لمجازاة الأولياء ومحاسبة الأعداء، ولم يقل: ثم يخرجكم بل ذكر بالواو الجامعة إيَّاها مع {يُعِيدُكُمْ} رمزًا إلى أن الإخراج مع الإعادة في القبر كشيء واحد، لا يجوز أن يكون بعضها محقّق الوقوع دون بعض. والمعنى: أي ثم يعيدكم في الأرض كما كنتم ترابًا، ويخرجكم متى شاء أحياء كما كنتم بشرًا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[19]

19 - ثم أخذ يعدّد النعم التي أعدّها للإنسان في الأرض، وذكر أنّ الأرض مهيّأة مسخّرةً لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلّب عليه كما يشاء، ويظهر مواهبه لاستخراج ما في بطنها من المعادن المختلفة وخيراتها المتنوّعة، فقال: {وَاللَّهُ} كرّر الاسم الجليل للتعظيم والتيمّن به والتبرّك. {جَعَلَ لَكُمُ} أي: لمنافعكم {الْأَرْضَ} سبق بيانها في سورة الملك وغيرها. {بِسَاطًا}؛ أي: مبسوطة متسعة كالبساط والفراش، تتقلَّبون عليها تقلّبكم على بسطكم في بيوتكم. قال أبو حيان: ظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة. قال سعدي المفتي: وإنما هو في التقلب على ما فسروه انتهى. وقد مرّ مرارًا أن كروية الأرض لا تنافي الحرث والغرس ونحوهما لعظم دائرتها كما يظهر الفرق بين بيضة الحمامة وبيضة النعامة. 20 - {لِتَسْلُكُوا} من السلوك، وهو الدخول لا من السلك، وهو الإدخال. {مِنْهَا}؛ أي: من الأرض {سُبُلًا} جمع سبيل؛ أي: طرقًا {فِجَاجًا}؛ أي: واسعة. جمع فجّ، وهو الطريق الواسع، فجرد هنا لمعنى الواسع فجعل صفة لـ {سُبُلًا}. وقيل: هو المسلك بين الجبلين. و {مِنْ} متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ؛ أي: لتسلكوا متخذّين من الأرض سبلا، فتصرفوا فيها ذهابًا وإيابًا أو بمضمر هو حال من {سُبُلًا}؛ أي: سبلًا كائنة من الأرض، ولو تأخّر .. لكان صفة لها، ثم جعلها بساطًا للسلوك المذكور لا ينافي غيره من الوجوه كالنوم والاستراحة والحرث والغرس ونحوها، ثم السلوك إمّا جسماني بالحركة الأينية الموصلة إلى المقصد، وإما روحاني بالحركة الكيفية الموصلة إلى المقصود، ولكل منهما فوائد جليلة كطلب العلم والحج والتجارة وغيرها وكتحصيل المحبة والمعرفة والإنس ونحوها. والمعنى: أي والله بسط لكم الأرض، ومهدها، وثبتها بالجبال الراسيات، ثم بين حكمة هذا فقال: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا}؛ أي: لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة. وقصارى ما سلف: أن نوحًا عليه السلام أمر قومه بالنظر في علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار. 21 - {قَالَ نُوحٌ} أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه. فهو بدل من

[22]

{قَالَ} الأوّل، ولذا ترك العطف. وفي "فتح الرحمن": قاله هنا بلا واو، وقاله فيما بعد بواو, لأنَّ الأول استئناف والثاني معطوف عليه انتهى؛ أي: قال مناجيًا له تعالى: {رَبِّ}؛ أي: يا ربي ويا معبودي {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}؛ أي: داموا على عصياني ومخالفتي فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير. {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} أي: استمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم، وصارت تلك الأموال والأولاد سببًا لزيادة خسارتهم في الآخرة، فصاروا أسوة لهم في الخسار. وفي وصفهم بذلك إشعارٌ بأنهم إنما اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد، لما شاهدوا من شبهة مصححة للاتباع، كما قالت قريش: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، فجعلوا الغنى سببًا مصححًا للاتباع. ودل الكلام (¬1) على أن ازدياد المال والولد كثيرًا ما يكون سببًا للهلاك الروحانيّ، ويورث الضلال في الدين أوّلًا والإضلال عن اليقين ثانيًا. قال ابن الشيخ: المفهوم من نظم الآية أنّ أموالهم وأولادهم عين الخسار، وأن ازديادهما إنما ازدياد خسارهم، والأمر في الحقيقة كذلك، فإنهما وإن كانا من جملة المنافع المؤدّية إلى السعادة الأبدية بالشكر عليهما وصرفهما إلى وجوه الخير، إلا أنهما إذا أديا إلى البطر والاغترار وكفران حق المنعم بهما، وصارا وسيلتين إلى العذاب المؤبّد في الآخرة صارا كأنّهما محض الخسار؛ لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم، فمن انتفع بهما في الدنيا خسر سعادة الآخرة، وصار كمن أكل لقمةً مسمومةً من الحلوى، فهلك، فإنّ تلك اللقمة في حقه هلاك محض؛ إذ لا عبرة لانتفاعه بها في جنب ما أدّت إليه. 22 - {وَمَكَرُوا} عطف على صلة {مَنْ}؛ لأنّ المكر الكبار يليق بكبرائهم، والجمع باعتبار معناها. {مَكْرًا كُبَّارًا}؛ أي: مكرًا كبيرًا عظيمًا في الغاية. والمكر: الحيلة الخفيّة. وقرىء {كُبَّارًا} بالتخفيف كما سيأتي، وهو أبلغ من الكبير نحو: طوّال وطوال وطويل. ومعنى مكرهم الكبار: احتيالهم في منع الناس عن الدين وتحريشهم لهم على أذيّة نوح عليه السلام. قال الشيخ: لمّا كان التوحيد أعظم المراتب كان ¬

_ (¬1) روح البيان.

[23]

المنع منه: والأمر بالشرك أعظم الكبائر، فلذا وصفه الله تعالى بكونه مكرًا كبّارًا. وقرأ ابن الزبير (¬1) والحسن، والنخعيّ، والأعرج، ومجاهد، والأخوان الكسائي وحمزة، وابن كثير، وأبو عمرو، ونافع في رواية خارجة {وولده} بضمّ الواو وسكون اللام. وقرأ السلميّ والحسن أيضًا، وأبو رجاء، وابن وثّاب، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وعاصم، وابن عامر بفتحهما، وهما لغتان كبخل وبخل. وقرأ الحسن أيضًا، والجحدري، وقتادة، وزرّ، وطلحة وابن أبي إسحاق، وأبو عمرو في رواية بكسر الواو وسكون اللام. وقال أبو حاتم: يمكن أن يكون الولد بالضمّ جمع الولد كخشب وخشب، وقد قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه: يَا بَكْرَ آمَنِةً الْمُبَارَكِ بِكْرُهَا ... مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بِسَعْدِ الأسْعَدِ وقرأ الجمهور (¬2): {كُبَّارً} بتشديد الباء، وهو بناء فيه مبالغة كثيرة. قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانيّة، ويقال: حسان وطوال وجمال. وقرأ عيسى، وابن محيصن، وأبو السمال بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة. وقرأ زيد بن عليّ وابن محيصن فيما روى عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح {كِبَارا} بكسر الكاف وفتح الباء. وقال ابن الأنباري: هو جمع كبير كأنه جعل مكرًا مكان ذنوب أو أفاعيل انتهى. يعني: فلذلك وصفه بالجمع. والمعنى: أي قال نوح: ربّ إنهم عصوني فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم واغتروا بأولادهم. فكان ذلك زيادة في خسرانهم وخروجًا عن محجة الصواب وبعدًا من رحمة الله تعالى، ومكروا مكرًا كبيرًا، فاحتالوا في الدين، وصدوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام. 23 - {وَقَالُوا} أي: الرؤساء للأتباع والسفلة: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}؛ أي: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا رب نوح عليه السلام. ومن عطف {مَكَرُوا} على {اتَّبَعُوا} يقول: معنى {وَقَالُوا}: وقال بعضهم لبعض، فالقائل ليس هو الجمع. وآلهتهم هي الأصنام والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

ثم فصل تلك الآلهة بقوله: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} جرَّد (¬1) الأخيرين عن حرف النفي؛ إذ بلغ التأكيد نهايته، وعلم أن القصد إلى كل فرد فرد لا إلى المجموع من حيث هو مجموع، والمعنى: ولا تذرن عبادة هؤلاء خصوصًا، فهو من عطف الخاص على العام خصوصًا بالذكر مع اندراجها فيما سبق؛ لأنّها كانت أكبر أصنامهم وأعظم ما عندهم. قال محمد بن كعب (¬2): هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم .. كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا. ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس: إنّ الذين من قبكلم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء؛ لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين. وقد انتقلت (¬3) هذه الأصنام بأعيانها عنهم إلى العرب، فكان ود لكلب بدومة الجندل بضم قال دومة، ولذلك سمت العرب بعبد ودٍّ. قال الراغب: الود: صنم سمي بذلك إما لمودتهم له أو لاعتقادهم أن بينه وبين البارىء تعالى مودّة، تعالى الله عن ذلك. وكان سواع لهمدان بسكون الميم قبيلة باليمن، ويغوث لمذ حجٍ كمجلس بالذال المعجمة، وآخره جيم، ومنه: كانت العرب تسمى عبد يوث. ويعوق لمراد، وهو كغراب أبو قبيلة، سمّي به لأنّه تمرّد. ونسر لحمير بكسر الحاء وسكون الميم بوزن درهم، موضع غربيّ صنعاء اليمن. وقيل: انتقلت أسماؤها إليهم فاتخذوا أمثالها، فعبدوها إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام، كيف وقد خربت الدنيا في زمان الطوفان، ولم يضعها نوح في السفينة؛ لأنّه بعث لنفيها. وجوابه: أنّ الطوفان دفنها في ساحل جدة فلم تزل مدفونة حتى أخرجها اللعين لمشركي العرب. نظيره: ما روي أنَّ آدم عليه السلام كتب اللغات المختلفة في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق بقي مدفونًا، ثم وجد كل قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي. وقيل: هي أسماء قوم رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح. وقيل: من أولاد آدم، ماتوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

فحزن الناس عليهم حزنًا شديدًا، واجتمعوا حول قبورهم لا يكادون يفارقونها، وذلك بأرض بابل، فلما رأى إبليس فعلهم ذلك جاء إليهم في صورة إنسان، وقال لهم: هل لكم أن أصور لكم صورهم إذا نظرتم إليها ذكرتموهم واستأنستم وتبركتم بهم؛ قالوا: نعم. فصور لهم صورهم من صفر ونحاس ورصاص وخشب وحجر، وسمى تلك الصور بأسمائهم. ثم لما تقادم الزمن وانقرضت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم: إن من قبلكم كانوا يعبدون هذه الصور، فعبدوها في زمان مهلاييل بن فينان، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية. وذلك إمّا بإخراج الشيطان اللعين تلك الصور كما سبق أو بأنه كان لعمرو بن لحي، وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة فقال له تابع من الجن: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود إلخ. فذهب وأتى بها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأوثان في العرب. وعاش عمرو بن لحي ثلاث مئة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولد ولده ألف مقاتل، ومكث هو وولده في ولاية البيت خمس مئة سنة، ثم انتقلت الولاية إلى قريش، فمكثوا فيها خمس مئة أخرى، فكان البيت بيت الأصنام ألف سنة. وفي "التكملة": روى تقيُّ بن مخلد: أن هذه الأسماء المذكورة في هذه السورة كانوا أبناء آدم عليه السلام من صلبه، وأن يغوث كان أكبرهم، وهي أسماء سريانية. ثم رفعت تلك الأسماء إلى أهل الهند، فسموا بها أصنامهم التي زعموا أنها على صور الدراري السبعة، وكانت الجن تكلمهم من جوفها، فاقتدوا بها. ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، فمن قبله سرت إلى أرض العرب. وقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر، وهو طائر عظيم؛ لأنّه ينسر الشيء ويقتلعه. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم (¬1): {ودّا} بضمّ الواو، والحسن والأعمش وطلحة، وباقي السبعة بفتحها. وقرأ الجمهور {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} بغير تنوين، فإن كانا عربيّين فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميّين ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[24]

فللعجمة والعلمية. وقرأ الأشهبـ {ولا يغوثا ويعوقا} بتنوينهما. قال "صاحب اللوامح": جعلهما فعولًا فلذلك صرفهما، وكذلك الأعمش صرفهما. وقال ابن عطية: وذلك وهم، والأولى حمله على التناسب؛ أي: صرفا لمناسبة ما قبلهما وما بعدهما، كما قالوا في صرف سلاسلًا وأغلالًا وقوارير كما سيأتي. وأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت هذه الأوثان في العرب بعد. فكان: ود لكلب. وسواع لهذيل، ويغوث لغطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع. وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين (¬1): اللات لثقيف بالطائف، العزّى لسليم وغطفان وجشم، ومناة لخزاعة بقديد، وإساف لأهل مكة، ونائلة لهم أيضًا، وهبل لهم أيضًا، وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم، ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة. وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء، وسموا بها أصنامهم. 24 - وجملة قوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا} حال (¬2) من فاعل {قالوا}؛ أي: قال الرؤساء للأتباع: لا تذرون آلهتكم، والحال أنهم قد أضلوا {كَثِيرًا} من الناس بدعوتهم إلى الشرك. وقيل: الضمير راجع إلى الأصنام؛ أي: قد أضل الأصنام كثيرًا من الناس؛ أي: ضل بسببها كثير من الناس، نظير قول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، وأجرى عليها ضمير جمع العقلاء لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل. وقوله: {وَلَا تَزِدِ} يا ربّ {الظَّالِمِينَ} بالإشراك؛ لأن الشرك ظلم عظيم، فأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهل شيء أسوأ من وضع أخس المخلوق وعبادته موضع الخالق وعبادته؛ ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالظلم. {إِلَّا ضَلَالًا} وبعدًا وطردًا من رحمتك، معطوف على {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}؛ أي: قال ربّ إنهم عصوني، وقال: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}. ومعنى {إِلَّا ضَلَالًا} أي: عذابًا، وقيل: إلا خسرانًا، وقيل: إلا فتنة بالمال والولد، وقيل: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[25]

إلا ضياعًا وهلاكًا في تمشية مكرهم وترويجه مصالح دنياهم لا في أمر دينهم حتى لا يتوجه أنه إنما بعث ليصرفهم عن الضلال، فكيف يليق به أن يدعو الله عليهم في أن يزيد ضلالهم؛ وأنّ هذا الدعاء يتضمن الرضا بكفرهم، وذلك لا يجوز في حقّ الأنبياء، وإن كان يمكن أن يجاب بأنه بعدما أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأنّ المحذور هو الرضا المقرون باستحسان الكفر. ونظيره: دعاء موسى عليه السلام بقوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. قالوا: دعا نوح الأبناء بعد الآباء حتى بلغوا سبعة قرون، فلمّا أيس من إيمانهم دعا عليهم. فيكون المعنى: ولا تزد الظالمين إلا ضلالًا وغيًّا ليزدادوا عقابًا. والمعنى: أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالًا وطبعًا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حقّ، ولا يصلوا إلى رشد. وقصارى ما قاله عليه السلام: أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء في قوله: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}. 25 - {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}؛ أي: (¬1) من أجل خطيئات قوم نوح وأعمالهم المخالفة للصواب، وهي الكفر والمعاصي. و {ما} مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}، فإنه يدل على أنَّ إغراقهم بالطوفان لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم تكذيبًا لقول المنجمين من أن ذلك كان لاقتضاء الأوضاع الفلكية إياه، ونحو ذلك. فإنه كفر لكونه مخالفًا لصريح هذه الآية. ولزيادة {ما} الإبهامية فائدة غير التأكيد، وهي تفخيم خطيئاتهم؛ أي: من أجل خطيئاتهم العظيمة، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة، وجعل {خَطِيئَاتِهِمْ} بدلًا منها. والخطيئات: جمع خطيئة. وقرأ أبو عمرو {خطاياهم} بلفظ الكثرة, لأنّ المقام مقام تكثير خطيئاتهم؛ لأنهم كفروا ألف سنة. والخطيئات لكونه جمع السلامة لا يطلق على ما فوق العشرة إلا بالقرينة. والظاهر من كلام الرضيّ: أن كلا من جمع السلامة والتكسير لمطلق الجمع من غير نظر إلى القلة والكثرة فيصلحان لهما, ولذا قيل: إنهما مشتركان بينهما، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}. أي: من أجل خطيئاتهم وأعمالهم الخبيثة لا لما يقوله المنجمون من اقتضاء ¬

_ (¬1) روح البيان.

الأوضاع الفلكية كثرة الماء {أُغْرِقُوا} في الدنيا بالطوفان {فَادْخُلُوا} عقب ذلك {نَارًا} عظيمة هائلة. وفي هذا زجر لمرتكب الخطايا مطلقًا. وعبّر عن المستقبل بالماضي لتحقّقه. والمراد (¬1) إما عذاب القبر، فهو عقب الإغراق وإن كانوا في الماء، فإن من مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: أنهم كانوا يغرقون من جانب؛ أي: بالأبدان، ويحرقون من جانب؛ أي: بالأرواح. فجمعوا بين الماء والنار، كما قال الشاعر: الخَلْقُ مُجتَمِعٌ طَوْرًا ومُفَتَرِقٌ ... والْحَادِثَاتُ فُنُونٌ ذَاتُ أَطْوَارِ لا تَعْجبَنَّ لأضْدَادٍ إذَا اجْتَمَعَتْ ... فالله يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ أو عذاب جهنم والتعقيب لتنزيله منزلة المتعقب لإغراقهم لاقترابه وتحقّقه لا محالة واتصال زمانه كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات فقد قامت قيامته". على أنَّ النار إما نصف نار، وهي للأرواح في البرزخ، وإما تمام نار وهي للأرواح والأجسام جميعًا بعد الحشر. وقس على الجحيم النعيم. {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ}؛ أي: لأنفسهم {مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}؛ أي: لم يجد أحد منهم لنفسه واحدًا من الأنصار ينصرهم على من أخذهم بالقهر والانتقام. وفيه (¬2) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وبأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكّم بهم. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال متقدّمة من قوله: {نَارًا}، والجملة الاستئنافية أعني قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} إلى هنا من كلام الله سبحانه إشعارًا بإجابة دعوة نوح، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخويفًا للعاصي من العذاب وأسبابه. والمعنى: أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذّبهم في قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارًا ولا أعوانًا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضل سعيهم وخاب فألهم. وقرأ الجمهور (¬3): {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} جمعًا بالألف والتاء مهموزًا، وأبو رجاء كذلك، إلّا أنه أبدل الهمزة ياءً وأدغم فيها ياء المد. والجحدري وعبيد عن أبي عمرو على الإفراد مهموزًا، والحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم، وأبو عمرو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[26]

{خطاياهم}. جمع تكسير. وقرأ عبد الله {من خطيئاتهم ما أغرقوا} بزيادة ما بين {أُغْرِقُوا} و {خَطِيئَاتِهِمْ}. وقرأ الجمهور {أُغْرِقُوا} بالهمزة، وزيد بن عليّ {غُرِّقُوا} بالتشديد، وكلاهما للنقل. 26 - {وَقَالَ نُوحٌ} عليه السلام بعدما قنط من اهتدائهم قنوطًا تامًا بالأمارات الغالبة وبأخبار الله تعالى: {رَبِّ} أي: يا مالكي {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} أي لا تترك على الأرض {مِنَ الْكَافِرِينَ} لك وبما جاء من عندك. حال متقدمة من قوله: {دَيَّارًا} أي: أحدًا يدور في الأرض، فيذهب ويجيء. أي: فأهلكهم بالاستئصال. والجملة معطوفة على جملة قوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}، وقوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} اعتراض، وسّط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أوّل الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطيئاتهم التي عددها نوح. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن أنس وابن زيد وعطية (¬1): إنّما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنةً، وقيل: بأربعين سنةً. قال قتادة: لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم .. كان عذابًا من الله لهم وعدلًا فيهم، ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب. و {دَيَّارًا} من الأسماء المستعملة (¬2) في النفي العامّ، وهو فيعال من الدوران فمعناه على هذا: لا تترك أحدًا يدور في الأرض فيذهب ويجيء، أو من الدار فمعناه عليه: لا تذر أحدًا ممن ينزل الدار ويسكنها، وأنكر بعضهم كونه من الدوران، وقال: لو كان من الدوران .. لم يبق على وجه الأرض جني ولا شيطان، وليس المعنى على ذلك، وإنما المعنى: أهلك كل ساكن دار من الكفّار، أي: كل إنسي منهم. يقول الفقير: جوابه سهل فإن المراد كل من يدور على الأرض من أمة الدعوة، وليس الجن والشيطان منها؛ إذ لم يكن نوح مبعوثًا إلى الثقلين. وليس {دَيَّارًا} فعالًا من الدار وإلا قيل: دوّار, لأن أصل دار دور، فقلبت واوه ألفًا فلما ضعفت عينه كان دوارًا بالواو الصحيحة المشدّدة؛ إذ لا وجه لقلبها ألفًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[27]

والمعنى: أي وقال نوح: ربّ لا تدع على وجه الأرض منهم أحدًا إلا أهلكته. 27 - ثم بين علة هذا الدعاء بشيئين: 1 - {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ}؛ أي: إن تتركهم على الأرض كلَّا أو بعضًا ولم تهلكهم {يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الذين آمنوا بك عن طريق الحقّ. روي: أنّه كان الرجل منهم ينطلق بابنه إلى نوح، فيقول له: احذر هذا، فإنّه كذّاب وإنّ أبي حذّر بنيه وأوصاني بمثل هذه الوصيّة، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك. وهذا بيان لوجه دعائه عليهم إظهار بأنه كان من الغيرة في الدين، لا لغلبة غضب النفس لهواها. 2 - {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا} يترك طاعتك {كَفَّارًا}؛ أي: كثير الكفران لنعمتك. والمعنى: إلا من سيفجر ويكفر، فالوخه ارتفاعهم عن وجه الأرض، والعلم لك. فوصفهم بما يصيرون إليه بعد البلوغ، فهو من مجاز الأول، وكأنه اعتفارٌ مما عسى يرد عليه من أنّ الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن منكر، وإنما قاله بالوحي لقوله تعالى في سورة هود: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} قال بعضهم: لا يلد الحيّة إلا الحيّة، وذلك في الأغلب. ومن هناك قيل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه، ونحوه: الولد سرّ أبيه. قال بعضهم في توجيهه: إن الولد إذا كبر إنما يتعلم من أوصاف أبيه، أو يسرق من طباعه بل قد يصحب المرء رجلًا، فيسرق من طباعه الخير والشرّ. واعلم: أنه لا يجوز أن يدعى على كافر معيّن؛ لأنَّا لا نعلم خاتمته. ويجوز على الكفار والفجار مطلقًا، وقد دعا عليه السلام على من تحزب على المؤمنين. وهذا هو الأصل في الدعاء على الكافرين. 28 - ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه، ووالديه والمؤمنين، فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} ذنوبي، وهي ما صدر منه من ترك الأولى. {وَلِوَالِدَيَّ} ذنوبهما، وكانا (¬1) مسلمين على ملّة إدريس عليه السلام، وأبوه: لامك بن متوشلخ بصيغ اسم ¬

_ (¬1) روح البيان.

الفاعل على وزن متدحرج أو هو بضم الميم، والتاء المشدّدة المضمومة وفتح الشين المعجمة وسكون اللام، وروى بعضهم الفتح في الميم. وأمّه سمحاء بنت أنوش. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكفر لنوح أب ما بينه وبين آدم. وفي "إشراق التواريخ" أمه قسوس. بنت كابيل، وفي "كشف الأسرار": هيجل بنت لاموس بن متوشلخ بنت عمّه. وقيل: المراد بوالديه آدم وحوّاء عليهما السلام، وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجدّه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَلِوَالِدَيَّ} بالتثنية. وقرأ سعيد بن جبير، والجحدري {ولوالدي} بكسر الدال وتخفيف الياء بالإفراد، فإما أن يكون خصّ أباه الأقرب، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام. وقرأ الحسين بن علي ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن علي {ولولديّ} تثنية ولد. يعني: سامًا وحامًا. {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ}؛ أي: منزلي، وقيل: مسجدي، فإنّه بيت أهل الله، وإن كان بيت الله من وجه. وقيل: سفينتي، فإنها كالبيت في حرز الحوائج وحفظ النفوس عن الحرّ والبرد وغيرهما. وقيل: لمن دخل في ديني. وقوله: {مُؤْمِنًا} حال من فاعل {دَخَلَ}؛ أي: حال كون الداخل مؤمنًا. أي: متصفًا بصفة الإيمان بالله سبحانه. وبهذا القيد جرجت امرأته واعلة وابنه كنعان، ولكن لمْ يجزم عليه السلام بخروجه إلا بعد. ما قيل له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. ثم عمم الدعوة فقال: {وَلِل} مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: ولكلّ متصفا بالإيمان بي، أو من لدن آدم إلى يوم القيامة من الذكور والإناث. ثمّ عاد إلى الدعاء على الكافرين فقال: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: المتصفين بالظلم {إِلَّا تَبَارًا}؛ أي: إلَّا هلاكًا وخسرانًا ودمارًا، وقد شمل دعاؤه هذا كلّ ظالم إلى يوم القيامة كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. قال في الأول (¬2): {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} لأنه وقع بعد قوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}، وفي المثاني: {إِلَّا تَبَارًا} لأنه وقع بعد قوله: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} إلخ. فذكر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

في كل مكان ما اقتضاه وما شاكل معناه. والظاهر: أنه عليه السلام أراد بالكافرين والظالمين الذين كانوا موجودين في زمانه متمكّنين في الأرض ما بين المشرق والمغرب، فمسؤوله أن يهلكهم الله، فاسْتُجيب دعاؤه، فعمّهم الطوفان بالغرق. وما نقل عن بعض المنجمين من أنه أراد جزيرة العرب، فوقع الطوفان عليهم دون غيرهم من الآفاق مخالف لظاهر الكلام وتفسير العلماء، وقول أصحاب التواريخ بأن الناس بعد الطوفان توالدوا وتناسلوا وانتشروا في الأطراف مغاربها ومشارقها من أهل السفينة. ودل الكلام هنا على أنّ الظالم إذا ظهر ظلمه وأصر عليه ولم ينفعه النصح استحق أن يُدعى عليه وعلى أعوانه وأنصاره. قيل: غرق معهم صبيانهم أيضًا، لكن لا على وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آبائهم وأمّهاتهم بإراءة إهلاك أطفالهم الذين كانوا أعزَّ عليهم من أنفسهم. قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتّى". ومعنى الآية: أي ربّ استر عليّ ذنوبي وعلى والديّ وعلى من دخل مسجدي ومصلّاي مصدقًا بنبوّتي، وبما فرضته عليّ وعلى المصدّقين بوحدانيتك والمصدّقات بذلك من كلّ أمة إلى يوم القيامة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بك إلَّا خسرانًا وبعدًا من رحمتك. الإعراب {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَا} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة. {نُوحًا} مفعول به {إِلَى قَوْمِهِ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {أَنّ} حرف نصب ومصدر، {أَنْذِرْ} فعل أمر في محل النصب بـ {أَنْ} المصدرية مبنيّ على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى نوح، {قَوْمَكَ} مفعول به، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: إنّا أرسلنا نوحًا إلى قومه بإنذار قومه. والجار والمجرور متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، ويجوز أن تكون أن مفسّىرة كما مرّ؛ لأنّ الإرسال في معنى القول؛ أي: قلنا له: أنذر قومك. {مِنْ قَبْلِ} جار ومجرور

متعلق بـ {أَنْذِرْ}، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يَأْتِيَهُمُ} فعل مضارع ومفعول به منصوب بـ {أن}، {عَذَابٌ} فاعل، {أَليِمٌ} صفة {عَذَابٌ} والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل إتيان عذاب أليم إياهم. {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {يَا قَوْمِ} منادى مضاف، والجملة في محل النصب مقول قال، {إِنِّي} ناصب واسمه، {لَكُمْ} متعلق بـ {نَذِيرٌ}، و {نَذِيرٌ} خبر {إنّ}، {مُبِينٌ} صفة نذير، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء. {أَنّ} مصدرية {اعْبُدُوا اللَّهَ} فعل أمر مبني على حذف النون، {والواو}: فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، الجار والمجرور متعلق بـ {نَذِيرٌ}؛ أي: إنّي لكم نذير بعبادة الله. ويجوز أن تكون مفسرةً لأنّ الإنذار في معنى القول؛ أي: بـ {أن} أقول لكم: أعبدوا الله. {وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} معطوفان على {اعْبُدُوا}، وحذفت ياء المتكلم من {أطيعون} لمناسبة رؤوس الآي، والأصل: أطيعوني. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}. {يَغْفِرْ} فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق, وفاعله ضمير يعود على {اللهِ} والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {لَكُمْ} متعلق بـ {يَغْفِرْ}، {من} اسم بمعنى بعض، في محل النصب مفعول به، و {ذُنُوبِكُمْ} مضاف إليه؛ أي: بعض ذنوبكم. أو {من} زائدة على رأي الأخفش المجيز زيادتها في الإثبات وغيره، وأمّا البصريّون ومعظم الكوفيّين يشترطون لزيادتها أن يسبقها نفي أو نهي، أو استفهام، وأن تدخل على النكرة. {وَيُؤَخِّرْكُمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يَغْفِرْ}. {إِلَى أَجَلٍ} متعلق بـ {يؤخر}، {مُسَمًّى} صفة أجل، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} ناصب واسمه ومضاف إليه، {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط، متعلق بالجواب الآتي، وجملة {جَاءَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذَا} على كونه فعل شرط لها، وجملة {لَا يُؤَخَّرُ} من الفعل المغيّر ونائبه جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}؛ أي: إن أجل الله غير مؤخّر وقت مجيئه، وجملة {إِنَّ} في محل النصب مقول قال على كونها معللة لما قبلها. {لَوْ} حرف شرط، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْلَمُونَ}

خبره وجملة {كان} فعل شرط لـ {لَوْ}، وجوابها محذوف تقديره: لو كنتم تعلمون ذلك .. لآمنتم. وجملة {لَوْ} في محل النصب، مقول قال. {قَالَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. {رَبِّ} منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، حذف منه حرف النداء وجملة النداء في محل النصب مقول قال، {إِنِّي} ناصب واسمه، {دَعَوْتُ قَوْمِي} فعل وفاعل ومفعول به، {لَيْلًا وَنَهَارًا} ظرفان متعلقان بـ {دَعَوْتُ}، وجملة {دَعَوْتُ} في محل الرفع خبر إنّ، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالَ}. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ} {الفاء}: عاطفة، {لم} حرف جزم، {يَزِدْهُمْ} فعل ومفعول به، مجزوم بـ {لم}، {دُعَائِي} فاعل، {إِلَّا} أداة حصر، {فِرَارًا} مفعول به ثان، والجملة الفعليّة في محل الرفع معطوفة على جملة {دَعَوْتُ}. {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)}. {وَإِنِّي} {الواو}: عاطفة، {وَإِنِّي} ناصب واسمه، {كُلَّمَا} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانيّة مبنيّ على السكون، والظرف متعلّق بالجواب الآتي، {دَعَوْتُهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ {كُلَّمَا} لا محل لها من الإعراب. {لِتَغفِرَ} اللام حرف جرّ وتعليل، {تغفر} فعل مضارع، منصوب بأن مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لغفرانك لهم، الجار والمجرور متعلّق بـ {دَعَوْتُهُمْ}، {لَهُمْ} متعلّق بـ {تغفر}، {جَعَلُوا} فعل وفاعل، {أَصَابِعَهُمْ} مفعول أوّل لـ {جَعَلُوا}، {فِي آذَانِهِمْ} في موضع المفعول الثاني، وجملة {جَعَلُوا} جواب كلّما، وجملة {كُلَّمَا} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إِنِّي} في محل النصب معطوفة على جملة قوله: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي}. {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {جَعَلُوا}، {وَأَصَرُّوا} فعل وفاعل معطوف على {جَعَلُوا}، {وَاسْتَكْبَرُوا} معطوف عليه أيضًا، {اسْتِكْبَارًا} مفعول مطلق، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع التراخي، {إِنِّي} ناصب واسمه، {دَعَوْتُهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، وجملة {دَعَوْتُهُمْ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} معطوفة على جملة

{إنّ} في قوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ}. {جِهَارًا} مفعول مطلق على أنّه مصدر من المعنى؛ لأنّ الدعاء يكون جهارًا وغيره، فهو من باب رجع القهقرى. ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال؛ أي: مجاهرًا أو ذا جهار، وجعل نفس المصدر مبالغة، {ثُمَّ} حرف عطف، {إِنِّي} ناصب واسمه، وجملة {أَعْلَنْتُ} خبرهُ، وجملة {إنّ} معطوفة على ما قبلها {لَهُمْ} متعلق بـ {أَعْلنَتُ}، {وَأَسْرَرْتُ} فعل وفاعل، معطوف على {أَعْلنَتُ}، {لَهُمْ} متعلّق بـ {أَسْرَرْتُ}، {إِسْرَارًا} مفعول مطلق. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}. {فَقُلْتُ} {الفاء}: عاطفة، {قلت} معطوف على {أَعْلنَتُ}، {اسْتَغْفِرُوا} فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، {والواو}: فاعل، {رَبَّكُمْ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قلت}، {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {كَانَ غَفَّارًا} في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إنّ} في محل النصب على كونها معلّلة للأمر بالاستغفار، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق أعني: {اسْتَغْفِرُوا}، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {يُرْسِلِ}، {مِدْرَارًا} حال من {السَّمَاءَ}، {وَيُمْدِدْكُمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {يُرْسِلِ}، {بِأَمْوَالٍ} متعلق بـ {يُمْدِدْكُمْ}، {وَبَنِينَ} معطوف على {بِأَمْوَالٍ}، {وَيَجْعَلْ} معطوف على {يُرْسِلِ} أيضًا، {لَكُمْ} في موضع المفعول الثاني لـ {جَعَلَ}، {جَنَّاتٍ} مفعول به أوّل، {وَيَجْعَلْ} معطوف على يرسل، {لَكُمْ} في موضع المفعول الثاني {أَنْهَارًا} مفعول به أوّل. {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)}. {مَا} اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع مبتدأ، {لَكُمْ} خبر لـ {مَا} الاستفهامية، والجملة في محل النصب مقول قلت، {لَا} نافية، {تَرْجُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {الكاف} في {لَكُمْ}، {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {وَقَارًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، {وَقَارًا} مفعول به لـ {تَرْجُونَ}، {وَقَدْ} {الواو}: حالية، {قد} حرف

تحقيق، {خَلَقَكُمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَرْجُون}، {أَطْوَارًا} حال من الكاف في {خَلَقَكُمْ}، ولكنها في تأويل مشتقّ تقديره: حال كونكم متنقلين من حال إلى حال. {أَلَمْ تَرَوْا} الهمزة للاستفهام التقريري، {لم} حرف جزم، {تَرَوْا} فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، {والواو}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول {قلت}، والرؤية علمية؛ أي: لم تعتبروا، ولم تتفكّروا، {كَيْفَ} اسم استفهام للاستفهام التعجّبيّ في محل النصب على الحال من {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، والعامل فيها {خَلَقَ}، و {خَلَقَ اللَّهُ} فعل وفاعل، {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مفعول به، {طِبَاقًا} نعت لـ {سَبْعَ}، وجملة خلق في محل النصب، سدّت مسدّ مفعولي {تَرَوْا} المعلّقة عن العمل بالاستفهام. {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}. {وَجَعَلَ الْقَمَرَ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به أوّل، معطوف على {خَلَقَ}، {فِيهِنَّ} حال من {نُورًا}، و {نُورًا} مفعول به ثان لـ {جعل}، {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} فعل وفاعل مستتر ومفعولان، معطوف على {خَلَقَ}، {وَاللَّهُ} مبتدأ، وجملة {أَنْبَتَكُمْ} خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على قوله: {أَلَمْ تَرَوْا}، على كونها مقول {قلت}، {أَنْبَتَكُمْ} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، {مِنَ الْأَرْضِ} متعلق بـ {أَنْبَتَكُمْ}. {نَبَاتًا} مفعول مطلق، {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، {يُعِيدُكُمْ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {أَنْبَتَكُمْ}، {فِيهَا} متعلق بـ {يُعِيدُكُمْ}، {وَيُخرِجُكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يُعِيدُكُمْ}، {إِخْرَاجًا} مفعول مطلق. {وَاللَّهُ} مبتدأ، وجملة {جَعَلَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ}. {جَعَلَ} فعل ماض وفاعل مستتر، {لَكُمْ} حال من {بِسَاطًا}، {الْأَرْضَ} مفعول أوّل، {بِسَاطًا} مفعول ثان لـ {جَعَلَ}، {لِتَسْلُكُوا} اللام حرف جرّ وتعليل {تَسْلُكُوا} فعل مضارع، منصوب بـ (أن) مضمرة بعد لام كي، والواو: فاعل، {مِنْهَا} حال من {سُبُلًا}؛ أي: كائنة من الأرض، ولو تأخّر .. لكان صفة لها، {سُبُلًا} مفعول به، {فِجَاجًا} نعت لـ {سُبُلًا}، وجملة {تَسْلُكُوا} مع {أن} المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لسلوككم سبلًا

فجاجًا منها، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلَ}. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}. {قَالَ نُوحٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو بدل من {قَالَ} الأول. {رَبِّ} منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {عَصَوْنِي} فعل وفاعل ومفعول به، ونون وقاية، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مقول {قَالَ}. {وَاتَّبَعُوا} فعل وفاعل، معطوف على {عَصَوْنِي}، {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به، {لَمْ} حرف جزم، {يَزِدْهُ} فعل ومفعول به مجزوم بـ {لَمْ}، {مَالُهُ} فاعل، {وَوَلَدُهُ} معطوف على {مَالُهُ}، والجملة صلة {مَن} الموصولة، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {خَسَارًا} مفعول ثان لـ {يَزِدْهُ}، {وَمَكَرُوا} فعل وفاعل، معطوف على {عَصَوْنِي}، {مَكْرًا} مفعول مطلق {كُبَّارًا} نعت لـ {مَكْرًا}، {وَقَالُوا} فعل وفاعل، معطوف على {عَصَوْنِي}، {لَا} ناهية جازمة، {تَذَرُنَّ} فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون المشدّدة نون التوكيد. {آلِهَتَكُمْ} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول {وَقَالُوا}، {وَلَا تَذَرُنَّ} معطوف على {وَلَا تَذَرُنَّ} الأولى، {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} {وَدًّا} وما عطف عليه مفعول {تَذَرُنَّ}، {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} ممنوعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيّين، وللعلمية والعجمة إن كانا عجميّين. وقرىء {ولا يغوثا ويعوقا} مصروفين لأمرين: أحدهما: أنّ صرفهما للتناسب، إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف، الثاني أنّه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقًا، وهي لغة حكاها الكسائيّ. {وَنَسْرًا} معطوف على {وَدًّا} أيضًا. {وَقَدْ أَضَلُّوا} فعل وفاعل، معطوف على قوله: {عَصَوْنِي}، على كونه خبر {إِنَّهُمْ} أو حال من فاعل {عَصَوْنِي}، أو مقول لقول محذوف، معطوف على {قَالَ} الأول؛ أي: {قَالَ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} وقال {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}. {كَثِيرًا} مفعول به لـ {أَضَلُّوا}، {وَلَا} الواو عاطفة، {لا} دعائية سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، {تَزِدِ الظَّالِمِينَ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بـ {لَا} الدعائية، والجملة في محل النصب،

معطوفة على جملة قوله: {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} على كونها مقول {قَالَ}، {إِلَّا} أداة حصر، {ضَلَالًا} مفعول ثان لـ {تَزِدِ}. {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}. {مِمَّا} {مِنْ} حرف جرّ، {ما} زائدة، {خَطِيئَاتِهِمْ} مجرور بـ {مِنْ} التعليلية، والجار والمجرور متعلّق بـ {أُغْرِقُوا}، و {أُغْرِقُوا} فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة مستأنفة من كلام الربّ سبحانه. {فَأُدْخِلُوا} فعل ونائب فاعل معطوف على {أُغْرِقُوا}، {نَارًا} مفعول به ثان على السعة، {فَلَم} {الفاء} عاطفة، {لم} حرف جزم، {يَجِدُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لم}، والجملة معطوفة على جملة {أدخلوا}، {لَهُمْ} في موضع المفعول الثاني لـ {يَجِدُوا}، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من أنصارا، و {أَنْصَارًا} مفعول أوّل لـ {يَجِدُوا}، {وَقَالَ نوُحٌ} فعل وفاعل، معطوف على {قَالَ} الأول، {رَبِّ} منادى مضاف، {لَا} دعائية جازمة، {تَذَرْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لَا} الدعائية، والجملة في محل النصب مقول قال، {عَلَى الْأَرْضِ} متعلّق بـ {تَذَرْ}، {مِنَ الْكَافِرِينَ} حال من {دَيَّارًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، {دَيَّارًا} مفعول به لـ {تَذَرْ}، {إِنَّكَ} ناصب واسمه، {إِن} حرف شرط جازم، {تَذَرْهُمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {يُضِلُّوا} فعل وفاعل، مجزوم بـ {إِن} الشرطية على كونه جوابًا لها، {عِبَادَكَ} مفعول به، وجملة {إِنّ} الشرطية من فِعْلِ شرطها وجوابها في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها معلّلة للنهي المذكور قبلها. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، و {لا} نافية، {يَلِدُوا} فعل وفاعل معطوف على {يُضِلُّوا} على كونه جواب الشرط، {إِلَّا} أداة حصر، {فَاجِرًا} مفعول {يَلِدُوا}، {كَفَّارًا} نعت {فَاجِرًا}. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}. {رَبِّ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب

مقول {قَالَ}، {اغْفِرْ} فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على اللهَ، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ} على كونها جواب النداء، {لِي} متعلق بـ {اغْفِرْ}، {وَلِوَالِدَيَّ} معطوف على {لِي}، {وَلِمَن} معطوف أيضًا على {لِي}، وجملة {دَخَلَ بَيْتِيَ} صلة {مَنْ} الموصولة، {دَخَلَ} فعل وفاعل مستتر، {بَيْتِيَ} مفعول به على السعة، {مُؤْمِنًا} حال من فاعل {دَخَلَ}، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} معطوفان أيضًا على {لِي}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا} دعائية جازمة، {تَزِدِ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الدعائية، {الظَّالِمِينَ} مفعول به أوّل، {إِلَّا} أداة حصر، {تَبَارًا} مفعول ثان لـ {تَزِدِ}، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {اغْفِرْ}. التصريف ومفردات اللغة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} الأصل: اوتقيوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت .. فلما سكنت التقى ساكنان؛ فحذفت الياء، وضمَّت القاف لمناسبة الواو، ثم أبدلت الواو فاء الكلمة تاء، وأدغمت في تاء الافتعال. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ أي: معيّن مقدر عند الله، والأجل: المدة المضروبة للشيء. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}، أصله: يزيدهم بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الزاي فسكنت فدخل الجازم {لم} فسكن آخر الفعل فالتقى ساكنان فحذفت الياء لذلك، فوزنه يفلهم. وقوله: {دُعَائِي} الهمزة في مادّة الدعاء مبدلة من واو لتطرّف الواو إثر ألف زائدة، وهذا مطرود في الواو والياء. {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ}. والآذان: جمع أذن، أصله: أأذان على وزن أفعال، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى. {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أصله: استغشيوا بوزن استفعلوا، قلبت. الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. وقوله: {ثِيَابَهُمْ} الياء فيه مبدلة من واو، أصله: ثوابهم أعل هذا الإعلال بإبدال الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف في جمع معتل العين في المفرد. {وَأَصَرُّوا} أصله: أصرروا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو الأولى إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الراء الثانية. وقوله أيضًا: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} والاستغشاء مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاء، وهو في الأصل اشتمال من فوق، ولما كان فيه

معنى الستر استعمل بمعناه، وأصل الاستغشاء: طلب الغشي؛ أي: الستر، لكن معنى الطلب هنا ليس بمقصود بل هو بمعنى التغطّي والستر، وإنما جيء بصيغته التي هي السين للمبالغة. {والثياب} جمع ثوب، سمّي به لثوب الغزل؛ أي: رجوعه إلى الحالة التي قدّر لها اهـ من الروح. وقوله أيضًا: {وَأَصَرُّوا}؛ أي: أكبوا وأقاموا على الكفر والمعاصي يقال: أصر الحمار على الأتانة إذا ضم أذنيه إلى رأسه، وأقبل عليها يكدمها ويطردها طلبًا للسفاد، استعير للإقبال على الكفر والمعاصي، والإكباب عليهما بتشبيه الإقبال المذكور بإصرار الحمار على الأتانة يكدمها ويطردها للسفاد، ولو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار .. لكفى به مزجرةً، فكيف والتشبيه في أسوأ حاله؛ وهو حال الكدم والطرد للسفاد. {جِهَارًا} والجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة السمع أو لحاسة البصر. والإعلان ضدّ الإسرار. {مِدْرَارًا}؛ أي: كثير الدرور، وهو حال من {السَّمَاءَ}، ولم يؤنّث؛ لأنّه على زنة مفعال ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: رجل مذكار وامرأة مئناث، وهو من أوزان المبالغة، كقولهم: وإنه لمنحار بوائكها. {وَقَارًا} والوقار في الأصل: السكون والحلم، وهو هاهنا بمعنى العظمة؛ لأنّه يتسبب عنها في الأغلب. {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} جمع طور، وهو الحال والتارة. وفي "المصباح": والطور بالفتح: التارة مثل: ثوب وأثواب، وتعدى طوره؛ أي: حا له التي تليق به انتهى. {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أصل تروا: ترأيوا بوزن تفعلوا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت للتخفيف ثم أبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}؛ أي: إنباتًا عجيبًا، وأنشأكم منها إنشاء غريبًا على أن {نَبَاتًا} وضع موضع إنباتًا على أنه مصدر مؤكد؛ لـ {أَنْبَتَكُمْ} بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر. {فِجَاجًا}؛ أي: واسعة جمع فج، وهو الطريق الواسع. وقيل: هو المسلك بين الجبلين، قال في "المفردات": الفج: طريق يكتنفها جبلان، ويستعمل في الطريق الواسع. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} أصله: عصيوني قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. {وَاتَبَعُوا} فيه إدغام التاء فاء الفعل في تاء الافتعال. {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)}؛ أي: عظيمًا. والمكر: الحيلة الخفية. وفي "كشف

الأسرار": المكر في اللغة: غاية الحيلة، وهو من فعل الله تعالى إخفاء التدبير. {كُبَّارًا} بضمّ الكاف وتشديد الباء وهو بناء مبالغة، وهو أبلغ من {كبارًا} بالضمّ والتخفيف. {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ} أصله: تذرونن، الأولى نون الرفع والثانية نون التوكيد الثقيلة، فتحذف نون الرفع للجازم {لَا} الناهية، فصار اللفظ تذرون فاجتمع ساكنان فحذفت الواو. {يَغُوثَ} أصله: يغوث إن كان عربيًا، نقلت حركة الواو إلى الغين فسكّنت فصارت حرف مدّ، فهو على وزن الفعل، وكذلك القول في قوله: {يعوق} لا يختلف. {وَقَدْ أَضَلُّوا} أصله: أضللوا، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} أصله: تزيد بوزن تفعل نقلت حركة الياء إلى الزاي، فسكنت ثم جزم الفعل بـ {لا} الناهية فسكن آخره فالتقى ساكنان فحذفت الياء، فوزنه تفل. {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} {رَبِّ} أصله: ربي حذفت منه ياء الإضافة اكتفاء عنها بالكسرة. {دَيَّارًا} قال الزمخشري: هو من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديّار وديّور كقيام وقيوم، وهو فيعال من الدوار أو من الدار، وأصله: ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالًا .. لكان دوّارًا. وعبارة أبي حيان: {دَيَّارًا} من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي، وما أشبهه، ووزنه فيعال، أصله: ديوار، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت. وفي "القاموس": "وما داري وديار ودوري وديور" أي: أحد. {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} هذا الفعل حذفت فاؤه في جميع التصاريف، فأصل المادة: وذر، لكن الماضي منه مهجور، والمضارع والأمر حذفت منهما الفاء. وقوله: {يُضِلُّوا} أصله: يضللوا بوزن يفعلوا، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. {وَلَا يَلِدُوا} فيه إعلال بالحذف أصله: يولدوا بوزن يفعلوا، حذفت الواو فاء الكلمة لوقوعها بين عدوتيها الياء المفتوحة والكسرة. {إِلَّا فَاجِرًا} من الفجر، وهو شق الشي شقًّا واسعًا كفجر الإنسان السكر وهو بالكسر اسم لسد النهر وما سد به النهر. والفجور: شق ستر الديانة. {كَفَّارًا} قال الراغب: الكفار أبلغ من الكفور، وهو المبالغ في كفران النعمة.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: إفراد الإنذار في قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} مع كونه بشيرًا أيضًا؛ لأن الإنذار أقوى في تأثير الدعوة، لما أن أكثر الناس يطيعون أوّلًا بالخوف من القهر وثانيًا بالطمع في العطاء كما مرّ. ومنها: إسناد الزيادة إلى الدعاء في قوله {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} مع أنها فعل الله تعالى لسببيته لها. ومنها: الطباق بين {لَيْلًا} و {نَهَارًا}، وبين {أَعْلنَتُ} و {أَسْرَرْتُ} وبين {جِهَارًا} و {إِسْرَارًا}، وبين {يُعِيدُكُمْ} و {يُخْرِجُكُمْ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} المراد رؤوس الأصابع من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء. ومنها: الكناية في قوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} لأنّه كناية عن المبالغة في إعراضهم عمّا دعاهم إليه، فهم بمثابة من سدّ سمعه وغشى بصره كيلا يسمع ولا يرى. وقيل: الكلام حقيقي كما مرّ. ومنها: تكرار الدعاء في قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)} تأكيدًا ومبالغة في الدعاء. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}، وعلاقته المحلية، فقد أراد بالسماء المطر؛ لأنّ المطر ينزل من السماء، كما قال الشاعر: إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاه وَإِنْ كَانُوْا غِضَابَا ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}؛ لأنّه شبّههم بالنبات، فقد استعار الإنبات للإنشاء، فاشتق من الإنبات بمعنى الإنشاء أثبت بمعنى أنشأ على طريقة الاستعارة التصريحيّة التبعيّة، وكانت هذه الاستعارة ذات فائدة؛ لأنها دلت على الحدوث، فإنهم إذا كانوا نباتًا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة أيضًا في قوله: {وَأَصَرُّوا}، شبه إقبالهم على الكفر والمعاصي بإقبال الحمار على الأتانة للسفاد بجامع كون كلّ منهما إقبالًا سيّئًا. ومنها: التأكيد بالمصدر للمبالغة في قوله: {أَنْبَتَكُمْ} {نَبَاتًا} و {يُخْرِجُكُمْ}، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، و {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، {وَمَكَرُوا مَكْرًا}. ويسمى هذا في علم المعاني بالإطناب. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}؛ أي: كالسراج، وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} كالبساط والفراش. ومنها: تكرار لفظ الجلالة في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)} بعد قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ} للتعظيم والتيّمن والتبّرك. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَنْبَتَكُمْ} {نَبَاتًا} {يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} الآية، مع اندراجها فيما قبلها؛ لأنّها كانت أكبر أصنامهم وأعظم ما عندهم، وهو عند أرباب المعاني نوع من الإطناب. ومنها: عكسه الذي هو ذكر العام بعد الخاص في قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} تكريرًا للدعاء للخاص. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} علاقته ما يؤول إليه؛ لأنّه لم يفجروا وقت الولادة بل بعدها بزمن طويل. ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} على عامله إفادة للحصر، فإنه يدل على أنّ إغراقهم بالطوفان لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم تكذيبًا لقول المنجمين كما مرّ. ومنها: زيادة {ما} الإبهامية بين الجار والمجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور. ومنها: تنكير {نَارًا} في قوله: {فَأُدْخِلُوا نَارًا} للدلالة على تعظيمها؛ أي: نارًا عظيمة وإفادة للتهويل منها.

ومنها: التعريض في قوله: {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا}؛ لأنّ فيه تعريضًا باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى. ومنها: الاعتراض بقوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}؛ لأنّه وسّط بذلك بين دعائه عليه السلام أوّلًا ودعائه عليهم فيما بعد للإيذان من أوّل الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطيئاتهم التي عدّدها نوح عليه السلام. ومنها: التهكم بهم في قوله: {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة على مقصدين. الأوّل: دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت تلك الدعوة أمورًا: 1 - طلب تركهم للذنوب وأنّهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم الأموال والبنين. 2 - النظر في خلق السموات والأرض والأنهار والبحار. 3 - النظر في خلق الإنسان، وأنّه يخلق من الأرض كما يخلق النبات منها، وأنَّ الأرض مسخرة لهم يتصرّفون فيها كما يشاؤون. والثاني: كفر قومه وعقابهم في الدنيا والآخرة (¬1). فائدة: سورة نوح ثمان وعشرون آية. (ثمان) بكسر النون إن أعلَّ إعلال قاض فيكون منقوصًا، وإعرابه على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين كقولهم: جاء قاض. وبرفع النون إن حذفت الياء اعتباطًا وتخفيفًا لا لعلة تصريفية، فيكون كـ: يد ودم اهـ شيخنا. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تمّ تفسير هذه السورة في اليوم العشرين في الساعة الرابعة يوم الأربعاء من ربيع الأول من شهور سنة 20/ 3/ 1416 ألف وأربع مئة وستّ عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين آمين.

سورة الجن

سورة الجن سورة الجنّ مكيّة، قال القرطبيّ في قول الجميع: نزلت بعد سورة الأعراف. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجن بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة، وابن الزبير مثله. وهي ثمان وعشرون آية. وكلماتها (¬1): مئتان وخمس وثمانون كلمة. وحروفها: ثمان مئة وسبعون حرفا. ومناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - أنّه جاء في السورة السابقة {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وجاء في هذه السورة {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)}. 2 - أنه ذكر في هذه السورة شيء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها. 3 - أنه ذكر عذاب من يعصي الله سبحانه في قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، وذكر هناك مثله في قوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}. وقال أبو حيان (¬3): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان عليه السلام أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - آخر رسول إلى أهل الأرض. والعرب الذين هو منهم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى إنهم عبدوا أصنامًا مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن هاديًا إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقّف عن الإيمان به أكثرهم. أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح تبكيتًا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان؛ إذ كانت الجن خيرًا منهم، وأقبل للإيمان بهذا، وهم من غير جنس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

وآمنوا به للوقت، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس، بخلاف العرب؛ فإنه نزل بلسانهم، وعرفوا كونه معجزًا وهم مع ذلك مكذّبون له، ولمن جاء به حسدًا وبغيًا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. التسميه: وسميت سورة الجن لذكر قصة استماع الجن للقرآن فيها. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الجن كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}. المناسبة قد تقدم بيان المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها آنفًا، وأمّا المناسبة بين آياتها فليست معتبرة؛ لأنّها نزلت في مقصد واحد. واعلم: أنَّ الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار

وتوجب التفكير. فسمى (¬1) بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت، وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء كيوسف ويونس وهود وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين، وكل ذلك مما نراه. وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه، وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف في الإِسلام إلا من طريق الوحي، وليس للعقل دليلٌ عليه، ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة، وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسي بالعالم الجنّي، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة. أسباب النزول قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه (¬2) البخاري، والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا قرآنًا عجبًا. فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}، وإنما أوحي إليه قول الجنّ. وأخرج ابن الجوزي في كتاب "صفوة الصفوة" بسنده عن سهل بن عبد الله قال: كنت في ناحية ديار عاد؛ إذ رأيت مدينة من حجر منقور في وسطها قصر من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

حجارة تأويه الجن، فدخلت فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة، وعليه جبة صوف فيها طراوة؛ فلم أتعجب من عظم خلقته كتعجبي من طراوة جبته، فسلمت عليه، فرّد عليّ السلام وقال: يا سهل: إنّ الأبدان لا تخلق الثياب، وإنما تخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت، وإنَّ هذه الجبة عليّ من سبع مئة سنة، لقيت فيها عيسى ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام، فآمنت بهما. فقلت له: ومن أنت؟ قال: من الذين نزلت فيهم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن كردم عن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوَّل ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملًا من الغنم فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي جارك، فنادى مناد "لا نراه يا سرحان"، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم، فأنزل الله على رسوله بمكة {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ...} الآية. وأخرج (¬1) ابن سعد عن أبي رجاء العطارديّ من بني تميم قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رعيت على أهلي وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجنا هرابًا، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذلك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، من أقر بها أمن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإِسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيَّ وفي أصحابي: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الآية. وروي عن مقاتل في قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ....} قال: نزلت في كفّار قريش حين منع المطر سبع سنين. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت الجن للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون عنك؟ أو كيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ...} الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرميّ: أنه ذكر له أنّ جنيًّا من الجن من أشرافهم ذا تبع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله وأنا أجيره، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ...} الآية. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قُلْ} يا محمد لقومك ليعرفوا بذلك أنّك مبعوث إلى الجنّ كالإنس {أُوحِيَ إِلَيَّ}؛ أي: ألقي عليّ بطريق الوحي، واخبرت بإعلام من لله تعالى. والإيحاء: إعلام في خفاء. وفائدة (¬1) إخباره بهذه الأخبار بيان أنه رسول الثقلين، والنهي عن الشرك والحث على التوحيد، فإن الجن مع تمردهم وعدم مجانستهم إذا آمنوا فكيف لا يؤمن البشر مع سهولة طبعهم ومجانستهم؟. {أَنَّهُ} بفتح الهمزة؛ لأنّه نائب فاعل لـ {أُوحِيَ}. وعند الكوفيين والأخفش يجوز نيابة الجار والمجرور مع غيره، والضمير للشأن والحديث؛ أي: إنَّ الشأن والحديث {اسْتَمَعَ}؛ أي: أصغى القرآن أو طه أو اقرأ وقد حذف لدلالة ما بعده عليه. والاستماع: الإصغاء، والمستمع من كان قاصدًا للسماع مصغيًا إليه، والسامع: من اتفق سماعه من غير قصد إليه، فكل مستمتع سامع من غير عكس. {نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: جماعة منهم ما بين الثلاثة والعشرة. قال في "القاموس": النفر: ما دون العشرة من الرجال كالنفير، والجمع أنفار. وفي"المفردات": النفر: عدة رجال يمكنهم النفر إلى الحرب. والجن واحده جني كروم ورومي ونحوه. وقرأ الجمهور (¬2): {قُلْ أُوحِيَ} رباعيًا. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو إياس جوبة بن عائد الأسدي، والعتكي عن أبي عمرو {وحي} ثلاثيًا، يقال: وحي وأوحي بمعنى واحد، وهما لغتان. وقرأ زيد بن عليّ، وجوبة فيما روى عن الكسائي، وابن أبي عبلة أيضًا {أحي} بإبدال الواو همزة، ما قالوا في وعد: أعد. وقال الزمخشري: وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة انتهى. وليس كما ذكر بل في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

ذلك تفصيل، وذلك أنَّ الواو المضمومة قد تكون أوّلًا وحشوا وآخرًا، ولكل منها أحكام، وفي بعضها تفصيل، وخلاف مذكور في كتب النحو. قال الزمخشري: وقد أطلقه المازني في المكسور أيضًا كإشاح وإسادة وإعاء أخيه انتهى. واختلف (¬1) هل رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يرهم؛ فظاهر القرآن: أنّه لم يرهم لأنّ المعنى: قل يا محمد لأمّتك أوحي إليّ علي لسان جبريل {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}. ويؤيّد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن وما رآهم. وقال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله وهي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}. وقيل غير ذلك، كما مرّ آنفًا؛ إذ لو رآهم (¬2) لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي، فإن ما عرف بالمشاهدة لا يستند إثباته إلى الوحي، وكذا لم يشعر بحضورهم وباستماعهم، ولم يقرأ عليهم. وإنّما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته، فسمعوها فأخبره الله تعالى بذلك، وقد مضى ما فيه من التفصيل في سورة الأحقاف فلا نعيده. وقال الضحاك: والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين. وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. وقيل: هم أجسام رقاق في صورة تخالف صورة الملك والإنس عاقلة كالإنس خفيّة عن أبصارهم لا يظهرون لهم، ولا يكلّمونهم إلا صاحب معجزة بل يوسوسون سائر الناس يغلب عليهم النارية أو الهوائية، ويدل على الأوّل مثل قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}، فإن المشهور أنَّ المركبات كلها من العناصر، فما يغلب فيه النار فناري كالجن، وما يغلب فيه الهواء فهوائي كالطير، وما يغلب فيه الماء فمائي كالسمك، وما يغلب فيه التراب فترابي كالإنسان، وسائر الحيوانات الأرضية. وقيل: هي نوع من الأرواح المجردة؛ أي: الملائكة. وقيل: هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها. وأكثر الفلاسفة ينكرون وجود الجن في الخارج، واعترف به جمع عظيم من قدمائهم، وكذا جمهور أرباب الملل المصدّقين بالأنبياء. قال الفاشانيّ: إنّ في الوجود نفوسًا أرضيّة قوية لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمة وكثافتها وقلة إدراكها, ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعدادها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الغالب عليها الأرضية، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي، وتتجرد، أو تتعلق ببعض الأجرام السماويّة متعلقة بأجرام لطيفة غلبت عليها الهوائية، أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا, ولما كانت قريبة الطبع إلى الملكوت السماوي أمكنها أن تتلقي من عالمها بعض الغيب، فلا يستبعد أن ترتقي أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة؛ أي: النفوس المجردة. ولما كانت أرضيّة ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت تلك القوى، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأنها وإدراك مداها من العلوم، ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق، وتهلك أو تنزجر عن الارتقاء إلى الأفق السماوي، فتتسفل فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان. وقد اختلف (¬1) أهل العلم في دخول مؤمني الجن الجنة كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} وغير ذلك من الآيات. فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. والأول أولى لقوله في سورة الرحمن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك، فراجعها. وقد قدمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلًا منهم بل الرسل جميعًا من الإنس، وإن أشعر قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} بخلاف هذا فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أنّ الله سبحانه لم يرسل الرسل إلّا من بني آدم. وهذه الأبحاث يطول الكلام فيها. والمراد هنا الإشارة إليها بأخصر عبارة وأوجز إشارة. والحاصل (¬2): من الكتاب والسنة: العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبّدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الإنس والجن، فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين، ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[2]

والمعنى (¬1): أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن لما في علمه من فوائد ومنافع للناس منها: 1 - أن يعلموا أنه - صلى الله عليه وسلم - كما بعث إلى الإنس بعث إلى الجن. 2 - أن يعلموا أنّ الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. 3 - أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان. 4 - أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس. 5 - أن تعلم قريش أنَّ الجن على تمردها, لما سمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به. وكان استماعهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بثلاث سنين، والذين استمعوه هم جن نصيبين قرية باليمن، وذلك في صلاة الصبح يقرأ سورة الرحمن، أو سورة اقرأ ببطن نخل موضع بين مكة والطائف. وذكر الخطيب في سورة الأحقاف أنّ صلاته ببطن نخل كانت حين رجوعه من الطائف، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة الحادية عشرة من النبوة لما أيس من أهل مكة خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإِسلام، فلم يجيبوه، فانصرف راجعًا إلى مكة، فأقام ببطن نخل، بينه وبين مكة مسيرة ليلة، يقرأ القرآن فمرّ به نفر من جنّ نصيبين اهـ. وعن عكرمة: أنهم كانوا اثني عشر ألفًا من جزيرة الموصل. وقد حكى سبحانه عن الجن أشياء: 1 - {فَقَالُوَا} لقومهم عند رجوعهم إليهم {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا}؛ أي: كتابًا مقروءًا على لسان الرسول {عَجَبًا}؛ أي: عجيبًا؛ أي: معجبًا في فصاحته وبلاغته، وقيل: في مواعظه، وقيل: في بركته. وهو مصدر بمعنى العجيب وضع موضعه للمبالغة، والعجيب ما خرج عن حدّ أشكاله ونظائره. والمعنى: كتابًا بديعًا مباينًا لكلام الناس في حسن النظم ودقّة المعنى. وقال البقليّ: كتابًا عجيبًا تركبه، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا من أهل اللسان. 2 - {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}؛ أي: إلى الحق والصواب وصلاح الدنيا والدين، كما قال عليه السلام: "اللهم ألهمني رشدي"؛ أي: الاهتداء إلى مصالح الدين والدنيا، فيدخل فيه التوحيد والتنزيه. وحقيقة الرشد هو الوصول إلى الله تعالى. والجملة صفة أخرى للقرآن. ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

وقرأ الجمهور: {الرُّشد} بضم الراء وسكون الشين، وعيسى بضمّهما، وعنه أيضًا فتحهما. {فَآمَنَّا بِهِ}؛ أي: بذلك القرآن، ومن ضرورة الإيمان به الإيمان بمن جاء به، أي: صدّقنا به بأنّه من عند الله تعالى. {وَلَنْ نُشْرِكَ} بعد اليوم البتة؛ أي: بعد علمنا بالحق {بِرَبِّنَا أَحَدًا} حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد؛ أي: لا نجعل أحدًا من المعبودات شريكًا له سبحانه اعتقادًا، ولا نعبد غيره. فإن تمام الإيمان إنما يكون بالبراءة من الشرك والكفر كما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. فلكونه قرآنًا معجزًا بديعًا وجب الإيمان به، ولكونه يهدي إلى الرشد وجب قطع الشرك من أصله. والدخول في دين الله كله فمجموع قوله: {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} مسبب عن مجموع قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، ولذا عطف {وَلَنْ نُشْرِكَ} بالواو مع أنّ الظاهر الفاء، وفي هذا توبيخ للكفّار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّةً واحدةً، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به، ولم ينتفع كفّار الإنس لا سيّما رؤوساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعددة وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلغاتهم لا جرم صرعهم الله أذل مصرع وقتلهم أقبح مقتل، ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون. والمعنى (¬1): أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء في قولهم: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: إنا سمعنا كتابًا بديعًا يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فصدّقنا به، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله. 2 - 3 {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} بفتح الهمزة (¬2) وكذا ما بعده من الجمل المصدرة بـ {أنّ} في أحد عشر موضعًا معطوف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، فيكون من جملة الكلام الموحى به على أنَّ المُوحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنّه قيل: قل أوحي إليّ كيت وكيت. وهذه العبارات فاندفع ما قيل من أنّك لو عطفت {وَأَنَّا ظَنَنَّا} و {إِنَّا سَمِعْنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} {وَأَنَّا لَمَسْنَا} وشبه ذلك على أنّه استمع لم يجز، لأنّه ليس مما أوحي إليه، وإنّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم انتهى. قلت: والذي يظهر لي أنّ {أنّ} المفتوحة في مواضعها كلها مستعملة استعمال إنّ المكسورة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

توسعة لدائرة الكلام إلا في قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} فتكون فيه على بابها، وفي سائر المواضع بمعنى {إن} المكسورة فتكون مقولا لقوله: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}. ومن قرأ بالكسر عطف على المحكي بعد القول، وهو الأظهر لوضوح اندراج الكلّ تحت القول. وقيل: في الفتح والكسر غير ذلك، والأقرب ما قلناه. والمعنى: وأنّ الشأن ارتفع عظمة ربّنا كما تقول في الثناء على الله: وتعالى جدّك؛ أي: ارتفع عظمتك. وفي إسناد التعالي إلى العظمة مبالغة لا تخفى من قولهم: جدّ فلان في عيني؛ أي: عظم تمكّنه أو سلطانه؛ لأن الملك والسلطنة غاية العظمة. أو غناه على أنه مستعار من الجد الذي هو البخت والدولة والحظوظ الدنيوية سواء استعمل بمعنى الملك والسلطان أو بمعنى الغنى، فإن الجد في اللغة كما يكون بمعنى العظمة، وبمعنى أب الأب وأبي الأم يكون بمعنى الحظ والبخت، يقال: رجل مجدود؛ أي: محظوظ. شبه سلطان الله وغناه الذاتيان الأزليان ببخت الملوك والأغنياء، فأطلق اسم الجد عليه استعارة. وقرأ الحرميّان (¬1): نافع وابن كثير، والأبوان: أبو عمرو وأبو بكر بفتح الهمزة من قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى} وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية، آخرها {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ}. وباقي السبعة بالكسر، فأما الكسر فواضح؛ لأنها معطوفات على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا}، فهي داخلة في معموم القول. وأما الفتح فقال أبو حاتم: هو معطوف على مرفوع {أُوحِيَ}، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله انتهى. وهذا لا يصح؛ لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت {أُوحِيَ}، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم كقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}، ألا ترى أنه لا يلائم {أُوحِيَ إِلَيَّ} {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ}، وكذلك باقيها. وقال الزمخشري: ومن فتح كلهن فعطفًا على محل الجار والمجرور في {آمَنَّا بِهِ}، كأنه قيل: صدقناه وصدّقنا بأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه {آمَنَّا}. وتلخيص ما في هذا المقام (¬2): أن {إنّ} المشددة في هذه السورة على قسمين: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

القسم الأول: ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القرّاء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية كقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} لا خلاف في فتحه لوقوعه موضع المصدر، كقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا} لا خلاف في كسره؛ لأنه محكي بالقول. والقسم الثاني: أن يقترن بالواو وهو أربع عشرة كلمة: إحداها لا خلاف في فتحها، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}. والثانية: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ} كسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرة الباقية فتحها الأخوان، وابن عامر وحفص، وكسرها الباقون كما تقدم تحرير ذلك كله. والاثنتا عشرة هي قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ}، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ}، {وَأَنَّا كُنَّا}، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي}، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُون}، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا}، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ} اهـ اسمين. وقرأ الجمهور (¬1): {جَدُّ رَبِّنَا} بفتح الجيم ورفع الدال مضافًا إلى {ربنا}؛ أي: عظمته، قاله الجمهور، وقال أنس والحسن: غناه، وقال مجاهد: ذكره، وقال ابن عباس: قدره وأمره. وقرأ عكرمة {جد} منونًا، {ربنا} مرفوع الباء كأنه قال: عظيم هو ربنا فربنا بدل، والجد في اللغة العظيم. وقرأ حميد بن قيس {جدّ} بضم الجيم مضافًا، ومعناه: العظيم، حكاه سيبويه، وهو من الإضافة إلى الموصوف. والمعنى: تعالى ربنا العظيم. وقرأ عكرمة {جدّا ربّنا} بفتح الجيم والدال منونًا ورفع {ربنا}، وانتصب {جدّا} على التمييز المحول من الفاعل، أصله: تعالى جدّ ربنا. وقرأ قتادة وعكرمة أيضًا {جدّا} بكسر الجيم والتنوين نصبًا {ربّنا} رفعًا. قال ابن عطية: نصب {جدّا} على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكنًا، وقال غيره: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: تعاليًا جدًّا، و {ربنا} مرفوع بـ {تعالى}. وقرأ ابن السميفع {جَدَى ربنا}؛ أي: جدواه ونفعه. وقوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً ...} أي: زوجة {وَلَا وَلَدًا}؛ أي: ابنًا ولا بنتًا. بيان (¬2) لحكم (تعالى جده)، كأنه قيل: ما الذي تعالى عنه؟ فقيل: ما اتخذ؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[4]

لم يختر لنفسه لكمال تعاليه زوجة ولا بنتًا ولا ابنًا كما يقول الظالمون: عيسى ابن الله، ومريم صاحبته، والملائكة بنات الله، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا للخطأ في ما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد، فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه لعظمته وسلطانه أو لغناه، فإن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها. والولد للتكثير وإبقاء النسل بعد فوته، وهذه من لوازم الإمكان والحدوث، وأيضًا هو خارج عن دائرة التصور، والإدراك، فكيف يكيفه أحد؟ فيدخله تحت جنس حتى يتخذ صاحبة من صنف تحته أو ولدًا من نوع يماثله. وقد قالت النصارى أيضًا: المسيح ابن الله واليهود عزير ابن الله، وبعض مشركي العرب الملائكة بنات الله. ويلزم من كون المسيح ابن الله على ما زعموا أن تكون مريم صاحبة له، ولذا ذكر الصاحبة. يعني: أنّ الولد يقتضي الأمّ التي هي صاحبة الأب الوالد. والمعنى (¬1): أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزّهوا ربهم عن الزوجة والولد؛ لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها, ولأنها من جنس الزوج، كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}. والولد للتكثّر، والاستئناس به، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة، كما قال: وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلا بابْنٍ ذُرَا شَرَفٍ ... كَمَا عَلَتْ بِرَسُوْلِ الله عَدْنَانُ والله سبحانه منزه عن ذلك، تعالى ربنا علوًا كبيرًا. والخلاصة: علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد. 3 - 4 {وَأَنَّهُ}؛ أي: وأن الشأن {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا}؛ أي: جاهلنا، وهو إبليس أو مردة الجن. فقوله: {سَفِيهُنَا} للجنس. والظاهر (¬2) أن يكون إبليس من الجنّ كما قال تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. والسفه: خفّة النفس لنقصان العقل، ويكون في الأمور الدنيوية والأخروية، والمراد به في الآية هو السفه في الدين الذي هو السفه الأخروي، كذا في "المفرادت". {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[5]

{يَقُولُ}، عبر بـ {عَلَى} لأنّ ما قالوه عليه تعالى لا له {شَطَطًا}؛ أي: كذبًا وبهتانًا وظلمًا، والمراد به نسبة الصاحبة والولد إليه تعالى. وفي "المفردات": الشطط: الإفراط في البعد عن الحق، أي: قولًا ذا شطط؛ أي: بعد عن القصد ومجاوزة الحدّ. والمعنى: أي وقالوا: إن جهالنا كانوا يقولون ويفترون على الله قولًا بعيدًا عن الحق والصواب بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى. وفي الآية إشارة إلى أن العالم غير العامل في حكم الجاهل، فإن إبليس كان من أهل العلم، فلما لم يعمل بمقتضى علمه جعل سفيهًا جاهلًا لا يجوز التقليد له. فالاتباع للجاهل، ومن في حكمه اتباع للشيطان، والشيطان يدعو إلى النار؛ لأنّه خلق منها. 4 - 5 {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ} مخفّفة من الثقيلة؛ أي: أنّ الشأن {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا} اعتذار عن تقليدهم لسفيههم؛ أي: وقالوا: إنا كنا نظن أن الشأن والحديث لن يكذب على الله أحد أبدًالأولذلك اتبعنا قول سفيهنا وصدّقناه في أنَّ لله تعالى صاحبة وولدًا، فلما سمعنا القرآن، وتبين لنا الحق بسبه علمنا قد يكذبون عليه تعالى. و {كَذِبًا} مصدر مؤكد لـ {تَقُولَ}؛ لأنه نوع من القول، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا كذبًا. وقرأ الجمهور (¬1) {أَنْ لَنْ تَقُولَ} مضارع قال. وقرأ الحسن، والجحدري، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، ويعقوب، وابن مقسم {تقوّل} من التقول مضارع تقوَّل من باب تفعّل، أصله: تتقول حذفت منه إحدى التاءين، فيكون {كَذِبًا} على هذه القراءة الشاذّة مفعولًا به. والمعنى: أي وقالوا: إنّا كنّا نظن (¬2) أن لن يكذب أحد على الله تعالى، فينسب إليه الصاحبة والولد، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والبحث. 5 - 6 {وَأَنَّهُ}؛ أي: وأوحي إلى أن الشأن والحال {كَانَ} في الجاهلية {رِجَالٌ} كائنون {مِنَ الْإِنْسِ} صفة لـ {رِجَالٌ} {يَعُوذُونَ} خبر {كَانَ}؛ أي: يلتجئون ويتحضنون {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: يعوذون بهم من شرّ الجن. قال أبو حيان: وهذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[7]

والذي بعده هما من الموحى به لا من كلام الجن، فهما معطوفان على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، و {أن} فيهما على معناها. وفيه دلالة على أن للجن نساء كالإنس، لأن لهم رجالًا، ولذا قيل في حقهم: إنهم يتوالدون، لكنهم (¬1) ليسوا بمنظرين كإبليس وذريته. قال الحسن وابن زيد وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل: كان أوّل من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة ثم فشا ذلك في العرب. فلما جاء الإِسلام عاذوا بالله وتركوهم. وكان رجال الجن إذا سمعوا عوذ الإنس بهم استكبروا، وقالوا: سدنا الإنس والجن. وذلك قوله تعالى: {فَزَادُوهُمْ} عطف على {يَعُوذُونَ}، والماضي للتحقّق؛ أي: فزاد الرجال العائذون الإنسيون الجن {رَهَقًا} مفعول به ثان لـ {زاد}؛ أي: تكبّرًا وعتوًّا وسفهًا، فإن الرهق يجيء لمعان منها: السفه وركوب الشر والظلم. قال في آكام المرجان: وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه فيحصل لهم بذلك من الرياسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرًا، فإذا خضعت الإنس لهم، واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لهم أصاغرهم يقضون لهم حاجاتهم. أو المعنى: فزاد الجن الإنس العائذين بهم غيًّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم، فإذا استعاذوا بهم فأمنوا ظنوا أن ذلك من الجن، فازدادوا رغبة في طاعة الشياطين وقبول وساوسهم. والفاء حينئذٍ لترتيب الإخبار، وإسناد الزيادة إلى الإنس أو الجن باعتبار السببية. والمعنى: أي وأوحِي إلى أن رجالًا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن، فزادوا الجن بذلك طغيانًا وغيًّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم. وخلاصة ذلك: أنهم لما استعاذوا بالجن خوفًا منهم، ولم يستعيذوا بالله استذلوهم واجترؤوا عليهم وزادوهم ظلمًا. 6 - 7 {وَأَنَّهُمْ} الضمير فيه راجع إلى الجن إن قلنا: إنه من كلام الله الموحي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

به، فهو معطوف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}؛ أي: وأوحي إلى أن الجن {ظَنُّوا} أن لن يبعث الله أحدًا من الرسل إلى خلقه بالتكاليف، أو أن لن يبعث الله الخلق بعد الموت للجزاء {كَمَا ظَنَنْتُمْ} أيها المشركون {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} من الرسل أو أحدًا من الخلق للجزاء يوم القيامة. أو إلى الإنس إن قلنا: إنه من كلام مؤمني الجن لكفّارهم حين رجعوا إلى قومهم منذرين، فيكون مقولًا لـ {قالوا}، على أنّ {أنّ} المفتوحة مستعملة استعمال إن المكسورة، أي: فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، وقالوا لكفّارهم حين رجعوا إليهم منذرين: إن الإنس الذين اتبعتموهم ظنوا أن لن يبعث الله أحدًا من الرسل أو أحدًا من الخلق للجزاء، كما ظننتم كذلك. و {أن} في قوله: {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} مخفّفة من الثقيلة، والجملة (¬1) سادة مسد مفعولي {ظَنُّوا}، وأعمل الأول على مذهب الكوفيين؛ لأنّ {ما} في {كَمَا ظَنَنْتُمْ} مصدرية فكان الفعل بعدها في تأويل المصدر، والفعل أقوى من المصدر في العمل. والظاهر: أن المراد بعثة الرسالة؛ أي: لن يبعث الله أحدًا بالرسالة بعد عيسى، أو بعد موسى يقيم به الحجة على الخلق. ثم إنه بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، فآمنوا به. فافعلوا أنتم يا معشر الجن مثل ما فعل الإنس. وقيل: بعد القيامة؛ أي: لن يبعث الله أحدًا بعد الموت للحساب والجزاء. 7 - 8 {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} معطوف على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}؛ أي: وقال الجن بعضهم لبعض: إنّا طلبنا بلوغ السماء لاستماع ما يقول الملائكة من الحوادث أو خبرها للإفشاء، بين الكهنة. واللمس مستعار من المس للطلب، شبه الطلب بالمسّ واللمس باليد في كون كل واحد منهما وسيلة إلى تعرّف حال الشيء، فعبر عنه بالمس واللمس، واللمس: إدارك بظاهر البشرة كالمس، ويعبر به عن الطلب. قال في "كشف الأسرار": ومنه حديث: إنّ رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ امرأتي لا تدع عنها يد لامس؛ أي: لا ترد يد طالب حاجة صفرًا، يشكو تضييعها ماله. {فَوَجَدْنَاهَا}؛ أي: السماء اليوم {مُلِئَتْ حَرَسًا}؛ أي: حرّاسًا وحفظة من الملائكة يمنعون الجن عنها. و {حَرَسًا} محرَّكًا اسم جمع لحارس بمعنى حافظ كخدم لخادم مفرد اللفظ ولذلك قيل: {شَدِيدًا} بالإفراد؛ أي: قويًّا، ولو كان جمعًا لقيل: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

شدَّادا. وقوله: {مُلِئَتْ حَرَسًا} حال من مفعول {وَجَدْنَاهَا} بتقدير قد إن كان وجدنا بمعنى أصبنا وصادفنا، ومفعول ثان إن كان من أفعال القلوب؛ أي: فعلمناها مملوءة و {حَرَسًا} تمييز. {وَشُهُبًا} عطف على {حَرَسًا}، وحكمه في الإعراب حكمه. جمع شهاب، وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب، هكذا قالوا، وقد مرّ تحقيقه في تصير قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}. والمراد من الآية: إخبار (¬1) الله سبحانه عن مقال الجنّ حين بعث محمّدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل عليه القرآن، وحفظ منهم إنّ السماء ملئت حرّاسًا شدّادًا وشهبًا تحرسها من سائر أرجائها، وتمنعنا من استراق السمع كما كنّا نفعل أوّلًا. أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء، يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأمّا الكلمة فتكون {حقًّا} وأمّا ما زادوا فيكون باطلًا. فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض. 8 - 9 {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ}؛ أي: وقالوا: إنّا كنا نقعد قبل هذا {مِنْهَا}؛ أي: من السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}؛ أي: (¬2) مقاعد وأماكن خالية عن الحرس والشهب، يحصل منها مقاصدنا من استماع الأخبار للإلقاء إلى الكهنة أو صالحة للترصّد والاستماع. وقوله: {لِلسَّمْعِ} متعلق بـ {نَقْعُدُ}؛ أي: على الوجه الأول؛ أي: نقعد أماكن خالية عن الحرس لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لـ {مَقَاعِدَ}؛ أي: على الثاني؛ أي: مقاعد كائنة للسمع. وفي "كشف الأسرار"؛ أي: مواضع لاستماع الأخبار من السماء، وكان لكل حيّ من الجنّ باب في السماء يستمعون فيه. والمقاعد: جمع مقعد اسم مكان، وذلك أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالشهب المحرقة، وهو معنى قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وأخرج البخاري عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الملائكة تنزل في العنان - وهو بالفتح: السحاب - فتذكر الأمر الذي قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم". يقول الفقير: وجه التوفيق بين الاستراق من السماء ومن السحاب أن الملائكة مرة ينزلون في العنان فيتحدثون هناك، وأخرى يتذاكرون في السماء، ولا مانع من عروج الشياطين إلى السماء في مدة قليلة للطافة أجسامهم، وحيث كانت نارية أو هوائية أو دخانية لا يتأثرون من النار أو الهواء حين المرور بكرتهما، ولو سلم .. فعروجهم من قبيل الاستدراج. ولله في كل شيء حكمة وأسرار. {فَمَن} شرطية {يَسْتَمِعِ} في مقعد من المقاعد، ويطلب الاستماع {الْآنَ}؛ أي: في الزمان المستقبل بعد المبعث. وهو ظرف حالي استعير للاستقبال. {يَجِدْ لَهُ} جواب الشرط، والضمير لـ {مَنْ}؛ أي: يجد لنفسه {شِهَابًا رَصَدًا}؛ أي: شهابًا رصدًا له أو أرصد لأجله يصده عن الاستماع بالرجم. والرصد في الأصل: الاستعداد للترقّب أو يجد له ملائكة ذوي شهاب راصدين له؛ ليرجموه بما معهم من الشهب على أنه اسم مفرد في معنى الجمع كالحرس، فيكون المراد بالشهاب الملائكة بتقدير المضاف. ويجوز نصب {رَصَدًا} على المفعول له. والمعنى (¬1): أي وقالوا إنّا كنّا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئًا من القرآن، ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله سبحانه بخلقه ورحمته بعباده وحفظه لكتابه العزيز، فمن يستمع ويرم أن يسترق السمع اليوم .. يجد له شهابًا مرصدًا لا يتخطاه ولا يتعدّاه، بل يهلكه ويمحقه. وإنا لنؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من أنّ الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف عنه الحرس الذين منعوهم ولا المراد بالشهب التي كانت رصدًا لهم. والجن أجسام نارية، فكيف تحترق من الشهب؟ والله أعلم بحقيقة الحال. ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

وقد اختلفوا (¬1): هل كانت الجنّ والشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك، وحكى الواحدي عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؛ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} الآية؟ قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلًا. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنو إلى السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا تُرمى، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. رميت بالشهب. 9 - 10 {وَأَنَّا لَا نَدْرِي}؛ أي: وقالوا: إنا لا ندري؛ أي: قالت الجن بعضهم لبعض: لا ندري ولا نعرف {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ} بحراسة السماء منّا {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}؛ أي: خيرًا وإصلاحًا أوفق لمصالحهم. والاستفهام لإظهار العجز عن الاطلاع على الحكمة، وارتفاع {أَشَرٌّ} على الاشتغال أو على الابتداء، وخبره ما بعده، والأول أولى، والجملة سادّة مسدّ مفعولي {نَدْرِي}. والأصح: أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم، وليس من قول إبليس، كما قاله ابن زيد. والمعنى: أي إن السماء لم تحرس إلا لأحد الأمرين (¬2): الأول: إمّا لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة. الثاني: وإما لنبي مرشد مصلح. وكأنهم يقولون: أعذابًا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض بمنعه إيَّانا السمع من السماء ورجمه من استمع منّا بالشهب.، أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولًا مرشدًا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم. 10 - 11 {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}؛ أي: وقال الجن بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم، وفي معاملتهم مع غيرهم، أو بما يكون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشرِّ والفساد، كما هو مقتضى النفوس الشريرة. والقصر ادّعائي كأنهم لم يعتدوا بصلاح غير ذلك البعض، فـ {الصَّالِحُونَ} مبتدأ و {مِنَّا} خبره المقدم، والجملة خبر {إنّ}، ويجوز أن يكون {الصَّالِحُونَ} فاعل الجار والمجرور البخاري مجرى الظرف لاعتماده على المبتدأ. {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}؛ أي: قوم دون ذلك في الصلاح؛ أي: دون الموصوفين بالصلاح، فحذف الموصوف؛ لأنّه يجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بـ {مِنْ} حتى قالوا: مِنّا ظعن ومنّا أقام، يريدون منّا فريق ظعن ومنا فريق أقام. و {دُونَ} ظرف، وهم المقتصدون في صلاح الحال على الوجه المذكور غير الكاملين فيه لا في الإيمان والتقوى كما توهّم، فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب به عنه قوله تعالى: {كُنَّا} قبل استماع القرآن {طَرَائِقَ قِدَدًا}؛ أي: جماعات متفرقة وفرقًا مختلفة أهواؤها. وقد تعددوا قالوا: في الجن قدرية، ومرجئة، وخوارج، وروافض، وشيعية وسنية. وأما حالهم بعد استماع القرآن فيحكى بقوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} إلى قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ}؛ أي: كنا قبل هذا طرائق في اختلاف الأحوال، فهو بيان للقسمة المذكورة، ولا بدّ من تقدير مضاف؛ أي: كنّا ذوي طرائق لامتناع كون الذوات طرائق. قال في "المفردات": الطرائق جمع طرق، والطرق جمع طريق، فهو جمع الجمع. والظاهر: أن الطرائق جمع طريقة كقصائد جمع قصيدة، والطريق في الأصل: المكان الذي يطرق؛ أي: يضرب بالأرجل، ومنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان في فعل محمودًا كان أو مذمومًا والقدد: جمع قد، وهو قطع الشيء طولًا، والقدّ أيضًا المقدود، ومنه قيل لقامة الإنسان: قد، والقدّة: القطعة. يعني: أنها من النقد كالقطعة من القطع، وصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق، يقال: صار القوم قددًا إذا تفرقت أحوالهم. وقال بعض المفسرين: المراد بالصالحين السابقون بالخيرات، وبما دون ذلك؛ أي: أدنى مكان منهم المقتصدون الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، وأمّا الظالمون لأنفسهم فمندرج في قوله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}، فيكون تعميمًا

[12]

بعد تخصيص على الاستئناف، ويحتمل أن يكون {دُونَ} بمعنى غير، فيندرج القسمان الأخيران فيه. وقيل المعنى: أي وقالوا: إنّا منا المسلمون العاملون بطاعة الله ومنّا قوم دون ذلك، وأنّا كنا أهواء مختلفة وفرقًا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر، كما هي الحال في الإنس، والأول أولى. 11 - 12 {وَأَنَّا ظَنَنَّا}؛ أي: وقالوا: إنّا ظننا وعلمنا الآن بالاستدلال والتفكر في آيات الله. فالظن هنا بمعنى اليقين؛ لأن الإيمان لا يحصل بالظن، ولأن مقصودهم ترغيب أصحابهم وترهيبهم، وذلك بالعلم لا بالظن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا النذير العريان". {أَن}؛ أي: أنَّ الشأن {لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ} سبحانه عن إمضاء ما أراد بنا، كائنين {فِي الْأَرْضِ} أينما كنّا من أقطارها، فقوله: {فِي الْأَرْضِ} حال من فاعل {نُعْجِزَ}، {وَلَنْ نُعْجِزَهُ} سبحانه، وقوله: {هَرَبًا} حال من فاعل {لَنْ نُعْجِزَ}؛ أي: هاربين من الأرض إلى السماء وإلى البحار وإلى جبل قاف، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرًا، ولن نعجزه هربًا إن طلبنا. فالفرار من موضع إلى موضع وعدمه سيّان في أنّ شيئًا منهما لا يفيد فواتنا منه، ولعل الفائدة في ذكر الأرض حينئذٍ الإشارة إلى أنها مع سعتها، وانبساطها ليست منجى منه تعالى ولا مهربًا. والمعنى: أي وقالوا: إنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا في أقطارها؛ ولن نفوته إن أراد بنا أمرًا، ولن نعجزه هاربين منها إن طلبنا فلا نفوته بحال. والخلاصة: أنّ الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربًا. 12 - 13 {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى}؛ أي: وقالوا: إنّا لمّا سمعنا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم {آمَنَّا بِهِ} من غير تأخّر ولا تردّد، وصدّقنا أنّه من عند الله، ولم نكذب به كما كذبت به كفرة الإنس. {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ} وبما أنزله من الهدى {فَلَا يَخَافُ}؛ أي: فهو لا يخاف. فالكلام على تقدير مبتدأ، ولذلك دخلت الفاء، ولولا ذلك لقيل: لا يخف. وفائدة رفع الفعل ووجوب إدخال الفاء أنه قال على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه المختص بذلك دون غيره. {بَخْسًا}؛ أي: نقصًا في جزاء حسناته {وَلَا رَهَقًا}؛ أي: ظلمًا بزيادة في جزاء سيئاته، أو جزاء بخس

[14]

ولا رهق؛ أي: ظلم إذا لم يبخس أحدًا حقًا ولا رهقًا؛ أي: ظلم أحدًا فلا يخاف جزاءهما، وفيه دلالة على أنّ من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم". قال الواسطي رحمه الله: حقيقة الإيمان: ما أوجب الأمان، فمن بقي في مخاوف المرتابين لم يبلغ إلى حقيقة الإيمان. والمعنى: أي وقالوا إنّا لمّا سمعنا القرآن الذي يهدي إلى الصراط المستقيم صدّقنا به، وأقررنا بأنه من عند الله تعالى، واتبعناه، ومن يصدّق بوحدانية الله، وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصًا من حسناته، ولا ذنبًا يحمل عليه من سيئات غيره، قاله قتادة. وقصارى ذلك: أنّه ينال جزاء وافرًا كاملًا. وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش (¬1): {فلا يخف} بالجزم على أنه جواب الشرط ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء. وقرأ الجمهور {بَخْسًا} بسكون الخاء. وقرأ يحيى بن وثّاب بفتحها. 13 - 14 {وَ} قالوا {أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} بعد استماع القرآن {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}؛ أي: الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحقّ والهدى الذي هو الإيمان والطاعة إلى طريق الباطل والفساد الذي هو الكفر والمخالفة لأمر الله تعالى. فالقاسط هو الجائر؛ لأنّه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق، يقال: قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل. وقد غلب (¬2) هذا الاسم؛ أي: القاسط على فرقة معاوية رضي الله عنه، ومنه الحديث خطابًا لعليّ رضي الله عنه: "تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين". فالناكثون أصحاب عائشة رضي الله عنها، فإنهم الذين نكثوا البيعة مع عليّ؛ أي: نقضوها واستنزلوا عائشة، وساروا بها إلى البصرة على جمل اسمه عسكر، ولذا سميت الواقعة يوم الجمل. والقاسطون: أصحاب معاوية رضي الله عنه؛ لأنهم قسطوا، أي: جاروا حين حاربوا الإِمام الحقّ. والوقعة تعرف بيوم صفين، والمارقون الخوارج فإنّهم الذين مرقوا، أي: خرجوا من دين الله واستحلّوا القتال مع خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية، وتعرف تلك الواقعة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[15]

بيوم النهروان هي من أرض العراق على أربعة فراسخ من بغداد. والمعنى: أي وإنّا بعد سماع القرآن مختلفون، فمنّا المخلصون في صفة الإِسلام، ومنّا المائلون عن طريق الحقّ. {فَمَنْ أَسْلَمَ}؛ أي: أخلص بالتوحيد. قال سعدي المفتي: يجوز أن يكون من كلام الجنّ، ويجوز أن يكون من كلام الله مخاطبة لرسوله، ويؤيده ما بعده من الآيات. {فَأُولَئِكَ} إشارة إلى من أسلم، والجمع باعتبار المعنى {تَحَرَّوْا رَشَدًا}؛ أي: قصدوا طريق حقّ وصواب. والتحرّي في الأصل: طلب الأحرى والأليق قولًا أو فعلًا؛ أي: طلبوا وقصدوا رشدًا وصوابًا وحقًا، يقال: رشد كنصر وفرح رشدا ورشدًا ورشادًا: اهتدى اهتداء عظيمًا إلى طريق الحقّ والصواب يبلغهم إلى دار الثواب، فتحري الرشد مجاز عن ذلك بعلاقة السببية. وقرأ الأعرج {رشدا} بضمّ الراء وسكون الشين، والجمهور بفتحهما. 15 - {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ}؛ أي: الجائرون عن سنن الهدى {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}؛ أي: وقودًا توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس. فإن قيل: الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطبًا لها؟ أجيب: بأنهم وإن خلقوا منها .. لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية، فصاروا لحمًا ودمًا، هكذا قيل اهـ خطيب. وأيضًا قويها قد يأكل ضعيفها، فيكون الضعيف حطبًا للقوي. والمعنى (¬1): أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم، وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب. ثم ذمّ الكافرين منهم فقالوا: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ}؛ أي: وأمّا الجائرون عن سنن الإِسلام، فكانوا حطبًا لجهنم توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}. وإلى هنا انتهى كلام الجن. 16 - ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} هذا ¬

_ (¬1) المراغي.

ليس من كلام الجنّ بل هو من جملة الموحى به قطعًا، فهو معطوف على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا}. و"أن" مخففة من الثقيلة، والمعنى: وأوحي إليَّ أنَّ الشأن والحال لو استقام وتمسّك وثبت واستقر الجن أو الإنس أو كلاهما على الطريقة المستقيمة التي هي طريقة دين الإِسلام. {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}؛ أي: ماء كثيرًا واسعًا. وقرأ الأعمش وابن وثّاب بضم واو {لو}. وقرأ الجمهور بكسرها لالتقاء الساكنين. والإسقاء والسقي بمعنى واحد. وقال الراغب: السقي والسقيا: هو أن تعطيه ماء ليشربه والإسقاء: أن تجعل له ذلك حتى يتناوله كيف يشاء، يقال: غدق الماء من باب علم إذا غزر، وصف به للمبالغة في غزارته كرجل عدل، وتخصيص الماء الكثير بالذكر؛ لأنّه أصل السعة، وإن كان أصل المعاش هو أصل الماء لا كثرته ولعزّة وجوده بين العرب قال عمر رضي الله عنه: "أينما كان الماء .. كان العشب، وأينما كان العشب كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة". والمعنى: لأعطيناهم مالًا كثيرًا وعيشًا رغدًا، ووسّعنا عليهم الرزق في الدنيا. وذلك بعدما رفع عنهم المطر سبع سنين. وفيه دلالة على أن الجن يأكلون ويشربون. وقال بعضهم: وضرب الماء الغدق مثلًا؛ لأنّ الخير كلّه، والرزق بالمطر. وقيل المعنى: وأن لو استقام أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه أولاده على الإِسلام .. لأنعمنا عليهم. واختار الزجاج هذا القول. والخلاصة: وأوحي إليّ أنّه لو استقام الإنس والجنّ على ملة الإِسلام .. لوسعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم في الدنيا. وإنما خص الماء الغدق بالذكر؛ لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة، ولندرة وجوده بين العرب. ومن ثم امتن الله سبحانه على نبيه بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} على تفسير الكوثر بالنهر البخاري. ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. وسر هذا: ما عرفت غير مرّة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث توجد الطمأنينة والعدل، ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية في نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق ولا محاباة، ولا رُشًا في الأحكام.

[17]

17 - ثم ذكر سبب البسط حينئذٍ فقال: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}؛ أي: لنختبرهم في ذلك الإسقاء والتوسيع كيف يشكرونه، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ} أو في ذلك الماء الغدق، والمآل واحد. وقال الكلبيّ: المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر، فكانوا كلهم كفّارًا .. لأوسعنا أرزاقهم مكرًا بهم واستدراجًا حتى يفتنوا بها، فنعذّبهم في الدنيا والآخرة، وبه قال الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، وكيسان، وأبو مجلز وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية، والأول أولى. وفي الآية: إشارة إلى أن المرزوق بالرزق الروحانيّ والغذاء المعنوي يجب عليه القيام بشكره أيضًا، وذلك بوظائف الطاعات وصنوف العبادات وضروب الخدمات. والمعنى (¬1): أي لنختبرهم فيه؛ أي: لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفوها حقَّها كان لهم من الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (83)}. {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ}؛ أي: عن عبادة ربّه أو عن موعظته أو وحيه أو عن القرآن، أو عن جميع ذلك. {يَسْلُكْهُ}؛ أي: يدخله {عَذَابًا صَعَدًا}؛ أي: عذابًا شاقًّا صعبًا يتصعد عليه؛ أي: يعلو المعذب ويغلبه، فلا يطيقه على أنه مصدر وصف به للمبالغة. أي: ومن يعرض عن القرآن وعظاته فلا يتبع أوامره ولا ينتهي عن نواهيه ندخله في العذاب الشاقّ الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملًا. يقال: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها؛ أي: نسلكه في عذاب صعد كما قال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}؛ أي: أدخلهم فيها. فحذف الجار، وأوصل الفعل ثم إن كان ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

إعراضه بعدم التصديق .. فعذابه بالتأبيد، وإلا فبقدر جريمته إن لم يغفر له. وقرأ الجمهور (¬1): {نسلكه} بالنون مفتوحة من سلكه الثلاثي. وقرأ الكوفيّون وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية من سلك الثلاثي أيضًا. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ}، ولم يقل: عن ذكرنا. وقرأ مسلم بن جندب، وطلحة بن مصرف، والأعرج {نسلكه} بالنون المضمومة من أسلكه الرباعي، وبعض التابعين بالياء من أسلك أيضًا. وهما لغتان سلك وأسلك. وقرأ الجمهور (¬2): {صَعَدًا} بفتحتين، وهو مصدر صعد المكسور، يقال: صعد صعدًا وصعودًا، فوصف به العذاب مبالغةً؛ لأنه يتصعّد المعذب؛ أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. قال أبو عبيد: الصعد مصدر؛ أي: عذابًا ذا صعد؛ أي: مشقة. وقال عكرمة: الصعد هو صخرة ملساء في جهنم، يكلّف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم كما في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)}. والصعود العقبة الكؤود. وروي: أنّ {صَعَدًا} جبل في النار إذا وضع عليه يديه أو رجليه ذابتا، وإذا رفعهما عادتا. وقرأ قوم (¬3) {صعدا} بضمّتين. وقرأ ابن عباس والحسن بضمّ الصاد وفتح العين، قال الحسن: معناه: لا راحة فيه. 18 - وقرأ الجمهور: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} بفتح الهمزة عطفًا على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}؛ أي: وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى وبعبادته خصوصًا المسجد الحرام، ولذلك قيل: بيت الله فالمراد بالمساجد (¬4): المواضع التي بنيت للصلاة فيها وذكر الله، ويدخل فيها البيوت التي يبنيها أهل الملل للعبادة نحو: الكنائس والبيع ومساجد المسلمين. ثم هذا لا ينافي أن تضاف المساجد وتنسب إلى غيره تعالى بوجه آخر إما لبانيها كمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لمكانها كمسجد بيت المقدس إلى غير ذلك من الاعتبارات. وأعظم المساجد حرمة المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم مسجد بيت المقدس، ثم الجوامع، ثم مساجد المحال، ثم مساجد الشوارع، ثم مساجد البيوت. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأنَّ الأرض كلها مسجد، وكأنه أخذ مما في الحديث الصحيح: "جُعلت لي ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

الأرض مسجدًا وطهورًا". وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي: القدمان، والركبتان، واليدان، والجبهة. يقول: هذه أعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله، وكذا قال عطاء. وقيل: المساجد هي الصلاة؛ لأنّ السجود من جملة أركانها، قاله الحسن أيضًا. وقال الخليل: معنى الآية؛ ولأن المساجد لله فلا تدعوا الخ، أي: لهذا السبب، وكذلك عنده {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ولأن هذه. وقرأ ابن هرمز وطلحة (¬1): {وإن المساجد} بكسر الهمزة على الاستئناف وعلى تقدير الخليل فالمعنى: فلا تدعوا مع الله أحدًا في المساجد؛ لأنها لله خاصة ولعبادته. والفاء: في قوله: {فَلَا تَدْعُوا}؛ أي: لا تعبدوا فيها. {مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} للسببية؛ أي: لا تجعلوا أحدًا غير الله شريكًا لله في العبادة، فإذا كان الإشراك مذمومًا فكيف يكون حال تخصيص العبادة بالغير. والمعنى: أي قل أوحي إليَّ أنّه استمتع نفر من الجنّ، وأن المساجد لله، فلا تعبدوا فيها أحدًا غير الله تعالى كائنًا ما كان، ولا تشركوا به فيها شيئًا. وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد. قال بعض أهل المعرفة (¬2): إنما تبرأ الله سبحانه عن الشريك؛ لأنّه عدم والله وجود، فتبرّأ من العدم الذي لا يلحقه؛ إذ هو واجب الوجود لذاته، والله تعالى مع الخلق، وما الخلق مع الله؛ لأنّه تعالى يعلمهم وهم لا يعلمونه فهو تعالى معهم أينما كانوا في ظرفية أمكنتهم وأزمنتهم وأحوالهم، وما الخلق معه تعالى فإنهم لا يعرفونه حتى يكونوا معه، ولو عرفوه من طريق الإيمان وهم كانوا كالأعمى يعلم أنه جليس زيد، ولكن لا يراه فهو كأنّه يراه انتهى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[19]

19 - وقرأ الجمهور (¬1): {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} بفتح الهمزة عطفًا على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}. وقرأ ابن هرمز، وطلحة، ونافع، وأبو بكر بكسرها على الاستئناف. وعبد الله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: وأوحي إليَّ أن الشأن لما قام عبد الله، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كونه {يَدْعُوهُ} حال من فاعل قام؛ أي: حال كون عبد الله يعبد الله ويذكره. وذلك ببطن نخلة حين قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الفجر بأصحابه، ويتلو القرآن {كَادُوا}؛ أي: قرب الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ} - صلى الله عليه وسلم - {لِبَدًا}؛ أي: مزدحمين على استماع قراءته - صلى الله عليه وسلم -. جمع لبدة بالكسر نحو: قربة وقرب، وهي ما تلبد بعضه على بعض؛ أي: تراكب وتلاصق، ومنها: لبدة الأسد، وهي الشعر المتراكب بين كتفيه. والمعنى: متراكمين يركب بعضهم بعضًا، ويقع من ازدحامهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجبًا مما شاهدوا من عبادته، وما سمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قيامًا وقعودًا وسجودًا؛ لأنّهم رأوا ما لم يروا مثله قبله، وسمعوا مما لم يسمعوا بنظيره. وعلى قراءة الكسر إذا جعل من مقول الجن فضمير {كَادُوا} لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا مقتدين به في الصلاة. أي: وقالوا: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} كاد أصحابه يكونون مزدحمين عليه. وقرأ الجمهور (¬2): {لِبَدًا} أو بكسر اللام وفتح الباء، جمع لبدة نحو كسرة وكسر، وهي الجماعات، شبّهت بالشيء المتلبّد بعضه فوق بعض. وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه بضمّ اللام وفتح الباء، جمع لبدة كزبرة وزبر، وعن ابن محيصن أيضًا تسكين الباء وضمّ اللام. وقرأ الحسن، والجحدري وأبو حيوة، ومحمد بن السمفيع، والعقيليّ، وجماعة عن أبي عمرو بضمّتين جمع لبد كرهن ورهن، أو جمع لبود كصبور وصبر. وقرأ الحسن والجحدري بخلاف عنهما، وأبو العالية والأعرج بضمّ اللام وتشديد الباء مفتوحة. فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه، وعلى القراءة الثانية يكون المعنى: كثيرًا كما في قوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[20]

والمعنى (¬1): وأوحيَ إليَّ أنه لما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله، ويذكره ببطن نخلة في صلاة الصبح كاد الجنّ، وقربوا يكونون جماعات متراكمات بعضها فوق بعض تعجّبًا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قيامًا وركوعًا وسجودًا، إذ رأوا ما لم يروا مثله قطّ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله. وقال الحسن وقتادة: إنّه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفًا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد الكفّار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات. فإن قلت: (¬2) لِمَ قيل: {عَبْدُ اللَّهِ} وهلّا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلتُ: لأن تقديره: وأوحي إليَّ أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعًا في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل. 20 - قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلّهم، فأرجع عن هذا، فأنزل الله قوله: {قُلْ} يا محمَّد {إِنَّمَا أَدْعُو} وأعبد {رَبِّي} ومالك أمري {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ} أي: بربّي في العبادة {أَحَدًا} فليس ذلك ببدع، فلا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عدواتي، وهذا حالي فليكن حالكم أيضًا كذلك. وقرأ الجمهور {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي}؛ أي: قال عبد الله: إنما أدعو ربي وأعبده ولا أشرك به أحدًا من خلقه". أي: قال للمتظاهرين عليه من الكفّار: إنما أدعو ربي، أي: لم آتِكم بأمر ينكر إنما أدعو ربي وحده، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عدواتي، أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين ليس ما ترون من عبادة الله أمرًا يتعجّب منه، إنما يتعجب ممن يعبد غيره تعالى، أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في {كادوا}. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه {قُلْ}؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك وهم إما الجن، وإما المشركون على اختلاف القولين في ضمير {كَادُوا}. 21 - ثم بين أنه لا يملك من الأمر شيئًا فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {إِنِّي لَا أَمْلِكُ}؛ أي: لا أستطيع ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الكشاف.

[22]

{لَكُمْ} أيها المشركون {ضَرًّا} ولا نفعًا، ولا أملك لكم غيّا {وَلَا رَشَدًا}؛ أي: هدايةً، أي: ليس هذا كله بيدي بل بيد الله تعالى، فإنه هو الضارّ النافع الهادي المضلّ، فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر فالآية فيها من المحسنات البديعية الاحتباك، وهو الحذف من كل متقابلين ما يدل عليه الآخر. والمعنى: أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردّوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إنّي لا أملك لكم ضرًّا في دينكم ولا دنياكم، ولا نفعًا أجلبه لكم، إنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كلّ شيء، وهو القادر على ذلك وحده، وكأنه عليه السلام أمر أن يقول ما أردت إلا نفعكم فقابلتموني بالإساءة، وليس في استطاعتي النفع الذي أردت، ولا الضر الذي أكافئكم به إنّما ذان لله تعالى. وفي هذا تهديد عظيم لهم، وتوكل على الله عزّ وجلّ، وإنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه، ويجزيهم بسوء صنيعهم. وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه. 22 - ثم بين عجزه عن شؤون نفسه بعد عجزه عن شؤون غيره، فقال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين: {إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي}؛ أي: لن ينقذني، ويخلِّصني {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من قهره وعذابه .. إن خالفت أمره وأشركت به {أَحَدٌ} من المخلوقات إن استنقذته، أو لن ينجيني منه أحد إن أرادني بسوء قدره عليّ من مرض أو موت أو غيرهما. قال بعضهم: هذه لفظة تدلّ على الإخلاص في التوحيد؛ إذ التوحيد هو صرف النظر إلى الحقّ لا غير، وهذا لا يصح إلا بالإقبال على الله، والإعراض عمّا سواه والاعتماد عليه دون ما عداه. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ} تعالى {مُلْتَحَدًا}؛ أي: ملجأً ومعدلًا وحرزًا وممالًا. ويقال للملجأ: ملتحد لأن اللاجيء يميل إليه، والمعنى: ولن أجد عن الشدائد ملجأً غيره تعالى وموئلًا ومعدلًا فلا ملجأ ولا موئل ولا معدل إلا هو سبحانه وتعالى. وهذا بيان لعجزه عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عن شؤون غيره؛ أي: وإذ لا أملك لنفسي شيئًا، وكيف أملك لكم شيئًا؟.

[23]

23 - وقوله: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ} استثناء متصل (¬1) من قوله: {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ}؛ أي: من مفعوله، فإن التبليغ إرشاد ونفع؛ أي: لا أملك لكم إرشادًا ولا هداية إلا تبليغًا كائنًا من الله سبحانه إليكم، فإنَّ الإرشاد والإضلال بيده تعالى، وما بينهما اعتراض مؤكّد لنفي الاستطاعة عن نفسه فلا يضرّ طول الفصل بينهما وفائدة الاستثناء المبالغة في توصيف نفسه بالتبليغ لدلالته على أنه لا يدع التبليغ الذي يستطيعه لتظاهرهم على عداوته. وقوله: {مِنَ اللَّهِ} صفة بلاغًا؛ أي: بلاغًا كائنًا منه تعالى، وليس متعلَّقًا بقوله: {بَلَاغًا}؛ لأنّ صلة التبليغ في المشهور إنما هي كلمة عن دون من، و {بَلَاغًا} واقع موقع التبليغ كما يقع السلام والكلام موقع التسليم والتكليم. أو استثناء منقطع من قوله: {مُلْتَحَدًا}؛ أي: لن أجد من دونه تعالى ملتحدًا وملجأً إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به، فهو يجيرني؛ لأن البلاغ ليس ملتحدًا من دون الله؛ لأنه من الله وبإعانته وتوفيقه. وقوله: {وَرِسَالَاتِهِ} معطوف على {بَلَاغًا} بتقدير مضاف، وهو البلاغ؛ أي: لا أملك لكم إلَّا تبليغًا كائنًا منه تعالى وتبليغ رسالاته التي أرسلني بها. يعني: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا ناسبًا للمقالة إليه تعالى، وإلا أن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان. وقال سعدي المفتي: لعل المراد من {بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ} هو ما يأخذه منه تعالى بلا واسطة، ومن رسالاته ما هو انتهى إليه بواسطة. والمراد بالرسالة هو ما أرسل به الرسول من الأمور والأحكام والأحوال، لا معنى المصدر. والظاهر أنّ المعنى: إلا التبليغ والرسالة من الله تعالى. وجمع الرسالة باعتبار تعدّد ما أرسل هو به. والمعنى: أي قل إني لن يجيرني من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءًا، ولم ينصرني منه ناصر، ولا أجد من دونه ملجأً ولا معينًا، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارني. والخلاصة: أني لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته. ثم بين جزاء العاصين لله ورسوله، فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ} في الأمر بالتوحيد؛ لأنّ السياق فيه؛ لأن الكلام في تبليغ الرسالة بأن لا يمتثل أمرهما ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

به ودعوتهما إليه فيشرك به. وهذا يصلح أن يكون مخصصا من العموم، فلا متمسك للمعتزلة في الآية على تخليد عصاة المؤمنين في النار. {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}؛ أي: في النار أو في جهنم. والإفراد في {له} باعتبار لفظ {مَن}، والجمع في {خَالِدِينَ} باعتبار المعنى؛ أي: حال كونهم ماكثين فيها {أَبَدًا}؛ أي: أمدًا طويلًا لا نهاية له. أتي به دفعا لأن يراد بالخلود المكث الطويل. وقرأ الجمهور (¬1): بكسر همزة {إنّ} على أنها جملة مستأنفة. وقرأ طلحة بفتحها؛ لأنّ ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، والتقدير: فجزاؤه أنَّ له نار جهنم أو فحكمه أنّ له نار جهنم. 24 - وقوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} من العذاب في الدنيا، أو في الآخرة، غاية لمحذوف دل عليه حالهم من استضعاف الكفّار لأنصاره - صلى الله عليه وسلم - واستقلالهم لعددهم حتى قالوا: هم بالنسبة إلينا كالحصاة من جبال. تقديره: ولا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به من العذاب. {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ عند حلوله بهم {مَنْ} هو {أَضْعَفُ نَاصِرًا} ينتصر به وجندًا يستعين به. {وَ} من هو {أَقَلُّ عَدَدًا} ومددًا، أهم أم المؤمنون؟ فـ {مَنْ} موصولة، و {أَضْعَفُ} خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء، و {أَضْعَفُ} خبره، والجملة في موضع نصب سدّت مسدّ مفعولي العلم، و {نَاصِرًا} و {عَدَدًا} أو منصوبان على التمييز. وحمل بعضهم (¬2) {مَا يُوعَدُونَ} على ما رأوه يوم بدر، وأيًّا ما كان .. ففيه دلالة على أنَّ الكفار مخذولون في الدنيا والآخرة، وإن كثروا عددًا وقووا جسدًا؛ لأنّ الكافرين لا مولى لهم، وأنّ المؤمنين منصورون في الدارين وإن قلّوا عددًا وضعفوا جسدًا؛ لأن الله مولاهم. والواحد على الحق هو السواد الأعظم، فإن نصره ينزل من العرش. والمعنى (¬3): أي ومن يعص الله فيما أمر به ونهى عنه، ويكذّب برسوله فإنّ له نارًا يصلاها ماكثًا فيها أبدًا إلى غير نهاية، ولا محيد عنها ولا خروج منها، ولا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[25]

يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب، فيتبين لهم من المستضعفون أهم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى. وقصارى ذلك: أنّ المشركين لا ناصر لهم، وهم أقل عددًا من جنود الله عزّ وجلّ، ونحو الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ}. 25 - {قُلْ} لهم يا محمد {إِنْ أَدْرِي}؛ أي: ما أدري وما أعلم؛ لأنّ {إِنْ} نافية. {أَقَرِيبٌ} خبر مقدم لقوله: {مَا تُوعَدُونَ}؛ أي: ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب؟ {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}؛ أي: غاية تطول مدّتها. ويجوز أن يكون {مَا تُوعَدُونَ} فاعلًا لـ {قريب} سادًّا مسدَّ الخبر لوقوعه بعد همزة الاستفهام، و {ما} موصولة، والعائد محذوف؛ أي: أقريب الذي توعدونه، نحو: أقائم الزيدان. وقرأ الجمهور (¬1): {رَبِّي} بإسكان الياء. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو بفتحها. والأمد، وإن كان يطلق على القريب أيضًا إلا أن المقابلة تخصّصه بالبعيد. والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عامّ في المبدأ والغاية. والمعنى: أن الموعود كائن لا محالة، وأما وقته فما أدري متى يكون؟ لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة، وهو ردّ لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك متى يكون الموعود إنكارًا له واستهزاءً. فإن قيل (¬2): أليس قال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، فكان عالمًا بقرب قيام الساعة، فكيف قال هاهنا: لا أدري أقريب أم بعيد؟. والجواب: أنّ المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، وأما قربه بمعنى كونه بحيث يتوقع في كل ساعة فغير معلوم على أن كل آت قريب، ولذا قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}، وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}. والمعنى (¬3): أنّ الله سبحانه أمر رسوله أن يقول للناس: إن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن وقتها غير معلوم، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربي أمدًا بعيدًا؟. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[26]

"وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابيّ كان فيما سأله أن قال يا محمّد أخبرني عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟ ولمّا ناداه ذلك الأعرابيّ بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة؟ قال: "ويحك إنّها كائنة فما أعددت لها" قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فأنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث. 26 - {عَالِمُ الْغَيْبِ} قرأه الجمهور (¬1) بالرفع على أنّه بدل من {رَبِّي} أو بيان له، أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من عدم الدراية؛ أي: هو سبحانه عالم لجميع ما غاب عن الحسّ على أنَّ اللام للاستغراق. وقرىء بالنصب على المدح. وقرأ السدّي {عَلِمَ الغيبَ} بصيغة الفعل، ونصب الغيب. والفاء في قوله: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} من خلقه لترتيب عدم الإظهار على تفرّده تعالى بعلم الغيب على الإطلاق؛ أي: لا يطلع على الغيب الذي يعلمه وهو ما غاب عن العباد أحدًا منهم. 27 - ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى}؛ أي: إلا من ارتضاه واصطفاه واختاره من خلقه لإظهاره على بعض غيوبه حالة كون ذلك المرتضى {مِنْ رَسُولٍ} أرسله إلى خلقه أي رسول كان المتعلقة تلك الغيوب برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلّقًا ما إما لكونه من مبادي رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعافة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلّفون وكيّفيات أعمالهم وأجزيتها المترتّبة عليها في الآخرة، وما تتوقّف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة، والبعث والحشر، والحساب، والميزان وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. وأمّا ما لا يتعلق بها (¬2) على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها وقت قيام الساعة، فلا يظهر عليه أحدًا أبدًا على أن بيان وقته مخلّ بالحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة. قال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح الله سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دون خلقه ... كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه. ثم استثنى من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

ارتضى من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكفّ وفي المسبحة، ويزجر بالطير ويخبر عن الجنّ، فيطلعه على ما يشاء من غيبه، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه، وكذبه انتهى مع بعض زيادة، ولا تغتر بما ذكره الإمام الرازي في "تفسيره" هنا، كما رد عليه الإِمام الشوكاني. فإن قلت (¬1): إذن قد تقرَّر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت: نعم، ولا مانع من ذلك. وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صحَّ أنه قام مقامًا أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئًا مما يتعلق بالفتن ونحوها. حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه. وكذلك ما ثبت: من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يحدث من الفتن بعده حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة، ورجعوا إليه. وثبت في "الصحيح" وغيره: أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، فقال عمر: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر. فعلم عمر أنّه الباب، وأن كسره قتله كما في الحديث الصحيح: أنه قيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال: نعم كان يعلم كما يعلم أن دون غد الليلة، وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعليّ بن أبي طالب خبر ذي الثدية، ونحو هذا مما يكثر تعداده. وإذا تقرر. فلا مانع من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله تعالى لرسوله، وأظهرها رسوله لبعض أمته، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض الرباني بواسطة الجناب. ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول، فقال: {فَإنَّهُ} سبحانه {يَسْلُكُ} ويجعل {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}، أي: من قدّام الرسول المرتضى {وَمِنْ ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[28]

خَلْفِهِ}؛ أي: ومن ورائه وسائر جوانبه {رَصَدًا}؛ أي: حرسًا وحفظةً من الملائكة، يحفظونه من تعرض الشيطان لما أظهره عليه من الغيب المتعلق برسالته. أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرسًا من الملائكة، يحوطونه من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة، والمراد من جميع الجوانب. يعني: أنَّ جبريل كان إذا نزل بالرسالة .. نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فتخبر به الكهنة قبل الرسول، فيختلط على الناس أمر الرسالة. والجملة (¬1): تقرير وتحقيق للإظهار المستفاد من الاستثناء، وبيان لكيفيته. قال الضحاك: ما بعث الله نبيًّا إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. قال ابن زيد: {رَصَدًا}؛ أي: حفظة يحفظون النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمامه وورائه من الجنّ والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيّب: هم أربعة من الملائكة حفظة. والرصد كالحرس وزنًا ومعنًى، فهو جمع راصد بمعنى حارس حافظ، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة؛ أي: فإنه يجعل بين يدي من ارتضى من رسله ومن خلفهم حفظة من الملائكة، يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحي به إليهم، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرّونهم. والخلاصة: أنه يجعل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين، ويعصمونه من وساوسهم. 28 - ثم علل هذا الحفظ بقوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} واللام (¬2) متعلقة بـ {يَسْلكٌ}، وضمير {أَبْلَغُوا} إما للرصد فالمعنى: أنّه يسلك الرصد ويجعلهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم الله سبحانه أنَّ الشأن قد أبلغ الرصد والملائكة رسالات ربهم إلى الرسول المرتضى سالمة عن الاختطاف والتخليط علمًا حاصلًا بالفعل، وإما لمن ارتضى والمعنى: ليعلم الله أن الشأن قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم، كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعدما أبلغها الرصد إليهم كذلك. أو اللام (¬3) متعلقة بمحذوف تقديره: إنه سبحانه يحفظ رسله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المرح. (¬3) المراغي.

بملائكته ليتمكّنوا من أداء رسالته، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا الرسالات، والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع في الخارج، كما جاء نحو هذا في قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}. وعبارة "الروح": قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ...} الخ، متعلق بـ {يَسْلُكُ}، غاية له من حيث إنّه مترتّب على الإبلاغ المترتّب عليه؛ إذ المراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل. و {أن} مخفّفة من الثقيلة، واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف، والجملة خبرها. والإبلاغ: الإيصال. و {رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} عبارة عن الغيب الذي أريد إظهار المرتضى عليه، والجمع باعتبار تعدد أفراده. وضمير {أَبْلَغُوا} إما للرصد فالمعنى: أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى؛ ليعلم الله أن الشأن قد أبلغوه رسالات ربهم سالمة عن الاختطاف والتخليط علمًا مستتبعًا للجزاء، وهو أن يعلمه موجودًا حاصلًا بالفعل كما في قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}. والغاية في الحقيقة هو الإبلاغ، وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمر الإبلاغ، وللإشعار بترتيب الجزاء عليه والمبالغة في الحثّ عليه والتحذير عن التفريط فيه. وإما لمن ارتضى، والجمع باعتبار معنى {من} كما أنّ الإفراد في الضميرين السابقين باعتبار لفظها، فالمعنى عليه: ليعلم الله أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف، ولا تخليط بعدما أبلغها الرصد إليهم كذلك. وجملة قوله: {و} قد {أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}؛ أي: بما عند الرصد أو بما عند الرسل، حال من فاعل {يَسْلُكُ} بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور في محله، جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى؛ أي: وقد أحاط بما لديهم من الأحوال جميعًا. وقوله: {وَأَحْصَى} معطوف على أحاط؛ أي: وعلم علمًا بالغًا إلى حدّ الإحصاء تفصيلًا. {كُلَّ شَيْءٍ} مما كان وما سيكون {عَدَدًا}؛ أي: فردًا فردًا، فكيف لا يحيط بما لديهم؟. قال القاسم: هو أوجدها فأحصاها عددًا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل. وقوله: {عَدَدًا} تمييز محوّل عن المفعول به كقوله: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}. والأصل: أحصى عدد كل شيء، وفائدته بيان أن علمه تعالى بالأشياء ليس على وجه كلّيّ إجمالي، بل على وجه جزئيّ تفصيليّ، فإن الإحصاء

قد يراد به الإحاطة الإجمالية كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}؛ أي: لا تقدروا على حصرها إجمالًا فضلًا عن التفصيل؛ وذلك لأن أصل الإحصاء، أنَّ الحاسب إذا بلغ عقدًا معيّنًا من عقود الأعداد كالعشرة والمئة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فيبني على ذلك حسابه. وهذه الآية مما يستدلّ به على أن المعدوم ليس بشيء، لأنّه لو كان شيئًا .. لكانت الأشياء غير متناهية، وكونه أحصى عددها يقتضي كونها متناهيةً؛ لأن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي، فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية، وذلك محال، فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض والتنافي، كذا في "حواشي" ابن الشيخ رحمه الله. والمعنى (¬1): أي وهو سبحانه قد أحاط علمًا بما عند الرصد من الملائكة، وأحصى ما كان، وما سيكون فردًا فردًا، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتمّ وجه، فلا يشاركه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم. والخلاصة: أنّ الرسول المرتضى يعلِّمه بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلي، فأين علم الوسائط من علمه تعالى؟. وقرأ الجمهور (¬2): {لِيَعْلَمَ} بفتح الياء مبنيًّا للفاعل. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، ويعقوب، وزيد بن علي بضمّها مبنيًّا للمفعول. وقرأ الزهري وابن أبي عبلة بضمّ الياء وكسر اللام؛ أي: ليعلم الله من شاء أن يعلمه أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم. وقرأ الجمهور {رِسَالَاتِ} على الجمع، وأبو حيوة على الإفراد. وقرأ الجمهور {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} مبنيَّا للفاعل، وكذا {أحصى} مبنيًّا للفاعل؛ أي: الله، {كُلَّ شَيْءٍ} بالنصب. وقر ابن أبي عبلة {وأحيط} {وأحصي} مبنيًّا للمفعول، {كلُّ شيء} بالرفع. والمعنى: وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع، لا يفوته منها شيء، وأحصى كلّ شيء عددًا، أي: معدودًا محصورًا، وانتصابه على الحال من {كُلَّ شَيْءٍ}، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

وإن كان نكرةً لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لـ {أحصى}؛ لأنّه في معنى إحصاء. قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون تمييزًا انتهى، كما مرّ. وفي ثبوته من كلام العرب خلاف. الإعراب {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}. {قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنت. والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {أُوحِيَ} فعل ماض مغير الصيغة، {إِلَيَّ} جار ومجرور، متعلق به، {أَنَّهُ} ناصب واسمه، {اسْتَمَعَ نَفَرٌ} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في محل الرفع نائب فاعل لـ {أُوحِيَ}، وجملة {أُوحِيَ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {مِنَ الْجِنِّ} جار ومجرور متعلقان: بـ {اسْتَمَعَ} {فَقَالُوا} {الفاء} عاطفة، {قالوا} فعل وفاعل، معطوف على {اسْتَمَعَ}، {إِنَّا} ناصب واسمه، {سَمِعْنَا قُرْآنًا} فعل وفاعل ومفعول به، {عَجَبًا} صفة {قُرْآنًا}، وجملة سمع في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قالوا}. {يَهْدِي} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على القرآن، {إِلَى الرُّشْدِ} متعلق بـ {يَهْدِي}، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {قُرْآنًا}. {فَآمَنَّا} {الفاء}: عاطفة، {آمنا} فعل وفاعل، معطوف على {سَمِعْنَا}، {بِهِ} متعلق بـ {آمنا}، {وَلَن} {الواو}: عاطفة، {لن} حرف نصب، {نُشْرِكَ} فعل مضارع منصوب بـ {لن}، وفاعل مستتر، {بِرَبِّنَا} متعلق بـ {نُشْرِكَ}، {أَحَدًا} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على {آمنا}. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)}. {وَأَنَّهُ} {الواو}: عاطفة، {أَنَّهُ} ناصب واسمه، {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معترضة بين اسم {أن} وخبرها. {مَا} نافية، {اتَّخَذَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، {صَاحِبَةً} مفعول به، {وَلَا وَلَدًا} معطوف

على {صَاحِبَةً} والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنَّ} المفتوحة وكذا جميع الجمل المصدّرة بـ {أنّ} المفتوحة، وهي أحد عشر موضعًا في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، على كونها نائب فاعل، لـ {أُوحِيَ}، فتكون من جملة الكلام الموحى به على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية، كأنّه قيل: أوحي إليّ استماع نفر من الجنّ، وأوحي إليّ قول الجنّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}، وقولهم: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا}، وقولهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا}، وقولهم: كيت وكيت كما تقدم لك بسطه في مبحث التفسير نقلًا عن "روح البيان"، أو معطوفة على جملة قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} على أنّها مقول لقالوا إجراء؛ لـ {أنَّ} المفتوحة مجرى إنّ المكسورة على سبيل الاستقراض والاستعارة، كما مرّ أيضًا {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {كَانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير الشأن، وتسمّى هي شأنية، {يَقُولُ سَفِيهُنَا} فعل وفاعل، {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {يَقُولُ}، {شَطَطًا} صفة لمصدر محذوف تقديره: قولًا شططًا؛ أي: كذبًا. وذلك بوصفه بالصاحبة والولد وجملة {يَقُولُ} في محل النصب خبر {كان}، وجملة؛ {كَانَ} في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في محل الرفع معطوفة على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ}، أو في محل النصب معطوفة على جملة {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} على التفصيل المارّ آنفًا، وكذا تقول في عطف ما سيأتي من مواضع أنَّ المفتوحة. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، وجملة {ظَنَنَّا} في محل الرفع خبر {أَن}، وجملة {أَن} معطوفة على ما تقدم، {ظَنَنَّا} فعل وفاعل من أفعال القلوب، {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ} ناصب وفعل وفاعل، {وَالْجِنُّ} معطوفة على {الْإِنْسُ}، {عَلَى اللَّهِ} متعلق بـ {تَقُولَ}، {كَذِبًا} صفة لمصدر محذوف تقديره: قولًا كذبًا، وجملة {تَقُولَ} في محل الرفع خبر {أَنْ} المخففة، وجملة {أن} المخففة في محل النصب سادّة مسد مفعولي {ظَنَنَّا}، {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {كَانَ رِجَالٌ} فعل ناقص واسمه، {مِنَ الْإِنْسِ} صفة لـ {بِرِجَالٍ}، {يَعُوذُونَ} فعل وفاعل، {بِرِجَالٍ} متعلق بـ {يَعُوذُونَ}، {مِنَ الْجِنِّ} صفة لـ {بِرِجَالٍ}، وجملة

{يَعُوذُونَ} في محل النصب خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في محل الرفع، أو في محل النصب، معطوفة على ما تقدم على التفصيل المار. {فَزَادُوهُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول، {رَهَقًا} مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {كَانَ رِجَالٌ}، {وَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، وجملة {ظَنُّوا} خبره، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم، {كَمَا} الكاف حرف جرّ وتشبيه، {ما} مصدرية، وجملة {ظَنَنْتُمْ} صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره: وأنهم ظنّوا ظنًّا كائنًا كظنّكم. {أَن} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي: وظنوا أنه {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} ناصب وفعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة سادّة مسدّ مفعولي {ظَنُّوا}، وأمّا مفعولا {ظَنَنْتُمْ} فمحذوفان لدلالة مفعولي {ظَنُّوا} عليهما تقديره: كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدًا. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، {لَمَسْنَا السَّمَاءَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} معطوفة على ما تقدم على التفصيل المار، {فَوَجَدْنَاهَا} فعل وفاعل ومفعول أول، وجملة {مُلِئَتْ} مفعول به ثان، وجملة وجدنا معطوفة على جملة {لَمَسْنَا}، {مُلِئَتْ} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {السَّمَاءَ}، والتاء: علامة تأنيث نائب الفاعل، {حَرَسًا} تمييز محوّل عن نائب الفاعل، {شَدِيدًا} صفة {حَرَسًا}، {وَشُهُبًا} معطوف على {حَرَسًا}. وقيل: {فَوَجَدْنَاهَا} هنا متعدّية لواحد، فجملة {مُلِئَتْ} حال من السماء؛ لأن معناها: صادفناها. {وَأَنَّا} {الواو}: عاطفة، {أنا} ناصب واسمه، وجملة {كُنَّا} خبره، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم، وجملة {نَقْعُدُ} خبر {كَانَ}، {مِنْهَا} حال من {مَقَاعِدَ}؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها، أو متعلق بـ {مَقَاعِدَ}، {مَقَاعِدَ} منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ {نَقعُدُ}، {لِلسَّمْعِ} متعلق بـ {نَقْعُدُ}؛ أي: نقعد لأجل السمع أو صفة لـ {مَقَاعِدَ}؛ أي: مقاعد كائنة للسمع. {فَمَنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر

تقديره: إذا عرفت أنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع أوّلًا، وأردت بيان حالها، وحالنا الآن فأقول لك: من يستمع. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَسْتَمِعِ} فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من، {الْآنَ} ظرف للزمن الحاضر، ولكنه مستعار للمستقبل في محل النصب على الظرفية مبنيّ على الفتح، والظرف متعلق بـ {يستمع}، {يَجِدْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، {لَهُ} متعلق بـ {يَجِدْ} على أنه مفعول ثان له، {شِهَابًا} مفعول أول لـ {يَجِدْ}، {رَصَدًا} صفة لـ {شِهَابًا}، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: شهابا أرصد وهيّء له، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين. {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، وجملة {لَا نَدْرِي} خبره، وجملة {أَن} معطوفة على ما تقدم، {لَا} نافية، {نَدْرِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الجنّ؛ أي: نحن. {أَشَرٌّ} الهمزة للاستفهام الاستخباري، {شرٌّ} نائب فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور بعده؛ أي: أأريد شرٌّ. وجملة {أُرِيدَ} جملة مفسّرة لا محل لها من الإعراب، وقيل: {شرّ} مبتدأ، وجملة {أُرِيدَ} خبره، {بِمَن} متعلق بـ {أُرِيدَ}، {فِي الْأَرْضِ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة، {أَمْ} حرف عطف معادلة للهمزة، {أَرَادَ} فعل ماض، {بِهِمْ} متعلق بـ {أَرَادَ}، {رَبُّهُمْ} فاعل، {رَشَدًا} مفعول به، وجملة {أَرَادَ} معطوفة على جملة الاستفهام، وجملة الاستفهام مع ما عطف عليها ساذة مسدّ مفعولي {نَدْرِي}، علقت عنها بالاستفهام. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، {وَمِنَّا} خبر مقدم، {الصَّالِحُونَ} مبتدأ مؤخّر، والجملة خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم، {وَمِنَّا} خبر مقدم، {دُونَ ذَلِكَ} ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمبتدأ محذوف، تقديره: ومنا فريق كائن دون ذلك، والجملة معطوفة على جملة قوله: {مِنَّا الصَّالِحُونَ}. وأجاز الأخفش وغيره أن تكون {دُونَ} بمعنى غير؛ أي: ومنا غير الصالحين، وهو حينئذٍ مبتدأ، وإنّما فتح لإضافته إلى غير متمكّن.

والأول أرجح. وحذف الموصوف مع من التبعيضية كثير كقولهم: منّا ظعن ومنّا أقام. {كُنَّا} فعل ناقص واسمه، {طَرَائِقَ} خبره، {قِدَدًا} صفة لـ {طَرَائِقَ}، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: وكنا ذوي طرائق قددًا، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة قوله: {مِنَّا الصَّالِحُونَ}. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، وجملة {ظَنَنَّا} خبره، وجملة {أَن} معطوفة على ما تقدم، {أَن} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. أي: أنّه. {لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ} ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {فِي الْأَرْضِ} حال من فاعل {نُعْجِز}؛ أي: كائنًا في الأرض. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة سادّة مسدّ مفعولي {ظَنَنَّا}. {وَلَنْ نُعْجِزَهُ}؛ ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ما قبله، {هَرَبًا} حال من فاعل {نُعْجِزَهُ}، ولكنه في تأويل مشتقّ؛ أي: هاربين إلى السماء، أو إلى البحار مثلًا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، {لَمَّا} اسم شرط غير جازم، {سَمِعْنَا الْهُدَى} فعل وفاعل ومفعول، فعل شرط لـ {لَمَّا}، في محل جر بالإضافة. {آمَنَّا} فعل وفاعل {بِهِ} متعلق بـ {آمَنَّا}، والجملة جواب {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لَمَّا} في محل الرفع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {فَمَنْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلت لك: وأردت بيان جزاء من آمن بربّه فأقول لك: {مَنْ يُؤْمِنْ}. {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُؤْمِنْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {فلا} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوباَ، {لَا} نافية، {يَخَافُ} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، {بَخْسًا} مفعول به، {وَلَا رَهَقًا} معطوف على {بَخْسًا}، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب مَنْ الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة معترضة. {وَأَنَّا} ناصب واسمه، {مِنَّا} خبر مقدم، {الْمُسْلِمُونَ}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الريع خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {وَمِنَّا} خبر مقدم، {الْقَاسِطُونَ} مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما تقدم، {فَمَن} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك وأردت بيان جزاءِ من أسلم فأقول لك: {مَنْ أَسْلَمَ}: {مَنْ} اسم شرط مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، {أَسْلَمَ} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فِعْل شرط لها. {فَأُولَئِكَ} {الفاء}: رابطة الجواب، {أُولَئِكَ} مبتدأ، وجملة {تَحَرَّوْا} خبره، {رَشَدًا} مفعول به، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب {مَنْ} الشرطية، وجملة {مَنْ} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة معترضة. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة، {أمّا} حرف شرط وتفصيل، {الْقَاسِطُونَ} مبتدأ، {فَكَانُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {أمّا} الشرطية واقعة في غير موضعها، {كانوا} فعل ناقص واسمه، {لِجَهَنَّمَ} حال من {حَطَبًا}؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، {حَطَبًا} خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب أمّا لا محل لها من الإعراب، وجملة {أمّا} معطوفة على جملة {مَنْ} الشرطية على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)}. {وَأَلَّوِ} {الواو}: عاطفة، {أنْ} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وأنّه لو استقاموا. {لو} حرف شرط غير جازم، {اسْتَقَامُوا} فعل وفاعل، فعل شرط لـ {لو} {عَلَى الطَّرِيقَةِ} متعلق بـ {اسْتَقَامُوا}، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ} {اللام}: رابطة لجواب {لو} الشرطية، {أسقيناهم} فعل وفاعل ومفعول أول، {مَاءً} مفعول ثان، {غَدَقًا} صفة {مَاءً}، والجملة جواب {لو} الشرطية، وجملة {لو} الشرطية في محل الرفع خبر {أنْ} المخفّفة وجملة {أنْ} المخففة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ}؛ أي: وأوحى إليّ أن لو استقاموا. {لِنَفْتِنَهُمْ} {اللام}: حرف جرّ وتعليل، نفتنهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام {كي}، والجملة الفعلية مع {أن} المضمرة في تأويل

مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {أسقيناهم}، {فِيهِ} متعلق بـ {نفتنهم}، {وَمَن} {الواو}: عاطفة، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يُعْرِضْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {يُعْرِضْ}، {يَسْلُكْهُ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {لو} الشرطية، {عَذَابًا} منصوب بنزع الخافض، أي: في عذاب، {صَعَدًا} صفة {عَذَابًا}. {وَأَنَّ} {الواو}: عاطفة، {أَنَّ الْمَسَاجِدَ} ناصب واسمه، {لِلَّهِ} خبره، والجملة معطوفة على جملة {أَنَّهُ اَستَمَعَ}. {فَلَا} {الفاء}: حرف عطف وتفريع، {لا} ناهية جازمة، {تَدْعُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، {مَعَ اللَّهِ} متعلق بـ {تَدْعُوا}، {أَحَدًا} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة مفرّعة على جملة {أنّ}. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه {لَمَّا} اسم شرط غير جازم {قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} فعل وفاعل فعل شرط لـ {لَمَّا} وجملة {يَدْعُوهُ} من الفعل والفاعل المستتر والمفعول في محل النصب حال من فاعل {قَامَ}، {كَادُوا} فعل ناقص واسمه جواب {لما}، وجملة {لما} في محل الرفع خبر {أَن}، وجملة {أنّ} معطوفة على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، {يَكُونُونَ} فعل ناقص واسمه مرفوع بالنون، {عَلَيْهِ} حال من {لِبَدًا}، و {لِبَدًا} خبر {يكون}، وجملة {يكون} في محل النصب خبر {كاد}. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة مسوقة للردّ على الكفار المتظاهرين عليه - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّمَا} أداة حصر، {أَدْعُو رَبِّي} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَا أُشْرِكُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، {بِهِ} متعلق بـ {أُشرِكُ}، {أَحَدًا} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَدْعُو}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة أو معطوفة بعاطف مقدر على {قُلْ} الأول. {إِنِّي} ناصب واسمه، {لَا} نافية {أَمْلِكُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، {لَكُمْ} متعلق بـ {ضَرًّا}، و {ضَرًّا} مفعول {أَمْلِكُ}، {وَلَا رَشَدًا} معطوف على {ضَرًّا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة

{إنّ} في محل النصب مقول {قُلْ}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر مستأنفة أو معطوفة، {إِنِّي} ناصب واسمه، {لَنْ يُجِيرَنِي} ناصب وفعل مضارع، ونون وقاية، ومفعول به {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {يُجِيرَنِي}، {أَحَدٌ}، فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قُلْ}، {وَلَنْ} {الواو}: عاطفة، {لن} حرف نصب، {أَجِدَ} فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بـ {لن}، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {لَنْ يُجِيرَنِي}، {مِنْ دُونِهِ} جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لـ {أَجِدَ}، {مُلْتَحَدًا} مفعول أول لـ {أَجِدَ}. {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}. {إِلَّا} أداة استثناء، {بَلَاغًا} استثناء من مفعول {لَاَ أَمْلِكُ}؛ أي: من مجموع الأمرين، وهما: {ضَرًّا} و {رَشَدًا} بعد تأويلهما بـ (شيئا) كأنّه قال: لا أملك لكم شيئًا إلَّا بلاغًا، فهو استثناء متصل، وقوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة، هكذا قرر بعض "حواشي البيضاوي"، وفيه أوجه أخر، ومنها قيل: إنه استثناء منقطع من {مُلْتَحَدًا}، {مِنَ اللَّهِ} صفة لـ {بَلَاغًا}، {وَرِسَالَاتِهِ} معطوف على {بَلَاغًا}، {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، {يَعْصِ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {اللَّهِ} مفعول به، {وَرَسُولَهُ} معطوف على الجلالة، {فَإِنَّ} {الفاء}: رابطة الجواب، {إنّ} حرف نصب، {لَهُ} خبر مقدم لـ {أن}، {نَارَ جَهَنَّمَ} اسمها مؤخر، {خَالِدِينَ} حال من ضمير {لَهُ}، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور، {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ}، {أَبَدًا} ظرف متعلق بـ {خَالِدِينَ} أيضًا، وجملة {إنّ} في محل الجزم جواب {من} الشرطية، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {حَتَّى} حرف ابتداء وغاية لمحذوف تقديره: ولا يزالون على ما هم عليه من الكفر والتكذيب، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {رَأَوْا} فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول {رَأَوْا}؛ لأنّ رأى بصرية، وجملة {يُوعَدُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يوعدونه. {فَسَيَعْلَمُونَ} {الفاء}: رابطة

الجواب وجوبا، والسين حرف استقبال، {يعلمون} فعل وفاعل مرفوع، والجملة جواب {إذا} الشرطية، وجملة {إذا} مستأنفة، ولكنّها غاية لمحذوف كما قدّرنا، {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَضْعَفُ} خبره، والجملة الاستفهامية في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي {يعلمون}؛ لأنّها معلّقة للعلم قبلها، ويجوز أن تكون {مَنْ} موصولة في محل النصب مفعول به لـ {يعلمون}؛ لأنّ العلم حينئذٍ بمعنى العرفان، {أَضْعَفُ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الذي هو {أَضْعَفُ}، والجملة صلة الموصول، {نَاصِرًا} تمييز محوّل عن المبتدأ أو عن المفعول، منصوب باسم التفضيل، {وَأَقَلُّ عَدَدًا} معطوف على {أَضْعَفُ نَاصِرًا}. {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)}. {قُلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، {إن} نافية، {أَدْرِى} فعد مضارع وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول {قل}، {أَقَرِيبٌ} الهمزة للاستفهام يطلب به، وبـ (أم) التعيين، {قريب} خبر مقدم، {مَا} اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخّر، وجملة {توُعَدُونَ} صلته، والعائد محذوف؛ أي: توعدونه. ويجوز أن يكون {قريب} مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، و {مَا تُوعَدُونَ} فاعل سدّ مسدّ الخبر، نحو: أقائم أبواك. والجملة الاسمية في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي {أَدْرِى}، معّلقة عنها بالاستفهام، {أَمْ} عاطفة متصة، {يَجْعَلُ} فعل مضارع، {لَهُ} في موضع المفعول الثاني، {رَبِّي} فاعل، {أَمَدًا} مفعول أول لـ {جعل}، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على {قريب}؛ لأنّه في تأويل أقريب ما توعدون أم بعيد يجعل له ربي أمدا. {عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو عالم الغيب أو بدل من {ربّي}، {فَلَا يُظْهِرُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شوط مقدر تقديره: إذا عرفت أنّه تعالى عالم الغيب، وأردت بيان أنّه يظهر على غيبه أم لا فأقول لك: لا يظهر. {لا} نافية، {يُظْهِرُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {عَلَى غَيْبِهِ} متعلق بـ {يُظْهِرُ}، {أَحَدًا} مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ويجوز أن تكون الفاء عاطفة.

{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}. {إِلَّا} أداة استثناء، والاستثناء منقطع؛ أي: لكن من ارتضاه، فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي، أو متصل؛ أي: إلّا رسولًا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلّقة برسالته. {مَنِ} اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، {ارْتَضَى} فعل ماض وفاعل مستتر، {مِنْ رَسُولٍ} حال من {مَنِ} الموصولة أو مِنْ ضمير العائد، والجملة صلة الموصول. {فَإِنَّهُ} {الفاء}: تعليلية {إنه} ناصب واسمه، {يَسْلُكُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} متعلق بـ {يَسْلُكُ}، {وَمِنْ خَلْفِهِ} معطوف على {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}، {رَصَدًا} مفعول به، وجملة {يُظْهِرُ} في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، لأنها سيقت لتعليل الاستثناء، {لِيَعْلَمَ} اللام: حرف جرّ وتعليل، {يعلم} فعل مضارع منصوب بـ: أن مضمرة بعد لام {كي}، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة (أن) المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {يَسْلُكُ}، غاية له من حيث إنّه مترتب على الإبلاغ المترتّب عليه، {أَن} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {قَدْ} حرف تحقيق، {أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنْ} المخفّفة، وجملة {أنْ} المخقفة في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {يعلم}؛ أي: ليعلم إبلاغهم رسلات ربّهم. {وَأَحَاطَ} {الواو}: عاطفة على مقدر معلوم من السياق تقديره: فعلم ذلك، وأحاط بما لديهم. {أحاط} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على ذلك المقدر، {بِمَا} متعلق بـ {أحاط}، {لَدَيْهِمْ} صلة لـ {ما} الموصولة، {وَأَحْصَى} معطوف على {أحاط}، {كُلَّ شَيْءٍ} مفعول به {عَدَدًا}؛ تمييز محول عن المفعول؛ أي: أحصى عدد كل شيء، أو منصوب على الحال من كل شيء؛ أي: حال كونه معدودًا، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم أو على المصدر؛ لأنه في معنى إحصاء. التصريف ومفردات اللغة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} الإيحاء: إعلام في خفاء. وأصل أوحي أأحي، أبدلت الهمزة

الثانية واوًا حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} والاستماع: الإصغاء إلى الكلام مع قصد السماع له، والسماع: اتفاق سماعه من غير قصد إليه فكل مستمع سامع من غير عكس كما مرّ. {نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} والنفر: الجماعة بين الثلاثة إلى العشرة، وفي "القاموس": النفر: ما دون العشرة من الرجال كالنفير والجمع أنفار. وفي "المفردات": النفر: عدّة رجال يمكنهم النفر إلى الحرب. وفي "شرح القاموس" قال أبو العباس: النفر والرهط والقوم هؤلاء معناها الجمع لا واحد لها من لفظها، والنسب إليه نفريّ. قال الزجاج: النفير جمع نفر كالعبيد. {وَالْجِنُّ} اسم جنس، واحده جنيّ كروم وروميّ، سمّوا بذلك لاجتنانهم عن بني آدم. {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} والسماع: حصول السمع اتفاقًا، كما مرّ آنفًا. {عَجَبًا} مصدر بمعنى العجيب، وضع موضعه للمبالغة؛ أي: عجيبًا بديعًا مباينًا لكلام الناس في حسن النظم ودقّة المعنى. {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} وحقيقة الرشد إلاهتداء إلى مصالح الدين والدنيا. قال بعضهم: الرشد كالقفل خلاف الغيّ، يقال في الأمور الدنيوية والأخروية، والرشد كالذهب يقال في الأمور الأخروية فقط. {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}؛ أي: تنزّه جلاله وعظمته عمّا نسب إليه من الصاحبة والولد. وفي "القرطبي": الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا حَفِظ البقرة، وآل عمران جدّ في عيوننا؛ أي: عظم وجلّ. {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا}؛ أي: جاهلنا، وهو إبليس أو مردة الجنّ. والسفه: خفّة الحلم، أو نقيضه أو الجهل كما في "القاموس". وقال الراغب: السفه: خفّة في البدن، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية. والمراد في الآية هو السفه في الدين الذي هو السفه الأخرويّ، كذا في "المفردات". {شَطَطًا} هو مجاوزة الحد في الظلم وغيره. وفي "المفردات": الشطط: الإفراط في البعد؛ أي: قولًا ذا شطط؛ أي: بعد عن القصد ومجاوزة الحد، أو هو شطط في نفسه لفرط بعده عن الحق، فوصف بالمصدر للمبالغة، والمراد به نسبة الصاحبة والولد إليه تعالى. {كَذِبًا} مصدر مؤكد لـ {تَقُولَ}؛ لأنه نوع من القول. {يَعُوذُونَ} العوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به. أصله: يعوذون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى العين فسكنت بعد ضمة فصارت حرف مد. {فَزَادُوهُمْ} أصله:

زيدوهم، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. {رَهَقًا}؛ أي: تكبرا وعتوًا وسفهًا، فإن الرهق محركًا يجيء لمعان. منها: السفه وركوب الشر والظلم، كما مر. وفي "المختار": رهقه: غشيه، وبابه: طرف. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} واللمس: إدراك بظاهر البشرة كالمس. {حَرَسًا} اسم جمع لحارس من الحراسة، بمعنى حافظ كخدم لخادم، مفرد اللفظ، ولذلك وصفه بقوله: {شَدِيدًا}؛ أي: قويًّا، ولو كان جمعًا .. لقال: شدادًا. {وَشُهُبًا} جمع شهاب ككتب وكتاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكواكب، كذا قالوا. والله أعلم. {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} والآن ظرف للزمان الحاضر، استعير هنا للمستقبل. {شِهَابًا رَصَدًا} مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: مرصدًا مهيّأً له. {طَرَائِقَ قِدَدًا} قال في "المفردات": جمع الطريق طرق، وجمع الطرق طرائق، فالطرائق: جمع الجمع، والظاهر: أن الطرائق جمع طريقة كقصائد جمع قصيدة. والطريق هو المكان يطرق بالأرجل؛ أي: يضرب. ومنه: استعير كل مسلك يسلكه الإنسان في فعل شيء محمودًا كان أو مذمومًا. والهمزة في {الطرائق} مبدلة من الياء الموجودة في الاسم المؤنث لما وقعت ثالثة زائدة حرف مد فيه. {قِدَدًا}: جمع قد، وهو قطع الشيء طولًا، وصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق. وفي "القاموس": القدة: الفرقة من الناس هوى كل واحد على حدة، ومنه: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}؛ أي: فرقًا مختلفة أهواؤها، يجمع على قدد كسدرة وسدر. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} أصله: أأمنّا، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى. {فَلَا يَخَافُ} أصله: يخوف مضارع خوف بكسر الواو، يخوف بفتحها نقلت حركة الواو إلى الحاء فسكنت لكنها أبدلت الفاء لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {بَخْسًا}؛ أي: نقصًا عن ثواب الحسنات. {وَلَا رَهَقًا}؛ أي: ظلمًا بزيادة عقاب السيئات. {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}؛ أي: الجائرون العادلون عن الحق، من قسط بمعنى جار، وأما المقسطون فهم العادلون إلى الحق من أقسط بمعنى عدل إلى الحق واتبعه. {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}؛ أي: قصدوا هداية وطلبوها باجتهاد، ومنه: التحري في الشيء؛ أي: الاجتهاد فيه، يقال: حرى الشيء يحريه؛ أي: قصد حراه؛ أي:

جانبه، وتحرّاه كذلك. وأصله: تحريوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثمّ حذفت الألف لالتقاء الساكنين. والتحرّي في الأصل: طلب الأحرى والأليق قولًا أو فعلًا، كما مرّ. {رَشَدًا} يقال: رشد كنصر وفرح رشدًا رُشْدا ورشادًا: اهتدى كما في "القاموس"؛ أي: اهتداء عظيمًا إلى طريق الحقّ والصواب. {حَطَبًا}؛ أي: وقودًا للنار. والحطب: ما يعد للإيقاد. {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} أصله: استقوموا بوزن استفعلوا نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت لكنّها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} الغدق بفتح الدال وكسرها لغتان في الماء الغزير، ومنه: الغيداق للماء الكثير وللرجل الكثير العدوّ والكثير النطق. وفي "المصباح": غدقت العين غدقًا من باب تعب: كثر ماؤها، فهي غدقة، وفي التنزيل: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}؛ أي: كثيرًا، وأغدقت إغداقًا كذلك، وغدق المطر غدقًا، وأغدق إغداقًا مثله، وغدقت الأرض تغدق - من باب ضرب - إذا ابتلت بالغدق. {لَأَسْقَيْنَاهُمْ} الإسقاء والسقي بمعنى واحد. وقال الراغب: السقي والسقيا: هو أن تعطيه ماء ليشرب، والإسقاء: أن تجعل ذلك له حتى يتناوله كيف شاء، كما يقال: أسقيته نهرًا، فالإسقاء أبلغ. وغدق من باب علم إذا غزر. {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} يقال: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها، أي: يسلكه في عذاب صعد؛ أي: شاقٍّ. {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} أصله: قوم بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} جمع لبدة بالكسر نحو: قربة وقرب، وهي ما تلبَّد بعضه على بعض؛ أي: تراكب وتلاصق. ومنها: لبدة الأسد، وهي الشعر المتراكب بين كتفيه. {كَادُوا} أصله: كودوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَكُونُونَ} أصله يكونون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت الواو إثر ضمّة، فصارت حرف مدّ. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} والفرق بين الزمان والأمد: أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عامّ في المبدأ والغاية. {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أصله: ارتضى بوزن افتعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. وأصل الارتضاء: تناول مرضيّ الشيء: {وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} قال في "القاموس": الرصد محرّكًا: الراصدون؛ أي: الراقبون، يقال للواحد والجماعة كما في "المفردات".

{وَأَحَاطَ} أصله: أحوط بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الحاء فسكنت ثم أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ} أصله: أحصي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. وأصل الإحصاء: أن المحاسب إذا بلغ عقدًا معيّنًا من عقود الأعداد كالعشرة والمئة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العدد، فيبني على ذلك حسابه. {عَدَدًا} والعدد لغة: مطلق الكمية، فيدخل فيه الواحد، واصطلاحًا: ما ساوى نصف حاشيتيه السفلى والعليا القريبتين أو البعيدتين مثلًا الأربعة له حاشية قريبة عليا، وهي خمسة، وله حاشية سفلى قريبة وهي ثلاثة. فإذا جمعت ثلاثة مع خمسة يكون ثمانية، فالأربعة حينئذٍ نصف ثمانية، وقس على ذلك غيره. فيخرج بذلك الواحد، لأنّه ليس عددًا عند الحساب بل مبدأ عدد لفقد الحاشية السفلى له. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: وصف القرآن بالمصدر في قوله: {قُرْآنًا عَجَبًا} للمبالغة في مدحه، أي: عجيبًا في رصانة اللفظ وغزراة المعنى مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقّة المعنى. ومنها: طباق السلب في قوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} لأن الإيمان نفي الشرك. ومنها: عطف المسبّب على السبب في قوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} فإنَّ مجموع هذ الكلام معطوف مسبّب عن مجموع قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}، حيث شبه سلطان الله وغناه الذاتيان الأزليان ببخت الملوك ودولتهم وغنى الأغنياء، فأطلق اسم الجد عليه استعارة، كذا في "الروح". ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {فَزَادُوهُمْ} إفادة للتحقق والوقوع،

وفيه أيضًا إسناد الزيادة إلى الإنس والجنّ باعتبار السببية. ومنها: التشبيه في قوله: {وَأَنهُم ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُم}. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعتة في قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}؛ أي: طلبنا خبر السماء باستراقه، حيث شبه الطلب باللمس باليد في كون كلّ واحد منهما وسيلة إلى تعرّف حال الشي، فاشتقّ منه {لَمَسْنَا} بمعنى طلبنا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} لما بين اللفظين من الاشتقاق اللطيف. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ}؛ لأنّه ظرف حالي استعير للمستقبل. ومنها: حسن رعاية الأدب مع الخالق في قوله: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}، حيث نسبوا الخير إلى الله تعالى دون الشر سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء بأسلوب بديع. ومنها: القصر الادّعائيّ في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}، حيث قصروا الصلاح فيم، كأنّهم لم يعتدوا بصلاح غيرهم. ومنها: حذف الموصوف في التفصيل بـ {مِنْ} في قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}؛ أي: قوم دون أولئك الصالحين. ومنها: الطباق بين {الْإِنْسُ وَالْجِنُّ}، وبين {ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}، وبين {الْمُسْلِمُونَ والْقَاسِطُونَ}. ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}، حيث استعار الطرائق للمذاهب المختلفة، فإنه حقيقة في المكان الذي يطرق بالأرجل؛ أي: يضرب ثم استعير في كل مسلك يسلكه الإنسان في فعل محمودًا كان أو مذومًا، كما مرّ. ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}، فهذا لف نشر عليه على ترتيبه قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ} إلخ، وقوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}. ومنها: الاحتباك في قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}، وهو

الحذف من أحد المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر، كأنّه قال: لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا وغيًّا. ومنها: إيراد علمه تعالى في قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} لإبراز اعتنائه تعالى بأمر الإبلاغ ولإشعار ترتب الجزاء عليه والمبالغة في الحث عليه والتحذير من التفريط فيه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. * * *

خلاصة ما تضمَّنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على مقصدين: 1 - حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنّه كتاب يهدي إلى الرشد، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدًا يكذب على الله تعالى، وأن رجالًا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال مِنَ الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلويّ فمنعوا، وأن الجن لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأنّ الجن منهم الأبرار، ومنهم الفجّار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق. 2 - ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه إلى الخلق ككونه لا يشرك بربّه أحدًا، وأنّه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تمّ تفسير هذه السورة أوائل ليلة الجمعة ليلة التاسع والعشرين من شهر ربيع الأوّل من شهور سنة 29/ 3/ 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، آمين يا رب.

سورة المزمل

سورة المزمل سورة المزمل مكية، نزلت بعد سورة القلم. قال الماورديّ (¬1): كلها مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر، قال: وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلّا آيتين منها قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}. وقال الثعلبيّ: وإلا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ...} إلى آخر السورة، فمدنيّات. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وعدد آياتها (¬2): تسع عشرة أو عشرون آية. وعدد كلماتها: مئتان وخمس وثمانون كلمة. وحروفها: ثمان مئة وثمانية وثلاثون حرفا. التسمية: وسبب تسميتها بذلك: ما أخرجه (¬3) البزّار والطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الدلائل " عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسمًا تصدّون الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر. فتفرّق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتزمَّل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}. قال البزار بعد إخراجه من طريق معقى بن عبد الرحمن: إنّ معلى قد حدث عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه لكنه إذا تفرد بالأحاديث لا يتابع عليها. وأخرج أبو داود والبيهقي في "السنن" عن ابن عباس قال: بتّ عند خالتي ميمونة، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها: ركعتا الفجر، فحزرت قيامه في كل ركعة بقدر {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

مناسبتها ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه (¬1): 1 - أنه سبحانه ختم سورة الجن بدر الرسل عليهم السلام، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام. 2 - أنه قال في السورة السابقة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}، وقال في هذه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}. وقال أبو حيان (¬2): مناسبتها لما قبلها: في آخر ما قبلها {عَالِمُ اَلغَيبِ ...} الآيات، فأتبعه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} إعلامًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - ممن ارتضاه من الرسل، وخصه بخصائص، وكفاه شرّ أعدائه. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم في الناسخ والمنسوخ: سورة المزّمل فيها ستّ آيات منسوخات. أولاهنّ: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} نسخت بقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا}. الثانية: القليل بالنصف والنصف بقوله تعالى: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ}؛ أي: إلى الثلث. الثالثة: قوله: {ثَقِيلًا} نسخت بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ...} الآية. الرابعة: قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} نسخت بآية السيف. الخامسة: قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} نسخت بآية السيف. السادسة: قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} نسخت بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية (30) من سورة الإنسان، وقيل: نسخت بآية السيف. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين أوّل هذه السورة وآخر ما قبلها، وأمّا قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (¬1) معاملة العباد ببارئهم وخالقهم من العدم .. أردف ذلك بمعاملة بعضهم بعضًا، فبين أن ذلك يكون بأحد أمرين: 1 - مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش. 2 - هجرٍ جميلٍ بالمجانبة بالقلب والهوى والمخالفة في الأفعال مع المداراة ¬

_ (¬1) المراغي.

والإغضاء وترك المكافأة. ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه، فهو الكفيل بمجازاتهم. ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة والطعام ذي الغصة في يوم القيامة حتى تكون الجبال كثيبا مهيلًا. وبعد أن خوفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أحوال الدنيا، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذّبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرةً أخر، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدًّا تشيب من هوله الولدان، وأن السماء تنشق منه. قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بدأ السورة بشرح أحوال السعداء، وبين معاملتهم للمولى، ثم معاملتهم للخلق، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب في الآخرة، ثم توعدهم بعذاب الدنيا، وبعدئذٍ وصف شدة يوم القيامة. ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد، فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية، فليفعل. ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه. ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ، فليصلوا قدر ما يستطيعون، وليؤتوا زكاة أموالهم، ولسيتغفروا الله في جميع أحوالهم، فهو الغفور الرحيم. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) ...} الآيات، سبب نزولها: ما (¬1) أخرجه البزار والطبراني بسند واهٍ عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالت: سموا هذا الرجل اسمًا يصدر الناس عنه، قالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، فبلغ ذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتزمل في ثيابه فتدثر فيها، فأتاه جبريل فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعيّ في قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} قال: نزلت وهو في قطيفة. قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أنزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم، فأنزلت: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} أي: المتزمل؛ أي (¬1): المتلفّف بثيابه، من تزمّل بثيابه إذا: تلفّف بها وتغطى، فأدغم التاء في الزاي، فقيل: المزمّل بتشديدين. كان - صلى الله عليه وسلم - نائمًا بالليل متزمّلًا في قطيفة؛ أي: دثار مخمل، فأمر أن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة، ويختار التهجد على الهجود. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما جاءه جبريل خافه، فظن أن به مسًّا من الجن، فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجة مرتعدًا، وقال: زملوني. فبينما هو كذلك إذ جاءه جبريل، وناداه وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}. وعن عكرمة أن المعنى: يا أيها الذي زمل أمرًا عظيمًا؛ أي: حُمِّلَهُ. يعني: النبوة والرسالة. والزمل: الحمل، وازدمله: تحمّله، وكان يقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} بتخفيف الزاي، وفتح الميم المشددة اسم مفعول. وقرأ الجمهور (¬2): {الْمُزَّمِّلُ} بتشديد الزاي وكسر الميم المشدّدة، أصله: المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي. وقرأ أبي بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز وأبو عمران، والأعمش {يا أيها المتزمّل} على الأصل. وقرأ عكرمة وابن يعمر {المُزَمَّلُ} بتخفيف الزاي وفتح الميم المشدّدة على صيغة اسم المفعول من زمّل المضعّف. ومثل هذه القراءة قول امرىء القيس: كَأَنَّ بَشِيْرًا فِيْ أَفَانِيْنِ وَبَلِهِ ... كَبِيْرُ أُنَاسٍ فِي لِحَادِ مُزَمَّلِ قال السهيليّ: ليس المزمل من أسمائه - صلى الله عليه وسلم - التي يعرف بهاما ذهب إليه بعض ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط وزاد المسير.

[2]

الناس وعده في أسمائه، وإنما المزمل مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذا المدّثّر. وفي خطابه (¬1) - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ رضي الله عنه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها، أي: أغضبها وأغضبته، فأتاه وهو نائم قد لصق بجنبه التراب، فقال له: قم يا أبا تراب إشعارًا بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة رضي الله عنه: قم يا نومان، وكان نائمًا ملاطفة وإشعارًا بترك العتب. والتأديب. فقول الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} تأنيس وملاطفة له، ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة انتهى. وفي "فتح الرحمن": الخطاب الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ونحوه عام للأمة إلا بدليل يخصه. وهذا قول أحمد، والحنفية، والمالكية. وقال أكثر الشافعية: لا يعمهم إلا بدليل. وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لواحد من الأمة هل يعم غيره؟ قال الشافعي والحنفية والأكثر: لا يعم. وقال أبو الخطاب من أئمة الحنابلة: إن وقع جوابًا عم، وإلا فلا. 2 - {قُمِ اللَّيْلَ} ولا تتزمل ولا ترقد، ودع هذه الحال لما هو أفضل منها، وقم إلى الصلاة في الليل. وقرأ الجمهور (¬2): {قُمِ اللَّيْلَ} بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضمها إتباعًا لحركة القاف. وقرىء بفتحها طلبًا للتخفيف. قال عثمان بن جنيّ: الغرض بالحركة الهرب من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض. فانتصاب (¬3) {اللَّيْلَ} على الظرفية، ان كان الحدث الواقع فيه أعني: القيام المأمور به يستغرق جميع الليل، ولذلك صحّ الاستثناء منه؛ إذ لو كان غير مستغرق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[3]

لم يصح الاستثناء منه، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن، فلذلك استثني منه لراحة الجسد، فحذف (في) وأوصل الفعل إليه فنصب؛ لأن عمل الجر لا يكون في الفعل، والنصب أقرب إليه من الرفع، ومن ذلك قال بعضهم: هو مفعول نظرًا إلى الظاهر في الاستعمال، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} في أحد الوجهين كما سبق. وحد الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال بعضهم: إنّ الله اشتاق إلى مناجاة حبيبه، فناداه أن يقوم في جوف الليل. وقد قالوا: إنّ القيام والمناجاة ليسا من الدنيا بل من الجنة لما يجده أهل الذوق من الحلاوة. وقيل: معنى (¬1) {قُمِ} صل، عبر به عنه تجوزًا. {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء من الليل. أي: صل الليل كله إلا يسيرًا منه، والقليل من الشيء هو ما دون النصف، وقيل: ما دون السدس، وقيل: ما دون العشر. وقال مقاتل والكلبي: المراد بالقليل هنا الثلث. وقد أغنانا عن هذا الاختلاف. 3 - قوله: {نِصْفَهُ} بالنصب بدل من الليل الباقي بعد الاستثناء بدل الكل. والنصف (¬2) أحد شقي الشيء. أي: قم نصفه. والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزء المقارن للقيام والإيذان بفضله وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب. يعني: أنه يجوز أن يوصف النصف المستثنى بكونه قليلًا بالنسبة إلى النصف المشغول بالعبادة مع أنهما متساويان في المقدار من حيث إن النصف الفارغ لا يساويه بحسب الفضيلة والشرف، فالاعتبار بالكيفية لا بالكمية. وقال بعضهم: إن القلة في النصف بالنسبة إلى الكل لا إلى العديل الآخر، وإلا لزم أن يكون أحد النصفين المتساويين أقل من الآخر، وفيه أنه من عرائه عن الفائدة خلاف الظاهر، كما في الإرشاد. {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} أي: أو انقص القيام من النصف المقارن له إلى الثلث {قَلِيلًا} أي نقصانًا قليلًا أو مقدارًا قليلًا بحيث لا ينحط إلى نصف الليل 4 - {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي زد القيام على النصف المقارن له إلى الثلثين. فالمعنى: تخييره - صلى الله عليه وسلم - بين أن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر. أي: قم إلى الصلاة في الزمان المحدود المسمى بالليل إلا في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

الجزء القليل منه، وهو نصفه أو انقص القيام من نصفه أو زد عليه، فكأنه قال: قم ثلثي اللَّيل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن {نِصْفَهُ} بدل من قوله: {قَلِيلًا}، ويكون الضميران في {مِنهُ} و {عَلَيْهِ} راجعين إلى النصف المبدل من {قَلِيلًا}: فيكون المعنى {قُمِ اللَّيْلَ} إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه. قال الواحدي: وهذا المعنى هو الظاهر. قيل: وهذا التخيير (¬1) بحسب طول الليالي وقصرها، فالنصف إذا استوى الليل والنهار، والنقص منه إذا قصر الليل، والزيادة عليه .. إذا طال الليل. فكان (¬2) النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقومون على هذه المقادير، وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه؟ فكان يقوم الليل كله حتى يصبح، مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب. واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم، فرحمهم الله تعالى، وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. قيل: ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أوّلَها إلا هذه السورة، وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة، وقيل: ستة عشر شهرًا. وكان قيام الليل فرضًا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس، وثبتت فريضته على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}. والمعنى: يا أيها النبي المتزمل بثيابه المتهيّىء للصلاة دم عليها الليل كله إلا قليلًا. ثم فسر هذا القليل: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} إلخ؛ أي إلا قليلًا وهو النصف أو انقص من النصف، أو زد على النصف إلى الثلثين، فهو - صلى الله عليه وسلم - قد خير بين الثلث والنصف والثلثين. وقصارى ذلك: أنه أمر أن يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه قليلًا أو ينقص منه قليلًا، ولا حرج عليه في واحد من الثلاثة. أخرج مسلم عن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن. فقلت: فقيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أم المؤمنين؟ قالت: ألست تقرأ المزّمّل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض القيام في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[5]

أوّل هذه السورة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة. فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة. واختلف في الناسخ لهذا الأمر، فقيل: هو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى آخر السورة. وقيل: هو قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وقيل: هو قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، وقيل غير ذلك. وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} في أثناء ما ذكر من قيام الليل؛ أي: اقرأه على تؤدةٍ وتمهلٍ وتبيين حروف. {تَرْتِيلًا} بليغًا وتبيينًا واضحًا بحيث يتمكن السامع من عدها، ولذا نهى ابن مسعود رضي الله عنه عن التعجل، وقال: ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. يعني: لا بد للقارىء من الترتيل ليتمكن هو ومن حضره من التأمل في حقائق الآيات. فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يقع في الرجاء والخوف، وليسلم نظم القرآن من الخلل والزلل. قال في "الكشاف": ترتيل القرآن قراءته على ترسّل وتؤدة بتبيين الحروف، وإشباع الحركات حتى يجيء المتلوّ منه شبيهًا بالثغر المرتل، وهو المفلّج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهزّه هزًا، ولا يسرده سردًا. والأمر بترتيل القرآن يشعر بأنّ الأمر بقيام الليل نزل بعدما تعلم - صلى الله عليه وسلم - مقدارًا منه وإن قلّ. 5 - وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} على الاستقبال بالنسبة إلى بقيّة القرآن. ثم الظاهر أن الأمر به يعم الأمة، لأنه أمر مهم للكل، والأمر للوجوب، كما دل عليه التأكيد بالمصدر أو للندب. والمعنى: واقرأ القرآن على تمهّل، فإنه أعون على فهمه وتدبّره، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم -. قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وجاء في الحديث: "زيّنوا القرآن بأصواتكم" ولقد أوتى هذا مزمارًا من مزامير آل داود". يعني: أبا موسى الأشعريّ، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنّك كنت تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرًا". "وعن عبد الله بن مغفّل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح، فرجع في قراءته"، أخرجه

الشيخان. وعن جابر: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن، وفينا العربي والعجمي فقال: "اقرؤوا وكلٌ حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح - السهم - يتعجلونه ولا يتأجلونه، لا يجاوز تراقيهم". رواه أبو داوُد. قال في "فتح البيان": (¬1) والمقصود من الترتيل إنّما هو حضور القلب عند القراءة، لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء، كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها في مكة المكرّمة، وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع، وأدلتها الصادقة، وليس هذا أول قارورة كسرت في الإسلام اهـ. والحكمة في ترتيل القرآن: التمكن من التأمل في حقائق الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله. فإن الإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية، ومن سرّ بشيء أحب ذكره كما أن من أحب شيئًا لا يحب أن يمر عليه مسرعًا. وكان - صلى الله عليه وسلم - مجوّدًا للقرآن كما أنزل (¬2)، وتجويده تحسين ألفاظه بإخراج الحروف من مخارجها وإعطاء حقوقها من صفاتها، كالجهر والهمس واللين ونحوها، وذلك بغير تكلف، وهو ارتكاب المشقّة في قراءته بالزيادة على أداء مخرجه، والمبالغة في بيان صفته، فينبغي أن يتحفظ في الترتيل عن التمطيط، وهو التجاوز عن الحد، وفي الحد. عن الإدماج والتخليط بأن تكون قراءته بحال كأنه يلف بعض الحروف والكلمات في بعض آخر لزيادة السرعة. واعلم: أن التجويد على ثلاث مراتب: ترتيل وحدر وتدوير: أما الترتيل: فهو تؤدة وتأن وتمهل، وهو مختار ورش وعاصم وحمزة، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ القرآن" أي ختمة "أقل من ثلاث" أي في أقل من ثلاث ليالٍ "لم يفهمه". وفي "قوت القلوب": أفضل القراءة الترتيل؛ لأن فيه التدبر والتفكر، وأفضل الترتيل والتدبر للقرآن ما كان في صلاة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لأن أقرأ البقرة أرتلها وأتدبرها أحب إلى من أن أقرأ القرآن كله هذرمةً؛ أي: سرعة. وأما الحدر: فهو الإسراع في القراءة، كما روي: أنه ختم القرآن في ركعة واحدة أربعة من الأمة: عثمان بن عفّان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة رضي الله عنهم. وهذا؛ أي: الحدر مختار ابن كثير وأبي عمرو وقالون. وأمّا التدوير: فهو التوسط بين الترتيل والحدر، وهو مختار ابن عامر والكسائي. وهذا كله إنما يتصور في مراتب الممدود. وفي الحديث: "رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه". وهو (¬1) متناول لمن يخل بمبانيه، أو معانيه أو بالعمل بما فيه، وذلك موقوف على بيان اللحن. وهو قسمان: جلي وخفيّ: فالجليّ: خطأ يعرض للفظ، ويخلّ بالمعنى بأن بَدَّلَ حرفًا مكان حرف بأن يقول مثلًا: الطالحات بدل الصالحات، وبالإعراب كرفع المجرور ونصبه سواء تغيَّر المعنى به أم لا، كما إذا قرأ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بجرّ {رسوله}. والخفي: خطأ يخل باصطلاحات القراء المعروفة لديهم كترك الإخفاء والإدغام والإظهار والقلب، وكترقيق المفخّم عكسه ومد المقصور وقصر الممدود، وأمثال ذلك. ولا شك أن هذا النوع مما ليس بفرض عين يترتب عليه العقاب الشديد، وإنما فيه التهديد وخوف العقاب. قال بعضهم: اللحن الخفي هو الذي لا يعرفه إلا مهرة القراء من تكرير الراءات وتطنين النونات وتغليظ اللامات وترقيق الراءات في غير محلّها لا يتصور أن يكون من فرض العين يترتب عليه العقاب على فاعلها، لما فيه من حرج، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وقال بعض أهل العلم: ومن الفتنة أن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء لا تجوز الصلاة بدون التجويد، وهم لا يقدرون على التجويد، فيتركون الصلاة رأسًا. فالواجب أن يعلم مقدار ما يصح به النظم والمعنى ويتوغل في الإخلاص وحضور القلب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

ثم أتى بجملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي، ليبين سهولة ما كلفه من القيام، فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ}؛ أي: سنوحي إليك. وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى: {قَوْلًا ثَقِيلًا} بانطوائه على التكاليف الشاقّة، وهو القرآن العظيم المنطوي على تكاليف شاقّة ثقيلة على المكلّفين، وأيضًا إنّ القرآن قديم غير مخلوق، والحادث يذوب تحت سطوة القديم إلّا من كان مؤيّدًا كالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الجملة اعتراض بين الأمر وهو {قُمِ اللَّيْلَ}، وبين تعليله وهو {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} إلخ، لتسهيل ما كلفه - صلى الله عليه وسلم - من القيام. يعني: أنّ في توصيف ما سيلقي عليه بالثقل إيماءً إلى أنَّ ثقل هذا التكليف بالنسبة إليه كالعدم، فإذا كان ما سيكلف أصعب وأشقّ، فقد سهل هذا التكليف. وفي "الكشاف": أراد بهذا الاعتراض أنً ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الصعبة التي ورد بها القرآن؛ لأن الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادّة لطبعه ومجاهدة لنفسه، فمن استأنس بهذا التكليف لا يثقل عليه أمثاله. والمعنى: أي إنا سننزل عليك القرآن، وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه، فلا تبال بهذه المشقّة، وامْرُنْ عليها لما بعدها. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلًا لا يحمله إلا قلب مؤيَّدٌ بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وفي "فتح الرحمن": وصف القرآن بالثقل لثقله بنزول الوحي على نبيه حتى كان يعرف في اليوم الثاني أو لثقل العمل بما فيه أو لثقله في الميزان أو لثقله على المنافقين. وقد يكون (¬1) المراد أنّه ثقيل في الوحي، فقد جاء في حديث البخاري ومسلم: "إنّ الوحي كان يأتيه - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّه عليه، فيفصم عنه - يفارقه - وقد وعى ما قال، وأحيانًا يتمثّل له الملك رجلًا، فيكلّمه فيعي ما يقول، وان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقًا" يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

6 - ثم عقل الأمر بقيام الليل فقال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}؛ أي: إنَّ قيام الليل وعبادته التي تنشأ، وتحدث فيه على أنّ الناشئة مصدر من نشأ بمعنى: نهض وقام كالعافية بمعنى العفو. وهذا وافق لسان الحبشة، حيث يقولون: نشأ إذا قام. {أَشَدُّ}؛ أي: أشقّ {وَطْئًا}؛ أي: تعبًا وضررًا؛ أي: أثقل وأغلظ على المصلّي من صلاة النهار، فيكون أفضل وأكثر أجرًا، فإن كل واحد من قيام الليل ومن العبادة التي تحدث فيه ثقيلان على العابد من قيام النهار والعبادة فيه. ويحتمل (¬1) أن يكون المراد بناشئة الليل ساعاته، فإنها تحدث واحدة بعد واحدة، أي: ساعات الليل الناشئة؛ أي: الحادثة شيئًا فشيئًا، فتكون الناشئة صفة ساعات الليل أشدّ وطئًا؛ أي: بملاحظة القيام منها؛ أي: إن ساعات الليل أشد مواطأة؛ أي: أكثر موافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان لانقطاع الحركات والأصوات فيها، وأثبت للعبادة؛ لأن الليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش وعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبيّ: أشدّ نشاطًا وأكثر فراغًا. ويحتمل أن يكون المعنى: إن النفس التي تنشأ وتنهض وتقوم في الليل من مضجعها إلى العبادة، من نشأ من مكانه إذا نهض. فالموصوف محذوف، والإضافة للملابسة بمعنى النفس الناشئة القائمة للصلاة في الليل. {هِيَ} خاصة {أَشَدُّ وَطْئًا}؛ أي: كلفة وثقلًا. مصدر قولك: وطىء الشيء؛ أي: داسه برجله أو جعل عليه ثقله، فإن النفس القائمة بالليل إلى العبادة أشد وطئًا وكلفةً ومشقةً من التي تقوم بالنهار، فلا بد من قيام الليل، فإن أفضل العبادات أشقها. ويجوز أن يكون معنى {أَشَدُّ وَطْئًا}: أشد ثبات قدمٍ واستقرارها، فيكون المقصود بيان وجه اختيار الليل وتخصيصه بالأمر بالقيام فيه من حيث إنه تعالى جعل الليل لباسًا يستر الناس، ويمنعهم عن الاضطراب والانقلاب في اكتساب المعاش، وجعل النهار معاشا يباشرون فيه أمور معاشهم، فلا تثبت فيه أقدامهم للعبادة. {وَأَقْوَمُ قِيلًا}؛ أي: (¬2) أصوب قراءة، وأصح قولًا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات. وقيل: معناه أبين قولًا للقرآن. والحاصل: أن عبادة الليل أشد نشاطًا، وأتم إخلاصًا، وأبعد عن الرياء، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

[7]

وأكثر بركة، وأبلغ في الثواب، وأدخل في القبول. قرأ الجمهور (¬1): بفتح الواو وسكون الطاء مقصورًا، واختار هذه القراءة أبو حاتم. والمعنى: إنّ الصلاة في ناشئة الليل وساعاته أثقل على المصلّي من الصلاة في ساعات النهار، لأنّ الليل وقت الراحة والنوم. وقرأ أبو العالية وابن أبي إسحاق، ومجاهد، وأبو عمرو، وابن عامر، وحميد، وابن محيصن، والمغيرة، وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودًا، واختار هذه القراءة أبو عبيد. والمعنى عليها: أنها أشد مواطأة؛ أي: موافقة بين اللسان والقلب والسمع والبصر لانقطاع الأصوات والحركات فيها من واطأت فلانًا إذا وافقته، ومنه: قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}؛ أي: ليوافقوا. 7 - {إِنَّ لَكَ} يا محمد {فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}؛ أي: تقلّبًا كثيرًا وتصرّفًا في مهماتك كتردد السابح في الماء، واشتغالًا كثيرًا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرّغ للعبادة، فعليك بها في الليل، فعليك بها في الليل. وهذا بيان للداعي الخارجيّ إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي. وقيل معنى الآية: إن فاتك من الليل شيء ذلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه حتى لا ينقص شيء من حظك من المناجاة لربك، ويناسبه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن حزبه، أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". وقيل: سبحًا سبحةً؛ أي: نافلةً. وقرأ الجمهور (¬2): {سَبْحًا} بالحاء المهملة؛ أي: تصرفا في حوائجك وإقبالًا وإدبارًا وذهابًا ومجيئًا في أشغالك كما يتردد السابح في الماء يقلب يديه ورجليه. قال الشاعر: أبَاحُوْا لَكُمْ شَرْقَ الْبِلاَدِ وَغَرْبَهَا ... فَفِيْهَا لَكُمْ يَا صَاحِ سَبْحٌ مِنَ السَّبْحِ وقرأ يحيى بن يعمر، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وأبو وائل {سبخا} بالخاء المعجمة. ومعناه: خِفَّةً من التكاليف وسعةً واستراحةً، يقال: سبخ الله عنك الحمى؛ أي: خففها. وقيل معنى {سبخا}؛ أي: فراغًا وسعة لنومك وتصرّفك في ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[8]

حوائجك، ويقال: سبخ الحر: فتر وخف، ومنه قول الشاعر: فَسبِّخْ عَلَيْكَ الهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا فَكَائِنُ أي: خفف عنك الهم. ومعنى الآية (¬1): أي إن لك في النهار تقلبًا وتصرَّفًا في مهام أمورك واشتغالًا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل. 8 - ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له، فقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ}؛ أي: ودم على ذكره تعالى ليلًا ونهارًا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم، خصوصًا بعد صلاة الغداة وصلاة العصر؛ لأنه وقت يتعاقب فيه ملائكة الليل والنهار. وقيل: ادعه بأسمائه الحسنى. وقيل: اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته. وقال الكلبيّ: المعنى: صل لربك. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}؛ أي: وانقطع إليه تعالى انقطاعًا بالاشتغال بعبادته من تبتل إلى الشيء إذا انقطع إليه؛ أي: وانقطع إلى ربك انقطاعًا تامًّا بالعبادة وإخلاص النية والتوجه الكلّيّ. وليس (¬2) هذا يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رهبانية ولا تبتّل في الإِسلام "؛ لأن ما هنا هو الانقطاع عن الشواغل إلى العبادة، والمنفيّ في الحديث هو الانقطاع عن النكاح. ومنه قيل لمريم العذراء: البتول؛ أي: المنقطعة عن الرجال. ووضع {تَبْتِيلًا} مكان تبتلا لرعاية الفواصل. قال الواحدي: والتبتّل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى. والمعنى: أي ودم على ذكره ليلًا ونهارًا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن، وانقطع إليه بالعبادة، وجرّد إليه نفسك، وأعرض عمّا سواه. ونحو الآية: قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)}؛ أي: فإذا فرغت من شؤونك فانصب في طاعته وعبادته، لتكون فارغ القلب خاليًا من الهواجس والوساوس الدنيوية. 9 - ثم بين السبب في الأمر بالذكر والتبتل فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}؛ أي: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[10]

هو ربهما وخالقهما ومالكهما وما بينهما من كل شيء. قال في "كشف الأسرار": يريد به جنس المشارق والمغارب في الشتاء والصيف. قرأ (¬1) حمزة، والكسائيّ، وأبو بكر، وابن عامر، ويعقوب بجر {رَبُّ} على النعت لـ {رَبِّكَ} أو البدل منه أو البيان له. وقرأ باقي السبعة برفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. وقرأ زيد بن عليّ بالنصب على المدح. وقرأ الجمهور {الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} بإفرادهما. وقرأ عبد الله وأصحابه وابن عباس بجمعهما. وقال الزمخشري: وعن ابن عباس على القسم يعني خفض {رَبُّ} بإضمار حرف القسم كقولك: الله لأفعلنّ، وجوابه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيدًا انتهى. ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس. وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} استئناف لبيان ربوبيته بنفي الألوهية عما سواه. والفاء: في قوله: {فَاتَّخِذْهُ} لمصالح دينك ودنياك {وَكِيلًا}؛ أي: موكولًا ومفوّضًا إليه لإصلاحها وإتمامها، واسترح أنت. {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه المختص بالربوبية، وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك: اتخذه وكيلًا؛ أي: قائمًا بأمورك، وعول عليه في جميعها. وقيل: كفيلًا بما وعدك من الجزاء والنصر. 10 - {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني: قريشًا مما لا خير فيه من الخرافات والهذيانات في حق الله تعالى من الشريك والصاحبة والولد، وفي حقك من الساحر والشاعر والكاهن والمجنون، وفي حق القرآن من أنه أساطير الأوّلين، ونحو ذلك. وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} تأكيد للأمر بالصبر؛ أي: واتركهم تركًا حسنًا بأن تجانبهم بقلبك وهواك، وتداريهم ولا تكافئهم، وتكل أمورهم إلى ربهم، كما أعرب به ما بعد الآية. قال الحكماء: تسلح على الأعداء بحسن المداراة حتى تبصر فرصة. وقيل: الهجر الجميل الذي لا جزع فيه، وهذا كان قبل الأمر بالقتال. 11 - {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} بك وبالقرآن؛ أي: دعني وإياهم، ولا تهتم بهم، فإنّي أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم. قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة، وقد تقدم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[12]

ذكرهم في سورة {ن}. وقال يحيى بن سلام: هم بنو المغيرة، وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر. وقال بعضهم (¬1): يجوز نصب {المكذبين} هو على المعيّة؛ أي: دعني معهم وهو الظاهر. ويجوز على العطف؛ أي: دعني على أمري مما تقتضيه الحكمة ودع المكذّبين بك وبالقرآن، وهو أوفق للصناعة؛ لأن النصب إنما يكون نصًا في الدلالة على المصاحبة؛ إذا كان الفعل لازمًا، وهنا الفعل متعد. {أُولِي النَّعْمَةِ} صفة لـ {المكذبين}، وهم صناديد قريش؛ أي: أرباب الغنى والسعة والترفّه واللذة في الدنيا. {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}؛ أي: تمهيلًا قليلًا على أنه صفة لمصدر محذوف أو زمانًا قليلًا على أنّه صفة لزمان محذوف. والمعنى: أمهلهم إلى انقضاء آجالهم، وقيل: إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر. والأوّل أولى لقوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} وما بعده، فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة. والمعنى: ودعني والمكذّبين المترفين أصحاب الأموال، فإنّي أكفيك أمرهم، وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم قليلًا حتى يبلغ الكتاب أجله، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم. ونحو الآية: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. والخلاصة: خل بيني وبينهم فسأجازيهم بما يستحقون. روي: أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين، وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر. 12 - ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورًا أربعة: 1 - {إِنَّ لَدَيْنَا} في الآخرة وفيما هيّأناه للعصاة من آلات العذاب وأسبابه، وهو أولى من قول بعضهم: في علمنا وتقديرنا؛ لأنّ المقام مقام تهديد العصاة، فوجود آلات العذاب بالفعل أشد تاثيرًا على أن تلك الآلات صور الأعمال القبيحة. ولا شك أن معاصري النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار قد قدموا تلك الآلات بما فعلوا من السيئات {أَنْكَالًا}؛ أي: قيودًا ثقالًا، يقيد بها أرجل المجرمين إهانة لهم وتعذيبا لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[13]

خوفًا من فرارهم. جمع نكل بالكسر، وهو القيد الثقيل. والجملة تعليل (¬1) للأمر قبلها من حيث إنّ تعداد ما عنده من أسباب التعذيب الشديد في حكم بيان اقتداره على الانتقام منهم، فهم يتنعمون في الدنيا ولا يبالون، وعند الله العزيز المنتقم في الآخرة أمور مضادّة لتنعمهم. 2 - {وَجَحِيمًا}؛ أي: نارًا مؤجّجة مستعرة تشوي الوجوه، وقيل: كلّ نار عظيمة في مهواة. وفي "الكشاف": هي النار الشديدة الحر والاتقاد. 3 - 13 {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ}؛ أي: لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه، فلا ينزل ولا يخرج. قال مجاهد: هو الزقّوم. وقال الزجاج: وهو الضريع. وفي "الروح": والغصّة هو كلّ ما ينشب في الحلق، ويعلق من عظم وغيره فلا ينساغ؛ أي: طعامًا غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج كالضريع والزقّوم، وهما في الدنيا من النباتات والأشجار سمّان قاتلان للحيوان الذي يأكلهما مستكرهان عند الناس، فما ظنّك بضريع جهنم وزقومها. وهو في مقابلة الهنيء والمريء لأهل الجنة، وإنّما ابتلوا بهما لأنّهم أكلوا نعمة الله وكفروا بها. 4 - {وَعَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: نوعًا آخر من العذاب مؤلمًا لا يقادر قدره، ولا يدرك كنهه. كما يدل عليه التنكير، كل ذلك معد لهم ومرصد، فالمراد بالعذاب سائر أنواع العذاب. والمعنى (¬2): أي إنّ لدينا لهؤلاء المكذّبين بآياتنا قيودًا ثقيلة توضع في أرجلهم، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا إذلالًا لهم. قال الشعبيّ: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله ولكنّهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم، ونارًا مستعرة تشوي الوجوه، وطعامًا لا يستساغ، فلا هو نازل في الحلق ولا هو خارج منه كالزقوم والضريح، كما قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}، وقال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}. {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أي: ألوانًا أخرى من العذاب المؤلم الموضع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[14]

والخلاصة: أنّ لدنيا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصون به، والعذاب الأليم. وعن الحسن: أنه أمسي صائمًا فأتي بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية، فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البنانيّ ويزيد الضبّيّ ويحيى البكاء، فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. 14 - وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال: {يَوْمَ تَرْجُفُ} وتضطرب وتتحرك {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} وانتصاب (¬1) الظرف إمّا بـ {ذرني} أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو صفة لـ {عذابا}، فيتعلق بمحذوف؛ أي: عذابًا واقعًا يوم ترجف الأرض، أو متعلق بـ {أَلِيمًا}. وقرأ الجمهور {أَلِيمًا} بفتح التاء وضم الجيم مبنيًّا للفاعل. وقرأ زيد بن علي بضمها مبنيًا للمفعول، مأخوذ من أرجفها، أي: إنَّ لدينا أنكالًا وجحيمًا وعذابًا أليمًا يوم تتحرك وتضطرب الأرض والجبال بمن عليها، وتتزلزل زلزلةً شديدة بهيبة الله وجلاله؛ ليكون علامة يخطيء القيامة وأمارة لجريان حكم الله في مؤاخذة العاصين. والرجفة: الزلزلة، والزعزعة الشديدة. وأفرد (¬2) الجبال بالذكر مع كونها من الأرض لكونها أجسامًا عظامًا أوتادًا لها، فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار، وأيضًا إنّ زلزلة العلويّات أظهر من زلزلة السفليات، ومن زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفًا من الوقوع .. {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} من شدّة الرجفة مع صلابتها وارتفاعها {كَثِيبًا}؛ أي: رملا مجتمعا {مَهِيلًا}؛ أي: رخوًا ليّنًا سائلًا. وفي "القاموس": الكثيب: التل من الرمل انتهى، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ثم صار اسمًا بالغلبة للرمل المجتمع؛ أي: صارت مثل رمل مجتمع هيل هيلًا؛ أي: نثر وأسيل بحيث لو حرك من أسفله انهال من أعلاه وسال، لتفرق أجزائه كالعهن المنفوش، ومثله هذا الرمل يمر تحت الرجل ولا يتماسك، فكونه متفرق الأجزاء منثورًا سائلًا لا ينافي كونه رملًا مجتمعًا. فـ {مَهِيلًا} اسم مفعول من هال يهيل هيلا كباع يبيع بيعًا ومبيعًا، لا فعيل من مهل يمهل. وخص (¬3) الجبال بالتشبيه بالكثيب المهيل، لأنّ ذلك خاصة لها، فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة، دل عليه قوله ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[15]

تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}. والحاصل: أنّ الأرض والجبال يدق بعضها ببعض، كما قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}. فترجع الجبال كثيبًا مهيلًا، ثم ينسفها الريح فتصير هباء منبثًّا وتبقى الأرض مكانها ثم تبدل، كما مر. وإنما عبر بالماضي في الجبال لتحقق وقوعه. والمعنى (¬1): أي ذلك العذاب في يوم تضطرب فيه الأرض، وتزلزل الجبال، وتتفرق أجزاؤها وتصير كالعهن المنفوش وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجارة صماء، ثم ينسفها ربي نسفًا، فلا يبقى منها شيء. 15 - وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا أهل مكة {رَسُولًا}، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وكونه مرسلًا إليهم لا ينافي إرساله إلى من عداهم، فإن مكة أم القرى، فمن أرسل إلى أهل مكة فقد أرِسل إلى أهل الدنيا جميعًا، ولذا نص الله تعالى عليه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، ليندفع أوهام أهل الوهم. {شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} يشهد عليكم يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان، وكذا يشهد على غيركم، كما قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}. {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} هو موسى عليه السلام؛ لأنَّ هارون عليه السلام ردء له وتابع، وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه، وتخصيص فرعون لأنه من رؤساء أولى النعمة المترفهين المتكبرين، فبينه وبين قريش جهة جامعة ومشابهة حال ومناسبة سريرة. قيل: إنما خص موسى وفرعون بالذكر؛ لأن أخبارهما كانت منتشرة بمكة. 16 - {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}؛ أي: فعصى (¬2) فرعون المعلوم حاله كبرًا وتنعمًا الرسول الذي أرسلناه إليه. ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف؛ أي: إنا أرسلنا إليكم رسولًا فعصيتموه، كما يعرب عنه قوله تعالى: {شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} إرسالًا كائنًا كإرسالنا إلى فرعون رسولًا، فعصاه بأن جحد رسالته، ولم يؤمن به. وفي إعادة فرعون والرسول مُظْهرين تفظيع لشان عصيانه، وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[17]

عصيان موسى. وفي ترك ذكر أملاء فرعون إشارة إلى أن كل واحد منهم كأنه فرعون في نفسه لتمرده. {فَأَخَذْنَاهُ} بسبب عصيانه {أَخْذًا وَبِيلًا}؛ أي: ثقيلًا شديدًا. والوبيل: الثقيل الغليظ، ومنه: الوابل للمطر العظيم، والكلام خارج عن التشبيه، جيء به للتنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة. والمعنى (¬1): أي إنّا أرسلنا إليكم رسولًا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتي، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقونني في القيامة، كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا يدعوه إلى الحق، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه، فأخذناه أخذًا شديدًا، فأهلكناه ومن معه بالغرق، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم مثل ما أصابه. وقصارى ذلك: كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصاه، فأخذناه أخذًا وبيلًا أرسلنا إليكم رسولًا شاهدًا عليكم، فاحذروا أن تعصوه، فيصيبكم مثل ما أصابه. 17 - وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة، فقال: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} أي: كيف تتقون وتحفظون أنفسكم {إِنْ كَفَرْتُمْ}؛ أي: إن بقيتم على كفركم {يَوْمًا}، أي: عذاب يوم {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ} والصبيان {شِيبًا}؛ أي: شيوخًا لشدة هوله. وقرأ الجمهور {يَوْمًا} منونا {يَجْعَلُ} بالياء، والجملة صفة لـ {يَوْمًا}. وقرأ زيد بن عليّ {يَوْمًا} بغير تنوين، و {نجعل} بالنون، فالظرف مضاف إلى الجملة. والشيب: جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك أو تمثيلًا لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه، وضعفت أعضاؤه وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة. وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم. و {يَوْمًا} مفعول به لتتقون. قال ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم بـ {كفرتم}، وهذا قبيح انتهى. قال ابن الشيخ: قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} مرتب على الإرسال، فالعصيان، وكان الظاهر أن يقدم على قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا} إلا أنه أخر زيادة في التهويل؛ إذ علم من ¬

_ (¬1) المراغي.

قوله: {فَأَخَذْنَاهُ} أنهم مأخوذون مثله وأشد، فإذا قيل بعده: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} كان ذلك زيادة كأنه قيل: هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون وأمثاله، فكيف تتقون؟ أي: تقون أنفسكم عذاب يوم إلخ. فاتَّقى هنا بمعنى وقى المتعدي إلى مفعولين؛ لأن افتعل يجيء بمعنى فعل الثلاثي. نص عليه الزمخشري في "المفصل". ويجوز (¬1) أن يكون {يَوْمًا} ظرفًا؛ أي: فكيف لكم بالتقوى، والتوحيد في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أي: لا سبيل إليه لفوات وقته، فاتقى على حاله، وكذا {إذا} انتصب بـ {كَفَرْتُمْ} على تأويل جحدتم؛ أي: فكيف تتقون الله وتخشون عقابه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ} من شدة هوله وفظاعة ما فيه من الدّواهي، وهو صفة لـ {يَوْمًا}، نسب الجعل إلى اليوم للمبالغة في شدته، وإلا فنفس اليوم لا تأثير له ألبتة. و {الْوِلْدَانَ}: جمع وليد، يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان في الأصل يصح إطلاقه على من قرب عهده بها ومن بعد. {شِيبًا}؛ أي: شيوخًا جمع أشيب، والشيب: بياض الشعر كبيض جمع أبيض، وسيأتي تمام البحث فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى، وقد سبق لك قريبًا أن جعلهم شيوخًا إما محمول على الحقيقة كما ذهب إليه بعضهم. فإن قلت: إيصال الألم والضرر إلى الصبيان يوم القيامة غير جائز بل هم لكونهم غير مكلفين معصومون محفوظون عن كل خطر. قلت: قد يكون في القيامة من هيبة المقام ما يجثوا به الأنبياء عليهم السلام على الركب، فما ظنك بغيرهم من الأولياء والشيوخ والشبان والصبيان؟ وفي الآية مبالغة، وهي أنه إذا كان ذلك اليوم يجعل الولدان شيبًا، وهم أبعد الناس من الشيخوخة لقرب عهدهم بالولادة، فغيرهم أولى بذلك. وإما محمول على التمثيل بأن شبه اليوم في شدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبان لكثرة همومه وأهواله. وأصله: أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء .. ضعفت قواه، وأسرع فيه الشيب؛ لأنّ كثرة الهموم توجب انعصار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانعصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وضعفها وانطفاؤها يوجب بقاء الأجزاء ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

الغذائية غير تامة النضج، وذلك يوجب بياض الشعر ومسارعة الشيب بتقدير العزيز العلم، كما يوجب تغير القلب تغير البشرة، فتحصل الصفرة من الوجل والحمرة من الخجل والسواد من بعض الآلام، وما على البدن من الشعر تابع للبدن فتغيره يوجب تغيره. فثبت أن كثرة الهموم توجب مسارعة الشيب، كما قال المتنبي: وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيْمَ نَحَافَةً ... وَيُشِيبُ ناصِيَةً الصَّبِيَّ وَيُهْرِمُ وقال الآخرُ: دَهَتْنا أُمُوْرٌ تُشِيبُ الوَلِيدَ ... وَيَخْذِلُ فِيهَا الصَّدِيقُ الصَّدِيقْ فلما كان حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوه كناية عن الشدّة، فجعل اليوم المذكور الولدان شيبًا عبارة عن كونه يومًا شديدًا غاية الشدّة. 18 - ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدّة، فقال: {السَّمَاءُ} مبتدأ، خبره قوله: {مُنْفَطِرٌ بِهِ}؛ أي: منشق بسبب ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى مسبب الأسباب، فيجوز أن يجعل شدة ذلك اليوم سببًا للانفطار، والجملة صفة أخرى لـ {يَوْمًا}؛ والباء سببية؛ أي: متشقّقة بسببه لشدّته وعظيم هوله. وقيل: هي بمعنى في؛ أي: منفطر فيه، وقيل: بمعنى اللام؛ أي: منفطر له. وإنما قال: {مُنْفَطِرٌ} ولم يقل: منفطرة لتنزيل السماء منزلة الشيء، لكونها قد تغيّرت، ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء. وقال الفراء: السماء تذكر وتؤنث. وقيل: غير ذلك. وقيل: الضمير في {بِهِ} عائد إلى الله؛ أي: منفطر بالله، والمراد منفطر بأمره تعالى. والأول أولى. واعلم: أن الله ذكر من هول ذلك اليوم أمرين: الأول: قوله تعالى: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}. والثاني: قوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}؛ لأن السماء على عظمتها وقوتها إذا انشقت بسبب ذلك اليوم، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ فالباء للسببية، وهو الظاهر. وتذكير الخبر لإجرائه على موصوف مذكر؛ أي: شيء منفطر، عبر عنها بذلك للتنبيه على أنه تبدلت سقيفتها، وزال عنها اسمها ورسمها، ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء. {كَانَ وَعْدُهُ} سبحانه وتعالى. فالضمير إمّا لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به،

[19]

والمصدر مضاف إلى فاعله؛ أي: كان وعده سبحانه وتعالى يكون يوم القيامة على ما وصف به من الشدائد. {مَفْعُولًا} أي: كائنًا متحقّقًا؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يجوز لعاقل أن يرتاب فيه. أو الضمير لـ {يوم}، والمصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل وهو الله مقدر؛ أي: كان وعد الله ذلك اليوم مفعولًا؛ أي: واجب الوقوع؛ لأن حكمته تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه. والمعنى: كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان، وتنشق السماء، وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم. والعرب تضرب المثل في الشدّة، فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، وهذا يوم يشيب نواصي الأطفال. ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب، فجعلوا الشيب كناية عن الشدّة والمحنة فاحذروا هذا اليوم، فإنه كائن لا محالة كما وعد. 19 - وقوله: {إِنَّ هَذِهِ} إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة، وهي من قوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا}، إلى هنا. {تَذْكِرَةٌ}؛ أي: موعظة لمن يريد الخير لنفسه، والاستعداد لربه. أو إشارة إلى جميع الآيات القرآنية؛ لأن القرآن موعظة للمتقين وطريق للسالكين، ونجاة للهالكين، وبيان للمستبصرين، وشفاء للمتحبرين، وأمان للخائفين، وأنس للمريدين، ونور لقلوب العارفين، وهدى لمن أراد الطريق إلى رب العالمين. {فَمَنْ شَاءَ} من المتكلفين الوصول إلى مرضاة الله سبحانه والقرب إليه {اتَّخَذَ} لنفسه {إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}؛ أي: جعل لنفسه طريقًا موصلًا إلى مرضاته تعالى بالتقرب إليه بالإيمان والطاعات، فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته ومقام قربه والاستقرار في دار كرامته. والمعنى (¬1): أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر عبرة لمن اعتبر وادكر، فمن شاء .. اتعظ بها واتخذ سبيلًا إلى ربه، فآمن به وعمل بطاعته، وأخبت إليه. وذلك هو النهج القويم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[20]

والطريق الموصل إلى مرضاته. 20 - ثم رخص لأمته في ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ}؛ أي: تصلي كقوله: {قُمِ اللَّيْلَ}، لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها. {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}؛ أي: أقل منهما. فإطلاق الأدنى على الأقل مجاز (¬1) مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم، لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز والحدود، وإذا بعدت كثر ذلك. روي: أنه تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولًا مع مشقة عظيمة من حيث إنه يعسر عليهم تمييز القدر الواجب حتى قام أكثر الصحابة الليل كله خوفًا من الخطأ في إصابة القدر المفروض، وصاروا بحيث انتفخت أقدامهم، واصفرت ألوانهم، وأمسك الله خاتمة السورة من قوله: {إِنَّ رَبَّكَ} إلخ، اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل الله في آخر السورة التخفيف، فنسخ تقدير القيام بالمقادير المذكورة مع بقاء فرضية أصل التهجد حسبما تيسر، ثم نسخ نفس الوجوب أيضًا بالصلوات الخمس، لما روي: أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب عطفًا على {أَدْنَى}. والثلث: أحد الأجزاء الثلاثة، والجمع أثلاث؛ أي: أنك تقوم أقل من ثلثي الليل، وتقوم نصفه وثلثه. وقرأ الجمهور (¬2): {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} بضمّ اللام. وقرأ الحسن، وشيبة، وأبو حيوة، وابن السميفع، وهشام، وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب "الكامل" بإسكانها، وجاء ذلك عن نافع، وابن عامر فيما ذكر "صاحب اللوامح". وقرأ العربيّان: أبو عمرو وابن عامر، ونافع {ونصفه وثلثه} بجرهما عطفًا على {ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}. وقرأ باقي السبعة، وزيد بن علي بالنصب عطفًا على {أَدْنَى}؛ لأنه منصوب على الظرف؛ أي: وقتًا أدنى من ثلثي الليل، فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أوّل السورة؛ لأنّه إذا قام الليل إلا قليلًا صدق عليه أدنى من ثلثي الليل؛ لأن الزمان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئًا من الثلثين، فيصدق عليه قوله: {إِلَّا قَلِيلًا}. وأما قوله: {وَنِصْفَهُ} فهو مطابق لقوله أولًا: {نِصْفَهُ}، وأما ثلثه فإن قوله: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}، قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل. وأما قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فإنه إذا زاد على النصف قليلًا كان الوقت أقل من الثلثين، فيكون قد طابق قوله: {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}، ويكون قوله تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)} شرحًا لمبهم ما دل عليه قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}. والمعنى على النصب: إن ربك يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل وتقوم نصفه وتقوم ثلثه. قال الفراء: وقراءة النصب أشبه بالصواب. وأما قراءة الجرّ فالمعنى (¬1): أنه قيام مختلف مرّة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من النصف، ومرة أدنى من الثلث. وذلك لتعذر معرفة البشر مقادير الزمان مع عذر النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنّما هو لله تعالى، والبشر لا يطيقون ذلك. والمعنى عليه: أنّ ربك يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه. {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} مرفوع معطوف (¬2) على الضمير في {تَقُومُ} وجاز ذلك للفصل بينهما؛ أي: ويقوم معك طائفة من أصحابك الذين آمنوا معك حين فرضية قيام الليل. و {من} تبيينية فلا دلالة فيه على أن قيام الليل لم يكن فرضًا على الجميع. وحاصل المعنى: يتابعك طائفة في قيام الليل، وهم أصحابك. وفيه وعد لهم بالإحسان إليهم. وفي "قوت القلوب": قد قرن الله تعالى قوام الليل برسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء. والمعنى: أي إنّ ربك يا محمد لعليم بأنك تقوم أقل من ثلثي الليل، وأكثر من النصف، وتقوم النصف وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل. {وَاللهُ} وحده {يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}؛ أي (¬3): يعلم مقادير الليل والنهار على ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

حقائقها، ويحصي بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة. قال عطاء: لا يفوته علم ما تفعلون؛ أي: إنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل. والمعنى: لا يقدر على تقديرهما ومعرفة مقادير ساعاتهما وأوقاتهما أحد أصلًا، فإن تقديم الاسم الجليل مبتدأ وبناء {يُقَدِّرُ} عليه موجب للاختصاص قطعًا. قال الراغب: التقدير: تبيين كميّة الشيء. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ} إلخ. إشارة إلى (¬1) ما أجرى من تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل. أي: إدخال هذا في هذا إلخ. وأن ليس أحد يمكنه معرفة ساعاتهما، وتوفية حق العبادة منهما في وقت معلوم. والحاصل: أن العالم بمقادير ساعات الليل والنهار على حقائقها هو الله، وأنثم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ، فربما يقع منكم الخطأ في إصابتها، فتقومون أقل من المقادير المذكورة. ولذا قال: {عَلِمَ} الله سبحانه {أَنْ} أي: أن الشأن {لَنْ تُحْصُوهُ}؛ أي: لن تقدروا على تقدير الأوقات على حقائقها، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدًا. فالضمير (¬2) عائد على المصدر المفهوم من {يُقَدِّرُ}؛ أي: علم أنّه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة. واحتج بعضهم بهذه الآية على وقوع التلكيف بما لا يطاق، فإنه تعالى قال: {لَنْ تُحْصُوهُ}؛ أي: لن تطيقوه، ثم إنه كلفهم بتقدير الساعات والقيام فيها حيث قال. {قُمِ اللَّيْلَ ...} إلخ. ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه أصلًا، كما يقال: لا أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه. أي (¬3): علم أنه لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير؛ إلا بشدة ومشقة، وفي ذلك حرج. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}؛ أي: فخفف عليكم، وأسقط عنكم فرض قيام الليل. {فَاقْرَءُوا}؛ أي: فصلوا {مَا تَيَسَّرَ} لكم {مِنَ الْقُرْآنِ}؛ أي: من صلاة الليل؛ أي: فصلوا ما تيسر وسهل عليكم من صلاة الليل غير مقدرة بكونها في ثلث الليل أو نحوه، ولو قدر حلب شاة، فهذا إنما يكون أربع ركعات وقد يكون ركعتين. عبّر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) النسفي.

عن (¬1) الصلاة بالقراءة كما عبّر عنها بسائر أركانها على طريق إطلاق اسم الجزء على الكل مجازًا مرسلًا، فتبين أن التهجد كان واجبًا على التخيير المذكور، فعسر عليهم القيام به فنسخ بهذه الآية، ثم نسخ نفس الوجوب المفهوم منها بالصلوات الخمس. وقيل: إنه نسخ في حق الأمة وبقي فرضًا في حقه - صلى الله عليه وسلم -. والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وفي حق الأمة. وفيه تفضيل صلاة الليل على سائر التطوعات، فإن التطوع بما كان فرضًا في وقت ثمّ نسخ أفضل من التطوّع بما لم يكن فرضًا أصلًا، كما قالوا: صوم يوم عاشوراء أفضل لكونه فرضًا قبل فرضيّة رمضان. وفي الحديث: "فليصلّ أحدكم من الليل، فإذا غلب عليه النوم فليرقد". ومعنى قوله: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ...} إلخ؛ أي: (¬2) ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلّا الله، وأما أنتم .. فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات، فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدّر، وعفا عنكم ورفع هذه المشقّة. قال مقاتل وغيره: لمّا نزلت: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} إلخ، شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه؟ فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء، فانتفخت أقدامهم وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله، وخفف عنهم فقال تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}. والخلاصة: الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامًّا، فإذا زدتم على المفروض .. ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم .. شق هذا عليكم. فتاب عليكم، ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلوا ما تيسر بالليل، كما أشار إلى ذلك بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}؛ أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّي: ما تيسّر منه هو مئة آية. وفي بعض الآثار: من قرأ مئة آية في ليلة .. لم يحاجّه القرآن. وعن قيس بن حازم قال: صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين، وأول آية من البقرة، ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال: إنّ الله يقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ}، أخرجه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

الدارقطني، والبيهقي في "سننه". ثم ذكر أعذارًا أخرى تسوغ هذا التخفيف، فقال: {عَلِمَ} الله سبحانه {أَن} أي: أنّ الشأن {سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} استئناف مبيّن لحكمة أخرى داعية إلى الترخيص والتخفيف؛ أي: علم الله سبحانه أنّه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل {وَآخَرُونَ} عطف على {مَرْضَى}؛ أي: وسيوجد منكم أقوام آخرون {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: يسافرون في نواحي الأرض وأرجائها للتجارة حال كونهم {يَبْتَغُونَ}؛ أي: يطلبون في سفرهم {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ورزقه. وهو الربح ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل. وفيه (¬1) تصريح بما علم التزامًا، وبيان أن ما حصلوه من الرزق من فضل الله. ومحل {يَبْتَغُونَ} النصب على أنه حال من {يَضْرِبُونَ}. وقد عمّ ابتغاء الفضل تحصيل العلم، فإنه من أفضل المكاسب، وفيه أن معلم الخير وهو رسول لله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضرًا عندهم وقت نزول الآية، فأين يذهبون؟ إلا أن يجعل آخر السورة مدنيًّا، فقد كانوا يهاجرون من مكة إلى المدينة لطلب العلم، وأيضًا إنَّ هذا بالنسبة إلى خصوص الخطاب. وأمّا بالنسبة إلى أهل القرن الثاني، ومن بعدهم فبقاء الحكم بلا نسخ يوقعهم في الحرج. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنّه قال: حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة، وأفضل من شهود ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض. قيل: ومن قراءة القرآن؟ قيل: وهل تنفع قراءة القرآن بلا علم؟. {وَ} علم أن سيوجد أقوام {آخَرُونَ} منكم عطف على {مَرْضَى} أيضًا {يُقَاتِلُونَ} الأعداء {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ويجاهدونهم لإعلاء كلمة الله، فلا يطيقون قيام اللّيل. وسبيل الله هو ما يوصل إلى الأجر عند الله كالجهاد. وفيه تنبيه على أنه سيؤذن لهم في القتال مع الأعداء. والمعنى (¬2): أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب في الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله، وغزو في سبيل لله، فهؤلاء إذا لم يناموا في الليل تتوالى عليهم أسباب المشقّة، ويظهر عليهم آثار الجهد. وفي هذا إيماء إلى أنّه لا فرق بين الجهاد في قتال العدوّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

والجهاد في التجارة لنفع المسلمين. قال ابن مسعود: أيّما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرًا محتسبًا، فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء، ثم قرأ قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن عمر رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلى من أن يأتيني، وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله، وتلا: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص، ورفع وجوب القيام عن هذه الأمّة ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص، فقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} والفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر من الأعذار، وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص، وأردتم بيان ما هو الأسهل عليكم .. فأقول لكم: اقرؤوا ما تيسّر منه؛ أي: صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، أو فاقرؤوا في صلاة الليل ما خف عليكم وتيسر لكم منه من غير تحمل المشاقّ. وهذا (¬1) تأكيد للأوّل، فالأوّل مفرع على قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} إلخ، وهذا مفرع على قوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} إلخ. فكل من المؤكّد والمؤكّد مفرع على حكمة. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ أي: صلوا الصلاة المفروضة، وأدّوها في أوقاتها، وقوموها بأركانها وشروطها وآدابها، فلا تكون قلوبكم غافلةً، ولا أفعالكم خارجةً عمّا رسمه الدين. {وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ أي: أعطوا الزكاة الواجبة في أموالكم لمستحقيها. وقيل (¬2): هي زكاة الفطر، إذ لم يكن بمكة زكاة غيرها، وإنما وجبت بعدها. ومن فسّرها بالزكاة المفروضة في الأموال جعل آخر السورة مدنيًّا. وذلك إن لم نجعلها من باب ما تأخر حكمه عن نزوله ففيه دلالة على أنه سينجز وعده لرسوله، ويقيم دينه، ويظهر حتى تفرض الزكاة وتؤدي. {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}؛ أي: أنفقوا إنفاقًا حسنًا لا منّ فيه، ولا أذى من أموالكم في سبيل الخير، والتطوع للإفراد والجماعات مما هو نافع لها في رقيّها ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

المدنيّ والاجتماعيّ، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم. والقرض ضرب من القطع، وسمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضًا؛ لأنه مقروض مقطوع من ماله، أريد به الإنفاقات في سبيل الخيرات غير المفروض، فإنها كالقرض الذي لا خلف في أدائه. وفيه حث على التطوع، كما قال - صلى الله عليه وسلم - "إنّ في المال حقًّا سوى الزكاة". على أحسن وجه، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعًا للفقراء بحسن النية وصفاء القلب إلى أحوج الصلحاء. ونحو الآية قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. ثم حبب في الصدقة وفعل الخيرات، فقال: {وَمَا} شرطية {تُقَدِّمُوا} في الدنيا ذخرا {لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر {تَجِدُوهُ} جواب الشرط، ولذا جزم؛ أي: تجدوا ثوابه {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه في الآخرة {هُوَ} تأكيد للضمير {خَيْرًا} وأنفع لكم من متاع الدنيا {و} تجدوه هو {أَعْظَمَ}؛ أي: أكثر {أَجْرًا} وثوابًا من الذي تؤخّرونه إلى الوصية عند الموت، أي: ما تنفقونه في حال الصحة أكثر ثوابًا مما تنفقونه بالوصية بعد الموت. وقوله: {خَيْرًا} (¬1)، ثاني مفعولي {تَجدُوُه} و {هُوَ} تأكيد للمفعول الأول لـ {تَجدُوُه} وفصل بينه وبين الفعول الثاني وإن لم يقع بين معرفتين فإنّ أفعل في حكم المعرفة. وذلك يمتنع من حرف التعريف وقوله: {وَأَعْظَمَ} عطف على {خَيْرًا} و {أَجْرًا} تمييز عن نسبة الفاعل. والأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا. وقال بعضهم: المشهور أنّ وجد إذا كان بمعنى. صادف يتعدى إلى مفعول واحد، وهو هاهنا بمعناه لا بمعنى علم، فلا بُدَّ أن يكون {خَيْرًا} حالًا من الضمير. وفي الحديث: "اعلموا أنَّ كل امرىء على ما قدم قادم، وعلى ما خلف نادم". وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ العبد إذا مات .. قال الناس: ما خلف وقالت الملائكة: ما قدم". ومر عمر ببقيع الغرقد؛ أي: مقبرة المدينة، سمّيت بذلك لأنها كانت منبت الغرقد، وهو بالغين المعجمة اسم شجر. فقال: السلام عليكم أهل القبور أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتف يا ابن الخطاب أخبار ماء عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفنا ¬

_ (¬1) روح البيان.

فقد خسرنا. قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوتِكَ صَالِحًا ... وَاعْمَل فَلَيْسَ إِلَى الْخُلُوْدِ سَبِيْلُ وقرأ الجمهور (¬1): {هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} بنصبهما، واحتمل هو أن يكون فصلًا، وأن يكون تأكيدًا لضمير النصب في {تَجِدُوهُ}. وقرأ أبو السمال، وابن السميفع {هو خير وأعظم} برفعهما على أن يكون {هُوَ} مبتدأ، و {خَيْرٍ} خبره، و {وَأَعْظَمَ} معطوف عليه، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي {تَجِدُوهُ}، إن كان بمعنى علم، أو على الحال إن كان بمعنى صادف، كما مرّ آنفًا. والمعنى: أي وما تقدّموا لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج، أو غير ذلك تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرًا مما أبقيتم في دار الدنيا، وأعظم منه عائدة لكم. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}؛ أي: سلوا الله المغفرة لذنوبكم في جميع أوقاتكم. وكافّة أحوالكم، فإن الإنسان قلما يخلو عن تفريط، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر، ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح. واستحب (¬2) الاستغفار على الأسماء من القرآن مثل أن يقول: أستغفر الله إنه كان توّابًا، أستغفر الله إنّ الله غفور رحيم، أستغفرُ الله إنه كان غفّارًا، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}؛ أي: كثير المغفرة لمن استغفره يغفر ما دون أن يشرك به. {رَحِيمٌ}؛ أي: كثير الرحمة لمن استرحمه، فيبدل السيئات حسنات. وفي "عين المعاني": (¬3) غفور يستر على أهل الجهل والتقصير، رحيم يخفف عن أهل الجهل والتوقير. ومن عرف أنّه الغفور الذي لا يتعاظمه ذنب يغفر له أكثر من الاستغفار، وهو طلب المغفرة. ثم إن كان مع الانكسار .. فهو صحيح، وإن كان مع التوبة .. فهو كامل، وإن كان عريًّا عنهما .. فهو باطل. ومن كتب سيد الاستغفار وجرعه لمن صعب عليه الموت انطلق لسانه وسل عليه الموت، وقد جرب مرارًا. وسيد الاستغفار قوله: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". الإعراب {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}. {يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء، {أيُّ} منادى نكرة مقصودة، مبني على الضمّ، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات {أيُّ} من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. {الْمُزَّمِّلُ} نعت لـ {أيُّ} أو بدل منه، {قُمِ} فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {اللَّيْلَ} منصوب على الظرف، متعلق بـ {قُمِ}، {إِلَّا} أداة استثناء، {قَلِيلًا} منصوب على الاستثناء، وفيه دليل على أنَّ المستثنى قد يكون مبهم المقدار. {نِصْفَهُ}، بدل من {اللَّيْلَ}، أو من {قَلِيلًا}، فإذا كان بدلًا من {اللَّيْلَ} كان الاستثناء منه، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلًا. {أَوِ} حرف عطف وتخيير {انْقُصْ} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {قُمِ} {مِنْهُ} متعلق بـ {انْقُصْ}، {قَلِيلًا} مفعولى به، {أَو} حرف عطف وتخيير، {زِدْ} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {انْقُصْ}، {عَلَيْهِ} متعلق بـ {زِدْ}، والضمير في {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} عائدان على النصف. {وَرَتِلِ} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {قُمِ اللَّيْلَ}، {الْقُرْآنَ} مفعولى به، {تَرْتِيلًا} مفعول مطلق، {إِنَّا} ناصب واسمه، {سَنُلْقِي} السين حرف استقبال، {نلقي} فعل مضارع وفاعل مستتر، {عَلَيْكَ} متعلق بـ {نلقي}، {قَوْلًا}، مفعول به، {ثَقِيلًا} صفة {قَوْلًا}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ...} إلخ. {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ناصب واسمه ومضاف إليه، {هِيَ} ضمير فصل أو مبتدأ، {أَشَدُّ} خبر {إنّ} أو خبر المبتدأ، والجملة خبر {إنّ}، {وَطْئًا} تمييز، {وَأَقْوَمُ} معطوف على أشدّ {قِيلًا} تمييز، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بقيام الليل. {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ

وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}. {إِنَّ} حرف نصب، {لَكَ} خبرها مقدم، {فِي النَّهَارِ} حال من {سَبْحًا}؛ لأنه كان صفة نكرة قدمت عليها، {سَبْحًا} اسمها مؤخّر، {طَوِيلًا} صفة {سَبْحًا}، وجملة {إِنَّ} معترضة أيضًا. {وَاذْكُرِ} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على قوله: {قُمِ اللَّيْلَ}. {اسْمَ رَبِّكَ} مفعول به، {وَتَبَتَّلْ} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {اذْكُر}، {إِلَيْهِ} متعلق بـ {تبتل}، {تَبْتِيلًا} مفعول مطلق، {رَبُّ الْمَشْرِقِ} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف ومضاف إليه؛ أي: هو ربّ المشرق، ويقرأ بالجرّ على أنه بدل من {رَبِّكَ}. {وَالْمَغْرِبِ} معطوف على المشرق. {لَا} نافية تعمل عمل {إنّ} المكسورة، {إِلَهَ} في محل النصب اسمها، وخبر {لا} محذوف تقديره: موجود، {إِلَّا} أداة استثناء، {هُوَ} ضمير للمفرد المنزَّه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر {لا} المحذوف، وجملة {لَا} في محل النصب حال من رب المشرق، أو معطوفة على جملته بعاطف مقدر. {فَاتَّخِذْهُ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انفراده بالربوبية والألوهية، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اتخذه يا محمد وكيلا. {اتخذه وكيلا} فعل أمر وفاعل مستتر ومفعولان؛ لأنّ {اتَّخَذَ} من أخوات ظنّ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}. {وَاصْبِرْ} فعل وفاعل مستتر، معطوف على اتخذه، {عَلَى مَا} جار ومجرور، متعلق بـ {اصبر}، وجملة {يَقُولُونَ} صلة لـ {ما}، والعائد محذوف؛ أي: على ما يقولونه. {وَاهْجُرْهُمْ} فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {اصبر}، {هَجْرًا} مفعول مطلق، {جَمِيلًا} صفة هجرا، {وَذَرْنِي} الواو: عاطفة، {ذر} فعل أمر وفاعل مستتر، والنون للوقاية، والياء: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة اصبر، {وَالْمُكَذِّبِينَ} معطوف على الياء أو مفعول معه، {أُولِي النَّعْمَةِ} صفة لـ {المكذبين}، منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {وَمَهِّلْهُمْ} فعل

أمر، ومفعول به وفاعل مستتر، معطوف على {ذرني}، {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: إمهالًا قليلًا أو ظرف محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا. {إِنَّ} حرف نصب، {لَدَيْنَا} خبرها مقدم على اسمها، {أَنْكَالًا}، اسمها مؤخّر، وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل الأمر بالإمهال. {وَجَحِيمًا} معطوف على {أَنْكَالًا}، {وَطَعَامًا} معطوف عليه أيضًا، {ذَا غُصَّةٍ} صفة لـ {طعاما}، منصوب بالألف؛ لأنّه من الأسماء الستة، {وَعَذَابًا} معطوف على {أَنْكَالًا}، أيضًا، {أَلِيمًا} صفة {عذابًا}، {يَوْمَ} ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به {لَدَيْنَا} أو بمحذوف صفة لـ {عذابًا}؛ أي: عذابا واقعًا يوم ترجف، وجملة {تَرْجُفُ الْأَرْضُ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {وَاَلجبَالُ} معطوف على {الْأَرْضُ}، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} فعل ناقص واسمه، {كَثِيبًا} خبره، {مَهِيلًا} صفة {كَثِيبًا}، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة {تَرْجُفُ}. {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {أَرْسَلْنَا} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة. {إِلَيْكُمْ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {رَسُولًا} مفعول به، {شَاهِدًا} صفة {رَسُولًا}، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {شَاهِدًا}، {كَمَا} جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف تقديره: أرسلنا إليكم رسولًا إرسالًا كائنا كإرسالنا موسى إلى فرعون. و {ما} مصدرية، وجملة {أَرْسَلْنَا} صلتها، {إِلَى فِرْعَوْنَ} متعلق بـ {أَرْسَلْنَا}، {رَسُولًا}، مفعول به، {فَعَصَى} {الفاء}: عاطفة، {عصى فرعون الرسول} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ}. {فَأَخَذْنَاهُ} {الفاء}: عاطفة، أخذناه فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {فَعَصَى}، {أَخْذًا} مفعول مطلق، {وَبِيلًا} صفة {أَخْذًا}، {فَكَيْفَ} {الفاء}: استئنافية، {كيف} اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {تَتَّقُونَ}، {تَتَّقُونَ} فعل مضارع مرفوع بالنون، و {الواو}: فاعل، والجملة مستأنفة، {إن} حرف شرط، {كَفَرْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف دل عليه ما قبلها؛ أي:

إن دمتم على كفركم .. فكيف تتقون؟ وجملة {إن} الشرطية معترضة لاعتراضها بين الفعل ومفعوله، {يَوْمًا} مفعول به لـ {تَتَّقُونَ}، {يَجْعَلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {يَوْمًا}، {الْوِلْدَانَ} مفعول به أوّل لـ {جعل}، {شِيبًا} مفعول ثان، وجملة {يَجْعَلُ} في محل النصب صفة لـ {يَوْمًا}. {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}. {السَّمَاءُ} مبتدأ، {مُنْفَطِرٌ} خبره {بِهِ} متعلق بـ {مُنْفَطِرٌ}، والجملة في محل النصب صفة لـ {يَوْمًا}، {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. {فَمَن} {الفاء}: عاطفة، {من} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {شَاءَ} فعل ماض في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}، ومفعول {شَاءَ} محذوف تقديره: فمن شاء النجاة. {اتَّخَذَ} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إنَّ}، {إِلَى رَبِّهِ} في موضع المفعول الثاني لـ {اتَّخَذَ}، {سَبِيلًا} مفعول أوّل له. {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} {إِنَّ رَبَّكَ} ناصب واسمه، وجملة {يَعْلَمُ} خبره، والجملة مستأنفة، {أَنَّكَ} ناصب واسمه، وجملة {تَقُومُ} خبر {أنّ}، وجملة {أنّ} في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي {يَعْلَمُ}، {أَدْنَى} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {تَقُومُ} أي: وقتًا أدنى، {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} متعلق بـ {أَدْنَى}، {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} معطوفان على {أَدْنَى}، {وَطَائِفَةٌ} معطوف على فاعل {تقوم} المستتر لوجود الفاصل، {مِنَ الَّذِينَ} صفة لـ {طائفة}، {مَعَكَ} صلة الموصول. {وَاللَّهُ} مبتدأ، {يُقَدِّرُ اللَّيْلَ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به، {وَالنَّهَارَ} معطوف على {اللَّيْلَ}، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {عَلِمَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {أَن}

مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: علم أنه. {لَنْ} حرف نصب واستقبال، {تُحْصُوهُ} فعل مضارع منصوب بـ {عَلِمَ أَنْ لَنْ}، والواو: فاعل، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر؛ لـ {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {عَلِمَ}. {فَتَابَ} {الفاء}: عاطفة، {تابَ} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على {علم}، {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {تاب}، {فَاقْرَءُوا} {الفاء}: عاطفة، {اقرؤوا} فعل أمر، وفاعل معطوف على {تاب}، {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَيَسَّرَ} صلة لـ {ما} الموصولة، {مِنَ الْقُرْآنِ} حال من فاعل {تَيَسَّرَ} أو متعلق به، {عَلِمَ} فعل ماض وفاعل مستتر، مستأنف، {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. أي: علم أنه. {سَيَكُونُ} فعل مضارع ناقص، والسين حرف استقبال، {مِنْكُمْ} خبر يكون مقدم، {مَرْضَى} اسمها مؤخّر، وجملة {يكون} في محل الرفع خبر {أَن} المخفّفة، وجملة {أَن} المخففة في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {عَلِمَ}، {وَآخَرُونَ} معطوف على {مرضى}، وجملة {يَضْرِبُونَ} صفة {آخرون}، {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {يَضْرِبُونَ}، وجملة {يَبْتَغُونَ} في محل النصب حال من فاعل {يَضْرِبُونَ}، {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} متعلق بـ {يَبْتَغُونَ} {وَآخَرُونَ} معطوف على {آخرون} الأول، وجملة {يُقَاتِلُونَ} صفة لـ {آخرون}، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بـ {يُقَاتِلُونَ}. {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. {فَاقْرَءُوا} فعل وفاعل، معطوف على علم أن {سَيَكُونُ}. {مَا} اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة {تَيَسَّرَ} صلة لـ {مَا}، {مِنْهُ} متعلق بـ {تَيَسَّرَ} أو حال من فاعل {تَيَسَّرَ}. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {اقرؤوا}، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} معطوف عليه أيضًا، {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف عليه أيضًا، {قَرْضًا} مفعول مطلق، {حَسَنًا} هو صفة {قَرْضًا} {وَمَا} {الواو}: اعتراضية، {مَا} اسم شرط جازم في محل النصب، مفعول مقدم لـ {تُقَدِّمُوا}، {تُقَدِّمُوا} فعل مضارع مجزوم بـ {مَا} على كونه فعل شرط لها، {والواو}: فاعل، {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {تُقَدِّمُوا}، {مِنْ خَيْرٍ} حال من الضمير المحذوف في {تُقَدِّمُوا}، {تَجِدُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {مَا} على

كونه جواب الشرط، {عِنْدَ اللَّهِ} متعلق بـ {تَجِدُوُه}، {هُوَ} ضمير فصل أو تأكيد للضمير، {خَيْرًا} مفعول به ثان لـ {تَجدُوُه}، {وَأَعْظَمَ} معطوف على {خَيْرًا}، {أَجْرًا} تمييز، وجاز أن يكون {هُوَ} فصلًا، وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأنّه وقع بين معرفة ونكرة، ولكن النكرة تشبه المعرفة لامتناعه من التعريف بأداة التعريف إذا كان معه من لفظًا أو تقديرًا، وهنا من مقدرة؛ أي: خيرًا مِمّا خلّفتم في الدنيا، وجملة {ما} الشرطية معترضة. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {فَاقْرَءُوا}، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} ناصب واسمه وخبره، {رَحِيمٌ} خبر ثان، والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل الأمر بالاستغفار. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} أصله: المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه؛ أي: تلفّف بها، فأبدلت التاء زايًا، وأدغمت الزاي في الزاي. وفي "المصباح": زمّلته بثوبه تزميلًا فتزمّل مثل: لفّفته فتلفّف، وزملت الشيء: حملته، ومنه قيل للبعير: زاملة بالهاء للمبالغة، لأنّه يحمل متاع المسافر. {قُمِ اللَّيْلَ} أمر من قام يقوم؛ لأن الأمر قطعة من المضارع المجزوم الذي حذف منه حرف المضارعة، والجازم؛ لأن مضارعه المجزوم لم يقم، فإذا حذفت منه الجازم وحرف المضارعة يكون الباقي منه قم، فهو أمر {اللَّيْلَ} هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أمر مأخوذ من لم يزد، لأنه الباقي من المضارع بعد حذف الجازم وحرف المضارعة. {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} أمر من رتل يرتل ترتيلًا من باب فعل المضعف. قال في "الكشاف": ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهًا بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهزه هزا ولا يسرده سردًا، كما مرّ. {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} وناشئة الليل: القيام بعد النوم، فهي صفة لمحذوف؛ أي: إن النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة؛ أي: ترتفع وتنهض، من نشأت السحابة إذا ارتفعت. وقيل: إنها مصدر بمعنى القيام من نشأ إذا قام ونهض، فتكون كالعافية. وفي "المختار": وناشئة الليل أول ساعاته. وقيل: ما ينشأ فيه من الطاعات. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ}؛ أي: انقطع إليه. و {تَبْتِيلًا} مصدر على غير القياس، وهو

واقع موقع التبتل؛ لأن مصدر تفعل تفعلًا نحو: تصرف تصرفًا وتكرم تكرّمًا، وأما التبتيل فمصدر بَتَّلَ، نحو: صرَّف تصريفًا. قال في "الخلاصة": وغَيْرُ ذي ثَلاَثَةٍ مَقِيْسُ ... مَصْدُرُ كَقُدِّسَ التَّقْدِيْسُ {وَأَقْوَمُ قِيلًا} القيل: اسم مصدر من القول بمعناه بقلب الواو ياء أي أزيد من جهة السداد والاستقامة في المقال، ومن جهة الثبات والاستقرار على الصواب. {سَبْحًا طَوِيلًا} قال الراغب: السبح: المر السريع في الماء، أو في الهواء، استعير لمر النجوم في الفلك كقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، ولجرى الفرس كقوله تعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}، ولسرعة الذهاب في العمل كقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}. والمعنى هنا: إنَّ لك في النهار تقلبًا وتصرفًا في مهام أمورك واشتغالًا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليكها في الليل. {أُولِي النَّعْمَةِ} والنعمة بفتح النون: التنعم وبكسرها: الإنعام وما أنعم به عليك، وبالضم: السرور. والتنعُّم: استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات. {هَجْرًا جَمِيلًا} الهجر الجميل: ما لا عتاب معه. {وَمَهِّلْهُمْ}؛ أي: اتركهم برفق وتأن، ولا تهتم بشأنهم. {أَنْكَالًا}، والأنكال: جمع نكل، والنكل بكسر النون وفتحها: القيد الثقيل. قالت الخنساء: دعاك فَقَطَّعْتَ أَنْكَالَهَ ... وقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تُقْطَعُ {وَجَحِيمًا} والجحيم: النار الشديدة الإيقاد. {كَثِيبًا}؛ أي: رملًا مجتمعًا. {مَهِيلًا}؛ أي: سائلًا اجتماعه. أصله: مهيول اسم مفعول من هال الثلاثي يهيل هيلا نظير: باع يبيع بيعًا فهو مبيع، نقلت حركة الياء إلى الهاء فسكنت الياء فالتقى ساكنان: الياء وواو مفعول، فحذفت واو مفعول على الصحيح ثم كسرت الهاء لمناسبة الياء الساكنة، كما قالوا: مبيع. هذا على رأي سيبويه والجمهور. أما الأخفش فإنه يرى أن المحذوف عين الكلمة، ولما حذفت كسرت الفاء وقلبت الواو ياء فرقًا بين ذوات الواو وذوات الياء. والأول أولى. وفي "المختار": هال الدقيق في الجراب: صبه من غير قيل، وكل شيء أرسله إرسالًا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه فقد هاله فانهار؛ أي: جرى وانصبَّ، وبابه: باع، وأهال لغة فيه فهو مهال ومهيل. {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أعاده بالألف واللام ليعلم أنه الأول، فكأنّه قال:

فعصاه فرعون جريًا على القاعدة المشهورة عندهم المذكورة في قول بعضهم: ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَه ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَه تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِي ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ {وَبِيلًا}؛ أي: ثقيلًا شديدًا لا يطاق، من قولهم: كلأٌ وبيلٌ، وضيمٌ لا يستمرأ لثقله، والوبيل: العصا الضخمة، ومنه: الوابل للمطر العظيم. وفي "المصباح": وبلت السماء وبلا من باب وعد، ووبولًا: اشتد مطرها، وكان الأصل: وبل مطر السماء، فحذف للعلم به، ولهذا يقال للمطر: وابل، والوبيل: الوضيم وزنا ومعنى. {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ} والولدان: جمع وليد، يقال لمن قرب عهده: بالولادة، وإن كان في الأصل يصح إطلاقه على من قرب عهده بها، ومن بَعُدَ. {شِيبًا} جمع أشيب، والشيب: بياض الشعر، وأصله: أن يكون بضم الشين كحمر في جمع أحمر؛ لأن الضم يقتضي الواو فكسرت لأجل صيانة الياء فرقًا بين مثل سود وبين مثل بيض. {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} قال في "الصحاح": الوعد يستعمل في الخير والشر، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، انتهى. {تَذْكِرَةٌ} بوزن تفعلة، ووزن التفعلة غير مقيس في فعل الصحيح، بل هو مقيس في معتل اللام منه كزكى تزكية وعزَّى تعزية، وقياسه هنا التذكير ولكنه جاء على سبيل النيابة كفرَّق تفرقة والقياس التفريق. {تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} أصله: أدنى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَثُلُثَهُ} والثلث: أحد أجزاء الثلاثة، والجمع أثلاث. {وَطَائِفَةٌ} فيه إعلال بالقلب، أصله: طاوفة؛ لأنه من طاف يطوف، قلبت الواو همزة حملًا للوصف على فعله طاف في الإعلال. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ} قال الراغب: التقدير: تبيين كمية الشيء، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ} ... إلخ، إشارة إلى ما أجرى من تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل؛ أي: إدخال هذا في هذا، كما مرّ. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أصله: تحصيوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لإلتقاء الساكنين، وضمت الصاد لمناسبة الياء. قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أصله: توب بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.

{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} جمع مريض كقتلى جمع قتيل، والمرض: الخروج عن الاعتدال الخاصّ بالإنسان. {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} من ضرب في الأرض إذ سافر فيها ابتغاء الزرق. قال الراغب: الضرب في الأرض: الذهاب فيها، وهو بالأرجل. {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}؛ أي: يطلبون من رزق الله، أصله: يبتغيون استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت فحذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الغين لمناسبة الواو. {قَرْضًا حَسَنًا} والقرض: ضرب من القطع، وسمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله قرضًا، لأنّه مقروض مقطوع من ماله. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} تجدوه فيه إعلال بالحذف، أصله: توجدونه، حذفت نون الرفع للجازم حيث وقع جوابًا لـ {ما} الشرطية، وحذفت فاء الكلمة من المضارع اطرادًا لوقوع الواو بين عدوتيها الياء المفتوحة والكسرة. {أَجْرًا} الأجر: ما يعود من ثواب العلم دنيويًّا كان أو أخرويًّا، كما مرّ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} و {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}، وبين {الْمَشْرِقِ} {وَالْمَغْرِبِ}، وبين {اللَّيْلِ} {وَالنَّهَارِ}. ومنها: تأكيد الفعل بالمصدر في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}، وفي قوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}. وفي قوله: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}. زيادة في البيان والإيضاح وفي هذه الأمثلة أيضًا. جناس الاشتقاق. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}، حيث استعير السبح الذي هو المر السريع في الماء لسرعة الذهاب في طلب المعاش، وقضاء حوائج الناس بجامع التردّد في كل منهما؛ أي: إن لك في النهار تصرّفًا وتقلّبًا في المهمّات كما يتردّد السابح في الماء. ومنها: التنكير في قوله: {عَذَابًا أَلِيمًا} إشارة إلى هوله وشدّته، بحيث لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه.

ومنها: إفرد الجبال بالذكر في قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} مع كونها من الأرض لكونها أجسامًا عظامًا طوالًا، تظهر فيها الزلزلة أكثر من الأرض، ومن زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفًا من الوقوع. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} إشعارًا بتحقق وقوعه، وفيه أيضًا لتشبيه البليغ؛ أي: وكانت الجبال كالثيب المهيل؛ أي: كالرمل السائل في عدم التماسك. ومنها: تخصيص هذا التشبيه بالجبال دون الأرض؛ لأنَّ ذلك خاصة لها، فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة حتى تبدل بغيرها، كما دل عليه قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)} الآية. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا}. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا}. ولو جرى على مقتضى السياق .. لقال: إنا أرسلنا إليهم. والغرض من هذا الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإيمان. ومنها: عدم تعيين الرسول فيه لعدم دخله في التشبيه. ومنها: تخصيص فرعون دون ملئِهِ؛ لأنه من رؤساء أولى النعمة المترفهين المتكبرين، فبينه وبين قريب جهة جامعة ومشابهة حال ومناسبة سريرة. ومنها: إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيعا لشأن عصيانه، وأن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى. ومنها: ترك ذكر أملاء فرعون إشارةً إلى أن كل واحد منهم كأنه فرعون في نفسه لتمرده. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، حيث أسند الجعل إلى اليوم للمبالغة في شدّته، وإلا فنفس اليوم لا تأثير له ألبتة. وفيه أيضًا لاستعارة التمثيلية بأن شبه اليوم في شّدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبّان لكثرة همومه وأهواله.

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}؛ أي: أقل منهما، فإطلاق الأدنى معنى الأقرب على الأقل مجاز مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم، لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت .. قل ما بينهما من الأحياز والحدود، ماذا بعدت .. كثر ذلك، ذكره في "روح البيان". ومنها: تقدم الاسم الجليل وبناء الخبر الفعلي عليه في قوله: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} لإفادة الاختصاص قطعًا. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، حيث استعار التوبة بمعنى رفع الحرج عن التائب للتخفيف والترخيص، فاشتقّ منه تاب بمعنى: خفف ورخّص على طريقة الاستعارة التبعية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}؛ أي: صلوا ما تيسّر من صلاة الليل، حيث أطلق الجزء على الكلّ، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة؛ أي: أركانها. ومنها: تصريح ما علم التزامًا في قوله: {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}؛ لأنّه معلوم من قوله: {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ لأن السفر لا يكون إلا لحاجة. ومنها: التكرار بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، تأكيدًا للحث على قيام الليل بما تيسر. ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} حيث شبه الإنفاق لوجه الله تعالى بالإقراض المعروف من حيث إن ما أنفقه يعود إليه مع زيادة، فاستعار له اسم المشبّه به، فاشتق من الإقراض بمعنى الإنفاق في سبيل الله {أقرضوا} بمعنى أنفقوا في سبيل الله على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وفيه أيضًا جناس الاشتقاق. ومنها: ذكر العام بعد الخاصّ في قوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}، حيث عمم بذكره بعد أن خصص بذكر الصلاة والزكاة والإقراض الحسن. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما جاء في هذه السورة من أوامر ونواه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشياء: 1 - أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. 2 - أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهل. 3 - أن يذكر ربه ليلًا ونهارًا بالتحميد والتسبيح والصلاة، وأن يجرد نفسه عما سواه. 4 - أن يتخذه وكيلًا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه. 5 - أن يصبر على ما يقولون فيه من أنه ساحر أو شاعر، وفي ربه من أن له صاحبة وولدًا، وأن يهجرهم هجرأ جميلًا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم، فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره. 6 - أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة، والاكتفاء بما تيسّر من صلاة الليل، ففي الصلاة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير هذه السورة الكريمة ليلة السبت بين العشائين الليلة السابعة من شهر الربيع الآخر من شهور سنة ألف وأربع مئة وستّ عشرة سنة 7/ 4/ 1416 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيّة، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين.

سورة المدثر

سورة المدثر سورة المدثر كلها مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة المزمل. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المدّثّر بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقيل (¬1): هي مكية إلا آية من آخرها. وآياتها: ست وخمسون آية. وكلماتها: مئتان وخمس وخمسون كلمة. وحروفها: ألف حرف وعشرة أحرف. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة المدّثّر كلها محكمة إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}، نسخت بآية السيف. مناسبتها لما قبلها (¬2): 1 - أنّها متواخية مع السّورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أن صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. 3 - أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه - صلى الله عليه وسلم - بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه. وقال أبو حيان (¬3): مناسبتها لما قبلها: أن ما في قبلها {ذرني والمكذّبين} وفيه أيضًا {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ}، فناسب {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}، وناسب ذكر يوم القيامة بعد، وذكر بعض المكذبين في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}. المناسبة قد تقدم بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وأمّا آياتها فنزلت في قصة واحدة، فلا حاجة إلى البحث عن المناسبة بينها، فتأمل.

أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} سبب نزوله (¬1): ما أخرجه الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري نزلت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فلم أر أحدًا، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، ففزعت فرجعت إلى أهلي، فقلت: دثّروني دثروني، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}. قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} ... الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عباس وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في المسجد يصلي، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)}، فلما فطن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى استماعه .. أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه. ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينًا، فقال الوليد: ما لي أراك حزينًا يا ابن أخي؟ فقال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريب يجمعون لك نفعة يعينونك على كبر سنّك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريب أنّي من أكثرهم مالًا وولدًا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام، ثم أتى مجلس قومه مع أبي جهل، فقال لهم: تزعمون أن محمدًا مجنون فهل رأيتموه يخنق قطّ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهّن قطّ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنّه كذّاب، فهل جربتم عليه شئيا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه. ثم قالوا: فما هو؟ قال: ما ¬

_ (¬1) لباب النقول.

هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتجّ النادي فرحًا، وتفرّقوا معجبين بقوله، متعجيبن منه. فنزلت هذه الآيات. وقد كان الوليد يسمّى الوحيد؛ لأنه وحيد في قومه، فماله كثير فيه الزرع والضرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحامل والمجامع أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمى ريحانة قريش. قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} سبب نزول هذه الآية (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن البراء رضي الله عنه: أن رهطًا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خزنة جهنم؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل عليه ساعتئذٍ {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ...} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما رواه ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يعني: "محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم - الشجعان - أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ فقال له أبو الأشدّ بن كلدة الجمحيّ وكان شديد البطش: أيهولنكم التسعة عشر أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقول ذلك مستهزئًا. وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً}؛ أي: لم نجعلهم رجالًا فيتعاطون مغالبتهم. قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: لئن كان محمد صادقًا .. فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

وأمنة من النار، فنزلت: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)}. وروي: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك. التفسير وأوجه القراءة 1 - قال الواحدي: قال المفسّرون: لما بدىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كرسيّ بين السماء والأرض كالنور المتلألىء، ففزع ووقع مغشيًا عليه، فلمّا أفاق دخل على خديجة ودعا بماء، فصبه عليه وقال: "دثّروني دثّروني، فدثّروه بقطيفة". فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}؛ أي: يا أيها المتلفف بالدثار، وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد؛ لأنه تدثّر فوق شعاره بقطيفة. قرأ الجمهور (¬1) بتشديد الدال والثاء، أصله: المتدثّر فأدغم التاء في الدال. وقرأ أبيّ {المتدثّر} على الأصل. وقرأ عكرمة بتخفيف الدال، كما قرأ بتخفيف الزاي في المزمل، أي: الذي دثر نفسه. وعن عكرمة أيضًا فتح الثاء المثلثة اسم مفعول، قال عكرمة: والمعنى: يا أيها المدّثّر بالنبوة وأثقالها. قال ابن العربيّ: وهذا مجاز بعيد؛ لأنّه لم يكن نبيًّا إذ ذاك. أي: يا أيها المتلفّف المتغشّي بدثاره 2 - {قُمْ} من مضجعك {فَأَنْذِرْ}؛ أي: خوّف الناس كافّةً من عذاب الله ووقائعه إن لم يؤمنوا، أو خوف أهل مكة من عذاب الله إن لم يسلموا. وقيل: قم قيام عزم وتصميم، وأعلم الناس بعذاب الله وانتقامه إن لم يوحّدوه ويصدّقوك؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - مرسل إلى الناس كافة، فلم تكن ملة من الملل إلا وقد بلغتها دعوته وقرعها إنذاره. وأفرد (¬2) الإنذار بالذكر مع أنه أرسل بشيرًا أيضًا؛ لأن التخلية بالمعجمة قبل التحلية بالمهملة، وكان الناس وقتئذٍ عاصين مستحقّين للتخويف، فكان أوّل الأمر بالإنذار. 3 - {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}؛ أي: وخصّص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء اعتقادًا وقولًا وعظمةً عمّا يقول فيه عبدة الأوثان وسائر الظالمين. وروي: أنّه لمّا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[4]

نزل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، فكبّرت خديجة أيضًا وفرحت، وأيقنت أنّه الوحي؛ لأن الشيطان لا يأمر بالتكبير ونحوه. ودخل فيه تكبير الصلاة وإن لم يكن في أوائل النبوة صلاة. والفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: مهما يكن من شيء .. فلا تدع تكبيره ووصفه بالكبرياء، أو للدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه وينزهه عن الشرك، فإن أول ما يجب معرفة الصانع، ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه. فالفاء على هذا تعقيبية لا جزائية، وقال ابن جنيّ: الفاء: فيه زائدة كما في قولك: زيدًا فاضرب؛ أي: زيدًا اضرب. وقال ابن العربي (¬1): المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد، والأصنام، ولا يتخذ وليًّا غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلًا إلَّا له ولا نعمة إلا منه. والمعنى: أي وخصّ ربك وسيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفّار وأعظم من أن يكون له صاحبةٌ أو ولدٌ. وحاصل المعنى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}؛ أي: (¬2) يا أيّها الذي تدثّر بثيابه رعبًا وفرقًا من رؤية الملك عند نزول الوحي أوّل مرّة شمر عن ساعد الجد، وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت، والداعي إلى ربّه الكبير المتعالي لا يتم له ذلك إلا إذا كان متخلّقًا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}؛ أي: عظم ربك ومالك أمورِك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد. ونحو الآية قوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}. 4 - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} مما ليس بطاهر بحفظها وصيانتها من النجاسات وغسلها بالماء الطاهر بعد تلطّخها، فإنه قبيح بالمؤمن الطيّب أن يحمل خبيثًا سواء كان في حال الصلاة أو في غيرها، وبتقصيرها أيضًا فإنّ طولها يؤدي إلى جرّ الذيول على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

القاذورات، فيكون التطهير كناية عن التقصير؛ لأنّه من لوازمه. ومعنى التقصير (¬1): أن تكون إلى أنصاف الساقين، أو إلى الكتب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل غاية طول الإزار إلى أعلى الكعب، وتوعّد على ما تحته بالنار، فإنّه أتقى وأنقى وأبقى، وهو أوّل ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - من رفض العادات المذمومة، فإنّ المشركين ما كانوا يصونون ثيابهم من النجاسات. وفيه انتقال من تطهير الباطن إلى تطهير الظاهر؛ لأن الغالب أن من نقى باطنه أبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهارة في كل شيء، فإن الدين مبنيّ على النظافة، ولا يدخل الجنة إلا نظيف، والله يحب الناسك النظيف. قال الراغب: الطهارة ضربان: طهارة جسم وطهارة نفس، وقد حمل عليهما عامّة الآيات. وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} قيل معناه: نفسك نزهها عن المعايب انتهى. أو طهر قلبك كما في "القاموس" أو أخلاقك فحسّن، قاله الحسن. وفي الحديث: حسّن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، أو عملك فأصلح كما في "الكواشي". ومنه: الحديث "يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما". أي: عمليه الخبيث والطيب، كما في "عين المعاني". وإنه ليبعث في ثيابه؛ أي: أعماله كما في "القاموس". أو أهلك فطهّرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب. والعرب تسمّي الأهل ثوبًا ولباسًا، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، كما في "كشف الأسرار". وسئل (¬2) ابن عباس عن ذلك؟ فقال: لا تلبسها على معصية، ولا عن غدرة ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي؟ فإِنِّيْ بِحَمْدِ الله لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتقنَّعُ والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد، ولم يف به: إنه لدنس الثياب، وإذا وفي ولم يغدر إنه لطاهر الثوب. قال السموءل بن عاديا اليهودي: إِذَا الْمَرءُ لَمْ يَدْنسْ مِنَ اللُّؤّمِ عِرْضُهُ ... فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيْلُ ولا تزال هذه المعاني مستعملة في ديار مصر وغيرها، فيقولون: فلان طاهر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[5]

الذيل يريدون أنه لا يلامس أجنبية. ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب غسلا بالماء، إن كانت نجسة، وروي عن كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الشافعيّ، فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلّي. وقد استبان للمشتغلين (¬1) بأصول التشريع، وعلماء الاجتماع من الأوربّيّين أن أكثر الناس قذرًا في أمهم وثيابهم أكثرهم ذنوبًا وأطهرهم أبدانًا وثيابًا أبعدهم من الذنوب. ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام، ونظافة الثياب فحسنت أخلاقهم، وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل. وقال الأستاذ: "بِتْنَامُ" في كتابه "أصول الشرائع": إنَّ كثرة الطهارة في دين الإِسلام من ما تدعو معتنقية إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيلهم، ومن هذا تعلم السرّ في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}. 5 - {وَالرُّجْزَ}؛ أي: الأوثان {فَاهْجُرْ}؛ أي: اترك؛ أي: وارفض عبادة الأوثان واتركها، ولا تقربها، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}. وقيل: الرجز: العذاب، أي: واهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدّي إليه من المآثم، سمي ما يؤدّي إلى العذاب رجزًا على تسمية المسبّب باسم سببه، والمراد الدوام على الهجر؛ لأنه كان بريئًا من عبادة الأوثان ونحوها. وقرأ الجمهور (¬2) {والرجز} بكسر الراء، وهي لغة قريش. وقرأ الحسن، ومجاهد، والسلميّ، أبو جعفر، وأبو شيبة، وابن محيصن، وابن وثّاب، وقتادة، والنخعيّ، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وحفص بضمّها. فقيل: هما بمعنى واحد يراد بهما الأصنام والأثان. وقيل: الكسر للبين والنقائص والفجور، والضمّ لصنمين إساف ونائلة. وقال عكرمة ومجاهد والزهري: للأصنام عمومًا، وقال ابن عباس: الرجز: السخط؛ أي: اهجر ما يؤدي إليه. وقال الحسن: كلّ معصية، والمعنى في الأمر: أثبت ودم على هجره؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان بريئًا منه، كما مرّ آنفًا. والمعنى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} أي: اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب في الدنيا والآخرة، فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[6]

غيرها، وأقبلت بصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي، وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان: 1 - الغرور والفخر والعظمة، فيقول: أنا مسد للنعم إليكم ومفيض للخير عليكم. 2 - الأعداء وهؤلاء يؤذونه، ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه في كل مكان، ويتالبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين، ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين. 6 - ومن ثم قال تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} برفع (¬1) {تَسْتَكْثِرُ}؛ لأنّه مستقبل في معنى الحال؛ أي: ولا تعط حال كونك مستكثرًا؛ أي: رائيًا لما تعطيه كثيرًا أو طالبًا للكثير على أنه نهي عن الاستغزار، وهو أن يهب شيئًا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر مما أعطاه، وهو جائز، ومنه الحديث: "المستغزر يثاب من هبته"؛ أي: يعوض منها. والغزارة بالغين المعجمة وتقديم الزاي: الكثرة، فالنهي إمّا للتحريم، وهو خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلوّ منصبه في الأخلاق الحسنة، ومن ذلك حلت الزكاة لفقراء أمته، ولم تحل له، ولأهله لشرفه أو للتنزيه للكلّ؛ أي: له ولأمته. قرأ الجمهور (¬2): {وَلَا تَمْنُنْ} بفكّ الإدغام. وقرأ الحسن، وأبو السمال والأشهب العقيلييّ بالإدغام. قال ابن عباس وغيره: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه كأنّه من قولهم: منْ إذا أعطى. قال الضحاك: هذا خاص به - صلى الله عليه وسلم - ومباح ذلك لأمته، لكنه لا أجر لهم. وعن ابن عباس أيضًا: لا تقل دعوت فلم أحب. وقرأ الجمهور (¬3): {تَسْتَكْثِرُ} بالرفع على أنه حال؛ أي: ولا تمنن حال كونك مستكثرًا؛ أي: رائيًا ما أعطيته كثيرًا. وقيل: على حذف (أن)، والأصل: ولا تمنن أن تستكثر؛ أي: ولا تعط لأجل أن تأخذ كثيرًا من الموهوب له بدل هبتك، فلما حذفت (أن) رفع الفعل، قال الكسائي: فإذا حذف (أن) رفع الفعل. وقرأ يحيى بن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[7]

وثاب، والحسن، والأعمش {تستكثر} بالنصب على حذف (أن) وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود {ولا تمنن أن تستكثر} بزيادة (أن). وقرأ الحسن أيضًا، وابن أبي عبلة {تَسْتَكْثِرُ} بالجزم على أنه بدل من {تَمْنُنْ} كما في قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ}، وقول الشاعر: مَتَى تَأْتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا أو بالجزم على إجراء الوصل مجرى الوقف، كما في قول امرىء القيس: فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ الله وَلَا وَاغِلِ بتسكين أشر. وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله: {تَسْتَكْثِرُ} لا يصح أن يكون بدلًا من {تَمْنُنْ}؛ لأنّ المنَّ غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جوابًا للنهي. واختلف السلف في معنى الآية، فقيل المعنى: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوة كالذي يسشكثر ما يتحمله بسبب الغير. وقيل: ولا تمنن على أصحابك بما علمتهم وبلغتهم من الوحي مستكثرًا ذلك عليهم. وقيل: لا تعط عطيّة تلتمس فيها أفضل، قاله عكرمة وقتادة. وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: حبل متين إذا كان ضعيفًا. وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن من الخير. وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملًا فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله عليك، إذ جعل لك سبيلًا إلى عبادته. وقيل: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس، فتأخذ منهم أجرًا تستكثره. وقال محمد بن كعب: لا تعط مالك مصانعة. وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطيّة فأعطها لربك. 7 - {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}؛ أي: ولوجه ربك فاصبر على طاعته وعبادته. وقيل: فاصبر لحكم ربك، ولا تتألم من أذية المشركين، فإن المأمور بالتبليغ لا يخلو عن أذى الناس، ولكن بالصبر يستحيل المر حلوًا وبالتمرن يحصل الذوق. وقال ابن زيد: حملت أمرًا عضيمًا، فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله. وقيل: اصبر تحت موارد القضاء لله، وقيل: اصبر على البلوى، وقيل: على الأوامر والنواهي. والخلاصة: لا تجزع من أذى من خالفك. 8 - ولما أتم إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء، فقال: {فَإِذَا نُقِرَ} ونفخ {فِي النَّاقُورِ} والصور نفحة البعث 9 - {فَذَلِكَ} الوقت؛ أي: وقت نقر الناقور {يَوْمَئِذٍ} بدل

[10]

من اسم الإشارة؛ أي: يوم إذ نقر في الناقور {يَوْمٌ عَسِيرٌ}؛ أي: شديد على الكل من المؤمنين والكافرين، كما روي: أن الأنبياء يفزعون يومئذٍ، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد. وذلك قوله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} وعلى المؤمنين يسير. والناقور (¬1): فاعول بمعنى ما ينقر وينفخ فيه، والمراد به الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل مرة للإصعاق، وأخرى للإحياء. فالناقور فاعول من النقر بمعنى التصويت، وأصله: القرع الذي هو سبب الصوت. يعني: جعل الشيء بحيث يظهر منه الصوت بنوع قرع. والمراد هنا: النفخ؛ إذ هو نوع ضرب للهواء الخارج من الحلقوم، والمعنى؛ أي: فإذا نفخ في الصور. والفاء للسببية؛ أي: سببية ما بعدها لما قبلها دون العكس، فهي بمعنى اللام السببيّة كأنّه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك عليه حين ينفخ في الصور ويومئذٍ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم. والعامل في {إذا} ما دل عليه قوله تعالى: {فَذَلِكَ} الوقت الذي هو {يَوْمَئِذٍ} نقر في الناقور {يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) 10 - عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ أي: يوم عسر فيه الأمر على الكافرين من جهة العذاب وسوء الحساب. وذلك إشارة إلى وقت النقر. وهو مبتدأ، و {يَوْمَئِذٍ} بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وهو {إذ} والتقدير: إذ نقر في، والخبر يوم عسير، و {عَلَى} متعلقة بـ {عَسِيرٌ}، دل عليه قول تعالى: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسر عليهم. {غَيْرُ يَسِيرٍ} خبر بعد خبر وتأكيد لعسره عليهم لقطع احتمال يسره بوجه دون وجه مشعر بيسره على المؤمنين. ثم المراد به يوم النفخة الثانية التي يحيى الناس عندها، إذ هي التي يخص عسرها بالكافرين جميعًا، وأما النفخة الأولى فهي مختصّة بمن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في "الأخبار": "إنّ في الصور ثقبًا بعدد الأرواح كلّها، وإنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه، فيعود الجسد حيًّا بإذن الله". وفي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

الحديث: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا". ومعنى {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}؛ أي: يومهم عسير لا يسر فيه، ولا فيما بعده على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم، وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد. وأمّا المؤمنون فإنه عليهم يسير، لا يناقشون فيه حسابًا، ويمشون بيض الوجوه. 11 - وقوله: {ذَرْنِي}؛ أي: دعني واتركني {وَمَنْ خَلَقْتُ} ـه حالة كونه {وَحِيدًا}؛ أي: منفردًا لا مال له ولا ولد. تهديد ووعيد؛ أي: دعني والذي خلقته حال كونه وحيدًا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، وهذا المعنى على أن {وَحِيدًا} حال من {مَنْ} الموصولة أو من الضمير العائد إليها المحذوف، ويحتمل أن يكون حالًا من الياء في {ذَرْنِي}؛ أي: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه في الانتقام منه أو من التاء في {خَلَقْتُ}؛ أي: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. والأوّل أولى. قال مقاتل: يقول الله: خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته. قال المفسرون: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وإنّما خصّ بالذكر لمزيد كفره وعظيم جحوده لنعم الله عليه، وكان يلقب في قومه بالوحيد زعمًا منهم أنّه لا نظير له في وجاهته، ولا في ماله، وكان يفتخر بنفسه، ويقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير، لا لأبي المغيرة نظير أيضًا. فسمّاه الله بالوحيد تهكّمًا به واستهزاء بلقبه كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}، وصرفًا له عن الغرض الذي يؤمونه من مدحه إلى جهة ذمّه بكونه وحيدًا من المال والولد، أو وحيدًا من أبيه ونسبه، لأنه كان زنيمًا، وهو من ألحق بالقوم وليس منهم، كما مرّ. أو وحيدًا في الشرارة والخيانة والدناءة. 12 - {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)}؛ أي: مبسوطًا كثيرًا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة. قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاءً ولا صيفًا. وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل، والغنم والبساتين

[13]

الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفًا ولا شتاءً. وقال الزجاج (¬1): مالًا غير منقطع عنه. وقد كان الوليد بن المغيرة مشهورًا بكثرة المال على اختلاف أنواعه. قيل: كان يحصل له من غلّة أمواله ألف ألف دينار، وقيل: أربعة آلاف دينار، وقيل: ألف دينار. 13 - {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)}؛ أي: وجعلت له بنين حضورًا بمكة معه يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرق لطلب الرزق لكثرة مال أبيهم، فكان مستأنسًا بهم طيب القلب بشهودهم، لا يفارقونه للتصرّف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيّين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورًا معه في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم. وقيل معنى {شُهُودًا} إذا ذكر ذكروا معه. قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدًا. وقيل: كان له عشر بنين أسلم منهم ثلاثة. قال السهيليّ: هم: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله، وسيف رسوله. وأمّا غير هؤلاء ممن مات منهم على دين الجاهلية، فلم نسمّه انتهى. فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك، وهو فقير. 14 - {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)}؛ أي: بسطت له بسطًا، ووسعت له توسيعًا في العيش وطول العمر والرياسة في قريب والجاه العريض، فأتممت (¬2) عليه النعمة، فإنّ اجتماع المال والجاه هو الكمال عند أهل الدنيا، ولذا كان يلقب ريحانة قريش، والريحان: نبت طيب الرائحة، والولد والرزق. والتمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه: مهد الصبيّ. وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض، كما يمهد الفراش. 15 - {ثُمَّ يَطْمَعُ} ويرجو {أَن أَزِيدَ} له على ما أوتيه من المال والولد. و {ثمّ} استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، إمّا لأنّه لا مزيد على ما أوتيه سعة كثرة. يعني: أنه أوتي غاية ما أوتي عادة لأمثاله، أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم؛ أي: لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم. والمعنى: أي ثم بعد هذا كله يرجو الزيادة في ماله وولده لكثرة حرصه، وشدّة طمعه مع كفرانه للنعم واشراكه بالله. وفي هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[16]

على جمع حطام الدنيا، كما هو شأن الإنسان، فقد جاء في الحديث: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب .. لتمنى لهما ثالثًا"، وجاء في الخبر: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال". وروي عن الحسن: أنّه كان يقول: إن كان محمد صادقًا .. فما خلقت الجنة إلا لي. 16 - ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه، فقال: {كَلَّا} ردع وزجر له عن طمعه الفارغ، وقطع لرجائه الخائب، فيكون متصلًا بما قبله أو لا أفعل ولا أزيده. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا}؛ أي: معاندًا دافعًا منكرًا لآياتنا القرآنية كافرًا بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال: عند إذا خالف الحق، ورده عارفًا به فهو عنيد وعاند؛ أي: منكر. والعنيد هنا بمعنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير بمعنى المجالس والمؤاكل والمعاشر، وهو تعليل لما قبله على وجه الاستئناف التحقيقيّ، فإن معاندة آيات المنعم، وهي الآيات القرآنية مع وضوحها وكفران نعمه مع سبوغها مما يوجب حرمانه بالكلية، وإنما أوتي ما أوتي استدراجًا له. وتقديم (¬1) {لِآيَاتِنَا} على متعلقه، وهو {عَنِيدًا} يدلُّ على التخصيص، فتخصيص العناد بها مع كونه تاركًا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران. وفي الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحقَّ بقلبه وينكره بلسانه. وهذا أقبح أنواع الكفر. 17 - ثم بين ما يفعله به يوم القيامة، فقال: {سَأُرْهِقُهُ}؛ أي: سأكلف ذلك العنيد يوم القيامة بدل ما يطمعه من الزيادة {صَعُودًا}؛ أي: ارتقاء عقبة شاقّة المصعد، بحيث تغشاه شدّة ومشقّة من جميع الجوانب. فالكلام على حذف مضاف كما قدّرناه على أن يكون الإرهاق معناه: تكليف الشيء العظيم المشقّة بحيث تغشى المكلف شدّته ومشقته من جميع الجوانب. قال الغزالي رحمه الله: معناه: سأكلفه حالة تصعد فيها نفسه للنزع، وان لم يتعقبه موت انتهى. وهو مثال لما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يطاق، ويجوز أن يحمل على حقيقته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا ثم يهوى كذا أبدًا"؛ أي: سبعين عامًا؛ لأنّ الخريف آخر السنة، فيه تتمّ الثمار وتدرك، فصار بذلك كأنّه العام كلّه. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

قال في "القاموس": الخريف كأمير: ثلاثة أشهر بين القيظ والشتاء، تخترف فيها الثمار؛ أي: تجنى. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "يكلف أن يصعد عقبة في النار، كلما وضع يده عليها ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت". والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصائب وأنواع المشاق شبيهًا بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقّة. قال قتادة: سيكلّف عذابًا لا راحة فيه. 18 - ثم حكى كيفية عناده فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)} تعليل لما تقدم من الوعيد؛ أي: إنه فكر في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي شأن ما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه واختلق ما يقول في طعنهما من المقال، وهيأه مما يوافق غرض قريش. والخلاصة: أنه فكر وتروى ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به حين سئل عن ذلك؟ 19 - ثم عجب من تقديره وإصابته غرضهم، فقال: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)}؛ أي: لعن وعذب كيف قدر؛ أي: على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام فيه مما لا يصح تقديره، وما لا يسوغ أن يقدره عاقل، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع؛ أي: لعن علي أيّ حال كانت منه؛ أي: فلعن في الدنيا على أيّ كيفية أوقع تقديره. 20 - والتكرير في قوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} للتأكيد والمبالغة في التشنيع؛ أي: ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أفي حال كانت تقديره، والمراد من اللعن: الدعاء عليه بالطرد والإبعاد بسبب ما قدّره، وقاله في النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أنّه ساحر، كما مرّ في أسباب النزول. وهذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدَّث عنه. تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره، يريدون أنّه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. وقصارى ذلك: أنّ هذا تعجيب من قوة خاطره وإصابته الغرض الذي كانت ترمي إليه قريش من الطعن الشديد في القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به. ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة

[21]

في التشنيع، فقال: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)}؛ أي: ثم لعن وعذب بسبب ما قدره واختلقه من الكلام فيه. و {ثمّ} هنا للدلالة على أن الكرة الثانية في التعجيب أبلغ من الأولى؛ أي: للتراخي بحسب الرتبة، وأن اللائق في شأنه ليس إلا هذا القول دعاء عليه، وفيما بعد على أصلها من التراخي الزمانيّ. 21 - {ثُمَّ نَظَرَ (21)} في أمر القرآن مرة بعد أخرى، وتأمل فيه لعله يجول بخاطره ما يحبون ويصل إلى ما يرجون. وهو معطوف على {فَكَّرَ وَقَدَّرَ}، وما بينهما اعتراض. يعني: الدعاء بينهما. 22 - {ثُمَّ عَبَسَ}؛ أي: قطب وغير وجهه عبوسة حين ضاقت به الحيل، ولم يجد فيه مطعنًا، ولم يدر ماذا يقول. ثم أكد ما قبله فقال: {وَبَسَرَ}؛ أي: كلح واسود وجهه، وزاد في العبوسة. قال سعه. بن عبادة: لمّا أسلمت راغمتني أمي، فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر. وإيراد {ثُمَّ} في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراخيًا. وفي هذا إيماء إلى أنه كان بقلبه صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان ينكره عنادًاَ، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول .. لفرح باستنباط ما استنبط وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه. 23 - {ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحق؛ أي: صرف وجهه عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} عن اتباعه؛ أي: رجع القهقرى مستكبرًا عن الانقياد له والإقرار به. 24 - ثم ذكر ما استنبطه من الترهات والأباطيل بقوله: {فَقَالَ} عقيب توليه عن الحق: {إِنْ} نافية بمعنى ما، ولذا أورد {إلّا} بعدها؛ أي: ما {هَذَا} الذي يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. يعني: القرآن {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}؛ أي: أمور تخييلية لا حقائق لها، يروى ويتعلم وينقل من الغير، وليس هو من سحره بنفسه. قال أبو حيان: ومعنى {إِلَّا سِحْرٌ}؛ أي: إلا شبيه بالسحر انتهى. يقال: أثرت الحديث آثره أثرًا إذا حدّثت به عن قوم في آثارهم؛ أي: بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم كان بمعنى الرواية عمن كان، وحديث مأثور؛ أي: منقول ينقله خلف عن سلف، وأدعية مأثورة؛ أي: مروية عن الأكابر. وفي (¬1) تعلم السحر لحكمة رخصة، واعتقاد حقِّيتِهِ والعمل به كفر، كما قيل: عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشَرِّ لَكِنّي لِتَوقِّيهِ ... ومَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فِيهِ والمعنى: أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

من السحرة كمسيلمة وأهل بابل، ويحكيه عنهم. 25 - ثم أكد ما سلف بقوله: {إِنْ هَذَا}؛ أي: ما هذا الذي يقوله محمد {إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} تأكيد لما قبله، ولذا أخليَ عن العاطف. قاله تمرّدًا وعنادًا لا على سبيل الاعتقاد، لما روي قبل: أنّه أقر بأن القرآن ليس من كلام الإنس والجن، وأراد بالبشر يسارًا وجبرًا وأبا فكيهة. أما إلأولان فكانا عبدين من بلاد فارس، وكانا بمكة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس عندهما. وأما أبو فكيهة فكان غلامًا روميًّا، يتردد إلى مكة من طرف مسيلمة الكذّاب في اليمامة. والمعنى (¬1): أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدعي. ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففي العرب ذوو فصاحة وذرابة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدًا من أهل الزكانة والمعرفة سولت له نفسه أن يعارضه بل التجؤوا إلى السيف والسنان دون المعارضة بالحجة والبرهان. وقد رووا في هذا البال مضحكات أغلبها لا يصح؛ لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغي أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر، كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل، فقال: الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب طويل ومشفر وتيل إلخ. قال أبو حيان (¬2): وقيل: ثم نظر فيما يحتج به للقرآن، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودام نظره في ذلك ثم عبس وبسر دلالة على تأنيه وتمهله في تأمله، إذ بين ذلك تراخ وتباعد. وكان العطف في {وَبسَرَ} وفي {وَاسْتَكْبَرَ} بالواو؛ لأن البسور قريب من العبوس فهو كأنّه على سبيل التوكيد، والاستكبار يظهر أنه سبب للإدبار؛ إذ الاستكبار معنى في القلب، والإدبار حقيقة من فعل الجسم، فهما سبب ومسبِّب فلا يعطف بـ {ثم}، وقدم المسبِّب على السبب؛ لأنّه الظاهر للعين، وناسب العطف بالواو. وكان العطف في {فَقَالَ} بالفاء: دلالة على التعقيب؛ لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل. ومعنى {يُؤْثَرُ}: يروى وينقل. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[26]

لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ مَا لَا يَزَا ... لُ يُؤْثَرُ عَنِّيْ بِهِ الْمُسْنَدُ وقيل: {يُؤْثَرُ}؛ أي: يختار ويرجّح على غيره من السحر، فيكون من الإيثار. ومعنى {إِلَّا سِحْرٌ}؛ أي: شبيه بالسحر. {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} تأكيد لما قبله؛ أي: يلتقط من أقوال الناس، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد، ألا ترى ثناءه على القرآن ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون. وقصته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ أوائل سورة {فصلت} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}. وناشده الله بالرحم أن يسكت انتهى. 26 - ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه وفظيع عمله، فقال: {سَأُصْلِيهِ}؛ أي: سأدخل ذلك العنيد يوم القيامة نار سقر، وأغمره فيها من جميع جهاته. قال في "الصّحاح": سقر اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: اسم للطبقة السادسة من جهنم، يقال: سقرته الشمس إذا آذته وآلمته، وسميت سقر لإيلامها. وقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} بدل من {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} بدل الاشتمال سواء جعل مثلًا لما يلقى من الشدائد، أو اسم جبل من نار؛ لأنّ سقر تشتمل على كل منهما. 27 - ثم بالغ في وصف النار وتعظيم شأنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)} ما (¬1) الأولى مبتدأ وجملة {أَدْرَاكَ} خبره، و {ما} الثانية خبر مقدم لقوله: {سَقَرَ} لأنّها المفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع دون العكس، كما سبق في الحاقّة. والمعنى: وأيّ شيء أعلمك يا محمد جواب {مَا سَقَرُ} في وصفها، لأنّها قد بلغت في الوصف حدًّا لا يمكن معرفته، ولا يتوصّل إلى إدراك حقيقته. يعني: أنه خارج عن دائرة إدراك العقول، ففيه تعظيم لشأنه. 28 - ثم بين وصفها بقوله: {لَا تُبْقِي} لهم لحما {وَلَا تَذَرُ} لهم عظمًا، فإذا أعيد أهلها خلقًا جديدًا فلا تذرهم بل تعيد إحراقهم كرّة أخرى، وهكذا أبدًا كما جاء في الآية الأخرى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}. وعبارة "الروح": قوله: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)} بيان لوصفها وحالها، وإنجاز ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

للوعد الضمني الذي يلوح به. {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)}؛ أي: لا تبقي شيئًا يلقى فيها إلا أهلكته بالإحراق، وإذا هلك لم تذره هالكًا حتى يعاد خلقًا جديدًا، فتهلكه إهلاكًا ثانيًا، وهكذا أبدًا، كما في قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ} إلخ. أو المعنى: لا تبقي على شيء؛ أي: لا تترحّم عليه ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة، لأنها خلقت من غضب الجبّار. وقيل: لا تبقي حيًّا ولا تذر ميّتًا كقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}. 29 - {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)}؛ أي: محرقة لظاهر البشرة، وأعلى الجلد، ومغيّرة لها مسوِّدة لونَها مشوّهةً لها؛ أي: تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادًا من الليل. قال ابن عباس: تلوح الجلد فتحرقه، وتغيّر لونه، يقال (¬1): لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته، ولاحه السقر أو العطش إذا غيّره. وذلك أنّ الشيء إذا كان فيه دسومة نضر، فإذا أحرق أسودّ. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان. فإن قلت: لا يمكن وصفها بتسويد البشرة مع قوله: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)}. قلت: ليس في الآية دلالة على أنها تفني بالكلية مع أنه يجوز أن يكون الإفناء بعد التسويد. وقيل: لامحة للناس على أنّ {لَوَّاحَةٌ} بتاء مبالغة من لاح يلوح؛ أي: ظهر، وأن البشر بمعنى الناس. قيل: إنها تلوح للبشر من مسيرة خمس مئة عام، فهو كقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}. فيصل إلى الكافر سمومها وحرورها، كما يصل إلى المؤمن ريح الجنة نسيمها من مسيرة خمس مئة عام. وقرأ الجمهور (¬2): {لَوَّاحَةٌ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي لوّاحة، وقيل: على أنه نعت لـ {سَقَرَ}، والأول أولى. وقرأ الحسن، وعطية العوفيّ، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر {لواحةً} بالنصب على الحال، أو الاختصاص للتهويل، فتكون حالًا مؤكّدة؛ لأنّ النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلّا مغيّرة للأبشار. 30 - {عَلَيْهَا}؛ أي: على سقر {تِسْعَةَ عَشَرَ}؛ أي: ملكًا يتولّون أمرها، ويتسلّطون على أهلها. وهم مالك وثمانية عشر معه. قال المفسرون: يقول الله سبحانه: على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[31]

النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، وقيل: تسعة عشر صنفًا من أصناف الملائكة، وقيل: تسعة عشر صفًّا من صفوفهم، وقيل: تسعة عشر نقيبًا مع كلّ نقيب جماعة من الملائكة، والأول أولى. قال الثعلبيّ: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. وقرأ الجمهور (¬1): {تِسْعَةَ عَشَرَ} مبنيّين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكان الشين من {عَشْرَ}، كراهة توالي الحركات. وقرأ الجمهور بفتحها. وقرأ أنس بن مالك، وابن عباس، وابن قطيب، وإبراهيم بن قنّة بضمّ التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب؛ لأنّها لو كانت حركة إعراب لأعرب {عشر}. وقرأ أنس أيضًا {تسعةُ} بالضم {أعشرَ} بالفتح. وقال صاحب "اللوامح": فيجوز أنه جمع العشرة على أعثر، ثم أجراه مجرى تسعة عشر. وعنه أيضًا: {تسعة وعشر} بالضم وقلب الهمزة من أعثر واوًا خالصة تخفيفًا والتاء فيهما مضمومة ضمّة بناء؛ لأنها معاقبة للفتحة فرارًا من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة. وعن سليمان بن قنة وهو أخو إبراهيم: أنه قرأ {تسعةُ أعشرٍ} بضم التاء ضمة إعراب، وإضافته إلى أعشرٍ، وأعشرٍ مجرور منون، وذلك على فك التركيب. قال صاحب "اللوامح": ويجيء على هذه القراءة وهي قراءة من قرأ {أعشرَ} مبنيًّا، أو معربًا من حيث هو جمع أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكًا نتهى. وفيه بعض تلخيص. قال الزمخشري: وقرىء {تسعةُ أعشرٍ} جمع عشير مثل: يمين وأيمن انتهى. 31 - ولما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مئة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار، فقال أبو الأشد وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فادفع عشرة بمنكبي، الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة. فأنزل الله ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ}؛ أي: المدبرين لأمرها، القائمين بتعذيب أهلها. فأصحاب النار هنا غير أصحاب النار في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. {إِلَّا مَلَائِكَةً} ليخالفوا جنس المعذبين من الثقلين، فلا يرقوا لهم ولا يميلوا إليهم، فإن المجانسة مظنة الرأفة، فلذا بعث الرسول من جنسنا ليرحم بنا، ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله، وبالغضب له تعالى وأشدهم بأسًا. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "القوة أحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمّة، وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي بالجبل عليهم". والمعنى: أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، وهؤلاء هم النقباء والمدبرون لأمرها. وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسًا، وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه"، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقوا لهم، ويرحموهم. ثم ذكر الحكمة في اختيار هذا العدد القليل، فقال: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ}؛ أي: وما جعلنا في القرآن عددهم هذا العدد القليل {إِلَّا فِتْنَةً}؛ أي: محنة وضلالة {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الذين استقلوا عددهم؛ أي: ما جعلنا تلك العدّة، وهي تسعة عشر إلا سبب فتنة وضلالة للذين كفروا حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزؤوا به واستبعدوه، وقالوا: كيف يتوتى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين. وقوله: {إِلَّا فِتْنَةً} مفعول لـ {جعل} على حذف مضاف؛ أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة لـ {فِتْنَةً}، وليست {فِتْنَةً} مفعولًا له اهـ "سمين". أي (¬1): وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي تسبّب لافتتانهم ووقوعهم في الكفر، وهو التسعة عشر، فعبّر بالأثر عن المؤثّر؛ أي: عبّر بالفتنة عن العدد المخصوص تنبيهًا على التلازم بينهما، وحمل الكلام على هذا؛ لأن {جعل} من دواخل المبتدأ والخبر، فوجب حمل مفعوله الثاني على الأول، ولا يصح حمل افتتان الكفار على عدد الزبانية إلا بالتوجيه المذكور، فإن عدتهم سبب للفتنة لا فتنة ¬

_ (¬1) روح البيان.

نفسها. ثم ليس المراد مجرد جعل عددهم ذلك العدد المعين في نفس الأمر، بل جعله في القرآن أيضًا كذلك، وهو الحكم بأن عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم باستقلالهم له واستبعادهم لتولي هذا العدد القليل أمر الجم الغفير، واستهزائهم به حسبما ذكر، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب وازدياد المؤمنين إيمانًا. قال الإِمام الرازّي (¬1): إنما صار هذا العدد سببًا لفتنة الكفار من وجهين: الأول: أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لا يكونون عشرين مثلًا، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟ والثاني: أنّ الكفار يقولون: هذا العدد القليل كيف يكون وافيًا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة؟ وأجيب عن الأول: بأن هذا السؤال لازم عن كل عدد يفرض، وبأن أفعال الله لا تعلل فلا يقال فيها: لِمَ، وتخصيص هذا العدد لحكمة اختص الله بها. وعن الثاني: بأنه لا يبعد أن الله تعالى يعطي ذلك العدد القليل قوة تقي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. وأيضًا فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، ولا للعقل فيها مجال اهـ "خازن" و"خطيب". وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} متعلق بالجعل الثاني على المعنى المذكور. والسين (¬2) للطلب؛ أي: وجعلنا عدتهم العدد المذكور القليل الذي تسبَّب لضلال الكفار ليكتسب الذين أوتوا الكتاب اليقين بنبوته - صلى الله عليه وسلم - وصدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقًا لما في كتابهم. وفي "عين المعاني": سأل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خزنة النار وعددهم؟ "فأجاب عليه السلام: بأنهم تسعة عشر؛ أي: إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدّة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لموافقة ما في القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وغيرهم. وقيل: {لِيَسْتَيْقِنَ} ¬

_ (¬1) التفسير الكبير. (¬2) روح البيان.

متعلق بفعل مضمر؛ أي: فعلنا ذلك ليستيقن الذين أوتوا الكتاب. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}؛ أي: وليزداد إيمانهم كيفيةً بما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كميةً بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل. وقيل (¬1): المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. وقيل: أراد المؤمنين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: ليزدادوا يقينًا إلى يقينهم، لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم. وقوله: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، فإن نفي ضد الشيء بعد إثبات وقوعه أبلغ في الإثبات، ونفي لما قد يعتري المستيقن والمؤمن من شبهة ما، فيحصل له يقين جازم بحيث لا شك بعده. وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل: ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالًا، فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود، ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما. والتعبير (¬2) عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده، ورسوخهم في ذلك. والمراد نفي الارتياب عنهم في الدين، أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين. والمعنى: أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - في حقّية ذلك العدد. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}؛ أي: شك أو نفاق، فإن كلًّا منهما من الأمراض الباطنة، فيكون إخبارًا بما سيكون في المدينة بعد الهجرة، إذ الاتّفاق إنما حدث بالمدينة، وكان أهل مكة إما مؤمنًا حقًا وإما مكذّبًا وإمّا شاكًّا. {وَالْكَافِرُونَ} المصرّون على التكذيب من أهل مكة وغيرهم. فإن قلت: كيف يجوز أن يكون قولهم هذا مقصودًا لله تعالى؟. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

قلت: اللام ليست على حقيقتها بل للعاقبة، فلا إشكال. {مَاذَا} مجموع الكلمتين، اسم استفهام، فـ {ذا} ملغاة؛ أي: أي شيء {أَرَادَ اللَّهُ} سبحانه. وهذا الاسم المركب مفعول مقدم؛ أي: أي شيء أراد الله {بِهَذَا} العدد القليل {مَثَلًا} حال من هذا؛ أي: أي شيء أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب حال كونه مشابهًا للمثل في غرابته، ويصح أن تكون {ما} مبتدأ، و {ذا} موصولًا خبره، و {أَرَادَ اللَّهُ} صلة الموصول، و {مَثَلًا} تمييز لهذا؛ أي: ما الذي أراده الله سبحانه بهذا العدد القليل، من جهة كونه مثلًا؛ أي: شبيهًا بالمثل في غرابته. فإطلاق المثل على هذا العدد على سبيل الاستعارة، حيث شبهوه بالمثل المضروب، وهو القول السائر في الغرابة، حيث لم يكن عقدًا تامًّا كعشرين أو ثلاثين. والاستفهام لإنكار أنّه من عند الله بناءً على أنّه لو كان من عنده تعالى لما جاء ناقصًا. وإفراد قولهم هذا بالتعليل مع كونه من باب فتنتهم للإشعار باستقلاله في الشناعة. والمعنى (¬1): أي وليقول الذين في قلوبهم شك في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقاطعون بكذبه: ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟. ثم بين أن الاختلاف في الدين سنة من سنن الله تعالى، فقال: {كَذلِكَ}؛ أي: كما أضل الله سبحانه هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدّة خزنة جهنم: أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوفنا بعدتهم {يُضِلُّ اللَّهُ} سبحانه من خلقه {مَنْ يَشَاءُ} إضلاله، فيخذله عن إصابة الحق. {و} كما هدى الله سبحانه المؤمنين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن أهل الكتاب إلى هذا المثل {يهدي} من عباده {مَنْ يَشَاءُ} هدايته، فيوفقه لإصابة الصواب. واسم الإشارة إلى ما تقدم ذكره، وهو قوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. والكاف نعت لمصدر محذوف، والمعنى: يضل الله من خلقه من يشاء إضلاله إضلالًا كائنًا كإضلال هؤلاء المنكرين لخزنة جهنم وعددهم من أبي جهل وأصحابه، ويهدي من خلقه من يشاء هدايته هداية كائنة كهداية المصدّقين لخزنة جهنم، وعددهم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكتاب. ¬

_ (¬1) المراغي.

والخلاصة: أنّ مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وتوجيهها إلى سيّء الأعمال واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى، ويهدي من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال وتزكيته نفسه، كلما لاح له سبيل الهدى. وقيل المعنى: كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء، ويهدي إليها من يشاء. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} يا محمد؛ أي: جموع خلقه التي من جملتها الملائكة المذكررون. والجنود (¬1): جمع جند بالضمّ، وهو العسكر، وكل مجتمع، وكل صنف من الخلق على حدة. وفي الحديث: "إنّ لله جنودًا منها العسل". {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى لفرط كثرتها. وفي حديث موسى عليه السلام: "أنه سأل ربه عن عدد أهل السماء؟ فقال تعالى: اثنا عشر سبطًا عدد كل سبط عدد التراب". وفي "الأسرار المحمدية": ليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله، والدليل على ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتستر في الخلوة، وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين. وفيه إشارة إلى أنَّ لله في اختيار عدد الزباينة حكمةً، وإلا فجنوده خارجة عن داثرة العدّ والضبط. قال الفاشاني: وما يعلم عدد الجنود وكمّيتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيّات وأحوالها. والمعنى: وما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد. وقال عطاء: يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدّتهم إلا الله. والمعنى: أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. وهذا رد على استهزائهم يكون الخزنة تسعة عشر جهلًا منهم وجه الحكمة في ذلك. ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر، فقال: {وَمَا هِيَ}؛ أي: وما سقر، وما ذكر معها من عدد خزنتها {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}؛ أي: إلا تذكرة وموعظة وإنذارًا للبشر والإنس بسوء عاقبة الكفر والضلال. وتخصيص (¬2) الإنس مع أنها تذكرة للجن أيضًا؛ لأنهم هم الأصل في القصد بالتذكرة. أو المعنى: وما عدة الخزنة إلا تذكرة لهم ليتذكروا، ويعلموا أن الله سبحانه قادر على أن يعذب الكثير غير المحصور من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[32]

كفّار الثقلين، وعصاتهم بهذا العدد القليل بل هو لا يحتاج في ذلك إلى أعوان وأنصار أصلًا، فإنّه لو قلب شعرةً واحدةً في عين ابن آدم، أو سلَّط الألم على عرق واحد من عروق بدنه.، لكفاه ذلك بلاءً ومحنة. وإنما عيّن العدد وخلق الجنود لحكمة لا لاحتياجٍ. ويجوز أن يعود الضمير إلى الآيات الناطقة بأحوال سقر، فإنّها تذكرة لاشتمالها على الإنذار. 32 - ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم، فقال: {كَلَّا} ردع لمن أنكر سقر؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن إنكار سقر، فإنها حق لا سبيل لكم إلى إنكارا لتظاهر الأدلة عليها. أو إنكار ونفي لكونها تذكرة لهم، فإن كونها ذركما للبشر لا ينافي أن بعضهم لا يتذكرون، بل يعرضون عنها بسوء اختيارهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}؟ قال الفرّاء: {كلا} (¬1) صلة للقسم التقدير أي: والقمر، وقيل المعنى: حقًّا والقمر. وقال ابن جرير: المعنى: رد زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم؛ أي: ليس الأمر كما يقول. ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية. {وَالقَمَرِ} مقسم به، مجرور بواو القسم. وفي "فتح الرحمن": وهذا تخصيص تشريف، وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرته في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل. وقال أبو الليث: وخالق القمر يعني: الهلال بعد ثالثه. 33 - {وَاللَّيْلِ} معطوف على {القمر}، وكذا {الصبح} {إِذْ} بسكون الذال، وهو ظرف لما مضى من الزمان. {أَدْبَرَ} على وزن أفعل؛ أي: انصرف وذهب فإنّ الإدبار ضدّ الإقبال. وقرأ (¬2) ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وعطاء، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو الزناد، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وطلحة، والنحويّان والابنان، وأبو بكر {إذا} على أنّه ظرف لما يستقبل من الزمان، {دبر} بفتح الدال بزنة ضرب. وقرأ ابن جبير، والسلميّ، والحسن بخلاف عنهم، وابن سيرين، والأعرج، وزيد بن عليّ، وأبو شيخ، وابن مُحَيّصن، ونافع، وحمزة، وحفص {إذْ} بسكون الذال على أنه ظرف لما مضى من الزمان. {أدبر} بوزن أكرم. ودبر وأدبر لغتان، كما يقال: أقبل الزمان، وقبل الزمان، ويقال دبر الليل، وأدبر الليل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[34]

إذا تولى ذاهبًا. وقرأ الحسن أيضًا، وأبو رزين، وأبو رجاء، وابن يعمر أيضًا، والسلميّ، وطلحة أيضًا، والأعمش، ويونس بن عبيد، ومطر {إذا} بالألف، {أدبر} بالهمز، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ، وهو مناسب لقوله: {إِذَا أَسْفَرَ}. ويقال: كأمس الدابر، وأمس المدبر بمعنى واحد. وقال يونس بن حبيب: {دبر}: انقضى، وأدبر: تولّى. 34 - {وَالصُّبْحِ}؛ أي: الفجر أو أوّل النهار {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان. واتفقوا على {إِذَا} هاهنا نظرًا إلى تأخره عن الليل من وجه. {أَسْفَرَ}؛ أي: أضاء، وانكشف، وظهر. وقرأ الجمهور (¬1) {أَسْفَرَ} رباعيًا. وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل {سفر} ثلاثيًّا، والمعنى: طرح الظلمة عن وجهه. 35 - {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)} جواب للقسم. و {الْكُبَرِ} (¬2): جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائه، وألحقت بها، فكما جمعت فعلة على فعل كركبة وركب جمعت فعلى عليها، وإلا ففعلى لا تجمع على فعل بل على فعالى كحبلى وحبالى. والظاهر: أن الضمير عائد على سقر؛ أي: إن سقر لإحدى البلايا، أو لإحدى الدواهي الكبر الكثيرة، وهي؛ أي: سقر واحدة في العظم لا نظير لها كقولك: إنه أحد الرجال. هذا إذا كان منكرًا لـ {سَقَرَ}، وإن كان منكرًا لعدة الخزنة فالمعنى: أنها من إحدى الحجج {الْكُبَرِ}، {نَذِيرًا} من قدرة الله على قهر العصاة من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة من الجنّ والإنس، حيث استعمل على تعذيبهم هذا العدد القليل. وإن كان منكر الآيات فالمعنى: أنها لإحدى الآيات الكبر. وقرأ الجمهور {لَإِحْدَى} بالهمزة، وهي منقلبة عن واو، أصله: لوحدى، وهو بدل لازم. وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، ووهب بن جرير عن ابن كثير بحذف الهمزة، وهو لا ينقاس، وتخفيف هذه الهمزة أن تجعل بين بين. 36 - {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)} حال من الضمير في {إِنَّهَا}، قاله الزجاج. وروى عنه عن الكسائي، وأبي علي الفارسيّ: أنّه حال من قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}؛ أي: قم يا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[37]

محمد فأنذر حال كونك نذيرًا للبشر. وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار، منصوب بفعل مقدر. وقيل: إنه منتصب على التمييز من نسبة إحدى الكبر إلى اسم {إنّ}؛ لأنّ معناه: أنها من معظمات الدواهي التي خلقها الله للتعذيب، فيصح أن ينتصب منه التمييز، كما تقول: هي إحدى النساء عفافًا. والنذير (¬1) مصدر بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، والمعنى: لإحدى الكبر إنذارا: أي: من جهة الإنذار أول مما دلت عليه الجملة؛ أي: معنى قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)}؛ أي: كبرت منذرة، وحذف التاء مع أن فعيلًا بمعنى فاعل، يفرق فيه بين المذكر والمؤنث لكون ضمير {إِنَّهَا} في تأويل العذاب أو لكون النذير بمعنى ذات إنذار على معنى النسب كقولهم: امرأة طاهر؛ أي: ذات طهارة. وقيل: إنّه مفعول لأجله؛ أي: وإنها لاحدى الكبر لأجل إنذار البشر. وقرأ الجمهور بالنصب. وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو نذير أو هي نذير. ومعنى الآيات: أقسم بالقمر الوضّاح والليل إذا ولى، وذهب والصبح إذا أشرق إنّ جهنم لإحدى البلايا الكبار، والدواهي العظام لإنذار البشر. 37 - ثم بين أصحاب النذارة، فقال {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} بدل من قوله: {لِلْبَشَرِ} بإعادة الجار، و {أَنْ يَتَقَدَّمَ} مفعول {شَاءَ}، و {مِنْكُمْ} حال مِنْ {مَنْ} الموصولة؛ أي: نذيرًا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير والجنة والطاعة، فيهديه الله. أو لم يشأ ذلك، ويتأخّر بالمعصية، فيضله. وفيه إشارة إلى أنَّ لكسب العبد دخلًا في حصول المرحومية والمحروميّة. وقال السدي: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة. أو المعنى (¬2): لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها، ويردها. ونحو الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}. وخلاصة ما سلف: ها أنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها. قال ابن عباس: هذا تهديد لاعلام بأنّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جوزي بثواب لا ينقطع أبدًا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عوقب عقابًا لا ينقطع أبدًا. وقال الحسن: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[38]

هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر، كقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}. 38 - {كُلُّ نَفْسٍ} من نفوس الإنس والجنّ المكلّفين {بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}؛ أي: مرهونة عند الله بكسبها محبوسة ثابتة. وفي بعض التفاسير: بسبب ما كسبت من الأعمال السيئة. وقيل: مأخوذة بعملها، ومرتهنة إما خلّصها أو أوبقها. من (¬1) رهن الشيء إذا دام وثبت، وارتهنته؛ أي: تركته مقيمًا عنده وثابتًا. والرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والمرتهن: هو الذي يأخذ المرهون، ونفس المكلّف محبوسة ثابتة عند الله بما أوجبه عليه من التكاليف التي هي حق خالص له تعالى، فإن أدّاها المكلّف كما وجبت عليه فك رقبته وخلص نفسه، وإلا بقيت نفسه مرهونة محبوسة عنده. وقال بعضهم: الرهينة: اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم على أن تكون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية. وفي فتح الرحمن: التاء للمبالغة أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان ونحوه، وليس أي: الرهينة صفة وإلا لقيل: رهين؛ لأنّ فعيلًا بمعنى مفعول لا تدخله التاء، بل يستوي فيه المذكر والمؤنث، إلا أن يحمل على ما هو بمعنى الفاعل، فإنه يؤتى في مؤنثه بالتاء كما في عكسه في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. 39 - {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} استثناء متصل (¬2) من {كُلُّ نَفْسٍ} لكثرتها في المعنى. و {أَصْحَابَ الْيَمِينِ}: أهل الأعمال الصالحة من المؤمنين. أي: فإنهم فاكّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين. والمعنى: أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه كافرة كانت أو مؤمنة عاصية أو طائعة إلا أصحاب اليمين، فإنّهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه. واختلف (¬3) في تعيين أصحاب اليمين. فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: أولاد المسلمين، وقيل: الذين كانوا عن يمين آدم، وقيل: أصحاب الحق، وقيل: هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل: هم الذين ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[40]

اختارهم الله لخدمته. 40 - {فِي جَنَّاتٍ} في محل رفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم في جنّات لا يكتنه كنهها، ولا يوصف وصفها، كما دل عليه التنكير. والمراد أن كلا منهم ينال جنة منها. والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال نشأ مما قبله، كأنّه قيل: ما بال أصحاب اليمين؟ فقيل: هم في جنات. ويجوز أن يكون {فِي جَنَّاتٍ} حالًا من {أَصْحَابَ الْيَمِينِ}، وأن يكون حالًا من فاعل {يَتَسَاءَلُونَ}، وأن يكون ظرفا لـ {يَتَسَاءَلُونَ}. وقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} يجوز أن يكون على بابه فيكون قوله: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)} متعلقًا بـ {يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا عن أحوال المجرمين. ويجوز (¬1) أن يكون تفاعل هنا بمعنى فعل، 41 - و {عَنِ} في قوله: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)} زائدة؛ أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم. وقد حذف المسؤول لكونه عين المسؤول عنه ولدلالة ما بعده عليه. ويروى: "أنّ الله يطلع أهل الجنة، وهم في الجنة حتى يروا أهل النار، فيسألونهم. 42 - وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} مقول لقول قدر وقع حالًا مقدرة من فاعل يتساءلون؛ أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم حال كونهم قائلين لهم أي شيء أدخلكم في سقر؟ وأيُّ شيء كان سببًا لدخولكم فيها؟. من سلكت الخيط في الإبرة سلكًا، أي: أدخلته فيها، فهو من السلك بمعنى الإدخال لا من السلوك بمعنى الذهاب. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك؟ قلت: توبيخًا لهم وتحسيرًا ولتكون حكاية الله سبحانه ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقرأ أبو عمرو "سلكّم" بإدغام الكاف في الكاف، والباقون بالفكّ. والمعنى: أي (¬2) هم في غرفات الجنات يسألون المجرمين، وهم في الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في سقر؟ 43 - فأجابوهم: بأنّ هذا العذاب كان لأمور أربعة: 1 - {قَالُوا}؛ أي: قال المجرمون مجيبين للسائلين {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} للصلوات الواجبة، فعدم إقرارنا بفرضيّة الصلاة وعدم أدائها سلكنا فيها. أصله: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[44]

نكن، حذف النون للتخفيف مع كثرة الاستعمال. والمعنى: أي لم نكن في الدنيا من المؤمنين الذين يصلّون لله؛ لأنّا لم نكن نعتقد بفرضيّتها. 2 - 44 {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)}؛ أي: ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا المتصدّقين عليهم بما تجود به نفوسنا، وهو على معنى استمرار نفي الإطعام لا على نفي استمرار الإطعام. والمراد أيضًا لإطعام للواجب كالزكاة والكفّارة والنذر، وإلاّ فما ليس بواجب من الصلاة والإطعام لا عذاب على تركه، وكانوا يقولون: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}. فكانوا لا يرحمون المساكين بالإطعام، ولا يحضّون عليه أيضًا. ففيه (¬1) ذمّ للبخل، ودلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة في الآخرة. قال في "التوضيح": الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات إجماعًا، أمّا العبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقًا أيضًا لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} الآيات، أمّا في حق وجوب الأداء فمختلف فيه. قال العراقيّون من مشايخنا: نعم، وقال مشايخ ديارنا: لا. وفي بعض التفاسير: وللحنفيّ أن يقول: هذا إنما هو تأسّف منهم على تفريطهم في كسب الخير وحرمانهم مما ناله المصلّون، والمزكّون من المؤمنين، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا مأمورين بالعمل قبل الإيمان. 3 - 45 {وَكُنَّا نَخُوضُ} ونشرع في الباطل {مَعَ الْخَائِضِينَ}؛ أي: مع الشارعين فيه. والمراد بالباطل ذمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم وغيبتهم، وقولهم: بأنّه شاعر أو ساحر أو كاهن أو غير ذلك، والطعن في القرآن وقولهم هو سحر أو شعر أو كهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل. والخوض في الأصل: الشروع مطلقًا في أيّ شيء كان، ثم غلب في العرف بمعنى الشروع في الباطل والقبيح وما لا ينبغي. وفي الحديث: "أكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في معصية الله". 4 - 46 {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)}؛ أي: بيوم الجزاء. أضافوه إلى الجزاء مع أنّ فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له، لأنه أدهاها وأنهم ملابسوه، وقد مضت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[47]

بقية الدواهي، وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل؛ إذ هو تكذيب القيامة وإنكارها كفر، والأمور الثلاثة المتقدمة فسق لتفخيمها، وللترقّي من القبيح إلى الأقبح، كأنهم قالوا: وكنّا بعد ذلك كله مكذبين بيوم الدين، ولبيان كون تكذيبهم به مقارنًا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرًّا إلى آخر عمرهم، 47 - حسبما ينطق به قولهم: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)}؛ أي: الموت ومقدّماته، فإنه أمر متيقن لا شك في إتيانه، كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. أو حتى علمنا صحة ذلك عيانًا بالرجوع إلى الله في الدار الآخرة. فان قلت: أيريدون أن كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمران جميعًا كما في "الكشاف". 48 - {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}؛ أي: لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين كما تنفع المؤمنين؛ أي: لو قدّر اجتماعهم على شفاعتهم على سبيل فرض المحال لا تنفعهم تلك الشفاعة، فليس المراد أنّهم يشفعون لهم فلا تنفعهم شفاعتهم؛ إذ الشفاعة يوم القيامة موقوفة على الإذن، وقابليّة المحل، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت، والكافر ليس بقابل لها، فلا إذن في الشفاعة له فلا شفاعة، ولا نفع في الحقيقة. وفيه دليل على صحة الشفاعة ونفعها يومئذٍ لعصاة المؤمنين، وإلا لما كان لتخصيصهم بعدم منفعة الشفاعة وجه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: تشفع الملائكة والنبيّون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} إلى قوله: {بِيَوْمِ الدِّينِ}. 49 - {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}؛ أي: فأيّ شي حصل لهم معرضين عن القرآن. والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين. و {مُعْرِضِينَ} حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرًا لـ {ما} الاستفهامية، و {عَنِ} متعلّقة به؛ أي: فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأيّ شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه، وتأكد الدواعي للإيمان به. والمعنى: أي أيّ شيء حصل لأهل مكة حال كونهم معرضين عن القرآن

[50]

الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى. قال مقاتل: إعراضهم عن القرآن من وجهين: (1) جحودهم وإنكارهم له، (2) ترك العمل بما فيه. 50 - ثمّ شبّههم في نفورهم عن القرآن بالحمر، فقال: {كَأَنَّهُمْ}؛ أي: كأن هؤلاء المشركين في إعراضهم عن القرآن {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ}؛ أي: حمر وحشية هاربة مما يفزعها. والجملة حال من الضمير المستكن في {مُعْرِضِينَ} على التداخل. والحمر: جمع حمار، وهو معروف، ويكون وحشيًّا، وهو المراد هنا. وقرأ الجمهور {حُمُرٌ} بضمّ الميم، والأعمش بإسكانها. ومستنفرة بمعنى نافرة هاربةً، من نفرت الدابّة إذا هربت، لا من نفر الحاج، يقال: نفر واستنفر بمعنى هرب، مثل: استعجب بمعنى عجيب. وقرأ الجمهور (¬1) {مُسْتَنْفِرَةٌ} بكسر الفاء؛ أي: نافرة، ويناسب الكسر قوله {فَرَّتْ}. وقرأ نافع وابن عامر بفتحها؛ أي: منفّرة مذعورة، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال في "الكشاف": المستنفرة: الشديدة النفار والهرب كأنّها تطلب النفار من نفوسها بسبب أنهم جمعوا نفوسهم للنفار، وحملوها عليه. فأبقى السين على بابها من الطلب. والمعنى: حال كونهم مشبهين في إعراضهم عن القرآن بحمر نافرة 51 - {فَرَّتْ} وهربت {مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي: من أسد أو من الرماة لها للاصطياد؛ لأنّ الوحشة إذا عاينت الأسد تهرب أشدّ الهرب، ومثل القسورة الحيدرة وزنا ومعنى وهي فَعْولَةٌ من القسر، وهو القهر والغلبة؛ لأنه يغلب السباع ويقهرها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: القسورة هو الأسد بلسان الحبشة، كذا قاله عطاء والكلبي. وقيل: القسورة هي جماعة الرماة الذين يتصيّدونها، ويرمونها، وهو جمع قسور، وهو الرمي، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان. وقيل: القسورة: أصوات الناس. وقيل: القسورة أوّل الليل؛ أي: فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة وابن الأعرابي. والتفسير الثاني أولى. شبهوا (¬2) في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمرٍ جدّت في نفارها مما أفزعها، وفيه من ذمهم وتهجين حالهم، ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[52]

يعني: أن في تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا ترى مثل نفار حمر الوحش واطّرادها في العدّو إذا خافت من شيء، ومن أراد إهانة غليظة لأحد والتشنيع عليه بأشنع شيء شبهه بالحمار. والمعنى: كأن هؤلاء المشركين في فرارهم من محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن استماع القرآن حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويعقرونها لصيدها وافتراسها. 52 - ثم بين أنهم بلغوا في العناد حدّا لا يقبله عقل ولا يستسيغه ذو نفس حاسّة، فقال: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} معطوف على مقدّر يقتضيه المقام، كأنّه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة، ولا يرضون بها عنادًا ومكابرةً، بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ، وذلك أنهم؛ أي: أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأصحابهما قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، أو يصبح عند رأس كل رجل منا أوراق منشورة عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتباعك؛ أي: بأن يقال: أَتبع محمدًا فإنه رسول من قبلي إليك، كما قالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}. والمرء: الإنسان أو الرجل، ولا يجمع من لفظه. والصحف: جمع صحيفة، وهي الكتاب. والمنشرة: المنشورة المفتوحة. وقرأ الجمهور (¬1): {صُحُفًا} بضم الصاد والحاء. وقرأ سعيد بن جبير بإسكان الحاء. وقرأ الجمهور {مُنَشَّرَةً} بالتشديد، وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف، من نشّر وأنشر، مثل: نزَّل وأنزل. والمعنى: أي هم قد بلغوا في العناد حدًّا لا تجدي معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيّه - صلى الله عليه وسلم -. 53 - ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة، وزجرهم فقال: {كَلَّا} ردع لهم وزجر عن اقتراحهم الآيات وإرادتهم ما أرادوه، فإنهم إنما اقترحوها تعنّتًا وعنادًا لا هدى ورشادًا؛ أي: فهم لا يؤتونها. وقيل: {كَلَّا} بمعنى حقًّا. ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح، فقال: {بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ}؛ أي: عذاب الآخرة ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[54]

لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات، فلعدم خوفهم منها أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف. والمعنى (¬1): أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم، وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها. ومن ثم أعرضوا عن التأمل في تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية في الدلالة على صدق دعوى محمد - صلى الله عليه وسلم - للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوغ له. وقرأ الجمهور {يَخَافُونَ} بياء الغيبة، وأبو حيوة بتاء الخطاب التفاتًا. 54 - ثم وبّخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال: {كَلَّا} ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة {إِنَّهُ} الضمير في {إِنَّهُ} وفي {ذَكَرَهُ}؛ للتذكرة؛ لأنها بمعنى الذكر أو القرآن كالموعظة بمعنى الوعظ والصيحة بمعنى الصوت. {تَذْكِرَةٌ} بليغة كافية. فالتنوين فيه للتعظيم. وفي "برهان القرآن" أي: تذكير للحق، وعدل إليها للفاصلة؛ أي: ليس الأمر كما يقول المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه، ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكرًا ولا معرفًا. 55 - ثم ما ذكر هو كالنتيجة لما سلف، فقال: {فَمَنْ شَاءَ} من عباده أن يذكره، ولا ينساه، ويتعظ به قبل حلوله في رمسه. {ذَكَرَهُ}؛ أي: جعله نصب عينيه، وحاز بسببه سعادة الدارين، فإنه ممكن من ذلك. 56 - ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه، فقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ} بمجرد مشيئتهم للذكر، كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)}، إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله. وضمير (¬2) الجمع إمّا أن يعود إلى الكفرة؛ لأنّ الكلام فيهم أو إلى {مَن} الموصولة نظرًا إلى عموم المعنى لشموله لكلّ من المكلّفين. وقرأ نافع وسلام ويعقوب {تذكرون} بتاء الخطاب ساكنة الذال، وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج {يَذْكُرُونَ} بالياء. وروي عن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

أبي جعفر {تذكرون} بالتاء وإدغام التاء في الذال. وروي عن أبي حيوة {يذكرون} بياء الغيبة وشدّ الذال. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء مفرغ من أعم العلل أو من اعم الأحوال؛ أي: وما يذكرون لعلة من العلل، أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله أو حال أن يشاء الله ذكرهم. وهذا تصريح بأنّ أفعال العبد بمشيئة الله لا برادة نفسه. والمعنى (¬1): أي وما يذكرون هذا القرآن، ولا يتعظون بعظاته، ويعملون بما فيه، إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله؛ إذ لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء، كما قال سبحانه: وما تشاؤون إلا أن يشاء الله. ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف، فقال: {هُوَ} سبحانه وتعالى {أَهْلُ التَّقْوَى}؛ أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه، والعمل بطاعاته؛ أي: حقيق بأن يتّقى عقابه ويؤمن به ويطاع. فالتقوى مصدر من المبنيّ للمفعول. {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}؛ أي: وهو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم. وقيل: هو أهل أن تُتَّقى محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه. وعن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية، فقال: "قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهًا، فأنا أهل أن أغفر له". أخرجه أحمد، والدارميّ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث غريب، وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي، وليس بالقوي في الحديث، وقد تفرّد به عن ثابت، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. الإعراب {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

{يَا أَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أيّ} منادى نكرة مقصودة، والهاء: حرف تنبيه، {الْمُدَّثِّرُ} صفة لأيّ، وجملة النداء مستأنفة. {قُمْ} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمّد، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {فَأَنْذِرْ} {الفاء}: عاطفة، {أنذر} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {قُمْ}، {وَرَبَّكَ} {الواو} عاطفة، {ربك} مفعول مقدم لـ {كبّر}، {فَكَبِّرْ} {الفاء}: زائدة، {كبر} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {قُمْ}. وقال ابن جنّي: {الفاء}: في {فَكَبِّرْ} زائدة كالفاء في قولك: زيدًا فاضرب؛ أي: زيدًا ضرب. وقال الزجاج: الفاء واقعة في جواب شرط مقدر يقتضيه السياق كأنّه قيل: مهما يكن من شيء فلا تدع تكبيره. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} {الواو}: عاطفة، {ثيابك} مفعول مقدم، ومضاف إليه و {الفاء}: إما زائدة؛ أو رابطة كما تقدم آنفًا، {طهر} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على {كبر}. {وَالرُّجْزَ} {الواو}: عاطفة، {الرجزَ} مفعول مقدم، {فَاهْجُرْ} {الفاء}: تقدم الكلام فيها، {اهجر} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ما قبله، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا} ناهية، {تَمنُنْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على ما قبلها، {تَسْتَكْثِرُ} فعل مضارع، مجزوم بالطلب السابق، أو على البدليّة من {تَمنُنْ}، والتقدير على جعله جوابًا للنهي؛ أي: إنك إن لا تمنن بعطائك تجد ثوابًا كثيرًا على عطيّتك لسلامة ذلك من الإبطال بالمنّ على حدّ قوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}. ووجه الإبدال أنه نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)}. وقُرىء بالرفع، والجملة حينئذٍ في محل النصب حال من فاعل {تَمنُنْ}. {وَلِرَبِّكَ} {الواو}: عاطفة، {لربك} متعلق بـ {اصبر}، {فاصبر} فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ما قبله، والفاء الكلام فيها مثل ما تقدم. {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية، وفيها معنى التسبّب والعلّة، كأنّه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه مغبّة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك. {إذا}

ظرف لما يستقبل من الزمان، {نُقِرَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، {فِي النَّاقُورِ} جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بما يدل عليه الجواب الآتي، والتقدير: فإذا نقر في الناقور اشتدّ الأمر وعسر على الكافرين. {فَذَلِكَ} {الفاء}: رابطة لجواب {إذا} وجوبًا، {ذلك} مبتدأ، {يَوْمَئِذٍ} {يوم} ظرف زمان في محل الرفع، بدل من اسم الإشارة، مبنيّ على الفتح لإضافته إلى المبني، {يَوْمٌ} مضاف، {إذ} ظرف لما مضى من الزمان في محل الجرّ مضاف إليه، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلّص من التقاء الساكنين، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ نفخ في الصور. {يَوْمٌ} خبر المبتدأ، {عَسِيرٌ} صفة لـ {يَوْمٌ}، {عَلَى الْكَافِرِينَ} متعلق بـ {عَسِيرٌ}، {غَيْرُ يَسِيرٍ} نعت ثان لـ {يَوْمٌ}، والجملة الاسميّة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {ذَرْنِي} فعل أمر وفاعل مستتر، ونون وقاية ومفعول به، والجملة مستأنفة. {وَمَنْ خَلَقْتُ} {الواو}: واو المعيّة و {من} مفعول معه، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، و {من} معطوفة على المفعول في {ذَرْنِي}، وجملة {خَلَقْتُ} صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: خلقته، {وَحِيدًا} حال من العائد المحذوف، أو من الضمير المنصوب في {ذَرْنِي} أو من الضمير في {خلقت}، والأول أولى؛ لأنّ المراد به الوليد بن المغيرة؛ لأنّه كان يزعم أنه وحيد قومه كما مر. {وَجَعَلْتُ} فعل وفاعل، معطوف على {خَلَقْتُ}، {لَهُ} متعلق بـ {جعلتُ}، وهو في محل المفعول الثاني لـ {جعل}، {مَالًا} هو المفعول الأول، {مَمْدُودًا} صفة {مَالًا}، {وَبَنِينَ} معطوف على {مَالًا}، {شُهُودًا} نعت لـ {وبنين}، {وَمَهَّدْتُ} فعل وفاعل، معطوف على {جعلتُ}، {لَهُ} متعلق بـ {مهدت}، {تَمْهِيدًا} مفعول مطلق لـ {مهدت}، {ثم} حرف عطف وتراخ، {يَطمَعُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {جعلت}، {أَن} هو حرف نصب ومصدر، {أَزِيدَ} فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بـ {أن} المصدرية، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: ثم يطمع في الزيادة، والجار والمجرور المحذوف متعلق بـ {يطمع}. {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)}. {كَلَّا} حرف ردع وزجر له لقطع رجائه وطمعه وتهالكه، {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الردع والزجر، واسم {كَانَ} ضمير يعود على الوليد بن المغيرة، {لِآيَاتِنَا} متعلق بـ {عَنِيدًا}، و {عَنِيدًا} خبر {كَانَ}. {سَأُرْهِقُهُ} السين: حرف استقبال، {أرهقه} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول، {صعُوًدا} مفعول ثاني لتضمين {أرهقه} معنى أكلّفه. والصعود في اللغة: العقبة الشاقّة. {إِنَّهُ} ناصب واسمه، وجملة {فَكَّرَ} خبره، {وَقَدَّرَ} معطوف على {فَكَّرَ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الإرهاق، {فَقُتِلَ} {الفاء}: عاطفة، {قتل} فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر، تقديره. هو، معناه: لعن. والجملة معطوفة على {فَكَّرَ}. {كَيْفَ} اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {قَدَّرَ}، {قَدَّرَ} فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة جملة تعجبية لا محل لها من الإعراب، والمقصود من هذا الاستفهام توبيخه والاستهزاء به والتعجيب من تقديره. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، وأتى بها للدلالة على أنَّ هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى، فهي للتفاوت في الرتبة، وهي مؤكّدة لنظيرتها المتقدمة، فالتكرار للتأكيد، {قُتِلَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر معطوف على نظيرتها المتقدمة، وجملة {كَيْفَ قَدَّرَ} مؤكدة أيضًا لنظيرتها المتقدمة، فتلخص أن جملتي {كَيْفَ قَدَّرَ} متحدتان، وإنما كرر للتأكيد. {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب {نَظَرَ} فعل ماض وفاعل مستر، معطوف على ما قبله، {ثُمَّ} حرف عطف، {عَبَسَ} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ما قبله، {وَبَسَرَ} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على {عَبَسَ}، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {أَدبَرَ} فعل ماض، معطوف على {عَبَسَ}، {وَاسْتَكْبَرَ} معطوف على {أَدْبَرَ}، {فَقَالَ} {الفاء}: عاطفة {قال} فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو {إِنْ} نافية، {هَذَا} مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {سِحْرٌ} خبر، وجملة {يُؤْثَرُ} صفة لـ {سِحْرٌ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قال}. {إِنْ} نافية، {هَذَا}

مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر، {قَوْلُ الْبَشَر} خبر والجملة أيضًا في محل النصب مقول قال {سَأُصْلِيهِ} السين حرف استقبال، {أصليه} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، {سَقَرَ} مفعول ثان، والجملة بدل من قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {مَا} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَدْرَاكَ} فعل ماض وفاعل مستتر تقديره: {هو} يعود على {مَا}، ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر لـ {ما} الاستفهامية؛ أي: أي شيء أعلمك والجملة معطوفة على ما قبلها، {مَا سَقَرُ} {ما} اسم استفهام مبتدأ، و {سَقَرَ} خبره، والجملة سادّة مسدّ المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ} المعلقة عن العمل بالاستفهام، وقد مرّ نظيره في الحاقة. {لَا} نافية، {تُبْقِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على {سَقَرَ}، {وَلَا تَذَرُ} معطوف على {لا تبقى}، ومفعولاهما محذوفان تقديرهما: لا تبقي لحمًا ولا تذر عظمًا أو غير ذلك من التقادير التي مرت لك، وجملة إلا تبقي مستأنفة، أو في محل النصب حال من {سَقَرَ}، والعامل فيها معنى التهويل والتعظيم لأمرها، لأن الاستفهام بقوله: {مَا سَقَرُ} للتعظيم، فالمعنى: استعظموا {سَقَرَ} حال كونها {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)}. {لَوَّاحَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي لوّاحة، {لِلْبَشَرِ} متعلق بـ {لَوَّاحَةٌ}، والجملة حال ثانية من {سَقَرَ}، وقرىء {لواحةً} بالنصب على أنه حال من {سَقَرَ} أو من الضمير المستكن في {لَا تُبْقِي} أو من الضمير في {لا تذر}. واختار الزمخشري نصبه على الاختصاص. {عَلَيْهَا} خبر مقدم، {تِسْعَةَ عَشَرَ} مبتدأ مؤخر في محل الرفع مبني على فتح الجزئين، بني الجزء الأول لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقاره إلى الجزء الثاني، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا لتضقنه معنى حرف العطف، وإنما حركا ليعلم أن لهما أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركيب. والجملة الاسمية في محل النصب حال ثالثة أو مستأنفة. {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما} نافية، {جَعَلْنَا} فعل وفاعل، {أَصْحَابَ النَّارِ} مفعول أول ومضاف إليه، {إلا} أداة حصر، {مَلَائِكَةً} مفعول ثان، والجملة مستأنفة، {وَمَا} {الواو} عاطفة، {ما} نافية، {جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول

أوّل، {إلا} أداة حصر، {فِتْنَةً} مفعول ثان على حذف مضاف؛ أي: سبب فتنة. والجملة معطوفة على ما قبلها. {لِلَّذِينَ} متعلق بـ {فِتْنَةً}، أو صفة لها، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {لِيَسْتَيْقِنَ} {اللام}: حرف جرّ وتعليل، {يستيقن} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام {كي}، {الَّذِينَ} فاعل، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا} الثاني، وقيل: متعلق بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك ليستيقن الذين أوتوا الكتاب. {أُوتُوا الْكِتَابَ} فعل ماض ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، معطوف على {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {إِيمَانًا} مفعول به، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا} نافية، {يَرْتَابَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، معطوف على {يزداد}، {أُوتُوا الْكِتَابَ} فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، صلة الموصول، {وَالْمُؤْمِنُونَ} معطوف على {الَّذِينَ}. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ} فعل وفاعل، منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، معطوف على {لِيَسْتَيْقِنَ}، {في قُلُوبِهِم} خبر مقدم، {مَرَضٌ} مبتدأ مؤخّر، والجملة صلة الموصول، {وَالْكَافِرُونَ} معطوف على الموصول، {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {ذا} اسم موصول في محل الرفع خبر، وجملة {أَرَادَ اللَّهُ} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: أراده الله. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقول}، {بِهَذَا} متعلق بـ {أَرَادَ}، {مَثَلًا} تمييز لـ {هذا}. {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}. {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف، والتقدير: يضلّ الله إضلالًا مثل ذلك، {يُضِلُّ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {مَن} اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {يَشَاءُ} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: من يشاء إضلاله، {وَيَهْدِي} فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على {يُضِلُّ}، {مَن} مفعول به، وجملة {يَشَاءُ} صلته، {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما} نافية، {يَعْلَمُ} فعل

مضارع، {جُنُودَ رَبِّكَ} مفعول به، {إِلَّا} أداة حصر، {هُو} ضمير للمفرد المنزه عن الذكررة والأنوثة والغيبة في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما} نافية، {هِىَ} ضمير منفصل في محل الرفع مبتدأ، والضمير يعود إلى {سَقَرَ}، {إِلَّا} أداة حصر، {ذِكْرَى} خبر {للبشر} متعلق بـ {ذِكْرَى}، والجملة معطوفة على جملة {يعلم}، {كَلَّا} حرف ردع وزجر، {وَالْقَمَرِ} {الواو}: حرف جرّ وقسم، {القمرِ} مقسم به مجرور بواو القسم الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالقمر، وجملة القسم مستأنفة. {وَاللَّيْلِ} جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، والتقدير: وأقسم بالليل، {إذ} ظرف لما مضي متعلق بفعل القسم المحذوف، وجملة {أَدْبَرَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {وَالصُّبْحِ} مجرور بواو القسم، متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالصبح، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم، وجملة {أَسْفَرَ} في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا}. {إِنَّهَا} ناصب واسمه، {لَإِحْدَى} اللام: حرف ابتداء، {إحدى الكبرِ} خبر {إنّ} والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {نَذِيرًا} حال من {إحدى الكبر}، {لِلْبَشَرِ} متعلق بـ {نَذِيرًا}، {لِمَنْ شَاءَ} جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: {لِلْبَشَرِ}، وجملة {شَاءَ} صلة {مَنْ} الموصولة، {مِنْكُمْ} حال من فاعل {شَاءَ}، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يَتَقَدَّمَ} فعل مضارع منصوب بـ {أَن}، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} {أَوْ يَتَأَخَّرَ} معطوف على {يَتَقَدَّمَ}، وجملة {يَتَقَدَّمَ} مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {شَاءَ}. أي: لمن شاء منكم تقدّمه إلى الخير أو تأخره عنه. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}. {كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ {بِمَا} متعلق بـ {رَهِينَةٌ}، وجملة {كَسَبَتْ} صلة لـ {ما} هو الموصولة، {رَهِينَةٌ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {إِلَّا} أداة استثناء، {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} مستثنى متصل، أو منقطع على الخلاف المذكور عندهم، منصوب، {فِي جَنَّاتٍ} حال من {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم كائنون في جنات، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، {يَتَسَاءَلُونَ} فعل وفاعل، والجملة إما حال

ثانية، أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف، {عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)} متعلق بـ {يَتَسَاءَلُونَ}، وجملة قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {يَتَسَاءَلُونَ}، تقديره: يتساءلون عن المجرمين حال كونهم قائلين لهم: ما سلككم أنها المجرمون في نار سقر؟ {مَا} اسم استفهام للاستفهام التوبيخيّ المضمّن للتعجب من حالهم في محل الرفع مبتدأ، وجملة {سَلَكَكُمْ} من الفعل والفاعل المستتر والمفعول في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول للقول المحذوف {فِي سَقَرَ} متعلق بـ {سَلَكَكُمْ}. {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}. {قَالُوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَمْ نَكُ} {لَمْ} حرف نفي وجزم، {نَكُ} فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف؛ لأنّها تحذف من مضارع كان المجزوم لكثرة استعمالها إذا لم يلها ساكن، واسمها ضمير مستتر تقديره: نحن. {مِنَ الْمُصَلِّينَ} خبرها، والجملة الناسخة في محل النصب مقول {قالوا}، {وَلَمْ نَكُ} جازم وفعل ناقص واسمه المستتر، وجملة {نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} من الفعل والفاعل المستتر والمفعول في محل النصب خبر {نكون}، وجملة {نكون} في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول {قَالُوا}، {وَكُنَّا} فعل ناقص واسمه، وجملة {نَخُوضُ} خبره، والجملة الناقصة معطوفة على ما قبلها أيضًا، {مَعَ الْخَائِضِينَ} مع ظرف زمان باعتبار التكلم متعلق بـ {نَخُوضُ}، {الْخَائِضِينَ} مضاف إليه، {وَكُنَّا} فعل ناقص واسمه، معطوف على ما تقدم، وجملة {نُكَذِّبُ} خبره، {بِيَوْمِ الدِّينِ} متعلق بـ {نُكَذِّبُ}، {حَتَّى} حرف جرّ وغاية، والغاية للأمور الأربعة الآنفة، {أَتَانَا} فعل ماض ومفعول به مقدم في محل النصب بأن المضمرة بعد {حَتَّى} الجارة، {الْيَقِينُ} فاعل، والجملة الفعلية مع أنْ المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: إلى إتيان اليقين والموت إيّانا، الجار والمجرور تنازع فيه كل من الأكوان الأربعة السابقة. {فَمَا} {الفاء}: عاطفة، {ما} نافية، {تَنْفَعُهُمْ} فعل مضارع ومفعول به، {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فاعل، ومضاف إليه والجملة معطوفة على جملة {قَالُوا}.

{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)}. {فَمَا} {الفاء} استئنافية، {ما} اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، {لَهُمْ} خبر لـ {ما} الاستفهامية، {عَنِ التَّذْكِرَةِ} متعلق بـ {مُعْرِضِينَ}، و {مُعْرِضِينَ} حال من ضمير {لهم}، والجملة الاسمية مستأنفة. {كَأَنَّهُمْ} ناصب واسمه، {حُمُرٌ} خبره، {مُسْتَنْفِرَةٌ} صفة لـ {حُمُرٌ}، والجملة التشبيهية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {مُعْرِضِينَ} فهي حال متداخلة، {فَرَّتْ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {حُمُرٌ}، {مِنْ قَسْوَرَةٍ} متعلق بـ {فَرَّتْ}، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {حُمُرٌ}. {بَل} حرف إضراب وانتقال عن محذوف، هو جواب الاستفهام السابق، كأنّه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال؛ أي: لا سبب لهم في الإعراض بل يريد إلخ. {يُرِيدُ} فعل مضارع، {كُلُّ امْرِئٍ} فاعل، ومضاف إليه، {مِنْهُمْ} صفة {امْرِئٍ}، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، {أَن} حرف نصب، {يُؤْتَى} فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ {أَنْ}، ونائب فاعله ضمير يعود على {كُلُّ امْرِئٍ}، {صُحُفًا} مفعول ثان لـ {يُؤْتَى}، {مُنَشَّرَةً} صفة {صُحُفًا}، والجملة الفعلية مع {أنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب، على أنه مفعول به لـ {يُرِيدُ}، تقديره: بل يريد كلّ امرىء منهم إيتاء صحف منشرة. {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}. {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن الإرادة المذكورة، {بَلْ} حرف إضراب وانتقال لبيان سبب هذا التعنت، {لَا} نافية، {يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} فعل وفاعل ومفعول به والجملة الإضرابية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن الإعراض، {إِنَّه} ناصب واسمه؛ أي: القرآن. {تَذْكِرَةٌ} خبره، والجملة مستأنفة. {فَمَنْ} {الفاء}: عاطفة، {مَن} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما {شَاءَ} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَن} على كونه فعل شرط لها، ومفعول {شَاءَ} محذوف تقديره: فمن شاء أن

يذكره، {ذَكَرَهُ} فعل وفاعل مستتر ومفعول به في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جواب شرط لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إن}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما} نافية، {يَذْكُرُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {مَن} الشرطية، {إلَّا} أداة استثناء من أعمّ العلل، أو من أعمّ الأحوال، كما مرّ. {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ناصب وفعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: وما يذكرون في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله ذكرهم، أو لعلة من العلل إلا لعلة مشيئة الله ذكرهم. {هُوَ} ضمير للمفرد المنزه عن المذكورة والأنوثة، والغيبة في محل الرفع مبتدأ، {أَهْلُ التَّقْوَى} خبره {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} معطوف على {أَهْلُ التَّقْوَى}. والجملة مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}؛ أي: يا أيها الذي لبس الدثار، وهو ما فوق الشعار الذي يلي الجسد، وأصله: المتدثّر، أدغمت التاء بعد قلبها دالاًّ في الدال، كما مر في المزمل. {قُمْ} من مضجعك واترك التدثّر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له، وهو الإنذار اهـ خطيب. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}؛ أي: خصّص ربك بالتكبير والتعظيم عما لا يليق به من النقائص والشركاء. {وَثِيَابَكَ} الياء في {ثيابك} مبدلة من واو؛ لأن أصله: ثواب، فأبدلت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة. {وَالرُّجْزَ} بكسر الراء وضمّها بمعنى وحد، يراد بهما الأصنام والأوثان. {النَّاقُورِ} فاعول من النقر، وهو الصوت كالجاسوس من التجسّس، والمراد به هنا الصور، وهو القرن. {شُهُودًا} جمع شاهد، مثل: قاعد وقعود، وشهده كسمعه: حضره؛ أي: بنين حضورًا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، لا يفارقونه للتصرّف في عمل أو تجارة، كما مرّ. {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} التمهيد في الأصل: التسوية والتهيئة، ويتجوز به عن بسط المال والجاه. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)} أصله: أزيد بوزن أفعل، نقلت حركة الياء إلى الزاي فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ. {لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} يقال: عند إذا

خالف الحق ورده عارفًا به، فهو عنيد وعاند، يعني: منكرًا. والمعاندة: المفارية والمجانبة والمعارضة بالخلاف كالعناد. والعنيد هنا بمعنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير بمعنى المجالس والمؤاكل والمعاشر. {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} قال الراغب: رهقه الأمر إذا غشيه بقهر، يقال: رهقته وأرهقته مثل: ردفته وأردفته وتبعته وأتبعته، ومنه: أرهقت الصلاة؛ أي: أخرتها حتى غشي وقت الأخرى. والصعود: العقبة الشاقّة، ويستعار لكلّ مشاق. والمعنى: سأكلّفه كرهًا بدل ما يطمعه من الزيادة ارتقاء عقبة شاقّة المصعد، كما مرّ. {إِنَّهُ فَكَّرَ} من التفكير بمعنى التفكر والتأمل. {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)} {عَبَسَ} من باب جلس، وبسر من باب دخل كما في "المختار" فيهما. وفي "السمين": قوله: ثمّ عبس يعبس عبسا وعبوسًا؛ أي: قطب وجهه، "يقال: قطب بين عينيه إذا جمع، وبابه: ضرب وجلس". والعبس: ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول، ويقال: بسر يبسر بسرًا وبسورًا إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء، واسودّ وجهه، منه يقال: وجه باسر؛ أي: منقبض أسود، وأهل اليمن يقولون: بسر المراكب، وأبسر إذا وقف، وأبسرنا؛ أي: صرنا إلى البسور. وقال الراغب: البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو: بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر؛ أي: متناول من غدير قبل سكونه، ومنه: قيل للذي لم يدرك من الثمر بسر. {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يقال: أثرت الحديث أثره أثرًا إذا حدّث به عن قوم في آثارهم؛ أي: بعدما ماتوا، هذا هو الأصل ثمّ كان بمعنى الرواية عمّن كان، وحديث مأثور؛ أي: منقول ينقله خلف عن سلف، وأدعية ماثورة؛ أي: مروية عن الأكابر. {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)}؛ أي: أدخله جهنم، لما قال في "الصحاح": سقر اسم من أسماء النار، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)}؛ أي: محرقة لظاهر الجلد، وهي بناء مبالغة، وفيها معنيان، كما مرّ أحدهما من لاح يلوح؛ أي: ظهر؛ أي: إنها تظهر للبشر، وثانيهما وهو الأرجح أنّها من لوّحه؛ أي: غيّره وسوّده. والبشر: جمع بشرة كثمر وثمرة، وهو ظاهر الجلد. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} أصله: يزتيد بوزن يفتعل، أبدلت تاء الافتعال دالًا وأبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أصله: يرتَيبْ بوزن يفتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها

بعد فتح. {أُوتُوا} أصله: أؤتيوا بوزن أفعلوا، استثقلت الضمّة على الياء فحذفت، فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين. {جُنُودَ رَبِّكَ}؛ أي: جموع خلقه، جمع جند بالضمّ، وهو العسكر، وكلّ مجتمع وكلّ صنف من الخلق على حدة. {وَاللَّيْلِ} وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. {وَالصُّبح} قال في "القاموس": الصبح: الفجر أو أوّل النهار، والجمع أصباح. وفي "المفردات": الصبح والصباح: أوّل النهار، وهو وقت ما أحمرّ الأفق بحاجب الشمس. {إِذَا أَسْفَرَ}؛ أي: ضاء وانكشف. قال الراغب: السفر: كشف الغطاء، ويختصّ ذلك بالأعيان، نحو: سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه، والأسفار يختص باللون، نحو: والصبح إذا أسفر؛ أي: أشرق لونه ووجهه. وفي "قوت القلوب": الفجر الثاني هو انشقاق شفق الشمس، وهو بريق بياضها الذي تحت الحمرة، وهو الشفق الثاني على ضدّ غروبها؛ لأن شفقها الأول من العشاء هو العمرة بعد الغروب وبعد العمرة البياض، وهو الشفق الثاني من أوّل الليل، وهو آخر سلطان شعاع الشمس، وبعد البياض سواد الليل وغسقه، ثم ينقلب ذلك على الضدّ، فيكون بدء طلوعها الشفق الأول وهو البياض، وبعده العمرة وهو شفقها الثاني، وهو أوّل سلطانها من آخر الليل وبعده طلوع قرص الشمس. فالفجر هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت على وجه أرض الدنيا يستر عينها الجبال والبحار والأقاليم المشرفة العالية، ويظهر شعاعها منتشرًا إلى وسط الدنيا عرضًا مستطيرًا انتهى. {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} والكبر: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائه وألحقت بها، فكما جمعت فعلة على فعل كركبة وركب جمعت فعلى عليها، وإلا ففعلى لا تجمع على فعل، بل على فعالى كحبلى وحبالى. {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)}؛ أي: لبني آدم، سمّوا بشرًا لبدوّ بشرتهم؛ أي: خلوّها عن الشعر. {بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} قال الراغب: {رَهِينَة} إنّه فعيل بمعنى فاعل؛ أي: ثابتة مقيمة. وقيل بمعنى مفعول؛ أي: كل نفس مقامة في جزاء ما قدّم من عملها، ولما كان الرهن يتصور من حبسه أستعير ذلك للمحتبس أي شيء كان. {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} سمّوا بهم؛ لأنهم يأخذون كتبم بأيمانهم. {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} من سلكت الخيط في الإبرة سلكًا؛ أي: أدخلته فيها، فهو من السلك بمعنى الإدخال، لا من السلوك بمعنى الذهاب. {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أصله: نكون، هذا قبل نقل حركة الواو إلى الكاف؛ لأنّ الأصل:

نكون بوزن نفعل، فلما جزم الفعل المضارع الصحيح الآخر سكّن آخره، فصار نكون فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فصار نكن بوزن نفل، ثم حذفت النون حذفًا غير مطرد، فقيل: {نَكُ}. وهذه النون يجوز حذفها إلا إذا اتصل بها ضمير نصب، أو كان بعدها ساكن، نحو: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال ابن مالك: وَمِنْ مُضَارعِ لِكَانَ مُنْجَزِمْ ... تُحْذَفُ نُوْنٌ وَهْوُ حَذْفٌ مَا التُزِمْ {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)} أي: نخالط أهل الباطل في باطلهم، فكلما غوى غاوٍ غوينا معه. {كنا} أصل كان: كون بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح فصار كان ثم أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك "نا" فسكن آخره لذلك فالتقى ساكنان الألف والنون آخر الفعل فحذفت الألف ثم ألغيت حركة فاء الكلمة، وعوض عنها حورة مناسبة لعين الفعل المحذوفة لتدل على العين المحذوفة، هل هي واو أو ياء، فلمّا ضمّت الفاء التي هي الكاف علم أن العين المحذوفة واو لمناسبة الضمّة للواو، وهكذا كلّ أجوف واويّ العين أسند إلى ضمير رفع متحرك. {نَخُوضُ} أصله: {نخوض} بوزن نفعل، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مدّ. {مَعَ الْخَائِضِينَ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: الخاوضين من خاض يخوض، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله خاض في الإعلال، حيث قلبت واوه ألفا لتحركها بعد فتح. {أَتَانَا الْيَقِينُ} أصله: أتينا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}؛ أي: من أسد، وهي فعولة من القسر، وهو القهر والغلبة؛ لأنّه يغلب السباع ويقهرها. {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} قال في "القاموس": المرء مثلثة الميم: لا الإنسان أو الرجل، ولا يجمع من لفظه، ومع ألف الوصل ثلاث لغات: فتح الراء دائمًا وضمها دائمًا وكسرها دائمًا. {صُحُفًا} جمع صحيفة بمعنى الكتاب. {مُنَشَّرَةً}؛ أي: منشورة؛ أي: غير مطوية؛ أي: طرية لم تطو بل تأتينا وقت كتابتها، وهذا من زيادة تعنّتهم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

منها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} لإفادة الاختصاص؛ أي: وخصّص {ربّك} وبالتكبير، وفيه رعاية الفواصل، كما في نظائره من الآي. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)}. ومنها: الطباق بين {عَسِيرٌ} و {يَسِيرٍ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)}. ومنها: تقديم الجارّ على متعلقه في قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} للدلالة على التخصيص، فتخصيص العناد بها مع كونه تاركًا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)}؛ لأن الصعود حقيقة في العقبة الشاقّة المصعد فاستعير لكل مشاق. ومنها: الإطناب بتكرار الجملة في قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} لإفادة التأكيد والمبالغة في التشنيع. ومنها: التأكيد في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}؛ لأنه تأكيد لما قبله، ولذلك خلي من العاطف. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)} لإفادة التهويل والتفظيع منها. ومنها: التأكيد في قوله: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}، لأنّه تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، فإن نفي ضد الشيء بعد إثبات وقوعه أبلغ في الإثبات كما مرّ. ومنها: التعبير عن الذين آمنوا باسم الفاعل في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة من الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك. ومنها: الطباق بين قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وبين {يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.

ومنها: تخصيص الإنس في قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} مع أنها تذكرة للجن أيضًا؛ لأنهم هم الأصل في القصد بالتذكرة. ومنها: المقابلة بين {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)}، وبين {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)}. ومنها: التنكير في قوله: {فِي جَنَّاتٍ} تفخيمًا لشأنها بأنها بلغت غاية لا يكتنه كنهها ولا يوصف وصفها. ومنها: تأخير قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} عمّا قبله مع كونه أعظم جناياتهم؛ إذ هو تكذيب بالقيامة وإنكارها كفر، والأمور الثلاثة المتقدمّة فسق لتفخهيم هذه الجناية، وللترقّي من القبيح إلى الأقبح، ولبيان كون تكذيبهم به مقارنًا لسائر جناياتهم المعدودة قبله مستمرًّا إلى آخر عمرهم، كما مرّ. ومنها: أسلوب التقريع والتوبيخ بطريق الاستفهام في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}. ومنها: التشبيه المرسل في قوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}، حيث شبههم بالحمر المستنفرة في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه. وفي ذلك مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل، ولا توى مثل نفار حمار الوحش وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء. ومنها: الإيجاز بحذف بعض الجمل في قوله: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}؛ أي: قائلين لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}، فحذف اعتمادًا على فهم المخاطبين. ومنها: التنوين في قوله: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)} تعظيمًا لشأنه وتفخيمًا له؛ أي: كلّا إن هذا القرآن تذكرةٌ بليغةٌ كافيةٌ. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما في هذه السورة من الموضوعات 1 - وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالتدثّر، وأمره بالإنذار والتكبير والطهارة واجتناب الأوثان والصبر. 2 - التصريح بعسر يوم القيامة على الكافرين، والتعريض بيسره على المؤمنين. 3 - ذكر قصة الوليد بن المغيرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديده بعذاب سقر. 4 - ذكر كون أصحاب النار المدبرين لها ملائكة وبيان عدتهم. 5 - جعل عدتهم فتنة للكافرين وزيادة لايمان المؤمنين. 6 - بيان كون الإضلال والهداية بيد الله سبحانه وتعالى. 7 - بيان كثرة جنود الله تعالى حتى لا يعلم عدّتهم أحد إلا الله سبحانه. 8 - بيان قسمه سبحانه بما شاء من مخلوقاته. 9 - بيان كون كلّ نفس مرهونة بعملها. 10 - بيان تساؤل أصحاب اليمين عن أحوال المجرمين توبيخًا لهم مع بيان جواب المجرمين عن سؤالهم. 11 - تشبيه المجرمين بالحمر المستنفرة في إعراضهم عن القرآن وشرادهم عن استماعه. 12 - بيان أن الشفاعة لا تنفع الكافرين. 13 - بيان أن القرآن تذكرة لمن ذكره (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمّ الفراغ من تفسير هذه السورة في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء الثامن عشر من شهر الربيع الآخر من شهور سنة 18/ 4/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة القيامة

سورة القيامة سورة القيامة مكّية بلا خلاف، نزلت بعد سورة القارعة. وأخرج (¬1) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة القيامة وفي لفظ سورة لا أقسم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت سورة لا أقسم بمكة. وآيها: تسع وثلاثون أو أربعون آية. وكلماتها (¬2): مئة وتسع وتسعون كلمة. وحروفها: ستّ مئة واثنان وخمسون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها (¬3): أنه ذكر في السورة السابقة قوله: {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)}، وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القياة وأهواله وأحواله. ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثمّ ما قبل ذلك من مبدأ الخلق. عبارة أبي حيان (¬4): مناسبتها لما قبلها: أنَّ في ما قبلها {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)}، وفيها كثير من أحوال القيامة، فذكر هنا يوم القيامة وجملًا من أحوالها انتهى. الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم: سورة القيامة جميعها محكم إلا قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}، نسخ معناها لا لفظها بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} الآية (6) من سورة الأعلى اهـ. والله أعلم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}. المناسبة تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، ثم اعْلمْ أن الله سبحانه أقسم بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقي الجانحة إلى العلوّ التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبّت ما تلاها. إن هناك حالًا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها في عالم أكمل من هذا العالم عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين. وهذا القسم، وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والقمر والكعبة ونحو ذلك. قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن ¬

_ (¬1) المراغي.

آيات الله منكر لعظيم قدرته، وأنه سائر في غلوائه غير مكترث بما يصدر منه، أردفه بذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين حال الفريقين من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها، وبضدّها تتبين الأشياء. ثم عاد إلى ذكر السبب في إنكار البعث، وهو حب بني آدم للعاجلة وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون في ذلك اليوم من استبشار المؤمنين، وبسور المشركين، وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنّهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم. قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر أحوال يوم القيامة، وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء. بين أن الدنيا لها نهاية ونفاد، ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة في الدنيا، فلا هو صدق بأوامر دينه، ولا هو أدّى فرائضه، ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين: 1 - أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيّئها، وثواب كل عامل بما يستحق، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جلّ وعلا. 2 - أنّه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منى يمنى فأهون عليه أن يعيده خلقًا آخر. أسباب النزول قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما روي أن عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم القيامة متى يكون؟ وما حاله وما أمره؟. فأخبره به فقال: لو عاينت ذلك اليوم .. لم أصدّقك، ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام. فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اكفني شر جاري السوء" يعني: عديَّ بن ربيعة والأخنس بن شريق". قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن

[1]

عباس في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدّةً، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركها لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرّك شفتيه. فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)}، قال: جمعه له في صدره ويقرؤه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه. والحديث أخرجه مسلم والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي، وأحمد، وغيرهم. قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه النسائي بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} أشيءٌ قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله رسول الله لأبي جهل من قبل نفسه، ثم أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؛ فأوحى الله تعالى إلى رسوله أن يأتي أبا جهل فيقول له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} {لا} صلة (¬1) لتوكيد القسم، وما كان لتوكيد مدخوله لا يدل على النفي، وإن كان في الأصل للنفي، قال الشاعر: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِيْ صَبَابَةٌ ... وَكَادَ ضَمِيْرُ الْقَلْبِ لا يَتَقَطَّعُ أي: يتقطع. وزيادتها في كلام العرب كثير كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} يعني: أن تسجد. وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}. وقيل: هي للنفي لكن لا لنفي نفس الإقسام بل لنفي ما ينبىء هو عنه من إعظامه المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بإقسامي به حق إعظام، فإنه حقيق بأكثر من ذلك ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

وأكثر. أو لنفي كلام معهود قبل القسم ورده، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا؛ أي: ليس الأمر كذلك ثم قيل: أقسم بيوم القيامة كقولك: لا والله إن البعث حق. وأما ما قيل: من أن المعنى نفي الإقسام لوضوح الأمر، فيأباه تعيين المقسم به وتفخيم شأن القسم به. والقول الأول هو أرجح الأقوال هنا. قال المغيرة بن شعبة: يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم موته. وشهد علقمة جنازة فلما دفن قال: أمّا هذا فقد قامت قيامته. ونظمه بعضهم: خَرَجْتُ مِنَ الدُّنيا وقامَتْ قِيَامَتِي ... غَداةً أَقَلَّ الحَامِلُونَ جِنَازَتِي وقرأ الحسن (¬1) وابن كثير في رواية عنه، والزهري، وابن هرمز "لأقسم" بدون ألف على أن اللام لام الابتداء، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته. 2 - {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، كما أقسم بيوم القيامة، فيكون الكلام في {لا} هذه كالكلام في الأولى، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن: أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوّامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعًا. وقال في "عين المعاني": القسم (¬2) بالشيء تنبيه على تعظيمه، أو على ما فيه من لطف الصنع وعظم النعمة، وتكرير ذكر القسم تنبيه على أن كلا من المقسم به مقصود مستقل بالقسم. لما أن له نوع فضل يقتضي ذلك. واللوم: عذل الإنسان بنسبة ما فيه لوم، ومعنى {النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره أو تلوم جميع النفس على تقصيرها. قال الحسن (¬3): هي والله نفس المؤمن، لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لم فعلته وعلى الخير لم تركته. وقال الفرّاء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا، وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءًا قالت: ليتني لم أفعل. وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسنًا سائغًا. وقيل: اللوامة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[3]

هي الملومة المذمومة، فهي صفة ذمّ. وبهذا احتج من نفى أن يكون قسمًا، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله، والأول أولى. قال الفاشاني (¬1): جمع بين القيامة والنفس اللوامة في القسم بهما تعظيمًا لشأنهما وتناسبًا بينهما؛ إذ النفس اللوامة هي المصدّقة بها المقرة بوقوعها المهيئة لأسبابها؛ لأنها تلوم نفسها أبدًا في التقصير والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البر تيقنا بالجزاء، فكيف بها إن أخطات وفرطت وبدرت من بادرة غفلة ونسيانًا نتهى. هذا، ودع عنك القيل والقال هنا. 3 - وجواب القسم محذوف دل عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)} وهو ليبعثن. والمعنى: أقسم لك يا محمد بقيام القيامة ولوم النفس اللوامة ليبعثن الخلائق للمجازاة على أعمالهم. والاستفهام في قوله: {أَيَحْسَبُ} لإنكار الحساب الواقع من الإنسان واستقباحه. والحسبان: الظن، والمراد بالإنسان الجنس، والإسناد إلى الكل بحسب البعض كثير. وقيل: الكافر. و {أنّ} مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف. والعظام: جمع عظم، وهو قصب الحيوان الذي عليه اللحم. وخص العظام بالذكر؛ لأنها قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها. والمعنى (¬2): أيحسب الإنسان الذي ينكر البعث أن الشأن والحال لن نجمع عظامه البالية، فإن ذلك حسبان باطل، فإنّا نجمعها بعد تشتتها ورجوعها رميمًا ورفاتًا مختلطًا بالتراب، وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أقطار الأرض وألقتها في البحار لمجازاته بما عمل في الدنيا. وقرأ الجمهور (¬3) {نَجْمَعَ} بالنون، {عِظَامَهُ} بالنصب. وقرأ قتادة بالتاء مبنيًا للمفعول، و {عظامه} بالرفع. 4 - وقوله: {بَلَى} إيجاب لما ذكر بعد النفي السابق بقوله: {لن نجمع} وهو الجمع؛ أي: نجمعها حال كوننا {قَادِرِينَ} فهو حال مؤكدة من الضمير المستكن في {نَجْمَعَ} المقدر بعد بلى. {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ} ونركب {بَنَانَهُ}؛ أي: أصابعه ومفاصله؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[5]

أي: نجمع سلامياته، ونضم بعضه إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام؟ وهو جمع سلامى كحبارى، وهي العظام الصغار في اليد والرجل. وقيل: البنان: الأصابع، وهي أكثر العظام تفرقًا وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وهذا عند البعث. وقرأ الجمهور: {قَادِرِينَ} بالنصب على الحال من الضمير المستكن في الفعل المقدر، أو على أنّه خبر كان المحذوفة؛ أي: بلى كنا قادرين. وقرأ ابن أبي عبلة، وابن السميفع {قادرون} بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: بلى نحن قادرون على أن نسوي بنانه. ومعنى (¬1): {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}؛ أي: على أن نجمع بعضها إلى بعض، فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؟ فنبه سبحانه بالبنان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق. فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة. وقال جمهور المفسرين: إن معنى الآية: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والحياكة ونحوها، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها. وقيل: المعنى بلى نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؟ والأول أولى. 5 - وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)} معطوف (¬2) على قوله: {أَيَحْسَبُ}، إمّا على أنه استفهام مثله وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام، وهذا أبلغ وأولى. والمعنى: بل يريد الإنسان ليدوم على فجوره وذنبه فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه. فالأمام هنا مستعار للزمان من المكان، فيقدم الذنب ويؤخر التربة. وقال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

عمره، وليس في نيّته أن يرجع عن ذنب يرتكبه. قال مجاهد، والحسن، وعكرمة، والسدّي، وسعيد بن جبير: يقول: سوف أتوب، ولا يتوب حتى يأتيه الموت، وهو على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الأمل، يقول: سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت. واللام في قوله: {لِيَفْجُرَ} للتأكيد مثل قوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} في أنصحكم. و {أن يفجر} مفعول {يُرِيدُ}. والفجور أصله: الميل عن الحق، فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل، ومنه: قول الأعرابي في حق عمر: أَقْسَمَ بِاللهِ أَبُوْ حَفْصٍ عُمَرْ ... مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ فاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَجَرْ وحاصل معنى قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ ...} إلخ؛ أي: (¬1) أيظن ابن آدم أنه لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها بلى نحن قادرون على ذلك، وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوي بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئًا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط والتأني في عمل ما يراد من الشؤون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان إلى نحو أولئك .. والخلاصة: إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظامًا ورفاتًا في بطون البحار وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوي أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئًا واحدًا، فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب. وفي ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعد لها في الحياة. {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}؛ أي: لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضي قدمًا في المعاصي لا يثنيه عنها شيء ولا يتوب منها، بل يسّوف بالتوبة، فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك. والخلاصة: أنه انتقل من إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

الحاسب ليكون ذلك أشد في لومه وتوبيخه، كأنه قيل: دع تعنيفه على ذلك، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان، ولا يتخلى عنه. 6 - ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله: {يَسْأَلُ}؛ أي: الإنسان سؤال استبعاد واستهزاء {أَيَّانَ} أصله؛ أي آن، وهو خبر مقدم لقوله: {يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؛ أي: متى يكون يوم القيامة؟ والجملة (¬1) استئناف تعليلي، كأنه قيل: ما يفعل حين يريد أن يفجر ويميل عن الحق؟ فقيل: يستهزىء ويقول: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}. أو حال من الإنسان في قوله: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ}؛ أي: ليس إنكاره للبعث لاشتباه الأمر وعدم قيام الدليل على صحة البعث بل يريد أن يستمر على فجوره في حال كونه سائلًا متى تكون القيامة؟. فدل هذا الإنكار على أن الإنسان يميل بطبعه إلى الشهوات، والفكرة في البعث تنغّصها عليه، فلا جرم ينكره ويأبى عن الإقرار به. فقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} الخ، دل على الشبهة والجهل، وقوله: {بَل يُرِيدُ} ... إلخ، على الشهوة والتجاهل. فالآيتان بحسب الشخصين. والمعنى: أي يسأل سؤال متعنت مستبعد متى يكون هذا اليوم؟. ومن أنكر البعث أشد الإنكار .. ارتكب أعظم الآثام، وخب فيها، ووضع غير عابىء بعاقبة ما يصنع ولا مقدر نتائج ما يكتسب. ونحو الآية قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}، وقوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)}. وقصارى ما سلف: أنهم أنكروا البعث لوجهين: 1 - شبهة تعترض لخاطر كقولهم: إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وصارت في مشارق الأرض ومغاربها كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلًا؟. ولهؤلاء جاء الرد بقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}. 2 - حب الاسترسال في اللذات والاستكثار من الشهوات فلا يود أن يقر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته ولمثل هؤلاء قال {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}. 7 - وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورًا ثلاثة: 1 - فقال {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)}؛ أي: تحير واضطرب وجال فزعًا من أهوال يوم القيامة. من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش، ثم استعمل في كل حيرة وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق، وهو واحد بروق السحاب ولمعانه. قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق. وأنشد: فَنَفْسَكَ فَانْعِ وَلَا تَنْعَنِيْ ... وَدَاوِ الْكُلُومَ ولا تَبْرَقِ أي: لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك. ونحو الآية قوله: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}؛ أي: فإذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول، ومن عظم ما يشاهد. وجواب إذا قوله الآتي: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ} الخ. وقرأ الجمهور (¬1) {بَرِقَ} بكسر الراء. قال عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما: المعنى تحير فلم يطرف. وقال الخليل والفرّاء {بَرِقَ} بالكسر: فزع وبهت وتحير. وقرأ زيد بن ثابت، ونصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والزعفراني، وابن مقسم، ونافع، وزيد بن علي، وأبان عن عاصم، وهارون، ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو، والحسن، والجحدري بخلاف عنهما بفتحها؛ أي: لمع بصره من شدة شخوصه للموت. وقال أبو عبيدة: فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى. وقرأ أبو السمال {بَلِقَ} باللام بدل الراء؛ أي: انفتح وانفرج، يقال: بلق الباب وأبلقه إذا فتحه. 2 - 8 {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}؛ أي: ذهب ضوءه، فإن خسف يستعمل لازمًا ومتعديًّا، يقال: خسف القمر وخسفه الله، أو ذهب نفسه من خسف المكان؛ أي: ذهب في الأرض، ولكن هذا المعنى لا يناسب ما بعد الآية، أي: ذهب ضوءه كما نعقله من حاله في الدنيا إلا أن الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، وفي الآخرة لا يعود ضوءه. ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني.

[9]

وقرأ الجمهور (¬1): {وَخَسَفَ} مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، ويزيد بن قطيب، وزيد بن علي مبنيًا للمفعول، يقال: خسف القمر وكسف الشمس قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة: الخسوف والكسوف بمعنى واحد. وقال ابن أبي أويس: الكسوف: ذهاب بعض الضوء، والخسوف جميعه. 3 - 9 {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)}. أي: جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو في الإلقاء في النار، ليكون حسرة على من يعبدهما. وجاز (¬2) تكرار القمر، لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول، ولم يقل: وجمعت؛ لأنّ تأنيث الشمس مجازيّ قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: هو لتغليب المذكر على المؤنث. وقال الكسائيّ: حمل على معنى جمع النيران. وقال الزجاج والفرّاء: ولم يقل: جمعت؛ لأنّ المعنى: جمع بينهما في ذهاب نورهما. وقيل: جمع بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين على ما رويَ عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلًا في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}. وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقيل: تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار. وقرأ ابن مسعود {وجمع بين الشمس والقمر}. 10 - {يَقُولُ الْإِنْسَانُ} المنكر للقيامة، وهو العامل في {إذا}. {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تقع هذه الأمور قول الآيس من حيث إنه لا يرى شيئًا من علامات ممكنة للفرار، كما يقول من أيس من وجدان زيد: أين زيد حيث لم يجد علامة إصابته. {أَيْنَ الْمَفَرُّ}؛ أي: أين الفرار، والمفر مصدر بمعنى الفرار. قال الفرّاء: يجوز أن يكون موضع الفرار. قال الماوردي: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أين المفر من الله سبحانه استحياء منه. والثاني: أين المفر من جهنم حذرًا منهما. وقرأ الجمهور (¬3): {أَيْنَ الْمَفَرُّ} بفتح الميم والفاء مصدرًا؛ أي: أين الفرار. وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب، والحسن بن زيد، وابن عباس، والحسن، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[11]

وعكرمة، وأيوب السختياني، وكلثوم بن عياض، ومجاهد، وابن يعمر، وحماد بن سلمة، وأبو رجاء، وعيسى، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والزهريّ بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان؛ أي: أين مكان الفرار. وقال الكسائيّ: هما لغتان مثل: مَدَبٍّ وَمدِبٍّ وَمَصَحّ ومِصَحٍّ. وقرأ الزهريّ أيضًا والحسن بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات، وفي صفات الخيل، كقول امرىء القيس: مِكَرٍّ مِفِرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعَا ... كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ أي: جيد الفر والكر. والمعنى (¬1): أي يقول الإنسان حينئذٍ لدهشته وحيرته: أين المفر من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟. 11 - فأجيبوا حينئذ {كَلَّا} ردع لهم من طلب المفر وتمنيه. {لَا وَزَرَ}؛ أي: لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله سبحانه. وقال ابن جبير: لا محيص ولا منعة. والظاهر: أنّ قوله: {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)} من قول الله تعالى. وجوّز (¬2) أن يكون من قول الإنسان لنفسه، وهو بعيد. وخبر {لا} محذوف؛ أي: لا ملجأ ثمة أو في الوجود. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه الإنسان من جبل أو حصن أو غيرهما، ومنه قول طرفة: وَلَقَدْ تَعْلَمُ بَكْرٌ أنَّنَا ... فَاضِلُوا الرَّأْي وَفِي الرَّوْعِ وَزَرْ وقال الآخر: لَعَمْرِيَ مَا لِلَفَتَى مِنْ وَزَرْ ... مِنَ المَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالكِبَرْ أي: لا ملجأ للفار من الموت والكبر؛ إذ كل منهما من الأمر الإلهي والأمر المحكم القضاء المبرم يدرك الإنسان لا محالة. قال السدي: كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم منى يومئذٍ. و {كَلَّا} للردع أو لنفي ما قبلها أو بمعنى حقًا. ونحو الآية قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[12]

12 - ثم كشف عن حقيقة الحال، وبينها بقوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)} أي (¬1): إلى ربك وحده استقرار العباد ورجوعهم ومصيرهم يوم إذ تقع تلك الأمور الهائلة. أي: لا يتوجهون إلا إلى حيث أمرهم الله تعالى من مقام حسابه، أو إلى حكمه استقرار أمرهم، فإن الملك يومئذٍ لله تعالى، فهو كقوله: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ أي: إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه تعالى. أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار، فيكون {الْمُسْتَقَرُّ} اسم مكان، وهو مرفوع بالابتداء، {إِلَى رَبِّكَ} خبره، و {يَوْمَئِذٍ} معمول {إِلَى رَبِّكَ} ولا يجوز أن يكون معمول {الْمُسْتَقَرُّ}؛ لأنه إن كان مصدرًا بمعنى الاستقرار .. فلا يتقدم معموله عليه، وإن كان اسم مكان .. فلا عمل له البتة، وكذا الكلام في قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)} ونحوه. والخلاصة: أي إلى ربك مرجعك في جنة أو نار، وأمر ذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار. 13 - ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل، فقال: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ} أي (¬2): يخبر كل امرىء برًّا كان أو فاجرًا عند وزن الأعمال وحال العرض والمحاسبة. والمخبر هو الله سبحانه أو الملك بامره أو كتابه بنشره. {بِمَا قَدَّمَ}؛ أي: بما عمل من عمل خيرًا كان أو شرًّا، فيثاب بالأول، ويعاقب بالثاني. {وَ} بما {أَخَّرَ}؛ أي: وبما لم يعمل خيرًا كان أو شرًّا، فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني. أو بما قدم من حسنة أو سيّئة، وبما أخر من حسنة أو سيئة، فعمل بها بعده. أو بما قدم من مال تصدق به في حياته، وبما أخر فخلفه، أو وقفه أو أوصى به أو بأوَّل عمله وآخره. والمعنى: أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها صغيرها وكبيرها، كما قال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. قال القشيّري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْع يَجْرِي أجْرها للعبد بعد موته وهو في قبره: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[14]

من علم علمًا أو أجرى نهرًا أو حفر بئرًا أو غرس ظلًا أو بني مسجدًا أو ورّق مصحفًا أو ترك وليًّا يستغفر له بعد موته". وفي الحديث: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة". 14 - ثم بين أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهي نعم الشاهد عليه، فقال: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} {الْإِنْسَانُ} مبتدأ، و {بَصِيرَةٌ} خبره، و {عَلَى نَفْسِهِ} متعلق بـ {بَصِيرَةٌ} بتقدير على أعمال نفسه، والموصوف محذوف؛ أي: بل هو حجّةٌ بصيرة وبيّنة واضحة على أعمال نفسه، شاهدة جوارحه وأعضاؤه بما صدر عنه من الأفعال السيئة، كما يعرب عنه كلمة {عَلَى}، وما سيأتي من الجملة الحالية. ووصفت الجوارح بالبصارة والشهادة مجازًا في الإسناد، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً}. أو عين بصيرة أو ذو بصيرة أو التاء للمبالغة كما في علّامة ونسّابة؛ أي: بصير شاهد على أعمال نفسه. ومعنى {بَلِ} (¬1) هنا الترقي؛ أي: ينّبأ الإنسان بأعماله بل هو لا يحتاج إلى أن يخبره غيره، فإنه يومئذٍ عالم بتفاصيل أعماله وأحواله، شاهد على نفسه؛ لأنَّ جوارحه تنطق بذلك. 15 - وقوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} حال (¬2) من المستكن في {بَصِيرَةٌ} أو من مرفوع {يُنَبَّأُ}؛ أي: هو بصيرة على نفسه تشهد عليه جوارحه، وتقبل شهادتها ولو جاء بكلّ معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها بأن يقول مثلًا: لم أفعل أو فعلت لأجل كذا، أو لم أعمل، أو وجد مانع أو كنت فقيرًا ذا عيال أو خفت فلانًا أو طمعت في عطائه إلى غير ذلك من المعاذير غير النافعة. أو ينبأ بأعماله، ولو اعتذر بكلّ عذر في الذبّ عنها، فإنّ الذبَّ والدفع لا رواج له يومئذٍ، لأنّه يوم ظهور الحق بحقيقته. والمعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير اسم جمع للمنكر. وقيل: جمع معذار، وهو الستر بلغة أهل اليمن؛ أي: ولو أرخى ستوره. يعني: أن احتجابه واستتاره عن المخلوقات في حال مباشرة المعصية في الدنيا لا يغني عنه شيئًا؛ لأنَّ عليه من نفسه بصيرةً، ومن الحفظة شهودًا. وفي "الكشاف": لأنه يمنع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[16]

رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. وقيل: المعاذير جمع معذرة على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكرٍ. والمعنى (¬1): بل الإنسان حجة بينة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره؛ لأنّ نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما أتى بالمعاذير، وجادل عنها كما قال سبحانه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}. وقال الفراء في الآية: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)}، وأنشد: كَأَنَّ عَلَى ذِيْ العَقْلِ عَيْنًا بَصِيْرَة ... بِمَجْلِسِهِ أَوْ مَنْظَرٍ هُوَ نَاظِرُهْ يُحَاذِرُ حَتَّى يَحْسَبُ النَّاسَ كُلَّهُمْ ... مِنَ الْخَوْفِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَرَائِرُهُ 16 - ثم علّم الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتلقى الوحي من الملك؟ إذ كان يسابقه في قراءته، فأمره أن يستمع إليه إذا جاء، وقد كفل له. 1 - أن يحفظه له. 2 - أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. 3 - أن يبينه ويفسره له. وقد أشار إلى الأول بقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ}؛ أي: بالقرآن {لِسَانَكَ} ما دام جبريل يقرأ ويلقي عليك {لِتَعْجَلَ بِهِ}؛ أي: بأخذه؛ أي: لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلت. 17 - {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك بحكم الوعد، بحيث لا يخفى عليك شيء من معانيه. {وَقُرْآنَهُ} بتقدير المضاف؛ أي: إثبات قراءته بلسانك بحيث تقرأه متى شئت. فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة مضاف إلى مفعوله. والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع، لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم. قال الواسطي: جمعه في السر، وقرآنه في العلانية. والمعنى: أي لا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرآن لسانك وشفتيك لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى نثبته في قلبك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

في تحريكه شفتيه حتى نزلت هذه الآية، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله. 18 - وأشار إلى الثاني بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}؛ أي: أتممنا قراءته بلسان جبريل. وإسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في إيجاب التأني. {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}؛ أي: فاشرع فيه بعد فراغ جبريل منه بلا مهلة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به. والمعنى: أي فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك. وقد يكون المراد فإذا تلي عليك فأعمل بما فيه من شرائع وأحكام. 19 - وأشار إلى الثالث بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}؛ أي: بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه. وسفي ما يشرح المجمل والمبهم من الكلام بيانًا لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره. وفي (¬1) {ثم} دليل على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة إلى العمل؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق. والمعنى: أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا. وفي كتاب ابن عطية: وقرأ أبو العالية {إنّ علينا جَمْعَه وقرتَه. فإذا قرته فاتبع قرته} بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة. ووجه اللفظ الأول: إنّه مصدر؛ أي: إنّ علينا جمعه وقراءته، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها، فبقي {قرته}، كما ترى. وأما الثاني فإنّه فعل ماض، أصله: فإذا قرأته؛ أي: أردت قراءته، فسكن الهمزة فصار قرأته ثم حذف الألف على جهة الشذوذ كما حذفت في قول العرب: ولو تر ما الصبيان يريدون، ولو ترى ما الصبيان، و (ما) زائدة. وأما اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول؛ أي: فإذا قرأته؛ أي: أردت قراءته فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل. وذكر أبو عبد الله الرازي في "تفسيره": أن جماعةً من قدماء الروافض زعموا أنَّ القرآن قد غيّر، وبدل، وزيد فيه، ونقص منه، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين ¬

_ (¬1) روح البيان.

[20]

هذه الآيات وما قبلها، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك. ثمّ ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضًا عن آيات الله تعالى ومعجزاته، وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها، وبضدها تتميز الأشياء. ولما كان - صلى الله عليه وسلم - لمثابرته على ذلك كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى بأنّه يجمعه له ويوضحه. 20 - ولما فرغ من خطابه - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر للبعث، وأنَّ همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة الباقي؛ إذ هو منكر لذلك. فقال: {كَلَّا} ردع للإنسان السابق عن الاغترار بالعاجل. {بَلْ تُحِبُّونَ} أيها الناس {الْعَاجِلَةَ}؛ أي: تحصيل حطام الدنيا العاجلة، وترغبون في جمعها. 21 - {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}؛ أي: وتتركون الاستعداد لها بالإيمان بالله ورسوله وبالإكثار من العبادات. قرأ الجمهور (¬1): {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} بتاء الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث، و {كلا} رد عليهم وعلى أقوالهم، أي ليس الأمر كما زعمتم وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركوا معه الآخرة، والنظر في أمرها. وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيهما. والمعنى: أي (¬2) ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ولا تجازون باعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذّبون بالآجلة. قال قتادة: اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم. والخلاصة: أنكم يا بني آدم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه متعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة وتذرون الآخرة. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[22]

22 - ثم بين ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين، فقال: (1) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)}؛ أي: ناعمة غضة حسنة، يقال: شجر ناضر وروض ناضر؛ أي: حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته. وقال الواحدي: يقول المفسّرون: مضيئة مسفرة مشرقة. وقوله: {وُجُوهٌ} مبتدأ، و {نَاضِرَةٌ} خبره، و {يَوْمَئِذٍ} منصوب بـ {ناضرة}، وسوّغ وقوع النكرة مبتدأ وقوعه في معرض التفصيل. 23 - وقوله: {إِلَى رَبِّهَا} متعلق بقوله: {نَاظِرَةٌ} وهو خبر ثان للمبتدأ. والنظر: نقليب البصر، أو البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، والمراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحل وإرادة الحال؛ أي: فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة تشاهد عليها نضرة النعيم إلى ربها، ومالك أمرها، وخالقها {نَاظِرَةٌ}؛ أي: تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب. قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أنَّ العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمّة كما هو متفق عليه بين أئمّة الإِسلام وهداة الأنام اهـ. وروى البخاري في "صحيحه": "إنّكم سترون ربكم عيانًا". وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة "أنّ ناسًا قالوا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنّكم سترون ربكم كذلك". وروى ابن جرير عن مجاهد أنّه قال: إنَّ النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. قال الأزهري: قد أخطأ مجاهد، لأنّه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإنّ قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلَّا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته. وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدًّا اهـ. قال الشاعر: فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ أراد به معنى الانتظار. وقال الآخر: نَظَرْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كَأَنَّها ... مَصَابِيْحُ رُهْبَانٍ تَشُبُّ لِفِعَالِ أراد به نظر العين. وقال الآخر أيضًا: إِنّيْ إلَيْكَ لِمَا وَعَدْتَ لِنَاظِرٌ ... نَظَرَ الْفَقِيْرِ إلَى الغَنِيِّ المُوسِرِ أراد به أيضًا نظر العين؛ أي: أنظر إليك نظر ذل كما ينظر الفقير إلى الغني.

[24]

2 - 24 {وَوُجُوهٌ} من الكفرة والا فقين. مبتدأ {يَوْمَئِذٍ} متعلق بقوله: {بَاسِرَةٌ} وهو خبر المبتدأ؛ أي: كالحة عابسة كئيبة؛ أي: شديدة العبوس مظلمة ليس عليها أثر السرور أصلًا. 25 - {تَظُنُّ}؛ أي: تتوقيم أربابها بحسب الأمارات، والجملة خبر بعد خبر. {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}؛ أي: داهيية عظيمة تقصم فقار الظهر، ومنه: سمي (¬1) الفقير، فإنَّ الفقر: كسر فقار ظهره، فجعله فقيرًا؛ أي: مفقورًا. وهو كناية عن غاية الشدّة وعدم القدرة على التحمل، فهي تتوقع ذلك كما تتوقع الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير بناء على أنَّ قضية المقابلة بين الآيتين تقتضي ذلك. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر سادّ مسدَّ مفعول ظن، كما سيأتي. ورجح أبو حيَّان، والطيبيّ، تفسير الظن بمعنى اليقين، ولا ينافيه أن المصدرية كما توهم، فإنها إنّما لا تقع بعد فعل لتحقق الصرف، أما بعد فعل الظن، أو ما يؤدي معنى العلم فتجيء المصدرية والمشدّدة والمخففة، نص عليه الرضيّ. والمعنى: أي ووجوه الكفار. تكون يوم القيامة عابسةً كالحةً مستيقنةً أنها ستصاب بداهيةٍ عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها. ونحو الآية قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُو}، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}. 26 - {كَلَّا} ردع وزجر عن إيثار العاجلة على الآخرة؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن ذلك، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة، فاقلعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها، وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلدين أبدًا. ثم استأنف ببيان الحال التي تفارق فيها الروح الجسد، فقال: {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}؛ أي: إذا بلغت الروح أعالي الصدر، وأشرفت النفس على الموت. قال دريد بن الصقة: وَرُبَّ عَظِيْمَةٍ دَافَعْتُ عَنْهَا ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوْسُهُمُ التَّرَاقِيْ وضمير (¬2) الفاعل للنفس وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن الكلام الذي وقعت فيه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[27]

يدل عليها، والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه، يقولون: أرسلت يريدون أرسلت السماء المطر، ولا تكاد تسمعهم يقولون: أرسلت السماء. قال حاتم يخاطب زوجه: أَماوِيُّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ ونحو الآية قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)}. والمعنى: أي إذا بلغت النفس الناطقة، وهي الروح الإنساني أعالي الصدر، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، فإذا بلغت إليها يكون وقت الغرغرة. والتراقي؛ جمع ترقوة بفتح التاء، والواو وسكون الراء، وضمّ القاف. قال في "القاموس": الترقوه ولا تضم تاؤه: العظم بين ثغرة النحر والعاتق انتهى. والعاتق موضع الرداء من المنكب. قال بعضهم: لكل أحد ترقوتان، ولكن جمع التراقي باعتبار الأفراد. وبلوغ النفس التراقي كناية عن عدم الإشفاء. والعامل في {إِذَا بَلَغَتِ} معنى قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}؛ أي: إذا بلغت النفس الحلقوم رفعت وسيقت إلى الله؛ أي: إلى موضع أمر الله أن ترفع إليه. 27 - وقوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)} معطوف على {بَلَغَتِ}؛ أي: وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به. قال قتادة: التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا. وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر: هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الْمَوْتِ مِنْ وَاقِي ... أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمامٍ الْمَوْتِ مِنْ رَاقِي ووقف حفص على {مَن} وقفة يسيرة من غير تنفس. قال بعضهم: لعل وجهه استثقال الراء المشددة التي بعدها قاف غليظة التلفظ في الإدغام، واستكراه القطع التام بين المبتدأ والخبر، وبين الاستفهام والمستفهم عنه في النفس، والفرار من الإظهار دون سكتة؛ لأنه يعد من اللحن عند اتصال النون الساكنة بالراء بين أهل القراءة. أي: (¬1) وقال من حضر صاحبها: من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية؟ وهو التعويذ بما به يحصل الشفاء، كما يقال: بسم الله أرقيك. وفعله من باب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[28]

ضرب. والاستفهام على هذا يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنّ الذين حول ذلك الإنسان طلبوا له طبيبًا يعالجه وراقيًا يرقيه، ويحتمل أن يكون استفهامًا بمعنى الإنكار كما يقال عند الياس: من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت، وهو الظاهر، كما قال الراغب: {مَنْ رَاقٍ}، في؛ أي: من يرقيه تنبيهًا على أنّه لا راقي يرقيه فينجيه. وذلك إشارة إلى نحو ما قال: وإِذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ والتميمة: خرزات، كان العرب يعلقونها على أولادهم خوفًا من العين، وهو باطل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ علق تميمة فقد أشرك"، وإيّاها أراد صاحب هذا البيت المذكور. وقيل: هو من كلام ملائكة الموت، يقولون: أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ من الرقي بمعنى الصعود، وفعله من باب علم، وقولنا: ملائكة الرحمة لا يمانعه قوله الآتي: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} الآيات؛ لأنّ الضمير فيه لجنس الإنسان فلا يتعين كون المحتضر من أهل النار. وقال الكلبيّ: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء؟،. فهو قوله: {مَنْ رَاقٍ}. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت: من يرقى بروح هذا الكافر. 28 - {وَظَنَّ} معطوف أيضًا على {بَلَغَتِ}؛ أي: وأيقن المحتضر الذي بلغت روحه التراقي حين عاين ملائكة الموت {أَنَّهُ الْفِرَاقُ}؛ أي: أن ما نزل به هو الفراق من الدنيا المحبوبة ونعيمها التي ضيع العمر النفيس في كسب متاعها الخسيس. وعبر عما حصل له من المعرفة حينئذٍ بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت بل ظنه الغالب على رجاء الحياة. قال الإمام: هذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت المعدن؛ لأنَّ الله تعالى سمى الموت فراقًا، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقيةً، فإن الفراق والوصال صفة، وهي تستدعي وجود الموصوف. قال المزنيّ:

[29]

دخلت على الشافعي في مرض موته، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلًا وللإخوان مفارقًا ولسوءِ عملي مُلاقيًا ولكأس المنية شاربًا وعلى الله واردًا، فلا أدري أروحي تفسير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟. ثم أنشأ يقول: ولمَّا قَسَا قَلبِيْ وَضَاقَتْ مَذَاهِبِيْ ... جَعَلتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِك سُلَّمَا تعاظَمَنِيْ ذَنْبِي فَلمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا وقال بعضهم: فِرَاقٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ فِرَاقُ ... قَدْ تَقْطَّعَ الرَّجَاءَ عَنِ التَّلَاقِ 29 - وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} معطوف أيضًا على {بَلَغَتِ}؛ أي: والتفّت ساقه بساقه والْتَوت عليها عند قلق الموت. والساق: العضو المعروف، وهي ما بين الركبة والقدم، والتفافهما: اجتماعهما والتواء إحداهما بالأخرى. وعن سعيد بن المسيّب: هما ساقاه حين تلقَّان في أكفانه. وقال زَيْدُ بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقيل: ماتت رجلاه، ويبست ساقاه، ولم تحملاه وقد كان جوَّالًا عليهما؛ إذ هما أول ما تخرج الروح منهما، فتبردان قبل سائر الأعضاء. وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، وبه قال ابن زيد. وقيل: التفت شدة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدّة. وجه المجاز (¬1) أنَّ الإنسان إذا دهمته شدّة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق مِنْ حيث إن ظهورها لازم لظهور ذلك الأمر، وقد سبق في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال النابغة الجعدي: أَخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّها ... وإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِها الحَرْبُ شَمَّرا 30 - {إِلَى رَبِّكَ} وخالقك أيها الإنسان {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تقوم القيامة {الْمَسَاقُ}؛ أي: المرجع والمآب، والمراد أنّك إما سائر إلى جنة أو نار. وهذا دالُّ على جواب إذا، وعلى ما تتم به الجملة كما مرّ، تقديره: إذا بلغت التراقي وقيل من راق، والتفت الساق بالساق يحصل المساق يومئذٍ إلى ربك، ويجد كل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[31]

إنسان ما عمله من خير أو شر حاضرًا بين يديه. أي: إلى الله، وإلى حكمه يساق الإنسان يومئذٍ، لا إلى غيره؛ أي: يساق إلى حيث لا حكم هناك إلا الله. فالمساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، والألف واللام عوض عن المضاف إليه؛ أي: إلى ربك سوق الإنسان للمجازاة على عمله. 31 - والفاء في قوله: {فَلَا صَدَّقَ} عطفت (¬1) هذه الجملة على جملة قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} تعجيبًا من حال الإنسان الكافر. يعني: يسأل عن يوم القيامة فلا صدق، ولا صلى ولكن كذّب وتولى؛ أي: يسأل وما استعد له إلا بما يوجب دماره وهلاكه. وأما قوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)} فجواب عن السؤال. وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} تخلص إلى ما استطرد من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أقحم الجواب بين المعطوف والمعطوف عليه لشدّة الاهتمام به. أي: فلا صدق الإنسان المذكور ما يجب تصديقه من الرسول، والقرآن الذي نزل عليه؛ أي: لم يصدق، فـ {لا} هاهنا بمعنى {لم}، وإنما (¬2) دخلت على الماضي لقوّة التكرار. يعني: حسن دخول {لا} على الماضي تكراره كما تقول: لا قام زيد ولا قعد، وقلما تقول العرب: لا وحدها حتى تتبعها بأخرى، تقول: لا زيد في الدار ولا عمرو، أو فلا صدق ماله بمعنى لا زكاه، فحيئنذٍ يطلب وجه لترجيح الزكاة على الصلاة مع أن دأب القرآن تقديم الصلاة على الزكاة، ولعل وجهه ما كان كفّار مكة عليه من منع المساكين وعدم الحضّ على طعامهم في وقت الضرورة القوية، وأيضًا في تأخير {وَلَا صَلَّى} مراعاة الفواصل، كما لا يخفى. {وَلَا صَلَّى} ما فرض عليه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع في حقّ المؤاخذة. يعني: أنَّ الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقها بترك الإيمان، وإن لم يجب أداؤها عليه في الدنيا. 32 - ولما كان عدم التصديق يصدق بالشك والسكوت والتكذيب استدرك على عمومه، وبين أن المراد منه خصوص التكذيب، فقال: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} ما ذكر من الرسول والقرآن. والاستدراك لدفع احتمال الشك، فإن نفي التصديق لا يستلزم ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان.

[33]

إثبات التكذيب لكون الشك بين التصديق والتكذيب، فإذًا لا تكرار في الآية. {وَتَوَلَّى} وأعرض عن الطاعة لله ولرسوله. والمعنى: أي فما صدق بالله ووحدانيته بل اتخذ الشركاء والأنداد وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدى فرائضه التي أوجبها عليه بل أعرض، وتولى عن الطاعة. 33 - {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ}؛ أي: أهل بيته أو إلى أصحابه حال كونه {يَتَمَطَّى}، أي: يتبختر ويختال في مشيته افتخارًا بذلك من المطّ، وهو المد، فإن المتبختر يمد خطاه. يعني: أن التمدد في المشي من لوازم التبختر، فجعل كناية عنه، فيكون أصله: يتمطط بمعنى يتمدد، أبدلت الطاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال، أو من المطا مقصورًا، وهو الظهر، فإنه يلويه ويحركه في تبختره، فألفه مبدلة من واو. و {يَتَمَطَّى} جملة حالية من فاعل {ذَهَبَ}. وفي الحديث: "إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم" والمطيطاء كحميراء: التبختر ومد اليدين في المشي، والبأس شدّة الحرب. والمعنى؛ أي (¬1) ليته اقتصر على الإعراض، والتولي عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحًا يمشي الخيلاء متبخترًا. والخلاصة: أنَّ هذا الكافر كان في الدنيا مكذّبًا للحق بقلبه متولّيًا عن العمل بجوارحه، معجبًا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنًا ولا ظاهرًا. 34 - ثم هدده وتوعده، فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}؛ أي: ويل لك مرّةً بعد أخرى، وأهلكك الله هلاكًا أقرب لك من كل شر وهلاك. ففي الكلام التفات (¬2) عن الغيبة إلى الخطاب، فالكلمة الأولى اسم فعل ماض مبنيّة على السكون، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق، وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه، واللام للتبيين؛ أي؛ لتبيين المفعول، وهي في المعنى زائدة على حدّ سقيًا لك؛ أي: سقاك الله، والكاف مفعول به. والمعنى: وليك ما تكرهه وقرب إليك، والكلمة الثانية اسم تفضيل، وهي ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الجلالين مع حاشية الجمل بتصرف.

[35]

خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فهو أولى بك؛ أي: فالمكروه المدعو به عليك أولى، وأحقّ وأحرى بك من غيرك. فدلت الكلمة الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه منه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره. 35 - ثم كرر هذا الوعيد مبالغة في التهديد والوعيد، فقال: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ}؛ أي: ثمّ بعد المرة الأولى وليك المكروه مرة ثانيةً. {فَأَوْلَى}؛ أي: فهو أحق وأحرى بك من غيرك، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد. فالكلمة الأولى من الأخيرتين تأكيد للأول من الأوليين، والثانية للثانية. وهذا ما سلكه شارح "الجلالين" في تقرير هذا المقام، وانفرد به عن غيره من المفسرين، وهو حسن جدًّا اهـ شيخنا. والخلاصة: يتكرر عليك هذا الدعاء مرةً بعد أخرى فأنت جدير بهذا. قال الواحديّ (¬1): قال المفسرون: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد أبي جهل ثم قال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}، فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإنّي لأعز أهل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية. وقيل معنى تكرار هذا اللفظ أربع مرّات: الويل لك حيًّا، والويل لك ميتًا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل: إنّ المعنى: إن الذمّ لك أولى لك من تركه، وقيل: غير ذلك مما يطول الكلام بذكره. 36 - ثم أقام الدليل على البعث من وجهين: 1 - فقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ}؛ أي: أيظن الكافر {أَنْ يُتْرَكَ} ويحيا في الدنيا والآخرة حال كونه {سُدًى}؛ أي: مهملًا عن التكاليف والمجازاة، فلا يكلّف في الدنيا، ولا يجزى في الآخرة. 2 - وقيل: أن يترك في قبره فلا يبعث. والسدى: المهمل، والاستفهام للإنكار. والمعنى (¬2): أي لا يترك الإنسان في الدنيا مهملًا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره مهملًا لا يحاسب بل هو مأمور منهي محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوي الصالح المزكّي نفسه بصالح الأعمال والطالح المدسي نفسه باجتراح ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[37]

السيئات والآثام، كما قال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)}، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}. وإذًا فلا بُدَّ من دارٍ للثواب والعقاب والبعث والقيامة. 37 - وقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)} استئناف (¬1) وارد لإبطال الحسبان المذكور، فإنّ مداره .. لما كان استبعادهم للإعادة استدل على تحققها ببدء الخلق. وقال ابن الشيخ: هو استدلال على صحة البعث بدليل ثان والاستفهام للتوبيخ والنطفة بالضم: الماء الصافي قلَّ أو كثر. والمني: ماء الرجل والمرأة؛ أي: ما خلق منه حيوان، فالحبل لا يكون إلا من الماءين. وقوله: {يُمْنَى} بالياء صفة {مَنِيٍّ}، وبالتاء صفة {نُطْفَةً} بمعنى يصب ويراق في الرحم. سميت منى كإلى وهي قرية بمكة لما يمنى فيها من دماء القرابين. والمعنى: ألم يكن ذلك الإنسان ماء قليلًا - كائنًا من ماء معروف بخسَّة القدر واستقذار الطبع، ولذا نكرَّهما - يمنى ويصب في الرحم، نبه سبحانه بهذا على خسة قدر الإنسان أوَّلًا وكمال قدرته ثانيًا، حيث صيَّر مثل هذا الشيء الدنيء بشرًا سويًّا. وقال بعضهم: فائدة قوله: {يُمْنَى} للإشارة إلى حقارة حاله، كأنّه قيل: إنّه مخلوق من المنيّ الذي يجري على مخرج النجاسة، فكيف يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله فيما أمر به ونهى؟ إلَّا أنه تعالى عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في عيسى ومريم عليهما السلام: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}، والمراد منه قضاء الحاجة كنايةً. وقرأ الجمهور (¬2): {أَلَمْ يَكُ} بياء الغيبة، والحسن بتاء الخطاب على سبيل الالتفات. وقرأ الجمهور "تمنى" بالتاء؛ أي: النطفة يمنيها الرجل. وقرأ ابن محيصن، والجحدري، وسلام، ويعقوب، وحفص، وأبو عمرو بخلاف عنه {يُمْنَى} بالياء؛ أي: يمنى المني. 38 - {ثُمَّ كَانَ} المنيُّ بعد أربعين يومًا {عَلَقَةً}؛ أي: قطعة دم جامد غليظ أحمر بقدرة الله تعالى بعدما كان ماء أبيض، كقوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} وهو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[39]

معطوف (¬1) على قوله: {أَلَمْ يَكُ}؛ لأن إنكار عدم الكون يفيد ثبوت المكون، فالتقدير: كان الإنسان نطفة ثم كان علقة {فَخَلَقَ}؛ أي: فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة بعد أربعين أخرى؛ أي: قطعة لحم قابل لتفريق الأعضاء، وتمييز بعضها من بعض وجعل المضغة عظامًا تتميز بها الأعضاء بأن صلبها، فكسا العظام لحمًا يحسن به خلقه وتصويره، ويستعد لإفاضة القوى ونفخ الروح. {فَسَوَّى}؛ أي: فعدَّله وكمل نشأته. وقال بعضهم: معنى التسوية والتعديل: جعل كل عضو من أعضائه الزوج معادلًا لزوجه. 39 - {فَجَعَلَ مِنْهُ}؛ أي: من الإنسان باعتبار الجنس أو من المنيّ. وجعل بمعنى خلق، ولذا اكتفى بمفعول واحد، وهو قوله: {الزَّوْجَيْنِ}؛ أي: الصنفين من نوع الإنسان، وقد يجتمعان تارةً، وينفرد كل منهما عن الآخر تارةً، لا خصوص الفردين وإلاّ فقد تحمل المرأة بذكرين وأنثى أو بالعكس اهـ شيخنا. ثم بين ذلك بقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} بدل من الزوجين، ويجوز أن يكونا منصوبين بإضمار أعني. ولا يخفى (¬2) أنَّ الفاء تفيد التعقيب، فلا بدّ من مغايرةٍ بين المتعاقبين، فلعل قوله: {فَخَلَقَ فَسَوَّى} محمول على مقدار مقدر من الخلق يصلح به للتفرقة بين الزوجين، وقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ} على التفرقة الواقعة. والمعنى (¬3): أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه نطفة في صلب أبيه ثم كان علقة ثم سواه بشرًا ناطقًا سميعًا بصيرًا ثم جعل منه أولادًا ذكورًا وإناثًا بإذنه وتقديره. 40 - {أَلَيْسَ ذَلِكَ} العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؛ أي: على أن يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإنَّ الإعادة أهون من الابتداء وأيسر مؤنة منه في قياس العقل لوجود المادة، وهو عجيب الذنب والعناصر الأصلية. والاستفهام في {أَلَيْسَ} للتقرير المضمن للتوبيخ لمنكر البعث. وفي قراءة زيد بن عليّ {الزوجان} بالألف، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله. وقرأ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

الجمهور (¬1): {بِقَادِرٍ} اسم فاعل مجرورًا بالباء الزائدة. وقرأ زبد بن علي {يَقْدِرُ} فعلًا مضارعًا. وقرأ طلبة بن سليمان والفيّاض بن غزوان {على أن يحيي} بسكون الياء تخفيفًا أو على إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجمهور بفتحها، وهي حركة إعراب لا تنحذت إلا في الوقف، وقد جاء في الشعر حذفها، وجاء عن بعضهم {يحيي} بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء. قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام {يحيى}، قالوا لسكون الياء الثانية، ولا يعتدون بالفتحة في الياء؛ لأنها حركة إعراب غير لازمة. والخلاصة: أي ليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه، فذلك أهون من البدء في قياس العقل كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وقد جاء من عدّة طرق: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم وبلى". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن مردويه، والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} وانتهى إلى آخرها {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} فانتهى إلى {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله". الإعراب {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}. {لَا} زائدة زيدت لتأكيد معنى القسم، {أُقْسِمُ} فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، تقديره: أنا يعود على الله سبحانه، {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} متعلق بـ {أُقْسِمُ}، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا، لا محل لها من الإعراب. {وَلَا أُقْسِمُ} معطوف على الجملة السابقة، فهو نظيرها في الإعراب، وكرّر فعل القسم تنبيهًا على أن كلا من ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المقسم به مقصود مستقل. {بِالنَّفْسِ} متعلق بـ {أُقْسِمُ}، {اللَّوَّامَةِ} صفة لـ {النفس}، وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن دل عليه ما بعده، وهو قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} كما مرّ. {أَيَحْسَبُ} الهمزة للاستفهام التوبيخي، {يحسب الإنسان} فعل وفاعل والجملة جملة إنشائية دالة على جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {أن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {لن} حرف نصب، {نَجْمَعَ} فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بـ {لن}، {عِظَامَهُ} مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن المخففة، وجملة {أنْ} المخففة في محل النصب سادة مسدّ مفعولي {يحسب}. {بَلَى} حرف جواب لإثبات ما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام، {قَادِرِينَ} حال من فاعل الفعل المقدّر المدلول عليه بحرف الجواب، تقديره: بل تجمعها حال كوننا قادرين، والجملة المحذوفة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب أو خبر لـ {كان} المحذوفة؛ أي: بلى كنّا قادرين. {عَلَى} حرف جرّ، {أَن} حرف نصب، {نُسَوِّيَ} فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب بـ {أن}، {بَنَانَهُ} مفعول به ومضاف إليه والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى}؛ أي: على تسويتنا بنانه، الجار والمجرور متعلق بـ {قَدِرِينَ}، {بَلْ} حرف عطف وإضراب للإضراب الانتقالي، {يُرِيدُ الْإِنْسَانُ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ}، فيجوز أن تكون استفهامًا مثله، وأن تكون إيجابًا اهـ سمين. {لِيَفْجُرَ} اللام حرف جرّ وتعليل، {يفجر} فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام {كي}، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، {أَمَامَهُ} منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ {يفجر}، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، واللام زائدة في المعنى، والتقدير: بل يريد الإنسان الفجور في مستقبله والاستمرار فيه. {يَسْأَلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانُ}، والجملة مستأنفة أو بدل من الجملة التي قبلها، أو في محل النصب حال من {الْإِنْسَانُ}؛ أي: يريد أن يستمر في فجوره في حال كونه سائلًا على سبيل الاستهزاء أيّان يوم القيامة؟ {أَيَّانَ} اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، {يَوْمُ الْقِيَامَةِ} مبتدأ مؤخّر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مفعول به لـ {يسأل}.

{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي وهو {يَقُولُ}، {بَرِقَ الْبَصَرُ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ {إذا}، على كونها فعل شرط لها. {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} فعل وفاعل، معطوف على {بَرِقَ الْبَصَرُ}. {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} فعل مغيّر، ونائب فاعل، معطوف عليه، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ} فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} لا محل لها، وجملة {إذا} مستأنفة، {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف لمثله، متعلّق بـ {يَقُولُ}، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ برق البصر إلخ. {أَيْنَ} اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، مبنيّ على الفتح، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدّمًا، {الْمَفَرُّ} مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن طلب الفرار، {لَا} نافية للجنس، {وَزَرَ} في محل النصب اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: موجود. والجملة مستأنفة. {إِلَى رَبِّكَ} خبر مقدم، و {يَوْمَئِذٍ} ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بفعل محذوف، دل عليه {الْمُسْتَقَرُّ}، تقديره: يستقر الأمر، ويرجع إلى ربك يوم إذ كانت هذه الأمور المذكورة، ولا يجوز أن يتعلق بـ {الْمُسْتَقَرُّ}؛ لأنّه إن كان مصدرًا فلتقدّمه، وإن كان مكانًا فلا عمل له ألبتة كما مرّ. {الْمُسْتَقَرُّ} مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية مستأنفة. {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، {الْإِنْسَانُ} نائب فاعل، {يَوْمَئِذٍ} ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ {يُنَبَّأُ}، والجملة مستأنفة، {بِمَا} جار ومجرور، متعلق بـ {يُنَبَّأُ} على كونه مفعولًا ثانيًا له، وجملة {قَدَّمَ} صلة لـ {ما} الموصولة، {وَأَخَّرَ} معطوف على {قَدَّمَ}، {بَلِ} حرف عطف وإضراب انتقاليّ، {الْإِنْسَانُ} مبتدأ، {عَلَى نَفْسِهِ} متعلق بـ {بَصِيرَةٌ}، و {بَصِيرَةٌ}؛ أي: شاهد خبر المبتدأ،. والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث، والجملة معطوفة على جملة {يُنَبَّأُ}، {وَلَوْ} {الواو} حالية، {لو} حرف شرط، {أَلْقَى} فعل ماض وفاعل مستتر، {مَعَاذِيرَهُ} مفعول به، وجواب الشرط محذوف تقديره: ما قبلت منه، والجملة الشرطية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {بَصِيرَةٌ}، والتقدير: بل الإنسان شاهد على نفسه

حال كونه ملقيًا معاذيره أو غير ملقٍ إياها. {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}. {لَا} ناهية جازمة، {تُحَرِّكْ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، مجزوم بـ {لا} الناهية، {بِهِ} متعلق بـ {تُحَرِّكْ}، {لِسَانَكَ} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، {لِتَعْجَلَ} {اللام}: حرف جرّ وتعليل، {تعجل} فعل مضارع منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، {بِهِ} متعلق بـ {تعجل}، والجملة الفعلية مع {أن} المضمرة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل؛ أي: لعجلتك بأخذه، الجار والمجرور متعلق بـ {تُحَرِّكْ}. {إِنَّ} حرف نصب، {عَلَيْنَا} خبر مقدم لـ {إِنَّ} {جَمْعَهُ} اسم إن مؤخر {وَقُرْآنَهُ} ومعطوف على {جَمْعَهُ} جملة {إن} جملة تعليليلة لا محل لها من الإعراب، سيقت لتعليل النهي عن العجلة. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت النهي عن العجلة وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك: إذا قرأناه. {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قُرْآنَهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. {فَاتَّبِعْ} {الفاء}: رابطة، {اتبع} فعل أمر وفاعل مستتر، {قُرْآنَهُ} مفعول به، ومضاف إليه والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {ثُمَّ} حرف عطف مع تراخ، {إنَّ} حرف نصب، {عَلَيْنَا} خبر {أنَّ} مقدم، {بَيَانَهُ} اسم {إنَّ} مؤخّر، وجملة {إنَّ} معطوفة على جملة {إذا}. {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}. {كَلَّا} حرف ردع، {بَلْ} حرف إضراب للإضراب الانتقالي، {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الإضرابية معطوفة على محذوف، تقديره: ليس الأمر كما تزعمون أيها المشركون بل تحبّون العاجلة. {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تُحِبُّونَ}، {وُجُوهٌ} مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل، {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف لمثله، والتنوين عوض عن

الجملة المحذوفة، تقديرها: يوم إذ تقوم القيامة، والظرف متعلّق بـ {نَاضِرَةٌ}، و {نَاضِرَةٌ} خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {إِلَى رَبِّهَا} متعلق بـ {نَاضِرَةٌ}، و {نَاضِرَةٌ} خبر ثان له. {وَوُجُوهٌ} {الواو}: عاطفة، {وُجُوهٌ} مبتدأ، {يَوْمَئِذٍ} متعلق بـ {بَاسِرَةٌ}، و {بَاسِرَةٌ} خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. {تَظُنُّ} فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يُفْعَلَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، {بِهَا} متعلق بـ {يُفَعلَ}، {فَاقِرَةٌ} نائب فاعل، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {ظنّ}. وفي الجملتين أوجه أُخَرُ من الإعراب. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}. {كَلَّا} حرف ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {بَلَغَتِ} فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الروح، {التَّرَاقِيَ} مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فِعْلَ شرط لها. {وَقِيلَ} فعل ماض مغيّر الصيغة، معطوف على {بَلَغَتِ}، {مَنْ رَاقٍ} نائب فاعل، محكي لـ {قيل}، وان شئت قلت: {مَنْ} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {رَاقٍ} خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {قيل}. {وَظَنَّ} فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على المحتضر، {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} ناصب واسمه وخبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {ظَنَّ}، وجملة {ظَنَّ} معطوفة على جملة {بَلَغَتِ}. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ} فعل وفاعل، معطوف أيضًا على {بَلَغَتِ}، {بِالسَّاقِ} متعلق بـ {الْتَفَّتْ}، وجواب {إذا} محذوف دل عليه قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)} تقديره: تساق النفس إلى حكم ربك يومئذٍ، وجملة {إذا} مستأنفة. {إِلَى رَبِّكَ} خبر مقدم، {يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق بـ {الْمَسَاقُ}، وهو ظرف مضاف إلى مثله، والتنوين عوض عن الجمل الأربع، تقديره: إذا بلغت الروح الحلقوم، وقيل من {رَاقٍ} وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق تساق إلى حكم ربها. {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ

فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)}. {فَلَا} الفاء: عاطفة، {لا} نافية، {صَدَّقَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانُ}، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ}، وقيل: معطوف على جملة {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}. {وَلَا صَلَّى} معطوف على {لَا صَدَّقَ}. {وَلَكِنْ} {الواو}: عاطفة، {لكن} حرف استدراك، {كَذَّبَ} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}، والجملة معطوفة على قوله: {فَلَا صَدَّقَ}. {وَتَوَلَّى} فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على {كَذَّبَ}، {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع تراخ، {ذَهَبَ} معطوف على {كَذَّبَ}، {إِلَى أَهْلِهِ} متعلق بـ {ذَهَبَ}، وجملة {يَتَمَطَّى} في محل النصب حال من فاعل {ذَهَبَ}، {أَوْلَى} اسم فعل ماض بمعنى وليك المكروه، مبنى على السكون لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًا، وفاعله ضمير يعود على ما يفهم من السياق، تقديره: وليك المكروه لك. {لَكَ} {اللام}: حرف جرّ زائد للتبيين؛ أي: لتبيين المفعول به، والكاف: ضمير متصل في محل النصب مفعول به لاسم الفعل، وجملة اسم الفعل جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. {فَأَوْلَى} {الفاء}: عاطفة، {فَأَوْلَى} اسم تفضيل من الولي بمعنى القرب خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو؛ أي: المكروه أولى وأحرى، وأحقّ بك. والجملة الاسمية معطوفة على جملة اسم الفعل، {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} معطوف على قوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}، والتكرير للتأكيد. {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)}. {أَيَحْسَبُ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يُتْرَكَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}، {سُدًى} حال من الضمير في {يُتْرَكَ}، وجملة {أن} المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي {يحسب}. {أَلَمْ} الهمزة للاستفهام التقريريّ، {لم} حرف جزم، {يَكُ} فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسم {يكن} ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}. {نُطْفَةً} خبرها، {مِنْ مَنِيٍّ}

صفة لـ {نُطْفَةً}، وجملة {يُمْنَى} من الفعل المغيّر ونائب فاعله في محل الجرّ صفة لـ {مَنِيٍّ}، وجملة {يكن} الناقصة جملة استفهامية لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ} حرف عطف وتراخ، {كَانَ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}، {عَلَقَةً} خبرها، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة الاستفهام، {فَخَلَقَ} {الفاء}: عاطفة، {خلق} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة كان، والرابط بين الجملتين محذوف، تقديره: {فخلقه} {فَسَوَّى} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على خلق، والتقدير: فسوّاه. {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}. {فَجَعَلَ} {الفاء}: عاطفة، {جَعَلَ} فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، {مِنْهُ} في موضع المفعول الثاني، {الزَّوْجَيْنِ} مفعول أوّل، {الذَّكَرَ} بدل من الزوجين، {وَالْأُنْثَى} معطوف على {الذَّكَرَ}، وجملة {جعل} معطوف على جملة {سوى}. {أَلَيْسَ} الهمزة للاستفهام التقريري، {ليسَ} فعل ماض ناقص، {ذَلِكَ} اسمها؛ أي: أليس ذلك الفعّال ما ذكر، {بِقَادِرٍ} خبرها، والباء زائدة في خبر {لَيْسَ}، {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ} متعلق {بِقَادِرٍ}، وجملة {ليس} جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن} حرف نصب ومصدر، {يُحْيِيَ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، {الْمَوْتَى} مفعول به، وجملة {أن} المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بـ {عَلَى}، تقديره: على إحيائِهِ الموتى. التصريف ومفردات اللغة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} والإقسام لغة: مطلق الحلف سواء كان بالخالق أو بالمخلوق أيًّا كان، وشرعًا: الحلف بالله تعالى سواء كان بالذات أو باسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته، يقال: أقسم بالله من باب أفعل، ولا يقال: قسم بالله من باب فعل. {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} القيامة فيه إعلال بالقلب، أصله: القوامة، قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة وقبل ألف. {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} والعظام: جمع عظم، وهو قصب الحيوان الذي عليه اللحم، ويجيء جمع عظيم أيضًا ككرام، وكريم وككبار وكبير، ومنه: الموالي العظام. {بَلَى} كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيًّا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرّقها. {بَنَانَهُ} والبنان مفرد اللفظ مجموع المعنى كالثمر،

وفي "القاموس": البنان: الأصابع أو أطرافها. قال الراغب: البنان: الأصابع، قيل: سُمِّيت بذلك؛ لأن بها إصلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يُبِنَّ بها ما يريد؛ أي: يقيم. يقال: أبَنَّ بالمكان يَبِنُّ، لذلك خص بالذكر في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}، وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}. خصه لأجل أنها يقاتل بها ويدافع. {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} الفجر: شق الشيء شقًّا واسعًا، والفجور: شق ستر الديانة. وقال بعضهم: الفجور الميل، فالكاذب والمكذّب والفاسق فاجر؛ أي: مائل عن الحق، كما مرّ. {أَمَامَهُ} الأمام في الأصل ظرف مكان استعير هنا للزمان فالمعنى: بل يريد الإنسان ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا يرعوي عنه. {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أيّان ظرف زمان بمعنى متى، مركب من أيٍّ وآن؛ أي: أيّ آنٍ يوم القيامة. {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)} يقال: برق بكسر الراء: إذا فزع ودهش، وأصله من برِق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة: وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الحَكِيْمَ تَعرَّضَتْ ... لِعَيْنَيْهِ ميٌّ سَافِرًا كاد يَبْرَقُ وقول الأعشى: وَكُنْتُ أَرَى فِي وَجْهِ مَيَّةً لُمْحَةً ... فَأَبْرَقُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ مَكانِيَا وبرق بفتح الراء: شق بصره، وهو من البريق؛ أي: لمع بصره من شدّة شخوصه. والبرق واحد بروق السحاب ولمعانه. {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} قال في "فتح الرحمن": الخسوف والكسوف معناهما واحد، وهو ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه. {أَيْنَ الْمَفَرُّ} المفر مصدر ميمي بمعنى الفرار أو اسم مكان بمعنى الفرار، وأصله: مفرر بوزن مفعل بفتح الميم والعين، نقلت حركة الراء الأولى إلى الفاء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)} والوزر بفتحتين: كل ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما. قال الشاعر: لَعَمْرُكَ مَا لِلفَتَى مِنْ وَزَرْ ... مِنَ الْمَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالْكِبَرْ {يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} المستقر إما مصدر ميميّ بمعنى الاستقرار، أو اسم مكان بمعنى مكان الاستقرار. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} اسم جمع للمعذرة بمعنى الاعتذار

كالمناكير اسم جمع للمنكر. وقيل: جمع معذار، وهو الستر بلغة أهل اليمن؛ أي: أرخى ستوره. {جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}؛ أي: جمعه في صدرك وإثبات قراءته في لسانك. فالقرآن مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة مضاف إلى مفعوله، والقراءة: ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، كما مرّ. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} من النضرة، وهو طراوة البشرة وجمالها، وذلك من أثر التنعم، والناضر الغض الناعم من كل شيء، ومعنى {نَاضِرَةٌ} حسنة مضيئة، يقال: نَضُر يَنضُر من باب دخل، ونضر ينضر من باب تعب، ونضر ينضر من باب ظرف نضرًا ونضرة ونضرًا ونضورًا ونضارة، نضر الوجه أو اللون أو الشجر أو غيرها إذا نعم وحسن، وكان جميلًا، فهو ناضر ونضر ونضير وأنضر العود أيضًا. قال الكميت: وَرَتْ بِكَ عِيْدَانُ الْمَكَارِمِ كُلِّهَا ... وَأَوْرَقَ عُوْدِيْ فِي ثَرَاكَ وَأَنْضَرَا {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} والنظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، والمراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحل وإرادة الحال. {بَاسِرَةٌ}؛ أي: شديدة العبوس مظلمة ليس عليها أثر السرور أصلًا. {فَاقِرَةٌ}؛ أي: داهية عظيمة تكسر الظهر أو فقاره، والفقار بفتح الفاء كما في "القاموس"، وهو جمع فقارة بفتح الفاء، وفي "المصباح": وفقرت الداهية الرجل فقرا من باب قتل: نزلت به، فهو فقير فعيل بمعنى مفعول، وفقارة الظهر بالفتح: الخرزة، والجمع فقار بحذف الهاء، مثل: سحابة وسحاب. قال ابن السكيت: ولا يقال: فقارة بالكسر، والفقرة لغة في الفقارة، وجمعها فقر وفقرات، مثل: سدرة وسدر وسدرات. وفي "القاموس": والفقر بالكسر والفقرة والفقارة بفتحهما: ما يتصل من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. {التَّرَاقِيَ} جمع الترقوة، وهي العظم الذي في أعلى الصدر بين ثغرة النحر، وهما ترقوتان، والجمع التراقي والترايق، ويقال: ترقاه {ترقاةً}؛ أي: أصاب ترقوته، وقد بلغت روحه التراقي إذا شارف الموت. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} الألف فيه منقلبة عن واو لظهورها في التصغير سويق، وجمعه على سيقان لا ينافي ذلك، فالياء منقلبة عن واو لسكونها إثر كسرة. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)} اسم فاعل إما من رقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى. وفي الحديث: "وما أدراك أنها رقية" يعني: الفاتحة، وهي من أسمائها. وإما من رقي بالكسر في

الماضي والفتح في المضارع من الرّقيّ، وهو الصعود؛ أي: تقول الملائكة: من يصعد بهذا الروح. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)} المساق مصدر ميمي، أصله: مسوق على وزن مفعل بفتح الميم والعين نقلت حركة الواو إلى السين فسكنت، لكنّها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {وَلَا صَلَّى} أصله: صلَّي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَتَوَلَّى} أصله: تولي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {يَتَمَطَّى} أصله: يتمطى بوزن يتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. أو أصله: يتمطط، قلبت الطاء الثالثة ياء، فهو إمّا من المطا، وهو الظهر، ومعناه: يتبختر؛ أي: يمد مطاه ويلويه تبخترًا في مشيته. أو من المط، وهو المد؛ لأنه يمد اليدين في مشيه، وإنما قلبت الطاء الثالثة ياءً لكراهة اجتماع الأمثال، ومادّة المطا (مَ طَ وَ) ومادّة الثاني: (مَ طَطَ). {سُدًى}؛ أي: هملًا لا يكلف بالشرائع، يقال: إبلٌ سدى؛ أي: مهملةً، وأسديت حاجتي؛ أي: ضيعتها، ومعنى أسدى إليه معروفًا أنه جعله بمعنى الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه. وفي "المصباح": والسدى: وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة، وهو ما يمد طولًا في النسج، وأسديت الثوب: أقمت سداه. والسدى أيضًا: ندى الليل، وبه يعيش الزرع، وسديت الأرض فهي سدية من باب تعب: كثر سداها، وسدا الرجل من باب غزا: مد يده نحو الشيء، وسدا البعير سدوا: مد يده في السير، وأسديته بالألف. تركته سدى؛ أي: مهملًا، وأسديت إليه معروفًا: اتخذته عنده. وأصله: سدي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} وأصل منيّ منيءٌ بوزن فعيل، أدغمت ياء فعيل في لام الكلمة. {يُمْنَى} أصله: يمني بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركا بعد فتح. {فَسَوَّى} فيه إعلال بالقلب، أصله: فسوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والنطفة: الماء الصافي قل أو كثر، والمني: ماء الرجل والمرأة المختلط. فالحبل لا يكون إلا من الماءين، يمنى أي: يصب ويراق في الرحم، كما مرّ. والعلقة: قطعة دم جامد غليظ أحمر، سميت لتعلقه بما أصابه.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: فنّ التقسيم في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}، وسمّاه صاحب "المثل السائر" التناسب بين المعاني، لتناسب الأمرين المقسم بهما، فقد أقسم بيوم البعث أوّلًا ثمّ بالنفوس المجزية فيه على حقيّة البعث والجزاء، فسبحان المتكلم بهذا الكلام. ومنها: الطباق بين {قَدَّمَ} و {أَخَّرَ} وبين {صَدَّقَ} و {كَذَّبَ}. ومنها: الاستفهام الإنكاري لغرض التوبيخ في قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)} ومثل قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}؛ لأنَّ غايته التوبيخ والتقريع. ومنها: زيادة اللام للتأكيد مثل قوله: {وَأنصَحُ لَكُم} في أنصحكم. ومنها: استبعاد تحقق الأمر في قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}؛ لأن الغرض من الاستفهام الاستبعاد والإنكار. ومنها: الجناس غير التام بين قوله: {بَنَانَهُ} وقوله: {بَيَانَهُ} لاختلاف بعض الحروف. ومنها: المقابلة اللطيفة بين نضارة وجوه المؤمنين في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)}، وبين عبوسة وجوه المجرمين في قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}، لأنّ المراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحلّ وإرادة الحال. ومنها: الطباق بين {الْعَاجِلَةَ}، و {الْآخِرَةَ} في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}. ومنها: الكناية في قوله: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}؛ أي: داهية عظيمة؛ لأنه كناية عن غاية الشدّة وعدم القدرة على التحمل، فهي تتوقّع ذلك كما تتوقّع الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير بناء على أنّ قضيّة المقابلة بين الآيتين تقتضي ذلك.

ومنها: الاستعارة التمثيليّة في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)}؛ لأنّ فيه استعارةً تمثيلية لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها، وشدة كرب الآخرة في أوّل يوم منها؛ لأنهما يومان قد التفّا ببعضهما، واختلطا بالكرب كما تلتفّ الساق بالساق، كما يقال: شمّرت الحرب عن ساق استعارة لشدّتها. ومنها: الجناس الناقص بين لفظي {السَّاقُ} و {الْمَسَاقُ} ويسمّى أيضًا جناس التبديل، وهو الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى، وجميع حروف الأخرى يوجد في أختها على استقامتها، وهو ثلاثة أقسام: قسم تقع الزيادة منه أوّل الكلمة كزيادة الميم في {الْمَسَاقُ}، وقسم تقع الزيادة وسط الكلمة كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}، وقسم تقع الزيادة منه في آخر الكلمة كقوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ومنها: الالتفات في قوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}؛ لأنّ فيه التفاتًا من الغيبة إلى الخطاب تقبيحًا له وتشنيعًا. ومنها: التكرير للتأكيد في قوله: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من الموضوعات 1 - إقسامه سبحانه بأمرين: القيامة والنفس اللوامة. 2 - ذكر القيامة وأهوالها وأحوالها. 3 - اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بضبط القرآن عند تلاوة جبريل عليه. 4 - انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين: سعداء وأشقياء. فالسعداء وجوههم ناضرة، والأشقياء وجوههم باسرة. 5 - ذكر حال المرء عند الاحتضار، وما يلقاه في ذلك الوقت من الشدائد والدواهي. 6 - إثبات الحشر والمعاد بالأدلّة والبراهين العقلية حيث قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ...} إلى آخر السورة (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمّت سورة القيامة بعون من له الرحمة العامة والفيوضات الهاطلة قبيل الغروب من اليوم الثالث من شهر الجمادى الأولى من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيّدنا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين. آمين.

سورة الإنسان

سورة الإنسان سورة الإنسان وتسمى (¬1) سورة هل أتى، وسورة الأمشاج، وسورة الدهر. نزلت بعد سورة الرحمن. وقال مقاتل والكلبي: وهي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مروديه عن ابن الزبير مثله. وقيل: فيها مكيّ من قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)} إلى آخر السورة، وما قبله مدنيٌ. وآيها: إحدى وثلاثون آية. وكلماتها: مئتان وأربعون كلمة. وحروفها: ألف وأربعة وخمسون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه ذكر في السابقة الأهوال التي يلقاها الفجّار يوم القيامة، وذكر في هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم في تلك الدار. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها (¬2) ظاهرة جدًّا لا تحتاج إلى شرح انتهى. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ": سورة الإنسان كلّها محكم إلّا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)} نسخت بآية السيف. والآية الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)} نسخ التخيير بآية السيف. سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحيشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سل واستفهم، فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت به أني كائن معك في الجنة؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام، ثم قال: ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي.

من قال: لا إله إلا الله كان له عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده كتب له مئة ألف حسنة وأربع وعشرون ألف حسنة، ونزلت هذه السورة {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله: {مُلْكًا كَبِيرًا}. فقال الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة، قال نعم، فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدليه في حفرته بيده". وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة: أن رجلًا أسود كان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: أكثرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مه يا عمر، وأنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} حتى أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرةً فخرجت نفسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مات شوقًا إلى الجنة". وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعًا مرسلًا. وأخرج أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه وابن منيع، وأبو الشيخ في العظمة والحاكم، وصحّحه، والضياء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} حتى ختمها، ثم قال: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزّ وجل". والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}. المناسبة أخبر سبحانه وتعالى أنّه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئًا يذكر، ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفًا في الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغًا في الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريق الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور. قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ ...} الآية، مناسبة هذه الآيات لما

قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (¬1) أنّه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشرّ في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}، ثم أردفه ببيان أنّ الناس انقسموا في ذلك فريقين: فريق وفّقه الله، واهتدى وشكر، وفريق أضلّه الله وكفر. أعقب ذلك بما أعدّه لكل منهما يوم القيامة، فأعدّ للأوّلين جنات ونعيمًا، فهم يشربون الخمر وهي ألذ شراب لديهم ممزوجة بماء عذب زلال طيب الرائحة، تأتيهم إلى غرفهم متى شاؤوا وكيف أرادوا، ويلبسون الحرير، ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرًّا ولا قرًّا. ثم ذكر ما أعدوه في الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم، ويخافون عذاب يوم القيامة. وأعد للآخرين سلاسل وقيودًا ونارًا تشوي الوجوه والأجسام. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم أردفه بوصف مساكنهم ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرّةً أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحليّ، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال وبديع الخلال. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر أحوال الآخرة، وبين عذاب الكفار على سبيل الاختصار، وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء إرشادًا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب .. أردف ذلك بذكر أحوال الدنيا، وقدم أحوال المطيعين وهم: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته على أحوال المتمردين والمشركين. وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهي أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالةً لوحشته وتقويةً لقلبه حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربّه، وهو على أتمّ ما يكون سرورًا ونشاطًا. أسباب النزول قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} سبب نزول هذه ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

الآية: ما أخرجه (¬1) ابن المنذر عن ابن جرير قال: لم يكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأسر أهل الإسلام، ولكنّها نزلت في أسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب، فنزلت فيهم، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالإصلاح إليهم. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثّر في جنبه، فبكى عمر، فقال - صلى الله عليه وسلم - له: ما يبكيك؟ قال عمر: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز وملكه، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير من جريد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما ترضى أنّ لهم الدنيا ولنا الآخرة، فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}. قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} سبب نزولها: ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة: أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي .. لأطأنَّ عنقه، فأنزل الله قوله عزّ وجلّ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {هَلْ أَتَى} حكى (¬2) الواحدي عن المفسرين: أنّ {هَلْ} هنا بمعنى قد فهي للتحقيق، وليست للاستفهام أصلًا؛ أي: قد أتى ومرّ على الإنسان ... إلخ. وبه قال سيبويه، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة. قال الفراء {هَلْ} تكون جحدًا وتكون خبرًا، فهذا من الخبر؛ لأنّك تقول: هل أعطيتك، تقرّره بأنّك أعطيته، ومن الجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا، فتحمله على معنى لا يقدر أحد غيرك على مثله. وقيل: هي وإن كان بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام التقريري. والأصل (¬3): أهل أتى، والمعنى: أقد أتى ليستفاد التقرير من همزة الاستفهام والتقريب من قد، فإنها موضوعة لتقريب الماضي إلى الحال. والدليل على أن الاستفهام غير مراد أن الاستفهام على الله تعالى محال، فلا بد من حمله على الخبر، كقولك: هل وعظتك، ومقصودك أن تحمله على الإقرار بأنّك قد وعظته؛ أي: قد مرّ {عَلَى الْإِنْسَانِ} قيل: المراد بالإنسان هنا آدم، قاله قتادة والثوري، ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

وعكرمة، والسدي، وغيرهم. {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} والحين: زمان مطلق ووقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر، كما سيأتي. والدهر: الزمان الطويل. والمعنى: مر على آدم طائفة محدودة كائنة من الزمان الممتد. قيل: أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح. وقيل (¬1): إنه خلق من طين فألقي بين مكة والطائف، فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة أخرى، ثم من صلصال فأقام أربعين سنة أخرى. فتم خلقه في مئةٍ وعشرين سنة، فنفخ فيه الروح على ما جاء في رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: فما كان سنين في آدم كان أيّامًا في أولاده. وقيل: المراد بالإنسان جنس الإنسان لقوله: {مِنْ نُطْفَةٍ}، لأنَّ آدم لم يخلق منها، ثم المراد بالجنس بنو آدم، والمراد بالحين مدة حمله؛ لأنه كان علقة في أربعين يومًا ومضغةً في ثمانين ومنفوخًا فيه الروح في مئة وعشرين يومًا على أن يكون الحين هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وهذا القول أعني: حمله على أولاده أظهر؛ لأنّ المقصود تذكير الإنسان كيفية الخلق بعد أن لم يكن ليتذكر أول أمره من عدم كونه شيئًا مذكورًا أو آخر أمره من كونه شيئًا مذكورًا مخلوقًا من ماء حقير، فلا يستبعد البعث. وقيل: المراد بالجنس ما يعم آدم وبنيه على التغليب أو نسبة حال البعض إلى الكل للملابسة على المجاز. وحمل بعضهم الإنسان هنا على آدم وفيما سيأتي على أولاده. وجملة قوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} إما في محل نصب على الحال من الإنسان أو في محل رفع صفة أخرى لـ {حِينٌ} بحذف الضمير الرابط؛ أي: حين لم يكن فيه شيئًا مذكورًا. قال الفراء وقطرب وثعلب (¬2): المعنى: أنه كان جسدًا مصوّرًا ترابًا وطينًا لا يذكر، ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورًا. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئًا مذكورًا في الخلق، وإن كان عند الله شيئًا مذكورًا. وقيل: ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. قال القشيريّ: ما كان مذكورًا للخلق وان كان مذكورًا لله سبحانه. قال الفرّاء: كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، فجعل النفي متوجهًا إلى القيد. وقيل المعنى: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[2]

قد مضت أزمنة، وما كان آدم شيئًا مذكورًا؛ لأن خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوان. والمعنى على القول الثاني {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} بل كان (¬1) شيئًا منسيًّا، غير مذكور بالإنسانية أصلًا نطفة في الأصلاب، فما بين كونه نطفة وكونه شيئًا مذكورًا بالإنسانية مقدار محدود من الزمان، وتقدم عالم الأرواح لا يوجب كونه شيئًا مذكورًا عند الخلق ما لم يتعلق بالبدن ولم يخرج إلى عالم الأجسام. والمعنى (¬2): أي قد أتى على هذا النوع الإنسانيّ زمن لم يكن موجودًا حتى يعرف ويذكر. وفي الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض "الجيولوجيا". من أن الإنسان لم يوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلًا ملتهبةً بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور ثم بعض الحيوان الداجن ثم الإنسان. 2 - ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة في تكوين الإنسان، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: خلقنا جسمه، والإظهار لزيادة التقرير. {مِنْ نُطْفَةٍ} حتى كان علقةً في أربعين يومًا ومضغةً في ثمانين ومنفوخًا فيه الروح في مئة وعشرين يومًا، كما خلق أباهم آدم طورًا طينًا وطورًا حمأً مسنونًا وطورًا صلصالًا. والمراد بالإنسان هنا ابن آدم، قال القرطبي من غير خلاف. والنطفة: الماء الذي يقطر، وهو المنيّ وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف. وقوله: {أَمْشَاجٍ}؛ أي: (¬3) أخلاط، صفة لـ {نُطْفَةٍ}، وهي جمع مشج كسبب أو كتف على لغتيه، أو جمع مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته. وصف النطفة بالجمع مع إفرادها، لما أن المراد بها مجموع الماءين يختلطان في الرحم، ولكل منهما أوصاف مختلفة من اللون والرقة والغلظ، وخواص متباينة، فإن ماء الرجل أبيض غليظٌ فيه قوة العقد، وماء المرأة أصفر رقيق فيه قوة الانعقاد. فيخلق منهما الولد، فأيهما علا صاحبه كان الشبه به، وما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر، فمن ماء المرأة، كما روي في المرفوع. وفي الخبر: "ما من مولود إلا وقد ذر على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

نطفته من تربة حفرته، كل واحد منهما مشيج بالآخر". وقال الحسن رحمه الله: نطفة مشيجة بدم، وهو دم الحيض، فإذا حبلت ارتفع دم الحيض، وإليه ذهب صاحب القاموس حيث قال: ونطفة أمشاج؛ أي: مختلطة بماء المرأة ودمها انتهى. فيكون النطفتان ودمها جمعًا. وقال الفراء: أمشاجٌ: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم. وقيل (¬1): الأمشاج لفظ مفرد كبرد أكباش، ويؤيد هذا وقوعه نعتًا لـ {نُطْفَةٍ}. وقيل: أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس فلذلك وصفت بالجمع كقوله: {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ}. ذكره أبو حيان. وجملة قوله: {نَبْتَلِيهِ}؛ أي: نختبره بالخير والشرّ. حال من فاعل {خَلَقْنَا}؛ أي: خلقناه حال كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف فيما سيأتي، ليتعلق علمنا بأحواله تفصيلًا في العين بعد تعلقه بها إجمالًا في العلم، وليظهر أحوال بعضهم لبعض من القبول والرد والسعادة والشقاوة. {فَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: جعلنا الإنسان {سَمِيعًا بَصِيرًا} ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية. فهو (¬2) كالمسبب عن الابتلاء؛ أي: عن إرادته، فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء، كأنه قيل: إنا خلقناه مريدين تكليفه، فأعطيناه ما يصح معه التكليف والابتلاء، وهو السمع والبصر وسائر آلات التفهيم والتمييز، وطوى ذكر العقل؛ لأن المراد ذكر ما هو من أسبابه والآلة التي بها يستكمل، فطريقه الأول لأكثر الخلق من السعداء السمع ثم البصر ثم تفهم العقل. وفي اختيار صيغة المبالغة فيهما إشارة إلى كمال إحسانه إليه وتمام إنعامه. و {بَصِيرًا} مفعول ثان بعد ثان لـ {جعلناه}، ويجوز (¬3) أن تكون جملة {نَبْتَلِيهِ} حالًا من الإنسان، والمعنى: مقدرًا ابتلاءه بالخير والشر والتكاليف. قال الفراء: معناه: والله أعلم جعلناه سميعًا بصيرًا نبتليه، وهي مقدمة لفظًا مؤخرة معنى؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وعلى هذا تكون الحال مقدرة، وقيل: مقارنة. وقيل: معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأول أولى. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[3]

والمعنى (¬1): أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد، إذا شب وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر، فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}؛ أي: جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر. وهذه من عالم أشرف من عالم المادّة التي هي في أسفل درجات النقص والكمال إنّما نزل إليه من عالم أرقى منها، وهو العالم الروحي الإلهيّ. فهو إما يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإمّا أن يتفكر ويجد بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. والخلاصة: نحن نعامله معاملة المختبر له أيميل إلى أصله الأرضي، فيكون حيوانًا نباتيًّا معدنيًا شهوانيًّا، أم يكون إلهيًّا معتبرًا بالسمع والبصر والفكر، وهي من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكون منها. 3 - ثم ذكر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة، والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال، فقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ}؛ أي: هدينا الإنسان المذكور وبينا له {السَّبِيلَ}؛ أي: سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، ليكون {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}؛ أي: ليكون (¬2) الإنسان إما مؤمنًا وإما كافرًا. قيل المعنى: إنا هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكرًا وتارةً كفورًا. وعبارة الروح: قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} مرتّب (¬3) على ما قبله من إعطاء الحواسّ، فإنه استئناف تعليل لـ {جعله} سميعًا بصيرًا. يعني: أن إعطاء الحواس الظاهرة والباطنة والتحلي بها مقدم على الهداية. والمعنى: أريناه وعرّفناه طريق الخير والشرّ والنجاة والهلاك بإنزال الآيات ونصب الدلائل، كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}؛ أي: بينا له طريق الخير والشر، فإن النجد الطريق الواضح المرتفع، فالمراد بالهداية مجرد الدلالة، لا الدلالة الموصلة إلى البُغية، كما في بعض التفاسير. وقوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} حالان من مفعول {وَهَدَيْنَاهُ}. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراح. (¬3) روح البيان.

قال في "الإرشاد"؛ أي: مكنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البغية في حالتيه جميعًا، فاما لتفصيل ذي الحال، فإنه مجمل من حيث الدلالة على الأحوال، لا يعلم أن المراد هدايته في حال كفره، أو في حال إيمانه، وبالتفصيل تبيّن أنها تعلقت به في كل واحدة من الحالين. فالشاكر: الموحد، والكفور: الجاحد؛ لأن الشكر الإقرار بالمنعم، ورأس الكفر جحوده، ويقال: شاكر النعمة وكفورها. وإيراد الكفور دون الكافر لمراعاة الفواصل؛ أي: رؤوس الآي والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط والشكور قليل منهم، ولذا لم يقل: إما شكورًا وإما كفورًا أو إما شاكرًا أو كافرًا. والحاصل: أن الشاكر والكفور كنايتان عن المثاب والمعاقب، ولما يكن مجرد الكفران مستلزمًا للمؤاخذة لم يصح أن يجعل كناية عنها، بخلاف مجرد الشكر، فإنه ملزوم الإثابة بمقتضى وعد الكريم، فأدير أمر الإثابة على مطلق الشكر لا على المبالغة فيه كما أدير أمر المؤاخذة على المبالغة في الكفران لا على أصله. وكل ذلك بمقتضى سعة رحمة الله وسبقها على غضبه انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} بكسر الهمزة فيهما. وقرأ أبو السمّال وأبو العجاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض النحاة في حروف العطف، وقيل: هي التفصيلية وجوابها مقدر. وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكرًا فبتوفيقنا وإما كفورًا فبسوء اختياره انتهى. فجعلها أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، فلذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: أما صديقًا فصديق. وحاصل معنى الآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}؛ أي: (¬2) فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق لتكون مسرحًا لشكره، ومغنمًا لعقله. ثم بين أن الناس انقسموا في ذلك فريقين، فقال: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}؛ أي: فبعض اهتدى، وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر. وإجمال ذلك إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته. ونحو الآية قوله: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[4]

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}. روى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها". وحكى (¬1) مكيٌّ عن الكوفيين أن قوله: {إِمَّا} هي {إنْ} الشرطية زيدت بعدها ما؛ أي: بينا له الطريق إن شكر أو كفر، واختار هذا الفراء. ولا يجيزه البصريون؛ لأن {إن} الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يجوز هنا إضمار الفعل؛ لأنّه كان يلزم رفع {شَاكِرًا} و {كَفُورًا}، ويمكن أن يضمر فعل ينصب {شَاكِرًا} و {كَفُورًا}، تقديره: إن خلقناه شاكرًا فشكور، وإن خلقناه كفورًا فكفور. وهذا على قراءة الجمهور {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} بكسر همزة إمّا. 4 - ولما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا}؛ أي: هيّأنا في الآخرة، فإن الاعتداد إعداد الشيء حتى يكون عتيدًا حاضرًا متى احتيج إليه. {لِلْكَافِرِينَ} من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل {سَلَاسِلَ} بها (¬2) يقادرن إلى جهنم. وفي "كشف الأسرار": أعتدنا للكافرين في جهم سلاسل، كل سلسلة سبعون ذراعًا، وهو بغير تنوين في قراءة حفص، وأمّا الوقف فبالألف تارةً وبدونها أخرى. يقال: تسلسل الشيء: اضطرب كأنه تصور منه تسلسل وتردد، فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه، ومنه: السلسلة وفي "القاموس": السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، وبالكسر: دائرة من حديد ونحوه. وقرأ (¬3) طلحة، وعمرو بن عبيد، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة {سلاسل} ممنوع الصرف وقفًا ووصلًا، وقيل: عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف، وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلًا، وبالألف المبدلة منه وقفًا، وهي قراءة الأعمش. قيل؛ وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا يصرف إلا أفعل من، وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف، ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف. وقال بعض الرجاز: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[5]

وَالصَّرْفُ في الْجَمْعِ أَتَى كَثِيْرًا ... حَتَّى ادَّعَى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيْرَا والصرف ثابت في مصاحف المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، وفي مصحف أبي وعبد الله، كذا {قوارير}. وروى هشام عن ابن عامر {سلاسل} في الوصل، و {سلاسلا} بألف دون تنوين في الوقف. وروي: أن من العرب من يقول: رأيت عمرًا بالألف في الوقف. {وَأَغْلَالًا} بها يقيدون إهانة وتعذيبًا لا خوفًا من الفرار. جمع غل بالضم، وهو ما تطوق به الرقبة للتعذيب، وقد سبق في الحاقة مفصلًا. {وَسَعِيرًا}؛ أي: نارًا مسعرة متقدة بها يحرقون. وإنما (¬1) يجرون إلى جهنم بالسلاسل لعدم انقيادهم للحق، ويحقرون بأن يقيدوا بالأغلال لعدم تواضعهم لله، ويحرقون بالنار لعدم احتراقهم بنار الخوف من الله تعالى. والمعنى: أي إنّا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا، وخالفوا أمرنا سلاسل بها يقادون إلى الجحيم وأغلالًا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين في الدنيا، ونارًا بها يحرقون. ونحو الآية قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)}. 5 - وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهي، ولباس بهيّ، فقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ}؛ أي: إن أهل البر والطاعة والإخلاص والصدق. جمع بر كرب وأرباب أو جمع بار كشاهد وأشهاد، وهو من يبر خالقه؛ أي: يطيعه. يقال: بررته أبره كعلمته وضربته. وعن الحسن رحمه الله: البر: من لا يؤذي الذر ولا يضمر الشر، كما قيل: وَلَا تُؤْذِ نَمْلًا إنْ أَرَدْتَ كَمَالَكَا ... فإنَّ لَهَا نَفْسًا تَطِيْبُ كَمَالَكَا وفي "المفردات": البر خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر؛ أي: المتوسع من فعل الخير، وبر العبد ربه: توسع في طاعته، ويشمل الاعتقاد والأعمال الفرائض والنوافل. وفي "الصحاح" جمع البر: الأبرار، وجمع البار: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

البررة. {يَشْرَبُونَ} في الجنة. والشرب: تناول كل مائع ماء كان أو غيره؛ أي: يشربون ابتداء كالمطيعين، أو انتهاء كالمعذّبين من المؤمنين بحكم العدل {مِنْ كَأْسٍ}؛ أي: من خمر {كَانَ مِزَاجُهَا}؛ أي: ما تمزج به {كَافُورًا}؛ أي: ماء عين تسمى بالكافور، وهي من أنهار الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده دون طعمه، وإلا فنفس الكافور لا يشرب. ونظيره: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا}؛ أي: كنار. والجملة صفة لـ {كَأْسٍ}، وقيل: إنّ كان هنا زائدة؛ أي: من كاس مزاجها كافورًا. والكأس (¬1) في اللغة: هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسمّ كأسًا، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة بل يكون من الزجاج، ومن الذهب والفضة والصينيّ وغير ذلك. وقد كانت كأسات العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر، كما في قول الشاعر: وَكَأسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاويْتُ مِنْهَا بِهَا {كَانَ مِزَاجُهَا}؛ أي: ما يمازج تلك الكاس وتخلط به، يقال: مزج الشراب يمزجه مزجًا؛ أي: خلطه يخلطه خلطًا، ومنه قول الشاعر: كَأَنَّ سَبْيّةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... كَأنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ ومنه: مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الأخلاط من الصفراء والسوداء والبلغم والدم والكيفيات المناسبة لكلّ منها. {كَافُورًا} وهو اسم (¬2) عين في الجنة في المقام المحمدي، وكذا سائر العيون في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته دون طعمه. والكافور: طيب معروف يطيب به الأكفان والأموات لحسن رائحته. واشتقاقه من الكفر، وهو الستر؛ لأنه يغطي الأشياء برائحته كما سيأتي. وقال الكلبي: {كَافُورًا} اسم عين في الجنة، وصرفت لتوافق الآي. وقرأ عبد الله (¬3) {قافورا} بالقاف بدل الكاف، وهما كثيرًا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم: عربيُّ قح وكح. 6 - {عَيْنًا} بدل من {كَافُورًا}؛ أي: من كأس كان مزاجها عينًا. أو مفعول به ليشربون؛ أي: ماء عين يشرب بها عباد الله. أو بدل من محل كأس على حذف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[7]

مضاف؛ أي: يشربون خمرًا خمر عين. أو منصوب على الاختصاص. والأول أولى. ولما كانت الكأس مبدأ شرابهم أتى فيها بـ {من}. وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} صفة عين. وعباد الله هنا (¬1): الأبرار من المؤمنين؛ لأن إضافة التكريم إلى اسمه الأعظم مختصة بالمؤمن في الغالب كالإضافة إلى ضمير المتكلم كقوله: {يَاعِبَادِيَ} لرعايتهم حق الربوبية، فمن لم يراعه فكأنه ليس بعبد له؛ أي: يشربون بها الخمر لكونها ممزوجةً بها، كما تقول: شربت الماء بالعسل، فيكون كناية عن قوتها في لذّتها. والظاهر: يشرب منها عباد الله، فالباء بمعنى من، فإنّ حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض، ونظيره: قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاء}؛ أي: أنزلنا من السحاب الماء، صرح به الشيخ المكي رحمه الله. ويعضده قراءة ابن أبي عبلة {يشربها عباد الله}. وقيل: إنَّ {يَشْرَبُ} مضمن معنى يلتذّ، وقيل: هي متعلقة بـ {يَشْرَبُ}، والضمير يعود إلى الكأس. {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}؛ أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم، كما يفيده بناء التفعيل؛ إذ التشديد للكثرة إجراءً سهلًا لا تمنع عليهم بل تجري جريًا بقوّة واندفاع، ولأن الأنهار منقادة لأهل الجنة كالأشجار وغيرها، فتفجيرًا مصدر مؤكد للفعل المتضمن معنى السهولة. والجملة صفة أخرى لـ {عَيْنًا}. يقال: فجرت العين فانفجرت، وفجرتها فتفجرت إذا أجريتها. والمعنى: أي إنّ الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردًا وبياضًا. وهذا المزاج من عين يشرب منها عباد الله المتقون، وهم في غرف الجنّات يسوقونها إليهم سوقًا سهلًا، حيث شاؤوا، وبنتفعون بها كما يشاؤون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبّون وصوله إليه. قال مجاهد: يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيث مالوا 7 - وجملة قوله: 1 - {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها كأنّه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله عليهم من الصلاة والزكاة والصيام ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

والحج وغيرها. فهو مبالغة في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات. والإيفاء بالشيء: هو الإتيان به تامًّا وافيًا. و {النذر}: إيجاب الفعل المباح على نفسه تعظيمًا لله تعالى بأن يقول: لله عليّ كذا من الصدقة وغيرها. والنذر: قربة مشروعة، ولا يصحّ إلا في الطاعة. وفي الحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"؛ أي: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه الله عليه أولى. وقصارى ذلك: أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر. قال الفرّاء: في الكلام إضمار؛ أي: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. 2 - {وَيَخَافُونَ يَوْمًا}؛ أي: يوم القيامة {كَانَ شَرُّهُ}؛ أي: هوله وشدته وعذابه {مُسْتَطِيرًا}؛ أي: فاشيًا منتشرًا في الأقطار غاية الانتشار بالغًا أقصى المبالغ من استطار الفجر إذا انتشر ضوءه، وهو أبلغ من طار بمنزلة استنفر من نفر. وأطلق الشر على أهوال القيامة، وشدائدها المنتشرة غاية الانتشار حتى ملأت السماوات والأرض مع أنها عين حكمة وصواب لكونها مضرّة بالنسبة إلى من تنزل عليه، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون خبره {مُسْتَطِيرًا} أيضًا، فإن ليوم القيامة أمورًا سارّةً كما أن له أمورًا ضارّةً. ثم {يُوفُونَ ...} إلخ، بيان لأعمالهم وإتيانهم بجميع الواجبات، وقوله: {يخافون} إلخ، بيان لنياتهم حيث اعتقدوا بيوم البعث والجزاء، فخافوا منه، فإن الطاعات إنما تتم بالنيّات، وبمجموع هذين الأمرين سمّاهم الله تعالى بالأبرار. قال مقاتل: كان شره فاشيًا في السماوات، فانشقت وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة. وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه. والمعنى: أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد حين يستطير العذاب، ويفشو بين الناس إلا من رحم الله تعالى. 3 - 8 {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}؛ أي: كائنين علي حب الطعام والحاجة إليه، ونحوه قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. أو كائنين (¬1) على حب ¬

_ (¬1) روح البيان.

الإطعام، فيطعمون بطيب النفس، فالضمير إلى مصدر الفعل كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. أو كائنين على حب الله؛ أي: إطعامًا كائنًا على حبه تعالى، وهو الأنسب لما سيأتي من قوله: {لِوَجْهِ اللَّهِ} فالمصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل متروك؛ أي: على حبهم لله تعالى، ويجوز أن يضاف إلى الفاعل والمفعول متروك؛ أي: على حبّ الله الإطعام. والطعام خلاف الشراب، وقد يطلق على الشراب أيضًا؛ لأن طعم الشيء: ذوقه مأكولًا أو مشروبًا. والظاهر: الخصوص وإن جاز العموم، والأظهر: أن المراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأيّ وجه كان، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع. واعلم (¬1): أنّ مجامع الطاعات محصورة في أمرين الطاعة لأمر الله، ماليه الإشارة بقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، والشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ}. فإن الطعام وهو جعل الغير طاعمًا كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة إليهم بأي وجهٍ كان، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه إلا أن الإحسان بالطعام لما كان أشرف أنواع الإحسان .. عبر عن جنس الإحسان باسم هذا النوع، كما في "حواشي ابن الشيخ". {مِسْكِينًا}؛ أي: فقيرًا لا شيء له أصلًا عاجزًا عن الكسب. {وَيَتِيمًا}؛ أي: طفلًا لا أب له {وَأَسِيرًا} مأخوذًا لا يملك لنفسه نصرًا ولا حيلة، أي أسير كان فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه؛ لأنه يجب إطعام الأسير الكافر والإحسان إليه في دار الإِسلام عند عامّة العلماء إلى أن يرى الإمام رأيه فيه من قتل أو منّ أو فداء أو استرقاق. وفي "الخطيب": خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر، لأن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه لما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له، وبقي عاجزًا عن الكسب لصغره، والأسير لا يملك لنفسه نصرًا ولا حيلة انتهى. والمعنى (¬2): أي ويطعمون الطعام وهم في محبة له، وشغف المسكين العاجز عن الاكتساب واليتيم الذي مات أبوه، والأسير المأخوذ من قومه المملوكة رقبته ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[9]

الذي لا يملك لنفسه نصرًا ولا حيلةً. ونحو الآية: قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}. 9 - وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم في ذلك غرضين: 1 - رضي الله عنهم، أشار إليه بقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} والجملة في موضع الحال من فاعل {يطعمون} على تقدير القول؛ أي: قائلين ذلك بلسان الحال، أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر؛ أي: يقولون: إنما نطعمكم. أو قائلين: إنّما نطعمكم يعني: أنهم لا يتوقعون المكافأة، ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك. قال المفسرون: لم يتكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم، وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفًا من الله ورجاء ثوابه. وعن الصديقة رضي الله عنها: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذ ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصًا عند الله. والوجه: الجارحة (¬1) عبر به عن الذات لكونه أشرف الأعضاء. وقال بعضهم: الوجه مجاز عن الرضى، لأنّ الرضى معلوم في الوجه، وكذا السخط. وجملة قوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً} لنا بالمال {وَلَا شُكُورًا}؛ أي: شكرًا باللسان ومدحًا ودعاءً. مقررة مؤكدة لما قبلها؛ لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة، ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه، أي: لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام، ولا نريد منكم الشكر لنا بل هو خالص لوجه الله تعالى. والفرق بين الجزاء والأجر (¬2): أن الأجر ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا، ويقال فيما كان عن عقد، وما يجري مجرى العقد، ولا يقال إلا في النافع. وأمّا الجزاء فيقال فيما كان عن عقد وغير عقد، ويقال في النافع والضارّ. والمجازاة: المكافأة، وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها. والشكور: مصدر على وزن الدخول. قال الفاشانيّ: لا نريد منكم مكافأة وثناء لعدم الاحتجاب بالأغراض والأعواض. وفي "التأويلات النجمية": لا نريد منكم جزاء بالذكر الجميل في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[10]

الدنيا، ولا شكورًا عن عذاب الآخرة؛ إذ كل عمل يعمله العامل لثواب الآخرة لا يكون لوجه الله تعالى، بلى يكون لحظ نفسه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}. وقال - صلى الله عليه وسلم - حكايةً عن الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه". والحاصل: أن معاملة العبد المخلص إنما هي مع الله، فلا حق له على الغير، فكيف يريد ذلك؟ وفيه نصح لمن أراد النصيحة، فإن الإطعام ونحوه حرام بملاحظة الغير، وحظ النفس، فيجب أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى من غير شوب بالرياء وبحظ المنعم. والمعنى (¬1): إنّما نطعمكم لوجه الله تعالى، فلا نمن عليكم، ولا نتوقع منكم مكافأةً ولا غيرها مما ينقص الأجر. ثم أكد هذا ووضحه بقوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ...} إلخ؛ أي: لا نطلب منكم مجازاةً تكافئوننا بها، ولا أن تشكرونا لدى الناس. قال مجاهد، وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله من قلوبهم، فأثنى به ليرغب في ذلك راغب. 2 - 10 خوف يوم القيامة، وإلى ذلك أشار بقوله: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}؛ أي: عذاب يوم متّصف بهاتين الصفتين، فلذلك نفعل بكم ما نفعل، رجاء أن يقينا ربنا بذلك الإطعام شره، لا لإرادة مكافأتكم. فقوله (¬2): {إِنَّا نَخَافُ ...} إلخ، بدل من قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ...} إلخ، في معرض التعليل لإطعامهم، فقوله: {يَوْمًا} مفعول {نَخَافُ} على تقدير مضاف، كما ذكرنا، فـ {مِنْ رَبِّنَا} حال مقدمة منه، ولو أخر .. لكان صفة له. أو مفعوله قوله: {مِنْ رَبِّنَا} بواسطة حرف الجر على ما هو الأصل في تعديته؛ لأنّه يقال: خاف منه، فيكون {يَوْمًا} بدلًا من محله بدون تقدير، بناءً على التعدية بنفسه أو بتقدير {نَخَافُ} آخر. وقوله: {عَبُوسًا} من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه. والمعنى: يومًا تعبس فيه الوجوه كما روي: "أنَّ الكافر يعبس يومئذٍ حتى ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[11]

يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران". والعبوس: قطوب الوجه وتغيره من ضيق الصدر. أو معنى {عَبُوسًا} يشبه الأسد العبوس في الشدّة والضراوة. أي السطوة والإقدام على إيصال الضرر بالعنف والحدة بكل من رآه فهو من المبالغة في التشبيه، فان العبوس الأسد كالعباس. {قَمْطَرِيرًا}؛ أي: شديد العبوس. وقال مجاهد (¬1): إن العبوس بالشفتين، والقَمْطَرير بالجبهة والحاجبين. والخلاصة: أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا، ويتلقانا بلطفه في ذلك اليوم العبوس القمطرير. 11 - وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة بين أنه أعطاهم الغرضين. فأشار إلى الثاني بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} سبحانه، وحفظهم {شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}؛ أي: ضرره بسبب خوفهم وتحفظهم منه. فـ {شَرَّ} مفعول ثان لوقى المتعدي إلى اثنين. وقرأ الجمهور {فَوَقَاهُمُ} بتخفيف القاف، وأبو جعفر بشدّها. والمعنى: أي فدفع الله عنهم ما كانوا في الدنيا يحذرون من شرّ ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضي ربهم عنهم من الإطعام لوجه الله تعالى. وأشار إلى الأوّل بقوله: {وَلَقَّاهُمْ} أي: أعطاهم بدل العبوس في الكفار {نَضْرَةً} وحسنًا وإضاءة في الوجوه {وَسُرُورًا} وفرحًا في قلوبهم بدل حزن الفجار. وقال الضحاك: النضرة: البياض والنقاء في وجوههم. وقال سعيد بن جبير: الحسن والبهاء، وقيل: النضرة: أثر النعمة. وهما مفعولان ثانيان لـ {لقاهم}. ونحو الآية قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} وقد جرت العادة: أن القلب إذا سر .. استنار الوجه. قال كعب بن مالك: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سرّ .. استنار وجهه كأنه فلقة قمر. وقالت عائشة رضي الله عنها: "دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورًا تبرق أسارير وجهه ... " الحديث. 12 - {وَجَزَاهُمْ}؛ أي: أعطى كلَّ واحدٍ منهم بطريق الأجر والعوض {بِمَا صَبَرُوا} على مشاق التكاليف ومخالفة الشهوات. فـ {ما} مصدرية؛ أي: بسبب صبرهم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[13]

على مشاقّ الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال {جَنَّةً} مفعول ثان لـ {جزاهم}؛ أي: بستانًا يأكلون منه ما شاؤوا. {وَحَرِيرًا} يلبسونه ويتزيّنون به. وقرأ الجمهور {وَجَزَاهُمْ}، وعليٌّ {وجازاهم} على وزن فاعل. فالمراد بالجنة هنا (¬1) ليس دار السعادة المشتملة على جميع العطايا والكرامات، وإلا لما احتيج إلى ذكر الحرير بعد ذكر الجنة بل البستان كما ذكرنا، فذكرها لا يغني عن ذكر الملبس. ثم إن البستان في مقابلة الإطعام والصبر على الجوع، والحرير في مقابلة الصبر على العري. لأن اجتناب إيثار الأموال يؤدي إلى الجوع والعري. والخلاصة: أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار، وما يؤدّي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكول هنيٌّ، وحريرًا منه ملبس بهيٌّ. ونحو الآية قوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}. 13 - وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا}؛ أي: في الجنة {عَلَى الْأَرَائِكِ}؛ أي: على السرر منصوب على الحال من مفعول {جزاهم}، والعامل فيها جزى. وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لـ {جَنَّةً}، ولكنها سببية، كأنه قال: جنة متكئين فيها على الآرائك. وقيَّد المجازاة (¬2) بتلك الحال؛ لأنه أرفه الأحوال، فكان غيرها لا يدخل في الجزاء. والأرائك: هي السرر في الحجال، تكون في الجنة من الدر والياقوت مزينة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. جمع أريكة كسفينة، ولا تكون أريكة حتى تكون في حجلة، وهي بالتحريك واحدة حجال العروس، وهي بيت مزين بالثياب والستور. والظاهر أن {عَلَى الْأَرَائِكِ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}؛ لأن الاتكاء يتعدى بـ (على)؛ أي: مستقرين متمكنين على الأرائك كقوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}. ولا يبعد أن يتعلق بمقدر، ويكون حالًا من ضمير متكئين. أي: متكئين فيها على الوسائد أو غيرها مستقرين على الأرائك، فيكون الاتكاء بمعنى الاعتماد. وجملة قوله: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} في محل النصب على الحال من مفعول {جزاهم}، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير في {مُتَّكِئِينَ}، فتكون من الحال المتداخلة. أو صفة أخرى لـ {جَنَّةً}. والزمهرير: أشد البرد. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[14]

والمعنى: إنهم لا يرون في الجنة حر الشمس، ولا برد الزمهرير. وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيّىء. والمعنى (¬1): أي لا يرون في الجنة حرارة ولا برودةً، كما يرون في الدنيا. لأنّ الحرارة غالبة على أرض العرب، والبرودة على أرض العجم والروم؛ أي: يمرّ عليهم هواء معتدل لا حار، ولا بارد مؤذ، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمديّ فهم لا يبغون عنها حولًا. يعني: أنّ قوله: {لَا يَرَوْنَ ...} إلخ، كناية عن هذا المعنى. وفي الحديث: "هواء الجنة سجسج لا حر فيه ولا قر". أي: معتدل لا حر فيه ولا برد، فإن القر بالضم: البرد. 14 - وقوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ}؛ أي: قريبة إليهم {ظِلَالُهَا}؛ أي: ظلال أشجار الجنة. والظلال: جمع ظلّ بالكسر نقيض الضح، و {ظِلَالُهَا} فاعل {وَدَانِيَةً} من الدنو بمعنى القرب، إمّا بحسب الجانب أو بحسب السمك. والضمير إلى الجنّة أو إلى أشجارها. والمعنى: إنّ ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار من جوانبهم حتى صارت الأشجار بمنزلة المظلّة عليهم، وإن كان لا شمس فيها مؤذية لتظلهم منها بمعنى أنه لو كان هناك شمس مؤذية .. لكانت أشجارها مظلة عليهم. ففيه بيان لزيادة نعيمهم، وكمال راحتهم، فإن الظل في الدنيا للراحة، ويقال: إنّ في الجنّة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر، ونور الجنة من نور العرش. وقرأ الجمور (¬2): {وَدَانِيَةً} بالنصب عطفًا على محل {لَا يَرَوْنَ} أو على {مُتَّكِئِينَ} أو صفة لمحذوف؛ أي: وجنة دانية، كأنّه قال: وجزاهم جنة دانية. وقال الزجاج: هو صفة لـ {جَنَّةً} المتقدم ذكرها. وقال الفرّاء: هو منصوب على المدح. وقرأ أبو حيوة {وَدَانيةٌ} بالرفع على أنه خبر مقدم، و {ظِلَالُهَا} مبتدأ مؤخّر، والجملة في موضع النصب على الحال. وقرأ ابن مسعود والأعمش {ودانيا عليهم} وهو كقول: {خاشعا أبصارهم}. وقرأ أبيّ {ودان} مرفوعًا. وقوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا}؛ أي: سخّرت ثمارها، وسهّل تناولها لهم. {تَذْلِيلًا}؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[15]

أي: تسخيرًا وتسهيلًا تامًّا. معطوف على {دانية}، كأنّه قال: ومذلّلة، ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمْ}، ويجوز أن تكون مستأنفة. والمعنى: أنّها سخّرت ثمارها لمتناولها تسخيرًا كثيرًا بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك. قال النحاس: المذلل: القريب المتناول، ومنه قولهم حائط ذليل؛ أي: قصير. قال ابن قتيبة: ذللت: أدنيت من قولهم: حائط ذليل أي: كان قصير السمك. وقيل: {ذللت}؛ أي: جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا. 15 - {وَيُطَافُ}؛ أي: يدور الخدم من طافه بمعنى دار، والطواف والإطافة كلاهما لازم، وإنّما (¬1) جاءت التعدية هنا من الباء في قوله: {بِآنِيَةٍ}. {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على الأبرار إذا أرادوا الشرب. والطائف: الدائر، وهو الخدم كما يجيء. {بِآنِيَةٍ}؛ أي: بأوعية، جمع إناء، نحو: كساء وأكسية، والأواني جمع الجمع كما في "المفردات". وفي بعض التفاسير: الباء فيها إن كانت للتعدية فهي قائمة مقام الفاعل؛ لأنّها مفعول له معنى، وإلا فالظاهر أن يكون القائم مقامه عليهم. {مِنْ فِضَّةٍ} صفة لـ {آنية} {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب، وهو الكوز العظيم المدوّر الرأس لا أذن له ولا عروة، فيسهل الشرب منه من كلّ موضع، ولا يحتاج عند التناول إلى إدارته، وهو مستعمل الآن في بلاد العرب. والحاصل: أنه لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم، وقدم عليه وصف الأواني التي يشرب بها، وذكره بلفظ المجهول؛ لأنّ المقصود ما يطاف به لا الطائفون. ثم ذكر الطائفين بقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ ...} إلخ، وجملة قوله: {كَانَتْ}؛ أي: تلك الأكواب {قَوَارِيرَا}؛ أي: كالقوارير في صفائها وشفافتها، جمع قارورة، وهو كل ما قر فيه الشراب ونحوه وكان شفّافًا. 16 - وحسن التكرير في قوله: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} لما اتصل به من بيان أصلها؛ أي: تكونت، وحدثت تلك الأكواب جامعة بين صفاء الزجاجة وشفافتها، ولين الفضة وبياضها يرى ما في داخلها من خارجها، فـ {كان} تامة. و {قَوَارِيرَا} الأول حال من فاعل {كَانَتْ} على المبالغة في ¬

_ (¬1) روح البيان.

التشبيه، وليس المعنى: أنها قوراير زجاجية متخذة من الفضة بل الحكم عليها بأنها قوارير، وأنها من فضة من باب التشبيه البليغ؛ لأنها في نفسها ليست زجاجًا ولا فضة. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن أرض الجنة من فضة، وأواني كل أرض من تربة تلك الأرض". ويستفاد من هذا الكلام وجهٌ آخر لكون تلك الأكواب من فضة، ومن قوراير، وهو أن أصل القوارير في الدنيا: الرمل، وهي سريعة الانكسار. وأصل قوراير الجنة هو فضة الجنة، فكما أنَّ الله قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة صافية. والغرض (¬1) من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا لا نسبة بين القارورتين، كذا في "حواشي ابن الشيخ". قال بعضهم: لعل الوجه في اختيار كون {كَانَتْ} تامة مع إمكان جعلها ناقصة، و {قَوَارِيرَا} الأول خبرًا لها الإعظام بتكوين الله تعالى، فيكون فيه تفخيم الآنية بكونها أثر قدرة الله تعالى. و {قَوَارِيرَ} الثاني بدل من الأول على سبيل الإيضاح والتعيين. أي: قوارير مخلوقةً من فضة. ولا منافاة (¬2) بين كون الأواني من الفضة وبين كونها من الذهب، كما ذكر في قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} لأنّهم تارة يسقون بهذه وتارة يسقون بتلك. وقرأ نافع، والكسائيّ، وأبو بكر (¬3): {قواريرًا قواريرًا} بالتنوين فيهما مع الوصل وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله: {سَلاسِلَ} من هذه السورة، وبيَّنَّا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى المجموع، فأرجع إليه. وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما، وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر، لأنّهما ممنوعان من الصرف لصيغة متنهى المجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف. وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني، والوقف على الأول بالألف دون الثاني. وقال الزمخشري (¬4): وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأول انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

وكذا قال في قراءة من قرأ {سلاسلا} بالتنوين إنه بدل من حرف الإطلاق، أجري الفواصل مجرى أبيات الشعر، فكما أنّه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعارًا بترك الترنم، كما قال الرّاجر: يَا صَاحِ مَا هَاجَ الدُّمُوْعَ الذُّرَّ فَنْ فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق. قال ابن الجزري: وكلهم وقفوا عليه بالألف، إلا حمزة وورشًا، وإنما صرفه من صرفه، لأنه وقع في مصحف الإِمام بالألف، وإنما كتب في المصحف بالألف؛ لأنه رأس آيةٍ، فتشابه القوافي والفواصل التي تزاد فيها الألف للوقف انتهى. وقرىء الثاني بالرفع على معنى هي قوارير اهـ "روح البيان". وجملة: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} صفة لـ {قَوَارِيرَ}. قرأ الجمهور (¬1) {قَدَّرُوهَا} بفتح القاف على البناء للفاعل؛ أي: قدّرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد وغيره: أتوا بها على قدرريهم بغير زيادة ولا نقصان. قال الكلبي: وذلك ألذ وأشهى. وقيل: قدرها الملائكة، وقيل: قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص. وقرأ علي، وابن عباس، والسلميّ، والشعبيّ، وزيد بن علي، وعبيد بن عمير، وأبو عمرو في رواية عنه، وابن أبزى، وقتادة، والجحدري وأبو حيوة، وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب {قُدِّروها} بضمّ القاف وكسر الدال مبنيًا للمفعول؛ أي: جعلت لهم على قدر إرادتهم. قال أبو عليّ الفارسي: كأنَّ اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}. ومثل قول العرب إذا طلعت الجوزاء ألقي العود على الحرباء. وقال الزمخشري: ووجهه أن يكون قدر منقولًا من قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلت قادرًا عليه، ومعناه: وجعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأطلق لهم أن ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[17]

يقدروا على حسب ما اشتهوا انتهى. وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم. وقال أبو حيان (¬1): والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذّة أن يكون الأصل: قدر ريهم منها تقديرًا، فحذف المضاف، وهو الريّ، وأقيم الضمير مقامه، فصار التقدير: قدّروا منها، ثم اتسع في الفعل فحذف {مِنْ}، ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه، فصار قدروها تقديرًا، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور انتهى. 17 - وبعد أن وصف أواني مشروبهم وصف المشروب نفسه، فقال: {وَيُسْقَوْنَ}؛ أي: الأبرار {فِيهَا}؛ أي: في الجنة بسقي الله، أو بسقي الطائفين بأمر الله. وفيه زيادة تعظيم لهم ليست في قوله: {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} بصيغة المعلوم. {كَأْسًا}؛ أي: خمرًا. وقد تقدم أنّ الكأس هو الإناء فيه الخمر، وإذا كان خاليًا من الخمر فلا يقال له: كأس. {كَانَ مِزَاجُهَا}؛ أي: ما تمزج به، وتخلط {زَنْجَبِيلًا} والزنجبيل (¬2): عرق يسري في الأرض ونباته كالقصب والبردي، وعلم منه أن ما كان مزاجها زنجبيلا غير ما كان مزاجها كافورًا. والمعنى: أنّ أهل الجنة يسقون في الجنة كأسًا من الخمر ممزوجة بماء يشبه الزنجبيل في الطعم، وكان الشراب الممزوج به أطيب ما يستطيب العرب، وألذ ما تستلذ به. لأنه يحذو اللسان، ويهضم الطعام، كما في "عين المعاني". 18 - ولما كان في تسمية تلك العين بالزنجبيل توهم أن ليس فيها سلاسة الانحدار في الحلق وسهولة مساغها كما هو مقتضى اللذع والإحراق أزال ذلك الوهم بقوله: {عَيْنًا} بدل من {زَنْجَبِيلًا} أو من {كَأْسًا} أو بفعل مقدر؛ أي: يسقون عينا {فِيهَا}؛ أي: في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، فكأنَّ العين سميت بصفاتها. والسلسبيل: الشراب اللذيذ. قال بعضهم: يطلق عليها ذلك، وتوصف به لا أنه علم لها. يعني: أن {سَلْسَبِيلًا} صفة لا اسم، وإلّا لامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، ولم يقرأ به واحد من العشرة. ويقال: إنما صرف مع أنه اسم عين، وهي مؤنث معنوي لرعاية رأس الآية. وقال ابن المبارك: من طريق ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[19]

الإشارة معنى السلسبيل سل من الله إليه سبيلًا. قال ابن الشيخ: (¬1) جعل الله مزاج شراب الأبرار أوّلا كافورًا وثانيًا زنجبيلًا؛ لأنّ المقصود الأهم حال الدخول البرودة لهجوم العطش عليهم من حر العرصات، وعبور الصراط، وبعد استيفاء حظوظهم من أنواع نعيمها ومطعوماتها تميل طباعهم إلى الأشربة التي تهيج الاشتهاء وتعين على تهنئة ما تناولوه من المطعومات، ويلتذ الطبع بشربها. فلعل الوجه في تأخير ذكر ما يمزج به الزنجبيل عما يمزج به الكافور ذلك. والخلاصة (¬2): ويسقى الأبرار في الجنة خمرًا ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا في الدنيا يحبون ذلك، ويستطيبونه، ويسقون من عينٍ في الجنة غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق. قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اهـ. وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما في الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. فالمعاني غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شيء مما نراه، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. 19 - ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب، فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}؛ أي: يدور على الأبرار {وِلْدَانٌ} فإنهم أخف في الخدمة. جمع وليد، وهو من قرب عهده بالولادة. {مُخَلَّدُونَ}؛ أي: دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، لا يتغيرون أبدًا. والمعنى: أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، يأتون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون، ولا يتغيرون، ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ} أيها المخاطب؛ أي: إذا رأيت هؤلاء الولدان {حَسِبْتَهُمْ}، أي: خلتهم لحسن ألوانهم ونضارة وجوههم وانتشارهم في قضاء حوائج سادتهم {لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا}؛ أي: متفرّقًا؛ أي: كأنهم اللؤلؤ المنثور؛ أي: المفرق. واللؤلؤ المنثور أجمل في النظر من اللؤلؤ المنظوم، ولأنّهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعًا في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[20]

الخدمة. واللؤلؤ: الجوهر المعروف، يجمع على اللآلىء، يقال: تلألأ الشيء إذا لمع لمعان اللؤلؤ. قال أهل المعاني (¬1): إنما شبهوا بالمنثور لانتشارهم في الخدمة، ولو كان صفًّا .. لشبهوا بالمنظوم. وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة. وقال بعضهم: منثورًا من صدفه. يعني: أنهم شبهوا باللؤلؤ ارطب إذا نثر من صدفه، وهو غير مثقوب لأنّه أحسن وأكثر ماء. 20 - ولما ذكر نعيم أهل الجنة مما تقدم ذكر أن هناك أمورًا أعلى وأعظم من ذلك، فقال: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ} أيها المخاطب ببصرك {ثَمَّ}؛ أي: ما هنالك. يعني: الجنة. قال في "الإرشاد": ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا معنوي. ومآل المعنى: أينما وقع بصرك في الجنة. {رَأَيْتَ نَعِيمًا} كثيرًا لا يوصف، وهو ما يتنعم به. {وَمُلْكًا كَبِيرًا}؛ أي: عظيمًا واسعًا، لا يقادر قدره، كما في الحديث: "أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه". والآية من باب (¬2) الترقّي والتعميم. يعني: أنّ هناك أمورًا أخر أعلى وأعظم من القدر المذكور. و {ثَمَّ} ظرف مكان بمعنى هنالك والعامل فيها {رَأَيْتَ}. قال الفراء: في الكلام {ما} مضمرة؛ أي: وإذا رأيت ما ثمّ كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}؛ أي: ما بينكم. وهذا فاسد؛ لأنّه من حيث جعله معمولًا لـ {رَأَيْتَ} لا يكون صلةً لـ {ما}، لأنّ العامل فيه إذ ذاك محذوف؛ أي: ما استقرّ ثمّ. وقال الزجاج معترضًا على الفرّاء: إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن {رَأَيْتَ} يتعدى في المعنى إلى {ثمّ}، والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثمّ، ويعني: بـ {ثمّ} الجنة. قال السديّ: النعيم: ما يتنعّم به. والملك الكبير استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل والكلبي. وفي بعض التفاسير: الملك بالضمّ: هو التصرف في المأمورين بالأمر والنهي، ومنه: الملك. وأما الملك بالكسر فهو التصرف في الأعيان المملوكة بحسب المشيئة، ومنه: المالك. والأوّل جامع للثاني، الأنّ كل ملك مالك، ولا عكس اهـ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[21]

21 - {عَالِيَهُمْ} ظرف على أنه خبر مقدم {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} مبتدأ مؤخّر. والجملة حال من ضمير {عَالِيَهُمْ}؛ أي: يطوف على الأبرار ولدان عاليًا على المطوف عليهم ثياب سندس؛ أي: فوقهم وعلى ظهوره ثياب سندس. والسندس: هو الديباج الرقيق الفاخر الحسن. وإضافة الثياب إلى السندس كإضافة الخاتم إلى الفضة. وقوله: {خُضْرٌ} بالرفع صفة {ثِيَابُ}. وهو جمع أخضر كحمر جمع أحمر. والضمير في {عَالِيَهُمْ} للأبرار المطوف عليهم كما مرّ آنفًا؛ لأنّ المقام مقام تعداد نعيمهم وكرامتهم، فالمناسب أن تكون الثياب الموصوفة لهم لا للولدان الطائفين. وعن الإِمام: أنَّ المراد فوق خيامهم المضروبة عليهم، والمعنى: أن حجالهم من الحرير والديباج، وهذا من علامات الملك. {وَإِسْتَبْرَقٌ} بالرفع عطفًا على {ثِيَابُ} بحذف المضاف؛ أي: ثياب استبرق، وهو معرَّب استبره بمعنى الغليظ، وهو بقطع الهمزة لكونه اسما للديباج الغليظ الذي له بريق. وقرأ الجمهور (¬1): {ثَمَّ} بفتح المثلثة. وقرأ حميد والأعرج {ثُمَّ} بضمها حرف عطف، وجواب {إذا} على هذا محذوف؛ أي: وإذا رميت ببصرك ثم رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا ترى عجبًا عجيبًا وصنعًا بديعًا، لا يقادر قدره، ولا يدرك كنهه. وقرأ عمر (¬2) وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجحدريّ، وأهل مكة، وجمهور السبعة {عَالِيَهُمْ} بفتح الياء وضم الهاء، على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم، و {ثِيَابُ} م مبتدأ مؤخّر كأنه قيل: فوقهم ثياب سندس. قال الفرّاء: إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية. قال أبو حيان: عالٍ وعالية اسم فاعل، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولًا من كلام العرب، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج كما مرّ. وقال: هذا مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفًا .. لم يجز إسكان الياء، ولكنّه نصب على الحال من شيئين. أحدهما: الهاء والميم في قوله: {يطوف عليهم}؛ أي: على الأبرار {وِلْدَانٌ} عاليًا لأبرار {ثِيَابُ سُنْدُسٍ}؛ أي: يطوف عليهم في هذه الحال. والثاني: أن يكون حالًا من الولدان؛ أي: إذا رأيتهم .. حسبتهم لؤلؤًا منثورًا في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في الحال إما {لقاهم نضرة وسرورًا}، وإما {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا}، وقال: ويجوز أن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

يكون ظرفًا. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، ونافع، وحمزة {عاليْهِم} بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدم، و {ثِيَابُ} مبتدأ مؤخر، أو على أن {عاليْهِم} مبتدأ و {ثِيَابُ} مرتفع بالفاعلية، وإن لم يعتمد الوصف، كما هو مذهب الأخفش. وقال الفرّاء: هو مرفوع بالابتداء وخبره {ثِيَابُ سُنْدُسٍ}، واسم الفاعل مراد به الجمع، واختار أبو عبيد هذه القراءة لقراءة ابن مسعود {عاليتهم}. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وطلحة، وزيد بن عليّ بالتاء مضمومة. وعن الأعمش وأبان أيضًا عن عاصم بفتح الياء. وقرأ ابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والزعفرانيّ، وأبان أيضًا {عَلَيْهم} حرف جرّ، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة. وقرأت عائشة رضي الله عنها {عَلَتْهم} بتاء التأنيث فعلًا ماضيًا، فثياب فاعل. وقرأ الجمهور بإضافة {ثِيَابُ} إلى {سُندُسٍ}. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بتنوين {ثياب} وقطعها عن الإضافة، ورفع {سُندُسٍ} و {خُضْرٌ} و {استبرق} على أنّ السندس نعت للثياب؛ لأن السندس نوع من الثياب، وعلي أن {خُضْرٌ} نعت لـ {سُندُسٍ}؛ لأنّه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أنّ {إستبرق} معطوف على سندس؛ أي: وثيَابُ استبرق والجمهور من القرّاء اختلفوا في {خُضْرٌ} و {استبرق} مع اتفاقهم على جرّ {سُندُسٍ} بإضافة {ثِيَابُ} إليه وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجرّ {خُضْرٌ} نعتًا لـ {سُندُسٍ} ورفع {استبرق} عطفًا على {ثِيَابُ} أي عليهم ثياب سندس {سُندُسٍ} وعليهم {استبرق} وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع {خُضْرٌ} نعتًا لـ {ثِيَابُ} وجرّ {استبرق} عطفًا على {سُندُسٍ}. واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتًا لـ {ثِيَابُ}، فهي مرفوعة، والاستبرق من جنس السندس. وقرأ نافع وحفص برفع {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}؛ لأن خضر ثعت لـ {ثِيَابُ}، {وَإِسْتَبْرَقٌ} معطوف على الثياب. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجرّ {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} على أن خضر نعت لـ {سُندُسٍ} {وَإِسْتَبْرَقٌ} معطوف على {سُندُسٍ}. وقرؤوا كلهم بصرف {إستبرق} إلا ابن محيصن، فإنّه لم يصرفه، قال: لأنّه أعجميّ، ولا وجه لهذا؛ لأنّه نكرة إلا أن يقول: إنه علم لهذا الجنس من الثياب. وقرىء {استبرق} بوصل الهمزة على أنَّ أصله استفعل من البريق، تقول: برق واستبرق كعجب واستعجب، والصواب قطع الهمزة وإجراؤه على قراءة

الجماهير؛ لأنّه معرّب مشهور تعريبه، وأن أصله: استبره كما مرّ. وقوله: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} معطوف (¬1) على قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} وهو ماض لفظًا مستقبل معنى، و {أَسَاوِرَ} مفعول ثان لـ {حلوا}؛ أي: ويحلّون أساور من فضّة؛ أي: يلبسونها، ويزيّنون بها. وفيه تعظيم لهم بالنسبة إلى أن يقال: وتحلّوا. وأساور جمع أسورة في جمع سوار، وسوار المرأة أصله: دستوار. وكان الملوك في الزمان الأوّل يحلون بها، ويسورون من يكرمونه. ولا معارضة بين ما في هذه الآية من قوله: {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}، وما في سورة الكهف وفاطر حيث قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}، وما في سورة الحج حيث قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} لإمكان الجمع بينها بأنهم يجمعون في أيديهم سوار الذهب وسوار الفضة وسوار اللؤلؤ، كما تجمع نساء الدنيا بين أنواع الحليّ، وما أحسن المعصم؛ إذ يكون فيه سواران من جنسين وزيادة كالذهب والفضّة واللؤلؤ. أو بإمكان المعاقبة في الأوقات تارةً يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة وأخرى لؤلؤًا. أو بإمكان التبعيض السوار بأن يكون بعضه ذهبًا وبعضه فضّة وبعضه لؤلؤًا. أو بأنَّ حليّ أهل الجنة يختلف بحسب اختلاف أعمالهم، فللمقرّبين الذهب وللأبرار الفضة. أو بأن كل واحد منهم يعطى ما ترغب فيه نفسه ويميل إليه طبعه، فإن الطباع مختلفة، فربّ إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. ويجوز (¬2) أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من ضمير {عَالِيَهُمْ} بتقدير قد. ثم ذكر أنهم يسقون شرابًا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالجزنبيل، فقال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} هو أيضًا معطوف على قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}. فهو ماض اللفظ مستقبل المعنى إشعارًا بتحقّقه ووقوعه؛ أي: وشقيهم ربهم {شَرَابًا} وهو ما يشرب {طَهُورًا}؛ أي: طاهرًا، ليس بنجس كخمر الدنيا، أو مطهر لبواطنهم من الغش والغل والحسد. وهذا (¬3) الشراب الطهور نوع آخر يفوق النوعين السالفين كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى ربّ العالمين، وصفه بالطهورية. لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة، والأشياء المؤذية كالغشّ والغلّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[22]

والحسد، وينزع ما كان في أجوافهم من قذر وأذى، وبه تحصل الصفوة المهيئة لانعكاس نور الجمال الإلهيّ في قلوبهم، وهي الغاية القاصية من منازل الصدّيقين، فلذا ختم مقاله ثواب الأبرار به. فالطهور بمعنى المطهّر صيغة اسم الفاعل. وقيل: مبالغة الطاهر من حيث إنه ليس بنجس كخمر الدنيا، وما مسته الأيدي القذرة والأقدام الدنسة، ولا يؤول إلى أن يكون نجسًا بل يرشح عرقًا من أبدانهم له ريح كريح المسك. والمعنى (¬1): أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابًا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسّية والركون إلى ما سوى الحقّ فيتجرد لمطالعة جماله والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتطهّر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل عرق المسك، ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله، ونؤمن به كما أخبر به في كتابه. 22 - وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى في مشربهم وملبسهم ومسكنهم .. بين أنّ هذا جزاء لهم على ما قدّموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال، فقال: {إنَّ هَذَا} على (¬2) إضمار القول؛ أي: يقال لهم: إنّ هذا الذي ترونه من فنون الكرامات، ويجوز أن يكون خطابًا من الله تعالى في الدنيا للأبرار؛ أي: إنّ هذا الذي ذكر من أنواع العطايا {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}؛ أي: عوضًا وثوابًا بمقابلة أعمالكم الحسنة. فإن قيل؛ كيف يكون جزاء لأعمالهم وهي مخلوقة لله عند أهل السنة؟ أجيب: بأنّها لهم كسبًا عنده ولله خلقًا. {وَكَانَ سَعْيُكُمْ} وعملكم في الدنيا بطاعة الله سبحانه {مَشْكُورًا}؛ أي: مرضيًّا مقبولًا مقابلًا بالثواب لخلوص نيّتكم، فيزداد بذلك فرحهم وسرورهم، كما أنَّ المعاقب يزداد غمّه إذا قيل له: هذا جزاء عملك الرديء. فالشكر مجازٌ عن هذا المعنى تشبيهًا له بالشكر من حيث إنّه مقابل للعمل، كما أنَّ الشكر مقابل للنعم. قال بعضهم: أدنى الدرجات أن يكون العبد راضيًا عن ربه، وإليه الإشارة بقوله: {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}. وأعلاها كونه مرضيًّا له، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

إليه الإشارة بقوله: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}. ولما كان كونه مرضيًّا أعلى الدرجات .. ختم به ذكر مراتب الأبرار. والمعنى (¬1): أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذٍ: إنّ هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابًا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورًا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة. ومعنى شكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته. والغرض من ذكر هذا القول لهم كما مرّ زيادة سرورهم، فإنّه إذا قيل للمعاقب: هذا بعملك الرديء ازداد غمّه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن ازداد سروره، وكان تهنئة له. ونحو الآية قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}، وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. 23 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} يا محمد {الْقُرْآنَ} الكريم {تَنْزِيلًا} متكررًا متفرّقًا آية بعد آية منجّمًا لحكم بالغة مقتضية تخصيص كلّ شيء بوقت معيّن، لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع {إنّ}، فكأنه تعالى يقول: إنّ هؤلاء الكفّار يقولون: إنّ ذلك كهانة وسحر، فأنا الملك الحقّ أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حقّ وتنزيل صدق من عندي، فلا تكترث بطعنهم، فإنّك أنت النبيّ الصادق المصدّق. والمقصود من ذلك (¬2): تثبيت قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرح صدره، وإنّ الذي أنزله إليه وحي منه لا كهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار: إنه سحر أو كهانة أو شعر. والمعنى (¬3): أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرّقًا منجمًا في مدى ثلاث وعشرين سنة، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجد في الكون، فتكون تثبيتًا لإيمان المؤمنين، وزيادة في تقوى المتقين. وقد يكون المعنى: نزّلنا عليك، ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة كما مرّ. 24 - {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}؛ أي: فاصبر لما ابتلاك به ربّك وامتحنك به من تأخير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

نصرك على المشركين، ومقاساة الشدائد في تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك، فإن لذلك عاقبة حميدة وغاية يثلج لها فؤادك، ولا تستعجل في أمر المقابلة والانتقام، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها، وكل آت قريب. {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ}؛ أي: من الكفّار {آثِمًا أَوْ كَفُورًا}؛ أي: (¬1) لا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد في الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة، وأنا أزوّجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال الكفور كالوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر. فلا تطع واحدًا منهما ولا من غيرهما، فقد وعدناك النصر في الدنيا والجنة في الآخرة. وقصارى ذلك: لا تتبع أحدًا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا أحدًا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر. وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم من أنّ المعنى: لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه. وقد روي: أنّ عتبة بن ربيعة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي، وأسوقها إليك بلا مهر، فإني من أجمل قريش ولدًا. وقال الوليد أنا أعطيك من مالي حتى ترضى، فإني من أكثرهم مالًا وارجع عن هذا الأمر؛ أي: عن ذكر النبوة. فقرأ عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}. فانصرفا عنه، وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ. ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن طاعة الآثم والكفور، وهو لا يطيع واحدًا منهما إشارة إلى أنَّ الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأنّ أحدًا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم، ومن ثم وجب على كل مسلم أن يرغب إلى الله، وبتضرع إليه في أن يصونه من اتّباع الشهوات، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات لينجو من الآفات ويسلم من الزلات، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات. و {أَوْ} (¬2) لأحد الشيئين والتسوية بينهما، فإذا قلت في الإثبات: جالس ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[25]

الحسن أو ابن سيرين كان المعنى: جالس أحدهما، فكذا إذا قلت في النهي: لا تكلم زيدًا أو عمرًا كان التقدير: لا تكلم أحدهما. والأحد عام لكل واحد منهما. فهو في المعنى لا تكلم واحدًا منهمًا. فمآل المعنى في الآية: ولا تطع كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، ومن الغالي في الكفر الداعي إليه. فـ {أو} للإباحة؛ أي: للدلالة على أنّهما سيّان في استحقاق العصيان؛ أي: عصيان المخاطب للداعي إليهما، والاستقلال به. والتقسيم إلى الإثم والكفور مع أنّ الداعين يجمعهم الكفر باعتبار ما يدعونه إليه من الإثم والكفر، لا باعتبار انقسامهم في أنفسهم إلى الإثم والكفور؛ لأنّهم كانوا كفرةً، والكفر أخبث أنواع الإثم، فلا معنى للقسمة بحسب نفس كفرهم وإثمهم. وذلك أنَّ ترتب النهي على الوصفين مشعر بعليتهما له، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر، والمراد بالإثم ما عدا الكفر، إذ العام إذا قوبل بالخاصّ ... يراد به ما عدا ذلك الخاص. وخص الكفر بالذكر تنبيهًا على غاية خبثه من بين أنواع الإثم، فكلّ كفور آثم وليس كلّ آثم كفورا، ولا بعد أن يراد بالآثم من هو تابع، وبالكفور من هو متبوع. 25 - {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً}؛ أي: أوَّل النهار، {وَأَصِيلًا}؛ أي: عشيًّا، وهو آخر النهار؛ أي: وداوم على ذكره في جميع الأوقات، فالمراد بقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} الدوام؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان آتيًا بنفس الذكر المأمور به. وقيل المعنى: صلّ لربّك أوّل النهار وآخره، فأوّل النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر. 26 - {وَمِنَ اللَّيْلِ}؛ أي: وفي بعض ساعات الليل {فَاسْجُدْ لَهُ}؛ أي: فصلّ له من غير تعيين للصلاة. وقيل: صل المغرب والعشاء. وتقديم (¬1) الظرف للاهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص وأفضل الأعمال أشقّها وأخلصها من الرياء، فاستحقت الاهتمام بشأنها، وقدم وقتها لذلك. ثم الفاء لإفادة معنى الشرط، كأنّه قال: مهما يكن من شيء فاسجد له. ففيها وكادة أخرى لأمرها. {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}؛ أي: صلّ له صلاة التهجّد، لأنّه كان واجبًا عليه في طائفة طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه. قال ابن زيد وغيره: إنّ هذه الآية ¬

_ (¬1) روح البيان.

[27]

منسوخة بالصلوات الخمس. وقيل: الأمر للندب، وقيل: هو مخصوص بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فقوله: {لَيْلًا طَوِيلًا} نصب على الظرفية. فإن قلت: انتصاب {لَيْلًا} على الظرفية، و {طَوِيلًا} نعت له، ومعناه: سبّحه في الليل الطويل، فمن أين يفهم ما ذكرت من المعنى؟ قلت: ظاهر أن توصيف الليل بالطول ليس للاحتراز عن القصير، فإن الأمر بالتهجد يتناوله أيضًا، فهو لتطويل زمان التسبيح. وفي التعبير في التهجد بالتسبيح وتأخير ظرفه دلالة على أنه ليس في مرتبة ما قبله. وقيل المعنى (¬1): نزّهه عمّا لا يليق به، فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وحاصل المعنى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)}؛ أي: ودم على ذكره في جميع الأوقات بقلبك ولسانك. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ}؛ أي: وصل بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء. {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}؛ أي: وتهجّد له طائفة من الليل. ونحو هذا ما جاء في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}. 27 - ثم قال منكرًا على الكفّار وأشباههم حبّ الدنيا والإقبال عليها وترك الآخرة وراءهم ظهريًّا بعدما شرح صدره - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من قوله: {إِنَّا نَحْنُ} إلخ. {إِنَّ هَؤُلَاءِ}؛ أي: كفّار مكة ومن وافقهم في دينهم {تُحِبُّونَ} الدار {الْعَاجِلَةَ} الفانية، وينهمكون في لذّاتها، يعني: الدنيا. فهو الحامل لهم على الكفر والإعراض عن الاتّباع، لا اشتباه الحال عليهم. {وَيَذَرُونَ}؛ أي: يتركون {وَرَآءَهمُ}؛ أي: أمامهم لا يستعدّون. فهو (¬2) حال من {يَوْمًا} أو ينبذون وراء ظهورهم، فهو ظرف لـ {يذرون}، فـ {وراء} يستعمل في كلّ من أمام وخلف، والظاهر في وجه الاستعمالين: أن وراء اسم للجهة المتوارية؛ أي: المستترة المختفية عنك، واستتار جهة الخلف عنك ظاهر. وما في جهة الأمام قد يكون متواريًا عنك غير مشاهد ومعاين لك، فيشبه جهة الخلف في ذلك فيستعار له اسم الوراء. {يَوْمًا ثَقِيلًا}؛ أي: شديدًا؛ أي: يتركون ويدعون خلفهم، أو أمامهم يومًا شديدًا عسيرًا، وهو يوم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[28]

القيامة، فلا يستعدون له بالإيمان والطاعات، ولا يعبؤون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاونًا به واستخفافًا بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له، وهو أمامهم. وسمي ثقيلًا لما فيه من الشدائد والأهوال. و {يَوْمًا} مفعول {يذرون}، و {ثَقِيلًا} صفته. ووصفه بالثقل مع أنه من صفات الأعيان الجسمية لا الامتدادات الوهمية لتشبيه شدّته وهوله بثقل الحمل الثقيل. ففيه استعارة تخييليّة. وفي الآية وعيد لأهل الدنيا ونعيمها خصوصًا لأهل الظلم والرشوة. والمعنى (¬1): أنَّ هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون في لذّاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده. والخلاصة: لا تطع الكافرين، واشتغل بالعبادة؛ لأنّ هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة. 28 - ثم نعى عليهم تركهم للعبادة وغفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال: {نَحْنُ} لا غيرنا {خَلَقْنَاهُمْ}؛ أي: ابتدأنا خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكًا ولا استقلالًا. {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}؛ أي: قوينا ربط مفاصلهم بالأعصاب؛ أي: شددنا أوصالهم ومفاصلهم، وربطنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، ليتمكنوا بذلك من القيام والقعود والأخذ والدفع والحركة. وحق الخالق المنعم أن يشكر ولا يكفر. ففيه ترغيب. والأسر: الربط، ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقد، وقدر المضاف وهو المفاصل. وقال الراغب: فيه إشارة إلى الحكمة في تركيب الإنسان المأمور بتدبر نفسه وتأملها في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}. وقيل المعنى: شددنا مخرج البول والغائط إذا خرج الأذى انقبض، أو معناه: أنه لا يسترخي قبل الإرادة. والمعنى: أي كيف يغفلون عنَّا، ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟. ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

ثم توعدهم وهدَّدهم، فقال: {وَإِذَا شِئْنَا} تبديلهم {بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ}؛ أي: بدلناهم بأمثالهم بعد إهلاكهم. وإذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلًا منهم. ونحو الآية قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}، وقوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}. وقد جرت سنّة الله سبحانه بأن يزيل ما لا يصلح للرقي من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم، فيجعلهم مكانهم كما هي قاعدة بقاء الصلاح والأصلح واهلاك ما لا يصلح للبقاء. والتبديل (¬1) يتعدى إلى مفعولين غالبًا كقوله تعالى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}؛ أي: يذهب بها ويأتي بدلها بحسنات. وقوله: {تَبْدِيلًا} مصدر مؤكّد لعامله. والمعنى: أي وإذا شئنا .. بدّلنا غيرهم ممن يطيع كقوله تعالى: {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}. ففيه ترهيب، فالمثلية باعتبار الصورة، ولا ينافيها الغيريّة باعتبار العمل والطاعة. و {إِذَا} للدلالة على تحقّق القدرة وقوة الداعية، وإلّا فالمناسب (إن)، إذ لا تحقق لهذا التبديل. أو المعنى {تَبْدِيلًا} عجيبًا لا ريب فيه، وهو البعث، كما ينبىء عنه كلمة {إِذَا}، فالمثلية في النشأة الأخرى إنما هي في شدّة الأسر وباعتبار الأجزاء الأصلية، ولا ينافيها الغيرية بحسب العوارض كاللطافة والكثافة. 29 - وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أنَّ في هذا الذكر تذكرةً وموعظةً للخلق وفوائد جمّة لمن ألقى سمعه وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه. فقال: {إنَّ هَذِهِ} إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة {تَذْكِرَةٌ}؛ أي: عظة مذكرة لما لا بد منه في تحصيل السعادة الأبديّة جعلت عين التذكرة مبالغة. وفي "عين المعاني": تذكرة؛ أي: إذكار بما غفلت عنه عقولهم. {فَمَنْ شَاءَ} منكم ومن غيركم أن يتخذ إليه تعالى سبيلًا؛ أي: وسيلةً توصله إلى ثوابه. {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}؛ أي: تقرب إليه تعالى بالعمل بما في تضاعيف هذه السورة أو الآيات القريبة. وقال ابن الشيخ: فمن شاء النجاة من ثقل ذلك اليوم وشدّته اختار سبيلًا مقرّبًا إلى مرضاة ربّه، وهو الطاعة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[30]

والمعنى (¬1): أي إنَّ هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع ونسق عجيب ووعد ووعيد وترغيب وترهيب .. تذكرة للمتأمّلين وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة .. فليتقرب إلى ربه بالطاعة ويتبع ما أمره به وينته عما نهاه عنه، ليحظى بثوابه ويبتعد عن عذابه. 30 - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} تحقيق (¬2) للحقّ ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل، كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية، و {أَن} مع الفعل في حكم المصدر الصريح في قيامه مقام الظرف. والمعنى: وما تشاؤون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة، ولا تقدرون على تحصيلها في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى تحصيلها لكم؛ أي: إلا إذا وفّقكم الله سبحانه لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب، وإنّما التأثير والخلق لمشيئة الله تعالى، فمشيئة العبد وحدها لا تأتي بخير ولا تدفع شرًّا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير، كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى". غاية ما في الباب أن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية للعبد، بل هي متوقّفة على أن يشاء الله إيّاها. وذلك لا ينافي كون الفعل الذي تعلقت به مشيئة العبد اختياريًا له واقعًا بمشيئته، وإن لم تكن مشيئته مستقلة فيه. قال في "عين المعاني": قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ} إلخ، حجة تكليف العبوديّة. وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ} إلخ، إظهار قهر الألوهية. وقرأ العربيان (¬3): أبو عمرو وابن عامر، وابن كثير {وما يشاءون} بياء الغيبة. وباقي السبعة بتاء الخطاب. قال الزمخشري: فإن قلت: ما محل {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}؟ قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله تعالى. وكذلك قرأ ابن مسعود {إلا ما يشاء الله} لأنَّ {ما} مع الفعل كأن معه انتهى، وفيه خلاف. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}؛ أي: إن الله عليم بمن يستحقّ الهداية، فييسرها له ويقيض له أسبابها، ومن هو أهل للغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[31]

البالغة، والحجة الدامغة. وهذا (¬1) بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة؛ أي: إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة، فيفعل ما يستأهله كل أحد، فلا يشأ لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته. 31 - {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} فيهديه ويوفّقه للطاعة بحسب استعداده. وهذا بيان لأحكام مشيئته المرتبة على علمه وحكمته؛ أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرّف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. {وَالظَّالِمِينَ} وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر؛ أي: والذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، فماتوا على شركهم {أَعَدَّ لَهُمْ}؛ أي: هيّأ لهم في الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا}؛ أي: متناهيًا غاية الإيلام؛ أي: عذابًا مؤلمًا موجعًا، هو عذاب جهنم وبئس المصير. قال الزجاج: نصب {الظالمين} لأنّ ما قبله منصوب؛ أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذّب الظالمين، ويكون {أَعَدَّ لَهُمْ} تفسيرًا لهذا المضمر. وختم (¬2) الله سبحانه السورة بالعذاب المعدّ يوم البعث والحشر ففيه حسن الاختتام لموافقته الابتداء على ما لا يخفى على أهل العقل والفهم. وقرأ الجمهور (¬3): {وَالظَّالِمِينَ} نصبًا بإضمار فعل يفسّره قوله: {أَعَدَّ لَهُمْ} تقديره: ويعذّب الظالمين، وهو من باب الاشتغال عطف جملة فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير، وأبان بن عثمان، وابن أبي عبلة {والظالمون} عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله {وللظالمين} بلام الجرّ، وهو متعلق بـ {أعدّ} لهم توكيدًا، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدّر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير: وأعدّ للظالمين، وأعدَّ لهم. وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: يزيد مررت به، ويكون التقدير: مررت يزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال، والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخّر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلًا ماضيًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

الإعراب {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}. {هَلْ} هنا بمعنى قد التحقيقية، فليست للاستفهام؛ لأنّ الاستفهام محال على الله تعالى. وقيل: للاستفهام التقريري، والجواب مقدّر، تقديره: نعم. {أَتَى} فعل ماض، {عَلَى الْإِنْسَانِ} متعلق به، {حِينٌ} فاعل، {مِنَ الدَّهْرِ} صفة لـ {حِينٌ}، والجملة مستأنفة. {لَمْ} حرف نفي وجزم، {يَكُنْ} فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على {الْإِنْسَانِ}، {شَيْئًا} خبرها، {مَذْكُورًا} صفة {شَيْئًا}، وجملة {يَكُنْ} في محل النصب حال من الإنسان، أي: حال كونه غير مذكور، أو في محل الرفع صفة لـ {حِينٌ} كقوله: {يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فعل وفاعل ومفعول، {مِنْ نُطْفَةٍ} متعلق بـ {خَلَقْنَا}، {أَمْشَاجٍ} نعت لـ {نُطْفَةٍ}، وجملة {خَلَقْنَا} في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان كيفية خلق الإنسان {نَبْتَلِيهِ} فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل {خَلَقْنَا}؛ أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، أو حال من {الْإِنْسَانَ}، وصحّ ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على صاحب الحال. ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنةً إن كان المعنى: نبتليه بتصريفه في بطن أمّه نطفةً ثم علقةً، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى {نَبْتَلِيهِ} نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف. {فَجَعَلْنَاهُ} الفاء: عاطفة للترتيب مع التعقيب، {جعلناه} فعل وفاعل ومفعول أوّل، معطوف على {خَلَقْنَا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا} مفعول به ثان وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة؛ لأنهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات. {إِنَّا} ناصب واسمه، {هَدَيْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل الابتلاء، {السَّبِيلَ} مفعول به ثان لـ {هدينا}، أو في محل نصب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلق بـ {هدينا}. {إِمَّا} حرف تفصيل، {شَاكِرًا} حال من الهاء في {هَدَيْنَاهُ}،

{وَإِمَّا كَفُورًا} {الواو}: عاطفة، {إِمَّا} على {إِمَّا} الأولى، {إِمَّا} حرف عطف وتفصيل، {كَفُورًا} معطوف على {شَاكِرًا}. أي: مكّنّاه وأقدرناه على حالتيه جميعًا. {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ أَعْتَدْنَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {أَعْتَدْنَا} فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر {إنّ} وجملة {إنّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا، {لِلْكَافِرِينَ} متعلق بـ {أَعْتَدْنَا}، {سَلَاسِلَ} مفعول به، ومنع من الصرف، لأنّه على صيغة مفاعل، وقرىء بالصرف للمناسبة مع {أَغْلَالًا}، وهما قراءتان سبعيتان، كما سبق. {وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} معطوفان على {سَلَاسِلَ}. {إِنَّ الْأَبْرَارَ} ناصب واسمه، وجملة {يَشْرَبُونَ} خبرها، {مِنْ كأَسٍ} متعلق بـ {يَشْرَبُونَ}، ومفعول {يَشْرَبُونَ} محذوف؛ أي: خمرًا من كأس، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ} في محل الجرّ صفة لـ {كأَسٍ}، {عَيْنًا} بدل من {كَافُورًا}، أو من محل {مِنْ كأَسٍ}، أو مفعول {يَشْرَبُونَ} أو منصوب على الاختصاص، وقيل: غير ذلك. وجملة {يَشْرَبُ} صفة لـ {عَيْنًا}، {بِهَا} متعلق بـ {يشَرَبُ}، {عِبَادُ اللَّهِ} فاعل {يشَرَبُ} {يُفَجِّرُونَهَا} فعل وفاعل ومفعول به، {تَفْجِيرًا} مفعول مطلق والجملة في محل النصب حال من {عِبَادُ اللَّهِ}. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}. {يُوفُونَ} فعل وفاعل، {بِالنَّذْرِ} متعلق بـ {يُوفُونَ}، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: بم استحقوا ذلك النعيم؟ فقيل: {يُوفُونَ} إلخ. {وَيَخَافُونَ يَوْمًا} فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على {يُوفُونَ}، {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب صفة لـ {يَوْمًا}. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {يُوفُونَ}، {عَلَى} حرف جر بمعنى مع، {حُبِّهِ} مجرور بـ {عَلَى} الجار والمجرور حال من فاعل {يطعمون}؛ أي: حال كونهم محبين له، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، والضمير لـ {الطَّعَامَ} كما مرّ. {مِسْكِينًا} مفعول

ثان لـ {يطعمون}، {وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} معطوفان على {مِسْكِينًا}. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}. {إِنَّمَا} كافّ ومكفوف، {نُطْعِمُكُمْ} فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، {لِوَجْهِ اللَّهِ} متعلق بـ {نُطْعِمُكُمْ}، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الإطعام، {لَا} نافية، {نُرِيدُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، {مِنْكُمْ} متعلق بـ {نُرِيدُ}، {جَزَاءً} مفعول به، {وَلَا شُكُورًا} معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل {نُطْعِمُكُمْ}. {إِنَّا} ناصب واسمه، وجملة {نَخَافُ} خبره، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ}. {مِنْ رَبِّنَا} متعلق بـ {نَخَافُ}، {يَوْمًا} مفعول به، {عَبُوسًا} نعت {يَوْمًا}، {قَمْطَرِيرًا} نعت ثان لـ {يَوْمًا}، {فَوَقَاهُمُ} الفاء: عاطفة سببية، {وقاهم الله} فعل ماض ومفعول مقدم، وفاعل مؤخّر، {شَرَّ} مفعول ثان، {ذَلِكَ} مضاف إليه، {الْيَوْمِ} بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إنّ} عطف مسبب على سبب؛ أي: فبسبب خوفهم وقاهم الله إلخ. {وَلَقَّاهُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {وقاهم}، {نَضْرَةً} مفعول به ثان، {وَسُرُورًا} معطوف على {نَضْرَةً}، {وَجَزَاهُمْ} فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {وقاهم} أيضًا، {بِمَا} متعلق بـ {جزاهم}، و {ما} مصدرية؛ أي: بسبب صبرهم، {صَبَرُوا} فعل وفاعل و {ما} وما بعدها في محل جر بالإضافة {جَنَّةً} مفعول به ثان، {وَحَرِيرًا} معطوف على {جَنَّةً}. {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)}. {مُتَّكِئِينَ} حال من مفعول {جزاهم}، {عَلَى الْأَرَائِكِ} متعلق بـ {مُتَّكِئِينَ}، وجملة {لَا يَرَوْنَ} حال ثانية من مفعول {جزاهم}، ولك أن تجعلها حالًا من الضمير في {مُتَّكِئِينَ}، {فِيهَا} متعلق بـ {يَرَوْنَ}، {شَمْسًا} مفعول به لـ {يَرَوْنَ}، والرؤية بصرية تتعدّى إلى مفعول واحد، {وَلَا زَمْهَرِيرًا} معطوف على {شَمْسًا}، {وَدَانِيَةً} معطوف على {مُتَّكِئِينَ}، ودخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين يجتمعان

لهم كأنّه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ، وبين دنوّ الظلال عليهم. و {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {دانية}، ولا بد من تضمين على معنى {من}، لأنّ الدنوّ لا يتعدى بـ {على}، وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم، {ظِلَالُهَا} فاعل {دانية}، ومضاف إليه {وَذُلِّلَتْ} فعل ماض مغيّر الصيغة، {قُطُوفُهَا} نائب فاعل، ومضاف إليه {تَذْلِيلًا} مفعول مطلق، والجملة معطوفة على {دانية}، لأنّه في تأويل الفعل؛ أي: وأدنيت عليهم، فهي في محل نصب على الحال؛ أي: مذلّلة. وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول؛ لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل، فإنه أمر متجدّد طارىء. {وَيُطَافُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، معطوف على {ذللت}، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {يطاف}، {بِآنِيَةٍ} في محل الرفع نائب فاعل لـ {يطاف}؛ لأنّه هو المفعول به في المعنى، {مِنْ فِضَّةٍ} صفة لـ {آنية}، {وَأَكْوَابٍ} معطوف على {آنية} من عطف الخاصّ على العامّ، {كَانَتْ} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على {الأكواب}، {وقواريرا} خبرها، وجملة {كَانَتْ} في محل الجرّ صفة لـ {أكواب}، ويجوز أن تكون كان تامّة، فيكون {قَوَارِيرَا} حالًا، {قَوَارِيرَا} الثاني بدل من {قَوَارِيرَا} الأول، {مِنْ فِضَّةٍ} نعت لـ {قَوَارِيرَا}، وجملة {قَدَّرُوهَا} نعت ثان لـ {قَوَارِيرَا}، {تَقْدِيرًا} مفعول مطلق. {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}. {وَيُسْقَوْنَ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، والواو: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يطاف}، {فِيَها} متعلق بـ {يسقون}، {كَأْسًا} مفعول به ثان، {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كَانَ} صفة لـ {كَأْسًا}، {عَيْنًا} بدل من {كَأْسًا} أو منصوب على الاختصاص، {فِيهَا} صفة لـ {عَيْنًا} وجملة {تُسَمَّى} نعت ثان لـ {عَيْنًا}، {تُسَمَّى} فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر، تقديره: هي، يعود على {عَيْنًا}، {سَلْسَبِيلًا} مفعول به ثان لـ {تُسَمَّى}. {وَيَطُوفُ} فعل مضارع معلوم، معطوف على ما قبله، {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {يطوف}، {وِلْدَانٌ} فاعل، {مُخَلَّدُونَ} نعت لـ {وِلْدَانٌ}، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، {رَأَيْتَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجرّ بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، {حَسِبْتَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول

أول، {لُؤْلُؤًا} مفعول ثان، {مَنْثُورًا} صفة لـ {لُؤْلُؤًا}، والجملة الفعلية جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة، أو صفة ثانية لـ {لُؤْلُؤًا}. {وإذا} {الواو}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط، {رَأَيْتَ} فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، {ثَمَّ} ظرف مكان مختصّ بالمكان البعيد، متعلق بـ {رَأَيْتَ}، وليس لـ {رَأَيْتَ} مفعول ظاهر ولا مقدر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثمّ، والمعنى: وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت، وجملة {رَأَيْتَ} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} الأولى أو مستأنفة. {نَعِيمًا} مفعول به لـ {رَأَيْتَ} الثانية، {وَمُلْكًا} معطوف على {نَعِيمًا}، {كَبِيرًا} صفة {ملكا}. {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}. {عَالِيَهُمْ} ظرف مكان بمعنى فوقهم، منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف خبر مقدم، {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} مبتدأ مؤخّر، ومضاف إليه، {خُضْرٌ} صفة لـ {ثِيَابُ}، {وَإِسْتَبْرَقٌ} معطوف على {ثِيَابُ} على حذف مضاف؛ أي: ثياب استبرق. والجملة في محل النصب صفة بعد صفة لـ {وِلْدَانٌ}. وقيل: {عَلَيْهِمْ} حال من الضمير في قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}، {ثِيَابُ سُندُسٍ} فاعل لـ {عَلَيْهِمْ}؛ أي: ويطوف عليهم ولدان حال كونهم عاليًا للمطوف عليهم ثياب سندس. أو حال من الهاء في {حَسِبْتَهُمْ}؛ أي: حسبتهم لؤلؤًا عاليًا لهم ثياب سندس إلخ. وهنا أوجه واختلاف بين المعربين فراجع المطولات. {وَحُلُّوا} {الواو}: عاطفة، {حلوا} فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}. وجاز عطف الماضي على المضارع، لأنّه مستقبل المعنى، وللإيذان بتحققه؛ لأنه بمعنى يحلون. {أَسَاوِرَ} مفعول به، {مِنْ فِضَّةٍ} صفة لـ {أَسَاوِرَ}، {وَسَقَاهُمْ} فعل ومفعول به، معطوف على {حلوا}، {رَبُّهُمْ} فاعل، {شَرَابًا} مفعول به ثان لـ {سقاهم}، و {طَهُورًا} نعت {شَرَابًا}. {إنَّ هَذَا} ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} خبره، وجملة {إِنَّ} مقول لقول محذوف تقديره: ويقال لأهل الجنة: إن هذا كان لكم جزاءً إلخ. واسم {كَانَ} ضمير يعود على {هَذَا} تقديره: هو {لَكُمْ} متعلق بـ {جَزَاءً}،

و {جَزَاءً} خبر {كَانَ}، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على {كَانَ} الأولى. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}. {إِنَّا} ناصب واسمه، {نَحْنُ} تأكيد لاسم {إنّ}، وجملة {نَزَّلْنَا} من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر {إِنَّا}، {عَلَيْكَ} متعلق بـ {نَزَّلْنَا}، و {الْقُرْآنَ} مفعول به، {تَنْزِيلًا} مفعول مطلق، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. ولك أن تجعل {نَحْنُ} مبتدأ، وجملة {نَزَّلْنَا} خبره، والجملة خبر {إنّ}. {فَاصْبِرْ} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك. اصبر. {اصبر} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لِحُكْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ {اصبر}. {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لَا} ناهية جازمة، {تُطِعْ} فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة معطوفة على جملة {اصبر}، {مِنْهُمْ} حال من {آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، {آثِمًا} مفعول به، {أَوْ} حرف عطف، {كَفُورًا} معطوف على {آثِمًا}. وإنما جنح إلى {أو} دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معًا. {وَاذْكُر} فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على فـ {اصبر}، {اسْمَ رَبِّكَ} مفعول به ومضاف إليه، {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ظرفان متعلقان بـ {اذكر}، والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها. {وَمِنَ اللَّيْلِ} متعلق بـ {اسجد}، و {مِنْ} للتبعيض؛ أي: اسجد وصلّ له بعض الليل، {فَاسْجُدْ} الفاء رابطة لجواب الشرط المقدر تقديره: ومهما يكن من شيء فاسجد له. {اسجد} فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، {لَهُ} متعلق بـ {اسجد}، وجملة {اسجد} في محل الجزم جواب الشرط المقدر، وجملة الشرط معطوفة على جملة قوله: {فَاصْبِرْ}. {وَسَبِّحْهُ} فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على {فَاصْبِرْ}، {لَيْلًا} ظرف متعلق بـ {سبحه}، {طَوِيلًا} صفة {لَيْلًا}. {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}. {إِنَّ} حرف نصب، {هَؤُلَاءِ} اسمها، {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها من الأمر والنهي. {وَيَذَرُونَ} فعل وفاعل، معطوف على {يُحِبُّونَ}، {وَرَاءَهُمْ} ظرف مكان بمعنى قدّام وأمام، متعلق بمحذوف حال من {يَوْمًا}، و {يَوْمًا} مفعول به {ثَقِيلًا} صفة {يَوْمًا}، {نَحْنُ} مبتدأ، وجملة {خَلَقْنَاهُمْ} خبره، والجملة مستأنفة. {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {خَلَقْنَاهُمْ}. {وَإِذَا شِئْنَا} {الواو}: عاطفة، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {شِئْنَا} فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: تبديلهم، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، {تَبْدِيلًا} مفعول مطلق، والجملة جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب. وجملة {إذا} معطوفة على جملة {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ}. {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. {فَمَنْ} {الفاء}: عاطفة، {مَنْ} اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {شِئْنَا} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، {اتَّخَذَ} فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جواب الشرط لها، وجملة {مَنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إن} {إِلَى رَبِّهِ} متعلق بـ {اتَّخَذَ}، وهو في موضع المفعول الثاني لـ {اتَّخَذَ}، {سَبِيلًا} مفعول أول لـ {اتَّخَذَ}، {وَمَا} {الواو}: عاطفة، {ما} نافية، {تَشَاءُونَ} فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {مَنْ} الشرطية، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: وما تشاؤون الطاعة. {إِلَّا} أداة استثناء من أعمّ الظروف، أو أعمّ الأحوال، {أَن} حرف نصب ومصدر، {يَشَاءَ اللَّهُ} فعل وفاعل، منصوب بـ {أنْ} المصدرية، وجملة {أن} المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، والتقدير: وما تشاؤون في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله، أو بإضافة الحال إليه؛ أي: وما تشاؤون في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى. {إِنَّ اللَّهَ} ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {كَانَ} فعل

ناقص واسمها ضمير مستتر فيها، {عَلِيمًا} خبرها، {حَكِيمًا} خبر ثان لها، {يُدْخِلُ} فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة أو في محل النصب حال من اسم {كَانَ}، {مَنْ} اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة {يَشَاءَ} صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء هدايته، {فِي رَحْمَتِهِ} متعلق بـ {يُدْخِلُ}، {وَالظَّالِمِينَ} {الواو}: عاطفة، {الظالمين} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسّره المذكور بعده، قدّره أبو البقاء: ويعذّب الظالمين. والجملة معطوفة على جملة {يُدْخِلُ}، وجملة {أَعَدَّ} جملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب، {لَهُمْ} متعلق بـ {أَعَدَّ}، {عَذَابًا} مفعول به، {أَلِيمًا} صفة لـ {عَذَابًا}. التصريف ومفردات اللغة {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الحين: زمان مطلق، ووقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر. وفي "المفردات": الحين: وقت بلوغ الشيء وحصوله، وهو مبهم، ويتخصّص بالمضاف إليه نحو: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. {الدَّهْرِ} الزمان الطويل. {مِنْ نُطْفَةٍ}؛ أي: من مادّة، هي شيء يسير جدًّا من الرجل والمرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة اهـ خطيب. وفي "المصباح": نطف الماء ينطف من باب قتل: سأل. وقال أبو زيد: نطفت القربة وتنطف وتنطف من بأبي: ضرب ونصر نطيفًا إذا قطرت من وهي. والنطفة: ماء الرجل والمرأة، وجمعها نطف ونطاف، مثل: برمةٍ وبرم وبرام. والنطفة أيضًا: الماء الصافي قل أو كثر، ولا فعل للنطفة؛ أي: لا يستعمل لها فعل من لفظها اهـ. {أَمْشَاجٍ}؛ أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين. جمع مشج كسبب وأسباب أو ككتف وأكتاف أو كعدلٍ وأعدال. أو جمع مشيج كشريف وأشراف. ووقع الجمع صفة لمفرد؛ لأنّه في معنى الجمع، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك، فوصف بالجمع. وفي "المختار": مشج بينهما: خلط، وبابه: ضرب، والشيء مشيج، والجمع أمشاج كيتيم وأيتام، ويقال: نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها، وعبارة الزمخشري: نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباشٍ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفة للأفراد اهـ. وفي "القرطبي" والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان، وكل منهما

مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص، تجتمع من الأخلاط، وهي العناصر الأربعة. ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، أيّهما علا كان الشبه له اهـ. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} قال الراغب: الكفور يقال في كافر النعمة وكافر الدين. {سَلَاسِلَ} جمع سلسلة بكسر أوّله، وفي "القاموس". السلسلة بالفتح: إيصال الشيء بالشيء، وبالكسر: دائرة من حديد ونحوه {وَأَغْلَالًا} جمع غلّ بالضمّ، وهو ما تطوق به الرقبة للتعذيب. {إِنَّ الْأَبْرَار} جمع برّ كربّ وأرباب، أو جمع بارّ كشاهد وأشهاد، وهو من يبر خالقه؛ أي: يطيعه، يقال: بررته أبره كعلمته وضربته. وفي "المفردات": البر خلاف البحر، وتصور منه التوسح، فاشتقّ منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، وبر العبد ربه: توسع في طاعته. {كَانَ مِزَاجُهَا} يقال: مزج الشراب: خله، ومزاج البدن: ما يمازجه من الصفراء والسوداء والبلغم والدم والكيفيات المناسبة لكلّ منها. {كَافُورًا} والكافور: طيب معروف يطيب به الأكفان والأموات لطيب رائحته. واشتقاقه من الكفر، وهو الستر؛ لأنّه يغطي الأشياء برائحته، وفي "القاموس": الكافور: طيب معروف يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين، يظل خلقًا كثيرًا؛ وتألفه النمورة، وخشبه أبيض انتهى. والكافور أيضًا: كمام الشجر التي تغطي ثمرتها. {عَيْنًا} والعين الجارية، ويقال لمنبع الماء تشبيهًا بها في الهيئة وفي سيلان الماء فيها. {يُوفُونَ بِالنَّذْر} والإيفاء بالشيء: هو الإتيان به تامًّا وافيًا. والنذر: التزام قربة ليست واجبة في أصل الشرع تقرّبًا إلى الله تعالى. وأصل {يُوفُونَ} يوفيون بوزن يفعلون، استثقلت الضمّة على الياء، فحذفت فلما سكنت التقى ساكنان فحذفت الياء وضمّت الفاء لمناسبة الواو. {وَيَخَافُونَ} أصله: يخوفون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت، لكنّها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {مُسْتَطِيرًا} قال في "القاموس" المستطير: الساطع المنتشر، يقال: استطار الفجر إذا انتشر، وهو أبلغ من طار كاستغفر من غفر، وأصله: مستطير بوزن مستفعل، نقلت حركة الياء إلى الطاء، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ. وفي السمين: قوله: {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} المستطير: المنتشر، يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران.

{وَأَسِيرًا} من الأسر، وهو الشد بالقد بكسر القاف، وهو من السير مِنَ الجلد، سمي الأسير بذلك ثمّ قيل لكل مأخوذ: مقيد؛ وإن لم يكن مشدودًا بذلك. {عَبُوسًا}؛ أي: يومًا تعبس فيه، وتكلح وجوه أهله من طوله وشدّته، فوصف اليوم بالعبوس مجازٌ في الإسناد، كما يقال: نهاره صائم {قَمْطَرِيرًا} القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج: يقال: قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطربها وزقت بأنفها، فاشتقه من القطر، وجعل الميم زائدة. وفي "القاموس": يوم قمطرير شديد، وأقمطر: اشتد. {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} أصله: وقيهم بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَلَقَّاهُمْ} أصله: لقيهم بوزن فعل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} أصله جزيهم بوزن فعل. قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} جمع أريكة، والهمزة فيه مبدلة من الياء الموجودة في المفرد المؤنث حيث وقعت حرف مد ثالثًا زائدًا. {لَا يَرَوْنَ فِيهَا} أصله: يرأيون، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين الألف وواو الجماعة. {شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} والزمهرير: شدّة البرد، وازمهر اليوم: اشتد برده. {وَدَانِيَةً} فيه إعلال بالقلب، أصله: دانوة من الدنوّ، قلبت الواو ياء لتطرّفها إثر كسرة. {ظِلَالُهَا} والظلال جمع ظل بالكسر، نقيض الضّحّ. {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء بمعنى العنقود، يقال: قطفت العنب إذا قطعت عنقوده، وسمي العنقود قطفًا لأنّه يقطف ويقطع وقت الإدراك. {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} من طاف يطوف طوفًا وطوافًا وطوفانًا إذا دار. أصله: يطوف بوزن يفعل مبنيًّا للمجهول، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت لكنها أبدلت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {بِآنِيَةٍ}؛ أي: بأوعية، جمع إناء، والأواني جمع الجمع. وأصل {آنية} أأنية بوزن أفعلة بهمزتين، الأولى منهما مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة، فقلبت الثانية ألفًا وجوبًا، نظيره من معتل اللام: كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ومن صحيح اللام: حمار وأحمرة اهـ سمين. {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب، وهو الكوز العظيم المدور الذي لا أذن له ولا عروة كما مرّ. {كَانَتْ

قَوَارِيرَا} جمع قارورة، وهي ما أقر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج. ولما كان رأس آية، وكان التعبير بالقوارير مما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة قال تعالى معيدًا للفظ أول الآية الثانية للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج، وبيانًا لنوعها: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}؛ أي: فجمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه وبياض الفضة وشرفها ولينها اهـ خطيب. {وَيُسْقَوْنَ} أصلها: يسقيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {زَنْجَبِيلًا} والزنجبيل عرق يسري في الأرض، ونباته كالقصب كما مر. {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} أصل {تُسَمَّى} تسمي بوزن تفعل قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. والسلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق للذة طعمه وطيب رائحته وصفاء لونه. قال في "الكواشي": هو لفظ مفرد بوزن فعلليل كدردبيس، وقيل: وزنه فعفليل؛ لأن الفاء مكررة، وهو اسم أعجمي نكرة، فلذلك صرف. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أصله: يطوف بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر ضمّة فصارت حرف مدّ. {وِلْدَانٌ} جمع وليد، وهو من قرب عهده بالولادة كما مرّ. {لُؤْلُؤًا} يجمع على اللآلىء يقال: تلألأ الشيء إذا لمع لمعان اللؤلؤ. {وَمُلْكًا كَبِيرًا} والملك بالضمّ: هو التصرف في المأمورين بالأمر والنهي، ومنه: الملك. وأمّا الملك بالكسر فهو التصرف في الأعيان المملوكة بحسب المشيئة، ومنه: المالك. {عَالِيَهُمْ} قرىء بفتح الياء على أنه ظرف بمعنى فوقهم، والياء فيه منقلبة عن واو لتطرّفها إثر كسرة. وقرىء {عاليهم} بإسكان الياء، ويقال فيه أيضًا قلبت الواو ياء؛ لأنّه من العلو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة ثم سكنت وصارت حرف مدّ. {ثِيَابُ} الياء فيه مبدلة من واو لوقوعها إثر كسرة {سُنْدُسٍ} وهو ما رق من الحرير، فهو البطائن جمع بطانة. {وَإِسْتَبْرَقٌ} وهو ما غلظ من الحرير، وهو الظهائر جمع ظهارة. {وَحُلُّوا} أصله: وحليوا بوزن فعلوا، استثقلت الضمّة على الياء فحذفت فلمّا سكنت حذفت لالتقاء الساكنين، وضمّت اللام لمناسبة الواو. {وَسَقَاهُمْ} فيه إعلال بالقلب، أصله: سقيهم بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} الهمزة فيه مبدلة من ياء، أصله: جزاي أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {وَلَا تُطِعْ} أصله: تطوع بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى

الطاء فسكنت الواو، ثم دخل الجازم، وهو {لا} الناهية فسكنت آخر الفعل فالتقى ساكنان فحذفت الواو، فصار {تطع}. {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}؛ أي: قوينا أسرهم. والأسر كما في "القاموس": الشدّة والغضب وشدّة الخلق والخلق، وشددنا أسرهم؛ أي: مفاصلهم. وفي "المختار" (1): وأسره من باب ضرب؛ أي: شده بالإسار بوزن الإزار، وهو النقد بالكسر، وهو سير يقد من جلد غير مدبوغ، ومنه سمي الأسير؛ لأنهم كانوا يشدونه بالقد، فسمي كل مأخوذ أسيرًا وإن لم يشد به، وأسره الله: خلقه، وبابه: ضرب، ومنه: وشددنا أسرهم؛ أي: خلقهم. والأسر بالضم: احتباس البول كالحصر في الغائط، وأسرة الرجل: أهله لأنه يتقوى بهم. البلاغة وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} لزيادة التقرير. ومنها: وصف المفرد بالجمع في قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فإنه وصف النطفة مع كونه مفردًا بالجمع، وهو أمشاج؛ لأن المراد بها مجموع الماءين: ماء الرجل وماء المرأة. ومنها: الطباق بين {شَاكِرًا} و {كَفُورًا} وبين {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، وبين {شَمْسًا} و {زَمْهَرِيرًا}. ومنها: التعبير بصيغة اسم الفاعل في قوله: {إِمَّا شَاكِرًا}، وبصيغة المبالغة في قوله: {وَإِمَّا كَفُورًا} حيث لم يقل: إما شاكرًا وإما كافرًا أو لم يقل: إما شكورًا وإما كفورًا. للدلالة على قلة من يتصف بالشكر وكثرة من يتصف بالكفر، ولرعاية الفاصلة أيضًا. ومنها: التعبير بصيغة المبالغة في قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} إشارة إلى كمال إحسانه إليه وتمام إنعامه عليه. ومنها: اللفُّ والنشر المشوش في قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ} إلخ،

حيث قدّم أوّلًا ذكر الشاكر ثم الكفور في قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ثم عاد بالذكر على الثاني دون الأول. ففيه لف ونشر غير مرتب. ومنها: إيراد الشاكرين بعنوان البر في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ} للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السَّنِيّة. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، وفي قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ}. ومنها: الجناس الناقص بين قوله: {فَوَقَاهُمُ} وقوله: {وَلَقَّاهُمْ}. ومنها: المجاز العقليّ في قوله: {يَوْمًا عَبُوسًا} حيث أسند العبوس إلى اليوم مع كونه من صفة أهله، فهو من إسناد الشيء إلى زمانه كنهاره صائم وليله قائم. والمعنى هنا: تعبس فيه الوجوه من طوله وشدّته، كما في "الخازن". ومنها: الإتيان بصيغة المبالغة في قوله: {شَرَابًا طَهُورًا} للدلالة على المبالغة في طهارته ونظافته. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا}؛ أي: كاللؤلؤ المفرق المنتشر. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}؛ أي: يقال لهم: إنّ هذا إلخ. ومنها: الطباق بين {يُحِبُّونَ} و {يَذَرُونَ}. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}، قابل بين المحبة والترك، وبين العاجلة والباقية. ومنها: إيراد صيغة الماضي مرادًا به المستقبل في قوله: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}؛ أي: يحلون منها إشارة لتحقق وقوعه. ومنها: التعبير عن المجازاة بالشكر في قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}؛ لأنَّ الشكر مجاز عن المجازاة. ومنها: تقديم الظرف على متعلقه في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} للاهتمام به، لما في صلاة الليل من مزيد كلفةٍ وإخلاص.

ومنها: الإتيان بالفاء في هذا التركيب لإفادة معنى الشرط، كأنّه قال: مهما يكن من شيء فاسجد له، ففيها وكادة أخرى لأمرها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ}؛ لأنّ الوراء هنا مستعار لمعنى الأمام. ومنها: الاستعارة التصريحية التخييلية في قوله: {يَوْمًا ثَقِيلًا}، فقد استعير الثقل لشدّة ذلك اليوم وهو له من الشيء الثقيل الباهط لحامله، مثله: قوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. خطأ وقياس في غير محله: هذا ومن المضحك: أن بعضهم علق على قوله: {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}، فقال: هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان: إن الجمع بين الحاء والهاء مثلًا يخرج الكلمة من فصاحتها، وجعلوا من ذلك قول أبي تمام: كَرِيْمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى ... مَعَيْ وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِيْ وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرىء القرآن الكريم من العيوب المخلة بالفصاحة بشجبه، لما قرره علماء البلاغة. وقياس في غير محله، فالفرق بين الآية والبيت واضح، وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء، واذن فالآية سليمة من تنافر الحروف. قال الشيخ مخلوف الميناوي في "حاشيته" على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري: فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه لا مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل، نحو: {فَسَبِحْهُ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمه هذه السورة من الموضوعات اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد: 1 - خلق الإنسان. 2 - جزاء الشاكرين والجاحدين. 3 - وصف الجنة والنار. 4 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، وذكر الله تعالى، والتهجد بالليل (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين. تمت سورة الإنسان بعون الله ذي الإحسان أوائل ليلة الخميس الخامسة والعشرين من شهر الجمادى الأولى من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من سنين الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات. بعد أن عاقني منها عوائق التدريس في المدارس، لأنّي لم يصبني في هذه السنة مطر المساعدة بالتفرغ الأسبوعي له يوم الأربعاء؛ لأنه لما تغير المدير تغيرت الأمور، و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}. فسبحان المستعان في كل الأمور، وعليه التكلان في تقلّبات الدهور. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين آمين آمين ألف آمين يا ربّ العالمين.

سورة المرسلات

سورة المرسلات سورة المرسلات مكية في (¬1) قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال قتادة: إلّا آية منها، وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)}، فإنها مدنيّة. وروي هذا عن ابن عباس، وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت {وَالْمُرْسَلَاتِ} بمكة. وأخرج البخاري؛ ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى إذ نزلت سورة المرسلات عرفًا، فإنّهُ ليتلوها، وإنيّ لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اقتلوها، فابتدرناه فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقيت شركم كما وقيتم شرها. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن ابن عباس؛ أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفًا، فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها آخر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. وعدد آيها (¬2): خمسون آية، نزلت بعد سورة الهمزة، ومئة وثمانون كلمة، وثمان مئة وستة عشر حرفًا. ومناسبتها لما قبلها (¬3): أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجّار ووعد المؤمنين الأبرار. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها ظاهرة جدًّا، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذّب الظالمين، فهذا وعد منه صادق، فأقسم على وقوعه في هذه فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} انتهى. وقال محمد بن حزم: سورة المرسلات كلّها محكم اهـ. * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}. المناسبة ابتدأت (¬1) السورة الكريمة بقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان، والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته في النفوس الحيّة، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله. على أن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّانَ العرض والحساب يكون ¬

_ (¬1) المراغي.

الخزي والعذاب على الكافرين المكذّبين. قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا حذر الكافرين، وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقرّبين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علام الغيوب .. أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم، فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون في الدنيا والآخرة. ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين في قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشاهم خلقًا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها، وأنكروا وحدانيته، وعبدوا الأصنام والأوثان. ثم ذكرهم بنعمه في الآفاق؛ إذ خلق لهم الأرض، وجعلها تضمهم أحياء وأمواتًا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم، وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماءً عذبًا زلالًا. فويل لمن كفر بهذه النعم العظام. قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن للمكذّبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذاب في يوم الفصل والجزاء .. بيَّن هنا نوع العذاب بما يحار فيه أولو الألباب، وغير من هوله كل مخبت أواب. فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذّبون به في الدنيا إلى ظل دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرقه إلى ثلاث شعب عظيمة، وهو لا يظلهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكون من نار ترمي بشرر كأنه القصر المشيد علوًّا وارتفاعًا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرّقًا عن غير أعداد محصورة وحركة غير معيّنة. ثم أخبر بأن الويل للمكذبين بهذا اليوم يوم لا ينطقون من شدّة الدهشة والحيرة، ولا يؤذَن لهم في الاعتذار فيعتذرون يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئًا من العذاب فهلموا. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) ما يحل بالكفار من الخزي والنكال ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

يوم القيامة .. أردفه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذٍ، فهم يكونون في ترفٍ ونعيم، ويأكلون فواكه مما يشتهون، ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئًا بما قدمتم في الأيام الخالية، وهذا جزاء كل محسن لعمله. ثم خاطب المكذّبين مهدِّدًا لهم، فقال: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا}، ولا نصيب لكم في الآخرة لأنكم كافرون. ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة الله والخشوع له أبوا، وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار، فويل لهم مما يعملون، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبيّ الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه، فبأي كلام بعده يصدّقون. أسباب النزول قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في ثقيف. التفسير وأوجه القراءة 1 - قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)}. اعلم (¬2): أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوهًا: الأول: أن المراد بأسرها الرياح، ومعنى {الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} الرياح التي أرسلت إرسالًا عرفًا؛ أي: إرسالًا متتابعًا كعرف الفرس. وقيل: معنى {عُرْفًا}؛ أي: كثيرًا؛ أي: إرسالًا كثيرًا. 2 - {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)}؛ أي: الرياح الشديدة الهبوب؛ أي: فبالرياح التي تعصف عصفًا؛ أي: تهبّ هبوبًا شديدًا. 3 - {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)}؛ أي: فبالرياح التي تنشر نشرًا؛ أي: الرياح اللينة التي تهبّ هبوبًا ليّنًا. وقيل: الرياح التي أرسلها نشرًا بين يدي رحمته. وقيل: الرياح التي تنشر السحاب، وتأتي بالمطر. 4 - {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)}؛ أي: فبالرياح التي تفرّق السحاب وتبدده عند انقطاع المطر. 5 - {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)}؛ أي: فبالرياح التي تلقي في قلوب العباد ذكرًا وخوفًا من الله تعالى. يعني: أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة .. قلعت ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) الخازن.

[6]

الأشجار، وخربت الديار، وغيرت الآثار، فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب، فيلجؤون إلى الله تعالى، ويذكرونه ذكرًا، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر، والمعرفة في القلوب عند هبوبها. 6 - وقوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} بدل من {ذِكْرًا}؛ أي: اللاتي يلقين ذكر الله تعالى في قلوب العباد إما يلقين {عُذْرًا}؛ أي: اعتذارًا إلى الله وتوبة في حق الذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث، ويشكرونه. وإمّا يلقين {نُذْرًا}؛ أي: إنذارًا وتخويفًا من الله في حق الذين ينسبون ذلك إلى الأنواء، ويشكرونها. والمعنى عليه: أقسم لكم أيها العباد بالرياح المرسلة المطلقة إرسالًا عرفًا؛ أي: متتابعًا أو كثيرًا كعرف الفرس، فبالرياح التي تعصف عصفًا؛ أي: تهب هبوبًا شديدًا، وبالرياح التي تنشر وتبسط السحاب نشرًا بين يدي رحمته، فبالرياح اللاتي تفرق السحاب وتبدده وتعدمه فرقًا وإعدامًا عند انقطاع المطر، فبالرياح التي تلقي في قلوب العباد ذكرا لله تعالى. إما تلقي {عُذْرًا}؛ أي: اعتذارًا إليه تعالى بتوبتهم واستغفارهم في حق الشاكرين لنعمه، وإما تلقي {نُذْرًا}؛ أي: إنذارًا وتخويفًا من عذابه في حق الكافرين لنعمه؛ أي: أقسم لك بصنوف هذه الرياح المذكورة إن الذي توعدون من البعث والجزاء الواقع لا محالة، وعلى هذا الوجه ذهب ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة. والوجه الثاني: أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى، وبه قال ابن مسعود في رواية وأبو هريرة، وأبو صالح، ومقاتل، والفرّاء، وابن عباس في رواية. ومعنى {الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} الملائكة الذين أرسلوا عرفًا؛ أي: بالمعروف من أمر الله ونهيه، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)} الملائكة تعصف في طيرانهم ونزولهم، وتسرع كعصف الرياح في السرعة، {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)} الملائكة الذين ينشرون أجنحتهم، ويبسطونها إذا نزلوا إلى الأرض. وقيل: هم الذين ينشرون الكتب ودواوين الأعمال يوم القيامة. {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)} الملائكة الذين يأتون بما يفترق بين الحق والباطل، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)} الملائكة يلقون الذكر؛ أي: الوحي إلى الأنبياء إمّا بالاعتذار والتوبة، وإمّا بالإنذار والتخويف. وقيل: يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة، فعلى هذا يكون الملقي هو جبريل وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل

التعظيم. والمعنى عليه: أقسم لكم أيها العباد بالملائكة الذين أرسلوا بعرف؛ أي: بمعروف؛ أي: الذين أرسلتهم بالإحسان والشرع والمعروف، ليبلّغوا أنبيائي ورسلي، وبالملائكة الذين يعصفون عصفًا كعصف الرياح في السرعة إلى إنفاذ أمر الله أو المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الرياح التراب والتّبْنَ والهباء، وبالملائكة الذين ينشرون أجنحتهم عند النزول إلى الأرض، أو الذين ينشرون دواوين الأعمال يوم القيامة {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)}؛ أي: فبالملائكة الذين يأتون بما يفرق بين الحقّ والباطل كإهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين، فبالملائكة الذين يلقون ذكرًا ووحيًا إلى الأنبياء إمّا {عُذْرًا} أو {نُذْرًا}؛ أي: إمّا أمرًا أو نهيًا، ويقال: وعدًا أو وعيدًا، ويقال: تبشيرًا بالجنة أو إنذارًا بالعذاب؛ أي: أقسم بهؤلاء الطوائف من الملائكة إنّ ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة. والوجه الثالث: أنّ المراد بأسرها آيات القرآن. ومعنى {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل عرف وخبر {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)} يعني آيات القرآن تعصف القلوب وتحركها وتلينها بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف، وهو النبت المتكسر، {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)} يعني: أنّ آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)} يعني: آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)} يعني: آيات القرآن، وهي الذكر الحكيم الذي يلقي الإيمان والنور في قلوب المؤمنين. والمعنى عليه: أقسم لكم يا عبادي بآيات القرآن التي أرسلت وأنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرف وخير وهداية، فبالآيات التي تعصف وتدق وتلين القلوب بذكر الوعيد، وبالآيات التي تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين، فبالآيات الفارقة فرقًا؛ أي: تفرّق فرقًا بين الحق والباطل، فبالآيات التي تلقي ذكرًا؛ أي: نورًا وإيمانًا في قلوب المؤمنين، إما بذكر وعد أو وعيد. إنّما توعدون لواقع لا محالة. والوجه الرابع: أنّه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئًا واحدًا بعينه، فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ

نَشْرًا (3)} الرياح، ويكون المراد بقوله: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)} الملائكة. فإن قلت: وما المجانسة بين الرياح والملائكة جمع بينهما في القسم؟ قلت: الملائكة روحانيّون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح، فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه، فحسن الجمع بينهما في القسم. وقوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)}؛ أي: للإعذار والإنذار من الله تعالى. وقيل: عذرا من الله ونذرًا منه إلى خلقه اهـ من "الخازن" بتصرف. وعبارة "الروح" هنا: قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} إلخ، {الواو}: فيه للقسم والمرسلات بمعنى الطوائف المرسلات جمع مرسلة بمعنى طائفة مرسلة باعتبار أن ملائكة كل يوم أو كل عام أو كل حادثة طائفة. {عُرْفًا} بمعنى متتابعة من عرف الفرس، وهو الشعرات المتتابعة فوق عنقه، فهو من باب التشبيه البليغ بأن شبّهت الملائكة المرسلون في تتابعهم بشعر عرف الفرس. وانتصابه على الحالية؛ أي: وأقسم لكم بالطوائف المرسلة من الملائكة لتدبير العالم حالة كونهنّ جاريات بعضها إثر بعض كعرف الفرس. أو العرف بمعنى المعروف والإحسان، نقيض المنكر بمعنى المنكر؛ أي: الشيء القبيح، فإنهم إن أرسلوا للرحمة فظاهر، وإن أرسلوا لعذاب الكفّار فذلك معروف للأنبياء والمؤمنين. يعني: أنَّ عذاب الأعداء إحسان للأولياء فانتصابه حينئذٍ على العلّية. والمعنى: وأقسم لكم بالطوائف المرسلة من الملائكة إلى الأنبياء لأجل تبليغ العرف والخبر والشرع، وإيصاله إليهم. ويقال: عصفت الريح إذا اشتدّ هبوبها، و {عَصْفًا} مصدر مؤكد، وكذا {نَشْرًا} {فَرْقًا}. والفاء في قوله: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)} للدلالة على اتصال سرعة جريهنّ في نزولهن وهبوطهنّ بالإرسال من غير مهلة، وهي أعني: الفاء لعطف الصفة على الصفة؛ إذ الموصوف متحد. والنشر في قوله: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)} بمعنى البسط، والعدول فيه إلى الواو؛ لأنّها غير المرسلات. فالقسم الأول وصفهم الله تعالى بوصفين يتعقب أحدهما على الآخر، والقسم الثاني وصفهم بثلاثة أوصاف كذلك. والفرق والفصل والإلقاء هنا بمعنى الإيصال والإنزال لا الطرح. و {ذِكْرًا} بمعنى الوحي مفعول {الملقيات}،

وترتيب الإلقاء بالفاء ينبغي أن يكون لتأويله برادة النشر والفرق، وسيأتي تمامه نقلًا عن ابن الشيخ. والحاصل: أنه سبحانه وتعالى أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهنّ بأوامره بنحو التدبير وإيصال الأرزاق بالتصرّف في الأمطار والرياح وكتابة أعمال العباد بالليل والنهار وقبض الأرواح، فعصفهنّ في مضيّهنّ عصف الرياح مسارعة في الامتثال بالأمر. وبطوائف أخرى نشرن أجنحتهن في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي؛ أو نشرن الشرائع في الأقطار؛ أي؛ فرَّقن وأشعنَ أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل أي أحيينَ بما أوحين ففرَّقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرًا إلى الأنبياء {عُذْرًا} لأهل الحق؛ أي: معذرة لهم في الدنيا والآخرة لاتباعهم الحقّ. {أَوْ نُذْرًا} لأهل الباطل لعدم اتباعهم الحقّ. وعذرًا مصدر من عذر إذا محا الإساءة، و {نُذْرًا} اسم مصدر من أنذر إذا خوّف، لا مصدر؛ لأنه لم يسمع فعل مصدرًا من أفعل. وانتصابهما على البدلية من {ذِكْرًا}. قال ابن الشيخ: إذا كان الذكر المبدل منه بمعنى جميع الوحي يكون {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} بدل البعض من الكلّ، فإنّ ما يتعلق بمغفرة المطيعين، وتخويف المعاندين بعض من جملة الوحي. وإن أريد بالذكر المبدل منه ما يتعلق بسعادة المؤمن وشقاوة الكافر خاصّة يكون بدل الكل من الكل، فإن إلقاء ما يتعلق بسعادة المؤمن متحد بالذات مع إلقاء عذره ومحو إساءته، وكذا إلقاء ما يتعلق بشقاوة الكافر متحد مع إلقاء إنذاره على كفره انتهى. أو انتصابهما على العلية للصفات المذكورة أو للأخيرة وحدها، وهو الأولى بمعنى فاللائي ألقين ذكرًا لمحو ذنوب المعتذرين إلى الله بالتوبة والاستغفار، ولتخويف المبطلين المصرّين. وفي "كشف الأسرار": لأجل الإعذار من الله إلى خلقه لئلا يكون لأحد حجة، فيقول: لم يأتني رسول، ولأجل إنذارهم من عذاب الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} قال: يقول الله: "يا ابن آدم إنّما أمرضكم لأذكّركم، وأمحص به ذنوبكم، وأكفر به خطاياكم، وربكم أعلم أن ذلك المرض يشتدّ عليكم، وأنا في ذلك معتذر إليكم". قال بعضهم: المعنى: ورب المرسلات إلخ. وفي "الإرشاد": لعل تقديم نشر الشرائع ونشر النفوس والفرق على الإلقاء؛ أي: مع أن الظاهر أن الفرق بين الحق والباطل يكون مع النشر لا بعده، وأنّ إلقاء

[7]

الذكر إلى الأنبياء متقدم على نشر الشرائع في الأرض وإحياء النفوس الموتى والفرق بين الحق والباطل، فلا يظهر التعقيب بينهما. للإيذان بكونها غاية للإلقاء حقيقةً بالاعتناء بها، أو للإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهنّ، ولو جيء بها على ترتيب الوقوع لربّما فهم أن مجموع الإلقاء والنشر والفرق هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق، هذا وقد قيل في هذا المقام غير ذلك كما مرّ عن "الخازن"، لكن الحمل على الملائكة أوجه وأسدّ، لما ذكرنا في المدثر أن المحققين على أنه من الملائكة المرسلات والناشرات والملقيات وغير ذلك انتهى من "روح البيان". وقرأ الجمهور (¬1): {عُرْفًا} بسكون الراء. وقرأ عيسى بن عمر بضمّها. وقرأ الجمهور {فَالْمُلْقِيَاتِ} بسكون اللام وتخفيف القاف، اسم فاعل من الإلقاء. وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف اسم فاعل من التلقية، وهي أيضًا إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وقرأ أيضًا ابن عباس فيما ذكره المهدويّ بفتح اللام والقاف مشدّدة، اسم مفعول؛ أي: تلقّته من قبل الله تعالى. وقرأ إبراهيم التيميّ، والنحويان: أبو عمرو والكسائي، وحفص {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} بسكون الذالين. وقرأ زيد بن ثابت، وابن خارجة بن زيد، وطلحة، وأبو جعفر، وأبو حيوة، وعيسى، والحسن بخلاف عنه، والأعشى عن أبي بكر بضمّهما. وقرأ أبو جعفر أيضًا، وشيبة، وزيد بن عليّ، والحرميّان. نافع وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر بسكونها في {عُذْرًا}، وضمها في {نُذْرًا}. فالسكون على أنهما مصدران مفردان، أو مصدران جمعان، فـ {عُذْرًا} جمع عذر بمعنى المعذرة، و {نُذْرًا} جمع نذير بمعنى الإنذار، وانتصابهما على البدل من {ذِكْرًا}، كأنّه قيل: فالملقيات {عُذْرًا} أو {نُذْرًا} أو على المفعول من أجله، أو على أنهما مصدران في موضع الحال؛ أي: عاذرين، أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قرّرناه. وقرأ الجمهور (¬2): {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} على العطف بـ {أو} التفصيلية. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف. 7 - ثم ذكر سبحانه جواب القسم، فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)}؛ أي: إنّ الذي ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) البحر المحيط.

[8]

توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة. فـ {إِنَّمَا} (¬1) هذه ليست هي الحصرية بل (ما) فيها موصولة، وإن كتبت متصلةً في خط المصحف. والموعود هو مجيء القيامة؛ لأن المذكور عقيب هذه الآية علامات يوم القيامة. وقال الكلبيّ: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع نظرًا إلى عموم لفظ الموصول. 8 - ثم أخبر عن ظهور آثار يوم القيامة وحصول دلائلها لأهل الشقاوة بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)}؛ أي: محيت ومحقت ذواتها، فإن الطمس: محو الأثر الدال على الشيء، وهو الموافق لقوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}. أو محى نورها وأذهب ضوْءها، فاستوت مع جرم السماء. والأوّل أولى؛ لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار. والنجوم مرتفعة بفعل يفسره ما بعده أو بالابتداء، و {طُمِسَتْ} خبره، والأوّل أولى، لأنّ {إذا} فيها معنى الشرط والشرط بالفعل أولى، ومحل الجملة على الإعرابين الجرّ بـ {إذا}، وجواب {إذا} محذوف تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون، أو بعثتم أو جوزيتم على أعمالكم، وحذف لدلالة قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} عليه. وقرأ عمرو بن ميمون (¬2): {طمسّت} {فرّجت} بتشديد الميم والراء، والجمهور بتخفيفهما. 9 - {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)}؛ أي: فتحت وشقّت، فكانت أبوابًا بالفرج، هو الشقّ، وكلّ مشقوق فرج، ومثله قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)}، والمعنى؛ أي: صدعت من خوف الرحمن، وشقّقت ووقعت فيها الفروج التي نفاها بقوله: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} بسبب الإنفطار. 10 - {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)}؛ أي: قلعت من مكانها بسرعة، يقال: نسفت الشيء وأنسفته إذا أخذته بسرعة. وقال الكلبيّ: سويّت با لأرض، والعرب تقول: نسفت الناقة الكلأ إذا رعته، وقيل: جعلت كالحبّ الذي ينسف بالمنسف، وهو ما ينفض به الحب ويذرى، ومثله قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} فالبس والنسف معناهما واحد، وقيل: فرقتها الرياح، وذلك بعد التيسيير، وقيل: كونها هباء. 11 - {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)}؛ أي: عين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[12]

أممهم. وذلك عند مجيء يوم القيامة وحضوره؛ إذ لا يتعين لهم قبل حصوله، فإن علم ذلك إلى الله تعالى. يعني: أن تبين وقت حضورهم لهم من جملة علامات القيامة من حيث إن ذلك التعيين والتبيين لم يكن حاصلًا في الدنيا لعدم حصول الوقت، فيقال لهم عند حصوله: أحضروا للشهادة فقد جاء وقتها. أو المعنى: وإذا الرسل بلغوا الميقات الذي ينتظرونه، وهو يوم القيامة، فإن التوقيت كما يجيء بمعنى تحديد الشيء وتعيين وقته فكذا يجيء بمعنى جعل الشيء منتهيًا إلى وقته المحدود، وعلى المعنى الأول لا يقع على الذوات بدون إضمار، فإن الموقت هو الأحداث لا الجثث، فلا يقال: زيد موقت إلا أن يراد موقت حضوره، وكذا توقيت الرسل إنما هو بالنسبة إلى حضورهم لا بالنسبة إلى ذواتهم؛ لأن الذوات قارة لا يعتبر فيها تعيين، بخلاف الزمانيات المتجددة، هكذا قالوا. والمعنى (¬1): أي جعل لهم وقت للفصل والقضاء بنيهم وبين الأمم، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}. وقيل: هذا في الدنيا؛ أي: جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذّبهم، والأوّل أولى. قال أبو علي الفارسي؛ أي: جعل يوم الفصل والدين لها وقتًا. وقيل: معنى {أُقِّتَتْ} أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به. وقرأ الجمهور (¬2): {أُقِّتَتْ} بالهمز وشدّ القاف. وقرأ النخعيّ، والحسن، وعيسى، وخالد بتخفيف القاف والهمز. وقرأ أبو الأشهب، وعمرو بن عبيد، وعيسى أيضًا، وأبو عمرو بالواو وشدّ القاف، قال عيسى: وهي لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله، والحسن، وأبو جعفر بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضًا {ووقتت} بواوين على وزن فوعلت، والواو في هذا كله هي الأصل، والهمزة بدل عنها؛ لأنه من الوقت. 12 - وقوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} مقول لقول مقدر تقديره؛ أي: ويقال يومئذٍ؛ لأيّ يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها وفظاعة أهوالها. والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه، كأنه قيل؛ أي: يوم هذا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[13]

الذي أجل اجتماع الرسل إليه إنه ليوم عظيم. قال الفاشاني {وَإِذَا الرُّسُلُ}؛ أي: ملائكة الثواب والعقاب {أُقِّتَتْ}؛ أي: عيّنت وبلغت ميقاتها الذي عيّن لها إما لإيصال البشرى والروح والراحة، صهاما لإيصال العذاب والكرب والذلة، يقال: ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال، ورسل البشر وهم الأنبياء عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم فيه الفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقي، يقال: ليوم عظيم أخرت عن نزول العذاب بمن كذبهم، فإن الرسل يعرف كلا بسيماهم انتهى. 13 - وقوله: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)} بيان ليوم التأجيل؛ أي: أخّرت ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق ويقضي بالحقوق، ويحكم بين المحسن والمسيء. وقال بعضهم: يفصل فيه بين الحبيب وحبيبه إلا من كان معاملته في الله تعالى، وبين المرء وأمه وأبيه وأخيه إلا أن يكونوا متفقين على الحق والعدل. 14 - وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} {ما} (¬1) مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ} خبره. وقوله: {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} إظهار في مقام الإضمار لزيادة تفظيع وتهويل، على أنّ {ما} خبر مقدم، و {يَوْمُ الْفَصْلِ} مبتدأ مؤخّر، لا بالعكس، ما اختاره سيبويه؛ لأنّ محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرًا بديعًا هائلًا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية {ما}، لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. والمعنى؛ أي: أيّ شيء جعلك داريًا وعالمًا ما هو وما كنهه؟ إذ لم تر مثله، وكذا لم ير أحد قبلك شدّته حتى تسمع منه. 15 - ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذٍ، فقال: {وَيْلٌ}؛ أي: هلاك عظيم ثابت {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: في ذلك اليوم الهائل كائن {لِلْمُكَذِّبِينَ} بيوم يفصل فيه الرحمن بين الخلائق؛ أي: الويل والهلاك ثابت فيه لهم. والويل في الأصل مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعل لا من لفظه، فأصله: أهلكه الله إهلاكًا، أو هلك هو هلاكًا، عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه، و {يَوْمَئِذٍ} ظرفه أو صفته، ووضع الويل موضع الإهلاك، أو الهلاك، فجاز وقوعه مبتدأ مع كونه نكرة، فإنه لما كان مصدرًا سادًّا مسدَّ فعله المتخصّص بصدوره عن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

فاعل معيّن كانت النكرة المذكورة متخصصة بذلك الفاعل، فساغ الابتداء بها لذلك، كما قالوا: في سلام عليك. وقال بعضهم: الويل واد في جهنم، لو أرسلت الجبال لماعت من حرّه؛ أي: ذابت. والمعنى: أي هلاك شديد وعذاب عظيم يومئذٍ كائن لمن كذب بالله ورسله وبكتبه، وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به. وكرّر هذه (¬1) الآية في هذه السورة لأنّه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابًا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرمًا من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب. 16 - ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية، فقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)} كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن أهلكوا قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لتكذيبهم بيوم الفصل. وهو (¬2) استئناف إنكار لعدم الإهلاك إثباتًا وتقريرًا له؛ لأنّ نفي النفي يثبت الإثبات ويحقق الإهلاك، فكأنه قيل: لم يكن عدم الإهلاك بل قد أهلكناهم، وقرأ الجمهور {نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} بضم النون، وقتادة بفتحها، قال الزمخشري: من هلكه بمعنى أهلكه. 17 - {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)} وهم الذين كانوا بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ الجمهور {نُتْبِعُهُمُ} بالرفع على الاستئناف على معنى: ثم نحن نتبعهم الآخرين من نظرائهم السالكين مسلكهم في الكفر والتكذيب؛ أي: نجعلهم تابعين للأوّلين في الإهلاك. قال أبو البقاء: فليس بمعطوف على ما قبله، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين ثمّ أتبعناهم الآخرين في الإهلاك، وليس كذلك؛ لأنّ إهلاك الآخرين لم يقع بعد، فلذلك رفع {نتبع} على أن يكون مقطوعًا عمّا قبله، ويستأنف به الكلام على وجه الإخبار عمّا سيقع في المستقبل بإضمار المبتدأ. وفيه وعيد لكفّار مكة. ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود {ثم سنتبعهم الآخرين} بسين الاستقبال. وقرأ الأعرج والعبّاس عن أبي عمرو {نتبعهم} بالجزم عطفًا على {نُهْلِكِ} ويحتمل (¬3) تسكينه تخفيفًا، كما سكّن {وَمَا يُشْعِرُكُمْ}، فهو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[18]

استئناف، فعلى الاستئناف يكون {الْأَوَّلِينَ} الأمم التي تقدمت قريشًا أجمع، ويكون {الْآخِرِينَ} من تأخّر من قريش وغيرهم، وعلى التشريك يكون {الْأَوَّلِينَ} قوم نوح إبراهيم عليهما السلام، ومن كان معهم، و {الْآخِرِينَ} قوم فرعون، ومن تأخر وقرب من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال في الدنيا، ولذلك جاء بعده {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب، وهي الإجرام. 18 - {كَذَلِكَ}؛ أي: فعلًا مثل ذلك الفعل الفظيع الذي هو الإهلاك، فصل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف. {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}؛ أي: بكل من أجرم وأشرك بالله سبحانه إمّا في الدنيا أو في الآخرة. وفيه تحذير من عاقبة الجرم وسوء أثره. 19 - {وَيْلٌ}؛ أي: عذاب عظيم {يَوْمَئِذ} أي: يوم إذ أهلكناهم {لِلْمُكَذِّبِينَ} بآيات الله وأنبيائه، وليس فيه تكرير، لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا. ومعنى الآيات: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)}؛ أي: ألم نهلك من كذّب الرسل قبلكم ونعذّبهم في الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط، إلى أشباه ذلك من المثلات التي حلت بالأمم قبلكم جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيء أعمالهم، وان سنتنا في المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا ولات ساعة مندم. {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)}؛ أي: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم؛ لأنّهم فعلوا مثل أفعالهم. ثم ذكر الحكمة في إلحاقهم بهم، فقال: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}؛ أي: سنتنا في جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم نفعل بالمتأخّرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنّتهم، فسنتنا تجري على وتيرة واحدة. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}؛ أي: هؤلاء وإن عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب فالامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة. والتكرير للتوكيد شائع في كلام العرب، كما تقدم في سورة الرحمن. وفي "برهان القرآن": كرّرها في هذه السورة عشر مرّات؛ لأن كل واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الأولى، فلا يكون تكرارًا مستهجنًا، ولو لم يكرر كان متوعدًا

[20]

على بعض دون بعض. وقيل: إن من عادة العرب التكرار والإطناب كما أن عادتهم الاقتصار والإيجاز، ولأن بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز، وقد يجد كل أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لا خفاء. قال في "فتح الرحمن": كرّر هنا عشر مرات، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسن، لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكرّرة كما هنا انتهى. 20 - ثم ذكرهم بجزيل نعمه عليهم في خلقهم وإيجادهم مما يستدعي جزيل شكرانهم، فقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ}؛ أي: ألم نحدثكم. واتفق (¬1) القرّاء على إدغام القاف في الكاف في هذا الحرف. وذكر النقاش أنه في قراءة ابن كثير ونافع برواية قالون، وعاصم في رواية حفص بالإظهار، قاله في الإيضاح. {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} بهوان الحدوث والإمكان والابتذال؛ أي: من نطفة قذرة مهينة حقيرة، والميم فيه أصلية كما سيأتي، ومهانته: قلته وخسته، وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته؛ أي: خلقناكم منه، 21 - ولذا عطف عليه قوله: {فَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: الماء {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}؛ أي: في مكان حريز يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء، وهو الرحم بكسر الحاء المهملة؛ أي وعاء الولد في بطن الأمّ. فالقرار موضع الاستقرار، والمكين: الحصين؛ أي (¬2): جعلنا ذلك الماء في مقرٍّ حصينٍ يتمكن فيه الماء محفوظًا سالمًا من التعرض له، فمكين من المكانة بمعنى التمكن لا منها بمعنى المنزلة والمرتبة من الكون، يقال: رجل مكين في مكة؛ أي: متمكن فيها، ومكين عند الأمير؛ أي: ذو منزلة ومرتبة عنده، فيكون فعيلا لا مفيلا. 22 - {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)}؛ أي: مقدار معلوم من الوقت الذي قدّره الله تعالى للولادة تسعة أشهر أو أقل منها، أو أكثر، وهو في موضع الحال من الضمير المنصوب في قوله: {فَجَعَلْنَاهُ}؛ أي: مؤخّرًا إلى مقدار معلوم من الزمان، وقيل: إلى أن يصور. 23 - {فَقَدَرْنَا}؛ أي: فقدرناه، والمراد تقدير خلقه وجوارحه وأعضائه وألوانه ومدة حمله وحياته. وقيل: المعنى: قدرناه قصيرًا أو طويلًا، وقيل معنى {قدرنا} ملكنا. وقرأ الجمهور {فَقَدَرْنَا} بالتخفيف. وقرأ علي بن أبي طالب ونافع والكسائي بالتشديد من التقدير، نظير (¬3) قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)}. قال الكسائي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[24]

والفرّاء: هما لغتان بمعنى واحد، تقول: قدرت كذا وقدرته. {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}؛ أي: نعم المقدرون نحن، وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه -. ويجوز (¬1) أن يكون {فَقَدَرْنَا} من القدرة بمعنى فقدرنا على ذلك؛ أي: على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا من مثل تلك المادة الحقيرة، على أن المراد بالقدرة ما يقارن وجود المقدور بالفعل، ويعضد هذا المعنى قوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} حيث خلقناه بقدرتنا وجعلناه على أحسن الصور والهيئات. والمعنى (¬2): أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت في الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم في أحسن الصور والآيات، أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث، لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون في هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم. 24 - {وَيْلٌ}؛ أي: خزي وعذاب عظيم {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}؛ أي: لمن كذب بهذه المنن العوالي، أو لمن كذب بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة. قال أبو الليث؛ أي: الشدة من العذاب لمن يرى الخلق الأول، فأنكر الخلق الثاني اهـ. 25 - وبعد أن ذكرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم في الأنفس ذكرهم بما أنعم عليهم في الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة: 1 - {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)}؛ أي: مهادًا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها 26 - {أَحْيَاءً} على ظهرها {وَأَمْوَاتًا} في بطنها. فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم. عرفهم أوّلًا نعمه الأنفسية؛ لأنها كالأصل، ثم أتبعها النعم الآفاقية. والكفات (¬3) اسم ما يكفت؛ أي: يضم ويجمع، من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام لما يضم، والجماع لما يجمع، نحو قولهم: التقوى جماع كل خير، والخمر جماع كل إثم. و {كِفَاتًا} مفعول ثان لـ {نَجْعَلِ}؛ لأنه بمعنى: ألم نصيّرها {كِفَاتًا} تكفت وتضم {أَحْيَاءً} كثيرة على ظهرها، فهو منصوب بفعل مضمر، يدل عليه كفاتًا، وهو تكفت وإلا فالأسماء الجامدة، وكذا أسماء الزمان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[27]

والمكان والآلة، وإن كانت مشتقة لا تعمل، وفي اسم المصدر خلاف، وأما المصدر وجمع اسم الفاعل فهما من الأسماء العاملة، فمن جعل الكفات مصدرًا أو جمع اسم الفاعل، وهو كافت كصيام جمع صائم جعله عاملًا، ومن جعله اسما لما يكفت أو جمعًا للكفت بمعنى الوعاء منعه من العمل، غير الزمخشري فإنه جعل {كِفَاتًا} وهو اسم عاملًا، وقد طعن فيه. {وَأَمْوَاتًا} غير محصورة في بطنها، ولهذا كانوا يسمون الأرض أُمًّا تشبيهًا لها بالأم في ضمها للناس إلى نفسها أحياء وأمواتًا كالأم التي تضم أولادها إليها وتضبطهم. واستدل بهذا القفال على أن النباش يقطع؛ لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. ولما كانوا ينضمون إنيها جعلت كأنها تضمهم، وأيضًا كما أن الأرض كفات الأحياء بمعنى أنهم يسكنون فيها كذلك أنها كفات لهم بمعنى أنها تكفت ما ينفصل من الأحياء من الأمور المستقذرة، وتنكيرهما في معنى التعريف الاستغراقي لا للأفراد والنوعية، ويجوز أن يقال: الأرض وإن كانت كفاتًا لجميع أحياء الإنس وأمواتهم، لكن الأحياء والأموات غير منحصرة فيها؛ لأن بعض الحيوان يكفته الهواء والبعض الآخر يكفته الماء، فلا تكون للجميع بل للبعض، فيصح التنكير. 2 - 27 {وَجَعَلْنَا فِيهَا}؛ أي: في الأرض {رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت مستقرّات، فمفعول {جعلنا} مقدر، و {رَوَاسِيَ} صفة له، من رسا الشيء يرسو إذا ثبت، والجبال ثوابت على ظهر الأرض، لا تزول ولا تزلزل. {شَامِخَاتٍ} صفة بعد صفة. والشامخ: العالي المرتفع؛ أي: طوالًا شواهق، ومنه: شمخ بأنفه عبارة عن الكبر. وفي عين المعاني: {رَوَاسِيَ}؛ أي: ثوابت الأصول رواسخ العروق شامخات؛ أي: مرتفعات الفروع، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كأشهر معلومات ونحوه. والتنكير للتفخيم أو للإشعار بأن ما يرى على ظهر الأرض من الجبال بعض منها، وإن في عداد الجبال ما لم يعرف ولم ير، فإن السماء فيها جبال أيضًا بدلالة قوله تعالى: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد} انتهى. والمعنى (¬1): أي وجعلنا جبالًا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم، ¬

_ (¬1) المراغي.

[28]

وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوانية التي هي أبعد طبقات الأرض عن سطحها، وتلك الطبقة تضم في جوفها كرة النار المشتعلة التي في باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها. 3 - {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا}؛ أي: عذبًا جدًّا بأن خلقنا فيها أنهارًا ومنابع؛ أي: جعلناه سقيًا لكم، ومكناكم من شربه، وكذا من سقيه دوابكم ومزارعكم، وسمي نهر الكوفة فراتًا للذته. وقال أبو الليث: ماء عذبًا من السماء والأرض، ويقال: الفرات للواحد والجمع، وتاؤه أصل، والتنكير للتفخيم كما سيأتي، أو لإفادة التبعيض؛ لأنَّ في السماء ماء فراتًا أيضًا، بل هي معدنه ومصبه. والمعنى (¬1): أي وأسقيناكم ماء عذبًا فراتًا تشربون منه، إمّا آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإمّا من العيون النابعات منها، ويمدها الثلج الذي يذوب شيئًا فشيئًا فوق ظهر الأرض متنزلًا إلى بطنها متجهًا إلى عيونها الجارية. 28 - {وَيْلٌ}؛ أي: عذاب عظيم {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ وقع ما توعدون {لِلْمُكَذِّبِينَ} في الدنيا بامتثال هذه النعم العظيمة. 29 - وقوله: {انْطَلِقُوا ...} إلخ، مقول لقول مقدر تقديره: يقال يومئذٍ للمكذّبين على سبيل التوبيخ والتقريع: انطلقوا واذهبوا، والقائلون هم خزنة النار وزبانية جهنم {إِلَى مَا كُنْتُمْ} في الدنيا {بِهِ تُكَذِّبُونَ} من العذاب، و {بِهِ} متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ} قدّم عليه لرعاية رؤوس الآية. والمعنى: أي تقول لهم خزنة جهنم حينئذٍ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذّبون به من العذاب في الدنيا. 30 - ثم بين هذا العذاب، ووصفه بجملة صفات: 1 - {انْطَلِقُوا} واذهبوا خصوصًا {إِلَى ظِلٍّ}؛ أي: إلى ظل دخان نار جهنم كقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)}؛ أي: دخان غليظ أسود. {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ}؛ أي: ذي ثلاث ذوائب، جمع شعبة يتشعّب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم، تراه يتفرف ذوائب؛ أي: انطلقوا إلى ظل من دخان جهنم، قد سطع ثم ¬

_ (¬1) المراغي.

[31]

افترق ثلاث فرق، وصار ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم حتى يفرغ من الحساب، والمراد أنّه أحاط بهم من كل جانب كما جاء في الآية الأخرى {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}. فقوله: {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} كناية (¬1) عن كون ذلك الدخان عظيمًا بناءً على أن التشعب من لوازمه. وقيل: يخرج لسان من النار، فيحيط بالكفار كسرادق، وهو ما يمد فوق صحن البيت. ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش. وقرأ الجمهور (¬2): {انْطَلِقُوا} في الموضعين بكسر اللام على صيغة الأمر، وكرره بيانًا للمنطلق إليه أو للتأكيد. وقرأ روش عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني على معنى الخبر، فكأنهم لما أمروا بالإنطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا. 31 - ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكمًا بهم: فقال: 2 - {لَا ظَلِيلٍ}؛ أي: ليس بمظل، فلا يبقى من حر ذلك اليوم، فهو وصف أخذ من الظل للتأكيد كنوم نائم لأنه في تقدير: لا ظل ظليل؛ أي: ليس بظل مظل من الحر. وتوصيف (¬3) الظل بأنه لا يظل من حر ذلك اليوم، وهو حر النار، للدلالة على أن تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظل استهزاء بهم، فإن شأن الظل أن يدفع عمن يستظل به مقاساة شدة الحر، وأن ينفعه ببرده ونسيمه، والذي أمروا بالانطلاق إليه يضاعف عليهم ما هم فيه من الحر والعذاب، فضلًا عن أن يستريحوا ببرده أو رد لما أوهمه لفظ الظل من الاسترواح. 3 - {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أي: ولا يدفع من حرّ النار شيئًا؛ لأنّه في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها. والمعنى: أي غير مغن لهم من حر اللهب كما يغني ظل الدنيا من الحر، فقوله: {لَا ظَلِيلٍ} في موضع الجر على أنه صفة لـ {ظِلٍّ}، ولفظ لا غير مانع للصفتية؛ أي: ظل غير ظليل، وغير مغن ومفعول {يُغْنِي} محذوف هو شيئًا، و {مِنَ} لبيانه، ويغني من أغنى عني وجهه؛ أي؛ أبعده؛ لأن الغني عن الشيء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[32]

يباعده كما أن المحتاج إليه يقربه، فصح أن يعبر بإغناء شيء عن شيء عن إبعاده عنه، فكأن المعنى أن هذا الظل لا يظلكم من حرّ الشمس، ولا يدفع عنكم لهب النار. واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرصت من أحمر وأصفر وأخضر. 32 - ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان، فقالى: {إِنَّهَا} أي: إنّ هذه النار، فالضمير للنار، وقيل: إنه عائد على الشعب؛ لأنها هي المذكورة لا النار. {تَرْمِي بِشَرَرٍ} كثيرة، كل واحدة منها {كَالْقَصْرِ}؛ أي: كقصر من القصور في عظمها، كما يدل على هذا التفسير قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}؛ أي: إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرقة في جهات كثيرة كأن كل واحدة منها القصر عظمًا وارتفاعًا. والشرر: جمع شررة، وهي ما تطاير من النار في الجهات متفرّقًا كالنجوم، كما قال في "القاموس": الشرار والشرر ككتاب وجبل ما يتطاير من النار، واحدتهما بهاء انتهى. وقوله: {كَالْقَصْرِ} في موضع الصفة للشرر، والقصر هو البناء العالي، ووصف به الجمع باعتبار كل واحد من آحاده، والقصر أيضًا: الحطب الجزل، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: هي الخشب العظام المقطعة، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك، ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر؛ أي: لكونها مقصورة مقطوعة من الممدودة الويلة، تأمل في أن نارًا دخانها وشررها هكذا، فما بالك بحالى أهلها؟ وعلى هذا المعنى الأخير القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل: جمر وجمرة وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ. وقرأ الجمهور (¬1): {بِشَرَر} وقرأ عيسى {بشَرَار} بألف بين الرائين. وقرأ ابن عباس وابن مقسم كذلك، إلا أنه كسر الشين، فاحتمل أن يكون جمع شرر؛ أي: بشرار من العذاب. وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها؛ أي؛ بشرار من الناس كما تقول: قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل، قوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل، ويؤنث هذا فيقال للمؤنث: شرة وخيرة، بخلافهما إذا كانا للتفضيل، فلهما أحكام مذكورة في النحو. وقرأ الجمهور؛ {كَالْقَصْرِ} بإسكان الصاد وهو واحد القصور. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن، وابن مقسم، ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[33]

والسلمي، وحميد بفتح القاف والصاد. وقرأ ابن جبير أيضًا، والحسن أيضًا {كالقصر} بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة، مثل: بدر وبدرة وقصع وقصعة. وبعض القرّاء بفتح القاف وكسر الصاد، وابن مسعود بضمهما، كأنه مقصور من القصور كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور، كما قال الراجز: فِيْهَا عَنَابِيْلُ أُسُوْدٌ ونُمُرْ 33 - {كَأَنَّهُ}؛ أي: (¬1) كأن ذلك الشرر، وفي "فتح الرحمن"؛ ثم رد الضمير إلى لفظ النار دون معناها، فقال: كأنه؛ أي: النار {جِمَالَتٌ صُفْرٌ} جمع جمل كحجارة في جمع حجر، والتاء لتانيث الجمع أو اسم جمع كالحجارة. والجمل: ذكر الإبل، والناقة أنثاه، وإذا لم يكن في جماعة الإبل أنثى يقال: جمالة بالكسر. والصفر: جمع أصفر، والصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. والمعنى: كان كل شررة جمل أصفر أو كجمل أسود؛ لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، ولأن صفر الإبل يشوب رؤوس أشعارها سواد، وفي الحديث: "شرار جنهم أسود كالقير". فالأول وهو التشبيه بالقصر تشبيه في العظم، والثاني وهو التشبيه بالجمل تشبيه في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة. وفي "المفردات": قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} قيل: جمع أصفر، وقيل: بل أراد به الصفر المخرج من المعادن، ومنه قيل للنحاس: صفر. وقرأ الجمهور ومنهم (¬2): عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه {جمالات} بكسر الجيم وبالألف والتاء، جمع جمال جمع جمل، وهي الإبل كقولهم: رجالات قريش. وقرأ ابن عباس (¬3) وقتادة، وابن جبير، والحسن، وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك، إلّا أنهم ضموا الجيم، وهي جمال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات، ثم جمع على جمل وجمال، ثم جمع جمال ثانيًا جمع سلامة، فقالوا: جما لات. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وأبو عمرو في رواية الأصمعيّ، وهارون عنه {جمالة} بكسر الجيم، لحقت جمالًا التاء لتأنيث الجمع كحجر وحجارة كما مرّ. وقرأ ابن عباس، والسلمي، والأعمش، وأبو حيوة، وأبو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[34]

بحرية، وابن أبي عبلة، ورويس كذلك إلا أنهم ضموا الجيم. قال ابن عباس وابن جبير: الجمالات قلوص السفن، وهي حبالها العظام إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض، جاء منها أجرام عظام. وقال ابن عباس أيضًا: الجمالات: قطع النحاس الكبار، وكأن اشتقاق هذه من اسم الجملة. وقرأ الحسن {صفر} بضمّ الفاء، والجمهور بإسكانها. قال الواحدي (¬1): والصفر معناها في قول المفسرين قال الفرّاء: الصفر: سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرةً، ولذلك سمت العرب سود الإبل صفرًا، قيل: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، ومنه قول الشاعر: تِلْكَ خيْلِيْ وَتلْكَ رِكَابِيْ ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيْبِ أي: هن سود. هذا القول بعيد عند أهل اللغة والعجب لمن قال بهذا القول، وقد قال تعالى: {جمالات صفر}. 34 - {وَيْلٌ}؛ أي: خزي عظيم {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ وقعت المجازاة بتلك النار {لِلْمُكَذِّبِينَ} بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصًا. 35 - ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب، فقال: {هَذَا} إشارة إلى وقت دخولهم النار. و {يَوْمُ} مرفوع عى أنه خبر {هَذَا}؛ أي: هذا يوم {لَا يَنْطِقُونَ} فيه بشيء، لما (¬2) أن السؤال والجواب والحساب قد إنقضت قبل ذلك، وأيضًا يوم القيامة يوم طويل له مواطن ومواقيت ينطقون في وقت دون وقت. فعبر عن كل وقت بيوم. أو لا ينطقون بشيء ينفعهم، فإن ذلك كلا نطق. قال الفاشاني: لا ينطقون لفقدان آلات النطق وعدم الإذن فيه بالختم على الأفواه. وقال بعضهم: لا ينطقون لشدّة تحيرهم وقوة دهشتهم. وقال أبو عثمان رحمه الله: أسكتهم هيبة الربوبية، وحياء الذنوب. وقرأ الجمهور (¬3) برفع {يَوْمُ} على أنه خبر لاسم الإشارة. وقرأ الأعمش، والأعرج، وزيد بن علي، وعيسى، وأبو حيوة، وعاصم في رواية بفتحه على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية، والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[36]

منفي، لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفيّ. وقيل: هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد، كأنّه قيل: هذا العذاب المذكور كائن يوم لا ينطقون. 36 - {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ} في الاعتذار {فَيَعْتَذِرُونَ} معطوف (¬1) على {يُؤْذَنُ} منتظم في سلك النفي؛ أي: لا يكون لهم إذن واعتذار، متعقّب له من غير أن يجعل الاعتذار مسبّبًا عن الإذن، كما لو نصب فيقال: فيعتذروا، والنصب يوهم أنّ لهم عذرًا وقد منعوا من ذكره، وهو خلاف الواقع، إذ لو كان لهم عذر لم يمنعوا. وأيّ عذر لمن أعرض عن منعمه، وكفر بأياديه ونعمه؟ وقرأ الجمهور (¬2): {يُؤْذَنُ} على البناء للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ {ولا يأذن} على البناء للفاعل؛ أي: لا يأذن الله لهم؛ أي: لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار. قال الفرّاء: الفاء في {فَيَعْتَذِرُونَ} عاطفة على {يُؤْذَنُ} وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون، ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} بالنصب، والكل صواب. والمعنى: أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة، ولا يؤذن لهم في الاعتذار؛ لأنه ليس لديهم عذر صحيح، ولا جواب مستقيم. وقد يكون المعنى: هذا يوم لا ينطقون بما يفيد فكأنّهم لا ينطقون. وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئًا. 37 - {وَيْلٌ}؛ أي: كرب عظيم {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بما دعتهم إليه الرسل، وأنذرتهم عاقبته. وقال القاضي في كشف ما يلتبس في القرآن: إن قلت: نفي النطق عنهم يدل على انتفاء الاعتذار منهم؛ إذ الاعتذار لا يكون إلا بالنطق، فما فائدة قوله عقبه: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}؟ قلت: معناه: لا ينطقون ابتداء بعذر مقبول، ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار .. لو أذن لهم فيه؛ إذ الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذر وحجة لخوفه، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[38]

لكن إذا أذن له فيه نطق. ففائدة ذلك نفي هذا المعنى؛ أي: لا ينطقون ابتداء بعذر ولا بعد الإذن. فإن قلت: ما ذكر ينافيه ما دل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} من وقوع الاعتذار منهم. قلت: لا ينافيه؛ لأنّ يوم القيامة يوم طويل، فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في آخر. والجواب: بأن المراد بتلك الآية الظالمون من المسلمين وبما هنا الكافرون ضعيف، لتعقيب تلك الآية بقوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} انتهى. 38 - {هَذَا} اليوم الذي شاهدتم أهواله وأحواله {يَوْمُ الْفَصْلِ} بين الحقّ والباطل. والجملة على تقدير القول؛ أي: يقال للمكذبين: هذا اليوم يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويتميّز فيه الحقّ من الباطل، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض، فيقتصّ من الظالم للمظلوم وتردّ له حقوقه. {جَمَعْنَاكُمْ} يا أمّة محمد {وَالْأَوَّلِينَ} من الأمم الماضية. وهذا تقرير وبيان للفصل؛ إذ الفصل بين المحقّ والمبطل والرسل لا يستحق إلا بجمع الكل، فلا بد من إحضارهم لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب. أي: (¬1) جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم في صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم، فيقضى لهذا على هذا، ولولا ذلك الجمع .. ما أمكن؛ إذ لا يقضى على غائب. 39 - {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ} أيّها المكذّبون {كَيْدٌ} في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه؛ أي: حيلة تدفعون بها عنكم العذاب. والظاهر: أن هذا خطاب من الله للكفار. {فَكِيدُونِ} اليوم، أصله: فيكيدوني حذف ياء المتكلم اجتزاء عنها بالكسرة والنون للوقاية، وهو أمر من كاد يكيد كيدًا، وهو المكر والاحتيال والخديعة. والمعنى: واحتالوا لأنفكسم، وتخلصوا من عذابي إن قدرتم، فإن جميع من كنتم تقلّدونهم وتقتدون بهم حاضرون. ¬

_ (¬1) المراغي.

[40]

وهذا أمر (¬1) إهانة وخطاب تعجيز، وتقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وتخجيل لهم بأنهم كانوا في الدنيا يدفعون الحقوق عن أنفسهم، ويبطلون حقوق الناس بضروب الحيل والمكايد والتلبيسات. فخاطبهم الله تعالى حين علموا أنّ الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة بقوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)}. لما ذكر من التقريع والتخجيل ولإظهار عجزهم عن الكيد، فإن لمثل هذا الكلام لا يتكلم به إلا من تيقن بعجز مخاطبه عما هو بصدده. وفي بعض التفاسير؛ أي: فإن وجد كيد نافع لكم، على أن {لَكُمُ} متعلق بـ {كَانَ} أو نافعًا لكم على أنه حال من {كَيْدٌ}. وقيل: المعنى فإن قدرتم على حرب فحاربون. وقيل: إنّ هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون كقول هود عليه السلام لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}. 40 - {وَيْلٌ}؛ أي: غمّ وغصّة {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يقال للكفّار ما ذكر {لِلْمُكَذِّبِينَ} بالبعث؛ لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا، فعلموا أنَّ لا حيلة لهم في الخلاص من العذاب. 41 - ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} من الكفر والتكذيب للرسل، لأنهم في مقابلة المكذّبين، ففيه رد على المعتزلة. وقال مقاتل والكلبيّ: المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفّار على كفرهم. {فِي ظِلَالٍ} ظليلة على الحقيقة، كما يدلس عليه الإطلاق؛ أي: في ظلال الأشجار وظلال القصور، لا كالظل الذي للكفّار من الدخان، أو من النار، كما تقدم. قال بعضهم: الظاهر أنه إخبار عن كونهم تحت أشجار مثمرة لهم في جنانهم. يقول الفقير: الأظهر كونهم في ظلال كناية عن راحتهم العظمى؛ لأن الظل للراحلة، وكذا قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} ونحوه. وإنما ذكر الله سبحانه الظل تشويقًا للقلوب، لأنّ من البلاد ما هي حارّة قليلة المياه والأشجار والظلال. وقرأ الجمهور {فِي ظِلَالٍ} جمع ظلّ، والأعمش {في ظلل} جمع ظلّة، وكذا وافقه الزهري، وطلحة، والأعرج. {و} في {عيون} عذبة دافعة عنهم العطش 42 - {وَ} في {فَوَاكِهَ} لذيذة متنوّعة {مِمَّا يَشْتَهُونَ} ويتمنّون، فيتناولونها تلذّذًا لا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[43]

عن جوع، والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكّه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم. والحاصل: أنهم مستقرّون في فنون الترفّه وأنواع التنعم خلاف مما عليه مخالفوهم. والمعنى (¬1): أي إنّ المتقين في ظلال ظليلة وكن كنين وعيون عذبة وأنهار جارية، فلا يصيبهم أذى حرٍّ ولا قرٍّ، بخلاف الكافرين، فإنهم في ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل، ولا يغني من اللهب، كما تقدم، ولديهم فواكه يأكلون منها كلّما اشتهت نفوسهم، لا يخافون ضرَّها ولا عاقبة مكروهها. 43 - وجملة قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} في الدنيا، مقدّرة بقول هو حال من ضمير المتقين في الخبر؛ أي: مقولًا لهم: كلوا أيّها الأبرار من نعم الجنة وثمراتها، واشربوا من مائها، وشرابها كلّما شئتم أكلًا وشربًا هنيئًا سائغًا رافهًا خالص اللذة، لا يشوبه سقم ولا تخم، ولا يكدّره تنغيص، وهو دائم لا يزول، ولا يورثكم أذًى في أبدانكم بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة خصوصًا الصيام كما مرّ في الحاقّة. وهذا أمر إكرام إظهارًا للرضى عنهم والمحبّة لهم. تمسّك (¬2) القائلون بإيجاب العمل للثواب بالباء السببية، والجواب: أنّ السببية إنما هي بفضل الله سبحانه ووعده الذي لا يخلف لا بالذات بحيث يمتنع عدمه أو يوجب النقص أو الظلم. 44 - {إِنَّا كَذَلِكَ} الجزاء العظيم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لطاعتنا بالإخلاص في عقائدهم وأعمالهم لا جزاء أدنى منه. والمعنى: أي إنّا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيانا في الدنيا نجزي أهل الإحسان والإخلاص لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم أجرًا كما قال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}. 45 - {وَيْلٌ}؛ أي: حسرةٌ وندامةٌ {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ جوزي المتقون بما ذكر من الجزاء الأوفى {لِلْمُكَذِّبِينَ} بما أخبر الله تعالى به في كتابه من تكريم هؤلاء المتقين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[46]

بما أكرمهم به يوم القيامة، حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل، وهم بقوا في العذاب المخلّد الوبيل. 46 - ثم خاطب المكذبين مهدّدًا لهم، فقال: {كُلُوا} من نعيم الدنيا الفاني {وَتَمَتَّعُوا} بمتاعها تمتّعا {قَلِيلًا} أو زمانًا قليلًا؛ أي: عيشوا مدّة قليلةً إلى منتهى آجالكم؛ لأن زمان الدنيا قليل كمتاعها. {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}؛ أي: كافرون مستحقّون للعذاب في الآخرة. وجملة {كُلُوا} في محل النصب مقول لقول مقدّر وقع حالًا من المكذبين. قال في "الكواشي": لا أحب الوقف على {المكذبين} إن نصبت {كُلُوا} إلخ، حالًا منه. والمعنى (¬1): الويل ثابت لهم مقولًا لهم ذلك في الآخرة تذكيرًا لهم بحالهم في الدنيا بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد، فلا يرد كيف يقال لهم ذلك ولا تمتع لهم فيها؟ يعني: أنّ هذا القول لهم في الآخرة لا يكون لطلب الأكل والتمتع منهم بنعيم الدنيا حقيقةً لعدم إمكانه بل إنّما يقال لهم للتذكير المذكور، فيكون الأمر أمر توبيخ وتحسير وتحزين. وعلل ذلك بإجرامهم دلالةً على أن كل مجرم مآله هذا؛ أي: ليس له إلّا الأكل والتمتع أيّامًا قلائل ثم البقاء في الهلاك الأبدي. أو يقال لهم هذا في الدنيا. والمعنى عليه: أي كلوا بقية آجالكم وتمتعوا بقية أعماركم، وهي قليلة المدى، وسنستن بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت إلى حين ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا. وهذا، وإن كان في اللفظ أمرًا فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم. 47 - {وَيْلٌ}؛ أي: هلاك أبديّ وحزن سرمدي {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ وقعت المجازاة على الأعمال {لِلْمُكَذِّبِينَ} الذين عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل، وكذّبوا بما أخبرهم الله تعالى أنّه فعل بهم. 48 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}؛ أي: للمكذبين: {ارْكَعُوا}؛ أي: أطيعوا الله، واخشعوا، وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة؛ لأنّ الركوع ¬

_ (¬1) روح البيان.

[49]

والانحناء تواضع له وتعظيم، والسجود أبلغ منه في التواضع والتعظيم، ومن ذلك قالوا: إن السجود لغير الله كفر إن كان للعبادة، وخطر عظيم إن كان للتعظيم. وفي "حواشي ابن الشيخ": الركوع في اللغة حقيقة في مطلق الانحناء الحسّيّ، وركوع الصلاة من جملة أفراده، وتفسيره بالإطاعة والخضوع مجاز لغويّ تشبيهًا له بالانحناء الحسّي. {لَا يَرْكَعُونَ}؛ أي: لا يخضعون، ولا يقبلون ذلك، ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار. وقيل المعنى: إذا أمروا بالصلاة، أو بالركوع لا يفعلون، لما روى مقاتل: أنه نزل حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقيفًا بالصلاة، فقالوا: إنّا لا نخرّ ولا نحني؛ أي: لا نقوم قيام الراكع، فإنها سبة علينا؛ أي: إنّ هيئة التجبية هيئة تظهر وترفع فيها السبّة، وهي الاست؛ أي: الدبر. وهو عار وعيب علينا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود". وفي بعض التفاسير: كانوا في الجاهلية يسجدون للأصنام ولا يركعون لها، فصار الركوع من أعلام صلاة المسلمين لله تعالى. وفيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع في حقّ المؤاخذة في الآخرة، كما مرّ مرارًا. وفيه ذمّ عظيم لتارك الصلاة حيث لا يجيب داعي الله، أي: المؤذّن. فإنه يدعو في الأوقات الخمسة المؤمنين إلى بيت الله وإقامة الصلاة، وقس عليه سائر الداعين. والخلاصة (¬1): أي وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين: أعبدوا الله وأطيعوه واخشوا يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار استكبروا، وأصرّوا على عنادهم. وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنه قال: ما يقال هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود، فلا يستطيعون من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. 49 - {وَيْلٌ}؛ أي: توبيخ عظيم وعذاب شديد {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يوبّخ المكذبين، ويُعنّفون على أعمالهم الخبيثة {لِلْمُكَذِّبِينَ} بأوامر الله سبحانه ونواهيه. 50 - وبعد أن بالغ في زجر الكفّار بما تقدم ذكره، وحثّ على الانقياد للدين الحقّ ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي، ولم ¬

_ (¬1) المراغي.

يتّبعوا عظاته وما فيه رشدهم وصلاحهم في آخرتهم ودنياهم، فقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ}؛ أي: (¬1) فبأيّ خبر يخبر بالحقّ، وينطق بما كان وما يكون على الصدق؟ {بَعْدَهُ}؛ أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمط بديع معجز مؤسّس على حجج قاطعة وبراهبن ساطعة {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به؛ أي: بالقرآن الجامع لجميع الأحاديث والأخبار. فقوله: {فَبِأَيِّ ...} إلخ، جواب شرط محذوف، وكلمة {بعد} بمنزلة ثمّ في إفادة التراخي الرتبي، أي: فإذا لم يؤمنوا به وهو موصوف بما ذكر فبأي كتاب يؤمنون؟ أي: إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها فبأي كلام بعد هذا يصدقون؟ وقصارى ذلك: أنَّ القرآن قد اشتمل على البيان الشافي، والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت؟. وقرأ الجمهور (¬2) {يُؤْمِنُون} بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب. وقد ختم سبحانه (¬3) السورة بالتعجيب من الكفّار؛ لأن الاستفهام للتعجيب وبين أنهم في أقصى درجات التمرد والعناد، حيث لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الساطع والدليل القاطع على حقّيّة الدين القويم من حيث كونه في أرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وفي أقصى طبقات الإعجاز. واستدل بعض المعتزلة على أنّ القرآن ليس بقديم بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ}؛ إذ الحديث ضدّ القديم؛ لأنّ الحدوث والقدم لا يجتمعان في شيء واحد، ورد بأن الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث، ولو سلم فالعبارة لا تدل على أنّ القرآن محدث لاحتمال أن يكون المراد فبأيّ حديث بعد القديم يؤمنون؟ وروي: أنّ المرسلات نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمنى، يسمّى غار والمرسلات. خاتمة (¬4): وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}؛ لأنّ كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة، وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كلّ جملة منها للمكذّب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

بالويل في يوم الآخرة. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرًا من أحوال الكفّار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفّار والإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. الإعراب {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)}. {وَالْمُرْسَلَاتِ} {الواو}: حرف جرّ وقسم، {المرسلات} مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالمرسلات، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًّا. و {عُرْفًا}، إما حال من الضمير المستكن في المرسلات إن كان مأخوذًا من عرف الفرس؛ أي: شعر عنق الفرس، والمعنى على التشبيه؛ أي: أقسم بالرياح المرسلات حال كونها شبيهة بعرف الفرس من حيث تلاحقها وتتابعها كما أنّه كذلك. أو منصوب على المصدرية؛ أي: والمرسلات إرسالًا عرفًا؛ أي: متتابعًا متلاحقًا. أو على أنّه مفعول لأجله إن كان بمعنى المعروف؛ أي: والمرسلات لأجل العرف؛ أي؛ أرسلت للإحسان والمعروف. وجواب القسم وما عطف عليه قوله الآتي: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)}. {فَالْعَاصِفَاتِ} {الفاء}: عاطفة للتعقيب، {العاصفات} معطوف على {المرسلات}، وهي اسم فاعل من العصف بمعنى الشدّة، {عَصْفًا} مصدر مؤكّد منصوب على المفعولية المطلقة بـ {العاصفات}، {وَالنَّاشِرَاتِ} معطوف أيضًا على {وَالْمُرْسَلَاتِ}، {نَشْرًا} مفعول مطلق منصوب بـ {الناشرات}، {فَالْفَارِقَاتِ} معطوف على {الناشرات}، {فَرْقًا} منصوب على المفعولية المطلقة بـ {الفارقات}، {فَالْفَارِقَاتِ} معطوف على {الفارقات}، {ذِكْرًا} مفعول به لـ {الملقيات}. {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} منصوبان على البدلية من {ذِكْرًا} أو على أنّهما مفعولان لأجله أو على الحال من الضمير المستكن في {الملقيات} أي: معذرين ومنذرين. {إِنَّمَا} إنّ حرف نصب وتوكيد، {مَا} اسم موصول بمعنى الذي في محل النصب اسمها، ولا تكون {مَا} هنا مصدرية ولا كافّة، وقد مرّ لك أنها كتبت هنا متصلة بـ {إن} إتباعًا لرسم المصحف الإمام.

وجملة {تُوعَدُونَ} من الفعل المغيّر ونائب فعله صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إنّ الذي توعدونه من البعث والحشر، {لَوَاقِعٌ} خبر {إنّ}، واللام المزحلقة حرف ابتداء، وجملة {إنّ} من اسمها وخبرها جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}. {فَإِذَا النُّجُومُ} {الفاء} استئنافية، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط، {النُّجُومُ} نائب فاعل لفعل محذوف وجوبًا يفسّره ما بعده، تقديره: فإذا طمست النجوم طمست. وجملة {طُمِسَتْ} من الفعل المغيّر ونائب فاعله جملة مفسّرة لا محل لها من الإعراب. وفي جواب {إذا} قولان: أحدهما: أنّه محذوف تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون لدلالة قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} عليه. والثاني: أنّ جوابها قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} على إضمار القول؛ أي: يقال: لأيّ يوم أجّلت. فالفعل في الحقيقة هو الجواب، وجملة {إذا} من فعل شرطها وجوابها على كلا القولين مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وقوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)} جمل معطوفة على جملة قوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)}، وجرى فيها ما جرى فيه من الإعراب من الاشتغال؛ أي: وإذا فرجت السماء فرجت، وإذا نسفت الجبال نسفت، وإذا أقتت الرسل أقتت وقع ما توعدون من البعث والمجازاة. {لِأَيِّ يَوْمٍ} جار ومجرور متعلق بـ {أُجِّلَتْ}؛ أي: أجلت لأيّ يوم، والجملة مقول لقول محذوف في محل نصب على الحال من مرفوع {أُقِّتَتْ}؛ أي: ماذا أقتت الرسل مقولًا فيهم: لأيّ يوم أجلت وقع ما توعدون، أو مقول لقول محذوف وقع جوابًا لـ {إذا}، فلا محل لها من الإعراب كما تقدم؛ أي: يقال لأيّ يوم أجلت. {لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)} جار ومجرور، ومضاف إليه، بدل من الجار والمجرور في قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} بإعادة

العامل، ولك أن تعلقه بفعل محذوف؛ أي: أجلت ليوم الفصل. {وَمَا} {الواو}: استئنافية، {ما} اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَدْرَاكَ} فعل ماض ومفعول به أوّل، وفاعله ضمير يعود على {ما}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: وأي شيء مدر إياك جواب {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {مَا} استفهامية في محل الرفع مبتدأ، {يَوْمُ الْفَصْلِ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادّة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}؛ أي: شيء جعلك داريًا، جواب استفهام {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}، والاستفهام الأول معناه الاستبعاد والإنكار، والثاني للتهويل والتعظيم. {وَيْلٌ} مبتدأ سوغ الابتداء به مع كونه نكرة ما فيه من معنى الدعاء، {يَوْمَئِذٍ} ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ {وَيْلٌ}؛ لأنّه بمعنى هلاك، أو صفة له، والتنوين عوض عن جمل محذوفة تقتبس من السياق. والتقدير: يوم إذ طمست النجوم وفرجت السماء إلخ، {لِلْمُكَذِّبِينَ} خبر عن {وَيْلٌ}، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)} الهمزة للاستفهام التقريري؛ لأنّ الاستفهام في الأصل إنكاري، وقد دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، ويعبّر عنه بالاستفهام التقريري. {لم نهلك} جازم وفاعل مضارع، مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، يعود على الله، {الْأَوَّلِينَ} مفعول به، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب مع التراخي {نتبعهم} فعل مضارع ومفعول به، مرفوع على الاستئناف لتجرّده عن الناصب والجازم، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْآخِرِينَ} مفعول به ثان، أي: ثمّ نحن نتبعهم الآخرين. {كَذَلِكَ} صفة لمصدر محذوف؛ أي: فعلا مثل ذلك الفعل الفظيع، {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}. {نَفْعَلُ} فعل مضارع وفعل مستتر يعود على الله، {بِالْمُجْرِمِينَ} متعلق بـ {نَفْعَلُ}، والجملة مستأنفة. وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)} تقدم إعرابه آنفًا فلا عود ولا إعادة، وسيأتي سر تكرارها في مبحث البلاغة. {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}. {أَلَمْ} {الهمزة} للاستفهام التقريري: {لم} حرف جزم، {نَخْلُقْكُمْ} فعل

مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على الله، {مِنْ مَاءٍ} متعلق بـ {نَخْلُقْكُمْ}، {مَهِينٍ} نعت لـ {مَاءٍ} ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {فَجَعَلْنَاهُ} فعل وفاعل ومفعول أوّل، معطوف على الجملة الاستفهامية، {فِي قَرَارٍ} في موضع المفعول الثاني، {مَكِينٍ} صفة لـ {قَرَارٍ}، {إِلَى قَدَرٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعول {جعلناه}؛ أي: مؤخّرًا إلى قدر معلوم، و {مَعْلُومٍ} صفة لـ {قَدَرٍ}، {فَقَدَرْنَا} فعل وفاعل، معطوف على {جعلناه}، {فَنِعْمَ} {الفاء}: عاطفة، {نعم} فعل ماض جامد لإنشاء المدح، {الْقَادِرُونَ} فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قدرنا}، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: نحن. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)} تقدم إعرابها. {أَلَمْ نَجْعَلِ} {الهمزة} للاستفهام التقريريّ، {لم نجعل الأرض كفاتًا} جازم وفعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} مفعولان به لـ {كِفَاتًا} إن قلنا: إنّه مصدر أو جمع كافت لأنّه اسم فاعل، و {جعلنا} فعل وفاعل معطوف على الجملة الاستفهامية، {فِيهَا} متعلق بـ {جعلنا} إن كان بمعنى {خلقنا}، وفي موضع المفعول الثاني إن كان بمعنى صيرنا، {رَوَاسِىَ} مفعول {جعلنا}، {شَامِخَاتٍ} صفة لـ {رَوَاسِىَ}، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً} فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على {جعلنا}، {فُرَاتًا} صفة لـ {مَاءً}. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)} تقدم إعرابها. {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}. {انْطَلِقُوا} فعل أمر، مبني على حذف النون، {والواو}: فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: {انْطَلِقُوا} إلخ. وجملة القول مستأنفة، {إِلَى مَا} متعلق بـ {انْطَلِقُوا}، {كُنْتُمْ} فعل ناقص واسمه، {بِهِ} متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ} خبر {كَانَ}، وجملة {كُنْتُمْ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد الضمير في {به}. {انْطَلِقُوا} فعل وفاعل، توكيد لفظيّ لـ {انْطَلِقُوا} الأول، {إِلَى ظِلٍّ} معلق بـ {انْطَلِقُوا}، {ذِي ثَلَاثِ} صفة لـ {ظِلٍّ}،

{ذِي} مضاف، {ثَلَاثِ} مضاف إليه، {ثَلَاثِ} مضاف، {شُعَبٍ} مضاف إليه، {لَا ظَلِيلٍ} صفة لـ {ظِلٍّ}، و {وَلَا} متوسطة بين الصفة والموصوف لإفادة النفي؛ أي: إلى ظلّ غير ظليل. وجملة {لا يغني من اللهب} صفة ثانية لـ {ظِلٍّ}؛ أي: إلى ظل غير ظليل غير مغنٍ من اللهب، و {مِنَ اللَّهَبِ} متعلق بـ {يغني}، وجيء بالصفة الأولى اسمًا وبالثانية فعلًا دلالة على نفي ثبوت هذه الصفة ونفي التجدّد والحدوث للإغناء عن اللهب، كما في "السمين". {إِنَّهَا} ناصب واسمه، وجملة {تَرْمِي} خبره، وجملة إنّ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل عدم غناء الظلّ غير الظليل. {بِشَرَرٍ}، متعلق بـ {تَرْمِي}، {كَالْقَصْرِ} نعت لـ {شرر}، {كَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {جِمَالَتٌ} خبره، {صُفْرٌ} صفة لـ {جمالة}، وجملة {كأن} في محل الجر صفة ثانية لـ {شرر}. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)} تقدم إعرابها. {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}. {هَذَا} مبتدأ، و {يَوْمُ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، وجملة {لَا يَنْطِقُونَ} في محل جر بإضافة الظرف إليه، وقرىء بفتح الميم نصبًا على الظرفية، وهو متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. {وَلَا يُؤْذَنُ} {الواو}: عاطفة، {لا} نافية، {يُؤْذَنُ} فعل مضارع مغيّر الصيغة، {لَهُم} جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُؤْذَنُ}، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة {لَا يَنْطِقُونَ}. {فَيَعْتَذِرُونَ} {الفاء}: عاطفة، {يعتذرون} فعل وفاعل، معطوف على {يُؤْذَنُ}، منتظم في سلك النفي من غير تسبّب عنه، ولهذا لم ينصب؛ لأنّه لو نصب لـ كان مسبّبًا عنه لا محالة. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)} تقدم إعرابها. {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {جَمَعْنَاكُمْ} فعل وفاعل ومفعول به، {وَالْأَوَّلِينَ} معطوف على الكاف أو مفعول معه، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنّها فسرت جملة قوله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ}. {فإن} الفاء: عاطفة، {إنْ} حرف شرط، {كَانَ} فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {لَكُمْ} خبرها مقدم، {كَيْدٌ} اسمها مؤخّر، {فَكِيدُونِ} {الفاء}: رابطة الجواب، {كيدون} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية،

وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة مفعول به، وجملة {كيدون} في محل الجزم بـ {إنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {جَمَعْنَاكُمْ}. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}. تقدم إعرابها. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} ناصب واسمه، {فِي ظِلَالٍ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لذكر أحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز، {وَعُيُونٍ} معطوف على {ظِلَالٍ}، {وَفَوَاكِهَ} معطوف على {ظلال}، مجرور بالفتحة، لأنّه على صيغة منتهى المجموع، {مِمَّا} جار ومجرور نعت لـ {فواكه}، وجملة {يَشْتَهُونَ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما يشتهونه. {كُلُوا} فعل أمر وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من الضمير المستكن في خبر {إنّ} الذي هو قوله: {فِي ظِلَالٍ}؛ أي: مستقرّون في ظلال مقولا لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلخ. {وَاشْرَبُوا} معطوف على {كُلُوا}، {هَنِيئًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا وشربًا هنيئين، أو منصوب على الحال من فاعل {كُلُوا وَاشْرَبُوا}، أي: حال كونكم متهنّئين. {بِمَا} متعلق بـ {هَنِيئًا} {كنتم} فعل ناقص واسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} خبرها، وجملة {كان} صلة لـ {ما} الموصولة. {إِنَّا} ناصب واسمه، {كَذلِكَ} صفة لمصدر محذوف مقدم على عامله؛ أي: جزاء مثل ذلك الجزاء العظيم. {نَجْزِي} فعل مضارع وفاعل مستتر، {الْمُحْسِنِينَ} مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إنّ} جملة تعليليّة، لا محل لها من الإعراب. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)} تقدم إعرابها. {كُلُوا} فعل أمر وفاعل، {وَتَمَتَّعُوا} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من {المكذبين}، والتقدير: الويل ثابت للمكذبين حال كونهم مقولًا لهم: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا}. قَلِيلًا صفة لظرف محذوف تقديره: زمانًا قليلًا، والظرف تنازع فيه {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا}، أو صفة لمصدر محذوف أي: أكلًا قليلًا وتمتعًا قليلًا. {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ناصب واسمه وخبره، والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتعليل التهديد المفهوم من الأمر

بالأكل والتمتع. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)} تقدم إعرابها. {وَإِذَا} {الواو}: استئنافية، {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، {قِيلَ} فعل ماض مغير الصيغة، {لَهُمُ} متعلق بـ {قِيلَ}، {ارْكَعُوا} نائب فاعل محكيّ لـ {قِيلَ}، وجملة {قيل} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، وجملة {لَا يَرْكَعُونَ} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} مستأنفة. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)} تقدم إعرابها. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} {الفاء}: استئنافية، الباء، حرف جر. {أيّ} اسم استفهام للاستفهام التعجبي، مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ {يؤمنون}، {أي} مضاف، {حَدِيثٍ} مضاف إليه، {بَعْدَهُ} ظرف متعلق بمحذوف صفة لحديث، {يُؤْمِنُونَ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جملة استفهامية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {عُرْفًا} وفي "القاموس": والعرف بالضمّ: شعر عنق الفرس اهـ. ثم قال: والمعرفة كمرحلة: موضع العرف من الفرس اهـ. {فَالْعَاصِفَاتِ} من العصف بمعنى الشدّة، وفي "المصباح": عصفت الريح عصفًا من باب ضرب وعصوفًا أيضًا: اشتدت. {نَشْرًا} مصدر نشر من باب نصر، يقال: نشرت الريح المطر إذا فرقته حيث شاء الله تعالى، وفرق بين الحق والباطل فرقًا من باب نصر، كما في "المختار". {عُذْرًا} مصدر من عذر إذا محا الإساءة. {أَوْ نُذْرًا} اسم من أنذر إذا خوّف، لا مصدر؛ لأنّه لم يسمع فعل مصدرًا من أفعل. {طُمِسَتْ}؛ أي: محيت ومحقت وذهب نورها. {فُرِجَتْ}؛ أي: فتحت فكانت أبوابًا. {نُسِفَتْ}؛ أي: تفتتت فصارت كالرمل السائل، وفي "المصباح": نسفت الريح التراب نسفًا من باب ضرب: اقتلعته وفرقته اهـ. {أُقِّتَتْ} قرأه أبو عمرو البصري {وُقّتَتْ} بالواو من الوقت، فالواو هي الأصل فاء الكلمة. وقرأه الباقون {أقتت} بالهمزة، وفيه إبدال الواو همزة؛ لأن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يجري مجرى الجمع بين المثلين، فيكون ثقيلًا، ولهذا السبب تستثقل الكسرة على الياء، ولم تبدل في نحو: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، لأنّ ضمة الواو ليست بلازمةٍ فيه. وفي "كشف الأسرار": الألف والواو لغتان، والعرب تبدل الألف من الواو، تقول: وسادة

وإسادة وكتاب مورخ ومؤرخ وقوس موتر ومؤتر. {وَمَا أَدْرَاكَ} فيه إعلال بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، أصله: أدريك بوزن أفعل. {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} والميم فيه أصلية، ومهانته قلته وخسته، وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته؛ أي: خلقناكم منه. {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} فالقرار موضع الاستقرار، والمكين: الحصين الحفيظ له مما يفسده كالهواء. {كِفَاتًا} والكفات اسم ما يكفت؛ أي: يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام، لما يضم والجماع لما يجمع، نحو: التقوى جماع كل خير، والخمر جماع كل إثم. {رَوَاسِيَ}؛ أي: جبالًا ثوابت من وما الشيء يرسو؛ أي: ثبت. {شَامِخَاتٍ} جمع شامخة، والشامخ: العالي المرتفع؛ أي: مرتفعات. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كأشهر معلومات ونحوه. {مَاءً فُرَاتًا} يقال: الفرات للواحد والجمع، وتاؤه أصلية {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} جمع شعبة بمعنى قطعة وفرقة. {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}؛ أي: لا يدفعه، واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. ترمي بشرر فالشرر جمع شررة، وهي ما تطاير من النار في الجهات متفرقًا كالنجوم. قال في "القاموس": الشرر والشرار كجبلٍ وكتاب: ما يتطاير من النار، واجدتهما بهاء انتهى. {كَالْقَصْرِ} في العظم، مفرد جمعه قصور، وهو البناء العالي، ووصف به الجمع باعتبار كل واحد من أفراده، كما مرّ. {جمالة صفر} جمع جمل كحجارة في جمع حجر، ويقال: جمل وجمال وجمالة نحو: ذكر وذكارٍ وذكارة وحجر وحجار وحجارة. والتاء فيه لتأنيث الجمع أو اسم جمع كالحجارة. والجمل: ذكر الإبل، والناقة أنثاه. والصفر: جمع أصفر، والصفرة: لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهي إلى البياض أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد. {فَكِيدُونِ} أمر من كاد يكيد، وأصل يكيد يكيد بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الكاف فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مدّ، فلما بني منه الأمر حذف حرف المضارعة، وحذفت نون الرفع كما حذفت ياء المتكلم لرعاية الفواصل. والكيد: هو المكر والاحتيال والخديعة. {فِي ظِلَالٍ} جمع ظل كشعاب وشعب أو ظلة كقباب وقبة. {يَشْتَهُونَ} أصله: يشتهيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما حذفت حركتها سكنت فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت الهاء لمناسبة الواو.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع. فمنها: التأكيد بذكر المصادر زيادة في البيان وتقوية للكلام في قوله: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)}. وهو من المحسنات اللفظية. ومنها: الطباق بين {عُذْرًا} و {نُذْرًا} وبين {أَحْيَاءً} و {وَأَمْوَاتًا} وبين {الْأَوَّلِينَ} و {الْآخِرِينَ}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر مع الإتيان بصيغة الاستفهام في قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)} لزيادة تفظيع الأمر وتهويله، وكان مقتضى السياق وما أدراك ما هو. ومنها: تكرار آية {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} في عشر مواضع لزيادة الترهيب والتهديد؛ لأن التكرار في مقام الترغيب والترهيب مستساغ حسن، لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقة على المرّات المكررة كما هنا. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)} وفي قوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)}. ومنها: الجناس الناقص بين لفظي {مَهِينٍ} و {مَكِينٍ}. ومنها: التنكير في قوله: {رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} للتفخيم، أو للإشعار بأنّ ما يرى على ظهر الأرض من الجبال بعض منها، وإنّ في عداد الجبال ما لم يعرف ولم ير، فإن في السماء جبالًا أيضًا بدلالة قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}. ومنها: التنكير في قوله: {مَاءً فُرَاتًا} للتفخيم أو لإفادة التبعيض؛ لأنّ في السماء ماء فراتًا أيضًا، بل هي معدنه ومصبه. ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلق في قوله: {إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} لرعاية رؤوس الفواصل. ومنها: الكناية في قوله: {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ}؛ لأنّه كناية عن كون ذلك الدخان عظيمًا بناءً على أن التشعب من لوازمه.

ومنها: وصف الظل بالظليل في قوله: {لَا ظَلِيلٍ} للتأكيد كنومٍ نائمٍ، وللدلالة على أن تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظل استهزاء بهم. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} والمرسل المفصّل في قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}. فالأول وهو التشبيه بالقصر تشبيه في العظم، والثاني وهو التشبيه بالجمل تشبيه في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة. ومنها: الإهانة والتعجيز والتقريع في قوله: {فَكِيدُونِ}؛ لأنّ الأمر فيه أمر إهانة، والخطاب فيه خطاب تعجيز وتقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ}، سمّي العذاب ظلًّا تهكّمًا وسخرية بهم. ومنها: المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجّار في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}، قابل ذلك بقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ} إلخ، من إطلاق الحال وإرادة المحل، وهو الجنة، علاقته المحلية؛ لأنّ الظلال تمتدّ فيها، والعيون تجري فيها، والفواكه تنضج فيها. ومنها: المجاز المرسل أيضًا في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} علاقته البعضيّة، لأنّه سمى الصلاة باسم جزء من أجزائها، وهو الركوع، وإنما خص الركوع بالذكر مع أن الصلاة تشتمل على أفعال كثيرة؛ لأنّ العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. ومنها: التنكير في قوله: {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)}، فقد نكّرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعًا للتفخيم، كأنّه قيل: أحياء لا يعدون وأمواتًا لا يحصون على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة من المقاصد 1 - الإخبار بأنّ يوم الفصل آتٍ لا شكّ فيه، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام. 2 - وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين. 3 - توبيخ المكذّبين على نكران نعم الله عليهم في الأنفس والآفاق. 4 - وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان. 5 - وصف نعيم المتقين، وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان، والأرض والجبال وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تمت سورة المرسلات بعون خالق البريات، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمدٍ النبيّ الأمّي، وعلى آله وصبحه وسلم. وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء في يوم الثلاثاء قبيل الغروب اليوم السابع من شهر الجمادى الأخيرة من شهورة سنة ألف وأربع مئة وست عثرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. بعد أن عاقني عن موالاته شواغل الدهر، فلله الحمد على كماله، والشكر له على نواله. وصلى الله تعالى على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين آمين يا ربّ العالمين ألف ألف آمين.

شعرٌ إِنّيْ إِذَا مَا خَتَمْتُ خَتْمًا ... أَقُوْلُ يا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا لَكَ الحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِي ... وَلَكَ الشُّكْرُ شُكْرًا يُكَافِي عَلَى مَا بِهِ مِنَ التَّفْسِيْرِ أَكْرَمْتَنِي ... وَمَا بِهِ مِنَ الفُنُوْنِ أَلْهَمْتَنِييْ آخرُ يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيْهِ خُسْرَانُ عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ آخرُ وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ أنَّكَ قَاعِدُ ... عَلَى الأَرْضِ فِيْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَسِيْرُ فَسَيْرُك يَا هَذَا كَسَيْرِ سَفِيْنَةِ ... بِقَوْمٍ قُعُوْدٍ وَالقُلُوْبُ تَطِيْرُ آخرُ كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبَا ... وَارْضُ بِاللهِ صَاحِبَا قَلِّبِ الْخَلْقِ كَيْفَ شِئْـ ... ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [31]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي جعل القرآن منهلًا عذبًا للورود والصدور، وأنزله موعظةً وشفاءً لما في الصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي أجرى من مسجله ما يحاكي السلسبيل والرحيق، وأفحم ببلاغته كل متكلم منطيق، وفسر الآيات في الأنفس والآفاق على مراد الله سبحان الملك الخلاق، وعلى آله وصحبه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم بإحسان ممن تخلق بالقرآن في كل زمان. أما بعد: فيقول العبد المعترف بذنبه وخطئه، المنادي لربه في عفوه وعطائه: إني لما فرغت من تفسير الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم .. عزمت إن شاء الله تعالى على الشروع في تفسير الجزء الثلاثين، وإن كان علم التفسير لا يقحم في معاركه كل ذمير، وإن كان أسدًا، ولا يحمل لواءه كل أمير، وإن مات حسدًا، وذلك أظهر من أن يورد عليه دليل، كالنيرين لغير كليل، ومع خطر ذاك فالأمد قصير، وفي العبد تقصير، وكم ترى من نحرير كامل في التحرير والتقرير، قد أصابه سهم القضاء قبل بلوغ الأمل، وذلك بحلول ريب المنون والأجل، أو بتطاول يد الزمان، فإن الدنيا لا تصفو لشاربٍ وإن كانت ماء الحيوان، وأي وجود لا ينسج عليه عناكب الآفات والعاهات، وأي نعيم لا يكدره الدهر هيهات هيهات. اللهم كما عودتني في الأول خيرًا كثيرًا، فيسر لي الأمر في الآخر تيسيرًا، واجعل رقيمي هذا سببًا لبياض الوجه، كما تبيض وجوه أولئك، وامح مسودات أعمالي بحق كتابك الكريم، واجعل قراري في جنات النعيم، ولم أكن بدعائك رب شقيًا، بكرة وعشيًا، ما دمت حيًا، فلك الحمد يا إلهي في الأولى والأخرى، على عنايتك الكبرى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وأقول مستمدًا من الله سبحانه التوفيق والهداية لأقوم الطريق:

سورة النبأ

سورة النبأ سورة النبأ، وتسمى سورة عمَّ، وسورة المعصرات، وسورة التساؤل، مكية عند الجميع (¬1)، نزلت بعد سورة المعارج، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة عم يتساءلون بمكة، وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله. وهي أربعون آية، وقيل: إحدى وأربعون آية، وكلماتها مئة وثلاث وسبعون كلمة، وحروفها تسع مئة وسبعون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (¬2): 1 - اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر في السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به. 2 - أن في هذه وما قبلها تأنيبًا وتقريعًا للمكذبين، فهناك قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)}، وهنا قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)}. 3 - أن في كل منهما وصف الجمة والنار، وما ينعم به المتقون، ويعذب به المكذبون. 4 - أن في هذه تفصيل ما أجمل في تلك من يوم الفصل، فهناك قال: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)} وهنا قال: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)} إلى آخر السورة. وقال أبو حيان (¬3): مناسبتها لما قبلها ظاهرة لما ذكر في ما قبله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: بعد الحديث الذي هو القرآن، وكانوا يتجادلون فيه ويتساءلون عنه .. قال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ": سورة النبأ محكم كلها، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

تسميتها: سميت سورة النبأ، وسورة التساؤل؛ لذكر النبأ العظيم، أو التساؤل فيها. فضلها: ومما ورد في فضلها (¬1): ما روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قرأ عم يتساءلون .. سقاه الله برد الشراب يوم القيامة". وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموا سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}، وتعلموا {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)}، فإنكم لو تعلمون ما فيهن .. لعطلتم ما أنتم عليه وتعلمتموهن، وتقربوا إلى الله بهن، إن الله يغفر بهن كل ذنب إلا الشرك بالله". ولكن فيه مقال. وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب قال: "شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"، وفيه إشارة إلى أن من تعلم هذه السور، ينبغي له أن يتعلم معانيها أيضًا، إذ لا يحصل المقصود إلا به، وتصريح بأن الآخرة ومطالعة الوعيد يشيب الإنسان. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}. المناسبة لما اختتم الله سبحانه وتعالى سورة المرسلات بذكر يوم القيامة، ووعيد المكذبين؛ حيث قال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}. افتتح هذه السورة بذكر النبأ العظيم، ويوم القيامة، ودلائل القدرة الربانية على البعث والنشور، والإعادة بعد الإبادة، والإحياء بعد الإماتة؛ ليقوم الناس لرب العالمين، فيلقى كل منهم جزاء علمه. وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورًا تسعة يشاهدونها بأعينهم، لا يخفى عليهم شيء منها: 1 - انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام. 2 - ثبات الجبال صاعدة في الجو.

3 - تنوع الآدميين إلى ذكور وإناث. 4 - جعل النوم راحةً للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره. 5 - جعل الليل ساترًا للخلق. 6 - جعل النهار وقتًا لشؤون الحياة والمعاش. 7 - ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع. 8 - وجود الشمس المنيرة المتوهجة. 9 - نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات، فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا .. فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة. قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة .. أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله، وهو يوم الفصل، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه، تخويفًا لهم من الاستمرار على التكذيب بعدما وضحت الأدلة، واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأن عظيم، وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات الله واتخذوها هزوًا، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه، وأنهم سيقيمون فيها أحقابًا طوالًا لا يجدون شيئًا من النعيم والراحة، ولا يذوقون فيها روحًا ينفس عنهم حر النار، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحار، والصديد الذي يسيل من أجسادهم جزاء سيء أعمالهم، إذ هم كانوا لا ينظرون يوم الحساب، ومن ثم اقترفوا السيئات، وارتكبوا مختلف المعاصي، وكذبوا الدلائل التي أقامها الله تعالى على صدق رسوله أشد التكذيب، وقد أحصى الله كل شيء في كتاب علمه، فلم يغب عنه شيء صدر منهم، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا، وستكون له كلمة الفصل، فيقول لهم {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}. قوله تعالى {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين حال المكذبين .. أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء من الله تعالى، وفي هذا استنهاض لعوالي الهمم بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها

[1]

إيلامًا لأنفس الضالين المكذبين. قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق، وتنتهي به أيام الدنيا، وأن دار العذاب معدة للكافرين، وأن الفوز بالنعيم للمتقين .. أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفًا صفًا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولًا صحيحًا، ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله، ومرجعه إلى النار، وفريق مآبه القرب من الله، ومنازل الكرامة، فمن كانت له مشيئة صادقة .. فليتخذ مآبًا إلى ربه، وليعمل عملًا صالحًا يقربه منه، ويحله محل كرامته. ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم، وأنهم يعلمون غدًا ما قدمته أيديهم، ويرونه حاضرًا لديهم، وحينئذٍ يندمون، ولات ساعة مندم، ويبلغ من أَمْرِهم أن يقولوا: ليتنا كنا ترابًا لم نصب حظًا من الحياة. أسباب النزول لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برسالة رب العالمين إلى العرب خاصة، وإلى الناس كافةً، وأمرهم بتوحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، وصاع بأمر الله وبلغهم بالبعث والنشور بعد الموت، وتلا عليهم القرآن العظيم .. جعلوا يتساءلون بينهم، فكانوا كلما اجتمعوا في ناد من أنديتهم، أو ندوة من ندواتهم .. أخذوا يتحدثون في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته وما جاء به من ربه، ويسأل بعضهم بعضًا، ويسألون غيرهم عن طريق الإنكار عليه، ويتعجبون منه، ويقولون ما الذي أتى به محمد، وهل هو ساحر، أم شاعر، أم كاهن، أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟ فنزلت هذه السورة إنكارًا عليهم، وتعجيبًا من تساؤلهم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {عَمَّ}: أصله (¬1): عن ما، أدغمت النون في الميم لاشتراكهما في الغنة، ¬

_ (¬1) روح البيان.

فصار عما، ثم حذفت الألف كما في لِمَ وبِمَ وفيمَ وإلامَ وعلامَ، فإنها في الأصل: لما وبما وفيما وإلى ما وعلى ما؛ إما فرقًا بين الاستفهامية وغيرها، أو قصدًا للخفة لكثرة استعمالها، وقد جاءت في العشر غير محذوفة، كما ذكره أبو البقاء، ومنه قول الشاعر: عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيْمٌ ... كَخِنْزِيْرٍ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ ولكنه قليل لا يجوز إلا لضرورة، وما فيها من الإبهام للإيذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهوله، وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة، كأنه خفي جنسه، فيسأل عنه، فالاستفهام ليس على حقيقته، بل لمجرد التفخيم، فإن المسؤول عنه ليس بمجهول بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا تخفى عليه خافية، قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى تفخيم القصة، كما تقول أي شيء تريد؟ إذا عظمت شأنه، وقرأ الجمهور (¬1): {عَمَّ} بحذف الألف لما ذكرنا آنفًا، وقرأ أبي وابن مسعود وعكرمة وعيسى: {عما} بالألف، وهو أصل: عم، ولكنه قليل كما مر آنفًا، وقرأ الضحاك واين كثير في رواية والبزي: {عمه} بهاء السكت عوضًا عن الألف إجراء للوصل مجرى الوقف لأن الأكثر في الوقف على ما الاستفهامية هو إلحاق هاء السكت إذا أضيف إليها نحو: مجيء مه، والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب، كما تقول أي رجل تريد؟ وزيد ما زيد؟ كأنه لما كان عدم النظير أو قليله خفي عليك جنسه، فأخذت تستفهم عنه، ثم جردت العبارة عن تفخيم الشيء، فجاء في القرآن، والمعنى عن أي شيء عظيم يتساءلون. {يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي أهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث والحشر الجسماني ويتحدثون فيما بينهم، ويخوضون فيه إنكارًا واستهزاءً، لكن لا على طريق التساؤل عن حقيقته ومسماه، بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإن (ما) وإن وضعت لطلب حقائق الأشياء، ومسميات أسمائها، كما في قولك: ما المَلَك، وما الروح؟ لكنها قد يطلب بها الصفة والحال، تقول: ما زيد؟ فيقال عالم أو طبيب، وقيل: يتساءلون عن القرآن، وإنما كان عظيمًا؛ لأنه ينبىء عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور، قال الفراء: التساؤل هو أن يسأل بعضهم ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[2]

بعضًا كالتقابل، وقد يستعمل أيضًا في أن يتحدثوا به، وإن لم يكن سؤال، قال الله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} الآية، وهذا يدل على أنه التحدث. انتهى. وقرأ الجمهور: {يَتَسَاءَلُونَ}، وقرأ عبد الله وابن جبير: {يَسَّاءلون} بغير تاء وشد السين، وأصله {يتساءلون} بالتاء، فأدغمت التاء في السين. 2 - ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا، وبيَّنه فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر، وهو جواب وبيان لشأن المسؤول عنه، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون؟ هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب: عن النبأ العظيم الخارج عن دائرة علوم الخلق يتساءلون على منهاج قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. والفائدة في أن يذكر السؤال ثم أن يذكر الجواب معه (¬1): كون هذا الأسلوب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، فـ {عَنْ} متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعةً إلى البيان، ومراعاة لترتيب السؤال، فإن الجار فيه مقدم على متعلقه. وقيل: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} استفهام آخر بمعنى: أعن النبأ العظيم، أم عن غيره؟ إلا أنه حذف منه حرف الاستفهام لدلالة المذكور عليه، ونظيره قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}؛ أي: أهم الخالدون؟ 3 - {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} وصف النبأ بعد وصفه بـ {الْعَظِيمِ} تأكيدًا لخطره إثر تأكيد، وإشعارًا بمدار السؤال عنه، فهو متصف بالعُظم، ومتصف بوقوع الاختلاف فيه، {فِيهِ} متعلق بـ {مُخْتَلِفُونَ} قدم عليه اهتمامًا به ورعايةً للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات في الاختلاف فيه؛ أي هم راسخون في الاختلاف فيه، فمن جازم باستحالته يقول: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)} ومن مقر يزعم أن آلهته تشفع له، كما قالوا {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، ومن شاكٍ يقول: {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

وفي "الشوكاني": وقد استدل على أن {النَّبَإِ الْعَظِيمِ} هو القرآن بقوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحرًا، وبعضهم شعرًا، وبعضهم كهانةً، وبعضهم قال: هو أساطير الأولين، وأما البعث .. فقد اتفق الكفار إذا ذاك على إنكاره، ويمكن أن يقال: إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدق به المؤمنون، وكذب به الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل. ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}، ومما يدل على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون، وتأباه عقولهم السخيفة. وقيل: إن الضمير في قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} يرجع إلى المؤمنين والكفار؛ لأنهم جميعًا كانوا يتساءلون عنه، فأما المؤمن فيزداد يقينًا واستعدادًا وبصيرةً في دينه، وأما الكافر فاستهزاءً وسخريةً، قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول، ويقولون: ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة؟ والمعنى (¬1): أي عن أيِّ شيء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم فيما بينهم إنكارًا واستهزاءً، {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} أي: عن الخبر العظيم الشأن الذي اختلفوا فيه يتساءلون، فقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} سؤال، وقوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} جواب، فالسائل والمجيب هو الله تعالى، وإيراد الكلام بصورة السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، وتثبيت الجواب في نفس السائل، كما مر. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن .. جعلوا يتساءلون فيما بينهم، فيقولون ماذا جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاءً. وقيل: {النَّبَإِ الْعَظِيمِ}: هو نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنهم عجبوا إرسال الله محمدًا إليهم. 4 - ثم أخذ سبحانه يرد عليهم متوعدًا لهم، فقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)}، فالكلام (¬2) فيه ردع كما يستفاد من {كَلَّا}، ووعيد كما يستفاد من {سَيَعْلَمُونَ}؛ أي ليس أمر البعث مما ينكر أو يشك فيه، بحيث يتساءل عنه، سيعلمون أن ما يتساءلون عنه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه، مقطوع لا شك، وقيل: {كَلَّا} بمعنى حقًا سيعلمون ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[5]

أي حقًا يعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، ويعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. والمعنى: أي: ليس (¬1) الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون البعث بعد الموت، ثم توعدهم بأنهم سيعلمون إذا ما عاينوا بأنفسهم حقيقة ما كانوا ينكرون، وتنقطع عنهم الريبة حين يسأل كل عامل عما عمل، ويفصل بين الخلائق. وقصارى ذلك: فليزدجروا عما هم فيه، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال، وأن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا شك فيه ولا ريب، 5 - ثم أكد هذا الوعيد بقوله: {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} تكرير (¬2) للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد، و {ثُمَّ} للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد، يعني: أن {ثُمَّ} موضوعة للتراخي الزماني، وقد تستعمل مجازًا في التراخي الرتبي؛ أي: لتباعد ما بين المعطوفين في الشدة والفظاعة، وذلك لتثبيه التباعد الرتبي بالتراخي الزماني في الاشتمال على مطلق التباعد بين الأمرين، والمعنى المجازي هو المراد هنا؛ لأن المقام مقام التشديد والتهديد، وذلك إنما يكون آكد بالحمل عليه، وبعضهم حملها على معناها الحقيقي فقال: سيعلمون حقيته عند النزع، ثم في يوم القيامة، ولا شك أن القيامة متراخية بحسب الزمان عن وقت النزع، فـ {كَلَّا} ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين، و {سَيَعْلَمُونَ} وعيد لهم بطريق الاستئناف، وتعليل للردع، والسين للتقريب والتأكيد، وليس مفعوله ما ينبىء عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه، ووقوع ما يختلفون فيه، بل هو عبارة عما يلاقون من فنون الدواهي والعقوبات، والتعبير عن لقائها بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والاختلاف، والتقدير: أي سيعلمون ما يحل بهم من فنون العقوبات. وقرأ الجمهور (¬3): {سَيَعْلَمُونَ} بياء الغيبة في الموضعين، وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في روايةٍ عنه بالفوقية على الخطاب في الموضعين، وقرأ الضحاك: الأول بالفوقية، والثاني بالتحتية، وقال الضحاك أيضًا: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)} ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[6]

يعني: الكافرين عاقبة التكذيب {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} يعني: المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل: بالعكس، وقيل هو وعيد بعد وعيد، وقيل: المعنى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)} عند النزع {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} عند البعث، كما مر. 6 - ثم شرع يبين عظيم قدرته، وآيات رحمته التي غفل عنها هؤلاء المنكرون مع أنها بين أعينهم في كل حين؛ ليعرفوا توحيده، ويؤمنوا بما جاء به رسوله، فقال: 1 - {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)} والاستفهام (¬1) للتقرير بمعنى: جعلنا الأرض مهادًا، والمهاد: بمعنى البساط والفراش، أي: ألم نجعل الأرض بساطًا ممهودًا، وفراشًا مفروشًا لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه وفراشه؛ أي: قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث، والمهاد: الوطاء والفراش، كما في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} و {مِهَادًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلَ} إن كان الجعل بمعنى التصيير، وحال مقدرة إن كان بمعنى الخلق، وجوز أن يكون جمع مهد، ككعاب وكعب، وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى والبلاد وغيرها، أو للتصرف فيها بأن يجعل بعضها مزارع، وبعضها مساكن إلى غير ذلك. والجملة الاستفهامية مستأنفة مسوقة لتحقيق النبأ، والمتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع والوعيد، ومن هنا اتضح أن المتساءل عنه هو البعث لا القرآن، أو نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قيل؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث. وقرأ الجمهور {مِهَادًا} قال ابن الشيخ: المهاد: مصدر ماهدت بمعنى مهدت كسافرت بمعنى: سفرت، أطلق على الأرض الممهودة. وقرأ مجاهد (¬2) وعيسى وبعض الكوفيين: {مهد} بفتح الميم وسكون الهاء، والمعنى: أنها كالمهد للصبي، وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة. وقال ابن خالويه: مهدًا على التوحيد عند مجاهد وعيسى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[7]

الهمداني، وهو الحوفي، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كنايةً عن عيسى الهمداني، وإذا أطلقوا عيسى، أو قالوا: عيسى البصرة .. فهو عيسى ابن عمر الثقفي. والمعنى: أي فكيف تنكرون أو تشكون أيها الجاحدون في البعث والنشور، وقد رأيتم ما يدل عليه من قدرة الله التامة، وعلمه المحيط بكل شيء، وحكمته الباهرة التي تقتضي أن لا يكون ما خلق من الخلق عبثًا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}. فمن ينعم بهذه النعم لا يمكن أن يهملها ويتركها سدًى، انظروا إلى الأرض التي جعلها الله لك ممهدةً وموطأة الأكناف للناس والدواب، يقيمون عليها، ويفترشونها، وينتفعون بها بخيراتها الظاهرة والباطنة، ويبنون القصور الشامخة والعمارات السامقة، وهي بين أيديهم ذليلة لا تستعصي حتى على الطفل منهم يشقها كيف يشاء، وهي في ضخاتها وعظمتها، لكن الله الذي خلقها ذللها للناس ومهدها لهم، ووطأها وألانها بين أيديهم، وجعلها ساكنة ثابتة قارَّة لا تتحرك ولا تضطرب إلا بإذنه وقدرته تعالى، ألا ينظرون إلى عظمة هذه الأرض التي منها خلقوا، وفيها سيعودون، ومنها سيخرجون تارة أخرى شاؤوا أم أبوا، ألا ينظرون إلى أسرار التربة التي في الأرض، وما فيها من عجائب صنع الله تعالى، ففي هذا التراب الذي تحت قدميك الحلو والحامض، والدم واللحم، والعظم والخبر، والقطن والصوف، وما يأكل الناس والدواب ويلبس، فسبحان الخالق العظيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، واسمعوا قول الله سبحانه إذ يقول: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} وأشباه ذلك من الآيات. 2 - 7 {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)}؛ أي: وجعلنا الجبال لها كالأوتاد في لا تميل باهلها ولا تضطرب بسكانها، كما ترسى الخيام بالأوتاد، ولولاها لكانت دائمة الاضطراب لما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان والمعادن المختلفة الأشكال والألوان، فلا تتم الحكمة في كونها مهادًا، فهو من باب التشبيه البليغ كما سيأتي، والأوتاد: جمع وتد، وهو ما يوتد ويحكم به المتزلزل المتحرك من اللوح وغيره.

[8]

فإن قيل (¬1): أليست إرادة الله وقدرته كافيتين في التثبيت؟. أجيب: بأنه نعم إلا أنه مسبب الأسباب، وذلك من كمال القدرة، وإطلاق كلمة الأرض على الكرة الأرضية اصطلاح أهل الهيئة، وليس معناها في اللغة إلا البسيط الممدود تحت أقدام المخلوقين المسمى بالبر، وهو قشر جامد على مائع مذاب، ولا بد أن يكون في معرض الميدان والاضطراب، ولولا أن الجبال أثقلته واشتبكت به أصولها، وهي من الأحجار الصلبة والصخور الجامدة .. لكانت الزلازل دائمة الحدوث، والخسف والشق وهلاك آلاف من النفوس في كل يوم متواترةً متكررةً، ولكن الحكمة الربانية اقتضت تصلب القشر الأرضي بالأحجار؛ لئلا تميد بأهلها، فسبحان الذي جعل الجبال أوتادًا، والأرض مهادًا، وسلكها ينابع وأنهارًا وسبلًا فجاجًا، جل جلاله وعز كماله. 3 - 8 {وَخَلَقْنَاكُمْ} معطوف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه، فإنه في قوة: إنا جعلنا الأرض مهادا، أو على ما يقتضيه الاستفهام التقريري، فإنه في قوة أن يقال: قد جعلنا الأرض مهادًا. {أَزْوَاجًا}؛ أي: حال كونكم أصنافًا ذكرًا وأنثى ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتسنى التناسل. والمعنى (¬2): أي وجعلناكم أصنافًا ذكورًا وإناثًا ليتمتع كل منكم بالآخر، وليتم الائتناس، والتعاون على سعادة المعيشة، وحفظ الحياة بالإنسال والتوليد، وتكميلها بالتربية والتعليم قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وقيل: معناه: وخلقناكم أشكالًا كل واحد شكل للآخر، وقيل: معنى أصنافًا: أي: أسود وأبيض وأحمر وأصفر وصغيرًا وكبيرًا، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين بني آدم. وقال بعضهم: معنى الآية: وخلقناكم حال كونكم معروضين لأوصاف متقابلة، كل واحد منها مزدوج بما يقابله، كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والعلم والجهل، والقوة والضعف، والذكورة والأنوثة، والطول والقصر، إلى غير ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[9]

ذلك، وبه يصح الابتلاء، فإن الفاضل يشتغل بالشكر، والمفضول بالصبر، ويعرت قدر النعمة عند الترقي من الصبر إلى الشكر، وكل ذلك دليل على كمال القدرة، ونهاية الحكمة. اهـ. والمعنى الأول أقرب، فالله تبارك وتعالى يذكرنا بهذه القدرة العظيمة، وبهذه النعمة الجليلة، وهو أنه خلقنا أزواجًا لنتعاون على أمور الحياة، وليقوم الرجل بوظيفته من العمل والكسب والرعاية والحماية، ولتقوم المرأة بوظيفتها من التربية والتهذيب وشؤون المنزل وأمور الزوج والأطفال، ولتعاون الرجل في هذه الأمور التي خلقت لأجلها، ولولا التعاون بين الرجل والمرأة .. لاختل نظام الحياة، وعاش كل واحد منهما في شقاء وعناء، فسبحان الله الذي خلقنا أزواجًا، وجعل بيننا مودة ورحمة، وجعل كلًّا منا سكنًا لصاحبه، فله الحمد، وله الشكر، وله الثناء الحسن على ما أنعم وتكرم. 4 - 9 {وَجَعَلْنَا} أي: صيَّرنا {نَوْمَكُمْ} وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعدة إليه، ولذا قل في أهل الرياضة لقلة الرطوبة {سُبَاتًا}؛ أي: موتًا لأن النوم أحد الموتتين، ولكنه لم تفارقه الروح، أو كالموت، والمسبوت: الميت، من السبت، وهو: القطع؛ لأنه مقطوع عن الحركة، ومنه سمي يوم السبت؛ لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت، فسمي بذلك، وقيل: معنى {سُبَاتًا}؛ أي: راحةً لأبدانكم، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه؛ أي: جعلنا نومكم راحةً لكم، وقال ابن الأنباري: جعلنا نومكم قطعًا لأعمالكم؛ لأن أصل السبت: القطع، وهو - أي النوم - من نعم الله الكبرى على الناس، فإن النوم بعض ساعات في اليوم يريح القوة من تعبها، وينشطها من غسلها، ويعيد إلى الجسم ما فقد منه من نشاط، ولو لم يكن النوم موتًا، واليقظة بعثًا .. لم يتم هذا التجديد لقوى الإنسان، بل يفقد الإنسان الطاقة على العمل، فالمرء قد يصبر على فقد الطعام والشراب أيامًا، ولكنه لا يطيق الصبر على السهر، والسهر يفني الجسم ويبليه، فالله سبحانه جعل نومنا في الليل قطعًا للحركة، وايقافًا للعمل، لتحصيل الراحة في فترة النوم من كثرة الترداد، والسعي في سحابة النهار، وإذا استرحنا في النوم .. فقد تجددت عزائمنا، ونشطت جوارحنا، وقويت أجسامنا، ونستأنف أعمالنا ونحن أقوى ما نكون، والنوم سلطان

[10]

يملكنا ولا نملكه، ويتحكم فينا، ولا نستطيع التحكم فيه. والمعنى: أي وجعلنا نومكم في الليل قطعًا للمتاعب التي تكابدونها في النهار سعيًا في تحصيل أمور المعاش، فالمشاهد أن في نوم بعض ساعات الليل راحة للقوى من تعبها، ونشاطًا لها من كسلها، وإعادة لما فقد منها، ولولا ذلك لنفدت القوى وانقطع المرء عن العمل في شؤون الحياة المختلفة. 5 - 10 {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ} الذي يقع فيه النوم {لِبَاسًا} يستركم بظلامه كما يستركم اللباس؛ أي: وجعلنا الليل بظلامه ساترًا للأجسام، ومغطيًا لها كاللباس الذي يغطي الجسم ويستره، ووجه المنة في ذلك: أن ظلمته تستر الإنسان عن العيوب إذا أراد هربًا من عدو، أو إخفاء لما لا يحب أن يطلع عليه غيره، ولله در المتنبي: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةً تَكْذِبُ والمانوية: طائفة تعتقد أن الخير من النهار، والشر من الليل، وقال بعض أرباب المحبة: اللَّيْلُ لِلْعَاشِقِيْنَ سِتْرٌ ... يَا لَيْتَ أَوْقَاتَهُ تَدُوْمُ خصوصًا أهل الإحسان والطاعات الذين يحبون أن يخفوا عن الناس أعمالهم لتتجرد من الرياء، وتخلص لله سبحانه، وفي ظلام الليل فوائد كثيرة، وبالظلام ينام المرء نومًا عميقًا هادئًا يحفظ جسمه من التعب والنصب، ولولا هذا اللباس من الظلام .. لما نام الإنسان هذا المنام، ولما أصابه هذا الهدوء، ففي الظلام تستريح الأعصاب، ويستريح النظر، ويتجدد الفكر، وينمو العقل، ويتعمق المرء في التفكير الدقيق، فسبحان الذي جعل الليل لباسًا، والنهار معاشًا. 6 - 11 {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}؛ أي: جعلناه وقتًا لتحصيل أسباب المعاش؛ لأن الناس يتقلبون فيه في حوائجهم ومكاسبهم. والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكم النهار مضيئًا لتسعوا فيما يقوم به معاشكم، وما قسمه الله لكم من الرزق، والله سبحانه جعل النهار مشرقًا نيرًا مضيئًا، تبعث منه الحياة وتدب فيه أصولها؛ ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب للمعاش، والتكسب والتجارات والصناعات والزراعة وغيرها، فللَّه الفضل والمنّة، فلو جعل علينا الليل سرمدًا إلى يوم القيامة، فمن يأتينا بنهار غيره عزّ

[12]

وجلّ، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)}. والمعاش: مصدر بمعنى العيش، وكل شيء يعاش به، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وقت طلب معاش، كما سيأتي البحث عنه في مبحث التصريف. 7 - 12 {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ}؛ أي: خلقنا فوق رؤوسكم {سَبْعًا}؛ أي: سبع سموات {شِدَادًا} جمع شديد؛ أي: غلاظًا قوية الخلق محكمة البناء لا يؤثر فيها مر الدهور، ولا كر العصور، ليس فيها تصاع ولا فطور، غلظ كل واحدة منها مسيرة خمس مئة عام، كما ورد في الحديث، والتعبير (¬1) عن خلقها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق. 8 - 13 {وَجَعَلْنَا}؛ أي: أنشأنا وأبدعنا {سِرَاجًا} هو الشمس، والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السموات بالبناء، قال الراغب: السراج: الزاهر بفتيلة ودهن، ويعبر به عن كل شيء مضيء، ويقال للسراج مصباح. {وَهَّاجًا}؛ أي: وقادًا متلألئًا، من وهجت النار إذا أضاءت، أو بالغًا في الحرارة من الوهج وهو الحر، وهو كما قال بعض المفسرين: {سِرَاجًا وَهَّاجًا}؛ أي: مضيئًا جامعًا بين النور والحرارة، وقال بعضهم: {سِرَاجًا}؛ أي شمسًا {وَهَّاجًا}؛ أي حارًا مضطرم الاتقاد، وقال ابن عمر: الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها، ولهيبها يضطرم علوًا. كذا في "البحر". قيل (¬2): إن الشمس والقمر خلقا في بدء أمرهما من نور العرش، ويرجعان في القيامة إلى نور العرش، وذلك فيما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ألا أحدثكم بما سمعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الشمس والقمر، وبدء خلقهما، ومصير أمرهما، قال: قلنا: بلى يرحمك الله، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن ذلك، فقال: "إن الله تعالى لما أبرز خلقه إحكامًا، ولم يبق من خلقه غير آدم، خلق شمسين من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أن يدعها شمسًا، فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وما كان في سابق علمه أن يطمسها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

ويحولها قمرًا، فإنه خلقه دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرهما لشدة ارتفاعهما في السماء، وبعدهما من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما كان خلقها في بدء أمرهما .. لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، ولا يدري الأجير متى يعمل، ومتى يأخذ أجره، ولا يدري الصائم متى يصوم، ولا تدري المرأة متى تعتد، ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم، ومتى وقت حجهم، فكان الرب تعالى انظر لعباده، وأرحم بهم، فأرسل جبريل، فأمر جناحه على وجه القمر، فطمس منه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه، فهو أثر المحو". قال: "فإذا قامت القيامة، وقضى الله بين الناس؟ وميز بين أهل الجنة والنار، ولم يدخلوهما بعد، يدعو الرب تعالى الشمس والقمر، ويجاء بهما أسودين مكورين، قد وقفا في زلازل وبلابل ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم، ومخافة الرحمن، فإذا كانا حيال العرش .. خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا، قد علمت طاعتنا لك، ودأبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضيّ في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فقد علمت أنا لم ندعهم إلى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك، فيقول الرب: صدقتما، إني قد قضيت على نفسي أن أبدىء وأعيد، وإني معيدكما إلى ما أبدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتكما منه، فيقولان: ربنا مم خلقتنا، فيقول: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه، قال: فتلمح من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورًا، فيختلطان بنور العرش، فذلك قوله تعالى: {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}. كذا في "كشف الأسرار". وقال الشيخ في "الفتح المكي": وأما الكواكب كلها فهي في جهنم مظلمة الأجرام، عظيمة الخلق، وكذلك الشمس والقمر، والطلوع والغروب لهما في جهنم دائمًا. انتهى. يقول الفقير: لعل التوفيق بين هذا وبين الخبر السابق أن كلًّا من الشمس والقمر حامل لشيئين: النورية، والحرارة، فما كان فيهما من قبيل النور .. فيتصل بالعرش من غير جرم؛ لأن الجرم لا يخلو من الغلظة والظلمة والكثافة، وما كان من قبيل النار والحرارة .. فيتصل بالنار مع جرمهما، فكل منهما يرجع إلى أصله.

[14]

انتهى من "روح البيان"، والحديث المذكور إن كان له أصل صحيح فمقبول، وإلا فلا. وقد جعل الله سبحانه في هذه الكواكب سر الحياة (¬1)، فالحرارة والضوء يطردان الأمراض، وينعشان كل حي، ولا أدل على هذا مما نشاهد من فتك الأمراض بمن يكون بمنأى عن ضوئها وحرارتها، والجراثيم لا تتوالد إلا حيث يحتجب عنها السكان، ويبتعد عنها المكان. 9 - 14 {وَأَنْزَلْنَا} النون (¬2) للعظمة وللإشارة إلى جمعية الذات، والأسماء والصفات. {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ}، أي: من السحائب التي انعصرت واستدرت بالرياح، أي: شارفت أن تعصرها الرياح وتدرها فتمطر ولم تعصرها بعد، فالإنزال من المستعد لا من الواقع، وإلا فيلزم تحصيل الحاصل وهمزة أعصر للحينونة، و {الْمُعْصِرَاتِ} اسم فاعل، يقال: أعصر الزرع: إذا حان له أن يحصد، وأعصرت الجارية؛ أي: حان لها أن تعصر الطبيعة رحمها فتحيض، وفي "المفردات": المعصر: بكسر الصاد المرأة التي حاضت ودخلت في عصر شبابها. انتهى. ولو لم تكن للحينونة .. لكان ينبغي أن يقرأ {المعصَرات} بفتح الصاد، على أنه اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها، ويجوز أن يكون المراد من {الْمُعْصِرَاتِ}: الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب فتمطر، فهي أيضًا اسم فاعل، والهمزة للحينونة كذلك. فإن قيل: لِمَ لم تجعل الهمزة للتعدية؟ قلنا: لأن الرياح عاصرة لا معصرة. {مَاءً ثَجَّاجًا} أي: ماءً منصبًا بكثرة، والمراد: تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به، يقال: ثج الماء؛ أي: سال بكثرة وانصب، وثجه غيره؛ أي: أساله وصبه فهو لازم ومتعد، ومن الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الحج العج والثج" أي: رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدي. ولا معارضة بين ما هنا، وبين قوله تعالى: {وَأَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، فإن ابتداء المطر إن كان من السماء يكون الإنزال منها إلى السحاب، ومنه إلى الأرض، وإلا فإنزاله منها باعتبار تكونه بأسباب سماوية من جملتها حرارة الشمس، فإنها تثير ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[15]

وتصعد الأجزاء المائية من أعماق الأرض الرطبة، أو من البحار والأنهار إلى جو الهواء، فتنعقد سحابًا فتمطرنا، فالإنزال من المعصرات حقيقة، ومن السماء مجاز باعتبار السببية، والله مسبب الأسباب. والمعنى: أي وأنزلنا من السحاب والغيوم التي تتحلب بالمطر ماء كثير السيلان، عظيم الانصباب، 15 - ثم بين عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال: {لِنُخْرِجَ بِهِ}؛ أي: بذلك الماء؛ أي: بسبب وصوله إلى الأرض، واختلاطه بها وبما فيها، وهذه اللام لام المصلحة، لا لام الغرض، كما تقول المعتزلة. {حَبًّا} كثيرًا يقتات به؛ أي: يكون قوتًا للإنسان، وهو ما يقوم به بدنه؛ كالحنطة والشعير والذرة والطيف ونحوها، {وَنَبَاتًا} كثيرًا يعتلف به؛ أي يكون علفًا للدواب؛ كالحشيش والبرسيم ونحوهما، كما قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه؛ لأن غالبه غذاء الناس. 16 - {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}؛ أي: بساتين ملتفًّا بعضها ببعض، لتشعب أغصانها، أي: أخرجناها ليتفكه بها الإنسان، والجنات: جمع جنة، والجنة في الأصل: هي السترة من مصدر جنه إذا ستره، تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه، وعلى الأرض ذات الشجر. قال الفراء: الجنة: ما فيه النخل، والفردوس: ما فيه الكرم، والمراد هنا: هو الأشجار لا الأرض، وقوله: {أَلْفَافًا}؛ أي: ملتفةً تداخل بعضها في بعض، وهذا من محسنات الجنان، كما نرى في بساتين الدنيا، قالوا: ولا واحد للألفاف كالأوزاع والأخياف، والأوزاع: بمعنى الجماعات المتفرقة كالأخياف، فإنه أيضًا بمعنى الجماعات المتفرقة المختلطة، ومنه الأخياف للإخوة من آباء شتى، وأمهم واحدة، وقيل: جمع لف بكسر اللام ككن وأكنان، وقيل: جمع لفيف كشريف وأشراف، وقيل: جمع لف بضم اللام جمع لفاء كخضر وخضراء، فيكون ألفافًا جمع الجمع، وقيل: جمع ملتفة بحذف الزوائد. والمعنى: أي وأنزلنا من السحاب ماءً كثيرًا، لنبدل بوساطته جدب الأرض ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

خصبًا، فنخرج من الأرض حبًا يقتات به الناس كالحنطة والشعير، ونباتًا تقتات به الدواب، وحدائق ذات أغصان ملتفة. وقد جمع الله سبحانه في هذه الآية جميع أنواع ما تنبته الأرض، فإن ما يخرج منها؛ إما أن يكون ذا ساق، أو لا، والأول: إذا اجتمع بعضه إلى بعض وكثر حتى التف .. فهو الحديقة، والثاني: إما أن يكون له أكمام فيها حب، وإما أن يكون بغير ذلك، وهو النبات. وقدم الحب لأنه غذاء أشرف أنواع الحيوان، وهو الإنسان، وأعقبه بذكر النبات؛ لأنه غذاء بقية أنواع الحيوان، وأخر الحدائق؛ لأنه مما يستغني عنها الكثير من الناس. قال ابن الشيخ: قدم ذا الحب؛ لأنه هو الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات؛ لاحتياج سائر الحيوانات إليه، وأخرت الجنات لانعدام الحاجة الضرورية إلى الفواكه. واعلم: أن فيما ذكر من أفعاله تعالى دلالةً على صحة البعث، وحقيته من وجوه ثلاثة: الأول: باعتبار قدرته تعالى، فإن من قدر على إنشاء هذه الأفعال البديعة من غير مثال يحتذيه وقانون ينتحيه .. كان على الإعادة أقدر وأقوى. والثاني: باعتبار علمه وحكمته، فإن من أباع هذه المصنوعات على نمط رائق مستتبع لغاية جليلة، ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق، يستحيل أن يفنيها بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية. والثالث: باعتبار نفس الفعل، فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، كأنه قيل: ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به، فمالكم تخوضون فيه إنكارًا، وتتساءلون عنه استهزاءً؟ 17 - ثم شرع في بيان ما يتساءلون عنه، فقال {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ}، أي: إن اليوم الذي يفصل الله سبحانه فيه بين الخلائق، وبين السعداء والأشقياء باعتبار تفاوت

[18]

الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها، {كَانَ} في علمه وتقديره الأزلي، وإلا فثبوت الميقاتية ليوم الفصل غير مقيد بالزمان الماضي؛ لأنه أمر مقرر قبل حدوث الزمان {مِيقَاتًا}؛ أي: ميعادًا ومجمعًا ووقتًا لبعث الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثوابًا وعقابًا، لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر، فالميقات وهو الوقت المؤقت؛ أي: المعين أخص من مطلق الوقت، فهو هنا زمان مقيد بكونه وقت ظهور ما وعد الله من البعث والجزاء. 18 - {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ}، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ، فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخة، وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره، ويجوز أن يكون منصوبًا بضمار أعني، والنفخ: نفخ الريح في الشيء، ومنه: نفخ الروح في النشأة الأولى، كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، ويقال: انتفخ بطنه، ومنه استعير انتفخ النبات إذا ارتفع، ورجل منفوخ؛ أي: سمين، و {الصُّورِ}: القرن النوراني، والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام، وقرأ أبو عياض {في الصَور} بفتح الواو جمع صورة، أي: يرد الله الأرواح إلى الأبدان، والجمهور: بسكون الواو. والمعنى: إن يوم ينفخ في الصور نفخة ثانية للبعث حتى تتصل الأرواح بالأجساد، وترجع بها إلى الحياة، كان ميقاتًا لجمع الأولين والآخرين، وقوله: {فَتَأْتُونَ} معطوف على جملة محذوفة ثقة، بدلالة الحال عليها، وإيذانًا بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}، أي: فضرب فانفلق، والتقدير هنا: يوم ينفخ في الصور فتبعثون من قبوركم، فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلًا حال كونكم {أَفْوَاجًا}؛ أي: زمرًا زمرًا، وجماعات جماعات مختلفة متباينة الأوضاع حسب اختلاف أعمالهم وتباينها، وهو جمع فوج، وهو جماعة من الناس، وفي المفردات: الجماعة: المارة المسرعة؛ أي: حال كونكم أممًا، كل أمة مع إمامها، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}. 19 - وقوله: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} معطوف على {يُنْفَخُ} بمعنى تفتح، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، أي: شقت وصدعت من هيبة الله تعالى بعد أن كانت لا فطور فيها {فَكَانَتْ أَبْوَابًا}؛ أي: ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة نزولًا غير معتاد،

[20]

كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}؛ أي: أمره وبأسه {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وقيل: المراد بالفتح الكشف بإزالتها من مكانها، كما قال تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)} وبالأبواب الطرق والمسالك؛ أي: تكشط فيصير مكانها طرقًا لا يسدها شيء وقيل: تتقطع قطعًا صغارًا حتى تكون كالألواح في الأبواب المعهودة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {فتحت} مخففًا، وقرأ الباقون بالتشديد. وحاصل معنى الآيات: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)}؛ أي: إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين، والآخرين، يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه، ويكونون مراتب ودرجاتٍ بحسب أعمالهم، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}، وقد جعله حدًا تنتهي عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق ليرى كل امرىء ما قدمت يداه، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، ثم بين هذا اليوم، وزاد في تفخيمه وتهويله، فقال: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فتحيون وتبعثون من قبوركم، وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وإمام كل أمة رسولها، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}. {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ}؛ أي: وانشقت السماء وتصدعت، وجاء نحو هذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ذاك أنه يحصل اضطراب في نظام الكواكب، فيذهب التماسك بينها، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب، لا يلتقي فيها شيء بشيء، وذلك هو خراب العالم العلوي، كما يخرب الكون السفلي 20 - {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} معطوف على ينفخ أيضًا؛ أي: وتسير الجبال عن أماكنها في الهواء، وتقلع عن مقارها. {فَكَانَتْ سَرَابًا}؛ أي: فتكون هباءً منتشرًا، يظن الناظر أنها سراب، والمسيِّر هو الله تعالى، كما قال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}؛ أي: وسيرت الجبال في الجو بتسيير الله تعالى وتسخيره على هيئاتها بعد قلعها عن مقارها، وذلك بعد حشر الخلائق بعد النفخة الثانية، ليشاهدوها، ثم يفرقها في الهواء، وذلك قوله تعالى: {فَكَانَتْ سَرَابًا} والسراب ما تراه نصف النهار كأنه ماء، قال الراكب: هو اللامع في المفازة كالماء، وذلك لِانسِرَابِهِ في مرأى العين أي ذهابه وجريانه، وكان الجبال لا حقيقة لها، كالسراب لا حقيقة له، أي

[21]

فصارت بتسييرها، مثل السراب؛ أي: شيئًا كلا شيء؛ لتفرق أجزائها، وانبثات جواهرها، كقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}، أي: غبارًا منتشرًا، وهي وإن اندكت وانصدعت عند النفخة الأولى، لكن تسييرها كالسحاب، وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية. والمعنى: أي إن الجبال لا تكون في ذلك اليوم على ثباتها المعروف، بل يذهب ما كان لها من قرار، وتعود كأنها سراب يرى من بعد، فإذا قربت منه لم تجد شيئًا لتفرق أجزائها، وانبثاث جواهرها. والخلاصة: أنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن يجمع بينها بأن تقول: أول أحوالها: الاندكاك والانكسار، كما قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}. وثانيتها: أن تصير كالعهن المنفوش، كما قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)}. وثالثتها: أن تصير كالهباء، وذلك بأن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن، كما قال: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}. ورابعتها: أن تنسف وتقلع أصولها؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها، وهو المراد من قوله تعالى: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}. وخامستها: أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها في الهواء كأنها غبار، وهو المراد بقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}؛ أي: تراها في رأي العين ساكنة في أماكنها، والحال أنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أن الأجرام إذا تحركت نحوًا من الإنحاء لا تكاد تتبين حركتها، وإن كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد. وسادستها: أن تصير سرابًا؛ أي لا شيء، كما في هذه الآية. 21 - وبعد أن عدد وجوه إحسانه ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم

[22]

الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبين أهوال هذا اليوم وامتياز شؤونه وأحواله عن شؤون أيام الدنيا وأحوالها .. ذكر وعيد المكذبين، وما يلاقونه في ذلك اليوم، فقال: {إِنَّ جَهَنَّمَ} دار العذاب {كَانَتْ} في حكم الله سبحانه وقضائه {مِرْصَادًا}؛ أي: موضع رصد ورقوبة يرصد فيه، ويرقب خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها، فالمرصاد: اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمنهاج: اسم للمكان الذي ينهج فيه؛ أي: يسلك، قال الراغب: المرصاد: موضع الرصد كالمرصد، لكن يقال للمكان الذي اختص بالترصد والترقب، وقوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)} تنبيه على أن عليها مجاز الناس. انتهى. كأنه عمم المرصاد حيث إن الصراط محبس للأعداء وممر للأولياء، والأول أولى؛ لأن الرصد في مثل ذلك المكان الهائل إنما هو للتعذيب، وهو للكفار والأشقياء. 22 - {لِلطَّاغِينَ} متعلق بمحذوف هو؛ إما نعت لـ {مِرْصَادًا} أي: مرصادًا كائنًا للطاغين، وقوله تعالى: {مَآبًا} بدل منه؛ أي: مرجعًا يرجعون إليه لا محالة، وإما حال من {مَآبًا} قدمت عليه لكونه نكرة، ولو تأخرت .. لكانت صفة له، قالوا: الطاغي من طغى في دينه بالكفر، وفي دنياه بالظلم، وهو في اللغة من جاوز الحد في العصيان، والمراد هنا: المشركون، لما دل عليه ما بعده من الآيات وعذابهم لا يتناهى لكون اعتقادهم باطلًا، وكذا إذا لم يعتقدوا شيئًا أصلًا، وإن كان الاعتقاد صحيحًا كالمؤمن العاصي، فعذابه متناهٍ. والمعنى: أن جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعمالهم، وخبث عقيدته وفعاله. روى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس. {لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)}؛ أي: إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا، ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق، 23 - وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بين مدة ذلك، فقال: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} حال مقدرة من الضمير المستكن في {لِلطَّاغِينَ}؛ أي: مقدرين اللبث فيها، واللبث: أن يستقر في المكان، ولا يكاد ينفك عنه، يقال: لبث بالمكان أقام به ملازمًا له. {أَحْقَابًا} ظرف للبثهم، وهو جمع حقب، وهو ثمانون سنة أو أكثر، والدهر والسنة والسنون، والمراد منه: التأبيد؛ أي: حال كونهم لابثين فيها دهورًا متلاحقة يتبع

[24]

بعضها بعضًا، فكلما انقضى زمن .. يتجدد لهم زمن آخر، ما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}، 24 - ثم بين أحوالهم فيها، فقال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا} فِيها جملة مستأنفة؛ أي: لا يحسون في جهنم {بَرْدًا} ينتفعون به، ويميلون إليه {وَلَا شَرَابًا} يزيل عطشهم 25 - {إِلَّا حَمِيمًا}؛ أي: ماءً حارًا بلغ الناية في حره {وَغَسَّاقًا}؛ أي: صديدًا منتنًا يسيل من جلودهم أي لا يذوقون في جهنم بردًا يبرد حر السعير عنهم إلا غساق، ولا شرابًا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابًا يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلي، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة. والخلاصة (¬1): أنهم لا يذوقون فيها شرابًا إلا الحميم البالغ الغاية في السخونة، أو الصديد المنتن، ولا بردًا إلا الماء الحار المغلي، قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم، ومن الشراب الغساق، وكذا قال الربيع بن أنس فهم لا يذوقون إلا من هذا وهذا؛ أي: الحميم والغساق، أما الحميم: فهو الحار الذي انتهى حره، وزاد عن درجة الغليان، فإن طلبوا الماء .. سقوا من هذا الحميم، فقطّع أمعاءهم، وصهر ما في بطونهم والجلود، وأما الغساق .. فهو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو لا يستطاع من برد ونتن، لا يواجه نتنه وقذارته، يقال: غسق الجرح إذا سال منه ماء أصفر، فهو القيح والصديد تعافه الأنفس، وتمجه الطباع، وهم يعاقبون بالشيء وضده، فالحميم: حار في منتهى الحرارة، والغساق: بارد في أشد البرودة المؤلمة، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن دلوًا من غساق يراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا"، ونقل ابن كثير في تفسير سورة ص عن كعب الأحبار قال: قال كعب: {وَغَسَّاقًا} عين في جهنم، يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك، فيستنقع، فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه كله ما يجر ¬

_ (¬1) المراغي.

الرجل ثوبه. رواه ابن أبي حاتم، وقرأ أبو عمرو (¬1) والمنقري وابن يعمر: {أن جهنم} بفتح الهمزة، والجمهور: بكسرها، وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح: {لَبِثِيْنَ} بغير ألف بعد اللام، وقرأ الجمهور: بألف بعدها، والفرق بين القراءتين: أن فاعلًا يدل على من وجد منه الفعل ولو مرة، وفَعِلًا من شأنه ذلك، ولكن مع المبالغة، كحاذر وحذر. فائدة: وقد ذكر الإِمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" خمسة أقوال في معنى الأحقاب (¬2): أحدها: أن معنى أحقابًا: لا انقطاع لها كلما مضى حقب .. جاء بعده حقب آخر، والحقب: ثمانون سنة من سنين الآخرة، قاله قتادة والربيع. ثانيها: أن الأحقاب: ثلاث وأربعون حقبًا، كل حقب سبعون خريفًا، كل خريف سبع مئة سنة، كل سنة ثلاث مئة وستون يومًا، كل يوم ألف سنة، قاله مجاهد. ثالثها: أن الله تعالى لم يذكر شيئًا إلا وجعل له مدة يثقطع إليها، ولم يجعل لأهل النار مدة، بل قال فيهم: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)}، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار، ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك السنين ألف سنة مما نعده، قاله الحسن. رابعها: أن مجاز الآية {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} لا يذوقون في تلك الأحقاب بردًا ولا شرابًا، إلا حميمًا وغساقًا، ثم يلبثون فيها لا يذوقون فيها إلا الحميم والغساق من أنواع العذاب، فهذا توقيت لأنواع العذاب، لا لمكثهم في النار، فإنه أبدي، وهذا أحسن الأقواد بنظر المفسر؛ أعني: الطبري. خامسها: أنه يعني به أهل التوحيد، قاله خالد بن معدان. وروى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الطبري.

[26]

أحقابًا، والحقب: بضع وستون سنة، والسنة ثلاث مئة وستون يومًا كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار". انتهى. والحاصل: أن الأحقاب يدل على التناهي، فهو وإن كان جمع قلة .. لكنه بمنزلة جمع الكثرة، وهو الحقوب، أو بمنزلة الأحقاب المعرف بلام الاستغراق، ولو كان فيه ما يدل على خروجهم منها، فدلالته من قبل المفهوم، فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}؛ لأن المنطوق يرجح على المفهوم فلا يعارضه، وقال أبو حيان المدة منسوخة بقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}. انتهى. ويجوز (¬1) أن يكون {أَحْقَابًا} ليس بظرف أصلًا، بل هو حال من الضمير المستكن في {لَابِثِينَ} بمعنى: حقبين؛ أي: نكدين محرومين من الخير والبركة في السكون والحركة، على أن يكون جمع حقب - بفتح الحاء وكسر القاف - من حقب الرجل إذا حرم الرزق، وحقب العام: إذا قل خيره ومطره. وقوله {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} تفسير لكدهم، ولا يتوهم حينئذٍ تناهي مدة لبثهم فيها حتى يحتاج إلى التوجيه السابق، هذا ما قالوه في هذا المقام، وقد أطالوا فيه بما لا يسع له هذا المختصر، 26 - وقوله: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} مصدر مؤكد لعامله المحذوف؛ أي: جوزوا بذلك جزاءً وفاقًا، أو جازيناهم بذلك جزاءً وفاقًا لأعمالهم وأخلاقهم كأنه نفس الوفاق مبالغة، أو ذا وفاق لها على حذف المضاف، أو جزاءً موافقًا لها، أو وافقها وفاقًا، فيكون {وِفَاقًا} مصدرًا مؤكدًا لفعله كـ {جزاء}، والجملة صفة الجزاء. وجه الموافقة بينهما: أنهم أتوا بمعصية عظيمة، وهي الكفر، فعوقبوا عقابًا عظيمًا، وهو التعذيب بالنار، فكما أنه لا ذنب أعظم من الشرك، فكذا لا جزاء أقوى من التعذيب بالنار، كما قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فتوافقا، وقيل: كان وفاقًا حيث لم يزد على قدر الاستحقاق، ولم ينقص عنه. وقرأ الجمهور: {وِفَاقًا} بتخفيف الفاء. وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة بشدها من: وفقه، كذا قال سعدي المفتي. اعلم: أن الكفار لما كان من نيتهم الاستمرار على الكفر، كما سيشير إليه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[27]

قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)} إذ معناه: أنهم كانوا مستمرين على الكفر مع توقع الحساب .. وافقه عدم تناهي العذاب واللبث فيها أحقابًا بعد أحقاب، ولما كانوا مبدلين التصديق الذي يروح النفس، ويثلج به الصدر بالتكذيب الذي هو ضده .. جوزوا بالحميم والغساق بدل ما يجعل للمؤمنين مما يروحهم من برد الجنة وشرابها. وللمناسبة بين العلم والماء يعبر الماء في المنام بالعلم، 27 - وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم .. فصل أنواع جرائمهم، فذكر أنها نوعان فقال: 1 - {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)} تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور، وبيان لفساد قوتهم العملية؛ أي: كانوا ينكرون الآخرة ولا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم، فلذا كانوا يقدمون على جميع المنكرات، ولا يرغبون في شيء من الطاعات، وفسر الرجاء هنا: بالخوف؛ لأن الحساب من أصعب الأمور على الإنسان، والشيء الصعب لا يقال فيه إنه يرجى، بل يقال: إنه يخاف ويخشى. والمعنى: أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم؛ لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب، ولا يتوقعونه، ورغبة المرء في فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبًا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك في الآخرة، فمن كان منكرًا لها لا يقدم على شيء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح. 2 - 28 {وَكَذَّبُوا} بيان لفساد قوتهم النظرية. {بِآيَاتِنَا} الناطقة بذلك، وفي بعض التفاسير: بآياتنا القولية والفعلية الظاهرة على ألسنة الرسل وأيديهم. {كِذَّابًا}؛ أي: تكذيبًا مفرطًا، ولذلك كانوا مصرين على الكفر، وفنون المعاصي، فعوقبوا بأهول العقاب جزاءً وفاقًا، ويغالًا: من باب فعل المضعف شائع فيما بين الفصحاء، مطرد مثل: كلم كلامًا. قال في "الصحاح": {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} هو أحد مصادر المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل، مثل: التكليم، وعلى فعال، مثل: ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

كِذّاب، وعلى تفعلة، مثل؛ توصية، وعلى مُفَعَّل، مثل: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}. والمعنى (¬1): أي وكذبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، وبجميع ما جاء في القرآن. والخلاصة: أنهم أقدموا على جميع المنكرات، ولم يرعووا عن فعل السيئات، وأنكروا بقلوبهم الحق، واتبعوا الباطل. وقرأ الجمهور (¬2): {كِذَابًا} بتشديد الذال مصمدر كذب المضعف، وهي لغة لبعض العرب يمانية يقولون، في مصدر فَعَّل: فِعَّالًا، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل، نحو: تكذيب، ومن تلك اللغة فول الشاعر: لَقَدْ طَالَ ما ثَبَّطْتَنِيْ عَنْ صَحَابَتِيْ ... وَعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا ومن كلام أحدهم وهو يستفتي في الحج: الحلق أحب إليك أم القصار؟ يريد التقصير. وقرأ علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى البصرة بخلاف عنه: كذابًا بتخفيف الذال، وذلك لغة اليمن؛ بأن يجعلوا مصدر كذب المخفف كذابًا بالتخفيف مثل؛ كتب كتابًا، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه، مثل أعطيته عطاء، وقال الأعشى: فَصَدَّقْتُهَا وَكَذَّبْتُهَا ... وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ وقال الزمخشري: وهو مثل قوله: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}؛ يعني: وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذابًا، وقرأ عمر بن عبد العزيز: {كُذَّابا} بضم الكاف وتشديد الذال، فخرج على أنه جمع كاذب، وانتصب على الحال المؤكدة، أو على أنه مفرد صفة لمصدر محذوف؛ أي: تكذيبًا كذابًا؛ أي: مفرطًا في التكذيب. 29 - وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية .. أرشد إلى أنها في مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى، لا يغيب عنه شيء منها، فقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ}؛ أي: وأحصينا كل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم، فانتصابه على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره قوله: {أَحْصَيْنَاهُ} أي: حفظناه وضبطناه. قرأ الجمهور (¬3): {وَكُلَّ شَيْءٍ}، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

[30]

بالنصب على الاشتغال؛ أي: وأحصينا كل شيء أحصيناه، وهو الراجح (¬1) لتقدم جملة فعلية، ولا يضره كون هذه الجملة معترضة كما سيجيء؛ لاعتراضها بين السبب والمسبب، أو لأن المقصود المهم هنا الإخبار عن الإحصاء، لا الإخبار عن كل شيء، وقرأ أبو السمال برفعه على الابتداء، وما بعده خبره، وانتصاب {كِتَابًا} على المصدرية؛ لأنه مصدر مؤكد لـ {أَحْصَيْنَاهُ} من غير لفظه لما أن الإحصاء والكتابة من واد واحد؛ أي: يشتركان في معنى الضبط، فكأنه قال: وكل شيء أحصيناه إحصاءً مساويًا في القوة والثبات بالعلم المقيد بالكتابة، أو كتبناه كتابًا، وأثبتناه إثباتًا. ويجوز أن يكون من الاحتباك، حذف فعل الثاني بقرينة الأول، ومصدر الأول بقرينة الثاني؛ أي: أحصيناه إحصاءً، وكتبناه كتابًا، ويجوز نصبه على الحال؛ أي: أحصينا كل شيء حال كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، أو في صحف الحفظة، وقيل: المراد به: العلم؛ لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأول أولى لقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، والجملة معترضة كما مر آنفًا، اعترض بها لتوكيد كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، بأنهما محفوظان للمجازاة. والمعنى (¬2): أي إنا علمنا جميع ما عملوا علمًا ثابتًا، لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئًا مما كانوا يصنعون في الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاءً لا يزول منه شيء، ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه، كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}. وإنما قيل: {كِتَابًا} دون أن يقال إحصاءً؛ لأن الكتابة هي السماوية في قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحيى كلام متكلم، حتى لا يغيب منه شيء .. عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: وكل شيء أحصيناه إحصاءً يساوي في ثباته وضبطه ما يكتب. 30 - وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات .. رتب عليه هذا الجزاء، فقال: {فَذُوقُوا} ما أنتم فيه من العذاب الأليم {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ} فوق عذابكم {إِلَّا عَذَابًا} من جنسه، كما قال: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} ذاك أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[31]

فيها تقريعًا وتوبيخًا لهم في يوم الفصل، وغضبًا من أرحم الراحمين، والفاء في {فَذُوقُوا} سببية (¬1) دالة على أن الأمر بالذوق مسبب عن كفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات، ومعلل به، فيكون {وَكُلَّ شَيْءٍ} إلخ جملةً معترضة، بين السبب ومسببه، تؤكد كل واحد من الطرفين؛ لأنه كما دل على كون معاصيهم مضبوطة مكتوبة .. يدل على أن ما يتفرع عليها من العذاب كائن لا محالة مقدر على حسب استحقاقهم، وفي الالتفات المنبىء عن التشديد في التهديد، وإيراد {لَن} المفيدة لكون ترك الزيادة من قبيل ما لا يدخل تحت الصحة من الدلالة على تبالغ الغضب ما لا يخفى. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار"؛ أي: لأن فيها الإياس من الخروج، فكلما استغاثوا من نوع من العذاب .. أغيثوا بأشد منه، فتكون كل مرتبة منه متناهية في الشدة، وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة، وهذا لا يعارض قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}؛ لأن المراد بالمنفي التكلم باللطف والإكرام، لا بالقهر والجلال. فإن قيل: هذه الزيادة إن كانت غير مستحقة .. كانت ظلمًا، وإن كانت مستحقة .. كان تركها في أول الأمر إحسانًا، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه. فالجواب: أنها مستحقة، ودوامها زيادة لثقل العذاب، وأيضًا ترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط حتى يكون إيقاعه بعده رجوعًا في "الإحسان" وأيضًا كانوا يزيدون كفرهم وتكذيبهم وأذيتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه رضي الله عنهم، فيزيد الله عذابهم لزيادة الاستحقاق، فلا ظلم. فإن قيل: قوله: {فَذُوقُواْ ...} إلخ تكرار؛ لأنه ذكر سابقًا أنهم لا يذوقون إلخ. قلنا: إنه تكرار لزيادة المبالغة في تقرير الدعوى، وهو كون العقاب جزاءً وفاقًا، 31 - وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين، وما أعده الله سبحانه لهم من الخير إثر بيان سوء أحوال الكافرين، وما أعد الله لهم؛ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[32]

من الشر على ما هو العادة القرآنية، ووجه تقديم بيان حال الكفرة غني عن البيان؛ أي: إن للذين يتقون الكفر والقبائح التي هي من أعمال الكفرة مفازًا؛ أي: فوزًا وظفرًا بمطالبهم، ونجاة من مكارهم، دل على هذا المعنى تفسيره بما بعده من قوله: {حَدَائِقَ} إلخ، فالمفاز على هذا المعنى: مصدر ميمي، أو موضع فوز وظفر، على أنه اسم مكان. فإن قيل: الخلاص من الهلاك أهم من الظفر باللذات (¬1)، فلِمَ أهل الأهم، وذكر غير الأهم؟ قلنا: لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز بالنعيم، لكونه حاصلًا لأصحاب الأعراف مع أنهم غير فائزين بالنعيم، بخلاف الفوز بالنعيم، فإنه يستلزم الخلاص من الهلاك، فكان ذكره أولى، 32 - وقوله: {حَدَائِقَ}؛ أي: بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، بدل من {مَفَازًا} بدل اشتمال، إن كان مصدرًا ميميًا؛ لأن الفوز يدل عليه دلالة التزامية، أو بدل بعض، إن جعل اسم مكان، وهو جمع حديقة، وهي الروضة ذات الأشجار، وقيل: الحديقة كل بستان عليه حائط؛ أي: جدار، وفيه من النخل والثمار، وفي "المفردات": الحديقة: قطعة من الأرض ذات ماء، سميت بذلك تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها. {وَأَعْنَابًا}؛ أي: كرومًا، وهو تخصيص بعد التعميم إظهارًا لفضلها جمع عنب، وهو ثمر الكرم، قال بعضهم: ذكر نفسها، ولم يذكر شجرها - وهو الكرم - لأن زيادة الشرف فيها لا في شجرها. والمعنى: أي إن لمن اتقى محارم الله، وخاف عقابه فوزًا بالكرامة، والثواب العظيم، في جنات النعيم، ثم فسر هذا الفوز وفصله بقوله: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)}؛ أي: بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار، لها أسوار محيطة بها، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، وقد أفردت بالذكر - وهو مما يكون في الحدائق - عناية بأمرها، كما جاء في قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}، 33 - ثم وصف ما في الحدائق والجنات فقال: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[34]

{وَكَوَاعِبَ}؛ أي: نساء (¬1) أبكارًا، فلكت ثديهن؛ أي: استدارت وصارت كالكعب في النتوء، يقال: فلك ثدي الجارية تفليكًا؛ أي: استدار كفلكة المغزل، جمع كاعب، يقال: كعبت المرأة كعوبًا ظهر ثديا، وارتفع ارتفاع الكتب، ويقال: لهن النواهد، جمع ناهد وناهدة، وهي المرأة كعب ثديها، وبدا للارتفاع. {أَتْرَابًا}؛ أي: لداتٍ؛ أي: مستويات في السنن، ولدة الرجل تربه وقرينه في السنن والميلاد، والهاء عوض عن الواو الذاهبة من أوله لأنه من الولادة، والأتراب الأقران في السن، قال الراغب: أي: لدات ينشان معًا تشبيهًا في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر، ولوقوعهن على الأرض معًا. والظاهر ما في تفسير "الزاهدي": وهو كونهن بنات ست عشرة لكونها نصف سن الرجل، وأيضًا دل عليه الوصف بالكعوب، وهو ارتفاع ثديهن، والمراد: أنهن بالغات تمام كمال النساء في الحسن واللطافة، والصلاح للمصاحبة والمعاشرة، بحيث لا يكن في سن الصغر حتى تضعف الشهوة لهن، ولا في سن الكبر حتى تنكسر الشهوة عنهن، بل رواء الشباب؛ أي: ماؤه جار فيهن، لم يشبن، ولم يتغير عن حد الحسن حسنهن. وإنما ذكرن لأن بهن نظام الدنيا، ولطافة الآخرة من جهة التنعم الجسماني. والمعنى (¬2): أي وحورًا كواعب لم تتدلى أثدائهن، وهن أبكار عرب أتراب، والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء في الدنيا على نحو من اللذة، وإن كنا لا نعلم كنهه في الآخرة، وعلينا أن نؤمن به، وأنه تمتع يفوق ما هو مثله من لذات هذه الحياة، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروي. 34 - {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)}؛ أي: كأسًا مملوءة بالخمر، فدهاقًا بمعنى: مدهقة، وصفت به الكاس للمبالغة في امتلائها، يقال: أدهق الحوض ودهقه: ملأه؛ أي: وكأسًا من الخمر مترعة ملأى متتابعةً على شاربها، والمراد بالكأس الإناه المعروف، ولا يسمى بالكأس إلا إذا كان فيه الشراب 35 - {لَا يَسْمَعُونَ}؛ أي: المتقون {فِيهَا}؛ أي: في تلك الحدائق {لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} واللغو: الباطل من الكلام، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[36]

والكذاب: الكذب؛ أي: لا ينطقون بلغو، وهو ما يلغى ويطرح لعدم الفائدة فيه، ولا يكذب بعضهم بعضًا حتى يسمعوا شيئًا من ذلك، بخلاف حال أهل الدنيا في مجالسهم، لا سيما عند شربهم. وقرأ الجمهور (¬1): {كِذَّابًا}؛ بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدمنا الخلاف في {كِذَّابًا}، هل هو من مصادر التفعيل، أو من مصادر المفاعلة؟ والمعنى: أي لا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضًا كما يجري بين الشرب في الدنيا لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم، ولم تتغير عقولهم، كما قال تعالى: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين، 36 - ولما ذكر أنواع النعيم .. بين أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} مصدر مؤكد منصوب بمعنى: إن للمتقين مفازًا فإنه في قوة أن يقال: جازى الله سبحانه المتقين على أعمالهم الصالحة بمفاز، وما بعده جزاء عظيمًا مضاعفًا كائنًا من ربك على أن التنوين للتعظيم {عَطَاءً}؛ أي: وأعطاهم الله ذلك عطاءً بلا مقابلة عمل تفضلًا وإحسانًا منه تعالى عطاء {حِسَابًا}؛ أي: كثيرًا كافيًا لهم صفة لـ {عَطَاءً}، بمعنى: كافيًا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف؛ أي: محسبًا. والخلاصة: أي جازاهم الله سبحانه بما ذكر، وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاءً كافيًا وافيًا. فإن قلت (¬2): إن ذلك يقتضي أن الله تعالى جعل الشيء الواحد جزاءً وعطاءً وهو غير ظاهر؛ لأن كونه جزاءً يستدعي ثبوت الاستحقاق، وكونه عطاءً يستدعي عدم الاستحقاق، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين. قلت: ذلك الاستحقاق إنما يثبت بحكم الوعد، لا من حيث أن الطاعة توجب الثواب على الله، فذلك الثواب بالنظر إلى وعده تعالى إِياه بمقابلة الطاعة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[37]

يكون جزاءً، وبالنظر إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون تفضلًا وعطاء، وهذا الكلام في مقابلة قوله سابقًا: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} لأن جزاء المؤمنين من قبيل الفضل لتضاعفه، وجزاء الكافرين من قبيل العدل. وقوله: {عَطَاءً} بدل من {جَزَاءً} بدل الكل؛ لأن العطاء والجزاء متحدان ذاتًا، وان تغايرا في المفهوم، وفي جعله بدلًا من {جَزَاءً} نكتة لطيفة، وهي: أن بيان كونه عطاءً تفضلًا منه، هو المقصود، وبيان كونه جزاءً وسيلة إليه، فإن حق البدل أن يكون مقصودًا بالنسبة، وذكر المبدل منه وسيلة إليه، وقال بعضهم: العطاء من الله موضع الفضل لا موضع الجزاء، فالجزاء على الأعمال، والفضل: موهبة الله يختص به الخواص من أهل وداده، وقيل: معنى {حِسَابًا}؛ أي (¬1): جزاء وعطاء على حسب أعمالهم، بأن يجازي كل عملٍ بما وعد له من الأضعاف من عشرة وسبع مئة، وغير حساب، فما وعده الله تعالى من المضاعفة داخل في الحسب؛ أي: المقدار؛ لأن الحسب - بفتح السين وسكونها - بمعنى: القدر، والتقدير على هذا: عطاء بحساب، فحذف الجار ونصب الاسم؛ أي: عطاء بحسب وقدر ما وجب لهم في وعد الرب سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشرًا، ووعد لقوم سبع مئة، وقد وعد لقوم جزاءً بغير حساب؛ أي: لا نهاية له ولا مقدار، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وقال أبو عبيدة: {حِسَابٍ}؛ أي: كافيًا. وقال ابن قتيبة: كثيرًا، يقال: أحسبت فلانًا؛ أي: أكثرت له العطاء. وقال الزجاج: حسابًا؛ أي: ما يكفيهم. وقرأ الجمهور (¬2): {حِسَابًا} بكسر الحاء وفتح السين المخففة؛ أي: كافيًا، وقرأ ابن قطيب وأبو هاشم: {حسابا} بكسر الحاء وتشديد السين، وهو مصدر مثل كذاب، أقيم مقام الصفة؛ أي: إعطاء محسبًا؛ أي: كافيًا، وقرأ ابن عباس والسراج: {حسنا} بالنون من الحسن، وحكى عنه المهدوي: {حسبا} بفتح الحاء وسكون السين، وبالباء نحو قولك: حسبك كذا؛ أي: كافيك. 37 - {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من {رَبِّكَ}، والمراد: رب كل شيء وخالقه ومالكه {الرَّحْمَنِ}؛ أي: مفيض الخير والجود على كل موجود بحسب حكمته، وبقدر استعداد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

المرحوم، وهو بالجر: صفة للرب، وقيل: للأول، وأيًا ما كان، ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل، ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور، قال الغاشاني: أي: ربهم المعطي ذلك العطاء هو الرحمن؛ لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة، فمشربه من اسم الرحمن دون غيره. وقوله: {لَا يَمْلِكُونَ}؛ أي: لا يملك أهل السموات والأرض {مِنْهُ خِطَابًا}؛ أي: خطابه تعالى في شيء ما، استئناف (¬1) مقرر لما أفادته الربوبية العاة من غاية العظمة والكبرياء، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه، وضمير {لَا يَمْلِكُونَ} لأهل السموات والأرض، و {مِنْ} في قوله: {مِنْه} صلة للتأكيد على طريقة قولهم: بعت منك؛ أي: بعتك، يعني: أنه صلة خطابًا، قدم عليه فانقلب بيانًا. والمعنى: لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم، كما ينبىء عنه لفظ الملك؛ إذ المملوك لا يستحق على مالكه شيئًا، خطابًا ما في شيء ما؛ لتفرده بالعظمة والكبرياء، وتوحده في ملكه بالأمر والنهي والخطاب، والمراد: نفي قدرتهم على أن يخاطبوه تعالى بشيء من نقص العذاب، وزيادة الثواب من غير إذنه على أبلغ وجه وآكده، كأنه قيل: لا يملكون أن يخاطبوه بما سبق من الثواب والعقاب، وبه يحصل الارتباط بين هذه الآية وبين ما قبلها من وعيد الكفار، ووعد المؤمنين، ويظهر منه أن نفي أن يملكوا خطابه لا ينافي الشفاعة بإذنه. وقيل: إن الضمير (¬2) في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ} عائد على المشركين، قاله عطاء عن ابن عباس؛ أي: لا يخاطب المشركون الله، أما المؤمنون .. فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم، وقيل: عائد على المؤمنين؛ أي: لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه، وقرأ عبد الله (¬3) وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن: وابن عامر وعاصم: {رَبِّ} و {الرَّحْمَنِ} بالجر، وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان نافع وابن كثير برفعهما، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: {رَبِّ} بالجر، و {الرحمن} بالرفع، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيص بخلاف عنهما، فالجر على البدل من {رَبِّكَ}، و {الرَّحْمَنِ} ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط.

[38]

صفة أو بدل من {رَبِّ}، أو عطف بيان، وهل يكون بدلًا من {رَبِّكَ}؟ فيه نظر؛ لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر، فيكون كالصفات والرفع على إضمار: هو رب، أو على الابتداء، وخبره {لَا يَمْلِكُونَ}. والمعنى: أي إنه سبحانه وتعالى المالك لشؤونهما المدبر لأمورهما، ولا يملك أحد من أهلما محاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه، 38 - ثم أكد هذا وقرره بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} والظرف متعلق بقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ}؛ أي: لا يتكلم أهل السموات والأرض يوم يقوم الروح والملائكة صفًا؛ أي: حال كونهم مصطفين لكثرتهم صفًا واحدًا، وقيل: هما صفان: الروح صف، والملائكة صف، وقيل: صفوف، وهو الأوفق لقوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وقيامهم مما أمرهم الله به في أمر العباد، فانتصاب {صَفًّا} إما على الحال كما قدرنا، أو على المصدرية؛ أي: يصفون صفًا، وجملة {لَا يَتَكَلَّمُونَ} إما حال من فاعل {لَا يَتَكَلَّمُونَ} العائد إلى أهل السموات والأرض، أو مستأنفة مقررة لما قبلها، وأخر (¬1) الملائكة هنا تعميمًا بعد التخصيص، وأخر الروح في سورة القدر تخصيصًا بعد التعميم. فالظاهر: أن الروح من جنس الملائكة، لكنه أعظم منهم خلقًا ورتبةً وشرفًا؛ إذ هو بمقابلة الروح الإنساني، كما أن الملائكة بمقابلة القوى الروحانية، ولا شك أن الروح أعظم من قواه التابعة؛ كالسلطان مع أمرائه وجنده ورعاياه، وتفسير الروح بجبريل ضعيف (¬2)، وإن كان هو مشهورًا بكونه روح القدس، والروح الأمين؛ إذ كونه روحًا ليس بالنسبة إلى ذاته، إلا فالملائكة كلهم روحانيون، وإن كانوا أجسامًا لطيفة غير الأرواح المهمية، وإنما بالنسبة إلى كونه نافخ الروح، وحامل الوحي الذي هو كالروح في الأحياء، وقد اتفقوا على أن إسرافيل أعظم من جبريل ومن غيره، فلو كان أحد يقوم صفًا واحدًا .. لكان هو إسرافيل دون جبريل، والله أعلم بمراده من {الرُّوحُ}. وفي "الشوكاني": واختلف في {الرُّوحُ}، وقيل: إنه ملك من الملائكة أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال، وقيل: هو جبريل، قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

قاله أبو صالح ومجاهد، وقيل: هم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان، وقيل: هم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح، وقيل: هم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة، وقيل: هم أرواح بني آدم، تقوم صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام، قاله عطية العوفي، وقيل: إنه القرآن، قاله زيد بن أسلم. انتهى. وقوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} يجوز أن يكون بدلًا من ضمير {لَا يَتَكَلَّمُونَ} العائد إلى أهل السموات والأرض، الذين من جملتهم الروح والملائكة، وهو أرجح (¬1)؛ لكون الكلام غير موجب، والمستثنى منه مذكور، وفي مثله يختار البدل على الاستثناء، ويجوز أن يكون منصوبًا على أصل الاستثناء. والمعنى: لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرحمن منهم بالشفاعة للخلق، أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن الرحمن بالشفاعة فيه، {و} كان ذلك الشخص المشفوع له ممن {قَالَ} في الدنيا {صَوَابًا} أي: حقًا، قاله الضحاك ومجاهد، أو: لا إله إلا الله، قاله أبو صالح، وأصل الصواب السداد من القول والفعل، وقيل: {لَا يَتَكَلَّمُونَ}، يعني: الملائكة والروح الذين قاموا صفًا هيبةً وإجلالًا إلا من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صوابًا. قال الواحدي: فهم لا يتكلمون، يعني: الخلق كلهم، إلا من أذن له الرحمن، وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صوابًا؛ أي: شهد بالتوحيد،، وعبارة "الروح": وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ومؤكدة له على أن أهل السموات والأرض إذا لم يقدروا يومئذِ على أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله له منهم في التكلم، وقال ذلك المأذون له قولًا صوابًا؛ أي: حقًا صادقًا، أو واقعًا في محله من غير خطأ في قوله، فكيف يملكون خطاب رب العزة، مع كونه أخص من مطلق الكلام، وأعز منه مرامًا، وقيل: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ} إلخ منصوب على أصل الاستثناء. والمعنى: لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن، وقال ذلك الشخص صوابًا؛ أي: حقًا هو التوحيد، وكلمة الشهادة دون غيره من أهل الشرك، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[39]

فإنهم لم يقولوا في الدنيا صوابًا، بل تفوهوا بكلمة الكفر والشرك. وإظهار {الرَّحْمَنُ} (¬1) في موضع الإضمار؛ للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة، لا أن أحدًا يستحقه عليه تعالى. وحاصل المعنى (¬2): أن الملائكة على جلالة أقدراهم، ورفيع درجاتهم، لا يستطيعون أن يتكلموا في هذا اليوم إجلالًا لربهم، ووقوفًا عند أقدارهم، إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولًا صدقًا وصوابًا، وفي الآية دلالة على أنهم مع قربهم من ربهم لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد، أو يطلب منحة إلا من بعد أن يأذن له ربه، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب له؛ لأنه يقول الصواب، وإنما يكون الكلام ضربًا من التكريم لمن يؤذن له، ويختص به، ولا أثر له فيما أراده ألبتة. والملائكة مخلوقات غيبها الله سبحانه عنا، ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها، فعلينا أن نؤمن بها، وإن لم نرها، ونصدق بما جاء في كتابه من أوصافه غير باحثين عن حقيقتها، 39 - وبعد أن ذكر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وبين عظمة يوم القيامة .. أردف ذلك ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه، فقال: {ذَلِكَ} (¬3) إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور، ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده؛ أي: ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الروح والملائكة مصطفين غير قادرين هم ولا غيرهم على التكلم من الهيبة والجلال. {الْيَوْمُ الْحَقُّ}؛ أي: الثابت المتحقق لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، وذلك لأنه متحقق علمًا، فلا بد أن يكون متحققًا وقوعًا، كالصباح بعد مضي الليل، وفيه إشارة إلى أنه واقع ثابت في جميع الأوقات والأحايين، ولكن لا يبصرون به لاشتغالهم بالنفس الملهية وهواها الشاغل، والفاء في قوله: {فَمَنْ شَاءَ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطًا، وكون مفعولها مضمون الجزاء، وانتفاء الغرابة في تعلقه بها حسب القاعدة المستمرة، وقوله: {اتَّخَذَ} جواب الشرط، و {إِلَى رَبِّهِ} متعلق بقوله: {مَآبًا}؛ أي: مرجعًا، قدم عليه اهتمامًا به، ورعاية للفواصل. وقال قتادة: {مَآبًا}؛ أي: سبيلًا، وتعلق الجار والمجرور به لما فيه من معنى الاقتضاء والإيصال، والتقدير: إذا كان الأمر كما ذكر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[40]

من تحقق اليوم المذكور، ووقوعه بلا محالة، وأردتم بيان الأصلح لكم .. فأقول لكم: من شاء أن يتخذ مرجحًا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم .. فعل ذلك بالإيمان والطاعة. وفي "التأويلات النجمية": {مَآبًا}؛ أي: مرجعًا؛ أي: رجوعًا من الدنيا إلى الآخرة، ومن الآخرة إلى رب الدنيا والآخرة لأنهما حرامان غير مقصودين عند أهل الله، بل غاية مقصودهم رضا ربهم، لا نعيمها. ومعنى الآية (¬1): أي ذلك اليوم متحقق لا ربب يه، ولا مفر منه، وأنه يوم تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه الضمائر، أما أيام الدنيا .. فأحوال الخلق فيها مكتوبة، وضمائرهم غير معلومة، فمن شاء اتخاذ مرجع حسن عند ربه .. عمل عملًا صالحًا يقربه من ربه، ويدنيه من كرامته وثوابه، ويباعد بينه وبين عقابه، 40 - ثم زاد في تخويف الكيفار وانذارهم، فقال: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ}؛ أي (¬2): خوفناكم بما ذكر، في هذه السورة من الآيات الناطقة بالبعث، وبما بعده من الدواهي، أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن، والخطاب لمشركي العرب وكفار قريش؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وفي بعض التفاسير؛ الظاهر عموم الخطاب كعموم {من} لأن في إنذار كل طائفة فائدة لهم. {عَذَابًا قَرِيبًا} هو عذاب الآخرة، وقربه لتحقق إتيانه حتمًا، ولأنه قريب بالنسبة إليه تعالى وممكن وان رأوه بعيدًا وغير ممكن، فسيرونه قريبًا، لقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}، وقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ} بدل من {عَذَابًا}، أو ظرف لمضمر هو صفة له؛ أي: عذابًا كائنًا يوم ينظر المرء؛ أي: يشاهد {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من خير أو شر، وهو تثنية يد، أصله: يدان، سقطت نونها بالإضافة، و {مَا}؛ إما موصولة منصوبة بـ {يَنُظرُ}؛ لأنه يتعدى بنفسه وبإلى، والعائد محذوف؛ أي: ما قدمته، أو استفهامية منصوبة بـ {قَدَّمَتْ} معلقة بـ {يَنُظرُ}؛ أي: يوم ينظر المرء أيَّ شيء قدمت يداه، فالمرء عام للمؤمن والكافر؛ لأن كل أحد يرى عمله في ذلك اليوم مثبتًا في صحيفة عمله، خيرًا كان أو شرًا، فيرجو المؤمن ثواب الله على صالح عمله، ويخاف الكافر عقاب الله على سيء عمله، وأما الكافر .. فكما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي} وقيل: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

المراد بالمرء: الكافر؛ لقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ}، فيكون الكافر ظاهرًا وضع موضع المضمر؛ لزيادة الذم؛ أي: يا قوم، فالمنادى محذوف، ويجوز أن تكون {يا} لمحض التحسر، ولمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه، والمراد بالكافر: الجنس العام. {كُنْتُ تُرَابًا} في الدنيا، فلم أخلق، ولم أكلف، وهو في محل رفع على أنه خبر {ليت}، أو ليتني كنت ترابًا في هذا اليوم، فلم أبعث؛ لما يرى مما قد أعده الله له من أنواع العذاب، كقوله: {لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} إلى قوله: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)}، وقيل: يحشر الله الحيوان، فيقتص للجمّاء من القرناء نطحتها؛ أي: قصاص المقابلة، لا قصاص التكليف، ثم يرده ترابًا، فيود الكافر حاله، ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء". وهذا صريح في حشر البهاثم، واعادتها لقصاص المقابلة، لا للجزاء ثوابًا وعقابًا. وقيل: الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: خلقتني من نار، وخلقته من طين، وقيل: ترابًا؛ أي: متواضعًا لطاعة الله تعالى، لا جبارًا ولا متكبرًا، وقيل: المراد بالكافر: أبو جهل، وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. قال مقاتل: نزل قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} في أخيه الأسد بن عبد الأسد. وقيل: أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والأول أولى اعتبارًا بعموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، كما تقدم غير مرة. وقرأ الجمهور: {الْمَرْءُ} بفتح الميم، وابن أبي إسحاق بضمها، وضعفها أبو حاتم، ولا ينبغي أن تضعف؛ لأنها لغة قوم يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة، فيقولون: مرؤ ومرأ ومرىء، على حسب الإعراب، وأما مؤمنو الجن .. فلهم ثواب وعقاب، فلا يعودون ترابًا، وهو الأصح، فيكون مؤمنوهم مع مؤمني الإنس في الجنة، أو في الأعراف، ونعيمهم ما يناسب مقامهم، ويكون كفارهم مع كفار الإنس في النار، وعذابهم بما يلائم شأنهم. ومعنى الآية: أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه في حياته الأولى من الأعمال، فإن كان قد آمن بربه، وعمل عمل الأبرار .. فطوبى له وحسن مآب، وإن كان قد كذب به وبرسوله .. فله الويل وأليم العذاب، ويقول الكافر من شدة ما يلقى، ومن هول ما يرى: {لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} يريد: ليتني لم أكن من

المكلفين، بل كنت حجرًا أو ترابًا، لا يجري عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب، وفي الآية إيماءٌ إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه. الإعراب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)}. {عَمَّ}: {عن}: حرف جر {ما}: اسم استفهام في محل الجر بـ {عن} مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، وقرىء: {عما} بإثبات الألف على الأصل، ولكنه قليل أو ضرورة، وعليه قول حسان بن ثابت: عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِيْ لَئِيْمٌ ... كَخِنْزِيْرِ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ الجار والمجرور متعلق بـ {يَتَسَاءَلُونَ} و {يَتَسَاءَلُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، والاستفهام فيه لتفخيم الشأن، كأنه قال: عن أي شيء يتساءلون، كأنه لا نظير له، نظير قولهم: ما الغول؟ وما العنقاء؟؛ أي: أيُّ شيء من الأشياء هو. {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}: جار ومجرور وصفة متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله؛ أي: يتساءلون عن النبأ العظيم، والجملة المحذوفة مستأنفة مسوقة لبيان ذلك الشيء المستفهم عنه. {الَّذِي}: اسم موصول في محل الجر، صفة ثانية لـ {لنبأ} {هُمْ}: مبتدأ {فِيهِ}: متعلق بـ {فِيهِ} و {مُخْتَلِفُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر للمتسائلين استهزاء {سَيَعْلَمُونَ}: {السين}: حرف استقبال وتنفيس {يعلمون}: فعل وفاعل مرفوع بالنون، ومفعوله محذوف تقديره: ما يحل بهم، والجملة مستأنفة {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)}: تأكيد لفظي للجملة التي قبلها، ولا يضر توسط حرف العطف؛ لأنه للتأكيد، والنحاة

يأبون ذلك إلا أن يكون عطفًا، وإن أفاد التأكيد، ويمكن أن يجاب عنه بأن ثمة تغايرًا ملحوظًا، وهو: أن الوعيد الثاني أشد من الأول، وبهذا الاعتبار صار مغايرًا لما قبله، ولذا عطف بـ {ثُمَّ}. {أَلَمْ}: {الهمزة} للاستفهام التقريري {لَمْ}: حرف جزم {نَجْعَلِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، {الْأَرْضَ}: مفعول أول لـ {جعل}، {مِهَادًا}: مفعول ثانٍ؛ لأن الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق، فيكون {مِهَادًا}: حالًا مقدرة، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)}: معطوف على {الْأَرْضَ مِهَادًا}، والجملة الفعلية مستأنفة. مسوقة لبيان قدرته تعالى على البعث، وإيراد الدلائل عليه، وذكر منها تسعة كما عددناها بالأرقام في مبحث التفسير، {وَخَلَقْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ما قبله؛ لأنه بمعنى: وجعلنا الأرض مهادًا {أَزْوَاجًا}: حال من المفعول، أي: متجانسين متشابهين ذكورًا وإناثًا، {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ما قبله أيضًا، {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}: فعل وفاعل ومفعولان أيضًا، معطوف على ما سبق، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} معطوف أيضًا، وهي مماثلة لما قبلها، و {مَعَاشًا}: مصدر ميمي بمعنى: المعيشة، وقد وقع هنا ظرفًا للزمان؛ أي: وقت معاش. {وَبَنَيْنَا}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على سابقه، {فَوْقَكُمْ}: ظرف مكان متعلق بـ {بنينا}. {سَبْعًا}: مفعول به؛ أي: سبع سموات {شِدَادًا} صفة لـ {سَبْعًا}. {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)}. {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف أيضًا. {وَهَّاجًا}: صفة {سِرَاجًا}، والجعل هنا بمعنى الخلق، {وَأَنْزَلْنَا}: فعل وفاعل معطوف أيضًا {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ}: متعلق بـ {وَأَنْزَلْنَا}، {مَاءً}،: مفعول به {ثَجَّاجًا}: صفة له {لِنُخْرِجَ}: {اللام}: حرف جر وتعليل، {نخرج}: فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي {بِهِ}: متعلق بـ {نخرج}، {حَبًّا}: مفعول به لـ {نخرج}، {وَنَبَاتًا}: معطوف على {حَبًّا} {وَجَنَّاتٍ}: معطوف على {حَبًّا} أيضًا، وعلامة نصبه الكسرة؛ لأنه من جمع المؤنث السالم، {أَلْفَافًا}: صفة لـ {جَنَّاتٍ}؛ أي: بساتين ملتفة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام،

والجار والمجرور متعلق بـ {أَنْزَلْنَا} أيضًا؛ أي: أنزلنا منها ما لإخراجنا به حبًا ... إلخ. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ}: ناصب واسمه ومضاف إليه؛ {كَانَ}: فعل ماضٍ ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على {يَوْمَ الْفَصْلِ} {مِيقَاتًا}: خبر {كان}، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأن سائلًا سأل لما أقام الأدلة على البعث، فقال: ما وقت البعث؟ فأجاب بقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} الخ. {يَوْمَ يُنْفَخُ}: بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ}، وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلًا من {مِيقَاتًا}، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: أعني. {يُنْفَخُ} فعل مضارع مغبر الصيغة {فِي الصُّورِ}: جار ومجرور في محل الرفع، نائب فاعل لـ {يُنْفَخُ}، وجملة {يُنْفَخُ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}. {فَتَأْتُونَ}: {الفاء}: عاطفة {تأتون}: فعل مضارع مرفوع بالنون، والواو: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُنْفَخُ}. {أَفْوَاجًا}: حال من فاعل {تأتون}، {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {تأتون}، وعدل فيه إلى المضي إشارة إلى تحقق الوؤوع، وقيل: الواو حالية، والجملة في محل النصب على الحال؛ أي: فتأتون والحال أن السماء قد فتحت، {فَكَانَتْ}: {الفاء}: عاطفة، {كانت}: فعل ماضٍ ناقص معطوف على {فُتِحَتِ}، واسمها ضمير يعود على {السَّمَاءُ}، {أَبْوَابًا}: خبرها، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ}: فعل ونائب فاعل، معطوف على {يُنْفَخُ}، {فَكَانَتْ}: فعل ماضٍ ناقص معطوف على {سُيِّرَتِ}، واسمها ضمير يعود على {الْجِبَالُ}. {سَرَابًا}: خبرها، {إِنَّ جَهَنَّمَ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانَتْ مِرْصَادًا} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {كَانَتْ}: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على {جَهَنَّمَ}. {مِرْصَادًا}: خبرها؛ أي: راصدة للمعذبين بها مترقبة لهم، أو مرصدة بمعنى: معدة؛ فهو إما من رصد الثلاثي بمعنى ترقب، وإما من أرصد الرباعي؛ أي: أعده {لِلطَّاغِينَ} متعلق بـ {مِرْصَادًا}، و {مَآبًا}: خبر ثانٍ لـ {مِرْصَادًا}؛ أي: مثابة يثوبون إليها ويرجعون، ويجوز تعلق {لِلطَّاغِينَ} بـ {مَآبًا}. {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}. {لَابِثِينَ}: حال مقدرة من الضمير المستكن في {لِلطَّاغِينَ}، {فِيهَا} متعلقان به

{أَحْقَابًا}: ظرف متعلق بـ {لَابِثِينَ}، {لَا}: نافية، {يَذُوقُونَ}: فعل وفاعل. {فِيهَا}: متعلق بـ {يَذُوقُونَ}. {بَرْدًا}: مفعول به. {وَلَا شَرَابًا}: معطوف على {بَرْدًا}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {لَابِثِينَ}؛ أي: لابثين هم فيها حال كونهم غير ذائقين، فهي حال متداخلة، أو صفة لـ {أَحْقَابًا}، وقيل: مستأنفة {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ {حَمِيمًا}: بدل من {شَرَابًا}؛ لأن الكلام غير موجب، {وَغَسَّاقًا}: معطوف على {حَمِيمًا}، وهذا أسهل مما سلكه المفسرون، فقد قال بعضهم: إنه استثناء منقطع، وعليه جرى في "الكشاف" قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} ينفس عنهم حر النار، {وَلَا شَرَابًا} يسكن عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميمًا، وتبعه الجلال، وقال أبو حيان: والظاهر أنه متصل من قوله: {وَلَا شَرَابًا}. {جَزَاءً}: مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: جوزوا بذلك جزاء، {وِفَاقًا}: صفة لـ {جَزَاءً}، والجملة المحذوفة مستأنفة. {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانُوا}: خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: {جَزَاءً}. {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، وجملة {لَا يَرْجُونَ} خبرها {حِسَابًا}: مفعول {يَرْجُونَ}؛ أي: محاسبة. {وَكَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {كَانُوا} على كونها خبرًا؛ لأن {بِآيَاتِنَا} جار ومجرور، متعلق بـ {كَذَّبُوا}، {كِذَّابًا}: مفعول مطلق منصوب بـ {كَذَّبُوا}؛ أي: تكذيبًا. {وَكُلَّ شَيْءٍ}، {الواو}: اعتراضية {كل شيء}: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وأحصينا كل شيء أحميناه {أَحْصَيْنَاهُ}: فعل وفاعل، {كل شيء}: مفعول به، والجملة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المسبب وسببه، فإن قوله الآتي {فَذُوقُوا} مسبب عن تكذيبهم، وفائدة الاعتراض تقرير ما ادعاه من قوله: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)}. {أَحْصَيْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب {كِتَابًا}: يجوز أن يكون مصدرًا من معنى {أَحْصَيْنَاهُ}؛ أي: أحصيناه إحصاءًا؛ أي: كتبناه كتابًا؛ لأن أحصيناه بمعنى: كتبنا؛ لالتقاء الإحصاء والكتابة في معنى الضبط والتحصيل، أو يكون مصدرًا لـ {أحصينا}، ويجوز أن يكون حالًا بمعنى مكتوبًا، {فَذُوقُوا}: {الفاء}: عاطفة لقول محذوف على {كَذَّبُوا} تقديره: فقيل لهم: ذوقوا إلخ {ذوقوا} إلخ نائب فاعل محكي لقيل المحذوف، وجملة

القول المحذوف معطوفة على {كَذَّبُوا}، وإن شئت قلت: {ذوقوا}: فعل أمر وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ومفعول الذوق محذوف، تقديره: فذوقوا جزاءكم، ومفعول به أوّل معطوف على {ذوقوا}. {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ} ناصب وفعل منصوب بالفتحة ومفعول به {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {عَذَابًا}: مفعول به ثانٍ. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}. {إِنَّ}: حرف نصب {لِلْمُتَّقِينَ}: خبرها مقدم {مَفَازًا}: اسمها مؤخر والجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان أحوال أهل الجنة، {حَدَائِقَ}: بدل من {مَفَازًا}: بدل بعض من كل {وَأَعْنَابًا}: معطوف على {حَدَائِقَ} {وَكَوَاعِبَ}: معطوف على {حَدَائِقَ} أيضًا، {أَتْرَابًا}: صفة لـ {كواعب}، {وَكَأْسًا}: معطوف على {حَدَائِقَ} أيضًا، {دِهَاقًا}: صفة لـ {كَأْسًا}، {لَا}: نافية، {يسمعون}: فعل وفاعل {فِيهَا}، متعلق بـ {يَسْمَعُونَ}، {لَغْوًا}: مفعول به، {وَلَا كِذَّابًا}: معطوف على {لَغْوًا}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {لِلْمُتَّقِينَ}، {جَزَاءً}: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: جزاهم الله بذلك جزاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، {مِنْ رَبِّكَ}: صفة لـ {جَزَاءً}، {عَطَاءً}: بدل من {جَزَاءً}، وفي هذا البدل سر لطيف، وهو الإلماع إلى أن ذلك تفضل وعطاء، و {جَزَاءً} مبني على الاستحقاق، و {حِسَابًا}: نعت لـ {عَطَاءً}، والمعنى: كافيًا، فهو مصدر أقيم مقام الوصف، كما مر، أو باقٍ على مصدريته مبالغة، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ}: بدل من {رَبِّكَ}. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {وَمَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {السَّمَاوَاتِ} {بَيْنَهُمَا}: ظرف مكان، متعلق بمحذوف صلة {وَمَا}، {الرَّحْمَنِ} بدل من {رَبِّ}، أو نعت له {لَا}: نافية، {يَمْلِكُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {مِنْهُ} متعلق بـ {يَمْلِكُونَ}، {خِطَابًا}: مفعول به {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {لَا يَمْلِكُونَ}، أو بـ {لَا يَتَكَلَّمُونَ}، {يَقُومُ الرُّوحُ}: فعل وفاعل، {وَالْمَلَائِكَةُ} معطوف على {الرُّوحُ}، والجملة الفعلية في محل الجر بإفة الظرف إليه، {صَفًّا}: حال من الفاعل، أي:

مصطفين، وجملة {لَا يَتَكَلَّمُونَ} تأكيد لقوله: {لَا يَمْلِكُونَ}، أو مستأنفة. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع بدل من الواو في {يَتَكَلَّمُونَ}، أو في محل النصب على الاستثناء؛ لأن الكلام غير موجب {أَذِنَ}: فعل ماضٍ {لَهُ}: متعلق بـ {أَذِنَ}. {الرَّحْمَنُ}: فاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، {وَقالَ}: فعل ماضٍ معطوف على {أَذِنَ}، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَنْ}، {صَوَابًا}: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا صوابًا. {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)}. {ذَلِكَ}: مبتدأ {الْيَوْمُ}: بدل منه، {الْحَقُّ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة {فَمَن}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصح عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر بهذه المثابة، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم .. فأقول لكم: {من شاء}: {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، كما مَرَّ مرارًا {شَاءَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على {من}، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: فمن شاء اتخاذ مآب إلى ربه. {اتَّخَذَ}: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على {من} الشرطية، {إِلَى رَبِّهِ}: متعلق بـ {مَآبًا}، و {مَآبًا}: مفعول {اتَّخَذَ}، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {أَنْذَرْنَاكُمْ} خبره، وجملة {إن} مستأنفة، {أَنْذَرْنَاكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به أول، و {عَذَابًا} مفعول به ثانٍ، {قَرِيبًا} صفة {عَذَابًا}. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف صفة لـ {عَذَابًا}؛ أي: عذابًا قريبًا كائنًا {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ}، أو متعلق بـ {عَذَابًا}، {يَوْمَ يَنْظُرُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَنْظُرُ}. {قَدَّمَتْ}: فعل ماضٍ، والتاء علامة تأنيث

الفاعل {يَدَاهُ}: فاعل ومضاف إليه مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة {وَيَقُولُ الْكَافِرُ}: فعل وفاعل، معطوف على {يَنْظُرُ الْمَرْءُ} {يَا}: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف؛ أي: يا هؤلاء القوم، وجملة النداء في محل النصب مقول {وَيَقُولُ}، {لَيْتَنِي}: ليت حرف تمنٍّ ونصب، والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي حركة البناء الأصلي في الحرف، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها، {كُنْتُ تُرَابًا}: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {ليت} وجملة {ليت} في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {عَمَّ} أصله: عن ما، والأصل في {ما} الاستفامية أنها إذا جرت حذف ألفها، ما ذكره ابن مالك بقوله: وَمَا فِي الاسْتِفهامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... ألِفُهَا وَأوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ وقد وقف عليها ابن كثير في رواية البزي عنه بهاء السكت على خلاف عنه، وفي ذلك قال الشاطبي: وَفِيْمهْ وَممَّهْ قِفْ وَعَمَّهْ لِمَهْ بِمَهْ ... بِخُلْفِ عَنِ الْبَزِّيِّ وَادْفَعْ مُجَهِّلَا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}؛ أي: عن أي شيء يسأل بعضهم بعضًا من التساؤل الذي يدل على المشاركة. {عَنِ النَّبَإِ} والنبأ: الخبر الذي يعني به ويهتم بشأنه، والمراد به: خبر البعث من القبور، والعرض على مالك يوم الدين. {كَلَّا} كلمة تفيد رد ما تقدم من الكلام ونفيه. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)}: تأكيد لفظي لما قبله على ما قاله ابن مالك، ولا يضر توسط حرف العطف، والنحويون يمنعون هذا، ولا يسمونه إلا عطفًا، وإن أفاد التأكيد. اهـ "سمين". وقيل: الأول عند النزع، والثاني: في القيامة. وقيل: الأول للبعث، والثاني: للجزاء. اهـ "بيضاوي". وقال زاده: ثم موضوعة للتراخي الزمانى، وقد استعمل هنا للتراخي الرتبي تشبيهًا لتباعد الرتبة بتباعد الزمان. اهـ.

{مِهَادًا} والمهاد - بكسر الميم -: البساط والفراش، وقال بعضم: المهاد: مصدر ماهدت بمعنى مهدت، كسافرت بمعنى: سفرت، أطلق على الأرض الممهودة؛ أي: المبسوطة المفروشة كالمهد للصبي، ويجوز أن يكون جمع مهد، ككعاب جمع كعب، وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى، والبلدان والصحارى والعمران، أو للتصرف فيها بأن جعل بعضها مزارع وبحضها مساكن إلى غير ذلك. وقرىء: {مهدًا} على تشبيهها بمهد الصبي، وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر، ففي الكلام حينئذٍ تشبيه بليغ. {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} جمع وتد، كأكتاف وكتف، وهو ما يدق في الأرض ليربط إليه الحبل الذي تشد به الخيمة، وقيل: هو ما يوتد ويحكم به المتزلزل المتحرك من اللوح وغيره. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)}؛ أي: أصنافًا ذكورًا وإناثًا، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتسنى التناسل، واحدها: زوج، ويطلق على الذكر والأنثى، ويقال لكل واحد من القرينين المزدوجين: حيوانًا أو غيره؛ كالخف والنعل، ولا يقال للإثنين زوج، بل زوجان، ولذا كان الصواب أن يقال: قرضته بالمقراضين، وقصصته بالمقصين؛ لأنهما اثنان، لا بالمقراض وبالمقص، كذا قال الحريري في "درة الغواص"، وقال صاحب "القاموس": يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج. انتهى. ولعله من قبيل الاكتفاء بأحد الشقين عن الآخر، وزوجة للمرأة لغة رديئة، لقوله تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، ويقال لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له، أو مضادًا: زوج، ولذا قال بعضهم في الآية: وخلقناكم حال كونكم معروضين لأوصاف متقابلة، كل واحد منها مزدوج بما يقابله؛ كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والعلم والجهل، والقوة والضعف، والذكورة والأنوثة، والطول والقصر، إلى غير ذلك. وبه يصح الابتلاء، فإن الفاضل يشتغل بالشكر، والمفضول بالصبر، ويعرف قدر النعمة عند الترقي من الصبر إلى الشكر، وكل ذلك دليل على كمال القدرة ونهاية الحكمة.

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ} والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، ولذا قلَّ النوم في أهل رياضة النفس؛ لقلة الرطوبات فيهم. {سُبَاتًا}؛ أي: راحةً أو موتًا؛ أي: كالموت، والمسبوت: الميت من السبت، وهو القطع؛ لأنه مقطوع عن الحركة، ومنه سمي يوم السبت؛ لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت، فسمي بذلك، وقيل: السبات - بضم السين -: قطع الحركة لتحصيل الراحة. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)}؛ أي: كاللباس، واللباس: ما يلبسه الإنسان ليستر به جسمه ويغطيه. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}؛ أي: وقتًا لتحصيل أسباب المعاش والحياة، وهو مصدر ميمي من عاش يعيش عيشًا ومعاشًا ومعيشة وعيشة، وعلى هذا لا بد من تقدير المضاف، ولذا قدروا لفظ الوقت، ويحتمل أن يكون اسم زمان على صيغة مفعل، فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير المضاف، وتفسيره بوقت معاش إبراز لمعنى صيغة اسم الزمان، وتفصيل لمفهومها، وأصله: معيشًا بوزن: مفعل، نقلت حركة الياء إلى العين، فسكنت، لكنها قلبت ألفًا. لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {سَبْعًا شِدَادًا}؛ أي: سبع سموات قوية محكمة، لا فطور فيها، ولا تصدع. {سِرَاجًا وَهَّاجًا} والسراج: ما يضيء وينير، والوهاج: المتلألىء، والمراد به: الشمس. {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} والمعصرات: السحائب، والغيوم إذا أعصرت؛ أي: حان وقت أن تعصر الماء، فيسقط منها. {مَاءً ثَجَّاجًا}؛ أي: كثير الانصباب عظيم السيلان، والمراد به: المطر، والثج: الانصباب بكثرة وشدة، ويقال: ثج الماء بنفسه؛ أي: انصب، وثججته أنا؛ أي: صببته ثجًا وثجوجًا، فيكون لازمًا ومتعديًا، وفي "المختار": ثج الماء والدم: سال، وبابه رد، ومطر ثجاجٌ؛ أي: منصب جدًّا، والثج أيضًا: سيلان دماء الهدي، وهو لازم، تقول منه ثج الدم يثج بالكسر ثجًا بالفتح. {حَبًّا} والحب: ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير والذرة ونحوها من

المطعومات، والحب والحبة - يعني بالكسر - يقال في بزور الرياحين. {وَنَبَاتًا} والنبات: ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش. {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} والجنات: واحدها جنة، وهي الحديقة والبستان فيه الشجر أو النخل، والجنات الألفاف: الملتفة الأغصان لتقاربها، وطول أفنانها، ولا واحد لها؛ كالأوزاع والأخياف كما مر. وقيل: واحدها لف بكسر اللام وفتحها، وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشراف، والأوزاع والأخياف كلاهما بمعنى الجماعات. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} هو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق {كَانَ مِيقَاتًا}؛ أي: حدًا تنتهي عنده الدنيا، وأصله: موقاتًا بوزن مفعال، قلبت الواو لسكونها إثر كسرة. {فِي الصُّورِ} والصور في الأصل: البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتًا، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه، ويجتمعوا عند النافخ. {أَفْوَاجًا} جمع فوج، وهو جماعة من الناس، وفي "المفردات": الفوج: الجماعة المارة المسرعة. {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ}؛ أي: انشقت وتصدعت من هيبة الله تعالى بعد أن كانت لا فطور فيها. {فَكَانَتْ أَبْوَابًا}؛ أي: ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة. {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ}؛ أي: زالت عن أماكنها وتفتت صخورها. {فَكَانَتْ سَرَابًا}؛ أي: كالسراب، فهي بعد تفتتها ترى كأنها جبال، وليست بجبال، بل غبارًا متراكمًا، والسراب: ما تراه نصف النهار كأنه ماء، قال الراغب: هو اللامع في المفازة كالماء، وذلك لانسرابه في مرأى العين؛ أي: ذهابه وجريانه، وتنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع، يقال: هو أخاع من السراب، يعني: أنها تصير شيئًا كلا شيء، لتفرق أجزائها، وانبثاث جواهرها. {كَانَتْ مِرْصَادًا} والمرصاد: اسم للمكان الذي يرصد فيه؛ كالمنهاج اسم

للمكان الذي ينهج فيه؛ أي: يسلك، قال الراغب: المرصاد: موضع الرصد كالمرصد، وهو هنا: موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها. {لِلطَّاغِينَ}؛ أي: للذين طغوا في مخالفة ربهم، ومعارضة أوامره. {أَحْقَابًا} جمع حقب بضمتين، وواحد الحقب: حقبة، وهي مدة مبهمة من الزمان. {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} والبرد: برد الهواء، وقد يراد به: النوم، ومن أمثالهم: منع البرد البرد؛ أي: أصابه من شدة البرد ما منعه النوم. {وَلَا شَرَابًا}؛ أي: شرابًا يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة عن بواطنهم. {إِلَّا حَمِيمًا} وهو الماء الحار المغلي. {وَغَسَّاقًا}؛ أي: قيحًا وصديدًا وعرقًا دائم السيلان من أجسادهم. {جَزَاءً وِفَاقًا (26)}؛ أي: موافقًا أعمالهم السيئة. {لَا يَرْجُونَ} لا يتوقعون {حِسَابًا}؛ أي: محاسبة على أعمالهم، أو ثواب حساب. {كِذَّابًا}؛ أي: تكذيبًا، وفعال من باب فعل المضاعف شائع فيما بين الفصحاء مطرد، مثل: كلم كلامًا. {كِتَابًا} مصدر مؤكد لـ {أَحْصَيْنَاهُ} من غير لفظه كما مر. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} مفازًا: مصدر ميمي من فاز الثلاثي، وأصله مفوز بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى الفاء فسكنت، ثم أبدلت ألفًا لتحركها أصالة، وفتح ما قبلها في الحال؛ أي: إن لهم فوزًا بالنعيم الدائم، والثواب الجسيم. {حَدَائِقَ} جمع حديقة؛ أي: بساتين، فيها أنواع الثمر والحجر، والهمزة فيه مبدلة من الياء الواقع في الاسم المفرد المؤنث الواقعة ثالثًا حرف مد زائدًا. {وَأَعْنَابًا} جمع: عنب، وهو ثمر الكرم .. {وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب، وهي التي نهض ثدياها وتكعبا. {أَتْرَابًا}: جمع ترب، وهي التي سنها من سن صاحبتها. {وَكَأْسًا} والكأس: إناء من بلور للشراب. {دِهَاقًا}؛ أي: ممتلئة، يقال: أدهق الحوض؛ أي: ملأه، قال خداش: أَتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا ... فَأتْرَعْنَا لَهُ كَأْسًا دِهَاقَا {لَغْوًا} واللغو: الباطل من الكلام الذي يلغى ولا يعتبر لعدم إفادته. {وَلَا كِذَّابًا}؛ أي: تكذيبًا. {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} الهمزة فيه مبدلة من ياء، أصله: جزاي،

أبدلت ياؤه همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {عَطَاءً}؛ أي: تفضلًا منه، وإحسانًا، أصله: عطاو، أبدلت الواو همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة. {حِسَابًا}؛ أي: كافيًا لهم، تقول: أعطاني فلان حتى أحسبني؛ أي: حتى كفاني بعطائه، قال الشاعر: فَلَمَّا حَلَلْتُ بِهِ ضَمَّنِيْ ... فَأوْلَى جَمِيْلًا وَأَعْطَى حِسَابَا أي: أعطى ما كفى. {خِطَابًا} الخطاب: المخاطبة والمكالمة. {الرُّوحُ} جبريل عليه السلام، {مَآبًا} المآب: المرجع. {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ} الإنذار: الإخبار بالمكروه قبل وقوعه {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ} والمرء: الإنسان ذكرًا كان أو أنثى {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}؛ أي: ما صنعه في حياته الأولى. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإبهام في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} للإيذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهوله، وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة، كأنه خفي جنسه، فيسأل عنه، فالاستفهام ليس على حقيقته، بل لمجرد التفخيم، فإن المسؤول عنه ليس بمجهول بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ لا يخفى عليه خافية. ومنها: ذكر السؤال أولًا بقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}، ثم ذكر الجواب بقوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}: لأن هذا الأسلوب أقرب إلى التفهيم والإيضاح. ومنها: وصف النبأ بقوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} بعد وصفه بالعظيم؛ تأكيدًا لخطره إثر تأكيد، وإشعارًا بمدار التساؤل عنه. ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} على عامله اهتمامًا به، ورعايةً للفواصل. ومنها: جعل الصلة فيه جملة اسمية للدلالة على الثبات؛ أي: هم راسخون في الاختلاف فيه. ومنها: الإطناب بتكرار الجملة للوعيد والتهديد في قوله: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} للمبالغة في التأكيد والتشديد.

ومنها: الإتيان بـ {ثُمَّ} في الجملة الثانية، للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} أصل الكلام: جعلنا الأرض كالمهاد الذي يفترشه النائم، والجبال كالأوتاد التي تثبت الدعائم، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغًا، ومثله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)}؛ أي: كاللباس في الستر والإخفاء، فوجه الشبه: الستر؛ لأن كلًّا من اللباس والليل يستر المتلبس به؛ أي: يستركم عن العيون إذا أردتم النجاة بأنفسكم من عدو يلاحقكم، أو بياتًا له، إذا أردتم إنزال الوقيعة به في منأى عن العيون، أو يعينكم على إخفاء ما لا ترغبون في أن يطلع عليه أحد. ومنها: المقابلة اللطيفة بين: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} وبين: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} قابل بين الليل والنهار، والراحة والعمل، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَكَانَتْ أَبْوَابًا}؛ أي: كالأبواب في التشقق والانصداع، فحذفت الأداة ووجه الشبه، فصار بليغًا. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)} للدلالة على التحقق، وكذا قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)}. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {فَكَانَتْ سَرَابًا}؛ أي: كانت كالسراب الذي يرى نصف النهار كأنه ماء؛ أي: فصارت بتسييرها مثل السراب؛ أي: شيئًا كلا شيء. ومنها: الكناية في قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)}؛ لأنه كناية عن التأبيد؛ أي: ماكثين فيها أبدًا. ومنها: الطباق بين {بَرْدًا} و {حَمِيمًا}. ومنها: الأمر الذي يراد به الإهانة والتحقير في قوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}، وفيه أيضًا لالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغةً في التوبيخ والإهانة. ومنها: التخصيص في قوله: {وَأَعْنَابًا} بعد التعميم في قوله: {حَدَائِقَ} إظهارًا لفضلها على سائر الفواكه.

ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}، والروح هو جبريل داخل في الملائكة، فقد ذكر مرتين: مرة استقلالًا، ومرة في ضمن الملائكة تنبيهًا على جلالة قدره. ومنها: إظهار {الرَّحْمَنِ} في موضع الإضمار في قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} للإيذان، بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة، لا أن أحدًا يستحقه عليه تعالى. ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: {إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} اهتمامًا به، ورعاية للفواصل. ومنها: التعبير بالجزء عن الكل في قوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} إشعارًا بأن أكثر الأعمال تزوال بها. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة تضمنت هذه السورة المقاصد التالية: 1 - سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - تهديد المشركين على إنكارهم إياه. 3 - إقامة الأدلة على إمكان حصوله. 4 - أحداث يوم القيامة. 5 - ما يلاقيه المكذبون من العذاب. 6 - فوز المتقين بجنات النعيم. 7 - إن هذا اليوم حق لا ريب فيه. 8 - إنذار الكافرين بالعذاب الأليم، وتمنيهم في ذلك اليوم أن لو كانوا ترابًا. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) فرغنا من تسويد هذه السورة في تاريخ: 2/ 7/ 1416 هـ. سنة ألف وأربع مئة وست عشرة هجرية.

سورة النازعات

سورة النازعات سورة النازعات - وتسمى: سورة الساهرة، وسورة الطامة - مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة النبأ، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة النازعات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآيتها: ست أو خمس وأربعون آية، وكلماتها: مئة وثلاث وسبعون كلمةً، وحروفها: تسع مئة وثلاثة وخمسون حرفًا. مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى أنذر الكفار في السورة السابقة بعذاب يوم القيامة، وهددهم بجهنم وساءت مصيرًا، وأن عذابهم فيها جزاء موافق لتمودهم وتكذيبهم لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأقسم في هذه السورة على أن البعث والنشور حق لا ريب فيه، وقد أقسم سبحانه في هذه السورة بأصناف من مخلوقاته على أن ما جاء به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من حشر الناس، وعرضهم على ربهم لينال كل عامل جزاء عمله، حق لا ريب فيه، وأيضًا أن يوم ترجف الراجفة من مبادىء النبأ العظيم. الناسخ والمنسوخ: وهذه السورة كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة النازعات؛ لذكر النازعات فيها. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وقد بدأ الله سبحانه هذه السورة بالحلف بأصناف من مخلوقاته، إن ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر البعث، وعرض الخلائق على ربهم لينال كل عامل جزاء عمله، حق لا ريب فيه في يوم تعظم فيه الأهوال، وتضطرب القلوب، وتخشع الأبصار، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظامًا نخرة، تمر فيها الرياح، ويتحققون أن صفقتهم كانت في الدنيا خاسرة؛ إذ إنهم أنكروا في الدنيا معادهم. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكار البعث، وتماديهم

في العتو والطغيان، واستهزاءهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك يشق عليه، ويصعب على نفسه. . ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر، وبين له أنه قد بلغ في الجبروت حدًا لم يبلغه قومك، فقد ادعى الألوهية، وألب قومه على موسى، وكان موسى مع هذا كله يتحمل المشاق العظام في دعوته إلى الإيمان، ليكون ذلك تسليةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، عما يلاقيه من قومه من شديد العناد، وعظيم الإعراض، يرشد إلى ذلك قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. وفي ذلك عبرة أخرى لقومه، وهي أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة، وأشد شوكة، وأعظم سلطانًا، لما تمرد على موسى عليه السلام، وعصى أمر ربه .. أخذه الله نكال الآخرة والأولى، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آيةً، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم، وقوي سلطانكم .. لم تبلغوا مبلغ فرعون، فأخذكم أهون على الله منه. وفي هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا بالله ورسوله .. فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه، كما قال في آية أخرى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}. قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص على المشركين قصص موسى عليه السلام مع فرعون، وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ فرعون ونكل به، وجعله عبرة للباقين، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له، وعدم إيمانهم بما جاءهم به .. أخذ يخاطب منكري البعث وينبههم إلى أنه لا ينبغي لهم أن يجحدوه، فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها على حكمة مبدعها وعظيم قدرته وواسع حكمته وإلى خلق الأرض التي دحاها، وجعلها معدة للسكنى، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء، وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان. قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله ¬

_ (¬1) المراغي.

سبحانه لما بين (¬1) أنه قادر على نشر الأموات، كما قدر على خلق الأكوان .. بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين كائن لا بد منه، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة، حين تعرض الأعمال على العالمين، فيتذكر كل امرىء ما عمل، ويظهر الله الجحيم، وهي دار العذاب للعيان، فيراها كل ذي بصر، وفي ذلك اليوم يوزع الجزاء على العالمين؛ فأما من جاوز الحدود التي حدها الله سبحانه في شرائعه، وفضل لذائذ الدنيا على ثواب الآخرة .. فدار العذاب مستقره ومأواه، وأما من خاف مقامه بين يدي ربه في ذلك اليوم، وزجر نفسه عن هواها، فلم يجر وراء شهواتها .. فالجنة منزله ومأواه، جزاء ما قدمت يداه. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ...} الآيات، مناسبتا لما قبلها: أنه لما كان المشركون يسألون الرسول عنادًا واستهزاءً عن الساعة، ويطلبون إليه أن يعجل بها، كما يرشد إلى ذلك: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}، وربما سألوه عن تحديد وقتها، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يردد في نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون، كما هو شأن الحريص على الهداية المجد في الإقناع .. نهاه الله سبحانه وتعالى عن تمني ما لا يرجى، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك، فإن علمها عند ربك، وإنما شأنك أن تنذر من يخافا فتنبهه من غفلته، حتى يستعد لما يلقاه حينئذٍ. أما هؤلاء المعاندون: فدعهم في غوايتهم، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون، فإذا جاء هذا اليوم .. خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفًا من نهار أوله أو آخره، ولم يلبثوا نهارًا كاملًا لمفاجأتها لهم على غير استعداد لوقوعها. أسباب النزول قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ...} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال: لما نزل قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

فِي الْحَافِرَةِ (10)} .. قال كفار قريش: لئن حيينا بعد الموت لنخسرن، فنزلت: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ...} إلى آخر السورة سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وإبن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الساعة، حتى أنزل عليه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) ...} إلخ فانتهى. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن مشركي مكة سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ استهزاءً منهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) ...} إلى آخر السورة. وأخرج الطبراني وابن جرير عن الطارق بن شهاب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكر الساعة، حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}. وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة. التفسير وأوجه القراءة 1 - افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة الكريمة بالقسم ببعض مخلوقاته إظهارًا لعظيم شأنها، وجليل قدرها، وإتقان صنعها ونظامها، وغزارة فوائدها في هذا الكون العظيم الفسيح، وهذه المخلوقات مهما عظمت .. فهي مسخرة ومسيرة لأمر بارئها، خاضعة لسلطانه وجبروته وعظمته وحكمه وعدله وأمره جَلَّ وعلا، والقسم بغير الله لا يجوز لأحد من خلق الله، أما بالنسبة إلى الله تعالى .. فهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته، لحكم عالية ومعان سامية يلفت النظر بها إلى أهمية المقسم به من المخلوقات، لدلالتها على عظمة خالقها وبارئها وموجدها من العدم، وأنها مخلوقة له سبحانه وتعالى، فقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)}: الواو للقسم (¬1)، والقسم يدل على عظم شأن المقسم به، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته. تنبيهًا على ذلك العظم، كما مر آنفًا. و {النازعات}: جمع نازعة، بمعنى طائفة من الملائكة نازعة، فأنث صفة الملائكة باعتبار كونهم طائفة، ثم جمعت تلك الصفة، فقيل: نازعات بمعنى: ¬

_ (¬1) روح البيان.

طوائف من الملائكة نازعات، وقس عليه {الناشطات} وما بعده، وإلا فكان الظاهر أن يقال: والنازعين، والناشطين مثلًا، والنزع: جذب الشيء من مقره بشدة، والغَرْق: مصدر معنوي لـ {النازعات} بحذف الزوائد بمعنى: الإغراق والغرق، وكذا الإغراق: الرسوب في الماء وفي البلاء، فهو مفعول مطلق لـ {النازعات}؛ لأنه نوع من النزع، فيكون شرطه موجودًا، وهو اتفاق المصدر مع عامله لفظًا أو معنى، والإغراق في النزع: التوغل فيه، والبلوغ إلى أقصى درجاته، يقال: أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النصل. أقسم الله تعالى بطوائف من الملائكة التي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم إغراقًا في النزع؛ أي: نزعًا شديدًا، فهم ينزعونها منهم معكوسًا من الأنامل والأظفار، ومن تحت كل شعرة، كما تنزع الأشجار المتفرقة العروق في أطراف الأرض، وكما يسلخ جلد الحيوان وهو حي، وكما يضرب الإنسان ألف ضربة بالسيف، بل أشد، والملائكة، وهم ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب يطعنونهم بحربة مسمومة بسم جهنم، والميت يظن أن بطنه قد ملىء شوكًا، وكأن نفسه تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء انطبقت على الأرض، وهو بينهما، فإذا نزعت نفس الكافر .. فهي أشبه شيء بالزئبق على قدر النحلة، وعلى صورة عمله تأخذها الزبانية، ويعذبونها في القبر، وفي السجين، وهو العذاب الروحاني، ثم إذا قامت القيامة .. انضم الجسماني إلى الروحاني، كذا قالوا، ولا أصل له، ولكن يدل على هذا التشديد قوله تعالى: {تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}. فقوله (¬1): {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)} إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار بشهادة مدلول اللفظ، وجواب القسم محذوف دل عليه قوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)}؛ لأن معناه: أنبعث إذ صرنا كذلك؟ والتقدير: أقسمت لكم أيها العباد بالملائكة التي تنزع وتقبض أرواح الكفار نزعًا شديدًا، أو قبضًا عنيفًا لتبعثنَّ بعد الموت للمجازاة على أعمالكم. قال الإِمام الطبري في "تفسيره" (¬2): أقسم ربنا جل وعلا بـ {النازعات}، واختلف أهل التأويل فيها، وما هي، وما تنزع، فقال بعضهم: الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، والمنزوع نفوس الآدميين، وقال آخرون: بل هو ¬

_ (¬1) روض البيان. (¬2) الطبري.

[2]

الموت ينزع النفوس، وقال غيرهم: بل هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق؛ أي: تطلع وتغيب، ثم قال بعد ذكر أقوال أخرى: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أقسم بالنازعات غرقًا، ولم يخصص نازعة دون نازعة، فكل نازعة غرقًا فداخلة في قسمه، ملكًا كان أو موتًا، أو نجمًا، أو قوسًا، أو غير ذلك. والمعنى: والنازعات إغراقًا، كما يغرق النازع في القوس، أي: والنازعات شدة، كما شدد النازع في القوس. وقال الشوكاني (¬1): أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي: الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم، كما ينزع النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بـ {الناشطات}، و {السابحات}، و {السابقات}، و {المدبرات}، يعني: الملائكة، والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر: إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامْ ... وَلَيْثِ الكَتِيْبَةِ فِيْ المُزْدَحَمْ وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقال السدي: النازعات: هي النفوس حين تغرق في الصدور. وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم: نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم: نزعت بالحبل؛ أي: إنها تغرب وتغيب، وتطلع من أفق آخر، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان، وقال عطاء وعكرمة: {النازعات}: القسي، تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس: أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلى النصل، وقال يحيى بن سلام: الغزال تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل: أراد بالنازعات: الغزاة؛ أي: الرماة. نتهى. 2 - وقوله: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)} قَسَم آخر معنى (¬2) بطريق العطف، والنشط: جذب الشيء من مقره برفق ولين، ونصب {نَشْطًا} على المصدرية، أقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين؛ أي: تخرجها من أبدانهم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

برفق ولين، كما تنشط الدلو من البئر، يقال: نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وكما تنشط الشعرة من السمن، وكما تنسل القطرة من السقاء، وهم ملك الموت وأعوانه من ملائكة الرحمة، ونفس المؤمن وإن كانت تجذب من أطراف البنان، ورؤس الأصابع أيضًا، لكن لا يحس بالألم، كما يحيى به الكافر، وأيضًا نفس المؤمن ليس لها شدة تعلق بالبدن، كنفس الكافر؛ لكونها منجبذةً إلى عالم القدس، وإنما يشتد الأمر على أهل التعلق، دون أهل التجرد، خصوصًا إذا كان ممن مات بالاختيار قبل الموت، وأيضًا حين يجذبونها يدعونها أحيانًا حتى تستريح؛ وليس كذلك أرواح الكفار في قبضها، لكن ربما يتعرض الشيطان للمؤمن الضعيف اليقين، والقاصر في العمل إذا بلغ التراقي، فيأتيه في صورة أبيه وأمه وأخيه، أو صديقه، فيأمره باليهودية أو النصرانية أو نحوهما، كذا قالوا ولا أصل له، والميت يرى الملائكة حينئذٍ على صورة أعماله، حسنةً أو قبيحةً، فإذا أخذوا نفس المؤمن .. يلقونها في حرير الجنة، وهي على قدر النحلة، وعلى صورة عمله، ما فقد شيء من عقله وعلمه المكتسب في الدنيا، دل عليه قوله تعالى حكايةً عن حبيب النجار الشهيد في أنطاكية: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} فيعرجون بها إلى الهواء، ويهيئون لها أسباب التنعم في قبره، وفي عليين، وهو النعيم الروحاني، ثم إذا قام الناس من قبورهم .. ازداد النعيم بانضمام الجسماني إلى الروحاني. فقوله: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)} إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين بشهادة اللفظ ومدلوله أيضًا. والمعنى: وأقسمت لكم أيا العباد بالملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين قبضًا برفق ولين .. لتبعثن بعد الموت للمجازاة. فإن قيل: قد (¬1) ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخذ روحه الطيب ببعض شدة حتى قال: "واكرباه"، وقال: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت"؛ أي: غمراته، وكان يدخل يده الشريفة في قدح فيه ماء، ثم يمسح وجهه المنور بالماء، ولما رأته فاطمة - رضي الله عنها - يغشاه الكرب .. قالت: واكرب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

أبتاه، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، فإذا كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انتقاله هكذا، فما وجه ما ذكر من الرفق واللين في قبض أرواح المؤمنين؟. أجيب: بأن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة، فأحس بالألم أكثر من غيره، إذ الخفيف على الأخف ثقيل، وأيضًا: يحتمل أن يبتليه الله بذلك ليدعو الله في أن يجعل لأمته سهلًا يسيرًا، وأيضًا قد روي أنه طلب من الله أن يحمل عليه بعض صعوبة الموت تخفيفًا على أمته، فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأيضًا فيه تسلية أمته إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك الكرب عند الموت، وأيضًا لكي يحصل لمن شاهد من أهله، ومن غيرهم من المسلمين الثواب، لما يلحقهم عليه من المشقة، كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد، وأيضًا راحة الكفيل في الشدة؛ لأنها من باب الترقي في العلوم والدرجات، وأقل الأمر للناقصين كفارة الذنوب، كذا قالوا، ولكن ما فيه نص. 3 - وقوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)} قسم آخر معنى أيضًا بطريق (¬1) العطف، والسبح: المر السريع، في الماء أو في الهواء، و {سَبْحًا} منصوب على المصدرية بـ {السابحات}، أقسم الله سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة التي تسبح في مضيها؛ أي: تسرع فينزلون من السماء إلى الأرض مسرعين، مشبهين في سرعة نزولهم بمن يسبح في الماء، وهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص؛ لأن نزول الأولين إنما هو لقبض الأرواح مطلقًا، ونزول هؤلاء لعامة الأمور والأحوال. والمعنى: وأقسم لكم بالملائكة التي تسبح وتسرع في نزولها إلى الأرض .. لتبعثن بعد الموت. 4 - وقوله: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)} معطوف على {السابحات} بالفاء للدلالة على ترتب السبق على السبح بغير مهلة، فالموصوف واحد، ونصب {سَبْقًا} على المصدرية؛ أي: أقسم لكم بالملائكة التي تسبح وتسرع في النزول إلى الأرض، وتسبق سبقًا إلى ما أمروا به، ووكلوا عليه بلا مهلة؛ أي: يصلون إليه بسرعة، والسبق: كناية عن الإسراع فيما أمروا به؛ لأن السبق، وهو التقدم في السير من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[5]

لوازم الإسراع، فالسبق هنا لا يستلزم وجود المسبوق؛ إذ لا مسبوق هنا. وفي "الشوكاني": {وَالسَّابِحَاتِ}: الملائكة، تسبح في الأبدان لإخراج الروح، كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، وقال مجاهد: {السابحات}: الموت يسبح في نفوس بني آدم، وقيل: هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة: وَالْخَيْلُ تُعْلَمُ حِيْنَ تَسْـ ... ـبَحُ فِيْ حِيَاضِ الْمَوْتِ سَبْحَا وقال قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، كما في قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وقال عطاء: هي السفن تسبح في الماء، وقيل: هي أرواح المؤمنين تسبح شوقًا إلى الله. {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}: هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف، قال مسروق ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، وقال أبو روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وقال مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقيل: غير ذلك من الأقوال المتلاطمة. 5 - وقوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} (¬1) معطوف على {السابقات} بالفاء؛ للدلالة على ترتب التدبير على السبق بغير تراخ، والتدبير: التفكر في دبر الأمور وعواقبها، و {أَمْرًا}: مفعول به لـ {لمدبرات}. قال الراغب: يعني: الملائكة الموكلين بتدبير الأمور. انتهى؛ أي: التي تدبر أمرًا من الأمور الدنيوية والأخروية للعباد، كما رسم لهم من غير تفريط ولا تقصير، والمقسم عليه محذوف لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة. والمعنى: أقسم بالملائكة التي تدبر أمرًا من أمور العباد، لتبعثن بعد الموت للمجازاة. وجه الدلالة: أن الموت يستدعي البعث للأجر والجزاء؛ لئلا يستمر الظلم والجور في الوجود: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، فكان الله تعالى يقول: إن الملائكة ينزلون لقبض الأرواح عند منتهى الآجال، ثم ينجر الأمر إلى البعث لما ذكر، فكان من شأن من يقر بالموت أن يقر بالبعث، فلذا جمع بين القسم بـ {النازعات} وبين البعث الذي هو الجواب، وفي عنوان هذه السورة وجوه كثيرة ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

صفحنا عن ذكرها، واخترنا سوق "الكشاف" فإنه هو الذي يقتضيه جزالة التنزيل. قال الجرجاني (¬1): عطف {السابقات} بالفاء؛ لأنها مسببة من التي قبلها؛ أي: واللاتي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سببًا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب بالواو .. لم يكن القيام سببًا للذهاب، قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)}؛ لأنه يبعد أن يجعل السبق سببًا للمتدبر. قال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله الواحدي بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فتدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالًا يتصل بعضها ببعض، كقوله: قام زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها .. ظهرت أمانتهم، ففوض إليهم التدبير، ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سببًا للتدبير، كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية، والأولى أن يقال: العطف في {المدبرات} طوبق به ما قبله من عطف {السابقات} بالفاء، ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله؛ لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق، لا لمطابقته وموافقته. ومعنى تدبير الملائكة للأمر: نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما، والفاعل للتدبير في الحقيقة، وإن كان هو الله عزّ وجلّ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به، وقيل: إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك .. قيل لها: مدبرات. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل؛ فأما جبريل .. فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل: فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر من الله عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه. 6 - وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)} ظرف متعلق بجواب القسم المقدر، وهو: لتبعثن، أو باذكر مقدرًا، والمراد بالرجفة: النفخة الأولى التي ترجف عندها الأجرام الساكنة، كالأرض والجبال؛ أي: أقسمت لكم بالأمور السابقة، لتبعثن يا كفار مكة يوم ترجف الراجفة؛ أي: يوم تتحرك النفخة الأولى لإماتة الأحياء حركة شديدة، وتزلزل زلزلة عظيمة من هول ذلك اليوم، أسند (¬2) إليها الرجف مجازًا على ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[7]

طريق إسناد الفعل إلى سببه، فإن حدوث تلك النفخة سبب لاضطراب الأجرام الساكنة من الرجفان، وهي شدة الاضطراب، ومنه: الرجفة للزلزلة، لما فيه من شدة الاضطراب وكثرة الانقلاب، وفيه إشعار بأن تغير السفلي مقدم على تغير العلوي، وإن لم يكن مقطوعًا. 7 - وجملة قوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} حال مقدرة من {الرَّاجِفَةُ} مصححة لوقوع اليوم ظرفًا للبعث، والمراد بـ {الرَّادِفَةُ}: النفخة الثانية لإحياء الأموات التي تردف الأولى؛ أي: تجيء بعدها؛ لأن النفخة الثانية تجيء بعد الأولى. يقال: ردفه - كسمعه ونصره - تبعه، كأردفه، وأردفته معه: أي: أركبته معه كما في "القاموس". والمعنى (¬1): أي لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعةً لها، لا قبل ذلك، فإن اليوم عبارة عن الزمان الممتد الذي تقع فيه النفختان، وبينهما أربعون سنة، كما قال في "الكشاف": لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى. أنتهى. قال في "الإرشاد" (¬2): واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون إلا عند النفخة الثانية لتهويل اليوم ببيان كونه موقعًا لداهيتين عظيمتين، لا يرقى عند وقوع الأولى حيٌّ إلا مات، ولا عند وقوع الثانية ميتٌ إلا بعث وقام. والمعنى: أي لتبعثن يوم تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، ويسمع لها صوت عظيم، ويموت كل شيء عليها بأمر الله تبارك وتعالى، وسميت {راجفة} من الرجف: وهو الاضطراب الشديد؛ لأن بها يضطرب الأمر، ويختل النظام، وينتهي العالم إلى نهايته. التي حددها له خالقه عزّ وجل، و {الرَّاجِفَةُ}: صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب، كالرعد إذا تمخض، وتكون النفخة الأولى من صور إسرافيل {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ}؛ لهول تلك النفخة الكبرى ثم تتبعها {الرَّادِفَةُ}؛ أي: النفخة الثانية التي تعقب النفخة الأولى، وهي التي يبعث الله معها الخلق، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعود.

[8]

فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} فتضطرب الأرض لإحياء الموتى، كما اضطربت في المرة الأولى لإماتة الأحياء، ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن: "بين النفختين أربعين عامًا"، كما يروى: أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض، ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك الماء سبب في حياء الموتى، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير. 8 - وقوله: {قُلُوبٌ} (¬1): مبتدأ، وتنكيره يقوم مقام الوصف المخصص المجوز للابتداء بالنكرة، سواء حمل على التنويع، وإن لم يذكر النوع المقابل فإن المعنى منسحب عليه، أو على التكثير، كما في قولهم: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ. فإن التفخيم كما يكون بالكيفية .. يكون بالكمية أيضًا، كأنه قيل: قلوب كثيرة أو عاصية، كما قال في، "التأويلات النجمية": قلوب النفس المتمردة الشاردة النافرة عن الحق {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تقع النفختان، وهو متعلق بقوله: {وَاجِفَةٌ} وهذا خبر المبتدأ؛ أي: شديدة الاضطراب من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم، فإن الوجيف عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل، وعلم منه أن الواجفة ليست جميع القلوب، بل قلوب الكفار، فإن أهل الإيمان لا يخافون. 9 - {أَبْصَارُهَا}؛ أي: أبصار أصحابها، كما دل عليه قوله: {يَقُولُونَ}، وإلا فالقلوب لا أبصار لها، وإنما أضاف الأبصار إلى القلوب؛ لأنها محل الخوف وهو من صفاتها. {خَاشِعَةٌ}، أي: ذليلة من الخوف بسبب الإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه، يترقبون أي شيء ينزل عليهم من الأمور العظام، وأسند الخشوع إليها مجازًا؛ لأن أثره يظهر فيها. والخلاصة: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالنازعات والناشطات والسابحات فالسابقات فالمدبرات .. لتبعثن بعد الموت، ولتنبؤن بما عملتم، ولتجزون بالإحسان إحسانًا وبالسوء سوءًا، وإنها لجنة أبدًا أو نار أبدًا. ويوم ترجف الراجفة تضطرب الأرض والجبال تتبعها الرادفة وتمور السماء مورًا وتسير الجبال سيرًا وتكون قلوب الكفار مضطربة قلقة خائفةً؛ لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون، ورأوا ما كانوا يوعدون، ولذا قال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)}، فالقلوب ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

الواجفة هي القلقة المضطربة اضطرابًا شديدًا، والخائفة خوفًا عظيمًا، فلا تهدأ ولا تسكن لما ترى من هول يوم القيامة وعذاب الآخرة، وذلك بعد أن رأوا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكره لهم ويحذرهم منه في الدنيا، ولكنهم أنكروا وكفروا ولم يؤمنوا به، فإذا جاء وعد الله سبحانه .. هلعت قلوبهم، وانشقت مرائرهم، واضطربت نفوسهم، وخشعت أبصارهم من هول ذلك المشهد العظيم. قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإِسلام، أما أهل الإيمان .. فقد ثبت بالدليل أنهم لا يخافون إذا خاف الناس، بل يثبتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. فالويل كل الويل لأولئك المكذبين بيوم الدين، 10 - وقد حكى الله سبحانه عنهم أقوالًا ثلاثةً استبعدوا بها أمر البعث، واستهزؤوا فيها بالرسول والمؤمنين، فقال: 1 - {يَقُولُونَ} استئناف بياني؛ أي: يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت؛ أي: يقولون: الآن؟ منكرين له متعجبين منه {أَإِنَّا} نحن {لَمَرْدُودُونَ}؛ أي: لمعادون بعد موتنا {فِي الْحَافِرَةِ}؛ أي: إلى (¬1) الحافرة؛ أي: إلى حالتنا الأولى قبل الممات يعنون الحياة؛ أي: راجعون أحياءً كما كنا قبل مماتنا من قولهم: رجع فلان في حافرته؛ أي: في طريقته التي جاء فيها، فحفرها؛ أي: أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، وإنما الحافر هو الماشي في تلك الطريقة، كقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أي منسوبة إلى الحفر والرضى أو على تشبيه القابل بالفاعل؛ أي: في تعلق الحفر والرضا بكل منهما، فأطلق اسم الثاني على الأول للمشابهة، كما يقال: صام نهاره تشبيهًا لزمان الفعل بفاعله، وقال مجاهد والخليل بن أحمد: الحافرة: هي الأرض التي يحفر فيها القبور، ولذا قال في "التأويلات النجمية": أي حافرة أجسادنا وقبور صدورنا، ومنه قول الشاعر: آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمُ فَاعْلَمُوْا ... حَتَّى يُرَد النَّاسُ فِيْ الْحَافِرَةْ والمعنى عليه: أئنا لمردودون في قبورنا أحياءً، وقال ابن زيد: الحافرة: ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

النار، واستدل بقوله: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}، والاستفهام فيه للإنكار. وقرأ الجمهور: {فِي الْحَافِرَةِ} بالألف، وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة: {في الحفرة} بغير ألف، قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: الحفرة هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت. 2 - 11 {أَإِذَا} والعامل (¬1) في {إذا} مضمر يدل عليه {مردودون}؛ أي: أئذا {كُنَّا} نحن {عِظَامًا نَخِرَةً}؛ أي: بالية، نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة، فهو تأكيد لإنكار الرد ونفيه بنسبته إلى حالة منافية له، ظنوا أن من فساد البدن وتفرق أجزائه يلزم فساد ما هو الإنسان حقيقة، وليس كذلك، ولو سلم أن الإنسان هو هذا الهيكل المخصوص .. فلا نسلم امتناع إعادة المعدوم، فإن الله تعالى قادر على كل الممكنات، فيقدر على جمع الأجزاء العنصرية، واعادة الحياة إليها؛ لأنها متميزة في علمه، وإن كانت غير متميزة في علم الخلق، كالماء مع اللبن، فإنهما وإن امتزجا، لكن أحدهما متميز عن الآخر في علم الله، وإن كان عقل الإنسان قاصرًا عن إدراكه. والنخر: البلى، يقال: نخر العظم والخشب - بكسر العين -: إذا بلي واسترخى، وصار بحيث لو م لتفتت، ونخرة أبلغ من ناخرة؛ لكونها من صيغ المبالغة، أو صفة مشبهة دالة على الثبوت، ولذا اختارها الأكثر، والناخرة أشبه برؤوس الآي، اختارها البعض، وقيل: النخرة غير الناخرة؛ إذ النخرة بمعنى البالية، وأما الناخرة .. فهي العظام الفارغة المجوفة التي يحصل فيها صوت من هبوب الريح من نخير النائم والمجنون، لا من النخر بمعنى: البلى. قال الراغب: النخير صوت من الأنف، وسمي خرق الأنف الذي يخرج منه النخير منخر، فالمنخران ثقبتا الأنف. وقرأ عمر (¬2) وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان حمزة والكسائي وأبو بكر: {ناخرة} بألف، وقرأ أبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة: {نَخِرَةً} بغير ألف، واختار (¬3) القراءة الأولى الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي، واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[12]

حاتم. قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة: التي لم تنخر بعد، أي: لم تبل، ولا بد أن تنخر، وقيل: هما بمعنى، تقول العرب: نخر الشيء فهو ناخر ونخر، وطمع فهو طامحٍ وطمع، ونحو ذلك. قال الأخفش: هما جميعًا لغتان، أيهما قرأت فحسن، وقرأ نافع (¬1) وابن عامر والكسائي: {إذا كنا} على الخبر. وقرأ الجمهور: {أَإِذَا كُنَّا} على الاستفهام، والمعنى: أي: أنرد إلى الحياة بعد أن نصير عظامًا بالية، لو لمست .. لتفتتت. 3 - 12 {قَالُوا} اختيار (¬2) صيغة الماضي هنا للإيذان بأن صدور هذا الكفر منم ليس بطريق الاستمرار، مثل كفرهم السابق المعبر عنه بالمضارع؛ أي: قالوا بطريق الاستهزاء بالحشر، {تِلْكَ} الردة والرجعة في الحافرة، وفيه إشعار بغاية بُعدها من الوقوع في اعتقادهم {إِذًا}؛ أي: إن رددنا إلى الحالة الأولى، وصح ذلك {كَرَّةٌ} الكر: الرجوع، والكرة: المرة من الرجوع، والجمع: كرات. {خَاسِرَةٌ}؛ أي: ذات خسران على إرادة النسبة من اسم الفاعل؛ أي: رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، أو خاسرة أصحابا على الإسناد المجازي؛ أي: على طريق إسناد الفعل إلى ما يقاربه في الوجود، كقوله: تجارة رابحة، والربح: فعل أصحاب التجارة، وهي عقد المبادلة، والربح والتجارة متقاربان في الوجود وإلا فهم الخاسرون، والكرة مخسور فيها؛ أي: إن صحت تلك الكرة .. فنحن إذًا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا المعنى أفاده كلمة {إِذًا}، فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور، وإنما حمل قولهم هذا على الاستهزاء؛ لأنهم أبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة المشكوك المحتمل الوقوع. والمعنى (¬3): أي إن صح ما قلتم من البعث يوم القيامة بعد أن نصير عظامًا نخرةً .. فنحن إذًا خاسرون؛ لأنا كذبنا به، ولم نأخذ العدة له، فيا ويلنا في هذا اليوم، وهذا منهم استهزاء وتهكم اعتقادًا منهم أن ذلك لن يكون، وقيل: معنى {خَاسِرَةٌ}: كاذبة؛ أي: ليست بكائنة، كذا قال الحسن وغيره. وقال الربيع بن أنس: {خَاسِرَةٌ} على من كذب بها. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا بعد الموت .. لنخسرن بالنار، ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[13]

وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار. 13 - وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} جواب (¬1) من الله عن مقالتهم بالإنكار، وتعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة، وإحياء الأموات؛ أي: لا تستبعدوا تلك الكرة، ولا تحسبوها صعبة على الله سبحانه، فإنها سهلة هيئة في قدرته تعالى، فإنما هي؛ أي: تلك الكرة والرجعة {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}؛ أي: صيحة واحدة؛ أي: حاصلة بصيحة واحدة لا تكرر، يسمعونها وهم في بطون الأرض، وهي النفخة الثانية كنفخ واحد في صور الناس؛ لإقامة القافلة، عبر عن الكرة بالزجرة تنبيهًا على كمال اتصالها بها، كأنها عينها يقال: زجر البعير إذا صاح. 14 - {فَإِذَا هُمْ}؛ أي: فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء {بِالسَّاهِرَةِ}؛ أي: على وجه الأرض. قال الواحدي (¬2): المراد بالساهرة: وجه الأرض وظاهرها في قول الجميع. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، يقال: سهر إذا لم ينم، وقيل: لأنه يسهر في فلاتها خوفًا منها، فسميت بذلك. وقيل: أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها، خلقها الله سبحانه حينئذٍ. وقيل: الساهرة: الأرض السابعة، يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق. وقال سفيان الثوري: الساهرة: أرض الشام. وفي الحديث: "بيت المقدس أرض المحشر والمنشر". وقال قتادة: هي جهنم؛ أي: فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم. و {إذا} الفجائية تقيد (¬3) حدوث ما أنكروه بسرعة على فجأة؛ أي: فإذا هم فاجؤوا الحصول بها، وهو بيان لحضورهم الموقف عقب الكرة التي عبر عنها بالزجرة. وقيل: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك؛ لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة؛ أي: جارية الماء، وفي ضدها نائمة، يعني: أن بياض الأرض عبارة عن خلوها عن الماء والكلأ، شبِّه جريان السراب فيها بجريان الماء عليها. فقيل لها: ساهرة. وفي "التأويلات النجمية": {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}؛ أي: فإذا هم بظهر أرض الحياة، كما كانوا قبله ببطن أرض الممات، وقال المولى الفناري في تفسير الفاتحة: إن الناس إذا قاموا من قبورهم، وأراد الله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[15]

سبحانه أن يبدل الأرض غير الأرض .. تمد الأرض بإذن الله، ويكون المحشر عليها، فيكون الخلق عليه عندما يبدل الله الأرض كيف يشاء؛ إما بالصورة، وإما بأرض أخرى ما هم عليها، تسمى بالساهرة، فيمدها سبحانه مد الأديم، ويزيد في سعتها أضعاف ما كانت من أحد وعشرين جزءًا إلى تسعة وتسعين جزءًا، حتى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا. وحاصل المعنى (¬1): ألا تستبعدوا ذلك وتظنوه عسيرًا شاقًا علينا، فإنما هي صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى، فإذا الناس كلهم على سطح الأرض أحياء، ونحو الآية قوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)}. وخلاصة هذا: لا تحسبوا أن هذه الرجعة عسيرة شاقة علينا، فما إعادتكم التي ظننتموها صعبة إلا أن نأمر ملكًا من ملائكتنا أن يصيح صيحة واحدة، فإذا أنتم جميعًا لدينا محضرون، لا يتخلف منكم أحد، ولا يستطيع التخلف إن أراد. 15 - وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)} كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تكذيب قومه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم، يعني: فرعون، ومعنى (¬2) هل أتاك: إن قدر أن هذا أول ما أتاه من حديثه يكون ترغيبًا له في استماع حديثه، وحملًا له على طلب الإخبار، كأنه قيل: هل أتاك حديث موسى قبل هذا، أم أنا أخبرك به؟ كما قال الحسن رحمه الله تعالى: إعلام من الله لرسوله حديث موسى، كقول الرجل لصاحبه: هل بلغك ما لقي أهل البلد، وهو يعلم أنه لم يبلغه، وإنما قال ليخبره به. انتهى. وإن قدر إتيانه قبل هذا، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص يكون تقريرًا له؛ أي: حملًا له على الإقرار بأمر يعرفه قبل ذلك؛ أي: أليس قد أتاك حديثه، يعني: قد جاءك وبلغك حديثه عن قريب، كأنه لم يعلم بحديث موسى، وأنه لم يأته بعد، وإلا لما كان يتحزن على إصرار الكفار على إنكار البعث، وعلى استهزائهم به، بل يتسلى بذلك، فـ {هَلْ} بمعنى قد المقربة للحكم إلى الحال، وهمزة الاستفهام قبلها محذوفة، وهي للتقرير، وزيد ليس لأنه أظهر دلالة على ذلك؛ لأنه مقدر في النظم، كأنه قيل: أليس قد أتاك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[16]

حديث موسى 16 - {إِذْ نَادَاهُ}؛ أي: نادى موسى وكلمه {رَبَّهُ} وخالقه ومالكه ظرف للحديث، والمناداة والنداء بمعنى واحد، وفي "القاموس": النداء: الصوت؛ أي: هل أتاك يا محمد حديث موسى وخبره الواقع حين ناداه؛ إذ المراد: خبره الحادث، فلا بد له من زمان يحدث فيه، لا ظرف للإتيان لاختلاف وقتي الإتيان والنداء؛ لأن الإتيان لم يقع في وقت النداء، أو مفعول لاذكر المقدر، وعيه وضع السجاوندي علامة الوقف اللازم على موسى، وقال: لأنه لو وصل .. صار {إِذْ} ظرفًا لإتيان الحديث، وهو محال. لعله لم يلتفت إلى عمل حديث لكونه هنا اسمًا بمعنى الخبر مع وجود فعل قوي في العمل قبله، وبالجملة: لا يخلو عن إيهام، فالوجه الوقف، كما في بعض التفاسير. {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}؛ أي المبارك المطهر بتطهير الله عما لا يليق حين مكالمته مع كليمه، أو سمي مقدسًا لوقوعه في حدود الأرض المقدسة المطهرة عن الشرك ونحوه، وأصل الوادي (¬1): الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين: واديًا، والجمع: أودية، ويستعار للطريقة، كالمذهب والأسلوب، فيقال: فلان في وادٍ غير واديك. {طُوًى} بدل من {الواد} بدل كل من كل، أو عطف بيان، وهو بضم الطاء والتنوين تأويلًا له بالمكان، أو بغير تنوين تأويلًا له بالبقعة، وهو معدول من طاوٍ، كما عدل عمر عن عامر، قال الفراء: الصرف أحب إليّ من منعه إذا. لم أجد في المعدول نظيرًا له، أي: لم أجد اسمًا من الوادي عدل عن جهته غير طوى، وهو اسم للوادي الذي بين المدينة ومصر، وقيل: {طُوًى} معناه: يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل: يا رجل اذهب إلى فرعون، وقيل: اسم وادٍ عند الطور بين: أيلة ومصر، وإنما سمي {طُوًى} لكثرة ما مشت عليه الأنبياء، وقيل: {طُوًى} معناه: يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل: يا رجل اذهب إلى فرعون، وقيل: المعنى: إن الوادي المقدس بورك فيه مرتين، والأول أولى. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون، وقرأ الباقون: بضم الطاء منونًا، وروى عن أبي عمرو بكسر الطاء. 17 - وقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ}؛ أي: فقال له: اذهب إلى فرعون، وقيل: هو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[18]

تفسير للنداء؛ أي: ناداه نداءً، هو قوله: اذهب، وقيل: هو على حذف أن المفسمرة؛ ويؤيده قراءة ابن مسعود: {أن اذهب}؛ لأن في النداء معنى القول، قال الحسن (¬1): وكان فرعون علجًا من همدان، وعنه أيضًا: كان من أصبهان، طوله أربعة أشبار، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفًا من أن يمشي على لحيته، وقال مجاهد: كان أهل اصطخر. وقرأ عبد الله: {أن اذهب}؛ لأن في النداء معنى القول كما مر آنفًا. وجملة قوله: {إِنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر بالذهاب، أو لوجوب الامتثال به، والطغيان: مجاوزة الحد؛ أي: طغى على الخالق بأن كفر به، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم، فكما أن كمال العبودية لا يكون إلا بالصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق، فكذا كمال الطغيان يكون سوء المعاملة معهما. 18 - {فَقُلْ} له بعدما أتيته: {هَلْ لَكَ} رغبة وتوجه {إِلَى أَنْ تَزَكَّى} بحذف إحدى التائين من تتزكى؛ أي: إلى أن تتطهر من دنس الكفر والطغيان، ووسخ الكدورات البشرية، والقاذورات الطبيعية. وقرأ الجمهور (¬2): {تَزَكَّى} بالتخفيف، وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي؛ قال أبو عمر بن العلاء: معنى قراءة المخفيف: تكون زكيًّا مؤمنًا، ومعنى قراءة التشديد: الصدقة. وفي الكلام مبتدأ مقدر يتعلق به {إِلَى}، والتقدير: هل لك رغبة، أو هل لك توجه، أو هل لك سبيل إلى التزكي؟ كما مر آنفًا. 19 - {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ}؛ أي: وأرشدك إلى معرفته فتعرفه، ففي النظم مضاف مقدر، وتقديم التزكية لتقدم التخلية على التحلية. {فَتَخْشَى}؛ إذ الخشية لا تكون إلا بعد معرفته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}؛ أي: العلماء بالله، وجعل الخشية غاية للهداية؛ لأنها ملاك الأمر؛ لأن من خشي الله .. أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل" والإدلاج: السير أول الليل. ثم إنه تعالى (¬3) أمر موسى عليه السلام بأن يخاطبه بالاستفهام الذي معناه العرض، ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} أما كونه لينًا .. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[20]

فلأنه في صورة العرض لا في صورة الأمر صريحًا، وليس فيه أيضًا ذكر نحو الشرك، والجهل والكفران من متعلقات التزكي، وأما اشتماله على بعض التفصيل فظاهر. وحاصل معنى الآيات: أي ألم يبلغك يا محمد حديث موسى مع فرعون وقومه، وقد أمره الله تعالى بالتلطف في القول، واللين في الدعوة إلى الحق؛ إقامة للحجة والوصول من أقرب محجة، كما جاء في سورة طه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} وكان ذلك حين ناداه ربه بالوادي المطهر المبارك من طور سيناء من برية الشام بعد مضي وقت من الليل، فقال له: اذهب إلى فرعون وعظه، فإنه تجاوز الحد، وتكبر على الله، وكفر به، وتجبر على بني إسرائيل، واستعبدهم حتى بلغ من أمره أن ذبح أبناءهم، واستحيى نساءهم، ثم طلب إلى موسى أن يلين له القول؛ ليكون ذلك أنجع في الدعوى، فقال: فقل له هل ترغب إلن أن تطهر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وتعمل بما أدلك عليه من طرق الخير، وتبعد عما أنت فيه من اجتراح السيئات، وتخشى عاقبة مخالفة أمر ربك، حتى تأمن من عقابه إذا أديت ما ألزمك به من فرائضه، واجتنبت مما نهاك عنه من معاصيه. 20 - ثم ذكر أنه لم يخضع للدليل والبرهان، ولم يقنع بما أدلى إليه موسى من حجة، فاضطر إلى أن يظر له دليلًا يراه ويشاهده، فقال: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)} الفاء عاطفة على جمل قد طويت هنا تعويلًا على ذكرها في السور الأخرى، فإنه جرى بينه وبين فرعون ما جرى من المحاورات إلى أن قال: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، والتقدير: أي: فذهب موسى إلى فرعون بأمره تعالى، فدعاه إلى التوحيد والطاعة، وطلب فرعون منه المعجزة الدالة على صدقه في دعوته، فأراه موسى الآية الكبرى، والمعجزة العظمى، والإراءة: إما من التبصير، أو من التعريف، فإن اللعين حين أبصرها .. عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان إراءة منه، وإظهارًا للتجلد، ونسبتها إلى موسى بالنظر إلى الظاهر، كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} بالنظر إلى الحقيقة، والمراد بـ {الْآيَةَ الْكُبْرَى}: قلب العصا حية، والصغرى: غيره من معجزاته الباقية، وذلك أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[21]

القلب المذكور كان المقدم على الكل في الإراءة، فينبغي أن يكون هو المراد على ما تقتضيه الفاء التعقبية في قوله الآتي: {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)}. والمعنى: أي فلما لم يقنع بالدليل القولي .. أظهر له آية كبرى ودليلًا يراه بعينه، وهو انقلاب العصا حية 21 - {فـ} مع ذلك {كَذَّبَ} فرعون بموسى، وسمى معجزته سحرًا عقيب رؤية الآية، من غير روية وتأمل، وطلب شاهد من عقل، وناصح من فكر وقلب؛ لغاية استكباره وتمرده {وَعَصَى} الله سبحانه. بالتمرد بعدما علم صحة الأمر، ووجوب الطاعة، أشد عصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسًا. فدل العطف على أن الذي ترتب على إراءة الآية الكبرى هو التكذيب الذي يكون عصيانًا لله تعالى، وهو التكذيب باللسان، مع حصول الجزم بأن من كذبه ممن يجب تصديقه، فأما تكذيب من لا يجب تصديقه .. فلا يكون عصيانًا، ويجوز أن يراد: وعصى فرعون موسى فيما أمر به، إلا أن الأول أدخل في ذمه، وتقبيح حاله، وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته تعالى، وترك دعوى الربوبية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط. 22 - {ثُمَّ أَدْبَرَ}؛ أي: تولى عن الطاعة، وأعرض عن الإيمان، وكلمة {ثُمَّ} على هذا معناها التراخي الزماني، إذ السعي في إبطال أمره يقتضي مهلة، أو انصرف عن المجلس. قال الراغب: {أَدْبَرَ}؛ أي: أعرض وولى دبره حال كونه {يَسْعَى}؛ أي: يجتهد في معارضة الآية تمردًا وعنادًا، لا اعتقادًا، بأنها يمكن معارضتها، وهو حال من فاعل {أَدْبَرَ} بمعنى: مسرعًا مجتهدًا. وقيل: أدبر هاربًا من الحية حال كونه يسعى خوفًا منها. والمعنى: أي فكذب فرعون موسى، ثم ولى معرضًا عما دعاه إليه من طاعة ربه وخشيته، وطفق يخب في المعاصي، ويضع غير متدبر في عاقبة أمره، ولا مفكر في غده. 23 - {فَحَشَرَ}؛ أي: فجمع فرعون جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، لقوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)}، وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)}؛ أي: ما يكاد به من السحرة وآلاتهم، أو جمع جميع الناس ¬

_ (¬1) روح البيان.

[24]

ليشاهدوا ما يقع، أو جمعهم ليمنعوه من الحية {فَنَادَى} بنفسه في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو بواسطة المنادي 24 - {فَقَالَ} لهم بصوت عال، أو أمر من يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}؛ أي: لا رب فوقي ولا إله، أو أنا وليكم وقائدكم الأعلى من كل من يلي أمركم على أن تكون صيغة التفضيل، بالنسبة إلى من كان تحت ولايته من الملوك والأمراء، قال عطاء: كان صنع لهم أصنامًا صغارًا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا رب أصنامكم، والأول أولى؛ لقوله في آية أخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، والظاهر أنه لم يرد بهذا القول أنه خالق السموات والأرض، والجبال والنبات والحيوان، فإن العلم بفساد ذلك ضروري، ومن شك فيه كان مجنونًا، ولو كان مجنونًا لما جاز من الله بعثة الرسول إليه، بل الرجل كان دهريًا منكرًا للصانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي، أو يبعث إليكم رسولًا، بل المربي لكم، والمحسن إليكم أنا لا غيري. قال بعضهم: كان ينبغي له عند ظهور ذله وعجزه بانقلاب العصا حية أن لا يقول ذلك القول، فكأنه صار في ذلك الوقت كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول، يقول الفقير: بل الأظهر حمل الربوبية على الألوهية، كما مر؛ لأن تفسير قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بكونه أعلى من كل من يلي أمركم ليس فيه كثير جدوى؛ إذ لا يقتضي ادعاء الرئاسة دعوى الألوهية، كسائر الدهرية والمعطلة، فلأنهم لم يتعرضوا للألوهية، وإن كانوا رؤساء. تأمل هذا المقام، فإنه مما تزل فيه الأقدام. قال بعضهم: لم يدع أحد من الخلائق من الكمال ما ادعاه الإنسان، فإنه ادَّعى الربوبية وقال: أنا ربكم الأعلى، وإبليس تبرأ منها، وقال: إني أخاف الله، فلم يدع مرتبة ليست له قط؛ أي: إنه على جناح واحد، وهو الجلال فقط، وكذا الملك، فإنه على الجمال المحض بخلاف الإنسان، فإنه مخلوق باليدين. انتهى. قال في "أسئلة الحكم": فإن قلت: ما الحكمة في أن إبليس قد لعن، ولم يدع الربوبية، وفرعون وأمثاله قد ادعوا الربوبية، ولم يلعنوا تعيينًا وتخصيصًا، كما لعن إبليس؟. قيل: لأن نية إبليس شر من نية هؤلاء، وقيل: لأنه أول من سن الخلاف والشقاق قولًا وفعلًا ونيةً، والخلق بعده ادعوا الربوبية، وسنوا البغي والخلاف بوسوسته، وإبليس واجه بمخالفته حضرة الرب تعالى، وهم واجهوا الأنبياء

[25]

والوسائط، وتضرعوا تارة، واعترفوا بالذنوب عند المخلوق أخرى، وإبليس لم يعترف ولم يتضرع، وهو أول من سن الكفر، فوزر الكفار بعده راجع إليه إلى يوم القيامة، ومظهر الضلالة والغواية بذاته بغير واسطة. ومعنى الآية (¬1): أي فجمع فرعون السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه؛ كما جاء في قوله: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)} فقام فيهم يقول: أنا ربكم الأعلى، فلا سلطان يعلو سلطاني، 25 - ولم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر [بحر القلزم]، عند خروجهم من مصر، فأغرق فيه هو وجنوده، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بسبب ما ذكر، وعذبه {نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى}؛ أي: عذاب الآخرة، وعذاب الدنيا، والمراد بنكال الآخرة: عذاب النار، وبنكال الأولى: عذاب الدنيا بالغرق، والنكال: اسم مصدر من نكل المضاعف بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى: التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه، وينعه من تعاطي ما يفضي إليه، ومحله (¬2) النصب على أنه مصدر مؤكد، كوعد الله، كأنه قال: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، وهو الإحراق في الآخرة، والإغراق في الدنيا، وأخذ مستعمل في معنى مجازي، يعم الأخذ في الدنيا والآخرة، وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن الاستعمال في الأخذ الدنيوي حقيقة، وفي الآخرة مجاز لتحقق وقوعه، وإضافة النكال إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الآخذ فيهما، لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما، فإن ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة. ويجوز (¬3) أن يكون انتصابُ {نَكَالَ} على أنه مفعول له؛ أي: أخذه لأجل نكال، ويجوز أن يكون انتصابه بنزع الخافض؛ أي: بنكال، ورجح الزجاج: أنه مصدر مؤكد، قال: لأن معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج من معناه، لا من لفظه، وقال الفراء: أخذه الله أخذًا نكالًا؛ أي: للنكال، والنكال: اسم لما جعل نكالًا للغير؛ أي: عقوبةً له، يقال: نكل فلان بفلان إذا عاقبه، وقيل: المعنى: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[26]

فعاقبه الله بكلمته الآخرة، وهي قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وبكلمته الأولى: وهي قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وكان بينهما أربعون سنة على ما قيل، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، وقال السري (¬1): العبد إذا تزيَّا بزي السيد صار نكالًا، ألا ترى كيف ذكر الله في قصة فرعون لما ادعى الربوبية، فأخذه الله ... إلخ، كذبه كل شيء حتى نفسه، وفي "الوسيط": عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال موسى: يا رب، أمهلت فرعون أربع مئة سنة، ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، ويكذب بآياتك، ويجحد برسلك، فأوحى الله إليه: كان حسن الخلق، سهل الحجاب، فأردت أن أكافئه؛ أي: مكافئة دنيوية، وكذا حسنات كل كافر، وأما المؤمن .. فأكثر ثوابه في الآخرة، ودلت الآية على أن فرعون مات كافرًا، وفي "الفتوحات المكية": فرعون ونمروذ مؤبدان في النار. انتهى. وغير هذا من أقوال بعضهم محمول على المباحثة، فصن لسانك عن الإطالة؛ فإنها من أشد ضلالة. 26 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به {لَعِبْرَةً}؛ أي: اعتبارًا عظيمًا، وعظةً بليغةً {لِمَنْ يَخْشَى}؛ أي: لمن من شأنه أن يخشى الله سبحانه، وهو من شأنه المعرفة، يعني: العارف بالله وشؤونه يخشى، فلا يتمرد على الله، ولا على أنبيائه؛ خوفًا من نزول العذاب، والعاقل من وعظ بغيره. والمعنى (¬2): أي إن فيما ذكر لموعظة لمن له عقل يتدبر به في عواقب الأمور ومصايرها، فينظر في حوادث الماضين، ويقيس بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها. 27 - وقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} خطاب (¬3) لأهل مكة المنكرين للبعث بناءً على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)} فالشدة هنا بمعنى: الصعوبة، لا بمعنى: الصلابة؛ لأنها لا تلائم المقام؛ أي: أخلقكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم وزعمكم؛ وإلا فكلا الأمربن بالنسبة إلى قدرة الله تعالى واحد. {أَمِ السَّمَاءُ}؛ أي: أم خلق السماء بلا مادة على عظمها وقوة تأليفها، وانطوائها على البدائع التي تجار العقول في ملاحظة أدناها، وهو (¬4)، استفهام تقرير ليقروا بأن خلق السماء أصعب، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[28]

فيلزمهم بأن يقول لهم: أيها السفهاء من قدر على الأصعب الأعسر .. كيف لا يقدر على إعادتكم وحشركم وهي أسهل وأيسر، فخلقكم على وجه الإعادة أولى بأن يكون مقدور الله، فكيف تنكرون ذلك، وقوله: {أَأَنْتُمْ} مبتدأ و {أَشَدُّ}: خبره، و {خَلْقًا} تمييز، و {السَّمَاءُ}: عطف على {أَنْتُمْ}؛ وحذف خبره لدلالة خبر {أَنتُمْ} عليه؛ أي: أم السماء أشد خلقًا. والمعنى (¬1): أي أأنتم أيها الناس، وقد خلقتكم من ماء مهين ضعافًا عاجزين لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً، أصعب إبداعًا وإنشاءً، أم هذه السماء التي ترون خلقها وبديع تركيبها وعظمة شأنها؟ إنكم لا تنازعون في أنها أشد منكم خلقًا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فكيف تظنون أننا نعجز عن إعادتكم بعد موتكم، يرشد إلى ذلك قوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وفي هذا من التقريع والتوبيخ ما لا يخفى، وبعد أن أشار إلى عظيم خلق السموات إجمالًا .. شرع يبين ذلك تفصيلًا، فقال: {بَنَاهَا}؛ أي: بني الله سبحانه وتعالى السماء، وركبها من أجزاء متفرقة، وهو استئناف وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله: {أَمِ السَّمَاءُ} فيتم الكلام حينئذٍ عند قوله: {أَمِ السَّمَاءُ}، ويبتدأ من قوله: {بَنَاهَا}، و {أَمِ}، متصلة، وقال الكسائي والفراء والزجاج: تم الكلام عند قوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}؛ لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز. واستعمل البناء في موضع السقف، فإن السماء سقف مرفوع، والبناء إنما يستعمل في أسافل البناء لا في الأعالي، للإشارة إلى أنه وإن كان سقفًا .. لكنه في البعد عن الاختلال والانحلال كالبناء، فإن البناء أبعد عن تطرق الاختلال إليه بالنسبة إلى السقف، ومعنى بناها؛ أي: جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، 28 - وقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} بيان للبناء؛ أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، وذهابها إلى سمت العلو مديدًا رفيعًا مسيرة خمس مئة عام، فإن امتداد الشيء إن أخذ من أسفله إلى أعلاه سُمي سمكًا، وإن أخذ من أعلاه إلى أسفله سُمي: عمقًا، وقال بعضهم: ¬

_ (¬1) المراغي.

[29]

السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا، وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها، فيكون المراد: ثخنها وغلظها وهي أيضًا تلك المسيرة، وقال البغوي: رفع سمكها؛ أي: سقفها، ومعنى: {فَسَوَّاهَا}؛ أي: فجعلها مستوية الخلق، معدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج، ولا فطور ولا شقوق. ومعنى: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}؛ أي: ضم أجزاءها (¬1) المتفرقة، وربطها بما يمسكها حتى حصل عن جمعها بنية واحدة، فقد أبدع في خلق الكواكب، وجعل كل كوكب منها على نسبة من الآخر، وجعل لكل منها ما يمسكه في مداره، حتى كان من مجموعها ما يشبه البناء، وهو ما نسميه بالسماء، وقد جعلها ذاهبة في العلو صعدًا، وعدلها فوضع كل جزاء منها في موضعه الذي يتسحقه، ويحسن أن يكون فيه. 29 - {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}؛ أي: وجعل ليلها مظلمًا بمغيب كواكبها {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: وأبرز نهارها، وعبر عن النهار بالضحى؛ لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها، يقال: أغطشه الله إذا جعله مظلمًا، وأغطش الليل: إذا صار مظلمًا، فهو متعد ولازم، والأول هو المراد هنا؛ أي: جعله مظلمًا ذاهب النور. فإن قيل: الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسب غروب الشمس، فقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}: يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلمًا، وهو بعيد، والجواب: معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان، إنما حصلت بتدبير الله وتقديره، فلا إشكال. وعبارة "الروح": قوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: أبرز نهارها، عبر عنه بالضحى، وهو ضوء الشمس، ووقت الضحى هو الوقت الذي تشرق فيه الشمس، ويقوم سلطانها؛ لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها، على تسمية المحل باسم أشرف ما حل فيه، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان، وهو السر في تأخير ذكره عن ذكر الليل، وفي التعبير عن إحداثه بالإخراج، فإن إضافة النور بعد الظلمة أتم في الإنعام، وأكمل في الإحسان. وإضافة (¬2) الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[30]

والإضافة يكفيها أدنى ملابسة المضاف إليه، ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطة الشمس؛ أي: أبرز ضوء شمسها، بتقدير المضاف، والتعبير عنه بالضحى؛ لأنه وقت قيام سلطانها، وكمال إشراقها، 30 - وتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيء الأرض للسكنى، ومن ثَمَّ قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}؛ أي: بألفي عام؛ أي: بعدما ذكر من بناء السموات، ورفع سمكها وتسويتها {دَحَاهَا}؛ أي: دحى الأرض، وبسطها ومهدها لسكنى أهلها، وتقلبهم في أقطارها، وقد كانت الأرض مخلوقة غير مدحوة قبل ذلك، فلا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}، لأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه سبحانه خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، كما تقدم هنالك، فالآيتان ترشدان إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولًا، ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها، فآية السجدة حكاية للخلق الأول ومبدئه، وهذه الآية حكاية للإصلاح الذي كان بعد الخلق. وقال بعض أهل العلم (¬1): إن {بَعْدَ} هنا بمعنى: مع، كما في قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} وقيل: {بَعْدَ} بمعنى قبل، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}، أي: من قبل القرآن، ولكن الجمع الذي ذكرناها أولى، وهو قول ابن عباس، وغير واحد من المفسرين، واختاره ابن جرير. وقرأ الجمهور (¬2) بنصب {الأرض} و {الجبال} على الاشتغال، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال وعمرو بن ميمون ونصر بن عاصم برفعهما على الابتداء، وقرأ عيسى برفع {الأرض} فقط، 31 - ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من أمر المآكل والمشارب، وإمكان القرار عليها، فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا}؛ أي: من الأرض، {مَاءَهَا} بأن فجر منها عيونًا، وأجرى أنهارًا {و} أثبت منها {مَرْعَاهَا}، أي: رعيها بكسر أوله ونباتها الذي ترعاه الأنعام، وهو الكلأ، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[32]

والمرعى في الأصل: موضع الرعي بالفتح، نسب الماء والمرعى إلى الأرض من حيث إنهما منها يظهران، وتجريد الجملة عن العاطف؛ لأنها بيان وتفسير لـ {دَحَاهَا}، أو تكملة له، فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد، بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المآكل والمشارب والملابس حتمًا. والمعنى (¬1): أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات، سواء أكان قوتًا لبني آدم، كالحب والثمر، أم قوتًا للأنعام والماشية، كالعشب والحشيش. 32 - {وَالْجِبَالَ}: منصوب بمضمر يفسره قوله: {أَرْسَاهَا}؛ أي أثبتها وأثبت بها الأرض؛ لئلا تميد بأهلها، وهذا تحقيق للحق، وتنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل بالتعبير عنها بالرواسي، ليس من مقتضيات ذواتها، بل هو بإرسائه سبحانه وتعالى، ولولاه لما ثبتت في نفسا فضلًا عن إثباتها للأرض. قيل: ولعل وجه تقديم ذكر الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه؛ للاهتمام بأمر المآكل والمشارب، 33 - وقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (¬2) مفعول له لفعل محذوف بمعنى تمتيعًا، والأنعام جمع نعم بفتحتين، وهي المال الراعية بمعنى المواشي، وفي "الصحاح": وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والمراد هنا: ما يكون علمًا للإبل والبقر والغنم، من الضأن والمعز، والتقدير: فعلنا ذلك تمتيعًا ومنفعةً لكم ولأنعامكم؛ لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد، إخراج الماء والرعى واصلة إليهم، وإلى أنعامهم، فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكل الإنسان وغيره بناءً على استعارة الرعي لتناول المأكول على الإطلاق، كاستعارة المرسن للأنف، ولهذا قيل: دل الله تعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويستمع، مما يخرج من الأرض حتى الملح فإنه من الماء، قال العتبي: هذا أي قوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} من جوامع الكلم؛ حيث ذكر شيئين دالين على جمع ما أخرج من الأرض قوتًا ومتاعًا للأنعام، من العشب والشجر، والحب والثمر، والملح والنار لأن النار من الشجر الأخضر، والملح من الماء، ونكتة الاستعارة: توبيخ المخاطبين المنكرين للبعث، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[34]

وإلحاقهم بالبهائم في التمتع بالدنيا، والذهول عن الآخرة. وقيل: انتصاب {مَتَاعًا} على المصدرية، أي: متعناكم بذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم، أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحيون، ورافع السماء فوقكم، وممهد الأرض تحتكم قادرًا على بعثكم، وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبر أمركم هذا التدبير المحكم، ووفر لكم هذا الخير الكثير. 34 - وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)} شروع (¬1) في بيان أحوال معادهم إثر بيان أحوال معاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها عما قليل؛ كما ينبىء عنه لفظ المتاع، ويصح أن تكون فصيحةً. قال في "الصحاح": كل شيء كثر حتى علا وغلب، فقد طم، من باب رد، و {الْكُبْرَى}: تأنيث الأكبر، من كبر بالضم بمعنى عظم، لا من كبر بالكسهر بمعنى أسن، و {الطَّامَّةُ}: الداهية التي تعلو وتغلب كل الدواهي، فوصفها بالكبرى يكون للتأكيد، والمراد بها: القيامة، لطمومها على كل هائلة، أو النفخة الثانية، فإنه يشاهد يوم القيامة من الآيات الهائلة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل، وعند النفخة الثانية تحشر الخلائق إلى موقف القيامة، وخصت سورة النازعات بالطامة، وسورة عبس بالصاخة؛ لأن الطم إن كان بمعنى النفخة الأولى للإهلاك .. فهو قبل الصخ؛ أي: الصوت الشديد الذي يحيى له الناس حين يصيخون له، كما ينتبه النائم بالصوت الشديد، فهو بمعنى النفخة الثانية، فجعل السابق للسورة السابقة، واللاحق للَّاحقة، وإن كان بمعنى النفخة الثانية .. فحسن الموقع في كلا الموضعين؛ لأن الطم ورد بعد قوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)}، والصخ بعدما بين عدم إصاخة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم، وجواب {إذا} محذوف يدل عليه التفصيل المذكور، والتقدير: إذا عرفتم حال معاشكم، وأردتم بيان حال معادكم .. فأقول لكم: إذا جاء وقت وقوع الداهية العظمى التي تطم وتغلب على سائر الطامات والدواهي .. يكون من عظائم الأمور ما لا يخطر في بال، ولم تره عين، ولم تسمع به أذن. 35 - وقوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)} منصوب (¬2) بأعني تذكيرًا وبيانًا للطامة "الكبرى" و {مَا} موصولة، وسعى بمعنى: عمل؛ أي: أعني بالطامة الكبرى: يوم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[36]

يتذكر فيه كل أحد كائنًا من كان ما عمله في الدنيا من خير أو شر، بأن يشاهده مدونًا في صحيفة أعماله، وقد نسيه من فرط الغفلة وطول الأمد، كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، وقيل: {يَوْمَ} بدل من {فَإِذَا} في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ} بدل بعض من كل على تقدير الرابط، تقديره: فيوم يتذكر الإنسان فيه ما سعى، يكون من عظائم الأمور ما لا يخطر ببال، أو بدل كل من كل، فلا حاجة إلى الرابط. 36 - وقوله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} معطوف على {جَاءَتِ}؛ أي: أظهرن إظهارًا بينًا لا يخفى على أحد بعد أن كانوا يسمعون بها، والمراد بها: مطلق النار المعبر عنها بجهنم، لا الدركة المخصوصة من الدركات السبع، {لِمَنْ يَرَى} كائنًا من كان على ما يفيده {من}؛ فإنه من ألفاظ العموم، روي أنه يكشف عنها فتتلظى، فيراها كل ذي بصر مؤمن أو كافر، ولا يعارضه قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}؛ فإنه يدل على أنها لا تظهر للمؤمنين؛ لأنهم يرونها حين يقرون عليها مجاوزين الصراط لا لتعذيبهم، وقيل: للكافر فقط لأن المؤمن يقول: أين النار التي توعدنا بها، فيقال: مررتموها وهي خامدة. والمعنى: أي وإذا برزت الجحيم لمن يرى .. يكون من عظام الأمور ما لا يخطر ببال. 37 - والفاء في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)} إلخ استئنافية، والكلام بعدها مستانف مسوق لبيان حال الناس في الدنيا، وجزائهم في الآخرة، وقيل: الجملة جواب {إذا} في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)}. وقرأ الجمهور (¬1): {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} مبنيًا للمفعول مشدد الراء، وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن عمرو: {وبرزت الجحيم} مبنيًا للفاعل مخففا، وقرأ الجمهور: {لِمَنْ يَرَى} بياء الغيبة التحتانية، وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزبد بن علي: {لمن ترى} بتاء الغيبة؛ أي: لمن تراه الجحيم، أو بتاء الخطاب؛ أي: لمن تراه أنت يا محمد، وقرأ ابن مسعود: {لمن رأى} على صيغة الفعل الماضي. ومعنى الآيات: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ}؛ أي: فإذا (¬2) حل ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان، وتشاهد فيه النار، فينسى المرء كل هول دونها .. فصل الله بين ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) المراغي.

[38]

الخلائق، فأدخل الطائعين الأبرار الجنة، وأدخل التمردين العصاة النار، وقد وصف هذا اليوم بوصفين: 1 - {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)}؛ أي: أعني بذلك اليوم: حين يرى الإنسان أعماله مدونة في كتابه، وكان قد نسيها، فتعاوده الذكرى، كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}. 2 - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}؛ أي: وأظهرت النار حتى يراها كل ذي عينين، سواء منهم المؤمن والكافر، سوى أنها تكون مقرًا للكافرين، وينجي الله المؤمنين. والخلاصة: إذا جاء ذلك اليوم .. فصل الله بين الخلائق، كما فصله بعد بقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)}، أي: عتا وتمرد عن الطاعة، وتكبر عن الحق، وجاوز الحد في العصيان، كالنضر بن الحارث وأبيه الحارث، المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان، 38 - {وَآثَرَ}، أي: اختار {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: الفانية التي على جناح الفوات، فانهمك فيما متع به فيها، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة، 39 - {فَإِنَّ الْجَحِيمَ} التي ذكر شأنها {هِيَ} لا غيرها، وهو ضمير فصل، أو مبتدأ {الْمَأْوَى}؛ أي: مأواه، فلا يخرج من النار كما يخرج المؤمن العاصي، فالكلام في حق الكافر، لكن في موعظة وعبرة موقظة للمؤمن، والألف (¬1) واللام فيه عوض عن المضاف إليه كما أشرنا إليه؛ للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي، نظير قولك: غض الطرف؛ أي: طرفك، فإنه لا يغض الرجل طرف غيره، وذلك لأن الخبر إذا كان جملة لا بد فيها من ضمير يربطها بالمبتدأ، فسدت اللام مسد العائد لعدم الالتباس، فلا احتياج في مثل هذا المقام إلى الرابط. والمعنى: أنها منزله الذي ينزله، ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها؛ أي: فأما من تكبر وتجاوز الحد، وآثر الحياة الدنيا وشهواتها على ثواب الآخرة فالنار مثواه ومستقره، 40 - ثم ذكر القسم الثاني من القسمين، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}؛ أي: قيامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وذلك ¬

_ (¬1) روح البيان.

[41]

لعلمه بالمبدأ والمعاد، فإن الخوف من القيام بين يديه للحساب لا بد أن يكون مسبوقًا بالعلم به تعالى، وفي بعض التفاسير: المقام؛ إما مصدر ميمي بمعنى القيام، أو اسم مكان بمعنى: موضع القيام؛ أي: المكان الذي عينه الله سبحانه لأن يقوم العباد فيه للحساب والجزاء. وقيل: المقام: مقحم للتأكيد، جعل الخوف مقابلًا للطغيان مع أن الظاهر مقابلته للانقياد والإطاعة بناءً على أن الخوف أول أسباب الإطاعة، ثم الرجاء، ثم المحبة، فالأول: للعوام، والثاني: للخواص، والثالث: لخواص الخواص. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}؛ أي: زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها بحكم الجبلة البشرية، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها علمًا منه بوخامة عاقبتها، و {الْهَوَى}: ميلان النفس إلى ما تشتهيه وتستلذه من غير داعية الشرع وفي الحديث: "إن أخوف ما أتخوف على أمتي الهوى، وطول الأمل"؛ أما الهوى .. فيصد عن الحق، وأما طول الأمل .. فينسي الآخرة. 41 - {فَإِنَّ الْجَنَّةَ} ونعيمها {هِيَ} لا غيرها {الْمَأْوَى} له؛ أي: المنزل الذي ينزله، والمكان الذي يأوي إليه، فنهي (¬1) النفس عن الهوى معناه: نهيها عن جميع الهوى على أن اللام للاستغراق، وإلا فلا معنى للحصر؛ لأن المؤمن الفاسق قد يدخل النار أولًا، ثم يدخل الجنة، فلا يصح في حقه الحصر، اللهم إلا أن يقال: معنى الحصر: أن الجنة هي المقام الذي لا يخرج عنه من دخل فيه. وفي بعض التفاسير: المراد بالجنة: مطلق دار الثواب، فلا يخالف قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} فإن له جنتين بفضل الله تعالى في دار الثواب جنة النعيم بالنعم الجسمانية، وجنة التلذذ باللذات الروحانية. انتهى. والمعنى (¬2): أي أما من حذر وقوفه بين يدي ربه يوم القيامة، وأدرك مقدار عظمته وقهره وغلبة جبروته وسطوته، وجنب نفسه عن الوقوع في محارمه .. فالجنة مثواه وقراره، وقد ذكر سبحانه من أوصاف السعداء شيئين يضادان أوصاف الأشقياء: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[42]

1 - فقوله: {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} يقابل قوله: {طَغَى}. 2 - وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} يضاد قوله: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)}، وقد مدح الحكماء مخالفة الهوى فقالوا إذا أردت الصواب .. فانظر هواك، فخالفه. وقال سهل: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين. وقال عمران الميرتلي: فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ ... هَوَى نَفْسِهِ تَنْزعْ بِهِ كُلَّ مَنْزعِ وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوْجَةً تُرْد ... وَتَرْمِ بِهِ فِيْ مَصْرَعٍ أَيِّ مَصْرَعِ 42 - {يَسْأَلُونَكَ} يا محمد {عَنِ السَّاعَةِ}؛ أي: القيامة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؛ أي: إرساؤها؛ أي: إقامتها، يريدون: متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكونها؟ فأيان (¬1): ظرف زمان بمعنى متى، وأصله، أي آن ووقت، والمرسى: مصدر بمعنى الإرساء وهو الإثبات، وهو مبتدأ، وأيان خبره بتقدمر المضاف إذ لا يخبر بالزمان عن الحدث، والتقدير: متى وقت إرسائها؟ كان المشركون يسمعون أخبار القيامة وأوصافها الهائلة، مثل: أنها طامة كبرى، وصاخة، وقارعة، فيقولون على سبيل الاستهزاء: أيان مرساها؟ والمعنى: يسألك أيها الرسول هؤلاء المكذبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم، متى قيامها وظهورها. 43 - وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)} رد وانكار لسؤال المشركين عنها، وأصل {فِيمَ}: فيما، كما أن أصل {عَمَّ}: عما، وقد سبق. و {ذكرى}: مصدر بمعنى: الذكر، كالبشرى بمعنى البشارة؛ أي: في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها، وتعلمهم حتى يسألوك بيانها، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}؛ أي: ما أنت من ذكراها لهم، وتبيين وقتها في شيء؛ لأن ذلك فرع علمك به، وأنى لك ذلك، وهو مما استأثر به بعلمه علام الغيوب، فقوله: {مِنْ ذِكْرَاهَا} فيه حذف مضاف، وصلته محذوفة، وهي: لهم، والاستفهام للإنكار، و {أَنْتَ}: مبتدأ، و {فِيمَ} خبره قدم عليه، و {مِنْ ذِكْرَاهَا} متعلق بما تعلق به الخبر. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[44]

والمعنى: أي ما هذه الذكرى الدائمة لها، وما هذا الاهتمام الذي جعلك لا تألوا جهدًا في السؤال عنها. روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الاية. وتلخيص المعنى (¬1): لا تشغل نفسك بهذا الأمر، ولا تكلفها عناء البحث عنه، واستكناه أسراره، ومعرفة ما حجبه الله عن خلقه من شأنه. 44 - {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}؛ أي: انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء ما كائنًا من كان، فلأي شيء يسألونك عنها؛ أي: إلى ربك يا محمد ينتهي علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره تعالى، ولم يعطه لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، وهو كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك، بيان وقت قيامها؟ 45 - {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)}؛ أي: وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها، وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال، لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إليك، فما لهم يسألونك عما ليس من وظائفك بيانه؛ أي: ما أنت إلا منذر لا يعلم وقتها، فهو من قصر الموصوف على الصفة، أو ما أنت منذر إلا من يخشاها، فهو من قصر الصفة على الموصوف. وتخصيص {من يخشى} مع أنه مبعوث إلى من يخشى، ومن لا يخشى؛ لأنهم هم المنتفعون به؛ أي: لا يؤثر الإنذار إلا فيهم، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد} والجمهور على أن قوله: {مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} من إضافة الصفة إلى معمولها للتخفيف على الأصل؛ لأن الأصل في الأسماء الإضافة، والعمل فيها إنما هو بالشبه، ومن قرأها بالتنوين اعتبر أن الأصل فيها الإعمال، والإضافة فيها إنما هي للتخفيف. وقرأ الجمهور (¬2): {مُنْذِرُ مَنْ} بالإضافة، وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيص وأبو عمرو في رواية وابن مقسم وحميد: {منذرٌ} بالتنوين. قال الفراء: والتنوين وتركه في {مُنْذِرُ} صواب، كقوله: {بَالِغُ أَمْرِهِ} وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن تكون الإضافة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط.

[46]

للماضي نحو: ضارب زيد أمس. 46 - {كَأَنَّهُمْ}؛ أي: كأن منكريها من كفار مكة {يَوْمَ يَرَوْنَهَا}؛ أي: يرون القيامة {لَمْ يَلْبَثُوا}؛ أي: لم يمكثوا {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} والضحى: اسم لما بين إشراق الشمس إلى استواء النهار، ثم هي عشي إلى الغداة، كما في "كشف الأسرار". والجملة حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعدمها، مفعول لـ {مُنذِرُ}، كأنه قيل (¬1): تنذرهم مشبهين يوم يرونها؛ أي: في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة؛ أي: عشية يوم واحد، أو ضحاه، أي: آخر يوم أو أوله لا يومًا كاملًا على أن التنوين عوض عن المضاف إليه، فلما ترك اليوم .. أضيف ضحاه إلى عشية، والضحى والعشية لما كانا من يوم واحد .. تحققت بينهما ملابسة مصححة لإضافة أحدهما إلى الآخر، فلذلك أضيف الضحى إلى العشية. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟ قلنا: لو قيل لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحى .. احتمل أن يكون العشية من يوم، والضحى من يوم آخر، فيتوهم استمرار اللبث من ذلك الزمان من اليوم الأول إلى الزمان الآخر من اليوم الآخر، وأما إذا قيل: عشية أو ضحاها. لم يحتمل ذلك ألبتة. قال في "الإرشاد" (¬2): واعتبار كون اللبث في الدنيا، أو في القبور لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه، اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد تحقيقًا للإنذار، وردا لاستبطائهم. وعبارة "الشوكاني". قوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}؛ أي: لم يقيموا في الدنيا إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد: تقليل مدة الدنيا، كما قال في آية أخرى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، وقيل: لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها. انتهى. والمعنى: أي: إن هذا اليوم الذي لجوا في إنكاره سيقع ألبتة، ويرونه بأعينهم، فإذا عاينوه حسبوا أنهم لم يلبثوا ولم يقيموا في الدنيا إلا ساعة من نهار، ثم انقضت. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعود.

والخلاصة: أنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية يوم، أو ضحى تلك العش في ة، وتقول العرب: آتيك العشية أو غداتها، وآتيك الغداة أو عشيتها، والمراد: أنهم يستقصرون مدة لبثهم، ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله. الإعراب {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)}. {وَالنَّازِعَاتِ}: {الواو}: حرف جر وقسم {النازعات}: مقسم به، مجرور بـ {واو} القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالنازعات، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا، {غَرْقًا}: مفعول مطلق معنوي منصوب بـ {النازعات}، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: أقسم بالنازعات نزع إغراق وشدة، وهو مصدر حذف زوائده؛ أي: أقسم بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزع إغراق وشدة، {وَالنَّاشِطَاتِ}: معطوف على {النازعات} {نَشْطًا} منصوب بـ {الناشطات} على المفعولية المطلقة، {وَالسَّابِحَاتِ}: معطوف أيضًا على {النازعات} {سَبْحًا}: منصوب على الفعولية المطلقة بـ {السابحات}، {فَالسَّابِقَاتِ}: {الفاء}: عاطفة معطوف على {السابحات}. {سَبْقًا}: مفعول مطلق منصوب بـ {السابقات}: {فَالْمُدَبِّرَاتِ} معطوف على {السابقات}. {أَمْرًا}: مفعول به لـ {المدبرات}، واختير الفاء في الأخيرين للدلالة على ترتب كل منهما على ما قبله بغير مهملة. وجواب القسم في هذه المذكورات محذوف جوازًا، تقديره: لتبعثن يا كفار مكة {يَوْمَ} منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بجواب القسم المحذوف {تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} {تَتْبَعُهَا}: فعل ومفعول به. {الرَّادِفَةُ}: فاعل، والجملة في محل النصب حال من {الرَّاجِفَةُ}؛ أي: حالة كون الراجفة متابعة إياها الرادفة. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)}. {قُلُوبٌ}: مبتدأ أول، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ {وَاجِفَةٌ}، و {وَاجِفَةٌ}: صفة لـ {قُلُوبٌ}، وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، {أَبْصَارُهَا}: مبتدأ ثانٍ، {خَاشِعَةٌ}: خبره، وهو وخبره خبر للمبتدأ الأول، وفي الكلام حذف

مضاف؛ أي: أبصار أصحاب القلوب، ويجوز أن يكون {قُلُوبٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بالصفة المحذوفة كما مرَّ؛ أي: قلوب كافرة أو عاصية. {يَوْمَئِذٍ}: متعلق بـ {وَاجِفَةٌ}، و {وَاجِفَةٌ}: خبر المبتدأ، والجملة على كلا التقديرين مستأنفة، {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)}: مبتدأ وخبر، والجملة خبر ثان لـ {قُلُوبٌ}. {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}. {يَقُولُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في {خَاشِعَةٌ}، أو مستأنفة، {أَإِنَّا}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري؛ لأنهم أنكروا الرد ونفوه {إنا}: ناصب واسمه. {لَمَرْدُودُونَ} {اللام}: حرف ابتداء {مردودون}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}، {فِي الْحَافِرَةِ}: متعلق بـ {مردودون}، و {في} بمعنى: إلى، و {الْحَافِرَةِ}: الأرض التي قبورهم فيها: {أَإِذَا}: {الهمزة} للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بمحذوف دل عليه {مردودون}، تقديره: أنرد ونبعث وقت كوننا عظامًا نخرة مع كوننا أبعد شيء من الحياة، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ {يَقُولُونَ}. {كُنَّا}: فعل ناقص واسمه {عِظَامًا} خبره {نَخِرَةً}: صفة {عِظَامًا}، وجملة {كان} في محل الجر مضاف إليه، لـ {إذا} {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية كفر آخر متفرع على كفرهم السابق. {تِلْكَ}: مبتدأ، والإشارة إلى الرجعة في الحافرة، {إِذًا}: حرف جواب وجزاء لا عمل لها جيء بها لإفادة تأكيد الرجعة الخاسرة، {كَرَّةٌ}: خبر لـ {تِلْكَ}. {خَاسِرَةٌ}: نعت لـ {كَرَّةٌ}، والجملة في محل النصب مقول {قَالُوا}، {فَإِنَّمَا}: {الفاء}: تعليلية لمحذوف تقديره: لا تستصعبوها على الله تعالى، {إنما}: أداة حصر {هِيَ}: مبتدأ {زَجْرَةٌ} خبر. {وَاحِدَةٌ}: صفة {زَجْرَةٌ}، والجملة الاسمية جملة معللة لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمعنى: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله تعالى؛ لأنها سهلة هينة بقدرته تعالى؛ لأنها حاصلة بزجرة واحدة، ونفخة

واحدة، {فَإِذَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنها بزجرة واحدة، وأردت بيان حالهم وقتئذٍ .. فأقول لك: إذا هم بالساهرة {إذا}: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب، {هُمْ}: مبتدأ، {بِالسَّاهِرَةِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23)}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التقريري، والمعنى: أليس قد أتاك حديث موسى {أَتَاكَ}: فعل ماض، ومفعول به، {حَدِيثُ مُوسَى}: فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {حَدِيثُ مُوسَى}؛ لا بـ {أَتَاكَ} كما يتوهم لاختلاف وقتيهما، {نَادَاهُ}: فعل ماضٍ، ومفعول به، {رَبُّهُ}: فاعل، {بِالْوَادِ}: {الباء}: حرف جر {الواد}: مجرور بالباء، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين، وحذفت في الخط تبعًا للفظ الجار والمجرور متعلق بـ {نَادَاهُ}، {الْمُقَدَّسِ}: صفة للوادي {طُوًى}: بدل من الوادي، وقرىء بالتنوين وتركه، قال الجوهري: وطوى: اسم موضع بالشام، وتكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه .. جعله اسم واد ومكان، وجعله نكرة، ومن لم يصرفه .. جعله اسم بلدة وبقعة، وجعله معرفة. {اذْهَبْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على موسى، {إِلَى فِرْعَوْنَ}: متعلق بـ {اذْهَبْ}، والجملة مقول لقول محذوف معطوف على {نَادَاهُ} تقديره: فقال: اذهب، ويجوز أن تكون جملة مفسرة للنداء، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {طَغَى}: خبره، وجملة {إن} جملة تعليلية مسوقة لتعليل الأمر بالذهاب لا محل لها من الإعراب {فَقُلْ}: {الفاء}: عاطفة، {قل}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {اذْهَبْ}، {هَل}: حرف استفهام معناه العرض، وهو الطلب برفق ولين {لَكَ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هل لك رغبة إلى أن تزكى، {إِلَى}: حرف جر، وجملة {أَنْ تَزَكَّى} مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ {إلى}، تقديره: هل لك رغبة إلى التزكية، الجار والمجرور متعلق بالمبتدأ المحذوف،

وأصل {تَزَكَّى}: تتزكى؛ أي: تتطهر من الشرك، فحذفت إحدى التائين لكراهة اجتماع المثلين. {وَأَهْدِيَكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على موسى، ومفعول به معطوف على {تَزَكَّى}. {إِلَى رَبِّكَ}: متعلق بـ {أهديك}، {فَتَخْشَى} معطوف على {أهديك} جعل الخشية غاية للهداية؛ لأنها ملاك الأمر، وجماع التقوى، ومتى خشي الإنسان ربه لم يصدر عنه إلا الخير {فَأَرَاهُ}: {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: فذهب إليه .. فأراه، {أراه}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {مُوسَى}، و {الهاء}: مفعول أول لـ {أرى}، {الْآيَةَ}: مفعول ثانٍ له؛ لأن الرؤية بصرية تعدى إلى الثاني بالهمزة {الْكُبْرَى} صفة لـ {الْآيَةَ}: {فَكَذَّبَ}: {الفاء}: عاطفة، {كذب}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ} معطوف على لـ {أرى}، {وَعَصَى}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر معطوف على {كذب}، {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {أَدْبَرَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ} معطوف على {كذب}، وجملة {يَسْعَى}: حال من فاعل {أَدْبَرَ}، {فَحَشَرَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {فِرْعَوْنَ}، معطوف على {أَدْبَرَ}: {فَنَادَى}: معطوف على {حشر}. {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}. {فَقَالَ}: معطوف على {نادى}. {أَنَا رَبُّكُمُ}: مبتدأ وخبر. {الْأَعْلَى} صفة لـ {رَبُّكُمُ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قَالَ}، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ}: فعل ماضٍ، ومفعول به مقدم، وفاعل مؤخر معطوف على {قال}، {نَكَالَ الْآخِرَةِ}: مصدر معنوي لـ {أخذ} منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: أخذه أخذ نكال، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي لأجل نكاله. قال الزمخشري: هو مصدر مؤكد لفعله المحذوف، كوعد الله وصبغة الله، كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: {الْآخِرَةِ}: مضاف إليه، {وَالْأُولَى}: معطوف عليه. {إنَّ}: حرف نصب، {فِي ذَلِكَ}: خبرها مقدم. {لَعِبْرَةً}، {اللام}: حرف ابتداء {عبرة}: اسمها مؤخر، وجملة {إن} مستأنفة، {لِمَنْ}: جار ومجرور صفة لـ {عبرة}، وجملة {يَخْشَى} صلة لـ {من} الموصولة. {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)

وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)}. {أَأَنْتُمْ}: الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي، {أَأَنْتُمْ}: مبتدأ، {أَشَدُّ}: خبر. {خَلْقًا}: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب {أَمِ}: حرف عطف متصلة. {السَّمَاءُ}: معطوف على {أَنتُمْ}، ويجوز أن تعرب {السَّمَاءُ}: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: أم السماء أشد خلقًا. {بَنَاهَا}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {السَّمَاءُ}؛ كأنه بيان لكيفية خلقها، ويجوز أن تكون مفسرة لا محل لها من الإعراب. {رَفَعَ سَمْكَهَا}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة بدل من جملة {بَنَاهَا} متابعة لها {فَسَوَّاهَا} معطوف على {رَفَعَ سَمْكَهَا}، {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {سواها}، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ما قبله، {وَالْأَرْضَ}: {الواو}: عاطفة. {وَالْأَرْضَ}: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره ما بعده، تقديره: ودحى الأرض، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}، {بَعْدَ ذَلِكَ}: ظرف مضاف متعلق بـ {دَحَاهَا}، وجملة {دَحَاهَا} جملة مفسرة لا محل لا من الإعراب. {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)}. {أَخْرَجَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله {مِنْهَا}: متعلق بـ {أَخْرَجَ}. {مَاءَهَا}: مفعول به، {وَمَرْعَاهَا}: معطوف على {مَاءَهَا}، وجملة {أَخْرَجَ} في محل النصب حال من فاعل {دَحَاهَا} بتقدير: قد؛ أي: والأرض دحاها حال كونه مخرجًا منها ماءها ومرعاها، وهذا قول الجمهور، ويجوز أن تكون الجملة مفسرة لما لا بد منه في تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها. {وَالْجِبَالَ}: {الواو}: عاطفة {الْجِبَالَ}: منصوب على الاشتغال، بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وأرسى الجبال، والجملة معطوفة على جملة {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا}، وجملة {أَرْسَاهَا} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب {مَتَاعًا}: مفعول

لأجله لفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك تمتيعًا لكم، والجملة المحذوفة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ويجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف تقديره: متعناكم بها تمتيعًا، و {لَكُمُ}: متعلق بـ {مَتَاعًا}. {وَلِأَنْعَامِكُمْ}: معطوف على {لَكُمْ}، {فَإِذَا جَاءَتِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أحوال معاشكم، وأردتم بيان أحوال معادكم .. فأقول لكم: {إذا جاءت} {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف، {جَاءَتِ الطَّامَّةُ}: فعل وفاعل {الْكُبْرَى}: صفة لـ {الطَّامَّةُ}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجواب {إذا} محذوف تقديره: يكون من عظائم الأمور ما لا يخطر ببال، وكان من عظائم الشؤون ما لم تره العيون، أو دخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ويجوز أن تكون الفاء استئنافية، {يَوْمَ}: بدل من {إذا} بدل بعض من كل، أو بدل كل من كل، وجملة {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}: في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {الْإِنْسَانُ}: فاعل. {مَا}: اسم موصول في، محل النصب مفعول به أو مصدرية، وجملة {سَعَى}: صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما سعاه في الدنيا، أو صلة لـ {مَا} المصدرية؛ أي: سعيه، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ}: فعل ونائب فاعل معطوف على {يَتَذَكَّرُ}، {لِمَنْ}: متعلق بـ {برزت}، وجملة {يَرَى} صلة لـ {من} الموصولة. {فَأَمَّا}: {الفاء} استئنافية، أو فصيحة، {أما}: حرف شرط وتفصيل، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {طَغَى} صلة لـ {مَن} الموصولة. {وَآثَرَ}: معطوف على {طَغَى}. {الْحَيَاةَ} {الْحَيَاةَ}: مفعول به، {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةَ} {فَإِنَّ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما}: واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما} {إن}: حرف نصب {الْجَحِيمَ}: اسمها. {هِيَ}: ضمير فصل أو مبتدأ. {الْمَأْوَى}: خبرها، أو خبر المبتدأ، و {أل} في {الْمَأْوَى} عوض عن الضمير العائد على {مَنْ} الموصولة؛ أي: مأواه، أو العائد محذوف؛ أي: هي المأوى له، والأول: مذهب الكوفيين، والثاني: مذهب البصريين، وجملة {إن} في محل الرفع خبر المبتدأ في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)}، وجملة المبتدأ والخبر جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} مستأنفة، أو مقول

لجواب إذا المقدرة على كون الفاء فصيحة، {وَأَمَّا}: {الواو}: عاطفة، {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {خَافَ} صلة {مَنْ} الموصولة: {مَقَامَ رَبِّهِ} مفعول به، {وَنَهَى النَّفْسَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {خَافَ}. {عَنِ الْهَوَى}: متعلق بـ {نهى}، {فَإِنَّ} {الفاء} رابطة لجواب {أَمَّا}، {إنَّ}: حرف نصب {الْجَنَّةَ}: اسمها {هِيَ}: ضمير فصل {الْمَأْوَى}: خبر {إن}، وجملة {إن} في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ جواب {أَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} معطوفة على جملة {أما} الأولى. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}. {يَسْأَلُونَكَ}: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مرفوع بالنون. {عَنِ السَّاعَةِ}: متعلق بـ {يَسْأَلُونَكَ} على كونه مفعولًا ثانيًا، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من تعنتهم {أَيَّانَ}: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، لتضمنه معنى همزة الاستفهام، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم {مُرْسَاهَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جملة مفسرة لسؤالهم عن الساعة لا محل لها من الإعراب؛ أي: متى إرساؤها؛ أي: إقامتها وإثباتها. {فِيمَ}: {في}: حرف جر {م}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الجر بـ {في} مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم {أَنْتَ}: مبتدأ مؤخر، {مِنْ ذِكْرَاهَا}: متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، والجملة جملة إنشائية إنكارية لا محل لها من الإعراب، كأنها إنكار ورد لسؤالهم عن الساعة، وبيان لبطلان السؤال {إِلَى رَبِّكَ}: خبر مقدم. {مُنْتَهَاهَا}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الإنكار قبلها {إِنَّمَا} أداة حصر، {أَنْتَ}: مبتدأ {مُنذِرُ}: خبر، والجملة مستأنفة، {مُنذِرُ}: مضاف، و {مَنْ} الموصولة في محل الجر مضاف إليه، وجملة {يَخْشَاهَا} صلة {مَنْ} الموصولة، {كَأَنَّهُمْ}: {كأن}: حرف نصب وتشبيه، و {الهاء} ضمير الغائبين في محل النصب اسمها. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية، متعلق بما في {كأن} من معنى التشبيه، وجملة {يَرَوْنَهَا}

في محل الجر بإضافة الظرف إليها، وجملة: {لَمْ يَلْبَثُوا} في محل الرفع خبر {كأن}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {عَشِيَّةً}: ظرف زمان متعلق بـ {يَلْبَثُوا}، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه وهو يوم، {أَوْ} حرف عطف. {ضُحَاهَا}: معطوف على {عَشِيَّةً}، وجملة التشبيه في محل النصب حال من الموصول في قوله: {مَنْ يَخْشَاهَا}؛ كأنه قيل: تنذرهم مشبهين يوم يرونها بمن لم يلبث إلا تلك المدة كما مر. التصريف ومفردات اللغة {وَالنَّازِعَاتِ}؛ أي: الكواكب الجاريات على نظام معين في سيرها؛ كالشمس والقمر، يقال: نزعت الخيل إذا جرت. {غَرْقًا}؛ أي: مغرقة، أي: مجدة مسرعة في جريها لتقطع مسافة فلكها حتى تصل إلى أقصى المغرب، وفي "القرطبي": {غَرْقًا} بمعنى: إغراقًا، وإغراق النازع في القوس: أن يبلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل. وفي "القاموس": يقال: أغرق: إذا استوفى مدها، وذلك بأن ينتهي إلى العقب الذي عند النصل الملفوف عليه، والاستغراق: الاستيعاب. اهـ. {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)}؛ أي: الخارجات من برج إلى برج خروجًا، من قولهم: نشط النور إذا خرج. وفي "القاموس": نشط - الدلو من باب ضرب - إذا نزعها بلا بكرة إذا كان متعديًا، وأما إذا كان لازمًا كما هنا على هذا المعنى المذكور، فهو من باب تعب. وفي "المصباح": نشط في عمله ينشط من باب تعب خف وأسرع نشاطًا، وهو نشيط، ونشطت الحبل نشطًا من باب ضرب: عقدته بأنشوطة، والأنشوطة - بضم الهمزة -: ربطة دون العقدة، إذا مدت بأحد طرفيها انفتحت، وأنشطت الأنشوطة - بالألف -: حللتها، وأنشطت العقال: حللته، وأنشطت البعير من عقاله: أطلقته. {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)}؛ أي: السائرات في أفلاكها سيرًا هادئًا لا اضطراب فيه ولا اختلال، وقد جعل مرورها في جوائها كالسبح في الماء، كما جاء في قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. وفي "المختار": السباحة - بالكسر -: العوم، وقد سبح يسبح بالفتح، والسبح: الفراغ، والسبح أيضًا: التصرف في المعاش، وبابه:

قطع وقتل. اهـ. {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}؛ أي: المسرعات عن غيرها في سبحها، فتتم دورتها حول ما تدور عليه في مدة أسرع مما يتم غيرها؛ كالقمر، فإنه يتم دورته في شهر قمري، والشمس تتم دورتها في سنة شمسية، وهكذا غيرها من السيارات السريعة، ومنها ما لا يتم دورته إلا في سنين. {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)}؛ أي: فالكواكب التي تدبر بعض الأمور الكونية في عالمنا الأرضي بظهور بعض آثارها، فسبق القمر علمنا حساب شهوره، وله الأثر العظيم في السحاب والمطر، وفي البحر من المد والجزر، ولضيائه حين امتلائه فوائد في تصريف منافع الناس والحيوان. وسبق الشمس في أبراجها علمنا حساب المشهور، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين، والخلاف بين فصول السنة، واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان، وقد نسب إليها التدبير؛ لأنها أسباب ما نستفيده منها، والمدبر الحكيم هو الله سبحانه العزيز العلم الذي جل ذكره وعظم شأنه. {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)}؛ أي: تضطرب النفخة الأولى، بها يرجف كل شيء من الأجرام الساكنة؛ كالأرض والجبال، وصفت النفخة بما يحدث منها. {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)}؛ أي: النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، وقيل: المعنى: {تَرْجُفُ}؛ أي: تضطرب وتتحرك {الرَّاجِفَةُ}؛ أي: الأرض بمن عليها. {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)}؛ أي: السماء وما فيها تردفها وتتبعها، فإنها تنشق وتنثر كواكبها. وفي "المختار": الرجفة: الزلزلة، وقد رجفت الأرض من باب نصر. اهـ. وفي "القرطبي": وأصل الرجفة: الحركة، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ}: وليست الرجفة هاهنا من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفًا ورجيفًا أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس بها. اهـ. وفي، "القاموس" ردفه - كسمعه ونصره - تبعه كأردفه. اهـ. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)}؛ أي: شديدة الاضطراب والخوف. وفي "المختار": وجف الشيء يجف بالكسر وجيفًا ضطرب، وقلب واجف؛ أي:

خائف. اهـ. {خَاشِعَةٌ}؛ أي ذليلة. {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} الحافرة: الطريق التي يرجع الإنسان فيها من حيث جاء، يقال: رجع في حافرته وعلى حافرته إذا رجع في طريقه التي جاء منها، وأصله: أن الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفرًا. وقال الراغب: وقوله في الحافرة: مثل لمن يرد من حيث جاء أي أنرد إلى الحياة بعد أن نموت. وقيل: الحافرة: الحياة الأولى، أي: نرد إلى الحياة بعد الموت. وقد ظنوها حياتهم الأولى، و {في} بمعنى إلى، على هذا التفسير. {عِظَامًا نَخِرَةً}؛ أي: بالنية من نخر العظم فهو نخر وناخر، وهو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير. اهـ أبو السعود. وفي "المصباح": نخر العظم نخرًا - من باب تعب - بلي وتفتت، فهو نخرٌ وناخر. اهـ ونخرة: أبلغ من ناخرة لكونها من صيغ المبالغة، أو صفة مشبهة دالة على الثبوت كما مر في مبحث التفسير. {كَرَّةٌ} الكر: الرجوع، والكرة: المرة من الرجوع، والجمع كرات كمرة ومرات. {خَاسِرَةٌ} والخاسرة: هي التي يخسر أصحابها ولا يربحون {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} والزجرة: الصيحة، والمراد بها: النفخة الثانية يبعث بها الأموات. {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} والساهرة: الأرض البيضاء المستوية؛ لأن السراب يجري فيها، وسميت بذلك؛ لأن شدة الخوف التي تعتري من عليها تطير النوم من أعينهم، فلا يذوقون نومًا، فهي ساهرة: أي: ساهر من عليها. قال الأشعث بن قيس: وَسَاهِرَةٍ يَضْحَى السَّرَابُ مُجَلِّلًا ... لَأقْطَارِهَا قَدْ جِئْتُهَا مُتَلَثِّمَا {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} ناداه: فيه إعلال بالقلب، أصله: ناديه، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد الفتح. {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}؛ أي: المبارك المطهر، والوادي المقدس: هو وادٍ بأسفل جبل طور سينا من برية الشام. {طُوًى} وادٍ بين أيلة ومصر. قرىء بالتنوين مصروفًا هنا وفي طه على أنه اسم للوادي، وأصله: طوي، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد

الفتح، وقرىء بغير تنوين على أنه اسم للبقعة أو الأرض، فلا ينصرف للعلمية والتأنيث، وعليه فيكون فيه تسمية المؤنث بمذكر؛ حيث سميت البقعة بالوادي. {إِنَّهُ طَغَى}؛ أي: تجاوز الحد فتكبر على الله سبحانه وكفر به. {إِلَى أَنْ تَزَكَّى}؛ أي: تتزكى وتتطهر من العيوب أصله: تتزكى بوزن تتفعلى بتاءين، دخلت عليه أداة النصب {أَن} ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت منه إحدى التاءين، وقرىء بالتشديد أدغمت التاء الثانية في الزاي، وأما على التخفيف .. فتحذف إحدى التاءين. {فَتَخْشَى} أصله: تخشي بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَأَرَاهُ} أصله أرأيه، نقلت حركة الهمزة إلى الراء فسكنت، ثم حذفت للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)} أصله: يسعى بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَحَشَرَ فَنَادَى (23)} أصله: نادى، بوزن فاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أصله: الأعلو من العلو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا}؛ أي: أصعب خلقًا بالنسبة لاعتقاد المخاطبين اهـ "شهاب". أصله: أشدد بوزن أفعل، نقلت حركة الدال إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية. {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} أصله: بنيها، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون منها بنية واحدة. {رَفَعَ سَمْكَهَا} والسمْك: قامة كل شيء {فَسَوَّاهَا}؛ أي: جعل كل جزء موضوع في موضعه، أصله: سويها بوزن فعل المضعف، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}؛ أي: أظلمها. {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: ونورها وضياء شمسها،

والألف فيه منقلبة عن واو، وإنما رسمت ياء؛ لأن الاسم الثلاثي المضموم الأول يجوز فيه وجان: رسمه بالألف الطويلة المنقلبة عن الواو، ورسمه بالياء. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)}؛ أي: مهدها وبسطها وجعلها قابلة للسكنى. قال زيد بن عمرو بن نفيل: وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الَأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... بِأَيْدٍ وَأرْسَى عَلَيْهِ الْجِبَالَا وقوله: {دَحَاهَا} الألف فيه منقلبة عن واو، وكتبت ياء على غير قياس، أو أصلها: ياء. {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}؛ أي: نباتها، أصله: مرعيها بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} أصله: من الرسول فقلبت الواو ياء لوقوعها رابعة، ثم قلبت ألفًا لتحركها بعد فتح {مَتَاعًا}؛ أي: متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم. {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)}، أي: الداهية العظمى التي تطم على الدواهي؛ أي: تغلب وتعلوه، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، قاله ابن عباس كما مر. وهي اسم فاعل من طم ككافة، وأصله: طاممة أدغمت الميم الأولى في الثانية. {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)} أصله: طغي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {هِيَ الْمَأْوَى}: اسم مكان على وزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركا بعد فتح. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}؛ أي: جلاله وعظمته، أصل خاف: خوف بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل {مَقَامَ}: مقوم، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكن، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}؛ أي زجرها وكفها عن هواها المردي لها بميلها إلى الشهوات، أصله: نهي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقوله: {عَنِ الْهَوَى} أصله: الهوي، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والهوى: ميل النفس إلى

ما تشتهيه وتستلذه من غير داعية الشرع. {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (4)} أصله: منتهيها بوزن مفتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: إن منتهى علم وقت حصولها عند ربك لم يؤته أحدًا من خلقه. {مَنْ يَخْشَاهَا} فيه إعلال بالقلب، أصله: يخشيها قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أصله: يرأيونها، نقلت حركة الهمزة إلى الراء فسكنت، ثم حذفت للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} واللبث: الإقامة، والعشية: طرف النهار من آخره، والضحى: طرفه من أوله، وأصل عشية: عشيوة بوزن فعيلة، فلام الكلمة واو اجتمعت ساكنة مع الياء فقلبت ياء، وأدغمت فيها الياء. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)}؛ حيث استعار {السابحات} للملائكة التي تسرع في نزولها من السماء إلى الأرض، أو الكواكب التي تسرع في سيرها لأنها حقيقة في الحيوانات السابحات في الماء بجامع السرعة في كل. وفيه أيضًا: التعميم بعد التخصيص لأن نزول الأولين إنما هو لقبض الأرواح مطلقًا، ونزول هؤلاء لعامة الأمور والأحوال. اهـ من "الروح". ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)}؛ لأن المدبر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ففيه إسناد الشيء إلى سببه. ومنها أيضًا: الإسناد المجازي في قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)}، أي: النفخة الأولى: لأن النفخة كانت سببًا لرجف الأجرام الهادئة وحركتها، فجعل سبب الرجف راجفًا. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)}. ومنها: إضافة ما للشيء إلى جزئه في قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)}؛ حيث

أضاف الأبصار إلى ضمير القلوب أي أبصار أصحاب تلك القلوب؛ كما دل عليه قوله: {يَقُولُونَ}، وإلا فالقلوب لا أبصار لها، وإنما أضاف الأبصار إلى القلوب؛ لأنها محل الخوف وهو من صفاتها. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {خَاشِعَةٌ}؛ حيث أسند الخشوع إلى الأبصار مجازًا؛ لأن أثره يظهر فيها. ومنها: إطلاق فاعلة على مفعولة في قوله: {فِي الْحَافِرَةِ}؛ أي: إلى الحالة الأولى، وهي الحياة، يقال: رجع فلان في حافرته؛ أي: طريقته التي جاء فيها فحفرها؛ أي أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، وإنما الحافر هو الماشي في تلك الطريقة، كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}؛ أي: مرضية، أو هو من تشبيه القابل بالفاعل، أي: في تعلق الحفر بكل منها، فأطلق اسم الثاني على الأول للمشابهة، كما يقال: صام نهاره تشبيهًا لزمان الفعل بفاعله. ومنها: مجاز بالحذف في قوله: {أَإِذَا كُنَّا} أي: أنبعث ونرد إذا كنا عظامًا نخرة؟ ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} فقد أسند الخسران للكرة، والمراد: أصحابها، وكذلك في قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} أسند السهر إلى الأرض البيضاء مجازًا، كما أسندوا إليها النوم في ضدها لأن السائر فيها سا لا ينام خوف الهلكة، فهو مجاز عقلي. ومنها: اختيار صيغة الماضي في قوله: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)} للإيذان بأن صدور هذا الكفر منهم ليس بطريق الاستمرار مثل كفرهم السابق المعبر عنه بالمضارع؛ أي: قالوا بطريق الاستهزاء بالحشر. اهـ "الروح". ومنها: المقابلة بين قوله: {السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}، وبين قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}، وكذلك المقابلة بين قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)}، وبين قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} الآيات. ومنها: أسلوب التشويق في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)} فإن المراد منه التشويق إلى معرفة القصة.

ومنها: الطباق بين الآخرة والأولى في قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)}؛ لأن المراد كلمتاه الشنيعتان: الأولى والآخرة. ومنها: الطباق بين {الْجَنَّةَ} و {الْجَحِيمَ}، وبين {السَّمَاءُ} و {وَالْأَرْضَ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}؛ لأنه أطلق المرعى على ما يأكله الناس، فاستعمل المرعى في مطلق المأكول للإنسان وغيره، والعلاقة استعمال المقيد في المطلق، ويجوز أن يكون استعارة تصريحية؛ حيث شبه أكل الناس برعي الدواب، وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: وأراد بمرعاها: ما يأكل الناس والأنعام، واستعير الشرعي للإنسان، كما استعير الرتع له في قوله تعالى: {نرتع ونلعب} في سورة يوسف بجامع أكل كل من الإنسان والحيوان من النبات. ومنها: استعمال البناء في موضع السقف في قوله: {السَّمَاءُ بَنَاهَا} فإنَّ السماء سقف مرفوع، والبناء إنما يستعمل في أسافل البناء، لا في الأعالي؛ للإشارة إلى أنه وان كان سقفًا، لكنه في البعد عن الاختلال والانحلال كالبناء، فإنَّ البناء أبعد عن تطرق الاختلال إليه بالنسبة إلى السقف. ومنها: التعبير عن النهار بالضحى، وهو ضوء الشمس أول النهار في قوله {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: أبرز نهارها، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها على طريقة تسمية المحل باسم أشرف ما حل فيه، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان، وهو السر في تأخير ذكره عن ذكر الليل. ومنها: إضافة الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها، والإضافة يكفيها أدنى ملابسة المضاف إليه، ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطة الشمس، أي: أبرز ضوء شمسها بتقدير المضاف، فيكون من مجاز الحذف، والتعبير عنه بالضحى؛ لأنه وقت قيام سلطانها، وكمال إشرافها. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، فقد استعار الإرساء للساعة، وهو لا يستعمل إلا فيما له ثقل من الأجرام كالسفينة. ومنها: القصر في قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} فهو إما من قصر الموصوف على الصفة، فيكون المعنى: ما أنت إلا منذر لا يعلم وقتها، أو من قصر الصفة على الموصوف، فيكون المعنى: ما أنت منذر إلا من يخشاها.

ومنها: تخصيص {من يخشى} مع أنه مبعوث إلى من يخشى ومن لا يخشى؛ لأنهم هم المنتفعون به؛ أي: لا يؤثر الإنذار إلا فيهم. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

موضوعات هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية: 1 - إثبات البعث. 2 - مقالة المشركين في إنكاره، والرد عليهم. 3 - قصص موسى مع فرعون، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - إقامة البرهان على إثبات البعث. 5 - أهوال يوم القيامة. 6 - الناس في هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، بحسب أعمالهم في الدنيا. 7 - سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها. 8 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البحث عنها، واشتغاله بأمرها. 9 - ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما لبثوا في الدنيا (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، تم تفسير هذه السورة في تاريخ: 23/ 7/ 1416 هـ.

سورة عبس

سورة عبس سورة عبس، وتسمى: سورة السفرة، نزلت بعد سورة النجم، وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة عبس بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: إحدى وأربعون، أو اثنان وأربعون آية، وكلماتها: مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: خمس مئة وثلاثون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في ما قبلها أنه - صلى الله عليه وسلم - منذر من يخشاها، وذكر في هذه حال من ينفعه الإنذار من عباد الله المخلصين، فيسعى إلى الخير بنفسه، ويعمل ما يزكي نفسه وبطهر قلبه، وذكر من لا ينفعه الإنذار وهم الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجيهم في أمر الإسلام: عقبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ابنا خلف، ويدعوهم إليه. والقصد الأهم في التعليم وفي تبليغ الرسالة إنما هو تعليم من جاء يسعى، وهو يرغب ويخشى، ومثل هذا تنفعه الذكرى، فيزكى من كل ما يشين خلقه، أو يمس دينه، ومثل هذا الخاشع الخاضع ينذره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبشره ويذكره، فيذكر ويشكر، ويصبر ويصابر حتى يلقى الله سبحانه وهو على ذلك. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة عبس كلها محكم إلا قوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} [الآية: 11 - 12]، نسخ بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [ 29 - سورة التكوير]. تسميتها: سميت بسورة عبس؛ لذكر لفظ {عَبَسَ} فيها. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) النقول.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر ما قبلها قريبًا. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) حادث ابن أم مكتوم، وعَتْبَهُ على رسله فيما كان منه معه .. أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله سبحانه إلى البشر على ألسنة رسوله ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها في النفوس، وتثبيتها في القلوب، وإنما هي تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل عليه الخلق من معرفة توحيده، فمن أعرض عن ذلك .. فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه، وتنازعه إليه نفسه، فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك لتذكر به الناس، وتنبه الغافل، أما أن تحابي القوي المعاند ظنًا منك أن مداجاته ترده عن عناده .. فذلك ليس من شأنك، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} وهذه الهداية أودعها سبحانه في ¬

_ (¬1) المراغي.

الصحف الإلهية الشريفة القدر، المطهرة من النقائص والعيوب، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة. قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين حال القرآن، وذبر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن في استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد .. أردف (¬1) ذلك ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطي نفسه ما تهواه، ولا يفكر في منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوَّره في أحسن الصور في أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلًا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع في لحده إلى أمد قدره الله تعالى في علمه، ثم يبعثه من قبره ويحاسبه على ما عمل في الدار الأولى، ويستوفي جزاءه، إن خيرًا وإن شرًا؛ فإما إلى الجنة، وإما إلى النار، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره واجتناب نواهيه. قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الدلائل على قدرته، وهي كامنة في نفس الإنسان، يراها في يومه بعد أمسه .. أردفها بذكر الآيات المنبثة في الآفاق الناطقة ببديع صنعه وباهر حكمته. قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ...} إلى آخر السورة مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما عدد ألاءه على عباده، وذكَّرهم بإحسانه إليهم في هذه الحياة، وبين أنه لا ينبغي للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام .. أعقب (¬2) هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة، وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه؛ ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته، وصحة البعث، وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله، ويتزود بصالح الأعمال التي تكون نبراسًا يضيء أمامه في ظلمات هذا اليوم، وذكر أن الناس حينئذٍ فريقان: فريق ضاحك مستبشر فَرِحٌ فَرَحَ المحب يلقى حبيبه، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق، وفريق تعلو وجهه الغبرة، وترهقه ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

القترة، وهو الذي تمرد على الله ورسوله، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحق، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال. أسباب النزول أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه السورة الصحابي الجليل عبد الله ابن أم مكتوم، وهو ابن خال خديجة الكبرى رضي الله عنهما، وكان أعمى، وهو من المهاجرين الأولين، وقد استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أكثر من مرة يصلي بالناس، ويؤمهم في أهم ركن من أركان دينهم، وهو الصلاة المكتوبة، وكان يتولى الأذان بنفسه، ولكنه كان يؤذن بعد بلال في الفجر. وخلاصة قصته هنا: أنه رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة المكرمة، وكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صناديد قريش، ووجوه مكة وكبراؤها، وفيهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثهم حديث الإيمان، ويدعوهم إلى الإسلام، ويذكرهم بالله عزّ وجلّ، ويحذرهم بطشه وعذابه وغضبه، ويعدهم أحسن المثوبة وأجزل العطاء، وأعلى المنازل، إن هم أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - راغبًا في إسلامهم، حريصًا على إيمانهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سيسلم بإسلامهم كثير من الناس؛ إذ هم سادة قريش وقادتهم، وبيدهم أمورهم، وفي حالة تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم، ودعوتهم لهم، جاء ابن أم مكتوم، ونادى الرسولَ وهو لا يعلم تشاغله بالقول، فقال: يا رسول الله، أقرئني، وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك مرارًا، فكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعه لكلامه معهم، وظهرت في وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عن هذا الأعمى، واستمر في دعوته مع هؤلاء القوم، فنزلت هذه السورة، وفيها العتاب من رب العزة لنبيه وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - على موقفه من هذا الذي جاء يزكَّى، ويذكر فتنفعه الذكرى، وهو يخشى. قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} سبب نزوله (¬1): ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة قال: نزل في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرنا برب النجم. ¬

_ (¬1) لباب المنقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {عَبَسَ} الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قطب وكلح، وغير لون وجهه، وانقبض لأجل أن جاءه الأعمى {وَتَوَلَّى} أي: أعرض بوجهه عنه لأجل 2 - {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} ولم يلتفت إليه، والضمير لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو علة التولي على رأي البصريين لقربه منه، ولـ {عَبَسَ} على رأي الكوفيين لسبقه، والمختار: مذهب البصريين؛ لعدم الإضمار في الثاني، وجاء في (¬1) هذه المواضع بضمائر الغائب إجلالًا له - صلى الله عليه وسلم -، ولطفًا به لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى، وجاء بلفظ {الْأَعْمَى} إشعارًا بما يناسب من الرفق به، والإصغاء لما يقصده. اهـ "البحر". والأعمى من اتصف بالعمى، والعمى: افتقاد البصر، ويقال في افتقاد البصيرة أيضًا، ولام (¬2) الأعمى للعهد، فيراد به: أعمى معروف، وهو ابن مكتوم المؤذِّن الثاني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أذان الفجر، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". وكان من المهاجرين الأولين، استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة مرتين حين خرج غازيًا، وقيل: ثلاث مرات، مات بالمدينة، وقيل: شهيدًا بالقادسية في خلافة عمر، وهي قرية فوق الكوفة. واختلفوا في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: هو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وقيل: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم من بني عامر بن هلال، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها، وأم مكتوم اسم أم أبيه كما في "الكشاف"، وقال السعدي: هو وهم، فقد نص ابن عبد البر وغيره أنها أمه، واسمها: عاتكة بنت عامر بن مخزوم. وقد تقدم لك في أسباب النزول ما روي أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في مكة، وعنده صناديد قريش - كما مر بيان أسمائهم هناك - يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم؛ لأن عادة الناس أنه إذا مال أكابرهم إلى أمر .. مال إليه غيرهم، كما قيل: الناس على دين ملوكهم، فقال له: يا رسول الله علمني مما علمك الله أنتفع به، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله - صلى الله عليه وسلم - بالقوم إذ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

السمع لا يكفي في العلم بالتشاغل، بل لا بد من الإبصار على أنه يجوز أنهم كانوا يخفضون أصواتهم عند المكالمة، أو جاء الأعمى في منقطع من الكلام، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعه لكلامه، واشتغاله به عنه، وعبس وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلِّمهم، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة، فرجع ابن أم مكتوم محزونًا خائفًا أن يكون عبوسه وإعراضه عنه إنما هو لشيء أنكره الله منه، فنزلت هذه الآيات. فإن قيل (¬1): ابن أم مكتوم قد استحق التأديب والزجر؛ لأنه وإن كان لا يرى القوم، لكنه لشدة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول معهم، ويعرف بذلك شدة اهتمامه بشأنهم، فيكون إقدامه على قطع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيذاءً له، وهو معصية، وأيضًا: الأهم مقدم على المهم؛ لأن إسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم، فكان الاشتغال بهم، وتقدير الدلائل لهم أهم، فكيف عاتب الله تعالى رسوله على التولي عنه؟ أجيب: بأن ما فعله يوهم ظاهره تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وليس ذكره بلفظ الأعمى مقتضيًا لتحقيره، بل لبيان عذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، كما مر. اهـ "زاده". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرمه ويقول إذا رآه: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي" أي: لامني مع بقاء المحبة، ويقول: "هل لك من حاجة"، ويقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يغتم في عمره كغمه حين أنزلت عليه سورة عبس؛ لأن فيها عتبًا شديدًا على مثله؛ لأنه الحبيب الرشيد، ومع ذلك فلم يجعل ذلك بينه وبينه، فيكون أيسر للعتاب، بل كشف ذلك للمؤمنين، ونبه على فعله عباده المتقين. ولذلك روي أن عمر بن خطاب - رضي الله عنه - بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه، فلا يقرأ فيهم إلا سورة عبس، فأرسل إليه فضرب عنقه، لما استدل بذلك على كفره، ووضع مرتبته عنده وعند قومه، قال ابن زيد: لو جاز له أن يكتم شيئًا ¬

_ (¬1) زاده.

[3]

من الوحي .. لكان هذا، وكذا نحو قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، ونحو قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. وقرأ الجمهور (¬1): {عَبَسَ} مخففًا، {أَن} بهمزة واحد. وقرأ زيد بن علي: {عبس} بتشديد الباء للمبالغة، وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى: {أآن} بهمزة ومدة بعدها. وقرأ بعض القواء بهمزتين مخففتين، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام الإنكاري، وفيهما يوقف على {تَوَلَّى}. والمعنى: ألأن جاء الأعمى كان كذا وكذا. واعلم (¬2): أنه كان ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من باب ترك الأولين، فلا يعد ذنبًا لأن اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في طلب الأولى، والتعرض لعنوان عماه، مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه، وهو ينافي تعظيمه المفهوم من العتاب على العبوس في وجهه؛ إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه - صلى الله عليه وسلم - للقوم، والإيذان باستحقاقه الرفق والرأفة لا الغلظة كما مر، وإما لزيادة الإنكار، فإن أصل الإنكار حصل من دلالة المقام كأنه تولى لكونه أعمى، وهو لا يليق بخلقه العظيم، كما أن الالتفات في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} لذلك، فإن المشافهة أدخل في تشديد العتاب، كمن يشكو إلى الناس جانيًا جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهًا له بالتوبيخ؛ أي: وأيُّ شيء يجعلك يا محمد داريًا وعالمًا بحاله، ويطلعك على باطن أمره، حتى تعرض عنه؛ أي: لا يدريك شيء، فتم الكلام عنده فيوقف عليه، وليس ما بعده مفعوله، بل هو ابتداء كلام. وقال السهيلي (¬3) - رحمه الله تعالى -: انظر كيف نزلت الآية بلفظ الإخبار عن الغائب، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)}، ولم يقل: عبست وتوليت، وهذا شبيه حال الغائب المعرض، 3 - ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ} علمًا منه تعالى أنه لم يقصد بالإعراض منه إلا الرغبة في الخير، ودخول ذلك المشرك في الإسلام، وهو الوليد، أو أمية، وكان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير، فكلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين ابتداء الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب، ثم واجهه بالخطاب تأنيسًا له - صلى الله عليه وسلم - بعد الإيحاش، فإنه قيل: إن ابن أم مكتوم كان قد أسلم، وتعلم ما كان يحتاج إليه ¬

_ (¬1) البحر المحيط (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

من أمور الدين، وأما أولئك الكفار .. فما كانوا قد أسلموا، وكان إسلامهم سببًا لإسلام جمع عظيم، فكلامه في البين سبب لقطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم، والأهم مقدم على المهم، فثبت بهذا أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصيةً، وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واجبًا، فكيف عاتبه الله سبحانه وتعالى على ذلك؟. قيل: إن الأمر وإن كان كما ذكر، إلا أن ظاهر ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وهو لا يليق بمنصب النبوة؛ لأنه ترك الأفضل، كما أشير إليه سابقًا، فلذا عاتبه الله تعالى. انتهى. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي أن يكون باعثًا على كراهة كلامه، والإعراض عنه لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم، كما قال: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}. ولأنه كان ذكي الفؤاد، إذا سمع الحكمة .. وسماها، فيتطهر بها من أوضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكر بها ويتعظ، فتنفعه العظة في مستأنف أيامه. أما أولئك الأغنياء .. فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغي التصدي لهم طمعًا في إقبالهم على الإسلام ليتبعهم غيرهم، وقوة الإنسان إنما هي في ذكاء لبه وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لاحت له أمارته، أما المال والنسب والحشم والأعوان .. فهي عوار تجيء وترتحل، وتقر حينًا، ثم تنتقل. والخلاصة: أن الله سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذي العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذي الجاه القوي، فإن الأول حي بطبعه، والثاني غائب بحسه. {لَعَلَّهُ}؛ أي: لعل ذلك الأعمى {لَعَلَّهُ} بتشديدين، أصله: {يَزَّكَّى}؛ أي: لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، ويقتبس منك من أوصار الآثام والأوزار ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

بالكلية، وكلمة {لعل} (¬1) مع تحقق التزكِّي وارد على سنن الكبراء، فإن لعل في كلام العظماء يراد به القطع والتحقق، أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجو التزكي مما لا يجوز، فكيف إذا كان مقطوعًا بالتزكي، كما في قولك: لعلك ستندم على ما فعلت، وجملة {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} مستأنفة لبيان أنَّ له شأنًا ينافي الإعراض عنه، فالضمير في {لَعَلَّهُ} راجع للأعمى كما مر آنفًا، وقيل (¬2): هو راجع إلى الكافر؛ أي: وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر، والأول أولى، قال أبو حيان: وهذا القول الأخير ينزه عنه حمل القرآن عليه. 4 - {أَوْ يَذَّكَّر} بتشديدين أيضًا، أصله: يتذكر، والتذكر: الاتعاظ؛ أي: أو يتعظ. {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}؛ أي: فتنفعه ذكراك وموعِظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، وفي "الكشاف": المعنى: إنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما فرط ذلك منك. انتهى. أشار بذلك إلى أن قوله: {يَزَّكَّى} من باب التخلية من الأثام، وقوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ} من باب التحلية ببعض الطاعات، ولهذا دخلت كلمة الترديد، فقوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ}، عطف على {يَزَّكَّى} داخل معه في حكم الترجي، وقوله: {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} بالنصب على جواب لعل تشبيهًا له بليت، كقوله: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}، وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين، لا يرجى منهم التزكي ولا التذكر أصلًا، واشعار بأن اللائق بالعالم أن يقصد بتعليمه تزكية متعلمه، ولا ينظر إلى شبحه وصورته، كما ينظر العوام، وبالمتعلم أن يريد بتعلمه تزكية نفسه عن أرجاس الضلالة، وتطهير قلبه من أدناس الجهالة، لا أحكام الدنيا الدنية. وقرأ الجمهور: {أَوْ يَذَّكَّرُ} بتشديد الذال والكاف، وأصله يتذكر - كما مر - فأدغم. وقرأ الأعرج وعاصم في رواية: {أو يذكر} بسكون الذال وضم الكاف. وقرأ الجمهور {فَتَنْفَعَهُ} برفع العين، عطفًا على {أو يذكرُ}. وقرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزغفراني بنصبهما. 5 - ثم ذكر أن أمره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[6]

مع الحاضرين في مجلسه انحصر في شيئين: 1 - {أَمَّا} للتفصيل {مَنِ اسْتَغْنَى} عن الإيمان، وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن 6 - {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} بحذف إحدى التائين تخفيفًا، أي: فأنت له تتصدى وتتهيأ له وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه دون الأعمى، وفيه مزيد تنفير له - صلى الله عليه وسلم - عن مصاحبتهم، فإن الإقبال على المدبر ليس من شيم الكرام، والتصدي للشيء التعرض له والتقيد به، والاهتمام بشأنه، وضده الشاغل عنه. وفي "المفردات": التصدي: أن يقابل الشيء مقابلة الصدى؛ أي: الصوت الراجع من الجبال، وفي "كشف الأسرار": التصدي: التعرض للشيء على حرص كتعرض الصديان للماء؛ أي: العطشان، وعن بعضهم: أصل تصدى تصدد من الصدد، وهو ما استقبلك وجاء قبالتك، فأبدل أحد الأمثال حرف علة. والمعنى: أي أما من استغنى بماله وقوته عن الإيمان، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزل عليك، فأنت تقبل عليه حرصًا على إسلامه، ومزيد الرغبة في إيمانه 7 - {وَمَا عَلَيْكَ}؛ أي: وليس عليك بأس ووزر ووبال في {أَلَّا يَزَّكَّى}؛ أي: في أن لا يتزكى ذلك المستغني عن الإسلام حتى تهتم بأمره، وتعرض عمن أسلم، إن عليك إلا البلاغ، وكيف تحرص على إسلام من ليس له قابلية، وقد خلق على حب الدنيا، والعمى عن الآخرة، وفيه استهانة لمن أعرض عنه، وتحقير لأمره، وحض على الإعراض عنه، وترك الاهتمام به. {فَمَا} نافية، وكلمة في المقدرة متعلقة باسم {ما}، وهو محذوف، والجملة حال من ضمير {تَصَدَّى} مقررة لجهة الإنكار، ويجوز أن تكون {مَا} استفهامية؛ أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلا البلاع. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة: {تَصَدَّى} بتخفيف الصاد، وأصله: تتصدى، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وقرأ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) البحر المحيط.

[8]

الحرميان نانع وابن كثير بتشديدها، أدغمت التاء في الصاد. وقرأ أبو جعفر: {تصدى} بضم التاء وتخفيف الصاد؛ أي: يصديك حرصك على إسلامه، يقال: تصدى الرجل وصديته. وحاصل المعنى: أي ليان الذي استغنى عن الإيمان بالله، وعن طاعته وطاعة رسوله، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق، وعن استماع النصيحة، وعن سماع القرآن، فأنت تتعرض له، وتشغل نفسك بوعظه والإقبال عليه، مع أنك رسول مبلغ، وما عليك إلا البلاغ، وقد أديت ما يجب عليك، فإن كان المغرور قد ظن في ماله غنى عن هداية الله تعالى، ورضي لنفسه أن يبقى في دنس الكفر، فما عليك عيب في بقائه كذلك، فما بالك يشتد عليك الحرص على إسلامه. وقصارى ذلك: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، والاشتغال بدعوتهم أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى. 2 - 8 {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ} حال كونه {يَسْعَى} ويمشي بسرعة في أمر دينه؛ أي: حال كونه مسرعًا طالبًا لما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير، 9 - {وَهُوَ}؛ أي: والحال أنه {يَخْشَى} الله سبحانه وتعالى، أو يخشى الكفار وأذاهم بإتيانك، أو يخاف العثار والسقوط؛ لكونه أعمى، وقد جاء بلا قائد يقوده. قال سعدي (¬1) المفتي الظاهر أن النظم من الاحتباك، ذكر الغنى أولًا للدلالة على الفقر ثانيًا، وذكر المجيء والخشية ثانيًا للدلالة على ضدهما أولًا 10 - {فَأَنْتَ} يا محمد {عَنْهُ}؛ أي: ذلك الجائي الخاشي {تَلَهَّى} بحذف إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: تتهلى (¬2) وتتشاغل من لهي عن الشيء - بكسر الهاء بوزن رضي - يلهى لهيًا: أعرض عنه، لا من لهوت بالشيء بالفتح ألهو لهوًا إذا لعبت به؛ لأن الفعل مسند إلى ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بشانه الرفيع أن ينسب إليه التفعل من اللهو بخلاف الاشتغال عن الشيء لمصلحة، وفي بعض التفاسير: ولو أخذ من اللهو، وجعل التشاغل بأهل التغافل من جنس اللهو واللعب؛ لكونه عبثًا لا يترتب عليه نفع لم يخل عن وجه. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[11]

وفيه أنه يلزم منه أن يكون الاشتغال بالدعوة عبثًا، ولا يقول به المؤمن، وذلك لأنه لا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - التشاغل بأهل التغافل إلا بطريق التبليغ والإرشاد، فكيف لا يترتب عليه نفع، وفي تقديم ضميره - صلى الله عليه وسلم -، وهو {أنت} على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: مثلك خصوصًا لا ينبغي أن يتصدى للمستغني، ويتلهى عن الفقير الطالب للخير، وفي تقديم {لَهُ} و {عَنْهُ} للتعريض باهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بمضمونهما تنبيه؛ حيث أفادت القصة أن العبرة بالأرواح والأحوال، لا بالأشباح والأموال، والعزيز: من أعزه الله بالإيمان والطاعة، وإن كان بين الناس ذليلًا، والذليل: من أذله الله بالكفر والمعصية، وإن كان بين الناس عزيزًا. روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني، وكان الفقراء في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - أمراء، يعني: كان يحترمهم كل الاحترام، وفيه تأديب للصغير بالكبير، فحملة العلم والشرع والحكام مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير، وتقديمه على الشريف العاري عن الخير بمثل ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة، وقرأ الجمهور: {تَلَهَّى} والبزي عن ابن كثير: {عنه تلهى} بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل، وأبو جعفر بضمها مبنيًا للمفعول؛ أي: يشغلك دعاء الكافر للإسلام، وطلحة بتاءين، وعنه: بتاء واحدة وسكون اللام. اهـ من "البحر". وخلاصة المعنى: أي وأما من جاءك مسرعًا في طلب الهداية، والقرب من ربه، وهو يخشاه، ويحذر الوقوع في الغواية، فأنت تتهلى عنه، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه. 11 - وقوله: {كَلَّا} ردع (¬1) له - صلى الله عليه وسلم - عما عوتب عليه؛ أي: لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني، والتشاغل به مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة، وهذا الواقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من باب ترك الأولى والأفضل، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[12]

والمعنى: أي انزجر عن التصدي للمستغني، والإعراض عن إرشاد المسترشد. قال الحسن: لما تلا جبريل هذه الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. عاد وجهه كأنما استعب فيه الرماد؛ أي: تغير كأنما ذر عليه الرماد، ينتظر ما يحكم الله عليه، فلما قال: {كَلَّا} سري عنه؛ أي: لا تفعل مثل ذلك فإنه غير لائق بك {إِنَّهَا}؛ أي إن هذه الآيات أو السورة أو القرآن، والتأنيث باعتبار الخبر، وهو قوله: {تَذْكِرَةٌ}؛ أي: موعظة حقها أن تتعظ بها، وتقبلها، وتعمل بموجبها، ويعمل بها كل أمتك. والمعنى: أي ليس الأمر كما تعمل أيها الرسول بأن تعبس في وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتقبل على من استغنى، بل الهداية المودعة في الكتب الإلهية، وأجلها القرآن تذكير ووعظ وتنبيه لمن غافل عن آيات ربه. 12 - وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على مالها من عظيم الشأن، فقال: 1 - {فَمَنْ شَاءَ}؛ أي؛ فمن رغب فيها {ذَكَرَهُ}؛ أي: القرآن؛ أي: حفظه، ولم ينسه، وعمل بموجبه؛ أي: فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره، قيل (¬1): الضميران في {إِنَّهَا}، وفي {ذَكَرَهُ} للقران، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل: الأول للسورة أو للآيات السابقة، والثاني: للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر، وقيل: إن معنى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به، والأول أولى. وحاصل المعنى: أي إن التذكرة بينة ظاهرة، فلو أن إنسانًا أراد أن يتدبرها ويتفهم معناها، ويتعظ بها، ويعمل بموجبها لقدر على ذلك واستطاعه، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادًا واستكبارًا، 13 - ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها، فقال: 2 - {فِي صُحُفٍ}: إنها تذكرة كائنة في صحف جمع صحيفة، وكل مكتوب عند العرب صحيفة، فالجار (¬2) والمجرور متعلق بمحذوف، وهو صفة لـ {تَذْكِرَةٌ}، وما ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[14]

بينهما اعتراض بين الصفة والموصوف، جيء به للترغيب فيها، والحث على حفظها؛ أي: إنها تذكرة كائنة في صحف منتسخة من اللوح، أو خبر ثانٍ لـ {إن}، فالجملة معترضة بين الخبرين. {مُكَرَّمَةٍ}: صفة لـ {صُحُفٍ}؛ أي: مكرمة مشرفة عند الله تعالى لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل: صحف القرآن المكرم؛ لأن الصحف يطلق على كتب الأنبياء، كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. 14 - ومعنى: {مَرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر والذكر عند الله تعالى، فإنها في المشهور موضوعة في السماء الدنيا في مكان يقال له: بيت العزة، وقيل: مرفوعة في السماء السابعة. قال الواحدي (¬1): قال المفسرون {مُكَرَّمَةٍ} يعني: اللوح المحفوظ {مَرْفُوعَةٍ} يعني: في السماء السابعة. وقال ابن جرير: مرفوعة القدر والذكر، وقيل: مرفوعة عن الشبهة والتناقض {مُطَهَّرَةٍ}؛ أي: منزهة عن مساس أيدي الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، وفيه: أن الصحف بأيدي الملائكة في السماء الدنيا، والشياطين لا يصلون إلى السماء، فلا يظهر مدح الصحف بتطهرها عن مسهم. وقال الحسن: مطهرة من كل دنس ونقص. وقال السدي: مصانة من الكفار لا ينالونها. 15 - والظاهر (¬2): أن الجار والمجرور في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} صفة لـ {صُحُفٍ}؛ أي: في صحف كائنة بأيدي سفرة، أو مكتوبة بأيدي كتبة من الملائكة ينتسخونها من اللوح المحفوظ، ومن هذا (¬3) وقف بعضهم على {مُطَهَّرَةٍ} وقفًا لازمًا هربًا من توهم تعلق الباء به، وقيل: الباء متعلقة بـ {مُطَهَّرَةٍ}. قال القفال في توجيهه: لما لم يمسها إلا الملائكة المطهرون .. أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسها، وقال القرطبي: إن المراد بقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}: هؤلاء السفرة الكرام البررة، و {السفرة}: جمع سافر، ككتبة وكاتب، من السفر، وهو الكتب؛ إذ في الكتابة معنى السفر؛ أي: الكشف والتوضيح، والكاتب سافر؛ لأنه يبين الشيء ويوضحه، وسمي السفر بفتحتين سفرًا؛ لأنه يسفر ويكشف عن أخلاق المرء، قالوا: وهذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تطلق على غيرهم، وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة. وقال الفراء: السفرة هنا: الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله تعالى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[16]

ورسله من السفارة، وهو السعي بين القوم 16 - {كِرَامِ} عند الله تعالى بالقرب والشرف، فهو من الكرامة جمع كريم، أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم، فهو من الكرم ضد اللؤم. وقال ابن عطاء رحمه الله: يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع، وعند قضاء الحاجة، يشير إلى أنهم هم الملائكة الموصوفون بقوله: {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)}، وفيه تأمل. {بَرَرَةٍ}؛ أي: أتقياء مطيعين لربهم، صادقين في إيمانهم، من بر في يمينه جمع بار، مثل: فجرة وفاجر، وكفرة وكافر. 17 - وقوله: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} دعاء (¬1) عليه بأشنع الدعوات، فإن القتل غاية شدائد الدنيا وأفظعها، ومن فسر القتل باللعن .. أراد به الإهلاك الروحاني، فإنه أشد العقوبات؛ أي: لعن الإنسان الكافر، وفي "عين المعاني": عذب، والمراد به: عتبة بن أبي لهب، وقيل: المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله: أما من استغنى، وقيل: المراد به: الجنس، وهذا هو الأولى، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر، ويدخل تحته من كان سببًا لنزول الآية دخولًا أوليًا {مَا أَكْفَرَهُ}؛ أي: ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه، وهذا تعجب من إفراطه في الكفران؛ أي: على صورته، فإن حقيقة التعجب إنما تتصور من الجاهل بسبب ما خفي عليه من سبب الشيء، والذي أحاط علمه بجميع المعلومات لا يتصور منه ذلك، فهو في الحقيقة تعجب من الله وبيان لاستحقاقه للدعاء عليه؛ أي: اعجبوا من كفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، وادعوا عليه بالقتل واللعن ونحو ذلك لاستحقاقه لذلك، قال بعضهم: لعن الله الكافر، وعظم كفره؛ حيث لم يعرف صانعه، ولم يعرف نفسه التي لو عرفها .. عرف صانعها. وقال ابن الشيخ: هذا الدعاء وارد على أسلوب كلام العرب، فهو ليس من قبيل دعاء من يعجز عن انتقام من يسؤوه، وكذا هذا التعجب ليس على حقيقته؛ لأنه تعالى منزه عن العجز والجهل، بل المقصود بإيراد ما هو في صورة الدعاء: الدلالة على سخطه العظيم، والتنبيه على أنه استحق أهوال العقوبات وأشنعها، وبإيراد صيغة التعجب الذم البليغ له من حيث ارتكابه أقبح القبائح، ولا شك أن السخط يجوز من الله، وكذا الذم. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[18]

ويجوز (¬1) أن يكون {مَا أَكْفَرَهُ} استفهامًا بمعنى: التقريع والتوبيخ؛ أي: أيُّ شيء حمله على الكفر، 18 - ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره، ويكف عن طغيانه، فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)}؛ أي: من أيِّ شىء خلق الله هذا الكافر، والاستفهام للتقرير، 19 - ثم فسر ذلك فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}: أي: من نطفة قذرة أنشأه وأوجده، فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير .. كيف يليق به التكبر والتجبر والكفران بحق المنعم الذي كسا ذلك الحقير بمثل هذه الصورة البهية وهذا تحقير له. قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين. وعن بعضهم: كيف تكبر الإنسان وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة. ومعنى: {فَقَدَّرَهُ}؛ أي: فسواه وهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال، فخلق له اليدين والرجلين (¬2) والعينين، وسائر الآلات والحواس؛ أي: أحدثه بمقدر معلوم من الأعضاء والأشكال والكمية والكيفية، فجعله مستعدًا لأن ينتهي فيه إلى القدر اللائق بمصلحته، فلا يلزم عطف الشيء على نفسه، وذلك أن خلق الشيء أيضًا تقديره وإحداثه بمقدار معلوم من الكمية والكيفية. وقيل: أطوارًا من حال إلى حال، نطفةً ثم علقة إلى أن تم خلقه، فالتقدير المفرع على الخلق مأخوذ من القدر بمعنى الطور؛ أي: أوجده على التقدير الأول، ثم جعله ذا طور من علقة مضغة إلى آخر أطواره ذكرًا أو أنثى، شقيًا أو سعيدًا. قال بعضهم: وعلى الوجهين، فالفاء للتفصيل فإن التقدير يتضمنه على المعنيين. 20 - وقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} منصوب (¬3) على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور تقديره: ثم يسر السبيل يسره؛ أي: سهل مخرجه من البطن بأن فتح فم الرحم، وكان غير مفتوح قبل الولادة، وألهمه أن ينتكس بأن ينقلب ويصير رجله من فوق، ورأسه من تحت، ولولا ذلك لا يمكنها أن تلد، أو يسر له سبيل الخير والشر في الدين، ومكنه من السلوك فيهما، كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}، وذلك بالإقدار والتعريف له بما هو نافع وضار، وبالعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب، ونحو ذلك. وتعريف السبيل باللام دون الإضافة بأن يقال: سبيله للإشعار بعمومه؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[21]

لأنه عام للإنس والجن على المعنى الثاني، وللحيوانات أيضًا على المعنى الأول، قال ابن عطاء: يسر على من قدر التوفيق طلب رشده، واتباع نجاته. وقال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه. 21 - {ثُمَّ أَمَاتَهُ}؛ أي: قبض روحه عند تمام أجله المقدر المسمى {فَأَقْبَرَهُ}؛ أي: جعله في قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يدعه مطروحًا على وجه الأرض جزرًا؛ أي: قطعًا للسباع والطير كسائر الحيوان. قال في "كشف الأسرار": لم يجعله مما يطرح للسباع، أو يلقى للنواويس، والقبر مما يكرم به المسلمون. انتهى. يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، والقابر: هو الدافن، ومنه قول الأعشى: لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَل إِلَى قَابِرِ والقبر: هو مقر الميت، وأقبره إذا أمر بدفنه، أو مكن منه. فالمقبر هو الله سبحانه؛ لأنه الامر بالدفن في القبور. قال في "المفردات": أقبرته جعلت له مكانًا يقبر فيه، نحو: أسقيته جعلت له ماء يستقي منه. وقيل: معناه: ألهم كيف يدفن. انتهى. وعد الإماتة من النعم بالنسبة إلى المؤمن (¬1)، فإن بالموت يتخلص من سجن الدنيا، وأيضًا إن شأن الموت أن يكون تحفة ووصلة إلى الحياة الأبدية، والنعيم المقيم، وإنما كان مفتاح كل بلاء ومحنة في حق الكافر من سوء اعتقاده وسيئات أعماله. وفي بعض التفاسير: ذكر الإماتة؛ إما لأنها مقدمة الإقبار، وإما للتخويف والتذكير بأن الحياة الدنيوية فانية اخرها الموت. وعن الشافعي رحمه الله تعالى: فَلَا تَمْشِيَنْ فِيْ مَنْكِبِ الَأرْضِ فَاخِرًا ... فَعَمَّا قَلِيْلٍ يَحْتَوِيْكَ تُرَابُهَا 22 - وإما للحث على الاستعداد، وإما لرعاية المقابلة بينه وبين {أنشره} تنبيهًا على كمال قدرته، وتمام حكمته. {ثُمَّ إِذَا شَاءَ} سبحانه وتعالى إنشاره وإحياءه وبعثه {أَنْشَرَهُ} وأحياه وبعثه؛ أي: وإذا جاء الوقت الذي شاء الله تعالى، وهو يوم القيامة أنشره، وفي تعليق (¬2) الإنشار بمشيئته له إيذانٌ بأن وقته غير متعين في نفسه، بل هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[23]

تابع لها، بخلاف وقت الموت، فإنا نجزم بأن أحدًا من أبناء الزمان لا يتجاوز مئة وخمسين سنة مثلًا، وليس لأحد مثل هذا الجزم في النشور، هكذا قالوا. وفيه: إن الموت أيضًا له سن معلوم، وأجل محدود، فكيف يتعين في نفسه، ويجزم بوقوعه في سن كذا؛ بحيث لا يكون موكولًا إلى مجرد مشيئته تعالى، ولعل تقييد الإنشار بالمشيئة لا ينافي تقييد الموت بها أيضًا؛ إذ لا يجري عليه تعالى زمان، وإنه من مقدمات القيامة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات فقد قامت قيامته"، أي: لاتصال زمان الموت بزمان القيامة، فهو قيامة صغرى مجهولة؛ كالقيامة الكبرى. وقرأ الجمهور (¬1): {أَنْشَرَهُ} بالألف، وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة {نشره} بغير ألف، وهما لغتان فصيحتان. والمعنى (¬2): أي ثم قبض روحه، ولم يتركه مطروحًا على الأرض جزرًا للسباع، بل تفضل عليه في غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمةً له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء في الوقت الذي قدره في علمه. وفي قوله: {إِذَا شَاءَ} إشعارٌ (¬3) بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهوالقادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم في إحيائهم وإماتتهم، وبعثهم وحشرهم، وحسابهم على ما قدموا من عمل خيرًا كان أو شرًا، 23 - ثم أكد كفرانه بالنعم، فقال: {كَلَّا} ردع وزجر للإنسان الكافر عما هو عليه؛ أي: ليس الأمر كما يقول الكافر المستغني فلينزجر وليرتدع عما هو عليه من الكفران والعصيان لربه. والوقف على {كَلَّا} حيئنذ. وفي "الخازن": {كَلَّا}: ردع وزجر للإنسان عما هو عليه من التكبر والتجبر والترفع والإصرار على إنكار التوحيد، وانكار البعث والحساب. اهـ. وقوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} بيان (¬4) لسبب الردع والزجر، كما في "أبي السعود"؛ أي: لم يفعل الإنسان المذكور من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ما أمره الله به مما فرضه الله عليه من الإيمان والطاعة، ولم يؤد ولم يعرف ولم يعمل به، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) الفتوحات.

وعدم (¬1) القضاء محمول على عموم النفي؛ إما على أن المحكوم عليه هو المستغني، أو هو الجنس، لكن لا على الإطلاق، بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده، وقد أسند إلى الكل، فلا شياع في اللوم بحكم المجانسة، وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي، فالمعنى: لم يقض جميع أفراده ما أمره، بل أخل به بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره إلا القليل، مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشامل للكل أن لا يتخلف عنه أحد أصلًا. وقال الحسن: حقًا لم يفعل ما أمره به، فـ {كَلَّا}: بمعنى: حقًا. قال ابن الأنباري: فالوقف على {كَلَّا} حينئذٍ قبيح، فيكون {كَلَّا} تابعًا لما بعده، فالوقف على {مَا أَمَرَهُ} حينئذٍ. وقال بعض أهل التفاسير: {ما} في قوله: {لَمَّا} صلة دخلت للتأكيد، كقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}، فـ {لَمَّا} بمعنى: لم، وليس فيه معنى التوقع. و {مَا} في {مَا أَمَرَهُ}، موصولة، وعائدها يجوز أن يكون محذوفًا، والتقدير: ما أمره به، فحذف الجار أولًا، فبقي ما أمره هو، ثم حذف الهاء العائد ثانيًا، ويجوز أن يكون باقيًا على أن المحذوف من الهاءين هو العائد إلى الإنسان، والباقي هو العائد إلى الموصول، فاعرف وقس عليه أمثاله. وحاصل معنى الآية: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}؛ أي (¬2): حقًا أن حال الإنسان لتدعو إلى العجب، فإنه بعد أن رأى في نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الاثار ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار لم يقض ما أمره به ربه من التأمل في دلائل قدرته، والتدبر في معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدًا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به. والخلاصة (¬3): أن الإنسان قد بلغ في جحده آيات خالقه مبلغًا لا ينتهي منه العجب؛ إذ قد رأى في نفسه، وفي السموات والأرض، وسائر ما يحيط به من العوالم الآيات الناطقة بوحدانية الخالق الدالة على عظيم قدرته، ثم لا يزال مستمرًا في نكران نعمته عليه، فهذا ذكر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

[24]

الأقوم، ولا يزال يرتكب ما نهي عنه، ويترك ما أمر به. 24 - ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلِّقة بحدوثه، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)}؛ أي: فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببًا لحياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الآخروية. قال مجاهد: معناه: فلينظر الإنسان إلى طعامه؛ أي: إلى مدخله ومخرجه، والأول أولى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلينظر الإنسان إلى طعامه؛ ليعلم خسة قدره وفناء عمره. وفي الحديث: "إن مطعم ابن آدم جعله الله مثلًا للدنيا، وإن قَزَحه ومَلَحه، فانظر إلى ماذا يصير". يقال: قزح القدر: جعل التابل فيها، وهو كصاحب وهاجر، إبراز الطعام، وملحها: جعل الملح فيها. والمعنى: أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه، وليفكر في أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاءً صالحًا تقوم به بنيته، ويجد في تناوله لذة تدفعه إليه ليحفظ بذلك قوته مدى الحياة التي قدرت له، 25 - وقد فصل ذلك بقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا} وأنزلناه {الْمَاءَ}؛ أي: الغيث: وهو المطر المحتاج إليه من السحاب {صَبًّا} عجبًا وإنزالًا وافيًا، بعد أن بقي حينًا في جو السماء مع ثقله. وقرأ الجمهور (¬1): {إنا} بكسر الهمزة على الاستئناف في ذكر تعداد أسباب الوصول إلى الطعام. وقرأ الكوفيون والأعرج وابن وثاب والأعمش ورويس عن يعقوب {أَنَّا} بفتحها على أنه بدل من طعامه بدل الاشتمال؛ لكون نزول المطر سببًا لحصول الطعام، فهو كالمشتمل عليه، فالثاني مشتمل على الأوّل؛ إذ لا يلزم فيه أن يكون المبدل منه مشتملًا على البدل، فحينئذٍ العائد محذوف، والتقدير: أنا صببنا له الماء. والمعنى عليه: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبًا. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما (¬2): {أنى} بالفتح، والإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. 26 - {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ} بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر {شَقًّا} بديعًا لائقًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[27]

بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة، مشاهدًا مرئيًا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء، وقد اقتضت حكمته ذلك ليدخل الهواء والضياء في جوفها، ويهيئها لتغذية النبات، وقيل: المراد بالشق: شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به، ولما كان الشق بعد الصب .. أورد كلمة {ثُمَّ} ثم بين سبب هذا الشق، وما وقع لأجله، 27 - وذكر ثمانية أنواع من النبات، فقال: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا}؛ أي: في الأرض المشقوقة بالنبات، والفاء للتعقيب. 1 - {حَبًّا}: فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب، والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما، وهو جنس الحبة؛ كالتمر والتمرة، فيشمل القليل والكثير، قدمه على ما بعده؛ لأنه الأصل في الغذاء. 28 - وقوله: 2 - {وَعِنَبًا} معطوف على {حَبًّا}؛ أي: وأنبتنا فيها عنبًا، قيل: وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه، فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض، وكذا في أمثاله كذا قال في "الإرشاد"؛ ولعل شق الأرض فيه باعتبار أصله أول خروجه منها، فعان المراد هنا: شجرة العنب، وإنما ذكره والزيتون باسم الثمرة؛ لشهرتهما بها، ووقوع كل منهما بعدما يؤكل نفسه. فاعرف. وأفرد العنب بالذكر من بين الثمار؛ لأنه فاكهة من وجه يتلذذ به، وطعام يتغذى به، وهو من أصلح الأغذية. 3 - {وَقَضْبًا} أي: وَقَتًّا رطبًا، والقضب: هو القتَّ الرطب الذي يقضب؛ أي: يقطع مرة بعد أخرى تعلف به الدواب، ويقال له: الفصفصة، سميت بمصدر قضبه؛ أي: قطعه، مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره إذا تقضب مرة بعد أخرى في السنة نفس القطع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الرطب التي تقضب من النخل، ورجحه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[29]

بعضهم لمناسبته بالعنب، وقال بعضهم: هو مثل النعناع والطرخون والكراث وغيرها، التي يقطع ساقها من أصلها، يعني: للأكل، وقال بعضهم: هو القت الرطب، أفرده بالذكر تنبيهًا على اختلاف النباتات، وأن منها ما إذا قطع عاد، ومنها ما لا يعود، والقلت: حب الغاسول، وهو الأشنان. وقيل: هو حب يابس أسود يدفن فيلين قشره ويطحن ويخبز بفتاته أعراب طيء، وقال بعضهم: هو ما يؤكل رطبًا كالبطيخ والخيار والباذنجان والدباء. وقال الخليل: القضب: الفصفصة الرطبة، فإذا يبست فهي القت. قال في "الصحاح": والقضبة والقضب: الرطبة. قال: والموضع الذي ينبت فيه: مقضبة. 4 - 29 {وَزَيْتُونًا}: وهو ما يعصر منه الزيت، والمراد: شجرته، وتعمر ثلاثة آلاف سنة، خصه بالذكر لكثرة فوائده خصوصًا لأهالي بلاد العرب، فإنهم ينتفعون به أكلًا وادهانًا، واستضاءة وتطهرًا، فإنه يجعل في الصابون، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتطيب به في بعض الأوقات. 5 - {وَنَخْلًا}: هو شجر التمر جمع نخلة، والرطب والتمر من أنفع الغذاء، وفي العجوة منه خاصية دفع السم والسحر، كما في الحديث، وشجرته قيل: من فضلة طينة آدم عليه السلام، كما سبق مفصلًا. 6 - 30 {وَحَدَائِقَ} جمع حديقة، وهي البستان من النخل والشجر، أو الروضة ذات الأشجار، أو كل ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل كما في "القاموس"، وهي هنا: من قبيل التعميم بعد التخصيص، وقوله: {غُلْبًا} صفة لـ {حَدَائِقَ}؛ أي: عظام الأشجار غلاظها. وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتف بعضها إلى بعض، وهو جمع أغلب كحمر جمع أحمر أو حمراء، مستعار من وصف الرقاب، يقال رجل أغلب، وأسد أغلب؛ أي: غليظ العنق. والمعنى (¬1): أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها، وعظم الحدائق؛ إما بالتفاف أشجارها وكثرتها، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها، وفي ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة في الأشجار بجملتها، ¬

_ (¬1) المراغي.

[31]

وليست في ثمرها خاصة، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث، وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات، وكذا الوقود لتدبير الطعام، والخبر على ضروب شتى، وتستعمل في صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة، وفي "كشف الأسرار": الغلب من الشجر التي لا تثمر، كالشمار والأرز والعرعر والدرداء. 7 - 31 {وَفَاكِهَةً} كثيرة غير ما ذكر، يتمتع بلذتها الإنسان خاصة، كالتين والتفاح والخوخ والبرتقال والمشمس والموز وغيرها، فهو معطوف على {عِنَبًا} عطف عام على خاص، ويصح عطفه على {حَدَائِقَ} كما هو المتبادر، فيكون عطف خاص على عام كما لا يخفى. قال أبو حنيفة (¬1): إن نحو العنب والرطب؛ لكونه مما يؤكل غذاء يحقق القصور في معنى التفكه به؛ أي: التنعم به بعد الطعام وقبله، فلا يتناوله اسم الفاكهة على الإطلاق حتى لو حلف لا يأكل فاكهة لا يحنث بأكله؛ لكونه غذاء من وجه، وإن كان فاكهة من وجه آخر، وعطف الفاكهة عليه لا ينافي كونه فاكهة من وجه؛ لأن المراد بالفاكهة المعطوفة ما هو فاكهة من كل وجه، ولا يخفى أن الفاكهة من كل وجه مغايرة لما هو فاكهة من وجه دون وجه، فيصح عطفها عليه، أو عطقه عليها كما في مواضع من القرآن. 8 - {وَأَبًّا}؛ أي: مرعى للحيوان خاصة، فالفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار، كالعنب والتين مثلًا، والأبُّ: كل ما أنبت الأرض، مما لا يأكله الناس، ولا يزرعون من الكلأ وسائر أنواع المرعى، من أبَّه إذا أمَّه؛ أي: قصده؛ لأنه يؤم ويقصد جزه للدواب، كما سيأتي، وقيل الأبُّ: الفاكهة اليابسة تؤبُّ للشتاء؛ أي: تعد وتهيأ، وهو الملائم لما قبله، وفي الحديث: "خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع" أراد بقوله: خلقتم من سبع؛ أي: من نطفة، ثم من علقة ... إلخ، وهي التارات السبع، وبقوله: زرقتم من سبع، قوله: {حَبًّا} و {عنبًا} إلى {أبًا}، ولعل الحدائق خارجة عن الحساب؛ لأنها منابت تلك المزروعات، وبقوله: فاسجدوا لله على سبع: الأعضاء السبعة الوجه، واليدان، والركبتان، والرجلان. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[32]

32 - ثم ذكر الحكمة في خلق هذه الأشياء فقال: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} مفعول لأجله لـ {أنبتنا}؛ أي: أنبتنا ذلك المذكور تمتيعًا لكم ولمواشيكم، فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم، وبعضها علف لدوابهم، والالتفات لتكميل الامتنان؛ أي: لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم منه ما ينتفع به الإنسان، ومنه ما يأكله الدواب. 33 - وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)} شروع (¬1) في بيان أحوال معادهم، إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فناء النعم عن قريب، كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، و {الصَّاخَّةُ}: هي القيامة، والداهية العظيمة التي يصح لها الخلائق؛ أي: يصيخون لها، من صخ لحديثه: إذا أصاخ واستمع، وصفت به النفخة الثانية؛ لأن الناس يصخون لها في قبورهم، فأسند الاستماع إلى المسموع مجازًا، وقيل: هي الصيحة التي تصم الآذان لشدة وقعها، وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر؛ أي: صكه، فتكون الصاخة حقيقة في النفخة، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله: لكل امرىء منهم إلخ، تقديره: فإذا جاءت الصاخة - أي: القيامة - اشتغل كل امرىء بنفسه، والظرف في قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}؛ إما بدل من {إِذَا جَاءَتِ}، أو منصوب بمقدر؛ أي: أعني، ويكون تفسيرًا لـ {الصَّاخَّةُ}، أو بدلًا منها مبني على الفتح؛ أي: أعني بالصاخة: يوم يعوض الإنسان عن هؤلاء المذكورين، ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم، كما في الدنيا؛ لاشتغاله بحال نفسه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئًا، وخص (¬2) هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع. وتأخير الأحب للمبالغة (¬3)؛ لأن الأبوين أقرب من الأخ، وتعلق القلب بالصاحبة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين، وهذه الآية تشمل النساء كما تشمل الرجال، ولكنها خرجت مخرج كلام العرب؛ حيث تدرج النساء في الرجال في الكلام كثيرًا. قال عبد الله بن طاهر الأبهري - رحمه الله تعالى -: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[34]

ذلك في الدنيا .. لما اعتمد على سوى ربه الذي لا يعجزه شيء، وتمكن من فسحة التوكل، واستراح في ظل التفويض {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}. والمعنى (¬1): {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)}؛ أي: فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك الصوت الهائل الذي يصخ الأسماع ويصكها بشدته، فما أعظم أسف الكافر، وما أشد ندمهم، 34 - ثم فصل بعض أهوال ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء} إلخ؛ أي: أعني بذلك اليوم: يوم يشغل كل امرىءٍ ما يصيبه من الأهوال، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به، ويطلب معونته على ما هو فيه، فيتوارى من أخيه، 35 - بل من أمه وأبيه، 36 - بل من زوجه التي هي ألصق الناس به، وقد كان في الدنيا يبذل النفس والنفيس في الدفاع عنها، بل من بنيه وهم فلذات كبده، وقد كان في الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه. 37 - {لِكُلِّ امْرِئٍ}؛ أي: لكل إنسان {مِنْهُمْ}؛ أي: من هؤلاء الأقرباء وغيرهم {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تكون هذه الداهية الصاخة {شَأْنٌ}، أي: شغل {يُغْنِيهِ}؛ أي: يكفيه في الاهتمام به، أو عمل يصرفه عن الاهتمام بقرابته ويشغله، كما قاله ابن قتيبة، ومنه قولهم: أغنِ عنِّي وجهك. أي: اصرفه، والشأن (¬2): لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور؛ أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، قال ابن الشيخ: إن الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع، فصار بذلك شبيهًا بالغني في أنه ملك شيئًا كثيرًا. وقيل: إنما يفر منهم حذرًا من مطالبتهم إياه بما بينهم، وقيل: يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئًا، كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا}، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار. وقرأ الجمهور (¬3): {يُغْنِيهِ} بضم الياء وبالغين المعجمة؛ أي: يغنيه عن النظر في شأن الآخر من الإغناء، وقرأ الزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع: {يعنيه} بفتح الياء وبالعين المهملة؛ أي: يهمه من عناه الأمر: إذا أهمه. 38 - وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للإنسان في ذلك اليوم، وأنها لا تسعف ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[39]

أحدًا بمواساة أحدٍ، ولا بالالتفات إليه مهما يكن عطفه عليه، واتصاله به .. أردفه ببيان أن الناس في ذلك اليوم سعداء وأشقياء، وأشار إلى الأولين بقوله: {وُجُوهٌ} كثيرة، وهو مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يفر المرء من أقربائه، وهو ظرف مضاف لمثله، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة كما قدرنا متعلق بقوله: {مُسْفِرَةٌ}؛ أي: مضيئة متهللة، وهو خبر المبتدأ، وقول "الشوكاني" وغيره هنا: الظرف متعلق بـ {وُجُوهٌ} .. غير صواب؛ لأن الوجوه جمع وجه، وهو من أسماء الأعيان التي ليست فيها رائحة الفعل، فكيف يتعلق به الجار والمجرور، ومعنى {مُسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة، من: أسفر الصبح إذا أضاء، وهو من الأفعال اللازمة، وهي وجوه المؤمنين؛ لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة. قال الضحاك: مسفرة من آثار الوضوء، وقيل: من قيام الليل. وفي الحديث: "من كثرت صلاته بالليل .. حسن وجهه بالنهار"، وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله. 39 - {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} بما تشاهده من النعيم المقيم، والبهجة الدائمة، وفي بعض (¬1) التفاسير {ضَاحِكَةٌ}؛ أي: مسرورة فرحة لما علموا من الفوز والسعادة، أو لفراغهم من الحساب بالوجه اليسير {مُسْتَبْشِرَةٌ}؛ أي: ذات بشارة بالخير، فكأنه بيان لقوله: {ضَاحِكَةٌ} انتهى. وهما خبران آخران لـ {وُجُوهٌ}، وفي "عين المعاني": ضاحكة من مسرة العين، مستبشرة من مسرة القلب، يقول الفقير: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)} لابيضاضها في الدنيا بالتزكية والتصفية، وزوال كدوراتها {ضَاحِكَةٌ}؛ لأنها بكت في الله أيام دنياها حتى صارت عمياء عن رؤية ما سوى الله تعالى مطلقًا، كما وقع لشعيب ويعقوب عليهما السلام. {مُسْتَبْشِرَةٌ} لأمنها بدل خوفها في الدنيا، ولذا قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} بأن تقول لهم الملائكة: لا تخافوا وأبشروا بالجنة والرؤية. والضحك: هو انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس، ولظهور الأسنان عنده .. سميت مقدمة الأسنان ضواحك، ويستعمل في السرور المجرد كما في الآية. والمعنى (¬2): أي وجوه يومئذٍ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[40]

ستوفى ما وعدت به جزاء إيمانها، وما قدمت من عمل صالح، وبشكرها لنعم ربها وآلائه، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه. 40 - وأشار إلى الآخرين بقوله: {وَوُجُوهٌ} أخر، وهو مبتدأ، أول. {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يفر المرء عن أقربائه، وهو متعلق بـ {تَرْهَقُهَا} {عَلَيْهَا}: خبر مقدم {غَبَرَةٌ}؛ أي: غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب الأليم، وهو مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {وُجُوهٌ}. 41 - {تَرْهَقُهَا}؛ أي: يغشاها ويعلوا {قَتَرَةٌ}؛ أي: سواد وظلمة كالدخان، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما إذا اغبر وجه الزنجي، قال سهل رحمه الله تعالى: غلب عليها إعراض الله عنها ومقته إياها، فهي تزداد في كل وقت ظلمة وقترة، والجملة الفعلية خبر ثانٍ {وُجُوهٌ}. 42 - {أُولَئِكَ} الموصوفون بسواد الوجه ومخبوته {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}؛ أي: الجامعون بين الكفر والفجور، فلذا جمع الله سبحانه إلى سواد وجوههم الغبرة، وفي الحديث: "إن البهائم إذا صارت ترابًا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار"، وفي "عين المعاني": أولئك هم الكفرة في حقوق الله، الفجرة في حقوق العباد. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {قَتَرَةٌ} بفتح التاء، وابن أبي عبلة بإسكانها، وفيه إشارة إلى أن الفجور الغير المقارن بالكفر ليس في درجة المقارن في المذمومية، والسببية للحقارة والمهانة والخذلان، إذ أصل الفجور: الكذب والميل عن الحق، ويستعمل فيه الذنب الكبير، وكثيرًا ما يقع ذلك من المؤمن العاصي، لكن ينبغي أن يخاف منه ويحذر عنه؛ لأن كبائر الذنب تجر إلى الكفر، كما أن صغائره تجر إلى الكبائر. والمعنى (¬2): أي ووجوه أخرى يعلوها غبار الذل، وسواد الغم والحزن، وهي وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا بالله، وبما جاء به أنبياؤه، وخرجوا عن حدود شرائعه، واجترحوا السيئات، واقترفوا المعاصي. وقصارى ما سلف: أن الناس إذ ذاك فريقان: 1 - فريق كان في دنياه يطلب الحق، وينظر في الحجة، ويعمل ما استقام عليه الدليل، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين، ولا قوة المعاندين، وهؤلاء سيطمئنون ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

إلى ما أدركوا، ويفرحون بما نالوا، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور. 2 - فريق احتقر عقله، وأهمل النظر في نعم الله عليه، وارتضى الجهل، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الاباء والأجداد، وظل يخب ويضع في أهوائه الباطلة، وعقائده الزائفة، وهؤلاء سيجدون كل شيء على ما كانوا يعرفون، فتظهر عليهم آثار الكآبة والخيبة والفشل، وتعلو وجوههم الغبرة، وترهقها القترة؛ لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا كفرة فجرة. اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الإعراب {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)}. {عَبَسَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا، وأتى هنا وفي الموضعين بعده بصيغة الغيبة إجلالًا له - صلى الله عليه وسلم -، ولطفًا به لما في المشافهة بتاء الخطاب من الغلظة والشدة، {وَتَوَلَّى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، معطوف على {عَبَسَ}. {أَن}: حرف نصب ومصدر {جَاءَهُ}: فعل ماض في محل النصب بـ {أَن} المصدرية، و {الهاء} مفعول به مقدم {الْأَعْمَى}: فاعل مؤخر، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: عبس لمجيء الأعمى إياه، الجار والمجرور متعلق بـ {عَبَسَ}؛ لأن المجيء ليس من أفعال القلوب، فاختل شرط من شروط المفعول لأجله {وَمَا}: {الواو} عاطفة {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {يُدْرِيكَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَا}، ومفعول أول لأدرى والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {مَا} الاستفهامية، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {عَبَسَ}. {لَعَلَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {يَزَّكَّى} خبره، وجملة الترجي في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {يُدْرِيكَ}، وقيل: المفعول الثاني لأدرى محذوف تقديره: وما يدريك أمره ومغبة حاله، وجملة {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}: مستأنفة {أَوْ}: حرف

عطف، وجملة {يَذَّكَّرُ} معطوفة على جملة {يزكى}. {فَتَنْفَعَهُ} بالنصب {الفاء}: عاطفة سببية {تنفعه}: فعل مضارع ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الترجي. {الذِّكْرَى}: فاعل، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: أترجى تزكيته، أو تذكره، فنفع الذكرى إياه، والجملة المقدرة مستأنفة، وقرىء {فتنفعُه} بالرفع عطفًا على {يَزَّكَّى}، والفاء لمجرد العطف حينئذٍ. {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}. {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل {مَنِ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {اسْتَغْنَى} صلة {مَنِ} الموصولة، {فَأَنْتَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}، واقعة في غير موضعها للثقل؛ لأن موضعها موضع {أَمَّا}. {أَنتَ}: ضمير رفع منفصل في محل الرفع مبتدأ ثانٍ {لَهُ}: متعلق بـ {تَصَدَّى}، قدم عليه لرعاية الفاصلة، وجملة {تَصَدَّى} في محل الرفع خبر {أنت}، والجملة الاسمية خبر {مَنِ} الموصولة، وجملة {مَنِ} الموصولة من المبتدأ والخبر جواب {أَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} مستأنفة {وَمَا} {الواو}: حالية {مَا}: نافية، {عَلَيْكَ}: خبر مقدم {أَن}: حرف نصب ومصدر {لَا}: نافية {يَزَّكَّى}: فعل مضارع منصوب بـ {أن} المصدرية، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} الموصولة، والجملة الفعلية مع {أن} المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرًا؛ أي: وما عليك عدم التزكية؛ أي: ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإسلام، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل، {تصدى}. واختار أبو حيان أن تكون {مَا} استفهامية للإنكار، فتكون مبتدأ، و {عَلَيْكَ}: خبرها، و {أَلَّا يَزَّكَّى} منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلق بما تعلق به {عَلَيْكَ}؛ أعني: الاستقرار، والجملة حينئذٍ جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَأَمَّا} {الواو} عاطفة {أَمَّا}: حرف شرط وتفصيل {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {جَاءَكَ} صلة {مَن} الموصولة {يَسْعَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة حال من فاعل {جَاءَكَ}، {وَهُوَ}: {الواو}: حالية: {هُوَ} مبتدأ، وجملة {يَخْشَى}: خبره، والجملة الاسمية

في محل النصب حال من فاعل {يَسْعَى} فهي حال متداخلة، {فَأَنْتَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}، {أنت}: مبتدأ {عَنْهُ}: متعلق بـ {تَلَهَّى}، {تَلَهَّى}: فعل مضارع مرفوع أصله: تتلهى، كما مر، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة {تَلَهَّى} في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية خبر {من} الموصولة، وجملة {من} الموصولة جواب {أَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} معطوفة على جملة {أَمَّا} الأولى. {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر لكل إنسان عن ارتكاب مثل المعاتب عليه {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة {فَمَنْ}: {الفاء}: اعتراضية {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر فعل الشرط، أو جوابه، أو هما {شَاءَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {ذَكَرَهُ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونه جواب الشرط، وجملة {من} الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر {فِي صُحُفٍ}: خبر ثانٍ لـ {إِنَّهَا}؛ أي: إنها كائنة في صحف، وقوله: {مُكَرَّمَةٍ}: صفة أولى لـ {صُحُفٍ} {مَرْفُوعَةٍ} صفة ثانية لها، {مُطَهَّرَةٍ}: صفة ثالثة لها. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة رابعة لها أيضًا، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي كائنة بأيدي سفرة، {كِرَامٍ}: صفة أولى لـ {سَفَرَةٍ}. {بَرَرَةٍ}: صفة ثانية لها {قُتِلَ الْإِنْسَانُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة دعائية لا محل لها من الاعراب {مَا}: تعجبية في محل الرفع مبتدأ {أَكْفَرَهُ}: فعل ماضٍ ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا لجريانه مجرى المثل يعود على {مَا} التعجبية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {مَا} التعجبية، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب؛ لدلالتها على إنشاء التعجب نظير قولهم: قاتله الله ما أخبثه، وأخزاه الله ما أظلمه. والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا، وقيل:

{مَا}: استفهامية في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أكفره} خبر {مَا}؛ أي: أي شيء دعاه إلى الكفر، وهو استفهام توبيخ، ولا داعي لهذا؛ لأنه تعجب من إفراطه في كفره، والتعجب بالنسبة إلى المخلوقين؛ إذ هو مستحيل في حقه تعالى. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {خَلَقَهُ}، و {خَلَقَهُ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أنعم عليه بعد المبالغة في وصفه بكفران نعم خالقه، والاستفهام للتقرير مع التحقير. {مِنْ نُطْفَةٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {خَلَقَهُ} المذكور بعده، {خَلَقَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به بدل من {خَلَقَهُ} الأول بإعادة الجار. {فَقَدَّرَهُ}: {الفاء}: عاطفة {قدره}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {خَلَقَهُ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع التراخي {السَّبِيلَ}: منصوب على الاشتغال بفعل مضمر يفسره المذكور بعده، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة {فَقَدَّرَهُ}، والتقدير: ثم يسر السبيل يسره، والتعريف في السبيل لإفادة العموم، وجملة {يَسَّرَهُ} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، وعبارة "السمين": قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} يجوز أن يكون الضمير للإنسان، و {السَّبِيلَ}: ظرف، أي: يسر للإنسان الطريق؛ أي: طريق الخير أو الشر، كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}. {ثُمَّ}: حرف عطف مع تراخٍ {أَمَاتَهُ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {يَسَّرَهُ}، {فَأَقْبَرَهُ}: {الفاء}: عاطفة مفيدة للتعقيبـ {أقبره}: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على {أَمَاتَهُ}، {ثم}: حرف عطف وتراخٍ، {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بجوابه، {شَاءَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: إذا شاء إنشاره، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة {أَنْشَرَهُ} جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} معطوفة على جملة {أقبره}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر للإنسان المسترسل في عمايته، المغتر باغتراره المتطاول {لَمَّا}: حرف نفي وجزم {يَقْضِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمَّا}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، وجزم بـ {لَمَّا} دون {لم} للدلالة على أن العجب والكبر ما زالا يلازمان الإنسان حتى الساعة {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {أَمَرَهُ}، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: به، وجملة {يَقْضِ} مستأنفة.

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}. {فَلْيَنْظُرِ}: {الفاء}: استئنافية، و {اللام}: لام أمر وجزم {ينظر}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {الْإِنْسَانُ}: فاعل {إِلَى طَعَامِهِ}: متعلق بـ {ينظر}، والجملة مستأنفة مسوقة لتعداد النعم المترادفة على الإنسان {أَنَّا}: - بفتح الهمزة - ناصب واسمه {صَبَبْنَا الْمَاءَ}: فعل وفاعل ومفعول به {صَبًّا}: مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن}، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من {طَعَامِهِ}، والتقدير: فلينظر الإنسان إلى طعامه .. إلى صببنا الماء صبًا، وقرىء بكسرها على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ {شَقَقْنَا الْأَرْضَ}: فعل وفاعل ومفعول به {شَقًّا}: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة {صَبَبْنَا}، {فَأَنْبَتْنَا}: {الفاء}: عاطفة {أنبتنا}: فعل وفاعل، معطوف على {شَقَقْنَا}. {فِيهَا} متعلق بـ {أنبينا}: {حَبًّا}: مفعول به. وقوله: {وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)} معطوفات على {حَبًّا}. {غُلْبًا}: صفة {حَدَائِقَ}. {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} معطوفان أيضًا على {حَبًّا}. {مَتَاعًا}: مصدر مؤكد لـ {أنبتنا}؛ لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات الحية، أو مفعول لأجله معلل لفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم {لَكُمْ}: متعلق بـ {مَتَاعًا}، {وَلِأَنْعَامِكُمْ}: معطوف على {لَكُمْ}. {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}. {فَإِذَا} {الفاء}: استئنافية {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} تقديره: فإذا جاءت الصاخة .. اشتغل كل إنسان بنفسه، وجملة {إذا} مستأنفة مسوقة لبيان أحوالهم يوم المعاد، ويصح أن تكون الفاء فصيحة تقديره: إذا عرفت أحوالهم في الدنيا، وأردت بيان أحوالهم في المعاد .. فأقول لك: إذا جاءت الصاخة .. اشتغل

كل واحد بحال نفسه. {جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا} على كونها فعل شرط لها. {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية بدل من {إذا} بدل كل من كل على كونه متعلقًا بالجواب المحذوف. {يَفِرُّ الْمَرْءُ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}: {مِنْ أَخِيهِ}: متعلق بـ {يَفِرُّ} {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}: معطوفات على {أَخِيهِ}، {لِكُلِّ امْرِئٍ}: خبر مقدم، {مِنْهُمْ}: صفة {امرىء}، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ {يُغْنِيهِ}، {شَأْنٌ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {يُغْنِيهِ}: صفة لـ {شَأْنٌ}، والجملة الاسمية مستأنفة {وُجُوهٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {مُسْفِرَةٌ}، وأخطأ من قال: إنه متعلق بـ {وُجُوهٌ}، كما مرَّ. {مُسْفِرَةٌ}: خبر المبتدأ و {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)}: خبران آخران لـ {وُجُوهٌ}، والجملة مستأنفة مسوقة لتفصيل أحوالهم، {وَوُجُوهٌ}: {الواو} عاطفة، {وُجُوهٌ}: مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف لمثله متعلق بـ {تَرْهَقُهَا} {عَلَيْهَا}: خبر مقدم، {غَبَرَةٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {وُجُوهٌ}، وجملة {وُجُوهٌ} معطوفة على جملة {وُجُوهٌ} الأولى. {تَرْهَقُهَا}: فعل مضارع ومفعول به {قَتَرَةٌ}: فاعل مؤخر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثانٍ لـ {وُجُوهٌ}، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ}: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، {الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}: خبران لـ {أُولَئِكَ}، أو لـ {هُمْ}، والجملة خبر {أُولَئِكَ}، وجملة {أُولَئِكَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا. التصريف ومفردات اللغة {عَبَسَ}؛ أي: قطب وجهه وغير لونه من ضيق الصدر {وَتَوَلَّى}؛ أي: أعرض والتفت عن جهة إلى جهة أخرى، وأصله: تولي، أعل بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} وهو من اتصف بالعمى، والعمى: افتقاد البصر، ولام الأعمى للعهد الحضوري، وأصله: الأعمي، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَمَا يُدْرِيكَ}؛ أي: أي شيء يعرفك حال هذا الأعمى {يَزَّكَّى} أصله يتزكى، أبدلت تاء التفعل زايًا، وأدغمت في الزاي فاء الكلمة، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ومعنى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}؛ أي: يتطهر بما يلقن من الشرائع. {أَوْ يَذَّكَّر}؛ أي: يتعظ من التذكر، وهو الاتعاظ أصله: يتذكر. {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)} بماله وقوته

عن سماع القرآن، فيه إعلال بالقلب، أصله: استغني، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} أصله: تتصدى بتاءين حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والتصدي للشيء: التعرض والتقيد به، والاهتمام بشأنه، وضده التشاغل عنه، وفي "المفردات": التصدي أن يقابل الشيء مقابلة الصدى؛ أي: الصوت الراجع من الجبال المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة، وقيل: من الصدى، وهو العطش، والمعنى هنا: على التعرض كما في "السمين". وقال بعضهم: أصله: تصدد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك، فأبدل أحد الأمثال حرف علة نحو: تقضى البازي. {أَلَّا يَزَّكَّى} أصله: يتزكى بوزن يتفعل، أبدلت تاء التفعل زايًا، وأدغمت في الزاي كما مر آنفًا، والمعنى: ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإِسلام على أن {مَا} نافية، وفي "البحر": وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر على أن {مَا} للاستفهام الإنكاري. {مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}؛ أي: يسرع ويمشي في طلب الخير والمعالي، أصله: يسعي بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح {وَهُوَ يَخْشَى (9)} أصله: يخشي؛ لأنه من باب رضي يرضى، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}؛ أي: تتشاغل عنه بدعاء صناديد قريش إلى الإِسلام؛ لأنه من لهي بكذا يلهى - كرضي يرضى - إذا تشاغل به، وليس هو من اللهو في شيء، ولم يجعل من اللهو؛ لأنه مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو، بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا. اهـ "سمين"، وأصله: تتلهى، حذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، وقلبت ياؤه ألفًا لتحركها وفتح ما قبلها. والحاصل: أنه من لهي عن الشيء بكسر الهاء يلهى بفتحها لهيًا إذا أعرض عنه، لا من لهوت بالشيء - بالفتح - ألهو لهوًا. إذا لعبت به، وفي "القاموس": لها لهوًا: لعب، كالتهى وألهاه ذلك، ولهي به - كرضي - أحبه، وعنه: سلا وغفل وترك ذكره، ولها - كدعا - لهيًا ولهيانًا. انتهى.

{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} جمع سافر بمعنى: كاتب، نظير كتبة وكاتب؛ لأنهم ينسخونها من اللوح المحفوظ. {كِرَامٍ}؛ أي: مكرمين معظمين عنده تعالى من الكرامة بمعنى: التوقير، كما في "الشهاب". {بَرَرَةٍ}: جمع بار، مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة، يقال: هو بر وبار إذا كان أهلًا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه؛ أي: صدق، وفلان يبر خالقه؛ أي: يطيعه، ومعنى {بَرَرَةٍ}: مطيعين الله. {ثُمَّ أَمَاتَهُ} أصله: أموته بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت، لكنها قلبت ألفا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {فَأَقْبَرَهُ}، ولم يقل: فقبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر: هو الله تعالى، يقال: قبر الميت: إذا دفنه بيده، وأقبره: إذا أمر غيره أن يجعله في قبره. {وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)} جمع: حديقة، والهمزة فيه مبدلة من ياء فعيلة في المفرد، لوقوعها حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مؤنث. {غُلْبًا} جمع أغلب، كحمر في أحمر وحمراء، يقال: حديقة غلباء؛ أي: غليظة الشجر، ملتفة الحدائق، فالحدائق ذات أشجار غلاظ، فهو مجاز مرسل، كالمرسن بمعنى: الغليظ مطلقًا، وفيه تجوز في الإسناد أيضًا؛ لأن الحدائق نفسها ليست غليظة، بل الغليط أشجارها. {وَأَبًّا} في "المصباح": الأبُّ: المرعى الذي لم يزرعه الناس، مما تأكله الدواب والأنعام، ويبدو أنَّه: مأخوذ من أبه إذا قصده؛ لأنه يؤم وينتجع له، أو من أبَّ لكذا: إذا تهيأ له؛ لأنه متهيء للرعي. {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)} اسم فاعل مؤنث، أصله: الصاخخة بخاءين، أدغمت الأولى في الثانية. {مُسْفِرَةٌ} اسم فاعل من أسفر الصبح إذا أضاء، فهو من لوازم الأفعال، قال في "المفردات": الإسفار يختص باللون، ومعنى {مُسْفِرَةٌ}: مشرق لونها. {ضَاحِكَةٌ}: اسم فاعل من الضحك، والضحك: انبساط الوجه وتكثر الأسنان من سرور النفس، كما مر. {مُسْتَبْشِرَةٌ} قال الراغب: واستبشر؛ أي: وجد ما يبشره من الفرح، وبشرته:

أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة. {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}؛ أي: غبار {تَرْهَقُهَا} في "المختار": رهقه: غشيه، وبابه طرب، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}. {قَتَرَةٌ}؛ أي: ظلمة وسواد، وهذا تفسير ابن عباس، وعليه: فالفرق بين الغبار والقترة ظاهر، وقيل: القترة والغبرة معناهما واحد، وعليه فيفرق بأن القترة ما ارتفع من الغبار إلى السماء، والغبرة: ما انحط منه إلى الأرض. تأمل. {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} جمع كافر وفاجر: وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى، فجمع الله تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر. اهـ. "خطيب". وفي "القرطبي": الفاجر: الكاذب المفتري على الله تعالى، وقيل: الفاسق. اهـ. وفي "المختار": وفجر: فسق، وفجر: كذب، وبابهما دخل، وأصله: الميل، والفاجر: المائل. اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجيء بضمائر الغيبة في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} حيث لم يقل: عبست وتوليت أن جاءك الأعمى إجلالًا له - صلى الله عليه وسلم -، ولطفًا به؛ لما في المشافهة بتاء الخطاب من الغلظة والشدة. ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب زيادةً في العتاب؛ حيث قال أولًا: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} فالتفت تنبيهًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى العناية بشأن الأعمى. ومنها: تقديم التزكية في قوله: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} على التذكر في قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)} تقديمًا للتخلية على التحلية؛ لأن الأول من باب التخلية من الآثام، والثاني من باب التحلية بالطاعات.

ومنها: جناس الاشتقاق بين {يَذَّكَّرُ}، وبين {ذِكْرَى}. ومنها: الاحتباك في قوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} و {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} فإنه ذكر الغنى أولًا للدلالة على الفقر ثانيًا، وذكر المجيء والخشية ثانيًا؛ للدلالة على ضدهما أولًا. ومنها: الطباق بين {تَصَدَّى} وبين {تَلَهَّى}؛ لأن المراد بهما تتعرض له وتشغل عنه. ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)}، وقوله: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} رعاية للفاصلة. ومنها: تقديم ضميره - صلى الله عليه وسلم -، وهو: {أَنْتَ} على الفعلين في الموضعين تنبيهًا على أن مناط الإنكار خصوصيته - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: مثلك خصوصًا لا ينبغي له أن يتصدى للمستغني، ويتلهى عن الفقير الطالب للخير، كما في "روح البيان". ومنها: الكناية الرائقة في قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} كنى بالسبيل عن خروجه من فرج أمه. ومنها: تعريف {السَّبِيلَ} باللام دون الإضافة بأن يقول: ثم سبيله يسر بإضافته إلى ضمير الإنسان؛ للإشعار بالعموم؛ أي: بعمومه سبيل الخير أو الشر، كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}. ومنها: الإجمال في قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)} ثم التفصيل بقوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)} إلخ؛ لأن ذكر الشيء مجملًا، ثم ذكره مفصلًا، أوقع في النفس وأرسخ فيها. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)} وقوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)}، ففيه إسناد مجازي، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب، وقيل: الإسناد حقيقي، وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد، فيقول: أسند تعالى الشق إلى نفسه إسناد الفعل

إلى سببه، والحق مع الزمخشري في هذا، فإن مجازيته لا تعني أن أفعال العباد مخلوقة لهم؛ لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به، لا لمن أوجده، فالاعتراض عليه تعسف. ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)}؛ لأنه عام لجميع ما قبله. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {غُلْبًا}؛ لأن الغلب صفة للأشجار لا للحدائق، فأطلق ما للحال على المحل، علاقته المحلية. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ} إلى الخطاب في قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}. ومنها: تأخير الأحب للمبالغة في قوله: {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}؛ لأن الأبوين أقرب من الأخ، وتعلق القلب بالصحابة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين. ومنها: المقابلة اللطيفة بين السعداء والأشقياء في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)} إلخ قابلها بقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) ...} إلخ. فائدة: اقتبس بعض الأدباء من قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} هذين البيتين: يَتَمَنَّى الْمَرْءُ فِىْ الْصَّيْفِ الشِّتَاءْ ... فَإِذَا جَاءَ الشَّتَاءُ أَنْكَرَهْ فَهْوَ لَا يَرضَى بِحَالٍ وَاحِدٍ ... قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكّفَرَهْ والله أعلم * * *

خلاصة ما جاء في هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - عتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى. 2 - أن القرآن ذكرى أو موعظة لمن عقل وتدبر. 3 - إقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى بخلق الإنسان، والنظر في طعامه وشرابه. 4 - أهوال يوم القيامة. 5 - الناس في هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، وذكر حال كل منهما حينئذٍ (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير هذه السورة الكريمة بتوفيق الله تعالى ومعونته في اليوم السادس، من شهر الله شعبان من شهور سنة: 6/ 8/ 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيات والصلات، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمين.

سورة التكوير

سورة التكوير سورة التكوير مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة المسد، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة إذا الشمس كورت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله. وآياتها: تسع وعشرون آية. وكلماتها: مئة وأربع كلمات. وحروفها: خمس مئة وثلاثة وثلاثون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها، وهذه السورة محكم كلها، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين .. فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} "، وهي اشتملت على بيان حقيقتين: حقيقة القيامة وما يصاحبها من انقلاب الكون، وحقيقة الوحي، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي تحمله، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع خالقهم الذي فطرهم وأنزل الوحي إليهم. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}. المناسبة لما ختم الله سبحانه وتعالى سورة عبس بذكر يوم القيامة وأهوالها .. افتتح هذه السورة أيضًا بذكر علاماتها وأحوالها وأهوالها، وذكر ما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الحوادث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها ماثلًا، ورأت ما أعدّ لها من جزاء، وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته، واستبان لها أن الوعد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدًا صادقًا، لا تهويل فيه ولا تضليل. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيَّن أن الناس حينئذٍ يقفون على حقائق أعمالهم في النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها، وما هو مردود عليهم .. أردف ذلك ببيان أنَّ ما يحدثهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هو القرآن الذي أنزل عليه، وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه من المعايب كقولكم: إنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو

[1]

إلا محض افتراء، وأن لجاجكم في عداوته، وتألبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم في قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} ولفت ومحي ضوؤها، وسقطت من مقرها حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحي في حياته الدنيا، ولا يبقى في عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شيء من هذه الأجرام، وارتفاع (¬1) {الشَّمْسُ} على أنه فاعل لفعل مضمر يفسره ما بعده على الاشتغال، وهذا عند البصريين، لا فاعله؛ لأن الفاعل لا يتقدم على فعله، وأما عند الكوفيين والأخفش .. فهو مرفوع على الابتداء؛ لأن التقدير خلاف الأصل، والأول أولى؛ لأن {إِذَا} فيها معنى الشرط، والشرط مختص بالفعل، وعلى الوجهين الجملة في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها. والحاصل: أن {إِذَا} في هذه المواضع الاثني عشر: ظرف مضمن معنى الشرط، وجوابها {عَلِمَتْ}، كما سيأتي، ومعنى {كُوِّرَتْ}: لفت، من كورت العمامة إذا لففتها بضم بعض أجزائها إلى بعض على جهة الاستدارة، على أن المراد بذلك، إما رفعها وإزالتها من مقرها، فإن الثوب إذا أريد رفعه عن مكانه، وستره بجعله في صندوق أو غيره .. يلف لفًا ويطوى، نظير قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} فكان بين السماء والرفع علاقة اللزوم، فتكويرها كناية عن رفعها. قال سعدي المفتي: ولا منع من إرادة المعنى الحقيقي أيضًا، وكون الشمس كرة مصمتة على تسليم صحته لا يمنع من تلك الإرادة؛ لجواز أن يحدث الله فيها قابلية التكوير، بأن يصيرها منبسطة، ثم يكورها، إن الله على كل شيءٍ قدير. انتهى. وأما لف ضوئها المنبسط في الآفاق، المنتشر في الأقطار، بأن يكون إسناد كورت إلى ضمير الشمس مجازيًا، أو بتقدير مضاف على أنه عبارة عن إزالتها، والذهاب بها بحكم استلزام زوال اللازم لزوال الملزوم، فاللف على هذا مجاز عن الإعدام، إذ لا مساغ لإرادة المعنى الحقيقي؛ لأن الضوء لكونه من الأعراض لا يتصور فيه السلف، وقيل: معنى {كُوِّرَتْ}: ألقيت من فلكها على وجه الأرض، كما ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

وصفت النجوم بالانكدار مأخوذ من طعنه فكوره إذا ألقاه على الأرض. فالحاصل: أن التكوير، إما بمعنى لف جرمها، أو لف ضوئها، أو الرمي بها. وفي الحديث: "إن الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة"؛ أي: مرميان فيها لازدياد الحر في جهنم، وكذا قال الطيبي: تكويرهما فيها ليعذب بهما أهل النار، لاسيما عباد الأنوار، لا ليعذبهما في النار، فإنهما بمعزل عن التكليف، بل سبيلهما في النار سبيل النار نفسها، وسبيل الملائكة الموكلين بها. انتهى. وكذا قال في تفسير الفاتحة للفناري: إن السماء إذا طويت واحدة بعد واحدة .. يرمى بكواكبها في النار. فإن قيل: كيف يمكن تكويرهما في النار، وقد ثبت بالهندسة أن قرص الشمس في العظم يساوي كرة الأرض مئة وستين مرة وربع الأرض وثمنها؟. أجيب: بأن الله تعالى قادر على أن يدخلها في قشرة جوزة على ذلك العظم، يقول الفقير (¬1): قد ثبت أن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة، فتكون أضعاف ما كانت عليه على أن وسعة الدارين ثابتة لكثرة أهلهما ووسعتهم، لأنه ثبت أن ضرس الكافر مثل جبل أُحد، وجسمه مسيرة ثلاثة أيام، فإذا كان جسد كل كافر على هذا الغلظ والعظم .. فاعتبر منه ووسعة جهنم، فقرص الشمس في النار كجوزة في وسط بيت واسع، ولا يعرف حد الدارين إلا الله تعالى. 2 - {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}؛ أي: وإذا النجوم تناثرت وذهب لألؤها، كما جاء في قوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} يقال: انكدر الطائر من الهواء إذا انقض، والأصل في الانكدار: الانصباب، قال أبو عبيدة: انصبت كما ينصب العقاب. قال الكلبي وعطاء: تمطر السماء يومئذٍ نجومًا، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض، وقيل: انكدارها: طمس نورها. و {النُّجُومُ}: جمع نجم، وهو الكوكب الطالع، وبه شبه طلوع النبات والرأي، فيقال: نجم النبت والرأي نجمًا ونجومًا، فالنجم اسم مرة، ومصدر أخرى، وذلك أن النجوم - على ما روى ابن عباس رضي الله عنهما - قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض .. تساقطت تلك الكواكب من أيديهم؛ لأنه مات من يمسكها. 3 - {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)}؛ أي: وإذا الجبال قلعت عن أماكنها، ورفعت عن وجه الأرض، وأبعدت عن أماكنها، وسيرت في الهواء كالسحاب بالرجفة الحاصلة حين زلزلت الأرض، فتقطع أوصالها، وتقذف في الفضاء، وذلك حين النفخة الثانية، ونحو الآية قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}. 4 - {وَإِذَا الْعِشَارُ}؛ أي: النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، وهي أكرم الأموال لديهم وأعزها عندهم {عُطِّلَتْ}؛ أي: أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب وفداحة الهول، و {الْعِشَارُ}: جمع عشراء، كنفاس ونفساء، وليس فعلاء يجمع على فعال غير عشراء ونفساء، كما في "القاموس". والعشراء: هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وخص العشار؛ لأنها أنفس أموال العرب وأعزها عندهم، ومنها معظم أسباب معاشهم، ومعنى: {عُطِّلَتْ}: تركت هملًا بلا راع، والعطل: فقدان الزينة والشغل، ويقال لمن يجعل العالم بزعمه فارغًا عن صانع أتقنه وزينه ورتبة: معطل، وعطل الدار عن ساكنيها، والإبل عن راعيها. والمعنى (¬1): وإذا العشار تركت مسيبة مهملة غير منظور إليها مع كونها محبوبة مرغوبة عند أهلها؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وذلك عند مجيء مقدمات قيام الساعة، فإن الناس حينئذٍ يتركون الأموال والأملاك، ويشتغلون بأنفسهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)}، وقال الإِمام أبو الليث وغيره: هذا على وجه المثل، لأنه في القيامة لا تكون ناقة عشراء، يعني: إن هول القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء .. لعطلها، واشتغل بنفسه، لعلهم جعلوا يوم القيامة ما بعد النفخة الثانية، أو مبادي الساعة من القيامة، لكن يمكن وجود العشراء في المبادي، فلا يكون تمثيلًا، فيكون ذلك في الدنيا، وقيل: (¬2) العشار: السحاب، فإن العرب تشبهها بالحامل، ومنه قوله تعالى؛ {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} ومعنى تعطيلها: عدم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[5]

إمطارها، وقيل: المراد أن الديار تعطل فلا تسكن، وقيل: الأرض التي تعشر زرعها تعطل فلا تزرع، وقيل: إذا قاموا من القبور .. شاهدوا الوحوش والدواب محشورة، وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم لم يعبؤوا بها لشغلهم بأنفسهم. وقرأ الجمهور (¬1): {عُطِّلَتْ} بالتشديد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف، وقيل: هو وهم، وعَطَلَت بفتحتين، بمعنى: تعطلت؛ لأن التشديد فيه للتعدي، يقال منه: عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه، وعطلت المرأة فهي عاطل: إذا لم يكن عليها الحلي، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت، والله أعلم. انتهى. 5 - {وَإِذَا الْوُحُوشُ} قال في "القاموس": الوحش: حيوان البر كالوحيش، والجمع: وحوش وحشان، والواحد: وحشي، قال ابن الشيخ (¬2): هو اسم لما يستأنس بالإنسان من حيوان البر، والمكان الذي لا أنيس فيه وحشي، وخلاف الوحشي: الأهلي. {حُشِرَتْ}؛ أي: جمعت من كل جانب، واختلط بعضها ببعض وبالناس مع نفرة بعضها عن البعض وعن الناس أيضًا، وتفرقها في الصحارى والقفار، وذلك الجمع من هول ذلك اليوم، وقيل: بعثت للقصاص إظهارًا للعدل. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فيقتص للجماء من القرناء، فإذا قضي بينها .. ردت ترابًا، فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم، وإعجاب بصورته، أو بصوته، كالطاووس والبلبل ونحوهما، فإذا بعثت الحيوانات للقصاص تحقيقًا لمقتضى العدل، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفون من الإنس والجن، وقيل: حشرها: موتها. والمعنى: أي ماتت وهلكت، تقول العرب إذا أضرت السنة بالناس، وأصابتهم بالقحط والجدب .. حشرتهم السنة؛ أي: أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم. وقرأ الجمهور (¬3): {حُشِرَتْ} بالتخفيف، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[6]

بالتشديد. 6 - {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)}؛ أي: أوقدت فصارت نارًا تضطرم، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب ليحميه. ووجه الإيقاد: أن جهنم في قعور البحار، وتحت أطباق الأرض، إلا أنها الآن مطبقة لا يصل أثر حرارتها إلى ما فوقها من البحار؛ ليتيسر انتفاع أهل الأرض بها، فإذا انتهت مدة الدنيا .. يرفع الحجاب، فيصل تأثير تلك النيران إلى البحار، فتسخن فتصير حميمًا لأهل النار، أو تبعث عليها ريح الدبور، فتنفخها وتضرمها، فتصير نارًا على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في وجه الإيقاد، فالمراد (¬1) من تسجيرها: إضرامها نارًا، فإن ما في باطن الأرض من النار يظهر بتشققها، وتمزق طبقاتها العليا، وحينئذٍ يصير الماء بخارًا، ولا يبقى إلا النار. وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين، وهي جبال النار التي في باطن الأرض، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال في بعض الأطراف، كما ظهر في مسِّينا بإيطاليا سنة (1909 م)، وحدث في اليابان بعد ذلك، وفي جاوا، وفي أغادير بالمغرب، وفي تركيا وإيران وجيانا، وجاء في بعض الأخبار: إن البحر غطاء جهنم، وقال الفراء: معنى سجرت: ملئت بأن صارت بحرًا واحدًا وكثر ماؤها ووجه الامتلاء (¬2): أن الجبال تندك وتفرق أجزاؤها، وتصير كالتراب الهائل الغير المتماسك، فلا جرم تنصب أجزاؤها في أسافلها، فتمتلىء المواضع الغائرة من الأرض، فيصير وجه الأرض مستويًا مع البحار، فتصير البحار بحرًا واحدًا مسجورًا؛ أي: ممتلئًا، وبه قال الربيع بن خثيم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك، وقال بعضهم: ملئت بإرسال عذبها على مالحها؛ أي: فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرًا واحدًا، ثم أسيلت حتى بلغت الثور، فابتلعها، فلما بلغت إلى جوفه نفدت، وقال الحسن: يذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة، قال الراغب: وإنما يكون كذلك لتسجير النار فيها؛ أي: إضرامها، وقيل: معنى {سُجِّرَتْ}: أنها صارت حمراء كالدم من قولهم: عين سجراء؛ أي: حمراء. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[7]

وقرأ الجمهور (¬1): {سُجِّرَتْ} بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف. والتشديد (¬2) في مثل هذه الأفعال قد يكون لتكثير الفعل وتكريره، والتخفيف يحتمل القليل والكثير. وخصت هذه السورة بـ {سُجِّرَتْ} موافقة لقوله: {سُعِّرَتْ}، لأن معنى {سُجِّرَتْ} عند أكثر المفسرين: أوقدت فصارت نارًا، فيقع التوعد بتسجير النار، وتسجير البحار، وخصت سورة الانفطار بـ {فُجِّرَتْ} موافقة لقوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}، لأن في كلٍّ من تساقط الكواكب، وسيلان المياه على وجه الأرض، وبعثرة القبور؛ أي: قلب ترابها مزايلة الشيء عن مكانها. 7 - وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء، وبطلان الحياة في الأرض، وامتناع المعيشة فيها .. أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور، فقال: {وَإِذَا النُّفُوسُ} الظاهر: نفوس الإنسان، ويحتمل أن تعم الجن أيضًا، كما في بعض التفاسير. {زُوِّجَتْ} التزويج: جعل أحد زوجًا لآخر، وهو يقتضي المقارنة؛ أي: قرنت الأرواح بأجسادها بأن ردت إليها حين النشأة الآخرة، قاله عكرمة والضحاك والشعبي. وفي (¬3) هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد، فبعد أن كانت منفردة عن البدن .. تعود إليه، أو قرنت كل نفس (¬4) بشكلها، وبمن كان في طبقتها في الخير والشر، فيضم الصالح إلى الصالح في الجنة، ويضم رجل السوء إلى رجل السوء في النار، أو قرنت بكتابها أو بعملها، فالنفوس المتمردة زوجت بأعمالها السيئة، والمطمئنة بأعمالها الحسنة، أو نفوس المؤمنين بحور العين، ونفوس الكفرة بالشياطين، وقيل: قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان، كما في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}، أو قرن كل عابد بمعبوده من دون الله تعالى، أو قرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، وقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقرأ الجمهور: بواو مشددة، وقرأ عاصم في رواية: {زووجت} على وزن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[8]

فوعلت، والمفاعلة تكون بين الإثنين. اهـ من "البحر". 8 - {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ}؛ أي: البنت المدفونة حية، يقال: وأد بنته يئدها وأدًا، وهي مؤودة إذا دفنها في القبر وهي حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو الاسترقاق أو لحوق العار بهم من أجلهن، وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهم، فقد كان الوأد يتم في صورة بشعة قاسية تقشعر لهولها الأبدان، وتذوب لها القلوب حسرات. قال في "الكشاف" (¬1): فقد كان الرجل الجاهلي، إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها، ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية؛ أي: بلغت من العمر ست سنوات .. قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيأخذها من أمها المسكينة الحزينة، فيذهب بها حتى يبلغ بها البئر، هذا الوالد القاسي الذي هو الوحش الكاسر بعينه، فيقول لها وهو واقف على حافة البئر: انظري فيها، فتنظر الفريسة المسكينة فيها، فيدفعها من خلفها، ويسقطها في البئر، ثم يهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض، فيالله. ما أعظم هذه القسوة، وما أبشع هذه الجريمة، وما أغلظ هذه القلوب التي قدت من صخر، إذ تقتل البريئات، وتسفك دم الطفلات الطاهرات بغير جرم سوى خوف الفقر أو خوف العار، ويروى أنه كانت المرأة في الجاهلية إذا قرب أوان وضعها حفرت الحفرة، فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا حبسته وأبقته إليها، وكانت هذه حال العرب قبل الإِسلام، حتى جاءهم الله تعالى بهذا الدين العظيم، فلما خالطت بشاشة قلوبهم غيرتها إلى قلوب رحيمة رقيقة كريمة جياشة بالرأفة والحنان، فمحا الإِسلام عنهم وصمة هذا العار وهذا الخزي، فما أعظم نعمة الإِسلام على الإنسانية بأسرها؛ لمحوه هذه العادة القبيحة منهم، وغيرها من سيء العادات. {سُئِلَتْ}؛ أي: سألها الله سبحانه وتعالى بنفسه إظهارًا للعدل، أو بأمره للملك 9 - {بِأَيِّ ذَنْبٍ} من الذنوب الموجبة للقتل عقلًا ونقلًا {قُتِلَتْ}؛ أي: قتلها أبوها حيةً فعلًا أو رضي، وتوجيه السؤال إليها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط ¬

_ (¬1) الكشاف بتصرف وزيادة.

لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته، كما في قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}، ولذا لم يسأل الوائد عن موجب قتله لها. وجه التبكيت: أن المجني عليه إذا سئل بمحضر من الجاني، ونسب إليه الجناية دون الجاني .. كان ذلك بعثًا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيعثر على براءة ساحة صاحبه، وعلى أنه هو المستحق لكل نكالٍ فيفحم، وهذا النوع من الاستدراج واقع على سبيل التعريض، وهو أبلغ، فلذلك اختير على التصريح، وإنما قال: {قُتِلَتْ} على الغيبة لما أن الكلام إخبار عنها، لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت، فيقال: قتلت على الخطاب، وعلى قراءة: {سألت}: أي: الله، أو قاتلها، لا حكاية لكلامها حين سألت فيقال: قتلت على الحكاية عن نفسها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن أطفال المشركين، فقال: لا يعذبون، احتج بهذه الآية، فإنه ثبت بها أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن الوائدة والموؤودة في النار؛ أي: إذا كانت الموؤودة بالغةً. وقرأ الجمهور: {الْمَوْءُودَةُ} بهمزة بين الواوين اسم مفعول. وقرأ البزي في رواية: {الموؤدة} بهمزة مضمومة على الواو، فاحتمل أن يكون الأصل: الموؤودة، كقراءة الجمهور، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة، ثم همز الواو المنقول إليها الحركة، واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد، فالأصل: مأوودة، فحذفت إحدى الواوين علي الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد، أو الواو التي هي عين الكلمة نحو: مقوول؛ حيث قالوا فيه: مقول. وقرىء {الموودة} بضم الواو الأولى، وتسهيل الهمزة، أعني: التسهيل بالحذف ونقل حركتها إلى الواو، وقرأ الأعمش: المودة بسكون الواو على وزن الفعلة كالمودة، وكذا وقف حمزة بن مجاهد، ونقل الفراء: أن حمزة يقف عليها، كالموودة؛ لأجل الخط؛ لأنها رسمت كذلك، والرسم سنة متبعة. وقرأ الجمهور (¬1): {سُئِلَتْ} مبنيًا للمفعول، {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} كذلك بتخفيف التاء، وبتاء التأنيث فيهما. وقرأ الحسن والأعرج: {سيلت} بكسر السين ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[10]

من سأل يسيل، وذلك على لغة من قال سأل بغير همزة. وقرأ أبو جعفر بشد الياء، لأن الموؤودة اسم جنس، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص. وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد: {سألت} مبنيًا للفاعل {قتلت} بسكون اللام وضم التاء حكايةً لكلامها حين سألت، وعن أبي وابن مسعود أيضًا والربيع بن خيثم وابن يعمر {سألت} مبنيًا للفاعل، {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} مبنيًا للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخبارًا عنها، ولو حكي كلامها .. لكان قتلت بضم التاء، وفي مصحف أبي: {وإذا الموؤودة سألت بأي ذنب قتلتني}. ومعنى: سألت على قراءة البناء للفاعل: أن المقتولة تتعلق بأبيها يوم القيامة، فتقول: بأي ذنب قتلتني، فلا يكون له عذر، قاله ابن عباس، وروى عكرمة عن ابن عباس: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقًا ولدها بثدييها، ملطخًا بدمائه، فيقول: يا رب هذه أمي، وهذه قتلتني". 10 - {وَإِذَا الصُّحُفُ}؛ أي: صحف (¬1) الأعمال {نُشِرَتْ}؛ أي: فتحت للحساب، فإنها تطوى عند الموت، وتنشر عند الحساب؛ أي: تفتح فيعطاها الإنسان منشورةً بأيمانهم وشمائلهم، فيقف على ما فيها، وتحصى عليه جميع أعماله، فيقول: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة"، فقلت يا رسول الله: فكيف بالنساء؟ قال: "شغل الناس يا أم سلمة"، قلت: وما شغلهم؟ قال: "نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل". ونقل الزمخشري قول المرشد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة .. تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم؛ أي: مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال. وقرأ أبو رجاء (¬2)، وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم {نُشِرَتْ} بتخفيف الشين، وباقي السبعة: بتشديدها. والمعنى (¬3): أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين في موقف الحساب، حتى لا يرتابوا فيها، ولا ينبغي أن نبحث عن تلك الصحف؛ لنعلم أهي على مثال ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

الأوراق التي تكتب فيها في الدنيا، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله في الكتابة، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا، ولم يجيء نص قاطع عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يفسر ذلك. 11 - {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)}؛ أي: قلعت (¬1) وأزيلت بحيث ظهر ما وراءها، وهو الجنة والعرش، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور به، والكشط: قلع عن شدة التزاق، والقشط بالقاف: لغة فيه، وهي قراءة ابن مسعود، قال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف، وقال الفراء: نزعت فطويت. والمعنى: أزيلت فلم يبق غطاء ولا سماء، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل. وقرأ عبد الله: {قشطت} بالقاف، وهما كثيرًا ما يتعاقبان، كقولهم: عربي قح وكح، وتقدمت قراءته {قافورًا}؛ أي: كافورًا. 12 - {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)}، أي: أوقدت للكافرين إيقادًا شديدًا لتحرقهم إحراقًا أبديًا، سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم، فإسعار النار: زيادة التهابها لا حدوثها ابتداءً، وبه يندفع احتجاج من قال: النار غير مخلوقة الآن؛ لأنها تدل على أن تسعرها معلق بيوم القيامة، وذلك لأن فيه الزيادة والاشتداد. وقرأ نافع وابن عامر وحفص وابن ذكوان (¬2): {سُعِّرَتْ} بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرة بعد مرة، وقرأ باقي السبعة وعلي بالتخفيف. والمعنى: أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان .. أوقدت إيقادًا شديدًا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مس النيران للأجسام الحية، وقد جاء في سورة البقرة: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. 13 - {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)} أي: قربت (¬3) إلى المتقين، وأدنيت منهم ليدخلوها، كقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}، وقال الحسن: إنهم يقربون منها، لا أنها تزول عن موضعها، فالمواد من التقريب التعكيس للمبالغة، كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} حيث تعرض النار عليهم تحقيرًا وتحسيرًا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[14]

فقلب مبالغة، ويحتمل أن يكون المراد التقريب المعنوي، وهو جعل أهلها مستحقين لدخولها مكرمين فيها، والأول أولى. قيل: هذه الأمور الاثنا عشر ستة منها في الدنيا؛ أي: فيما بين النفختين، وهي من أول السورة إلى قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} وستة في الآخرة؛ أي: بعد النفخة الثانية، وهي: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} إلى هنا. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: ستة آيات قبل القيامة، بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، وماج بعضهم في بعض، فحينئذٍ تقول الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فينطلقون إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج؛ أي: تتلهب، قال: فبينما، هم كذلك إذ صدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. كذا في "المعالم". 14 - وجواب الجميع قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} وقدمت على أن المراد بها زمان واحد متسع محيط بما ذكر من أول السورة إلى هنا من الاثني عشر شيئًا، مبدأه النفخة الأولى، ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعمل في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد، أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي، بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه، وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلًا للخطب، وتفظيعًا للحال؛ أي: علمت ما أحضرته في صحيفة عملها، وما أحضرته في موقف المحاسبة وعند الميزان؛ لأن الأعمال أعراض لا يمكن إحضارها. اهـ "زاده". أي: علمت (¬1) كل نفس من النفوس ما أحضرته واكتسبته من الأعمال خيرًا أو شرًا، على حذف العائد إلى الموصول، فـ {نَفْسٌ} في معنى العموم، كما صرح به في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}، وقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}، وقولهم: - إن النكرة في سياق الإثبات لا تعم، بل هي للأفراد النوعية - غير مطرد، ويجوز أن يكون التنوين للأفراد الشخصية إشعارًا بأنه إذا ¬

_ (¬1) روح البيان.

علمت حينئذٍ نفس من النفوس ما أحضرت .. وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه: لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على ما فعل، فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو للوجود لا متيقن به، أو نادر الوقوع، بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرًا يرجى فيه الندم، أو قلما يقع فيه، فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع. والمراد بـ {مَا أَحْضَرَتْ}: أعمالها من الخير والشر، وبحضورها: إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها، وإما حضور أنفسها لأن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة، وإسناد حضورها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله، لما أنها عملتها في الدنيا كأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حينئذٍ: أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة، فإن كانت صالحة .. تشاهدها على صور أحسن مما كانت تشاهدها عليه في الدنيا؛ لأن الطاعة لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وقد ورد: "حفت الجنة بالمكاره"، وإن كانت سيئة تشاهدها على ما هي عليه هاهنا؛ لأنها كانت مزينة لها، موافقة لهواها، كما ورد: "وحفت النار بالشهوات". وقال بعضهم (¬1): العلم بالأعمال كناية عن المجازاة عليها من حيث إن العلم لازم للمجازاة. والمعنى (¬2): أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة .. تعلم كل ما كان من عملها متقبلًا، وما كان منه مردودًا عليها، فكثير من الناس كانوا في الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضي عنها، بل هي مبعدة من الله مستحقة لغضبه، فالذين يعملون أعمالهم رئآء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح، والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب مليء بالإيمان عامر بحبه والرغبة في رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[15]

15 - {فَلَا أُقْسِمُ} {لا} صلة؛ أي: زائدة، أورد لكلام سابق؛ أي: ليس الأمر كما تزعمون أيها الكفرة من أن القرآن سحر أو شعر أو أساطير، ثم ابتدأ فقال: أقسم {بِالْخُنَّسِ}؛ أي: بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله 16 - {الْجَوَارِ}؛ أي: التي تجري مع الشمس والقمر {الْكُنَّسِ}؛ أي: التي تختفي تحت ضوء الشمس. والخنس: جمع خانس، وهو المتأخر، من خنس الرجل عن القوم خنوسًا - من باب دخل -: إذا تأخر، وأصل الخنس: الرجوع إلى خلف، والخناس: الشيطان؛ لأنه يضع خرطومه على قلب العبد، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل عاد إلى الوسوسة. والمعنى: أقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله، وهي ما عدا النيرين من السبعة السيارة، وهي الدراري الخمسة، وهي: زحل، ويسمى: كيوان أيضًا، وهو في السماء السابعة، والمشتري، ويسمى: راويس وبرجيس أيضًا، وهو في السماء السادسة، والمريخ - بكسر الميم -، ويسمى: بهرام أيضًا، وهو في السماء الخامسة، والشمس في الرابعة، والزهرة، وتسمى: أناهيذ أيضًا، وهي في السماء الثالثة، وعطارد، ويسمى: الكاتب أيضًا، وهو في السماء الثانية، والقمر في السماء الدنيا؛ أي: الأولى، ونظمها بعضهم في بيت واحد على ترتيبها في السموات: زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ وهي (¬1) الكواكب السبعة السيارة، كل منها يجري في فلك، فزحل في السابع، وما يليه في السادس، والجواري حذفت منه الياء في رسم المصحف تبعًا للفظ، جمع: جارية بمعنى: سائرة. و {الْكُنَّسِ}: جمع كانس، وهو الداخل في الكناس؛ أي: في الحجاب والستارة المستتر به، وصفت الخنس بالجوار الكنس؛ لأنها تجري في أفلاكها، أو بأنفسها على ما عليه أهل الظواهر مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرَّ راجعًا في أوله، فرجوعه من آخر البرج إلى أوله هو الخنوس، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوئها، وأما القمران .. فلا يكنسان بهذا المعنى، وقال ¬

_ (¬1) روح البيان.

[17]

في "عين المعانى": لخنوسها في مجراها، واستتارها في كناسها؛ أي: في موضع استتارها فيه، كما تكنس الظباء. انتهى. من كنس الوحش - من باب جلس - إذا دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وقيل: جميع الكواكب تخنس بالنهار، فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل؛ أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها، وقيل: المراد (¬1) بها: بقر الوحش؛ لأنها تتصف بالخنس وبالجوار وبالكنس. وقال عكرمة: الخنس البقر، والكنس الظباء، فهى تخنس إذا رأت الإنسان، وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها. وقيل: هي الملائكة، والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا. ووجه تخصيص هذه الخمسة بالذكر من بين سائر النجوم: أنها تستقبل الشمس، وتقطع المجرة؛ أي: الفلك. وقال في "الصحاح": الخنس: الكواكب كلها؛ لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل؛ أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها، وقد أقسم بها سبحانه لما في حركتها وظهورها طورًا، واختفائها طورًا آخر من الدلائل علي قدرة مصرفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان أو جماد، وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك، أما العبد .. فليس له ذلك، إذ لا يجوز له أن يقسم إلا بالله تعالى. 17 - {وَاللَّيْلِ} معطوف على {الْخُنَّسِ}، {إِذَا عَسْعَسَ}؛ أي: أدبر (¬2) ظلامه، لأن إقبال الصبح يكون بإدبار الليل، كما قال في "الوسيط": لما كان طلوع الصبح متصلًا بإدبار الليل .. كان المناسب أن يفسر عسعس بأدبر؛ ليكون التعاقب في الذكر على حسب التعاقب في الوجود. انتهى. أو أقبل، فإنه من الأضداد كذلك سعسع، وذلك في مبدأ الليل، وهذا المعنى أنسب لمراعاة المقابلة مع قرينه، وقال المبرد: عسعس الليل: أقبل أو أدبر، وهو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره. 18 - {وَالصُّبْحِ} معطوف عليه {إِذَا تَنَفَّسَ}، في: أضاء وأشرق، والعامل في {إِذَا} معنى القسم، و {إِذَا} وما بعدها في موضع الحال؛ أي: وأقسم بالليل مدبرًا، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[19]

وبالصبح مضيئًا، يقال: تنفس الصبح إذا تبلج؛ أي: أسفر وأضاء. جعل تنفس الصبح عبارةً عن طلوعه وانبساطه تحت ضوئه، بحيث زال معه عسعسة الليل، وهي الغبرة الحاصلة في آخره، والنفس في الأصل: ريح مخصوص يروح القلب ويفرج عنه بهبوبه عليه. والمعنى (¬1): أي وأقسم بالليل إذا أدبر وولى، وفي إدباره زوال الغمة التي تغمر كثيرًا من الأحياء إذا ما دهمها الليل، وخيم عليها بظلامه المرهب المخيف، فإذا انجابت الظلمة وانحسر الليل وأدبر .. ارتاحت النفوس الخائفة، وتنفست باستقبال فجر جديد ويوم جديد، وأقسم بالصبح إذا أسفر وأضاء وظهر نوره في الوجود، وفي انشقاق الفجر وانبلاج ضوئه، وانفلاق صبحه بشرى للأنفس البشرية بحياة جديدة في نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات لتحصيل الرغبات، وسد الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت، بعملها الجديد في جنات معروشات، قال الزمخشري: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسًا له على سبيل المجاز كما سيأتي في مبحث البلاغة، 19 - ثم ذكر المحلوف عليه فقال: {إِنَّهُ}؛ أي: (¬2) إن هذا القرآن الكريم الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة، فالضمير للقرآن، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إن ما أخبركم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة وغيرها. {لَقَوْلُ رَسُولٍ} عظيم، وسفير {كَرِيمٍ} بين الله سبحانه وبين رسله بسر وحيه هو جبريل عليه السلام، أتاه به من عند الله سبحانه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليس بكهانة ولا اختلاق من عند محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل هو قول نزل به جبريل وحيًا من ربه، فأضافه إلى جبريل الذي هو أمين وحيه، وهو في الحقيقة قول الله؛ لأنه جاء به من عند الله تعالى، فإسناده إليه باعتبار السببية الظاهرة في الإنزال والإيصال، ويدل على أن المراد بالرسول هو جبريل ما بعده من ذكر قوته ونحوها. قال السهيلي: ولا يجوز أن يراد بالرسول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان رسولًا كريمًا؛ لأن الآية نزلت في معرض الرد والتكذيب لمقالة الكفار الذين قالوا: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تقوله، وهو قوله، فقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} جبريل الأمين عليه السلام. ووصفه بـ {رَسُولٍ}؛ لأنه رسول عن الله إلى الأنبياء، ثم وصف هذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[20]

الرسول بأوصاف خمسة (¬1): 1 - {كَرِيمٍ}؛ أي: عزيز على ربه عظيم عنده، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهي الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده، وكذا كريم عند الناس؛ لأنه يجيء إليهم بواسطة الرسول بأفضل العطايا، وهو المعرفة والهداية، ويتعطف على المؤمنين ويقهر الأعداء. 2 - 20 {ذِي قُوَّةٍ} قوية في الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء في آية أخرى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}؛ أي: ذي (¬2) قدرة شديدة على ما يكلف به، لا عجز ولا ضعف، روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل: "ذكر الله سبحانه قوتك، فأخبرني بشيء من آثارها" قال: رفعت قريات قوم لوط الأربع من الماء الأسود بقوادم جناحي، حتى سمع أهل السماء نباح الكلب، وأصوات الديكة، ثم قلبتها. ومن قوته: أنه صاح صيحةً واحدةً بثمود فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف، وأنه رأى شيطانًا يقال له: الأبيض صاحب الأنبياء، قصد أن يتعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفعه دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند. وقيل: المراد بالقوة: القوة في أداء طاعة الله، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف. 3 - {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} وخالقه ومالكه، والظرف متعلق بقوله: {مَكِينٍ}؛ أي: ذي مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة، وجاه عظيم عند مالك العرش وخالقه، فالعندية عندية إكرام وتشريف، لا عندية مكان وجهة، فإنه تعالى منزه عن أماثلها، ونظيره قوله: "أنا عند المنكسرة قلوبهم" فإن المراد به: القرب والإكرام، ومن مكانته عند الله تعالى ومرتبته أنه جعله تالي نفسه في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فله عظيم منزلة عندية، فأين منزلة من يلازم السلطان عند سرير الملك من مرتبة من يلازمه عند الوضوء ونحوه. 4 - 21 {مُطَاعٍ} فيما بين الملائكة المقربين، يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه لعلمهم بمنزلته عند الله تعالى، قال: في "فتح الرحمن": ومن طاعتهم له أنهم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[22]

فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة جبريل فريضة على أهل السموات؛ كما أن طاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فريضة على أهل الأرض {ثَمَّ}؛ أي: عند ذي العرش. 5 - {أَمِينٍ} على سر وحيه، وتبليغ رسالته إلى أنبيائه قد عصمه الله تعالى من الخيانة فيما يبلِّغه، والزلل فيما يقوم به من الأعمال، و {ثَمَّ} بفتح المثلثة: ظرف مكان؛ إما لما قبله؛ أي: مطاع هناك؛ أي: في السموات، وإما لما بعده؛ أي: مؤتمن عند الله تعالى على وحيه ورسالاته إلى أنبيائه، فيكون إشارةً إلى عند ذي العرش؛ أي: أمين عند ذي العرش جل وعلا. وقرأ الجمهور (¬1): {ثَمَّ} بفتح المثلثة على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيها: {مُطَاعٍ} أو ما بعده كما مر آنفًا، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو برهشيم وابن مقسم: {ثَمَّ} بضمها حرف عطف على أنها عاطفة للترتيب والتراخي في الرتبة؛ لأن ما بعدها أعظم مما قبلها، وقال صاحب "اللوامح": {ثَمَّ} هنا بمعنى الواو العاطفة لأن معنى المهلة والتراخي لا يصلح هنا، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان متصفًا بالصفتين معًا في حال واحدة، فهو مطاع أمين معًا، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى، ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام .. لجاز أن لو ورد به أثر. انتهى. 22 - وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه، فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} يا أهل مكة وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معطوف على جواب القسم، ولذا قال في "فتح الرحمن": وهذا أيضًا جواب القسم {بِمَجْنُونٍ}؛ أي: صاحب جنون؛ أي: وليس (¬2) محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمجنون، كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر، مما لم يكن معروفًا لهم، كما حكي عنهم في قوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)}، وفي قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[23]

لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم كما مر، فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتي بالقرآن من جهته، وفي التعرض لعنوان المصاحبة تلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله - صلى الله عليه وسلم - خبرًا، وعلمهم بنزاهته - صلى الله عليه وسلم - عما نسبوه إليه بالكلية، واستدلال (¬1) عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم في دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة وصدق لهجة وكمال عقل ووفور حلم، وتفوق على جميع الأنداد والأتراب في صفات الخير .. لم يكن ادعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلًا من القول وزورًا. وقد استدل بهذا (¬2) على فضل جبريل عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث وصف جبريل بست خصال، كل واحدة منها تدل على كمال الشرف ونباهة الشأن، واقتصر في ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفي الجنون عنه، وبين الذكرين تفاوت عظيم. ولكن هذا الاستدلال ضعيف؛ إذ المقصود هنا: رد قول الكفرة في حقه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} لا تعداد فضائلهما، والموازنة بينهما، على أن في توصيف جبريل بهذه الصفات بيانًا لشرف سيد المرسلين بالنسبة إليه من حيث إن جبريل مع هذه الصفات هو الذي يؤيده، ويبلغ الرسالة إليه، فأي رتبة أعلى من مرتبته بعدما ثبت أن السفير بينه وبين ذي العرش مثل هذا الملك المقرب؟. وقال سعدي المفتي: الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة على ما يدل عليه الفاء السببية في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ}، ولا شك أن ذلك يقتضي وصف الآتي، فلذلك بولغ فيه دون وصف من أنزل عليه، فلذلك اقتصر فيه على نفي ما بهتوه. انتهى. 23 - واللام في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد رأى وأبصر محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام على صورته الأصلية بالأفق المبين؛ أي: بمطلع الشمس الأعلى من قبل المشرق، فالمراد (¬3) بالأفق هنا: حيث ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[24]

تطلع الشمس، استدلالًا بوصفه بـ {الْمُبِينِ}، فإن نفس الأفق لا مدخل له في تبين الأشياء وظهورها، وإنما يكون له مدخل في ذلك من حيث كونه مطلعًا لكوكب نير يبين الأشياء، والكوكب المبين هو الشمس، إسناد الإبانة إلى مطلعها مجاز باعتبار سببيته لها في الجملة، فإن البيان في الحقيقة لضياء الطالع منه، ثم خصَّ من بين المطالع ما هو أعلى المطالع وأرفعها، وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع، والنهار في غاية الطول والامتداد، وذلك عندما تكون الشمس عند رأس السرطان قبل تحولها إلى برج الأسد، وتوجه النهار إلى انتقاص، وإنما فعل ذلك حملًا للمبين على الكمال، فإنه كلما كان الكوكب أرفع وأعلى، وكلما كان النهار أطول .. كان البيان والإظهار أتم وأكمل، وإنما قال سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} مع أنه قد رآه غير مرة؛ لأنه رآه هذه المرة في صورته، له ست مئة جناح. قال سفيان: إنه رآه في أفق السماء الشرقي، وقال ابن بحر: في أفق السماء الغربي، وقال مجاهد: رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة. روي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: سأل جبريل أن يتراءى له في صورته التي خلقه الله عليه، فقال: ما أقدر على ذلك، وما ذاك إليَّ، فأذن له، فأتاه عليها، وذلك في جبل حراء في أوائل البعثة، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ملأ الآفاق بكُلْكُل - الكلكل بوزن هدهد: الجسم الكبير الغليظ - رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وله ست مئة جناح من الزبرجد الأخضر، فغشي عليه - صلى الله عليه وسلم -، فتحول جبريل في صورة بني آدم، وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيناك منذ بعثت أحسن منك اليوم، فقال: "جاءني جبريل في صورته، فعلق بي هذا من حسنه". قالوا: ما رآه أحد من الأنبياء غيره - صلى الله عليه وسلم - في صورته التي جبل عليها، فهو من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. قيل: هذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته، له ست مئة جناح، وقيل: هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى. وقد ذكرت هذه الرؤية في سورة النجم في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)}. 24 - {وَمَا هُوَ}؛ أي: وما محمد - صلى الله عليه وسلم -، {عَلَى الْغَيْبِ}، أي: على ما يخبره من الوحي إليه وغيره من الغيوب مما كان علمه غائبًا عن أهل مكة {بِضَنِينٍ}؛ أي: ببخيل؛ أي: لا يبخل

بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده عن أهله، حتى يأخذ حلوانًا؛ أي: أجرة، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وفيه إشارة إلى أن إمساك العلم عن أهله بخل، مأخوذ من ضن بالشيء يضن - بالفتح - ضنًا بالكسر وضنانة - بالفتح -: إذا بخل، فيكون من باب علم، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف. وهكذا قرأ: {بِضَنِينٍ} بالضاد المعجمة عثمان وابن عباس أيضًا، والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وجمهور السبعة: نافع وعاصم وحمزة وابن عامر. قال في "النشر": هو كذلك في جميع خطوط المصاحف التي يتداولها الناس، وقرأ عبد الله وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم، ومن السبعة: ابن كثير وأبو عمرو الكسائي: {بظنين} بالظاء المشالة على أنه فعيل بمعنى: مفعول، أي: بمتهم، من الظنة - بكسر الظاء -: وهي التهمة، واختار أبو عبيدة هذه القراءة؛ لأن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل، ولأن البخل يتعدى بالباء لا بعلى، والمعنى على هذه القراءة: أي: وليس محمد بمتهم على القرآن، وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين، لا يأتي به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفًا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل، وسماع الشرائع منه، وفي "الكشاف": هو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبي بالضاد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما، ولابد للقارىء من معرفة مخرجي الضاد والظاء، فإن مخرج الضاد: من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، ومخرج الظاء: من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. فإن قيل (¬1): فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكانه، فهل تبطل الصلاة؟. قلنا: قال في "المحيط البرهاني": إذا أتى بالظاء مكان الضاد، أو على العكس، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، وقال مشايخنا بعدم الفساد للضرورة في حق العامة، خصوصًا العجم، فإن أكثرهم لا يفرقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقًا غير صواب. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[25]

وفي "الخلاصة": لو قرأ بالظاء مكان الضاد، أو بالضاد مكان الظاء تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، وأما عند عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي، ومحمد بن سلمة، لا تفسد صلاته. 25 - ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقولونها عليه، فقال: {وَمَا هُوَ}؛ أي: وما هذا القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ} من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب {رَجِيمٍ}؛ أي: مطرود من رحمة الله تعالى، مرمي بالشهب. قال الكلبي: يقول: إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان: الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة جبريل، يريد أن يفتنه، وهو الذي يأتي الأنبياء لافتتانهم. والمعنى (¬1): أي وما هذا الذي يتكلم به محمد - صلى الله عليه وسلم - بقول ألقاه الشيطان على لسانه حين خالط عقله، كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدِّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين. وقد حكى الله سبحانه على الأمم جميعًا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون، فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}، 26 - ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة، فقال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} وهذا (¬2) استضلال لهم فيما يسلكونه من أمر القرآن، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء، كما تقولون لمن ترك الجادة بعد ظهورها: هذا الطريق الواضح، فأين تذهب؟ شبهت حالهم بحال من يترك الجادة، وهو معظم الطريق، ويتعسف إلى غير المسلك، فإنه يقال له: أين تذهب؟ استظلالًا له، وإنكارًا على تعسفه، فقيل لمن يقول في حق القرآن ما لا ينبغي بعد وضوح كونه وَحْيًا حقًا: أيَّ طريق تسلكون آمن من هذه الطريقة التي ظهرت حقيقتها، ووضحت استقامتها و {أين} ظرف مكان مبهم منصوب بـ {تَذْهَبُونَ}، قال أبو البقاء: التقدير: إلى أين تذهبون؟ فحذف حرف الجر، ويجوز أن لا يصار إلى الحذف، بل إلى طريق التضمين، فكأنه قيل: أين تؤمون؟ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[27]

والمعنى (¬1): فأي سبيل تسلكونها، وقد سدت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع الجوانب، وبطلت مفترياتكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها. 27 - ثم بين حقيقة القرآن، فقال: {إِنْ هُوَ}: {إِنْ}: نافية، والضمير عائد إلى القرآن؛ أي: ما هذا القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: موعظة وتذكير لهم، والمراد الإنس والجن بدلالة العقل، فإنهم المحتاجون إلى الوعظ والتذكير. والمعنى: أي: وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة، يتذكرون بها ما غرز في طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة. 28 - ثم بين أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} أيها المكلفون بالإيمان والطاعة، وهو (¬2) بدل من {العالمين} بإعادة الجار، بدل البعض من الكل، ولا تخالف بين الأصل، المتبوع والفرع التابع؛ لأن الأول باعتبار الذات، والثاني باعتبار التبع. وقوله: {أَنْ يَسْتَقِيمَ} مفعول المشيئة؛ أي: لمن شاء منكم الاستقامة والثبات على الحق والإيمان والطاعة، وإبداله من {العالمين} مع أنه ذكر شامل لجميع المكلفين؛ لأنهم هم المنتفعون بالتذكير دون غيرهم، فكأنه مختص بهم، ولم يوعظ به غيرهم. والمعنى (¬3): أنه ذكر يتذكر به من وجه إرادته للاستقامة على جادة الحق والصواب، أما من انحرف عن ذلك .. فلا يؤثر فيه هذا الذكر، ولا يخرجه من غفلته. والخلاصة: أن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق، ويطلبه ويجد في كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. 29 - ثم رفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة في فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة في إرادته من سلطان ربه، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ}؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

أي (¬1): الاستقامة مشيئةٌ مستتبعةٌ لها في وقت من الأوقات، يا من يشاؤها، وذلك أن الخطاب في قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} يدل على أن منهم من يشاء الاستقامة، ومنهم من لا يشاؤها، فالخطاب هنا لمن يشاؤها منهم، يروى أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)}. قال: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ} إلخ. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى من إقامة المصدر موقع الزمان؛ أي: إلا وقت أن يشاء الله تعالى تلك المشيئة المستتبعة للاستقامة، فإن مشيئتكم لا تستتبعها بدون مشيئة الله لها؛ لأن المشيئة الاختيارية مشيئة حادثة، فلابد لها من محدث، فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها، فظهر أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتًا ونفيًا موقوفة الحصول على مشيئة الله، كما عليه أهل السنّة. {رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: مالك الخلق ومربيهم أجمعين بالأرزاق الجسمانية والروحانية، وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم، تريد وأريد، فتتعب فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد"، قال وهب بن منبه: قرأت في كتب كثيرة: مما أنزل الله على الأنبياء "إنه من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة .. فقد كفر". قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: أعجزك في جميع صفاتك، فلا تشاء إلا في مشيئته، ولا تعمل إلا بقوته، ولا تطيع إلا بفضله، ولا تعصي إلا بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبما تفتخر من أعمالك، وليس منها شيء إليك إلا بتوفيقه. انتهى. والمعنى (¬2): أي إنَّ إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله تعالى فيكم بقدرته الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم إرادة فعل الخير، فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة، وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها. وفي قوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} بيان لعلة هذا؛ فإنه لما كان رب العالمين هو الذي مَنَحَكُم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم .. كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

وجهت له .. توجهت، ولو شاء أن يمحوها .. محيت، فله الأمر وله الحكم، وهو على كل شيء قدير. والخلاصة: وما تشاؤون الاستقامة يا من شاؤوها في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها منكم. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، والآياتُ القرآنية في هذا المعنى كثيرة. الإعراب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية متعلق بالجواب، وجوابها في الاثني عشر موضعًا التي وقعت فيها .. قوله الآتي: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}. {الشَّمْسُ}: نائب فاعل مرفوع على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده تقديره: إذا كورت الشمس كورت، وإلى هذا جنح الزمخشري، ومنع الرفع على الابتداء؛ لأن {إِذَا} تقتضي الفعل لما فيها من معنى الشرط، وجوز ما منعه الزمخشري الكوفيون، والأخفش من البصريين، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجوابها جملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ} الآتي، {كُوِّرَتْ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الشَّمْسُ}، والجملة جملة مفسرة للمحذوفة لا محل لها من الإعراب. {وَإِذَا}: {الواو}: عاطفة {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {النُّجُومُ}: مرفوع على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وإذا انكدرت النجوم، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجوابها {عَلِمَتْ} الآتي، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا}

المذكورة قبلها، وجملة {انْكَدَرَتْ} مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. وكذا جملة قوله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} معطوفة على جملة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}، والتقدير فيهما: وإذا سيرت الجبال سيرت، وإذا عطلت العشار عطلت، وكذا الجمل في قوله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} معطوفات على قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}، والتقدير فيها: وإذا حشرت الوحوش حشرت، وإذا سجرت البحار سجرت، وإذا زوجت النفوس زوجت، وإذا سئلت المؤودة سئلت، فهي مماثلة لها في إعرابها المتقدم. {بِأَيِّ ذَنْبٍ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قُتِلَتْ}، وجملة {قُتِلَتْ} سدت مسد المفعول الثاني لـ {سُئِلَتْ}، والجمل في قوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)} معطوفات على ما تقدم أيضًا، والتقدير فيها: وإذا نشرت الصحف نشرت، وإذا كشطت السماء كشطت، وإذا سعرت الجحيم سعرت، وإذا أزلفت الجنة أزلفت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ}: فعل وفاعل، والجملة جواب {إذا} الشرطية في المواضع المذكورة، لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} الأولى مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب، وما بعدها معطوفة عليها. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {عَلِمَتْ}؛ لأن العلم هنا عرفانية، وجملة: {أَحْضَرَتْ} صلة لـ {مَا} الموصولة لا محل لها من الإعراب. {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}. {فَلَا}: {الفاء}. استئنافية {لا}: زائدة لتأكيد القسم {أُقْسِمُ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنا، والجملة الفعلية جملة قسم مستأنفة لا محل له من الإعراب {بِالْخُنَّسِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أُقْسِمُ}. {الْجَوَارِ}: صفة لـ {الخنس} أو بدل منه، والصفة تتبع الموصوف تبعه بالجر، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل لأنه اسم منقوص، وحذفت الياء خطًا تبعًا لحذفها في اللفظ. {الْكُنَّسِ}: نعت لـ {الْجَوَارِ} مجرور بالكسرة، {وَاللَّيْلِ}: {الواو}: عاطفة {اللَّيْلِ} معطوف على {الْخُنَّسِ}، أو يقال: {الواو}: حرف جر وقسم، {اللَّيْلِ}: مجرور بواو القسم،

الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالليل. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط {عَسْعَسَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {اللَّيْلِ}، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف؛ أي: أقسم بالليل وقت عسعسته، {وَالصُّبْحِ}: {الواو}: عاطفة على {اللَّيْلِ}، أو واو قسم، {الصُّبْحِ}: مقسم به مجرور بواو القسم {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط {تَنَفَّسَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {وَالصُّبْحِ}، والجملة في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف؛ أي: وأقسم بالصبح وقت تنفسه. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، {لَقَوْلُ}: {اللام}: حرف ابتداء {قول}: خبر {إن} {رَسُولٍ}: مضاف إليه {كَرِيمٍ}: صفة أولى لـ {رَسُولٍ}، وجملة {إن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وفي قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} أقوال متلاطمة في إعرابها ضربت عنها صفحًا؛ لأنه لا طائل تحتها، فلترجع إلى الكتب الباحثة عنها إن شئت. {ذِي قُوَّةٍ} صفة ثانية لـ {رَسُولٍ}، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من {مَكِينٍ}؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، فأعربت حالًا. {مَكِينٍ} صفة ثالثة {مُطَاعٍ} صفة رابعة {ثَمَّ} ظرف مكان بمعنى هناك، متعلق بـ {مُطَاعٍ} أو بـ {أَمِينٍ}. {أَمِينٍ} صفة خامسة لـ {رَسُولٍ}. {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)}. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {مَا}: نافية حجازية، {صَاحِبُكُمْ}: اسمها، {بِمَجْنُونٍ}: خبرها، و {الباء} زائدة، والجملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} على كونها جواب القسم، {وَلَقَدْ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق {رَآهُ}: {رأى}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، و {الهاء}: ضمير عائد على جبريل في محل النصب مفعول به لـ {رأى}؛ لأن رأى هنا بصرية. {بِالْأُفُقِ}: متعلق بـ {رأى}. {الْمُبِينِ}: صفة لـ {الْأُفُقِ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} على كونها جواب القسم، {وما}: {الواو}: عاطفة {مَا}: حجازية، {هُوَ} في محل الرفع اسمها {عَلَى الْغَيْبِ} متعلق بـ {ضنين}،

{عَلَى} بمعنى: الباء، و {بِضَنِينٍ}: خبر {مَا}، و {الباء} زائدة، والجملة معطوفة أيضًا على جواب القسم، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {مَا}: حجازية {هُوَ}: اسمها، {بِقَوْلِ}: خبرها، و {الباء} زائدة {شَيْطَانٍ}: مضاف إليه {رَجِيمٍ}: صفة {شَيْطَانٍ}، والجملة معطوفة أيضًا على جواب القسم، {فَأَيْنَ}: {الفاء}: استئنافية، {أَيْنَ}: اسم استفهام عن المكان المبهم في محل النصب على الظرفية مبني على الفتح، والظرف متعلق بـ {تَذْهَبُونَ}، و {تَذْهَبُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِنْ}: نافية {هُوَ}: مبتدأ، {إِلَّا} أداة حصر {ذِكْرٌ}: خبر {لِلْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {ذِكْرٌ}، أو نعت له، والجملة مستأنفة، {لِمَنْ}: بدل من قوله: {لِلْعَالَمِينَ} بإعادة الجار، وجملة {شَاءَ} صلة لـ {مَنْ} الموصولة لا محل من الإعراب، {مِنْكُمْ}: حال من فاعل {شَاءَ}، وجملة {أَنْ يَسْتَقِيمَ} مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {شَاءَ}؛ أي: لمن شاء منكم استقامته. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية، {مَا} نافية {تَشَاءُونَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {إِلَّا} أداة استثناء من أعم الأوقات {أَنْ}: حرف نصب ومصدر، {يَشَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَنْ} المصدرية {رَبُّ الْعَالَمِينَ}: بدل من الجلالة، أو نعت له، والجملة الفعلية مع {أَنْ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، والظرف المقدر منصوب على الاستثناء من أعم الأوقات، والتقدير: وما تشاؤون في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها؛ أي: مشيئتكم الاستقامة. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}؛ أي: لفت وذهب بضوئها، وفي "المصباح": كار الرجل العمامة كورًا - من باب قال - أدارها على رأسه، وكل دور كور تسمية بالمصدر، والجمع: أكوار مثل ثوب وأثواب، وكورها بالتشديد مبالغةً، ومنه يقال: كورت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة، وقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} المراد به: طويت كطي السجل: وعبارة الزمخشري في التكوير وجهان: أولًا: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها؛ أي: يلف ضوؤها لفًا، فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها؛ لأنها ما دامت

باقيةً كان ضياؤها منبسطًا غير ملفوف. ثانيًا: أو يكون لفها عبارةً عن رفعها وسترها؛ لأن الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي، ونحوه قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ}، وأن يكون من: طعنه فجوره وكوره إذا ألقاه؛ أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. ويتلخص مما أوردته معاجم اللغة ما يلي: وكار العمامة على رأس يكور كورًا إذا لفها وأدارها، وكور الله الليل على النهار: أدخل هذا في هذا، وكورت الشمس: جمع ضوؤها، ولف كما تلف العمامة. قيل: اضمحلت وذهبت. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}؛ أي: انقضت وتساقطت على الأرض، والأصل في الانكدار: الانصباب، وقال أبو عبيدة: انكدرت: انصبت، كما تنصب العقاب إذا كسرت، فانكدار النجوم: انتشارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض، فتقطع أوصالها، وتفصل منها جبالها، وتقذفها في الفضاء. والسير: المضي في الأرض، والسير ضربان: باختيار وإرادة من السائر، نحو: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ}، وبقهر وتسخير، كتسيير الجبال. {وَإِذَا الْعِشَارُ} جمع عشراء - بضم العين وفتح الشين - النوق الحوامل، كالنفاس في جمع النفساء، وليس فعلاء يجمع على فعال غير عشراء ونفساء، كما في "القاموس". والعشراء: هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنّة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - مر في أصحابه بعشار من النوق، فغض بصره، فقيل له: هذه أنفس أموالنا، فلم تنظر إليها؟ فقال: "قد نهاني الله عن ذلك" ثم تلا: " {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...} الآية". قال الأعشى في المدح: هُوَ الْوَاهِبُ الْمِئَةِ الْمَصْطَفَا ... ةِ إِمَّا مَخَاضًا وَإِمَّا عِشَارَا {عُطِّلَتْ}؛ أي: تركت معطلة مهملة غير منظور إليها، وتعطيلها: إهمالها، وذهابها حيث تشاء؛ لعظم الهول وشدة الكرب، من التعطيل: وهو التفريع والإهمال. {وَإِذَا الْوُحُوشُ} جمع وحش، والوحش: حيوان البر الذي ليس في طبعه

التآنس ببني آدم، يجمع على: وحوش ووحشان، والواحد: وحشي كما مر عن "القاموس". والأهليّ: خلاف الوحشي. {حُشِرَتْ}؛ أي: جمعت واختلط بعضها ببعض من هول ذلك اليوم، أو ماتت وهلكت. {سُجِّرَتْ} يقال: سجر التنور يسجر سجرًا - من باب نصر -: إذا ملأه وقودًا وأحماه، وسجر الماء النهر إذا ملأه، وسجر البحر: فاض، وسجر الماء في حلقه: صبه، وسجر الكلب: سنده بالساجور، وسجر الشيء: أرسله، هذا ما ذكرته معاجم اللغة بصدد هذه المادة، وكلب مسجور: أي مطوق بالساجور، وهو طوق من حديد، مسمر بمسامير حديدة الأطراف، وقد أحصى القرطبي الأقوال في تسجير البحار كمادته، ونشير إليها بإيجاز: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)}؛ أي: 1 - ملئت من الماء، فيفيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئًا واحدًا. 2 - وقيل: أرسل عذبها على مالحها حتى امتلأت. 3 - وقيل: صارت بحرًا واحدًا. 4 - وقيل: يبست فلا يبقى من مائها قطرة. 5 - وقيل: أوقدت فصارت نارًا. 6 - وقيل: هي حمرة مائها حتى تصير كأنها الدم. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)}؛ أي: قرنت الأرواح بأجسادها. {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} والموءودة: هي التي دفنت وهي صغيرة، وقد كان ذلك عادة فاشية في جاهلية العرب، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا، حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال: وَجَدِّيْ الَّذِيْ مَنَعَ الْوَائِدَا ... تِ وَأَحْيَا الْوَئِيْدَ فَلَمْ يُوْءَدِ والفرزدق: هو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة، افتخر بجده صعصعة، إذ كان منع وأد البنات، وكان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإِسلام وقد أحيا سبعين موؤودة، قال في "الأساس": وأد ابنته: أثقلها بالتراب، وأصله من الثقل، كأنها تثقل من التراب حتى تموت، ومنه: اتئد؛ أي: توفر وأثقل، فالابنة وئيد ووئيدة

وموءودة. وقال الزمخشري في "الكشاف": وأد يئد مقلوب من آد يؤود: إذا أثقل، قال الله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ لأنه إثقال بالتراب. {وَإِذَا الصُّحُفُ} والمراد بالصحف: صحف الأعمال الذي تنشر على العباد حين يقفون للحساب. {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)}؛ أي: كشفت وأزيلت عما فوقها، كما يكشط جلد الذبيحة عنها. قال الراغب: هو من كشط الناقة؛ أي: تنحية الجلد عنها، والكشط: التقشير، يقال: كشطت جلد الشاة. سلخته عنها. {سُعِّرَتْ}؛ أي: أوقدت إيقادًا شديدًا. {أُزْلِفَتْ}؛ أي: أدنيت من أهلها وقربت منهم. {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} جمع: خانس، وهو المنقبض المستخفي، يقال: خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى، والخنوس: الانقباض والاستخفاء، وبابه: دخل، وفي "الصحاح": الخنس: الكواكب كلها؛ لأنها تخنس في المغيب، ولأنها تخفى نهارًا. {الْجَوَارِ} جمع: جارية؛ أي: سائرة، حذفت ياؤه في رسم المصحف تبعًا للفظ. {الْكُنَّسِ} جمع كانس أو كانسة، من قولهم: كنس الظبي كنوسًا - من باب نزل - إذا دخل كناسه بكسر الكاف، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وتكنس الظبي: تغيب واستمر في كناسه، وتكنس الرجل: دخل في الخيمة، وتكنست المرأة: دخلت في الهودج. والمراد {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)}: جميع الكواكب، وخنوسها: غيوبتها عن البصر نهارًا، وكنوسها: ظهورها للبصر ليلًا، فهي تظهر في أفلاكها، كما تظهر الظباء في كنسها. {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}؛ أي: أقبل بظلامه أو أدبر. قال الفراء: عسعس الليل وعسعس: إذا لم يبق منه إلا القليل. وقال الخليل: عسعس الليل: أقبل وأدبر. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)}؛ أي: أسفر، وظهر نوره. قال علقمة بن قرط: حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا

وقال رؤبة: يَا هِنْدُ مَا أسْرَعَ مَا تَسَعْسَعَا ... مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ فَتَى سَرَعْرَعَا والتنفس: خروج النسيم من الجوف، واستعير للصبح، ومعناه: امتداده حتى يصير نهارًا واضحًا. {رَسُولٍ كَرِيمٍ} فكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها، وإثبات صفات المدح اللائقة به. {أَمِينٍ}؛ أي: مقبول القول يصدق فيما يقوله، مؤتمن على ما يرسل به من الوحي. اهـ من "البحر". {مَكِينٍ}؛ أي: ذي مكانة وجاه عند ربه، يعطيه ما سأله، يقال: مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة. {مُطَاعٍ}: اسم مفعول من أطاع الرباعي، أصله: مطوع بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} الظنين: المتهم، فعيل بمعنى مفعول يقال: ظننت الرجل اتهمته، والضنين: البخيل، قال الشاعر: أَجُوْدُ بِمَكْنُوْنِ الْحَدِيْثِ وَإِنَّنِيْ ... بِسِرِّكَ عَنْ مَا سْأَلْتَنِي لَضَنِيْنُ {رَجِيمٍ}: مرجوم مطرود من رحمة الله تعالى. {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}؛ أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)}؛ أي: يثبت على الطريق الواضح، وأصل {شَاءَ}: شيء بوزن فعل بكسر العين، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل {يَسْتَقِيمَ}: يستقوم، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإسناد المجازي في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}؛ لأن تكويرها

عبارة عن إزالة نورها، والذهاب بها بحكم التزام زوال اللازم لزوال الملزوم، وفيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأن التكوير حقيقة في تكوير الثوب والعمامة ولفها، فاستعير لإزالة ضوء الشمس بجامع الستر في كل، وكذا قوله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)}؛ لأن السير حقيقة في الذهاب في الأرض والمضي فيها، فاستعير لإعدام الجبال وإزالتها عن مكانتها. ومنها: توجيه السؤال إلى الموءودة في قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} .. لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته، ولذا لم يسأل الوائد عن موجب قتله لها، فإن سؤالها أفظع في ظهور جناية القاتل، وإلزام الحجة عليه، فإنه إذا قيل للموءودة: إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم، فما ذنبك، وبأي ذنب قتلت؟ كان جوابها: إني قتلت بغير ذنب، فيفتضح القاتل ويصير مبهوتًا. اهـ "زاده". ومنها: تنكير {نَفْسٌ} في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}؛ لإفادة العموم، وقد يعترض معترض بأن النكرة لا تفيد العموم إلا إذا كانت في سياق النفي، وهي هنا واقعة في سياق الإثبات، فلا تفيد العموم، بل تفيد الإفراد والنوعية، فكيف يتفق الإفراد مع العموم الذي يناسبه المقام؟ فالجواب: أن كونها للعموم في سياق النفي دون الإثبات أغلبي لا كلي، فلا ينافي أنه قد يقصد بها العموم في سياق الإثبات بقرينة المقام كما هنا، وقد يجاب هنا بجواب آخر: وهو أن النكرة هنا وقعت في سياق الشرط، وسياق الشرط كسياق النفي في أن النكرة للعموم إذا وقعت في كل منهما. ومنها: الجناس الناقص بين {الْخُنَّسِ} و {الْكُنَّسِ}، وفي الكلمتين أيضًا فن الالتزام، وهو لزوم النون فيهما قبل السين. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} فقد شبه الليل بإنسان يقبل ويدبر، ثم حذف المشبه به، وأخذ منه شيئًا من لوازمه، وهو لفظ عسعس؛ أي: أقبل وأدبر، كما شبه الصبح بحيوان حي يتنفس، فحذف المشبه به، وأتى بشيء من لوازمه، وهو التنفس؛ أي: خروج النفس من الجوف، أو يقال: إنه شبه الليل بالمكروب الحزين الذي حبس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحته، وهنا لما

طلع الصبح، فكأنه تخلص من الحزن كلية، فعبر عن ذلك بالتنفس. ومنها: إسناد القول إلى جبريل في قوله: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فإسناد القول إليه باعتبار السببية الظاهرة في الإنزال والإيصال على أن المراد بالرسول هو جبريل. ومنها: التعرض لعنوان المصاحبة في قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} للتلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله - صلى الله عليه وسلم - خبرًا، وعلمهم بنزاهته عما نسبوه إليه بالكلية، فإنه كان بين أظهرهم في مدد طويلة، وقد جربوا عقله، فوجدوه أكمل الخلائق فيهم، ولقبوه بالأمين الصادق. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} فإن إسناد الإبانة إلى مطلع الشمس مجازي باعتبار المحلية لها، فإن الإبانة في الحقيقة لضياء الطالع منه كما مر. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} حيث شبه حالهم بحال من يترك الجادة وسلك غيرها، فإنه يقال له: أين تذهب؟ استظلالًا له وإنكارًا على تعسفه كما مر. ومنها: الطباق بين لفظ {الْجَحِيمُ} و {الْجَنَّةُ}. ومنها: الجناس الناقص بين {أَمِينٍ} و {مَكِينٍ}. ومنها: توافق الفواصل رعاية لرؤوس الآيات مثل {كُوِّرَتْ}، {سُيِّرَتْ} {سُجِّرَتْ}، {سُعِّرَتْ}، ومثل {الْخُنَّسِ} و {الْكُنَّسِ} ومثل: {عَسْعَسَ} و {تَنَفَّسَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - أهوال يوم القيامة. 2 - الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح، على أن القرآن منزل من عند الله تعالى بوساطة رسول كريم. 3 - إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 4 - بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير. 5 - مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله سبحانه، وليس لها استقلال بالعمل (¬1). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا * * * ¬

_ (¬1) كان الفراغ من سورة التكوير بعون الملك القدير في أوساط شهر شعبان المبارك في يوم الأربعاء قبيل الغروب، اليوم التاسع عشر منه من شهور سنة: 19/ 8/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليمات والصلات.

سورة الانفطار

سورة الانفطار سورة الانفطار مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة النازعات، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: تسع عشرة آية، وكلماتها: ثمانون كلمة، وحروفها: ثلاث مئة وسبعة وعشرون حرفًا. مناسبتها لما قبلها: أن الكلام في السابقة في البحث عن أهوال يوم القيامة، وهذه أيضًا، افتتحت بمثل ذلك ليتصل الكلام فيهما اتصال النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، وكلها محكم، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومما ورد في فضلها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} "، ومنه ما أخرجه النسائي عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء فطول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفتَّان أنت يا معاذ؟ أين أنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟ ". وأصل الحديث في الصحيحين، ولكن بدون ذكر: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}، وقد تفرد بها النسائي، وسميت بسورة الانفطار: أخذًا من مبدئها، وقد اشتملت هذه السورة على الكلام في البعث، والتذكير بيوم القيامة، وإن النفس تشهد فيه ما عملت، وعلى مناقشة الإنسان في شأن مخالفته لربه، وتماديه في فجوره مع أنه عَزَّ وَجَلَّ صاحب نعم جليلة عليه، وقد جعل له شهودًا عليه أو له، وهم عدول. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. المناسبة افتتح (¬1) سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، منها أمران علويان هما: انفطار السماء، وانتثار الكواكب. وأمران سفليان هما: تفجير البحار، وبعثرة القبور. ثم أبان أنه في ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها، فلا ترى خيرًا في صورة شر، ولا تتخيل شرًا في مثال خير، كما يقع في الدنيا لأغلب النفوس، فيعرف أهل الخير أنهم وإن نجوا مقصرين، فيأسفون على ما تركوا، ويستبشرون بما عملوا، ويعض أهل السوء بنان الندم، ويوقنون بسوء المنقلب، ويتمنون أن لو كانوا ترابًا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في صدر السورة: أنه في يوم القيامة يبدل نظام هذا العالم، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام، ويقرعهم على تكاسلهم في أداء ما أمروا به، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح .. أردف هذا بخطاب الإنسان، واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه، وتماديه في فجوره وطغيانه، واسترساله مع دواعي النفس الأمارة بالسوء، ¬

_ (¬1) المراغي.

مع أنه لو تدبر في نفسه، وفي خلقه .. لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه، ومداومته على طاعته، وهو الذي خلقه فسواه، وجعله على أحسن صورة، وكمله بالعقل والفهم والتدبر في عواقب الأمور ومصايرها. قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة، وأن ذلك يدل على أن له حياةً أخرى غير هذه الحياة، فيها يجازى بما عمل من خير أو شر .. أعقب هذا ببيان أنه لا شيء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد والتكذيب، فالشعور النفسي يوحي به، والدليل النقلي الذي أتى به الرسول يصدقه، والله لم يترك عملًا لعباده إلا أحصاه وحفظه، ليوفي كل عامل أجره، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغلط والنسيان بكتابته وضبطه، ثم ذكر أن الناس في هذا اليوم فريقان: بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى - وهؤلاء يتقلبون في النعيم - وفجرة يتركون أوامر الدين، وأولئك يكونون في دار العذاب والهوان، يقاسون حر النار، وأنه في هذا اليوم لا يجد المرء ما يعول عليه سوى ما قدمت يداه، فيجفوه الأولياء، ويخذله الشفعاء، ويتبرأ منه الأقرباء، فلا شفيع ولا نصير ولا وزير ولا مشير، والحكم لله وحده، وهو المهيمن على عباده، وبيده تصريف أمورهم، وهو الصادق في وعده، العدل الحكيم في وعيده، فلا مهرب لعامل مما أعدله من الجزاء على عمله. أسباب النزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ ...} الآية، سبب نزولها (¬2): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: نزلت في أبي بن خلف، والله أعلم. وقد نقل البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأسود بن شريف حين ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يعاقب في الحالة الراهنة، فأنزل الله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} .. قال: "غره جهله" .. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

هذه الآية: غره حمقه وجهله، وقرأ: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}؛ أي: انشقت (¬1) لنزول الملائكة، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}، أو لهيبة الرب جل جلاله، والانفطار كالفطر: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير إذا طلع، وفي "فتح الرحمن": تشققها على غير نظام مقصود إنما هو انشقاق لتزول بنيتها، وإعرابه كإعراب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}. 2 - {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ}، والنجوم {انْتَثَرَتْ}؛ أي: تساقطت عن مواضعها سوداء متفرقة، كما تساقط اللآلىء إذا انقطع المسلك، وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالعلويات، فإن السماء في هذا العالم كالسقف، والأرض كالبناء، ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولًا بتخريب السقف، وذلك هو قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}، ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب. 3 - {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)}؛ أي: فجر وفتح بعضها إلى بعض بزوال المانع، وحصول تزلزل الأرض وتصدعها واستوائها، وصارت البحار - وهي سبعة: بحر الروم، وبحر الصقالبة، وبحر جرجان، وبحر القلزم، وبحر فارس، وبحر الصين، وبحر الهند - بحرًا واحدًا، فيصب ذلك البحر الواحد في جوف الحوت الذي عليه الأرضون السبع، كما في "كشف الأسرار". وروي: أن الأرض تنشف من الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن البصري، ودخل في البحار: البحر المحيط؛ لأنه أصل الكل؛ إذ منه يتفرع الباقي، وكذا الأنهار العذبة، فإنها بحار أيضًا لتوسعها. وقرأ الجمهور (¬2): {فُجِّرَتْ} بتشديد الجيم ومجاهد وربيع بن خيثم والزعفراني والثوري بتخفيفها، وتفجيرها من أعلاها، وتفيض على ما يليها، أو من أسفلها، فيذهب الله ماءها حيث أراد، وعن مجاهد: {فجرت} مبنيًا للفاعل مخففًا بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظرًا إلى قوله تعالى: {لَا يَبْغِيَانِ}؛ لأن البغي والفجر متقابلان. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[4]

ا. هـ من "البحر". 4 - {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}؛ أي: قلب ترابها، وأخرج ما فيها من الموتى، ولا يخالف (¬1) ما هنا ما سيأتي في العاديات، فإن البعثرة تجيء بمعنى الاستخراج أيضًا؛ أي: كالقلب، يقال: بعثر يبعثر بعثرةً - من باب دحرج - إذا قلب التراب، ونظيره لفظًا ومعنى بحثر .. يقال: بعثرت المتاع وبحثرته؛ أي: جعلت أسفله أعلاه، وجعل أسفل القبور أعلاها إنما هو بإخراج موتاها، وبعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته، وجعلت أعلاه أسفله، قال الفراء: {بُعْثِرَتْ}؛ أي: أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها. اهـ. وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالسفليات، فإنه قال: بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض بنفوذ بعض البحار في بعض، ثم يخرب نفس الأرض التي هي كالبناء بأن يقلبها ظهرًا لبطن، وبطنًا لظهر. 5 - ثم ذكر سبحانه جواب ما تقدم، فقال: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}؛ أي: كل نفس برة كانت أو فاجرة كما مر في السورة السابقة، وفي "فتح الرحمن": {نَفْسٌ} هنا: اسم جنس، وإفرادها ليبين لذهن السامع حقارتها وضعفه عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى، {مَا قَدَّمَتْ} في حياتها من عمل خير أو شر، فإن {ما} من ألفاظ العموم {و} ما {أَخَّرَتْ} من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده، وفي الحديث: "أيما داعٍ دعا إلى الهدى فاتبع .. فله مثل أجر من تبعه إلا أنه لا ينقص من أجورهم شيء، وأيما داعٍ دعا إلى الضلالة، فاتبع .. فله مثل أوزار من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أوزارهم شيء" وقال قتادة: ما قدمت من معصية، وأخرت من طاعة، وقيل: ما قدم من فرض، وما أخر من فرض، وقيل: أول عمله وآخره. فقوله: {عَلِمَتْ ...} إلخ جواب {إذا} كما مر؛ أي: إذا وقعت هذه الأشياء وخربت الدنيا علمت كل نفس إلخ، لكن لا على أنها تعلمه عند البعث، بل عند نشر الصحف لما عرفت في السورة السابقة من أن المراد بها زمان واحد مبدأه ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

النفخة الأولى، ومنتهاه الفصل بين الخلائق، لا أزمنة متعددة حسب تعدد كلمة {إِذَا}، وإنما كررت {إذا} لتهويل ما في حيزها من الدواهي. فالمراد (¬1): العلم التفصيلي الذي يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة، وأما العلم الإجمالي: فيحصل في أول زمان البعث والحشر؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر، قال ابن الشيخ في "حواشيه": العلم بجميع ذلك كناية عن المجازاة عليه، والمقصود من الكلام: الزجر عن المعصية، والترغيب في الطاعة. والمعنى (¬2): أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى عند خراب هذا العالم بأسره، وسقطت الكواكب والنجوم وتفرقت، وهذا يجيء تاليًا لما قبله، إذ متى انشقت السماء، وانتقض تركيبها، واختل نظامها .. انتشرت كواكبها، وفجرت البحار، وأزيل ما بينها من حواجز، فاختلط عذبها بملحها، وفاضت على سطح الأرض حينًا من الدهر؛ لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد، ووقوع الخلل في جميع أجزائها، وبعثرت القبور، وقلب أسفلها أعلاها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياءً .. علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل، ولم يقصر فيه، وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه. والخلاصة: أن هذا العالم تزول صفاته وتتبدل أحواله، فتكون الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، 6 - وقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} يعم جميع (¬3) العصاة، ولا خصوص له بالكفار؛ لوقوعه بين المجمل ومفصله؛ أي: بين {عَلِمَتْ نَفْسٌ ...} إلخ، وبين {إِنَّ الْأَبْرَارَ} إلخ، وأما قوله: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} فمن قبيل قولهم: بنو فلان قتلوا زيدًا، إذا كان القاتل واحدًا منهم. قال الإِمام السهيلي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} يريد أمية بن خلف، ولكن اللفظ عام يصلح له ولغيره. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، أو الأسد بن كلدة الجمحي، قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بطحاء مكة، فلم يتمكن منه، فلم يعاقبه الله على ذلك. وفي "زهرة الرياض": ضرب على يافوخ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

وضربه على الأرض، فقال له: يا محمد، الأمان الأمان، مني الجفاء، ومنك الكرم، فإني لا أوذيك أبدًا، فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}؛ أي (¬1): ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك، وجعلك عاقلًا فاهمًا، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها؟ قال قتادة: غره شيطانه المسلط عليه، وقال الحسن: غره شيطانه الخبيث، وقيل: حمقه وجهله، وقيل: غره عفو الله؛ إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة، كذا قال مقاتل. فـ {مَا} استفهامية (¬2) في محل رفع بالابتداء و {غَرَّكَ}: خبره، والاستفهام بمعنى الاستهجان والتوبيخ. والمعنى: أيّ شيء خدعك وجرأك على عصيانه، وأمنك من عقابه، وقد علمت ما بين يديك من الدواهي، وما سيكون حينئذٍ من مشاهدة أعمالك كلها؟ يقال: غره بفلان إذا جرأه عليه، وأمنه المحذور من جهته، مع أنه غير مأمون. والتعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدار الاغترار حسبما يغويه الشيطان، ويقول له: افعل ما شئت، فإن ربك كريم، قد تفضل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل كرمه مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك الموصوف بالصفات الزاجرة عن الداعية، فظهر أن كرم الكريم لا يقتضي الاغترار به، بل هو يقتضي الخوف والحذر عن مخالفته وعصيانه، وإذا كان محض الكرم لا يقتضي الاغترار به، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر؟ ولله سبحانه الأسماء المتقابلة، ولذا قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}، وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا بعثك الله يوم القيامة، وقال لك: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...} ماذا تقول؟ قال: أقول: غرني ستورك المرخاة، ونظمه ابن السماك فقال: يَا كَاسِبَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِيْ ... وَاللَّهُ فِيْ الْخَلْوَةِ ثَانِيْكَا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُوْلَ مَسَاوِيْكَا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[7]

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: غرني برك سالفًا وآنفًا: يَقُوْلُ مَوْلَايَ أَمَا تَسْتَحِيْ ... مِمَّا أَرَى مِنْ سُوْءِ أَفْعَالِكَ فَقُلْتُ يَا مَوْلَايَ رِفْقًا فَقَدْ ... أَفْسَدَنِيْ كَثْرَةُ إِفْضَالِكَ وقرأ الجمهور (¬1): {مَا غَرَّكَ} فـ {مَا} استفهامية، وقرأ ابن جبير والأعمش {ما أغرك} بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبًا، واحتمل أن تكون {مَا} استفهامية، و {أغرك} بمعنى أدخلك في الغرة. 7 - {الَّذِي خَلَقَكَ}، أي: أوجدك وأنشأك من نطفة ولم تك شيئًا، فهو صفة (¬2) ثانية مقررة للربوبية، مبينة للكرم؛ لأن الخلق إعطاء الوجود، وهو خير من العدم، منبهة على أن من قدر على الخلق وما يليه بدءًا .. قدر عليه إعادة؛ أي: خلقك بعد أن لم تكن شيئًا {فَسَوَّاكَ}؛ أي: جعلك إنسانًا سويًا تامًا، تسمع وتبصر وتعقل، أو جعل أعضاءك سوية سليمة معدة لمنافعها؛ أي بحيث يترتب على كل عضو منها منفعته التي خلق ذلك العضو لأجلها، كالبطش لليد، والمشي للرجل، والتكلم للسان، والإبصار للبصر، والسمع للأذن إلى غير ذلك {فَعَدَلَكَ}؛ أي: جعلك معتدلًا قائمًا حسن الصورة، أو عدل بعض تلك الأعضاء ببعض؛ أي: جعل بعضها معادلة مساوية للبعض الآخر، بحيث اعتدلت وتماثلت ولم تتفاوت، مثل أن تكون إحدى اليدين أو الرجلين والأذنين أطول من الأخرى، أو تكون إحدى العينين أوسع من الأخرى، أو بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، أو بعض الشعر فاحمًا وبعضه أشقر. قال علماء التشريح: إنه تعالى ركب جانبي هذه الجثة على التساوي حتى إنه لا تفاوت بين نصفيه، لا في العظام، ولا في أشكالها، ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والحاجة منها، فكل ما في أحد الجانبين مساوٍ لما في الجانب الآخر. اهـ. ويقال: عدله عن الطريق؛ أي: صرفه، فيكون المعنى: فصرفك عن الخلقة المكروهة التي هى لسائر الحيوانات، وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق، كما قال تعالى: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[8]

وقرأ الجمهور (¬1): {فعدَّلك} بتشديد الدال؛ أي: صيرك معتدلًا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فهو بمعنى المخفف السابق، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وطلحة والأعمش وعيسى وأبو جعفر والكوفيون: بتخفيفها، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى، وقيل: معنى القراءة الأولى: أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها، ومعنى القراءة الثانية: أنه صرفه وأماله إلى أي صورة شاء إما حسنًا، وإما قبحًا، وإما طويلًا، وإما قصيرًا. والمعنى (¬2): أي يا أيها الإنسان العاقل الذي أوتي من قوة الفكر وبسطة القدرة ما أوتي حتى صار بذلك أفضل المخلوقات، أي شيء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر، ولا تزال أياديه تتوالى عليك، ونعمه تترى لديك، ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك، وجعلك معتدل القامة، تام الخلق؟ 8 - ثم أجمل ما فصله أولًا بقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}، الجار والمجرور متعلق بـ {رَكَّبَكَ} لا بـ {عدلك}؛ لأن {أَيِّ} لها صدر الكلام، فلا يعمل فيها ما قبلها، و {مَا} زائدة لتعميم النكرة، و {شَاءَ} صفة لـ {صُورَةٍ}، والرابط محذوف، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان لـ {عدلك}. والمعنى: فعدلك، ركبك وألفك وجمعك في أيِّ صورة شاءها واقتضتها مشيئته وحكمته من الصور العجيبة الحسنة، أو من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه، كما في الحديث: "أن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم، وصورها في أي شبه شاء". ويجوز أن يكون الجار متعلق بمحذوف من مفعول {ركب}؛ أي: ركبك حاصلًا في أي صورة شاءها، وقال مقاتل والكلبي ومجاهد: في أيِّ شبه من أب أو أم أو خال أو عم. وقال مكحول: إن شاء ذكر، وان شاء أنثى. وقال (¬3) بعض المتأولين: إنه يتعلق بقوله: {فَعَدَلَكَ}، ولكنه معترض، كما مر آنفًا؛ أي: فعدلك ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[9]

في صورة أي صورة؛ أي: كامل صورة وأحسنها، وأي تقتضي التعجيب والتعظيم، فلم يجعلك في صورة خنزير أو حمار، وعلى هذا تكون {مَا} منصوبة بـ {شَاءَ} كأنه قال: أي تركيب حسن شاء ركبك، والتركيب: التأليف وجمع شيء إلى شيء، وأدغم خارجة عن نافع: {ركبك كلا}. والمعنى (¬1): أي ركبك في صورة هي من أبهى الصورة وأجملها، وأدلها على بقائك الأبدي في نشأة أخرى بعد هذه النشأة، فإن الكريم يوفي كل مرتبة من الوجود حقها، فمن خص بهذا المنزلة الرفيعة .. لا ينبغي أن يعيش كما يعيش سائر الحيوان، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذر، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها. ولا فَتَأَ بعدها، يوفى فيها كل ذي حق خقه، وكل عامل جزاء عمله. 9 - {كَلَّا}: حرف ردع (¬2) وزجر، فالوقف عليها؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبًا للشكر والطاعة، وقيل: توكيد لتحقيق ما بعده بمضى حقًا، فالوقف على {رَكَّبَكَ} كما رجحه السجاوندي، حيث وضع علامة الوقف المطلق على {رَكَّبَكَ}، قال ابن الأنباري: الوقف الجيد {بِالدِّينِ}، وعلى {رَكَّبَكَ} وعلى {كَلَّا} قبيح. {بَلْ تُكَذِّبُونَ} إضراب وعطف على جملة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجاوزونه وتجترئون على ما هو أعظم؛ حيث تكذبون بالدين؛ أي: بالبعث والجزاء رأسًا، فإنه يراد بالدين الجزاء والمكافأة، ومنه: الديان في صفة الله، أو تكذبون بدين الإِسلام الذي هما من جملة أحكامه، فلا تصدقون سؤالًا ولا جوابًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، و {بَلْ} لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره، وإنكار البعث قد كان معلومًا عندهم، وإن لم يجر له ذكر، قال الفراء: كلا ليس الأمر كما غررت به. وقرأ الجمهور: {بَلْ تُكَذِّبُونَ} بالتاء خطابًا للكفار. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو جعفر وأبو بشر بياء الغيبة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[10]

والمعنى: بل تكذبون يا أهل مكة بالدين؛ أي: بالحساب. 10 - وجملة قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)} حال من فاعل {تُكَذِّبُونَ}؛ أي: تكذبون بالجزاء، والحال أن عليكم أيها المكلفون من قبلنا ملائكة حافظين لأعمالكم، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم، والحافظون: الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم، ويكتبونها في الصحف، وجمعهم باعتبار كثرة المخاطبين، أو باعتبار أن لكل واحد منهم جمعًا من الملائكة، كما قيل اثنان بالليل، واثنان بالنهار، 11 - ثم وصفهم سبحانه بأنهم كانوا {كِرَامًا} جمع: كريم؛ أي: مكرمين لدينا بجبرهما في طاعتنا، أو بأداء الأمانة؛ إذ الكريم لا يكون خوانًا، وفي "فتح الرحمن": وصفهم بالكرم الذي هو نفي المذام. وقيل: معنى (¬1) {كِرَامًا}: يسارعون إلى كتب الحسنات، ويتوقفون في كتب السيئات رجاء أن يستغفر ويتوب، فيكتبون الذنب والتوبة منه معًا {كَاتِبِينَ} لأقوالكم وأفعالكم صغيرها وكبيرها لتجازوا عليها 12 - {يَعْلَمُونَ} لحضورهم وعدم افتراقهم عنكم {مَا تَفْعَلُونَ} من الأفعال، وما تقولون من الأقوال قليلًا أو كثيرًا، ويضبطون نقيرًا وقطميرًا لتجازوا بذلك، وخص الفعل بالذكر؛ لأنه أكثر من القول، ولأن القول قد يراد به الفعل فاندرج فيه، وجملة {يَعْلَمُونَ} في محل نصب على الحال من ضمير {كَاتِبِينَ} أو على النعت أو مستأنفة. وفي الحديث: "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند الحالتين الجنابة والغائط". قال في "عين المعاني" (¬2): قوله: {يَعْلَمُونَ} يدل على أن السهو والخطأ وما لا تبعة فيه لا يكتب، وكذا ما استغفر منه حيث لم يقل يكتبون. انتهى. وقوله {مَا تَفْعَلُونَ} وإن كان عامًا لأفعال القلوب والجوارح، لكنه عام مخصوص بأفعال الجوارح؛ لأن ما كان من المغيبات لا يعلمه إلا الله، وفي "كشف الأسرار": علمهم على وجهين: فما كان من ظاهر قول أو حركة جوارح، علموه بظاهره، وكتبوه على جهته، وما كان من باطن ضمير يقال: إنهم يجدون لصالحه رائحة طيبة، ولطالحه رائحة خبيثة، فيكتبونه مجملًا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا. انتهى. وقد مر بيان هذا المقام في سورتي الزخرف، وق. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[13]

والمعنى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ} إلخ؛ أي (¬1): ارتدعوا عن الاغترار بكرمي لكم، فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم، ويدعوه إرشادي لكم، بل تجترئون على ما هو أعظم منه، فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير يوم تبعثون للفصل بينكم، فتجازى كل نفس بما عملت وما قدمت وما أخرت. ثم حذرهم من تماديهم في غيهم ببيان أن أعمالم محصاة عليهم، فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ...} إلخ؛ أي: إن أعمالكم محصاة عليكم، فقد وكل بكم ملائكة حفظة كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير أو شر، وقد ذكر ذلك في غير موضع من الكتاب الكريم، كقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا أن نعرف من أي شيء خلقوا، وما عملهم، وكيف يحفظون الأعمال، وهل عندهم أوراق وأقلام، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال، فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس، كل ذلك لم نكلف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في حقيقته إلى الله تعالى. 13 - ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، وبين أن العالمين في ذلك اليوم فريقان، وبين مآل كل منهما فقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ} الذين (¬2) بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، جمع: بر بالفتح، وهو بمعنى الصادق والمطيع والمحسن، وأحسن الحسنات: لا إله إلا الله وما يتبعها، ثم بر الوالدين. وفي "فتح الرحمن": البر: هو الذي قد اطرد بره عمومًا، فبر ربه في طاعته إياه، وبر الناس في جلب ما استطاع من الخير لهم، وكير ذلك. {لَفِي نَعِيمٍ} عظيم، وهو نعيم الجنة وثوابها، والتنوين للتفخيم 14 - {وَإِنَّ الْفُجَّارَ} الذين شقوا ستر الديانة، بالكفر والمعاصي، جمع: فاجر، من الفجور، وهو شق عصا الديانة {لَفِي جَحِيمٍ} أي لفي نار متأججة مسعرة وعذاب هائل، والتنوين للتويل، والجملتان مستأنفتان مسوقتان لبيان ما يكتبون لأجله، وهو أن الغاية؛ إما النعيم، وإما الجحيم، وهي قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، 15 - وجملة قوله: {يَصْلَوْنَهَا}؛ أي: يصلون الجحيم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[16]

ويدخلونها، ويقاسون حرها. {يَوْمِ الدِّينِ}؛ أي: يوم الجزاء الذي يكذبون به، إما صفة لـ {جَحِيمٍ}، أو في محل (¬1) نصب على الحال من الضمير المستكن في متعلَّق الجار والمجرور، أو مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ عن تهويلها كأنه قيل: ما حالهم فيها؟ فقيل: يقاسون حرها، كما قال الخليل: صلي الكافر النار؛ قاسى حرها، وباشره ببدنه. ولم يصف النعيم بما يلائمه لأن ما سبق من الكلام كان في المكذبين الفجرة لأن المقام مقام التخويف، وذكر تبشير الأبرار لأنه ينكشف به حال الفجار الأشرار لأن الأشباه تعرف بأضدادها، ومعنى {يَصْلَوْنَهَا}: أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها يومئذٍ. وقرأ الجمهور (¬2): {يصلونها} مخففًا مبتيًا للفاعل، مضارع صلى الثلاثي، وقرأ ابن مقسم مشددًا مبنيًا للمفعول. ومعنى الآيات: أي إن أهل الثواب - وهم الأبرار - يكونون في دار النعيم، وأن أهل العذاب - وهم الفجار - يكونون في دار الجحيم، دار العذاب الأليم، يقاسون أهوالها. 16 - ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مرب، فقال: {وَمَا هُمْ}؛ أي: وما الفجار {عَنْهَا}؛ أي: عن الجحيم {بِغَائِبِينَ} طرفة عين؛ أي: إنهم لا يغيبون عنها، ولا ينفكون عن عذابها، بل هم ملازمون لها، ونحو الآية قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فالمراد: دوام نفي الغيبة، لا نفي دوام الغيبة، وقيل: وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية، بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار". 17 - ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره، فقال: {مَا أَدْرَاكَ} وأعلمك، الخطاب لكل من يتأتى منه الدراية، وقال الكلبي: الخطاب للإنسان الكافر، وقيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله، و {مَا}: مبتدأ، و {أَدْرَاكَ} خبره {مَا} خبر قوله: {يَوْمُ الدِّينِ} و {ما} لطلب الوصف، وإن كان وضعه لطلب الحقيقة، والمعنى (¬3): أيُّ شيء جعلك داريًا وعالمًا ما يوم الدين؟ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[18]

أي: شيء عجيب هو في الهول والفظاعة، أي: ما أدراك أحد الآن عنه أمره، فإنه خارج عن دائرة الخلق على أي صورة يصورونه، فهو فوقها وأضعافها. والمعنى (¬1): أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب، فأنت لاهٍ عن هذا اليوم غير مبال به، وقد كنت خليقًا أن تتعرف حقيقة حاله لتأخذ لنفسك الحيطة، وتتدبر أمرك، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه، فإنك لا تدري ما قدر لك، 18 - ثم زاده توكيدًا وتعظيمًا، فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)} كرر بـ {ثُمَّ} (¬2) المفيدة للترقي في التوبة للتأكيد وزيادة التخويف والتهويل لأمره، كما في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)} وقوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}، والمجموع تعجيب للمخاطبين، وتفخيم لشأن اليوم. وإظهار {يَوْمِ الدِّينِ} في في مقام الإضمار تأكيد لهوله وفخامته. والمعنى (¬3): أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبأ هذا اليوم، كأنك قد أدركت كنهه، وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال، ولو عرفته حق معرفته .. للانت قناتك، ورجعت إلى ربك تائبًا، وعدت إليه مستغفرًا طالبًا الصفح عما قدمت يداك. 19 - ثم بين حقيقة أمره فقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} بيان إجمال (¬4) لشأن يوم الدين إثر إبهامه، وبيان خروج عن دائرة علوم الخلق بطريق إنجاز الوعد، فإن نفي إدرائهم مشعر بالوعد الكريم بالأدراء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما في القران من قوله تعالى: {مَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه، وكل ما فيه من قوله: {وَمَا يدرِيَكَ} فقد طوى عنه. و {يَوْمُ}: مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وحركته الفتح لإضافته إلى غير متمكن، كأنه قيل: هو يوم لا تملك فيه نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئًا من الأشياء أو منصوب بإضمار: اذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه - صلى الله عليه وسلم - إلى معرفته: اذكر يوم لا تملك إلخ، فإنه يدريك ما هو، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

ودخل في: {نَفْسٌ} كل نفس ملكية وإنسية وجنية، وفي {شَيْئًا} كل ما كان من قبيل جلب المنفعة، أو دفع المضرة. {وَالْأَمْرُ} كله {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ لا تملك نفس لنفس شيئًا {لِلَّهِ} وحده، لا يملك (¬1) شيئًا من الأمر غيره تعالى كائنًا ما كان. قال مقاتل: يعني لنفس كافرة شيئًا من المنفعة. وقال قتادة: ليس ثم أحد يقضي أو يصنع شيئًا إلا الله رب العالمين. والمعنى: أن الله تعالى لا يملك أحدًا في ذلك اليوم شيئًا من الأمور، كما ملكهم في الدنيا، ومثل هذا قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} والأمر (¬2) واحد الأوامر، فإن الأمر والحكم والقضاء من شأن الملك المطاع، والخلق كلهم مقهورون تحت سطوات الربوبية وحكمها، ويجوز أن يكون واحد الأمور، فإن أمور أهل المحشر كلها بيده تعالى لا يتصرف غيره. أخبر تعالى بضعف الناس يومئذٍ، وأنه لا ينفعهم الأموال والأولاد والأعوان والشفعاء، كما في الدنيا، بل ينفعهم الإيمان والبر والطاعة، وأنه لا يقدر أحد أن يتكلم إلا بإذن الله وأمره؛ إذ الأمر له في الدنيا والآخرة في الحقيقة وإن كان يظهر سلطانه في الاخرة بالنسبة إلى المحجوب لأن المحجوب يرى أن الله ملكه في الدنيا وجعل له شيئًا من الأمور والأوامر، فإذا كان يوم القيامة يظهر له أن الأمر والملك لله تعالى لا يزاحمه فيه أحد ولا يشاركه ولو صورة، وفيه تهديد لأرباب الدعاوي وأصحاب المخالفة، وتنبيه على عظيم بطشه تعالى وسطوته. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو (¬3): {يومُ لا تملك} - برفع الميم - على أنه بدل من {يَوْمِ الدِّينِ} كما قاله الزمخشري، أو خبر مبتدأ محذوف، وقرأ محبوب عن أبي عمرو: {يوم} بالقطع عن الإضافة والتنوين والتنكير، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يوم، و {لَا تَمْلِكُ}: جملة في موضع الصفة، والعائد محذوف؛ أي: لا تملك فيه، وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبه والأعرج وباقي السبعة: {يَوْمَ} بالفتح على الظرف، فعند البصريين ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

هي حركة الإعراب، وعند الكوفيين: يجوز أن تكون حركة بناء وهو على التقديرين في موضع رفع خبر لمحذوف تقديره: الجزاء يوم لا تملك، أو في موضع نصب على الظرف؛ أي: يدانون يوم لا تملك، أو على أنه مفعول به، أي: اذكر يوم لا تملك، ويجوز على رأي من يجيز بناءه أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا. وحكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة المنوّرة وهو يريد مكة، فقال لأبي حازم: كيف القدوم عليه غدًا؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. الإعراب {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه. {السَّمَاءُ}: فاعل لفعل محذوف يدل عليه المذكور تقديره: إذا انفطرت السماء انفطرت، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط له، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وهو {عَلِمَتْ نَفْسٌ}، وجملة {إذا} الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًا، وجملة {انْفَطَرَتْ} جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ومثلها قوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} تقديره: وإذا انتثرت، والجملة معطوفة على جملة {إذا} الأولى، ومثلها أيضًا قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}، ولكن {البحار} و {الْقُبُورُ} نائب فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور تقديره: وإذا فجرت البحار فجرت، وإذا بعثرت القبور بعثرت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب شرط غير جازم {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {عَلِمَتْ}؛ لأن العلم هنا عرفانية، وجملة {قَدَّمَتْ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما قدمته، وجملة {وَأَخَّرَتْ} معطوفة على جملة {قَدَّمَتْ}. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}.

{يَا أَيُّهَا}: {يا}: حرف نداء؛ {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه زائد، {الْإِنْسَانُ}: بدل من {أي}، أو عطف بيان له، وجملة النداء مستأنفة. {مَا غَرَّكَ} {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {غَرَّكَ}: فعل ماضٍ ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {مَا} {بِرَبِّكَ}: متعلق بـ {غرك} {الكريم}: صفة لـ {ربك}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {مَا} الاستفهامية، والجملة الاستفهامية جواب النداء لا محل لها من الإعراب، وقرىء: {ما أغرك}، فاحتمل أن تكون {مَا} استفهامية، وأن تكون تعجبية. {الَّذِي}: صفة ثانية لـ {ربك} مقررة للربوبية {خَلَقَكَ}؛ فعل ومفعول، وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول {فسواك}: عطف على {خَلَقَكَ}، {فَعَدَلَكَ}: معطوف على {سواك} {فِي أَيِّ صُورَةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {ربك}، {مَا}: زائدة، وجملة {شَاءَ}: صفة لـ {صُورَةٍ}، والرابط محذوف تقديره: شاءها، والمعنى: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من حسن ودمامة وطول وقصر وذكورة وأنوثة، و {عدلك}؛ أي: صيرك معتدل القامة متناسب الخلقة من غير تفاوت، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال؛ أي: ركبك حال كونك حاصلًا في بعض صورة شاءها، و {أي} هنا: وصفية، وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بـ {عدلك}، ويكون في {أَيِّ} معنى التعجب؛ أي: فعدلك في صورة عجيبة {رَكَّبَكَ} معطوفة على {خَلَقَكَ}. {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر، {بَلْ}: حرف عطف وإضراب على جملة محذوفة يدل عليها السياق تقديرها: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تكذبون بالدين {تُكَذِّبُونَ}: فعل وفاعل {بِالدِّينِ}: متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، {وَإِنَّ} {الواو} حالية أو استئنافية، {إِنَّ}: حرف نصب {عَلَيْكُمْ}: خبر مقدم لـ {إِنَّ} {لَحَافِظِينَ}: {اللام}: حرف ابتداء، {حافظين}: اسم {إِنَّ} مؤخر، أو صفة لاسمها؛ أي: إن ملائكة حافظين، والجملة في محل النصب حال من الواو في {تُكَذِّبُونَ}، أو مستأنفة مسوقة لإخبارهم بذلك ليرتدعوا عما هم عليه {كِرَامًا}: صفة أولى لـ {حافظين} و {كَاتِبِينَ}: صفة ثانية له،

وجملة {يَعْلَمُونَ} صفة ثالثة له {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {يَعْلَمُونَ}، وجملة {تَفْعَلُونَ} صلتها، والعائد محذوف تقديره: ما تفعلونه. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)}. {إِنَّ الْأَبْرَارَ}: ناصب واسمه. {لَفِي}: {اللام}. حرف ابتداء {في نعيم}. جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر تقديره: لم يكتبون ذلك، فكأنه قيل: ليجازى الأبرار بالنعيم، والفجار بالجحيم، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ}: ناصب واسمه {لَفِي جَحِيمٍ}: خبرها، والجملة معطوفة على ما قبلها. {يَصْلَوْنَهَا}: فعل وفاعل ومفعول به {يَوْمَ الدِّينِ}: متعلق بـ {يَصْلَوْنَهَا}، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: {لَفِي جَحِيمٍ}، ويجوز أن تكون جملة {يَصْلَوْنَهَا} مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر تقديره: وماذا يؤول إليه أمرهم في الجحيم. {وَمَا} {الواو}: حالية {مَا}: حجازية {هُمْ}: اسمها {عَنْهَا}: متعلق بـ {غائبين} {بِغَائِبِينَ}: خبرها، و {الباء}: زائدة، والجملة في محل النصب حال من فاعل، {يَصْلَوْنَهَا}، أو مستأنفة. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. {وَمَا} {الواو}: استئنافية {وَمَا}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ}: خبره، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، {أدرى} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَا}، و {الكاف}: مفعول أول، {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ معناه التهويل والتعظيم {يَوْمُ الدِّينِ}: خبره، والجملة المعلقة بالاستفهام سدت مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ، {مَا}: مبتدأ، و {أَدْرَاكَ}: خبره والجملة معطوفة على ما قبلها، {مَا يَوْمُ الدِّينِ} جملة سدت مسد المفعول الثاني {يَوْمَ}: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو إلخ، أو بدل من {يَوْمَ}، أو منصوب على الظرفية بفعل محذوف تقديره: يجازون يوم لا تملك، أو باذكر محذوفًا. وجملة {لَا

تَمْلِكُ نَفْسٌ} في محل الجر مضاف إليه لـ {يومَ} {لِنَفْسٍ}: متعلق بـ {تَمْلِكُ}، أو حال من {شَيْئًا}، و {شَيْئًا}: مفعول به، {وَالْأَمْرُ}: مبتدأ {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بمحذوف، حال من الضمير المستكن في الخبر {لِلَّهِ}: خبر {الْأَمْرُ}، والجملة الاسمية مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {انْفَطَرَتْ}؛ أي: انشقت لنزول الملائكة، انفعل من فطر، وكذلك {انْتَثَرَتْ}؛ أي: تساقطت متفرقة، افتعل من نثر، وهو التفريق. {فُجِّرَتْ}؛ أي: فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز، واختلط عذبها بملحها من التفجير، والتضعيف للمبالغة. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}؛ أي: قلب ترابها الذي حثي على موتاها وأزيل، وأخرج من دفن فيها، ونظيره: بحثر لفظًا ومعنى، يقال: بعثرت المتاع وبحثرته؛ أي: جعلت أسفله أعلاه، وجعل أسفل القبور أعلاها إنما هو بإخراج موتاها، وقيل لسورة براءة: المبعثرة؛ لأنها بعثرت أسرار المنافقين، وهما - أي: بعثر وبحثر - مركبان من البعث والبحث مع راء ضمت إليهما، وقال الراغب: من رأى تركيب الرباعي والخماسي، نحو هلل وبسمل إذا قال: لا إله إلا الله، وبسم الله، يقول: إن بعثر مركب من بعث وأثير؛ أي: قلب ترابها وأثير ما فيه، وهذا لا يبعد في هذا الحرف، فإن البعثرة تتضمن معنى بعث وأثير، وقال أبو الجراح: بحثر الشيء وبعثره؛ أي: استخرجه وكشفه، وقال الفراء: بحثر متاعه وبعثره: فرقه وقلب بعضه على بعض. {مَا قَدَّمَتْ}؛ أي: من أعمال الخير {وَأَخَّرَتْ}؛ أي: منها بالكسل والتسويف {مَا غَرَّكَ}؛ أي: أيُّ شيء خدعك وجرأك على العصيان {الْكَرِيمِ}؛ أي: العلي العظيم، وقيل: الكريم من يبادر بالنوال قبل السؤال. {فَسَوَّاكَ}؛ أي: جعل أعضاءك سوية تامة الخلق سليمة معدة لمنافعها، وأصله: سويك بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَعَدَلَكَ}؛ أي: جعلك معتدلًا متناسب الخلق {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}؛

أي: وكبك في صورة هي من أعجب الصور وأحكمها، وكلمة {ما} جاءت زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه، وهي من طريقة متبعة في كلاههم عند إرادة التهويل، والسلوك سبيل التعظيم. {كَلَّا} كلمة تفيد نفي شيء قد تقدم وتحقيق غيره. {بَلْ تُكَذِّبُونَ} قال الراغب: {بَلْ} هنا لتصحيح الثاني، وإبطال الأول، كأنه قيل: ليس هنا ما يقتضي أن يغوهم به تعالى شيء، ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه. {بِالدِّينِ}؛ أي: الجزاء. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}؛ أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير. {كِرَامًا} على الله {كَاتِبِينَ} لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود؛ ليقع الجزاء على غاية التحرير. تنبيه: هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين. {إِنَّ الْأَبْرَارَ} جمع: بر بفتح الباء، وهو من يفعل البر بكسرها، ويتقي الله في كل أفعاله. {وَإِنَّ الْفُجَّارَ} جمع: فاجر، وهو التارك لما شرعه الله تعالى وحدَّه لعباده. {يصلونها}؛ أي: يقاسون حرها، أصله: يصليونها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {يَوْمَ الدِّينِ}؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)} أصله: غايبين، جمع: غائب من غاب يغيب، أبدلت الياء في الوصف همزة حملًا له على الفعل في الإعلال لما قلبت ياؤه - غ ي ب - ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَمَا أَدْرَاكَ}؛ أي: ما أعلمك وعرفك، أصله: أدريك بوزن أفعل، قلبت ألياء ألفًا لتحركها بعد فتح.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}؛ حبث شبه الكواكب بجواهر انقطع سلكها، فتناثرت متفرقة، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له شيء من لوازمه، وهو الانتثار على طريقة الاستعارة المكنية. ومنها: إفراد {نَفْسٌ} وتنكيرها في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} للدلالة على حقارتها وضعفها عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى. ومنها: الطباق بين {قَدَّمَتْ} و {أَخَّرَتْ}، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: الاستفهام للاستهجان والتوبيخ في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. ومنها: التعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدار الاغترار حسبما يغوبه الشيطان، ويقول له: افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان. ومنها: المقابلة اللطيفة بين الأبرار والفجار في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} فقد قابل الأبرار بالفجار، والنعيم بالجحيم. ومنها: التنوين في قوله: {لَفِي نَعِيمٍ} للتفخيم والتعظيم، وقوله: {لَفِي جَحِيمٍ} للتهويل والتخويف. ومنها: الإطناب بإعادة الجملة في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)} لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته؛ كأنه فوق الوصف والخيال. ومنها: إظهار {يَوْمُ الدِّينِ} في موضع الإضمار إظهارًا لفخامته، وتأكيدًا لهوله. ومنها: الوصل في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} لما فيه من مقتضيات الوصل، وهو اتفاق الجملتين في الخبرية والإنشائية مع الاتصال؛ أي: الجامع بينهما، وهو هنا التضادُّ.

ومنها: الترجيح في هاتين الآيتين، وهو ضرب من السجع، وذلك أن تكون كل لفظة في صدر البيت، أو فقرة النثر موافقة لنظيرتها في الوزن والروي والإعراب، ومما ورد منه شعرًا قول أبي فراس: وَأَفْعَالُنَا لِلْرَّاغِبِيْنَ كَرِيْمَةٌ ... وَأَمْوَالُنَا لِلْطَّالِبِيْنَ نِهَابُ ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. * * *

خلاصة ما في هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على ما يلي: 1 - وصف بعض أهوال يوم القيامة. 2 - تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشكر. 3 - بيان أن أعمال الإنسان بها موكلون كرام كاتبون. 4 - بيان أن الناس في هذا اليوم العظيم إما بررة منعمون، وإما فجرة معذبون (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة الانفطار بعون مالك الأقطار، في السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم قبيل الظهر من شهور سنة: 27/ 8/ 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة المطففين

سورة المطففين سورة المطففين، وتسمى سورة التطفيف، نزلت بعد سورة العنكبوت بين مكة والمدينة في مهاجرته - صلى الله عليه وسلم -، فاستتمت بالمدينة، قال القرطبي: وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة، وقال مقاتل أيضًا: هي أول سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات، من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} إلى آخرها، وقال (¬1) الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة، وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة المطففين بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وقيل: فيها آية مكية وهي قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ...} إلخ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي في "الشعب" قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة .. كانوا من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله تعالى؛ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وهي (¬2) ست وثلاثون آية ومئة وتسع وتسعون كلمةً وسبع مئة وثمانون حرفًا، وقال ابن حزم: وكلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة التطفيف أخذًا من المطففين. ومناسبتها لما قبلها (¬3): أنه سبحانه قال فيما قبلها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}، وذكر هنا ما يكتبه الحافظون بقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} يجعل في عليين أو في سجين، فقد فصل سبحانه في هذه السورة ما أجمله في سابقتها، فذكر فيها نوعًا من أنواع الفجور، وهو التطفيف في المكيال والميزان، ثم ذكر نوعًا آخر، وهو التكذيب بيوم ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

الدين، ثم أعقبه بذكر جزائهم على التكذيب وتوبيخهم عليه. قال الألوسي في "تفسيره": والمناسبة بينها وبين ما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه .. ذكر عزّ وجلّ هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة، وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية، وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئًا في تثمير المال وتنميته، مع اشتمال هذه السورة على شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة التفصيل، كما لا يخفى. وكأن هذه السورة جاءت شرحًا وتفصيلًا للسورة السابقة، وهي سورة الانفطار، وبيانًا له، فسبحان الذي جعل هذا القرآن هدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ورحمة للعالمين، وضياء للأبصار، ونورًا للقلوب، ونظامًا للحكم، ومنهاجًا للأخلاق، ودستورًا للعالمين عصمةً لمن تمسك به، ونجاةً لمن اهتدى به. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}. المناسبة قد مر لك قريبًا في بيان المناسبة بين السورتين أن الله سبحانه فصل (¬1) في هذه السورة ما أجمله في سابقتها، فذكر فيها نوعًا من أنواع الفجور، وهو التطفيف في المكيال والميزان، ثم ذكر نوعًا آخر، وهو التكذيب بيوم الدين، ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعده الله به من العرض والحساب، وعذاب الكفار والعصاة .. أمرهم بالكف عما هم ¬

_ (¬1) المراغي.

فيه، وذكر أن الفجار قد أعد لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها، فويل للمكذبين بيوم الجزاء، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين، وانتهك حرماته، وإذا تليت عليهم آيات القران قالوا: ما هي إلا أقاصيص الأولين نقله محمد عن السابقين، وليست وحيًّا يوحى كما يدعي. قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (¬1) أنهم قالوا: إن القرآن أساطيرُ الأولين، وليس وحيًّا من عند الله تعالى .. أردف ذلك ببيان أن الذي جرأهم على ذلك هي أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها، فعميت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة، ثم رد عليهم فرية كانوا يقولونها ويكثرون من تردادها، وهي: إن كان ما يحدث به محمد صحيحًا .. فنحن سنكون في منزلة الكرامة عند ربنا، فأبان لهم أنهم كاذبون، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها، ويقال لهم: هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال الفجار وحال المطففين، وبيَّن منزلتهم عند الله يوم القيامة .. أتبعه بذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم، وصدقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير في الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم في كتاب مرقوم اسمه: عليون، يشهده المقربون من الملائكة، وبعدئذٍ عدد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان، وفي ذلك ترغيب في الطاعة، وحفز لعزائم المحسنين ليزدادوا إحسانًا، ويدعوا الطرق المشتبهة الملتبسة، ويقيموا على الطريق المستقيم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات .. أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

المؤمنين في الحياة الدنيا، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم في الحياة الأولى. أسباب النزول سبب نزولها: ما أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة .. كانوا من أبخس الناس كيلًا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلًا إلى يومهم هذا، وورد عن ابن عباس أيضًا قال: هي أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم، كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفى الناس كيلًا إلى يومهم هذا كما مر آنفًا. وقال قوم: نزلت في رجل كان بالمدينة يعرف بأبي جهينة، واسمه: عمرو، وكان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، قاله أبو هريرة رضي الله عنه. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَيْلٌ}؛ أي: هلاك عظيم، وشر شديد، وعذاب أليم كائن {لِلْمُطَفِّفِينَ}؛ أي: للناقصين (¬1) في المكيال والميزان بالشيء القليل التافه على سبيل الخفية. قال ابن كيسان (¬2): الويل: كلمة تقال لكل مكروب واقع في البلية، فقولك: ويل لك، عبارة عن استحقاق المخاطب لنزول البلاء والمحنة عليه، الموجب له أن يقول: واويلاه ونحوه. وقيل: وي لفلان؛ أي: الحزن، فقرن بلام الإضافة تخفيفًا، وهو مبتدأ، وإن كان نكرة لوقوعه في معرض الدعاء على ما سبق بيانه في المرسلات، خبره قوله: {لِلْمُطَفِّفِينَ}؛ أي: كائن للباخسين حقوق الناس في المكيال والميزان، فإن التطفيف البخس في الكيل والوزن، والنقص والخيانة فيهما؛ بأن لا يعطي المشتري حقه تامًا كاملًا، وذلك لأن ما يبخس شيء خفيف؛ أي: يسير حقير على وجه الخفية من جهة دناءة الكيال والوزان وخساستهما؛ إذ الكثير يظهر، فيمنع منه، ولذا سمي: مطففًا. ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان.

[2]

قال الراغب: يقال: طفف الكيل إذا قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه. وقال سعدي المفتي: والظاهر: أن بناء التفعي للتكثير؛ لأن البخس لما كان من عادتهم .. كانوا يكثرون التطفيف، ويجوز أن يكون للتعدية. انتهى. وروي: أن رسول الله قدم المدينة، وكان أهلا من أبخس الناس كيلًا، فنزلت، فخرج فقرأها عليهم وقال: "خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنيين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر"؛ فعملوا بموجبها، وأحسنوا الكيل، فهم أوفى الناس كيلًا إلى اليوم. قال مكي بن أبي طالب (¬1): والمختار في {وَيْلٌ} وشبهه إذا كان غير مضاف: الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافًا أو معرفًا .. كان الاختيار فيه النصب نحو قوله تعالى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا}، والمرافى بالويل هنا: شدة العذاب، أو نفس العذاب، أو الشر الشديد - كما مر - أو هو وادٍ في جهنم. ومعنى الآية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}؛ أي: عذاب، (¬2) وخزي شديد يوم القيامة لمن يطفف وينقص في المكيال والميزان، وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد من قبل أنه كان فاشيًا منتشرًا بمكة والمدينة، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه، ولا يوفون حق المشتري. روي: أنه كان بالمدينة رجل يقال له: أبو جهينة، له كيلان، أحدهما كبير، والآخر صغير، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار .. اشترى بالكيل الكبير، وإذا باع للناس .. كال للمشتري بالكيل الصغير. وهذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى على نفوسهم الجشع، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتهددهم بقوله "خمس بخمس" كما مر آنفًا. 2 - وقد بين سبحانه عمل المطففين الذين استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله: ¬

_ (¬1) الشوكاني (¬2) المراغي.

[3]

{الَّذِينَ ...} إلخ (¬1) صفة كاشفة للمطففين، شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الذم والدعاء بالويل {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ}؛ أي: إذا أخذوا مكيلهم وحقوقهم بحكم الشراء ونحوه من الناس، والاكتيال: الأخذ بالكيل، كالاتزان: الأخذ بالميزان، ولم يقل: اتزنوا لأن الكيل والوزن المراد بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر. {يَسْتَوْفُونَ}؛ أي: يأخذونه وافيًا وافرًا تامًا، والاستيفاء: عبارة عن الأخذ الوافي، وتبديل كلمة من بـ {عَلَى} لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضرُّ بهم، لكن لا على اعتبار الضرر في حيز الشرط الذي تتضمنه كلمة {إذا} لإخلاله بالمعنى، بل في نفس الأمر بموجب الجواب، فإن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيًا من غير نقص، بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس الكيل، وتحريك المكيال، والاحتيال في ملئه، فيسرقون أفواه المكاييل، وألسنة الموازين. 3 - {وَإِذَا كَالُوهُمْ}؛ أي (¬2): وإذا كالوا للناس المبيع ونحوه {أَوْ وَزَنُوهُمْ}؛ أي: وزنوه للناس، فحذف الجار، وأوصل الفعل كما قال في "تاج المصادر": وزنت فلانًا درهمًا، ووزنت لفلان بمعنى، والأصل اللام، ثم حذفت، فوصل الفعل، ومنه الآية. انتهى. فلفظ {هم} منصوب المحل على المفعولية، لا مرفوعه على التأكيد للواو؛ لأن واو الجمع، إذا اتصل به ضمير المفعول .. لا يكتب بعده الألف كما في نصروك، ومنه الآية إذا لم يكتب الألف في المصحف، وإذا وقع في الطرف بأن يكون الضمير مرفوعًا واقعًا للتأكيد .. فحينئذٍ يكتب بعده الألف؛ لأن المؤكد ليس كالجزء مما قبله بخلاف المفعول، وأما نحو: شاربوا الماء، فالأكثر على حذف الألف؛ لقلة اتصال واو الجمع بالاسم هذا. فإن قلت: خط المصحف خارج عن القياس؟ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

قلت: الأصل في أمثاله إثباته في المصحف، فلا يعدل عنه. ويروى (¬1) عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدًا لما في {كالوا} و {وزنوا} ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا، ثم يقولان: {هم يخسرون}؛ أي: إذا كالوا هم لغيرهم، أو وزنواهم لغيرهم .. ينقصون، وإثبات الألف قبل {هم} لو لم يكن معتادًا في زمان الصحابة .. لمنع من إثباتها في سائر الأعصار. اهـ من "المراح". قال أبو عبيد (¬2): والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، ولذلك كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين .. لكانتا كالواو، أو وزنوا بالألف. والأخرى: أن يقال: كلتك، ووزنتك بمعنى: كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي، كما يقال: شكرتك وشكرت لك، وقيل: هو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف: المكيل والموزون؛ أي: وإذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا موزونهم {يُخْسِرُونَ}، أي: ينقصون حقوق الناس مع أن وضع الكيل والوزن إنما هو للتسوية والتعديل، يقال: خسر الميزان وأخسره بمعنى، كقوله: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ولعل ذكر (¬3) الكيل والوزن في صورة الإخسار، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء، بأن لم يقل: إذا اكتالوا على الناس أو اتزنوا، لما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكنهم منه عند الكيل والوزن، كما قال في "الكشاف": كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة؛ لأنهم يزعزعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا .. كالوا أو وزنوا؛ لتمكنهم من البخس في النوعين جميعًا. انتهى. ولأن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب، دون التطفيف في الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير، ولأن ما يوزن أكثر قيمةً في كثير من الأحوال مما يكال، ويؤيده الاقتصار على التطفيف في الكيل في الحديث المذكور سابقًا، وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين؛ لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملتهم في الأخذ والإعطاء، لا في ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[4]

خصوصية المأخوذ والمعطى. قال أبو عثمان رحمه الله: حقيقة هذه الآية عندي: هو من يحسن العبادة على رؤية الناس ويسيء إذا خلا. والمعنى (¬1): أي إذا كان لهم عند الناس حق في شيء من المكيلات .. لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيًا كاملًا، وإذا كان لأحد عندهم شيء، وأرادوا أن يؤدوه له .. أعطوه ناقصًا غير وافٍ، وكما يكون التطفيف في الكيل والميزان .. يكون في أشياء أخرى، فمن استأجر عاملًا، ووقف أمامه يراقبه، ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملًا أجيرًا لم يراقب ربه في العمل، ولم يقم به على الوجه الذي ينبغي أن يقوم به .. يكون واقعًا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبًا لأليم العذاب مهما يكن عمله، جلَّ، أو حقر، وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت، فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيلٍ ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها اعتمادًا على قوة الملك، أو نفوذ السلطان، أو باستعمال الحيل المختلفة. لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا في عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين. 4 - ثم هول في شأن هذا العمل وخوفهم، فقال: {أَلَا يَظُنُّ} ويوقن {أُولَئِكَ} المطففون الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} 5 - لمجيء {يَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يُقادَر قدر عظمه، وقدر عظم ما فيه من الأهوال، ومحاسبون فيه على مقدار الذرة والخردلة، والظن هنا (¬2): بمعنى اليقين، أي: لا يوقنون ذلك، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل: الظن على بابه. والمعنى: إن كانوا لا يستيقنون البعث .. فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه، وببحثوا عنه، ويتركوا ما يخشون من عاقبته، فإن من يظن ذلك وإن كان ظنًا ضعيفًا في حد الشك والوهم .. لا يتجاسر على أمثال هاتيك القبائح، فكيف بمن يتيقنه؟ فذكر الظن للمبالغة في المنع عن التطفيف، وإلا فالمؤمن لا يكفي له الظن في أمر البعث والمحاسبة، بل لا بد من الاعتقاد الجازم. و {أَلَا} (¬3) هنا ليست هي التي للتنبيه؛ لأن ما بعد حرف التنبيه مثبت، وهنا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[6]

منفي؛ لأن {أَلَا} التنبيهية إذا حذفت لا يختل المعنى نحو قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}، وإذا حذفت {أَلَا} هذه اختل المعنى، بل الهمزة الاستفهامية الإنكارية دخلت هنا على لا النافية. وجوز أن تكون للعرض والتخصيص على الظن، واليوم العظيم: هو يوم القيامة، ووصفه بالعظيم لكونه زمانًا لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب، ودخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار. والمعنى: أي (¬1): إن تطفيف الكيل والميزان، واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة، ويحاسب على عمله؛ إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل، ولا بخس الميزان. والخلاصة: أنه لا يَجْسُر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم، فما بالك بمن يستيقن ذلك. 6 - ثم وصف سبحانه هذا اليوم فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} بتقدير المضاف؛ أي: لمجرد أمره وحكمه بذلك، لا لشيء آخر، أو لمحاسبة رب العالمين ومجازاته، فيظهر هناك تطفيفهم ومجازاتهم، أو يقومون من قبورهم؛ ليرد ربّ العالمين أرواحهم إلى أجسادهم. وانتصاب (¬2) الظرف بـ {مَبْعُوثُونَ} المذكور قبله، أو بفعل مقدر يدل عليه {مَبْعُوثُونَ}؛ أي: يبعثون يوم يقوم الناس، أو على البدل من محل {لِيَوْمٍ}، وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل، وفي تخصيص (¬3) {رب العالمين} من بين سائر الصفات إشعار بالمالكية والتربية، فلا يمنع عليه الظالم القوي لكونه مملوكًا مسخرًا في قبضة قدرته، ولا يترك حق المظلوم الضعيف؛ لأن مقتضى التربية أن لا يضيع لأحد شيئًا من الحقوق، وفي هذه التشديدات إشارة إلى أن التطفيف، وإن كان يتعلق بشيء حقير، لكنه ذنب كبير، قيل: كل من نقص حق الله من زكاة وصلاة وصوم، فهو داخل تحت هذا الوعيد، وقيل: المراد بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ}: قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم، وقيل: المراد: قيامهم بما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[7]

عليهم من حقوق العباد، وقيل: المراد: قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأول أولى. 7 - وقوله: {كَلَّا} هي للردع والزجر عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فيحسن الوقف عليه، فيستأنف بما بعدها، وقال أبو حاتم: إن {كَلَّا} بمعنى: حقًا، فتكون متصلة بما بعدها على معنى حقًا {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}، وجملة {إِنَّ} على الأول تعليل للردع؛ أي: ازدجروا وكفوا مما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب والمجازاة، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم، وقد أعد الله لهم كتابًا أحصى فيه أعمالهم، وكذا جميع ما يأتي، من {كَلَّا} من هذه السورة. والحاصل: أن {كَلَّا} إنْ كانت بمعنى حقًا .. فهي ابتداء كلام متصلة بما بعدها، فيكون الوقف على ما قبلها، وإنْ كانت بمعنى الردع والزجر .. فهي متصلة بما قبلها متممة له، فيكون الوقف عليها. والكتاب مصدر (¬1) بمعنى: المكتوب، كاللباس بمعنى: الملبوس، أو على حاله بمعنى الكتابة، واللام للتأكيد، و {سِجِّينٍ} علم لكتاب جامع هو ديوان الشر، دوَّن أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين، منقول من وصف؛ أي: ساجن كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد، وهو التعريف، وأصله: فعيل من السجن، وهو: الحبس مبالغة الساجن، كخمير وسكير وفسيق من الخمر والسكر والفسق، كما قاله أبو عبيدة والمبرد والزجاج، أو لأنه مطروح - كما قيل - تحت الأرض السابعة في مكان مظلم وحش، وهو مكان إبليس وذريته إذلالًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، وتشهده الشياطين المدحورون، كما أن كتاب الأبرار يشهده المقربون، فالسجين مبالغة المسجون. والمعنى: أن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون؛ أي: ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون فيه قبائح أعمالهم المذكورين المختص بالشر، وهو السجين. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

والخلاصة: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان المسمى بالسجين، فعيل من السجن، وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، وهذا لا ينافي في كونه اسمًا لجبٍّ في جهنم، أو لأسفل سبع أرضين مكان أرواح الكفار؛ لجواز الاشتراك في الاسم. 8 - ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)}؛ أي: هو بحيث لا يبلغه دراية أحد، و {مَا} اسم (¬1) استفهام إنكاري مبتدأ، و {أَدْرَاكَ} خبره، و {مَا سِجِّينٌ} مبتدأ وخبر، و {مَا} استفهامية أيضًا، والجملة سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}، والأول الكاف، والاستفهام الأول للإنكار، والثاني للتفخيم والتعظيم، والمعنى: ما أعلمك يا محمد عظمة سجين وفظاعته؛ أي: أنت لا تعلمه في الدنيا تفصيلًا، وإنما تعلمه في الآخرة، أو المراد: أنت لا تعلمه قبل نزول الوحي به عليك، وإنما علمته بالوحي. تأمل. 9 - وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} تفسير (¬2) وبيان للكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} وليس تفسير السجين؛ أي: هو كتاب مرقوم؛ أي: مسطور بيِّن الكتابة، بحيث كل من نظر إليه يطلع على ما فيه بلا دقة نظر، وإمعان توجه، مكتوب فيه أعمالهم، مثبت عليهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من راه أنه لا خير فيه لأهاليه؛ أي: ذلك الكتاب مشتمل على علامة دالة على شقاوة صاحبه، وكونه من أصحاب النار، وكونه علامة الشر يستفاد من المقام؛ لأنه مقام التهويل، وقيل: الرقم: الختم بلغة حمير. وقال القفال: قوله {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)}: ليس تفسير السجين، بل هو خبر ثانٍ لـ {إِنَّ}، والمعنى: إن كتاب الفجار لفي سجين، وإنه كتاب مرقوم، وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)} وقع معترضًا بين الخبرين. وقصارى ما سلف (¬3): إن للشر سجلًا وصحيفة دونت فيها أعمال الفجار، وهو كتاب مسطور بيَّن الكتابة، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين، كما تقول: إن كتاب حساب قرية كذا في السجل الفلاني المشتمل على ¬

_ (¬1) الفتوحات. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[10]

حسابها وحساب غيرها من القرى، فلكل فاجر من الفجار صحيفة، وهذه الصحائف في السجل العظيم المسمى بسجين. 10 - وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)} كلام متصل بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ويل عظيم، وهلاك شديد يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين، وقال بعضهم: أي يوم إذ أعطى ذلك الكتاب واقع لمن وقع منه التكذيب بالبعث، وبما جاءت به الرسل. 11 - ثم بيَّن سبحانه هؤلاء المكذبين، فقال: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)} صفة ذم لـ {المكذبين}، أو بدل منه كقولك: فعل ذلك فلان الفاسق، الفاسق الخبيث؛ لأن تكذيبهم بيوم الدين علم من قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ} إلخ. والمعنى: أي شدة عذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره، أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب، وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم، والمداومة على اقتراف السيئات. 12 - ثم بيَّن أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ}؛ أي: بيوم الدين والجزاء {إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ}؛ أي: متجاوز عن حدود النظر والاعتبار؛ قال في "التقليد": حتى استقصر قدرة الله على الإعادة مع مشاهدته للبدء، كالوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث وأضرابهما. {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الإثم، منهمك في الشهوات الناقصة الفانية، بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية، وحملته على إنكارها، فالاعتداء دل على إهمال القوة النظرية التي كمالها أن يعرف الإنسان وحدة الصانع، واتصافه بصفات الكمال مثل العلم والإرادة والقدرة ونحوها، والإثم دل على إهمال القوة العملية التي كمالها أن يعرف الإنسان الخير لأجل العلم به والمعنى (¬1): أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمي عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم؛ إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة؛ لأنه يأبى النظر في أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها إلا أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهون عليها الأمر بالتغافل. ¬

_ (¬1) المراغي.

[13]

أما من كان ميالًا إلى العدل، واقفًا عند ما حد الله لعباده في شريعته، وسننه في نظام الكون، فأيسر شيء عليه التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه. 13 - {إِذَا تُتْلَى} قرأ الجمهور (¬1): {إذا}، والحسن: {أئذا} بهمزة الاستفهام التوبيخي، وقرأ الجمهور: {تُتْلَى} بتاء التأنيث، وأبو حيوة وابن مقسم وأبو السمال والأشهب العقيلي والسلمي بالياء التحتانية. {عليه}؛ أي: على ذلك المعتدي {آيَاتُنَا} الناطقة بذلك {قَالَ} من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}؛ أي: هي حكايات الأولين وأخبارهم الباطلة، وأحاديثهم الكاذبة. قال في "فتح الرحمن": هي الحكايات التي سطرت قديمًا، وهي جمع أسطورة بالضم، وإسطارة بالكسر، وهي الحديث الذي لا نظام له. والمعنى: أي وإذا قرىء على هذا المعتدي الأثيم القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أنكر كونه منزلًا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين أخذها محمد من غيره من السابقين، ونحو الآية قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}. وقد يكون المعنى (¬2): إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها، ولم تجز عليهم، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعموا أن تكذيبنا بها يعتبر عجلةً منا، فإنا إنما تأسينا في تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا. 14 - {كَلَّا} ردع وزجر للمعتدي الأثيم، يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين عن ذلك القول الباطل، وتكذيب له فيه، ويجوز أن تكون ردعًا عن مجموع التكذيب. ثم بيَّن السبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين، فقال: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قرأ حفص (¬3) عن عاصم: {بَلْ} بإظهار اللام مع ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

سكتة عليها خفيفة بدون القطع، ويبتدىء {رَانَ}، وقرأ الباقون: بإدغام اللام في الراء، ومنهم حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر عن عاصم يميلون فتحة الراء، قال بعض المفسرين (¬1): هرب حفص من اجتماع ثقل الراء المفخمة والإدغام. انتهى. ويرد عليه: {قُل رَبِّ} فإنه لا سكتة فيه، بل هو بإدغام أحد المتقاربين في الآخر، فالوجه: أنه إنما سكت حفص على لام {بَلْ رَانَ}، وكذا على نون {مَنْ رَاقِ} خوف اشتباهه تثنية: البر، ومبالغة: مارق؛ حيث يصير: بران، ومراق، وقال الزمخشري: وقرىء بإدغام اللام في الراء، وبالإظهار والإدغام أجود، وأميلت الألف، وفخمت الراء. انتهى. قال أبو عبيدة (¬2): ران على قلوبهم - غلب عليها -: رينًا وريونًا، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك. قال الفراء: إنه كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. قال الحسن: الرين: الذنب على الذنب، حتى يعمي القلب. وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين. والإقفال: أشد من الطبع. قال الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، و {ما} في قوله: {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} موصولة، والعائد محذوف، ومحلها الرفع على الفاعلية. والمعنى (¬3): ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها هذه المقالات الباطلة، بل ركب قلوبهم وغلب عليهم ما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي حتى صارت كالصدأ في المرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد كلما أذنب ذنبًا .. حصل في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه". والخلاصة (¬4): أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها، فصارت سببًا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور، ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[15]

والصدق الواضح، والدليل اللائح، 15 - وبعد أن بيَّن منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين .. دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة، فقال: {كَلَّا} ردع وزجر عن الكسب الرائن؛ أي: الموقع في الرين {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن المكذبين، والجار في قوله: {عَنْ رَبِّهِمْ}، والظرف في قوله: {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين، متعلقان بقوله: {لَمَحْجُوبُونَ} فلا يرونه؛ لأنهم بأكسابهم القبيحة صارت مرآة قلوبهم ذات صدأ، وسرت ظلمة الصدأ منها إلى قوالبهم، فلم يبق محل لنور التجلي، بخلاف المؤمنين، فإنهم يرونه تعالى؛ لأنهم بأكسابهم الحسنة صارت مراة قلوبهم مصقولة صافية، وسرى نور الصقالة والصفوة منها إلى قوالبهم، فصاروا مستعدين لانعكاس نور التجلي في قلوبهم وقوالبهم، وصاروا وجوهًا من جميع الجهات، بل أبصارًا بالكلية. والمعنى: أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته، ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده، كما قال: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ}. سئل (¬1) مالك بن أنس رحمه الله عن هذه الآية، فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه، لا بد أن يتجلى لأوليائه حتى يروه، يعني: احتج الإمام مالك بهذه الآية على مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل .. لم يبقَ للتخصيص فائدة، فالآية من جملة أدلة الرؤية. وقال جل ثناؤه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} فأعلم جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون، وقيل (¬2): {كَلَّا} بمعنى حقًا؛ أي: حقًا إنهم - يعني: الكفار - عن ربهم يوم القيامة محجوبون لا يرونه أبدًا، قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم. 16 - ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال: {ثُمَّ إِنَّهُمْ} مع كونهم محجوبين عن رؤية الله تعالى {لَصَالُو الْجَحِيمِ}؛ أي: داخلوا النار، ومباشروا حرها من غير حائل، أصله صالون، حذفت نونه للإضافة، و {ثُمَّ} لتراخي الرتبة، فإن صِلي الجحيم أشد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[17]

من الحجاب والإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة، فإن الحجاب، وإن كان من قبيل العذاب الروحاني، وهو أشد من العذاب الجسماني، لكن مجرد النجاة من النار أهون من العذاب؛ لأن في العذاب الحسي حصول العذابين لما لا يخفى. والمعنى: أي وبعد أن يحجبوا في عرصات القيامة عن الدنو من ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونا، يقذف بهم في النار، ويصلون سعيرها، ويقاسون حرها. 17 - ثم أرشد إلى أنهم حينئذٍ يبكَّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام، فقال: {ثُمَّ يُقَالُ} لهم توبيخًا وتقريعًا من جهة الزبانية، وإنما طوى ذكرهم؛ لأن المقصود ذكر القول لا القائل، مع أن فيه تعميمًا لاحتمال القائل، وبه يشتد الخوف؛ أي: تقول لهم خزنة جهنم توبيخًا لم: {هَذَا} العذاب، وهو مبتدأ، خبره قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ} في الدنيا {بِهِ} متعلق بقوله: {تُكَذِّبُونَ} فانظروه وذوقوه، وتقديمه لرعاية الفاصل لا للحصر، فإنهم كانوا يكذبون أحكامًا كثيرة. والمعنى (¬1): أي هذا الذي عوقبتم به هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدًا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بانفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه، وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكر - وهو يتألم - بأن وسائل نجاته. من مصابه كانت في متناول يديه، وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريًّا. 18 - وقوله {كَلَّا} ردع عما كانوا عليه بعد ردع، وزجر بعد زجر، والتكرير للتأكيد، وجملة قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ}؛ أي: إن الأعمال المكتوبة للأبرار على أن {الكتابَ} مصدر مضاف إلى مقدر. {لَفِي عِلِّيِّينَ} جملة مستأنفة لبيان ما تمضنته {كَلَّا} ويجوز أن تكون {كَلَّا} بمعنى: حقًا، والأبرار هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم؛ أي (¬2): إن كتاب أعمال الأبرار لفي عليين؛ أي: لفي ديوان جامع لجميع أعمال الأبرار، فـ {عِلِّيِّينَ} علم لديوان الخير الذي دون فيه ما عملته ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[19]

الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع عِلي فِعِّيلٌ، من العلو؛ للمبالغة فيه، سمي بذلك؛ إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريمًا له وتعظيمًا. وروى: أن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا إلى ما شاء الله من سلطانه .. أوحى إليهم؛ إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله. أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، لانه لم يخلص في عمله، فاجعلوه في السجين. وفيه إشارة إلى أن الحفظة لا يطلعون على الإخلاص والرياء إلا بإطلاع الله تعالى. ومعنى الآية (¬1): أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين، فإن كتاب أعمال الأبرار مودع في أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة تشريفًا لهم، وتعظيمًا لشأنهم، كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم، ولا يعني بأمرهم. 19 - ثم عظم شأن {عِلِّيِّينَ}، وفخم أمره، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)}؛ أي: وما أعلمك يا محمد أيُّ شيء عليون على جهة التفحيم والتعظيم لعليين؛ أي: هو خارج عن دائرة دراية الخلق، 20 - ثم فسره وبين المراد منه، فقال: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)}؛ أي: هو (¬2) كتاب مسطور بيِّن الكتابة، يقرأ بلا تكلف، أو معلم بعلامة تدل على سعادة صاحبه، وفوزه بنعيم دائم، وملك لا يبلى. ولما كان عليون علمًا منقولًا من الجمع .. حكم عليه بالمفرد، وهو كتاب مرقوم، وأعرب بإعراب الجمع؛ حيث جر أولًا بـ {في}، ورفع بالخبرية لما الاستفهامية؛ لكونه في صورة الجمع، وقيل: اسم مفرد على لفظ الجع كعشرين وأمثاله، فليس له واحد من لفظه، 21 - وجملة: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)} صفة ثانية لـ {كِتَابٌ}؛ أي: يحضر ذلك الكتاب المرقوم الملائكة المقربون عند الله سبحانه، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[22]

قرب المكانة والكرامة، ويحفظونه من الضياع، وقيل: يشهدون بما فيه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقال وهب وابن إسحاق (¬1): المقربون هنا: إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل البر .. صعدت الملائكة بالصحيفة، ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى تنتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها. قال في "فتح الرحمن": هم سبعة أملاك من مقربي السماء، من كل سماء ملك مقرب، فيحضر ذلك الكتاب المرقوم، ويشيعه حتى يصعد به إلى حيث شاء الله تعالى، ويكون هذا في كل يوم. وبهذا (¬2) تبين سر ترك الظاهر بأن يقال: طوبى يومئذ للمصدقين، في مقابلة: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)}؛ لأن الإخبار بحضور الملائكة تعظيمًا وإجلالًا يفيد ذلك مع زيادة، فختم كل واحد بما يصلح سواه مكانه. والمعنى (¬3): أي أن كتابهم في هذا السجل الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم .. وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار، وقد يكون المراد أنهم ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب. 22 - وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار .. أي: يفصل حال الأبرار، فقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ}؛ أي: إن السعداء الأتقياء عن درن صفات النفوس {لَفِي نَعِيمٍ}؛ أي: لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره، 23 - ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة: أولها: قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ}؛ أي: على الأسرة في الحجال، ولا يكاد تطلق الأريكة على السرير عندهم إلا عند كونه في الحجلة: وهو - بالتحريك - بيت العروس، يزين بالثياب والأسرَّة والستور، والجار والمجرور في قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ} يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر لـ {إنَ}، وأن يكون حالًا من المنوي في الخبر، أو من فاعل {يَنْظُرُونَ}، والتقديم حينئذٍ لرعاية فواصل الآي، وجملة قوله: {يَنْظُرُونَ} يجوز (¬4) أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالًا، إما من المنوي في الخبر، أو في الظرف؛ أي: ناظرين، وحذف مفعول {يَنْظُرُونَ} للتعميم؛ أي: ينظرون ما شاؤوا مد أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم من النعمة والكرامة، وكذا إلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) روح البيان.

[24]

للطافتها وشفوفها؛ أي: رقتها؛ وقيل: ينظرون إلى وجه الله سبحانه، قال ابن عطاء الله رحمه الله تعالى: على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف، وعلى أرائك القربة، ينظرون إلى الرؤوف الرحيم. والمعنى (¬1): أي إن البررة المطيعين لربهم الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لفي لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان نفس، وعلى الأسِرَّة في حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين، والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة، والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك. 24 - وثانيها: أنه بيَّن أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال: {تَعْرِفُ} أيها المخاطب، أو يا محمد {فِي وُجُوهِهِمْ}؛ أي: في وجوه أولئك الأبرار {نَضْرَةَ النَّعِيمِ}؛ أي: بهجة التنعم، وماءه، وروقه، وهو ثاني الأوصاف الثلاثة المذكورة سابقًا؛ أي: إنك إذا رأيتهم ونظرت إليهم .. عرفت أنهم أهل النعمة، لما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك؛ كالضحك والاستبشار، كما يرى في الدنيا في وجوه الأغنياء، وأهل الترفه، فمن (¬2) هذا اختير: {تَعْرِفُ} على ترى، مع أن المعرفة تتعلق بالخفيات غالبًا، والرؤية بالجليات غالبًا، والخطاب في {تَعْرِفُ} لكل أحد ممن له حظ من الخطاب؛ للإيذان بأن لهم من آثار النعمة، وأحكام البهجة بحيث لا يختص برؤية راء دون راء. قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: يعني: لذة النظر تتلألأ مثل الشمس في وجوههم إذا رجعوا من زيارة الله إلى أوطانهم، وقال بعضهم: تعرف في وجوههم رضي محبوبهم عنهم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)}. وقرأ الجمهور: {تَعْرِفُ} بفتح الفوقية وكسر الراء خطابًا للرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لأي ناظر، ونصب {نضرة} وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، ويعقوب وشيبة وطلحة وابن إسحاق والزعفراني بضم الفوقية، وفتح الراء مبنيًا للمفعول، ورفع {نضرةُ} على النيابة، وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ: {يعرف} بالياء التحتانية إذ تأنيث {نضرة} مجازي. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[25]

25 - ثم ذكر ثالث الأوصاف، فقال: {يُسْقَوْنَ}؛ أي: يسقى الأبرار في الجنة {مِنْ رَحِيقٍ}؛ أي: من شراب خالص لا غش فيه، ولا ما يكرهه الطبع، ولا شيء يفسده، وأيضًا صافٍ من كدورة الخمار، وتغيير النكهة، وإيراث الصداع؛ أي: يسقون خمرًا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار، ولا يناله منها أذى، كما قال: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} وسقى: يتعدى إلى مفعولين، والأول هنا {الواو} القائم مقام الفاعل، والثاني {مِنْ رَحِيقٍ}؛ لأن {من} تبعيضية، كأنه قيل: بعض رحيق، أو مقدر معلوم؛ أي: شرابًا كائنًا من رحيق مبتدأ منه، فـ {من} ابتدائية، و {الرحيق}: صافي الشراب وخالصها {مَخْتُومٍ} إناؤه ومغطى رأسه؛ لئلا يدخله القذى بغطاء بيته 26 - بقوله: {خِتَامُهُ}، أي: ختام ذلك الشراب، وغطاؤه، أي: ما يختم ويطبع به ويغطى {مِسْكٌ} وهو طيب معروف؛ أي: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته، وطيب رائحته. قال في "كشف الأسرار": ما ختم به مسك رطب ينطبع فيه الخاتم، أمر الله بالختم عليه إكرامًا لأصحابه، فختم ومنع أن يمسه قياس، أو تتناوله يد إلى أن يفك ختمه الأبرار، والأظهر: أنه تمثيل لكمال نفاسته، كما مر آنفًا؛ إذ الشيء النفيس يختم لا سيما إذا كان ما يختم به المسك بدل الطين. وقيل: ختام الشيء آخره وخاتمته، فمعنى ختامه مسك: أن الشارب إذا رفع فاه من آخر شربه .. وجد رائحة كرائحة المسك، أو وجد رائحة المسك؛ لكونه ممزوجًا به كالأشربة الممسكة في الدنيا، فإنه يوجد فيها رائحة المسك عند خاتمة الشرب، لا في أول زمان الملابسة بالشرب. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن الرحيق شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به آخر شربهم، ولو أن رجلًا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها .. لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه. انتهى. وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجري في الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}. وقرأ الجمهور: {خِتَامُهُ}؛ أي: خلطه ومزاجه، قاله محبد الله وعلقمة، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: معناه: ختامه؛ أي: رائحته عند خاتمة الشراب رائحة المسك، وقرأ علي والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي: {خاتمه} بعد الخاء ألف وفتح التاء، وهذه بينة المعنى أنه يراد الطبع على الرحيق، وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي:

[27]

كسر التاء؛ أي؛ آخره، مثل قوله: {وخاتم النبيين}، وفيه حذف؛ أي: خاتم رائحته المسك، أو خاتمه الذي يختم به ويطبع، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، كذا قاله الفراء. قال في "الصحاح": والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق: وَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ صُرَّعَاتٍ ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَافَ الْخِتَامَهْ ثم رغب في العمل لذلك النعيم، فقال: {وَفِي ذَلِكَ} الرحيق خاصة دون غيره من النعيم المكدر السريع الفناء، أو فيما ذكر من أحوالهم لا في أحوال غيرهم من أهل الشمال {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}؛ أي: فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وقيل: {فِي} بمعنى: إلى؛ أي: وإلى ذلك فليتسابق المتسابقون بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. والأمر فيه للتحضيض والترغيب ظاهر (¬1)، وللوجوب باطنًا بوجوب الإيمان والطاعة، وأصل التنافس: التغالب والتنازع في الشيء النفيس؛ أي: المرغوب، كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به، وأصله من النفس لعزتها، وقال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي يحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفس به على غيره؛ أي: يبخل. وفي "المفردات": المنافسة: مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره. قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: علامة التنافس تعلق القلب به، وطيران الضمير إليه، والحركة عند ذكره، والتباعد من الناس، والإنس بالوحدة، والبكاء على ما سلف، وحلاوة سماع الذكر، والتدبر في كلام الرحمن، وتلقي النعم بالفرح والشكر، والتعرض للمناجاة. 27 - وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)} معطوف على {خِتَامُهُ مِسْكٌ} على أنه صفة أخرى لـ {رَحِيقٍ} مثله، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته؛ أي (¬2): ما يمزج ويخلط به ذلك الرحيق من ماء تسنيم: وهو اسم علم لعين بعينها تجري من جنة عدن، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه: إذا رفعه؛ إما لأنها أرفع شراب في الجنة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[28]

قدرًا، فيكون من علو المكان، وإما لأنها تأتيهم من فوق، فيكون من علو المكانة؛ أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى سفل. ومنه: سنام البعير، لعلوه من بدنه، ومنه: تسنيم القبور، روي: أنها تجري في الهواء متسنمة، فتنصب في أوانيهم، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض، فلا يحتاجون إلى الاستقاء، 28 - ثم بين هذا التسنيم فقال: {عَيْنًا}، وانتصابه على المدح، وقال الزجاج (¬1): على الحال، وإنما جاز أن تكون {عَيْنًا} حالًا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} من جناب الله قربًا معنويًا روحانيًا، والباء في {بِهَا}؛ إما زائدة؛ أي: يشربها، أو بمعنى: من؛ أي: يشرب منها، قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش، قيل: يشرب بها المقربون صرفًا، ويمزج بها كأس أهل اليمين. والمعنى (¬2): أمدح عينًا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجًا إذا أرادوا، ويشرب منها المقربون صرفًا، وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبيَّين لهم أنهم في الآخرة يشربون رحيقًا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر إذا شاؤوا أن يمزجوه. 29 - ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}؛ أي: إن الذين كانوا ذوي جرم وذنب، ولا ذنب أكبر من الكفر وأذى المؤمنين لإيمانهم، فالمراد بهم: رؤساء قريش، وأكابر المجرمين المشركين، كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأضرابهم {كَانُوا} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا صادقًا {يَضْحَكُونَ}؛ أي: يستهزئون بفقرائهم، كعمار وصهيب وبلال وخباب وغيرهم، وتقديم (¬3) الجار والمجرور لمراعاة الفواصل؛ أي: إن (¬4) المعتدين الأئمة الذين ضربت نفوسهم على الشر، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، كانوا في الدنيا يضحكون من الذين امنوا، ذاك أنه حين رحم الله تعالى العالم ببعثة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[30]

محمد - صلى الله عليه وسلم - .. كان كفار القوم وعرفاؤهم على الرأي الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرفع بها إلا صوته - صلى الله عليه وسلم -، ثم يهمس بها بعض من يلبي دعوته من الضعفاء، فيسر بها إلى من يرجو الخير فيه، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القوي المعتز بقوته وكثرة ماله وعزة نفره، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع، ويدعوه إلى غير ما يعرف، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش، كأبي جهل وشيعته، وأمثالهم كثيرون في كل زمان ومكان، متى عمت البدع، وخفي طريق الحق، وتحكمت الشهوات، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، وإذا صار الناس إلى هذه الحال ضعف صوت الحق، وازدرى السامعون منه بالداعي إليه. 30 - وقد روي أن صناديد قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وأضرابهم، كانوا يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويستهزئون بهم، ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم، وهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه جاء في نفر من المسلمين، فرآه بعض هؤلاء الكفار، فسخروا منه، وممن معه، وضحكوا منهم وتغامزوا بهم، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك، فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه، فنزل قبل وصول علي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا}؛ أي: فقراء المؤمنين {بِهِمْ}؛ أي: المشركين، وهم في أنديتهم، وهو الأظهر، وإن جاز العكس أيضًا. يقال: مرَّ مرًا ومرورًا: إذا جاز وذهب، كاستمر ومره ومر به: جاز عليه، كما في "القاموس": ويعدى بالباء وعلي {يَتَغَامَزُونَ}؛ أي: يغمز بعضهم بعضًا، ويشيرون بأعينهم، ويعيبونهم، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم، ويتركون اللذات، ويتحملون المشقات لما يرجونه في الآخرة من المثوبات، وأمر البعث والجزاء لا يقين به، وإنه بعيد كل البعد، والتغامز: تفاعل من الغمز، وهو الإشارة بالجفن والحاجب، ويكون بمعنى العيب أيضًا. 31 - {وَإِذَا انْقَلَبُوا}؛ أي: وإذا انقلب الكفار ورجعوا من مجالسهم {إِلَى أَهْلِهِمُ}؛ أي: إلى أهل بيتهم وأصحابهم الجهلة الضالة التابعة لهم، والانقلاب: الانصراف

[32]

والتحول والرجوع. {انْقَلَبُوا} ورجعوا حال كونهم {فَكِهِينَ}؛ أي: فرحين متلذذين بذكرهم بالسوء، والسخرية منهم، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بمرأى من المارين، ويكتفون حينئذٍ بالتغامز. والمعنى (¬1): أي وإذا رجعوا إلى ذوي قرابتهم، وبني جلدتهم، وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة .. رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان، ورميهم بالسخف وقلة العقل، ويقولون: عجبًا لهم إذ يقولون لا تدعوا إلا إلهًا واحدًا، ولا تتوجوا بالطلب إلا إليه، فأين الأولياء والشفعاء، فكم ضروا وكم نفعوا إلى نحو ذلك مما يتندرون به، ويعدونه فكاهة، ويتلذذون بحكايته. وقرأ الجمهور (¬2): {فاكهين} بالألف؛ أي: أصحاب فاكهة ومزح ولسرور باستخفافهم بأهل الإيمان. وقرأ أبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي: {فَكِهِينَ} بغير ألف. قال الفراء: هما لغتان، مثل: طمع وطامع، وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة الدخان، أن الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم. 32 - {وَإِذَا رَأَوْهُمْ}؛ أي: وإذا رأى المشركون المسلمين أينما كانوا، فالضمير المرفوع عائد على المجرمين {قَالُوا}؛ أي: قال المجرمون مشيرين إلى المؤمنين بالتحقير: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} المسلمين {لَضَالُّونَ} في اتباعهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى: وإذا رأى المؤمنون المشركين .. قالوا هذا القول، والأول أولى. نسبوا (¬3) المسلمين ممن رأوهم، ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد، وقالوا: تركوا دين آبائهم القديم، ودخلوا في الدين الحادث، أو قالوا: تركوا التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى هل له وجود أم لا. والمعنى (¬4): وإذا رأى الكفار المؤمنين، قالوا: إن هؤلاء لضالون؛ إذ نبذوا ما عليه الكافة، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة، والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف كابرًا عن كابر، وجيلًا بعد جيل، 33 - فرد سبحانه على هؤلاء الكفار، فقال: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[34]

{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)}، والجملة (¬1) حال من واو قالوا؛ أي: قالوا ذلك، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم، يحفظون عليهم أمورهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وإنما أمروا بإصلاح أنفسهم، وأي نفع لهم في تتبع أحوال غيرهم، وهذا تهكم بهم، وإشعار بأن ما اجترؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى. وقد جوِّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين، كأنهم قالوا: إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا علينا حافظين إنكارًا لصدهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وإنما قيل نقلًا له بالمعنى. والمعنى (¬2): أي إن الله تعالى لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين، ولم يؤتهم سلطة محاسبتم على أفعالهم، وتعريف باطلها من صحيحها، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالًا بعقولهم الفاسدة، وإنما كلفهم أن ينظروا شؤون أنفسهم فيعدلوا منها ما اعوج، فإذا فعلوا ذلك .. قاموا بما يجب عليهم في هذه الحياة. 34 - ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى، وتقويةً لقلوبهم، وشدًا لعزائمهم على التذرع بالصبر، فقال: {فَالْيَوْمَ} المراد بـ {اليوم}: اليوم الآخر {الَّذِينَ آمَنُوا}؛ أي: المعهودون من الفقراء {مِنَ الْكُفَّارِ} المعهودين؛ أي: المستهزئين لهم، وهو الأظهر، وإن أمكن التعميم من الجانبين {يَضْحَكُونَ}. والمعنى: أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين، وغشيهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر، ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه، يضحك الكفار منهم في الدنيا. قال (¬3) بعض المفسرين: لعل الفاء في قوله: {فَالْيَوْمَ} فاء الإفصاح، واقعة في جواب شرط مقدر؛ كأنه قيل: إذا عرفتم ما ذكر، وأردتم بيان حال المؤمنين مع الكفار في ذلك اليوم .. فأقول لكم: إن في ذلك اليوم يضحك المؤمنون من الكفار جزاءً وفاقًا، فاللام في {اليوم}: لام العهد، وهو يوم القيامة، والظرف متعلق بـ {يَضْحَكُونَ}، و {الَّذِينَ}: مبتدأ، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[35]

{مِنَ الْكُفَّارِ}: متعلق بـ {يَضْحَكُونَ} أيضًا، وحرام على الوهم أن يتوهم كونه بيانًا للموصول نظرًا إلى ظاهر الاتصال من غير تفكر في المعنى، وجملة {يَضْحَكُونَ} خبر المبتدأ، وهو ناصب {اليوم}، كما قلنا آنفًا؛ لصحة المعنى حينئذٍ. 35 - وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ} والأسرة متعلق بـ {يَنْظُرُونَ} أو حال من فاعله، وجملة {يَنْظُرُونَ} حال من فاعل {يَضْحَكُونَ}؛ أي: يضحكون منهم حال كونهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، والعذاب الأليم حال كونهم مستقرين على الأرائك في منازلهم من الجنة. والحاصل (¬1): أن المؤمنين في يوم الدين يضحكون من الكفار ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسر به، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم، وخذلان أعدائهم، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم، وظهر لهم عاقبة سفه عقولهم، وفساد أقوالهم حال كونهم ينظرون على الأرائك إلى ما صنع الله بأعدائهم، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم، ويهزؤون بهم. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أهل (¬2) الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله، وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم، كما ضحكوا منهم في الدنيا. وقال أبو صالح: يقال لأهل النار: اخرجوا، ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت .. أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها .. غلقت دونهم، فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)}. 36 - وقوله: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} كلام (¬3) مستأنف من قبل الله، أو من قبل الملائكة، والاستفهام للتقرير، وجوابه: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. وثوب بمعنى: يثوب، عبر عنه بالماضي لتحققه، والتثويب والإثابة: المجازاة، استعمل في المكافأة بالشر. قال الراغب: الإثابة تستعمل في المحبوب نحو: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ}، وقد قيل ذلك في المكروه، نحو: {فَأَثَابَكُمْ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

غَمًّا بِغَمٍّ} على الاستعارة والتثويب في القرآن لم يجيء إلا في المكروه نحو: {هَلْ ثُوِّبَ ...} إلخ. انتهى. وفي "القاموس":التثويب: التعويض. انتهى. والمراد بـ {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: استهزاؤهم بالمؤمنين، وضحكهم منهم، وهو صريح في أن ضحك المؤمنين منهم في الآخرة إنما هي جزاء لضحك الكافرين منهم في الدنيا. والمعنى: يقول الله سبحانه، أو تقول الملائكة: هل ثوب؛ أي: قد ثوب الكفار، وجوزوا على ما كانوا يفعلون بالمؤمنين من استهزائهم، والضحك منهم، وهذا على سبيل التهكم، كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا للكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم، واستهزاؤهم بشريعتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة، فيكون هذا زائدًا على سرورهم، كذا في "المراح"، وعبارة القرطبي هنا: ومعنى {ثُوِّبَ الْكُفَّارُ}؛ أي: هل جوزوا على سخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك، فالجواب: نعم. وفيه تسلية للمؤمنين (¬1) بأنه ينقلب الحال، ويكون الكفار مضحوكًا منهم، وتعظيم لهم، فإن إهانة الأعداء تعظيم للأولياء، والله ينتقم لأوليائه من أعدائهم، فإنه يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الجريء لجروه. وعلم منه أن الضحك والاستهزاء والسخرية والغمز من الكبائر، فالخائض فيها من المجرمين الملحقين بالمشركين، نسأل الله سبحانه السلامة من غضبه وسخطه، وقيل: الجملة في محل نصب بـ {يَنْظُرُونَ} معلقًا عنها بالاستفهام بعد إسقاط حرف الجر الذي هو: إلى. والمعنى: أنهم ينظرون ليتحققوا هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا، وقيل: منصوبه بقول وقع حالًا من فاعل {يَنْظُرُونَ}؛ أي: على الأرائك ينظرون حال كونهم قائلين: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}؛ أي: يقول المؤمنون ذلك بعضهم لبعض، والله أعلم. وقرأ الجمهور (¬2): {هَلْ ثُوِّبَ} بإظهار لام {هَلْ}، وقرأ النحويان: أبو عمر والكسائي حمزة وابن محيصن بإدغامها في الثاء المثلثة، وفي قوله: {مَا كَانُوا} .. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

حذف، تقديره: جزاء أو عقاب ما كانوا يفعلون، وإنما سمي الجزاء على العمل ثوابًا؛ لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر. الإعراب {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}. {وَيْلٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء {لِلْمُطَفِّفِينَ} خبره، والجملة مستأنفة {الَّذِينَ}: في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {اكْتَالُوا} فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة {عَلَى النَّاسِ}: متعلق بـ {اكْتَالُوا}، و {عَلَى}: بمعنى: من؛ أي: إذا قبضوا من الناس لأنفسهم، وجملة {يَسْتَوْفُونَ} جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} الشرطية صلة الموصول {وَإِذَا كَالُوهُمْ} {الواو}: عاطفة {إِذَا}: ظرف مضمن معنى الشرط، {كالوا}: فعل وفاعل، و {هم} ضمير متصل منصوب بنزع الخافض، والأصل: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، وحذف الجار، وأوصل الفعل، فصار كالوهم، ومفعول {كالوا} محذوف تقديره: كالوا لهم الطعام، أو وزنوا لهم النقود، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها {أَوْ وَزَنُوهُمْ}: معطوف على {كَالُوهُمْ} مماثل له في إعرابه، وجملة {يُخْسِرُونَ} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} معطوفة على جملة {إذا} الأولى. {إذا} الأولى {أَلَا يَظُنُّ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، و {لا}: نافية {يَظُنُّ}: فعل مضارع، وظن هنا بمعنى اليقين {أُولَئِكَ}: فاعل، والإشارة لـ {المطففين}؛ أي: لا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والميزان {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}: ناصب واسمه وخبره، وجملة {أن} في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {ظن} {لِيَوْمٍ}: متعلق بـ {مَبْعُوثُونَ}، واللام في بمعنى في الظرفية، {عَظِيمٍ}: صفة {يومٍ}، و {يَوْمَ}، بدل من {لِيَوْمٍ} بدل كل من كل، تابع له على المحل، ومحله النصب بـ {مَبْعُوثُونَ}، أو بمقدر مثله؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، وبني على الفتح لإضافته إلى الفعل، {يَقُومُ النَّاسُ}: فعل

وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: متعلق بـ {يَقُومُ}، ولكنه على حذف مضاف، أي: لمحاسبة رب العالمين. {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر. {إِنَّ كِتَابَ}: ناصب واسمه {الْفُجَّارِ}: مضاف إليه {لَفِي}: اللام حرف ابتداء {في سجين}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} والجملة مستأنفة. {وما}: {الواو} اعتراضية. {مَا}: اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ}: خبره، والجملة الاسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الخبرين لـ {إنَّ} كما مر عن القفال، {أدرى} فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على: {مَا} الاستفهامية، والكاف في محل النصب مفعول أول {لأدرى}، {مَا}: اسم استفهام للتفخيم والتعظيم في محل الرفع مبتدأ: {سِجِّينٌ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}، {كِتَابٌ}: خبر ثانٍ لـ {إنَّ} في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّار}، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو كتاب مرقوم، و {مَرْقُومٌ}: صفة {كِتَابٌ} {وَيْلٌ}: مبتدأ كما تقدم، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف إلى مثله متعلق بـ {وَيْلٌ}؛ لأنه مصدر بمعنى: هلاك {لِلْمُكَذِّبِينَ}: خبر {وَيْلٌ}، والجملة مستأنفة {الَّذِينَ}: صفة لـ {المكذبين}، وجملة {يُكَذِّبُونَ} صلة {الَّذِينَ} لا محل لها من الإعراب {بِيَوْمِ الدِّينِ}: متعلق بـ {يُكَذِّبُونَ}، {وَمَا} {الواو}: حالية {مَا}: نافية {يُكَذِّبُ}: فعل مضارع {بِهِ}: متعلق بـ {يُكَذِّبُ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {كُلُّ مُعْتَدٍ}: فاعل {يُكَذِّبُ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {يَوْمِ الدِّينِ}، {كُلُّ}: مضاف {مُعْتَدٍ}: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص أعل كقاض {أَثِيمٍ}: صفة {مُعْتَدٍ}، وسبق لك بيان الفرق بين الاعتداء والإثم {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط {تُتْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {تُتْلَى}، {آيَاتُنَا}: نائب فاعل لـ {تُتْلَى}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على

{كُلُّ مُعْتَدٍ}، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} في محل الجر صفة ثانية لـ {مُعْتَدٍ}، {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي أساطير الأولين، والجملة في محل النصب مقول {قَالَ}. {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل {بَل}: حرف عطف وإضراب على محذوف تقديره: ليس الأمر كما يقولون {رَانَ}: فعل ماضٍ مبني على الفتح {عَلَى قُلُوبِهِمْ}: متعلق بـ {رَانَ}، {مَا}: اسم موصول في محل الرفع فاعل بـ {رَانَ}، والجملة معطوفة على تلك المقدرة، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، وجملة {يَكْسِبُونَ} خبره، وجملة {كان} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يكسبون، {كَلَّا}: حرف ردع وزجر عن الكسب الرائن، {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه {عَنْ رَبِّهِمْ}: متعلق بـ {محجوبون}. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف أضيف إلى مثله متعلق بـ {محجوبون} أيضًا، والتنوين - فيه عوض عن الجملة المحذوفة تقديرها: يوم إذ يقوم الناس، {لَمَحْجُوبُونَ} خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب لتراخي رتبة ما بعدها عما قبلها {إِنَّهُمْ}: ناصب واسمه {لَصَالوُا}: {اللام}: حرف ابتداء {صالوا}: خبر {إن} مرفوع بالواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه جمع مذكر سالم، {الْجَحِيمِ}: مضاف إليه، وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى {ثُمَّ}: حرف عطف للترتيب والتراخي أيضًا {يُقَالُ}: فعل مضارع مغير الصيغة {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} نائب فاعل محكي لـ {يُقَالُ}، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إن}، وإن شئت قلت: {هَذَا}: مبتدأ {الَّذِي}: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ {يُقَالُ}، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمه. {بِهِ}: متعلق بـ {تُكَذِّبُونَ}، وجملة {تُكَذِّبُونَ} خبر {كان}، وجملة {كان} صلة الموصول لا محل لها من الإعراب {كَلَّا}: حرف ردع وزجر، أو بمعنى: حقًا {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ}: ناصب واسمه، ومضاف إليه {لَفِي}: {اللام}: حرف ابتداء {في

عليين}: جار ومجرور خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة، و {عِلِّيِّينَ}: مجرور بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، {وَمَا}: {الواو}: اعتراضية {مَا} اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ} خبره، والجملة الاسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين خبري {إنَّ}، {مَا}: اسم استفهام للتفخيم في محل الرفع مبتدأ، {عِلِّيُّونَ}: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}، {كِتَابٌ}: خبر ثانٍ لـ {إنَّ} في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ}، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب مرقوم، و {مَرْقُومٌ}: صفة لـ {كِتَابٌ}، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ {كِتَابٌ}، {إِنَّ الْأَبْرَارَ}: ناصب واسمه. {لَفِي نَعِيمٍ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إنَّ} مستأنفة {عَلَى الْأَرَائِكِ}: متعلق بـ {يَنْظُرُونَ}، وجملة {يَنْظُرُونَ} في محل النصب حال من الضمير المستكن في خبر {إنَّ}، أو مستأنفة {تَعْرِفُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على أي مخاطب {فِي وُجُوهِهِمْ} متعلق بـ {تَعْرِفُ}. {نَضْرَةَ النَّعِيمِ}: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لإيذان المخاطب بالالتفات إليهم والتأمل في آثار النعيم. {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}. {يُسْقَوْنَ}: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالنون، والواو نائب فاعل له {مِنْ رَحِيقٍ}: متعلق بـ {يُسْقَوْنَ} {مَخْتُومٍ}: صفة {رَحِيقٍ}؛ أي: من خمر خالصة من كل غشٍ أو شائبة، والجملة الفعلية مستأنفة، {خِتَامُهُ مِسْكٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ {رَحِيقٍ}، {وَفِي}: {الواو}: عاطفة {في ذَلِكَ}: متعلق بقوله: {فَلْيَتَنَافَسِ}، و {الفاء} عاطفة أيضًا لزيادة الاهتمام، و {اللام} لام الأمر، {يتنافس}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {الْمُتَنَافِسُونَ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: {يُسْقَوْنَ}، وقيل: الواو عاطفة لقول

محذوف تقديره: ويقولون: فليتنافس في ذلك المتنافسون، والفاء زائدة لتحسين الخط، كفاء قولهم: فقط، وقيل: الواو زائدة، والفاء عاطفة، وقيل: الواو اعتراضية، والفاء زائدة، وفي "الجمل" واستشكل في هذا العاطف، إذ لا يصح أن يقال: وفليتنافس، فقيل: إنه بتقدير القول؛ أي: ويقولون لشدة التلذذ في ذلك: فليتنافس. {وَمِزَاجُهُ}: {الواو}: عاطفة {مزاجه}: مبتدأ {مِنْ تَسْنِيمٍ}: خبره، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة {خِتَامُهُ مِسْكٌ} {عَيْنًا}: منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره: أمدح عينًا، أو أعني بالتسنيم عينًا، أو على الحال من {تَسْنِيمٍ}، كما قاله الزجاج، وجملة {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صفة لـ {عَيْنًا}، و {بِهَا}: متعلق بـ {يَشْرَبُ}، {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {أَجْرَمُوا} صلة الموصول {كَانُوا}: فعل ناقص، واسمه {مِنَ الَّذِينَ} متعلق بـ {يَضْحَكُونَ}، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، وجملة {يَضْحَكُونَ} خبر {كَانُوا}، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة، {وَإِذَا} {الواو}: عاطفة {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، {مَرُّوا}: فعل وفاعل {بِهِمْ}: متعلق بـ {مَرُّوا}، وجملة {مَرُّوا بِهِمْ} في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وجملة {يَتَغَامَزُونَ} جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة {كَانُوا} على كونها خبر {إِنَّ الَّذِينَ}، {وإذا}: {الواو} عاطفة {إِذَا}: شرطية، وجملة {انْقَلَبُوا} في محل الخفض بإضافة {إذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، {إِلَى أَهْلِهِمُ} متعلق بـ {انْقَلَبُوا}، وجملة {انْقَلَبُوا}، جواب {إذَا} لا محل لها من الإعراب، {فَكِهِينَ}: حال من فاعل {انْقَلَبُوا}، وجملة {إذَا} الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة {إذَا} الأولى، {وإذا}: {إذَا}: ظرف مضمن معنى الشرط، وجملة {رَأَوْهُمْ} في محل الخفض فعل شرط لـ {إذَا}، وجملة {قَالُوا} جوابها لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذَا} معطوفة على جملة {إذا} الأولى، {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}: ناصب واسمه وخبره، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إنَّ} في محل النصب مقول {قَالُوا} {وَمَا}: {الواو}: حالية، {مَا}: نافية {أُرْسِلُوا} فعل ماض، ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من الواو في {قَالُوا}: {عَلَيْهِمْ}: متعلق

بـ {حَافِظِينَ}، و {حَافِظِينَ} حال من الواو في {أُرْسِلُوا} {فَالْيَوْمَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفتم ما ذكر، وبيان حال المؤمنين مع الكفار، في ذلك اليوم.، فأقول لكم: {اليوم}: منصوب على الظرفية، متعلق بـ {يَضْحَكُونَ} {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول {مِنَ الْكُفَّارِ}: متعلق بـ {يَضْحَكُونَ}، وجملة {يَضْحَكُونَ} خبر {الَّذِينَ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة {عَلَى الْأَرَائِكِ}: متعلق بـ {يَنْظُرُونَ}، وجملة {يَنْظُرُونَ} في محل النصب حال من فاعل {يَضْحَكُونَ}؛ أي: يضحكون حال كونهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الخزي والهوان، {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التقريري {ثُوِّبَ}: فعل ماض مغير الصيغة {الْكُفَّارُ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل {يَنْظُرُونَ}؛ أي: ينظرون إليهم حال كونهم قائلين: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} إلخ، أو جملة {ثُوِّبَ} مستأنفة {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {ثُوِّبَ}، وجملة {كَانُوا} صلة لـ {مَا} الموصولة، وجملة {يَفْعَلُونَ} في محل النصب خبر {كان}. والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {وَيْلٌ}؛ أي: هلاك عظيم وعذاب شديد، قال ابن كيسان: هي كلمة مكروب وقع في البلية، وأصله: وي لفلان، أي: الحزن له، فقرن بلام الإضافة، فقيل: وبل تخفيفًا. {لِلْمُطَفِّفِينَ} جمع مطفف، وهو المنقص في الكيل أو الوزن، سمي بذلك لأن ما ينقص فيهما شيء طفيف أي: حقير، يقال: طفف الكيل: إذا نقصه قليلًا، وقال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان، إلا الشيء الطفيف؛ أي: اليسير الحقير التافه. {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا} قال الفراء: يقال: اكتلت على الناس: استوفيت منهم، واكتلت منهم: أخذت ما عليهم فـ {عَلَى} بمعنى من، وأصله: اكتيلوا بوزن افتعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَسْتَوْفُونَ}؛ أي: يأخذون حقوقهم وافية كاملة، وأصله: يستوفيون، استثقلت

الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم لما التقى ساكنان .. حذفت الياء، وضمت الفاء لمناسبة الواو. {وَإِذَا كَالُوهُمْ}؛ أي: كالوا للناس حقوقهم، أو وزنوا لهم حقوقهم، وفيه إعلال بالقلب أيضًا، أصله: كيلوهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح: {يُخْسِرُونَ}: أي: ينقصون الكيل والميزان، مع أن وضع الكيل والوزن، إنما هو للتسوية والتعديل، يقال: خسر الميزان وأخسره بمعنى، وهو يتعدَّى بالهمزة، ويقال: خسر الرجل وأخسره. اهـ "خطيب". {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}؛ أي: للعرض على خالقهم، ويطول بهم الموقف إجلالًا لعظمة ربهم. {أَلَا يَظُنُّ} أصله: يظنن بنونين، أدغمت الأولى منهما في الثانية. {لَفِي سِجِّينٍ} والسجين: علم لكتاب جامع لأعمال الشياطين، وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين، منقول من وصف، كحاتم، وهو منصرف؛ لأنه ليس فيه إلا سبب واحد، وهو التعريف، واختلف في نونه، هل هي أصلية: فيكون فعيلًا من السجن، أو بدل من لام: فيكون أصله: سجيلًا من السجل، وأورد صاحب "القاموس" في مادة: سجن ما نصه: سجين، كسكين: الدائم الشديد، وموضع فيه كتاب الفجار، وواد في جهنم أعاذنا الله تعالى منها، أو حجر في الأرض السابعة. انتهى. {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)}؛ أي: مكتوب مسطور، قال الراغب: الرقم: الكتابة والخط الغليظ، ومنه قول الشاعر: سَأَرْقُمُ فِيْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ إِلَيْكُمُ ... عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ {إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ}؛ أي: متجاوز عن منهج الحق، أصله: معتديٌ، استثقلت الكسرة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، وهو كسرة الدال، فصار معتد بوزن: مفتع. {أَثِيمٍ}؛ أي: كثير الذنوب والآثام. {كَلَّا بَلْ رَانَ}؛ أي: غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء، وفي

"المختار": الرين: الطبع والدنس، ويقال: ران ذنبه على قلبه - من باب باع رينًا وريونًا أيضًا -: إذا غلب، وقال أبو عبيدة: كل ما غلبك فقد ران بك، ورانك وران عليك، ورين الرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به، أي: لا طاقة له به، وعبارة الزمخشري: وران على قلوبهم: ركبها كما يركب الصدأ، وغلب عليها، وهو أن يصر على الكبائر، ويسوف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه، وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب. قلت: وران يائية وواوية، وهي هنا يائية، أصله: رين كبيع، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأما الواوية فيقال فيها: ران يرون رونًا - من باب دخل - يقال: ران الأمر: اشتد، ورانت الليلة: اشتد هولها أو غمها، والرون - بضم الراء المشددة -: الشدة، والجمع رؤون، ورونة الشيء - بالضم -: معظمه وشدته، يقال: كشف الله عنك رونة هذا الأمر؛ أي: شدته وغمته. {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)}؛ أي: لداخلوا النار وملازموها، أصله: لصاليون، فلما أضيف الوصف .. حذفت منه نون الجمع، فصار لصاليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقت ساكنة مع واو الجمع، فحذفت الياء، وضمت اللام لمناسبة الواو، وقد تقدم هذا في سورة: ص. {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} أصل يقال: يقول بوزن: يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)} قال الزمخشري: وعليون: علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع عليّ فعيل من العلو، كسجين من السجن، سمي بذلك؛ إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة. وعبارة أبي حيان: عليون: جمع واحده: عِلىٌّ مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونس وابن جني. قال أبو الفتح: وسبيله أن يقال: علية، كما قالوا للغرفة: علية، فلما حذفت التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون، وقيل: هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه، كقولهم: عشرين وثلاثين، والعرب إذا جمعت جمعًا، ولم يكن له بناء من واحده،

ولا تثنية قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون. وقيل غير ذلك. قلت: عليون: اسم لمكان عالٍ كما أن سجينًا: اسم لمكان في نهاية السفل، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين، وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما، أمن أوراق وأخشاب أو معادن أخرى. {عَلَى الْأَرَائِكِ} هي الأسرة في الحجال، والحجال: واحدها حجلة، وهي مثل القبة، وحجلة العروس: بيت؛ أي: خيمة تزين بالثياب والأسرَّة والستور. و {نَضْرَةَ النَّعِيمِ} بهجته ورونقه {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ}؛ أي: من شراب خالص لا غش فيه، وأصل يسقون: يسقيون بوزن يفعلون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين {مَخْتُومٍ}؛ أي: ختمت أوانيه وسدت. {خِتَامُهُ مِسْكٌ}؛ أي: ما يختم به رأس قارورته هو المسك بدل الطين. {فَلْيَتَنَافَسِ} وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن ينفرد دون صاحبه، وفي "المختار": ونفس الشيء من باب ظرف: صار مرغوبًا فيه، ونافس في الشيء منافسةً ونفاسًا بالكسر: إذا رغب فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه: أي: رغبوا. اهـ. والمراد: فليستبق المتسابقون، وليجاهدوا النفوس ليلحقوا بالعاملين. {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)} والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خلط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجري من أعلى إلى أسفل، وهو أشرف شراب في الجنة، ويكون صرفًا للمقربين، ممزوجًا لأصحاب اليمين، وسائر أهل الجنة، والمقربون هم: الأبرار الذين سبق ذكرهم. {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} يقال: مر مرًا ومرورًا إذا جاز وذهب، كاستمر ومره وبه: جاز عليه. كما في "القاموس". {يَتَغَامَزُونَ}؛ أي: يشيرون إليهم بأجفانهم من التغامز: تفاعل من الغمز، وهو الإشارة بالجفن والحاجب، ويكون بمعنى العيب، يقال: غمز فلان فلانًا إذا عابه وذكره بسوء، ويقال: فلان لا مغمز فيه؛ أي: ليس فيه ما يعاب به. {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} من الانقلاب: وهو الانصراف والتحول والرجوع.

{انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}؛ أي: معجبين راضين بما فيه من الشرك والضلالة والعصيان، أو متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، والضحك من المؤمنين. {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)}؛ أي: رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)} أصل رأوهم: رأيوهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، وأصل {ضالون}: ضاللون بلامين، أدغمت أولاهما في الثانية. {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} من التثويب، والتثويب والإثابة: المجازاة يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه، كما قال الشاعر: سَأَجْزِيْكِ أَوْ يَجْزِيْكِ عَنِّيْ مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَليْكِ وَتُحْمَدِيْ البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تنكير {وَيْلٌ} لإفادة التهويل والتفخيم. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} وقوله {إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} وهي مقابلة أتت على أحسن وجه وأنظمه؛ أي: إذا كان الكيل من جهة غيرهم .. استوفوه، وإذا كان الكيل من جهتهم .. أخسروه، سواء باشروه، أو لا، فالضمير لا يدل على مباشرة، ولا إشعار أيضًا بذلك، والذي يدلك على أن الضمير لا يعطي مباشرة الفعل، أن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة، لست تعني أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم، وإنما معناه: أن فعل ذلك من جهتهم خاصة. اهـ من "الدرويش". ومنها: الاكتفاء في قوله: {إِذَا اكْتَالُوا}؛ لأنه حذف الاتزان لعلمه من الاكتيال؛ لأن مقتضى المقابلة أن يقال: الذين إذا اكتالوا، أو اتزنوا على الناس يستوفون، وقد مر لك بيان حكمة حذفه في مبحث التفسير.

ومنها: الطباق بين {يَسْتَوْفُونَ} و {يُخْسِرُونَ}؛ لأن الاستيفاء الأخذ وافيًا، والإخسار: الإعطاء ناقصًا. ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)} لأن {أَلَا} في قوله: {أَلَا يَظُنُّ} ليست استفتاحية، بل هي همزة الاستفهام دخلت على لا النافية، فأفادت التوبيخ والإنكار والتعجيب، كما في "الرازي". وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين .. بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. اهـ "خطيب". ومنها: تخصيص وصف رب العالمين من بين سائر الصفات إشعارًا بالماليكة والتربية، بحيث لا يمتنع عليه الظالم القوي؛ لكونه مملوكًا مسخرًا في قبضة قدرته، ولا يترك حق المظلوم الضعيف؛ لأن مقتضى التربية أن لا يضيع لأحد شيئًا من الحقوق، وفي هذه التشديدات إشارة إلى أن التطفيف، وإن كان يتعلق بشيء حقير، لكنه ذنب كبير. ومنها: المقابلة بين حال الفجار، وحال الأبرار في قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ ...} إلخ، وقوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَار ...} إلخ. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)} إفادة للتهويل، وفي قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)} إفادةً للتعظيم والتفخيم لمراتب الأبرار. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} حيث مثل احتجاب الله وسخطه عليهم، وإهانته بهم باحتجاب ملك من الملوك عن بعض رعيته؛ لأنه لا يؤذن على ذوي المقامات العلية والمراتب السامية إلا للمقربين المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء الموسومون بالمهانة والقماءة والصَّغَار، وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى، فقال مبرزًا احتجاب المعتصم عن الرعية: لَيْسَ الْحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِىْ أمَلًا ... إِنَّ السَّمَاءَ تُرَجَّى حِيْنَ تَحْتَجِبُ

ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. ومنها: الإطناب بذكر أوصاف نعيم المتقين في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) ...} إلخ. ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}؛ أي: كالمسك في طيب الرائحة، فحذف منه الأداة ووجه الشبه، فأصبح بليغًا. ومنها: حذف مفعول {يَنظُرُونَ} في قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)} إفادة للتعميم؛ أي: ينظرون ما شاؤوا مد أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة. ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)} لمراعاة الفواصل، أو للحصر إشعارًا بغاية شناعة ما فعلوا؛ أي: كانوا من الذين آمنوا لا من غيرهم يضحكون، مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}. اهـ "فتوحات". ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} إشعارًا بمبالغتهم في استهزائهم، وسخريتهم من المسلمين، وإنكارهم لصدهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإِسلام. ومنها: تقديم الجار على متعلقه في قوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ} إفادةً للحصر؛ أي: في ذلك لا في خمور الدنيا. ومنها: تقديمه عليه في قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)} لرعاية الفواصل. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} إشعارًا بتحققه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وعيد المطففين. 2 - بيان أن صحائف أعمال الفجار في أسفل السافلين. 3 - الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار في أعلى عليين. 4 - وصف نعيم الأبرار في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم. 5 - استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا، وتغامزهم بهم، وحكمهم عليهم بالضلال. 6 - تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة؛ نظر المؤمنين إلى المجيرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعد لهم من النكال (¬1). والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة المطففين بعون الملك المعين، ضحوة يوم السبت اليوم السابع من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: 7/ 9/ 1416 ألف وأربع مئة وست عشر سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق سورة الانشقاق مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الانفطار، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الانشقاق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: ثلاث أو خمس وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع كلمات. وحروفها: سبع مئه وثلاثون حرفًا. وسميت سورة الانشقاق لذكر انشقاق السماء فيها، وكلها محكمة لا ناسخ فيها ولا منسوخ. ومناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى ختم سورة المطففين بذكر أحوال القيامة، وأهوال يوم الحشر، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك من أحوال يوم البعث والنشور، فاتصلت السورتان اتصال النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه. وأوجز بعضهم القول في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث، فقال: إن في {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} ذكر الحفظة الكرام الكاتبين، وفي سورة المطففين: بيان لمقر كتبهم، وفي سورة الانش قال: البداية بذكر بعض أحوال يوم القيامة من الانقلابات الكونية الهائلة. ومما ورد في فضلها: ما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع قال: صليتُ مع أبي هريرة العتمة، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} فسجد، فقلتُ له، فقال: سجدتُ خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. وأخرج ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في "المختارة" عن بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ونحوها. * * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}. المناسبة مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر السابقة أحوال الفجار والأبرار في يوم القيامة، ثم ذكر في أوائل هذه السورة أهوال ذلك اليوم، فذكر أنه حين انشقاق السماء، واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما في جوفها، يلاقي المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذٍ فريقين: 1 - فريق الصالحين البررة: وهؤلاء يحاسبون حسابًا يسيرًا، ويرجعون مسرورين إلى أهلهم. 2 - فريق الكفرة والعصاة: وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار؛ لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات، والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابًا يسيرًا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابًا عسيرًا إن كان قد اجترح السيئات .. أقسم بآيات له في الكائنات ظاهرات باهرات على أن البعث كائن لا

[1]

محالة، وأن الناس يلقون شدائد إلأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} إعرابه كإعراب {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}؛ أي: إذا انشقت وانفطرت وانفتحت بغمام أبيض .. يخرج منها، وهو نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}، والباء للآلة، كما في قولك: انشقت الأرض بالنبات. وفي ذلك الغمام الملائكة ينزلون في أيديهم صحائف الأعمال، أو فيه ملائكة العذاب، وكان ذلك أشد وأفظع من حيث إنه جاء العذاب من موضع الخير، فيكون انشقاق السماء لنزول الملائكة بالأوامر الإلهية، وقيل: للسقوط والانتقاض، وقيل: لهول القيامة، وكيف لا تنشق وهي في قبضة قهره تعالى أقل من خردلة، ولا مانع من جميع هذه الأقوال، فإنها تنشق لهيبة الله تعالى، فتنزل الملائكة، ثم يؤول أمرها إلى الفساد والاختلال. وعن علي رضي الله عنه: تنشق من المغيرة، وهي بفتح الميم بوزن المضرة باب السماء؛ أي: البياض المستطيل في وسط السماء من جانبها، وأهل الهيئة يقولون: إنها نجوم صغار مختلطة، غير متميزة في الحسن. اهـ من "القرطبي". سميت بذلك لأنها كأثر المجر، والمجر: المحل الذي يجر عليه الحبل من البئر عند إلاستقاء. قيل: تنشق من ذلك الموضع، كأنه مفصل ملتئم، فتصدع منه 2 - {وَأَذِنَتْ}؛ أي: استمعت وأصغت {لِرَبِّهَا}؛ أي: لأمر ربها إياها بالانشقاق، وأذعنت لتأثير قدرته تعالى فيها؛ حيث تعلقت قدرته بانشقاقها، وانقادت له انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، فهو استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن، وهو: الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها: يراد بها الإجابة، والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول .. يكون استعارة تمثيلية، فقوله: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلًا، وقوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام من غير ممانعة أصلًا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم {وَحُقَّتْ}؛ أي:

[3]

السماء؛ أي: جعلت حقيقة حرية بالاستماع والانقياد، إذ هي مربوبة ومصنوعة له تعالى؛ أي: شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة القاهرة الربانية التي يتأتى بها كل مقدور، ولا يتخلف عنها أمر من الأمور، من قولهم: هو حقوق بكذا، وحقيق به، وقال الضحاك: وحقت؛ أي: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها؛ لأنه خلقها. 3 - {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)}؛ أي: بسطت بإزالة جبالها وآكامها عن مقرها، وتسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء، أو زيدت سعة وبسطة من أحد وعشرين جزءًا إلى تسعة وتسعين جزءًا، لوقوف الخلائق عليها للحساب، وإلا لم تسعهم، من مده: بمعنى: أمده؛ أي: زاده، وفي الحديث: "إذا كان يوم القيامة .. مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه"، يعني: لكثرة الخلائق فيها، وقوله: "مد الأديم"؛ لأن الأديم إذا مد زال عنه كل انثناء فيه واستوى، وفي بعض الروايات: "مد الأديم العكاظي"، قال في "القاموس": - هو كغراب - سوق بصحراء بين النخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يومًا تجتمع قبائل العرب، فيتعاكظون؛ أي: يتفاخرون ويتناشدون، ومنه مد الأديم العكاظي. انتهى .. 4 - {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا}؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها، نظير قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)}، وهو من الإسناد المجازي، وإلا فالإلقاء والإخراج لله تعالى. فإن قلت: إخراج الكنوز يكون وقت خروج الدجال لا يوم القيامة؟ قلت: يوم القيامة وقت متسع يجوز اعتباره من وقت خروجه ولو مجازًا؛ لأنه من أشراطه الكبرى، فيكون إخراج الكنوز عند قرب الساعة، وإخراج الموتى عند البعث {وَتَخَلَّتْ}؛ أي: وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لا يبقى فيها شيء منه، كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم، إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما. 5 - {وَأَذِنَتْ} وانقادت {لِرَبِّهَا}؛ أي: لأمر ربها في الإلقاء والتخلي. {وَحُقَّتْ}؛ أي: جعلت حقيقة حرية بذلك الانقياد؛ أي: شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة الربانية، وذكره مرتين؛ لأن الأول متصل بالسماء، والثاني بالأرض، وإذا اتصل كل واحد بغير ما اتصل به

الآخر .. لم يكن تكرارًا، وجواب {إذا} محذوف تقديره: أي: وإذا وقعت هذه الأمور .. كان من الأهوال ما تقصر عن بيانه العبارة، وقيل: إن الجواب قوله: {فَمُلَاقِيهِ}؛ أي: فأنت ملاقيه، وبه قال الأخفش، وقال المبرد: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا؛ أي: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه إذا السماء انشقت. وقال المبرد أيضًا: إن الجواب قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)}، وبه قال الكسائي، والتقدير: إذا السماء انشقت، فمن أوتي كتابه بيمينه .. فحكمه كذا، وقيل: هو: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} على إضمار الفاء، وقيل إنه: يا أيها الإنسان على إضمار القول؛ أي: يقال له يا أيها الإنسان، وقيل: الجواب محذوف تقديره: بعثتم، أو لاقى كل إنسان عمله، وقيل: هو ما صرح به في سورة التكوير؛ أي: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}. وهذا كله على تقدير: أن {إذا} شرطية، وقيل ليست شرطية، بل هي مجردة عن معنى الشرط منصوبة بفعل محذوف؛ أي: اذكر يا محمد للناس قصة وقت انشقاق السماء، وقصة وقت مد الأرض، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، والأول أولى وأوضح. وحاصل معنى الآيات (¬1): إذا انشقت السماء لفساد تركيبها، واختلال نظامها حينما يريد الله سبحانه خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر في مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}؛ أي: استمعت، وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتئل ما أمر به، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن". {وَحُقَّتْ}؛ أي: وحق لها أن تمتثل؛ لأنها مخلوقة من مخلوقاته، وهي في قبضته، فإن أراد تبديد نظامها .. فعل، ولم يكن لها أن تعصي إرادته. {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)}؛ أي: وإذا اضطربت الأرض، ودكت جبالها، ¬

_ (¬1) المراغي.

[6]

وتقطعت أوصالها، وفقدت ما بينها من التماسك، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن، بل تمد مد الأديم العكاظي، كما روي عن ابن عباس: والأديم: الجلد، والعكاظي: المدبوغ في عكاظ. والمراد: أنه لا انشقاق فيها، ولا اعوجاج. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا}؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها، ونحو هذا قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَت الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} وقوله: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}، وقوله: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}. {وَتَخَلَّتْ}؛ أي: خلت من جميع ما في جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهي في ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}؛ أي: واستمعت وأطاعت أوامره؛ لأنها في قبضة القدرة الإلهية تصرفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب {إذا} الذي صدرت به السورة محذوفة، كما مر آنفًا؛ لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره .. ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر، فاكدحوا واجتهدوا لعمل ذلك اليوم تفوزوا بالنعيم. وقصارى ذلك (¬1): وصف أحوال العالم يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها في هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا في حياتهم من عمل، فيجازيهم على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة سوءًا، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شي في الأرض ولا في السماء. 6 - {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} المراد به: جنس الإنسان، فيشمل المؤمن والكافر، وقيل: هو الإنسان الكافر، والأول أولى لما سيأتي من التفصيل؛ أي: يا جنس الإنسان الشامل للمؤمن والكافر والعاصي، فالخطاب عام لكل مكلف على سبيل البدل، ويقال: هذا أبلغ من العموم؛ لأنه يقوم مقام التنصيص في النداء على مخاطبة كل ¬

_ (¬1) المراغي.

واحد بعينه، كأنه قيل: يا فلان ويا فلان إلى غير ذلك، {إِنَّكَ كَادِحٌ}؛ أي (¬1): جاهد ومجد؛ أي: ساع باجتهاد ومشقة وكد {إِلَى} لقاء {رَبِّكَ}؛ أي: إلى وقت لقائه، وهو الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء مبالغ في ذلك، وفي الخبر: أنهم قالوا يا رسول الله، فيما نكدح، وقد جفت الأقلام، ومضت المقادير، فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"، وقوله: {كَدْحًا}؛ أي: اجتهادًا بليغًا، مصدر مؤكد للوصف؛ أي: إنك مجتهد وساع في أشغالك من غير فرق بين أن يكون ذلك الشغل خيرًا أو شرًا؛ أي: مجتهد اجتهادًا بليغًا، وساع سعيًا شديدًا من غير فترة إلى لقاء ربك؛ أي: إلى انقضاء أجلك لا فراغ لك؛ أي: إنك مشغول بعملك مدة حياتك {فَمُلَاقِيهِ} معطوف على {كَادِحٌ}: أي: فملاقٍ له؛ أي: لجزاء عملك من خير أو شر عقيب لقاء ربك لا محالة، من غير صارف يلويك عنه، ولا مفر لك منه، ويقال: المعنى: إنك عامل لربك عملًا فملاقٍ عملك يوم القيامة، يعني: أن جدك وسعيك إلى مباشرة الأعمال في الدنيا هو في الحقيقة سعي إلى لقاء جزائها في العقبى، فملاق ذلك الجزاء لا محالة، فعليك أن تباشر في الدنيا بما ينجيك في العقبى، واحذر عما يهلكك فيها، ويوقعك في الخجالة والافتضاح من سوء المعاملة، وفي الحديث: "النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، وكل عامل سيقدم إلى ما أسلف". قال القتيبي: معنى الآية: إنك كادح؛ أي: إنك عامل ناصب في طلب معيشتك وكسبك عملًا شديدًا لا فترة فيه إلى لقاء ربك بالموت فملاقيه؛ أي: فأنت ملاقٍ ربك بعملك، فمجازيك عليه خيرًا أو شرًا، وقيل: فملاق كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى؛ أي (¬2): إنك يا ابن آدم متعب نفسك في العمل في دنياك تعبًا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة، فملاق ذلك العمل خيرًا كان أو شرًا في الكتاب الذي فيه بيانه. وحاصل المعنى (¬3): أي أيها الإنسان إنك عامل في هذه الحياة، ومجد في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح. (¬3) المراغي.

[7]

عملك، ومبالغ في إدراك الغاية إلى أن تنتهي حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به، وتلهو وكل خطوة في عملك فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله تعالى، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة، ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس، ويعرف كل عامل ما جر إليه عمله، 7 - والناس حينئذٍ صنفان: 1 - {فَأَمَّا مَنْ} وهو المؤمن السعيد، و {مَنْ} موصولة، وهو تفصيل لما أجمل فيما قبله {أُوتِيَ} وأعطي؛ أي: يؤتى، وعبر بالماضي لتحققه. {كِتَابَهُ} المكتوب فيه أعماله التي كدح في كسبها {بِيَمِينِهِ}؛ لكون كدحه بالسعي فيما يكتبه كاتب اليمين. والحكمة في الكتابة مع أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء (¬1): أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب وتعرض على رؤوس الأشهاد .. كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره .. لم يحتشم احتشامه من خدمة المطلعين عليه. 8 - {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ} يوم القيامة بعد مدة مقدرة على ما تقتضيه الحكمة {حِسَابًا يَسِيرًا}؛ أي: سهلًا لا مناقشة فيه، ولا اعتراض بما يسوءه ويشق عليه، كما يناقش أصحاب الشمال. والحساب: بمعنى المحاسبة، والمراد به: عد أعمال العباد، وإظهارها للمجازاة، وعن الصديقة رضي الله عنها: هو - أي الحساب اليسير - أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. يعني: أن يعرض عليه أعماله، ويعرف أن الطاعة منها هذه، والمعصية هذه، ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز عن المعصية، فهذا هو الحساب اليسير؛ لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة، ولا يقال له: لم فعلت هذا؟، ولا يطالب بالعذر ولا بالحجة عليه، فانه متى طولب بذلك .. لم يجد عذرًا ولا حجةً، فيفتضح. قالوا إنَّ عصاة المؤمنين داخلة في هذا القسم، فقوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} من وصف الكل بوصف البعض؛ أي: فالعصاة (¬2)، وإن لم يكن لهم حساب يسير بالنسبة إلى المطيعين، لكن حسابهم كالعرض بالنسبة إلى مناقشة أصحاب الشمال، فأصحاب اليمين شاملة لهم، وقد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

يقال: كتاب عصاة المؤمنين يعطى عند خروجهم من النار، وقيل: يجوز أن يعطوا من الشمال لا من وراء ظهورهم، وفيه أن الإعطاء من الشمال ومن وراء الظهر أمر واحد. وقيل: لم تتعرض الآية للعصاة الذين يدخلهم الله النار، وهو الظاهر، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا"، وإن دل على أن للأنبياء كتابًا، لكن الظاهر إرشاد الأمة وتعليمهم، وإلا فهم معصومون داخلون الجنة بلا حساب ولا كتاب. 9 - {وَيَنْقَلِبُ}؛ أي: يرجع المحاسب حسابًا يسيرًا بعد حسابه؛ أي: ينصرف ويرجع من مقام الحساب اليسير {إِلَى أَهْلِهِ} الذين هم في الجنة من عشيرته المؤمنين، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد، أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين، أو إلى جميع هؤلاء، أو إلى أهله الذين هم رفقاؤه في طريق السعادة والكرامة حال كونه {مَسْرُورًا}؛ أي: مبتهجًا بحاله، وكونه من أهل النجاة مستبشرًا بما أوتي من الخير والكرامة، قائلًا: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}. قال صاحب "الروح": فهذا الانقلاب يكون في المحشر قبل دخول الجنة، لا كما قال في "عين المعاني" من أنه يدل على أن أهله يدخلون الجنة قبله. انتهى. ودعوة الناس إلى قراءة الكتاب علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة. وحاصل المعنى (¬1): أي فأما من عرض عليه سجل أعماله، وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب يسير الحساب؛ إذ تعرض عليه أعماله، فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه، ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش .. فقد هلك". ومن حوسب هذا الحساب اليسير .. يرجع إلى أهله المؤمنين مسرورًا مبتهجًا قائلًا: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}. ¬

_ (¬1) المراغي.

[10]

2 - 10 {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ} وأعطي {كِتَابَهُ}؛ أي: صحيفة عمله، وتكرير (¬1) {كِتَابَهُ} بدون الاكتفاء بالإضمار لتغاير الكتابين، وتخالفهما بالاشتمال والحكم في المآل؛ أي: يؤتى كتاب عمله {وَرَاءَ ظَهْرِهِ}؛ أي: خلف ظهره؛ أي: أوتي بشماله وراء ظهره وجانبه، و {وَرَاءَ} ظرف لـ {أُوتِيَ} مستعمل في المكان. وقال الكلبي: تغل يمينه، ثم تلوى يده اليسرى من ورائه، فيعطى كتابه بشماله، وهي خلف ظهره، فلا مخالفة حينئذٍ بين ما هنا، وبين ما في الحاقة حيث لم يذكر فيها الظهر، بل اكتفى بالشمال. قال الإمام: ويحتمل أن يكون بعضهم يعطى كتابه بشماله، وبعضهم من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: تفك ألوح صدره وعظامه، ثم تدخل يده اليسرى، وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. 11 - {فَسَوْفَ يَدْعُو}؛ أي: إذا قرأ كتابه {ثُبُورًا}؛ أي: هلاكًا، فيقول: يا ثبوراه، يا ويلاه؛ أي: يتمنى (¬2) لنفسه الثبور، وهو الهلاك، ويدعوه: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك، وأنى له ذلك، يعني: لما كان إيتاء الكتاب من غير يمينه علامة كونه من أهل النار .. كان كلامه: واثبوراه، ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه. قيل: الثبور: مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما قال تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}. 12 - {وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)}؛ أي: يدخلها ويقاسي حرها وعذابها من غير حائل، وهذا يدل على أن دعاءهم بالثبور قبل الصلي، وبه صرح الإِمام، وأما قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} فيدل على أنه بعده، ولا منافاة في الجمع، فإنهم يدعونه أولًا وآخرًا بل دائمًا على أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب. وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة (¬3): {وَيَصْلَى} بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج: بضم الياء، وفتح الصاد، واللام المشددة، وأبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان وعاصم وعيسى أيضًا والعتكي وجماعة عن أبي عمرو: بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيًا للمفعول من المتعدي بالهمزة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[13]

كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف. والمعنى (¬1): أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، ومد اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر في الدلالة على الكراهة، والنفور: أن يستدبره ويعرض عنه، فيكون من وراء ظهره. وقصارى ما سلف: أن من عرض عليه كتابه، وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجل البر والكرامات، فشأنه: كذا وكذا، ومن قدم إليه كتابه، وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره، أو أعرض عنه، فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجين المخازي، فأمره: كيت وكيت، يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل في سورة الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلخ. والخلاصة: أن إيتاء الكتاب باليمين أو باليسار، أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله .. ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله .. عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار، أو من وراء الظهر، وحينئذٍ يدعو: واثبوراه؛ أي: يا هلاك أقبل، فإني لا أريد أن أبقى حيًا، علمًا منه بأن ذلك داعٍ إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسي سعيرها. 13 - ثم ذكر سبحانه سببين في استحقاقه للعذاب في الآخرة، فقال: 1 - {إِنَّهُ}؛ أي: لأن ذلك المعطى كتابه وراء ظهره، فالجملة (¬2) مستأنفة مسوقة لبيان علة ما قبلها {كَانَ} في حياته الدنيا {فِي أَهْلِهِ}؛ أي: فيما بين أهله وعشيرته أو معهم، على أنهم جميعًا كانوا مسرورين، كما يقال: جاءني فلان في جماعة، أي: معهم {مَسْرُورًا}؛ أي: فرحًا بطرًا، لا يفكر في أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنًا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي في نار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[14]

الجحيم، كديدن الفجار الذين لا يخطر ببالهم أمور الآخرة، ولا يتفكرون في العواقب، كسنّة الصلحاء والمتقين، كما قال تعالى حكاية عنهم؛ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، ومن ثمَّ أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابًا لا ينقطع، وآلامًا لا تنفذ. والحاصل: أنه كان الكافر في الدنيا فارغًا عن همِّ الآخرة، وكان له مزمار في قلبه، فجوزي بالغم الباقي، بخلاف المؤمن، فإنه كان له نائحة في قلبه، فجوزي بالسرور الدائم. 2 - 14 {إِنَّهُ ظَنَّ}؛ أي: تيقن، كما في تفسير الفاتحة للفناري، وقال في "فتح الرحمن" الظن هنا على بابه بمعنى الحسبان، لا الظن الذي بمعنى اليقين، وهو تعليل لسروره في الدنيا؛ أي: إن هذا الكافر ظن في الدنيا. {أَن} مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي {ظَنَّ} أو أحدهما على الخلاف المشهور؛ أي: ظن أن الشأن والحال {لَنْ يَحُورَ} هو؛ أي: لن يرجع إلى ربه بالبعث. والمعنى (¬1): أنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله يبدل سروره حزنًا وغمًا .. لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء، وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها، ولا يزول سرور أهلها. وفي الآية (¬2) إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم، ليسوا بظانين فضلًا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم: أنهم لا يحاسبون، وأن الله سبحانه مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله، وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، 15 - ثم رد عليه ظنه الخاطىء، فقال: {بَلَى} ايجاب لما بعد {لَن}؛ أي: بلى ليحورن ألبتة، وليس الأمر كما يظن {إِنَّ رَبَّهُ} الذي خلقه {كان به}، وبأعماله الموجبة للجزاء، والجار متعلق بقوله: {بَصِيرًا} بحيث لا يخفى منها خافية، فلا بد من رجعه وحسابه وجزائه عليها حتمًا؛ إذ لا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[16]

يجوز في حكمته أن يهمله، فلا يعاقبه على سوء أعماله، وهذا زجر لجميع المكلفين عن المعاصي كلها. قال الواسطي رحمه الله تعالى: كان بصيرًا به، إذ خلقه لماذا خلقه، ولأي شيء أوجده، وما قدر عليه من السعادة أو الشقاوة، وما كتب له أو عليه من أجله ورزقه. انتهى. وحاصل المعنى (¬1): أي بلى ليحورن، وليبعثن، وليرجعن إلى ربه، وليحاسبنه على عمله حتى على النقير والقطمير، فيجزى على الخير خيرًا، وعلى الشر شرًا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدًا لما لا يتناهى من الكمال، وبما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة، لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقتضي حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة، ويثمر فيها أعماله، ويوافي فيها كماله. 16 - {فَلَا أُقْسِمُ} كلمة {لا} زائدة للتوكيد، كما مر مرارًا، و {الفاء}: استئنافية؛ أي: فأقسم لكم أيها العباد {بِاَلشَفَقِ}، وهي (¬2) الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، وبغيبوبتها يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماء، أو البياض الذي يعقبها، ولا يدخل وقت العشاء إلا بزواله، سمي به على كل من المعنيين لرقته، لكن مناسبته لمعنى البياض أكثر، وهو من الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب، ولا شك أن الشمس - أعني: ضوءها - يأخذ في الرقة والضعف من غيبة الشمس إلى أن يستولي سواد الليل على الآفاق كلها. وعن عكرمة ومجاهد: الشفق: هو النهار، بناءً على أن الشفق هو أثر الشمس، وهو كوكب نهاري، وأثره هو النهار، فعلى هذا يقع القسم بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والآخر سكن، وبهما قوام أمور العالم، وفي "المفردات": الشفق: أختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس. 17 - {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)} قال الراغب: الوسق: جمع المتفردق؛ أي: وأقسم لكم بالليل وبما جمعه وما ضمه وستره بظلمته، فـ {ما} موصولة، يقال: وسقه فاتسق واستوسق، يعني: أن كلًّا منهما مطاوع لوسق؛ أي: جمعه فاجتمع. و {ما} عبارة عما يجتمع بالليل، ويأوي إلى مكانه من الدواب والحشرات والهوام والسباع، وذلك أنه إذا أقبل الليل .. أقبل كل شيء إلى مأواه مما كان ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[18]

منتشرًا بالنهار، وقيل: يجوز أن يكون المراد بما جمعه الليل: العباد المجتهدين بالليل؛ لأنه تعالى قد مدح المستغفرين بالأسحار، والأول أولى. 18 - {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)}؛ أي: اجتمع وتكامل وتم بدرًا ليلة أربع عشرة. قال في "فتح الرحمن": امتلأ في الليالي البيض. وقال الفراء؛ امتلاؤه، واجتماعه، واستواؤه ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة. أقسم (¬1) سبحانه بهذه الأشياء؛ لأن في كل منها تحولًا من حال إلى آخر، فناسبت المقسم عليها، يعني: أن الله تعالى أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على تغير أحوال الخلق، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها، وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)} فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم، وكذا قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصًا، 19 - وقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا} مفعول {تَرْكَبُنَّ} {عَنْ طَبَقٍ}؛ أي: بعد طبق، جواب القسم؛ أي: لتلاقن أيها العباد حالًا بعد حال، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدة والفظاعة، يقال: ما هذا يطبق هذا؛ أي: لا يطابقه. قال الراغب: المطابقة من الأسماء المتضايقة، وهو أن يجعل الشيء فوق آخر بقدره، ومنه: طابقت النعل بالنعل، ثم يستعمل الطباق في الشيء الذي يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره أخرى. وقيل: الطبق: جمع طبقة، وهي المرتبة، وهو الأوفق للركوب المنبىء عن الاعتلاء. والمعنى: لتركبن أحوالًا بعد أحوال هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة ودواهيها إلى حين المستقر في إحدى الدارين. وقرأ عمر وعبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان - حمزة والكسائي - وابن كثير: {لتركبَن} بتاء الخطاب وفتح الباء، فقيل: هو خطاب للرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لتركبن يا محمد حالًا بعد حال في معالجة الكفار، فقال ابن عباس: لتركبن يا محمد سماعًا بعد سماع، وقيل: عدة له بالنصر؛ أي: لتركبن أمر العرب قبيلًا بعد ¬

_ (¬1) روح البيان.

قبيل، وفتحًا بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك، وقال الزمخشري: وقرىء {لتركبن} على خطاب الإنسان في: {أيها الإنسان}؛ أي: لتركبن أيها الإنسان حالًا بعد حال من كونك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم حيًا وميتًا وغنيًا وفقيرًا، وقال ابن مسعود: المعنى: لتركبن السماء في أهوال القيامة حالًا بعد حال تكون كالمهل، وكالدهان، وتنفطر، وتنشق، فالتاء للتأنيث، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها، والضمير والفاعل عائد على السماء، وقرأ عمر وابن عباس أيضًا: بالياء من أسفل، وفتح الباء على ذكر الغائب، قال ابن عباس: ليركبن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - حالًا بعد حال، وقيل: الضمير الغائب يعود على القمر؛ لأنه يتغير أحوالًا من إسرار واستهلال وإبدار، وقال الزمخشري: ليركبن الإنسان، وقرأ عمر وابن عباس أيضًا وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة بتاء الخطاب وضم الباء؛ أي: لتركبن أيها الإنسان، وقال الزمخشري: و {لَتَرْكَبُنَّ} بالضم على خطاب الجنس؛ لأن النداء للجنس. والمعنى: لتركبن أيها الناس الشدائد: الموت والبعث والحساب حالًا بعد حال، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم، كما تقول: طبقة بعد طبق، وقال نحوه عكرمة، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم هذه القراءة، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال مكحول وأبو عبيدة: لتركبن سنن من قبلكم، وقال ابن زيد: المعنى: لتركبن الآخرة الأولى، وقرأ عمر أيضًا: {ليركبن} بياء الغيبة وضم الباء، قيل: أراد به الكفار، أي: يركبون حالًا بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن مسعود وابن عباس: {لتركبن} بكسر التاء، وهي لغة تميم، قيل: والخطاب للرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرىء بالتاء وكسر الباء الموحدة على خطاب النفس. ومحل {عَنْ طَبَقٍ} النصب على أنه صفة لـ {طَبَقًا}؛ أي: طبقًا مجاوزًا لطبق، أو على الحال من ضمير {لتركبن}؛ أي: مجاوزين، أو مجاوزًا. وطبق الشيء: مطابقه؛ لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة، وعن مكحول: كل عشرين عامًا تجدون أمرًا لم تكونوا عليه. والمعنى (¬1): أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها .. استدل ¬

_ (¬1) المراغي.

[20]

بجلالتها وعظمة شأنها على قدرة مبتدعها {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا}؛ أي: لتلاقن أيها الناس أمورًا بعد أمور، وأحوالًا بعد أحوال إلى أن تصيروا إلى ربكم، وهناك الخلود في جنة أو نار. ويدخل في هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به بعد أن كان نطفة في بطن أمه إلى أن صار شخصًا، وما مر به في حياته الأولى من طفولة وشيخوخة، ثم موته، ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار. والخلاصة: لتركبن حالًا بعد حال، والحال الثانية تطابق الأولى؛ أي: لتكونن في حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها، وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت في بعض شؤونها الحياة الأولى. 20 - وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب.، أنكر عليهم استبعادهم له، فقال: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}، والاستفهام للإنكار، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة، أو من غيرها على الاختلاف السابق، و {ما}: مبتدأ، و {لَهُمْ}: خبره، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} حال من الضمير في {لَهُمْ}. والمعنى (¬1): إذا كان حالهم يوم القيامة كما ذكر، وأردت التعجب من حالهم .. فأقول لك؛ أي شيء لكفار مكة، وأيُّ مانع لهم حال كونهم غير مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به من القرآن، مع وجود موجبات الإيمان بذلك؛ أي: أي شيء يمنعهم من الإيمان مع تعاضد موجباته، 21 - وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآن} جملة شرطية، وقوله: {لَا يَسْجُدُونَ} جوابها، والجملة الشرطية مع جوابها في محل النصب على الحال من ضمير {لَهُمْ} عطفاَ على جملة {لَا يُؤمِنُونَ}؛ أي: أيُّ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو واحد من أصحابه وأمته القرآن، فإنهم من أهل اللسان، فيجب عليهم أن يجزموا بإعجاز القرآن عند سماعه، وبكونه كلامًا إلهيًا، ويعلموا بذلك صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في دعوى النبوة، فيطيعوه في جوامع الأوامر والنواهي، ويجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق القرآن، كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ ذات يوم: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}، فسجد هو ومن معه من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم، وتصفر استهزاء، وبه احتج أبو حنيفة على وجوب السجدة، فإن الذم على ترك الشيء يدل على وجوب ذلك الشيء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها، وكذا الخلفاء، وهي الثالثة عشرة من أربع عشرة سجدة تجب عندها السجدة عند الحنفية على التالي والسامع، سواء قصده أم لا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في المفصل سجدة، وكذا قال الحسن، وهي غير واجبة عند الأئمة الثلاثة، ثم إن الأئمة الثلاثة يسجدون عند قوله: {لَا يَسْجُدُونَ}، والإمام مالك: عند آخر السورة. وحاصل معنى قوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}؛ أي: فأي (¬1) شيء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله، وأنكروا صحة البعث، وكل شيء أمامهم ينادي بباهر قدرته، ويرشد إلي عظيم سلطانه. وقصارى ذلك: أنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب. ومعنى قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)}؛ أي: وما حدث لهم حتى صاروا إذا قرىء عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها، فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضي أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه .. استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته. 22 - ثم بين السبب في عدم إيمانهم به، وانقيادهم له، فقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)} بألقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقق موجبات تصديقه، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته، وهذا من (¬2) وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، والإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن، وفي بعض التفاسير: إن المراد: التكذيب بالقلب بمعنى عدم التصديق، فيكون الإضراب هنا إضراب ترق، فإنَّ عدم الإيمان يكون بالشك أيضًا، والتكذيب من شدة الكفر، وقوة الإنكار الحاملة على الإضراب، وقال هنا: {يُكَذِّبُونَ}، وفي سورة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[23]

البروج: {فِي تَكْذِيبٍ} لمراعاة فواصل الآي في السورتين، مع صحة اللفظ وجودة المعنى. وقرأ الجمهور (¬1): {يُكَذبوُنَ} مشددًا، والضحاك وابن أبي عبلة مخففًا، وبفتح الياء. ومعنى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (22)}؛ أي: إن (¬2) الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرون على التكذيب؛ إما لأنهم يحسدون الرسول - صلى الله عليه وسلم -. على ما أتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة وأفعال مستهجنة. 23 - {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}؛ أي: بما يضمرونه في قلوبهم، ويجمعونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، فيجازيهم على ذلك في الدنيا والآخرة، فـ {ما} موصولة، يقال: أوعيت الشيء: إذا جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ، أو بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء، ويدخرونه لأنفسهم من أنواع العذاب علمًا فعليًا تفصيليًا. وقرأ أبو رجاء: {بما يعون} من وعى يعي. والمعنى (¬3): أي واللهُ سبحانه مطلع على ما في قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك، ودواعي العناد، والاستمرار على ما هم عليه. 24 - {فَبَشِّرْهُمْ}؛ أي: فبشر يا محمد الذين كفروا {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ أي: مؤلم غاية الإيلام جزاء استمرارهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيء العمل، وفاسد الاعتقاد، لأن علمه تعالى بذلك على الوجه المذكور، موجب لتعذيبهم حتمًا، وهو استهزاء بهم وتهكم، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}؛ لأن البشارة هي الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم. 25 - وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا صادقًا استثناء منقطع من الضمير المنصوب في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} الراجع إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا}، والمستثنى - وهم المؤمنون - ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

خارج عنهم؛ أي: لكن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانًا صحيحًا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من الطاعات المأمور بها {لَهُمْ} في الآخرة عند ربهم {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير مقطوع، بل متصل دائم، من: منَّه منًا، بمعنى: قطعه قطعًا، أو غير ممنون به عليهم، فإن المنة تكدر النعمة، من: منَّ عليه منَّة، والأول هو الظاهر (¬1)، ولعل المراد من الثاني تحقيق الأجر، وأن المأجور استحق الأجر بعمله إطاعة لربه، وإن كان ذلك الاستحقاق من فضل الله، كما أن إعطاء القدرة على العمل والهداية إليه من فضله أيضًا، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا إن أريد من آمن منهم. والمعنى: أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن المعصية. الإعراب {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}. {إذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، أو مجرد منه {السَّمَاءُ}: فاعل بفعل محذوف يفسره المذكور، تقديره: إذا انشقت السماء انشقت، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة {انْشَقَّتْ} مفسرة لا محل لها من الإعراب، وجواب {إِذَا} محذوف جوازًا، تقديره: إذا انشقت السماء لاقى كل إنسان عمله، وجملة {إِذَا} مستأنفة، وقيل: لا جواب لها؛ لأنها مجردة عن معنى الشرط، فهي منصوبة باذكر مقدرًا نصب المفعول به {وَأَذِنَتْ}: {الواو}: عاطفة {أذنَت}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {السَّمَاءُ}، معطوفة على {انْشَقَّتْ}، {لِرَبِّهَا}: متعلق بـ {أذنَت}، {وَحُقَّتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {السَّمَاءُ}، والجملة معطوفة على جملة {انْشَقَّتْ}، وفي "الروح": وحق هذه الجملة أن تكون معترضة مقررة لما قبلها، لا معطوفة عليه، وقوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} معطوف على قوله: {إِذَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، مماثل له في إعرابه، تقديره: وإذا مدت الأرض مدت، {وَأَلْقَتْ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضُ}، معطوف على مدت الأرض {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {ألقت} {فِيهَا}: متعلق بمحذوف صلة لـ {مَا} الموصولة؛ أي: وألقت ما استقر فيها من الكنوز والموتى {وَتَخَلَّتْ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضُ}، معطوف على {أَلْقَتْ}، أي: صارت خالية عما فيها {وَأَذِنَتْ}: معطوف على ما قبلها {لِرَبِّهَا}: متعلق بـ {أَذِنَتْ}، {وَحُقَّتْ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْأَرْضُ}، والجملة معطوفة على ما قبلها. {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)}. {يَاأَيُّهَا} {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات {أيُّ} من الإضافة. {الْإِنْسَانُ}: بدل من {أي}، وجملة النداء مستأنفة، {إِنَّكَ كَادِحٌ}:ناصب واسمه وخبره {إِلَى رَبِّكَ}: متعلق بـ {كَادِحٌ}. {كَدْحًا}: مفعول مطلق منصوب بـ {كَادِحٌ}. وجملة {إنَّ} جواب النداء لا محل لها من الإعراب، {فَمُلَاقِيهِ}: {الفاء}: عاطفة، {ملاقيه}: معطوف على {كَادِحٌ}، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: فأنت ملاقيه، فعلى الأول يكون من عطف المفرد على المفرد، وعلى الثاني يكون من عطف الجمل، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل إنسان كادح إلى ربه فملاق عمله، وأردت بيان تفصيل أحوالهم في ذلك اليوم .. فأقول لك: {أما من أوتي}: {أما}: حرف شرط وتفصيل {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ {أُوتِيَ} فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ} الموصولة، {كِتَابَهُ}: مفعول ثانٍ لـ {أوتِىَ}: لأنه بمعنى: أعطي، {بِيَمِينِه} متعلق بـ {أُوتِيَ}، {فَسَوْفَ} {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما} {سوف}: حرف استقبال، {يُحَاسَبُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {مَنْ} الموصولة، {حِسَابًا}: مفعول مطلق

مبين للنوع {يَسِيرًا}: صفة {حِسَابًا}، وجملة {يُحَاسَبُ} في محل الرفع خبر لـ {مَنْ} الموصولة، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب، {وَيَنْقَلِبُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} الموصولة، معطوف على {يُحَاسَبُ}، {إِلَى أَهْلِهِ}: متعلق بـ {يَنْقَلِبُ} {مَسْرُورًا}: حال من فاعل {يَنقَلِبُ}، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}: {الواو}: عاطفة {أَمَّا}: حرف شرط، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أُوتِيَ كِتَابَهُ}: صلة {مَنْ} الموصولة {وراء ظهره}: {وَرَاءَ} منصوب بنزع الخافض؛ أي: أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره، و {ظَهْرِهِ}: مضاف إليه {فَسَوْفَ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما}، وجملة {سوف يدعو} خبر {مَنْ} الموصولة {ثُبُورًا}: مفعول به لـ {يَدْعُو}؛ أي: ينادي هلاكه بقوله: يا ثبوراه؛ لأن نداء ما لا يعقل يراد به التمني، فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء، وجملة {مَنْ} الموصولة جواب {أَمَّا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أَمَّا} في محل النصب معطوفة على جملة {أَمَّا} الأولى، وإن أردت الخوض والبيان في إعراب {أَمَّا} الشرطية، وما يتعلق بها، فراجع شروحنا على "متن الآجرومية" {وَيَصْلَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} الموصولة معطوف على {يَدْعُواْ} {سَعِيرًا}: مفعول به على التوسع لـ {يصلى} مثل: سكنت الشام، ودخلت البيت. {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {فِي أَهْلِهِ}: حال من الضمير المستكن في {مَسْرُورًا}، و {مَسْرُورًا}: خبر {كَانَ}، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {ظَنَّ} خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل جملة {إن} الأولى، والظن هنا بمعنى: العلم واليقين. {إن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {لَنْ}: حرف نصب واستقبال، {يَحُورَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر منصوب بـ {لَن}، وجملة {لَنْ يَحُورَ} في محل الرفع خبر {أَن} المخففة وجملة {أَن} المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي

{ظَنَّ}، {بَلَى}: حرف جواب لإيجاب ما بعد النفي {إِنَّ رَبَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانَ} خبره، و {بِهِ} متعلق بـ {بَصِيرًا} و {بَصِيرًا}: خبر {كَانَ}، وجملة {إِنَّ}، وما في حيزها جواب قسم مقدر بعد {بَلَى}؛ أي: بلى والله إن ربه كان به بصيرا، أو تعليل لما أفادته {بَلَى} من إيجاب لما بعد {لَنْ}. {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)}. {فَلَا}: {الفاء}: استئنافية {لا}: زائدة تأكيدًا للقسم، {أُقْسِمُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، وجملة القسم مستأنفة {بِالشَّفَقِ}: متعلق بـ {أُقْسِمُ}، {وَاللَّيْلِ}: معطوف على {الشفق}، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة {مَا}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {اللَّيْلِ}، {وَسَقَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّيْلِ}، والجملة صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما وسقه الليل، {وَالْقَمَرِ}: معطوف على {الشفق} أيضًا {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، متعلق بفعل القسم، {اتَّسَقَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {وَالْقَمَرِ}. {وَالْقَمَرِ} معطوفة على {وَاللَّيْلِ}، والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ {إذا}؛ أي: وأقسم بالقمر وقت اتساقه وكماله {لَتَرْكَبُنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم {تركبن}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون نون التوكيد الثقيلة. {طَبَقًا}: مفعول به {عَنْ طَبَقٍ}: صفة {طَبَقًا}، وعن: بمعنى: بعد؛ أي: لتركبن حالًا كائنًا بعد حال، كل واحدة منهما مطابقة لأختها في الشدة، يعني: أهوال يوم القيامة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}. {فَمَا}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،

تقديره: إذا كان حال يوم القيامة كما ذكر، وأردت التعجب من حالهم .. فأقول لك: أي شيء لكفار مكة، وأيُّ مانع لهم؟ {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {لَهُمْ}: خبر، وجملة {لَا يُؤمِنُونَ} في محل النصب حال من ضمير {لَهُمْ}، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وإذا}: {الواو}: عاطفة {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، متعلق بالجواب الآتي {قرىء}: فعل ماضٍ مغير الصيغة {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {قرىء} {الْقُرْآنُ}: نائب فاعل لـ {قرىء}، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة {لَا يَسْجُدُونَ} جواب الشرط لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذا} الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: وما لهم حال كونهم لا يسجدون وقت قراءة القرآن عليهم {بَلْ} حرف إضراب للإضراب الانتقالي {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، وجملة {يُكَذِّبُونَ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة إضرابية لا محل لها من الإعراب {وَاللَّهُ}: {الواو}: عاطفة {اللَّهُ}: مبتدأ، {أَعْلَمُ} خبره، والجملة معطوفة على الجملة الإضرابية {بِمَا}: متعلق بـ {أَعْلَمُ} {يُوعُونَ}: فعل مضارع وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما يوعونه ويضمرونه، {فَبَشِّرْهُمْ}: {الفاء}: حرف عطف وتفريع {بشرهم}: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف مفرع على {يُكَذِّبُونَ}، {بِعَذَابٍ}: متعلق بـ {بشرهم}. {أَلِيمٍ}: صفة {عذاب} {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى: لكن، أو متصل، وليس بالقوي، والمستثنى منه ضمير {بشرهم}، {الَّذِينَ}: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب على الاستثناء، مبني على الفتح، أو على الياء، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {آمَنُوا} {لَهُمْ}: خبر مقدم، {أَجْرٌ}: مبتدأ مؤخر، {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: صفة {أَجْرٌ}، والجملة الاسمية خبر {الَّذِينَ}، وجملة {الَّذِينَ} جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، أو مستأنفة إن قلنا إن الاستثناء متصل.

التصريف ومفردات اللغة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}؛ أي: تشققت وتصدعت. {وَأَذِنَتْ}؛ أي: استمعت لأمر ربها، يقال: أذنت لك؛ أي: استمعت كلامك، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر: صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُؤءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوْا وقول الآخر: إِنْ يَأْذَنُوْا سُبَّةً طَارُوْا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّيْ وَمَا أَذِنُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا وفي "المختار": أذن له استمع، وبابه: طرب، ومنه قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)}، ويقال: أذن يأذن أذنًا إليه وله: استمع له معجبًا، أو عام، ولرائحة الطعام: اشتهاه، وأذن بالشيء كسمع إذنًا بالكسر، ويحرك، وأذانًا وأذانة: علم به، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ}؛ أي: كونوا على علم، وأذنه الأمر وبه: أعلمه، وأذن له في الشيء، كسمع إذنًا بالكسر، وأذينًا: أباحه له، واستأذنه: طلب منه الإذن، إلى آخر ما في هذه المادة العجيبة. {وَحُقَّتْ}؛ أي: حق لها أن تمتثل ذلك، والفاعل في الأصل هو الله تعالى؛ أي: حق الله تعالى عليها ذلك؛ أي: سمعه وطاعته؛ أي: أوجبه عليها، وألزمها به، واقتضت حكمته وجوده منها، وكلام البيضاوي، يقتضي أن نائب الفاعل هو ضمير السماء المستكن في الفعل من غير تقدير، ونصه: حقت؛ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد. اهـ. وقال صاحب "الروح": فحق هذه الجملة أن تكون اعتراضًا مقررةً لما قبلها، لا معطوفة عليه. اهـ. كما مرَّ. {مُدَّتْ} من مده بمعنى: أمده؛ أي: زاده. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} ووصفت الأرض بذلك؛ أي: بالإلقاء والتخلية توسعًا، وإلا فالتحقيق أن المخرج لما فيها هو الله تعالى. اهـ. "خطيب". وقوله: {ألقت} فيه إعلال بالحذف، أصله: ألقي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما اتصلت بالفعل تاء التأنيث، الساكنة .. التقى ساكنان، فحذفت الألف.

وقوله: {وَتَخَلَّتْ}، وفيه أيضًا ما في ألقت من الإعلال، أصله: تخلي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} ليس تكرارًا مع مر؛ لأن الأول في السماء، وهذا في الأرض. اهـ "خطيب". ومعنى حقت، أي: حق لها أن تمتثل ذلك؛ أي: يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير: فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا ... وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتِ {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا}؛ أي: جاهد مجد في عملك، قال شاعرهم: وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ ... وَبَقِيْتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ والكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه، حتى يؤثر فيها، عن كدح جلده إذا خدشه، وفي "المختار" الكدح: العمل والسعىِ والكد والكسب، وهو الخدش أيضًا، وباب الكل: قطع. وقوله تعالى: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا}؛ أي: ساع. وبوجهه كدوح؛ أي: خدوش، وهو يكدح لعياله، ويكتدح؛ أي: يكتسب اهـ. {فَمُلَاقِيهِ}؛ أي: فملاق لعملك عقب ذلك؛ أي: لجزائه من خير أو شر. {يَنقَلِبُ}؛ أي: يرجع {إِلَى أَهْلِهِ}؛ أي: عشيرته المؤمنين، أو رفقائه في طريق السعادة والكرامة؛ أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول إلى أهله؛ أي: الذين أهل بهم في الجنة من الحور العين، والآدميات، والذريات، إذا كانوا مؤمنين. اهـ. "خطيب". {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)}، أي: يتمنى هلاكًا وأنى له، ويقول: واثبوراه، أقبل فهذا أوانك، والثبور: الهلاك، قيل: الثبور مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما مر، وفي "المصباح": ثبر الله الكافر ثبورًا - من باب قعد -: أهلكه، وثبر هو ثبورًا: هلك، يتعدى، ولا يتعدى. {وَيَصْلَى}: أي: يقاسي، أصله: يصلي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.

{سَعِيرًا}؛ أي: نارًا مسعرة متقدة {أَنْ لَنْ يَحُورَ}؛ أي: أصله: يحور بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت إثر ضم، فصارت حرف مد، فهو نظير: يقول، قال لبيد: وَمَا الْمَرْءُ إِلا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُوْرُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ والمراد: أنه ظن أنه لن يرجع إلى الله للمجازاة تكذيبًا للمعاد، من: الحور، وهو: الرجوع، والمحار: المرجع والمصير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى {يَحُورَ} حتى سمعت أعرابيةً تقول لبنية لها: حوري حوري؛ أي: ارجعي. وحرْ إلى أهلك؛ أي: ارجع، ومنه الحديث: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور"؛ أي: الرجوع عن حالة جميلة، والحواري: القصار؛ لرجعه الثياب إلى البياض، وفي "المختار": حار: رجع، وبابه: قال ودخل، والمصدر بوزن: قول، ودخول، يقال: حار حورًا وحؤرًا ومحارًا ومحارة. هذا وتأتي حار بمعنى: صار، فترفع الاسم وتنصب الخبر. {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)} هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب. وعبارة "القاموس": الشفق محركة: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قربها، أو إلى قريب العتمة، وهذا هو الصحيح، ومنه قول الشاعر: قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّيْ غَيْرَ مُرْتَبِكٍ ... عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}؛ أي: جمع وضم، يقال: وسق فاتسق واستوسق، ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين لثلاثيه: اتسع واستوسع، وفي "القاموس": وسقه يسقه من باب ضرب: جمعه وحمله، ومنه: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}، ومنه سمي الوسق وسقًا: لجمعه الصيعان. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)}؛ أي: اجتمع نوره واستوى ليلة أربع عشرة، وهو افتعل من الوسق، وهو الضم والجمع، كما تقدم، وأمر فلان متسق؛ أي: مجتمع على ما يسر، وأصله: إوتسق من الوسق، أبدلت الواو فاء الكلمة تاء، لمجيئها قبل تاء الافتعال، ثم أدغمت في تاء الافتعال، وإبل مستوسقة؛ أي: مجتمعة. قال الشاعر:

إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقائِقَا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لَمْ يَجِدْنَ سَائِقَا {لَتَرْكَبُنَّ}: لتلاقن، أصله: تركبونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، ثم واو الجماعة لالتقاء الساكنين فصار: تركبن. {طَبَقًا} والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس: إِنِّيْ امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ اشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِيْ طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ والمراد: تركبن أحوالًا بعد أحوال هي: طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)}؛ أي: يجمعون في صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، أصله: يوعيون بوزن يفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان؛ فحذفت الياء، ثم ضمت العين لمناسبة الواو، وحذفت همزة أفعل أيضًا، فوزنه: يفعون يقال: اْوعيت الشيء؛ أي: جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ. كما مر. {فَبَشِّرْهُمْ}: والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت في العذاب تهكمًا. {مَمْنُونٍ}؛ أي: مقطوع، من قولهم: منَّ فلان الحبل: إذا قطعه. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} فقد شبهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى، حيث أراد انشقاقها بانقياد المستمع المطواع للأمر، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإذن والاستماع المستعمل في غايته. وقيل: فيه استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن؛ وهو الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها يراد بها: الإجابة والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول يكون: استعارة تمثيلية.

ومنها: التعرض لعنوان الربوبية في قوله: {لِرَبِّهَا} مع الإضافة إلى ضمير السماء، للإشارة بعلة الحكم. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} فقد شبهت حال الأرض بحال المرأة الحامل، تلقي ما في بطنها عند الشدة والهول، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإلقاء. ومنها: الطباق بين لفظ: {السَّمَاءُ} و {الْأَرْضُ}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} لأن الإلقاء والإخراج حقيقةً لله سبحانه وتعالى، لا للأرض. ومنها: التعبير بالماضي في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}؛ أي: يؤتى إشعارًا بتحقق وقوعه، كما في "الشهاب". ومنها: المقابلة بين قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)}، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)}؛ أي: تكرير كتابه بدون الاكتفاء بالإضمار، لتغاير الكتابين وأختلافهما بالاشتمال والحكم في المآل. ومنها: فن الالتزام في قوله: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} ويقال فيه: لزوم ما لايلزم، ومنهم من يسميه: الإعنات؛ وهو: أن يلتزم الشاعر في شعره، أو الناثر في نثره حرفًا أو حرفين فصاعدًا قبل حرف الروي على قدر طاقته مشروطًا بعدم الكلفة، فقد التزم هنا السين قبل القاف في الكلمتين، ولأبي العلاء المعري ديوان التزم فيه ما لا يلزم. ومنها: الجناس الناقص بين كلمتي: {وَسَقَ} و {اتَّسَقَ}. ومنها: الكناية في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)}؛ لأنه كنى به عن شدة الأهوال التي يلقاها الإنسان. ومنها: استعارة عن لـ (بعد) في قوله: {عَنْ طَبَقٍ}؛ لأن لفظ (عن) يفيد البعد والمجاوزة، فكان مشابهًا للفظ (بعد) فصح استعمال أحدهما بمعنى الآخر، قال

ابن الشيخ: {عَنْ} هنا بمعنى: بعد؛ لأن الإنسان إذا صار إلى الشيء مجاوزًا عن شيء آخر، فقد صار إلى الثاني بعد الأول، فصح أنه يستعمل فيه بعد وعن معًا. ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)}؛ للتسجيل علهيم بالكفر، وللإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن؛ أي: للإشعار بأنهم لا يؤمنون، ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم؛ لأنهم كافرون مكذبون. اهـ "كرخي". ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)}؛ لأن الإيعاء حقيقة في جعل الشيء في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير لمعنى الحفظ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ لأن البشارة حقيقة في الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم استهزاءً بهم وتهكمًا. ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآي مثل قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)}، وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)}؛ لأنه من المحسنات البديعية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * *

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على مقصدين: 1 - أن الإنسان يلاقي نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه، أو من وراء ظهره. 2 - أن الناس في الدنيا يتنقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة؛ إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب أليم. وصلى الله سبحانه وتعالى وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين آمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تمت سورة الانشقاق بعون الملك الخلاق، يوم الأربعاء وقت الضحوة، اليوم الحادي عشر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: 11/ 9/ 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة البروج

سورة البروج سورة البروج مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الشمس، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} بمكة. وآياتها: اثنتان وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع كلمات. وحروفها: أربع مئة وخمسة وستون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: 1 - اشتمالها على وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته. 2 - أنه ذكر في السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من المكر والخداع، وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب، والقتل، والإلقاء في حمارة القيظ، وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، فقد عذبوا المؤمنين بالنار، كما فعل أصحاب الأخدود، وفي هذه السورة عظة لقريش، وتثبيت من يعذَّبون من المؤمنين. ومما ورد في فضائل هذه السورة: ما أخرجه أحمد بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق. وما أخرجه الطيالسي وابن أبي شيبة في "المصنف" وأحمد والدارمي وأبو داوود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج. وما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة البروج .. أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات"، ولكنه لا أصل له. وسميت سورة البروج: لذكر البروج فيها، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها، فبدأ هذه السورة بأنه أقسم فيها بما هو غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كوكبها مشهود نورها، مرئي ضوؤها معروفة حركتها في طلوعها وغروبها، وكذلك البروج نشاهدها وفيها غيب لا تعرفه الحس، وهو حقيقة الكواكب، وما أودع الله فيها من القوى، وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها، وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود، وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب، وأقسم بما هو شهادة صرفة، وهو الشاهد؛ أي: ذو الحسِّ، والمشهود: وهو ما يقع عليه الحس، فأقسم سبحانه بكل ما سلف على أن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم في إيذائهم حتى خدوا لهم الأخاديد، وملؤوها بالنيران، وقذفوهم فيها، ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا، وانتقم الله تعالى من أعدائهم، وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر. ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذن أعداءكم، ولينزلن بهم ما لا قبَل لهم به، وقد حكى هذا القصص ليكون تثبيتًا لقلوب

المؤمنين، ووعدًا لعباده الصالحين، وحملًا لهم على الصبر والمجاهدة في سبيله، ووعيدًا للكافرين، وأنه سيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ...} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود وبيَّن ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين، وذيل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين، وأنه إنْ أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب في الدنيا .. فهو لم يهملهم، بل أجَّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار .. ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء. قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ووصف ما أعد لهم من الثواب كفاء أعمالهم .. أردف ذلك كله بما يدل على تمام تدرته على ذلك؛ ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد، فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته في النفوس إلا بأمرين: 1 - الجود الشامل، والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره. 2 - الجيوش الجرارة، والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه، وتنكل بهم، وبذلك يهاب جنابه، وإليهما أشار بقوله فيما سلف: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وهنا زاد الأمر إيضاحًا، بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} الآية. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصص أصحاب الأخدود وبين حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين .. أردف ذلك ببيان أن حال الكفار في كل عصر، وشأنهم مع كل نبي وشيعته جارٍ على هذا النهج، فهم دائمًا يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيًا إلا لقي من قومه مثل ما لقي هؤلاء من أقوامهم، والغرض من هذا كله تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، وشد عزائمهم على التذرع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود فرعون وثمود.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالسَّمَاءِ} وهي لغة: كل جرم علوي، فدخل فيه العرش والكرسي، ولكن المراد هنا: ما عداهما من السموات السبع. {ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي: صاحبة البروج الاثني عشر، وهي الطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة السيارة المجموعة في قول بعضهم: زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ وتلك البروج اثنتا عشرة برجًا، وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وجمعها بعضهم في بيتين: حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ ... وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَةَ الْمِيْزَانِ وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ ... نَزَحَ الدَّلْوُ بِرْكَةَ الْحِيْتَانِ وفي برج الحمل، حيث تم العشرون منه كان مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزلة البطين عند طلوع الغفر، والبروج: جمع برج، وهو القصر، ثم إنه شبهت بروج السماء بالقصر التي تنزل فيها الأكابر والأشراف؛ لأنها منازل السيارات، ومقر الثوابت. والمعنى: أقسم بالسماء ذات المنزل والمحال، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة السيارة. وفي "البيضاوي": يعني: البروج الاثني عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات، كما أن القصور ينزلها الأكابر والأشراف، سميت تلك الطرق بروجًا لظهورها؛ لأن أصل معنى البرج: الأمر الظاهر، من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي؛ لظهوره، ويقال: لما ارتفع من سور المدينة برج أيضًا، كما في "الشهاب". وقيل: المراد بالبروج: هي النجوم التي هي منازل القمر، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، ينزل القمر كل ليلةٍ في واحد منها، لا يتخطاها ولا يتقصر عنه، وإذا صار القمر إلى آخر منازله .. دق واستقوس، ويستتر ليلتين، إن كان الشهر ثلاثين يومًا، وإن كان تسعة وعشرين، فليلة واحدة، وإطلاق البروج على هذه النجوم مبني على تشبيهها بالقصور من حيث إن القمر ينزل فيها، ولظهورها أيضًا بالنسبة إلى بعض الناس، كالعرب؛ لأن البرج ينبىء عن الظهور مع الاشتمال على المحاسن، يقال: تبرجت المرأة؛ أي: تشبهت بالبرج في إظهار

المحاسن، وأما البروج الاثنا عشر، فليس لها ظهور؛ حيث لا تدرك حسًا؛ لأنها عبارة عن مجموع هذه المنازل الثمانية والعشرين؛ لأن البروج الاثني عشر منقسمة إلى هذه المنازل الثمانية والعشرين، والشمس تسير في تمام هذه البروج الاثني عشر في كل سنة، والقمر في كل شهر، وقد تعلقت بها منافع العباد ومصالحهم، فأقسم الله تعالى بها إظهارًا لقدرها وشرفها. تنبيه: واعلم أن البروج الاثني عشر: ستة منها في شمال خط الاستواء، وستة منها في جنوبه، فالتي في شماله ثلاثة ربيعية، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر مارس آذار، وثلاثة صيفية، وهي: السرطان والأسد والسنبلة، وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر يونيو حزيران. والستة التي في جنوب خط الاستواء، ثلاثة منها خريفية، وهي الميزان والعقرب والقوس، وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي، ويصادف اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر أيلول، وثلاثة شتائية، وهي: الجدي والدلو والحوت، وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر كانون أول ديسمبر، فتكون السنة الشمسية ثلاث مئة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وهي مدة رجوع الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج، وكل برج ثلاثون درجةً، فمجموعها: (360) ثلاث مئة وستون درجة، كل درجة بمقدار أربع دقائق، ومجموعها: أربع وعشرون ساعة، والشمس - كما مر - تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يومًا وكسور، ومن أراد الخوض في هذا الباب .. فليراجع الكتب المدونة في فن الميقات. وقد أقسم الله سبحانه بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة، تدل على أن لها صانعًا حكيمًا مدبرًا إلا أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم؛ لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته.

[2]

2 - {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)}؛ أي: الموعود به، ففيه الحذف والإيصال، وهو يوم القيامة، قال الواحدي: في قول جميع المفسرين: وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعده الله تعالى به على ألسنة رسله، وهو يوم تفرد فيه ربنا بالملك والحكم، أقسم الله تعالى به تنبيهًا على عظم قدره وشأنه. 3 - {وَشَاهِدٍ}؛ أي: واْقسم بشاهد؛ أي: بكل حاضر. وشاهد يشهد في ذلك اليوم، الأولين والآخرين، والإنس والجن، والملائكة والأنبياء والمرسلين. {وَمَشْهُودٍ}؛ أي: وبكل ما يشاهد ويرى في ذلك اليوم من العجائب، فالشاهد بمعنى الحاضر من الشهود، بمعنى: الحضور، لا بمعنى الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق، وتنكيرهما للإبهام في الوصف؛ أي: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما، وإلا فلا يقسم بنكرة؛ لأنه لا يدرى من هي، وكذا إذ لوحظ فيها معنى العموم اندرج فيها المعرفة، فحسن القسم بها. كذا في "البحر". وقيل: المشهود: يوم الجمعة، والشاهد: من يحضره من المسلمين للصلاة ولذكر الله سبحانه. وفي الحديث: "ما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها خيرًا إلا استجاب له، ولا يستعيذ من سوء إلا أعاذه منه". وفيه أيضًا: "أكثروا علىَّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة"، وقيل: المشهود: يوم عرفة، والشاهد: من يحضره من الحجاج، وحسن القسم بهما مع كونهما نكرةً تعظيمًا لأمر الحج وعددهم. وقيل: الشا هد: كل يوم، والمشهود: أهله، فيكون المشهود بمعنى المشهود عليه، والشاهد من الشهادة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما من يوم إلا وينادي: إني يوم جديد، وإني على ما يفعل فيَّ شهيد، فاغتنمني، فلو غابت شمس لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: الشاهد: هو الله تعالى، لقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، وقيل: الشاهد: محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}. قال أبو حيان: وقد اختلف في تفسير الشاهد والمشهود على سبع وعشرين قولًا، ولكل قول مُمْتَسكٌ، والقول الظاهر المناسب لما قبله من تلك الأقوال: ما قلنا أولًا؛ أي: تفسير الشاهد بمن يشهد يوم القيامة، والمشهود بيوم القيامة لقوله تعالى: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. وقيل: المعنى: أقسم بجميع ما خلق الله سبحانه في هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأي العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد

[4]

من النظر إليه، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئًا. وقصارى ذلك: أنه سبحانه وتعالى أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم في درك حقيقة ما استتر. 4 - وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}؛ أي: لعنوا وأخذوا، ونزل بهم نكال الدنيا، وعذاب الآخرة، جواب القسم، واللام فيه مضمرة؛ أي: أقسمت بهؤلاء المذكورات على أن أصحاب الأخدود لعنوا وطردوا وأبعدوا من رحمة الله تعالى بسبب ما فعلوه من تعذيب المؤمنين، وهذا هو الظاهر، وبه قال الفراء وغيره، وقيل: أصله: لقد قتل أصحاب الأخدود؛ فحذفت اللام وقد، وعلى هذا تكون الجملة خبرية، والأظهر أن الجملة دعائية دالة على الجواب، لا خبرية، والجواب محذوف تقديره: أقسم بهذه الأشياء على أن كفار قريش ملعونون، كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل: تقدير الجواب: لتبعثن، واختاره ابن الأنباري. وإنما احتيج إلى حذف اللام وقد؛ لأن المشهور عند النحاة: أن الماضي المثبت المتصرف إذا وقع جوابًا للقسم .. تلزمه اللام، وقد لا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام، كما في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}، أو في ضرورة. اهـ "شهاب". وجه الأظهرية: أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على الإيمان، وتصبيرهم على أذية الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن هؤلاء عند الله بمنزلة أولئك المعذبين، ملعونون مثلهم، أحقاء بأن يقال فيهم ما قد قيل فيهم، فظهر من هذا التقرير أنه ليس دعاء على أصحاب الأخدود من قبل المقسم، وهو الله تعالى؛ لأنه ليس بعاجز، والأخدود: الخد في الأرض، وهو الشق العظيم المستطيل في الأرض كالنهر، غامض؛ أي: عميق القرار، وأصل ذلك: من خدي الإنسان، وهما ما اكتنفا الأنف على اليمين والشمال، وفي "عين المعاني": ومنه الخد لمجاري الدموع عليه، ومنه المخدة؛ لأن الخد يوضع عليها،

وأصحاب الأخدود كانوا ثلاثة (¬1)، وهم: أنطيانوس الرومي بالشام، وبخت نصر بفارس، ويوسف ذو نواس بنجران، وهو بتقديم النون وتأخير الجيم موضع باليمن، فتح سنة عشر، سمي بنجران بن زيدان بن سبأ، شق كل واحد منهم شقًا عظيمًا في الأرض كان طوله أربعين ذراعًا، وعرضه اثني عشر ذراعًا، وهو الأخدود، وملؤوه نارًا، وألقوا فيه من لم يرتد عن دينه من المؤمنين في زمانهم. قالوا: والقرآن إنما نزل في الذين بنجران، يعني أن أصحاب الأخدود هم: ذو نواس الحميري اليهودي، يوسف بن شرحبيل وجنوده، وذلك أن عبدًا صالحًا يقال له: عبد الله بن التامر، وقع إلى نجران، وكان على دين عيسى عليه السلام، فدعاهم فأجابوه، فسار إليهم ذو نواس بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا، فحفر الخنادق، وأضرم فيها النيران، فجعل يلقي كل من اتبع ابن التامر حتى أحرق نحوًا من اثني عشر ألفًا، أو عشرين ألفًا، أو سبعين ألفًا، وذو نواس اسمه: زرعة بن حسان ملك حمير وما حولها، وكان أيضًا يسمى. يوسف بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة، وكانت له غدائر من شعر؛ أي: ذوائب تنوس؛ أي: تضطرب، فسمي ذا نواس. روي: أنه انفلت من أهل نجران رجل اسمه: دوس ذو ثعلبان، ووجد إنجيلًا محترقًا بعضه، فأتى به ملك الحبشة، وكان نصرانيًا فقال: إن أهل دينك أوقدت لهم نار فأحرقوا بها وأحرقت كتبهم، وهذا بعضها، فأراه الذي جاء به ففزع لذلك، فكتب إلى صاحب الروم يستمده نجارين يعملون له السفن، فبعث إليه صاحب الروم من عمل له السفن، فركبوا فيها، فخرجوا إلى ساحل اليمن، فخرج إليهم أهل اليمن فلقوهم بتهامة واقتتلوا، فلم يرَ ملك حمير له بهم طاقة، وتخوف أن يأخذوه، فضرب فرسه حتى وقع في الحرب فمات فيه، أو ألقى نفسه في البحر، فاستولى الحبشة على حمير وما حولها، وتملكوا، وبقي الملك لهم إلى وقت مجيء الإسلام. وروي عن علي رضي الله عنه: أن بعض ملوك المجوس وقع على أخته وهو سكران، فلما صحا ندم وطلب المخرج، فأمرته أن يخطب الناس فيقول أن قد أحل ¬

_ (¬1) روح البيان.

نكاح الأخوات، ثم يخطبهم بعد ذلك ويقول: إن الله قد حرمه، فخطب، فلم يقبلوا منه، فقالت له: ابسط فيهم السوط، ففعل، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النار، وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي والترمذي والطبراني عن صهيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلامًا فهمًا، أو قال: فطنًا لقنًا فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه، فقال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن، وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه، وكان على طريق الغلام واهب في صومعة، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب، ويبطىء على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك، فقال له الراهب: إذا قال لك الكاهن: أين كنت؟ فقل: عند أهلي، وإذا قال لك أهلك: أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير، قد حبستهم دابة يقال إنها كانت أسدًا، فأخذ الغلام حجرًا فقال: اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقًا .. فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقًا .. فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا: الغلام، ففزع الناس، وقالوا: قد علم هذا الغلام علمًا لا يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال: إن أنت رددت علىَّ بصري .. فلك كذا وكذا، فقال الغلام لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك .. أتؤمن بالذي رده عليك، فقال: نعم، فدعا الله تعالى، فرد عليه بصره، فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم، فبعث إليهم، فأتي بهم فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله، وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه .. جعلوا يتهافتون من

[5]

ذلك الجبل، ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع الغلام، فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فغرَّق الله الذين كانوا معه وأنجاه، فقال الغلام للملك: إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني، وتقول إذا رميتني: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب ثم رماه، فقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم، ثم مات، فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علمًا ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام، فقيل للملك؛ أجزعت أن خالفك ثلاثة، فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال: فخد أخدودًا، ثم ألقى فيه الحطب والنار، ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود"، فقال: "يقول الله {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)} حتى بلغ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} " فأما الغلام فإنه دفن، ثم أخرج، فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف، وقد رواها مسلم في أواخر "الصحيح" عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. وأخرجها أحمد عن طريق عفان عن حماد به. وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به. وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} قال: هم الحبشة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هم ناس من بني إسرائيل، خدوا أخدودًا في الأرض أوقدوا فيه نارًا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالًا ونساءً، فعرضوا عليها. انتهى من "الشوكاني". 5 - {النَّارِ} بدل (¬1) اشتمال من الأخدود؛ لأن الأخدود مشتمل على النار، وهو بها يكون مهيبًا مشتد الهول، والتقدير: النار فيه، أو أقيم أل مقام الضمير على اختلاف مذهبي أهل البصرة والكوفة. {ذَاتِ الْوَقُودِ} صفة للنار؛ أي: صاحبة الوقود الكثيرة، وهو بفتح الواو: ما يوقد به، وفيه وصف لها بغاية العظم وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب، وأبدان الناس ما يدل عليه التعريف الاستغراقي، ولو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[6]

لم يحمل على هذا المعنى .. لم يظهر فائدة التوصيف، إذ من المعلوم أن النار لا تخلو من حطب. وقرأ الجمهور (¬1): {النَّارِ} بالجر، وهو بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف؛ أي: أخدود النار، وقرأ قوم: {النارُ} بالرفع، قيل: على معنى قتلهم، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين، وقتل على حقيقته، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى: {الوُقود} بضم الواو، وهو مصدر، والجمهور: بفتحها، وهو ما يوقد به، وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضًا مصدر كالضم والمعنى: أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها لا جرم يكون حريقها عظيمًا، ولهيبها متطايرًا. 6 - وقوله: {إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)} ظرف (¬2) لـ {قُتِلَ}، والضمير لأصحاب الأخدود، وقعود: جمع قاعد؛ أي: لعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار قاعدين حولها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود، ولفظ {عَلَى} مشعر بذلك، تقول: مررت عليه، تريد مستعليًا بمكان يقرب منه، وفي بعض التفاسير: على سرر وكراسي قعود عند النار، ولو قعدوا على نفس النار لاحترقوا، فالقاتلون كانوا جالسين في مكان مشرف أو نحوه، ويعرضون المؤمنين على النار، فمن كان يترك دينه تركوه، ومن كان يصر ألقوه في النار وأحرقوه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء، وهو الحالة التي يختار عليها الموت، أو كثرة العيال والفقر .. كما في "القاموس". والجهد بالفتح: المشقة، وجهد عيشه كفرح: نكد واشتد. والمعنى (¬3): أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم، وهم يعذبون بها ويحرقون فيها، 7 - كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)} جمع شاهد؛ أي: إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورًا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم أتباعهم، فـ {عَلَى} بمعنى: مع، والتقدير: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود؛ أي: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[8]

حضور، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، وتمكن الكفر منهم إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين، وشدة جلدهم، ورباط جأشهم، واستمساكهم بدينهم. أو المعنى (¬1): أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدًا منهم لم يقصر فيما أمر به، وفوض إليه من التعذيب بالإحراق من غير ترحم وإشفاق. أو المعنى: أنهم شهود يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يعني: تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه قصة قوم بلغت بصيرتهم حقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله، هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطبق به الروايات المشهورة، وقد ذهب بعضهم إلى أن الجبابرة لما ألقوا المؤمنين في النار، وهم قعود حولها .. علقت بهم النار، وفي رواية: ارتفعت فوقهم أربعين ذراعًا، فوقعت عليهم فأحرقتهم، ونجى الله المؤمنين سالمين، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وقبض الله أرواحهم قبل أن تمسهم النار، كما فعل ذلك بآسية امرأة فرعون على ما سبق، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛ أي: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا. 8 - {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ}؛ أي: وما أنكر أولئك الجبابرة على المؤمنين، وما عابوا عليهم، وما كرهوا منهم {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ}؛ أي: إلا إيمانهم وتصديقهم بوحدانية الله سبحانه وعبادتهم له {الْعَزِيزِ}؛ أي: الغالب على كل متكبر عال {الْحَمِيدِ}؛ أي: المحمود في كل حال. قال الزجاج: ما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم بالله، والاستثناء (¬2) فيه مفرغ مفصح عن براءتهم مما يعاب وينكر بالكلية، على منهاج قوله: وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ ضُيُوْفَهُمْ ... تُلَامُ بِنِسْيَانِ الأَحِبَّةِ وَالْوَطَنْ وقول الآخر: وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأن ما أنكره ليس منكرًا في الواقع، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[9]

وغير حقيق بالإنكار، كما أن ما جعله الشاعر عيبًا ليس عيبًا، ولا ينبغي أن يعد عيبًا، ولا يضر ذلك كون الاستثناء في قول الشاعر مبنيًا على الادعاء بخلاف ما في نظم القرآن، فإنهم أنكروا الإيمان حقيقة، وعبر بلفظ المضارع في قوله: {أَنْ يُؤْمِنُوا} مع أن الإيمان وجد منهم في الماضي؛ لإرادة الاستمرار والدوام عليه، فإنهم ما عذبوهم لإيمانهم في الماضي، بل لدوامهم عليه في الآتي، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى، فكأنه قيل: إلا أن يستمروا على إيمانهم، وأما قوله تعالى حكاية عن سحرة فرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} فلأن مجرد إيمان السحرة بموسى عليه السلام كان منكرًا واجب الانتقام عندهم. وقرأ الجمهور (¬1): {نَقَمُوا} بفتح القاف، وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة بكسرها، والفصيح: الفتح. والمعنى (¬2): أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شيء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغي لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه وترتقب نعماؤه. 9 - ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفر لأولئك الظالمين من سلطانه، ومن كان هذا شأنه .. فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد، ووصفه (¬3) تعالى بكونه عزيزًا غالبًا يخشى عقابه، حميدًا منعمًا يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للإشعار بمناط إيمانهم، وأخر هذه الصفة - أعني: صفة الملك -؛ لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة التي دل عليها {الْعَزِيزِ}، وفي العلم الذي دل عليه {الْحَمِيدِ}؛ لأن من لا يكون تام العلم لا يمكن أن يفعل الأفعال الحميدة. وفي "كشف الأسرار": وإنما وصف ذاته بهذه الصفات .. ليعلم أنه لم يمهل الكفار لأجل أنه غير قادر، لكنه أراد أن يبلغ بهؤلاء المؤمنين مبلغًا من الثواب لم ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[10]

يكونوا يبلغونه إلا بمثل ذلك الصبر، وأن يعاقب أولئك الكافرين عقابًا لم يكونوا يستوجبونه إلا بمثل ذلك الفعل، وكان قد جرى بذلك قضاؤه على الفريقين جميعًا في سابق تدبيره وعلمه، وفيه تشنيع على الكفار بغاية جهلهم، حيث عدوا ما هو منقبة هي سبب المدح منقصةً هي سبب القدح. ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين، وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا، فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أقوال الفريقين وأفعالهم وأحوالهم وشؤون غيرهما {شَهِيدٌ}؛ أي: مطلع، فهو عليم بما يكون من خلقه، ومجازيهم عليه، لا تخفى عليه منهم خافية، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين، فإن علمه تعالى بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما حتمًا. قال الإمام القشيري: الشهيد: العليم، ومنه قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ}؛ أي: علم الله، والشهيد: الحاضر، وحضوره بمعنى: علمه ورؤيته وقدرته، والشهيد: مبالغة من الشاهد، وإذا علم العبد أن الله تعالى شهيد يعلم أفعاله، ويرى أحواله .. سهل عليه ما يقاسيه لأجله. قالوا: ودلت هذه القصة على أن المكره على الكفر بنوع من العذاب، الأولى له أن يصبر على ما خوف منه، وان كان إظهار الكفر كالرخصة في ذلك. حُكي: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأحدهما: تشهد أني رسول الله، فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا بل أنت كذاب، فقتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الذي تركه فأخذ بالرخصة، فلا تبعة عليه، وأما الذي صبر .. فأخذ بالفضل، فهنيئًا له". 10 - ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بالإحراق وغيره بسبب إيمانهم؛ أي: إن (¬1) الذين محنوهم في دينهم وآذوهم وعذبوهم بأي عذاب كان ليرجعوا عنه، كأصحاب الأخدود ونحوهم، كما روي أن قريشًا كانوا يعذبون بلالًا وأضرابه، فالموصول للجنس، وإنما لم يدفع البلاء قبل الابتلاء؛ لأن أهل الولاء لا يخلو عن البلاء: ¬

_ (¬1) روح البيان.

وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الصَّفَاءُ لِعَاشِقٍ ... وَجَنَّةُ عَدْنٍ بِالْمَكَارِهِ حُفَّتِ {ثُمَّ}؛ أي: بعدما فعلوا ما فعلوا من الفتنة {لَمْ يَتُوبُوا} عن كفرهم وفتنتهم، فإن ما ذكر من الفتنة في الدين لا يتصور من دين الكافر قطعًا، وفي إيراد {ثُمَّ}: إشعار بكمال حلمه وكرمه حيث لا يعجل في القهر ويقبل التوبة، وإن طالت مدة الحوبة. قال الإِمام: وذلك يدل على أن توبة القاتل عمدًا مقبولة. {فَلَهُمْ} في الآخرة بسبب كفرهم، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ولا يضر نسخه بإن خلافًا للأخفش. {عَذَابُ جَهَنَّمَ} يعذبون به أبدًا {وَلَهُمْ} بسبب فتنتهم للمؤمنين {عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛ أي: عذاب عظيم زائد في الإحراق على عذاب سائر أهل جهنم، فظهرت المغايرة بين المعطوفين، وإن كان كل منهما حاصلًا في الآخر، ويحتمل (¬1) أن يكون المراد بعذاب جهنم: بردها وزمهريرها، وبعذاب الحريق: حرها، فيرددون بين برد وحر، على أن يكون الحر لإحراقهم المؤمنين في الدنيا، والبرد لغيره، كما قالوا الجزاء من جنس العمل، والحريق: اسم بمعنى الاحتراق، كالحرقة. يقول الفقير: الظاهر: أن الحريق هنا بمعنى: المحرق، كالأليم بمعنى: المؤلم، فيكون إضافة العذاب إلى الحريق، من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته، ويستفاد زيادة الإحراق من المقابلة، فإن العطف من باب الترقي بحسب العذاب المترتب على الترقي من حيث العمل. والمعنى (¬2): أي: إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب ليردوهم عن دينهم، وثبتوا على كفرهم، ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت، أعد الله لهم عذابًا في جهنم بالحريق وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه حرصًا على ما ألفوا من الباطل، وتشيعًا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين على غير بصيرة، ولا استشارة للعقل السليم، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين، انظر إلى أصحاب الأخدود .. تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار، وأحرقوهم بها، وإلى كفار قريش .. ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء، فعذبوا آل ياسر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[11]

بفنون من العذاب، وعذبوا بلالًا بما لا يحصى من ضروب الأذى، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم، وألحقوا به كثيرًا من العنت والأذى، فرموه بالحجارة حتى أدموه، بل فعلوا معه أكثر من هذا، فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه، ويتمنون إن تمكنوا منه أن يقتلوه، ولكن الله منعه منهم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وفي قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم .. غفر الله لهم ما قدموا قبل التوبة من ذنب، كما مر. 11 - وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم .. أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم؛ ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد في غيظهم، وأبعث للأسى والحزن في نفوسهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الإطلاق من المفتونين وغيرهم، والمعنى: إن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات {لَهُمْ} بسبب ما ذكر من الإيمان, والعمل الصالح الذي من جملته الصبر على أذى الكفار، وإحراقهم. إيراد (¬1) الفاء أولًا، وتركها ثانيًا يدل على جواز الأمرين. {جَنَّاتٌ} يجازون بها بمقابلة النار ونحوها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الأربعة، يجازون بذلك بمقابلة الاحتراق والحرارة ونحو ذلك. قال في "الإرشاد": إن (¬2) أريد بالجنات الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر، وهو الشجر، فإن أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. انتهى. {ذَلِكَ} المذكور العظيم الشأن، وهو حصول الجنات لهم {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الذي لا يعدله فوز آخر، وتصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، فالحصر إضافي. قال في "برهان القرآن": {ذَلِكَ} مبتدأ، و {الْفَوْزُ}: خبره، و {الْكَبِيرُ}: صفته، وليس له في القرآن نظير، والفوز النجاة من الشر، والظفر بالخير، فإن أشير بذلك إلى الجنات نفسها، فهو مصدر أطلق على المفعول مبالغةً، وإلا فهو مصدر على حاله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) أبو السعود.

[12]

قال الإِمام (¬1): إنما قال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ}، ولم يقل: تلك؛ لدقيقة لطيفة، وهي أن قوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى إخبار الله سبحانه بحصول هذه الجنات، ولو قال: تلك .. لكانت الإشارة إلى نفس الجنات، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيًا، و {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}: هو رضي الله سبحانه، لا حصول الجنة. يقول الفقير: عندي أن حصول الجنات هو الفوز الكبير، وحصول رضي الله سبحانه هو الفوز الأكبر، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وإنما لم يقل تلك لأن نفس الجنات من حيث هي ليست بفوزه، وإنما الفوز حصولها ودخولها. ومعنى الآية (¬2): أي إن الذين أقروا بوحدانية الله تعالى، وعملوا صالح الأعمال ائتمارًا بأوامره، وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه، لهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، وهذا هو الظفر الكبير لهم، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم. 12 - وجملة قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} مستأنفة لخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، مبينة لما عند الله تعالى من الجزاء لمن عصاه، والمغفرة لمن أطاعه، إيذانًا بأن لكفار قومه نصيبًا موفورًا من مضمونه، كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم -، والبطش: تناول الشيء بصولة، والأخذ بعنف وشدة، يقال: يد باطشة. وحيث وصف البطش بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام، وإن كان بعد إمهال، فإنه عن حكمة لا عن عجز؛ أي: إن أخذ ربك للظلمة والجبابرة لشديد، ومثل هذا قوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. والمعنى (¬3): إن انتقامه من الجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعقوبة .. لهو الغاية في الشدة، والنهاية في الأذى والألم، وفي هذا إرهاب لقريش ومن معها، وتعزية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمن تبعه. 13 - وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدًا فقال: {إِنَّهُ هُوَ} وحده {يُبْدِئُ}، وقرىء {يبدأ} من بدأ ثلاثيًا، حكاه أبو زيد؛ أي: يبدأ الخلق، ويخرجهم من العدم إلى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي.

الوجود، ثم يميتهم ويعيدهم أحياءً بعد الموت للمجازاة على الخير والشر من غير دخل لأحد في شيء منهما، ففيه مزيد تقدير لشدة بطشه، ومن كان قادرًا على الإيجاد والإعادة إذا بطش كان بطشه في غاية الشدة، وبهذا ظهر التعليل بهذه الجملة لما سبق من شدة البطش. اهـ "شهاب". كذا قال الجمهور. وقيل: يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا، ويعيده لهم في الآخرة، واختار هذا ابن جرير، والأول أولى. والمعنى: أنه يخلق الخلق ابتداءً، ثم يعيدهم بعد أن صيَّرهم ترابًا، وإذا كان قادرًا على البدء والإعادة .. فهو قادر على شديد البطش بهم؛ لأنهم تحت قبضته، وخاضعون لسلطانه، فكأنه سبحانه يقول: إن مرجعكم إلى ربكم، فإذا لم يعاقبكم في هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه، فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير في شأنهم، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم. وقيل: المعنى: أنه (¬1) يبدىء البطش والعذاب في الآخرة، ثم يعيده فيها، كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل جهنم تأكلهم النار، حتى يصيروا فيها فحمًا، ثم يعيدهم خلقًا جديدًا، فهو المراد من الآية، أو المعنى: يبدىء من التراب، ويعيده فيه، أو يبدىء من النطفة، ويعيده في الآخرة، يقال: بدأ الله الخلق وأبدأهم، فهو بادئهم ومبدئهم، بمعنى واحد، والمبدىء: المظهر ابتداءً، والمعيد: المنشىء بعدما عدم، فالإعادة ابتدأ ثانٍ. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: المبدىء المعيد: معناه: الموجد، لكن الإيجاد إذا لم يكن مسبوقًا بمثله يسمى: إبداءً، وإن كان مسبوقًا بمثله يسمى: إعادةً، والله تعالى بدأ خلق الإنسان، ثم هو الذي يعيدهم؛ أي: يحشرهم، فالأشياء كلها منه بدت، وإليه تعود، وبه بدت وبه تعود. انتهى. قال الإِمام القشيري رحمه الله: إن الله تعالى يبدىء فضله وإحسانه لعبيده، ثم يعيده ويكرره، فإن الكريم من يرب صنائعه، وخاصية الاسم المبدىء: أن يقرأ على بطن الحامل سحرًا تسعًا وعشرين مرة، فإن ما في بطنها يثبت ولا يزلق، وخاصية الاسم المعيد: يذكر مرارًا لتذكار المحفوظ إذا نسي لا سيما إذا أضيف له الاسم ¬

_ (¬1) روح البيان.

[14]

المبدىء. 14 - ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال: 1 - {وَهُوَ الْغَفُورُ}؛ أي: كثير المغفرة لمن تاب عن الكفر وآمن، وكذا لمن تاب عن غيره من المعاصي، ولمن لم يتب أيضًا إن شاء فتجاوز عن سيئاته. 2 - {الْوَدُودُ}؛ أي: المحب لمن أطاع أو تاب، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}، فالودود: فعول بمعنى الفاعل هاهنا، وهو الذي يقتضيه المقام، وقال سهل رحمه الله تعالى: الودود: المحب إلى عباده بإسباغ النعم عليهم ودوام العافية، فيكون بمعنى المفعول؛ لأنه يحبه عباده الصالحون، ومحبة العبد لله طاعته له، وموافقته لأمره، أو تعظيمه له، وهيبته في قلبه، وخاصية الاسم الودود. حصول محبة الله ومحبة طاعته لذاكره. 3 - 15 {ذُو الْعَرْشِ}؛ أي: خالق العرش ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: الملك مجازًا؛ أي: ذو السلطنة القاهرة على المخلوقات السفلية، والمخلوقات العلوية، وإن لم يكن على السرير، يقال: ثُلَّ عرش فلان: إذا ذهب سلطانه، ومنه قول الشاعر: إِنْ يَقْتُلُوْكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوْشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ 4 - {الْمَجِيدُ} بالرفع على أنه صفة لـ {ذُو}، وهو الشريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه، وهو الماجد أيضًا، ولكن دل أحدهما على المبالغة. وقرىء بالجر على أنه صفة لـ {الْعَرْشِ}، أو صفة لـ {ذي}، ومجد العرش: علوه في الجهة، وعظم قدره، وحسن صورته وتركيبه، فإنه أحسن الأجسام تركيبًا وصورة. وقرأ الجمهور: {ذُو} بالواو، وابن عامر في رواية: {ذي} بالياء على أنه صفة لـ {رَبِّكَ} في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} ولا يضر الفصل بينهما؛ لأنها صفات الله سبحانه. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان حمزة والكسائي: {الْمَجِيدُ} بكسر الدال على أنه صفة لـ {الْعَرْشِ}، ومن

[16]

قرأ: {ذي العرش} بالياء، جاز في قراءته أن يكون {المجيد} بالخفض صفةً {لذي}، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور: {ذُو} قالا: لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه هو المنعوت بذلك، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارًا عن {هُوَ}، فيكون {فَعَّالٌ} خبرًا عنه أيضًا؛ أي: هو سبحانه. 5 - 16 {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} من الإبداء والإعادة قال عطاء: لا يعجز عن شيء أراده، ولا يمنع منه شيء طلبه، وإنما قال: {فَعَّالٌ} بصيغة المبالغة؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة من الإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والإغناء والإقتار، والشفاء والإمراض، والتقريب والتعبيد، والعمارة والتخريب، والوصل والفرق، والكشف والحجاب، وغير ذلك. 17 - ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال: {هَلْ أَتَاكَ}، والجملة مستأنفة مقررة لما تقدم من شدة بطشه سبحانه، وكونه فعالًا لما يريده، وفيه تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قد أتاك وجاءك يا محمد {حَدِيثُ الْجُنُودِ}؛ أي: خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائها، المتجندة عليهم في ماضي الأزمان، 18 - ثم بينهم فقال: {فِرْعَوْنَ} بدل من الجنود، مع أنه غير مطابق ظاهرًا للمبدل منه في الجمعية؛ لأن المراد بفرعون هو وقومه، ويحتمل أن يكون على حذف المضاف؛ أي: جنود فرعون {وَثَمُودَ} قوم صالح، معطوف على {فِرْعَوْنَ}؛ أي: قد أتاك (¬1) حديث هؤلاء، وعرفت ما فعلوا من التكذيب، وما فعل بهم من التعذيب، فذكر قومك بشؤون الله فيهم، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك حين كذبوا أنبيائهم، وقد كانوا سمعوا قصة فرعون وجنوده قوم موسى عليه السلام، ورأوا آثار هلاك ثمود قوم صالح عليه السلام؛ لأنها كانت في ممرهم وفي بلادهم، وقصتهم مشهورة قد تكرر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب، وعند مشركي العرب، ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله: أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أَهْلَكَ تُبَّعًا ... وَأهْلَكَ لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَعَادِيَا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[19]

وَأَهْلَكَ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ قَبْلِ مَا نَوَى ... وَفِرْعَوْنَ جَبَّارًا طَغَى وَالنَّجَاشِيَا وأخَّر ثمود مع تقدمه على فرعون زمانًا؛ لرعاية الفواصل، وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالها من قصص الأمم المكذبة وهلاكهم. 19 - ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء المشركين في عصره - صلى الله عليه وسلم - لمن تقدم ذكره، وبين أنهم أشد منهم في الكفر والتكذيب فقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك {فِي} أشد {تَكْذِيبٍ} لك ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة المهلكة، فهؤلاء أشد منهم في الكفر والطغيان، وتنكير {تَكْذِيبٍ} للتعظيم، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرون في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع الحادثة، بل يكذبون كون ما نطق قرآنًا من عند الله مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة. وحاصل معنى الآيات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)}؛ أي: هل (¬1) بلغك يا محمد ما صدر من أولئك الجنود من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال. والخلاصة: أنه قد أتاك خبرهم، وعرفت ما فعلوا وما جازاهم ربهم به، فذكر قومك بأيام الله، وأنذرهم أنه سيصيبهم ما أصاب أماثلهم من أهل الضلال. ثم بين من هم أولئك الجنود، فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)}، وحديث هذين مشهور متعارف بينهم، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى عليه السلام من العناد، والإصرار على الكفر، وما كان من عاقبة أمره، وأن الله أغرقه في اليم هو وقومه، وأذاقه الوبال في الآخرة والأولى، كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام، وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية، فدمر بلادهم وأهلكهم، ولم يترك لهم من باقية، وهم يمرون على ديارهم في أسفارهم ويسمعون أخبارهم. ¬

_ (¬1) المراغي.

[20]

وخلاصة ذلك: أن الكفار في كل عصر متشابهون، وأن حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل، فهم في عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم، فقد سبقتهم أمم قبلهم، وحل بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا، فاصبر إن العاقبة للمتقين، وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم في كل عصر ومصر فقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)}؛ أي: إن الكفار في كل عصر غارقون في شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالًا للنظر، ولا متسعًا للتدبر، 20 - ولا يزالون في غمرة حتى يؤخذوا على غرة فقال: {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {مِنْ وَرَائِهِمْ}؛ أي: من خلفهم {مُحِيطٌ} بهم بالقدرة، وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله بعدم فوت المحاط به المحيط إذا سد عليه مسلكه بحيث لا يجد هربًا منه؛ أي: إنه تعالى مقتدر عليهم، وهم في قبضة لا يجدون مهربًا، ولا يستطيعون الفرار إذا أرادوا، فلا تجزع من تكذيبهم، واستمرارهم على العناد، فلن يفوتوني إذا أردت الانتقام منهم. 21 - ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن، وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)}؛ أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هذا الذي كذبوا به قرآن شريف عال الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى، متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية، 22 - مكتوب {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} من التحريف ووصول الشياطين إليه، واللوح: كل صحيفة عريضة خشبًا، أو عظمًا. كما في "القاموس". قال الراغب: اللوح واحد ألواح السفينة، وما يكتب فيه من الخشب ونحوه، والمراد به هنا ما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، ينظر الله فيه كل يوم ثلاث مئة وستين مرة، يحيي ويميت، يعز ويذل ويفعل ما يشاء، وفي صدر اللوح: لا إله إلا الله وحده، ودينه الإِسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن به وصدق وعده واتبع رسله .. أدخله الجنة. وقال بعض المفسرين: اللوح: شيء يلوح للملائكة، فيقرؤونه. قلت: والمذهب الأسلم: أن يقال: اللوح المحفوظ شيء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأتِ به خبر من المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.

وقرأ الجمهور: {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} برفعهما على أنهما موصوف وصفة، وقرأ ابن سميفع {قرآن مجيد} بالإضافة، قال ابن خالويه: سمعت الأنباري يقول: معناه: بل هو قرآن رب مجيدٍ، ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته، فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحدًا، وهذا أولى؛ لتوافق القراءتين. وقرأ الجمهور: {فِي لَوْحٍ} بفتح اللام {مَحْفُوظٍ} بالخفض صفة للوح، واللوح المحفوظ: هو الذي فيه جميع الأشياء، معلَّق بالعرش. كما في القرطبي. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع بضم اللام؛ أي: إنه يلوح، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال ابن خالويه: اللوح: الهواء، وقال الزمخشري: يعني: اللوح فوق السماء السابعة الذي هو في اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه، وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه: {محفوظٌ} بالرفع صفة للقرآن، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ أي: هو محفوظ في القلوب لا يلحقه خطأ ولا تبديل. الإعراب {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}. {وَالسَّمَاءِ}: {الواو}: حرف جر وقسم {السَّمَاءِ}: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا {ذَاتِ الْبُرُوجِ}: صفة لـ {السَّمَاءِ} مجرور بالكسر، {وَالْيَوْمِ}: {الواو}: عاطفة {اليومِ}: معطوف على {السَّمَاءِ}، أو: {الواو}: حرف قسم {اليومِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، فيكون قسمًا مستقلًا {الْمَوْعُودِ}: صفة لـ {ليوم}، {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} معطوفان أيضًا على {السَّمَاءِ}، {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}: فعل ماضٍ ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ولكنه محذوف الصدر، تقديره: أقسم بهذه الأشياء لقد قتل أصحاب الأخدود، وإنما احتيج لهذا الحذف؛ لأن المشهور عند النحاة: أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابًا للقسم .. تلزمه اللام وقد، لا يجوز

الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام كما مر، أو هذه الجملة دالة على الجواب المحذوف، لا جواب تقديره: أقسم بهذه الأشياء: إن هؤلاء المشركين ملعونون، كما لعن أصحاب الأخدود. {النَّارِ}: بدل اشتمال من الأخدود، مجرور بالكسرة؛ لأن الأخدود مشتمل عليها, ولا بد فيه من رابط تقديره: عند البصريين: النار فيه، وعند الكوفيين: ناره؛ لأن أل في البدل ثابت عن الضمير عندهم، فكأنه مذكور {ذَاتِ الْوَقُودِ} مضاف ومضاف إليه {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {قُتِلَ}؛ أي: لعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها، {هُمْ}: مبتدأ، {عَلَيْهَا}: متعلق بـ {قُعُودٌ}، و {قُعُودٌ}: خبر المبتدأ، وهو جمع: قاعد، والجملة الاسمية في محل الجر بإضافة {إذ} إليها {وَهُمْ}: {الواو}: عاطفة، {هُمْ}: مبتدأ {عَلَى مَا}: جار ومجرور متعلق بـ {شُهُودٌ}، وجملة {يَفْعَلُونَ} صلة {ما} الموصولة. {بِالْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ {يَفْعَلُونَ}، {شُهُودٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على الجملة التي قبلها، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في {قُعُودٌ}، وعلى بمعنى: مع، و {شُهُودٌ} بمعنى: حضور، والمعنى: وهم حضور مع ما يفعلون بالمؤمنين، لا يرقون لهم، ولا يرحمون لقسوة قلوبهم، {وَمَا}: {الواو}: عاطفة، أو حالية {مَا}: نافية، {نَقَمُوا}؛ فعل وفاعل، {مِنْهُمْ}: متعلق بـ {نَقَمُوا}، والجملة معطوفة على ما قبلها، أو حال من فاعل {يَفْعَلُونَ}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، وجملة {أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {نَقَمُوا}؛ أي: ما عابوا منهم، وما أنكروا منهم إلا الإيمان بالله سبحانه، و {بِاللَّهِ} متعلق بـ {يُؤْمِنُوا} {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}: صفتان للجلالة {الَّذِي}: صفة ثالثة له، و {لَهُ}: خبر مقدم، {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ}: مبتدأ مؤخر، {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ}، والجملة الاسمية صلة الموصول، و {وَاللَّهُ} مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: متعلق بـ {شَهِيدٌ}، و {شَهِيدٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مقررة لما قبلها. {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)}.

{إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {فَتَنُوا} صلة الموصولة، {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول به، {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ}، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ، {لَمْ}: حرف نفي وجزم، {يَتُوبُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لَمْ} والجملة معطوف على جملة {فَتَنُوا}، {فَلَهُمْ} الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ جوازًا، وإن كان منسوخًا لشبه المبتدأ بالشرط في العموم {لهم}: خبر مقدم {عَذَابُ جَهَنَّمَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لذكر وعيد المجرمين أولًا، ثم يردفه بذكر ما أعد للمؤمنين، {وَلَهُمْ}: خبر مقدم {عَذَابُ الْحَرِيقِ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها خبرًا، لـ {إِنَّ}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، {آمَنُوا}: صلة الموصول {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}، {لَهُمْ}: خبر مقدم {جَنَّاتٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان ما أعد للمؤمنين، ولم تعطف على ما قبلها إيذانًا باستقلالها بالمقصودية، وترك الفاء الرابطة هنا إشعارًا بجواز الأمرين، كما مر {تَجْرِي}: فعل مضارع، {مِنْ تَحْتِهَا} متعلق بـ {تَجْرِي}، {الْأَنْهَارُ}: فاعل {تَجْرِي}، والجملة في محل الرفع صفة لـ {جَنَّاتٌ}، ولكنها سببية {ذَلِكَ}: مبتدأ، {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} صفة لـ {الْفَوْزُ}، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علو درجة ما نالوا، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ}: ناصب واسمه ومضاف إليه {لَشَدِيدٌ}: خبره، و {اللام}: حرف ابتداء، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يكابده من كفار مكة {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {هُوَ}: مبتدأ، لا الضمير فصل؛ لفقد الشرط، وجملة {يُبْدِئُ} خبر لـ {هُوَ}، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة، وجملة {وَيُعِيدُ} معطوفة على جملة {يُبْدِئُ}، {وَهُوَ} {الواو}: عاطفة {هُوَ} مبتدأ، {الْغَفُورُ}: خبر أول له {الْوَدُودُ}: خبر ثانٍ {ذُو الْعَرْشِ}: خبر ثالث {الْمَجِيدُ} - بالرفع -: خبر رابع، وبالجر: صفة لـ {الْعَرْشِ}، {فَعَّالٌ}: خبر خامس، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة {إِنَّ}، واستدل النحاة بهذه الآيات على جواز تعدد الخبر لمبتدأ واحد، {لِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {فَعَّالٌ}، وجملة {يُرِيدُ} صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: لما يريده. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ

وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التقريري {أَتَاكَ}: فعل ماضٍ ومفعول به {حَدِيثُ الْجُنُودِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتقرير شدة بطشه تعالى، {فِرْعَوْنَ}: بدل من {الْجُنُودِ} بدل كل من كل مجرور بالفتحة؛ لأنه غير منصرف للعلمية والعجمية، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: قوم فرعون، {وَثَمُودَ}: معطوف على {فِرْعَوْنَ} مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي، كزينب. {بَلِ}: حرف عطف وإضراب عن محذوف إضرابًا انتقاليًا تقديره: ليس هؤلاء مثل من تقدم قبلهم من الأمم، بل هم أشد تكذيبًا {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {فِي تَكْذِيبٍ}: خبر عن الموصول والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة، {وَاللَّهُ} {الواو}: عاطفة {الله}: مبتدأ، {مِنْ وَرَائِهِمْ}: متعلق بـ {مُحِيطٌ}، و {مُحِيطٌ}: خبر عن لفظ الجلالة، والجملة معطوفة على ما قبلها {بَلِ}: حرف إضراب للإضراب الانتقالي عن بيان شدة كفرهم إلى وصف القرآن بما ذكر، والمعنى: ليس ما كذب هؤلاء مثل ما كذب من قبلهم، بل ما كذبوه {قُرْآنٌ} موصوف بهذه الصفات العالية، {هُوَ}: مبتدأ {قُرْآنٌ}: خبر {مَجِيدٌ}: صفة {قُرْآنٌ}، والجملة معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، {فِي لَوْحٍ}: صفة ثانية لـ {قُرْآنٌ}، {مَحْفُوظٍ}: صفة لـ {لَوْحٍ}. التصريف ومفردات اللغة {السَّمَاءِ} والسماء في اللغة: كل جرم علوي، فدخل فيه السحاب والعرش، واصطلاحًا: الأفلاك السبعة التي هي مركز الكواكب، والنجوم من السبعة السيارة والثوابت. {ذَاتِ الْبُرُوجِ} جمع: برج، وهو في الأصل: الركن والحصن والقصر، وكل بناء مرتفع على شكل مستدير، أو مربع يكون منفردًا، أو قسمًا من بناية عظيمة، والبرج أيضًا: أحد بروج السماء، وهي بحسب تعبير اللغويين اثنا عشر: الحمل والثور إلى آخر ما مر، وأصل هذه المادة للظهور يعني: أن أصل معنى البرج الأمر الظاهر من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي لظهوره، ويقال لما ارتفع من سور المدينة: برج أيضًا.

{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)} هو يوم القيامة؛ لأن الله قد وعد به. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} والشاهد والمشهود: جميع ما خلق الله تعالى في هذا العالم، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته، وعظيم حكمته: وَفِيْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ ومشهود أيضًا لكل ذي عينين. {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)} الأخدود مفرد، وجمعه: أخاديد، والخد بفتح الخاء: بمعنى الأخدود، وجمعه: خدود، وهو الشق في الأرض، يحفر مستطيلًا، والأخاديد أيضًا: آثار الضرب بالسوط، ومنه: أخاديد الأرشية في البئر، وهي تأثير جرها فيه، ويقال للشيخ: قد تخدد، ويراد: قد تشنج جلده، وأصحاب الأخدود: قوم كافرون ذو بأس وقوةٍ، رأوا قومًا من المؤمنين، فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر، فأبوا، فشقوا لهم شقًا في الأرض، وحشوه نارًا، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ}؛ أي: عابوا عليهم الإيمان. وفي "المختار": نقم الأمر: كرهه، وبابه: ضرب، ونقم من باب فهم لغة. اهـ. {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: ابتلوهم، وامتحنوهم، وعذبوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء: إذا حرقته بالنار، والعرب تقول: فتن فلان الدينار: إذا أدخله الكور لينظر جودته، وفي "المختار": الفتنة: الاختبار، والامتحان، تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنةً ومفتونًا أيضًا: إذا أدخله النار لينظر جودته، ودينار مفتون، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛ أي: حرقوهم، ويسمى الصائغ: الفتان، وكذا الشيطان، وقال الخليل: الفتن: الإحراق، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. انتهى. {عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛ أي: العذاب المحرق، فهو من إضافة الموصوف، إلى الصفة، وهو عذاب جهنم ذكر تفسيرًا وبيانًا له، وفي "المفردات": الحريق: النار، وكذا الحرق بالتحريك: النار أو لهبها. كما في "القاموس". وحرق الشيء: إيقاع الحرارة فيه من غير لهب كحرق الثوب بالدق، والإحراق: إيقاع نار ذات لهب في شيء، ومنه استعير أحرقني بلومه: إذا بالغ في أذيته بلوم.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تسيل الأنهار تحت أسرتها وغرفها، وجميع أماكنها، يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضار والأحزان. اهـ "خطيب". {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} البطش: الأخذ بعنف وشدة. وفي "المختار": البطشة: السطوة، والأخذ بعنف، وقد بطش به - من باب ضرب ونصر - وباطشه مباطشةً. اهـ. {وَيُعِيدُ} أصله: يعود بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى العين، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وحذفت منه همزة أفعل، فصار يعيد. {وَهُوَ الْغَفُورُ}؛ أي: الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته. {الْوَدُودُ}؛ أي: الذي يحب أولياءه، ويتودد إليهم بالعفو عن صغار ذنوبهم. {ذُو الْعَرْشِ}؛ أي: صاحب الملك، والسلطان، والقدرة النافذة. {الْمَجِيدُ}؛ أي: السامي القدر المتناهي في الكرم والجود، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار؛ أي: تناهيا في الاحتراق حتى يقتبس منهما. {حَدِيثُ الْجُنُودِ} الجنود: تطلق تارة على العسكر، وتطلق أخرى على الأعوان، والمراد بهم هنا: الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى، واجتمعوا على أذاهم. {فِرْعَوْنَ} هو طاغية مصر صاحب موسى عليه السلام. {وَثَمُودَ} قبيلة بائدة من العرب، لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا. {مُحِيطٌ}؛ أي: هم في قبضته تعالى وحوزته، كمن أحيط به فانسدت عليه المسالك. {مَجِيدٌ}، أي: شريف عالي المرتبة من بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى، متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية. {فِي لَوْحٍ} قال الراغب: اللوح - بفتح اللام -: واحد ألواح السفينة، وكل صحيفة عريضة خشبًا وعظمًا، وهو هنا مخلوق عظيم خلق للبقاء كالعرش، كتب الله فيه الكائنات.

{مَحْفُوظٍ}؛ أي: من التحريف والتغيير والتبديل. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {ذَاتِ الْبُرُوجِ}؛ لأن البروج حقيقة في القصور التي تنزل فيها الأكابر والأشراف، فاستعيرت لمنازل الكواكب السيارة، ومقر الثوابت منها بجامع العلو في كل منهما. ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}. ومنها: تنكيرهما للإبهام في الوصف؛ أي: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح، أو أن يثبت لشيء صفة مدح، ويؤتى بعدها بأداة الاستثناء تليها صفة مدح أخرى: ومن الأول: بيت النابغة في مديح الغسانيين: وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وقول ابن الرقيات - وقد اقتبس لفظ القرآن، ورمق سماء بلاغته -: وَمَا نَقَمُوْا مِنْ أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُوْنَ إِنْ غَضِبُوْا ومنه قول ابن نباتة المصري: وَلَا عَيْبَ فِيْهِ غَيْرَ أَنَّيْ قَصَدْتُهُ ... فَأَنْسَتْنِيَ الأَيَّامُ أَهْلًا وَمَوْطِنَا وقول المعري: تُعَدُّ ذُنُوْبِيْ عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيْرَةً ... وَلَا ذَنْبَ لِيْ إلَّا الْعُلاَ وَالْفَضَائِلُ وأما الثاني: فقليل في الشعر، ومنه قول بعضهم: مَا فِيْكِ مِنَ الْجَمَالِ سِوَى ... أَنَّكِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيْحَاتِ

ومنها: التعبير بلفظ المضارع في قوله: {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} مع أن الإيمان قد وجد منهم في الماضي لإرادة الاستمرار والدوام عليه، فإنهم ما عذبوهم لإيمانهم في الماضي، بل لدوامهم عليه في الآتي، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى، فكأنه قيل: إلا أن يستمروا على إيمانهم. ومنها: وصفه تعالى بكونه عزيزًا حميدًا، له ملك السموات والأرض في قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} للإشعار بمناط إيمانهم وموجبه. ومنها: تأخير صفة الملك عن {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}؛ لإفادة أن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة التي دل عليها {الْعَزِيزِ}، وفي العلم الذي دل عليه {الْحَمِيدِ}؛ لأن من لم يكن تام القدرة والعلم .. لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة. ومنها: إيراد {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} إشعارًا بكمال حلمه وكرمه؛ حيث لم يعجل في القهر ويقبل التوبة، وإن طالت مدة الحوبة. ومنها: الطباق بين {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}. ومنها: المقابلة بين مصير المجرمين ومصير المؤمنين في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي}. ومنها: تأخير {ثَمُودَ} عن {فِرْعَوْنَ} مع تقدمهم على فرعون زمانًا في قوله: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)} لرعاية الفواصل. ومنها: تنكير التكذيب في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)}؛ لإفادة التعظيم، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في الكفر والطغيان والتكذيب. ومنها: المجاز المرسل أيضًا في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)} علاقته الحالية؛ لأن التكذيب معنى من المعاني، ولا يحل الإنسان فيه، إنما يحل في مكانه، فاستعمال التكذيب في مكانه مجاز أطلق فيه الحال وأريد المحل، فعلاقته الحالية.

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} حيث مثل عدم نجاتهم من بأس الله بعدم فوت المحاط به عن المحيط الذي سد عليه مسلكه، بحيث لا يمكنه الهرب منه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - إظهار عظمة الله تعالى وباهر قدرته. 2 - بيان وعيد المجرمين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الصابرين على فتنتهم. 3 - بيان شدة بطشه تعالى للظلمة والجبابرة. 4 - بيان بعض صفاته التي تدل على شدة بطشه. 5 - ذكر بعض الظلمة والجبابرة من الأمم المكذبة المهلكة؛ لتكون عبرة لمن حذا حذوها من هذه الأمة. 6 - ذكر تكذيب المشركين لهذا القرآن أشد تكذيب. 7 - ذكر بعض صفات القرآن الكريم (¬1). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة البروج بعون الله الذي إليه الرجوع والعروج، منتصف ليلة الإثنين السادس عشر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة 16/ 9/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة الطارق

سورة الطارق سورة الطارق مكية بلا خلاف نزلت بعد سورة البلد، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} بمكة. وآياتها: سبع عشرة آية. وكلماتها: اثنتان وسبعون كلمة. وحروفها مئتان وأحد وسبعون حرفًا. مناسبتها لما قبلها من أوجه: 1 - أنه ابتدأ هذه بالقسم بالسماء كما بدأ السابقة بالحلف بها. 2 - أنه ذكر في السابقة تكذيب الكفار للقرآن، وهنا وصف القرآن بأنه قول فصل وما هو بالهزل، ردًا على أولئك المكذبين. 3 - أنه ذكر في هذه وعيد الكافرين بقوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} تسليةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر في السابقة وعيد أصحاب الأخدود. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن .. نبه هنا على حقارة الإنسان، ثم استطرد منه إلى أن هذا القرآن قول فصل جد لا هزل فيه ولا باطل يأتيه، ثم أمر نبيه بإمهال الكافرين المكذبين، وهي: آية الموادعة منسوخة بآية السيف. الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الطارق كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} فهي نزلت موادعة، ثم نسخت بآية السيف. سبب نزولها: ما روي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا يومًا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورًا، ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال: "هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله تعالى"، فعجب أبو طالب، ونزل: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)}. فضلها: ومما ورد في فضلها ما روي عن محارب بن دثار عن جابر قال:

صلى معاذ المغرب بالناس، فقرأ فيها البقرة والنساء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفتَّان أنت يا معاذ؟ كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها". تسميتها: سميت بالطارق لذكره في أولها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة والسورة التي قبلها. واعلم: أن الله سبحانه أقسم في مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة، إن النفوس لم تترك سدى، ولم ترسل مهملة، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصي أعمالها، وهو الله سبحانه، وفي هذا وعيد للكافرين، وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكأنه يقول لهم: لا تحزنوا لإيذاء قومكم لكم، ولا يضق صدركم لأعمالهم، ولا تظنن أنا نهملهم ونتركهم سدى، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون, لأنا نحصي عليهم أعمالهم، ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا. {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} والعد إنما يكون للحساب والجزاء. قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) أن الإنسان لم يترك سدى، ولم يخلق عبثًا .. نبهه إلى الدليل الواضح على صحة معاده، وأنه لا بد أن يرجع إلى ربه ليجازيه على ما عمل، فذكره بنفسه، ولفت نظره إلى كيفية خلقه ومنشئه، وأنه خلق من الماء الدافق الذي لا تصوير فيه، ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء وغيرها، ثم أنشأه خلقًا كاملًا مملوءًا بالحياة والعقل والإدراك، قادرًا على القيام بالخلافة في الأرض. ¬

_ (¬1) المراغي.

فالذي خلقه على هذه الأعضاء قادر أن يعيده إلى الحياة في يوم تنكشف فيه المستورات، وتبين الخفايا، فيكون إبداؤها زينًا في وجوه بعض الناس، وشينًا في وجوه بعض آخرين، وليس للمرء حينئذٍ قوة يدفع بها عن نفسه ما يحل به من العذاب، ولا ناصر يعينه على الخلاص من الآلام. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ...} إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين قدرته على إعادة الإنسان بعد الموت، ولفت النظر إلى التدبر إلى برهان هذه القدرة .. شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس، وصحة ما يأتيهم به من عند الله، وأهم ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه إنه أساطير الأولين، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها، إنه لقول حق لا ريب فيه، ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها قوم ماكرون لا يريدون بك إلا سوءًا، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، فلا يحزنك ما ترى منهم، ولا تستبطىء حلول النكال بهم، بل أمهلهم قليلًا وسترى ما سيحل بهم، ولا يخفى ما في هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا، أو فيما بعد الموت، ووعد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكل داعٍ إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون. أسباب النزول قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ ...} الآيات، سبب نزول هذه الآيات (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: نزلت في أبي الأشد، كان يقوم على أديم فيقول: يا معشر قريش، من أزالني عنه فله كذا، ويقول: إن محمدًا يزعم أن خزنة جهنم تسعة عشر، فأنا أكفيكم وحدي عشرة، واكفوني أنتم تسعة، فأنزل الله سبحانه هذه السورة. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - أقسم سبحانه وتعالى في بداية هذه السورة الكريمة بالسماء والطارق فقال: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} والسماء: كل ما علانا، فكأنه تبارك وتعالى أقسم بالعالم العلوي وما فيه، ثم خصص بعض ما في ذلك العالم السماوي، فأقسم بالطارق. والطارق في الأصل (¬1): اسم فاعل من طرق طرقًا وطروقًا إذا جاء ليلًا. قال الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة؛ لأنه يطرق بها الحديد، وسمي الطريق؛ لأنه يضرب بالرجل، وسمي قاصد الليل طارقًا لاحتياجه إلى طرق الباب غالبًا؛ حيث إن الأبواب مغلقة في الليل، ثم اتسع في كل ما ظهر بالليل كائنًا ما كان، ثم اتسع في التوسع حتى أطلق على الصور الجالية البادية بالليل، والمراد هنا: الكوكب البادي بالليل. قال الراغب: عبر عن النجم بالطارق؛ لاختصاص ظهوره بالليل. قالت هند بنت عتبة يوم أحد: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقِ ... نَمْشِيْ عَلَى النَّمَارِقِ أي: أبونا كالنجم شرفًا وعلوًا. قال الشاعر: يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ مَسْرُوْرًا بِأَوَّلِهِ ... إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارَا لَا تَفْرَحَنَّ بِلَيْلٍ طَابَ أَوَّلُهُ ... فَرُبَّ آخِرِ لَيْلٍ أَجَّجَ النَّارَا قال سهل رحمه الله: وما طرق على قلب محمد من زوائد البيان والإنعام. انتهى. وقد أكثر سبحانه (¬2) في القرآن الحلف بالسماء، وبالشمس، وبالقمر، وبالليل، لأن في أحوالها وأشكالها، وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقًا مدبرًا يقوم بشؤونها، ويحصي أمرها, لا يشركه سواه في هذا الإبداع والصنع. وقد اختلف في الطارق (¬3)، هل هو نجم معين، أو جنس النجم؟ فقيل: هو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[2]

زحل، وقيل: الثريا، وقيل: هو الذي ترمى به الشياطين، وقيل: هو جنس النجم، قال في "الصحاح": والطارق: النجم الذي يقال له: كوكب الصبح، 2 - ثم بين سبحانه ما هو الطارق تفخيمًا لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)}؛ أي: (¬1) أيُّ شيء أعلمك يا محمد بالطارق، فإنه لا يناله إدراك الخلق إلا بالتلقي من الخلاق العليم، كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}؛ أي: الكوكب المضيء، تقول العرب: وما أدراك ما كذا؟ أي: وأي شيء يعلمك حقيقته وهو أسلوب من كلامهم، يراد به التفخيم والتعظيم، كأنه في فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه. قال سفيان: كل ما في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره، وكل شيء قال فيه: {وَمَا يُدْرِيكَ} لم يخبره. 3 - ثم فسر هذا الطارق بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو النجم الثاقب، كما مر آنفًا، ولم يقل: والنجم الثاقب مع أنه أخصر وأظهر، فعدل عنه تفخيمًا لشأنه، فأقسم أولًا بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق، ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيمًا لشأنه ثانيًا، ثم فسره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام. والمعنى (¬2): أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب، بل أقسم بطارق معين هو النجم الثاقب؛ أي: الذي يثقب الظلام، ويهتدى به في ظلمات البر والبحر، ويوقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان في معاشه؛ وهو الثريا عند جمهرة العلماء؛ لأن العرب تسميه النجم ويسمى كوكب الصبح، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب؛ لأن له ضوءًا ثاقبًا لا محالة؛ أي: في نفسه، وإن حصل التفاوت بالنسبة، أو المعهود بالثقب، فهو من باب ركب السلطان، وهو زحل الذي في السماء السابعة لا يسكنها غيره؛ لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات؛ لأنه إذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء .. هبط زحل من السابعة، فكان معها في سمائها، ثم يرجع إلى مكانه من السابعة، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[4]

4 - ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، فقال: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} والجملة جواب (¬1) القسم وما بينهما اعتراض جيء به لتأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها، و {إِنْ} نافية، و {لَمَّا} بمعنى: إلا. قال الزجاج: استعملت {لما} في موضع {إلا} في موضعين: أحدهما: بعد إن النافية. والآخر: في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت بمعنى: إلا فعلت، وعدي الحفظ بـ {على}؛ لتضمنه معنى الهيمنة، والمعنى: ما كل نفس من النفوس الطيبة والخبيثة إنسانية أو جنية إلا عليها حافظ مهيمن رقيب؛ وهو الله تعالى، كما قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}. والخلاصة: أي أحلف (¬2) بالسماء وبالنجم الثاقب أن للنفوس رقيبًا يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها، حتى ينتهي أجلها، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشؤونها، المصرف لأمورها في معاشها ومعادها. وقرأ الجمهور (¬3): {إنْ}: خفيفة، {كُلُّ}: رفعًا، {لما} خفيفة فهي عند البصريين: مخففة من الثقيلة، و {كُلُّ}؛ مبتدأ، واللام هي الداخلة للفرق بين إنْ النافية وإن المخففة، و {ما}: زائدة، و {حَافِظٌ}: خبر المبتدأ، و {عَلَيْهَا}: متعلق به، والمعنى عليه: إنه أي: إن الشأن والحال كل نفس لعليها حافظ. وعند الكوفيين: {إن}: نافية، و {اللام}: بمعنى إلا، و {ما}: زائدة, و {كُلُّ} و {حَافِظٌ}: مبتدأ وخبر، والمعنى عليه: ما كل نفس إلا عليها حافظ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما: {لَمَّا} مشددة، وهي بمعنى: إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم، تقول العرب: أقسمت عليك لما فعلت كذا، أي: إلا فعلت، قاله الأخفش، فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون {إن} نافية، والمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

[5]

وحكى هارون أنه قرىء {إن} بالتشديد {كلَّ} بالنصب، فاللام هي الداخلة في خبر {إن} و {ما} زائدة، و {حَافِظٌ}: خبر {إنَّ}، والمعنى: إن كل نفس لعليها حافظ، والظاهر (¬1) عموم كل نفس، وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما: إن كل نفس مكلفة عليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، فيكون في الآية وعيد وزجر، وما بعد ذلك يدل عليه واختلف في الحافظ: فقيل: الحافظ: هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وقيل: الحافظ: هو الله سبحانه، وقيل: هو العقل يرشدهم إلى المصالح، ويكفهم عن المفاسد، والأول أولى؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}، وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، وقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ}، والحافظ في الحقيقة: هو الله سبحانه وتعالى، كما في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} وحفظ الملائكة من حفظه؛ لأنهم بأمره. 5 - ولما ذكر (¬2) أن كل نفس عليها حافظ .. أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل لذلك، ولا يملي على حافظ إلا ما يسره في عاقبته فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ}؛ أي: (¬3) ليتفكر الإنسان المركب من الجهل والنسيان، المنكر للنشور والحشر والميزان {مِمَّ}؛ أي: من أي شيء، فأصله مما حذفت الألف تخفيفًا كما مرَّ في {عَمَّ}؛ أي: من أي شيء {خُلِقَ} حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، بل أقدر على قياس العقل، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويجديه، ولا يملي حافظه ما يرديه. والفاء في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل نفس عليها حافظ، وأردت معرفة قدرة ذلك الحافظ .. فأقول لك: لينظر الإنسان مم خلق؛ أي: لينظر بعقله، ويتدبر بقلبه في مبدأ خلقه، ليتضح له قدرة حافظه الذي وهب له العقل، وأنه إذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط .. فهو على إعادته أقدر، فليعمل بما به يسر حين الإعادة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[6]

6 - ثم أجاب عن الاستفهام بقوله: {خُلِقَ} الإنسان {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}؛ أي: مدفوق، وهي قراءة زيد بن علي؛ أي: مصبوب في الرحم، والجملة مستأنفة (¬1) واقعة في جواب استفهام مقدر، كأنه قيل: مم خلق؟ فقيل: خلق من ماء ذي دفق، وهو صب فيه دفع وسيلان بسرعة، يقال: دفق دفقًا - من باب نصر -: إذا سال بشدة وسرعة، وإنما أوَّل بالنسبة، نظير تامر ولابن؛ لأن الصب لا يتصور من النطفة، لظهور أنها مصبوبة لا صابة، فتوصيفه بأنه دافق لمجرد نسبة مبدأ الاشتقاق إلى ذات الموصوف به مع قطع النظر عن صدوره منه. وقال بعضهم: دافق؛ أي: مدفوق ومصبوب في الرحم، نحو سر كاتم؛ أي: مكتوم، وعيشة راضية؛ أي: مرضية، فهو فاعل بمعنى: مفعول، والمراد به: الممتزج من الماءين في الرحم، كما ينبىء عنه ما بعده في الآية، وللنظر إلى امتزاجهما عبر عنهما بصيغة الإفراد، أعني قوله: {مِنْ مَاءٍ}، ووصف الماء الممتزج بالدافق من قبيل توصيف المجموع بوصف بعض أجزائه؛ لأن الدافق هو ماء الرجل فقط. 7 - {يَخْرُجُ} ذلك الدافق الممتزج في الرحم {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} للرجل {وَالتَّرَائِبِ} للمرأة، والصلب: الشديد، وباعتباره سمي الظهر صلبًا؛ أي: يخرج من بين ظهر الرجل وترائب المرأة، وهي ضلوع صدرها، وعظام نحرها؛ حيث تكون القلادة، وكل عظم من ذلك تريبة. وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم: بين الثديين، وفي "القاموس": الترائب: عظام الصدر، أو ما ولي الترقوتين منه، أو بين الثديين والترقوتين، أو أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع من يسرته، أو اليدان والرجلان والعينان، أو موضع القلادة. انتهى. ومن ذلك يتحمل الوالد مصالح معيشة الولد، وتشتد رقة الوالدة ومحبتها للولد، وإيراد {بَيْنِ} (¬2) إشارة إلى ما يقال: إن النطفة تتكون من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الولد والديه غالبًا، فيجتمع ماء الرجل في صلبه، ثم يجري منه، ويجتمع ماء المرأة في ترائبها، ثم يجري منها، وفي "قوت القلوب": أصل المني: هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب، وهناك مسكنه، فتنضجه الحرارة، فيستحيل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[8]

أبيض، فإذا امتلأت منه خرزات الصلب - وهو الفقار - طلب الخروج من مسلكه، وهو عرقان متصلان إلى الفرج، منهما ينزل المني، وفي "أسئلة الحكم": بين طريق البول وطريق المني جلد رقيق، يكاد لا يتشخص؛ كيلا يختلط المني بماء البول، فيفسد حرارة جوهره. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {يَخْرُجُ} مبنيًا للفاعل، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنيًا للمفعول، وقرأ الجمهور: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} بضم الصاد وسكون اللام، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأهل مكة وعيسى: بضم الصاد واللام، وقرأ اليماني: بفتحهما، ويقال: صالب بوزن قالب، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في أبياته المشهورة التي مدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم -: تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى الرَّحِمْ وقد تقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} كما سيأتي بيانها أيضًا في مبحث التصريف، وقال في "الصحاح": التريبة واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، قال أبو عبيدة: جمع التريبة: ترائب، والمعنى: أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة، ووقع في رحم المرأة. والخلاصة (¬2): أن الولد يتكوَّن من مني مدفوق من الرجل، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المكبرة (الميكرسكوب)، ولا تزال تجري حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة، وهي البويضة، ومتى التقت الجرثومتان .. اتحدتا، وكونتا جرثومة الجنين. 8 - والضمير في قوله: {إِنَّهُ} للخالق، فإن قوله: {خُلِقَ} يدل عليه؛ أي: إن الخالق الذي خلق الإنسان ابتداء مما ذكر {عَلَى رَجْعِهِ}؛ أي: على إعادته بعد موته {لَقَادِرٌ}؛ أي: لبين القدرة، بحيث لا يرى له عجز أصلًا، وتقديم (¬3) الجار والمجرور على عامله، وهو {لَقَادِرٌ} للاهتمام به من حيث إن الكلام فيه بخصوصه، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[9]

فهو لا ينافي قادريته على غيره، والضمير في {رَجْعِهِ} عائد على {الْإِنْسَانُ}، قال بعضهم: خلقه لإظهار قدرته، ثم رزقه لإظهار الكرم، ثم يميته لإظهار الجبروت، ثم يحييه لإظهار الثواب والعقاب. والمعنى: أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة قادر على أن يرده حيًا بعد أن يموت بالبعث، ونحو الآية قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وأصرح منهما قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. وقال مجاهد (¬1): على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب، وقال مقاتل بن حيان: يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة، وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر، ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي. 9 - ثم بين وقت المرجع فقال: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ظرف لرجعه، ولا يضر الفصل بالأجنبي للتوسع في الظروف، وقيل: العامل في الظرف {لَقَادِرٌ}، واعترض عليه بأنه يلزم عليه تخصيص القدرة بهذا اليوم، وقيل: العامل فيه مقدر؛ أي: يرجعه يوم تبلى السرائر، وقيل: العامل فيه مقدر، وهو اذكر، فيكون مفعولًا به. ومعنى {تُبْلَى السَّرَائِرُ}: أي: تعرف وتكشف، والسرائر (¬2): جمع سريرة بمعنى السر، وهي التي تكتم وتخفى؛ أي: يوم يتعرف فيه، ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعماله، ويميز بين ما طاب منها وما خبث، والإبلاء: هو الابتلاء والاختبار، وإطلاق الإبلاء على الكشف والتمييز من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب؛ لأن الاختبار يكون للتعريف والتمييز، وابتلاء الله عباده بالأمر والنهي يكون لكشف ما علم منهم في الأزل من الطاعة أو العصيان. وقال بعضهم: المراد بالسرائر: الفرائض، كالصوم والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، فإنها سر بين العبد وبين ربه، ولو شاء العبد أن يقول: فعلت ذلك، ولم يفعله أمكنه، وإنما تظهر صحة تلك السرائر يوم القيامة. قال ابن عمر ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[10]

رضي الله عنهما: يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زينًا في وجوه، وشينًا في وجوه، يعني: من أدى الأمانات كان وجهه مشرقًا، ومن ضيعها كان وجهه أغبر أسود مظلمًا. والمعنى (¬1): أي هو سبحانه قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة في اليوم الذي تنكشف فيه السرائر، وتتضح الضمائر، ويتميز الطيب من الخبيث، فلا يبقى في سريرة سر، بل تنقلب كل خفية إلى الجهر، ولا يكون جدال ولا حجاج، ولا يبقى لذوي الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا، فإما حلول في نعيم، وإما مصير إلى عذاب أليم 10 - {فَمَا لَهُ}؛ أي: فما للإنسان، و {ما} نافية {مِنْ قُوَّةٍ} في نفسه يمتنع بها من العذاب الذي حل به {وَلَا نَاصِرٍ} من خارج ينتصر به؛ إذ كل نفس يومئذٍ رهينة بما كسبت، مشغولة بجزاء ما جرت عليه خيرًا كان أو شرًا، فالمراد (¬2) بالقوة المنفية: هي القوة الثابتة له في نفسه، لا القوة مطلقًا، وإلا لم يبق للعطف فائدة؛ لأن القوة المستفادة من الغير قوة أيضًا، وقد نفيت أولًا، والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف، وفي "التعريفات": هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة، ونصر المظلوم إعانته على الظالم، وخلاصه منه. والحاصل: أن القوة التي يدافع بها الإنسان عن نفسه (¬3)؛ إما من ذاته، وقد نفاها بقوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} وإما من غيره، وقد نفاها بقوله: {وَلَا نَاصِرٍ}؛ أي: فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدر له من جزاء عمله إن كان مسيئًا، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه. والخلاصة (¬4): أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره مما نزل به. قال عكرمة: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر، قال سفيان: القوة: العشيرة، والناصر: الحليف، والأول أولى. 11 - {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}: {ذَاتِ}: مؤنث ذو، بمعنى: صاحب، والرجع: المطر، سمي رجعًا. لما أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[12]

الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض، أو أرادوا بذلك التفاؤل ليرجع، ولذلك سموه: أوبًا؛ ليؤوب، فيكون المرجع مصدرًا من اللازم بمعنى الرجوع، لا من المتعدي. وقال الراغب: سمي المطر رجعًا لرد الهواء ما تناله من الماء. وقال الزجاج: الرجع: المطر؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر، وفي "كشف الأسرار": لأنه يرجع كل عام ويتكرر، وقيل: الرجع: الشمس والقمر والنجوم، يرجعن في السماء، تطلع من ناحية، وتغيب في أخرى، قال الجرجاني في كتاب "إعجاز القرآن"، وابن زيد: وقيل: معنى {ذَاتِ الرَّجْعِ}: ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد، وقال بعضهم: معنى {ذَاتِ الرَّجْعِ}: ذات النفع، ووجه تسمية المطر رجعًا: ما قاله القفال: لأنه مأخوذ من ترجيع الصوت، وهو إعادته، وكذا المطر لكونه يعود ويرجع مرة بعد أخرى سمي رجعًا. 12 - {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)} والصدع: ما تتصدع عنه الأرض، وتنشق من النبات إذ المحاكي للنشور هو تشقق الأرض، وظهور النبات منها لإظهار العيون، فالمراد بالصدع نبات الأرض سمي به؛ لأنه صادع للأرض، والأرض تتصدع به، والصدع في اللغة: الشق. والحاصل: أن الصدع إذا كان اسمًا للنبات، فكأنه قال: والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق، فكأنه قال: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه، كالأموات. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تتصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث؛ لأنه يصدعها، وقيل: ذات الأموات؛ لانصداعها عنهم عند البعث. وفي "المفردات": الصدع (¬1): شق في الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد ونحوها. وفي الآية إشارة إلى أن السماء ذات المرجع كالأب، والأرض ذات الصدع كالأم، وما ينبت من الأرض كالولد. والحاصل: أن الله سبحانه أقسم أولًا بالسماء مجردة عن التوصيف - أعني: أول السورة - وثانيًا مقيدة بكونها ذات المرجع، وكذا بالأرض ذات الصدع إيماء إلى المنة عليهم بكثرة المنافع، ودلالة على العلم التام، والقدرة الكاملة فيها. والمعنى (¬2): أي أقسم لكم بالسماء ذات المطر، وهو أنفع شيء ينتظره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[13]

المخاطبون من السماء، إذ يبدل جدبهم خصبًا، ويعيد موات أرضهم حيًا، ويصير به لهب صحرائهم هواءً عليلًا، وأقسم بالأرض التي تتصدع بالنبات والشجر والثمار مما به حياتهم، وحياة أنعامهم، وهم في بلاد قفراء جدباء، ونظير هذا قوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)} الآية. 13 - ثم ذكر المقسم عليه فقال: {إِنَّهُ}: أي: إن هذا (¬1) القرآن الذي من جملته ما تلي من الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده {لَقَوْلٌ}؛ أي: لكلام؛ إذ القول كثيرًا ما يكون بمعنى المقول {فَصْلٌ}؛ أي: فاصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما مبالغ في ذلك كأنه نفس الفصل، كما قيل له فرقان بمعنى: الفارق. 14 - {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}؛ أي: هو كلام جد، وليس بالهزل، والهزل: اللعب، وفي "فتح الرحمن": الهزل: ما استعمل في غير ما وضع له من غير مناسبة ولا علاقة، والجد: ضده، وهو أن يقصد به المتكلم حقيقة كلامه؛ أي: ليس في شيء من القرآن شائبة هزل، بل كله جد محض لا هزل فيه، فمن حقه أن يهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العتاة، ويظهر من الآية أن من يؤم القرآن بهزل، أو يتفكه بمزاح به يكفر، وفي "هدية المهديين": إذا أنكر رجل آية من القرآن، أو سخر بها، أو مزح بها، أو استهان بها فقد كفر، ومن قرأ القرآن على ضرب الدف أو القصبة أو المزمار أو سائر الملاهي .. فقد كفر؛ لأنه استهزأ به وأهانه، فينبغي للمؤمن أن يحترز من هذا كله وأمثاله، ويجتنب عنه. قال أبو حيان: ويجوز (¬2) أن يعود الضمير في {إِنَّهُ} على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة، وابتلاء سرائره؛ أي: إن هذا القول قول جزم مطابق للواقع، لا هزل فيه، بل هو جد كله. انتهى. والمعنى: أي أقسم لكم أيها المشركون بالسماء والأرض الموصوفين بما ذكر على أن هذا القول الذي جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - لقول حق، لا مجال للريب فيه، وهو جد لا هزل فيه، فمن حقه أن يهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب الطغاة. أخرج الترمذي والدارمي: عن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنها ستكون فتنة"، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[15]

فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن لمَّا سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، من قال به .. صدق، ومن حكم به .. عدل، ومن عمل به .. أجر، ومن هدي به .. هدي إلى صراط مستقيم". 15 - ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين، وما تحويه صدورهم من غل لهم فقال: {إِنَّهُمْ}؛ أي: إن أهل مكة ومعاندي قريش {يَكِيدُونَ} في إبطال أمره، وإطفاء نوره {كَيْدًا}؛ أي: حسبما في قدرتهم؛ أي: يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين الحق، قال الزجاج: يخاتلون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويظهرون ما هم على خلافه. 16 - {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}؛ أي: أقابلهم (¬1) بكيد متين لا يمكن رده، وأستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم، قيل: هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر. وكيد المحدث العاجز الضعيف لا يقاوم كيد القديم القادر القوي، فتسمية الاستدراج والانتقام في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار كيدًا من باب المشاكلة؛ لوقوعه في مقابلة كسبهم جزاء له، وإلا فالكيد وهو المكر والاحتيال في إيصال المكروه إلى الغير بخفية لا يجوز إسناده إليه تعالى مرادًا به معناه الحقيقي، وتسمية جزء الشيء باسم ذلك الشيء على سبيل المشاكلة، شائع كثير في كلامهم، نحو قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}. والمذهب الأسلم: إثبات الكيد له تعالى كما أثبته لنفسه في هذه الآية وغيرها، ويقال في تفسيره: كيد الله هو صفة ثابتة له تعالى؛ نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها، أثرها انتقامه تعالى ممن كاد برسوله - صلى الله عليه وسلم -. 17 - {فَمَهِّلِ} يا محمد؛ أي: أخر وانظر {الْكَافِرِينَ}؛ أي: لا تستعجل بالانتقام منهم، ولا تدع عليهم ¬

_ (¬1) روح البيان.

بالهلاك؛ أي: لا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم، وارضَ بما يدبره لك في أمورهم. وقوله: {أَمْهِلْهُمْ} بدل من {مهل}، وهما - أي: التمهيل والإمهال - لغتان بمعنى، مثل: نزل وأنزل، والإمهال: الإنظار، وتمهل في الأمر: اتأد فيه، وكرر الأمر بالإمهال، وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير. اهـ "نسفي". وانتصاب {رُوَيْدًا} على أنه مصدر مؤكد لمعنى الفعل المذكور، أو نعت لمصدره المحذوف، أي: أمهلهم إمهالًا رويدًا؛ أي: قريبًا أو قليلًا يسيرًا، فإن كل آتٍ قريب، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فيه من الرمز إلى قرب وقت الانتقام من الأعداء، وفي "كشف الأسرار": وما كان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر إلا زمان يسير، يقال: أَرْوَدَ يُرْوِدُ إذا رفق وتأنى، ومنه: بني رويد كما في "المفردات"، وفي "الإرشاد": هو في الأصل تصغير: رود بالضم، وهو المهل، أو إرواد مصدر أرود بالترخيم، ويأتي اسم فعل نحو: رويد زيدًا؛ أي: أمهله، ويأتي حالًا نحو: سار القوم رويدًا؛ أي متمهلين، ذكر معنى هذا الجوهري، والبحث عنه مستوفى في كتب النحو. ولما كرر (¬1) الأمر بالإمهال توكيدًا .. خالف بين اللفظين على أن الأول مطلق، وهذا الثاني مقيد بقوله: رويدًا، وقرأ ابن عباس: {أمَهلهم} بفتح الميم، وشد الهاء موافقة للفظ الأمر الأول. والمعنى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)}، أي (¬2): أنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}، وقولهم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرًا أو مجنونًا أو تبييتهم قتله، كما جاء في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ}. وبعدئذٍ ذكر ما قابلهم ربهم به، وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال: {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}؛ أي: وأقابل كيدهم بنصر الرسول، وإعلاء دينه، وجعل كلمته العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وسمى مجازاتهم كيدًا منه للتجانس في اللفظ، كما ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

قال: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، وقال عمرو بن كلثوم: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِيْنَا ثم أمر رسوله أن يتأنى عليهم ليرى أخذه تعالى لهم، فقال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}، أي: سر في دعوتك، ولا تستعجل عذابهم، فإنا سنمهلهم ليزدادوا إثمًا حتى إذا أخذناهم .. لم يبق لهم من راحم، ثم أكد طلب الإمهال وأقَّته بوقت قريب فقال: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}؛ أي: إنا سنمهلهم قليلًا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال، وفي هذا بعث للطمأنينة إلى قلوب المؤمنين الذين كانوا يخشون صولة الكفار، ويحذرون اعتداءاتهم التي لا حد لها، وتخويف لهم من عاقبة إصرارهم على ما هم فيه من الكفر والمشاقة لله ورسوله وللمؤمنين، ونحو الآية قوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. فائدة: روي (¬1) عن همام مولى عثمان رضي الله عنه أنه قال: لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات، فكتبوا في كتف شاة، وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، فدخلت عليهما، فناولتها أبيًا، فقرأها، فإذا هي فيها {لا تبديل للخلق}، فكتب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، وكان فيها: {لم يتسن}، فكتب: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}، وكان فيها: {فأمهل الكافرين} فمحا الألف، وكتب {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}، ونظر فيها زيد بن ثابت، فانطلقت بها إليهم، فأثبتوها في المصحف. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى حافظ للقرآن من التحريف والتبديل, لأنه أثبته في صدور الحفاظ، وإلى أن المشكلات يرجع فيها إلى أهل الحل. الإعراب {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}. {وَالسَّمَاءِ}: {الواو}: حرف جر وقسم {السَّمَاءِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالسماء، وجملة القسم مستأنفة، {وَالطَّارِقِ}: قسم آخر أيضًا مماثل لما قبله في إعرابه معطوف ¬

_ (¬1) روح البيان.

عليه، {وَمَا}: {الواو}: اعتراضية {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {أَدْرَاكَ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على {ما} الاستفهامية، والكاف مفعول أول لـ {أدرى}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {مَا} الاستفهامية، وجملة الاستفهام جملة معترضة إنشائية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه لتأكيد القسم، {مَا} اسم استفهام مبتدأ، {الطَّارِقُ}: خبر، والجملة الابتدائية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}، {النَّجْمُ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو النجم، {الثَّاقِبُ}: صفة لـ {النَّجْمُ}، والجملة الاسمية جملة اعتراضية لاعتراضها بين القسم وجوابه مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كما مر، كأنه قيل: ما هو الطارق؟ فأجاب بقوله: هو النجم الثاقب. {إِنْ}: نافية، {كُلُّ نَفْسٍ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليه، {لَمَّا}: - بالتشديد -: حرف بمعنى إلا الحصرية، مبني على السكون {عَلَيْهَا}: خبر مقدم {حَافِظٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مع خبره جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وفي تخفيف {لما} تقول في إعراب الجملة {إن}: مخففة من الثقيلة مهملة، وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته": وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ ... وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ {كُلُّ نَفْسٍ}: مبتدأ، و {لما} {اللام}: حرف ابتداء، و {مَّا}: زائدة {عَلَيْهَا}: خبر مقدم، {حَافِظٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول جواب القسم. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}. {فَلْيَنْظُرِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفت أن كل نفس عليها حافظ، وأردت بيان قدرة ذلك الحافظ .. فأقول لك: {لينظر الإنسان}، {اللام}: حرف جزم وطلب، {ينظر}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {الْإِنْسَانُ}. فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {مِمَّ}: {من}: حرف جر مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما}، و {ما} اسم استفهام في محل

الجر بـ {من} مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين {ما} الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ {خُلِقَ} المذكور بعده، {خُلِقَ} فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ} والجملة الفعلية في محل النصب بقوله: {فلينظر} المعلق عنها بالاستفهام، {خُلِقَ} فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْإِنْسَانُ}، {مِنْ مَاءٍ}: متعلق بـ {مَاءٍ}، {دَافِقٍ}: صفة لـ {مَاءٍ}، والجملة الفعلية مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: مم خلق؟ فأجيب بقوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)}، وجملة {يَخْرُجُ} في محل الجر صفة ثانية لـ {مَاءٍ}، أو في محل النصب حال منه لتخصصه بالصفة {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {يَخْرُجُ}، {وَالتَّرَائِبِ}: معطوف على {الصُّلْبِ}. {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {عَلَى رَجْعِهِ}: متعلق بـ {قادر}، {لَقَادِرٌ}: {اللام}: حرف ابتداء، {قادر} خبر {إن}، والجملة مستأنفة {يَوْمَ}: ظرف متعلق بـ {رَجْعِهِ}، ولا يصح تعلقه بـ {قادر}؛ لأنه تعالى قادر على رجعه في كل وقت من الأوقات، ولا تختص قدرته بوقت دون وقت، {تُبْلَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، {السَّرَائِرُ}: نائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ}، {فَمَا}: {الفاء}: عاطفة، {ما}: نافية {لَهُ} خبر مقدم، {من}: زائدة، {قُوَّةٍ}: مبتدأ مؤخر {وَلَا}: {الواو}: عاطفة {لَا}: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها {نَاصِرٍ} معطوف على {قُوَّةٍ}، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة {تُبْلَى}، {وَالسَّمَاءِ}: {الواو}: حرف جر وقسم، {السَّمَاءِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، والجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالسماء، وجملة القسم مستأنفة {ذَاتِ الرَّجْعِ}: صفة لـ {السماء} {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)} جملة قسمية مماثلة لما قبلها في إعرابه معطوفة عليه، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {لَقَوْلٌ}: {اللام} حرف ابتداء، {قول}: خبر {إن}. {فَصْلٌ}: صفة {قول}، وجملة {إن} جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {وَمَا هُوَ}: {الواو}: عاطفة {ما}: حجازية تعمل عمل ليس، {هُوَ}: في محل الرفع اسمها {بِالْهَزْلِ}: {الباء}: حرف جر

زائد، {الهزل}: خبر لـ {ما} الحجازية، وجملة {ما} الحجازية معطوفة على جملة {إن} على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {إِنَّهُمْ}: ناصب اسمه، وجملة {يَكِيدُونَ} خبره، {كَيْدًا}: مفعول مطلق، وجملة {إن} مستأنفة. واقعة في جواب سؤال نشأ من فحوى الكلام، كأنه قيل: وماذا تسمى مكابرتهم وعنادهم؟ فقيل: إنهم إلخ، {وَأَكِيدُ}: {الواو}: عاطفة {أكيد}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله سبحانه {كَيْدًا}: مفعول مطلق مؤكد لعامله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {إن}، {فَمَهِّلِ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت كيدهم لك، وكيدي إياهم، وأردت النصرة عليهم .. فأقول لك: {مهل الكافرين}: {مهل}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {أَمْهِلْهُمْ}: {أمهل}: فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، و {الهاء}: مفعول به، والجملة بدل كل من قوله: {مهل الكافرين}، {رُوَيْدًا}: مفعول مطلق معنوي لـ {أمهل}، والأصل: إروادًا، فصغر تصغير ترخيم بحذف الزوائد؛ أي: أمهلهم إروادًا؛ أي: إمهالًا، فكأنه قال: أرودهم إروادًا؛ أي: أمهلهم إمهالًا، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: أمهلهم إمهالًا رويدًا؛ أي: قليلًا يسيرًا، كما مر، وإنما قلل الإمهال؛ لأن كل ما هو كائن آت قريب لا محالة، فهو قليل، والمراد به: يوم القيامة، وقيل: يوم بدر، كما مر ذلك كله. التصريف ومفردات اللغة {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} {السَّمَاءِ}: كل ما علاك فأظلك، والطارق: هو الذي يجيئك ليلًا، ومنه قول امرىء القيس: وَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِيْ تَمَائِمَ مُحْوِلِ وقوله أيضًا: أَلَمْ تَرَيَانِيْ كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدَتُ بِهَا طِيْبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ وفي "المصباح": وطرقت الباب طرقًا، من باب قتل، وطرقت الحديدة: مددتها، وطرَّقتها بالتشديد: مبالغة، وطرق النجم طروقًا - من باب قعد -: إذا طلع،

وكل ما أتى ليلًا فقد طرق، وهو طارق، والمطرقة بالكسر ما يطرق به الحديد، أما ابن جني: فقد منع أن يأتي الطروق نهارًا، قال: وأما قول العامة: نعوذ بالله من طوارق الليل .. فغلط, لأن الطروق لا يكون إلا بالليل، والصواب أن يقال: نعوذ بالله من طوارق الليل، وجوارح النهار؛ لأن العرب تقول: طرقه إذا أتاه ليلًا، وجرحه: إذا أتاه نهارًا. وفي "الصحاح": والطارق: النجم الذي يقال له: كوكب الصبح، وهو الثريا. {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} هو الذي يثقب ضوءه الظلام، كأن الظلام جلد أسود، والنجم يثقبه، ومعنى الثاقب: المضيء لثقبه الظلام. قال أبو عبيدة: العرب تقول: أثقب نارك؛ أي: أضئها، وقيل: الثاقب: العالي، يقال: ثقب الطائر إذا علا في الهواء، وأسف: إذا دنا من الأرض، ودوم: إذا سكن جناحيه ليستقل. وعبارة "الأساس" و"اللسان": ثقب الشيء بالمثقب، وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل، وثقب اللآلي والدر ودر مثقب، وعنده در عذارى لم يثقبن، ومن المجاز: كوكب ثاقب ودري شديد الإضاءة والتلألؤ، كأنه يثقب بالظلمة، فينفذ فيها ويدرؤها، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلًا نظارًا، وثقب الطائر: إذا حلق كأنه يثقب السكاك، وثقب الشيب في اللحية: أخذ في نواصيها، وباب الجميع: دخل، ويقال: ثقب الشيء يثقبه ثقبًا وثقوبًا: جعل فيه منفذًا ومسلكًا، ونفذ فيه، وثقبت النار ثقوبًا: إذ اتقدت واشتعلت، وثقب النجم: أضاء، وشهاب ثاقب: مضيء. {مِنْ مَاءٍ} وأصل ماء: موه، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، فصار: ماهًا، فاجتمع حرفان ضعيفان الألف والهاء، فقلبت الهاء همزة ليجاور الضعيف القوي، فصار ماء. {دَافِقٍ}؛ أي: مدفوق من الدفق، وهو الصب؛ أي: مصبوب في الرحم، يقال: دفق يدفق دفقًا - من باب نصر -: إذا صب صبًا فيه سيلان بسرعة؛ أي: منصب بدفع وسيلان وسرعة، ولم يقل: من ماءين، مع أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة؛ لامتزاجهما في الرحم، فصار كالماء الواحد، واتحادهما حين ابتدىء في خلقه. اهـ "خطيب". ودافق: من صيغ النسب، كلابن وتامر؛ أي: ذي دفق وصب، وهو صادق

على الفاعل والمفعول، أو مجاز في الإسناد، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغةً، أو استعارة مكنية، أو تخييلية، أو مصرحة بجعله دافقًا؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضًا؛ أي: يدفعه، كما أشار إليه ابن عطية". اهـ "شهاب". {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} والصلب: الشديد من كل شيء، يقال: هو صلب في دينه، وراع صلب العصا: إذا كان يعنف الإبل، وهو عظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل إلى العجب، أو أسفل الظهر, ويجمع على أصلاب وأصلب وصلبة، وهو المراد هنا، ويقال: هو من صلب فلان، أي: من نسله وولده، وفيه أربع لغات: بضم الصاد، وسكون اللام، والصلب بفتحتين، والصلب بضمتين، وقد قرىء بها جميعًا، وثمة لغة رابعة وهي الصالب، بوزن: قالب. وقوله: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ}؛ أي: من بين أجزائه, لأن بين إنما تضاف لمتعدد، وفي "القرطبي" ما يقتضي أن لفظ {بين} زائدة، ونصه: والمعنى يخرج من الصلب والترائب، وحكى القرطبي: أن ماء الرجل ينزل من الدماغ إلى الصلب، ثم يجتمع في الأنثيين، وهذا لا يعارضه قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}؛ لأنه ينزل من الدماغ إلى الصلب، ثم يجتمع في الأنثيين. وقال ابن عادل: جاء في الحديث: "إن الولد يخلق من ماء الرجل، يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة، يخرج من ترائبها اللحم والدم". {وَالتَّرَائِبِ} الترائب: عظام الصدر حيث تكون القلادة، وفي "المختار" والترائب: جمع تريبة، كصحيفة وصحائف. قال امرؤ القيس: مُهَفْهَفَةٍ بَيْضَاءً غَيْرِ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُوْلَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ يعني: المرأة، يقال في مفرده: تريب بغير هاء، ومنه قول المثقب العبدي: وَمِنْ ذَهبٍ يَلُوْحُ عَلَى تَرِيْبٍ ... كَلَوْن الْعَاجِ لَيْس بِذِيْ غُضُوْنِ والترائب: جمع تريبة بوزن فعيلة، والهمزة فيه مبدلة من ياء فعيلة لوقوعها حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مفرد مؤنث. {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} أصل {تُبْلَى}: تبلي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.

{السَّرَائِرُ} جمع: سريرة بمعنى: السر، وهي التي تكتم وتخفى، والهمزة في السرائر مبدلة من ياء فعيلة؛ لوقوعها حرف مد زائدًا ثالثًا في اسم مفرد مؤنث، وفي "المختار": السر الذي يكتم، وجمعه: أسرار، والسريرة مثله، والجمع: سرائر، والسرائر: كل ما أسر في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفي من الأعمال، وبلاؤها: تعرفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث، وعن الحسن: أنه سمع رجلًا ينشد: سَيَبْقَى لَهَا فِيْ مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ... سَرِيْرَةُ وِدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} الرجع: المطر؛ لأنه يعود كل حين، كما مر بسط البحث فيه، فالسحاب تحمل الماء من الأمطار، ثم ترجعه إلى الأرض، فالرجع في أصله: إعادة الشيء إلى حال أو مكان فيه أولًا، والمرة منه: الرجعة، كرجعة المرأة إلى النكاح. {ذَاتِ الصَّدْعِ} والصدع: الشق, لأن النبات يصدع الأرض؛ أي: يشقها عند الخروج، فالصدع: الشق الناشىء عن تفرق بعض أجزاء الأرض، وانفصال بعضها من بعض بالنبات. {يَكِيدُونَ} أصله: يكيدون بوزن: يفعلون، وأصل {أكيد} أكيد بوزن أفعل، نقلت حركة الياء في الموضعين إلى الكاف، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد. {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل، ومنه: فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجازم، ويقال: هذا قول فصل؛ أي: قاطع للشر والنزاع. اهـ "قرطبي". {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}؛ أي: وما القرآن بالهزل، بل هو جد كله، فيجب أن يكون مهيبًا في الصدور، معظمًا في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل، أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أن جبار السموات والأرض يخاطبه، فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده، حتى إن لم يستفزه الفزع والخوف، ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادًا غير هازل، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله: {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)}. اهـ "خطيب".

وقوله أيضًا: {يَكِيدُونَ كَيْدًا}؛ أي: يعملون المكايد في إبطال أمره، وإطفاء نوره. {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}؛ أي: أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره، وانتشار نوره. {رُوَيْدًا} مصغر رود: بوزن: عود الذي هو مصدر سماعي لأرود الرباعي، أو مصغر إرواد الذي هو مصدر قياسي لأرود الرباعي بحذف زوائده، و"المختار": فلان يمشي على رود بوزن عود، أي: على مهل، وتصغيره: رويد، يقال: أرود في السير إروادًا ومروادًا بضم الميم وفتحها؛ أي: رفق، وتقول: رويدك عَمْرًا؛ أي: أمهله، وهو تصغير ترخيم من إرواد مصدر: أرود يرود. اهـ. ورود بوزن: عود مصدر أرود مصدرًا سماعيًا، أو اسم مصدر له. اهـ. وفي "السمين": واعلم أن رويدًا يستعمل مصدرًا بدلًا من اللفظ بفعله، فيضاف تارة كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، ولا يضاف أخرى نحو: رويدًا زيدًا، ويقع حالًا نحو: ساروا رويدًا؛ أي: متمهلين، ونعتًا لمصدر محذوف، نحو: ساروا رويدًا؛ أي: سيرًا رويدًا. والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: مجاز على مجاز في قوله: {وَالطَّارِقِ}؛ لأن الطارق حقيقة فيمن يأتي ليلًا ويطرق الباب، ثم استعمل في كل ما ظهر بالليل كائنًا ما كان، ثم استعمل في الكوكب البادي في الليل. ومنها: الاستفهام للتفخيم والتعظيم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)}، ثم تفسيره بما يخصه تفخيمًا لشأنه، حيث قال: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}؛ حيث أسند إلى الماء ما لصاحبه من الدفع مبالغة، وهو من استعمال فاعل بمعنى مفعول، كسر كاتم، وعيشة راضية؛ أي: سر مكتوم، وعيشة مرضية، أو فيه استعارة تصريحية، حيث شبه هذا الماء لتتابع قطراته حتى كأنه يدفق ويدفع بعضه بعضًا، بجامع تتابع السيلان في كل،

فاستعار له اسمه على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ومنها: الطباق في قوله: {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}، فقد طابق بين عظم الظهر وعظم الصدر، وأفرد الأول، وجمع الآخر؛ لأن صدر المرأة تريبتها، فيقال للمرأة: ترائب يعني بها: التريبة، وما حواليها وما أحاط بها، أو يقال: إنه تعالى أراد: يخرج من بين الأصلاب والترائب، فاكتفى بالواحد عن الجماعة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}؛ ولم يقل: والأرضين. ومنها: الفصل في قوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}، وسياق الكلام يقتضي الوصل؛ لأنه قصد إشراكهما في الحكم، واتفقا فيه، وإنما عدل عنه تفخيمًا لشأنه، فأقسم أولًا بما يشترك فيه هو وغيره، وهو الطارق، ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيمًا لشأنه ثانيًا، ثم فسره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام. ومنها: فن المماثلة في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}، وهو تماثل ألفاظ الكلام كلها أو بعضها في الزينة دون التقفية، فالطارق والثاقب وحافظ متماثلة في الزينة دون التقفية، وأورد الشيخ عبد الغني النابلسي للقاضي يحيى بن أكثم بيتين في المماثلة: إِنَّمَا الدُّنْيَا طَعَامْ ... وَمُدَامٌ وَغُلَامْ فَإِذَا فَاتَكَ هَذَا ... فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامْ ومنها: الكناية اللطيفة في قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} كنى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأة، وهذا من لطيف الكنايات. ومنها: الطباق بين {السَّمَاءِ} و {الْأَرْضِ}، وبين {فَصْلٌ} و {الْهَزْلِ}. ومنها: تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: {عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} للاهتمام به من حيث إن الكلام فيه بخصوصه، فهو لا ينافي قادريته على غيره. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {يَكِيدُونَ كَيْدًا}. ومنها: فن المشاكلة في قوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} حيث سمى الاستدراج والانتقام منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار كيدًا على طريقة المشاكلة

لوقوعه في مقابلة كسبهم جزاءً له، وإلا فالكيد الذي هو بمعنى المكر والاحتيال لا يجوز إسناده إليه تعالى مرادًا به معناه الحقيقي؛ لأنه من صفات النقص والعجز، وتسمية جزاء الشيء باسم ذلك الشيء على سبيل المشاكلة شائع كثير، كما مر. ومنها: الإطناب بتكرير الفعل مبالغة في الوعيد في قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. * * *

مقاصد هذه السورة اشتملت على المقاصد التالية: 1 - بيان كون حافظٍ على كل نفس. 2 - إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق كرة أخرى. 3 - بيان أن القرآن منزل من عند الله تعالى فاصل بين الحق والباطل ليس بهزل. 4 - بيان كيدهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجزاء الله تعالى لهم على كيدهم. 5 - أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإمهال لهم حتى يحل بهم العذاب (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة والطارق بعون خالق النجوم والبوارق عصر يوم الجمعة قبيل الغروب، اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: 20/ 9/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين آمين.

سورة الأعلى

سورة الأعلى سورة الأعلى، وتسمى سورة: سبح، مكية في قول الجمهور، نزلت بعد سورة التكوير، وقال الضحاك: هي مدنية، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة سبح اسم ربك الأعلى بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله، وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرآننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد جاء فيما جاء، حتى قرأت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} في سور مثلها. وآيُها: تسع عشرة آية. وكلماتها: اثنتان وسبعون كلمة. وحروفها: مئتان وتسعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه ذكر في تلك خلق الإنسان، وأشار إلى خلق النبات بقوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)}، وذكر هنا خلق الإنسان في قوله: {خَلَقَ فَسَوَّى}، وخلق النبات في قوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)}، وقصة النبات هنا أوضح وأكثر بسطًا، وقصة خلق الإنسان هناك أكثر تفصيلًا. وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما قبلها: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)}، كأن قائلًا قال: من خلقه على هذا المثال؟ فقيل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، وأيضًا لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)} .. قيل: هو {سَنُقْرِئُكَ}؛ أي: ذلك القول الفصل. انتهى. فضلها: ومما ورد في فضل هذه السورة: ما أخرجه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}،

وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعًا، وفي لفظ: وربما اجتمعا في يوم واحد، فقرأهما. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة. ومما ورد في فضلها أيضًا: ما أخرجه أحمد والبزار وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}. ومما ورد أيضًا: ما أخرجه مسلم وغيره عن جابر بن سمرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}. ومنه أيضًا: ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. وأخرج أبو داود والترمذي - وقال: حديث حسن غريب - والنسائي وابن ماجه والحاكم - وصححه - والبيهقي عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، والمعوذتين. وبحديث عائشة هذا عمل الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، وأما عند أبي حنيفة وأحمد .. فالمستحب في الثالثة الإخلاص فقط، عملًا بحديث أبي بن كعب السابق. وفي "الصحيحين": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "هلا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ". وسميت سورة الأعلى: لذكره فيها. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الأعلى كلها محكم، فيها ناسخ، وليس فيها منسوخ، فالناسخ قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها قريبًا، ثم إنه سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به، واسم الله ما يعرف به، والله إنما يعرف بصفاته من كونه عالمًا قادرًا حكيمًا خالقًا، فالله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم؛ أي: تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق من شبه المخلوقات، أو ظهوره في واحد منها بعينه، أو اتخاذه شريكًا أو ولدًا له، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق المخلوقات، وهو الذي أوجدها وسواها، وأنه هو الذي أخرج المرعى، ثم جعله جافًا حتى لفظه السيل بجانب الوادي. قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر رسوله بتسبيح اسمه، وعلم أمته المأمورة بأمر الله له كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا, ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على حفظه .. وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته، وأحكام شرائعه، كما وعده بأن ما يقرئه إياه لا ينساه. قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الفضل العظيم، وهو حفظ القرآن، وعدم نسيانه .. أمره بتذكير عباده بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وتنبيههم من غفلاتهم،

[1]

وتوجيههم إلى ما فيه الخير لهم، وبيَّن أن الذكرى لا تنجع إلا في القلوب الخاشعة التي تخشى الله، وتخاف عقابه، أما القلوب الجاحدة المعاندة .. فلا تجدي فيها الذكرى شيئًا، فهون على نفسك، ولا يحزننك جحدهم وعنادهم، كما أشار إلى ذلك في آية أخرى فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}، ثم ذكر أن أولئك الجحدة العصاة يكونون في قعر جهنم، لا هم يموتون، ولا يسعدون بحياة طيبة. قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ...} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر في الدلائل التي تدل على وجود الله تعالى، ووحدانيته، وإرسال الرسل، وعلى البعث والحساب .. أتبعه بالوعد لمن زكى نفسه، وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد بالفوز بالفلاح، والظفر بالسعادة في دنياه وآخرته، ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حب العاجلة، وتفضيلها على الآجلة، ولو فكروا قليلًا .. لاستبان لهم أن الخير في تفضيل الثانية على الأولى، ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية في كل الأديان واحدة، فما في القرآن هو ما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام. التفسير وأوجه القراءة 1 - {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}؛ أي: قل يا محمد أنت وأمتك: سبحان ربي الأعلى إذا أردتم تسبيحه تعالى، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، يدل عليه ما روي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، فقال: "سبحان ربي الأعلى"، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي، وقيل: معناه: نزه ربك الأعلى عن كل ما لا يليق به من صفات النقص والحدوث، وقال السدي: معناه: عظم ربك الأعلى بوصفه بالكمالات، وتنزيهه من النقائص، فعلى هذا يكون لفظ الاسم مقحمًا لقصد التعظيم، كما في قول لبيد: إِلَى الْحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُما ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ والمعنى: سبح اسم ربك الأعلى عما يقوله الظالمون من اتخاذ صاحبة وولد وشريك. وقال ابن جرير: المعنى: نزه اسم ربك عن أن يسمى به أحد سواه، فعلى هذا لا يكون لفظ {اسْمَ} مقحمًا، وقيل: المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه عن

أن تذكره إلا وأنت له خاشع معظم، ولذكره محترم. وقال الحسن: معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}: صلِّ له، وقيل: المعنى: صل بأسماء الله تعالى، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: المعنى: ارفع صوتك بذكر ربك الأعلى، ومنه قول جرير: قَبَّحَ الإِلَهُ وُجُوْهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا ... سَبَّحَ الْحَجِيْجُ وَكَبَّرُوْا تَكْبِيْرَا وقال ابن عباس: سبح؛ أي: صلِّ بأمر ربك الأعلى. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} .. قال: "اجعلوها في سجودكم". أخرجه أبو داوود. وكانوا يقولون قبل ذلك في الركوع: اللهم لك ركعت. وفي السجود: اللهم لك سجدت. وفي هذا الحديث دلالة على أن لفظ الاسم مقحم، قاله سعدي المفتي، وعلى أن الامتثال بالأمر يحصل بأن يقول: سبحان ربي العظيم أو الأعلى، بدون قراءة النظم القرآني، ولهذا قرأ علي وابن عمر رضي الله عنهم: سبحان ربي الأعلى، الذي خلق فسوى، فإن قوله: {سَبِّحِ} أمر بالتسبيح، فلا بد أن يذكر ذلك التسبيح، وما هو إلا قول: سبحان ربي الأعلى. وقيل معنى الآية (¬1): نزه اسم ربك عن إطلاقه على غيره تعالى بوجه يشعر بتشاركهما فيه، كان يسمى الصنم والوثن بالرب والإله، ومنه: تسمية العرب مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة، وكذا نزه اسمه عن ذكره، لا على وجه الإعظام والإجلال، ويدخل فيه أن يذكر اسمه عند التثاؤب، وحال الغائط، وكذا بالغفلة، وعدم الوقوف على معناه وحقيقته، وكذا بالغلط في لفظه أو في تركيبه، ومنه إكثار القسم بذكر اسمه من غير مبالاة. وقال جرير في الآية: ارفع صوتك بذكر اسم ربك الأعلى، فإن ذكر المدلول إنما هو بذكر الاسم الدال عليه، وقال بعضهم: المعنى: نزه مسمى ربك؛ أي: ذاته عما يدخل في الوهم والخيال؛ لأن الاسم والمسمى هنا واحد، فظهر من هذه التقادير: أن الاسم غير مقحم، وهو الظاهر. و {الْأَعْلَى} صفة للرب، وقيل: للاسم، والأول أظهر لما في الوجه الثاني من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

التوجيه الآتي في مبحث الإعراب، وهو من العلو الذي هو القهر والغلبة، لا العلو في المكان. اهـ "عمادي"، ومعنى علوه تعالى: أن يعلو عن أن يحيط به وصف الواصفين، ومعنى أعلويته: أن له الزيادة المطلقة في العلو، قال بعضهم: ليس علوه علو جهة، ولا كبره كبر جثة سبحانه عن ذلك، بل علو استحقاق لنعوت الجلال والكبرياء، فمن عرف علوه وكبرياءه .. تواضع وتذلل بين يديه. وعبارة "الخطيب" هنا: أي: نزه ربك عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، أما في ذاته .. فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته .. فأن تعتقد أنها ليست محدثة، ولا متناهية ولا ناقصة، وأما في أفعاله .. فأن تعتقد أنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه .. فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصًا بوجه من الوجوه، سواء ورد الإذن فيها، أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه .. فأن تعلم أنه ما كلَّفنا لنفع يعود إليه، بل لمحض المالكية، وحكمته البالغة. انتهى. والخلاصة: أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له، ولا تطلق اسمه على غيره زاعمًا أنه يشاركه في صفاته. 2 - ثم وصف ذلك الرب الأعلى بأوصاف، فقال: 1 - {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)} صفة أخرى للرب على الوجه الأول الأظهر، ومنصوب على المدح على الثاني؛ لئلا يلزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره، إذ يصير التركيب مثل قولك: جاءني غلام هند العاقل الحسنة، وهو ممتنع؛ أي: أنشأ وأوجد كل شيء، فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله، ويتسنى معاشه. والمعنى: أي الذي خلق الكائنات جميعًا، فسوى خلقها، وجعلها متسقة محكمة، ولم يأتِ بها متفاوتة غير ملتئمة دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبر، أحسن تدبيرها فأحكم أسرها. وعبارة الخازن: أي الذي خلق كل ذي روح، فسوى اليدين والرجلين والعينين، وقيل: خلق الإنسان مستويًا معتدل القامة. اهـ.

[3]

2 - 3 {وَالَّذِي قَدَّرَ} معطوف على الموصول الأول؛ أي: قدر أجناس الأشياء وأنواعها، وأفرادها ومقاديرها، وصفاتها وأفعالها وآجالها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"؛ أي: جعل أجناس الأشياء، وكذا أشخاص كل نوع بمقدار معلوم، وكذا جعل مقدار كل شخص في جثته وأوضاعه وسائر صفاته، كالحسن والقبح، والسعادة والشقاوة، والهداية والضلالة، والألوان والأشكال، والطعوم والروائح، والأرزاق والآجال، وغير ذلك بمقدار معلوم، كما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}. {فَهَدَى}؛ أي: فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر منه، وينبغي له طبعًا أو اختيارًا، ويسره لما خلق له بخلقه الميول، والإلهامات، ونصب الدلائل، وإنزال الآيات، ولو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات .. لرأيت في كل منها ما يحار فيه العقول. وقرأ الجمهور: {قَدَّرَ} بتشديد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء، وقال الزمخشري: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به. انتهى. وقرأ الكسائي: {قدر} مخفف الدال من القدرة، أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات، قال الواحدي (¬1): قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها، وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة. وروي عنه أيضًا: أنه قال في معنى الآية: قدر السعادة والشقاوة، وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها، وقيل: قدر أرزاقهم وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسانًا، ولمراعيهم إن كانوا وحشًا، وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له، وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم، وقال الفراء: أي: {قَدَّرَ فَهَدَى} وأضل، فاكتفى بأحدهما، وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا، والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر فهدى إلا بدليل يدل عليه. ومع عدم ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[4]

الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين؛ إما على البدل، أو الشمول. والمعنى (¬1): أي والذي قدر كل واحد من الكائنات على ما يستحقه، ويكون به استقرار شأنه، فقدر السموات وما فيها من الكواكب، وقدر الأرض وما فيها من المعادن، وما يظهر على وجهها من النبات، وما يعيش عليها من الحيوان، ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها، وما هو أمس بحاجتها بما خلق فيها من الميول والإلهامات لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات. والخلاصة (¬2): قدر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدى كل واح منها إلى ما يصدر عنه، وينبغي له، ويسره لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه. 3 - 4 {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} معطوف على الموصول الأول أيضًا؛ أي: أنبت بكمال قدرته ما ترعاه الدواب غضًا طريًا من بين أخضر وأصفر، وأحمر وأبيض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى: الكلأ الأخضر. 5 - {فَجَعَلَهُ}؛ أي (¬3): فجعل ذلك المرعى والعشب بعد أن كان أخضر غضًا طريًا {غُثَاءً}: مفعول ثان لجعل؛ أي: هشيمًا جافًا كالغثاء والقمام الذي يحمله السيل ويكون فوقه {أَحْوَى} صفة لـ {غُثَاءً}؛ أي: أسود بعد اخضراره؛ لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن، فصار أحوى. وفي "الصحاح": الرعي - بالكسر -: الكلأ، وبالفتح: المصدر، والمرعى: الرعي؛ أي: الكلأ، أو المصدر؛ أي: الرعي بالفتح. اهـ. والغثاء: الدرين - وهو كأمير -: يبيس كل حطام حمض أو شجر أو بقل، قال الجوهري: الغثاء - بالضم والمد -: ما يحمل السيل من القماش، والقمش: جمع الشيء من هاهنا وهاهنا، وذلك الشيء قماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس: قماش، والأحوى: مأخوذ من الحوة، وهي سواد يضرب إلى الخضرة، وفي "الصحاح": الحوة: حمرة الشفة، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسودَّ، سواء كان جفافه واسوداده بتأثير حرارة الشمس أو برودة الهواء، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[6]

والفاء التعقيبية إشارة إلى قصر مدة الخضرة، ورمز إلى مدة العمر، وسرعة زوال الدنيا ونعيمها، وانتصاب {غُثَاءً} على أنه مفعول ثان، أو على الحال، وأحوى: صفة له، وقال الكسائي: هو حال من المرعى؛ أي: أخرج المرعى حال كونه أحوى؛ أي: أسود من شدة خضرته ونضارته لكثرة ريه. وحسن تأخير {أَحْوَى} لأجل الفواصل. ومعنى الآية: أي والذي أنبت النبات جميعه لترعاه الدواب والنعم، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحية {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)}؛ أي: فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيمًا باليًا كالغثاء يميل لونه إلى السواد، فهو سبحانه القادر على إنبات العشب، وعلى تبديل حاله، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة. وقصارى ما سلف: أنا مأمورون أن نعرف الله جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره في خلقه، وأن لا ندخل في هذه الصفات ما لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء، أو وصفوه بما به يشبه خلقه. وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون الذات ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها، أما الذات .. فهي أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها. 6 - {سَنُقْرِئُكَ}؛ أي: سنجعلك قارئًا بأن نلهمك القراءة {فَلَا تَنْسَى} ما تقرؤه، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان هدايته تعالى الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إثر بيان هدايته تعالى العامة لكافة مخلوقاته، وهي هدايته - صلى الله عليه وسلم - لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين، وتوفيقه - صلى الله عليه وسلم - لهداية الناس أجمعين. قال الراغب في "المفردات": وهذا إخبار وضمان من الله تعالى أن يجعله بحيث لا ينسى ما سمعه من الحق. انتهى. والسين؛ إما للتأكيد، وإما لأن المراد إقراء ما أوحى إليه حينئذٍ، وما سيوحى إليه بعد ذلك، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

يقال: قرأ القرآن، فهو قارىء، وأقرأه غيره، فهو مقرىء؛ أي: علمه إياه، فهو معلم. والمعنى: سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل، فلا تنسى أصلًا من قوة الحفظ والإتقان. وفي "كشف الأسرار": سنجمع حفظ القرآن في قلبك، وقراءته في لسانك، حتى لا تنسى، كقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)}. قال مجاهد والكلبي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه جبريل بالوحي .. لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}. 7 - وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء مفرغ من أعم المفاعيل؛ أي: لا تنسى مما تقرأه شيئًا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه أبدًا، بأن نسخت تلاوته، فإن النسخ نوع من الإنساء، وطريق من طرقه، فكأنه بالنسخ محي من الصحف والصدور، فالمراد بالنسيان: هو النسيان الكلي الدائم، بحيث لا يعقبه التذكر بعده، ويجوز أن يراد به النسيان المتعارف الذي يعقبه التذكر بعده، وهو النسيان في الجملة على القلة والندرة؛ أي: فلا تنسى إلا ما شاء الله نسيانه، ثم لا يبقى المنسي منسيًا دائمًا، بل يعقبه التذكر كما هو المفهوم من المقام، ويؤيد هذا المعنى: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبي رضي الله عنه أنها نسخت، فسأله فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نسيتها". وروي: أن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان يقرأ القرآن في الليل، فقال: - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أذكرني آية أنسيتها"، ومن هذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "اللهم ارحمني بالقرآن العظيم، واجعله لي إمامًا ونورًا وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجة لي يا رب العالمين". وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما أنا بشر أُنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، ودل الكل على جواز جريان النسيان عليه، وإن لم يكن سهوه ونسيانه من قبيل سهو الأمة ونسيانهم، فإنه أهل الحضور الدائم.

وقيل (¬1): معنى {فَلَا تَنْسَى}: فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه، وقيل: المعنى؛ إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله، وقيل: {لَا} في قوله: {فَلَا تَنْسَى} للنهي، والألف مزيدة لرعاية الفاصلة، كما في قوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} يعني: فلا تغفل قراءته وتذكره، وقال الفراء: وهو سبحانه لم يشأ أن ينسي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وهو نظير قوله: تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} إلا أنَّ القصد من هذا الاستثناء بيان أنه لو أراد أن يصيره ناسيًا .. لقدر على ذلك، كما جاء في قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وإنا لنقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وقصارى ذلك: أن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه، وأن عدم النسيان فضل عن لله تعالى إحسان، لا من قوته. وقال أبو حيان: ومناسبة قوله: {سَنُقْرِئُكَ} لما قبله: أنه لما أمر تعالى بالتسبيح، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى .. أزال عنه ذلك، وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى، واستثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه. والمعنى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}؛ أي (¬2)؛ سننزل عليد كتابًا تقرأه، ولا تنسى منه شيئًا بعد نزوله عليك، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه، فوعد بأنه لا ينساه. وخلاصة ذلك: أنا سنشرح صدرك ونقوي ذاكرتك حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة، ثم لا تنساه بعدها أبدًا. ولما كان هذا الوعد على سبيلِ التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره .. جاء بالاستثناء فقال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}؛ أي: فإن أراد أن ينسيك شيئًا لم يعجزه ذلك. ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}، والجملة تعليل لما قبلها (¬3)؛ أي: يعلم ما ظهر وما بطن، والإعلان والإسرار، وظاهره ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[8]

العموم، فيندرج تحته ما قيل: إن الجهر ما حفظه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وما يخفى هو ما نسخ من صدره، ويدخل تحته أيضًا ما قيل: من أن الجهر هو إعلان الصدقة، وما يخفى هو إخفاؤها، ويدخل تحته أيضًا ما قيل: إن الجهر جهره - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، مع قراءة جبريل؛ مخافة أن يتفلت عليه، وما يخفى ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر، وعلى هذا يكون (¬1) المعنى: أي: إنه تعالى عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام، وعالم بالسر الذي في قلبك، وهو أنك تخاف النسيان، فلا تخف، فأنا أكفيك ما تخافه. و {مَا} في قوله: {وَمَا يَخْفَى}. موصولة ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يلزم خلوُّ الفعل من فاعل ولولا ذلك لكان كونها مصدرية أحسن لعطف مصدر مؤول على مثله صريح .. إلخ، كما في "السمين"، وكلٌّ من الجهر والإخفاء شامل لما كان من قبيل القول والعمل، والإخفاء لما في الضمائر من النسيان. والمعنى: أي يعلم سبحانه ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها ما أوحي إليك، فينسي ما يشاء إنساءه، ويبقي محفوظًا ما يشاء إبقاءه لما نيط بكل منهما من مصالح دينكم. والحاصل (¬2): أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك، وأنه سيجعلك حافظًا لما تقرأ فلا تنساه، عالم بالجهر والسر، فلا يفوته شيء مما في نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافي سرك وجهرك، ففي مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك، وإن كان من خفيات روحك، ولو شاء لسلبه، ولن تستطيع دفعه؛ لأنه ليس في قدرتك أن تخفي عنه شيئًا. 8 - ولما كان في الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله .. أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة في النفوس فقال: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)} معطوف على {سَنُقْرِئُكَ}، وما بينهما اعتراض؛ أي: ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها، واليسرى (¬3): فعلى من اليسر: وهو السهولة، وضمن {نُيَسِّرُكَ} معنى التوفيق فعداه بدون اللام، وإلا فالعبارة المعتادة أن يقال: جعل الفعل الفلاني ميسرًا لفلان، لا ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[9]

أن يقال: جعل فلان ميسرًا للفعل الفلاني، كما في الآية، فإنه قيل: ونيسرك لليسرى، لا ونيسر اليسرى لك، فقد جعلت الآية الإنسان هو الميسر للفعل، وليس الفعل هو الميسر للإنسان من قبل أن الفعل لا يحصل إلا إذا وجدت العزيمة الصادقة، والإرادة النافذة لإيجاده مع التوفيق لسلوك أقوم الطرق التي توصل إليه، كما جاء في الحديث: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وأتى بنون العظمة لتكون عظمة المعطي دليلًا على عظمة العطاء. وفي "الإرشاد": تعليق التيسير به - صلى الله عليه وسلم - مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل، كما في قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} للإيذان بقوة تمكنه - صلى الله عليه وسلم - من اليسرى، والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأنه - صلى الله عليه وسلم - جبل عليها، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". انتهى. والمعنى (¬1): ونوفقك توفيقًا مستمرًا للطريقة اليسرى؛ أي: التي هي أيسر وأسهل في كل باب من أبواب الدين والدنيا علمًا وتعليمًا واهتداءً وهداية، فيندرج فيه تيسير طريق تلقي الوحي، والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة، والنواميس الإلهية، مما يتعلق بتكميل نفسه - صلى الله عليه وسلم -، وتكميل غيره، كما يفصح عنه 9 - {الفاء} في قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}؛ أي: فذكر الناس حسبما يسرناك له بما يوحى إليك، واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية، كما كنت تفعله إن نفع التذكير والعظة والنصيحة، وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالما كان يذكرهم، ويستفرغ فيه جهده حرصًا على إيمانهم، وكان لا يزيد ذلك بعضهم إلا كفرًا وعنادًا، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بأن يخص التذكير بمدار النفع في الجملة، بأن يكون من يذكره كلًّا أو بعضًا ممن يرجى منه التذكر، ولا يتعب نفسه في تذكير من لا يزيده التذكير إلا عتوًا ونفورًا من المطبوع على قلوبهم، كما في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}، فحرف الشك راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا إلى الله تعالى. وخلاصة المعنى (¬2): أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية، فإن أصر المعاندون على عنادهم، ولم يزدهم وعظك إلا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

تماديًا في الجحود والإنكار .. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات حرصًا على إيمانهم، وحزنًا على بقائهم على كفرهم، وادع من تعلم أنه يجيبك ولا يجبهك ولا يؤذيك. قال الواحدي (¬1): المعنى: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مبلغًا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال، نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية للاكتفاء، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}؛ أي: والبرد، وقال الجرجاني: التذكير واجب، وإن لم ينفع. والمعنى: إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع. قال أبو حيان: والظاهر (¬2) أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذا الشرط إنما يجيء به توبيخًا لقريش؛ أي: إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة، ومعناه: استبعاد انتفاعهم بالذكرى، فهو كما قال الشاعر: لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِيْ كما تقول: قل لفلان وأعِدْ له إن سمعك، فقوله: إن سمعك، إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع. وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني: معناه: فذكر وإن لم ينفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقيل: {إن} بمعنى: إذ، كقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقيل: بمعنى: قد، ذكره ابن خالويه، وهو بعيد جدًّا، وعبارة الرازي: واعلم (¬3) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثًا إلى الكل، فيجب عليه أن يذكِّرهم سواء نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم، والجواب عن هذا الشرط: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الحالة الأخرى، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، وأجيب عنه أيضًا: بأن التذكير العام واجب في أول الأمر، وأما التكرير .. فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط المذكور، والتذكير المأمور به حينئذٍ هل هو محصور في عشر مرات، أو غير محصور؟ والجواب: أن الضابط فيه ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) التفسير الكبير للرازي.

[10]

العرف انتهى. 10 - ثم بين سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه، فقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)}؛ أي: سيتذكر بتذكيرك مَنْ من شأنه أن يخشى الله حق خشيته، أو من يخشى الله في الجملة، فيزداد ذلك بالتذكير، فيتفكر في أمر ما تذكر به، فيقف على حقيقته، فيؤمن به؛ أي: سيتعظ بوعظك من يخشى الله، فيزداد بالتذكير خشيةً وصلاحًا، وفي "التفسير الكبير" للرازي: واعلم (¬1) أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحة المعاد ومنهم من جوز وجوده، ولكنه غير قاطع فيه بالنفي ولا بالإثبات، ومنهم من أصر على إنكاره؛ أي: المعاد، وقطع بأنه لا يكون، فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما، وأما القسم الثالث .. فلا خشية له ولا خوف، فلما قال الله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} بيَّن أن الذي تنفعه الذكرى {مَنْ يَخْشَى}، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنيًا على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب لا يطلع عليها إلا الله .. وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلًا للمقصود، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير، والسين في {سَيَذَّكَّرُ} بمعنى: سوف، وسوف من الله واجب، كقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}. اهـ "رازي". والمعنى (¬2): أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله تعالى، ويخاف عقابه؛ لأنه هو الذي يتأمل في كل ما تذكره له، فيتبين له وجه الصواب، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعول عليه. وفي التعبير بقوله: {سَيَذَّكَّرُ} إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدًا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره تقليد الآباء والأجداد، فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجم خطة آبائهم من قبل، 11 - ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين، فقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا}؛ أي: يتجنب الذكرى ويبتعد عنها، ولا يسمعها سماع قبول {الْأَشْقَى}؛ أي: الزائد في الشقاوة من الكفرة لإصراره على الكفر، وانهماكه في المعاصي، ولتوغله في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل: الوليد بن المغيرة، وأبي جهل، وغيرهما، أو المراد بالأشقى: الكافر مطلقًا؛ لأنه ¬

_ (¬1) تفسير الرازي. (¬2) المراغي.

[12]

أشقى من الفاسق. روي: أن من يخشى هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، والأشقى: رجل من المنافقين، وذلك أن المنافق كانت له نخلة مائلة في دار رجل من الأنصار، فسقط ثمرها في دار الأنصاري، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى المنافق، ولم يكن يعلم بنفاقه، فسأله أن يعطي النخلة للأنصاري على أن يعطيه الله نخلة في الجنة، فقال: أبيع عاجلًا بآجل؟ لا أفعل، فأعطاه عثمان رضي الله عنه حائط نخل له، فنزلت الآية، كما في "التكملة". 12 - ثم وصف الأشقى فيقال: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)}؛ أي: يدخل النار العظيمة الفظيعة، وهي: الطبقة السفلى من طبقات النار؛ لأنها أشد حرًا من غيرها، فالكبرى: اسم تفضيل؛ لأنه تأنيث الأكبر، والمفضل هو ما في أسفل دركات جهنم من النار التي هي نصيب الكفار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، والمفضل عليه ما في الدركات التي فوقها، فإن لجهنم نيرانًا، ودركات متفاضلة، كما أن في الدنيا ذنوبًا ومعاصي متفاضلة، فكما أن الكفار أشقى العصاة، كذلك يصلون أعظم النيران، وقيل: الكبرى (¬1): نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، يعني أن المفضل: نار الآخرة، والمفضل عليه: نار الدنيا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وقد غمست في ماء البحر مرتين ليدنى منها، وينتفع بها, ولولا ذلك ما دنوتم منها". ويقال: إنها تتعوذ بالله من جهنم، وأن ترد إليها. يقول الفقير: الظاهر أن المراد بالنار الكبرى هو العذاب الأكبر في قوله تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)}، وهو عذاب الآخرة، وأما العذاب الأصغر .. فهو عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ فإنه يصغر بالنسبة إلى عذاب الآخرة. والمعنى: أي (¬2) ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصر على الجحود عنادًا واستكبارًا، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى في دركات جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}؛ إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوي بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب وأقبحها، ومن كان نقي الصحيفة ميمون النقيبة مطيعًا لأمره مؤديًا فرائضه منتهيًا عن الفحشاء والمنكر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[13]

وقصارى ما سلف: أن الناس بالنظر إلى دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقسام ثلاثة، كما مر عن الرازي: 1 - عارف صحتها، موقن بصدقها, لا يدور بخلده تردد ولا شك، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه. 2 - متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها، وهذا أدنى من سابقه. 3 - شقي معاند لا يلين قلبه للذكرى، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولًا، وهو شر الأقسام الثلاثة وأبعدها من الخير. 13 - ثم بيَّن عاقبة هذا الأشقى، ومآل أمره فقال: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ} هذا الأشقى {فِيهَا}؛ أي: في النار الكبرى, فيستريح مما هو فيه من العذاب {وَلَا يَحْيَى} حياة طيبة تنفعه كما يقال لمن ابتلي بالبلاء الشديد: لا هو حي ولا هو ميت، ومنه قول الشاعر: أَلَا مَا لِنَفْسٍ تَمُوْتُ فَيَنْقَضِيْ ... عَنَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ وأتى (¬1) بـ {ثُمَّ} المفيدة للتراخي، إيذانًا بتفاوت مراتب الشدة؛ لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي بالنار. والمعنى: أي ومن شقي هذا الشقاء، ولقى هذا العذاب بتلك النار يخلد فيها، ولا يقف عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، فلا هو يموت فيستريح، ولا يحيى الحياة الطيبة فيسعد بها، ونحو الآية قوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى. 14 - {قَدْ أَفْلَحَ}؛ أي: نجا من المكروه، وظفر بما يرجوه {مَنْ تَزَكَّى}؛ أي: تطهير من الكفر والمعاصي، بتذكره واتعاظه بالذكرى، أو تكثره من التقوى والخشية من الزكاء: وهو النماء، وأتى (¬2) بكلمة {قَدْ} لما أن عند الأخبار بسوء حال المتجنب عن الذكرى في الآخرة، يتوقع السامع الإخبار بحسن حال المتذكر فيها وينتظره. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[15]

15 - {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بقلبه ولسانه {فَصَلَّى}؛ أي: أقام الصلوات الخمس كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}؛ أي: كبر تكبيرة الإحرام فصلي، فالمراد بالذكر: تكبيرة الافتتاح أول الصلاة؛ لأنها لا تنعقد إلا بها، وهو قوله: الله أكبر، لكن لا يختص الذكر عند الحنفية بأن يقول: الله أكبر؛ لعموم الذكر، ودل العطف بالفاء التعقيبية على عدم دخول التكبير في الأركان، كما تقوله الحنفية؛ لأن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوفين، وهو حجة ضعيفة. قال الإِمام (¬1): مراتب أعمال المكلف ثلاث: فأولاها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، وهي المرادة بالتزكي. والثانية: استحضار معرفة الله بذاته وصفاته وأسمائه، وهي المرادة بالذكر؛ لأن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة. والثالثة: الاشتغال بالخدمة والطاعة، وهي المرادة بالصلاة؛ فإنها عبارة عن التواضع والخشوع، فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله، لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخشوع والخضوع. قال بعضهم: خلق الله وجهًا يصلح للسجدة، وعينًا تصلح للعبرة، وبدنًا يصلح للخدمة، وقلبًا يصلح للمعرفة، وسرًا يصلح للمحبة، فاذكروا نعمة الله عليكم حيث زين ألسنتكم بالشهادة، وقلوبكم بالمعرفة، وأبدانكم بالعبادة. والمعنى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)}؛ أي: قد (¬2) أدرك الفلاح، وظفر بالبغية من طهر نفسه، ونقاها من أوضار الكفر، وأزال عنها أدران الشرك والآثام، ومن هذا تعلم أن تزكية النفوس إنما يكون بالإيمان بالله، ونفي الشركاء، والتصديق بكل ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع صالح العمل، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}؛ أي: وأحضر في قلبه صفات ربه من الجلال والكمال، فخضع لجبروته وقهره، فإن المرء متى تذكر ربه العظيم .. وجل قلبه وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه، ورهبة لجلاله، كما قال في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. 16 - ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم، ولم يأخذوا من العبادة إلا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[17]

بصورها، وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب الله عباده به بقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ} وتختارون أيها الكفرة وأيها الناس مؤمنكم وكافركم {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} القريبة الزوال على الآخرة الباقية، وهذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق، أي: لا تفعلون ذلك، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا. وقرأ الجمهور (¬1): {تُؤْثِرُونَ} بتاء الخطاب للكفار، أو لجميع الناس، ويؤيدها قراءة أبي: {بل أنتم تؤثرون} وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم: بياء الغيبة، قيل: المراد بالآية: الكفرة، والمراد بإيثار الحياة الدنيا: هو الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} الآية، وقيل (¬2): المراد بالآية: جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها: ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها، والاهتمام بها اهتمامًا زائدًا على اهتمامهم بالطاعات، والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، ولتشديد العتاب في حق المسلمين. وفي "فتح الرحمن": فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس، إلا من عصم الله تعالى. وفي "عين المعاني": خطاب للأمة؛ إذ كل يميل إلى الدنيا إما رغبة فيها، أو ادِّخارًا لثواب الآخرة. 17 - وجملة قوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} في (¬3) محل النصب على الحال من فاعل {تُؤْثِرُونَ}، مؤكدة للتوبيخ والعتاب؛ أي: تؤثرونها على الآخرة، والحال أن الآخرة خير في نفعها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذات خالص عن شائبة الفائتة، أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغِّصات، وانقطاعه عما قليل لغاية ظهوره. قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى .. لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. وفيه إشارة (¬4) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[18]

إلى أن ظواهر الأشياء بالنسبة إلى حقائقها، كالقشر بالنسبة إلى اللب، واللب خير من القشر وأبقى؛ لأن لب الحب يحفظ زمانًا طويلًا، وقشره إذا سلخ من اللب يطرح في النار، أو يرمى بالمزابل، فيفنى بعد يومين أو أكثر، فأرباب القشر يؤثرون الأمور الظاهرة الخسيسة الدنية الفانية على الأمور الباطنة المعنوية الشريفة العزيزة الباقية؛ لكونهم محجوبين عن الآخرة، وأرباب اللب يختارون الآخرة، بل الله، كما قال: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}. والمعنى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)}؛ أي (¬1): أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل؛ لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه .. لكنتم تفضِّلون الآخرة على الدنيا، كما يرشد إلى ذلك العقل، ويهدي إليه الشرع، فمتاع الآخرة دائم، ونعيمها لا يزول، ولا تنقيص فيه، ولا منَّ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار، وتحوط به الآلام، فمن استعجل هذا النعيم، واستحب زينة الدنيا .. لا يكون مصدقًا بالآخرة ونعيمها، أو يكون إيمانه إيمانًا لا يجاوز طرف لسانه، ولا يصل إلى قلبه، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون، وقد يقال في معنى الآيات: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)}؛ أي: من تاب من الذنوب {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} يعني: إذا سمع الأذان خرج إلى الصلاة {فَصَلَّى} ثم ذم تارك الجماعة لأجل اشتغاله بالدنيا، فقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)} يعني: تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة، وعمل الآخرة خيرٌ وأبقى من عمل الدنيا، والاشتغال بها وبزينتها. 18 - ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت في هذه الشريعة هي بعينها التي جاءت في جميع الشرائع السماوية فقال: {إِنَّ هَذَا} إشارة إلى ما تقدم من فلاح من تزكَّى ومن بعده. وقيل: إنه إشارة إلى جميع السورة {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}؛ أي: لثابت في جميع الصحف السالفة، جمع: صحيفة، وهي: الكتاب. قال الراغب: الصحيفة: المبسوط من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها، والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة. ¬

_ (¬1) المراغي.

[19]

والمعنى: لثابت فيها، يعني: أن تطهير النفس عما لا ينبغي، وتكميل الروح بالمعارف، وتكميل الجوارح بالطاعة، والزجر عن الالتفات إلى الدنيا، والترغيب في الآخرة، وفي ثواب الله تعالى في دار كرامته، لا يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع 19 - {صُحُفِ} جدِّك {إِبْرَاهِيمَ} الخليل عليه السلام. {و} صحف أخيك {مُوسَى} الكليم عليه السلام، بدل من الصحف الأولى. والمعنى: أي إن ما أوحى به إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي، ووعد ووعيد، هو بعينه ما جاء في صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنما تختلف صوره، وتتعدد مظاهره، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بابراهيم أو بموسى، فعليهم أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يأتِ إلا بما جاء في صحفهم، وإنما هو مذكر أو محي لما مات من شرائعهم. وقصارى ذلك: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء إلا مذكرًا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيًا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كر الغداة، ومرُّ العشي، كما طمس معالمه اتباع الأهواء واقتفاء سنن الآباء والأجداد. وقرأ الجمهور: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} بضم الحاء في الموضعين. وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو: بسكونها فيهما. وفي كتاب "اللوامح": قرأ العقيلي عن أبي عمرو: {الصحف}، {صحف}: بإسكان الحاء فهما لغة تميم. وقرأ الجمهور: {إِبْرَاهِيمَ} بألف وبياء، والهاء مكسورة، وقرأ أبو رجاء: بحذفهما، والهاء مفتوحة، أو مكسورة، وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير: {إبراهام} بألفين في كل القرآن، وقرأ مالك بن دينار: {إبراهم} بكسر الهاء، وبغير ياء في جميع القرآن، قال ابن خالويه: وقد جاء إبراهم، يعني: بألف وضم الهاء، وقد تقدم في سورة النجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام. الإعراب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)}. {سَبِّحِ} فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد {اسْمَ رَبِّكَ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، وجعله الجلال مقحمًا على حد قول لبيد: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ولا داعي لهذا التكلف، فإن التنزيه يقع على الاسم؛ أي: نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن. {الْأَعْلَى}: صفة أولى لـ {رَبِّكَ}، وأجاز ابن هشام أن يكون صفة لـ {اسْمَ} {الَّذِي}: صفة ثانية لـ {الرب}، وجملة {خَلَقَ} صلته، ومفعول {خَلَقَ} محذوف؛ أي: كل شيء {فَسَوَّى}: {الفاء}: عاطفة {سوى}: معطوف على {خَلَقَ}. {وَالَّذِي}: معطوف على الموصول الأول، وجملة {قَدَّرَ} صلته، {فَهَدَى}: معطوف على {قَدَّرَ}، {وَالَّذِي}: معطوف أيضًا على الموصول الأول، وجملة {أَخْرَجَ} صلته، و {الْمَرْعَى}: مفعول به لـ {أَخْرَجَ} {فَجَعَلَهُ}: {الفاء}: عاطفة {جعله}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول معطوف على {أَخْرَجَ}، {غُثَاءً}: مفعول ثان لـ {جعل} {أَحْوَى}: صفة لـ {غُثَاءً}، أو حال من {الْمَرْعَى}، وأُخِّر عنه لرعاية الفواصل، وهنا أقوال متلاطمة في إعراب {أَحْوَى} لا تخلو من الاعتراض {سَنُقْرِئُكَ}: {السين}: حرف استقبال {نقرئك}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {فَلَا تَنْسَى}: {الفاء}: عاطفة {لا}: نافية، {تَنْسَى}؛ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على {نقرئك}، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ من أعم المفاعيل {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَنْسَى}، وجملة {شَاءَ} صلة لـ {مَا}، والعائد محذوف؛ أي: فلا تنسى شيئًا من الأشياء إلا شيئًا شاء الله تعالى نسيانك إياه، {إِنَّهُ}: ناصب واسمه {يَعْلَمُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الله} {الْجَهْرَ}: مفعول به، وجملة {يَعْلَمُ} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {وما}: {مَا}: اسم موصول في محل النصب معطوف على {الْجَهْرَ}، وجملة {يَخْفَى} صلة الموصول، {وَنُيَسِّرُكَ}: {الواو}: عاطفة {نيسرك}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: نحن، ومفعول به معطوف على {سَنُقْرِئُكَ}، {لِلْيُسْرَى}: متعلق بـ {نُيَسِّرُكَ}: أي:

نيسرك لتبليغ الشريعة الإسلامية السمحة، {فَذَكِّرْ}: {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب الشرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنك من أرباب الفيوضات الكمالية، والفتوحات الربانية، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول: {ذَكِّرْ}. {ذَكِّرْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، ومفعوله محذوف تقديره: فذكر الناس، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {إِنْ} حرف شرط {نَفَعَتِ الذِّكْرَى} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إِنْ} محذوف معلوم مما قبلها تقديره: إن نفعت الذكرى .. فذكر، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {سَيَذَّكَّرُ}: {السين}: حرف استقبال، {يذكر}: فعل مضارع {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {يَخْشَى}: صلة {مَن} الموصولة {وَيَتَجَنَّبُهَا}: {الواو}: عاطفة {يتجنبها الأشقى}: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل، والجملة معطوفة على جملة {سَيَذَّكَّرُ}، {الَّذِي}: صفة لـ {الْأَشْقَى} {يَصْلَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، {النَّارَ}: مفعول به، {الْكُبْرَى}: صفة لـ {النَّارَ}، والجملة صلة الموصول .. {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ {لَا}: نافية، {يَمُوتُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على {يَصْلَى}، {فِيهَا}: متعلق بـ {يَمُوتُ}، {وَلَا يَحْيَى}: فعل مضارع معطوف على {يَمُوتُ}، {قَدْ}: حرف تحقيق {أَفْلَحَ}: فعل ماضٍ {مَنْ}: اسم موصول في حل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة. {تَزَكَّى}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، والجملة صلة {مَن} الموصولة {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على {تَزَكَّى} {فَصَلَّى}: معطوف على {ذَكَرَ}، {بَلْ}: حرف عطف وإضراب على مقدر يدل عليه السياق، والتقدير: أنتم لا تفعلون ما فيه صلاح أمركم، بل تؤثرون، و {تُؤْثِرُونَ}: فعل وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف {الْحَيَاةَ}: مفعول به {الدُّنْيَا}: صفة لـ {الْحَيَاةَ}، {وَالْآخِرَةُ}: {الواو}: حالية، {الْآخِرَةُ}: مبتدأ {خَيْرٌ}: خبر {وَأَبْقَى}: معطوف

على {خَيْرٌ}، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تُؤْثِرُونَ} {إِنَّ}: حرف نصب {هَذَا}: اسمه {لَفِي الصُّحُفِ} جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {اللام}: حرف ابتداء، وجملة {إنَّ} مستأنفة {الْأُولَى}: صفة لـ {الصُّحُفِ}، {صُحُفِ}: بدل من {الصُّحُفِ}، {إِبْرَاهِيمَ}: مضاف إليه، {وَمُوسَى}: معطوف على {إِبْرَاهِيمَ}. التصريف ومفردات اللغة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} سبح: أمر من التسبيح، وهو التنزيه. {الْأَعْلَى}: فيه إعلال بالقلب، أصله: الأعلي بوزن الأفعل، تحركت الياء، وانفتح ما قبله، فقلبت ألفا، وأصل هذه الألف الواو؛ لأنه من: علا يعلو علوًا. {خَلَقَ}؛ أي: أوجد الكائنات. {فَسَوَّى}؛ أي: فسواها، ووضع خلقها على نظام كامل، لا تفاوت فيه ولا اضطراب، وأصله: سوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَالَّذِي قَدَّر}؛ أي: قدر لكل حي ما يصلحه مدة بقاءه. {فَهَدَى}؛ أي: هداه، وعرفه وجه الانتفاع بما خلق له. {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} والمرعى: كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة، وأصله: المرعي، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {فَجَعَلَهُ غُثَاءً}. والغثاء: بتخفيف الثاء المثلثة بوزن: غراب، وتشديدها - بوزن زنار -: ما يقذفه السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش، قال الشاعر: كَأَنَّ ظَمِيْئَاتِ الْمُخَيْمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ وَالْغَثَّاءِ فُلْكٌ مُغَزَّلُ وأصله: غثاو؛ لأنه من غثا يغثو، والهمزة فيه مبدلة من الواو لام الكلمة؛ لوقوعها متطرفة إثر ألف زائدة. {أَحْوَى} أصله: أحوي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح من الحوة، وهو سواد يضرب إلى الخضرة، والأحوى: الذي يضرب لونه إلى السواد

قال ذو الرمة: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وَفِيْ أَنْيَابِهَا شَنَبُ وقيل: خضرة عليها سواد، والأحوى: الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض، وفي "الصحاح": الحوة: سمرة، وقال الأعلم: هي لون يضرب إلى السواد، وقال أيضًا: الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد، ويقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وجمعهما: حو، نحو: أحمر وحمراء وحمر. وفي "القاموس": الحوة - بالضم -: سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى السواد، وحوي، كرضي حوىّ. {سَنُقْرِئُكَ}؛ أي: نجعلك قارئًا للقرآن. {فَلَا تَنْسَى} أصله: تنسي بوزن: تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَمَا يَخْفَى} أصله: يخفي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {لِلْيُسْرَى} اليسرى: فعلى، من اليسر وهو السهولة، ويسرت كذا سهلت وهيأت، وضمن نيسرك معنى: نوفقك، فعداه بدون اللام، كما مر، و {اليسرى}: أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر. {سَيَذَّكَّرُ} أصله: سيتذكر، أبدلت تاء التفعل دالًا، ثم أدغمت في الذال فاء الكلمة. {مَنْ يَخْشَى} أصله: يخشي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {الْأَشْقَى} أصله: الأشقي بوزن الأفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَصْلَى}: أصله: يصلي بوزن: يفعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. وقوله: {يَمُوتُ} أصله: يموت بوزن يفعُل، نقلت حركة الواو إلى الميم، فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. {يَحْيَى} أصله: يحيي بوزن يفعل، قلبت الياء الآخرة ألفا لتحركها بعد فتح. {قَدْ أَفْلَحَ}؛ أي: فاز بالمطلوب، ونجا من المكروه. {مَنْ تَزَكَّى}، أي: تطهير من دنس الرذائل، ورأسها: جحد الحق، وقسوة القلب، أصله: تزكي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ}؛ أي: ذكر في قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال.

{فَصَلَّى} أصله: صلي بوزن: فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ومعنى: صلَّى خشع وخضعت نفسه لأوامر بارئه. {بَلْ تُؤْثِرُونَ}؛ أي: تفضلون. {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} أصله: أبقي، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا. {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} والصحف: جمع صحيفة، ككتيبة وكتائب، وقذيفة وقذائف. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: حذف المفاعيل ليفيد العموم في قوله: {خَلَقَ فَسَوَّى}، وقوله: {قَدَّرَ فَهَدَى}، أي: خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه. ومنها: الإتيان بسين الاستقبال في قوله: {سَنُقْرِئُكَ} لتأكيد الكلام. ومنها: الطباق في قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}، وفي قوله: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)}. ومنها: الإتيان فيه بنون العظمة لتكون عظمة المعطي دليلًا على عظمة العطاء. ومنها: جناس الاشتقاق بين {ذَكِّرْ}، و {الذِّكْرَى}. ومنها: المقابلة بين {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)}، وبين {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)}. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)} إلى الخطاب في قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)} لتشديد التوبيخ في حق الكفرة وتشديد العتاب في حق المسلمين. ومنها: جمع المؤكدات في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)} مبالغة في رد إنكار المنكرين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

الخاتمة: صحف موسى غير التوراة عشر، وكلها عبر، وكذا صحف إبراهيم عشر، وكلها أيضًا عبر، وروى الآجري من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟، قال "كانت أمثالًا كلها، وفيها: أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور، وإني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها, ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أيضًا: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر في صنع الله عَزَّ وَجَلَّ له، ويتفكر فيما صنع هو، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وفيها أيضًا: وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن عدَّ كلامه من عمله .. قل كلامه إلا فيما يعنيه". قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟، قال: "كانت عبرًا كلها، وفيها: عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. وفيها أيضًا: عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل" قال: قلت: فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى مما أنزل عليك؟ قال: "نعم، إقرأ يا أبا ذر: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} " وذكر الحديث إلى هنا. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد اشتملت على المقاصد التالية: 1 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته تبع له - بتسبيح الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به ذاتًا وصفات وأسماء وأفعالًا. 2 - الامتنان على عباده بخلق الكائنات، وتسويتها، وتقديرها، وهدايتها إلى ما هو من مصالحها، وبإخراج المرعى لهم ولأنعامهم. 3 - الوعد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بإقرائه القرآن وعدم نسيانه. 4 - أمره بتذكير عباده بما ينفعهم في دينهم ودنياهم. 5 - ذكر وعيد من أعرض عن النظر في الدلائل, ووعد من زكى نفسه وطهرها من أدران الشرك والمعاصي، وبيان أن هذا في الصحف الأولى. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة الأعلى وقت السحر من ليلة الأربعاء الخامسة والعشرين من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: 25/ 9/ 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة الغاشية

سورة الغاشية سورة الغاشية مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الذاريات، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الغاشية بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: ست وعشرون آية. وكلماتها: اثنتان وتسعون كلمة. وحروفها: ثلاث مئة وإحدى وثمانون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه أشير في السابقة إلى المؤمن والكافر، والجنة والنار إجمالًا، وبسط الكلام فيها هنا. وعبارة أبي حيان: لما ذكر فيما قبلها {فَذَكِّرْ}، وذكر النار والآخرة قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}، فبسط الكلام فيها، وذكر أن الناس في الغاشية فريقان: فريق في الجنة، وفريق في النار، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار الكونية، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير مع بيان أن المرجع إلى الله وحده. وقال بعضهم: لما ختم سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة حيث قال: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} افتتح سورة الغاشية ببيان أحوال الآخرة التي رغب فيها، وعاد إليها في السورة السابقة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع سورة الغاشية بعد سورة الأعلى لشرح بداية هذه لخاتمة تلك. فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}، وإنْ وافق يوم الجمعة .. قرأهما جميعًا. وفي لفظ: وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي الباب أحاديث كثيرة، ومنها: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله تعالى حسابًا يسيرًا"، ولكن لا أصل له. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الغاشية كلها

محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} نسخت بآية السيف، وسميت سورة الغاشية لذكر الغاشية فيها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} قال (¬1) قطرب - من أئمة النحو - وغيره من المفسرين: أي: قد جاءك الآن يا محمد حديث الغاشية. قال المولى أبو السعود رحمه الله تعالى في "الإرشاد": وليس بذاك، بل هو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه، والتشويق إلى استماعه, والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن يتناقلها الرواة، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد، والغاشية: الداهية الشديدة التي تغشى الناس، وتغطيهم بشدائدها، وتكتنفهم بأهوالها، وهي القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وقال: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، وعليه أكثر المفسرين، وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: الغاشية: النار تغشى وجوه الكفار، كما في قوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}، وقيل: الغاشية: أهل النار؛ لأنهم يغشونها ويقتحمونها، والأول أولى، يقال: غشيه يغشاه: أي: غطاه، وكل ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له، قال الكلبي: المعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية .. فقد أتاك الآن، وليس هذا الماضي إخبارًا عن أمر سبق، بل هو إخبار عما وقع له في الحال انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

وقال المراغي: المعنى: أي هل بلغك يا محمد نبأ يوم القيامة، وعلمت قصصه، فإننا سنعلمك شأنه الخطير، وهذا أسلوب من الكلام لا يراد منه حقيقة الاستفهام، بل يراد منه تعجيب السامع مما سيذكر بعد، وتشويقه إلى استماعه، وتوجيه فكره إلى أنه من الأحاديث التي من حقها أن تتناقلها الرواة، ويحفظها الوعاة. 2 - ثم فصل شأن أهل الموقف في ذلك اليوم، وذكر أن أهله فريقان: فريق الكفرة الفجرة، وفريق المؤمنين البررة، وقد أشار إلى الأولين بقوله: 1 - {وُجُوهٌ}؛ أي: وجوه من الكفرة {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ تغشى الغاشية الناس {خَاشِعَةٌ}؛ أي: ذليلة بما يظهر عليها من أنواع الخزي والهوان، وتذوقها من أنواع العذاب، وهذا كلام مستأنف وقع جوابًا لسؤال نشأ عن الاستفهام التشويقي، كأنه قيل من جهته - صلى الله عليه وسلم -: ما أتاني حديثها فما هو؟ فقيل: وجوه يومئذٍ إلخ، و {يَوْمَئِذٍ}: ظرف لما بعده من الأخبار الثلاثة، قال أبو حيان: والتنوين عوض من الجملة، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضًا عنها, لكن لما تقدم لفظ {الْغَاشِيَةِ}، وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتي غشيت؛ أي: للداهية التي غشيت .. علم أن التنوين عوض عن هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها، وإلى الموصول الذي هو لفظ التي. انتهى. أي: وجوه من الكفار يوم إذ غشيت تلك الداهية الناس خاشعة؛ أي: ذليلة بأنواع الخزي والهوان، عاملة أعمالًا شاقة في النار، كجر السلاسل، وحمل الأغلال {نَاصِبَةٌ}؛ أي: تعبة بتلك الأعمال الشاقة، فإن الخشوع والخضوع والتطامن والتواضع كلها بمعنى، ويكنى بالجميع عما يعتري الإنسان من الذل والخزي والهوان، فـ {وُجُوهٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء، بالنكرة وقوعها في معرض التفصيل، و {خَاشِعَةٌ}: خبره، قال الشيخ: لعل وجه الابتداء بالنكرة كون تقدير الكلام: أصحاب وجوه بالإضافة، إلا أن الخشوع والذل لما كان يظهر في الوجه .. حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وإنما قلنا: إن الذل يظهر في الوجه؛ لأنه ضد التكبر الذي محله الرأس والدماغ، والمراد بأصحاب الوجوه: هم الكفار بدلالة ما بعده من الأوصاف. 3 - {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} بالرفع خبران آخران لـ {وُجُوهٌ}، إذ المراد بها أصحابها، كما أشرنا إليه آنفًا، أو خبران لمبتدأ محذوف،

[4]

وبالنصب على الحال، أو على الذم والناصبة: التعبة من النصب: وهو التعب، يقال: نصب - من باب علم -: إذا تعب في العمل. والمعنى: وجوه يومئذٍ تعمل أعمالًا شاقة تتعب فيها؛ لأنها في الدنيا تكبرت عن العمل لله، فأعملها الله سبحانه في الآخرة في أعمال شاقة، وهي جر السلاسل، وحمل الأغلال الثقيلة، كما قال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا}، والخوض في النار: خوض الإبل في الوحل؛ أي: الطين الرقيق، والصعود في تلال النار، والهبوط في وهاده. وقال بعضهم: خشوع الظاهر ونصب الأبدان لا يقربان إلى الله تعالى، بل يقطعان عنه، وإنما يقرب منه سعادة الأزل، وخشوع السر من هيبة الله، وهو الذي يمنع صاحبه من جميع المخالفات، فالرهبانية والفلاسفة وأضرابهم من أهل الكفر والضلال والبدع والخرافات، إنما يضربون حديدًا باردًا، ويتعبون أنفسهم في طريق الهوى والسعي فيها. وقال ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة: عاملة في النار، ناصبة تعبة فيها؛ لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا، وعملها في النار جرها السلاسل ونحوه، كما مر آنفًا. وقال ابن عباس أيضًا وزيد بن أسلم وابن جبير: عاملة في الدنيا ناصبة فيها؛ لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لها إلا التعب، وخاتمته النار. وقرأ الجمهور: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} بالرفع فيهما. وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد وابن كثير في رواية عنه: بالنصب فيهما، كما مر بيان توجيهما. 4 - {تَصْلَى}؛ أي: تدخل تلك الوجوه يومئذٍ {نَارًا} هائلةً {حَامِيَةً}؛ أي: مسعرة بالغة نهاية الحرارة، وتذوق ألمها موقدة من ابتداء خلقها، وفي الحديث: "أحمي عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة". قال السجاوندي: معنى حامية، أي: دائمة الحمي، وإلا فالنار لا تكون إلا حامية يقال: حمي الشمس والنهار حميًا وحميًا وحموًا: اشتد حرهما، والجملة خبر آخر لـ {وُجُوهٌ}. وقرأ الجمهور: {تَصْلَى} بفتح التاء وسكون الصاد مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب وأبو رجاء وابن محيصن: بضمها مبنيًا للمفعول، وقرأ خارجة: بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء،

[5]

والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراءات، والمراد: أصحابها كما تقدم، 5 - وكذا الضمير في قوله: {تُسْقَى} أي: تسقى تلك الوجوه بعد مدة طويلة من استغاثتهم من غاية العطش ونهاية الاحتراق؛ أي: سقاها الله سبحانه، أو الملائكة بأمره تعالى {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}؛ أي: من عين ماء قد انتهى حرها غايتها, لتسخينها بتلك النار منذ خلقت، لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت، فإذا أدنيت من وجوههم تناثرت لحوم وجوههم، وإذا شربوا قطعت أمعاءهم، كما قال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} يقال: أنى الحميم إذا انتهى حرة: فهو آنٍ، والآني: هو الذي قد انتهى حره. وحاصل معنى قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)}؛ أي (¬1): إن هؤلاء الكفار كانوا في حياتهم الدنيا يعملون ويجتهدون في أعمالهم، لكن لم يتقبلها ربهم؛ لأنهم لم يقدموا عليها الإيمان بالله ورسوله، وهو الدعامة الأولى في قبول العمل عنده، ولأنهم لم يقصدوا بها وجهه تعالى، ولأنهم كانوا يجتهدون في مشاقة الله ورسوله، ويسعون في الأرض. والخلاصة: أن هؤلاء الكفار وقع منهم في الدنيا عمل، وأصابهم فيه نصب وتعب، لكنهم لم يستفيدوا منه شيئًا، وآثار الخيبة وحبوط العمل بادية على وجوههم. ثم ذكر مكانها في هذا اليوم فقال: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)}؛ أي: إن هذه الوجوه تقاسي حر النار، وتعذب بها؛ لأن أعمالها في الدنيا كانت خاسرة غلبها الشر، وجانبها الخير، وهذه النار الحامية لا نعرف كنهها, ولكن علينا أن نؤمن بها، وبأن حلفاء الباطل يصلونها. وبعد أن ذكر مكانها ذكر شرابها فقال: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)}؛ أي: إن أهل النار إذا عطشوا في تلك الدار وطلبوا ما يطفىء غلتهم وعطشهم .. جيء لهم بماء من ينبوع بلغ من الحرارة غايتها، فهو لا يطفىء لهبًا، ولا ينقع غلة. 6 - وبعد أن ذكر شرابهم .. أردفه بوصف طعامهم، فقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ¬

_ (¬1) المراغي.

[7]

ضَرِيعٍ (6)}، وأورد ضمير العقلاء إشارة إلى أن المراد من الوجوه أصحابها، وإنما أسند إليها ما ذكر من الأحوال لكونها مظهرًا يظهر فيه ما في الباطن، مع أنها يكنى بها كثيرًا عن الذوات. والضريع: يبيس الشبرق، كزبرج، وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبًا، وإذا يبس تحامته ولا تقربه، وهو سم قاتل. وفي "المراح": والشبرق: نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبًا تأكل منه الإبل، وإذا يبس صار كأظفار الهرة، وهو سم قاتل. اهـ. قال في "فتح الرحمن": سموا ذلك الشوك ضريعًا؛ لأنه مضعف للبدن ومهزل، يقال: ضرع الرجل ضراعة: ضعف وذل، وعن ابن (¬1) عباس رضي الله عنهما يرفعه: "الضريع شيء في النار شبه الشوك، أمَر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرًا من النار" وهذا طعام بعض أهل النار، والزقوم والغسلين لآخرين بحسب جزائهم، وبه يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين آية الحاقة، وهي قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} قال سعدي المفتي: ويمكن في قدرة الله تعالى أن يجعل الغسلين إذا انفصل عن أبدان أهل النار على هيئة الضريع، فيكون طعامهم الغسلين الذي هو الضريع. انتهى. يقول الفقير: ويمكن عندي أن يجعل كل من الضريع والغسلين والزقوم بالنسبة إلى شخص واحد بحسب الأعمال المختلفة، فإن لكل عمل أثرًا مخصوصًا، وجزاءً متعينًا، فيصح الحصر. والمعنى: أي إنهم إذا أحسوا بالجوع، وطلبوا الطعام أُتيَ لهم بالضريع، وهو ذلك المرعى السوء الذي لا تعقد عليه السائمة شحمًا ولا لحمًا، وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها، والمراد بهذه كله: أنه يؤتى لهم برديء الطعام. 7 - ثم وصف هذا الضريع بأنه لا يجدي ولا يفيد، فقال: {لَا يُسْمِنُ}؛ أي: لا يسمن هذا الضريع آكله؛ أي: لا يحصل له سمنًا، والسمن: ضد الهزال، {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}؛ أي: لا يدفع ما به من الجوع؛ أي: ليس من شأنه الإسمان والإشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وإنما هو شيء يضطرون إلى أكله من غير أن يكون له ¬

_ (¬1) روح البيان.

دفع لضرورتهم، لكن لا على أن لهم استعدادًا للشبع والسمن؛ لأنه لا يفيدهم شيئًا منهما، بل على أنه لا استعداد من جهتهم، ولا إفادة من جهة طعامهم، وتحقيق (¬1) ذلك: أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن، مشوقة له إلى المطعوم والمشروب، بحيث يتلذذ بهما عند الأكل والشرب، ويستغني بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة، ويستفيد منهما قوةً وسمنًا عند انهضامهما، بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها، ويخرج ما فيها من اللهب، وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما أو التلذذ به عند الأكل، والاستغناء به عن الغير، أو استفادة وقوة .. فهيهات. وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع، والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد يطفئه، من غير أن يكون لهم التلذذ بشربه، أو استفادة قوة به في الجملة، وهو المعني بما روي: أنه تعالى سلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه يسلط عليهم العطش، فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم. وتنكير الجوع للتحقير (¬2)؛ أي: لا يغني من جوع ما، وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين، إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الإسْمَانِ ضرورة استلزام نفي الإغناء عن الجوع إياه، بخلاف العكس، ولذا كرر لتأكيد النفي. وحاصل معنى قوله (¬3): {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}؛ أي: إن هذا الطعام لا يدفع جوعًا ولا يفيد سمنًا، فليس له فائدة الطعام التي لأجلها يؤكل في الدنيا، وقد سمى الله سبحانه ذلك الطعام بالضريع تشبيهًا له به، وإلا فذلك العالم ليس فيه نمو أبدان، ولا تحلل مواد على النحو الذي يكون في الدنيا، بل هو عالم خلود ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[8]

وبقاء، واللذائذ فيه لذائذ سعادة، والآلام فيه آلام شقاء، فكل ما في ذلك العالم إنما يقع بينه وبين ما في عالمنا نوع مشابهة، لا اتفاق ولا مجانسة. وقد جاء في سورة الحاقة في طعام الكافرين (¬1): {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)}، وفي سورة الواقعة: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)}، وفي سورة الدخان: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}، فهذا كله يدل على أن طعام أهل النار شيء يوافق النشأة الآخرة، عبر عنه بعبارة مختلفة ليصور في أذهاننا بشاعته وخبثه لتنفر عنه نفوسنا، وتطلب كل وسيلة للفرار منه، فتبتعد عن العقائد الفاسدة، والأعمال الخاسرة، كما مر ذلك آنفًا. قال (¬2) المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا تسمن من الضريع، فنزلت: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}، وكذبوا في قولهم هذا، فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه، وقيل: اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النبات النافع. 8 - ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال: {وُجُوهٌ} من المؤمنين {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ غشيت الداهية الناس {نَاعِمَةٌ}؛ أي: ناضرة ذات بهجة وحسن وضياء، مثل القمر ليلة البدر، لما شاهدوا من عاقبة أمرهم، وما أعده الله سبحانه لهم من الخبر الذي يفوق الوصف، فـ {نَاعِمَةٌ} من نعم الشيء بالضم نعومَةً؛ أي: صار ناعمًا لينًا، ويجوز أن يكون بمعنى: متنعمة؛ أي: بالنعم الجسمانية والروحانية، فيكون المراد بها حقيقة النعمة. وإنما لم تعطف (¬3) على ما قبلها إيذانًا بكمال تباين مضمون الجملتين، وتقديم حكاية أهل النار؛ لأنه أدخل في تهويل الغاشية، وتفخيم حديثها، وفيه إشارة إلى نعيم اللقاء الذي هو ثمرة اللطافة، والتورية التي هي نتيجة التجرد، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} فإن بالنظر إلى الرب جل جلاله يحصل نضرة، أي: نضرة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[9]

9 - {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)}؛ أي: لعملها الذي عملته في الدنيا حيث شاهدت ثمرته ورأت عاقبته الحميد، فاللام متعلقة بـ {رَاضِيَةٌ}، والتقدير: راضية سعيها؛ لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها، فلما تقدم المعمول على العامل الضعيف .. جيء باللام لتقوية العامل، ويجوز أن تكون لام التعليل؛ أي: لأجل سعيها في طاعة الله تعالي راضية جزاءها وثوابها. 10 - وبعد أن وصف أهل الثواب وصَفَ ديارهم بسبعة أوصاف، فقال: 1 - {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)}؛ أي: كائنة أو متمكنة في جنة عالية المكان، مرتفعة على غيرها من الأمكنة، فإن الجنة فوق السموات العلى، كما أن النار تحت الأرضين السبع، ولأن الجنة أيضًا منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض، والدرجة مثل ما بين السماء والأرض، فتكون من العلو في المكان، وفي الحديث: "إن المتحابين في الله في غرف ينظر إليهم أهل الجنة، كما ينظر أهل الدنيا إلى كواكب السماء"، ويجوز أن يكون معنى {عَالِيَةٍ}: علية المقدار, فتكون من العلو في القدر والشرف؛ لتكامل ما فيها من النعيم؛ لأن نعيم الجنة بعضه أرفع من بعض، فالنعيم الذي يتمتع به السابقون من الأنبياء والشهداء والصالحين، أعلى منزلة وأرفع قدرًا مما يتمتع به الذين اتبعوهم بإحسان. 2 - 11 {لَا تَسْمَعُ} أنت أيها المخاطب، فالخطاب عام لكل من يصلح له، أو لا تسمع أنت يا محمد على أن الخطاب خاص، أو لا تسمع تلك الوجوه؛ أي: أصحابها، فتكون التاء لتأنيث الفاعل، لا للخطاب. {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنة العالية {لَاغِيَةً}؛ أي: لغوًا من الكلام، وهو: ما لا يعتد به من الكلام الساقط، فهو مصدر كالعافية والعاقبة؛ أي (¬1): إنها منزهة عن اللغو؛ إذ أنها منزل جيران الله وأحبائه، وقد نالوها بالجد والعمل، لا باللغو، ومنازل أهل الشرف في الدنيا تكون مبرأة من اللغو والكذب والبهتان، فكيف بأرفع المجالس في جوار رب العالمين، ومالك قلوب الخلق أجمعين! أو: لا تسمع كلمة ذات لغو على أنها للنسبة، أو: نفسًا تلغو على أنها اسم فاعل صفة لموصول محذوف هو: نفس. ¬

_ (¬1) المراغي.

[12]

وقال الفراء والأخفش (¬1): أي لا تسمع فيها كلمة لغو، قيل: المراد بذلك: الكذب والبهتان والكفر، قاله قتادة، وقال مجاهد: أي: الشتم، وقال الفراء أيضًا: لا تسمع فيها حالفًا يحلف بكذب، وقال الكلبي: لا تسمع في الجنة حالفًا بيمين برة ولا فاجرة، وقال الفراء أيضًا: لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى؛ لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد اله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، وهذا أرجح الأقوال؛ لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص، و {لَاغِيَةً} إما صفة موصوف محذوف؛ أي: كلمة لاغية، أو نفسًا لاغية، أو مصدر؛ أي: لا تسمع فيها لغوًا. وقرأ الجمهور (¬2): {لا تسمع} بفتح الفوقية ونصب {لَاغِيَةً}؛ أي: لا تسمع أنت أيها المخاطب، أو لا تسمع تلك الوجوه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع - بخلاف عنهم -، وأهل مكة والمدينة: {لَا تَسْمَعُ} مبنيًا للمفعول، ورفع {لَاغِيَةٌ}؛ أي: كلمة لاغية، أو جماعة لاغية، أو لغو، فيكون مصدرًا كالعاقبة، ثلاثة أقوال، الثالث لأبي عبيدة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضًا وابن محيصن وعيسى: بالتحتية مضموم مبنيًا للمفعول، ورفع {لَاغِيَةٌ} لمجاز التأنيث. وقرأ الفضل والجحدري: بفتح الياء التحتية مبنيًا للفاعل، ونصب {لغيةً} بمعنى: لا يسمع أحد فيها لاغيةً؛ أي: لغوًا. 3 - 12 {فِيهَا}؛ أي: في تلك الجنة العالية {عَيْنٌ جَارِيَةٌ}؛ أي: ينبوع ماء جار، والتنوين فيه للتكثير؛ أي: عيون (¬3) كثيرة تجري مياهها على الدوام حيث شاء صاحبها، وهي أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منها لا يظمأ بعدها أبدًا، ويذهب من قلبه الغل والغش والحسد والعدواة والبغضاء، والمياه الجارية من الينابيع تكون صافية، وفي منظرها مسرة للنفوس، وقرة للعيون، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط والشوكاني. (¬3) روح البيان.

[13]

4 - 13 {فِيهَا سُرُرٌ} يجلسون عليها، جمع: سرير هو معروف {مَرْفُوعَةٌ}؛ أي: رقيقة (¬1) السمك؛ أي: عالية في الهواء على قوائم طوال، فإن السمك هو الامتداد الآخذ من أسفل الشيء إلى أعلاه، فالمراد برفعة سمكها: شدة علوها في الهواء، فيرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم الكبير، والملك العظيم، ويرى من في الجنة، وفي ذلك من التشريف والتكريم ما لا خفاء فيه، وفي الحديث: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام" قيل: إذا جاء ولي لله ليجلس عليها تطامنت له، فإذا استوى عليها ارتفعت، ويجوز أن يكون المعنى: رفيعة المقدار من حيث اشتمالها على جميع أنواع الحسن والكمال في ذواتها وصفاتها. 5 - 14 {وَأَكْوَابٌ}؛ أي: وفيها أكواب وأقداح يشربون بها، جمع: كوب بالضم، وهو إناء لا عروة له ولا خرطوم، مدَوَّر الرأس ليمسك ويشرب منه من أي طرف أريد، بخلاف الإبريق، وهو مستعمل في بعض بلاد العرب الآن، ولذا وقع به التشويق. {مَوْضُوعَةٌ} على حافات العيون كلما أرادوا أن يشربوا منها وجدوها، أو موضوعة بين أيديهم حاضرة لديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها، وهو لا ينافي أن يكون بعض الأقداح في أيدي الغلمان، كما سبق في سورة: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}. 6 - 15 {وَنَمَارِقُ}؛ أي: وسائد يستندون إليها للاستراحة جمع: نمرقة، بفتح النون وضمها، والراء مضمومة فبهما بمعنى: الوسادة {مَصْفُوفَةٌ}؛ أي: مصفوف (¬2) بعضها إلى جوانب بعض، كما يشاهد في بيوت الأكابر، فإن شاؤوا جلسوا عليها، وإن أرادوا استندوا إليها، وإن أحبوا أن يجلسوا على بعضها، ويستندوا إلى بعض فعلوا، كلما أراد المؤمن أن يجلس جلس على واحدة، واستند إلى أخرى، وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان. 7 - 16 {وَزَرَابِيُّ}؛ أي: وفيها بسط فاخرة، جمع: زربي وزربية. قال أبو عبيدة والفراء: الزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدها: زربية، قال الراغب: هو ضرب من الثياب محبر منسوب إلى موضع على طريق التشبيه والاستعارة {مَبْثُوثَةٌ}؛ أي: مبسوطة على السرر زينة وتمتعًا، أو مبسوطة تحتهم، وقال الفراء؛ معنى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[17]

{مَبْثُوثَةٌ}: كثيرة. وقال الواحدي: ويجوز أن يكون أنها مفرقة في المجالس، والظاهر (¬1) أن معنى البث: التفرق مع كثرة، ومنه: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، والمعنى: أي: وفيها بسط مبسوطة في المجالس، بحيث يرى في كل مجلس من مجالسهم منها شيء كما يرى في بيوت المترفين وذوي الثراء في الدنيا. وقد ذكر (¬2) سبحانه كل ما سلف تصويرًا لترف أهل الجنة تصويرًا يقربه من عقولهم، ويستطيعون به إدراكه وفهمه، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر، ويعلو فوق متناول الإدراك، فالأشياء التي عددها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي في هذه الحياة بأسمائها، فأما حقائقها وذواتها .. فليست مثلها ولا قريبًا منها، كما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. 17 - ولما (¬3) ذكر الله سبحانه وتعالى أمر القيامة، وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم .. أتبع ذلك بذكر هذه الدلائل, وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائمًا، فقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}، وهي الجمال، فإنه اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المنافع من أكل لحمها، وشرب لبنها، والحمل عليها، والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة، وعيشها بأي نبات أكلته، وصبرها على العطش، حتى إن فيها ما يرد الماء لعشر، وطواعيتها لمن يقودها، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال، وكثرة حنينها، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها، ولا شيء من الحيوان جمع هذه الخصال غيرها، وقد أبان تعالى امتنانه بها عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ ...} الآيات، ولكونها أفضل ما عند العرب جعلوها دية القتل، ووهبوا المئة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه، وذكرها الشعراء في مدح من وهبها، كقول بعضهم: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

الْوَاهِبُ الْمِئَةَ الْهِجَانَ وَعَبْدَهَا وقال آخر: أَعْطُوْا هُنَيْدَةَ تَحَدُوْهَا ثَمَانِيَةٌ وناسب التنبيه بالنظر إليها وإلى ما حوت من عجائب الصفات ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض؛ لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع، وأنه ليس مختصًا بنوع، بل هو عام في كل موجوداته، كما قيل: وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ ولم يذكر الفيل مع أنه أعظم خلقة من الإبل؛ لأنه لم يكن بأرض العرب، فلم تعرفه، ولا يحمل عليه عادة، ولا يحلب دره، ولا يؤمن ضره. وقال الحسن: وخص الإبل بالذكر؛ لأنها تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، فقيل له: الفيل أعظم منها في الأعجوبة، قال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير، لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره. والإبل لا واحد له من لفظه، وهو مؤنث، ولذلك إذا صغر دخلته التاء، فقالوا: أُبَيلة، وقالوا في الجمع: آبال. وقرأ الجمهور (¬1): {الْإِبِلِ} بكسرتين، وتخفيف اللام، وروى الأصمعي عن ابن عمرو: إسكان الباء، وقرأ علي وابن عباس: بشد اللام بعد كسرتين، ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي، وقالوا: إنها بهذا الضبط: السحاب عن قوم من أهل اللغة، وبالضبطين الأولين: الجمال. والهمزة في قوله: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ} للإنكار (¬2) والتوبيخ، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، وكلمة {كَيْفَ} (¬3) منصوبة بما بعدها معلقة لفعل النظر، والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من الإبل؛ أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه عن قدرة الله تعالى، فلا ينظرون نظر اعتبار إلى الإبل ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[18]

التي هي نصب أعينهم، يستعملونها كل حين، أنها كيف خلقت خلقًا بديعًا معدولًا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات في عظم جثتها، وشدة قوتها، وعجيب هيئتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنهوض من الأرض بالأوقار الثقيلة، وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي سيرها على الجوع والعطش، حتى إن ظمأها ليبلغ العشر فصاعدًا واكتفاءها ورعيها بكل ما تيسر من شوك شجر، وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون، والبروك والنهوض؛ حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير، وتبول من خلفها؛ لأن قائدها أمامها، فلا يترشش عليه بولها، وعنقها سلم إليها، وتتأثر من المودة والغرام، وتسكر منها إلى حيث تنقطع عن الأكل والشرب زمانًا ممتدًا، وتتأثر من الأصوات الحسنة والحداء، وتسير من كمال التأثر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري، ويجري الدمع من عينها عشقًا وغرامًا، إلى غير ذلك كما مر كثير من ذلك آنفًا. 18 - {وَإِلَى السَّمَاءِ} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رُفِعَتْ} فوق الأرض رفعًا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك، بحيث لا يناله اللهم، ولا يدركه العقل. 19 - {وَإِلَى الْجِبَالِ} التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها {كَيْفَ نُصِبَتْ} نصبًا رصينًا، ووضعت وضعًا ثابتًا لا ميدان فيه ولا اضطراب، فيتسنى ارتقاؤها في كل حين، وتجعل أمارة للسالكين في تلك الفيافي والقفار، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها في سقي النبات وري الحيوان. وقال أبو الليث: كيف وضعت على الأرض أوتادًا لها. انتهى. 20 - {وَإِلَى الْأَرْضِ} التي يضربون فيها، ويتقلبون عليها {كَيْفَ سُطِحَتْ} ومهدت وبسطت على ظهر الماء بسطًا حسبما يقتضيه صلاح أمور ساكنها، وانتفاعهم بما في ظاهرها من المنافع، وما في باطنها من المعادن. والاستدلال بكونها مسطوحة على عدم كونها كرة، مجاب بأن الكرة إذا كانت عظيمةً جدًّا يكون كل قطعة منها كالسطح، فيصح أن يطلق عليها البسط، ففرق بين كرة وكرة، كما أنه فرق بين بيض الحمامة وبيض النعامة.

[21]

والمعنى (¬1): أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور؛ لإشعارها بأن خالقها متصف بصفات الكمال من القدرة والقوة والحكمة، منزه عن صفات النقصان من العجز والضعف والجهل حتى يرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور، ويسمعوا إنذارك، ويستعدوا للقاء الله تعالى بالإيمان والطاعة. وقصارى ما سلف (¬2): أنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء، وفكروا فيها .. لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة، قادر على أن يرجع الناس في يوم يوفّى فيه كل عامل جزاء عمله، وعلى أن ينشىء النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها، فلا ينبغي أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيامة سببًا في جحده وإنكاره. وإنما خص هذه (¬3) المخلوقات بالذكر؛ لأن الناظر منهم يفكر في أقرب الأشياء إليه، فهو يرى بعيره الذي يمتطيه، ثم إذا هو رفع رأسه فوق رأى السماء، ثم إذا التفت يمنة أو يسرة .. رأى ما حواليه من الجبال، فإذا مد ناظريه أمامه أو تحته رأى الأرض، فالعربي يرى ذلك كل يوم، ومن ثم أمره الله تعالى بالتدبر فيها. وقرأ الجمهور (¬4): {خُلِقَتْ} {رُفِعَتْ} {نُصِبَتْ} {سُطِحَتْ} بتاء التأنيث مبنيًا للمفعول، وقرأ علي بن أبي طالب وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن السميفع وأبو العالية: {خُلِقَتْ} {رُفِعَتْ} {نُصِبَتْ} {سُطِحَتْ} بتاء المتكلم مبنيًا للفاعل في جميعها والمفعول محذوف؛ أي: خلقتها، رفعتها، نصبتها، سطحتها، وقرأ الجمهور: {سُطِحَتْ} مبنيًا للمفعول مخففة الطاء، وقرأ الحسن وهارون: بشدها. 21 - ولما حَضَّهم سبحانه وتعالى على النظر في هذه المخلوقات .. أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتذكيرهم، فقال: {فَذَكِّرْ}، والفاء لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبىء عنه الإنكار السابق من عدم النظر، فهي فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

[22]

تقديره: إذا دعوتهم إلى الإيمان بالله، وبما جئتهم به من البعث والنشور والحساب، وبالاستدلال عليها بالنظر في هذه المخلوقات المذكورة، ولم يقبلوا، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: ذكرهم يا محمد؛ أي: اقتصر على التذكير، ولا تلح عليهم، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تعليل للأمر بالتذكير؛ أي: ما أنت إلا مبلغ، وإنما التوفيق والهداية إلينا 22 - {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}؛ أي: لست بمسلط عليهم تجبرهم على ما تريد، كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، وهذا منسوخ بآية السيف، كما مر. وقرأ الجمهور (¬1): {بِمُصَيْطِرٍ} بالصاد وكسر الطاء. وابن عامر في رواية ونطيق عن قنبل وزرعان عن حفص وهشام: بالسين، وقرأ خلف وحمزة في رواية: بشمام الصاد زايًا، وقرأ هارون الأعور: بفتح الطاء اسم مفعول، وهي لغة تميم، وسيطر: متعد عندهم، ويدل عليه فعل المطاوعة، وهو تسطر، وليس في الكلام على هذا الوزن، إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر، وهي أسماء فاعلين من سيطر وهيمن وبيطر، وجاء مجيمر اسم واد، ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما: مدبرًا ومجمرًا، فصغرا. والمعنى (¬2): فذكر بآياتي، وعظهم بحججي، وبلغهم رسالاتي، وحذرهم أن يتركوا ذلك، ثم بعدئذٍ لا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ إن لم يؤمنوا. ثم علل الأمر بالتذكير، فقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}؛ أي: إنما بعثت للتذكير فحسب، وليس من الواجب عليك أن يؤمنوا، فما عليك إلا التبشير والتحذير، فإن آمنوا فقد اهتدوا إلى ما تسوق إليه الفطرة، وإن أعرضوا .. فقد تحكمت فيهم الغفلات، وتغلبت عليهم الشهوات، واستولت على عقولهم الأهواء والجهالات. ثم أكد الإنذار وقرره بقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}؛ أي: لست بمسلط عليهم تجبرهم على ما تريد، وتتعهد أحوالهم، وتكتب أعمالهم، فلم تؤت قوة الإكراه على الإيمان, والإلجاء إلى ما تدعوهم إليه، كما قال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[23]

23 - {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى} وأعرض عن الحق، أو عن الداعي إليه بعد التذكير {وَكَفَرَ} وثبت على الكفر، أو أظهره. وفي "فتح الرحمن": إلا من تولى عن الإيمان, وكفر بالقرآن أو بالنعمة. وفي "التأويلات النجمية": إلا من تولى عن الحق بالإقبال على الدنيا، وكفر؛ أي: ستر الحق بالخلق، وهو استثناء منقطع من الهاء في عليهم، و {من} موصولة (¬1) لا شرطية؛ لمكان الفاء ورفع الفعل؛ أي: لكن من تولى وكفر فإن لله الولاية والقهر، وهو المسيطر عليهم، وقيل: متصل؛ أي: فأنت مصيطر عليه إلا من تولى وكفر، وقيل: متصل من مفعول {فَذَكِّرْ}؛ أي: فذكر عبادي إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب الأكبر، وما بين ما اعتراض، وفي "الشهاب": {مَنْ}: مبتدأ مضمن معنى الشرط، و {فَيُعَذِّبُهُ}: جوابه. اهـ. وقرأ الجمهور (¬2): {إِلَّا} حرف استثناء على الخلاف المذكور فيه، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم: {ألا} حرف تنبيه واستفتاح. 24 - {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} الذي هو عذاب جهنم، حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، وإنما قيد بالأكبر؛ لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر، وقال في "فتح الرحمن": {الْأَكْبَرَ}: عذاب جهنم، والأصغر: ما عذبوا به في الدنيا من الجوع والقحط والقتل ونحوها، ويؤيده ما قال الراغب في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} فيه تنبيه على أن كل ما ينال الكافر من العذاب قبل ذلك في الدنيا، وفي البرزخ، صغير في جنب عذاب ذلك اليوم. انتهى. وقرأ ابن مسعود (¬3): {فإنه يعذب الله}، ومعنى قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) ...} إلخ، أي: إنك يا محمد، وإن كنت داعيًا ليس لك سلطان على ما في نفوسهم، فالله هو المسيطر عليهم، وصاحب السلطان على سرائرهم، فمن تولى منهم، وأعرض عن الذكرى، وجحد الحق المعروض عليه، فالله يعذبه العذاب الأكبر في الآخرة، وقد يضم إلى ذلك عذابًا في الدنيا من قتل، أو سبط الذرية، أو غنيمة للأموال إلى نحو أولئك من صنوف البلاء التي ينزلها بهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[25]

25 - ثم أكد تعذيب الله لمن تولى وكفر بقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)}؛ أي: رجوعهم بيعد الموت، فهو تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر؛ أي: إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث، لا إلى أحد سوانا، لا استقلالًا ولا اشتراكًا، كما قال تعالى؛ {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} فتقديم (¬1) الخبر للتخصيص والمبالغة، فإنه يفيد معنى أن يقال: إن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، كما أن مبدأهم وصدورهم كان منه، وفيه تخويف شديد، فإن رجوع العبد العاصي العصر إلى مالكه الغضوب في غاية الصعوبة، ونهاية العسرة، وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى {من}، كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها، ويقال: آب يؤب أوبًا وإيابًا إذا رجع، ومنه قول عبيد بن الأبرص: وَكُلُّ ذِيْ غَيْبَةٍ يَؤُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوبُ وقرأ الجمهور (¬2): {إِيَابَهُمْ} بتخفيف الياء مصدر آب: بمعنى رجع، وقرأ أبو جعفر وشيبة: بتشديدها. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في المعيام والقيام، وقيل: هما لغتان بمعنى، قال الواحدي: وأما إيابهم بتشديد الياء، فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج. 26 - {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا} بمقتضى وعيدنا، لا وجوبًا، لا على غيرنا {حِسَابَهُمْ}؛ أي: جزاءهم بعد رجوعهم إلينا بالبعث، فنحن نحاسبهم على النقير والقطمير من نياتهم وأعمالهم، و {ثُمَّ} (¬3) للتراخي في الرتبة لبعد منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإياب، لا في الزمان، فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم، لا بين كون إيابهم إليه تعالى، وحسابهم عليه تعالى، فإنهما أمران مستمران، والمعنى: أي: لا مفر للمعرضين، ولا خلاص لهم من الويل الذي أوعدوا به، فإنهم راجعون إلينا، وقد حق القول منا في عقابهم، وسنحاسبهم على ما كسبت أيديهم. وفي هذا تسلية لقلب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإزالة أحزانه وآلامه لتكذيبهم إياه، وإصرارهم على معاندته، وفي "الإرشاد": وفي تصدير (¬4) الجملتين بـ {إِنَّ}، وتقديم خبرها، وعطف الثانية على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) أبو السعود.

الأولى بكلمة {ثُمَّ} المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى. الإعراب {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التعجبي التشويقي إلى استماع حديث الغاشية، وقيل بمعنى: قد. {أَتَاكَ}: فعل ومفعول به {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}: فاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة إنشائية، {وُجُوهٌ}: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل والوصف المقدر {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {خَاشِعَةٌ}، و {خَاشِعَةٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حديث الغاشية، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)}: خبران آخران للمبتدأ، وقيل: {خَاشِعَةٌ} عاملة {نَاصِبَةٌ} صفات لـ {وُجُوهٌ}، والخبر جملة {تَصْلَى}، {تَصْلَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {وُجُوهٌ}، {نَارًا}: مفعول به {حَامِيَةً}: صفة {نَارًا}، والجملة خبر رابع لـ {وُجُوهٌ}. {تُسْقَى}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {وُجُوهٌ}، والجملة خبر خامس لـ {وُجُوهٌ}. {مِنْ عَيْنٍ}: متعلق بـ {تُسْقَى} {آنِيَةٍ}: صفة {عَيْنٍ}. {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)}. {لَيْسَ}: فعل ماضٍ ناقص {لَهُمْ}: خبرها مقدم {طَعَامٌ إ}: اسمها مؤخر، وجملة {لَيْسَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر مترتب على ما سبق، كأنه قيل: وما هو طعامهم بعدما ذكر شرابهم؟، قيل: ليس لهم طعام إلخ، {إِلَّا} أداة استثناء مفرغ، {مِنْ ضَرِيعٍ}: صفة {طَعَامٌ}، أو بدل منه على القاعدة، ويجوز أن يكون في محل النصب على الاستثناء {لَا}: نافيه، {يُسْمِنُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {ضَرِيعٍ}، والجملة صفة لـ {ضَرِيعٍ}، وجملة {وَلَا يُغْنِي} معطوفة على جملة {لَا يُسْمِنُ}. {مِنْ جُوعٍ}: متعلق بـ {يُغْنِي}. {وُجُوهٌ}:

مبتدأ، سوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل. {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {نَاعِمَةٌ}، و {نَاعِمَةٌ}: خبر {وُجُوهٌ}، والجملة مستأنفة، أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة قوله: وجوه يومئذ خاشعة {لِسَعْيِهَا}: متعلق بـ {رَاضِيَةٌ}، و {رَاضِيَةٌ}: خبر ثانٍ لـ {وُجُوهٌ}. {فِي جَنَّةٍ}: خبر ثالث لـ {وُجُوهٌ}. {عَالِيَةٍ}: صفة {جَنَّةٍ}: {لَا}: نافية {تَسْمَعُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على المخاطب تقديره: أنت {فِيهَا}: متعلق بـ {تَسْمَعُ}، {لَاغِيَةً}: مفعول به؛ لأنه مصدر بمعنى: لغوًا، جاء على وزن فاعلة، كالعاقبة والعافية، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ {جَنَّةٍ} ولكنها سببية، {فِيهَا}: خبر مقدم. {عَيْنٌ} مبتدأ مؤخر. {جَارِيَةٌ}: صفة لـ {عَيْنٌ} والجملة الاسمية صفة ثالثة لـ {جَنَّةٍ}، {فِيهَا}: خبر مقدم، {سُرُرٌ}: مبتدأ مؤخر، {مَرْفُوعَةٌ}: صفة لـ {سُرُرٌ}، والجملة الاسمية صفة رابعة لـ {جَنَّةٍ}، {وَأَكْوَابٌ} معطوفة على {سُرُرٌ}: {مَوْضُوعَةٌ}: صفة {أَكْوَابٌ}، {وَنَمَارِقُ}: معطوفة على {سُرُرٌ}، {مَصْفُوفَةٌ}: صفة لـ {نَمَارِقُ}، {وَزَرَابِيُّ}: معطوف على {سُرُرٌ}، و {مَبْثُوثَةٌ}: صفة لـ {زَرَابِيُّ}. {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)}. {أَفَلَا}: الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه السياق، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف {لا}: نافية {يَنْظُرُونَ}: فعل وفاعل {إِلَى الْإِبِلِ}: متعلق بـ {يَنْظُرُونَ}، و {يَنْظُرُونَ}: تعدى إلى {الْإِبِلِ} بواسطة {إِلَى}، وتعدى إلى {كَيْفَ خُلِقَتْ} على سبيل التعليق، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها, وإن لم يكن فيه استفهام على خلاف في ذلك. اهـ "فتوحات". والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة والتقدير: أينكرون البعث فلا ينظرون، والجملة المحذوفة مستأنفة مسوقة لتقرير ما مضى من حديث الغاشية. {كَيْفَ}: اسم استفهام عن الحال في محل النصب على الحال بـ {خُلِقَتْ}، {خُلِقَتْ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {الْإِبِلِ}، والجملة الفعلية في محل الجر بدل من {الْإِبِلِ} بدل اشتمال، {وَإِلَى السَّمَاءِ}: جار ومجرور معطوف على قوله: {إِلَى الْإِبِلِ}، وجملة قوله: {كَيْفَ رُفِعَتْ} بدل من {السَّمَاءِ} بدل اشتمال، وكذا قوله {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

سُطِحَتْ (20)}: معطوفان على قوله: {إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ممثالان له في إعرابه. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}. {فَذَكِّرْ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا دعوتهم إلى الإيمان بالله، وبما جئت به من البعث والنشور والحساب، وبالاستدلال عليها بالنظر إلى هذه المخلوقات المذكورة، ولم يقبلوا ذلك، وأردت بيان ما هو اللازم لك .. فأقول لك: ذكرهم. {ذكر}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، ومفعوله محذوف تقديره: فذكرهم، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {إِنَّمَا}: أداة حصر {أَنْتَ}: مبتدأ {مُذَكِّرٌ}: خبر، والجملة الاسمية جملة تعليلية مسوقة لتعليل الأمر بالتذكير {لَسْتَ}: فعل ناقص، واسمه {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {بِمُصَيْطِرٍ}، {بِمُصَيْطِرٍ} خبر {ليس} و {الباء}: زائدة، وجملة {ليس} معطوفة على ما قبلها بعاطف مقدر على كونها تعليلية {إِلَّا}: أداة استثناء متصل {مَن}: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من مفعول {ذَكِّرْ} المحذوفة، أو من الهاء في {عَلَيْهِمْ}، {تَوَلَّى}: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر صلة {مَن} الموصولة {وَكَفَرَ}: معطوف على {تَوَلَّى}، {فَيُعَذِّبُهُ} {الفاء}: تعليلية {يعذبه الله}: فعل ومفعول به، وفاعل. {الْعَذَابَ}: مفعول مطلق {الْأَكْبَرَ} صفة لـ {الْعَذَابَ}، والجملة الفعلية جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: {إِلَّا}: حرف استثناء منقطع بمعنى لكن. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {تَوَلَّى} صلته، {وَكَفَرَ}: معطوف على {تَوَلَّى} {فَيُعَذِّبُهُ}: {الفاء}: رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لشبه الموصول بأسماء الشرط في العموم، {يعذبه}: فعل ومفعول به {اللَّهُ}: فاعل. {الْعَذَابَ}: مفعول مطلق مبين للنوع، {الْأَكْبَرَ}. صفة لـ {الْعَذَابَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب {إِنَّ}: حرف نصب {إِلَيْنَا}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {إِنَّ} {إِيَابَهُمْ}: اسم {إِنَّ} مؤخر، وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها سيقت لتعليل التعذيب، {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب رتبي، كما مر

{إِنَّ}: حرف نصب {عَلَيْنَا}: خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {حِسَابَهُمْ} اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} الغاشية: اسم من أسماء القيامة سميت بذلك؛ لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها، يقال: غشية يغشاه؛ أي: غطاه، وكل ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاشٍ له، وفي "المختار": الغشاء: الغطاء كما في قوله تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} بضم الغين وفتحها وكسرها، وفي "المصباح": ويقال: إن الغاشية تعطل القوى المحركة، والأوردة الحساسة لضعف القلب بسبب وجع شديد، أو برد، أو جوع مفرط، وقيل: الغشي: هو الإغماء، وقيل: الإغماء: امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، وقيل: الإغماء: سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه - من باب: تعب -: أتيته، والإسم: الغشيان - بالكسر -. {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} والناصبة: التعبة، يقال: نصب - من باب علم -: إذا تعب في العمل، والمعنى. تعمل أعمالًا شاقة. {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)} من قولهم: صلي النار بالكسر؛ أي: قاسى حرها، وفيه إعلال بالقلب، أصله: تصلي، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {حَامِيَةً}؛ أي: متناهية في الحر، من قولهم: حميت النار إذا اشتد حرها. وقوله: {تُسْقَى} أصله: تسقي، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. {نَارًا} ألفه منقلبة عن واو لتصغيره على نويرة. {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} والعين: ينبوع الماء، والآنية: الشديدة الحر، وفي "القاموس": وأنى الحميم: انتهى حره، فهو آن، وبلغ هذا أناه ويكسر؛ أي: غايته. {إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} والضريع: شجر ذو شوك لائط بالأرض، فإذا كان رطبًا سمي: بالشبرق، وفي "القاموس": والضريع - كأمير -: الشبرق، أو يبيسه، أو نبات رطبه يسمى: الشبرق، ويابسه: الضريع، لا تقربه دابة لخبثه، والسلاء والعوسج:

الرطب، أو نبات في الماء الآجن له عروق لا تصل إلى الأرض، أو شيء من جهنم أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، ونبات منتن يرمي به البحر، ويبيس كل شجر، والخمر أو رقيقها، والجلد على العظم تحت اللحم. وفي "الكشاف": الضريع: يبيس الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبًا، فإذا يبس تحامته الإبل، وهو سم قاتل، قال أبو ذؤيب: رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضَرِيْعًا بَانَ عَنْهُ النَّحَائِصُ {نَاعِمَةٌ}؛ أي: ذات بهجة وحسن وجمال، اسم فاعل من نعم الشيء بالضم نعومةً؛ أي: صار ناعمًا لينًا. {رَاضِيَةٌ}: فيه إعلال بالقلب، أصله: راضوة من الرضوان، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} فيه إعلال أيضًا، أصله: عالوة من العلو، قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة .. {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)}؛ أي: لغوًا وكذبًا وبهتانًا؛ لأنه مصدر على وزن فاعلة، كالعاقبة والعافية، كما مر، وفيه إعلال بالقلب أيضًا، أصله؛ لاغوة من لغا يلغو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة. {فِيهَا سُرُرٌ} جمع سرير، وهو ما يجلس أو ينام عليه، وأفضله ما كان مرفوعًا عن الأرض. {وَأَكْوَابٌ}: جمع: كوب بالضم، وهو ما لا عروة له، ولا خرطوم من الكيزان. {مَوْضُوعَةٌ}؛ أي: معدة ومهيأة للشرب. {وَنَمَارِقُ} جمع: نمرقة بضم النون وفتحها، والراء مضمومة فيهما لغتان أشهرهما الأول، وهو الوسادة الصغيرة، وفي "القاموس": والنمرقة مثلثة: الوسادة الصغيرة، أو الميثرة، أو طنفسة فوق الرحل. قال الشاعر: كُهُوْلٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوْهُهُمْ ... عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوْفَةٍ وَنَمَارِقِ {وَزَرَابِيُّ} جمع: زربي بكسر الزاي، وزربية، وهو البساط، أصله: زرابيي بوزن فعاليل، فأدغمت ياء فعاليل في الياء لام الكلمة، وأصل الزرابي: أنواع النبات إذا احمرت واصفرت وفيها خضرة، ويقال: أزرب النبات إذا صار كذلك،

سموا بها البسط لشبهها به. {مَبْثُوثَةٌ}؛ أي: مفرقة في المجالس بحيث يرى في كل مجلس شيء منها، كما يرى في بيوت ذوي الثراء، وفي "القاموس": الزرابي: النمارق والبسط، أو كل ما يبسط ويتكأ عليها، الواحدة: زربي بالكسر، ويضم، والطنافس أيضًا: جمع طنفسة بتثليث الطاء والفاء، ففيه تسع لغات، وهي المسماة الآن بالسجادة. {إِلَى الْإِبِلِ} بكسرتين وتسكن الباء، مفرد يقع على الجمع، وليس بجمع ولا اسم جمع، يجمع على: آبال، كما في "القاموس"، وقال بعضهم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، كنساء وقوم، وإنما واحده بعير وناقة وجمل. {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)} ورفع السماء: إمساك ما فوقنا من شموس وأقمار ونجوم. {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)} ونصب الجبال: إقامتها أعلامًا للسائرين، وملجأً للحائرين. {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} وسطح الأرض: تمهيدها وتوطئتها لقامة عليها، والمشي في مناكبها {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} أصل {لَسْتَ}: ليس، فلما لحقت به تاء الفاعل المتحركة .. سكن آخر الفعل - وهو السين - فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار: لست بوزن فلت، و {مسيطر}: اسم فاعل جاء مصغرًا ولا مكبر له، كقولهم: رويد والثريا وكميت ومبيقر ومبيطر ومهيمن، وقرىء {بمسيطر} بفتح الطاء، وهذه القراءة غريبة شاذة، فقد قال في "تاج العروس": سيطر: جاء على وزن فيعل، فهو مسيطر بكسر الطاء، ولم يستعمل فعله مجهولًا، وننتهي في كلام العرب إلى ما انتهوا إليه، فلا نزيد على ذلك. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التشويقي في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}؛ لدلالته

على تشويق السامع إلى استماع حديث الغاشية. ومنها: الاستعارة التصريحية في لفظ {الْغَاشِيَةِ}؛ لأنه حقيقة في كل ما أحاط بالشيء من جميع جهاته، ككمام الثمار التي أحاطت بلبها مع الإحاطة في كل. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ}؛ لأن المراد أصحابها، ففيه إطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: التتميم في قوله: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}، فقوله: {لَا يُغْنِي} جملة لا يمكن طرحها من الكلام؛ لأنه لما قال: {لَا يُسْمِنُ} .. ساغ للمتوهم أن يتوهم أن هذا الطعام الذي ليس من جنس طعام البشر انتفت عنه صفة الإسمان، ولكن بقيت له صفة الإغناء، فجاءت جملة: {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} تتميمًا للمعنى المراد، وهو أن هذا الطعام انتفت عنه صفة إفادة السمن والقوة، كما انتفت عنه صفة إماطة الجوع وإزالته. ومنها: تنكير {جُوعٍ} في هذه الجملة للدلالة على التحقير أي: لا يغني من جوع ما. ومنها: تأخير نفي الإغناء عن الإسمان لمراعاة الفواصل، والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين، إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الإسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء عن الجوع إياه، بخلاف العكس، ولذلك كرر {لَا} لتأكيد النفي. ومنها: تقديم حكاية أهل النار على حكاية أهل الجنة؛ لأنه أدْخَلُ في تهويل الغاشية، وتفخيم حديثها. ومنها: ترك العطف في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} على ما قبلها إيذانًا بكمال تباين مضمون الجملتين. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {فَذَكِّرْ} و {مُذَكِّرٌ}، وقوله: {فَيُعَذِّبُهُ}، و {الْعَذَابَ}. ومنها: المقابلة بين وجوه الأبرار ووجوه الفجار في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} قابل بينها وبين سابقتها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)}.

ومنها: حذف المفعول في قوله: {فَذَكِّرْ}؛ أي: الناس؛ لإفادة العموم. فائدة: واعلم أنه يجوز حذف المفعول به لغرض: إما لفظي: كتناسب الفواصل؛ أي: رؤوس الآي، وذلك كما في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}، والأصل: {وما قلاك}، فحذف المفعول ليناسب قوله: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)}، وكالإيجاز، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} والأصل: فإن لم تفعلوه، ولن تفعلوه؛ أي: الإتيان بسورة من مثله. وإما معنوي: كاحتقاره، نحو: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}؛ أي: لأغلبن الكافرين، فحذف المفعول زيادة في امتهانه واحتقاره، أو لاستهجانه واستقباح التصريح به، كقول عائشة رضي الله عنها: ما رأى منى، ولا رأيت منه؛ أي: العورة. ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} لإفادة التخصيص والمبالغة في الوعيد، فإنه يفيد معنى أن يقال: إن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، كما أن مبدأهم وصدورهم كان منه تعالى. ومنها: العطف بـ {ثُمَّ} للدلالة على التراخي في الرتبة لا في الزمان, لأنه قد يكون مباشرة بعد الإياب، ولكين التفاوت بين الموقفين أمر لا تكتنه أهواله، ولا يدري أحد مداه. ومنها: مجيء الخبر مؤكدًا بـ {إِنَّ}، كأنهم بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر الذي أشاحوا عنه، ولم يتدبروه لترددهم فيه. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية: 1 - وصف أهل الجنة، ووصف أهل النار. 2 - ذكر عجائب الصنعة الإلهية. 3 - أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم ¬

_ (¬1) إلى هنا تمت سورة الغاشية بعون الله ذي العطايا الفاشية، ليلة الثلاثاء وقت السحر من ليلة عيد الفطر من شهر شوال من شهور سنة: 1/ 10/ 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.

سورة الفجر

سورة الفجر سورة الفجر مكية بلا خلاف (¬1)، نزلت بعد سورة الليل، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال: نزلت {وَالْفَجْرِ (1)} بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وآياتها (¬2): ثلاثون، أو تسع وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع وثلاثون كلمة. وحروفها: خمس مئة وسبعة وتسعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها من وجوهٍ (¬3): 1 - أنه ذكر في تلك الوجوه الخاشعة، والوجوه الناعمة، وذكر في هذه طوائف من المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وطوائف من الذين وجوههم ناعمة. 2 - أن القسم في أول هذه السورة، كالدليل على صحة ما تضمنته خاتمة السورة السابقة من الوعد والوعيد. قال الجلال السيوطي - رحمه الله تعالى -: لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها، أو على ما تضمنته من الوعد والوعيد، هذا مع أن جملة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} مشابهة لجملة: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ}. وسورة الفجر نزلت بعد سورة الليل، والفجر يعقب الليل، ويأتي بعده. وعبارة أبي حيان: المناسبة بين السورتين: أن الله سبحانه لما ذكر فيما (¬4) قبلها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} .. أتبعها بذكر الطوائف المتكبرين المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وأشار إلى الصنف ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي. (¬4) البحر المحيط.

الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)}. وأيضًا لما قال: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)} قال هنا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} ... تهديدًا لمن كفر وتولى. قال الشيخ موسى جار الله - رحمه الله تعالى - في كتابه: "نظم الدرر في ترتيب السور وتناسبها": وسورة الفجر فيها تاريخ التمدن بترتيب عجيب، يظهر منه أن تمدن جنوب جزيرة العرب أقدم من تمدن الفراعنة، وظاهر قوله تعالى: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)} أن تمدن عاد كان أرقى من كل تمدن كان قبله أو في زمنه، فإن كان أوتاد فرعون في هذه السورة هي أهرام الفراعنة، وهي قبورهم، فلعل {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)} هي شيء أعجب صنعًا، وأنفع للناس، وإن لم تكن أرسى من الأهرام، وأصبر منها على عوادي الطبيعة، وجاءت السورة بعد سورة الغاشية ليرى الترتيب أن غاشية من الغواشي غشيت التي لم يخلق مثلها في البلاد، فهل ترى لها من باقية؟ انتهى. ومن فضائلها: ما أخرجه النسائي عن جابر قال: صلى معاذ صلاة، فجاء رجل، فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد، ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، جئت أصلي، فطول علي، فانصرفت، فصليت في ناحية المسجد فعلفت ناضحي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفتان أنت يا معاذ؟، أين أنت من {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، و {الْفَجْرِ} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}. ومنها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام، كانت له نورًا يوم القيامة"، ولكن فيه مقال. الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الفجر كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة الفجر لذكر الفجر فيها. واشتملت هذه السورة على مقصدين: أولهما: في إهلاك عاد وثمود وقوم فرعون، وذلك من أول السورة إلى قوله: ¬

_ (¬1) البيضاوي.

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}. والثاني: بيان أن كثرة النعم على العبد ليست دالة على إكرام الله له، وأن كثرة البلاء ليست دالة على إهانته، بل الإكرام في التوفيق للعمل الصالح، والإهانة في الخذلان بالكفر والمعاصي، وهو من قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) ...} إلى آخر السورة. والله أعلم بمراده * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} الآيات، فالمناسبة بينها وبين ما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقسم أنه سيعذب الكافرين جزاء كفرهم وإصرارهم على مخالفة أوامره .. شرع (¬1) يذكر بعض قصص الأمم الماضية ممن عاندوا الله ورسوله، ولجوا في طغيانهم، فأوقع بهم شديد العذاب، وأخذهم أخذ العزيز المقتدر الجبار؛ ليكون في ذلك زجر لهؤلاء المكذبين، وتثبيت للمؤمنين الذين اتبعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وناصروه، وتطمين لقلوبهم بأن أعداءهم سيلقون ما يستحقون من الجزاء. قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬2) أنه لا يفوته من شأن عباده شيء، وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه .. أردف ذلك بذكر شأن من شؤون الإنسان، وبين أنه لا يهتم ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

إلا بأمور الدنيا وشهواتها، فإذا أنعم الله عليه وأوسع له في الرزق .. ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه، وجنبه منازل العقوبة، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهي، ولا يبالي أكان ما يصنع خيرًا أو شرًا، فيطغى ويفسد في الأرض، وإذا ضيق عليه الرزق وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص، أو لتظهر قوة صبره، فإن الفقر لا يزيد ذوي العزائم إلا شكرًا يقول: ربي قد أهانني، ومن أهانه الله وصغرت قيمته لديه .. لم يكن له عناية بعمله، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر، أو يكافئه على ما يصنع من خير، فلا شكره يكافأ بإحسان، ولا كفره يجازى بعقوبة، فينطلق بكسب عيشه بأي وسيلة عنت له، ولا تحجزه شريعة، ولا يقف أمامه قانون، ويسلك سبيل الجبان، ويبخس الحقوق، ويفسد نظم المجتمع، ولا تزال أحوال الناس هكذا، كما وصف الله تعالى، فأرباب السلطان يظنون أنهم في أمن من عقاب ربهم، ولا يذكرونه إلا بألسنتهم، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم، لا يبالون ماذا يفعلون. قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين خطأ (¬1) الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه .. أردف ذلك بزجرهم عما يرتكبون من المنكرات، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان، وكانوا على الحال التي يرتقي إليها الإنسان، لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس، فعنوا بإكرامه، فإن الذي يفقد أباه معرض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح .. لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم، ويشتدون في أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه، ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية. وصفوة القول: أن شرههم في المال، وقومهم إلى اللذات، وانصرامهم إلى التمتع بها، ثم قسوة قلوبهم إلى أن لا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشؤون ¬

_ (¬1) المراغي.

اليتامى من فساد أخلاقهم، وتعطيل قواهم، وانتشار العدوى منهم إلى معاشريهم، فينتشر الداء في جسم الأمة دليل على أن ما يزعمون من اعتقادهم بإله يأمرهم وينهاهم، وأن لهم دينًا يعظهم زعم باطل، وإذا غشوا أنفسهم، وادعوا أنهم يتذكرون الزواجر، ويراعون الأوامر، فذلك مقال تكذبه الفعال. قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ...} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنكر عليهم أقوالهم، وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم، وأن الفقر إهانة لهم، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا، واستفراغ الجهد في تحصيلها؛ وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام .. أردفه (¬1) ببيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون، مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء، وامتلائها بحب المال، والميل إلى الشهوات، زعم لا حقيقة له، وإنما يتذكرون ربهم في ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول، ويعوزهم الحول، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها، وانتهى إبانها، فإن الدار دار جزاء، لا دار أعمال، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين، إلا الحسرة والندامة، وقول قائلهم: {لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره، ومن الإهانة ما يجل عن التشبيه والتمثيل. قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ...} إلخ، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال الإنسان الذي خلي وطبعه فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل، ثم ذكر عاقبة أمره في الآخرة .. أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع، وسمت نفسه إلى مراتب الكمال، فاطمأن إلى معرفة خالقه، واستعلى برغائبه إلى المطامح الروحية، ورغب عن اللذات الجسمانية، فكان في الغنى شاكرًا لا يتناول إلا حقه، وفي الفقر صابرًا لا يمد يده إلى ما لغيره، وبين أنه في ذلك اليوم يكون بجوار ربه، راضيًا بعمله في الدنيا، مرضيًا عنده، يدخله في زمرة الصالحين المكرمين من عباده. ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالْفَجْرِ (1)}؛ أي: أقسمت بالفجر، وهو: صبح النهار، أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم، وفيه عبرة لمن تأمل، وجواب هذا (¬1) القسم وما بعده هو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} كذا قال ابن الأنباري، وقيل: محذوف لدلالة السياق عليه؛ أي: ليجازين كل أحد بما عمل أو ليعذبن. قال في "كشف الأسرار": لما كان العرب أكثر خلق الله قسمًا في كلامهم .. جاء القرآن على عادتهم في القسم، والفجر فجران: مستطيل: كذنب السرحان، وهو الكاذب، ولا يتعلق به حكم، ومستطير: وهو الصادق الذي يتعلق به الصوم والصلاة. أقسم (¬2) الله سبحانه بالفجر الذي هو أول وقت ظهور ضوء الشمس في جانب المشرق، كما أقسم بالصبح؛ حيث قال: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} لما يحصل به من انقضاء الليل بظهور الضوء، وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطيور والوحوش في طلب الأرزق، وذلك مشاكل لنشور الموتى، وفيه عبرة عظيمة لمن تأمل. واختلف (¬3) في الفجر الذي أقسم الله به هنا، فقيل: هو الوقت المعروف من كل يوم، لا فجر يوم مخصوص، وسمي فجرًا؛ لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، وقال قتادة: إنه فجر أول يوم من شهر محرم؛ لأن منه تتفجر السنة، وقال مجاهد: يريد فجر يوم النحر؛ لأنه يوم عظيم يقع فيه الطواف المفروض والحلق والرمي، ويروى: أن يوم النحر يوم الحج الأكبر، وقال الضحاك: فجر عشر ذي الحجة، لأن الله قرن الأيام به، فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}؛ أي: ليال عشر من ذي الحجة، وبه قال السدي والكلبي، وقيل: فجر يوم عرفة؛ لأنه يوم شريف أيضًا، يتوجه فيه الحجاج إلى جبل عرفات، وفي الحديث: "الحج عرفة"، وقيل: المعنى: أقسم بصلاة الفجر، قيل: أقسم برب الفجر، والأول أولى، وهو (¬4) الظاهر، وقول الجمهور منهم علي وابن عباس وابن الزبير. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) البحر المحيط.

[2]

وقرأ أبو الدينار الأعرابي: {والفجرٍ} و {الوترٍ} و {يسرٍ} بالتنوين في الثلاثة، قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين، وإن كان فعلًا أو كان فيه ألف ولام، قال الشاعر: أقِلِّيْ اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَن ... وَقُوْلِيْ إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَن انتهى. وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي، 2 - وقوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} قسم ثانٍ معطوف على الأول؛ أي: أقسم بليال عشر من أول شهر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين، وتنكيرها (¬1) للتعظيم لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها، ولذا أقسم الله بها، وذلك كالاشتغال بأعمال الحج، وقال الضحاك: إنها العشر الأواخر من رمضان، ويكفيها شرفًا كون ليلة القدر فيها التي هي خير من ألف شهر، وقيل: العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء. وقرأ الجمهور: {وَلَيَالٍ} التنوين و {عَشْرٍ} صفة لها، وقرأ ابن عباس: بالإضافة، فضبطه بعضهم {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} بلام دون ياء، وبعضهم: {وليالي عشر} بالياء، يريد: وليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن يقال: عشرة؛ لأن المعدود مذكر .. وأجيب عنه: بأنه لما حذف المعدود الموصوف، وهو مذكر .. جاز في عدده حذف التاء. 3 - وقوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)} قسم ثالث ورابع، معطوف أيضًا على قوله: {وَالْفَجْرِ (1)}؛ أي: أقسم بشفع هذه الليالي العشر ووترها، فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة، ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد، ولكن الظاهر التعميم؛ لأن الألف واللام للاستغراق. والمعنى عليه: أي أقسم بالأشياء كلها شفعها ووترها؛ لأن كل شيء لا بد أن يكون شفعًا أو وترًا، وقال قتادة: الشفع والوتر: شفع الصلاة ووترها، منها: شفع ¬

_ (¬1) روح البيان.

كالرباعية، ومنها: وتر كالثلاثية، وقيل: الشفع يوم عرفة، ويوم النحر، والوتر: ليلة يوم النحر، وقال مجاهد وعطية العوفي: الشفع الخلق، والوتر: الله الواحد الصمد، وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة أيضًا، وقال الربيع بن أنس وأبو العالية هما: صلاة المغرب، فيها شفع ركعتان، والوتر: الركعة، وقال الضحاك: الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء، وقيل: هما آدم وحواء؛ لأن آدم كان وترًا، فشفع بحواء، وقيل: الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر دركات النار، وهي سبع، وقيل: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل والقدرة والعجز والقوة والضعف والعلم والجهل والحياة والموت والبصر والعمى والشمع والصمم والكلام والخرس، والوتر: انفراد صفات الله سبحانه، وهي عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وراءها عن "تفسير القرطبي" رحمه الله تعالى، وقيل: الشفع: الحيوان؛ لأنه ذكر وأنثى، والوتر: الجماد، وقيل غير ذلك من الأقوال المتلاطمة، ولا يخفى عليك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف، والخاطر الخاطىء. والذي ينبغي التعويل عليه، ويتعين المصير إليه، ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب: الزوج، والوتر: الفرد، فالمراد من الآية: إما نفس العدد وما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر، وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية .. فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره .. فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية .. لم يكن ذلك مانعًا من تناولها لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كلامه، وبما هو المراد من كتابه. وقرأ الجمهور (¬1): {وَالْوَتْرِ} بفتح الواو وسكون التاء، وهي لغة قريش ومن والاها، وقرأ الأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن - بخلاف عنه - والأخوان حمزة والكسائي وخلف: بكسر الواو وسكون ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[4]

التاء، وهي لغة تميم، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى الأصمعي فيه اللغتين، وحكى يونس عن أبي عمرو وابن كثير: بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أن تكون لغة ثالثة، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراءً للوصل مجرى الوقف. 4 - وقوله: {وَاللَّيْلِ} أي: وأقسمت بجنس الليل {إِذَا يَسْرِ}؛ أي: يمضي ويذهب، قسم خامس معطوف على ما قبله، وهو نظير قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)}، وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}؛ أي: أقسمت بجنس الليل وقت ذهابه ومضيه بإقبال النهار ومجيئه، والتقييد به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة، كأن جميع الحيوانات أعيد إليهم الحياة بعد الموت، وتسببوا بذلك لطلب الأرزاق المعدة للحياة الدنيوية التي يتوصل بها إلى سعادة الدارين. فإن قلت (¬1): القسم بـ {الليل إذا يسر} عام يغني عن القسم بـ {ليال عشر}، فلم ذكرها أولًا؟. قلت: المقسم به في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} هو {الليل} باعتبار سيره ومضيه، وفي قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} هو الليالي بلا اعتبار مضيها وذهابها، بل باعتبار خصوصية أخرى، فلا يغن أحدهما عن الآخر، وبهذا المعنى قال الجمهور، وقال قتادة وأبو العالية في معنى: {إِذَا يَسْرِ}: إذا جاء وأقبل، وقيل: معنى {إِذَا يَسْرِ}: إذا يسري فيه الساري، ويسير فيه السائر، فإسناد السرى إلى الليل مجاز، كما في قولهم: نهاره صائم؛ أي: هو صائم في نهاره، وليله نائم؛ أي: نائم في ليله، كما في قول الشاعر: لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِيْ السُّرَى ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وبهذا المعنى قال الأخفش والقتيبي وغيرهما، فالتقييد بذلك؛ لأن المسير في الليل حافظ للسائر من حر الشمس، فإن السفر مع مقاساة حر النهار أشد على النفس، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى في الليل"، وكذا هو حافظ من شر قطاع الطريق غالبًا؛ لأنهم مشغولون بالنوم في الليل، وقال عكرمة وغيره: والمراد بالليل ¬

_ (¬1) روح البيان.

هنا: هي ليلة المزدلفة خاصة؛ لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله تعالى، وقيل: ليلة القدر لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها، وقيل: إنه سبحانه أراد عموم الليل كله، وهو الظاهر الأظهر، كما مر. وقرأ الجمهور (¬1): {يَسْرِ} بحذف الياء وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع وأبو عمرو: بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل، قال الخليل: تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي، قال الزجاج: والحذف أحب إليَّ؛ لأنها فاصلة، والفواصل تحذف منها الياءات، وقال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها، وأنشد بعضهم: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تَلِيْقُ دِرْهَمًا ... جُوْدًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ دَمَا ما تليق؛ أي: ما تمسك. والحاصل: أن الياء حذفت (¬2) هنا اكتفاء بالكسر، ولسقوطها في خط المصحف، ولموافقة رؤوس الآي، وإن كان الأصل إثباتها؛ لأنها لام فعل مضارع مرفوع، والسرى: سير الليل، يقال: سرى يسري سرى ومسرى، إذا سار عامة الليل، والمراد هنا: ذهاب الليل أو إقباله، أو سير الساري فيه. واعلم: أن نعمة (¬3) الله على عباده بتعاقب الليل والنهار، واختلاف مقاديرها بحسب الأزمنة والفصول مما لا يجحدها إلا مكابر، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيهًا على أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم، عالم بما في ذلك من المصلحة لعباده. انظر إلى ما في إقبال الصبح من عميم النفع، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل، وينبه إلى إستقبال العمل، وكذلك تدرك ما في الليالي المقمرة من فائدة، فهي تستميل النفس إلى النقلة، وتيسر للناس النجعة، ويخاصة في أيام الحر الشديد في بلاد كبلاد العرب، وكذا تعرف ما في الظلام من منفعة، فإن فيه تهدأ النفوس، وتسكن الخواطر، وتستقر الجنوب في مضاجعها لتستريح من عناء العمل، وتستعين ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[5]

بالنوم على إعادة القوى، وتختفي الناس من مطاردة اللصوص، ولله در المتنبي حيث قال: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ 5 - ثم قرر سبحانه فخامة الأشياء التي أقسم بها قبل، وكونها أهلًا لأن تعظم، فقال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ} إلخ، وهذا تقرير (¬1) وتحقيق لفخامة شأن المقسم بها، وكونها أمورًا جليلةً حقيقةً بالإعظام والإجلال عند أرباب العقول، وتنبيه على أن الإقسام بها أمر معتد به، خليق بأن يؤكد به الأخبار على طريقة قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}، كما يقول من ذكر حجة باهرة: هل فيما ذكرته حجة. والمعنى: هل فيما ذكر من الأشياء المقسم بها، فالإشارة بذلك إلى تلك الأمور، والتذكير فيه بتأويله بالمذكور؛ أي: في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها {قَسَمٌ}؛ أي: مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار، وفي "فتح الرحمن": مقنع ومكتفى {لِذِي حِجْرٍ}؛ أي: لذي عقل ولب منور بنور المعرفة والحقيقة، يراه حقيقًا بأن يقسم به إجلالًا وتعظيمًا، والمراد: تحقيق أن الكل كذلك، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضمًا للخلق، وإيذانًا بظهور الأمر، أو المعنى: هل (¬2) في الإقسام بتلك الأمور المذكورة إقسام لذي حجر مقبول عنده، يعتد به، ويفعل مثله، ويؤكد به المقسم عليه. والحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم -: العقل: سمي به؛ لأنه يحجر صاحبه؛ أي: يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلًا ونهيةً بضم النون؛ لأنه يعقل وينهى، وحصاةً أيضًا من الإحصاء، وهو الضبط، قال الفراء: يقال: إنه لذو حجر إذا كان قاهرًا لنفسه، ضابطًا لها، مضيقًا عليه، والتنوين في الحجر للتعظيم، قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له، فهو ميت بمنزلة قلب البهائم، والمراد: أن من (¬3) كان ذا لب وعقل، يفطن إلى أن في القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة، وعجيب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[6]

الصنعة، الدالة على وحدانية صاحبها مقنعًا أيما مقنع، وكفاية أعظم كفاية، وجاء الكلام بصورة الاستفهام لتأكيد المقسم عليه، وتقريره، كما تقول لمن يحاجك في أمر، ثم تقيم له الحجة الناصعة التي تثبت ما تدعِ: هل فيما ذكرت لك كفاية؟ ومرادك: أني قد ذكرت لك أقوى الحجج وأبينها، فلست تستطيع جحد ما قلت بعد هذا. وجواب القسم بهذه الأمور الخمسة المذكورة محذوفة كما مر، يدل عليه قوله بعد {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} الآية، ويقدر بنحو قوله: "إن ناصية المكذبين بيدي، ولئن أمهلتهم .. فلن أهملهم، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم" وقد ترك ذكره لتسترسل نفس القارىء في تأمل ما مضى وما يتبع؛ ليجد الجواب بينها، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن. 6 - ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيرًا للكفار في عصر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وتخويفًا لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} الهمزة فيه للإنكار، وهو في قوة النفي، ونفي النفي إثبات، فيكون الاستفهام تقريريًا بعد أن كان إنكاريًا؛ أي: ألم تعلم يا محمد علمًا يقينيًا جاريًا مجرى الرؤية في الجلاء والوضوح؛ أي: قد علمت بإعلام الله تعالى لك وبالتواتر أيضًا، كيف عذب ربك عادًا ونظائرهم، فسيعذب كفار قومك لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد: أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام، سموا باسم أبيهم، كما سمي بنو هاشم هاشمًا، وبنو تميم تميمًا، فلفظ عاد: اسم للقبيلة المنتسبة إلى عاد، وقد قيل لأوائلهم: عاد الأولى، ولأواخرهم: عاد الأخيرة. قال عماد الدين بن كثير: كل ما ورد في القرآن خبر عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف. انتهى. 7 - {إِرَمَ}: عطف (¬1) بيان لـ {عاد} للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف؛ أي: سبط إرم، أو أهل إرم على ما قيل من أن إرم اسم بلدتهم، أو أرضهم التي كانوا فيها، وكانت منازلهم بين عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

ويؤيده القراءة بالإضافة، وأيًا ما كان، فامتناع صرفها للتعريف والتأنيث. وفي "المفردات": الآرام: أعلام تبنى من الحجارة، و {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)}: إشارة إلى أعلامها المرفوعة المزخرفة على هيئة المنارة، أو على هيئة القبور، وفيه أيضًا حذف مضاف بمعنى أهل الأعلام {ذَاتِ الْعِمَادِ} صفة لـ {إِرَمَ}، واللام للجنس الشامل للقليل والكثير، والعماد كالعامود، والجمع: عَمَد بفتحتين، وعُمُد - بضمتين -: أي: ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة، أو ذات الخيام والأعمدة؛ حيث كانوا بدويين أهل عمد يطلبون الكلأ حيث كان، فإذا هاجت الريح ويبس العشب .. رجعوا إلى منازلهم، أو ذات البناء الرفيع، وكانوا ذوي أبنية مرفوعة على العمد، وكانوا يعالجون الأعمدة، فينصبونها ويبنون فوقها القصور، وكانت قصورهم ترى من أرض بعيدة، أو ذات الأساطين؛ إذ كانت مدينتهم ذات أبنية مرفوعة على الأسطوانات على أن إرم اسم بلدتهم. وقال السهيلي رحمه الله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} وهو جيرون بن سعد بن إرم، وهو الذي بني مدينة دمشق على عمد من رخام، ذكر أنه أدخل فيها أربع مئة ألف عمود، وأربعين ألف عماد من رخام، فالمراد: هذه العماد التي كان البناء عليها في هذه المدينة، وكانت تسمى جيرون، وبه تعرف، وسميت دمشق بدمشق بن نمروذ عدو إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان دمشق قد أسلم، وبنى جامع إبراهيم في الشام. انتهى. لعل هذا الرواية أصح، فليتأمل. 8 - {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)} صفة أخرى (¬1) لـ {إِرَمَ}، والضمير لها على أنها اسم القبيلة؛ أي: لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام، والقوة في الآفاق والنواحي؛ حيث كان طول الرجل أربع مئة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة، فيحملها ويلقيها على الحي فيهلكهم، ولذا كانوا يقولون: من أشد منا قوة، ونظيرهم في الطيور: الرخ: هو طير في جزائر الصين، يكون جناحه الوحد عشرة آلاف باع، يحمل حجرًا في رجله كالبيت العظيم، ويلقيه على السفينة في البحر. أو المعنى: لم يخلق مثل مدينتهم في جميع بلاد الدنيا، فالضمير لها على أنها اسم البلدة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

والمعنى (¬1): أي ألم تعلم أيها المخاطب، أو يا محمد، كيف أهلك ربك عادًا الأولى الذين كانوا أشد الناس أجسامًا؛ وأطولهم قامة، وأرفعهم مكانةً، والذين لم يخلق في البلاد كلها مدينة كمدينتهم. وقرأ الجمهور (¬2): {بِعَادٍ} بالتنوين مصروفًا، وقرؤوا: {إِرَمَ} بكسر الهمزة، وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية، لأنه اسم للقبيلة، وعاد وإنْ كان اسم القبيلة فقد يلحظ فيه معنى الحي، فيصرف، أو لا يلحظ، فجاء على لغة من صرف هندًا، و {إِرَمَ}: عطف بيان أو بدل منه، وقرأ الحسن وأبو العالية: بإضافة عاد إلى {إرم}، وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: {أرم} بفتح الهمزة والراء، وقرأ ابن الزبير: {بعاد} بالإضافة {أرم} بفتح الهمزة، وكسر الراء، وهي لغة في المدينة، وقرأ الضحاك: {بِعَادٍ} مصروفًا، و {بعاد} غير مصروف أيضًا {أرم} بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف {أرم} بكسر الراء، وعن ابن عباس: {أرم}: فعلًا ماضيًا. {ذاتَ العمادِ} بنصب التاء على المفعول به. والمعنى: جعل الله ذات العماد رميمًا، ويكون أرم بدلًا من {فَعَلَ رَبُّكَ}، يقال: رم العظم إذا بلي، وأرم هو: أي: بلي، وأرمه غيره معدى بالهمزة من: رم الثلاثي، وقرأ أبي: {التي لم يخلق مثلهم في البلاد}، وقرأ ابن الزبير: {لم يخلق مثلها} بالبناء للفاعل: أي: لم يخلق الله سبحانه مثل إرم، وقرأ الجمهور: {لَمْ يُخْلَقْ} بالبناء للمفعول، و {مثلُها} بالرفع، وروي عن ابن الزبير: {نخلق} بالنون. 9 - ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة، وهي: ثمود على قبيلة عاد، فقال: {وَثَمُودَ} عطف على {عاد} قبيلة مشهورة سموا باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وكانوا عربًا من العاربة، يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأصنام كعاد، وهم قوم صالح عليه السلام، كما قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}. {الَّذِينَ جَابُوا}؛ أي: خرقوا وقطعوا {الصَّخْرَ}؛ أي: الصخور والأحجار الكبار، ونحتوها وبنوها بيوتًا {بِالْوَادِ}، أي: في وادي القرى بالقرب من المدينة ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط والشوكاني.

[10]

المنورة من جهة الشام، والجوب: القطع، تقول: جبت القميص إذا قطعته، ومنه سمي: الجيب. والصخر: هو الحجر الصلب الشديد، والواد: أصله (¬1): الوادي، حذفت ياؤه اكتفاءً بالكسرة، ورعايةً لرؤوس الآي، وأصل الوادي: الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديًا، والمراد هنا: هو وادي أم القرى بالقرب من المدينة الشريفة من جهة الشام، قال أبو نضرة: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: "أسرعوا السير، فإنكم في واد ملعون". والمعنى: قطعوا صخر الجبال وخرقوها، فاتخذوا فيها بيوتًا نحتوها من الصخر، كما قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}، قيل: إنهم أول من نحت الجبال والصخور والرخام، وقد بنوا ألفًا وسبع مئة مدينة، كلها من الحجارة. وقرأ ابن وثاب (¬2): {وثمود} بالتنوين على أنه اسم لأبي القبيلة، والجمهور: بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة، وقيل: جابوا واديهم، وجلبوا ماءهم في صخر شقوه، فعل ذي القوة والآمال. وقرأ الجمهور: {بِالْوَادِ} بحذف الياء وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير: بإثباتها فيهما، وقرأ قنبل في رواية عنه: بإثباتها في الوصل دون الوقف. والخلاصة (¬3): أي وألم تر يا محمد أو أيها المخاطب، كيف فعل رب بثمود، الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة، كما قال في آية أخرى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)}، وفي هذا دليل على ما أنعم الله به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير، فإنهم كانوا ينحتون الجبال وينقبونها، ويجعلون تلك الأنقاب بيوتًا يسكنون فيها، وقوله: {بِالْوَادِ} متعلق بـ {جَابُوا} أو بمحذوف على أنه حال من الصخر. 10 - وقوله: {وَفِرْعَوْنَ} معطوف على {عاد} أيضًا؛ أي: وألم تر كيف فعل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[11]

ربك بفرعون {ذِي الْأَوْتَادِ}؛ أي: ذي (¬1) الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، أو جعل الجنود أنفسهم أوتادًا؛ لأنهم يشدون الملك كما تشهد الأوتاد الخيام، وقيل: كان له أوتاد يعذب الناس بها، ويشدهم إليها، والمراد بفرعون: فرعون موسى عليه السلام، اسمه: الوليد بن مصعب بن ريان بن ثروان أبو العباس القبطي، وإليه تنسب الأقداح العباسية، وفرعون: لقب أفرده تعالى بالذكر لانفراده في التكبر والعلو، حتى ادعى الربوبية والألوهية، والأوتاد: جمع وتد بفتحتين وبكسر التاء أيضًا، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم، ويربطونها بالأوتاد والأطناب. 11 - ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف، فقال: {الَّذِينَ طَغَوْا}، وتجبروا {فِي الْبِلَادِ}؛ أي: في بلادهم صفة للمذكورين من الطوائف، وهو أحسن من حيث اللفظ؛ إذ لا حذف فيه، واختار صاحب "الكشاف": كونه منصوبًا على الذم بتقدير: أذم، لكونه صريحًا في الذم، والمقام مقام الذم، وهو أحسن من حيث المعنى ويجوز جعله خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين طغوا. والمعنى: طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وتجاوزا الحد، يعني: طغى عاد في اليمن، وثمود بأرض الشام، والقبط بمصر، كما أن نمروذ طغى بالسواد، وقس على هذا سائرهم. 12 - {فَأَكْثَرُوا فِيهَا}؛ أي: في البلاد {الْفَسَادَ}؛ أي: بالكفر وسائر المعاصي، فإن الفساد يتناول جميع أقسام الإثم، كما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم، فهو مفسد متجاوز عن الحد الذي حد له، وفيه تخويف شديد لأكثر حكام الزمان ونحوهم. 13 - {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} صبُّ الماء: إراقته من أعلى، أي: أنزل ربك عليهم إنزالًا شديدًا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد، وأفرغ عليهم {سَوْطَ عَذَابٍ}؛ أي: أشد عذاب لا تدرك غايته، وهو عبارة عما حل بكل طائفة منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة، وهي: الريح لعاد، والصيحة لثمود، والغرق للقبط، وتسميته (¬2) سوطًا: للإشارة إلى أن ذلك بالنسبة إلى ما أعد لهم في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والسوط: الجلد المضفور، أي: المنسوج المفتول الذي يضرب به، قال أبو حيان: استعير السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، والتعبير (¬1) عن إنزاله بالصب: للإيذان بكثرته واستمراره وتتابعه، فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان، كالرمل والحبوب، وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار، ونسبته إلى السوط مع أنه ليس من ذلك القبيل باعتبار تشبيهه في نزوله المتتابع المتدارك، على المضروب بقطرات الشيء المصبوب. فإن قلت: أليس أن الله تعالى قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وهو يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة، فبين الآيتين معارضة، فكيف الجمع بينها؟. قلت: إنه يقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة، وذلك لا ينافي أن يعجل شيء من ذلك في الدنيا، فإن الواقع في الدنيا شيء من الجزاء ومقدماته، كذا في "حواشي ابن الشيخ". يقول الفقير: وأوجه من ذلك: أن المفهوم من الآية المؤاخذة لكل الناس، وهو لا ينافي أن يؤاخذ بعضهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كبعض الأمم السالفة المكذبة، قال الشاعر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِيْنَهُ ... وَصَبَّ عَلَى الْكُفَّارِ سَوْطَ عَذَابِ وحاصل معنى الآيات: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)} إلخ؛ أي: إن (¬2) هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم في هضم حقوق الناس، واغتروا بعظيم قدرتهم، فكان سببًا في إفساد البلاد، ذاك أن من اغتر بنفسه، وتهاون بحقوق غيره، واعتدى عليها، وأخذ ما ليس له، ولم يعط الذي عليه .. يكون قد فكك شمل الجماعة، وأفسد في البلاد، فيختل نظام العمران، ويقف دولاب التعامل، ويوجس كل امرىء خيفةً من بني جلدته، ولا شك أن أممًا هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار، ومن ثَمَّ ذكر عاقبة أمرها، فقال {فَصَبَّ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[14]

عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)}؛ أي: فأنزل الله تعالى بهم ألوانًا من البلاء، وشديد العذاب، وقد شبه سبحانه ما أوقعه بهم من صنوف العذاب، وما صبه عليهم من ضروب الهلاك بالسوط من قبل أن السوط يضرب به في العقوبات والله يوقع العذاب بالأمم عقوبةً لها على ما يقع منها من أنواع التفريط في أوامر دينه. 14 - ثم ذكر العلة في تعذيبه لهم، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {لَبِالْمِرْصَادِ}، والجملة (¬1) تعليل لما قبلها، وفيها إيذان بأن كفار قومه - صلى الله عليه وسلم - سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب، كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم -، والمرصاد (¬2): المكان الذي يترقب فيه الراصدون، مفعال من: رصده، كالميقات من وقته، والباء للظرفية؛ أي: إنه لفي المكان الذي تترقب فيه السابلة، ويجوز أن يكون صيغة مبالغة، كالمطعان، والباء تجريدية، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، شبه حاله تعالى في كونه حفيظًا لأعمال عباده مجازيًا عليها على النقير والقطمير، ولا محيد للعباد عن أن يكون مصيرهم إلى الله تعالى، بحال من قعد على طريق السابلة يترصدهم ليظفر بالجاني، أو لأخذ المكس، أو نحو ذلك، ولا مخلص لهم من العبور إلى ذلك الطريق، ثم استعمل هنا ما كان مستعملًا هناك، كما سيأتي في مبحث البلاغة، ويقال: يعني أن ملائكة ربك على الصراط يترصدون على جسر جهنم في سبعة مواضع، فيسأل في أولها عن الإيمان، فإن سلم من النفاق والرياء نجا، وإلا تردى في النار، وفي الثاني عن الصلاة، فإن أتم ركوعها وسجودها وسائر أركانها وأقامها في مواقيتها نجا، وإلا تردى في النار، وفي الثالث عن الزكاة، وفي الرابع عن صوم شهر رمضان، وفي الخامس عن الحج والعمرة، وفي السادس عن الوضوء والغسل من الجنابة، وفي السابع عن بر الوالدين وصلة الرحم، فإن خرج منها .. قيل له: انطلق إلى الجنة، وإلا وقع في النار، والله أعلم. والمعنى (¬3): أي إن شأن ربك أن لا يفوته من شؤون عباده نقير ولا قطمير، ولا يهمل أمةً تعدت في أعمالها حدود شرائعه القويمة، بل يأخذها بذنوبها أخذ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[15]

العزيز المقتدر، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر، لا يفرط فيما رصد له. وقد أجمل الله سبحانه في هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب، وفصله في غير موضع من كتابه الكريم، فقال في سورة الحاقة: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} إلى آخر ما هنالك، وقال: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)}، والحكمة في تكرار القصص في القرآن الكريم، وفي ذكر بعضها على طريق الإشارة في بعض المواضع، وبالتفصيل في بعض آخر أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى، وتوحده في ملكة وقهره لعباده حينًا، وترقيق قلوب المخاطبين حينًا آخر، وإنذار عباده، وإعذارهم مرة ثالثة، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز، لا يكون لغيره، وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأن الله تعالى سيمهل الكافرين، ولا يهملهم، وهو تعالى ليس بغافل عنهم، وحينئذٍ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت، ولم تترك سدى، كافية جد الكفاية لمن فكر وتدبر. 15 - ولما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد .. ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير، وعند إصابة الشر، وأن مطمح أنظارهم، ومعظم مقاصدهم الدنيا، فقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ}، وهو مبتدأ، والخبر جملة {يقول} الآتي، قال السهيلي - رحمه الله تعالى -: المراد بالإنسان هنا: عتبة بن ربيعة، وكان هو السبب في نزولها فيما ذكر، وإن كانت هذه الصفة تعم، وقيل: أبي بن خلف، وقيل: أمية بن خلف، قاله مقاتل. والكلام متصل (¬1) بما قبله من قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} كما أشرنا إليه آنفًا، وكأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبة أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيرًا أو شرًا، فأما الإنسان .. فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصاد فكره الدنيا ولذائذها، والفاء: استئنافية، وقيل: فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها، ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

وأردت بيان أحوال الإنسان، هل هو في مراقبة ربه، فيشكر على نعمه، ويصبر على نقمه، أم لا .. فأقول لك: أما الإنسان {إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} {إذا}: ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالخبر الآتي، و {مَا}: زائدة؛ أي: إذا عامله ربه معاملة من يبتليه بالغنى واليسار {فَأَكْرَمَهُ} بالقوة والجاه، و {الفاء} فيه تفسيرية؛ لأن الإكرام والتنعيم عين الابتداء {وَنَعَّمَهُ} بالمال وسعة العيش، والفاء في قوله: {فَيَقُولُ} واقعة في جواب {أما} الشرطية، وجملة {يقول}: خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، والظرف المتوسط على نية التأخير، وإنما تقديمه للإيذان من أول الأمر بأن الإكرام والتنعيم بطريق الابتلاء؛ ليتضح اختلال قوله المحكي، {فَإِذَا} لمجرد الظرفية، وإن هذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، فكأنه قيل: فأما الإنسان فيقول مفتخرًا فرحًا بما نال، ومسرورًا بما أعطي {رَبِّي أَكْرَمَنِ}؛ أي: فضلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه وقت ابتلائه بالإنعام، ولا يخطر بباله أنه محض تفضل عليه، ليبلوه أيشكر أم يكفر. والمعنى (¬1): أي إن الإنسان إذا أنعم الله عليه، وأوسع له في الرزق .. زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة إكرام من الله له، وخيل إليه الوهم أن الله لا يؤاخذه على ما يفعل، فيطغى ويفسد في الأرض. 16 - {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ}؛ أي: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه .. فيكون الواقع بعد {أَمَّا} في الفقرتين اسمًا، فتكون الجملتان متعادلتين {فَقَدَرَ}؛ أي: ضيق {عَلَيْهِ رِزْقَهُ} حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، وجعله على قدر كفايته، وقوت يومه {فَيَقُولُ} متضجرًا حزينًا: {رَبِّي أَهَانَنِ}؛ أي: أذلني بالفقر، ولا يخطر بباله أن ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيء، ولذا لم يقل: فأهانه فقدر عليه رزقه في مقابلة: أكرمه ونعمه، بل التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين في حق الفقير الصابر، أما تأديته إلى كرامة الآخرة .. فأمر ظاهر، وأما تأديته إلى كرامة الدنيا، فلأنه قد يسلم به من طمع الأعداء، فيحسن فيه اعتقاد الكبراء من أهل الدنيا، فيراجعونه ويلتمسون منه الدعاء، والتوسعة قد تفضي إلى خسران الدارين بالكفران، فيكون استدراجًا، قال بعضهم: ربما يكون التضييق ¬

_ (¬1) المراغي.

إكرامًا له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلةً له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار، وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ نصف الركبتين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. فتأمل يا أخي هل تكون هذه إهانةً لخواص الله، فالمؤمن إما في مقام الشكر، أو في مقام الصبر، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر". والمعنى (¬1): أي وإن رأى الإنسان أن رزقه لا يأتي إلا بقدر .. ظن أن ذلك إهانة من الله له، وإذلال لنفسه، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث؛ لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا، والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها، وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، وأما المؤمن .. فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، ويوفقه لعمل الآخرة. ويحتمل أن يراد بالإنسان العموم كما مر، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير، وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة .. ما سقى الكافر منها شربة ماء. والحاصل (¬2): أن الإنسان في الحالين مخطىء مرتكب أشنع وجوه الغفلة، لأن إسباغ النعمة في الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك، ولو دل على هذا .. لما رأيت عاصيًا موسعًا عليه في الرزق، ولا شاهدت كافرًا ينعم بصنوف النعم. ولعل من حكمة الله في بسط الرزق على بعض الناس، وتضييقه على بعض آخر: أن وجدان المال سبب للانغماس في الشهوات، وأنه قاطع عن الاتصال بالله، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه؛ ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة، انظر إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يدعو به ربه من قوله: "اللهم أحيني مسكينًا، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[17]

وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" تدرك سر ذلك إلى أن من يمتحنهم الله تعالى بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن الله قد اصطفاهم على عباده، ورفعهم فوق سائر خلقه، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب، ويسيروا في طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية، لا يرجعون إلى ربهم، ولا يدركون أن ما عنده خيرٌ وأبقى. وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب (¬1): {أكرمني} و {أهاني} بإثبات الياء فيهما وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع: بإثبات الياء فيهما وصلًا وحذفهما وقفًا، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ الباقون: بحذف الياء فيهما وصلًا ووقفًا اتباعًا لرسم المصحف، ولموافقة رؤوس الآي، والأصل: إثباتها لأنها اسم، ومن حذفها في الوقف سكن النون فيه، وقرأ الجمهور: {فَقَدَرَ} بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن - بخلاف عنه - وابن عامر: بتشديدها، وهما لغتان، قال الجمهور: هما بمعنى واحد بمعنى: ضيق، والتضعيف فيه للمبالغة للمتعدي، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: {رَبِّي} بفتح الياء في الموضعين، وأسكنها الباقون. تتمة: وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف ذم من يقول: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} مع أنه صادق فيه؛ لقوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} ومع أنه متحدِّث بالنعمة، وهو مأمور بالتحدث بها؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؟ قلت: المراد أن يقول ذلك مفتخرًا به على غيره، كما أشرنا إليه في حلنا السابق، ومستدلًا به على علو منزلته في الآخرة، ومعتقدًا استحقاق ذلك على ربه، كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، وكل ذلك منهي عنه مذموم، وأما إذا قاله على وجه الشكر، والتحدث بنعمة الله تعالى، فليس بمذموم، بل هو ممدوح. 17 - وقوله: {كَلَّا} ردع للإنسان القائل في الحالتين، وزجر له عن مقالته المحكية، وتكذيب له فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قد يوسع الرزق، ويبسط النعم ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) روح البيان.

للإنسان لا لكرامته - كما في الكافر والعاصي، ويضيقه عليه، لا لإهانته، كما في المؤمن المطيع - بل للاختبار والامتحان. قال الفراء: {كَلَّا} في هذا الوضع بمعنى: أنه لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله تعالى على الغنى والفقر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته على، ولم ابتله بالفقر لهوانه عليَّ، بل ذلك لمحض القضاء والقدر، بلا تعليل بالعلل. ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله، فقال: {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الذي فقد أباه، بالإنفاق عليه والكسوة ونحوهما، واليتيم من بني آدم: هو الذي فقد أباه، وكان غير بالغ، ومن البهائم: هو الذي فقد أمه، وفي الحديث: "أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم"، والالتفات فيه إلى الخطاب على قراءة الجمهور بالتاء الفوقية؛ للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشافهته بالتوبيخ؛ تشديدًا للتقريع، وتأكيدًا للتشنيع، والجمع في {تُكْرِمُونَ} وفيما سيأتي من سائر الأفعال باعتبار معنى الإنسان؛ إذ المراد به الجنس؛ أي: بل لكم أحوال أشد شرًا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال، فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالنفقة والكسوة ونحوهما. قال في "الأشباه": استخدام اليتيم بلا أجرة حرام ولو لأخيه ومعلمه، إلا لأمه، وفيما إذا أرسله المعلم لإحضار شريكه. انتهى. وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو: {يكرمون}، و {لا يحضون}، و {يأكلون}، و {يحبون} بياء الغيبة فيها، وقرأ باقي السبعة: بتاء الخطاب في جميعها. والمعنى: أنكم تتركون إكرام اليتيم، فتأكلون ماله، وتمنعونه من فضل أموالكم، قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون، وكان يتيمًا في حجر أمية بن خلف، فيدفعه عن حقه، فنزلت. والمعنى: {كَلَّا}؛ أي (¬1): لم ابتل الإنسان بالغنى لكرامته عندي، ولم ابتله ¬

_ (¬1) المراغي.

[18]

بالفقر لهوانه عليَّ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة، فقد أوسع على الكافر لا لكرامته، وأضيق على المؤمن لا لهوانه، وإنما أكرم المرء بطاعته، وأهينه بمعصيته، وقد أوسّع على المرء بالمال لأختبره أيشكر أم يكفر، وأضيق عليه لأختبره أيصبر أم يضجر، ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال، فقال: {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}؛ أي: بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم، تدل على تهالككم على المال، فقد يكرمكم الله تعالى بالمال الكثير، فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره، والإحسان إليه، وقد جاء في الحديث الحث على ذلك، فمنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام. 18 - {وَلَا تَحَاضُّونَ} بحذف إحدى التاءين من: تتحاضون، والحض: الحث والتحريض، أي: لا يحض (¬1) بعضكم بعضًا، ولا يحث من أهل وغيره شكرًا لإنعام الله تعالى {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}؛ أي: على إطعام جنس المسكين، وإصلاح شأنه، ومن لا يحض غيره على إطعامه فأن لا يطعمه بنفسه أولى، فيؤول المعنى إلى أن يقال: ولا تطعمون مسكينًا ولا تأمرون بإطعامه، وفيه ذم بليغ للبخيل. والخلاصة: وإذا لم تكرموا اليتيم، ولم يوص بعضكم بعضًا بإطعام المسكين، فقد كذبت مزاعمكم في أنكم قوم صالحون، وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام، فيقول: ولم تطعموا المسكين، ليبين أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يوصي بعضهم بعضًا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع التزام كل بفعل ما يأمره أو ينهى عنه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والكوفيون وابن مقسم (¬2): {تَحَاضُّونَ} بفتح التاء وبالألف، أصله: تتحاضون، وهي قراءة الأعمش؛ أي: لا يحض بعضكم بعضًا، وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيزري عن الكسائي كذلك، إلا أنهم ضموا التاء؛ أي: تحاضون أنفسكم؛ أي: يحض بعضكم بعضًا، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى: فعل أيضًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[19]

وقوله: {عَلَى طَعَامِ} يجوز أن يكون بمعنى إطعام، كالعطاء بمعنى: الإعطاء، والأولى أن يكون على حذف مضاف؛ أي: على بذل طعام المسكين، أو على إعطاء طعام المسكين. 19 - ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم، وخلو قلبهم من الرحمة بالمسكين، لم يكونا زهدًا في لذائذ الحياة، وتخلصًا من متاعبها، وعكوفًا على شؤون أنفسهم، بل جاء من محبتهم للمال، فقال: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}؛ أي: الميراث، وأصله (¬1): وراث قلبت واوه تاء، والميراث: هو المال المنتقل من الميت {أَكْلًا لَمًّا}؛ أي: أكلًا شديدًا، واللم: الجمع، يقال: كتيبة ملمومة؛ أي: مجتمعة بعضها إلى بعض. والمعنى: أكلًا ذا لمٍّ على حذف المضاف؛ أي: جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون أنصباءهم الحرام مجموعةً إلى أنصبائهم الحلال. والمعنى (¬2): أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلًا شديدًا، فتحولون بينه وبين من يستحق، وتجمعون بين نصيبكم منه، ونصيب غيركم. 20 - {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}؛ أي: حبًا كثيرًا مع حرص وشره ومنع حقوق وعدم انتفاع، فإن الجم الكثير يقال: جم الماء في الحوض: إذا اجتمع فيه وكثر، والمقصود: ذمهم ببيان أن حرصهم على الدنيا فقط، وأنهم عادلون عن أمر الآخرة، وفيه إشارة إلى أن الحب للمال طبيعي، فلا يتخلص منه المرء بالكلية إلا أن يكون من الأقوياء، فكأنه أشار إلى أن حبه إذا لم يشتد لا يكون مذمومًا؛ أي: تميلون إلى جمع المال ميلًا شديدًا، ميراثًا كان أو غيره. وخلاصة ذلك: أنكم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة .. لانصرفتم عما يترك الموتى ميراثًا لأيتامهم، ولكنكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئًا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة .. لما ضربت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام، فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[21]

صلاح وإصلاح، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمن. 21 - ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر، فقال: {كَلَّا}، فهو ردع لهم عما ذكر من الأفعال والتروك، وإنكار عليهم؛ أي: لا ينبغي (¬1) أن يكون الأمر كذلك في الحرص على الدنيا، وقصر الهمة على تحصيلها وجمعها، من حيث تهيأ لهم من حل أو حرام، وترك المواساة منها، وتوهم أن لا حساب ولا جزاء، فإن عاقبة ذلك الحسرة والندامة على إيثار الحياة الدنيوية الفانية على الحياة الآخروية، وسيأتي يوم يندمون فيه أشد الندم، ولكن لا تنفعهم الندامة، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم في التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال. ثم بين ذلك اليوم، ووصفه بأوصاف ثلاثة، فقال: 1 - {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} وزلزلت {دَكًّا دَكًّا}؛ أي: دكًا متتابعًا، وزلزلةً متواترة، وضرب بعضها ببعض حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور، حين زلزلت زلزلةً بعد زلزلة، وحركت تحريكًا بعد تحريك، وصارت هباءً منبثًا، وهو عبارة عما عرض لها عند النفخة الثانية، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها؛ لأنها فعل شرط لها، و {إذا} متعلقة بالجواب الآتي، وهو قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} ما فرط فيه في الدنيا. والجملة مستأنفة مسوقة بطريق الوعيد تعليلًا للردع، والدك: الدق، يقال: دككت الشيء أدكه دكًا: إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض، وقال الخليل: الدك: كسر الحائط والجبل، وقال المبرد: الدك: حط المرتفع بالبسط؛ أي: بسطت وذهب ارتفاعها، وقال الزجاج: تزلزلت، ودك بعضها بعضًا، وقال ابن قتيبة: دكت جبالها حتى استوت، والمعنى هنا: زلزلت، وحركت تحريكًا بعد تحريك، ودكًا الثاني ليس تأكيدًا للأول، بل هو دك آخر سوى الأول، وقال ابن عصفور: وانتصاب {دَكًّا} الأول على أنه مصدر مؤكد لفعله، و {دَكًّا} الثاني: تأكيد للأول، ويجوز أن يكون النصب على الحال؛ أي: حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب بابًا بابًا، علمته الخط حرفًا حرفًا. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[22]

والمعنى: أنه كرِّر الدَّكُّ عليها حتى صارت هباءً منبثًا. والخلاصة: أنه إذا دكت الأرض دكًا بعد دك، وتتابع عليها ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء، وذهب كل ما على وجهها من جبال وقصور وأبنية .. يتذكر الإنسان ما فرط فيه. 2 - 22 {وَجَاءَ رَبُّكَ} واعلم (¬1) أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيه، وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا: يلزمنا الإيمان بها، وإجراؤها على ظاهرها، فتقول على مذهبهم: المجيء صفة واجبة لله تعالى، نثبتها ونعتقدها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وهذا هو المذهب الأسلم الأعلم، وتأولها بعض المتأخرين وغالب المتكلمين، فقالوا: ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله محال، فلا بد من تأويل الآية، فقيل في تأويلها: وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء، وقيل: جاء أمر ربك وقضاؤه، وقيل: وجاء دلائل آيات ربك، فجعل مجيئها مجيئًا له تعالى تفخيمًا لتلك الآيات، وقال الإمام أحمد: معناه: جاء أمر ربك وقضاؤه، فهو على حذف مضاف للتهويل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جاء أمره وقضاؤه، وقال النسفي: وهذا (¬2) تمثيل لظهور آيات اقتداره، وتبين آثار قهره وسلطانه، فإن واحدًا من الملوك إذا حضر بنفسه .. ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور وزرائه وسائر خواصه وعساكره. انتهى. بتصرف. وقال الشوكاني: أي: جاء أمره وقضاؤه، وظهرت آياته، وقيل: المعنى: أنها زالت الشبه في ذلك اليوم، وظهرت المعارف، وصارت ضرورية، كما يزول الشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه، وقيل: جاء قهر ربك وسلطانه، وانفراده بالأمر، والتدبير من غير أن يجعل ويفوض إلى أحد من عباده شيئًا من ذلك. انتهى. {و} جاء {الْمَلَكُ}؛ أي: ونزلت ملائكة كل سماء حالة كونهم {صَفًّا صَفًّا} ¬

_ (¬1) البيضاوي. (¬2) النسفي.

[23]

على حدة؛ أي: مصطفين صفًا بعد صف، محدقين بالجن والإنس، فيكونون سبع صفوف، وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفًا محيطين بالأرض ومن فيها، ويكونون سبعة صفوف، وقيل: معنى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}؛ أي: وتجلت (¬1) لأهل الموقف السطوة الإلهية وقهر الربوبية، كما تتجلى أبهة الملك للأعين إذا جاء الملك في جيوشه ومواكبه، ولله المثل الأعلى. 3 - 23 {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}؛ أي: ويوم إذ كشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة محجوبة عنهم، كقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}؛ أي: أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها، وليس المراد أنها نقلت عن مكانها إلى مكان آخر، فالمجيء بها عبارة عن إظهارها حتى يراها الخلق مع ثباتها في مكانها، فإن من المعلوم أنها لا تنفك عن مكانها، و {يَوْمَئِذٍ} منصوب بـ {جيء}، و {بِجَهَنَّمَ}: نائب فاعل له والباء للتعدية. وأخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، لها تغيظ وزفير، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جاء لركبتيه يقول: يا رب نفسي نفسي"، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "أمتي أمتي" فالمجيء (¬2) بها على حقيقته، فالجر يدل على انفكاكها من مكانها، وتأوله الأولون على التجوز بأن معنى يجرون: يباشرون أسباب ظهورها، وقيل: المراد بمجيء جهنم: مجيء صورتها المثالية، ولا مناقشة فيه، فيكون كمجيء المسجد الأقصى إلى مرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله قريش عن بعض أوصافه في قصة المعراج. {يَوْمَئِذٍ} بدل (¬3) من قوله: {إِذَا دُكَّتِ}، والعامل فيهما قوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}؛ أي: يوم إذ دكت الأرض دكًا دكًا، وجاء ربك والملك صفًا صفًا، يتذكر الإنسان ما فرَّط وقصر فيه من حقوق ربه، وحقوق الخلق بتفاصيله، بمشاهدة آثاره ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

[24]

وأحكامه، أو بمعاينة عينه على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة، فيبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة والقبيحة، أو يتعظ؛ أي: يقبل التذكير والإرشاد الذي بلغ إليه في الدنيا، ولم يتعظ ولم يقبله في الدنيا، فيتعظ به في الآخرة، فيقول: يا ليتنا نرد، ولا نكذب بآيات ربنا، وهذا الاتعاظ يستلزم الندم على تقصيراته، والندم توبة، لكن لا توبة هناك لفوات أوانها. وقوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}؛ أي: ومن أين له العظة، وقد فاته أوانها؟، اعتراض بين البدل والمبدل منه، جيء به لإفادة أنه ليس بتذكر حقيقة؛ لخلوه عن الفائدة بعدم وقوعه في أوانه، و {أَنَّى}: خبر مقدم لـ {الذِّكْرَى}، و {لَهُ}: متعلق بما تعلق به الخبر؛ أي: ومن أين يكون له التذكر، والاتعاظ، وقد فات أوانه، وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ومن أين له منفعة الذكرى، وبه يرتفع التناقض الواقع بين إثبات التذكر أولًا، ونفيه ثانيًا. 24 - وقوله: {يَقُولُ} الإنسان يومئذٍ {يا} أيها الحاضرون {لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} بدل اشتمال من {يَتَذَكَّرُ}، أو استئناف وقع عن سؤال نشأ عنه، كأنه قيل: ماذا يقول عند تذكره؟ فقيل: يا ليتني عملت لحياتي هذه - يعني: لتحصيل الحياة الأخروية التي هي حياة نافعة دائمة غير منقطعة - أعمالًا صالحةً أنتفع بها اليوم، على أن اللام للتعليل، ويحتمل كون اللام للتوقيت؛ أي: يا ليتني قدمت أعمالًا صالحة تنفعني اليوم وقت حياتي الدنيوية، ويجوز أن يكون المعنى: قدمت عملًا ينجيني من العذاب، فأكون من الأحياء، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}. وحاصل معنى قوله: {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}؛ أي: يوم إذ حدثت (¬1) تلك الحوادث والدواهي تذهب الغفلة عن الإنسان، ويتذكر المرء ما كان قد فرط وقصر فيه، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالًا، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها، ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة فيها، فقال: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}؛ أي: ومن أين لهذه الذكرى فائدة، أو ترجع إليه بعائدة، وقد فات الأوان، وحمَّ القضاء. ¬

_ (¬1) المراغي.

[25]

والخلاصة: أنه إذا حدثت الأحداث .. انكشفت عن الإنسان الحجب، ووضح له ما كان عليه، وذهب عنه الغفلة، وإذ ذاك يتمنى أن يعود ليعمل صالحًا، ولكن أنى له ذلك. ثم بين تذكره بقوله: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)}؛ أي: يتمنى (¬1) أن يكون قد عمل صالحًا ينفعه في حياته الأخروية التي هي الحياة الحقيقة. 25 - ثم بين مآله وعاقبة أمره، فقال: {فَيَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال .. {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)}. قرأ الجمهور: {لَا يُعَذِّبُ} و {وَلَا يُوثِقُ} مبنيين للفاعل، و {أَحَدٌ} في الموضعين فاعل، و {العذاب} بمعنى: التعذيب، كالسلام بمعنى: التسليم، وكذا الوثاق بمعنى: الايثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء، وهو الشد بالوثاق، والوثاق: ما يشد به من الحديد والحبل، والضميران في قوله: {عَذَابَهُ} {وَثَاقَهُ} عائدان إلى الله تعالى، فهما مصدران مضافان إلى الفاعل. 26 - والمعنى: لا يتولي عذاب الله ووثاقه أحد سواه، إذ الأمر كله لله، فلا يلزم أن يكون يوم القيامة معذِّب سوى الله، لكنه لا يعذِّب أحد مثل عذابه، وهو قول ابن عباس والحسن، وفي "عين المعاني": لا يعذب كعذاب الله ووثاقه في الآخرة أحدٌ في الدنيا. أو عائدان للإنسان، فيكونان مصدرين مضافين إلى المفعول، والمعنى عليه: لا يعذب أحد تعذيبًا مثل تعذيب الله هذا الكافر، ولا يوثق أحدٌ إيثاقًا مثل إيثاق الله هذا الكافر بالسلاسل والأغلال. وقرأ ابن سيرين (¬2): وابن أبي إسحاق وسوار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو: بفتح الذال من {يعذَّب} والثاء من {يوثَق} مبنيين للمفعول، والضميران للإنسان، والمصدران مضافان للمفعول؛ أي: لا يعذب أحد مثل عذاب ذلك الإنسان، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد مثل وثاق ذلك الإنسان، وظاهره يقتضي أن يكون عذابه أشد من عذاب إبليس إلا أن يكون المراد أحد من هذا الجنس، كعصاة المؤمنين، فالمراد (¬3) بالإنسان حينئذٍ: الكافر؛ أي: لا يعذب من ليس بكافر كعذاب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[27]

الكافر، وقيل: المراد به: إبليس، ولكن يأباه ظاهر قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}، وقيل: المراد به: أبي بن خلف. قال الفراء: المعنى: إنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد؛ لتناهيه في الكفر والعناد، وقيل: المعنى: لا يعذب مكانه أحد، ولا يوثق مكانه أحد، فلا تؤخذ منه فدية، وهو كقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الكسائي، قال: وتكون الهاء في الموضعين ضمير الكافر؛ لأنه معلوم أنه لا يعذب كعذاب الله أحد. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة؛ أي: لا يعذب أحدٌ أحدًا مثل تعذيب هذا الكافر. وحاصل المعنى على القراءة الأخيرة - أعني قراءة الكسائي -: أي (¬1) فيومئذٍ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى، فجحد نعمة الله عليه، أو أفسده الفقر حتى عتا في الأرض فسادًا، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقًا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان، ولا يخفى ما في ذلك من تقوية الذكر لمن له قلب يذكر ووجدان يشعر. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع - بخلاف عنهم -: {وِثاقه} بكسر الواو، والجمهور: بفتحها. 27 - ولما فرغ سبحانه وتعالى من حكاية أحوال الأشقياء .. ذكر بعض أحوال السعداء، فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)}؛ أي: ويقال للمؤمن يومئذٍ تكرمةً له: يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق واطمأنت إليه، فلا يخالجها شك، ووقفت عند حدود الشرع، فلا تزعزعها الشهوات، ولا تضطرب بها الرغبات: ارجعي إلى جوار ربك دار الكرامة، والاطمئنان (¬2)، والسكون بعد الانزعاج، وسكون النفس: إنما هو بالوصول إلى غاية الغايات في اليقين والمعرفة والشهود. وفي قوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} تنبيه على أنه بمعرفته تعالى، والإكثار من عبادته يكتسب اطمئنان النفس، وإذا وصلت إلى مقام الاطمئنان بذكر الله .. صار صاحبها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[28]

آمنًا من الرجوع إلى الشهوات النفسانية. وفي "التعريفات": النفس المطمئنة: هي التي تنورت بنور القلب حتى تخلت من صفاتها الذميمة، وتحلت بالأخلاق الحميدة، وقيل: المطمئنة (¬1): هي الساكنة الموقنة بالإيمان، وتوحيد الله، الواصلة إلى ثلج اليقين، بحيث لا يخالطها شك، ولا يعتريها ريب. وقال الحسن: هي المؤمنة الموقنة، وقال مجاهد: هي الراضية بقضاء الله التي أيقنت أن ما أخطاها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: هي الآمنة المطمئنة، وقال ابن كيسان: المطمئنة بذكر الله، وقيل: المطمئنة: هي الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن، قال ابن زيد: يقال لها ذلك عند الموت، وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا، وقيل: عند البعث، وقيل: عند دخول الجنة. وقرأ الجمهور (¬2): {يَا أَيَّتُهَا} بتاء التأنيث، وقرأ زيد بن علي: {يا أيها} بغير تاء، ولا أعلم أحدًا ذكر أنها تذكر، وإن كان المنادى مؤنثًا إلا صاحب "البديع"، وهذه القراءة شاهدة بذلك، ولذلك وجه من القياس، وذلك أنه لم يثنَّ ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع، فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث. والمعنى: أي ويقول الله سبحانه وتعالى للمؤمن إكرامًا له بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام، أو على لسان الملك عند خروج الروح من الجسد، أو عند تمام الحساب. 28 - {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ}؛ أي: إلى ما وعدك ربك من الكرامة والزلفى، فكونه تعالى منتهى الغاية، إنما هو بهذا الاعتبار، فسقط تمسك المجسمة، واستدل بالرجوع الذي هو العود على تقدم الروح خلقًا حالة كونك {رَاضِيَةً} بما أوتيت من النعيم المقيم {مَرْضِيَّةً} عند الله تعالى؛ أي (¬3): ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك راضية بما عملت في الدنيا، مرضيًا عنك عملك الذي عملت فيها، إذ لم تكوني ساخطة لا في الغنى ولا في الفقر، ولم تتجاوزي حدود الشرع فيما لك حق، وما عليك من واجب، وقال عكرمة وعطاء: معنى {ارْجِعِي إِلَى ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[29]

رَبِّكِ}؛ أي: إلى جسدك الذي كنت فيه، واختاره ابن جرير، ويدل على هذا قراءة ابن عباس {فادخلي في عبدي} بالإفراد، والأول أولى. 29 - ثم ذكر جميل عاقبتها فقال: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}؛ أي: في زمرة عبادي الصالحين، وكوني من جملتهم، وانتظمي في سلكهم 30 - {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} ودار كرامتي معهم، كقوله تعالى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، فالدخول في زمرة الخواص هي السعادة الروحانية، والدخول معهم في الجنات، ودرجاتها هي السعادة الجسمانية. وقيل: المراد بالنفس: الروح. والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها، وادخلي دار ثوابي، ويؤيد هذا المعنى قول من قال: إن الخطاب عند البعث، وذهب بعضهم: إلى أنه عند الموت، كما مر آنفًا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية، وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا!، فقال: "أما إنه سيقال لك هذا". وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: نزلت في عثمان بن عفان حين وقف بئر رومة، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير .. فحوِّل وجهي إلى قبلتك، فحوَّلَ الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله عنها. والمراد بالآية (¬1): كل نفس مطمئنة على العموم، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقرأ الجمهور (¬2): {عِبَادِي} جمعًا، وابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح والكلبي وأبو شيخ الهنائي واليماني: {في عبدي} على الإفراد، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس، فمدلوله ومدلول الجمع واحد. وتعدى {فَادْخُلِي} أولًا بـ {فِي}، وثانيًا بغير في، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي .. تعدت إليه بقي، تقول: دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًا تعدَّت إليه في الغالب بغير وساطة في، ومنه قوله: {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}، وقال بعض أهل الإشارة: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

معنى (¬1) الآية: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى الله بتركها، وسلوك سبيل الآخرة، فادخلي في عبادي الأخروية، وادخلي جنتي الصورية والمعنوية. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إذا توفي العبد المؤمن .. أرسل الله ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راض، فتخرج كاطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملك على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح، ولا بملك إلا صلى عليها، حتى يؤتى بها إلى الرحمن؛ أي: إلى حضوره، ومقام مخصوص من مقامات كرامته، فتسجد، ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه، فاجعلها مع نفس المؤمنين، ثم يؤمر، فيوسع عليه قبره سبعون ذراعًا عرضه، وسبعون ذراعًا طوله، وينبذ له فيه الريحان، فإن كان معه شيء من القرآن .. كفاه نوره، وإن لم يكن .. جعل له نور مثل نور الشمس في قبره، فيكون مثله مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله، وإذا توفي الكافر .. أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه قطعة بجاد - بوزن: كتاب: كساء مخطط. اهـ "قاموس" - أنتن من كل منتن، وأخشن من كل خشن، فيقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم، عذاب أليم، ورب عليك غضبان. وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير مثله على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن .. تليت هذه الآية على شفير القبر، لا يرى من تلاها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}. وحاصل معنى الآية (¬2): {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}؛ أي: فادخلي في زمرة عبادي المكرمين، وانتظمي في سلكهم، وكوني في جملتهم، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة، يشرق بعضها على بعض، وكأنها تربى في هذه الدنيا بالآلام، وتزين بالمعارف والعلوم، حتى إذا فارقت الأبدان .. جعلت في أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودة، وحسن صلة ومحبة. {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} فتمتعي فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة الراضية المرضية، وأدخلنا في جنتك مع المتقين من الأنبياء والشهداء والصالحين، والحمد لله رب العالمين آمين. الإعراب {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}. {وَالْفَجْرِ (1)} {الواو}: حرف جر وقسم {الْفَجْرِ}: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالفجر، والجملة مستأنفة، {وَلَيَالٍ}: معطوف على {الْفَجْرِ} مجرور بالفتحة الظاهرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف علة واحدة تقوم مقام علتين، وهي: صيغة منتهى المجموع؛ لأنه على زنة مفاعل، كما ذكره ابن مالك في "الخلاصة": وَكُنْ لِجَمْعٍ مُشْبِهٍ مَفَاعِلا ... أو الْمَفَاعِيْلَ بِمَنْعٍ كَافِلًا وأصله: ليالي، استثقلت الحركة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء طلبًا للتخفيف، وعوض عنه التنوين، فصار: ليال. {عَشْرٍ}: صفة {وَلَيَالٍ}، مجرور بالكسرة الظاهرة {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ}: معطوفات أيضًا على {الْفَجْرِ}، مجرورات بالكسرة الظاهرة {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بفعل القسم المحذوف تقديره: أقسم بالليل وقت سراه {يَسْرِ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لرعاية الفاصلة، أو اتباعًا لخط المصحف، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على {اللَّيْلِ}، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، وجواب القسم في هذه المذكورات كلها محذوف تقديره: لنجازين كل أحد بما عمل، أو لنعذبن. {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ

رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}. {هَلْ}: حرف استفهام للاستفهام التفخيمي والتعظيمي للأمور المقسم بها {فِي ذَلِكَ}: خبر مقدم {قَسَمٌ}: مبتدأ مؤخر {لِذِي حِجْرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ {قَسَمٌ}، والجملة جملة إنشائية مسوقة لتقرير ما قبلها وتفخيمه، لا محل لها من الإعراب {أَلَمْ}: {الهمزة} للاستفهام التقريري؛ أي: قد رأيت وعلمت علمًا ضروريًا {لم}: حرف نفي وجزم {تَرَ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب مجزوم بـ {لم}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والجملة جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل نصب على المصدرية بـ {فَعَلَ}، والمعنى: قد علمت أيَّ فعل فعل ربك بعاد. {فَعَلَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل {بِعَادٍ}: متعلق بـ {فَعَلَ}، والجملة الفعلية المعلقة بـ {كَيْفَ} الاستفهامية سدت مسد مفعولي {تَرَ}، {إِرَمَ}: بدل من {عاد} بدل كل من كل، أو عطف بيان له مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي {ذَاتِ الْعِمَادِ}: صفة لـ {إِرَمَ} مجرور بالكسرة {الْعِمَادِ}: مضاف إليه {الَّتِي}: صفة ثانية لـ {إِرَمَ}، وجملة {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} صلة الموصول {يُخْلَقْ}: فعل مضارع مغير الصيغة {مِثْلُهَا}: نائب فاعل {فِي الْبِلَادِ}: متعلق بـ {يُخْلَقْ}، {وَثَمُودَ}: معطوف على {عاد} {الَّذِينَ}: نعت لـ {ثَمُودَ}: {جَابُوا الصَّخْرَ}: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول {بِالْوَادِ}: متعلق بـ {جَابُوا}، و {الباء} بمعنى في، وحذفت الياء من {الواد}؛ لأنها من ياءات الزوائد، {وَفِرْعَوْنَ}: عطف على {عاد}، {ذِي الْأَوْتَادِ} صفة لـ {فِرْعَوْنَ}، {الَّذِينَ}: صفة للمذكورين من عاد وإرم وثمود، أو منصوب على الذم، وجملة {طَغَوْا} صلة الموصول {فِي الْبِلَادِ}: متعلق بـ {طَغَوْا}، {فَصَبَّ}: {الفاء} عاطفة {صب} فعل ماض {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {صب} {رَبُّكَ}: فاعل {سَوْطَ عَذَابٍ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {طَغَوْا}، {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه {لَبِالْمِرْصَادِ}: {اللام}: حرف ابتداء {بالمرصاد}: جار ومجرور خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى

طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن ربك لبالمرصاد لأعمال عباده خيرًا أو شرًا ليجازيهم عليها، وأردت بيان أحوال الإنسان، هل هو في مراقبة ربه فيشكر على نعمه، ويصبر على نقمه، أم لا؟ فأقول لك: أما الإنسان. {أما}: حرف شرط وتفصيل {الْإِنْسَانُ}: مبتدأ {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {يقول} {مَا}: زائدة {ابْتَلَاهُ رَبُّهُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها مجردة عن معنى الشرط، {فَأَكْرَمَهُ}: {الفاء}: عاطفة {أكرمه}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الرب، ومفعول به، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {ابْتَلَاهُ}. {وَنَعَّمَهُ}: معطوف على {أكرمه} {فَيَقُولُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها، وجملة {يقول} في محل الرفع خبر عن {الْإِنْسَانُ}، ولا يمنع تعلق الظرف بـ {يقول} كونه خبر المبتدأ؛ لأن الظرف في نية التأخير، والتقدير: فأما الإنسان .. فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء، والجملة من المبتدأ والخبر جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة {رَبِّي}: مبتدأ، وجملة {أَكْرَمَنِ} خبره، وحذفوا الياء من {أَكْرَمَنِ} اجتزاءً بكسر نون الوقاية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {يقول} وجملة قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} معطوفة على جملة {فَأَمَّا} الأولى مماثلة لها في إعرابها {كَلَّا}: حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله المذكور. {بَل}: حرف إضراب من قبيح إلى أقبح منه {لَا}: نافية {تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما هو أقبح من قول الإنسان المذكور، {وَلَا تَحَاضُّونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {تُكْرِمُونَ}. {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} متعلق بـ {تَحَاضُّونَ}، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تُكْرِمُونَ} {أَكْلًا}: مفعول مطلق {لَمًّا}: صفة {أَكْلًا}، {وَتُحِبُّونَ}: فعل وفاعل، معطوف على {لا تكرمون} {الْمَالَ}: مفعول به {حُبًّا}: مفعول مطلق {جَمًّا} صفة {حُبًّا}. {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ

بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، متعلق بـ {يَتَذَكَّرُ}، وجملة {دُكَّتِ} في محل الخفض بإضافة الظرف إليها {دُكَّتِ الْأَرْضُ}: فعل ونائب فاعل {دَكًّا دَكًّا}: حال مركبة من {الْأَرْضُ} في محل النصب مبني على فتح الجزءين؛ أي: مدكوكةً دكًا بعد دك، بني الجزء الأول لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ بافتقاره إلى الجزء الثاني، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا؛ لتضمنه معنى الحرف، وحركا ليعلم أن لهما أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركب، وليس الثاني تأكيدًا للأول، بل التكرر للدلالة على الاستيعاب، كقرأت النحو بابًا بابًا، وعلمته الخط حرفًا حرفًا، وأعرب ابن خالويه {دَكًّا} الأول: مصدرًا، والثاني: تأكيدًا، وليس بعيدًا. {وَجَاءَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، معطوف على جملة {دُكَّتِ}، {وَالْمَلَكُ}: معطوف على {رَبُّكَ}. {صَفًّا صَفًّا}: حال مركبة من الملك؛ أي: مصطفين، أو ذوي صفوف، نظير {دَكًّا دَكًّا} والمجوز لمجيء الحال جامدة دلالتها على الترتيب، وضابطه: أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررًا، وفي إعراب هذا المكرر خلاف طويل، اقتصرت على الراجح منها، فراجعه في محله {وَجِيءَ}: فعل ماض مغيَّر الصيغة {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {وَجِيءَ}، و {بِجَهَنَّمَ}: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ {جيء}، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة {دُكَّتِ}، {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله بدل من {إذا} في قوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} بدل كل من كل، وجملة {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} جواب {إذا} لا محل لها من الإعراب؛ أي: يوم إذا دكت الأرض دكًا دكًا، ويوم إذ جاء ربك والملك صفًا صفًا، ويوم إذ جيء بجهنم يتذكر الإنسان تفاصيل أعماله التي عملها في الدنيا، {وَأَنَّى}. {الواو}: حالية {أَنَّى}: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون؛ لتضمنه معنى حرف الاستفهام، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدمًا. {لَهُ}: متعلق بما تعلق به الظرف، {الذِّكْرَى}: مبتدأ مؤخر، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: ومن أين حاصلة له منفعة الذكرى، وإلا فبين {يَتَذَكَّرُ} و [{أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}] تناف وتناقض، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل {يَتَذَكَّرُ}.

{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}. {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة الفعلية بدل اشتمال من جملة قوله: {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}، أو مستأنفة. {لَيْتَنِي}: {يا}: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، وجملة النداء في محل النصب مقول القول لـ {يَقُولُ}، {ليت}: حرف تمنٍ ونصب، و {النون} للوقاية؛ لأنها تبقي الحرف على حركة بنائه الأصلي، وياء المتكلم في محل النصب اسمها، وجملة {قَدَّمْتُ}، خبرها {لِحَيَاتِي}: متعلق بـ {قَدَّمْتُ}، وجملة {ليت} في محل النصب مقول القول {فَيَوْمَئِذٍ}: {الفاء}: استئنافية {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {يُعَذِّبُ}، {لَا}: نافية {يُعَذِّبُ}: فعل مضارع مبني للفاعل، {عَذَابَهُ}: مفعول مطلق، والضمير فيه عائد إلى الله، فيكون مصدرًا مضافًا إلى الفاعل {أَحَدٌ}: فاعل، وقرىء {يعذب} بالبناء للمفعول، فيكون {أَحَدٌ} نائب فاعل، والضمير في {عَذَابَهُ} للإنسان الكافر، فيكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول، والجملة الفعلية على كلا القراءتين مستأنفة، وجملة قوله: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} معطوفة على ما قبلها مماثلة له في إعرابه في كلتا القراءتين. {يَا أَيَّتُهَا}: {يا}: حرف نداء. {آية}: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات، أي: من الإضافة {النَّفْسُ}: بدل من {أي} {الْمُطْمَئِنَّةُ}: صفة لـ {النَّفْسُ}، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: يقول الله سبحانه للمؤمن بلا واسطة، أو بواسطة الملك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ...} إلخ، وجملة القول المحذوف مستأنفة. {ارْجِعِي}: فعل أمر مبني على حدف النون، والياء فاعل {إِلَى رَبِّكِ}: متعلق بـ {ارْجِعِي}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف على كونها جواب النداء {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}: حالان من فاعل {ارْجِعِي}، {فَادْخُلِي}: فعل أمر وفاعل، معطوف على {ارْجِعِي}، {فِي عِبَادِي}: متعلق بـ {ادخلي}، {وَادْخُلِي}: معطوف أيضًا على {ارْجِعِي}، {جَنَّتِي}: مفعول به على التوسع. والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة {وَالْفَجْرِ (1)} الفجر: هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء، وينفجر فيه النور، وقد أقسم ربنا به؛ لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وما يترتب على ذلك من المنافع، كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق، كما مر. {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} جمع: ليلة، وهي الزمن الذي بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وهذه الليالي العشر غير متعينة، بل في كل شهر، وهذه العشر يتشابه حالها مع حال الفجر، فيكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام أول الليل إلى أن تغلبه الظلمة، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى سطع النهار، ولا يزال الضوء منتشرًا إلى الليل الذي بعده، وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه، فيسدل على الكون حجبه. {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)}؛ أي: والزوج والفرد من هذه اليالي، فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة، ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد، والشفع: الزوج من العدد، يقال: أشفع هو أم وتر؟؛ أي: أزوج هو أم فرد، ويجمع على أشفاع وشفاع، ومصدر شفع يشفع - من باب فتح - شفعًا الشيء؛ أي: صيره شفعًا؛ أي: زوجًا بأن يضيف إليه مثله، يقال: كان وترًا فشفعه بآخر؛ أي: قرنه به. وفي "القاموس": والشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، وشفعه كمنعه {وَالْوَتْرِ} وفي "القاموس": والوتر - بالكسر ويفتح - الفرد، أو ما لم يتشفع من العدد. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} يقال: سرى يسري سُرى ومسرى: إذا سار عامة الليل. وفي "المصباح": سريت الليل، وسريتُ به سرى، والاسم السراية: إذا قطعته بالسير، وأسريت بالألف لغة حجازية، ويستعملان متعديين بالباء إلى المفعول، ويقال: سريت بزيد، وأسريت به، والسرية - بضم السين وفتحها - أخص، يقال: سرينا سريةً من الليل وسرية، والجمع: السرى مثل: مدية ومدى. قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام مجازًا واتساعًا. قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}، والمعنى: إذا يمضي. {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}؛ أي؛ لصاحب

عقل، وسمي العقل بذلك؛ لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل ولا ينبغي، كما سمي عقلًا؛ لأنه يعقل صاحبهُ عن القبائح، وينهاه، وسمي أيضًا نُهْيةً؛ لأنه ينهى صاحبهُ عما لا يليق ولا يحل. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} وعاد: جيل من العرب البائدة، يقولون: إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ويلقب أيضًا: بإرم. {ذَاتِ الْعِمَادِ}؛ أي: سكان الخيام، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت، والعماد كالعمود، والجمع: عَمَد وعُمُد بفتحتين وبضمتين. {وَثَمُودَ}: قبيلة من العرب البائدة كذلك، وهي من ولد كاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز. {جَابُوا الصَّخْرَ}؛ أي: قطعوه ونحتوه {بِالْوَادِ}؛ أي: في الوادي الذي كانوا يسكنون فيه، وفي "المختار": وجاب: خرق وقطع، وبابه: قال، وأصل جابوا: جوبوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ففيه إعلال بالقلب. {وَفِرْعَوْنَ} هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام. {ذِي الْأَوْتَادِ}؛ أي: ذي المباني العظيمة المشيدة الثابتة جمع: وتد بالتحريك وبكسر التاء أيضًا. {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)}؛ أي: تجاوزوا الحد في الظلم والعتو، وأصل طغوا: طغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لما التقت ساكنة بواو الجماعة. {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ}؛ أي: أفرغ وأنزل وألقى، وصبُّ الماء: إراقته من أعلى؛ أي: أنزل عليهم إنزالًا شديدًا {سَوْطَ عَذَابٍ}؛ أي: أنواعًا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم، والسوط في الأصل: الجلد المضفور؛ أي: المنسوج المفتول الذي يضرب به، كما مر. {لَبِالْمِرْصَادِ} والمرصاد: هو المكان الذي يقوم فيه الرصد، والرصد: من يرصد الأمور؛ أي: يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر، ويطلق أيضًا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه، وهو مفعال من رصده، كالميقات من وقته،

ويجوز أن يكون صيغة مبالغة، كالمطعان لكثير الطعن. {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ}؛ أي: اختبره ببسط الرزق، أصله: ابتليه بوزن افتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَأَكْرَمَهُ}؛ أي: صير مكرمًا يرفل في بحبوحة النعيم. {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ}؛ أي: اختبره بتضييق الرزق عليه. {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}؛ أي: صيره فقيرًا مقترًا عليه في الرزق، تقول: قدرت عليه الشيء؛ أي: ضيقته عليه، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه. {أَهَانَنِ} أصله: أهوَيُ، بوزن: أفعل، نقلت حركة الواو إلى الهاء فسكنت، فقلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن. {وَلَا تَحَاضُّونَ} أصله: تتحاضضون بوزن: تتفاعلون، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وأدغمت الضاد في الضاد، فصار تحاضون. وقرأ غير الكوفيين: {تحضون} بضم الحاء وأصله: تحضضون بوزن: تفعلون بمعنى: تحاضون المتقدم، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الحاء، ثم أدغمت لما سكنت في الضاد الثانية من الحض، وهو الحث والتحريض. {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} التراث: بوزن فعال الميراث، وأصله: وراث كتجاه في وجاه، قلبت واوه تاءً، والميراث: هو المال المنتقل من الميت. {أَكْلًا لَمًّا} واللم: الجمع، يقال؛ كتيبة ملمومة؛ أي: مجتمعة بعضها إلى بعض، وفي "المختار": {أَكْلًا لَمًّا} فعله من باب رد، يقال: لم الله شعثه؛ أي: أصلح وجمع ما تفرق من أمره، وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان: إذا أكلت جميع ما عليه بأسره. {حُبًّا جَمًّا} الجم: الكثير، يقال: جم الماء في الحوض إذا اجتمع فيه وكثر. قال الشاعر: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} الدك: الدق، يقال: دككت الشيء أدكه دكًا: إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض، وقال الخليل: الدك: كسر الحائط والجبل وتسويته بالأرض، ومنه: اندك سنام البعير: إذا انغرس في ظهره {دَكًّا دَكًّا}؛ أي: دكًا بعد دك؛ أي: كرر عليها الدك، وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء. {صَفًّا صَفًّا}؛ أي: صفًا بعد صف، بحسب منازلهم ومراتبهم في الفضل.

{وَثَاقَهُ} في "المصباح": وثق الشيء بالضم وثاقه: قوي وثبت، فهو وثيق ثابت، وأوثقته: جعلته وثيقًا، والوثاق - بفتح الواو وكسرها -: القيد والحبل ونحوه، والجمع: وثق، مثل: رباط وربط، ويطلق هنا: على الشد والربط بالسلاسل والأغلال. {الْمُطْمَئِنَّةُ} من الاطمئنان: وهو الاستقرار والثبات. {مَرْضِيَّةً} اسم مفعول من رضي، وأصله: مرضوية بوزن: مفعول اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، ثم كسرت الضاد لمناسبة الياء، ولام المادة واو، وعليه فـ {رَاضِيَةً} أصله: راضوة، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، كما فعلوا في رضي أصله: رضو من الرضوان. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التنكير في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} للدلالة على تعظيمها؛ لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها، ولذلك أقسم الله بها، وذلك كالاشتغال بأعمال الحج في عشر ذي الحجة. ومنها: الطباق في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)}. ومنها: تقييد الليل بالسرى في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة؛ كأن جميع الحيوانات أعيدت إليهم الحياة بعد الموت في الليل، وتسببوا بذلك لطلب الأرزاق المعدة للحياة الدنيوية التي يتوسل بها إلى سعادة الدارين. ذكره في "الروح". ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} لتحقيق فخامة شأن المقسم بها، وكونها أمورًا جليلة بالإعظام والإجلال عند أرباب العقول، وللتنبيه على أن الإقسام بها أمر معتد به، حقيق بأن يؤكد به الإخبار. ومنها: التنوين في قوله: {حِجْرٍ} للدلالة على تعظيمها، قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد، فكل قلب لا عقل له، فهو ميت

بمنزلة قلب البهائم. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)}؛ لأن الهمزة فيه للإنكار وفي قوة النفي، ونفي النفي إثبات، فصار تقريريًا إثباتيًا، أي: قد علمت يا محمد بإعلام الله تعالى، وبالتواتر أيضًا كيف عذب ربك عادًا. ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)}، فقد استعمل الصب، وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب. قال الشاعر: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصَرَاتٍ كَأَنَّهَا ... شَآبِيْبُ لَيْسَتْ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَطْرِ وقال آخر في وصف الخيل: صَبَبْنَا عَلَيْهِمْ ظَالِمِيْنَ سَيَاطَنَا ... فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ واستعار السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} شبه كونه تعالى حافظًا لأعمال العباد مراقبًا عليها، ومجازيًا على ما دق وجل منها، بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدًا لمن يسلكها ليأخذه، فيوقع به ما يريد، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر على طريقة الاستعارة التمثيلية. ومنها: المقابلة بين قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ ...} إلخ، وبين قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ...} إلخ، فقد قابل بين توسعة الرزق وإقتاره، وبين الإكرام والإهانة. ومنها: الالتفات من الغيبة في قول: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ} إلى الخطاب في قوله: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)} للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشابهته بالتوبيخ تشديدًا للتقريع، وتأكيدًا للتنشيع، والجمع فيه باعتبار معنى الإنسان، إذا المراد به الجنس، وكان مقتضى السياق أن يقال: بل لا يكرمون اليتيم. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ}، وقوله: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ}، وقوله: {يَتَذَكَّرُ} {الذِّكْرَى}.

ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}. ومنها: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والإخبار عنه مجاز في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}، وهو نظير قول من رأى موكبًا عظيمًا، أو جيشًا خضمًا، فقال: جاء الملك نفسه، وهو يعلم أنه ما جاء إلا جيشه، فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئًا له سبحانه وتعالى، فأسند المجيء إليه على سبيل المجاز، كذا قالوا، وهذا إنما يتمشى على مذهب المؤولين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة: 1 - القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه. 2 - ضرب المثل بالأمم البائدة، كعاد وثمود. 3 - كثرة النعم على العبد ليست دليلًا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلًا على إهانته وخذلانه. 4 - وصف يوم القيامة وما فيه من الأهوال. 5 - تمني الأشقياء العودة إلى الدنيا. 6 - كرامة النفوس الراضية المرضية، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها (¬1). شعرٌ وَإِنِّيْ وَإِنْ كُنْتُ أَخِيْرًا زَمَانُهُ ... لآتٍ بِما لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الفجر بعون الله سبحانه ذي المن والقهر، عصر يوم الجمعة قبيل الغروب، اليوم الثاني عشر من شهر شوال المعظم من شهور سنة: 12/ 10/ 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من سني الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين يا رب العالمين ألف ألف آمين. وبتمام تفسير هذه السورة الكريمة تم المجلد الحادي والثلاثين من هذا الكتاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، ويليه المجلد الثاني والثلاثين، وأوله سورة البلد.

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م دار طوق النجاة بيروت - لبنان

تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن [32]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة البلد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على إفضاله والشكر على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، أما بعد: فلما فرغتُ من تفسير المجلد الحادي والثلاثين .. تفرغتُ للشروع في المجلد الثاني والثلاثين إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه، فأقول مستمدًا منه الفيض والإمداد والتوفيق لطريق السداد والرشاد، وقولي هذا: سورة البلد سورة البلد؛ ويقال لها: سورة لا أقسم، مكية بلا خلاف (¬1)، نزلت بعد سورة ق؛ وأخرج ابن الضّريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة لا أقسم بهذا البلد بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: عشرون آية، وكلماتها (¬2): اثنتان وثمانون كلمة، وحروفها: ثلاث مئة وعشرون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: 1 - أنه تعالى ذم في السابقة من أحب المال وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، وذكر هنا الخصال التي تُطلب من صاحب المال من فك الرقبة والإطعام في يقوم المسغبة. 2 - ذكر هناك حال النفس المطمئنة، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان؛ وهو الإيمان والتواصي بالصبر. وعبارة أبي حيان (¬3): ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في السابقة ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير، وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر، وما آل إليه حاله وحال المؤمن .. أتبعه في هذه السورة بنوع من ابتلائه، ومن حاله السيء، وما آل إليه في الاخرة. انتهى. وأيضًا سورة البلد فيها ذكر أحوال الدول ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) البحر المحيط.

والأمم المتمدنة والتمدن في دين الإِسلام لا يكون إلا باقتحام العقبة التي بينتها آيات سورة البلد، وسميت سورة البلد؛ لذكر لفظ البلد فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة البلد كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد .. أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمانة من غضبه يوم القيامة" وفيه مقال. والله أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}. المناسبة تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها قريبًا، وأما قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) ...} الآيات، فالمناسبة بينها وبين ما قبلها: أن الله سبحانه لما (¬1) ذكر أنه لا ينبغي للمفتونين بقوة أبدانهم المغرورين بواسع جاههم أن يتمادَوا في صلفهم وكبريائهم .. شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة، ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية. قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ...} الآيات، المناسبة بينها وبين ما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبًا للشهرة، وحبًا في حسن الأحدوثة، وأَنَّبَهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلو بواطنهم من حسن النية، وبيّن لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق، والعقل المميز بين الخير والشر، والنفع والضر هو منه سبحانه وتعالى، وهو القادر على سلبه منهم .. أردفه ببيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم، ويختاروا طريق الخير، ويرجحوا سبيل السعادة، فيفيضوا على الناس بشيء مما أفاض به عليهم، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم؛ ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

لضعفهم وعجزهم، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحي الإيمان صبورين على أذى الناس، وعلى ما يصيبهم من المكاره في سبيل الدعوة إلى الحق، رحماء بعباده، مواسين لهم حين الشدائد، هذه هي الطريق التي كان من حق العقل أن يُرشد إليها، لكن الإنسان قد خدعه غروره، فلم يقتحم هذه العقبة، ولم يسلك هذه السبيل القويمة، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم. أسباب النزول روي أن قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)} نزل في أبي الأشد أُسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترًا بقوته البدنية، وأن قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)} نزل في الحارث بن نوفل، وكان يقول: أهلكت مالًا لبدًا في الكفارات منذ أطعت محمدًا، وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في هؤلاء أم في غيرهم، فإن معناها عام بكل من اتصف بما فيها من الاغترارات. التفسير وأوجه القراءة 1 - {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)}؛ أي: أقسم (¬1) بالبلد الحرام الذي هو مكة، فكلمة {لَا} صلة دل عليه أن الله سبحانه أقسم بالبلد الأمين في سورة التين، قال في "كشف الأسرار": و {لَا}: زائدة لتأكيد القسم، كقول العرب: لا والله ما فعلت كذا، لا والله لأفعلن كذا، والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه بلاد وبلدان، ثم إن (¬2) الله سبحانه؛ وتعالى أقسم بمكة لفضلها؛ فإنه جعلها حرمًا آمنًا، ومسقط رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرم أبيه إبراهيم عليه السلام، ومنشأ أبيه إسماعيل عليه السلام، وجعل البيت قبلة لأهل الشرق والغرب، وحج البيت كفارة لذنوب العمر، وجعل البيت المعمور في السماء بإزائه، ومن زيادة (¬3) لا في غير القسم قول الشاعر: تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِيْ صَبَابَةٌ ... وَكَادَ صَمِيْمُ الْقلْبِ لَا يَتصَدَّعُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[2]

أي: يتصدع، ومن ذلك قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}؛ أي: أن تسجد، وقيل: إن {لَا} لنفي القسم، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، وقال مجاهد: إن {لَا} رد على من أنكر البعث، ثم ابتدأ، فقال: {أُقْسِمُ} والمعنى عليه: ليس الأمر كما تحسبون، والأول أولى، وقال الواحدى: أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام مكة المكرمة، وقال الواسطي: إن المراد بالبلد المدينة المنورة، وهو مع كونه خلاف ما أجمع عليه المفسرون مدفوع يكون السورة مكية لا مدنية، وقرأ الجمهور: {لَا أُقْسِمُ} بـ {لا} النافية الزائدة، وقرأ الحسن والأعمش: {لأقسم} من غير ألف، 2 - وجملة قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} حال (¬1) من المقسم به، و {لَا} خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، {حِلٌّ}؛ بمعنى حال من الحلول؛ وهو النزول؛ أي: والحال أنت يا محمد حالٌّ في مكة نازل بها، قيد إقسامه تعالى بمكة بحلوله - صلى الله عليه وسلم - فيها إظهارًا لمزيد فضلها، فإنها بعد أن كانت شريفة بنفسها .. زاد شرفها بحلول النبي العظيم الشريف، فما لا شرف فيه يحصل له شرف بشرف المكين، وما فيه شرف ذاتي يحصل له بشريف شرف زائد، ومحل قدمي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كمكة والمدينة ينبغي أن يحافَظ على حرمته. وفي هذه الجملة تعريض لأهل مكة بأنهم لجهلهم يرون أن يخرجوا منها من به مزيد شرفها ويؤذوه، ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين القسم وجوابه؛ لغرض التأكيد. والمعنى عليه: أقسم بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد، وقال الواحدي: الحل والحلال والمُحِل معناها واحد، وهو ضد المحرم، يعني: أن مثلك على عظيم حرمته يستحل بهذا البلد ما حُرِّم على غيره، كما يستحل الصيد في غير الحرم، وذلك أن الله سبحانه أحل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح حتى قاتل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لم تحلَّ لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحلَّ لي إلا ساعة من نهار"، قال الواحدي: والمعنى: أن الله لما أقسم بمكة دل ذلك على عُظْم قدرها مع كونها حرامًا، فوعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحلها له حتى يقاتل فيها، ويفتحها على يده، وهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حِلاًّ. انتهى. فالمعنى: وأنت حل بهذا البلد في المستقبل، كما في قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

مَيِّتُونَ (30)} قال مجاهد: المعنى: ما صنعت فيه من شيء فأنت حل. وفي "فتح الرحمن": إن قلت: لِمَ كرر لفظ {الْبَلَد}؟ قلت: لم يكرره؛ إذ التقدير: لا أقسم بهذا البلد المحرم الذي جبلت العرب على تعظيمه وتحريمه، وأنت حل بهذا البلد؛ أي: أحل لك فيه من حرماته ما لم يحل لأحد قبلك ولا بعدك، من قتل ابن خطل، وقتال المشركين ساعة من نهار، فالمراد بالبلد الأول: الباقي على تحريمه، والثانى: الذي أُحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إكرامًا له وتعظيمًا لمنزلته، هكذا قاله بعض المفسرين. انتهى. 3 - وقوله: {وَوَالِدٍ}: معطوف على {هذا البلد}. والمراد به إبراهيم عليه السلام، والتنكير فيه للتفخيم، {وَمَا وَلَدَ} ذلك الوالد وهو إسماعيل عليه السلام، فإنه ولده بلا واسطة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه ولده بواسطة إسماعيل، فتتضمن السورة القسم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في موضعين. وإيثار (¬1) {مَا} على من؛ لمعنى التعجب مما أعطاه الله من الكمال، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}؛ أي: بأي شيء وضعت يعني: موضوعًا عجيب الشأن وهو مريم، أو المراد بـ {الوالد} آدم عليه السلام، {وَمَا وَلَدَ} ذريته، وهو الأنسب لمضمون الجواب، فالتفخيم المستفاد من كلمة {مَا} لا بد فيه من اعتبار التغليب؛ أي: فهو من باب وصف الكل بوصف البعض، أو للتعجيب من الأمر الذي يشترك فيه الكل كالنطق والبيان والصورة البديعة وغيرها، وقيل المراد: كل والد وكل مولود من الإنسان وغيره، واختار هذا القول ابن جرير. 4 - وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} حال كونه {فِي كَبَدٍ} وتعب ونصب ومشقة في جميع أحواله، جواب للقسم، يقال: كَبِد الرجل كَبَدًا إذا وجعت كبده فانتفخت، وأصله: كَبَدَهُ إذا أصاب كَبِدَه، كذكرته إذا قطعت ذكره، ورأيته إذا قطعت رئته، ثم اتسع فيه حتى استُعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة، و {فِي كَبَدٍ} حال من {الْإِنْسَانَ} بمعنى مكابدًا، وحرف {في} واللام متقاربان، تقول: إنما أنت للعناء والنصب، وإنما أنت في العناء والنصب، والإنسان هو هذا النوع الإنساني. والمعنى (¬2): لقد خلقنا الإنسان في تعب ومشقة، فإنه مع كونه أضعف الخلق ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

لا يزال يقاسي فنون الشدائد، مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقهُ، ومنتهاها الموت وما بعده، فابن آدم يكابد من البلايا ما لا يكابده غيره، يعني: أن الكبد يتناول شدائد الدنيا من قطع سرته والتفافه بخرقة محبوس الأعضاء، ومكابدة الختان وأوجاعه، ومكابدة المعلم وصولته، والأستاذ وهيبته، ثم مكابدة شغل الزواج وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن، ثم الكبر والهرم من جملة مصائب كثيرة لا يمكن تعدادها، كالصداع ووجع الأضراس ورمد العين، وهمّ الدَّين ونحو ذلك، ويتناول أيضًا شدائد التكاليف، كالشكر على السراء والصبر على الضراء، والمكابدة في أداء العبادات، كالصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد، ثم بعد ذلك يقاسي شدة الموت وسؤال الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على الملك المحاسب إلى أن يصل إلى موضع الاستقرار إما في الجنة وإما في النار، كما قال سبحانه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} فهو مكابد من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره إما في جنته، فتزول عنه المشقات، وإما في نار، فتتضاعف مشقاته وشدائده. كما في "البحر". قال الإِمام (¬1): ليس في الدنيا لذة ألبتة، بل ذلك الذي يظن أنه لذة فهو خلاص من الألم، فاللذة عند الأكل هي الخلاص من ألم الجوع، وعند اللبس هي الخلاص من ألم الحر والبرد، فليس للإنسان إلا ألم وخلاص من ألم، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان يكابده من كفار قريش، قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له: أبو الأَشُد - بفتح الهمزة وضم الشين - وكان يأخذ الأديم العكاظي، ويجعله تحت رجليه، ويقول: من أزالني عنه .. فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه نزل: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}؛ لقوته، ويكون معنى {فِي كَبَدٍ} على هذا: في شدة الخلق، وقيل معنى {فِي كَبَدٍ} أنه جريء القلب غليظ الكبد. والخلاصة (¬2): أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدأة بالمشقة منتهية بها، فهو لا يزال يقاسي من ضروبها ما يقاسي منذ نشأته في بطن أمه إلى أن يصير رجلًا، وكلما كبر ازدادات أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[5]

أرزاقه وتربية أولاده، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود، ثم بعد هذا كله يمرض ويموت ويلاقي في قبره وفي آخرته من المشاق والمتاعب ما لا يقدر عليه إلا بتيسير الله سبحانه. والسر في ذكر هذه الجملة تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من إذاية الكفار، كما مر آنفًا، وتنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة في أنفسهم، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران، وكأنه يقول لهم: لا تتمادوا في غروركم ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم، فإن الإنسان لا يخلو من العناء في تصريف شؤونه وشؤون ذويه، ومهما عظمت منزلته وقويت شكيمته فهو لا يستطيع الخلاص من مشاق الحياة. وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد، يشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودًا عظيمًا، يكون إكليلًا لمجد النوع الإنساني وشرفه؛ وهو دين الإِسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد في تربية ولده والمولود في بلوغ الغاية في سبيل نموه، إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون. 5 - والضمير في قوله: {أَيَحْسَبُ} لبعض صناديد قريش، الذين كان - صلى الله عليه وسلم - يكابد منهم أكثر مما يكابد من غيرهم، كالوليد بن المغيرة وأضرابه {أَنْ} مخففة من الثقيلة سادَّةٌ مع اسمها مسد مفعولي الحسبان؛ أي: أيظن (¬1) الإنسان المعهود الذي هو أبو الأَشُد، أو جنس بني آدم أن الحال الشأن {لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ}؛ أي: على الانتقام منه {أَحَدٌ} فحسبانه الناشىء عن غلظ الحجاب، ومرض القلب فاسد؛ لأن الله الأحد يقدر عليه، وهو عزيز ذو انتقام، 6 - ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان، فقال: {يَقولُ} ذلك الظان على سبيل الرعونة والخيلاء {أَهْلَكْتُ}؛ أي: أنفقت كقول العرب: خسرت عليه كذا إذا أنفق عليه {مَالًا لُبَدًا}؛ أي: مالًا كثيرًا متلبدًا مجتمعًا بعضه إلى بعض، من تلبد الشيء إذا اجتمع، يريد كثرة ما أنفقه سمعة ومفاخرة، وكان أهل الجاهلية يسمون مثل ذلك مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر. قال الليث (¬2): {مَالًا لُبَدًا}، لا يُخاف فناؤه لكثرته، قال الكلبي ومقاتل: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[7]

يقول أهلكت في عداوة محمد مالًا كثيرًا، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستافتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يكفر، فقال؛ لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ الإهلاك إشارة إلى أنه ضائع في الحقيقة؛ إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حق عبد الله بن جدعان: كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفعه؛ لأنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، وقرأ الجمهور (¬1): {لُبَدًا} - بضم اللام وفتح الباء مخففًا - وقرأ مجاهد وحميد وابن أبي الزناد: {لُبُدًا} - بضمهما مخففًا - وقرأ أبو جعفر: بضم اللام وفتح الباء مشددًا، قال أبو عبيدة: لبد - فعل من التلبيد - المال الكثير بعضه على بعض، قال الزجاج: فعل للكثرة، يقال: رجل حطم همز لمز إذا كان كثير الحطم والهمز واللمز، قال الفراء: واحدته: لبدة، والجمع: لبد. 7 - {أَيَحْسَبُ}؛ أي: أيظن ذلك الأحمق المباهي {أَن}؛ أي: أن الشأن {لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان يُنفق، وأنه تعالى لا يسأله عنه، ولا يجاريه عليه؛ أي: يظن أنه لم يعاينه أحد، والاستفهام للإنكار كسابقه. قال قتادة: أيظن أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وأين أنفقه، وقال الكلبي: كان كاذبًا لم ينفق ما قال، فقال الله: أيظن أن الله لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق، يعني أن الله سبحانه رآه واطلع على خبث نيته، وفساد سريرته، وأنه مجازيه عليه، فمثل ذلك الإنفاق وهو ما كان بطريق المباهاة رذيلة، فكيف يعده الجاهل فضيلة، وفي الحديث: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين كسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به". وحاصل معنى الآيات: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}؛ أي: أيظن (¬2) ذلك المغتر بقوته المفتون بما أنعمنا له عليه أنه مهما عظمت حاله وقوي سلطانه يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها أحد، ما أجهله إذا ظن ذلك، فإن في الوجود قوة فوق جميع القوى المهيمنة على كل قوة، والمسيطرة على كل القدرة، وهي القوة التي ¬

_ (¬1) البحر المحيط والشوكاني. (¬2) المراغي.

[8]

أبدعته، والقدرة التي أنشاته، ثم ذكر صنفًا آخر من الأغنياء البخلاء المرائين بقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}؛ أي: إنهم إذا طُلب إليهم أن يعملوا عملًا من أعمال البر .. قالوا: إننا ننفق الكثير من أموالنا في المفاخر والمكارم، ولم يعلموا أن المكرمة ما عده الله مكرمة، والبر ما اعتبره الله سبحانه برًا، فليس من البر إنفاقهم المال في مشاقة الله ورسوله، ولا إنفاقهم الأموال في الصد عن سبيل الله، والكيد للذين آمنوا بالله ورسوله. {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}؛ أي: أيظن ذلك المغتر بماله المدعي أنه أنفقه في سبيل الخير أن الله لم يطلع على أفعاله، ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق، إنه لا ينبغي له أن يظن ذلك، فإن البارىء له مطلع على قرارة نفسه، عالم بخبيثات قلبه، لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، عليم بأنه لم يُنفق شيئًا من ماله في سبيل الخير المشروع والبر المحمود، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة، أو لمشاقة الله ورسوله، أو في وجوه أخرى يظنها خيرًا؛ وهي خسران وضلال مبين. 8 - وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم .. شرع يذكر آثار قدرته الغالبة؛ ليبين لهم أن هناك قوة لها من الاثار ما هم يشاهدون، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)} فهو إذا أبصر شيئًا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هي من عملنا؛ أي: ألم (¬1) نخلق له عينين يبصر بهما عالَم الملك من الأرض إلى السماء حتى يشاهد بهما في طرفة عين النجوم العلوية التي بينه وبينها عدة الآف سنة، ويفرق بهما بين ما يضر وما ينفع، وبهما يحصل شرف النظر إلى وجه العالِم، وإلى المصحف وإلى الشواهد. قال في "أسئلة الحكم": العين تحرس البدن من الآفاق، وهي نيرة كالمرآة إذا قابلها شيء ارتسمت صورته فيها مع صغر الناظر، وهو الحدقة التي هي شحمة، وجعل الله سبحانه العين سريعة الحركة، وجعل لها أجفانًا تسترها، وأهدابًا من الشعر كجناح الطائر تطرد بانضمامها وبانفتاحها الذباب والهوام عن العين، وجعل العين في الرأس؛ لأن السراج يوضع على رأس المنار، وجعلها ثنتين كالشمس والقمر، فإنهما عينا التعين الدنيوي، وجعل فوقهما حاجبين أسودين، لئلا يتضرر ¬

_ (¬1) روح البيان.

[9]

البصر بالضياء، ولأن الذي ينظر في السواد إلى البياض يكون أحد نظرًا، ولذلك جُعلت الحدقة سوداء، وأهداب العين شعرًا أسود؛ لأن السواد يقوي البصر. ولما بني ذو القرنين الإسكندرية .. رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام، فمن ذلك اليوم لبس الرهبان السواد، فإن النظر إلى الأبيض يفرق البصر ويضعفة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الإثمد: "إنه يقوي البصر"، وجعل سبحانه الحدقة محركة في مكانها لتتحرك إلى الجهات يمنة ويسرة، فيبصر بها من غير أن يلوي عنقه، وجعل الناظرين جميعًا على خط مستقيم عرضًا، ولم يقع واحد منهما أعلى ولا أخفض؛ ليجتمع الناظران على شيء واحد؛ لئلا يتراءى له الشخص الواحد شخصين، وجعل العين ثنتين؛ لأن نظر عينين أتم من نظر عين واحدة، وإشارة إلى العين الظاهرة والعين الباطنة، فينبغي أن يحافظ على كلتيهما. 9 - {و} ألم نجعل {لِسَانًا} يترجم (¬1) به عن ضمائره وينطق به، وبه تنعقد المعاملات، وتحصل الشهادات، ويدرك الطعوم من الحلو والمر، ولو لم يكن اللسان لاحتاج الإنسان إلى الإشارة أو الكتابة فتعسر أمره، وإنما تعدد العين والأذن، وتفرد اللسان؛ لأن حاجة الإنسان إلى السمع والبصر أكثر من حاجته إلى الكلام، وفيه تنبيه أيضًا على أن يقل من الكلام إلا في الخير، وأن لا يتكلم فيما لا فائدة فيه، وهو السر في أن الله تعالى جعل اللسان داخل الفم، وجعل دونه الشفتين اللتين لا يمكن الكلام إلا بفتحهما؛ ليستعين العبد بطباق شفتيه على رد الكلام. {و} ألم نجعل له {شَفَتَيْنِ} يستر بهما فاه وثغره إذا أراد السكوت، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ، قال السجاوندي: خص الشفة، لخروج أكثر الحروف منها، وفي الدعاء: الحمد لله الذي جعلنا ننطق بلحم ونبصر بشحم ونسمع بعظم. قال بعضهم: أسبل الصانع الحكم أمام الفم سترًا من الشفة ذا طرفين يضمهما عند الحاجة، ويمتص بهما المشروب، وجعل الشارب محيطًا من العليا؛ ليمنع ما على وجه الشراب من القش والقذى أن يدخل حالة الشرب. انتهى. وفي الحديث: "إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد ¬

_ (¬1) روح البيان.

[10]

أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق". وفي الخبر: "الفرج أمانة، والأذن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له" قال الزجاج: والمعنى: ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على أن يبعثه، والشفة محذوفة اللام، وأصلها: شفهة بدليل تصغيرها على شفيهة. 10 - وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ}، أي: هدينا ذلك الإنسان {النَّجْدَيْنِ}؛ أي: الطريقين طريقي الخير والشر معطوف (¬1) على {أَلَمْ نَجْعَلْ}؛ لأنه في التقدير مثبت؛ أي: جعلنا له ذلك المذكور، وهديناه طريقي الخير والشر؛ أي: بيناهما له وأوضحناهما له بالدلائل الواضحة القاطعة، قال الزجاج: المعنى: ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر مبينتين كتبيين الطريقين العاليتين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "النجدان هما الطريقان، نجد الخير ونجد الشر؛ فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير". وقال عكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك: النجدان: الثديان؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، وتمكين مولود عاجز من رضاع أمه عقيب الولادة قدرة من الله سبحانه ونعمة جلية عليه، والأول أولى. وأصل النجد (¬2): المكان المرتفع، وجمعه نجود، ومنه سميت نجدًا لارتفاعها عن انخفاض تهامة، فالنجدان الطريقان العاليان، ومنه قول امرىء القيس: فَرِيْقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ فجعل الخير بمنزلة مكان مرتفع واضح بخلاف الشر، فإنه يستلزم الانحطاط عن ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة، فكان استعمال النجدين هنا بطريق التغليب، أو لأن فعل الشر بالنسبة إلى قوته في الواهمة مصور بصورة المكان المرتفع، وقال ابن الشيخ: لما وضحت الدلالة الدالة على الخير والشر .. صارتا كالطريقين المرتفعين بسبب كونهما واضحين للعقول، كوضوح الطريق العالي للأبصار. والمعنى (¬3): أي وأودعنا في فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر، وجعلنا له ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[11]

من العقل والفكر ما يكون مذكرًا ومنبهًا، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير، وأرشدناه إلى ما في الشر من هفوات وعيوب، ثم أقدرناه على أن يسلك أي الطريقين شاء بعد أن آتيناه قوة التمييز والقدرة على الاختيار والترجيح، ليسلك الطريق التي أراد منهما، فليكن نجد الخير أحب إلى أحدكم من نجد الشر، فمن نازعته نفسه، واتجهت إلى نجد الشر .. فليقمعها بالنظر في آيات الله، والتدبر في دلائله؛ ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوج يهوي بصاحبه إلى طريق الردى ويوقعه في المهالك، وإنما (¬1) سماهما الله نجدين للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار، وإلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها، وفي ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية والتوصل إلى الغاية. 11 - {فَلَا اقْتَحَمَ}؛ أي: فهلا سلك ذلك الإنسان المغرور {الْعَقَبَةَ}؛ أي: طريق العقبة التي يشق عسلوكها، والسير فيها على أكثر الناس التي هي مجاهدة النفس والشيطان والهوى، وسلوك طريق الخير والهدى؛ ليكون شاكرًا لربه على هذه النعمة، وقد ضرب الله سبحانه العقبة مثلًا لهذا الجهاد؛ لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هي فعل الخيرات، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة الحسية {فَلَا} بمعنى: هلا للتحضيض؛ أي: الذي أنفق ماله في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. هلا أنفقه لاقتحام العقبة ومجاوزتها، فيأمن من مهالك الدارين، ولكن كون {لا} بمعنى هلّا لم يُسمع وإن ذكره الجلال. قال الفراء والزجاج (¬2): ذكر سبحانه هنا {لا} مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد {لا} مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر، كقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} وإنما أفردها هنا؛ لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} قائمًا مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، قال المبرد وأبو علي الفارسي: إن {لا} هنا بمعنى لم؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[12]

أي: فلم يقتحم العقبة، وروي نحو ذلك عن مجاهد، فلهذا لم يحتج إلى التكرير، وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقولهم: لا نجا، قال أبو زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام هنا: الاستفهام الذي بمعنى الإنكار، تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو التحضيض تقديره: هلّا اقتحم العقبة، كما مر آنفًا، ولكنه ضعيف؛ لأنه لم يُسمع في كلام العرب كون {لا} للتحضيض، والاقتحام (¬1): الدخول في أمر شديد ومجاوزته في صعوبة، وفي "القاموس": قحم في الأمر - كنصر - قحومًا إذا رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، والعقبة: الطريق الوعر في الجبل، والمعنى على النفي؛ أي: فلم يشكر تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة، وعبر عنها بالعقبة لصعوبة سلوكها، 12 - ثم بيّن سبحانه العقبة، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)}؛ أي: أي شيء أعلمك يا محمد جواب ما اقتحام العقبة؟ فإن المراد ليس العقبة الصورية، 13 - وأبّين لك بقولي: اقتحام العقبة هو {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}، أي: إعتاق نسمة، وتخليصها من أسر الرق، أو من قتل، أو يد كافر، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن، وأصل الفك (¬2): الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الآخر، كفك القيد والغل، وفك الرقبة، الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية، سمي العتق فكًا؛ لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبةً؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والرقبة: اسم للعضو المخصوص، ثم يعبر بها عن الجملة، وجُعل في التعارف اسمًا للمماليك، كما عبر بالرأس وبالظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسًا وكذا ظهرًا. والمعنى هنا: هو - أي اقتحام العقبة - إعتاق رقبة، فالفك، ليس تفسيرًا وبيانًا لنفس العقبة، بل لاقتحامها بتقدير المضاف، وذلك لأن العقبة عين، والفك فعل فلا يكون تفسيرًا للآخر. ثم فك الرقبة (¬3) قد يكون بأن ينفرد الرجل في عتق الرقبة، وقد يكون بأن يُعطي مكاتبه ما يصرفه إلى جهة فكاك رقبته، وبأن يعين في تخليص نفس من قَوَد أو غُرْم، فهذا كله يعمه الفك دون الإعتاق، ويحتمل أن يكون المراد بفك الرقبة: أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان.

يفك المرء نفسه رقبة نفسه من عذاب الله تعالى، بأن يشتغل بالأعمال الصالحة حتى يصير بها إلى الجنة، ويتخلص من النار، وهي الحرية الوسطى، وأن يفك رقبة القلب من أسر النفس وقيد الهوى، وتعلق السوى، وهي الحرية الكبرى، فيكون قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ ...} إلخ من قبيل التخصيص بعد التعميم إشارة إلى فضل ذلك الخاص بحيث خرج به من أن يتناوله اللفظ السابق مع عمومه. قال بعضهم: تقديم العتق على الصدقة يدل على أنه أفضل منها، كما هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي الحديث: "من فك رقبة .. فك الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار". قال الراغب: فك الإنسان غيره من العذاب إنما يحصل بعد فك نفسه منه، فإن من لم يهتد ليس في قوته أن يهدي، وفك الرقبة من قبيل فك النفس؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي لها مدخل عظيم في فكها. وقرأ النحويان (¬1) أبو عمرو والكسائي وابن كثير: {فَكَّ} فعلًا ماضيًا {رقبةً} نصبًا على المفعولية، وهكذا قرؤوا: {أَطْعَم} فعلًا ماضيًا {مِسْكِينًا} وما بعده نصبًا على المفعولية، وقرأ باقي السبعة: {فَكُّ} مرفوعًا {رَقَبَةٍ} مجرورًا {أَوْ إِطْعَامٌ} بالرفع معسوفًا على {فَكُّ} على أنهما مصدران، وجر {رَقَبَةٍ} بإضافة المصدر إليها، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلًا من {اقتَحَمَ}، كأنه قيل: فلا فك ولا أطعم، وقرأ علي وأبو رجاء كقراءة ابن كثير إلا أنهما قَرآ: {ذا مسغبة} بالألف، وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضًا: {أو إطعام في يوم ذا} بالألف، ونصبـ {ذا} على المفعولية؛ أي: إنسانًا ذا مسغبة، و {يَتِيمًا} بدل منه أو صفة، وقرأ بعض التابعين: {فك رقبة} بالإضافة {أو أطعمَ} فعلًا ماضيًا، ومن قرأ {فَكُّ} بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة، ومن قرأها فعلًا ماضيًا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم المفهوم من الاستفهام للعقبة نفسها، ويجيء {فَكَّ} بدلًا من اقتحم. قاله ابن عطية. والحاصل (¬2): أنه سبحانه وتعالى أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير، منها: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[14]

1 - {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}؛ أي: عتق الرقبة أو الإعاثة عليها، وقد ورد في الكتاب الكريم والسنة الترغيب في العتق والحث عليه، منها ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "عتق النسمة وفك الرقبة"، قال: يا رسول الله، أوليسا واحدًا؟ قال: "لا، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها". 2 - 14 {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)}؛ أي: ذي مجاعة لقحط أو غلاء من سغب إذا جاع، قال الراغب: السغب: الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب، يقال منه: سغب الرجل سغبًا ومسغوبًا فهو ساغب وسغبان، والمسغبة بوزن مفعلة مصدر ميمي، وأنشد أبو عبيدة: فَلَوْ كُنْتَ حُرًّا يَا ابْنَ قَيسِ بْنِ عَاِصمٍ ... لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبَا قال النخعي: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}؛ أي: عزيز فيه الطعام، وقيد الإطعام (¬1) بيوم المجاعة؛ لأن إخراج المال في ذلك الوقت أثقل على النفس وأوجب للأجر، وقرأ الجمهور (¬2): {ذِي مَسْغَبَةٍ} على أنه صفة لـ {يَوْمٍ}، و {يَتِيمًا} هو مفعول {إِطْعَامٌ}، وقرأ الحسن: {ذا مسغبة} بالنصب على أنه مفعول إطعام؛ أي: يُطعمون ذا مسغبة، و {يَتِيمًا} بدل منه. 15 - {يَتِيمًا}: مفعول به {لإطعام} {ذَا مَقْرَبَةٍ}؛ أي: صاحب قرابة من قرب في النسب قربًا ومقربة، فالمقربة مصدر ميمي أيضًا بمعنى القرابة. وقال السجاوندي: قرب قرابة أو جوار. انتهى. وقيّد اليتيم بأن يكون بينه وبين المطعم قرابة نسبية؛ لأنه اجتمع فيه جهتا الاستحقاق، اليُتم والقرابة، فإطعامه أفضل؛ لاشتماله على الصدقة وصلة الرحم، واليتيم في الأصل: الضعيف، يقال: يُتم الرجل إذا ضعف، واليتيم عند أهل اللغة: من لا أب له، وقيل: هو من لا أب له ولا أم، ومنه قول قيس بن الملوِّح: إِلَى اللهِ أَشكُوْ فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا ... إِلَى اللهِ فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيْمُ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[16]

والمعنى (¬1): أو إطعام يتيم من أقاربه في أيام الجوع والعوز، وفي هذا جمع بهين حقين: حق اليتم، وحق القرابة. 3 - 16 {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}؛ أي: ذا افتقار لا شيء له، كأنه لصق بالتراب لفقره، وليس له مأوى إلا التراب، مأخوذ من تَرِب - بالكسر - تَرَبًا بفتحتين، ومتربًا إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب من فقره وضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يوطئه ويفرشه، وأما قولهم: أترب فمعناه: صار ذا مال، كالتراب في الكثرة، كما يقال: أثرى فلان إذا كثر ماله، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {ذَا مَتْرَبَة} "الذي مأواه المزابل"، وقال مجاهد (¬2): هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره، وقال قتادة: هو ذو العيال، وقال عكرمة: هو المديون، وقال أبو سنان: هو ذو الزمانة، وقال ابن جبير: هو الذي ليس له أحد، وقال عكرمة: هو البعيد التربة الغريب عن وطنه، والأول أولى، ومنه قول الهذلي: وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ بأَرْضِنَا ... سَفَكْنا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِيْ تُرْبَةِ الْحَال وفي الحديث: "الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر" يقول الفقير: خص الفك والإطعام؛ لصعوبة العمل بهما، وجعل الإطعام لليتيم والمسكين؛ لما أن ذلك يثقل على النفس، فقد ينفق المرء الوفاء في هواه كطعام أهل الهوى وبناء الأبنية الزائدة، ونحو ذلك، ولا يستكثرها، وأما الفقير واليتيم فلا يراهما بصره، لهوانهما عنده، وعلى تقدير الرؤية فيصعب عليه إعطاء درهم أو درهمين، أو إطعام لقمة أو لقمتين. والخلاصة: أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال؛ لضعفه وعجزه، 17 - وقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3) عطف على المنفي بـ {لا}، وجاء بـ {ثم}؛ للدلالة على تراخي رتبة الإيمان عن العتق والصدقة، ورفعة محله على محلهما، لتوقف صحة جميع الأعمال الصالحة على وجوده؛ لكونه أساسها، وإلا فهو في الزمان مقدم على الطاعات. والمعنى: أن الإنفاق مع الإيمان، والتواصي هو الإنفاق المرضي النافع عند ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[18]

الله تعالى، لا أن يُهلك مالًا لبدًا في الرياء والفخار، فيكون مثله كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم، وفي ذكر العقبة إشارة إلى أن عقبة الآخرة لا يجوزها إلا من كان محقًا، أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان؛ إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، والمعنى: أي: ثم كان مع اقتحامه العقبة من الذين صدقوا في إيمانهم {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عطف على {آمَنُوا}؛ أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر على طاعة الله وعن المعاصي وفي المصائب والبلايا إذا أصابتهم {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}: مصدر (¬1) ميمي بمعنى الرحمة؛ أي: أوصى بعضهم بعضًا بالرحمة على عباد الله، أو بموجبات رحمته تعالى من الخيرات على حذف المضاف، أو على ذكر المسبب وإرادة السبب تنبيهًا على كماله في السببية، والرحمة بهذا المعنى أعم من الرحمة بالمعنى الأول؛ وهي الشفقة لمن يستحقها من العباد يتيمًا أو فقيرًا، أو نحو ذلك، وفي الحديث: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس". واعلم (¬2): أنه إنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المَبَارِّ؛ لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنًا لم ينتفع بها، ولم يكن له ثواب عليها؛ إذ لا ينفع مع الكفر بر، 18 - ثم بيّن مآل فاعل هذه المبرات، فقال: {أُولَئِكَ} الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة. وفي اسم الإشارة (¬3) دلالة على حضورهم عند الله في مقام كرامته، وعلوّ رتبتهم، وبعد درجتهم {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؛ أي: أصحاب اليمين الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم، ويُسلَك بهم من طريق اليمين إلى الجنة، أو أصحاب اليمن والخير والسعادة؛ لأن الصلحاء ميامين على أنفسهم بطاعتهم وعلى غيرهم أيضًا، أو أصحاب اليد اليمنى. والمعنى (¬4): أي أولئك الذين اقتحموا العقبة، ففكوا الرقاب، وأطعموا المساكين، وواسوا ذوي القربى في يوم المسغبة هم السعداء المُمَتَّعون بجنات النعيم، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) ...} الآيات. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[19]

19 - ثم ذكر مقابل هؤلاء، وهم الذين صدوا عن سبيل الله، وتواصوا بالإثم وتوا صوا بالعدوان ومعصية الرسول، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا {بِآيَاتِنَا} الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل، كالقرآن وغيره من الكتب السماوية {هُمْ} في الإتيان (¬1) بضمير الغيبة دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور، وأنهم أحقاء بالإخفاء {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؛ أي: هم أصحاب الشمال الذين يُعطون كتبهم بشمائلهم ومن وراء ظهورهم، ويُسلَك بهم شمالًا إلى النار، أو أصحاب الشؤم والشر والشقاوة؛ لأن الفساق مشائيم على أنفسهم بمعصيتهم وعلى غيرهم أيضًا؛ أي: هم أهل الشمال الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) ...} الآيات. 20 - {عَلَيْهِمْ} خبر مقدم لقوله: {نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}؛ أي: نار أبوابها مغلقة عليهم، فلا يُفتح لهم باب، فلا يُخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح أبد الآباد، إلا أنها جُعلت صفة للنار إشعارًا بإحاطتها بهم، فأصل التركيب مؤصدة الأبواب، فلما تُركت الإضافة عاد التنوين إليها؛ لأنهما يتعاقبان، والمعنى؛ أي: عليهم نار مطبقة مغلقة عليهم، فلا يستطيعون الفكاك منها، ولا الخلاص من عذابها، أعاذنا الله سبحانه وجميع المسلمين منها بمنه وكرمه، وجعلنا من أصحاب الميمنة، يقال: آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، ومنه قول الشاعر: تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِيْ ... وَمِنْ دُوْيهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص (¬2): {مُؤْصَدَةٌ} بالهمز هنا وفي الهُمزة، فيظهر أنه من أصدت، قيل: ويجوز أن يكون من أوصدت، وهمز على حد من قرأ بـ {السؤق} مهموزًا، وقرأ باقي السبعة بغير همز، فيظهر أنه من أوصدت، وقيل: يجوز أن يكون ومن آصدت، وسهل الهمزة. وقال الشاعر: قَوْمًا تُعَالِجُ قُمَّلًا أَبْنَاؤُهُمُ ... وَسَلاَسِلًا حَلَقًا وَبَابًا مُؤْصَدَا والحاصل: أنه قُرىء بالواو وبالهمزة مكان الواو، وهما لغتان، والمعنى ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

واحد، وقيل: معنى المهموز: المطبقة، ومعنى غير المهموز: المغلقة انتهى. اهـ "خطيب"، وفي "السمين" والظاهر أن القراءتين من مادتين: الأولى من آصد يؤصد، كأكرم يكرم، والثانية من أوصد يوصد، كأوصل كيوصل. انتهى. الإعراب {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}. {لَا}: زائدة. {أُقْسِمُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، والجملة مستأنفة، {بِهَذَا}: جار ومجرور معلق بـ {أُقْسِمُ}. {الْبَلَد}: بدل من اسم الإشارة، {وَأَنْتَ}: {الواو}: حالية، أو اعتراضية. {أنت}: مبتدأ. {حِلٌّ}: خبر {بِهَذَا}: متعلق بـ {حِلٌّ {الْبَلَدِ}: بدل من اسم الإشارة، والجملة في محل النصب حال من {هذا البلد} أو معترضة لا محل لها من الإعراب. {وَوَالِدٍ}: الواو: عاطفة، أو حرف قسم. {والد}: معطوف على القسم السابق. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {والد}. {وَلَدَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {والد}، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما ولده ذلك الوالد. {لقَد}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فِي كَبَدٍ}: متعلق بمحذوف حال من {الْإِنْسَانَ}؛ أي: حال كونه مكابدًا للمشاق. {أَيَحْسَبُ}: {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {يحسب}: فعل مضارع، وفاعلهُ ضمير يعود على {الْإِنْسَانَ}، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لن}: حرف نصب. {يَقْدِرَ}: فعل مضارع منصوب بـ {لن} {عَلَيْهِ}: متعلق بـ {يَقدِرَ}. {أَحَدٌ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل النصب سادة مسد مفعولي {يحسب}، {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ}، وجملة القول في محل النصب حال من فاعل {يحسب}، أو مستأنفة. {أَهْلَكْتُ}: فعل وفاعل. {مَالًا}: مفعول

به. {لُبَدًا}: صفة لـ {مَالًا}، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {أَيَحْسَبُ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {يحسب}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ}، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لَمْ}: حرف جزم. {يَرَهُ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، و {الهاء}: مفعول به؛ لأن رأى بصرية. {أَحَدٌ}: فاعل ليرى والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل النصب سادة مسد مفعولي {يحسب}. {ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}. {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {نَجْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}. {لَهُ}: متعلق بـ {نَجْعَلْ}؛ لأنه بمعنى نخلق. {عَيْنَيْنِ}: مفعول به، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)}: معطوفان على {عَيْنَيْنِ}. {وَهَدَيْنَاهُ} {الواو}: عاطفة: {هديناه}: فعل وفاعل ومفعول أول. {النَّجْدَيْنِ}: مفعول ثان له، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة معطوفة على جملة قوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ}؛ لأن الاستفهام فيه تقريري، فيكون بمعنى: وجعلنا له عينين. {فَلَا} {الفاء}: عاطفة، {لا}: نافية بمعنى: ما. {اقْتَحَمَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ} القائل، والجملة معطوفة على {هديناه}؛ أي: وهديناه النجدين فما اقتحم العقبة، و {الْعَقَبَةَ}: مفعول به، وقيل {لا}: دعائية، دعا عليه أن لا يفعل خيرًا، وهذا أرجح الأقوال الجارية هنا، وقيل: {لا} تحضيضية، والأصل: فألا اقتحم العقبة، ثم حُذفت الهمزة للتخفيف، وهذا القول ضعيف. وإن كان واضح المعنى كما مر، {وَمَا} {الواو}: اعتراضية {ما}: استفهامية في مخل الرفع مبتدأ. {أَدْرَاكَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {ما} و {الكاف} مفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية، والجملة الاسمية معترضة مقحمة لبيان العقبة، مقررة لمعنى الإبهام والتفسير، فإن قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} عين تلك العقبة؛ لأن المعرف باللام

والألف إذا أعيد كان الثاني عين الأول. {مَا}: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. {الْعَقَبَةُ}: خبر عنها، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ} معلق عنها بالاستفهام. {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو فك رقبة، كأنه قيل: وما هو: اقتحام العقبة، فقيل: هو فك رقبة أو إطعام ... إلخ، والجملة مفسرة لاقتحام العقبة لا محل لها من الإعراب. {أَوْ إِطْعَامٌ} معطوف على {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}. {فِي يَوْمٍ}: متعلق بـ {أَوْ إِطْعَامٌ}. {ذِي مَسْغَبَةٍ}: صفة لـ {يَوْمٍ}. {يَتِيمًا}: مفعول به لـ {إِطْعَامٌ}: {ذَا مَقْرَبَةٍ}: صفة لـ {يَتِيمًا}. {أَوْ مِسْكِينًا}: معطوف على {يَتِيمًا}. {ذَا مَقْرَبَةٍ}: صفة {مِسْكِينًا}. {ثُمَّ}: حرف عطف وتراخ. {كَانَ}: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنسان المذكور. {مِنَ الَّذِينَ}: جار وجرور خبر {كَانَ}، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}؛ أي: فهلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين ... إلخ. {آمَنُوا}: فعل وفاعل صلة الموصول. {وَتَوَاصَوْا}: فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا}. {بِالْمَرْحَمَةِ}: متعلق بـ {تواصوا}. {وَتَوَاصَوْا}: معطوف أيضًا على {آمَنُوا}. {بِالْمَرْحَمَةِ}: متعلق بـ {تواصوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}: خبره، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ}: مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {كَفَرُوا}. {هُمْ}: مبتدأ ثان، أو ضمير فصل. {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}: خبر عن {هُمْ} ومضاف إليه، والجملة خبر عن {الَّذِينَ}، أو {هُمْ} خبر عن {الَّذِينَ}، {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم. {نَارٌ}: مبتدأ مؤخر. {مُؤْصَدَةٌ}: صفة لـ {نَارٌ}، والجملة خبر ثان عن {هُمْ}، أو عن {الَّذِينَ}، أو مستأنفة، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} وفي "القاموس": البلد والبلدة: مكة شرفها الله تعالى، وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة، والتراب والبلد أيضًا القبر والمقبرة والدار والأثر. وذكر له معاني إلى أن قال: وبلد بالمكان بلودًا إذا أقام ولزمه، أو اتخذه بلدًا، وفي "روح البيان": البلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه بلاد وبلدان. انتهى. كما مر في بحث التفسير.

{وَأَنْتَ حِلٌّ} والحل: بمعنى الحال من الحلول؛ وهو النزول، يقال: حل وحلال وحرم وحرام بمعنى واحد، وحل في المكان إذا نزل فيه يحل - بضم الحاء - حلولًا، فهو حال، والمكان محلول فيه، والمعنى: أي: وأنت حال مقيم فيه. {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)}؛ أي: وأقسم لك بأي والد وبأي مولود من الإنسان والحيوان والنبات. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)}؛ أي: في نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الاخرة، وفي "المصباح": والكَبَد - بفتحتين - المشقة من المكابدة للشيء، وهو يتحمل المشاق في فعله، يقال: كَبِدَ الرجل كبدًا - من باب طرب - إذا وجعت كبده فانتفخت، ويقال: كبده إذا أصاب كبده، كذكرته إذا قطعت ذكره، ورأيته إذا قطعت رئته، ثم اتسع فيه حتى استُعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة، ومنه قال لبيد يرثي أخاه أربد: يَا عَيْنُ هَلْ رَأيْتِ أرْبَدَ إِذْ ... قُمْنَا وَقَامَ الخُصُوْمُ فِي كَبَدِ أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. {مَالًا لُبَدًا}؛ أي: مالًا كثيرًا متلبدًا من تلبد الشيء إذا اجتمع، وتكدس بعضه على بعض، ولا يخاف فناؤه من كثرته، يريد كثرة ما أنفقه رياء وسمعة وعداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. {أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أصله: يرأي بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثم قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لدخول الجازم، فلم يبق من الفعل إلا فاؤه فوزنه يفه. {وَشَفَتَيْنِ}: مثنى شفة، فيه إعلال بحذف لامه، وأصله: شفهة، أو شفو لتصغيره على شفيهة، وجمعها على شفاه، حُذفت لامه وعُوّض عنها التاء ونظيره سنة. {النَّجْدَيْنِ}: والنجدان: طريقا الخير والشر، والنجد في الأصل الطريق المرتفع وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة، وفي "القاموس" النجد: ما ارتفع من الأرض، وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونُجُد، وجمع النجود: أنجدة، والطريق الواضح، وما خالف الغور؛ أي: تهامة، وتضم

جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن، وأسفله العراق والشام، وأوله من جهة الحجاز ذات عرق، وما ينجد به البيت من بسط وفرش ووسادة، والجمع نجود ونجاد، والدليل الماهر، والمكان لا شجر فيه. {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} والاقتحام: الدخول في أمر شديد ومجاوزته بصعوبة، وفي "القاموس": قحم في الأمر - كنصر - قحومًا رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، والعقبة: الطريق الوعر. {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} والفك في الأصل: الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الاخر، كفك القيد والغل، وفك الرقبة: الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية، والرقبة: العضو المخصوص، ثم يعبر بها عن جملة الذات، كا مر بسطه. {مَسْغَبَةٍ}: مصدر ميمي من سَغِب يسغب سغبًا - من باب فرح - إذا جاع، وفي "القاموس": سغب - كفرح ونصر - سَغَبًا وسغْبًا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع، فهو ساغب وسغبان وسَغِب، وهي سغبى، وجمعها سغاب، والسغب أيضًا العطش، وليس بمستعمل. {ذَا مَقْرَبَةٍ} والمقربة القرابة في النسب تقول: فلان من ذوي قرابتي، ومن أهل مقربتي إذا كان قريبك نسبًا فهو مصدر ميمي بمعنى القرابة. {ذَا مَتْرَبَةٍ} والمتربة؛ الفقر، تقول: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب، وفي "المختار": ترب الشيء إذا أصابه التراب، وبابه طرب، ومنه ترب الرجل؛ أي: افتقر كأنه لصق بالتراب، وتربت يداه دعاء عليه لا أصاب خيرًا، وتَرَّبَه تتْريبًا فتَترَّب؛ أي: لطخه فتلطخ، وأتربه جعل عليه التراب، وفي الحديث "أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة" وأترب الرجل استغنى، كأنه صار له من المال بقدر التراب، والمتربة: المسكنة والفاقة، ومسكين ذو متربة؛ أي: لاصق بالتراب؛ لفقره وضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يفرشه. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}؛ أي: نصح بعضهم بعضًا به، وأصله تواصَيُوا بوزن: تفاعلوا، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {بِالْمَرْحَمَةِ} والمرحمة مصدر ميمي بمعنى الرحمة. {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} الميمنة: طريق النجاة والسعادة، وهو اسم مكان أو مصدر ميمي.

{هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} والمشأمة: طريق الشقاء، وهو أيضًا مصدر ميمي، أو اسم مكان. {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}؛ أي: مطبقة، من أوصدت البالب إذا أطبقته، كأوعدته فهو حينئذ مثال واوي، أو من آصدته بالمد إذا أطبقته وأغلقته وأحكمته، فهو حينئذ من المهموز مثل آمن، فمن قرأها {مُؤْصَدَةٌ} بالهمز جعلها اسم مفعول من آصدت كآمنت، ومن قرأها {موصدة} بالواو من غير همز جعلها اسم مفعول من أوصدت مثل أوعد فهو مُوعِد، وذاك مُوعَد، ويحتمل على هذه القراءة أن يكون أيضًا من آصد مثل آمن، لكنه قُلبت همزته الساكنة واوًا؛ لضم ما قبلها للتخفيف، ففيه لغتان: آصد كآمن، وأوصد كأوعد، كلاهما بمعنى واحد. وكان أبو بكر بن عياش راوي عاصم يكره الهمزة في هذا الحرف، ويقول: لنا إمام يهمز مؤصدة، فأشتهي أن أصد أذني إذا سمعته، وكأنه لم يحفظه عن شيخه إلا بترك الهمزة، وقد حفظه حفص بالهمزة، وهو أضبط للحروف من أبي بكر على ما نقله القراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن وأوثق عند أهل الحديث، والله سبحانه وتعالى أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: زيادة {لا} في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)}؛ أي: أقحم بهذا البلد لتكيد القسم، وهو مستفيض شائع في كلام العرب، كقولهم: لا والله ليس بالأمر كذا؛ أي: والله ليس الأمر كذا، قال امرؤ القيس: لَا وَأَبِيْكِ ابْنَةَ العَامِرِيّ ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} إظهارًا لمزيد فضلها بحلوله فيه. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)} فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة.

ومنها: تنكير {والدٍ} إفادة للتفخيم والتعظيم، أو إفادة للعموم. ومنها: إيثار {ما} على من في قوله: {وَمَا وَلَدَ} إفادة لمعنى التعجب مما أعطاه الله تعالى من الكمال، كما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}؛ أي: بأي شيء وضعت يعني: موضوعًا عجيب الشأن، وهو مريم، ويعني هنا: مولودًا عجيب الشأن، وهو إسماعيل، أو محمد عليهما السلام. ومنها: الاستفهام الإنكاري للتوبيخ في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}، ومثله قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}. ومنها: الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)}. ومنها: التعبير بلفظ الإهلاك في قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} إشارة إلى أنه ضائع في الحقيقة؛ إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} فقد استعار النجدين للخير والشر، وحذف المشبه؛ وهو الخير والشر، وأبقى المشبه به، فإن قلت: أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق، فلا غبار عليه؛ لأنه ظاهر بخلاف الشر، فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال .. قلنا: إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب، وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودًا وارتكاسًا وإسفافًا، وهذا من أبلغ الكلام وأروعه. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية المرشحة في قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} فقد رشح بذكر ما يلائم الاستعارة الأولى أعني النجدين بمعنى الطريقين؛ لأن مبنى الترشيح وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به على المبالغة، وادعاء اتحاد الطرفين، ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد؛ وهو ذكر ما يلائم المشبه به؛ لأن فيه اعترافًا بالتشبيه، فأصل العقبة الطريق الوعر في الجبل، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة؛ لأنها تصعب وتشق على النفوس، ففيه استعارة تبعية. ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}؛ لأن الفك حقيقة في الفصل بين الشيئين المجتمعين الملتئمين، فاستُعير هنا لتحرير الرقبة وعتقها؛ لما فيه من الفصل بين الرق والرقيق.

ومنها: المجاز المرسل في لفظ {رَقَبَةٍ}؛ لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ لأن الرقبة في الأصل العضو بين الكتف والرأس. ومنها: الجناس الناقص بين {مَقْرَبَةٍ} و {مَتْرَبَةٍ}؛ لاختلاف بعض الحروف. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} وقوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}. ومنها: الإتيان باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} دلالة على حضورهم عند الله تعالى في مقام كرامته، وعلو مرتبتهم عنده. ومنها: الإتيان بضمير الغيبة في قوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور، وأنهم أحقاء بالإخفاء، وهذا من ألطف البلاغة، وأبلغها وأعجبها. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على خمسة مقاصد: 1 - ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب. 2 - اغترار الإنسان بقوته. 3 - نكران النعم التي أنعم بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر. 4 - سبل النجاة الموصلة إلى السعادة. 5 - كفران الآيات سبيل الشقاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة البلد بعون الله الواحد الأحد، منتصف ليلة الثلاثاء الثالثة والعشرين من شهر شوال المحرم من شهور سنة: 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الشمس

سورة الشمس سورة الشمس مكية باتفاق، كما في "القرطبي"، نزلت بعد سورة القدر، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: خمس عشرة آية. وكلماتها (¬1): أربع وخمسون كلمة. وحروفها: مئتان وسبعة وأربعون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجهين (¬2): 1 - أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشامة، وأعاد ذكر الفريقين في هذه السورة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. 2 - أنه سبحانه وتعالى ختم السورة السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، وختم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم (¬3) في السورة السابقة القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها .. أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم السفلي، وبما هو آلة التفكر في ذلك وهو النفس، وكان آخر ما قبلها مختتمًا بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا، وفي تلك بمآلهم في الآخرة إلى النار، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل. انتهى. ومن فضائلها: ما أخرجه أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة العشاء: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} وأشباهها من ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط.

السور، وقد تقدم حديث جابر في "الصحيح" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "هلا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}. وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}. وأخرج البيهقي في "الشُّعَب" عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها وبالضحى. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة والشمس وضحاها محكمة كلها ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة الشمس؛ لابتدائها بها. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالشَّمْسِ}؛ أي: أقسم لك يا محمد بالشمس {وَضُحَاهَا}؛ أي: وبضحاها وهو قسم ثان؛ أي: وبضوئها إذا طلعت وقام سلطانها، وانبسط نورها، وهي كوكب نهاري ينسخ ظهوره كواكب الليل، وجواب القسم في هذا وما بعده قوله الآتي: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} كما سيأتي بيانه. وأقسم سبحانه بهذه الأمور المذكورة (¬1): لأن له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقال قوم: إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف؛ أي: {و} رب {الشمس} ورب القمر، وهكذا سائرها، ولا مُلجِىء إلى هذا ولا موجب له. واعلم: أنه سبحانه أقسم (¬2) أولًا بالشمس نفسها غابت أو ظهرت؛ لأنها خلق عظيم يدل على قدرة مبدعها، وأقسم ثانيًا بضوئها؛ لأنه مبعث الحياة في كل حي، فلولاها ما أبصرت حيًا ولا رأيت ناميًا، ولولاها ما وُجد الضياء ولا انتشر النور، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان .. فر منه السقم، وولت جيوش الأمراض هاربة؛ لأنها تفتك بها فتكًا ذربعًا، وقال مجاهد (¬3): {وَضُحَاهَا}؛ أي: ضوئها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون عند ارتفاعها، وكذا قال الكلبي، وقال قتادة: {وَضُحَاهَا} نهارها كله، وقال الفراء: الضحى هو النهار، وقال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

[2]

المبرد: أصل الضحى الصبح، وهو نور الشمس، قال أبو الهيثم: الضحى نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله: الضحي فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفًا، قيل: والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس، وبعيد ذلك قليلًا، فإذا زاد فهو الضحاء بالمد، قال المبرد: الضحى والضحوة مشتقان من الضح، فأبدلت الواو والألف من الحاء، والضح هو نور الشمس المنبسط على وجه الأرض المضاد للظل، وقيل: الضحى هو حر (¬1) الشمس؛ لأن حرها ونورها متلازمان، فإذا اشتد نورها .. قوي حرها، وهذا أضعف الأقوال، واختُلف (¬2) في جواب القسم ماذا هو؟ فقيل: هو قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}، قاله الزجاج وغيره، قال الزجاج: حُذفت اللام؛ لأن الكلام قد طال، فصار طوله عوضًا، وقيل: الجواب محذوف؛ أي: أقسمت بالشمس وما بعدها لتبعثن، وقيل تقديره: لَيُدَمْدِمَنَّ الله على أهل مكة؛ لتكذيبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحًا، وأما {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} فكلام تابع لقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها إلخ، والأول أولى. 2 - {و} أقسمت بـ {الْقَمَرِ} وهو كوكب ليلي لهو سلطنة في الليل على سائر الكواكبـ {إِذَا تَلَاهَا}؛ أي: إذا تلا القمر الشمس وتبعها في الإضاءة والنور بأن طلع بعد غروبها آخذًا من نورها، وذلك (¬3) في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة، وخلفها في النور، وقيل: تلاها في الاستدارة، وذلك حين يكمل ضوءه ويستدير جرمه، وذلك في الليالي البيض، وقيل: {تَلَاهَا} تبعها في الطلوع، وذلك في أول ليلة من الشهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال، فكأنه تبعها. والمعنى (¬4): أي وأقسمت بالقمر إذا تلا الشمس وتبعها في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه، أو قربه من الامتلاء حين يضيء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر، وهذا قسم بالضوء في طور ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن. (¬4) المراغي.

[3]

آخر وهو ظهوره، وانتشاره الليل كله، وقد يكون المراد بـ {تَلَاهَا}؛ أي: تبعها في كل وقت؛ لأن نوره مستمد من نور الشمس، فهو لذلك يتبعها، فهو لها بمنزلة الخليفة، وقد قال بهذا الفراء قديمًا، وأثبته علماء الفلك حديثًا. 3 - {و} أقسمت بـ {النَّهَارِ} وهو نور الشمس الذي ينسخ ظل الأرض يمحو ظلمة الليل {إِذَا جَلَّاهَا}؛ أي: إذا جلى النهار الشمس، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تتجلى تمام الانجلاء، فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه. يعني (¬1): لما كان انتشار الأثر، وهو زمان ارتفاع النهار زمانًا لانجلاء الشمس، وكان الجلاء واقعًا فيه .. أسند فعل التجلية إليه إسنادًا مجازيًا مثل نهاره صائم، وقيل: الضمير عائد إلى الظلمة وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى معروف؛ أي: إذا جلى ظلمة الليل وأزالها وكشفها بضوئه، قال الفراء كما تقول: أصبحت باردة؛ أي: أصبحت غداتنا باردة، وقيل: جلّى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل، وقيل: جلى الدنيا، وقيل: جلى الأرض، والأول أولى. والمعنى: أي وأقسمت بالنهار إذا جلى الشمس وأظهرها، وأتم وضوحها؛ إذ كلما كان النهار أجلى ظهورًا .. كانت الشمس أكمل وضوحًا. وأقسم سبحانه بهذه المخلوقات للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء، وإعظام أمر النعمة فيه، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من ايات ربنا الكبرى ونعمة من نعمه العظمى، وفي قوله: {جَلَّاهَا} بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة والآية الباهرة، 4 - وبعد أن أقسم بالضياء في أطوار مختلفة أقسم بالليل في حال واحدة، فقال: {و} أقسمت بـ {اللَّيْلِ} وهو ظل الأرض الحائلة بين الشمس وبين ما وقع عليه ظلمة الليل {إِذَا يَغْشَاهَا}؛ أي: يغشى الليل الشمس، فيغطي ضوءها فتغيب، وتُظلم الآفاق، ولما كان احتجاب الشمس بحيلولة الأرض بيننا وبينها واقعًا في الليل .. صار الليل كأنه حجبها وغطاها، فاسند التغطية والتغشية إلى الليل لذلك، وقيل المعنى: إذا يغشى الليل الآفاق، وقيل: يغشى الأرض وإن لم يجر لهما ذكر؛ لأن ذلك معروف، والأول أولى، ولعل (¬2) اختيار صيغة المضارع هنا على الماضي؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[5]

للدلالة على أنه لا يجري عليه تعالى زمان، فالمستقبل عنده كالماضي مع مراعاة الفواصل، ولم يجىء غشاها من التغشية؛ لأنه يتعدى إلى المفعولين، وقال الشيخ الطنطاوي: وفي قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} مجاز عقلي؛ لأن الذي يغشى إنما هي الأرض، فأسند ذلك لليل الذي هو من آثار ذلك، ففي هذا بيانان: بيان أن ضوء القمر من الشمس، وأن الليل لم يحدث من الشمس؛ لأنها دائمًا مشرقة، وإنما حدث من دوران الأرض، فانظر كيف جعل القمر تاليًا والأرض سائرة حتى حدث الليل. انتهى. وحيث كانت الواوات العاطفة نواب الواو الأولى القسمية القائمة مقام الفعل، والباء سادَّة مسدَّها معًا في قولك: أقسم بالله، حق أن يعملن عمل الفعل، والجار جميعًا، كما ضرب زيد عمرًا وبكر خالدًا، فترفع بالواو وتنصب بها، لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، فاندفع ما يورد هاهنا من تلك الواو، إن كانت عاطفة يلزم العطف على معمولي عاملين مختلفين، وإن كانت قسمية يلزم تعدد القسم مع وحدة الجواب، وحاصل الدفع اختيار الشق الأول، ومنع لزوم المحذور. والمعنى (¬1): أي وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس، فيزيل ضوءها في الليالي الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها، لا مباشرة كما في النهار، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها، وهي قليلة، فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال في الشهر. وفي هذا: إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكوكب العظيم، فيُذهب ضوءها، ويحيل نور العالم ظلامًا، فهو؛ أي: هذا الكوكب على جليل نفعه، وعظيم فائدته لا يُتخذ إلهًا؛ لأن الإله لا يحول ولا يزول، ولا يعتريه تغير ولا أُفول، وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته، 5 - وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام .. أردفه بذكر صفات تدل على حدوثها، فقال: {و} أقسمت بـ {السَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أي: ومن بناها وخلقها على غاية العظم والعلو، وهو الله سبحانه وتعالى، فـ {ما} موصول اسمي، ورجح (¬2) هذا القول ابن جرير، وإيثار {ما} على مَن لإِرادة الوصفية تعجبًا؛ لأن ما يسأل بها عن صفة من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[6]

يعقل، كأنه قيل: وبالقادر العظيم الشأن الذي بناها، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: والسماء وبنيانها، ورجح هذا القول الفراء والزجاج، ولا وجه لقول من قال: إن جعلها مصدرية مخل بالنظم، وكذا الكلام في {ما} في قوله: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)}، والمعنى؛ أي: وأقسمت (¬1) بالسماء ومن قدرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته، وفي ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة، وأن لها صانعًا حكيمًا، وقد أحكم وضعها وأجاد تقديرها، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة، كما تُربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع حتى يتماسك. ولما كان الخطاب موجهًا إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينظروا في هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرًا، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى .. عبر عن نفسه بلفظ {ما} التي هي الغاية في الإبهام. 6 - {و} أقسمت بـ {الْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}؛ أي: ومن بسطها من كل جانب على الماء كي يعيش أهلها فيها ومهدها للسكنى، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان، وبما في باطنها من مختلف المعادن، ونحو الآية قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} والطحو كالدحو بمعنى البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين، وإفراد بعض (¬2) المخلوقات بالذكر وعطف الخالق عليه والإقسام بهما ليس لاستوائهما في استحقاق التعظيم، بل النكتة في الترتيب أن يبين وجود الصانع العالم، وكمال قدرته، ويظفر العقل بإدراك جلال الله وعظمة شأنه حسبما أمكن، فإنه تعالى لما أقسم بالشمس التي هي أعظم المحسوسات شرفًا ونفعًا، ووصفها بأوصافها الأربعة وهي ضوءها، وكونها متبوعة للقمر، ومتجلية عند ارتفاع النهار، ومختفية متغطية بالليل .. أقسم بالسماء التي هي مسير الشمس وأعظم منها، فقد نبه على عظمة شأنها، لما عُلم أن الإقسام بالشيء تعظيم له، ومن المعلوم أنهما لحركاتهما الوضعية وتغير أحوالهما من الأجسام الممكنة المحتاجة إلى صانع مدبر كامل القدرة بالغ الحكمة، فيتوسل العقل بمعرفة أحوالهما وأوصافهما إلى كبرياء ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

صانعهما، فكان الترتيب المذكور كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بقاع عالم الربوبية وبيداء كبريائه الصمدية. وقصارى ما سلف (¬1): أنه تعالى بعد أن أقسم بالضياء والظلمة .. أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب وبالذي بناها وجعلها مصدرًا للضياء، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشًا، ومصدرًا للظلمة، فإنها هي التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر، فيظهر فيه الظلام. قال المفسر الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} ولفظ (¬2) السماء حين يُذكر يسبق إلى الذهن: هذا الذي نراه فوقنا، كالقبة حيثما اتجهنا تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها، فأما حقيقة السماء فلا ندريها، وهذا الذي نراه فوقنا متماسكًا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه، أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أو، ولا آخرًا، فذلك ما لا ندريه، وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل والإقرار لها والإثبات، إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله سبحانه هي تمسك هذا البناء {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وهذا هو العلم المتيقن الوحيد، اهـ. وقال الطنطاوي في "تفسيره" عند قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)}؛ أي (¬3): ومن بناها، وأَيُّ بانٍ هو، إنه لا يضاهيه بَنَّاء فيما يعلم الناس، فأي بَنَّاء يستطيع أن يبني قبة زرقاء مرصعة بمصابيح، تلك المصابيح تجري وهي لا تتصادم إلا في أوقات نادرة، وإذا تصادمت .. أصلحت، وهي في نفس السقف، وعادت جديدة، ثم كيف يتسنى له جمع أجسام عظيمة في بنائه ما بين نارية، وأخرى صلبة، وأخرى لطيفة لطفًا أرق من الهواء، ومن الضياء وهو الأثير. وكيف يراها الإنسان والحيوان سقفًا ساكنًا هادئًا لا حركة فيه، فالشمس ساكنة والقمر ساكن، والنجوم ساكنة لا حركة فيها، وترى هذه العوالم كلها في الليالي المظلمة كأنها تتغنى، وكأنها عروس حُلِّيَت في حِبَر، والكون كله سكون في سكون، مع أنه لا شيء مما يراه ساكن، فالهواء متحرك، والأثير متحرك، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) ظلال القرآن. (¬3) جواهر الطنطاوي.

[7]

والكواكب كلها متحركات، والشمس والقمر والنجوم السيارة كلها في حركات، لو اطلع عليها .. لخر صعقًا ولدهش منها، هذا فضلًا عما في تلك العوالم من المزعجات والمهلكات التي تكون فيها على الدوام، فيا ليت شعري أيُّ بانٍ يقدر على ذلك، فيرى الإنسان أن المتحركات سواكن، وأن المخاوف أمان، وأن هذا كله إنما هو ليكون له سقفًا يحميه ونعمًا عليه ترضيه، وكأنها ليست مقصودة إلا له ولا هي مبنية إلا لأجله، فيا عجبًا لمتحرك ساكن، وعظيم صغير، وقريب بعيد، إن العجب سيأخذنا كل مأخذ، ويدهشنا أن نكون في عالم بديع الإتقان عجيب البنيان حسن الهندام، والحق أحق أن هذه الدنيا بديعة الحسن، ظريفة الصنع، بهيجة المنظر، سارة للمفكرين، كما أنها سجن الغافلين. كيف نجعل الكواكب التي عدت بمئات الملايين، كأنها درر مرصعة في سقفنا، أليس من العجب أن تكون تلك الكواكب لمآرب في تلك السباسب، ولبديع الصنع وحسن الإتقان، وجمال الوضع، تتراءى لنا أنها صُنعت لأجلنا، وليزين بها سقفنا، وكيف دُبرت هذه الحكمة، فسبحانه من حكيم عليم، قدير على كل شيء، وإليه تُرجعون. انتهى. 7 - ثم أقسم سبحانه بعدما ذكر بالنفس الإنسانية تنبيهًا على ما لها من شرف ومكانة في هذا الوجود، وفي هذه النفس الإنسانية من الأسرار والعجائب والغرائب ما يندهش له ذوو العقول النيرة الكبيرة، وهي سر من أسرار الخلق العظيمة، فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)}؛ أي: وأقسمت بنفس إنسانية ومن سواها وأنشأها وأبدعها، وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة، لتكون مستعدة لكمالاتها، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها، وألف بها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى، والتنكير (¬1) فيها؛ للتفخيم على أن المراد نفس ادم عليه السلام، أو للتكثير وهو الأنسب للجواب، وقال عطاء: يريد جميع ما خُلق من الجن والإنس، والكلام في {ما} هذه كما تقدم، ومعنى {سَوَّاهَا} خلقها وأنشأها وسوى أعضاءها. وذكر سبحانه في تعريف ذات الله تعالى السماء والأرض والنفس (¬2)؛ لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[8]

وهو إما علوي بسيط كالسماء، وإما سفلي كالأرض، وإما مركب، وهو أقسام: أشرفها ذوات الأنفس، وقد استدل بعطف ما بعدها على ما قبله على عدم جواز تقدير المضاف فيه مثل ورب الشمس، وكذا في غيره إذ المقدر في المعطوف عليه يقدر في المعطوف، فيكون التقدير: ورب ما بناها ورب ما طحاها ورب ما سواها، وبطلانه ظاهر، فإن الظاهر أن تكون في مواضعها موصولة فاعرف. 8 - ثم بيّن أثر هذه التسوية، فقال: {فَأَلْهَمَهَا}؛ أي: فألهم كل نفس وعرفها {فُجُورَهَا}؛ أي: طريق فجورها وشرها؛ لتجتنبها ولا تعمل به، والفجور: شق ستر الديانة، وقدَّمه على التقوى؛ لمراعاة الفواصل، أو لشدة الاهتمام بنفسه؛ لأنه إذا انتفى الفجور .. وجدت التقوى، فقدم ما هُمْ بشأنه أَعْنَى: {وَتَقْوَاهَا}؛ أي: وأعلم كل نفس طريق تقواها؛ لتعمل به. و {الفاء} في قوله: {فَأَلْهَمَهَا} إن كانت لسببية التسوية، فالأمر ظاهر، وإن كانت لتعقيبها، فلعل المراد منها إتمام ما يتوقف عليه الإلهام من القوى الظاهرة والباطنة، والإلهام: إلقاء الشيء في الروع، إما من جهة الله تعالى، أو من جهة الملأ الأعلى، وأصل إلهام الشيء: ابتلاعه. والمعنى: أفهم النفس الفجور والتقوى، وعرّفها حالهما من الحسن والقبح، وما يؤدي إليه كل منهما، ومكَّنها من اختيار أيهما شاءت، قال بعضهم: الإلهام لا يكون إلا في الخير، فلا يقال في الشر: ألهمني الله كذا، وأما قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} فالمراد فجورها؛ لتجتنبه لا لتعمل به، وتقواها لتعمل به؛ إذ ليس في كلام الله تناقض أبدًا، فالإلهام في قسم الفجور إلهام إعلام، لا إلهام عمل، فإن الله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وكما لا يأمر بالفحشاء لا يلهم بها، فإنه لو ألهم بها ما قامت الحجة لله على العبد، وهذه الآية مثل قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} أي: بينا له الطريقين وقال بعضهم: لم ينسب سبحانه إلى النفس خاطر المباح ولا إلهامه فيها، وسبب ذلك أن المباح لها ذاتي، فبنفس ما خلق عينها ظهر المباح فهو من صفاتها النفسية التي لا تُعقل النفس إلا بها، فخاطر المباح نعت خاص كالضحك للإنسان. وفي "التأويلات النجمية": تدل الآية على كون النفوس كلها حقيقة واحدة متحدة تختلف باختلاف توارد الأحوال والأسماء، فإن حقيقة النفس المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجهت إلى الله تعالى توجهًا كليًا .. سميت مطمئنة، وإذا

[9]

توجهت إلى الطبيعة توجهًا كليًا .. سميت أَمَّارة، وإذا توجهت تارة إلى الحق بالتقوى وتارة أخرى إلى الطبيعة البشرية بالفجور .. سميت لوامة. انتهى. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند هذه الآية: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبده خيرًا .. ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر .. ألهمه الشر فعمل به، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور، واختار هذا القول الزجاج، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. قال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام: أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله سبحانه في قلب عبده شيئًا .. ألزمه ذلك الشيء، قال: وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر خذلانه. وخلاصة ذلك (¬1): أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى، وعرّفها حالهما بحيث يتميز الرشد من الغي، ويتبين لها الهدى من الضلال، وجعل ذلك معروفًا، فالأولى البصائر، 9 - وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر .. ذكر ما تلقاه جزاءً على كل منهما، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ}؛ أي: ربح وفاز وظفر {مَنْ زَكَّاهَا}؛ أي: من زكى نفسه ونماها، وطهرها حتى بلغت غاية ما هي مستعدة له من الكمال العقلي والعملي حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها، وهذا جواب القسم، وحذف (¬2) اللام لطول الكلام، وقال الزجاج: طول الكلام صار عوضًا عن اللام كما مر، وإنما تركه في "الكشاف" وغيره؛ لأنه يوجب الحذف، والحذف لا يجب مع الطول، ولم يجعل {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} جوابًا؛ لأن إقسام الله إنما يؤكد به الوعد أو الظفر، وإدراك البغية، وهو إما دنيوي كالظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من الغنى والعز والبقاء مع الصحة ونحوها، أو أخروي وهو بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة، وأصل الزكاة: الزيادة والنمو، كما سيأتي بسطه في مبحث اللغة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[10]

والمعنى: أقسمت بهذه الأمور العظام المذكورة على أنه قد فاز بكل مطلوب، ونجا من كل مكروه، من أنمى النفس وأعلاها بالتقوى؛ أي: رفعها وأظهرها وشهرها بها، فأهل الصلاح يظهرودن أنفسهم ويشهرونها بما سطع من أنوار تقواهم إلى الملأ الأعلى، وبملازمتهم مواضع الطاعات ومحافل الخيرات، بخلاف أهل الفسق، فإنهم يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، لا يلوح عليهم سيما سعادة يشتهرودن به بين عباد الله المقربين. وأصل هذا: أن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع، ويوقدون النار للطارقين، لتكون أشهر، واللئام ينزلون الأطراف والهضاب؛ لتخفى أماكنهم عن الطالبين، فأخفوا أنفسهم، فالبار أيضًا أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دسها، وتُستعمل التزكية بمعنى التطهير أيضًا، كما قال في "القاموس": الزكاة: صفوة الشيء، وما أخرجته من مالك؛ لتطهره به، فالمعنى عليه: قد أفلح من طهر نفسه من المخالفات الشرعية عقدًا وخلقًا وعملًا وقولًا، فقد أقسم تعالى بسبعة أشياء على فلاح من زكى نفسه ترغيبًا في تزكيتها. وكون أفعال العبد بتقدير الله تعالى (¬1)، وخلقه لا ينافي إسناد الفعل إلى العبد، فإنه يقال: ضرب زيد عمرًا، ولا يقال: ضرب الله عمرًا، مع أن الضرب بخلقه، وتقديره، وذلك لأن وضع الفعل بالنسبة إلى الكاسب، قال الراغب: وزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد؛ لاكتسابه ذلك نحو: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}، وتارة إلى الله؛ لكونه فاعلًا خالقًا لذلك في الحقيقة نحو: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} وتارة إلى الشيء؛ لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، وتارة إلى العبادة التي هي آلة في ذلك نحو: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} انتهى. 10 - وقوله: {وَقَدْ خَابَ} وخسر معطوف على {قَدْ أَفْلَحَ} {مَنْ دَسَّاهَا}؛ أي: أضلها وأغواها، قال أهل اللغة: دساها أصله: دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى {دَسَّاهَا} في الآية: أخفاها وأخملها، ولم يشهرها ¬

_ (¬1) روح البيان.

[11]

بالطاعة والعمل الصالح، وقال ابن الأعرابي: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}؛ أي: دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم، وفي "القاموس" كما سيأتي: خاب يخيب خيبة: حُرِم وخسر، ولم ينل ما طلب، وأصل دس: دسس، كتقضى البازي وتقضض من التدسيس، وهو الإخفاء مبالغة الدس، واجتماع الأمثال لَمَّا أوجب الثقل قلبت السين الآخيرة ياء، وقال الراغب: الدس: إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإكراه، ودساها؛ أي: دسسها في المعاصي. انتهى. والمعنى (¬1): أي وقد خسر نفسه وأوقعها في التهلكة، من نقصها حقها بفعل المعاصي، وأخفاها بالفجور ومجانبة البر والقربات، وبإرسالها في المشتهيات الطبيعية، فإن من سلك سبيل الشر وطاوع داعى الشهوة .. فقد فعل ما تفعل البهائم، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان، واندرج في عداد الحيوان، ولا شك أنه لا خيبة أعظم ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله. 11 - وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} المراد به القبيلة، ولذا قال: {بِطَغْوَاهَا} بضمير المؤنثة الغائبة، ولم يقل: بطغواهم كلام (¬2) مستأنف وارد لتقرير مضمون. قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} فإن الطغيان أعظم أنواع التدسية، والطغوى - بالفتح - مصدر بمعنى الطغيان إلا أنه لما كان أشبه برؤوس الآيات .. اختير على لفظ الطغيان وإن كان الطغيان أشهر، وفي "الكشف": الطغوى من الطغيان، فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة. والباء فيه للسببية، أي: فعلت التكذيب بسبب طغيانها، كما تقول: ظلمني بجراءته على الله تعالى، فالفعل منزل منزلة اللازم، فلا يقدر له مفعول وهو المشهور، أو كذبت ثمود نبيها صالحًا عليه السلام، فحُذف المفعول للعلم به، ويجوز أن يكون صلة للتكذيب؛ أي: كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى والتجاوز عن الحد، وهو الصيحة، كقوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}؛ أي: بصيحة ذات طغيان. وقرأ الجمهور (¬3): {بِطَغْوَاهَا} بفتح الطاء، وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[12]

كعب وحماد بن سلمة بضم الطاء، فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قُلبت الياء واوًا للفرق بين الاسم والصفة؛ لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيرًا نحو: تقوى وسروى، وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرجعى والحسنى ونحوهما، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا، لكنهم شذوا فيه، وقيل: هما لغتان، والمعنى؛ أي: كذبت ثمود نبيَّها صالحًا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها، 12 - ثم بيّن أمارة ذلك التكذيب، فقال: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)}: منصوب بـ {كذبت} أو {بالطغوى}؛ أي: حين قام أشقى ثمود، وهو قُدار بن سالف امتثالًا لأمر من بعثه إليه، فإن {انْبَعَثَ} مطاوع لبعث، يقال: بعثت فلانًا على أمرٍ فانبعث له وامتثل. قال في "كشف الأسرار": الانبعاث: الإسراع في الطاعة للباعث، أو حين قام قدار، ومن تصدى معه لعقر الناقة من الأشقياء، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث، ويدل على (¬1) الأول قوله تعالى، في سورة القمر: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)}، فإنه يدل على أن المباشر واحد معين، وفضل شقاوتهم على من عداهم مباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضى به. 13 - {فَقَالَ لَهُمْ}؛ أي: لثمود {رَسُولُ اللَّهِ} حين علم ما عزموا عليه من العقر، وهو صالح عليه السلام بن عبيد بن جابر بن ثمود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فالإضافة فيه للعهد، عبر عنه بعنوان الرسالة إيذانًا بوجوب طاعته وبيانًا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان {نَاقَةَ اللَّهِ} منصوب (¬2) على التحذير وإن لم يكن من الصور التي يجب فيها حذف العامل، وأضيفت إليه تعالى للتشريف، كبيت الله؛ أي: ذروا ناقة الله الدالة على وحدانيته، وكمال قدرته، وعلى نبوتي، واحذروا عقرها {وَسُقْيَاهَا}؛ أي: شربها، وهو نصيبها من الماء، ولا تطردوها عنه في نوبتها، فإنها كان لها شرب يوم معلوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم آخر، وكانوا يستضرون بذلك في مواشيهم، فهموا بعقرها، قال أبو حيان (¬3): وقرأ الجمهور: {نَاقَةَ اللَّهِ} بنصب التاء، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله؛ لأنه قد عُطف عليه، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر، كقولك: الأسد الأسد؛ لأن العامل في التحذير يضمر وجوبًا في ثلاثة مواضع: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[14]

أحدها: أن يكون المحذر به نفس إياك وبابه. الثاني: أن يكون عطف. الثالث: أن يكون هناك تكرار، كقولك: الأسد الأسد اهـ. من "السمين" بتصرف، وما ذكرناه آنفًا نقلًا عن صاحب "الروح" فغير سديد. والمعنى (¬1): أي فقال لهم صالح عليه السلام: احذروا ناقة الله التي جعلها آية نبوتي، واحذروا شربها الذي اختصت به في يومها، فلا تؤذوها ولا تتعدَّوْا عليها في شربها ولا في يوم شربها، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم، فكانوا يجدون في أنفسهم حرجًا لذلك ويتضررون منه، فهموا بقتلها، فحذرهم أن يفعلوا ذلك، وخوفهم عذاب الله تعالى وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل، 14 - لكنهم كذبوه ولم يستمعوا النصيحة، كما أشار إلى ذلك بقوله: {فَكَذَّبُوهُ}؛ أي: فكذبوا رسول الله صالحًا عليه السلام في وعيده لهم بقوله: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} قال أبو حيان: والجمهور على أنهم كانوا كافرين، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، وتابعوا صالحًا بمدة، ثم كذبوا وعقروا، كما قال: {فَعَقَرُوهَا}؛ أي: فعقر الناقة أشقاهم قدار بن سالف، وأسند العاقر إلى الجماعة؛ لكونهم راضين به ومتمالئين عليه، قال قتادة: إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، قال الفراء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، فلهذا لم يقل أشقَياها؛ أي: عقرها قدار ومن ساعده في رجليها، فأسقطوها، ثم ذبحوها، فتقاسموا لحمها. قال السهيلي (¬2): العاقر قدار بن سالف، وأمه قديرة، وصاحبه الذي شاركه في عقر الناقة اسمه مصدع بن وهر أو ابن جهم، والعقر: النحر، وقدم التكذيب على العقر؛ لأنه كان سبب العقر، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "عاقر الناقة، قال: أتدري من أشقى الآخِرين؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "قاتلك" رواه أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم وغيرهم عن عمار بن ياسر. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[15]

والمعنى (¬1): أنهم لم يتورعوا عن تكذيبه، ولم يحجموا عن عقر الناقة، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب، ثم بيّن عاقبة عملهم، وذكر ما يستحقونه من الجزاء، فقال: {فَدَمْدَمَ}؛ أي: أطبق {عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أليم العذاب وشديد العقاب {بـ} سبب {ذنبهم} الشنيع؛ وهو الصيحة الهائلة، وأهلكهم هلاك استئصال، ولم يُبق منهم ديارًا ولا نافخ نار. وقرأ الجمهور (¬2): {فَدَمْدَمَ} بميم بعد دالين، وقرأ ابن الزبير: {فدهدم} بهاء بينهما، قال القرطبي: وهما لغتان، كما يقال: امتقع لونه واهتقع لونه؛ أي: أطبق عليهم العذاب مكررًا ذلك عليهم، وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة إذا طُليت بالشحم وأحيطت به، بحيث لم يبق منها شيء لم يمسه الشحم، ودم الشيء سدّه بالقبر، ودممت على القبر وغيره إذا أطبقت عليه، ثم كررت الدال؛ للمبالغة في الإحاطة، فالدمدمة من الدم كالكبكبة من الكب. وقوله: {بِذَنْبِهِمْ}؛ أي: بسبب (¬3) ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب؛ ليعتبر به كل مذنب {فَسَوَّاهَا}؛ أي: فسوى القبيلة في العقوبة، ولم يفلت منها أحد، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} فأعاد عليها الضمير بالتأنيث، كما أعاد عليها في قوله: {بِطَغْوَاهَا} أو سوى الدمدمة والإهلاك بينهم، فعمهم بها، واستوت على صغيرهم وكبيرهم، وقيل: سوى الأرض عليهم، فجعلهم تحت التراب؛ أي: جعل الأرض فوقهم مستوية كان لم تُثر ودمر مساكنها على ساكنيها. روي أنهم لما رأوا علامات العذاب .. طلبوا صالحًا عليه السلام أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى، كما قال في سورة هود: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}. 15 - {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} {الواو} (¬4) للاستئناف، أو للحال من الضمير المستتر في {فَسَوَّاهَا} الراجع إلى الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، والضمير في {عُقْبَاهَا}؛ للدمدمة؛ أي: سوى الله سبحانه وتعالى الدمدمة عليهم حال كونه تعالى غير خائف عاقبة الدمدمة عليهم ولا تبعتها، أو عاقبة هلاك ثمود، كما يخاف سائر المعاقبين ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

من الملوك والولاة، فيترحم بعض الترحم، وذلك أن الله تعالى لا يفعل إلا بحق، وكل من فعل بحق فإنه لا يخاف عاقبة ما فعل، ولا يبالي بعاقبة ما صنع وإن كان من شأنه الخوف، وقيل: الضمير في {يَخَافُ} إلى العاقر؛ أي: ولا يخاف قدار ولا هم ما يعقب عقرها ويتبعه وما يترتب عليه من أنواع البلاء والمصيبة والعقاب، مع أن صالحًا عليه السلام قد أخبرهم بها، وقال السدي والضحاك والكلبي: إن الضمير يرجع إلى العاقر؛ لأن الكلام فيه لا إلى الله؛ أي: لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع، وقيل الضمير إلى صالح عليه السلام؛ أي: ولا يخاف رسول الله عليه السلام عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضررًا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، والأول أولى، وقرأ الجمهور (¬1): {وَلَا يَخَافُ} بالواو، وقرأ نافع وابن عامر وأبىٌّ والأعرج: {فلا تخاف} بالتاء، وقرىء: {ولم يخف} وهو مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكره في "المراح". والمعنى: أن الله أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم (¬2)؛ لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. والمراد أنه بالغ في عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ في الفعل، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل، فإنه يبالغ فيه؛ ليصل إلى ما يريد، وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه سينزل بالمكذبين من قومه مثل ما أنزل بثمود، ولقد صدق الله وعده، فأهلك من أهلك من أهل مكة في وقعة بدر بأيدي المؤمنين، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى، حتى لم يبق في جزيرة العرب مكذب، ولو سارت الدعوة سيرتها في عهد الصحابة .. لما بقي في الأرض مكذب، ولله الأمر من قبل ومن بعد. الإعراب {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

{وَالشَّمْسِ} {الواو}: حرف جر وقسم. {الشمس}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا؛ لكونه مع الواو تقديره: أقسم بالشمس، والجملة القسمية مستأنفة استئنافًا نحويًا. {وَضُحَاهَا}: معطوف على {وَالشَّمْسِ}. {وَالْقَمَرِ}: معطوف على {وَالشَّمْسِ} أيضًا. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم المحذوف. {تَلَاهَا}: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {القمر}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}؛ أي: وأقسم بالقمر وقت تلوه وتبعه للشمس فإن قلت: إن فعل القسم إنشاء وزمانه للحال، فلا يعمل في {إِذَا}؛ لأنها للاستقبال. قلت: إنما يكون فعل القسم للحال إذا لم يكن متعلقًا على شرط، فيجوز أن يقال: أقسم بالله إذا طلعت الشمس، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، {وَالنَّهَارِ}: معطوف على {وَالشَّمْسِ} أيضًا {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم المحذوف، وجملة {جَلَّاهَا} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {وَاللَّيْلِ} معطوف على {وَالشَّمْسِ}. {إِذَا}: ظرف مجرد متعلق بفعل القسم المحذوف، وجملة {يَغْشَاهَا} في محل الجر مضاف إليه لـ {إذا}. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. {وَالسَّمَاءِ} معطوف على {وَالشَّمْسِ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: اسم موصول بمعنى مَن في محل الجر معطوف على {السماء}. {بَنَاهَا}: فعل وفاعل مستتر يعود على {ما}، ومفعول به، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن الفعل معطوف على {السماء}؛ أي: وأقسمت بالسماء وبنائها، فالمصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: أقسمت بالسماء وبانيها، وهو الرب سبحانه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {وَالشَّمْسِ}، {وَمَا}: اسم موصول بمعنى مَن معطوف على {الْأَرْضِ}، وجملة {طَحَاهَا} صلة الموصول، ويجوز أن تكون مصدرية أيضًا وإن منعه الزمخشري. {وَنَفْسٍ}: معطوف على {وَالشَّمْسِ}. {وَمَا}: معطوف على {نفس}، وجملة {سَوَّاهَا} صلة لـ {ما} موصولة كانت أو مصدرية؛ أي: أقسمت بنفس ومن سواها. {فَأَلْهَمَهَا} {الفاء}: عاطفة، {ألهمها}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول معطوف على {سَوَّاهَا}. {فُجُورَهَا}:

مفعول ثان. {وَتَقْوَاهَا}: معطوف على {فُجُورَهَا}. {قَدْ}: حرف تحقيق. {أَفْلَحَ}: فعل ماض. {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، وجملة {زَكَّاهَا}: صلة الموصول، وجملة {أَفْلَحَ}: جواب القسم، وحذفت اللام لطول الكلام، وقيل: الجواب محذوف تقديره: لتبعثن كما مر بسطه. {زَكَّاهَا}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مَن} و {الهاء}: مفعول به، وقيل: الفاعل ضمير يعود على الله، و {الهاء}: يعود على {مَن} بمعنى النفس؛ أي: من زكاها الله تعالى بالطاعة، وتكون الصلة سببية. {وَقَدْ خَابَ}: فعل ماض، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة {قَدْ أَفْلَحَ} على كونها جواب القسم، وجملة {دَسَّاهَا} صفة لـ {من} الموصولة. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)}. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ}: فعل وفاعل؛ {بِطَغْوَاهَا}: متعلق بـ {كذبت}، و {الباء}: فيه سببية، والجملة الفعلية مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها. {إِذِ}: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ {كذبت} أو بـ {طغواها}. {انْبَعَثَ}: فعل ماض. {أَشْقَاهَا}: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إذ}، {فَقَالَ}: {الفاء}: عاطفة، {قال}: فعل ماض {لَهُمْ}: متعلق بـ {قال}. {رَسُولُ اللَّهِ}: فاعل، والجملة معطوفة على جملة {انْبَعَثَ}. {نَاقَةَ اللَّهِ}: منصوب على التحذير بفعل محذوف وجوبًا تقديره: ذروا ناقة الله. {وَسُقْيَاهَا}: معطوف على {نَاقَةَ اللَّهِ}، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول {قال}؛ أي: قال لهم: اتركوا عقرها واحذروا سقياها؛ أي: شربها. {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}. {فَكَذَّبُوهُ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {قال}. {فَعَقَرُوهَا}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على كذبوه؛ أي: عقرها قدار ومن ساعده في رجليها، فأوقعوها فذبحوها، وتقاسموا لحمها. {فَدَمْدَمَ} {الفاء}: عاطفة، {دمدم}: فعل ماض. {عَلَيْهِمْ}: متعلق به. {رَبُّهُمْ}: فاعل. {بِذَنْبِهِمْ}: متعلق

بـ {دمدم}؛ والجملة معطوفة على {عَقَرُوهَا}. {فَسَوَّاهَا}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الرب، ومفعول به معطوف على {دمدم}، {وَلَا}: {الواو}: استئنافية، أو حالية، {لا}: نافية، {يَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب، {عُقْبَاهَا}: مفعول به، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {سواها}، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، فتكون الجملة معطوفة على جملة {سواها}، وكونها عاطفة يلائم قراءة الفاء، وهي سبعية أيضًا، وممن قال بأنها عاطفة، ابن خالويه. التصريف ومفردات اللغة {وَالشَّمْسِ}: وهو كوكب نهاري ينسخ وجوده ظلمة الليل. {وَضُحَاهَا} قال القرطبي: الضحى: مؤنثة، يقال: ارتفعت الضحى فوق الضحو، وقد تذكر، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر إلى أنها اسم على فعل، نحو: صرد، وقال ابن خالويه: الضحى: مقصور مثل: هدى، والضحى مؤنثة، تصغيره: ضحية، والأجود أن يقال في تصغيرها: ضعيف بغير هاء؛ لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة، والضحى: وجه النهار. وفي "القاموس": والضحو والضحوة والضحية كعشية: ارتفاع النهار، والضحى: فويقه، ويذكر ويصغر ضحيًا بلا هاء، والضَّحَاء بالمد: إذا قرب انتصاف النهار، وبالضم والقصر، وأتيتك ضحوة وضحى، وأضحى: صار فيها، وأضحى الشيء: أظهره، وضاحاه: أتاه فيها. انتهى. ومعنى {وَضُحَاهَا}؛ أي: وضوئها ونورها المشرق المنبسط على وجه الأرض المضاد للظل، وفيه إعلال بالقلب، أصله: ضحوها، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وإنما رسمت ياءً جريًا على قانون العرب من رسمهم ما كان من ذوات الواو مكسور الأول، أو مضمومه بالياء، وقيل: لأنها ترجع في بعض التصاريف إلى الياء، كقولك في تصغير ضحى: ضحيٌ. {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)}؛ أي: تبعها من التلو بمعنى التبع. قال الراغب: يقال: تلاه: إذا تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك يكون تارةً بالجسم، وتارةً بالاقتداء في الحكم، ومصدره: تِلو وتُلو، وتارة بالقرآن وتدبر المعنى، ومصدره:

تلاوة، ثم قال قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} فإنما يراد به ما هنا الإتباع على سبيل الابتداء والمرتبة، وذلك أنه فيما قيل: إنه القمر يقتبس النور من الشمس، وهو لها بمنزلة الخليفة، وأصله: تلوها واوي اللام، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)}؛ أي: كشف الشمس، وأتم وضوحها، وأصله: جَلَّيَها بوزن فعّل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح {يَغْشَاهَا} أصله: يَغْشَيَها، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} فيه إعلال بالقلب أيضًا، أصله: بَنَيَها قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والسماء: كل ما ارتفع فوق رأسك، والمراد به: هذا الكون الذي فوقك، وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجري في مجاريها. {وَمَا بَنَاهَا}؛ أي: ومن بناها ورفعها، وجعل كل كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف، أوقبة تحيط بك. {وَالْأَرْضِ}: وهي كل ما أسفل تحت رجلك، والمراد بها: هذا الكون الذي تحتك، وفيها: البحار والأنهار والأشجار والأحجار. {وَمَا طَحَاهَا}؛ أي: ومن بسطها وجعلها فراشًا ومهادًا لنا؛ لأن ما يظهر للرائي فيها يكون كالبساط، فلا ينافي كرويتها، والطحو كالدحو بمعنى البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، وأصله؛ طَحَوَها بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وفي "المختار": طحاه: بسطه، مثل دحاه، وبابه: عدا، وفي "القاموس": وطحا يطحو: بعد وهلك، وألقى إنسانًا على وجهه. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)}؛ أي: ومن سواها؛ أي: ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها، وأصله: سَوَّيَها بوزن: فعَّل المضعف، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَأَلْهَمَهَا}؛ أي: عرفها ومكنها {فُجُورَهَا} والفجور ما يكون سببًا في الخسران والهلكة. {وَتَقْوَاهَا} والتقوى: إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة، والألف في

التقوى ألف التأنيث، وقد مر ما فيه من التصريف غير ما مرة. {قَدْ أَفْلَحَ}؛ أي: أصاب الفلاح، وهو إدراك المطلوبـ {مَنْ زَكَّاهَا}؛ أي: طهرها من أدناس الذنوب، وأصله: زَكَّيَها بوزن: فعل، وأصل هذه الياء واو، فقلبت ياء لوقوعها رابعة، ثم تحركت بعد فتح، فقلبت ألفًا. {وَقَدْ خَابَ}؛ أي: خسر {مَنْ دَسَّاهَا}؛ أي: أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي، قال الشاعر: وَدَسَّسْتُ عَمْرًا فِيْ التُّرَابِ فَأصْبَحَتْ ... حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ ضُيَّعَا وأصله: دسسها، قلبت السين الثالثة ياءً لتوالي الأمثال، ثم قلبت ألفًا لتحركها بعد فتح. وفي "القاموس": خاب يخيب خيبة: حُرِم وخسر وكفر، ولم ينل ما طلب، وأصل دس: دسس، كتقضَّى البازي، وتقضض من التدسيس، وهو الإخفاء مبالغة الدس، واجتماع الأمثال، لَمَّا أوجب الثقل .. قلبت السين الأخيرة ياءً، وقال الراغب: الدسُّ: إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإكراه، ودساها؛ أي: دسسها في المعاصي. انتهى. {بِطَغْوَاهَا} الطغوى والطغيان: مجاوزة الحد المعتاد، وكلاهما مصدر لطغى، وفي "الكشف": الطغوى من الطغيان، فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيا وصديا من الخزى بالفتح والقصر بمعنى: الاستحياء، ومن الصدى بمعنى: العطش {إِذِ انْبَعَثَ} قام ونهض لعقر الناقة. {أَشْقَاهَا}؛ أي: أشقى ثمود، وهو قُدار بن سالف بوزن غراب، وكان هذا الرجل أشقر أزرق قصيرًا، وهو أمير ثمود، وكان فيهم عزيزًا شريفًا نسيبًا مطاعًا، ومعنى قدار في الأصل الجزار، كما في "البيضاوي"، ويضرب به المثل، فيقال: أشام من قدار، وأصل أشقى أشْقَيَ صيغة التفضيل، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} صالح عليه السلام: {نَاقَةَ اللَّهِ} احذروا التعرض لناقة الله {وَسُقْيَاهَا}؛ أي: شربها الذي خصها به في يومها، والألف في {سقياها} منقلبة عن ياء، والأصل: سُقْيَيَها أعلت الياء الثانية بالقلب؛ لتحركها بعد فتح.

{فَعَقَرُوهَا}؛ أي: فنحروها {فَدَمْدَمَ}؛ أي: فأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدم عليه القبر أطبقه، ويقال: دم الشيء سدّه بالقبر، ودممت على القبر وغيره إذا أطبقت عليه، ثم كررت الدال؛ للمبالغة في الإحاطة، فالدمدمة من الدم كالكبكبة من الكب، تقول العرب: دممت على فلان بالتخفيف، ثم تقول من المبالغة: دممت بالتشديد، ثم تقول من تشديد المبالغة دمدمت، والتركيب يدل على غشيان الشيء بالشيء. {فَسَوَّاهَا}؛ أي: فسوى القبيلة في العقوبة، فلم يفلت منها أحد، وأصله سَوَّيَها، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح. {وَلَا يَخَافُ} أصله يَخْوَف بوزن يفعل مضارع خَوِف بكسر العين، نقلت حركة الواو إلى الخاء، ثم قلبت ألفًا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {عُقْبَاهَا}؛ أي: عاقبة الدمدمة وتبعتها. وفي "القاموس": وأعقبه الله بطاعته جازاه، والعقبى: جزاء الأمر، وألفه للتأنيث كالرجعى والذكرى. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الطباق بين {الشمس} و {القمر} في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} وبين {الليل} و {النهار} في قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)}. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)}؛ لأنه لما كان جلاء الشمس واقعًا في النهار .. أسند فعل التجلية إليه إسنادًا مجازيًا مثل نهاره صائم. ومنها: اختيار صيغة المضارع على الماضي؛ للدلالة على أنه لا يجري عليه تعالى زمان، فالمستقبل عنده تعالى، كالماضي في التحقيق، وفيه أيضًا مراعاة الفواصل؛ إذ لو أتى به ماضيًا .. لكان التركيب إذا غشيها، فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع. اهـ "خطيب". ومنها: تنكير نفس في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)}؛ للتفخيم على أن المراد

به آدم عليه السلام، أو للتكثير وهو الأنسب للجواب. ومنها: تقديم الفجور على التقوى مع كونه أخس لمراعاة الفواصل، أو لشدة الاهتمام بنفيه؛ لأنه إذا انتفى الفجور .. وجدت التقوى، فقدم ما هم بشأنه أعنى. ومنها: الطباق بين الفجور والتقوى في هذه الآية. ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. ومنها: الإضافة للعهد في قوله: {رَسُولُ اللَّهِ} وهو صالح بن عبيد عليه السلام. ومنها: التعبير فيه بعنوان الرسالة إيذانًا بوجوب طاعته، وبيانًا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} كبيت الله، أضيفت إليه سبحانه تشريفًا لها؛ لأنها خرجت من حجر أصم معجزة لصالح عليه السلام. ومنها: التعبير بصيغة التكرير في قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ} إفادة للتهويل والتفظيع؛ لأن التعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب الواقع بهم وإطباقه عليهم. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} على اعتبار أن الضمير في {يَخَافُ} عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وهو الظاهر؛ أي: أنه تعالى لا يخاف عاقبتها، كما تخاف الملوك عاقبة أفعالها، والمقصود من الاستعارة إهانتهم وإذلالهم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب إليه المرجع والمآب * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على مقصدين: 1 - الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة .. فقد أفلح وفاز، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه .. فقد خاب. 2 - ذكر ثمود مثلًا لمن دس نفسه، فاستحق عذاب الله الذي هو له أهل (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة الشمس فيما بين العشاءين من ليلة الثلاثاء، ليلة الثلاثين من شهر شوال، من شهور سنة: 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين .. آمين.

سورة الليل

سورة الليل سورة الليل مكية عند الجمهور (¬1)، نزلت بعد سورة الأعلى، وقيل: مدنية، وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: إحدى وعشرون آية. وكلماتها: إحدى وسبعون كلمة. وحروفها: ثلاث مئة وعشرون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬2): أنه سبحانه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم، وخيبة المدسين لها، وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح، وما تحصل به الخيبة، ثم حذر النار، وذَكَر مَن يصلاها ومن يجتنبها، فهذه السورة كالتفصيل لسابقتها. ومن فضائلها: ما أخرجه البيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، ونحوها. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الهاجرة، فرفع صوته فقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، فقال له أبي بن كعب: يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال: "لا ولكن أردت أن أوقِّت لكم" وقد تقدم حديث "فهلا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إني لأقول: إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، وسميت سورة الليل؛ لبدايتها بلفظ الليل. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله أعلم * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}. المناسبة قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وأما قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ...} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين (¬1) أن سعي الناس مختلف في نفسه وعاقبته، وأرشد إلى أن المحسن في عمله يوفقه الله تعالى إلى أعمال البر، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان .. أردفه بأنه قد أعذر إلى عباده تقديم البيان الذي تتكشف معه أعمال الخير والشر جميعًا، ووضح السبيل أمام كل سالك، فإن شاء .. سلك الخير فسلم وسعد، وإن أراد .. ذهب في طريق الشر فتردى في الهاوية. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة من أولها إلى آخرها: ما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، فصعد إلى النخلة ليأخذ منها التمر .. ربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم، وإن وجدها في فم أحدهم .. أدخل أصبعه حتى يخرج التمرة من فمه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بما يلقى من ¬

_ (¬1) المراغي.

صاحب النخلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب" ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة" فقال له الرجل: يعجبني ثمرها وإن لي لنخلًا كثيرًا، وما فيها نخلة أعجب إلى ثمرة منها، فذهب الرجل، ثم جاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل كان سمع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صاحب النخلة، فقال: يا رسول الله: أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: "نعم" فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة فساومها منه، فقال له: أشعرت أن محمدًا أعطاني بها نخلة في الجنة، فقلت له: يعجبني ثمرها، فقال له الرجل: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلا أن أُعطى بها ما أريد، ولا أظن أن أُعطى، فقال له: فما مناك فيها؟ قال: أربعون نخلة. قال: لقد جئت بأمر عظيم، ثم سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال له: أشهد لي إن كنت صادقًا، فمر ناس فدعاهم، فأشهدهم له على أربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله: إن النخلة صارت في ملكي فهي لك، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صاحب الدار، فقال: إن النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) ...} الآيات، وصاحب النخلة رجل خزرجي وكان منافقًا، ومات على نفاقه، والذي اشترى النخلة هو الصحابي الجليل أبو الدحداح - رضي الله عنه - قال ابن كثير هذا حديث غريب جدًّا. قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) ...} الآيات، روي أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - وقد كان من أمره أن بلال بن رباح - رضي الله عنه - وكان مولى لعبد الله بن جدعان جاء إلى الأصنام وسلح عليها، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم، ووهب لهم مئة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء، وكان يقول وهم يعذبونه: أحد أحد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به وهو يعذب فيقول له: "ينجيك أحد"، ثم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - بما يلقى بلال في الله، فحمل أبو بكر رطلًا من ذهب وابتاعه من المشركين، وأعتقه، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) ...} الآيات.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}؛ أي: وأقسم بالليل إذا يغطي (¬1) بظلمته ما كان مضيئًا، قال الزجاج: يغشى الليل الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض، فيُذهب ضوء النهار، وقيل يغشى: النهار، وقيل يغشى: الأرض، والأول أولى، و {إذا} للحال (¬2)؛ لكونها بعد القسم، كما مر في السورة السابقة؛ أي: أقسم بالليل حين يغشى الشمس، ويغطيها ويسترها، كقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} فعدم ذكر المفعول للعلم به أو النهار، أو كل ما يواريه بظلامه، فعدم ذكر المفعول للتعميم، والليل عند أهل النجوم: ما بين غروب الشمس وطلوعها، وعند أهل الشرع: ما بين غروبها وطلوع الفجر الصادق، ولعله المراد هنا، والنهار ما يقابله على كلا الضبطين. قال بعض أهل المحبة: وَاللَّيْلُ دَاجٍ وَالْعُصَاةُ نِيَامُ ... وَالْعَابِدُوْنَ لِذِيْ الْجَلَالِ قِيَامُ 2 - {و} أقسم بـ {النَّهَارِ} وضوئه {إِذَا تَجَلَّى}؛ أي: ظهر وانكشف، ووضح؛ لزوال الظلمة التي كانت في الليل، إن كان المغشي غير الشمس، أو تبين وتكشف بطلوع الشمس، وإن كان المغشي الشمس، واختلاف الفاصلتين بالمضي والاستقبال؛ للدلالة على أنه لا يجري عليه تعالى زمان، فالمستقبل عنده تعالى كالماضي في التحقق 3 - {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}؛ أي: وأقسم بالذي خلق وأوجد الذكر والأنثى، فـ {ما} موصولة، وعبر عن (¬3) من بـ {ما}؛ للدلالة على الوصفية، ولقصد التفخيم، كما في قوله: {وَمَا بَنَاهَا}؛ لأنها (¬4) لتوغلها في الإبهام أفادت أن الوصف الذي استُعملت هي فيه بالغ إلى أقصى درجات القوة والكمال بحيث كان مما لا يكتنه كنهه، وأنه لا سبيل للعقل إلى إدراكه بخصوصه، وإنما الممكن هو إدراكه بأمر عام صادق، واللامان (¬5) للحقيقة، ويجوز أن تكونا للاستغراق. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان. (¬5) روح البيان.

[4]

والمعنى: أي وأقسم بالقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد، فخرج مثل البغل والبغلة، وقيل: إن الله سبحانه لم يخلق خلقًا من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى، والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرًا ولا أنثى، وقد لقي خنثي مشكلًا .. كان حانثًا؛ لأنه في الحقيقة إما ذكر أو أنثى وإن كان مشكلًا عندنا، كما في "الكشاف"، وقال الكلبي ومقاتل يعني آدم وحواء، فتكون {اللام} للعهد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}، والظاهر العموم، وقيل: مخصوص ببني آدم؛ لاختصاصهم بولاية الله وطاعته، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية؛ أي: وبخلق الذكر والأنثى. قرأ الجمهور (¬1): {تَجَلَّى} فعلًا ماضيًا فاعله ضمير {النهار}، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير: {تتجلى} بتائين أعني: الشمس، وقرىء: {تُجْلى} - بضم التاء وسكون الجيم - أي: الشمس، وقرأ الجمهور (¬2): {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} وقرأ ابن مسعود: {وَالذكرِ والأنثى} بدون {ما خلق} قال علقمة: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء - رضي الله عنه - فقال: أفيكم من يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود؟ فأشاروا إلي، فقلت: نعم أنا، فقال: كيف يقرأ هذه الآية؛ قلت: سمعته يقرأ: {والذكِر والأنثى} قال: وأنا هكذا، والله سمعت رسول الله يقرؤها، وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها: {وَمَا خَلَقَ} فلا أتابعهم. 4 - وقوله {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} جواب القسم، والمصدر (¬3) بمعنى الجمع؛ لما عُرف أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ولذلك أخبر عنه بالجمع، و {شتى} جمع شتيت كمرضى ومريض، وهو المفترق المتثبت، والمعنى: إن مساعيكم؛ أي: أعمالكم أيها العباد لمختلفة حسب اختلاف الاستعدادات الأزلية، فبعضها حسن نافع خير صالح، وبعضها قبيح ضار شر فاسد، وفي الحديث: "الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، أو بائع نفسه فموبقها". وحاصل ما في المقام: أن الله سبحانه أقسم (¬4) بما أقسم على أن سعي البشر ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

مختلف فأقسم: 1 - بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مستقره، ويسكن عن الاضطراب؛ إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه. 2 - بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم، وفيه تغدو الطير من أوكارها، وتخرج الهوام من أجحارها. 3 - بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى، وميز بين الصنفين، مع أن المادة التي تَكَوَّنا منها واحدة، والمحل الذي تكونا فيه واحد، وفي ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة، كما قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}، فقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} أقسم بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها في ظلامه، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم بما يشملهم من النوم والهدوء {و} أقسم بـ {النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} بزوال ظلمة الليل، فيتحرك الإنسان والحيوان طلبًا لمعاشهما، وبهذا يظهر وجه المصلحة في اختلافهما؛ إذ لو كان الدهر كله ليلًا .. لتعذر المعاش على الناس، ولو كان كله نهارًا .. لبطلت المصلحة، فكان في تعاقبهما آية بالغة يُستدل بها على علم الصانع وحكمته. إقرأ من شئت قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} {و} أقسم بـ {مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}؛ أي: بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد، وفي هذا (¬1) دليل على أنه عليم جد العلم بدقائق المادة وما فيها؛ إذ لا يُعقل أو يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى في الحيوان بمحض الاتفاق أو طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف في الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع. وقصارى ما سلف: أو بعض الماء يكون تارة سببًا للحمل، وأخرى يكون غير مستعد للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث، سبحانه ما ¬

_ (¬1) المراغي.

[5]

أعظم قدرته وأجل حكمته، لا إله إلا هو الفعال لما يريد، ثم ذكر المحلوف عليه، فقال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)}؛ أي: من أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة، بعضها ضلال وعماية، وبعضها هدى ونور، وبعضها يستحق النعيم، وبعضها يستحق العذاب الأليم، كما قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُنا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُنا نَعَمِلُنا الصَّالِحَاتِ سَنَاءً مَحْيَاهُمْ نَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُننَ (21)} وقال: {لَا يَسْتَنِي أَصْحَابُ النَّارِ نَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُننَ (20)}. 5 - وقوله: {فَأَمَّا} بيان وتفصيل لتلك المساعي المختلفة وتبيين لأحكامها، و {الفاء} للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن سعيكم شتى، وأردتم بيانها وتفصيلها لكم .. فأقول لكم: أما {مَنْ أَعْطَى}؛ أي: أدى حقوق الله عليه بامتثال المأمورات، وأداء الواجبات، وحقوق الناس عليه بأداء أموالهم عليه، ووفاء البيعة للإمام مثلًا، فإن مطلق الإعطاء يتناول إعطاء يقول المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى، يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى البيعة، وقيل: معنى الإعطاء: إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى، وتقوية المسلمين على عدوهم. اهـ من "الرازي". {وَاتَّقَى}؛ أي: اجتنب (¬1) محارم الله التي نهى عنها، ومن جملتها المن والأذى 6 - {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}؛ أي: بالخصلة الحسنى، وهي الإيمان من الكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي ملة الإِسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والحسنى تأنيث الأحسن 7 - {فَسَنُيَسِّرُهُ}؛ أي: فسنُهَيِّئُه ونوفقه {لِلْيُسْرَى}؛ أي: للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة، كدخول الجنة ومباديه، والمعنى: فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله تعالى التي تؤديه إلى الجنة. قال الواحدي (¬2): قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق، اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله، كما مر؛ أي: نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون، وذلك في الدنيا والآخرة، وفي "الخطيب": واختُلف في الحسنى، فقال ابن عباس: أي: بـ: لا إله إلا الله؛ أي: مع محمد رسول الله، والمعنى: وصدَّق بالتوحيد والنبوة، وذلك لأنه لا ينفع مع ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم، وقال مجاهد: بالجنة؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} وقال زيد بن أسلم: الصلاة والزكاة والصوم. ومعنى التيسير (¬1): التهيئة لا ما يقابل التعسير، ومنه قوله: "كل ميسر لما خلق له" فلا حاجة إلى أن يقال: استُعمل التيسير في العسرى على المشاكلة كما في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} يقال يَسَّر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها، واليسرى تأنيث الأيسر فوصف الخصلة باليسرى مجاز باعتبار كونها مؤدية إلى اليسرى. فائدة (¬2): ذكروا أن {السين} في {فَسَنُيَسِّرُهُ}؛ للتلطيف، قال الشريف الصفوي: مرادها بالتلطيف ترقيق الكلام بمعنى أن لا يكون نصًا صريحًا في المقصود، بل يكون محتملًا لغير المقصود، فهو كالشيء الرقيق الذي يمكن تغييره ويسهل، ويقابل الكثيف بمعنى من يكون نصًا في المقصود؛ لأنه لا يمكن تغييره وتبديله، فهو كالشيء الكثيف الذي لا يمكن فيه ذلك، فالمقصود هاهنا من التيسير حاصل في الحال، لكن أتي بالسين الدالة على الاستقبال، والتأخير لتلطيف الكلام وترقيقه باحتمال أن لا يكون التيسير حاصلًا، فكانت تقتضي ذلك. ومعنى الآيات (¬3): أي فأما من أعطى المال وأنفقه في وجوه الخير سواء كان واجبًا عليه أم لا كالصدقات والنوافل، كفك الأسارى، وتقوية المسلمين على عدوهم، وابتعد عن كل ما لا ينبغي، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}؛ أي: وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب ونحو ذلك مما هو مركوز في طبيعة الإنسان، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير، ولا يكون تصديقًا حقًا، ولا ينظر الله إليه إلا إذا أصدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه، وهو بذل المال واتقاء مفاسد الأعمال. وكثير من الناس يظن نفسه مصدقًا بفضل الخير على الشر، ولكن هذا التصديق يكون سرابًا في النفس خَيَّلَه الوهم؛ لأنه لا يصدر منه ما يليق به من الأثر، فتراه قاسي القلب بعيدًا عن الحق، بخيلًا في الخير، مسرفًا في الشر، ثم ذكر جزاءه على ذلك، فقال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}؛ أي: فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما في فصل الفطرة، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[8]

سعادتها، فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير في الأعمال ووزنها بنتائجها، فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها .. سهل الله له ما هو مسبوق إليه بأصل فطرته، وفاعل الخير للخير يجد أريحية في نفسه ويذوق لذة لا تعدلها لذة، فتزيد فيه رغبته وتشتد لفعله عنيمته، هذا هو التيسير الإلهي، والذي يوفق الله له الصالحين من عباده. 8 - {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ}؛ أي (¬1): بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، والبخل؛ إمساك المقتنيات عما لا يليق حبسها عنه، ويقابله الجود {وَاسْتَغْنَى}؛ أي: زهد فيما عند الله من الأجر والثواب؛ أي: لم يرغب فيه، كأنه مستغن عنه فلم يتق، من استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، فلم يتق، فيكون الاستغناء مستتبعًا لعدم الاتقاء الذي هو مقابل الاتقاء في الآية الأولى، وبه يحصل التقابل بينهما 9 - {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)}؛ أي: ما ذكر من المعاني المتلازمة التي هي الإيمان من كلمة التوحيد من ملة الإِسلام من الجنة 10 - {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}؛ أي: فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته؛ لاختياره لها، ونسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، فيؤديه ذلك إلى النار، ولعل تصدير (¬2) القسمين بالإعطاء والبخل، مع من كلًّا منهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى والتيسير للعسرى؛ للإيذان بأن كلًّا منهما أصيل فيما ذُكر لا تتمة لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء. والظاهر (¬3): أن {السين}؛ للدلالة على الجزاء الموعود بمقابلة الطاعة والمعصية، وهو يكون في الآخرة التي هي أمر متراخ منتظر، فأُدخلت {السين} وهي حرف التأخير؛ ليدل ذلك على أن الوعد آجل غير حاضر، كذا في بعض التفاسير. وقيل العسرى (¬4): الشر، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب والعسرة في العذاب، والمعنى عليه: سنهيئه للشر بأن نجريه على يده، قال الفراء: سنيسره: سنهيئه، والعرب تقبل: قد يَسَّرَت الغنم إذا ولدت، من تهيأت للولادة. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

[11]

هُمَا سَيِّدَانِ يَزْعُمَانِ وَإِنَّمَا ... يَسُوْدَانِنَا إِنْ يَسّرَتْ غَنَمَاهُمَا والمعنى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)}؛ أي (¬1): وأما من أمسك ماله، من أنفق في شهواته، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه، وخدعته ثروته وجاهه، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد، ولا يحس بأنه واحد من الناس يصيبه ما أصابهم من السوء {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)}؛ أي: وكذب بأن الله يخلف على المنفقين في سبيله، فبخل بماله، ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتعه في حاضره، ولا يبالي بما عدا ذلك، ويدخل في المكذبين بالحسنى، أولئك الذين يتكلمون بها تقليدًا لغيرهم، ولا يظهر أثرها في أعمالهم {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}؛ أي: ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث، فيسهل الله له الخطة العسرى، وهي الخطة التي يحط بها قدر نفسه، وينزل بها إلى حضيض الآثام، ويغمسها في أوحال الخطيئة 11 - {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ}؛ أي (¬2): وما يدفع عنه ماله الذي بخل به شيئًا من عذاب الله، فـ {ما}: نافية، والمفعول محذوف من؛ أي شيء يدفع عنه ماله الذي بخل به، فـ {ما} استفهامية في محل النصب مفعول {يُغْنِي}، والاستفهام للإنكار {إِذَا تَرَدَّى}؛ أي: هلك ومات تفعل من الردى؛ للمبالغة والردى، كالفتى وهو الهلاك، قال الراغب؛ الردى الهلاك، والتردي التعرض للهلاك. انتهى. من تردى وسقط في الحفرة إذا قُبِر، من تردى في قعر جهنم، يقال: ردى الرجل في البئر يردى ردى إذا سقط فيها، وتردى إذا هلك، فالمال الذي ينتفع به الإنسان في الآخرة وقت حاجته هو الذي أعطى حقه، وقدمه دون الذي بخل به وتركه لوارثه. والمعنى (¬3): أي وإذا يسرناه للعسرى، فأي شيء يُغني عنه ماله الذي بخل به على الناس، ولم ينفقه في المصالح العامة؟ وفيما يعود نفعه على الجماعة، ولم يصحب منه شيئًا إلى آخرته التي هي موضع حاجته وفقره؟ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}، 12 - وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} استئناف مقرِّر لما قبله؛ أي: إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحِكَم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وطريق الضلال وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال من ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

[13]

سلك كلا الطريقين ترغيبًا وترهيبًا، ومن (¬1) هذا تبين من الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البغية، لا الدلالة الموصلة إليها قطعًا، وإن المراد بالوجوب المفهوم من على الوجوب بموجب القضاء ومقتضى الحكمة، فلا تكون الآية بظاهرها دليلًا على وجوب الأصلح عليه تعالى، كما جزءًا المعتزلة، قال الفراء: من علينا للهدى والإضلال، فحذف الإضلال، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وقيل: المعنى: من علينا ثواب هداه الذي هديناه. والخلاصة: أي إنّا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، ثم بعثنا له الكملة من أفراده وهم الأنبياء، وشرعنا لهم الأحكام، وبينا لهم العقائد تعليمًا وارشادًا، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين سبيل الخير والفلاح، والسبيل المعوج، فيتردى في الهاوية. وقصارى ذلك: من الإنسان خلق نوعًا ممتازًا من سائر الحيوان بما أوتيه من العقل، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد، 13 - ثم زاد الأمر توكيدًا، فأبان عظم قدرته، فقال: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}؛ أي: وإن لنا التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما وعدنا من التيسير لليسرى، والتيسير للعسرى، أو المعنى: من لنا كل ما في الآخرة وكل ما في الدنيا نتصرف فيه كيف نشاء، فمن أرادهما أو إحداهما .. فليطلب ذلك منا، ومن طلبهما من غير مالكهما .. فقد أخطأ، وقيل المعنى: من لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا. والخلاصة: أي وإنا لنحن المالكون لكل ما في الدنيا وكل ما في الآخرة، فنهب ما نشاء لمن نريد، ولا يضرنا من يترك بعض عبادنا الاهتداء بهدينا الذي بيناه لهم، ولا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى منهم؛ لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما حصل عليها، وما ربك بظلام للعبيد. وإذا كان مُلْك الحياتين لله .. كان هديه هو الذي يجب أن اتابعه فيهما؛ لأن المالك لأمر هو العالم بوجوه التصرف فيه، 14 - ثم بيّن سبيل الهداية التي أوجبها على ¬

_ (¬1) روح البيان.

[15]

نفسه، فقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ}؛ أي: حذرتكم وخوفتكم يا أهل مكة في القرآن {نَارًا} هائلة عظيمة {تَلَظَّى}؛ أي: تتوقد وتتوهج، وأصله: تتلظى، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، فإن النار (¬1) مؤنث وُصفت به، ولو كان ماضيًا .. لقيل: تلظت مع أن المراد بوصفها دوام التلظي بالفعل الاستمراري، وفي بعض التفاسير: المراد من {أَنْذَرْتُكُمْ} إنشاء الإنذار، كقولهم: بعت واشتريت، من إخبار يراد به الإنذار السابق في مثل قوله تعالى في سورة المدثر: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)} فإنها أول سورة نزلت عند الأكثرين، وهذا أشد تخويفًا من أن يقال: خافوا واتقوا نارًا تلظى. وقرأ الجمهور (¬2): {تَلَظَّى} بتاء واحدة، وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة بن مصرف وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير: {تتلظى} بتاءين على الأصل، 15 - وقرأ البزي بتاء مشددة {لَا يَصْلَاهَا}؛ أي: لا يصلى تلك النار صليًا لازمًا، ولا يدخلها دخولًا مؤبدًا، من لا يقاسي صلاها، وهو حرها {إِلَّا الْأَشْقَى}؛ أي: إلا الزائد في الشقاوة، وهو الكافر، فإنه أشقى من الفاسق، وإن صَلِيَها غيره من العصاة، فليس صَلْيُهُ كصَلْيِهِ، فالفاسق لا يصلاها صليًا لازمًا، ولا يدخلها دخولًا أبديًا، كما يدل عليه قوله الآتي: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}، وفي "كشف الأسرار" يعني: الشقي، والعرب تسمي الفاعل أفعل في كثير من كلامهم، منه قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}، وقوله: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}، 16 - ثم وصف الأشقى، فقال: {الَّذِي كَذَّبَ} بالحق الذي جاءت به الرسل {وَتَوَلَّى}؛ أي: أعرض عن الطاعة والإيمان, وليس هذا إلا الكافر. والمعنى (¬3): أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى، فأنذرناكم نارًا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من الآيات، وأعرض عن اتباع شرائعه، وانصرف عن وجهة الحق، ولم يعد إليها تائبًا نادمًا. قال الزجاج: هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر (¬4)، ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي. (¬4) الشوكاني.

[17]

الأسفل من النار، والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب، فجدير أن يعذب به، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فلو كان كل من لم يشرك لا يعذب .. لم يكن في قوله سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فائدة، وقال في "الكشاف": الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل: {الْأَشْقَى}، وجُعل مختصًا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل: {الْأَتْقَى} وجُعل مختصًا بالنجاة، كأن الجنة لم تُخلق إلا له، وقيل: المراد بالأشقى أبو جهل، من أمية بن خلف، وبالأتقى أبو بكر الصديق 17 - {وَسَيُجَنَّبُهَا}؛ أي: ويبعد (¬1) عن تلك النار بحيث لا يسمع حسيسها، والفاعل المُجَنَّب المبعد هو الله سبحانه وتعالى {الْأَتْقَى}؛ أي: المبالغ في الإتقاء عن الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلًا عن دخولها من صليها الأبدي، وأما مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي؛ وهو المؤمن الشقي الفاسق الغير التائب، فلا يبعد عنها هذا التبعيد يصلاها، وإن لم يذق شدة حرها، كما ذاق الكافر؛ لكونه في الطبقة الفوقانية من طبقات النار، فلذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يقدح في الحصر السابق. قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين انتهى، والأولى حمل الأشقى والأتقى عن كل متصف بالصفتين المذكورتين. والحاصل (¬2): أن من تمسك من المرجئة بقوله: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} زاعمًا أن الأشقى هو الكافر؛ لأنه الذي كذب وتولى، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين، فيقال له؛ فما تقول في قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)} فإنه يدل على أنه لا يجنب عن النار إلا الكامل في التقوى، فمن لم يكن كاملًا فيها كعصاة المسلمين .. لم يكن ممن يجنب النار، فإن أولت التقوى بوجه من وجوه التأويل .. لزمك مثله في الأشقى، فخذ هذه إليك مع تلك، وكن كما قال الشاعر: عَلَى أَنَّنِى رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى ... وَأُخْرَجَ مِنْهُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا وقيل: أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، كما قال طرفة بن العبد: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[18]

تَمَنَّى أُنَاسٌ أَنْ امُوْتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ فِيْهَا بِأَوْحَدِ أي: بواحد، ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب، فإن ذلك لا يكون، إلا من الكافر، فلا يتم ما أراد قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين، 18 - ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى، فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ}؛ أي (¬1): يعطيه ويصرفه في وجوه البر والحسنات حال كونه {يَتَزَكَّى}؛ أي: يطلب أن يكون زاكيًا عند الله لا يريد به رياء ولا سمعة، من متزكيًا متطهرًا من الذنوب ومن دنس البخل ووسخ الإمساك، فالجملة في محل النصب حال من فاعل {يُؤْتِي}، ويجوز أن تكون بدلًا من {يُؤْتِي} داخلة في حكم الصلة لا محل لها من الإعراب. وقرأ الجمهور (¬2): {يزكى} مضارع تزكى، وقرأ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: {يزكى} بإدغام التاء في الزاي. والمعنى: أي ويبعد عنها المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما ببال، ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه، فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)}؛ أي: إن الأتقى هو الذي يُنفق أمواله في وجوه الخير طالبًا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه، لا مريدًا بذلك رياء ولا سمعة، ولا طالبًا مديح الناس له، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل، ولا يكون لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وقد أكد هذا بقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ ...} إلخ، 19 - وقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)} استئناف مقرر؛ لكون إيتائه للتزكي خالصًا لوجه الله تعالى؛ أي: وليس لأحد عند ذلك الأتقى نعمة، ومنة من شأنها أن تجزى وتكافأ، فيقصد بإيتائه ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما (¬3) قال: {تُجْزَى} بصيغة المضارع المبني للمجهول؛ لأجل الفواصل، والأصل: يجزيها إياه، من يجزيه إياها؛ أي: إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها, ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه، 20 - ثم أكده مرة ثانية، فقال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ} وطلب رضا {وَجْهِ رَبِّهِ}؛ أي: ذات ربه {الْأَعْلَى}؛ أي: الموصوف بالعلو والرفعة على خلقه، وهو استثناء (¬4) ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) روح البيان.

[21]

منقطع من {نِعْمَةٍ}؛ لأن {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} ليس من جنس نعمة تجزى، فالمعنى: لكن فعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى؛ أي: لابتغاء ذاته وطلب رضاه، فهو في الحقيقة مفعول له، وما أتى من المال مكافأة على نعمة سالفة، فذلك يجري مجرى أداء الدين، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب، وإنما يستحق الثواب إذا كان فعله لأجل أن الله سبحانه أمره به وحثه عليه، ومعنى {الْأَعْلَى}: الرفيع فوق خلقه بالقهر والغلبة، كما قاله أبو الليث، وقال الفاكهاني: وصف الوجه الذي هو الذات الموجودة مع جميع الصفات بالأعلى؛ لأن لله سبحانه وتعالى بحسب كل اسم وجهًا يتجلى به لمن يدعوه بلسان حاله بذلك الاسم ويعبده باستعداده، والوجه الأعلى: هو الذي له بحسب اسمه الأعلى الشامل لجميع الأسماء، وإن جعلته وصف الرب، فالرب هو ذلك الاسم. انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {إِلَّا ابْتِغَاءَ} بنصب الهمزة، وهو استثناء منقطع؛ لأنه ليس داخلًا في {مِنْ نِعْمَةٍ}، وقرأ ابن وثاب: بالرفع على البدل من محل {نِعْمَةٍ}؛ لأن محلها الرفع إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و {مِن} مزيدة، والرفع لغة تميم؛ لأنهم يجوزون البدل في المنقطع، ويجرونه مجرى المتصل، وقرأ الجمهور أيضًا: {ابْتِغَاءَ} بالمد، وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر، 21 - ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه، فقال: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} جواب قسم مقدر؛ أي: وأقسم بالله لسوف يرضى ذلك الأتقى الموصوف بما ذُكر؛ أي: ولسوف يرضيه ربه في الآخرة بثوابه وعظيم جزائه، وقرأ الجمهور: {يَرْضَى} مبنيًا للفاعل، وقُرىء مبنيًا للمفعول، وهذا وعد كريم (¬2) بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها؛ إذ به يتحقق الرضى، قال بعضهم: أي: يرضي الله عنه ويرضى هو بما يُعطيه الله في الآخرة من الجنة والكرامة والزلفى جزاء على ما فعل، ولم يُنزل هذا الوعد إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} ولأبي بكر - رضي الله عنه - هاهنا. وفي قوله: {وَلَسَوْفَ} إيماء (¬3) إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال؛ لأن يبلغ العبد منزلة الرضى الإلهي. وقصارى ما سلف: أن الناس أصناف: ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) المراغي.

1 - الأبرار الذين منحهم الله تعالى من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش، ما ظهر منها وما بطن. 2 - الذين يلون هؤلاء، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانًا، فيقعون في الذنب، ثم يثوب إليهم رشدهم، فيتوبون ويندمون، وهذان القسمان يدخلان في الأتقى. 3 - من يخلط بين الخير والشر، فيعتقد وحدانية الله تعالى، ويقترف بعض السيئات، ويصر عليها, ولا يتوب منها، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد، يُرشد إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن ذهن المخالف، وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه في النفس وتغلب عليها. 4 - الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أُنزل عليهم، وهذان القسمان يشملهما الأشقى، وقد أُعدت النار لكل منهما إلا أن الفاسقين لا يخلّدون فيها، ويدخلها الكافرون، وهم فيها خالدون. الإعراب {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)}. {وَاللَّيْلِ} {الواو}: حرف جر وقسم. {الليل}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالليل، وجملة القسم مستأنفة. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم، وجملة {يَغْشَى} في محل الجر بإضافة {إِذَا} إليها. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)}: معطوف على الجملة التي قبله مماثل لها في إعرابها حرفًا بحرف. {وَمَا خَلَقَ}: {الواو}: عاطفة. {ما} اسم موصول بمعنى مَن معطوف على {الليل}، أو مصدرية على ما تقدم. {خَلَقَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {ما}؛ أي: ومن خلق الذكر، والجملة صلة الموصول. {الذَّكَرَ}: مفعول به. {وَالْأُنْثَى}: معطوف عليه. {إِنَّ سَعْيَكُمْ}: ناصب واسمه. {لَشَتَّى}: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب؛ أي: أقسم بهذه المذكورات على أن أعمالكم لمختلفة.

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)}. {فَأَمَّا}: {الفاء}: استئنافية، من فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن سعيكم شتى، وأردتم بيان تفصيلها .. فأقول لكم: {أما من أعطى} ... إلخ. {أما}: حرف شرط. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَعْطَى} صلته والمفعول محذوف، تقديره: أي أعطى وأدى حقوق الله وحقوق العباد الواجبة عليه. {وَاتَّقَى}: معطوف على {أَعْطَى}. {وَصَدَّقَ}: معطوف عليه أيضًا. {بِالْحُسْنَى}: متعلق بـ {صدق}. {فَسَنُيَسِّرُهُ}: {الفاء} رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها، و {السين}: حرف استقبال، {نيسره}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به. {لِلْيُسْرَى}: متعلق بـ {نيسره}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانًا. {وَأَمَّا}: {الواو}: عاطفة. {أَمَّا}: حرف شرط. {مَنْ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة {بَخِلَ} صلته. {وَاسْتَغْنَى}: معطوف على {بَخِلَ}. {وَكَذَّبَ}: معطوف عليه أيضًا. {بِالْحُسْنَى}: متعلق بـ {كذب}: {فَسَنُيَسِّرُهُ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أَمَّا}، وجملة {نيسره} في محل الرفع خبر المبتدأ. {لِلْعُسْرَى}: متعلق بـ {نيسر}، والجملة الاسمية جواب {أَمَّا}، وجملة {أَمَّا} معطوفة على جملة {أما} السابقة؛ {وَمَا يُغْنِي}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {يُغْنِي}: فعل مضارع. {عَنْهُ}: متعلق بـ {يُغْنِي}. {مَالُهُ}: فاعل، والمفعول محذوف؛ أي: العذاب، والجملة معطوفة على جملة قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}.أو {الواو}: استئنافية. {ما}: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم لـ {يُغْنِي}. {يُغْنِي}: فعل مضارع. {مَالُهُ}: فاعل، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، أي: أي شيء يُغني عنه ماله. {إِذَا}: ظرف مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {يُغْنِي}، وجملة {تَرَدَّى} في محل الخفض بإضافة إذا إليها {إِنَّ}: حرف نصب {عَلَيْنَا} خبر مقدم لـ {إِنَّ}. {لَلْهُدَى}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء، والجملة مستأنفة. {وَإِنَّ}:

{الواو}: عا طفة. {إِنَّ}: حرف نصب. {لَنَا}: خبر {إِنَّ} مقدم. {لَلْآخِرَةَ}: اسمها مؤخر، و {اللام}: حرف ابتداء، {وَالْأُولَى} معطوف على {لَلْآخِرَةَ}، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {إِنَّ} التي قبلها. {فَأَنْذَرْتُكُمْ}: {الفاء}: عاطفة، من استئنافية، {أنذرتكم}: فعل وفاعل ومفعول أول. {نَارًا} مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة مقدرة، تقديرها: فمن طلب الدنيا والآخرة من غير مالكهما الحقيقي، وهو الله سبحانه .. فقد أخطأ الطريق، وضل سواء السبيل {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} إلخ. من الجملة مستأنفة. وجملة {تَلَظَّى} صفة لـ {نَارًا}، وهو مضارع مرفوع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الأخير منع من ظهورها التعذر. أصله: تتلظى، كما مر في مبحث التفسير. {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}. {لَا} نافية. {يَصْلَاهَا}: فعل مضارع مرفوع ومفعول به. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {الْأَشْقَى}: فاعل، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {نَارًا}. {الَّذِي}: صفة لـ {الْأَشْقَى}، وجملة {كَذَّبَ} صلة الموصول، وجملة {وَتَوَلَّى} معطوفة على {كَذَّبَ} داخلة في حيز الصلة. {وَسَيُجَنَّبُهَا}: {الواو}: عاطفة، و {السين}: حرف استقبال، {يجنبها}: فعل مضارع ومفعول به. {الْأَتْقَى}: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {لَا يَصْلَاهَا}. {الَّذِي}: صفة لـ {الْأَتْقَى}. {يُؤْتِي}: فعل مضارع وفاعل مستتر. {مَالَهُ}: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. {يَتَزَكَّى}: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة إما بدل من {يُؤْتِي} فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها داخلة في حيز الصلة، وإما في محل النصب حال من فاعل {يُؤْتِي}؛ أي: حال كونه متزكيًا به عن دنس الذنوب والمعاصي. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية مهملة. {لِأَحَدٍ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. {عِنْدَهُ}: ظرف متعلق بمحذوف حال من {نِعْمَةٍ}، أو من الضمير المستكن في الخبر الظرفي. {مِن}: زائدة. {نِعْمَةٍ}: مبتدأ مؤخر، وجملة {تُجْزَى} صفة لـ {نِعْمَةٍ}، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة {يَتَزَكَّى}. {إِلَّا}: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لأنه من غير الجنس؛ لأن ابتغاء وجه ربه

ليس من جنس النعمة؛ أي: ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، والأحسن أن يعرب {ابْتِغَاءَ}: مفعولًا لأجله؛ لأن المعنى: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة. {ابْتِغَاءَ}: مضاف. {وَجْهِ}: مضاف إليه. {وَجْهِ}: مضاف. {رَبِّهِ}: مضاف إليه، وكثرة الإضافة لا تخرج الكلام عن الفصاحة؛ لورودها في الكتاب والسنة، كما هنا، {الْأَعْلَى}: صفة لـ {وَجْهِ} أو لـ {رَبِّهِ}. {وَلَسَوْفَ}: {الواو}: استئنافية، و {اللام}: موطئة للقسم، {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. {يَرْضَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْأَتْقَى}، أو على أبي بكر الصديق الذي كان سببًا لنزول الآية، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. التصريف ومفردات اللغة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}؛ أي: يُغطي كل شيء، فيواريه بظلامه، والليل: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، كما مر، وهو ظل الأرض الحائل ما بين الشمس وما عليها، وأصله: يَغْشَيُ بوزن: يفعل، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} والنهار: ما بين طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس؛ أي: انكشف وظهر بظهوره كل شيء، وأصل تجلى تَجَلَّيَ بوزن تفعل، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}: حيوان له قوة التلقيح، والأنثى حيوان له قوة الإحبال. {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} وشتى: جمع شتيت، كمرضى مريض، وهو المفترق المتشتت، وفي "المصباح": شت شتًا - من باب ضرب - إذا تفرق، والاسم الشتات، وشيء شتيت وِزان كريم متفرق، وقوم شتى - بوزن فعلى - متفرقون، وجاؤوا أشتاتًا كذلك، وشتان ما بينهما؛ أي: بعد. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)} وأصل تردى تَرَدَّيَ بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، يقال: تردى يتردى ترديًا، فهو مترد، ومنه قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} يقال: تردى في بئر وفي أهوية وفي هلكة إذا وقع، ويقال: رَدِيَ زيد يَرْدَى رَدًى إذا هلك، وأرداه الله يُردِيه إرداء إذا أهلكه، قال الراغب: الردى

الهلاك، والتردي: التعرض للهلاك انتهى كما مر، يقال: تردى في البئر إذا سقط في حفرتها، وتردى في جهنم إذا سقط في قعرها. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} والحسنى: مؤنث الأحسن، وكذا اليسرى مؤنث الأيسر. {نَارًا تَلَظَّى} مضارع تلظى، أصله: تَتَلَظَّيُ بوزن تتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: تتلهب. {لَا يَصْلَاهَا} أصله: يَصْلَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: لا يقاسي حرها. {إِلَّا الْأَشْقَى} صيغة التفضيل أصله: الأشقَيُ، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أصله: تولَّيَ بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {الْأَتْقَى} صيغة التفضيل، أصله: الأتقَى، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {يَتَزَكَّى} أصله: يتزكَّيُ بوزن يتفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {تُجْزَى} أصله تجزَيُ، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {ابْتِغَاءَ} فيه إعلال بالإبدال، أصله: ابتغاي، أُبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. {يَرْضَى} أصله يرضَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: حذف المفعول للعلم به إن كان المحذوف الشمس؛ أي: حين يغشى الشمس ويغطيها ويسترها، أو للتعميم إن كان المحذوف غيرها؛ أي: يغشى النهار، من كل ما يواريه بظلامه، فعدم ذكر المفعول للعلم به في الأول، وللتعميم في الثاني، كما مر. ومنها: اختلاف الفاصلتين في قوله: {إِذَا يَغْشَى} وقوله: {إِذَا تَجَلَّى} بالاستقبال في الأول والماضي في الثاني إشعارًا باستواء الماضي والمستقبل عنده تعالى.

ومنها: الطباق بين لفظة: {الْأَشْقَى}، ولفظة {الْأَتْقَى}، وبين {لِلْيُسْرَى} وبين {لِلْعُسْرَى}. ومنها: الاشتقاق في قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}؛ لأن اليسرى هنا من التيسير، لا من اليسار. ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)}. ومنها: الطباق بين {صدق} و {وَكَذَّبَ}، وبين {أَعْطَى} و {بَخِلَ}. ومنها: تصدير القسمين بالإعطاء والبخل، مع أن كلًّا منهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى، والتيسير للعسرى؛ للإيذان بأن كلًّا منهما أصيل فيما ذُكر، لا تتمة لما بعدهما من التصديق والقوة والتكذيب والاستغناء. ومنها: الإتيان بسين الاستقبال في القسمين؛ للدلالة على أن الجزاء الموعود في مقابلة الطاعة والمعصية آجل غير حاضر يكون في الآخرة التي هي أمر متراخ منتظر. ومنها: حذف المفعول في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) ...} الآيات إفادة للتعميم؛ ليذهب ذهن السامع مع كل مذهب. ومنها: الطباق بين {وَاللَّيْلِ} و {وَالنَّهَارِ} في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} وبين {الذَّكَرَ} و {وَالْأُنْثَى} في قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}. ومنها: التعبير بـ {ما} التي لغير العاقل بدل من التي للعاقل؛ لأنها لتوغلها في الإبهام أفادت أن الوصف الذي استُعملت هي فيه بلغ إلى أقصى درجات القوة والكمال بحيث كان مما لا يُكتنه كنهه، وأنه لا سبيل للعقل إلى إدراكه بخصوصه، وإنما الممكن هو إدراكه بأمر عام صادق. ومنها: الاقتصار على الذكر والأنثى في هذه الآية إشعارًا بأن الله لم يخلق خلقًا من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى، والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو بالأنوثة، كما في "الروح". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مقاصد هذه السورة أولًا: بيان أن الناس في الدنيا فريقان: 1 - فريق يهيئه الله سبحانه للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على ما أنفقوا. 2 - فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا في الأموال، واستغنوا بالشهوات، وأنكروا ما وعد الله تعالى به من ثواب الجنة. ثانيًا: الجزاء في الآخرة لكل منهما، وجعله إما جنة ونعيمًا، وإما نارًا وعذابًا أليمًا (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة الليل في منتصف الليلة الثامنة من شهر ذي القعدة من شهور سنة: 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الضحى

سورة الضحى سورة الضحى مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الفجر، وأخرج (¬1) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نزلت والضحى بمكة. وآياتها: إحدى عشرة آية، وكلماتها (¬2): أربعون كلمة، وحروفها: مئة واثنان وأربعون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في السابقة قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)} وكان - صلى الله عليه وسلم - سيد الأتقياء وصفي الأصفياء .. عقَّب ذلك سبحانه بذكر نعمه عَزَّ وَجَلَّ عليه - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشيخ موسى جار الله - رحمه الله تعالى - في كتابه "نظم الدرر" سورة الضحى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعها بعد سورة الليل؛ ليتصل رضي النبي الكريم برضى خليفته بعده، وقدم رضي خليفته؛ لأن ابتغاء وجه الله قبل كل شيء. التسمية: وتسميتها بالضحى: لبدايتها بلفظ الضحى، وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الضحى كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومن فضائلها ما تقدم في سورة الشمس من الحديث الصحيح، ومنها (¬3) ما أخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" من طريق أبي الحسن المقرىء قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على قسطيْطين، فلما بلغت {وَالضُّحَى (1)} قال: كَبِّر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبر مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) الشوكاني.

عباس أن أُبيٌّ بن كعب أمره بذلك، وأخبر أبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك، وأبو الحسن المقرىء المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرىء. قال ابن كثير: فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم ابن أبي بزة، وكان إمامًا في القراءات، وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث، قال ابن كثير: ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، وقال آخرون من آخر الضحى، وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر، ويقتصر، ومنهم من يقول: الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) ...} السورة كبر فرحًا وسرورًا، ولم يَرْوُوا ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. سبب نزولها: اتفق الرواة على أن سبب نزول هذه السورة الكريمة إنما هو حصول فترة انقطاع في توالي نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فظن من توهّم أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد تركه وقلاه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه السورة؛ ليلقي الطمأنينة في نفسه - صلى الله عليه وسلم -. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}. المناسبة قد سبق لك قريبًا بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر ما قبلها، وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) ...} إلى آخر السورة مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (¬1) لما ذكر رضاه عن رسوله، ووَعْدَه له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه ويثلج قلبه .. أردف ذلك ببيان أن هذا ليس عجبًا منه جل شأنه، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولًا، فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته، ثم نهاه عن أمرين: قهر اليتيم وزجر السائل؛ لما لهما من أكبر الأثر في التعاطف والتعاون في المجتمع، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوي الحاجة، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها في موضعها، وأداء حقها. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة (¬2): ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يقم ليلة من ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله عن وجل: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المشركون: قد وُدع محمد، فنزلت هذه السورة. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيامًا لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك، فأنزل سبحانه: {وَالضُّحَى (1) ...} الآيات. وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة في "مسنده" والواحدي وغيرهم بسند فيه من لا يُعرف عن حفص بن صبرة القرشي عن أمه عن أمها خولة، وقد كانت خادمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن جروًا دخل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل لا يأتيني"، فقلت في نفسي لو هيأت البيت فكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يرعد بجبينه، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى (1)} إلى قوله: {فَتَرْضَى}. قال الحافظ ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في "الصحيح". وأخرج (¬1) ابن جرير عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت، وأخرج أيضًا عن عروة قال: أبطأ جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت، وكلاهما مرسل، ورواتهما ثقات، قال الحافظ ابن حجر: فالذي يظهر أن كلًّا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالت شماتة، وخديجة قالته توجعًا. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرني"، فأنزل الله سبحانه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} إسناده حسن، وأخرج الحاكم والبيهقي في "الدلائل"، والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عُرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو مفتوح على أمته كَفْرًا كَفْرًا؛ أي: قرية قرية، فسر به، فأنزل الله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}. ¬

_ (¬1) لباب النقول.

وعبارة "الخازن" هنا: واختلفوا في نزول هذه السورة على ثلاثة أقوال (¬1): القول الأول: ما روى الشيخان عن جندب بن سفيان البجلي قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يقم ليلتين من ثلاثًا، فجاءت امرأة، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين من ثلاثًا، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} متفق عليه. قيل: إن المرأة المذكورة في هذا الحديث هي: أم جميل امرأة أبي لهب، وأخرجه الترمذي عن جندب قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار، فدميت أصبعه، فقال: هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيْلِ اللهِ مَا لَقِيْتِ قال: فأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد وُدع محمد، فأنزل الله عز وجل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}. والقول الثاني: ما قاله المفسرون: سألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف حين أرسلوا إلى قريش، فأمروهم بسؤاله عن هذه الثلاثة، فسألته قريش، فقال: "سأخبركم غدًا"، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عليه. والقول الثالث: ما قاله زيد بن أسلم كان سبب احتباس الوحي وجبريل عنه: أن جروًا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبطائه، فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة. واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه (¬2)، فقيل: اثنا عشر يومًا، وقال ابن عباس: خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعون يومًا، فلما نزل جبريل عليه السلام .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبريل ما جئتَ حتى اشتقت إليك"، فقال جبريل: إني كنت إليك أشد اشتياقًا، ولكني عبد مأمور، ونزل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}، وأنزل هذه السورة. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالضُّحَى (1)} أقسم بالضحى؛ أي: بالنهار كله بدليل أنه قابله بالليل كله في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} وقيل: أقسم بوقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء، وعلى القول الأول يكون في الكلام مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، وقرينته مقابلة بالليل، كما قاله البغوي، وقيل: على تقدير المضاف؛ أي: ورب الضحى، فيكون فيه مجاز بالحذف، قالوا: تخصيصه (¬1) بالإقسام به؛ لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، وألقي السحرة فيها سجدًا؛ لقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} فكان له بذلك شرف، ومناسبة لمجال المقسم لأجله 2 - {وَاللَّيْلِ}؛ أي: وأقسم بجنس الليل، قال ابن خالويه هو معطوف على {الضحى}، لا قسم مستقل؛ لأنه يصلح أن يقع في موضع {الواو} ثم، من الفاء بأن يقال: ثم الليل مثلًا، وثم لا تكون للقسم. {إِذَا}: هذه لمجرد (¬2) الظرفية، والعامل فيها فعل القسم المقدر مثل ما تقدم، وورد عليه الإشكال المتقدم في سورة الشمس؛ أي: وأقسم بالليل إذا {سَجَى} وغطى بظلامه على كل شيء، قال ابن عباس: إذا أقبل بظلامه، وعنه إذا ذهب، وقيل معناه: إذا سكن واستقر ظلامه وتناهى، فلا يزداد بعد ذلك يعني: أن سكون ظلامه عبارة عن عدم تغيره بالاشتداد، والتنزل، وذلك حين اشتد ظلامه وكمل، فيستقر زمانًا، ثم يشرع في التنزل، فإسناد سكون الظلمة الكائنة فيه إليه مجاز علاقته الحلول والظرفية، فإن الزمان ظرف لما فيه، من إذا سكن أهله فهو مجاز أيضًا، من إسناد ما للشيء إلى زمانه نحو نهاره صائم، وليله قائم، فمعناه: سكون الناس والأصوات، وجميع ما فيه يقال: سجا البحر - من باب سما - سجوًا إذا سكنت أمواجه، وليلة ساجية: ساكنة الريح، وعن جعفر الصادق: إن المراد بالضحى: هو الضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبالليل: ليلة المعراج. فإن قلت: لم قدم هنا (¬3) {الضحى} على {الليل} وفي السورة التي قبلها قدم {الليل} على {النهار}؟ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات.

[3]

قلت: لأن لكل منهما أثرًا في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فقدم هذا تارة وهذا أخرى، من يقال: إنه قدم الليل في سورة أبي بكر وهي السابقة؛ لأن أبا بكر سبق له كفر، وقدم الضحى في سورة محمد؛ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب، ولم يفصل بين السورتين إشارة إلى أنه لا واسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه. فإن قيل: ما الحكمة في ذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل بجملته؟ أجيب: بأن ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازي جميع الليل، كما أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يوازي جميع الأنبياء، وأيضًا الضحى وقت السرور، والليل وقت الوحشة، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا أقل من شرورها، وأن غموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات اهـ "خطيب". 3 - ثم ذكر جواب القسم بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} يا محمد؛ أي: ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك {وَمَا قَلَى}؛ أي: وما أبغضك منذ أحبك، وإنما قال: {وَمَا قَلَى} ولم يقل: وما قلاك، لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه: وما قلى أحدًا من أصحابك، ومن هو على دينك إلى يوم القيامة. وقال أبو حيان: وحذف المفعول اختصارًا في {قَلَى}، وفي: {فَأوَى}، وفي: {فَهَدَى}، وفي: {فَأَغْنَى}؛ إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: {وَدَّعَكَ} (¬1) من التوديع، وهو مبالغة في الوداع، وهو الترك؛ لأن من ودعك مفارقًا، فقد بالغ في تركك، والوداع وهو الإعلام بالفراق، وقال الراغب: أصل التوديع من الدعة، وهو: أن يدعو للمسافر أن يتحمل الله عنه كآبة السفر، وأن يبلغه الدعة والخفض، كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، فصار ذلك متعارفًا في تشييع المسافر وتركه، وعبر به عن الترك في الآية. والمعنى: ما قطعك ربك يا محمد قطع المودع، وما تركك بالحط عن درجة الوحي والقرب والكرامة، ففيه استعارة تبعية، وإشارة إلى أن الرب لا يترك المربوب، وقرأ الجمهور (¬2): {مَا وَدَّعَكَ} بتشديد الدال من التوديع، كما مر، وقرأ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[4]

ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة: بتخفيفها من قولهم: ودعه إذا تركه، واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سُمع وَدْع ووَذْر. قال أبو الأسود: لَيْتَ شِعْرِيْ عَنْ خَلِيْلِي مَا الَّذِيْ ... غَالَهُ فِىْ الْحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ {وَمَا قَلَى}؛ أي: وما أبغضك (¬1)، والقِلى شدة البغض، يقال: قلا زيدًا يقلوه أبغضه من القلو؛ وهو الرمي، كما يقال: قلت الناقة براكبها رمت به، فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه، فلا يقبله، ولعل عطف {وَمَا قَلَى} على ما قبله من عطف السبب على المسبب؛ لإفادة التعليل. والحاصل: أن (¬2) الله سبحانه أقسم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بآيتين عظيمتين من آياته في الكون ضحى النهار وصدره، والليل وظلامه أنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وكما تتوهم في نفسك، 4 - ثم ذكر له ما يثلج صدره وما فيه الطمأنينة والبشرى، فقال: {وَلَلْآخِرَةُ}؛ لما (¬3) أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق {خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}؛ أي: من الدنيا؛ لما أنها فانية مشوبة بالمضار، وسميت بالأولى؛ لأنها خلقت قبل الآخرة على ما قيل، فالمراد بالآخرة والأولى كرامتهما، و {اللام} في قوله: {وَلَلْآخِرَةُ}: لام الابتداء المؤكدة للجملة، لا لام القسم، كما قاله الشوكاني، وفي "التأويلات النجمية": يعني أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أفعال بدايتك، كما أخبر بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...} الآية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يطير بجناح الشريعة في سماء القرب والكرامة، وهذا حال ورثته. والمعنى (¬4): أي وإن أحوالك في مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها، وإن كل يوم ستزداد عزًا إلى عز، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله، وسأمنحك كل آنٍ جلالًا فوق جلالك ورفعة فوق رفعتك، وكأنه يقول له: لا تظنن أني كرهتك أو ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي.

[5]

تركتك، بل أنت عندي اليوم أشد تمكينًا وأقرب اتصالًا. ولقد صدق الله وعده، فما زال يسمو بنبيه ويرفع درجته يومًا بعد يوم، حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه، وجعل محبته من محبة الله، واتباعه والاقتداء به سببًا للفوز العظيم، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعًا، ونشر دينه وبلغ دعوته إلى أطراف المعمورة، فأي فضل فوق ذلك الفضل، وأي نعمة أصفى من هذه النعمة، وأي إكرام فوق هذا الإكرام؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، 5 - ثم زاده في البشرى، فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّك} و {اللام} (¬1) فيه للابتداء، دخلت على الخير؛ لتأكيد مضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك؛ لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة الاسمية، وليست للقسم؛ لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وجمعها مع {سوف}؛ للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تراخى لحكمة يعني: أن لام الابتداء لما تجردت؛ للدلالة على التأكيد، وكانت {سوف} تدل على التأخير والتنفيس .. حصل من اجتماعهما أن العطاء المتأخر لحكمة كائن لا محالة، وكانت اللام لتأكيد الحكم المقترن بالاستقبال، وقيل (¬2): {اللام}: للقسم، قال أبو علي الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك: إن زيدًا لقائم، بل هي التي في قولك: لأقومن، ونابت {سوف} عن إحدى نوني التوكيد، فكأنه قال: وليعطينك، قيل: المعنى: ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة فترضى، وقيل: الحوض والشفاعة، وقيل: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، كما ورد، وقيل: غير ذلك، والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة، وأهم ذلك عنده وأقدمه لديه قبول شفاعته لأمته. {فَتَرْضَى} ما تعطاه مما يطمئن به قلبك، وهو معطوف على ما قبله بالفاء، والآية عدة (¬3) كريمة شاملة لما أعطاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوحات الواقعة في عصره - صلى الله عليه وسلم -، وفي عمر خلفائه الراشدين، وغيرهم من الملوك الإِسلامية، وفشوّ الدعوة ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[6]

والإِسلام في مشارق الأرض ومغاربها, ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد أنبأ عن سمة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابها المسك". والمعنى (¬1): أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه ويوالي عليك منته، ومنها توارد الوحي عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وسيظهر دينك على الأديان كلها، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شؤون الناس جميعًا. 6 - وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم؛ أي: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا بموت أبويك، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قد وجدك ربك يتيمًا، والوجود بمعنى العلم. و {يَتِيمًا}: مفعوله الثاني. {فَآوَى} عطف على ما قبله؛ أي: ألم يَعْلَمْك الله يتيمًا بلا أب، فجعل لك مأوى تأوي إليه. وقرأ الجمهور (¬2): {فَآوَى} بألف بعد الهمزة رباعيًا من آواه يؤويه إذا جعل له مأوى يأوي إليه، وقرأ أبو الأشهب العقيلي: {فأوى} ثلاثيًا بلا مد، وهو إما بمعنى الرباعي، من من أوى له إذا رحمه، يقال: أوى فلان إلى منزله يأوي أويًا على وزن فعول إذا رجع ولجأ إليه، وآويته أنا إيواء، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلًا من نهارًا؛ أي: يرجع إليه وينزل فيه، ويجوز أن يكون الوجود بمعنى (¬3) المصادفة، و {يَتِيمًا} حال من مفعوله، يعني: على المجاز بأن يُجعل تعلق العلم الوقوعي الحالي مصادفة، وإلا فحقيقة المصادفة لا تمكن في حقه تعالى. روي (¬4): أن أباه عبد الله مات بعد حمله بشهرين، وقيل: قبل ولادته بشهرين، وقيل: بعد ولادته بشهرين، وقيل: بعد ولادته بسبعة أشهر، وقيل: بعدها بتسعة أشهر، وقيل: بعدها بثمانية وعشرين شهرًا، والراجح المشهور الأول، وكانت وفاة أبيه بالمدينة المنورة، ودُفن في دار النابغة، وقيل: دُفن بالأبواء قرية من عمل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان. (¬4) الفتوحات.

الفُرع، وتوفيت أمه، وهو ابن أربع سنين، وقيل: خمس سنين، وقيل: ست سنين، وقيل: سبع سنين، وقيل: ثمان سنين، وقيل: تسع سنين، وقيل: ثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة أيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وقيل: بالحجون اهـ، من "المواهب" و"شرحه". وقال بعضهم (¬1): لما وُلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة، فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين، ثم مات جده بعد أمه بسنتين، ورسول الله ابن ثمان سنين، ولما أشرف جده عبد المطلب على الموت .. أوصى به - صلى الله عليه وسلم - أبا طالب؛ لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة، فكان أبو طالب هو الذي كفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن بعثه الله تعالى نبيًا، فقام ينصره مدة مديدة، ثم توفي أبو طالب، فنال المشركون منه - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينالوا منه في حياة أبي طالب، أي: آذوه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كنت يتيمًا في الصغر وغريبًا في الكبر"، وكان يحب الأيتام ويحسن إليهم، وفي الحديث: "من ضم يتيمًا، وكان في نفقته .. كفاه مؤنته، كان له حجابًا من النار، ومن مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة". وإنما جعله الله سبحانه يتيمًا؛ لئلا يسبق إلى قلب بشر أن الذي نال من العز والشرف والاستيلاء .. كان عن تظاهر نسب أو توارث مال من نحو ذلك، وعن مجاهد، معنى الآية (¬2): ألم يجدك واحدًا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله سبحانه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك، فجعل يتيمًا من قولهم: درة يتيمة، أي: لا نظير لها، وهذا المعنى بعيد جدًّا، وقيل المعنى: ألم يجدك وحيدًا في قريش عديم النظير، فآواك إليه، وأيدك وشرفك بنبوته، واصطفاك برسالته، والأول أولى. وخلاصة المعنى: أي ألم تكن يا محمد يتيمًا لا أب له يعني: بتربيتك، ويقوم بشؤونك، ويهتم بتنشئتك، فما زال يحميك ويتعهدك برعايتك، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها، حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنساني، وقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا؛ إذ توفي أبوه وهو في بطن أمه، فلما وُلد عطَّف الله عليه قلب جده عبد المطلب، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ في السنة الثامنة، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، فكان به حفيًا شديد العناية ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[7]

بأمره، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع حتى أرسله الله رسولًا، فقام يؤازره وينصره ويدفع عنه أذى قريش حتى مات، فاستطاعت قريش أن تنال منه، وتجرأ عليه سفهاؤهم، وسلطوا عليه غلمانهم حتى اضطروه إلى الهجرة، ولو تدبر (¬1) المنصف في رعاية الله له وحياطته بحفظه وحسن تنشئته .. لوجد من ذلك العجب، فقد كان اليتم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق؛ لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان في خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية في إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية الله تعالى كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفي الذي لا يمين والأمين الذي لا يخون والصادق الذي لا يكذب والطاهر الذي لم يدنس برجس الجاهلية. 7 - وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} معطوف (¬2) على المضارع المنفي، وقيل: هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الذي قبله كما ذكرنا؛ أي: قد وجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالًا فهدى، والضلال هنا بمعنى الغفلة، كما في قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}، وكما في قوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} والمعنى: إنه وجدك غافلًا عما يراد بك من أمر النبوة فهداك إليه، واختار هذا الزجاج، وقيل: معنى {ضَالًّا} لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع، فهداك لذلك، وقال الكلبي والسدي والفراء: وجدك في قوم ضلال، فهداهم الله بك، وقيل: وجدك ضالًا، أي: طالبًا للقبلة، فهداك إليها، كما في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ويكون الضلال بمعنى الطلب، وقيل: وجدك ضائعًا في قومك فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى الضياع، وقيل: وجدك محبًا للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قول الشاعر: عَجَبًا لِعَزَّةَ فِيْ اخْتِيَارِ قَطِيْعَتِيْ ... بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أَخْلَقَا وقيل: وجدك ضالًا في شعاب مكة فهداك؛ أي: ردك إلى جدك عبد المطلب، وعن ابن عباس (¬3) - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضل في شعاب مكة حال صباه، وكان عبد المطلب يطلبه، ويقول متعلقًا بأستار الكعبة: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

يَا رَبِّ فَارْدُدْ وَلَدِيْ مُحَمَّدَا ... رَدًّا إِلَيَّ وَاصْطَنِعْ عِنْدِيْ يَدَا فوجده أبو جهل، فرده إلى عبد المطلب، فمن الله عليه حيث خلصه على يدي عدوه، فكان في ذلك نظير موسى عليه السلام حيث التقط فرعون تابوته، ليكون له عدوًا وحزنًا، فما زال عبد المطلب يكرر هذا البيت عند الكعبة حتى أتاه أبو جهل على ناقة له ومحمد بين يديه، وهو يقول: لا تدري ماذا ترى من ابنك، فقال عبد المطلب: ولِمَ؟ قال: أنخت الناقة وأركبته من خلفي، فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، وكانت تقول: يا أحمق هو الإِمام، فكيف يقوم خلف المقتدي، وقال سعيد بن المسيّب (¬1): خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس، فأخذ زمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك، وقيل: الضلال هنا بمعنى الحيرة، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد: ووجدك متحيرًا في بيان ما أنزل الله إليك فهداك لبيانه، فهذا ما قيل في تفسير هذه الآية، ولا يُلتفت إلى قول من قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل النبوة على ملة قومه، فهداه الله سبحانه إلى الإِسلام؛ لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الأنبياء قبله منذ وُلدوا انتشؤوا على التوحيد والإيمان قبل النبوة وبعدها، وإنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده، ويدل على ذلك أن قريشًا عابوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورموه بكل عيب سوى الشرك وأمر الجاهلية، فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلًا؛ إذ لو كان فيه شيء من ذلك لما سكتوا عنه، ولنُقِل ذلك، فبرّأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيَّروه به من السحر والكهانة والجنون والشعر. ويؤيد هذا (¬2): ما روي في قصة بحيرا الراهب حين استحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - باللات والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرأى بحيرا علامة النبوة فيه، وهو صبي، فاختبره بذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئًا بغضهما" ويؤيده شرح صدره - صلى الله عليه وسلم - في حال الصغر، واستخراج العلقة ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

[8]

منه، وقول جبريل: هذا حظ الشيطان منك، وملأه حكمة وإيمانًا، وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)}. وقال الزمخشري: ومن قال كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلقهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على دين قومه فمعاذ الله، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} والله أعلم. والمعنى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}؛ أي: ووجدك حائرًا مضطربًا في أمرك مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم، فعبادتهم باطلة ومعتقداتهم فاسدة، وكان يفكر في دين اليهودية، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه؛ إذ بدلوا دينهم وخالفوا ما كان عليه رسولهم، فيبدو عليه الإعراض عنه، ثم يفكر في دين عيسى عليه السلام، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود، فيرجع عن التفكير فيه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع، وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه في العرب أنفسهم من سخف في العقائد، وضعف في البصائر باستيلاء الأوهام عليهم، وفساد أعمالهم وشؤمها في أحوالهم بتفرق الكلمة، وتفانيهم في سفك الدماء، والإشراف على الهلاك باستعباد الغرباء لهم، وتحكمهم فيهم، فالحبشة والفرس من جانب، والرومان من جانب آخر، فما العمل في تقويم عقائدهم وتخليصهم من تحكم العادات فيهم، وأي الطرق ينبغي أن يُسلك في إيقاظهم من سباتهم. وقصارى ذلك: أنه كان في قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليست خيرًا من حالهم، لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه، بل أنزل عليه الوحي يبين له أوضح السبل، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} 8 - {وَوَجَدَكَ عَائِلًا}؛ أي: فقيرًا لا مال لك، يؤيده ما في مصحف عبد الله بن مسعود {عديمًا} يقال: عال يعيل عيلًا وعيلة إذا افتقر {فأغنا} ك بمال خديجة - رضي الله عنها - من بما أفاء الله عليه من الغنائم، حتى كان - صلى الله عليه وسلم - يهب المئة من الإبل، وفي الحديث: "جعل رزقي تحت ظل رمحي" ولكن في هذا المعنى الأخير نظر؛ لأن السورة مكية.

[9]

والحكمة في جعله أولًا فقيرًا، ثم إغنائه: أنه لو كان متمولًا من أول الأمر .. لكان يسبق إلى بعض الأوهام أنه إنما وجد العز والغلبة بسبب المال، فلما علا كل العلو على الأغنياء والملوك .. عُلم أنه كان علوه من جهة الحق سبحانه، وقيل معناه: فأغنى قلبك وقنعك بما أعطاك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" ولذا قال الراغب: معنى فأغناك: أي: أزال عنك فقر النفس وجعل لك الغنى الأكبر، وهو المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنى غنى النفس" ثم المراد (¬1) من تعداد هذه النعم ليس الامتنان، بل تقوية قلبه - صلى الله عليه وسلم - للاطمئنان بعد التوديع، وقرأ الجمهور (¬2): {عَائِلًا}؛ أي: فقيرًا. قال جرير: اللهُ نَزَّلَ فيْ الْكِتَابِ فَرِيْضَةً ... لابْنِ السَّبِيْلِ وَللْفَقِيْرِ الْعَائِلِ كرره لاختلاف اللفظ، وقرأ محمد بن السميفع واليماني: {عَيَّلًا} بفتح العين وتشديد الياء المكسورة على وزان سيد، ومنه قول أحيحة بن الجلاح: وَمَا يَدْرِيْ الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِيْ الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيْلُ والمعنى (¬3): أي إنك كنت فقيرًا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الربح في التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها. وخلاصة ما تقدم: أن من آواك في يتمك وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك لا يتركك في مستقبل أمرك، 9 - وبعد أن بين نعمه السابقة، أوصاه باليتامى والفقراء شكرًا على هذه النعم، وأداء لحقها، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ} منصوب بقوله: {فَلَا تَقْهَر} فالفاء الأولى للإفصاح، والثانية لربط جواب {أما} الشرطية، كما بيَّنَّاهما في شروحنا على الآجرومية؛ أي: إذا عرفت ما بينّاه لك من النعم المذكورة، وأردت القيام بشكرها، فأقول لك: لا تقهر اليتيم؛ أي: لا تذلِله ولا تغلبه على ماله وحقه بوجه من وجوه القهر كائنًا ما كان، قال مجاهد: لا تحرك ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[10]

اليتيم فقد كنت يتيمًا وإن له ربًا ينصره، وقال الأخفش: لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك، وقال الفراء والزجاج: لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في حق اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي به. وفي الحديث: "إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن، فيقول: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده تحت الثرى، من أسكته - أي: أرضاه - فله الجنة" وروي أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بأصبعه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وهو يشير باصبعيه، رواه البغوي بسنده. وقرأ الجمهور (¬1): {فَلَا تَقْهَر} بالقاف، وقرأ ابن مسعود إبراهيم النخعي والشعبي والأشهب العقيلي: {تكهر} بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور، والعرب تعاقب بين القاف والكاف، وقال النحاس: إنما يقال: كهره إذا اشتد عليه وغلّظ، وقيل: القهر الغلبة، والكهر الزجر، وقيل: معنى {فلا تكهر} فلا تعبس في وجهه، والمعنى؛ أي: لا تقهر اليتيم ولا تستذله, بل ارفع نفسه بالأدب، وهذّبه بمكارم الأخلاق؛ ليكون عضوًا نافعًا في جماعتك، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك، ومن ذاق مرارة لضيق في نفسه، فما أجدر أن يستشعرها في غيره، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتيمًا، فباعد الله عنه ذل اليتم، فآواه، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرًا لله تعالى على نعمته. 10 - {وَأَمَّا السَّائِلَ} والمستعطي {فَلَا تَنْهَرْ}؛ أي: فلا تزجره، لكن أعطه، أو رده ردًا جميلًا، والنهر والانتهار: الزجر بمغالظة؛ أي: لا تزجره، ولا تغلظ له القول، بل رده ردًا طيبًا، وهذا بمقابلة قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}. قال الواحدي (¬2): قال المفسرون: يريد السائل على الباب يقول: لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيرًا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردًا لينًا، قال قتادة: معناه رد السائل برحمة ولين، وقيل: المراد بالسائل: الذي يسأل عن الدِّين، فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين، كذا قال سفيان، فيكون في مقابلة {وَوَجَدَكَ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الشوكاني.

[11]

ضَالًّا فَهَدَى (7)}، و {السَّائِلَ} منصوب بـ {تنهر} كما أن {الْيَتِيمَ} منصوب بـ {تقهر}، والتقدير: مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. والآية بيّنة لجميع الخلق (¬1)؛ لأن كل واحد من الناس كان فقيرًا في الأصل، فإذا أنعم الله سبحانه عليه .. وجب عليه أن يعرف حق الفقراء، وقال بعضهم: الأولى حمل السائل على المعنى الأعم من أن يسأل المال، ويسأل عن العلم، فيكون التفصيل مطابقًا للتعديد، كما مرت الإشارة إليه آنفًا، فيجب إكرام طالب العلم وإنصافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه، ولا يُنهَر، ولا يُتلَقى بمكروه. وفي الحديث: "من كتم علمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار"، وهذا الوعيد يشمل حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها. 11 - ولما ذكّره نعمه عليه في هذه السورة من جبر اليتم، والهدى بعد الضلالة، والإغناء بعد العيلة والفقر .. أمره أن يشكره على إنعامه عليه، فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ لأن تحديث العبد، وإخباره بنعمة الله تعالى شكر لها باللسان وتذكير للغير. وفي الحديث: "التحدث بالنعم شكر" والمراد بتحديثها إظهارها للناس وإشهارها بينهم، والظاهر (¬2) حمل النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها، من نوع من أنواعها، وقال مجاهد والكلبي: المراد بالنعمة هنا القرآن، وقال الكلبي: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله به عليه، فأمره أن يقرأه، قال الفراء: وكان يقرؤه ويحدثه به، وقال مجاهد أيضًا: المراد بالنعمة النبوة التي أعطاه الله، واختار الزجاج هذا القول، فقال: أي: بلِّغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله تعالى، وهي أجل النعم، فحينئذ فقد إندرج تحت الأمر هدايته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الضلال، وتعليمه للشرائع والأحكام حسبما هداه الله وعلّمه من الكتاب والحكمة، وقال مقاتل: يعني: اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلال، وجبر اليتيم، والإغناء بعد العيلة، فاشكرها وحدث بها للناس؛ لأن التحدث بنعمة الله شكر وكتمانها كفر. وهذا الثالث بمقابلة الثاني (¬3)، وهو قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} آخره ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

لمراعاة الفواصل، ولأن التحلية وهو التحدث بنعمة الله بعد التخلية، وهو {لا تقهر} و {لا تنهر}، وكرر أما؛ لوقوعها في مقابلة ثلاث آيات. قال في "الكواشي": رأى بعض العلماء التحدث بنعمة الله من الطاعات، مع أمن الرياء، وغائلة النفس، وطلب الاقتداء به، وكرهه بعضهم خوف الفتنة، وفي "عين المعاني" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "التحدث بالنعم شكر وتركه كفر"، وأما الحديث الآخر: "عليكم بكتمان النعم، فإن كل ذي نعمة محسود" يعني: عن الحسود لا غير، وفي "الأشباه": (س) أي رجل ينبغي له إخفاء إخراج الزكاة عن بعض دون بعض؟. (ج) فقيل: المريض إذا خاف من ورثته يخرجها سرًا عنهم. (س) وأي رجل يُستحب له إخفاؤها؟. (ج) فقيل: الخائف من الظلمة، لا يعلمون كثرة ماله. وقال ابن عطية في الآية: حدِّث به نفسك؛ أي: لا تنس فضله عليك قديمًا وحديثًا. وخلاصة معنى قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ أي: أوسع (¬1) في البذل على الفقراء بمالك، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها, وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة في حديثها، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق في شىء. وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، ولا تجدهم إلا شاكِين من القل، أما الكرماء فلا يزالو يظهرون بالبذل مما آتاهم الله تعالى من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه، وقد استفاضت الأحاديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان كثير الإنفاق على الفقراء، وعظيم الرأفة بهم، واسع الإحسان إليهم، وكان يتصدق بكل ما يدخل في ملكه ويبيت طاويًا. نبذة من الأحاديث المناسبة للآية منها: ما روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أُعطي عطاء فليُجْزِ به إن وجد، فإن لم يجد فليثن عليه، فإن أثنى عليه فقد ¬

_ (¬1) المراغي.

شكره، ومن كتمه فقد كفر، ومن تحلى بما لم يُعط كان كلابس ثوبي زور" أخرجه الترمذي، وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله". وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطاعم الشاكر بمنزله الصائم الصابر". وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النعمان بن بشير قال: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يقول: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب". فائدة: والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن، فيقول: الله أكبر، وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال المشركون: هجره شيطانه وودعه، فاغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فلما نزلت: {وَالضُّحَى (1)} .. كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحًا بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. الإعراب {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}. {وَالضُّحَى (1)} {الواو}: حرف جر وقسم. {الضحى}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالضحى، وجملة القسم مستأنفة. {وَاللَّيْلِ}: معطوف على {وَالضُّحَى (1)}، وأجاز ابن هشام أن تكون {الواو} في {وَاللَّيْلِ} عاطفة، من قسمية، قال: والصواب الأول، وإلا لاحتاج كل إلى الجواب. {إِذَا}: ظرف زمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم، وتقدمت لها نظائر، وجملة {سَجَى} في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، وفاعل {سَجَى}: ضمير يعود إلى {الليل}. {ما}: نافية. {وَدَّعَكَ}: فعل ماض ومفعول به. {رَبُّكَ}: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {ما}: نافية. {قَلَى}: فعل ماض، وفاعل

مستتر يعود على الرب، والمفعول محذوف لعلمه مما قبله، أي: وما قلاك، والجملة معطوفة على جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {وَلَلْآخِرَةُ}: {الواو}: عاطفة، أو استئنافية، و {اللام}: حرف ابتداء مؤكِّدة لمضمون الجملة. {الآخرة}: مبتدأ. {خَيْرٌ}: خبره، {لَكَ}: متعلق بـ {خَيْرٌ}، وكذا {مِنَ الْأُولَى} متعلق بـ {خَيْرٌ} أيضًا، والجملة معطوفة على جملة القسم، أو على جوابها, أو مستأنفة. {وَلَسَوْفَ}: {الواو}: عاطفة، و {اللام}: حرف ابتداء مؤكد لمضمون الجملة. {سوف}: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. {يُعْطِيكَ}: فعل مضارع ومفعول به أول، والثاني محذوف معلوم من السياق تقديره: سوف يعطيك ترضاه. {رَبُّكَ}: فاعل، والجملة الفعلية خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة جواب القسم , وإنما لم تكن {اللام} للقسم؛ لأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد ,فتعيَّن أن تكون للابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة المكونة من المبتدأ والخبر، فتعيَّن تقدير مبتدأ، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة، وان تأخر لما في التأخير من المصلحة. {فَتَرْضَى}: {الفاء}: عاطفة {ترضى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة {يُعْطِيكَ}. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}. {أَلَمْ}: الهمزة للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم ونفى. {يَجِدْكَ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله, تقديره: هو, و {الكاف}: ضمير متصل في محل النصب مفعول أول. {يَتِيمًا}: مفعول ثان, والجملة مستأنفة مسوقة لتعداد أياديه ونعمه عليه، والغرض من تعدادها كما تقدم تقوية قلبه - صلى الله عليه وسلم -، وتشجيعه على السير في طريقه التي إختارها الله له, وهى طريق محمودة العواقب سليمة المغابَّ. {فَآوَى}: {الفاء}: عاطفة، {آوَى}:فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ} لأنه

في تقدير الإثبات؛ لأن الاستفهام تقريري، والتقدير: ووجدك يتيمًا فآواك. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}: فعل وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ}؛ لأنه في معنى الإثبات، كما مر آنفًا. {فَهَدَى}: {الفاء}: عاطفة، {هدى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا}: فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا}. {فَأَغْنَى}: {الفاء}: عاطفة، {أغنى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا}، والمفعول محذوف كسابقه؛ أي: فأغناك. {فَأَمَّا الْيَتِيمَ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما أنعمنا به عليك من النعم المذكورة، وأردت بيان ما هو اللازم لك في المستقبل .. فأقول لك: {أما اليتيم} {أما}: حرف شرط أبدًا وتفصيل غالبًا، نائبة عن أداة الشرط وفعله، والأصل مهما يكن من شيء، فأقول لك: لا تقهر اليتيم: حرف لا محل لها من الإعراب، مبني على سكون الألف المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين {الْيَتِيمَ}: مفعول به مقدم لـ {تَقْهَرْ}؛ للفصل به بين {أما} وجوابها. {فَلَا}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع {أما}؛ لأن أصل التركيب مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، {لا}: ناهية جازمة. {تَقْهَرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد مجزوم بـ {لا}، والجملة الفعلية جواب {أما} الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. {وَأَمَّا}: {الواو}: عاطفة. {أما}: حرف شرط. {السَّائِلَ}: مفعول مقدم لـ {تَنْهَرْ} {فَلَا} {الفاء}: رابطة لجواب {أما}، {لا}: ناهية جازمة. {تَنْهَرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة الفعلية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} معطوفة على جملة {أما} الأولى. {وَأَمَّا}: {الواو}: عاطفة. {أما}: حرف شرط وتفصيل. {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {حَدِّثْ}، والفاء غير مانعة؛ لأنها بمثابة الزائدة. {فَحَدِّثْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {أما}، {حدِّث}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما}

معطوفة على جملة {أما} الأولى. التصريف ومفردات اللغة {وَالضُّحَى (1)}: صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي أشعتها على هذا الكون، وفي "القاموس": والضَّحو والضَّحوة والضحية كعشية ارتفاع النهار، والضُّحى فويقه، والضَّحاء بالمد إذا قرب انتصاف النهار، وبالضم والقصر يطلق على الشمس أيضًا اهـ. وأصله: ضَحَوَ بوزن فعل تحرك حرف العلة وفتح ما قبله فقُلبت ألفًا. {إِذَا سَجَى}؛ أي: سكن، يقال: سجا البحر يسجو سجوًا - من باب سما - إذا سكنت أمواجه، وليلة ساجية ساكنة الريح، والمراد إذا الأحياء فيه، وانقطعوا عن الحركة، وفيه إعلال بالقلب أصله: سَجَوَ واوي اللام، تحركت الواو وفُتح ما قبلها فقلبت ألفًا. {مَا وَدَّعَكَ}: من التوديع، وهو مبالغة في الوَدْع، وهو الترك؛ أي: ما تركك ضائعًا بتأخير الوحي عنك، وقرىء بالتخفيف من قولهم: ودعه إذا تركه، واختُلف في دع بمعنى الترك هل يتصرف، فيأتي منه الماضي وغيره، أم لا؟ قال الجوهري: أميت ماضيه، وقال غيره: ربما جاء ماضيه في الضرورة، وهو المشهور. قال الشاعر: لَيْتَ شِعْرِيْ عَنْ خَلِيْلِيْ مَا الَّذِيْ ... غَالَة فِىْ الْحُبَّ حَتَّى وَدَعَهْ ومنه قوله تعالى: {ما وَدَعَك ربك} على قراءة التخفيف، وجا منه المصدر، ومنه الحديث: "ولينتهن أقوام عن وَدْعِهم الجمعات"؛ أي: عن تركهم إياها، وجاء منه اسم المفعول وغيره في الشعر، والأصح القول بقلة الاستعمال، لا بالإماتة. {وَمَا قَلَى}؛ أي: وما أبغضك، فالمفعول محذوف كما مر، وفى "المصباح": قليته قليًا، وقلوته قلوًا من بابي: ضرب وقتل، وهو الإنضاج في المِقلى، وهي: مِفعَل بالكسر، وقد يقال: مِقلاة بالهاء، واللحم وغيره مَقِلي بالياء، ومقلو بالواو، والفاعل: قَلّاء بالتشديد؛ لأنه صنعة كالعطار والنجار، وقليت الرجل أقليه - من باب رمى - قلى بالكسر والقصر، وقد يمد إذا أبغضته، ومن باب تعب لغة، وقال

بن خالويه يقال: قلاه يقلاه بفتح الماضي والمستقبل، وليس في كلام العرب فعل يفتح فيه الماضي والمستقبل مما ليس فيه حرف من حروف الحلق إلا قلى يقلى، وأبى يأبى مثلًا. فقوله: {وَمَا قَلَى} فيه إعلال بالقلب، أصله: قَلَوَ أو قَلَيَ بوزن فعل، قلُبت الواو من الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَتَرْضَى} أصله: تَرْضَيُ بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {فَآوَى} قرأ العامة: {آوى} بألف بعد الهمزة رباعيًا، من آواه يؤويه إيواء، وقرأ أبو الأشهب: {فَآوَى} ثلاثيًا، وفي "المصباح": أوى إلى منزله يأوي - من باب ضرب - أويًا، أقام، وربما عُدِّي بنفسه، فقيل: أوى منزلَه، والمأوى بفتح الواو لكل حيوان مسكنه، وآويت زيدًا بالمد، في التعدي، ومنهم من يجعله مما يستعمل لازمًا ومتعديًا، فيقول: أويته وزان ضربته، ومنهم من يستعمل الرباعي لازمًا أيضًا، ورده جماعة. وأصل {فَآوَى} أأوى بوزن: أفعل، أُبدلت الهمزة الثانية ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أصله: ضالِلًا اسم فاعل، أُدغمت اللام الأولى في الثانية. {فَهَدَى} فيه إعلال بالقلب، أصله: هَدَيَ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {وَوَجَدَكَ عَائِلًا}: فيه إعلال بالإبدال، أصله: عايلًا، أبدلت الياء همزةً في الوصف حملًا له على فعله في الإعلال. {فَأَغْنَى} أصله: أَغْنَيَ بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {السَّائِلَ}: اسم فاعل من سأل الثلاثي بوزن فعل، وقوله: أيضًا {عَائِلًا} من عال زيد من باب: سار؛ أي: افتقر، وأعال زيد إذا كثرت عياله، وهذه المادة لها أصلان: واوي ويائي، أما الواوي، فقد قال في "القاموس": فيه عال - أي: جار ومال عن الحق، وعال الميزان نقص وجار، أو زاد - يعول ويعيل، وعال أمرهم: اشتد وتفاقم، وعال الشيء فلانًا إذا غلبه وثقل عليه وأهمه، وعالت الفريضة في

الحساب: زادت وارتفعت إلى آخر ما ذكره، وأما اليائي، فقد قال صاحب "القاموس": وعال يعيل عيلًا وعيلة وعيولًا ومعيلًا إذا افتقر، فهو عائل، والجمع عالة وعُيُل وعَيْلَى، كسكرى، والاسم العيلة، والمعيل الأسد والنمر والذئب؛ لأنه يعيل صيدًا؛ أي: يلتمس، وعالني الشيء عيلًا ومعيلًا أعوزني، وفي مشيه تمايل واختالّ وتبختر كتعيّل، إلى آخر ما جاء في هذه المادة. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان البديع: فمنها: المجاز العقلي في قوله: {إِذَا سَجَى}؛ أي: سكن أهله، ففيه إسناد الفعل إلى زمانه، كنهاره صائم. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مَا وَدَّعَكَ}؛ لأن التوديع حقيقة في تشييع المسافر، فاستعمله هنا على طريق الاستعارة التصريحية التبعية بجامع القطع والفرقة في كل. ومنها: المجاز بالحذف في قوله: {وَمَا قَلَى}؛ أي: وما قلاك، وكذا قوله: {فَهَدَى} {فَأَغْنَى}، فحذف المفعول لعلمه من المقام. ومنها: الطباق في قوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)}؛ لأن المراد بـ {الْأُولَى}: الدنيا، وهي تطابق {الآخرة}. ومنها: الجمع بين لام الابتداء وحرف التنفيس في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}؛ للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة، وإن تراخى لحكمة، يعني: أن لام الابتداء لما تجردت للدلالة على التأكيد، وكانت السين تدل على التأخير والتنفيس .. حصل من اجتماعهما أن العطاء المتأخر لحكمة كائن لا محالة، وكانت اللام لتأكيد الحكم المقترن بالاستقبال. ومنها: حذف المفعول الثاني لأعطى؛ للدلالة على التعميم والتفخيم؛ أي: كل ما ترضى في الدنيا والآخرة. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} شبه

الشريعة بالهدى، وعدم وجودها بالضلال، وحذف المشبه، وأبقى المشبه به وهو الضلال، من ضل في طريقه إذا سلك طريقًا غير موصلة لمقصده، والمقصد هنا العلوم النافعة التي تسمو بالعقل والروح معًا. ومنها: الالتزام، من لزوم ما لا يلزم في قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} فقد لزمت الهاء قبل الراء في هاتين الفاصلتين، وفيه أيضًا الجناس الناقص بين الفاصلتين؛ لاختلاف الحرف الثاني في الكلمتين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجعى والمآب. * * *

مقاصد هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد: 1 - أن الله ما قَلَى رسوله ولا تركه. 2 - وعد رسوله بأنه سيكون في مستأنَف أمره خيرًا من ماضيه. 3 - تذكيره بنعمه عليه فيما مضى، وأنه سيواليها عليه. 4 - طلب الشكر منه على هذه النعم (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة الضحى بعون الله وتوفيقه في الليلة الخامسة عشرة ليلة الأربعاء من شهر ذي القعدة من شهور سنة: 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة الشرح

سورة الشرح سورة الشرح مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الضحى، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ} نزلت بمكة، وزاد بعد الضحى. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة ألم نشرح بمكة، وآياتها (¬1): ثمان، وكلماتها تسع وعشرون كلمة، وحروفها: مئة وثلاثة أحرف. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: ظاهرة؛ لأنها شديدة الاتصال بما قبلها؛ لكونهما نزلتا في تعداد النعم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى روي (¬2) عن طاووس وعمر بن عبد العزيز: أنهما كانا يقولان: هما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة، وما كانا يفصلان بينهما بالبسملة، ولكن المتواتر كونهما سورتين، وإن كانتا متصلتين معنى؛ إذ في كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها. وعبارة "الجمل": ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ...} إلخ .. أتبعه بما هو كالتتمة له، وهو شرح الصدر المذكور في هذه السورة. انتهى. وسميت الشرح؛ لذكر الشرح في أولها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الشرح كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومن فضلها (¬3): ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة ألم نشرح .. فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني" ولكن لا أصل له. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الخازن.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}. المناسبة قد تقدم بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، وأما قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} إلى آخر السورة، مناسبته لما قبله: أن الله سبحانه وتعالى لما أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد استحكام الكرب وضيق الأمر .. ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته في خلقه من إحداث اليسر بعد العسر، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة؛ لقصد تقريرها في النفوس، وتمكينها في القلوب. التفسير وأوجه القراءة 1 - {أَلَمْ نَشْرَحْ} ونوسع {لَكَ} يا محمد {صَدْرَكَ} وقلبك لحمل أعباء النبوة وحفظ الوحي؛ أي: قد شرحنا صدرك يا محمد لحفظ الوحي وتبليغ الرسالة، فالهمزة للاستفهام التقريري؛ لأن (¬1) نفي النفي إثبات؛ أي: عدم شرحنا لك صدرك منفي، بل قد شرحنا لك صدرك ووسَّعناه لأعباء الرسالة حتى اتصف بمَلَكَتَيْ الاستفادة والإفادة، فما صَدَّك الملابسةُ بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية، وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق؛ أي: لم تحتجب، لا بالحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق، قال الراغب: الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم إذا بسطته، وفصلت بعضه عن بعض، ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى، ورَوْح منه، وشرح المشكل من الكلام بسطه وإظهار ما يخفى من معانيه. انتهى. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وفي الحديث: "إذا دخل النور في القلب انشرح"؛ أي: انفسح واحتمل البلاء، وحفظ سر الربوبية، كما قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}؛ أي: وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم، بل يحتمل أذاهم، والصدر: ما بين النحر والبطن، والمراد هنا القلب، من إطلاق المحل وإرادة الحال، والحكمة في زيادة {لَكَ} الإيذان بأن الشرح من منافعه ومصالحه عليه السلام، كأنه تعالى قال: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلي، وإنما خص (¬1) الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات. والمراد من الآية: الامتنان عليه - صلى الله عليه وسلم - بفتح صدره، وتوسيعه حتى قام بما قام به من الدعوة، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى انفساح قلبه بنور النبوة، وحمل همومها بواسطة دعوة الثقلين، وانشراح صدر سره بضياء الرسالة، واحتمال مكاره الكفار وأهل النفاق، وانبساط صدر نوره بأشعة الولاية، وتحققه بالعلوم اللدنية، والحكم الإلهية، والمعارف الربانية، والحقائق الرحمانية. وأما شرح الصدر الصوري، فقد وقع مرارًا: مرة وهو ابن خمس، أو ست لإخراج مغمز الشيطان؛ وهو الدم الأسود الذي به يميل القلب إلى المعاصي، ويعرض عن الطاعة، ومرة عند ابتداء الوحي، ومرة ليلة المعراج. وقرأ الجمهور (¬2): {نَشْرَحْ} بجزم الحاء لدخول الجازم، وقرأ أبو جعفر: بفتحها وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه: ألم نشرحن، فأبدل من النون ألفًا، ثم حذفها تخفيفًا، ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في "نوادره" وهي الجزم بلن، والنصسب بلم، عكس الاستعمال المعروف عند الناس، وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما: قَدْ كَانَ سَمْكُ الْهُدَى يَنْهَدُّ قَائِمُهُ ... حَتَّى أُتِيْحَ لَهُ الْمُخْتَارُ فَانْعَمَدَا فِيْ كُلِّ مَا هَمَّ أَمْضَى رَأْيَهُ قُدُمًا ... وَلَمْ يُشَاوِرَ فِيْ إِقْدَامِهِ أَحَدَا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط.

[2]

بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم اهـ من "البحر" بتصرف. وعلى كل حال، فقراءة هذا الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه، وكثرة جبروته، وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها. ومعنى الآية: أي إنا (¬1) شرحنا لك صدرك، فأخرجناك من الحَيرة التي كنت تضيق بها ذرعًا بما كنت تلاقي من عناد قومك، واستكبارهم عن اتباع الحق، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم، فهُديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه. وقصارى ذلك: أنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر، وجعلناك راضي النفس مطمئن الخاطر واثقًا من تأييد الله ونصره، عالمًا كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك ولا يعين عليك عدوًا، 2 - وقوله: {وَوَضَعْنَا}؛ أي: حططنا وأسقطنا {عَنْكَ} يا محمد {وِزْرَكَ}؛ أي: حملك الثقيل، معطوف على ما تقدم، لا على لفظه؛ أي: شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، نظير قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان: أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِيْنَ بُطُوْنَ رَاحِ أي: أنتم خير من ركب المطايا وأندى الخ، والوزر (¬2): الذنب؛ أي: وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل: المعنى: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وقوله: {عَنْكَ} متعلق بـ {وضعنا}، وتقديمه على المفعول الصريح؛ للقصد إلى تعجيل المسرة، والتشويق إلى المتأخر، وقد يُجعل قوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، فيكون كقول القائل: رفعنا عنك مشفة الزيارة لمن لم يصدر عنه زيارة قط، على سبيل المبالغة في انتفاء الزيارة منه له، 3 - ثم وصف هذا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[4]

الوزر، فقال: {الَّذِي أَنْقَضَ} وأثقل {ظَهْرَكَ}، قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض؛ أي: صوت، وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملًا يحمل لسمع نقيض ظهره؛ أي: صوته، وأهل اللغة يقولون: أنقَضَ الحِمْلُ ظهر الناقة إذا سُمع له صرير؛ أي: صوت، قال قتادة: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تُثقل الظهر من القيام بأمرها، سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له، وكذا قال أبو عبيدة وغيره. وعبارة "الروح" هنا: مُثِّل (¬1) به حاله - صلى الله عليه وسلم - مما كان يثقل عليه، ويغمه من فرطاته قبل النبوة، من من عدم إحاطته بتفاصيل الأحكام والشرائع، ومن تهالكه على إسلام المعاندين من قومه وتلهفه، ووضعه عنه مغفرته، كما قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وتعليم الشرائع، وتمهيد عذره بعد أن بلَّغ وبالغ اهـ. وقرأ ابن مسعود (¬2): {وحللنا عنك وقرك} ومعنى (¬3) الآية؛ أي: حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلِّغها، فجعلنا التبليغ عليك سهلًا، ونفسك به مطمئنة راضية، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم والحدب على راحتهم، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسي في سبيل حياطتهم وتنشئتهم. 4 - ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته عنده، فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} بعنوان النبوة والرسالة وأحكامها، روى (¬4) البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سأل جبريل عن هذه الآية {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} قال: قال الله عن وجل: "إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي"، قال ابن عباس يريد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر، فلو أن عبدًا عَبَدَ الله وصدَّقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله .. لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافرًا، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي. (¬4) الخازن.

[5]

وقال الضحاك: لا تُقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به، وقال مجاهد: يريد التأذين، وقيل: المعنى: ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وعند المؤمنين في الأرض، والظاهر (¬1) أن هذا الرفع، لذكره الذي امتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه، وإخباره - صلى الله عليه وسلم - عن الله عَزَّ وَجَلَّ أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، وأمر الله بطاعته، كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وغير ذلك، وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وفيه يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُبُوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللهِ مَشْهُوْرٌ يَلُوْحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الإِلهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِيْ الْخَمْسِ الْمُؤَذَّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُوْ الْعَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهَذَا محَمَّدُ وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به، والإقرار بفضله، وقيل: رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله: محمد رسول الله، وقيل غير ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء، 5 - ثم وعده باليسر والرخاء بعد الشدة والعناء، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في شدة بمكة، فقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} والضيق والشدة التي فيها من جهاد المشركين وإيذائهم {يُسْرًا} ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به؛ أي: إن مع الضيقة سعةً ومع الشدة رخاء، ومع الكرب فرحًا، وفي هذا وعد منه سبحانه وتعالى له - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بأن كل عسير عليكم يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين، فاللام فيه للاستغراق، وتقرير لما قبله. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[6]

قال في "الكشاف": فإن قلت: كيف تعلق قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} بما قبله؟ قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإِسلام؛ لافتقار أهله واحتقارهم، فذكَّره ما أنعم الله به من جلائل النعم، ثم قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ...} إلخ، كأنه قيل: خولناك من جلائل النعم، فكن على ثقة بفضل الله ولطفه، فإن مع العسر يسرا كثيرًا. انتهى. وفي كلمة {مَعَ} إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر، وإلا فالظاهر ذكر كلمة المعاقبة لا أداة المصاحبة؛ لأن الضدين لا يجتمعان، بل يتعاقبان، وقال بعضهم هي: معية امتزاج لا معية مقارنة ولا تعاقب، ولذلك كررها، فلولا وجود اليسر في العسر .. لم يبق عسر لعموم الهلاك، ولولا وجود العسر في اليسر. لم يبق يسر: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ ثم إن العسر يؤول كله إلى اليسر، فقد سبقت الرحمة الغضب، وذلك عناية من الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك قد يكون مصقلة وجلاء لقلوب الأكابر، وتوسعة لاستعدادهم، فتتسع لتجلي الأنوار والمعارف، وكما أن حظهم من الملائم أوفر، فكذلك غير الملائم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". ولذلك قال الله تعالى: {أدعوني أستجب لكم}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب الملحين في الدعاء"، وفي تعريف العسر وتنكير اليسر إشارة لطيفة إلى أن الدنيا دار العسر، فالعسر عند السامع معلوم معهود، واليسر مجهول مبهم. 6 - ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرًا وتأكيدًا، فقال مكررًا له بلفظه: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}: إن (¬1) مع ذلك العسر المذكور سابقًا يسرًا آخر، لما تقرر من أنه إذا أُعيد المعرَّف يكون الثاني غير الأول، سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المُنكّر إذا أعيد، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في ¬

_ (¬1) الشوكاني.

الغالب، كقولك: كسبت درهمًا، فأنفقت درهمًا، فالثاني غير الأول، وإذا قلت: كسبت درهمًا فأنفقت الدرهم، فالثاني هو الأول، كما قال السيوطي في "عقود الجمان": ثُمّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَهْ ... إِذَا أَتَتْ نَكِرَةً مُكَرَّرَهْ تَغَايَرَتْ وَإنْ يُعَرَّفْ ثَانِيْ ... تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف، فكان عسرًا واحدًا، واليسر مكرر بلفظ التنكير، فكانا يسرين، فكأنه سبحانه قال: فإن مع العسر يسرًا إن مع ذلك العسر يسرًا آخر، قال الحسن: لما نزلت هذه الآية .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبشروا فقد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين"، وقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين. وزيف أبو (¬1) علي الحسن بن يحيى الجرجاني هذا القول، وقال: قد تكلم الناس في قوله: لن يغلب عسر يسرين، فلم يحصل منه غير قولهم: إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فواجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول فيه معترض، فإنه إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفًا إن مع الفارس سيفًا، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدًا، والسيف اثنين، فمجاز قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يغلب عسر يسرين" أن الله عز وجل بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيَّره بذلك حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالًا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فاغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره، فعددَّ الله سبحانه نعمه عليه في هذه السورة، ووعده الغنى؛ ليسلَّيه بذلك عما خامره من الغم، فقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)}؛ أي: لا يحزنك الذي يقولون، فإن مع العسر الذي في الدنيا يسرًا عاجلًا، ثم أنجز ما وعده، وفتح عليه القرى القريبة، ووسَّع ذات يده حتى كان يُعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السنية، ثم ابتدأ فضلًا آخر من أمور الآخرة، فقال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}، والدليل (¬2) على ابتدائه تعنيه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين. ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) الخازن.

والمعنى: أن مع العسر الذي في الدنيا للمؤمن يسرًا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا؛ وهو ما ذكره في الآية الأولى، ويسر الآخرة؛ وهو ما ذكره في الآية الثانية، فقوله: "لن يغلب عسر يسرين". أي: إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا، فأما يُسر الآخرة فدائم أبدًا غير زائل؛ أي: لا يجتمعان في الغلبة، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شهرا عيد لا ينقصان"؛ أي: لا يجتمعان في النقص، قال القشيري: كنت يومًا في البادية بحالة من الغم، فألقي في روعي بيت شعر، فقلت: أَرَى الْمَوْتَ لِمَن أَصْبَحَ ... مَغْمُوْمًا لَهُ أَرْوَحْ فلما جن الليل سمعت هاتفًا يهتف في الهواء: أَلَا يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الْـ ... لَذِيْ الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ وَقَدْ أَنْشَدْتَ بَيْتًا لَمْ ... يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْبَحْ إِذَا اشْتَدَّ بِكَ الْعُسْرُ ... فَفَكّرْ فِيْ أَلَمْ نَشْرَحْ فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... إِذَا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ قال: فحفظت الأبيات ففرَّج الله عني، وقال إسحاق بن بهلول القاضي: فَلَا تَيْأَسْ إِذَا أَعْسَرْتَ يَوْمًا ... فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِيْ دَهْرِ طَوِيْلِ وَلَا تَظْنُنْ بِرَبَّكَ ظَنَّ سُوْءٍ ... فَإِنَّ الله أَوْلَى بِالْجَمِيْلِ فَإِنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ يَسَارٌ ... وَقَوْلُ الله أَصْدَقُ كُلِّ قِيْلِ وقال أحمد بن سليمان في المعنى: تَوَقَّعْ لِعُسْرٍ دَهَاكَ سُرُوْرَا ... تَرَى الْعُسْرَ عَنْكَ بِيُسْرٍ تَسَرَّى فَمَا الله يُخْلِفُ مِيْعَادَهُ ... وَقَدْ قَالَ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَا وقال غيره: وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... يَكُوْنُ وَرَاءَهَا فَرَجٌ قَرِيْبُ وقرأ الجمهور: بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين، وقرأ يحيى بن

وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع. وعبارة "المراغي" هنا: قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}؛ أي: وجعلناك على الشأن رفيع المنزلة عظيم القدر، وأي منزلة أرفع من النبوة التي منحكها الله سبحانه، وأي ذكر أنبه من أن يكون لك في كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك، ويجتنبون نواهيك، ويرون طاعتك مغنمًا، ومعصيتك مغرمًا؟ وهل من فخار بعد ذكرك في كلمة الإيمان مع العلي الرحمن، وأي ذكر أرفع من ذكر من فرض الله على الناس الإقرار بنبوته، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته شرطًا في دخول جنته؟ هذا إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أنقذ أممًا كثيرة من رق الأوهام، وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل، والإرادة والإصابة في معرفة الحق، ومعرفة من يُقصَد بالعبادة، فاتحدت كلمتهم في الاعتقاد بإله واحد، بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددًا، عُبَّاد أصنام وأوثان وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلًا، ولا للوصول إلى الحق طريقًا، فازاح عنهم تلك الغمة، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد. وقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)}؛ أي: فإن مع الضيق فرجًا، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجًا إذا تدرع المرء بالصبر، وتوكل على ربه، ولقد كان هذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد ضاق به الأمر في بادىء أمره قبل النبوة وبعدها؛ إذ تألب عليه قومه، لكن لم يثنه ذلك عن عزمه، ولم يفلل من حده، بل صبر على مكروههم، وألقى بنفسه في غمرات الدعوة متوكلًا على ربه محتسبًا نفسه عنده، راضيًا بكل ما يجد في هذا السبيل من أذى، ولم تزل هذه حاله حتى قيَّض الله له أنصارًا أُشرِبت قلوبهم حُبَّه، ومُلئت نفوسهم بالرغبة الصادقة في الدفاع عنه وعن دينه، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية، فاشتروا ما عند الله تعالى من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم، ثم كان منهم من قوَّض دعائم الأكاسرة، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة. وقصارى ذلك: أنه مهما اشتد العسر وكانت النفس حريصة على الخروج منه، طالبة كشف شدته، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر في الخلاص منه، معتصمة بالتوكل على ربها، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات، واعترضها من بلايا ومحن.

[7]

وفي هذا: عبرة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيبدل حاله من الفقر إلى الغنى، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك، 7 - ولما (¬1) عدد الله سبحانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - نعمه السالفة .. بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها، وأن لا يخفي وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، فقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ} من عبادة، أي عبادة كالصلاة والصوم والدعوة {فَانْصَبْ}؛ أي: فأتعب نفسك بأخرى؛ أي: فأتبعها بعبادة أخرى، واجتهد فيها كالنوافل مما ذكر، والنَصَب - محركًا - التعب، قال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة يعطك، وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقيل: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقيل: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك، وقيل: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين، قال الرازي: وبالجملة فالمراد: أن يواصل بين بعض العبادة وبعض آخر، وأن لا يخلِّي وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى اهـ. وقال عمر بن الخطاب: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا سبهللًا، لا في عمل دنياه، ولا في عمل آخرته، والسبهلل: الذي لا شيء معه، وقيل السبهلل: الباطل، وقال الحسن: إذا كنت صحيحًا فاجعل فراغك في العبادة، كما روي أن شريحًا مر برجلين يتصارعان، وآخر فارغ، فقال: ما أمر بهذا إنما قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)}، وقعود الرجل فارغًا من غير شغل، من اشتغاله بما لا يعنيه في دينه من دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة. 8 - {وَإِلَى رَبِّكَ} ومالك أمرك وحده {فَارْغَبْ}؛ أي: فتضرع وتذلل إليه راغبًا في الجنة راهبًا من النار، وقيل: اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك، لا إلى أحد سواه. والمعنى: أنه يرغب إليه تعالى لا إلى غيره كائنًا من كان، فلا يطلب حاجاته إلا منه، ولا يعوِّل في جميع أموره إلا إليه. ¬

_ (¬1) الخازن.

وقرأ الجمهور (¬1): {فَرَغْتَ} بفتح الراء، وأبو السمال بكسرها، وهي لغة، قال الزمخشري: ليست بفصيحة، وقرأ الجمهور: {فَانْصَبْ} بسكون الباء خفيفة، وقرأ قوم: بشدها مفتوحة، أمر من الانصباب، وقرأ آخرون من الإمامية: {فانصب} بكسر الصاد، بمعنى: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب خليفة، قال في "الكشاف": ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة: أنه قرأ: {فانصب} بكسر الصاد؛ أي: فانصب عليًا للإمامة، ولو صح هذا للرافضة .. لصح للناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرًا بالنصب الذي هو بغض علي وعداوته اهـ. وقال ابن عطية: وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم. انتهى. وقرأ الجمهور: {فَارْغَبْ} أمرًا من رغب ثلاثيًا؛ أي: اصرف وجه الرغبات إليه تعالى، لا إلى سواه، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: {فرَغِّب} أمر من: رغَّب المضعّف بشد الغين؛ أي: فرغِّب الناس إلى الله سبحانه، وشوِّقهم إلى ما عنده من الخير. والمعنى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)}؛ أي: فإذا فرغت من عمل فاتعب في مزاولة عمل آخر، فإنك ستجد في المثابرة لذة تقر بها عينك ويثلج لها صدرك، وفي هذا حث له - صلى الله عليه وسلم - على المواظبة على العمل واستدامته. {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}؛ أي: ولا ترغب في ثواب أعمالك وتثميرها إلا إلى ربك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له. الإعراب {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}. {أَلَمْ} {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {نَشْرَحْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ {لم}، والجملة مستأنفة. {لَكَ} متعلق بـ {نَشْرَحْ}. {صَدْرَكَ}: مفعول به. {وَوَضَعْنَا} {الواو}: عاطفة. {وضعنا}: فعل وفاعل. {عَنْكَ}: متعلق به. {وِزْرَكَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

جملة {أَلَمْ نَشْرَحْ} باعتبار المعنى؛ أي: شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، كما مر {الَّذِي}: صفة للوزر. {أَنْقَضَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول. {ظَهْرَكَ}: مفعول به. لـ {أَنْقَضَ}، وجملة {أَنْقَضَ} صلة الموصول. {وَرَفَعْنَا}: {رفعنا}: فعل وفاعل معطوف على ما قبله. {لَكَ}: متعلق بـ {رفعنا}. {ذِكْرَكَ}: مفعول به. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}. {فَإِنَّ} {الفاء}: عاطفة على محذوف تقديره: خوّلناك ما خوّلناك، فلا يخامرك البأس، فإن مع العسر يسرًا، {إن}: حرف نصب. {مَعَ}: ظرف بمعنى: بعد متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ {إن}، وفي التعبير بـ {مَعَ} إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر. {مَعَ}: مضاف. {الْعُسْرِ}: مضاف إليه. {يُسْرًا}: اسم {إنَّ} مؤخر، وجملة {إن} معطوفة على تلك الجملة المحذوفة عطف علة على معلول. {إِنَّ} حرف نصب {مَعَ الْعُسْرِ}: خبر {إنَّ} مقدم. {يُسْرًا}: اسمها مؤخر، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة، لتقرير أن العسر متبوع بيسر، أو مكررة لتأكيد ما قبلها. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}. {فَإِذَا} الفاء: استئنافية، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما خولناك من النعم الجسام، وأردت بيان ما هو اللازم لك في الشكر .. فأقول لك: إذا فرغت إلخ {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط متعلق بالجواب. {فَرَغْتَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إذا} إليها على كونها فعل شرط لها. {فَانْصَبْ}: {الفاء}: رابطة لجواب {إذا}، {انصب}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. {وَإِلَى رَبِّكَ}: متعلق بـ {ارغب}، ولا تمنع الفاء من تعلقه به؛ لأنها فاء الربط، فهي كالزائدة. {فَارْغَبْ}: {الفاء}: زائدة، لتأكيد ربط الجواب، {ارغب}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة الجواب لا محل لها.

التصريف ومفردات اللغة {أَلَمْ نَشْرَحْ} قال الراغب: الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرحته إذا بسطته، ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه، والشرح أيضًا التوسعة، والعرب تطلق الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس، ويفخرون بذلك في مدائحهم من قبل أن سعة الصدر تُعطي الأحشاء فسحة للنمو والراحة، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرًا لا يضيق ذرعًا بأمر. {وِزْرَكَ} والوزر: الحمل الثقيل أو الذنب. {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)}؛ أي: أثقله، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي: صوت خفي، وفي "القاموس": أنقض ظهرك أثقله حتى جعله نقضًا؛ أي: مهزولًا، من أثقله حتى سُمع نقيضه؛ أي: صوته، وفي "المختار": وأصل الإنقاض: صوت مثل النقر، وقال أبو حيان: وقال أهل اللغة: أنقض الحِمْلُ ظهر الناقة إذا سمعتَ له صريرًا من شدة الحمل، وسمعت نقيض المرجل؛ أي: صريره، قال عباس بن مرداس: وَأَنْقَضَ ظَهْرِيْ مَا تَطَوَّيْتُ مِنْهُمُ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنَا وقال ابن خالويه: يقال أنقض ينقض إنقاضًا فهو منقض، ومعناه: أثقل ظهره اهـ، والنقض: الجمل المهزول، وجمعه: أنقاض. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} العسر: الفقر والضعف، وجهالة الصديق، وقوة العدو، وإنكار الجميل. {فَانْصَبْ}؛ أي: فاتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء شكرًا؛ لما أوليناك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآتية، وبه ارتبطت الآية بما قبلها، ويجوز أن يقال: فإذا فرغت من تلقي الوحي، فانصب واتعب في تبليغه، وفي "المختار": ونَصِب بمعنى: تعب، وبابه طرب، وفيه أيضًا فرغ من الشغل من باب دخل، وفراغًا أيضًا، وفيه أيضًا رغب فيه، أراده، وبابه: طرب، ورغبة أيضًا، وارتغب فيه مثله، ورغب عنه لم يرده، ويقال: رَغَّبه فيه ترغيبًا، وأرغبه فيه أيضًا.

{فَارْغَبْ} أصل الرغبة: السعة في الشيء، يراد بها السعة في الإرادة، فإن قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص عليه، وإذا قيل: رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه، والزهد فيه، وفي "القاموس": رغب فيه - كسمع - رغبًا، ويضم، رغبة أراده، وعنه لم يرده، وإليه رَغَبًا - محركة - ابتهل، من هو الضراعة والمسألة. والمعنى: فارغب بالسؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التقريري للامتنان والتذكير بنعم الرحمن في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)} شبّه الذنوب يحمل ثقيل يرهق كأهل الإنسان، ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية، ونقول في تقرير هذه الاستعارة: شبه حاله بحال من آده الحمل، وكلله العرق، وبرح به الجهد، حتى إذا انحط عنه الحمل تنفس الصعداء، وانزاحت عنه الكروب والأهوال بجامع أن كلًا منهما مجهود مكروب مما يحمل يتبرم به ويتذمر منه، ويربو أن ينحط عن كاهله، ثم استعير التركيب الدال على حال المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية والقرينة حالية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {صَدْرَكَ}، أي: قلبك فإنه من إطلاق المحل وإرادة الحال، والعلاقة المحلية. ومنها: زيادة {لَكَ}، للإيذان بأن الشرح من منافعه ومصالحه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن بالشرح يحصل له الاستفادة والإفادة بالوحي. ومنها: تقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح في قوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)} قصدًا إلى تعجيل المسرة له، وتشويقًا إلى المؤخر، وكذا يقال في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}. ومنها: التنكير للتفخيم والتعظيم في قوله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} نكر اليسر

للتعظيم، كأنه قال: يسرًا عظيمًا. ومنها: الجناس الناقص بين لفظ {اليسر} و {الْعُسْرِ}. ومنها: تكرير الجملة في قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}؛ لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، ويسمى هذا أيضًا الإطناب. تتمة: وفي "زاده": قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} زاد لفظة {لَكَ} في {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ}، وفي: {رفعنا لك}، وزاد لفظة: {عَنْكَ} في: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ}، فأي فائدة في تقديم الزيادة على المفاعيل الثلاثة؟ والجواب: أن زيادتها مقدمة عليها تفيد إبهام المشروح والموضوع والمرفوع، ثم توضيحه والإيضاح بعد الإبهام أوقع في الذهن. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة من المقاصد اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد: 1 - تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم. 2 - وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن. 3 - أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة. 4 - التوكل عليه وحده، والرغبة فيما عنده (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة الانشراح بتوفيق الملك الفتاح أوائل ليلة السبت الليلة الثامنة عشرة من شهر ذي القعدة، من شهور سنة: 1416 هـ: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة التين

سورة التين سورة التين مكية في قول الأكثرين، نزلت بعد سورة البروج، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة التين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وآياتها: ثمان، وكلماتها: أربع وثلاثون، وحروفها: مئة وخمسة أحرف. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى ذكر في السورة السابقة حال أكمل خلق الله تعالى - صلى الله عليه وسلم -، وذكر هنا حال النوع الإنساني وما ينتهي إليه أمره من ضعف بعد قوة، وشيخوخة بعد شباب وفتوة، وما أعده الله سبحانه وتعالى من تمام نعمته لمن آمن بالله ورسوله، ودوامها واستمرارها، وعدم انقطاعها، وأجر المؤمنين موصول، وكرامتهم عند الله تعال محفوظة، وهم بإذن الله تعالى لا يخرفون ولا يهرمون، ولا يذهب عقل من كان عالمًا عاملًا منهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري ومسلم، وأهل "السنن" وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فصلى العشاء، فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمت أحدًا أحسنَ صوتًا ولا قراءة منه - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج الخطيب عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فقرأ بالتين والزيتون. ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وعبد بن حميد في "مسنده"، والطبراني عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب: والتين والزيتون. ومنها: ما أخرجه ابن قانع وابن السكين والشيرازي في "الألقاب" عن زرعة بن خليفة قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمامة، فعرض علينا الإِسلام فأسلمنا، فلما صلينا

الغداة قرأ بالتين والزيتون، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، وسميت سورة التين؛ لبدايتها بلفظ التين. الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: سورة التين كلها محكمة إلا آية واحدة، وهو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} نُسخ معناها بآية السيف. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}. أسباب النزول قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن عباس - رضي الله عنهما - قال: هم نفر رُدوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسُئل عنهم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله سبحانه عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}؛ أي: أقسم بالتين، وبالزيتون على خلق الإنسان في أحسن تقويم، هما ثمران معلومان أقسم الله بهما لما فيهما من المنافع الكثيرة، والمصالح للعباد، وخصهما (¬1) من بين الثمار بالإقسام؛ لاختصاصهما بخواص جليلة، فإن التين فاكهة طيبة لا فضل له, وغذاء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع، يليِّن الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح سدد الكبد والطحال. وروى أبو ذر - رضي الله عنه - أنه أُهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - سل من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: "كلوا التين، فإنه يقطع البواسير"، وعن بعضهم: التين يزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج، وأما كونه دواء، فلأنه سبب لإخراج فضلات البدن، وهو مأكول الظاهر والباطن دون غيره، كالجوز والتمر، والتين في النوم رجل غير جبار، ومن نالها في المنام نال مالًا، ومن أكلها منامًا رزقه الله تعالى أولادًا، وتستر آدم بورق التين حين فارق الجنة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

قال في "خريدة العجائب": إذا نُثر رماد خشب التين في البساتين .. هلك منه الدود، ودخان التين يهرب منه البق والبعوض. انتهى. وفي "القسطلاني على البخاري": في تفسير سورة التين ما نصه: التين فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، وفيه دواء كثير النفع؛ لأنه يلين الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويسمن البدن، ويقطع البواسير، وينفع من النقرس، ويشبه فواكه الجنة؛ لأنه بلا عجم، ولا يمكث في المعدة، ويخرج بطريق الرشح. انتهى. قال الشهاب: ورمل المثانة بفتح الراء وسكون الميم، والمثانة مقر البول، ودملها مرض يستولي عليها، فيحجز البول عن الخروج بأجزاء دقيقة كالرمل يعسر معها البول، ويتأذى به الإنسان، فإن زاد صار حصاة انتهى. وأما الزيتون: فهو فاكهة من وجه، ودواء من وجه، ويستصبح به، ومن رأى ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى اهـ. "رازي"، وقال بعضهم: الزيتون فاكهة، وإدام، ودواء، ولو لم يكن سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهنية فيها كالجبال .. لكفى به فضلًا، وشجرته هي الشجرة المباركة المشهورة في التنزيل، ومر معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيبًا واستاك به، وقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نعم سواك الزيتون، وهو سواكي وسواك الأنبياء من قبلي"، وشجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة. ومن خواصّها (¬1): أنها تصبر عن الماء طويلًا كالنخل، وإذا لقط ثمرتها جنب فسدت، وألقت حملها وانتثر ورقها، وينبغي أن تُغرس في المدر لكثرة الغبار؛ لأن الغبار كلما علا على زيتونها .. زاد دسمه ونضجه، ورماد ورقها ينفع العين كحلًا، ويقوم مقام التوتيا في نفع العين، وفي الحديث؛ "عليكم بالزيت، فإنه يكشف المرة، ويذهب البلغم، ويشد العصب، ويمنع الغشي، ويحسن الخلق، ويطيب النفس، ويذهب الهم". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: التين مسجد نوح عليه السلام الذي بُنِي ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال الضحاك: {وَالتِّينِ}: المسجد الحرام، و {وَالزَّيْتُونِ}: المسجد الأقصى، وقال ابن زيد: و {وَالزَّيْتُونِ}: مسجد بيت المقدس، وقال قتادة: {وَالتِّينِ}: الجبل الذي عليه دمشق، و {وَالزَّيْتُونِ}: الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقال محمد بن كعب: {وَالتِّين} مسجد أصحاب الكهف، {وَالزَّيْتُونِ}: إلياء، وقال كعب الأحبار وقتادة أيضًا، وعكرمة وابن زيد أيضًا: {وَالتِّينِ}: دمشق، و {وَالزَّيْتُونِ}: بيت المقدس، وهذا اختيار الطبري، قال الشوكاني (¬1): وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى الحقيقي المبنية على الخيالات التي لا ترجع إلى عقل، ولا إلى نقل؟ وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخِر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية، وقال الفراء: سمعت رجلًا من أهل الشام يقول {وَالتِّينِ}: جبال ما بين حلوان إلى همدان، و {وَالزَّيْتُونِ}: جبال الشام، وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما: طور تينا، وطور زيتا بالسريانية، سميا بذلك؛ لأنهما ينبتان بهما اهـ "قرطبي"، وقيل: إنه على حذف مضاف؛ أي: وأقسم بمنابت التين والزيتون، قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يحوز خلافة. وعبارة "المراغي" هنا: {وَالتِّينِ} أي: أقسم (¬2) بعصر آدم أبي البشر الأول، وهو العهد الذي طلق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة. {وَالزَّيْتُونِ}؛أي: وأقسم بالزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان, وبعد أن بلغت الأرض الماء جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر, وعلم أن غضب الله قد سكت, وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتُعمر، ويسكنها الناس، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده، وعمروا الأرض. وقصارى ذلك: أن التين والزيتون يذكران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول، وعصر نوح أبي البشر الثاني. انتهى. 2 - {وَطُورِ سِينِينَ (2)}؛ أي: وأقسم بجبل طور سينين، وهو (¬3) الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عزّ وجل, قال الماوردي: ليس كل جبل يقال له طور ¬

_ (¬1) فتح القدير. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[3]

إلا أن يكون فيه الأشجار والثمار، وإلا فهو جبل فقط، وسينين وسيناء عَلَمان للموضع الذي هو فيه، ولذلك أضيف إليهما، ومعنى {سِينِينَ}: بالسريانية ذو الشجر، من حسن مبارك بلغة الحبشة، وقال مجاهد والكلبي: {سِينِينَ}: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النبط، قال الأخفش: {وَالتِّينِ} جبل، و {سِينِينَ}: شجر، واحدته: سينينة، وهو غريب جدًّا غير معروف عند أهل الصرف، قال أبو علي الفارسي: {سِينِينَ}: فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، ولم ينصرف {سِينِينَ} كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جُعل اسمًا للبقعة. وفي "كشف الأسرار": أصل {سِينِينَ} سيناء بفتح السين وكسرها، وإنما قال هنا: {سينين}؛ لأن تاج الآيات النون، كما قال في سورة الصافات: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)}، وهو إلياس، فخُرّج على تاج آيات السورة، وإنما أقسم سبحانه بهذا الجبل؛ لأنه بالشام وهي الأرض المقدسة، كما في قوله: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله سبحانه لموسى عليه السلام، وقرأ الجمهور: {سِينِينَ} بكسر السين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم، وقال الزمخشري: ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب. انتهى. وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة: {سيناء} بكسر السين والمد، وعمر أيضًا وزيد بن علي: بفتحها، والمد وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب. والإقسام (¬1) به تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة، ثم عرضت لها البدع، فجاء عيسى مخلصًا لها مما أصابها، 3 - ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف في الدين حتى من الله على الناس بعهد النور المحمدي، وإليه الإشارة بقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}؛ ¬

_ (¬1) المراغي.

[4]

أي: وأقسم بهذا البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى بميلاد رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فيه، وكرَّمه بالبيت الحرام، وهو مكة المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، ومعنى {الْأَمِينِ}؛ أي: الآمن، فالأمين مبالغة آمن؛ أي: آمن من فيه، ومن دخله، وكل ما فيه من طير وحيوان وشجر جاهليه وإسلامًا، مِن قتلٍ وسبي واصطياد وقطع، كما يحفظ الأمين ما ائتُمن عليه، من أَمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ أي: بمعنى المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل والعاهات, كما وُصف بالأمن في قوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا} بمعنى ذي أمن, وفي الحديث: "من مات في أحد الحرمين بُعث يوم القيامة آمنًا" وفيه مقال. وحكمة القسم بهذه الأشياء (¬1): الإبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين، فمنبت التين والزيتون: مهاجر إبراهيم ومولد عيسى، ومَنْشَؤُهما عليهما السلام، والطُور: المكان الذي نودي فيه موسى عليه السلام، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين، ومولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه. وخلاصة ما سلف: أن الله سبحانة أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز في تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور، 4 - ثم ذكر المقسم عليه، فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}؛ أي: جنس الإنسان؛ لأن المراد بالإنسان الماهية من حيث هي الشاملة للمؤمن والكافر. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وتعديل؛ أي: في أحسن صورة (¬2)، فجعلناه مديد القامة حسن البزة, يتناول بيده ما يريد، لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه، إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطول ما يستمد إلى كل شيء. لكن قد غفل عما ميز به وظن نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزود من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه في معاده، وما يرضي به ربه، وما يوصله إلى ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

النعيم المقيم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} وهذا ما أشار إليه بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} إلى آخر السورة؛ أي: خلقنا جنس الإنسان حال (¬1) كونه كائنًا في أحسن تقويم وتعديل، وقال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكبًا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قام إذا انتصب، وقام الأمر اعتدل، كما ستقام، وقومته، عدلته، كما في "القاموس"، والتقويم (¬2): تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل، وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة، فإنه حَكَى أنَّ مَلِك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة، فقال لها: إن لم تكوني أحسن من القمر، فأنت كذا، فأفتى كل العلماء بالحنث إلا يحيى بن أكثم قال: لا يحنث، فقالوا: خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا، وهو الله تعالى قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، وسيأتي قريبًا بسط هذه القصة. وفي "المفردات": هو إشارة إلى ما خص به الإنسان من بين الحيوان من العقل والفهم، وانتصاب القامة الدال على استيلائه على كل ما في هذا العالم، والمعنى: {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: كائنًا في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورة ومعنى، حيث يراه تعالى مستوي القامة، متناسب الأعضاء، حسن الشكل، كما قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}؛ أي: صوركم أحسن تصوير. قال (¬3) ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًا عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا مدبرًا حكيمًا، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم على صورته"؛ أي: على صفاته التي ذكرناها هنا. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وعليه يدور معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فإن الإنسان مظهر الجلال والجمال والكمال. وحاصل ما في هذا المقام: أنه سبحانه وتعالى أقسم بالأمور الأربعة السابقة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[5]

على أنه خلق الإنسان، وقوَّمه أفضل تقويم، وركبه أحسن تركيب، وجعله في أحسن اعتدال، وأفضل قوام، وقطره أحسن فطرة نفسًا وبدنًا، وكرمه بالعقل الذي ساد به العوالم الأرضية، وأطلعه به على ما شاء الله سبحانه من العوالم السماوية حتى أوصله بحكمته تعالى وأمره إلى القمر، وجعله يطير في الفضاء، ويحلق في الأجواء، ويغوص في الماء، ويفعل العجائب والغرائب، كل ذلك بفضله تعالى، وفضل هذا العقل الذي ركبه فيه، وهو عجيب من عجائب خلق الله تعالى. قصة وفتوى ذكر أنه كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبًا جمًا، وقد خرج معها يومًا في ليلة مقمرة، فقال لها: أنت طالق ثلاثًا إن لم تكوني أحسن من هذا القمر، فنهضت المرأة واحتجبت عنه، وقالت: لقد طلقتني، وبات زوجها بليلة كئيبة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى الخليفة المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعًا عظيمًا، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلقت إلا رجلًا واحدًا من أصحاب أبي حنيفة، وهو القاضي يحيى بن أكثم، فإنه كان ساكتًا، فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: الرجل لم يطلق، ولم يحنث في يمينه، فقيل له خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى، فإنه يقول عز من قائل عليم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، وأرسل إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك، ولا تعصيه، فما طلقك. ذكرها "القرطبي" و"الرازي" وغيرهما. وهذا الفهم لهذه الآية مما يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنًا وظاهرًا جمال هيئة وبديع تركيب، قامته منتصبة، وصورته حسنة، وخواص الكائنات فيه مستجمعة، وقواه الباطنة تامة، وحواسه كافية، وأعضاء بطنه وعمله بما يحتاج إليه قائمة، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالَم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه، وفي هذا الإنسان قال الشاعر: أَتَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيْرُ ... وَفِيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ 5 - {ثُمَّ} بعدما خلقناه في أحسن تقويم وتعديل، {رَدَدْنَاهُ} أي رددنا الإنسان

المذكور وصيرناه وجعلناه {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}؛ أي: أسفل من سفل في خلقه وصورته، وأضعف من ضعف في قوته وحيلته ورأيه؛ أي: جعلناه أضعف الضعفاء في القوة والعقل، فينقص عمله وأجره، بأن رددناه إلى أرذل العمر وأخسه، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي، فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين. قال الواحدي: والسافلون: هم الضعفاء والزمناء والأطفال، والشيخ الكبير يكون أسفل من هؤلاء. وقيل المعنى: ثم رددنا ذلك الإنسان بعدما خلقناه في أحسن تقويم، وجعلناه بسبب سوء فعاله واعتقاده أسفل سافلين؛ أي: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها .. لكان في أعلى عليين، فالضمير راجع إلى الإنسان بالنظر إلى بعض أفراده على هذا المعنى، ففيه استخدام كما سيأتي في مبحثه. والحاصل: أنه حُوِّل بسوء حاله من أحسن تقويم إلى أقبح تقويم صورة ومعنى؛ لأن مسخ الظاهر إنما هو من مسخ الباطن، فالمراد بـ {السافلين}: عصاة المؤمنين، وأفعل التفضيل هنا يتناول المتعدد المتفاوت، و {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}؛ إما حال من المفعول؛ أي: رددنا ذلك الكافر إلى النار حال كونه أسفل السافلين في دركات النار، أو صفة لمكان محذوف؛ أي: رددناه إلى مكان هو أسفل أمكنة السافلين، والأول أظهر، ثم هذا بحسب بعض الأفراد الإنسانية وهو الكافر؛ لانغماسهم في بحر الشهوات الحيوانية البهيمية، وانهماكهم في ظلمات اللذات الجسمانية الشيطانية والسبعية، وفيه إشارة إلى أن الاعتبار إنما هو بالصورة الباطنة، لا بالصورة الظاهرة، فكم من مصور على أحسن الصور في الظاهر، وهو في الباطن على أقبح الهيئات، ولذا يجيء الناس يوم القيامة أفواجًا، فإن صفاتهم الباطنة تظهر على صورهم الظاهرة، فتتنوع صورهم بحسب صفاتهم على أنواع، وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى: ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل. وقيل في معنى الآية: لما وصف الله الإنسان

[6]

بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها .. طغى وعلا، حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، واعترض على الخالق عز وجل. قال الشاعر: إِذَا طَغَى الْعَقْلُ عَلَى رَبِّهِ ... فَإنَّمَا الْعَقْلُ هُوَ الْجَهْلُ يَعْتَرِضُ الْعَقْلُ عَلَى صَانِعٍ ... مِنْ بَعْضِ مَصْنُوْعَاتِهِ الْعَقْلُ إِنْ بَانَ فَضْلُ الْعَقْلِ في صُنْعِهِ ... فَصَانِعُ الْعَقْلِ لَهُ الْفَضْلُ وحين علم الله سبحانه هذا من عبده وهو العلم بكل شيء، وقضاؤه صادر من عنده .. رده أسفل سافلين بأن جعله مملوءًا حَذرًا، مشحونًا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجًا منكرًا على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى إذا شاهد ذلك من أمره رجع إلى قدره، ذكره القرطبي في "تفسيره". وذكر الطنطاوي في "تفسيره": {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)}: إما برده إلى أرذل العمر، فتنكَّس خَلْقه، وتقوس ظهره بعد اعتداله، وتبيض شعره بعد اسوداده، وتغير جلده بالانكماش، وسمعه وبصره بالضعف، ويمشي دلفًا وهو ضعيف القوة، خافت الصوت، إما بضعف قواه العقلية بالخرف وقت الهرم، وإما بأن نحول بينه وبين قلبه، فيعتقد اعتقادًا يضر في دنياه وآخرته، فندخله جهنم. وخلاصة ما ذكر في الآية: أي ثم رددناه بعد ذلك الكمال الجسماني والعقلي أسفل من سفلوا بتشويه صورة من عقل من دخول جهنم ذليلًا. انتهى. قال في "عين المعاني" (¬1): ولم تدخل لام الجنس في {سَافِلِينَ} كما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -؛ لأنه عني أسفل الخرفين خاصة دون كل الناس من أهل الزمانة، وفي "كشف الأسرار": السافلون هم الضعفاء من المرضى والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعًا. انتهى. وقرأ الجمهور (¬2): {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} مُنَكَّرًا، وقرأ عبد الله: {أسفل السافلين} معَرَّفًا بالألف واللام، 6 - وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا صادقًا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المأمور بها، والمأجور عليها، استثناء منقطع على المعنى الأول، فالمعنى: لكن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يخرفون ولا يهرمون، ولا تذهب عقولهم، ووجه كون الاستثناء منقطعًا: أن الهرم والرد إلى أرذل العمر، يصاب به المؤمن، كما يصاب به الكافر، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى، وعلى المعنى الثاني يكون الاستثناء متصلًا من ضمير {رَدَدْنَاهُ}، فإنه في معنى الجمع؛ أي: رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال القرطبي: والاستثناء على قول من قال: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} الهرم منقطع، وعلى قول من قال: إنه النار فهو متصل. انتهى. {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير منقوص ولا مقطوع، بل أجرهم موصول، ورزقهم موفور من رب كريم عظيم يعطي الجزيل؛ أي: فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم، وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق، والقيام بالعبادة على ضعف نهوضهم، ويجوز أن يكون المعنى: غير ممنون عليهم؛ أي: لا يمن به عليهم، ومن كمال صفات الثواب أن يكون موصولًا غير مقطوع، وأن لا يكون منغصًا بالمنة والتعالي بإظهار الفضل على من صدر الفضل إليهم. فهذه الجملة على المعنى الأول مبينة لكيفية حال المؤمنين (¬1)، وعلى المعنى الثاني مقررة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد إلى النار، وقال: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، ولو قال: أسفل سافل .. لجاز؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد، وقيل معنى قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} رددناه إلى الضلال، كما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}؛ أي: إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. وعبارة "الخازن" هنا: وعلى القول الأول (¬2): يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)}: فزال عقله وانقطع عمله، فلا تُكتب له حسنة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضعف، فإنه يُكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملونه في حالة الشباب والصحة. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن.

[7]

وقال ابن عباس: هم نفر ردوا إلى أرذل العمر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عذرهم، وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم، فعلى هذا القول السبب خاص، وحكمه عام، قال عكرمة: ما يضر هذا الشيخ كِبَرُه إذا ختم الله له عمله بأحسن ما كان يعمل، ورُوي عن ابن عباس: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يُرد إلى أرذل العمر، وقال أبو الليث: {إِلَّا الَّذِينَ ...} إلخ يعني: لا يخرف ولا يذهب عقل من كان عالمًا عاملًا، وفي الحديث: "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله"، والفاء (¬1) في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ} في دار الكرامة؛ لأنها المحل، له رابطة على القول الأول؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، وتعليلية على القول الثاني؛ أي: لا يغير صورهم في النار؛ لأنهم مثابون في الجنة، وفي "التيسير" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذا مرض من سافر .. كُتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا، أخرجه البخاري وأحمد وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكذا رُوي في الهرم، وفي "تفسير أبي الليث" رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن المؤمن إذا مات صعد الملكان إلى السماء، فيقولان: إن عبدك فلانًا قد مات، فائذن لنا حتى نعبدك على السماء، فيقول الله سبحانه: إن سمواتي مملوءة بملائكتي، ولكن اذهبا إلى قبره واكتبا حسناته إلى يوم القيامة". 7 - {فَمَا يُكَذِّبُكَ} يا محمد، من يا أيها الإنسان خطابًا على طريق الالتفات {بَعْدُ}؛ أي: بعد هذه الحجة القاطعة، والبرهان الساطع، و {بَعْدُ} مبني على الضم؛ لحذف المضاف إليه ونيته، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة إن كان الخطاب للإنسان، وللتعجب إن كان الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - {بِالدِّينِ}؛ أي: بالحساب والجزاء، والمعنى: على أن الخطاب (¬2) للإنسان؛ أي: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؛ أي: فما الذي يلجئك (¬3) إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك ومبدأ خلقك وهرمك، فتعتبر وتقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني؛ أي: فأي شيء يجعلك أيها الإنسان مكذبًا بالدين والجزاء منكرًا له بعد هذا الدليل. ¬

_ (¬1) روح البيان بتصرف. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

[8]

وحاصله: أن خلق الإنسان من نطفة قذرة وتقويمه بشرًا سويًا، وتحويله من حال إلى حال كمالًا ونقصانًا، أوضح دليل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء؛ فأي شيء يضطرك بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيبه أيها الإنسان، والمعنى: على أن الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: فمن يكذبك أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل والبراهين على البعث والجزاء؛ أي: فمن ينسبك إلى الكذب بسبب إثباتك الجزاء وإخبارك عن البعث بعد ظهور الأدلة الدالة على كمال القدرة، فإن مَن خلق الإنسان السوي من الماء المهين، وجعل ظاهره وباطنه على أحسن تقويم، ودرجه في مراتب الزيادة إلى أن استكمل واستوى، ثم نكسه إلى أن يبلغ إلى أرذل العمر، لا شك أنه قادر على البعث والجزاء، فكأنه قال: من يقدر على تكذيبك في إثبات الثواب والعقاب بعدما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، فـ {ما} بمعنى: من، كما في "الجمل"، واختار هذا المعنى الآخر ابن جرير، و {الدين} (¬1): الجزاء، ومنه قول الشاعر: دِنَّا تَمِيْمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... دَانَتْ أَوَائِلُهُمْ مِنْ سَالِفِ الزَّمَنِ وقال الآخر: وَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ ... فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوْا 8 - {أَلَيْسَ اللَّهُ} الذي فعل ما فعل مما ذكرنا {بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: بأتقن (¬2) المتقنين صنعًا وتدبيرًا في كل ما خلق، حتى تتوهم أيها الإنسان عدم الإعادة والجزاء، وفيه وعيد شديد للكفار، أي: أليس ذلك بأبلغ إتقانًا للأمور من كل متقن لها؛ إذ الحاكم هو المتقين للأمور، ويلزمه كونه تام القدرة كامل العلم، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين، تعين الإعادة والجزاء؛ أي: بل هو سبحانه أتقن المتقنين صنعًا في كل ما خلق؛ لأن الاستفهام تقريري، أو المعنى: أليس الله بأقضى القاضين يحكم بينك وبين من يكذبك بالحق والعدل، يقال: حكم بينهم إذا قضى، والاستفهام فيه تقريري؛ لأن نفي النفي إثبات، كما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

لَكَ}، والآية وعيد للمكذبين له - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله؛ أي: بل هو سبحانه أعدل القاضين وأنفذهم وأصحهم قضاء بين خلقه نافذ الحكم ولا بد، بخلاف قضاء غيره من القضاة. وأخرج (¬1) الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا: من قرأ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} فقرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعًا: "إذا قرأت {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}، فقرأت {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}، فقل: بلى". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} قال: سبحانك اللهم فبلى، وظاهر الحديثين وأثر ابن عباس - رضي الله عنهما - يدل على أنه يأتي قارئها بهذه الكلمات، سواء كان في الصلاة من خارجًا عنها، كما عليه الشافعية خلافًا لمن خصه بخارج الصلاة، كالحنفية. خاتمة: قال في "فتح الرحمن": قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية، إن فسر (¬2) بالرد إلى جهنم، فهو سفل حقيقي، والاستثناء بعده متصل، وعليه فقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قائم مقام قوله: فلا نردهم أسفل سافلين، من بالرد إلى أسفل العمر، فهو تسفل في الرتب والأوصاف بالنسبة إلى رتب الشباب وأوصافه. والاستثناء بعده منقطع، وعليه فقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، أي: غير مقطوع بالهرم والضعف. والمعنى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوتهم إذا عجزوا بالهرم عن العمل .. كتب لهم ثواب ما كانوا يعملون إلى وقت موتهم. انتهى. الإعراب {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) فتح الرحمن.

{وَالتِّينِ}: {الواو}: حرف جر وقسم. {وَالتِّينِ}: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالتين، وجملة القسم مستأنفة. {وَالزَّيْتُونِ}: معطوف على {وَالتِّينِ}. {وَطُورِ}: معطوف على {وَالتِّينِ}، وهو الجبل، وهو مضاف. {سِينِينَ}: مضاف إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعناه: البقعة المباركة مجرور بالفتحة الظاهرة على النون نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف بعلتين فرعيتين، وهما العلمية والعُجمة؛ لأنه لفظ سرياني عُرِّب، فهو جار مجرى حين في إعرابه بالحركات الظاهرة، ويجوز أن يعرب إعراب جمع المذكر السالم بالواو رفعًا، وبالياء جرًا ونصبًا. {وَهَذَا}: في محل الجر معطوف على {وَالتِّينِ}. {الْبَلَدِ}: بدل من اسم الإشارة. {الْأَمِينِ}. صفة لـ {الْبَلَدِ}. {لَقَدْ}: {اللام}: موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فِي أَحْسَن}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من {الْإِنْسَانَ}. {أَحْسَنِ}: مضاف. {تَقْوِيمٍ}: مضاف إليه. و {أَحْسَنِ}: صفة لموصوف محذوف؛ أي: في تقويم أحسن تقويم، ويجوز أن تكون {فِي} زائدة؛ أي: قومناه أحسن تقويم اهـ "سمين". {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب مع تراخ. {رَدَدْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به أول معطوف على {خَلَقْنَا}. {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: مفعول ثان لرد؛ لأنه بمعنى: رجع، فينصب مفعولين، نظير قول الشاعر: فَرَدَّ شُعُوْرَهُنَّ السُّوْدَ بِيْضًا ... وَرَدَّ شُعُوْرَهُنَّ الْبِيْضَ سُوْدَا أو حال من المفعول في {رَدَدْنَاهُ}، أو صفة لمكان محذوف؛ أي: مكانًا أسفل سافلين، فهو ظرف مكان. {إِلَّا}: أداة استثناء. {الَّذِينَ}: في محل النصب على الاستثناء المتصل إن فسرنا الرد بالرد إلى جهنم، أو على الاستثناء المنقطع إن فسرنا الرد بالرد إلى الهرم، وعلى هذا تكون {إِلَّا} بمعنى لكن. {الَّذِينَ}: مبتدأ، خبره جملة قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، والجملة الابتدائية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وجملة {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} معطوفة على {آمَنُوا} داخلة في حيز الصلة. {فَلَهُمْ}: {الفاء}: تعليلية على أن الاستثناء متصل، {لهم}: خبر مقدم. {أَجْرٌ}: مبتدأ مؤخر. {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: صفة لـ {أَجْرٌ}، والجملة الاسمية جملة تعليلية لا محل لها

من الإعراب مسوقة لتعليل الاستثناء؛ لأن الفاء بعد الاستثناء المتصل؛ للتعليل غالبًا، ورابطة الخبر بالمبتدأ على أن الاستثناء منقطع لما في الموصول من معنى الشرط الذي هو الإبهام. {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}. {فَمَا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أسفل سافلين، وأردت بيان ما هو النصيحة لك .. فأقول لك: ما يكذبك؛ أي: ما يحملك على أن تذكب بالبعث والجزاء على أن الخطاب للإنسان. أو إذا عرفت يا محمد ما بينا لك من دلائل قدرتنا على البعث والجزاء، وأوردت أن تطمئن قلبك على ما بينا لك .. فأقول لك على أن الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، {ما}: اسم استفهام للاستفهام التقريري المضمَّن للإنكار على أن الخطاب للإنسان، أو للاستفهام التعجبي بمعنى: من، على أن الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا {يُكَذِّبُكَ}: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على {ما}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدَّرة مستأنفة. {بَعْدُ}: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا؛ لحذف المضاف إليه، ونية معناه؛ أي: بعد هذه العبر والعظات، الظرف متعلق بـ {يُكَذِّبُكَ}. {بِالدِّينِ}: متعلق بـ {يُكَذِّبُكَ} أيضًا. {أَلَيْسَ}: {الهمزة}: فيه للاستفهام التقريري، {ليس}: فعل ماض ناقص. {اللَّهُ}: اسمها. {بِأَحْكَمِ}: {الباء}: زائدة في خبر {ليس}. {أحكمِ}: خبرها مجرور لفظًا منصوب محلًا. {الْحَاكِمِينَ}: مضاف إليه مجرور بالياء. التصريف ومفردات اللغة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2)} والتين - بكسر التاء - ثمر شجر ورطبه النضيج، أحمد الفاكهة وأكثرها غذاء، وأقلها نفخًا، جاذب محلل، مفتح سدد الكبد والطحال، مليَّن، والإكثار منه مقمل، وجبل بالشام ومسجد بها، وجبل لغطفان واسم دمشق، والتينة بالكسر الدُّبُرُ، والتينان - بالكسر - جبلان لبني نعامة

والذئب، وتينات فرضة على بحر الشام اهـ من "القاموس". والزيتون ثمر شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به، وشجرته في أغلب البلاد، ولا يحتاج إلى خدمة وتربية، ويمكث في الأرض ألوفًا من السنين، كما مر. {وَطُورِ سِينِينَ (2)} والطور: جبل كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، وهو جبل عظيم فيه عيون وأشجار. إن قلت: كيف ذلك مع قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} المقتضي أنه دك ولم يبق له أثر؛ أجيب: بأنه متسع والذي دك قطعة منه، ومعنى {سِينِينَ}: المبارك، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، ومعناه: الجبل المبارك؛ لكونه مباركًا مشرفًا بتكليم موسى ربه عليه، وسينين يجوز أن يُعرب بالحركات الثلاث على النون، مع لزومه الياء في أحواله كلها، ويكون ممنوعًا من الصرف للعلمية والعجمة؛ لأنه عَلَم على البقعة، أو الأرض، وأن يعرب كجمع المذكر السالم بالواو رفعًا، وبالياء نصبًا وجرًا. {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} والبلد والبلدة مكة، شرّفها الله تعالى، وكل قطعة من الأرض معمورًا بالسكنى، والبلد أيضًا: القبر والدار، يجمع على بلاد وبلدان. {الْأَمِينِ}؛ أي: الآمن فعيل بمعنى: فاعل، يقال: أَمُن الرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، وأمانة مكة أنها تحفظ من دخلها جاهلية واسلامًا مِن قتلٍ وسبي، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول بمعنى: المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه إذا جعله مأمونًا مما يخاف؛ لأنها مأمونة الغوائل والعاهات والحروب. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}؛ أي: في أعدل قامة وأحسن صورة، يتناول مأكوله بيده، مزينًا بالعلم والفهم والعقل، والتمييز والنطق والأدب، يقال: قام إذا انتصب، وقام الأمر إذا اعتدل، كاستقام، وقوَّمته تقويمًا عدلته، كما في "القاموس"، والتقويم: تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل. {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} و {أَسْفَلَ} هنا: اسم تفضيل، يتناول المتعدد المتفاوت، والسافلون هم إما الصغار والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير هو أسفل من هؤلاء؛ لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلًا؛ لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله وثقله على

أهله وجيرانه، وعلى هذا المعنى، فالاستثناء الآتي منقطع، والمعنى حينئذ، ثم رددناه أسفل سافلين، فزال عقله، وانقطع عمله، فلا يُكتب له حسنة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضعف، فإنه يكتب له بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملونه في حال الشباب والصحة، وإما عصاة المؤمنين، فيكون الاستثناء على هذا متصلًا، والمعنى: رددناه أسفل ممن سفل خلقًا وتركيبًا حسًا ومعنًى، وهو أهل النار إلا الذين آمنوا الخ، فيكون بمعنى قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: غير مقطوع، بل متصل دائم، مِن مَنَّهُ مَنًّا إذا قطعه قطعًا، أو غير ممنون به عليهم، فإن المنة تكدّر النعمة، مِنْ مَنَّ عليه مِنَّة، والأول هو الظاهر، ولعل المراد من الثاني: تحقيق الأجر وإثباته، وأن المأجور استحق الأجر بعمله إطاعة لربه، وإن كان ذلك الاستحقاق من فضل الله تعالى. {بِالدِّينِ} والدين: الجزاء بعد البعث، كما مر. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} بإطلاق الحال وإرادة المحل على القول بأنه أراد موضعهما، وهو دمشق وبيت المقدس على ما رجحه ابن جرير. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} من إسناد ما للشيء إلى مكانه؛ لأن الأمن إنما يكون لمن فيه. ومنها: الطباق بين {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وبين {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}. ومنها: الاستخدام في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ} حيث ذكر الإنسان أولًا بمعنى وهو الجنس، ثم أعاد الضمير عليه بمعنى آخر وهو الإنسان بمعنى بعض أفراده، والاستخدام عند البديعيين: ذكر الشيء بمعنى، وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، كما هنا.

ومنها: الاستفهام التقريعي أو التعجبي في قوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} وفيه الالتفات أيضًا من الغيبة في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} إلى الخطاب هنا، والنكتة في ذلك الالتفات: تشديد الإنكار على الإنسان بمشافهته بالخطاب، كأنه قيل له: فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بعد هذه الدلائل بسبب تكذيب الجزاء. ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ}؛ لأنه دخل على النفي، ونفي النفي تقرير. ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * *

مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على خمسة مقاصد: 1 - أقسم الله سبحانه وتعالى بأربعة أشياء على مقسم عليه واحد تعظيمًا للمقسم به، وإشعارًا بغرابة المقسم عليه. 2 - بيان شرف الإنسان بكونه خُلق على أحسن تقويم. 3 - استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين يردون إلى أرذل العمر. 4 - التقريع والإنكار على المكذبين له - صلى الله عليه وسلم - في إخباره عن البعث والجزاء. 5 - وتطمين قلبه - صلى الله عليه وسلم - بكون الله سبحانه أحكم الحاكمين بينه وبينهم (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمت سورة التين بعون الملك المعين قُبيل الغروب من يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من شهور سنة: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.

سورة العلق

سورة العلق سورة العلق، وتسمى سورة القلم، وسورة اقرأ: مكية بلا خلاف، وهي أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وأخرج ابن مردويه (¬1) من طرق عن ابن عباس - رضي الله عنهم -: أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}. وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي موسى الأشعري قال: أول سورة أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}، ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة، وفيه: فجاءه الحق وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} وفي هذه الأحاديث رد على من قال: أول ما نزل من القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} كما في حديث جابر المذكور في "صحيح مسلم" وغيره، ويجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن المراد يكون: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} أول ما نزل كونه أول ما نزل بعد فترة الوحي نحو ثلاث سنوات، وآياتها: تسع عشرة آية، وكلماتها (¬2): اثنتان وتسعون كلمة، وحروفها: مئتان وثمانون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬3): أنه سبحانه وتعالى ذكر في سورة التين: {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وذكر في هذه السورة: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}، والمناسبة ظاهرة بين خلقه من علق، وخلقه في أحسن تقويم، ففي البداية من علق، وفي النهاية في أحسن تقويم، ثم أسفل سافلين إلى أنه تعالى ذكر هنا من أحوال ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما ذكره في السورة السابقة والقرآن الكريم كله كالحلقة المفرغة في قالب واحد يرتبط أوله بآخره، وآخره بأوله، مع إيماءات وإشارات، لا يعلمها إلا من أطلعه الله سبحانه عليها من ذوي المعارف الصمدانية. وعبارة "أبي حيان" (¬1) هنا: هذه السورة صدرها أول ما نزل من القرآن، وذلك في غار حراء على ما ثبت في "صحيح البخاري" وغيره، وقول جابر: أول ما نزل المدثر، وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أول ما نزل الفاتحة لا يصح، وقال الزمخشري عن ابن عباس ومجاهد: هي أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل، ثم سورة القلم. انتهى. ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك .. ذكره هنا منبهًا على شيء من أطوارها، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة. تسميتها: وسميت سورة العلق وسورة القلم؛ لذكرهما فيها. الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - سورة العلق كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}. المناسبة تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين أول هذه السورة والتي قبلها، وأما قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) ...} إلى آخر السورة. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) في مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وعلامات الحكمة البالغة، ودقة صنائعه البديعة، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل أن لا يلتفت إليه .. أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي في طغيان الإنسان وتكبره وتماديه عليه، وهو حبه للدنيا واشتغاله بها، وجعلها أكبر همه، وذلك يعمي قلبه، ويجعله يغفل عن خالقه، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم، وقد كان ينبغي أن يكون حين الغنى والميسرة وكثرة الأعوان واتساع الجاه أشد حاجة إلى الله تعالى منه في حال الفقر والمسكنة؛ لأنه في حال فقره، لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه، أما في حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله. ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل، وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى، وأنه يوجب على غيره طاعته، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه. أما ينبغي له أن يهتدي ويشتغل بأمر نفسه، (فمن كان ذا عقل ورأي وثروة وجاه وأعوان، واختار الهدى، وتخلق بأخلاق المصلحين .. كان ذلك خيرًا له ¬

_ (¬1) المراغي.

وأجدى)، وإنا لننكلن به نكالًا شديدًا في العاجلة، ولَنُهِيْتَهُ يوم العرض والحساب، وليدع أمثاله من المغرورين، فإنهم لن يمنعوه، ولن ينصروه، ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلًا وإبلاغًا للناس مبتغيًا بذلك وجه الله سبحانه والقربى. أسباب النزول تقدمة تاريخية: جاء في صحيح الأحاديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يأتي غار حراء - حراء جبل بمكة - يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في الغار إذ جاءه الملك، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذه ثانيًا، فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذه ثالثة فغطه حتى بلغ منه الجهد، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. قال الرواة: فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة الخبر، ثم قال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق". الحديث الطويل رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم. ومن ذلك تعلم (¬1) أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول رحمة رحم الله بها عباده، وأول خطاب وجه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما بقية السورة فهو متأخر النزول، نزل بعد شيوع بعثته - صلى الله عليه وسلم -، وبعد أن دعا قريشًا إلى الإيمان به وآمن به قوم منهم، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم، ويحاولون ردهم عن تصديقه، والإيمان بما جاء به من عند ربه. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (¬2) ابن المنذر عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟، فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) لباب النقول.

[1]

ولأعفرن وجهه في التراب، فأنزل الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) ...} الآيات. قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} سبب نزوله: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} إلى قوله {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟!، فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثرُ منى، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} قال الترمذي حسن صحيح. التفسير وأوجه القراءة 1 - {اقْرَأْ}؛ أي (¬1): ما يوحى إليك يا محمد، فإن الأمر بالقراءة يقتضي المقروء قطعًا، وحيث لم يتعين .. وجب أن يكون ذلك ما يتصل بالأمر حتمًا سواء كانت السورة أول ما نزل أم لا، فليس فيه تكليف ما لا يطاق، سواء دل الأمر على الفور أم لا، والأقرب أن هذا إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أول ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة, وإنما الخلاف في تمام السورة. وعن عائشة - رضي الله عنها -: أول ما ابتُدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبوة حين أراد الله به كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح؛ أي: كضيائه وإنارته، فلا يشك فيها أحد، كما لا يشك في وضوح ضياء الصبح، وإنما ابتُدىء عليه السلام بالرؤيا؛ لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل بالرسالة، فلا تتحملها القوة البشرية؛ لأنها لا تحتمل رؤية الملك، وإن لم يكن على صورته الأصلية، ولا على سماع صوته، ولا على ما يخبر به، فكانت الرؤيا تأنيسًا له، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر على ما هو أدنى مدة الحمل، ثم جاءه الملك فعبر عن عالم الرؤيا إلى عالم المثال. ¬

_ (¬1) روح البيان.

فإذا كانت مدة الرؤية ذلك العدد يكون ابتداؤها في شهر ربيع الأول، وهو مولده - صلى الله عليه وسلم -، ثم أوحي إليه في اليقظة في شهر رمضان، وكان - صلى الله عليه وسلم - في تلك المدة إذا خلا يسمع نداء: يا محمد يا محمد، ويرى نورًا؛ أي: يقظة، وكان يخشى أن يكون الذي يناديه تابعًا من الجن، كما ينادي الكهنة، وكان في جبل حراء غار؛ وهو الجبل الذي نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني يا رسول الله، فإني أخاف أن تُقتل على ظهري، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في ذلك الغار ليالي ثلاثًا وسبعًا وشهرًا، ويتزود لذلك من الكعك والزيت، وذلك في تلك المدة وقبلها. وأول من تعبد فيه من قريش جده عبد المطلب، ثم تبعه سائر المتألهين، وهم أبو أمية بن المغيرة، وورقة بن نوفل ونحوهما، وكان ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن عم خديجة - رضي الله عنها - وكان قد قرأ الكتب السالفة، وكتب الكتاب العبري، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي في آواخر عمره ثم بلغ - صلى الله عليه وسلم - رأس الأربعين، ودخلت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان جاءه الملك وهو في الغار، كما قال الإِمام الصرصري رحمه الله تعالى: وَأَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُوْنَ فَأَشْرَقَتْ ... شَمْسُ النُّبُوَّةِ مِنْهُ فِيْ رَمَضَانِ قالت عائشة - رضي الله عنها -: جاءه الملك سحر يوم الإثنين، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني؛ أي: ضمني وعصرني، ثم أرسلني، فعله ثلاث مرات، ثم قال: {اقْرَأْ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}. وأخذ منه القاضي شريح من التابعين: إن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات، فخرج - صلى الله عليه وسلم - من الغار، حتى إذا كان في جانب من الجبل سمع صوتًا يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده، فحدثها بما جرى، فقالت له: أبشر يابن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت إلى ورقة فأخبرته بذلك، فقال فيه: فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيْجَةُ فَاعْلَمِيْ ... حَدِيْثَكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ وَجِبْرِيْلُ يَأَتِيْهِ وَمِيْكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ

يَفُوْزُ بِهِ مَنْ فَازَ عِزًّا لِدِيْنِهِ ... وَيشْقَى بِهِ الْغَاوِيْ الشَّقِي الْمُضَلَّلُ فَرِيْقَانِ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ فِيْ جِنَانِهِ ... وَأُخَرَى بِأَغْلَالِ الْجَحِيْمِ تُغَلَّلُ ومكث - صلى الله عليه وسلم - مدة لا يرى جبريل، وإنما كان كذلك؛ ليذهب عنه ما كان يجده من الرعب، وليحصل له التشوق إلى العود، وكانت مدة الفترة؛ أي: فترة الوحي بين {اقْرَأْ} وبين {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}، وتوفي ورقة في هذه الفترة، ودُفن بالحجون، وقد آمن به - صلى الله عليه وسلم - وصدّقه قبل الدعوة التي هي الرسالة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيته في الجنة، وعليه ثياب الحرير"، ثم نزل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}، فظهر الفرق بين النبوة والرسالة. والجار والمجرور في قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بمحذوف حال من فاعل {اقْرَأْ}، ومفعول {اقْرَأْ} محذوف تقديره: اقرأ يا محمد ما يوحى إليك، أو ما نزل عليك، أو ما أُمرت بقراءته حال كونك متلبسًا باسم ربك، أو مستعينًا باسم ربك، أو مفتتحًا باسم ربك، أو متبركًا باسم ربك، أو مبتدئًا باسم ربك؛ ليتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء؛ أي: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم اقرأ، فعُلِم أن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} نزلت من غير بسملة، وقد صرَّح بذلك الإِمام البخاري - رحمه الله تعالى - أمره بذلك؛ لأن ذكر اسم الله قوة له في القراءة، وأنس بمولاه، فإن الإنس بالاسم يُفضي إلى الإنس بالمسمى، والذكر باللسان يؤدي إلى الذكر بالجنان. قال في "الكواشي": دخلت {الباء} في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك}؛ لتدل على الملازمة والتكرير، كأخذت بالخطام، ولو قلت: أخذت الخطام لم يدل على التكرير والدوام، وقيل (¬1): {بِاسْمِ رَبِّكَ} هو المفعول، وهو المأمور بقراءته، كما تقول: اقرأ الحمد لله، وقيل المعنى: اقرأ في أول كل سورةٍ وقراءةٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال الأخفش: {الباء} بمعنى على؛ أي: اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ}؛ أي: على اسم الله، وقال أبو عبيدة: {الباء}: زائدة، والمعنى: اذكر اسم ربك، وقال أيضًا: الاسم صلة، والمعنى: اقرأ بعون ربك وتوفيقه، وجاء بـ {اسم ربك} ولم يأت بلفظ الجلالة: لما في لفظ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

الرب من معنى الذي رباك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب؛ ليدل على الاختصاص والتأنيس؛ أي: ليس لك رب غيره. وقرأ الجمهور (¬1): {اقْرَأْ} بهمزة ساكنة أمرًا من القراءة، وقرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها، فيقول: قرأ يقرأ كسعى يسعى، فلما أمر منه قيل: اقْرَ بحذف الألف، كما تقول: اسع، وفي كتاب "شمس المعارف": أول آية نزلت على وجه الأرض: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يعني: على آدم الصفي عليه السلام، فقال آدم: الآن علمت أن ذريتي لا تُعذب بالنار ما دامت عليها، ثم أنزلت على إبراهيم عليه السلام في المنجنيق، فأنجاه الله تعالى بها من النار، ثم على موسى عليه السلام فقهر بها فرعون وجنوده، ثم على سليمان عليه السلام، فقالت الملائكة: الآن والله قد تم ملكك. فهي آية الرحمة والأمان لرسله وأممهم، ولما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} كانت فتحًا عظيمًا، فأمر رسول الله، فكُتبت على رؤوس السور وظهور الدفاتر وأوائل الرسالة، وحلف رب العزة بعزته أن لا يسميه عبد مؤمن على شيء إلا بورك له فيه، وكانت لقائلها حجابًا من النار، وهي تسعة عشر حرفًا تدفع تسع عشرة زبانية، وفي الخبر النبوي: "لو وُضعت السموات والأرضون وما فيهن وما بينهن في كفة، والبسملة في كفة لرجحت عليها" يعني البسملة. وقال بعضهم: {الباء} في باسم الله بره تعالى على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدارين، والسين كونه سميعًا لدعاء الخلق جميعًا، والميم معناه من العرش إلى تحت الثرى مِلكه ومُلكه. {الَّذِي خَلَقَ}؛ أي: اتصف بالخلق والإيجاد للمخلوقات، من خلق الخلائق، من كل شيء وصف الرب به، لتذكير أول النعماء الفائضة عليه منه تعالى، والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلًا من سائر الكمالات .. قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

والمعنى: أي اقرأ ما يوحى إليك يا محمد متبركًا باسم ربك الذي له الخلق والمستأثر به لا خالق سواه، فيكون {خَلَقَ} مُنَزَّلًا منزلة اللازم، وبه يتم مراد المقام؛ لدلالته على أن كل خلق مختص به، من المعنى: الذي خلق كل شيء، فيكون من حذف المفعول؛ للدلالة على التعميم. وقال في "فتح الرحمن": لما ذكر الرب، وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابًا، جاء بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، فقال: {الَّذِي خَلَقَ}، ومعنى الآية: أي (¬1): صر يا محمد قارئًا بقدرة الله الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قارئًا ولا كاتبًا، وقد جاءه الأمر الإلهي بأن يكون قارئًا وإن لم يكن كاتبًا، وسينزل عليه كتابًا يقرؤه وإن كان لا يكتبه. وقصارى ذلك: أن الذي خلق الكائنات وأوجدها قادر أن يوجد فيها قراءة وإن لم يسبق لك تعلمها. فائدة: ذكر السيوطي في "إتقانه": أن أول سورة اقرأ مشتمل على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال؛ لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة، وفيها البداءة باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}، ولهذا قيل: إنها جديرة بأن تسمى عنوان القرآن؛ لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله اهـ "ابن لقيمة على البيضاوي". فائدة أخرى: قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ظاهره (¬2) أن هذه الجملة ليست من القرآن؛ لأن الأمر بتحصيل الشيء غير ذلك الشيء، ولكن قام الإجماع على أنها من جملة القرآن خصوصًا مع إثباتها في المصاحف بخطها سلفًا وخلفًا من غير نكير، فعُلم منه أنها من جملة القرآن تأمل. وفائدة أخرى: بسم الله تُكتب من غير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط؛ لكثرة الاستعمال بخلاف قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإنها لم تُحذف فيه؛ لقلة الاستعمال، واختلفوا في حذفها من الرحمن والقاهر، فقال الكسائي وسعيد بن الأخفش: تحذف الألف، وقال يحيى بن وثاب: لا تُحذف إلا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الفتوحات.

[2]

مع اسم الله فقط؛ لأن الاستعمال إنما كثر فيه، اهـ من القرطبي في أول "تفسيره". 2 - وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}؛ أي: بني آدم تخصيص (¬1) لخلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات؛ لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير على القول بأن {خَلَقَ} الأول لازم بمعنى اتصف بالخلق واستأئر به، وأما على القول بأن خَلَقَ الأول متعد حُذف مفعوله، فهو تخصيص لخلق الإنسان بالذكر والبيان بعد التعميم تفخيمًا لشأنه؛ إذ هو أشرفهم، وعليه نزل التنزيل، وهو المأمور بالقراءة، ويجوز أن يراد بالفعل الأول أيضًا خلق الإنسان، ويقصد بتجريده عن المفعول الإبهام، ثم التفسير رومًا لتفخيم شأنه. {مِنْ عَلَقٍ}؛ أي: خلق الإنسان من دمٍ جامد جمع علقة، كثمر وثمرة، وهي الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح؛ أي: خلقه من دم جامد رطب يعلق بما مر عليه، لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالته الأولى والآخرة من التباين البين، وإيراده (¬2) بلفظ الجمع حيث لم يقل: علقة بناء على أن الإنسان في معنى الجمع؛ لأن الألف فيه للاستغراق من للجنس، والمعنى: الذي خلق جنس الإنسان من جنس العلق، من لمراعاة الفواصل، ولعله هو السر في تخصيصه بالذكر من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والتراب أدل منه على كمال القدرة؛ لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية. ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى، وأقوم الدلائل الدالة على وجوده تعالى، وكمال قدرته وعلمه وحكمته .. وصف ذاته تعالى بذلك أولًا؛ ليسششهد - صلى الله عليه وسلم - به على تمكينه تعالى له من القراءة، وفي "حواشي ابن الشيخ": إن الحكيم سبحانه وتعالى لو قال له حين أراد أن يبعثه رسولًا إلى المشركين: اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له .. لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم في ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به حيث أمر رسوله أن يقول لهم: إنهم هم الذين خُلِقوا من العلقة ولا يمكنهم إنكاره، ثم أن يقول لهم: لا بد للفعل من فاعل، فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك الفعل إلى الوثن؛ لعلمهم بأنهم نحتوه، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان؛ لأن الإلهية موقوفة على الخالقية، ومن لم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

[3]

يخلق شيئًا كيف يكون إلهًا مستحقًا للعبادة. ومعنى قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}؛ أي: إن (¬1) الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق، وآتاه القدرة على التسلط على كل شيء مما في هذا العالم الأرضي، وجعله يسوده بعلمه، ويسخره لخدمته قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قارئًا وإن لم يسبق له تعلم القراءة. والخلاصة (¬2): أن من كان قادرًا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانًا حيًا ناطقًا يسود المخلوقات الأرضية جميعها قادر أن يجعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قارئًا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة. 3 - ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير، فقال: {اقْرَأْ}؛ أي: افعل يا محمد ما أُمرت به من القراءة، وحكمة الأمر بالتكرير؛ لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة، وتكرار الأمر الإلهي يقوم مقام تكرير المقروء، وبذلك تفسير القراءة ملكة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، تدبر قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} وقيل (¬3): إنه أمره بالقراءة أولًا لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانيًا للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد، والأول أولى، وجملة قوله: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} من المبتدأ والخبر مستأنفة مسوقة لإزاحة ما اعتذر به - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ما أنا بقارىء، يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ، وأنا أمي لا أعرف القراءة ولا الكتابة، فقيل له: اقرأ وربك الذي أمرك بالقراءة مبتدئًا باسمه وهو الأكرم؛ أي: الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض، ولا يطلب مدحًا من ثوابًا من تخلصًا من المذمة، وأيضًا أن كل كريم، إنما أخذ الكرم منه، فكيف يساوي الأصل. والمعنى (¬4): أي وربك يا محمد أكرم من يرتجى منه الإعطاء، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه من غير تعلُّم كتابة ولا قراءة. وقال ابن الشيخ: {وَرَبُّكَ}: مبتدأ، و {الْأَكْرَمُ}: صفته، و {الَّذِي}، مع صلته في قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} خبره؛ أي: علم ما علم بواسطة القلم لا غيره، فكما علم القارىء بواسطة الكتابة والقلم يعلمك بدونهما. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني. (¬4) المراغي.

[4]

وفي "الخازن": وقد يكون (¬1) {الْأَكْرَمُ} بمعنى الكريم، كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكرم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عينًا بل المدح والثواب عوض، والله سبحانه جل جلاله وتعالى عُلاهُ وشأنه يتعالى عن طلب العوض، ويستحيل ذلك في وصفه؛ لأنه أكرم الأكرمين، وقيل {الْأَكْرَمُ}: هو الذي له الابتداء في كل كرم وإحسان، وقيل: هو الحليم عن جهل العباد، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل: يحتمل أن يكون هذا حثًا على القراءة، والمعنى: اقرأ وربك الأكرم؛ لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات. 4 - {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}؛ أي: علم الخط والكتابة التي بها تُعرف الأمور الغائبة، وفيه تنبيه على فضل الكتابة؛ لما فيها من المنافع العظيمة؛ لأن بالكتابة ضُبطت العلوم، ودونت الحكم، وبها عُرفت أخبار الماضين وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم، ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا، قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة، لولا القلم لو يقم دين ولم يصلح عيش، وسئل (¬2) بعضهم عن الكلام، فقال: ريح لا يبقى، قيل له: فما قيده؟ قال: الكتابة؛ لأن القلم ينوب عن اللسان، ولا ينوب اللسان عنه، كما قال بعضهم: الْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدُهُ ... قَيِّدْ صُيُوْدَكَ بِالْحِبَالِ الْوَاثِقَهْ وقال الآخر: وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَبْلَى ... وَيُبْقِي الدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفَّكَ غَيْرَ شَيءٍ ... يَسُرُّكَ فِيْ الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ وفيه امتنان على الإنسان بتعليم علم الخط والكتابة بالقلم، وسمي قلمًا؛ لأنه يُقَلَّم ويقص ويقطع. وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: "نعم، فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم". وعن ابن مسعود قال (¬3): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[5]

تعلموهن الكتابة؛ - أي: حذرًا من تطلعهن إلى الرجال وحذرًا من الفتنة - لأنهن قد يكتبن لمن يهوين". قال كعب الأحبار (¬1): أول من وضع الكتاب العربي والسرياني، والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته ثلاث مئة سنة كتبها في الطين ثم طبخه، فاستخرج إدريس ما كتب آدم وهذا هو الأصح. وأما أول من كتب خط الرمل فإدريس عليه السلام، وأول من كتب بالفارسية: طهمورت ثالث ملوك الفرس، وأول من اتخذ القراطيس: يوسف عليه السلام، قال السيوطي - رحمه الله تعالى -: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأول ما كتب القلم: أنا التواب أتوب على من تاب. قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق وتعليم القلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالمًا، فالله تعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهو تعلم العلم، 5 - وجملة قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} بدل اشتمال من التي قبلها وتعيين للمفعول؛ أي: علم الإنسان بالقلم وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله أصلًا، قيل (¬2) المراد بـ {الْإِنْسَانَ} هنا: آدم، كما في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وقيل: {الْإِنْسَانَ} هنا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فالمراد بعلمه المستقبل، فإن هذا من أوائل ما نزل، والأولى حمل {الْإِنْسَانَ} على العموم، كما أشرنا إليه في الحال. وحاصل معنى قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ...} الآيات، أي (¬3): الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشقة، كما أفهمهم بوساطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها, وليس من شأنها الإفهام، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، أفيصعب عليه أن يجعل منك قارئًا مبينًا وتاليًا معلمًا، وأنت إنسان كامل، وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق، وأنه علمه بالقلم، ليبين أحوال هذا الإنسان، وأنه خلق من أحقر الأشياء، وبلغ في كماله الإنساني أن صار عالمًا بحقائق الأشياء، فكأنه قيل: تدبر أيها الإنسان تجد ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[6]

أنك قد انتقلت من أدنى المراتب إلى أعلى الدرجات وأرفعها, ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شيء خلقه، ثم زاد الأمر بيانًا بتعداد نعمه، فقال: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}؛ أي: إن من صدر أمره بأن يكون رسوله - صلى الله عليه وسلم - قارئًا هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وممتاز به عن غيره من الحيوان، وكان في بدء أمره لا يعلم شيئًا، فهل من عجيب أن يعلمك القراءة ويعلمك كثيرًا من العلوم سواها، ونفسك مستعدة لقبول ذلك، وفي الآية دليل على فضك القراءة والكتابة والعلم، ولعمرك لولا القلم ما حُفظت العلوم، ولا أحصيت الجيوش، ولضاعت الديانات، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، ولما سجل تاريخ السابقين المسيئين منهم والمحسنين، ولا كان علمهم نبراسًا يهتدي به الخلف، ويُبنى عليه ما به ترقى الأمم وتتقدم المخترعات. كما أن فيها دليلًا على أن الله سبحانه خلق الإنسان الحي الناطق فيما لا حياة فيه ولا نطق ولا شكل ولا صورة، وعلمه أفضل العلوم وهي الكتابة، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئًا، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان. 6 - {كَلَّا} ردع (¬1) لمن كفر بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يسبق ذكره للمبالغة في الزجر فيوقف عليه، وقال السجاوندي: يوقف على {مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ لأنه بمعنى حقًا، ولذا وضع علامة الوقف عليه. {إِنَّ الْإِنْسَانَ}؛ أي: إن جنس الإنسان {لَيَطْغَى}؛ أي: ليتجاوز الحد ويستكبر على ربه، وهذا بيان للمردوع والمردوع عنه إن قلنا: إنها حرف ردع، قيل: إن هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل وأضرابه بعد زمان من نزول أول السورة، وهو الظاهر. 7 - {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} مفعول له؛ أي: يطغى لأن رأى وعلم نفسه مستغنيًا من أبصر غناه، والمراد أنه يريد طغيانه باستغنائه بالعشيرة والأنصار والأعوان والأموال، قال مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه، فذلك طغيانه، وكذلك قال الكلبي. والرؤية هنا (¬2): بمعنى العلم، ولو كانت بصرية لامتنع الجمع بين ضميرين لشيء واحد في فعلها؛ لأن ضمير الفاعل في {رَآهُ} وضمير المفعول عائدان على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

{الْإِنْسَانَ}؛ لأن الجمع بين الضميرين المتصلين لشيء واحد من خواص أفعال القلوب، فتقول: رأيتني صديقك، فلا يجوز: زيد ضربه، وهما ضميرا زيد. وقرأ الجمهور (¬1): {أَنْ رَآهُ} بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل، وقرأ قنبل عن ابن كثير بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال: وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلّطه بل يتطلب له وجهًا، وقد حُذف الألف في نحو من هذا، قال الشاعر: وَصَّانِيَ الْعَجَّاجُ فِيْمَا وَصَّنِيْ يريد فيما وصاني، فحذف الألف وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تَرَ أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس، لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. وقيل معنى {كَلَّا} حقًا كما مر عن السجاوندي، والمعنى عليه: أي (¬2) حقًا، إن أمر الإنسان لعجب، فإنه متى أحس من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربه وتطاول بأذى الناس، وعد نفسه فوقهم جميعًا، وقد كان من حقه أن يكون هو وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون في السراء والضراء، ويحب الخير لهم، كما يحبه لنفسه، وفي "البخاري": "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وروي عن علي في نصيحته لابنه الحسن: أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا ولا يستويان، أما طالب العلم فيزداد في رضا الله، وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان. وتعليل طغيانه برؤيته لنفسه الاستغناء (¬3)؛ للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد، روي: أن أبا جهل قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتزعم أن من استغنى طغى؟ فاجعل لنا جبال مكة ذهبًا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل، فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[8]

المائدة، فكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدعاء إبقاءً عليهم ورحمةً لهم، وأول (¬1) هذه السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبًا في العلم والدين، ومنفرًا عن المال والدنيا، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غِنًى يُطغي وفقر يُنسي" وقد حكم (¬2) سبحانه على الإنسان بالطغيان بالغنى باعتبار الأعم الأغلب، في أفراده، وإلا فإن الغنى والقوة في أيدي الأتقياء من وسائل الخير وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية؛ لأنهم يستعملونها فيما يُرضي ربهم ويعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، 8 - ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية، وليست نفسه بباقية، وأن مرجع الأمر كله لله سبحانه وتعالى، فقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)}؛ أي: إلى مالك (¬3) أمرك أيها الإنسان رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره استقلالًا واشتراكًا، فسترى حينئذٍ عاقبة طغيانه، والرجعى مصدر بمعنى الرجوع، والألف للتأنيث كالمرجع والرجوع، يقال: رجع إليه مرجعًا ورجوعًا ورجعى، وتقدم الجار والمجرور؛ لإفادة القصر. والمعنى (¬4): أي إن المرجع إلى ربك وحده وهو مالك أمرك وما تملك، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة، وتظهر في مظهر الذل، وتحاسب على كل ما اجترحته في حياتك الأولى قل من كثر عظم من حقر، كما قال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} 9 - ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب، فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} والاستفهام لتعجيب المخاطب، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل من يتأتى منه الرؤية، والرؤية هنا بصرية، وهي (¬5) تتعدى إلى مفعولين؛ لأنها بمعنى: أخبِرْني، فالمفعول الأول: {الَّذِي}، والمفعول الثاني: محذوف، وهو جملة استفهامية نظير الجملة الواقعة بعد {أَرَأَيْتَ} الثالثة؛ أي: أخبِرْني يا محمد، من أيها المخاطَب الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله، فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل؛ أي: أخبرني عن حال هذا الأحمق، فإن أمره لعجب، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد إلى أن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان. (¬4) المراغي. (¬5) المراغي.

[10]

ينهى عبدًا من عباد الله عن صلاته، ويعتقد أنه يجب عليه طاعته وهو ليس بخالق ولا رازق، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه ويعرض عن طاعة الخالق الرازق، وقد روي أن عليًا - رضي الله عنه - رأى في المصلى قومًا يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، فقيل له ألا تنهاهم، فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}، فلم يصرح بالنهي عن الصلاة احتياطًا. 10 - وتنكير (¬1) {عَبْدًا} لتفخيمه - صلى الله عليه وسلم -، كأنه قيل ينهى أكمل الخلق في العبودية عن عبادة ربه، والعدول عن ينهاك إلى {يَنْهَى عَبْدًا} دال على أن النهي كان للعبد عن إقامة خدمة مولاه، ولا أقبح منه، قال المفسرون: {الَّذِي يَنْهَى} أبو جهل، والمراد بالعبد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعل, كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية. روي: أن أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه، وفي "التكملة": نهى محمدًا عن الصلاة، وهمّ أن يُلقي على رأسه حجرًا، فرآه في الصلاة، وهي صلاة الظهر، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، فنزلت الآية، والمراد أجنحة الملائكة، أبصر اللعين الأجنحة، ولم يبصر أصحابها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم كانوا يزعمون أنه عالم ذو حكمة، ثم سمي أبا جهل في الإِسلام. وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويقول: "اللهم أعز الإِسلام بأبي جهل، أو بعمر" فلما أعنه الله بعمر - رضي الله عنه - دل على أن عمر أسعد قريش، كما أن أبا جهل أشقى قريش؛ إذ الأشياء تتبين باضدادها. 11 - {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)} والرؤية هنا قلبية، معناه: أخبِرْني ذلك الناهي وهو المفعول الأول، فإن مفعولي (¬2) {أَرَأَيْتَ} هنا محذوفان، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراح.

[12]

حذف الأول؛ لدلالة المفعول الأول من {أَرَأَيْتَ} الأولى عليه، وحذف الثاني؛ لدلالة مفعول {أَرَأَيْتَ} الثالثة عليه، 12 - و {أَوْ} في قوله: {أَوْ أَمَرَ} بمعنى الواو، والمعنى: أخبِرْني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيرًا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته. والخلاصة: أما كان الأفضل له أن يهتدي ويهدي غيره إلى خصال البر والخير، وقد كانت هذه حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعمله كان، إما في إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيامٍ وغيرهما، وإما في إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها. كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطَب عليه، كيف فوَّت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك، والآية في الحقيقة تهكم بالناهي ضرورة أنه ليس في النهي عن عبادته تعالى، والأمر بعبادة الأصنام على هدًى ألبتة. 13 - {أَرَأَيْتَ} والرؤية أيضًا هنا قلبية تتعدى إلى مفعولين؛ أي: أخبِرْني ذلك الناهي {إِنْ كَذَّبَ} بالحق {وَتَوَلَّى}؛ أي: أعرض عنه 14 - {أَلَمْ يَعْلَمْ} ذلك الناهي {بِأَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {يَرَى}؛ أي: يراه ويجازيه على تكذيبه وإعراضه، والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني {لأ رأيت}، ومفعولها الأول محذوف، وهو يعود إلى الموصول، من اسم إشارة يشار به إليه، والمعنى: أخبِرْني يا محمد ذلك الناهي إن كذب بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله سبحانه يرى منه هذه الأعمال القبيحة، أفلا ينزجر عنها. والخلاصة (¬1): أي أنبئني عن حال هذا الكافر إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة، وأمارات القدرة الباهرة، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك، ودعا الناس إلى مثل ذلك، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله، ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله، وأنه حكيم لا يُهمل عقابه، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من كل جرم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين، وقال أبو الليث - رحمه الله -: والآية ¬

_ (¬1) المراغي.

عظة لجميع الناس، وتهديد لمن يمنع عن الخير وعن الطاعة، وقال ابن الشيخ في "حواشيه": وهذه (¬1) الآية وإن نزلت في حق أبي جهل، لكن كل من نهى عن طاعة الله تعالى فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، ولا يلزم عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، والأوقات المكروهة؛ لأن المنهي عنه غير الصلاة، وهي المعصية التي هي الاستيلاء على حق الغير، وإيقاع الصلاة في الوقت المكروه، فإن عدم مشروعية الوصف المقارن، وكونه مستحقًا؛ لأن ينهى عنه لا ينافي مشروعية أصل الصلاة إلا أنه لشدة الاتصال بينهما بحيث يكون النهي عن الوصف موهمًا للنهي عن الأصل احتاط فيه بعض الأكابر، حتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه رأى في المصلى أقوامًا يصلون قبل صلاة العيد إلى آخر ما مر. وفي "البيضاوي": ومعنى الآيات: أخبِرْني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه، من أمر بالتقوى فيما يأمره من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب اللحق والتولي عن الصواب، كما يقول: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} ويطلع على أحواله، من هداه أو ضلاله ليجازيه عليه. انتهى. وقال الفراء: المعنى: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى وهو على الهدى وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر؛ أي: فما أعجب هذا، ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله، فهذا تقرير وتوبيخ انتهى. وقال التبريزى (¬2): المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر، قيل: هي أول جماعة أقيمت في الإِسلام كان معه أبو بكر وعلي وجماعة من السابقين، فمر به أبو طالب ومعه ابنه جعفر، فقال له: صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورًا، وأنشأ أبو طالب يقول: إِنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا ثِقَتِىْ ... عِنْدَ مُلِمِّ الزَّمَانِ وَالْكُرَبِ وَاللهِ لَا أَخْذُل النَّبِيَّ وَلَا ... يَخْذُلُهُ مَنْ يَكُوْنُ مِنْ حَسَبِيْ لَا تَخْذُلَا وَانْصُرَا ابْنَ عَمَّكُمَا ... أَخِىْ لأُمَّيْ مِنْ بَيْنِهِمُ وَأَبِيْ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

[15]

ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، والخطاب (¬1) في {أَرَأَيْتَ} الظاهر أنه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذا {أَرَأَيْتَ} الثاني والثالث، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم، وقيل: {أَرَأَيْتَ} خطاب للكافر التفت إلى الكافر، فقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدًى ودعاءً إلى الله تعالى، وأمرًا بالتقوى أتنهاه مع ذلك، والضمير في {إن كَانَ}، وفي {إن كَذَّبَ} عائد على الناهي. 15 - {كَلَّا} ردع (¬2) للناهي اللعين عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة اللات. {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} {اللام}: موطئة للقسم المحذوف؛ أي: والله لئن لم ينته هذا الناهي اللعين عما هو عليه، ولم ينزجر ولم يتب ولم يسلم قبل الموت، والأصل: ينتهي بالياء المحذوفة للجازم، يقال: نهاه ينهاه نهيًا ضد أمره، فانتهى. {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}؛ أي: لنجُزَّنَّه بناصيته إلى جهنم، أصله: لنسفعن بنون التوكيد الخفيفة، ونظيره: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} كتب في المصحف بالألف على حكم الوقف، فإنه يوقف على هذه النون بالألف تشبيهًا لها بالتنوين، والسفع: القبض على الشيء وجذبه بعنف وشدة، والناصية: شعر مقدم الرأس، والمعنى: والله لنأخذنه في الآخرة بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار بمعنى: لنأمرن الزبانية ليأخذوا بناصيته، ويجروه إلى النار بالتحقير والإهانة، وكانت العرب تأنف من جر الناصية، وفي "عين المعاني": الأخذ بالناصية عبارة عن القهر والهوان، والاكتفاء بلام العهد عن الإضافة، لظهور أن المراد ناصية الناهي المذكور، ويحتمل أن يكون المراد من هذا السفع سحبه على وجهه في الدنيا يوم بدر، فيكون بشارة بأن يمكِّن المسلمين من ناصيته حتى يجروه على وجهه إذا عاد إلى النهي، فلما عاد مكنهم الله من ناصيته يوم بدر. وقرأ الجمهور (¬3): {لَنَسْفَعًا} بالنون الخفيفة، وكتبت بالألف باعتبار الوقف؛ إذ الوقف عليها بإبدالها ألفًا وكثر ذلك حتى صارت رويًا، فكتبت ألفًا كقوله: يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا ... شَيْخًا عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو: {لنسفعن} بالنون الشديدة، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

والفاعل على كلا القراءتين الله سبحانه، وقرأ ابن مسعود: {لأسفعن}؛ أي: يقول يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل اهـ. "مراح". روي (¬1): أنه لما نزلت سورة الرحمن .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من يقرؤها على رؤساء قريش"، فتثاقلوا فقام ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: أنا. فأجلسه رسول الله، ثم قال ثانيًا: "من يقرؤها عليهم" فلم يقم إلا ابن مسعود - رضي الله عنه - ثم ثالثًا، إلى أن أذن له - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يُبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل، فلطمه، فشق أذنه وأدماها فانصرف وعينه تدمع، فلما رآه - صلى الله عليه وسلم - رق قلبه وأطرق رأسه مغمومًا، فإذا جبريل جاء ضاحكًا مستبشرًا، فقال: "يا جبريل تضحك، ويبكي ابن مسعود"، فقال: سيعلم، فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "خذ رمحك والتمس في الجرحى، ومن كان له رمق فاقتله، فإنك تنال ثواب المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى، فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون فيه قوة فيؤديه، فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}، ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه، فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبًا، فقال ابن مسعود: الإِسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلِّغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلى منه في حال مماتي، فروي أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى، فإنه قال: آمنت وهو قد زاد عتوًا، ثم قال: يابن مسعود اقطع بسيفي هذا؛ لأنه أحد وأَقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل الخيط فيها، وجعل يجره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل بين يديه يضحك ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس هاهنا مع الأذن مقطوع، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفًا حتى لم يقول على الرأس المقطوع لوجوه: أحدها: أن أبا جهل كلب، والكلب يُجَر ولا يحمل. والثاني: ليشق الأذن، فيقتص الأذن بالأذن. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[16]

والثالث: ليحقق الوعيد المذكور بقوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} فيجر تلك الرأس على مقدمها. قال ابن الشيخ: الناصية شعر الجبهة (¬1)، وقد يسمى مكان الشعر ناصية، ثم إنه تعالى كنى بها هاهنا عن الوجه والرأس، ولعل السبب في تخصيص السفع بها أن اللعين كان شديد الاهتمام بترجيل الناصية وتطييبها. 16 - وقوله: {نَاصِيَةٍ} بالجر بدل من {الناصية}، وإنما أبدل (¬2) النكرة من المعرفة؛ لوصفها بقوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} وهذا على مذهب الكوفيين، فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها، وأما على مذهب البصريين فيجوز إبدال النكرة من المعرفة كالعكس بلا شرط وأنشدوا: فَلاَ وَأَبِيْكَ خَيْرٍ مِنْكَ إِنِّي ... لَيُؤْذِيْنِي التَّحَمُّمُ وَالصَّهِيْلُ ووصف الناصية بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي، وهما لصاحبها حقيقة، وفيه من الجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطىء كأن الكافر بلغ في الكذب قولًا والخطأ فعلًا إلى حيث أن كلًا من الكذب والخطأ، ظهر من ناصيته، وكان أبو جهل كاذبًا على الله في أنه لم يرسل محمدًا، وكاذبًا في أنه ساحر ونحوه، وخاطئًا بما تعرض له - صلى الله عليه وسلم - بأنواع الأذية. وقرأ الجمهور (¬3): {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} بجر الثلاثة على أن {نَاصِيَةٍ} بدل من المعرفة، وأن {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} صفتان لـ {نَاصِيَةٍ}، قال الزمخشري: لأنها وُصفت فاستقلت بفائدة. انتهى. وليس شرطًا في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين، كما مر آنفًا، خلافًا لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضًا خلافًا لزاعمه، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي بنصبها على الذم، وقرأ الكسائي: في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ؛ أي: هي ناصية. ومعنى الآية (¬4): أي لا يستمرن بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه، أقسم بعزتي وجلالي لئن لم ينته وينزجر عن هذا الطغيان، ويكف عن نهي المصلي عن ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) البحر المحيط. (¬4) المراغي.

[17]

صلاته لنأخذن بناصيته، ولنذيقنه العذاب الأليم. أَلَا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها، مع أنها في قبضة خالقها فهي تزعم ما لا حقيقة له، وإنها لخاطئة؛ لأنها طغت وتجاوزت حدها وعتت عن أمر ربها، ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية، والكاذب والمخطىء صاحبها كما مر من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء، 17 - وقد أُمِر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوي النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به، فقال: {فَلْيَدْعُ} ذلك الكافر اللعين من الدعوة {نَادِيَهُ}؛ أي: أهل (¬1) ناديه ومجلسه ليعينوه، والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي: يجتمعون فيه، وقدر المضاف؛ لأن نفس المجلس والمكان يدعى ولا يسمى المكان ناديًا حتى يكون فيه أهله، ودار الندوة بمكة كانوا يجتمعون فيه للتشاور، والمعنى: فليدع عشيرته فليستنصر بهم، 18 - روي أن أبا جهل مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فقال: ألم ننهك؟ فأغلظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا" يريد كثرة من يعينه، فنزلت: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}؛ أي: الملائكة الغلاظ الشداد، كذا قال الزجاج، وهي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار، واحد منهم يغلب على ألف ألف من أمثال أهل ناديه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عِيانًا". وقال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر (¬2): {الزَّبَانِيَةَ} واحدهم زابن، وقال أبو عبيدة: زبينة، وقيل: واحدهم (¬3) زباني، وقيل: اسم جمع لا واحد له من لفظه كأبابيل وعباديد - اسم موضع -، وأصل الزبن الدفع، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه. وقرأ الجمهور (¬4): {سَنَدْعُ} بالنون مبنيًا للفاعل وكتبت بغير واو؛ لأنها تسقط عند الوصل لفظًا لالتقاء الساكنين، وسقطت في الكتابة تبعًا للفظ كما سيأتي، وقرأ ابن أبي عبلة: {سيدعى} بالياء مبنيًا للمفعول، ورفع {الزَّبَانِيَةَ} على النيابة عن الفاعل؛ أي: سيدعو الله سبحانه الزبانية ليجروه إلى جهنم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الشوكاني. (¬4) روح البيان.

[19]

وقال قتادة: {الزَّبَانِيَةَ} (¬1) في الأصل في كلام العرب: الشُرَط كصُرَد، وجمع شرطة بالضم، وهم طائفة من أعوان الولاة، سموا بذلك؛ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، كما في "القاموس"، والشَرَط بالتحريك العلامة، واحدهم زبنية كعفرية، وعفرية الديك شعرة القفا التي يردها إلى يافوخه عند الهراش من الزَّبْن بالفتح، كالضرب وهو الدفع؛ لأنهم يزبنون الكفار؛ أي: يدفعونهم في جهنم بشدة وبطش، يعني: أن ملائكة العذاب سموا بما سُمي به الشرط تشبيهًا لهم بهم في البطش والقهر والعنف والدفع، وقيل: الواحد زبني، وكأنه نُسب إلى الزبن، ثم غُيِّر إلى زبانية كإنسي بكسر الهمزة، وأصلها زباني، وقيل: زبانية بتعويض التاء عن الياء بعد حذفها للمبالغة في الدفع. فائدة: اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من {سَنَدْعُ} خطًا، ولا موجب للحذف لفظًا من القواعد العربية، ولعله للمشاكلة مع {فَلْيَدْعُ} أو للتشبيه بالأمر في أن الدعاء أمر لا بد منه. وقال ابن خالويه: في إعراب الثلاثين آية الأصل سندعو بالواو، غير أن الواو ساكنة فاستثقلتها اللام ساكنة، فسقطت الواو في المصحف من {سَنَدْعُ}، و {يدع الإنسان} و {يمح الله الباطل}، وكذلك الياء من {وَادِ النَّمْلِ}، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا}، والعلة ما أنباتك من بنائهم الخط على اللفظ. انتهى. والمعنى: أي فليجمع (¬2) أمثاله ممن ينتدي معهم؛ ليمنع المصلين المخلصين ويؤذي أهل الحق الصادقين، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط ربه عز وجل، واستحق التنكيل به، وسندعو له من جنودنا كل قوي متين لا قبل له بمغالبته في الدنيا أو يرديه في النار في الآخرة، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله تعالى على تعذيب العصاة من خلقه، وسُموا {زبانية}؛ لأنهم يزبنون الكفار في النار؛ أي: يدفعونهم إليها 19 - ثم بالغ في زجر الكافر عن صلفه وكبريائه، ونفي قدرته على ما تهدد به، فقال: {كَلَّا} ردع (¬3) بعد ردع للناهي المذكور، وزجر له إثر زجر، فهو متصل بما قبله، ولذا جعلوا الوقف عليه وقفًا مطلقًا. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

{لَا تُطِعْهُ} يا محمد؛ أي: لا تطع ذلك الكافر الناهي لك عن الصلاة؛ أي: دم على ما أنت عليه من معاصاة ذلك الناهي الكاذب الخاطىء، كقوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)} و {وَاسْجُدْ} لربك؛ أي: وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث به ولا مبال له. {وَاقْتَرِبْ}؛ أي: وتقرب بذلك السجود إلى ربك وابتغ المنزلة عنده. وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأول أولى. وفي الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد، فأكثروا من الدعاء في السجود" وكلمة ما مصدرية، وأقرب مبتدأ حذف خبره، ويكون تامة؛ أي: أقرب وجود العبد من ربه حاصل وقت سجوده، وهذا السجود الظاهر أن المراد به الصلاة، وقيل: سجود التلاوة، ويدل على هذا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من السجود عند تلاوة هذه الآية كما مر وسيأتي. وهذه الآية: محل السجود عند الأئمة الثلاثة خلافًا لمالك، فإنه كان يسجد فيها في خاصية نفسه، وهم على أصولهم في قولهم بالوجوب والسنية، وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعي، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} أخرجه مسلم. وللسجدة أقسام: سجدة الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو؛ وهذه مشهورة، وسجدة التعظيم لجلال الله وكبريائه، وسجدة التضرع إليه خوفًا وطمعًا، وسجدة الشكر له، وسجدة المناجاة، وهذه مستحبة في الأصح صادرة عن الملائكة، وعن رسول - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة واللام، وقال أبو حنيفة ومالك: سجود الشكر مكروه، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان، وقال الإمامان: هي قربة يثاب فاعلها. الإعراب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}.

{اقْرَأْ}: فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {بِاسْمِ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {اقْرَأْ}؛ أي: حالة كونك مفتتحًا أو متبركًا أو مبتدئًا، وقيل {الباء}: زائدة؛ أي: اقرأ اسم ربك واذكره. {الَّذِي}: صفة للرب، وجملة {خَلَقَ} صلته لا محل لها من الإعراب، والضمير المستتر فيه يعود على الموصول {خَلَقَ الْإِنْسَانَ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية بدل من الجملة التي قبلها، ويجوز أن تكون توكيدًا لفظيًا أكد الصلة وحدها. {مِنْ عَلَقٍ}: متعلق بـ {خَلَقَ}. {اقْرَأْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر مؤكد لـ {اقْرَأْ} الأول. {وَرَبُّكَ}: {الواو}: استئنافية أو حالية. {وَرَبُّكَ}: مبتدأ. {الْأَكْرَمُ}: خبره، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل {اقْرَأْ}، وقال ابن خالويه: {وَرَبُّكَ}: مبتدأ. {الْأَكْرَمُ}: صفة، وجملة {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ} خبره، والجملة مستأنفة، والأول أولى. {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}: خبر ثان لـ {ربك}، وأعربه ابن خالويه نعتًا ثانيًا لـ {ربك}، ولسنا نرى هذا الرأي، وجملة {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} صلة الموصول، وفاعل {عَلَّمَ} ضمير مستتر يعود على الله، ومفعولاه محذوفان؛ أي: علم الإنسان الخط بالقلم، و {بِالْقَلَمِ}: متعلق بـ {عَلَّمَ}، وفي الحقيقة أنه متعلق بالخط. {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}. {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به أول، والجملة تأكيد لجملة {عَلَّمَ} الأولى، من بدل، من خبر كما مر آنفًا. {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {عَلَّمَ}، وجملة {لَمْ يَعْلَمْ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما لم يعلمه. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر. {إِنَّ}: حرف نصب. {الْإِنْسَانَ}: اسمها. {لَيَطْغَى}: {اللام}: حرف ابتداء، و {يطغى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {أنْ}: حرف نصب ومصدر. {رَآهُ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ} تقديره: هو، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول لـ {رأى}. {اسْتَغْنَى}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ}، والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ {رأى}؛ لأنها

علمية نحو: ظننتني صديقك تقديره: أن رأى نفسه مستغنيًا، وجملة {رأى} صلة {أَن} المصدرية، و {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، أي: إن الإنسان ليطغى رؤية نفسه مستغنيًا؛ أي: لأجل رؤيتها غنية بالمال من الجاه من الخدم. {إنَّ}: حرف نصب وتوكيد {إِلَى رَبِّكَ}: خبر مقدم لها. {الرُّجْعَى}: اسمها مؤخر، وجملة {أَنْ}: مستأنفة مسوقة لمخاطبة الإنسان الطاغي بطريق الالتفات. {أَرَأَيْتَ}: فعل وفاعل بمعنى: أخبرني يتعدى إلى مفعولين، والهمزة فيه للاستفهام التعجبي. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ {رأيت}. {يَنْهَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصوف. {عَبْدًا}: مفعول به لـ {يَنْهَى}، والجملة صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية متعلق بـ {يَنْهَى}، وجملة {صَلَّى} في محل الخفض بإضافة إذا إليها، ومفعول {أَرَأَيْتَ} محذوف، لدلالة مفعول {أَرَأَيْتَ} الثالثة عليه تقديره: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى ألم يعلم بأن الله يراه فيجازيه، وجملة {أَرَأَيْتَ} مستأنفة مسوقة لتعجيب المخاطَب عن حال هذا الناهي وحمقه وجهله. {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)}. {أَرَأَيْتَ}: {الهمزة}: للاستفهام، {رأيت}: فعل وفاعل، ومعناه: أخبرني، ومفعولاها محذوفان تقديرهما: أرأيت هذا الناهي ألم يعلم بأن الله يراه ويجازيه، حذف الأول منهما لدلالة المفعول الأول لـ {رأيت} الأولى عليه، وحذف الثاني، لدلالة مفعول {أَرَأَيْتَ} الثالثة عليه، وجملة {أَرَأَيْتَ} مؤكدة لـ {أرأيت} الأولى. {إن}: حرف شرط. {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر يعود على العبد المنهي. {عَلَى الْهُدَى}: خبرها. {أَوْ}: حرف عطف بمعنى الواو. {أَمَرَ}: فعل ماض معطوف على {كَانَ}، وفاعله ضمير يعود على العبد المنهي. {بِالتَّقْوَى}: متعلق بـ {أَمَرَ}، وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة الاستفهامية الآتية في {أَرَأَيْتَ} الثالثة تقديره: إن كان على الهدى، من أمر بالتقوى أفلم يعلم ذلك الناهي بأن الله يراه ويجازيه، والجملة الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. {أَرَأَيْتَ}: فعل

وفاعل بمعنى: أخبرني، و {الهمزة}: للاستفهام التعجبي، وجملة {أَرَأَيْتَ} جملة استفهامية مؤكِّدة للأولى أيضًا، والمفعول الأول لـ {رأيت} محذوف دل عليه المفعول الأول لـ {رأيت} الأولى، والثاني الجملة الاستفهامية المذكورة بعدها، والتقدير: أرأيت هذا الناهي ألم يعلم بأن الله يرى. {إن}: حرف شرط. {كَذَّبَ}: فعل ماض في محل الجزم بـ {إِن} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الناهي؛ {وَتَوَلَّى}: معطوف على {كَذَّبَ}، وجواب الشرط محذوف دلت عليه الجملة الاستفهامية بعده، تقديره: إن كذب ذلك الناهي وتولى أفلم يعلم بأن الله يراه ويجازيه، وجملة الشرط جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون {أَلَمْ يَعْلَمْ} جواب الشرط؛ قلت: صح كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني، وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه، {أَلَمْ يَعْلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {يَعْلَمْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير مستتر يعود على الناهي. {يَرَى} {الباء}: زائدة، {أن}: حرف نصب ومصدر وتوكيد. {اللَّهَ}: اسمها. {يَرَى}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {اللَّهَ}، ومفعوله محذوف تقديره: بأن الله يراه، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة {يَرَى} في محل الرفع خبر {إن}، وجملة {أَنَّ} مع معموليها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي {يَعْلَمْ} تقديره: ألم يعلم ذلك الناهي رؤية الله إياه، وجملة {يَعْلَمْ} في محل النصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتَ}. وقد ذكرت {أَرَأَيْتَ} هنا ثلاث مرات، وقد صرح بعد الثالثة، منها بجملة الاستفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على {الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا} الواقع مفعولًا أول لـ {أَرَأَيْتَ} الأولى، وأما {أَرَأَيْتَ} الأولى فمفعولها الأول {الَّذِي}، ومفعولها الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية نظير الجملة الواقعة بعد {أَرَأَيْتَ} الثانية، فلم يذكر لها مفعول لا أول، ولا ثان، فحذف الأول لدلالة المفعول الأول لـ {رأيت} الأولى عليه، وحذف الثاني لدلالة مفعول {أَرَأَيْتَ} الثالثة عليه، فقد حذف الثاني من {أَرَأَيْتَ} الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس ذلك من باب التنازع؛ لأن التنازع يستدعي إضمارًا، والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة. {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ

الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر لأبي جهل، {لَئِنْ} {اللام} موطئة للقسم؛ لأنها دخلت على أداة الشرط؛ للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على القسم قبلها لا على الشرط، ومن ثم سمى اللام المؤذنة الموطئة؛ لأنها وطئت الجواب للقسم؛ أي: مهدته له، {إن}: حرف شرط جازم {لَمْ}: حرف جزم ونفي وقلب. {يَنْتَهِ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ}، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الكافر الناهي، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها. {لَنَسْفَعًا}: اللام رابطة لجواب القسم مؤكِّدة للأولى، {نسفعن}: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، ونون التوكيد - المكتوبة ألفًا نظرًا إلى حالة الوقف عليها؛ لأن الوقف عليها هكذا - حرف لا محل لها مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على الله تقديره: نحن {بِالنَّاصِيَةِ}: متعلق بـ {نسفعا}، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب جريًا على القاعدة المقررة عندهم من أنه إذا اجتمع شرط وقسم يكون الجواب للمقدم منهما، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم تقديره: إن لم ينته نسفعن بالناصية، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. {نَاصِيَةٍ}: بدل من {الناصية}، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة؛ لأنها وصفت. {كَاذِبَةٍ}: صفة أولى لـ {نَاصِيَةٍ}. {خَاطِئَةٍ} صفة ثانية لها. {فَلْيَدْعُ}: {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا استمر هذا الملعون الأحمق على مكابرته وعناده، وأردت بيان ما نقول له .. فأقول لك: {ليدع ناديه}، و {اللام}: لام أمر وجزم، {يدع}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الواو، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: هو. {نَادِيَهُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {سَنَدْعُ}: {السين}: حرف استقبال، {ندع}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو المحذوفة لفظًا؛ لالتقاء الساكنين المحذوفة خطًا تبعًا لخط المصحف العثماني، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالواو، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على الله،

تقديره: نحن. {الزَّبَانِيَةَ}: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر مؤكد للأول. {لَا}: ناهية جازمة. {تُطِعْهُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومفعول به مجزوم بـ {لَا} الناهية، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. {وَاسْجُدْ}: {الواو}: عاطفة. {اسجد}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة النهي. {وَاقْتَرِبْ}: {الواو}: عاطفة. {اقترب}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة معطوفة على جملة {وَاسْجُدْ}. التصريف ومفردات اللغة {مِنْ عَلَقٍ} العلق: الدم، وهو اسم جنس جمعي وقيل: جمع علقة كثمر وثمرة، وهي: الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح؛ أي: دم جامد رطب يعلق بما مر عليه، أصله: مبني، وفي "الشهاب": هو اسم جنس جمعي، وقول المفسرين: إنه جمع علقة؛ إما على وجه التسمح، أو جمع لغوي، وفي "المصباح": العلق: المني فينتقل طورًا بعد طور، فيصير دمًا غليظًا متجمدًا، ثم ينتقل طورًا آخر فيصير لحمًا، وهو المضغة، وعبارة "القاموس": العلق محركة، الدم عامة، أو الشديد العمرة، أو الغليظ أو الجامد، والقطعة منه بهاء، وكل ما علق بالشيء، والطين الذي يعلق باليد، والخصومة والمحبة اللازمتان، وذو علق جبل لبني أسد لهم فيه يوم على ربيعة بن مالك، ودويبة في الماء تمتص الدم إلى آخر ما جاء في هذه المادة المطولة. فائدة: اعلم أن اسم الجنس مطلقًا موضوع للماهية من حيث هي، ثم إن صدق على القليل والكثير كماء وضرب، سمي إفراديًا، وإن دل على أكثر من اثنين، وفرق بينه وبين واحده بالتاء بأن يتفقا في الهيئة والحروف ما عداها كتمر وتمرة، أو بالياء كروم ورومي، سمي جمعيًا والفرق بينه وبين مشابهه من الجمع كتخم وتخمة بأن الغالب في ضميره التذكير مراعاة للفظه، وفي الجمع التأنيث، وكونه جمعيًا إنما هو بحسب الاستعمال، فلا ينافي في وضعه للماهية من حيث هي، فالحاصل: أن اسم الجنس الجمعي ما دل على أكثر من اثنين، وفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة، أو بالياء كروم ورومي، واسم الجنس الإفرادي ما دل على القليل والكثير، كماء وضرب، واسم الجمع ما دل على أكثر من اثنين، ولا واحد له من لفظه كقوم

ورهط وإبل ونساء وطائفة وجماعة، أوله واحد من لفظه مع كونه ليس من أوزان المجموع، كركب وصحب اهـ، من "الخضري على ابن عقيل" مع التصرف. {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وهو الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض ولا يطلب مدحًا. {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} والقلم ما تكتب به، سمي بالقلم؛ لأنه يقلم ويقص أولًا، ثم يقطع رأسه ثانيًا، ويكون من القصب الفارسي بنوعيه ومن شجرة مريم وغيرهما، وهذا بالنظر إلى ما في العصر الأول، ومنه تقليم الأظافر، قال بعض الشعراء المُحْدَثين يصف القلم: فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْرُ يَخْضُبُ رَأسَهُ ... شَيْخٌ لِوَصْلِ خَرِيْدَةٍ يَتَصَنَّعُ أَلَّا أُلاحِظَهُ بِعَيْنِ جَلاَلَةٍ ... وَبِهِ إِلَى اللهِ الصَّحَائِفُ تُرْفَعُ {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)} الرجعى: مصدر لرجع الثلاثي، كالرجوع والمرجع، والألف فيه للتأنيث، نظير ذكرى ورقبى. {لَيَطْغَى} فيه إعلال بالقلب، أصله: يَطْغَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} رآه أصله: رَأَيَهُ قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل استغنى استَغْنَيَ بوزن استفعل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)} أصله: يَنْهَيُ بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. {إِذَا صَلَّى} أصله: صَلَّيَ بوزن فَعَّل، أُعل بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أصله: ينتهي، حذفت منه الياء للجازم، فوزنه: يفتع. {لَا تُطِعْهُ} أصله: تُطْوِعْه، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت فدخل الجازم عليه، فسُكن آخر الفعل، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه: تفله. {لَنَسْفَعًا} السفع: الأخذ والقبض على الشيء وجذبه بشدة، وفي "المختار": سفع بناصيته؛ أي: أخذ، ومنه قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}، وسفعته النار والسموم إذا لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون البشرة، وبابهما: قطع، والناصية شعر مقدم

الرأس اهـ. "خازن"، وتطلق على مقدم الرأس، وإن لم يكن فيه شعر. {خَاطِئَةٍ} في فعلها، وفي "المصباح": والخطأ مهموز بفتحتين ضد الصواب، وهو اسم من أخطأ فهو مخطىء قال أبو عبيدة: خَطِىءَ خطأ من باب علم، وأخطأ بمعنى واحد لمن يذنب على غير عمد، وقال غيره: خطىء في الدين وأخطأ في كل شيء عامدًا كان من غير عامد، وقيل: خطىء إذا تعمد ما نهي عنه فهو خاطئ، وأخطأ، إذا أراد الصواب فصار إلى غيره، فإن أراد إلى غير الصواب وفعله .. قيل: قصده أو تعمده، والخطأ الذنب تسمية بالمصدر اهـ. {نَادِيَهُ} وفي "المصباح": ندا القوم ندوًا - من باب غزا - اجتمعوا، ومنه اشتُق النادي وهو مجلس القوم للتحدث، وفي "المختار": ناداه جالسه في النادي، وتنادَوا تجالسوا في النادي، والنَّدِي على وزن فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى، فإن تفرق القوم عنه فليس بندي، ومنه سميت دار الندوة التي بناها قصي بمكة؛ لأنهم كانوا ينتدون فيها؛ أي: يجتمعون للمشاورة اهـ. {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} واحدها: زِبْنِية - بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه -، وتخفيف الياء من الزَّبْن وهو: الدفع، من زبني على النسب، وأصله زبَّاني بتشديد الياء، فالتاء عوض عن الياء اهـ. "بيضاوي"، وفي "المختار": واحد الزبانية، زبان من زابان اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإطناب بتكرير الفعل في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم. ومنها: الجناس الناقص بين {خَلَقَ} و {عَلَقٍ}. ومنها: إيراده بلفظ الجمع، حيث لم يقل علقة بناء على أن الإنسان في معنى الجمع؛ لأن الألف فيه للاستغراق، أو لمراعاة الفواصل، ولعله هو السر في تخصيصه بالذكر من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والتراب أدل منه على كمال القدرة؛ لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية.

ومنها: طباق السلب في قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. ومنها: تعليل طغيان الإنسان برؤيته لنفسه الاستغناء؛ للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد. ومنها: الكناية في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا} كنى بالعبد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: تنكير عبد لتفخيمه - صلى الله عليه وسلم -، كأنه قيل: ينهى أكمل الخلق في العبودية عن عبادة ربه. ومنها: العدول عن ينهاك إلى {يَنْهَى عَبْدًا}؛ للدلالة على أن النهي للعبد كان عن إقامة خدمة مولاه، ولا أقبح منه. ومنها: الاستفهام للتعجيب من شأن الناهي في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)} وقوله: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)} فإن الناصية عبارة عن الشخص نفسه، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}، فقد أسند الكذب والخطأ إلى الناصية، وفي الحقيقة أنهما وصف لصاحبها، وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء، كان الكافر بلغ في الكذب قولًا والخطأ فعلًا إلى حيث أن كلًّا من الكذب والخطأ ظهر من ناصيته، وكان أبو جهل كاذبًا على الله في أنه لم يرسل محمدًا، وكاذبًا في أنه شاعر كاهن ساحر مثلًا، وخاطئًا بما تعرض له - صلى الله عليه وسلم - بأنواع الأذية. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)} والمراد أهل النادي، فالنادي لا يدعى، وإنما يدعى أهله، فأطلق المحل وأريد الحال، فالمجاز مرسل علاقته المحلية، والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي: يجتمعون فيه كما مر. ومنها: الزيادة والحذف على عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما في هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على ثلاثة مقاصد: 1 - حكمة الله تعالى في خلق الإنسان، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية. 2 - إنه لكرمه وعظيم إحسانه عَلَّمه من البيان ما لم يعلم، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما في الأرض. 3 - بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان، فإذا رأى نفسه غنيًا صلف وتجبر واستكبر (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمَّ تفسير هذه السورة في عصر يوم الجمعة اليوم الثاني من شهر ذي الحجة من شهور سنة: 1416: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

سورة القدر

سورة القدر سورة القدر مكية عند أكثر المفسرين (¬1)، نزلت بعد سورة عبس، كذا قال الماوردي، وقال الثعلبي: هي مدنية في قول أكثر المفسرين، وذكر الواقدي: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة، قال الخازن: والقول بأنها مدنية أصح، وهي خمس آيات وثلاثون كلمة، ومئة واثنا عشر حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬2): أن في تلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وفي هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله، وأنه من عند ربه ذي العظمة والسلطان العلم بمصالح الناس، وبما يسعدهم في دينهم ودنياهم، وأنه أنزله في ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة، قال أبو حيان: فكأنه تعالى قال: اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} انتهى. فضلها: وروي في فضلها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر" ذكره البيضاوي، وهو موضوع لا أصل له. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة القدر كلها محكمة، لا ناسخ فيها ولا منسوخ، وسميت سورة القدر؛ لذكر لفظ القدر فيها. تسميتها: وسميت ليلة القدر؛ إما لتقدير الأمور وقضائها فيها؛ أي: إظهار تقديرها للملائكة بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إياه، وليس المراد منه: أنه يحدثه في تلك الليلة؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل، فالقدر بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة البالغة، قيل: للحسين بن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؛ قال: نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر؛ قال: سَوْق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدر. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الله سبحانه يقدر في ليلة القدر، ويكتب كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة وغيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة، فيسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، فيدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل، ونسخة الحروب والرياح والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. فَكَمْ مِنْ فَتَى يُمْسِيْ وُيُصْبِحُ آمِنًا ... وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لَا يَدْرِيْ وَكَمْ مِنْ شيُوْخٍ تَرَتَجِي طُوْلَ عُمْرِهِمْ ... وَقَدْ رَهَقَتْ أَجْسَادَهُمْ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ وَكَمْ مِنْ عَرُوْسِ زيَّنُوْهَا لِزَوْجِهَا ... وَقَدْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وإما لخطرها وشرفها على سائر الليالي، فالقدر بمعنى المنزلة والشرف إما باعتبار العامل على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف، وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الطاعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد. وعن أبي بكر الوراق - رحمه الله تعالى - سميت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على رسول ذي قدر، لأمة لها قدر، ولعله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب، وقال الخليل - رحمه الله تعالى - سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة الضيق؛ لأن الأرض تضيَّق فيها بالملائكة، فالقدر بمعنى الضيق، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}. أسباب النزول سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزله الله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو في النهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر فأنزل الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} عملها ذلك الرجل. وفي الحديث (¬2): "أن أربعة من الأنبياء عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع، فعجب الصحابة من ذلك، فقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ...} السورة، فسروا بذلك. تقدمة: تبين ميقات هذه الليلة المباركة (¬3): أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعة مواضع من كتابه الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضًا: 1 - قوله في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}. 2 - قوله في سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ ¬

_ (¬1) لباب النقول. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[1]

مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}. 3 - قوله في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. 4 - قوله في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}. فآية القدر صريحة في أن إنزال القرآن كان في ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان في ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان في شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان في ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين في غزوة بدر التي فرق الله سبحانه فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هذه الليلة هي ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِنَّا} نحن {أَنْزَلْنَاهُ}؛ أي: أنزلنا هذا القرآن الكريم جملة واحدة. {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ في مكان يقال له: بيت العنة، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجومًا متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحَسَب الوقائع والحاجة إليه. وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} النون (¬1) فيه للعظمة، من للدلالة على الذات مع الصفات والأسماء، والضمير للقرآن؛ لأن شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه، وإرجاع الضمير إليه، فكأنه حاضر في جميع الأذهان، وعظمه بأن أسند إنزاله إلى جنابه مع أن نزوله إنما يكون بواسطة الملك، وهو جبريل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنوي، إلا أنه اكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع، قال في بعض التفاسير: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}: مبتدأ وخبر في الأصل بمعنى: نحن أنزلناه، فأدخل {إنَّ} للتحقيق، فاختير ¬

_ (¬1) روح البيان.

اتصال الضمير للتخفيف، ومعنى صيغة الماضي أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدرناه في الأزل. ثم إن الإنزال (¬1) يُستعمل في الدفعي، والقرآن لم ينزل جملة واحدة، بل أُنزل منجمًا مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة، وهذه السورة من جملة ما أنزل، وجوابه أن المراد أن جبريل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة في السماء الدنيا، وأملاه على السفرة؛ أي: الملائكة الكاتبين في تلك السماء، ثم كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - منجمًا على حَسَب المصالح، وكان ابتداء تنزيله أيضًا في مثل تلك الليلة. وفيه إشارة (¬2) إلى أن بيت العزة أشرف المقامات السماوية بعد اللوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه، ولذلك قيل بفضل السماء الأولى على أخواتها؛ لأنها مقر الوحي الرباني، وقيل: لشرف المكان بالمكين، وكل منهما وجه، فإن السلطان إنما ينزل على أنزه مكان، ولو فرضنا نزوله على مسبخة .. لكفى نزوله هناك شرفًا لها، فالمكان الشريف يزداد شرفًا بالمكين الشريف، كما سبق في سورة البلد. ففي نزول القرآن بالتدريج إشارة إلى تعظيم الجانب المحمدي، كما تدخل الهدايا شيئًا بعد شيء على أيدي الخدام تعظيمًا للمُهدى إليه بعد التسوية بينه وبين موسى عليهما السلام بإنزاله جملة إلى بيت العزة، وفي التدريج أيضًا تسهيل للحفظ وتثبيت لفؤاده، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، وكلام الله المنزل قسمان: القرآن، والخبر القدسي؛ لأن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها باللفظ. والسر في ذلك التعبد بلفظه، والإعجاز به فإنه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظًا، ومن الأسرار معنى، فكيف يقوم لفظ الغير ومعناه مقام حرف القرآن. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

ومعناه: ثم إن اللوح المحفوظ قلب هذا التعين، ولكن قلب الإنسان ألطف منه؛ لأنه زبدته وأشرفه؛ لأن القرآن نزل به الروح الأمين على قلب النبي المختار. وهنا سؤال: وهو أن الملائكة بأَسْرِهِم صعقوا ليلة نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة، كما ورد فيما وجهه. والجواب: أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عندهم من أشراط القيامة، والقرآن كتابه، فنزوله دل على قيام الساعة، فصعقوا هيبة منه، وإجلالًا لكلامه ووعده ووعيده، ثم إن القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وهذا هو البيان الأول، ولم ندر نهارًا أنزل فيه أم ليلًا، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهذا هو البيان الثاني، ولم ندر أي ليلة هي، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}، فهذا هو البيان الثالث الذي هو غاية البيان. فالصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر، ولتقدير الأمور فيها، سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة تقدير الأحكام، والأمور السفلية، ويشهد التنزيل لما ذكرنا؛ إذ في أول الآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، ثم وصفها فقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}، والقرآن إنما نزل في ليلة القدر، فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}، كذا في "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي رحمه الله تعالى. فإن قلت (¬1): ما الحكمة في إنزال القرآن ليلًا؟ قلت: لأن أكثر الكرامات ونزول النفحات والأسرار في السموات يكون بالليل، والليل من الجنة؛ لأنها محل الاستراحة، والنهار من النار؛ لأن فيه المعاش والتعب، والنهار حظ اللباس والفراق، والليل حظ الفراش والوصال، وعبادة الليل أفضل من عبادة النهار؛ لأن قلب الإنسان فيه أجمع، والمقصود من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[2]

العبادة هو حضور القلب. 2 - {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)}؛ أي: ما مقدار شرفها, وليس المراد: ما حقيقتها؟ فإنها مدة مخصوصة من الزمان، أي: وأي شيء أعلمك يا محمد ما هي؛ أي: إنك لا تعلم كنهها؛ لأن علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها أحد منهم، ولا يدريها إلا علام الغيوب، وهو تعظيم للوقت الذي أنزل فيه، ومن بعض فضائل ذلك الوقت أنه يرتفع سؤال القبر عمن مات فيه، وكذا في سائر الأوقات الفاضلة، ومن ذلك العيد، ثم مقتضى الكرم أن لا يسأل بعده أيضًا. فصل في فضل ليلة القدر وما وقع فيها من الاختلاف عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا .. غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. واختلف العلماء في وقتها (¬1)، فقال بعضهم: إنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رُفعت لقوله - صلى الله عليه وسلم - حين تلاحى الرجلان: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، فعسى أن يكون خيرًا لكم" وهذه غلط ممن قال بهذا القول؛ لأن آخر الحديث يرد عليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال في آخره: "فالتمسوها في العشر الأواخر": في التاسعة والسابعة والخامسة، فلو كان المراد: رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، وعامة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة. روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر رُفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم. ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها، فقيل: هي متنقلة تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى هكذا أبدًا، قالوا: وبهذا يُجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة، وقال مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ¬

_ (¬1) الخازن.

ثور: إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل تنتقل في رمضان كله، وقيل: إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبدًا في جميع السنين ولا تفارقها، فعلى هذا هي في ليلة من السنة كلها، وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وصاحبيه. وروي عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه علم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد أن لا يتكل الناس، وقال جمهور العلماء: إنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة، فقال أبو رزين العقيلي: في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل: هي ليلة سبعة عشر، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر، ويحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضًا والحسن، والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها في العشر الأواخر من رمضان. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر الأحاديث الواردة في ذلك عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان" رواه مسلم. وذهب الشافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين. وعن أبي هريرة أن أبا سعيد قال: اعتكفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأواسط، فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه وأنا أريت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمُطِرنا، فوالذي بعثه بالحق، لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم وكان المسجد على عريش، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين" متفق عليه. وفي رواية نحوه إلا أنه قال: حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة

التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال: "من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر". وورد في فضل ليلة القدر: اثنان وعشرون حديثًا، عن عبد الله بن أنيس قال: كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر؛ وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت، فوافيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال: كم الليلة؟ فقلت: اثنتان وعشرون، فقال: هي الليلة، ثم رجع، فقال: من القابلة يريد ثلاثًا وعشرين. أخرجه أبو داود. وذهب جماعة من الصحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، ومال إليه الشافعي أيضًا، وعن الصنابحي: أنه سأل رجلًا هل سمعت في ليلة القدر شيئًا؟ قال: أخبرني بلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها في أول السبع من العشر الأواخر، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال: قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: "أنزل ليلة ثلاث وعشرين"، قيل لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى تصلى الصبح فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها, ولحق بباديته أخرجه أبو داود، ولمسلم عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين" قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين. وعن ابن عباس قال: التمسوها في أربع وعشرين. أخرجه البخاري. وقيل: هي في ليلة خمس وعشرين، دليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وقيل: هي ليلة سبع وعشرين، ويحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: أبي بن كعب، وابن عباس وإليه ذهب أحمد. وعن زر بن حبيش قال: سمعت أبي بن كعب يقول: وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، قال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو

إنها لفي رمضان يحلف ولا يستثني، فوالله إني لأعلم أي ليلة هي: هي الليلة التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. وعن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر قال: "ليلة سبع وعشرين". أخرجه أبو داود، وقيل: هي ليلة تسع وعشرين، دليله قوله: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" وقيل: هي ليلة آخر الشهر، وعن ابن عمر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر وأنا أسمع، فقال: "هي في كل رمضان" وأخرجه أبو داود قال: ويروى موقوفًا عليه. ذكر ليال مشتركة وعن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر: "اطلبوها ليلة سبع وعشرين من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، ثم سكت" أخرجه أبو داود. وعن عتبة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة، فقال: ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: "التمسوها في تسع يبقين"، من في سبع يبقين، من في خمس يبقين، من في ثلاث يبقين، من آخر الشهر قال: وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد. أخرجه الترمذي. وعن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" أخرجه البخاري. قوله: "فتلاحى رجلان"؛ أي: تخاصم رجلان، قوله: "فرفعت" لم يرد رفع عينها، وإنما أراد رفع بيان وقتها, ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "هي في العشر

في سبع مضين، من سبع يبقين" يعني: ليلة القدر أخرجه البخاري، وفي رواية: "في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى" قال أبو عيسى: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان. قال الشافعي: كان هذا عندي والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب على نحو ما يُسئل عنه يقال له: ألتمسها في كذا؟ فقال: التمسوها في ليلة كذا، قال الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين، قال البغوي: وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة المحمدية ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه ورضاه في الطاعات؛ ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي، لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها. ومن علاماتها ما روي عن الحسن رفعه "أنها ليلة بلجة؛ أي: مضيئة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها"، وعن عائشة قالت: (كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر)، متفق عليه. ولمسلم عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره)، وعنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) متفق عليه. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان) متفق عليه. وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله: إن علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" أخرجه الترمذي، وقال الحديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي وابن ماجه. ومعنى قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}؛ أي: إنا بدأنا تنزيل الكتاب

[3]

الكريم في ليلة الشرف، ثم أنزلناه بعد ذلك منجمًا في ثلاث وعشرين سنة بحسَب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شيء منه تبيانًا لما أشكل من الفتوى فيها، من عبرة بما يقتص فيه من قصص وزواجر، ولا شك أن البشر كانوا في حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى، وأمر النشأة الآخرة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يستنوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين وحوادث الكون التي نراها رأي العين كفيلة بأن تبين وجه الحق في ذلك، فإن من بدء الخليقة يُبدِئون ويعيدون ويصححون ويراجعون في قوانينهم الوضعية، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمان أنها لا تكفي لهدي المجتمع، والأخذ بيده إلى موضح الرشاد، ومنعه من الوقوع في مهاوي الزلل، ومن ثم قيل: لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحي يضع لهم مقاييس الأشياء، وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها، كما لا غنى له عن الاعتقاد في قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها. ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط بها إلا هو، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)}؛ أي: ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، وفي هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم، وأنشأها من العدم. 3 - ثم أوضح مقدار فضلها من ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ}؛ أي: قيامها والعبادة فيها. {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}؛ أي: من صيام ألف شهر وقيامها ليس فيها ليلة القدر حتى لا يلزم تفضيل الشيء على نفسه، فـ {خَيْرٌ} هنا للتفضيل، أي: أفضل وأعظم قدرًا، وأكثر أجرًا من تلك المدة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، وتخصيص الألف بالذكر: إما للتكثير؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها, ولا تريد حقيقتها، كما في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}، أو لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلًا من بني إسرائيل اسمه: شمسون لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجب المؤمنون منه، وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك المغازي، رواه ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: إن الرجل فيما مضى

كان لا يقال له: عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أَحْيَوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وقيل: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجُعلت لنا خيرًا من ألف شهر لسائر الأمم. أخرجه مالك في "الموطأ" ممن يشق به من أهل العلم، وقيل غير ذلك. والمعنى (¬1): أي هذه الليلة أعظم قدرًا وأكثر أجرًا من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر؛ لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى، وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسي لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم في كل زمان ومكان هي خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها في ظلام الشرك وضلال الوثنية حيارى، لا يهتدون إلى غاية، ولا يقفون عند حد. والله تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل، وله الحكمة البالغة، وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدىء فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه - صلى الله عليه وسلم - حقب متتابعة، وهم في ضلال الوثنية؟ وأي شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعباده يبشرهم وينذرهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة، وجبروت الأكاسرة، ويجمعهم بعد الفرقة، ويلم شعثهم بعد الشتات؟. فحق على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدًا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي الذي وجّه المسلمين تلك الجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم شكرًا له على نعمه ورجاء مثوبته. قال المفسرون: معنى هذه الآية (¬2): العمل الصالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى في تلك الليلة من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة. ومن المعلوم (¬3): أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن. (¬3) المراح.

[4]

لكن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه، ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، مع أن صلاة الجماعة قد تنقص صورة، فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة، وأيضًا فأنت إذا قلت لمن يُرجَم بالزنا هذا زان فلا بأس، ولو قلته للنصراني فهو قذف يوجب التعزير، ولو قلته للمحصَن فهو قذف يوجب الحد، ولو قلته في حق عائشة كان ذلك القول كفرًا، ثم القائل بقوله: هذا زان قد ظن أن هذه اللفظة سهلة، مع أنها أثقل من الجبال، فثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب؛ لاختلاف وجوهها، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعة الكثيرة. قال في "الكواشي": ثم إن (¬1) نهار ليلة القدر مثل ليلة القدر في الخير، واختلفوا في وقتها كما مر، فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها، وإنما جُعلت في العشر الأخير الذي هو مظنة ضعف الصائم وفتوره في العبادة؛ ليتجدد جِده في العبادة رجاء إدراكها وجُعلت في الوتر؛ لأن الله سبحانه وتر يحب الوتر. 4 - والوجه الثاني من فضلها: قوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}؛ أي: في تلك الليلة تهبط الملائكة كلهم من كل سماء إلى الأرض، وهو الأظهر؛ لأن الملائكة إذا نزلت في سائر الأيام إلى مجلس الذكر، فلأن ينزلوا في تلك الليلة مع علو شأنها أولى، أو إلى السماء الدنيا قالوا: ينزلون فوجًا فوجًا فمن نازل ومن صاعد كأهل الحج، فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة، ومواضع النسك بأسرهم، لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر، وذكر لفظ {تَنَزَّلُ} هو المفيد للتدريج، وبه يندفع ما يرد أن الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتملها الأرض، وكذا السماء الدنيا على أن شأن الأرواح غير شأن الأجسام، والملائكة وإن كان لهم أجسام لطيفة يقال لهم: الأرواح. وهذه الجملة مستأنفة مبينة لما له فضلت على ألف شهر، والحكمة (¬2) في نزولهم في تلك الليلة أنهم لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} وظهر أن الأمر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن.

بخلاف ما قالوه. وتبين حال المؤمنين، وما هم عليه من الطاعة والعبادة والجد والاجتهاد .. نزلوا إليهم ليسلموا عليهم ويعتذروا مما قالوه، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم، وقوله: {وَالرُّوحُ} هو: جبريل عليه السلام، قاله أكثر المفسرين، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عَزَّ وَجَلَّ" ذكره ابن الجوزي. ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه، وقيل: إن الروح صنف من الملائكة هم أشرافهم لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقيل: إن الروح ملك عظيم ينزل مع الملائكة تلك الليلة، ومن عظمه أنه لو التقم السموات والأرضين كانت له لقمة واحدة، وقيل غير ذلك، والله أعلم. وقرأ الجمهور (¬1): {تَنَزَّلُ} أصله: تتنزل بتاءين، وقرأ طلحة بن مصرف وابن سميفع بضمها على البناء للمفعول، وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ {تَنَزَّلُ}، من بمحذوف هو حال من {الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: تنزل الملائكة وتهبط في تلك الليلة كلهم، والروح، بإذن ربهم؛ أي: بأمره وإرادته، أو حال كونهم متلبسين بإذن ربهم وإرادته. وهذا يدل (¬2) على أنهم كانوا يرغبون إلينا ويشتاقون، فيستأذنون فيؤذن لهم في النزول إلينا، فإن قيل: كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة ذنوبنا؟ .. قلنا: لا يقفون على تفصيل المعاصي. روي أنهم يطالعون اللوح المحفوظ، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أُرخي الستر، فلا يرونه فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح، من لأنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات كإطعام الطعام وأنين العصاة، وفي الحديث القدسي: "لأنين المذنبين أحب إلى من زجل المسبحين" فيقولون: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتًا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا، وكيف لا يكون أحب، وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين، وأنين المذنبين إظهار ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

لغفارية رب العالمين. وقوله: {مِنْ كُلِّ أَمْر} متعلق بـ {تَنَزَّلُ} أيضًا؛ أي: تنزل من أجل كل أمر من الأمور قد قدر وقضي في تلك السنة من خير من شر؛ أي: لأجل إنفاذ كل أمر قد قدر في تلك السنة، فـ {مِنْ} للتعليل، فإن قيل (¬1): المقدرات لا تُفعل في تلك الليلة، بل في تمام السنة، فلماذا تنزيل الملائكة فيها لأجل تلك الأمور؟ .. قيل: لعل تنزلهم؛ لتعين إنفاذ تلك الأمور، وتنزلهم لأجل كل أمر ليس تنزل كل واحد لأجل كل أمر، بل ينزل الجمع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، وقيل: إن {مِنْ} بمعنى الباء؛ أي: بكل أمر من الخير والبركة كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: بأمر الله، قيل: يقسم جبريل عليه السلام تلك الليلة بقية الرحمة في دار الحرب على من علم الله أنه يموت مسلمًا، فبتلك الرحمة التي قسمت عليهم ليلة القدر يُسلِمون ويموتون مسلمين. وقرأ الجمهور (¬2): {أَمْرٍ} وهو واحد الأمور، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي: {من كل امرىء} مذكر امرأة؛ أي: من أجل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة، فيسلمون على كل إنسان، فـ {مِنْ} على هذا بمعنى: على، والأول أولى، وقد تم الكلام عند قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، وما بعده مستأنفة، والمعنى؛ أي (¬3): تنزلت الملائكة من عالمها حتى تمثلت لبصره - صلى الله عليه وسلم -، وتمثل له الروح جبريل مبلغًا للوحي، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ لعباده ما فيه الخير والبركة لهم، ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شؤونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه المادي بشتى وسائله إلا النزر اليسير من الأكوان، كما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. والخلاصة: أن هذه الليلة عيد المسلمين لنزول القرآن فيها, وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك تشاركهم الملائكة فيها بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان، وقد استخلفه في الأرض. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

[5]

5 - والوجه الثالث قوله: {سَلَامٌ هِيَ}؛ أي: ما هي إلا سلامة وخير كلها, لا شر فيها، وتقديم (¬1) الخبر فيه؛ لإفادة الحصر مثل: تميمي أنا؛ أي: ما تلك الليلة إلا ذات سلامة؛ أي: لا يحدث فيها داء ولا شيء من الشرور والآفات، كالرياح والصواعق ونحو ذلك مما يخاف منه، بل كل ما ينزل في هذه الليلة إنما هو سلامة ونفع وخير، ولا يستطيع الشيطان فيها سوءًا، ولا ينفذ فيها سحر ساحر، والليلة ليست نفس السلامة بل ظرف لها، ومع ذلك وُصفت بالسلامة للمبالغة في اشتمالها عليها، وعُلم منه أنه يُقضى في غير ليلة القدر كل من السلامة والبلاء، يعني: يتعلق قضاء الله تعالى بهما، وقال الشعبي: ما هي إلا ذات تسليم من الملائكة على أهل المساجد وسائر المؤمنين من حين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن، ومن أصابته تسليمة من الملائكة غفر له ذنبه، وفي الحديث: "ينزل جبريل كل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة؛ - أي: جماعة متضامة - يصلون ويسلمون على كل عبد قائم من قاعد يذكر الله تعالى"، وقيل يعني: سلام الملائكة بعضهم على بعض، قال عطاء: يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}؛ أي: من مبدئها إلى وقت طلوع الفجر فيها، وقدر المضاف؛ لكون الغاية من جنس المغيا؛ أي: إن ذلك السلام من تلك السلامة تستمر وتدوم في تلك الليلة إلى وقت طلوع الفجر، فتصعد الملائكة عند طلوعه، فيعود الزمن على حاله الأول، فمطلع بفتح اللام مصدر ميمي، ومن قرأ: بكسر اللام جعله اسمًا لوقت الطلوع؛ أي: اسم زمان، و {حَتَّى} متعلقة بـ {تَنَزَّلُ} على أنها غاية لحكم التنزل؛ أي: لمكثهم في تنزلهم، أو لنفس تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجًا بعد فوج إلى طلوع الفجر، وقال بعضهم ليلة القدر من غروب الشمس إلى طلوع الفجر سلام؛ أي: يسلم فيها الملائكة على المطيعين إلى وقت طلوع الفجر، ثم يصعدون إلى السماء، فـ {حَتَّى} متعلقة بـ {سَلَامٌ}. قالوا (¬2): علامة ليلة القدر أنها ليلة لا حارة ولا باردة، وتطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها كما مر؛ لأن الملائكة تصعد عند طلوع الشمس إلى السماء، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

فيمنع صعودها انتشار شعاعها لكثرة الملائكة، من لأنها لا تطلع في هذه الليلة بين قرني الشيطان، فإنها على ما جاء في بعض الأخبار: تطلع كل يوم بين قرني الشيطان، ويزيد الشيطان في بث شعاعها وتزيين طلوعها؛ ليزيد في غرور الكافرين، ويحسَّن في أعين الساجدين لها، ومن علامتها أيضًا على ما قيل: أنه يعذب الماء الملح تلك الليلة، وأما النور الذي يُرى ليلة القدر فهو نور أجنحة الملائكة، أو نور جنة عدن تُفتح أبوابها ليلة القدر، أو نور لواء الحمد الذي ينزل به جبريل عليه السلام. وقرأ الجمهور (¬1): {مَطْلَعِ} - بفتح اللام - وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثّاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه بكسرها، فقيل: هما مصدران في لغة بني تميم، وقيل: المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز. والمعنى (¬2): أي هذه الليلة التي حقها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن, وكلها خير وبركة من مبدئها إلى نهايتها، ففيها فرَّج الله تعالى الكرب عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفتح له سبل الهداية والإرشاد. الإعراب {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَنْزَلْنَاهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة {إن} مستأنفة استئنافًا نحويًا. {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَنْزَلْنَاهُ}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَدْرَاكَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {ما}، والكاف في محل النصب مفعول أول لـ {أدرى}، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاستفهامية معطوفة على جملة {إن}. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ}: خبر المبتدأ، والجملة المعلقة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

بالاستفهام سدت مسد المفعول الثاني لـ {أدرى}. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ}: مبتدأ ومضاف إليه {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ. {مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {خَيْرٌ}، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر تقديره: وما فضائلها. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}: فعل وفاعل. {وَالرُّوحُ}: معطوف على {الْمَلَائِكَةُ}، والجملة مستأنفة. {فِيهَا}: متعلق بـ {تَنَزَّلُ}، والجملة مستأنفة واقعة في جواب السؤال المذكور في الجملة التي قبلها. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَنَزَّلُ}، أو بمحذوف حال من {الْمَلَائِكَةُ}؛ أي: متلبسين. {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {تَنَزَّلُ} أيضًا، و {مِنْ} بمعنى اللام التعليلية؛ أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى في تلك الليلة. {سَلَامٌ}: خبر مقدم. {هِيَ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة واقعة في جواب السؤال المذكور سابقًا .. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {سَلَامٌ}، وفيه إشكال، وهو الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ، والجواب أن الظروف والجار والمجرور يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها، والأحسن كما قال الخطيب أن يتعلقا بمحذوف قدره الخطيب: يستمرون على التسليم من غروب الشمس حتى مطلع الفجر. التصريف ومفردات اللغة {فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} والقَدْر - بسكون الدال - إما بمعنى العظمة والشرف من قولهم لفلان: قدر عند فلان؛ أي: منزلة ودرجة وشرف، أو بمعنى التقدير: وهو جعل الشيء على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حَسَبما اقتضت الحكمة والمصلحة، سميت ليلة القدر بمعنى المنزلة والشرف إما باعتبار العامل فيها على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف، وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الطاعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد، قال أبو بكر الوراق: سميت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر لأمة لها قدر، وسميت ليلة القدر بمعنى التقدير؛ لتقدير الأمور الواقعة في تلك السنة فيها؛ أي: لإظهار تقديرها للملائكة، وإلا فالتقدير نفسه أزلي أو بمعنى الضيق، قال الخليل: سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة الضيق؛ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، فالقدر بمعنى الضيق،

كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} أصله: تتنزل بتائين، حذفت إحداهما للتخفيف على حد قول ابن مالك: وَمَا بِتَائَيْنِ ابْتُدِيْ قَدْ يُقْتَصَرْ ... فِيْهِ عَلَى تَاءٍ كَتَبْيِيْنِ الْعِبَرْ والتاء في {الْمَلَائِكَةُ} لتأنيث الجمع، وإذا حذفت امتنع صرفه لصيغة منتهى المجموع، وبه يلغز فيقال: كلمة إذا حذف من آخرها حرف امتنع صرفها. جمع: ملك، وأصله: ملائك، ووزنه فعال، فالهمزة زائدة، ومادته تدل على المُلك والقوة والسلطنة، وقيل: وزنه مفعل، فالميم زائدة، وقيل: هو مقلوب، وأصله مالك من الألوكة وهي الرسالة، قلب قلبًا مكانيًا فصار: ملائك، ففي وزنه القولان المتقدمان، وعلى كل فيقال: سقطت الهمزة فصار ملك، والملائكة أجسام نورانية لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، لهم قدرة على التشكلات بالصور غير الخسيسة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {سَلَامٌ هِيَ} يصح أن يكون ضمير {هِيَ} عائدًا على {الْمَلَائِكَةُ}، و {سَلَامٌ} بمعنى التسليم، والمعنى: أن الملائكة يسلمون على المؤمنين، ويصح أن يكون عائدًا على {لَيْلَةُ}، و {سَلَامٌ} أيضًا بمعنى التسليم، والمعنى: أن الليلة ذات تسليم من الملائكة على المؤمنين أو من بعضهم على بعض، ويصح على هذا الوجه أن يُجعل {سَلَامٌ} بمعنى سلامة؛ أي: ليلة القدر ذات سلامة من كل شر. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} بفتح اللام وكسرها، فهما مصدران في لغة بني تميم، وقيل: المصدر بالفتح، والموضع بالكسر عند أهل الحجاز اهـ "بحر". وعبارة "السمين": وقرأ الكسائي: {مطلع} بكسر اللام، والباقون بفتحها، والفتح هو القياس، وهل هما مصدران من المفتوح مصدر والمكسور اسم مكان؟ فيه خلاف اهـ، وعبارة "مناهل الرجال على لامية الأفعال" عند قول ابن مالك: مَظْلَمَةٌ مَطْلَعُ الْمَجْمَعِ مَحْمَدَةٌ ... مَذِمَّةٌ مَنْسِكٌ مَضِنَّةُ الْبُخَلَا واعلم: أنه قد تقدم لك أن الشاذ في باب مفعل ثلاثة أضرب: الضرب الأول منها: ما جاء فيه وجهان: الفتح والكسر، وهو اثنتان وعشرون كلمة: الأول منها مظلمة، والثاني منها مطلع، يقال: طلع الكوكب يطلُع - من باب نصر - طلوعًا ومطلعًا - بالفتح - على القياس، ومطلِعًا - بالكسر - على الشذوذ؛ أي:

طلوعًا إذا ظهر، وهذا مطلَع الشمس - بالفتح - على القياس، ومطلع القمر - بالكسر - على الشذوذ؛ أي: مكان طلوعهما من زمانه. انتهى. و {الْفَجْرِ} الضوء المنتشر في أفق السماء عرضًا عند قرب طلوع الشمس، والفجر إذا أطلق انصرف إلى الفجر الصادق؛ لأنه هو الذي يتعلق به الأحكام الشرعية. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإتيان بـ {ـإن} المكسورة في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}؛ لتأكيد الحكم والرد على المنكِر أو الشاك والمخاطبون فيهم ذلك، فقد قالوا: من تلقاء نفسه، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: تنزلت به الشياطين، فرد على جميع ذلك بذكر الإنزال، لا أنه مختلق ولا من أساطير الأولين. فإن قلت: إن المؤمنين يصدقون خبر المولى بلا توكيد، والكافرون يعاندون ولو تعدد التأكيد .. أجيب عنه بجوابين: الأول: يمنع أن الكافرين يعاندون مع التأكيد، فإن عاداتهم الانقياد للتأكيدات، فربما حصل لهم هداية بسبب ذلك التأكيد. الثاني: على تسليم أنهم يعاندون مع التأكيد، فلا نسلم حصر معنى إن في التأكيد، بل قد يؤتى بها ترغيبًا في تلقي الخير والتنبيه بعظيم قدره وشرف حكمه. ومنها: الإتيان بضمير المتكلم المعظِّم نفسَه وهو الله تعالى إشعارًا بتعظيم المنزل والمنزل به، ويحتمل أنها للمتكلم ومعه غيره، فإن الله سبحانه أنزله، والملائكة لهم مدخلية في إنزاله، والمعنى: إنا وملائكة قدمنا أنزلناه على حد قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ}، والإسناد لله حقيقة إجماعًا، وللملائكة قيل كذلك، وقيل: مجاز، وعليه فلا مانع من الجمع بين الحقيقة والمجاز، يقال: بني الأميرُ وعَمَلَتُهُ المدينةَ، ولا يعترض بالجمع بين القديم والحادث في ضميره فإنه حاصل في ضمير {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ونحوه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - للخطيب: "بئس الخطيب" لما

قال: مَن يُطع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن يعصهما فقد غوى، فلأن الخطب محل إطناب. وقيل: وقف على قوله: ومن يعصهما قبل الجواب اهـ "صاوي". ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ} حيث شبه الإيحاء بالإنزال، واستُعير الإنزال للإيحاء، واشتُق من الإنزال بمعنى الإيحاء أنزلنا بمعنى: أوحينا بجامع الإعلام في كلٍّ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأن الإنزال وصف للأجسام، والقرآن عَرَض لا جسم، فكيف يوصف بالإنزال، ويحتمل كون إسناد الإنزال إلى القرآن مجازًا عقليًا، وحقه أن يُسند إلى حامله، فالتجوز إما في الظرف أو الإسناد. ومنها: التعبير بالإنزال دون التنزيل؛ للدلالة على أن إنزاله في ليلة القدر دفعيٌّ لا تدريجي. ومنها: الإضمار بلا سبق مرجع في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ}؛ لأن ضمير الغيبة للقرآن اكتفاء بشهرته؛ لأن شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه، وإرجاع الضمير إليه فكأنه حاضر في جميع الأذهان. ومنها: الإطناب بذكر {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاث مرات زيادة في الاعتناء بشأنها وتفخيمًا لأمرها. ومنها: الاستفهام في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)}؛ لغرض التفخيم والتعظيم. ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} حيث عطف {الروح} الذي هو جبريل مع دخوله في الملائكة إظهارًا لشرفه وجلالة قدره. ومنها: التعبير بالتنزل دون النزول في قوله: {تَنَزَّلُ} إشارة إلى أنهم ينزلون طائفة بعد طائفة، فينزل فوج ويصعد فوج لضيق الأرض عنهم. ومنها: المبالغة في قوله: {سَلَامٌ هِيَ} حيث جعل الليلة عين السلام مبالغة في اشتمالها على السلامة على حد: زيد عدل. ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {سَلَامٌ هِيَ}؛ لإفادة الحصر مثل

قولهم: تميمىٌ أنا؛ أي: ما هي إلا سلامة. ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل {الْقَدْرِ} {شَهْرٍ} {أَمْرٍ} {الْفَجْرِ}؛ لأنه من المحسنات البديعية اللفظية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. تتمتان: الأولى: اختلفت المذاهب في ليلة القدر، فقال مالك: إنها دائرة في العام كله، والغالب كونها في رمضان، والغالب أيضًا كونها في العشر الأواخر منه، وقال أبو حنيفة والشافعي: هي في رمضان لا تتنقل منه، والغالب كونها في العشر الأواخر، واشتهر عن أبي بن كعب وابن عباس وكثير من العلماء: أنها ليلة السابع والعشرين، وأيده بعضهم بطريق الإشارة بأن عدد كلمات السورة ثلاثون كأيام رمضان، واتفق أن كلمة {هِيَ} تمام سبع وعشرين، وطريق آخر في الإشارة: أن حروف ليلة القدر تسعة، وقد ذُكرت في السورة ثلاث مرات، وثلاث في تسعة بسبع وعشرين، ونُقل عن بعضهم: ضبطها بأول الشهر من أيام الأسبوع، وقالوا: إنها تُعلم باليوم الأول من الشهر، فإن كان أوله يوم الأحد أو الأربعاء فهي ليلة تسع وعشرين، أو يوم الاثنين فهي ليلة إحدى وعشرين، أو يوم الثلاثاء أو الجمعة فهي ليلة سبع وعشرين، أو يوم الخميس فهي ليلة خمس وعشرين، أو يوم السبت فهي ليلة ثلاث وعشرين، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: ومنذ ما بلغت سن الرجال ما فاتتني ليلة القدر بهذه القاعدة المذكورة، وقد نظمتها بقولي: يَا سَائِلِيْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِيْ ... فيْ عَشْرِ رَمْضَانَ الأَخِيْرِ حَلَّتِ فَإنَّهَا فِيْ مُفْرَدَاتِ الْعَشْرِ ... تُعْرَفُ مِنْ يَوْمِ ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ فَبِالأَحَدْ وَالأرْبِعَا فِيْ التَّاسِعَهْ ... وَجُمْعَةِ مَعَ الثَّلاَثَا السَّابِعَهْ وَإِنْ بَدَا الْخَمِيْس فهْيَ الخَامِسَهْ ... وَإِنْ بَدَا بِالسَّبْتِ فَهْيَ الثَّالِثَةُ وَإِنْ بَدَا الإِثْنَيْنِ فَهْيَ الْحَادِيْ ... هَذَا عَنِ السَّادَاتِ وَالزُّهَّادِ اهـ من "القليوبي على الجلال المحلي على المنهاج النووي". والثانية: ذكر العلماء لليلة القدر علامات كما مر بعضها منها: قلة نبح

الكلاب ونهيق الحمار وعذوبة الماء الملح، ورُؤية كل مخلوق ساجدًا لله تعالى، وسماع كل شيء يذكر الله تعالى بلسان المقال، وكونها ليلة بلجة مضيئة مشرقة بالأنوار، وطلوع الشمس يومها صافيًا نقية ليست بين قرني الشيطان كيوم غيرها، وأحسن ما يُدعى به في تلك الليلة العفو والعافية، كما ورد في حديث عائشة: ويكثر من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل وأنواع الذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو بما أحب لنفسه ولأحبابه أحياءً وأمواتًا، ويتصدق بما تيسر له، ويحفظ جوارحه عن المعاصي، ويكفي في قيامها صلاة العشاء والصبح جماعة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على خمسة مقاصد: 1 - بيان إنزال القرآن في ليلة القدر جملة إلى السماء الدنيا. 2 - تفخيم شأن ليلة القدر بالاستفهام عنها. 3 - بيان خيريتها على ألف شهر ليست فيها ليلة القدر. 4 - بيان تنزل الملائكة فيها إظهارًا لشرفها وقدرها. 5 - وصفها بكونها ذات سلامة من كل شر (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة القدر بعون من له الخلق والأمر في يوم الاثنين قبيل صلاة الظهر اليوم الخامس من شهر ذي الحجة من شهور سنة: 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة البينة

سورة البينة سورة البينة، وتسمى سورة: لم يكن، مدنية في قول الجمهور، نزلت بعد سورة الطلاق، وقيل: مكية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت سورة لم يكن بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة: لم يكن بمكة، وهي: ثمان آيات، وأربع وتسعون (¬1) كلمة، وثلاث مئة وتسعة وتسعون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬2): أن قوله سبحانه في هذه السورة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ... الخ كالعلة لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه؛ لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفًا مطهرة، ووضعها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سورة القدر؛ لأن الصحف المطهرة التي كان يتلوها النبي نزلت ليلة القدر. فضلها: ومن فضائلها (¬3): ما أخرجه أبو نعيم في "المعرفة" عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني قال: حدثني الفضل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يستمع قراءة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيقول: أبشر عبدي وعنتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" قال ابن كثير: حديث غريب جدًّا، وأخرجه أبو موسى المدني عن مطر المزني من المدني بنحوه. وما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: وسماني لك. قال: نعم، فبكى". وما أخرجه أحمد وابن قانع في "معجم الصحابة" والطبراني وابن مردويه عن أبي حية - البدري قال: لما نزلت: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى آخرها .. قال جبريل: يا رسول الله: إن ربك يأمرك أن تُقرِئَها أُبَيًّا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

لأبي: "إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، فقال أُبَي: وقد ذُكِرْتُ ثَمَّ يا رسول الله، قال: نعم. فبكى". وسميت سورة - البينة؛ لذكر البينة فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة البينة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}. أسباب النزول كان اليهود والنصارى (¬1) من أهل الكتاب في ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم إلا من عصم الله؛ لأن أسلافهم غيروا وبدلوا في شرائعهم، وأدخلوا فيها ما ليس منها إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم، وإما لاستحسانهم ضروبًا من البدع تَوَهَّمُوها مؤيدة للدين، وهي هادمة لأركانه، وإما لإفحام خصومهم، والرغبة في الظفر بهم، وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه مَن قبلَهم حتى خفيت معالم الحق، وطُمست أنوار اليقين، وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها زعمًا منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان الجدل ينشب حينًا بين المشركين واليهود، وحينًا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين: إن الله سيبعث نبيًا من العرب من أهل مكة وينعتونه لهم، ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه وآزروه واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم. قد كان هذا وذاك، فلما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .. قام المشركون يناوِئُونه ويرفعون ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

راية العصيان في وجهه، وأَلَّبوا الناس عليه، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الله بصائرهم وشرح صدورهم لمعرفة الحق، كذلك قلب له اليهود ظهر المجن بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به؛ إذ وجدوا نعته عندهم في التوراة فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد، بل هو معروف في كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم، فلا ينبغي أن يتركوا ما هم عليه من الحق؛ ليتبعوا رجلًا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم يتبعون هذا النبي وينصرونه. ففي الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه نزلت هذه السورة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}؛ أي: من اليهود والنصارى، وإيراد (¬1) الصلة فعلًا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم؛ أي: حال كونهم من أهل الكتاب، {و} من {الْمُشْرِكِينَ} عبدة الأوثان، و {مِنْ} للتبيين، لا للتبعيض حتى يلزم أن لا يكون بعض المشركين كافرين، وذلك أن الكفار كانوا جنسين: أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى، والمشركين وهم الذين لا ينسبون إلى كتاب الله، فذكر الله سبحانه الجنسين بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} على الإجمال، ثم أردف ذلك الإجمال بالتفصيل والتبيين، وهو قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وهو حال من الواو في {كَفَرُوا}؛ أي: كائنين منهم. {مُنْفَكِّينَ} خبر كان؛ أي: لم يكونوا زائلين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان، والعزم على إنجازه. وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى إنهم كانوا يستفتحون بالنبي المبعوث، ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وإما من {الْمُشْرِكِينَ} فلعله قد وقع من متأخريهم بعدما شاع ¬

_ (¬1) روح البيان.

ذلك من أهل الكتاب، واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم، كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول الله هل هو المذكور في كتبهم، وكانوا يُغرونهم بتغيير نعوته، وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه، كالعظم إذا انفك من مفصله، وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم؛ أي: لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور، بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازه. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} والحجة الواضحة التي كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتًا لاجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق، فلما أتتهم جعلوا إتيانها ميقاتًا للانفكاك والافتراق وإخلاف الوعد فكفروا بها، والتعبير عن إتيانهم بالمضارع باعتبار حال المحكي لا الحكاية. أو المعنى؛ أي: لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم، ولو كانوا لا يعقلون شيئًا حتى يأتيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيحدث مجيئه رجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عاداتهم، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم، وليس بمستحسن أن يُتبع، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم. وعبارة "الخازن" هنا: قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: اليهود والنصارى {وَالْمُشْرِكِينَ}؛ أي: ومن المشركين وهم: عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين: أحدهما: أهل كتاب، وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقدلهم: عزير ابن الله وتشبيههم الله سبحانه بخلقه، وأما النصارى فقولهم: المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك. والثاني: المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله جنسين في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} {مُنْفَكِّينَ}؛ أي: منتهين عن كفرهم وشركهم، وقيل معناه: زائلين {حَتَّى تَأْتِيَهُم}؛ أي: حتى أتتهم، لفظه مضارع ومعناه الماضي {الْبَيِّنَةُ}؛ أي: الحجة الواضحة يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وشركهم، وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان فآمنوا، فانقذهم الله تعالى من الجهالة والضلالة، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين.

قال الواحدي في "بسيطه": وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، قال الإِمام فخر الدين الرازي في "تفسيره": إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها، وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عما ذا لكنه معلوم؛ إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة {حَتَّى} لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول، فحينئذٍ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني، قال: والجواب عنه من وجوه: أولها - وأحسنها -: الوجه الذي لخصه صاحب "الكشاف" وهو: أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان، كانوا يقولون قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لا ننفك عما نحن عليه من ديننا, ولا نتركه حتى يُبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: إنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق؛ إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه. لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فيزداد فسقًا، فيقول واعظه: لم تكن منفكًا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار، فيذكِّره ما كان يقول أولًا توبيخًا وإلزامًا. قال الإِمام فخر الدين: وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} مذكور حكاية عنهم، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إخبار عن الواقع. والمعنى: أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا ووعدوا. وثانيها: أن تقدير الآية؛ لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة {حَتَّى} بهذا ليس من

[2]

اللغة في شيء، وذكر وجوهًا أخر، قال: والمختار هو الأول، 2 - ثم فسر البينة، فقال: {رَسُولٌ} بدل اشتمال من {الْبَيِّنَةُ}، عبر عنه - صلى الله عليه وسلم - بها, للإيذان بغاية ظهور أمره، وكونه ذلك الموعود في الكتابين؛ أي: تلك البينة: رسول كائن {مِنَ اللَّه} سبحانه وتعالى متعلق بمحذوف صفة لـ {رَسُولٌ}، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية؛ أي: رسول؛ أي: رسول كائن منه تعالى. {يَتْلُو} صفة آخرى لـ {رَسُولٌ}؛ أي: يقرأ ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - {صُحُفًا}؛ أي: كتبًا يريد ما تضمنه المصحف من الآيات المكتوبة فيه، وهو القرآن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ عن ظهر قلبه، لا عن كتاب لكونه أميًا، لكنه لما تلا ما في الصحف كان كالتالي لها، وقيل المراد: جبريل، قاله البيضاوي. جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب، ومحله من الأوراق. {مُطَهَّرَةً}؛ أي: منزهة من الباطل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أن يمسه غير المطهرين، وفي "الروح": ونسبة التلاوة إلى الصحف، وهي القراطيس مجازية هي مجاز عما فيها بعلاقة الحلول، والمراد أنه لما كان ما يتلوه الذي هو القرآن مصدقًا لصحف الأولين مطابقًا لها في أصول الشرائع والأحكام .. صار متلوه كأنه صحف الأولين وكتبهم، فعبر عنه باسم الصحف مجازًا، وعبارة أبي حيان: {يَتْلُو صُحُفًا}؛ أي: قراطيس {مُطَهَّرَةً} من الباطل، {فِيهَا كُتُبٌ}؛ أي: مكتوبات {قَيِّمَةٌ}؛ أي: مستقيمة ناطقة بالحق. وقرأ الجمهور (¬1): {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وقرأ ابن مسعود {لم يكن المشركين وأهل الكتاب} قال ابن العربي هي قراءة في معرض البيان لا في معرض التلاوة، وقرأ الأعمش والنخعي؛ {والمشركون} - بالرفع - عطفًا على الموصول، وقرأ أبي: {فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون} وقرأ الجمهور: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} برفع {رَسُولٌ} على أنه بدل اشتمال، أو بدل كل من كل مبالغة، قال الزجاج: {رَسُولٌ} رُفع على البدل من {الْبَيِّنَةُ}، وقال الفراء: رُفع على أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: هي رسول، أو هو رسول، وقرأ أبي وابن مسعود: {رسولًا} - بالنصب - على القطع، وقوله: {مِنَ اللَّهِ} متعلق بمحذوف صفة لـ {رَسُولٌ} كما مر، ويجوز تعلقه بنفس {رَسُولٌ}. ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[3]

وجوز أبو البقاء أن يكون حالًا من {صحف}، والتقدير: يتلو صحفًا مطهرة منزلة من الله، وقوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} لجوز أن تكون صفةً أخرى لـ {رَسُولٌ}، من حالًا من متعلق الجار والمجرور قبله، ومعنى {يَتْلُو}: يقرأ، يقال: تلا يتلو تلاوة، والصحف جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب، ومعنى {مُطَهَّرَةً} أنها منزهة من الزور والضلال، قال قتادة: مطهرة من الباطل، وقيل: مطهرة من الكذب والشبهات والكفر، والمعنى واحد. والمعنى: أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، كما مر. 3 - وقوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} صفة لـ {صُحُفًا}، من حال من ضميرها؛ أي: في تلك الصحف أمور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها، وفي "المفردات": فيه إشارة إلى ما فيه من معاني كتب الله، فإن القرآن مجمع ثمرة كتب الله المتقدمة. والمعنى (¬1): أي هذه البينة هي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس والتي تنبعث منها أشعة الحق، كما قال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم، كما قال: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)}، وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته، فإن كل سورة منه كتاب قويم، من الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله تعالى والتي يتبين بها الحق من الباطل، كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}. وقُصارى ذلك (¬2): أنّ حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد مجيء الرسول تخالف حالهم قبلها، فقد كانوا قبل مجيئه كفارًا يتيهون في عماية من الأهواء والجهالات، فلما بُعث آمن به قوم منهم، فلم تبق حالهم كما كانت قبل ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

[4]

إلى أنهم قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - كانوا جازمين بما هم عليه واثقين بصحته، فلما بُعث إليهم تغيرت حال جميعهم، فمنهم من آمن به واعتقد أن ما كان عليه ضلال وباطل، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددًا في صحة ما هو عليه، أو هو واثق بعدم صحته، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 4 - ثم سلَّى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن تفرق القوم في شأنه، فقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} عما كانوا عليه من الوعد، وإفراد (¬1) أهل الكتاب بالذكر هنا بعد الجمع بينهم وبين المشركين أولًا؛ للدلالة على شناعة حالهم، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى، فخصوا بالذكر؛ لأن جحود العالِم أقبح وأشنع من إنكار الجاهل، وقوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} استثناء مفرَّغ من أعم الأوقات؛ أي: وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الموعود في كتبهم دلالة جلية واضحة لا ريب فيها، وهي بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة الغرّاء والمحجة البيضاء، وقيل: {الْبَيِّنَةُ} البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل، كقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}. قال المفسرون (¬2): لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله تعالى، فلما بُعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه فآمن به بعضهم، وكفر به آخرون، وقال القرطبي: قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ ....} إلخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج. والمعنى (¬3): أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات، ولا يكونن في صدرك حرج منهم، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم وتفرقوا طرائق قددًا حتى صار أهل كل مذهب يُبطل ما عند غيره بغيًا وعدوانًا وقولًا بالتشهي والهوى، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم، فهم إن جحدوا بينتك فقد جحدوا بينة مَن قبلك، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعدما استيقنتها أنفسهم، وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) المراغي.

[5]

ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس مقادة للهو، 5 - ثم أنبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال، فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} جملة (¬1) حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا، ومفيدة لتقريعهم وتوبيخهم على ما ارتكبوا من التفرق بعد مجيء البينة؛ أي: تفرقوا بعد مجيء البينة، والحال أنهم ما أمروا بما أُمروا به في كتبهم لشيء من الأمور، ولمصلحة من المصالح، ولحكمة من الحكم إلا لحكمة أن يعبدوا الله سبحانه ويخضعوا له، ويتذللوا له بامتثال مأموراته واجتناب منهياته التي منها الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والاجتناب من تكذيبه، وهذه {اللام} في الحقيقة لام الحكمة والمصلحة، يعني: أن فعله تعالى وإن لم يكن معللًا بالغرض إلا أنه مغيًا بالحكم والمصالح، وكثيرًا ما تُستعمل لام الغرض في الحكمة المترتبة على الفعل تشبيهًا لها بها في ترتبها على الفعل بحسب الوجود. والأولى (¬2) أن تكون {اللام} بمعنى الباء، وأن مضمرة، والمعنى: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله تعالى، وقال بعضهم الأظهر أن تُجعل {لام} {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} زائدة، كما تزاد في صلة الإرادة، فيقال: أردتُ لتقوم، لتنزيل الأمر منزلة الإرادة، فيكون المأمور به هذه الأمور من العبادة ونحوها، كما هو ظاهر، نظيره قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}؛ أي: أن يبين لكم، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}؛ أي: أن يطفئوا، وفي حصر (¬3) علة كونهم مأمورين بما في كتبهم من عبادة الله بالإخلاص حيث قيل: وما أمروا بما أمروا إلا لأجل أن يتذللّوا له ويعظموه غاية التذلل والتعظيم ولا يطلبوا في امتثال ما كلفوا به شيئًا آخر سو التذلل لربهم ومالكهم، كثواب الجنة والخلاص من النار .. دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن العبادة ما وجبت؛ لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البعد من عذاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو رب، ولو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب ألبتة، وأمرك بالعبادة لمحض العبودية ومقتضى الربوبية والمالكية، وفيه أيضًا إشارة إلى أن مَن عَبَدَ الله للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة، فالمقصود الأصلي من العبادة هو المعبود، وكذا الغاية من العرفان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

المعروف، فعليك بالعبادة للمعبود، وبالعرفان للمعروف، وإياك أن تلاحظ شيئًا غير الله تعالى. وقرأ الجمهور: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}، وقرأ عبد الله: {إلا أن يعبدوا الله} بإبدال اللام بأن، وقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} حال من الفاعل في {لِيَعْبُدُوا}؛ أي: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله سبحانه حال كونهم جاعلين دينهم وعملهم خالصًا له تعالى، من جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين والعمل. وقرأ الجمهور (¬1): {مُخْلِصِينَ} - بكسر اللام - و {الدِّينَ} منصوب به، وقرأ الحسن: بفتحها؛ أي: يخلصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب {الدِّينَ} إما على المصدر من {لِيَعْبُدُوا}؛ أي: ليَدِينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط الخافض؛ أي: في الدين. والإخلاص (¬2): أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا تطلب منه ثوابًا اهـ "كرخي". وقال الشهاب: الإخلاص: عدم الشرك، وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف اهـ. وفي "الروح": الإخلاص (¬3): أن يأتي بالفعل خالصًا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، فالعبادة لجلب المنفعة أو لدفع المضرة ليست من قبيل الإخلاص، فالإخلاص في العبودية تجريد السر عما سوى الله تعالى وقال بعضهم: الإخلاص: أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا ترى نفسك فيه، وتعلم أن المنة لله عليك في ذلك حيث أهَّلك لعبادته ووفقك لها, ولا تطلب من الله أجرًا وعوضًا. وقوله: {حُنَفَاءَ}؛ أي: مائلين من جميع العقائد الزائغة إلى الإِسلام، وهو في المعنى تأكيد للإخلاص؛ إذ هو الميل عن الاعتقاد الفاسد، وأكبره اعتقاد الشركة، وأصل الحَنَف: الميل وانقلاب ظهر القدم حتى يصير بطنًا، فالأحنف هو الذي يمشي على ظهر قدميه في شقها الذي يلي خنصرها، ويجيء الحنف بمعنى الاستقامة، فمعنى حنفاء: مستقيمين، فعلى هذا إنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولك للأعمى بصير، وللحبشي كافور، وللطاعون مبارك، وللمهلكة ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

مفازة، وقال ابن جبير: لا يسمى أحد حنيفًا حتى يحج ويختن؛ لأن الله وصف إبراهيم عليه السلام بكونه حنيفًا، وكان من شأنه أنه حج وختن نفسه. وقوله: {حُنَفَاءَ}؛ إما حال من فاعل {يعبدوا} على قول من جوَّز حالين من ذي حال واحد، أو من الضمير المستكن في {مُخْلِصِينَ} على قول من لا يجوِّز ذلك، فتكون حالًا متداخلة. وقوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} التي هي العمدة في باب العبادة البدنية، معطوف على {يعبدوا}، وكذا ما بعده، وإقامتها: أداؤها في أوقاتها بشرائطها وأركانها وهيئاتها {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} التي هي الأساس في العبادات المالية، وإيتاؤها: صرفها إلى مستحقها عند محلها، قال في "الإرشاد" (¬1): إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا، فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها. والمعنى: أي إنهم تفرقوا واختلفوا، وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة في معاشهم ومعادهم من إخلاص لله في السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له، كما قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}، والمراد من إقامة الصلاة: الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود؛ ليعتاد الخضوع له، وبإيتاء الزكاة: إنفاقها فيما عيَّن لها في الكتاب الكريم من المصارف. {وَذَلِكَ} المذكور من عبادة الله تعالى وإخلاصها وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ أي: دين (¬2) الملة المستقيمة، قَدَّر الموصوف لئلا يلزم إضافة الشيء إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، وصحة إضافة الدين إلى الملة باعتبار التغاير الاعتباري بينهما، فإن الشريعة المبلغة إلى الأمة بتبليغ الرسول إياها من قبل الله تسمى ملة باعتبار أنها تُكتب وتملى، ودينًا باعتبار أنها تطاع، فإن الدين الطاعة يقال: وإن له إذا أطاعه، وقال الكاشفي: أضاف الدين إلى القيِّمة وهي ¬

_ (¬1) أبو السعود. (¬2) روح البيان.

نعته؛ لاختلاف اللفظين، والعرب تضيف الشيء إلى نعته كثيرًا، ونجد ذلك في القرآن في مواضع منها قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}، وقال في موضع آخر: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ}؛ لأن الدار هي الآخرة، وقال {عَذَابَ الْحَرِيقِ}؛ أي: المحرق كالأليم بمعنى المؤلم، وتقول: دخلت مسجد الجامع ومسجد الحرام، وأدخلك الله جنة الفردوس هذا وأمثاله، وقال بعضهم: إضافة الدين إلى القيمة من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، ولا حاجة إلى تقدير الملة، فإن القيمة عبارة عن الملة، كما يشهد له قراءة أُبيٌّ - رضي الله عنه - {وذلك الدين القيّم} انتهى. وأنث {الْقَيِّمَةِ} (¬1)؛ لأن الآيات هائية، فرد الدين إلى الملة، كما في "كشف الأسرار" والقيِّمة بمعنى المستقيمة التي لا عوج فيها، وقال الراغب: القيمة هنا اسم الأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}. قال ابن الشيخ: بعض أهل الأديان بالغوا في باب الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصَّلوا الدين الحق بتحصيل الاعتقاد المطابق، وبعضهم حصلوا الأصول، وأهملوا في الفروع وهم: المرجئة الذين يقولون: لا تضر المعصية مع الإيمان، فالله تعالى خَطَّأَ الفريقين في هذه الآية، وبيَّن أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله: {مُخْلِصِينَ}، ومن العمل في قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}، ثم قال: وذلك المجموع كله هو دين الملة المستقيمة المعتدلة، فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد، كذلك هذا المجموع دين واحد، وقال محمد (¬2) بن الأشعب الطالقاني: {الْقَيِّمَةِ} هنا: الكتب التي تجري ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة كانت الألف واللام في {الْقَيِّمَةِ} للعهد، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وقرأ عبد الله: {وذلك الدين القيمة}. فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنَّث على أن عني بالدين الملة، كقوله: ما هذه الصوت؟ يريد ما هذه الصيحة؟ والمعنى؛ أي (¬3): هذا الذي ذُكر من إخلاص العبادة للخالق، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو الدين الذي جاء في الكتب القيمة. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[6]

وقصارى ما سلف: أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم، وأن لا يقلدوا فيها أبًا ولا رئيسًا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب في افتراقهم في دينهم، فما بالنا نحن معشر المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعًا ومحدثات، وتفرقنا فيه شيعًا، أفليس ما نحن فيه من ذل وهوان وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم، والسير على الصراط المستقيم. 6 - ثم بيَّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وهذا (¬1) شروع في بيان مقر الأشقياء وجزاء السعداء، وحكم على الكفار من الفريقين بأمرين: أحدهما: الخلود في النار. والثاني: كونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يطعنون في نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فجنايتهم أعظم؛ لأنهم أنكروه مع العلم به، و {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} ظاهره العموم، وقيل: {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} الذين عاصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم الماضية من هو شر من هؤلاء كفرعون وعاقر ناقة صالح عليه السلام اهـ من "البحر"، وذكر المشركين؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حَسَب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم. وقوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} خبر {إِنَّ}؛ أي: مشتركون (¬2) في نار جهنم؛ أي: في جنس العذاب لا في نوعه، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب؛ لأن المشركين ينكرون التوحيد والرسالة والكتاب والبعث وما يترتب عليها، وأهل الكتاب يؤمنون بأكثرها، كإقرارهم بالبعث، ومقتضى الحكمة أن يزاد في عذاب من زاد كفره على عذاب غيره، وقد سوى بينهم في هذه الآية بحسب الظاهر اهـ "شهاب"، و"زاده". ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة، وإيراد (¬3) الجملة الاسمية ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة، من أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم بما يوجبها منزلة ملابستهم لها، وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية، وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية. وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من المستكن في الخبر، واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود؛ لأجل كفرهم لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية، فإن جهنم دركات وعذابها ألوان، فالمشركون كانوا ينكرون الصانع والنبوة والقيامة، وأهل الكتاب نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقط، فكان كفرهم أخف من كفر المشركين، لكنهم اشتركوا في أعظم الجنايات التي هي الكفر، فاستحقوا أعظم العقوبات وهو الخلود، ولما كفروا طلبًا للرفعة صاروا إلى أسفل السافلين، فإن جهنم نار في موضع عميق مظلم هائر يقال: بئر جِهنَّام إذا كانت بعيدة القعر، واشتراكهم في هذا الجنس من العذاب لا يوجب اشتراكهم في نوعه كما مر آنفًا، ولم يقل هنا أبدًا، كما قاله فيما بعد في ثواب أهل الجنة؛ لأن رحمته أزيد من غضبه فلم يتفق الخلودان في الأبدية اهـ. "فتوحات". والمعنى (¬1): أي إن هؤلاء الذين دسوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه، كما يعرفون أبناءهم يجازبهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدًا، فيدخلهم نارًا تلظَّى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة، والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} البعداء المذكررون، إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها {هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}؛ أي: شر الخليقة وأخسهم، والبرية جميع الخلق؛ لأن الله سبحانه برأهم؛ أي: أوجدهم بعد العدم، يقال: برأ؛ أي: خلق، والبارىء: الخالق، والبرية: الخليقة (¬2)، وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع وابن ذكوان: {البرئة} بالهمز في الموضعين، من برأ بمعنى خلق، وقرأ الجمهور: {الْبَرِيَّةِ} بشد الياء فيهما، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سُهل بالإبدال وأُدغم، واحتمل أن يكون من البراء وهو التراب، قال الفراء (¬3): إن أُخذت البرية من البراء؛ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

[7]

هو التراب .. لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ، وإن أخذتها من بريت القلم؛ أي: قَدَّرته، دخلت، وقيل: إن الهمز هو الأصل؛ لأنه يقال: برأ الله الخلق بالهمز؛ أي: ابتدعه واخترعه، ومنه قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ولكنها خُففت الهمزة، والتزم تخفيفها عند عامة العرب. والمعنى (¬1): أولئك الأشقياء المذكورون شر الخليقة؛ أي: أعمالًا وهو الموافق لما سيأتي في حق المؤمنين، فيكون في حيز التعليل لخلودهم في النار، من شرهم مقامًا ومصيرًا، فيكون تأكيدًا لفظاعة حالهم، وتوسيط ضمير الفصل؛ لإفادة الحصر؛ أي: هم شر البرية دون غيرهم كيف لا وهم شر من السراق؛ لأنهم سرقوا وأخفوا من كتاب الله نعوت محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر من قطّاع الطريق لأنهم قطعوا الدين الحق على الخلق، وشر من الجهال الأجلاف؛ لأن الكفر مع العلم يكون كفر عناد، فيكون أقبح من كفر الجهال، فقوله: {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أفعل تفضيل؛ لأنهم أشر من هؤلاء المذكورين، وظهر منه أن وعيد العلماء السوء أعظم من وعيد كل أحد، ومن تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد، وقيل: لا يجوز أن يدخل في الآية ما مضى من الكفار؛ لأن فرعون كان شرًا منهم كما مر آنفًا، وأما الآية الثانية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر؛ لأنهم أفضل الأمم، والمعنى: هم شر الخليقة على الإطلاق؛ إذ منكِر الحق بعد معرفته وقيام الدليل عليه، منكِر لعقله، جالب لنفسه الدمار والوبال، 7 - وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين .. أردفه جزاء المؤمنين المخبتين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله وبما بعثوا به {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: الأعمال الصالحة؛ أي: جمعوا بين الإيمان والعلم والعمل الصالح، ويُفهم من مقابلة الجمع بالجمع أنه لا يكلَّف الواحد بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ، فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ والصبر والقناعة {أُولَئِكَ} المنعوتون بما هو في الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} استُدل بالآية على أن البشر أفضل من المَلَك؛ لظهور أن المراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هو البشر، والبرية يشمل المَلَك والجن. سئل الحسن رحمه الله تعالى عن قوله: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أهم خير من ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

الملائكة؟ قال: ويلك، وأنى تعادل الملائكة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقيل: هؤلاء خير البرية في عصره - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبعد أن يكون في مؤمن الأمم السابقة من هو خير منهم. وقرأ الجمهور: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} مقابل {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد: {خيار البرية} جمع خَيِّر، كجيّد وجياد. ذكره في "البحر". 8 - {جَزَاؤُهُمْ}؛ أي: ثوابهم بمقابلة ما وقع لهم من الإيمان والعمل الصالح، وهو مبتدأ {عِنْدَ رَبِّهِمْ}؛ أي: عند خالقهم ظرف للجزاء {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: دخول جنات عدن، وهو خبر للمبتدأ، والعدن الإقامة والدوام، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: {عَدْنٍ} بطنان الجنة؛ أي: وسطها، والمراد بـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أوسط الجنات وأفضلها، يقال: عدن بالمكان يعدن عدنًا إذا أقام، ومعدن الشيء مركزه ومستقره {تَجْرِي} وتسيل {مِنْ تَحْتِهَا}؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها {الْأَنْهَارُ} الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل، وفي "الإرشاد": إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان، كما هو الظاهر فجريان الأنهار من تحتها فظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها، فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيًا ما كان، فالمراد: جريانها بغير أخدود. وجمع {جَنَّاتُ} (¬1) يدل على أن للمكلف جنات، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} فذكر للواحد أربع جنات، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله تعالى، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان. وقيل: إنه تعالى قابل الجمع بالجمع في قوله: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ} وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فيكون لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روي مرفوعًا، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمُلْكًا كَبِيرًا} والألف واللام في الأنهار للتعريف، فتكون منصرفة إلى الأنهار الأربعة المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء ونهر اللبن ونهر العسل ونهر الخمر، وفي ¬

_ (¬1) روح البيان.

توصيفها بالجري بعدما جعل الجنات الموصوفة جزاء، إشارة إلى مدحهم بالمواظبة على الطاعة، كأنه تعالى يقول: طاعتك كانت جارية ما دمت حيًا، على ما قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} فلذلك كانت أنهار كرمي جارية إلى الأبد {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية، لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها، وهو حال، وذو الحال وعامله كلاهما مضمران يدل عليه جزاؤهم، والتقدير: يجزون بها خالدين فيها، وقوله: {أَبَدًا} ظرف زمان مستقر لما يستقبل من الزمان مؤكد للخلود؛ أي: لا يموتون فيها ولا يخرجون منها كما مر آنفًا، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} كلام مستأنف مبين لما يتفضل به عليهم زيادة على ما ذُكر من أجزية أعمالهم؛ أي: استئناف إخبار، كأنه قيل: تُزاد لهم، أو استئناف دعاء من ربهم، فلذا فُصل وقد يُجعل خبرًا بعد خبر وحالًا بتقدير قد. والمعنى: قبل أعمالهم وجازاهم عليها، قال ابن الشيخ: لما كان المكلف مخلوقًا من جسد وروح، وأنه اجتهد بهما في طاعة ربه .. اقتضت الحكمة أن يجزيه بما يتنعم ويستريح به كل واحد منهما، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة، وجنة الروح هي رضا الرب جل جلاله {وَرَضُوا عَنْهُ} حيث بلغوا من المطالب قاصيتها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأبيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا سيما أنهم أعطوا لقاء الرب الذي هو المقصد الأقصى، والمعنى؛ أي: فرحوا بما أعطاهم من أنواع الكرامة. وحاصل المعنى (¬1): أي هؤلاء يجزيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدًا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا، وعلينا أن نؤمن بالجنة، ولا نبحث عن حقيقتها, ولا أين موضعها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه، ثم ذكر أسباب هذا الجزاء، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: إنهم حازوا رضا الله تعالى بالتزام حدود شريعته، فحمدوا مغبة أعمالهم، ونالوا ما يرضيهم في دنياهم وآخرتهم، قال الراغب: رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرًا بأمره ¬

_ (¬1) المراغي.

ومنتهيًا عن نهيه اهـ. {وَذَلِكَ} المذكور من الجزاء والرضوان، وقال بعضهم (¬1): الأظهر أنه إشارة إلى ما ترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح. وعبارة "السمين": ذلك المذكور من الاستقرار في الجنة مع الخلود فيها ومن رضا الله عنهم كائن {لِمَنْ خَشِيَ} وخاف {رَبَّهُ} بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ أي: ذلك المذكور كائن لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه، فإنها ليست بخشية على الحقيقة. والمعنى (¬2): أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه، وفي ذلك تحذير من خشية غير الله، وتنفير من إشراك غيره به في جميع الأعمال، كما أن فيه ترغيبًا في تذكر الله ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصًا، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفي في نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء؛ لأن الخشية لم تحل قلوبهم ولم تهذب نفوسهم، وتلك الخشية التي هي من خصائص العلماء بشؤون الله تعالى مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. الإعراب {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}. {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَكُنِ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لَمْ} {الَّذِينَ}: اسمها، وجملة {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الموصول، أو من الواو في ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

{كَفَرُوا}. {وَالْمُشْرِكِينَ} معطوف على {أَهْلِ الْكِتَابِ}. {مُنْفَكِّينَ}: خبر {يَكُنِ} منصوب بالياء، وجملة {يَكُنِ} مستأنفة استئنافًا نحويًا. {حَتَّى}: حرف جر وغاية. {تَأْتِيَهُمُ}: فعل مضارع ومفعول به منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} الجارة. {الْبَيِّنَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وَأَنْ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره: إلى إتيان البينة إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ {مُنْفَكِّينَ}. {رَسُولٌ}: بدل من {الْبَيِّنَةُ} بدل كل من كل مبالغة، أو بدل اشتمال. {مِنَ اللَّهِ}: صفة أولى لـ {رَسُولٌ}. {يَتْلُو}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {رَسُولٌ}. {صُحُفًا}: مفعول به. {مُطَهَّرَةً}: صفة لـ {صُحُفًا}، وجملة {يَتْلُو} صفة ثانية لـ {رَسُولٌ}، أو حال منه على حسب القاعدة النحوية. {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}. {فِيهَا}: خبر مقدم. {كُتُبٌ}: مبتدأ مؤخر. {قَيِّمَةٌ}: نعت للكتب؛ أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثانية لـ {صُحُفًا}. {وَمَا}: {الواو}: استئنافية. {ما}: نافية. {تَفَرَّقَ الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {أُوتُوا}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل. {الْكِتَابَ}: مفعول ثان لـ {أُوتُوا}؛ لأنه بمعنى أعطوا، والجملة الفعلية صلة الموصول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {مِنْ بَعْدِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تَفَرَّقَ}. {ما}: مصدرية. {جَاءَتْهُمُ}: فعل ماض ومفعول به مقدم. {الْبَيِّنَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية، و {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بضافة الظرف إليه، التقدير: وما تفرقوا إلا من بعد مجيء البينة إياهم. {وَمَا}: {الواو}: حالية. {ما}: نافية. {أُمِرُوا}: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {تَفَرَّقَ} أعني: الموصول. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {لِيَعْبُدُوا}: {اللام}: حرف جر زائد، أو بمعنى الباء، {يعبدوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وعلامة نصبه حذف النون. {اللَّهَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض إن قلنا: {اللام}: زائدة، تقديره إلا عبادة الله؛ أي: إلا بعبادة الله، أو

مجرور باللام بمعنى الباء، وما أمروا إلا بعبادة الله، الجار والمجرور متعلق بـ {أُمِرُوا}. {مُخْلِصِينَ}: حال من الواو في {يعبدوا}. {له}: متعلق بـ {مُخْلِصِينَ}. {الدِّينَ}: مفعول به لـ {مُخْلِصِينَ}؛ لأنه اسم فاعل. {حُنَفَاءَ}: حال ثانية من فاعل {يعبدوا}، من من الضمير المستكن في {مُخْلِصِينَ} فتكون حالًا متداخلة. {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {يعبدوا}. {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}: معطوف عليه أيضًا. {وَذَلِكَ}: {الواو}: عاطفة، أو حالية. {ذلك دين القيمة}: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من المصدر المفهوم من {يعبدوا} و {يقيموا} و {يؤتوا}، والتقدير: أي: وما أمروا إلا بعبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حال كون ما ذُكر دين الملة القيمة. أو معطوفة على جملة {وَمَا أُمِرُوا}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور حال من الموصول. {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة مسوقة لبيان حال الفريقين {خَالِدِينَ}: حال من الضمير المستكن في خبر {إِنَّ}. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}: {أُولَئِكَ}: مبتدأ أول. {هُمْ}: مبتدأ ثان، أو ضمير فصل. {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}: خبر {هُمْ}، أو خبر {أُولَئِكَ}، وجملة {أُولَئِكَ} خبر ثان لـ {إِنَّ}. {إِنَّ الَّذِينَ}: ناصب واسمه، وجملة {آمَنُوا}: صلة الموصول. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}. {أُولَئِكَ}: مبتدأ. {هُمْ}: ضمير فصل. {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {إنَّ}، وجملة {إنَّ} مستأنفة. {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}. {جَزَاؤُهُمْ}: مبتدأ. {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {جَزَاؤُهُمْ}، أو حال من الضمير في {جَزَاؤُهُمْ}. {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو خبر ثان لـ {إنَّ}، وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: صفة لـ {جَنَّاتُ}. {خَالِدِينَ}:

حال، صاحبها وعاملها محذوفان، والتقدير: جنات عدن دخلوها، أو أعطوها خالدين فيها, ولا يجوز أن يكون حالًا من ضمير {جَزَاؤُهُمْ}؛ لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي. {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدِينَ}. {أَبَدًا}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {خَالِدِينَ} أيضًا. {رَضِيَ اللَّهُ}: فعل وفاعل. {عَنْهُمْ}: متعلق بـ {رَضِيَ}، والجملة مستأنفة مسوقة للدعاء، أو خبر ثالث لـ {إنَّ}، وجملة {وَرَضُوا عَنْهُ}: معطوفة على جملة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}. {ذَلِكَ}: مبتدأ. {لِمَنْ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. {خَشِيَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {مِنْ} {رَبَّهُ}: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} {يَكُنِ}: أصله يكون، دخل عليه الجازم، فسكن آخره فصار لم يكون، فالتقى ساكنان فحذفت الواو، فصار يكن. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى والمجوس {وَالْمُشْرِكِينَ} عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم {مُنْفَكِّينَ} اسم فاعل من انفك من باب انفعل الخماسي، وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى: أنهم متعلقون بدينهم لا يتركونه ولا يرومون انفكاكًا عنه، قال الأزهري: وليس هو من باب ما انفك وما برح، وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء؛ أي: انفصاله عنه. {الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة، وزن فيعلة، أدغمت ياء فيعلة في عين الكلمة. {صُحُفًا} جمع صحيفة، وهي الأوراق والقراطيس التي يُكتب فيها. {مُطَهَّرَةً}؛ أي: مبرأة من الزور والضلال {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}؛ أي: أمور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب التي لا عوج فيها، وأصل {قَيِّمَةٌ}: قيومة بوزن فعيلة، اجتمعت الواو والياء وسُبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء. {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} والعبادة هي: التذلل، ومنه طريق معبد؛ أي: مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ؛ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام وما أطاعوهم، ولكن في الشرع صارت اسمًا لكل طاعة لله أديت له على وجه التذلل

والخضوع والنهاية في التعظيم والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من كان واحدًا في صفاته الذاتية والفعلية. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص: أن يأتي بالفعل خالصًا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، فالعبادة لجلب المنفعة، أو لدفع المضرة ليست من قبيل الإخلاص، وقال الكرخي: والإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله، ولا تطلب منه ثوابًا اهـ، وقال الشهاب: الإخلاص هنا عدم الشرك، وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف اهـ. والدين: العبادة، واخلاص الدين لله: تنقيته من أدران الشرك. {حُنَفَاءَ}: واحدهم حنيف، كشرفاء جمع شريف، وهو في الأصل المائل المنحرف، والمراد به هنا المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله تعالى. {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} صيغة التفضيل وأصله: أشرر بوزن أفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الشين، ثم أُدغمت في الراء الثانية، ثم لما كثر استعمال هذه الكلمة على ألسنة العرب .. خففوها، فقالوا: شر فاستغنوا بها عن قولهم: أشر، وكذلك فعلوا في كلمة خير. {الْبَرِيَّةِ} قرىء بالهمزة، فقالوا: {البريئة} وبدونها، فقالوا: {الْبَرِيَّةِ} فقراءة الهمزة على أن لامه همزة من برأ، ووزنه فعيلة بمعنى مفعولة، ومن قرأ بياء مشددة بدون همزة يحتمل أن يكون تخفيفًا للغة الهمزة بإبدال الهمزة ياء وإدغام ياء فعيل فيها، ويحتمل أن يكون من البري وهو التراب؛ لأنهم خلقوا منه، فأدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة ومعنى القراءتين شيء واحد، وهو جميع الخلق. قال ابن خالويه: والعرب على ترك الهمز، قال العجير لنافع بن علقمة: يَا نَافِعًا يَا أَكْرَمَ الْبَرِيَّهْ ... وَاللهِ لَا أَكْذِبُكَ الْعَشِيَّهْ إِنَّا لَقِيْنَا سَنَةً قَسِيَّهْ ... ثُمَّ مُطِرْنَا مَطْرَةَ رَوِيَّهْ فَنَبَّتَ الْبَقْلُ وَلَا رَعِيَّهْ ... فَانْظُرْ بِنَا الْقرَابَةَ الْعَلِيَّهْ وَالْعُرْبُ مِمَّا وَلَدَتْ صَفِيَّهْ فأمر له بألف شاة.

وقال الآخر: أُمْرُرْ عَلَى جَدَثِ الْحُسَيْـ ... ـنِ فَقُلْ لأَعُظُمِهِ الزَّكِيَّهْ قَبْرٌ تَضَمَّنَ طَيَّبًا ... آبَاؤُهُ خَيْرُ الْبَرِيَّهْ آبَاؤُهُ أَهْلُ الْخِلاَ ... فَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعَطِيَّهْ وفي قوله: بالنصب نظر، فهلا قال: يا نافع بالضم مع التنوين؛ لأن المنادى المفرد إذا نُوّن للضرورة تُرك على ضمه، كقول الأحوص: سَلَامُ اللهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلَامُ وقد اهتم النحاة بهذا البيت، فأطلقوا على التنوين فيه تنوين الضرورة، وليس بذاك، وارجع إن شئت إلى كتبهم، والله أعلم. البلاغة وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإجمال بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ثم التفصيل بقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}؛ لأن ذكر الشيء مجملًا، ثم ذكره مفصلًا أوقع في النفس. ومنها: إيراد الصلة فعلًا في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إشعارًا بأن كفرهم حادث بعد أنبيائهم. ومنها: التعبير عن إتيان البينة بالمضارع في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} اعتبارًا بحال المحكي لا الحكاية. ومنها: التنوين في قوله: {رَسُولٌ} للدلالة على التفخيم والتعظيم. ومنها: وصفه بقوله: {مِنَ اللَّهِ} تأكيدًا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية؛ أي: رسول؛ أي: رسول كائن من الله تعالى. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}؛ لأن نسبة التلاوة إلى الصحف بمعنى القراطيس مجاز؛ لأن الأوراق لا تتلى، بل المتلو المكتوب، ففيه إسناد ما للحال إلى المحل بعلاقة الحلول، والمراد أنه لما كان ما يتلوه الذي هو

القرآن مصدقًا لصحف الأولين مطابقًا لها في أصول الشرائع وبعض الأحكام .. صار متلوه كأنه صحف الأولين وكتبهم، فعبر عنه باسم الصحف مجازًا. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {مُطَهَّرَةً} حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارة الشيء عن الأنجاس. ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} حيث عطفهما على قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} اهتمامًا بشأن الخاص وإظهارًا لمزيته. ومنها: إضافة الشيء إلى صفته في قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ أي: دين الملة القيمة اعتبارًا بالتغاير اللفظي بينهما؛ لأن الشريعة المبلغة إلى الأمة باعتبار أنها تملى وتُكتب تسمى ملة، وباعتبار أنها تطاع وتدان تسمى دينًا. ومنها: ذكر المشركين في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب باعتبار اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم. ومنها: إيراد الجملة الاسمية في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} إلخ؛ للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة، من أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم بها، وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت عليهم الآن بصورة عرضية وتظهر عليهم في الآخرة بصورة حقيقية. ومنها: المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} إلخ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...} إلخ. ومنها: الطباق بين {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} و {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}. ومنها: توسيط ضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لإفادة الحصر؛ أي: هم شر البرية دون غيرهم، ومثله قوله الآتي: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}. ومنها: التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلة الخشية، والتحذير من الاغترار بالتربية. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد اشتملت هذه السورة على سبعة مقاصد: 1 - عدم انفكاك المشركين وأهل الكتاب عما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة. 2 - تفرقهم عندما جاءتهم البينة. 3 - أمرهم بعبادة الله والصلاة والزكاة مخلصين له الدين حنفاء له. 4 - خلود فريق الفجار في نار جهنم. 5 - دخول فريق الأبرار جنات عدن. 6 - رضا الله سبحانه وتعالى عنهم ورضوانهم عنه. 7 - كون ذلك من نتائج خشيتهم لربهم سبحانه (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تم تفسير سورة البينة بعون شارع الملة القيمة قبيل صلاة العصر من يوم الخميس الخامس عشر من شهر ذي الحجة من شهور سنة: 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وأهل بيته وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، آمين.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة سورة الزلزلة مدنية، نزلت بعد سورة النساء في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول: ابن مسعود وعطاء وجابر. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ} بالمدينة، وآياتها: ثمان، وكلماتها (¬1) خمس وثلاثون كلمة، وحروفها: مئة وتسعة وأربعون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬2): أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها جزاء المؤمنين والكافرين بيَّن في هذه السورة وقت ذلك الجزاء وعلامته، وعبارة أبي حيان: لما ذكر فيما قبلها كون جزاء الكفار النار، وجزاء المؤمنين جنات عدن، فكان قائلًا قال: متى ذلك؟ فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}، وسميت سورة الزلزلة؛ لذكر الزلزلة فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الزلزلة محكمة كلها ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: وفضائلها كثيرة ورد بها أحاديث صحيحة: فمنها: ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في "الشُّعَب" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أتى رجل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أقرئني يا رسول الله، قال له: "اقرأ ثلاثًا من ذوات الراء" فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: "فاقرأ ثلاثًا من ذوات حم" فقال مثل مقالته الأولى، فقال له: "اقرأ ثلاثًا من المسبحات" فقال مثل مقالته الأولى، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فاقرأه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق نبيًا لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح الرويجل أفلح الرويجل" ثم قال على به، فجاءه فقال له: أمرت بيوم الضحى ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) المراغي.

جعله الله عيدًا لهذه الأمة، فقال الرجل: أريت إن لم أجد إلا منيحة أنثى فأضحي بها قال: "لا ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلم أظافرك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل". ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} عدلت له بنصف القرآن، ومن قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} عدلت بثلث القرآن، ومن قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} عدلت له بربع القرآن" وقوله: "تعدل بنصف القرآن، وذلك؛ لأن أحكام القرآن تنقسم على قسمين: أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة كلها إجمالًا". ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن" قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة. ومنها: ما أخرجه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه: "هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به قال: أليس معك قل هو الله أحد؟ قال: بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك إذا زلزلت الأرض؟ قال: بلى، قال: ربع القرآن تزوج" قال الترمذي هذا حديث حسن. ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ ليلة إذا زلزلت الأرض كان له عدل نصف القرآن" وروي أن جد الفرزدق ابن صعصعة بن ناجية أتاه - صلى الله عليه وسلم - ليستقرِئَهُ، فقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، فقال: حسبي حسبي، وهي أحكم آية في القرآن، ويسمونها الجامعة الفاذة. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. أسباب النزول ذكر في سبب نزولها: أن الكفار كانوا كثيرًا ما يسألون عن يوم الحساب، ومتى هو، فيقولون: أيان يوم القيامة؟ ويقولون: متى هذا الوعد وما أشبه ذلك، فذكر لهم الخالق عَزَّ وَجَلَّ في هذه السورة علامات ذلك اليوم فقط؛ ليعلموا أنه لا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم الذي يعرض الناس فيه على ربهم؛ ليجازي كلًّا بعمله ويعاقب المذنبين ويثيب المحسنين، وأنه تعالى سيجازي على أصغر الأعمال، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ...} الآية، سبب نزولها (¬1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ...} الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، ويقولون: إنما أوعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}؛ أي (¬2): حركت تحريكًا عنيفًا شديدًا متداركًا، فإن تكرر حروف لفظه ينبيء عن تكرر معنى الزلل، وجواب الشرط قوله الآتي: {تُحَدِّثُ}، ¬

_ (¬1) الباب المنقول. (¬2) روح البيان.

[2]

والمراد: تحركها عند قيام الساعة، فإنها تضطرب حتى يتكسر كل شيء عليها، قال مجاهد: وهي النفخة الأولى لقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} {زِلْزَالَهَا}؛ أي: الزلزال المخصوص بها الذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها في حكمة الله سبحانه ومشيئته، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، وهو معنى {زِلْزَالَهَا} بالإضافة العهدية، وذكر المصدر للتأكيد، فهو مصدر مضاف إلى فاعله. يقال: زلزله زلزلة وزلزالًا مثلثة الزاي حركه حركة شديدة، كما في "القاموس"، وقال أهل التفسير الزلزال - بالكسر - مصدر، وبالفتح اسم بمعنى المصدر، وفعلال بالفتح لا يوجد إلا في المضاعف كالصلصال، وقال القرطبي: والزلزال - بالفتح - مصدر كالوسواس والقلقال والصلصال. وقرأ الجمهور (¬1): {زِلْزَالَهَا} بكسر الزاي، وقرأ الجحدري وعيسى بفتحها، وهما مصدران بمعنًى، وقال الزمخشري: المكسور مصدر والمفتوح اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف. انتهى. أما قوله: والمفتوح اسم فجعله غيره مصدرًا جاء على فعلال بالفتح، ثم قيل: قد يجيء بمعنى اسم الفاعل، فتقول: فضفاض بمعنى مفضفض، وصلصل بمعنى مصلصل، وأما قوله: فليس في الأبنية إلخ فقد وُجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف، قالوا ناقة بها خزعال بفتح الخاء، وليس بمضاعف، والمعنى: إذا تحركت (¬2) الأرض حركة شديدة واضطربت، ونحو الآية قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}. وفي ذلك إيماء إلى شدة الحال يومئذ، ولفتٌ لأنظار الكفار إلى أن يتدبروا الأمر ويعتبروا، وكان يقال لهم إذا كان الجماد يضطرب لهول ذلك اليوم، فهل لكم أن تستيقظوا من غفلتكم وترجعوا عن عنادكم. 2 - {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)}؛ أي: ما في جوفها (¬3) من الأموات والدفائن، ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) الشوكاني.

والأثقال جمع ثِقْل، قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثِقْل لها، وإذا كان فوقها فهو ثِقْل عليها، قال مجاهد: {أَثْقَالَهَا} موتاها تخرجهم في النفخة الثانية، وقيل: للإنس والجن الثقلان، وإظهار {الْأَرْضُ} في موضع الإضمار لزيادة التقرير. وعبارة "الروح" قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} اختيار الواو على الفاء، مع أن الإخراج مسبب عن الزلزال، للتفويض إلى ذهن السامع، إظهار {الْأَرْضُ} في موضع الإضمار؛ لأن إخراج الأثقال حال بعض أجزائها، والأثقال كنوز الأرض وموتاها، جمع ثِقْل بكسر فسكون، وأما ثَقَل محركة فمتاع المسافر، وحشمه، على ما في "القاموس"، والمعنى: وأخرجت الأرض ما في جوفها من دفائنها وكنوزها، كما عند زلزال النفخة الأولى الذي هو من أشراط الساعة، وكذا من أمواتها عند زلزال النفخة الثانية، وفي الخبر: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجيء القاطع رحمه، فيقول في هذا: قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطعت يدي، ثم يَدَعونه فلا يأخذون منه شيئًا" أخرجه مسلم في "صحيحه" قوله: أفلاذ كبدها أراد أنها تخرج الكنوز المدفونة فيها وقيئها إخراجها، ويدخل في الأثقال الثقلان، وفيه إشارة إلى أن الجن تُدفن أيضًا. والمعنى: ولشدة الزلزال والاضطراب تشقق الأرض ويثور باطنها، فتقذف بما في جوفها من الأثقال من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك مما يكون في باطن الأرض وجوفها الملتهب، وهذا مثل ما يقع في بعض مناطق الأرض من زلازل وجبال من نار تنشق لها الأرض وتقذف بالحمم وبما فيها من نيران ومعادن ومياه ونحو ذلك، وقد تبتلع مدينة كبيرة كاملة بسكانها، وتأتي على الأخضر واليابس فتدمره، وتدمر من عليها من الناس، كما حدث ذلك في إيطاليا سنة: (1909 م) من ثوران جبال نار وابتلاعها مدينة مسينا, ولم تُبق منها دَيَّارًا ولا نافخ نار. وعند قرب الساعة تكثر في جميع الأرض الزلازل والخسوف، وهي علامة من أشراط الساعة، ونحو الآية قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)}.

[3]

3 - {وَقَالَ الْإِنْسَانُ}؛ أي (¬1): وقال كل فرد من أفراد الناس لما يغشاهم من الأهوال ويلحق بهم من فرط الدهشة وكمال الحيرة. {مَا لَهَا}؛ أي: أي شيء - للأرض زلزلت هذه المرة الشديدة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظامًا لما شاهده من الأمر الهائل، وتعجبًا لما يرونه من العجائب التي لم تسمع بها الأذان ولا ينطق بها اللسان، لكن المؤمن يقول بعد الإفاقة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، والكافر: مَن بعثنا من مرقدنا. وقوله: {مَا لَهَا} مبتدأ وخبر، وفيه معنى التعجب؛ أي: أي شيء ثبت لها؟ أو لأي شيء زلزلت، وأخرجت أثقالها؟ والمعنى (¬2)؛ أي: وقال من يكون من الناس مشاهدًا لهذا الزلزال الذي يخالف أمثاله في شدته، ويحار العقل في معرفة أسبابه، ويصيبه الدهش مما يرى ويبصر ما لهذه الأرض وما الذي وقع لها مما لم يعهد له نظير من قبل، كما جاء في آية أخرى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}. 4 - وقوله: {يَوْمَئِذٍ} بدل من {إِذَا} وقوله: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} عامل فيهما، وهو جواب الشرط كما مر، وهذا على القول (¬3) بأن العامل في {إِذَا} الشرطية جوابها، و {أَخْبَارَهَا} مفعول ثان لـ {تُحَدِّثُ} والأول محذوف؛ لعدم تعلق الغرض بذكره؛ إذ الكلام مسوق لبيان تهويل اليوم، وأن الجمادات تنطق فيه، وأما ما ذكر ابن الحاجب من أن حدَّث وأنبأ ونَبَّأ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، فغير مسلم الصحة على ما فُصِّل في محله، والمعنى: يوم إذا زلزلت الأرض وأخرجت أثقالها تحدث الخلق وتخبرهم أخبارها إما بلسان الحال، حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأجله زلزالها، واخراج أثقالها، وأن هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويخوفون منه، وإما بلسان المقال؛ وهو قول الجمهور حيث ينطقها الله تعالى، فتخبر بما عُمل على ظهرها من خير وشر حتى يود الكافر أنه سيق إلى النار بما يرى من الفضوح. روي: أن عبد الرحمن بن صعصعة كان يتيمًا في حجر أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فقال أبو سعيد: يا بني إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[5]

فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر ولا شجر إلا شهد له". وروي: أن أبا أمية صلى في المسجد الحرام المكتوبة ثم تقدم فجعل يصلى هاهنا وهاهنا، فلما فرغ. قيل له: يا أبا أمية، ما هذا الذي تصنع؟ قال: قرأت هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} فأردت أن يشهد لي يوم القيامة، فطوبى لمن شهد له المكان بالذكر والتلاوة والصلاة ونحوها، وويل لمن شهد عليه بالزنا والشرب والسرقة والمساوىء. ويقال: إن لله عليك سبعة شهود: المكان؛ كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}، والزمان؛ كما في الخبر: "ينادي كل يوم: أنا يوم جديد، وأنا على ما تعمل فيّ شهيد"، واللسان؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ}، والأركان؛ كما قال تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}، والملكان؛ كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}، والديوان؛ كما قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}، والرحمن؛ كما قال: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}، فكيف يكون حالك أيها العاصي إذا شهد عليك هؤلاء الشهود؟. والمعنى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}؛ أي: في (¬1) ذلك الوقت، وقت الزلزلة تحدثك الأرض أحاديثها. والمعنى: أي إن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب وما لم يعهد له نظير من الخراب تُعْلِم السائل وتفهمه أن ما يراه لم يكن بسبب من الأسباب التي وضعت لأمثاله مما نراه حين استقر نظام هذا الكون، 5 - ثم بين سبب ما يرى، فقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}؛ أي (¬2): تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث بلسان المقال على ما عليه الجمهور أو بسبب أن أحدث فيها أحوالًا دالة على الإخبار، كما إذا كان التحديث بلسان الحال، و {اللام} (¬3) في {أَوْحَى لَهَا} بمعنى إلى، وإنما أوثرت اللام على إلى مع كون المشهور تعديتها بأل لموافقة الفواصل قال العجاج يصف الأرض: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[6]

أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ ... وَشَدَّها بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ فعداها باللام، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى، كذا قال أبو عبيدة .. قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. وقيل: إن {أَوْحَى} يتعدى باللام تارةً وبإلى أخرى. وقيل: إن اللام على بابها مع كونها للعلة. والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، والتقدير: أوحى إلى الملائكة المتصرفين فيها لأجل الأرض؛ أي: لأجل ما يفعلون فيها، والأول أولى، وإذا كان الإيحاء إليها .. احتمل أن يكون وحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة. والمعنى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}؛ أي: إن ما يكون للأرض يومئذٍ إنما هو بأمر إلهي خاص، فيقول لها: كوني خرابًا، كما قال لها حين بدأ النشأة الأولى: كوني أرضًا، وإنما سمي ذلك وحيًّا لأنه أتى على خلاف ما عُهِد منذ نشأة الأرض. 6 - {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يقع ما ذكر {يَصْدُرُ النَّاسُ}؛ أي (¬1): يرجع الناس من قبورهم إلى موقف الحساب، والظرف إما بدل من {يَوْمَئِذٍ} قبله، وإما منصوب بـ {يَصْدُرُ}، وإما باذكر مقدرًا. والصَّدْر - بسكون الدال -: مصدر بمعنى الرجوع والانصراف بعد الورود والمجيء. قال الجمهور: الورود كونهم مدفونين، والصدر قيامهم من قبورهم، والاسم منه: الصَّدَرُ - بالتحريك - ومنه طواف الصَّدَرِ، وهو طواف الوداع. وقوله: {أَشْتَاتًا} حال من الناس، جمع شت - بالفتح - أي: متفرق؛ أي: متفرقين في النظام. وعبارة الخطيب: يوم إذ زلزلت الأرض وأخرجت أثقالها يرجع الناس من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد؛ ليفصل بينهم، حال كونهم متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال، من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس: متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الإيمان على حدة، وأهل الكفر على حدة، أو متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنّة وآخذ ذات الشمال إلى النار، أو متفرقين بيض الوجوه والثياب آمنين، ينادي المنادي بين أيديهم: هؤلاء أولياء الله سبحانه، وسود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال فزعين، ¬

_ (¬1) روح البيان.

ينادي المنادي بين أيديهم: هؤلاء أعداء الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، وهو يقول: ما لي أراك مغمومًا - وهو أعلم به -؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل، قد طال تفكري في أمر أمتي يوم القيامة، قال: يا محمد، في أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإِسلام؟ قال: يا جبريل، لا بل في أمر أهل لا إله إلا الله، قال: فأخذ بيده حتى أقامه على مقبرة بني سلمة، فضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت فقال: قم بإذن الله، فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، الحمد لله رب العالمين، فقال له جبريل: عد، فعاد كما كان، ثم ضرب بجناحه الأيسر على قبر ميت، فقال: قم بإذن الله، فخرج رجل مسود الوجه أزرق العين، وهو يقول: واحسرتاه، واندامتاه، واسوأتاه، فقال له جبريل: عد، فعاد كما كان، ثم قال جبريل: هكذا يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه" و {اللام} في قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} متعلقة بـ {يَصْدُرُ} أي: يومئذٍ يصدر الناس أو قبورهم إلى ربهم {لِيُرَوْا} جزاء {أَعْمَالَهُمْ} خيرًا كان أو شرًا والكلام على حذف مضاف، وإلا .. فنفس الأعمال لا يتعلق بها الرؤية البصرية؛ إذ الرؤية هنا بصرية لا علمية؛ لأن قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ} إلخ تفصيل {لِيُرَوْا}، والرؤية فيه بصرية لتعديتها إلى مفعول واحد، اللهم إلَّا أن يُجعل لها صور نورانية أو ظلمانية، أو يتعلق الرؤية بكتبها كما سيجيء، فحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير مضاف. أي: ليري الله سبحانه المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة، حتى يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة، كما أخبر ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - {أَعْمَالَهُمْ} فيعلمون جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله. وقرأ الجمهور: {لِيُرَوْا} بضم الياء مبنيًا للمفعول، وهو من رؤية البصر؛ أي: ليريهم الله سبحانه أعمالهم. وقرأ الحسن والأعرج، وقتادة وحمّاد بن سلمة، ونصر بن عاصم، وطلحة بن مصرف، والزهري وأبو حيوة وعيسى، ونافع في رواية بفتحها على البناء للفاعل، والمعنى: ليروا جزاء أعمالهم. وقصارى ذلك؛ يوم يقع الخراب العظيم لهذا العالم الأرضي، ويظهر ذلك الكون الجديد، كون الحياة الأخرى .. يصدر الناس متفرقين متمايزين، فلا يكون

[7]

محسن في طريق واحد مع مسيء، ولا مطيع مع عاص؛ ليريهم الله جزاء ما قدمت أيديهم، ويجنوا ثمر ما غرسته أيديهم. 7 - ثم فصل ذلك بقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ ...} إلخ تفصيل للواو في قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} كما في "البيضاوي". {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}؛ أي: وزن نملة صغيرة، وهي أصغر ما يكون من النمل. قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة {خَيْرًا يَرَهُ}؛ أي: يرى ذلك الخير يوم القيامة في كتابه فيفرح به، 8 - {و} كذلك {مَنْ يَعْمَلْ} في الدنيا {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}؛ أي، يرى ذلك الشر يوم القيامة في كتابه فيسوءه. ومثل هذه الآية: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} والمثقال (¬1) الوزن، والذرة النملة الصغيرة، وكل مئة منها زنة حبة شعير، وأربع ذرات وزن خردلة. اهـ قسطلاني. وقيل: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من الشعيرة. اهـ عيني. وفي الخطيب: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا وضعت يدك - أي: راحتك - على الأرض ثم رفعتها .. فكل واحدة مما لزق من التراب ذرة. وقيل: الذرة ما يرى في شعاع الشمس. الداخل من الكوة من الهباء الطائرة. وقال يحيى بن عمار: حبَّة الشعير أربع أرزات، والأرزة أربع سمسمات، والسمسمة أربع خردلات، والخردلة أربع أوراق نخالة، وورق النخالة ذرة. والأول أولى وفي بعد الأحاديث: أن الذرة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله سبحانه ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم، صغيرًا ولا كبيرًا، وهو كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} اهـ خطيب. ومعنى رؤية إما يعادل الذرة من خير أو شر، وإما مشاهدة أجزيته، {فَمَنْ} الأولى مختصة بالسعداء، والمخصوص قوله: {أَشْتَاتًا} أي: {فَمَنْ يَعْمَلْ} من السعداء {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ومن الثانية بالأشقياء، بقرينه {أَشْتَاتًا} أيضًا؛ أي: {وَمَنْ يَعْمَلْ} من الأشقياء {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وذلك لأن حسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن المجتنب عن الكبائر معفوة. وما قيل من أن حسنة الكافر تؤثر في نقص العقاب وقد ورد أن حاتمًا الطائي يخفف الله عنه لكرمه وورد مثله في أبي طالب وغيره .. يرده قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق عبد الله بن جدعان: "لا ينفعه" لأنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم ¬

_ (¬1) روح البيان.

الدين وذلك حين قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق أبي طالب: "ولولا أنا .. كان في الدرك الأسفل من النار" فتلك الشفاعة مختصة به وأما حسنات الكفار: فمقبولة بعد إسلامهم، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا إلا أراه الله إياه أما المؤمن: فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر: فيرد حسناته تحسيرًا له). وفي "تفسير البقاعي" الكافر يوقف على ما عمله من خير على أنه جوزي به في الدنيا، أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان, فهو صورة بلا معنى، ليشتد ندمه ويَقْوَى حزنه وأسفه، والمؤمن يراه ليشتد سروره به، وفي جانب الشر يراه المؤمن ويعلم أنه قد غفر له فيكمل فرحه، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه. وقال محمد بن كعب (¬1): (فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا. وليس له عند الله تعالى خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس عليه عند الله شر). والتفسير الأول أولى. قال مقاتل: (نزلت في رجلين، كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يؤتيه التمر والكسرة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنما أوعد الله النار على الكافرين). وقرأ الجمهور (¬2): {يَرَهُ} في الموضعين بفتح الياء فيهما مبنيًا للفاعل؛ أي: يرى جزاءه من ثواب وعقاب، وقرأ ابن عباس وابن عمر، والحسن والحسين ابنا علي، وزيد بن علي وأبو حيوة، وعبد الله بن مسلم والكلبي، وخُليد بن نشيط وأبان عن عاصم، والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه، والجحدري والسلمي وعيسى: {يُره} بضم الياء فيهما على البناء للمفعول، أي: يريه الله إياه. وقرأ عكرمة {يَرَهُ} على توهم أن {مَن} موصولة، أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة في آخر الفعل، على لغة حكاها الأخفش. وقرأ الجمهور (¬3): {يَرَهُ} في الوضحين بضم الهاء وصلًا وسكونها وقفًا وقرأ هشام بسكونها وصلا ووقفا ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر سكونها فيهما، وعن أبي عمرو ضمها فيهما، مشبعة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) الشوكاني.

موصولة بواو، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية، وفي هذا النقل نظر، والصواب ما ذكرنا. والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاها الكسائي أيضًا عن بني كلاب وبني عقيل. وعبارة أبي حيان: وقرأ عكرمة (¬1): {يراه} بالألف في الموضعين، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاه الأخفش، أو على توهم أن {مَن} موصولة لا شرطية، كما قيل في {إِنه من يتقي ويصبر} في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن {مَن} شرطية لا موصولة، وجزم {ويصبر} عطفًا على التوهم. والرؤية هتا رؤية بصر كما مر وقال النقاش: ليست برؤية بصر، وإنما المعنى: يصيبه ويناله، انتهت. وحاصل المعنى (¬2): أي فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره. فإنه يجد جزاءه، ومن يعمل الشر ولو قليلًا .. يجد جزاءه، ولا فرق بين المؤمن والكافر، وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء وما نطق من الآيات بحبوط عمل الكافرين وأنها لا تنفعهم .. فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شيء، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} فقوله: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} صريح في أن المؤمن والكافر في ذلك سواء، وأن كلًّا يوفَّى يوم القيامة جزاءه، وقد ورد: أن حاتمًا يخفف عنه لكرمه، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإِمام في تفسير الآية. وقيل في معنى {يَرَهُ}؛ أي: يرى جزاء عمله ولا يرى العمل نفسه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدِم فلا يرى، وأنشدوا: إِنَّ مَنْ يَعْتَدِي وَيَكْسِبُ إِثْمًا ... وَزْنَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ سَيَرَاهُ وَيُجَازَى بِفِعْلِهِ الشَرَّ شَرًّا ... وَبِفِعْلِ الْجَمِيْلِ أيْضًا جَزَاهُ ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) المراغي.

هَكَذَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبِّيْ ... فِيْ {إِذَا زُلْزِلَتِ} وَجَلَّ ثَنَاه قال الإِمام الرازي في "تفسيره": لقائل أن يقول: إذا كان الأمر إلى هذا الحد {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} فأين الكرم؟. والجواب: هذا هو الكرم؛ لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفات والكريم لا يحتمله، وفي الطاعة تعظيم وإن قل فالكريم لا يضيعه، وكأنَّ الله سبحانه يقول: لا تحسب مثقال ذرة من الخير صغيرًا؛ فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع منى الذرة، بل اعتبرتها ونظرت فيها واستدللت بها على ذاتي وصفاتي، واتخذتها مركبًا به وصلت إِليَّ، إِذا لم تضيع أنت ذرتي .. أفأضيع أنا ذَرَّتك؟ ثم التحقيق: أن المقصود هو النية والقصد فإذا كان العمل قليلًا لكن النية خالصة .. فقد حصل المطلوب وإن كان العمل كثيرًا والنية دائرة .. فالمقصود فائت، ومن ذلك ما روى عن كعب: لا تحقروا شيئًا من المعروف؛ فإن رجلًا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة رضي الله عنها: كان بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها، فجاء سائل، فأمرت له بحبة من ذلك العنب، فضحك بعض من عندها فقالت: إن فيما ترون مثاقيل الذر، وتلت هذه الآية {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} ولعلها كان غرضها التعليم، وإلا .. فهي كانت في غاية السخاوة. روي: أن ابن الزبير بعث إليها بمئة ألف درهم في غرارتين، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية، هَلُمِّي فطوري، فجاءت بخبز وزيت، فقيل لها: أما أمسَكْتِ لنا درهمًا نشتري به لحمًا نفطر عليه؟ فقالت: لو ذَكَّرْتِني لفعلت ذلك. وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" متفق عليه. الإعراب {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، متعلق بـ {تُحَدِّثُ} الآتي؛ لأنه جوابها {زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل

{زِلْزَالَهَا}: منصوب على المفعولية المطلقة، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} على كونها فعل شرط لها، وقيل: {إِذَا} لمجرد الظرفية والعامل فيها محذوف، تقديره: يحشرون، وقيل: اذكر، فهي مفعول به، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ}: فعل وفاعل معطوف على {زُلْزِلَتِ} {أَثْقَالَهَا}: مفعول به {وَقَالَ الْإِنْسَانُ}: فعل وفاعل، معطوف على {زُلْزِلَتِ} {ما} اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل الرفع مبتدأ، {لها} خبر لها، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {يَوْمَئِذٍ} ظرف مضاف لمثله، في محل النصب على الظرفية على أنه بدل من {إِذَا} والعامل فيه هو العامل في المبدل منه {يوم}: مضاف. {إذ}: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والتنوين عوض عن المضاف إليه، تقديره: إذ تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالها، ويقول الإنسان مالها .. تحدث الأرض أخبارها بسبب إيحاء ربك إليها، فحذفت هذه الجمل الثلاث وناب منابها التنوين، فاجتمع ساكنان وهما الذال والتنوين، فكسرت الذال لالتقاء الساكنين، وليست هذه الكسرة في الذال بكسرة إعراب، وإن كانت {إذ} في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها، وإنما الكسرة فيها لالتقاء الساكنين، ويسمى هذا التنوين: تنوبن العوض {تُحَدِّثُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على {الْأَرْضُ} {أَخْبَارَهَا}: مفعول به ثان، والأول محذوف تقديره: أي الخلق. والجملة الفعلية جواب {إذ} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إذ} مع جوابها مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب. {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. {بِأَنَّ} {الباء} حرف جر وسبب {أن} حرف نصب وتوكيد {رَبَّكَ} اسمها {أَوْحَى}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {رَبَّكَ}. {لَهَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أَوْحَى} و {اللام} بمعنى إلى، أو على بابها كما مر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أن} تقديره: بأن ربك موحٍ إليها، وجملة {أَنَّ} مع معموليها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إيحاء ربك إليها، الجار والمجرور متعلق بـ {تُحَدِّثُ} {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف إلى مثله، بدل من {يَوْمَئِذٍ} قبله، أو متعلق

بـ {يَصْدُرُ}، أو هو مفعول به لـ اذكر، مقدرًا {يَصْدُرُ النَّاسُ}: فعل مضارع وفاعل، {أَشْتَاتًا}: حال من {النَّاسُ}. والجملة الفعلية جواب {إذ}، أو مستأنفة {لِيُرَوْا} {اللام}: حرف جر وتعليل {يروا}: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بأن مضمرة بعد (لام) كي وعلامة نصبه: حذف النون، والواو نائب فاعل، وهو المفعول الأول {أَعْمَالَهُمْ}: مفعول ثان له، والرؤية بصرية ولذلك عديت إلى مفعولين؛ لأن أرى إذا كانت علمية تتعدى إلى ثلاث والجملة الفعلية صلة {أن} المضمرة، و (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإراءة الله سبحانه إياهم جزاء أعمالهم، والجار والمجرور متعلق بـ {يَصْدُرُ}. {فَمَنْ يَعْمَلْ} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا عرفت أنهم يصدرون إلى ربهم وأردت تفاصيل أحوالهم .. فأقول لك {من يعمل}، {من}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله {يَعْمَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على {مَن}، تقديره: هو، {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: مفعول به ومضاف إليه {خَيْرًا}: تمييز ذات {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} منصوب به، {يَرَهُ}: ير فعل مضارع مجزوم بـ {مَن} الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: هو، يعود على {مَن} و {الهاء} في محل النصب مفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية كما مر، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وجملة قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، مماثلة لها في إعرابها حرفًا بحرف فلا حاجة إلى إعرابها. التصريف مفردات اللغة {زِلْزَالَهَا} الزلزلة: الحركة الشديدة مع اضطراب، قال الزمخشري: وقرىء بكسر الزاي وفتحها، فالمكسور مصدر، والمفتوح اسم مصدر، وليس في الأبنية فعلال - بالفتح - إلا في المضاعف. اهـ. وهذا بالنظر إلى الغالب، وإلا فقد ورد: ناقة خزعال، قال في "القاموس": وخزعل الضبع عرج وخمع، وخزعل الماشي نفض رجليه، وناقة بها خزعال ظلع،

وليس فعلال من غير المضاعف سواه، وقسطال وخرطال، وفيه أيضًا: وزلزلهُ زلزلةً وزلزالًا مثلثة: حركه. والزلازل البلايا، وقال ابن عرفة الزلزلة والتلتلة واحد، والزلازل والتلاتل كذلك، وأنشد للراعي: فَأَبُوْكَ سَيِّدُهَا وَأَنْتَ أَشَدُّهَا ... زَمَنَ الزَّلَازِلِ فِيْ التَّلاتِلِ جُوْلَا {أَثْقَالَهَا}: جمع ثِقْل - بكسر فسكون - كحمل وأحمال كما في "المختار"، وعبارة الزمخشري: وجعل ما في جوفها من الدفائن أثقالًا لها. والثقل في الأصل متاع البيت، كما قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} والمراد به هنا: ما في جوف الأرض من الدفائن، كالموتى والكنوز. {وَقَالَ الْإِنْسَانُ}: الإنسان فيه قولان، أحدهما: أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر، أي: يقول الجميع ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}، والثاني: أنه الكافر خاصة؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} يقال: أوحى له وأوحى إليه، ووحى له ووحى إليه، إذا كَلَّمه خفية من ألهمه كما جاء في قوله: {وأوحى ربك إلى النحل} والوحي الإعلام خفية من الإلهام {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} أي يرجع، فالوارد هو الآتي للماء ليشرب من يستقي، والصادر هو الراجع عنه {أَشْتَاتًا} جمع شَتٍّ، يقال: أمر شت وشتات؛ أي: متشتت ومتفرق، وهو وصفٌ بالمصدر، ويقال: جاؤوا أشتاتًا، وجاؤوا شتات شتات؛ أي متفرقين وقال عدي بن زيد: قَدْ هَرَاقَ المَاءَ فِي أَجْوَافِهَا ... وَتَطَايَرْنَ بِأَشْتَاتِ شَقَقْ {لِيُرَوْا} أصله لِيُرْأَيُوا، بوزن يُفعَلوا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}؛ أي: وزنها، وهو مَثَلٌ في الصغر، والذرة النملة الصغيرة أو هي الهَباء الذي يُرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة {يَرَهُ}: أصله يَرْايُهُ بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت للتخفيف، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لَمَّا جُزِم الفعل.

نادرة: قال أبو عبد الله: حدَّثني أبو العيناء عن الأصمعي، قال: قرأ أعرابي: {فمن يعمل مثقال ذرة شرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} فقدم وأخر فقلت له: قدمت وأخرت فقال: خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أَوْ قَفَاهَا فَإِنَّهُ ... كِلَا جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيْقُ وروى هذه النادرة الزمخشري في "كشافه" أيضًا، وأضاف: وهرشى كسكرى، ثنية في طريق (مكة) عند الجحفة؛ أي: اسلكا أمام تلك الثنية من خلفها، فإنه - أي الحال والشأن - كلٌّ من جانبيها طريق للإبل التي تطلبانها، وتكرير لفظ هرشى لتقريرها في ذهن السامع خوف غفلته عنها، والمقام كان مقام هداية فحسن فيه ذلك. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}. ومنها: الإضافة للتهويل والتفظيع. ومنها: الإسناد المجازي في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ}؛ لأن المخرج حقيقة هو الله سبحانه، نظير قولهم: أثبت الربيع البقل. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ}؛ لزيادة التقرير والتوكيد، ولتفخيم هول الساعة. ومنها: إيثار الواو على الفاء في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ} مع أن الإخراج متسبب عن الزلزال؛ للتفويض إلى ذهن السامع. ومنها: الاستفهام للتعجيب والاستغراب في قوله: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)}. ومنها: إيثار (اللام) على (إلى) في قوله: {بأن ربك أوحي لها}؛ لمراعاة الفواصل، ولأن ما يتعدى بـ (إلى) يجوز أن يتعدى بـ (اللام)، ولا عكس.

ومنها: المقابلة بين قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} وبين قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين: 1 - اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ. 2 - ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم (¬1) والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) تمّ تفسير سورة الزلزلة قبيل الغروب من يوم السبت السابع عشر من شهر ذي الحجة المبارك، من شهور سنة: 1416 ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة العاديات

سورة العاديات سورة العاديات مكية، نزلت بعد سورة العصر في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنيَّة في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة العاديات بـ (مكة). وآياتها: إحدى عشرة آية، وكلماتها: إحدى عشرة آية، وكلماتها: أربعون كلمة، وحروفها: مئة وستة وستون حرفًا. المناسبة: مناسبة هذه السورة لما قبلها (¬1): أن الله سبحانه لما ذكر في السابقة الجزاء على الخير والشر .. أتبعه بتعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ولا يستعدون لحياتهم الثانية بتعويد أنفسهم فعل الخير، وقد نزلت سورة العاديات بعد سورة العصر ووضعت بعد سورة الزلزلة لبيان أن من ألهاه الفاني العاجل عن الباقي الآجل خاسر هالك يوم الزلزلة. وسميت بالعاديات: لذِكر لفظها فيها، وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة العاديات كلها محكم لا ناسخ ولا منسوخ. ومن فضائلها (¬2): ما أخرجه أبو عبيد في "فضائله" عن الحسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} تعدل نصف القرآن، {وَالْعَادِيَاتِ} تعدل نصف القرآن" وهو مرسل. وأخرج محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رياح عن ابن عباس مرفوعًا مِثله، وزاد: و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} تعدل ربع القرآن". والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}. أسباب النزول سبب نزول سورة العاديات: ما قاله الكلبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى أناس من كنانة، فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر، فتخوف عليها، فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها، وكأنه سبحانه وتعالى أقسم بخيل تلك السرية المجاهدة في سبيل الله. وذكر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري في كتابه "أسباب النزول" سبب نزول هذه السورة، فقال: قال مقاتل: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى حيٍّ من كنانة، واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري (¬1) وكان أحد النقباء، فتأخر خبرهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعًا، فأخبر الله تعالى عنها وعن سلامتها وبشرهم بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم العاديات ضبحا؛ يعني تلك الخيل. ثم ذكر الواحدي رواية عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خيلًا فأسهبت شهرًا لم يأته منها خبر، فنزلت: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} ضبحته بمناخرها إلى آخر السورة ومعنى أسهبت أمضت في السهوب، وهي الأرض الواسعة جمع سهب صفحة: (258) أسباب النزول. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالْعَادِيَاتِ} أي أقسم بالخيول العاديات التي تعدو وتجري بسرعة وتضبح {ضَبْحًا}؛ أي: تصوت بأنفاسهن صوتًا شديدًا لشدة جريهنَّ وعَدْوهن. والعاديات جمع عادية؛ وهي الجارية بسرعة، من العدو وهو المشي بسرعة، وياؤها مقلوبة عن ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي.

[2]

الواو لكسر ما قبلها، كالغازيات من الغزوة. وقوله: {ضَبْحًا} مصدر منصوب إما بفعله المحذوف الواقع حالًا منها؛ أي: أقسم بالعاديات حالة كونها تضبح ضبحا؛ أي: تَنَفَّسُ نفسًا شديدًا لشدة جريها. والضبح: صوت يسمع من أفواه الفرس وأجوافها إذا عدون، وهو صوت غير الصهيل والحمحمة، والصهيل: صوت الفرس عند طلب الأكل، والحمحمة: صوت البرذون عند أكل الشعير. أو منصوب بالعاديات، فإن العدو مستلزم للضبح، كأنه قيل: والضابحات ضبحا، أو منصوب على الحال على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي حالة كونها ضابحات؛ أي: رافعاتٍ أنفاسهن لشدة العدو. وقيل: الضبح صوت حوافرها إذا عدت. وقيل: الضبح نوع من السير من العدو، ويقال: ضبح الفرس إذا عدا بشدة فيكون مصدرًا معنويًا مؤكدًا للعاديات 2 - {فَالْمُورِيَاتِ}؛ أي: فأقسم بالخيول اللاتي توري وتوقد {قَدْحًا}؛ أي: نارًا؛ أي: تخرج النار بحوافرها من الحجارة التي في طريقها لشدة جريها، ويتطاير منها الشرر أثناء جريها. فالإيراء إخراج النار، والقدح الضرب، فجعل ضرب الخيل بحوافرها الحجارة بعضها ببعض حتى يخرج منها الشرر كالقدح بالزناد. قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل وأصاب حوافرها الحجارة .. انقدح منها النيران. والكلام في انتصاب {قَدْحًا} كالكلام في انتصاب {ضَبْحًا} في الأوجه الثلاثة؛ أي: تقدح قدحا، فالقادحات قدحًا أو قادحات وعبارة الروح: الإيراء إخراج النار، والقدح الضرب، فإن الخيل يضربن بحوافرهن الحجارة فيخرجن منها نارًا، يقال: قدح الزند فأورى، وقدح فأصلد؛ أي صوَّت ولم يور، فالقدح يتقدم على الإيراء بخلاف الضبح حيث يتأخر ويتسبب عن العدو. والمعنى: فبالخيول التي تورى النار بحوافرها إذا مشت في الأرض ذات الحجارة 3 - {فَالْمُغِيرَاتِ}؛ أي: فبالخيول التي تعدو وتغير على العدو لتأخذه بغتة {صُبْحًا}؛ أي: في وقت الصباح، يقال: أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل، وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها، أسند الإغارة - التي هي مباغتة العدو للنهب والقتل والأسر - إلى الخيل، وهي حال أهلها، إيذانًا بأنها العمدة في إغارتهم وقوله: {صُبْحًا} نُصب على الظرفية؛ أي: في وقت الصبح، وخصه بالذكر لأنه المعتاد في الغارات؛ لأنهم يعدون ليلًا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون عليهم صباحًا على حين غفلة ليروا ما يأتون وما يذرون، ومنه قولهم عند خوف الغارة: يا

[4]

صباحاه، أي: يا قوم احذروا من شر توجه إلينا صباحًا. 4 - وقوله: {فَأَثَرْنَ}؛ أي: هيجن {بِهِ}؛ أي: في وقت الصباح {نَقْعًا}؛ أي: غبارًا معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: والخيول اللاتي عدون فأورين فأغرن {فَأَثَرْنَ بِهِ}؛ أي: فهيجن في ذلك الوقت وأصله أَثْوَرْن، من الثور وهو الهيجان، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف، والنقع: الغبار المرتفع، من نقع الصوت إذا ارتفع، سمي الغبار نقعًا لارتفاعه، أو من النقع في الماء، فكان صاحب الغبار خاض فيه كما يخوض الرجل في الماء. وتخصيص إثارة النقع بالصبح لأنه لا يثور ولا يظهر ثورانه بالليل، وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل، ولله در شأن التنزيل. قال سعدي المفتي: وإثارة النقع لأنهم يكونون حال الإغارة مختلفين يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا، بحَسَب الكر والفر في المجاولة إثر المدبر الهارب، والمصاولة مع المقبل المحارب، فينشأ الغبار الكثير. ويجوز أن يجعل الضمير في {بِهِ} لفعل الإغارة فـ {الباء} للسببية أو للملابسة؛ أي: فأثرن بسبب الإغارة، أو حال كونها متلبسات بالإغارة. والمعنى: فهيجن في وقت الصبح غبارًا لشدة عدوهن، 5 - {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} من الأعداء؛ أي: تواسطن جمعًا من جموع الأعداء ففرقنه وشتتن شمله، أي: دخلن في وسطهم في وقت الصباح فوسطن بمعنى توسطن و {الباء} في {به} للظرفية، والضمير عائد إلى صبحًا، من للملابسة، والضمير للنقع؛ أي: توسطن - حال كونهن متلبسات بالنقع والغبار - جمعًا من الأعداء، أي: دخلن بينهم للقتل والأسر والنهب، وقوله: {جَمْعًا} مفعول به، والفاءات (¬1) في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها، فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإغارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو، 6 - وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} جواب القسم؛ أي: أقسمت بتلك الخيول الموصوفات بالصفات المذكورة على أن جنس الإنسان لشديد الكفران لنعم ربه، حيث خلقه وأنعمه بنعمة الإيجاد والتربية، فجعل له شريكًا. وقرأ الجمهور (¬2): {فَأَثَرْنَ} {فَوَسَطْنَ} بتخفيف الثاء والسين، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بشدهما، وقرأ علي ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بشد السين، وقال الزمخشري: وقرأ أبو حية: {فأثَّرن} بالتشديد، بمعنى: فأظهرن غبارًا؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة. وقرىء: {فوسَّطن} بالتشديد للتعدية، و {الباء} مزيدة للتوكيد، كقوله: وأُتُوا به، وهي مبالغة في وسطن، انتهى. أما قوله: من قلب فتمحُّلٌ بارد. وأما إن التشديد للتعدية .. فقد نقلوا أن وسط مخففًا ومثقلًا بمعنى واحد، وأنهما لغتان. وعبارة الخازن هنا: قوله عز وجل: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} فيه (¬1) قولان: أحدهما: أنها الإبل في الحج، قال علي كرم الله وجهه: (هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى). وعنه أيضًا قال: (كانت أول غزاة في الإِسلام بدرًا. وما كان معنا إلا فَرَسان، فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات فيها؟) فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها: مد أعناقها في السير، وأصله من حركة النار في العود. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}؛ يعني: أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها، فيضرب بعض الحجارة حجرًا آخر فيوري النار. وقيل: هي النيران بجَمْعٍ {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}؛ يعني: الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسُّنَة أن لا يدفع حتى يصبح. والإغارة: سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}؛ أي: هيجن بمكان سيرها غبارًا، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}؛ أي: وسطن بالنقع جمعًا، وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا القول: أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للترغيب، وفيه تقريع لمن لم يحج بعد الاستطاعة عليه، فإن الكُنود هو الكفر ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك. والقول الثاني: في تفسير {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} قال ابن عباس وجماعة: هي الخيل العادية في سبيل الله، والضبح: صوت أجوافها إذا عدت، قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس والكلب والثعلب. وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع من تعب، وهو من قول العرب: ضبحته النار، إذا غيرت لونه. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}؛ يعني: أنها توري النار بحوافرها إذا سارت في ¬

_ (¬1) الخازن.

الحجارة، وقيل: هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها، وقال ابن عباس: هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي بالليل فيوري أصحابها نارًا ويصنعون طعامهم. وقيل: هو مكر الرجال في الحرب، والعرب تقول - إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه -: أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}؛ يعني: الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصباح؛ لأن الناس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد. {فَأَثَرْنَ بِهِ}؛ أي: المكان {نَقْعًا}: غبارًا. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}؛ أي: دخلن به؛ أي: بذلك النقع، وهو الغبار. وقيل: صرن بعدوهن وسط جمع العدو، وهم: الكتيبة. وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصحة وأشبه بالمعنى؛ لأن الضبح من صفة الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها وإثارة الغبار أيضًا. وإنما أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية، الأجر والغنيمة، وتنبيهًا على فضلها وفضل رباطها في سبيل الله عز وجل، ويؤيده ما سبق في أسباب النزول من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - وكان أحد النقباء، فأبطأ عليه - صلى الله عليه وسلم - خبرها شهرًا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بسلامتها، وإشارة له بإغارتها على القوم، ونعيًا على المرجفين في حقهم ما هم فيه من الكفر والكفران. فـ {اللام} في {العاديات} إن كانت للعهد .. كان المقسَمُ به خيلَ تلك السرية، وإن كانت للجنس .. كان ذلك قسمًا بكل خيل عدت في سبيل الله تعالى واتصفت بالصفات المذكورة، وعلى التقديرين فهي مستحقة لأن يقسم لاتصافها بتلك الصفات الشريفة. وفي تخصيص خيل الغزاة بالإقسام بها من البراءة ما لا مزيد عليه، كأنه قيل: وخيل الغزاة التي فعلت كيت وكيت، وإذا كان شرف خيل الغزاة بهذه المرتبة حتى أقسم الله بها .. فما ظنك بشرف الغزاة وفضلهم عند الله تعالى؟. والحاصل: أن الله سبحانه أقسم (¬1) بالخيل التي لها هذه الصفات والتي تعمل تلك الأعمال ليُعِلي من شأنها في نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل؛ وليُعْنوا بتربيتها وتعويدها الكر والفر، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب ¬

_ (¬1) المراغي.

الخيل والإغارة بها على العدو؛ ليكون كل امرىء مسلم منهم عاملًا ناصبًا إذا جد الجد واضطرت الأمة إلى صد عدو أو بعثها باعث على كسر شوكته، يرشد إلى ذلك قوله في آية آخرى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وفي إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات إشارة إلى أنه يجب أن تقتنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء وخضد شوكتهم وقد عدوانهم. وقصارى ذلك: أن للخيل في عدوها فوائد لا يحصى عدها، فهي تصلح للطلب وتسعف في الهرب، وتساعد جِد المساعدة في النجاء والفر والكر على الأعداء وقطع شاسع المسافة في الزمن القليل. ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الإيمان الشريفة {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}؛ أي: إن جنس (¬1) الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده، وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له، إلا من عصم الله تعالى وهم الذين روَّضوا أنفسهم على فعل الفضائل وترك الرذائل ما ظهر منها وما بطن. وعبارة الرازي: لما ذكر المقسم به، وهو ثلاثة أمور: ذكر المقسم عليه، وهو أمور ثلاثة، أولها: قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}، ثانيها: قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} ثالثها: قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}، وقوله: {أَفَلَا يَعْلَمُ ...} إلخ، شروع في تخويف الإنسان بعد تعديد قبائح أفعاله عليه، فأقسم بثلاثة على ثلاثة اهـ. وروي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكَنود: الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده"؛ أي: عطاءه، أي: أنه لا يعطي شيئًا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده كما رأف به، فهو كافر بنعمته مجانف لما يقتضي به العقل والشرع. وسر الجِبِلَّة: أن الإنسان يحصر همه فيما حضره وينسى ماضيه وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة .. غرته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده. وقال ابن عباس: الكنود: الكفور الجحود لنعمة الله تعالى. وقيل: {الكنود} العاصي، وقيل: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم، وقيل: هو قليل الخير، مأخوذ من الأرض الكنود وهي التي لا تنبت شيئًا. وقال الفضيل بن ¬

_ (¬1) روح البيان.

[7]

عياض: {الكنود}: الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان (¬1)، وضده الشكور، وهو الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة. يقال: كَنَدَ النعمة كُنودًا كفر بها، فالكُنود - بالضم - كفران النعمة , وبالفتح الكَفور، ومنه سمي كندة - بالكسر - وهو لقب ثور بن عفير أبي حي من اليمن؛ لأنه كند أبوه النعمة ففارقه ولحق بأخواله. وقال الكلبي: {الكنود} بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور. قيل: كان ثلاثة نفر من العرب في عمر واحد، أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي، والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب، وبخله أنه كان لا يوقد النار للخير إلا إذا نام الناس، فإذا انتبهوا .. أطفا ناره؛ لئلا ينتفع بها أحد، والثالث آية في الطمع، وهو أشعب بن جبير مولى مصعب بن الزبير بن العوام، قرأ صبي في المكتب وعنده أشعب جالس: إن أبي يدعوك، فقام ولبس نعليه، فقال الصبي: أنا أقرأ حزبي! وكان إذا رأى إنسانًا يحك عنقه .. يظن أنه ينتزع قميصه ليدفعه إليه، وكان إذا رأى دخانًا ارتفع من دار .. ظن أن أهلها تأتي بطعام، وكان إذا رأى عروسًا تزف إلى موضع .. جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره، قال: ما رأيت أطمع منى إلا كلبًا تبعني على مضغ العلك فرسخًا. وقال الحسن: {لَكَنُودٌ}؛ أي: لوام لربه، يذكر المصيبات وينسى النعم. وقال: القاشاني: لكفور لربه باحتجاجه بنعمه عنه ووقوفه معها، وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه، وقيل غير ذلك. والمراد بالإنسان: بعض أفراده؛ أي: إنه لنعمة ربه خصوصًا لكفور؛ أي: شديد الكفران. فقوله: {لِرَبِّهِ} متعلق بـ {كنود}، قدم عليه لإفادة التخصيص ومراعاة الفواصل، 7 - {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن الإنسان، {عَلَى ذَلِكَ}؛ أي: على كُنوده {لَشَهِيدٌ}؛ أي: شاهد يشهد على نفسه بالكنود لظهور أثره عليه، فالشهادة هنا بلسان الحال لا بلسان المقال، ويحتمل أن يجعل من الشهود, بمعنى أنه لكفور مع علمه بكفرانه، والعمل السيء مع العلم به غاية المذمة. والمعنى أي (¬2): وإنه مع كنوده ولجاجته في الطغيان وتماديه في الإنكار والبهتان إذا خلى ونفسَه .. رجع إلى الحق وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[8]

نعمه إلا أن أعماله كلها جحود لنعم الله تعالى، فهي شهادة منه على كنوده، وشهادة بلسان الحال وهي أفصح من لسان المقال. وقيل: المعنى: وإن الله جل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد، وبه قال الجمهور، وقال بالأول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب، وهو أرجح من قول الجمهور؛ 8 - لقوله: {وَإِنَّهُ}؛ أي: وإن الإنسان {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي لحب المال، فإن الضمير راجع إلى الإنسان، والمعنى (¬1): وإنه لحب المال {لَشَدِيدٌ}؛ أي: قوي مطيق مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه، والخير المال، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} قال ابن زيد: سمى المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا بأن كان حرامًا، ولكن الناس يجدونه خيرًا فسماه خيرًا جريًا على عادتهم، كما سمى الجهاد سوءًا فقال: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}؛ أي: قتال، والقتال ليس بسوء، ولكن ذكره سوءًا جريًا على عادتهم. وحب المال: إيثار الدنيا وطلبها، و {اللام} في {لِحُبِّ} متعلقة بـ {شديد} قدم عليه لمراعاة الفاصلة، يقال: هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقًا له ضابطًا؛ يعني: أنه قوي مجد في طلب المال وتحصيله متهالك عليه، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. وقيل: الشديد البخيل الممسك؛ يعني: وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبخيل ممسك. والمعنى عليه أي: وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره لبخيل .. شديد في بخله، حريص متناه في حرصه، ممسك مبالغ في إمساكه متشدد فيه، قال: طرفة: أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِيْ ... عَقِيْلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ ولعل وصفه بهذا الوصف القبيح بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أن من جملة الأمور الداعية للمنافقين إلى النفاق حب المال؛ لأنهم بما يظهرون من الإِسلام يعصمون أموالهم ويحوزون من الغنائم نصيبًا. 9 - ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله: {أَفَلَا يَعْلَمُ} الهمزة (¬2) فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و {الفاء} عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيفعل ما يفعل من القبائح، من ألا يلاحظ فلا يعلم في الدنيا أن الله مجازيه {إِذَا بُعْثِرَ} وأُخِرج {مَا فِي الْقُبُورِ} من الموتى لمجازاتهم على ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[10]

أعمالهم، فناصب {إِذَا} محذوف كما قدرناه، وهو مفعول يعلم {لا يعلم} لأن الإنسان لا يراد منه العلم في ذلك الوقت، وإنما يراد منه ذلك في الدنيا، أي: لا يعلم أن الله مجازيه وقت إذ بعث وأخرج ما في القبور من الموتى، وإيراد {ما} لكونهم إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء، قال أبو عبيدة: يقال: بعثرت المتاع إذا جعلت أسفله أعلاه، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}. 10 - وقوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)} معطوف على {بُعْثِرَ}؛ أي: مُيَّز وبُيَّن ما فيها من الخير والشر؛ أي: ميز خير ما في القلوب من الأسرار من شره، للمجازاة على كل منهما بموجبه من الثواب والعقاب، فالتحصيل (¬1) بمعنى التمييز، ومنه قيل للمنخل: المحصل؛ أي آلة التحصيل وتمييز الدقيق من النخالة، فإنه لا بد من التمييز بين الواجب، والمباح، والمكروه، والمحظور، فإن لكل واحد منها حكمًا على حدة، فتمييز البعض من البعض وتخصيص كل واحد منها بحكمه اللاحق هو التحصيل. وقيل المعنى: أي جُمع في الصحف وأُظهر ما في الصدور من الأسرار الخفية التي من جملتها ما يخفيه المنافقون من الكفر والمعاصي، فضلًا عن الأعمال الجلية؛ أي: أُظهر محصَّلًا مجموعًا، وأصل التحصيل: إخراج المستور بإخراج المغمور فيه وأخذه منه، كإخراج اللب من القشر، وإخراج الذهب من حجر المعدن، والبر من التبن، والدهن من اللبن، ومن الدُّردي، والجمع والإظهار من لوازمه. وتخصيص (¬2) أعمال الصدور بالذكر لأنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، فالقلب أصل وأعمال الجوارح متابعة له، ولذا قال تعالى: {آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يبعثون على نياتهم" وعبارة "الجمل" هنا: {وَحُصِّلَ}؛ أي: اخرج وجُمع بغاية السهولة {مَا فِي الصُّدُورِ} من خير وشر مما يظن أنه لا يعلمه أحد أصلًا وظهر مكتوبًا في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن الإنسان يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها، اهـ خطيب. وقرأ الجمهور (¬3): {بُعْثِرَ} بالعين، مبنيًا للمفعول، وقرأ عبد الله {بحثر} بالحاء وقرأ الأسود بن يزيد {بحث} وقرأ نصر بن عاصم: {بحثر} على بنائه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان. (¬3) البحر المحيط.

[11]

للفاعل. وقرأ الجمهور: {وَحُصِّلَ} بضم الحاء وتشديد الصاد مكسورًا مبنيًا للمفعول، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، ومحمد بن أبي سعدان: {حَصَل} بفتح الحاء والصاد مخففًا، مبنيًا للفاعل؛ أي: ظهر. 11 - وقرأ الجمهور: {إِنَّ رَبَّهُمْ} بكسر الهمزة، على الاستئناف الإخباري، وبإثبات لام {لَخَبِيرٌ}؛ أي: إن رب المبعوثين كنى عنهم بعدًا لإحياء الثاني بضمير العقلاء بعدما عبر عنهم بما في قوله: {مَا فِي الْقُبُورِ} بناء على تفاوتهم في الحالين، فحين كانوا في القبور كانوا كجمادات بلا عقل ولا علم وإن كان لهم نوع حياة فيها، بخلاف وقت الحشر {بِهِمْ}؛ أي: بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها. {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: يوم إذ يكون ما ذكر من بعث ما في القبور. وتحصيل ما الصدور، والعامل في {بِهِمْ} وفي {يَوْمَئِذٍ} {لَخَبِيرٌ}؛ أي: عالم بظواهرهم وبواطنهم علمًا موجبًا للجزاء متصلًا به، كما ينبىء عنه تقييده بذلك اليوم، وإلا فمطلق علمه تعالى محيط بما كان وما سيكون. وقُدِّما عليه مراعاة للفواصل، واللام غير مانعة لعمله فيهما، لكنه ضَمَّن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم، أي: إن رب المبعوثين لخبير بهم يوم إذ بعث ما في القبور وحصل ما في الصدور، لا تخفى عليه منهم خافية، فيجازيهم بالخير خيرًا وبالشر شرًا، قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: أن الله يجازيهم في ذلك اليوم، ومثلُه قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم، انتهى. وقرأ الجمهور (¬1): {إِنَّ رَبَّهُمْ} بكسر الهمزة واللام في {لَخَبِيرٌ} كما مر آنفأ وقرأ أبو السمال والحجاج بفتح الهمزة وإسقاط اللام، ويظهر في هذه القراءة تسلط {يَعْلَمُ} على {إِنَّ} لكنه لا يمكن إعمال خبير في {إِذَا}؛ لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام، فإنه يقال: يجزيهم إذا بعثر. والمعنى (¬2): أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله تعالى عليه الجاحد لفضله وأياديه أنه سبحانه عليم بما تنطوي عليه نفسه، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصل ما في الصدور ويبعثر ما في القبور. وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم وهذا كثير في الكلام، تقول ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

لشخص في معرض التهديد: سأعرف لك عملك هذا، مع أنك تعرفه الآن قطعًا، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة، وهو مجازاته بما يستحق، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلًا، فالمراد: سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل، والله أعلم بأسرار كتابه. الإعراب {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}. {وَالْعَادِيَاتِ} {الواو} حرف جر وقسم، العاديات: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قَسَم محذوف وجوبًا لكون القسم بالواو تقديره: أقسم بالعاديات، والجملة القَسَمية مستأنفة استئنافًا نحويًا {ضَبْحًا}: مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: يضبحن ضبحا، والجملة المقدرة حال من العاديات، ويجوز أن يكون {ضَبْحًا} مصدرًا وقع موضع الحال من {العاديات}؛ أي: أقسم بالعاديات حالة كونها ضابحات، ويجوز أن يكون منصوبًا بالعاديات، {فَالْمُورِيَاتِ}: {الفاء} عاطفة {الموريات} معطوف على {العاديات}، {قَدْحًا} وقد جاء فيه الأوجه الثلاثة التي في {ضَبْحًا}. {فَالْمُغِيرَاتِ} {الفاء}: عاطفة {المغيرات}: معطوف على {الموريات} لا على {العاديات} كما توهمه بعضهم؛ لأن العطف إذا كان بحرف مرتب فكل معطوف على ما قبله كما بيّناه في "باكورتنا على الأجرومية" نقلًا عن الشيخ الحامدي، و {صُبْحًا}: منصوب على الظرفية متعلق بـ {المغيرات} أي: اللاتي تغير في وقت الصبح، قال أبو حيان وأجاد: وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب، والظاهر، أنها الخيل التي يُجاهَد عليها العدو من الكفار كما مرّ بسطه في مبحث التفسير. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}. {فَأَثَرْنَ} {الفاء}: عاطفة {أثرن} فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث في محل الرفع فاعل {بِهِ} متعلق بـ {أثرن} و {نَقْعًا}: مفعول به، والضمير في {بِهِ} يعود على العدو من على الصبح، و {الباء} حينئذٍ بمعنى (في)، أي: {فَأَثَرْنَ} في وقت الصبح {نَقْعًا}: قال أبو حيان: وهذا أحسن

من الأول؛ لأن المرجع مذكور بالصريح، والجملة الفعلية معطوفة على صلة (أل) الداخلة على الصفات المذكورة لأنها موصولة، والتقدير: واللاتي عدون ضبحًا، فأورين قدحًا، فأغرن صبحًا، فأثرن به نقعًا، {فَوَسَطْنَ} {الفاء}: عاطفة {وسطن}: فعل وفاعل معطوف على {أثرن} {بِهِ} متعلق بـ {وسطن} والضمير للصبح، و {الباء} بمعنى: (في)، من على النقع، و {الباء} للتعدية، وقيل: {الباء} متعلقة بمحذوف حالي من ضمير الفاعل، و {الباء} للملابسة، أي: حالة كونهن متلبسات بالغبار {جَمْعًا} مفعول به على الأوجه الثلاثة {إِنَّ الْإِنْسَانَ}: ناصب واسمه {لِرَبِّهِ}: متعلق بـ {كنود}، {لَكَنُودٌ} {اللام} حرف ابتداء، {كنود}: خبر {إِنَّ}، وجملة {إنَّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب {وَإِنَّهُ} {الواو}: عاطفة {إنه}: ناصب واسمه {عَلَى ذَلِكَ} متعلق بـ {شهيد}، {لَشَهِيدٌ} {اللام}: حرف ابتداء {شهيد}: خبر إن، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها جواب قسم لا محل لها من الإعراب {وَإِنَّهُ}: ناصب واسمه. {لِحُبِّ الْخَيْرِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {شديد}. {لَشَدِيدٌ} {اللام}: حرف ابتداء {شديد} خبر {إن} وجملة {إن} معطوفة على جملة {إن} الأولى؛ لأن العاطف هنا غير مرتب كما مرت الإشارة إليه. {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}. {أَفَلَا} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و {الفاء}: عاطفة على ذلك المحذوف {لا}: نافية {يَعْلَمُ}: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الإنسان، معطوف على ذلك المحذوف ومفعول {يَعْلَمُ} محذوف تقديره: أيفعل الإنسان ما يفعل من القبائح فلا يعلم أن الله يجازيه إذا بعث ما في القبور؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بمفعول {يَعْلَمُ} المحذوف لا به كما مرّ بسطه؛ أي: أفلا يعلم أن الله مجازيه وقت بعث ما في القبور؟ {بُعْثِرَ}: فعل ماض مغير الصيغة، {ما}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، {فِي الْقُبُورِ} صلة لـ {ما} الموصولة، والجملة في محل الخفض بإضافة الظرف إليها، {وَحُصِّلَ}: فعل ماض مغير الضيغة {ما}: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل

{فِي الصُّدُورِ}: صلة لـ {ما} الموصولة، والجملة الفعلية في محل الخفض معطوفة على ما قبلها، {إِنَّ رَبَّهُمْ}: ناصب واسمه، {بهم} متعلق بـ {خبير}، و {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله، متعلق بـ {خبير} أيضًا، {بخبير} {اللام} حرف ابتداء، {خبير} خبر {إن}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل عامل {إِذَا} المحذوف؛ أي: أفلا يعلم أن الله مجازيه وقت ما ذكر لأنه خبير بأحوالهم وأعمالهم بتفاصيلها. التصريف ومفردات اللغة {وَالْعَادِيَات}: جمع عادية، كغازيات جمع غازية، وهي: الخيل الجارية بسرعة، من العدو، وهو المشي بسرعة، ففيه إعلال بالقلب، أصله: العادوات، فقلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة، يقال: عدا يعدو عدوًا، فهو عاد وهي عادية اهـ، "سمين". {ضَبْحًا} والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو، وليس بصهيل، وفي "المختار": ضبحت الخيل من باب قطع والضبح: صوت أنفاسها إذا عدت اهـ، وفي "القاموس": ضبحت الخيل ضبحًا وضباحًا أسمعت من أفواهها صوتًا ليس بصهيل ولا حمحمة، قال عنترة: وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِيْنَ تَضْـ ... ـبَحُ فِيْ حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا والكدح: الجد في العدو. وشبه عنترة الموت بالسيل على طريق الاستعارة المكنية، والحياض تخييلُ ذلك. {فَالْمُورِيَاتِ}: جمع مورية، من الإيراء، وهو إخراج النار من الحجارة، ففيه حذف همزة أفعل من الوصف، يقال: أورى فلان إذا أخرج النار بزند، ونحوه، وفي "المصباح": وَرَى الزندِ، يَرِيْ، من باب وعد، وفي لغة: ورى - بكسرهما - وأورى بالألف، وذلك إذا أخرج ناره، وفي "المختار": وأوراه غيره اهـ، فاستفيد من مجموعها أنه يستعمل ثلاثيًا لازمًا لا غير، ورباعيًا لازمًا ومتعديًا، وما في الآية من قبيل المتعدي. {قَدْحًا}: والقدح الضرب لإخراج النار، كضرب الزناد بالحجر، وفي "القرطبي": وأصل القدح الاستخراج، ومنه: قدحت العين إذا أخرجت منها الفاسد، واقتدحت الزند واقتدحت المرق غرفته، والمقدحة - بكسر الميم - ما تقدح به النار، والقداحة والقدح: الحجر الذي يوري النار اهـ. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}: فيه إعلال بالنقل، نقلت حركة حرف العلة إلى الغين قبلها فسكن فصار حرف مد،

فأصله المغْيِرات، نقلت حركة الياء إلى الغين، يقال: أغار يغير إغارة، إذا باغت عدوه لنهب من قتل من أسر، وفي "المصباح": وأغار الفرس إغارة، والاسم الغارة، مثل أطاع إطاعة والاسم الطاعة، إذا أسرع في العدو، وأغار القوم إغارة أسرعوا في السير اهـ. وفي "القاموس": أغار على القوم غارة واغارة دفع عليهم الخيل، وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها اهـ. قال الشاعر: أَغَارَ عَلَى الْعَدُوِّ بِكُلِّ طَرْفٍ .... وَسَلْهَبَةٍ تَجُولُ بِلَا حِزَامِ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}؛ أي: هيجن في وقت الصبح غبارًا، يقال: ثار يثور ثورًا، وثورانًا وثؤورًا، أهاج، ومنه ثارت الفتنة بينهم، وثار الغبار من الدخان ارتفع، وثار الجراد ظهر، وثارت نفسه جشأت وجاشت، وثار إليه وبه، وثب عليه. وما في الآية من الإثارة وهو التهييج وتحريك الغبار، وأصله: أَثْوَرْن من الثور وهو الهيجان، نقلت حركة الواو إلى الثاء قبلها، وقلبت الواو ألفًا فصار أثارن، فحذفت الألف لاجتماع الساكنين، فبقي أثرن بوزن أفلن. {نَقْعًا}: والنقع الغبار؛ والنقع أيضًا: أن يروى الإنسان من شرب الماء، يقال: نقعت غلي بشربة ماء، وقال بشار: كَأَنَّ مَثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوْسِنَا ... وَأَسْيَافُنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ {فَوَسَطْنَ}؛ أي: توسطن، وفي "المصباح": ويقال: وسطت القوم والمكان أسط وسطًا - من باب وعد - إذا توسطت بين ذلك، والفاعل واسط، وبه سمي البلد المشهور بالعراق لأنه توسط الإقليم، وفي "المختار": تقول: جلست وَسْط القوم بالتسكين؛ لأنه ظرف، وجلست وَسَط الدار بالتحريك؛ لأنه اسم لما يكتنفه غيره من جهاته، وكل موضع صلح فيه (بين) فهو وسط بالسكون، وإن لم يصلح فيه (بين) فهو وسط بالتحريك، وربما سكن وليس بالوجه اهـ. وعبارة "القاموس": ووَسَطَهُم كوعد، وَسَطًا وسِطَة جلس وسطهم كتوسطهم وهو وسيط فيهم؛ أي: أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلًا، والوسيط بين المتخاصمين إلى آخر ما ذكره. {لَكَنُودٌ}: وفي "المختار": كند النعمة كفر بها، وبابه: دخل، فهو كنود وامرأة كنود أيضًا، وقال الحسن في قوله عز وجل: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} قال: الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم. وقال: النمر بن تولب:

كَنُودٌ لَا تَمُنُّ ولَا تُفَادِيْ ... إِذَا عَلِقَتْ حَبَائِلُهَا بِرَهْنِ لَهَا مَا تَشْتَهِي عَسَلٌ مُصَفَّى ... إِذَا شَاءَتْ وَحُوَّارَى بِسَمْنِ وقال غيره: كَنَد النعمةَ كَفَرها ولم يَشْكُرها. وأنشدوا: كَنُوْدٌ لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ وَمَنْ يَكُنْ ... كَنُوْدًا لِنَعْمَاءِ الرِّجَالِ يُبَعَّدُ وأصل الكنود: الأرض التي لا تنبت شيئًا، شبه بها الإنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات ومعروفات {لَشَهِيدٌ}؛ أي: لشاهد على كنوده وكفره بنعمة ربه {لِحُبِّ الْخَيْرِ}؛ أي: لأجل حب الخير {لَشَدِيدٌ}؛ أي: لبخيل، والخير المال، كما جاء في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}. {إِذَا بُعْثِرَ} البعثرة بالعين، والبحثرة بالحاء: استخراج الشيء واستكشافه كما تقدم في سورة الانفطار عن "المختار". فإذا قيل: لم قال: {مَا فِي الْقُبُورِ}، ولم يقل: من في القبور، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ}؟ أجيب عن الأول: بأن ما في الأرض غير المكلفين أكثر، فأخرج الكلام على الأغلب، من أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء. {وَحُصِّلَ}؛ أي: أُظهِر محصلًا مجموعًا في صحائف الأعمال، قال في "القاموس": التحصيل تمييز ما يحصل، والحاصل من كل ما يبقى وثبت وذهب ما سواه اهـ. {مَا فِي الصُّدُورِ}؛ أي: ما في القلوب من العزائم والنوايا. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المخالفة بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} إذ عطف الفعل على الاسم الذي هو العاديات وما بعده؛ لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل، ففيها سر بديع، وهو تصوير هذه الأفعال في النفس وتجسيدها أمام

العين، فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف، وهو أبلغ من التصوير والتجسيد بالأسماء المتناسقة. ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}؛ حيث شبه الخيول العادية اللاتي تضرب بحوافرها الحجارة بالجماعة الذين يورون الزند، فالقدح استعارة لضرب الحجارة، من يقال: شبه الحرب بالنار المشتعلة وحذف المشبه وأبقى المشبه به، قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} حيث أسند الإغارة التي هي مباغتة العدو للنهب والقتل والأسر إلى الخيل وهي حال أهلها، إيذانًا بأنها العمدة في إغارتهم. ومنها: تخصيص إثارة النقع بالصبح؛ لأنه لا يثور، ولا يظهر ثورانه بالليل، وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل، ولله در شأن التنزيل. ومنها: التأكيد بـ {إن} واللام واسمية الجملة في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} وفي قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} وفي قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} لزيادة التقرير والبيان. ومنها: الجناس المحرف في قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} وهو الذي يكون الضبط فيه فارقًا بين الكلمتين أو بعضهما، وهو أيضًا ما اتفق ركناه في أعداد الحروف واختلفا في الحركات، سواء كانا من اسمين أو فعلين أو اسم وفعل أو من غير ذلك، والغاية فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ولا يقال: إن اللفظين متحدان في المعنى فلا يكون بينهما تجانس؛ لأنا نقول: المراد بالأول: اسم الفاعل، وبالثاني: اسم المفعول، فالاختلاف ظاهر، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم كما حسنت خَلْقِي فحسن خُلُقي" ومنه قولهم: جُبة البُرد جُنة البرد. ومنها: الجناس اللاحق في قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} وهو الذي أبدل في إحدى الكلمتين حرف واحد بغيره من غير مخرجه، وسواء كان الإبدال من الأول نحو قوله: تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} أو في الوسط كهذه الآية التي نحن بصددها، أو في الآخر كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} ومن أمثلة الشعر على هذا الترتيب المذكور أيضًا قول أبي فراس:

إِنَّ الْغَنِيَّ هُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ ... وَلَوْ أَنَّهُ عَارِيْ الْمُنَاكِبِ حَافِيْ مَا كُلُّ مَا فَوْقَ الْبَسِيْطَةِ كَافِيًا ... وَإِذَا قَنِعْتَ فَكُلُّ شَيءٍ كَافِيْ ومن الثاني قول البحتري: وَقُعُودِيْ عَنِ التَّقَلُّبُ وَالأَرْ ... ضُ لِمِثْلِي رَحِيْبَةُ الأَكْنَافِ لَيْس عَنْ ثَرْوَةٍ بَلَغَتْ مَدَاها ... غَيْرَ أَنِّي امْرُؤٌ كَفَانِي كَفَافِيْ ومن الثالث قول بعضهم: شَوْقِي لِذَاكَ الْمُحَيَّا الزَّاهِرِ الزَّاهِيْ ... شَوْقٌ شَدِيْدٌ وَجِسْمِيْ الوَاهِنُ الْوَاهِيْ أَسْهَرْتُ طَرْفِي وَوَلَّهْتُ الفُؤَادَ هَوًى ... فَالْقَلْبُ وَالطَّرْفُ بَيْنَ السَّاهِرِ السَّاهِيْ ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ} لإفادة التهديد والوعيد. ومنها: التضمين في قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} ضمن لفظ {خبير} معنى المجازاة؛ أي: مجازيهم على أعمالهم. ومنها: إيثار {ما} على (من) في قوله: {مَا فِي الْقُبُور} لكونهم إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء. ومنها: تخصيص أعمال القلوب بالذكر في قوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} دون أعمال الجوارح؛ لأنها متابعة لأعمال القلوب فإنه لولا تحقق البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، اهـ "زاده". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تَمَّ تفسير هذه السورة الكريمة في يوم الخميس، وقت ضحوة اليوم الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة، في تاريخ (22/ 12/ 1416): ألف وأربع مئة وستّ عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين آمين.

سورة القارعة

سورة القارعة سورة القارعة مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة قريش، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة القارعة بمكة. وآياتها: إحدى عشرة آية، من عشرة، من ثمان، كلماتها: ست وثلاثون كلمة، وحروفها: مئة واثنان وخمسون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬1): أن آخر السابقة كان في وصف يوم القيامة، من بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، ومجازاة الناس على ما كسبت أيديهم، وهذه السورة بأسرها في وصف ذلك اليوم الشديد وما يكون فيه من الأهوال، من كون الناس كالفراش المبثوث، وكون الجبال كالعهن المنفوش. قال الرازي: واعلم أَنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} فكأنه قيل: وما ذاك اليوم؟ فقيل هي: القارعة، اهـ من "تفسير الكبير". ومما يدل على فضلها: ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة القارعة .. ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة" اهـ "بيضاوي" ولكن فيه مقال. التسمية: وسميت سورة القارعة لذكر لفظ القارعة فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة القارعة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {الْقَارِعَةُ (1)} اتفقوا (¬1) على أن القارعة اسم من أسماء القيامة، كـ {الْحَاقَّةُ (1)}، {الطَّامَّةُ}، {الْغَاشِيَةِ}، {الصَّاخَّةُ}. وسبب تسميتها بالقارعة: أن القارعة هي الصيحة التي يموت منها الخلائق، وهي الصيحة الأولى التي تموت منها الخلائق سوى إسرافيل، ثم يميته الله تعالى ثم يحييه فينفخ في الصور النفخة الثانية فيقومون. وقيل: القارعة هي التي تفزع الخلائق بالأهوال والأفزاع؛ أي: تؤثر فيهم على وجوه شتى، وذلك في السموات بالانشقاق والانفطار، وفي الشمس والقمر بالتكوير، في الكواكب بالانتثار، وفي الجبال بالدك والنسف، وفي الأرض. بالطي والتبديل، وهو قول الكلبي. وقيل: إنها تخوف أعداء الله بالعذاب والخزي، وهو قول مقاتل. قال بعض المحققين: وهذا أولى من قول الكلبي؛ لقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} اهـ. وهي مبتدأ، 2 - خبره جملة قوله: {مَا الْقَارِعَةُ (2)} على أن {مَا} الاستفهامية مبتدأ والقارعة خبر عنها، أي القارعة؛ أي: شيء هي؟ هي شيء عجيب في الفخامة والفظاعة، فوضع الظاهر موضع المضمر تأكيدًا للتهويل من شأنها. والاستفهام هنا للتعجيب، وفيما سيأتي للإنكار، والمراد بالقارعة هنا: النفخة الثانية التي تقرع القلوب؛ أي: تفزعها بفنون الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال كما مر آنفًا. والعرب تقول: قرعتهم القارعة، إذا وقع بهم أمر فظيع، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[3]

وَقَارِعَةٌ مِنَ الأَيَّامِ لَوْلَا ... سَبِيْلُهُمُ لَرَاحَتْ عَنْكَ حِيْنَا وقال الآخر: مَتَى نَقْرعْ بِمَرْأَتِكُمْ نَسُؤْكُمْ ... وَلَمْ يُوْ قَدْ لَنَا فِي الْقِدْرِ نَارُ وقرأ الجمهور (¬1): {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} بالرفع على أنها مبتدأ و {مَا} اسم استفهام للاستعظام والتعجيب، في محل الرفع مبتدأ ثان، و {الْقَارِعَةُ}: خبره والجملة خبر للأول كما تقدم تقريره في {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} وقال الزجاج: معنى الكلام التحذير، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، وأنشد قول الشاعر: لَجَدِيْرُوْنَ بِالْوَفَاءِ إِذَا قَا ... لَ أَخَوُ النَّجْدَةِ السِّلَاحُ السِّلَاحُ والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى، ويؤيده وضع الظاهر موضع المضمر، فإنه أدل على هذا المعنى، ويؤيده أيضًا قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)} فإنه تأكيد لشدة هولها ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم. وقرأ عيسى بنصبها على تقدير: احذروا القارعة، أو اذكروا القارعة و {ما} زائدة للتوكيد، و {القارعة} تأكيد لفظي للأولى ذكره في "البحر". والحاصل (¬2): أن القارعة من أسماء القيامة، كالحاقة مثلًا، سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعةً، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ}؛ أي: حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها. {مَا الْقَارِعَةُ (2)}؛ أي: أي شيء هي القارعة، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها، كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال التي تفزع منه النفوس وتدهش لها العقول يصعب تصورها ويتعذر إدراك حقيقتها، 3 - ثم زاد أمرها تعظيمًا فقال: {مَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)} و {ما} للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة {أَدْرَاكَ} خبرها، {مَا الْقَارِعَةُ (3)} مبتدأ وخبر، ¬

_ (¬1) البحر المجط. (¬2) المراغي.

[4]

والجملة في محل النصب على أنها مفعول لـ {أَدْرَاكَ}، والمعنى أي: وأي شيء أعلمك يا محمد - من أيها المخاطب - ما شأن القارعة؟ فإن عظم شأنها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد حتى يدرك بها, 4 - ولما كان هذا منبئًا عن وعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ}؛ أي: هي يوم يكون الناس، على أن يوم مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفتحتُه فتحةُ بناء لإضافته إلى الفعل، إن كان مضارعًا على ما هو رأي الكوفيين. أو: اذكر يوم يكون الناس إلخ، فإنه يدريك ما هي. وقرأ الجمهور (¬1): {يَوْمَ} بالنصب، وتخريجه كما ذكرنا، وقرأ زيد بن علي {يَوْمَ} برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وقتها يوم يكون الناس كالفراش المبثوث {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}: جمع فراشة، وهي التي تطير وتتهافت على السراج فتحترق، والمبثوث: المفرق، وبه شبه فراشة القفل، وهو ما ينشب فيه، ولم يقل: المبثوثة، بل قال: المبثوث؛ لأن الكل جائز، كما في قوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} وقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} كما مر بيان وجه ذلك. والمعنى: هي - أي: القارعة - يوم يكون الناس كالفراش المفرق في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار، وبه يضرب المثل في الطيش والهوج، ويقال: أطيش من فراشة. قال الشاعر: فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ الْعَذَابِ وَإِنْ ... يُطْلَبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُوْنَهُ كَلَبُ وقال الآخر: وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ رَدَدْتُ حُلُوْمَهُمْ ... عَلَيْهِمْ وَكَانُوْا كَالْفَرَاشِ مِنَ الْجَهْلِ وقال جرير: إِنَّ الْفَرَزْدَقَ مَا عَلِمْتَ وَقَوْمَهُ ... مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشَيْنَ نَارَ الْمُصْطَلِيْ وهذا يدل على كثرة الفراش ولو في بعض المواضع، فسقط ما قال سعدي (¬2) ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[5]

المفتي فيه: إن الفراش لا يعرف بالكثرة بحيث يصلح أن يكون مشبهًا به لأهل المحشر فيها إلا أن يفسر بصغار الجراد. وقال ابن الشيخ: شبه الله سبحانه الخلق وقت البعث في هذه الآية بالفراش المبثوث، وفي الآية الأخرى بالجراد المنتشر فيجمع بينهما بأن وجه التشبه بالجراد هو الكثرة والاضطراب، وبالفراش المبثوث اختلاف جهات حركاتهم، فإنهم إذا بعثوا .. فزعوا، فيذهب كل واحد منهم إلى جهة غير جهة الآخر، كالفراش؛ فإنها إذا طارت لا تتجه إلى جهة واحدة بل تختلف جهاتها، انتهى. 5 - وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)}: في محل الخفض معطوف على جملة {يَكُونُ النَّاسُ}، و {العهن}: الصوف المصبوغ بألوان مختلفة، والنفش: نشر الشعر والصوف والقطن، بالأصبع، وخلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصها، قال السجاوندي: شبه خفتها بعد رزانتها بالصوف، وتلونها بالمصبوغ، ومرها بالمندوف، واختصاص العهن لألوان الجبال، كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} والمعنى: ويوم تكون الجبال كالصوف الملون بالألوان المختلفة المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الحق، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق، يبدل الله الأرض غير الأرض ويغير هيئاتها، ويسيِّر الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئات الهائلة، يشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت عند النفخة الأولى ولكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية. والمعنى: إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم، لا يدرون ماذا يفعلون، ولا ماذا يراد بهم، كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة، بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى. وإن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح، فلا تلبث الجبال أن تذهب وتتطاير، فكيف يكون الإنسان حين حدوث القارعة، وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال؟. وقد كثر في القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} وقال: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} وقال: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار

[6]

والثبات تؤثر فيها هذه القارعة، فما بالك أيها المخلوق الضعيف الذي لا قوة له؟ فمراتب الجبال ثلاثة: تفتتها أولًا، ثم صيرورتها كالعهن، ثم صيرورتها هباءً منبثًا كما بينه ذو الجلال في سورة النمل، ونص عبارته هناك: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}؛ أي: المطر إذا ضربته الريح، أي: تسير مسيرة حتى تقع على الأرض فتستوي بها مبسوسة، ثم تصير كالعهن، ثم تفسير هباءً منثورًا، اهـ. وفي هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما لا يخفى. 6 - وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق .. أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال، فقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)}: جمع الموزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، من جمع ميزان. وثقلها رجحانها؛ لأن الحق ثقيل والباطل خفيف، والجمع للتعظيم، من لأن لكل مكلف ميزانًا، من لاختلاف الموزونات وكثرتها. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن ميزانه له لسان وكفتان، لا يوزن فيه إلا الأعمال ليبين الله أمر العباد بما عهدوه فيما بينهم، قالوا: توضع فيه صحف الأعمال إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة، من تبرز الأعمال العرضية بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح؛ يعني: يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة، وبالأعمال السيئة على صور سيئة، فتوضع في الميزان؛ أي: فمن ترجحت حسناته .. 7 - {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)}؛ أي: عشية طيبة، فهو من قبيل الإسناد إلى السبب؛ لأن العيش سبب الرضى من منَعَّم العيش، وقال بعضهم: معنى راضية؛ أي: راضٍ عنها صاحبها، يقال: ثَقُل ميزان (¬1) فلان، إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع في ميزان كان له به رجحان، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم المقيم الدائم، ويكونون في عيشة راضية تقر بها أعينهم وتسر بها نفوسهم، ويرى بعض المفسرين: أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)}؛ أي: عيشة طيبة مرضية له وحياة هنيئة يتقلب فيها قال البقاعي: ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد: العيش، ليُفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا؛ لأن أُمه من مسكنه جنة ¬

_ (¬1) المراغي.

[8]

عالية، ومعنى {رَاضِيَةٍ} أي: ذات رضا، بأن يرضاها صاحبها على أنها للنسب كلابن وتامر. 8 - ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)} بأن لم يكن له حسنة يعشو بها، من ترجحت على حسناته، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة .. دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة .. دخل النار 9 - {فَأُمُّهُ}؛ أي: مأواه {هَاوِيَةٌ}: هي من أسماء النار، سميت (¬1) بها لغاية عمقها وبعد مهواها. روي: أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفًا. وعبر عن المأوى بالأم لأن أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وفيه تهكم به، من لأنها تحيط به إحاطة رحم الأم بالولد، من لأن الأم هي الأصل والكافر خلق من النار، وكل شيء يرجع إلى أصله، وهو اللائح. وفي "الكشاف" من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة. هوت أمه؛ لأنه إذا هوى؛ أي: سقط وهلك .. فقد هوت أمه ثكلًا وحزنًا، فكأنه قيل: فقد هلك، وعن قتادة: {فَأُمُّهُ}؛ أي: فأم رأسه {هَاوِيَةٌ}؛ أي: ساقطة في جهنم؛ لأنه يطرح فيها منكوسًا. وأم الرأس: الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليها، يقال خف ميزانه؛ أي: سقطت قيمته، فكأنه ليس بشيء حتى لو وضع في كفة ميزان لم يرجح بها على أختها، ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخّير فدس نفسه بالشر واجتراح المعاصي وعاث في الأرض فسادًا. لم يكن شيئًا، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)}؛ أي: حسناته بسبب ثقل سيئاته. وبقي قسم ثالث غير مذكور في الآية وهو (¬2): من استوت حسناته وسيئاته، وفي "المناوي" فمن رجحت حسناته بسبب زيادتها على السيئات فهو في الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابًا يسيرًا، ومن رجحت سيئاته على حسناته؛ أي: بسبب زيادتها .. فيشفع فيه أو يعذب اهـ. وعلى الجملة (¬3): فعلينا أن نؤمن بما ذكره الله تعالى من الميزان في هذه الآية وفي قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ومن وزن الأعمال وتمييز مقدار لكل عمل، وليس علينا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) المراغي.

[10]

أن نبحث وراء ذلك، فلا نسأل كيف يزن ولا كيف يقدر؛ فهو أعلم بغيبه ونحن لا نعلم. أما إن الميزان له لسان وكفتان .. فهذا لم يرد به نص عن المعصوم يلزمنا التصديق به، وكيف يوزن بهذا الميزان الذي تعلمه الإنسان في مهد البداوة الأولى ويترك ما هو أدق منه مما اخترع فيما بعد وهدى إليه الناس؟ على أن جميع ما عمله البشر فهو ميزان للأثقال الجسمانية لا ميزان للمعاني المقولة كالحسنات والسيئات، فلنفوض أمر ذلك إلى الله تعالى عالم الغيب. و {الهاوية}: اسم طبقة من طبقات النار السبع وهي آخرها، والمراد من كون أمه هاوية: أن مرجعه الذي يأوي إليه مهواة سحيقة في جهنم يهوي فيها كما يأوي الولد إلى أمه، قال: أمية بن أبي الصلت: وَالأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أَمُّنَا ... فِيْهَا مَقَابرُنَا وَفِيْهَا نُوْلَدُ وقال الآخر: يَا عَمْرُوْ لَوْ نَالَتْكَ أَرْمَاحُنَا ... كَنْتَ كَمَنْ تَهْوِيْ بِهِ الْهَاوَيهْ وقرأ الجمهور (¬1): {فَأُمُّهُ} بضم الهمزة، وطلحة بكسرها، قال ابن خالويه وحكى ابن دريد: أنها لغة، وأما النحويون .. فإنهم يقولون: لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة من ياء، انتهى. والمهوى والمهواة ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في إثر بعض. 10 - {وَمَا أَدْرَاكَ} يا محمد {مَا}؛ أي: جواب ما الهاوية وما حقيقتها، فضمير {هي} (¬2) يعود إلى {الهاوية} و {الهاء} للسكت والاستراحة والوقف، وإذا وصل القارىء .. حذفها وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج؛ لأنها ثابتة في المصحف، وقد أجيز إثباتها مع الوصل، قال أبو الليث: قرأ حمزة والكسائي بغير هاء في الوصل، وبالهاء عند الوقف، والباقون بإثباتها في الوصل والوقف، وقد سبق مفصلًا في الحاقة. والاستفهام هنا للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن حدود المعهود، فلا يدريها أحد، 11 - ثم أعلمها بقوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}؛ أي: هي نار متناهية نهاية الحرارة، يقال: حمي الشمس والنارُ حَمْيًا وحُميًّا وحموَّا، إذا اشتد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

حرهما، والمعنى أي: وأي شيء يخبرك بما هي تلك الهاوية وأنها أي شيء تكون؟ ثم فسرها بعد إبهامها، فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}؛ أي: هي نار ملتهبة يهوي فيها ليلقئ جزاء ما قدم من عمل وما اجترح من سيئات. وفي هذا إيماء إلى أن جميع النيران إذا قيست بها ووزنت حالها بحالها .. لم تكن حامية، وذلك دليل على قوة حرارتها وشدة استعارها، وقانا الله سبحانه شر هذه النار الحامية، وآمننا من سعيرها بمنه وكرمه. الإعراب {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)}. {الْقَارِعَةُ (1)}: مبتدأ أول، {مَا} اسم استفهام للاستفهام التعجيبي في محل الرفع مبتدأ ثان، {الْقَارِعَةُ (1)}: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني مع خبره للأول، والرابط: تكرار لفظ المبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة استئنافًا نحويًا. {وَمَا أَدْرَاكَ}: {الواو} عاطفة {ما}: اسم استفهام للاستفهام التعظيمي في محل الرفع مبتدأ، {أدرى}: فعل ماض، و {الكاف}: في محل النصب مفعول أول لـ {أدرى}، وفاعله ضمير يعود على {ما} وهو الرابط، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها، {مَا}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، {الْقَارِعَةُ (1)} خبرها، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولَي {أَدْرَاكَ} الثاني والثالث، معلقة عنهما باسم الاستفهام؛ لأن أدرى ينصب ثلاثة مفاعيل؛ لأنه بمعنى أعلم {يَوْمَ}: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلّق بمحذوف دلّ عليه لفظ {الْقَارِعَةُ (1)}، تقديره تقرع القلوب يوم يكون الناس ... إلخ، ولا يجوز أن يكون متعلقًا بالقارعة الأول؛ اللفصل بينهما بالخبر، ولا بالثاني والثالث؛ لعدم التئام الظرف معهما من حيث المعنى {يَكُونُ}: فعل مضارع ناقص {النَّاسُ}: اسمها {كَالْفَرَاشِ}: خبرها {الْمَبْثُوثِ} صفة للفراش، وجملة {يَكُونُ} في محل الجر بإضافة الظرف إليها، ويجوز أن تكون {يَكُونُ} تامة و {النَّاسُ}: فاعلًا و {كَالْفَرَاشِ}: حالًا من فاعل

{يَكُونُ} التامة؛ أي: يوجدون ويحشرون حال كونهم كالفراش، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ}: فعل ناقص واسمه {كَالْعِهْنِ}: خبره، {الْمَنْفُوشِ}: صفة لـ {العهن}، والجملة الناقصة في محل الخفض معطوفة على الجملة التي قبلها. {فَأَمَّا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك من أحوال الناس في يوم القيامة وأردت بيان مآلهم .. فأقول لك: أما من ثقلت إلخ {أما} حرف شرط وتفصيل، {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول، {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}: فعل وفاعل صلة الموصول، {فَهُوَ} {الفاء}: رابطة لجواب {أما} واقعة في غير موضعها للثقل، {هو} مبتدأ ثان، {فِي عِيشَةٍ}: خبره، {رَاضِيَةٍ}: صفة لـ {عِيشَةٍ}، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {أما} في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. {وَأَمَّا} {الواو}: عاطفة {أما}: حرف شرط {مَن}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول {خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}: فعل وفاعل صلة الموصول، {فَأُمُّهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {أما} {أمه}: مبتدأ ثان {هَاوِيَةٌ}:خبره والجملة الثانية في محل الرفع خبر للأول وجملة الأول جواب {أما} الشرطية، وجملة {أما} في محل النصب معطوفة على جملة {أما} الأولى، {وَمَا} {الواو}: عاطفة {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {أَدْرَاكَ}: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {ما} ومفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية، والجملة الاستفهامية معطوفة على جملة {أما} الثانية، {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ {هيه} {هي} ضمير للمفرد المؤنثة الغائبة في محل الرفع خبر لـ {ما} الاستفهامية، و {الهاء} حرف سكت لا محل لها من الإعراب، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعولين الثاني والثالث لـ {أدرى} معلقة عنها باسم الاستفهام، {نَارٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي نارٌ {حَامِيَةٌ}: صفة لـ {نَارٌ} والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره مستأنفة استئنافًا

بيانيًا لا محل لها من الإعراب. التصريف ومفردات اللغة {الْقَارِعَةُ (1)}: القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها، من القرع وهو الضرب بشدة واعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة والمراد بها هاهنا: القيامة كما مر. وفي "المختار": قرع من باب قطع، والقارعة الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية، وفي "المصباح": وقرعت الباب قرعًا، بمعنى طرقته ونقرت عليه. {كَالْفَرَاشِ}: وفي "القاموس": والفراشة - بفتح الفاء - الطير التي تتهافت في السراج، والجمع فراش، ومن القفل ما ينشب فيه، وكل عظم رقيق، والماء القليل، والرجل الخفيف، وقرية بين بغداد والحلة، وموضع بالبادية، وعلم، ودرب فراشة محلة ببغداد، والفراش كسحاب ما يبس بعد الماء من الطين على الأرض، ومن النبيذ: الحبب الذي يبقى عليه، وعرقان أخضران تحت اللسان، والحديدتان يربط بهما العلوان في اللجام، وبالكسر: ما يفرش، ويجمع على فُرُش، وزوجة الرجل، قيل ومنه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} وعش الطائر وموقع اللسان في قعر الفم، وقد خلط صاحب المنجد فمزج الفراشة والفراش في مادة واحدة، وجعل معاني الفراش الرجل الخفيف وإنما هو فراشة. {الْمَبْثُوثِ} المتفرق المنتشر، ويقال: بسط فلان خبره وبثه وبقه، إذا وسعه، قال. وَبَسَطَ الْخَيْرَ لَنَا وَبَقَّهُ ... فَالنَّاسُ طُرًّا يَأْكُلُوْنَ رِزْقَهَ {كَالْعِهْنِ}: العهن الصوف الأحمر، واحدها عهنة، {الْمَنْفُوشِ}: اسم مفعول من النَّفْش، وهو كما في "القاموس" تشعيث الشيء بأصبعك حتى ينتشر كالتنفيش، والنَّفَش - بالتحريك - الصوف، وعبارة ابن خالويه: يقال: نفشت الصوف والقطن وسبخته إذا نفشته وخففته كما يفعل النادف. ويقال لقطع القطن وما يتساقط عند الندف: السبيخة، وجمعها سبائخ، ويقال: سبخ الله عنك الحمى، أي: خففها وسَلَّها عنك. ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى عائشة تدعو على سارق سرقها، فقال: "لا تُسبِّخي عنهُ بِدُعائِكِ عَلَيْهِ" وعبارة القرطبي: كالصوف الذي ينفش باليد، اهـ. وهي أنسب باللغة؛ فإن النفش يكون باليد من غير آلة، والندف يكون بالآلة.

وفي "القاموس" أيضًا: ندف القطن يندفه - من باب ضرب - ضربه بالمندف، والمندفة بكسر أولهما؛ أي: بالخشبة التي يطرق بها الوتر ليرق القطن، وهو مندوف ونديف اهـ. {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)}: وقد اختلف في الموازين هنا، فقيل: جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفراء وغيره. وقيل: هي جمع ميزان وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع كما يقال لكل حادثة ميزان، وقيل: المراد بالموازين الحجج و"الدلائل" كما في قول الشاعر: قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِيْ لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيْزَانُهُ {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)}؛ أي: في حياة طيبة، وفي "المختار": العيش: الحياة، وقد عاش يعيش - من باب سار - عيشًا وعيشة ومعاشًا - بالفتح - ومعيشًا بوزن مبيت، وأعاشه الله عيشة راضية، والمعيشة جمعها معايش بلا همزة إذا جمعتها على الأصل، وأصلها مَعْيشة، بوزن مَفْعلة، والياء متحركة أصلية، فلا تقلب في الجمع همزة، وإن جمعتها على الفرع .. همزت وشبهت مفعلة بفعلية كما همزت المصائب؛ لأن الياء ساكنة، ومن النحويين من يرى الهمز لحنًا. والتعيُّش: تكلف أسباب العيش. وعائشة مهموزة، ولا تقل: عَيْشة. اهـ. {رَاضِيَةٍ}؛ أي: مرضية لصاحبها، فهي فاعلة بمعنى مفعولة. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)}؛ أي: فمأواه هاوية، فهو من قبيل زيد أسد، شبهت النار للعصاة بالأم لكونها تهوي بهم فتضمهم إلى نفسها كما تضم الأم الأولاد إليها، اهـ "زاده". وعبارة الخطيب: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} أي: نار نازلة سافلة جدًّا فهو بحيث لا يزال يهوى فيها نازلًا فهو في عيشة ساخطة، فالآية من الاحتباك، ذكر العيشة أولًا دليلًا على حذفها ثانيًا وذكر الأم ثانيًا دليلًا على حذفها أولًا، والهاوية اسم من أسماء جهنم. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: التكرار في قوله: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} تهويلًا من شأنها وتفخيمًا لفظاعتها. ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)} وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)} لغرض التفخيم. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {مَا الْقَارِعَةُ (2)} تأكيدًا للتهويل، والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)} ففيهما تشبيهان رائعان، وهو تشبيه مرسل مجمل؛ لأن وجه الشبه حذف فيهما، ففي الأول وجوه الشبه كثيرة منها: 1 - الطيش الذي لحقهم. 2 - وانتشارهم في الأرض. 3 - وركوب بعضهم بعضًا. 4 - الكثرة لا غناء فيها. 5 - والضعف والتذلل وإجابة الداعي من كل جهة. 6 - والتطاير إلى النار للاحتراق من حيث لا تريد الاحتراق. وفي تشبيه الجبال بالعهن المنفوش أوجه كثيرة أيضًا، منها: 1 - تفتتها وانهيارها. 2 - صيرورتها كالعهن. 3 - ثم صيرورتها كالهباء. وقد تشبث الشعراء بهذه المعاني، فقال جرير يهجو الفرزدق: أَبْلِغْ بَنِيْ وَقْبَانَ أَنَّ حُلُوْمَهُمْ ... خَفَّتْ فَمَا يَزِنُوْنَ حَبَّةَ خَرْدَلِ أَزْرَى بِحِلْمِكُمُ الْفِيَاشُ فَأَنْتُمُ ... مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشِيْنَ نَارَ الْمُصْطَلِيْ وقال أبو العلاء المعري في رثاء والده:

فَيَا لَيْتَ شِعْرِيْ هَلْ يَحِقُّ وَقَارُهُ ... إِذَا صَارَ أَحْدٌ فِيْ الْقِيَامَةِ كَالْعِهْنِ وَهَلْ يَرِدُ الْحَوْضَ الرَّوِىَّ مُبَادِرًا ... مَعَ النَّاسِ أَمْ يَأْبَى الزَّحَامَ فَيَسْتَأْنِيْ ومنها: جمع الموازين في قوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)} للتعظيم، أو لأن لكل مكلف ميزانًا أو لاختلاف الموزونات وكثرتها، كما مر. ومنها: المقابلة في قوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} ثم قابلها بقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)} وهو من المحسنات البديعية. ومنها: المجاز العقلي في قوله: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ففيه إسناد ما للشيء إلى محله؛ لأن الذي يرضى بها الذي يعيش فيها، ففيها إسناد مجازي علاقته المحلية نحو: نهاره صائم وليله قائم. ومنها: الاحتباك في قوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)}؛ وهو: أن يحذف من كل من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر، فحذف هنا من الأول: فأمه الجنة، وذكر فيه {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} وحذف من الثاني فهو في عيشة ساخطة، وذكر فيه فأمه هاوية فحذف من كل منهما نظير ما أثبته في الآخر، وهو من المحسنات البديعة. ومنها: التهكم في قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)}، أو لأنها تحيط به إحاطة رحم الأم بالولد، كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة القارعة قبيل العشاء في ليلة الاثنين السادس والعشرين من شهر ذي الحجة من شهور سنة 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم وعلى آله وصحبه ما سُطِرت السطور وشُرِحت الصدور بمعاني كتابه الكريم. آمين.

سورة التكاثر

سورة التكاثر سورة التكاثر مكية عند الجميع، نزلت بعد سورة الكوثر، وروى البخاري: أنها مدنية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزل بمكة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه في السابقة وصف القيامة وبعض أحوالها، وجزاء الأخيار والأشرار، وأن في هذه ذكر الجحيم وهي: الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال في الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة. وهي ثمان آيات، وثمان وعشرون كلمة، ومئة وعشرون حرفًا. وسميت بسورة التكاثر لذكر لفظ التكاثر فيها، وقال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة التكاثر كلها محكمة، لا ناسخ فيها ولا منسوخ. فضلها: ومما ورد في فضلها (¬2): ما أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشُّعَب" عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم" قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: "أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: ألهاكم التكاثر؟ " وأخرج الخطيب في "المتفق والمفترق" والديلمي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ في ليلة ألف آية .. لقي الله وهو ضاحك في وجهه" قيل: يا رسول الله، ومن يقوى على ألف آية؟ فقرأ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ألهاكم التكاثر ... إلى آخرها، ثم قال: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ألف آية". ومنه ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، عن عبد الله بن الشخير قال: وانتهيت إلى رسول الله حب وهو يقرأ ألهاكم التكاثر. وفي لفظ: وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر، فقال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ " وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها -: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثة: ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

ما أكل فأفنى، وما لبس فأبلى، من تصدق فأَبقى، وما سوى ذلك .. فهو ذاهب وتاركه للناس". ومنه ما أخرجه الحكيم، والترمذي في "نوادر الأصول"، والبيهقي في "الشعب" وضعفه عن جرير بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني قارىء عليكم سورة ألهاكم التكاثر، فمن بكى .. فله الجنة" فقرأها فمنا من بكى ومنا من لم يبك، فقال الذين لم يبكوا: قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه، فقال: "إني قارئها عليكم الثانية، فمن بكى .. فله الجنة، ومن لم يقدر أن يبكي .. فليتباكَ". والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: نزلت ألهاكم التكاثر في قبيلتين من الأنصار؛ وهما: بنو حارثة، وبنو الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: أفيكم مثل فلان وفلان، وقالت الأخرى: مثل ذلك تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل ذلك وتشير إلى القبر ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وقيل غير ذلك. التفسير وأوجه القراءة 1 - {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها والتغالب فيها يقال: ألهاه عن كذا، وألهاه إذا شغله، ومنه قول امرىء القيس: فَمِثْلَكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِيْ تَمَائِمَ مُحْوِلِ يقال (¬1): لهوت بكذا, ولهوت عن كذا؛ أي: اشتغلت عنه بلهو، واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، ويعبر به عن كل ما به استمتاع، ويقال: ألهى عن كذا؛ أي: شغل عما هو أهم، والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر، والمعنى: شغلكم عن الآخرة التغالب في الكثرة والتفاخر بها. قال الحسن: معنى ألهاكم: أنساكم 2 - {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)}؛ أي: حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال ولحقتم بالقبور، وقال قتادة: إن ¬

_ (¬1) روح البيان.

التكاثر والتفاخر بالقبائل والعشائر، وقال الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش، وقال مقاتل وقتادة أيضًا وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا، وقال الكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تعادَوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإِسلام، فقال كل حي منهم: نحن أكثر سيدًا، وأعز عزيزًا، وأعظم نفرًا، وأكثر قائدًا، فأكثر بنو عبد مناف على بني سهم، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم بهم، فنزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} فلم ترضوا {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} مفتخرين بالأموات، وقيل: نزلت في حيين من الأنصار كما مر، والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية: دليل (¬1) على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} وحذف (¬2) المُلهى عنه؛ أي: الذي أُلهِيَ عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدنيا للتعظيم، والمبالغة، أما الأول فلأن الحذف كالتنكير قد يُجعل ذريعة إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام، وأما الثاني فلأن تذهب النفس كل مذهب ممكن، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مثل: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات، والمندوبات مما يتعلق بالقلب كالعلم والتفكر والاعتبار، أو بالجوارح كأنواع الطاعات، وتعريف التكاثر للعهد. والعهد المذموم هو التكاثر في الأمور الدنيوية الفانية، كالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء، وأما التفاخر بالأمور الأخروية الباقية، فممدوح، كالتفاخر بالعلم والعمل والأخلاق الكريمة والصحة والقوة والغنى والجمال وحسن الصوت إذا كان بطريق تحديث النعمة، ومنه تفاخر العباس - رضي الله عنه - بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن مفتاح البيت بيده إلى أن قال علي - رضي الله عنه -: وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي، فصار الكفر مثلة، ومعنى {التَّكَاثُرُ}: مكاثرة اثنين مالًا أو عددًا بأن يقول كل منهما لصاحبه: أنا أكثر منك مالًا وأعظم نفرًا، كما كثر بنو عبد مناف على بني سهم، كما سبق آنفًا. والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى زرتم المقابر؛ أي: استوعبتم عددهم وصرتم إلى التفاخر والتكاثر بالأموات، فعبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

القبور؛ أي: جُعلت كناية عنه تهكمًا بهم. قال الطيبي: إنما كان تهكمًا؛ لأن زيارة القبور شُرعت لتذكر الموت ورفض حب الدنيا، وترك المباهاة والمفاخرة، وهؤلاء عكسوا حيث جعلوا زيارة القبور سببًا لمزيد القسوة والاستغراق في حب الدنيا، والتفاخر في الكثرة، وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ، والغاية تدخل تحت (¬1) المغيَّا في هذا الوجه، وقيل المعنى: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيَّعين أعماركم في طلب الدنيا معرضين عما يهمكم من السعي لأخراكم، فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت، والتكاثر هو التكاثر بالمال والولد. وفي الآية: إشارة إلى أنهم يُبعثون، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وقرأها عمر بن عبد العزيز، فقال: ما أرى المقابر إلا زيارة، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته إما إلى الجنة أو إلى النار، وفيه تحذير عن الدنيا وترغيب في الآخرة والاستعداد للموت. وقرأ الجمهور (¬2): {أَلْهَاكُمُ} على الخبر، وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضًا وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية: {أألهاكم} بهمزتين، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع على قبح فعلهم. وحاصل معنى الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}؛ أي: شغلكم (¬3) التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع وصرفكم ذلك عن الجد في العمل، فكنتم في لهو بالقول عن العمل، وفي غرور وإعجاب بالآباء والأعوان وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فُرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه. وروى مسلم عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)}؛ أي: حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

[3]

أعماركم فيما لا يُجدي فائدة، ولا يعود عليكم بعائدة، في حياتكم الباقية الخالدة، قال العلماء: إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنها تذكر بالموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيكتم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكركم الآخرة". كما لا خلاف في منع زيارتها إذا حدث في ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الشرع، كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها، 3 - ثم نبههم إلى خطأ ما هم عليه، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة، فقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)} {كَلَّا} ردع (¬1) عما هم عليه من التكاثر؛ أي: ليس الأمر كما يتوهم هؤلاء من أن فضل الإنسان وسعادته بكثرة أعوانه وقبائله وأمواله؛ أي: ارتدعوا عن هذا وتنبهوا عن الخطأ به، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن لا يكون معظم همه مقصورًا على الدنيا، فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ أي: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول المحشر، فالعلم بمعنى المعرفة، ولذا قُدر له مفعول واحد، وهذا إنذار وتخويف ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم. قال الحسن - رحمه الله تعالى -: لا يغرنك كثرة من ترى حولك، فإنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، والمعنى؛ أي (¬2): ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران والضغينة والأحقاد، وَالْجَؤوا إلى التناصر على الحق، والتكاتف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات من تقويم الأخلاق وتطهير الأعراق، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صالح نافع لكم في العقبى، 4 - ثم أكد هذا وزاد في التهديد، فقال: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} كرر الردع تأكيدًا للزجر والإنذار، وفي {ثُمَّ} (¬3) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول؛ لأن فيه تأكيدًا خلا عنه الأول؛ لأن فيه تنزيلًا لبعد المرتبة، مرتبة بعد الزمان، واستعمالًا للفظ {ثُمَّ} في مجرد التدرج في درج الارتقاء، كما تقول للمنصوح: ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

[5]

أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، من الأول عند الموت في وقت ما بشر به المحتضر من جنة من نار، وفي القبر حين سؤال منكر ونكير: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؛ والثاني عند النشور حين ينادي المنادي: شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها، وحين يقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}، فعلى هذا لا تكرار في الآية لحصول التغاير بينهما بتغاير زمانَي العِلْمَين ومتعلقيهما، فإنه يلقى في كل واحد من الزمانين نوعًا آخر من العذاب، و {ثُمَّ} على بابها من المهلة لتباعد ما بين الموت والنشور، وكذا ما بين القبور والنشور. وعن علي - رضي الله عنه -: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة إلى قوله: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}؛ أي: سوف تعلمون في القبر ثم في القيامة. 5 - {كَلَّا} تكرير للتنبيه تأكيدًا {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}؛ أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علمًا يقينًا لعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا .. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، من لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه، و {كَلَّا} في هذا الموضع الثالث للزجر والردع كالموضعين الأولين جيء بها للتأكيد، وقال الفراء: هي (¬1) بمعنى حقًا، وقيل: هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا، وجواب {لَوْ} محذوف كما قدرنا للتهويل، فإنه إذا حُذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن، و {عِلْمَ} مصدر أضيف إلى مفعوله، و {الْيَقِينِ}: صفة لذلك المفعول، وهو المتيقَّن به؛ أي: لو تعلمون ما بين أيديكم من الأهوال علم الأمر المتيقن به كمال التيقن حتى كأنه عين اليقين .. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، لكنكم ضُلَّال جهلة، فاليقين بمعنى المتيقن به، وإلا فيلزم إضافة أحد المترادفين إلى الآخر؛ إذ العلم في اللغة بمعنى اليقين، ويمكن أن تكون الإضافة فيه من إضافة العام إلى الخاص بناء على أن اليقين أخص من العلم، فإن العلم قد يعم الظن واليقين، فتكون إضافته كإضافة بلد بغداد، ويدل قولهم: العلم اليقين بالوصف. والمعنى: أي (¬2) ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإن ما تدَّعونه علمًا ليس ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[6]

في الحقيقة بعلم، وإنما هو وهم وظن. لا يلبث أن يتغير؛ لأنه لا يطابق الواقع، والجدير بأن يسمى علمًا هو علم اليقين المطابق للواقع بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل والنقل الصحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة في زجرهم عن تغريرهم بأنفسهم، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذا ذكروا بعواقب حالهم أن يقولوا إنهم يعلمون العواقب وإنهم في منتهى اليقظة وسداد الفكرة، 6 - ثم ذكر لهم بعض ما ينتهي إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزي الدنيا، فقال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)} جواب قسم محذوف، أكد به الوعيد حيث إن ما أوعدوا به مما لا مدخل فيه للريب، وشدد به التهديد، وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيمًا، تقديره: والله لترون الجحيم في الآخرة بأبصاركم، ولا يجوز أن يكون جواب {لَوْ}: لأن رؤية الجحيم مثبتة محققة الوقوع وليست بمعلقة. قال الرازي: وليس هذا جواب {لَوْ}؛ لأن جواب {لَوْ} يكون منفيًا وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ}: وهو مستقبل لا بد من وقوعه، وحذف جواب {لَوْ} كثير، فلو جعل جواب {لَوْ} لكان المعنى: إنكم لا ترونها لكونكم جهالًا، وهو غير صحيح، وقال بعضهم: يصح أن يكون جوابًا، فيكون المعنى: سوف تعلمون الجزاء، ثم قال: لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني: يكون الجحيم دائمًا في نظركم لا يغيب عنكم أصلًا اهـ. والرؤية هنا بصرية؛ أي: وعزتي، وجلالي: إنكم لترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت، فلذلك تعدت إلى مفعول واحد، 7 - ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد، فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}؛ أي: ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل: الأولى (¬1) إذا رأوها من مكان بعيد ببعض خواصها وأحوالها مثل رؤية لهبها ودخانها، والثانية إذا اوردوها، فإن معاينة نفس الحفرة وما فيها من الحيوانات المؤذية وكيفية السقوط فيها أجلى وأكشف من الرؤية الأولى، فعلى هذا يتنازع الفعلان في عين اليقين، أو المراد بالأولى المعرفة، وبالثانية المشاهدة، والمعاينة, ¬

_ (¬1) روح البيان.

[8]

وقوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ}؛ أي (¬1): الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة للمحسوسات أقصى مراتب اليقين، فلا يرد أن أعلى اليقينيات الأوليات وهي ما يحكم فيها العقل من أول وهلة لعدم توقفها على شيء بعد تصدر الطرفين، وتسمى الضروريات كقولهم: السكين قاطع، والسماء فوقنا، والأرض تحتنا اهـ "صبان" بتصرف. وإنما قيَّد الرؤية بعين اليقين احترازًا عن رؤية فيها غلط الحس، فانتصاب {عَيْنَ الْيَقِينِ} على أنه صفة المصدر {لَتَرَوُنَّهَا}، وجعل الرؤية التي هي سبب اليقين نفس اليقين مبالغة. والمعنى: أي (¬2) لترونها رؤية هي اليقين إلى أي دين، أو إلى أي شخص كانت نسبتكم، فلتتقوا الله ربكم ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها, ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق الله فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تُستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات، ولا تقترفوا المنكرات، وإنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنكم ويزحزحكم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإِسلامي، وتلقيبكم بألقابه مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإِسلام. وقرأ ابن عامر والكسائي (¬3): {لترون} بضم التاء وباقي السبعة بالفتح، وقرأ علي وابن كثير في رواية, وعاصم في رواية بفتحها في: {لَتَرَوُنَّ} وضمها في: {لَتَرَوُنَّهَا} ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة بضمهما، وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين، استثقلوا الضمة على الواو، فهمزوا كما همزوا في: وقتت، وكان القياس أن لا تهمز؛ لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين، فلا يعتد بها, لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقت نحو: استرؤوا الصلاة فهمز هذه أولى. 8 - {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} قال في "التيسير": كلمة (¬4) {ثُمَّ} للترتيب ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط. (¬4) روح البيان.

في الإخبار لا في الوجود، فإن السؤال بأنك أشَكرت على تلك النعمة أم كفرت يكون في موقف الحساب قبل دخول النار، والمعنى: ثم لتسألن يوم رؤية الجحيم وورودها عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، فتعذبون على ترك الشكر، فإن الخطاب في {لَتُسْأَلُنَّ} مخصوص بمن عكف همته على استيفاء اللذات ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين، يقَطَّعُ أوقاته باللهو والطرب لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمِّل على نفسه مشاقهما، فإن من تمتع بنعمة الله وتقوَّى بها على طاعته وكان ناهضًا بالشكر، فهو من ذلك بمعزل بعيد، فدخل في الآية كفار مكة ومن لحق بهم في وصفهم من فسقة المؤمنين، وقيل: الآية مخصوصة بالكفار، وقال بعضهم: المراد بالنعيم هو الصحة والفراغ، وقال أبو حيان: الظاهر العموم في {النَّعِيمِ} وهو كل ما يلتذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يُسأل سؤال إكرام وتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع، وعن ابن مسعود ومجاهد والشعبي وسفيان: هو الأمن والصحة، وعن ابن عباس: البدن والحواس فيم استعملها، وعن ابن جبير: كل ما يتلذذ به، وفي الحديث: "بيت يكنك وخرقة تواريك، وكسرة تشد قلبك، وما سوى ذلك فهو نعيم" انتهى. وفي "الشوكاني" قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}؛ أي: نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، قال قتادة: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيُسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم حيث عبدوا غيره وأشركوا به، قال الحسن: لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار، وقال قتادة: إن الله سبحانه سائلٌ كلَّ ذي نعمة عما أنعم عليه، وهذا هو الظاهر كما مر عن أبي حيان، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد أو نوع من الأفراد؛ لأن تعريفه للجنس أو للاستغراق، ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي يُسأل عنها، فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها وبم عمل فيها؛ ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر عليها، وقيل: السؤال عن الأمن والصحة، وقيل: عن الإدراك بالحواس، وقيل: عن ملاذ المأكول والمشروب، وقيل: عن الغداء والعشاء، وقيل: عن بارد الماء وظلال المساكن، وقيل: عن اعتدال الخلق، وقيل: عن لذة النوم، وقيل: عن الصحة والفراغ، والأولى الدموم كما ذكرنا، وفي الحديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من

الناس الصحة والفراغ" أخرجه البخاري، وفي هذا الحديث دلالة على عظم محل هاتين النعمتين وجلالة خطرهما، وذلك لأن بهما يستدرك مصالح الدنيا، ويكتسب درجات الآخرة، فإن الصحة تنبىء عن اجتماع القوى الذاتية، والفراغ يدل على انتظام الأسباب الخارجة المنفصلة، ولا قدرة على تمهيد مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة إلا بهذين الأمرين، ثم سائر النعم بَعْدُ من توابعهما، وقال معاوية بن قرة: شدة الحساب يوم القيامة على الصحيح الفارغ، يقال: كيف أديت شكرهما؟، وفي "عين المعاني": يسأل عن النعم الخمس: شبع البطون، وبرد الشراب، ولذة النوم، وظلال المساكن، واعتدال الخَلْق. والمعنى: أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهي به بعضكم بعضًا ستسألون عنه ماذا صنعتم به، هل أديتم حق الله فيه، وراعيتم حدود أحكامه في التمتع به؟ فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء في دار البقاء. روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: أي نعيم نُسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحارث، وروي عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: نزلت: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} قال الزبير: يا رسول الله: وأي نعيم نُسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: "أما إنه سيكون" أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أصبح آمنًا في بدنه، معافى في بدنه، وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوع يا رسول الله، قال: "والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقدما فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين فلان؟ " قالت: ذهب يستعذب لنا الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحدٌ اليومَ أكرمَ أضيافًا منى قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا وأخذ المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياك والحلوب" فذبح لهم شاة، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق وشربوا، فلما شبعوا ورووا .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" وأخرجه الترمذي بأطول من هذا، وقال فيه: "والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب طيب وماء بارد"، وكنَّى الرجل من الأنصار، فقال أبو الهيثم بن التيهان، واسمه: مالك بن التيهان وذكر قصته. قال الرازي: قيل السؤال إنما هي عن الزائد على ما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر، وأنه عن جميع النعم سواء كانت النعم مما لا بد منه أو لا، والسؤال إنما هو في موقف الحساب، و {ثُمَّ} للترتيب الإخباري لا المعنوي؛ لأن السؤال قبل رؤية الجحيم. انتهى. تتمة: والفرق بين علم اليقين وعين اليقين أن علم اليقين: هو إدراك الشيء من غير مشاهدة، وعين اليقين: الرؤية التي هي العلم به مع المشاهدة، وأما حق اليقين فهو: مع الملاصقة والممازجة، وقد أخبر الله سبحانه هنا بالأولين، وأخبر بالثالث في سورة الواقعة، حيث قال: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ ...} الآية، والله أعلم. الإعراب {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}: فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، والجملة مستأنفة. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، أو عاطفة. {زُرْتُمُ}: فعل وفاعل في محل النصب بأن مضمرة؛ لأنه ماض في اللفظ مستقبل في المعنى بالنسبة إلى ما قبل {حَتَّى}. {الْمَقَابِرَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى، تقديره: ألهاكم التكاثر إلى زيارتكم المقابر، أو الجملة معطوفة على جملة {أَلْهَاكُمُ}. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر عن التشاغل عن الطاعات. {سَوْفَ}:

حرف استقبال. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل مرفوع بثبوت النون، والمفعول محذوف تقديره: ما أمامكم، والجملة الفعلية مستأنفة. {ثُمَّ}: حرف عطف. {كَلَّا} سبق إعرابه {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: معطوف على الجملة الأولى، وجعله ابن مالك من باب التوكيد اللفظي مع توسط حرف العطف. {كَلَّا}: حرف ردع مكرر للتأكيد. {لَوْ}: حرف شرط. {تَعْلَمُونَ}: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف تقديره: لو تعلمون عاقبة التلهي والتفاخر والتكاثر، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: ما شُغِلتم بالتكاثر والتفاخر، وجملة {لَوْ} مع جوابها المحذوف مستأنفة. وحذف متعلق العلم في الأفعال الثلاثة؛ لأن الغرض هو الفعل لا متعلقه، والعلم بمعنى المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد. {عِلْمَ الْيَقِينِ}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مصدر مبين للنوع، وأصله العلم اليقين، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، ولا يصح أن يكون قوله: {لَتَرَوُنَّ} هو الجواب؛ لأنه محقق الوقوع، فلا يعلق {لَتَرَوُنَّ}: {اللام}: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله لترون الجحيم، وجملة القسم مستأنفة، {تَرَوُنَّ}: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحركة بالضم لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل. {الْجَحِيمَ}: مفعول به، والرؤية هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وأصله: لتَرْأَيُون، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، وحُذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، ثم ألقيت حركة الهمزة التي هي عين الكلمة على الراء، وحُذفت لثقلها، ثم دخلت نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وحُركت الواو بالضم لالتقاء الساكنين، ولم تُحذف؛ لأنها لو حذفت لاختل الفعل بحذف عينه ولامه وواو الضمير. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}. {ثُمَّ}: حرف عطف، {اللام}: موطئة للقسم، {لَتَرَوُنَّهَا} {تروُنَّ}: فعل مضارع، وفاعل، مرفوع بثبات النون، و {الهاء}: مفعول به، والجملة معطوفة على الجيملة التي قبلها، {عَيْنَ الْيَقِينِ}: منصوب على المصدرية؛ لأنه مصدر معنوي لرأى؛ لأن رأى وعاين بمعنى واحد، أو لأنها صفة لمصدر محذوف؛ أي: لترونها رؤية عين اليقين. {ثُمَّ}: حرف عطف، {لَتُسْأَلُنَّ} {تُسألن}: فعل مضارع مرفوع، وعلامة

رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الضمير المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل , و {يَوْمَئِذٍ}: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ {تسألن}، و {عَنِ النَّعِيمِ}: متعلق بـ {تسألن} أيضًا على أنه في موضع المفعول الثاني. التصريف ومفردات اللغة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}؛ أي: شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد عن دينكم، واللهو: ما يشغل الإنسان سواء أكان مما يسر أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور، وإذا أُلهي المرء بشيء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر: التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر: أنا أكثر منك مالًا، أنا أكثر منك ولدًا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب. {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)}؛ أي: حتى صرتم من الموتى، قال جرير: زَارَ الْقُبُوْرَ أَبُوْ مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ أَلأمَ زُوَّارِهَا والمقابر: جمع مقبرة بضم الباء وفتحها، وهي مدفن الموتى، والقبور: جمع قبر، قال الشاعر: أَرَى أَهْلَ الْقُبُوْرِ إِذَا أمِيْتُوْا ... بَنَوْا فَوْقَ الْمَقَابِرِ بِالصُّخُوْرِ أَبَوْا إِلَّا مُبَاهَاةً وَفَخْرًا ... عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى فِيْ الْقُبُوْرِ {كَلَّا} وفي "القرطبي": قيل إن {كَلَّا} في المواضع الثلاثة بمعنى ألا، قاله ابن أبي حاتم، وقال الفراء: هي بمعنى حقًا في المواضع الثلاثة، وقيل: هي للردع والزجر في المواضع الثلاثة اهـ بتصرف. وقوله: {أَلْهَاكُمُ} أصله: أَلْهَيَكم بوزن أفعَلَ، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقوله: {زُرْتُمُ} فيه إعلال بالقلب والحذف، أصله: زَوَرَ قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم أُسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، فسُكِّن آخره فالتقى ساكنان، فحُذفت الألف، ثم حذفت حركة فاء الفعل، وعُوَّض عنها حركة مناسبة للعين المحذوفة التي هي الواو، والمناسب لها الضمة، فقيل: زرتم بوزن فلتم. قوله: {لَتَرَوُنَّ} أصله: لتَرْأَيُون بوزن تفعلون، كما مر آنفًا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت بعد النقل تخفيفًا، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد

فتح، فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف، ثم دخلت نون التوكيد الثقيلة على الفعل فاجتمع ثلاث نونات، فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان: واو الجماعة ونون التوكيد الثقيلة، فحُركت الواو بالضم، فالفعل مُعْرَب لعدم مباشرة نون التوكيد لآخره؛ لأن المحذوف لعلة كلا محذوف، فنون الرفع المحذوفة لتوالي الأمثال مقدرة، وكذلك يقال: في قوله: {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}. {عِلْمَ الْيَقِينِ}؛ أي: علم الأمر الميقون الموثوق به. {لَتُسْأَلُنَّ} أصله: لتسألون، اتصلت بالفعل نون التوكيد الثقيلة، فاجتمع ثلاث نونات، فحذفت نون الرفع، فصار لتسألون، فالتقى ساكنان فحُذفت الواو. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: التذكير والتوبيخ في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}؛ لأنه قد خرج الخبر فيه عن حقيقته إلى التوبيخ والتذكير. ومنها: حذف المُلهى عنه؛ أي: الذي أُلْهِيَ عنه، وهو ما يعنيهم من أمر الدين في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}؛ للتعظيم والمبالغة، أما الأول فلأن الحذف كالتنكير قد يُجعل ذريعة إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام، وأما الثاني فلأن تذهب النفس كل مذهب ممكن، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، مثل ألهاكم التكاثر عن ذكر الله تعالى، من ألهاكم التكاثر عن الواجبات أو عن المندوبات أو عن المهمات مثلًا. ومنها: الكناية في قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}؛ لأنه عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة القبور؛ أي: جُعلت الزيارة كناية عنه تهكمًا بهم، قال الطيبي: إنما كان تهكمًا؛ لأن زيارة القبور شُرعت لتذكر الموت ورفض حب الدنيا وترك المباهاة والتفاخر، وهؤلاء عكسوا حيث جعلوا زيارة القبور سببًا لمزيد القسوة والاستغراق في حب الدنيا والتفاخر بالكثرة. ومنها: التكرار للتهديد والإنذار في قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}، وعطفه بـ {ثُمَّ} للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول، كما يقول

العظيم لعبده: أقول لك، ثم أقول لك: لا تفعل، ولكونه أبلغ نُزِّل منزلة المغايرة، فعُطف بـ {ثُمَّ}. ومنها: حذف جواب {لَوْ} للتهويل والتفخيم في قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تقديره: لرأيتم ما تشيب له الرؤوس، وتفزع له النفوس من الشدائد والأهوال؛ لأنه إذا حذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن. ومنها: القسم في قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}؛ لتوكيد الوعيد. ومنها: تكرار القسم معطوفًا بـ {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} تغليظًا في التهديد، وزيادة في الوعيد. ومنها: جعل الرؤية {عَيْنَ الْيَقِينِ} وخالصته مبالغة خاصة. ومنها: حذف متعلق العلم في قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ...} إلخ في الأفعال الثلاثة إشعارًا بأن الغرض هو الفعل لا متعلقه، كما في "السمين". ومنها: الإطناب بتكرار الفعل في قوله: {لَتَرَوُنَّ} وقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} لبيان شدة الهول. ومنها: تكرار القسم معطوفًا في قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} تغليظًا في التهديد وزيادة في الوعيد. ومنها: التعريف بـ {أل} الاستغراقية في قوله: {عَنِ النَّعِيمِ} إشعارًا بأن السؤال عن جميع أنواع النعم وأفرادها. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى تفسير سورة التكاثر ضحوة يوم الجمعة اليوم الثلاثين من شهر ذي الحجة من شهور سنة: 1416 هـ ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة العصر

سورة العصر سورة العصر مكية عند الجمهور نزلت بعد سورة الشرح، وقال قتادة: هي مدنية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة العصر بمكة، وهي ثلاث آيات، وأربع عشرة كلمة، وثمانية وستون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنه ذكر في السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر، وبكل ما من شأنه أن يُلهي عن طاعة الله، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية إلى البوار، وموقعة له في الدمار، إلا من عصم الله وأزال عنه شرور نفسه، فكان هذا تعليل لما سلف. إلى أنه ذكر في السالفة صفة من أَتبع نفسه وهواه، وجرى مع شيطانه حتى وقع في التهلكة، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع، فآمن بالله وعمل الصالحات، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق، والاصطبار على مكارهه. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه لما قال فيما قبلها: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ووقع التهديد بتكرار {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)} ... بيَّن هنا حال المؤمن والكافر اهـ. وسميت سورة العصر؛ لذكر لفظ العصر فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة العصر (¬2) كلها محكم، وفيها خلاف، فقيل المنسوخ فيها آية واحدة، وهي قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} نُسخت بالاستثناء المذكور بعدها، وهو قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} اهـ. فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه (¬3) الطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الشعب" عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الناسخ والمنسوخ. (¬3) الشوكاني.

ثم يسلم أحدهما على الآخر. ومنها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ سورة العصر غفر الله له، وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وروي (¬1) عن الإِمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، أو قال: لو لم يُنزَل من القرآن سواها لكفت الناس. وهذه السورة من أجلِّ سور القرآن العظيمِ وأوجزها لفظًا وأكثرها معنًى وحكمة وبيانًا، ولجلالة ما جمعت من المعاني السامية أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، كما مر آنفًا ذلك؛ ليُذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن، ألا ترى أنها مع قلة حروفها تدل على جميع ما يحتاج إليه الناس في الدين علمًا وعملًا، وفي وجوب التواصي بالحق والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) البيضاوي.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَالْعَصْرِ (1)}؛ أي: أقسم بالعصر، أقسم سبحانه (¬1) بالعصر وهو الدهر؛ لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل: عصر، وللنهار: عصر، ومنه قول حميد بن ثور: وَلَمْ يَنْتَهِ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَمَنَّيَا ويقال للغداة والعشي عصران، ومنه قال الشاعر: وَأمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِيْ ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالأَنْفُ رَاغِمُ وقال قتادة والحسن: المراد به في الآية: العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، ومنه قول الشاعر: يَرُوْحُ بِنَا عَمْرٌ ووَقَدْ قَصُرَ الْعَصْرُ ... وَفِيْ الرَّوْحَةِ الأُوْلَى الْغَنِيْمَةُ وَالأَجْرُ وقال ابن عباس: العصر هو الدهر والزمن، قيل: أقسم الله به لما فيه من العبر والعجائب للناظر، وفي "تفسير الرازي": أقسم (¬2) الله تعالى بالدهر لما فيه من الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، ولأن بقية عمر المرء لا قيمة له، فلو ضيَّعتَ ألف سنة فيما لا يعني، ثم ثبتت السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر بقيتَ في الجنة آبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الدهر والزمان من جملة أصول النعم، ولأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به سبحانه؛ لكونه نعمة خالصة لا عيب فيه إنما الخاسر والمعيب الإنسان. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الرازي.

وقد ورد في الحديث: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" رواه مسلم وغيره، وذلك لأنهم كانوا يضيفون النوائب والنوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيهًا على شرفه، وأن الله هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النوائب والنوازل كان بقضاء الله تعالى وقدره، وقيل: الكلام على حذف مضاف تقديره: ورب العصر، ورُوي عن قتادة أيضًا أنه: آخر ساعة من ساعات النهار، فالعصر هو الطرف الأخير من النهار، وقد أقسم الله سبحانه به لما في ذلك من الدلالة على قدرة الله تعالى في تصرفه في هذا الكون العظيم ووحدانيته بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس، فقد أقسم هنا بالطرف الأخير من النهار، كما أقسم في آية أخرى بالطرف الأول من النهار، حيث قال: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)}، وهو الطرف الأول من النهار؛ لما فيه من حدوث سلطان الشمس وإقبال النهار، وأيضًا إنه كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق من خبث الحديث، وما يؤدي به بعضهم بعضًا، فيتوهم الناس أن الوقت مذموم، وأن الدهر مشاكس ملعون، كما يفعل بعض الجهلة في زماننا هذا، فأقسم الله تعالى بالعصر؛ لينبه على أن الزمان في نفسه ليس مما يُذم ويسب ويلعن، كما اعتاد بعض الناس أن يقولوا زمان مشؤوم ووقت نحس ودهر سوء، وما يشبه ذلك، بل الدهر ظرف للحسنات، كما هو ظرف للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله العظيمة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع وإحياء وإماتة. فكيف يُذم في ذاته وإنما يُذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة، فالله تعالى يُقسم بالزمان مطلقًا أو بذلك الوقت المخصوص، والزمان الذي هو العصر مملوء بالعبر والعظات مشحون بالحوادث والوقائع. والزمان هو الأستاذ الأكبر والمعلم الأول الذي يُعلِّم الأفراد والشعوب أن العاقبة للعاملين المخلصين المتقين، وأن الخسران للعاملين الخائنين الظالمين، ومن لم يؤدبه الأبوان أدّبه الزمان؛ لأن الزمان إنما هو مؤدب أكبر ومرشد أعظم، وصروف الدهر وتقلبات الأيام كلها عبر وآيات بينات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن أجل ذلك أقسم الله تعالى به إرشادًا إلى علو مرتبته وإلى أنه شاهد صدق على أن الناس جميعًا في خسارة إلا المؤمنين الصالحين. وقال مقاتل إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله

سبحانه بالمحافظة عليها، وقيل: هو قسم بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الزجاج: قال بعضهم معناه: ورب العصر، والأول أولى، وقرأ سلَّام (¬1): {والعصِر} بكسر الصاد، و {الصبِر} بكسر الباء، قال ابن عطية: وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة، وروي عن أبي عمرو: {بالصبِر} بكسر الباء إشمامًا، وهذا أيضًا لا يكون إلا في الوقف. انتهى. وفي "الكامل" للهذلي: {والعصر} و {الصبر} {والفجر} {والوتر} بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها، وقرأ هارون وابن موسى عن أبي عمرو والباقون بالإسكان كالجماعة. انتهى. وقال ابن خالويه: {وتواصوا بالصبر} بنقل الحركة عن أبي عمرو، وقال صاحب "اللوامح": قرأ عيسى البصرة: {بالصبر} بنقل حركة الراء إلى الباء؛ لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف، ولا إلى أن يسكن فيجتمع ساكنان، وذلك لغة شائعة، وليست شاذة بل مستفيضة، وفي ذلك دلالة على الإعراب وانفصال عن التقاء الساكنين، وتأدية لحقّ الموقوف عليه من السكون. انتهى. وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح "التسهيل" عدة أبيات، كقول الراجز: أَنَا جَرِيْرٌ كُنْيَتِي أَبُوْ عُمِرْ ... أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَسَعْدٌ فِيْ الْعَصِرْ يريد أبو عمر والعصر. وحاصل المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقسم (¬2) بالدهر؛ لما فيه من أحداث وعبر يُستدل بها على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار، وهما آيتان من آيات الله، كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وإلى ما فيه من سراء وضراء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وراحة وتعب، وحزن وفرح إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأي إلى أن للكون خالقًا ومدبرًا، وهو الذي ينبغي أن يوجه إليه بالعبادة، ويُدعى لكشف الضر وجلب الخير إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر، فيقولون: هذه نائبة من ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[2]

نوائب الدهر، وهذا زمان بلاءً، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خَلْقٌ من خلقه، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرها، فإن وقعت للمرء مصيبة، فبما كسبت يداه، وليس للدهر فيها من سبب. 2 - وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} جواب القسم، و {أل} في {الْإِنْسَانَ} استغراقية بدليل ذكر الاستثناء بعدها، فإن صحة الاستثناء من جملة أدلة العموم والاستغراق، وهي: التي يخلفها كل، ويصح الاستثناء من مدخولها؛ أي: إن كل فرد من أفراد الإنسان لفي خسران في مُتاجَره، وغبن في مساعيه، وصرف أعماره في أعمال الدنيا وضلال وخطأ عن الحق، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقيل: إن {أل} فيه عهدية؛ أي: للعهد الحضوري، وهي ما عهد مصحوبها ذهنًا؛ أي: إن الإنسان المعهود في ذهنك يا محمد وهم جماعة من صناديد قريش، كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العهموم ولدلالة الاستثناء عليه، والخسر (¬1) والخسران: النقصان وذهاب رأس المال وفى حق جنس الإنسان هو نفسه وعمره، والتنكير فيه للتفخيم؛ أي: لفي خسران عظيم، لا يعلم كنهه إلا الله في متاجرهم وصرف أعمارهم في مباغيهم، ويجوز أن يكون التنوين فيه للتنويع؛ أي: نوع من الخسران غير ما يتعارفه الناس، قال الأخفش: {في خسر}؛ أي: في هلكة، وقال الفراء: عقوبة، وقال ابن زيد: {لفي شر}، وقرأ الجمهور (¬2): {لَفِي خُسْرٍ} بضم الخاء وسكون السين، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى: {خسر} بضم الخاء والسين، ورويت هذه القراءة عن عاصم, والمعنى: إن جنس الإنسان لفي نقصان؛ لأنه ينقص عمره كل يوم وهو رأس ماله، فإذا ذهب رأس ماله ولم يكتسب به الطاعة يكون على نقصان طول دهره وخسران، إذ لا خسران أعظم من استحقاق العقاب الدائم، وكيف لا يكون الإنسان في خسران ووراءه ذلك المصير المحتوم الذي قد صدر فيه الحكم من رب العنة، وكل نفس ذائقة الموت وإن عاشوا، فإلى أمد قصير وعيش حقير، ثم يتركون لذائذ الدنيا وبهجتها إلى الرمس الضيق الصغير, ثم يواريهم التراب وان كان ملكًا كبيرًا، وكأن لم يكونوا شيئًا مذكورا، فإذا لم يكونوا ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[3]

ممن استثناهم الله تعالى وهم الذين آمنوا الخ، فهم لا شك في خسران عظيم يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا يستعتبون. والخلاصة: أي إن هذا الجنس من المخلوقات لخاسر في أعماله ضربًا من الخسران إلا من استثناهم الله تعالى، فأعمال الإنسان هي مصدر شقائه، لا الزمان ولا المكان، وهي توقعه في الهلاك، فذنب المرء في حق بارئه ومن يمن عليه بنعمه الجليلة وآلائه الجسيمة جريمة لا تعدلها جريمة أخرى. 3 - {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدقوا واعترفوا وأيقنوا بالخالق عَزَّ وَجَلَّ وآمنوا به وبرسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وصدقوا بالقدر خيره وشره من الله تعالى، واعتقدوا اعتقادًا صحيحًا أن للعالم كله إلهًا خالقًا قادرًا يرضى عن المطيع ويغضب على العاصي، وأن هناك فرقًا بين الفضيلة والرذيلة، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ أي: اكتسبوا الفضائل والخيرات الباقية، فربحوا بزيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم، فهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس، واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أربحها، وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم، واستدل بعض الطوائف بالآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار؛ لأنه لم يستثن من الخسران إلا الذين آمنوا إلخ. والتقصي منه أن غير المستثنى في خسر لا محالة؛ إما بالخلود إن مات كافرًا, وإما بالدخول في النار إن مات عاصيًا لم يُغفر له، وإما بفوات الدرجات العالية إن غُفر له. والمعنى: أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل، ومن قال: إن المراد بالإنسان الكافر فقط، فيكون منقطعًا، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل من أن المراد بهم الصحابة أو بعضهم، فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح. وقوله: {وَتَوَاصَوْا}؛ أي: أوصى وأمر بعضهم بعضًا {بِالْحَقِّ} ويتحاثوا عليه؛ أي: بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره،

وهو الخير كله من الإيمان بالله، واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل؛ أي: وصى بعضهم بعضًا بالحق الذي يحق القيام به، وهو الإيمان بالله والتوحيد والقيام بما شرعه الله تعالى، واجتناب ما نهى عنه، قال قتادة: {بِالْحَقِّ}؛ أي: بالقرآن، وقيل: بالتوحيد، والحمل على العموم أولى. {وَتَوَاصَوْا}؛ أي: أوصى بعضهم بعضًا وتحاثوا {بِالصَّبْرِ}؛ أي: عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها، وعلى ما يبلو الله به عباده من البلايا، وتخصيص (¬1) هذا التواصي بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هى فعل ما يرضي به الله تعالى، والثاني عبارة عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله سبحانه وتعالى، فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تشوق إليه من فعل أو ترك، بل هو تلقي ما ورد منه تعالى بالجميل والرضا به ظاهرًا وباطنًا، ولعله سبحانه إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاءً ببيان المقصود، فإن المقصود بيان ما فيه الفوز بالحياة الأبدية، والسعادة السرمدية، وإشعارًا بأن ما عدا ما عُدَّ يؤدي إلى خسر ونقص حظ أو تكرمًا، فإن الإبهام في جانب الخسر كرم,؛ لأنه ترك تعداد مثالبهم وأعرض عن مواجهتهم به، وكرر التواصي لاختلاف المفعولين، وهما قوله: {بِالْحَقِّ}، وقوله: {بِالصَّبْرِ}، وعبارة "الشوكاني": هنا: وفي جعل (¬2) التواصي بالصبر قرينًا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وأيضًا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها وارتفاع طبقته عنها. انتهى. وخلاصة ما سلف (¬3): أن الناس جميعًا في خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) المراغي.

والإنسان جميعه خسر مساعيه وضل مناهجه، وصرف عمره في غير مطالبه فهو قد جاء إلى الأرض؛ ليخلص نفسه من الرذائل، ويتحلى بالفضائل، حتى إذا رجع إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحًا وأمضى سلاحًا، لكنه حين رجع إلى مقره في عالم السموات لم يجد إلا نقصًا يحيط به، وجهلًا يرديه، فندم إلا طائفة منه عاشوا في الدنيا مفكرين، فآمنوا بأنبيائهم وصدقوا برسلهم، وأحبوا بني جنسهم، وأحسنوا إلى إخوانهم، فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين، وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان، ورُموا به من البهتان، فهؤلاء في الدنيا يفوزون بما يريدون، وفي الآخرة يفرحون بالنعيم المقيم. أقسام الصبر: والصبر من الخلال الشخصية التي ينبغي للمرء أن يتدرع بها ويروَّض نفسه عليها منذ الحداثة والصغر، على الآباء والأمهات أن يربوا أولادهم على الصبر واحتمال الأذى، والصبر في أصل معناه اللغوي: الحبس، وهو باعتبار متعلَّقه ينقسم ثلاثة أقسام: 1 - حبس النفس عن فعل السوء والشر ودواعي الهوى والشهوة، وكل ما يمس كرامة الإنسان ويشوّه سمعته. 2 - الصبر على المكروه والألم وتحمل الرزايا والمصائب، وكل ما يقلق الراحة وينغص العيش، ومثل ذلك الصبر على ما يفوت الإنسان من المآرب والحظوظ الدنيوية. 3 - الصبر في مواطن الخوف والذعر، بل في مواطن الخطر أحيانًا دفاعًا عن حق، من حماية لمصلحة أو وقاية لعرض وشرف، وهذا النوع من الصبر يسمى: الشجاعة والإقدام، والشجاعة ضرب من الصبر، قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. قال بعض الحكماء: ليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والتعب؛ لأن هذا تشاركه فيه الدابة، ولكن أن يكون للنفس غَلُوبًا، وللخطوب حَمُولًا، ولجأشه عند الحفاظ مرتبطًا؛ أي: مالكًا نفسه عند الغضب، قال لقمان لابنه: الذهب يجرَّب بالنار، والعبد الصالح يجرب بالبلاء،

وقال الفضيل بن عياض: إن الله ليتعهد عبده المؤمن بالبلاء، كما يتعهد الرجل أهله بالخير، ولولا أن في حلول الكوارث ونزول الحوادث تخفيفًا من الأوزار، وحطًا من الذنوب، ومحوًا من السيئات ما استطعنا عليهم صبرًا، ولولا أن في موافقة اللذات ومقارنة الشهوات أنواعًا من المكاره، وأصنافًا من الشدائد؛ ما وجدنا عنها صبرًا، ولكثر إسرعنا، وقيل عنها امتناعنا، لا جرم أن جميع خلال الخير وخصال البر وأحوال الطاعة وما يجعل الله في الإنسان من حسن الشيم وكرم الأخلاق وأسباب الديانة ودواعى الإيمان إنما هي كلها مرتبطة بالصبر، وراجعة إلى الصبر، ومحمولة على الصبر، وجارية مع الصبر كيفما تأملتها، وعلى أي حال تدبرتها، فإنه قطب تدور عليه جميع الأفعال المحمودة، لذا أمر الله سبحانه بالتواصي به؛ لأنه جماع صفلت الخير، ألا ترى أن الكرم صبر على مفارقة المال وعلى حبه، وأن العدل صبر على إمضاء الحكم وإن شق، وأن الصدق صبر، فربما خالطه شوائب تكره, وإن الحلم جامع لأشتات الصبر، فما منح الله الصبر عبدًا من عبيده، وهو يريد به شيئًا سوى الخير، وكل شيء في الوجود يولد صغيرًا، ثم يكبر إلا المصائب , فإنها تولد كبارًا، ثم تصغر وتضمحل، والصبر محمود الأثر شريف الغاية, ولو لم يكن فيه إلا أنه مظهر من مظاهر الكمال والرجولة اللائقة بكل إنسان .. لكفى , قال الشاعر: فَلَوْ كَانَ يُغْنِيْ أَنْ يُرَى الْمَرْءُ جَازِعًا ... لِحَادِثَةٍ أَوْ كَانَ يُغْنِيْ التَّذَلُّلُ لَكَانَ التَّعَزِّيْ عِنْدَ كُل مُصِيْبَةٍ ... وَنَائِبَةٍ بِالْحُرِّ أَوْلَى وَأَجْمَلُ قال بعض الحكماء: الجزع على الفائت آفة، وعلى المتوقع سخافة، فهو لا يخلو عمره من النكد، ولا يستفيق من التعذيب والكمد، وإذا استولى الجزع تضاعف الكرب, واشتد حتى أصبح لا يطاق، كما قال ابن الرومي: إِنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ غَيْرَ مُضَاعَفٍ ... فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ ومن الحكم المشهورة: من أكثر الشكوى عظمت عليه البلوى، ومن كلام بعض العلماء: من كثر جزعه كثرت زلته وعظمت علته وبعد أمله وحبط عمله، وإذا كان الجزع يحبط الحسنات فإن الصبر يربي الحسنات، وهو من أجل القربات، قال الأشعث بن قيس دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

فوجدته قد أثَّر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلًا ونهارًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة؟ فما زاد على أن قال: اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإِدْلَاجِ فِيْ السَّحَرِ ... وَفِيْ الرَّوَاحِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيْ الْبُكَرِ إِنِّيْ رَأيْتُ وَفِيْ الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُوْدَةَ الأَثَرِ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ شَيْءٍ يُؤَمِّلُهُ ... وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ وفي هذا المعنى قال بعضهم: يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيْهِ خُسْرَانُ عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وقد رُكب في طباع الإنسان حب تفضيله على جنسه، فما أحد إلا ويحب أن يكون أعلى درجة من غيره، فإذا وقعت نكبة بإنسان أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي له أن يتجلد؛ لئلا يُرى بعين النقص، وليتجمل بالصبر، فإنه عدة الرجال الكَمَلة قال الشاعر: وَتَجَلُّدِيْ لِلشَّامِتِيْنَ أُرِيْهِمُ ... أَنِّيْ لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... ألْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لَا تَنْفَعُ فأهل الكمال يُظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء؛ لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها على بعض النفوس لأشد من كل نائبة، لذا كان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية، وإليكم هذا المثل من الشريعة الغراء حين قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة المكرمة أصابتهم الحمى، وقد أراد المسلمون الطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والمشركون ينظرون إلى المسلمين، فخاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشمت بهم الأعداء حين رأوا ضعفهم عن السعي، فقال مخاطبًا للمسلمين: "رحم الله من أظهر من نفسه التجلد"، فرملوا، والرمَل شدة السعي، وقد زال ذلك السبب، وبقي الحكم في أعمال الحج ليُتذكَّر السبب فيفهم معناه ومغزاه لهذه الأسباب وغيرها من معاني الصبر وآثاره في حياة الفرد والجماعة، فقد أمر الله سبحانه بالصبر، وأمر بالتواصي بالصبر بين المؤمنين والمؤمنات، فقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

الإعراب {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. {وَالْعَصْرِ (1)}. {الواو}: حرف جر وقسم. {العصر}: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالعصر والدهر، وجملة القسم مستأنفة. {إِنَّ الْإِنْسَانَ}: ناصب واسمه. {لَفِي} {اللام}: حرف ابتداء، {في خسر}: جار ومجرور خبر {إِنَّ}، وجملة {إِنَّ} جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {إِلَّا}: أداة استثناء {الَّذِينَ}: مستثنى من {الْإِنْسَانَ} في محل النصب على الاستثناء، وجملة {آمَنُوا} صلته. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {آمَنُوا}، {وَتَوَاصَوْا}: فعل ماض وفاعل مبني بفتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعل، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا}. {بِالْحَقِّ}: متعلق بـ {تواصوا}. {وَتَوَاصَوْا}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {آمَنُوا}. {بِالصَّبْرِ}: متعلق به. التصريف ومفردات اللغة {وَالْعَصْرِ (1)} قال في "القاموس": العصر مثلثة العين، وبضمتين الدهر، والجمع أعصار وعصور وأعصر وعُصُر، والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس، ويحرك، والغداة والحبس والرهط والعشيرة، والمطر من المعصرات والمنع والعطية، يقال: عصره يعصره، وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم إلى آخر هذه الصاد الطويلة. {إِنَّ الْإِنْسَانَ} والإنسان هو هذا النوع من المخلوقات، وهو لفظ يقع على الذكر والأنثى من بني آدم، وربما أنثت العرب، فقالوا: إنسان وإنسانة، فقال: إِنْسَانَةٌ تَسْقِيْكَ مِنْ إِنْسَانِهَا ... خَمْرًا حَلَالًا مُقْلَتَاهَا عِنَبُهْ و {أل} فيه لاستغراق الجنس، فيشمل المؤمن والكافر بدليل الاستثناء. {لَفِي خُسْرٍ}؛ أي: لفي خسران ونقصان، وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران؛ لأن الخسران هو تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة من عمر الإنسان إما

أن تكون تلك الساعة في طاعة أو معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران البين الظاهر، وإن كانت في طاعة فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان به، فكان فعل غير الأفضل تضييعًا وخسرانًا، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران اهـ "جمل". {لَفِي خُسْرٍ}؛ أي: لفي غبن وخسارة، وفي "المصباح": خسر في تجارته خسارة - بالفتح - وخسرًا وخسرانًا، ويتعدى بالهمزة، فقال: أخسرته فيها، وخسر خسرًا وخسرانًا أيضًا هلك، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فحكم بالخسران على جميع الناس إلا من كان آتيًا بهذه الأشياء الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهذه الأمور اشتملت على ما يخص نفسه، وهو الإيمان والعمل الصالح وما يخص غيره، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهما معطوفان على ما قبلهما من عطف الخاص على العام للمبالغة. اهـ. "رازي". والحاصل: أن كل ما مضى من عمر الإنسان في طاعة الله فهو في صلاح وخير، وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك. اهـ. "خازن". وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} فعل ماض من باب تفاعل مأخوذ من المواصاة، وهي التقديم إلى الغير بما يعمل به مقرونًا بوعظ ونصيحة من قولهم: أرض واصية؛ أي: متصلة بالنبات، يقال: واصيت إليه بكذا؛ أي: قدمته إليه إذا أمرته قبل الحاجة إلى الفعل. اهـ. "كرخي" بتصرف. {بِالْحَقِّ}: وهو كل ما حكم الشرع بصحته، ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. اهـ. "خطيب"، وقيل: الحق هو ما تصدّر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل , قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شريعة صحيحة جاء بها نبي معصوم. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} والصبر: هو قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة في العمل

الطيب، وتهون عليها احتمال المكروه في سبيل الوصول إلى الأعراض الشريفة، والتواصى بالحق أن يوصي بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير، والتواصي بالصبر أن يوصي بعضهم بعضًا به ويحثه عليه، ولا يكون ذلك نافعًا مقبولًا إلا إذا كمَّل للمرء نفسه به، وإلا صدق عليه قول أبي الأسود الدؤلي: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيْمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِيْ السِّقَامِ وَذِيْ الضَّنَى ... كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيْمُ لَا تْنَهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ وأصل {تواصوا}: تواصَيُوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، فالتقى ساكنان وهما الألف والواو، ثم حذفت الألف لبقاء دالِّها، فصار: {تواصوا} بوزن تفاعوا. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: إدخال {أل} الاستغراقية على {الْإِنْسَانَ}؛ ليعم المؤمن والكافر بدليل الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} أو العهدية؛ ليخص الكافر المعهود، كما مر في مبحث التفسير. ومنها: التنكير في قوله: {لَفِي خُسْرٍ}؛ ليدل على التفخيم والتعظيم؛ أي: لفي خسر عظيم ودمار شديد، لا يعلم كنهه إلا الله سبحانه. ومنها: تكرار {تواصوا}؛ لاختلاف المفعولين، وهما قوله: {بِالْحَقِّ} و {بِالصَّبْرِ}. ومنها: تخصيص ذكر التواصي بالصبر مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأن الأول: عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضي الرب سبحانه، والثاني: عبارة عن العبودية التي هي الرضا بما فعل الرب سبحانه.

ومنها: ذكر الخاص بعد العام بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} بعد قوله: {بِالْحَقِّ}؛ لأن الصبر داخل في عموم الحق إلا أنه خصه بالذكر إشارةً بفضيلة الصبر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة العصر قُبيل الغروب من يوم الثلاثاء الرابع من شهر المحرم من شهور سنة ألف وأربع مئة وسبع عشرة: 4/ 1/ 1417 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة الهمزة

سورة الهمزة سورة الهمزة مكية، نزلت بعد سورة القيامة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} نزلت بمكة، وهي: تسع آيات، وثلاثون كلمة، ومئة وثلاثون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر سبحانه في السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون في الضلال إلا من عصم الله .. ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها أنه لما قال فيما قبلها: إن الإنسان لفي خسر .. بيَّن هنا حال الخاسر. التسمية: سميت سورة الهمزة؛ لذكر لفظ الهمزة فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - سورة: الهمزة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}. أسباب النزول قال عطاء والكلبي والسدي (¬1): نزلت هذه السورة في الأخنس بن شُريق كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة: كان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ورائه ويطعن فيه في وجهه، وأخرج ابن جرير عن رجل من أهل الرقة قال: نزلت في جميل بن عامر الجمحي، وأخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة، قال: كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} ... السورة كلها، وأخرج ابن أبي حاتم عن عثمان وابن عمر قالا: ما زلنا نسمع أن: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} نزلت في أبي بن خلف. التفسير وأوجه القراءة 1 - {وَيْلٌ}؛ أي: هلاك شديد، وهو مبتدأ سوَّغ الابتداء به مع كونه نكرة، كونه دعاء عليهم، خبره قوله: {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، والمعنى (¬2): خزي شديد وعذاب أليم، أو هلاك هائل أو واد في جهنم من قيح ودم كائن لكل همزة لمزة، قال أبو عبيدة والزجاج: الهمزة الذي يغتاب الناس، وعلى هذا فهما بمعنى واحد، وقيل: هما من الهمز، وهو الكسر كالهزم. واللمز، وهو الطعن كاللهز، شاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم، وفي "القاموس": الهامز والهمزة الغماز، واللمزة: العياب للناس، أو الذي يعيبك في وجهك، والهمزة من يعيبك في الغيب انتهى، وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغتاب الرجل ¬

_ (¬1) لباب المنقول. (¬2) روح البيان.

في وجهه، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وقال قتادة: عكس هذا، وروي عن قتادة ومجاهد أيضًا أن الهمزة الذي يغتاب الناس في أنسابهم، وفي "الخازن" قال ابن عباس: هم المَشَّاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب، وقيل: معناهما واحد، كما مر آنفًا، وهو العياب المغتاب للناس في بعدهم، قال الشاعر: إِذَا لَقِيْتُكَ مِنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُنِيْ ... وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَا وقيل: بل يختلف معناهما، فقيل: الهمزة: الذي يعيبك في الغيب، واللمزة: الذي يعيبك في الوجه، وقيل: هو على ضده، وقيل: الهمزة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم، وقيل: هو الذي يهمز بلسانه ويلمز بعينه، وقيل: الهمزة: الذي يؤدي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يرمق بعينه ويشير برأسه ويرمز بحسب جبيه، وقيل: الهمزة: المغتاب للناس، واللمزة: الطعان في أنسابهم. وحاصل هذه الأقاويل (¬1): يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب، وأصل الهمز: الكسر والقبض على الشيء بالعنف، والمراد منه هنا: الكسرُ من أعراض الناس، والغَضُّ منهم، والطعن فيهم، ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم؛ ليضحكوا منه، وهما نعتان للفاعل على وزن فُعَلة نحو سُخرة وضُحَكة ولُعَنة وهُزَأة للذي يسخر من الناس، ويضحك منهم، ويلعنهم ويهزأ منهم، يقال: رجل هُزَأة لمن يهزأ بالناس. واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية كما مر، فقيل: نزلت في الأخنس بن شُريق بن وهب، كان يقع في الناس ويغتابهم، وقال محمد بن إسحاق: مازلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ورائه، ويطعن عليه في وجهه، وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: هي عامة في كل شخص هذه صفته كائنًا من كان، وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ والحكم، ومن قال: إنها في إناس معينين قال: إن كون اللفظ عامًا لا ينافي أن يكون المراد منه شخصًا معينًا، ¬

_ (¬1) الخازن.

[2]

وهو تخصيص العام بقرينة العُرف، والأولى أن تُحمل على العموم في كل مَن هذه صفته. انتهى من "الخازن". وقرأ الجمهور (¬1): {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} بفتح الميم فيهما مع ضم أولهما - بوزن فُعَله، وقال في "الروح": بناء فُعَلة يدل على الاعتياد، فلا يقال: ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود، وقرأ الباقر والأعرج بسكون. الميم فيهما، وقرأ أبو وائل والنخعي والأعمش: ويل للهمزة اللمزة بإدخال أن عليهما، وفي "أدب الكاتب" لابن قتيبة: فُعْلة بسكون العين من صفات المفعول، وفُعَلة بفتح العين من صفات الفاعل، يقال: رجل هُزْأة للذي يُهزأ به، وهُزَأة لمن يَهزأ بالناس، وعلى هذا القياس لعنة ولعنة، ولمزة ولمزة، وهمزة وهمزة وغيرها اهـ. ومعنى الآية: سخط (¬2) وعذاب من الله سبحانه لكل طَعَّان في الناس، أَكَّال للحومهم، مؤذ لهم في غيبتهم، أو في حضورهم، 2 - ثم ذكر سبب عيبه وطعنه في الناس، فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا}، بدل من كل، كأنه قيل: ويل للذي جمع مالًا، وإنما وصفه الله بهذا الوصف المعنوي؛ لأنه يجري مجرى السبب للهمزة واللمزة، من حيث إنه أعجب بنفسه مما جمع من المال، وظن أن كثرة المال سبب لعزة المرء وفضله، فلذا استنقص غيره، وقيل: في محل النصب على الذم وهذا أرجح؛ لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح، وإنما لم يُجعل وصفًا نحويًا لكل؛ لأنه نكرة لا يصح توصيفها بالموصولات، وتنكير مالًا للتفخيم والتكثير الموافق؛ لقوله تعالى: {وَعَدَّدَهُ}؛ أي: عده مرة بعد أخرى من غير أن يؤدي حق الله منه، ويؤيد أنه من العد وهو الإحصاء، لا من العُدَّة أنه قرىء: {وعدَّده} بفك الإدغام، على أنه فعل ماض بمعنى أحصاه وضبط عدده، وقيل: معنى عدده: جعله عُدَّة وذخيرة لنوائب الدهر، وكان للأخنس المذكور أربعة آلاف دينار، أو عشرة آلاف. وقرأ الجمهور (¬3): {جَمَعَ} مخففًا، وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد، وقرأ الجمهور: {وَعَدَّدَهُ} بتشديد الدال الأولى؛ أي: أحصاه ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي. (¬3) البحر المحيط والشوكاني.

[3]

وحافظ عليه، وقيل: جعله عدة لحوادث الدهر، وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية بالتخفيف؛ أي: جمع المال وضبط عدده، وقيل: جمع عددًا من عشيرته وأقاربه، وفي "الشوكاني" والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير، وهو جمع الشيء وتعديده مرة بعد أخرى، قال الفراء: معنى {عدَّده} أحصاه، وقال الزجاج: وعدده لنوائب الدهر، يقال: أعددت الشيء وعددته إذا أمسكته، وقال السدي: أحصى عدده، وقال الضحاك: أعد ماله لمن يرثه، وقيل المعنى: فاخر بكثرته وعدده، والمقصود ذمه على جمع المال وإمساكه وعدم إنفاقه في سبيل الخير، وقيل: المعنى على قراءة التخفيف في عدده أنه جمع عشيرته وأقاربه، قال المهدوي: من خفف {وعدده} فهو جعله معطوفًا على المال؛ أي: وجمع عدده. وخلاصة معنى النيابة: أي (¬1) إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال، وتعديده مرة بعد أخرى شغفًا به وتلذذًا بإحصائه؛ لأنه يرى أن لا عزة إلا به ولا شرف بغيره، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته، وهزأ بكل ذي فضل ومزية دونه، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزه ولمزه وتمزيقه أعراض الناس؛ لأن غروره أنساه الموت، وأعمى بصيرته عن النظر في مآله والتأمل في أحواله، 3 - ثم بين خطأه في ظنه، فقال: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)}. ويجوز (¬2) {أن} تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانًا واقعًا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به، ويجوز أن تكون حالًا من فاعل جمع، و {أَخْلَدَهُ} ماض معناه المضارع؛ أي: يخلده اهـ "سمين". أي: يظن لجهله أن ماله الذي جمعه وعدده يخلده؛ أي: يوصله إلى رتبة الخلود والدوام في الدنيا، فيصير خالدًا فيها، فلا يموت أو يعمل من تشييد البنيان وإيثاقه بالصخر والآجر وغرس الأشجار وجري الأنهار عمل من يظن أنه لا يموت، بل ماله يبقيه حيًا ويزيد في عمره، وإظهار (¬3) المال في موضع الإضمار؛ لزيادة التقريع والتوبيخ، فالحسبان ليس بتحقيقي، بل هو محمول على التمثيل، أو هو تعريض بالعمل الصالح، وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأما المال فما ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[4]

أخلد أحدًا فيه، وقال (¬1) أبو بكر بن طاهر - رحمه الله تعالى -: يظن أن ماله يوصله إلى مقام الخلد والدوام، وإنما قال: أخلده بصيغة الماضي ولم يقل يخلده بصيغة المضارع؛ لأن المراد أن هذا الإنسان يحسب أن المال قد ضمن له الخلود والبقاء في الدنيا وأعطاه الأمان من الموت، فكأنه حُكم قد فُرغ منه، ولذلك ذكره بلفظ الماضي، قال الحسن - رحمه الله تعالى -: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت. ونعم ما قال. ومعنى الآية: أي (¬2) يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود في الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيًا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيء الأعمال، 4 - وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخصال الممقوتة من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت .. أعقبه بتفصيل ما أعد له من هذا العذاب المحتوم، فقال: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)} {كَلَّا}: ردع له عن ذلك الحسبان، أي: ارتدع أيها الحاسب عما حسبته وظننته من أن هذا المال الذي جمعته وعددته يخلدك في الدنيا، فليس الأمر على ما حسبته؛ أي: لا عن همزه ولمزه، كما توهم؛ لبعده لفظًا ومعنى اهـ "شهاب"، وقيل: {كَلَّا} معناه حقًا اهـ خطيب، و {اللام} في قوله: {لَيُنْبَذَنَّ} واقعة في جواب قسم محذوف، وجملة القسم مستأنفة مبينة لعلة الردع؛ أي: والله ليطرحن ذلك الذي يحسب وقوع الممتنع بسبب تعاطيه للأفعال المذكورة، وقال بعضهم (¬3): ولك أن ترد الضمير إلى كل من الهمزة واللمزة، ويؤيده قراءة: {لينبذانِ} بألف التثنية. {في الْحُطَمَةِ}؛ أي: في النار التي شأنها أن تحطم وتكسر كل ما يُلقى فيها، كما أن شأنه الكسر بأعراض الناس وجمع المال، قال بعضهم: قولهم: إن فُعَلة بفتح العين للمتكثر المتعود ينتقض بالحطمة، فإنها أُطلقت على النار، وليس الحطم عادتها، بل طبيعتها وجوابه أن كونه طبيعيًا، لا ينافي كونه عادة؛ إذ العادة على ما في "القاموس" الديدن والشأن والخاصية، وهو يعم الطبيعي وغيره، ومنه يُعلم أن النبذ في الحطمة كان جزاء وفاقًا لأعمالهم، فإنه لما كان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

الهمز واللمز عادتهم كان الحطم أيضًا عادة، فقوبل صيغة فعلة بفعلة، وكذا ظنوا أنفسهم أهل الكرامة والكثرة، فعبر عن جزائهم بالنبذ المنبىء عن الاستحقار والاستقلال، يعني: شبههم استحقارًا لهم واستقلالًا بعددهم بحصيات أخذهن أحد في كفه، فطرحهن في البحر، وفيه إشارة إلى الإسقاط عن مرتبة الفطرة إلى مرتبة الطبيعة الغالبة. وقرأ الجمهور (¬1): {لَيُنْبَذَنَّ} بصيغة المضارع المبني للمجهول المسند إلى ضمير الواحد، وقرأ علي والحسن بخلاف عنه ومحمد بن كعب وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو ومجاهد ونصر بن عاصم: {لينبذانِ} بصيغة المضارع المبني للمجهول المسند إلى ضمير اثنين؛ أي: لينبذن الهمزة وماله، وقرأ الحسن أيضًا {لَيُنْبَذَنَّ} بضم الباء على صيغة المعلوم؛ أي: لينبذن ذلك الجامع مالَهُ في النار، وقرأ الجمهور: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)} وقرأ زيد بن علي: {في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة}، وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يُلقى فيها كما مر آنفًا. وقال الضحاك: {الْحُطَمَةُ} الدرك الرابع من النار، وقال الكلبي: الطبقة السادسة من جهنم، وحكى عنه القشيري: أنها الدركة الثانية، وعنه أيضًا: الباب الثاني، وقال الواحدي: باب من أبواب جهنم. والمعنى: أي (¬2) ازدجر أيها العياب عما خُيّل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل، فإنك والله مطروح في النار لا محالة، لا يؤبه لك ولا يُنظر إليك، وأُثر عن علي - كرم الله وجهه - من عظة له: يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس؛ لأنهم لا ينالون شيئًا، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم، ويغترف من بحار فضلهم، وروي أن الحسن - رحمه الله تعالى - زار موسرًا وعاده في مرضه، وقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم، ولا تفضلت بها على كريم، قال الحسن: ولكن لماذا جمعت؟ قال الموسر: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[5]

لنبوة الزمان وجفوة السلطان، ونوائب الدهر، ومخافة الفقر، قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك، وتَرِدُ على من لا يعذرك، وما أجاد قول الشاعر: شَغَلَتْنَا الدُّنْيَا بِهَاكَ وَهَاتِ ... وَنَسِيْنَا مَصَارعَ الأَمْوَاتِ نَحْنُ مَوْتَى وَإِنَّمَا بَيْنَ مَنْ يَمْـ ... ـضِيْ وَيَبْقَى تَفَاوُتُ الأَوْقَاتِ فاحذروا أيها المسلمون أن تسقط ورقتكم من شجرة الحياة قبل أن تتوبوا إلى الله تعالى، وتتركوا ما حرم عليكم ربكم، فإن حياتكم والله معلقة بشجرة الحياة، فإذا هبت عليها ريح القدرة تمايلت وتساقطت، فلا تغتروا بالدنيا ولا تحقروا أحدًا من الناس ولا تهمزوا ولا تلمزوا، واحذروا وعبد الله، فإنه عَزَّ وَجَلَّ قد أوعد في هذه السورة مَن هذه صفاته بالويل والثبور والهلاك والنكال، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)}، 5 - ثم أخذ يهول أمر هذه النار ويعظم شأنها، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)}، والاستفهام (¬1) فيه للتهويل والتعظيم والتفظيع، حتى كأنها ليست مما تُدركه العقول وتبلغه الأفهام؛ أي: وما أعلمك يا محمد جواب هذا الاستفهام؛ لأنها من الأمور التي تنالها عقول الخلق؛ أي: إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك على حقيقتها فلا يعلم شأنها، ولا يقف على كنهها إلا من أعدها لمن يستحقها، 6 - ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها، فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)}؛ أي: هي: نار الله الموقدة الملتهبة بأمر الله سبحانه وتعالى، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها، وكذلك في وصفها بالإيقاد، فما أوقد وأُشعل بأمره تعالى لا يقدر أن يُطفئه غيره تعالى، وفيه دلالة على أنها ليست كسائر النيران، وفي الحديث: "أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة"، وعن علي - رضي الله عنه -: عجبًا بمن يعصي الله على وجه الأرض، والنار تُسعر من تحته. أي: إنها (¬2) النار التي لا تُنسب إلا إليه سبحانه؛ إذ هو الذي أنشاها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين، وفي وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تُخمد أبدًا، بل ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[7]

هي ملتهبة التهابًا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها، 7 - ثم وصفها بأوصاف تخالف بها نيران الدنيا؛ ليؤكد مخالفتها لها، فقال: 1 - {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)} ويخلص حرها إلى القلوب، فيعلوها ويغشاها؛ أي: إن تلك النار تعلو أوساط القلوب وتغشاها، فإن الفؤاد وسط القلب ومتصل بالروح، يعنيك أن تلك النار تحطم العظام وتأكل اللحوم، فتدخل في أجواف أهل الشهوات، وتصل إلى صدورهم، وتستولي على أفئدتهم إلا أنها لا تحركها بالكلية؛ إذ لو احترقت لماتت أصحابها، ثم إن الله تعالى يُعيد لحومهم وعظامهم مرة أخرى، وتخصيص الفؤاد بالذكر لما أنها ألطف ما في الجسد وأشدُّ تألمًا فأدنى أذى يمسه، أو لأنه محل العقائد الزائغة والنابات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة، فاطلاعها على الأفئدة التي هي خزانة الجسد ومحل ودائعه يستلزم الاطلاع على جميع الجسد بطريق الأولى. وقد يكون (¬1) المراد بالاطلاع المعرفة والعلم، وكأن هذه النار تدرك ما في أفئدة الناس يوم البعث، فتميز العاصي من المطيع، والخبيث من الطيب، وتفرق بين من اجترحوا السيئات في حياتهم الأولى، ومن أحسنوا أعمالهم، يعني: أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بأمارات عرَّفها الله بها، وإنا لنكل أمر ذلك إلى علَّام الغيوب، وفي وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان في أخفى مكان منه إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولًا وأكثر تغلبًا. 2 - 8 {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)}؛ أي: أن تلك (¬2) النار الموصوفة مطبقة أبوابها عليهم تأكيدًا؛ ليأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد، من آصدت الباب وأوصدته؛ أي: أطبقته، وقد سبق بيانه في سورة البلد؛ أي: إنها مطبقة مغلقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا فهم {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}. 3 - 9 {في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} جمع عمود، كما في "القاموس"، والعمود كل مستطيل من خشب أو حديد، قاله أبو عبيدة، ومعنى كون العمد ممدودة أنها ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

مطولة، وهي أرسخ من القصيرة، وهو في محل نصب على الحال من ضمير {عَلَيْهِمْ}؛ أي: حال كونهم موثقين في أعمدة مطولة مغلولين عليها بأغل الذي أعناقهم، وقيل (¬1): هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم مغلولون بأغل الذي أعناقهم في أعمدة طوال في وسط جهنم، والنار ملتهبة من تحتهم، أو صفة لـ {مُؤْصَدَةٌ} و {في} بمعنى الباء، والمعنى: أنها مؤصدة مطبقة مغلقة عليهم أبوابها مشدودة تلك الأبواب بعمد ممددة؛ أي: بأعمدة طوال تعرض عليها وتشد بها، يعني (¬2): إن أبواب جهنم أغلقت عليهم ممدودة على أبوابها عمد تشديدًا في الإغلاق، كما قاله ابن جزيّ. وفي "القرطبي": {في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} {في} بمعنى الباء؛ أي: مؤصدة بعمد ممددة، قاله ابن مسعود وهي قراءته: {بعمد ممدودة} وفي حديث رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم إن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار، وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق، وتشد بتلك المسامير، وتمد بتلك العمد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يبعثون بعدها، وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرًا وشهيقًا"، وذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} وقال قتادة: هم في عمد يعذبون، واختار هذا القول ابن جرير الطبري، وقال ابن عباس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم، وقيل: قيود في أرجلهم، قال: أبو صالح (¬3)، وقال القشيري: والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تُطبق على أهل النار، تشد تلك الأطباق بالأوتاد التي هي العمد حتى يرجع عليها غمها وحرها، فلا يدخل عليهم روح، وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم، وهم في عمد في سلاسل وأغلال مطولة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة، وقيل: هم في عمد ممددة؛ أي: في عذابها وألمها يضربون بها، وقيل المعنى: في دهر ممدد؛ أي: لا انقطاع له. والله أعلم اهـ. والمراد بذلك: تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم، والمبالغة في ذلك؛ ليودع في قلوبهم اليأس من الخلاص منها، وعلينا أن نؤمن ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) الفتوحات. (¬3) الفتوحات.

بذلك، ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد، ولا في أنها تمتد طولًا أو عرضًا، ولا في أنها مشبهة بعمد الدنيا أم لا، بل نكل أمر ذلك إلى الله تعالى؛ لأن شؤون الآخرة غير شؤون الدنيا, ولم يأتنا خبر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبين ذلك، فالكلام فيه قول بلا علم وافتراء على الله بكذب. وقرأ الأخوان (¬1) - حمزة والكسائي - وأبو بكر {في عُمُد} - بضمتين - جمع عمود كرسول ورسل، وقيل: جمع عماد نحو كتاب وكتب، وقرأ هارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم، وهو تخفيف لهذه القراءة، وقرأ الباقون: {عَمَد} بفتحتين، فقيل اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له، وقال الفراء جمع عمود كأديم وأدم، وقال أبو عبيدة: جمع عماد، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم قراءة الفتحتين، وقال الجوهري: العمود عمود البيت، وجمع القلة أعمدة، وجمع الكثرة: عَمَد وعُمُد، وقرىء بهما اهـ. الإعراب {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)}. {وَيْلٌ}: مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء عليهم بالهلكة كما مر، وقيل: إنه معرفة؛ لأنه اسم واد في جهنم، ويجوز في غير القرآن نصبه على الدعاء، فيقال: ويلًا لكل همزة؛ أي: الزمه الله ويلًا، قال جرير: كَسَا الُّلؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِيْ جُلُودِهَا ... فَوَيْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيْلِهَا الخُضْرِ بالنصب على الرواية الصحيحة {لِكُلِّ هُمَزَةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ؛ أي: ويل كائن لكل همزة، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا {لُمَزَةٍ}: بدل من {هُمَزَةٍ}، وقيل: تأكيد لـ {هُمَزَةٍ} تأكيدًا لفظيًا بالمرادف {الَّذِي} بدل من كل بدل المعرفة من النكرة، أو منصوب على الذم بفعل محذوف، وأعربها ابن خالويه نعتًا {لِكُلِّ هُمَزَةٍ} وهو غير صواب، لكونه معرفة. {جَمَعَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود إلى الموصول. {مَالًا}: مفعول به، والجملة صلة الموصول. {وَعَدَّدَهُ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {جَمَعَ}. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}. {يَحْسَبُ}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على {الَّذِي جَمَعَ}، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل {جَمَعَ}؛ أي: جمع مالًا حالة كونه حاسبًا ظانًا أن المال سيخلده؛ أي: يوصله إلى رتبة الخلود فلا يموت، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافًا بيانًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به؟ {أَنَّ مَالَهُ}: ناصب واسمه، وجملة {أَخْلَدَهُ} خبره، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في محل النصب سادة مسد مفعولَي {يَحْسَبُ} تقديره: إخلاد ماله إياه. {كَلَّا}: حرف ردع وزجر له عن حسبانه؛ أي: ارتدع عن حسبانك؛ أي: ليس الأمر كما دار في خَلَده من أن المال يخلده. {لَيُنْبَذَنَّ}: {اللام}: موطئة للقسم، {ينبذن}: فعل مضارع مغير الصيغة في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على الحاسب، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فِي الْحُطَمَةِ}: جار ومجرور متعلق بـ {ينبذن}. {وَمَا} {الواو}: عاطفة، أو مستأنفة. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَدْرَاكَ}: فعل ماض ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {ما} الاستفهامية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية، وجملة {ما} الاستفهامية معطوفة على جملة القسم، أو مستأنفة. {ما}: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ: {الْحُطَمَةِ}: خبر، والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام سدت مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ}. {نَارُ اللَّهِ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي نار الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {الْمُوقَدَةُ}: صفة لـ {النار} {الَّتِي}: صفة ثانية لـ {النار}، وجملة {تَطَّلِعُ} صلة الموصول. {عَلَى الْأَفْئِدَةِ}: متعلق بـ {تَطَّلِعُ} وفاعل {تَطَّلِعُ} ضمير يعود على النار. {إِنَّهَا}: ناصب واسمها. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {مُؤْصَدَةٌ}، و {مُؤْصَدَةٌ}: خبر {إنّ}، وجملة {إنّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. {في عَمَدٍ}: جار ومجرور صفة لـ {مُؤْصَدَةٌ}، وإليه ذهب أبو البقاء، فتكون النار داخل العمد، أو حال من ضمير {عَلَيْهِمْ}؛ أي: حال كونهم موثقين في عمد

{مُمَدَّدَةٍ} صفة لـ {عَمَدٍ}. التصريف ومفردات اللغة {وَيْلٌ} والويل: كلمة يدعى بها العذاب، ويُسأل بها على من استحقه، وعلى هذا يكون المعنى: اللهم ألحق الويل وأنزله بكل همزة، فتكون الجملة إنشائية، أو عَلَم لواد في جهنم، فيكون معرفة، وتكون الجملة خبرية، أخبرت بأن هذا الوادي ثابت معد لكل همزة لمزة، وقال بعضهم: الويل كلمة عذاب وهلاك وخزي، وهو لفظ يستعمل في الذم والتقبيح، والمراد به هنا: التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم، والويس كلمة أخف، من الويل، والويح كلمة أخف من الويس، والويب كلمة أخف من الويح، يقال: ويل لزيد، وبقال: ويله وويحه وويسه وويبه، فمتى انفرد جاز فيه الرفع والنصب، ومتى أضيف لم يكن إلا منصوبًا؛ لأنه يبقى بلا خبر، ومتى انفصل جُعلت اللام خبرًا، وقال الحسن: ويح كلمة رحمة، فإن قيل: كيف تَصرَّف الفعل من ويح ووش وويل؟ فقل: ما صرفت العرب منها فعلًا، فأما هذا البيت المعمول: فَمَا وَالٍ وَمَا وَاحٍ ... وَمَا وَاسٍ أَبُوْ زَيْدِ فلا تلتفتن إليه، فإنه مصنوع خبيث. {لِكُلِّ هُمَزَةٍ} في "المختار": الهمز كاللمز وزنًا ومعنى، وبابه ضرب، وفيه أيضًا واللمزُ العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وبابه: ضرب ونصر، والتاء فيهما للمبالغة في الوصف، وقد تقدم أن بناء فُعَلة بضم الفاء وفتح العين لمبالغة الفاعل؛ أي: المكثرة لمأخذ الاشتقاق، وبناء فُعْلة بضم الفاء وسكون العين لمبالغة المفعول، يقال: رجل لُعَنة - بضم اللام وفتح العين - لمن كان يُكثر لعن غيره، ولُعْنة - بضم اللام وسكون العين - إذا كان ملعونًا للناس يكثرون لعنه. وعبارة "السمين": والعامة على فتح ميميهما، على أن المراد الشخص الذي يكثر منه ذلك الفعل، وقرأ الباقون: بالسكون، وهو الذي يهمز ويلمز؛ أي: يأتي بما يهمز به ويلمز، والضُحَكة لمن يكثر ضحكه، والضُحْكة لم يأتي بما يُضحَك منه، وهو مطرد أعني: أن فعلة بفتح العين لمن يكثر منه الفعل، وبسكونها لمن يكثر الفعل بسببه، والهاء في همزة لمزة دخلت للمبالغة في الذم، كقولهم: رجل همزة

لمزة؛ أي: عيَّاب مغتاب، فلما دخلت الهاء لذلك استوى المذكر والمؤنث فيه، فيقال: امرأة همزة ورجل همزة، ولا يُثنّى ولا يُجمع، فيقال: رجال همزة ونساء همزة، والمهمزة عصًا في رأسها حديدة، تكون مع الرائض يهمز بها الدابة، والجمع: مهامز، ويقال: همزه يهمُزه - بضم الميم وبكسرها - همزًا إذا غمزه وضغطه ونخسه ودفعه وضربه وعضّه، واغتابه في غيبته فهو هماز وهمزة، وهمز الشيطان الإنسان همس في قلبه وسواسًا، وهمز به الأرض صرعه، وهمز الفرس نخسه بالمهماز ليعدو. ويقال: لمزه يلمُزه - بضم الميم وبكسرها - لمزًا إذا عاب، وأشار إليه بعينه ونحوها مع كلام خفي ودفعه وضربه، ولمزه الشيب ظهر فيه، وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيّبهم إذا غابوا، ومنه قول حسان - رضي الله عنه -: هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ بِذُل نَفْسٍ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ وأصل الهمز الكسر يقال: همز كذا إذا كسره، وأصل اللمز الطعن، يقال: لمزه بالرمح؛ أي: طعنه، ثم شاع استعمالهما فيما ذكرنا، قال زياد الأعجم: إِذَا لَقِيْتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُنِيْ ... وَإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الْهَامِزَ اللُّمَزَا {الَّذِي جَمَعَ مَالًا} قُرىء بالتخفيف والتشديد، فمن شدد ميمه نظر للمبالغة والتكثير، ومن خففها جعله محتملًا للتكثير وعدمه، والمعنى: جمعه وضبط عدده وأحصاه. {وَعَدَّدَهُ} قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: العامة على تثقيل الدال الأولى، وهو أيضًا للمبالغة، وقرأ الحسن والكلبي بتخفيفها كما مر، وقال ابن خالويه: ومن شدد جعله فعلًا ماضيًا يقال: عدَّد المال يعدده تعديدًا إذا عده مرة بعد أخرى شغفًا به، فهو معدد، و {الهاء}: مفعول به، ومن خفف جعله مصدرًا واسمًا؛ أي: جمع مالًا وعرف عدده وأحصاه. {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)}؛ أي: سيخلده ويوصله إلى رتبة الخلود، أي: ضمن له الخلود في الدنيا، وفي "المختار": الخلد بالضم: البقاء، وبابه دخل، وأخلده الله وخلَّده تخليدًا إذا أبقاه.

{لَيُنْبَذَنَّ}؛ أي: ليطرحن، والنبذ: الطرح مع الإهانة والتحقير، وعبارة ابن خالويه: ومعنى {يُنْبَذَنَّ} يتركَنَّ في جهنم، قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}؛ أي: تركوه. {فِي الْحُطَمَةِ}: وهي من أسماء النار من الحطم، وهو الكسر يقال: رجل حطمة إذا كان شديدًا لا يُبقي على شيء، وفي أمثالهم: شر الرعاء الحطمة؛ أي: الذي يحطم ماشيته ويكسرها بشد سوقها، قال الشاعر: قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ ... لَيْسَ بِرَاعِيْ إِبلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ وفي "المختار": حطمه - من باب ضرب - أي: كسره فانحطم وتحطم، والتحطيم التكسير، والحطمة من أسماء النار؛ لأنها تحطم ما تلتقم اهـ، والمراد بها هنا النار؛ لأنها تحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب. {الْمُوقَدَةُ} وزنها: مفعلة من أُوقِدت أُوقِد إيقادًا، فأنا مُوقِد، والنار مُوقَدَة، وقد وقدت النار نفسها تَقِدُ وَقْدًا ووقودًا بضم الواو، فهي واقدة، قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} يعني حجارة الكبريت، والوَقود - بالفتح -: الحطب، قال حاتم الطائي: لَيْلُكَ يَا مُوْقِدُ لَيْلٌ قَرُّ ... وَالرِّيْحُ مَعْ ذَلِكَ رِيْحٌ صِرُّ أَوْقِدْ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ ... إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرُّ {الَّتِي تَطَّلِعُ} أصله: تفتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء؛ لوقوعها بعد طاء، فأدغمت الطاء في الطاء؛ أي: تعلو أوسط القلوب وتغشاها. {عَلَى الْأَفْئِدَةِ} جمع فؤاد، وهو خالص القلب ولبه، وهو للقلب كالقلب للصدر. {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)}؛ أي: مطبقة من أوصدت الباب إذا أغلقته، قال الشاعر: تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةً نَاقَتِيْ ... وَمِنْ دُوْنِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ {فِي عَمَدٍ}: جمع عمود، كأديم وأَدَم {مُمَدَّدَةٍ}؛ أي: مطولة، تقدم لك البسط

في هاتين الكلمتين، فلا حاجة إلى تطويل الكلام بهما. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: صيغة المبالغة في قوله: {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}؛ لأن بناء فُعَلة يدل على التكثير، والمبالغة في الفعل. ومنها: التنكير في قوله: {مَالًا}؛ أي: مالًا كثيرًا لا يكاد يحصى؛ ليدل على فخامته وكثرته بدليل قوله: {وَعَدَّدَهُ}. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)}؛ لزيادة التقرير والتأكيد، ومقتضى السياق أن يقال: يحسب أنه أخلده. ومنها: التعبير بصيغة الماضي دون المضارع في قوله: {أَخْلَدَهُ} حيث لم يقل: يخلده؛ لكونه أمرًا محققًا عنده؛ لأن هذا الإنسان يحسب أن المال قد ضمن له الخلود، وإعطاء الأمان من الموت، فكأنه حكم قد فُرغ منه. ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {لَيُنْبَذَنَّ} حيث شبههم استحقارًا لهم واستقلالًا بعددهم بحصيات أخذهن أحد في كله، فطرحهن في البحر، ويمكن أن تكون استعارة تصريحية تبعية، حيث استعار النبذ الذي هو الطرح للترك؛ لأن المعنى هنا: ليُتْرَكَنَّ في جهنم. ومنها: المقابلة اللفظية الرائعة بين قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} وقوله: {فِي الْحُطَمَةِ}؛ لأنه لما وصفه بهذه الصفة بصيغة دلت على أنها راسخة فيه ومتمكنة منه .. أتبع المبالغة المتكررة في الهمزة واللمزة بوعيده بالنار التي سماها بالحطمة؛ لما يكابد فيها من هول ويلقى فيها من عذاب، واختار في تعيينها صيغة مبالغة على وزن الصيغة التي ضمنها ذنب المقترف حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء. ومنها: التفخيم والتهويل في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)} تهويلًا لشأن جهنم.

ومنها: الجناس الناقص بين {لُمَزَةٍ} و {هُمَزَةٍ} ويسمى الجناس الغير التام. ومنها: تخصيص ذكر {الْأَفْئِدَةِ} في قوله: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}؛ لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد، وأشده تألمًا بأدنى أذى يمسه، أو لأنه محل العقائد الزائغة، كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الهمزة عقيب صلاة العشاء ليلة السبت الثامنة من شهر المحرم من شهور سنة: 1417 ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. آمين.

سورة الفيل

سورة الفيل سورة الفيل مكية، نزلت بعد سورة الكافرون، وهي مكية بلا خلاف، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أُنزلت بمكة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} وهي: خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنه بيَّن في السورة السابقة أن المال لا يُغني من الله شيئًا، وهنا أقام الدليل على ذلك بقصص أصحاب الفيل. وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة .. أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا، وقال بعضهم: مناسبتها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في السورة السابقة ما أعده من العذاب لمن عاب الناس، واغتابهم، وطعن في أعراضهم، وركن إلى الدنيا، وظن أن المال سيخلده، فظلم نفسه، واستحق عذاب الله، ونزل به وعيده وتهديده، وتحطم في الحاطمة المدمرة جهنم وساءت مصيرًا .. بيَّن سبحانه هنا ما فعله بأصحاب الفيل، وهم الظالمون المعتدون الذين ظلموا أنفسهم، وأغاروا على حرم الله وبيته في مكة المكرمة، فجعل الله لهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فرجعوا خائبين، وارتدوا منكسرين هالكين بعذاب الله تعالى، ونقمته التي صبها عليهم صبًا، وجعل كيدهم في تضليل، ثم جعلهم كعصف مأكول. وسميت سورة الفيل؛ لذكر لفظ الفيل فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الفيل كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومن فضائلها ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الفيل عافاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ" ذكره "البيضاوي" ولكن لا أصل له. ¬

_ (¬1) المراغي.

إعجاز هذه السورة: وهذه السورة من آيات الله البينات، ومن أعظم المعجزات القاهرات والدلائل الباهرة التي أظهرها الله تعالى في ذلك الزمان، ليدل على وجوب معرفته عَزَّ وَجَلَّ وجليل قدرته وعظيم جبروته، وفيها إرهاص لنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد وُلد في ذلك العام الذي فيه أرخ العرب، وقالوا: ولد في عام الفيل. وما كان لأحد أن ينكر هذا، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم -، بل أقروا به وصدقوه فيما قال، مع شدة حرصهم على تكذيبه واعتنائهم بالرد عليه، وكانوا قريب عهد بأصحاب الفيل، ولو لم يكن لذلك عندهم حقيقة واضحة وأصل بيّن .. لأنكروه وجحدوه، وشنعوا على الرسول به وكذبوه، ولكنهم صمتوا ولاذوا بالفرار أمام عظمة القرآن وصدق من أُنزل عليه القرآن سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين. وكيف ينبس أحدهم ببنت شفة، وقد أرخوا بعام الفيل، وتناقل خبره الكبير والصغير, كما أرخوا ببناء الكعبة وموت قصي بن كعب وغير ذلك، كما أكثر الشعراء من ذكر عام الفيل، ونظموها في شعرهم، ونقلته الرواة عنهم، من ذلك ما قاله أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة قال: إِنَّ آيَاتِ رَبِّنا بَاقِيَاتٌ ... مَا يُمَارِيْ فِيْهِنَّ إِلَّا الْكَفُوْرُ خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَكُلٌّ ... مُسْتَبِيْنٌ حِسَابَهُ مَقْدُوْرُ ثُمَّ يَجْلُوْ النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيْمٌ ... بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْثُوْرُ حَبسَ الْفِيْلَ بِالْمُغَمَّسِ حَتَّى ... صَارَ يَحْبُوْ كَأَنَّهُ مَعْقُوْرُ حَوْلَهُ مِنْ مُلُوْكِ كِنْدَةً أَبْطَا ... لٌ مَلَاوِيْثٌ فِيْ الْحُرُوْبِ صُقُوْرُ كُلُّ دِيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الـ ... ـلَّهِ إِلَّا دِيْنُ الْحَنِيْفَةِ بُوْرُ قال عبد الله بن عمرو بن مخزوم: أَنْتَ الْجَلِيْلُ رَبُّنَا لَمْ تُدْنَس ... أَنْتَ حَبَسْتَ الفِيْلَ بِالْمُغَمَّسِ مِنْ بَعْدِ مَا هَمَّ بِشَيْءٍ مُبْلِسِ ... حَبَسْتَهُ فِيْ هَيْئَةِ الْمُنَكَّسِ قال الحافظ بن كثير في "تفسبره": هذه من النعم التي امتن الله سبحانه بها

على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها، فأبادهم الله تعالى، وأرغم آنافهم، وخيّب سعيهم، وأضل أعمالهم، وردهم بشر خيبة. وكانوا قومًا نصارى وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالًا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن من باب الإرهاص والتوطئة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه، فإنه في ذلك العام وُلد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرِّفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - وقوله: {أَلَمْ تَرَ} الهمزة فيه للاستفهام التعجيبي والتقريري؛ لتقرير رؤيته - صلى الله عليه وسلم - بإنكار عدمها، وتعجيبه بما فعله الله تعالى، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له، والرؤية (¬1) علمية لا بصرية؛ لأنه لم يكن وقت الواقعة موجودًا، وحُذفت ألف {تَرَ} للجازم، والمعنى: أقر بأنك علمت قصة أصحاب الفيل. {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} يا محمد و {كَيْفَ} معلقة للرؤية منصوبة على المصدرية بالفعل المذكور بعدها، و {رَبُّكَ} فاعل، والتقدير (¬2): أي فعل فعله ربك، والجملة سدت مسد مفعولي {تَرَ}، ولا يصح نصب {كَيْفَ} على الحال من الفاعل؛ لأنه يلزم وصفه تعالى بالكيفية، وهو غير جائز اهـ "شهاب". وقرأ السلمي: {أَلَمْ تَرَ} - بسكون الراء - وهو جزم بعد جزم، ونُقل عن صاحب "اللوامح": {ترأ} بهمزأ مفتوحة مع سكون الراء على الأصل، وهي لغة لتيم، ذكره في "البحر". {بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. وهم أبرهة بن الصباح الأشرم الحبشي ملك اليمن وقومه، ومعنى أبرهة بلسان الحبشة: الأبيض الوجه، ولُقّب بالأشرم؛ لأنه قُطع حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ أي: شُقَّت وخدشت كما سيأتي في القصة، وقيل: لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، والمراد بالفيل: هو الفيل الأعظم الذي اسمه محمود، وكنيته أبو العباس، كما سيجيء، ونسبوا إليه؛ لأنه مقدمهم، وهو الذي برك وضربوه في رأسه فأبى، وكان معه اثنا عشر فيلًا، وقيل ثمانية عشر، وقيل ألف، وأفرده حينئذ موافقة لرؤوس الآي، أو لكونه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي يقال ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الصاوي.

له: محمود، والفيل: حيوان معروف يُجمع على أفيال وفيول وفيلة، قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه فيَّال، ومن شأن الفيل المقاتلة، ولذلك كان في مربط ملك الصين ألف فيل أبيض، وهو مع عظم جسمه ضعيف يخاف من السنور ويفزع منه، والمعنى: قد علمت (¬1) يا محمد أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون، وتعليق (¬2) الرؤية بكيفية فعله تعالى لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئات عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته، وعزة بيته وشرف رسوله، فإن ذلك من الإرهاصات، والإرهاص أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة تأسيسًا لها ومقدمةً، كإظلال الغمام له - صلى الله عليه وسلم -، وتكلم الحجر والمدر معه، قال بعضهم: الإرهاص الترصد؛ سميت الأمور الغريبة التي وقعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إرهاصات؛ لأن كلًّا منها مما يترصد بمشاهدته نبوته، فالإرهاص إنما يكون بعد وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل مبعثه، وفي كلام بعضهم: أن الإرهاص يكون قبل وجوده أيضًا قريبًا من عهده، كما دل عليه قصة أصحاب الفيل، ورجحوا الأول. فإن قيل: اتحاد السنة بأن يكون وقوع القصة عام المولد أمر اتفاقي لا يمنع عن كون الواقعة لتعظيم الكعبة، قلنا شرفها أيضًا بشرف مكانه - صلى الله عليه وسلم -، ألا ترى أنه تعالى كيف قيَّد الإقسام بالبلد بحلوله - صلى الله عليه وسلم - فيه، حيث قال {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)}. قال في "فتح الرحمن": كان هذا عام مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، في نصف المحرم، ووُلد - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول، فبين الفيل ومولده - صلى الله عليه وسلم - خمس وخمسون ليلة، وهي سنة: ستة آلاف ومئة وثلاث وستين من هبوط آدم عليه السلام على حكم التواريخ اليونانية المعتمدة عند المؤرخين، وبين قصة الفيل والهجرة الشريفة النبوية ثلاث وخمسون سنة والتاريخ الآن سبعة آلاف وست مئة وأربع وعشرون من هبوط آدم عليه السلام على ما أرخه اليونانيون هو الأصح. والمقصود من ذكر القصة إما تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيجزي من يظلمه، كما جزى من قصد الكعبة، وإما تهديد الظلمة، ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[2]

وتفصيل القصة سيأتي إن شاء الله تعالى. ومعنى الآية: أي ألم تعلم (¬1) يا محمد الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام، فتلك حال قد جاءت على غير ما يُعرف من الأسباب والعلل؛ إذ لم يُعهد أن يجيء طير في جهة، فيقصد قومًا دون قوم، وهم معهم في جهة واحدة، فذلك أمارة على أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنفاذ مقصد معين. وإنما عبر عن العلم بالرؤية؛ للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصصى متواتر مستفيض، فالعلم به مساو في قوة الثبوت مع الوضوح للعلم الناشىء عن الرؤية والمشاهدة. وخلاصة ذلك: أنك قد علمت ذلك علمًا واضحًا لا لبس فيه ولا خفاء، 2 - ثم بيَّن الحال التي وقع عليها فعله، فقال: {أَلَمْ يَجْعَلْ} ربك يا محمد: {كَيْدَهُمْ} ومكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها {في تَضْلِيلٍ} وخيبة وخسران فيما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، والهمزة (¬2) فيه للاستفهام التقريري، كأنه قال: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرة بالغير؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشًا بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم، ويقال: ضلل كيده إذا جعله ضالًا ضائعًا، ونحوه قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} وضل الماء في اللبن، إذا ذهب وغاب، وقيل لامرىء القيس: الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه؛ أي: ضيّعه، والمعنى (¬3): قد جعل مكرهم وحيلتهم في تعطيل الكعبة عن الزوار وتخريبها في تضييعٍ وإبطالٍ بأن أهلكهم أشنع إهلاك، وجزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرَّب كنيستهم. قال في "إنسان العيون": لما أُهلك صاحب الفيل وقومه .. عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: هم أهل الله؛ لأن الله معهم، ومُزقت الحبشة كل ممزق، وخُرّب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكل من أراد أن يأخذ منها شيئًا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

[3]

أصابته الجن، واستمرت كذلك إلى زمان السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس، فذُكر له أمرها، فبعث إليه عامله الذي باليمن فخربها، وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب، فحصل له منها مال عظيم، وعفا من حينئذ رسمها، وانقطع خبرها، واندرست اثارها. 3 - وقوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ}؛ أي: على أصحاب الفيل {طَيْرًا} معطوف (¬1) على قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ}؛ لأن الهمزة فيه للاستفهام التقريري كما سبق، فيكون في معنى الإثبات، والتقدير: فجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرًا {أَبَابِيلَ} صفة أولى لـ {طَيْرًا}؛ أي: طيرًا أقاطيع؛ أي: جماعات يتبع بعضها بعضًا؛ لأنها كانت أفواجًا، فوجًا بعد فوج، متتابعة، بعضها على إثر بعض، أو من هاهنا وهاهنا، جمع أَبَّالة مشددة، وحكي تخفيفه، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، شُبِّهت بها الجماعة من الطير في تضامها، وقيل: {أَبَابِيلَ}: مفرد، كعباديد، ومعناه: الفِرَق من الناس الذاهبون في كل وجه، وكشماطيط، ومعناه: القطع المتفرقة، وفيه أنها لو كانت مفردات لأشكل قول النحاة أن هذا الوزن من الجمع يُمنع صرفه؛ لأنه لا يوجد في المفردات. قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال: فلان تَوَبَّل على فلان؛ أي: تعظم عليه وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له. اهـ، وقال بعضهم: واحدهُ إبَّوْل، مثل عِجَّول لغة في العجل، وقال بعضهم: أبيل، قال الواحدي: ولم نر أحدًا يجعل لها واحدًا، قال الفراء: لا واحد له من لفظه، وزعم الرؤاسي، وكان ثقة: أنه سُمع في واحدها: أبَّالة مشددًا وحكى الفراء أيضًا أبالة بالتخفيف. قال سعيد بن جبير: كانت طيرًا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة: هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه، وقيل: كانت طيرًا خضرًا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع، وقيل: كان لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وأنيابها جاءت من جهة البحر ليست نجدية ولا ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

تهامية ولا حجازية سوداء، وقيل: خضراء على قدر الخطاف، كل طائر منها في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، كل حجر فوق حبَّة العدس، ودون حبَّة الحمص، مكتوب في كل حجر اسم من يُرمى به، ينزل على رأسه، ويخرج من دبره، ومرض أبرهة فتقطع أنملة أنملة، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت أبو مكسوم وزيره وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي، وأخبره بما جرى للقوم، فرماه الطائر بحجره، فمات بين يدي الملك، ذكره في "البحر". 4 - وقوله: {تَرْمِيهِمْ} صفة أخرى لـ {طَيْرًا}، وقرأ الجمهور (¬1): {تَرْمِيهِمْ} بالتاء، والطير اسم جمع يؤنث، كما في هذه القراءة، ويذكَّر كما في القراءة الآتية، وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة في رواية عنه وابن يعمر: {يرميهم} بالتحتية؛ لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث كما مر آنفًا، وقيل الضمير في {يرميهم} على هذه القراءة عائد على {رَبُّكَ} عَزَّ وَجَلَّ. {بِحِجَارَةٍ}: جمع (¬2) حجر بالتحريك بمعنى الصخرة، ويقال: رمى الشيء ورمى به ألقاه، {مِنْ سِجِّيلٍ}؛ أي: من طين متحجر، وهو الآجر معرب من سَنْكِ وكِلْ، وقال بعضهم: متحجر من هذين الجنسين، وهما سنج الذي هو الحجر وجيل الذي هو الطين، أو هوْ عَلَم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا علم للديوان الذي تُكتب فيه أعمالهم، كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال. قال في "الصحاح": قالوا هي حجارة من طين طُبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، قال عبد الرحمن بن أبزى: {مِنْ سِجِّيلٍ} من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أُبدلت النون لامًا، ومنه قول ابن مقبل: وَرُفْقَةٍ يَضْرِبُوْنَ الْبِيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيْلَا وإنما هو سجينا، قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة، وفوق العدسة، وقد ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان.

[5]

قدمنا الكلام في {سِجِّيلٍ} في سورة هود. والمعنى: أي إنه تعالى (¬1) أرسل عليهم فرقًا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتُلي بمرض الجدري، أو الحصبة حتى هلكوا، وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل في مسامه، فأثار فيه قروحًا تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، ولا شك أن الذباب يحمل كثيرًا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوثة بالمكروب على الإنسان كافية في إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجم الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يُهلك جيشًا كثير العدد ببعوضة واحدة .. لم يكن ذلك بعيدًا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى في الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام النهر الإلهي، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقض مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح. قال الإِمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم حفظًا لبيته حتى يُرسل إليه من يحميه بقوة دينه - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ولا ذنب اقترفه اهـ. 5 - وقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} معطوف على {أرسل}؛ أي: فجعل ربك أولئك الأقوام الذين قصدوا بيته المشرف، يعني: أصحاب الفيل كعصف؛ أي: كزرع مأكول؛ أي: كزرع وقع فيه الأكال، وهو السوس الدود المعروف الذي يأكل الحبوب حتى يصير دقيقًا، والكلام على حذف مضاف؛ أي: كحب (¬2) زرع مأكول حبه، وسُمي ورق الزرع بالعصف؛ لأن شأنه أن يُقطع، فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هنا وهاهنا، شبههم به في فنائهم وذهابهم بالكلية، أو من حيث إنه حدثت فيهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كالزرع الذي أكله الدود، ويجوز أن ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

يكون المعنى: كورق زرع أُكل حبه، فبقي صفرًا منه، فيكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أيضًا، شبههم بزرع أُكل حبه، في ذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم، أو كتبن أكلته الدواب وألقته روثًا فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وفيه تشويه لحالهم ومبالغة حسنة، وهو أنه لم يكتف بجعلهم أهون شيء في الزرع وهو التبن الذي لا يُجدي طائلًا، حتى جعلهم رجيعًا إلا أنه عبر عن الرجيع بالمأكول، أو أشير إليه بأول حاله على طريق الكناية مراعاةً لحسن الأدب، واستهجانًا لذكر الروث، كما كنى بالأكل في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} عما يلزم الأكل من التبول والتغوط لذلك، فدأب القرآن هو العدول عن الظاهر في مثل هذا المقام. قال بعضهم: من كان اعتماده على غير الله أهلكه الله بأضعف خلقه، ألا ترى أصحاب الفيل لما اعتمدوا على الفيل من حيث أنه أقوى خلق الله تعالى بأضعف خلق من خلقه، وهو الطير. وقرأ الجمهور (¬1): {مَأْكُولٍ} بسكون الهمزة وهو الأصل؛ لأنه صيغة مفعول من فعل، وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه بفتح الهمزة إتباعًا لحركة الميم وهو شاذ، وهذا كما أتبعوا في قولهم: محموم بفتح الحاء لحركة الميم. المعنى الإجمالي لهذه السورة: ذكَّر الله (¬2) سبحانه نبيه ومَن تبلغه رسالته بعمل عظيم دال على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهي خاضعة لسلطانها، ذاك أن قومًا أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليبلغوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشر وأذى، فأهلكهم الله تعالى ورد كيدهم، وأبطل تدبيرهم بعد أن كانوا في ثقة بعددهم وعددهم، ولم يفدهم ذلك شيئًا. قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: وُلد في عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك، وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم كما سيأتي بسطه: أن قائدًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

حبشيًا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدي على الكعبة المشرفة ويهدمها؛ ليمنع العرب من الحج إليها، فتوجه بجيش جرار إلى مكة، واستصحب معه فيلًا أو فيلة كثيرة زيادةً في الإرهاب والتخويف، ولم يزل سائرًا يغلب من يلاقيه، حتى وصل إلى المغمَّس، وهو موضع بالقرب من مكة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم الكعبة، ففزعوا منه وانطلقوا إلى شعف الجبل ينظرون ما هو فاعل، وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبشي داء الجدري والحصبة، قال: عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذُعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الحبشي، ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء. فصل وحاصل تفصيل قصة أصحاب الفيل: أن ملك (¬1) حمير وما حولها وهو ذو نواس اليهودي لما أحرق المؤمنين بنار الأخدود ذات الوقود على ما سبق في سورة البروج .. هرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وهو أصحمة بن بحر النجاشي - بتخفيف الياء - جد النجاشي الذي آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، وحرّضه على قتال ذي نواس، فبعث أصحمة سبعين ألفًا من الحبشة إلى اليمن، وأمَّر عليها أرياطًا، ومعه في جنده أبرهة بن الصباح الأشرم، فركبوا البحر حتى نزلوا ساحلًا مما يلي أرض اليمن، وهزم أرياط ذا نواس، وقتله في المعركة، أو ألقى هو نفسه في البحر فهلك، واستمر أمر أرياط في أرض اليمن زمانًا، وأقام فيها سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه أبرهة في أمر الحبشة، فكان من أمراء الجند، فتفرقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط وفرقة مع أبرهة، فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الفرقتان للقتال .. أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تفعل شيئًا بأن تُغري الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فأخرج، فخرج ¬

_ (¬1) روح البيان.

إليه أبرهة وكنيته أبو يكسون، وكان رجلًا قصير الجثمان لحيمًا ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا طويلًا عظيمًا وفي يده حربة، وخلف أبرهة غلام يقال له: عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة، فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ أي: شقت وقطعت وخدشت، فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع، وكان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي، فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا، فقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فلما بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه، وملأ جرابًا ترابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي مع هدايا جليلة كثيرة، وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعة لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط له، وأسْوَس منه، وقد حلقت رأسي حين بلغني حلف الملك، وبعثت إليه بجراب من أرض ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه فيَّ، فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي لان ورضي عنه، وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن، ثم إنه رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله الحرام، فتحرك منه عرق الحسد، فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملون وجواهر مرصع؛ أي: مزين. وفي "إنسان العيون": واجتهد في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجذع، والحجارة المنقوشة بالذهب، وكان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، وجعل فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، وسماها القُلَيْس - كجميز - لارتفاع بنائها وعلوها، ومنها القلانيس؛ لأنها في أعلى الرأس، وأراد أن يصرف إليها الحجاج، وكتب أبرهة إلى النجاشي: أيها الملك إني بنيت لك كنيسة لم يُبْنَ مثلها لملك قبلك، ولست أرضى حتى أصرف إليها حجاج العرب، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من بني كنانة يقال له: مالك بن كنانة، فخرج لها ليلًا، فدخل إليها فقعد فيها, ولطخ بالعذرة قبتها، فبلغ ذلك أبرهة، فقال: من اجترأ علي؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت قد سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن

إلى الكعبة ثم يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان فيلًا يقال له: محمود، وكان فيلًا لم ير مثله عظمًا وجسمًا وقوةً، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائرًا إلى مكة وخرج معه بالفيل، فسمعت العرب بذلك فعظموه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر، فقال لأبرهة: يا أيها الملك استبقني، فإن بقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع من قبائل اليمن فهزمهم، وأخذ نفيلًا، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، فاستبقاه وخرج معه يدله؛ إذ مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبارغال مولى لهم، وأبو رغال - بوزن كتاب - وهو رجل من ثمود، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره الآن. وفي "القاموس": المغمس - كمعظم ومحدث - موضع بطريق الطائف، فيه قبر أبي رغال، دليل أبرهة، وُيرجم، وبعث أبرهة رجلًا من الحبشة، يقال له: الأسود بن مسعود مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لإهدام هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب، فقال له: إن الملك أرسلني لأخبرك أنه لم يأت لقتال، ولا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا يد أن ندفعه عما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يحل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا بدفعه قوة، قال: فانطلق معي إليه، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فقال: ياذا نفر هل عندك من غناء؟ أي: نفع فيما نزل بنا، قال: أنا رجل أسير، لا آمن أن أقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل،

فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم حظوتك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أُنيس، فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أُنيس على أبرهة، فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك، فقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة أن يجلسه معه على سريره، فجلس على بساطه، وأجلس عبد المطلب بجنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد إلى مئتي بعير أصابها، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه، لم تكلمني فيه وتكلمني في مئتي بعير غصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال: ما كان ليمنعه منى، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فرُدَّت عليه، فلما رُدت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال خوفًا عليهم من معرة الجيش ففعلوا، وأتى عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من رجال قريش يدعون الله، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لَاهُمُّ إِنَّ أثمَرْءَ يَمْـ ... ـنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ فَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيْـ ... ـبِ وَعَابِدِيْهِ الْيَوْمَ آلَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْـ ... ـبَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ وقالَ: يَا رَبِّ لَا أَرْجُوْ لَهُمْ سِوَاكا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكا

إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمُ أَنْ يَخَرُبُوَا حِمَاكا ولا هم أصله: اللهم، فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما بقي، والحِلال - بكسر الحاء المهملة - جمع حلة، وهي البيوت المجتمعة، والمحال - بكسر الميم - الشدة والقوة، والغَدْوُ - بالغين المعجمة - أصل الغد، وهو اليوم الذي بعد يومك الذي أنت فيه. فلما فرغ من دعائه توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمَّس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلًا لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال: كانت الأفيال اثني عشر فيلًا، فأقبل أنيس إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بأذنه وقال له: ابرك محمودًا وارجع رشيدًا، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخل محاجنه تحت مراقه ومرافقه، ففزعوه ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى قدامه ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى، وخرج أنيس يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله سبحانه طيرًا من البحر مثل الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحرج في منقاره، أكبر من العدسة وأقل من الحمصة، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تُصب تلك الحجارة أحدًا إلا هلك، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه، وصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده فجعل تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها المدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك وانفلت وزيره أبو يكسوم، وطائره فوق رأسه حتى وقف بين يدي النجاشي، فلما أخبره الخبر سقط عليه الحجر، فمات بين يديه، وأما محمود فيل النجاشي فربض، ولم يشجع على الحرم، فنجا لما وقع منه من الفعل الجميل الذي لم يقع مثله من العقلاء، ولذا قال البوصيري في همزيته: كَمْ رَأَيْنَا مَا لَيْسَ يَعْقِلُ أُلْهِـ ... ـمَ مَا لَيْسَ يُلْهَمُ الْعُقَلَاءُ إِذْ أَبَى الْفِيْلُ مَا أَتَى صَاحِبُ الْفِيْـ ... ـلِ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحِجَا وَالذَّكَاءُ وأما الفيلة الأخرى فشجعت على دخول الحرم، فرُميت بالحصباء فهلكت.

الإعراب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، و {لم}: حرف نفي وجزم. {تَر}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على المصدرية والعامل فيه ما بعده؛ لأنه في تقدير أيَّ فعلِ فَعَل ربك، {فَعَلَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سدت مسد مفعولي {تَرَ} معلقة عنها، بالاستفهام لأن الرؤية هنا قلبية {بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {فَعَلَ}. {أَلَمْ}: {الهمزة}: للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {يَجْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {لم}، وفاعله ضمير يعود على {رَبُّكَ} {كَيْدَهُمْ}: مفعول به أول. {في تَضْلِيلٍ}: في موضع المفعول الثاني، والجملة مستأنفة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَأَرْسَلَ}: فعل، وفاعل مستتريعود على الله معطوف على {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ}: لأن الاستفهام فيه تقريري، فيكون المعنى: قد جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم إلخ. {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {أَرْسَلَ}. {طَيْرًا}: مفعول به. {أَبَابِيلَ}: صفة أولى لـ {طَيْرًا}؛ لأنه اسم جمع مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لكونه على صيغة منتهى المجموع. {تَرْمِيهِمْ}: فعل, وفاعل مستتر يعود على {طَيْرًا} ومفعول به. {بِحِجَارَةٍ}: متعلق بـ {تَرْمِيهِمْ}، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ {طَيْرًا}. {مِنْ سِجِّيلٍ}: صفة لـ {حجارة}. {فَجَعَلَهُمْ}: {الفاء}: عاطفة، {جعلهم}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول معطوف على {أرسل}. {كَعَصْفٍ}: في موضع المفعول الثاني. {مَأْكُولٍ}: صفة لـ {عصف}. التصريف ومفردات اللغة {أَلَمْ تَرَ} وأصل {تَرَ}: تَرْأَي بوزن تفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصارت ألفًا لفظًا، وياءً خطًا، ونقلوا فتحة الهمزة إلى الراء وأسقطوها تخفيفًا؛ لأن

الماضي من ترى رأيت مهموزًا، والمصدر من ذلك الرؤية، تقول: رأيت زيدًا بعيني أراه رؤية، فأنا راءٍ - بوزن فاعٍ - أصله: رائي بوزن فاعل، فاستثقلوا الضمة على الياء المتطرفة، فحذفوها، فالتقى ساكنان الياء والتنوين، فأسقطوا الياء لالتقاء الساكنين، فصار راء بوزن فاع كقاض وراع وباغ، فالهمزة في راء بإزاء الضاد في قاض، فإن شئت أثبته خطًا، فجعلت بعد الألف ياء عوضًا عن الهمزة، وإن شئت كتبته بألفٍ، ولم تثبت الهمزة؛ لأن الهمزة، إذا جاءت بعد الألف تخفى وقفًا، فحذفوها خطًا، وكذلك جاء وشاء وساء ومراء جمع مراءة، كل ذلك أنت مخير فيه في الحذف والإثبات، فإذا أمرت من رأيت قلت: رِ يازيد براء واحدة، فإذا وقفت قلت: ره، وإنما صار الأمر فيه على حرف واحد، والأصل ثلاثة؛ لأن الهمزة سقطت تخفيفًا، والألف سقطت للجزم، فبقي الأمر على حرف واحد، ومثله قوله: عِ كلامي، شِ ثوبك، قِ زيدًا، لِ الأمر، فِ الوعدَ، أمرًا من وعى ووشى ووقى وولي ووفى، كما هو مبسوط في كتب النحو والصرف. {الْفِيلِ} حيوان من أضخم الحيوانات جسمًا، له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به، وهو مع عظم جسمه ضعيف يخاف من السنور ويفزع منه، ومعنى بروك الفيل في القصة السابقة: سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله، أو لزوم موضعه كالذي برك، وإلا فالفيل لا يبرك، كما قال عبد اللطيف البغدادي: الفيلة تحمل سبع سنين، وإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها؛ لأنها تلد وهي قائمة ولا فواصل لقوائمها، فتلد والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيتان. انتهى. وقال بعضهم: الفيل صنفان صنف لا يبرك وصنف يبرك كالجمل، انتهى، ويُجمع على أفيال وفِيْلة وفيول، ومؤنثه فِيْلة، والفيل أيضًا الخسيس الثقيل، وداء الفيل مرض يحدث منه غلظ كثيف في القدم والساق، تتخلله عجر صغيرة ناتئة، والفيَّال صاحب الفيل، والجمع فيالة، وقال الرأي وفائله وفيله ضعيفه، والفيالة ضعيف الرأي. {كَيْدَهُمْ} والكيد: إرادة وقوع ضرر بغيرك على وجه الخفاء. {في تَضْلِيلٍ} والتضليل: التضييع والإبطال، تقول: ضلَّلت كيد فلان إذا جعلته

باطلًا ضائعًا، والمعنى: جعل كيدهم في ضياع وخسار وهلاك، وقيل لامرىء القيس الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه؛ أي: ضيَّعه، ما مر. {طَيْرًا} والطير: كل ما طار في الهواء صغيرًا كان أو كبيرًا، وهو اسم جنس يذكر ويؤنث. {أَبَابِيلَ} قال ابن خالويه: وأبابيل نعت للطير؛ أي: جماعات جماعات، جمع إبَّوْلٍ مثل عجَّول وعجاجيل، والعِجَّول - بوزن سكيت - لغة في العجل ولد البقرة، وقال أبو جعفر الرؤاسي: واحدتها أبيل، وقال آخرون: أبابيل لا واحد لها، ومثلها أساطير، والإبِّيل في غير هذا الموضع الراهب، والوبيل العصا، يقال: رأيت إبِّيلًا؛ أي: راهبًا متكئًا على وبيل يسوق أفيلًا، والأفيل ولد الناقة، قال عدي: أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّيْ مَأْلَكًا ... قَوْلَ مَنْ خَافَ آظّنانًا وَاعْتَذَرْ إِنَّنِيْ وَاللهِ فَأقْبَلْ حَلِفِيْ ... بِإِبيْلٍ كُلَّمَا صَلى جَأَرْ {بِحِجَارَةٍ}: جمع حجر بالتحريك بمعنى الصخرة. {مِنْ سِجِّيلٍ} والسجيل: طين مطبوخ محرق كالآجر، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال كما مر؛ لأن العذاب موصوف بذلك. {كَعَصْفٍ} والعصف: ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد، وتعصفه الرياح فتأكله الماشية. {مَأْكُولٍ}؛ أي: أكلت الدواب بعضه، وتناثر الآخر من بين أسنانها. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام التقريري التعجيبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ}. ومنها: الإضافة في قوله: {فَعَلَ رَبُّكَ}؛ لتشريف المضاف إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه التعبير بعنوان الربوبية، إشارة بشأن قدرة الله سبحانه وتعالى.

ومنها: تعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئات عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته وعزة بيته، وشرف رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك من الإرهاصات، كما مر. ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}؛ لأن فيه ذكر الأداة، وحذف وجه الشبه حيث شبههم في فنائهم وذهابهم بالكلية بورق الزرع المأكول؛ لأن شأنه أن يقطع فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هاهنا وهاهنا، أو شبههم بزرع أُكِل حَبُّه في ذهاب أرواحهم، وبقاء أجسادهم، فالكلام على حذف مضاف؛ أي: كعصف مأكول الحب، كما مر. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير الفيل بتوفيقه وتيسيره تعالى عصر يوم الخميس اليوم الثالث عشر من شهر الله المحرم من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، ومن شهور سنة: 7633 سبعة آلاف وست مئة وثلاث وثلاثين من هبوط آدم عليه السلام من الجنة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة قريش

سورة قريش سورة قريش مكية عند الجمهور، وقال الضحاك والكلبي هي مدنية نزلت بعد سورة التين، ويقال لها: سورة لإيلاف قريش. وهي أربع آيات، وسبع عشرة كلمة, ثلاثة وسبعون حرفًا. مناسبتها لما قبلها (¬1): أن كلًّا من السورتين تضمن ذكر نعمة من نعم الله تعالى على أهل مكة، فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء لهدم بيتهم، وهو أساس مجدهم وعزهم، والثانية ذكرت نعمة أخرى، وهي اجتماع أمرهم والتئام شملهم؛ ليتمكنوا من الارتحال صيفًا وشتاءً في تجارتهم, وجلب المبرة لهم، ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبي بن كعب يعتبرهما سورة واحدة، حتى روي عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هاتين إنما هما سورة واحدة فصل بينهما بالبسملة، وقالوا: إن هذه السورة متعلقة بالتي قبلها، وأن {اللام} في قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} متعلقة بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}؛ أي: إنه أرسل الجماعة من الطير على أصحاب الفي، ترميهم بالحجارة حتى أصيبوا وهلكوا ودمروا، وقد فعل ذلك كله فيهم لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف. ومن قال: إنهما سورة واحدة قال: إن الفصل بالبسملة إنما هو لإظهار العناية بما احتوت عليه كل سورة من السورتين، حتى إن كل جملة مما حوتا يصح أن تقصد لذاتها، وما تضمنته سورة قريش جدير بالعناية؛ لأن الخطاب والتذكير كان لهم، وهم قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - والسامعون لدعوته والحاملون لرسالته المبشرون بها، فحق لهم أن يفصل ما يختص بهم عما قبله بفاصل يلتفت الذهن إليه وان كان مرتبطًا به، والأصح أنهما سورتان منفصلتان. قال ابن جرير: الصواب أن {اللام} لام التعجب، كأنه يقول: اعجبوا ¬

_ (¬1) المراغي.

لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك، قال: وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان. ونقل الإِمام الطبري في "تفسيره" قال: قال عمرو بن ميمون الأزدي: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقرأ في الركعة الأولى سورة والتين والزيتون، وفي الثانية ألم تر كيف ولإيلاف قريش، وسميت سورة قريش، لذكر لفظ قريش فيها، وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة قريش كلها محكم لا ناسخ ولا منسوخ فيها. فضائلها: ومما يدل على فضلها: ما أخرجه (¬1) البخاري في "تاريخه" والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانىء بنت أبي طالب - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضَّل الله قريشًا بسبع خصال لم يعطها أحدًا قبلهم، ولا يعطيها أحدًا بعدهم: أني فيهم، - وفي لفظٍ: النبوةُ فيهم -، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سنين - وفي لفظ عشر سنين - لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يُذكر فيها أحد غيرهم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} " وفيه إشارة إلى أنهم سبب نزولها، قال ابن كثير هو حديث غريب، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضل الله قريشًا بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم، وهي: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} "، وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والسقاية، وأخرج الخطيب في "تاريخه" عن سعيد بن المسيب مرفوعًا نحوه، وهو مرسل. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - و {اللام} في قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} متعلقة (¬1) بقوله تعالى في آخر السورة: {فَلْيَعْبُدُوا} وهو قول الزجاج، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم رحلتين، ودخلت {الفاء}؛ لما في الكلام من معنى الشرط؛ إذ المعنى: إن نعم الله عليهم غير محصورة، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة التي هي إيلافهم الرحلتين، فإنها أظهر نعمة عليهم؛ أي: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف؛ أي: ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة، فالإيلاف مصدر مضاف إلى مفعوله الأول مطلقًا عن المفعول الثاني الذي هو الرحلة كما قيد به في الإيلاف الثاني، والمعنى (¬2): لتأليف الله لهم؛ أي: لتحبيبه لهم الرحلتين؛ أي: لجعلهم آلفين ومحبين لهما مسترزقين بهما؛ لتيسيرهما عليهم فليعبدوه شكرًا له. وقيل (¬3): متعلقة بآخر السورة التي قبلها، كأنها قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل؛ لأجل إيلاف قريش هاتين الرحلتين ولزومهم إياهما؛ أي: أهلكت من قصدهم من الحبشة؛ لأجل أن يألفوا هاتين الرحلتين ويجمعوا بينهما، ويلزموا إياهما ويثبتوا عليهما متصلًا لا منقطعًا، بحيث إذ فرغوا من هذه أخذوا في هذه وبالعكس، وذلك لأن الناس إذا تسامعوا بذلك الإهلاك تهيبوا لهم زيادة تهيب واحترموهم فضل احترام، فلا يجترىء عليهم أحد فينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، وكان لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز، فلا يتعرض لهم، والناس حولهم بين متخطف ومنهوب، وذلك أن قريشًا إذا أصاب واحدًا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباء ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات. (¬3) روح البيان.

حتى يموتوا، وكانوا على ذلك إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه، فقام خطيبًا في قريش، فقال: إنكم أحدثتم حديثًا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، قالوا: نحن تبع لك، فليس عليك منا خلاف، فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام؛ لأن بلاد اليمن حامية حارة، وبلاد الشام مرتفعة باردة؛ ليتجروا فيما بدا لهم من التجارات، فما ربح الغني قسم بينه وبين فقرائهم حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإِسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وكان هاشم أول من حمل السمراء من الشام، وقيل تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، وذلك لأنهم كانوا يزدادون كل يوم غيًا وانغماسًا في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه، وتكون {اللام} للتعجب، أو بمعنى إلى، وقرأ الجمهور (¬1): {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} بالياء مهموزًا مصدر آلف الرباعي، ومنه قول الشاعر: الْمُنْعِمِيْنَ إِذَا النُّجُوْمُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِيْنَ لِرِحْلَةِ الإِيْلَافِ وقرأ ابن عامر: {لإلاف} بدون ياء - على وزن فعال - كتاب - مصدر ألف الثلاثي، يقال: ألف الرجل الأمر إلفًا وإلافًا، وقرأ أبو جعفر {لإلْف} بوزن حِمْل، وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال: زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ جمع بين مصدري ألف الثلاثي، ولم يختلف القراء السبعة في قراءة {إِيلَافِهِمْ} مصدرًا للرباعي، وقرأ عكرمة: {ليألف قريش} بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك في مصحف ابن مسعود، وفتح لام الأمر لغة معروفة كما سيأتي. ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين (¬2): أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول في اتفاق المصاحف على إثباتها خطًا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطًا؛ فهو أدل دليل على أن القراء ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الفتوحات.

متبعون الأثر والرواية, لا مجرد الخط. وقرأ عاصم في رواية: {إئلافهم} بهمزتين، الأولى مكسورة والثانية ساكنة وهي شاذة؛ لأنه يجب في مثله إبدال الثانية حرفًا مجانسًا كإيمان، وروي عنه أيضًا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، وخُرِّجت على أنه أشبع كسرة الهمزة الثانية، فتولد منها ياء، وهذه أشذ من الأولى، ونقل أبو البقاء أشذ منها، فقال بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهو بعيد، ووجهها: أنه أشبع الكسرة، فنشأت الياء، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين، كالألف في {أأنذرتهم}، وعن أبي جعفر وابن كثير: {إلفهم}، وعن أبي جعفر أيضًا، وعن ابن عامر: {إلافهم} مثل كتابهم، وعن ابن عامر أيضًا: {ليلاف} بياء ساكنة بعد اللام، وقرأ عكرمة: {ليألف قريش} فعلًا مضارعًا، وعنه أيضًا {ليألف} على الأمر واللام مكسورة، وعنه فتحها مع الأمر، وهي لغة كما مر اهـ "سمين". و {قُرَيْشٍ} مصغرًا، هم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر فهو قريش دون من لم يلده النضر، وإن ولده كنانة وهو الصحيح، وقيل: هم، ولد فهو بن مالك بن النضر بن كنانة، فمن لم يلده فهو فليس بقريش، وإن ولده النضر، فوقع الاتفاق على أن بني فهو قرشيون، وعلى أن بني كنانة الذين لم يلدهم النضر ليسوا بقرشيين، ووقع الخلاف في بني النضر وبني مالك، وفهر هو الجد الحادي عشر من أجداده - صلى الله عليه وسلم -، والنضر هو الثالث عشر، ويسمى فهر قريشًا أيضًا، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، واسمه قريش بن مالك بن النضر بن كنانة إلى آخر النسب الشريف اهـ من "المواهب". واختُلف في اشتقاقهم على أوجه (¬1): أحدها: أنه من التقريش، وهو التجمع، سموا بذلك لاجتماعهم إلى الحرم بعد افتراقهم، قال الشاعر: أَبُوْنَا قُرَيْشٌ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَّعَ الله الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ ¬

_ (¬1) الفتوحات.

[2]

والثاني: أنه من القرش وهو الكسب، وكانت قريش تجارًا، يقال: قرش يقرش؛ أي: اكتسب. والثالث: أنه من التقريش بمعنى التفتيش، يقال: قرش، يقرش عني؛ أي: فتش، وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلاف من الحجاج وغيرهم ليسدوا خلتهم، قال الشاعر: أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْروِ وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ وقيل: سموا بتصغير القرش، وهو دابة عظيمة في البحر، تعبث بالسفن وتقلبها وتضربها فتكسرها، ولا تطاق إلا بالنار، فشبهوا بها؛ لأنها تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تُعلى، والتصغير للتعظيم، فكأنه قيل: قريش عظيم، فيكون وجه الشبه وصف الآكلية وعدم المأكولية، ووصف الغلبة وعدم المغلوبية. قال الزمخشري: سمعت (¬1) بعض التجار بمكة ونحن قعود عند باب بني شيبة يصف لي القرش، فقال: مدور الخلقة كما بين مقامنا هذا إلى الكعبة، ومن شأنه أن يتعرض للسفن الكبار، فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل، فيمر على وجهه كالبرق، وكل شيء عنده قليل إلا النار، وبه سميت قريش، قال الشاعر: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِيْ تَسْكُنُ الْبَحْـ ... ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالْسَّمِيْنَ وَلاَ تَتْـ ... ـرُكُ فِيْهِ لِذِيْ جَنَاحَيْنِ رِيْشَا هَكَذَا في الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأَكُلُوْنَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيْشَا وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيْهِمُ وَالْخُمُوْشَا الخموش: الخدوش، وأكلًا كميشًا؛ أي: سريعًا، وأجمعوا (¬2) على صرفه هنا مرادًا به الحي، ولو أريد به القبيلة؛ لامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، قال سيبويه في معد وثقيف وقريش وكنانة: هذه للأحياء أكثر، وإن جعلتها أسماء للقبائل فهو جائز حسن اهـ "سمين". 2 - وقوله: {إِيلَافِهِمْ} بدل من {إيلاف قريش} وقيل: إنه تأكيد له، والأول ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الفتوحات.

أَولى، ورجحه أبو البقاء، وقوله: {رِحْلَةَ} مفعول (¬1) به لـ {إِيلَافِهِمْ}، وقيل: منصوب بمصدر مقدر؛ أي: ارتحالهم رحلة، وهي بكسر الراء الارتحال، وبالضم الجهة التي يُرحَل إليها، وأصل الرحلة السير على الراحلة، وهي: الناقة القوية، ثم استعمل في كل سير وارتحال، وإفرادها مع أنه أراد رحلتي الشتاء والصيف؛ لأمن الإلباس مع تناول اسم الجنس للواحد والكثير، وفي إطلاق الإيلاف عن المفعول أولًا، ثم إبدال المقيد منه تفخيم لأمره، وتذكير لعظيم النعمة فيه. وقرأ الجمهور (¬2): {رِحْلَةً} - بكسر الراء - وأبو السمال بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التي يرحل إليها كما مر آنفًا، والجمهور على أنها رحلتان، فقيل: إلى الشام في التجارة وقيل الأرباح، ومنه قول الشاعر: سَفَرَيْنِ بَيْنَهُمَا لَهُ وَلغَيْرِهِ ... سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الأَصْيَافِ وقوله: {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}؛ أي: انتقالهم إلى اليمن والشام، والشتاء والصيف فصلان من فصول السنة الأربعة المجموعة في قول بعضهم: رَبِيْعُ صَيْفٍ مِنَ الأَزْمَانِ ... خَرِيْفُ شِتَاءٍ فَخُذْ بَيَانِيْ والمراد بالصيف هنا زمن الحرارة، فيشمل الربيع، وبالشتاء زمن البرودة، فيشمل الخريف. والحاصل: أنه كان (¬3) لقريش رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن؛ لأنه أدفأ، وفي الصيف إلى الشام؛ لأنه أبرد، فكانت أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم؛ لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة، حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة .. لزال عنهم هذا العز، ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يُتخطفون من كل جانب، ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل .. ازداد شرف أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم ملوك الأطراف ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراح.

[3]

لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإِسلام وهم على ذلك، فلهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةً الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)} ولولا هاتان الرحلتان لم يكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف، هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى: {فَعَلَ رَبُّكَ}، أو من قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} ليس بحجة على أنهما سورة واحدة؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، بل كالآية الواحدة في أنه يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه معنى بعض، ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} متعلق بما قبله من ذكر القرآن، وأما قراءة سيدنا عمر - رضي الله عنه - فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة؛ لأن الإِمام له أن يقرأ سورتين في ركعة واحدة. وقيل: إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة، فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة؛ لأنه كان أحدهما شتاءً والآخر صيفًا، وموسم منافع مكة يكون بهما, ولو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوا لعُطِّلت هذه المنفعة. قيل: وأول من سن (¬1) لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير، حتى كان فقيرهم كغنيهم، واتبع هاشمًا على ذلك إخوته، فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هؤلاء الإخوة؛ أي: بحهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي اهـ "خطيب". 3 - و {الفاء} في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} واقعة في جواب شرط مقدر، كما في "السمين" تقديره: إن لم يعبدوه لسائر نعمه عليهم فليعبدوا {رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} العتيق؛ لإيلافهم هاتين الرحلتين؛ أي: لتأليف الله وتمكينه لهم من هاتين الرحلتين؛ أي: لتحبيبه لهم الرحلتين؛ أي: لجعله إياهم آلفين ومحبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم، وقيل: {الفاء} زائدة، ولذلك جاز تقديم معمول ما بعدها عليها، قاله الشهاب، والأول أصح. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

4 - {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ} بسبب تين الرحلتين اللَّتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيران هذا البيت وسكان حرمه، وقيل: بسبب دعوة إبراهيم عليه السلام حين قال: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا} {مِنْ جُوعٍ}؛ أي: من بعد جوع شديد كانوا فيه قبلهما بحمل المِيرة إليهم من البلاد النائية في البر والبحر بسبب كونهم جيران البيت، وكان الجوع يصيبهم لعدم زرع بمكة إلى أن جمعهم عمرو العلي وهو هاشم المذكور على الرحلتين، قال أبو حيان: {من} هاهنا للتعليل مع تقدير مضاف؛ أي: أنعم عليهم وأطعمهم لأجل إزالة الجوع عنهم الحاصلة بالرحلتين؛ أي: بالتجارة فيهما وبازالة الخوف عنهم، وقال سعدي المفتي: الجوع لا يجامع مع الإطعام، والظاهر أنها للبدلية، يقول الفقير: الظاهر أن مآل المعنى: نجاتهم من الجوع بسبب الإطعام والترزيق. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} عظيم لا يقادر قدره، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم، وقال صاحب "الكشاف": الفرق بين عن ومن أن عن يقتضي حصول جوع قد زال بالإطعام، ومن يقتضي المنع من لحاق الجوع، ولذلك اختارها هنا. والمعنى (¬1): أطعمهم فلم يلحقهم جوع، وآمنهم فلم يلحقهم خوف، فتكون {مِنْ} لابتداء الغاية. والخلاصه: أطعمهم في بدء جوعهم قبل لحاقه إياهم وآمنهم في بدء خوفهم قبل اللحاق، وقيل في معنى الآية: إنهم لما كذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها سنينًا كسني يوسف، فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجهد والجوع، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا، فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخصبت البلاد، وأخصب أهل مكة بدل القحط والجهد، فذلك قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} لمكان الحرم، وكونهم من أهل مكة، حتى لا يتعرض لهم أحد، قال ابن زيد: كان العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضًا، فآمن قريشًا لمكان الحرم، وقيل: آمنهم من خوف الجذام، فلا ترى بمكة مجذومًا، ¬

_ (¬1) روح البيان.

قاله ابن عباس والضحاك: والتنكير في {جُوعٍ} (¬1) و {خَوْفٍ}؛ لشدتهما يعني: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما وآمنهم من خوف عظيم، خوف أصحاب الفيل وخوف التخطف، كما مر آنفًا. وقرأ الجمهور: {مِنْ خَوْفٍ} بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع بإخفائهما، وكذلك مع العين نحو من علي، وهي لغة حكاها سيبويه. وخلاصة معنى قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}؛ أي: فلتعبد (¬2) قريش ربها شكرًا له أن جعلهم قومًا تَجْرًا ذوي أسفار في بلاد غير ذات زرع ولا ضرع، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتي من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام؛ لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها. وقد كان العرب يحترمونهم في أسفارهم؛ لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة، فيذهبون امنين ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع، فكان احترام البيت ضربًا من القوة المعنوية التي تحتمي بها قريش في الأسفار، فلهذا ألفتها نفوسهم وتعلقت بالرحيل استدرارًا للرزق، وهذا الإجلال الذي ملك قلوب العرب ونفوسهم من البيت الحرام إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه، وقد حفظ حرمته، وزادها في نفوس العرب، رد الحبشة عنه حين أرادوا هدمه وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرًا بل قبل أن يدنوا منه، ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب، ونقصت حرمته عندهم، واستطالت الأيدي على سفارهم .. لنفروا من تلك الرحلات، فقلَّت وسائل الكسب بينهم؛ لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم، وهم في عقر ديارهم ليأخذوا منها، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق، وينقطع عنهم ينابيع الخيرات. {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} الذي حماها من الحبشة وغيرهم، ومكن ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

منزلته في النفوس، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال والعبادة دون الأصنام والأحجار التي يدعونها، ثم وصف رب هذا البيت بقوله: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}؛ أي: إنه هو الذي أوسع لهم الرزق، ومهد لهم سبله، ولولاه لكانوا في جوع وضنك عيش. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}؛ أي: وآمن طريقهم، وأورثهم القبول عند الناس، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان، فعاشوا في ضنك وجهد شديد. وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره وتوسيط سواه عنده، مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه في شيء من النعمة التي هم فيها، نعمة الأمن ونعمة الرزق وكفاية الحاجة، وقال ابن الأسلت يخاطب قريشًا: فقوموا فصَلُّوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكمُ منه بلاء ومصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب كتيبتُه بالسهل تمشي ورحلة ... على العادقات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش رَدَّهم ... جنود مليء بين ساق وحاجب فوَلَّوا سراعًا هاربين ولم يَؤُبْ ... إلى أهله مجليش غير عصائب الإعراب {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} {إِيلَافِهِمْ}: بدل من {إيلاف} الأول بدل مقيد من مطلق، وهو مصدر مضاف إلى فاعله. {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ}: مفعوله؛ {وَالصَّيْفِ}: معطوف على {الشِّتَاءِ}، أو مضاف إلى مفعوله الأول؛ أي: إيلافنا إياهم رحلة الشتاء والصيف، وتمكيننا إياهم من رحلتين. {فَلْيَعْبُدُوا} {الفاء}: واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة عليهم، فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الإتجار، وضمنت لهم ميسور الرزق،

و {اللام}: لام الأمر، {يعبدوا}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، و {الواو}: فاعل. {رَبَّ}: مفعول به وهو مضاف، {هَذَا}: مضاف إليه، {الْبَيْتِ}: بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة استئنافًا نحويًا، وقيل: الجار والمجرور في قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} متعلق بـ {جعلهم} في قوله في السورة السابقة: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}؛ لأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، وإلى هذا ذهب الأخفش، وعلى هذا القول فـ {الفاء} في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفوا أن الله تعالى جعل أصحاب الفيل كعصف مأكول، وأرادوا بيان ما هو اللازم لهم في شكر هذه النعمة، فأقول لهم: ليعبدوا رب هذا البيت، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وقيل: متعلق بمحذوف تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، و {الفاء} في {فَلْيَعْبُدُوا} فاء الفصيحة أيضًا. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب صفة لـ {رب}، أو بدل منه. {أَطْعَمَهُمْ}: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. {مِنْ جُوعٍ}: متعلق بـ {أطعم}. {وَآمَنَهُمْ}: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على {أَطْعَمَهُمْ}. {مِنْ خَوْفٍ}: متعلق بـ {آمن}. التصريف ومفردات اللغة {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} والإيلاف إما مصدر آلف الرباعي بوزن أكرم، تقول: آلف يؤلف إيلافًا، فهو مُؤْلِف، مثل آمن يؤمن إيمانًا فهو مؤمن، وعلى هذا يكون أصله: إئلافًا بوزن إفعال كإكرام؛ لأن آلف أصله: أألف، ومصدره: إئلاف بوزن إفعال، فأُبدلت الهمزة الساكنة في المصدر ياء؛ لكسر ما قبلها، فصار: إيلافًا، وهذا على قراءة من قرأ: {لِإِيلَافِ} بالياء، وأما على قراءة من قرأ {إِلْفِهِمْ}، أو {إلافِهِم} بلا ياء، فهو مصدر لأَلِفَ الثلاثي، يقال: ألف يالف إلفًا، كعلم يعلم علمًا، فهو عالم، والأمر من الممدود الف يا زيد، ومن المقصور: إيلف يا زيد، تقول: ألفت الشيء إلفًا وإلافًا من الثلاثي، وآلفته إيلافًا من الرباعي إذا لزمته وعكفت عليه من الإنس به وعدم النفور منه، والإيلاف إيجاب الإلْف بحسن التدبير والتلطف، فالإيلاف نقيض الإيحاش ونظير الإيلاف: الإيناس.

و {قُرَيْشٍ}: اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة كما مر، وفي "القاموس": قرشه يقرُشه ويقرِشه قطعه، وجمعه هاهنا وهاهنا، وضم بعضه إلى بعض، ومنه قريش؛ لتجمعهم إلى الحرم، أو لأنهم يتقرشون البيعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرش، أو لأنه جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جمل قريش؛ أي: شديد، والنسبة إليه: قرشي وقريشي. انتهى. {رِحْلَةَ} والرِحلة - بالكسر - ارتحال القوم؛ أي: شدهم الرحال للمسير، وبالضم الجهة التي يُرتَحَل إليها، وأصل الرحلة السير على الراحلة؛ وهي الناقة القوية، ثم استُعمل في كل سير وارتحال، وإفرادها مع أنه أراد رحلتي الشتاء والصيف؛ لأمن الإلباس مع تناول اسم الجنس للواحد والكثير، كما مر. {الشِّتَاءِ} والشتاء الفصل المقابل للصيف، وفي "القاموس": الشتاء: أحد أرباع الأزمنة والموضع المشتي، وفيه إعلال الإبدال أصله: الشتاو من شتا يشتو، أبدلت الواو همزة لوقوعها متطرفة إثر ألف زائدة. {وَالصَّيْفِ} والصيف: القيظ، أو بعد الربيع، والقيظ صميم الصيف من طلوع الثريا إلى طلوع سهيل. {رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ}؛ أي: وسَّع لهم الرزق، ومهد لهم سبيله. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}؛ أي: جعلهم في أمن من التعدي عليهم، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} على عامله في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} تذكيرًا للنعمة واعتناء ببيانها. ومنها: تصغير لفظ {قُرَيْشٍ}؛ للتعظيم، فكأنه قيل: قريش عظيم على ما قيل، والأوجه أن التصغير على حقيقته ومعناه، كما مر. ومنها: إطلاق الإيلاف عن المفعول أولًا في قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} ثم

إبدال المقيد منه في قوله: {إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ} تفخيمًا لأمره، وتذكيرًا لعظيم النعمة فيه. ومنها: الطباق بين {الشِّتَاءِ} و {الصيف} في قوله: {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وبين الجوع والإطعام في قولهم: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} وبين الأمن والخوف في قوله: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}. ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه وتكريمه في قوله: {رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}. ومنها: التنكير في لفظة {جُوعٍ} ولفظة {خَوْفٍ}؛ لبيان شدتهما وعظمهما؛ أي: جوع شديد وخوف عظيم. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع. فائدة: قال الإِمام الرازي في "تفسيره": اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما: دفع ضر، وهو ما ذكره في سورة الفيل. والثاني: جلب النفع، وهو ما ذكره في هذه السورة، ولما دفع الله سبحانه عنهم الضر وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان .. أمرهم بالعبودية في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} ... الآيات، أداء لشكر هذه النعمة العظيمة (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الإيلاف بتوفيقه سبحانه وقت العشاء من الليلة السابعة من شهر الله المحرم من شهور سنة: 1417 هـ. ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.

سورة الماعون

سورة الماعون سورة الماعون، ويقال لها سورة الدين، وسورة اليتيم، وهي نزلت بعد سورة التكاثر في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس، ومدنية في قول قتادة وآخرين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة: أريت الذي يكذب بالدين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقيل: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل، والنصف الثاني بالمدينة في عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق. وآياتها: سبع، وكلماتها: خمس وعشرون، وحروفها: مئة وخمسة وعشرون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬1): من ثلاث أوجه: 1 - أنه قال في السورة السابقة: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}، وذم في هذه من لم يحض على إطعام المسكين. 2 - أنه قال في السورة السابقة: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}، وهنا ذم من سها عن صلاته. 3 - أنه هناك عدد نعمه على قريش، وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء، وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الماعون كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة الماعون؛ لذكر الماعون فيها. فضلها: وروي في فضلها: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديًا"، وفيه مقال. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}. أسباب النزول قيل نزلت (¬1) هذه السورة في أبي جهل، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، أو عمر بن عائذ، أو رجل من المنافقين، أو أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين، فأتاه يتيم، فسأله شيئًا، فقرعه بعصاه، أقوال آخرها لابن جريج، وأخرج ابن المنذر (¬2) عن طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) ...} الآية، قال نزلت في المنافقين: كانوا يراؤون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنحونهم العاريَّة. التفسير وأوجه القراءة 1 - والخطاب في قوله: {أَرَأَيْتَ} لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصلح له، والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين، والرؤية بمعنى المعرفة تتعدى لمفعول واحد، وهو: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} والدين: الجزاء والحساب في الآخرة، وقيل: بالقرآن، وقال ابن عباس: {بِالدِّينِ}، أي: بحكم الله. وفي الكلام حذف، والتقدير: هل عرفت يا محمد الذي يكذب بالبعث والجزاء في الآخرة؟ إن طلبت معرفته، فذلك الذي يدع اليتيم إلخ. قيل: التقدير: أمصيب هو أم مخطىء؟ وأبدى (¬3) فيه السمين احتمالين آخرين: ونصه: وفي {أَرَأَيْتَ} هذه وجهان: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) لباب النقول. (¬3) الفتوحات.

[2]

أحدهما: أنها بصرية، فتتعدى لمفعول واحد وهو الموصول، كأنه قال: أبصرت المكذب بالدين. والثاني: أنها بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، فقدره الحوفي: أليس مستحقًا العذاب، وقدره الزمخشري: من هو، ويدل لذلك قراءة عبد الله: أريتك بكاف الخطاب، و {الكاف} لا تلحق البصرية اهـ. وقرأ الجمهور (¬1): {أَرَأَيْتَ} بإثبات الهمزة الثانية، وقرأ الكسائي بإسقاطها، قال الزجاج: لا يقال في {أَرَأَيْتَ} ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفًا. والمعنى: أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إِدراكه من الأمور الإلهية والشؤون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع والبرهان الساطع، 2 - فإن كنت لا تعرفه بذاته فاعرفه بصفاته، وهي: 1 - {فَذَلِكَ} المكذب بالدين هو: {الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}؛ أي: يدفع اليتيم دفعًا عنيفًا، ويزجره زجرًا قبيحًا إذا جاء يطلب منه حاجة احتقارًا لشأنه وتكبرًا عليه، و {الفاء} واقعة في جواب شرط مقدر، و {ذلك}: مبتدأ، والموصول خبره، والجملة الاسمية جواب لذلك الشرط المقدر، والتقدير: إن طلبت معرفة ذلك المكذب بصفاته، فهو الذي يدع اليتيم، ويزجره زجرًا عنيفًا إذا طلب منه حاجةً وهو أبو جهل، كان وصيًا ليتيم، فجاءه عريانًا يسأله من مال نفسه، فدفعه دفعًا شنيعًا، فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك، وكان غرضهم الاستهزاء به، وهو - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرد محتاجًا، فذهب معه إلى أبي جهل، فقام أبو جهل وبذل المال لليتيم، فعيَّره قريش وقالوا: أصبوت، فقال: لا والله ما صبوت، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيَّ، فـ {الَّذِي} للعهد، ويحتمل الجنس، فيكون عامًا لكل من كان مكذبًا بالدين، ومن شأنه أذية الضعيف ودفعه بعنف وخشونة؛ لاستيلاء النفس السبعية عليه، ويجوز أن تكون {الفاء} عاطفة على الذي يكذِّب إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة، ويكون اسم الإشارة في ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[3]

محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب، ويصح حمل الحق على الميراث، فقد تقدم في سورة النساء أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام اهـ "قرطبي". 2 - 3 {وَلَا يَحُضُّ}؛ أي: ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} والمحاويج؛ أي: على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى، وفي هذا توجيه (¬1) لأنظارنا إلى أَنَّا إذا لم نستطع مساعدة المسكين .. كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك، كما تفعل جماعات الخير، والجمعيات الخيرية. وقصارى ما سلف: أَن للمكذبين صفتين: أولاهما: أن يُحقِّر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيهما: أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج، أو يبخل لسعيه لدى الأغنياء؛ ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة، ويقوم لهم بكفاف العيش، وسواء أكان المحتقِر للحقوق البخيل بالمال والسعي لدى غيره، مصليًا أو غير مصل، فهو في صف المكذبين، ولا تخرجه صلاته منهم؛ لأن المصدق بشيء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدق به، فلو صدق بالدين حقًا .. لصار منكسرًا متواضعًا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم، فمن لم يفعل شيئًا من ذلك فهو مراء في عمله، كاذب في دعواه، ومن ثم قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) ...} إلخ. والخلاصة (¬2): أنه يمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال عليه، واستحكام رذيلة البخل فيه، فإنه إذا ترك حث غيره، فكيف يفعل هو بنفسه، فعُلم أن كلًّا من ترك الحث وترك الفعل من أمارات التكذيب، وفي العدول من الإطعام إلى الطعام وإضافته إلى المسكين دلالة على أن للمساكين شركة وحقًا في مال الأغنياء، وأنه إنما منع المسكين مما هو حقه، وذلك نهاية البخل وقساوة البخل وخساسة الطبع. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

[4]

فإن قلت: قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال، ولا يعد ذلك إثمًا، فكيف يذم به؟. قلت: إما لأن عدم حضه لعدم اعتقاده بالجزاء، وإما لأن ترك الحض كناية عن البخل ومنع المعروف عن المساكين، ولا شبهة في كونه محل الذم والتوبيخ، كما أن منع الغير من الإحسان كذلك. وقرأ الجمهور (¬1): {يَدُعُّ} - بضم الدال وشد العين - من دع من باب رد، كما في "المختار" بمعنى دفع، وقرأ علي والحسن وأبو رجاء واليماني بفتح الدال تخفيف العين من وَدَعَ بمعنى ترك؛ أي: يترك اليتيم بمعنى: لا يحسن إليه، ويجفوه. وقرأ الجمهور: {وَلَا يَحُضُّ} مضارع حض الثلاثي، وقرأ زيد بن علي: {يحاض} مضارع حاضض الرباعي، 4 - ولما ذكر أولًا عمود الكفر وهو التكذيب بالدين .. ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق، وهو عبادته بالصلاة، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} {الفاء} (¬2): لربط ما بعدها بشرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان ما ذُكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ .. فويل للمصلين؛ أي: فشدة عذاب، أو هلاك عظيم، أو واد في جهنم كما سبق الخلاف في الويل، كائن للمصلين؛ {فَوَيْلٌ}: مبتدأ. {لِلْمُصَلِّينَ}: خبره. 5 - {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} ومعرضون عنها، سهو ترك لها وقلة التفاتٍ إليها وعدم مبالاةٍ بها، وذلك فعل المنافقين أو الفسقة من المؤمنين، وهو معنى {عَن} في قوله: {عَنْ صَلَاتِهِمْ}، ولذا قال أنس - رضي الله عنه -: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وذلك أنه لو قال: في صلاتهم .. لكان المعنى: أن السهو يعتريهم، وهم فيها إما بوسوسة شيطان أو بحديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم، والخلوص منه عسير، ولما نزلت هذه الآية .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه خير لكم من أن يُعطى كلُّ واحد منكم مثلَ جميع الدنيا، ومعنى {سَاهُونَ} (¬3): غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون {الفاء}؛ لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذُكر من قبائحهم ووضع المصلين موضع ضميرهم؛ للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر. ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) روح البيان. (¬3) الشوكاني.

[6]

قال الواحدي: نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابًا إن صَلَّوا، ولا يخافون عليها عقابًا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صَلَّوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو معنى قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}؛ أي: يراؤون الناس بصلاتهم إن صلَّوا، أو يراؤون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر؛ ليثنوا عليهم، قال النخعي: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} هو في إذا سجد قال: برأسه هكذا وهكذا ملتفتًا، وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله، وقرأ ابن مسعود: {الذين هم عن صلاتهم لا هون}. فإن قلت (¬1): هل صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سهو أم لا؟. قلت: نعم، كما قال: "شغلونا عن صلاة العصر"؛ - أي: يوم الخندق - "ملأ الله قلوبهم نارًا" وأيضًا سها عن صلاة الفجر ليلة التعريس، وأيضًا صلى الظهر ركعتين، ثم سلم، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه -: صليت ركعتين، فقام وأضاف إليهما ركعتين، وكذلك في قصة ذي اليدين، لكن سهوه - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر، وفي غيره ليس كسهو سائر الناس، وهو في الاستغراق والإنجذاب دائمًا، وقد قال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وأيضًا سهوه لحكمة تشريع سجود السهو وأحكامه، فعلى العاقل أن لا تفوته الصلاة التي هي من باب المعراج والمناجاة، ولا يعبث فيها باللحية والثياب، ولا يكثر التثاؤب والالتفات ونحوهما ومن المصلين من لا يدري عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة. وخلاصة معنى قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)}؛ أي: فعذاب (¬2) شديد لمن يؤدي الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر في نفسه، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي شُرعت لأجلها؛ لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان وتفعله الجوارح، فيركع وهو لاه عن ركوعه، ويسجد وهو لاه عن سجوده، ويكبر وهو لا يعني ما يقول، وإنما هي حركات اعتادها، وكلمات حفظها، ولا تُدرك نفسه معناها، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها. 6 - {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}؛ أي: يُرون الناس أعمالهم؛ ليروهم الثناء عليها؛ ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) المراغي.

[7]

أي: إنهم يفعلون أفعالًا ظاهرة بقدر ما يرى الناس دون أن تستشعر قلوبهم بها، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها، وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس، ويكون فعل ذلك على ضروب: 1 - بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس. 2 - بلبس الثياب القصار، أو الخشنة، ليأخذ بذلك هيبة الزهاد في الدنيا. 3 - بإظهار السخط على الدنيا، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير. 4 - بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة، لرؤية الناس له، قال في "الكشاف": والعمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا غمة في فرائض الله"؛ لأنها أعلام الإِسلام وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعًا فحقه أن يخفي؛ لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، وإن أظهره قاصدًا للاقتداء فيه كان جميلًا، وإنما الرياء أن يقصد أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح، واجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص، ومن ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود"، والمسح كساء من صوف خشن يلبسه الزهاد، والفرق (¬1) بين المرائي والمنافق أن المنافق يُبطِن الكفر ويظهر الإيمان، والمرائي يظهر زيادة الخشوع وآثار الصلاح؛ ليعتقد من يراه أنه من أهل الصلاح. وقرأ الجمهور (¬2): {يُرَاءُونَ} مضارع راءَى من باب فاعل، وقرأ ابن أبي إسحاق والأشهب: مهموزة مقصورة مشددة الهمزة من باب فعل المضعف، وعن ابن أبي إسحاق بغير شد في الهمزة، فتوجيه الأولى، إلى أنه ضعف الهمزة تعديةً، كما عَدَّوا بالهمزة، فقالوا في رأى أرى، وقالوا: راءى، فجاء المضارع يُرَئِّيْ كيصلي، وجاء الجمع يُرَؤُّون كيصلون، وتوجيه الثانية أنه استثقل التضعيف في الهمزة، فخففها أو حذف الألف من يرأون حذفًا لا لسبب. 7 - {وَيَمْنَعُونَ} الناس {الْمَاعُونَ}؛ أي: محقرات الأموال وقلائلها مما يتعاطاه ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط.

الناس فيما بينهم ويتعاورونه يعتادون التسامح من أثاث البيت وغيره، كالدلو والقدر والإبريق والفأس والسكين والإبرة والخيط والخمير وبقايا الطعام والماء والملح والنار من الأشياء التافهة التي جرى عرف الناس بالتسامح بها فيما بينهم. أي: يمنعون الناس ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الغني والفقير، ويُنسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق، وقال الطبري في "تفسيره": الماعون: هو ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو والفأس والقدر، وما لا يُمنع كالماء والملح والنار والخيط والمخيط، نُقل هذا عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير، ثم قال: وروى أبو بصير عن أبي عبد الله قال: {الْمَاعُونَ} هو القرض تقرضه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تعيره، قال: فقلت: إن لنا جيرانًا إذا أعرناهم متاعًا كسروه وأفسدوه، أفعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك، وقال الكلبي: {الْمَاعُونَ} المعروف كله، وقال علي وابن عمر وابن عباس أيضًا: {الْمَاعُونَ} هو الزكاة، ومنه قول الراعي: أخَلِيْفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ ... حُنُفًا نُسَجدُ بُكْرَةً وَأَصِيْلًا عُرْبٌ نَرَى لِلَّهِ فِيْ أَمْوَالِنَا ... حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيْلَا قَوْمٌ عَلَى الإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوْا ... مَا عُوْنَهُمْ وَيُضَيِّعُوْا التَّهْلِيْلَا يعني بالماعون الزكاة، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو الشيء القليل، فسميت الزكاة ماعونًا؛ لأنها قليل من كثير؛ لأنها ربع أو عشر، وقال عبد الله بن عمر منع الماعون هو منع الحق، وقال ابن عباس أيضًا: هو العارية، وقيل الماء والكلأ، قال أبو الليث: الماعون بلغة الحبشة المال، وفي "برهان القرآن" قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)}، ثم بعده {الَّذِينَ هُمْ} كرر ولم يقتصر على مرة واحدة؛ لامتناع عطف الفعل على الاسم، ولم يقل: الذين هم يمنعون؛ لأنه فعل، فحسن العطف على الفعل وهذه دقيقة. انتهى. والمعنى: ويمنعون الزكاة، كما دل عليه ذكره عقيب الصلاة، أو ما يتعاور عادة، فإن عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيث كان من عدم الاعتقاد بالجزاء موجب للذم والتوبيخ، فعدم المبالاة بالصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإِسلام، وسوء المعاملة مع الخلق

أحق بذلك، ولم يُرَ من المتسمين بالإِسلام، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة، فيا مصيبتاه، والمراد بما يتعاوروه عادةً؛ أي: يتداوله الناس بالعارية، ويعين بعضهم بعضًا بإعارته هو مثل الفأس والقدر والدلو والإبرة والقصعة، والغربال والقدوم والمقدحة والنار، والماء والملح، ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك، أو يضع متاعه عندك يومًا أو نصف يوم، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورًا في الشريعة إذا استُعيرت عن اضطرار، وقبحًا في المروءة في غير حال الضرورة، وفي هذه الآية زجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة، فإن البخل بها في نهاية البخل، قال العلماء: يستحب أن يستكثر الرجل في بيته مما يحتاج إليه الجيران، فيعيرهم ويتفضل عليهم، ولا يقتصر على الواجب اهـ "صاوي". قال الإمام: وحاصل معنى هذه السورة؛ أي: فأولئك الذين يصَلُّون ولا يأتون من الأعمال إلا ما يُرى للناس مما لا يكلفهم بذل شيء من مالهم، ولا يخشون منه ضررًا يلحق بأبدانهم، أو نقصًا يلم بجاههم، ثم يمنعون ماعونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سد حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم، وطمأنينتهم ولا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين، لا فرق بين من وَسَموا أنفسهم بسِمَة الإِسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع. فخاصة المصدق بالدين التي تميزه عمن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هي احتقار حقوق الضعفاء، وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة، وحب الأثرة بالمال، والتعزز بالقوة، ومنع المعروف عمن يستحق من الناس. فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون في هذه السورة الشريفة؛ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين، وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا في ظواهر أعضائهم، وبهذا الجوع في يسمونه صيامًا، ولا أثر له إلا في عبوس وجوههم وبذاذة ألسنتهم وضياع أوقاتهم في اللهو والبطالة، ويرجعوا إلى

الحق من دينهم، فيقيموا الصلاة، ويحيوا صورتها بالخشوع للعليِّ الأعلى، فلا يخرجوا من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد الله يلتمسون رضاه في رعاية حقوقه بما يراه، ويجعلوا من الصوم مؤدِّبًا للشهوة ومهذبًا للرغبة رادعًا للنفس عن الأثرة فلا يكون في صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم ولا يبخلون بالمعونة فيما يمنع الخاصة والعامة اهـ. والله أعلم. الإعراب {أرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}. {أَرَأَيْتَ} {الهمزة} فيه للاستفهام التعجبي، {رأيت}: فعل وفاعل، والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو عام كما مر، والرؤية هنا إما بصرية تتعدى إلى مفعول، وهو قوله: {الَّذِي يُكَذِّبُ}. {الَّذِي}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {رأيت}. {يُكَذِّبُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول. {بِالدِّينِ}: متعلق بـ {يُكَذِّبُ}، والمعنى: أبصرت يا محمد المكذب بالدين، وهل عرفته بذاته؟ وإما بمعنى أخبرني فتتعدى لاثنين: الأول: الموصول، والثاني محذوف قدَّره الحوفي بقوله: أليس مستحقًا للعذاب؛ أي: أخبرني يا محمد المكذبَ بالدين أليس مستحقًا العذاب، والجملة الفعلية على كلا التقديرين مستأنفة. {فَذَلِكَ} {الفاء}: واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن طلبت معرفة ذلك المكذب بصفاته، فهو الذي يدع اليتيم. {ذلك}: مبتدأ. {الَّذِي}: خبره، وجملة {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل الجزم بذلك الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة. {وَلَا يَحُضُّ}: {الواو}: عاطفة. {لا}: نافية. {يَحُضُّ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على {الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}. {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَحُضُّ}، والجملة معطوفة على جملة {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}. {فَوَيْلٌ} {الفاء}: واقعة أيضًا في جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ، فويل للمصلين المذكورين؛ لأن السهو عن الصلاة من سمة التكذيب

بالدين، {ويل}: مبتدأ. {لِلْمُصَلِّينَ}: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بالشرط المقدر، وجملة الشرط المقدر مستأنفة. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر صفة لـ {المصلين}: {هُمْ}: مبتدأ {عَنْ صَلَاتِهِمْ}: متعلق بما بعده. {سَاهُونَ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. {الَّذِينَ}: بدل من {الَّذِينَ} الأول على كونه صفة لـ {المصلين}. {هُمْ}: مبتدأ، وجملة {يُرَاءُونَ} خبره، والجملة الإسمية صلة الموصول. {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة {يُرَاءُونَ} داخلة في حيز الصلة، ومفعول {يمنعون} الأول محذوت تقديره: أي: الناس والطالبين، و {الْمَاعُونَ} مفعوله الثاني. التصريف ومفردات اللغة {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}؛ أي: يدفع بعنف وجفوة، وفي المختار: دَعَّ من باب رد، قال ابن دريد: دعه ودحه بمعنى واحد، وامرأة دعوع ودحوح بمعنى، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: قَدْ أَغْتَدِيْ وَاللَّيْلُ فِيْ حِزِّيْمِه ... مُعَسْكِرًا فِيْ الغُرِّ مِنْ نُجُوْمِهِ وَالصُّبْحُ قَدْ نَسَّمَ فِيْ أَدِيْمِهِ ... يَدُعُّهُ بِضِفَّتَيْ حَيْزُوْمِهِ دَعَّ الرَّبِيْبِ لِحَيَّتَيْ يَتِيْمِهِ وأصله: يَدْعُع بوزن يفعُل، نقلت حركة العين الأولى إلى الدال فسكنت فأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: {يَحُضُّ} أصله: يَحْضُض بوزن يفعل. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} أصله: المصليين بيائين، الأولى لام الكلمة والثانية ياء الجمع، سكنت لام الكلمة للتخفيف، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء الأولى، فصار المصلين بوزن المفعيّن. {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} من باب فاعل، كيقاتلون، ومعنى المفاعلة فيه أن المرائي يُري الناس عمله، وهم يُرُونه الثناء عليه، فالمشاركة فيهما واضحة، وأصله: يرائيون كيقاتلون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الياء لالتقائهما، وضمت الهمزة لمناسبة الواو، فصار {يُرَاءُونَ}، بوزن

يفاعون. {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} أصله: ساهيون جمع ساه، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم ضمت الهاء لمناسبة الواو وأصل هذه الياء الواو؛ لأنه من سها يسهو قلبت ياء لتطرفها إثر كسرة. {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} منع يتعدى لمفعولين: ثانيهما: قوله {الْمَاعُونَ}، وأولهما محذوف تقديره: الناس، حُذف للعلم به، و {الْمَاعُونَ} فاعول من المعن، وهو الشيء القليل، يقال: مال معن؛ أي: قليل، أو اسم مفعول من أعان يعين، فأصله معوون، دخله القلب المكاني فصار: موعون، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، وفي "المختار": والماعون اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر والفأس ونحوهما اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستفهام الذي يراد به تشويق السامع إلى الخبر، وتعجيبه منه في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)}. ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)}؛ لأنه حذف منه الشرط، تقديره: إن أردت أن تعرف ذلك المكذب بصفاته، فذلك المكذب هو الذي يدع اليتيم. ومنها: وضع الظاهر، وهو قوله: {لِلْمُصَلِّينَ} موضع المضمر، وهو لهم؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: فويل لهم؛ لأنهم مع التكذيب وما أضيف إليه ساهون عن الصلاة غير مكترثين بها، وهذا على أن السورة كلها إما مكية أو مدنية، وعلى القول بالتنصيف، فالويل متعلق بالمصلين الموصوفين بكونهم عن صلاتهم ساهين، وما بعده فلا ارتباط له بما قبله، و {الفاء} واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن أردت معرفة جزاء أهل النفاق في الصلاة وغيرها، فويل للمصلين الخ اهـ من "الصاوي".

ومنها: تسميتهم مصلين مع أنهم تاركون لها رأسًا؛ لأنها مفروضة عليهم، فكانت جديرة بأن تضاف لهم. ومنها: التعبير بـ {عَنْ} دون في، في قوله: {عَنْ صَلَاتِهِمْ} إشعارًا بأن صلاة المؤمن لا تخلو عن السهو فيها، فالمذموم السهو عنها بمعنى تركها والتفريط فيها لا السهو فيها؛ لوقوعه من الأنبياء. ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {سَاهُونَ} حيث استعار السهو للترك بجامع الإعراب في كل؛ لأنهم تاركون لها رأسًا، أو إن حصلت منهم تكون رياءً وسمعة، فهي كلاصلاة. ومنها: حذف المفعول الأول لـ {يمنعون} في قوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}؛ أي: يمنعون الناس، للعلم به. ومنها: الجناس الناقص بين {يمنعون} و {الْمَاعُونَ}. فائدة: السهو خطأ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما: أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولداته، كمجنون سب إنسانًا. والثاني: أن يكون منه مولداته كمن شرب خمرًا، ثم ظهر منه منكر، لا عن قصد إلى فعله، فالأول معفو عنه، والثاني مأخوذ به، ومنه ما ذم الله سبحانه في الآية، انتهى من "الروح". ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الماعون أواخر عصر يوم الخميس اليوم العشرين من شهر الله المحرم من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

سورة الكوثر

سورة الكوثر سورة الكوثر مكية نزلت بعد سورة العاديات في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، وكذا قاله الجمهور، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة، وهي ثلاث آيات، وعشر كلمات، واثنان وأربعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنه سبحانه وصف في السابقة الذي يكذب بالدين بأمور أربع: البخل، الإعراض عن الصلاة، الرياء، منع المعونة، وهنا وصف ما منحه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخير والبركة، فذكر أنه أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير، والحرص على الصلاة ودوامها، والإخلاص فيها، والتصدق على الفقراء. وعبارة أبي حيان هنا: مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل، وترك الصلاة والرياء، ومنع الزكاة .. قابل في هذه السورة البخل بـ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}، والسهو في الصلاة بقوله: {فَصَلِ}، والرياء بقوله: {لِرَبِّكَ}، ومنع الزكاة بقوله: {وَانْحَرْ}، أراد به التصدق بلحم الأضاحي، فقابل أربعة بأربع. انتهى. وسميت سورة الكوثر؛ لذكر الكوثر فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الكوثر كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: ومما ورد في فضلها (¬2): ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ سورة الكوثر سقاه الله تعالى من كل نهر له في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر" ولكن فيه مقال. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البيضاوي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. أسباب النزول قيل: إن هذه السورة نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص بن وائل قالوا: من الذي كنت تتحدث معه؟ قال ذلك الأبتر دعوه، فإنه رجل لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، وكان في تلك الأيام قد توفي عبد الله بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (وقيل: ولده إبراهيم)، وهو من خديجة "الكبرى" ففرح أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومبغضوه، وقالوا: قد بتر محمد، وسينقطع ذكره، ولم يبق له أثر في أولاده من بعده، وكانوا يعدون ذلك عيبًا يلمزونه به، وسينفرون الناس من اتِّباعه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب أبو لهب إلى المشركين، فقال: بُتِر محمد الليلة، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} وقال السدي: كانوا إذا مات ذكور الرجل .. قالوا: بتر، فلما مات أبناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: بُتر محمد، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت في أبي جهل، وفي رواية أخرى عنه قال: نزلت في كعب بن الأشرف؛ إذ قدم مكة، فقالت له قريش: أنت سيد أهل المدينة وخيرهم، ألا ترى هذا الصابئى المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، فقال: أنتم خير منه، فنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. قال ابن عباس: {إِنَّ شَانِئَكَ} يعني: عدوك، وهذا يعم جميع من اتصف

بذلك ممن ذكروا وغيرهم من أعداء الإِسلام، ومبغضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يستهزئون به وبدعوته، واستمروا كذلك حتى كفاه الله شرهم، فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}، وقضى الله عليهم، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله على كل شيء قدير. وحاصل أسباب نزول هذه السورة (¬1): أنه كان المشركون من أهل مكة والمنافقدن من أهل المدينة يعيبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلمزونه بأمور: 1 - أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء، ولو كان ما جاء به من الدين صحيحًا .. لكان أنصاره من ذوي الرأي والمكانة بين عشائرهم، وهم ليسوا ببدع في هذه المقالة، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أن يسرع في إجابة دعوة الرسل الضعفاء من قبل أنهم لا يملكون مالًا، فيخافوا في سبيل الدعوة الجديدة ولا جاهًا ولا نفوذًا، فيخافوا أن يضيَّعا أمام الجاه في منحه صاحب الدعوة، وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا في دين الله، وهم له كارهون، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله تعالى، ويأخذون في انتقاصهم وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة، والله ينصر رسله ويؤيدهم وبشد أزرهم، وعلى هذا السنن سار أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدًا له ولقومه الأدنين. 2 - أنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون يقولون: انقطع ذكر محمد وصار أبتر، يحسبون ذلك عيبًا، فيلمزونه به، ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه. 3 - أنهم كانوا إذا شدة نزلت بالمؤمنين .. طاروا بها فرحًا، وانتظروا أن تدول الدولة عليهم، وتذهب ريحهم، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد، فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون، وهم لا حقيقة له، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم، ولترد كيد المشركين في نحورهم، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة، وأن أتباعه هم المفلحون. ¬

_ (¬1) المراغي.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِنَّا}: و {إن} (¬1): جار مجرى القسم في تأكيد الجملة. {أَعْطَيْنَاكَ} يا محمد، عبر بصيغة الماضي مع أن العطايا الأخروية وأكثر ما يكون في الدنيا لم تحصل بعد إشعارًا بتحقق وقوعها. وقرأ الجمهور (¬2): {أَعْطَيْنَاكَ} بالعين، وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني: {أنطيناك} بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الترمذي: هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش، ومن كلامه - صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا المُنطِية، واليد السفلى المُنطاة" ومن كلامه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: "وانْطوا المنيحة"، وقال الأعمش: جِيَادُكَ خَيْرُ جِيَادِ الْمُلُوْكْ ... تُصَانُ الْحَلَالَ وَتُنْطِيْ السَّعِيْرَا قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبريزي: أبدل من العين نونًا، {الْكَوْثَرَ}؛ أي: الخير المفرِط في الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين، والكوثر (¬3) فوعل من الكثرة، وُصِف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرًا، ومنه قول الشاعر: وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرَا قيل لأعرابية آب ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر؛ أي: بالعدد الكثير من الخير، فالمعنى على هذا (¬4): إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية. وذكر أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي: إلى أن {الْكَوْثَرَ}. نهر في الجنة، وقيل: هو حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموقف، قاله عطاء، وقال عكرمة: {الْكَوْثَرَ}: النبوة، وقال الحسن: {الْكَوْثَرَ}: القرآن، وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة، ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان. (¬4) الشوكاني.

وقال ابن كيسان هو: الإيثار، وقيل: هو الإسلام، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: نور القلب، وقيل: الشفاعة، وقيل: هو المعجزات، وقيل: إجابة الدعوة، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس. وذكر صاحب "التحرير" في الكوثر ستة وعشرين قولًا، والصحيح هو ما فسر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هو نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعليه جمهور العلماء، كما جاء مبينًا في عدة أحاديث: منها: ما رواه (¬1) الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت علي آنفًا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وَعَدَنيه ربي عَزَّ وَجَلَّ خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" هذا لفظ مسلم، وللبخاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما عُرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوَّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه - أو طينته - مسك أذفر" شك الراوي. ومنها: ما أخرجه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه -: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر؟ قال: "ذلك نهر أعطانيه - يعني في الجنة - أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزور". قال عمر: إن هذه لناعمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكَلَتُها أنعم منها"، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. ومنها: ما رواه ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكوثر نهر في الجنة، ¬

_ (¬1) الخازن.

حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ومنها: ما رواه عامر بن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - قال: سألت عائشة عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقالت: نهر أعطيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، شاطئاه در مجوف، آنيته كعدد نجوم السماء. أخرجه البخاري. ومنها: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها لا يظمأ أبدًا" زاد في رواية "وزواياه سواء" متفق عليه. ومنها: ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمامكم حوضي، ما بين جنبيه كما بين جرباء وأذرح" متفق عليه، وقال بعض الرواة هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية: "فيه أباريق كنجوم السماء، مَن وَرَدَهُ فشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا". ومنها: ما رواه أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين ناحيتي" - وفي رواية: "لابَتَيْ حوضي، كما بين صنعاء والمدينة" وفي رواية "مثل ما بين المدينة وعمان" وفي رواية قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" متفق عليه. ومنها: ما روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: "والذي نفس محمد بيده، لآنِيَتُهُ أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثله طوله، ما بين عمَّان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل" أخرجه مسلم. وبقي في هذا الباب أحاديث كثيرة لا يسعها هذا المختصر. قال القاضي عياض: وفي بعض هذه الأحاديث ما يقتضي كون الحديث متواترًا، وأما صفة الحوض ومقداره فقد قال في رواية "حوضي مسيرة شهر" وفي رواية: "ما بين جنبيه كما بين جرباء وأذرح" وفي رواية: "كما بين أيلة وصنعاء اليمن" وفي رواية: "مثل

طوله ما بين عمان إلى أيلة" وفي رواية: "إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن"، فهذا الاختلاف في هذه الروايات في قدر الحوض ليس موجبًا للاضطراب فيها؛ لأنه لم يأت في حديث واحد، بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعات من الصحابة سمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن مختلفة، ضربها النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لبعد أقطار الحوض وسِعَته، وقرَّب ذلك على أفهام السامعين، لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لا على القدر الموضوع للتحديد، بل لإعلام السامعين عظم بُعد المسافة وسعة الحوض بقدر ما يعرفه كل من السامعين، وليس في ذكر القليل من هذه المسافة منع من الكثير، فإن الكثير ثابت على ظاهره، وصحت الرواية به، والقليل داخل فيه، فلا معارضة ومنافاة بينهما، وكذلك القول في آنية الحوض من أن العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره، وأنها أكثر عددًا من نجوم السماء، ولا مانع يمنع من ذلك، إذ قد وردت الأحاديث الصحيحة الثابتة بذلك وقوله في الأحاديث" "كما بين جرباء وأذرح" جرباء قرية الشام، وأذرح مدينة في طرف الشام قريبة من الشوبك وأما عمان بليدة بالبلقاء من أرض الشام، وأيلة مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين دمشق ومصر بينها وبين المدينة، نحو خمس عشرة مرحلة، وهي: آخر الحجاز وأول الشام، وأما صنعاء فهي قاعدة اليمن وأكبر مدنه، وإنما قيدها باليمن في الحديث؛ لأن بدمشق موضعًا يُعرف بصنعاء دمشق. والمعنى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}؛ أي (¬1): إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير في يعجز عن بلوغه العد، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه، فإنما ذلك من فساد عقولهم وضعف إدراكهم؛ أي (¬2): إنا بجلالنا وعظمة قدرتنا، فالإتيان بـ {إن} ونون العظمة؛ للتأكيد ولزيادة تشريفه - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: قضينا به لك، وخصصناك به، وأنجزناه لك في علمنا، وتقديرنا الأزلي، وإن لم تستول عليه، والتصرف فيه إلا في القيامة، فالعطاء ناجز، والتمكن والاستيلاء عليه مستقبل. إن قلت: إنه عبر هنا بالماضي، وفي الضحى بالمضارع، حيث قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ}، فكيف الجمع بينهما؟. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الصاوي.

[2]

قلت: أجيب عنه بأن في الضحى باعتبار التمكن والاستيلاء، وذلك يحصل في المستقبل في يوم القيامة، وما هنا بتقدير التقدير الأزلي. والصحيح: أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - نهرين: أحدهما: بعد دخول الجنة يسمى كوثرًا. والثاني: قبل الصراط، ويسمى حوضًا، كما يدل عليه مجموع الأحاديث السابقة، واختُلف في الميزان والحوض أيهما قبل الآخر؟ فقيل: الميزان قبل، وقيل: الحوض قبل. قال الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل، قلت: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا، فيقدم قبل الصراط والميزان والله أعلم اهـ من "تذكرة القرطبي". 2 - وبعد أن أكد الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الخبر بأن في أعطاه هو الكوثر الذي لا يُستقل عدده ولا يُنتقص قدره، وأن ما يعدونه كثيرًا وعظيمًا من خيراتهم ونعيمهم، فهو بالنسبة إليه قليل وحقير، طالبه الله سبحانه بالشكر على ذلك، فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}؛ أي: وانحر له، فحذف اكتفاء بما قبله، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فصل لنا، فانتقل إلى الاسم الظاهر؛ لأنه يوجب عظمة ومهابة، و {الفاء} (¬1) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إعطاءه تعالى إياه - صلى الله عليه وسلم - ما ذُكر من العطية التي لم يعطها، ولن يعطيها أحدًا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استيجاب، والنحر يكون في اللبة كالذبح في الحلق، ويصح أن تكون {الفاء} للإفصاح، والمعنى على الأول: فدم يا محمد على الصلاة لربك الذي أفاض عليك هذه النعمة الجليلة التي لا تضاهيها نعمة خالصًا لوجهه، كما دل عليه اللام الاختصاصية، خلافًا للساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، وهي ثلاثة: الشكر بالقلب؛ وهو أن يعلم أن تلك النعم منه تعالى لا من غيره، والشكر باللسان؛ وهو أن يمدح المنعم ويثني عليه، والشكر بالجوارح، وهو أن يخدمه ويتواضع له، والصلاة جامعة لهذه الأقسام، والمراد الأمر له - صلى الله عليه وسلم - بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة. ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

{وَانْحَرْ} البُدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى، وتصدق بها على المحاويج، خلافًا لمن يَدُعُّهم ويمنع منهم الماعون، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد، والنحر بالتضحية، وهذا يناسب كون السورة مدنية. وعن عطية هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر (¬1) بمنى، وقال محمد بن كعب: إن ناسًا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن تكون صلاته ونحره له، وعن علي - رضي الله عنه -: النحر هاهنا وضع اليدين في الصلاة على النحر، وقال محمد بن كعب: النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر، وقيل: هو، أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبير إلى حذاء نحوه، وقيل: هو أن يستقبل القبلة بنحوه، قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص، وروي عن عطاء أنه قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسًا حتى يبدو نحوه اهـ. وقال سليمان التيمي: المعنى وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك، وظاهر الآية الأمر له - صلى الله عليه وسلم - بمطلق الصلاة ومطلق النحر، وأن يجعلهما لله عَزَّ وَجَلَّ لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص، فهو في حكم التقييد له، والمعنى؛ أي (¬2): اجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك لله أيضًا، فإنه هو الذي رباك، وأسبغ عليك نعمه دون سواه، كما قال تعالى آمرًا له: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} 3 - وبعد أن بشر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أعظم البشارة وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورًا ذليلًا .. أعقبه بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ}؛ أي: إن مبغضك يا محمد كائنًا من كان كأبي جهل وأضرابه {هُوَ} ضمير فصل {الْأَبْتَرُ}؛ أي: المنقطع عن كل خير على العموم، المقطوع ذكره في الدنيا والآخرة؛ لبغضه لك؛ لأن (¬3) نسبة أمر إلى المشتق تفيد علية المأخذ، يقال: شنأه - كمنعه وسمعه - شنًا إذا أبغضه، والبغض ضد الحب، والبتر يستعمل في قطع الذَّنَب، ثم أجري قطع العقب مجراه، فقيل: فلان أبتر إذا لم يكن له عقب يخلفه، والمعنى: إن مبغضك على العموم هو الذي لا عقب له، حيث لا يبقى له نسل ولا ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي. (¬3) روح البيان.

حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان. وشانئوه (¬1) ما كانوا يبغضونه لشخصه؛ لأنه كان محببًا إلى نفوسهم، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة؛ لأنه سفه إحلامهم وعاب معبوداتهم، ونادى بفراق ما ألفوه ونشؤوا عليه، وقد حقق الله سبحانه الذي شانئيه من العرب وغيرهم الذي زمنه - صلى الله عليه وسلم - ما يستحقونه من الخذلان والخسران ولم يبق لهم إلا سوء الذكر. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اهتدى بهديه، فإن الله سبحانه رفع منزلتهم فوق كل منزلة وجعل كلمتهم هي العليا. قال الحسن - رحمه الله تعالى -: عني المشركون بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله سبحانه بيَّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك اهـ. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما (¬2) -: نزلت هذه السورة في كعب بن الأشرف وجماعة قريش، وذلك أنه لما قدم كعب بن الأشرف قالت له قريش: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل المدينة، أفنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ فقال: أنتم خير منه، فنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ...} الآية، ونزلت في الذين قالوا: إنه أبتر {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}؛ أي: المنقطع عن كل خير، وقولهم في النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا الصنبور أرادوا أنه فرد ليس له ولد، فإذا مات انقطع ذكره، شبهوه بالنخلة المنفردة يدق أسفلها، وتسمى الصنبور، وقيل: هي النخلة التي يخرج في أصل أخرى لم تغرس، وقيل: الصنابر سعفات تنبت من جذع النخلة تضر بها، ودواؤها أن تُقطع تلك الصنابر منها، فأراد كفار مكة أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الصنبور ينبت في جذع نخلة، فإذا انقطع استراحت النخلة، فكذا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا مات انقطع ذكره، وقيل: الصنبور الوحيد الضعيف الذي لا ولد له ولا عشيرة ولا ناصر من قريب ولا غريب، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ورد عليهم أشنع رد، فقال: إن شانئك يا محمد هو الأبتر الضعيف الوحيد الحقير، وأنت الأعز الأشرف الأعظم. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الخازن.

وظاهر الآية: العموم وأن هذا شأن كل من يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل أو غيره، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما مر غير مرة. والله أعلم بمراده. وقرأ الجمهور (¬1): {شَانِئَكَ} بالألف، وقرأ ابن عباس: {شنيك} بغير ألف، فقيل: هو مقصور من شانىء، كما قالوا: بَرَر وبَر في بارِر وبار، ويجوز أن يكون بناء على فعل، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين، وقد قالوا: حذر أمورًا، ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافًا للمفعول، ولفظ {هُوَ} مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون ضمير فصل؛ أي: هو المنفرد بالبتر المخصوص به لا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجميع المؤمنين أولاده، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يُبدأ بذكر الله تعالى، ويثَنَّى بذكره - صلى الله عليه وسلم -، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وشرَّف وكرَّم صلاة وسلامًا دائمين ما بقي الدهر. الإعراب {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. {إِنَّا}: ناصب واسمه، وجملة {أَعْطَيْنَاكَ}: خبره، وجملة {إن} مستأنفة استئنافًا نحويًا. {أَعْطَيْنَاكَ}: فعل وفاعل ومفعول أول، و {الْكَوْثَرَ}: مفعول به ثان؛ {فَصَلِ}: {الفاء}: عاطفة تفريعية؛ لكون ما بعدها مرتبًا على ما قبلها، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إعطاءنا إياك الخير الكثير الذي لا يُعد ولا يحصى، وأردت بيان ما يلزمك في شكره، فأقول لك صل لربك، {صل}: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، تقديره: أنت. {لِرَبِّكَ}: متعلق بـ {صل}، والجملة الفعلية على القول الأول معطوفة على جملة {إن}، وعلى الثاني مقول لجواب إذا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {وَانْحَرْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على {صل}. {إِنَّ شَانِئَكَ}: ناصب واسمه {هُوَ} مبتدأ، أو ضمير فصل. {الْأَبْتَرُ}: خبر. {هُوَ}، والجملة خبر {إِنَّ}، أو {الْأَبْتَرُ}: خبر {إِنَّ} وجملة {إِنَّ} مستأنفة مؤكدة لما قبلها، ولا أدري كيف أجاز أبو البقاء أن يُعرب هو تأكيدًا؛ لأن المُظهَر لا يؤكد بالمضمر، وعبارة ابن هشام: ووهم أبو البقاء هنا، فأجاز في {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} التوكيد، ويحتمل أنه أراد أنه توكيد لضمير مستتر في {شَانِئَكَ} لا لنفس {شَانِئَكَ}، وذلك لأن شانىء اسم فاعل بمعنى مبغضك. التصريف ومفردات اللغة {الْكَوْثَرَ} في "القاموس": والكوثر الكثير من كل شيء، والكثير الملتف من الغبار، والإِسلام، والنبوة، وقرية بالطائف كان الحجاج معلِّمًا بها، والرجل الخير المعطاء، والسيد، والنهر، ونهر في الجنة، وعبارة الزمخشري: والكوثر فوعل من الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، قال الكميت الأسدي: وَأَنْتَ كَثِيْرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوْكَ ابْنَ العَفَائِلِ كَوْثَرَا والعفائل: خيار النساء، والكوثر بليغ النهاية في الخير، والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى، وما فيه سعادة الدنيا والآخرة، والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل، وجوهر من الجهر، وفي "المفردات" وقد يقال للرجل السخي كوثر، ويقال: تكوثر الشيء إذا كثر كثرة متناهية، والواو فيه زائدة مثل كوسج وجوهر ونوفل، وعبارة ابن خالويه: والكوثر نهر في الجنة، حافتاه الذهب وحصباؤه المرجان والدر، وحاله المسك يعني الحمأة، وماؤه أشد بياضًا من الثلج وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا. {وَانْحَرْ} والنحر في اللبة كالذبح في الحلق. {إِنَّ شَانِئَكَ}؛ أي: مبغضك، وفي "المصباح": شَنِئَه - كسَمِعَه ومَنَعَه - شنًا مثل فلس وشَنَآناٌ - بفتح النون وسكونها - إذا أبغضه، والفاعل شانىءٌ في المذكر، وشانئة في المؤنث، وشنئت بالأمر اعترفت به، وقال ابن خالويه: والشانِىء

المبغض قال الأعمش: وَمِنَ شَانِىءٍ كَاسِفٍ وَجْهُهُ ... إِذَا مَا انْتَسَبْتَ لَهُ أَنْكَرَنْ {هُوَ الْأَبْتَرُ}: هو الذي لا عقب له، وهو الذي الأصل الشيء المقطوع من بتره إذا قطعه، وحمار أبتر لا ذنب له، ورجل أُباتر بضم الهمزة؛ أي: قاطع رحمه، قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر: القطع، يقال: بترت الشيء بترًا إذا قطعته. وعبارة ابن خالويه: معناه أن مبغضك يا محمد هو الأبتر؛ أي: لا ولد له، والأبتر الحقير، والأبتر الذليل، والأبتر من الحيات المقطوع الذنب، والأبتر ذنب الفيل، كانت قريش والشانئون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن محمدًا صنبور؛ أي: فرد لا ولد له، فإذا مات انقطع ذكره، فأكذبهم الله تعالى، وأعلمهم أن ذكر محمد مقرون بذكره إلى يوم القيامة، إذا قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، والصنبور: النخلة، تبقى مفردة ويدق أسفلها، قال: ولقي رجل رجلًا، فسأله عن نخلِهِ، فقال: صنبرَ أسفله، وعششَ أعلاه، والصنبور أيضًا ما في فم الإداوة من حديد أو رصاص، والصنبور الصبي الصغير، قال أوس بن حجر: مُخَلَّفُوْنَ وَيَقْضِيْ النَّاسُ أَمْرَهُمُ ... غِشَّ الأَمَانَةِ صُنْبُوْرٌ فَصُنْبُوْرُ وفي "المختار": بتره قبل التمام وبابه نصر، والانبتار الانقطاع، والأبتر المقطوع الذنب، وبابه طرب، والأبتر أيضًا لا عقب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر اهـ. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم في قوله: {إِنَّا} فإنه بمنزلة أن يقال: إنا نحن والله أعطيناك.

ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {أَعْطَيْنَاكَ} مع أن العطايا الأخروية وأكثر ما يكون في الدنيا لم تحصل بعد إشعارًا بتحقق وقوعها. ومنها: صيغة الجمع الدالة على التعظيم في {نَّا أَعْطَيْنَاكَ} تفخيمًا لشأن المعطى له، حيث لم يقل: أنا أعطيتك. ومنها: المبالغة في لفظ {الْكَوْثَرَ}. ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فصل لنا، فانتقل إلى الاسم الظاهر؛ لأنه يوجب عظمة ومهابة، وفيه أيضًا التفات من التكلم إلى الغَيبة، والأصل: فصل لنا، ولكنه عدل عن ذلك؛ لأن في لفظ الرب حثًا على فعل المأمور به؛ لأن من يربيك يستحق العبادة منك. ومنها: الاكتفاء في قوله: {وَانْحَرْ}؛ أي: وانحر له، فحذف له اكتفاء بما قبله. ومنها: الإضافة للتشريف، والتكريم في قوله: {لِرَبِّكَ}. ومنها: إفادة الحصر في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}؛ أي: إن مبغضك لا محبك من المؤمنين هو الأبتر عن كل خير. ومنها: المطابقة بين أول السورة وآخرها يعني بين: {الْكَوْثَرَ} و {الْأَبْتَرُ}، فالكوثر الخير الكثير، والأبتر المنقطع عن كل خير، فهذه السورة مع وجازتها جمعت فنونًا من البلاغة والبيان والبديع، ولولا خوف الإطالة مع كون كتابنا من المختصرات .. لأشبعنا من مباحث بلاغتها ومعانيها أوراقًا وصحائف كثيرة، كالمذهب الكلامي الذي يطول بذكره الكلام. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير هذه السورة الكريمة في اليوم السابع والعشرين من شهر الله المحرم قبيل المغرب من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة الكافرون

سورة الكافرون سورة الكافرون نزلت بعد سورة الكوثر مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة: يا أيها الكافرون بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت سورة يا أيها الكافرون بالمدينة، وآياتها: ست، وكلماتها: ست وعشرون، وحروفها: أربعة وتسعون. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنه سبحانه وتعالى في السورة السابقه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعبادته والشكر له على نعمه الكثيرة بإخلاص العبادة، وفي هذه السورة التصريح بما أشير إليه في السالفة، سميت سورة الكافرون، لذكر لفظ (الكافرون) فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الكافرون فيها آية واحدة منسوخة، وهي قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} نُسخت بآية السيف. فضلها: وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث شريفة تنبه إلى أهمية هذه السورة وعظيم قدرها. فمنها (¬2): ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهذه السورة، وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف. وفي "صحيح مسلم" أيضًا من حديث أبي هريرة ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعًا وعشرين أو بضع عشرة مرة. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)}). ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

ومنها: ما أخرجه الحاكم وصححه عن أُبيِّ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ {سَبِحِ}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)}. ومنها: ما أخرجه محمد بن نصر والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} تُعدل ربع القرآن" وكان يقرأ بهما الذي ركعتي الفجر. ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} كانت له عدلَ ربع القرآن"، ومنها: ما أخرجه الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب" عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} فكأنما قرأ ربع القرآن، ومن قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)} فكأنما قرأ ثلث القرآن". ومنها: ما أخرجه أحمد وابن الضريس والبغوي وحميد بن زنجويه في "ترغيبه" عن شيخ أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فمر برجل يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} فقال: "أما هذا فقد برىء من الشرك، وإذا آخر يقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)}، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بها وجب له الجنة"، وفي رواية "أما هذا فقد غفر له". ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الأنباري في "المصاحف" والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" عن فروة بن نوفل بن معاويةَ الأشجعي عن أبيه أنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال: "اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك" وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن عبد الرحمن بن نوفلٍ الأشجعي عن أبيه مرفوعًا مثله. ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنوفل بن معاوية الأشجعي: "إذا أتيت مضجعك للنوم، فاقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} فإنك إذا قلتها فقد برئت من الشرك". ومنها: ما أخرجه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن الحارث بن جبلة، وقال الطبراني عن جبلة بن حارثة، وهو أخو زيد بن حارثة قال: قلت يا رسول الله

علمني شيئًا أقوله عند منامي، قال: "إذا أخذت مضجعك من الليل، فاقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك". ومنها: ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} عند منامك، فإنها براءة من الشرك". ومنها: ما أخرجه أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرؤون {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} عند منامكم". ومنها: ما أخرجه البزار والطبراني وابن مردويه عن خباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أخذت مضجعك، فاقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} " وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأت فراشه قط إلا قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} حتى يختم، وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لقي الله بسورتين، فلا حساب عليه {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)} ". ومنها: ما أخرجه أبو عبيد في "فضائله"، وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال: من قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}. {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)} في ليلة فقد أكثر وأطاب. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}. أسباب النزول ذكر المفسرون رحمهم الله تعالى: أن هذه السورة نزلت في نفر من قريش، منهم الحارث بن العاص السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وأمية بن خلف في جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: له هلم يا محمد، فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان في جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان في بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت حظك منه، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره، وأنزل الله ردًا على هؤلاء هذه السورة، فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام، وفيه ملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم هذه السورة حتى فرغ منها، فأيسوا منه عند ذلك، وطفقوا يؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة، قال ابن عباس: وفيهم نزل أيضًا قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلَمْتَ آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) ...} السورة كلها.

[1]

التفسير وأوجه القراءة 1 - و {الألف} (¬1) و {اللام} في قوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} للجنس، ولكنها لما كانت الآية خطابًا لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره .. كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك؛ لأن من الكفار عند نزول هذه السورة من أسلم وعبد الله تعالى. قال المفسرون: في مناداتهم (¬2) بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وشوكتهم إيذان بأنه - صلى الله عليه وسلم - محروس منهم، ففيها عَلَم من أعلام النبوة، وفي التعبير بالجمع الصحيح دلالة على قلتهم أو حقارتهم وذلتهم، وهم كفرة مخصوصة كالوليد بن المغيرة وأبي جهل والعاص بن وائل وأضرابهم ممن قد علم الله أنه لا يأتي ولا يتأتى منهم الإيمان أبدًا على ما هو مضمون السورة، فالخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى قوم مخصوصين، فلا يرد أن مقتضى هذا الأمران يقول كل مسلم ذلك لكل جماعة من الكفار، مع أن الشرع ليس حاكمًا به؛ أي: قل لهم يا محمد يا هؤلاء الكفرة الذين علم الله عدم إيمانهم يعني صناديد قريش المذكورين آنفًا. 2 - {لَا أَعْبُدُ} أنا فيما يُستقبل من الزمان {مَا تَعْبُدُونَ}؛ أي: الأصنام التي تعبدونها؛ لأن لا، لا تدخل غالبًا إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما، لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، ألا ترى أن لن تأكيد فيما تنفيه لا، قال الخليل في: لن أصله لا، والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم. 3 - {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}؛ أي: ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي، والمراد: ولا أنتم عابدون عبادة يعتد بها؛ إذ العبادة مع إشراك الأنداد لا تكون في حيز الاعتداد. 4 - {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}؛ أي: وما كنت عابدًا فيما سلف ما عبدتم فيه؛ أي: لم يُعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف يرجى مني في الإِسلام. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[5]

5 - {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}؛ أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته وهو الله تعالى، فليس في السورة تكرار. وقيل: هاتان الجملتان لنفي العبادة حالًا، كما أن الأوليين لنفيها استقبالًا، وإنما لم يقل (¬1): ما عبدت ليوافق ما عبدتم؛ لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام، وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسومًا بعبادة الله ومشتهرًا بكونه عابدًا لله على سبيل الامتثال لأمره يعني ما يقتضيه جعل العبادة صلة للموصول، ثم عدم الموسومية بشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء، فلا يلزم أن لا يكون - صلى الله عليه وسلم - عابدًا لله قبل البعثة، بل يكون ما وقع منه قبلها من قبيل الجري على العادة المستمرة القديمة، وفي "القاموس": كان - صلى الله عليه وسلم - على دين قومه على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم وإساعيل عليهما السلام في حجهم ومناكحهم وبيوعهم وأساليبهم، وأما التوحيد فإنهم كانوا بذلوه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا عليه. انتهى. وإيثار {مَا} في {أَعْبُدُ} على من؛ لأن المراد هو الوصف، كأنه قيل: ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته قال (¬2): الأخفش والفراء، المعنى: لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، قال الزجاج: نفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل، وقيل: إن كل واحد من الجملتين يصلح للحال والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعًا للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} للاستقبال وإن كان صحيحًا على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} للاستقبال؛ لأن الجملة تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات، فدخول النفي عليهما يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحًا للزم مثله في قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} وفي قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

قيل من العكس؛ لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة؟ وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار؛ لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى آخر مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل. وإذا تقرر لك هذا (¬1): فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد واستعمالاتهم التي لا تُنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، وهذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ لأنه يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه، وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل، وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر: يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوْا لِيْ كُلَيْبَا ... يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أيْنَ الْفِرَارُ وقول الآخر: هَلَّا سَأَلْتِ جُمُوْعَ كِلْـ ... ـدَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنَا وقول الآخر: يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ ... خَيْرَ تَمِيْمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمَهْ وقول الآخر: لَا يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِيْ ... ثُلَّاثَ تَحْيَاتٍ وإنْ لَمْ تُكْلَمِ وقول الآخر: ¬

_ (¬1) الشوكاني.

يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرُ ... إِنْ أَكُ دَحْدَاحًا فَأَنْتَ أَقْصَرُ وقول الآخر: فَأيْنَ إِلَى أَيْنَ النَّجَاةُ بِبَغْلَتِي ... أَتَاكِ أَتَاكِ اللَّاحِقُوْنَ احْبِسِ احْبِسِ وقد ثبت عن الصادق المصدوق؛ وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما سألوه من عبادة آلهتهم، قلت التأسيس كما قالوا أولى من حمله على التأكيد، لما في التأسيس من أهمية كل جملة بفإدتها لعلم لم تفده الأخرى، كما أشرنا إليه في سورة الرحمن والمرسلات، وإنما عبر سبحانه بـ {ما} التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك، كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه. والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف، وقيل: إنه أراد الصفة كما مر، كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، وقيل: إن ما، في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة؛ أي: لا أعبد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي، إلخ. انتهى من "الشوكاني". وعبارة أبي حيان هنا: وللمفسرين في هذه الجمل أقوال (¬1): أحدها: أنها للتأكيد، فقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} توكيد لقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}، وقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} ثانيًا تأكيد لقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} أولًا، والتوكيد في لسان العرب كثير جدًّا نثرًا ونظمًا، وفائدة هذا التوكيد: قطع أطماع الكفار، وتحقيق الإخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبدًا. والثاني: أنه ليس للتوكيد، واختلفوا فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد؛ إذ قد تقيَّدت كل جملة بزمان مغاير. ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

وقال أبو مسلم (¬1): {مَا} في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود، و {مَا} في الأُخريين مصدرية؛ أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقى المستأنُف منتظرًا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} أبدًا وما حييت، ثم جاء قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدًا، كالذي كشف الغيب، فهذا كما قيل لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} ولكن {مَا} هنا في قوم معينين، وقوم نوح عموا بذلك، لهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط، بل فيما ذكرته. انتهى. وقد ذكر النحاة: أن دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو اهـ من "البحر". وخلاصة معنى السورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}؛ أي: قل لهم يا محمد (¬2): إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد، أو يحل في شخص، أو يتجلى في صورة معينة، أو نحو ذلك مما تزعمون، وأنا أعبد إلهًا لا مثيل له ولا ند، وليس له ولد ولا صاحبة، ولا يحل في جسم، ولا تُدرك كنهه العقول، ولا تحويه الأمكنة، ولا تمر به الأزمنة، ولا يُتقرب إليه بالشفعاء، ولا تقدم إليه الوسائل، وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد فارق عظيم وبون شاسع، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودي أن يتصف بها. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}؛ أي: إنكم لستم بعابدين إلهي في أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال، وبعد أن نفى الاختلاف في المعبود نفى الاختلاف في العبادة من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لها، أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفضلهم في شيء، فقال: ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) المراغي.

[6]

{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}؛ أي: ولا أنا بعابد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي، قاله أبو مسلم الأصفهاني كما مر. وخلاصة ما سلف: الاختلاف التام في المعبود والاختلاف البين في العبادة، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة؛ لأن معبودي منزه عن الند والنظير، متعال عن الظهور في شخص معين وعن المحاباة لشعب أو واحد بعينه، والذي تعبدونه أنتم على خلاف ذلك، كما أن عبادتي خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة، 6 - ثم هددهم وتوعدهم، فقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ}، وهذه الجملة تقرير لقوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}، وقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}، وأما قوله: {وَلِيَ} - بفتح ياء المتكلم - {دِينِ} - بحذف الياء إذ أصله: ديني - فتقرير لقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}. والمعنى (¬1): إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضًا، كما تطمعون، فلا تعلِّقوا به أمانيكم الفارغة، فإن ذلك من المحال، وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضًا؛ لأنكم علقتموه بالمَحال الذي هو عبادتي لآلهتكم، أو استلامي إياها؛ ولأن ما وعدتموه عين الإشراك، وحيث كان مبنى قولهم: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، على شركة الفريقين في كلتا العبادتين .. كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتمًا؛ أي: إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني، كما في قوله تعالى: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم على أعمالكم، ولي جزائي على عملي؛ لأن الدين هو الجزاء، وقال أبو الليث: وفي هذه الآية دليل على أن الرجل إذا رأى منكرًا أو سمع قولًا منكرًا، فأنكره ولم يقبلوا منه. لا يجب عليه أكثر من ذلك، وإنما عليه مذهبه وطريقه، وتركهم على مذهبهم وطريقهم اهـ. وهذه الآية: منسوخة بآية السيف كما مر، وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأنها أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ. ¬

_ (¬1) روح البيان.

وفي الحديث: "مروا صبيانكم، فليقرؤوا هذه السورة عند المنام، فلا يعرض لهم شيء". ومن خرج مسافرًا فقرأ هذه السور الخمس: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}، {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (1)}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} رجع سالمًا غانمًا، وقرأ الجمهور (¬1): بإسكان الياء من قوله: {وليْ} وقرأ نافع وهشام وحفص والبزي بفتحها، وقرأ الجمهور أيضًا بحذف الياء من ديني وقفًا ووصلًا، وأثبتها نصر بن عاصم وسلام ويعقوب وصلًا ووقفًا، قالوا: لأنها اسم فلا تُحذف، ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسمًا. الإعراب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {يا}: حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصوده في محل النصب على المفعولية مبني على الضم، و {الهاء}: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. {الْكَافِرُونَ}: بدل من {أي}، أو نعت لها، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ {قُل}. {لَا}: نافية. {أَعْبُدُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا، يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ {قُل}. {تَعْبُدُونَ}: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما تعبدونه، ويجوز أن تكون مصدرية، فتكون مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول مطلق. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {أَنْتُمْ}؛ مبتدأ. {عَابِدُونَ}: خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ {عَابِدُونَ}، ووقعت للعقلاء على سبيل التعظيم، وجملة {أَعْبُدُ} صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

أعبده، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر منصوب على أنه مفعول مطلق. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {أَنَا عَابِدٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على ما قبلها. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {عَابِدٌ}، وجملة {عَبَدْتُمْ} صلة لـ {ما} موصولة كانت أو مصدرية. {وَلَا}: {الواو}: عاطفة. {لَا}: نافية. {أَنْتُمْ}: مبتدأ. {عَابِدُونَ}: خبر، والجملة معطوفة على ما قبلها. {مَا}: اسم موصول في محل النصب مفعول {عَابِدُونَ}، وجملة {أعبُدُ} صلة لـ {ما} موصولة أو مصدرية. {لَكُمْ}: خبر مقدم. {دِينُكُمْ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ} مقرَّرة لما قبلها. {وَلِيَ} خبر مقدم. {دِينِ}: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة، دين مضاف، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ {قل}، وإن شئت قلت في إعراب السورة: {قُلْ}: فعل أمر وفاعل مستتر {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ...} إلى آخر السورة مقول محكي لـ {قُلْ}؛ لأن مرادنا لفظها لا معناها، والمقول منصوب بالقول، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الحكاية، والله أعلم. التصريف ومفردات اللغة {قُلْ} أمر مقتطع من مضارعه المجزوم، وأصله: لم يقل، حذف الجازم وحرف المضارعة، فصار {قُلْ} بوزن فل، والمحذوف منه عين الكلمة، يقال: قال يقول قولًا إذا تلفظ بكلمة، والقول: لفظ مفرد وضع لمعنى. {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}: جمع سلامة من كفر، مفرده كافر، والكفر بالضم والسكون ضد الإيمان، ويُفتح كالكُفور والكفران بضمهما، يقال: كفر بنعمة الله من باب نصر، والكفر أيضًا جحود النعمة وهو ضد الشكر، وقد كفره من باب دخل كفرًا وكفرانًا، وفي القاموس: كفر نعمة الله وبها كُفورًا وكفرانًا، جحدها وسترها، وكافَرَه حقه جحده، والمكفَّر كمعظَّم المجحود النعمة مع إحسانه، والكافر الجاحد لأنعم الله تعالى، والجمع كفار وكفرة محركة، وكِفار ككتاب، وهي كافرة من

كوافر، ورجل كَفَّار كشدَّاد وكفور جمع كُفُر بضمتين، وكفر عليه يكفر - من باب ضرب - غطاه، والشيء ستره ككفَّره، والكافر الليل والبحر والوادي العظيم والنهر الكثير والسحاب المظلم والزارع والدرع ومن الأرض ما بعد عن الناس كالكَفْر بالفتح والسكون، والأرض المستوية والغائط الوطىء والنبت وموضع ببلاد هذيل، والظلمة كالكفرة بالفتح والسكون، والداخل في السلاح كالمكفر كمحدِّث، ومنه: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" أو معناه: لا تكفروا الناس، فتكفروا إلى آخر ما في هذه المادة. فائدة: قالوا: وأول من سن الكفر والإباء والاستكبار إبليس اللعين، وأول من سن النسيان والتوبة آدم عليه السلام، وأول من سن القتل قابيل ولد آدم. {لَا أَعْبُدُ} يقال: عبده يعبده - من باب نصر - إذا تذلل له، وأطاع، والعبد الإنسان حرًا كان أو رقيقًا، والعبد أيضًا ضد الحر، والجمع عبيد مثل كلب وكَلِيب، وهو جمع عزيز وأَعبُد وعِباد وعُبْدان بالضم كتمر وتمران، وعبدان بالكسر وتشديد الدال، وعِبْدان بالكسر كجحش وجحشان إلى آخر ما في هذه المادة اهـ "مختار" كما ذكرناه في رسالتنا "سلَّم المعراج على خطبة المنهاج". {مَا تَعْبُدُونَ} و {ما} في هذه السورة يجوز فيها وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الذي، فإن كان المراد بها الأصنام، كما في الأولى والثالثة فالأمر واضح؛ لأنهم غير عقلاء، وما أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري سبحانه، كما في الثانية والرابعة، فاستدل به من جوَّز وقوعها على أولي العلم، ومن منع جعلها مصدرية، والتقدير: ولا أنتم عابدون عبادتي؛ أي: مثل عبادتي، وقال أبو مسلم {مَا} في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود، و {مَا} في الأخريين مصدرية؛ أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فتحصَّل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال. والثاني: أنها كلها بمعنى الذي أو مصدرية، أو الأوليان بمعنى الذي، والأخريان مصدريتان، ولقائل أن يقول: لو قيل: بأن الأولى والثالثة والرابعة مصدرية .. لكان حسنًا حتى لا يلزم وقوع (ما) على أولي العلم، وهو مقتضى قول

من يمنع وقوعها على أولي العلم، كما تقدم. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: خطابهم بهذا الوصف الشنيع الرذيل في محل عزهم وشوكتهم في قوله: {أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إيذانًا بأنه - صلى الله عليه وسلم - محروس منهم. ومنها: التعبير فيه بالجمع الصحيح في من أوزان جمع القلة دلالة على قلتهم أو حقارتهم وذلتهم، وهم كفرة مخصوصة معينون، كما مر. ومنها: طباق السلب في قوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، فالأولى نفي، والثانية إثبات. ومنها: المقابلة بين كل من الجملتين الأوليين: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}؛ أي: في الحال، والمقابلة بين الجملتين الأخريين: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}؛ أي: في الاستقبال، وفي هذه المقابلة نفي لعبادة الأصنام في الحال والاستقبال، وهو من المحسنات البديعية. ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}. ومنها: تقديم المسند على المسند إليه في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} إفادةً للقصر، ويكون القصر فيه قصر إفراد؛ لإفادته قصر كل من الفريقين بعبادة إلهه. ومنها: التكرير في هذه السورة؛ لإفادة التأكيد عند من يقول به. ومنها: إيثار {مَا} في قوله: {مَا أَعْبُدُ} على من إشعارًا بأن المراد منها الوصف، كأنه قيل: ولا أنتم عابدون ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته.

ومنها: جناس الاشتقاق بين: {أَعْبُدُ} و {عَابِدٌ}، وبين {عَبَدْتُمْ} و {عَابِدُونَ}. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الكافرون اليوم التاسع والعشرين من شهر الله المحرم قبيل الغروب من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النصر

سورة النصر سورة النصر، وتسمى سورة التوديع، مدنية بلا خلاف، نزلت بعد سورة التوبة، وهي ثلاث آيات، وسبع عشرة كلمة، وسبعة وسبعون حرفًا. المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (¬1): أنه لما ذكر في السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه ودين الكفار الذي يعكفون عليه .. أشار في هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة. وقال أبو حيان (¬2): مناسبتها لما قبلها: أنه لما كان في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} موادعة جاء في هذه السورة بما يدل على تخويفهم وتهديدهم، وأنه آن مجيء نصر الله وفتح مكة واضمحلال ملة الأصنام، وإظهار دين الله تعالى. فضلها: ومما ورد في فضلها ما تقدم في تفسير سورة الزلزلة أنها تعدل ربع القرآن، وسورة إذا زلزلت تعدل أيضًا ربع القرآن، ومنه ما روي (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ سورة إذا جاء أُعطي من الأجر كمن شهد مع محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة" زادها الله شرفًا، ولكن فيه مقال. تسميتها: وتسمى هذه السورة سورة التوديع، واختُلف في أنهم من أي وجه علموا ذلك، وليس في ظاهرها نعي، فقيل: لأن التقدير: فسبح بحمد ربك فإنك حينئذٍ لاحق بالله وذائق طعم الموت، ما ذاقه من قبلك جميع الرسل، وعند الكمال يرقب الزوال، كما قال الشاعر: إِذَا تَمَّ شَيْءٌ بَدَا تَقْصُهُ ... تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيْلَ تَمّ وقيل: لأنه سبحانه أمره بتجديد التوحيد واستدراك الفائت بالاستغفار، وذلك ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البيضاوي.

مما يلزم عند الانتقال من هذه الدار إلى دار الأبرار، وسميت سورة النصر؛ لذكر النصر فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة النصر كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. أسباب النزول قيل: نزلت منصرَفَهُ - صلى الله عليه وسلم -، من غزوة خيبر، وعاش بعد نزولها سنتين، وقال ابن عمر: نزلت في أوسط أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعدها ثمانين يومًا أو نحوها، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أُنزل بالمدينة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي، في "الدلائل" عن ابن عمر قال: هذه السورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوسط أيام التشريق بمنى، وهو في حجة الوداع {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} حتى ختمها، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها الوداع. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُعيت إلى نفسي وقرب إليَّ أجلي"، وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضًا قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} نُعِيَتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم حبيبة قالت: لما أُنزل {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه الله لم يبعث نبيًا إلا عمر في أمته شطر ما عُمِّر النبي الماضي قبله، فإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل، وهذه لي وعشرون سنة، وأنا ميت في هذه السنة" فبكت فاطمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أول أهلي بي لحوقًا فتبسمت". وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} .. دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة، وقال: "إنه قد نُعيت إلى نفسي"، فبكت ثم

[1]

ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نُعيت إليه نفسه، فبكيت، فقال: "اصبري، فإنك أول أهلي لحاقًا بي فضحكت". وكان الأمر كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلحقت به - رضي الله عنها - بعد ستة أشهر، وقال الزمخشري إنها لما نزلت هذه السورة خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن عبدًا خيَّره الله بين الدنيا ويين لقائه، فاختار لقاء الله، فعلم أبو بكر - رضي الله عنه - فقال: فديناك يا رسول الله بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا". التفسير وأوجه القراءة 1 - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: إذا حصلت إعانته تعالى وإظهاره إياك على أعدائك، فإن (¬1) قلت: لا شك أن ما وقع من الفتوح كان بنصرة المؤمنين، فما وجه إضافتها إلى الله؟ .. قلت: لأن أفعالهم مستندة إلى دواعي قلوبهم، وهي أمور حادثة لا بد لها من محدث، وهو الله تعالى، فالعبد هو المبدأ الأقرب، والله هو المبدأ الأول والخالق للدواعي وما ينبني عليها من الأفعال، والعامل في إذا، هو {سبح}؛ أي: فسبح إذا جاء نصر الله، ولا يمنع الفاء عن العمل على قول الأكثرين، أو فعل الشرط كما سيأتي. {وَالْفَتْحُ}؛ أي: فتح مكة، على أن الإضافة و {اللام} للعهد، وهو الفتح الذي تطمح إليه الأبصار، ولذلك سمي فتح الفتوح، ووقع الوعد به في أول سورة الفتح، وقد سبقت قصة الفتح في تلك السورة، وقيل: جنس نصر الله، ومطلق الفتح على أن الإضافة و {اللام} للاستغراق، فإن فتح مكة لما كان مفتاح الفتوح ومناطها، كما أن نفسَها أمُ القرى وإمامها جعل مجيئه بمنزلة مجيء سائر الفتوح، وعلَّق به أمره - صلى الله عليه وسلم -، وأنهما على جناح الوصول إليه عن قريب. يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًاَ إذا أعانه عليه، قال الواحدي (¬2): قال المفسرون: {إِذَا جَاءَ} ك يا محمد {نَصْرُ اللَّهِ} سبحانه على من عاداك، وهم قريش {وَالْفَتْحُ}؛ أي: فتح مكة، وقيل المراد: نصره - صلى الله عليه وسلم - على قريش من غير تعيين، وقيل: نصره على من قاتله من الكفار، وقيل: هو فتح سائر البلاد، وقيل: هو ما ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني.

[2]

فتحه الله عليه من العلوم. وعبر عن حصول النصر والفتح بالمجيء؛ للإيذان بأنهما متوجهان إليه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: {إِذَا} بمعنى قد، وقيل: بمعنى إذ، وقال الرازي: الفرق بين النصر والفتح: أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان مغلقًا، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف عليه الفتح، أو يقال: النصر: كمال الدين، والفتح: إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة، أو يقال: النصر الظفر، والفتح الجنة. انتهى. وهذا معنى كلامه، ويقال: الأمر أوضح من هذا وأظهر، فإن النصر هو التاييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء، ودخول منازلهم، فظهر من هذا أن كلًا من النصر والفتح في الآية ينبغي أن يحمل على ما هو المطلق، لكني اقتفيت أثر أهل التفسير في تقديم ما هو المقيد، لكنه قول مرجوح تسامح الله عن قائله. 2 - {وَرَأَيْتَ النَّاسَ}؛ أي (¬1): أبصرتهم أو علمتهم، يعني: العرب، و {اللام} للعهد، أو الاستغراق العرفي، جعلوه خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون الخطاب عامًا لكل مؤمن، وحينئذ يظهر جواب آخر من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار، مع أنه لا تقصير له، إذ الخطاب لا يخصه، فالأمر بالاستغفار لمن سواه وإدخاله في الأمر تغليب. {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ}؛ أي: في ملة الإِسلام التي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها، والجملة على تقدير الرؤية بصرية حال من {النَّاسَ}، وعلى تقديرها علمية مفعول ثان. وقال بعضهم: ومما يختلج في القلب أن المناسب لقوله: {يَدْخُلُونَ ...} إلخ أن يُحمل قوله: {وَالْفَتْحُ} على فتح باب الدين عليهم، وقوله: {أَفْوَاجًا} حال من فاعل {يَدْخُلُونَ}؛ أي: يدخلون فيه حال كونهم جماعات كثيرة فوجًا بعد فوج، كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب، وكانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدًا واحدًا أو اثنين اثنين، قال الحسن: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة .. قالت ¬

_ (¬1) روح البيان.

[3]

العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا بلا قتال، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإِسلام، قال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه وفد من اليمن سبع مئة إنسان مؤمنين، قال أبو عمر ابن عبد البر: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإِسلام بعد حُنين منهم من قدم، ومنهم من قدم وافده، وقال ابن عطية: والمراد والله أعلم: العرب عبدة الأوثان، وأما نصارى بني تغلب، فما أسلموا في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أعطوا الجزية. وفي "عين المعاني" {النَّاسَ}: هم أهل البحر، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان يماني والحكمة يمانية"، وقال: وجدت نَفَس ربكم من جانب اليمن؛ أي: تنفيسه من الكرب، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "دخل الناس في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا". 3 - وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} جواب الشرط، وهو (¬1) العامل في {إِذَا}، والتقدير: فسبح يا محمد حال كونك متلبسًا بحمد ربك وقت حصول نصر الله إياك على أعدائك، وحصول فتح البلاد لك ورؤيتك الناس حال كونهم داخلين في دين الله جماعةً جماعة، وقال مكي: العامل في {إِذَا} هو {جَاءَ}، ورجحه أبو حيان، وضعف الأول بان ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها. والتسبيح هنا (¬2): مجاز عن التعجب بعلاقة السببية، فإن من رأى أمرًا عجيبًا يقول: سبحان الله، قال ابن الشيخ: لعل الوجه في إطلاق هذه الكلمة عند التعجب، كما ورد في الأثر: "ولكل أعجوبة سبحان الله" هو أن الإنسان عند مشاهدة الأمر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه وتنفعل نفسه منه، كأنه استقصر قدرة الله، فلذلك خطر على قلبه أن يقول من قدر عليه وأوجده، ثم إنه في هذا الزعم مخطىء، فقال: سبحان الله تنزيهًا لله عن العجز عن خلق أمر عجيب يُستبعد وقوعه؛ لتيقنه بأن الله على شيء قدير. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) روح البيان.

قال السهيلي - رحمه الله تعالى -: والحكمة في اقتران الحمد بالتسبيح أبدًا، نحو قوله: {سبح بحمد ربك}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أن معرفة الله سبحانه تنقسم على قسمين: معرفة ذاته، ومعرفة أسمائه وصفاته، ولا سبيل إلى إثبات أحد القسمين دون الآخر، وإثبات وجود الذات من مقتضى العقل وإثبات الأسماء والصفات من مقتضى الشرع، فبالعقل عُرف المسمى، وبالشرع عُرفت الأسماء، ولا يتصور في العقل إثبات الذات إلا مع نفي سمات الحدوث عنها، وذلك هو التسبيح، ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع، وإنما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول، فنبه العقول على النظر، فعرفت ثم علَّمها ما لم تكن تعلم من الأسماء، فانضاف لها التسبيح والحمد والثناء، فما أمرنا تسبيحه إلا بحمده. انتهى. وقوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} في محل النصب حال من فاعل {سبح}؛ أي: فقل يا محمد سبحان الله حال كونك متلبسًا بحمد ربك؛ أي: فتعجب لتيسير الله ما لم يكن يخطر ببال أحد من أن يغلب أحد على أهل حرمه المحترم، واحمده على جميع صنعه، وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن، ونحو ذلك. وقال بعضهم: والأشبه أن يراد نزهه عن العجز في تأخير ظهور الفتح، واحمده على التأخير وصفه بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا بحِكَم لا يعرفها إلا هو. انتهى. أو المعنى (¬1): فاذكره مسبحًا حامدًا، وزد في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك، أو فصلِّ له حامدًا على نعمه، فالتسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية؛ لأنها تشتمل عليه في الأكثر، روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فتح الكعبة .. صلى صلاة الضحى ثماني ركعات، وحملها بعضهم على صلاة الشكر لا على صلاة الضحى، ¬

_ (¬1) روح البيان.

وبعضهم على أن أربعًا منها للشكر وأربعًا للضحى، أو المعنى: فنزهه عما يقول الظلمة حامدًا له على أن صدق وعده. وحاصل معنى ما تقدم: من أول السورة إلى هنا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}؛ أي (¬1): إذا رأيت نصر الله لدين الحق وانهزام أهل الشرك وخذلانهم، وفتح الله بينك وبين قومك بجعل الغلبة لك عليهم وإعزاز أمرك وإعلاء كلمتك: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ}؛ أي: ورأيت الناس يدخلون في دينك وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادًا، كما كان في بدء أمرك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ أي: إذا تم لك كل ذلك، فنزه ربك وقدسه عن أن يُهمل الحق ويدعه للباطل يتغلب عليه، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به بأن يجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ويتم نعمته عليك ولو كره الكافرون. وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم وشكره على ما منحك من خير والثناء عليه بما هو له أهل، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أهمل الكافرين فلن يضيع أجر العاملين. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار، فقال: {وَاسْتَغْفِرْهُ}؛ أي: واطلب من ربك المغفرة لذنبك هضمًا لنفسك، واستقصارًا لعملك، واستعظامًا لحقوق الله، واستدراكًا لما فَرَط منك من ترك ما هو الأولى. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يرى قصوره عن القيام بحق الله تعالى ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو استغفره لذنبك وللمؤمنين، وهو المناسب لما في سورة محمد، وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، ولك أن تقول: إن في التقديم المذكور تعليم أدب الدعاء، وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسؤول عنه. وقيل: إن (¬2) الاستغفار منه - صلى الله عليه وسلم - ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبَّدَهم الله به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم، وقيل: إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهًا لأمته وتعريضًا بهم، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار، وقيل: إن الله سبحانه أمره ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

بالاستغفار لأمته لا لذنبه؛ أي: واسأل أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر، والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال، ومن ثم أمره به، وهكذا يحدث في نفوس الكملة أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك، والله يتقبله منهم، ثم علل طلب الاستغفار بقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}؛ أي: إنه سبحانه وتعالى كان كثير القبول لتوبة عباده مبالغًا في قبول توبتهم منذ خلق المكلفين، فليكن كل تائب مستغفر متوقعًا للقبول، وذلك لأنه يربي (¬1) النفوس بالمحن، فإذا وجد الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدَّ عزيمتها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال، وهذه الجملة تعليل لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار؛ أي: من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم. وفي اختيار (¬2) {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} على غفارًا مع أنه الذي يستدعيه قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} حتى قيل: وتب مضمر بعده، وإلا لقال: غفارًا تنبيه على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة والندم والعزم على عدم العود، ثم إن مَن أضمر: وتب، يحتمل أنه جعل الآية من الاحتباك، حيث دل بالأمر بالاستغفار على التعليل بأنه كان غفارًا، وبالتعليل بأنه كان توابًا على الأمر بالتوبة؛ أي: استغفره وتب. وذكر البرهان الرشيدي: أن صفات الله تعالى التي على صيغة المبالغة كلها مجاز؛ لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكبر وأكثر مما له وصفاته تعالى منزهة عن ذلك، واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله، وقال الزركشي في "البرهان": التحقيق أن صيغة المبالغة قسمان: أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل. والثاني: بحسب تعدد المفعولات، ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين، وعلى هذا القسم تُنَزَّلُ صفاته ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) روح البيان.

ويُرفع الإشكال، ولهذا قال بعضهم في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع، وقال في "الكشاف": المبالغة في التوبة؛ للدلالة على كثرة من يتوب عليه، أو لأنه بليغ في قبول التوبة بحيث ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة رحمته وكرمه. وخلاصة ما سلف (¬1): إذا حصل الفتح وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق، فقد زال الخوف، فعليك أن تسبح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ما داموا على تلك الكثرة ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة، وقد فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا أن الأمر قد تم ولم يبق إلا أن يلحق بالرفيق الأعلى، فقال فيما روي عنه: أنه قد نُعيت إليه نفسه، وقال الحسن: أعلم الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والتوبة؛ ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اغفر لي إنك أنت التواب. قال قتادة ومقاتل: وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه السورة سنتين. وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ...} فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...} فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ...} فعاش بعدها واحدًا وعشرين يومًا. الإعراب {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. {إذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}: فعل وفاعل ومضاف إليه. {وَالْفَتْحُ}: معطوف على {نَصْرُ}، والمصدر مضاف إلى فاعله، ومفعوله محذوف تقديره: نصر الله إياك والمؤمنين، والجملة الفعلية في محل ¬

_ (¬1) المراغي.

الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق فالجواب الآتي أعني: {فَسَبِّحْ}. وقال أبو حيان: ولا يصح إعمال {فَسَبِّحْ} في {إِذَا} لأجل الفاء؛ لأن فاء الجواب لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، بل العامل في {إِذَا} فعل الشرط المذكور بعدها على الصحيح. {وَرَأَيْتَ النَّاسَ}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة {جَاءَ} على كونه فعل شرط لـ {قُلْ}، ويجوز أن تكون الرؤية إما بصرية، فتكون جملة {يَدْخُلُونَ} حالًا من {النَّاسَ}، وأن تكون علمية، فتكون الجملة مفعولًا ثانيًا لـ {رأيت}، و {فِي دِينِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَدْخُلُونَ}. {أَفْوَاجًا}: حال من فاعل {يَدْخُلُونَ}. {فَسَبِّحْ} {الفاء}: رابطة لجواب إذا وجوبًا، {سبح}: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {بِحَمْدِ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل {سبح}؛ أي: حال كونك متلبسًا بحمد ربك، والجملة الفعلية جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، و {الباء} للمصاحبة، والحمد مصدر مضاف للمفعول. {وَاسْتَغْفِرْهُ}: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على {سبح}. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه، وجملة {كَانَ تَوَّابًا} خبره، وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالاستغفار، و {تَوَّابًا}: خبر {كَانَ}. التصريف ومفردات اللغة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} النصر: العون، يقال: نصره على عدوه وينصره نصرًا إذا أعانه عليه، والاسم النصرة، ونصر الغيث الأرض إذا أعان على إظهار نباتها، ومنع من قحطها، قال شاعرهم: إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر ويقال: استنصره على عدوه إذا سأله أن ينصره عليه. {وَالْفَتْحُ}: الفصل بينه وبين أعدائه، وإعزاز دينه وإظهار كلمته. {أَفْوَاجًا} والأفواج: جمع فوج، وهو الجماعة والطائفة، قال الحوفي: وقياس جمعه: أفْوُج على وزن أفعُل، ولكن استُثقلت الضمة على الواو، فعُدل إلى أفواج، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح، فكما أن قياس فعل صحيحه أن يُجمع على أفعُل لا على أفعال، فكذلك هذا، والأمر في هذا المعتل

بالعكس، القياس فيه أفعال كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب. {وَاسْتَغْفِرْه}؛ أي: اسأله واطلب منه أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك. {تَوَّابًا}؛ أي: كثير القبول لتوبة عباده، وهو من صيغ المبالغة، وقد سبق لك عن الرشيدي: أن صيغة المبالغة كلها في صفات الله مجاز؛ لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يُثبت للشىء أكثر مما كان له أصالة، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك، واستحسنه التاج السبكي. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}؛ أي: حصل نصر الله حيث أطلق اسم المجيء على الحصول، واستعاره له، فاشتق من المجيء بمعنى الحصول جاء بمعنى حصل، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، وإنما تجوَّز عن الحصول بالمجيء؛ للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، فتقرب منها شيئًا فشيئًا، فكأنها سائرة إليها. ومنها: عطف المسبَّب على السبب في قوله: {وَالْفَتْحُ}؛ لأن الفتح مسبَّب عن نصر الله تعالى إياه، وفيه أيضًا إطلاق العام وإرادة الخاص؛ لأن الفتح يشمل جميع الفتوح، ولكن المراد هنا فتح مكة على قول. ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: {نَصْرُ اللَّهِ} كالإضافة في {نَاقَةُ اللَّهِ}، وبيت الله. ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ}؛ لأن لفظ الناس عام، ولكن المراد به هنا العرب. ويقال: إن في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} استعارة مكنية تبعية، شَبَّه المقدور وهو النصر والفتح بكائن حي يمشي متوجهًا من الأزل إلى وقته المحتوم، فشبه الحصول بالمجيء وحذف المشبه به، وأخذ شيئًا من خصائصه، وهو المجيء.

ومنها: المجاز في قوله: {فَسَبِّحْ} فإن التسبيح فيه مجاز عن التعجب بعلاقة السببية، فإن من رأى أمرًا عجيبًا يقول: سبحان الله، وقيل: هو مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية؛ لأن الصلاة تشتمل عليه غالبًا. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة النصر أوائل وقت العشاء من ليلة الثلاثاء الليلة الثانية من شهر صفر من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة المسد

سورة المسد سورة المسد، وتسمى سورة تبَّت وسورة أبي لهب، مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الفتح، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة، قالوا: نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} بمكة. وهي: خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وسبعة وسبعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها: أنه ذكر في السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستيلاء له في الدنيا، والثواب الجزيل في العقبى، وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا، والعقاب في الآخرة. وعبارة أبي حيان هنا: ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله تعالى .. أتبع بذكر من لم يدخل في الدين وخسر، ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان اهـ. التسمية: وسميت سورة المسد: لذكر لفظ المسد فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة المسد كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} .. خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، ونادى بطون قريش، فاجتمع من جميع القبائل خلق كثير حتى جعل الرجل إذا لم يذهب بنفسه يُرسل رسولًا؛ لينظر ما الخبر، وكان في المجتمعين أبو لهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتَكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبًا لك سائر الأيام، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) ...} إلى آخر السورة، وفي رواية: إنه قام بنفض يديه، ويقول: تبًا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ...} إلخ، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيه هذه السورة؛ ليكون مثلًا يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه مطاوعة لهواه، وإيثارًا لما ألفه من العقائد الزائغة والعوائد الباطلة والأعمال الفاسدة، واغترارًا بما عنده من الأموال الوافرة، وبما له من الصولة والمنزلة الشامخة في قلوب الرجال، وأن النسب الحقيقي إنما هو نسب الدين والعقيدة. التفسير وأوجه القراءة 1 - {تَبَّتْ}؛ أي: خسرت وهلكت وخابت {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} تثنية يد، واللهب واللهيب اشتعال النار إذا خلص من الدخان، أو لهبها لسانها, ولهيبها حرها، وأبو لهب، وقد تسكَّن هاؤه أحد أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان من أشد الناس عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان

كثير الإيذاء والبغضة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والازدراء به والتنقيص له ولدينه القويم، وكُني بأبي لهب، لإشراق وجنتيه وتلهبهما ووضاءَتهما، وإلا فليس له ابن يسمى باللهب، وخص اليدين بالتباب؛ لأن أكثر العمل يكون بهما، وقيل: المراد باليدين نفسه، وقد يعبر باليد عن النفس، كما في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}؛ أي: نفسك، والعرب تعبر كثيرًا ببعض الشيء عن كله، كقولهم: أصابته يدا المنايا، كما في قول الشاعر: لَمَّا أَكَبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا ... عَلَيْهِ نَادَى أَلَا مُجِيْرُ وإيثار التباب على الهلاك وإسناده إلى يديه؛ لما روي: أنه لما نزل قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} .. رقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا وجمع أقاربه، فأنذرهم، فقال: "يا بني عبد المطلب يا بني فهر إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال عمه أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا؟ وأخذ بيديه حجرًا ليرميه - صلى الله عليه وسلم - به، فمنعه الله من ذلك حيث لم يستطع أن يرميه، فلا كناية في ذكر اليدين على هذه الرواية، ووجه وصف يديه بالتباب والهلاك ظاهر؛ لرد ما اعتقده وقصده من إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورميه بالحجر. وذكر في "التأويلات الماتريدية" أنه كان كثير الإحسان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: إن كان الأمر لمحمد، فيكون لي عنده يد، وإن كان لقريش فلي عندها لد، فأخبر سبحانه أنها خسرت يده التي كانت عند محمد - صلى الله عليه وسلم - بعناده وتكذيبه له، ويده التي عند قريش أيضًا لخسران قريش، وهلاكهم في يد محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الجملة دعاء عليه بهلاك نفسه وتبابه عن كل خير، ولما كانت اليد هي آلة العمل والبطش، فإذا هلكت وانقطعت وخسرت كان الشخص كأنه معدوم هالك أسند الهلاك إليها، فخسرانها كناية عن خسران الشخص نفسه، وهلاكها كناية عن هلاكه، فإذا دُعي عليه بخسران يديه فقد دُعي عليه بخسران نفسه، فكأنه قال: تب وخسر وهلك أبو لهب وضل عمله وسعيه، ولذلك قال بعد الجملة الدعائية: {وَتَبَّ} فـ {الواو} فيه للاستئناف؛ أي: وقد تب أبو لهب، وتحقق ذلك التباب الذي دُعي به عليه، وحصل، قال الفراء: الأول دعاء عليه بالتباب، والثاني: إخبار عن تحقق ذلك الدعاء وحصوله، فكأنه قال: أهلكه الله سبحانه وتعالى، وقد أهلك فعلًا، كقولهم: أهلك الله فلانًا وقد هلك، والمعنى: أنه قد وقع ما دعا به عليه،

كما قال أبو حيان: والظاهر أن الأول دعاء، والثاني إخبار بحصول ذلك، كما قال الشاعر: جَزَانِيْ جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ ويؤيده قراءة ابن مسعود: {وقد تب} فإن كلمة قد لا تدخل على الدعاء، وقيل: كلاهما إخبار، أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه، وقيل: كلاهما دعاء عليه، ويكون في هذا شبه مجيء العام بعد الخاص، وإن كانت حقيقة اليدين غير مرادة. والمراد هنا (¬1): بيان استحقاقه, لأن يُدعى عليه بالهلاك، فإن حقيقة الدعاء شأن العاجز، والله منزه عن ذلك، وإنما ذكره سبحانه وتعالى بكنيته، مع أن التكنية من باب التكرمة، وهو لا يستحقها؛ لاشتهاره بكنيته، فليست للتكريم، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح؛ إذ فيه الإضافة إلى الصنم؛ لأن اسمه عبد العزى، والعزى من أسماء الصنم، أو للتعريض بكونه جهنميًا؛ لأنه سيصلى نارًا ذات لهب، يعني: أن أبا لهب باعتبار معناه الإضافي يصلح أن يكون كناية عن حاله، وهي كونه جهنميًا؛ لأن معناه باعتبار إضافته مُلابس اللهب، كما أن معنى أبو الخير وأخو الحرب بذلك الاعتبار مُلابس الخير، أو الحرب واللهب الحقيقي لهب جهنم، وهذا المعنى يلزمه أنه جهنمي، ففيه انتقال من الملزوم إلى اللازم، فهي كنية تفيد الذم، فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم، ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف؛ لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح، لا التي تفيد الذم، ولم يشتهر بها صاحبها، أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص، ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام باسمائهم، ولم يكنِ أحدًا منهم اهـ من "البحر". قال في "الإتقان": ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب، ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى؛ أي: الصنم؛ لأنه حرام شرعًا. انتهى. وفيه أن الحرام وضع ذلك لا استعماله، وفي كلام بعضهم: ما يفيد أن الاستعمال حرام أيضًا إلا أن يشتهر بذلك، كما في الأوصاف المنقِّصة كالأعمش ¬

_ (¬1) روح البيان.

والأعرج. وكان بعد نزول هذه السورة لا يشك المؤمن أنه من أهل النار بخلاف غيره، ولم يقل في هذه السورة: قل تبت إلخ؛ لئلا يكون مشافهًا؛ لعمه بالشتم والتغليظ، وان شتمه عمه؛ لأن للعم حرمة كحرمة الأب؛ لأنه مبعوث رحمة للعالمين، وله خلق عظيم، فأجاب الله عنه، وقرأ الجمهور (¬1): {لَهَبٍ} بفتح اللام والهاء، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بإسكان الهاء، وقال الزمخشري: وهذا من تغيير الأعلام، كقولهم: شُمْس بن مالك بالضم. انتهى، يعني: سكون الهاء في {لَهَبٍ} وضم الشين في شمس يعني في قول الشاعر: وَإِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِيْ فَقَاصِدٌ ... بِهِ لابْنِ عَمِّيْ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ فأما في {لَهَبٍ} فالمشهور في كنيته فتح الهاء، وأما شمس بن مالك فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع، كما جاء أذناب خيل شمس، واتفقوا على فتح الهاء في قوله: {ذَاتَ لَهَبٍ}؛ لأنها فاصلة، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة، وروى صاحب الكشاف أنه قرىء: {تبت يدا أبو لهب} بالواو، كما قيل: علي بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان، مع أن القياس الياء؛ لكونه مضافًا إليه، كيلا يغير منه شيء فيشكل على السامع. والحاصل: أن الكنية بمنزلة العلم، والأعلام لا تتغير في شيء من الأحوال، وكان لبعض أمراء مكة ابنان: أحدهما عبدِ الله بالجر، والآخر عبدَ الله بالفتح. قال العلماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة، ودليل واضح على النبوة الصادقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق هذا الكتاب الكريم الذي جاء به من عند ربه، فإنه سبحانه وتعالى قد أخبر عن أبي لهب وزوجته أم جميل بالشقاء وعدم الإيمان, وقد تحقق ذلك منهما, ولم يقيض الله لهما أن يؤمنا كلاهما ولا واحد منهما لا باطنًا ولا ظاهرًا، على بعد الزمان والمسافة بين نزول هذه السورة وانتهاء عصر النبوة الأعز الأيمن، فكانت من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة، وروى الإِمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن رجل يقال له: ربيعة بن عباد، وكان جاهليًا ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[2]

فأسلم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون إليه، ووراءه رجل وضيىء الوجه، أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب. وقال محمد بن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول: إني لمع أبي رجل شاب، انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيىء الوجه، ذو جمة، يقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القبائل، فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن آفيش إلى ما جاء به من البدعة والضلال، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب. وهكذا كان يقف هذا العم الخائب العائب لدين الله موقف الخصم المعاند الجاحد، فاستحق غضب الله ومقته وعذابه، وجعله الله عبرة ومثلًا للمخالفين إلى يوم الدين، ولم تنفعه قرابته القريبة؛ إذ لم يؤمن بهذه الرسالة الخالدة الحبيبة، واستحق أن يقال في: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} (¬1) ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصد عن الحق وينفِّر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحديه، واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه وما جاء به، 2 - ثم ذكر أن ما كان يعتز به في الدنيا من مال ونجاه .. لم يغن عنه من الله شيئًا في الدنيا والآخرة، فقال: {مَا أَغْنَى عَنْهُ}؛ أي: ما دفع عن أبي لهب ما حل به من التباب وما نزل به من عذاب الله {مَالُهُ}؛ أي: ما جمعه من رؤوس أمواله، {وَمَا كَسَبَ}؛ أي: ولا ما كسبه من الأرباح والجاه، أو المراد بقوله: {مَالُهُ}: ما ورثه من أبيه، وبقوله: {وَمَا كَسَبَ} الذي كسبه بنفسه، قال مجاهد: وما كسب من ولد، وولد الرجل من كسبه. والمعنى: أي لم يُفد حينئذ ماله، ولا عمله الذي كان يأتيه في الدنيا من ¬

_ (¬1) المراغي.

معاداته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلبًا للعلو والظهور، فكما أن ذلك لم يُجْدِهِ شيئًا في الدنيا؛ إذ لم يتغلب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل .. لم يفده في الآخرة، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار، أي: لم يُغن (¬1) عنه ماله حين حل به التباب، ولم ينفعه أصلًا على أن {مَا} نافية، أو أي شيءٍ أغنى عنه؟ على أنها استفهامية في معنى الإنكار، منصوبة بما بعدها على أنها مفعول به، أو أيَّ إغناء أغنى عنه؟ على أنها مفعول مطلق، أصل ماله وما كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والأتباع، ولا أحد أكثر مالًا من قارون وما دفع عنه الموت والعذاب، ولا أعظم ملكًا من سليمان عليه السلام وما دفع عنه الموت، والظاهر أن {مَا} الأولى نافية، والثانية موصولة، أو المراد: ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه كما مر آنفًا، أو عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} وقرأ عبد الله (¬2): {وما اكتسب} بتاء الافتعال، قال ابن مسعود لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرباءه إلى الله تعالى .. قال أبو لهب: إن كان ما تقول يابن أخي حقًا، فانا أفتدي نفسي بمالي وولدي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} وقد خاب رجاه (¬3)، وما حصل ما تمناه، فافترس ولده عتيبة - مصغرًا - أسد في طريق الشام، وذلك أن عتيبة بن أبي لهب، وكان تحته ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب - رضي الله عنها - أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدًا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"، فرجع عتيبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلًا، فأشرف عليهم راهب من الدير، فقال: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب: أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا لعتيبة، فجاء الأسد يتخللهم ويتشمم وجوههم، حتى ضرب عتيبة فقتله، وهلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال، والعدسة بثرة تخرج في البدن تشبه العدسة، وهي من جنس ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

[3]

الطاعون تقتل غالبًا، فاجتنبه أهله مخافة العدوى، وكانت قريش تتقيها كالطاعون، فبقي ثلاثًا حتى أنتن، ثم استأجروا بعض السودان واحتملوه ودفنوه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن الكريم. وفي "إنسان العيون": لم يحفروا له حفيرة، ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه، وقولنا: عُتَيبة - بالتصغير -، وأما عُتبة - مكبَّرًا - ومعتب فقد أسلما، قال بعضهم في أولاد أبي لهب: كَرِهْتُ عُتَيْبَةَ إِذْ أَجْرَمَا ... وَأَحْبَبْتُ عُتْبَةَ إِذْ أَسْلَمَا كَذَا مُعْتِبُ مُسْلِمٌ فَاحْتَرِزْ ... وَخَفْ أَنْ تَسُبَّ فَتًى مُسْلِمَا وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، والقبر الذي يُرجم خارج باب الشبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا يومًا، فوجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة، فرصدوا للفاعل، فأمسكوهما بعد أيام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يُرجمان إلى الآن، هذا وما ذُكر من العذاب مآل أمره في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة، 3 - {سَيَصْلَى}؛ أي: سيدخل لا محالة {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}؛ أي: نارًا عظيمة ذات اشتعال وتوقد، وهي نار جهنم؛ أي: سيذوق حر النار ويعذب بلظاها وليس هذا نصًا في أنه لا يؤمن أبدًا حتى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدًا، فيكون مأمورًا بالجمع بين النقيضين، كما هو المشهور، فإن صَلْيَ النار غير مختص بالكفار، فيجوز أن يفهم أبو لهب من هذا أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه، لا لكفره، فلا اضطرار إلى الجواب المشهور من أن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - إجمالًا، لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن، حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر. وقرأ الجمهور (¬1): {سَيَصْلَى} - بفتح الياء وإسكان الصاد وبتخفيف اللام -؛ ¬

_ (¬1) البحر المحيط.

[4]

أي: سيصلى هو بنفسه، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وابن مقسم والأشهب العقيلي وأبو السمال والأعمش ومحمد بن السميفع: {سَيَصْلَى} - بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام -، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير، والمعنى: سيصليه الله تعالى. 4 - وقوله: {وَامْرَأَتُهُ} معطوف على الضمير (¬1) المستتر؛ لكون الفصل بالمفعول؛ أي: وستصلى امرأته نارًا ذات لهب، وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب، عمة معاوية ابن أبي سفيان - رضي الله عنه - واسمها: العوراء بنت حرب، وقيل: اسمها أروى، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان، فتنشرها بالليل في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله يَطَؤُه كما يطأ الحرير، وفي "تفسير أبي الليث": حتى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في شدة وعناء اهـ. كذا قال ابن زيد والضحاك والربيع بن أنس ومرة الهمداني. وقال مجاهد وقتادة والسدي: إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس والعرب: تقول فلان يحطب على فلان إذا نم به، ومنه قول الشاعر إِنَّ بَنِيْ الأَرْزَمِ حَمَّالُوْ الْحَطَبْ ... هُمُ الْوُشَاةُ فِيْ الرِّضَا وَفِيْ الْغَضَبْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ تَتَرَى وَالْحَرَبْ وقال الآخر: مِنَ الْبِيْضِ لَمْ يَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لامَةٍ ... وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ وجعل الحطب في هذا البيت رطبًا؛ لما فيه من التدخين الذي هو زيادة في الشر، ومن الموافقة للمشي بالنميمة. وقرىء (¬2): {مريئته} و {مريته} بالتصغير فيهما وبالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها. وخلاصة ما سلف (¬3): أي خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) البحر المحيط. (¬3) المراغي.

يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جده ولا اجتهاده في ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله ونشر دعوته وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهب وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين فوق تعذيبه في الدنيا بإبطال سعيه ودحض عمله، وسنعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه، وكانت تمشي بالنميمة للإفساد وإيقاد نار الفتنة والعداوة، كما قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)} وستعذب أيضًا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة إطفاءً لدعوة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلاتٍ، وقيل: إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسعدان، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإيذائه. فإن قلت: إنها كانت من بيت العز والشرف، فكيف يليق بها حمل الحطب؟ قلت: إنها لشدة عداوتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تستعين في ذلك بأحد، بل تفعله بنفسها اهـ "صاوي". وقال سعيد بن جبير معنى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} إنها حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: فلان يحتطب على ظهره، كما في قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} وقيل: المعنى: حمالة الحطب في النار، وقرأ الجمهور (¬1): {حمالةُ} بالرفع على الخبرية، على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب، وأما على ما قدمنا من عطف {وَامْرَأَتُهُ} على الضمير في {تصلى} فيكون رفع {حمالة} على النعت {لامرأته}، والإضافة حقيقية؛ لأنها بمعنى المضي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي حمالة، وقرأ عاصم بنصب {حَمَّالَةَ} على الذم، أو الشتم؛ أي: أذم أو أشتم حمالة الحطب، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجميلٍ من أحب شتم أم جميل. انتهى، وقيل: على أنه حال من {امرأته} بناء على أن الإضافة غير حقيقية؛ إذ المراد أنها تحمل يوم القيامة حزمة حطب من ضريع وزقوم، وفي جيدها سلاسل النار، كما ¬

_ (¬1) الشوكاني.

[5]

يعذب كل مجرم بما يناسب حاله في جرمه. وعن قتادة: أنها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها، فعيِّرت بالبخل، فالنصب حينئذ على الشتم حتمًا، وقيل: كانت تمشي بالنميمة وتفسد بين الناس، تحمل الحطب بينهم؛ أي: توقد بينهم النائرة وتورث الشر، والحطب: ما أعد من الشجر شبوبًا، كما في "القاموس"، قيل: الحطب: جمع حاطب كحرس وحارس. والمعنى: تحمل الجناة على الجنايات، وقرأ أبو قلابة: {حاملة الحطب}، 5 - وقوله: {فِي جِيدِهَا}؛ أي: في عنقها، خبر مقدم {حَبْلٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ مَسَدٍ}؛ أي: من ليف: صفة لـ {مسد}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {امرأته}، والجيد - بالكسر - العنق ومقلده، أو مقدمه، كما في "القاموس"، والمسد: ما يفتل منه الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد أو غيرهما، يقال: دابة ممسودة: شديدة الأسر والربط، وقال أبو عبيدة: المسد: هو الحبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال يتكون من شجر ينبت باليمن، تسمى بالمسد، وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها. والمعنى: في عنقها حبل مما مُسِّد وفتل من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون تخسيسًا لحالها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتغضب من ذلك, ويشق عليها، ويغضب بعلها أيضًا، وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجِدَة. وقال مجاهد: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}؛ أي: طوق من حديد، قال مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من حسك، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها، فاختنقت بحبلها حتى هلكت. وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا كانت تعيِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفقر، وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها، فخنقها الله به، فأهلكها وهو في الآخرة حبل من نار، وقال مجاهد وعروة بن الزبير: هو سلسلة من نار تدخل في فيها، وتخرج من أسفلها، وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها يكون في نار جهنم

على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه انتهى. وفي "ينبوع الحياة": إنها لما بلغها سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي متحرقة غضبى، فقالت له: ويحك يا أحمس؛ أي: يا شجاع، أما تغضب أن هجاني محمد، فقال: سأكفيك إياه، ثم أخذ بسيفه وخرج ثم عاد سريعًا، فقالت له: هل قتلته؟ فقال لها: يا أختي أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت: لا والله، قال: فقد كاد ذلك يكون الساعة؛ أي: فإنه رأى ثعبانًا لو قرب منه - صلى الله عليه وسلم - لالتقم رأسه، ثم كان من أمر أبي سفيان الإِسلام، ومن أمر أخته الموت على الكفر، والكل من حكم الله السابق. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول: مَذَمَّمًا أَبَيْنَا ... وَدِيْنَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر .. قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها لن تراني، وقرأ قرآنًا اعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا ورب البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها، وأخرجه البزار بمعناه، وقال: لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد، وفي قصتها قال البوصيري في همزيته: يوم جاءت غضبى تقول أفي مثـ ... ـلِيَ من أحمدَ يقال الهجاءُ فولت وما رأته ومن أيـ ... ـن ترى الشمسَ مقلةٌ عمياءُ ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة

الحطب، فقال: مَاذَا أَرَدْتَ إِلى شَتْمِيْ وَمَنْقَصَتِيْ ... أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمالَةِ الْحَطَبِ غَرَّاءُ شَادِخَةٌ فِي الْمَجْدِ سَامِيَةٌ ... كَانَتْ سَلَيْلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ ولما كانت هذه المجرمة تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - هي وبعض أعدائه من الكفار مذمَّمًا .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صرف الله سبحانه عني، إنهم يسموني مذممًا وأنا محمد، وروي عن أبي عبد الله الحسين - رضي الله عنه - قال: إذا قرأتم {تَبَّتْ} فادعوا على أبي لهب، فإنه كان من المكذبين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله والحكمة ما خص الله أبا لهب بهذه السورة من الكتاب العزيز ولو كان ذكره لمجرد عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذكر غيره كذلك من خصوم النبي وأعدائه الألداء أمثال عقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل وغيرهم من أكابر الأعداء وأئمة الكفر والضلال، ممن كنى عنهم الله سبحانه أحيانًا بأوصافهم، ولم يذكرهم بأسمائهم. وإنما خص أبا لهب بالذكر في سورة مستقلة والتصريح باسمه الكنية؛ لأنه اشتهر بالتكذيب والعداوة، وتعقب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته، ليحبط مساعيه ويصد الناس عن الإقبال على دعوته ورسالة ربه، حتى أصبح خطرًا على الإِسلام، وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس أكثر تسمُّعًا منه من تسمُّعهم من غيره، لذا ضربه الله سبحانه هذه الضربة القاصمة؛ ليجعله عبرة ومثلًا للصاد عن الحق والمنفرة للناس عن دين الله، وفهم ما أنزل على نبيه من الهدى والرشاد، وكل شخص من الناس صنع صنيع أبي لهب، فهو أبو لهب، بل وأشد من أبي لهب؛ إذ أن أبا لهب عم رسول الله وصاحب الغنى والنسب لم يغن عنه ذلك شيئًا، ومن سار سيرته فأولئك هم أبناء لهب، لا تغن عنهم أموالهم ولا أعمالهم شيئًا، وسيُصْلَون ما يصلى أبو لهب من نار ذات لهب، وكل امرأة تنم بين الناس لتفرق كلمتهم وتذهب بهم مذاهب السوء، وتصد عن سبيل الله، وتحارب دعوة الله ودين الله، فهي ممثلة في هذا المثل نازل بها ذلك النكال، وستحشر في نار ذات لهب لا يغني عنها مال ولا نسب. وآيات القرآن كلها عبر وعظات وبراهين ساطعات على عظمة هذا القرآن، وعلى خلود هذه الشريعة الغراء التي ساوت بين الناس، ولم تجعل التفاضل بينهم

إلا بالتقوى، فلا عم ولا خال ولا ولد ولا مال ولا حسب ولا نسب، الكل عند الله سواء، أكرمهم عند الله أتقاهم، فمن آمن واتقى وصدق بالحسنى فسييسره الله لليسرى، وأما من كذب وتولى فسييسره الله للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى. الإعراب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}. {تَبَّتْ} {تب}: فعل ماض، والتاء علامة تأنيث الفاعل. {يَدَا}: فاعل مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى يد. {يَدَا}: مضاف. {أَبِي لَهَبٍ}: مضاف إليه مجرور بالياء، والجملة الفعلية جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. {وَتَبَّ}: {الواو}: استئنافية. {وَتَبَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على {أَبِي لَهَبٍ}، والجملة الفعلية جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بحصول التباب وتحققه له نظير قوله: جَزَانِيْ جَزَاهُ اللهَ شَرَّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِياتِ وَقَدْ فَعَلْ {مَا}: نافية، أو استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل النصب مفعول مقدم لـ {أَغْنَى}. {أَغْنَى}: فعل ماض {عَنْهُ} متعلق {أَغْنَى}. {مَالُهُ}: فاعل {أَغْنَى}، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَمَا}: {الواو}: عاطفة. {مَا}: مصدرية بمعنى كسبه، أو موصولة بمعنى الذي في محل الرفع معطوف على {مَالُهُ}؛ أي: مكسوبه من الأرباح والجاه. {كَسَبَ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {أَبِي لَهَبٍ}، والجملة صلة {مَا} المصدرية؛ أي: أي شيء أغنى عنه ماله وكسبه، أو صلة {مَا} الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: والذي كسبه {سَيَصْلَى}: {السين}: حرف استقبال، {يصلى}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {أَبِي لَهَبٍ}. {نَارًا}: مفعول به. {ذَاتَ لَهَبٍ}: صفة لـ {نَارًا}؛ لأنها مآل كنيته ومثابتها، والجملة الفعلية مستأنفة. {وَامْرَأَتُهُ}: معطوف على الضمير المستتر في {يصلى}، وسوغه الفصل بالمفعول وصفته. {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} - بالنصب - إما منصوب على الذم؛ أي: أذم حمالة الحطب، أو على الحال من {امرأته}، وبالرفع إما صفة للمرأة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر لـ {امرأته} على أنه مبتدأ. {فِي جِيدِهَا}: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. {حَبْلٌ}: مبتدأ مؤخر. {مِنْ مَسَدٍ}: جار

ومجرور صفة لـ {حبل}، والجملة الاسمية في محل النصب حال من {امرأته}. التصريف ومفردات اللغة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} يقال: تب يتب تبًا - من باب رد - كما في "القاموس"، ومن باب ضرب، كما في "المصباح" وقال الزمخشري: والتباب الهلاك، ومنه قولهم: أشابة أم تابة؛ أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه؛ لأنه فيما يروى أخذ حجرًا ليرمي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبارة ابن خالويه ومعناه: خسرت يداه، يقال: تب يتب تبًا فهو تاب، والمفعول به متبوب، والأمر: تُبَّ، وإن شئت كسرت، وللمرأة تُبِّي، ويقال: امرأة تابة؛ أي: عجوز قد هلك شبابها، والتباب الهلاك، قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}. قال عدي: إِذْهَبِي إِنَّ كُلَّ دُنْيَا ضَلاَلٌ ... وَالأَمَانِيُّ عَقْرُهُا لِلتَّبَابْ لَا يَرُوْقَنْكَ صَائِرٌ لِفَنَاهُ ... كُلُّ دُنْيَا مَصِيْرُهُا لِلتُّرَابْ وقال جرير: غُرَادَةُ مِنَ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوْطٍ ... أَلَا تَبًّا لِمَا عَمِلُوْا تَبَابَا وقال كعب بن مالك يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: الْحَقُّ مَنْطِقُهُ وَالْعَدْلُ سِيْرَتُهُ ... فَمَنْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ والتاء الثانية تاء التأنيث؛ لأن اليد مؤنثة، ومعنى تبت يداه؛ أي: تب هو؛ لأن العرب تنسب الشدة والقوة والأفعال إلى اليدين؛ إذ كان بهما يقع كل الأفعال. {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} واللهب واللهيب اشتعال النار إذا خلص من الدخان، أو لهبها لسانها, ولهيبها حرها، كما مر، تَكَنَّى به عبد العزى بن عبد المطلب لإشراق وجنتيه وتلهبها، وإلا فليس له ابن يسمى باللهب. {سَيَصْلَى}؛ أي: يحترق بها، وصَلِيَ من باب تعب، وعبارة ابن خالويه هنا: جيدة، وهي: ويقال: صليت الشاة إذا شويتها، فأنا صال، والشاة مصلية، ومن ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أهديت إليه شاة مصلية، وأجاز الفراء: مَصْلاة؛

لأنك تقول: أصليتها أيضًا. {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} والحطب: ما أُعد من الشجر للوقود. {فِي جِيدِهَا} الجيد: العنق، وجمعه أجياد، والجَيَد - بفتح الياء - طول العنق. {مِنْ مَسَدٍ} المسد ما فُتل من الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد أو غيرهما، وفي "القاموس": المَسْد - بسكون السين - مصدر بمعنى الفتل وبفتحها المحْوَر من الحديد، أو حبل من ليف، أو كل حبل محكم الفتل، والجمع مساد وأمساد، يقال: مسد حبله يمسده مسدًا من باب نصر. {وَامْرَأَتُهُ} وفي حرف ابن مسعود: {مُرَيْئته} مصغرًا، والعرب تقول: هذه مرئتي وامرأتي وزوجي وزوجتي وحنتي وطلتي وشاعتي وإزاري ومحل إزاري وفضلتي وحرثي. قال الشاعر: إِذَا أَكَلَ الْجَرَادُ حُرُوْثَ قَوْمٍ ... فَحَرْثِيْ هَمُّهُ أَكْلُ الْجَرَادِ وتسمى المرأة بينًا، والعرب تكني عن المرأة باللؤلؤة والبيضة والسرحة والأثلة والنخلة والشاة والبقرة والنعجة والودعة والعيبة والقوارير والربض والفراش والريحانة والظبية والدمية - وهي الصورة مع العاج - والنعل والغل والقباء والجارة والمزخة والقومدة، وكنى الفرزدق عن المرأة بالجفن، فجعلها جفنًا لسلاحه، وكانت ماتت وهي حبلى، فقال: وَجَفْنَ سِلَاحٍ قَدْ رُزِئْتْ فَلَمْ أَنُحْ ... عَلَيْهِ وَلَمْ أَبْعَثْ عَلَيْهِ الْبَوَاكِيَا وَفِيْ جَوْفِهِ مِنْ دَارِمٍ ذُوْ حَفِيْظَةٍ ... لَوَ انَّ الْمَنَايَا أَنْسَأَتْهُ لَيَالِيَا البلاغة وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: المجاز المرسل في قوله: {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: هلك أبو لهب. ومنها: الجناس بين {أَبِي لَهَبٍ} وبين {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} فالأول كنية، والثاني وصف للنار. ومنها: الكنية للتصغير والتحقير في قوله: {أَبِي لَهَبٍ} فليس المراد تكريمه، بل تشهيره كأبي جهل. ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} إشعارًا بتحقق وقوعه. ومنها: التهكم والسخرية منها في قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} فقد صورها تصويرًا فيه منتهى الخسة والقماءة، حيث أخبر عنها بأنها تحمل تلك الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسًا لحالها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن جمع ماهن، وهي الخدم؛ لتمتعض من ذلك ويمتعض زوجها، وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجِدَة، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه السخرية، فعيَّر أحدهم الفضل بن العباس بن عُتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال: مَاذَا أَرَدْتَ إِلَى شَتْمِيْ وَمَنْقَصَتِيْ ... أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ غَرَّاءُ شَادِخَةٌ فِيْ الْمَجْدِ سَامِيَةٌ ... كَانَتْ سَلِيْلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ والغراء: البيضاء، والشادخة: المتسعة، وذلك مجازي عن الظهور وارتفاع المقدار، والسليلة مَن سُلَّ من غيره، والمراد بالشيخ أبوها حرب؛ لأنها أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب. وقيل: حمل الحطب حقيقة، وقيل: مجاز عن إثارة الفتنة؛ لأنها كانت نمامة، وإلى شتمي متعلق بمحذوف، أو بأردت على طريق التضمين؛ أي: أي شيء أردته مائلًا أنمت إلى شتمي، أو منضمًا هو إلى شتمي؟ أو ما الذي أردته من شتمي؟ أو مع شتمي، هل أردت أنك شريف لا عيب فيك؟ ويجوز أن تكون إلى بمعنى من، كما قال النحاة: ويمكن أنها للمصاحبة، كما قالوا أيضًا في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا

أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وتعير أصله تتعير، فحذف منه إحدى التاءين. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بمعاني كتابه * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير صورة المسد وقت الشروق من يوم الخميس اليوم الرابع من شهر الله صفر المبارك من شهور سنة 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص التسمية: سورة الإخلاص، وتسمى سورة المعرفة، وسورة الجمال، وسورة التوحيد، وسورة النجاة، وسورة النور، وسورة المعوذة، وسورة المانعة؛ لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار، وسورة البراءة؛ لأنها براءة من الشرك نزلت بعد سورة الناس، وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. ولهذه السورة (¬1) أسماء كثيرة، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى، أنهاها بعضهم إلى عشرين اسمًا: أولها الإخلاص ثانيها التنزيل. ثالثها التجريد؛ لأن من تعلق بها تجرد عن الأغيار. رابعها التوحيد؛ لأنها دالة عليه. خامسها النجاة لنجاة قارئها. سادسها الولاية؛ لأن من تعلق بها أعطاه الله الولاية. سابعها النسبة لقولهم في السؤال: انسب لنا ربك. ثامنها المعرفة؛ لأن من فهمها عرف الله تعالى. تاسعها الجمال؛ لدلالتها على جمال الله تعالى؛ أي: اتصافه بالكمال وتنزيهه عن النقائص. عاشرها: المقشقشة؛ أي: المبرئة من الشرك والنفاق. الحادي عشر المعوِّذة؛ أي: المحصنة لقارئها من فتن الدنيا والآخرة. الثاني عشر الصمد، لذكره فيها. الثالث عشر الأساس؛ لأنها أصل الدين، وفي الحديث: أسست السموات والأرضون السبع على قل هو الله أحد". الرابع عشر المانعة؛ لأنها تمنع فتنة القبر وعذاب النار. الخامس عشر سورة المحتضر؛ لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قُرئت. السادس عشر المنفرة؛ لأن الشياطين تنفَّر عند قراءتها. السابع عشر سورة البراءة؛ لأنها براءة من الشرك. الثامن عشر المذكِّرة؛ لأنها تذكر العبد خالص التوحيد. التاسع عشر المنورة؛ لأنها تنور القلب. العشرون سورة الإنسان؛ لأنه لا غنى له عنها. وآياتها أربع، وكلماتها: خمس عشرة كلمة، وحروفها سبعة وأربعون حرفًا. ¬

_ (¬1) الصاوي.

ومناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (¬1) فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو عمه أبو لهب، وما كان يقاسي من عباد الأوثان الذين اتخذوا مع الله آلهة .. جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد. وقال بعضهم: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذم فيما قبلها أعداء أهل التوحيد وأعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. بيَّن في هذه حقيقة التوحيد الذي هو أساس الدين ومبنى أركانه، وسميت سورة الإخلاص؛ لدلالتها على إخلاص العمل لله وتصفيته من الإشراك به. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الإخلاص كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها (¬2): وورد في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة صحيحة: فمنها: ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن"، وفي رواية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"، فشق ذلك عليهم، فقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله، فقال: "قل هو الله أحد، الله الصمد، ثلث القرآن". ومنها: ما أخرجه مسلم عن أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من القرآن". ومنها: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} حتى ختمها". ومنها: ما أخرج أبو عبيد في فضائلها وأحمد والنسائي في "اليوم والليلة" وابن منيع ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء في "المختارة" عن أُبيِّ بن كعب ¬

_ (¬1) البحر المحيط. (¬2) الخازن.

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فكأنما قرأ ثلث القرآن"، قال النووي - رحمه الله تعالى -: معنى كونها تعدل ثلث القرآن أن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات الله تعالى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} متمحضة للصفات، فهي ثلث القرآن، وجزء من ثلاثة أجزاء اهـ. وقيل معناه: أن ثواب قراءتها مرة يتضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف، وقيل غير ذلك. ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا في سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك"؟ فسألوه، فقال؛ لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال: "أخبروه أن الله تعالى يحبه" هذا لفظ البخاري في كتاب "التوحيد". وأخرج البخاري أيضًا في كتاب الصلاة من حديث أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة، فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى، قال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركت، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة"؟ فقال: إني أحبها، قال: "حبك إياها أدخلك الجنة" وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري. تتمة في فضائل هذه السورة: عن سهل (¬1) بن سعد - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشكا إليه الفقر، فقال: "إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه ¬

_ (¬1) الصاوي.

أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك، واقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مرة واحدة"، ففعل الرجل ذلك فأدر الله عليه رزقًا حتى أفاض على جيرانه". وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الفجر، إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذ ولو اجتهد الشيطان، وفي الحديث: "أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة واحدة"، فقيل: يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال: "أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات". ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ قل هو الله أحد عشر مرة بني له قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاثة قصور في الجنة". قال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله إذًا تكثر قصورنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أوسع من ذلك". ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة". ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ قل هو الله أحد مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة مرة بني الله له اثني عشر قصرًا في الجنة، فإن قرأها مئة مرة كفَّر الله عنه ذنوب خمسين سنة ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها مئتي مرة كفر الله عنه مئة سنة، ومن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له". ومنها: أن من قرأها مئة ألف فقد اشترى نفسه من الله، ونادى مناد من قبل الله تعالى في سمواته وفي أرضه، ألا إن فلانًا عتيق الله، فمن كان له قبله بضاعة فليأخذها من الله عَزَّ وَجَلَّ، فهي عتاقه من النار، لكن بشرط أن لا يكون عليه حقوق العباد أصلًا أو عليه وهو عاجز عن أدائها، أما من قدر عليه فهو كالمستهزىء بربه؛ لما ورد في الحديث: "يا داود: قل للظلمة لا يذكروني، فإنهم إن ذكروني ذكرتهم وذكري لهم أن ألعنهم"، وفي أسانيد بعضها مقال، ولكن

ذكرناها استئنافًا لفضل السورة والله أعلم. فوائدها: ومما ورد في فوائدها: ما أخرجه ابن الضريس والبزار والبيهقي في "الشعب" عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مئتي مرة غُفر له ذنب مئتي سنة". قال البزار: لا نعلم، رواه عن أنس إلا الحسن ابن أبي جعفر والأغلب بن تميم، وهما يتقاربان في سوء الحفظ. ومنها: ما أخرجه أحمد والترمذي وابن الضريس والبيهقي في "سننه" عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أحب هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حبك إياها أدخلك الجنة". ومنها: ما أخرجه محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} خمسين مرة غفر له ذنوب خمسين سنة" وإسناده ضعيف. ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن عدي والبيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مئتي مرة كتب الله له ألفًا وخمس مئة حسنة، ومُحي عنه ذنوب. خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين" وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعفه البخاري وغيره. ولفظ الترمذي "من قرأ في يوم مئتي مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مُحي عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين". وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور. ومنها: ما أخرجه الترمذي ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد أن ينام على فراشه من الليل، فنام على يمينه، ثم قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مئة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب: يا عبدي على يمينك ادخل الجنة"، وفي إسناده أيضًا حاتم بن ميمون المذكور. قال الترمذي بعد إخراجه غريب من حديث ثابت، وقد روي من غير هذا

الوجه عنه، وعن أبي هريرة قال أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وجبت" قلت: وما وجبت؟ قال: "الجنة" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب صحيح والله أعلم. وفي الباب أحاديث كثيرة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف أعرضنا عن ذكرها؛ لئلا يطول الكتاب، وفيما ذكرنا كفاية. ومن فوائد هذه السورة أيضًا (¬1): أن الاشتغال بقراءتها يفيد الاشتغال بالله، وملازمة الإعراض عما سوى الله تعالى، وهي متضمنة تنزيه الله تعالى وبراءته عن كل ما لا يليق به؛ لأنها مع قصرها جامعة لصفات الأحدية والصمدانية والفردانية وعدم النظير. والله سبحانه وتعالى أعلم * * * ¬

_ (¬1) الخازن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}. أسباب النزول سبب نزول هذه السورة (¬1): ما روى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامر بن الطفيل، فقال له عنهم: شققت عصانا - فرقت كلمتنا -، وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرًا أغنيناك، وإن كنت مجنونًا داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجناكها, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته" فأرسلوه ثانية، وقالوا: قل له بيِّن لنا جنس معبودك، أمن ذهب أم من فضة؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة الكريمة، فقالوا له: ثلاث مئة وستون صنمًا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق، فنزلت: {وَالصَّافَّاتِ} إلى قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} فأرسلوه أخرى، وقالوا: بيِّن لنا أفعاله، فنزل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. وأخرج (¬2) أحمد والبخاري في "تاريخه" والترمذي وابن جرير وابن خزيمة وابن أبي عاصم في "السنة" والبغوي في "معجمه" وابن المنذر وأبو الشيخ في "العظة" والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن أبيِّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) ...} إلخ ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفوًا أحد، قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء، ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلًا، ولم يذكر أبيًا، ثم قال: وهذا أصح. ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) الشوكاني.

[1]

وأخرج أبو يعلى وابن المنذر والطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} إلى آخر السورة، وحسَّن السيوطي إسناده، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ في "العظة" عن ابن مسعود قال: قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس: أن اليهود جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم: كعب بن الأشرف وحُيَيُّ بن أخطب، فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ} فيخرج منه الولد {وَلَمْ يُولَدْ} فيخرج من شيء. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قُلْ} يا محمد لمن سألك عن صفة ربك {هُوَ}؛ أي: ربي الذي سألتموني عن صفته ونسبه {اللَّهُ}؛ أي: المعبود المستحق للعبادة من جميع المخلوقات الجامع لصفات الكمال كلها، المنزه عن صفات النقائص كلها هو {أَحَدٌ}؛ أي: واحد لا كثرة في ذاته ولا في صفاته، فهو ليس بمركب من جواهر مختلفة، ولا من أصول متعددة غير مادية، فهو الواحد المنزه عن التركيب والتعدد؛ لأن التعدد في الذات مستلزم لافتقار المجموع إلى تلك الأجزاء، والله لا يفتقر إلى شيء، فالضمير في قوله: {قُلْ هُوَ} يحتمل عوده إلى المسؤول عنه؛ أي: الذي سألتم عنه هو الله، فالضمير حينئذ مبتدأ، و {اللَّهُ} خبره، و {أحد} بدل منه، وإبدال النكرة المحضة من المعرفة يجوز عند حصول الفائدة على ما ذهب إليه أبو علي الفارسي؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عامر: إلى من تدعونا يا محمد؟ فقال: إلى الله تعالى، قال: صفه لنا، أمن ذهب أم من فضة أم من حديد أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، وأهلك الله أربد بالصاعقة، وعامر بن الطفيل بالطاعون، وقيل: نزلت بسبب سؤال النصارى، روي عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك، أمن ¬

_ (¬1) الخازن.

زبرجد أو ياقوت أو ذهب أو فضة؟ فقال: إن ربي ليس من شيء؛ لأنه خالق الأشياء، فنزل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: الله الصمد، فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا، فنزل {لَمْ يَلِدْ} كما ولدت مريم و {وَلَمْ يُولَدْ} كما وُلد عيسى، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}؛ أي: ليس له نظير من خلقه، وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله تعالى أنزل صفته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو، وهل يأكل ويشرب، ومن ورث ومن يرثه؟ فنزلت هذه السورة، ويحتمل عوده إلى الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، وارتفاعه بالابتداء، وخبره الجملة، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأنها عين الشأن الذي عبر عنه بالضمير؛ أي: الله أحد هو الشأن هذا، أو هو أن الله أحد، والحكمة في تصدير الجملة بضمير الشأن التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها، مع أن في الإبهام ثم التفسير مزيد تقرير، والله علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لمعاني الأسماء الحسنى كلها، والأحد اسم لمن لا يشاركه شيء في ذاته، كما أن الواحد اسم لمن لا يشاركه شيء في صفاته يعني: أن الأحد هو الذات وحدها بلا اعتبار كثرة فيها، فأثبت له الأحدية التي هي الغنى عن كل ما عداه، وذلك من حيث عينه وذاته من غير اعتبار أمر آخر، والواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات. وعبارة الشوكاني هنا قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} الضمير يجوز أن يكون عائدًا إلى ما يفهم من السياق؛ لما قدمنا من بيان سبب النزول، وأن المشركين قالوا: يا محمد انسب لنا ربك، فيكون مبتدأ، و {اللَّهُ} مبتدأ ثان، و {أَحَدٌ} خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول، ويجوز أن يكون {اللَّهُ} بدلًا من {هُوَ}، والخبر {أَحَدٌ}، ويجوز أن يكون {اللَّهُ} خبرًا أولًا، و {أَحَدٌ} خبرًا ثانيًا، ويجوز أن يكون {أَحَدٌ} خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هو أحد، وبجوز أن يكون {هُوَ} ضمير شأن؛ لأنه موضع تعظيم، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه، والأول أولى. قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله، والمعنى: إن سألتم تبيين نسبته هو الله، قيل: وهمزة {أَحَدٌ} بدل من الواو، وأصله واحد، وقال أبو البقاء: همزة

[2]

{أَحَدٌ} أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن {أَحَدٌ} يفيد العموم دون واحد. ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال رجل أحد ولا درهم أحد، كما يقال: رجل واحد ودرهم واحد، قيل: والواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل فيه، فإذا قلت: لا يقاومه واحد جاز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك: لا يقاومه أحد، وفرق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد، وأحد لا يدخل فيه، ورد عليه أبو حيان بأنه يقال: أحد وعشرون ونحوه، فقد دخل في العدد، وهذا كما ترى. ومن جملة القائلين بالقلب الخليل. وقرأ الجمهور: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} بإثبات {قُلْ}، وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي {هو الله أحد} بدون {قُلْ} وكذا في المعوذتين؛ لأنه توحيد، والأخريان تعوذ، فيناسب أن يدعو بهما وأن يؤمر بتبليغهما، وقال بعضهم: إنما أثبت في المصحف {قُلْ} والتزم في التلاوة مع أنه ليس من دأب المأمور بقل أن يتلفظ في مقام الائتمار إلا بالمقول؛ لأن المأمور ليس المخاطب به فقط، بل كل واحد ابتلي بما ابتلي به المأمور، فأثبت ليبقى على مر الدهور منا على العباد، وقرأ الأعمش: {قل هو الله الواحد} وقرأ الجمهور: بتنوين {أَحَدٌ} وهو الأصل، وقرأ زيد بن علي وأبان بن عثمان ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن إسحاق وأبو السمال وأبو عمرو في رواية يونس ومحبوب والأصمعي واللؤلؤي وعبيد وهارون عنه: {أحد الله} بحذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين لملاقاته مع لام التعريف، فيكون ترك التنوين لأجل الفرار من التقاء الساكنين، ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأول منهما بالكسر، وقيل: حذفه للخفة، كما في قول الشاعر: عَمْرُو الَّذِيْ هَشَمَ الثَّرِيْدَ لِقَوْمِهِ ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْلِتُوْنَ عِجَاف بحذف تنوين عمرو للتخفيف 2 - {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} الاسم الشريف مبتدأ، و {الصَّمَدُ} خبره، و {الصَّمَدُ} هو الذي يصمد إليه في الحاجات؛ أي: يقصد لكونه قادرًا على قضائها، فهو فعل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض؛ لأنه مصمود إليه؛ أي: مقصود إليه، قال الزجاج: الصمد: السند الذي انتهى إليه

السؤدد، فلا سيد فوقه. قال الشاعر: أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِيْ أَسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسعُوْدٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ وقيل: معنى الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول، وقيل: معنى الصمد ما ذكره بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد، وقيل: هو المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد، وقيل: هو المقصود في الرغائب، والمستغاث به في المصائب، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأول، وقيل: هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقيل: هو الكامل الذي لا عيب فيه، وقال الحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعطاء وعطية العوفي والسدي: الصمد هو المصمت الذي لا جوف له، كما سيأتي بسطه نقلًا عن "الخازن"، ومنه قول الشاعر: شِهَابُ حُرُوْبٍ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِس يَعْلِكْنَ الشَّكِيْمَ الْمُصَمَّدَا وهذا لا ينافي القول الأول؛ لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد، ثم استُعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج، ولهذا أطبق على القول الأول أهل اللغة وجمهور أهل التفسير، ومنه قول الشاعر: عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُم قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وقال الزبرقان بن بدر: سِيْرُوْا جَمِيْعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَاعْتَمِدُوا ... وَلَا رَهِيْنَةَ إِلَّا سَيِّدٌ صَمَدُ وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك، فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية، وحذف العاطف من هذه الجملة؛ لأنها كالنتيجة للجملة الأولى، وقيل: إن الصمد صفة للاسم الشريف، والخبر هو ما بعده، والأول أولى؛ لأن السياق يقتضى استقلال كل جملة، فمعنى قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}؛ أي (¬1): هو الله الذي يقصده العباد ويتوجهون إليه لقضاء ما أهمتهم دون واسطة إلى ¬

_ (¬1) المراغي.

[3]

شفيع، وبهذا أبطل عقيدة مشركي العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء، وعقيدة غيرهم من أهل الأديان الأخرى الذين يعتقدون بأن لرؤوسهم منزلة عند ربهم ينالون بها التوسط لغيرهم في نيل مبتغاهم فيلجؤون إليهم أحياء وأمواتًا، ويقومون عند قبورهم خاضعين خاشعين، كما يخشعون لله أو أشد خشية. وفي "الخازن" (¬1): قال ابن عباس: الصمد الذي لا جوف له، وبه قال جماعة من المفسرين، ووجه ذلك من حيث اللغة أن الصمد الشيء المصمد الصلب الذي ليس فيه رطوبة ولا رخاوة، ومنه يقال لسداد القارورة: الصماد، فإن فُسر الصمد بهذا كان من صفات الأجسام ويتعالى الله جل وعز عن صفات الجسمية، وقيل: وجه هذا القول أن الصمد الذي ليس بأجوف معناه: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وهو الغني عن كل شيء، فعلى هذا الاعتبار هو صفة كمال، والقصد بقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} التنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا له الإلهية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} وقيل: {الصَّمَدُ} الذي ليس بأجوف شيئان أحدهما دون الإنسان وهو سائر الجمادات الصلبة، والثاني أشرف من الإنسان، وأعلى منه وهو الباري جل وعلا. انتهى. وعبارة "النسفي": والمعنى هو (¬2) الله تعرفونه، وتقرون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد لا شريك له، وهو الذي يصمد إليه، ويقصد كل مخلوق ولا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم انتهى. 3 - ثم صرح ببعض أحكام جزئية مندرجة تحت الأحكام السابقة (¬3)، فقيل: {لَمْ يَلِدْ} تنصيصًا على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح وعزير، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي حيث قال: لم يلد من غير أن يقال: لن يلد، أو لا يلد؛ أي: لم يصدر منه سبحانه وتعالى ولد؛ لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ولا يفتقر إلى ما يعينه أو ¬

_ (¬1) الخازن. (¬2) النفي. (¬3) روح البيان.

[4]

يخلفه؛ لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه. فإن قلت: لم قال في هذه السورة: {لَمْ يَلِدْ} وفي سورة بني إسرائيل {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}؟. أجيب: بأن النصارى فريقان: منهم من قال عيسى ولد الله حقيقة، فقوله: {لَمْ يَلِدْ} إشارة إلى الرد عليه، ومنهم من قال: اتخذه تشريفًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا تشريفا، فقوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إشارة إلى الرد عليه. {وَلَمْ يُولَدْ}؛ أي: لم يصدر (¬1) عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه سابقًا أو لاحقًا، وقال بعضهم: الوالدية والمولودية لا تكونان إلا بالمثلية، فإن المولود لا بد أن يكون مثل الوالد، ولا مثلية بين هويته الواجبة وهوياتنا الممكنة. انتهى. وقال البقلي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} أو: لم يكن هو محل الحوادث ولا الحوادث محله، والتصريح بأنه لم يولد مع كونهم معترفين بمضمونه، لتقرير ما قبله، وتحقيقه بالإشارة إلى أنهما متلازمان؛ إذ المعهود أن ما يلد يولد ومالا فلا، ومن قضية الاعتراف بأنه لم يولد، الاعتراف بأنه لا يلد، وفي "كشف الأسرار": قدم ذكر {لَمْ يَلِد}؛ لأن من الكفار من ادعى أن له ولدًا، ولم يدع أحد أنه مولود، وقال أبو الليث: {لَمْ يَلِد} يعني: لم يكن له ولد يرثه {وَلَمْ يُولَدْ} يعني لم يكن له والد يرث ملكه 4 - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} سبحانه وتعالى {كُفُوًا}؛ أي: مماثلًا في ذاته وصفاته وأفعاله {أَحَدٌ} من المخلوقات، وقوله: {لَهُ} صلة لـ {كُفُوًا} قدمت عليه مع أن حقها التأخر عنه للاهتمام بها؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى؛ أي: لم يكافئه ولم يماثله ولم يشاكله، بل هو خالق الأكفاء، ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح نفيًا للصاحبة، وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل، وهذه (¬2) الجملة مقررة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفًا بالصفات المتقدمة كان متصفًا بكونه لم يكافئه أحد، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء، ولعل ربط هذه الجمل الثلاث بالعاطف؛ لأن المراد منها نفي أقسام الأمثال، فهي جملة واحدة منبه عليها بالجمل؛ أي: فهو (¬3) تعالى الأول الذي لم ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) الخازن.

يتقدمه والد كان عنه، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه، ومن كان كذلك فهو الذي لم يكن له كفوًا أحد؛ أي: ليس له من خلقه مثل ولا نظير ولا شبيه، فنفى عنه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} العديل والنظير والصاحبة والولد، واعلم أن الكفؤ يعم الشبيه والنظير والمثيل، فالمثيل هو المشارك لك في جميع صفاتك، والشبيه هو المشارك في غالبها، والنظير هو المشارك في أقلها، والله منزه عن ذلك كله. وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". وقرأ الجمهور (¬1): {كُفُوًا} - بضم الكاف والفاء وتسهيل الهمزة - وقرأ الأعوج وسيبويه ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء، وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واوًا وصلًا ووقفًا، وقرأ نافع في رواية عنه: {كفأ} بكسر الكاف وفتح الفاء من غير مد، وقرأ سليمان بق علي بن عبد الله بن العباس كذلك؛ أي: بكسر الكاف وفتح الفاء، كقول النابغة: لَا تَقْذِفَنِّيْ بِرُكْنٍ لَا كِفَاءَ لَهُ والخلاصة (¬2): أَنّ السورة تضمنت نفي الشرك بجميع أنواعه، فقد نفى الله سبحانه عن نفسه أنواع الكثرة بقوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} ونفى عن نفسه أنواع الاحتياج بقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} ونفى عن نفسه المجانسة والمشابهة لشيء بقوله: {لَمْ يَلِد} ونفى عن نفسه الحدوث والأولية بقوله: {وَلَمْ يُولَدْ} ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

الإعراب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {هُوَ}: ضمير الشأن تفسره الجملة المذكورة بعده في محل الرفع مبتدأ أول. {اللَّهُ}: مبتدأ ثان. {أَحَدٌ}: خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وجملة الأول في محل النصب مقول {قُلْ}، أو هو ضمير عائد على المسؤول عنه المعلوم من السياق في محل الرفع مبتدأ. {اللَّهُ}: خبره، أو خبر ثان له، أو بدل من الجلالة، وإن شئت قلت: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر السورة مقول محكي لـ {قُلْ}. {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}، وترك العطف هنا؛ لأن هذه الجملة مؤكِّدة ومقررة لما قبلها، وكذلك ترك العطف في قوله: {لَمْ يَلِدْ}؛ لأنه مؤكد للصمدية؛ لأن الغني عن كل شيء المحتاج إليه كل ما سواه لا يكون والدًا ولا مولودًا. {لَمْ يَلِدْ}: جازم وفعل معلوم مجزوم وفاعل مستتر يعود على {اللَّهُ}، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ} مؤكدة لما قبلها. {وَلَمْ يُولَدْ}: جازم وفعل مضارع مجهول مجزوم، ونائب فاعل مستتر يعود على {اللَّهُ} معطوف على {لَمْ يَلِدْ}. {وَلَمْ يَكُنْ}: {الواو}: عاطفة {لَمْ يَكُنْ}: جازم وفعل ناقص مجزوم معطوف على {لَمْ يَلِدْ} أيضًا. {لَهُ} متعلق بـ {كُفُوًا} أو حال منه، وقدم عليه للاهتمام به؛ إذ فيه ضمير الباري سبحانه. {كُفُوًا}: خبر {يَكُنْ} مقدم على اسمها لمراعاة الفواصل. {أَحَدٌ}: اسمها مؤخر عن خبرها، وهناك أقوال متلاطمة في إعراب هذه الجملة لا طائل تحتها. التصريف ومفردات اللغة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}؛ أي: فرد في ذاته وصفاته لا يتجزأ، وهمزة {أَحَدٌ} بدل من واو؛ لأنه من الوحدة، وإبدال الهمزة من الواو المفتوحة قليل، وتقدم الفرق بين أحد هذا، وأحد المراد به العموم، فإن همزة ذاك أصل بنفسها، ونقل أبو البقاء أن همزة {أَحَدٌ} هنا غير مقلوبة، بل أصل بنفسها، كأحد المراد به العموم والمعروف الأول، وقال مكي: إن أحدًا أصله: واحد، فأُبدلت الواو

همزة، فاجتمع ألفان؛ لأن الهمزة تشبه الألف، فحُذفت إحداهما تخفيفًا. فإن قلت: كيف ذُكر {أَحَدٌ} في الإثبات مع أن المشهور أنه يُستعمل بعد النفي، كما أن الواحد لا يُستعمل إلا بعد الإثبات، يقال في الدار واحد، وما في الدار أحد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وقوله: {اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ}، وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. فالجواب: قال ابن عباس - رضي الله عنهما - إنه لا فرق بينهما في المعنى، واختاره أبو عبيدة، ويؤيده قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} وعليه فلا يختص أحدهما بمحل دون آخر، وإن اشتهر أحدهما استعمالًا في النفي، والآخر في الإثبات، ويجوز أن يكون العدول هنا عن المشهور رعاية للفاصلة بعد، فدل بقوله: {اللَّهُ} على صفات الكمال، وبالأحد على صفات الجلال اهـ "كرخي". {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}؛ أي: المصمود المقصود في الحوائج، فهو فَعَل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض، والنَّقَض بمعنى المنقوض، وإنما عرّفه بإدخال أل عليه دون {أَحَدٌ}؛ لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته، وتكرير لفظ {اللَّهُ}؛ للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية، وإنما خلت هذه الجملة من العاطف؛ لأنها كالنتيجة للأولى؛ أي: كالدليل عليها اهـ "البيضاوي". {لَمْ يَلِدْ} من ولد يلد - من باب وعد يعد - أصله يَوْلِد بفتح الياء وكسر اللام؛ لأنه معلوم فحذفوا الواو؛ لوقوعها بين عدوتيها الياء والكسرة. {كُفُوًا} بوزن فعل، وكفيئًا على وزن فعيل، وكفاء على وزن فعال بمعنى واحد، والكفء المثل والنظير، وقال أبو حيان بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء وبضم الكاف مع ضم الفاء، يقال: هذا كفاؤه وكفؤه بمعنى مثله، وكافأ فلانًا إذا ماثل. البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: تصدير الجملة بضمير الشأن في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}؛ للتنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع أن في الإبهام ثم التفسير مزيد تقرير لمدلولها. ومنها: تعريف الطرفين في قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}؛ لإفادة التخصيص. ومنها: الفصل - أي - ترك العطف في جملة قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} إشعارًا بأنها مقرَّرة مؤكدة لما قبلها، وكذلك ترك العطف في قوله: {لَمْ يَلِدْ}؛ لأنه مؤكد لمعنى الصمدية كما مر، وقد أشار صاحب "الجوهر المكنون" إلى مواضع الفصل بقوله: الْفَصْلُ تَرْكُ عَطْفِ جُمْلَةٍ أتَتْ ... مِنْ بَعْدِ أُخْرَى عَكْسَ وَصْلٍ قَدْ ثَبَتْ فَافْصِلْ لَدَى التَّوْكِيْدِ وَالإِبْدَالِ ... لِنُكْتَةٍ وَنِيَّةِ السُّؤَالِ وَعَدَمِ التَّشْرِيْكِ فِيْ حُكْمٍ جَرَى ... أَوِ اخْتِلَافٍ طَلَبًا وَخَبَرَا وَفَقْدِ جَامِعٍ وَمَعْ إِيْهَامِ ... عَطْفٍ سِوَى الْمَقْصُوْدِ في الْكَلَامِ ومنها: الوصل بين الجمل الثلاث الأخيرة أعني قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}؛ لأنها سيقت لغرض، ومعنى واحد وهو نفي المماثلة والمجانسة عنه تعالى بوجه من الوجوه، كما قال الأخضري في الجوهر المكنون: وَصِلْ لَدَى التَّشْرِيْكِ فِيْ الإِعْرَابِ ... وَقَصْدِ رَفْعِ اللَّبْسِ فِيْ الْجَوَابِ وَفِيْ اتِّفَاقٍ مَعَ الاتِّصَالِ ... فِيْ عَقْلٍ أَوْ فِيْ وَهْمٍ أوْ خَيَالِ ومنها: الجناس الناقص في قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)}؛ لتغير الشكل وبعض الحروف. ومنها: تكرير لفظ الجلالة في قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية. ومنها: تقديم صلة {كُفُوًا} أعني الجار والمجرور في قوله: {لَهُ} عليه؛ للاهتمام بها؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى؛ أي: لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله.

ومنها: تأخير اسم كان عن خبرها في قوله: {كُفُوًا أَحَدٌ}؛ لمراعاة الفواصل. ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الإخلاص بعون الله وتوفيقه أوائل ليلة السبت المبارك الليلة السادسة من شهر الله صفر المبارك من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. آمين.

سورة الفلق

سورة الفلق سورة الفلق نزلت بعد سورة الفيل، وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وهذا أصح كما في "الخازن"، ويؤيده سبب النزول، فإنه كان بالمدينة ولم يظهر للقول بأنها مكية وجه اهـ "صاوي". وهي: خمس آيات، وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفًا. المناسبة: مناسبتها لما قبلها (¬1): أنه تعالى لما بيَّن أمر الألوهية في السورة التي قبلها .. بيَّن هنا ما يُستعاذ منه بالله تعالى؛ لأنه لا ملجأ سواه، وسميت سورة الفلق؛ لذكر الفلق فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله -: سورة الفلق كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. فضلها: وورد في فضل هذه السورة والتي بعدها أحاديث: منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أنزلت على سورتان ما أنزل مثلها، وأنه لن يقرأ أحد أحبَّ ولا أرضى عند الله تعالى منهما". يعني المعوذتين، وقوله: "ما أنزل مثلهما"؛ أي: في التحصن، والتعوذ. ومنها: ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلت عليَّ الليلةَ آيات لم أر مثلهن قط {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ". ومنها: ما أخرجه ابن الضريس وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه في "الشعب" عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله أقرئني سورة يوسف وسورة هود، قال: "يا عقبة اقرأ بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} فإنك لن تقرأ سورة ¬

_ (¬1) الصاوي.

أحب إلى الله وأبلغ منها، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل". ومنها: ما أخرجه ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذون" قال: بلى يا رسول الله قال: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} هما المعوِّذتان". ومنها: ما أخرجه الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من عين العرب ومن عين الإنس، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك). ومنها: ما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره عشر خصال ومنها أنه كان يكره الرقى إلا بالمعوذتين. ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أم سلمة قالت: قال رسول الله: "مِن أحَبَّ السور إلى الله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ". ومنها: ما أخرجه النسائي وابن الضريس وابن حبان في "صحيحه" وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: أخذ بمنكبي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ""اقرأ" قلت: ما أقرأ بأبي أنت وأمي، قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، ثم قال: "اقرأ" قلت: بأبي أنت وأمي ما أقرأ قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}، ولم تقرأ بمثلهما". ومنها: ما أخرجه مالك في "الموطأ" عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتهما)، وأخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من طريق مالك بالإسناد المذكور. ومنها: ما أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" عن زيد بن أرقم قال: سَحَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من اليهود، فاشتكى، فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوذتين، وقال: إن رجلًا من اليهود سحرك، والسحر في بئر فلان، فأرسل عليًا فجاء، فأمره أن يحل العُقَد ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال. وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطولًا، وكذلك أخرجه ابن

مردويه من حديث ابن عباس، وقد ورد في فضل المعوذتين وفي قراءة رسول الله لهما في الصلاة أحاديث، وفيما ذكرنا كفاية. وما روي عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في المصحف يقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه، إنهما ليستا من كتاب الله، إنما أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما، قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بهما في الصلاة، وقد أثبتتا في المصحف. وأخرج الطبراني في "الصغير" عن علي بن أبي طالب قال: لدغت النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: "لعن الله العقرب لا تدع مصليًا ولا غيره، ثم دعا بماء وملح، وجعل يمسح عليها ويقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} "، وسميت سورة الفلق لذكر الفلق فيها. الناسح والمنسوخ: وقال محمد بن حزم؛ سورة الفلق كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}. أسباب النزول سبب نزول المعوذتين: ما روي من قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس وعائشة: كان غلام من اليهود يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدبت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود، فنزلت السورتان فيه. فإن قلت: كيف يؤثر السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - مع أنه معصوم بنص {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ أجيب: بأن المعصوم منه ما أدى إلى خبل في عقله أو إلى ضياع شرعه أو إلى موته، وأما ما عدا ذلك فهو من الأعراض البشرية الجائزة في حقه، كما أن جرحه وكسر رباعيته لا يقدح في عصمته. وأخرج الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سُحِر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولم يصنع، وفي رواية أنه يخيل إليه فعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: "أشعَرْتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته"؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومَن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق، قال: فيم ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان"، ومن الرواة من قال: في بئر زريق، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: "والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين" قلت: يا رسول الله

[1]

فأَخْرِجْه، قال: "أما أنا فقد عافاني الله وشفاني وخفت أن أثير على الناس منه شرًا"، وفي رواية للبخاري أنه كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك، وكانت مدة سحره - صلى الله عليه وسلم - أربعين يومًا، وقيل: ستة أشهر، وقيل: عامًا، قاله ابن حجر وهو المعتمد، وعن زيد بن أرقم قال: سحر رجل من اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتكى ذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلًا من اليهود سحرك وعقد لك عُقَدًا في بئر كذا فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا فاستخرجها، فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما نُشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجه قط أخرجه النسائي، وروي أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيه مشاطة من رأسه - صلى الله عليه وسلم - وأسنان من مشطه، وقيل: كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل: كان مغروزًا بالإبر، فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما نُشط من عقال، وروي أنه لبث ستة أشهر واشتد عليه ذلك ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قُلْ} يا محمد {أَعُوذُ}؛ أي: أستعيذ وألتجىء وأتحصن وأتحفظ {بِرَبِّ الْفَلَقِ}؛ أي: بمالك الصبح أو الخلق، أو هو واد في جهنم أو جُبٌ فيها، وقيل غير ذلك كما سيأتي، والأول أولى؛ أي: قل أستعيذ برب المخلوقات ومبدع الكائنات {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)}؛ أي: من كل ضرر وأذى يصيبني من مخلوقاته طرًا. وعبارة "الروح": والفلق (¬1): الصبح؛ لأنه يفلق عنه الليل ويفرق، فهو من باب الحذف والإيصال، فهو فَعَل بمعنى مفعول كالصمد والقَبَض بمعنى المصمود إليه والمقبوض، كما مر، فإن كلل واحد من المفلوق والمفلوق عنه مفعول، وذلك ¬

_ (¬1) روح البيان.

إنما يتحقق بأن يكون الشيء مستورًا ومحجوبًا بآخر، ثم يشقق الحجاب الساتر عن وجه المستور، ويزول فيظهر ذلك المستور وينكشف بسبب زواله، وذلك الحجاب المشقق مفلوق، والمحجوب المنكشف عنه بزواله مفلوق عنه، والصبح صار مفلوقًا عنه بإزالة ما عليه من ظلمة الليل، يقال: في المثل هو أبين من فلق الصبح؛ أي: من الصبح المفلوق عنه؛ أي: المشقوق عنه ظلمة الليل؛ أي: المزال عنه. وخص (¬1) الفلق بالذكر؛ لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول: قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم، ولأنه أنموذج من يوم القيامة؛ لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور، ثم منهم من يخرج عن داره مفلسًا عريانًا، ومنهم من كان مديونًا فيجر إلى الحبس، ومنهم من كان ملكًا مطاعًا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه، وكذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى، فيجر إلى الملك الجبار، وبعضهم كان مطيعًا لربه في الدنيا فصار ملكًا مطاعًا في العقبى يقدم إليه البراق. وقيل الفلق (¬2): الخلق؛ لأن الممكنات بأسرها كانت أعيانًا ثابتة في علم الله مستورة تحت ظلمة العدم، فالله تعالى فلق تلك الظلمات بنون التكوين والإيجاد، فأظهر ما في علمه من المكونات، فصارت مفلوقًا عنها. وقيل (¬3): الفلق سجن جهنم، أو واد أو جُبٌّ فيها، روي عن بعض الصحابة أنه قدم الشام، فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش، فقال: لا أبالي أليس من ورائهم الفلق؟، فقيل له: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا افتتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، وإنما خصه بالذكر هاهنا؛ لأنه القادر على مثل هذا التعذيب، وقد ثبت أن رحمته تعالى أعظم من عذابه، فكأنه يقول: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأقدم من عذابك، وقيل: اسم شجرة في جهنم، وقيل: هو الجبال والصخور؛ لأنها تفلق بالمياه؛ أي: تشقق، وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله، قال النحاس: يقال لكل ما اطمأن من الأرض فلق، قال الرازي: وأقرب التأويلات أن الفلق هو كل ما يفلقه الله تعالى، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن الأمطار، ¬

_ (¬1) المراح. (¬2) روح البيان. (¬3) المراح.

[2]

والأرحام عن الأولاد، والبيض عن الفرخ، والقلوب عن المعارف، وكأنه تعالى قال: قل أعوذ برب جميع الممكنات وبمكوِّن المحدَثات، فيكون التعظيم فيه اْعظم، ويكون الصبح وجُبُّ النار وغيرهما أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى انتهى. والقول (¬1) الأول أولى؛ لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه، لكنه المتبادر عند الإطلاق، وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة من كل هذا العالم يقدر أيضًا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه، وقيل: طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرًا لطلوع الصباح، كذلك الخائف يكون مترقبًا لطلوع صباح النجاح، وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير. وفي تعليق (¬2) العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عِدَة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره، ومزيد ترغيب له في الجد، والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه والإعاذة بربه. قالوا: إذا طلع الصبح تتبدل الثقلة بالخفة والغم بالسرور، روي أن يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب وجعت ركبته وجعًا شديدًا، فبات ليلته ساهرًا، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل بإذن الله تعالى يسأله ويأمره بأن يدعو ربه، فقال: يا جبريل أدع أنت وأؤمن، فدعا جبريل وأمَّن يوسف عليهما السلام، فكشف الله تعالى ما كان به من الضر، فلما طاب وقت يوسف قال: يا جبريل وأنا أدعو أيضًا وتؤمِّن أنت، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جَرَم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل. 2 - {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} أي: من شر وضرر ما خلقه من الثقلين وغيرهما كائنًا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار من إنس وجن وسباع وهوام، فيشمل جميع الشرور والمضار بدنية كانت أو غيرها من ضرب وقتل وشتم وعض ولدغ وسحر ونحوها. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) روح البيان.

[3]

والجار والمجرور متعلق (¬1) بـ {أَعُوذُ}؛ أي: أعوذ برب الصبح من شر ما خلقه كائنًا ما كان من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور، وقيل: هو إبليس وذريته، وقيل: جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار البدنية، وقد حرَّف بعض المتعصبين من المعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الشر هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويمًا لباطله، فقرؤوا بتنوين {شرٍ} علي أن {مَا} نافية، والمعنى: من شر لم يخلقه، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن عائذ، وعبارة أبي حيان هنا: وقرأ الجمهور (¬2): {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} بإضافة {شَرِ} إلى {مَا} و {مَا} عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف، وجماد، كالإحراق بالنار والإغراق بالبحر والقتل بالسم، وقرأ عمرو بن عائذ: {مِنْ شَرِّ} بالتنوين، وقال ابن عطية وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر {مِنْ شَرِّ} بالتنوين {مَا خَلَقَ} على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، فالله خلق كل شيء، ولهذه القراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون {مَا خَلَقَ} بدلًا من {شَرِّ} على تقدير محذوف؛ أي: من شر شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولًا ثم عمم ثانيًا. انتهى. والخلاصة: أي أعوذ برب الفلق من شر كل ذي شر خَلَقَه الرب من إبليس ومن جهنم، ومن أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما. 3 - ثم خصص من بعض ما خلق أصنافًا يكثر وقوع الأذى منهم، فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم، وهم ما ذكره بقوله: 1 - {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ}؛ أي: ومن شر ليل مختلط ظلامه شديدة ظلمته، وتنكيره لعدم شمول الشر لجميع أفراده ولا لكل أجزائه، {إِذَا وَقَبَ}؛ أي: إذا دخل ظلامه في كل شيء بغيبوبة الشفق. وهذا تخصيص (¬3) لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبله؛ لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ أدل على الاعتناء ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) البحر المحيط. (¬3) روح البيان.

بالاستعاذة، وأدعى إلى الإعاذة؛ أي: من شر ليل مختلط ظلامه مشتد، وذلك بعد غيبوبة الشفق، ومنه قوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}؛ أي: اجتماع ظلمته، وفي "القاموس": الغَسَق - محركة - أول الليل، وغسق الليل غسقًا، ويحرك اشتدت ظلمته، فالغاسق الليل المظلم، كما في "المفردات"، وأصل الغسق الامتلاء، يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعًا أو السيلان، وغسق العين سيلان دمعها، وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له بحدوثه فيه {إِذَا وَقَبَ} الوقب: النقرة في الشيء كالنقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقب إذا دخل في وقب، ووقبت الشمس إذا غابت، ووقب الظلام إذا دخل، والمعنى: ومن كل شر واقع في الليل وقت دخول ظلامه وتقييده به؛ لأن حدوث الشر فيه أكثر، والتحرز منه أصعب وأعسر، ولذلك قيل: الليل أخفى للويل، وقيل: أغدر الليل؛ لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر والغوث يقل في الليل، ولذا لو شهر إنسان بالليل سلاحًا فقتله المشهر عليه لا يلزمه قصاص، ولو كان نهارًا يلزمه؛ لأنه يوجد فيه الغوث. والحاصل: أنه ينبعث أهل الحرب في الليل، وتخرج فيه عفاريت الجن والهوام والسباع وجميع المؤذيات، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السير في الليل، وأمر بتغطية الأواني وإغلاق الأبواب وإيكاء الأسقية وضم الصبيان، وكل ذلك للحذر من الشر والبلاء، وقيل: الغاسق القمر إذا امتلأ نورًا، ووقوبه امتلاؤه نورًا أو خسوفه واسوداده؛ لما رواه أحمد والترمذي وابن جرير عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فأشار إلى القمر، فقال: "تعوذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب"، وقال الترمذي حسن صحيح، وشره الذي يتقى منه ما يكون في الأبدان، كالآفات التي تحدث بسببه، ويكون في الأديان كالفتنة التي بها افتتن من عبده وعبد الشمس، وقيل: التعبير عن القمر بالغاسق؛ لأن جرمه مظلم، وإنما يستنير بضوء الشمس، وقيل: وقوبه محاقه في آخر الشهر، والمنجمون يعدونه نحسًا، ولذلك (¬1) لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلا في ذلك. قيل: وهو المناسب لسبب النزول،: وقيل: الغاسق الثريا، ووقوبها سقوطها؛ لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين، وإذا طلعت قلَّت الأمراض والآلام، وقيل: هو ¬

_ (¬1) روح البيان.

[4]

كل شر يعتري الإنسان، ووقوبه هجومه، ويجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات، ووقبه ضربه ولسعه، وفي "القاموس": الغاسق هو الذكر من الحيات إذا قام، وهو منقول عن ابن عباس - رضي الله عنه - وجماعة، والقول الأول أولى، والمعنى عليه؛ أي: ومن شر الليل إذا دخل وغمر كل شيء بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفًا باعثًا على الرهبة إلى أنه ستار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى إلى أنه عون لأعدائك عليك. 2 - 4 {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ}؛ أي: ومن شر النساء أو النفوس السواحر اللاتي ينفثن وينفخن {فِي الْعُقَدِ}؛ أي: في عقد الوتر أو الحبال عند القراءة على تلك العقد؛ ليسحرن بها، جمع نفاثة بالتشديد، صيغة مبالغة يراد منها تكرار الفعل والاحتراف به من النفث، وهو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه، فإن كان معه ريق فهو التفل، يقال منه نفث الراقي ينفُث - بالضم - وينفِث بالكسر إذا نفخ على المريض بعد القراءة عليه، والعُقَد جمع عقدة، وهي ما يعقده الساحر ويربطه ويمسكه على وتر - بفتحتين - القوس، أو حبل أو شعر، وهو ينفث عليه ويرقي، وأصله من العزيمة، ولذلك يقال: لها عزيمة، كما يقال: لها عقدة، ومنه قيل للساحر معقد. والمعنى: وأعوذ بالله من شر النفوس، أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط، وينفثن في عقدة الخيط حين يرقين عليها، وتعريفها (¬1) إما للعهد، أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه، وقيل: المراد بالنفاثات بنات لبيد بن الأعصم اللاتي سحرن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - وعائشة - رضي الله عنها - أنه كان غلام من اليهود يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عنده أسنان من مشطه - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاها اليهود فسحروه - صلى الله عليه وسلم - فيها, ولذا ينبغي أن يقطع بعد التقليم، وكذا الشعر إذا أُسقط من اللحية، والرأس نصفين أو أكثر؛ لئلا يسحر به أحد، وتولاه لبيد بن الأعصم اليهودي وبناته وهن النفاثات في العقد، فدفنها في بئر أريس، وفي "عين المعاني": في بئر لبني زريق تسمى ذروان، فمرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، روي أنه لبث فيه ستة أشهر، فنزل جبريل بالمعوِّذتين - بكسر الواو - كما في ¬

_ (¬1) روح البيان.

"القاموس"، وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا والزبير وعمارًا - رضي الله عنهم - فنزحوا ماء البئر، فكأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا راعونة البئر، وهي الصخرة التي توضع في أسفل البئر، فأخرجوا من تحتها الأسنان، ومعها وتر قد عقد فيه أحد عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاؤوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يقرأ المعوذتين عليها، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد عليه السلام خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين، كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل عليه السلام يقول: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل شيء يؤذيك من عين وحاسد، فلذا جوِّز (¬1) الاسترقاء بما كان من كلام الله تعالى وكلام رسوله، لا بما كان بالعبرانية أو السريانية والهندية أو التركية أو غير ذلك من صنوف اللغات، فإنه لا يحل اعتقادُه والاسترقاءُ به، فقالوا: يا رسول الله أفلا نقتل الخبيث؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا فقد عافاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرًا" قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط لنفسه ولا انتقم إلا أن يكون شيئًا هو لله، فيغضب لله وينتقم. والنفث (¬2): النفخ مع ريق قليل، وقيل: إنه النفخ فقط، واختلفوا في جواز النفث في الرُّقى والتعاويذ الشرعية المستحبة، فجوَّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم، ويدل على ذلك حديث عائشة في "الصحيحين" وغيرهما قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) الحديث، وأنكر جماعة التفل والنفث في الرقى، وأجازوا النفخ بلا ريق، قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، وقيل: النفث في العقد إنما يكون مذمومًا إذا كان سحرًا مضرًا بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان .. وجب أن لا يكون مذمومًا ولا مكروهًا، بل هو مندوب إليه، ذكره في "الخازن"، وهذا الذي ذكرناه في معنى الآية هو التفسير الصحيح، وقيل: المراد (¬3) بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق عليها؛ ليسهل حلها، فالمعنى على هذا أعوذ برب الفلق من شر النساء النفاثات؛ أي: اللاتي شأنهن أن يغلبن علي الرجال، ويحولنهم عن آرائهم، ويصرفنهم عنها بأنواع المكر ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الخازن. (¬3) روح البيان.

والحيلة، فمعنى الآية إن النساء لاستقرار حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحولنهم من رأي إلى رأي، فأمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتعوذ من شرهن. وقيل المعنى (¬1): أعوذ برب الفلق من شر النمامات والنمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمي الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمي الارتباط بين الزوجين عقدة النكاح. فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربًا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها، فالنمام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه؛ إذ يقول كلامًا ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهامًا للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين، وهذا المعنى والذي قبله يخالف ما ورد في سبب نزول السورتين، كما أشرنا إليه آنفًا. وقرأ الجمهور (¬2): {النَّفَّاثَاتِ} - بفتح النون - جمع نفاثة على صيغة المبالغة، وقرأ الحسن بضم النون، وقرأ عيسى بن عمر ويعقوب في رواية, وعبد الرحمن بن ساباط وعبد الله بن القاسم والحسن أيضًا {النافثات} جمع نافثة، وقرأ أبو الربيع والحسن أيضًا {النَّفَّاثَاتِ} بغير ألف نحو الحذرات. فص واعلم (¬3): أن السحر تخيل لا أصل له عند المعتزلة، وعند الشافعي: تمريض بما يتصل به، كما يخرج من فم المتثائب ويؤثر في المقابل، وعند الحنفية: سرعة الحركة ولطافة الفعل فيما خفي فهمه، وقيل: طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصا سحرة فرعون، والمعتزلة أنكروا صحة رواية الأحاديث المذكورة، وتأثير السحر في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: كيف يمكن القول بصحتها؟ والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأن الكفار كانوا ¬

_ (¬1) المراغي. (¬2) البحر المحيط. (¬3) البحر المحيط.

يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة .. لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى، ولحصل ذكر العيب في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن ذلك غير جائز، وقال أهل السنة: صحة القصة لا تستلزم صدق الكفرة في قولهم: إنه مسحور، وذلك لأنهم كانوا يريدون بكونه مسحورًا أنه مجنون أزيل عقله بسبب السحر، فلذلك ترك دين آبائه، فأما أن يكون مسحورًا بألم يجده في بدنه، فذلك مما لا ينكره أحد. وبالجملة: فالله تعالى ما كان يسلط لا شيطانًا ولا إنسيًا ولا جنيًا يؤذيه فيما يتعلق بنبوته وعقله، وأما الإضرار من حيث بشريته وبدنه فلا بُعد فيه، وتأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من حيث إنه نبي، وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان وبشر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - يعرض له من حيث بشريته ما يعرض لسائر البشر من الصحة والمرض والموت والأكل والشرب ودفع الفضلات، وتأثير السحر فيه من حيث بشريته لا يقدح في نبوته، وإنما يكون قادحًا فيها لو وُجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة، ولم يوجد ذلك، كيف؟! والله تعالى يعصمه من أن يضره أحد فيما يرجع إليها، كما لم يقدح كسر رباعيته يوم أحد فيما ضمن الله له من عصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وفي "كشف الأسرار": فإن قيل: ما الحكمة في نفوذ السحر وغلبته في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولماذا لم يرد الله كيد الكائد إلى نحوه بإبطال مكره وسحره؟. قلنا: الحكمة فيه الدلالة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحة معجزاته، وكذب من نسبه إلى السحر والكهانة؛ لأن سحر الساحر عمل فيه حتى التبس عليه بعض الأمر، واعتراه أنواع من الوجع، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى دعا ربه، ثم دعا، فأجابه الله وبين أمره، ولو كان ما يظهر من المعجزات الخارقة للعادات من باب السحر على ما زعم أعداؤه لم يشتبه عليه ما عُمل من السحر فيه، ولتوصل إلى دفعه من عنده، وهذا بحمد الله تعالى من أقوى البراهين على نبوته، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - من بين نسائه بما كشف الله تعالى له من أمر السحر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأخوذًا من عائشة - رضي الله عنها - وهذا السحر على ما روى يحيى بن يعمر قال: حُبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة، فبينما هو نائم أو بين النوم واليقظة إذ أتاه ملكان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فهذا يقول للذي عند رأسه ما شكواه؟ قال: السحر، قال: من فعل به؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فأين صنع السحر؟ قال: في بئر كذا، قال: فما دواؤه؟ قال: ينبعث إلى تلك البئر،

[5]

فينزح ماءها، فإنه ينتهي إلى صخرة رآها، فليقلعها، فإن تحتها كوبة؛ أي: كوزًا سقط عنقها، وفي الكوبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر، فيحرقها بالنار فيبرأ إن شاء الله تعالى، فاستيقظ - صلى الله عليه وسلم - وقد فهم ما قالا: فبعث عليًا - رضي الله تعالى عنه - إلى آخر ما تقدم. 3 - 5 {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} بالوقف، ثم يكبر؛ لأن الوصل لا يخلو من الإيهام؛ أي: وقيل يا محمد أعوذ برب الفلق من شر كل حاسد إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه ترتيب مقدمات الشر ومبادي الإضرار بالمحسود قولًا أو فعلًا، والتقييد (¬1) بذلك لما أن ضرر الحسد قبله إنما يحيق ويضر بالحاسد لاغتمامه بنعمة المحسود، قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد، ونظم الشاعر هذا المعنى، فقال: قُلْ لِلْحَسُوْدِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَةً ... يَا ظَالِمًا وَكَأنَّهُ مَظْلُوْمُ وفي هذا المعنى قال بعضهم أيضًا: أَلَا قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِيْ حَاسِدًا ... أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَاتَ الأَدَبْ أَسَأتَ عَلَى اللهِ فِيْ فِعْلِهِ ... لأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِيْ ... وَسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيْقَ الطَّلَبْ وقال بعضهم: اصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُوْدْ ... فَإنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ فَالنَّارُ تَأكُلُ بَعْضَهَا ... إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأكُلُهْ وفي "الكشاف": فإن قلت: فلم عرَّف بعض المستعاذ. منه ونكَّر بعضه؟. قلت: عرَّف النفاثات؛ لأن كل نفاثة شريرة، ونكَّر غاسق؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، ورب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات بمعنى الغبطة، والحسد الأسف على الخير عند الغير، وفي "فتح الرحمن": تمني زوال النعمة عن مستحقها سواء كانت نعمة ¬

_ (¬1) روح البيان.

دين أو دنيا، وفي الحديث: "المؤمن يَغِبط والمنافق يَحسُد"، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". وأول ذنب عُصِيَ الله به في السماء حسد إبليس لآدم، فأخرجه من الجنة، فطُرد وصار شيطانًا رجيمًا، وفي الأرض قابيل لأخيه هابيل فقتله. وقد أرشد الله (¬1) سبحانه وتعالى في هذه السورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستعاذة من شر كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشر وعلى الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره؛ وهو الغاسق والنفاثات والحاسد، فكأن هؤلاء - لما فيهم من مزيد الشر - حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر. قال بعضهم: إن الله تبارك وتعالى جمع في هذه السورة الشرور كلها وختمها بالحسد؛ ليعلم أنه أخس الطبائع وأقبح الصفات المذمومة، وهذه السورة من أنفع أدوية الحسد، فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه من شر حاسد النعمة، وفي كشف ما يلتبس من القرآن كرر قوله: {وَمِنْ شَرِّ} أربع مرات؛ لأن شر كل واحد منها غير شر البقية عنها. فإن قلت: أولها يشمل البقية، فما فائدة إعادتها؟ قلت: فائدتها تعظيم شرها ودفع توهم أنه لا شر لها لخفائه فيها. ومعنى الآية: أي (¬2) ونستعيذ بك يا ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده بالسعي والجد في إزالة نعمة من يحسده، ويُعمِل الحيلة وينصب شباكه لإيقاع المحسود في الضرر بأدنى الوسائل ولا يمكن إرضاؤه، ولا في الاستطاعة الوقوف على ما يدبره، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة، وليس في الطوق دفع كيده ورد عواديه، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم، فهو القادر على رد كيده ودفع أذاه وإحباط سعيه، نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير أن تقينا أذى الحاسدين، وتدفع عنا كيد الكائدين، إنك أنت الملجأ والمعين. آمين. الإعراب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {أَعُوذُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {بِرَبِّ الْفَلَقِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعُوذُ}. {مِنْ شَرِّ مَا}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعُوذُ} أيضًا، وجملة {خَلَقَ} صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما خلقه، ويجوز أن تكون مصدرية. {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما قبله. {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {شَرِّ}. {وَقَبَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {غَاسِقٍ}، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما تقدم أيضًا. {فِي الْعُقَدِ} متعلق بـ {النَّفَّاثَاتِ}. {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما تقدم أيضًا. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ {شَرِّ}. {حَسَدَ}: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {حَاسِدٍ}، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {إِذَا} الظرفية. التصريف ومفردات اللغة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق الصبح، قال الزمخشري: الفلق والفَرَق الصبح؛ لأن الليل يفلق عنه ويفرق، وهو فَعَل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض، وفي المثل هو أبين من فَلَق الصبح، ومن فَرَق الصبح، ومنه قولهم: سطح الفرقان إذا طلع الفجر، وقال الشاعر: يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرْتَقِبَا ... أَرْعَى النُّجُوْمَ إِلَى أَنْ قُدِّرَ الْفَلَقُ وقال الآخر يصف الثور الوحشي: حَتَّى إِذَا مَا انْجَلَى عَنْ وَجْهِهِ فَلَقٌ ... هَادِئَةٌ فِيْ أُخْرَيَاتِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ وقيل: الفَلْق شق الشيء وفصل بعضه عن بعض، تقول: فلقت الشيء فانفلق، كما قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وهناك أقوال أخرى في المراد به يُرجع فيها إلى المطولات، كما ذكرنا أكثرها في مبحث التفسير، ولهذا ضربنا عنها صفحًا،

وتقدم هناك أن الأول أولى. {غَاسِقٍ} الغاسق الليل إذا اعتكر واشتد ظلامه، قال الشاعر: يَا طَيْفَ هِنْدٍ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِيْ أَرَقَا ... إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا {وَقَبَ} دخل ظلامه في كل شيء يقال: وقبت الشمس إذا غابت، وفي الحديث: "لما رأى الشمس قد وقبت قال هذا حين حلها" يعني صلاة المغرب، وهناك أقوال أخرى ليس هذا موضعها كما مر بعضهاهنالك. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ}: جمع نفاثة، كعلَّامة صيغة مبالغة من النفث، وهو النفخ مع ريق يخرج من الفم، وهن السواحر اللاتي تنفث في العُقَد التي تعقدها، كما في "المختار"، وشبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل، وقد نفث الراقي من بابي ضرب ونصر. {فِي الْعُقَد}: جمع عقدة، وهي الربطة التي تُعقد في الخيط والوتر. {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} والحسد: أن تتمنى زوال نعمة المحسود عنه مطلقًا دينية كانت أو دنيوية، يقال: حسده يحسده من باب دخل، وقال الأخفش وبعضهم يقول: يحسِد - بالكسر - حَسَدًا - بفتحتين - وحسادة بالفتح وا هـ. "مختار". وفي "المصباح": حسدته على النعمة، وحسدته النعمة حسدًا بفتح السين أكثر من سكونها يتعدى إلى الثاني بنفسه وبالحرف إذا كرهتها عنده وتمنيت زوالها عنه اهـ. فائدة: قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها: أنه ساخط قسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة. ثالثها: أنه يعاند فعل الله تعالى. رابعها: أنه يريد خذلان أولياء الله تعالى. خامسها: أنه أعان عدو الله إبليس اللعين. انتهى. وقال بعضهم: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضًا، ولا ينال في الخلوة إلا جزعًا وغمًا، ولا ينال في الآخرة إلا حزنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلا بعدًا ومقتًا. انتهى.

البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الجناس الناقص بين {الْفَلَقِ} و {خَلَقَ}. ومنها: الإطناب بتكرار لفظ {شَرِّ} أربع مرات {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} {وَمِنْ شَرِّ حَاسِد} تنبيهًا على شناعة هذه الأوصاف. ومنها: تخصيص بعض الشرور بالذكر في قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ ...} إلخ، مع اندراجه فيما قبله من قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} فإنه عام يدخل تحته شر الغاسق وشر النفاثات وشر الحاسد؛ لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتناء بالاستعاذة منه وأدعى إلى الإعاذة. ومنها: إضافة الشر إلى الغاسق الذي بمعنى الليل لملابسته له بحدوثه فيه. ومنها: تنكير {غَاسِقٍ}؛ لعدم شمول الشر لجميع أفراده. ومنها: تعريف {النَّفَّاثَاتِ} إما للعهد، أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه. ومنها: جناس الاشتقاق بين: {حَاسِدٍ} و {حَسَدَ}. ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات (¬1). والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب * * * ¬

_ (¬1) إلى هنا تم تفسير سورة الفلق بعون الله وتوفيقه وقت المغرب من ليلة الأربعاء السابعة عشر من شهر صفر الخير من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين، آمين.

سورة الناس

سورة الناس سورة الناس نزلت بعد سورة الفلق، وهي مدنية، وقيل: مكية، والأول أصح؛ لأنها نزلت بالمدينة سنة سبع بسبب أنه - صلى الله عليه وسلم - سحرته اليهود. والخلاف فيها كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل بمكة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزل بالمدينة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها، فارجع إليه، وهي: ست آيات، والتي قبلها: خمس، فتكون الجملة إحدى عشرة آية عدد العقد والإبر الحاصلَين في السحر، وعشرون كلمة وتسعة وسبعون حرفًا. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة؛ لاتحادهما في سبب النزول وفي الاستعاذة، وسميت بسورة الناس؛ لذكر لفظ الناس فيها. الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الناس محكمة كلها لا ناسخ فيها ولا منسوخ. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}. التفسير وأوجه القراءة 1 - {قُلْ أَعُوذُ}؛ أي: أتحصن وألتجىء، والأمر فيه (¬1) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتناول غيره من أمته؛ لأن أوامر القرآن ونواهيه لا تخص فردًا دون آخر غالبًا. وقرأ الجمهور (¬2): بالهمزة في {أَعُوذُ}، وقرىء بحذفها ونقل حركتها إلى اللام، وعبارة "البيضاوي" هنا: قرأ ورش في السورتين بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام. انتهى. {بِرَبِّ النَّاسِ}؛ أي: بمالك الناس وخالقهم وموجدهم من العدم، وخصوا (¬3) بالذكر وإن كان رب جميع المخلوقات تشريفًا من حيث إنه تعالى أخدم لهم ملائكة قدسه، وجعل لهم ما في الأرض جميعًا، وأمدهم بالعقل والعلم، وكلفهم بخدمته، فإن قاموا بتلك الوظيفة كان لهم العز دنيا وأخرى، وإن لم يقوموا بها ردوا لأسفل السافلين، فلم يساووا كلبًا ولا خنزيرًا، وإذا علمت بذلك أنه رب الناس فهو رب غيرهم بالأولى، وقيل: خصوا بالذكر لمناسبته بالاستعاذة؛ لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس، فكأنه قال: قل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس؛ أي: من شر ما يوسوس في صدورهم بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم وهو معبودهم، فإنه هو الذي يعيذ من شرهم. والحاصل: أنه أمر رسوله أن يستعيذ بمن يربي الناس بنعمه ويؤدبهم بنقمه، وأصل الناس إما أناس حذفت الهمزة، أو نَوَس مأخوذ من ناس إذا تحرك خُص بالبَشَر, لأنه المتحرك الحركة المتعبد بها الناشئة عن رؤية وتدبر، تحركت الواو ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) الشوكاني. (¬3) الصاوي.

[2]

وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، أو من الإنس ضد الوحشة؛ لأنه يونس به أو من النسيان؛ لكونه شأنه وطبعه، كما قال بعضهم: وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَمَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ يقول الفقير (¬1): ففي الالتجاء إلى الله في هذه السورة دلالة على ختم الأمر، فإن الله تعالى هو الأول الآخر، وإليه يرجع الأمر كله، وإن إلى ربك المنتهى، وفيه إشارة إلى نسيان العهد السابق الواقع يوم الميثاق، فإن الإنسان لو لم ينسه لما احتاج إلى العود والرجوع، بل كان في كنف الله تعالى دائمًا. 2 - {مَلِكِ النَّاسِ (2)}؛ أي: مالكهم ومدبر أمورهم، وواضع الشرائع والأحكام التي فيها سعادتهم في معاشهم ومعادهم، قرىء هنا بإسقاط الألف باتفاق القراء حذرًا من التكرار، فإن أحد معاني اسم الرب في اللسان المالك، ولا ترد الفاتحة، فإن الراجح فيها عند المحققين هو المَلِك بحذف الألف لا المالك اهـ "روح". بخلاف الذي في الفاتحة، ففيه قراءتان سبعيتان ثبوت الألف وحذفها كما مر هنالك، ومعنى المَلِك: المتصرف فيهم بأنواع التصرفات من إعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وغير ذلك، وهو (¬2) عطف بيان جيء به لبيان أن ربِّيَّته سبحانه ليست كربِّيَّة سائر المُلَّاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والتصرف الشامل، وما ذكروه (¬3) في ترجيح المالك على المَلِك من أن المالك مالك العبد، وأنه مطلق التصرف فيه، بخلاف الملك، فإنه إنما يملك بقهر وسياسة ومن بعض الوجوه فقياس لا يصح ولا يطرد إلا في المخلوقين لا في الحق سبحانه، فإنه من البيِّن أنه مطلق التصرف، وأنه يملك من جميع الوجوه، فلا يقاس ملكية غيره عليه، ولا تضاف الصفات والأسماء إليه تعالى إلا من حيث أكمل مفهوماته. 3 - {إِلَهِ النَّاسِ (3)}؛ أي: معبودهم المستولي على قلوبهم بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه، بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم، ولا يدرون من أي جانب يأتهم ولا كيف يسلط عليهم. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الشوكاني. (¬3) روح البيان.

وهو عطف (¬1) بيان أيضًا كالذي قبله؛ لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، وأيضًا الرب قد يكون مَلِكًا وقد لا يكون ملكًا، كما يقال: رب الدار، ورب المتاع، ومنه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فبين أنه ملك الناس، ثم المَلِك قد يكون إلهًا وقد لا يكون، فبيَّن أنه إله؛ لأن اسم الإله خاص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، وأيضًا بدأ باسم الرب، وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلًا كاملًا، فحينئذ عُرف بالدليل أنه عبد مملوك، فذكر أنه ملك الناس، ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وأنه عبد مخلوق، وأن خالقه إله معبود .. بيَّن سبحانه أنه إله الناس. وعبارة "المراغي" هنا: وإنما قدم (¬2) الربوبية؛ لأنها من أوائل نعم الله تعالى على عباده، ثم ثنى بذكر المالكية؛ لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلًا مفكرًا، ثم ثلث بذكر الألوهية؛ لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة، وإنما قال: {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} وهو رب كل شيء، واله كل شيء من قِبَل أن الناس هم الذين أخطؤوا في صفاته، وضلوا فيها عن الطريق السوي، فجعلوا لهم أربابًا ينسبون إليهم بعض النعم، ويلجؤون إليهم في دفع النقم، ويلقبونهم بالشفعاء، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم ويرسمون لهم حدود أعمالهم، وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} وقوله: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}. والخلاصة: أنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم وهم أناس مفكرون وملكهم وهم ذلك وإلههم وهم هكذا، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر. ¬

_ (¬1) الشوكاني. (¬2) المراغي.

[4]

وكرر لفظ الناس في ثلاثة مواضع (¬1)، ولم يكتف بضميرهم مع اتحاد اللفظين في اللفظ والمعنى، وهو معيب كالإيطاء في الشعر لمزيد (¬2) الكشف والتقرير بالإضافة، ولإظهار شرف الناس وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، فإن ما لا شرف فيه لا يُعبأ به ولا يعاد ذكره، بل يترك ويهمل، كما قال الشاعر: أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ ... هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ فلولا أن الناس أشرف مخلوقاته .. لما ختم كتابه بذكرهم، وكما أنه حسَّن (¬3) التكرار للتلذذ وإظهار فضل المكرر في قول بعضهم: مُحَمَّدُ سَادَ النَّاسَ كَهْلًا وَيَافِعًا ... وَسَادَ عَلَى الأَمْلَاكِ أَيْضًا مُحَمَّدُ مُحَمَّدُ كُل الْحُسْنِ مِنْ بَعْضِ حُسْنِهِ ... وَمَا حُسْنُ كُلِّ الْحُسْنِ إِلَّا مُحَمَّدُ مُحَمَّدُ مَا أَحْلَى شَمَائِلَهُ وَمَا ... أَلَذَّ حَدِيْثًا رَاحَ فِيْهِ مُحَمَّدُ وهذا على تسليم أن المراد بالناس في المواضع الثلاثة شيء واحد، وأما إن أريد بالناس الأول الصغار، وأضيفوا للرب لاحتياجهم إلى التربية أكثر من غيرهم، وبالثاني الشباب، وأضيفوا للملك لأن شأنهم الطغيان والطيش فيهم، فهم محتاجون لملك يسوسهم ويكسر هيجان شبوبيتهم، وبالثالث: الشيوخ، وأُضيفوا للإله لأن شأنهم كثرة العبادة لقرب ارتحالهم وقدومهم على ربهم وفناء شهواتهم، فهم أقرب من غيرهم للتعلق بالإله، فلا اتحاد في المعنى. 4 - وقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} متعلق بـ {أَعُوذُ}؛ أي: من شر الشيطان ذي الوسوسة، وهي الهمس والصوت الخفي، والوَسواس - بفتح الواو - اسم مصدر بمعنى الحديث، أي: الوسوسة يُطلق على نفس الشيطان الموسوس؛ لكثرة ملازمته للوسوسة، فهو على حد زيد عدل؛ أي: شر الشيطان الموسوس، ويُطلق أيضًا على ما يخطر بالقلب من الشر، فالكلام حينئذ على حذف مضاف؛ أي: من شر الشيطان ذي الوسواس، كما أشرنا إليه أولًا. والحاصل (¬4): أن الوَسواس - بالفتح - اسم مصدر بمعنى الوسوسة، وهو: ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان. (¬3) الصاوي. (¬4) روح البيان.

الصوت الخفي الذي لا يُحَس فيحترز منه كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فبالكسر كالزلزال بالكسر أيضًا، وقال الزجاج: الوسواس هو الشيطان؛ أي: ذي الوسواس، ويقال: إن الوسواس ابن لإبليس، والفرق بين المصدر واسم المصدر: أن الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل ووقوعه على المفعول سمي مصدرًا، وإذا لم يُعتبر بهذه الحيثية سمي اسم المصدر، ولما كانت الوسوسة كلامًا يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرر لفظها بإزاء تكرير معناها، والمراد بالوسواس الشيطان؛ لأنه يدعو إلى المعصية بكلام خفيٍّ يفهمه القلب من غير أن يسمع صوته، وذلك بالإغرار بسعة رحمة الله تعالى، أو بتخييل أن له في عمره سعة، وأن وقت التوبة باقٍ بعد، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة؛ لدوام وسوسته. فقد أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخ، ولم يقل: من شر وسوسته؛ لتعم الاستعاذة شره جميعه، وإنما وصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا وأقواها تاثيرًا وأعمها فسادًا. فإن قلت: ما الحكمة في وصف الله تعالى في هذه السورة بنفسه بثلاث أوصاف، وجعل المستعاذ منه شيئًا واحدًا، وفي السورة قبلها بعكس ذلك؛ لأنه وصف نفسه بوصف واحد، وجعل المستعاذ منه أربعة أشياء؟. قلت: بأنه في السورة المتقدمة المستعاذ منه أمور تضر في ظاهر البدن، وهنا وإن كان أمرًا واحدًا إلا أنه يضر الروح، وما كان يضر الروح يُهتم بالاستعاذة منه. فإن قلت: إن كان مقتضى الظاهر تقديم ما به الاهتمام؛ وهو الاستعاذة من شر الوسواس؛ إذ سلامة الروح مقدمة على البدن؟. أجيب: بأن تقديم سلامة البدن وسيلة للمقصود بالذات، وهو: سلامة الروح. وفي "آكام المرجان": وينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم في ست مراتب: المرتبة الأولى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذاك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تبعه، وهذا أول ما يريده من العبد، والمرتبة الثانية البدعة، وهي أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، فتكون كالعدم، والبدعة يظن صاحبها أنها صحيحة فلا يتوب منها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة

الثالثة، وهي الكبائر على اختلاف أنواعها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة؛ وهي الصغائر التي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها كالنار الموقدة من الحطب الصغار، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة؛ وهي اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عقابها فوات الثواب الذي عليه باشتغاله بها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة، وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليفوِّته ثواب العمل الفاضل. ومن الشيطان شيطان الوضوء، ويقال له الوَلَهان - بفتحتين - وهو شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تعوَّذوا بالله من وسوسة الوضوء، ومنهم شيطان يقال له: خنزب، وهو الملبس على المصلي في صلاته وقراءته، قال أبو عمر والبخاري - رحمهما الله تعالى -: أصل الوسوسة ونتيجتها من عشرة أشياء: أولها: الحرص، فقابله بالتوكل والقناعة. والثاني: الأمل فاكسره بمفاجأة الأجل. والثالث: التمتع بشوات الدنيا، فقابله بزوال النعمة وطول الحساب. والرابع: الحسد، فاكسره برؤية العدل. والخامس: البلاء، فاكسره برؤية المنة والعوافي. والسادس: الكبر فاكسره بالتواضع. والسابع: الاستخفاف بحرمة المؤمنين، فاكسره بتعظيمهم واحترامهم. والثامن: حيث الدنيا والمحمدة، فاكسره بالإخلاص. والتاسع: حب العلو والرفعة، فاكسره بالخشوع والذلة. والعاشر: المنع والبخل، فاكسره بالجود والسخاء. {الْخَنَّاسِ} صفة للوسواس؛ لأنه بمعنى الموسوس؛ أي: من شر الشيطان الموسوس الذي عادته أن يخنس؛ أي: يتأخر ويختفي إذا ذكر الإنسان ربه، وهو صيغة مبالغة؛ أي: كثير الخنس؛ وهو التأخر من خنس يخنس - من باب دخل - أي: يتوارى ويختفي بعد ظهوره المرة بعد المرة، قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يُذكر انبسط على القلب، ووُصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء،

[5]

ومنه قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} يعني: النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل: {الْخَنَّاسِ} اسم إبليس، كما تقدم في الوسواس، فالخناس هو الذي إذا ذكر العبد ربه تأخر واختفى وتوارى عنه، وإذا غفل عن ذكر الله بالقلب، ولو كان ذاكرًا باللسان رجع إليه، فالذكر له كالقامع الذي يقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلًا، وعن بعض السلف: إن المؤمن يفني شيطانه، كما يفني الرجل بعيره في السفر، قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وقيل: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وتأخر، وإذا غفل رجع، وهل المراد بما ذُكر الحقيقة؟ أو خرطوم الكلب والخنزير كناية عن قبحه وخبثه ونجاسته، ورأس الحية كناية عن شدة الأذية، ووضعه على الفؤاد كناية عن شدة التمكن؟ كل محتمل. ويجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام؛ لأنه جسم لطيف، وهو وإن كان مخلوقًا في الأصل من نار، لكنه ليس بمحرق؛ لأنه لما امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجًا مخصوصًا كتركيب الإنسان، كما ورد في الحديث الصحيح أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم. والمعنى: أي (¬1) ألجأ إليك رب الخلق ومالكهم وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء؛ لإنه يأتي من ناحية الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوأ مصير إذا انجرَّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال. وهذه الأحاديث النفسية إذا سُلِّط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، وسكن الموسوس عند إلقائها، وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ، وبعثك على فعل السوء، 5 - ثم ذكرته بأوامر الدين يخنس، ويمسك عن القول إلى أن تسنح له فرصة أخرى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الوسواس الخناس بقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ} ويحدث حديثًا خفيًا لا يُسمع له صوت {فِي صُدُورِ النَّاسِ}؛ أي: في ¬

_ (¬1) المراغي.

قلوب (¬1) الناس والبشر إذا غفلوا بقلوبهم عن ذكر الله تعالى، ولو ذكروا بألسنتهم، ولذا قال في "التأويلات النجمية" في تفسير الناس؛ أي: الناسي عن ذكر الله بالقلب والروح والسر نظير قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} بحذف الياء. انتهى. وذلك لأن الوسوسة حالة في القلب (¬2)، فلا يطردها إلا الذكر الحال في القطر، فمن كان من أهل الذكر فلا تسلط للشيطان عليه، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ولا يترك الإنسان الذكر اللساني إذا وجد الغفلة والوسواس في قلبه، بل يكثر الذكر ويديمه، فلعله يستيقظ قلبه ويتنور، قال بعض أهل المعرفة: الذكر اللساني كقدح الزناد، فإذا تكرر أصاب، قال بعضهم في ذلك: اطْلُبْ وَلاَ تَضْجَرَنْ مِنْ مَطْلَبٍ ... فَآفَةُ الطَّالِبِ أنْ يَضْجَرَا أَمَا تَرَى الْحَبْلَ لِتَكْرَارِهِ ... فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا ومحل الموصول الجر على الوصف (¬3)، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو النصب على الذم، فيحسن الوقف عليه، ذكر سبحانه وتعالى وسوسته أولًا، ثم ذكر محلها؛ وهو صدور الناس، تأمل السر والحكمة في قوله: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل: في قلوب الناس، والصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات عليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز، وهو بكسر أوله ما بين الباب والدار، ومن القلب تخرج الإرادت والأوامر إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، فالشيطان يدخل ساحة القلب وبيته، فيُلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو يوسوس في الصدور، ووسوسته واصلة إلى القلوب، وقال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلَّطه الله سبحانه على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت. وقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} يدل على أنه لا يوسوس في صدور الجن، قال في "آكام المرجان": لم يرد دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. اهـ. ¬

_ (¬1) روح البيان. (¬2) الصاوي. (¬3) روح البيان.

[6]

6 - ثم بيَّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي، فقال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} والجِنة - بالكسر - جماعة الجن، و {مِنَ} بيان للشيطان الموسوس على أنه ضربان جني وإنسي، كقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} والموسوس إليه نوع واحد، وهو الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يُلقي الأباطيل، ويُري نفسه في سورة الناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه، و {مِنَ} على هذا بيانية مشوبة بتبعيض؛ أي: بعض الجنة وبعض الناس. قال في "الأسئلة المقحمة": من دعا غيره إلى الباطل، فإن تصوره في قلبه كان ذلك وسوسةً، وقد قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فإذا جاز أن توسوس نفسه جاز أن يوسوسه غيره، فإن حقيقة الوسواس لا تختلف باختلاف الأشخاص. ويجوز أن تكون {مِنَ} متعلقة بـ {يُوَسْوِسُ} وتكون لابتداء الغاية؛ أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن أنهم يعلمون الغيب ويضرون وينفعون، ومن جهة الناس كالكهان والمنجمين كذلك، ويجوز أن يكون قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ} بيانًا للوسواس، و {النَّاسِ} عطف على {الْوَسْوَاسِ} فلفظ {شَرِّ} مسلط عليه، كأنه قال: من شر الوسواس الذي يوسوس؛ وهو الجنة، ومن شر الناس، وعليه فالناس لا يصدر منهم وسوسة، وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس بتقدير العاطف كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} ثم بيَّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة: جني، كما أن واحد الإنس إنسي، وسيأتي بسط الكلام فيه، والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا يكون إلا بالمعنى الذي قد قدمنا، ويكون هذا البيان يذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة، وفي ختم (¬1) القرآن بهذه السورة ¬

_ (¬1) روح البيان.

إشارة حسنة، كأنه قيل: ما أنزلناه كاف، وما فرَّطنا في الكتاب من شيء فلا تطلب بعده شيئًا، بل اقتصر على العمل له واستعذ بالله من الشيطان والحاسد؛ لأن العبد إذا تمت نعمة الله عليه كثرت حساده إنسًا وجنًا، قال بعضهم: وفي بدء القرآن: بسم الله وختمه بالناس إشارة إلى أن الإنسان آخر المراتب الكونية؛ وذلك لأن ابتداء المراتب الكونية هو العقل الأول، وانتهاؤها هو الإنسان اهـ بتصرف. قيل: عدد (¬1) حروف هذه السورة غير المكرر: ثلاث وعشرون حرفًا، وكذلك عدد الفاتحة بعدد السنين التي أُنزل فيها القرآن، وهو سر بديع، وأول القرآن باء البسملة، وآخره سين والناس، كأنه قيل: بس؛ أي: تم وكمل، أو حسب؛ أي: حسبك من الكونين ما أعطيناك بين الحرفين، وفي أسئلة (¬2) عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أخبرني يا محمد ما ابتداء القرآن وما ختمه؟ قال: "ابتداؤه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وختمه: صدق الله العظيم"، قال: صدقت، وفي "خريدة العجائب" يعني: ينبغي أن يقول القارىء ذلك عند الختم، وإلا فختم القرآن سورة الناس، وفي "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي - رحمه الله تعالى -: وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، وليقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) ...} وسورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، وليقل عند فراغه من كل سورة صدق الله تعالى، وبلَّغ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم انفعنا وبارك لنا فيه الحمد لله رب العالمين، واستغفر الله الحي القيوم. الإعراب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر تقديره: أنت يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة مستأنفة. {أَعُوذُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا يعود على ¬

_ (¬1) الصاوي. (¬2) روح البيان.

محمد - صلى الله عليه وسلم -، والجملة في محل النصب مقول {قُلْ}. {بِرَبِّ النَّاسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعُوذُ}. {مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}: بدلان، أو وصفان، أو عطفا بيان لـ {رَبِّ النَّاسِ}، وكرر المضاف إليه إظهارًا لشرفه كما مر. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أَعُوذُ}. {الْخَنَّاسِ}: صفة لـ {الْوَسْوَاسِ}. {الَّذِي}: صفة ثانية لـ {الْوَسْوَاسِ} قال في "الكشاف": يجوز فيه الحركات الثلاث، فالجر على الصفة والرفع والنصب على الذم. {يُوَسْوِسُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول. {فِي صُدُورِ النَّاسِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يُوَسْوِسُ}، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْجِنَّةِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {يُوَسْوِسُ}. {وَالنَّاسِ}: معطوف على {الْجِنَّةِ}. التصريف ومفردات اللغة {أَعُوذُ} من عاذ إليه يعوذ - من باب قال - إذا التجأ إليه مما يخافه. {بِرَبِّ النَّاسِ} الناس أصله إما أناس، فحذفت الهمزة، فصار ناس، أو. نَوَس تحركت الواو وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، مأخوذ إما من ناس إذا تحرك، خص بالبشر؛ لأنه المتحرك الحركة التامة الناشئة عن فكر واختيار، أو من الأنس ضد الوحشة؛ لأنه يؤنس به، أو من النسيان؛ لكونه مطبوعًا عليه. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}: وفي "السمين": قال الزمخشري: الوسواس اسم مصدر بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر، فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به هنا الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه؛ لأنها صنعته وشغله، أو أريد ذو الوسواس اهـ. وفي "المصباح": أنه يطلق أيضًا على ما يخطر بالقلب من الشر، وكل ما لا خير فيه، وفي "المختار": الوسوسة حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسًا - بالكسر - ووسواسًا - بالفتح - كزلزال وزلزال. {الْخَنَّاسِ} صيغة مبالغة من خنس يخنس - من باب دخل - خنسًا - بالسكون - وخَنَسًا - بالتحريك - وخنوسًا، والخنس التأخر والتواري والاستتار، يقال: خنس عنه إذا تاخر وأخنسه غيره؛ أي: خلَّفه ومضى عنه، والخناس الشيطان؛ لأنه يخنس

إذا ذكر الله عز وجل، قال في "أساس البلاغة": وخنس الرجل من بين القوم خنوسًا إذا تأخر واختفى وخنسته أنا وأخنسته بأربع، وخنس إبهامه خفض، ومنه الخناس. {مِنَ الْجِنَّةِ} الجنة: اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالياء، فيقال: جن وجني كزنج وزنجي، وغالبًا يفرق بالتاء كتمر وتمرة، وزيدت التاء في الجنة لتأنيث الجماعة، سموا بذلك لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن العيون، وهم أجسام نارية هوائية يتشكلون بالصور الشريفة والخسيسة، وتحكم عليهم الصور، وتقدم ما فيهم اهـ من "الصاوي". البلاغة وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع: فمنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه وتعظيمه في قوله: {بِرَبِّ النَّاسِ} وفي الآيتين بعدها. ومنها: تخصيص الناس بالذكر في المواضع الثلاثة مع كونه رب جميع المخلوقات وملكهم وإلههم تكريمًا لهم من بين المخلوقات حيث أخدمهم الملائكة، وأمدهم بالعقل والعلم وسائر أنواع الكرامات كما مر. ومنها: تكرير لفظ الناس ثانيًا وثالثًا؛ لإظهار شرف الناس وتعظيمهم، وللاعتناء بشأنهم، ولو قال: ملكهم إلههم لما كان لهم هذا الشأن العظيم. ومنها: جناس الاشتقاق بين {يُوَسْوِسُ} و {الْوَسْوَاسِ}. ومنها: الطباق بين {الْجِنَّةِ} و {النَّاسِ}. ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}؛ أي: في قلوبهم لعلاقة المحلية. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب (¬1) * * * ¬

_ (¬1) اللهم اجعلنا من المخلصين في أعمالنا، وادفع عنا أذى شياطين الأنس؛ والجن، وأبعد عنا شر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الموسوسين، وقنا عذاب الجحيم، ولا تفضحنا يوم العرض والحساب، وصل ربنا وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الذين ذادوا عن دينك بقدر ما غرستَ في قلوبهم من برد اليقين، وأثلجتَ صدورهم بمحبة هذا الدين، وعلى التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وارض عنا معهم يا رب العالمين بمحض فضلك وجودك وكرمك وإحسانك وعن جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا رب العالمين، آمين آمين، ألف ألفي آمين. إلى هنا تم تفسير سورة الناس بعون الله وتوفيقه أوائل ليلة الجمعة المباركة التاسعة عشرة من شهر صفر الخير من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة وبتمامه تم الكتاب الميمون، وكان تاريخ ابتدائه في اليوم الثاني من شهر الله المحرم من شهور سنة: 1406 هـ ألف وأربع مئة وست سنوات، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وقد مكثت في تسويده مع ما تراكم عليَّ من الشواغل والعوائق إحدى عشرة سنة وشهرين إلا ثمانية أيام، ولقد أجاد من قال: وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ أَمْرٍ يُحَاوِلُهُ ... وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ

الخواتيم نسأل الله تعالى حسنها الأولى: في الآداب التي تُطلب لقارىء القرآن عند قراءته، والتي تتعلق باحترام القرآن وتعظيمه: فمنها: أن لا يمسه إلا طارأ قال تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. ومنها: أن التالي يتطيب لتلاوته ويستاك لها لقول يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طريق من طرق القرآن، فطهروها ونظفوها ما استطعتم. ومنها: أن يستوي له قاعدًا ولا يكون متكئًا. ومنها: أن يلبس ثياب التجمل كما يلبسها للدخول على الملوك؛ لأنه مناج ربه. ومنها: أن يستقبل القبلة؛ لأنها أشرف الجهات. ومنها: أنه إذا تثاءب يمسك عن القراءة حتى يذهب تثاؤبه؛ لأنه من الشيطان. ومنها: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند ابتداء القراءة وإن لم يكن في أول سورة، ويبسمل إن كان في أول سورة، وإلا فيخيَّر. ومنها: إذا أخذ في القراءة لم يقطعها لمكالمة أحد من غير ضرورة. ومنها: أن يقرأه على تؤدة وترتيل وتدبر حتى يعقل ما يخاطب به ربه، فيرغب في الوعد ويرهب عند الوعيد. ومنها: إذا انتهت قراءته يقول: صدق الله العظيم، وبلَّغ رسوله الكريم، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومنها: أن يقرأ القرآن على الترتيب ولا ينكس. ومنها: أن يضع المصحف على مكان طاهر مرتفع أو في حجره. ومنها: أن لا يمحو القرآن من اللوح بالبصاق، ولكن يغسله بالماء، ويشرب الغسالة بقصد الاستشفاء، أو يدفنها في مكان طاهر بعيد عن ممر الأقدام. ومنها: أن لا يتخذ الصحيفة إذا بليت، بل يمحوها بالماء، ويفعل بها ما تقدم، أو يحرقها ويدفن رمادها في مكان طاهر.

ومنها: أن يُعطي عينيه حقهما من النظر في المصحف، ففي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطوا أعينكم حظها من العبادة" قالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال: "النظر في المصحف والتفكير فيه والاعتبار عند عجائبه"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظرًا". ومنها: أن لا يتأول القرآن بشيء من أمور الدنيا يعرض له، كقول الرجل إذا جاءه أحد: جئتَ على قدر يا موسى، وكقوله لضيوفه مثلًا: كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية. ومنها: أن لا يقرأ المقرآن بألحان الغناء كلحون أهل الفسق. ومنها: أن يجوف خطه إذا كتبه. ومنها: أن لا يقرأه في الأسواق، أو في مواطن اللغط ومجمع السفهاء. ومنها: أن لا يقصد بتلاوته سؤال الخلق. ومنها: أن لا يحقر المصحف، فإنه ورد النهي عن تحقير المصحف والمسجد. ومنها: أن لا يكتبه على الأرض ولا على حائط، كما يفعل في المساجد، ففي الحديث: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابته في أرض، فقال لشاب من هذيل: "ما هذا؟ " قال: من كتاب الله كتبه يهودي، فقال: "لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه" ورأى عمر بن عبد العزيز ولده يكتب القرآن على حائط فضربه. ومنها: إذا كتبه وشربه ينوي به الشفاء من كل داء وأذى وبلوغ الآمال من كل خير، فإن الله يؤتيه على قدر نيته. ومنها: إذا ختم القرآن يقرأ من أوله قدر خمس آيات، فقد ورد في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل سأله عن أفضل العمل، فقال: "عليك بالحال المرتحل" قال: وما الحال المرتحل؟ قال: "صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره، ثم يضرب في أوله كلما حل ارتحل". ومنها: إذا ختم القرآن أن يجمع أهله ويدعو بخير الدارين، كما كان السلف

الصالح يفعلونه لإجابة الدعاء عند ختمه، كما هو مذكور في الأحاديث الصحيحة انتهى ملخصًا من "القرطبي". الثانية: في آداب ختم القرآن: روي عن ابن كثير - رحمه الله تعالى - أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى قل أعوذ برب الناس قرأ سورة الحمد لله رب العالمين وخمس آيات من سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ لأن هذا يسمى الحال المرتحل، ومعناه: أنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - أن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك، فلم يستحب الإمام أحمد أن يصل ختمه بقراءة شيء من القرآن، وروي عنه قول آخر بالاستحباب، واستحسن مشايخ العراق قراءة سورة الإخلاص ثلاثًا عند ختم القرآن إلا أن يكون الختم في المكتوبة، فلا يكررها. وفي الحديث: "من شهد خاتمة القرآن كان كمن شهد المغانم حين تُقسم، ومن شهد فاتحة القرآن كان كمن شهد فتحًا في سبيل الله تعالى"، وعن إبراهيم التيمي قال: من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، ومن ختمه أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، قال: فكانوا يستحبون أن يختموا أول الليل وأول النهار، وعن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - أنه قال: عند كل ختمة دعوة مستجابة، إذا ختم الرجل القرآن قبَّل المَلَك بين عينيه، ومن شك في غفرانه عند الختم فليس له غفران، ونص الإمام أحمد على استحباب الدعاء عند الختم، وكذا جماعة من السلف، فيدعو بما أحب مستقبل القبلة رافعًا يديه خاضعًا لله تعالى موقتًا بالإجابة، ولا يتكلف السجع في الدعاء، بل يجتنبه ويثني على الله تعالى قبل الدعاء وبعده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمسح وجهه بيديه بعد فراغه من الدعاء؛ لأن ذلك أرجى للقبول. وفي "شرح الجزري" لابن المصنف: ينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة بالكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلاطينهم وسائر ولاة أمورهم بتوفيقهم للطاعات وعصمتهم

من المخالفات، وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بالحق عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين، وقال الشيخ سلطان المزاحي في رسالته "الدر المصون": ثم بعد ختم القرآن تدعو بما أردت دينًا ودنيا، وأولاه المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: في الأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ختم القرآن: فمنها: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يدعو عند ختم القرآن بهذا الدعاء، وهو: اللهم إني أسألك إخبات المخبتين وإخلاص الموقنين ومرافقة الأبرار واستحقاق حقائق الإيمان والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم ووجوب رحمتك وعزائم مغفرتك والفوز بالجنة والخلاص من النار. ومنها: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند ختم القرآن: "اللهم ارحمني بالقرآن العظيم واجعله لي إمامًا ونورًا وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجة لي يا رب العالمين". ومنها: ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند ختمه: "اللهم ارحمنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إمامًا ونورًا وهدى ورحمة، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله لنا حجة يا رب العالمين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا". وكان أبو القاسم الشاطبي - رحمه الله تعالى - يدعو بهذا الدعاء: اللهم إنا عبيدك وأبناء إمائك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو نزلته في شيء من كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا وهمومنا، وسائقنا وقائدنا إليك والى جنتك جنة النعيم،

ودارك دار السلام مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين. الرابعة: ترتيب السور على حسب النزول: السور المكية (1) اقرأ (2) ن (3) المزمل (4) المدثر (5) تبت (6) الشمس (7) الأعلى (8) الليل (9) الفجر (10) الضحى (11) ألم نشرح (12) العصر (13) العاديات (14) الكوثر (15) التكاثر (16) الماعون (17) الكافرون (18) الفيل (19) الفلق (20) الناس (21) الإخلاص (22) النجم (23) عبس (24) القدر (25) الضحى (26) البروج (27) التين (28) قريش (29) القا رعة (30) القيامة (31) الهمزة (32) المرسلات (33) ق (34) البلد (35) الطارق (36) الساعة (37) ص (38) الأعراف (39) الجن (45) يس (41) الفرقان (42) الملائكة (43) مريم (44) طه (45) الواقعة (46) الشعراء (47) النمل (48) القصص (49) بني اسرائيل (50) يونس (51) هود (52) يوسف (53) الحجر (54) الأنعام (55) الصافات (56) لقمان (57) سبأ (58) الزمر (59) المؤمنون (60) السجدة (61) الشورى (62) الزخرف (63) الدخان (64) الجاثية (65) الأحقاف (66) الذاريات (67) الغاشية (68) الكهف (69) النحل (70) نوح (71) إبراهيم (72) الأنبياء (73) المؤمنون (74) السجدة (75) الطور (76) تبارك (77) الحاقة (78) المعارج (79) النبأ (80) النازعات (81) الانفطار (82) الانشقاق (83) الروم (84) العنكبوت (85) المطففين. السور المدنية (86) البقرة (87) الأنفال (88) آل عمران (89) الأحزاب (90) الممتحنة (91) النساء (92) الزلزلة (93) الحديد (94) القتال (95) الرعد (96) الرحمن (97) الإنسان (98) الطلاق (99) البينة (100) الحشر (101) النصر (102) النور (103) الحج (104) المنافقون (105) المجادلة (106) الحجرات (107) التحريم (108) الجمعة (109) التغابن (110) الصف (111) الفتح (112) المائدة (113)

براءة. انتهى من "الإتقان" للحافظ السيوطي. الخامسة: في ذكر الاختلاف الواقع في عدد سور القرآن: قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - جميع سور القرآن مئة واثنتا عشرة سورة، قال الفقيه في "البستان": إنما قال إنها: مئة واثنتا عشرة سورة؛ لأنه كان لا يعد المعوذتين من القرآن، وكان لا يكتبهما في مصحفه، ويقول: إنهما منزلتان من السماء، وهما من كلام رب العالمين، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي ويعوذ بهما، فاشتبه عليه أنهما من القرآن، أو ليستا منه فلم يكتبهما في المصحف. وقال مجاهد: جميع سور القرآن: مئة وثلاث عشرة سورة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان يعد الأنفال والتوبة سورة واحدة، وقال أبي بن كعب - رضي الله عنه -: جميع سور القرآن: مئة وست عشرة سورة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان يعد القنوت سورتين إحداهما من قوله: اللهم إنا نستعينك إلى قوله: من يفجرك، والثانية من قوله: اللهم إياك نعبد إلى قوله: ملحق، وقال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: جميع سور القرآن: مئة وأربع عشرة سورة، وهذا قول عامة الصحابة - رضي الله عنهم -، وهكذا في مصحف الإمام عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وفي مصاحف أهل الأمصار، فالمعوذتان سورتان من القرآن روى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال: أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر، وسأله عن المعوذتين أهما من كتاب الله؟ قال: من لم يزعم أنهما من كتاب الله، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وفي "نصاب الاحتساب": لو أنكر آية من القرآن سوى المعوذتين يكفر. انتهى. وفي "الأكمل" عن سفيان بن سخنان من قال: إن المعوذتين ليستا من القرآن لم يكفر لتأويل ابن مسعود - رضي الله عنه - كما في "المغرب" للمطرزي، وقال في "هدية المهديين": وفي إنكار قرآنية المعوذتين اختلاف المشايخ، والصحيح أنه: يكفر. انتهى. وأما جملة حروف القرآن فهي ألف ألف وسبعة وعشرون ألفًا بإدخال حروف الآيات المنسوخة، ونصفه الأول باعتبارها ينتهي بالنون من قوله: في سورة الكهف {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} والكاف أول النصف الثاني، وأما جملة عدد آياته فهي: ستة

آلاف وخمس مئة آية، نصفها الأول ينتهي بقوله في سورة الشعراء: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)} كما بسطنا الكلام على أمثال هذا في المقدمة. السادسة: في جداول وضعناها على صورة الوفق المربع الذي أضلاعه ستة ووضعنا في الزاوية الأولى: الأرقام، وفي الثانية: أسماء السورة وفي الثالثة: عدد آياتها، وفي الرابعة: عدد كلماتها، وفي الخامسة: عدد حروفها، وفي السادسة: أن السورة مكية أو مدنية، والغرض منها: تسهيل حفظ هذه الأمور المهمة على من أراد حفظها على ظهر قلب، وهي هذه الخطوط المخطوطة في الصفحات الآتية، وهي تُغني عن الفهارس التي اعتادها الناس. والله سبحانه وتعالى أعلم * * *

جداول سور الْقُرْآن على تَرْتِيب الْمُصحف العثماني

جداول سور القرآن على ترتيب المصحف العثماني

جداول سور القرآن على ترتيب المصحف العثماني

جداول سور القرآن على ترتيب المصحف العثماني

جداول سور القرآن على ترتيب المصحف العثماني

وهذا آخر ما بشرني الله سبحانه بانتهائه بعدما وفقني بابتدائه، فالحمد لله الذي عدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والشكر له على ما حبانا شكرًا يوافي ما أولانا، ويكافىء ما يزاد لنا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويرد عنه جدل منكره وجاحده، ويطمس عنه عين كائده وحاسده، خصوصًا في هذا الزمان الذي بُدل نعيمه بؤسًا، وعُدَّ جيِّده منحوسًا، قد ملأ الحسد من أهله جميع الجسد، وقاهم الغرور بحبل من مسد، فما أحسن قول من قال: إِنْ يَسْمَعُوْا سُبَّةَ طَارُوْا بِهَا فَرَحًا ... مِنِّي وَمَا سَمِعُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوْءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوْا أو من قال: إِنْ يَعْلَمُوْا الْخَيْرَ أخْفَوْهُ وَإِنْ عَلِمُوْا ... شَرًا أَذَاعُوْا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوْا كَذَبُوْا اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير المبارك، وأعنتني على تحصيله، وتفضلت علي بالفراغ منه بعد مدة مديدة، فامنن علي بقبوله، واجعله لي ذخيرة خير عندك بمنك وكرمك وجودك، وأجزل لي المثوبة بما لاقيته في جمعه وكتابته من التعب والنصب، وانفع به من تلقاه بالقبول، وقصد الانتفاع منه من عبادك، ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي، فإن هذا هو المقصد المهم من تأليفه، واجعله خالصًا لوجهك الكريم، وتجاوز عني ما خطر لي من خواطر السوء مما يخالف الإخلاص، واغفر لي ما لا يطابق مرادك من معاني كتابك، فإني لم أقصد في جمع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه فإن أخطأت فأنت غافر الخطيات، ومسبل ذيل الستر على الهفوات. بِالذُّلِّ قَدْ وَافَيْتُ بَابَكَ عَالِمًا ... إِنَّ التَّذَلُّلَ عِنْدَ بَابِكَ يَنْفَعُ اجعَلْ لِيَا مِنْ كُل خَطْأٍ مَخْرَجَا ... وَاسْمَحْهُ لِيْ يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمَفْزَعُ مَا لِيْ سِوَى قَرْعِيْ لبَابِكَ حِيْلَةٌ ... وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ والمرجو ممن صرف وجهه إليه بعين الرضا والرغبة لديه أن يصلح خطأه وسقطته، ويزيل زلَله وهفوته بعد المراجعة والتأمل والإمعان، لا بمجرد النظر والعِيان؛ لأن الإنسان مركز الجهل والخطأ والنسيان، ولاسيما حليف البله والبلاهة

والتوان؛ ليكون ممن يدفع السيئة بالحسنة، لا ممن يجازي بالسيئة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَخِيْرًا زَمَانُهُ ... فَقَدْ جَمَعْتُ فِيْهِ مَا لَمْ يَجْمَعِ الأَوَائِلُ عَلَّمَنا الله وإياكم علوم السالفين، وجنبنا وإياكم زيوف الخالفين، وما أحسن قول من قال: وَكُلُّ خَيْرٍ فِيْ اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ ... وَكُلُّ شَرٍّ فِيْ ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ وأدبنا وإياكم بآداب الأخيار، وأذاقنا وإياكم كؤوس المعارف والأسرار، فإنه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وأرحم الراحمين. وما ألطف قول من قال في نداء ربه تعالى: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا مَن لَا شَرِيْكَ لَهُ ... يَا سَامِعَ الصَّوْت يَا مَنْ جَلَّ عَنْ صَمَمِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَاذَا الْجُوْدِ يَا أَمَلِيْ ... يَاذَا الْجَلَالِ وَيَاذَا اللُّطْفِ فِيْ الأُمَمِ اللهم ربنا يا ربنا تقبل منا أعمالنا، وأصلح لنا أقوالنا، وأفعالنا إنك أنت الكافي الحسيب، والقريب المجيب، وأحمدك يا ربي، لا أحصي حمدًا لك، وأشكرك لا أستقصي شكرًا لك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين آمين يا رب ألف ألف آمين. حَمْدًا لِرَبِّنَا عَلَى جَمْعِهِ ... ثُمَّ غُفْرَانَهُ لِمُؤَلِّفِهِ وَلنَاشِرِهِ وَطَابِعِهِ ... وَلقَارئِهِ وَسَامِعِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَكُلِّ مَنْ ... إِلَيْهِ انْتَمَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلمَشَايِخِهِ وَكُلِّ مَنْ ... أَسْدَى لَهُ الإِسْعَافَ فِيْ تَعَلُّمِهِ ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ عَلَى حِبِّهِ ... مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ آخر جَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِي ... وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالعَفْوِ وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضلِهِ ... وَفِطْنَتِهِ أَسْتغفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ

آخر يَا قَارِىءَ الْخَطِّ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرُهُ ... لَا تَنْسَ صَاحِبَهُ بِاللهِ وَاذْكُرُهُ وَهَبْ لَهُ دَعْوَةَ للهِ خَالِصَةً ... لَعَلَّهَا فِي صُرُوْفِ الدَّهْرِ تَنْفَعُهُ شعر آخر أَلَا أَيُّهَا الْمَأمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ ... إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ أَلَا يَا رَجَائِي أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِي ... فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِي كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أرَاهُ مُبَلِّغِيْ ... عَلَى الزَّادِ أَبْكِي أَمْ لِبُعَدِ مَسَافَتِيْ أَتَيْتُ بِأعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ ... وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كجِنَايَتِيْ * * * إِلَى هُنَا وَقَفَتِ الْحَدَائقْ ... مُبَشرَةً بَفَكِّ الدَّقَائِقْ يَا لَهَا جَوْهَرَةٌ مَكْنُوْنَةٌ ... فِي صُدْفِهَا دُرَّةٌ مَصُوْنَةٌ وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى إِفْضَالِهِ ... وَالشُّكْرُ لِلْمَوْلَى عَلَى إِكْمَالِهِ

§1/1